مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح

الملا على القاري

[مقدمة المؤلف]

[مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ] قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً تَكُونُ لِلنَّجَاةِ وَسِيلَةً، وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ كَفِيلَةً، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الَّذِي بَعَثَهُ وَطُرُقُ (وَحَالُ) الْإِيمَانِ قَدْ عَفَتْ آثَارُهَا، وَخَبَتْ أَنْوَارُهَا، وَوَهَنَتْ أَرْكَانُهَا، وَجُهِلَ مَكَانُهَا، فَشَيَّدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مِنْ مَعَالِمِهَا مَا عَفَا، وَشَفَى مِنَ الْعَلِيلِ فِي تَأْيِيدِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مَنْ كَانَ عَلَى شَفًا، وَأَوْضَحَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ، لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَهَا، وَأَظْهَرَ كُنُوزَ السَّعَادَةِ لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَمْلِكَهَا. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهَدْيهِ لَا يَسْتَتِبُّ إِلَّا بِالِاقْتِفَاءِ لِمَا صَدَرَ مِنْ مِشْكَاتِهِ، وَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِبَيَانِ كَشْفِهِ، وَكَانَ (كِتَابُ الْمَصَابِيحِ) ، الَّذِي صَنَّفَهُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ، قَامِعُ الْبِدْعَةِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْفَرَّاءِ الْبَغَوِيُّ، رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ أَجْمَعَ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي بَابِهِ، وَأَضْبَطَ لِشَوَارِدِ الْأَحَادِيثِ، وَأَوَابِدِهَا، وَلَمَّا سَلَكَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الِاخْتِصَارَ، وَحَذَفَ الْأَسَانِيدَ ; تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ النُّقَّادِ، وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ - وَإِنَّهُ مِنَ الثِّقَاتِ - كَالْإِسْنَادِ، لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ كَالْأَغْفَالِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى، وَاسْتَوْفَقْتُ مِنْهُ فَأَوْدَعْتُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنْهُ فِي مَقَرِّهِ فَأَعْلَمْتُ مَا أَغْفَلَهُ، كَمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْمُتْقِنُونَ، وَالثِّقَاتُ الرَّاسِخُونَ مِثْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرَيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْأَصْبَحِيِّ. وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيِّ، وَأَبِي عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ التِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ ابْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ رَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْعَبْدَرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَلِيلٌ مَا هُوَ. وَإِنِّي إِذَا نَسَبْتُ الْحَدِيثَ إِلَيْهِمْ كَأَنِّي أَسْنَدْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُمْ قَدْ فَرَغُوا مِنْهُ، وَأَغْنَوْنَا عَنْهُ. وَسَرَدْتُ الْكُتُبَ، وَالْأَبْوَابَ كَمَا سَرَدَهَا، وَاقْتَفَيْتُ أَثَرَهُ فِيهَا، وَقَسَّمْتُ كُلَّ بَابٍ غَالِبًا عَلَى فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَاكْتَفَيْتُ بِهِمَا، وَإِنِ اشْتَرَكَ فِيهِ الْغَيْرُ ; لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِمَا فِي الرِّوَايَةِ. وَثَانِيهَا: مَا أَوْرَدَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ. وَثَالِثُهَا: مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى الْبَابِ مِنْ مُلْحَقَاتٍ مُنَاسِبَةٍ مَعَ مُحَافَظَةٍ عَلَى الشَّرِيطَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْثُورًا عَنِ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ. ثُمَّ إِنَّكَ إِنْ فَقَدْتَ حَدِيثًا فِي بَابٍ، فَذَلِكَ عَنْ تَكْرِيرٍ أُسْقِطُهُ. وَإِنْ وَجَدْتَ آخَرَ بَعْضَهُ مَتْرُوكًا عَلَى اخْتِصَارِهِ، أَوْ مَضْمُومًا إِلَيْهِ تَمَامُهُ فَعَنْ دَاعِي اهْتِمَامٍ أَتْرُكُهُ، وَأُلْحِقُهُ. وَإِنْ عَثَرْتَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْفَصْلَيْنِ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْأَوَّلِ، وَذِكْرِهِمَا فِي الثَّانِي فَاعْلَمْ أَنِّي بَعْدَ تَتَبُّعِي كِتَابَيْ: (الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ) لِلْحُمَيْدِيِّ، وَ (جَامِعَ الْأُصُولِ) اعْتَمَدْتُ عَلَى صَحِيحَيِ الشَّيْخَيْنِ، وَمَتْنَيْهِمَا. وَإِنْ رَأَيْتَ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ فَذَلِكَ مِنْ تَشَعُّبِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ، وَلَعَلِّي مَا اطَّلَعْتُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ الَّتِي سَلَكَهَا الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَلِيلًا مَا تَجِدُ أَقُولُ: مَا وَجَدْتُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، أَوْ وَجَدْتُ خِلَافَهَا فِيهَا. فَإِذَا، وَقَفْتَ عَلَيْهِ فَانْسِبِ الْقُصُورَ إِلَيَّ لِقِلَّةِ الدِّرَايَةِ، لَا إِلَى جَنَابِ الشَّيْخِ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ فِي الدَّارَيْنِ، حَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ! . رَحِمَ اللَّهُ مَنْ إِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ نَبَّهَنَا عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَنَا طَرِيقَ الصَّوَابِ. وَلَمْ آلُ جُهْدًا فِي التَّنْقِيرِ، وَالتَّفْتِيشِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ، وَنَقَلْتُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ كَمَا وَجَدْتُ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ غَرِيبٍ أَوْ ضَعِيفٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا بَيَّنْتُ وَجْهَهُ غَالِبًا. وَمَا لَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ مِمَّا فِي الْأُصُولِ فَقَدْ قَفَّيْتُهُ فِي تَرْكِهِ، إِلَّا فِي مَوَاضِعَ لِغَرَضٍ، وَرُبَّمَا تَجِدُ مَوَاضِعَ مُهْمَلَةً، وَذَلِكَ حَيْثُ لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى رَاوِيهِ فَتَرَكْتُ الْبَيَاضَ. فَإِنْ عَثَرْتَ عَلَيْهِ فَأَلْحِقْهُ بِهِ، أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَكُ. وَسَمَّيْتُ الْكِتَابَ بِـ (مِشْكَاةِ الْمَصَابِيحِ) ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ، وَالْإِعَانَةَ، وَالْهِدَايَةَ، وَالصِّيَانَةَ، وَتَيْسِيرَ مَا أَقْصِدُهُ، وَأَنْ يَنْفَعَنِي فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ، وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمَاتِ. حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَاقْتِفَاءً لِلنَّبِيِّ الْكَرِيمِ، حَيْثُ قَالَ: " «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ» " أَيْ: قَلِيلُ الْبَرَكَةِ، أَوْ مَعْدُومُهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْبَتْرِ، وَهُوَ الْقَطْعُ قَبْلَ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، وَالْمُرَادُ بِذِي الْبَالِ ذُو الشَّأْنِ فِي الْحَالِ، أَوِ الْمَآلِ، رَوَاهُ الْخَطِيبُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي (كِتَابِ الْجَامِعِ) وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ الْأَبْرَارُ فِي كِتَابَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُتُبِ الْأَشْعَارِ، فَمَنَعَهُ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، وَأَجَازَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَاخْتَارَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَالْأَحْسَنُ التَّفْصِيلُ بَلْ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الشِّعْرَ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، فَيُصَانُ إِيرَادُ الْبَسْمَلَةِ فِي الْهَجَوَيَّاتِ وَالْهَذَيَانِ وَمَدَائِحِ الظَّلَمَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا تُصَانُ فِي حَالِ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمَوَاضِعِ الْقَاذُورَاتِ وَحَالَةِ الْمُجَامَعَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُكْتَبُ فِي أَوَّلِ كُتُبِ الْمَنْطِقِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ مَسَائِلِهَا، وَكَذَا فِي الْقِصَصِ الْكَاذِبَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِا، وَالْكُلُّ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: " ذِي بَالٍ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ: " كُلُّ كَلَامٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ فِي (عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) . وَبِلَفْظِ: " «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ اللَّهِ سَوَاءٌ يَكُونُ فِي ضِمْنِ الْبَسْمَلَةِ، أَوِ الْحَمْدَلَةِ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الرَّهَاوِيُّ فِي (أَرْبَعِينِهِ) ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَفْظُهُ: " «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» "، أَوْ يُحْمَلُ حَدِيثُ الْبَسْمَلَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ بِحَيْثُ لَا يَسْبِقُهُ شَيْءٌ، وَحَدِيثُ الْحَمْدَلَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ، قِيلَ: وَلَمْ يُعْكَسْ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَسْمَلَةِ أَقْوَى فِي الْمِنْهَالِ بِكِتَابِ اللَّهِ الْوَارِدِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. إِنَّ تَوْفِيقَ الِافْتِتَاحِ بِالْبَسْمَلَةِ لَمَّا كَانَ مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْحَمْدَلَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا لِتَكُونَ مُتَضَمِّنَةً لِلشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ الْمِنْحَةِ الْجَمِيلَةِ، هَذَا وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالِابْتِدَاءِ افْتِتَاحٌ عُرْفِيٌّ مُوَسَّعٌ مَمْدُودٌ يُطْلَقُ عَلَى مَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ كَمَا يُقَالُ: أَوَّلُ اللَّيْلِ وَأَوَّلُ النَّهَارِ وَأَوَّلُ الْوَقْتِ وَأَوَّلُ الدِّيَارِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنَّفِ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: " «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعٌ مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ» " أَخْرَجَهُ الرَّهَاوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَإِنْ قِيلَ بِضَعْفِهِ. وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَ

ثُمَّ الْبَاءُ جَاءَ لِأَرْبَعَةَ عَشَرَ مَعْنًى، وَالْمُنَاسِبُ هَاهُنَا مِنْهَا الْإِلْصَاقُ، وَالِاسْتِعَانَةُ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ وَأُخِّرَ عَلَى الْمُخْتَارِ تَحْقِيقًا لِحَقِيقَةِ الِابْتِدَاءِ، وَتَعْظِيمًا لِلِاسْمِ الْخَاصِّ عَنِ الِانْتِهَاءِ، وَإِفَادَةً لِلِاهْتِمَامِ، وَإِرَادَةً لِمَقَامِ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمَرَامُ؛ وَرَدًّا لِدَأْبِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ كَانُوا يَبْتَدِئُونَ بِالْأَصْنَامِ، وَيَفْتَتِحُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ. لَكِنْ قَالَ الْعَارِفُ الْجَامِيُّ: حَقِيقَةُ الِابْتِدَاءِ بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعَارِفِينَ أَنْ لَا يُذْكَرَ بِاللِّسَانِ، وَلَا يَخْطُرَ بِالْجَنَانِ فِي الِابْتِدَاءِ غَيْرُ اسْمِهِ سُبْحَانَهُ لَا إِثْبَاتًا، وَلَا نَفْيًا، فَإِنَّ صُورَةَ نَفْيِ الْغَيْرِ مُلَاحَظَةٌ لِلْغَيْرِ فَهُوَ أَيْضًا مَلْحُوظٌ فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَيْسَ الِابْتِدَاءُ مُخْتَصًّا بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ مُؤَخَّرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي التَّقْدِيرِ أَيْضًا مُقَدَّمًا كَمَا أَنَّهُ فِي الذِّكْرِ مُقَدَّمٌ اهـ. وَالْمَعْنَى بِاسْمِ اللَّهِ أَبْدَأُ تَصْنِيفِي، أَوِ ابْتِدَائِي فِي جَمِيعِ أُمُورِي مُتَبَرِّكًا بِاسْمِهِ وَمُسْتَعِينًا بِرَسْمِهِ، وَالِاسْمُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي بُنِيَ أَوَائِلُهَا عَلَى السُّكُونِ، فَعِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِهَا يَزِيدُونَ هَمْزَةَ الْوَصْلِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الْعَجُزِ كَيَدٍ وَدَمٍ ; بِدَلِيلِ تَصَارِيفِهِ مِنْ سَمَيْتُ وَنَحْوِهِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السُّمُوِّ، وَهُوَ الْعُلُوُّ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَنْوِيهٌ بِالْمُسَمَّى، وَرَفْعٌ لِقَدْرِهِ. وَعِنْدَ الْكُوفِيَّةِ أَصْلُهُ: وَسْمٌ: وَهُوَ الْعَلَامَةُ ; لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْمُسَمَّى فَحُذِفَ حَرْفُ الْعِلَّةِ تَخْفِيفًا، ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، وَسَقَطَتْ كِتَابَتُهَا فِي الْبَسْمَلَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْجَلَالَةِ عَلَى خِلَافِ رَسْمِ الْخَطِّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ الْكَتْبِيِّ وَطُوَّلَتِ الْبَاءُ دَلَالَةً عَلَيْهَا قَبْلَ ذِكْرِ الِاسْمِ فَرْقًا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالتَّيَمُّنِ. وَقِيلَ الِاسْمُ صِلَةٌ، وَهُوَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ عَيْنُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ ذَاتُ الْحَقِّ، وَالْوُجُودُ الْمُطْلَقُ إِذَا اعْتُبِرَ مَعَ صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَالرَّحْمَنِ مَثَلًا هُوَ الذَّاتُ الْإِلَهِيَّةُ مَعَ صِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَالْقَهَّارِ مَعَ صِفَةِ الْقَهْرِ، فَهُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى بِحَسَبِ التَّحْقِيقِ وَالْوُجُودِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ بِحَسَبِ التَّعَقُّلِ، وَالْأَسْمَاءُ الْمَلْفُوظَةُ هِيَ أَسْمَاءُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَالْإِضَافَةُ لَامِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا اللَّهُ، وَالرَّحْمَنُ، وَالرَّحِيمُ، أَوْ يُرَادُ بِهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بِخُصُوصِهَا بِقَرِينَةِ التَّصْرِيحِ بِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى، وَالتَّسْمِيَةِ، وَثَانِيهَا: - وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الْجَهْمِيَّةِ، وَالْكَرَّامِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ - غَيْرُهُمَا. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعِزُّ ابْنُ جَمَاعَةَ: هُوَ الْحَقُّ، وَثَالِثُهَا: عَيْنُ الْمُسَمَّى وَغَيْرُ التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ الْمُصَحَّحُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: وَلَيْسَ الِاسْمُ غَيْرَ الْمُسَمَّى، وَرَابِعُهَا: لَا عَيْنَ، وَلَا غَيْرَ. وَالثَّالِثُ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، لَكِنْ فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي: كَلِمَةَ الْجَلَالَةِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ مَدْلُولَ هَذَا الِاسْمِ الذَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، كَالْعَالِمِ فَمَدْلُولُهُ الذَّاتُ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ. وَقَدْ نَبَّهَ الْإِمَامَانِ، الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِنِزَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفَى التَّعَرُّفِ أَجْمَعُوا: أَنَّ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ هِيَ هُوَ، وَلَا غَيْرُهُ وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا لَا تَتَغَايَرُ، وَلَيْسَ عِلْمُهُ قُدْرَتَهُ، وَلَا غَيْرَ قُدْرَتِهِ، وَلَا قُدْرَتُهُ عِلْمَهُ، وَلَا غَيْرَ عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ صِفَاتِهِ مِنَ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَسْمَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْمَاءُ اللَّهِ - تَعَالَى - لَيْسَتْ هِيَ اللَّهَ، وَلَا غَيْرَ اللَّهِ كَمَا قَالُوا فِي الصِّفَاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْمَاءُ اللَّهِ هِيَ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَحَيَّرَ الْعُلَمَاءُ فِي تَدْقِيقِ اسْمِ اللَّهِ كَمَا تَحَيَّرَ الْعُرَفَاءُ فِي تَحْقِيقِ مُسَمَّاهُ، سُبْحَانَ مَنْ تَحَيَّرَ فِي ذَاتِهِ سِوَاهُ! فَقِيلَ: إِنَّهُ عِبْرِيٌّ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِلَاهًا، فَحَذَفَتِ الْعَرَبُ الْأَلِفَ الْأَخِيرَةَ لِلتَّخْفِيفِ، كَمَا فَعَلُوا فِي النُّورِ، وَالرُّوحِ، وَالْيَوْمِ ; فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ كَانَتْ نُورًا وَرُوحًا وَيَوْمًا، وَهَذَا وَجْهُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُعَرَّبٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ ; لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَوَافُقِ اللُّغَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ إِحْدَاهُمَا مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْأُخْرَى مَأْخُوذَةً عَنْهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: اسْمٌ هُوَ أَمْ صِفَةٌ مُشْتَقَّةٌ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، أَوْ غَيْرُ مُشْتَقٍّ؟ عَلَمٌ، أَوْ غَيْرُ عَلَمٍ؟ وَمَا أَصْلُهُ عَلَى تَقْدِيرِ اشْتِقَاقِهِ؟ ! وَمُخْتَارُ صَاحِبِ (الْكَشَّافِ) أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ اسْمَ جِنْسٍ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا وَأَنَّ أَصْلَهُ الْإِلَهُ وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ بِمَعْنَى: تَحَيَّرَ فَاللَّهُ مُتَحَيَّرٌ فِيهِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْمُبَرِّدُ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ: اسْمٌ خَاصٌّ عَلَمٌ لِلَّهِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَامِعًا لِأَسْمَائِهِ وَنُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَلَهْتُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا فَزَعْتَ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ قَالَ: أَلَهْتُ إِلَيْكُمْ فِي بَلَايَا تَنُوبُنِي ... فَأَلْفَيْتُكُمْ فِيهَا كَرِيمًا مُمَجَّدًا فَإِنَّ الْخَلْقَ يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ. أَوْ مِنْ أَنَّهُ الْفَصِيلُ، وَالْفَصِيلُ: وَلَدُ النَّاقَةِ إِذَا وَلِعَ بِأُمِّهِ ; لِأَنَّ الْعِبَادَ يُولَهُونَ بِهِ وَبِذِكْرِهِ. وَقِيلَ: مِنْ تَأَلَّهْتُ أَيْ: تَضَرَّعْتُ فَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يُتَضَرَّعُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ لَاهَ يَلُوهُ لَوْهًا وَلَاهًا إِذَا احْتَجَبَ وَارْتَفَعَ قَالَ: لَاهَ رَبِّي عَنِ الْخَلَائِقِ طُرًّا ... فَهُوَ اللَّهُ لَا يُرَى وَيَرَى هُو. وَقِيلَ: مِنْ أَلَهْتُ بِالْمَكَانِ إِذَا قُمْتَ بِهِ وَمَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ صِفَتِهِ كَمَا أَنَّ الْمُقِيمَ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ بُقْعَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَهْنَا بِدَارٍ لَا تَبِينُ رُسُومُهَا ... كَأَنَّ بَقَايَاهَا وِشَامٌ عَلَى الْأَيْدِي وَقِيلَ: الْإِلَهُ أَصْلُهُ وِلَاهُ، فَهُوَ مِنَ الْوَلَهِ كَمَا قِيلَ فِي أُسَادَةٍ وَأُشَاحٍ وَأُجُوهٍ: وَسَادَةٌ وَوِشَاحٌ وَوُجُوهٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِبَادَ يُولَهُونَ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِلَهِ أَيْ: يَطْرَبُونَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ: وَلِهَتْ نَفْسِيَ الطَّرُوبُ إِلَيْكُمْ ... وَلَهًا حَالَ دُونَ طَعْمِ الطَّعَامِ وَقِيلَ: الْوَلَهُ: الْمَحَبَّةُ الشَّدِيدَةُ. وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَنَّهُ بِمَعْنَى عَبْدٍ، فَالْإِلَهُ: فِعَالٌ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ كَالْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَيَذَرُكَ وَإِلَاهَتَكَ) أَيْ: عِبَادَتَكَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْأَصْلُ فِي قَوْلِنَا: اللَّهُ إِلَهٌ فَلَمَّا حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ عُوِّضَتْ فِي أَوَّلِهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، ثُمَّ عِوَضًا لَازِمًا فَقِيلَ: اللَّهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْأَصْلُ فِي لَاهَ لَوِهَ عَلَى وَزْنِ دَوِرَ فَقَلَبُوا الْوَاوَ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ: لَاهَ - عَلَى وَزْنِ دَارَ - ثُمَّ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ لَامَ التَّعْرِيفِ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ الرَّازِيُّ: الْأَصْلُ فِي اللَّهِ هُوَ الْإِلَهُ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا، وَحُذِفَتْ فَصَارَتْ: اللَّاهَ، ثُمَّ أُجْرِيَتِ الْحَرَكَةُ الْعَارِضَةُ مَجْرَى الْأَصْلِيَّةِ، وَأُدْغِمَتِ اللَّامُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ، قِيلَ: هَاهُنَا إِشْكَالٌ صَرْفِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى مَا قَبْلَهَا أَوَّلًا عَلَى مَا هُوَ الْقِيَاسُ، ثُمَّ حُذِفَتْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْإِدْغَامِ غَيْرَ قِيَاسِيٍّ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَيْنِ الْمُتَحَرِّكَيْنِ لَا يَجِبُ فِيهِمَا الْإِدْغَامُ إِذَا كَانَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوَ: مَا سَلَكَكُمْ، وَمَنَاسِكَكُمْ، وَإِنْ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ مَعَ حَرَكَتِهَا فَيَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ فِي تَخْفِيفِهَا، وَإِنْ كَانَ لُزُومُ الْإِدْغَامِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: هَذَا الِاسْمُ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَمَا أَنَّ مُسَمَّاهُ خَارِجٌ عَنْ دَائِرَةِ قِيَاسِ النَّاسِ، وَأُجِيبَ بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ، وَمَنْعِ كَوْنِ الْإِدْغَامِ فِي كَلِمَتَيْنِ بِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ اللَّامَ عِوَضًا عَنِ الْهَمْزَةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَتِهَا، صَارَ كَأَنَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْإِدْغَامِ بَعْدَ الْعَلَمِيَّةِ فَيَكُونُ الِاجْتِمَاعُ فِي

كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ قَطْعًا، قَلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ النَّقْلَ فِيهِ قِيَاسٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَكَذَلِكَ الْإِدْغَامُ فِي كَلِمَتَيْنِ، وَيَكْفِي جَوَازُهُ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى وُجُوبِهِ، مَعَ أَنَّ الْإِدْغَامَ فِي كَلِمَتَيْنِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَأْمَنَّا} [يوسف: 11] . وَالْحَقُّ أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] فَإِنَّ الْأَصْلَ: لَكِنْ أَنَا، فَحَوَّلُوا الْفَتْحَةَ إِلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ النُّونِ فَاجْتَمَعَتْ نُونَانِ مُتَحَرِّكَتَانِ، فَأَسْكَنُوا الْأُولَى وَأَدْغَمُوهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِيهِ هَاءُ الْكِنَايَةِ عَنِ الْغَائِبِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَوْجُودًا فِي نَظَرِ عُقُولِهِمْ وَأَشَارُوا إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ، ثُمَّ زَادُوا فِيهِ لَامَ الْمِلْكِ ; لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ وَمَالِكُهَا فَصَارَ (لَهُ) ، ثُمَّ قَصَرُوا الْهَاءَ وَأَشْبَعُوا فَتْحَةَ اللَّامِ فَصَارَ: (لَاهُ) ، وَخَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْإِضَافَةِ إِلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ ; فَزِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ تَعْظِيمًا وَفَخَّمُوهُ تَأْكِيدًا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَصَارَ (اللَّهُ) كَمَا تَرَى، وَهَذَا أَقْرَبُ بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ تَحْقِيقِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ بِمُشْتَقٍّ بَلْ هُوَ عَلَمٌ ابْتِدَاءً لِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، وَيُلَائِمُ هَذَا الْمَذْهَبَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَنَّهُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهَا بِالصِّفَاتِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ لَا اتِّصَافِهَا بِهَا، وَلِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ. قَالَ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ: الِاسْمُ الْأَعْظَمُ هُوَ اللَّهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُ، وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ سِوَاهُ، وَقَدْ خُصَّ هَذَا الِاسْمُ بِخَوَاصَّ لَا تُوْجَدُ فِي غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا: أَنَّهُ تُنْسَبُ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِ، وَلَا يُنْسَبُ هُوَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ حَذَفُوا لَفْظَةَ يَاءٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَزَادُوا مِيمًا فِي آخِرِهِ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ، وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عِوَضًا لَازِمًا عَنْ هَمْزَتِهِ، وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا أَللَّهُ فَقَطَعُوا هَمْزَتَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ يَا الَّتِي لِلنِّدَاءِ وَبَيْنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ حَالَ سِعَةِ الْكَلَامِ. وَمِنْهَا: تَخْصِيصُهُمْ إِيَّاهُ فِي الْقَسَمِ بِإِدْخَالِ (التَّاءِ وَايْمُنُ وَايْمُ) فِي قَوْلِهِمْ: تَاللَّهِ، وَايْمُنُ اللَّهِ، وَايْمُ اللَّهِ. وَمِنْهَا: تَفْخِيمُ لَامِهِ إِذَا انْفَتْحَ مَا قَبْلَهُ، أَوِ انْضَمَّ ; سُنَّةً وَرِثَتْهَا الْعَرَبُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَتَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنِ الْقُرَّاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَذْفُ أَلِفِهِ لَحْنٌ تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ. وَ (الرَّحْمَنُ) : فَعْلَانُ، مِنْ رَحِمَ كَغَضْبَانَ مِنْ غَضِبَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِجَعْلِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي لَازِمًا، فَيُنْقَلُ إِلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ فَيُشْتَقُّ مِنْهُ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ. وَأَمَّا (الرَّحِيمُ) : فَإِنْ جُعِلَ صِيغَةَ مُبَالَغَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ: هُوَ رَحِيمٌ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ جُعِلَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُشَبَّهَةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ (الْكَشَّافِ) فَالْوَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي الرَّحْمَنِ ثُمَّ فِي الرَّحْمَنِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الرَّحِيمِ ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَهِيَ إِمَّا بِحَسَبِ شُمُولِهِ لِلدَّارَيْنِ وَاخْتِصَاصِ الرَّحِيمِ بِالدُّنْيَا كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: ( «يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَ الدُّنْيَا» ) ، وَإِمَّا بِحَسَبِ كَثْرَةِ أَفْرَادِ الْمَرْحُومِينَ وَقِلَّتِهَا كَمَا وَرَدَ: ( «يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ» ) وَإِمَّا بِحَسَبِ جَلَالَةِ النِّعَمِ وَدِقَّتِهَا. وَبِالْجُمْلَةِ: فَفِي الرَّحْمَنِ مُبَالَغَةٌ فِي مَعْنَى الرَّحْمَةِ لَيْسَتْ فِي الرَّحِيمِ فَيُقْصَدُ بِهِ رَحْمَةٌ زَائِدَةٌ بِوَجْهٍ مَا، فَلَا يُنَافِي مَا يُرْوَى عَنْ قَوْلِهِمْ: ( «يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا» ) لِجَوَازِ حَمْلِهِمَا عَلَى الْجَلَائِلِ وَالدَّقَائِقِ. وَقِيلَ: رَحْمَةُ الرَّحْمَنِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا وَرَحْمَةُ الرَّحِيمِ تَخْتَصُّ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْعُقْبَى، وَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الرَّحْمَنِ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الرَّحِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وَلِذَا قِيلَ: الرَّحْمَنُ: خَاصُّ اللَّفْظِ عَامُّ الْمَعْنَى، وَالرَّحِيمُ: عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمَعْنَى، ثُمَّ الرَّحْمَةُ فِي اللُّغَةِ: رِقَّةُ الْقَلْبِ وَانْعِطَافٌ يَقْتَضِي التَّفَضُّلَ وَالْإِحْسَانَ، وَهِيَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ التَّابِعَةِ لِلْمِزَاجِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْهَا، فَإِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ الْمَبَادِئِ الَّتِي هِيَ مِنَ الِانْفِعَالَاتِ، فَهِيَ

عِبَارَةٌ عَنِ الْإِنْعَامِ فَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، أَوْ عَنْ إِرَادَةِ الْإِحْسَانِ فَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبَّبٌ عَنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ وَالِانْعِطَافِ ; فَتَكُونُ مَجَازًا مُرْسَلًا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَقُدِّمَ الرَّحْمَنُ عَلَى الرَّحِيمِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ التَّرَقِّي فِي الصِّفَاتِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّحِيمَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِلرَّحْمَنِ، أَوْ لِزِيَادَةِ شَبَهِهِ بِاللَّهِ حَيْثُ اخْتَصَّ بِهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ عَلَمٌ لَهُ، أَوْ لِتَقَدُّمِ رَحْمَةِ الدُّنْيَا، وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ وَعَدَمِ ذِكْرِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ إِشْعَارٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: " «غَلَبَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» " وَفِي الْخَتْمِ بِالرَّحِيمِ إِيمَاءٌ بِحُسْنِ خَاتِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ بَعْدَ حُصُولِ رَحْمَتِهِ لِعُمُومِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : قِيلَ: الْحَمْدُ، وَالْمَدْحُ، وَالشُّكْرُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، وَالْمُحَقِّقُونَ بَيْنَهَا يُفَرِّقُونَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ مِنْ نِعْمَةٍ وَغَيْرِهَا، وَالْمَدْحُ يَعُمُّ الِاخْتِيَارِيَّ وَغَيْرَهُ، وَلِذَا يُقَالُ: مَدَحْتُهُ عَلَى حُسْنِهِ، وَلَا يُقَالُ: حَمِدْتُهُ عَلَيْهِ، وَالشُّكْرُ فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِمُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ سَوَاءٌ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، أَوِ الْجَنَانِ، أَوِ الْأَرْكَانِ، فَمَوْرِدُ الْحَمْدِ خَاصٌّ وَمُتَعَلِّقُهُ عَامٌّ، وَالشُّكْرُ بِخِلَافِهِ، وَحَقِيقَةُ الشُّكْرِ مَا رُوِيَ عَنِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، وَرَفْعُهُ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ للَّهِ، وَأَصْلُهُ النَّصْبُ وَقُرِئَ بِهِ، وَإِنَّمَا عُدِلَ بِهِ إِلَى الرَّفْعِ دَلَالَةً عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، وَقُرِئَ بِإِتْبَاعِ الدَّالِّ اللَّامَ وَبِالْعَكْسِ تَنْزِيلًا لَهُمَا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمَا مَعًا مَنْزِلَةَ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إِنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى ; لِتَسْمِيَةِ قَائِلِهَا بِهَا حَامِدًا وَلَوْ كَانَتْ خَبَرِيَّةً مَعْنًى لَمْ يُسَمَّ إِلَّا مُخْبِرًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَقُّ لِلْمُخْبِرِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِذْ لَا يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: الضَّرْبُ مُؤْلِمٌ: ضَارِبٌ، فَإِنْ قِيلَ: جَازَ أَنْ يُعَدَّ الشَّرْعُ الْمُخْبِرُ بِثُبُوتِ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى حَامِدًا أُجِيبَ: فَإِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ: كُلُّ حَمْدٍ صَدَرَ مِنْ كُلِّ حَامِدٍ، فَهُوَ ثَابِتٌ لِلَّهِ، أَوْ لِلْجِنْسِ، وَيُسْتَفَادُ الْعُمُومُ مِنْ لَامِ الِاخْتِصَاصِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَجَمِيعُ أَفْرَادِ الْحَمْدِ مُخْتَصٌّ لَهُ تَعَالَى حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ بَعْضُهَا لِغَيْرِهِ صُورَةً، أَوِ الْحَمْدُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ أَيْ: الْحَامِدَيَّةُ، وَالْمَحْمُودِيَّةُ ثَابِتَانِ لَهُ تَعَالَى، فَهُوَ الْحَامِدُ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ، أَوْ لِلْعَهْدِ فَإِنَّ حَمْدَهُ لَائِقٌ لَهُ، وَلِذَا أَظْهَرَ الْعَجْزَ أَحْمَدُ الْخَلْقِ عَنْ حَمْدِهِ وَقَالَ: ( «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ) . (نَحْمَدُهُ) : اسْتِئْنَافٌ فَأَوَّلًا: أَثْبَتَ الْحَمْدَ لَهُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ، سَوَاءٌ حَمِدَ، أَوْ لَمْ يَحْمَدْ، فَهُوَ إِخْبَارٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِنْشَاءِ. وَثَانِيًا: أَخْبَرَ عَنْ حَمْدِهِ وَحَمْدِ غَيْرِهِ مَعَهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي لِلتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ بِحَسَبِ تَجَدُّدِ النَّعْمَاءِ وَتَعَدُّدِ الْآلَاءِ وَحُدُوثِهَا فِي الْآنَاءِ، أَوِ الْمُرَادُ نَشْكُرُهُ إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى تَوْفِيقِ الْحَمْدِ سَابِقًا. (وَنَسْتَعِينُهُ) أَيْ: فِي الْحَمْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَيَكُونُ تَبَرِّيًا مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ النَّفْسِيَّةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ الْقَدَرِيَّةِ كَمَا أَنَّ فِيمَا قَبْلَهُ رَدًّا عَلَى الْجَبْرِيَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَإِيَّاهُ نَسْتَعِينُ ; لِأَنَّ مَقَامَ الِاخْتِصَاصِ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: لَوْلَا وُجُوبُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لَمَا قَرَأْتُهَا لِعَدَمِ صِدْقِي فِيهَا. (وَنَسْتَغْفِرُهُ) أَيْ: مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّقْصِيرَاتِ وَلَوْ فِي الْحَمْدِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ (وَنَعُوذُ بِاللَّهِ) أَيْ: نَلْتَجِئُ وَنَعْتَصِمُ بِعَوْنِهِ وَحِفْظِهِ (مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا) أَيْ: مِنْ ظُهُورِ السَّيِّئَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي جُبِلَتِ الْأَنْفُسُ عَلَيْهَا

قِيلَ: مِنْهَا الْحَمْدُ مَعَ الرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ وَكَذَا مَعَ إِثْبَاتِ الْحَوْلِ، وَالْقُوَّةِ (وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا) أَيْ: مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا، وَفِيهِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ الْبَوَاطِنَ وَالظَّوَاهِرَ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ وَمَحْشُوَّةٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلِذَا قِيلَ: وَجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبٌ. قِيلَ: مِنْهَا التَّصْنِيفُ بِلَا إِخْلَاصٍ وَعَدَمُ رُؤْيَةِ التَّوْفِيقِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلَوْلَا حِفْظُهُ تَعَالَى مَعَ تَوْفِيقِهِ لَمَا اسْتَقَامَ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقِهِ، لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا (مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ) أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ الْمُوَصِّلَةَ إِلَيْهِ وَعِنَايَتَهُ الْمُقَرِّبَةِ لَدَيْهِ. (فَلَا مُضِلَّ لَهُ) أَيْ: فَلَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى إِضْلَالِهِ مِنَ الْمُضِلِّينَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، وَالْجِنِّ أَجْمَعِينَ، (وَمَنْ يُضْلِلْ) أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ جَهَالَتَهُ وَعَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ ضَلَالَتَهُ (فَلَا هَادِيَ لَهُ) أَيْ: فَلَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِ مِنَ الْهَادِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُرْسَلِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِمَا سِوَاهُ إِلَّا مَا قَدَّرَ بِهِ وَقَضَاهُ مِنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِيَارِ، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، وَلِظُهُورِ قُصُورِ عُقُولِنَا الْفَانِيَةِ عَنْ إِدْرَاكِ أَسْرَارِ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ الْبَاقِيَةِ، قَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: " لَا يَظْهَرُ سِرُّ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْبَارِزَ ثَابِتٌ فِي (يَهْدِهِ) ، وَأَمَّا فِي (يُضْلِلْ) فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَهُوَ عَمَلٌ بِالْجَائِزَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصْلٌ وَفِيهِ وَصْلٌ، وَالثَّانِي فَرْعٌ وَفِيهِ فَصْلٌ، وَفِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى لَا تَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الصَّفَا (وَأَشْهَدُ) أَيْ: أَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ (أَنْ لَا إِلَهَ) أَيْ: مَعْبُودَ، أَوْ لَا مَقْصُودَ، أَوْ لَا مَوْجُودَ فِي نَظَرِ أَرْبَابِ الشُّهُودِ (إِلَّا اللَّهُ) أَيِ: الذَّاتُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ صَاحِبُ الْكَرَمِ وَالْجُودِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ الْحُدُوثِ وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ، فَأَشَارَ أَوَّلًا إِلَى التَّفْرِقَةِ وَثَانِيًا إِلَى الْجَمْعِ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَقَدِّمَةَ أُمُورٌ ظَاهِرِيَّةٌ يُحْكَمُ بِوُجُودِهَا عَلَى الْغَيْرِ أَيْضًا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ غَيْبِيٌّ لَا يَعْلَمُ بِحَقِيقَتِهِ إِلَّا هُوَ (شَهَادَةً) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: (تَكُونُ) أَيْ: بِخُلُوصِهَا (لِلنَّجَاةِ) أَيِ: الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاكْتِفَاءِ بِهَا (وَسِيلَةً) أَيْ: سَبَبًا لَا عِلَّةً (وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ) أَيِ: الْعَالِيَاتِ فِي الْجَنَّاتِ الْبَاقِيَاتِ (كَفِيلَةً) أَيْ: مُتَضَمِّنَةً مُلْتَزِمَةً. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا تَكَرَّرَتْ وَأَنْتَجَتِ ارْتِكَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاجْتِنَابَ الْأَفْعَالِ الطَّالِحَةِ، صَارَتْ سَبَبًا لِعُلُوِّ الدَّرَجَاتِ، وَكَانَتْ مَانِعَةً عَنِ الْوُقُوعِ فِي الدَّرَكَاتِ، وَبِمَا قَرَّرْنَاهُ انْدَفَعَ مَا يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ، وَلِكَوْنِ التَّوْفِيقِ عَلَى هَذَا السَّبَبِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لَنْ يُنَجَّى مِنْكُمْ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» ". (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا) : هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَمِدَ مُبَالَغَةَ حَمْدٍ نُقِلَ مِنَ الْوَصْفَيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ، سُمِّيَ بِهِ، وَالْأَسْمَاءُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ لِوُصُولِهِ إِلَى الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَحْمَدُهُ الْأَوَّلُونَ، وَالْآخِرُونَ (عَبْدُهُ) : إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَخْصِيصٍ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ مَرْتَبَتِهِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالْقِيَامِ فِي أَدَاءِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ ; وَقَدَّمَهُ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَوْصَافِهِ

وَأَعْلَاهَا وَأَفْضَلُهَا وَأَغْلَاهَا، وَلِذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وَللَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِيَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَاضِي عِيَاضٍ: وَمِمَّا زَادَنِي عَجَبًا وَتِيهًا ... وَكِدْتُ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي ... وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا (وَرَسُولُهُ) : إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْقُرْبِ، وَأَوْلَى مَنَازِلِ الْحُبِّ، وَهُوَ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ، وَالْوَاصِلُ إِلَى الْمَقَامِ الْأَفْضَلِ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ تَعْرِيضٌ لِلنَّصَارَى حَيْثُ غَلَوْا فِي دِينِهِمْ، وَأَطْرَوْا فِي مَدْحِ نَبِيِّهِمْ. ثُمَّ قِيلَ: النَّبِيُّ، وَالرَّسُولُ مُتَرَادِفَانِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّ النَّبِيَّ إِنْسَانٌ ذَكَرٌ حُرٌّ مِنْ بَنِي آدَمَ، أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِنْ أُمِرَ بِهِ فَرَسُولٌ أَيْضًا، الثَّانِي أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَا عَكْسَ، وَذِكْرُ الْأَخَصِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَصُّ عَلَى مَعْنَى الْمَرَامِ. (الَّذِي بَعَثَهُ) أَيِ: اللَّهُ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: أَرْسَلَهُ إِلَى الثَّقَلَيْنِ. وَقِيلَ: إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا. وَقِيلَ: إِلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ. وَقِيلَ: إِلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خَبَرُ مُسْلِمٍ ( «وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» ) . (وَطُرُقُ الْإِيمَانِ) : مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْكُتُبِ، وَالْعُلَمَاءِ. (قَدْ عَفَتْ آثَارُهَا) أَيِ: انْدَرَسَتْ أَخْبَارُهَا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ وَأَظْهَرَهُ فِي حَالِ كَمَالِ احْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنَ الضَّلَالَةِ وَغَايَةٍ مِنَ الْجَهَالَةِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَعْرِفُهَا إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ أَتْبَاعِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَوْطَنُوا زَوَايَا الْخُمُولِ وَرُءُوسَ الْجِبَالِ، وَآثَرُوا الْوَحْدَةَ، وَالْأُفُولَ عَنِ الْخَلْقِ بِالِاعْتِزَالِ. (وَخَبَتْ أَنْوَارُهَا) أَيْ: خَفِيَتْ وَانْطَفَأَتْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ اقْتِبَاسُ الْعِلْمِ الْمُشَبَّهِ بِالنُّورِ فِي كَمَالِ الظُّهُورِ. (وَوَهَتْ) أَيْ: ضَعُفَتْ حَتَّى انْعَدَمَتْ (أَرْكَانُهَا) : مِنْ أَسَاسِ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَالْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّلَوَاتُ، وَالزَّكَوَاتُ، وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ. (وَجُهِلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مَكَانُهَا) : مُبَالَغَةً فِي ظُهُورِ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ، وَغَلَبَةِ الْفِسْقِ، وَكَثْرَةِ الظُّلْمِ، وَقِلَّةِ الْعَدْلِ (فَشَيَّدَ) أَيْ: رَفَعَ وَأَعْلَى وَأَظْهَرَ، وَقَوَّى بِمَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْعُلُومِ، وَالْمَعَارِفِ الَّتِي لَمْ يُؤْتَهَا أَحَدٌ مِثْلُهُ فِيمَا مَضَى. (صَلَوَاتُ اللَّهِ) أَيْ: أَنْوَاعُ رَحْمَتِهِ، وَأَصْنَافُ عِنَايَتِهِ نَازِلَةٌ (عَلَيْهِ) ، وَفَائِضَةٌ لَدَيْهِ، وَمُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ. وَفِي نُسْخَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى السَّيِّدِ عَفِيفِ الدِّينِ: زِيَادَةُ. (وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ) : يَعْنِي جِنْسَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ فِي الدَّارَيْنِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ إِخْبَارِيَّةٌ، أَوْ دُعَائِيَّةٌ، وَهِيَ الْأَظْهَرُ (مِنْ مَعَالِمِهَا) جَمْعُ الْمَعْلَمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ (مَا عَفَا) : مَا: مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ مَفْعُولُ شَيَّدَ، وَمِنْ: بَيَانِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ. وَالْمَعْنَى: أَظْهَرَ، وَبَيَّنَ مَا انْدَرَسَ، وَخَفِيَ مِنْ آثَارِ طُرُقِ الْإِيمَانِ، وَعَلَامَاتِ أَسْبَابِ الْعِرْفَانِ، وَالْإِيقَانِ، (وَشَفَى) : عَطْفٌ عَلَى شَيَّدَ (مِنَ الْعِلَلِ) : بَيَانٌ مُقَدَّمٌ لِمِنَ رِعَايَةً لِلسَّجْعِ (فِي تَأْيِيدِ التَّوْحِيدِ) أَيْ: تَأْكِيدُهُ، وَتَقْوِيَتُهُ، وَنُصْرَتُهُ، وَإِعَانَتُهُ مُتَعَلِّقٌ

بِشَفَى، وَمَفْعُولُهُ قَوْلُهُ: (مَنْ كَانَ عَلَى شَفَا) أَيْ: وَخَلَّصَ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي حُفْرَةِ الْجَحِيمِ، وَالسُّقُوطِ فِي بِئْرِ الْحَمِيمِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا} [آل عمران: 103] أَيْ: طَرَفِ {حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] وَقِيلَ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ: أَبْرَأَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْلُولِينَ مَنْ كَانَ عَلَى إِشْرَافٍ مِنَ الْهَلَاكِ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ طَبِيبُ الْعُيُوبِ، وَحَبِيبُ الْقُلُوبِ. وَفِي الْكَلَامِ صَنْعَةُ جِنَاسٍ: وَهُوَ تَشَابُهُ الْكَلِمَتَيْنِ لَفْظًا، وَصَنْعَةُ طِبَاقٍ: وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَغْرَبَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ حَيْثُ قَالَ: وَالْعَلِيلُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا، وَجَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، وَيَكُونُ مِنَ الْغِلِّ بِمَعْنَى الْحِقْدِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ: إِمَّا لَفْظًا: فَلِفَوَتِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الشِّفَاءِ، وَالْعِلَّةِ، وَإِمَّا مَعْنًى: فَلِذَهَابِ عُمُومِ الْعِلَلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ جِنْسِ الْعَلِيلِ وَاقْتِصَارِهِ عَلَى عِلَّةِ الْحِقْدِ فَقَطْ مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِلْمَقَامِ (وَأَوْضَحَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ) أَيْ: بَيَّنَ، وَعَيَّنَ طَرِيقَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَسَبِيلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَحْبُوبِ. (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَهَا) : وَالسَّبِيلُ يُذَكَّرُ، وَيُؤَنَّثُ أَيْ: لِمَنْ طَلَبَ، وَشَاءَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا، وَإِرَادَةُ الْعَبْدِ تَابِعَةٌ لِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (وَأَظْهَرَ كُنُوزَ السَّعَادَةِ) أَيِ: الْمَعْنَوِيَّةَ، وَهِيَ الْمَعَارِفُ، وَالْعُلُومُ، وَالْأَعْمَالُ الْعَلِيَّةُ، وَالْأَخْلَاقُ، وَالشَّمَائِلُ، وَالْأَحْوَالُ الْبَهِيَّةُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الْكُنُوزِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالْخَزَائِنِ السَّرْمَدِيَّةِ. (لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَمْلِكَهَا) أَيْ: بِمَلَكَةٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مِلْكِهَا، وَيَتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى مِلْكِهَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا} [الإنسان: 20] أَيْ: كَثِيرًا {وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] وَفِي قَوْلِهِ أَرَادَ وَقَصَدَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ لَا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ، وَلَا يَحْصُلُ بِالسَّعْيِ، وَوَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْإِيضَاحِ، وَالْإِظْهَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ثُمَّ قِيلَ: يُرَدُّ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى النُّسْخَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالصَّلَاةِ دُونَ السَّلَامِ - مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ مِنْ كَرَاهَةِ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ فِيمَنِ اتَّخَذَهُ عَادَةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِلِسَانِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى كِتَابَةِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا بَعِيدٌ، أَوِ الْكَرَاهَةُ بِمَعْنَى خِلَافِ الْأَوْلَى لِإِطْلَاقِهَا عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَهُوَ الْأَوْلَى. (أَمَّا بَعْدُ) : أَتَى بِهِ اقْتِدَاءً بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَبِأَصْحَابِهِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِهِ فِي خُطَبِهِمْ لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ، وَيُسَمَّى فَصْلَ الْخِطَابَ قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِهِ دَاوُدُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَمَّا لِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ، وَهُوَ كَلِمَةُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ فِعْلُهُ، وُجُوبًا، (وَبَعْدُ) مِنَ الظُّرُوفِ الزَّمَانِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مَنْوِيٌّ. وَالتَّقْدِيرُ: مَهْمَا يُذْكَرُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ بَعْدَمَا ذُكِرَ مِنَ الْبَسْمَلَةِ، وَالْحَمْدَلَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالثَّنَاءِ (فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهَدْيِهِ) أَيِ: التَّشَبُّثَ، وَالتَّعَلُّقَ طَرِيقُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (لَا يَسْتَتِبُّ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا يَسْتَمِرُّ، أَوْ لَا يَتَهَيَّأُ، وَلَا يَتَأَتَّى. (إِلَّا بِالِاقْتِفَاءِ) أَيْ: بِالِاتِّبَاعِ التَّامِّ (لِمَا صَدَرَ) أَيْ: ظَهَرَ (مِنْ مِشْكَاتِهِ) أَيْ: صَدْرِهِ، أَوْ قَلْبِهِ، أَوْ فَمِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; فَإِنَّ الْمِشْكَاةَ لُغَةٌ: هِيَ الْكُوَّةُ فِي الْجِدَارِ الْغَيْرِ النَّافِذِ يُوضَعُ فِيهَا الْمِصْبَاحُ، اسْتُعِيرَتْ لِصَدْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ; لِأَنَّهُ كَالْكُوَّةِ ذُو جِهَتَيْنِ فَمِنْ جِهَةٍ يُقْتَبَسُ النُّورُ مِنَ الْقَلْبِ الْمُسْتَنِيرِ، وَمِنْ أُخْرَى يَفِيضُ ذَلِكَ النُّورُ الْمُقْتَبَسُ عَلَى الْخَلْقِ، وَشُبِّهَتِ اللَّطِيفَةُ الْقُدُسِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْقَلْبُ بِالْمِصْبَاحِ الْمُضِيءِ، ثُمَّ الْكُلُّ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35] قِيلَ: نُورُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] ، هَذَا

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي (هَدْيِهِ) إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِهَدْيِهِ تَوْحِيدُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ عَطْفُ قَوْلِهِ الْآتِي: (وَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ) عَلَيْهِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ، وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ دَفْعًا لِلتَّوَهُّمِ، وَتَبَعًا لِلْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] وَعُكِسَ فِي الْأَوَّلِ ; لِظُهُورِهِ، وَدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، فَلَوْ بُيِّنَ الضَّمِيرُ بِالتَّصْرِيحِ لَكَانَ أَوْلَى سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْفَصْلِ بِفَصْلِ الْخِطَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (وَالِاعْتِصَامَ) بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ أَيْ: التَّمَسُّكُ (بِحَبْلِ اللَّهِ) : وَهُوَ الْقُرْآنُ: لِمَا وَرَدَ: ( «الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» ) شُبِّهَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الصُّعُودُ إِلَى مَرَاتِبِ السُّعُودِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّعَلِّي، وَالتَّدَلِّي، لِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " «الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ» "، فَهُوَ كَالنِّيلِ مَاءٌ لِلْمَحْبُوبِينَ، وَدِمَاءٌ لِلْمَحْجُوبِينَ، قَالَ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] (لَا يَتِمُّ) أَيْ: لَا يَكْمُلُ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ (إِلَّا بِبَيَانِ كَشْفِهِ) أَيْ: مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ، قَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَلَا خَفَاءَ فِي الْإِجْمَالَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالتَّبْيِينَاتِ الْحَدِيثَيَّةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مُجْمَلَةٌ لَمْ يُبَيِّنْ أَوْقَاتَهَا، وَأَعْدَادَهَا، وَأَرْكَانَهَا، وَشَرَائِطَهَا، وَوَاجِبَاتِهَا، وَسُنَنَهَا، وَمَكْرُوهَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِهَا إِلَّا السُّنَّةُ، وَكَذَا الزَّكَاةُ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُهَا، وَتَفَاصِيلُ نِصَابِهَا، وَمَصَارِفِهَا إِلَّا بِالْحَدِيثِ، وَكَذَا الصَّوْمُ، وَالْحَجُّ، وَسَائِرُ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْقَضَايَا، وَالْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ، وَتَمْيِيزُ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَتَفَاصِيلُ الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَعَلَيْكَ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَبِالِاجْتِنَابِ عَنْ طَرِيقِ أَرْبَابِ الْهَوَى، وَأَصْحَابِ الْبِدْعَةِ ; لِتَكُونَ مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ السَّالِكَةِ طَرِيقَ الْمُتَابَعَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقَامَةِ. وَللَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ ... إِلَّا الْحَدِيثَ، وَإِلَّا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ الْعِلْمُ مُتَّبَعٌ مَا فِيهِ حَدَّثَنَا ... وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مِنْ أَنَّ (حَدَّثَنَا) بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الدُّنْيَا مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ مَرْضَاةَ الْمَوْلَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُحَدِّثِينَ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إِلَى مَتَى الْعِلْمُ فَأَيْنَ الْعَمَلُ؟ ! قَالَ: عِلْمُنَا هَذَا هُوَ الْعَمَلُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَرَجَ يَوْمًا مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي ". قُلْنَا: مَنْ خُلَفَاؤُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: خُلَفَائِي الَّذِينَ يَرْوُونَ أَحَادِيثِي، وَسُنَنِي، وَيُعَلِّمُونَهَا لِلنَّاسِ» . وَفَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ ارْتَحَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَسَافَةَ شَهْرٍ لِتَحْصِيلِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ. (وَكَانَ كِتَابُ الْمَصَابِيحِ) : قِيلَ: أَحَادِيثُهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا، وَزَادَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا فَالْمَجْمُوعُ خَمْسَةُ آلَافٍ وَتِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ

وَأَرْبَعُونَ، وَيَنْضَبِطُ بِسِتَّةِ آلَافٍ إِلَّا كَسْرَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ (الَّذِي صَنَّفَهُ) أَيْ: أَلَّفَهُ، وَجَمَعَهُ (الْإِمَامُ) أَيِ: الْمُقْتَدَى بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُ كَانَ مُفَسِّرًا مُحَدِّثًا فَقِيهًا مِنْ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ. قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ سَاقِطٌ، وَكَانَ مَاهِرًا فِي عِلْمِ الْقِرَاءَةِ عَابِدًا زَاهِدًا جَامِعًا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، كَانَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَحْدَهُ بِلَا إِدَامٍ فَعُلَّ عَنْ ذَلِكَ لِكِبَرِهِ، وَعَجْزِهِ فَصَارَ يَأْكُلُهُ بِالزَّيْتِ. وَقِيلَ بِالزَّبِيبِ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ كَالْحَافِظِ أَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي النَّجِيبِ السُّهْرُوَرْدِيِّ عَمِّ صَاحَبِ الْعَوَارِفِ، وَلَهُ غَيْرُ الْمَصَابِيحِ تَصَانِيفُ مَشْهُورَةٌ كَشَرْحِ السُّنَّةِ فِي الْحَدِيثِ، وَكِتَابِ التَّهْذِيبِ فِي الْفِقْهِ، وَمَعَالِمِ التَّنْزِيلِ فِي التَّفْسِيرِ. (مُحْيِي السُّنَّةِ) أَيِ: الْأَدِلَّةِ الْحَدِيثَيَّةِ مِنْ أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَتَقْرِيرِهِ، وَأَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ السُّنَّةِ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ (أَحْيَاكَ اللَّهُ كَمَا أَحْيَيْتَ سُنَّتِي) فَصَارَ هَذَا اللَّقَبُ عَلَمًا لَهُ بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ بِمَرْوَ، وَدُفِنَ عِنْدَ شَيْخِهِ، وَأُسْتَاذِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْمَرْوَزِيِّ فَقِيهِ خُرَاسَانَ (قَامِعُ الْبِدْعَةِ) أَيْ: قَاطِعُهَا، وَدَافِعُ أَهْلِهَا، أَوْ مُبْطِلُهَا، وَمُمِيتُهَا. (أَبُو مُحَمَّدٍ) كُنْيَتُهُ، (الْحُسَيْنُ) اسْمُهُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (ابْنُ مَسْعُودٍ) : نَعْتُهُ (الْفَرَّاءِ) : بِالْجَرِّ نَعْتٌ لِأَبِيهِ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَغِلُ الْفَرْوَ، أَوْ يَبِيعُهُ، وَهُوَ غَيْرُ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ الْمَشْهُورِ عَلَى مَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ ; فَإِنَّهُ يَنْقُلُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِهِ (الْبَغَوِيُّ) : بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى بَغَّ، وَقِيلَ: إِلَى بَغْشُورَ: قَرْيَةٌ بَيْنَ مَرْوَ وَهَرَاةَ فِي حُدُودِ خُرَاسَانَ، وَالِاسْمُ الْمُرَكَّبُ تَرْكِيبًا مَزْجِيًا يُنْسَبُ إِلَى جُزْئِهِ الْأَوَّلِ كَمَعَدِّيٍّ فِي مَعْدِي كَرِبَ، وَبَعْلِيٍّ فِي بَعْلَبَكَّ، وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْوَاوُ فِي النِّسْبَةِ إِجْرَاءً لِلَفْظَةِ بَغَّ مَجْرَى مَحْذُوفِ الْعَجُزِ كَالدَّمَوِيِّ، وَلِئَلَّا يَلْتَبِسُ بِالْبَغِيِّ بِمَعْنَى الزَّانِي، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوبٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ (رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ) : وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ رَحْمَتَهُ، وَالْجُمْلَةُ دِعَائِيَّةٌ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]- (أَجْمَعَ كِتَابٍ) خَبَرُ كَانَ (صُنِّفَ) أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابُ (فِي بَابِهِ) أَيْ: فِي بَابِ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّهُ جَمَعَ الْأَحَادِيثَ الْمُهِمَّةَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا سَالِكُ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَرْتِيبِ أَبْوَابِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ ; لِيَسْهُلَ الْكَشْفُ، وَيُفَسِّرُ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ بَعْضَهَا الْإِجْمَالِيَّةَ، وَتَتَبَيَّنُ الْمَسَائِلُ الْخِلَافِيَّةُ بِمُقْتَضَى الدَّلَالَاتِ الْحَدِيثَيَّةِ. (وَأَضْبَطَ) : عَطْفٌ عَلَى أَجْمَعَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جُرِّدَ عَنِ الْأَسَانِيدِ، وَعَنِ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ، وَتَكْرَارِهَا فِي الْمَسَانِيدِ صَارَ أَقْرَبَ إِلَى الْحِفْظِ، وَالضَّبْطِ، وَأَبْعَدَ مِنَ الْغَلَطِ، وَالْخَبْطِ (لِشَوَارِدِ الْأَحَادِيثِ) : جَمْعُ شَارِدَةٍ، وَهِيَ النَّافِرَةُ، وَالذَّاهِبَةُ عَنِ الدَّرْكِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ (وَأَوَابِدِهَا) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَيْ: وَحْشِيَّاتُهَا ; شُبِّهَتِ الْأَحَادِيثُ بِالْوُحُوشِ لِسُرْعَةِ تَنَفُّرِهَا، وَتَبَعُّدِهَا عَنِ الضَّبْطِ، وَالْحِفْظِ ; وَلِذَا قِيلَ: الْعِلْمُ صَيْدٌ، وَالْكِتَابَةُ قَيْدٌ (وَلَمَّا سَلَكَ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَعَائِيَّةٌ أَيْ: ذَهَبَ فِي مَسْلَكِ تَصْنِيفِهِ هَذَا (طَرِيقَ الِاخْتِصَارِ) أَيْ: بِالِاكْتِفَاءِ عَلَى مُتُونِ الْأَحَادِيثِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِصَارِ (وَحَذْفِ الْأَسَانِيدِ) : عَطْفٌ عَلَى سَلَكَ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ مُضَافٌ عُطِفَ عَلَى طَرِيقٍ، وَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَالْمُرَادُ بِالْإِسْنَادِ: إِمَّا حَذْفُ الصَّحَابِيِّ، وَتَرْكُ الْمُخْرِجِ فِي كُلِّ حَدِيثٍ، وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ، أَيْ: طَرَفَيِ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرًا مِنْ قَوْلِهِ: (لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ كَالْأَغْفَالِ) ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ عِنْدَ مُصْطَلَحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: وَهُوَ حِكَايَةُ طَرِيقِ مَتْنِ الْحَدِيثِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ رُوَاتُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا حَذَفَهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهَا ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنْ يُعْلَمَ عِنْدَ التَّعَارُضِ رَاجِحُ الْحَدِيثِ مِنْ مَرْجُوحِهِ، وَنَاسِخُهُ مِنْ مَنْسُوخِهِ، بِسَبَبِ زِيَادَةِ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ، وَتَقَدُّمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْهَا، وَلَمَّا عُدِمَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، وَنَدُرَ وُجُودُهُمْ فِي الْأَمْصَارِ، وَوَضَعَ هَذَا الْكِتَابِ لِلصُّلَحَاءِ

الْأَبْرَارِ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهَا نَفْعٌ كَثِيرٌ ; فَاقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ الصِّحَّةِ، وَالْحُسْنِ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ مِنَ الصِّحَاحِ، وَالْحِسَانِ إِكْمَالًا (تَكَلَّمَ فِيهِ) : جَوَابُ لَمَّا، أَيْ: طَعَنَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ كِتَابِهِ (بَعْضُ النُّقَّادِ) : بِضَمِّ النُّونِ، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، أَيِ: الْعُلَمَاءِ النَّاقِدِينَ الْمُمَيِّزِينَ بَيْنَ الصَّحِيحِ، وَالضَّعِيفِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي رِجَالِ الْحَدِيثِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِسْنَادِهِ، وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِذِكْرِهِ، وَعَدَمِ ذِكْرِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا يُتَصَوَّرُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِسْنَادَانِ، فَلَوْ ذَكَرَ لَهُ إِسْنَادَهُ الثَّابِتَ لَمَا وَجَدَ الطَّاعِنُ فِيهِ مَطْعَنًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ. . .) إِلَخْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ كَانَ اعْتِرَاضُ ذَلِكَ الْبَعْضِ مَدْفُوعًا عَنْهُ لِكَوْنِهِ ثِقَةً، وَإِذَا نُسِبَ الْحَدِيثُ إِلَى الْأَئِمَّةِ الْمُخْرِجِينَ الْمُورِدِينَ لِلْحَدِيثِ مَعَ الْإِسْنَادِ بِقَوْلِهِ: الصِّحَاحُ: مَا فِيهِ حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالْحَسَنُ: مَا فِيهِ أَحَادِيثُ سَائِرِ السُّنَنِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَيْ: تَكَلَّمَ فِي حَقِّهِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُبْصِرِينَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْحَدِيثِ، وَسَقَمَهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِسْنَادِ، فَإِذَا لَمْ يُذْكُرْ لَمْ يُعْرَفِ الصَّحِيحُ مِنَ الضَّعِيفِ ; فَيَكُونُ نَقْصًا (وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ) أَيْ: نَقْلُ الْبَغَوَيِّ بِلَا إِسْنَادٍ، وَالْوَاوُ وَصْلَيَّةٌ (وَإِنَّهُ مِنَ الثِّقَاتِ) أَيِ: الْمُعْتَمَدِينَ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ، وَبَيَانِ صِحَّتِهِ، وَحُسْنِهِ، وَضَعْفِهِ (كَالْإِسْنَادِ) أَيْ: كَذِكْرِهِ، رُوِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي (إِنَّهُ) عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي نَقْلِهِ، وَرُوِيَ: بِفَتْحِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى اسْمِ كَانَ يَعْنِي نَقْلَهُ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ وَكَوْنُهُ مِنَ الثِّقَاتِ كَالْإِسْنَادِ ; لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ مَنِ اشْتُهِرَتْ أَمَانَتُهُ، وَعُلِمَتْ عَدَالَتُهُ، وَصِيَانَتُهُ فَيُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ إِسْنَادِ الشَّيْءِ لِمَحَلِّهِ (لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ) : أَعْلَامُ الشَّيْءِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ آثَارُهُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا (كَالْأَغْفَالِ) : بِالْفَتْحِ، وَهِيَ الْأَرَاضِي الْمَجْهُولَةُ لَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ تُعْرَفُ بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا فَهُمَا مَصْدَرَانِ لَفْظًا، وَضِدَّانِ مَعْنًى، وَأَرَادَ بِالْأَوَّلِ كِتَابَهُ الْمِشْكَاةَ، وَبِالثَّانِي الْمَصَابِيحَ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَغْفَالٌ كَالْأَعْلَامِ، وَلَعَلَّهُ قَلَبَ الْكَلَامَ تَوَاضُعًا مَعَ الْإِمَامِ، وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ عَنْ بُلُوغِ ذَلِكَ الْمَرَامِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ فِي صَنِيعِ الْبَغَوِيِّ قُصُورًا فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ عَدَمُ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ أَوَّلًا، وَعَدَمُ ذِكْرِ الْمُخْرِجِ فِي كُلِّ حَدِيثٍ آخِرًا، فَإِنَّ ذِكْرَهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ: أَمَّا ذِكْرُ الصَّحَابِيِّ فَفَائِدَتُهُ: أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ يَتَعَدَّدُ رُوَاتُهُ، وَطُرُقُهُ، وَبَعْضُهَا صَحِيحٌ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ، فَيُذْكَرُ الصَّحَابِيُّ لِيُعْلَمَ ضَعِيفُ الْمَرْوِيِّ مِنْ صَحِيحِهِ، وَمِنْهَا: رُجْحَانُ الْخَبَرِ بِحَالِ الرَّاوِي مِنْ زِيَادَةِ فِقْهِهِ، وَوَرَعِهِ، وَمَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ، وَمَنْسُوخِهِ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ الرَّاوِي، وَتَأَخُّرِهِ، وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُخْرِجِ فَفَائِدَتُهُ: تَعْيِينُ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَتَبَيْيُنُ رِجَالِ إِسْنَادِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَعْرِفَةُ كَثْرَةِ الْمُخْرِجِينَ، وَقِلَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، لِإِفَادَةِ التَّرْجِيحِ، وَزِيَادَةِ التَّصْحِيحِ، وَمِنْهَا: الْمُرَاجَعَةُ إِلَى الْأُصُولِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُصُولِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَنَافِعِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْوُصُولِ. هَذَا، وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْمِشْكَاةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ النُّقَّادِ) أَيْ: تَكَلَّمَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْحَذْفِ الَّذِي اسْتَلْزَمَ عِنْدَهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَعْضُ النُّقَّادِ كَالنَّوَوِيِّ، وَابْنِ الصَّلَاحِ، وَغَيْرِهِمَا، فَقَالُوا: مَا جَنَحَ إِلَيْهِ فِي مَصَابِيحِهِ مِنْ تَقْسِيمِ أَحَادِيثِهِ إِلَى صِحَاحٍ، وَحِسَانٍ مَعَ صَيْرُورَتِهِ إِلَى أَنَّ الصِّحَاحَ: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالْحِسَانَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالنَّسَائِيِّ، وَالدَّارِمِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، اصْطِلَاحٌ لَا يُعْرَفُ، بَلْ هُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ ; إِذِ الْحَسَنُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي كُتُبِ السُّنَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا غَيْرُ الْحَسَنِ مِنَ الصَّحِيحِ، وَالضَّعِيفِ، لَكِنِ انْتَصَرَ لَهُ الْمُؤَلِّفُ فَقَالَ: لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ بَلْ تَخْطِئَةُ الْمَرْءِ فِي اصْطِلَاحِهِ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَالْبَغَوِيُّ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: أَعْنِي بِالصِّحَاحِ كَذَا، وَبِالْحِسَانِ كَذَا، وَمَا قَالَ أَرَادَ الْمُحَدِّثُونَ بِهِمَا كَذَا فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ خُصُوصًا، وَقَدْ قَالَ: وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ ضَعِيفٍ، أَوْ غَرِيبٍ أُشِيرُ إِلَيْهِ، وَأَعْرَضْتُ عَمَّا كَانَ مُنْكَرًا، أَوْ مَوْضُوعًا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَمْلَ التَّكَمُّلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ. . .) إِلَخْ، وَلَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ) إِذْ لَا يَصْلُحُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا جَوَابًا، وَلَا الثَّانِي اسْتِدْرَاكًا صَوَابًا (فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى) أَيْ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا:

" «مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ، وَلَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» "، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ خَيْرَهُ مِنْ شَرِّهِ " قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا. (وَاسْتَوْفَقْتُ مِنْهُ) : بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ عَلَى الْقَافِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، أَيْ: طَلَبْتُ مِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقَ، وَعَلَى الِاسْتِقَامَةِ طَرِيقِ التَّوْثِيقِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْعَكْسِ، وَالْمَعْنَى: طَلَبْتُ الْوُقُوفَ عَلَى إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، وَمَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُثَلَّثَةِ، وَالْقَافِ أَيْ: طَلَبْتُ الْوُثُوقَ، وَالثُّبُوتَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَرْدُودِ، وَالْمَثْبُوتِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: أَخَذْتُ مِنَ الْمَصَابِيحِ مَا هُوَ الْوَثِيقَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ، وَهُوَ الْأَحَادِيثُ عُرْيَةً عَنْ وَسْمِهَا بِصِحَاحٍ، وَحِسَانٍ، (فَأَوْدَعْتُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْمِصْبَاحِ (فِي مَقَرِّهِ) : كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ هَذِهِ الْفِقْرَةُ مَوْجُودَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَضَعْتُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنَ الْكِتَابِ فِي مَحَلِّهِ الْمَوْضُوعِ فِي أَصْلِهِ مَنْ كُلِّ كِتَابٍ، وَبَابٍ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَتَأْخِيرٍ، وَزِيَادَةٍ، وَنُقْصَانٍ، وَتَغْيِيرٍ (فَأَعْلَمْتُ) أَيْ: فَبَيَّنْتُ مَا (أَغْفُلُهُ) أَيْ: تَرَكَهُ بِلَا إِسْنَادٍ عَمْدًا مِنْ ذِكْرِ الصَّحَابِيِّ أَوَّلًا، وَبَيَانِ الْمُخْرِجِ آخِرًا بِخُصُوصِ كُلِّ حَدِيثٍ الْتِزَامًا. (كَمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ) : جَمْعُ إِمَامٍ، وَأَصْلُهُ أَئِمَّةٌ عَلَى وَزْنِ أَفْعِلَةٍ فَأُعِلَّ بِالنَّقْلِ، وَالْإِدْغَامِ، وَيَجُوزُ تَحْقِيقُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَسْهِيلُهَا، وَإِبْدَالُهَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ هَاهُنَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ مِنَ الْقَدِيمِ، وَالْحَدِيثِ (الْمُتْقِنُونَ) أَيِ: الضَّابِطُونَ الْحَافِظُونَ الْحَاذِقُونَ لِمَرْوِيَّاتِهِمْ مِنْ: أَتْقَنَ الْأَمْرَ إِذَا أَحْكَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] (وَالثِّقَاتُ) : بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ ثِقَةٍ، وَهُوَ الْعُدُولُ، وَالثَّبَاتُ. (الرَّاسِخُونَ) أَيِ: الثَّابِتُونَ بِمُحَافَظَةِ هَذَا الْعِلْمِ الشَّرِيفِ، وَالْقَائِمُونَ بِمُرَاعَاةِ طُرُقِ هَذَا الْفَنِّ الْمَنِيفِ. (مِثْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَبُوهُ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، رَوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَالِكٍ، وَصَحِبَ ابْنَ الْمُبَارَكِ، وَرَوَى عَنْهُ الْعِرَاقِيُّونَ. قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِي جَمِيعِ مَالِي دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ. (الْبُخَارِيُّ) : نِسْبَةٌ إِلَى بُخَارَى: بَلْدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ ; لِتَوَلُّدِهِ فِيهَا، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَمِ لَهُ، وَلِكِتَابِهِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ: يُقَالُ لَهُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَنَاصِرُ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَنَاشِرُ الْمَوَارِيثِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، قِيلَ: لَمْ يُرَ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ مِنْ جِهَةِ حِفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِتْقَانِهِ، وَفَهْمِ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمِنْ حَيْثِيَّةِ حِدَّةِ ذِهْنِهِ، وَرِقَّةِ نَظَرِهِ، وَوُفُورِ فِقْهِهِ، وَكَمَالِ زُهْدِهِ، وَغَايَةِ وَرَعِهِ، وَكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَعِلَلِهِ، وَقُوَّةِ اجْتِهَادِهِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ، وَكَانَتْ أَمُّهُ مُسْتَجَابَةَ الدَّعْوَةِ تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ فَنَشَأَ فِي حِجْرِ وَالِدَتِهِ، ثُمَّ عَمِيَ، وَقَدْ عَجَزَ الْأَطِبَّاءُ عَنْ مُعَالَجَتِهِ فَرَأَتْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَائِلًا لَهَا: قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى ابْنِكِ بَصَرَهُ بِكَثْرَةِ دُعَائِكِ لَهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَنَشَأَ مُتَرَبِّيًا فِي حِجْرِ الْعِلْمِ مُرْتَضِعًا مِنْ ثَدْيِ الْفَضْلِ، ثُمَّ أُلْهِمَ طَلَبَ الْحَدِيثِ، وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَكْتَبِ، وَلَمَّا بَلَغَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً رَدَّ عَلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ بَبُخَارَى غَلَطًا وَقَعَ لَهُ فِي سَنَدٍ حَتَّى أَصْلَحَ كِتَابَهُ مِنْ حِفْظِ الْبُخَارِيِّ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ شَيْخًا مِنْ مَشَايِخِهِ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ حَدِيثِهِ قَالَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّهَيْرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ الْبُخَارِيُّ: أَبُو الزُّهَيْرِ لَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَهَيَّبَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ الْبُخَارِيُّ: ارْجِعْ إِلَى الْأَصْلِ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ، فَقَامَ الشَّيْخُ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَطَالَعَ فِي أَصْلِهِ، وَتَأَمَّلَ فِيهِ حَقَّ تَأَمُّلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَجْلِسِهِ فَقَالَ لِلْبُخَارِيِّ: فَكَيْفَ الرِّوَايَةُ؟ فَقَالَ: لَيْسَ أَبُو الزُّهَيْرِ بِالْهَاءِ، إِنَّمَا هُوَ الزُّبَيْرُ بِالْبَاءِ، وَهُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَأَخَذَ الْقَلَمَ، وَأَصْلَحَ كِتَابَهُ. وَلَمَّا بَلَغَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَفِظَ كُتُبَ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ، وَعَرَفَ كَلَامَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ خَرَجَ مَعَ أُمِّهِ، وَأَخِيهِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ فَرَجَعَ أَخُوهُ، وَأَقَامَ هُوَ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ، فَلَمَّا طَعَنَ فِي ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً صَنَّفَ قَضَايَا الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَأَقَاوِيلَهُمْ، وَصَنَّفَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عِنْدَ التُّرْبَةِ الْمُطَهَّرَةِ

تَارِيخَهُ الْكَبِيرَ فِي اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ، وَكَتَبُوا عَنْهُ، وَسِنُّهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَلَّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ رِجَالِ التَّارِيخِ الْكَبِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدِي مِنْهُ حِكَايَةٌ، وَقِصَّةٌ إِلَّا أَنِّي تَرَكْتُهَا خَوْفًا مِنَ الْإِطْنَابِ، وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ ارْتَحَلَ إِلَى سَائِرِ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ فِي أَكْثَرِ الْمُدُنِ، وَالْأَقَالِيمِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ارْتَحَلْتُ فِي اسْتِفَادَةِ الْحَدِيثِ إِلَى مِصْرَ، وَالشَّامِ مَرَّتَيْنِ، وَإِلَى الْبَصْرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَا أُحْصِي مَا دَخَلْتُ مَعَ الْمُحَدِّثِينَ فِي بَغْدَادَ، وَالْكُوفَةِ، وَأَقَمْتُ فِي الْحِجَازِ سِتَّ سِنِينَ طَالِبًا لِعِلْمِ الْحَدِيثِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَالْحَامِلُ لِي عَلَى تَأْلِيفِهِ أَنَّنِي رَأَيْتُنِي وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِيَدِي مِرْوَحَةٌ أَذُبُّ عَنْهُ، فَعُبِّرَ لِي بِأَنِّي أَذُبُّ عَنْهُ الْكَذِبَ، وَمَا وَضَعْتُ فِيهِ حَدِيثًا إِلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ، وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَخْرَجْتُهُ مِنْ زُهَاءِ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَصَنَّفْتُهُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَعَلْتُهُ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ، وَمَا أَدْخَلْتُ فِيهِ إِلَّا صَحِيحًا، وَمَا تَرَكْتُ مِنَ الصَّحِيحِ أَكْثَرُ ; لِئَلَّا يَطُولَ. وَصَنَّفْتُهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَا أَدْخَلْتُ فِيهِ حَدِيثًا حَتَّى اسْتَخَرْتُ اللَّهَ، وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَتَيَقَّنْتُ صِحَّتَهُ. اهـ. وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ، وَتَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ كَانَ يُخْرِجُ الْأَحَادِيثَ بَعْدُ فِي بَلَدِهِ، وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مَحْمِلُ رِوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ يُصَنِّفُهُ فِي الْبِلَادِ ; إِذْ مُدَّةُ تَصْنِيفِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ لَمْ يُجَاوِرْ هَذِهِ الْمُدَّةَ بِمَكَّةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَنَّفَ الصَّحِيحَ فِي الْبَصْرَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَنَّفَهُ فِي بُخَارَى. وَرُوِيَ عَنِ الْوَرَّاقِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِلْبُخَارِيِّ: جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدْتَهَا فِي مُصَنَّفَاتِكَ هَلْ تَحْفَظُهَا؟ فَقَالَ: لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْهَا ; فَإِنِّي قَدْ صَنَّفْتُ كُتُبِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّكْرَارِ التَّبْيِيضَ، وَالتَّنْقِيحَ، وَلَعَلَّ كَثْرَةَ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَرِوَايَةُ أَنَّهُ جَعَلَ تَرَاجِمَهُ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَقْلِهَا مِنَ الْمُسَوَّدَةِ إِلَى الْمُبْيَضَّةِ، كَذَا قِيلَ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي جَزَرَةَ عَمَّنْ لَقِيَهُ مِنَ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ مَا قُرِئَ فِي شِدَّةٍ إِلَّا وَفُرِّجَتْ، وَمَا رُكِبَ بِهِ فِي مَرْكَبٍ فَغَرِقَ، وَأَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَلَقَدْ دَعَا لِقَارِئِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَانَ يَسْتَسْقِي بِقِرَاءَتِهِ الْغَيْثَ، قِيلَ: وَيُسَمَّى التِّرْيَاقَ الْمُجَرَّبَ. وَنَقَلَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ عَنْ عَمِّهِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّهُ قَالَ: قَرَأْتُ الْبُخَارِيَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ مَرَّةً لِلْوَقَائِعِ، وَالْمُهِمَّاتِ لِي، وَلِغَيْرِي، فَحَصَلَ الْمُرَادَاتُ، وَقَضَى الْحَاجَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِبَرَكَةِ سَيِّدِ السَّادَاتِ، وَمَنْبَعِ السَّادَاتِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، وَأَكْمَلُ التَّحِيَّاتِ. قِيلَ: وَكَانَ وِرْدُهُ فِي رَمَضَانَ خَتْمَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَثُلُثُهَا فِي سَحَرِ كُلِّ لَيْلَةٍ، وَلَسَعَهُ زُنْبُورٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ سِتَّةَ عَشَرَ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ مَا لَسَعَكَ؟ ! قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُتِمَّهَا، وَكَانَ يَقُولُ: أَرْجُو اللَّهَ أَنْ لَا يُحَاسِبَنِي أَنِّي مَا اغْتَبْتُ أَحَدًا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْقِمُ عَلَيْكَ التَّارِيخَ ; فَإِنَّهُ غِيبَةٌ فَقَالَ: إِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ رِوَايَةً، وَلَمْ نَنْقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» " قَالَ: وَأَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ غَيْرَ صَحِيحٍ، أَيْ: بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ طُرُقِهَا مَعَ عَدِّ الْمُكَرَّرِ، وَالْمَوْقُوفِ، وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ، وَفَتَاوِيهِمْ مِمَّا كَانَ السَّلَفُ يُطْلِقُونَ عَلَى كُلِّهِ حَدِيثًا. وَقِيلَ: كَانَ يَحْفَظُ وَهُوَ صَبِيٌّ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ سَرْدًا، وَيَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ نَظْرَةً وَاحِدَةً فَيَحْفَظُ مَا فِيهِ، وَكَانَ يَقُولُ: دَخَلْتُ بِلْخَ فَسَأَلَنِي أَهْلُهَا أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ، فَأَمْلَيَتُ أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ، وَلِبُلُوغِ نِهَايَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِ الْحَدِيثِ كَانَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ يَقُولُ لَهُ: دَعْنِي أُقَبِّلُ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَيَا طَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ أَحَدًا بِالْعِرَاقِ، وَلَا بِخُرَاسَانَ فِي ذَلِكَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَكَانَ بِسَمَرْقَنْدَ أَرْبَعُمِائَةِ مُحَدِّثٍ اجْتَمَعُوا تِسْعَةَ أَيَّامٍ لِمُغَالَطَتِهِ، فَخَلَطُوا الْأَسَانِيدَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ: إِسْنَادُ الشَّامِيِّينَ فِي الْعِرَاقِيِّينَ، وَإِسْنَادُ الْعِرَاقِيِّينَ فِي الشَّامِيِّينَ، وَإِسْنَادُ أَهْلِ الْحَرَمِ فِي الْيَمَانِيِّينَ، وَعَكْسُهُ، وَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَمَا اسْتَطَاعُوا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَغَلَّبُوا عَلَيْهِ سَقْطَةً لَا فِي إِسْنَادٍ، وَلَا فِي مَتْنٍ، وَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ فَعَلُوا مَعَهُ نَظِيرَ ذَلِكَ فَعَمَدُوا إِلَى مِائَةِ حَدِيثٍ فَقَلَبُوا مُتُونَهَا، وَأَسَانِيدَهَا، وَدَفَعُوا لِكُلِّ

وَاحِدٍ عَشَرَةً لِيُلْقِيَهَا عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ الْغَاصِّ بِالنَّاسِ امْتِحَانًا، فَقَامَ أَحَدُهُمْ، وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ تِلْكَ الْعَشَرَةِ، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الثَّانِي فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا إِلَى الْعَاشِرِ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِي فَكَانَ كَالْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّالِثُ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ فَرَغُوا ; فَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا مُطَّلِعِينَ عَلَى أَصْلِ الْقَضِيَّةِ، وَحِفْظِهِ قَالُوا: فَهِمَ الرَّجُلُ، وَالَّذِينَ مَا كَانَ لَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى الْقَضِيَّةِ تَوَهَّمُوا عَجْزَهُ، وَحَمَلُوا عَلَى قُصُورِ ضَبْطِهِ، وَسُوءِ حِفْظِهِ ; فَالْتَفَتَ إِلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ: أَمَّا حَدِيثُكَ الْأَوَّلُ بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ فَخَطَأٌ، وَصَوَابُهُ كَذَا، وَكَذَا، وَلَا زَالَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَكْمَلَ الْمِائَةَ فَبُهِرَ النَّاسُ، وَأَذْعَنُوا لَهُ، فَإِنَّ عِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الرَّجُلُ، أَوْ يُهَانُ، وَعِنْدَ الْمُبْصِرِينَ هَذَا الْفَنَّ لَيْسَ مِنَ الْعَجِيبِ رَدُّ خَطَئِهِمْ إِلَى الصَّوَابِ ; لِأَنَّهُ كَانَ حَافِظَ الْأَحَادِيثِ مَعَ الْأَسَانِيدِ، بَلْ كَانَ الْغَرِيبُ عِنْدَهُمْ حِفْظَهُ أَسَانِيدَهُمُ الْبَاطِلَةَ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهِ مَرَّةً، وَإِعَادَتَهَا مُرَتَّبَةً، وَهَذَا كَادَ أَنْ يَكُونَ خَرْقَ الْعَادَةِ، وَمَحْضَ الْكَرَامَةِ ; فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْإِلْهَامَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعِنَايَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ. وَلَمَّا قَدِمَ الْبَصْرَةَ نَادَى مُنَادٍ يُعْلِمُهُمْ بِقُدُومِهِ فَأَحْدَقُوا بِهِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعْقِدَ لَهُمْ مَجْلِسَ الْإِمْلَاءِ ; فَأَجَابَهُمْ فَنَادَى الْمُنَادِي يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ أَجَابَ ; فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعَ كَذَا، وَكَذَا أَلْفًا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْفُقَهَاءِ فَأَوَّلُ مَا جَلَسَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَنَا شَابٌّ، وَقَدْ سَأَلْتُمُونِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ أَحَادِيثَ عَنْ أَهْلِ بَلَدِكُمْ تَسْتَفِيدُونَهَا، يَعْنِي لَيْسَتْ عِنْدَكُمْ، وَأَمْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ بَلَدِهِمْ مِمَّا لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَتَّى بَهَرَهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ كَثُرَ ثَنَاءُ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ حَتَّى صَحَّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَهُ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ فَقِيهُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّابِّ، وَاكْتُبُوا عَنْهُ ; فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ، وَفَقْهِهِ. وَقَدْ فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، وَوَرِثَ مِنْ أَبِيهِ مَالًا كَثِيرًا فَكَانَ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَكَانَ قَلِيلَ الْأَكْلِ جِدًّا. قِيلَ: كَانَ يَقْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ بِلَوْزَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثِ لَوْزَاتٍ. وَقِيلَ: لَمْ يَأْكُلِ الْإِدَامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قِيلَ: كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ مُسْتَغَلَّاتِهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَكَانَ يَصْرِفُهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَكَانَ يُرَغِّبُهُمْ فِي تَحْصِيلِ الْحَدِيثِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى الطَّلَبَةِ مُفْرِطًا فِي الْكَرَمِ، وَأُعْطِيَ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ رِبْحَ بِضَاعَةٍ لَهُ فَأَخَّرَ فَأَعْطَاهُ آخَرُونَ عَشَرَةَ آلَافٍ فَقَالَ: إِنِّي نَوَيْتُ بَيْعَهَا لِلْأَوَّلِينَ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أُغَيِّرَ نِيَّتِي، وَعَثَرَتْ جَارِيَتُهُ بِمَحْبَرَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: كَيْفَ تَمْشِينَ؟ ! فَقَالَتْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ كَيْفَ أَمْشِي؟ ! فَقَالَ: اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ للَّهِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَغْضَبَتْكَ فَأَعْتَقْتَهَا فَقَالَ: أَرْضَيْتُ نَفْسِي بِمَا فَعَلْتُ. وَلَمَّا بَنَى رِبَاطًا مِمَّا يَلِي بُخَارَى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَبْنُونَهُ فَكَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فَيُقَالُ: قَدْ كُفِيتَ فَقَالَ: هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعُنِي، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بُخَارَى نُصِبَتْ لَهُ الْقِبَابُ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهَا، وَاسْتَقْبَلَهُ عَامَّةُ أَهْلِهَا، وَنُثِرَ عَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ، وَبَقِيَ مُدَّةً يُحَدِّثُهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْبَلَدِ خَالِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذُّهْلِيُّ نَائِبُ الْخِلَافَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ يَتَلَطَّفُ مَعَهُ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالصَّحِيحِ، وَيُحَدِّثَهُمْ بِهِ فِي قَصْرِهِ ; فَامْتَنَعَ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي لَا أُذِلُّ الْعِلْمَ، وَلَا أَحْمِلُهُ إِلَى أَبْوَابِ السَّلَاطِينِ، فَمَنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَلْيَحْضُرْ فِي مَسْجِدِي، أَوْ دَارِي، فَإِنْ لَمْ يُعْجِبْكَ هَذَا فَأَنْتَ سُلْطَانٌ فَامْنَعْنِي مِنَ الْمَجْلِسِ لِيَكُونَ لِي عُذْرٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنِّي لَا أَكْتُمُ الْعِلْمَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: الْعِلْمُ يُؤْتَى، وَلَا يَأْتِي، فَرَاسَلَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَجْلِسًا لِأَوْلَادِهِ، وَلَا يَحْضُرَ غَيْرُهُمْ ; فَامْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: لَا يَسَعُنِي أَنْ أَخُصَّ بِالسَّمَاعِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: الْعِلْمُ لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ، فَحَصَلَتْ بَيْنَهُمَا وَحْشَةٌ ; فَاسْتَعَانَ الْأَمِيرُ بِعُلَمَاءِ بُخَارَى عَلَيْهِ حَتَّى تَكَلَّمُوا فِي مَذْهَبِهِ فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ أَرِهِمْ مَا قَصَدُونِي بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ، وَأَهَالِيهِمْ. فَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ فَلَمْ يَأْتِ شَهْرٌ حَتَّى وَرَدَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ بِأَنْ يُنَادَى عَلَى الْأَمِيرِ فَأُرْكِبَ حِمَارًا فَنُودِيَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَحُبِسَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ سَاعَدَهُ إِلَّا وَابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ شَدِيدَةٍ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بُخَارَى كَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ يَخْطُبُونَهُ لِبَلَدِهِمْ ; فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا كَانَ بِخَرْتَنْكَ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي الْأَشْهَرِ، أَوْ مَكْسُورَةٍ فَرَاءٍ سَاكِنَةٍ فَفَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فَنُونٍ سَاكِنَةٍ فَكَافٍ، مَوْضِعٌ قَرِيبٌ بِسَمَرْقَنْدَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ

وَقِيلَ: نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَلَغَهُ أَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ، فَقَوْمٌ يُرِيدُونَ دُخُولَهُ، وَآخَرُونَ يَكْرَهُونَهُ. وَكَانَ لَهُ أَقْرِبَاءُ بِهَا فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى يَنْجَلِيَ الْأَمْرُ فَأَقَامَ أَيَّامًا فَمَرِضَ حَتَّى وُجِّهَ إِلَيْهِ رَسُولٌ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ يَلْتَمِسُونَ خُرُوجَهُ إِلَيْهِمْ ; فَأَجَابَ، وَتَهَيَّأَ لِلرُّكُوبِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَتَعَمَّمَ، فَلَمَّا مَشَى قَدْرَ عِشْرِينَ خُطْوَةً إِلَى الدَّابَّةِ لِيَرْكَبَهَا قَالَ: أَرْسِلُونِي فَقَدْ ضَعُفْتُ فَأَرْسَلُوهُ فَدَعَا بِدَعَوَاتٍ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَقَضَى فَسَالَ مِنْهُ عَرَقٌ كَثِيرٌ لَا يُوصَفُ، وَمَا سَكَنَ الْعَرَقُ حَتَّى أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ. وَقِيلَ: ضَجِرَ لَيْلَةً فَدَعَا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ اللَّهُمَّ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ فَمَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ ذَكَرٍ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي شَهْرِ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَلَمَّا صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَوُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ فَاحَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ كَالْمِسْكِ جَعَلَ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ إِلَى قَبْرِهِ مُدَّةً يَأْخُذُونَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: مَا وُقُوفُكَ هُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتَظِرُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ بَلَغَنِي مَوْتُهُ، فَنَظَرْتَ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، وَبَعْدَ نَحْوِ سَنَتَيْنِ مِنْ مَوْتِهِ اسْتَسْقَى أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ مِرَارًا فَلَمْ يُسْقَوْا فَقَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ لِقَاضِيهَا: أَرَى أَنْ تَخَرُجَ بِالنَّاسِ إِلَى قَبْرِ الْبُخَارِيِّ، وَنَسْتَسْقِي عِنْدَهُ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَسْقِيَنَا فَفَعَلَ، وَبَكَى النَّاسُ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَتَشَفَّعُوا بِصَاحِبِهِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ بِمَاءٍ غَزِيرٍ أَقَامَ النَّاسُ مِنْ أَجْلِهِ نَحْوَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ الْوُصُولَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَكِبَارِ التَّابِعِينَ لَمْ تَكُنِ الْأَحَادِيثُ مُدَوَّنَةً ; لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَصْحَابَهُ مِنْ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ مَخَافَةَ خَلْطِهِ بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ، وَأَيْضًا دَائِرَةُ حِفْظِهِمْ كَانَتْ وَاسِعَةً بِبَرَكَةِ صُحْبَتِهِ، وَقُرْبِ مُدَّتِهِ، وَأَيْضًا أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَارِفِينَ بِصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ، فَظَهَرَ فِي آخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ تَدْوِينُ الْأَحَادِيثِ، وَالْأَخْبَارِ، وَتَصْنِيفُ السُّنَنِ، وَالْآثَارِ، وَتَصَدَّوْا لِهَذَا الْأَمْرِ الشَّرِيفِ كَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ دَأْبُهُمْ تَصْنِيفَ كُلِّ بَابٍ عَلَى حِدَةٍ إِلَى عَهْدِ كِبَارِ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ، فَأَلَّفُوا الْحَدِيثَ عَلَى تَرْتِيبِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَصَنَّفَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مُقَدَّمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُوَطَّأَهُ، وَجَمَعَ فِيهِ أَحَادِيثَ أَهْلِ الْحِجَازِ مِمَّا ثَبَتَ وَصَحَّ عِنْدَهُ، وَأَدْرَجَ فِيهِ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ، وَفَتَاوَى التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَصَنَّفَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: أَبُو حَامِدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ. وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ. وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَمِنَ الْبَصْرِيِّينَ أَبُو سَلَمَةَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَبَعْدَهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ أَلَّفَ كِتَابًا. وَكَتَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُحَدِّثِينَ مَسَانِيدَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، لَكِنْ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يُمَيَّزِ الصَّحِيحُ، وَالضَّعِيفُ، وَلَمَّا اطَّلَعَ الْبُخَارِيُّ عَلَى تَصَانِيفِهِمْ حَصَلَ لَهُ الْعَزْمُ بِطَرِيقِ الْجَزْمِ لِتَحْصِيلِ الْحَزْمِ عَلَى تَأْلِيفِ كِتَابٍ يَكُونُ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ صَحِيحَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ شَيْخِي إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ: لَوْ جَمَعْتُمْ كِتَابًا مُخْتَصَرًا بِصَحِيحِ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَقَعَ فِي قَلْبِي تَصْنِيفُ كِتَابٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَقَدَّمَ رُؤْيَاهُ أَيْضًا، فَشَرَعَ فِيهِ، فَلَمَّا كَمَّلَهُ عَرَضَهُ عَلَى مَشَايِخِهِ مِثْلِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَغَيْرِهِمُ اسْتَحْسَنُوهُ، وَشَهِدُوا بِصِحَّةِ كِتَابِهِ، وَأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي بَابِهِ، وَاسْتَثْنَوْا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ

وَتَوَقَّفُوا فِي صِحَّتِهَا. قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: وَالْحَقُّ مَعَ الْبُخَارِيِّ فِيهَا أَيْضًا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ، وَشُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ فِي عَدَدِ أَحَادِيثِهِ بِالْمُكَرَّرِ، وَإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي أَنَّ جُمْلَةَ أَحَادِيثِهِ مَعَ التَّعَالِيقِ، وَالْمُتَابَعَاتِ، وَالشَّوَاهِدِ، وَمَعَ الْمُكَرَّرَاتِ تِسْعَةُ آلَافٍ وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا، وَبِإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ أَحَادِيثُهُ الْمَرْفُوعَةُ: أَلْفَانِ وَسِتِّمِائَةٍ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَأَعْلَى أَسَانِيدِ أَحَادِيثِهِ، وَأَقْرَبُهُ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا يَكُونُ الْوَاسِطَةُ ثَلَاثَةً، وَوُجِدَ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي صَحِيحِهِ مَعَ الْمُكَرَّرِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَبِإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَقَدْ أَفْرَدَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ اتَّفَقَتِ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَلَقِّي الصَّحِيحَيْنِ بِالْقَبُولِ، وَأَنَّهُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ أَرْجَحُهُمَا، وَأَصَحُّهُمَا قِيلَ: وَلَمْ يُوجَدْ عَنْ أَحَدٍ التَّصْرِيحُ بِنَقِيضِهِ لِأَنَّ قَوْلَ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَصَحِّيَّتِهِ عَلَى كِتَابِ الْبُخَارِيِّ ; لِأَنَّ نَفْيَ الْأَصَحِّيَّةِ لَا يَنْفِي الْمُسَاوَاةَ. وَتَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَرْجِعُ لِحُسْنِ السِّيَاقِ، وَجَوْدَةِ الْوَضْعِ، وَالتَّرْتِيبِ ; إِذْ لَمْ يُفْصِحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصَحِّيَّةِ، وَلَوْ صَرَّحُوا بِهِ لَرَدِّ عَلَيْهِمْ شَاهِدُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ مَا يَدُورُ عَلَيْهِ الصِّحَّةُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَوْجُودَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ، وَأَسَدَّ ; فَإِنَّ شَرْطَهُ فِيهَا أَقْوَى، وَأَشَدُّ، وَأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ فَلِاشْتِرَاطِهِ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي قَدْ ثَبَتَ لَهُ الِاجْتِمَاعُ بِمَنْ يَرْوِي عَنْهُ، وَلَوْ مَرَّةً، وَاكْتَفَى مُسْلِمٌ بِمُجَرَّدِ الْمُعَاصَرَةِ نَظَرًا لِإِمْكَانِ اللَّقْيِ، وَأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَالَةُ، وَالضَّبْطُ فَلِأَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ تُكِلِّمَ فِيهِمْ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ تُكِلِّمَ فِيهِمْ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ مِنْ إِخْرَاجِ حَدِيثِهِمْ بَلْ غَالِبُهُمْ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ، وَمَارَسَ حَدِيثَهُمْ، وَمَيَّزَ جِيِّدَهَا مِنْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مُسْلِمٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَفَرَّدَ بِتَخْرِيجِ أَحَادِيثِهِ مِمَّنْ تُكَلِّمَ فِيهِ، هُوَ مِمَّنْ تَقَدَّمَ عَصْرُهُ مِنَ التَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُحَدِّثَ أَعْرَفُ بِحَدِيثِ شُيُوخِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ عَنْهُمْ. وَأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشُّذُوذِ، وَالْإِعْلَالِ ; فَلِأَنَّ مَا انْتُقِدَ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَقَلُّ عَدَدًا مِمَّا انْتُقِدَ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِمَا إِخْرَاجُهُمَا لِمَنْ طُعِنَ فِيهِ ; لِأَنَّ تَخْرِيجَ صَاحِبِ الصَّحِيحِ لِأَيِّ رَاوٍ كَانَ مُقْتَضٍ لِعَدَالَتِهِ عِنْدَهُ، وَصِحَّةِ ضَبْطِهِ، وَعَدَمِ غَفْلَتِهِ إِنْ خَرَّجَ لَهُ فِي الْأُصُولِ، فَإِنْ خَرَّجَ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَالشَّوَاهِدِ، وَالتَّعَالِيقِ كَانَتْ دَرَجَاتُهُ مُتَقَارِبَةً فِي الضَّبْطِ، وَغَيْرِهِ، لَكِنْ مَعَ حُصُولِ وَصْفِ الصِّدْقِ لَهُ فَالطَّعْنُ فِيمَنْ خَرَّجَ لَهُ أَحَدُهُمَا مُقَابِلٌ لِتَعْدِيلِهِ ; فَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ إِلَّا مُفَسَّرًا بِمَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، أَوْ فِي ضَبْطِهِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي ضَبْطِهِ لِخَبَرٍ بِعَيْنِهِ لِتَفَاوُتِ الْأَسْبَابِ الْحَامِلَةِ لِلْأَئِمَّةِ عَلَى الْجَرْحِ، إِذْ مِنْهَا مَا لَا يَقْدَحُ، وَمِنْهَا مَا يَقْدَحُ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَقْدِسِيُّ يَقُولُ فِيمَنْ خَرَّجَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي الصَّحِيحِ هَذَا جَازَ الْقَنْطَرَةَ يَعْنِي لَا يُلْتَفَتُ لِمَا قِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا مُقَدَّمَانِ عَلَى أَئِمَّةِ عَصْرِهِمَا، وَمَنْ بَعْدَهُمَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ، وَالْعِلَلِ، فَهُوَ أَصَحُّ الْكُتُبِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي أَحْمَدَ شَيْخِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِمَامُ الْمُحَدِّثِينَ، وَكُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي الْحَدِيثِ، وَأَفْرَدَهُ فَفِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْهُ فَالْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ حَتَّى إِنَّ مُسْلِمًا أَتَى بِأَحَادِيثِهِ مُفَرَّقًا فِي كِتَابِهِ، وَتَجَلَّدَ غَايَةَ التَّجَلُّدِ حَيْثُ لَمْ يُسْنِدْهَا إِلَى جَنَابِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَوْلَا الْبُخَارِيُّ لَمَا رَاحَ مُسْلِمٌ، وَلَا جَاءَ، أَخَذَ كِتَابَهُ، وَزَادَ عَلَيْهِ أَبْوَابَهُ. وَلِلْبُخَارِيِّ مُصَنَّفَاتٌ غَيْرُ الصَّحِيحِ: كَالْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالتَّارِيخِ الْكَبِيرِ، وَالْأَوْسَطِ، وَالصَّغِيرِ، وَخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَكِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَالْمُسْنَدِ الْكَبِيرِ، وَالتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ، وَكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ، وَكِتَابِ الْهِبَةِ، وَأَسَامِي الصَّحَابَةِ، وَكِتَابِ الْوِجْدَانِ، وَكِتَابِ الْعِلَلِ، وَكِتَابِ الْكُنَى، وَكِتَابِ الْمَبْسُوطِ، وَكِتَابِ الْفَوَائِدِ. رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَوَيْتُ الْحَدِيثَ عَنْ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ مُحَدِّثٍ. رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ كَمُسْلِمٍ فِي غَيْرِ صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ فِي قَوْلِ غَيْرِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ، قِيلَ: رَوَى عَنْهُ مِائَةُ أَلْفِ مُحَدِّثٍ. رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَعْيَنِ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَى أَنْ أَزِيدَ مِنْ عُمْرِي فِي عُمْرِ الْبُخَارِيِّ لَفَعَلْتُ لَأَنَّ مَوْتِي مَوْتُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمَوْتُ الْبُخَارِيِّ ذَهَابُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْعَالَمِ، وَنِعْمَ مَا قِيلَ: إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ، وَفَتْوَى ... فَقَدْ وَقَعَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ: كُنْتُ نَائِمًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: (يَا أَبَا زَيْدٍ إِلَى مَتَى تَدْرُسُ كِتَابَ الشَّافِعِيِّ، وَلَا تَدْرُسُ كِتَابِي؟ !) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا كِتَابُكَ؟ ! قَالَ: (جَامِعُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ) . (وَأَبِي الْحُسَيْنِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيِّ) : بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَةً إِلَى قُشَيْرٍ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ نَيْسَابُورِيٌّ أَحَدُ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ، جَمَعَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِمْ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَالْقَعْنِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّةِ عَصْرِهِ، وَحُفَّاظِ دَهْرِهِ كَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَأَبِي خُزَيْمَةَ، وَخَلَائِقَ. وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْجَلِيلَةُ غَيْرُ جَامِعِهِ الصَّحِيحِ كَالْمُسْنَدِ الْكَبِيرِ صَنَّفَهُ عَلَى تَرْتِيبِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لَا عَلَى تَبْوِيبِ الْفِقْهِ، وَكَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ، وَكِتَابِ الْعِلَلِ، وَكِتَابِ أَوْهَامِ الْمُحَدِّثِينَ، وَكِتَابِ التَّمْيِيزِ، وَكِتَابِ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ، وَكِتَابِ طَبَقَاتِ التَّابِعِينَ، وَكِتَابِ الْمُخَضْرَمِينَ. قَالَ: صَنَّفْتُ الصَّحِيحَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ بِإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ، وَأَعْلَى أَسَانِيدِهِ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةُ وَسَائِطَ، وَلَهُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وُلِدَ عَامَ وَفَاةِ الشَّافِعِيِّ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقَدْ رَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَالْحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَمِصْرَ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ آخِرُ قُدُومِهِ بَغْدَادَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ بِنَيْسَابُورَ لِلْمُذَاكَرَةِ فَذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَقُدِّمَتْ لَهُ سَلَّةٌ فِيهَا تَمْرٌ فَكَانَ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ، وَيَأْخُذُ تَمْرَةً تَمْرَةً فَأَصْبَحَ وَقَدْ فَنِيَ التَّمْرُ، وَوَجَدَ الْحَدِيثَ، وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: كَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبَبٍ غَرِيبٍ نَشَأَ مِنْ غَمْرَةِ فِكْرَةٍ عِلْمِيَّةٍ. وَسِنُّهُ قِيلَ: خَمْسٌ وَخَمْسُونَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَارَبَ السِتِّينَ، وَهُوَ أَشْبَهُ مِنَ الْجَزْمِ بِبُلُوغِهِ السِتِّينَ. قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا عَلَّامَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَبَحِّرِينَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ الْجَزَرِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِهِ لِلْمَصَابِيحِ الْمُسَمَّى بِتَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: إِنِّي زُرْتُ قَبْرَهُ بِنَيْسَابُورَ، وَقَرَأْتُ بَعْضَ صَحِيحِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّيَمُنِ، وَالتَّبَرُّكِ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَرَأَيْتُ آثَارَ الْبَرَكَةِ، وَرَجَاءَ الْإِجَابَةِ فِي تُرْبَتِهِ. (وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ) : وَهُوَ غَيْرُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَمَا تُوُهِّمَ (الْأَصْبَحِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى ذِي أَصْبَحَ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ أَحَدِ أَجْدَادِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ، وَأُخِّرَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ ذِكْرًا، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِمَا وَجُودًا، وَرُتْبَةً، وَإِسْنَادًا لِتَقَدُّمِ كِتَابَيْهِمَا عَلَى كِتَابِهِ تَرْجِيحًا ; لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ تَصْحِيحًا، وَهُوَ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ، وَقِيلَ: مِنَ التَّابِعِينَ إِذْ رُوِيَ أَنَّهُ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَصُحْبَتُهَا ثَابِتَةٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: كِتَابُ مَالِكٍ صَحِيحٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مَنْ تَقَلَّدَهُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ، وَالْمُنْقَطِعِ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: مَا فِيهِ مِنَ الْمَرَاسِيلِ فَإِنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا حُجَّةً عِنْدَهُ بِلَا شَرْطٍ، وَعِنْدَ مَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ - حُجَّةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا إِذَا اعْتُمِدَ، وَمَا مِنْ مُرْسَلٍ فِي الْمُوَطَّأِ إِلَّا وَلَهُ عَاضِدٌ، أَوْ عَوَاضِدُ ; فَالصَّوَابُ إِطْلَاقُ أَنَّ الْمُوَطَّأَ صَحِيحٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كِتَابًا فِي وَصْلِ مَا فِي الْمُوَطَّأِ مِنَ الْمُرْسَلِ، وَالْمُنْقَطِعِ، وَالْمُعْضَلِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ مُرْسَلَ الثِّقَةِ تَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ كَمَا تَجِبُ بِالْمُسْنَدِ سَوَاءً، قَالَ الْبُخَارِيُّ إِمَامُ الصَّنْعَةِ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مُنْتَشِرٌ مُشْتَهِرٌ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ قَالُوا: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ عَنْ مَالِكٍ الشَّافِعِيُّ ; إِذْ هُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَحْمَدُ: جَمَعْتُ الْمُوَطَّأَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ حُفَّاظِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، ثُمَّ مِنَ الشَّافِعِيِّ فَوَجَدْتُهُ أَقْوَمَهُمْ بِهِ، وَأَصَحُّهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَحْمَدُ، وَلِاجْتِمَاعِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذَا السَّنَدِ قِيلَ لَهَا: سِلْسِلَةُ الذَّهَبِ.

قِيلَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِكْثَارُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ إِخْرَاجَ حَدِيثِ مَالِكٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ، وَعَدَمُ إِخْرَاجِ أَصْحَابِ الْأُصُولِ حَدِيثَ مَالِكٍ مِنْ جِهَةِ الشَّافِعِيِّ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَعَلَّ جَمْعُهُ الْمُسْنَدَ كَانَ قَبْلَ سَمَاعِهِ مِنَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِطَلَبِهِمُ الْعُلُوَّ الْمُقَدَّمَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ. قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَتَيْنَا مَالِكًا فَجَعَلَ يُحَدِّثُنَا عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكُنَّا نَسْتَزِيدُهُ مِنْ حَدِيثِهِ، فَقَالَ لَنَا يَوْمًا: مَا تَصْنَعُونَ بِرَبِيعَةَ؟ ! هُوَ نَائِمٌ فِي ذَلِكَ الطَّاقِ ; فَأَتَيْنَا رَبِيعَةَ فَنَبَّهْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: أَنْتَ رَبِيعَةُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ قُلْنَا: الَّذِي يُحَدِّثُ عَنْكَ مَالِكٌ؟ ! قَالَ: نَعَمْ قُلْنَا: كَيْفَ حَظِيَ بِكَ مَالِكٌ، وَلَمْ تَحْظَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مِثْقَالَ دُولَةٍ خَيْرٌ مِنْ حَمْلِ عِلْمٍ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالدُّولَةِ اللُّطْفَ الرَّبَّانِيَّ، وَالتَّوْفِيقَ الْإِلَهِيَّ. قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الثَّوْرِيُّ إِمَامٌ فِي الْحَدِيثِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ إِمَامٌ فِي السُّنَّةِ، وَمَالِكٌ إِمَامٌ فِيهِمَا، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَالَ لَهُ: أَمَّا أَنَا فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ دِينِي، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَاكٌّ اذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ فَخَاصِمْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَأَيْتُ عَلَى بَابِ مَالِكٍ كُرَاعًا مِنْ أَفْرَاسِ خُرَاسَانَ، وَبِغَالِ مِصْرَ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ! فَقُلْتُ: مَا أَحْسَنَهُ! فَقَالَ: هُوَ هَدِيَّةٌ مِنِّي إِلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: دَعْ لِنَفْسِكَ دَابَّةً تَرْكَبُهَا فَقَالَ: أَنَا أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَطَأَ تُرْبَةً فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ بِحَافِرِ دَابَّةٍ، وَكَانَ مُبَالِغًا فِي تَعْظِيمِ حَدِيثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّثَ: تَوَضَّأَ، وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِهِ، وَسَرَّحَ لِحْيَتَهُ، وَتَطَيَّبُ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْجُلُوسِ عَلَى وَقَارٍ، وَهَيْبَةٍ، ثُمَّ حَدَّثَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أُعَظِّمَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْ كَلَامِهِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِيهِ خَيْرٌ. وَقَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ لِي هَارُونُ الرَّشِيدُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَنْبَغِي أَنْ تَخْتَلِفَ إِلَيْنَا حَتَّى يَسْمَعَ صِبْيَانُنَا مِنْكَ الْمُوَطَّأَ، يَعْنِي الْأَمِينَ، وَالْمَأْمُونَ، فَقُلْتُ: أَعَزَّ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ مِنْكُمْ خَرَجَ فَإِنْ أَنْتُمْ أَعْزَزْتُمُوهُ عَزَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ أَذْلَلْتُمُوهُ ذَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَهْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَضَعْ عِزَّ شَيْءٍ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَالْعِلْمُ يُؤْتَى، وَلَا يَأْتِي، قَالَ: صَدَقْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ: صَدَقْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ، كَانَ هَذَا هَفْوَةً مِنِّي اسْتُرْهَا عَلَيَّ اخْرُجُوا إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى تَسْمَعُوا مَعَ النَّاسِ. وَسَأَلَهُ الرَّشِيدُ: أَلَكَ دَارٌ؟ قَالَ: لَا، فَأَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِهَا دَارًا فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُنْفِقْهَا، وَلَمَّا أَرَادَ الرَّشِيدُ الشُّخُوصَ، قَالَ لِمَالِكٍ: يَنْبَغِي أَنْ تَخْرُجَ مَعِي ; فَإِنِّي عَزَمْتُ أَنْ أَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْمُوَطَّأِ كَمَا حَمَلَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى الْقُرْآنِ. فَقَالَ: أَمَّا حَمْلُ النَّاسِ عَلَى الْمُوَطَّأِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَرَقُوا بَعْدَهُ فِي الْأَمْصَارِ فَحَدَّثُوا فَعِنْدَ أَهْلِ كُلِّ مِصْرٍ عِلْمٌ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» "، وَأَمَّا الْخُرُوجُ مَعَكَ ; فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» "، وَهَذِهِ دَنَانِيرُكُمْ كَمَا هِيَ إِنْ شِئْتُمْ فَخُذُوهَا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَدَعُوهَا، يَعْنِي أَنَّكَ إِنَّمَا كَلَّفْتَنِي مُفَارَقَةَ الْمَدِينَةِ لِمَا صَنَعْتَ إِلَيَّ فَلَا أُوثِرُ الدُّنْيَا عَلَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ. وَصَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ كِتَابٌ فِي الْعِلْمِ أَكْثَرُ صَوَابًا مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا قَبْلَ وُجُودِ الصَّحِيحَيْنِ، وَإِلَّا فَهُمَا أَصَحُّ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ مَسِيرَةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي مَسْأَلَةٍ أَرْسَلَهُ بِهَا أَهْلُ بَلَدِهِ فَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَهُ، فَقَالَ: لَا أُحْسِنُ. قَالَ: فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ قَالَ: قُلْ لَهُمْ: قَالَ مَالِكٌ لَا أُحْسِنُ! أَخَذَ عَنْ ثَلَاثِمِائَةِ تَابِعِيٍّ، وَأَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ تَابِعِيهِمْ. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ

أَوْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِهِ، وَوُلِدَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ عَلَى الْأَشْهَرِ. قِيلَ: مَكَثَ حَمْلًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَقِيلَ أَكْثَرَ، وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: مَالِكٌ أَثْبَتُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي الْمُنْكَدِرِ، وَنَافِعٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَهُشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَرَبِيعَةَ، وَجَمْعٍ كَثِيرٍ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ شُيُوخِهِ، وَمِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ: ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ. قَالَ مَالِكٌ: قَلَّ مَنْ أَخَذْتُ عَنْهُ الْحَدِيثَ أَنَّهُ مَا جَاءَنِي، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنِّي الْفَتْوَى. (وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ) : نِسْبَةٌ إِلَى شَافِعٍ أَحَدِ أَجْدَادِهِ، قِيلَ: شَافِعٌ كَانَ صَاحِبَ رَايَةِ بَنِي هَاشِمٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُسِرَ، وَفَدَى نَفْسَهُ فَأَسْلَمَ، وَقِيلَ: لَقِيَ شَافِعٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مُتَرَعْرِعٌ، وَأَسْلَمَ أَبُوهُ السَّائِبُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ السَّائِبُ صَاحِبَ رَايَةِ بَنِي هَاشِمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُسِرَ، وَفَدَى نَفْسَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَخْصِيصِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ، ثُمَّ نِسْبَةُ أَهْلِ مَذْهَبِهِ أَيْضًا شَافِعِيٌّ. وَقَوْلُ الْعَامَّةِ: شَافِعَوِيٌّ خَطَأٌ، وَهُوَ الْمُطَّلِبِيُّ الْحِجَازِيُّ الْمَكِّيُّ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَلْتَقِي مَعَهُ فِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَوَرْدَ خَبَرٌ ( «عَالِمُ قُرَيْشٍ يَمْلَأُ طِبَاقَ الْأَرْضِ عِلْمًا» ) طُرُقُهُ مُتَمَاسِكَةٌ، وَلَيْسَ بِمَوْضُوعِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ كَمَا بَيَّنَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَالنَّوَوِيِّ. وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَمِمَّنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَحْمَدُ، وَتَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ، وُلِدَ بِغَزَّةَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: بِعَسْقَلَانَ، وَقِيلَ: بِالْيَمَنِ، وَقِيلَ: بِمِنًى، وَقِيلَ: بِالْبَحْرِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ اتِّفَاقًا، وَهِيَ سَنَةُ وَفَاةِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: وُلِدَ يَوْمَ مَوْتِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا التَّقْيِيدُ لَمْ أَجِدْهُ إِلَّا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَمَّا بِالْعَامِّ، فَهُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ التَّوَارِيخِ، وَنَشَأَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّهِ فِي ضِيقِ عَيْشٍ بِحَيْثُ كَانَتْ لَا تَجِدُ أُجْرَةَ الْمُعَلِّمِ، وَكَانَ يُقَصِّرُ فِي تَعْلِيمِهِ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَلَقَّفُ مَا يُعَلِّمُهُ لِغَيْرِهِ فَإِذَا ذَهَبَ عَلَّمَهُمْ إِيَّاهُ فَكَفَى الْمُعَلِّمَ أَمْرَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا لَوْ أَعْطَاهُ أُجْرَةً فَتَرَكَهَا، وَاسْتَمَرَّ حَتَّى تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ لِسَبْعِ سِنِينَ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ مُجَالَسَةُ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ يَكْتُبُ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ فِي الْعِظَامِ، وَنَحْوِهَا، لِعَجْزِهِ عَنِ الْوَرَقِ، وَكَانَ يُؤْثِرُ الشِّعْرَ، وَالْأَدَبَ إِلَى أَنَّ تَمَثَّلَ بِبَيْتٍ، وَعِنْدَهُ كَاتِبُ أُسْتَاذِ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ مُفْتِي مَكَّةَ، فَقَرَعَهُ بِسَوْطٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مِثْلُكَ يَذْهَبُ بِمُرُوءَتِهِ فِي مِثْلِ هَذَا! أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْفِقْهِ؟ ! فَهَزَّهُ ذَلِكَ إِلَى مُجَالَسَةِ مُسْلِمٍ، وَمِنْ أَشْعَارِهِ: يَا أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ حُبُّكُمُ ... فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْزَلَهُ كَفَاكُمُ مِنْ عَظِيمِ الْقَدْرِ أَنَّكُمُ ... مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْكُمْ لَا صَلَاةَ لَهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَعُمْرُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَازَمَ مَالِكًا فَأَكْرَمَهُ، وَعَامَلَهُ لِنَسَبِهِ، وَعَلَّمَهُ، وَفَهَّمَهُ، وَأَدَّبَهُ، وَعَقَّلَهُ بِمَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِمَا، وَكَانَ حَفِظَ الْمُوَطَّأَ بِمَكَّةَ لَمَّا أَرَادَ الرِّحْلَةَ إِلَى مَالِكٍ حِينَ سَمِعَ أَنَّهُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَزِيدُهُ مِنْ قِرَاءَتِهِ ; لِإِعْجَابِهِ بِهَا حَتَّى قَرَأَهُ عَلَيْهِ فِي أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، وَقَالَ لَهُ مَرَّةً لَمَّا تَفَرَّسَ فِيهِ النَّجَابَةَ، وَالْإِمَامَةَ: اتَّقِ اللَّهَ إِنَّهُ سَيَكُونُ لَكَ شَأْنٌ، وَأُخْرَى إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَيْكَ نُورًا فَلَا تُطْفِئْهُ بِالْمَعْصِيَةِ ; قَالَ: فَمَا ارْتَكَبْتُ كَبِيرَةً قَطُّ. ثُمَّ بَعْدَ وَفَاةِ مَالِكٍ رَحَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْيَمَنِ، وَوَلِيَ بِهَا الْقَضَاءَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَجَدَّ فِي التَّحْصِيلِ، وَنَاظَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، وَغَيْرَهُ،

وَنَشَرَ عِلْمَ الْحَدِيثِ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ، وَفَضْلُهُ إِلَى أَنْ مَلَأَ الْبِقَاعَ، وَالْأَسْمَاعَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مَدْحِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ اسْتَعَارَ مِنِّي كِتَابَ الْأَوْسَطِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَحَفِظَهُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَلَمَّا صَنَّفَ كِتَابَ الرِّسَالَةِ أُعْجِبَ بِهِ أَهْلُ عَصْرِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْسَانِهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْخَوَارِقِ حَتَّى قَالَ الْمُزَنِيُّ: قَرَأْتُهُ خَمْسَمِائَةِ مَرَّةٍ مَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَقَدِ اسْتَفَدْتُ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ أَكُنْ عَرَفْتُهُ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَدْعُو لَهُ فِي صَلَاتِهِ لَمَّا رَأَى اهْتِمَامَهُ بِنَصْرِ السُّنَّةِ. وَصَنَّفَ فِي الْعِرَاقِ كِتَابَهُ الْقَدِيمَ الْمُسَمَّى بِالْحُجَّةِ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَصَنَّفَ كُتَبَهُ الْجَدِيدَةَ بِهَا، وَرَجَعَ عَنْ تِلْكَ، وَمَجْمُوعُهَا يَبْلُغُ مِائَةً وَثَلَاثَةَ عَشَرَ مُصَنَّفًا، وَشَاعَ ذِكْرُهَا فِي الْبُلْدَانِ، وَقَصَدَهُ النَّاسُ مِنَ الْأَقْطَارِ لِلْأَخْذِ عَنْهُ، وَكَذَا أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ لِسَمَاعِ كُتُبِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي يَوْمٍ عَلَى بَابِ الرَّبِيعِ تِسْعُمِائَةِ رَاحِلَةٍ. وَابْتَكَرَ أُصُولَ الْفِقْهِ، وَكِتَابَ الْقَسَامَةِ، وَكِتَابَ الْجِزْيَةِ، وَكِتَابَ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَكَانَ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ، وَالنَّحْوِ، وَأَذِنَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ مُفْتِي مَكَّةَ فِي الْإِفْتَاءِ بِهَا، وَعُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرُبَّمَا أُوقِدَ لَهُ الْمِصْبَاحُ فِي اللَّيْلَةِ ثَلَاثِينَ مَرَّةً، وَلَمْ يُبْقِهِ دَائِمَ الْوَقُودِ. قَالَ ابْنُ أُخْتِهِ مِنْ أُمِّهِ: لِأَنَّ الظُّلْمَةَ أَجْلَى لِلْقُلُوبِ. وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ، فَهُوَ مَذْهَبِي، وَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ، وَانْفَرَدَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي غَيْرِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْ كَلَامِهِ الدَّالِّ عَلَى إِخْلَاصِهِ: وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّمَهُ النَّاسُ أُوْجَرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْمَدُونِي قَطُّ، وَوَدِدْتُ إِذَا مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ. وَمِنْ حِكَمِهِ الْبَالِغَةِ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةَ فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ أَيْ: مَعَ الْعَمَلِ، وَمَا أَفْلَحَ فِي الْعِلْمِ إِلَّا مَنْ طَلَبَهُ فِي الذِّلَّةِ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَطْلُبُ الْقِرْطَاسَ فَيَعِزُّ عَلَيَّ، لَا يَتَعَلَّمُ أَحَدٌ هَذَا الْعِلْمَ بِالْمَلَكَةِ، وَعِزَّةِ النَّفْسِ فَيُفْلِحُ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ، وَضِيقِ الْعَيْشِ أَفْلَحَ، تَفَقَّهْ قَبْلَ أَنْ تَرْأَسَ فَإِذَا تَرَأَّسْتَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّفَقُّهِ. زِينَةُ الْعِلْمِ الْوَرَعُ، وَالْحِلْمُ، لَا عَيْبَ فِي الْعُلَمَاءِ أَقَبَحُ مِنْ رَغْبَتِهِمْ فِيمَا زَهَّدَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وَزُهْدِهِمْ فِيمَا رَغَّبَهُمُ اللَّهُ فِيهِ. فَقْرُ الْعُلَمَاءِ فَقْرُ اخْتِيَارٍ وَفَقْرُ الْجُهَّالِ فَقْرُ اضْطِرَارٍ، النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ مِنْ سُورَةِ {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] مَنْ لَمْ تُعِزَّهُ التَّقْوَى فَلَا تَقْوَى لَهُ، مَا فَرَغْتُ مِنَ الْعِلْمِ قَطُّ، طَلَبُ فُضُولِ الدُّنْيَا عُقُوبَةٌ عَاقَبَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ. مَنْ غَلَبَتْهُ شِدَّةُ الشَّهْوَةِ لِلدُّنْيَا لَزِمَتْهُ الْعُبُودِيَّةُ لِأَهْلِهَا، وَمَنْ رَضِيَ بِالْقُنُوعِ زَالَ عَنْهُ الْخُضُوعُ، لَا يَعْرِفُ الرِّيَاءَ إِلَّا الْمُخْلِصُونَ، لَوِ اجْتَهَدْتَ كُلَّ الْجُهْدِ عَلَى أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ كُلَّهُمْ فَلَا سَبِيلَ لِذَلِكَ فَأَخْلِصْ عَمَلَكَ وَنِيَّتَكَ لِلَّهِ، لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِشَيْءٍ لَأَعْقَلِ النَّاسِ صُرِفَ لِلزُّهَّادِ، سِيَاسَةُ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْ سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ، الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَهُ عَقْلُهُ عَنْ كُلِّ مَذْمُومٍ، وَمَنْ نَمَّ لَكَ نَمَّ بِكَ، مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ، التَّوَاضُعُ مِنْ أَخْلَاقِ الْكِرَامِ، وَالتَّكَبُّرُ مِنْ شِيَمِ اللِّئَامِ. أَرْفَعُ النَّاسِ قَدْرًا مَنْ لَا يَرَى قَدْرَهُ. الشَّفَاعَاتُ زَكَاةُ الْمُرُوءَاتِ. مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَلَمْ يَفْتَقِرْ فَهُوَ لِصٌّ. لَا بَأْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ سَفِيهٌ يُسَافِهُ بِهِ. مُدَارَاةُ الْأَحْمَقِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ. الِانْبِسَاطُ إِلَى النَّاسِ مَجْلَبَةٌ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ، وَالِانْفِرَادُ عَنْهُمْ مَكْسَبَةٌ لِلْعَدَاوَةِ فَكُنْ بَيْنَ الْمُنْقَبِضِ وَالْمُنْبَسِطِ، لَأَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا عَدَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكَلَامِ فَإِنِّي وَاللَّهِ اطَّلَعْتُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مَا ظَنَنْتُهُ قَطُّ. وَكَانَ يَكْتُبُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يُصَلِّي ثُلُثَهُ، ثُمَّ يَنَامُ ثُلُثَهُ، وَيَخْتِمُ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً. أَقُولُ: لَعَلَّهُ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ. وَقَالَ: مَا كَذَبْتُ قَطُّ، وَلَا حَلَفْتُ بِاللَّهِ صَادِقًا، وَلَا كَاذِبًا، وَمَا تَرَكْتُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ قَطُّ، وَمَا شَبِعْتُ مُنْذُ سِتَّةَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا شِبْعَةً طَرَحْتُهَا مِنْ سَاعَتِي قَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنْ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ. وَكَانَ لَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي السَّخَاءِ، قَدِمَ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى مَكَّةَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَمَا بَرِحَ مِنْ مَجْلِسِ سَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَّقَهَا كُلَّهَا، وَسَقَطَ سَوْطُهُ فَنَاوَلَهُ إِنْسَانٌ فَأَمَرَ غُلَامَهُ بِإِعْطَائِهِ مَا مَعَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ فَكَانَتْ سَبْعَةً، أَوْ تِسْعَةً، وَانْقَطَعَ

شِسْعَ نَعْلِهِ فَأَصْلَحَهُ لَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَبِيعُ، أَمَعَكَ مِنْ نَفَقَتِنَا شَيْءٌ، قُلْتُ: سَبْعَةُ دَنَانِيرَ. قَالَ: ادْفَعْهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْهُ. خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةَ الْعِيدِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَنَا أُذَاكِرُهُ فِي مَسْأَلَةٍ حَتَّى أَتَيْتُ بَابَ دَارِهِ فَأَتَاهُ غُلَامٌ بِكِيسٍ، وَقَالَ: مَوْلَايَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: خُذْ هَذَا الْكِيسَ فَإِنَّهُ لَكَ هَدِيَّةٌ، وَعَلَيْنَا الْمِنَّةُ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَلَدَتِ امْرَأَتِي السَّاعَةَ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْكِيسَ، وَصَعِدَ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، وَكَانَ يَأْكُلُ شَهْوَةَ أَصْحَابِهِ، وَرَكِبَ حِمَارَهُ، وَأَحْمَدُ يَمْشِي بِجَانِبِهِ، وَيُذَاكِرُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فَعَتَبَ أَحْمَدَ فَأَرْسَلَ لَهُ: لَوْ كُنْتَ بِالْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْ حِمَارِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ! ، وَكَانَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ التَّامَّةُ بِالرَّمْيِ حَتَّى يُصِيبَ عَشَرَةً مِنْ عَشَرَةٍ، وَبِالْفُرُوسِيَّةِ حَتَّى يَأْخُذَ بِأُذُنِهِ، وَأُذُنِ الْفَرَسِ فِي شِدَّةِ عَدْوِهِ. رُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ - وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35 - 36] ; فَتَغَيَّرَ الشَّافِعِيُّ، وَارْتَعَدَ، وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مَقَامِ الْكَذَّابِينَ، وَمِنْ إِعْرَاضِ الْجَاهِلِينَ هَبْ لِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَجَلِّلْنِي بِسَتْرِكَ، وَاعْفُ عَنِّي بِكَرَمِكَ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى غَيْرِكَ، وَلَا تُقَنِّطْنِي مِنْ خَيْرِكَ. وَمِنْ كَلَامِهِ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعُلَمَاءُ أَوْلِيَاءَ فَلَيْسَ لِلَّهِ وَلِيٌّ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلِيًّا جَاهِلًا. قَالَ الْمُزَنِيُّ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ مِنَ الدُّنْيَا رَاحِلًا، وَلِإِخْوَانِي مُفَارِقًا، وَلِكَأْسِ الْمَنِيَّةِ شَارِبًا، وَلِسُوءِ أَعْمَالِي مُلَاقِيًا، وَعَلَى اللَّهِ وَارِدًا، فَلَا أَدْرِي رُوحِي تَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ فَأُهَنِّيهَا، أَوْ إِلَى النَّارِ فَأُعَزِّيهَا! ، ثُمَّ بَكَى، وَأَنْشَدَ يَقُولُ: وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي، وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ رَجَائِي نَحْوَ عَفْوِكَ سُلَّمَا تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا تُوُفِّيَ آخَرَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى الْمَغْرِبَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَقَبْرُهُ بِقَرَافَةِ مِصْرَ، وَعَاشَ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. (وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ فَالنِّسْبَةُ الْأُولَى مَجَازِيَّةٌ (الشَّيْبَانِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ وَهُوَ الْمَرْوَزِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، وُلِدَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، كَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ، وَالْحَدِيثِ، وَالزُّهْدِ، وَالْوَرَعِ، وَالْعِبَادَةِ، وَبِهِ عُرِفَ الصَّحِيحُ، وَالسَّقِيمُ، وَالْمَجْرُوحُ مِنَ الْمُعَدَّلِ، نَشَأَ بِبَغْدَادَ، وَطَلَبَ الْعِلْمَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ شُيُوخِهَا، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى مَكَّةَ، وَالْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ، وَالْمَدِينَةِ، وَالْيَمَنِ، وَالشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَسَمِعَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ هَمَّامٍ وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَمِّهِ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي آخِرِ (كِتَابِ الصَّدَقَاتِ) تَعْلِيقًا، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ عَنْهُ: فَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ، وَمَنَاقِبُهُ شَهِيرَةٌ، وَهُوَ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَعْمُولِ بِقَوْلِهِ وَرَأْيِهِ وَمَذْهَبِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَانَ أَحْمَدُ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: ذَاكَرْتُهُ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ قَالَ أَيْضًا: حَرَزْتُ كُتُبَهُ اثْنَيْ عَشَرَ حِمْلًا أَوْ عَدْلًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَحْفَظُهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ: كَأَنَّ مُجَالَسَةَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مُجَالَسَةُ الْآخِرَةِ لَا يُذْكَرُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى: حُمِلَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِيرَاثُهُ عَنْ مِصْرَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَحَمَلَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَلَاثَةَ أَكْيَاسٍ فِي كُلِّ كِيسٍ أَلْفُ دِينَارٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَذَا مِيرَاثٌ حَلَالٌ فَخُذْهَا، وَاسْتَعِنْ بِهَا عَلَى عَائِلَتِكَ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، أَنَا فِي كِفَايَةٍ ; فَرَدَّهَا، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَبِي كَثِيرًا فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ

السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وَجْهِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ! ، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ الْأَصْبَغِ: كُنْتُ بِبَغْدَادَ فَسَمِعْتُ ضَجَّةً فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ ! فَقَالُوا: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُمْتَحَنُ، فَدَخَلْتُ فَلَمَّا ضُرِبَ سَوْطًا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا ضُرِبَ الثَّانِي قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَلَمَّا ضُرِبَ الثَّالِثَ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَلَمَّا ضُرِبَ الرَّابِعَ قَالَ: لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا! فَضُرِبَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ سَوْطًا، وَكَانَتْ تِكَّةُ أَحْمَدَ حَاشِيَةَ ثَوْبٍ فَانْقَطَعَتْ فَنَزَلَ السِّرْوَالُ إِلَى عَانَتِهِ فَرَمَى أَحْمَدُ طَرَفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَمَا كَانَ بِأَسْرَعِ مِنَ ارْتِقَاءِ السِّرْوَالِ، وَلَمْ يَنْزِلْ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُكَ تُحَرِّكُ شَفَتَيْكَ فَأَيَّ شَيْءٍ قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي مَلَأْتَ بِهِ الْعَرْشَ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الصَّوَابِ فَلَا تَهْتِكْ لِي سِتْرًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيُّ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ: مَا صَنَعَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ ضُرِبْتَ فَيَّ. قَالَ: قَلْتُ نَعَمْ يَا رَبِّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ هَذَا وَجْهِي فَانْظُرْ إِلَيْهِ فَقَدَ أَبَحْتُكَ النَّظَرَ إِلَيْهِ. رُوِيَ أَنَّهُ أَرْسَلَ الشَّافِعِيُّ إِلَى بَغْدَادَ يَطْلُبُ قَمِيصَهُ الَّذِي ضُرِبَ فِيهِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِ فَغَسَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَشَرِبَ مَاءَهُ، وَهَذَا مِنْ أَجْلِ مَنَاقِبِهِ. قَالَ وَلَدُهُ صَالِحٌ: إِنَّهُ حَجَّ خَمْسَ حِجَجٍ ثَلَاثًا مِنْهَا رَاجِلًا، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَأْتَدِمُ بِالْخَلِّ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ أَمَرَ أَنْ يُمْسَحَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وَقَفَ النَّاسُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَبَلَغَ مُقَامَ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ، وَأَسْلَمَ يَوْمَ وَفَاتِهِ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ بِبَغْدَادَ يُزَارُ، وَيُتَبَرَّكُ بِهِ. وَكُشِفَ لَمَّا دُفِنَ بِجَنْبِهِ بَعْضُ الْأَشْرَافِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمِائَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَوُجِدَ كَفَنُهُ صَحِيحًا لَمْ يَبْلَ، وَجُثَّتُهُ لَمْ تَتَغَيَّرْ. [تَنْبِيهٌ] : اعْتُرِضَ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ تَفْضِيلُ كُتُبِ السُّنَنِ عَلَى مُسْنَدِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ أَكْبَرُ الْمَسَانِيدِ، وَأَحْسَنُهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ إِلَّا مَا يُحْتَجُّ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ اخْتَصَرَهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا. وَقَالَ: مَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْجِعُوا فِيهِ إِلَى الْمُسْنَدِ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُ فَحَسَنٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَمِنْ ثَمَّ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَأَطْلَقَ الصِّحَّةَ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ضَعِيفَةً، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ فِي الضَّعْفِ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى إِنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ قَدْ أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوْضُوعَاتِهِ، لَكِنْ تَعَقَّبَهُ فِي بَعْضِهَا بَعْضُهُمْ، وَفِي سَائِرِهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَحَقَّقَ نَفْيَ الْوَضْعِ عَنْ جَمِيعِ أَحَادِيثِهِ، وَأَنَّهُ أَحْسَنُ انْتِقَاءً، وَتَحْرِيرًا مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي لَمْ يَلْتَزِمْ مُؤَلِّفُوهَا الصِّحَّةَ فِي جَمِيعِهَا كَالسُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ: وَلَيْسَتِ الْأَحَادِيثُ الزَّائِدَةُ فِيهِ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِأَكْثَرَ ضَعْفًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ عَلَيْهِمَا. وَبِالْجُمْلَةِ، فَالسَّبِيلُ وَاحِدٌ لِمَنْ أَرَادَ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثٍ مِنَ السُّنَنِ، لَا سِيَّمَا سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ، وَمُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، مِمَّا الْأَمْرُ فِيهِ أَشَدُّ، أَوْ بِحَدِيثٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا لَمْ يَشْتَرِطْ جَامِعُوهَا الصِّحَّةَ، وَالْحُسْنَ، وَتِلْكَ السَّبِيلُ أَنَّ الْمُحْتَجَّ إِنْ كَانَ أَهْلًا لِلنَّقْلِ، وَالتَّصْحِيحِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِذَلِكَ، فَإِنْ وُجِدَ أَهْلًا لِتَصْحِيحٍ أَوْ تَحْسِينٍ قَلَّدَهُ، وَإِلَّا فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ فَيَكُونُ كَحَاطِبِ لَيْلٍ، فَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. (وَأَبِي عِيسَى) قِيلَ: يُكْرَهُ هَذِهِ التَّكْنِيَةُ: (مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى التِّرْمِذِيِّ) : بِكَسْرِ التَّاءِ، وَالْمِيمِ، وَبِضَمِّهِمَا، وَبِفَتْحِ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ مَعَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ نِسْبَةً لِمَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ عَلَى طَرَفِ جِيحُونَ نَهْرِ بَلَخَ. الْإِمَامُ الْحُجَّةُ الْأَوْحَدُ الثِّقَةُ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ أَخَذَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَمَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَسُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَأَخَذَ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مِنْهَا: الشَّمَائِلُ، وَهَذَا كِتَابُهُ الصَّحِيحُ أَحْسَنُ الْكُتُبِ، وَأَحْسَنُهَا تَرْتِيبًا، وَأَقَلُّهَا تَكْرَارًا، وَفِيهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَذَاهِبِ، وَوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ، وَتَبْيِينِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصَّحِيحِ، وَالْحَسَنِ، وَالْغَرِيبِ، وَفِيهِ جَرْحٌ، وَتَعْدِيلٌ، وَفِي آخِرِهِ كِتَابُ الْعِلَلِ. وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ فَوَائِدَ حَسَنَةً لَا يَخْفَى قَدْرُهَا عَلَى مَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا ; وَلِذَا قِيلَ: هُوَ كَافٍ لِلْمُجْتَهِدِ، وَمُغْنٍ لِلْمُقَلِّدِ. بَلْ قَالَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ: هُوَ عِنْدِي أَنْفَعُ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَصِلُ لِلْفَائِدَةِ مِنْهُ، وَهُمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا مِنْهُمَا إِلَّا الْعَالِمُ الْمُتَبَحِّرُ. وَقَوْلُ

ابْنِ حَزْمٍ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ كَذِبٌ مِنْهُ، قَالَ: عَرَضْتُ هَذَا الْكِتَابَ - يَعْنِي سُنَنَهُ - عَلَى عُلَمَاءِ الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ فَرَضُوا بِهِ، وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ، نَعَمْ، عِنْدَهُ نَوْعُ تَسَاهُلٍ فِي التَّصْحِيحِ، وَلَا يَضُرُّهُ، فَقَدْ حَكَمَ بِالْحُسْنِ مَعَ وُجُودِ الِانْقِطَاعِ فِي أَحَادِيثَ مِنْ سُنَنِهِ، وَحَسَّنَ فِيهَا بَعْضَ مَا انْفَرَدَ رُوَاتُهُ بِهِ كَمَا صَرَّحَ هُوَ بِهِ، فَإِنَّهُ يُورِدُ الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَهُ: إِنَّهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ، أَوْ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. لَكِنْ أُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ جَدِيدٌ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْحَاكِمُ، وَالْخَطِيبُ الصِّحَّةَ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، تُوُفِّيَ بِتِرْمِذَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَعْلَى أَسَانِيدِهِ مَا يَكُونُ وَاسِطَتَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي سُنَنِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ: " «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» "، فَإِسْنَادُهُ أَقْرَبُ مِنْ إِسْنَادِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، فَإِنَّ لَهُمْ ثُلَاثِيَّاتٍ، وَذَكَرَ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَهُوَ: يَا عَلِيُّ، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُجْنِبَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي، وَغَيْرُكَ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ سَمِعَهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ. (وَأَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيِّ) : بِكَسْرِ السِّينِ الْأُولَى، وَيُفْتَحُ، وَبِكَسْرِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ السِّينِ الثَّانِيَةِ مُعَرَّبُ سِيسْتَانِ مِنْ نَوَاحِي هُرَاةَ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ، سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ مِرَارًا فَرَوَى سُنَنَهُ بِهَا، وَنَقَلَهُ أَهْلُهَا عَنْهُ، وَعَرَضَهُ عَلَى أَحْمَدَ فَاسْتَجَادَهُ، وَاسْتَحْسَنَهُ، سَمِعَ أَحْمَدَ، وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، وَالْقَعْنَبِيَّ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَقُتَيْبَةَ، وَخَلَائِقَ لَا يُحْصَوْنَ. وَرَوَى عَنْهُ النَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُ. قَالَ جَمْعٌ: أُلِينَ الْحَدِيثُ لِأَبِي دَاوُدَ كَمَا أُلِينَ الْحَدِيدُ لِدَاوُدَ. وَكَانَ يَقُولُ: كَتَبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ انْتَخَبْتُ مِنْهَا مَا ضَمَّنْتُهُ كِتَابَ السُّنَّةِ، جَمَعْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ حَدِيثٍ وَثَمَانِمِائَةِ حَدِيثٍ، ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ، وَمَا يُشْبِهُهُ، وَيُقَارِبُهُ، وَيَكْفِي الْإِنْسَانَ لِدِينِهِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» "، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» "، وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَرْضَى لِأَخِيهِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ» "، وَالرَّابِعُ: " «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ» " الْحَدِيثَ. وَمِنْ أَشْعَارِ الشَّافِعِيِّ: عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ ... أَرْبَعٌ قَالَهُنَّ خَيْرُ الْبَرِيَّةْ اتَّقِ السَّيِّئَاتِ، وَازْهَدْ، وَدَعْ مَا ... لَيْسَ يَعْنِيكَ، وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّةْ

فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: (ازْهَدْ) حَدِيثَ الْأَرْبَعِينَ: ( «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ» ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ شَارِحُهُ: لَمْ يُصَنَّفْ فِي عِلْمِ الدِّينِ مِثْلُهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ وَضْعًا، وَأَكْثَرُ فِقْهًا مِنَ الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: مَا ذَكَرْتُ فِيهِ حَدِيثًا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَنْ عِنْدَهُ الْقُرْآنُ، وَكِتَابُ أَبِي دَاوُدَ لَمْ يَحْتَجْ مَعَهُمَا إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ النَّاجِيُّ: كِتَابُ اللَّهِ أَصْلُ الْإِسْلَامِ، وَكِتَابُ أَبِي دَاوُدَ عِيدُ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ بِاكْتِفَاءِ الْمُجْتَهِدِ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَتَبِعَهُ أَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي لِلْمُشْتَغِلِ بِالْفِقْهِ وَلِغَيْرِهِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ ; فَإِنَّ مُعْظَمَ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُحْتَجُّ بِهَا فِيهِ مَعَ سُهُولَةِ تَنَاوُلِهِ. وَكَانَ لَهُ كُمٌّ وَاسِعٌ، وَكُمٌّ ضَيِّقٌ فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أَمَّا الْوَاسِعُ فَلِلْكُتُبِ، وَأَمَّا الضَّيِّقُ فَلِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ النُّسُكِ، وَالْعَفَافِ، وَالصَّلَاحِ، وَالْوَرَعِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: مَا سَكَتَ عَلَيْهِ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَا رَوَاهُ فِي سُنَنِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ضَعْفَهُ هُوَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ، أَوْ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَا سَكَتَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ عِنْدَهُ سِيَّمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. وَأَطْلَقَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ السَّكَنِ الصِّحَّةَ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَوَافَقَهُمَا الْحَاكِمُ. (وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيِّ) : بِفَتْحِ النُّونِ، وَالْمَدِّ كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَبِالْقَصْرِ كَمَا فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ نِسْبَةً إِلَى بَلَدٍ بِخُرَاسَانَ قُرَيْبَ مُرْوَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ مِنْ كُوَرِ نَيْسَابُورَ، أَوْ مِنْ أَرْضِ فَارِسَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ. أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ، سَمِعَ مِنْ: إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ أَشْعَثَ، وَمَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، وَعَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَآخَرِينَ بِبِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَأَقَالِيمَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَخَذَ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرُونَ: كَالطَّبَرَانِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ السُّنِّيِّ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فَسُئِلَ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَفَضَّلَ عَلَيْهِ عَلِيًّا ; فَأُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَحُمِلَ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَمَاتَ بِهَا، وَقِيلَ: إِلَى مَكَّةَ، وَدُفِنَ بِهَا بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةَ. وَجَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فَقَالَ: مَاتَ ضَرْبًا بِالْأَرْجُلِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ حِينَ أَجَابَهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ لِيُرَجِّحُوهُ بِهَا عَلَى عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ: أَلَا يَرْضَى مُعَاوِيَةُ رَأْسًا بِرَأْسٍ حَتَّى يَفْضُلَ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا أَعْرِفُهُ إِلَّا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ، وَمَا زَالُوا يَضْرِبُونَهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ مَقْتُولًا شَهِيدًا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالرَّمْلَةِ، وَكَذَا قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: إِنَّهُ مَاتَ بِالرَّمْلَةِ بِمَدِينَةِ فِلَسْطِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَسِنُّهُ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً فِيمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُ، وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ مَدْفُونٌ بِهَا. وَنَقَلَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ، وَوَالِدِهِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ السُّبْكِيِّ أَنَّ النَّسَائِيَّ أَحْفَظُ مِنْ مُسْلِمٍ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَأَنَّ سُنَنَهُ أَقَلُّ السُّنَنِ بَعْدَ الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثًا ضَعِيفًا، بَلْ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إِنَّهُ أَشْرَفُ الْمُصَنَّفَاتِ كُلِّهَا، وَمَا وُضِعَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَأَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ، وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْخَطِيبُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: كُلُّ مَا فِيهِ صَحِيحٌ، لَكِنْ فِيهِ تَسَاهُلٌ صَرِيحٌ. وَشَذَّ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ فَفَضَّلَهُ عَلَى كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَلَعَلَّهُ لِبَعْضِ الْحَيْثِيَّاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ كَمَالِ الصِّحَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: صَنَّفَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كِتَابًا يُقَالُ لَهُ: السُّنَنُ الْكَبِيرُ لِلنَّسَائِيِّ، وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ، لَمْ يُكْتَبْ مِثْلُهُ فِي جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَبَيَانِ مَخْرَجِهِ، وَبَعْدَهُ اخْتَصَرَهُ، وَسَمَّاهُ بِالْمُجْتَنَى بِالنُّونِ ; وَسَبَبُ اخْتِصَارِهِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَرَاءِ زَمَانِهِ سَأَلَهُ إِنَّ جَمِيعَ أَحَادِيثِ كِتَابِكَ صَحِيحٌ؟ فَقَالَ فِي جَوَابِهِ: لَا، فَأَمَرَهُ الْأَمِيرُ بِتَجْرِيدِ الصِّحَاحِ، وَكِتَابَةِ صَحِيحٍ مُجَرَّدٍ ; فَانْتَخَبَ مِنْهُ الْمُجْتَنَى، وَكُلُّ حَدِيثٍ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِهِ أَسْقَطَهُ مِنْهُ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُحَدِّثُونَ بِقَوْلِهِمْ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فَمُرَادُهُمْ هَذَا الْمُخْتَصَرُ الْمُسَمَّى بِالْمُجْتَنَى لَا الْكِتَابُ الْكَبِيرُ، وَكَذَا إِذَا قَالُوا: الْكُتُبُ الْخَمْسَةُ، أَوْ أُصُولُ الْخَمْسَةِ فَهِيَ: الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ، وَجَامِعُ التِّرْمِذِيِّ، وَمُجْتَنَى النَّسَائِيِّ.

(وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، ابْنِ مَاجَهْ) : بِإِثْبَاتِ أَلْفِ ابْنِ خَطًّا ; فَإِنَّهُ بَدَلٌ مِنَ ابْنِ يَزِيدَ، فَفِي الْقَامُوسِ: مَاجَهْ لَقَبُ وَالِدِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ صَاحِبِ السُّنَنِ لَا جَدُّهُ، وَفِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ أَنَّ مَاجَهْ اسْمُ أُمِّهِ (الْقَزْوِينِيِّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ نِسْبَةً إِلَى بَلَدٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ صَاحِبُ السُّنَنِ الَّتِي كَمَّلَ بِهِ الْكُتُبَ السِّتَّةَ، وَالسُّنَنَ الْأَرْبَعَةَ بَعْدَ الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَوَّلُ مَنْ أَضَافَ ابْنَ مَاجَهْ إِلَى الْخَمْسَةِ الْفَضْلُ بْنُ طَاهِرٍ حَيْثُ أَدْرَجَهُ مَعَهَا فِي أَطْرَافِهِ، وَكَذَا فِي شُرُوطِ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ، ثُمَّ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي كِتَابِ الْإِكْمَالِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ الَّذِي هَذَّبَهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ، وَقَدَّمُوهُ عَلَى الْمُوَطَّأِ ; لِكَثْرَةِ زَوَائِدِهِ عَلَى الْخَمْسَةِ بِخِلَافِ الْمُوَطَّأِ، وَهُوَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ: كِتَابٌ مُفِيدٌ قَوِيُّ التَّبْوِيبِ فِي الْفِقْهِ، لَكِنْ فِيهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ جِدًّا بَلْ مُنْكِرَةٌ. بَلْ نُقِلَ عَنِ الْحَافِظِ الْمِزِّيِّ أَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ الضَّعْفُ، وَلِذَا لَمْ يُضِفْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ إِلَى الْخَمْسَةِ، بَلْ جَعَلُوا السَّادِسَ الْمُوَطَّأَ مِنْهُمْ: رَزِينٌ، وَالْمَجْدُ ابْنُ الْأَثِيرِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مُسْنَدُ الدَّارِمِيِّ سَادِسًا لِلْخَمْسَةِ بَدَلَهُ ; فَإِنَّهُ قَلِيلُ الرِّجَالِ الضُّعَفَاءِ نَادِرُ الْأَحَادِيثِ الْمُنْكَرَةِ، وَالشَّاذَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ، وَمَوْقُوفَةٌ، فَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْهُ. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً سَمِعَ أَصْحَابَ مَالِكٍ، وَاللَّيْثَ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، وَخَلْقٌ سِوَاهُ، وَلَهُ ثُلَاثِيَّاتٌ مِنْ طَرِيقِ جُبَارَةَ بْنِ الْمُغَلِّسِ، وَلَهُ حَدِيثٌ فِي فَضْلِ قَزْوِينَ أَوْرَدَهُ فِي سُنَنِهِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ بَلْ مَوْضُوعٌ، وَلِذَا طَعَنَ فِيهِ، وَفِي كِتَابِهِ. (وَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : السَّمَرْقَنْدِيِّ التَّمِيمِيِّ (الدَّارِمِيِّ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ نِسْبَةً إِلَى دَارِمِ بْنِ مَالِكٍ بَطْنٍ كَبِيرٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ عَالِمُ سَمَرْقَنْدَ صَنَّفَ التَّفْسِيرَ، وَالْجَامِعَ، وَمُسْنَدَهُ الْمَشْهُورَ، وَهُوَ عَلَى الْأَبْوَابِ لَا الصَّحَابَةِ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ فِيهِ. رَوَى عَنْ: الْبُخَارِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ: رَأَيْتُ الْعُلَمَاءَ بِالْحَرَمَيْنِ، وَالْحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ فَمَا رَأَيْتُ فِيهِمْ أَجْمَعَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ. وَرَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ إِمَامُ أَهْلِ زَمَانِهِ تُوُفِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَدُفِنَ يَوْمَ عَرَفَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَلَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا هِيَ ثُلَاثِيَّاتٌ. (وَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيِّ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَيُسَكَّنُ، وَبِضَمِّ الْقَافِ، وَسُكُونِ الطَّاءِ بَعْدَهُ نُونٌ نِسْبَةً لِدَارِ الْقُطْنِ، وَكَانَتْ مَحِلَّةً كَبِيرَةً بِبَغْدَادَ، وَهُوَ إِمَامُ عَصْرِهِ، وَحَافِظُ دَهْرِهِ صَاحِبُ السُّنَنِ، وَالْعِلَلِ، وَغَيْرِهِمَا، انْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُ الْأَثَرِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ، وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ مَعَ الصِّدْقِ، وَالْأَمَانَةِ، وَالثِّقَةِ، وَالْعَدَالَةِ، وَصِحَّةِ الِاعْتِقَادِ، وَالتَّضَلُّعِ بِعُلُومٍ شَتَّى: كَالْقِرَاءَةِ، وَلَهُ فِيهَا كِتَابٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ. أَخَذَ عَنْهُ الْأَئِمَّةُ: كَأَبِي نُعَيْمٍ، وَالْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ، وَالْبُرْقَانِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَالْجَوْهَرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَمَاتَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. (وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيِّ) : نِسْبَةً لِبَيْهَقَ عَلَى وَزْنِ صَيْقَلٍ بَلَدٌ قُرْبَ نَيْسَابُورَ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَصْحَابِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَقَدْ أَخَذَ عَنِ ابْنِ فَوْرَكٍ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ. رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ تَرَكَ الْحَاكِمُ رَاوِيًا مِنْ إِسْنَادِ حَدِيثٍ ; فَنَبَّهَ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ ; فَتَغَيَّرَ الْحَاكِمُ ; فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَصْلِ، فَحَضَرَ الْأَصْلُ ; فَكَانَ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ. رَحَلَ إِلَى الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالتَّصْنِيفِ بَعْدَ أَنْ صَارَ وَاحِدَ زَمَانِهِ، وَفَارِسَ مَيْدَانِهِ. وَأَلَّفَ كِتَابَهُ السُّنَنَ الْكُبْرَى، وَكِتَابَ الْمَبْسُوطِ فِي نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ، وَكِتَابَ مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ، وَقِيلَ: وَصَلَ تَصَانِيفُهُ إِلَى أَلْفِ جُزْءٍ، وَمِنْ تَصَانِيفِهِ: دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ، وَكِتَابُ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَكِتَابُ الْآدَابِ، وَكِتَابُ فَضَائِلِ

الصَّحَابَةِ، وَفَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ، وَكِتَابُ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَكِتَابُ الْخِلَافِيَّاتِ، وَكَانَ لَهُ غَايَةُ الْإِنْصَافِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَالْمُبَاحَثَةِ، وَكَانَ عَلَى سِيرَةِ الْعُلَمَاءِ قَانِعًا مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، مُتَجَمِّلًا فِي زُهْدِهِ، وَوَرَعِهِ، صَائِمَ الدَّهْرِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِينَ سَنَةً. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: مَا مِنْ شَافِعِيٍّ إِلَّا وَلِلشَّافِعِيِّ فِي عُنُقِهِ مِنَّةٌ إِلَّا الْبَيْهَقِيَّ فَإِنَّهُ لَهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنَّةٌ ; لِتَصَانِيفِهِ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، وَأَقَاوِيلِهِ. تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ نَاحِيَةِ بَيْهَقَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. قِيلَ: مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. (وَأَبِي الْحَسَنِ رَزِينِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الزَّايِ (بْنِ مُعَاوِيَةَ الْعَبْدَرِيِّ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، مَنْسُوبٌ إِلَى عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ الْحَافِظُ الْجَلِيلُ صَاحِبُ كِتَابِ التَّجْرِيدِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصِّحَاحِ. مَاتَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. (وَغَيْرِهِمْ) : بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى (مَثْلُ) ، (وَقَلِيلٌ مَا) : مَا: زَائِدَةٌ إِبْهَامِيَّةٌ تَزِيدُ الشُّيُوعَ، وَالْمُبَالَغَةَ فِي الْقِلَّةِ (هُوَ) أَيْ: غَيْرُهُمْ، وَالْإِفْرَادُ لِلَفْظِ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَلِيلٌ، وَنَظِيرُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] . فَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى آخِرِ الرِّجَالِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ سَنَحَ بِالْخَاطِرِ الْفَاتِرِ مَا ذَكَرَهُ السَّادَاتُ الصُّوفِيَّةُ أَرْبَابُ الْهِدَايَةِ: أَنَّ النِّهَايَةَ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبِدَايَةِ ; فَأَنْتَجَ أَنْ أَخْتِمَ ذِكْرَهُمْ بِمَنَاقِبِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَالْهُمَامِ الْأَقْدَمِ ; لِيَكُونَ كَمِسْكِ الْخِتَامِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ أَيْضًا فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ رَاجِيًا حُصُولَ بَرَكَةِ كَمَالِهِ، لَكِنْ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَأَوْرَدَ اعْتِذَارًا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُقْدَّمُ زَمَانًا، وَقَدْرًا، وَمَعْرِفَةً، وَعِلْمًا. قُلْتُ: كُلُّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِمَامِنَا غَيْرُ صَحِيحٍ، أَمَّا تَقَدُّمُ زَمَانِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ فَصَرِيحٌ إِذْ وُلِدَ مَالِكٌ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَوُلِدَ أَبُو حَنِيفَةَ سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَأَمَّا تَقَدُّمُ قَدْرِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَمَرْدُودٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَإِمَامُنَا مِنَ التَّابِعِينَ كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ: " «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» "، وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ فَمَعْرُوفَةٌ ; لِأَنَّهَا عَمَّتِ الْخَلْقَ شَرْقًا، وَغَرْبًا سِيَّمَا فِي بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَوِلَايَةِ الْهِنْدِ، وَالرُّومِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إِمَامًا غَيْرَهُ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَذْهَبًا سِوَى مَذْهَبِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَأَتْبَاعُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَتْبَاعِ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، كَمَا أَنَّ أَتْبَاعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ مِنْ أَتْبَاعِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا تَجِيءُ ثُلْثَيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا عِلْمُهُ فَيَكْفِي مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي حَقِّهِ: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ، وَالْعُذْرُ فِي كَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ بِالْأُمُورِ الْفِقْهِيَّةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ، وَالدَّلَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ الْأَهَمُّ، وَاحْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَيْهِ أَتَمُّ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اشْتِغَالٌ بِالْمَعْنَى الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالدِّرَايَةِ، وَهُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى التَّعَلُّقِ بِالْمَبْنَى الَّذِي يُقَالُ لَهُ الرِّوَايَةُ، وَهَذَا فَاقَ عَلَى أَقْرَانِهِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ سَأَلَهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مَسَائِلَ، وَأَرَادَ الْبَحْثَ مَعَهُ بِوَسَائِلَ ; فَأَجَابَ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ فَقَالَ لَهُ الْأَوْزَاعِيُّ: مِنْ أَيْنَ هَذَا الْجَوَابُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْتُمُوهَا، وَمِنَ الْأَخْبَارِ، وَالْآثَارِ الَّتِي نَقَلْتُمُوهَا، وَبَيَّنَ لَهُ وَجْهَ دِلَالَاتِهَا، وَطَرِيقَ اسْتِنْبِاطِهَا ; فَأَنْصَفَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَلَمْ يَتَعَسَّفْ فَقَالَ: نَحْنُ الْعَطَّارُونَ، وَأَنْتُمُ الْأَطِبَّاءُ، أَيِ: الْعَارِفُونَ بِالدَّاءِ، وَالدَّوَاءِ. وَأَيْضًا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ نَقْلَ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِاللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَقِلُّ التَّحْدِيثُ بِالْمَبْنَى مَعَ أَنَّ لَهُ مَسَانِيدَ مُتَعَدِّدَةً، وَأَسَانِيدَ مُعْتَمَدَةً يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ، وَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ سَنَدِهِ أَنَّهُ رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ» " كَذَا ذَكَرَهُ التَّمِيمِيُّ شَارِحُ النُّقَايَةِ فِي فَصْلِ الْوَلَاءِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ نَقْلًا عَنِ

الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الْفَاضِلُ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ ابْنِ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ، ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: حَمَلْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقْرَيْ بُخْتِيٍّ كُتُبًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الطَّبَقَاتِ: رَوَى الرَّبِيعُ قَالَ: كَتَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ كُتُبًا يَنْسَخُهَا فَأَخَّرَهَا عَنْهُ: قُلْ لِلَّذِي لَمْ تَرَ عَيْنَا مَنْ رَآهُ مِثْلَهُ مِثْلَهُ ... وَمَنْ كَانَ مَنْ رَآهُ قَدْ رَأَى مَنْ قَبْلَهُ الْعِلْمُ يَنْهَى أَهْلَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ أَهْلَهُ ... لَعَلَّهُ يَبْذُلُهُ لِأَهْلِهِ لَعَلَّهُ وَفِي الْحَقَائِقِ شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَانَنِي عَلَى الْفِقْهِ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. انْتَهَى. مُحَمَّدٌ لَهُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُوَطَّأُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ شَيْخُنَا الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ، وَالْبَحْرُ الْفَهَّامَةُ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَمُفْتِي الْأَنَامِ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ، وَالتَّآلِيفِ الشَّهِيرَةِ، مَوْلَانَا، وَسَيِّدُنَا، وَسَنَدُنَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ - مَنَاقِبَ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ، قَالَ: تَعَيَّنَ عَلَيْنَا إِذْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَنْ نَخْتِمَ لِرَابِعِهِمُ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِمْ تَبَرُّكًا بِهِ، لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَوُفُورِ عِلْمِهِ، وَوَرَعِهِ، وَزُهْدِهِ، وَتَحْلِيَتِهِ بِالْعُلُومِ الْبَاطِنَةِ فَضْلًا عَنِ الظَّاهِرَةِ بِمَا فَاقَ فِيهِ أَهْلَ عَصْرِهِ، وَفَازَ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَإِذَاعَةِ ذِكْرِهِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ فَقِيهُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَمِنْ أَكَابِرَ التَّابِعِينَ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ زُوطَى بِضَمِّ الزَّايِ، وَفَتْحِ الطَّاءِ ابْنِ مَاهٍ مَوْلَى تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْكُوفِيُّ. وَرَوَى الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَفِيدِهِ عُمَرَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ ثَابِتًا وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَزُوطَى كَانَ مَمْلُوكًا لِبَنِي تَيْمٍ فَأَعْتَقُوهُ فَصَارَ وَلَاؤُهُ لَهُمْ. وَأَنْكَرَ إِسْمَاعِيلُ أَخُو عُمَرَ الْمَذْكُورِ - حَفِيدُهُ أَيْضًا ابْنُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ - ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّ وَالِدَ ثَابِتٍ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ، وَأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ، وَاللَّهِ مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِقٌّ قَطُّ، وُلِدَ جَدِّي سَنَةَ ثَمَانِينَ. وَذَهَبَ بِثَابِتٍ أَبِيهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهُوَ صَغِيرٌ ; فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِيهِ، وَفِي ذُرِّيَّتِهِ، وَنَحْنُ نَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدِ اسْتُجِيبَ مِنْ عَلِيٍّ فِينَا! اهـ. وَهُوَ كَمَا رَجَا ; فَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ بَرَكَةً لَا نِهَايَةَ لِأَقْصَاهَا، وَلَا غَايَةَ لِمُنْتَهَاهَا، وَبَارَكَ فِي أَتْبَاعِهِ فَكَثُرُوا فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَةِ صِدْقِهِ، وَإِخْلَاصِهِ مَا اشْتَهَرَ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ. أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَدْرَكَ أَرْبَعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ بَلْ ثَمَانِيَةً مِنْهُمْ: أَنَسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو اللَّيْلِ. قِيلَ: وَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا مِنْهُمْ. قُلْتُ: لَكِنْ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. وَسَمِعَ مِنْ عَطَاءٍ، وَأَهْلِ طَبَقَتِهِ. رَوَى عَنْهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ. وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ هُبَيْرَةَ وَالِيًا عَلَى الْعِرَاقِ لِبَنِي أُمَيَّةَ فَكَلَّمَهُ فِي أَنْ يَلِيَ لَهُ قَضَاءَ الْكُوفَةِ ; فَأَبَى عَلَيْهِ ; فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشَرَةُ أَسْوَاطٍ، وَهُوَ مُصَمِّمٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ خَلَّى سَبِيلَهُ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِذَا ذَكَرَ ضَرْبَهُ عَلَى الْقَضَاءِ، وَامْتِنَاعَهُ مِنْهُ بَكَى، وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ اقْتَدَى بِهِ فِي تَحَمُّلِ ضَرْبِهِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ. وَاسْتَدْعَاهُ الْمَنْصُورُ أَبُو جَعْفَرٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى بَغْدَادَ لِيُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ فَأَبَى، فَحَلَفَ عَلَيْهِ لَيَفْعَلْنَّ، فَحَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ، وَتَكَرَّرَ هَذَا مِنْهُمَا ; فَقَالَ الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ: أَلَا تَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَحْلِفُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كَفَّارَةِ أَيْمَانِهِ أَقْدَرُ مِنِّي عَلَى كَفَّارَةِ أَيْمَانِي ; فَأَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ فِي الْوَقْتِ. وَفِي رِوَايَةٍ: دَعَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى فَحَبَسَهُ، ثُمَّ دَعَا بِهِ فَقَالَ: أَتَرْغَبُ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ؟ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ; لَا أَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ ; فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدْ حَكَمَ عَلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا أَصْلُحَ لِلْقَضَاءِ ;

لِأَنَّهُ نَسَبَنِي إِلَى الْكَذِبِ، فَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَلَا أَصْلُحُ، وَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَقَدْ أَخْبَرْتُ أَنِّي لَا أَصْلُحُ فَرَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ، فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ يُونُسَ: رَأَيْتُ الْمَنْصُورَ يُحَاوِرُهُ فِي أَمْرِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكْ فِي أَمَانَتِكَ إِلَّا مَنْ يَخَافُ اللَّهَ، وَاللَّهِ مَا أَنَا مَأْمُونُ الرِّضَا فَكَيْفَ أَكُونُ مَأْمُونَ الْغَضَبِ؟ ! فَلَا أَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ، أَنْتَ تَصْلُحُ، فَقَالَ: قَدْ حَكَمْتَ عَلَى نَفْسِكَ، كَيْفَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُوَلِّيَ قَاضِيًا عَلَى أَمَانَتِكَ، وَهُوَ كَذَّابٌ؟ وَذُكِرَ أَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: أَتَذْكُرُونَ رَجُلًا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا فَفَرَّ مِنْهَا. وَكَانَ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الثِّيَابِ طَيِّبَ الرِّيحِ، يُعْرَفُ بِرِيحِ الطِّيبِ إِذَا أَقْبَلَ، كَثِيرَ الْكَرَمِ حَسَنَ الْمُوَاسَاةِ لِإِخْوَانِهِ رَبْعَةً أَحْسَنَ النَّاسِ مَنْطِقًا، وَأَحْلَاهُمْ نَغَمَةً. قَالَ: قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ فَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَجَبْتُ عَنْهُ، فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي فِيهَا جَوَابٌ ; فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُفَارِقَ حَمَّادًا حَتَّى يَمُوتَ، فَصَحِبْتُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَا صَلَّيْتُ صَلَاةً مُنْذُ مَاتَ إِلَّا اسْتَغْفَرْتُ لَهُ قَبْلَ أَبَوَيَّ، أَوْ قَالَ: مَعَ وَالِدَيَّ، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ لِمَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ عِلْمًا، أَوْ تَعَلَّمَ مِنِّي عِلْمًا. قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ: عَمَّنْ أَخَذْتَ الْعِلْمَ؟ فَقُلْتُ: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: بَخٍ بَخٍ، اسْتَوْفَيْتَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ، وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ نَبَشَ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ مَنْ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: مَنْ صَاحِبُ هَذِهِ الرُّؤْيَا؟ وَلَمْ يُجِبْ عَنْهَا، ثُمَّ سَأَلَهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: صَاحِبُ هَذِهِ الرُّؤْيَا يُبْرِزُ عِلْمًا لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ مِمَّنْ قَبْلَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ آيَةً فَقِيلَ لَهُ: فِي الْخَيْرِ أَمْ فِي الشَّرِّ؟ قَالَ: اسْكُتْ يَا هَذَا؟ فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ آيَةٌ فِي الْخَيْرِ، وَغَايَةٌ فِي الشَّرِّ، ثُمَّ تَلَا: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] . وَقَالَ: كَانَ يَوْمًا فِي الْجَامِعِ فَوَقَعَتْ حَيَّةٌ فَسَقَطَتْ فِي حِجْرِهِ ; فَهَرَبَ النَّاسُ، وَهُوَ لَمْ يَزِدْ عَلَى نَفْضِهَا، وَجَلَسَ مَكَانَهُ، وَكَانَ خَزَّازًا يَبِيعُ الْخَزَّ، وَدُكَّانُهُ مَعْرُوفٌ فِي دَارِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. وَمَاتَ أَخُو سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِعَزَائِهِ، فَجَاءَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَامَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَقْعَدَهُ فِي مَكَانِهِ وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ قَالَ أَصْحَابُ سُفْيَانَ: رَأَيْنَاكَ فَعَلْتَ شَيْئًا عَجِيبًا! قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْعِلْمِ بِمَكَانٍ، فَإِنْ لَمْ أَقُمْ لِعِلْمِهِ قُمْتُ لِسِنِّهِ، وَإِنْ لَمْ أَقُمْ لِسِنِّهِ قُمْتُ لِفِقْهِهِ، وَإِنْ لَمْ أَقُمْ لِفِقْهِهِ قُمْتُ لِوَرَعِهِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: كَانَ النَّاسُ نِيَامًا عَنِ الْفِقْهِ حَتَّى أَيْقَظَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا فَتَّقَهُ، وَبَيَّنَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّاسُ عِيَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الْفِقْهِ فَلْيَلْزَمْ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ الرَّبِيعِ: أَقَمْتُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَمَا رَأَيْتُ أَطْوَلَ صَمْتًا مِنْهُ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فِي الْفِقْهِ سَالَ كَالْوَادِي. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا قَدِمَ مَكَّةَ فِي وَقْتِنَا رَجُلٌ أَكْثَرُ صَلَاةً مِنْهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الزَّاهِدُ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَنَامُ فِي اللَّيْلِ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: كَانَ يُسَمَّى الْوَتِدَ لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ. وَقَالَ زُفَرُ: كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ بِرَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ. وَقَالَ أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو: صَلَّى أَبُو حَنِيفَةَ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَامَّةَ اللَّيْلِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَكَانَ يُسْمَعُ بُكَاؤُهُ حَتَّى يُرَحِّمَ عَلَيْهِ جِيرَانُهُ. وَحُفِظَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ سَبْعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ، وَلَمَّا غَسَّلَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! لَمْ تُفْطِرْ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَلَمْ تَتَوَسَّدْ يَمِينَكَ فِي اللَّيْلِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّهُ صَلَّى الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ زَائِدَةُ: صَلَّيْتُ مَعَهُ فِي مَسْجِدِهِ الْعِشَاءَ، وَخَرَجَ النَّاسُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنِّي فِي الْمَسْجِدِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ مَسْأَلَةً، فَقَامَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ، وَأَنَا أَنْتَظِرُهُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ: قَامَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْلَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]

يُرَدِّدُهَا، وَيَبْكِي، وَيَتَضَرَّعُ. وَقَالَ وَكِيعٌ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَحْلِفَ بِاللَّهِ فِي عَرْضِ كَلَامِهِ إِلَّا تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ، فَحَلَفَ فَتَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ جَعَلَ إِنْ حَلَفَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، فَكَانَ إِذَا حَلَفَ صَادِقًا فِي عَرْضِ كَلَامِهِ تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، وَكَانَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى عِيَالِهِ نَفَقَةً تَصَدَّقَ بِمِثْلِهَا، وَكَانَ إِذَا اكْتَسَى ثَوْبًا جَدِيدًا كَسَى بِقَدْرِ ثَمَنِهِ الشُّيُوخَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ إِذَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الطَّعَامُ أَخَذَ مِنْهُ ضِعْفَ مَا يَأْكُلُهُ فَيَجْعَلُهُ عَلَى الْخُبْزِ، ثُمَّ يُعْطِيهِ الْفَقِيرَ، وَوَهَبَ لِمُعَلِّمِ ابْنِهِ حَمَّادٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمَّا خَتَمَ. وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَشْتَرِي مِنْهُ ثَوْبَ خَزٍّ فَأَخْرَجَ لَهَا ثَوْبًا فَقَالَتْ: إِنَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ فَبِعْنِيهِ بِمَا يَقُومُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: خُذِيهِ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَتْ: لَا تَسْخَرْ بِي، وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فَقَالَ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ ثَوْبَيْنِ فَبِعْتُ أَحَدَهُمَا بِرَأْسِ الْمَالِ إِلَّا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَبَقِيَ هَذَا بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لِلثَّوْرِيِّ: مَا أَبْعَدَ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْغَيْبَةِ، مَا سَمِعْتُهُ يَغْتَابُ عَدُوًّا لَهُ قَطُّ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَى حَسَنَاتِهِ مَا يَذْهَبُ بِهَا. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ حَفِيدُهُ: كَانَ عِنْدَنَا رَافِضِيٌّ لَهُ بَغْلَانِ، سَمَّى أَحَدَهُمَا أَبَا بَكْرٍ، وَالْآخَرَ عُمَرَ، فَرَمَحَهُ أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ فَقِيلَ لِجَدِّي، فَقَالَ: مَا قَتَلَهُ إِلَّا الْمُسَمَّى بِعُمَرَ فَكَانَ كَذَلِكَ. قُلْتُ: لِأَنَّهُ مَظْهَرُ الْجَلَالِ، وَأَبُو بَكْرٍ مَظْهَرُ الْجَمَالِ. وَكَانَ بَعْضُ جَمَاعَةِ الْمَنْصُورِ يَبْغَضُهُ فَلَمَّا رَآهُ عِنْدَ الْمَنْصُورِ قَالَ: الْيَوْمَ أَقْتُلُهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُنَا بِضَرْبِ عُنُقِ الرَّجُلِ مَا نَدْرِي مَا هُوَ، فَهَلْ لَنَا قَتْلُهُ؟ قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُ بِالْحَقِّ، أَوْ بِالْبَاطِلِ؟ قَالَ: بِالْحَقِّ، قَالَ: الْزَمِ الْحَقَّ حَيْثُ قَالَ، وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ: إِنَّ هَذَا أَرَادَ أَنْ يُوبِقَنِي فَرَبَطْتُهُ. وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ، وَقِيلَ: فِي السِّجْنِ عَلَى أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ سَنَةَ خَمْسِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، أَوْ إِحْدَى، أَوْ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ فِي رَجَبٍ بِبَغْدَادَ، وَقَبْرُهُ بِهَا يُزَارُ، وَيُتَبَرَّكُ بِهِ. وَمِنْ وَرَعِهِ أَنَّهُ أَرَادَ شِرَاءَ أَمَةٍ يَتَسَرَّى بِهَا فَاسْتَمَرَّ عِشْرِينَ سَنَةً يُفَتِّشُ السَّبَايَا، وَيَسْأَلُ عَنْهُنَّ حَتَّى اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِشِرَاءِ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ كَرَامَاتِهِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ هَرَبَ صَغِيرًا إِلَيْهِ مِنْ أُمِّهِ لِيُتْمِهِ، وَفَقْرِهِ فَجَاءَتْ أُمُّهُ لِلْإِمَامِ، وَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَفْسَدْتَ وَلَدِي فَأَعْطَاهُ لَهَا، ثُمَّ هَرَبَ إِلَيْهِ، وَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الضَّيِّقَةِ: كَيْفَ بِكَ، وَأَنْتَ تَأْكُلُ الْفَالَوْذَجَ فِي صَحْنِ الْفَيْرُوجِ؟ ! فَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَوَصَلَ أَبُو يُوسُفَ عِنْدَ الرَّشِيدِ مَا وَصَلَ دَعَاهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا، وَأَخْرَجَ لَهُ فَالَوْذَجًا كَذَلِكَ، فَضَحِكَ أَبُو يُوسُفَ فَعَجِبَ مِنْهُ الرَّشِيدُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ اهـ. كَلَامُ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ مُلَخَّصًا، وَاكْتَفَيْنَا بِكَلَامِهِ ; فَإِنَّهُ عَلَى الْمُخَالِفِينَ حُجَّةٌ، وَفِيمَا نَقَلَهُ لِلْمُوَافِقِينَ كِفَايَةٌ ; لِأَنَّ الْمُطْنِبَ فِي نَعْتِهِ مُقَصِّرٌ، وَالْمُسْهِبَ فِي مَنْقَبَتِهِ مُخْتَصِرٌ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ سَمِعَ رَجُلًا يَقَعُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ فَدَعَاهُ، وَقَالَ: يَا هَذَا، أَتَقَعُ فِي رَجُلٍ سَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْفِقْهِ، وَهُوَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمُ الرُّبْعَ؟ قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْفِقْهُ سُؤَالٌ، وَجَوَابٌ، وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِوَضْعِ الْأَسْئِلَةِ فَسَلِمَ لَهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنِ الْكُلِّ، وَخُصُومُهُ لَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْكُلِّ، فَإِذَا جُعِلَ مَا وَافَقُوا فِيهِ مُقَابَلًا بِمَا خَالَفُوا فِيهِ سَلِمَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ، وَبَقِيَ الرُّبُعُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ النَّاسِ. وَمِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي مَنَاقِبِهِ الْمُسَمَّى بِالْخَيِّرَاتِ الْحِسَانِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: رَأَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ رَجُلًا لَوْ كَلَّمَكَ فِي السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ. وَلَمَّا دَخَلَ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ زَارَ قَبْرَهُ، وَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ كَانَتَا الصُّبْحَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ فَقِيلَ

لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَدَبُنَا مَعَ هَذَا الْإِمَامِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ نُظْهِرَ خِلَافَهُ بِحَضْرَتِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتَلْمَذَ لَهُ كِبَارٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. اهـ. وَمِنْهُمْ: دَاوُدُ الطَّائِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، وَفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَكَابِرِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَمَا اسْتَظَلَّ بِحَائِطِ الْمَدْيُونِ حِينَ أَتَاهُ مُتَقَاضِيًا، وَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالٍ أَتَى بِهِ وَكِيلُهُ إِلَيْهِ لَمَّا خَلَطَ ثَمَنَ ثَوْبٍ مَعِيبٍ بِيعَ مَخْفِيًّا، قِيلَ: وَكَانَ الْمَالُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَتَرَكَ لَحْمَ الْغَنَمِ لَمَّا فُقِدَتْ شَاةٌ فِي الْكُوفَةِ سَبْعَ سِنِينَ لَمَّا قِيلَ: إِنَّهَا أَكْثَرُ مَا تَعِيشُ فِيهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ لَمَّا قَالَ فِيمَا قَدَّمَهُ: (فَأَعْلَمْتُ مَا أَغْفُلُهُ) اسْتَشْعَرَ اعْتِرَاضًا بِأَنَّ الْإِعْلَامَ الْحَقِيقِيِّ إِنَّمَا هُوَ بِإِيرَادِ الْإِسْنَادِ الْكُلِّيِّ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ رِجَالِهِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَحُسْنِهِ، وَضَعْفِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ فَاعْتَذَرَ عَنِ الْإِشْكَالِ فَقَالَ: (وَإِنِّي إِذَا نَسَبْتُ الْحَدِيثَ) أَيْ: كُلَّ حَدِيثٍ (إِلَيْهِمْ) أَيْ: إِلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ الْمَعْرُوفَةِ كُتُبُهُمْ بِأَسَانِيدِهِمْ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ (كَأَنِّي أَسْنَدْتُ) أَيِ: الْحَدِيثَ بِرِجَالِهِ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِيمَا إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَإِلَى أَصْحَابِهِ إِذَا كَانَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الْمَرْفُوعُ حُكْمًا ; (لِأَنَّهُمْ) أَيِ: الْأَئِمَّةُ (قَدْ فَرَغُوا مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْإِسْنَادِ الْكَامِلِ بِذِكْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَفْهُومِ مِنْ أَسْنَدْتُ عَلَى حَدِّ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] . اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنْ تَعْفُوا} [البقرة: 237] بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَفْوُكُمْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى نَحْوَ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] فَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى حَدِّ: اعْدِلُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، ثُمَّ فِي أَصْلِهِ عَلَى حَدِّ: وَأَنْ تَعْفُوا هُوَ أَقْرَبُ، وَهُوَ إِمَّا سَهْوٌ مِنَ الْكُتَّابِ، أَوْ وَهْمٌ مِنْ مُصَنِّفِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَأَغْنَوْنَا) : بِهَمْزَةِ قَطْعٍ، أَيْ:، وَجَعَلُونَا فِي غِنًى، وَكِفَايَةٍ (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ تَحْقِيقِ الْإِسْنَادِ مِنْ وَصْلِهِ، وَقَطْعِهِ، وَوَقْفِهِ، وَرَفْعِهِ، وَضَعْفِهِ، وَحُسْنِهِ، وَصِحَّتِهِ، وَوَضْعِهِ ; وَمِنْ ثَمَّ لَزِمَ الْأَخْذُ بِنَصِّ أَحَدِهِمْ عَلَى صِحَّةِ السَّنَدِ، أَوِ الْحَدِيثِ، أَوْ عَلَى حُسْنِهِ، أَوْ ضَعْفِهِ، أَوْ وَضْعِهِ، فَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجُوزُ نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ الْمُعْتَمَدَةِ الَّتِي اشْتَهَرَتْ، أَوْ صَحَّتْ نِسْبَتُهَا لِمُؤَلِّفِيهَا كَالْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَسَوَاءٌ فِي جَوَازِ نَقْلِهِ مِمَّا ذُكِرَ أَكَانَ نَقْلُهُ لِلْعَمَلِ بِمَضْمُونِهِ، وَلَوْ فِي الْأَحْكَامِ، أَوْ لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَعَدُّدُ الْأَصْلِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ، وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ مِنَ اشْتِرَاطِهِ حَمَلُوهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالِاسْتِظْهَارِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قُوبِلَ عَلَى أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ مُقَابَلَةً صَحِيحَةً ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْصُلُ بِهِ الثِّقَةُ الَّتِي مَدَارُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا صِحَّةً، وَاحْتِجَاجًا، نَعَمْ، نُسَخُ التِّرْمِذِيِّ مُخْتَلِفَةٌ كَثِيرًا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْحَدِيثِ بَلْ، وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُقَابَلَةِ عَلَى أُصُولٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْهُمَا، وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي النَّقْلِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ لِلْعَمَلِ وَالِاحْتِجَاجِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ إِلَى مُؤَلِّفِيهَا ; وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ عَلَى سَمَاعِهِ بَلْ إِذَا صَحَّتْ عِنْدَهُ النُّسْخَةُ مِنَ السُّنَنِ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَشَذَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالَ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَرْوِيًّا، وَلَوْ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِ الرِّوَايَاتِ ; لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِحَذْفِ مُتَعَمِّدًا، وَتَبِعَهُ الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ يَقْبُحُ لِلطَّالِبِ أَنْ لَا يَحْفَظَ بِإِسْنَادِهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ يَتَخَلَّصُ بِهَا عَنْ كَذَا، وَعَنْ كَذَا. قَالَ: وَيَتَخَلَّصُ بِهِ مِنَ الْجَرْحِ بِنَقْلِ مَا لَيْسَتْ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ ; فَإِنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الدِّرَايَةِ. وَانْتَصَرَ جَمَاعَةٌ لِلْأَوَّلِ، وَقَدْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْإِجْمَاعَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا إِذَا نَظَرَ فِي الْأَصْلِ الْمُعْتَمَدِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْحَدِيثَ لِلْعَمَلِ، أَوِ الِاحْتِجَاجِ

وَالثَّانِي: عَلَى مَا إِذَا حَدَّثَ بِأَحَادِيثِهَا مُوهِمًا نَسْبَتَهَا إِلَيْهِ قِرَاءَةً، وَإِسْنَادًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ التَّغْرِيرِ. وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا أَوْرَدَ عَلَى الثَّانِي مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَنْعُ إِيرَادِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا لِمَنْ لَا رِوَايَةٌ لَهُ بِهِ، وَجَوَازُ نَقْلِ مَا لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا (وَسَرَدْتُ الْكُتُبَ وَالْأَبْوَابَ) أَيْ: أَوْرَدْتُهَا، وَوَضَعْتُهَا مُتَتَابِعَةً مُتَوَالِيَةً (كَمَا سَرَدَهَا) أَيْ: رَتَّبَهَا، وَعَيَّنَهَا الْإِمَامُ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَصَابِيحِ (وَاقْتَفَيْتُ) أَيِ: اتَّبَعْتُ (أَثَرَهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: طَرِيقَهُ (فِيهَا) أَيِ: الْكُتُبِ، وَالْأَبْوَابِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَتَأْخِيرٍ، وَزِيَادَةِ عُنْوَانٍ، وَتَغْيِيرٍ ; فَإِنَّ تَرْتِيبَهُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَتَبْوِيبَهُ فِي غَايَةٍ مِنَ الِحُسْنِ، وَالْجَمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِكَمَالِ الْمُتَابَعَةِ، وَتَبْرِئَةً عَمَّا قَدْ يَرِدُ عَلَى إِيرَادِهِ بَعْضَ الْكُتُبِ، وَالْأَبْوَابِ مِنْ وُجُوهِ الْمُنَاسَبَةِ (وَقَسَمْتُ) : بِالتَّخْفِيفِ (كُلَّ بَابٍ) : وَكَذَا كُلُّ كِتَابٍ أَيْ: جَعَلْتُهُ مَقْسُومًا (غَالِبًا) أَيْ: فِي غَالِبِ الْحَالِ (عَلَى فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ) : وَقَيْدُ الْغَالِبِيَّةِ بِمَعْنَى الْأَكْثَرِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُوجَدُ الْفَصْلُ الثَّانِي، أَوِ الثَّالِثُ، أَوْ كِلَاهُمَا فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ مِنَ الْكِتَابِ. (أَوَّلُهَا) أَيْ: أَوَّلُ الْفُصُولِ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَدَلُ قَوْلِ الْبَغَوِيِّ فِي الْمَصَابِيحِ مِنَ الصِّحَاحِ (مَا أَخْرَجَهُ) أَيْ: أَوْرَدَهُ، أَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ الْأَحَادِيثِ (الشَّيْخَانِ) أَيْ: يَزْعُمُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنْ عَثَرْتَ عَلَى اخْتِلَافِ الْفَصْلَيْنِ) ، أَوِ الْمُرَادُ فِي الْغَالِبِ وَالنَّادِرِ كَالْمَعْدُومِ (أَوْ أَحَدُهُمَا) أَيْ: أَحَدُ الشَّيْخَيْنِ بِزَعْمِهِ أَيْضًا، وَهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالرَّافِعِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (وَاكْتَفَيْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ، وَأَكْتَفِي، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْمَعْلُومَ الْتِفَاتًا، وَالْمَجْهُولَ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (بِهِمَا) أَيْ: بِذِكْرِهِمَا فِي التَّخْرِيجِ (وَإِنِ اشْتَرَكَ) : وَصِيلَةٌ لَا تَطْلُبُ جَزَاءً وَلَا جَوَابًا (فِيهِ) أَيْ: فِي تَخْرِيجِهِ (الْغَيْرُ) أَيْ: غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُخْرِجِينَ كَبَقِيَّةِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَنَحْوِهَا (لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِمَا) أَيْ: عَلَى سَائِرِ الْمُخْرِجِينَ مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا (فِي الرِّوَايَةِ) : مُتَعَلِّقٌ بِالْعُلُوِّ، أَيْ: فِي شَرَائِطِ إِسْنَادِهَا، وَالْتِزَامِ صِحَّتِهَا مَا يَلْتَزِمُهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْهُمَا فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ أَخَذَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ عَنْ مَالِكٍ، وَلِذَا قَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: إِنَّ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ كَذَا، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا لِلْإِسْنَادِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ الظَّاهِرِ، وَيَحْتَمِلُ ذَمًّا بِنَاءً عَلَى التَّصَوُّفِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى عِلْمِ الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: حَدَّثَنَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ قَصْدُهُ السُّمْعَةَ، وَغَرَضُهُ الرِّيَاءَ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي شَرْطِهِمَا الَّذِي الْتَزَمَاهُ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ، وَصَاحِبُهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ شَرْطَهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاوِيَانِ فَأَكْثَرُ، ثُمَّ يَكُونَ لِلتَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ رَاوِيَانِ ثِقَتَانِ، ثُمَّ يَرْوِيهِ عَنْهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ الْمَشْهُورُ، وَلَهُ رُوَاةٌ ثِقَاتٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ، ثُمَّ يَكُونُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، أَوْ مُسْلِمٍ حَافِظًا مُتْقِنًا مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَهُ رُوَاةٌ، ثُمَّ يَتَدَاوَلُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِالْقَبُولِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ إِنِ انْتَقَضَ فِي بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَخْرَجَا لَهُمْ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَيْسَ فِي كِتَابَيْهِمَا حَدِيثٌ أَصْلًا مِنْ رِوَايَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ فَقَطْ اهـ. قِيلَ: وَالْحَاكِمُ مُوَافِقٌ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الصَّحَابَةِ فَكَأَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: عَلَى شَرْطِهِمَا، أَوْ شَرْطِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ النَّوَوِيِّ، وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَالذَّهَبِيِّ كَأَبِي الصَّلَاحِ أَنْ يَكُونَ رِجَالُ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ

بِأَعْيَانِهِمْ فِي كِتَابَيْهِمَا، أَوْ كِتَابِ أَحَدِهِمَا، وَإِلَّا قَالَ صَحِيحٌ فَحَسْبُ، وَمُخَالَفَتُهُ لِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تُحْمَلُ عَلَى الذُّهُولِ، هَذَا، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ لَوْ لَمْ يَكْتَفِ الْمُصَنِّفُ بِهِمَا، وَذَكَرَ فِي كُلٍّ حَدِيثَ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ رَوَاهُ كَانَ أَوْلَى، وَأَنْسَبَ، وَأَحْرَى، وَأَصْوَبَ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الصِّحَّةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِمَا لَكِنْ فِي التَّرْجِيحِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِمَا ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ السِّتَّةُ مَثَلًا لَا شَكَّ فِي تَرْجِيحِهِ عَلَى الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُخْرِجْهُ غَيْرُهُمَا. (وَثَانِيهَا) أَيْ: ثَانِي الْفُصُولِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْمَصَابِيحِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْحِسَانِ (مَا أَوْرَدَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ) ، وَهُمْ: أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ ; فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْمَصَابِيحِ لَا تَتَجَاوَزُ عَنْ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، وَأَكْثَرُهَا صِحَاحٌ. (وَثَالِثُهَا) : وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَصْلِ الثَّالِثِ (مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى الْبَابِ) أَيْ: عَلَى مَعْنًى عُقِدَ لَهُ الْبَابُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْكِتَابِ (مِنْ مُلْحَقَاتٍ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ لِمَا اشْتَمَلَ (مُنَاسِبَةٍ) : بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: مُشَاكِلَةٍ، وَهِيَ صِفَةُ مُلْحَقَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا زِيَادَاتٌ أَلْحَقَهَا صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ عَلَى وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ بِكُلِّ كِتَابٍ وَبَابٍ غَالِبًا لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، وَعُمُومِ الْعَائِدَةِ (مَعَ مُحَافَظَةٍ عَلَى الشَّرِيطَةِ) أَيْ: مِنْ إِضَافَةِ الْحَدِيثِ إِلَى الرَّاوِي مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى مُخْرِجِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ. وَلَمَّا كَانَ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ مُلْتَزِمًا لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي كِتَابِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَلَمْ يَلْتَزِمِ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَإِنْ كَانَ) أَيِ: الْمُشْتَمِلُ (مَأْثُورًا) أَيْ: مَنْقُولًا، وَمَرْوِيًّا (عَنِ السَّلَفِ) أَيِ: الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ (وَالْخَلَفِ) أَيِ: الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُمُ التَّابِعُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ السَّلَفِ عَلَى الْخَلَفِ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ سَهْوًا مِنْ تَقْدِيمِ الْخَلَفِ عَلَى السَّلَفِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ، وَلِتَوْجِيهِهِ تَكَلُّفٌ، وَقَالَ: الْخَلَفُ هُمْ مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ الَّتِي أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: ( «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ) ، وَقَدَّمَهُمْ مَعَ أَنَّ رُتْبَتَهُمُ التَّأْخِيرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ هَذَا الْحَدِيثُ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَهُمْ أَنْسَبُ بِالْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالْمَأْثُورِ عَنْهُمْ فَمَا عَنِ السَّلَفِ أَوْلَى اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَقْدِيمِ الْخَلَفِ عَلَى السَّلَفِ، نَعَمْ، لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَلَفِ، وَنَقَلَ فِي كِتَابِهِ عَنِ السَّلَفِ - لَكَانَ يُوَجَّهُ بِهَذَا التَّوْجِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالسَّلَفِ، وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ الْأُمَّةِ بِشَهَادَةِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْخَلَفِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا ضَعِيفَةٌ، أَوْ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَزِيَّةً مِنْ حَيْثُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَالصَّبْرُ عَلَى مُرِّ الْحَقِّ فِي زَمَنِ الْجَوْرِ الصِّرْفِ، وَالْمَفْضُولُ قَدْ تُوجَدُ فِيهِ مَزِيَّةٌ بَلْ مَزَايَا لَا تُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: أَيُّمَا أَفْضَلُ مُعَاوِيَةُ، أَوْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟ فَقَالَ: الْغُبَارُ الَّذِي دَخَلَ فِي أَنْفِ فَرَسِ مُعَاوِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرٌ مِنْ مِثْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ مَا أَرَادَ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بِعَيْنِهَا، وَهِيَ أَنَّ الْخَلَفَ قَدْ يُوجَدُ فِيهِمُ الْكَمَالَاتُ الْعِلْمِيَّةُ، وَالرِّيَاضَاتُ الْعَمَلِيَّةُ، وَالْحَقَائِقُ الْأُنْسَيَّةُ، وَالدَّقَائِقُ الْقُدُسِيَّةُ، وَحَالَاتٌ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ بِحَيْثُ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، كَأَعْرَابِيٍّ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَعْدُ ; فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلَفِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْمَشَايِخِ الْمُعْتَبَرِينَ. وَأَمَّا فَضِيلَةُ نِسْبَةِ الصُّحْبَةِ فَلَا يُنْكِرُ مُؤْمِنٌ شَرَفَهَا، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْسِيرِ فِي عِظَمِ التَّأْثِيرِ. ثُمَّ تَفْسِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى مَا شَرَحَهُ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنْ لَا يُلَائِمُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ ; فَإِنَّهُ مَا يَرْوِي فِي كِتَابِهِ إِلَّا عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَسْمَاءُ رِجَالِهِ الْمَحْصُورِينَ فِي ذِكْرِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، فَإِذَا فَسَّرَ السَّلَفَ بِهِمْ فَلَا يَبْقَى لِذِكْرِ الْخَلَفِ مَعْنًى، وَهَذَا خَلَفٌ (ثُمَّ) أَيْ: مَا ذَكَرْتُ أَنِّي الْتَزَمْتُ مُتَابَعَةَ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ فِي كُلِّ بَابٍ (إِنَّكَ) أَيْ: أَيُّهَا النَّاظِرُ فِي كِتَابِي هَذَا (إِنْ فَقَدْتَ) أَيْ: مِنْ مَحَلِّهِ (حَدِيثًا) أَيْ: مِنْ أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَصَابِيحُ (فِي بَابٍ) : مَثَلًا، أَوْ فِي كِتَابٍ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى: مَا وَجَدْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ لِئَلَّا

يَشْكُلَ بِنَقْلِهِ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ كَمَا فَعَلَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ (فَذَلِكَ) أَيِ: الْفَقْدُ، وَعَدَمُ الْوَجْدِ لَيْسَ صَادِرًا عَنْ طَعْنٍ، أَوْ سَهْوٍ بَلْ صَدَرَ (عَنْ تَكْرِيرٍ) أَيْ: عَنْ وُقُوعِ تَكْرَارٍ وَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ (أُسْقِطُهُ) أَيْ: أَحْذِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لِتَكْرِيرِهِ، وَأَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِهِ ; إِذْ لَا دَاعِي إِلَى إِتْيَانِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، وَبَيَانِهِ (وَإِنْ وَجَدْتَ آخَرَ) أَيْ: صَادَفْتَ حَدِيثًا آخَرَ (بَعْضَهُ) : بِالنَّصْبِ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ (مَتْرُوكًا) أَيْ: بَعْضَهُ حَالَ كَوْنِهِ جَارِيًا، أَوْ بِنَاءً (عَلَى اخْتِصَارِهِ) : يَعْنِي اخْتِصَارَ مُحْيِي السُّنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ: (أَتْرُكُهُ، وَأُلْحِقُهُ) ، وَيُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (أَوْ مَضْمُومًا إِلَيْهِ تَمَامُهُ) : كَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا مِيرْكَشَاهْ، وَاقْتَصَرَ الطِّيبِيُّ عَلَى الْأَوَّلِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ الثَّانِي كَمَا أَفَادَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَيَحْصُلُ تَفْكِيكُ الضَّمِيرِ، وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى: أَوْ وَجَدْتَ حَدِيثًا آخَرَ مَضْمُومًا إِلَيْهِ تَمَامُهُ الَّذِي أَسْقَطَهُ الْبَغَوِيُّ، أَوْ أَتَى بِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ (فَعَنْ دَاعِي اهْتِمَامٍ) : الْفَاءُ جَزَائِيَّةٌ أَيْ: فَذَلِكَ التَّرْكُ، وَالضَّمُّ لَمْ يَقَعِ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا صَدَرَ، وَنَشَأَ عَنْ مُوجِبِ اهْتِمَامٍ. وَقِيلَ: عَنْ بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: فَهُوَ لِأَجْلِ بَاعِثِ اهْتِمَامٍ اقْتَضَى أَنِّي (أَتْرُكُهُ) أَيْ: عَلَى اخْتِصَارِهِ فِي الْأَوَّلِ (وَأُلْحِقُهُ) : الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، أَيْ: وَأُلْحِقُهُ فِي الثَّانِي لِفَوَاتِ الدَّاعِي، وَالسَّبَبِ إِلَى اخْتِصَارِهِ، فَهُوَ نَشْرٌ مُرَتَّبٌ. قَالَ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ بِأَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ كَانَتْ مُخْتَصَرَةً عَنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ جِدًّا فَأَتْرُكُهُ اخْتِصَارًا، أَوْ كَانَ حَدِيثًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ جَمَّةٍ يَقْتَضِي كُلُّ بَابٍ مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهِ، وَأَوْرَدَ الشَّيْخُ كُلًّا فِي بَابِهِ فَاقْتَفَيْنَا أَثَرَهُ فِي الْإِيرَادِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَيْنِ الْوَضْعَيْنِ أَتْمَمْنَاهُ غَالِبًا اهـ قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: كَذَا قَرَّرَهُ الشَّارِحُ، وَحَرَّرَهُ، وَأَسْنَدَ الِاخْتِصَارَ، وَالْإِتْمَامَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُلَ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الْمُؤَلِّفِ، وَهَذَا الْأَمْرُ مِنَ الشَّارِحِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى سَمَاعِهِ مِنَ الْمُصَنِّفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّارِحِ أَنَّ هَذَا مَقْصُودُ الْمَاتِنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَإِنْ عَثَرْتَ) : بِتَثْلِيثِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْفَتْحُ أَوْلَى. أَيْ: اطَّلَعْتَ أَيُّهَا النَّاظِرُ فِي كِتَابِي هَذَا (عَلَى اخْتِلَافٍ) أَيْ: بَيْنِي، وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ (فِي الْفَصْلَيْنِ) أَيِ: الْأَوَّلَيْنِ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ قَوْلُهُ: (مِنْ ذِكْرِ غَيْرِ الشَّيْخَيْنِ) : أَيْ مِنَ الْمُخْرِجِينَ (فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ (وَذِكْرِهِمَا) أَيْ:، أَوْ مِنْ ذِكْرٍ لِلشَّيْخَيْنِ (فِي الثَّانِي) أَيْ: مِنَ الْفَصْلَيْنِ بِأَنْ يُسْنِدَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ فِيهِ إِلَيْهِمَا، أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا (فَاعْلَمْ) : جَزَاءُ الشَّرْطِ أَيْ: إِنِ اطَّلَعْتَ عَلَى مَا ذُكِرَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا صَدَرَ عَنِّي سَهْوًا، أَوْ غَفْلَةً فَلَا تَظُنَّ هَذَا، وَاعْلَمْ (أَنِّي بَعْدَ تَتَبُّعِي) أَيْ: تَفَحُّصِي، وَتَحَسُّسِي (كِتَابَيِ: الْجَمْعَ) : تَثْنِيَةُ مُضَافٍ أَيْ: كِتَابَيْنِ أَحَدُهُمَا الْجَمْعُ (بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ) أَيْ: بَيْنَ كِتَابَيِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ الْمُسَمَّيَيْنِ بِالصَّحِيحَيْنِ (لِلْحُمَيْدِيِّ) : مُتَعَلِّقٌ بِالْجَمْعِ، وَهُوَ بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَةً لِجَدِّهِ الْأَعْلَى حُمَيْدٍ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ الْأَنْدُلُسِيِّ الْقُرْطُبِيِّ، وَهُوَ إِمَامٌ عَالِمٌ كَبِيرٌ مَشْهُورٌ وَرَدَ بَغْدَادَ، وَسَمِعَ أَصْحَابَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَغَيْرَهُمْ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَأَرْبَعِمِائَةٍ، (وَجَامِعَ الْأُصُولِ) : بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْجَمْعِ، أَيْ: وَالْآخَرُ جَامِعُ الْأُصُولِ، أَيِ: الْكُتُبُ السِّتَّةُ لِلْإِمَامِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي السَّعَادَاتِ الْمُبَارَكِ بْنِ مُحَمَّدِ الْجَزَرِيِّ الشَّهِيرِ بِابْنِ الْأَثِيرِ، وَلَهُ أَيْضًا مَنَاقِبُ الْأَخْيَارِ، وَكِتَابُ النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، كَانَ عَالِمًا مُحَدِّثًا لُغَوِيًّا، وَكَانَ بِالْجَزِيرَةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَمَاتَ بِهَا عَامَ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ (اعْتَمَدْتُ عَلَى صَحِيحَيِ الشَّيْخَيْنِ، وَمَتْنَيْهِمَا) : عَطْفُ بَيَانٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ تَتَبُّعَهُ وَاسْتِقْرَاءَهُ غَيْرُ تَامٍّ، فَإِذَا وَافَقَ الْحُمَيْدِيَّ، وَصَاحِبَ الْأُصُولِ يَصِيرُ الظَّنُّ قَوِيًّا بِصِحَّةِ اسْتِقْرَائِهِ لِلْمُوَافَقَةِ، وَلَوِ اكْتَفَى بِتَتَبُّعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ لَاحْتُمِلَ وُقُوعُ الْقُصُورِ فِي اسْتِقْرَائِهِمَا فَبَعْدَ اتِّفَاقٍ

الْأَرْبَعَةِ يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالْجَزْمِ عَلَى سَهْوِ الْبَغَوِيِّ. (وَإِنْ رَأَيْتَ) أَيْ: أَبْصَرْتَ، أَوْ عَرَفْتَ أَيُّهَا النَّاظِرُ فِي الْمِشْكَاةِ، وَأَصْلِهَا مَعَ أُصُولِهِمَا (اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ) أَيْ: فِي مَتْنِهِ لَا إِسْنَادِهِ بِأَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الْمِشْكَاةِ مُخَالِفًا لِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ (فَذَلِكَ) أَيِ: الِاخْتِلَافُ نَاشِئٌ (مِنْ تَشَعُّبِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ) أَيْ: مِنَ اخْتِلَافِ أَسَانِيدِهَا، وَرُوَاتِهَا حَتَّى عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ الْوَاحِدِ إِذْ كَثِيرًا مَا يَقَعُ لِلشَّيْخَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوْ لِغَيْرِهِمَا سَوْقُ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَبَايِنَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي تَارَةً، وَمُؤْتَلَفَتِهَا أُخْرَى (وَلَعَلِّي) : لِلْإِشْفَاقِ، أَيْ: إِذَا وَجَدْتَنِي آثَرْتُ لَفْظَ حَدِيثٍ عَلَى الَّذِي رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَصَابِيحِ لَعَلِّي (مَا اطَّلَعْتُ) أَيْ: مَا وَقَفْتُ (عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ الَّتِي سَلَكَهَا الشَّيْخُ) أَيْ: أَطْلَقَهَا، وَأَوْرَدَهَا فِي مَصَابِيحِهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : إِذْ هُوَ إِمَامٌ كَبِيرٌ، وَاطِّلَاعُهُ كَثِيرٌ، فَأَحْذِفُهَا، وَآتِي بِاللَّفْظِ الَّذِي اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ (وَقَلِيلًا مَا تَجِدُ) : زِيَادَةُ مَا لِتَأْكِيدِ الْقِلَّةِ، وَنَصَبَ قَلِيلًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِقَوْلِهِ: (أَقُولُ) أَيْ: وَتَجِدُنِي أَقُولُ قَوْلًا قَلِيلًا مَا أَيْ: فِي غَايَةٍ مِنَ الْقِلَّةِ، وَالْمَقُولُ قَوْلُهُ: (مَا وَجَدْتُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ) أَيْ: مَثَلًا (فِي كُتُبِ الْأُصُولِ) أَيْ: أُصُولِ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ السَّبْعَةِ عِنْدَ الشَّيْخِ، أَوْ مُطْلَقِ الْأُصُولِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُنْصَبَ قَلِيلًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (أَوْ وَجَدْتَ) : مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ (خِلَافَهَا فِيهَا) أَيْ: خِلَافَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الْأُصُولِ (فَإِذَا وَقَفْتَ عَلَيْهِ) : الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: (أَقُولُ) أَيْ: إِذَا اطَّلَعْتَ عَلَى قَوْلِي بِمَعْنَى مَقُولِيْ (هَذَا فَانْسُبْ) : بِضَمِّ السِّينِ أَيْ: مَعَ هَذَا (الْقُصُورَ) أَيِ: التَّقْصِيرَ فِي التَّتَبُّعِ (إِلَيَّ لِقِلَّةِ الدِّرَايَةِ) أَيْ: دِرَايَتِي، وَتَتَبَّعْ رِوَايَتِي (لَا) أَيْ: لَا تَنْسُبِ الْقُصُورَ (إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ) أَيْ: إِلَى جَانِبِهِ، وَسَاحَةِ بَابِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الْكَامِلِينَ الرَّاسِخِينَ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: (فَإِذَا وَقَفْتَ) أَيْ: فَإِذَا حَذَفْتُ لَفْظًا وَأَتَيْتُ بِغَيْرِهِ حَسْبَمَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، وَوَقَفْتَ أَنْتَ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي الْأُصُولِ فَانْسُبْ إِلَيَّ آخِرَهُ. وَأَنَا أَقُولُ أَيْضًا فَانْسُبِ الْقُصُورَ إِلَيَّ لَا إِلَى الشَّيْخِ (رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ) : جُمْلَةٌ دِعَائِيَّةٌ (فِي الدَّارَيْنِ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا بِإِلْهَامِ النَّاسِ التَّرَضِّي، وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ، وَفِي الْعُقْبَى بِإِعْطَائِهِ مَعَالِمَ الْقُرْبِ لَدَيْهِ (حَاشَا) : بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ (لِلَّهِ) أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ (مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِنْ نِسْبَةِ الْقُصُورِ إِلَى الشَّيْخِ، وَهَذَا غَايَةٌ مِنَ الْمُؤَلِّفِ فِي تَعْظِيمِهِ، وَنِهَايَةُ أَدَبٍ مِنْهُ فِي تَكْرِيمِهِ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِذَلِكَ، وَزِيَادَةٌ، فَإِنَّ لَهُ حَقَّ الْإِفَادَةِ، وَنِسْبَةَ السِّيَادَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَاشَا: حَرْفُ جَرٍّ وُضِعَتْ مَوْضِعَ التَّنْزِيهِ وَالْبَرَاءَةِ، وَفِي مُغْنِي اللَّبِيبِ: الصَّحِيحُ أَنَّ حَاشَا اسْمٌ مُرَادِفٌ لِلتَّنْزِيهِ مِنْ كَذَا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهُ التَّبَرِّي، وَالْبَرَاءَةُ. وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ تَنْزِيهٌ، وَاسْتِثْنَاءٌ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: مَعَاذَ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِعْلٌ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. قِيلَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ مُرَادِفٌ لِلتَّنْزِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قُرِئَ حَاشَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ بِالتَّنْوِينِ، وَهُوَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، وَقُرِئَ أَيْضًا حَاشَ اللَّهِ بِالْإِضَافَةِ، وَهِيَ مِنْ عَلَامَاتِ الِاسْمِ، وَحِينَئِذٍ لَهُ: (لِلَّهِ) لِبَيَانِ الْمُنَزَّهِ، وَالْمُبَرَّأِ كَأَنَّهُ قَالَ: بَرَاءَةٌ وَتَنْزِيهٌ. ثُمَّ قَالَ: لِلَّهِ بَيَانًا لِلْمُبَرَّأِ وَالْمُنَزَّهِ، فَلَامُهُ كَاللَّامِ فِي سُقْيًا لَكَ، فَعَلَى هَذَا يُقَالُ: مَعْنَى عِبَارَةِ الْمِشْكَاةِ: إِنَّ الشَّيْخَ مُبَرَّأٌ، وَمُنَزَّهٌ عَنْ قِلَّةِ الدِّرَايَةِ، ثُمَّ أَتَى لِبَيَانِ الْمُنَزَّهِ، وَالْمُبَرَّأِ، وَلَهُ: (لِلَّهِ) ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ بِلَا لَامٍ، وَكَأَنَّهَا لِإِفَادَةِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: تَنْزِيهُهُ مُخْتَصٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَهُ أَنْ يُنَزِّهَهُ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ غَايَةُ التَّعْظِيمِ لِمَا هُنَالِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَأَقُولُ فِي حَقِّهِ:

التَّنْزِيهُ لِلَّهِ لَا لِأَمْرٍ آخَرَ. وَقِيلَ: حَاشَا فِعْلٌ، وَفَسَّرَ الْآيَةَ بِأَنَّ مَعْنَاهَا جَانَبَ يُوسُفُ الْفَاحِشَةَ لِأَجْلِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا يُرْجِعُ عَبَّارَةَ الْمِشْكَاةِ بِأَنَّهُ: جَانَبَ الشَّيْخُ ذَلِكَ الْقُصُورَ لِأَجْلِ اللَّهِ، لَا لِغَرَضٍ آخَرَ، أَوْ قَوْلُنَا فِي حَقِّهِ: حَاشَا إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ لَا لِأَمْرٍ آخَرَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أُنَزِّهُ، أَوْ تَبَرَّأَتْ، وَاللَّامُ عِلَّةٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ حَرْفٌ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ كَوْنَهُ حَرْفًا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ هُنَا، وَلَامُ لِلَّهِ أَيْضًا يَأْبَى عَنِ الْحَرْفِيَّةِ ; لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْحَرْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَحِمَ اللَّهُ) : جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ، كَقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا أَهْدَى إِلَيَّ بِعُيُوبِ نَفْسِي، أَيِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ (مَنْ إِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الشَّيْخُ، وَلَمْ أَجِدْهَا فِي الْأُصُولِ - (نَبَّهَنَا عَلَيْهِ وَأَرْشَدَنَا) : فِيهِ تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى: هَدَانَا (طَرِيقَ الصَّوَابِ) أَيْ: إِلَيْهِ بِنِسْبَةِ الرِّوَايَةِ، وَتَصْحِيحِهَا إِلَى الْبَابِ وَالْكِتَابِ، وَهُوَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِالْمُشَافَهَةِ حَالَ الْحَيَاةِ، أَوْ عَلَى الْمَجَازِ بِكِتَابَةِ حَاشِيَةٍ، أَوْ شَرْحٍ بَعْدَ الْمَمَاتِ ; إِذِ التَّصْنِيفُ لَا يُغَيَّرُ، وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ كِتَابٌ يُعْتَبَرُ (وَلَمْ آلُ) : بِمَدِّ الْهَمْزَةِ، وَضَمِّ اللَّامِ مِنْ: أَلَا فِي الْأَمْرِ إِذَا قَصَّرَ، أَيْ: لَمْ أَتْرُكْ (جُهْدًا) أَيْ: سَعْيًا وَاجْتِهَادًا، وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهِ، أَيِ: الْمَشَقَّةُ وَالطَّاقَةُ، وَقِيلَ: بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: مَعْنَاهُ لَمْ أَمْنَعْكَ جُهْدًا، وَكَأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَيْهِ مَا وُجِدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: لَا آلُوكَ نُصْحًا، وَقَرَّرَ تَرْكِيبَ الْعِبَارَةِ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، وَاسْتَعْمَلَ آلُو بِمَعْنَى أَمْنَعُ إِمَّا تَجَوُّزًا، وَإِمَّا تَضْمِينًا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّقْصِيرُ. وَالْحَالُ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى اللُّزُومِ صَحِيحٌ بِأَنَّ جُهْدًا يَكُونُ تَمْيِيزًا، أَوْ حَالًا بِمَعْنَى مُجْتَهِدًا، أَوْ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: فِي الِاجْتِهَادِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَضْمَنَ التَّرْكَ ; فَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] أَيْ: لَا يُقَصِّرُونَ لَكُمْ فِي الْفَسَادِ، وَالْأَلْوُ: التَّقْصِيرُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْحَرْفِ، ثُمَّ عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: لَا آلُوكَ نُصْحًا، عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى الْمَنْعِ وَالنَّقْصِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَأْلُو يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَخَبَالًا تَمْيِيزٌ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْأَظْهَرُ مَا حَقَّقَهُ الْقَاضِي أَنَّهُ فِي أَصْلِهِ لَازِمٌ، فَفِي عِبَارَةِ الْمِشْكَاةِ إِمَّا يُضَمَّنُ مَعْنَى التَّرْكِ فَيَكُونُ جُهْدًا مَفْعُولًا بِهِ، أَوْ يَبْقَى عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، وَيُنْصَبُ (جُهْدًا) عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْمَعْنَى: لَمْ أُقَصِّرْ لَكُمْ، أَوْ لِلَّهِ (فِي التَّنْقِيرِ) أَيْ: فِي الْبَحْثِ، وَالتَّجَسُّسِ عَنْ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ، وَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا (وَالتَّفْتِيشِ) : عَطْفُ بَيَانٍ لِمَا قَبْلَهُ (بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ) أَيْ: بِمِقْدَارِ وُسْعِي وَطَاقَتِي فِي التَّفَحُّصِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَالطَّاقَةُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَإِيرَادُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ فِي الدِّيبَاجَاتِ وَالْخُطَبِ مُتَعَارَفٌ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ، غَيْرُ مُعَايَبٍ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ (وَنَقَلْتُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ) أَيِ: الْمُخْتَلِفَ فِيهِ (كَمَا وَجَدْتُ) أَيْ: كَمَا رَأَيْتُهُ (فِي الْأُصُولِ) : وَلَا اكْتَفَيْتُ بِتَقْلِيدِ الشَّيْخِ، وَلَوْ كَانَ هُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ أَرْبَابِ النُّقُولِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: وَمِنْ ثَمَّةَ نَقَلْتُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ كَمَا وَجَدْتُهُ فِي الْأُصُولِ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَتَصَرَّفَ فِيهِ بِتَغْيِيرٍ، أَوْ بِتَبْدِيلٍ حَتَّى أَنْسُبَ كُلًّا إِلَى مُخْرِجِهِ بِاللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى لَا الْمَعْنَى فَحَسْبُ ; لِوُقُوعِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي جَوَازِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ وَإِنْ جَازَ - عَلَى الْأَصَحِّ لِلْعَارِفِ بِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا - لَكِنَّ التَّنَزُّهَ عَنْهَا أَوْلَى خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ اهـ. فَتَدَبَّرْ يَتَبَيَّنْ لَكَ الْأَظْهَرُ فِي حَمْلِ الْعَبَّارَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْكَلَامِ مِنْهُ لَا مُنَاقَشَةَ لَنَا لَدَيْهِ مَعَ أَنَّ التَّحْرِيزَ الْمَذْكُورَ، وَالِاخْتِلَافَ الْمَسْطُورَ إِنَّمَا هُوَ فِي نَقْلِ الرَّاوِي الْحَدِيثَ مِنْ شَيْخِهِ إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ نَاسِيًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَمَّا نَقْلُ حَدِيثٍ مِنْ كِتَابٍ كَالْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ نَقَلَ بِالْمَعْنَى فَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ) أَيِ: الشَّيْخُ مُحْيِي السُّنَّةِ صَرِيحًا، أَوْ كِنَايَةً - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) -: جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبَيِّنِ، وَالْمُبَيَّنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (مِنْ غَرِيبٍ) أَيْ: حَدِيثٍ غَرِيبٍ: وَهُوَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ الرَّاوِي عَنْ سَائِرِ رُوَاتِهِ، وَلَمْ يُشْرِكْ مَعَهُ

أَحَدًا فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الرَّاوِي عَنْهُ (أَوْ ضَعِيفٍ) : وَهُوَ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِ صِفَاتُ الصَّحِيحِ، وَالْحَسَنِ بِأَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ رُوَاتِهِ قَدْحٌ، أَوْ تُهْمَةٌ (أَوْ غَيْرُهُمَا) : اعْتِبَارًا لَا حَقِيقَةً، إِذْ مَا عَدَا الصَّحِيحَ وَالْحَسَنَ دَاخِلٌ تَحْتَ أَنْوَاعِ الضَّعِيفِ. وَالْمُرَادُ بِغَيْرِهِمَا نَحْوُ مُنْكَرٍ: وَهُوَ مَا رَدُّهُ قَطْعِيٌّ، أَوْ رَوَاهُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِثِقَةٍ، أَوْ شَاذٌّ: وَهُوَ مَا خَالَفَ الثِّقَةُ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُ، أَوْ مُعَلَّلٌ: وَهُوَ مَا فِيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ قَادِحَةٌ لَمْ يُدْرِكْهَا إِلَّا الْحُذَّاقُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ، وَبَيَانَ حُدُودِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ قُيُودِهَا يَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ فِي الْكَلَامِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ إِيرَادِهَا، وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ مَا يَسْتَفِيدُ بِذِكْرِهِ الْمُبْتَدِئُ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْ تَذَكُّرِهِ الْمُنْتَهِي (بَيَّنْتُ وَجْهَهُ) أَيْ: وَجْهَ غَرَابَتِهِ، أَوْ ضَعْفِهِ، أَوْ نَكَارَتِهِ (غَالِبًا) أَيْ: فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَلَعَلَّ تَرْكَ التَّبْيِينِ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ، أَوْ لِغَيْرِ هَذَا، وَقَدْ قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ أَحَادِيثَ الْحِسَانِ مِنَ الْمَصَابِيحِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْمِشْكَاةِ بِالْفَصْلِ الثَّانِي كُلُّ حَدِيثٍ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِيهِ أَنَّهُ غَرِيبٌ، أَوْ ضَعِيفٌ، أَوْ مُنْكَرٌ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ وَجْهَهُ بِأَنْ يَقُولَ - أَيِ: الرَّاوِي -: تَفَرَّدَ بِهِ، أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ، أَوْ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ أَوْثَقُ، وَنَحْوُهُ بِذِكْرِ مَنْشَئِهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ ذَكَرَ مُحْيِي السُّنَّةِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، أَوْ غَرِيبٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ قَائِلَهُ الَّذِي هُوَ التِّرْمِذِيُّ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَرْبَابِ الْأُصُولِ، وَعَيَّنَهُ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ يُشِيرُ التِّرْمِذِيُّ أَحْيَانًا إِلَى وَجْهِ الْغَرَابَةِ، وَبَيَانِ الضَّعْفِ، وَهَذَا الصَّنِيعُ مِنَ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مُحْيِي السُّنَّةِ أَهْلًا لِلْحُكْمِ بِالضَّعْفِ، وَالصِّحَّةِ فِي الْحَدِيثِ ; فَلَا جَرَمَ نَسَبْتُهُ إِلَى مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ انْتَهَى. فَيَكُونُ الْمَعْنَى: بَيَّنْتُ وَجْهَهُ بِنِسْبَةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِمْ فِيهِ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَقْوِيَةً لِلشَّيْخِ لَا سَلْبَ الْأَهْلِيَّةِ عَنْهُ، فَالْعِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ وَاحِدٍ، بَلْ فِي هَذَا هَضْمٌ لِنَفْسِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ (وَمَا لَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ) أَيِ: الشَّيْخُ (مِمَّا فِي الْأُصُولِ) أَيْ: مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُنْقَطِعِ، وَالْمَوْقُوفِ، وَالْمُرْسَلِ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقَيِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ (فَقَدْ قَفَّيْتُهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: تَبِعْتُهُ تَأَسِّيًا بِهِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي هَامِشِ الْكِتَابِ قَفَوْتُهُ بِالْوَاوِ، وَرَقَّمَ عَلَيْهِ (ظ) إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ. وَكَتَبَ عَمُّهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ أَنَّ أَصْلَ سَمَاعِنَا، وَجَمِيعَ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ الْحَاضِرَةِ صُحِّحَتْ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ. مِنَ التَّقْفِيَةِ، وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِعَلَى وَالْبَاءِ، وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46] وَتُسْتَعْمَلُ أَيْضًا بِمِنْ، وَالْبَاءِ قَالَ تَعَالَى: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة: 87] وَالْمَعْنَى هَاهُنَا عَلَى التَّتَبُّعِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ، وَبِالْوَاوِ مِنَ الْقَفْوِ انْتَهَى. وَحَاصِلُ الْمُنَاقَشَةِ أَنَّهُ بِالتَّشْدِيدِ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِأَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَبِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاءِ غَيْرُ وَارِدٍ، وَكِلَاهُمَا مَدْفُوعٌ ; فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ قَفَّيْتُهُ، وَأَقْفَيْتُهُ تَبِعْتُهُ، وَاقْتَدَيْتُ بِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ: قَفَوْتُهُ تَبِعْتُهُ كَتَقْفِيَتِهِ، وَاقْتَفَيْتُهُ: وَقَفَّيْتُهُ زَيْدًا أَيْ: أَتْبَعْتُهُ إِيَّاهُ اهـ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّ قَفَّى بِالتَّشْدِيدِ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى وَاحِدٍ، وَبِالْبَاءِ إِلَى اثْنَيْنِ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة: 87] أَيْ: أَرْسَلْنَا عَلَى أَثَرِهِ الرُّسُلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] يُقَالُ: قَفَاهُ إِذَا أَتْبَعَهُ، وَقَفَّاهُ بِهِ أَتْبَعَهُ إِيَّاهُ مِنَ الْقَفَا نَحْوَ ذَنَبِهِ مِنَ الذَّنَبِ انْتَهَى. وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَتْبَعْتُ نَفْسِي إِيَّاهُ (فِي تَرْكِهِ) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَوْ مَفْعُولِهِ، أَيْ: فِي تَرْكِ الشَّيْخِ الْحُكْمَ عَلَى الْحَدِيثِ بِشَيْءٍ، أَوْ فِي تَرْكِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمُوَافَقَةِ مَعَهُ فِي السُّكُوتِ عَلَيْهِ (إِلَّا فِي مَوَاضِعَ) أَيْ: قَلِيلَةٌ أُبَيِّنُهَا (لِغَرَضٍ) : قَالَ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الطَّاعِنِينَ أَفْرَزُوا أَحَادِيثَ مِنَ الْمَصَابِيحِ، وَنَسَبُوهَا إِلَى الْوَضْعِ، وَوَجَدْتُ التِّرْمِذِيَّ صَحَّحَهَا، أَوْ حَسَّنَهَا، وَغَيْرَ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا ; فَبَيَّنْتُهُ لِرَفْعِ التُّهْمَةِ

كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» ) فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِوَضْعِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: إِنَّهُ حَسَنٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرِّيَاضِ: إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَمِنَ الْغَرَضِ أَنَّ الشَّيْخَ شَرَطَ فِي الْخُطْبَةِ أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ أَتَى فِي كِتَابِهِ بِكَثِيرٍ مِنْهُ، وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا كَوْنَهُ مُنْكَرًا، وَتَرَكَ فِي بَعْضِهَا ; فَبَيَّنْتُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ اهـ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَالْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْمُجْمَعِ عَلَى نَكَارَتِهِ، وَالَّذِي أَوْرَدَهُ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَصَرَّحَ بِإِنْكَارِهِ الْبَعْضُ لِئَلَّا يُحْمَلَ عَلَى ذُهُولِهِ، وَأَعْرَضَ عَنْ بَيَانِ الْبَعْضِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ بِنَكَارَتِهِ كَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ عِنْدَهُ (وَرُبَّمَا) : بِالتَّشْدِيدِ أَشْهَرُ، وَلِلتَّقْلِيلِ أَظْهَرُ، وَمَا كَافَّةٌ (تَجِدُ) أَيْ: أَيُّهَا النَّاظِرُ فِي الْمِشْكَاةِ (مَوَاضِعَ مُهْمَلَةً) أَيْ: غَيْرَ مُبَيَّنٍ فِيهَا ذِكْرُ مُخْرِجِيهَا (وَذَلِكَ) أَيِ: الْإِهْمَالُ، وَعَدَمُ التَّبْيِينِ (حَيْثُ لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى رَاوِيهِ) أَيْ: مُخْرِجِهِ (فَتَرَكْتُ الْبَيَاضَ) أَيْ: عَقِبَ الْحَدِيثِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ (فَإِنْ عَثَرْتَ عَلَيْهِ) أَيِ: اطَّلَعْتَ أَيُّهَا النَّاظِرُ عَلَى مُخْرِجِهِ (فَأَلْحِقْهُ) أَيْ: ذِكْرَ الْمُخْرِجِ (بِهِ) أَيْ: بِذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَاكْتُبْهُ فِي مَوْضِعِ الْبَيَاضِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَلْحِقْهُ بِذَلِكَ الْبَيَاضِ، وَفِيهِ مُسَامَحَةٌ لَا تَخْفَى (أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَكَ) أَيْ: عَلَى هَذَا الْعَمَلِ، وَالْجَزَاءُ مَمْدُودٌ بِمَعْنَى الثَّوَابِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُسَامَةَ «مَرْفُوعًا مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ. هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمَوَاضِعَ الْمُهْمَلَةَ فِي حَاشِيَةِ الْكِتَابِ تَكْمِلَةً، وَتَرْكُ الْبَيَاضِ فِي أَصْلِ الْمُصَنِّفِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّبْيِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُؤَلِّفِ (وَسَمَّيْتُ الْكِتَابَ بِمِشْكَاةِ الْمَصَابِيحِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: رُوعِيَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الِاسْمِ، وَالْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمِشْكَاةَ يَجْتَمِعُ فِيهَا الضَّوْءُ فَيَكُونُ أَشَدَّ تَقَوِّيًا بِخِلَافِ الْمَكَانِ الْوَاسِعِ، وَالْأَحَادِيثُ إِذَا كَانَتْ غَفْلًا عَنْ سِمَةِ الرُّوَاةِ انْتَشَرَتْ، وَإِذَا قُيِّدَتْ بِالرَّاوِي انْضَبَطَتْ، وَاسْتَقَرَّتْ فِي مَكَانِهَا اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: الْأَظْهَرُ فِي وَجْهِ الْمُطَابَقَةِ أَنَّ كِتَابَهُ مُحِيطٌ، وَمُشْتَمِلٌ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَمَا أَنَّ الْمِشْكَاةَ مُحِيطَةٌ، وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْمِصْبَاحِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ بِالْمَصَابِيحِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي كِتَابِهِ مِمَّا فِي الْمَصَابِيحِ، وَغَيْرِهِ مُشَبَّهًا بِهَا لِأَنَّهَا آيَاتٌ نُورَانِيَّةٌ، وَدَلَالَاتٌ بُرْهَانِيَّةٌ صَدَرَتْ مِنْ مِشْكَاةِ صَدْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَقْتَدِيَ بِهَا أُمَّتُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ فِي بَيْدَاءِ الضَّلَالَةِ، وَصَحْرَاءِ الْجَهَالَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَرَدَ: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ) ، وَشَبَّهَ كِتَابَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَامِعٌ لَهَا، وَمَانِعٌ مِنْ تَفَرُّقِهَا بِالْمِشْكَاةِ، وَهِيَ الْكُوَّةُ الْغَيْرُ النَّافِذَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مَعْنَى التَّوْرِيَةِ: وَهِيَ أَنْ يُؤْتَى بِكَلِمَةٍ لَهَا مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ، وَالْآخَرُ بِعِيدٌ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ الْبَعِيدَ. (وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ) أَيْ: جَعْلَ أُمُورِ الْمُرِيدِ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ، وَهُوَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ خَلْقُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي الطَّاعَةِ، وَالْعِبَادَةِ (وَالْإِعَانَةَ) أَيْ: فِي الدِّينِ، وَالدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، أَوْ عَلَى مَا قَصَدْتُ (وَالْهِدَايَةَ) أَيِ: الدِّلَالَةَ عَلَى مَا أَرَدْتُ، أَوْ ثَبَاتَ الْهِدَايَةِ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ (وَالصِّيَانَةَ) أَيِ: الْحِفْظَ، وَالْحِمَايَةَ مِنَ الْعَقَائِدِ الدَّنِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ الرَّدِيَّةِ، أَوِ الْعِصْمَةِ عَنِ الْخَطَلِ، وَالزَّلَلِ، أَوْ عَمَّا يَمْنَعُ إِتْمَامَ الْكِتَابِ مِنَ الْمَوَانِعِ، وَالْعِلَلِ (وَتَيْسِيرَ مَا أَقْصِدُهُ) : بِكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: تَسْهِيلَ مَا أُرِيدُهُ مِنَ التَّحْرِيرِ، وَالتَّفْتِيشِ، وَالتَّنْقِيرِ (وَأَنْ يَنْفَعَنِي) أَيْ: اللَّهُ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَغَيْرِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهِ، أَيْ: عِلْمًا، وَعَمَلًا، وَتَعْلِيمًا، وَجَوَّزَ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ يَنْفَعُ إِلَى الْكِتَابِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ (فِي الْحَيَاةِ) أَيْ: بِالْمُبَاشَرَةِ (وَبَعْدَ الْمَمَاتِ) : بِالسَّبَبِيَّةِ، أَوْ فِي الْحَيَاةِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ، وَبَاعِثًا لِلتَّرَقِّي إِلَى عُلُوِّ الْأَحْوَالِ، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ بِوُصُولِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَحُصُولِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ (وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمَاتِ) : عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَنْفَعُنِي أَيْ: وَأَنْ يَنْفَعَ بِقِرَاءَتِهِ، وَكِتَابَتِهِ، وَوَقْفِهِ، وَنَقْلِهِ إِلَى الْبُلْدَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (حَسْبِيَ اللَّهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ أَيْ: اللَّهُ كَانَ فِي جَمِيعِ أُمُورِي (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أَيْ: الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ، يَعْنِي هُوَ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ هُوَ. (وَلَا حَوْلَ) أَيْ: عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ (وَلَا قُوَّةَ) أَيْ: عَلَى طَاعَتِهِ (إِلَّا بِاللَّهِ) أَيْ: بِعِصْمَتِهِ، وَمَعُونَتِهِ (الْعَزِيزِ) أَيِ: الْغَالِبِ عَلَى مَا يُرِيدُ، أَوِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الْحَكِيمِ) أَيْ: صَاحِبِ الْحِكَمِ، وَالْحِكْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِتْقَانِ

وَالْإِحْكَامِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا الْوَارِدَانِ فِي خَتْمِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ دُونَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ خَتْمِهَا بِالْعَلِيِّ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ لِلْحَافِظِ الْجَزَرِيِّ رِوَايَةً خَتَمَهَا بِالْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَلَعَلَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى اهـ. اعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عَلَى مَا فِي مُسْلِمٍ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ، وَكَذَا هُوَ فِي أَصْلِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ، وَكَتَبَ عَلَى حَاشِيَتِهِ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ، وَنَسَبَهَا إِلَى الْبَزَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا كَانَ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُصَنِّفٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَبْدَأَ كِتَابَهُ بِالْحَدِيثِ الْآتِي الْمُسَمَّى بِطَلِيعَةِ كُتُبِ الْحَدِيثِ. تَنْبِيهًا عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ، وَالْإِخْلَاصِ لِكُلٍّ مِنَ الْعَالِمِ، وَالْمُتَعَلِّمِ، وَأَنَّهُ الْأَسَاسُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ مِنَ الْعَقَائِدِ، وَالْأَعْمَالِ، وَعَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ قَصْدُ الْمَقْصِدِ بِالنَّظَرِ الْمُوَصَّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الصَّمَدِ، فَالْقَصْدُ سَابِقٌ، وَمَا بَقِيَ لَاحِقٌ، وَإِنْ طَالَبَ الْحَدِيثُ حُكْمَ الْمُهَاجِرِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَ الْإِخْلَاصَ لِيَصِلَ إِلَى مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ، بَدَأَ بِهِ الْمُصَنِّفُ اقْتِدَاءً بِالْبَغَوِيِّ لَا تَبَعًا لِلْبُخَارِيِّ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ:

[حديث إنما الأعمال بالنيات]

[حديث إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ] 1 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) : وَهُوَ النَّاطِقُ بِالصَّوَابِ، الْمُسَمَّى بِالْفَارُوقِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا بَيْنَ الْأَصْحَابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : وَهُوَ. عَدَوِيٌّ قُرَشِيٌّ يَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، كَنَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي حَفْصٍ، وَهُوَ لُغَةً: الْأَسَدُ، وَلَقَّبَهُ بِالْفَارُوقِ لِفُرْقَانِهِ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ. قَالَ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنْ مُنَافِقًا خَاصَمَ يَهُودِيًّا فَدَعَاهُ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَدَعَاهُ الْمُنَافِقُ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا احْتَكَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَكَمَ لِلْيَهُودِيِّ، فَلَمْ يَرْضَ الْمُنَافِقُ، وَقَالَ: نَتَحَاكَمُ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ لِعُمَرَ: قَضَى لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ، وَخَاصَمَ إِلَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُنَافِقِ: أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: مَكَانَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا فَدَخَلَ فَأَخَذَ سَيْفَهُ، ثُمَّ خَرَجَ فَضَرَبَ بِهِ عُنُقَ الْمُنَافِقِ حَتَّى بَرَدَ، وَقَالَ: هَكَذَا أَقْضِي لِمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ» فَسُمِّيَ: الْفَارُوقَ. وَقِيلَ بِإِسْلَامِهِ، إِذْ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْخَفَاءِ، وَبَعْدَهُ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ، وَالْجَلَاءِ، أَسْلَمَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَعَشَرَةٍ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَسِتُّ نِسْوَةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ ; فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] . بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ الصِّدِّيقِ بِعَهْدِهِ إِلَيْهِ، وَنَصِّهِ عَلَيْهِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَفَتَحَ الْبِلَادَ الْكَثِيرَةَ، وَالْفُتُوحَ الشَّهِيرَةَ، وَاسْتُشْهِدَ عَلَى يَدِ نَصْرَانِيٍّ اسْمُهُ أَبُو لُؤْلُؤَةٍ غُلَامُ مُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ بِالْمَدِينَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَامَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَبَاقِي الْعَشَرَةِ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، أَحَادِيثُهُ الْمَرْفُوعَةُ خَمْسُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ انْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا بِأَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَمُسْلِمٌ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ، نَقْشُ خَاتَمِهِ: كَفَى بِالْمَوْتِ

شَدِيدًا فِي أَمْرِ اللَّهِ، عَاقِلًا مُجْتَهِدًا صَابِرًا مُحْتَسِبًا، جُعِلَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِهِ، وَأُعِزَّ الدِّينُ بِهِ، وَاسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِهِ، وَلَهُ فَضَائِلُ لَا تُحَدُّ، وَشَمَائِلُ لَا تُعَدُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (1) [ ( «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) ] قِيلَ: كَلِمَةُ: (إِنَّمَا) بَسِيطَةٌ. وَقِيلَ: مُرَكَّبَةٌ مِنْ: أَنَّ، وَمَا الْكَافَّةِ، أَوِ الزَّائِدَةِ لِلتَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَنَّ، وَمَا النَّافِيَةِ فَهِيَ عَامِلَةٌ بِرُكْنَيْهَا إِيجَابًا، وَنَفْيًا فَبِحَرْفِ التَّحْقِيقِ يَثْبُتُ الشَّيْءُ، وَبِحَرْفِ النَّفْيِ يُنْفَى مَا عَدَاهُ، وَمَا اعْتَرَاضٌ عَلَيْهِ مِنْ لُزُومِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ: أَنَّ، وَمَا كِلَاهُمَا يَقْتَضِي الصَّدَارَةَ - مَدْفُوعٌ بِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ قَبْلَ التَّرْكِيبِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَقَدْ صَارَ عَلَمًا مُفْرَدًا عَلَى إِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَتَضَاعِيفُهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا تَأْكِيدًا لِلْحُكْمِ عَلَى تَأْكِيدٍ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْأُصُولِ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنْ أَكْثَرِ النُّحَاةِ لِصِحَّةِ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ فِي جَوَابِ هَلْ قَامَ عَمْرٌو؟ كَمَا يُجَابُ بِـ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، وَلِوُرُودِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12] وَ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99] وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ فَتُثْبِتُ الْمَذْكُورَ، وَتَنْفِي الْحُكْمَ عَنْ غَيْرِهِ فِي نَحْوِ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ أَيْ: لَا عَمْرٌو، أَوْ غَيْرُ الْحُكْمِ عَنِ الْمَذْكُورِ فِي نَحْوِ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ أَيْ: لَا قَاعِدٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ: ( «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ) فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الْآخِذِينَ بِقَضَيَّتِهِ لَمْ يُعَارِضْهُمْ جُمْهُورُهُمُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ بِأَنَّ إِنَّمَا لَا تُفِيدُهُ، وَإِنَّمَا عَارَضُوهُمْ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى كَحَدِيثِ: ( «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلِ» "، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ - لِمَا تَفَرَّدَ بِهِ قِيلَ: وَرَجَعَ عَنْهُ لَمَّا اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَلَيْهِ - بِخَبَرِ: ( «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ) ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ الصَّحَابَةُ فِيهِ، بَلْ عَارَضُوهُ فِي الْحُكْمِ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، فَدَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ فَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْأَعْمَالَ تُعْتَبَرُ إِذَا كَانَتْ بِنِيَّةٍ، وَلَا تُعْتَبَرُ إِذَا كَانَتْ بِلَا نِيَّةٍ ; فَتَصِيرُ إِنَّمَا بِمَعْنَى مَا وَإِلَّا. وَقِيلَ: الْحَصْرُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ ; فَإِنَّهُ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَصْرِ، فَالْمَعْنَى لَيْسَتِ الْأَعْمَالُ حَاصِلَةً بِالنِّيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ هُنَا نَفْيُ نَفْسِ الْأَعْمَالِ لِثُبُوتِهَا حِسًّا، وَصُورَةً مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ شَيْءٍ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ النَّفْيُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ. فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ صَحِيحَةٌ، أَوْ تَصِحُّ كَمَا هُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيِّ، وَأَتْبَاعِهِ. وَقِيلَ: كَامِلَةٌ، أَوْ تَكْمُلُ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُقَدَّرَ: مُعْتَبَرَةٌ، أَوْ تُعْتَبَرُ ; لِيَشْمَلَ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ عِبَادَاتٍ مُسْتَقِلَّاتٍ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ لِصِحَّتِهَا إِجْمَاعًا، أَوْ شُرُوطًا فِي الطَّاعَاتِ كَالطَّهَارَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ لِحُصُولِ ثَوَابِهَا اتِّفَاقًا ; لِعَدَمِ تَوَقُّفِ الشُّرُوطِ عَلَى النِّيَّةِ فِي الصِّحَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الطَّهَارَةِ فَعَلَيْهِ بَيَانُ الْفِرْقِ، أَوْ أُمُورًا مُبَاحَةً فَإِنَّهَا قَدْ تَنْقَلِبُ بِالنِّيَّاتِ حَسَنَاتٍ كَمَا أَنَّهَا قَدْ تَنْقَلِبُ سَيِّئَاتٍ بِلَا خِلَافٍ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الصِّحَّةِ، وَالْكَمَالِ يُعْرَفُ مِنَ الْخَارِجِ، وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ جَمْعٌ مُحَلًّى بِاللَّامِ فَيَسْتَغْرِقُ كُلَّ عَمَلٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، أَوْ غَيْرِهَا، وَيَشْمَلُ الْمَتْرُوكَاتِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا ثَوَابَ فِي تَرْكِ الزِّنَا، وَالْغَصْبِ، وَنَحْوِهَا إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً بِدُونِهَا، وَكَانَ هَذَا مَلْحَظَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَا تَرَدُّدَ عِنْدِي أَنَّ الْحَدِيثَ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ، ثُمَّ الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ. وَقِيلَ لِلْمُصَاحَبَةِ لِيَعْلَمَ مِنْهُ وُجُوبَ الْمُقَارَنَةِ لَكِنَّهَا تُشْعِرُ بِوُجُوبِ اسْتِصْحَابِهَا إِلَى آخِرِ الْعَمَلِ ; لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنَ الْمَعِيَّةِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. نَعَمْ، يُشْتَرَطُ اتِّفَاقًا اسْتِصْحَابُهَا مَعَ الْعَمَلِ حُكْمًا بِأَنْ لَا يُنْشِئَ مُنَافِيًا، وَأَيْضًا تُشِيرُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقَدُّمِهَا عَلَى الْعَمَلِ، وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَ أَفْرَادِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَبِنِيَّةِ الصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ فَالْأُولَى هِيَ الْأَوْلَى، وَأَوْقَاتُ النِّيَّاتِ فِي الْعِبَادَاتِ مُخْتَلِفَةٌ، مَحَلُّ بَسْطِهَا الْكُتُبُ الْفِقْهِيَّةُ، وَالنِّيَّةُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ لُغَةً: الْقَصْدُ، وَشَرْعًا: تَوَجُّهُ الْقَلْبِ نَحْوَ الْفِعْلِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ، وَالْقَصْدُ بِهَا تَمْيِيزُ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ فَإِنْ قِيلَ: النِّيَّةُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَبِتَسَلْسُلٍ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ، وَبِدَلِيلِ الْخَبَرِ الْمُعْتَبَرِ: ( «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» ) ، وَبِدَلِيلِ أَنَّ فِي الْعُرْفِ لَا يُطْلَقُ الْعَمَلُ عَلَى فِعْلِ النَّاوِي اهـ.

وَفِيهِ: أَنَّ سَائِرَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَا تُعْتَبَرُ شَرْعًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَمَلُ النِّيَّةُ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ الْجَارِحَةِ لِوُجُوهٍ ذَكَرَهَا الْحُجَّةُ فِي الْإِحْيَاءِ. وَأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ مَعَ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ، فَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ اسْتِثْنَاءُ النِّيَّةِ، وَكَذَا الْأُمُورُ الِاعْتِقَادِيَّةُ لِلدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ النِّيَّةَ بِاللِّسَانِ مَعَ غَفْلَةِ الْجَنَانِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِمَا وَرَدَ مِنْ «أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَنِيَّاتِكُمْ، فَلَوْ نَوَى الظُّهْرَ بِقَلْبِهِ فِي وَقْتِهِ، وَتَلَفَّظَ بِنِيَّةِ الْعَصْرِ لَا يَضُرُّهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِاللِّسَانِ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّلَفُّظِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ سَوَاءٌ يَكُونُ إِمَامًا، أَوْ مَأْمُومًا، أَوْ مُنْفَرِدًا فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُسْتَحَبٌّ لِيَسْهُلَ تَعَقُّلُ مَعْنَى النِّيَّةِ، وَاسْتِحْضَارُهَا. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَيَحْسُنُ لِاجْتِمَاعِ عَزِيمَتِهِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ، وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ: أُصَلِّي كَذَا، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، بَلِ الْمَنْقُولُ أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ كَبَّرَ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ اهـ. قَالَ: وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِاجْتِمَاعِ عَزِيمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ لِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ خَاطِرِهِ فَإِذَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ كَانَ عَوْنًا عَلَى جَمْعِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي التَّجْنِيسِ. قَالَ: وَالنِّيَّةُ بِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ عَمَلُهُ، وَالتَّكَلُّمُ لَا مُعْتَبِرَ بِهِ، وَمَنِ اخْتَارَهُ لِتَجْتَمِعَ عَزِيمَتُهُ اهـ. كَلَامُهُ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَالْمُتَابَعَةُ كَمَا تَكُونُ فِي الْفِعْلِ تَكُونُ فِي التَّرْكِ أَيْضًا، فَمَنْ وَاظَبَ عَلَى فِعْلٍ لَمْ يَفْعَلْهُ الشَّارِعُ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَقَدْ يُقَالُ: نُسَلِّمُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ اسْتَحَبَّهَا الْمَشَايِخُ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى اسْتِحْضَارِ النِّيَّةِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَصْحَابُهُ لَمَّا كَانُوا فِي مَقَامِ الْجَمْعِ وَالْحُضُورِ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الِاسْتِحْضَارِ الْمَذْكُورِ، وَقِيلَ: التَّلَفُّظُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَلَطِ، وَالْخَطَأِ، وَمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، لَكِنْ لَهُ مَحْمَلٌ عِنْدَنَا مُخْتَصٌّ بِمَنِ ابْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فِي تَحْصِيلِ النِّيَّةِ، وَعَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا فَإِنَّهُ قِيلَ فِي حَقِّهِ إِذَا تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ سَقَطَ عَنْهُ الشَّرْطُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَطَقَ بِالنِّيَّةِ فِي الْحَجِّ فَقِسْنَا عَلَيْهِ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ. قُلْنَا لَهُ: ثَبِّتِ الْعَرْشَ، ثُمَّ انْقُشْ مِنْ جُمْلَةِ الْوَارِدَاتِ فَإِنَّهُ مَا وَرَدَ نَوَيْتُ الْحَجَّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ إِلَخْ، وَهُوَ دُعَاءٌ، وَإِخْبَارٌ لَا يَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ إِلَّا بِجَعْلِهِ إِنْشَاءً، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَقْدِ، وَالْقَصْدُ الْإِنْشَائِيُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ، مَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ جَعْلُهُ مَقِيسًا عَلَيْهِ مُحَالٌ، ثُمَّ قَالَ: وَعَدَمُ وُرُودِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ. قُلْنَا: هَذَا مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُقُوعِهِ حَتَّى يُوجَدَ دَلِيلُ وُرُودِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبَّرَ فَلَوْ نَطَقَ بِشَيْءٍ آخَرَ لَنَقَلُوهُ، وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: ( «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ» ) فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ التَّلَفُّظِ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِلْبُخَارِيِّ: هَلْ تَقُولُ شَيْئًا قَبْلَ التَّكْبِيرِ فَقَالَ: لَا. انْتَهَى. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ بَقِيَّةِ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَيْضًا فَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْأَكْمَلِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ إِجْمَاعًا، وَالنَّقْلُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ طُولَ عُمُرِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَتَى فِي نَحْوِ الْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ بِالنِّيَّةِ مَعَ النُّطْقِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ تَرَكَهُ، وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَفْضَلَ الْمُكَمَّلَ عَدَمُ النُّطْقِ بِالنِّيَّةِ مَعَ أَنَّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: بِكَرَاهَتِهِ، وَالْحَنْبَلِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ فَلَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مَحَلُّهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ تَرْكُهُ عِنْدَ الْحُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ بِلَا رَيْبٍ فَقَوْلُهُ: وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ مُجَازَفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ الَّذِي يَتَحَيَّرُ فِيهِ أُولُو الْأَلْبَابِ حَيْثُ جَعَلَ الْوَهْمَ يَقِينًا، وَثُبُوتَ الْحُفَّاظِ رَيْبًا، لَا يُقَالُ:

الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي لِأَنَّا نَقُولُ: مَحَلُّهُ إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى النَّفْيِ، وَالْآخَرُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَالْخَصْمُ هُنَا سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ مُثْبِتًا، أَوْ نَافِيًا، لَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ، وَدَلِيلُنَا عَلَى النَّفْيِ ثَابِتٌ بِنَقْلِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُؤَيَّدِ بِالْأَصْلِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْوُقُوعِ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ، وَمَحَلُّ خَطَلٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ الْقِيَمِ ذَكَرَ فِي زَادِ الْمَعَادَ فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ، وَهَذَا لَفْظُهُ «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ) » ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا قَبْلَهَا، وَلَا تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ، وَلَا قَالَ: (أُصَلِّي لِلَّهِ صَلَاةَ كَذَا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِمَامًا، أَوْ مَأْمُومًا) ، وَلَا قَالَ: أَدَاءً، وَلَا قَضَاءً، وَلَا فَرْضَ الْوَقْتِ، وَهَذِهِ عَشْرُ بِدَعٍ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَحَدٌ قَطُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَا ضَعِيفٍ، وَلَا مُسْنَدٍ، وَلَا مُرْسَلٍ لَفْظَةً وَاحِدَةً مِنْهَا الْبَتَّةَ، بَلْ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَإِنَّمَا غَرَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالصِّيَامِ لَا يَدْخُلُ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا بِذِكْرٍ فَظَنَّ أَنَّ الذِّكْرَ تَلَفُّظُ الْمُصَلِّي بِالنِّيَّةِ، وَأَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِالذِّكْرِ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ لَيْسَ إِلَّا، وَكَيْفَ يَسْتَحِبُّ الشَّافِعِيُّ أَمْرًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَهَذَا هَدْيُهُمْ، وَسِيرَتُهُمْ ; فَإِنْ أَوْجَدَنَا أَحَدٌ حَرْفًا وَاحِدًا عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ قَبِلْنَاهُ، وَقَابَلْنَاهُ بِالْقَبُولِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَلَا هَدْيَ أَكْمَلُ مِنْ هَدْيِهِمْ، وَلَا سُنَّةَ إِلَّا مَا تَلَقَّوْهُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَصَرَّحَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ بِنَفْيِ رِوَايَةِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْفَيْرُوزُأَبَادِي صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَقَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي الْمَوَاهِبِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ، وَلَا أَعْلَمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ التَّلَفُّظَ بِهَا، وَلَا أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ بَلِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: ( «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ) . نَعَمِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّلَفُّظِ بِهَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِعْلُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُ عَوْنٌ عَلَى اسْتِحْضَارِ النِّيَّةِ الْقَلْبِيَّةِ، وَعِبَادَةٌ لِلِّسَانِ كَمَا أَنَّهَا عُبُودِيَّةٌ لِلْقَلْبِ، وَالْأَفْعَالُ الْمَنْوِيَّةُ عِبَادَةُ الْجَوَارِحِ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ أَجَابَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، وَالْحَافِظُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَطْنَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ فِي رَدِّ الِاسْتِحْبَابِ، وَأَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي ذِكْرِهِ طُولٌ يُخْرِجُنَا عَنِ الْمَقْصُودِ، لَاسِيَّمَا وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا اسْتِحْبَابُ النُّطْقِ بِهَا، وَقَاسَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي بِالْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا يَقُولُ: (لَبَّيْكَ عُمْرَةً، وَحَجَّةً) » ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِاللَّفْظِ، وَالْحُكْمِ كَمَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ لَكِنَّهُ تَعَقَّبَ هَذَا بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ إِحْرَامِهِ تَعْلِيمًا لِلصَّحَابَةِ مَا يُهِلُّونَ بِهِ، وَيَقْصِدُونَهُ مِنَ النُّسُكِ، وَلَقَدْ صَلَّى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثَلَاثِينَ أَلْفَ صَلَاةً فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَوَيْتُ أُصَلِّي صَلَاةَ كَذَا، وَكَذَا، وَتَرْكُهُ سُنَّةٌ كَمَا أَنَّ فِعْلَهُ سُنَّةٌ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُسَوِّيَ بَيْنَ مَا فَعَلَهُ، وَتَرَكَهُ فَنَأْتِي مِنَ الْقَوْلِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرَكَهُ بِنَظِيرِ مَا أُتِيَ لَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فَعَلَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ، وَالصَّلَاةِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُقَاسَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ اللَّامُ فِي النِّيَّاتِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِنِيَّاتِهَا، أَوِ الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ عَلَى حَدِّ رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَمَّا أَلْفَاظُهُ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَبِالنِّيَّةِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَالْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ كُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ كَمَا فِي الْكِتَابِ يَعْنِي الْهِدَايَةَ فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِهِ بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ، وَلَمْ يُكْمِلْهُ نَقْلًا عَنِ الْحَافِظِ أَبِي مُوسَى الْأَصْفَهَانِيِّ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ، وَأَقَرَّهُ، وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ، إِذْ قَدْ رَوَاهُ كَذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي أَرْبَعِينِهِ، ثُمَّ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ إِمَامِ الْمَذْهَبِ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَارُودِ فِي الْمُنْتَقَى: ( «إِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ) اهـ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي فَضْلِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ النِّيَّةَ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ، وَالْعَمَلَ عُبُودِيَّةُ الْقَالِبِ، أَوْ أَنَّ الدِّينَ إِمَّا ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْعَمَلُ، أَوْ بَاطِنٌ، وَهُوَ النِّيَّةُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ فَإِنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ» ) لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَوْتِ الْمُقَابِلِ لِلْحَيَاةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُبُعُ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ: عُمْدَةُ الْخَيْرِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ ... أَرْبَعٌ قَالَهُنَّ خَيْرُ الْبَرِيَّةْ اتَّقِ الشُّبَهَاتِ، وَازْهَدْ، وَدَعْ مَا ... لَيْسَ يَعْنِيكَ، وَاعْمَلْ بِنِيَّةْ

إِشَارَةً إِلَى الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ اتِّقَاءَ السَّيِّئَاتِ، وَالزُّهْدَ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَتَرْكَ الْفُضُولَاتِ، وَالْعَمَلَ بِالنِّيَّاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ. وَرُوِيَ عَنْهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ، أَوْ ثُلُثُ الْعِلْمِ، وَوَجَّهَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ إِمَّا بِقَلْبِهِ كَالنِّيَّةِ، أَوْ بِلِسَانِهِ، أَوْ بِبَقِيَّةِ جَوَارِحِهِ، وَالْأَوَّلُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بَلْ أَرْجَحُهَا؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بِانْفِرَادِهَا، وَهَذَا وَجْهُ خَيْرٍ ( «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» ) ، وَفِي رِوَايَةٍ أَبْلَغَ، وَفِي أُخْرَى زِيَادَةُ: ( «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُعْطِي الْعَبْدَ عَلَى نِيَّتِهِ مَا لَا يُعْطِيهِ عَلَى عَمَلِهِ» ) ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَالْعَمَلُ يُخَالِطُهُ الرِّيَاءُ، وَلَهُ طُرُقٌ ضَعِيفَةٌ يَتَقَوَّى بِمَجْمُوعِهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ: ( «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةً، وَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشَرَةً» ) الْمُوهِمُ أَنَّ الْعَمَلَ خَيْرٌ مِنْهَا لِأَنَّ كِتَابَةَ الْعَشْرِ لَيْسَتْ عَلَى الْعَمَلِ وَحْدَهُ بَلْ مَعَهَا؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، وَهُوَ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا، وَلِهَذَا يُثَابُ عَلَى النِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فَانْقَلَبَ هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلًا عَلَى خَيْرِيَّتِهَا، وَظَهَرَ فَسَادُ مَا قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ النِّيَّةَ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ بِلَا نِيَّةٍ لَا مَعَهَا لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنَّ الشَّيْءَ خَيْرٌ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ ذَكَرَ هَذَا الْقِيلَ، وَقَرَّرَهُ بِالتَّعْلِيلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْ خَيْرِيَّتِهَا عَلَى الْعَمَلِ أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّخْلِيدَ فِي الْجَنَّةِ، أَوِ النَّارِ إِذِ الْمُؤْمِنُ نَاوٍ الْإِيمَانَ دَائِمًا، وَالْكَافِرُ نَاوٍ الْكُفْرَ دَائِمًا فَقُوبِلَ التَّأْبِيدُ بِالتَّأْبِيدِ، وَلَوْ نُظِرَ لِلْعَمَلِ لَكَانَ الثَّوَابُ، أَوِ الْعِقَابُ لِقَدْرِ مُدَّتِهِ فَمَدْخُولٌ وَمَعْلُولٌ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ نِيَّةُ الْكَافِرِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، بَلْ مَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ عَمَلَ الْكَافِرِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ، نَعَمْ ذَكَرُوا فِي جَانِبِ الْجَنَّةِ أَنَّ دُخُولَهَا بِالْإِيمَانِ، وَدَرَجَاتِهَا بِالْأَعْمَالِ، وَخُلُودَهَا بِالنِّيَّةِ، أَوْ مِنْ بَابِ الْإِفْضَالِ فَلَا إِشْكَالَ، وَأَمَّا دُخُولُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ فَلِكُفْرِهِمْ، وَدَرَكَاتُهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ فَكَانَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ فِي ظَاهِرِ الْعَدْلِ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي عَاشَ فِي الدُّنْيَا مِائَةَ سَنَةٍ مَثَلًا أَنْ يُعَذَّبَ قَدْرَهَا، فَقَالُوا: التَّخْلِيدُ فِي مُقَابَلَةِ نِيَّتِهِ مِنَ التَّأْبِيدِ فَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ عَاشَ أَبَدَ الْآبَادِ لَاسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ الْمُعْتَادِ، ثُمَّ قِيلَ: ضَمِيرُ عَمَلِهِ الْكَافِرِ مَعْهُودٌ، وَهُوَ السَّابِقُ كَبِنَاءِ قَنْطَرَةٍ عَزَمَ مُسْلِمٌ عَلَى بِنَائِهَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ خَيْرَ لَيْسَتْ بِمَعْنَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ: وَالْمَعْنَى النِّيَّةُ خَيْرٌ مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرَاتِ سَاقِطٌ عَنِ الِاعْتِبَارِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ السَّيِّئَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَيْهَا إِلَّا إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا عَزْمٌ، أَوْ تَصْمِيمٌ أَيْ: عَزْمٌ عَلَى الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ، أَوْ تَصْمِيمٌ عَلَى أَنَّهُ سَيَفْعَلُ، وَفِيهِ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَكُونَ إِلَّا مَعَ الْعَزِيمَةِ: وَإِلَّا فَمَعَ التَّرَدُّدِ تُسَمَّى خَطْرَةً، وَهِيَ مَرْفُوعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ فِي الْمَدَارِكِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] الْآيَةَ، وَلَا تَدْخُلُ الْوَسَاوِسُ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ فِيمَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الْخُلُوُّ عَنْهُ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَكِنْ مَا اعْتَقَدَهُ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَزْمَ الْكُفْرِ كُفْرٌ، وَخَطْرَةَ الذُّنُوبِ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ مَعْفُوٌّ عَنْهَا، وَعَزْمَ الذَّنْبِ إِذَا نَدِمَ عَلَيْهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ بَلْ يُثَابُ، فَأَمَّا إِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مُنِعَ عَنْهُ بِمَانِعٍ لَا بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةَ فِعْلِهِ أَيْ: بِالْعَزْمِ عَلَى الزِّنَا لَا يُعَاقَبُ عُقُوبَةَ الزِّنَا، وَهَلْ يُعَاقَبُ عُقُوبَةَ عَزْمِ الزِّنَا؟ قِيلَ: لَا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «إِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ» ) . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْخَطْرَةِ دُونَ الْعَزْمِ، وَأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْعَزْمِ ثَابِتَةٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحُلْوَانِيُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: وَنِيَّةُ الْحَسَنَةِ كَذَلِكَ قَلْتُ: فَرَّقَ بِأَنَّ نَاوِيَ الْحَسَنَةِ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَعَلَى نِيَّتِهَا، وَنَاوِي السَّيِّئَةِ إِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى نِيَّتِهَا فَقَطْ. قُلْتُ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْفَرْقِ فَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ التَّعَدُّدَ الْحَقِيقِيَّ، فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَإِنْ أَرَادَ التَّعَدُّدَ الْحُكْمِيَّ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْكَيْفِيَّةِ دُونَ الْكَمِّيَّةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمَعْنَى ثَوَابِهِ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ حَسَنَةً عَظِيمَةً لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ، فَهَذَا جَارٍ فِي السَّيِّئَةِ أَيْضًا. وَمِنْ جُمْلَةِ الْفُرُوعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِمُكَفِّرٍ يَدِينُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ لَا نِيَّةَ لَهُ، وَيُؤَيِّدُنَا خَبَرُ مُسْلِمٍ فِي «الَّذِي ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ، ثُمَّ وَجَدَهَا، فَقَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ) » .

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ قَبُولُ دَعْوَاهُ سَبْقَ اللِّسَانِ هُنَا، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ فَيُنَافِيهِ مَا مَرَّ فِي نَحْوِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْتُ: أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاطِنِ فَهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَاطِنًا فِيهِمَا حَيْثُ سَبَقَ لِسَانُهُ، وَأَمَّا ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ فِي الطَّلَاقِ، وَكَذَا الْكُفْرُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَيُحْتَمَلُ قَبُولُهُ فِيهِ ظَاهِرًا مُطْلَقًا، وَيُفَرِّقُ بِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي حَقِّ اللَّهِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِبِنَاءِ حَقِّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحَقِّ الْآدَمِيِّ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ وَطِئَ، أَوْ شَرِبَ، أَوْ قَتَلَ يَظُنُّ الْحَلِيلَةَ [وَنَحْوَ الْمَاءِ، وَغَيْرَ الْمَعْصُومِ] فَبَانَ مُحَرَّمًا لَا يَأْثَمُ، وَفِي عَكْسِهِ يَأْثَمُ اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ فِيهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اسْتَثْنَى بَعْضَ الْأَعْمَالِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ كَصَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَالْعِتَاقِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الشَّارِعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِمَنْزِلَةِ النِّيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصِّحَّةِ، وَالْجَوَازِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّوَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [ (وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ) ] أَيِ: الشَّخْصِ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ [ (مَا نَوَى) ] أَيْ: جَزَاءَ الَّذِي نَوَاهُ مِنْ خَيْرٍ، أَوْ شَرٍّ، أَوْ جَزَاءَ عَمَلٍ نَوَاهُ، أَوْ نِيَّتِهِ دُونَ مَا لَمْ يَنْوِهْ، أَوْ نَوَاهُ غَيْرُهُ لَهُ، فَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا تُثْمِرُهُ النِّيَّةُ مِنَ الْقَبُولِ، وَالرَّدِّ، وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ كَإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ، وَعَدَمِهِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْعَمَلِ قَبُولُهُ، وَوُجُودُ ثَوَابِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] فَفَهِمَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ أَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ مَقْبُولَةً بِالْإِخْلَاصِ، وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنَفْسِ الْعَمَلِ، وَفِي الثَّانِي مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى مَا لِأَجْلِهِ الْعَمَلُ مِنَ الْأَمَلِ، وَقِيلَ: هَذِهِ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى تَنْبِيهًا عَلَى سِرِّ الْإِخْلَاصِ، وَنُوقِشَ بِأَنَّ تَنْبِيهَهَا عَلَى ذَلِكَ يَمْنَعُ إِطْلَاقَ كَوْنِهَا مُؤَكِّدَةً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ الْعِبَادَاتُ، وَبِالثَّانِي الْأُمُورُ الْمُبَاحَاتُ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْمَثُوبَاتِ إِلَّا إِذَا نَوَى بِهَا فَاعِلُهَا الْقُرُبَاتِ كَالْمَآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَنَاكِحِ، وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ إِذَا نَوَى بِهَا الْقُوَّةَ عَلَى الطَّاعَاتِ لِاسْتِيفَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَكَالتَّطَيُّبِ إِذَا قَصَدَ إِقَامَةَ السُّنَّةِ، وَدَفْعَ الرَّائِحَةِ الْمُؤْذِيَةِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ عَمَلٍ صَدَرَ عَنْهُ لِدَاعِي الْحَقِّ، فَهُوَ الْحَقُّ، وَكَذَا الْمَتْرُوكَاتُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْمَثُوبَاتُ إِلَّا بِالنِّيَّاتِ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَّ بِكُثْبَانِ رَمْلٍ فِي مَجَاعَةٍ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كَانَ هَذَا الرَّمْلُ طَعَامًا لَقَسَّمْتُهُ بَيْنَ النَّاسِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ، وَشَكَرَ حُسْنَ صَنِيعِكَ، وَأَعْطَاكَ ثَوَابَ مَا لَوْ كَانَ طَعَامًا فَتَصَدَّقْتَ بِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِعْلَامِ الْحَدِيثِ، وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ أَنَّ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَابِ تَعْيِينِ الْمَنْوِيِّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ فِي الْفَائِتَةِ مِنْ كَوْنِهَا ظُهْرًا، أَوْ عَصْرًا، وَلَوْلَاهُ لَدَلَّ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ عَلَى الصِّحَّةِ بِلَا تَعْيِينٍ، أَوْ أَوْهَمَ ذَلِكَ اهـ. وَكَذَلِكَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا ذَا وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهٍ مِنَ الْقُرُبَاتِ كَالتَّصْدِيقِ عَلَى الْقَرِيبِ الَّذِي يَكُونُ جَارًا لَهُ، وَفَقِيرًا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الْإِحْسَانَ، وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِذَا نَوَى جَمِيعَ الْجِهَاتِ فَعُلِمَ سِرُّ تَأْخِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَتَانِ، قِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّ نِيَّةَ الْخَاصِّ فِي ضِمْنِ نِيَّةِ الْعَامِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: (الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ) إِلَخْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: النِّيَّةُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ لِيَحْسُنَ تَطْبِيقُهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَتَقْسِيمُهُ بِقَوْلِهِ: [ (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَ) ] : إِلَى [ (رَسُولِهِ) ] : فَإِنَّهُ تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ، وَاسْتِنْبَاطُ الْمَقْصُودِ عَمَّا أَصَّلَهُ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ تُحْسَبُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ إِنْ كَانَتْ خَالِصَةً لِلَّهِ فَهِيَ لَهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ لِلدُّنْيَا فَهِيَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِنَظَرِ الْخَلْقِ فَهِيَ لِذَلِكَ، فَالتَّقْدِيرُ إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَنْوِيَّهُ مِنْ طَاعَةٍ، أَوْ مُبَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ مِنَ الْهَجْرِ، وَهُوَ التَّرْكُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَصْلِ، وَالْمُرَادُ هَنَا تَرْكُ الْوَطَنِ الَّذِي بِدَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَهِجْرَةِ الصَّحَابَةِ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِمْ أَذَى أَهْلِ مَكَّةَ مِنْهَا إِلَى الْحَبَشَةِ، وَإِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَبَعْدَهَا، وَلَمَّا احْتَاجُوا إِلَى تَعَلُّمِ الْعُلُومِ مِنْ أَوْطَانِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ تُطْلَقُ كَمَا فِي أَحَادِيثَ عَلَى هِجْرَةِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي مَعْنَاهَا

هَجْرُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ، وَهَجْرُ الْمَرْأَةِ مَضْجَعَ زَوْجِهَا، وَعَكْسُهُ، وَمِنْهَا الْهِجْرَةُ مِنْ دِيَارِ الْبِدْعَةِ إِلَى بِلَادِ السُّنَّةِ، وَالْهِجْرَةُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَتَرْكُ الْوَطَنِ لِتَحْصِيلِ الْحَجِّ، وَفِي مَعْنَاهُ الِاعْتِزَالُ عَنِ النَّاسِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ) مَحْمُولٌ عَلَى خُصُوصِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الِانْتِقَالِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِيمَانِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، وَكَذَا الْهِجْرَةُ مِنَ الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» ) . وَالْمُرَادُ الْمُهَاجِرُ الْكَامِلُ. وَهَذَا مَعْنَى حَدِيثِ: ( «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ» ) قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهَا هَاهُنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِذِكْرِ الْمَرْأَةِ، وَحِكَايَةِ أَمِّ قَيْسٍ، لَكِنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالْمَعْنَى مَنْ قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى رِضَاهُ لَا يَخْلِطُهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ النِّيَّةِ، أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ تُوْطِئَةً لِذِكْرِ الرَّسُولِ تَخْصِيصًا لَهُ بِاللَّهِ، وَتَعْظِيمًا لِلْهِجْرَةِ إِلَيْهِ، أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ لِلتَّزْيِينِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالْهِجْرَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَقَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] فِي الثَّابِتِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ إِعَادَةُ الْجَارِّ فِي الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ، وَهِيَ تُفِيدُ الِاسْتِقْلَالَ فِي الْحُكْمِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهِجْرَتَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ الْأُخْرَى فِي مَرْتَبَةِ الْقَبُولِ: [ (فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَ) ] : إِلَى [ (رَسُولِهِ) ] : لَمْ يَقُلْ إِلَيْهِمَا اسْتِلْذَاذًا بِتَكْرِيرِ اسْمِهِمَا، " وَإِلَى " مُتَعَلِّقَةٌ بِهِجْرَتِهِ إِنْ قُدِّرَتْ " كَانَتْ " تَامَّةً، وَبِمَحْذُوفٍ هُوَ خَبَرُهَا إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً أَيْ: مُنْتَسِبَةً إِلَيْهِمَا، وَالْمُرَادُ أَصْلُ الْكَوْنِ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى زَمَنٍ مَخْصُوصٍ، أَوْ وَضْعُهُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْمُضِيِّ، أَوْ هُنَا مِنَ الِاسْتِقْبَالِ لِوُقُوعِهَا فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ لَفْظًا، أَوْ مَعْنًى لِلْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا لِمَانِعٍ، ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ لِحُصُولِ الْفَائِدَةِ فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ قَصْدًا، وَنِيَّةً فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ ثَمَرَةً، وَمَنْفَعَةً، فَهُوَ تَمْيِيزٌ لِلنِّسْبَةِ، وَيَجُوزُ حَذْفُهُ لِلْقَرِينَةِ، وَقِيلَ: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ فِي الدُّنْيَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْعُقْبَى، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ الْجَزَائِيَّةُ كِنَايَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: فَهِجْرَتُهُ مَقْبُولَةٌ، أَوْ صَحِيحَةٌ فَأُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبُ، وَقِيلَ: خَبَرُهُ مُقَدَّرٌ مِنْ طَرَفِ الْجَزَاءِ أَيْ: فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ مَقْبُولَةٌ أَيْ: فَهِيَ كَمَا نَوَاهَا، وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ سَوَاءٌ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ وَصَلَ إِلَى الْفَرِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وَقِيلَ: اتِّحَادُ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ، وَلِإِرَادَةِ التَّحْقِيرِ فِيمَا سَيَأْتِي فَيَكُونُ التَّغَايُرُ مَعْنًى بِدَلِيلِ قَرَائِنِ السِّيَاقِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَوَّلِ مَا وُجِدَ خَارِجًا، وَبِالثَّانِي مَا عُهِدَ ذِهْنًا عَلَى حَدِّ: أَنْتَ أَنْتَ أَيِ: الصَّدِيقُ الْخَالِصُ، وَهُمْ هُمْ أَيِ: الَّذِينَ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُمْ، وَمِنْهُ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ، وَشِعْرِي شِعْرِي. أَيْ: الْآنَ هُوَ شِعْرِي الَّذِي كَانَ، وَالْكِبَرُ مَا غَيَّرَ اللِّسَانَ، وَالْحَاصِلُ أَنْ يُقَالَ: فَهِجْرَتُهُ عَظِيمَةٌ، وَنَتِيجَتُهَا جَسِيمَةٌ. [ (وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا) ] : بِضَمِّ الدَّالِّ، وَيُكْسَرُ، وَهِيَ فُعْلَى مَنِ الدُّنُوِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ لِدُنُوِّهَا إِلَى الزَّوَالِ، أَوْ لِقُرْبِهَا مِنَ الْآخِرَةِ مِنَّا، وَلَا تُنَوَّنُ لِأَنَّ أَلِفَهَا مَقْصُورَةٌ لِلتَّأْنِيثِ، أَوْ هِيَ تَأْنِيثُ أَدْنَى، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ، وَتَنْوِينُهَا فِي لُغَةٍ شَاذٌّ، وَلِإِجْرَائِهَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، وَلِخَلْعِهَا عَنِ الْوَصْفِيَّةِ نُكِّرَتْ كَرُجْعَى، وَلَوْ بَقِيَتْ عَلَى وَصْفِيَّتِهَا لَعُرِّفَتْ كَالْحُسْنَى، وَاخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهَا مَعَ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فَقِيلَ: وَهِيَ اسْمُ مَجْمُوعِ هَذَا الْعَالَمِ الْمُتَنَاهِي، فَفِي الْقَامُوسِ الدُّنْيَا نَقِيضُ الْآخِرَةِ، وَلَوْ قَالَ ضِدَّهَا لَكَانَ أَوْلَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَعَ جَوَازِ أَنَّهُمَا يَرْتَفِعَانِ، وَقِيلَ: هِيَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجَوِّ، وَالْهَوَاءِ، أَوْ هِيَ كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَالْأَعْرَاضِ الْمَوْجُودَةِ قَبْلَ الْآخِرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَجَازًا، وَأُرِيدُ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنَ الْحُظُوظِ النَّفْسَانِيَّةِ كَمَالٍ أَوْ جَاهٍ، وَقَدْ تَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْعَاجِلِ، وَالْمَرْأَةُ إِيمَاءٌ إِلَى الْآجِلِ، وَهُوَ الْآخِرَةُ لِانْضِمَامِ الرُّوحَانِيَّةِ إِلَى الْجُسْمَانِيَّةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَيُفِيدُ حِينَئِذٍ أَنَّ قَصْدَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ انْحِطَاطٌ تَامٌّ عَمَّنْ لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ وَجْهِهِ تَعَالَى، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَعِنْدَ مُحَقِّقِي الْقَوْمِ مَا تَعَلَّقَ دَرْكُهُ بِالْحِسِّ، فَهُوَ دُنْيَا، وَمَا تَعَلَّقَ دَرْكُهُ بِالْعَقْلِ، فَهُوَ أُخْرَى، وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا أَيْ: لِأَجْلِ عَرَضِهَا، وَغَرَضِهَا فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَوْ بِمَعْنَى (إِلَى) لِتُقَابِلَ الْمُقَابِلَ

[ (يُصِيبُهَا) ] ، أَيْ: يُحَصِّلُهَا لَكِنْ لِسُرْعَةِ مُبَادَرَةِ النَّفْسِ إِلَيْهَا بِالْجِبِلَّةِ الْأَصْلِيَّةِ شَبَّهَ حُصُولَهَا بِإِصَابَةِ السَّهْمِ لِلْغَرَضِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ: يَقْصِدُ إِصَابَتَهَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَبَ الدُّنْيَا لِأَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى فَلَا يُذَمُّ مَعَ أَنَّ تَرْكَهَا أَوْلَى لِقَوْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: يَا طَالِبَ الدُّنْيَا لِتَبَرَّ تَرْكُكَ الدُّنْيَا أَبَرُّ. [ (أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا) ] : خُصَّتْ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ قَيْسٍ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ حَتَّى يُهَاجِرَ فَهَاجَرَ فَتَزَوَّجَهَا. قَالَ: فَكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ قَصَدَ فِي ضِمْنِ الْهِجْرَةِ سُنَّةً عَظِيمَةً أَبْطَلَ ثَوَابَ هِجْرَتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ غَيْرُهُ ; أَوْ دَلَالَةً عَلَى أَعْظَمِ فِتَنِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14] . وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» ) لَكِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً تَكُونُ خَيْرَ مَتَاعِهَا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» ) . [ (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) ] أَيْ: مُنْصَرِفَةٌ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي هَاجَرَ إِلَيْهِ فَلَا ثَوَابَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] أَوِ الْمَعْنَى فَهِجْرَتُهُ مَرْدُودَةٌ، أَوْ قَبِيحَةٌ. قِيلَ: إِنَّمَا ذُمَّ لِأَنَّهُ طَلَبَ الدُّنْيَا فِي صُورَةِ الْهِجْرَةِ فَأَظْهَرَ الْعِبَادَةَ لِلْعُقْبَى، وَمَقْصُودُهُ الْحَقِيقِيُّ مَا كَانَ إِلَّا الدُّنْيَا فَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ لِمُشَابَهَتِهِ أَهْلَ النِّفَاقِ، وَلِذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمَّا رَأَى بَهْلَوَانًا يَلْعَبُ عَلَى الْحَبْلِ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ جَمَلَ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا، وَأَصْحَابُنَا يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَتَى اجْتَمَعَ بَاعِثُ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَلَا ثَوَابَ مُطْلَقًا لِلْخَبَرِ، وَفِي الصَّحِيحِ: ( «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ هُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ» ) . قَالَ الْغَزَالِيُّ: يُعْتَبَرُ الْبَاعِثُ فَإِنْ غَلَبَ بَاعِثُ الْآخِرَةِ أُثِيبَ، أَوْ بَاعِثُ الدُّنْيَا، أَوِ اسْتَوَيَا لَمْ يُثَبْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ مَنْ حَجَّ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ كَانَ ثَوَابُهُ دُونَ ثَوَابِ الْمُتَخَلِّي عَنْهَا أَنَّ الْقَصْدَ الْمُصَاحِبَ لِلْعِبَادَةِ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا كَالرِّيَاءِ أَسْقَطَهَا مُطْلَقًا، وَهُوَ مَحْمِلُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ لَفْظُهُ، أَوْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ أُثِيبَ بِقَدْرِ قَصْدِهِ الْآخِرَةَ أَخْذًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] اهـ. وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَتَعْلِيلٌ مُسْتَحْسَنٌ هَذَا بِلِسَانِ الْعُلَمَاءِ أَرْبَابِ الْعِبَارَةِ، وَأَمَّا بِلِسَانِ الْعُرَفَاءِ أَصْحَابِ الْإِشَارَةِ فَمَعْنَاهُ مُجْمَلًا أَنَّ أَعْمَالَ ظَاهِرِ الْقَالَبِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَقَعُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ أَنْوَارِ الْغُيُوبِ، وَالنِّيَّةُ جَمْعُ الْهَمِّ فِي تَنْفِيذِ الْعَمَلِ لِلْمَعْمُولِ لَهُ، وَأَنْ لَا يَسْنَحَ فِي السِّرِّ ذِكْرُ غَيْرِهِ، وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ، ثُمَّ نِيَّةُ الْعَوَامِّ فِي طَلَبِ الْأَعْرَاضِ مَعَ نِسْيَانِ الْفَضْلِ، وَالْإِعْوَاضِ، وَنِيَّةُ الْجَاهِلِ التَّحْصِينُ عَنْ سُوءِ الْقَضَاءِ، وَنُزُولِ الْبَلَاءِ، وَنِيَّةُ أَهْلِ النِّفَاقِ التَّزَيُّنُ عِنْدَ النَّاسِ مَعَ إِضْمَارِ الشِّقَاقِ، وَنِيَّةُ الْعُلَمَاءِ إِقَامَةُ الطَّاعَاتِ، وَنِيَّةُ أَهْلِ التَّصَوُّفِ تَرْكُ الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مَنِ الْعِبَادَاتِ، وَنِيَّةُ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ رُبُوبِيَّةٌ تَوَلَّتْ عُبُودِيَّةً. وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى مِنْ مَطَالِبِ السُّعَدَاءِ، وَهِيَ الْخَلَاصُ عَنِ الدَّرَكَاتِ السُّفْلَى مِنَ الْكُفْرِ، وَالشِّرْكِ، وَالْجَهْلِ، وَالْمَعَاصِي، وَالسُّمْعَةِ، وَالرِّيَاءِ، وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَحَجْبِ الْأَوْصَافِ، وَالْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ، وَالتَّوْحِيدُ، وَالْعِلْمُ، وَالطَّاعَاتُ، وَالْأَخْلَاقُ الْمَحْمُودَةُ، وَجَذَبَاتُ الْحَقِّ، وَالْفَنَاءُ عَنْ إِنَابَتِهِ، وَالْبَقَاءُ بِهُوِيَّتِهِ، أَوْ مِنْ مَقَاصِدِ الْأَشْقِيَاءِ، وَهِيَ إِجْمَالًا مَا يُبْعِدُ

عَنِ الْحَقِّ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ أَيْ: خُرُوجُهُ مِنْ مَقَامِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ اسْتِعْدَادَهُ الَّذِي جُبِلَ عَلَيْهِ، أَوْ مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِ النَّفْسِ، أَوْ مَقَامًا مِنْ مَقَامَاتِ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ لِتَحْصِيلِ مِرَاضِيهِ، وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى تَوْحِيدِ الذَّاتِ، وَرَسُولِهِ بِاتِّبَاعِ أَعْمَالِهِ، وَاقْتِفَاءِ أَخْلَاقِهِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى طَلَبِ الِاسْتِقَامَةِ فِي تَوْحِيدِ الصِّفَاتِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَتُخْرِجُهُ الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْحُدُوثِ وَالْفَنَاءِ إِلَى أَنْوَارِ الشُّهُودِ، وَالْبَقَاءِ، وَتَجْذِبُهُ مِنْ حَضِيضِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى ذُرْوَةِ الْعِنْدِيَّةِ، وَيَفْنَى فِي عَالَمِ اللَّاهُوتِ، وَيَبْقَى بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ الْأُنْسُ، وَنَزَلَ مَحَلَّةَ الْقُدُسِ بِدَارِ الْقَرَارِ فِي جِوَارِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ، وَأَشْرَقَتْ عَلَيْهِ سُبُحَاتُ الْوَجْهِ الْكَرِيمِ، وَحَلَّ بِقَلْبِهِ رُوحُ الرِّضَا الْعَمِيمِ، وَوَجَدَ فِيهَا الرُّوحَ الْمُحَمَّدِيَّ، وَأَحْبَابًا، وَعَرَفَ أَنَّ لَهُ مَثْوًى، وَمَآبًا. وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا أَيْ: لِتَحْصِيلِ شَهْوَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ، وَالْجَاهِ، أَوْ تَحْصِيلِ لَذَّةِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ فَيَبْقَى مَهْجُورًا عَنِ الْحَقِّ فِي أَوْطَانِ الْغُرْبَةِ، وَدِيَارِ الظُّلْمَةِ لَهُ نَارُ الْفُرْقَةِ، وَالْقَطِيعَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْمُخْلِصِينَ لِبَعْضِ الْمُخْلِطِينَ: يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ ... عَمَّا قَلِيلٍ سَتَثْوَى بَيْنَ أَمْوَاتِ إِنَّ الْحِمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ ... فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ، وَسَاعَاتِ لَا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا، وَزِينَتِهَا ... قَدْ حَانَ لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللُّبِّ أَنْ يَأْتِي وَكُنْ حَرِيصًا عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي عَمَلٍ ... فَإِنَّمَا الْعَمَلُ الزَّاكِي بِنِيَّاتٍ قَدْ وَرَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْحَفَظَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اكْتُبُوا لِعَبْدِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الْأَجْرِ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَحْفَظْ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَا هُوَ فِي صَحِيفَتِنَا فَيَقُولُ إِنَّهُ نَوَاهُ» ) . وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ الْعَلِيَّ، أَنَّ زُبَيْدَةَ رُؤِيَتْ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهَا: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكِ؟ فَقَالَتْ: غَفَرَ لِي، فَقِيلَ لَهَا: بِكَثْرَةِ عِمَارَتِكِ الْآبَارَ، وَالْبِرَكِ، وَالْمَصَانِعِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَإِنْفَاقِكِ فِيهَا؟ فَقَالَتْ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، وَإِنَّمَا نَفَعَنَا مِنْهُ النِّيَّاتُ فَغَفَرَ لِي بِهَا، اللَّهُمَّ فَأَحْسِنْ نِيَّاتِنَا، وَلَا تُؤَاخِذْنَا بِنِيَّاتِنَا، وَاخْتِمْ بِالْخَيْرِ مَنِيَّاتِنَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَيْ: بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ لَا بِمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، لَكِنَّ اتِّفَاقَهَا عَلَيْهِ لَازِمُ ذَلِكَ لِاتِّفَاقِهَا عَلَى تَلَقِّي مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ بَقِيَّةُ السِّتَّةِ. وَقِيلَ: لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا مَنْ لَمْ يُخْرِجْهُ سِوَى مَالِكٍ، فَفِي الْجُمْلَةِ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ مَاكُولَا، وَغَيْرُهُ مِنَ التَّكَلُّمِ فِيهِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَمَا قِيلَ إِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا عُمَرُ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ عُمَرَ إِلَّا عَلْقَمَةُ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَلْقَمَةَ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إِلَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، ثُمَّ تَوَاتَرَ عَنْهُ بِحَيْثُ رَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ إِنْسَانٍ أَكْثَرُهُمْ أَئِمَّةٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ: إِنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ سَبْعُمِائَةِ إِنْسَانٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ تِسْعَةٌ غَيْرُ عَلْقَمَةَ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ اثْنَانِ غَيْرُ التَّيْمِيِّ، وَعَنِ التَّيْمِيِّ خَمْسَةٌ غَيْرُ يَحْيَى، فَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخِرِهِ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوَّلِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَغَيْرِهِمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا وَقَعَ مُسْنَدًا فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ، وَكَذَا الْعَمَلُ مَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ نَحْوَ نَسْخٍ، أَوْ تَخْصِيصٍ، وَإِجْمَاعُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَقُبُولُهَا لِلْخَبَرِ الْغَيْرِ الْمُتَوَاتِرِ يُوجِبُ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ، أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ: أَهْلُ الصَّنْعَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الصَّحِيحَانِ مَقْطُوعٌ بِصِحَّةِ أُصُولِهَا، وَمُتُونِهَا، وَلَا يَحْصُلُ الْخِلَافُ فِيهَا بِحَالٍ، وَإِنْ حَصَلَ اخْتِلَافٌ فَذَلِكَ اخْتِلَافٌ فِي طُرُقِهَا، وَرُوَاتِهَا، فَمَنْ خَالَفَ حُكْمُهُ خَبَرًا مِنْهُمَا

وَلَيْسَ لَهُ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ نَقَضْنَا حُكْمَهُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّتِهِمَا، وَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ: الْإِجْمَاعُ أَقْوَى مِنَ الْإِسْنَادِ فَإِذَنْ أَفَادَ الْعِلْمَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَالْمُحَقِّقُونَ: صِحَّتُهُمَا ظَنِّيَّةٌ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَهُمَا آحَادٌ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ تَلَقَّتْهَا الْأَئِمَّةُ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُمْ تَلَقَّوْا بِالْقَبُولِ مَا ظُنَّتْ صِحَّتُهُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّ تَصْحِيحَ الْأَئِمَّةِ لِلْخَبَرِ الْمُسْتَجْمِعِ لِشُرُوطِ الصِّحَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِمَا نَحْوَ مِائَتَيْ حَدِيثٍ مُسْنَدٍ طُعِنَ فِي صِحَّتِهَا، فَلَمْ تَتَلَقَّ الْأُمَّةُ كُلُّهَا مَا فِيهِمَا بِالْقَبُولِ لَكِنَّ بَعْضَ الْقَائِلِينَ بِالْأَوَّلِ اسْتَثْنَوْا هَذِهِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِمَا الْعِلْمَ بِالصِّحَّةِ جَعَلَهُ نَظَرِيًّا، وَهُوَ النَّاشِئُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَمَنْ أَبَى هَذَا الْإِطْلَاقَ خَصَّ لَفْظَ الْعِلْمِ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَمَا عَدَاهُ عِنْدَهُ ظَنٌّ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُمْكِنُ التَّصْحِيحُ، وَالتَّحْسِينُ، وَالتَّضْعِيفُ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ؟ وَاخْتَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي تَصَانِيفِهِمُ الْمُعْتَمَدَةِ، وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ، وَتَبِعُوهُ، وَأَطَالُوا فِي بَيَانِ رَدِّهِ، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّحَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُعَاصِرِيهِ كَالْقَطَّانِ، وَالضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ، ثُمَّ الْمُنْذِرِيِّ، وَالدِّمْيَاطِيِّ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ. قِيلَ: وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا اخْتَارَ حَسْمَ الْمَادَّةِ لِئَلَّا يَتَطَفَّلَ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اخْتِلَافُهُمْ هَلْ يُمْكِنُ لِأَحَدٍ الِاجْتِهَادُ الْمُطْلَقُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ ; فَقِيلَ: يُمْكِنُ، وَقِيلَ: لَا. وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ، وَمَنْعُهُ أَمْرٌ عَادِيٌّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[كتاب الإيمان]

[كِتَابُ الْإِيمَانِ]

1 - كِتَابُ الْإِيمَانِ " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ " 2 - «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخْذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: " الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ". قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ. قَالَ: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ قَالَ: " مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا. قَالَ: " أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ. قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: " يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 1 - كِتَابُ الْإِيمَانِ الْكِتَابُ إِمَّا مَأْخُوذٌ مِنَ الْكُتُبِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، أَوِ الْكِتَابَةِ، وَالْمَعْنَى هَذَا مَجْمُوعٌ، أَوْ مَكْتُوبٌ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا عَنْوَنَ بِهِ مَعَ ذِكْرِهِ الْإِسْلَامَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الشَّرْعِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مِنَ الْفَرْقِ يَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْفَصْلِ، وَقَدَّمَهُ لِزِيَادَةِ شَرَفِهِ فِي الْفَضْلِ، وَلِكَوْنِهِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الَّذِي مَعَهُ أَمْنٌ، وَطُمَأْنِينَةٌ لُغَةً، وَفِي الشَّرْعِ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ مِمَّا جَاءَ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، فَكَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجْعَلُ بِهِ نَفْسَهُ آمِنَةً مِنَ الْعَذَابِ فِي الدَّارَيْنِ، أَوْ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَالْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ إِفْعَالٌ مِنَ الْأَمْنِ يُقَالُ: أَمِنْتُ وَآمَنْتُ غَيْرِي، ثُمَّ يُقَالُ آمَنَهُ إِذَا صَدَّقَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَمِنْتُ صِرْتُ ذَا أَمْنٍ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَيُعَدَّى بِاللَّامِ نَحْوَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] وَقَالَ فِرْعَوْنُ: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] وَقَدْ يُضَمَّنُ مَعْنَى اعْتَرَفَ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ نَحْوَ: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ أَوَّلُهَا: عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَالْأَشْعَرِيُّ، وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِالضَّرُورَةِ تَفْصِيلًا فِي الْأُمُورِ التَّفْصِيلِيَّةِ، وَإِجْمَالًا فِي الْإِجْمَالِيَّةِ تَصْدِيقًا جَازِمًا، وَلَوْ لِغَيْرِ دَلِيلٍ حَتَّى يَدْخُلَ إِيمَانُ الْمُقَلِّدِ، فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ عَدَمِ صِحَّتِهِ رُدَّ بِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَرْكَانَ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَنَحْوَ الصَّلَاةِ فَإِنْ جَوَّزَ وُرُودَ شُبْهَةٍ تُفْسِدُ اعْتِقَادَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ لَكِنَّهُ فَاسِقٌ بِتَرْكِهِ النَّظَرَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبِلَ الْإِيمَانَ مِنْ غَيْرِ تَفَحُّصٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنْ فِي كَوْنِهِ فَاسِقًا بِتَرْكِهِ النَّظَرَ نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ فُهِمَ مِنْ قَيْدِ مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَمِنَ الضَّرُورَةِ أَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِذَاتِهِ، أَوْ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، أَوْ مَرْئِيًّا لَا يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ إِجْمَاعًا، وَمِنَ الْجَزْمِ أَنَّ التَّصْدِيقَ الظَّنِّيَّ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ مَعًا فَقِيلَ: الْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ لَا لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ، وَرَبِّهِ. قَالَ حَافِظُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَالْأَشْعَرِيُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ رُكْنٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ أَصْلِيٍّ بَلْ زَائِدٌ، وَمِنْ ثَمَّ يَسْقُطُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَالْعَجْزِ، وَلِهَذَا مَنْ صَدَّقَ وَمَاتَ فَجْأَةً عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ إِجْمَاعًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَشَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] الْآيَةَ. حَيْثُ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَطَالِبِ. وَبِهَذَا يَلْتَئِمُ الْقَوْلَانِ. وَالْخِلَافَانِ لَفْظِيَّانِ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْغَزَالِيِّ مِنْ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ النُّطْقِ كَالْمَعَاصِي الَّتِي تُجَامِعُ الْإِيمَانَ، فَهُوَ بِظَاهِرِهِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِقْرَارَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لَا شَرْطًا، وَلَا شَطْرًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ مَعَ سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَنُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَعَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْخَوَارِجِ، لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ مُؤْمِنٌ، وَلَا كَافِرٌ، بَلْ يُقَالُ لَهُ فَاسِقٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، وَالْخَوَارِجُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَاسِقٌ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قَالُوا: وَلَا تَظْهَرُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ قَوْلِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابَ الزَّوَاجِرِ مِنْ كَمَالِ الْإِيْمَانِ اتِّفَاقًا لَا مِنْ مَاهِيَّتِهِ فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي نُقْصَانِ الْإِيمَانِ، وَزِيَادَتِهِ، وَكَذَا اقْتِرَانُ الْإِيمَانِ بِالْمَشِيئَةِ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ، أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَذَا التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْمَلَكِ، وَالْبَشَرِ، وَمَحَلُّ بَسْطِ هَذَا الْمَرَامِ كُتُبُ الْكَلَامِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ) : أَصْلُهُ بَيْنَ فَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ فَقِيلَ بَيْنَا. وَزِيدَتْ مَا فَقِيلَ بَيْنَمَا، وَهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ بِمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ، وَيُضَافَانِ إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَارَةً، وَإِلَى الْفِعْلِيَّةِ أُخْرَى، وَيَكُونُ الْعَامِلُ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ فِي إِذْ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَقْتَ حُضُورِنَا فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ! فَاجَأَنَا وَقْتُ طُلُوعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَبَيْنَا ظَرْفٌ لِهَذَا الْمُقَدَّرِ، وَإِذْ مَفْعُولٌ بِهِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] أَيْ: وَقْتُ ذِكْرِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فَجَاءُوا وَقْتَ الِاسْتِبْشَارِ. فَنَحْنُ: مُبْتَدَأٌ، وَعِنْدَ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَذَاتَ يَوْمٍ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ عِنْدَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، أَيْ: بَيْنَ أَوْقَاتٍ نَحْنُ حَاضِرُونَ عِنْدَهُ، فَنَحْنُ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ ظَرْفِيَّةٍ، وَالْمَجْمُوعُ صِفَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، وَزِيَادَةُ ذَاتَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ التَّجَوُّزِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْيَوْمِ مُطْلَقُ الزَّمَانِ لَا النَّهَارُ كَمَا فِي قَوْلِكَ: رَأَيْتُ ذَاتَ زَيْدٍ، وَقِيلَ ذَاتَ مُقْحَمٌ، وَقِيلَ بِمَعْنَى السَّاعَةِ، وَقِيلَ بَيْنَ يُضَافُ إِلَى مُتَعَدِّدٍ لَفْظًا كَقَوْلِكَ: جَلَسْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ، أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِكَ جِئْتُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَإِذَا قُصِدَ إِضَافَتُهُ إِلَى جُمْلَةٍ يُزَادُ أَلِفٌ، أَوْ مَا عِوَضًا عَنِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا بَيْنَ، وَقِيلَ فَائِدَةُ الْمَزِيدَتَيْنِ إِنَّمَا هِيَ التَّهَيُّؤُ لِدُخُولِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَيَجُوزُ دُخُولُ إِذْ فِي جَوَابِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ كَمَا فِي الشِّعْرِ الْفَصِيحِ: وَبَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُهُ أَتَانَا وَجَاءَ فِي طَرِيقٍ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ مَجِيئِهِ إِلَى مَا بَعْدَ إِنْزَالِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ تَقْرِيرُ أُمُورِ الدِّينِ الَّتِي بَلَّغَهَا مُتَفَرِّقَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِتُغْبَطَ، وَتُضْبَطَ، وَقِيلَ مَجِيئُهُ كَانَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ قُبَيْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَبَبُ الْحَدِيثِ مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ! قَالَ: (سَلُونِي) فَهَابُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْدَةَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ أَيْ: يَعِظُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَجْلِسُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ فَطَلَبْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْعَلَ لَنَا مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ قَالَ: فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا أَيْ: دِكَّةً مِنْ طِينٍ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَكُنَّا نَجْلِسُ بِجَنْبِهِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْعَالِمِ الْجُلُوسُ بِمَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ مُخْتَصٍّ بِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَنَحْوِهِ، ثُمَّ الطُّلُوعُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ مِنْ كَمَالِ النُّورِ مُسْتَعَارٌ مِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ، وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَالتَّنْوِينُ فِي رَجُلٍ لِلتَّعْظِيمِ، وَيُحْتَمَلُ التَّنْكِيرُ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ حِينَ رِوَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِأَنَّهُ جِبْرِيلُ لَكِنَّهُ حَكَى الْحَالَ الْمَاضِيَةَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ لَهُ أَنْ يَقْتَدِرَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّشَكُّلِ مِمَّا شَاءَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ شَكْلِ الْبَشَرِ الِاسْتِئْنَاسُ لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ، فَالْمَعْنَى رَجُلٌ فِي الصُّورَةِ إِذْ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي رِوَايَةٍ، وَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ مَعْلُولٌ بِأَنَّهُ وَهْمٌ مِنْ رِوَايَةٍ لِقَوْلِ عُمَرَ الْآتِي. وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ. نَعَمْ كَانَ غَالِبًا يَتَمَثَّلُ بِصُورَةِ دَحْيَةَ لِكَمَالِ جَمَالِهِ. (شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ) : بِإِضَافَةِ شَدِيدٍ إِلَى مَا بَعْدَهُ إِضَافَةً لَفْظِيَّةً مُفِيدَةً لِلتَّخْفِيفِ فَقَطْ صِفَةُ رَجُلٍ، وَاللَّامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّجُلِ. أَيْ: شَدِيدٌ بَيَاضُ ثِيَابِهِ شَدِيدٌ سَوَادُ شَعْرِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ فِي الصِّفَتَيْنِ الْمُشَبَّهَتَيْنِ، وَرَفْعِ مَا بَعْدَهُمَا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْبَيَاضِ، وَالنَّظَافَةِ فِي الثِّيَابِ، وَأَنَّ زَمَانَ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوَانُ الشَّبَابِ لِقُوَّتِهِ عَلَى تَحَمُّلِ أَعْبَائِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَعَلُّمِ

أَدَائِهِ، وَقَدَّمَ الْبَيَاضَ عَلَى السَّوَادِ لِأَنَّهُ خَيْرُ الْأَلْوَانِ، وَمُحِيطٌ بِالْأَبْدَانِ، وَلِئَلَّا يَفْتَتِحُ بَغْتَةً بِلَوْنٍ مُتَوَحِّشٍ، وَجَمَعَ الثِّيَابَ دُونَ الشَّعْرِ إِشْعَارًا بِأَنَّ جَمِيعَهَا كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ مَحْمِلُ الشَّعْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَالشَّعَرُ بِفَتْحَتَيْنِ أَفْصَحُ مِنْ سُكُونِ الثَّانِي، وَيُضَمُّ مَعَهُ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ فِي قَوْلِهِ: (لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ) : رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْغَائِبِ، وَرَفْعِ الْأَثَرِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ وَالْأَشْهَرِ، وَرُوِيَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْلُومِ، وَنَصْبِ الْأَثَرِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْآثَارِ ظُهُورُ التَّعَبِ، وَالتَّغَيُّرِ، وَالْغُبَارِ، وَالسَّفَرُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّفْرِ، وَهُوَ الْكَشْفُ؛ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ أَحْوَالَ الرِّجَالِ، وَأَخْلَاقَهُمْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْأَعْمَالِ. (وَلَا يَعْرِفُهُ) : عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ (مِنَّا) أَيْ: مِنَ الْحَاضِرِينَ فِي الْمَجْلِسِ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ عَلَى قَوْلِهِ: (أَحَدٌ) : وَقَالَ أَبُو الْفَضَائِلِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْمِصْرِيُّ الْمُشْتَهِرُ بِزَيْنِ الْعَرَبِ فِي شَرْحِهِ لِلْمَصَابِيحِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِلَّا فَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَرَفَهُ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى غَابَ جِبْرِيلُ كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ، وَالْمَعْنَى تَعَجَّبْنَا مِنْ كَيْفِيَّةِ إِتْيَانِهِ، وَتَرَدَّدْنَا فِي أَنَّهُ مِنَ الْمَلَكِ، أَوِ الْجِنِّ إِذْ لَوْ كَانَ بَشَرًا مِنَ الْمَدِينَةِ لَعَرَفْنَاهُ، أَوْ كَانَ غَرِيبًا لَكَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهَا، ثُمَّ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى ظَنِّهِ، أَوْ إِلَى صَرِيحِ قَوْلِ الْحَاضِرِينَ، وَالثَّانِي أَوْلَى فَقَدْ جَاءَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ هَذَا كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ. (حَتَّى جَلَسَ) : غَايَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ طَلَعَ أَوَّلَهُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَتَى أَيْ: أَقْبَلَ، وَاسْتَأْذَنَ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُورَةِ شَابٍّ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَعَلَيْكَ السَّلَامُ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْنُو» فَقَالَ: (ادْنُ) فَالتَّقْدِيرُ دَنَا حَتَّى جَلَسَ مُتَوَجِّهًا أَيْ: مَائِلًا (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَالْجُلُوسُ، وَالْقُعُودُ مُتَرَادِفَانِ، وَمَا ذَكَرَهُ التُّورَبِشْتِيُّ، وَغَيْرُهُ أَنَّ الْقُعُودَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسَ مَعَ الِاضْطِجَاعِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلِيُّ، أَوِ الْغَالِبُ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى بَرَكَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَجْلِسُ أَحَدُنَا لِلصَّلَاةِ، وَقَوْلُ زَيْنِ الْعَرَبِ أَيْ: جَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ، أَوْ مَعَهُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ،) أَيْ: رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الرُّكْبَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَالْأَدَبِ، وَإِيصَالُ الرُّكْبَةِ بِالرُّكْبَةِ أَبْلَغُ مِنَ الْإِصْغَاءِ، وَأَتَمُّ مِنْ حُصُولِ حُضُورِ الْقَلْبِ، وَأَكْمَلُ فِي الِاسْتِئْنَاسِ، وَأَلْزَمُ لِمُسَارَعَةِ الْجَوَابِ، وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَاجَةِ السَّائِلِ، وَإِذَا عَرَفَ الْمَسْئُولُ حَاجَتَهُ، وَحِرْصَهُ اعْتَنَى، وَبَادَرَ إِلَيْهِ (وَوَضَعَ كَفَّهُ) أَيْ: كَفَّيِ الرَّجُلِ (عَلَى فَخِذَيْهِ،) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفَخِذُ كَكَتِفِ مَا بَيْنَ السَّاقِ، وَالْوِرْكِ مُؤَنَّثٌ كَالْفَخْذِ، وَيُكَسَّرُ أَيْ: فَخِذَيِ الرَّجُلِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِهَيْئَةِ الْمُتَعَلِّمِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ، أَوْ عَلَى فَخِذَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَغَيْرِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلتَّقَرُّبِ لَدَيْهِ، وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَقَصَرَ النَّظَرَ عَلَيْهِ (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ!) : قِيلَ: نَادَاهُ بِاسْمِهِ إِذِ الْحُرْمَةُ تَخْتَصُّ بِالْأُمَّةِ فِي زَمَانِهِ، أَوْ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَلَكٌ مُعَلِّمٌ، وَيُرِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] إِذِ الْخِطَابُ لِلْآدَمِيِّينَ فَلَا يَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، أَوْ قُصِدَ بِهِ الْمَعْنَى الْوَصْفِيُّ دُونَ الْمَعْنَى الْعِلْمِيِّ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ نِدَاءِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِاسْمِهِ فَذَاكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ آثَرَهُ زِيَادَةً فِي التَّعْمِيَةِ إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يُنَادِيهِ بِهِ إِلَّا الْعَرَبِيُّ الْجِلْفُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ نِدَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْمِهِ، قِيلَ: وَلَمْ يُسَلِّمْ مُبَالَغَةً فِي التَّعْمِيَةِ، أَوْ بَيَانًا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، أَوْ سَلَّمَ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا سَبَقَ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمَامِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَمَنْ ذَكَرَهُ مُقْدَّمٌ عَلَى مَنْ سَكَتَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ. نَعَمْ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَالْجَمْعُ بِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ

يُسَنُّ لِلدَّاخِلِ أَنْ يَعُمَّ بِالسَّلَامِ، ثُمَّ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِالْكَلَامِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَالَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ إِنَّمَا فِيهِ الْإِفْرَادُ، وَهُوَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. أَقُولُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ الظَّاهِرِ مِنْ إِيرَادِ الْجَمْعِ إِرَادَةَ التَّعْظِيمِ لَا قَصْدَ التَّعْمِيمِ فَكَأَنَّ الْقُرْطُبِيَّ جَعَلَهُ نَظِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] فِي كَوْنِ الْخِطَابِ خَاصًّا، وَالْحُكْمِ عَامًّا (أَخْبِرْنِي) أَيْ: أَعْلِمْنِي، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ لِلِاسْتِدْعَاءِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْعُلْوِيَّةِ (عَنِ الْإِسْلَامِ) : وَهُوَ لُغَةً الِانْقِيَادُ مُطْلَقًا، وَشَرْعًا الِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ بِشَرْطِ انْقِيَادِ الْبَاطِنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وَاللَّامُ فِيهِ لِلْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ عَنْهُ بِالْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَجَوَابَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَجَوَابُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَرِيَاضِ الصَّالِحِينَ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ بِخِلَافِ الْمَصَابِيحِ، فَإِنَّهُ قَدَّمَ فِيهِ الْإِيمَانَ، وَالتَّصْدِيقَ، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا لِأَنَّهُ أَسَاسُ قَاعِدَةِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّصْدِيقِ، وَمَا جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا لِتَعْلِيمِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكَمِ التَّدْرِيجِيَّةِ فَيَبْدَأُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَيَتَرَقَّى مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ عَلَى الْإِخْلَاصِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِحْسَانِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ عَنِ الْإِيمَانِ، لَكِنْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا عَنْ عُمَرَ، فَفِي إِيرَادِ الْحَدِيثِ هَذَا اللَّفْظَ اعْتِرَاضٌ فِعْلِيٌّ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَلَى الْبَغَوِيِّ فِي الْمَصَابِيحِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِتَوَسُّطِ الْإِحْسَانِ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ فَذُكِرَ فِي الْقَلْبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ وَجْهَ التَّوَسُّطِ أَنَّ لَهُ تَعَلُّقًا بِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ هَذَا التَّقْدِيمَ، وَالتَّأْخِيرَ مِنَ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ وَاحِدَةٌ فَكَانَ الْوَاقِعُ أَمْرًا وَاحِدًا عَبَّرَ الرُّوَاةُ عَنْهُ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ. (قَالَ: (الْإِسْلَامُ) ] : أَعَادَهُ، وَوَضَعَهُ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِ إِرَادَةً لِوُضُوحِهِ [ (أَنْ تَشْهَدَ) ] أَيْ: أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًّا، وَلَمْ يَقُلْ تَعْلَمَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَبْلَغُ فِي الِانْكِشَافِ مِنْ مُطْلَقِ الْعِلْمِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكْفِ أَعْلَمُ عَنْ أَشْهَدُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ [ (أَنْ) ] : وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ أَيْ: أَنَّهُ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ [ (لَا إِلَهَ) ] : لَا هِيَ النَّافِيَةُ لِلْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ عَلَى نَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ [ (إِلَّا اللَّهُ) ] : قِيلَ: خَبَرُ لَا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَحْذُوفٌ، وَالْأَحْسَنُ فِيهِ لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، وَلِكَوْنِ الْجَلَالَةِ اسْمًا لِلذَّاتِ الْمُسْتَجْمِعِ لِكَمَالِ الصِّفَاتِ، وَعَلَمًا لِلْمَعْبُودِ بِالْحَقِّ، قِيلَ: لَوْ بُدِّلَ بِالرَّحْمَنِ لَا يَصِحُّ بِهِ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ، ثُمَّ قِيلَ: التَّوْحِيدُ هُوَ الْحُكْمُ بِوَحْدَانِيَّةِ الشَّيْءِ، وَالْعِلْمُ بِهَا، وَاصْطِلَاحًا إِثْبَاتُ ذَاتِ اللَّهِ بِوَحْدَانَيَّتِهِ مَنْعُوتًا بِالتَّنَزُّهِ عَمَّا يُشَابِهُهُ اعْتِقَادًا فَقَوْلًا، وَعَمَلًا فَيَقِينًا، وَعِرْفَانًا فَمُشَاهَدَةً، وَعِيَانًا فَثُبُوتًا، وَدَوَامًا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: لِلتَّوْحِيدِ لُبَّانِ، وَقِشْرَانِ كَاللَّوْزِ فَالْقِشْرَةُ الْعُلْيَا الْقَوْلُ بِاللِّسَانِ الْمُجَرَّدِ، وَالثَّانِيَةُ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ جَازِمًا، وَاللُّبُّ أَنْ يَنْكَشِفَ بِنُورِ اللَّهِ سِرُّ التَّوْحِيدِ بِأَنْ يَرَى الْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ صَادِرَةً عَنْ فَاعِلٍ وَاحِدٍ، وَيَعْرِفَ سِلْسِلَةَ الْأَسْبَابِ مُرْتَبِطَةً بِمُسَبِّبَاتِهَا، وَلُبُّ اللُّبِّ أَنْ لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَاحِدًا، وَيَسْتَغْرِقُ فِي الْوَاحِدِ الْحَقِّ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى غَيْرِهِ. [ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) ] : إِيمَاءٌ إِلَى النُّبُوَّةِ، وَهُمَا أَصْلَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ الْإِسْلَامِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ مَنْ قَالَ الْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ أَيْ: تُوَحِّدَهُ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوِ الْإِشْرَاكِ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مُجَرَّدُ التَّوْحِيدِ هُوَ الِاحْتِجَابُ بِالْجَمْعِ عَنِ التَّفْصِيلِ، وَهُوَ مَحْضُ الْجَبْرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِبَاحَةِ، وَمُجَرَّدُ إِسْنَادِ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَائِرِ الْخَلْقِ احْتِجَابٌ بِالتَّفْصِيلِ عَنِ الْجَمْعِ الَّذِى هُوَ صَرْفُ الْقُدْرَةِ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّعَطِيلِ، أَوِ الثَّنَوَيَّةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْحَقُّ الْمَحْضُ. قَالَ فِي الْعَوَارِفِ: الْجَمْعُ اتِّصَالٌ لَا يُشَاهِدُ صَاحِبُهُ إِلَّا الْحَقَّ فَمَنْ شَاهَدَ غَيْرَهُ فَمَا ثَمَّ جَمْعٌ، وَالتَّفْرِقَةُ شُهُودٌ لِمَا شَاهَدَ بِالْمُبَايَنَةِ فَقَوْلُهُ: آمَنَّا بِاللَّهِ جَمْعٌ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا تَفْرِقَةٌ اهـ. وَكَذَا قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَفْرِقَةٌ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جَمْعٌ، وَالْأَوَّلُ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ، وَالثَّانِي حَطٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْقُرْبُ بِالْوَجْدِ جَمْعٌ، وَغَيْبَتُهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَفْرِقَةٌ، وَكُلُّ جَمْعٍ بِلَا تَفْرِقَةٍ زَنْدَقَةٌ، وَكُلُّ تَفْرِقَةٍ بِلَا جَمْعٍ تَعْطِيلٌ

وَحَسْبُنَا اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. " [ (وَتُقِيمَ) ، أَيْ: وَأَنْ تُقِيمَ [ (الصَّلَاةَ) ] أَيْ: الْمَعْهُودَةَ شَرْعًا. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: الْمَكْتُوبَةَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النَّافِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِهِ. يَعْنِي بِأَنْ تُؤَدِّيَهَا، وَتَحْفَظَ شُرُوطَهَا، وَتَعْدِلَ أَرْكَانَهَا، وَتُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ، وَتُصَلِّي [ (وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ) ] أَيْ: وَأَنْ تُعْطِيَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّمْلِيكِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ زَكَى. بِمَعْنَى طَهُرَ، وَنَمَا، وَهُوَ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ النِّصَابِ ; لِأَنَّهُ يُطَهِّرُ الْمُخْرِجَ، أَوِ الْمُخْرَجَ عَنْهُ، وَيَزِيدُ الْبَرَكَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ تَقْيِيدُهَا بِالْمَفْرُوضَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ [ (وَتَصُومَ) ] : بِالنَّصْبِ [ (رَمَضَانَ) ] أَيْ: فِي شَهْرِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِهِ بِلَا كَرَاهَةٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ شَهْرٍ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَهُوَ مِنْ رَمَضَ إِذَا احْتَرَقَ مِنَ الرَّمْضَاءِ فَأُضِيفَ إِلَيْهِ الشَّهْرُ، وَسُمِّيَ بِهِ لِارْتِمَاضِهِمْ مِنْ حَرِّ الْجُوعِ، أَوْ مِنْ حَرَارَةِ الزَّمَانِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحْتَرِقُ بِهِ الذُّنُوبُ، وَتُمْحَى بِهِ الْعُيُوبُ، أَوْ لِأَنَّهُ يَزُولُ مَعَهُ حَرَارَةُ الشَّهَوَاتِ، وَالصَّوْمُ لُغَةً الْإِمْسَاكُ، وَشَرْعًا إِمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ بِوَصْفٍ مَخْصُوصٍ، [ (وَتَحُجَّ الْبَيْتَ) ] أَيِ: الْحَرَامَ ; فَإِنَّ فِيهِ لِلْعَهْدِ، أَوْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ غَلَبَ عَلَى الْكَعْبَةِ عَلَمًا، وَاللَّامُ فِيهِ جُزْءٌ كَمَا فِي النَّجْمِ، وَالْحَجُّ لُغَةً الْقَصْدُ، أَوْ تَكْرَارُهُ مُطْلَقًا، أَوْ إِلَى مُعَظَّمٍ، وَشَرْعًا قَصْدُ بَيْتِ اللَّهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ [ (إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ) ] أَيْ: إِلَى الْبَيْتِ، أَوْ إِلَى الْحَجِّ أَيْ: إِنْ أَمْكَنَ لَكَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ بِأَنْ وَجَدْتَ زَادًا، أَوْ رَاحِلَةً كَمَا فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ [ (سَبِيلًا) ] : تَمْيِيزٌ عَنْ نِسْبَةِ الِاسْتِطَاعَةِ فَأُخِّرَ عَنِ الْجَارِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّذِي فِيهِ سُهُولَةٌ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ، وَتَنْكِيرُهُ لِلْعُمُومِ إِذِ النَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ قَدْ تُفِيدُ الْعُمُومَ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ) لَكِنَّهُ مَجَازٌ، وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَيْهِ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ: سَبِيلًا مَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ قَرِيبًا، أَوْ بَعِيدًا، وَنَحْوَهُمَا، بِشَرْطِ اخْتِصَاصِ انْتِهَائِهِ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ " سَبِيلًا " مَفْعُولٌ. بِمَعْنَى مُوَصِّلٍ، أَوْ مُبَلِّغٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ بِالْمَالِ، وَأَوْجَبَ الِاسْتِنَابَةَ عَلَى الزَّمَنِ الْغَنِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ بِالْبَدَنِ فَيَجِبُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ، وَالْكَسْبِ فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ الْقُدْرَةُ مِنْ طَاعَ لَكَ إِذَا سَهُلَ يُطْلَقُ عَلَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ، وَصِحَّةِ الْآلَاتِ، وَهِيَ قَدْ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْفِعْلِ، وَعَلَى عَرْضٍ فِي الْحَيَوَانِ يَفْعَلُ لَهُ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، وَهِيَ كَمَا فُسِّرَتِ اسْتِطَاعَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمُكَلَّفُ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ مَشْرُوطَةٌ فِي الْكُلِّ فَكَيْفَ خُصَّ الْحَجُّ بِهَا؟ قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ خُصَّ الْحَجُّ بِالِاسْتِطَاعَةِ دُونَ سَائِرِ الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ مَشْرُوطَةٌ فِي الْكُلِّ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ، وَكَانَ طَائِفَةٌ لَا يَعُدُّونَهَا مِنْهَا، وَيُثْقِلُونَ عَلَى الْحَاجِّ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، أَوْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ نَاسًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَصَرَّحَ تَسْهِيلًا عَلَى الْعِبَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَرْفَعُونَ لِهَذَا النَّصِّ الْجَلِيِّ رَأْسًا، وَيُلْقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ فِي هَذَا حِكْمَةً، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً عَلَى الْأَغْنِيَاءِ التَّارِكِينَ لِلْحَجِّ رَأْسًا مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُمْ مَالًا، وَأَثَاثًا، وَإِيرَادُ الْأَفْعَالِ الْمُضَارِعِيَّةِ لِإِفَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ التَّجَدُّدِيِّ لِكُلٍّ مِنَ الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَفِي التَّوْحِيدِ الْمَطْلُوبِ الِاسْتِمْرَارُ الدَّائِمُ مُدَّةَ الْحَيَاةِ، وَفِي الصَّلَاةِ دُونَهُ، ثُمَّ فِي الصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ دُونَهَا، وَقَدَّمَ الصَّوْمَ لِتَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَخَّرَ مَا وَجَبَ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. وَفِي فَتْحِ الْبَارِي فَإِنْ قِيلَ: السُّؤَالُ عَامٌّ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِسْلَامِ. وَالْجَوَابُ خَاصٌّ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَعْبُدَ، وَتَشْهَدَ، وَكَذَا قَالَ فِي الْإِيمَانِ: أَنْ تُؤْمِنَ، وَفِي الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لِنُكْتَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ، وَ (أَنْ) الْفِعْلِ، لِأَنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَالْمَصْدَرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اهـ. وَقِيلَ: الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْقَصْدُ التَّعْلِيمُ هُوَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الْمَصْدَرِ الْمُنَاسِبِ لِلسُّؤَالِ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَسْنَحُ بِالْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْمَصْدَرِ الْمُفِيدِ لِلْعِلْمِ إِلَى الْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِي لِلْعَمَلِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ، وَبِنَحْوِ

هَذَا الْعُدُولِ يَعْلَمُ بُلُوغَ بَلَاغَتِهِ إِلَى أَعْلَى الْغَايَاتِ، وَأَعْلَى النِّهَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ حَذْفُ الْحَجِّ، وَفِي أُخْرَى حَذْفُ الصَّوْمِ، وَفَى أُخْرَى الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَفِي أُخْرَى عَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَلَا تَخَالُفَ لِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ضَبَطَ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ غَيْرُهُ ذُهُولًا، أَوْ نِسْيَانًا كَذَا قِيلَ، أَوْ يُقَالُ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ، فَحَذَفَ الْحَجَّ لِأَنَّ وُجُوبَهُ نَادِرٌ، وَفِي الْعُمْرِ مَرَّةً، وَحَذَفَ الصَّوْمَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَسَاسُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ لِأَنَّهُمَا عُمْدَةُ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْمَالِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ ظَاهِرُ الطَّاعَةِ، وَالِانْقِيَادِ، وَالْعِبَادَةِ لَا اسْتِيفَاءَ أَفْرَادِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ هِيَ مُعْظَمَ أَرْكَانِهَا فَالْمُرَادُ بِذِكْرِ بَعْضِهَا مَثَلًا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَقِيَّتِهَا، وَلِذَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُتِمَّ الْوُضُوءَ فَيُحْمَلُ الِاخْتِلَافُ اللَّفْظِيُّ عَلَى التَّحْدِيثِ الْمَعْنَوِيِّ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَرْكَانِ ظَاهِرًا تَبِينُ أَحْكَامُهُ فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، وَبَاطِنًا مِنْ حَقَائِقَ، وَأَسْرَارٍ ذَكَرَهَا أَرْبَابُ الْقُلُوبِ الْأُمَنَاءُ لِأَسْرَارِ الْغُيُوبِ، فَنَحْنُ نَذْكُرُ نُبْذَةً مِنْهَا. أَمَّا التَّوْحِيدُ، فَهُوَ ظُهُورُ فَنَاءِ الْخَلْقِ بِتَشَعْشُعِ أَنْوَارِ الْحَقِّ، وَلَهُ مَرَاتِبُ كَمَا ذَكَرَهُ ذَوُو الْمَنَاقِبِ. الْأُولَى: التَّوْحِيدُ النَّظَرِيُّ إِنْ عُلِمَ بِالِاسْتِدْلَالِ، أَوِ التَّقْلِيدِيُّ إِنِ اعْتُقِدَ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ، وَسَلِمَ الْقَلْبُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالْحَيْرَةِ، وَالرَّيْبِ، هُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ مُتَفَرِّدٌ بِوَصْفِ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَوَحِّدٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُبُودِيَّةِ يَحْقِنُ الدِّمَاءَ، وَالْأَمْوَالَ، وَيَتَخَلَّصُ مِنَ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ فِي الْأَحْوَالِ. الثَّانِيَةُ: التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ بِخُرُوجِهِ مِنْ غِشَاوَةِ صِفَاتِهِ، وَخَلَاصِهِ مِنْ سِجْنِ ظُلُمَاتِ ذَاتِهِ، وَانْسِلَاخِهِ عَنْ لِبَاسِ الِاخْتِيَارِ حَيْرَانَ فِي أَنْوَارِ عَظَمَةِ الْجَبَّارِ، وَلْهَانَ تَحْتَ سُبُحَاتِ سَطَوَاتِ الْأَنْوَارِ، فَيَعْرِفُ أَنَّ الْمُوجِدَ الْمُحَقِّقَ، وَالْمُؤَثِّرَ الْمُطْلَقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ كُلَّ ذَاتِ فَرْعٍ مِنْ نُورِ ذَاتِهِ، وَكُلَّ صِفَةٍ مِنْ عِلْمٍ، وَقُدْرَةٍ، وَإِرَادَةٍ، وَسَمْعٍ، وَبَصَرٍ عَكْسٌ مِنْ أَنْوَارِ صِفَاتِهِ، وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِهِ، وَمَنْشَؤُهُ نُورُ الْمُرَاقَبَةِ، وَهُوَ دُونُ الْمَرْتَبَةِ الْحَالِيَّةِ، لَكِنَّ مِزَاجَهُ مِنْ تَسْنِيمِ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْفِي مِنَ الظُّلْمَةِ الْوُجُودِيَّةِ، وَيَرْتَفِعُ بَعْضٌ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ. الثَّالِثَةُ: التَّوْحِيدُ الْحَالِّيُّ، وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَ التَّوْحِيدَ وَصْفًا لَازِمًا لِذَاتِ الْمُوَحَّدِ بِتَلَاشِي ظُلُمَاتِ رُسُومِ وُجُودِ الْغَيْرِ إِلَّا قَلِيلًا فِي غَلَبَةِ إِشْرَاقِ نُورِ التَّوْحِيدِ، وَاسْتَنَارُ نُورِ حَالِهِ فِي نُورِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ كَاسْتِتَارِ نُورِ الْكَوَاكِبِ فِي نُورِ الشَّمْسِ، فَلَمَّا اسْتَنَارَ الصُّبْحُ أَدْرَجَ ضَوْءَ نُورِ الْكَوَاكِبِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي مُشَاهَدَةِ جَمَالِ وُجُودِ الْوَاحِدِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ شُهُودِهِ إِلَّا ذَاتُ الْوَاحِدِ، وَيَرَى التَّوْحِيدَ صِفَةَ الْوَاحِدِ لَا صِفَتَهُ بَلْ لَا يَرَى ذَلِكَ، قَالَ الْجُنَيْدُ: التَّوْحِيدُ مَعْنًى يَضْمَحِلُّ فِيهِ الرُّسُومُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْعُلُومُ، وَيَكُونُ اللَّهُ كَمَا لَمْ يَزَلْ. الرَّابِعَةُ: التَّوْحِيدُ الْإِلَهِيُّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِي الْأَزَلِ مَوْصُوفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الذَّاتِ، وَالْأَحَدِيَّةِ فِي الصِّفَاتِ، كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، وَالْآنَ كَمَا كَانَ. كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَلَمْ يَقُلْ يَهْلِكُ؛ لِأَنَّ عِزَّةَ وَحْدَانِيَّتِهِ لَمْ تَدَعْ لِغَيْرِهِ وُجُودًا، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْشَدَ الْعَارِفُ الْأَنْصَارِيُّ لِنَفْسِهِ شِعْرًا: مَا وَحَدَّ الْوَاحِدُ مِنْ وَاحِدٍ ... إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ ... عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ ... وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ قِيلَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِعْرَاجَانِ: مِعْرَاجٌ فِي عَالَمِ الْحِسِّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ إِلَى عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَمَحَلِّ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَمِعْرَاجٌ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ مِنَ الشَّهَادَةِ إِلَى الْغَيْبِ، ثُمَّ مِنَ الْغَيْبِ إِلَى غَيْبِ الْغَيْبِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ قَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الْمُسَافِرُ إِذَا عَادَ إِلَى وَطَنِهِ أَتْحَفَ أَصْحَابَهُ، وَإِنَّ تُحْفَةَ أُمَّتِكَ الصَّلَاةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْمِعْرَاجَيْنِ الْجُسْمَانِيِّ بِالْآدَابِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالرُّوحَانِيِّ بِالْأَذْكَارِ، وَالْأَحْوَالِ. وَلِهَذَا وَرَدَ: الصَّلَاةُ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَصَوْمُ الشَّرِيعَةِ مَنَافِعُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا التَّشَبُّهُ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى لَكَفَى بِهِ فَضْلًا، وَصَوْمُ الطَّرِيقَةِ، فَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْأَكْوَانِ، وَالْإِفْطَارِ بِمُشَاهَدَةِ الرَّحْمَنِ. صُمْتُ عَنْ غَيْرِهِ فَلَمَّا تَجَلَّى كَانَ لِي شَاغِلٌ عَنِ الْإِفْطَارِ

وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى تَزْكِيَةِ أَحْوَالِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بِتَرْكِ الْأَمْوَالِ، وَصَرْفِهَا إِلَى أَسْبَابِ الْوُصُولِ إِلَى الْأَحْوَالِ، وَتَخْلِيَةِ الْقَلْبِ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَتَخْلِيَةِ الرُّوحِ لِظُهُورِ تَجَلِّيَاتِ الْأَنْوَارِ، وَأَمَّا الْحَجُّ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ زِيَارَةِ بَيْتِ الْجَلِيلِ عَلَى الْخَلِيلِ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ السَّبِيلَ بِأَنْ وَجَدَ شَرَائِطَ السُّلُوكِ، وَإِمْكَانَهُ، وَآدَابَ السَّفَرِ، وَأَرْكَانَهُ، وَهِيَ الْإِحْرَامُ بِالْخُرُوجِ عَنِ الرُّسُومِ، وَالْعَادَاتِ، وَالتَّجَرُّدُ عَنِ الْمَأْلُوفَاتِ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَفَاءِ الطَّوِيَّاتِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَاتِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْعُكُوفُ عَلَى عَتَبَةِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ، وَالطَّوَافُ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْأَطْوَارِ السَّبُعِيَّةِ بِالْأَطْوَافِ السَّبْعِيَّةِ حَوْلَ كَعْبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ صَفَا الصَّفَاتِ، وَمَرْوَةِ الْمَرَوَاتِ، وَالْحَلْقُ بِمَحْوِ آثَارِ الْعُبُودِيَّةِ بِمُوسَى الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ النَّاسِكِ: يَا مَنْ إِلَى وَجْهِهِ حَجِّي وَمُعْتَمَرِي ... إِنْ حَجَّ قَوْمٌ إِلَى تُرْبٍ، وَأَحْجَارِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ مِنْ قُرْبٍ وَمِنْ بُعْدٍ ... سِرًّا بِسِرٍّ، وَإِضْمَارًا بِإِضْمَارٍ (قَالَ: صَدَقْتَ) : دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ السَّائِلَ مَا عَدَّهُ مِنَ الصَّوَابِ، وَحَمْلًا لِلسَّامِعِينَ عَلَى حِفْظِ الْجَوَابِ، (فَعَجِبْنَا لَهُ) أَيْ: لِلسَّائِلِ (يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ) : التَّعَجُّبُ حَالَةٌ لِلْقَلْبِ تَعْرِضُ عِنْدَ الْجَهْلِ بِسَبَبِ الشَّيْءِ، فَوَجْهُ التَّعَجُّبِ أَنَّ السُّؤَالَ يَقْتَضِي الْجَهْلَ غَالِبًا بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَالتَّصْدِيقَ يَقْتَضِي عِلْمَ السَّائِلِ بِهِ ; لِأَنَّ صَدَقْتَ إِنَّمَا يُقَالُ إِذَا عَرَفَ السَّائِلُ أَنَّ الْمَسْئُولَ طَابَقَ مَا عِنْدَهُ جُمْلَةً، وَتَفْصِيلًا، وَهَذَا خِلَافُ عَادَةِ السَّائِلِ، وَمِمَّا يَزِيدُ التَّعَجُّبَ أَنَّ مَا أَجَابَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الرَّجُلُ مِمَّنْ عُرِفَ بِلِقَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضْلًا عَنْ سَمَاعِهِ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ صَدَقْتَ أَنْكَرْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: انْظُرُوا هُوَ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ كَأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَفِي أُخْرَى مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِثْلَ هَذَا كَأَنَّهُ يُعَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ صَدَقْتَ. قِيلَ: هُوَ مِنْ صَنِيعِ الشَّيْخِ إِذَا امْتَحَنَ الْمُعِيدَ عِنْدَ حُضُورِ الطَّلَبَةِ لِيَزِيدُوا فِي طُمَأْنِينَةٍ، وَثِقَةٍ فِي أَنَّهُ يُعِيدُ الدَّرْسَ، وَيُلْقِي الْمَسْأَلَةَ مِنَ الشَّيْخِ بِلَا زِيَادَةٍ، وَنُقْصَانٍ، وَفِيهِ نُسْخَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى - عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3 - 5] (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: مَا الْإِيمَانُ، وَاسْتُشْكِلَتْ بِأَنَّ مَا لِلسُّؤَالِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ؟ فَالْجَوَابُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهَا الْأَحَقُّ بِالتَّعْلِيمِ، وَلِأَنَّ التَّصْدِيقَ فِي ضِمْنِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْمُطَابَقَةُ حَاصِلَةٌ فِي الْجِهَتَيْنِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي [قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ) ] : أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ حَتَّى لَا يَكُونَ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَكُونَ الدَّوْرُ فِي تَعْرِيفِهِ. وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ أَيْ: تَعْتَرِفُ، وَلِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ فِيهِ أَنَّ الِاعْتِرَافَ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِسْلَامِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُنَا بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ آمَنَ بِهِ إِيمَانًا أَيْ: صَدَّقَهُ، نَعَمْ لَوْ ضَمِنَ مَعْنَى الِاعْتِرَافِ لَكَانَ حَسَنًا، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنْ تُصَدِّقَ مُعْتَرِفًا، أَوْ تَعْتَرِفَ مُصَدِّقًا فَيُفِيدُ كَوْنَ الْإِقْرَارِ شَطْرًا، أَوْ شَرْطًا. قِيلَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مُغَايَرَةِ الْعَمَلِ لِلْإِيمَانِ فَإِنَّهُ أَجَابَ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ عَنِ الْإِيمَانِ، وَجَعَلَهُ تَصْدِيقًا [ (بِاللَّهِ) ] أَيْ: بِتَوْحِيدِ ذَاتِهِ، وَتَفْرِيدِ صِفَاتِهِ، وَبِوُجُوبِ وَجُودِهِ، وَبِثُبُوتِ كَرَمِهِ، وَجُودِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِ كَمَالِهِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ جَلَالِهِ، وَجَمَالِهِ. قِيلَ: الصِّفَةُ إِمَّا حَقِيقَةٌ لَا يَتَوَقَّفُ تَصَوُّرُهَا عَلَى شَيْءٍ كَالْحَيَاةِ، أَوْ إِضَافِيَّةٌ يُتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْقِدَمِ، أَوْ وُجُودِيَّةٌ، وَهِيَ صِفَاتُ الْإِكْرَامِ، أَوْ سَلْبِيَّةٌ، وَهِيَ صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَتَنْحَصِرُ الْوُجُودِيَّةُ فِي ثَمَانِيَةٍ نَظَمَهَا الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ: حَيَاةٌ وَعِلْمٌ قُدْرَةٌ وَإِرَادَةٌ ... كَلَامٌ وَإِبْصَارٌ وَسَمْعٌ مَعَ الْبَقَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: هَذَا الْحَدِيثُ بَيَانُ أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِمَا الْأَعْمَالَ الْمَذْكُورَةَ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ شَعَائِرِهِ، ثُمَّ قِيلَ: الْإِيمَانُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ قَيْسٍ، وَاسْمُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ أَصْلَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَالطَّاعَاتُ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ اسْتِسْلَامٌ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ، وَيَفْتَرِقَانِ، وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ اهـ.

وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي الشَّرْعِ نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّ انْقِيَادَ الظَّاهِرِ لَا يَنْفَعُ بِدُونِ انْقِيَادِ الْبَاطِنِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَوَّلِ عَلَى الْحُكْمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَمَدَارَ الثَّانِي عَلَى الْأَمْرِ الْأُخْرَوِيِّ، أَوِ الْأَوَّلُ بِنَاؤُهُ عَلَى اللُّغَةِ، وَالثَّانِي مَدَارُهُ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَصَنَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِمَامَانِ كَبِيرَانِ، وَأَكْثَرَا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، أَوْ مُتَرَادِفَانِ، وَتَكَافَآ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ التَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَصَادِقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ التَّصْدِيقُ إِذْعَانُ النَّفْسِ، وَقَبُولُهَا بِمَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَهُوَ: تَقْلِيدِيٌّ، وَتَحْقِيقِيٌّ. وَالتَّحْقِيقِيُّ إِمَّا اسْتِدْلَالِيٌّ، أَوْ ذَوْقِيٌّ، وَالذَّوْقِيُّ إِمَّا كَشْفِيٌّ وَاقِفٌ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ، أَوِ الْغَيْبِ، أَوْ غَيْبِيٌّ غَيْرُ وَاقِفٍ عَلَيْهِ، وَالْغَيْبِيُّ إِمَّا مُشَاهَدَةٌ، أَوْ شُهُودٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ الْمُمْتَنِعُ الزَّوَالِ، وَالثَّانِي الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الثَّابِتُ بِالْبُرْهَانِ، وَالثَّالِثُ الْمُمْتَنِعُ الزَّوَالِ الثَّابِتُ بِالْوِجْدَانِ، وَالثَّلَاثَةُ مَرَاتِبُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَالْأَخِيرَانِ عِلْمُ الْيَقِينِ، وَالرَّابِعُ هُوَ الْمُشَاهَدَةُ الرُّوحَانِيَّةُ مَعَ بَقَاءِ الِاثْنَيْنِيَّةِ، وَيُسَمَّى عَيْنَ الْيَقِينِ، وَالْخَامِسُ هُوَ الشُّهُودُ الْحَقَّانِيُّ عِنْدَ تَجَلِّي الْوَحْدَةِ الذَّاتِيَّةِ، وَزَوَالِ الِاثْنَيْنِيَّةِ، وَيُسَمَّى حَقَّ الْيَقِينِ، هَذَا وَإِنَّ لِلْإِيمَانِ وَجُودًا غَيْبِيًّا، وَوُجُودًا ذِهْنِيًّا، وَوُجُودًا لَفْظِيًّا، أَمَّا الْأَوَّلُ، فَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ فِي مُعْتَقَدِهِ مِنْ أَنَّهُ نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ مِنْ نُورِ الذَّاتِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَصْلَهُ نُورٌ يَقْذِفُهُ الْحَقُّ مِنْ مَلَكُوتِهِ إِلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ فَيُبَاشِرُ أَسْرَارَهُمْ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَضْرَةِ ثَابِتٌ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِذَا انْكَشَفَ جَمَالُ الْحَقِّ لَهُ ازْدَادَ ذَلِكَ النُّورُ فَيَتَقَوَّى إِلَى أَنْ يَنْبَسِطَ، وَيَنْشَرِحَ الصَّدْرُ، وَيَطَّلِعَ الْعَبْدُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَيَتَجَلَّى لَهُ الْغَيْبُ، وَغَيْبُ الْغَيْبِ، وَيَظْهَرُ لَهُ صِدْقُ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَنْبَعِثُ مِنْ قَلَمِهِ دَاعِيَةُ الِاتِّبَاعِ، فَيَنْضَافُ إِلَى نُورِ مَعْرِفَتِهِ أَنْوَارُ الْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] وَذَلِكَ الْقَذْفُ، وَالْكَشْفُ يَتَعَلَّقُ بِمُرَادِ اللَّهِ فِي أَحَايِينَ، نَسِيمُ الصِّفَاتِ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِهِ، نَعَمْ شَرَائِطُهُ مُكْتَسَبَةٌ، وَأَمَّا الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ فَمُلَاحَظَةُ ذَلِكَ النُّورِ، وَمُطَالَعَتُهُ بِالتَّصْدِيقِ، وَأَمَّا الْوُجُودُ اللَّفْظِيُّ، فَهُوَ الشَّهَادَتَانِ، وَكَمَا أَنَّ إِيمَانَ الْعَوَامِّ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ، فَإِيمَانُ الْخَوَاصِّ عُزُوبُ النَّفْسِ مِنَ الدُّنْيَا، وَسُلُوكُهُ طَرِيقَ الْعُقْبَى، وَشُهُودُ الْقَلْبِ مَعَ الْمَوْلَى، وَإِيمَانُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ مُلَازَمَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَابَةُ الْخَلْقِ إِلَى الْفَنَاءِ فِي اللَّهِ، وَإِخْلَاصُ السِّرِّ لِلْبَقَاءِ بِاللَّهِ ذَوَّقَنَا اللَّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [ (وَمَلَائِكَتِهِ) ] : جَمْعُ مَلَاكٍ، وَأَصْلُهُ مَأْلَكٌ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ مِنَ الْأَلُوكَةِ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ قُدِّمَتِ اللَّامُ عَلَى الْهَمْزَةِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى مَا قَبْلَهَا فَصَارَ مَلَكٌ، وَلَمَّا جُمِعَتْ رُدَّتِ الْهَمْزَةُ، وَقِيلَ قُلِبَتْ أَلِفًا، وَقُدِّمَتِ اللَّامُ، وَجُمِعَ عَلَى فَعَائِلَ كَشَمْأَلٍ، وَشَمَائِلَ، ثُمَّ تُرِكَتْ هَمْزَةُ الْمُفْرَدِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى اللَّامِ، وَالتَّاءُ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، أَوْ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ أُطْلِقَتْ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْجَوَاهِرِ الْعُلْوِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنِ الْكُدُورَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهِيَ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، وَخَاصَّةً أَصْفِيَاءَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانَيَّةٌ مُقْتَدِرَةٌ عَلَى تَشَكُّلَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الصُّعُودُ، وَالنُّزُولُ، وَالتَّسْبِيحُ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ النَّفَسِ مِنَّا، فَمَشَقَّةُ التَّكْلِيفِ مُنْتَفِيَةٌ، وَالْمَعْنَى نَعْتَقِدُ بِوُجُودِهِمْ تَفْصِيلًا فِيمَا عُلِمَ اسْمُهُ مِنْهُمْ ضَرُورَةً كَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَعِزْرَائِيلَ، وَإِجْمَالًا فِي غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ، وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ كِرَامًا كَاتِبِينَ، وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ لَهُمْ أَجْنِحَةً مَثْنَى، وَثُلَاثَ، وَرُبَاعَ، وَأَنَّهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ وَصْفِ الْأُنُوثَةِ، وَالذُّكُورَةِ، وَأَمَّا كَوْنُ الرُّسُلِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ، أَوْ هُمْ فَلَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْمُوجِبُ لِدُخُولِ الْإِيمَانِ بِهَا فِي مَفْهُومِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ، أَوِ الْمَعَادِ؟ فَأُجِيبَ: بِأَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُ إِلَى فَطِنٍ يَرَى الْمَعْقُولَ كَالْمَحْسُوسِ، وَيُدْرِكُ الْغَائِبَ كَالْمُشَاهَدِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَإِلَى مَنِ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَةُ الْحِسِّ، وَمُتَابَعَةُ الْوَهْمِ فَقَطْ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْخَلَائِقِ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُعَلِّمٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَيَذُودُهُمْ عَنِ الزَّيْغِ الْمُطْلَقِ، وَيَكْشِفُ لَهُمُ الْمُغَيَّبَاتِ، وَيُحِلُّ عَنْ عُقُولِهِمُ الشُّبُهَاتِ، وَمَا هُوَ إِلَّا النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ لِهَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَعِلَ الْقَرِيحَةِ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] يَحْتَاجُ إِلَى نُورٍ يُظْهِرُ لَهُ الْغَائِبَ، وَهُوَ الْوَحْيُ، وَالْكِتَابُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْقُرْآنُ نُورًا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَامِلٍ، وَمُوَصِّلٍ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُتَوَسِّطُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27]

فَالْمُرَادُ لَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا إِلَّا إِذَا تَعَلَّمَ مِنَ النَّبِيِّ مَا يُحَقِّقُهُ بِإِرْشَادِ الْكِتَابِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ بِتَوَسُّطِ الْمَلَكِ أَنَّ لَهُ إِلَهًا وَاجِبَ الْوُجُودِ فَائِضَ الْجُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ، [ (وَكُتُبِهِ) ] أَيْ: وَنَعْتَقِدُ بِوُجُودِ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ تَفْصِيلًا فِيمَا عُلِمَ يَقِينًا كَالْقُرْآنِ، وَالتَّوْرَاةِ، وَالزَّبُورِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَإِجْمَالًا فِيمَا عَدَاهُ، وَأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ نَسْخٌ، وَلَا تَحْرِيفٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وَأَمَّا كَوْنُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَهْلِ السُّنَّةِ. قِيلَ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ، مِنْهَا عَشْرُ صَحَائِفَ نَزَلَتْ عَلَى آدَمَ وَخَمْسُونَ عَلَى شِيثَ، وَثَلَاثُونَ عَلَى إِدْرِيسَ، وَعَشَرَةٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَرْبَعَةُ السَّابِقَةُ، وَأَفْضَلُهَا الْقُرْآنُ، [ (وَرُسُلِهِ) ] بِأَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُمْ بَلَّغُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَتُؤْمِنَ بِوُجُودِهِمْ فِيمَنْ عُلِمَ بِنَصٍّ، أَوْ تَوَاتَرَ تَفْصِيلًا، وَفِي غَيْرِهِمْ إِجْمَالًا. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَرَادُفِ الرَّسُولِ، وَالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ يَجِبُ بِالْأَنْبِيَاءِ. وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَاءُ عِدَّةِ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: (مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» ) اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّغَايُرِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّبِيَّ إِنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ، وَالرَّسُولَ مَنْ أُمِرَ بِهِ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَا عَكْسَ، فَلَعَلَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي الْإِيمَانِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ تَبْلِيغِ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُ لَا تَبْلِيغَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مَنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ التَّفْصِيلُ، وَالثَّابِتَ هُوَ الْإِجْمَالُ، أَوِ النَّفْيُ مُقَيِّدٌ بِالْوَحْيِ الْجَلِيِّ، وَالثُّبُوتُ مُتَحَقِّقٌ بِالْوَحْيِ الْخَفِيِّ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا فَائِدَةُ ذِكْرِ مَا بَعْدَ الرُّسُلِ، وَمَا قَبْلَهُمْ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِمْ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: التَّنْبِيهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ؟ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ الْمَلَكَ بِالْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ لِمَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، أَوِ الْمَعَادِ، وَأَنَّ الْخَيْرَ، وَالشَّرَّ يَجْرِيَانِ عَلَى الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى مَا قَدَّرَهُ، وَقَضَاهُ، وَأَرَادَهُ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ لَا لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنَ الرُّسُلِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ، وَلَا مِنَ الْكُتُبِ إِذْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ عَالِمِ التَّكْلِيفِ، وَالْوَسَائِطِ، وَإِلَّا فَمَا قَامَ لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، مَعْلُومٌ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَمْكِينِهِ فِي وَقْتِ كُشُوفِ الْمُشَاهَدَةِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي بَحْرِ الْوَحْدَةِ حَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ أَثَرُ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْكَوْنَيْنِ، وَهَذَا مَحَلُّ اسْتِقَامَتِهِ فِي مَشْهَدِ التَّمْكِينِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وَلَيْسَ هُنَاكَ مَقَامُ جِبْرِيلَ، وَجَمِيعِ الْكَرُوبِيِّينَ، وَلَا مَقَامُ الصَّفِيِّ، وَالْخَلِيلِ، وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ أَكْثَرَ أَوْقَاتِهِ كَذَلِكَ لَكِنْ يَرُدُّهُ اللَّهُ إِلَى تَأْدِيبِ أُمَّتِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِيُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ التَّلْوِينِ، وَلَا يَذُوبَ فِي أَنْوَارِ كِبْرِيَاءِ الْأَزَلِ، [ (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ] أَيْ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَهُوَ الْأَحْسَنُ لِيَشْمَلَ أَحْوَالَ الْبَرْزَخِ فَإِنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ مُقَدِّمَتُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أُخِّرَ عَنْهُ الْحِسَابُ، وَالْجَزَاءُ، وَقِيلَ هُوَ الْأَبَدُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ لِتَأَخُّرِهِ عَنِ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِوُجُودِهِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، وَالْحِسَابِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: وَالْبَعْثِ الْآخِرِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، أَوْ لِإِفَادَةِ تَعَدُّدِهِ ; فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، أَوْ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ إِلَى الدُّنْيَا، وَالثَّانِي الْبَعْثُ مِنْ بُطُونِ الْقُبُورِ إِلَى مَحَلِّ الْحَشْرِ، وَالنُّشُورِ. وَفِي أُخْرَى لَهُ: وَبِلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، فَاللِّقَاءُ الِانْتِقَالُ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ، وَالْبَعْثُ بَعْثُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ حِسَابٍ، وَمِيزَانٍ، وَجَنَّةٍ، وَنَارٍ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي رِوَايَةٍ. وَقِيلَ: اللِّقَاءُ الْحِسَابُ، وَقِيلَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَعْثِ بِعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ [ (وَتُؤْمِنَ) ] ، أَيْ: وَأَنْ تُؤْمِنَ [ (بِالْقَدَرِ) ] : بِفَتْحِ الدَّالِّ، وَيُسَكَّنُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَقَضَاهُ، وَإِعَادَةُ الْعَامِلِ إِمَّا

لِبُعْدِ الْعَهْدِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانِيُّ أَنَّنِي ... إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبُهَا أَوْ لِشَرَفِ قَدْرِهِ، وَتَعَاظُمِ أَمْرِهِ وَقَعَ فِيهِ الِاهْتِمَامُ لِأَنَّهُ مَحَارُ الْأَفْهَامِ، وَمَزَالُّ الْأَقْدَامِ، وَقَدْ عَلِمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الْأُمَّةَ سَيَخُوضُونَ فِيهِ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّقُونَهُ فَاهْتَمَّ بِشَأْنِهِ، ثُمَّ قَرَّرَهُ بِالْإِبْدَالِ بِقَوْلِهِ: [ (خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ) ] أَيْ: نَفْعِهِ، وَضُرِّهِ، وَزِيدَ فِي رِوَايَةٍ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ، فَإِنَّ الْبَدَلَ تَوْضِيحٌ مَعَ التَّوْكِيدِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْمِيمِ لِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَعِنْدِي أَنَّ إِعَادَةَ الْعَامِلِ هُنَا أَفَادَتْ أَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ بِهِ دُونَ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ كَفَرَ بِخِلَافِ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ، وَالتَّكْمِيلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ بَدَلُ بَعْضٍ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلُ الْكُلِّ، وَالرَّابِطَةُ بَعْدَ الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى تَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْخَيْرَ، وَالشَّرَّ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلَائِقِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مُتَعَلِّقٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ مُرْتَبِطٌ بِقَدَرِهِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] وَهُوَ مُرِيدٌ لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] فَالطَّاعَاتُ يُحِبُّهَا، وَيَرْضَاهَا بِخِلَافِ الْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] وَالْإِرَادَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الرِّضَا، ثُمَّ الْقَضَاءُ هُوَ الْحُكْمُ بِنِظَامِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى تَرْتِيبٍ خَاصٍّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثَانِيًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَالْقَدَرُ تُعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِالْأَشْيَاءِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَهُوَ تَفْصِيلُ قَضَائِهِ السَّابِقِ بِإِيجَادِهَا فِي الْمَوَادِّ الْجُزْئِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِلَوْحِ الْمَحْوِ، وَالْإِثْبَاتِ كَمَا يُسَمَّى الْكِتَابُ بِلَوْحِ الْقَضَاءِ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ بِلَوْحِ الْقَدَرِ فِي وَجْهِ هَذَا تَحْقِيقُ كَلَامِ الْقَاضِي. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِيمَانِ بِالْقَضَاءِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَذَكَرَ الرَّاغِبُ أَنَّ الْقَدَرَ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالْقَضَاءَ هُوَ التَّفْصِيلُ، فَهُوَ أَخَصُّ، وَمَثَّلَ هَذَا بِأَنَّ الْقَدَرَ مَا أُعِدَّ لِلُّبْسِ، وَالْقَضَاءَ بِمَنْزِلَةِ اللُّبْسُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ. كَانَ فِي الْبَدْءِ عِلْمٌ، ثُمَّ ذِكْرٌ، ثُمَّ مَشِيئَةٌ، ثُمَّ تَدْبِيرٌ، ثُمَّ مَقَادِيرُ، ثُمَّ إِثْبَاتٌ فِي اللَّوْحِ، ثُمَّ إِرَادَةٌ، ثُمَّ قَضَاءٌ، فَإِذَا قَالَ: كُنْ فَكَانَ عَلَى الْهَيْئَةِ إِلَى عِلْمٍ فَذِكْرٍ، ثُمَّ شَاءَ فَدَبَّرَ، ثُمَّ قَدَّرَ، ثُمَّ أَثْبَتَ، ثُمَّ قَضَى، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ حَيْثُ اسْتَقَامَ فِي الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ إِلَى أَنِ اسْتَقَامَ فِي اللَّوْحِ، ثُمَّ اسْتَبَانَ إِلَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ أُمُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ الْقَدَرَ كَتَقْدِيرِ النَّقَّاشِ الصُّورَةَ فِي ذِهْنِهِ، وَالْقَضَاءَ كَرَسْمِهِ تِلْكَ الصُّورَةَ لِلتِّلْمِيذِ بِالْأُسْرُبِ، وَوَضْعُ التِّلْمِيذِ الصِّبْغَ عَلَيْهَا مُتَّبِعًا لِرَسْمِ الْأُسْتَاذِ هُوَ الْكَسْبُ، وَالِاخْتِيَارُ، وَهُوَ فِي اخْتِيَارِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ رَسْمِ الْأُسْتَاذِ كَذَلِكَ الْعَبْدُ فِي اخْتِيَارِهِ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَالْقَدَرِ، وَلَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، هَذَا وَالْقَدَرِيَّةُ فَسَّرُوا الْقَضَاءَ بِعِلْمِهِ بِنِظَامِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنْكَرُوا تَأْثِيرَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ خَيْرَهَا، وَشَرَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُرَادَةٌ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ مُكْتَسَبَةٌ لِلْعِبَادِ لِأَنَّ لَهُمْ نَوْعَ اخْتِيَارٍ فِي كَسْبِهَا، وَإِنْ رَجَعَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى إِرَادَتِهِ وَخَلْقِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَهَذَا أَوْسَطُ الْمَذَاهِبِ، وَأَعْدَلُهَا، وَأَوْفَقُهَا لِلنُّصُوصِ، فَهُوَ الْحَقُّ، وَالصَّوَابُ خِلَافًا لِلْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِبَادَ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، إِذْ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا تَكْلِيفَ، وَمَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِهَذَا اللَّازِمِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ سَلْبَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ أَصْلِهَا إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيهَا أَحَدٌ بِوَجْهٍ فَإِنَّهُ مُبْتَدِعٌ، وَخِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ النَّافِينَ لِلْقَدَرِ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ، وَأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا، وَأَنَّ إِرَادَتَهُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا لِاسْتِقْلَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِالْإِيجَادِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي أَفْعَالِهِ، إِذْ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ لَهُ تَعَالَى شُرَكَاءَ فِي مُلْكِهِ سُبْحَانَهُ، فَمَنِ اعْتَقَدَ حَقِيقَةَ الشَّرِكَةِ قَصْدًا فَقَدْ كَفَرَ، أَوْ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. رُوِيَ أَنَّهُ كَتَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِىُّ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَالْقَدَرِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدَرِهِ خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ حَمَلَ ذَنْبَهُ عَلَى رَبِّهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُطَاعُ اسْتِكْرَاهًا، وَلَا يُعْصَى بِغَلَبَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِمَا مَلَّكَهُمْ

وَقَادِرٌ عَلَى مَا أَقْدَرَهُمْ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالطَّاعَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا عَمِلُوا، وَإِنْ عَمِلُوا بِالْمَعْصِيَةِ فَلَوْ شَاءَ لَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا عَمِلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي جَبَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ جَبَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى الطَّاعَةِ لَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الثَّوَابَ، وَلَوْ جَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الْعِقَابَ، وَلَوْ أَهْمَلَهُمْ كَانَ ذَلِكَ عَجْزًا فِي الْقُدْرَةِ، وَلَكِنْ لَهُ فِيهِمُ الْمَشِيئَةُ الَّتِي غَيَّبَهَا عَنْهُمْ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالطَّاعَةِ فَلَهُ الْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَمِلُوا بِالْمَعْصِيَةِ فَلَهُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَالسَّلَامُ، فَهَذِهِ رِسَالَةٌ يَظْهَرُ عَلَيْهَا أَنْوَارُ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِتَوْحِيدِ ذَاتِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ إِتْيَانَ الْمَقْدُورَاتِ وَأَحْكَامِهَا عَلَى مَا هُوَ حَقُّهَا فِي أَزْمِنَةٍ وَأَمْكِنَةٍ مَخْصُوصَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَوَحُّدِ الْحُكْمِ بِتَقْدِيرِهَا الْمُقْتَضِي لِتَوَحُّدِ الْمُقَدِّرِ، وَالْعِلْمِ بِصِفَاتِهِ كَسِعَةِ عِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَآثَارِ قُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَنُفُوذِ قَضَائِهِ فِيهِمْ، وَالْعِلْمِ بِكَمَالِ صُنْعِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَسْبَابِ الْإِلَهِيَّةِ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَقْطَعُ الْقَدَرَ، وَلَا يُنَازِعُ أَحَدًا فِي طَلَبِ شَيْءٍ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَلَا يَأْنَسُ بِهَا إِذَا وَجَدَهَا، وَلَا يَغْضَبُ بِسَبَبِ فَوْتِ شَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ، وَلَا بِوُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَهَارِبِ. قَالَ تَعَالَى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " «مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ» ". فَيَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لِلْحَقِّ فِيمَا أَرَادَهُ مِنَ الْقَضَاءِ الْمُطْلَقِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ سَائِرِ الْخَلْقِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ وُجُودَ مَخْلُوقَاتِهِ لِمَظَاهِرِ تَجَلِّي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَلِكُلٍّ مِنْهَا مِقْدَارٌ مُقَدَّرٌ لِمَظَاهِرِ تَجَلِّي مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ، وَبِذَلِكَ يُسَبِّحُ لَهُ كَمَا قَالَهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وَلِكُلِّ ذَرَّةٍ لِسَانٌ مَلَكُوتِيٌّ نَاطِقٌ بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ تَنْزِيهًا لِصَانِعِهِ، وَحَمْدًا لَهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ مِنْ مَظْهَرِيَّتِهَا لِلصِّفَاتِ الْجَمَالِيَّةِ وَالْجَلَالِيَّةِ فَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَقَادِيرُ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ دُونَ ذَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهَا إِلَّا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ لَا يَسَعُنِي أَرْضِي، وَلَا سَمَائِي، وَلَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، وَلِذَا قِيلَ: قَلْبُ الْمُؤْمِنِ عَرْشُ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: لَوْ وَقَعَ الْعَالَمُ أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا قَلْبِ الْعَارِفِ مَا أَحَسَّ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [قَالَ: (صَدَقْتَ) قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ] : قِيلَ أَيِ: الْمَعْهُودُ ذِهْنًا فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] وَ {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْآيَاتِ مَا اشْتَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ، وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْنَى الْأَخَصُّ فَقِيلَ أَرَادَ بِهِ الْإِخْلَاصَ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا لِأَنَّ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْكَلِمَةِ، وَجَاءَ بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَكُنْ إِيمَانُهُ صَحِيحًا قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ. فَكَانَ الْمُخْلِصُ فِي الطَّاعَةِ يُوصِلُ الْفِعْلَ الْحِسِّيَّ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَائِي يُبْطِلُ عَمَلَ نَفْسِهِ، وَالْإِخْلَاصُ تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ مِنْ طَلَبِ عِوَضٍ، وَغَرَضِ عَرَضٍ، وَرُؤْيَةِ رِيَاءٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِحْسَانُ الْعَمَلِ، وَهُوَ إِحْكَامُهُ وَإِتْقَانُهُ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِخْلَاصَ، وَمَا فَوْقَهُ مِنْ مَرْتَبَةِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ، وَنَفْيِ الشُّعُورِ عَمَّا سِوَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ. [قَالَ: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ) ] ، أَيْ: تُوَحِّدَهُ، وَتُطِيعَهُ فِي أَوَامِرِهِ، وَزَوَاجِرِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنْ تَخْشَى اللَّهَ، وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ أَثَرُ الْخَشْيَةِ، وَهِيَ مُنْتِجَةٌ لِلْعِبَادَةِ، وَهِيَ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ وَالْمَذَلَّةِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْعِبَادَةُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مُنَافٍ لِلشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ تَصْدُرُ عَنْ نِيَّةٍ يُرَادُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةً لِلشَّرِيعَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَهِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى مِنْ إِبْدَاعِ الْخَلْقِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً ازْدَادَ عُبُودِيَّةً، وَلِذَا خُصَّ الْأَنْبِيَاءُ، وَأُولُو الْعَزْمِ بِخَصَائِصَ فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا يَنْفَكُّ الْعَبْدُ عَنْهَا مَا دَامَ حَيًّا بَلْ فِي الْبَرْزَخِ عَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى لَمَّا سَأَلَهُ الْمَلَكَانِ عَنْ رَبِّهِ، وَدِينِهِ، وَنَبِيِّهِ، وَفِي الْقِيَامَةِ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وَإِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ مَقْرُونًا بِأَنْفَاسِهِ، وَفِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ: أَنَّ الْعِبَادَةَ حِفْظُ الْحُدُودِ وَالْوَفَاءُ

بِالْعُهُودِ، وَقَطْعُ الْعَلَائِقِ وَالشُّرَكَاءِ عَنْ شِرْكٍ، وَالْفَنَاءُ عَنْ مُشَاهَدَتِكَ فِي مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ، وَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْبُدَهُ رَهْبَةً مِنَ الْعِقَابِ وَرَغْبَةً فِي الثَّوَابِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعِبَادَةِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ. أَوْ يَعْبُدَهُ تَشَوُّقًا لِعِبَادَتِهِ وَقَبُولَ تَكَالِيفِهِ، وَتُسَمَّى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَهُ عَيْنُ الْيَقِينِ، أَوْ يَعْبُدَهُ لِكَوْنِهِ إِلَهًا وَكَوْنِهِ عَبْدًا، وَالْإِلَهِيَّةُ تُوجِبُ الْعُبُودِيَّةَ، وَتُسَمَّى بِالْعُبُودَةِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَهُ حَقُّ الْيَقِينِ، وَالشِّرْكُ رُؤْيَةُ ضُرٍّ، أَوْ نَفْعٍ مِمَّا سِوَاهُ، وَإِثْبَاتُ وُجُودِ غَيْرِ اللَّهِ ذَاتًا، أَوْ صِفَةً، أَوْ فِعْلًا [ (كَأَنَّكَ تَرَاهُ) ] : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: عِبَادَةٌ شَبِيهَةٌ بِعِبَادَتِكَ حِينَ تَرَاهُ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ مُشَبَّهًا بِمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ خَوْفًا مِنْهُ وَحَيَاءً، وَخُضُوعًا، وَخُشُوعًا، وَأَدَبًا، وَصَفَاءً، وَوَفَاءً، وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنْ قَامَ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي عِبَادَةِ الْعَبْدِ مَعَ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ يَرَى مَنْ يَعْمَلُ لَهُ الْعَمَلَ يَعْمَلُ لَهُ أَحْسَنَ مَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْسِينَ لِرُؤْيَةِ الْمَعْمُولِ لَهُ الْعَامِلَ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَامِلُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَعْمُولَ لَهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ يَجْتَهِدُ فِي إِحْسَانِهِ الْعَمَلَ أَيْضًا، وَلِذَا قَالَ: [ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ) ] أَيْ: تُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ مَنْ تَرَاهُ [ (فَإِنَّهُ يَرَاكَ) ] أَيْ: فَعَامِلْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَرَاكَ، أَوْ فَأَحْسِنْ فِي عَمَلِكَ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ لَمْ تَرَهُ أَيْ: بِأَنْ غَفَلْتَ عَنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ الْمُحَصِّلَةِ لِغَايَةِ الْكَمَالِ فَلَا تَغْفُلْ عَمَّا يَجْعَلُ لَكَ أَصْلَ الْكَمَالِ، فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ جُلُّهُ. بَلِ اسْتَمِرَّ عَلَى إِحْسَانِ الْعِبَادَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ فَإِنَّهُ يَرَاكَ أَيْ: دَائِمًا، فَاسْتَحْضِرْ ذَلِكَ لِتَسْتَحْيِيَ مِنْهُ حَتَّى لَا تَغْفُلَ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ، وَلَا تُقَصِّرَ فِي إِحْسَانِ طَاعَتِهِ ; وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ مِثْلَ الرُّؤْيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَلَا تَغْفُلْ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، فَالْفَاءُ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَتَعْلِيلُ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَا يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ حَاصِلَةٌ. سَوَاءٌ رَآهُ الْعَبْدُ أَمْ لَا. بَلِ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ لَازِمُهُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَكُنْ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَرَاكَ، وَهُوَ مُوهِمٌ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَاعْبُدْهُ كَأَنَّهُ يَرَاكَ كَمَا ظَنَّ فَإِنَّهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ اهـ. وَأَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى الطِّيبِيِّ، وَبَيَانُهُ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا مُتَحَقِّقَةٌ دَائِمًا حَالَةَ الْعِبَادَةِ، وَغَيْرِهَا، فَالتَّعْبِيرُ بِكَأَنَّهُ يَرَاكَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَوَهَمَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَأَنَّكَ تَرَاهُ أَيْ: كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَيَرَاكَ فَحَذَفَ الثَّانِيَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَلَطٌ قَبِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وَهُوَ يَرَاكَ ; وَحَاصِلُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْحَثُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ، وَمُرَاقَبَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ الْمُكَاشَفَةِ، وَمَعْنَاهُ إِخْلَاصُ الْعُبُودِيَّةِ، وَرُؤْيَةُ الْغَيْرِ بِنَعْتِ إِدْرَاكِ الْقَلْبِ عِيَانَ جَلَالِ ذَاتِ الْحَقِّ، وَفَنَائِهِ عَنِ الرُّسُومِ فِيهِ. وَالثَّانِي إِلَى مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ فِي الْإِجْلَالِ، وَحُصُولِ الْحَيَاءِ مِنَ الْعِلْمِ بِاطِّلَاعِ ذِي الْجَلَالِ. قِيلَ: الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِأَنْ تَكُونَ فَانِيًا تَرَاهُ بَاقِيًا فَإِنَّهُ يَرَاكَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ وَزَوَالٍ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُسَاعِدُهُ الرَّسْمُ بِالْأَلِفِ فَمَدْفُوعٌ بِحَمْلِهِ عَلَى لُغَةٍ، أَوْ عَلَى إِشْبَاعِ حَرَكَةٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُبْتَدَأٍ، وَهُوَ أَنْتَ، وَجَازَ حَذْفُ الْفَاءِ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ فِي حَالِ شُعُورِكَ بِوُجُودِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِذَا فَنَيْتَ، وَمِتَّ مَوْتًا حَقِيقِيًّا تَرَاهُ رُؤْيَةً حَقِيقِيَّةً، وَتَرْتَفِعُ الْعِبَادَاتُ التَّكْلِيفِيَّةُ وَالتَّكَلُّفِيَّةُ، وَإِذَا مِتَّ مَوْتًا مَجَازِيًّا، وَدَخَلْتَ فِي حَالِ الْفَنَاءِ، وَبَقِيتَ فِي مَقَامِ الْبَقَاءِ تَرَاهُ رُؤْيَةَ مُشَاهَدَةٍ غَيْبِيَّةٍ تُسْقِطُ عَنْكَ ثِقَلَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ نَفْسَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرِيَّةِ عِنْدَ غَلَبَاتِ الْجَذَبَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَرَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ مَا أَيْضًا بِاللَّاحِقِ، وَإِنَّمَا أَطْنَبْتُ فِي الْمَقَامِ لِتَخْطِئَةِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَفِي بَعْضِهِا فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِمَا تَقَدَّمَ مَا ادَّعَى الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُؤَدَّى بِالْعِبَارَةِ، بَلْ ذَكَرَ مَعْنًى يُؤْخَذُ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ. قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ دَلِيلٌ لِمَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لَا تَقَعُ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ ( «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» ) قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لِأَنَّ الْبَصَرَ فِي الدُّنْيَا خُلِقَ لِلْفَنَاءِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رُؤْيَةِ الْبَاقِي بِخِلَافِهِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا خُلِقَ لِلْبَقَاءِ الْأَبَدِيِّ قَوِيَ

وَقَدَرَ عَلَى نَظَرِ الْبَاقِي سُبْحَانَهُ، فَرُؤْيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِعَيْنِ رَأْسِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ فِي الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَالُ الدُّنْيَا، وَنِزَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ مَعْرُوفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا وَقَدْ جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ جِبْرِيلَ هُنَا أَيْضًا قَالَ: صَدَقْتَ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ لَمْ يَذْكُرْهُ نِسْيَانًا، أَوِ اخْتِصَارًا، أَوِ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَذْكُورِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِ السُّنَّةِ مَسْطُورٌ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ هَاهُنَا صَدَقْتَ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِخْلَاصُ، وَهُوَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُسَلْسَلِ الرَّبَّانِيِّ: «الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِي أَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُ مِنْ عِبَادِي» اهـ. وَمَا ذُكِرَ أَوَّلًا هُوَ الْأَوْلَى (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ) أَيْ: عَنْ وَقْتِ قِيَامِهَا لِمَا فِي رِوَايَةِ: مَتَى السَّاعَةُ، لَا وُجُودُهَا؛ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ السَّابِقِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَبَّرَ بِهَا عَنْهَا، وَإِنْ طَالَ زَمَنُهَا اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ زَمَانِهَا، فَإِنَّهَا تَقَعُ بَغْتَةً، أَوْ لِسُرْعَةِ حِسَابِهَا، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ لِطُولِهَا، أَوْ تَفَاؤُلًا كَالْمَفَازَةِ لِلْمَهْلَكَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا عِنْدَ اللَّهِ كَسَاعَةٍ عِنْدَ الْخَلْقِ كَذَا فِي الْكَشَّافِ. وَالسَّاعَةُ لُغَةً مِقْدَارٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَعُرْفًا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قِيلَ: وَالسَّاعَةُ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْقِيَامَةِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْكُبْرَى تُطْلَقُ عَلَى مَوْتِ أَهْلِ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْوُسْطَى كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ فَأَشَارَ إِلَى أَصْغَرِهِمْ، ( «إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ» ) إِذِ الْمُرَادُ انْقِضَاءُ عَصْرِهِمْ، وَلِذَا أَضَافَ إِلَيْهِمْ وَعَلَى الْمَوْتِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الصُّغْرَى، وَوَرَدَ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ. قَالَ: (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ وَقْتِهَا. قِيلَ، حَقُّ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهُ لِيَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى اللَّامِ. أُجِيبَ: بِأَنَّهُ كَمَا يُقَالُ سَأَلْتُ عَنْ زَيْدٍ الْمَسْأَلَةَ يُقَالُ سَأَلْتُهُ عَنْهَا، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْأَكْثَرُ فَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّامِ، وَالْمَجْرُورُ إِلَى السَّاعَةِ، وَمَا نَافِيةٌ أَيْ: لَيْسَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهَا. (بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ) : نَفَى أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِأَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ - فِي أَمْرِ السَّاعَةِ - لِأَنَّهَا مِنْ مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) . قِيلَ أَيْ: عَنْ ذَاتِي مُبَالِغَةً عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ يَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، فَلَا يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَعْلَمِيَّةِ نَفْيُ أَصْلِ الْعِلْمِ عَنْهَا مَعَ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَمَسَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: لَسْتُ أَعْلَمَ بِعِلْمِ السَّاعَةِ مِنْكَ لَكِنَّهُ عَدَلَ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى كُلُّ سَائِلٍ وَمَسْئُولٍ سِيَّانِ فِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ فَنَكَّسَ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. قِيلَ: وَمَا أَفْهَمَهُ مِنْ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْعِلْمِ بِهِ غَيْرُ الْمُرَادِ فَإِنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَعْلَمَانِهِ مِنْهُ، وَهُوَ نَفْسُ وُجُودِهَا، وَهَذَا وَقَعَ بَيْنَ عِيسَى وَجِبْرِيلَ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ عِيسَى كَانَ سَائِلًا وَجِبْرِيلُ مَسْئُولًا فَانْتَفَضَ بِأَجْنِحَتِهِ فَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ. فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ سَأَلَ جِبْرِيلُ عَنِ السَّاعَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْآيَةِ، وَبَيْنَ مَا اشْتُهِرَ عَنِ الْعُرَفَاءِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْغَيْبِيَّةِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي مُعْتَقَدِهِ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَبْدَ يُنْقَلُ فِي الْأَحْوَالِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى نَعْتِ الرُّوحَانِيَّةِ فَيَعْلَمَ الْغَيْبَ، وَتُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ، وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَغِيبُ عَنِ الْأَبْصَارِ ; فَالْجَوَابُ: أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ فَلِتَنْبِيهِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْجَوَابُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَلَا الِاسْتِنْكَافُ مِنْ قَوْلِ لَا أَدْرِي الَّذِي هُوَ نِصْفُ الْعِلْمِ كَمَا نَبَّهَهُمْ مِمَّا لَهُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِمَّا قَدْ سَلَفَ بِحُسْنِ السُّؤَالِ الَّذِي هُوَ نِصْفُ الْعِلْمِ فَتَمَّ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي فَلِأَنَّ لِلْغَيْبِ مَبَادِئَ وَلَوَاحِقَ، فَمَبَادِئُهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَمَّا اللَّوَاحِقُ، فَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ عَلَى بَعْضِ أَحِبَّائِهِ لَوْحَةَ عِلْمِهِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَنِ الْغَيْبِ الْمُطْلَقِ، وَصَارَ غَيْبًا إِضَافِيًّا، وَذَلِكَ إِذْ تَنَوَّرَ الرُّوحُ الْقُدُسِيَّةُ،

وَازْدَادَ نُورِيَّتُهَا، وَإِشْرَاقُهَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ظُلْمَةِ عَالَمِ الْحِسِّ، وَتَحْلِيَةُ مِرْآةِ الْقَلْبِ عَنْ صَدَأِ الطَّبِيعَةِ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَفَيَضَانُ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ حَتَّى يَقْوَى النُّورُ، وَيَنْبَسِطَ فِي فَضَاءِ قَلْبِهِ فَتَنْعَكِسُ فِيهِ النُّقُوشُ الْمُرْتَسِمَةُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ، وَيَتَصَرَّفُ فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، بَلْ يَتَجَلَّى حِينَئِذٍ الْفَيَّاضُ الْأَقْدَسُ بِمَعْرِفَتِهِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعَطَايَا فَكَيْفَ بِغَيْرِهَا؟ (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ أَمَارَةٍ أَيْ: عَلَامَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْ أَشْرَاطِهَا، وَهُوَ جَمْعُ شَرْطٍ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَالْمُرَادُ شَيْءٌ مِنْ عَلَامَاتِهَا الدَّالَّةِ عَلَى قُرْبِهَا، وَلِذَا قِيلَ أَيْ: مُقَدِّمَاتُهَا، وَقِيلَ صِغَارُ أُمُورِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ سَأُخْبِرُكَ، وَفِي أُخْرَى، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، وَجُمِعَ بِأَنَّهُ ابْتَدَأَهُ بِقَوْلِهِ، وَسَأُخْبِرُكَ، فَقَالَ السَّائِلُ: فَأَخْبِرْنِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَةٍ: وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ نَبَّأَتُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا. قَالَ: أَجَلْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَحَدِّثْنِي [ (قَالَ: (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا) ] أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ عَلَامَاتِهَا أَوْ إِحْدَى أَمَارَاتِهَا وِلَادَةُ الْأَمَةِ مَالِكَهَا وَمَوْلَاهَا، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ عَلَامَاتُهَا وِلَادَةُ الْأَمَةِ، وَرُؤْيَةُ الْحُفَاةِ فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَ عَنِ الْجَمْعِ بِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّهُ كَمَا عَلَيْهِ جُمِعَ، وَتَأْنِيثُهَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ ذُكِّرَ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ، لِيَشْمَلَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، أَوْ فِرَارًا مِنْ شَرِكَةِ لَفْظِ رَبِّ الْعِبَادِ، وَإِنْ جَوَّزَ إِطْلَاقَهُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِالْإِضَافَةِ دُونَ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ أَرَادَ الْبِنْتَ فَيُعْرَفُ الِابْنُ بِالْأَوْلَى، وَالْإِضَافَةُ إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ سَبَبُ عِتْقِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ وَلَدُ رَبِّهَا، أَوْ مَوْلَاهَا بَعْدَ الْأَبِ، وَفَسَّرَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِأَنَّ السَّبْيَ يَكْثُرُ بَعْدَ اتِّسَاعِ رُقْعَةِ الْإِسْلَامِ فَيَسْتَرِدُّ النَّاسُ إِمَاءَهُمْ، فَيَكُونُ الْوَلَدُ كَالسَّيِّدِ لِأُمِّهِ لِأَنَّ مِلْكَهَا رَاجِعٌ إِلَيْهِ فِي التَّقْدِيرِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قُوَّةِ الدِّينِ، وَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنَ الْأَمَارَاتِ؛ لِأَنَّ بُلُوغَ الْغَايَةِ مُنْذِرٌ بِالتَّرَاجُعِ وَالِانْحِطَاطِ الْمُؤْذِنِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ إِلَى أَنَّ الْأَعِزَّةَ تَصِيرُ أَذِلَّةً لِأَنَّ الْأُمَّ مُرَبِّيَةٌ لِلْوَلَدِ مُدَبِّرَةٌ أَمْرَهُ فَإِذَا صَارَ الْوَلَدُ رَبَّهَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بِنْتًا يَنْقَلِبُ الْأَمْرُ كَمَا أَنَّ الْقَرِينَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّ الْأَذِلَّةَ يَنْقَلِبُونَ أَعِزَّةً مُلُوكَ الْأَرْضِ فَيَتَلَاءَمُ الْمَعْطُوفَانِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ، وَانْقِلَابِ أَحْوَالِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يُشَاهَدُ قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثٍ أَنَّهُ ( «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، وَوُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» ) . وَقِيلَ: سُمِّيَ وَلَدُهَا سَيِّدَهَا؛ لِأَنَّ لَهُ وَلَاءَهَا بِإِرْثِهِ لَهُ عَنْ أَبِيهِ إِذَا مَاتَ، أَوْ أَنَّهُ كَسَيِّدِهَا لِصَيْرُورَةِ مَالِ أَبِيهِ إِلَيْهِ غَالِبًا فَتَصِيرُ أُمُّهُ كَأَنَّهَا أَمَتَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَاءَ تَلِدْنَ الْمُلُوكَ فَتَكُونُ أُمُّهُ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ، وَأُيِّدَ بِأَنَّ الرُّؤَسَاءَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ غَالِبًا مِنْ وَطْءِ الْإِمَاءِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي الْحَرَائِرِ، ثُمَّ انْعَكَسَ الْأَمْرُ سِيَّمَا مِنْ أَثْنَاءِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ السَّبْيَ إِذَا كَثُرَ قَدْ يُسْبَى الْوَلَدُ صَغِيرًا، ثُمَّ يُعْتَقُ، وَيَصِيرُ رَئِيسًا بَلْ مَلِكًا، ثُمَّ يَسْبِي أُمَّهُ فَيَشْتَرِيهَا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا بِهَا ثُمَّ يَسْتَخْدِمُهَا، وَقَدْ يَطَؤُهَا أَوْ يُعْتِقُهَا وَيَتَزَوَّجُهَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَسَادُ الْأَحْوَالِ بِكَثْرَةِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَتُرَدَّدُ فِي أَيْدِي الْمُشْتَرِينَ حَتَّى يَشْتَرِيَهَا ابْنُهَا أَوْ يَطَأَهَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ بَعْلِهَا، وَإِنْ فُسِّرَ بِسَيِّدِهَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى كَثْرَةِ عُقُوقِ الْأَوْلَادِ فَيُعَامِلُ الْوَلَدُ أُمَّهُ مُعَامَلَةَ السَّيِّدِ أَمَتَهُ مِنَ الْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَخُصَّ بِوَلَدِ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْعُقُوقَ فِيهِ أَغْلَبُ، وَعَبَّرَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِإِذَا بَدَلَ أَنِ الْمَفْتُوحَةِ إِشَارَةً إِلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا يُقَالُ: إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ، وَلَا يُقَالُ: إِنْ بِالْكَسْرِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ لِإِشْعَارِهِ بِالشَّكِّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي جَزْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ نَظَرٌ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَ هَذَا الْمَعْنَى وَاعْتَقَدَهُ، وَإِلَّا فَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ إِنْ مَوْضِعَ إِذْ، أَوْ بِالْعَكْسِ لِأَغْرَاضٍ بُيِّنَتْ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي [ (وَأَنْ تَرَى) ] : خِطَابٌ عَامٌّ لِيَدُلَّ عَلَى بُلُوغِ الْخَطْبِ فِي الْعِلْمِ مَبْلَغًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ رُؤْيَةُ رَاءٍ [ (الْحُفَاةَ) ] : بِضَمِّ الْحَاءِ جَمْعُ الْحَافِي، وَهُوَ مَنْ لَا نَعْلَ لَهُ، [ (الْعُرَاةَ) ] : جَمْعُ الْعَارِي، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى مَنْ يَكُونُ بَعْضُ بَدَنِهِ مَكْشُوفًا مِمَّا يَحْسُنُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَلْبُوسًا [ (الْعَالَةَ) ] : جَمْعُ عَائِلٍ، وَهُوَ الْفَقِيرُ مِنْ عَالَ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ، أَوْ مِنْ عَالَ يَعُولُ إِذَا افْتَقَرَ وَكَثُرَ عِيَالُهُ، [ (رِعَاءَ الشَّاءِ) ] : بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْمَدِّ جَمْعُ رَاعٍ كَتَاجِرٍ وَتِجَارٍ، وَالشَّاءُ جَمْعُ شَاةٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْإِبِلِ الْبُهْمِ بِضَمِّ الْبَاءِ أَيْ: السُّودِ، وَهُوَ بِجَرِّ الْمِيمِ وَرَفْعِهَا، وَصَفًا لِلرُّعَاةِ، جَمْعُ بَهِيمٍ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ حَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ لَهُمْ أَصْلٌ مِنْ أُبْهِمَ الْأَمْرُ، إِذَا لَمْ يُعْرَفْ حَقِيقَتُهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى سَوَادِ اللَّوْنِ لِأَنَّ الْأُدْمَةَ غَالِبُ أَلْوَانِ الْعَرَبِ، أَوْ لِلْإِبِلِ جَمْعُ بَهْمَاءَ إِذِ السُّودُ شَرُّهَا عِنْدَهُمْ، وَخَيْرُهَا عِنْدَهُمُ الْحُمْرُ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَفِي رِوَايَةٍ الْبَهْمِ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ مَعَ ذِكْرِ الْإِبِلِ بَلْ مَعَ حَذْفِهِ الَّذِي هُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ إِذْ هُوَ جَمْعُ بَهْمَةٍ

وَهِيَ صِغَارُ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ، وَرُجِّحَتْ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ؛ لِأَنَّ رِعَاءَ الْغَنَمِ أَضْعَفُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِخِلَافِ رِعَاءِ الْإِبِلِ فَهُمْ أَهْلُ فَخْرٍ وَخُيَلَاءَ. [ (يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ) ] أَيْ: يَتَفَاضَلُونَ فِي ارْتِفَاعِهِ وَكَثْرَتِهِ وَيَتَفَاخَرُونَ فِي حُسْنِهِ وَزِينَتِهِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ جَعَلْتَ الرُّؤْيَةَ فِعْلَ الْبَصِيرَةِ، أَوْ حَالٌ إِنْ جَعَلْتَهَا فِعْلَ الْبَاصِرَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَأَشْبَاهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ تُبْسَطُ لَهُمُ الدُّنْيَا مِلْكًا، أَوْ مُلْكًا فَيَتَوَطَّنُونَ الْبِلَادَ، وَيَبْنُونَ الْقُصُورَ الْمُرْتَفِعَةَ، وَيَتَبَاهَوْنَ فِيهَا، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَغَلُّبِ الْأَرَاذِلِ، وَتَذَلُّلِ الْأَشْرَافِ، وَتَوَلِّي الرِّئَاسَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَتَعَاطِي السِّيَاسَةِ مَنْ لَا يَسْتَحْسِنُهَا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا إِشَارَةٌ إِلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا إِشَارَةٌ إِلَى اتِّسَاعِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَيَتَنَاسَبُ الْمُتَعَاطِفَانِ فِي الْكَلَامِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمَا لِجَلَالَةِ خَطْبِهِمَا، وَنَبَاهَةِ شَأْنِهِمَا، وَقُرْبِ وُقُوعِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى إِيمَاءً إِلَى كَثْرَةِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَالْجَهْلِ وَبُلُوغِهَا مَبْلَغَ الْعُلْيَا، وَالثَّانِيَةُ إِلَى غَلَبَةِ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا، وَنِسْيَانِ مَنَازِلِ الْعُقْبَى، وَيُقَالُ: تَطَاوَلَ الرَّجُلُ إِذَا تَكَبَّرَ فَلَا يَرِدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: التَّفَاعُلُ فِيهِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعُرَاةِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ لَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِمَّا كَانَ عَزِيزًا فَذَلَّ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ الْعَارِينَ عَنِ الِقِيَامِ بِالدِّيَانَةِ يَسْكُنُونَ الْبِلَادَ، وَيَتَّخِذُونَ الْقُصُورَ الرَّفِيعَةَ، وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ انْقِلَابَ الدُّنْيَا مِنَ النِّظَامِ يُؤْذِنُ بِأَنْ لَا يُنَاسِبَ فِيهَا الْمَقَامَ فَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ الْكِرَامِ، كَمَا أَنْشَدَتِ الْمَلِكَةُ حُرَقَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ لَمَّا سُبِيَتْ، وَأُحْضِرَتْ عِنْدَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا ... إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ فَهَنِيئًا لِمَنْ جَعَلَ الدُّنْيَا كَسَاعَةٍ، وَاشْتَغَلَ فِيهَا بِالطَّاعَةِ قِيَامًا بِأَمْرِ الْحَبِيبِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. قَالَ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ - مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 1 - 2] (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (ثُمَّ انْطَلَقَ) أَيِ: السَّائِلُ (فَلَبِثْتُ) أَيْ: أَنَا. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَبِثَ أَيْ: هُوَ (مَلِيًّا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ الْمَلَاوَةِ إِذِ الْمَهْمُوزُ بِمَعْنَى الْغَنِيِّ أَيْ: زَمَانًا، أَوْ مُكْثًا طَوِيلًا، وَبَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ قَالَ عُمَرُ: فَلَبِثْتُ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَفِي أُخْرَى فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَفِي أُخْرَى لِابْنِ حِبَّانَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَنْدَهْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَفِي وُرُودِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ رَدٌّ عَلَى مَنْ وَهَمَ أَنَّ رِوَايَةَ ثَلَاثًا مُصَحَّفَةٌ مِنْ رِوَايَةِ مَلِيًّا، وَالْمَعْنَى أَنِّي لَمْ أَسَتَخْبِرْ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَهَابَةً، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَكَرَهُ فِي الْمَجْلِسِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَحْضُرْ فِي الْحَالِ بَلْ قَامَ فَأَخْبَرَ الصَّحَابَةَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عُمَرَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (ثُمَّ قَالَ لِي: (يَا عُمَرُ! أَتَدْرِي) أَيْ: أَتَعْلَمُ، وَفِي الْعُدُولِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى (مَنِ السَّائِلُ؟) أَيْ: مَا يُقَالُ فِي جَوَابِ هَذَا بَشَرٌ السُّؤَالِ (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) : لِأَنَّ الْأَمَارَاتِ السَّابِقَةَ وَالتَّعَجُّبَ أَوْقَعَهُمْ فِي التَّرَدُّدِ أَهُوَ بَشَرٌ أَمْ مَلَكٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ كَثِيرًا يُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ شَرِكَةٍ. (قَالَ: (فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ) أَيْ: إِذَا فَوَّضْتُمُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَخْبَارِ أَيْ: تَفْوِيضُكُمْ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْإِخْبَارِ بِهِ، وَقَرِينَةُ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ ; لِأَنَّهَا تُفْصِحُ عَنْ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَأَكَّدَ الْكَلَامَ لِأَنَّ السَّائِلَ طَالِبٌ مُتَرَدِّدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ رُدُّوهُ فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ فَمَا رَأَوْا شَيْئًا. قَالَ الْقَاضِي: وَجِبْرِيلُ مَلَكٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَمِنْ خَوَاصِّ الْمَلَكِ أَنْ يَتَمَثَّلَ لِلْبَشَرِ فَيَرَاهُ جِسْمًا. اهـ. قِيلَ: وَالسِّرُّ فِي التَّوَسُّطِ أَنَّ الْمُكَالَمَةَ تَقْتَضِي مُنَاسَبَةً بَيْنَ الْمُتَخَاطِبَيْنِ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَوَسُّطَ جِبْرِيلَ لِيَتَلَقَّفَ الْوَحْيَ بِوَجْهِهِ الَّذِي فِي عَالَمِ الْقُدْرَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا، أَوْ مِنَ اللَّوْحِ، وَيُلْقِيهِ بِوَجْهِهِ الَّذِي فِي عَالَمِ الْحِكْمَةِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُبَّمَا يَنْزِلُ الْمَلَكُ إِلَى صُورَةِ الْبَشَرِ، وَرُبَّمَا يَرْتَقِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ يَرْتَقِي إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَيَتَعَرَّى عَنِ الْكُسْوَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَيَرِدُ الْوَحْيُ عَلَى الْقَلْبِ فِي لُبْسَةِ الْجَلَالِ، وَأُبَّهَةِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْكَمَالِ، وَيَأْخُذُ بِمَجَامِعِهِ

فَإِذَا سُرِّيَ عَنْهُ وَجَدَهُ الْمُنْزِلُ مُلْقًى فِي الرُّوعِ كَمَا فِي الْمَسْمُوعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَحْيَانًا: ( «يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» "، ثُمَّ جِبْرِيلُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا مَعَ كَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ، وَبِفَتْحِهَا وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعَ يَاءٍ وَتَرْكِهَا، أَرْبَعُ لُغَاتٍ مُتَوَاتِرَاتٍ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ. [ (أَتَاكُمْ) ] : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، أَوْ خَبَرٌ لِجِبْرِيلَ عَلَى أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ [ (يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ) ] ": جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي أَتَاكُمْ أَيْ: عَازِمًا تَعْلِيمَكُمْ، فَهُوَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْإِتْيَانِ مُعَلِّمًا، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمُرَادُ تَثْبِيتُهُمْ عَلَى عِلْمِهِمْ، وَتَقْدِيرُهُ بِطَرِيقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِيَتَمَكَّنَ غَايَةَ التَّمَكُّنِ فِي نُفُوسِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَحْصُولَ بَعْدَ الطَّلَبِ أَعَزُّ مِنَ الْمُنْسَاقِ بِلَا تَعَبٍ، وَإِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَيْهِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ، وَأَضَافَ الدِّينَ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالدِّينِ الْقَيِّمِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، أَوِ الْخِطَابُ مَخْصُوصٌ بِالصَّحَابَةِ خُصُوصًا، أَوْ عُمُومًا، فَإِنَّ سَائِرَ النَّاسِ يَأْخُذُونَ دِينَهُمْ مِنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِحْسَانَ يُسَمَّى دِينًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] الْمُرَادُ بِهِ الْكَامِلُ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وَفِي رِوَايَةٍ: أَرَادَ أَنْ تَعْلَمُوا إِذَا لَمْ تَسْأَلُوا، وَفِي أُخْرَى: «وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا كُنْتُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَبِأَنَّهُ لَجِبْرِيلُ» ، وَفِي أُخْرَى: ثُمَّ وَلَّى، فَلَمَّا لَمْ يُرَ طَرِيقُهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ خُذُوا عَنْهُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ، وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى» ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مَعَ تَغْيِيرٍ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْأَرْبَعِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ عَلَى بَعْضِ رُوَاتِهِ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطُّرُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ غَزِيرَةٍ، وَفَوَائِدَ كَثِيرَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي طَرِيقِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا حَدِيثٌ جَلِيلٌ سُمِّيَ حَدِيثَ جِبْرِيلَ، وَأُمَّ الْأَحَادِيثِ، وَأُمَّ الْجَوَامِعِ؛ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَالطَّرِيقَةِ، وَالْحَقِيقَةِ بَيَانًا إِجْمَالِيًّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الَّذِي عُلِمَ تَفَاصِيلُهَا مِنَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ، وَالشَّرَائِعِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أُلُوفُ التَّحِيَّةِ، كَمَا أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ تُسَمَّى أُمَّ الْقُرْآنِ، وَأُمَّ الْكِتَابِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْحِكَمِ الْفُرْقَانِيَّةِ بِالدَّلَالَاتِ الْإِجْمَالِيَّةِ، فَحَدِيثُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ بِمَنْزِلَةِ الْبَسْمَلَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاتِحَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِالْحَمْدَلَةِ، وَهَذَا وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ لِاخْتِيَارِهَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَمَفْتَحِ الْأَبْوَابِ.

3 - وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ اخْتِلَافٍ، وَفِيهِ: " «وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ، مُلُوكَ الْأَرْضِ فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ " ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] الْآيَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3 - (وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا (مَعَ اخْتِلَافٍ) أَيْ: بَيْنَ بَعْضِ أَلْفَاظِهِمَا (وَفِيهِ) أَيْ: فِي مَرْوِيِّ أَبِي هُرَيْرَةَ (رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ) : فَأَخَذُوا يَرُدُّونَهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جِبْرِيلُ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ عَنِ النَّوَوِيِّ مَعَ أَنَّ كَوْنَ هَذَا الْإِخْبَارِ فِي الْمَجْلِسِ غَيْرَ صَرِيحٍ، فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِعْلَامِ عُمَرَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهِ أَيْضًا: (وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ) أَيْ: عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ (الْبُكْمَ) أَيْ: عَنِ النُّطْقِ بِالصِّدْقِ جُعِلُوا لِبَلَادَتِهِمْ، وَحَمَاقَتِهِمْ، وَعَدَمِ تَمْيِيزِهِمْ كَأَنَّهُ أُصِيبَتْ مَشَاعِرُهُمْ مَعَ كَوْنِهَا سَلِيمَةً تُدْرِكُ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ (مُلُوكَ الْأَرْضِ) : مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَرَأَيْتَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَالْمُرَادُ بِأُولَئِكَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ لِمَا فِي رِوَايَةٍ، قَالَ: مَا الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ؟ قَالَ: الْعُرَيْبُ مُصَغَّرُ الْعَرَبِ (فِي خَمْسٍ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَيْ: تَرَاهُمْ مُلُوكَ الْأَرْضِ مُتَفَكِّرِينَ فِي خَمْسِ كَلِمَاتٍ إِذْ مِنْ شَأْنِ الْمُلُوكِ الْجُهَّالِ التَّفَكُّرُ فِي أَشْيَاءَ تَعْنِيهِمْ، وَلَا تَعْنِيهِمْ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمَ أَيْ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ فِي عِلْمِ الْخَمْسِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِهَا مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى، وَفِيهِ إِشَارَةٌ

ظَاهِرَةٌ إِلَى إِبْطَالِ الْكِهَانَةِ، وَالتَّنْجِيمِ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ تَسَوُّرٌ عَلَى عِلْمِ شَيْءٍ كُلِّيٍّ أَوْ جُزْئِيٍّ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ، وَإِرْشَادٌ لِلْأُمَّةِ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ عَنْ إِتْيَانِ مَنْ يَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] . فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ أَخْبَرَ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْأَوْلِيَاءُ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ الْحَصْرُ؟ قُلْتُ: الْحَصْرُ بِاعْتِبَارِ كُلِّيَّاتِهَا دُونَ جُزْئِيَّاتِهَا، قَالَ تَعَالَى: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27] بِنَاءً عَلَى اتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى هَذِهِ الْخَمْسِ، وَأَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِهِ مَرْفُوعًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنِ ادَّعَى عِلْمَ شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ. قَالَ: وَأَمَّا ظَنُّ الْغَيْبِ فَقَدْ يَجُوزُ مِنَ الْمُنَجِّمِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرٍ عَادِيٍّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالْجُعْلِ وَإِعْطَائِهَا فِي ذَلِكَ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ ذَكَرَ الْعِلْمَ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ قَبْلَ ظُهُورِهِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا الْغَيْبُ خَمْسٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ غَيْبٌ يَعْلَمُهُ قَوْمٌ، وَيَجْهَلُهُ قَوْمٌ اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ بِأَخْبَارِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ مِنْ مَضْمُونِ كُلِّيَّاتِ الْآيَةِ، فَلَعَلَّهُ بِطَرِيقِ الْمُكَاشَفَةِ أَوِ الْإِلْهَامِ أَوِ الْمَنَامِ الَّتِي هِيَ ظَنِّيَّاتٌ لَا تُسَمَّى عُلُومًا يَقِينَيَّاتٍ، وَقِيلَ الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ أَيْ: ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي خَمْسٍ، أَوْ تَجِدُ ذَلِكَ فِي خَمْسٍ، وَقِيلَ فِي بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى: مِنْ، أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ خَمْسٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ أَيِ: السَّاعَةُ ثَابِتَةٌ، أَوْ مَعْدُودَةٌ فِي خَمْسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: هِيَ فِي خَمْسٍ مِنَ الِغَيْبِ أَيْ: عَدَمُ وَقْتِ السَّاعَةِ مُنْدَرِجٌ فِي جُمْلَةِ خَمْسِ كَلِمَاتٍ [ (لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) ] : كَمَا أَفَادَهُ تَقُومُ عِنْدَهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ، إِذِ الظَّرْفُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَعَطْفُ يُنَزِّلُ وَمَا بَعْدَهُ بِتَقْدِيرِ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ عَلَى السَّاعَةِ، وَجُمْلَةُ وَمَا تَدْرِي الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَنِ الِغَيْرِ فِيهِمَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يُفَسَّرِ الْخَمْسُ بِمَفَاتِيحِ الْغَيْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وَأَمَّا إِذَا فُسِّرَتْ بِهَا فَالْحَصْرُ جَلِيٌّ لَا يُحْتَاجُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ تَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى السُّؤَالِ اهْتِمَامًا بِذَلِكَ إِرْشَادًا لِلْأُمَّةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْكَثِيرَةِ الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ الْعَوَائِدِ، (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] أَيْ: آيَةُ تِلْكَ الْخَمْسِ بِكَمَالِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ بَيَانًا لَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَرَأَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَتَكُونَ الْآيَةُ اسْتِشْهَادًا وَمِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) قُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ: وَهُوَ يُنَزِّلُ الْمَطَرَ الَّذِي يُغِيثُ النَّاسَ فِي أَمْكِنَتِهِ وَأَزْمِنَتِهِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (الْآيَةَ) : مِنْ قَوْلِ أَحَدِ الرُّوَاةِ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، أَوْ يَعْنِي، أَوِ اقْرَأْ، أَوْ قَرَأَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَبِالرَّفْعِ أَيْ: الْآيَةُ مَعْلُومَةٌ مَشْهُورَةٌ إِذَا قَرَأَهَا، وَقِيلَ بِالْجَرِّ وَالتَّقْدِيرُ قَرَأَ، أَوِ اقْرَأْ إِلَى الْآيَةِ أَيْ: آخِرِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ إِلَى (خَبِيرٌ) وَأُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ إِلَى (الْأَرْحَامِ) وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ ثِقَةٍ وَإِفَادَةٍ، وَالرِّوَايَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ الْآيَةِ لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ، وَتَمَامُهَا (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) أَيْ: وَهُوَ يَعْلَمُ تَفْصِيلَ مَا فِي أَرْحَامِ الْإِنَاثِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَوَاحِدٍ وَمُتَعَدِّدٍ، وَكَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَطَوِيلٍ وَقَصِيرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} [الرعد: 8] أَيْ: تَنْقُصُ: وَمَا تَزْدَادُ أَيْ: مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَالْجُثَّةِ وَالْعَدَدِ {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] أَيْ: بِقَدَرٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَاوَزُهُ، وَعَدَلَ عَنِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ:

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] ; لِأَنَّ الدِّرَايَةَ اكْتِسَابُ عِلْمِ الشَّيْءِ بِحِيلَةٍ فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ مَعَ كَوْنِهِ مُخْتَصًّا بِهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ عَلَى عِلْمٍ كَانَ عَدَمُ اطِّلَاعِهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ ذَاتُ النَّفْسِ، أَوْ ذَاتُ الرُّوحِ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَا قِيلَ بِالْمُشَاكَلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ الْمُطْلَقُ فَيَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا وَرَدَ: (سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) . (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) أَيْ: بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا خُصُوصًا وَغَيْرِهَا عُمُومًا (خَبِيرٌ) أَيْ: بِبَاطِنِهَا، كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِظَاهِرِهَا، مَعْنَاهُ يُخْبِرُ بِبَعْضِهَا مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا لِبَعْضِ عِبَادِهِ الْمَخْصُوصِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي مَوَاضِعِ كِتَابِهِ أَنَّ عِلْمَ السَّاعَةِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ، ثُمَّ أَدْبَرَ، فَقَالَ: (رُدُّوهُ) فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى مَرْوِيِّ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَكِنِ اسْتَدْرَكَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ: إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَقُلْ: (الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الْأَرْضِ) ، بَلْ قَالَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: (وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمِ فِي الْبُنْيَانِ) وَفِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ: (وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا) ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ.

4 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4 - (وَعَنْ) أَيْ: وَرُوِيَ عَنِ (ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : أَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ قَالَ جَابِرٌ: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مَالَتْ بِهِ الدُّنْيَا وَمَالَ بِهَا مَا خَلَا عُمَرَ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: مَا مَاتَ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ إِنْسَانٍ أَوْ زَادَ، وُلِدَ قَبْلَ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي الْحِلِّ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْحَجَّاجِ، وَدُفِنَ بِذِي طُوًى فِي مَقْبَرَةِ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ أَمَرَ رَجُلًا فَسَمَّ زُجَّ رُمْحِهِ، وَزَاحَمَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَوَضَعَ الزِّجَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ يَوْمًا، وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْتَظِرُكَ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضُرَّكَ الَّذِي فِي عَيْنِكَ. قَالَ: " لَا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ سَفِيهٌ مُسَلَّطٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخْفَى قَوْلَهُ ذَلِكَ عَنِ الِحَجَّاجِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُهُ فِي الْمَوَاقِفِ بِعَرَفَةَ، وَغَيْرِهَا إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ فِيهَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَعِزُّ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَ الْخِلَافَةَ فَحَصَلَ لَهُ الشَّهَادَةُ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ) ] هُوَ: اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ دُونَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِذْعَانِ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِسْلَامِ بِجَمِيعِ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ: فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الِأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ لَهُ الْإِسْلَامُ الْكَامِلُ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ أَرْكَانِهِ مَعَ إِيمَاءٍ إِلَى بَقِيَّةِ شُعَبِ إِيمَانِهِ فَلَا يَتَوَجَّهُ مَا قِيلَ إِنَّمَا يَصِحُّ الْحَدِيثُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الثَّلَاثِ. [ (عَلَى خَمْسٍ) ] أَيْ: خَمْسِ دَعَائِمَ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، أَوْ خِصَالٍ أَيْ: قَوَاعِدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ بِالتَّاءِ أَيْ: خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، أَوْ أَرْكَانٍ، أَوْ أُصُولٍ، وَإِنَّمَا جَازَ هُنَا لِحَذْفِ الْمَعْدُودِ شُبِّهَتْ حَالَةُ الْإِسْلَامِ مَعَ أَرْكَانِهِ الْخَمْسِ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ بِحَالِ خِبَاءٍ أُقِيمَ عَلَى خَمْسَةِ أَعْمِدَةٍ، وَقُطْبُهَا الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الْأَرْكَانُ هِيَ الشَّهَادَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ لَفَظُ الشَّهَادَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْعَمُودِ الْوَسَطِ لِلْخَيْمَةِ، وَبَقِيَّةُ شُعَبِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْتَادِ لِلْخِبَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَجْمَعِ شُهُودِ جِنَازَةٍ لِلْفَرَزْدَقِ: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْمَقَامِ؟ فَقَالَ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُنْذُ كَذَا سَنَةً. فَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْعَمُودُ فَأَيْنَ الْأَطْنَابُ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ شَبَّهَ الْإِسْلَامَ بِخَيْمَةٍ عَمُودُهَا كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْأَطْنَابُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ [ (شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ] : بِالْجَرِّ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ خَمْسٍ بَدَلَ كُلٍّ، وَهُوَ مَجْمُوعُ الْمَجْرُورَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ مِنْ كُلٍّ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مَعَ مُلَاحَظَةِ الرَّبْطِ قَبْلَ الْعَطْفِ لِعَدَمِ الرَّابِطِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ

مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ: هِيَ، أَوْ إِحْدَاهُمَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مِنْهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَ (أَنْ) مُخَفَّفَةٌ، وَ (لَا) نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ، وَ (إِلَهَ) اسْمُهَا رُكِّبَ مَعَهَا تَرْكِيبَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَفَتْحَةُ فَتْحَتِهِ بِنَاءٌ لَا إِعْرَابٌ خِلَافًا لِلزَّجَّاجِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ نُصِبَ بِهَا لَفْظًا، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ اتِّفَاقًا تَقْدِيرُهُ مَوْجُودٌ إِنْ أُرِيدَ بِالْإِلَهِ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، وَإِلَّا فَتَقْدِيرُهُ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ، وَإِلَّا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى غَيْرِ، وَهِيَ مَعَ مَا بَعْدَهَا صِفَةُ اللَّهِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَجَوَّزَ نَصْبَ الْجَلَالَةِ نَعْتًا لِإِلَهٍ عَلَى أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى غَيْرِ، وَقِيلَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَاللَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ ضَمِيرِ الْخَبَرِ الْمُسْتَتِرِ فِيهِ، وَقِيلَ بَدَلٌ مِنَ اسْمِ لَا بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ قَبْلَهَا، وَقِيلَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَا [ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ) ] أَيِ: الْكَامِلُ [ (وَرَسُولُهُ) أَيْ: الْمُكَمِّلُ، وَلِتَلَازُمِ الشَّهَادَتَيْنِ شَرْعًا جُعِلَتَا خَصْلَةً وَاحِدَةً، وَاقْتَصَرَ فِي رِوَايَةٍ عَلَى إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ اكْتِفَاءً، أَوْ نِسْيَانًا. قِيلَ: وَأُخِذَ مِنْ جَمْعِهِمَا كَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِمَا عَلَى التَّوَالِي، وَالتَّرْتِيبِ، [ (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) ] أَيْ: الْمَفْرُوضَةِ، وَحُذِفَتْ تَاءُ الْإِقَامَةِ الْمُعَوَّضَةِ عَنْ عَيْنِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفَةِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ لِطُولِ الْعِبَارَةِ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ عَلَى مَا قَالَهُ الزُّجَاجُ، وَقِيلَ هُمَا مَصْدَرَانِ. [ (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) ] أَيْ: إِعْطَائِهَا وَتَمْلِيكِهَا لِمَصَارِفِهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا الصَّدَقَةُ الْمَكْتُوبَةُ [ (وَالْحَجِّ) ] : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا مَصْدَرَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ، وَحَجِّ الْبَيْتِ أَيْ: قَصْدِهِ لِأَدَاءِ النُّسُكِ فَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا يَرِدُ أَنَّ الصَّوْمَ فُرِضَ قَبْلَ الزَّكَاةِ، وَهِيَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي التَّقْدِيمِ الذِّكْرِيِّ هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ إِمَّا بَدَنِيَّةٌ فَقَطْ، أَوْ مَالِيَّةٌ فَقَطْ، أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الطَّاعَةَ الْمُثَلَّثَةَ إِمَّا يَوْمِيَّةٌ، أَوْ سَنَوِيَّةٌ، أَوْ عُمْرِيَّةٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِطَاعَةَ ; لِشُهْرَتِهَا، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي كُلِّ طَاعَةٍ. [ (وَصَوْمِ رَمَضَانَ) ] أَيْ: أَيَّامِهِ بِشَرَائِطَ، وَأَرْكَانٍ مَعْلُومَةٍ. قِيلَ: فِيهِ حَذْفُ شَهْرٍ، وَفِيهِ أَنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ لِلشَّهْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185] إِضَافَتُهُ بَيَانِيَّةٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْحَجِّ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَا قَدَّمَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَ الْحَجِّ عَلَى الصَّوْمِ، وَالْجُمْهُورُ أَخَّرُوهُ عَنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِ وُجُوبِهِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْعُمْرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُفْتَتَحِ كِتَابِ الْإِيمَانِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجْهُ ذِكْرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمَا فَقَطِ التَّنْبِيهُ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِهَا، وَأَنَّهَا أَظْهَرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ إِذْ بِهَا يَتِمُّ الِاسْتِسْلَامُ، وَبِتَرْكِ بَعْضِهَا يَنْحَلُّ قَيْدُ الِانْقِيَادِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ إِلَى كُفْرٍ حَيْثُ لَا إِنْكَارَ إِجْمَاعًا إِلَّا مَا جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» ": وَلَمْ يَذْكُرِ الْجِهَادَ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالْكَلَامُ فِي فُرُوضِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا زِيدَ فِي آخِرِهِ فِي رِوَايَةٍ، وَأَنَّ الْجِهَادَ مِنَ الِعَمَلِ الْحَسَنِ، قِيلَ وَجْهُ الْحَصْرِ فِي تِلْكَ الْخَمْسَةِ أَنَّ الْعِبَادَةَ إِمَّا فِعْلٌ أَوْ تَرْكٌ. الثَّانِي الصَّوْمُ، وَالْأَوَّلُ إِمَّا لِسَانِيٌّ وَهُوَ الشَّهَادَتَانِ، أَوْ بَدَنِيٌّ وَهُوَ الصَّلَاةُ، أَوْ مَالِيٌّ وَهُوَ الزَّكَاةُ، أَوْ مَالِيٌّ وَبَدَنِيٌّ وَهُوَ الْحَجُّ، وَقُدِّمَتِ الشَّهَادَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا الْأَصْلُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا الْعِمَادُ الْأَعْظَمُ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِي حَدِيثٍ: وَعَمُودُهَا الصَّلَاةُ. وَفِي حَدِيثٍ: «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الِفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَلِذَا سُمِّيَتْ أُمَّ الْعِبَادَاتِ كَمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ أُمَّ الْخَبَائِثِ، ثُمَّ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهَا قَرِينَتُهَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الِقُرْآنِ، وَلِلْمُنَاسَبَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ الْحَجُّ لِكَوْنِهِ مُجْمِعًا لِلْعِبَادَتَيْنِ، وَمَحَلًّا لِلْمَشَقَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ تَارِكَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عَلَى مَدْرَجَةِ خَاتِمَةِ السُّوءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي

اخْتُلِفَ فِي ضَعْفِهِ، وَصِحَّتِهِ: «مَنِ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» ، وَيَدُلُّ عَلَى أَصَالَةِ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] حَيْثُ وُضِعَ مَنْ كَفَرَ مَوْضِعَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ إِفَادَةِ مُبَالَغَةِ التَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: " عَنِ الْعَالَمِينَ "، حَيْثُ عَدَلَ عَنْهُ، وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ عَنِ الصَّوْمِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ فَرِعَايَةٌ لِلتَّرْتِيبِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْحَجُّ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ، أَوْ سِتٍّ، أَوْ ثَمَانٍ، أَوْ تِسْعٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَالْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعِينِيَّةِ النَّوَوِيَّةِ.

5 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : تَصْغِيرُ هِرَّةٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْمِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَسَبِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَأَشْهَرُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدُ شَمْسٍ أَوْ عَبْدُ عَمْرٍو، وَفِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ دَوْسِيُّ. قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ: أَصَحُّ شَيْءٍ عِنْدَنَا فِي اسْمِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ فَهُوَ كَمَنْ لَا اسْمَ لَهُ، أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ وَشَهِدَهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَزِمَهُ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ رَاغِبًا فِي الْعِلْمِ، رَاضِيًا بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَكَانَ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، وَكَانَ مِنْ أَحْفَظِ الصَّحَابَةِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ مَا بَيْنَ صَحَابِيٍّ وَتَابِعِيٍّ، فَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَنَسٌ. قِيلَ: سَبَبُ تَلْقِيبِهِ بِذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَحْمِلُ يَوْمًا هِرَّةً فِي كُمِّي، فَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (مَا هَذِهِ؟) : فَقُلْتُ: هِرَّةٌ، فَقَالَ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) . وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَجَدْتُ هِرَّةً، وَحَمَلْتُهَا فِي كُمِّي، فَقِيلَ لِي: مَا هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: هِرَّةً، فَقِيلَ لِي: أَنْتَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلَ، وَقِيلَ: وَكَانَ يَلْعَبُ بِهَا وَهُوَ صَغِيرٌ، وَقِيلَ: كَانَ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: الْمُكَنِّي لَهُ بِذَلِكَ وَالِدُهُ، ثُمَّ جَرُّ " هُرَيْرَةَ " هُوَ الْأَصْلُ، وَصَوَّبَهُ جَمَاعَةٌ ; لِأَنَّهُ جُزْءُ عَلَمٍ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ مَنْعَ صَرْفِهِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الْأَصْلِ وَالْحَالِ مَعًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ فِي لَفْظَةٍ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِذَا وَقَعَتْ فَاعِلًا مَثَلًا فَإِنَّهَا تُعْرَبُ إِعْرَابَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَظَرًا لِلْحَالِ، وَنَظِيرُهُ خَفِيٌّ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ رِعَايَتُهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَا مِنْ جِهَتَيْنِ كَمَا هُنَا، وَكَانَ الْحَامِلُ عَلَيْهِ الْخِفَّةَ وَاشْتِهَارَ الْكُنْيَةِ حَتَّى نُسِيَ الِاسْمُ الْأَصْلِيُّ بِحَيْثُ اخْتُلِفَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا حَتَّى قَالَ النَّوَوِيُّ: اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا، وَبَلَغَ مَا رَوَاهُ خَمْسَةَ آلَافِ حَدِيثٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَسِتِّينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَمَا قِيلَ إِنَّ قَبْرَهُ بِقُرْبِ عُسْفَانَ لَا أَصْلَ لَهُ كَمَا ذَكَرَهُ السَّخَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. [ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْإِيمَانُ) ] أَيْ: ثَمَرَاتُهُ، وَفُرُوعُهُ فَأُطْلِقَ الْإِيمَانُ - وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ - عَلَيْهَا مَجَازًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِهِ وَلَوَازِمِهِ [ (بِضْعٌ وَسَبْعُونَ) ] ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِضْعَةٌ، وَالْبَاءُ مَكْسُورَةٌ فِيهِمَا وَقَدْ تُفْتَحُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَا فِي الْعَدَدِ لِمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ. وَفِي " الْقَامُوسِ ": هُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ أَوْ إِلَى الْخَمْسِ، أَوْ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْأَرْبَعَةِ، أَوْ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى تِسْعٍ، أَوْ هُوَ سَبْعٌ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، وَالَّذِي فِي الْأَصْلِ هُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، جَرَى عَلَيْهَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، وَرَجَّحْتُ بِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنُ، وَصَوَّبَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْأُولَى بِأَنَّهَا الَّتِي فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ، وَرَجَّحَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةُ ثِقَاتٍ، وَاعْتَرَضَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ أَنْ يُزَادَ لَفْظٌ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ عَدَمِ تَنَافٍ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى؛ إِذْ ذِكْرُ الْأَقَلِّ لَا يَنْفِي الْأَكْثَرَ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ أَوَّلًا بِالسِّتِّينَ، ثُمَّ أُعْلِمَ بِزِيَادَةٍ فَأَخْبَرَ بِهَا، وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْكِرْمَانِيُّ، فَصَحَّ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ، وَيُحْمَلُ الِاخْتِلَافُ عَلَى تَعَدُّدِ الْقَضِيَّةِ، وَلَوْ مِنْ جِهَةِ رَاوٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: [ (شُعْبَةً) ] هِيَ فِي الْأَصْلِ غُصْنُ الشَّجَرِ وَفَرْعُ كُلِّ أَصْلٍ، وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا الْخَصْلَةُ الْحَمِيدَةُ أَيْ: الْإِيمَانُ ذُو خِصَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، وَفِي أُخْرَى: أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ بَابًا، أَيْ نَوْعًا مِنْ خِصَالِ الْكَمَالِ، وَفِي أُخْرَى: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ شَرِيعَةً، مَنْ وَافَى اللَّهَ بِشَرِيعَةٍ مِنْهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَرَوَى ابْنُ شَاهِينَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ خُلُقٍ، مَنْ أَتَى بِخُلُقٍ مِنْهَا

دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفُسِّرَتْ بِنَحْوِ الْحَيَاءِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالسَّخَاءِ، وَالتَّسَامُحِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَخْلَاقِهِ تَعَالَى الْمَذْكُورَةِ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا. [ (فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ] أَيْ: هَذَا الذِّكْرُ فَوُضِعَ الْقَوْلُ مَوْضِعَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ: أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا مَوْضِعَ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهَا مَنْ أَصْلِهِ لَا مَنْ شُعَبِهِ، وَالتَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ خَارِجٌ عَنْهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا قِيلَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ الْإِقْرَارِ شَطْرَ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَرْطٌ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الشَّهَادَةَ لَإِنْبَائِهِ عَنِ التَّوْحِيدِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ إِلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ، فَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ سَائِرُ الشُّعَبِ، أَوْ لِتَضَمُّنِهِ شَرْعًا مَعْنَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْتِزَامُهُ عُرْفًا سَائِرَ الْعِبَادَاتِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَفْضَلُهَا مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوجِبُ عِصْمَةَ الدَّمِ وَالْمَالِ لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ الزِّيَادَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَيْ: الْمَشْهُورُ مِنْ بَيْنِهَا بِالْفَضْلِ فِي الْأَدْيَانِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. [ (وَأَدْنَاهَا) ] أَيْ: أَقْرَبُهَا مَنْزِلَةً وَأَدْوَنُهَا مِقْدَارًا وَمَرْتَبَةً، بِمَعْنَى أَقْرَبُهَا تَنَاوُلًا وَأَسْهَلُهَا تَوَاصُلًا، مِنَ الدُّنُوِّ بِمَعْنَى الْقُرْبِ، فَهُوَ ضِدُّ: فُلَانٌ بَعِيدُ الْمَنْزِلَةِ، أَيْ: رَفِيعُهَا، وَمِنْ ثَمَّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَكَانَ أَفْضَلِهَا بِلَفْظِ: فَأَرْفَعُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَقْصَاهَا، أَوْ مِنَ الدَّنَاءَةِ أَيْ أَقَلُّهَا فَائِدَةً ; لِأَنَّهَا دَفْعُ أَدْنَى ضَرَرٍ [ (إِمَاطَةُ الْأَذَى) ] أَيْ: إِزَالَتُهُ، وَهُوَ مُصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمُؤْذِي، أَوْ مُبَالِغَةٌ، أَوِ اسْمٌ لِمَا يُؤْذِي بِهِ كَشَوْكَةٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ قَذَرٍ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْأَبْرَارِ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْذُونَ الذَّرَّ، وَلَا يَرْضَوْنَ الضُّرَّ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِمَاطَةُ الْعَظْمِ أَيْ: مَثَلًا [ (عَنِ الطَّرِيقِ) ] : وَفِي طَرِيقِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أُرِيدَ بِالْأَذَى النَّفْسُ الَّتِي هِيَ مَنْبَعُ الْأَذَى لِصَاحِبِهَا وَغَيْرِهِ، فَالشُّعْبَةُ الْأُولَى مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَوْلِيَّةُ، وَالثَّانِيَةُ مِنَ الطَّاعَةِ الْفِعْلِيَّةِ، أَوِ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ تَرْكِيَّةٌ، أَوِ الْأُولَى مِنَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْحَقِّ وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْمُجَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ، أَوِ الْأُولَى مِنَ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالثَّانِيَةُ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، أَوِ الْأُولَى مِنَ الْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْقِيَامِ بِحَقِّ الْعِبَادِ، فَمَنْ قَامَ بِهِمَا صِدْقًا كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ حَقًّا [ (وَالْحَيَاءُ) ] : بِالْمَدِّ [ (شُعْبَةٌ) ] أَيْ: عَظِيمَةٌ [ (مِنَ الْإِيمَانِ) ] أَيْ: مِنْ شُعَبِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَيَاءُ الْإِيمَانِيُّ، وَهُوَ خُلُقٌ يَمْنَعُ الشَّخْصَ مِنَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ؛ كَالْحَيَاءِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَالْجِمَاعِ بَيْنَ النَّاسِ، لَا النَّفْسَانِيُّ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ، وَهُوَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْمَرْءَ مِنْ خَوْفِ مَا يُلَامُ وَيُعَابُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ مِنْ سَائِرِ الشُّعَبِ ; لِأَنَّهُ الدَّاعِي إِلَى الْكُلِّ ; فَإِنَّ الْحَيِيَّ يَخَافُ فَضِيحَةَ الدُّنْيَا وَفَظَاعَةَ الْعُقْبَى فَيَنْزَجِرُ عَنِ الْمَنَاهِي وَيَرْتَدِعُ عَنِ الْمَلَاهِي، وَلِذَا قِيلَ: حَقِيقَةُ الْحَيَاءِ أَنَّ مَوْلَاكَ لَا يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَهَذَا مَقَامُ الْإِحْسَانِ الْمُسَمَّى بِالْمُشَاهَدَةِ النَّاشِئُ عَنْ حَالِ الْمُحَاسَبَةِ، وَالْمُرَاقَبَةِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ الْجَلِيلُ مُجْمَلُ حَدِيثِ جِبْرِيلَ، فَأَفْضَلُهَا مُشِيرٌ إِلَى الْإِيمَانِ، وَأَدْنَاهَا مُشْعِرٌ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْحَيَاءُ مُوصِلٌ إِلَى الْإِحْسَانِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ( «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) قَالُوا: إِنَّا لَنَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: (لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتَحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ يُحْفَظَ الرَّأْسُ وَمَا حَوَى، وَالْبَطْنُ وَمَا وَعَى، وَيُذْكَرُ الْمَوْتُ، وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا وَآثَرَ الْآخِرَةَ عَلَى الْأُولَى، فَمَنْ يَعْمَلْ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّ: الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: تَتَبَّعْتُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مُدَّةً وَعَدَدْتُ الطَّاعَاتِ فَإِذَا هِيَ تَزِيدُ عَلَى الْبِضْعِ وَالسَّبْعِينَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى السُّنَّةِ فَعَدَدْتُ كُلَّ طَاعَةٍ عَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْإِيمَانِ فَإِذَا هِيَ تَنْقُصُ فَضَمَمْتُ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِذَا هِيَ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْمُرَادُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: قَدْ تَكَلَّفَ جَمَاعَةٌ عَدَّهَا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ - يَعْنِي الْبَيْضَاوِيَّ وَالْكِرْمَانِيَّ وَغَيْرَهُمَا - وَأَقْرَبُهُمْ عَدًّا ابْنُ حِبَّانَ حَيْثُ ذَكَرَ كُلَّ خَصْلَةٍ سُمِّيَتْ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ إِيمَانًا، وَقَدْ تَبِعَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَتَبِعْنَاهُمَا، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَحُدُوثِ مَا دُونَهُ، وَبِمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْقَدَرِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَحَبَّةُ

اللَّهِ، وَالْحَبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِيهِ، وَمَحَبَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتِقَادُ تَعْظِيمِهِ، وَفِيهِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَاتِّبَاعُ سُنَّتِهِ، وَالْإِخْلَاصُ فِيهِ، وَتَرْكُ الرِّيَاءِ، وَالنِّفَاقِ، وَالتَّوْبَةُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالشُّكْرُ، وَالْوَفَاءُ، وَالصَّبْرُ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالْحَيَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالتَّوَاضُعُ، وَفِيهِ تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ، وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ، وَتَرْكُ الْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَتَرْكُ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ، وَتَرْكُ الْغَضَبِ، وَالنُّطْقُ بِالتَّوْحِيدِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ، وَالدُّعَاءُ، وَالذِّكْرُ، وَفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ، وَاجْتِنَابُ اللَّغْوِ، وَالتَّطَهُّرُ حِسًّا وَحُكْمًا، وَفِيهِ اجْتِنَابُ النَّجَاسَاتِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَالصَّلَاةُ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالزَّكَاةُ كَذَلِكَ، وَفَكُّ الرِّقَابِ، وَالْجُودُ، وَفِيهِ الْإِطْعَامُ، وَالضِّيَافَةُ، وَالصِّيَامُ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالِاعْتِكَافُ، وَالْتِمَاسُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَالْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ، وَالطَّوَافُ، وَالْفِرَارُ بِالدِّينِ، وَفِيهِ الْهِجْرَةُ، وَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ، وَالتَّحَرِّي فِي الْإِيمَانِ، وَأَدَاءُ الْكَفَّارَاتِ، وَالتَّعَفُّفُ بِالنِّكَاحِ، وَأَدَاءُ حُقُوقِ الْعِيَالِ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَتَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَطَاعَةُ السَّادَةِ، وَالرِّفْقُ بِالْعَبِيدِ، وَالْقِيَامُ بِالْإِمْرَةِ مَعَ الْعَدْلِ، وَمُتَابَعَةُ الْجَمَاعَةِ، وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِيهِ قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ، وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْبِرِّ، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادُ، وَفِيهِ الْمُرَابَطَةُ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَمِنْهَا الْخُمُسُ، وَالْقَرْضُ مَعَ وَفَائِهِ، وَإِكْرَامُ الْجَارِ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ، وَفِيهِ جَمْعُ الْمَالِ مِنْ حِلِّهِ، وَإِنْفَاقُ الْمَالِ فِي حَقِّهِ، وَفِيهِ تَرْكُ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَكَفُّ الضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ، وَاجْتِنَابُ اللَّهْوِ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ اهـ. مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ " النُّقَايَةِ "، وَأَدِلَّتُهَا مَذْكُورَةٌ فِي شَرْحِهَا " إِتْمَامِ الدِّرَايَةِ "، وَتَجِيءُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُتَفَرِّقَةً، وَلَكِنْ ذَكَرْتُهَا لَكَ مُجْمَلَةً لِتَتَأَمَّلَ فِيهَا مُفَصَّلَةً، فَمَا رَأَيْتَ نَفْسَكَ مُتَّصِفَةً بِهَا فَاشْكُرِ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا رَأَيْتَ عَلَى خِلَافِهَا فَاطْلُبْ مِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقَ عَلَى تَحْصِيلِ مَا هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّعَبُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلٌ، وَمَنْ نَقَصَ مِنْهُ بَعْضُهَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصٌ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ حِيثُ قَالَ: الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: تَمَسَّكَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ لَا فِي ذَاتِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: شُعَبُ الْإِيمَانِ؛ حَتَّى يَصِحَّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِسَبْعِينَ شُعْبَةً، إِذْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى أَنَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ كَذَا، وَشُعَبُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ تَشْبِيهُ الْإِيمَانِ بِشَجَرَةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ وَشُعَبٍ، كَمَا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ تَشْبِيهَ الْكَلِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ بِشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، أَيْ: أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي الْقَلْبِ، وَفَرْعُهَا أَيْ: شُعَبُهَا مَرْفُوعَةٌ فِي السَّمَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً " مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ: " بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً "، وَكَذَا قَوْلُهُ: " فَأَفْضَلُهَا " إِلَى قَوْلِهِ: " عَنِ الطَّرِيقِ " مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، فَلَا يَكُونُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ أَسْقَطَ قَوْلَهُ: وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ اهـ. وَذَكَرَ الْعَيْنِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: " بِضْعٌ وَسَبْعُونَ " مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا عَلَى الشَّكِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ بِلَفْظِ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بِلَا شَكٍّ، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ: سِتٌّ وَسَبْعُونَ، أَوْ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ اهـ. فَيُؤَوَّلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ رِوَايَتِهِمَا دُونَ زِيَادَةٍ: فَأَفْضَلُهَا. . . إِلَخْ.

6 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلِمُسْلِمٍ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: " مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : وَكُتِبَ بِالْوَاوِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ عُمَرَ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُكْتَبْ حَالَةَ النَّصْبِ ; لِتَمَيُّزِهِ عَنْهُ بِالْأَلْفِ، وَهُوَ ابْنُ الْعَاصِ الْقُرَشِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَسْلَمَ قَبْلَ أَبِيهِ، وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ أَوِ الطَّائِفِ أَوْ مِصْرَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، أَوْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ فِي السِّنِّ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ، قِيلَ: وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: كَانَ أَبُوهُ أَكْبَرَ مِنْهُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ، كَثِيرَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، عَمِيَ آخِرَ عُمْرِهِ، وَكَانَ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ، لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنْهُ وَهُوَ سَبْعُمِائَةِ حَدِيثٍ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: كَانَ مِمَّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ، وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنْ يَكْتُبَ حَدِيثَهُ فَأَذِنَ لَهُ. [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْمُسْلِمُ) ] أَيِ الْكَامِلُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، أَوِ الْمُسْلِمُ الْحَقِيقِيُّ الْمُتَّصِفُ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ [ (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ) ] أَيْ وَالْمُسْلِمَاتُ، إِمَّا تَغْلِيبًا وَإِمَّا تَبَعًا، وَيَلْحَقُ بِهِمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ حُكْمًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: مَنْ سَلِمَ النَّاسُ [ (مِنْ لِسَانِهِ) ] أَيْ: بِالشَّتْمِ، وَاللَّعْنِ، وَالْغِيبَةِ، وَالْبُهْتَانِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالسَّعْيِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى قِيلَ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ قَوْلُ النَّاسِ الطَّرِيقُ الطَّرِيقُ [ (وَيَدِهِ) ] : بِالضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالْهَدْمِ، وَالدَّفْعِ، وَالْكِتَابَةِ بِالْبَاطِلِ، وَنَحْوِهَا، وَخُصَّا لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَذَى بِهِمَا، أَوْ أُرِيدُ بِهِمَا مَثَلًا، وَقَدَّمَ اللِّسَانَ لِأَنَّ الْإِيذَاءَ بِهِ أَكْثَرُ وَأَسْهَلُ، وَلِأَنَّهُ أَشَدُّ نِكَايَةً كَمَا قَالَ: جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ ... وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ وَلِأَنَّهُ يَعُمُّ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ، وَابْتُلِيَ بِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَعُبِّرَ بِهِ دُونَ الْقَوْلِ لِيَشْمَلَ إِخْرَاجَهُ اسْتِهْزَاءً بِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: كَنَّى بِالْيَدِ عَنْ سَائِرِ الْجَوَارِحِ ; لِأَنَّ سُلْطَةَ الْأَفْعَالِ إِنَّمَا تَظْهَرُ بِهَا؛ إِذْ بِهَا الْبَطْشُ وَالْقَطْعُ وَالْوَصْلُ وَالْمَنْعُ، وَالْأَخْذُ، فَقِيلَ فِي كُلِّ عَمَلٍ هَذَا مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُقُوعُهُ بِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْأَيْدِيَ وَالْيَدَيْنِ تُوضَعَانِ مَوْضِعَ الْأَنْفُسِ وَالنَّفْسِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَفْعَالِ يُزَاوَلُ بِهِمَا، وَلَا يُعْرَفُ اسْتِعْمَالُ الْيَدِ الْمُفْرَدَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ الْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ وَتَأْدِيبُ الْأَطْفَالِ وَالدَّفْعُ لِنَحْوِ الصِّيَالِ وَنَحْوِهَا، فَهِيَ اسْتِصْلَاحٌ وَطَلَبٌ لِلسَّلَامَةِ، أَوْ مُسْتَثْنًى شَرْعًا، أَوْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْأَذَى عُرْفًا، [ (وَالْمُهَاجِرُ) ] أَيْ: الْكَامِلُ، أَوْ حَقِيقَةٌ لِشُمُولِهِ أَنْوَاعَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ فَضْلَهُ عَلَى الدَّوَامِ [ (مَنْ هَجَرَ) ] أَيْ: تَرَكَ [ (مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) ] أَيْ: فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأُرِيدُ بِالْمُفَاعَلَةِ الْمُبَالَغَةُ حَيْثُ لَمْ تَصِحُّ الْمُغَالَبَةُ (هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. (وَلِمُسْلِمٍ) أَيْ: فِي صَحِيحِهِ بَعْضُهُ ; فَإِنَّهُ أَخْرَجَ شَطْرَهُ الْأَوَّلَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِهِ وَبِمَعْنَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ: (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: أَيُّ أَفْرَادِ هَذَا الْجِنْسِ، أَوْ أَيُّ قِسْمَيْ هَذَا النَّوْعِ (خَيْرٌ) أَيْ: أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ [قَالَ: (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) ] وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ إِلَخْ. أَيْ: إِسْلَامُ مَنْ سَلِمَ، وَقِيلَ: لِكَوْنِ " أَيِّ " لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُتَعَدِّدٍ كَانَ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَيُّ أَصْحَابِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: أَيُّ خِصَالِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ بِمَعْنَى الْمُسْلِمِ كَعَدْلٍ بِمَعْنَى عَادِلٍ مُبَالَغَةً، وَفَرْقٌ بَيْنَ خَيْرٍ وَأَفْضَلَ، مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ إِذْ هُوَ النَّفْعُ فِي مُقَابَلَةِ الشَّرِّ وَالْمَضَرَّةِ، وَالثَّانِي: مِنَ الْكِمِّيَّةِ إِذْ هُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِلَّةِ، وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ الْمُرَادُ بِهَا - الْكَامِلُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ هَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: النَّاسُ الْعَرَبُ، أَيْ هُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ، فَهَاهُنَا الْمُرَادُ: أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ جَمَعَ إِلَى أَدَاءِ حُقُوقِ الْحَقِّ أَدَاءَ حُقُوقِ الْخَلْقِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الثَّانِي إِمَّا لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَفْهُومٌ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، أَوْ لِأَنَّ تَرْكَهُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَفْوِ، أَوْ لِأَنَّ الثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقَّانِ، فَخُصَّ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَلِحُصُولِ السَّلَامَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ بِوُجُودِهِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَلَامَةَ الْإِسْلَامِ هِيَ السَّلَامَةُ مِنْ إِيذَاءِ الْخَلَائِقِ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ وَخُلْفَ الْوَعْدِ عَلَامَةُ الْمُنَافِقِ.

7 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ، وَوَلَدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 7 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيِ ابْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجَيِّ النَّجَّارِيِّ - بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ قَبْلَ جِيمٍ مُشَدَّدَةٍ - خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ بَعْدَمَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَالَتْ أُمُّهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُوَيْدِمُكَ ادْعُ اللَّهُ لَهُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ) ، فَقَالَ: لَقَدْ

دَفَنْتُ مِنْ صُلْبِي مِائَةً إِلَّا اثْنَيْنِ، وَإِنَّ ثَمَرَتِي لَتَحْمِلُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَلَقَدْ بَقِيتُ حَتَّى سَئِمْتُ الْحَيَاةَ، وَأَنَا أَرْجُو الرَّابِعَةَ، أَيِ الْمَغْفِرَةَ. قِيلَ: عُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ وَزِيَادَةً، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، انْتَقَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ لِيُفَقِّهَ النَّاسَ. رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو حَمْزَةَ، وَهِيَ اسْمُ بَقْلَةٍ حِرِّيفِيَّةٍ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ: كَنَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَقْلَةٍ كُنْتُ أَجْتَنِيهَا. [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) ] : وَفِي رِوَايَةٍ: الرَّجُلُ، وَفِي أُخْرَى: أَحَدٌ، وَهِيَ أَشْمَلُ مِنْهُمَا، وَالْأُولَى أَخَصُّ أَيْ: إِيمَانًا كَامِلًا [ (حَتَّى أَكُونَ) ] بِالنَّصْبِ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ، وَحَتَّى جَارَّةٌ [ (أَحَبَّ إِلَيْهِ) ] : أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَلِلتَّوَسُّعِ فِي الظَّرْفِ قُدِّمَ الْجَارُّ عَلَى مَعْمُولِ أَفْعَلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: [ (مِنْ وَالِدِهِ) ] أَيْ: أَبِيهِ، وَخُصَّ عَنِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ، فَمَحَبَّتُهُ أَعْظَمُ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُهُمَا، وَهُوَ وَوَالِدِهِ [ (وَوَلَدِهِ) ] أَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَقُدِّمَ الْوَالِدُ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ، وَأَسْبَقُ فِي الْوُجُودِ، وَتَقَدَّمَ الْوَلَدُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ أَكْثَرُ، وَخُصَّا لِأَنَّهُمَا أَعَزُّ مِنْ غَيْرِهِمَا غَالِبًا، وَأُبْدِلَا فِي رِوَايَةٍ بِالْمَالِ وَالْأَهْلِ تَعْمِيمًا لِكُلِّ مَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ، فَذِكْرُهُمَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَعِزَّتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَاسْتِغْرَاقًا بِقَوْلِهِ: [ (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ] عَطْفًا لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، ثُمَّ النَّفْسُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ لُغَةً، وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عُرْفًا لِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي الْمُوَافِقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} [التوبة: 24] الْآيَةَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحُبُّ الطَّبِيعِيُّ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ، وَ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] بَلِ الْمُرَادُ الْحُبُّ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يُوجِبُ إِيثَارَ مَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ رُجْحَانَهُ، وَيَسْتَدْعِي اخْتِيَارَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْهَوَى كَحُبِّ الْمَرِيضِ الدَّوَاءَ، فَإِنَّهُ يَمِيلُ إِلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَتَنَاوَلُ بِمُقْتَضَى عَقْلِهِ؛ لَمَّا عَلِمَ وَظَنَّ أَنَّ صَلَاحَهُ فِيهِ، وَإِنْ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ مَثَلًا لَوْ أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ أَبَوَيْهِ وَأَوْلَادِهِ الْكَافِرِينَ، أَوْ بِأَنْ يُقَاتِلَ الْكُفَّارَ حَتَّى يَكُونَ شَهِيدًا لَأَحَبَّ أَنْ يَخْتَارَ ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ السَّلَامَةَ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، أَوِ الْمُرَادُ الْحُبَّ الْإِيمَانِيُّ النَّاشِئُ عَنِ الْإِجْلَالِ وَالتَّوْقِيرِ وَالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَهُوَ إِيثَارُ جَمِيعِ أَغْرَاضِ الْمَحْبُوبِ عَلَى جَمِيعِ أَغْرَاضِ غَيْرِهِ حَتَّى الْقَرِيبِ وَالنَّفْسِ، وَلَمَّا كَانَ جَامِعًا لِمُوجِبَاتِ الْمَحَبَّةِ مِنْ حُسْنِ الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ وَكَمَالِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ اسْتَحَقَّ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ نَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، سِيَّمَا وَهُوَ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ الْمَحْبُوبِ الْحَقِيقِيِّ الْهَادِي إِلَيْهِ، وَالدَّالُّ عَلَيْهِ، وَالْمُكَرَّمُ لَدَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْ مَحَبَّتِهِ نَصْرُ سُنَّتِهِ، وَالذَّبُّ عَنْ شَرِيعَتِهِ، وَتَمَنِّي إِدْرَاكِهِ فِي حَيَّاتِهِ لِيَبْذُلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ دُونَهُ اهـ. وَمِمَّنِ ارْتَقَى إِلَى غَايَةِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَنِهَايَةِ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ أَخْبَرَ بِالصِّدْقِ حَتَّى وَصَلَ بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ إِلَى كَمَالِ ذَلِكَ، فَقَالَ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ: لَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ: ( «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكِ» ) . فَقَالَ عُمَرُ: فَإِنَّكَ الْآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ: ( «الْآنَ يَا عُمَرُ تَمَّ إِيمَانُكَ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَهِمَ أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحُبُّ الطَّبِيعِيُّ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُبُّ الْإِيمَانِيُّ وَالْعَقْلِيُّ، فَأَظْهَرَ بِمَا أَضْمَرَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ أَوْصَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَقَامِ الْأَتَمِّ بِبِرْكَةِ تَوْجِيهِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَطَبَعَ فِي قَلْبِهِ حُبَّهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ حَيَاتُهُ وَلُبُّهُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَتِ اعْتِقَادَ الْأَعْظَمِيَّةِ فَحَسْبُ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً لِعُمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ قَطْعًا، بَلْ أَمْرٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ بِهِ يَفْنَى الْمُتَحَلِّي بِهِ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَصِيرُ خَالِيَةً عَنْ غَيْرِ مَحْبُوبِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكُلُّ مَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ بِهِ - عَلَيْهِ

- الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَخْلُو عَنْ وِجْدَانِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ الرَّاجِحَةِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَ بِالشَّهَوَاتِ وَحُجِبَ بِالْغَفَلَاتِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّا نَرَى أَكْثَرَهُمْ إِذَا ذُكِرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَتِهِ، وَآثَرَهَا عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَأَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الْمَهَالِكِ أَوِ الْمَخَاوِفِ مَعَ وِجْدَانِهِ مِنْ نَفْسِهِ الطُّمَأْنِينَةَ بِذَلِكَ وِجْدَانًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ إِيثَارُ كَثِيرِينَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ، وَرُؤْيَةِ مَوَاضِعِ آثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ؛ لِمَا وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَحَبَّتِهِ غَيْرَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَمَّا تَوَالَتْ غَفَلَاتُهَا وَكَثُرَتْ شَهَوَاتُهَا كَانَتْ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهَا مُشْتَغِلَةً بِلَهْوِهَا ذَاهِلَةً عَمَّا يَنْفَعُهَا، وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ فِي بَرَكَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، فَيُرْجَى لَهُمْ كُلُّ خَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ حَظَّ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَهُمْ بِقَدْرِهِ وَمَنْزِلَتِهِ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ تَلْمِيحٌ إِلَى صِفَةِ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَالْأَمَّارَةِ، فَمَنْ رَجَحَ جَانِبُ نَفْسِهِ الْمُطْمَئِنَّةِ كَانَ حُبُّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَاجِحًا، وَمَنْ رَجَحَ جَانِبُ نَفْسِهِ الْأَمَارَةِ كَانَ بِالْعَكْسِ اهـ. وَاللَّوَّامَةُ حَالَةٌ بَيْنَهُمَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا مَعَهُمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُوَحِّدًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَطْعًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ كَانَ سَالِمًا عَنِ الْمَعَاصِي كَالصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ الَّذِي اتَّصَلَ جُنُونُهُ بِالْبُلُوغِ، وَالتَّائِبِ تَوْبَةً صَحِيحَةً مِنَ الشِّرْكِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي إِذَا لَمْ يُحْدِثْ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَالْمُوَفَّقُ الَّذِي مَا لَمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ - فَكُلُّ هَذَا الصِّنْفِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ أَصْلًا، لَكِنَّهُمْ يَرِدُونَهَا عَلَى الْخِلَافِ الْوَارِدِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ لَهُ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَهُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِالْقَدْرِ الَّذِي يُرِيدُهُ سُبْحَانَهُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَلَوْ عَمِلَ مِنَ الْمَعَاصِي مَا عَمِلَ، كَمَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرٍ وَلَوْ عَمِلَ مَا عَمِلَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ بِحَيْثُ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ، فَإِنْ خَالَفَهُ ظَاهِرُ حَدِيثٍ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

8 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 8 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ) ] : مُبْتَدَأٌ، وَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرٌ، وَجَازَ مَعَ أَنَّهُ نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: خِصَالٌ ثَلَاثٌ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: مِثَالُ الِابْتِدَاءِ بِنَكِرَةٍ هِيَ وَصْفُ قَوْلِ الْعَرَبِ: ضَعِيفٌ عَاذَ بِحَرْمَلَةَ. أَيْ: إِنْسَانٌ ضَعِيفٌ الْتَجَأَ إِلَى ضَعِيفٍ، وَالْحَرْمَلَةُ: شَجَرَةٌ ضَعِيفَةٌ. أَوْ ثَلَاثُ خِصَالٍ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا فِي غَيْرِ كُلٍّ وَبَعْضٍ، أَوْ تَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، فَسَاغَ الِابْتِدَاءُ بِهِ، وَيَجُورُ أَنْ تَكُونَ الشَّرْطِيَّةُ صِفَةً لِثَلَاثٍ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَنْ كَانَ، وَالْمَعْنَى: ثَلَاثٌ مَنْ وُجِدْنَ أَوِ اجْتَمَعْنَ فِيهِ. [ (وَجَدَ) ] ، أَيْ: أَدْرَكَ وَصَادَفَ وَذَاقَ [ (بِهِنَّ) ] أَيْ بِسَبَبِ وُجُودِهِنَّ فِي نَفْسِهِ [ (حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ) ] أَيْ لَذَّتَهُ وَرَغْبَتَهُ. زَادَ النَّسَائِيُّ: وَطَعْمُهُ. وَأُوثِرَتِ الْحَلَاوَةُ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ إِذَا دَخَلَتْ قَلْبًا لَا تَخْرُجُ مِنْهُ أَبَدًا، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ لَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ اسْتِلْذَاذُ الطَّاعَاتِ وَإِيثَارُهَا عَلَى جَمِيعِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ وَتَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَجَرُّعُ الْمَرَارَاتِ فِي الْمُصِيبَاتِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى الصَّحِيحِ الَّذِي يُدْرِكُ الطُّعُومَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَالْمَرِيضِ الصَّفْرَاوِيُّ الَّذِي بِضِدِّهِ إِذْ يَجِدُ طَعْمَ الْعَسَلِ مِنْ نَقْصِ ذَوْقِهِ بِقَدْرِ نَقْصِ صِحَّتِهِ، فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ مِنْ أَمْرَاضِ الْغَفْلَةِ، وَالْهَوَى يَذُوقُ طَعْمَهُ وَيَتَلَذَّذُ مِنْهُ وَيَتَنَعَّمُ بِهِ كَمَا يَذُوقُ الْفَمُ طَعْمَ الْعَسَلِ وَغَيْرِهِ مِنْ لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ وَيَتَنَعَّمُ بِهَا، بَلْ تِلْكَ اللَّذَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ أَعْلَى، فَإِنَّ فِي جَنْبِهَا يُتْرَكُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بَلْ جَمِيعُ نَعِيمِ الْأُخْرَى، [ (مَنْ كَانَ) ] : لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ - إِمَّا بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ: هِيَ أَوْ هُنَّ أَوْ إِحْدَاهَا، وَعَلَى الثَّانِي خَبَرٌ أَيْ: مَحَبَّةُ مَنْ كَانَ [ (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ) ] : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ وَإِفْرَادُهُ لِأَنَّهُ وُصِلَ بِمَنْ، وَالْمُرَادُ الْحُبُّ الِاخْتِيَارِيُّ الْمَذْكُورُ (مِمَّا سِوَاهُمَا) ] : يَعُمُّ ذَوِي الْعُقُولِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُرَادَاتِ، وَقَدْ

جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ اللَّهِ وَنَفْسِهِ بِلَفْظِ الضَّمِيرِ فِي مَا سِوَاهُمَا، مَعَ نَهْيِهِ عَنْهُ قَائِلًا وَمِنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لَهُ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ: ( «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ» ) . وَوَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ إِيهَامُ التَّسْوِيَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَوْ جُمِعَ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَلِذَا قِيلَ: الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْمَنْعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْآخَرَ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ وَالثَّانِي فِعْلٌ، وَقِيلَ: تَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَحَبَّتَيْنِ لَا كُلُّ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهَا وَحْدَهَا ضَائِعَةٌ لَاغِيَةٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَالْأَمْرُ بِالْإِفْرَادِ هُنَالِكَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِصْيَانَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِاسْتِلْزَامِ الْغَوَايَةِ، فَإِنَّ الْعَطْفَ يُفِيدُ تَكْرِيرَ الْعَامِلِ وَاسْتِقْلَالَهُ بِالْحُكْمِ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ التَّكْرَارِ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ غَوَى، وَمَنْ عَصَى رَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى، وَلَا يُقَالُ: عِصْيَانُ أَحَدِهِمَا عِصْيَانٌ لِلْآخَرِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْفِرَادُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ تَفْظِيعُ الْمَعْصِيَةِ بِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ وُجُودُهَا مِنْ رَسُولِهِ وَحْدَهُ لَكَانَتْ مُسْتَقِلَّةً بِالْإِغْوَاءِ، فَكَيْفَ وَهِيَ لَا تُوجَدُ إِلَّا مِنْهُمَا، وَهُوَ مَعْنًى دَقِيقٌ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ لِطَيْفٌ وَإِنْهَاءٌ شَرِيفٌ إِلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ مَادَّةُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْمُغَايَرَةُ، وَلِذَا قِيلَ: أَنَا مَنْ أَهْوَى، وَمَنْ أَهْوَى أَنَا. وَالْمُخَالَفَةُ مُوجِبَةٌ لِلِافْتِرَاقِ؛ وَلِذَا قَالَ: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) ، وَلِتِلْكَ الْمَحَبَّةِ عَلَامَاتٌ مِنْ أَظْهَرِهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ أَنْ لَا تَزِيدَ بِالْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقُصَ بِالْجَفَاءِ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا لِصَدِيقٍ جَذَبَتْهُ أَزْمَةُ الْعِنَايَةِ حَتَّى أَوْقَفَتْهُ عَلَى عَتَبَةِ الْوِلَايَةِ، وَأَحَلَّتْهُ فِي رِيَاضِ الشُّهُودِ الْمُطْلَقِ، فَرَأَى أَنَّ مَحْبُوبَهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ مُحَقَّقٌ. [ (وَمَنْ أَحَبَّ) ] أَيْ: وَثَانِيَتُهُمَا مَحَبَّةُ مَنْ أَحَبَّ [ (عَبْدًا) ] أَيْ مَوْسُومًا بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا [ (لَا يُحِبُّهُ) ] أَيْ: لِشَيْءٍ [ (إِلَّا لِلَّهِ) ] ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ أَيْ: لَا يُحِبُّهُ لِغَرَضٍ وَعَرَضٍ وَعِوَضٍ، وَلَا يَشُوبُ مَحَبَّتَهُ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ وَلَا أَمْرٌ بَشَرِيٌّ، بَلْ مَحَبَّتُهُ تَكُونُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مُتَّصِفًا بِالْحُبِّ فِي اللَّهِ، وَدَاخِلًا فِي الْمُتَحَابِّينَ لِلَّهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ، أَوْ مِنْهُمَا [ (وَمَنْ يَكْرَهُ) ] أَيْ: وَثَالِثَتُهُمَا كَرَاهَةُ مَنْ يَكْرَهُ [ (أَنْ يَعُودَ) ] أَيْ: يَرْجِعَ، أَوْ يَتَحَوَّلَ [ (فِي الْكُفْرِ) ] ، وَقِيلَ: أَنْ يَصِيرَ بِدَلِيلِ تَعْدِيَتِهِ بِفِي عَلَى حَدِّ (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) فَيَشْمَلُ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ كُفْرٌ أَيْضًا، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ: [ (بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ) ] أَيْ: أَخْلَصَهُ وَنَجَّاهُ مِنَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ أَنْقَذَ بِمَعْنَى حَفَظَ بِالْعِصْمَةِ ابْتِدَاءً بِأَنْ يُولَدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَسْتَمِرَّ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، أَوْ لَا يَشْمَلُهُ وَلَكِنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ بَلِ الْأَوْلَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] أَيْ: بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، فَهُوَ يَعُمُّ الِابْتِدَاءَ وَالِانْتِهَاءَ. [ (كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ) ] أَيْ: وَكَرَاهَةُ مَنْ يَكْرَهُ الصَّيْرُورَةَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ كَرَاهَةِ الرَّمْيِ وَالطَّرْحِ فِي النَّارِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَفِي أُخْرَى لَهُمَا مَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: وَأَنْ تُوقَدَ نَارٌ عَظِيمَةٌ فَيَقَعَ فِيهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، يَعْنِي أَنَّ الْوُقُوعَ فِي نَارِ الدُّنْيَا أَوْلَى بِالْإِيثَارِ مِنَ الْعَوْدِ فِي الْكُفْرِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ: الْحِجَابُ أَشَدُّ الْعَذَابِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ أَبْوَابِ التَّحَلِّي بِالْفَوَاضِلِ وَالْفَضَائِلِ، وَالْخَصْلَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ فَفِيهَا تَحْثِيثٌ وَتَحْرِيضٌ وَتَرْغِيبٌ وَتَحْرِيصٌ عَلَى تَحْصِيلِ بَقِيَّةِ الشَّمَائِلِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ أُمَّهَاتٌ لِغَيْرِ الْمَسْطُورَاتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: ( «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» ) كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ.

9 - وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 9 - (وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) أَيْ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَتَيْنِ، وَمِنْ لَطَافَةِ فَهْمِهِ وَمَتَانَةِ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: هُوَ أَكْبَرُ، وَأَنَا أَسَنُّ. وَأُمُّهُ أَوَّلُ امْرَأَةٍ كَسَتِ الْكَعْبَةَ الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ وَأَصْنَافَ الْكِسْوَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبَّاسَ ضَلَّ وَهُوَ صَبِيٌّ فَنَذَرَتْ إِنْ وَجَدَتْهُ أَنْ تَكْسُوَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فَوَجَدَتْهُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَئِيسًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِلَيْهِ كَانَتْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالسِّقَايَةُ. أَمَّا السِّقَايَةُ فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِسِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَأَمَّا الْعِمَارَةُ فَإِنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ قُرَيْشًا عَلَى عِمَارَتِهِ وَبِالْخَيْرِ وَتَرْكِ السِّبَابِ فِيهِ وَقَوْلِ الْهَجْرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَتَقَ الْعَبَّاسُ عِنْدَ مَوْتِهِ سَبْعِينَ مَمْلُوكًا، وُلِدَ قَبْلَ سَنَةِ الْفِيلِ، وَمَاتَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَكَتَمَ إِسْلَامَهُ، وَخَرَجَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مُكْرَهًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ ( «مَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ فَلَا يَقْتُلْهُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا» ) ] فَأَسَرَهُ أَبُو الْيَسِيرِ كَعْبُ بْنُ عُمَرَ، فَفَادَى نَفْسَهُ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ) ] أَيْ: نَالَ وَأَدْرَكَ وَأَصَابَ وَوَجَدَ حَلَاوَتَهُ وَلَذَّتَهُ، وَأَصْلُ الذَّوْقِ وُجُودُ أَدَقِّ طَعْمٍ فِي الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الذَّوْقُ الْمَعْنَوِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: ذَوْقًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا. [ (مَنْ رَضِيَ) ] أَيْ: قَنِعَ نَفْسَهُ، وَطَابَ قَلْبُهُ، وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ، وَاكْتَفَى [ (بِاللَّهِ رَبًّا) ] أَيْ: مَالِكًا وَسَيِّدًا وَمُتَصَرِّفًا، وَنَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَكَذَا أَخَوَاتُهُ، [ (وَبِالْإِسْلَامِ) ] أَيِ الشَّامِلِ لِلْإِيمَانِ [ (دِينًا) ] : عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ [ (وَبِمُحَمَّدٍ) ]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُلْحَقٌ، وَلَيْسَ لَفْظَ النُّبُوَّةِ [ (رَسُولًا) ] عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الرِّضَا الِانْقِيَادُ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ، وَالْكَمَالُ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا عَلَى بَلَائِهِ، وَشَاكِرًا عَلَى نَعْمَائِهِ، وَرَاضِيًا بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ، وَمَنْعِهِ وَإِعْطَائِهِ، وَأَنْ يَعْمَلَ بِجَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ، وَأَنْ يَتْبَعَ الْحَبِيبَ حَقَّ مُتَابَعَتِهِ فِي سُنَّتِهِ، وَآدَابِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَمُعَاشَرَتِهِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّوَجُّهِ الْكُلِّيِّ إِلَى الْعُقْبَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ( «أَلِظُّوا أَلْسِنَتَكُمْ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّنَا، وَالْإِسْلَامَ دِينُنَا، وَمُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا فَإِنَّكُمْ تُسْأَلُونَ عَنْهَا فِي قُبُورِكُمْ» ) . قَالَ السُّيُوطِيُّ: فِي سَنَدِهِ عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ.

10 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 10 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : مَرَّ ذِكْرُهُ [ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالَّذِي) ] أَيْ: وَاللَّهِ الَّذِي [ (نَفْسُ مُحَمَّدٍ) ] أَيْ رُوحُهُ، وَذَاتُهُ، وَصِفَاتُهُ، وَحَالَاتُهُ، وَإِرَادَتُهُ، وَحَرَكَاتُهُ، وَسَكَنَاتُهُ [ (بِيَدِهِ) ] أَيْ كَائِنَةٌ بِنِعْمَتِهِ، وَحَاصِلَةٌ بِقُدْرَتِهِ، وَثَابِتَةٌ بِإِرَادَتِهِ، وَوَجْهُ اسْتِعَارَةِ الْيَدِ لِلْقُدْرَةِ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَظْهَرُ سُلْطَانُهَا فِي أَيْدِينَا، وَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ فِيهَا تَفْوِيضُ عِلْمِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَسْلَمُ حَذَرًا مِنْ أَنْ يُعَيَّنَ لَهُ غَيْرُ مُرَادٍ لَهُ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُهُ وَقْفُ الْجُمْهُورِ عَلَى الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وَعَدُّوهُ وَقْفًا لَازِمًا، وَهُوَ مَا فِي وَصْلِهِ إِيهَامُ مَعْنًى فَاسِدٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَأْوِيلُ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ مَا أَثْبَتَهُ تَعَالَى لِنَفَسِهِ، وَبِهَا الَّذِي يَنْبَغِي الْإِيمَانُ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا أَرَادَهُ، وَلَا يُشْتَغَلُ بِتَأْوِيلِهِ فَنَقُولُ: لَهُ يَدٌ عَلَى مَا أَرَادَهُ لَا كَيَدِ الْمَخْلُوقِينَ، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ فِيهَا تَأْوِيلُهُ بِمَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُ عَنِ الْجِسْمِ وَالْجِهَةِ

وَلَوَازِمِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى " الرَّاسِخُونَ " فِي الْعِلْمِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: " أَنَا أَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ، وَأَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ. قِيلَ: وَهَذَا أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ أَيْ: يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ حَتَّى يُطَابِقَ التَّأْوِيلُ سِيَاقَ ذَلِكَ النَّصِّ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ مَذْهَبَ الْخَلَفِ أَكْثَرُ عِلْمًا، فَالْمَذْهَبَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَوْلَى مَاذَا، أَهُوَ التَّفْوِيضُ أَمِ التَّأْوِيلُ؟ وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْخِلَافِ عَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ، فَكَانَ التَّفْوِيضُ فِي زَمَانِ السَّلَفِ أَوْلَى؛ لِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ وَعَدَمِ ظُهُورِ الْبِدَعِ فِي زَمَانِهِمْ، وَالتَّأْوِيلُ فِي زَمَانِ الْخَلَفِ أَوْلَى؛ لِكَثْرَةِ الْعَوَامِّ وَأَخْذِهِمْ بِمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْأَفْهَامِ، وَغُلُوِّ الْمُبْتَدَعَةِ بَيْنَ الْأَنَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. ثُمَّ هُوَ قَسَمٌ، جَوَابُهُ [ (لَا يَسْمَعُ بِي) ] : وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ: وَالَّذِي نَفْسِي، لَكِنَّهُ جَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ النَّفِيسَةَ مِنَ اسْمِهِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ هُوَ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ وَأَوْقَعَ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ الْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ تَنْزِيلًا مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ إِلَى التَّفْرِقَةِ، وَمِنَ الْكَوْنِ مَعَ الْحَقِّ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ، وَالِانْتِقَالِ مِنْ خِزَانَةِ الْكَمَالِ إِلَى مَنَصَّةِ التَّكْمِيلِ. قَالَ الْعَارِفُ السَّهْرَوَرْدِيُّ: الْجَمْعُ اتِّصَالٌ لَا يُشَاهِدُ صَاحِبُهُ إِلَّا الْحَقَّ، فَمَتَّى شَاهَدَ غَيْرَهُ فَمَا ثَمَّ جَمْعٌ، فَقَوْلُهُ: " آمَنَّا بِاللَّهِ " جَمْعٌ، وَ " مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا " تَفْرِقَةٌ. وَقَالَ الْجُنَيْدِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ، - وَيُسَمَّى سَيِّدَ الطَّائِفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ قَطُّ بِمَا لَا يُطَابِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ -: الْقُرْبُ بِالْوَجْدِ جَمْعٌ، وَغَيْبَتُهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَفْرِقَةٌ، وَكُلُّ جَمْعٍ بِلَا تَفْرِقَةٍ زَنْدَقَةٌ، وَكُلُّ تَفْرِقَةٍ بِلَا جَمْعٍ تَعْطِيلٌ. ثُمَّ قِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوْ بِمَعْنَى " مِنْ "، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا) أَوْ ضِمْنَ مَعْنَى الْإِخْبَارِ أَيْ: مَا يَسْمَعُ مُخْبِرًا بِبَعْثِي، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى لَا يَعْلَمُ رِسَالَتِي [ (أَحَدٌ) ] أَيْ: مِمَّنْ هُوَ مَوْجُودٌ أَوْ سَيُوجَدُ " [ (مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ) ] أَيْ: أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، وَ " مِنْ " تَبْعِيضِيَّةٌ، وَقِيلَ: بَيَانِيَّةٌ [ (يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ) ] : صِفَتَانِ لِـ " أَحَدٌ " - وَحُكْمُ الْمُعَطِّلَةِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ يُعْلَمُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى - أَوْ بَدَلَانِ عَنْهُ، بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَخُصَّا لِأَنَّ كُفْرَهُمَا أَقْبَحُ، وَعَلَى كُلٍّ لَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ [ (ثُمَّ يَمُوتُ) ] : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَلَوْ تَرَاخَى إِيمَانُهُ وَوَقَعَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ نَفَعَهُ [ (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) ] أَيْ: مِنَ الدِّينِ الْمَرْضِيِّ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَوْ عَطْفٌ [ (إِلَّا كَانَ) ] أَيْ: فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ بِمَعْنَى يَكُونُ، وَتَعْبِيرُهُ بِالْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ [ (مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) ] أَيْ مُلَازِمِيهَا بِالْخُلُودِ فِيهَا، وَأَمَّا الَّذِي سَمِعَ وَآمَنَ فَحُكْمُهُ عَلَى الْعَكْسِ، وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يَسْمَعُ وَلَمْ يُؤْمِنْ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْوَعِيدِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ " لَا " فِي: " لَا يَسْمَعُ " بِمَعْنَى " لَيْسَ "، وَ " ثُمَّ يَمُوتُ " عَطْفٌ عَلَى " يَسْمَعُ " الْمُثْبَتِ، " وَلَمْ يُؤْمِنْ " عَطْفٌ عَلَى يَمُوتُ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ وَلَيْسَ لِنَفْيِ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَتَقْدِيرُهُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَسْمَعُ بِهِ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ، أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنٍ كَائِنًا مِنْ أَصْحَابِ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

11 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمِهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا - فَلَهُ أَجْرَانِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 11 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَدِمَ مَعَ أَهْلِ السَّفِينَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ، وَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْبَصْرَةَ سَنَةَ عَشْرٍ، فَافْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَهْوَازَ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ إِلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا فَانْتَقَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَقَامَ بِهَا، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ، ثُمَّ انْتَقَلَ أَبُو مُوسَى إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ التَّحْكِيمِ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: أَشْخَاصٌ، " ثَلَاثَةٌ " مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ [ (لَهُمْ أَجْرَانِ) ] أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَجْرَانِ عَظِيمَانِ مُخْتَصَّانِ بِهِ لَا مُشَارَكَةَ لِغَيْرِهِ فِيهِمَا [ (رَجُلٌ) ] : بَدَلٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ بَدَلُ بَعْضٍ وَالْعَطْفُ بَعْدَ الرَّبْطِ، أَوْ بَدَلُ كُلٍّ وَالرَّبْطُ بَعْدَ الْعَطْفِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَحَدُهُمْ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَيْ: مِنْهُمْ، أَوْ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَ " لَهُمْ أَجْرَانِ " صِفَتُهُ، وَالْمَرْأَةُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ [ (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ) ] : خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَاخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّصْرَانِيُّ أَوِ الْيَهُودِيُّ أَيْضًا، وَإِلَى الْأَوَّلِ جَنَحَ صَاحِبُ " الْأَزْهَارِ "، وَأَيَّدَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَمَالَ غَيْرَهُ إِلَى

الثَّانِي، وَأَيَّدَهُ بِمُؤَيِّدَاتٍ نَقْلِيَّةٍ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ هَلْ هِيَ نَاسِخَةٌ لِلْيَهُودِيَّةِ أَمْ لَا. وَعَلَى كُلٍّ فَمَنْ كَذَّبَهُ مِنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّهِ. فَإِنْ قُلْتَ: يُؤَيِّدُ إِرَادَةَ الْإِنْجِيلِ وَحْدَهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ (فَإِذَا آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ) . قُلْتُ: لَا يُؤَيِّدُهُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى عِيسَى إِنَّمَا هُوَ لِحِكْمَةٍ هِيَ بُعْدُ بَقَاءِ مُؤْمِنٍ بِمُوسَى دُونَ عِيسَى مَعَ صِحَّةِ إِيمَانِهِ بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ دَعْوَةُ عِيسَى إِلَى بِعْثَةِ نَبِيِّنَا فَآمَنَ بِهِ، وَهَذَا وَإِنِ اسْتُبْعِدَ وَجُودُهُ لَكِنْ فِي حَمْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا يَشْمَلُهُ فَائِدَةٌ هِيَ أَنَّ الْيَهُودَ مَنْ بَنَى إِسْرَائِيلَ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُ دَعْوَةُ عِيسَى يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ مُؤْمِنٌ بِنَبِيِّهِ مُوسَى وَلَمْ يُكَذِّبْ نَبِيًّا آخَرَ بَعْدَهُ، فَإِذَا أَدْرَكَ بَعْثَةَ نَبِيِّنَا وَآمَنَ بِهِ تَنَاوَلَهُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ وَالْأَجْرُ الْمَسْطُورُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ عَرَبٌ نَحْوَ الْيَمَنِ مُتَهَوِّدُونَ وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ عِيسَى لِاخْتِصَاصِ رِسَالَتِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِجْمَاعًا دُونَ غَيْرِهِمْ، فَاتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ ذِهْنًا فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ، وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِالْعُمُومِ الْآيَةُ النَّازِلَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَشْبَاهِهِ، وَهِيَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ، وَفِيمَنْ آمَنَ بِي. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَلْمَانَ وَابْنِ سَلَامٍ، وَلَا تَنَافِي فِي أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَالثَّانِيَ كَانَ يَهُودِيًّا. فَإِنْ قُلْتَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِعِيسَى فَكَيْفَ اسْتَحَقُّوا الْأَجْرَيْنِ؟ قُلْتُ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَحَاشَا مِثْلَ ابْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ مَعَ سَعَةِ عُلُومِهِمْ وَكَمَالِ عُقُولِهِمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِعِيسَى، كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْمُرَادُ مَنْ آمَنَ بِنَبِيِّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا بِأَنْ يُؤْمِنَ الْيَهُودِيُّ بِمُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبْلَ الْعِلْمِ بِنَسْخِ شَرْعِهَا بِالْإِنْجِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ، وَإِلَّا فَقَبْلَ نَسْخِهِ بِشَرِيعَتِنَا، وَالْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِعِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَلِمَ رِسَالَتَهُ إِلَيْهِ قَبْلَ نَسْخِ شَرْعِهِ بِشَرِيعَتِنَا، وَإِنَّمَا قَيَّدُوا بِمَا قَبْلَ النَّسْخِ وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِنَبِيٍّ بَعْدَ أَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ غَيْرِهِ النَّاسِخَةِ لَهُ لَا أَجْرَ لَهُ عَلَى إِيمَانِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَقِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْيِيدِ إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ طَرُوُّ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَبَبًا لِثَوَابِهِ عَلَى الْإِيمَانِ السَّابِقِ ; كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ يُثَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ السَّابِقَةِ فِي الْكُفْرِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] وَكَذَا كِتَابُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى هِرَقْلَ: ( «أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ» ) . وَقَوْمُهُ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّمَا دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ لَهُ مِنْ جِهَةِ إِسْلَامِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ سَبَبًا لِإِسْلَامِ أَتْبَاعِهِ. [ (وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ) ] أَيْ إِيمَانًا صَحِيحًا أَيْضًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: " وَبِمُحَمَّدٍ " مَعَ أَنَّهُ أَخْصَرُ؛ لِلْإِشْعَارِ بِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنَ النَّبِيِّينَ بِالْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ دُونَ التَّبَعِيَّةِ، ثُمَّ الْإِيمَانُ بِهِ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِيمَانَهُ السَّابِقَ مُثَابٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ حَقًّا [ (وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ) ] : وُصِفَ بِهِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ لَا مُطْلَقَ الْعَبْدِ، إِذْ جَمِيعُ النَّاسِ عِبَادُ اللَّهِ [ (إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ) ] مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَنَحْوِهِمَا [ (وَحَقَّ مَوَالِيهِ) ] أَيْ أَسْيَادَهُ وَمُلَّاكَهُ وَمُتَوَلِّي أَمْرِهِ، مِنْ خِدْمَتِهِمُ الْجَائِزَةِ جُهْدَهُ وَطَاقَتَهُ، وَجَمَعَ الْمَوَالِي لِأَنَّ " أَلْ " فِي الْعَبْدِ لِلْجِنْسِ، فَلِكُلِّ عَبْدٍ مَوْلًى عِنْدَ التَّوْزِيعِ، أَوْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَ حُقُوقَ جَمِيعِهِمْ فَيُعْلَمُ الْمُنْفَرِدُ بِالْأَوْلَى، أَوْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ مَوَالِيهِ بِالْمُنَاوَبَةِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ فَيَقُومُ بِحَقِّ كُلٍّ مِنْهُمْ، [ (وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا) ] أَيْ: يُجَامِعُهَا، وَفَائِدَةُ هَذَا الْقَيْدِ أَنَّهُ مَعَ هَذَا أَيْضًا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ فِي تَرْبِيَتِهَا، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ وُقُوعَ الْوَطْءِ بِالْفِعْلِ، بَلْ بِالْقُوَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ إِسْقَاطُهُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَهِيَ: «إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ

فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا - كَانَ لَهُ أَجْرَانِ» [ (فَأَدَّبَهَا) ] أَيْ عَلَّمَهَا الْخِصَالَ الْحَمِيدَةَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِآدَابِ الْخِدْمَةِ؛ إِذِ الْأَدَبُ هُوَ حُسْنُ الْأَحْوَالِ مِنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَحُسْنُ الْأَخْلَاقِ [ (فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا) ] بِأَنْ يَكُونَ بِلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ [ (وَعَلَّمَهَا) ] : مَا لَا بُدَّ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لَهَا [ (فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا) ] : بِتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ [ (ثُمَّ أَعْتَقَهَا) ] أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ اللَّهِ [ (فَتَزَوَّجَهَا) ] تَحْصِينًا لَهُ، وَرَحْمَةً عَلَيْهَا [ (فَلَهُ) ] أَيْ فَلِلرَّجُلِ الْأَخِيرِ [ (أَجْرَانِ) ] أَجْرٌ عَلَى عِتْقِهِ، وَأَجْرٌ عَلَى تَزَوُّجِهِ، كَذَا قَالُوهُ، وَقِيلَ: أَجْرٌ عَلَى تَأْدِيبِهِ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَجْرٌ عَلَى عِتْقِهِ وَمَا بَعْدَهُ، وَيَكُونُ هَذَا هُوَ فَائِدَةُ الْعَطْفِ، ثُمَّ إِشَارَةٌ إِلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ، قِيلَ: وَفِي تَكْرِيرِ الْحُكْمِ اهْتِمَامٌ بِشَأْنِ الْأَمَةِ وَتَزَوُّجِهَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي (فَلَهُ) إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، فَيَكُونُ التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ لِطُولِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ كَالْفَذْلَكَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 89] الْآيَةَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ اخْتِصَارِ الرَّاوِي أَوْ نِسْيَانِهِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا ذُكِرَ فِي الْأَمَةِ " فَلَهُ أَجْرَانِ " دُونَ مَا سَبَقَ تَأْكِيدًا لِحَالِهَا، فَإِنَّ مَا يُوجِبُ الْأَجْرَيْنِ فِيهَا مُسْتَحَبٌّ جَائِزُ التَّرْكِ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَالتَّزَوُّجُ، فَاحْتِيجَ إِلَى التَّأْكِيدِ لِئَلَّا يُتْرَكَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، أَوْ إِشْعَارًا بِأَنَّ مَا يُوجِبُ الْأَجْرَيْنِ مُخْتَصًّا بِالْأَمَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ الْإِعْتَاقُ وَالتَّزَوُّجُ، فَلِذَا ذُكِرَ عَقِيبَهُمَا " فَلَهُ أَجْرَانِ " بِخِلَافِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ، فَإِنَّهُمَا مُوجِبَانِ لِلْأَجْرِ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَوْلَادِ، وَجَمِيعُ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْإِمَاءِ، وَمِنْ ثَمَّةَ اتَّجَهَ سِيَاقُ الشَّعْبِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتَزَوِّجَ لِعَتِيقَتِهِ كَالرَّاكِبِ لِبَدَنَتِهِ أَيْ: فَلَا أَجْرَ لَهُ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ تَفْسِيرِهِمُ الْأَجْرَيْنِ بِوَاحِدٍ عَلَى الْعِتْقِ وَآخَرَ عَلَى التَّزَوُّجِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْسِنًا إِلَيْهَا إِحْسَانًا أَعْظَمَ بَعْدَ إِحْسَانٍ أَعْظَمَ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ تَخْلِيصٌ مِنْ قَهْرِ الرِّقِّ وَأَسْرِهِ، وَالثَّانِي فِيهِ التَّرَقِّي إِلَى إِلْحَاقِ الْمَقْهُورِ بِقَاهِرِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الزَّوْجَاتِ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْعِلَّةُ فِي تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَالْحَالُ أَنَّ غَيْرَهُمْ أَيْضًا كَذَلِكَ مِثْلَ مَنْ صَامَ وَصَلَّى، فَإِنَّ لِلصَّلَاةِ أَجْرًا وَلِلصَّوْمِ أَجْرًا، وَكَذَا مِثْلَ الْوَلَدِ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ وَالِدِهِ؟ قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْفَاعِلَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ جَامِعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةٌ عَظِيمَةٌ كَأَنَّ الْفَاعِلَ لَهُمَا فَاعِلٌ لِلضِّدَّيْنِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الضِّدِّيَّةَ بِعَيْنِهَا مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْوَالِدِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَأَمْثَالُهَا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ لِذِكْرِهَا نَفْيُ مَا عَدَاهَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلِذَا قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ فِي مَعْنَيَيْنِ مِنْ أَيِّ فِعْلٍ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الطَّوَائِفَ الثَّلَاثَةَ لِكُلٍّ مِنْهَا أَجْرَانِ بِسَبَبِ عَمَلٍ وَاحِدٍ، بِشَرْطِ مُقَارَنَةِ عَمَلٍ آخَرَ، فَالَّذِي آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ لَهُ أَجْرَانِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّنَا، لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ، وَالْعَبْدُ الْمَولَى لَهُ أَجْرَانِ بِسَبَبِ أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَدَاءِ حَقِّ مَوْلَاهُ، تَأَمَّلْ اهـ. وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا، وَأَنَّ الْأَجْرَيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانَيْنِ وَأَدَاءِ الْحَقَّيْنِ، فَالْوَجْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ نَسْخِ الْأَدْيَانَ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ لَا ثَوَابَ لِأَصْحَابِهَا مُطْلَقًا - دَفَعَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَكَذَا الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ ثَوَابَ عِبَادَةِ الْمَمْلُوكِ لِلْمَالِكِ، فَلِذَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَرُبَّمَا كَانَ يُقَالُ: إِنَّ إِعْتَاقَ الْجَارِيَةِ وَتَزَوُّجَهَا لِغَرَضِ نَفْسِهِ، وَهُوَ طَبْعٌ، فَلَا يَكُونُ فِيهِمَا أَجْرٌ، فَرَفَعَهُ وَبَالَغَ فِيهِ وَقَالَ: لَهُ أَجْرَانِ، أَوْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ مُمْتَنِعًا مِنَ الْعَمَلِ الثَّانِي فَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ وَحَضَّهُمْ عَلَى الْفِعْلِ بِقَوْلِهِ:

لَهُمْ أَجْرَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قِيلَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُضَمَّ مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ لَهُنَّ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِنَّ، وَمَا هُنَا عَامٌّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. بِلَفْظِ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَصَدَّقَهُ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ سَيِّدِهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ» .

12 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 12 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : مَرَّ ذِكْرُهُ [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أُمِرْتُ) ] : لَمْ يَذْكُرِ الْآمِرَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ أَمَرَنِي رَبِّي بِالْوَحْيِ الْجَلِيِّ أَوِ الْخَفِيِّ [ (أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ) ] أَيْ: بِأَنْ أُجَاهِدَهُمْ وَأُحَارِبَهُمْ. فَـ " أَنْ " مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْأَمْرِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ [ (حَتَّى يَشْهَدُوا) ] وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يَقُولُوا [ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) ] أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُرْفَعُ عَنْهُمُ السَّيْفُ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيُّ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا عَلَى رِوَايَةٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ الْأَعَمُّ، لَكِنْ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْآيَةِ. قِيلَ: وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الشَّامِلِ ": لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرِضَ عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَالتَّبْلِيغُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ثُمَّ فُرِضَ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ، وَفُرِضَ الصَّوْمُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَالْحَجُّ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَقِيلَ بَعْدَ الصِّيَامِ، وَقِيلَ قَبْلَهُ، وَأَمَّا الْجِهَادُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِمَكَّةَ، وَأُذِنَ لَهُ بِالْمَدِينَةِ لِمَنِ ابْتَدَأَ بِهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَهُمْ بِهِ دُونَ الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُبِيحَ ابْتِدَاؤُهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالْحَرَمِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَتَّى غَايَةٌ لِـ " أُمِرْتُ " أَوْ " أُقَاتِلَ " وَهُوَ أَوْلَى، أَيْ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: مَا لَمْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُعْقَدْ لَهُمْ أَمَانٌ أَوْ هُدْنَةٌ إِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا كَمَا اسْتُفِيدَ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى اهـ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ أَوْلَى، خِلَافُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ تَتَعَيَّنُ لِلْمُقَاتَلَةِ الْقَابِلَةِ لِلِاسْتِمْرَارِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْأَمْرِ؛ لِعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ [ (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) ] أَيِ الْمَفْرُوضَةَ، بِأَنْ يَأْتُوا بِشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا. قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ بِشَرْطِهِ الْمُقَرَّرِ فِي الْفِقْهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُقَاتَلَةِ لَا فِي الْقَتْلِ، وَمُقَاتَلَةُ الْإِمَامِ لِتَارِكِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِهَا مَحَلُّ وِفَاقٍ مَعَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. [ (وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) ] : وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَفْرُوضَةً، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِقِتَالِ مَانِعِيهَا، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَاتَلَهُمُ الصِّدِّيقُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَتَّى يَقْبَلُوا فَرْضِيَّتَهُمَا، ثُمَّ قِيلَ: أَرَادَ الْخَمْسَةَ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا خُصَّتَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أُمُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَأَسَاسُهُمَا، وَالْعُنْوَانُ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَلِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِمَادَ الدِّينِ، وَالزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الْإِسْلَامِ، وَقُرِنَ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، أَوْ لِكِبَرِ شَأْنِهِمَا عَلَى النُّفُوسِ لِتَكَرُّرِهِمَا، أَوْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ وَالْحَجُّ مَفْرُوضَيْنِ حِينَئِذٍ، وَالْمُرَادُ: حَتَّى يُسْلِمُوا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ ( «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ» ) ؛ وَلِهَذَا حُذِفَتَا فِي رِوَايَةٍ اسْتِغْنَاءً عَنْهُمَا بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْأَصْلُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: الشَّهَادَةُ إِشَارَةٌ إِلَى تَخْلِيَةِ لَوْحِ الْقَلْبِ عَنِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَسَائِرِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ الرَّدِيَّةِ، ثُمَّ تَحْلِيَتُهُ بِالْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ الْحَقِّيَّةِ، وَأَحْوَالِ الْمَعَادِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ، وَنَفَى غَيْرَهُ، وَصَدَّقَ رِسَالَةَ النَّبِيِّ بِنَعْتِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ - فَقَدَ وَفَى بِعُهْدَةِ عَهْدِهِ، وَبَذَلَ غَايَةَ جَهْدِهِ فِي بِدَايَةِ جَهْدِهِ، وَآمَنَ بِجَمِيعِ مَا وَجَبَ مِنَ الْكُتُبِ، وَالرُّسُلِ، وَالْمَعَادِ، وَلِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَعْدَادِ سَائِرِ الْأَعْدَادِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْكِ الرَّاحَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِتْعَابِ الْآلَاتِ الْجَسَدِيَّةِ، وَهِيَ أُمُّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي إِذَا وُجِدَتْ لَمْ يَتَأَخَّرْ

عَنْهَا الْبَوَاقِي، وَلِذَا اسْتَغْنَى عَنْ عَدِّهَا وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْفُضُولِ الْمَالِيَّةِ، بَلْ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَهْمِيٍّ بِالْمَوْجُودِ الْحَقِيقِيِّ، وَبَذْلُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ؛ لِاسْتِفْتَاحِ أَبْوَابِ الْفُتُوحِ، وَاللَّامُ فِيهِمَا لِلْعَهْدِ أَوْ، لِلْجِنْسِ فَيَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ الرَّجُلُ كَأَنَّ مَا عَدَا صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَزَكَاتَهُمْ لَيْسَ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً. [ (فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ) ] أَيِ الْمَذْكُورَ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَيُسَمَّى الْقَوْلُ فِعْلًا؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ اللِّسَانِ، أَوْ تَغْلِيبًا [ (عَصَمُوا) ] بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ: حَفِظُوا وَمَنَعُوا [ (مِنِّي) ] أَيْ مِنْ أَتْبَاعِي أَوْ مِنْ قِبَلِي وَجِهَةِ دِينِي [ (دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) ] أَيِ اسْتِبَاحَتَهُمْ بِالسَّفْكِ وَالنَّهْبِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ [ (إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ) ] أَيْ دِينِهِ، وَالْإِضَافَةُ لَامِيَّةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِهْدَارُ دِمَائِهِمْ وَاسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِهِمْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ مِنِ اسْتِيفَاءِ قَصَاصِ نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ، إِذَا قُتِلَ أَوْ قُطِعَ، وَمِنْ أَخْذِ مَالٍ إِذَا غُصِبَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَقَتْلٍ لِنَحْوِ زِنَا مُحْصَنٍ، وَقَطْعٍ لِنَحْوِ سَرِقَةٍ، وَتَغْرِيمِ مَالٍ لِنَحْوِ إِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ الْمُحْتَرَمِ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بِحَذْفِ مَوْصُوفٍ، أَيْ إِلَّا دِمَاءً أَوْ أَمْوَالًا مُلْتَبِسَةً بِحَقٍّ، [وَحِسَابُهُمْ] أَيْ فِيمَا يَسْتُرُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بَعْدَ ذَلِكَ [عَلَى اللَّهِ] ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَزَاءِ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا نَحْكُمُ بِظَاهِرِ الْحَالِ وَالْإِيمَانِ الْقَوْلِي، وَنَرْفَعُ عَنْهُمْ مَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَنُؤَاخِذُهُمْ بِحُقُوقِ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ حَالِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى حِسَابَهُمْ، فَيُثِيبُ الْمُخْلِصَ، وَيُعَاقِبُ الْمُنَافِقَ، وَيُجَازِي الْمُصِرَّ بِفِسْقِهِ، أَوْ يَعْفُو عَنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ، وَهُوَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ يُقِرَّ أَوْ يُطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى كُفْرٍ كَانَ يُخْفِيهِ، فَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ وَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ، لَكِنَّهُ إِنْ صَدَقَ فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ مِنْهُ مَرَّةً فَقَطْ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ السَّيْفِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً لِلضَّلَالِ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْقِتَالَ وَالْعِصْمَةَ إِنَّمَا هُمَا فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْأُخْرَوِيَّةُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَكَمِّيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، فَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا دَخْلَ لَنَا فِيهِ اهـ. وَقَدْ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحِسَابَ كَالْوَاجِبِ فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَقِيلَ: هُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا بِحَسَبِ وَعْدِهِ تَعَالَى بِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ لَا أَنَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ وُجُوبَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقْلًا، ثُمَّ الْحِسَابُ مَصْدَرٌ كَالْمُحَاسَبَةِ، وَهُوَ الْعَدُّ. قِيلَ: وَمَعْنَى حِسَابِهِمْ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ يُعْلِمُهُمْ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَخْلُقَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ فِي قُلُوبِهِمْ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ، وَبِمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حِسَابَ عَلَى الْخَلْقِ، بَلْ يَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَيُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، فَيُقَالُ: قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهَا، ثُمَّ يُعْطَوْنَ حَسَنَاتِهِمْ فَيُقَالُ: قَدْ ضَاعَفْتُهَا لَكُمْ، فَيَكُونُ مَجَازًا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ؛ لِأَنَّ الْحِسَابَ سَبَبٌ لِحُصُولِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ إِذِ الْحِسَابُ سَبَبٌ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202] وَمَعْنَى سُرْعَتِهِ أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتَقِرَ فِي إِحْدَاثِ شَيْءٍ إِلَى فِكْرٍ، وَرَوِيَّةٍ، وَمُدَّةٍ، وَعُدَّةٍ؛ وَلِذَا وَرَدَ أَنَّهُ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ فِي مِقْدَارِ حَلْبَةِ شَاةٍ أَوْ فِي لَمْحَةٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيِ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى رِوَايَةِ جَمِيعِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ: [إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ] : لَكِنَّهُ مُرَادٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة: 5] أَيْ عَنِ الْكُفْرِ بِإِتْيَانِ الشَّهَادَتَيْنِ {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وَفِي الْجَامِعِ

الصَّغِيرِ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ، أَيْ مَعْنَوِيٌّ، بِلَفْظِ: ( «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ) ، وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَحَسَّنَهُ " ( «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا) قِيلَ: وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: (زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ كُفْرٌ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ» بِهَا) اهـ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ وَتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ، وَرَدٌّ بَلِيغٌ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى الْأَعْمَالِ، وَدَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُقِرِّينَ بِالتَّوْحِيدِ الْمُلْتَزِمِينَ لِلشَّرَائِعِ.

13 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 13 - (وَعَنْ أَنَسٍ) مَرَّ ذِكْرُهُ (أَنَّهُ) هُوَ ثَابِتٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا) أَيْ كَمَا نُصَلِّي، وَلَا تُوجَدُ إِلَّا مِنْ مُوَحِّدٍ مُعْتَرِفٍ بِنُبُوَّتِهِ، وَمَنِ اعْتَرَفَ بِهِ فَقَدِ اعْتَرَفَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، فَلِذَا جَعَلَ الصَّلَاةَ عَلَمًا لِإِسْلَامِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّهَادَتَيْنِ لِدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، (وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا) : إِنَّمَا ذَكَرَهُ مَعَ انْدِرَاجِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ أَعْرَفُ، إِذْ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ قِبْلَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَلَاتَهُ، وَلِأَنَّ فِي صَلَاتِنَا مَا يُوجَدُ فِي صَلَاةِ غَيْرِهِ، وَاسْتِقْبَالُ قِبْلَتِنَا مَخْصُوصٌ بِنَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَرْكَانِ اكْتِفَاءً بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ، أَوْ لِتَأَخُّرِ وُجُوبِ تِلْكَ الْفَرَائِضِ عَنْ زَمَنِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ لَمَّا مُيِّزَ الْمُسْلِمُ عَنْ غَيْرِهِ عِبَادَةً ذَكَرَ مَا يُمَيِّزُهُ عِبَادَةً وَعَادَةً بِقَوْلِهِ: (وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا) ; فَإِنَّ التَّوَقُّفَ عَنْ أَكْلِ الذَّبَائِحِ كَمَا هُوَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَكَذَلِكَ مِنَ الْعَادَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَاتِ، وَالذَّبِيحَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَالتَّاءُ لِلْجِنْسِ كَمَا فِي الشَّاةِ (فَذَلِكَ) أَيْ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (الْمُسْلِمُ) ، أَوْ صِفَتُهُ وَخَبَرُهُ (الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ) أَيْ أَمَانُهُمَا وَعَهْدُهُمَا مِنْ وَبَالِ الْكُفَّارِ، وَمَا شُرِعَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ وَغَيْرِهِمَا، أَيْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ هَذَا، وَكَرَّرَ لَفْظَةَ (ذِمَّةُ) إِشْعَارًا بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْصُودٌ، وَأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَلَازِمَانِ؛ وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ( «فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ» ) مِنَ الْإِخْفَارِ أَيْ لَا تَخُونُوا اللَّهَ فِي عَهْدِهِ، وَلَا تَتَعَرَّضُوا فِي حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَعِرْضِهِ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْمُسْلِمِ أَيْ فَلَا تَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، " فِي ذِمَّتِهِ " أَيْ مَا دَامَ هُوَ فِي أَمَانِهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ.

14 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَى أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: " تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 14 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: أَتَى أَعْرَابِيٌّ) أَيْ بَدَوِيٌّ، مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَعْرَابِ وَهُمْ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ كَمَا أَنَّ الْعَرَبَ هُمْ سُكَّانُ الْبَلَدِ (النَّبِيَّ) أَيْ جَاءَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ: دُلَّنِي) بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ أَرْشِدْنِي بِالدَّلَالَةِ (عَلَى عَمَلٍ) : صِفَتُهُ أَنَّهُ (إِذَا

عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةِ، أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ (قَالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ) خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَوْ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِتَقْدِيرِ " أَنْ "، وَلَمَّا حُذِفَتْ رُفِعَ الْفِعْلُ، وَقِيلَ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِ مِنَ النَّصْبِ، أَوْ تَنْزِيلًا مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ بِذِكْرِ الْفِعْلِ وَإِرَادَةِ الْحَدَثِ كَمَا فِي: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعٌ الْمَحَلَّ بِالْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ، يَعْنِي الْعَمَلَ الَّذِي إِذَا عَمِلْتَهُ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ. . إِلَخْ. ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ التَّوْحِيدُ لِلْعَطْفِ، وَالْأَصْلُ الْمُغَايَرَةُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلنُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِهَا، فَذِكْرُهُ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِهَا، وَقِيلَ: السَّائِلُ كَانَ مُؤْمِنًا، فَذَكَرَهُ لِشَرَفِهِ وَكَوْنِهِ أَصْلًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ (وَلَا تُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا) أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ مِنَ الشِّرْكِ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ غَيْرَ مُشْرِكٍ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ التَّوْحِيدُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُفِيدُ التَّأْكِيدَ، وَعَلَى الثَّانِي قِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَهُ رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفًى} [الزمر: 3] وَبَيَانًا إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكْمُلُ إِلَّا إِذَا سَلَمَتْ مِنْ طُرُقِ الرِّيَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] قَالَ الْعَارِفُونَ: التَّعَبُّدُ إِمَّا لِنَيْلِ الثَّوَابِ، أَوِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْعِقَابِ، وَهِيَ أَنْزَلُ الدَّرَجَاتِ، وَتُسَمَّى عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْبُودَهُ فِي الْحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، بَلْ نَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ إِجْمَاعَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ عِبَادَتِهِ. أَوْ لِلتَّشَرُّفِ بِخِدْمَتِهِ تَعَالَى وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَتُسَمَّى عُبُودِيَّةٌ، وَهِيَ أَرْفَعُ مِنَ الْأُولَى، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ خَالِصَةً لَهُ، أَوْ لِوَجْهِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ شَيْءٍ آخَرَ، وَتُسَمَّى عُبُودَةٌ، وَهِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَرْفَعُ الْحَالَاتِ (وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ) أَيِ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى الْأَعْيَانِ بِشَرَائِطِهَا، وَأَرْكَانِهَا الْمَعْلُومَةِ (وَتُؤَدِّي) أَيْ تُعْطِي (الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ) : وَالتَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا لِلتَّفَنُّنِ، وَهِيَ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ مُطْلَقُ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ الْأُولَى فَإِنَّهَا احْتِرَازِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَدَاءُ مِقْدَارِهَا الْمُعَيَّنَةِ لِمَصَارِفِهَا الْمُقَرَّرَةِ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ شَيْئًا، وَقِيلَ: قَصَدَ بِهِ التَّصْدِيقَ وَالْمُبَالَغَةَ وَالْقَبُولَ أَيْ قَبِلْتُ قَوْلَكَ فِيمَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَبُولًا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّؤَالِ، وَلَا نَقْصَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَبُولِ. وَهَذَا قَبْلَ مَشْرُوعِيَّةِ النَّوَافِلِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا فَإِنَّهَا مُتَمِّمَاتٌ وَمُكَمِّلَاتٌ لِلْفَرَائِضِ، لَا زِيَادَةٌ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْحَجَّ وَلَا الصَّوْمَ فِي رِوَايَةٍ، وَلَا الزَّكَاةَ فِي أُخْرَى، وَلَا الْإِيمَانَ فِي أُخْرَى، وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا صِلَةَ الرَّحِمِ، وَفِي بَعْضِهَا أَدَاءَ الْخُمُسِ. وَأَجَابَ ابْنُ الصَّلَاحِ كَالْقَاضِي عِيَاضٍ بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَفَاوُتُ الرُّوَاةِ حِفْظًا وَإِتْقَانًا. (فَلَمَّا وَلَّى) أَيْ أَدْبَرَ الْأَعْرَابِيُّ وَذَهَبَ (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ سَرَّهُ) أَيْ أَوْقَعَهُ فِي السُّرُورِ وَأَعْجَبَهُ، وَالْفَاعِلُ هُوَ (أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ) جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوْ خَبَرٌ مُتَضَمَّنُهُ (إِلَى هَذَا) أَيْ هَذَا الرَّجُلِ؛ لِعَزْمِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، فَعَلَى مَنْ أَرَادَ اللُّحُوقَ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُصَمِّمَ عَلَى مَا صَمَّمَ عَلَيْهِ؛ لِيَكُونَ مِنَ النَّاجِينَ، وَلِيُحْشَرَ مَعَ السَّابِقِينَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْفَرْدِ الْجِنْسِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ إِلَى الْفَرْدِ الشَّخْصِيِّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيَكُونُ الْعِلْمُ إِمَّا بِالْوَحْيِ أَوْ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

15 - وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ - وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرَكَ - قَالَ: " قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 15 - (وَعَنْ سُفْيَانَ) بِتَثْلِيثِ السِّينِ وَالضَّمُّ هُوَ الْمَشْهُورُ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ رَبِيعَةَ (الثَّقَفِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ، نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ ثَقِيفٍ، يُكْنَى أَبَا عَمْرٍو، وَقِيلَ أَبَا عَمْرَةَ، يُعَدُّ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى الطَّائِفِ، مَرْوِيَّاتُهُ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ) أَيْ فِيمَا يَكْمُلُ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَيُرَاعَى بِهِ حُقُوقُهُ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَوَابِعِهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فِي مَبَادِئِ الْإِسْلَامِ وَغَايَاتِهِ (قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ

أَحَدًا بَعْدَكَ) أَيْ قَوْلًا جَامِعًا لَا أَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى سُؤَالِ أَحَدٍ بَعْدَ سُؤَالِكِ هَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] أَيْ مِنْ بَعْدِ إِمْسَاكِهِ (- وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرَكَ -) أَيْ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، وَالْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا بَعْدَ سُؤَالِهِ لَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ، وَكَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ أَوْلَوِيَّةِ الْأَوَّلِ فَجَعَلَهُ أَصْلًا، وَالثَّانِي رِوَايَةٌ خِلَافًا لِمَا فَعَلَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ (قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ) أَيْ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ (ثُمَّ اسْتَقِمْ) هَذَا مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] يَعْنِي عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] الْآيَاتِ. فَالتَّوْحِيدُ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَالطَّاعَةُ بِأَنْوَاعِهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: (ثُمَّ اسْتَقِمْ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ امْتِثَالُ كُلِّ مَأْمُورٍ وَاجْتِنَابُ كُلِّ مَحْذُورٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، إِذْ لَا تَحْصُلُ الِاسْتِقَامَةُ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الِاعْوِجَاجِ، وَلِذَا قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: الِاسْتِقَامَةُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ كَرَامَةٍ، أَوْ نَقُولُ آمَنْتُ بِاللَّهِ شَامِلٌ لِلْإِتْيَانِ بِكُلِّ الطَّاعَاتِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ كُلِّ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَقِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّبَاتِ فِيهِمَا، وَلِعَظَمَةِ أَمْرِ الِاسْتِقَامَةِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ» ) ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وَهِيَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ. وَقَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ مَعَ كَوْنِ الْمَدْعُوِّ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَمْرٌ صَعْبٌ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَ الدَّاعِي عَلَى بَصِيرَةٍ يَرَى أَنَّهُ يَدْعُوهُ مِنِ اسْمٍ إِلَى اسْمٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ آيَةٌ كَانَتْ أَشَدَّ وَلَا أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا قَالُوا لَهُ: قَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ: ( «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» ) . وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الِاسْتِقَامَةُ أَمْرٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ لِشُمُولِهَا الْعَقَائِدَ بِأَنْ يَجْتَنِبَ التَّشْبِيهَ وَالتَّعْطِيلَ، وَالْأَعْمَالَ بِأَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالْأَخْلَاقَ بِأَنْ يَبْعُدَ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الصِّرَاطِ فِي الدُّنْيَا صَعْبٌ كَالْمُرُورِ عَلَى صِرَاطِ جَهَنَّمَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ اهـ. وَمِمَّا يَزِيدُ صُعُوبَةَ هَذَا الْمَرْقَى خَبَرُ (اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا) أَيْ وَلَنْ تَطِيقُوا أَنْ تَسْتَقِيمُوا حَقَّ الِاسْتِقَامَةِ، وَلَكِنِ اجْتَهِدُوا فِي الطَّاعَةِ حَقَّ الْإِطَاعَةِ، فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَظُنُّ بِنَفْسِهِ الِاسْتِقَامَةَ، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ صِفَةِ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، فَيَقَعُ فِي الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَقْبَحُ مِنْ كُلِّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَلَامَةُ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ. وَقَدْ يُقَالُ: السِّينُ لِطَلَبِ الْقِيَامِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ فِي جَمِيعِ السَّاعَاتِ إِلَى الْمَمَاتِ، ثُمَّ قَدْ يُقَالُ: الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ الْإِطَاقَةِ عَلَى دَوَامِ الْإِطَاعَةِ أَنَّ تُرَابَ الْإِنْسَانِ عُجِنَ بِمَاءِ النِّسْيَانِ النَّاشِئِ عَنْهُ الْعِصْيَانَ؛ وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «كُلُّكُمْ خَطَّاءُونَ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» ) فَجِنْسُ الْإِنْسَانِ كَنَوْعِ النِّسْوَانِ الَّتِي خُلِقْنَ مِنَ الضِّلَعِ الْأَعْوَجِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُنَّ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى صِفَةِ الْإِدَامَةِ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَلَا يَزُولُ طَبْعٌ عَمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ هَذَا، وَلَفْظَةُ (ثُمَّ) مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ أَفْضَلُ مِنْ قَوْلِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ؛ لِشُمُولِهَا الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ وَالْأَخْلَاقَ. ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْإِمَامُ، وَهِيَ لُغَةً ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ أَيِ الِاسْتِوَاءِ فِي جِهَةِ الِانْتِصَابِ، وَتَنْقَسِمُ إِلَى اسْتِقَامَةِ الْعَمَلِ، وَهُوَ الِاقْتِصَادُ فِي غَيْرِ مُتَعَدٍّ مِنْ مَنْهَجِ السُّنَّةِ، وَلَا مُتَجَاوِزٍ عَنْ حَدِّ الْإِخْلَاصِ إِلَى الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ رَجَاءِ الْعِوَضِ، أَوْ طَلَبِ الْغَرَضِ، وَاسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ وَهِيَ الثَّبَاتُ عَلَى الصَّوَابِ، وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ هِيَ اسْتِوَاءُ الْقَصْدِ فِي السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَثَبَاتُ الْقُوَى عَلَى حُدُودِهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ دُونَ الِاسْتِقَامَةِ فِي السَّيْرِ فِي اللَّهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ فِي الطَّرِيقِ وَالسُّلُوكِ إِلَيْهِ بِأَحَدَيْهِ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَأَمَّا السَّيْرُ فِي اللَّهِ فَهُوَ الِاتِّصَافُ بِصِفَاتِهِ، وَالِاسْتِقَامَةُ فِي اللَّهِ

دُونَ الِاسْتِقَامَةِ فِي السَّيْرِ فِي اللَّهِ الْمَأْمُورِ بِهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] ؛ لِأَنَّ تِلْكَ فِي مَقَامِ جَمْعِ الْجَمْعِ، وَالْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَالْأُولَى لِلْمُرِيدِينَ، وَالثَّانِيَةُ لِلْمُتَوَسِّطِينَ. وَاسْتِقَامَةُ الرُّوحِ وَهِيَ الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ وَالسِّرِّ، وَهِيَ الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الِاسْتِقَامَةُ دَرَجَةٌ بِهَا كَمَالُ الْأُمُورِ وَتَمَامُهَا، وَبِوُجُودِهَا حُصُولُ الْخَيْرَاتِ وَنِظَامُهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِيمًا ضَاعَ سَعْيُهُ، وَخَابَ جَهْدُهُ، وَأَنْشَدَ: إِذَا أَفْشَيْتَ سِرَّكَ ضِيقَ صَدْرٍ ... أَصَابَتْكَ الْمَلَامَةُ وَالنَّدَامَةُ وَإِنْ أَخْلَصْتَ يَوْمًا فِي فِعَالٍ ... تَنَالُ جَزَاءَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا وُفِّقْتَ بِالتَّوْحِيدِ وَرُؤْيَةِ جَلَالِ قِدَمِهِ فَدُرْ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ دَارَ، إِمَّا قَضَاءً وَإِمَّا رِضَاءً، وَلَا تَنْزِلْ عَنْ مَقَامِ الرِّضَا إِلَى فَتْرَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لِعِزَّةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا فِي كُلِّ حَالَةٍ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلدُّعَاءَ بِالِاسْتِقَامَةِ أَمْرَ وُجُوبٍ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الِاسْتِقَامَةَ الشَّامِلَةُ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ: (هَذَا) » . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَزَادَ فِي الْإِحْيَاءِ: «قُلْتُ: مَا أَتَّقِي؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ» .

16 - وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفَقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ". فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ "، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: " لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ ". قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ ": لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ ". قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 16 - (وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيَّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا غَيْرَ بَدْرٍ، وَضَرَبَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَعَثَهُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ يَتَعَرَّفَانِ خَبَرَ الْعِيرِ الَّتِي كَانَتْ لِقُرَيْشٍ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَعَادَا يَوْمَ اللِّقَاءِ بِبَدْرٍ، وَوَقَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ بِيَدِهِ فَشُلَّتْ أُصْبُعُهُ، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ جِرَاحَةً، وَقِيلَ: كَانَتْ فِيهِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلْحَةَ الْخَيْرِ، وَطَلْحَةَ الْجُودِ، قُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَصْرَةِ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) : قِيلَ: هُوَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَافِدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَ (مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ) صِفَةُ رَجُلٍ، وَالنَّجْدُ فِي الْأَصْلِ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، ضِدُّ التِّهَامَةِ، وَهُوَ الْغَوْرُ، سُمِّيَتْ بِهِ الْأَرْضُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ تِهَامَةَ أَيْ مَكَّةَ، وَبَيْنَ الْعِرَاقِ. (ثَائِرُ الرَّأْسِ) بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مِنْ ثَارَ الْغُبَارُ إِذَا ارْتَفَعَ وَانْتَشَرَ، أَيْ مُنْتَشِرُ شَعَرِ الرَّأْسِ غَيْرُ مُرَجِّلِهِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، أَوْ سُمِّيَ الشَّعَرُ رَأْسًا مَجَازًا، تَسْمِيَةً لِلْحَالِّ بِاسْمِ الْمَحَلِّ، أَوْ مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ الْمُنْتَشِرُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِيَّةِ مِنْ رَجُلٍ لِوَصْفِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الرِّوَايَةُ (نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ) أَيْ شِدَّتَهُ وَبُعْدَهُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَالذُّبَابِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ - وَضَمُّهُ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ - وَبِكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَ " نَسْمَعُ " بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْلُومِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْيَاءِ

مَجْهُولًا، وَرَفْعِ دَوِيٍّ عَلَى النِّيَابَةِ، وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا نَفْقَهُ) أَيْ لَا نَفْهَمُ مِنْ جِهَةِ الْبُعْدِ (مَا يَقُولُ) لِضَعْفِ صَوْتِهِ (حَتَّى دَنَا) أَيْ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، أَيْ إِلَى أَنْ قَرُبَ فَفَهِمْنَا (فَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ (هُوَ) أَيِ الرَّجُلُ (يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ) أَيْ عَنْ فَرَائِضِهِ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَى مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ، وَصَدَّقَ رَسُولَهُ لَا عَنْ حَقِيقَتِهِ؛ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَلِكَوْنِ السَّائِلِ مُتَّصِفًا بِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا: أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ؟ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَسْمَعْهَا الرَّاوِي أَوْ نَسِيَهَا، أَوِ اخْتَصَرَهَا لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، وَقِيلَ: لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حِكَايَةُ حَالِ الرَّجُلِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ: عَلَيَّ، فَأَجَابَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا عَرَفَ مِنْ حَالِهِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ حِينَئِذٍ، أَوْ أُسْقِطَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ: فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) بِالرَّفْعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ الْإِسْلَامُ، وَالْمُرَادُ فَرْضُهُ إِقَامَةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ الْخَبَرَ أَيْ مِنْ شَرَائِعِهِ أَدَاءُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ بِتَقْدِيرِ خُذْ، أَوِ اعْمَلْ، أَوْ صَلِّ، وَهُوَ أَحْسَنُ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَأَعْرَبَ بِقَوْلِهِ بِالْجَرِّ بَدَلًا مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ بِقَسِيمَيْهِ أَيْ هُوَ أَوْ خُذْ اهـ. وَالَّذِي اخْتَارَهُ مِنَ الْجَرِّ لَا يَصِحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَظْهَرُ لَكَ مِنْ تَتَبُّعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ لَا يَكُونَانِ إِلَّا فِي كَلَامٍ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْمَقُولَ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً، فَأَحَدُ جُزْأَيْهِ الْمَوْجُودُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا، وَأَنَّهُ إِذَا جُعِلَ بَدَلًا لَا يَبْقَى لِلسُّؤَالِ جَوَابًا، فَلَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَقَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (هَلْ عَلَيَّ) أَيْ يَجِبُ مِنَ الصَّلَاةِ (غَيْرُهُنَّ؟) أَيْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، أَوِ الْجَارُّ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَغَيْرُهُنَّ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ (فَقَالَ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا) أَيْ لَا شَيْءَ عَلَيْكَ غَيْرُهَا، وَهَذَا قَبْلَ وُجُوبِ الْوِتْرِ، أَوْ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْعِيدِ لَيْسَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ الْيَوْمِيَّةِ بَلْ هِيَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ السَّنَوِيَّةِ (إِلَّا أَنْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (تَطَّوَّعَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْوَاوِ، وَأَصْلُهُ تَتَطَوَّعَ بِتَاءَيْنِ، فَأُبْدِلَتْ وَأُدْغِمَتْ، وَرُوِيَ بِحَذْفِ إِحْدَاهَا وَتَخْفِيفِ الطَّاءِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ تَشْرَعَ فِي التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ إِتْمَامُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هَذَا مُجَرَّدُ دَعْوَى بِلَا سَنَدٍ - مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ السَّنَدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ سَنَدٌ مُعْتَمَدٌ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ الْمَسْطُورِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الْحَنَفِيَّةَ حَيْثُ اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْإِتْمَامَ فَرْضٌ، وَهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِوُجُوبِهِ - مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْآيَةَ قَطْعِيَّةٌ وَالدَّلَالَةُ ظَنِّيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: وَاسْتِثْنَاءُ الْوَاجِبِ مِنَ الْفَرْضِ مُنْقَطِعٌ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَنَا فَرْضٌ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَرْضٌ، فَالْمُرَادُ بِالْفَرْضِ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي جَعْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا لِصِحَّةِ الْكَلَامِ كَمَا اخْتَارَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ مِنَ النَّفْيِ لَا يُفِيدُ الْإِثْبَاتَ بَلِ الْحُكْمُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَهُمْ مَدْخُولٌ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ لَوِ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَلِيلَهُمُ الْآيَةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَإِنَّمَا حَمَلُوا لَفْظَ الْحَدِيثِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْهُمَا، ثُمَّ هَذَا مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ عِنْدَنَا حَيْثُ يَلْزَمُ النَّفْلُ بِالشُّرُوعِ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ الْفَرْقُ، وَإِلَّا فَيَكْفِينَا قِيَاسُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِمَا أَيْضًا، أَوِ الْمَعْنَى إِلَّا أَنْ تُوجِبَ عَلَى نَفْسِكَ بِالنَّذْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَعَدَلَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: لَكِنَّ التَّطَوُّعَ مُسْتَحَبٌّ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَدْخُولٍ لَا مُنْقَطِعٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ إِتْمَامِ التَّطَوُّعِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ. أَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، وَالْمَعْنَى لَكِنَّ التَّطَوُّعَ بِاخْتِيَارِكَ أَيِ ابْتِدَاءٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، أَوِ انْتِهَاءٌ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْوُقُوفِ عَلَى مُجَرَّدِ الْوَاجِبَاتِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ) عَطْفٌ عَلَى خَمْسٍ، وَجُمْلَةُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مُعْتَرِضَةٌ (قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟) أَيْ هَلْ عَلَيَّ صَوْمٌ فَرْضٌ سِوَى صَوْمِ رَمَضَانَ (قَالَ) بِحَذْفِ الْفَاءِ فِي الْأُصُولِ الْحَاضِرَةِ (لَا) فَلَا يَجِبُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ

سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ رَمَضَانَ أَمْ لَا (إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ قَالَ) أَيْ طَلْحَةُ (وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ) هَذَا قَوْلُ الرَّاوِي، فَإِنَّهُ نَسِيَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ فَقَالَ: ذَكَرَ الزَّكَاةَ، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْأَلْفَاظِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الرِّوَايَةِ، فَإِذَا الْتُبِسَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا يُشِيرُ فِي أَلْفَاظِهِ إِلَى مَا يُنْبِئُ عَنْهُ كَمَا فَعَلَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ (فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لَا) قِيلَ: يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ بِشُرُوطِهَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْحُقُوقُ الْأَصْلِيَّةُ الْمُتَكَرِّرَةُ تَكْرَارَهَا، وَإِلَّا فَحُقُوقُ الْمَالِ كَثِيرَةٌ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَنَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَالْأُضْحِيَّةِ (إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ قَالَ) أَيْ طَلْحَةُ (فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ (يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا) أَيْ فِي الْإِبْلَاغِ أَوْ فِي نَفْسِ الْفَرِيضَةِ (وَلَا أَنْقُصُ عَنْهُ) أَيْ شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْلَحَ الرَّجُلُ) أَيْ دَخَلَ فِي الْفَلَاحِ، وَالْمَعْنَى فَازَ وَظَفِرَ وَأَدْرَكَ بُغْيَتَهُ، وَهِيَ ضَرْبَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الظَّفَرُ فَلَا يَطْلُبُ مَعَهُ الْحَيَاةَ وَالْأَسْبَابَ، وَأُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْفَوْزُ بِالثَّوَابِ. قَالُوا: وَلَا كَلِمَةَ أَجْمَعُ لِلْخَيْرَاتِ مِنْهُ، وَمِنْ ثَمَّ فُسِّرَ بِأَنَّهُ بَقَاءٌ بِلَا فَنَاءٌ، وَغِنًى بِلَا فَقْرٍ، وَعِزٌّ بِلَا ذُلٍّ، وَعِلْمٌ بِلَا جَهْلٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَفْلَحَ وَاللَّهِ. وَفِي أُخْرَى صَحِيحَةٍ: بِلَا شَكٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَفْلَحَ وَأَبِيهِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ وَرَدَ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ قَبْلَ النَّهْيِ، وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ أَيْ وَرَبِّ أَبِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ، وَأَنَّ الْكَاتِبَ قَصَرَ اللَّامَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَرَاهَةَ فِي غَيْرِ الشَّارِعِ كَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجْرٍ فَضَعَّفَ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ جَمِيعَهَا، وَحَمَلَ عَلَى أَنَّ هَذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ (إِنْ صَدَقَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، أَيْ لِصِدْقِهِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ قِيلَ: إِنَّمَا حَكَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُطْلَقًا فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُنَا عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِصِدْقِهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ بِحُضُورِ الْأَعْرَابِيِّ لِئَلَّا يَغْتَرَّ فَيُشْكِلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا ذَهَبَ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ. . . إِلَخْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ عَلَى صِدْقِهِ، ثُمَّ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَكُونَ مُفْلِحًا؛ لِأَنَّ الْمُفْلِحَ هُوَ النَّاجِي مِنَ السَّخَطِ وَالْعَذَابِ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُفْلِحًا، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] الْآيَاتِ. وَقَالَ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] الْآيَاتِ. ثُمَّ قَالَ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

17 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنِ الْقَوْمُ؟ أَوْ: مَنِ الْوَفْدُ؟ " قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: " مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ - أَوْ: بِالْوَفْدِ - غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنَّ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُهُ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الْأَشْرِبَةِ فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ؛ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ) . وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَقَالَ: (احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 17 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمُّهُ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أُخْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: عَشْرٍ. كَانَ حَبْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَالِمَهَا، وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحِكْمَةِ، وَالْفِقْهِ، وَالتَّأْوِيلِ، وَرَأَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُقَرِّبُهُ وَيُشَاوِرُهُ بَيْنَ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةُ، وَكُفَّ بَصَرُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَمَاتَ بِالطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ

فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ) الْوَفْدُ: جَمْعُ وَافِدٍ، وَهُوَ الَّذِي أَتَى إِلَى الْأَمِيرِ بِرِسَالَةٍ مِنْ قَوْمٍ، وَقِيلَ: رَهْطٌ كِرَامٌ. وَعَبَدُ الْقَيْسِ أَبُو قَبِيلَةٍ عَظِيمَةٍ تَنْتَهِي إِلَى رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ بْنِ عَدْنَانَ، وَرَبِيعَةُ قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي مُقَابَلَةِ مُضَرَ، وَكَانَ قَبِيلَةُ عَبْدِ الْقَيْسِ يَنْزِلُونَ الْبَحْرَيْنِ وَحَوَالَيِ الْقَطِيفِ، وَمَا بَيْنَ هَجَرَ إِلَى الدِّيَارِ الْمُضَرِيَّةِ، وَكَانَتْ وِفَادَتُهُمْ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَسَبَبُهَا أَنَّ مُنْقِذَ بْنَ حِبَّانَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَّجِرُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ مُسَمِّيًا لَهُ بِأَسْمَائِهِمْ فَأَسْلَمَ، وَتَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى هَجَرَ وَمَعَهُ كِتَابُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَكَتَمَهُ أَيَّامًا لَكِنْ أَنْكَرَتْ زَوْجَتُهُ صَلَاتَهُ وَمُقَدِّمَاتِهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَبِيهَا الْمُنْذِرِ رَئِيسِهِمْ فَتَجَاذَبَا فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِالْكِتَابِ إِلَى قَوْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَسْلَمُوا وَأَجْمَعُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَتَوَجَّهَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا، فَحِينَ قَرُبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِجُلَسَائِهِ: ( «أَتَاكُمْ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ خَيْرُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَفِيهِمُ الْأَشَجُّ» ) أَيِ الْمُنْذِرُ، سَمَّاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِذَلِكَ لِأَثَرٍ بِوَجْهِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَرْبَعُونَ، وَجُمِعَ بِأَنَّ لَهُمْ وِفَادَتَيْنِ، أَوْ بِأَنَّ أَشْرَافَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. (لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ حَضَرُوهُ (قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنِ الْقَوْمُ؟) بِفَتْحِ الْمِيمِ (أَوْ: مَنِ الْوَفْدُ) ؟ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا هُوَ لِلِاسْتِئْنَاسِ (قَالُوا: رَبِيعَةُ) أَيْ قَالَ بَعْضُ الْوَفْدِ: نَحْنُ رَبِيعَةُ، أَوْ وَفْدُ رَبِيعَةَ، أَوْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: هُمْ رَبِيعَةُ، أَوْ وَفْدُ رَبِيعَةَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ تُسَمَّى رَبِيعَةَ، أَوْ يُسَمَّوْنَ رَبِيعَةَ (قَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ) أَوْ (بِالْوَفْدِ) أَيْ أَصَابَ الْوَفْدُ رُحْبًا وَسَعَةً، أَوْ أَتَى الْقَوْمُ مَوْضِعًا وَاسِعًا، فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْفَاعِلِ، وَمَرْحَبًا مَفْعُولٌ بِهِ لِمُقَدَّرٍ، أَوْ أَتَى اللَّهُ بِالْقَوْمِ مَرْحَبًا، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَمَرْحَبًا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَفَاعِيلِ الْمَنْصُوبَةِ بِمُضْمِرٍ وُجُوبًا لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَيُقَالُ هَذَا لِلتَّأْنِيسِ وَإِزَالَةِ الْحُزْنِ وَالِاسْتِحْيَاءِ عَنْ نَفْسِ مَنْ أَتَاهُمْ مِنْ وَافِدٍ، أَوْ بَاغِي خَيْرٍ، أَوْ قَاصِدِ حَاجَةٍ، وَتَقْدِيرُ ابْنِ حَجَرٍ: صَادَفْتُمْ، أَوْ أَصَبْتُمْ غَيْرُ ظَاهِرٍ مَعَ وُجُودِ الْقَوْمِ. (غَيْرَ خَزَايَا) بِفَتْحِ الْخَاءِ جَمْعُ خَزْيَانَ، مِنَ الْخِزْيِ وَهُوَ الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْوَفْدِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ فِي مَرْحَبًا. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا) وَجُوِّزَ جَرُّهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْقَوْمِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَرُوِيَ بِالْكَسْرِ صِفَةٌ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ " غَيْرَ " مُتَوَغِّلَةٌ فِي النَّكِرَةِ بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا تَصِيرُ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ، وَلَوْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ (وَلَا نَدَامَى) : جَمْعُ نَدْمَانَ بِمَعْنَى نَادِمٍ، أَوْ جَمْعُ نَادِمٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، إِذْ قِيَاسُهُ: (نَادِمِينَ) ازْدِوَاجًا لِلْخَزَايَا، وَالْمَعْنَى مَا كَانُوا بِالْإِتْيَانِ إِلَيْنَا خَاسِرِينَ خَائِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مَا تَأَخَّرُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَا أَصَابَهُمْ قِتَالٌ وَلَا سَبْيٌ فَيُوجِبُ اسْتِحْيَاءً أَوِ افْتِضَاحًا أَوْ ذُلًّا أَوْ نَدَمًا (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ) أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ (إِلَّا فِي الشَّهْرِ) مِنَ الشُّهْرَةِ، وَالظُّهُورِ (الْحَرَامِ) : وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، لِأَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ أَرْبَعَةٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَمُحَرَّمٌ مُتَوَالِيَةٌ، وَرَجَبٌ فَرْدٌ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ اعْتِذَارًا عَنْ عَدَمِ الْإِتْيَانِ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يُحَارِبُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَيَكْفُونَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ تَعْظِيمًا لَهَا وَتَسْهِيلًا عَلَى زُوَّارِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ فِي غَيْرِهَا، فَلَا يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَسَالِكِ وَالْمَرَاحِلِ إِلَّا فِيهَا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ يُمْكِنُ مَجِيءُ هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهَا دُونَ مَا عَدَاهَا؛ لِأَمْنِهِمْ فِيهَا مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ الْحَاجِزِينَ بَيْنَ مَنَازِلِهِمْ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ،

وَكَانَ هَذَا التَّعْظِيمُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] (وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ " نَأْتِيكَ "، أَوْ بَيَانٌ لِوَجْهِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَأَصْلُ الْحَيِّ مَنْزِلُ الْقَبِيلَةِ، سُمِّيَتْ بِهِ اتِّسَاعًا لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَحْيَا بِبَعْضٍ، أَوْ يُحَمِّسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ) : تَبْعِيضِيَّةٌ، أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَمُضَرُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ ابْنُ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، فَهُوَ أَخُو رَبِيعَةَ أَبِي عَبْدِ الْقَيْسِ (فَمُرْنَا بِأَمْرٍ) : الْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ، وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَالْبَاءُ صِلَةٌ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَعْنَى اللَّفْظِ وَمَوْرِدُهُ، وَقِيلَ: الْأَمْرُ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، أَيِ الْقَوْلُ الطَّالِبُ لِلْفِعْلِ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ، وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ مَحْذُوفٌ أَيْ مُرْنَا نَعْمَلْ بِقَوْلِكَ: آمِنُوا، أَوْ قُولُوا آمَنَّا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّاوِي: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ اهـ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَقَالَ الرَّاوِي: قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ: آمِنُوا، أَوْ قُولُوا: آمَنَّا. (فَصْلٍ) : بِمَعْنَى فَاصِلٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ صِفَةٌ لِأَمْرٍ أَيْ أَمْرٌ قَاطِعٌ، أَوْ بِمَعْنَى مُفَصَّلٍ لِتَفْصِيلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِيمَانَ بِأَرْكَانِهِ الْخَمْسَةِ، أَوْ مَفْصُولٌ أَيْ مُبِينٌ وَاضِحٌ بِهِ الْمُرَادُ مِنْ غَيْرِهِ، وَحَكَى الْإِضَافَةَ (نُخْبِرُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِأَمْرٍ أَوِ اسْتِئْنَافٍ، وَبِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ (بِهِ) : بِسَبَبِهِ كَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّعْدِيَةِ (مَنْ وَرَاءَنَا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ، أَيْ مَنْ خَلْفَنَا مَنْ قَوْمِنَا، أَوْ مِنْ بَعْدِنَا مِمَّنْ يُدْرِكُنَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِكَسْرِهَا اهـ. وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ. (وَنَدْخُلُ) عَطْفًا عَلَى نُخْبِرُ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (بِهِ) أَيْ بِسَبَبِ قَبُولِ أَمْرِكَ وَالْعَمَلِ بِهِ، أَوْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ الْمَفْهُومِ مَنْ " نُخْبِرُ " (الْجَنَّةَ) أَيْ مَعَ الْفَائِزِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعَ النَّاجِينَ اهـ. وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ لَا تَخْفَى، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ لَكِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبُهُ كَمَا أَنَّ الْأَكْلَ سَبَبُ الشِّبَعِ، وَالْمُشْبِعُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ؛ إِذْ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوِ الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ أَيْ دَرَجَاتُهَا فَإِنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِالْإِفْضَالِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا عَلَى حَدِّ: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] أَيْ بِعَمَلِكُمْ، وَلَا يُنَافِيهِ خَبَرُ: ( «لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ» ) ; لِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ كَوْنِ الْعَمَلِ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا فِي الدُّخُولِ، بِدَلِيلِ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ( «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» ) . وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْجَوَابِ بِأَنَّ الْبَاءَ فِي الْآيَةِ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ أُورِثْتُمُوهَا مُلَابَسَةً لِأَعْمَالِكُمْ، أَيْ لِثَوَابِهَا، أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ كَـ " بِعْتُهُ بِدِرْهَمٍ "، أَوِ الْمُرَادُ الْجَنَّةُ الْعَالِيَةُ، أَوْ بِأَنَّ دَرَجَاتِهَا بِالْعَمَلِ وَدُخُولَهَا بِالْفَضْلِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الدُّخُولُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أَيْ فَلَمْ يَقَعِ الدُّخُولُ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى خِلَافُ صَرِيحِ الْحَدِيثِ، وَيُدْفَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا تَقَرَّرَ مِنِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، إِذِ الْقَصْدُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَرَى عَمَلَهُ مُتَكَفِّلًا بِدُخُولِهَا مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةٍ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ. اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ انْتِفَاءُ دُخُولِهَا بِالْعَمَلِ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ، وَإِثْبَاتُهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَضْلِ فَمَا بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يَقْبَلُ الْفَصْلَ. (وَسَأَلُوهُ) أَيِ الْوَفْدُ (عَنِ الْأَشْرِبَةِ) - جَمْعُ شَرَابٍ، وَهُوَ يَشْرَبُ - أَيْ عَنْ حُكْمِ ظُرُوفِهَا بِحَذْفِ الْمُضَافِ، أَوِ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْأَوَانِي الْمُخْتَلِفَةِ، بِحَذْفِ الصِّفَةِ، وَالْمُرَادُ: عَنْ حُكْمِهَا (فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ) أَيْ بِأَرْبَعِ خِصَالٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا الْأَهَمُّ بِالسُّؤَالِ، وَالْأَتَمُّ فِي تَحْصِيلِ الْكَمَالِ (وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أَيْ أَرْبَعِ خِصَالٍ، وَهِيَ أَنْوَاعُ الشُّرْبِ بِاعْتِبَارِ أَصْنَافِ الظُّرُوفِ الْآتِيَةِ. (أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ) : نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ وَاحِدًا فِي الذَّاتِ مُنْفَرِدًا فِي الصِّفَاتِ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْأَفْعَالِ. وَهَذَا الْأَمْرُ تَوْطِئَةٌ، فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ فُرُوعِ التَّكَالِيفِ، وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ شَرْطُ صِحَّتِهَا، وَمَبْدَأُ ثُبُوتِهَا (قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟) ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى تَفْرِيغِ أَذْهَانِهِمْ لِضَبْطِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ أَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) تَأَدُّبًا وَطَلَبًا لِلسَّمَاعِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ ابْنِ حَجْرٍ: هُوَ بِمَعْنَى عَالِمٍ عَلَى حَدِّ: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ثُمَّ أَغْرَبَ

فِي قَوْلِهِ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ عَقِبَ نَحْوِ فَتَاوِيهِمْ وَأَبْحَاثِهِمْ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعَلَى مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: يَقُولُ الْمُجِيبُ فِي الْعَقَائِدِ: وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَفِي الْفُرُوعِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. فَإِنَّهُ تَنَاقَضٌ بَيْنَ تَأْوِيلِهِ وَأَخْذِهِ. (قَالَ) : قِيلَ أَيِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ؟ إِذْ كُلٌّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْآخَرِ، وَمِنْ ثَمَّ فَسَّرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِيمَانَ هُنَا. كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ لَوْلَا قَوْلُهُ: بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالَ: (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) : بِرَفْعِ شَهَادَةٍ لَا غَيْرَ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ: هُوَ (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ) : بِجَرِّ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ بِرَفْعِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ لِأَنَّ وِفَادَةَ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَتْ عَامَ الْفَتْحِ، وَنَزَلَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَهَا عَلَى الْأَشْهَرِ (وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ أَيِ الْغَنِيمَةُ (الْخُمُسَ) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُكُونِهَا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: " وَأَنْ تُعْطُوا " عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِأَرْبَعٍ، فَلَا يَكُونُ وَاحِدًا مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ مُطْلَقِ شُعَبِ الْإِيمَانِ اهـ. فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ زِيَادَةِ الْإِفَادَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ إِشْكَالَانِ، أَوَّلُهُمَا: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ وَاحِدٌ، وَالْأَرْكَانُ تَفْسِيرٌ لِلْإِيمَانِ؛ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ؟ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْأَرْكَانَ أَيِ الْمَذْكُورَةَ خَمْسَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَعَةً أَيْ أَوَّلًا. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ أَرْبَعًا نَظَرًا إِلَى أَجْزَائِهِ الْمُفَصَّلَةِ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ عَادَةَ الْبُلَغَاءِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُنَصَّبًا لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ جَعَلُوا سِيَاقَهُ لَهُ وَكَأَنَّ مَا سِوَاهُ مَطْرُوحٌ، فَهَاهُنَا ذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ لَيْسَ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ اهـ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: أَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: ( «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَأَعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ» ) اهـ. وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ تَنْدَفِعُ الْإِشْكَالَاتُ وَتَرْجِعُ إِلَيْهَا التَّأْوِيلَاتُ، لَكِنِّي مَا أَقُولُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ الشَّهَادَتَيْنِ لَيْسَ مَقْصُودًا، بَلْ أَقُولُ: هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورَاتُ بَيَانُ شُعَبِهَا الْمُعَظَّمَةِ، وَأَرْكَانِهَا الْمُفَخَّمَةِ، وَمَحْمَلُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا مِنَ الْأَرْبَعِ، بَلْ هُوَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَبَيْنَ مُبَيِّنِهَا. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْلُو عَنْ إِشْكَالٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قُرِئَ: وَأَقَامَ الصَّلَاةَ إِلَخْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ لِيَكُونَ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْإِيمَانُ فَأَيْنَ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ؟ وَإِنْ قُرِئَتْ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِالْإِيمَانِ يَكُونُ الْمَذْكُورُ خَمْسَةٌ لَا أَرْبَعَةٌ. وَأُجِيبَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِيَةَ حَذَفَهَا الرَّاوِي اخْتِصَارًا أَوْ نِسْيَانًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي بِأَنَّهُ عَدَّ الْأَرْبَعَ الَّتِي وَعَدَهُمْ، ثُمَّ زَادَهُمْ خَامِسَةً، وَهِيَ أَدَاءُ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِكُفَّارِ مُضَرَ، وَكَانُوا أَهْلَ جِهَادٍ وَغَنَائِمَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ اخْتِيَارُ الْجَارِّ، وَالْمَجْرُورَاتُ الْأَرْبَعَةُ بِالْعَطْفِ هِيَ الْمَأْمُورَاتُ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْإِيمَانِ لِشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، وَبَيَانِ أَسَاسِهِ وَأَصْلِهِ، سَوَاءٌ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَوْ مُرْتَدِّينَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ إِلَى آخِرِ الشَّهَادَتَيْنِ كَجُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ أَيْضًا بِدَلِيلِ اتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْكَانَ لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِيمَانِ، وَلِلرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ عَنِ الْبُخَارِيِّ: (وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أَيْ خِصَالٍ، وَهِيَ الِانْتِبَاذُ فِي الظُّرُوفِ الْأَرْبَعَةِ وَالشُّرْبُ مِنْهَا (عَنِ الْحَنْتَمِ) : بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَهُوَ - بِفَتْحِ الْحَاءِ - الْجَرَّةِ مُطْلَقًا، أَوْ خَضْرَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ، أَعْنَاقُهَا فِي جُنُوبِهَا، يُجْلَبُ فِيهَا الْخَمْرُ مِنْ مُضَرَ، أَوْ أَفْوَاهُهَا فِي جُنُوبِهَا يُجْلَبُ فِيهَا الْخَمْرُ مِنَ الطَّائِفِ، أَوْ جِرَارٌ تُعْمَلُ مِنْ طِينٍ وَأُدْمٍ وَشَعَرٍ - أَقْوَالٌ لِلصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ - وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَنْتَبِذُونَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. (وَالدُّبَّاءِ) بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ، وَيُمَدُّ وَيُقْصَرُ - وِعَاءُ الْقَرْعِ، وَهُوَ الْيَقْطِينُ الْيَابِسُ (وَالنَّقِيرُ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ - جِذْعٌ يُنْقَرُ وَسَطُهُ وَيُنْبَذُ فِيهِ (وَالْمُزَفَّتِ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ - المَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْقَارُ وَالْقِيرُ، وَرُبَّمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " الْمُقَيَّرُ " بَدَلَ الْمُزَفَّتِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ لَيْسَ اسْتِعْمَالُهَا مُطْلَقًا، بَلِ النَّقِيعُ فِيهَا وَالشُّرْبُ مِنْهَا مَا يُسْكِرُ، وَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهَا خُصُوصًا إِمَّا لِاعْتِيَادِهِمُ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْمُسْكِرَاتِ، أَوْ لِأَنَّهَا أَوْعِيَةٌ تُسْرِعُ بِالِاشْتِدَادِ فِيمَا يُسْتَنْقَعُ؛ لِأَنَّهَا غَلِيظَةٌ لَا يَتَرَشَّحُ مِنْهَا الْمَاءُ وَلَا يَنْفُذُ فِيهِ الْهَوَاءُ، فَلَعَلَّهَا تُغَيِّرُ النَّقِيعَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ، وَيَتَنَاوَلُهُ صَاحِبُهُ عَلَى غَفْلَةٍ بِخِلَافِ السِّقَاءِ فَإِنَّ التَّغَيُّرَ فِيهِ يَحْدُثُ عَلَى مَهْلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: ( «نَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» ) . وَقِيلَ: هَذِهِ الظُّرُوفُ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالْخَمْرِ، فَلَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الظُّرُوفِ، إِمَّا لِأَنَّ فِي اسْتِعْمَالِهَا تَشْبِيهًا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ هَذِهِ الظُّرُوفَ كَانَتْ فِيهَا أَثَرُ الْخَمْرِ، فَلَمَّا مَضَتْ مُدَّةً أَبَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الظُّرُوفِ، فَإِنَّ أَثَرَ الْخَمْرِ زَالَ عَنْهَا، وَأَيْضًا فِي ابْتِدَاءِ تَحْرِيمِ شَيْءٍ يُبَالِغُ وَيُشَدِّدُ

لِيَتْرُكَهُ النَّاسُ مَرَّةً، فَإِذَا تَرَكَهُ النَّاسُ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ يَزُولُ التَّشْدِيدُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، هَذَا وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ بَاقٍ لَمْ يُنْسَخْ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتُفْتِيَ عَنِ الِانْتِبَاذِ فَذَكَرَهُ، فَلَوْ نُسِخَ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النُّسَخُ، فَلَا يَكُونُ إِيرَادُهُ لَهُ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَلَغَهُ. (وَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (احْفَظُوهُنَّ) أَيِ الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ وَاعْمَلُوا بِهِنَّ، (وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ) أَيْ أَعْلَمُوهُنَّ (مَنْ وَرَاءَكُمْ) أَيِ الَّذِينَ خَلْفَكُمْ مِنَ الْقَوْمِ؛ لِتَكُونُوا عَالِمِينَ مُعَلِّمِينَ وَكَامِلِينَ مُكَمِّلِينَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَجَرِّ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ (وَلَفْظُهُ) أَيْ لَفَظُ الْحَدِيثِ لِلْبُخَارِيِّ، يَعْنِي وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ، فَبِهَذَا الْمَعْنَى صَارَ الْحَدِيثُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ.

18 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: ( «بَايَعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ. فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ إِلَى اللَّهِ؛ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» ) فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 18 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، يُكْنَى أَبَا الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيَّ، كَانَ نَقِيبًا، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، ثُمَّ وَجَّهَهُ عُمَرُ إِلَى الشَّامِ قَاضِيًا وَمُعَلِّمًا، فَأَقَامَ بِحِمْصَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى فِلَسْطِينَ وَمَاتَ بِهَا فِي الرَّمْلَةِ، وَقِيلَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ. رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَوْلَهُ) : نَصَبَهُ عَلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: (عِصَابَةٌ) : بِالْكَسْرِ اسْمُ جَمْعٍ كَالْعُصْبَةِ، لِمَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، مِنَ الْعَصْبِ وَهُوَ الشَّدُّ، كَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَشُدُّ بَعْضًا، أَوْ مِنَ الْعَصَبِ لِأَنَّهُ يَشُدُّ الْأَعْضَاءَ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (مِنْ أَصْحَابِهِ) : صِفَةٌ لِعِصَابَةٍ (بَايِعُونِي) أَيْ عَاقِدُونِي وَعَاهَدُونِي تَشْبِيهًا لِنَيْلِ الثَّوَابِ فِي مُقَابَلَةِ الطَّاعَةِ بِعَقْدِ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَوَجْهُ الْمُفَاعَلَةِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَ مَا عِنْدَهُ مِنْ صَاحِبِهِ وَأَعْطَاهُ خَالِصَةَ نَفْسِهِ وَطَاعَتَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ (عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا) : مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، قِيلَ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّيَاءُ (وَلَا تَسْرِقُوا) وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ مُحْرَزًا بِخُفْيَةٍ (وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ) : بِدَفْنِهِمْ أَحْيَاءً، فَصِبْيَانَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ وَافْتِقَارٍ، وَبَنَاتَكُمْ خَوْفَ لُحُوقِ عَارٍ وَعَيْبٍ (وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَهُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ سَامِعَهُ، الْمُرَادُ بِهِ الْقَذْفُ (تَفْتَرُونَهُ) أَيْ تَخْتَلِقُونَهُ وَتَخْتَرِعُونَهُ صِفَةُ بُهْتَانٍ (بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) أَيْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، وَعُبِّرَ بِهِمَا عَنِ الذَّاتِ وَالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَفْعَالِ تُزَاوَلُ وَتُعَالَجُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تَبْهَتُوا النَّاسَ بِالْعُيُوبِ كِفَاحًا وَشِفَاهًا كَيْ لَا يُشَاجِرَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَمَا يُقَالُ: فَعَلْتُ هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ أَيْ بِحَضْرَتِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ أَشُدُّ الْبَهْتِ، أَوْ لَا تَنْسِبُوهُ مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ فَاسِدٍ وَغَيْرِ مُبْطِنٍ مِنْ ضَمَائِرِكُمْ وَقُلُوبِكُمُ الَّتِي هِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَلَا تُلْحِقُوا بِالرِّجَالِ الْأَوْلَادَ مِنْ غَيْرِ أَصْلَابِهِمْ، فَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَلْتَقِطُ الْمَوْلُودَ وَتَقُولُ لِزَوْجِهَا: هُوَ وَلَدِي مِنْكَ، فَعُبِّرَ بِالْبُهْتَانِ الْمُفْتَرَى بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا عَنِ الْوَلَدِ الَّذِي تُلْحِقُهُ بِزَوْجِهَا كَذِبًا؛ لِأَنَّ بَطْنَهَا الَّذِي يَحْمِلُهُ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَفَرْجَهَا الَّذِي تَلِدُ مِنْهُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. (وَلَا تَعْصُوا) بِضَمِّ الصَّادِ - تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (فِي مَعْرُوفٍ) : مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ حُسْنُهُ، أَوْ قُبْحُهُ (فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لَفَظُ " وَفَى " دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ إِنَّمَا يُنَالُ بِالْوَفَاءِ بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْعُهُودِ وَالْحُقُوقِ، وَأَمَّا الْعِقَابُ فَإِنَّهُ يُنَالُ بِتَرْكِ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَجْرِ كَمَالَهُ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يَتَوَقَّفُ أَجْرُ امْتِثَالِ طَاعَةٍ أَوِ اجْتِنَابِ مَعْصِيَةٍ عَلَى الْآخَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ التَّوْبَةَ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ صَحِيحَةٌ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ. (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ) أَيِ الْمَذْكُورِ (شَيْئًا فَعُوقِبَ) أَيْ (بِهِ) كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، يَعْنِي أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ (فِي الدُّنْيَا فَهُوَ) أَيِ الْحَدُّ وَالْعِقَابُ (كَفَّارَةٌ لَهُ) وَزَادَ فِي نُسْخَةٍ، وَطَهُورٌ - بِفَتْحِ الطَّاءِ - أَيْ يُكَفِّرُ إِثْمَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعَاقَبْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْخَاصُّ بِغَيْرِ الشِّرْكِ، وَأَخَذَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ، وَخَبَرُ: " «لَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ أَمْ لَا» " أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ نَفْيُ الْعِلْمِ، وَفِي هَذَا إِثْبَاتُهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ بَلْ عَلَى عَدَمِ التَّوْبَةِ مِنْهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا ذَنْبٌ آخَرُ غَيْرُ مَا وَقَعَ الْعِقَابُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وَيُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ» ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُصَابَ أَيْ (عَلَيْهِ) : كَمَا فِي نُسْخَةٍ: وَعَلَى غَيْرِهَا، أَيْ سَتَرَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمُصِيبَ أَيْ ذَنْبَهُ بِأَنْ لَمْ يُقِمِ الْحَدَّ عَلَيْهِ (فَهُوَ) أَيِ الْمَسْتُورُ (إِلَى اللَّهِ) أَيْ أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ مِنَ الْعَفْوِ وَالْعِقَابِ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ عِقَابُ عَاصٍ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ثَوَابُ مُطِيعٍ عَلَى الْمَذْهَبِ الْحَقِّ (إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ) قُدِّمَ لِسَبْقِ رَحْمَتِهِ (وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ) رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ (فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ) وَتُسَمَّى بَيْعَةُ النِّسَاءَ كَمَا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ؛ وَلِذَا قِيلَ: عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

19 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: ( «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ) ، فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ) قُلْنَ: مَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟) قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: (فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا) قَالَ: أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تَصِلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟) قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: (فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 19 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) مَنْسُوبٌ إِلَى خُدْرَةَ، بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، حَيٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ. هُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، اشْتَهَرَ بِكُنْيَتِهِ، كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَضْحًى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالتَّنْوِينِ، وَاحِدُهُ أُضْحَاةٌ، لُغَةٌ فِي الْأُضْحِيَةِ، أَيْ فِي عِيدِ أَضْحًى - عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، بَلْ غَلَبَ عَلَى عِيدِ النَّحْرِ، فَحِينَئِذٍ مُغْنٍ عَنِ التَّقْدِيرِ كَالْفِطْرِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفْعَلُ وَقْتَ الضُّحَى وَهُوَ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ (أَوْ فِطْرٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (إِلَى الْمُصَلَّى) أَيِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ إِلَى الْيَوْمِ خَارِجَ السُّورِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ (فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ) : مَرَّ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَالْبَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَهُنَّ لِلْوَعْظِ أَوْ: لَمَّا مَرَّ بِهِنَّ وَعَظَهُنَّ (فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ) أَيْ جَمَاعَتَهُنَّ، وَالْخِطَابُ عَامٌّ غُلِّبَتِ الْحَاضِرَاتُ عَلَى الْغُيَّبِ (تَصَدَّقْنَ) أَمْرٌ لَهُنَّ أَيْ أَعْطِينَ الصَّدَقَةَ (فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ) عَلَى طَرِيقِ الْكَشْفِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ (أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ أُرِيَ إِذَا أُعْلِمَ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ مَفَاعِيلَ؛ أَحَدُهَا: التَّاءُ الْقَائِمَةُ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالثَّانِي:

كُنَّ، وَالثَّالِثُ: أَكْثَرُ، أَيْ أُعْلِمْتُ بِأَنَّكُنَّ أَكْثَرُ دُخُولًا فِي النَّارِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالصَّدَقَةُ تَقِي مِنْهَا. كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ كَوْنِهِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ مَحَبَّتُهُنَّ لِلدُّنْيَا، وَبِالتَّصَدُّقِ يَزُولُ، أَوْ يُنْقَصُ رَذِيلَةُ الْبُخْلِ النَّاشِئِ عَنْ مَحَبَّتِهَا الْمَذْمُومَةِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَرَدَ: ( «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» ) . (فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أَصْلُهُ بِمَا حُذِفَتْ أَلْفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا تَخْفِيفًا، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ بَعْدَهَا، وَالْوَاوُ إِمَّا لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقُلْنَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ نَكُونُ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟ أَوْ زَائِدَةٌ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ لَا سُؤَالٌ مُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ. (قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ) أَصْلُهُ إِبْعَادُ اللَّهِ تَعَالَى الْعَبْدَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَخَطِهِ، وَمِنَ الْإِنْسَانِ الدُّعَاءُ بِالسَّخِطِ وَالْإِبْعَادِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ مُصَادَرَةٌ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِمُعَيَّنٍ، وَلَوْ كَافِرًا لَمْ يُعْلَمْ مَوْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ يَقِينًا؛ إِذْ كَيْفَ يُبْعَدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ خَاصَّةُ أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَمُوتَ مُسْلِمًا؟ بِخِلَافِ مَنْ عُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ مَوْتُهُ كَافِرًا كَأَبِي جَهْلٍ، أَوْ أَنَّهُ سَيَمُوتُ كَذَلِكَ كَإِبْلِيسَ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ فِي لَعْنِهِ، وَبِخِلَافِ اللَّعْنِ لَا لِمُعَيَّنٍ بَلْ يُوصَفُ كَلَعْنِ اللَّهِ الْوَاصِلَةَ وَآكِلَ الرِّبَا وَالْكَاذِبَ؛ لِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْجِنْسِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّقْيِيدِ بِالْإِكْثَارِ أَنَّ اللَّعْنَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِنَّ لِاعْتِيَادِهِنَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِمَعْنَاهُ السَّابِقِ، فَخَفَّفَ الشَّارِعُ عَنْهُنَّ وَلَمْ يَتَوَعَّدْهُنَّ بِذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ إِكْثَارِهِ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ الْغِيبَةَ صَغِيرَةٌ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ النَّاسَ ابْتُلُوا بِهَا، فَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ كَثِيرُونَ، بَلْ حُكِيَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ - لَلَزِمَ تَفْسِيقُ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَوْ غَالِبِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ أَيُّ حَرَجٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّتْمِ وَالْكَلَامِ الْقَبِيحِ يَعْنِي: عَادَتُكُنَّ إِكْثَارُ اللَّعْنِ وَالشَّتْمِ وَالْإِيذَاءِ بِاللِّسَانِ (وَتَكْفُرْنَ) : بِضَمِّ الْفَاءِ (الْعَشِيرَ) أَيِ الْمُعَاشِرَ الْمُلَازِمَ، وَهُوَ الزَّوْجُ هَاهُنَا، وَكُفْرَانُهُ جَحْدُ نِعْمَتِهِ وَإِنْكَارُهَا، أَوْ سَتْرُهَا بِتَرْكِ شُكْرِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: ( «وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» ) يَعْنِي شُكْرًا كَامِلًا فَإِنَّهُ شَكَرَ الْمُسَبَّبِ وَلَمْ يَشْكُرِ السَّبَبَ، وَاسْتِعْمَالُ الْكُفْرَانِ فِي النِّعْمَةِ وَالْكَفْرِ فِي الدِّينِ أَكْثَرُ. (مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ) " مِنْ " مَزِيدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، صِفَةٌ لِمَفْعُولِهِ الْمَحْذُوفِ أَيْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ نَاقِصَاتٍ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِإِحْدَاكُنَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقَوْلُهُ: (أَذْهَبَ) : صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ أَحَدًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ صِفَةٌ أُخْرَى لَهُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ، وَمَفْعُولٌ ثَانٍ لَرَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى عَلِمْتُ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَفْرُوضٌ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنَ الْإِذْهَابِ؛ لِمَكَانِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: (لِلُبِّ الرَّجُلِ) فَمَعْنَاهُ: أَكْثَرُ إِذْهَابًا لِلُّبِّ، وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ كَـ " هُوَ أَعْطَاهُمْ لِلدَّرَاهِمِ "، ثُمَّ الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ يُدْرَكُ بِهَا الْمَعْنَى، وَيَمْنَعُ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَهُوَ نُورُ اللَّهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَاللُّبُّ الْعَقْلُ الْخَالِصُ مِنْ شَوْبِ الْهَوَى (الْحَازِمِ) صِفَةُ الرَّجُلِ أَيِ الضَّابِطُ أَمْرَهُ، وَفِي ذِكْرِهِ مَعَ ذِكْرِ اللُّبِّ إِشْعَارٌ بِأَنَّ فِتْنَتَهُنَّ عَظِيمَةٌ تَذْهَبُ بِعُقُولِ الْحَازِمِينَ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ؟ (مِنْ إِحْدَاكُنَّ) مُتَعَلِّقٌ بِأَذْهَبَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: مِنْكُنَّ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الذَّمِيمَةِ فَكَوْنُهُنَّ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَمَا أَحْسَنُ قَوْلِ جَرِيرٍ فِي وَصْفِ عُيُوبِهِنَّ: يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حِرَاكَ بِهِ وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أَرْكَانًا (قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) مَعَ أَنَّ دِينَنَا وَدِينَ الرَّجُلِ وَاحِدٌ، وَكُلُّنَا مَعْدُودُونَ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ، وَلَعَلَّهُنَّ خَالَفْنَ التَّرْتِيبَ السَّابِقَ الْمُوَافِقَ لِلَّاحِقِ؛ إِشَارَةً إِلَى الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ لِيَتَدَارَكْنَ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ حَيْثُ مَا رَاعَيْنَ كَلَامَ النُّبُوَّةِ، وَمَا فَهِمْنَ وَجْهَ التَّرْتِيبِ مِنْ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَقْلِ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ مُقَدَّمٌ فِي الْوُجُودِ، وَنُقْصَانُ الدِّينِ أَمْرٌ حَادِثٌ، أَوْ لِأَنَّ الْغَالِبَ إِنَّمَا يَنْشَأُ نُقْصَانُ الدِّينِ مِنْ نُقْصَانِ الْعَقْلِ، ثُمَّ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ حَذَاقَةِ أُولَئِكَ الْحَاضِرَاتِ، وَمِنْ ثَمَّةَ مَدَحَهُنَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ( «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» ) ، وَفِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ حَثٌّ لِلْمُتَعَلِّمِ عَلَى مُرَاجَعَةِ الْعَالَمِ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَعْنَاهُ قَالَ: ( «أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ» ) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]

(قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: (فَذَلِكَ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ وَالْكَافُ لِخِطَابِ الْعَامِّ، وَيُحْتَمَلُ الْكَسْرُ؛ وَلِذَا لَمْ يَقُلْ: " ذَلِكُنَّ " مَعَ كَوْنِ الْخِطَابِ لِلنِّسَاءِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِكَسْرِ الْكَافِ خِطَابٌ لِلْوَاحِدَةِ الَّتِي تَوَلَّتِ الْخِطَابَ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَامِّ. (مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا) : وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] (قَالَ) : لَعَلَّ إِعَادَةَ " قَالَ " لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ مُسْتَقِلٌّ رَاجِعٌ إِلَى نَظِيرِهِ السَّابِقِ، وَلَيْسَ مِنْ تَتِمَّةِ هَذَا الْقَوْلِ الْقَرِيبِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَأَمَّا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ وَمِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَلَيْسَ) : اسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَخَبَرُهَا قَوْلُهُ: ( «إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟» ) قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: (فَذَلِكَ) أَيْ كَوْنُهَا غَيْرَ مُصَلِّيَةٍ وَلَا صَائِمَةٍ (مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا) يَعْنِي فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهَا حُرِمَتْ مِنْ ثَوَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَقْضِي، وَمِنْ كَمَالِ ثَوَابِ الصَّوْمِ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ فِي وَقْتِ الْفَضِيلَةِ مَعَ مُشَارَكَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الطَّاعَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ إِيرَادِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

20 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبْنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ، وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 20 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : مَرَّ ذِكْرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) هَذَا حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ بِإِلْهَامٍ أَوْ مَنَامٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ بِالْمَعْنَى، فَيَعَبِّرُهُ بِلَفْظِهِ وَيَنْسِبُهُ إِلَى رَبِّهِ، وَالثَّانِي لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِنْزَالِ جِبْرِيلَ بِاللَّفْظِ الْمُعَيَّنِ، وَهُوَ أَيْضًا مُتَوَاتِرٌ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ فِي الْفُرُوعِ. (كَذَّبْنِي) بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، أَيْ نَسَبَنِي إِلَى الْكَذِبِ (ابْنُ آدَمَ) أَيْ هَذَا الْجِنْسُ، وَالتَّكْذِيبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ خَبَرِ مُتَكَلِّمٍ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ مَا صَحَّ وَمَا اسْتَقَامَ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي التَّكْذِيبُ لَهُ (وَشَتَمَنِي) : الشَّتْمُ تَوْصِيفُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ إِزْرَاءٌ وَنَقْصٌ فِيهِ، وَإِثْبَاتُ الْوَلَدِ لَهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ الشَّيْخَ: قَوْلٌ بِمُمَاثِلَةِ الْوَلَدِ فِي تَمَامِ حَقِيقَتِهِ وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْإِمْكَانِ الْمُتَدَاعِي إِلَى الْحُدُوثِ (وَلَمْ يَكُنْ) لَائِقًا، وَحَقًّا (لَهُ ذَلِكَ) الشَّتْمُ (فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ) : تَفْصِيلٌ لِمَا أَجْمَلَهُ، (فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي) الْإِعَادَةُ هِيَ الْإِيجَادُ بَعْدَ الْعَدَمِ الْمَسْبُوقِ بِالْوُجُودِ، فَالْمَعْنَى لَنْ يُحْيِيَنِي بَعْدَ مَوْتِي (" كَمَا بَدَأَنِي ") أَيْ أَوَجَدَنِي عَنْ عَدَمٍ وَخَلَقَنِي ابْتِدَاءً، أَيْ كَالْحَالَةِ الَّتِي كُنْتُ عَلَيْهَا حِينَ بَدَأَنِي، أَوْ إِعَادَةً مِثْلَ بَدْئِهِ إِيَّايَ، أَوْ لَنْ يُعِيدَنِي مُمَاثِلًا لِمَا بَدَأَنِي عَلَيْهِ، أَوْ لِبَدْئِهِ لِي مِنْ تُرَابٍ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لَا يُرِيدُ الْإِعَادَةَ مِنْ أَصْلِهَا، أَوْ إِعَادَةَ الْأَجْسَامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ وَتَكْذِيبٌ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ خِلَافًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ حَمْقَى {كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] ؛ وَلِذَا رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ لَيْسَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ لِلْمَخْلُوقَاتِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَيْ: لَيْسَ أَوَّلُ خَلْقِ الْخَلْقِ، وَالْخَلْقُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، أَوِ اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ أَوَّلُ خَلْقِ الشَّيْءِ (بِأَهْوَنَ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، مِنْ هَانَ الْأَمْرُ يَهُونُ، إِذَا سَهُلَ أَيْ لَيْسَ أَسْهَلَ (عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ) أَيِ الْمَخْلُوقِ أَوِ الشَّيْءِ، بَلْ هُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي قُدْرَتِي، بَلِ الْإِعَادَةُ أَسْهَلُ عَادَةً؛ لِوُجُودِ أَصْلِ الْبِنْيَةِ وَأَثَرِهَا، أَوْ أَهْوَنُ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ، أَوْ أَسْهَلُ عَلَى الْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّ الْعَوْدَ يَكُونُ آنِيًّا بِخِلَافِ الْإِيجَادِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَدْرِيجِيًّا، وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنَ الْآيَةِ {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] ، وَقِيلَ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مِثَالٍ يُرْشِدُ النَّبِيهَ إِلَى فَهْمِ الْحَقِّ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ مَا يُشَاهِدُهُ أَنَّ مَنِ اخْتَرَعَ صَنْعَةً لَمْ يَرَ مِثْلَهَا وَلَمْ يَجِدْ لَهَا أَصْلًا وَلَا مَدَدًا،

صَعُبَتْ عَلَيْهِ وَتَعِبَ فِيهَا غَايَةَ التَّعَبِ، وَافْتَقَرَ إِلَى مُكَابَدَةِ أَعْمَالٍ، وَمُعَاوَنَةِ أَعْوَانٍ، وَمُرُورِ أَزْمَانٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَثِيرًا لَا يَتِمُّ لَهُ مَقْصُودُهُ وَلَا يَظْفَرُ مِنْهُ بِطَائِلٍ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ وَاسْتُقْرِئَ لِأَكْثَرِ طَالِبِي صَنْعَةِ الْكِيمْيَاءِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَمَّا تَوَهَّمَ بَعْدَ فَنَاءِ عُمْرِهِ وَمَالِهِ فِي مَعْرِفَتِهَا أَنَّهَا صَحَّتْ مَعَهُ أَزْعَجَهُ الْفَرَحُ بِهَا إِلَى أَنْ وَقَعَ مِنْ عُلُوٍّ كَانَ فِيهِ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ إِصْلَاحَ مُنْكَسِرٍ وَإِعَادَةَ مُنْهَدِمٍ وَعِنْدَهُ عِدَدُ ذَلِكَ وَأُصُولُهُ فَيَهُونُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَيَتِمُّ لَهُ مَقْصُودُهُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، فَمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْإِعَادَةَ أَسْهَلُ مِنَ الْبَدَاءَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِنْكَارَهُمُ الْإِعَادَةَ بَعْدَ أَنْ أَقَرُّوا بِالْبِدَايَةِ تَكْذِيبٌ مِنْهُمْ لَهُ تَعَالَى، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَعَامِلُهَا قَوْلُهُ (فِي) فَقَوْلُهُ، وَصَاحِبُهَا الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) أَيِ اخْتَارَهُ سُبْحَانَهُ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [الفاتحة: 30 - 32011] وَقَالَتِ الْعَرَبُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. (وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ) الَّذِي غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى أَحَدٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ كَمَا مَرَّ، وَاتِّخَاذُ الْوَلَدِ نَقْصٌ؛ لِاسْتِدْعَائِهِ مُحَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: مُمَاثَلَتُهُ لِلْوَلَدِ وَتَمَامُ حَقِيقَتِهِ فَيَلْزَمُ إِمْكَانُهُ وَحُدُوثُهُ، وَثَانِيهِمَا: اسْتِخْلَافُهُ لِخَلَفٍ يَقُومُ بِأَمْرِهِ مِنْ بَعْدِهِ؛ إِذِ الْغَرَضُ مِنَ التَّوَالُدِ بَقَاءُ النَّوْعِ فَيَلْزَمُ زَوَالُهُ وَفَنَاؤُهُ سُبْحَانَهُ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90] الْآيَةَ. وَالْأَحَدُ: الْمُنْفَرِدُ الْمُطْلَقُ ذَاتًا وَصِفَاتًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَحَدِ وَالْوَاحِدِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ لِنَفْيِ مُفْتَتَحِ الْعَدَدِ، وَالْأَحَدُ لِنَفْيِ كُلِّ عَدَدٍ، فَالْوَاحِدُ يُنْبِئُ عَنْ تَفَرُّدِ الذَّاتِ عَنِ الْمِثْلِ وَالنَّظِيرِ، وَالْأَحَدُ يُنْبِئُ عَنْ تَفَرُّدِهَا عَنْ كُلِّ نَقْصِ وَاتِّصَافِهَا بِكُلِّ كَمَالٍ، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ، وَالصَّمَدُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ (الَّذِي لَمْ أَلِدْ) : مِنْ قَبِيلِ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ أَيْ لَمْ أَكُنْ وَالِدًا لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْقِدَمَ لَا يَكُونُ مَحَلَّ الْحَادِثِ (وَلَمْ أُولَدْ) أَيْ: وَلَمْ أَكُنْ وَلَدًا لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ قِدَمٍ بِلَا ابْتِدَاءٍ كَمَا أَنَّهُ آخِرٌ بِلَا انْتِهَاءٍ (وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا) : بِضَمِّ الْكَافِ وَالْفَاءِ، وَسُكُونِهَا مَعَ الْهَمْزَةِ، وَبِضَمِّهِمَا مَعَ الْوَاوِ - ثَلَاثُ لُغَاتٍ مُتَوَاتِرَاتٍ، يَعْنِي مَثَلًا، وَهُوَ خَبَرُ كَانَ، وَقَوْلُهُ: (أَحَدٌ) : اسْمُهَا، وَنَفْيُ الْكُفْءِ يَعُمُّ الْوَالِدِيَّةَ وَالْوَلَدِيَّةَ وَالزَّوْجِيَّةَ وَغَيْرَهَا.

21 - وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، وَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 21 - (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، (وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ) : وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (وَسُبْحَانِي) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْفَاءِ أَيْ: نَزَّهْتُ ذَاتِي (أَنْ أَتَّخِذَ) أَيْ مِنْ أَنْ أَتَّخِذَ (صَاحِبَةً) أَيْ زَوْجَةً؛ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ وَنَفْيِ الْجِنْسِيَّةِ (أَوْ وَلَدًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ (أَوْ) لِلنَّوْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي جَامِعِ الْحُمَيْدِيِّ " وَلَا وَلَدًا ". قَالَ الطِّيبِيُّ: زِيدَ " لَا " لِمَا فِي سُبْحَانِي مِنْ مَعْنَى التَّنْزِيهِ أَيِ الْمُرَادِفِ لِلنَّفْيِ الْمُقْتَضِي لِلْعَطْفِ فِي خَبَرِهِ بِلَا. وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ سَعَةِ حِلْمِهِ تَعَالَى مَا يَبْهَرُ الْعَقْلَ، إِذْ لَوْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِأَدَقِّ خَلْقِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِحَمْلِهِ غَضَبُهُ فِيهِ عَلَى اسْتِئْصَالِهِ مِنْ أَصْلِهِ مَعَ ضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ، وَلَمْ يَفْعَلْ تَعَالَى شَأْنُهُ بِمَنْ قَالَ ذَلِكَ شَيْئًا، بَلْ أَرْشَدَهُ لِلْحَقِّ، وَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ دَلِيلٍ وَأَوْضَحِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . اعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( «شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي، وَكَذَّبَنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، أَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ» ) . وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَفْظُهُ: قَالَ تَعَالَى: ( «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، وَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا» ) . كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَتَأَمَّلْ يَظْهُرْ لَكَ حَقِيقَةُ الرِّوَايَتَيْنِ.

22 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِيَ الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 22 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَعَنْهُ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مَرْجِعُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَإِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ الْمُعَنْوَنُ فِي الْعُنْوَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ، أَيْ يَقُولُ فِي حَقِّي (ابْنُ آدَمَ) مَا أَكْرَهُ، وَيَنْسِبُ إِلَيَّ مَا لَا يَلِيقُ بِي، أَوْ مَا يَتَأَذَّى بِهِ مَنْ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ التَّأَذِّي؛ وَلِذَا قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ؛ لِأَنَّ تَأَذِّيَ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَإِمَّا أَنْ يُفَوَّضَ وَإِمَّا أَنْ يُئَوَّلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيذَاءُ عَلَى إِيصَالِ الْمَكْرُوهِ لِلْغَيْرِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ فَإِيذَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلُ مَا يَكْرَهُهُ، وَكَذَا إِيذَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] (يَسُبُّ الدَّهْرَ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَرُوِيَ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَفَتْحِ السِّينِ وَجَرِّ الدَّهْرِ، يَعْنِي ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الدَّهْرَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَضُرُّ وَيَنْفَعُ. (وَأَنَا الدَّهْرُ) يُرْوَى بِرَفْعِ الرَّاءِ، قِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضَافِ أَيْ أَنَا خَالِقُ الدَّهْرِ، أَوْ مُصَرِّفُ الدَّهْرِ، أَوْ مُقَلِّبُهُ، أَوْ مُدَبِّرُ الْأُمُورِ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَيْهِ، فَمَنْ سَبَّهُ بِكَوْنِهِ فَاعِلَهَا عَادَ سَبُّهُ إِلَيَّ؛ لِأَنِّي أَنَا الْفَاعِلُ لَهَا، وَإِنَّمَا الدَّهْرُ زَمَانٌ جُعِلَ ظَرْفًا لِمَوَاقِعِ الْأُمُورِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ الدَّهْرِ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَسُبُّهُ، وَهُمْ صِنْفَانِ: دَهْرِيَّةٌ لَا يَعْرِفُونَ لِلدَّهْرِ خَالِقًا وَيَقُولُونَ: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] أَوْ مُعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُمْ يُنَزِّهُونَهُ عَنْ نِسْبَةِ الْمَكَارِهِ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: تَبًّا لَهُ، وَبُؤْسًا، وَخَيْبَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ جَهَالَةً وَغَفْلَةً، وَيُرْوَى بِنَصْبِ الدَّهْرِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ أَنَا الْفَاعِلُ أَوِ الْمُتَصَرِّفُ فِي الدَّهْرِ، وَقِيلَ: الدَّهْرُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى زَمَانِ مُدَّةِ الْعَالَمِ مِنْ مَبْدَأِ التَّكْوِينِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ، أَوِ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تَعَاقُبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، بَلْ هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَمَعْنَاهُ أَنَا الدَّاهِرُ الْمُتَصَرِّفُ الْمُدَبِّرُ الْمُفِيضُ لِمَا يَحْدُثُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَا فَاعِلُ مَا يُضَافُ إِلَى الدَّهْرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمَسَرَّةِ وَالْمَسَاءَةِ، فَإِذَا سَبَبْتُمُ الَّذِي تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ فَقَدْ سَبَبْتُمُونِي (بَيَدِيَ الْأَمْرُ) : بِالْإِفْرَادِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَتُسَكَّنُ، وَيَجُوزُ التَّثْنِيَةُ وَفَتْحُ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، أَيِ الْأُمُورُ كُلُّهَا خَيْرُهَا وَشَرُّهَا حُلْوُهَا وَمُرُّهَا تَحْتَ تَصَرُّفِي (أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) كَمَا أَشَاءُ بِأَنَّ أَنْقُصَ فِيهِمَا أَوْ أَزْيَدَ، وَأُقَلِّبُ قُلُوبَ أَهْلِهِمَا كَمَا أُرِيدُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ أَيْضًا بِلَفْظِ: ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ؛ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا» ) .

23 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ، يَدْعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 23 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ) أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَشْتَهِيهِ أَوْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَهُوَ فِي صِفَةِ الْبَارِي تَأْخِيرُ الْعَذَابِ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ (عَلَى أَذًى) : قِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ مَصْدَرِ آذَى يُؤْذِي بِمَعْنَى الْمُؤْذِي صِفَةُ مَحْذُوفٍ، أَيْ كَلَامٌ مُؤْذٍ قَبِيحٌ صَادِرٌ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَوْلُهُ: (يَسْمَعُهُ) صِفَةُ " أَذًى " وَهُوَ تَتْمِيمٌ؛ لِأَنَّ الْمُؤْذَى إِذَا كَانَ بِمَسْمَعٍ مِنَ الْمُؤْذِي كَانَ تَأْثِيرُ الْأَذَى أَشَدَّ، وَهَذَا

بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَإِلَّا فَالْمَسْمُوعُ وَغَيْرُهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ تَعَالَى (مِنَ اللَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَصْبَرُ لَا بِـ " يَسْمَعُهُ " (يَدْعُونَ) : بِسُكُونِ الدَّالِ، وَقِيلَ بِتَشْدِيدِهَا (لَهُ الْوَلَدَ) : وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْأَذَى (ثُمَّ يُعَافِيهِمْ) بِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ (وَيَرْزُقُهُمْ) : بِإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إِلَيْهِمْ. انْظُرْ فَضْلَهُ وَإِنْعَامَهُ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ مَنْ يُؤْذِيهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَحْتَمِلُ الْأَذَى عَمَّنْ يَعْصِيهِ، وَيَمْتَثِلُ ارْتِكَابَ طَاعَاتِهِ وَاجْتِنَابَ مَنَاهِيهِ. وَفِيهِ إِرْشَادٌ لَنَا إِلَى تَحَمُّلِ الْأَذَى وَعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

24 - «وَعَنْ مُعَاذٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حِمَارٍ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟) قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرُهُمْ فَيَتَّكِلُوا) » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 24 - (وَعَنْ مُعَاذٍ) أَيِ ابْنِ جَبَلٍ، يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، وَهُوَ أَحَدُ السَّبْعِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْعَقَبَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَبَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَمُعَلِّمًا، رَوَى عَنْهُ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، مَاتَ وَلَهُ ثَمَانٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. (قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الَّذِي يَرْكَبُ خَلْفَ الرَّاكِبِ مِنَ الرِّدْفِ وَهُوَ الْعَجُزُ، أَيْ كُنْتُ رَدِيفَهُ (عَلَى حِمَارٍ) إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ التَّذَكُّرِ بِالْقِصَّةِ، وَإِشْعَارٌ بِتَوَاضُعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) : أَرَادَ شِدَّةَ الْقُرْبِ فَيَكُونُ الضَّبْطُ أَكْثَرَ (إِلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ) : اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَهُوَ الْعُودُ الَّذِي يَكُونُ خَلْفَ الرَّاكِبِ - بِضَمِّ الْمِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ - وَقَدْ تُبْدَلُ - ثُمَّ خَاءٌ مَكْسُورَةٌ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ وَقَدْ تُفْتَحُ. (فَقَالَ: يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي) أَيْ أَتَعْرِفُ (مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الدِّرَايَةُ مَعْرِفَةٌ تَحْصُلُ بِضَرْبٍ مِنَ الْخِدَاعِ؛ وَلِذَا لَا يُوصَفُ الْبَارِي بِهَا أَيْ وَلَا بِالْمَعْرِفَةِ؛ لِاسْتِدْعَائِهَا سَبْقَ جَهْلٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ، أَوْ لِتَعَلُّقِ الْمَعْرِفَةِ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ ( «وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟» ) حَقُّ اللَّهِ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ وَاللَّازِمِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ بِمَعْنَى الْجَدِيرِ وَاللَّائِقِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ يَتَّخِذُ رَبًّا سِوَاهُ جَدِيرٌ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَا يَجِبَ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ - خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: حَقُّ الْعِبَادِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ، وَمِنْ صِفَةِ وَعْدِهِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْإِنْجَازِ، فَهُوَ حَقٌّ بِوَعْدِهِ الْحَقَّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى جِهَةِ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ لِحَقِّهِ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ حَقُّكَ وَاجِبٌ عَلَيَّ، أَيْ قِيَامِي بِهِ مُتَأَكَّدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «حَقُّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ» ) (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ) أَيْ إِذَا فَوَّضْتَ فَاعْلَمْ أَنَّ ( «حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ» ) أَيْ يُوَحِّدُوهُ، أَوْ يَقُومُوا بِعِبَادَتِهِ وَعُبُودِيَّتُهُ بِمُقْتَضَى إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ (وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) : الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ أَوْ تَخْصِيصٌ (وَحَقَّ الْعِبَادِ) : بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ (عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) : مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْإِشْرَاكِ، أَيْ عَذَابًا مُخَلَّدًا، فَلَا يُنَافِي دُخُولَ جَمَاعَةٍ النَّارَ مِنْ عُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا ثَبَتَ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بَلِ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَمِنْ ثَمَّةَ أَوْجَبُوا الْإِيمَانَ بِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ هَذَا مَعَ قَوْلِ الْبَيْضَاوِيِّ: وَلَيْسَ بِحَتْمٍ عِنْدَنَا أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ، بَلِ الْعَفْوُ عَنِ الْجَمِيعِ بِمُوجِبِ وَعْدِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - مَرْجُوٌّ؟ قُلْتُ: الْبَيْضَاوِيُّ لَمْ يَنْفِ الدُّخُولَ، وَإِنَّمَا نَفَى تَحَتُّمَهُ، وَجَوَّزَ الْعَفْوَ عَنِ الْجَمِيعِ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ الْوَعْدِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ إِخْبَارِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ جَمْعٍ مِنَ الْعُصَاةِ النَّارَ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، عَلَى أَنَّهُ قَالَ: اللَّازِمُ عَلَى الْوَعْدِ الْمَذْكُورِ عُمُومُ الْعَفْوِ، وَهُوَ لَا

يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الدُّخُولِ؛ لِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنِ الْبَعْضِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْعِقَابِ اهـ. وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَى دُخُولِ جَمْعٍ النَّارَ وَتَعْذِيبِهِمْ بِهَا، وَقَدِ اسْوَدَّتْ أَبْدَانُهُمْ حَتَّى صَارَتْ كَالْفَحْمِ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ ( «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أَبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ» ) أَيْ عُمُومَهُمْ، وَالْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَفَلَا أُبَشِّرُهُمْ بِمَا ذَكَرْتَ مِنْ حَقِّ الْعِبَادِ؟ وَالْبِشَارَةُ: إِيصَالُ خَبَرٍ إِلَى أَحَدٍ يَظْهَرُ أَثَرُ السُّرُورِ مِنْهُ عَلَى بَشَرَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فَتَهَكُّمٌ أَوْ تَجْرِيدٌ. (قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ) : قِيلَ: بَعْضُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ النَّاسِ، وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى أَنَّ لِلْعَالَمِ أَنْ يَخُصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهَةَ أَلَّا يَفْهَمُوا، وَقَدْ يَتَّخِذُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْبَطَلَةُ وَالْمُبَاحِيَّةِ ذَرِيعَةً إِلَى تَرْكِ التَّكَالِيفِ وَرَفْعِ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى خَرَابِ الدُّنْيَا بَعْدَ خَرَابِ الْعُقْبَى (فَيَتَّكِلُوا) : مَنْصُوبٌ فِي جَوَابِ النَّهْيِ بِتَقْدِيرِ " أَنْ " بَعْدَ الْفَاءِ، أَيْ يَعْتَمِدُوا وَيَتْرُكُوا الِاجْتِهَادَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَالنَّهْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مَعًا، أَيْ لَا يَكُنْ مِنْكَ تَبْشِيرٌ فَاتِّكَالٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ مُعَاذٌ مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَالْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يَعْتَادُوا تَكَالِيفَهُ، فَلَمَّا تَثَبَّتُوا وَاسْتَقَامُوا أَخْبَرَهُمْ، أَوْ رَوَاهُ بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْكِتْمَانِ، ثُمَّ إِنَّ مُعَاذًا مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ثَوَابُ نَشْرِ الْعِلْمِ وَوَبَالِ كَتْمِهِ، فَرَأَى التَّحَدُّثَ وَاجِبًا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَتْلُوهُ، فَأَخْبَرَ مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأْثَمًا، وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا عَنِ التَّبْشِيرِ، وَأَخْبَرَ بِهِ مُعَاذٌ بَعْدَ تَبْشِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَلْزَمُ ارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّبْشِيرِ لَا عَنِ الْإِخْبَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

25 - وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قَالَ: « (يَا مُعَاذُ) قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: (يَا مُعَاذُ) قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ - ثَلَاثًا - قَالَ: قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا؛ فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 25 - (وَعَنْ أَنَسٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ أَنَّ وَخَبَرِهَا (قَالَ: يَا مُعَاذُ) قَالَ: أَيْ مُعَاذٌ (لَبَّيْكَ) : مُثَنَّى مُضَافٌ بُنِيَ لِلتَّكْرِيرِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ مِنْ لَبَّ: أَجَابَ أَوْ أَقَامَ، أَيْ أَجَبْتُ لَكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، أَوْ أَقَمْتُ عَلَى طَاعَتِكَ إِقَامَةً بَعْدَ إِقَامَةٍ (رَسُولَ اللَّهِ) : بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ لِكَمَالِ الْقُرْبِ (وَسَعْدَيْكَ) عَطْفٌ عَلَى لَبَّيْكَ، أَيْ سَاعَدْتُ طَاعَتَكَ مُسَاعَدَةً بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ ( «قَالَ: يَا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ» ) : تَكْرِيرُ النِّدَاءِ لِتَأْكِيدِ الِاهْتِمَامِ بِمَا يُخْبِرُ، وَلِيُكْمِلَ تَنْبِيهَ مُعَاذٍ فِيمَا يَسْمَعُهُ فَيَكُونُ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ وَأَشَدَّ فِي الضَّبْطِ وَالْحِفْظِ ( «قَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا» ) أَيْ وَقَعَ هَذَا النِّدَاءُ وَالْجَوَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ كُلِّهَا بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي رَسُولِ اللَّهِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ وَجُودَهَا فِي الثَّالِثَةِ، فَأَطْنَبَ فِي تَوْجِيهِهِ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ مُكَرَّرًا، أَيْ قَالَ أَنَسٌ (قَالَ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ أَحَدٍ) " مِنْ " زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ، وَ " أَحَدٍ " مُبْتَدَأٌ، وَصِفَتُهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا) : مَصْدَرُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يَصْدُقُ صِدْقًا

وَقَوْلُهُ: (مِنْ قَلْبِهِ) صِفَةُ " صِدْقًا "؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ قَدْ لَا يَكُونُ مِنْ قَلْبِ أَيِّ اعْتِقَادٍ كَقَوْلِ الْمُنَافِقِ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ بِمَعْنَى " صَادِقًا " حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَشْهَدُ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَوْلُهُ: (إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ مُحَرَّمٌ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا مُحَرَّمًا عَلَى النَّارِ، وَالتَّحْرِيمُ بِمَعْنَى الْمَنْعِ، حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مَنْ قَالَ الْكَلِمَةَ وَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرِيضَتُهَا فَيَكُونُ الِامْتِثَالُ وَالِانْتِهَاءُ مُنْدَرِجَيْنِ تَحْتَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِمَنْ قَالَهَا عِنْدَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِفَرْضٍ آخَرَ، وَهَذَا قَوْلُ الْبُخَارِيِّ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُرَادَ تَحْرِيمُ الْخُلُودِ. (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ؟) : فِي وَضْعِ أُخْبِرُ مَوْضِعَ أُبَشِّرُ، تَجْرِيدٌ أَوْ رُجُوعٌ إِلَى أَصْلِ اللُّغَةِ أَوِ اكْتِفَاءٌ بِقَوْلِهِ: (فَيَسْتَبْشِرُوا) أَيْ يَفْرَحُوا بِحَيْثُ يَظْهَرُ أَثَرُ السُّرُورِ عَلَى بَشَرَتِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ عِظَمِ الْعَفْوِ إِذَا لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ (قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا) إِذَنْ حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِمَحْضِ الْجَوَابِ كَمَا هُنَا، أَيْ لَا تُخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّكَ إِنْ أَخْبَرْتَهُمْ وَبِهَذِهِ الْبِشَارَةِ بَشَّرْتَهُمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى أَلْطَافِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَتْرُكُوا حَقَّ الْعُبُودِيَّةِ فَيَنْجَرُّوا إِلَى نُقْصَانِ دَرَجَاتِهِمْ، وَتَنْزِلُ حَالَاتُهُمْ، وَهَذَا حُكْمُ الْأَغْلَبِ مِنَ الْعَوَامِّ، وَإِلَّا فَالْخَوَاصُّ كُلَّمَا بُشِّرُوا زَادُوا فِي الْعِبَادَةِ كَمَا وَقَعَ لِلْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ: «أَتَقُومُ فِي اللَّيْلِ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاكَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ - أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) » (فَأَخْبَرَ بِهَا) أَيْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، أَوِ الْقِصَّةِ، أَوِ الْبِشَارَةِ (مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ) : لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ مَوْتِهِ إِلَى مُعَاذٍ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (تَأْثَمًا) : مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ تُجَنُّبًا، وَتَحَرُّزًا عَنْ إِثْمِ كَتْمِ الْعِلْمِ، إِذْ فِي الْحَدِيثِ: ( «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ) . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

26 - «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 26 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ) : هُوَ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ الْغِفَارِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ الصَّحَابَةِ وَزُهَّادِهِمْ، أَسَلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ. يُقَالُ: كَانَ خَامِسًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ سَكَنَ رَبْذَةً إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. ( «قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ» ) : حَالٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الشُّرَّاحُ: هَذَا لَيْسَ مِنَ الزَّوَائِدِ الَّتِي لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، بَلْ قَصَدَ الرَّاوِي بِذَلِكَ أَنْ يُقَرِّرَ التَّثَبُّتَ وَالْإِتْقَانَ فِيمَا يَرْوِيهِ؛ لِيَتْمَكَنَ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ. قُلْتُ: أَوْ أَرَادَ التَّذَكُّرَ بِإِحْضَارِ طَلْعَتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَاسْتِحْضَارِ خُلْعَتِهِ اللَّطِيفَةِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ لَدَيْهِ وَوَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ (وَهُوَ نَائِمٌ) : عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ فَرَجَعْتُ، (ثُمَّ أَتَيْتُهُ) بَعْدَ زَمَانٍ (وَقَدِ اسْتَيْقَظَ) حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، وَالْمَعْنَى فَوَجَدْتُهُ مُنْتَبِهًا مِنَ النَّوْمِ ( «فَقَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ بِدُونِهِ لَا يَنْفَعُ (ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ الِاعْتِقَادِ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَوَاتِيمِ (إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ) :

اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ أَيْ لَا يَكُونُ لَهُ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ اسْتِحْقَاقِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَفِيهِ بِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَاقِبَتَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ جَمَّةٌ، لَكِنَّ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ (قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ زَنَى مُقَدَّرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ أَيْ أَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى (وَإِنْ سَرَقَ؟) أَوِ التَّقْدِيرُ: أَوْ إِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ دَخَلَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْوَاوُ وَاوَ الْمُبَالَغَةِ، وَ " إِنْ " بَعْدَهَا تُسَمَّى وَصْلِيَّةً، وَجَزَاؤُهَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهَا عَلَيْهِ (قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟) وَتَخْصِيصُهُمَا لِأَنَّ الذَّنْبَ إِمَّا حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ الزِّنَا، أَوْ حَقُّ الْعِبَادِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِي ذِكْرِهَا مَعْنَى الِاسْتِيعَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] أَيْ دَائِمًا ( «قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ) أَمَّا تَكْرِيرُ أَبِي ذَرٍّ فَلِاسْتِعْظَامِ شَأْنِ دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْكَبَائِرِ، وَقِيلَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ لَأَجَابَهُ بِجَوَابٍ آخَرَ فَيَجِدُ فَائِدَةً أُخْرَى، وَأَمَّا تَكْرِيرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْكَارٌ لِاسْتِعْظَامِهِ، أَيْ: أَتَبْخَلُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ؟ فَرَحْمَةُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ عَلَى خَلْقِهِ وَإِنْ كَرِهْتَ ذَلِكَ. (قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟) قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ لَا يُسْلَبُ عَنْهُمُ اسْمُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وِفَاقًا، وَعَلَى أَنَّهَا لَا تُحْبِطُ الطَّاعَاتِ لِتَعْمِيمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحُكْمَ وَعَدَمِ تَفْصِيلِهِ (عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ) الرَّغْمُ بِالْفَتْحِ أَشْهَرُ مِنَ الضَّمِّ، وَحُكِيَ الْكَسْرُ أَيِ الْكُرْهُ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ (وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ) أَيْ هَذَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (قَالَ) تُفَاخُرًا: (وَإِنْ رَغِمَ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ، وَقِيلَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ (أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ) أَيْ لُصِقَ بِالرَّغَامِ - بِالْفَتْحِ - وَهُوَ التُّرَابُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى كَرِهَ، أَوْ دَلَّ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

27 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَقٌّ - أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 27 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) حَالٌ، أَيْ يَنْفَرِدُ مُنْفَرِدًا (لَا شَرِيكَ لَهُ) : تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ) الْأَجَلُّ (وَرَسُولُهُ) الْأَكْمَلُ (وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ) : لَمْ يُضْمِرْ لِيَكُونَ أَصْرَحَ فِي الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى وَتَقْرِيرٌ لِعَبْدِيَّتِهِ وَإِشْعَارٌ إِلَى إِبْطَالِ مَا يَقُولُونَ بِهِ مِنِ اتِّخَاذِ أُمِّهِ صَاحِبَةً (وَرَسُولُهُ) تَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ (وَابْنُ أَمَتِهِ) : كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَالْإِضَافَةُ فِي أَمَتِهِ لِلتَّشْرِيفِ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ فِي الْقَذْفِ (وَكَلِمَتُهُ) : سُمِّيَ عِيسَى بِالْكَلِمَةِ لِأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَبْدَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍّ، وَأَنْطَقَهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، فَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مُوجَدًا بِـ " كُنْ "، وَقِيلَ: لَمَّا انْتَفَعَ بِكَلَامِهِ سُمِّيَ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ سَيْفُ اللَّهِ وَأَسَدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: لَمَّا خَصَّهُ بِهِ فِي صِغَرِهِ حَيْثُ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ (أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ أَوْصَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا، وَحَصَّلَهَا فِيهَا (وَرُوحٌ مِنْهُ) أَيْ مُبْتَدَأٌ مِنْ مَحْضِ إِرَادَتِهِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ هِيَ كَالْمُتَوَلِّدَةِ عَنْ أَرْوَاحِ آبَائِهِمْ، لَاسِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْسَامٌ سَارِيَةٌ فِي الْبَدَنِ سَرَيَانَ مَاءِ الْوَرْدِ، قِيلَ: سُمِّيَ بِالرُّوحِ لِمَا كَانَ لَهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، فَكَّانِ كَالرُّوحِ، أَوْ لِأَنَّهُ ذُو رُوحٍ وَجَسَدٍ مِنْ غَيْرِ جُزْءٍ مِنْ ذِي رُوحٍ كَالنُّطْفَةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَلَى حَيٍّ، وَإِنَّمَا اخْتُرِعَ اخْتِرَاعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِي نَفْخِ الرُّوحِ لِإِرْسَالِهِ جِبْرِيلَ إِلَى أُمِّهِ، فَنَفَخَ فِي دِرْعِهَا مَشْقُوقًا إِلَى قُدَّامِهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَيْهَا، فَحَمَلَتْ بِهِ مُقَدَّسًا عَنْ لَوْثِ النُّطْفَةِ وَالتَّقَلُّبِ فِي أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ مِنَ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: " مِنْهُ " إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مُقَرَّبُهُ وَحَبِيبُهُ، تَعْرِيضًا بِالْيَهُودِ.

رُوِيَ أَنَّ عَظِيمًا مِنَ النَّصَارَى سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: (وَرُوحٌ مِنْهُ) قَالَ: أَفَغَيْرُ هَذَا دِينُ النَّصَارَى؟ يَعْنِي أَنَّ هَذَا دِينُ النَّصَارَى، يَعْنِي أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى بَعْضٌ مِنْهُ. فَأَجَابَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] فَلَوْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: (وَرُوحٌ مِنْهُ) أَنَّهُ بَعْضُهُ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ لَكَانَ مَعْنَى " جَمِيعًا مِنْهُ " أَنَّ الْجَمِيعَ بَعْضٌ مِنْهُ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ، فَأَسْلَمَ النَّصْرَانِيُّ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ تَسْخِيرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَائِنٌ مِنْهُ وَحَاصِلٌ مِنْ عِنْدِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ مُكَوِّنُهَا وَمُوجِدُهَا. (وَالْجَنَّةُ) : مَنْصُوبٌ، وَيُرْفَعُ (وَالنَّارُ حَقٌّ) : مُبَالَغَةٌ كَزَيْدٍ عَدْلٍ، أَوْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْ ثَابِتٌ، وَأُفْرِدَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ لِإِرَادَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَفِي كَلَامِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ الْجَنَّةَ جَنَّةُ الْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْكَرُوبِيَّةِ، وَالرُّوحَانِيَّةِ، وَطَبَقَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَعَالَمِ السَّمَاوَاتِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ رُوحُ السَّالِكِ كَالْمِرْآةِ الْمُحَاذِيَةِ لِعَالِمِ الْقُدْسِ، وَأَشْجَارُهَا الْمَلَكَاتِ الْحَمِيدَةَ وَالْأَخْلَاقَ السَّعِيدَةَ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْمَكَاسِبِ. وَأَثْمَارُهَا الْمُكَاشَفَاتُ وَالْمُشَاهَدَاتُ وَالْإِشَارَاتُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَوَاهِبِ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْجَنَّةِ الْحِسِّيَّةِ فَهُوَ أَبْلَهٌ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ وَانْتَقَلَ مِنْ رُوحِ الْمَحَبَّةِ وَالْقُرْبِ إِلَى سِيَاسَةِ الْقَهْرِ وَالْبُعْدِ، وَانْحَطَّ عَنِ الْجِهَةِ الْعُلْوِيَّةِ إِلَى عَالِمِ النَّارِ - يُعَذَّبُ بِنَارٍ رُوحَانِيَّةٍ نَشَأَتْ مِنِ اسْتِيلَاءِ صِفَةِ الْقَهْرِ الْإِلَهِيِّ، فَيَكُونُ أَشَدَّ وَأَدْوَمَ إِيلَامًا مِنَ النَّارِ الْجُسْمَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ حَرَارَتَهَا تَابِعَةٌ لِنَارٍ رُوحَانِيَّةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ هِيَ شَرَرٌ مِنْ نَارِ غَضَبِ اللَّهِ بَعْدَ تَنَزُّلِهَا فِي مَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ كَتَنَزُّلِهَا فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ بِصُورَةِ الْغَضَبِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ: إِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ غُسِلَتْ بِالْمَاءِ سَبْعِينَ مَرَّةً، ثُمَّ أُنْزِلَتْ إِلَى الدُّنْيَا لِيُمْكِنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا. (أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) : ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَالْجُمْلَةُ جَوَابُ الشَّرْطِ أَوْ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. (عَلَى مَا كَانَ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ مِنْ قَوْلِهِ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ أَيْ كَائِنًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَوْصُوفًا بِهِ (مِنَ الْعَمَلِ) : حَسَنًا أَوْ شَيْئًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

28 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلِأُبَايِعَكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، فَقَبَضْتُ يَدِي، فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ " قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، فَقَالَ: تَشْتَرِطُ مَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: " أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْحَدِيثَانِ الْمَرْوِيَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ) » ، وَالْآخَرُ: " «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي» ". سَنَذْكُرُهُمَا فِي بَابَيِ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 28 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) الْأَصَحُّ عَدَمُ ثُبُوتُ الْيَاءِ إِمَّا تَخْفِيفًا، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَجْوَفُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي " الْقَامُوسِ " الْأَعْيَاصُ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْلَادُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأَكْبَرِ، وَهُمُ الْعَاصِ، وَأَبُو الْعَاصِ، وَالْعِيصُ، وَأَبُو الْعِيصِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ كِتَابَةُ الْعَاصِ بِالْيَاءِ وَلَا قِرَاءَتُهُ بِهَا، لَا وَقْفًا وَلَا وَصْلًا، فَإِنَّهُ مُعْتَلُّ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَصَى، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ وَحَذْفُهَا وَقْفًا وَوَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُعْتَلُّ اللَّامِ. (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ) أَيْ لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةِ (ابْسُطْ يَمِينَكَ) أَيِ افْتَحْهَا وَمُدَّهَا لِأَضَعَ يَمِينِي عَلَيْهَا كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْبَيْعَةِ (فَلِأُبَايِعَكَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالتَّقْدِيرُ لِأُبَايِعَكَ، تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ، وَالْفَاءِ مُقْحَمَةٌ، وَقِيلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنَا أُبَايِعُكَ، وَأَقْحَمُ اللَّامَ تَوْكِيدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الْأَمْرِ فَيُجْزَمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مَفْتُوحَةً وَالْعَيْنُ مَضْمُومَةً، وَالتَّقْدِيرُ فَلِأَجْلِ أَنْ أُبَايِعَكَ طَلَبْتُ بَسْطَ يَمِينِكَ. (فَبَسَطَ يَمِينَهُ) أَيِ الْكَرِيمَةَ (فَقَبَضْتُ يَدِي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَتُفْتَحُ أَيْ، إِلَى جِهَتِي، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: أَيْ نَفْسِي، وَهُوَ

غَيْرُ ظَاهِرٍ (فَقَالَ أَيْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟) أَيُّ شَيْءٍ خَطَرَ لَكَ حَتَّى امْتَنَعْتَ مِنَ الْبَيْعَةِ. (قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ) : مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ شَرْطًا أَوْ شَيْئًا، وَالْمَعْنَى أَرَدْتُ بِذَلِكَ الِامْتِنَاعَ أَنْ أَشْتَرِطَ لِنَفْسِي مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ الْانْتِفَاعِ (قَالَ: تَشْتَرِطُ مَاذَا) قِيلَ: حَقُّ " مَاذَا " أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى " تَشْتَرِطُ "؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الصَّدَارَةَ فَحُذِفَ " مَاذَا "، وَأُعِيدَ بَعْدَ تَشْتَرِطُ تَفْسِيرًا لِلْمَحْذُوفِ، وَقِيلَ: كَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَسْتَحْسِنْ مِنْهُ الِاشْتِرَاطَ فِي الْإِيمَانِ، فَقَالَ: أَتَشْتَرِطُ؟ إِنْكَارًا، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مَاذَا؟ أَيْ مَا الَّذِي تَشْتَرِطُ، أَوْ: أَيُّ شَيْءٍ تَشْتَرِطُ؟ وَقَالَ الْمَالِكِيُّ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: أَقُولُ: " مَاذَا " شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ " مَا " الِاسْتِفْهَامِيَّةَ إِذَا رُكِّبَتْ مَعَ " ذَا " تُفَارِقُ وُجُوبَ التَّصْدِيرِ، فَيَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا رَفْعًا وَنَصْبًا فَالرَّفْعُ كَقَوْلِكَ: كَانَ مَاذَا، وَالنَّصْبُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ وُقُوعُهَا تَمْيِيزًا كَقَوْلِكَ لِمَنْ قَالَ: عِنْدِي عِشْرُونَ عِشْرُونَ مَاذَا (قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقِيلَ: لِلْفَاعِلِ أَيِ اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةِ (لِي) أَيْ أَشْتَرِطُ غُفْرَانَ ذُنُوبِي إِنْ أَسْلَمْتُ (قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو) أَيْ مِنْ حَقِّكَ مَعَ رَزَانَةِ عَقْلِكَ وَجَوْدَةِ رَأْيِكَ وَكَمَالِ حَذَقِكَ الَّذِي لَمْ يَلْحَقْكَ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَلَّا يَكُونَ خَفِيًّا عَنْ عِلْمِكَ (أَنَّ الْإِسْلَامَ) أَيْ إِسْلَامُ الْحَرْبِيِّ ; لِأَنَّ إِسْلَامَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ (يَهْدِمُ) : بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ يَمْحُو (مَا كَانَ قَبْلَهُ) أَيِ السَّيِّئَاتِ (وَأَنَّ الْهِجْرَةَ) أَيْ إِلَيَّ فِي حَيَاتِي، وَبَعْدَ وَفَاتِي مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا خَبَرُ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا صَارُوا مُسْلِمِينَ (تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا) أَيْ مِمَّا وَقَعَ قَبْلَهَا وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا عَدَا الْمَظَالِمَ أَيْ مِنَ السَّيِّئَاتِ (وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ) أَيْ مِنَ التَّقْصِيرَاتِ سَقَطَ لَفْظُ كَانَ مِنْ أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ، فَتَكَلَّفَ لَهُ وَجْهًا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ. قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مُطْلَقًا مَظْلَمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، وَأَمَّا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ فَإِنَّهُمَا لَا يُكَفِّرَانِ الْمَظَالِمَ، وَلَا يُقْطَعُ فِيهِمَا بِغُفْرَانِ الْكَبَائِرِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَوْلَاهُ، فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى هَدْمِهِمَا الصَّغِيرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَيُحْتَمَلُ هَدْمُهُمَا الْكَبَائِرَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ. عَرَفْنَا ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ فَرَدَدْنَا الْمُجْمَلَ إِلَى الْمُفَصَّلِ، وَعَلَيْهِ اتِّفَاقُ الشَّارِحِينَ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: يَمْحُو الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ كُفْرٍ وَعِصْيَانٍ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْحَجِّ وَالْهِجْرَةِ إِجْمَاعًا، وَلَا بِالْإِسْلَامِ لَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ مَالِيًّا أَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ كَالْقِصَاصِ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا وَكَانَ الْحَقُّ مَالِيًّا بِالِاسْتِقْرَاضِ أَوِ الشِّرَاءِ، وَكَانَ الْمَالُ غَيْرَ الْخَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحَجُّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ مِمَّا وَقَعَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا عَدَا الْمَظَالِمَ، لَكِنْ بِشَرْطِ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ: ( «مِنْ حَجٍّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ) مَعَ ذَلِكَ فَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالنَّوَوِيِّ وَعِيَاضٍ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ التَّبِعَاتِ، بَلِ الْكَبَائِرُ، إِذْ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، وَعِبَارَةُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ حُقُوقُ الْمَالِيَّةِ لَا تَنْهَدِمُ بِالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ، وَفِي الْإِسْلَامِ خِلَافٌ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ إِجْمَاعًا اهـ. نَعَمْ يَجُوزُ بَلْ يَقَعُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ لِعَاصٍ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَعَلَيْهِ تَبِعَاتٌ عُوِّضَ صَاحِبُهَا مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِعَفْوِهِ وَرِضَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ الْحَجَّ يُكَفِّرُ التَّبِعَاتَ، وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ فَلَمْ يُجَبْ لِمَغْفِرَتِهَا، فَدَعَا صَبِيحَةَ مُزْدَلِفَةَ بِذَلِكَ فَضَحِكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا رَأَى مِنْ جَزَعِ إِبْلِيسَ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ عُمُومِ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ» ، فَيَرُدُّهُ أَنَّ الْحَدِيثَ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ اهـ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُمْكِنُ حَمْلُ الْمَظَالِمِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، أَوْ يُقَيَّدُ بِالتَّوْبَةِ، أَوِ التَّخْصِيصِ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ أُمَّتِهِ فِي حِجَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مُصِرًّا عَلَى مَعْصِيَةٍ؛ وَلِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْحَدِيثَانِ الْمَرْوِيَّانِ) أَيِ الْمَذْكُورَانِ هُنَا فِي الْمَصَابِيحِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : أَوَّلُهُمَا: ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» ) : إِلَخْ (وَالْآخَرُ: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي» ) : إِلَخْ. (سَنَذْكُرُهُمَا فِي بَابِ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ

إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، يَعْنِي الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الرِّيَاءِ، وَالثَّانِي نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْكِبَرِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَيْنِ أَنْسَبُ بِالْبَابَيْنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 29 - «عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ. قَالَ: " لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لِيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ "، ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةُ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ " ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] حَتَّى بَلَغَ (يَعْمَلُونَ) ، ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أَدُلُّكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ " قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ "، ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ " قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: " كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ الْفَصْلُ الثَّانِي أَيِ الْمُعَبِّرُ بِهِ قَوْلُهُ: مِنَ الْحِسَانِ فِي الْمَصَابِيحِ. 29 - (عَنْ مُعَاذٍ) أَيِ ابْنِ جَبَلٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ أَصَابَنَا الْحَرُّ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَبُهُمْ مِنِّي فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَقُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ) التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلنَّوْعِ، أَيْ عَمَلٍ عَظِيمٍ أَوْ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ، فَلَا يُرَدُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا جُعِلَ " يُدْخِلُنِي " جَوَابَ الْأَمْرِ يَبْقَى " بِعَمَلٍ " نَكِرَةً غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ. (يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ عَمَلٍ إِمَّا مُخَصِّصَةٌ، أَوْ مَادِحَةٌ، أَوْ كَاشِفَةٌ، فَإِنَّ الْعَمَلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ كَأَنَّهُ لَا عَمَلٌ، وَبِالْجَزْمِ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ هُوَ صِفَتُهُ أَيْ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ إِنْ أَعْمَلْهُ يُدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، وَقِيلَ: جَزْمٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، أَيْ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ إِنْ تُخْبِرْنِي يُدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، يَعْنِي أَنَّهُ الْخَبَرُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ إِلَى الْإِدْخَالِ، وَإِسْنَادُ الْإِدْخَالِ إِلَى الْعَمَلِ إِسْنَادٌ إِلَى السَّبَبِ أَوْ شِبْهِ الْعَمَلِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْمَطْلُوبِ بِالْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ، أَوِ الْمَعْنَى يُدْخِلُنِي لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِفَضْلِ اللَّهِ يَجْعَلُهُ سَبَبًا لِدُخُولِهَا، وَقِيلَ: الْجَزْمُ غَيْرُ صَحِيحٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً. أَقُولُ: فَكَأَنَّهُ نَظَرَ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ دِرَايَةً أَنَّ الْإِخْبَارَ لَيْسَ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، بَلِ الْعَمَلُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إِخْبَارَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَسِيلَةٌ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَالْإِخْبَارُ سَبَبٌ بِوَجْهٍ مَا لِإِدْخَالِ الْجَنَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ جَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ " يُقِيمُوا " فِي {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31] وَغَيْرَهُ " يَغْفِرْ لَكُمْ " فِي {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} [الصف: 10] الْآيَةَ - هُوَ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ لَمَّا كَانَ مَظِنَّةً لِلِامْتِثَالِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ مِنْهُ ذَلِكَ. (وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ) : عَطْفٌ عَلَى يُدْخِلُنِي

بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَوْلُ ابْنِ مَالِكٍ هُنَا بِالرَّفْعِ فَقَطْ مَعَ تَجْوِيزِهِ الْوَجْهَيْنِ أَوَّلًا فِي غَايَةٍ مِنَ السُّقُوطِ، ثُمَّ الْعَطْفُ يُفِيدُ أَنَّ مُرَادَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عَذَابٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ أُخْرِجَ عَلَى صِيغَةِ الْمُغَالَبَةِ لِلْمُبَالَغَةِ. (قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَقَدْ سَأَلْتَ) أَيْ مِنِّي (عَنْ عَظِيمٍ) أَيْ شَيْءٍ عَظِيمٍ، أَوْ سُؤَالٍ عَظِيمٍ مُتَعَسِّرِ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ وَالتَّبَاعُدَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَسَبَبُهُ الَّذِي هُوَ اجْتِنَابُ كُلِّ مَحْظُورٍ وَامْتِثَالُ كُلِّ مَأْمُورٍ أَيْضًا كَذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْعَمَلِ الْمُدْخَلِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ عَنْ عَمَلٍ عَظِيمٍ فِعْلُهُ عَلَى النُّفُوسِ؛ لِيُطَابِقَ السَّابِقَ وَاللَّاحِقَ، وَالْعَظِيمُ ضِدُّ الْحَقِيرِ، كَالْكَبِيرِ نَقِيضُ الصَّغِيرِ، وَكَمَا أَنَّ الْحَقِيرَ دُونَ الصَّغِيرِ فَكَذَلِكَ الْعَظِيمُ فَوْقَ الْكَبِيرِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ فِي الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي، تَقُولُ: رَجُلٌ عَظِيمٌ وَكَبِيرٌ أَيْ جُثَّتُهُ أَوْ قَدْرُهُ (وَأَنَّهُ) أَيْ جَوَابُهُ أَوْ فِعْلُهُ (لَيَسِيرٌ) أَيْ هَيِّنٌ وَسَهْلٌ (عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ) وَفِي نُسْخَةٍ: (تَعَالَى) أَيْ جَعَلَهُ سَهْلًا (عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ) إِمَّا بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ، وَإِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَعْوِيلًا عَلَى أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، أَيْ هُوَ أَنْ تَعْبُدُ أَيِ الْعَمَلُ الَّذِي يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ عِبَادَتُكَ اللَّهَ بِحَذْفِ أَنْ، أَوْ تَنْزِيلُ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ، وَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ كَأَنَّهُ مُتَسَارِعٌ إِلَى الِامْتِثَالِ، وَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ إِظْهَارًا لِرَغْبَتِهِ فِي وُقُوعِهِ، وَفَصْلِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِكَوْنِهِ بَيَانًا أَوِ اسْتِئْنَافًا، وَفِيهِ بَرَاعَةُ الِاسْتِهْلَالِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَضْمُونِ الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: كُفَّ عَلَيْكَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْقَطْعِ، وَالْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّوْحِيدُ؛ لِقَوْلِهِ: ( «وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا» ) أَوِ الْأَعَمُّ مِنْهُ لِيَعُمَّ امْتِثَالَ كُلِّ مَأْمُورٍ وَاجْتِنَابَ كُلِّ مَحْظُورٍ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ إِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعِبَادَةِ فَلِأَنْ لَا يُشْرِكَ بِاللَّهِ أَوْلَى، وَالتَّنْوِينُ فِي شَيْئًا لِلْإِفْرَادِ شَخْصًا، كَمَا أَنَّ فِي قَوْلِهِ: " عَظِيمٍ " لِلتَّعْظِيمِ، وَفِي يَسِيرٍ لِلتَّقْلِيلِ (وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ) : مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْبِيهًا عَلَى إِنَافَتِهِ إِنْ عَمَّمَ الْعِبَادَةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَكْتُوبَةُ. وَهَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِمُعَاذٍ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مُؤْمِنٍ؛ إِذِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، ثُمَّ تَوَقُّفُ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى الْأَعْمَالِ إِنَّمَا هُوَ بِقَيْدِ الدُّخُولِ الْأَوْلَى كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فَلَا مُسْتَمْسِكَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ لَدَيْهِ. (وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ) أَيِ الْمَفْرُوضَةَ (وَصَوْمُ رَمَضَانَ) أَيِ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَةُ (وَتَحُجُّ الْبَيْتَ) أَيْ بِالْأَفْعَالِ الْمَعْلُومَةِ عَلَى شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. (ثُمَّ قَالَ) أَيْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - زِيَادَةً عَلَى الْإِفَادَةِ بِالْحَثِّ عَلَى النَّوَافِلِ لِتَحْصِيلِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، أَوْ لِتَكْمِيلِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ (أَلَا أَدُلُّكَ) الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَلَا لِلنَّفْيِ وَهُوَ لِتَحْقِيقِ مَا بَعْدَهَا، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ قُلْتُ: بَلَى كَانَ مَوْجُودًا هُنَا أَيْضًا كَمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَعْدَهُ، فَنَسِيَ الرَّاوِي، كَذَا قِيلَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَنْبَغِي لِي أَلَّا أَدُلُّكَ مَعَ أَنِّي الْمُرْشِدُ الْكَامِلُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ لِئَلَّا يُنْسَبَ الرُّوَاةَ إِلَى النِّسْيَانِ مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ مَطْلُوبِيَّةً لِدَلَالَتِهِ، أَوْ يُقَالُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَتَوَقَّفْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى يَقُولَ مُعَاذٌ " بَلَى " هُنَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَ تَصْدِيقَهُ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهِ (عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟) أَيِ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ بِهِ، شَبَّهَ الْخَيْرَ بِدَارٍ فِيهَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّاهُ النَّفْسُ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، جَعَلَ الْأُمُورَ الْآتِيَةَ أَبْوَابَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ، وَكَذَا إِخْرَاجُ الْمَالِ فِي الصَّدَقَةِ لَا سِيَّمَا الزِّيَادَةُ عَلَى الزَّكَاةِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الَّذِي مَحَلُّ رَاحَةِ النَّفْسِ، وَالْبُعْدُ مِنَ الرِّيَاءِ، فَمَنِ اعْتَادَهَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ كُلُّ خَيْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي دُخُولِ الدَّارِ تَكُونُ بِفَتْحِ الْبَابِ. (الصَّوْمُ جُنَّةٌ) أَيْ سِتْرٌ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الصَّوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ فِي الْجُوعِ سَدُّ مَجَارِي الشَّيْطَانِ، فَإِذَا سَدَّ مَجَارِيهِ لَمْ يَدْخُلْ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِلْعِصْيَانِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ. قِيلَ: التَّقْدِيرُ صَوْمُ النَّفْلِ، فَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ شُرَّاحِ الْأَرْبَعِينَ: وَلَعَلَّ قَائِلَهُ كُوفِيٌّ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39] أَيْ مَأْوَاهُ، فَإِنَّ اللَّامَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ بَلْ لِلتَّعْرِيفِ الْعَهْدِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عُلِمَ أَنَّ الطَّاغِي صَاحِبُ الْمَأْوَى تُرِكَتِ الْإِضَافَةُ، فَكَذَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْفَرَائِضَ أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَهَا مِنَ النَّوَافِلِ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ تَقَدُّمُ الْمَعْهُودِ كَمَا ظَنَّ، بَلْ قَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْقَرَائِنِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ: أَغْلِقِ الْبَابَ، وَكَمْ مِثْلُهَا. قَوْلُهُ: (جُنَّةٌ) أَيْ وِقَايَةٌ مِنْ سَوْرَةِ الشَّهْوَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّارِ فِي

الْعُقْبَى كَالْجَنَّةِ، فَفِيهِ تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ أَنَّ مَثَلَهُ اسْتِعَارَةٌ، فَمَنْ كَانَ الصَّوْمُ جُنَّتَهُ سَدَّ طُرُقَ الشَّيَاطِينِ عَنْ قَلْبِهِ فَيَكْشِفُ بَعْدَ إِزَالَةِ ظُلْمَتِهِمْ، يَرَى بِنُورِ الْغَيْبِ خَزَائِنَ لَطَائِفِ حُكْمِ الصِّفَاتِ فَيَسْتَتِرُ بِأَنْوَارِهَا عَنْ جَمِيعِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْآفَاتِ. ( «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ» ) أَيِ الَّتِي تَجُرُّ إِلَى النَّارِ. يَعْنِي تُذْهِبُهَا وَتَمْحُو أَثَرَهَا أَيْ إِذَا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَتَدْفَعُ تِلْكَ الْحَسَنَةَ إِلَى خَصْمِهِ عِوَضًا عَنْ مَظْلِمَتِهِ ( «كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» ) لِتَنَافِي آثَارِهِمَا بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ، إِذِ الْأَشْيَاءُ لَا تَعْمَلُ بِطَبْعِهَا، فَلَا الْمَاءُ يُرْوَى، وَلَا الْخُبْزُ يُشْبِعُ، وَلَا النَّارُ تُحْرِقُ. (وَصَلَاةُ الرَّجُلِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ (فِي جَوْفِ اللَّيْلِ) كَذَلِكَ، أَيْ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، أَوْ هِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَدَّرَ الْخَبَرُ شِعَارَ الصَّالِحِينَ كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ (ثُمَّ تَلَا) أَيْ قَرَأَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة: 16] أَيْ تَتَبَاعَدُ، وَفِي النِّسْبَةِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى {عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] أَيِ الْمَفَارِشِ وَالْمَرَاقِدِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ إِحْيَاءُ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة: 16] بِالصَّلَاةِ، وَالذِّكْرِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالدُّعَاءِ {خَوْفًا} [السجدة: 16] مِنْ سَخَطِهِ {وَطَمَعًا} [السجدة: 16] فِي رَحْمَتِهِ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [السجدة: 16] وَبَعْضِ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ {يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] يَصْرِفُونَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ أَيْ أَنَّهُمْ جَامِعُونَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، عَابِدُونَ زَاهِدُونَ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} [السجدة: 17] أَيْ لَا مَلِكَ وَلَا نَبِيَّ {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} [السجدة: 17] جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مَاضٍ مَجْهُولٌ، وَقُرِئَ بِهَمْزَةٍ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْلُومِ {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] مِنَ اللَّذَّاتِ الَّتِي تَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ، وَتَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: ( «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ» ) (حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ) وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] أَيْ جُوزُوا جَزَاءً بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ وَبِمُقَابَلَةِ أَفْعَالِهِمْ وَمُوَافَقَةٍ لِأَحْوَالِهِمْ. (ثُمَّ قَالَ) أَيْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( «أَلَا أَدُلُّكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ» ) أَيْ مُخْبِرًا بِأَصْلِ كُلِّ أَمْرٍ (وَعَمُودِهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ مَا يَقُومُ بِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ (وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ؟) : الذِّرْوَةُ بِكَسْرِ الذَّالِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبِضَمِّهَا، وَحُكِيَ فَتْحُهَا - أَعْلَى الشَّيْءِ، وَالسَّنَامُ - بِالْفَتْحِ - مَا ارْتَفَعَ مِنْ ظَهْرِ الْجَمَلِ قَرِيبَ عُنُقِهِ ( «قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ» ) أَيْ أَمْرُ الدِّينِ (الْإِسْلَامُ) يَعْنِي الشَّهَادَتَيْنِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْمَقْلُوبِ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ الْإِسْلَامِ بِرَأْسِ الْأَمْرِ؛ لِيَشْعُرَ بِأَنَّهُ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ فِي احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ بَقَائِهِ دُونَهُ (وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ) : يَأْتِ الْإِسْلَامُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ وَكَمَالٌ كَالْبَيْتِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَمُودٌ، فَإِذَا صَلَّى وَدَاوَمَ قَوِيَ دِينُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِفْعَةٌ، فَإِذَا جَاهَدَ حَصَلَ لِدِينِهِ رِفْعَةً، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ) وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى صُعُوبَةِ الْجِهَادِ وَعُلُوِّ أَمْرِهِ وَتَفَوُّقِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَالْجِهَادُ مِنَ الْجَهْدِ - بِالْفَتْحِ - وَهُوَ الْمَشَقَّةُ، أَوْ بِالضَّمِّ وَهُوَ الطَّاقَةُ؛ لِأَنَّهُ يَبْذُلُ الطَّاقَةَ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ عِنْدَ فِعْلِ الْعَدُوِّ مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ بِضَمِّ جُهْدِهِ إِلَى جُهْدِ أَخِيهِ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ كَالْمُسَاعَدَةِ، وَهِيَ ضَمُّ سَاعِدِهِ إِلَى سَاعِدِ أَخِيهِ لِتَحْصِيلِ الْقُوَّةِ، وَلَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ جِهَادِ الْأَعْدَاءِ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَجِهَادُ النَّفْسِ بِحَمْلِهَا عَلَى اتِّبَاعِ الْأَحْكَامِ، وَتَرْكِ الْحُظُوظِ، وَتَكْلِيفِ الْخَصْلَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُفْرِطَةِ خِلَافَ مُقْتَضَاهَا، وَالْعَمَلِ بِنَقِيضِ مُوجِبِهَا حَتَّى اعْتَدَلَتْ وَتَنَاسَقَتْ قُوَّةُ الْعِلْمِ وَالْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْعَدْلِ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْأَوَّلِ؛ وَلِذَا وَرَدَ: ( «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْأَكْبَرِ» ) ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ كَالْمَلِكِ فِي دَاخِلِ الْإِنْسَانِ، وَعَسْكَرُهُ الرُّوحُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ وَالْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا عَمْيَاءُ لَا تُبْصِرُ الْمَهَالِكَ، وَلَا تُمَيِّزُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ إِلَى أَنْ يُنَوِّرَ اللَّهُ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ بَصِيرَتَهَا، فَتُبْصِرُ الْأَعْدَاءَ وَالْمَعَارِفَ، وَتَجِدُ الْبُنْيَانَ الْإِنْسَانِيَّ مَمْلُوءًا مِنْ خَنَازِيرِ الْحِرْصِ، وَتَكَالُبِ الْكَلْبِ، وَنَمِرِ الْغَضَبِ، وَالشَّهْوَةِ الْحِمَارِيَّةِ، وَحَيَّةِ الشَّيْطَانِ، فَكَنَسَتْهَا مِنَ الرَّذَائِلِ وَزَيَّنَتْهَا بِالْفَضَائِلِ، وَأَمَّا جِهَادُ الْقَلْبِ فَتَصْفِيَتُهُ وَقَطْعُ تَعَلُّقِهِ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَجِهَادُ الرُّوحِ بِإِفْنَاءِ الْوُجُودِ فِي وُجُودِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. (ثُمَّ قَالَ) أَيْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟) : الْمِلَاكُ مَا بِهِ إِحْكَامُ الشَّيْءِ أَوْ تَقْوِيَتُهُ، مِنْ مَلَكَ الْعَجِينَ إِذَا أَحْسَنَ عَجْنَهُ وَبَالَغَ فِيهِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَكْسِرُونَ الْمِيمَ وَيَفْتَحُونَهَا، وَالرِّوَايَةُ بِالْكَسْرِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ إِلَى هَذَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: " كُلِّهِ "؛ لِئَلَّا يُظَنَّ خِلَافُ الشُّمُولِ، أَيْ بِمَا تَقُومُ بِهِ تِلْكَ

الْعِبَادَاتُ جَمِيعُهَا. (قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ) لَا يَخْفَى مُنَاسَبَةُ نَبِيِّ اللَّهِ بِالْإِخْبَارِ كَمُنَاسَبَةِ الرِّسَالَةِ بِالدَّلَالَةِ (فَأَخَذَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِلِسَانِهِ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: الْبَاءُ لِتَضْمِينِ مَعْنَى التَّعَلُّقِ (وَقَالَ: كُفَّ) الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ امْنَعْ (عَلَيْكَ هَذَا) : إِشَارَةٌ إِلَى اللِّسَانِ أَيْ لِسَانَكَ الْمُشَافِهَ لَهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَنْصُوبِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِـ " عَلَى " لِلتَّضْمِينِ أَوْ بِمَعْنَى " عَنْ "، وَإِيرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِمَزِيدِ التَّعْيِينِ أَوْ لِلتَّحْقِيرِ، وَهُوَ مَفْعُولُ كُفَّ، وَإِنَّمَا أَخَذَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِلِسَانِهِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اكْتِفَاءٍ بِالْقَوْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللِّسَانِ صَعْبٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَتَكَلَّمْ بِمَا لَا يَعْنِيكَ؛ فَإِنَّ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَلِكَثْرَةِ الْكَلَامِ مَفَاسِدُ لَا تُحْصَى، وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فَعَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ، وَلِذَا قَالَ الصِّدِّيقُ: لَيْتَنِي كَنْتُ أَخْرَسَ إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. (قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ) : أَتَقُولُ هَذَا؟ . (وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ) بِالْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ، أَيْ هَلْ يُؤَاخِذُنَا وَيُعَاقِبُنَا أَوْ يُحَاسِبُنَا رَبُّنَا (بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟) : يَعْنِي بِجَمِيعِهِ، إِذْ لَا يَخْفَى عَلَى مُعَاذٍ الْمُؤَاخَذَةَ بِبَعْضِ الْكَلَامِ (قَالَ) أَيْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ (يَا مُعَاذُ) أَيْ فَقَدْتُكَ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يُرَادُ وُقُوعُهُ، بَلْ هُوَ تَأْدِيبٌ وَتَنْبِيهٌ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَتَعْجِيبٌ وَتَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ، (وَهَلْ يَكُبُّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ مِنْ كَبَّهُ، إِذَا صَرَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ، بِخِلَافِ أَكَبَّ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ، وَهُوَ مِنَ النَّوَادِرِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: هَلْ تَظُنُّ غَيْرَ مَا قُلْتُ؟ وَهَلْ يَكُبُّ (النَّاسَ) أَيْ يُلْقِيهِمْ وَيُسْقِطُهُمْ وَيَصْرَعُهُمْ ( «فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ» ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَنْخِرُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا - ثَقْبُ الْأَنْفِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَنْفُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلنَّفْيِ، خَصَّهُمَا بِالْكَبِّ لِأَنَّهُمَا أَوَّلُ الْأَعْضَاءِ سُقُوطًا (إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) أَيْ مَحْصُودَاتُهَا، شَبَّهَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ بِالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِالْمِنْجَلِ، وَهُوَ مِنْ بَلَاغَةِ النُّبُوَّةِ، فَكَمَا أَنَّ الْمِنْجَلَ يَقْطَعُ وَلَا يُمَيِّزُ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ وَالْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ، فَكَذَلِكَ لِسَانُ بَعْضِ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْكَلَامِ حَسَنًا وَقَبِيحًا، وَالْمَعْنَى لَا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْقَذْفِ، وَالشَّتْمِ، وَالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْبُهْتَانِ، وَنَحْوِهَا. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ وَارِدٌ عَلَى الْأَغْلَبِ أَيْ عَلَى الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّكَ إِذَا جَرَّبْتَ لَمْ تَجْدِ أَحَدًا حَفِظَ لِسَانَهُ عَنِ السُّوءِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٍ يُوجِبُ دُخُولَ النَّارِ إِلَّا نَادِرًا، وَلَعَمْرُكَ إِنَّ هَذِهِ الْخَاتِمَةَ فَاتِحَةُ السَّعَادَةِ الْكُبْرَى، فَائِحَةٌ مِنْهَا نَسَائِمُ الْكَرَامَةِ الْعُظْمَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّرِيعَةِ فَكَفُّ اللِّسَانِ نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى حِفْظِهَا، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى الطَّرِيقَةِ فَهُوَ الرُّكْنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَالْقُطْبُ الْمُدَارُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا سَكَتَ اللِّسَانُ نَطَقَ الْقَلْبُ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْمُسَامَرَةُ مَعَ الرَّبِّ، وَيُمْطِرُ عَلَيْهِ سَحَائِبَ الرَّحْمَةِ بِقَطَرَاتِ النُّورِ، وَيَمْتَلِئُ مِنَ الْخُيُورِ وَالْحُبُورِ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ نِهَايَةُ مَرَاتِبِ السَّالِكِينَ وَغَايَةُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ؛ وَلِذَا وَرَدَ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ كَلَّ لِسَانُهُ، أَيْ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِ اللَّهِ، وَهُوَ فِي مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَكَلَّ لِسَانُهُ عَنْ مَقَامِ الدَّعْوَى، وَهُوَ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ، وَكَلَّ لِسَانُهُ عَنْ نَشْرِ حَالَةِ وَبَيَانِ مَقَامِهِ، وَهُوَ مَقَامُ صَوْلَةِ الْمَحَبَّةِ، وَعَنْ وَصْفِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ، وَهُوَ مَقَامُ الْحَيْرَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَقْصَى الدُّنُوِّ لَمَّا رَأَى الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَفَنَى عَنِ الصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ، وَوَجَدَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَقَاءَ: ( «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» ) ؛ لِأَنَّ ثَنَاءَهُ يَصْدُرُ عَنِ الْحُدُوثِيَّةِ، وَثَنَاءُ الْخَلِيقَةِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِمْ، ثُمَّ قَطَعَ لِسَانَ الثَّنَاءِ بِمِقْرَاضِ التَّنْزِيهِ عَجْزًا فِي جَلَالِ الْأَبَدِ، وَأَضَافَ ثَنَاءَهُ تَعَالَى إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ: ( «أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ) ، وَفِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ: احْفَظْ لِسَانَكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ... لَا يَلْدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعْبَانُ كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيلِ لِسَانِهِ ... كَانَتْ تَهَابُ لِقَاءَهُ الشُّجْعَانُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

30 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 30 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَفْخِيمِ الْمِيمِ، بَاهِلِيٌّ سَكَنَ بِمِصْرَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حِمْصَ وَمَاتَ بِهَا، وَكَانَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الرِّوَايَةِ، وَأَكْثَرُ حَدِيثِهِ عَنِ الشَّامِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِسَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَلَهُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَحَبَّ) أَيْ شَيْئًا أَوْ شَخْصًا، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِيَذْهَبَ الْوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ (لِلَّهِ) : لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، وَلَا لِشَهْوَةِ طَبْعِهِ وَهَوَاهُ

(وَأَبْغَضَ لِلَّهِ) كَذَلِكَ (وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ) وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، فَتَكَلَّمَ لِلَّهِ، وَسَكَتَ لِلَّهِ، وَاخْتَلَطَ بِالنَّاسِ لِلَّهِ، وَاعْتَزَلَ عَنِ الْخَلْقِ لِلَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام: 162] وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَفْعَالَ الْأَرْبَعَةَ لِأَنَّهَا حُظُوظٌ نَفْسَانِيَّةٌ، إِذْ قَلَّمَا يُمَحِّضُهَا الْإِنْسَانُ لِلَّهِ، فَإِذَا مَحَّضَهَا مَعَ صُعُوبَةِ تَمْحِيضِهَا كَانَ تَمْحِيضُ غَيْرِهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَلِذَا أَشَارَ إِلَى اسْتِكْمَالِ الدِّينِ بِتَمْحِيضِهَا بِقَوْلِهِ: (فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ) بِالنَّصْبِ أَيْ أَكْمَلَهُ، وَعُدِّيَ إِلَيْهِ لِلْمُبَالَغَةِ لِزِيَادَةِ السِّينِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لِتَجْرِيدِهِ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا آخَرَ يُطْلَبُ مِنْهُ إِكْمَالُ الْإِيمَانِ، وَنَظِيرُهُ: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] أَيْ يَطْلُبُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْفَتْحَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ أَيْ تَكَمَّلَ إِيمَانُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.

31 - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَعَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَفِيهِ: فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 31 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : لَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بَلْ (عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَعَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَفِيهِ) أَيْ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، أَوْ فِي مَرْوِيِّ مُعَاذٍ (فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ) بِالْإِضَافَةِ.

32 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 32 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ) أَيِ الْبَاطِنِيَّةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى حَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ وَالشُّهُودِ، فَـ " أَلْ " لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ؛ إِذِ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مُطْلَقًا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَتَيْنِ. (الْحُبُّ فِي اللَّهِ) أَيْ لِوَجْهِهِ وَفِي سَبِيلِهِ (وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ) أَيْ لِأَجْلِهِ وَفِي حَقِّهِ، وَالْعَطَاءُ وَالْمَنْعُ مُتَفَرِّعَانِ عَلَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ؛ وَلِذَا اكْتَفَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْأَصْلَيْنِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَهَذَا الرَّجُلُ الْمَجْهُولُ هُوَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي ذَرٍّ: ( «أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَشْرَفُ، بَلْ أَوْثَقُ؟» ) قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ( «الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» ) اهـ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُوَالَاةِ وَالْحُبِّ أَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَالْحُبُّ أَعَمُّ.

33 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 33 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ) : تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (وَالْمُؤْمِنُ) أَيِ الْكَامِلُ (مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ) : كَعَلِمَهُ أَيِ ائْتَمَنَهُ، يَعْنِي جَعَلُوهُ أَمِينًا وَصَارُوا مِنْهُ عَلَى أَمْنٍ (عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) لِكَمَالِ أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، وَعَدَمِ خِيَانَتِهِ، وَحَاصِلُ الْفِقْرَتَيْنِ إِنَّمَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَصْحِيحِ اشْتِقَاقِ الِاسْمَيْنِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُطَالِبَ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ فَهُوَ كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَرِيمٌ وَلَا كَرَمَ لَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ فِي التَّصْحِيحِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا السِّيَاقِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، بَلْ هُوَ مَقْطَعٌ فِيهَا، فَتَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: ( «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» ) وَبَاقِيُّهُ جَاءَ مُقَطَّعًا فِي السُّنَنِ مِنْ

حَدِيثِ فَضَالَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِإِسْنَادِهِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الْمُؤْمِنَ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَهُوَ حَدِيثٌ جَلِيلٌ اشْتَمَلَ عَلَى أُصُولٍ كَثِيرَةٍ فِي الدِّينِ يَطُولُ ذِكْرُهَا.

34 - وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " بِرِوَايَةِ فَضَالَةَ: " «وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 34 - (وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِرِوَايَةِ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ هُوَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ، ثُمَّ شَهِدَ مَا بَعْدَهَا، وَبَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّامِ فَسَكَنَ دِمَشْقَ، وَقَضَى بِهَا لِمُعَاوِيَةَ زَمَنَ خُرُوجِهِ بِصِفِّينَ، وَمَاتَ بِهَا فِي عَهْدِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، رَوَى عَنْهُ مَيْسَرَةُ مَوْلَاهُ، وَغَيْرُهُ. (وَالْمُجَاهِدُ) أَيِ الْحَقِيقِيُّ ( «مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ» ) إِذْ هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ، وَيَنْشَأُ مِنْهُ الْجِهَادُ الْأَصْغَرُ. (وَالْمُهَاجِرُ) أَيِ الْكَامِلُ ( «مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ» ) أَيْ تَرَكَ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ، وَقِيلَ: الذَّنْبُ أَعَمُّ مِنَ الْخَطِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَنْ عَمْدٍ بِخِلَافِ الْخَطِيئَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ التَّمَكُّنُ مِنَ الطَّاعَةِ بِلَا مَانِعٍ، وَالتَّبَرُّؤُ عَنْ صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي اكْتِسَابِ الْخَطَايَا، فَالْهِجْرَةُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا، فَالْمُهَاجِرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْمُتَجَانِبُ عَنْهَا.

35 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا قَالَ: " «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 35 - (وَعَنْ أَنَسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَ) : " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ قَلَّ خُطْبَةً خَطَبَنَا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَافَّةً، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ، أَيْ مَا وَعَظَنَا (إِلَّا قَالَ) أَيْ فِيهَا، وَلَعَلَّ الْحَصْرَ غَالِبِيٌّ. (لَا إِيمَانَ) أَيْ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ (لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ) : فِي النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَقِيلَ: فِيمَا اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي كُلِّفَ بِهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ} [الأحزاب: 72]

الْآيَةَ. وَالْإِنْسَانُ فِيهَا هُوَ آدَمُ ثُمَّ ذُرِّيَّتُهُ، وَمَعَ كَوْنِهِ ظَلُومًا أَيْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْتِزَامِهِ بِحَمْلِ مَا فِيهِ كُلْفَةً عَظِيمَةً عَلَيْهَا الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ قِيَامِهَا بِهِ لَا سِيَّمَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ - جَهُولًا؛ لِأَنَّهُ جَهِلَ خَطَرَ تِلْكَ الْأَمَانَةِ وَمَشَقَّةَ رِعَايَتِهَا عِنْدَ تَحَمُّلِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا انْتَفَى كَمَالُ الدِّينِ بِانْتِفَائِهَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ، وَالْأَبْضَاعِ، وَالنُّفُوسِ، وَهَذِهِ فَوَاحِشُ تُنْقِصُ الْإِيمَانَ وَتَقْهَرُهُ إِلَى أَلَّا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا أَقَلُّهُ، بَلْ رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى الْكُفْرِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ (وَلَا دِينَ) ] عَلَى طَرِيقِ الْيَقِينِ (لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ) بِأَنْ غَدَرَ فِي الْعَهْدِ وَالْيَمِينِ، قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ وَأَمْثَالُهُ وَعِيدٌ لَا يُرَادُ بِهِ الِانْقِلَاعُ بَلِ الزَّجْرُ وَنَفْيُ الْفَضِيلَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَادَ هَذِهِ الْأُمُورَ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ ثَانِي الْحَالِ فِي الْكُفْرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: ( «مَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» ) . (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَكَذَا رَوَاهُ مُحْيِي السُّنَّةِ أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ بِإِسْنَادِهِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِزِيَادَاتٍ لَا بَأْسَ بِذِكْرِهَا، وَلَفْظُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْتَقِيمُ دِينُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) . فَقِيلَ: مَا الْبَوَائِقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (غَشْمُهُ، وَظُلْمُهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَصَابَ مَالًا مِنْ حَرَامٍ وَأَنْفَقَ مِنْهُ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَمَا بَقِيَ فَزَادُهُ إِلَى النَّارِ، أَلَا إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يُكَفِّرُ الْخَبِيثَ، وَلَكِنَّ الطَّيِّبَ يُكَفِّرُ» ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 36 - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ الْمُرَادُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُلْحَقَةُ بِالْبَابِ، أَلْحَقَهَا صَاحِبُ الْكِتَابِ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِأَنْ تَكُونَ مِمَّا أَخْرَجَهَا الشَّيْخَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَلَا بِأَنْ تَكُونَ عَنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ. 36 - (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ) هَذَا مِمَّا يَتَكَرَّرُ كَثِيرًا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَنْصُوبَيْنِ بَعْدَ " سَمِعْتُ "، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ مَفْعُولٌ، وَجُمْلَةُ يَقُولُ حَالٌ، أَيْ سَمِعْتُ كَلَامَهُ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَقَعُ عَلَى الذَّوَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الْمَحْذُوفِ بِالْحَالِ الْمَذْكُورَةِ، فَهِيَ حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، وَاخْتَارَ الْفَارِسِيُّ أَنَّ مَا بَعْدَ " سَمِعْتُ " إِنْ كَانَ مِمَّا يُسْمَعُ كَـ " سَمِعْتُ الْقُرْآنَ " تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا كَمَا هُنَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَجُمْلَةُ " يَقُولُ " عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقِيلَ: يَنْبَغِي جَوَازُ حَذْفِ " يَقُولُ " هَذَا خَطًّا، كَمَا يَجُوزُ حَذْفُ " قَالَ " خَطًّا فِي نَحْوِ " حَدَّثَنَا " مَفْعُولُ " قَالَ " أَيْ: قَالَ حَدَّثَنَا، وَرُدَّ بِأَنَّ حَذْفَ " يَقُولُ " مُلْبِسٌ؛ لِأَنَّهُ يَدْرِي حِينَئِذٍ أَهْوَ يَقُولُ أَمْ قَالَ، بِخِلَافِ حَذْفِ " قَالَ " مِمَّا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ فَلَا يُلْبِسُ، وَمِنْ ثَمَّ جُوِّزَ حَذْفُهَا حَتَّى فِي الْقِرَاءَةِ كَمَا صَحَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ، وَالنَّوَوِيُّ. (مَنْ شَهِدَ) أَيْ بِلِسَانِهِ مُطَابِقًا لِجَنَانِهِ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَالْتَزَمَ جَمِيعَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) وَقَبِلَ مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ) أَيِ الْخُلُودَ فِيهَا كَالْكُفَّارِ، بَلْ مَآلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ مَعَ الْأَبْرَارِ، وَلَوْ عَمِلَ مَا عَمِلَ مِنْ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ، وَكَذَا دُخُولُهَا إِنْ مَاتَ مُطِيعًا، وَأَمَّا إِذَا مَاتَ فَاسِقًا فَهُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ التَّلَفُّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ حُكِيَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا حِكَايَةَ النَّوَوِيِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْأَوَّلِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَتَقَرَّرَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

37 - وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 37 - (وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَيُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيُّ الْقُرَشِيُّ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَتَيْنِ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّفَ بِمَرَضِ رُقَيَّةَ بِنْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا بِسَهْمٍ، وَلَمْ يَشْهَدِ الْحُدَيْبِيَةَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَعْثَهُ إِلَى مَكَّةَ فِي أَمْرِ الصُّلْحِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْبَيْعَةُ ضَرَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى يَدِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ، وَسُمِّي ذَا النُّورَيْنِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ بِنْتَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ. كَانَ أَبْيَضَ، رَبْعَةً، حَسَنَ الْوَجْهِ، اسْتُخْلِفَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَتَلَهُ الْأَسْوَدُ النَّجِيبِيُّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَقِيلَ: غَيْرُهُ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ السَّبْتِ بِالْبَقِيعِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعُمْرِ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةً سَنَةً إِلَّا أَيَّامًا. وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ) أَيْ عِلْمًا يَقِينًا سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْإِقْرَارِ اللِّسَانِيِّ وَأَقَرَّ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَاكْتَفَى بِالْقَلْبِ، أَوْ جَهِلَ وُجُوبَهُ، أَوْ لَمْ يُطَالِبْ بِهِ، أَوْ أَتَى بِهِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي تَلَفُّظُهُ بِهِ (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَمٌ لِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهَا (دَخَلَ الْجَنَّةَ) إِمَّا دُخُولًا أَوَّلِيًّا إِنْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ ذَنْبٌ بَعْدَ الْإِيمَانِ، أَوْ أَذْنَبَ وَتَابَ، أَوْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. أَوْ دُخُولًا أُخْرَوِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، أَوْ مَعْنَاهُ اسْتَحَقَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ: مَنْ يُوجَدُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ فَقَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ بِاللِّسَانِ أَوْ يَشْتَغِلَ بِالْعِبَادَةِ مَاتَ، فَهَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ، فَمَنْ شَرَطَ الْقَوْلَ لِتَمَامِ الْإِيمَانِ يَقُولُ: هَذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِيمَانِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ إِذْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ» ) وَهَذَا قَلْبُهُ طَافِحٌ بِالْإِيمَانِ، وَمَنْ صَدَّقَ بِالْقَلْبِ وَسَاعَدَهُ الْوَقْتُ لِلنُّطْقِ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، وَعَلِمَ وُجُوبَهُمَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِمَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ امْتِنَاعُهُ عَنِ النُّطْقِ بِمَنْزِلَةِ امْتِنَاعِهِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَيُقَالُ: هُوَ مُؤْمِنٌ غَيْرُ مُخَلَّدٍ فِي النَّارِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ إِمَّا شَرْطٌ لِلْإِيمَانِ، أَوْ شَطْرٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ لِلْإِيمَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَأَنَّهُ عِنْدَ الْإِمَامِ مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قِيلَ بِكُفْرِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَوْ عَبَّرَ بِتَرْكِهِ بَدَلَ امْتِنَاعِهِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

38 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثِنْتَانِ مُوجِبَتَانِ " قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ قَالَ: " مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ، وَمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 38 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) هُوَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ، مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ، وَأَحَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الرِّوَايَةِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِيَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَقَدِمَ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَكُفَّ بَصَرُهُ آخِرَ عُمْرِهِ. رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلٍ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثِنْتَانِ) صِفَةُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ خَصْلَتَانِ (مُوجِبَتَانِ) يُقَالُ: أَوْجَبَ الرَّجُلُ إِذَا عَمِلَ مَا يَجِبُ بِهِ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ، وَيُقَالُ لِلْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ: مُوجِبَةٌ، فَالْوُجُوبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْعَمَلِ ( «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُوجِبَتَانِ؟» ) أَيِ السَّبَبَانِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ( «قَالَ: مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ» ) :

فَالْمَوْتُ عَلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ وَخُلُودِهَا ( «وَمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ) فَالْمَوْتُ عَلَى التَّوْحِيدِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

39 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي نَفَرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا، وَخَشِيَنَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا، وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلْأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ، فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا فَلَمْ أَجِدْ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ - وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ - قَالَ: فَاحْتَفَزْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَبُو هُرَيْرَةَ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَا شَأْنُكَ؟ " قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا، فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا، فَفَزِعْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَاءَ الْحَائِطِ، فَقَالَ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ "، وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ، فَقَالَ: " اذْهَبْ بِنَعْلَيْ هَاتَيْنِ، مَنْ لَقِيتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيتُ عُمَرَ، فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قُلْتُ هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَنِي بِهِمَا؛ مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَضَرَبَ عُمَرُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَخَرَرْتُ لِاسْتِي. فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجْهَشْتُ بِالْبُكَاءِ، وَرَكِبَنِي عُمَرُ وَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ "، فَقُلْتُ: لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثَتْنِي بِهِ، فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لِاسْتِي فَقَالَ: ارْجِعْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عُمَرُ! مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَخَلِّهِمْ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 39 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا قُعُودًا) أَيْ ذَوِي قُعُودٍ، أَوْ قَاعِدِينَ (حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) بِالرَّفْعِ (فِي نَفَرٍ) أَيْ مَعَ جَمَاعَةٍ، أَوْ فِي جُمْلَةٍ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ( «فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا» ) : أَظْهُرٌ زَائِدٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ مِنْ بَيْنِنَا (فَأَبْطَأَ) : بِالْهَمْزَةِ (عَلَيْنَا) أَيْ مَكَثَ وَتَوَقَّفَ عَنَّا كَثِيرًا (وَخَشِيَنَا) : الْخَشْيَةُ خَوْفٌ مِنْ تَعْظِيمٍ (أَنْ يُقْتَطَعَ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ مِنْ أَنْ يُقْتَطَعَ، وَقَوْلُهُ: (دُونَنَا) حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي " يُقْتَطَعَ " أَيْ خَشِينَا أَنْ يُصَابَ بِمَكْرُوهٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ مُتَجَاوِزًا عَنَّا وَبَعِيدًا مِنَّا، وَفِي الْكَشَّافِ مَعْنَى " دُونَ " أَدْنَى مَكَانِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الشَّيْءُ الدُّونُ، وَاسْتُعِيرَ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ وَالرُّتَبِ. يُقَالُ: زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو فِي الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ تَجَاوُزِ حَدٍّ إِلَى حَدٍّ (وَفَزِعْنَا) أَيِ اضْطَرَبْنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطَفَ أَحَدَ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِإِرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر: 9] أَيْ كَذَّبُوهُ تَكْذِيبًا غِبَّ تَكْذِيبٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُغَايَرَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْخَشْيَةِ عَلَى خَوْفِ الْبَاطِنِ، وَالْفَزَعِ عَلَى اضْطِرَابِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ لَاسِيَّمَا مَعَ تَغَايُرِ اللَّفْظَيْنِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَفَزِعْنَا، وَوَجْهُ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ أَنَّ الثَّانِيَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ، فَهُوَ سَبَبٌ لَهُ (فَقُمْنَا) أَيْ لِلتَّجَسُّسِ وَالتَّفَحُّصِ (فَكُنْتُ) أَيْ لِكَثْرَةِ خَشْيَتِي عَلَيْهِ (أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ) وَقَامَ لِلطَّلَبِ (فَخَرَجْتُ) أَيْ مِنَ الْمَجْلِسِ (أَبْتَغِي) أَيْ أَطْلُبُ (رَسُولَ اللَّهِ) : أَتَتَبَّعُ أَثَرَهُ وَخَبَرَهُ؛ لِأَعْلَمَ حَقِيقَةَ إِبْطَائِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا) أَيْ بُسْتَانًا لَهُ حِيطَانٌ أَيْ جُدْرَانٌ (لِلْأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ عَامٍّ، أَوْ بَدَلُ بَعْضٍ أَيْ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ (فَدُرْتُ بِهِ) أَيْ بِحَوْلِ الْحَائِطِ قَائِلًا فِي نَفْسِي: (هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا؟) أَدْخَلَ مِنْهُ (فَلَمْ أَجِدْ) لَهُ بَابًا (فَإِذَا) : إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ فَاجَأَ عَدَمَ وُجُودِي لِلْبَابِ رُؤْيَةُ (رَبِيعٌ) : نَهْرٌ صَغِيرٌ (يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ) أَيْ بُسْتَانٍ آخَرَ إِلَى ذَلِكَ الْحَائِطِ، أَوْ فِي جَوْفِ جِدَارٍ مِنْ جُدْرَانِ ذَلِكَ الْحَائِطِ، مُبْتَدَأٌ، أَوْ مُسْتَمَدُّ ذَلِكَ النَّهْرُ (مِنْ بِئْرٍ) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (خَارِجَةٍ) ضَبَطْنَاهُ بِالتَّنْوِينِ فِي بِئْرٍ وَخَارِجَةٍ، وَعَلَى أَنَّ " خَارِجَةٍ " صِفَةٌ لِبِئْرٍ، هَكَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ رُوِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالثَّانِي: بِتَنْوِينٍ فِي بِئْرٍ وَهَاءٍ مَضْمُومَةٍ فِي خَارِجِهِ، وَهِيَ هَاءُ ضَمِيرٍ لِلْحَائِطِ أَيِ الْبِئْرُ فِي مَوْضِعٍ خَارِجٍ عَنِ الْحَائِطِ، وَالثَّالِثُ: بِإِضَافَةِ بِئْرٍ إِلَى خَارِجَةٍ، آخِرُهُ تَاءُ الثَّانِي، وَهُوَ اسْمُ رَجُلٍ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ الظَّاهِرُ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ، وَقِيلَ: الْبِئْرُ هُنَا الْبُسْتَانُ، سُمِّيَتْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْآبَارِ، يَقُولُونَ: بِئْرُ بُضَاعَةَ، وَبِئْرُ خَارِجَةَ، وَهُمَا بُسْتَانَانِ

وَالْحَائِطُ هُنَا الْبُسْتَانُ مِنَ النَّخْلِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ جِدَارٌ. (وَالرَّبِيعُ: الْجَدْوَلُ) : هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (قَالَ) أَبُو هُرَيْرَةَ (فَاحْتَفَزْتُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ بِالزَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَمَعْنَاهُ تَضَامَمْتُ لِيَسَعَنِي الْمَدْخَلُ (فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (أَبُو هُرَيْرَةَ) أَيْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَأَنْتَ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ غَائِبًا عَنْ بَشَرِيَّتِهِ بِسَبَبِ إِيحَاءِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ فَلَمْ يَشْعُرْ بِأَنَّهُ هُوَ، وَإِمَّا لِلتَّقْرِيرِ وَهُوَ ظَاهِرُ، وَإِمَّا لِلتَّعَجُّبِ لِاسْتِغْرَابِهِ أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ دَخَلَ عَلَيْهِ وَالطُّرُقُ مَسْدُودَةٌ (قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ (قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟) بِالْهَمْزِ، وَيَعْدِلُ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ حَالُكَ، وَمَا سَبَبُ مَأْتَاكَ وَاضْطِرَابِكَ؟ (قُلْتُ: كُنْتُ) أَيْ أَنْتَ (بَيْنَ أَظْهُرِنَا) أَيْ كَانَ ظُهُورُنَا مُسْتَنِدَةً إِلَيْكَ، وَقُلُوبُنَا مُعْتَمِدَةً عَلَيْكَ، وَصُدُورُنَا مُنْشَرِحَةً لَدَيْكَ (فَقُمْتَ) أَيْ عَنَّا (فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا) وَفَتَحْتَ بَابَ الِاضْطِرَابِ لَدَيْنَا (فَخَشِينَا) : عَلَيْكَ أَوَّلًا، وَعَلَيْنَا ثَانِيًا (أَنْ تُقْتَطَعَ) أَيْ يَقْطَعَكَ أَعْدَاؤُكَ عَنْ أَحْبَابِكَ وَتَهْلَكَ (دُونَنَا) أَيْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِنَا، أَوْ دُونَ أَنْ نَهْلَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ لِأَجْلِكَ (فَفَزِعْنَا) أَيْ لِذَلِكَ، وَتَسَارَعْنَا إِلَى تَعَرُّفِ خَبَرِكَ (فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ) مِنَ الْمُشْتَاقِينَ، وَأَوَّلَ مَنْ قَامَ مِنَ الْخَائِفِينَ (فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ) بِنَاءً عَلَى ظَنِّي أَنَّكَ فِيهِ (فَاحْتَفَزْتُ) لَمَّا لَمْ أَجِدْ لَهُ بَابًا (كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ) فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلَبِ (وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي) أَيْ يَنْتَظِرُونَ عِلْمَ مَا وَقَعَ لَكَ، وَهُوَ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] (قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) يُقْرَأُ بِالْهَمْزِ وَلَا يُكْتَبُ (وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ) الْجُمْلَةُ حَالٌ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبِشَارَةِ لِلْمُحِبِّينَ (قَالَ) تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ (اذْهَبْ بِنَعْلَيْ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (هَاتَيْنِ) تَأْكِيدٌ لِلتَّنْبِيهِ، وَلَعَلَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَصَلَ لَهُ التَّجَلِّي الطُّورِيُّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ النُّورِيِّ فَخَلَعَ النَّعْلَيْنِ، وَأَعْطَى لِأَصْحَابِهِ الْكَوْنَيْنِ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى ثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَبَذْلِهِمُ الْجُهْدَ فِي السَّعْيِ إِلَيْهِ بِأَقْدَامِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ فَائِدَةَ بِعْثَةِ النَّعْلَيْنِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مَقْبُولًا بِدُونِ ذَلِكَ، وَتَخْصِيصَهَا بِالْإِرْسَالِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُهُمَا، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ بِعْثَتَهُ وَقُدُومَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَبْشِيرًا وَتَسْهِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ، وَرَفْعًا لِلْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى ثَبَاتِ الْقَدَمِ وَالِاسْتِقَامَةِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِهِ، وَأَسْرَارِ أَبْرَارِهِ. (فَمَنْ لَقِيَكَ) أَيْ رَآكَ أَوْ رَأَيْتَهُ (مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ) : قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ، أَوِ الْمُرَادُ إِيمَانٌ غَيْبِيٌّ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُخْلِصُ عَنِ الْمُنَافِقِ (يَشْهَدُ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : وَيَلْزَمُ مِنْهُ شَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (مُسْتَيْقِنًا بِهَا) أَيْ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ (قَلْبُهُ) أَيْ مُنْشَرِحًا بِهَا صَدْرُهُ غَيْرَ شَاكٍّ وَمُتَرَدِّدٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ (فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) مَعْنَاهُ أَخْبِرْ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذِهِ صِفَتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِلَّا فَأَبُو هُرَيْرَةَ لَا يَعْلَمُ اسْتِيقَانَهُمْ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اعْتِقَادَ التَّوْحِيدِ لَا يَنْفَعُ دُونَ النُّطْقِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ أَوْ عِنْدَ الطَّلَبِ، وَلَا النُّطْقَ دُونَ الِاعْتِقَادِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْهُمَا، غَايَتَهُ أَنَّ النُّطْقَ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّهُ شَرْطٌ أَوْ شَطْرٌ، وَقَدْ يَسْقُطُ بِعُذْرٍ، وَذِكْرُ الْقَلْبِ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ وَنَفْيُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ، وَإِلَّا فَالِاسْتِيقَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي. (فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيتُ) أَيْ مِنَ النَّاسِ (عُمَرَ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَقِيلَ: مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْمِيَّةِ وَ " أَوَّلُ " بِالْعَكْسِ، قِيلَ: وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ وَصْفٌ وَهُوَ بِالْخَبَرِيَّةِ أَحْرَى (فَقَالَ) مُبَادِرًا (مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ) أَيْ شَأْنُهُمَا وَخَبَرُهُمَا (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قُلْتُ: هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَنِي بِهِمَا) حَالَ كَوْنِي قَائِلًا، أَوْ مُبَلِّغًا أَوْ مَأْمُورًا بِأَنَّ (مَنْ لَقِيتُ) أَيْ أَنَا ( «يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَضَرَبَ عُمَرُ» ) لَا بُدَّ هُنَا مِنْ تَقْدِيرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنَ السِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ، يَعْنِي: فَقَالَ عُمَرُ: ارْجِعْ؛ قَصْدًا لِلْمُرَاجَعَةِ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَنَصِّهِ الْمُطَابِقِ لِلصَّوَابِ، فَأَبَيْتُ وَامْتَنَعْتُ عَنْ حُكْمِهِ امْتِثَالًا لِظَاهِرِ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُقَدَّمِ عَلَى كُلِّ أَمْرِ آمِرٍ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ (بَيْنَ ثَدْيَيَّ) بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ فِي صَدْرِي؛ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ ضَرْبُهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ (فَخَرَرْتُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ (لِاسْتِي) هَمْزَةُ وَصْلٍ، أَيْ سَقَطْتُ عَلَى مَقْعَدِي مِنْ شِدَّةِ ضَرْبِهِ لِي (فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) تَأْكِيدًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ فِعْلُ عُمَرَ وَمُرَاجَعَتُهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِرَاضًا عَلَيْهِ وَرَدًّا لِأَمْرِهِ؛ إِذْ لَيْسَ مَا بَعَثَ بِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَّا لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَبُشْرَاهُمْ، فَرَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ كَتْمَهُ هَذَا أَصْلَحُ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا اهـ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، وَرَحِيمًا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَمَظْهَرًا لِلْجَمَالِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَطَبِيبًا لِأُمَّتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَمَّا بَلَغَهُ خَوْفَهُمْ وَفَزَعَهُمْ وَاضْطِرَابَهُمْ أَرَادَ مُعَالَجَتَهُمْ بِإِشَارَةِ الْبِشَارَةِ؛ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ وَالنِّذَارَةِ، فَإِنَّ الْمُعَالَجَةَ بِالْأَضْدَادِ، وَلَمَّا كَانَ عُمَرُ مَظْهَرًا لِلْجَلَالِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْخَلْقِ التَّكَاسُلُ وَالِاتِّكَالُ، فَرَأَى أَنَّ الْأَصْلَحَ لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ الْمَعْجُونُ الْمُرَكَّبُ، بَلْ غَلَبَةُ الْخَوْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ أَنْسَبُ فَوَافَقَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ عَلِيَّةٌ وَمَزِيَّةٌ جَلِيَّةٌ لِعُمْرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكَانَ وَجْهُ اسْتِبَاحَةِ عُمَرَ لِذَلِكَ أَنَّهُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْخِ وَالْمُعَلِّمِ، وَلِلشَّيْخِ وَالْمُعَلِّمِ أَنْ يُؤَدِّبَ الْمُتَعَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذَا رَأَى مِنْهُ خِلَافَ الْأَدَبِ، وَهُوَ هُنَا الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِشَاعَةِ هَذَا الْخَبَرِ قَبْلَ تَفَهُّمِ الْمُرَادِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ إِشْكَالِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنِ اتِّكَالِ النَّاسِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْأَعْمَالِ، وَكَانَ حَقُّهُ إِذَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ أَنْ يَتَفَهَّمَ الْمُرَادَ بِهِ لِيُورِدَهُ فِي مَوَارِدِهِ دُونَ غَيْرِهَا، فَاقْتَضَى اجْتِهَادُ عُمَرَ أَنَّ إِخْلَالَهُ بِذَلِكَ مُقْتَضٍ لِتَأْدِيبِهِ، فَأَدَّبَهُ بِذَلِكَ. فَتَطْوِيلٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، فَإِنَّهُ مَعَ تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَ كُلَّهُ لَا يُعْقَلُ ضَرْبُهُ ابْتِدَاءً مِنَ الشَّيْخِ الْحَقِيقِيِّ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ أَيْضًا: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عُمَرَ اسْتَبْعَدَ صُدُورَ هَذَا الْعُمُومِ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي: أَبَعَثْتَ إِلَخْ. وَنَسَبَهُ إِلَى تَصَرُّفِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَدَّبَهُ لِذَلِكَ - مُسْتَبْعَدٌ غَايَةَ الْبُعْدِ؛ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى سُوءِ الظَّنِّ، وَعَدَمِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدِّيَانَاتِ، وَمَعَ هَذَا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ ضَرْبُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنَّ لِلْأَفَاضِلِ مِنَ الْأَتْبَاعِ تَأْدِيبُ مَنْ دُونَهُمْ إِذَا كَانُوا لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ التَّلَامِذَةِ، وَأَنَّ لِلشَّيْخِ أَنْ يُؤَدِّبَ تِلْمِيذَهُ وَلَوْ بِالضَّرْبِ، وَنَقَلَ جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّتِهِ اهـ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّرْبَ عَلَى عَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ أَوْ عَلَى سُوءِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجْهَشْتُ بِالْبُكَاءِ) وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَالْبُكَاءُ إِمَّا لِشِدَّةِ الْإِيلَامِ أَوْ لِقِلَّةِ الِاحْتِرَامِ. وَيُرْوَى " جَهِشْتُ " بِكَسْرِ الْهَاءِ وَغَيْرِ هَمْزٍ، وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَكَلَاهُمَا بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَالْجَهْشُ كَالْإِجْهَاشِ أَنْ يَفْزَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى إِنْسَانٍ وَيَلْجَأَ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُرِيدُ الْبُكَاءَ كَمَا يَفْزَعُ الصَّبِيُّ إِلَى أُمِّهِ (وَرَكِبَنِي عُمَرُ) أَيْ أَثْقَلَنِي عَدْوُ عُمَرَ مِنْ بَعِيدٍ خَوْفًا وَاسْتِشْعَارًا مِنْهُ كَمَا يُقَالُ: رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ أَيْ أَثْقَلَتْهُ يَعْنِي تَبِعَنِي عُمَرُ (وَإِذَا هُوَ) أَيْ عُمَرُ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاءِ، بَيَانٌ لِوُصُولِهِ إِلَيْهِ أَيْ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ (عَلَى أَثَرِي) : فِيهِ لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ فَتْحُهُمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَكَسْرُ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونُ الثَّاءِ أَيْ عَقِبِي (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا لَكَ رَجَعْتَ) وَأَيُّ شَيْءٍ رَجَعَ بِكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُنْكَرَةِ؟ (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ . قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقُلْتُ (لَقِيتُ عُمَرَ فَأُخْبِرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثَتْنِي بِهِ فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لِاسْتِي فَقَالَ) أَيْ عُمَرُ (ارْجِعْ، قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ، بِالْفَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟) أَيْ مِنَ الْأَمْرِ بِالرُّجُوعِ، وَالْمَنْعِ مِنَ التَّبْلِيغِ (قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ قِيلَ: هُوَ اسْمٌ تَقْدِيرُهُ أَنْتَ مُفْدًى بِأَبِي، وَقِيلَ فِعْلٌ، أَيْ فَدَيْتُكَ بِأَبِي، وَحُذِفَ هَذَا الْمُقَدَّرُ تَخْفِيفًا؛ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِهِ (أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ؟) وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّحْقِيقِ (مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَيْ مَنْ لَقِيَهُ بَشَّرَهُ (بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ) أَيْ عُمَرُ (فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ، وَيَعْتَمِدُ الْعَامَّةُ عَلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْجَمَالِيَّةِ، وَيَتْرُكُوا الْقِيَامَ بِوَظَائِفَ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الصِّفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَنْخَرِمُ نِظَامُ الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى حَيْثُ أَكْثَرُهُمْ يَقَعُونَ فِي الْمِلَّةِ الْإِبَاحِيَّةِ كَمَا

هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْجَهَلَةِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ (فَخَلِّهِمْ) مِنْ غَيْرِ الْبِشَارَةِ (يَعْمَلُونَ) حَالٌ. فَإِنَّ الْعَوَامَّ إِذَا بُشِّرُوا يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ، بِخِلَافِ الْخَوَاصِّ فَإِنَّهُمْ إِذَا بُشِّرُوا يَزِيدُونَ فِي الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَخَلِّهِمْ) (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) كَانَ الْمُنَاسِبُ لِدَأْبِهِ أَنْ يَقُولَ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ مُسْلِمٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ اهْتِمَامُ الْأَتْبَاعِ بِحَالِ مَتْبُوعِهِمْ، وَالِاعْتِنَاءُ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ وَرَفْعِ مَفَاسِدِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ الْإِنْسَانِ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ لِمَوَدَّةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ دَخَلَ الْحَائِطَ وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْقِلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِدُخُولِ الْأَرْضِ بَلْ لَهُ انْتِفَاعٌ بِأَدَوَاتِهِ، وَأَكْلُ طَعَامِهِ، وَالْحَمْلُ مِنْ طَعَامِهِ إِلَى بَيْتِهِ، وَرُكُوبُ دَابَّتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ الطَّعَامَ وَنَحْوَهُ إِلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَشْبَاهِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدَّرَاهِمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُشَكُّ فِي رِضَاهُ بِهَا، وَفِيهِ جَوَازُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْآخَرِ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، سَوَاءٌ كَانَ الْمُفَدَّى بِهِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، أَوْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا.

40 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 40 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ لِي) فِي قَوْلِهِ: لِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ وَحْدَهُ، أَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأٌ، وَ " شَهَادَةُ " خَبَرُهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُطَابَقَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمِعًى جِيَاعًا جَعَلَ النَّاقَةَ الضَّامِرَةَ مِنَ الْجُوعِ كَأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ مِعَاهَا مِعًى وَاحِدٌ مِنْ شَدَّةِ الْجُوعِ، وَكَذَا جُعِلَتِ الشَّهَادَةُ الْمُسْتَتْبِعَةُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ كَأَسْنَانِ الْمَفَاتِيحِ، كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ مِفْتَاحٍ وَاحِدٍ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ الْجِنْسُ، فَشَهَادَةُ كُلِّ أَحَدٍ مِفْتَاحٌ لِدُخُولِهِ الْجَنَّةَ، إِمَّا ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، وَالْأَعْمَالُ إِنَّمَا هِيَ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَمَرَاتِبِ اللَّذَّاتِ فِي الْوِصَالِ، أَوْ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا كَانَتْ مِفْتَاحُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَكَأَنَّهَا مَفَاتِيحُ، أَوْ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَصْدَرٌ فَهُوَ لِشُمُولِهِ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ يُخْبَرُ بِهِ عَنِ الْجَمْعِ وَغَيْرِهِ، وَشَبَّهَ الشَّهَادَةِ بِالْمَفَاتِيحِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا سَبَبٌ لِلدُّخُولِ، ثُمَّ حَذَفَ أَدَاةَ التَّشْبِيهِ وَقَلَبَهُ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُشَبَّهِ وَالْمُبَالِغَةِ فِيهِ، وَفِيهِ الِاسْتِغْنَاءُ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، إِذْ لَا يُعْتَدُّ بِإِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ إِلَّا مَعَ الْأُخْرَى (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

41 - وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَ حَزِنُوا عَلَيْهِ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يُوَسْوِسُ، قَالَ عُثْمَانُ: وَكُنْتُ مِنْهُمْ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ مَرَّ عَلَيَّ عُمَرُ وَسَلَّمَ، فَلَمْ أَشْعُرْ بِهِ، فَاشْتَكَى عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثُمَّ أَقْبَلَا حَتَّى سَلَّمَا عَلَيَّ جَمِيعًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ أَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى أَخِيكَ عُمَرَ سَلَامَهُ؟ قُلْتُ: مَا فَعَلْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلَى، وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتَ. قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ أَنَّكَ مَرَرْتَ وَلَا سَلَّمْتَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ عُثْمَانُ، قَدْ شَغَلَكَ عَنْ ذَلِكَ أَمْرٌ. فَقُلْتُ أَجْلَ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: تَوَفَّى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ نَجَاةِ هَذَا الْأَمْرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ. فَقُمْتُ إِلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَجَاةُ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ قَبِلَ مِنِّي الْكَلِمَةَ الَّتِي عَرَضْتُ عَلَى عَمِّي فَرَدَّهَا، فَهِيَ لَهُ نَجَاةٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 41 - (وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رِجَالًا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ: إِنَّ رِجَالًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَ) بِضَمِّ التَّاءِ وَالْوَاوِ مَاضٍ مَجْهُولٌ (حَزِنُوا) : بِكَسْرِ الزَّايِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَوْتِهِ، وَغَيْبَةِ طَلْعَتِهِ، وَفِقْدَانِ حَضْرَتِهِ، وَعَدَمِ وِجْدَانِ إِفَادَتِهِ الْعُلُومَ الظَّاهِرِيَّةَ، وَإِفَاضَتِهِ الْمَعَارِفَ الْبَاطِنِيَّةَ (حَتَّى كَادَ) أَيْ قَارَبَ (بَعْضُهُمْ يُوَسْوِسُ) أَيْ يَقَعُ فِي الْوَسْوَسَةِ بِأَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ انْقِضَاءُ هَذَا الدِّينِ، وَانْقِضَاءُ نُورِ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ بِمَوْتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَخُطُورِ هَذَا بِالنُّفُوسِ الْكَامِلَةِ مُهْلِكٌ لَهَا حَتَّى يَتَغَيَّرَ حَالُهُ

وَيَخْتَلِطَ كَلَامُهُ، وَيَدْهَشَ فِي أَمْرِهِ، وَيَخْتَلَّ عَقْلُهُ، وَيَجِيءُ أَحْوَالُ بَقِيَّتِهِمْ فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَقْعَدَ وَأَسْكَتَ، وَبَعْضُهُمْ أَنْكَرَ مَوْتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَظْهَرَ اللَّهُ فَضْلَ الصِّدِّيقِ بِثَبَاتِ قَدَمِ صِدْقِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَسْوَسَةُ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَهُوَ لَازِمٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: يُوَسْوِسُ بِالْكَسْرِ، وَالْفَتْحُ لَحْنٌ (قَالَ عُثْمَانُ: وَكُنْتُ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي اشْتَدَّ حُزْنُهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُوَسْوِسَ، وَيَذْهَلَ عَنِ الْحِسِّ (فَبَيْنَا) أَيْ بَيْنَ أَوْقَاتٍ (أَنَا جَالِسٌ) أَيْ مُتَفَكِّرٌ مُتَحَيِّرٌ (مَرَّ عَلَيَّ عُمَرُ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَشْعُرْ) أَيْ لِشِدَّةِ مَا أَصَابَنِي مِنَ الذُّهُولِ لِذَلِكَ الْهَوْلِ (بِهِ) أَيْ بِمُرُورِهِ أَوْ سَلَامِهِ، أَوْ بِهِمَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (فَاشْتَكَى عُمَرُ) مُعَاتَبَةً (إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَا) كِلَاهُمَا (حَتَّى سَلَّمَا عَلَيَّ جَمِيعًا) أَيْ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِمَا (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ لَا تَرُدُّ عَلَى أَخِيكَ عُمَرَ سَلَامَهُ؟) أَيْ قَبْلَ ذَلِكَ (فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ) أَيْ مَا وَقَعَ مِنِّي هَذَا الْفِعْلُ، وَهُوَ تَرْكُ رَدِّ السَّلَامِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ شُعُورِهِ سَلَامَهُ (فَقَالَ عُمَرُ: بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتَ) بِنَاءً عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ (قَالَ) أَيْ عُثْمَانُ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيَضُمُّ، أَيْ مَا عَلِمْتُ، وَلَا فَطِنْتُ (أَنَّكَ مَرَرْتَ) أَيْ بِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَلَا سَلَّمْتَ) كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: مَا شَعَرْتُ أَنَّكَ مَرَرْتَ، وَلَكِنْ جِيءَ بِهِ تَوْكِيدًا أَيْ مَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ، وَلَا سَمِعْتُ كَلَامَكَ. كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ يُمْكِنُ الشُّعُورُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ الشُّعُورُ. (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ لِعُمَرَ (صَدَقَ عُثْمَانُ) أَيْ فِي اعْتِذَارِهِ بِعَدَمِ شُعُورِهِ، وَقَالَ لِي عَلَى وَجْهِ الِالْتِفَاتِ: (قَدْ شَغَلَكَ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنِ الشُّعُورِ (أَمْرٌ) أَيْ عَظِيمٌ (فَقُلْتُ: أَجَلْ) أَيْ نِعْمَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ (قَالَ: مَا هُوَ؟) أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ (قُلْتُ تَوَفَّى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ) أَيْ قَبَضَ رُوحَهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ نَجَاةِ هَذَا الْأَمْرِ) يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ: مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ عَمَّا نَتَخَلَّصُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الدِّينِ، وَأَنْ يُرَادَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ، وَحُبِّ الدُّنْيَا، وَالتَّهَالُكِ فِيهَا، وَالرُّكُونِ إِلَى شَهَوَاتِهَا، وَرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَتَبِعَاتِهَا، أَيْ نَسْأَلُهُ عَنْ نَجَاةِ هَذَا الْأَمْرِ الْهَائِلِ، وَلَعَمْرِي كَلِمَةُ التَّقْوَى تُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ الْيَقِظَةَ، وَفِي الْقَلْبِ جَلَاءُ الصَّدَأِ وَالرَّيْنِ، وَفِي السِّرِّ مَحْوُ الْأَثَرِ وَالْعَيْنِ، وَلَا يَعْقِلُ ذَلِكَ إِلَّا السَّائِرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَارِفُونَ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أُلْزِمُوهَا، وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ وَأَجَابَنِي (فَقُمْتُ) أَيْ مِنْ كَمَالِ الْفَرَحِ مُتَوَجِّهًا (إِلَيْهِ) وَمُتَمَثِّلًا بَيْنَ يَدَيْهِ (وَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا) أَيْ بِالْمَسْأَلَةِ وَالسَّبْقِ بِهَا، وَالْبَحْثِ عَنْهَا، فَإِنَّكَ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ أَسْبَقُ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَجَاةُ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَقَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَبِلَ مِنِّي) أَيْ بِطَوْعٍ وَرَغْبَةٍ مِنْ غَيْرِ نِفَاقٍ وَرِيبَةٍ (الْكَلِمَةَ الَّتِي عَرَضْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ: عَرَضْتُهَا (عَلَى عَمِّي) أَيْ أَبِي طَالِبٍ (فَرَدَّهَا) وَنَزَلَ فِيهِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] (فَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَهِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ (لَهُ) أَيْ لِمَنْ قَبِلَهَا (نَجَاةُ) وَأَيُّ نَجَاةٍ! فَإِنَّهَا هِدَايَةٌ لَا

تَحْصُلُ إِلَّا بِعِنَايَةٍ إِمَّا فِي بِدَايَةٍ أَوْ نِهَايَةٍ، سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ مَقْرُونَةً بِحُسْنِ رِعَايَةٍ، فَكَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: النَّجَاةُ فِي الْكَلِمَةِ الَّتِي عَرَضْتُهَا عَلَى مِثْلِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ فِي الْكُفْرِ، وَلَوْ قَالَهَا مَرَّةً كَانَتْ لَهُ حُجَّةٌ عِنْدَ اللَّهِ لِاسْتِخْلَاصِهِ، وَنَجَاةٌ لَهُ مِنْ عَذَابِهِ، فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنَ الْمُسْلِمِ وَهِيَ مَخْلُوطَةٌ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ؟ فَلَوْ صَرَّحَ بِهَا فِي كَلَامِهِ لَمْ يُفَخِّمْ هَذَا التَّفْخِيمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الصَّحَابِيُّ عَنِ الصَّحَابِيِّ يَعْنِي عُثْمَانُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

42 - وَعَنِ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، بِعِزِّ عَزِيزٍ وَذُلِّ ذَلِيلٍ، إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا ". قَلْتُ فَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 42 - (وَعَنِ الْمِقْدَادِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) هُوَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ حَالِفَ كِنْدَةَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ابْنَ الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيفُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَبْدًا فَتَبَنَّاهُ، وَكَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ. رَوَى عَنْهُ عَلِيٌّ، وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَمَاتَ بِالْجُرْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً. (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ كَلَامَهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ) حَالٌ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ ثَانٍ (لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ) أَيْ وَجْهِهَا مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا فَلَا يُنَافِي مَا قِيلَ: إِنَّ وَرَاءَ الصِّينِ قَوْمًا لَمْ تَبْلُغْهُمْ إِلَى الْآنِ بِعْثَتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ) أَيِ الْمُدُنُ، وَالْقُرَى، وَالْبَوَادِي، وَهُوَ مِنْ وَبَرِ الْإِبِلِ أَيْ شَعَرِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ مِنْهُ وَمِنْ نَحْوِهِ خِيَامَهُمْ غَالِبًا، وَالْمَدَرُ جَمْعُ مَدَرَةٍ، وَهِيَ اللَّبِنَةُ (إِلَّا أَدْخَلَهُ) فَاعِلُ أَدْخَلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ بِدَلِيلِ تَفْصِيلِهِ بِقَوْلِهِ: إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ (كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ) : مَفْعُولُهُ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ ظَرْفٌ، وَقَوْلُهُ: (بِعِزِّ عَزِيزٍ) حَالٌ، أَيْ أَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَيْتِ مُلْتَبِسَةً بِعِزِّ شَخْصٍ عَزِيزٍ أَيْ يُعِزُّهُ اللَّهُ بِهَا حَيْثُ قَبِلَهَا مِنْ غَيْرِ سَبْيٍ وَقِتَالٍ (وَذُلِّ ذَلِيلٍ) أَيْ أَوْ يُذِلُّهُ اللَّهُ بِهَا حَيْثُ أَبَاهَا، وَهُوَ يَشْمَلُ الْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ، وَالْمَعْنَى يُذِلُّهُ اللَّهُ بِهَا حَيْثُ أَبَاهَا، وَهُوَ يَشْمَلُ الْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ، وَالْمَعْنَى يُذِلُّهُ اللَّهُ بِسَبَبِ إِبَائِهَا بَذُلِّ سَبْيٍ أَوْ قِتَالٍ حَتَّى يَنْقَادَ إِلَيْهَا كَرْهًا أَوْ طَوْعًا، أَوْ يُذْعِنُ لَهَا بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ثُمَّ فَسَّرَ الْعِزَّ وَالذُّلَّ بِقَوْلِهِ: (إِمَّا يُعِزُّهُمْ) أَيْ قُومًا أَعَزُّوا الْكَلِمَةَ بِالْقَبُولِ (فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا) بِالثَّبَاتِ إِلَى الْمَمَاتِ (أَوْ بَذُلِّهِمْ) أَيْ قَوْمًا آخَرِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْكَلِمَةِ وَمَا قَبِلُوهَا، فَكَأَنَّهُمْ أَذَلُّوهَا، فَجُوزُوا بِالْإِذْلَالِ جَزَاءً وِفَاقًا (فَيَدِينُونَ لَهَا) بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ يُطِيعُونَ وَيَنْقَادُونَ لَهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِسْلَامَ الْحَرْبِيِّ مُكْرَهًا خَشْيَةَ السَّيْفِ صَحِيحٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] أَيْ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ، أَوْ مَعَ ضَرْبِ كَفِّ فِي عُنُقٍ، أَوْ لَطْمِ يَدٍ فِي وَجْهٍ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] أَيْ أَذِلَّاءُ مُهَانُونَ وَمُحْتَقَرُونَ. (قُلْتُ) : الْقَائِلُ الْمِقْدَادُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ حَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ عِنْدَ رِوَايَتِهِ؛ فَلِهَذَا مَا ذُكِرَ لَهُ جَوَابٌ ( «فَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْغَلَبَةُ لِدِينِ اللَّهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَقِيلَ: إِنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَحَلُّ الْكُفْرِ، بَلْ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ يَصِيرُونَ

مُسْلِمِينَ إِمَّا بِالطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِمَّا بِالْإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ أَحْمَدُ.

43 - وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فَتَحَ لَكَ، وَإِلَّا لَمْ يَفْتَحْ لَكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 43 - (وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدِّدَةِ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الصَّنْعَانِيَّ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ (قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟) أَيِ الْمَقْرُونُ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَيْسَ، وَخَبَرُهَا (مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ؟) وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقُدِّمَ لِشَرَفِهِ (قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ) أَيْ أَقُولُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا مِفْتَاحُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ لَا يَغْتَرُّ أَحَدٌ لِذَلِكَ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُّظِهِ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْمِفْتَاحُ يُفْتَحُ لَهُ الْجَنَّةُ حَتَّى يَدْخُلَهَا مَعَ النَّاجِينَ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَتَى بِالْمِفْتَاحِ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ (لَيْسَ مِفْتَاحٌ) أَيْ مِنْ خَشَبٍ، أَوْ حَدِيدٍ (إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ) أَيْ غَالِبًا، أَوْ عَادَةً هِيَ الْفَاتِحَةُ فِي الْحَقِيقَةِ (فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنِيُّ بِهَا الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعَةُ أَيِ الصَّلَاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ، وَالْحَجُّ، وَقِيلَ: مُطْلَقُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَرْكِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ (فَتَحَ لَكَ) أَيْ أَوَّلًا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَجِئْ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ مِمَّا ذُكِرَ، وَلَوْ فُقِدَتْ مِنْهُ سِنٌّ وَاحِدَةٌ (لَمْ يُفْتَحْ لَكَ) أَيِ ابْتِدَاءً. وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَسْتَقِيمَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، هَذَا وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ التَّشْبِيهَ ظَاهِرُهُ يَأْبَى عَنِ الْقَيْدِ الْأُولَى فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْأَسْنَانِ إِنَّمَا هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدٍ بِالْوِفَاقِ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ نِفَاقٍ وَانْقِيَادٌ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ كُرْهٍ وَشِقَاقٍ، فَالْكَلِمَةُ حِينَئِذٍ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْأَسْنَانِ تَكُونُ مِفْتَاحًا إِمَّا أَوَّلًا أَوْ آخِرًا عَلَى وَفْقِ الْإِذْنِ مِنَ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَ الْبَابِ حَدِيثًا مُعَلَّقًا بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، فِيهِ بَيَانُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَيُضِيفُ إِلَيْهِ الْبَابَ، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ تَعْلِيقَاتِهِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ كُرُوِيَ، وَذُكِرَ، وَقِيلَ: فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِمَّا لَا فَلَا.

44 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 44 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ) أَيْ أَجَادَ وَأَخْلَصَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112] (فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ) أَيْ: - كَمَا فِي نُسْخَةٍ - (بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً (إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ) " إِلَى " لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْأَحْوَالِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ الْإِفْضَالِ، وَاللَّهُ

يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ. حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الضِّعْفَ لَا يَتَجَاوَزُ عَنْ سَبْعِمِائَةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِمَا فِي مُسْلِمٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ اهـ. فَالْمُرَادُ بِسَبْعِمِائَةٍ الْكَثْرَةُ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] وَالْمُرَادُ هُنَا بِالضِّعْفِ الْمِثْلُ، وَخَصَّ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ: صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخَذْتُ مِنْ هَذَا كَأَحَادِيثَ أُخَرَ أَنَّهَا فِي مَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ كَمَا يَأْتِي، فَالْعَشَرَةُ لَا يَنْقُصُ عَنْهَا، وَالزِّيَادَةُ لَا مُنْتَهًى لَهَا، وَمَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ فَأَكْثَرَ دَرَجَاتٌ بِحَسَبِ كَمَالِ الْأَعْمَالِ، وَمَا يَصْحَبُهَا مِنَ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ تَخْتَلِفُ كَيْفِيَّاتُهَا أَيْضًا ( «وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا» ) أَيْ كَمِّيَّةً، فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى وَمِنَّةً وَرَحْمَةً، وَإِنْ كَانَتِ السَّيِّئَاتُ تَتَفَاوَتُ كَيْفِيَّةً لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ، وَمَرَاتِبِ الْعِصْيَانِ (حَتَّى لَقِيَ اللَّهُ) أَيْ إِلَى أَنْ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِيهِ أَوْ يَعْفُو عَنْهُ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وَلَا يَبْعُدُ تَعَلُّقُ حَتَّى بِالْجُمْلَتَيْنِ، وَإِرَادَةُ اللُّقَى بِمَعْنَى الْمَوْتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

45 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: " إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ ; فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا الْإِثْمُ؟ قَالَ: " إِذَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 45 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الْإِيمَانُ؟) أَيْ عَلَامَتُهُ، قَالَ: (إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ) أَيْ إِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً وَحَصَلَ لَكَ فَرَحٌ وَمَسَرَّةٌ بِتَوْفِيقِ الطَّاعَةِ وَإِذَا فَعَلْتَ سَيِّئَةً وَوَقَعَ فِي قَلْبِكَ حُزْنٌ وَمَسَاءَةٌ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ (فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ) ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَيَعْتَقِدُ الْمُجَازَاةَ عَلَيْهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُبَالِي بِهِمَا (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْإِثْمُ؟) أَيْ مَا عَلَامَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَصٌّ صَرِيحٌ، أَوْ نَقْلٌ صَحِيحٌ، وَاشْتَبَهَ أَمْرُهُ، وَالْتَبَسَ حُكْمُهُ؟ (قَالَ: (إِذَا حَاكَ) أَيْ تَرَدَّدَ (فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ) وَلَمْ يَطْمَئِنَّ بِهِ قَلْبُكَ، وَأَثَّرَ فِيهِ تَأْثِيرًا يُدِيمُ تَنْفِيرًا (فَدَعْهُ) أَيِ اتْرُكْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ) ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْبَابِ الْبَوَاطِنِ الصَّافِيَةِ، وَالْقُلُوبِ الزَّاكِيَةِ، أَوِ الْمَعْنَى: اتْرُكْهُ احْتِيَاطًا إِذَا كَانَ الْأَحْوَطُ تَرْكَهُ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ أَوْلَى فَاتْرُكْ ضِدَّهُ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْإِثْمِ، وَقِيلَ: الْجَوَابَانِ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ تَصَحَّفَ عَلَى السَّيِّدِ السَّنَدُ، فَقَرَأَ " حَاكَ " جَاءَكَ، بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِنَ الْمَجِيءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

46 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: " حُرٌّ وَعَبْدٌ. " قُلْتُ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: " طِيبُ الْكَلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ ". قُلْتُ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: " الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ ". قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ". قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " خُلُقٌ حَسَنٌ ". قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ، قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكُ، قَالَ: فَقَلْتُ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ. قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ السَّاعَاتِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 46 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ) بِفَتَحَاتٍ كُنْيَتُهُ أَبُو نَجِيحٍ السُّلَمِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قِيلَ: كَانَ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا سَمِعْتَ أَنِّي خَرَجْتُ فَاتَّبِعْنِي، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِقَوْمِهِ حَتَّى انْقَضَتْ خَيْبَرُ، فَقَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، وَعِدَادُهُ فِي الشَّامِيِّينَ. رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ جِئْتُهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؟) أَيْ مَنْ يُوَافِقُكَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ (قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ) أَيْ

كُلُّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَعْنِي مَأْمُورٌ بِالْمُوَافَقَةِ، وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ وَزَيْدٌ، أَوْ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي إِحْدَى رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، وَلَعَلَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُذْكَرْ لِصِغَرِهِ، وَكَذَا خَدِيجَةَ لِسَتْرِهَا وَعَدَمِ ظُهُورِهَا (قُلْتُ: مَا الْإِسْلَامُ؟) أَيْ عَلَامَتُهُ أَوْ شُعَبُهُ أَوْ كَمَالُهُ (قَالَ: طِيبُ الْكَلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ) فِيهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِظْهَارِ الْإِحْسَانِ لِأَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ بِحَلَاوَةِ اللِّسَانِ (قُلْتُ: مَا الْإِيمَانُ؟) أَيْ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ [قَالَ: (الصَّبْرُ) أَيْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُصِيبَةِ (وَالسَّمَاحَةُ) أَيِ السَّخَاوَةُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِحْسَانُ وَالْكَرَمُ لِلْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ: الصَّبْرُ عَلَى الْمَفْقُودِ، وَالسَّمَاحَةُ بِالْمَوْجُودِ (قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْإِسْلَامِ) أَيْ خِصَالُهُ أَوْ أَهْلُهُ، وَهُوَ أَوْلَى (أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) قَالَ: قُلْتُ أَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟) أَيْ أَيُّ أَخْلَاقِهِ أَوْ خِصَالِهِ (قَالَ: خُلُقٌ حَسَنٌ) بِضَمِّ اللَّامِ، وَتُسَكَّنُ، وَهُوَ صِفَةٌ جَامِعَةٌ لِلْخِصَالِ السَّنِيَّةِ وَالشَّمَائِلِ الْبَهِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَلِذَا قَالَتِ الصِّدِّيقَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَيْ يَأْتَمِرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَذَكَرَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا خَاتِمَةُ الْمُحَدِّثِينَ وَآخِرُ الْمُجْتَهِدِينَ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ. رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَنْ جَدِّ الْحَسَنِ ( «أَنَّ أَحْسَنَ الْحَسَنِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ» ) ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْخُلُقُ الْحَسَنُ هُوَ بَسْطُ الْمُسَمَّى بِالْمَحْيَا، وَبَذْلُ النَّدَى وَالْعَطَاءَ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَأَلَّا يُخَاصِمَ لِشِدَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَا قِيلَ: الصُّوفِيُّ لَا يُخَاصِمُ وَلَا يُخَاصَمُ، أَوْ إِرْضَاءُ الْخَلْقِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَقَالَ سَهْلٌ: أَدْنَاهُ الِاحْتِمَالُ وَتَرْكُ الْمُكَافَأَةِ، وَالرَّحْمَةِ لِلظَّالِمِ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ، وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قَدْ لَاحَ وَبَانَ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعِرْفَانِ بِطَوَالِعَ الْوَحْيِ، وَلَوَائِحِ الْوِجْدَانِ أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرُ لُطْفٍ نُورَانِيٌّ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ، شَبِيهٌ بِالْجَوَاهِرِ الْقُدْسِيَّةِ الْمَلَكُوتِيَّةِ، وَلَهُ قُوَّتَانِ يَحْظَى بِكَمَالِهِمَا وَيَشْقَى بِسَبَبِ اخْتِلَالِهِمَا؛ قُوَّةٌ عَاقِلَةٌ تُدْرِكُ حَقَائِقَ الْمَوْجُودَاتِ بِأَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا، وَتَنْتَقِلُ مِنْهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَنِ اشْتَغَلَ بِإِبْدَاعِهَا، وَعَامِلَةٌ تُدْرِكُ النَّافِعَ نَافِعًا فَتَمِيلُ إِلَيْهِ وَالضَّارَّ مُضِرًّا فَتَنْفِرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أُمُورٌ مَعَاشِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِحِفْظِ النَّوْعِ وَكَمَالِ الْبَدَنِ؛ وَلِذَا وَرَدَ " خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ، أَوْ مَلَكَاتٍ فَاضِلَةٍ وَأَحْوَالٍ بَاطِنَةٍ هِيَ الْخُلُقُ الْحَسَنُ، وَهُوَ إِمَّا تَزْكِيَةُ النَّفْسِ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَأُصُولُهَا عَشَرَةٌ: الطَّعَامُ، وَالْكَلَامُ، وَالْغَضَبُ، وَالْحَسَدُ، وَالْبُخْلُ، وَحُبُّ الْمَالِ، وَالْجَاهُ، وَالْكِبْرُ، وَالْعُجْبُ، وَالرِّيَاءُ، أَوْ تَحْلِيَتُهَا بِالْفَضَائِلِ، وَأُمَّهَاتُهَا عَشْرَةٌ: التَّوْبَةُ، وَالْخَوْفُ، وَالزُّهْدُ، وَالصَّبْرُ، وَالشُّكْرُ، وَالْإِخْلَاصُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالْمَحَبَّةُ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَذِكْرُ الْمَوْتِ، وَالْخُلُقُ مَلَكَةٌ تَصْدُرُ بِهَا الْأَفْعَالُ عَنِ النَّفْسِ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ رَوِيَّةٍ، وَتَنْقَسِمُ إِلَى فَضِيلَةٍ، هِيَ الْوَسَطُ، وَرَذِيلَةٌ وَهِيَ الْأَطْرَافُ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] . (قَالَ: قُلْتُ أَيُّ: الصَّلَاةِ) أَيْ أَيُّ أَرْكَانِهَا، أَوْ كَيْفِيَّاتِهَا (أَفْضَلُ؟) أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَفَضْلًا (قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ) أَيِ الْقِيَامُ أَوِ الْقِرَاءَةُ أَوِ الْخُشُوعُ (قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْهِجْرَةِ) أَيْ أَفْرَادِهَا (أَفْضَلُ؟) فَإِنَّ الْهِجْرَةَ أَنْوَاعٌ: إِلَى الْحَبَشَةِ عِنْدَ إِيذَاءِ الْكُفَّارِ لِلصَّحَابَةَ، وَمِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنْ مَعْنَاهُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهِجْرَةُ الْقَبَائِلِ لِتَعَلُّمِ الْمَسَائِلِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْهِجْرَةُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ) كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْأَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ الْأَعَمُّ الْأَشْمَلُ (قَالَ: فَقُلْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ: قَلْتُ: (فَأَيُّ الْجِهَادِ) أَيْ أَنْوَاعِهِ أَوْ أَهْلِهِ (أَفْضَلُ؟ قَالَ: (مَنْ عُقِرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (جَوَادُهُ) أَيْ قُتِلَ فَرَسُهُ (وَأُهْرِيقَ دَمُهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا وَهُوَ وَهْمٌ، أَيْ صُبَّ وَسُكِبَ، يُقَالُ: أَرَاقَ يُرِيقُ، وَهَرَاقَ يُهَرِيقُ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ هَاءً، وَأَهْرَاقَ يُهَرِيقُ بِزِيَادَتِهَا كَمَا زِيدَتِ السِّينُ فِي اسْتَطَاعَ، وَالْهَاءُ فِي مُضَارِعِ الْأَوَّلِ مُحَرِّكَةٌ، وَفِي مُضَارِعِ الثَّانِي مُسَكَّنَةٌ كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْفَائِقِ.

وَقَالَ الْحِجَازِيُّ فِي حَاشِيَةِ الشِّفَاءِ: لَا تُفْتَحُ الْهَاءُ مَعَ الْهَمْزَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجِهَادُ أَفْضَلَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْجِهَادَيْنِ؛ جِهَادُ فَارِسٍ وَجِهَادُ رَاجِلٍ، أَوْ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالشَّهَادَةِ فِي مَرْضَاةِ مَوْلَاهُ (قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ السَّاعَاتِ) أَيْ لِتَحْصِيلِ الطَّاعَاتِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (جَوْفُ اللَّيْلِ) أَيْ وَسَطُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّفَاءِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ (الْآخَرُ) صِفَةُ جَوْفٍ أَيِ النِّصْفُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَأَخْلَى مِنَ الْخَلْقِ، وَأَقْرَبُ إِلَى تَنَزُّلِ رَحْمَةِ الْحَقِّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

47 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيُصَلِّي الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ - غُفِرَ لَهُ ". قُلْتُ: أَفَلَا أُبَشِّرُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " دَعْهُمْ يَعْمَلُوا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 47 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (مَنْ لَقِيَ اللَّهَ) يَعْنِي: مَنْ مَاتَ (لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) أَيْ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا أَيْ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُشْرِكٍ يَعْنِي يَكُونُ مُوَحِّدًا مُؤْمِنًا (وَيُصَلِّي الْخَمْسَ) أَيْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ لِرَكَعَاتٍ مَعْدُودَاتٍ، مَقْرُونَةً بِشَرَائِطَ وَأَرْكَانٍ مَعْلُومَاتٍ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ) أَيْ شَهْرٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، وَلَعَلَّ تَرْكَ الزَّكَاةِ وَالْحَجَّ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالْأَغْنِيَاءِ، أَوْ كَانَ قَبْلَ فَرْضِيَّتِهِمَا (غُفِرَ لَهُ) أَيْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ الصَّغَائِرَ الَّتِي بَيْنَ كُلِّ صَلَاةِ وَصَلَاةِ، وَكُلِّ صَوْمٍ وَصَوْمٍ، أَوِ الْكَبَائِرَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُرْضِيَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ (قُلْتُ) ذَكَرْتُ ذَلِكَ (أَفَلَا أُبَشِّرُهُمْ) أَيْ عُمُومَ النَّاسِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) حَتَّى يَفْرَحُوا بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ (قَالَ: (دَعْهُمْ) أَيِ اتْرُكْهُمْ بِلَا بِشَارَةٍ (يَعْمَلُوا) مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، أَيْ يَجْتَهِدُوا فِي زِيَادَةِ الْعِبَادَةِ وَلَا يَتَّكِلُوا عَلَى هَذَا الْإِجْمَالِ، وَلَا يَرْتَكِبُوا مِنْ قَبَائِحِ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّ هَذَا دَأَبُ الْعَوَامِّ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ الْخَوَاصِّ وَأَصْحَابِ الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَوْ فُرِضَ وَقُدِّرَ أَنْ لَيْسَ هُنَاكَ جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ مَا عَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى سَاعَةً فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: ( «رَحِمَ اللَّهُ صُهَيْبًا، لَوْ لَمْ يَخِفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ» ) . بَلْ يَزِيدُونَ فِي الْعِبَادَةِ بَعْدَ الْبِشَارَةِ شُكْرًا لِهَذِهِ الْإِشَارَةِ، وَيَخَافُونَ أَنَّ الْبِشَارَةَ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ مَطْوِيٍّ تَحْتَ الْعِبَارَةِ امْتِحَانًا مِنْ رَبِّ الْعِبَادِ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

48 - وَعَنْهُ أَنَّهُ «سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ؟ قَالَ: " أَنْ تُحِبَّ لِلَّهِ، وَتُبْغِضَ لِلَّهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ ". قَالَ: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 48 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ( «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ؟» ) أَيْ عَنْ شُعَبِهِ، وَمَرَاتِبِهِ، وَأَحْوَالِهِ، أَوْ خِصَالِ أَهْلِهِ (قَالَ: (أَنْ تُحِبَّ) أَيْ كُلُّ مَا تُحِبُّهُ (لِلَّهِ) لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ (وَتُبْغِضُ) أَيْ مَبْغُوضُكَ (لِلَّهِ) لَا لِطَبْعٍ وَهَوًى (وَتَعْمَلُ) مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَعْنَى الِاسْتِعْمَالِ وَالْإِشْغَالِ (لِسَانَكَ) لِيَصِلَ بَرَكَتُهُ إِلَى جَنَانِكَ (فِي ذِكْرِ اللَّهِ) بِأَنْ لَا يَزَالَ رَطْبًا بِهِ بِشَرْطِ الْحُضُورِ، فَيَكُونُ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَإِلَّا فَاشْتِغَالُ عُضْوٍ بِالْعِبَادَةِ نَوْعٌ مِنَ الْعِنَايَةِ، وَمَنْ شَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ حَصَلَ لَهُ مَزِيدُ الرِّعَايَةِ (قَالَ: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أَيْ وَمَاذَا أَصْنَعُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَمَاذَا إِمَّا مَنْصُوبٌ بِأَصْنَعُ، أَوْ مَرْفُوعٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ أَصْنَعُهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مَقُولُ (قَالَ: (وَأَنْ تُحِبَّ) يَكُونُ مَنْصُوبًا، وَعَلَى الثَّانِي مَرْفُوعًا، وَالْوَاوُ لِلْعِطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ أَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى مَا قُلْنَا، وَأَنْ تُحِبَّ (لِلنَّاسِ) يُحْتَمَلُ التَّعْمِيمُ، وَيُحْتَمَلُ التَّخْصِيصُ بِالْمُؤْمِنِينَ (مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ) أَيْ مِثْلَهُ (وَتَكْرَهُ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب الكبائر وعلامات النفاق]

[بَابُ الْكَبَائِرِ وَعَلَامَاتِ النِّفَاقِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 49 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ". قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [1]- بَابُ الْكَبَائِرِ جُمَعُ كَبِيرَةٍ، وَهِيَ السَّيِّئَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي خَطِيئَتُهَا فِي نَفْسِهَا كَبِيرَةٌ، وَعُقُوبَةُ فَاعِلِهَا عَظِيمَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْصِيَةٍ لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ، وَقِيلَ: الْكَبِيرَةُ مَا أَوْعَدَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ بِخُصُوصِهِ، وَقِيلَ: مَا عُيِّنَ لَهُ حَدٌّ، وَقِيلَ: النِّسْبَةُ إِضَافِيَّةٌ، فَقَدْ يَكُونُ الذَّنْبُ كَبِيرَةً بِالنِّسْبَةِ لِمَا دُونَهُ، صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ، وَقَدْ يَتَفَاوَتُ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ كَمَا قِيلَ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَقَدْ يَتَفَاوَتُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْعُولِ، فَإِنَّ إِهَانَةَ السَّادَاتِ وَالْعُلَمَاءِ لَيْسَتْ كَإِهَانَةِ السُّوقَةِ وَالْجُهَلَاءِ، وَلِلشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ كِتَابٌ نَفِيسٌ فِي هَذَا الْبَابِ يُسَمَّى: الزَّوَاجِرُ عَنِ الْكَبَائِرِ، وَقِيلَ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٌ نَظَرًا إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَقِيلَ: بِإِبْهَامِ الْكَبِيرَةِ مِنْ بَيْنِ الذُّنُوبِ؛ لِئَلَّا يَرْتَفِعَ الْخَوْفُ مِنَ الْقُلُوبِ. (وَعَلَامَاتُ النِّفَاقِ) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 49 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهُذَلِيَّ، كَانَ إِسْلَامُهُ قَدِيمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، وَقَبْلَ عُمَرَ بِزَمَانٍ، وَقِيلَ: كَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَاكَهُ، وَنَعْلَيْهِ، وَطَهُورَهُ فِي السَّفَرِ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَشَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ، وَسَخِطْتُ لَهَا مَا سَخِطَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ» ) يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَمْتِهِ، وَدَلَّهُ، وَهَدْيِهِ، كَانَ خَفِيفَ اللَّحْمِ قَصِيرًا، شَدِيدَ الْأُدْمَةِ نَحِيفًا، طُوَالُ الرِّجَالِ تُوَازِيهِ جَالِسًا، وَلِي الْقَضَاءَ بِالْكُوفَةِ وَبَيْتَ مَالِهَا لِعُمْرَ وَصَدَرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَلَهُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ عِنْدَنَا أَفْقَهُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟) الذَّنْبُ مَا يُذَمُّ بِهِ الْآتِي بِهِ شَرْعًا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يُغْفَرُ بِلَا تَوْبَةٍ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَقِسْمٌ يُرْجَى أَنْ يُغْفَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَسَائِرِ الْحَسَنَاتِ وَهُوَ الصَّغَائِرُ، وَقِسْمٌ يُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ وَبِدُونِهَا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَهُوَ الْكَبَائِرُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِسْمٌ يَحْتَاجُ إِلَى التَّرَادِّ وَهُوَ حَقُّ الْآدَمِيِّ، وَالتَّرَادُّ إِمَّا فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِحْلَالِ أَوْ رَدِّ الْعَيْنِ، أَوْ بَدَلِهِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ بِرَدِّ ثَوَابِ الظَّالِمِ لِلْمَظْلُومِ، أَوْ إِيقَاعِ سَيِّئَةِ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ، أَوْ أَنَّهُ تَعَالَى يُرْضِيهِ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ. (قَالَ: (أَنْ تَدْعُوَ) أَيْ تَجْعَلَ (لِلَّهِ نِدًّا) بِالْكَسْرِ أَيْ مِثْلًا وَنَظِيرًا فِي دُعَائِكَ وَعِبَادَتِكَ، وَقِيلَ النِّدُّ: الْمِثْلُ الْمُزَاحِمُ الَّذِي يُضَادُّهُ فِي أُمُورِهِ مِنْ: نِدَّ: نَفَرَ، وَأَمَّا الضِّدُّ فَهُوَ أَحَدُ مُتَقَابِلَيْنِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا (وَهُوَ خَلَقَكَ) الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنْ فَاعِلِ " أَنْ تَدْعُوَ "، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اسْتَحَقَّ بِهِ تَعَالَى أَنْ تَتَّخِذَهُ رَبًّا وَتَعْبُدَهُ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَكَ، أَوْ إِلَى مَا بِهِ امْتِيَازُهُ تَعَالَى عَنْ غَيْرِهِ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا، أَوْ إِلَى ضَعْفِ النِّدِّ أَيْ أَنْ تَدْعُوَ لَهُ نِدًّا، وَقَدْ خَلَقَكَ غَيْرُهُ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، بَلِ الْكُفْرُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا خُصَّ فَإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. (قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟) اسْتِفْهَامٌ بِالتَّنْوِينِ بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لَكِنْ يُحْذَفُ التَّنْوِينُ وَقْفًا بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ أَكْبَرُ بَعْدَ الْكُفْرِ (قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ (أَنْ يَطْعَمَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ يَأْكُلَ (مَعَكَ) لَا خِلَافَ أَنَّ أَكْبَرَ الذُّنُوبِ بَعْدَ الْكُفْرِ قَتْلُ نَفْسِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالْمَعْنَى أَنَّ قَتْلَ الْوَلَدِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَقَتْلُهُ مِنْ خَوْفِ أَنْ يَطْعَمَ أَيْضًا ذَنْبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الرِّزْقَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ " ثُمَّ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِتَرَاخِي الزَّمَانِ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ هَاهُنَا، وَلَا لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ؛ لِوُجُوبِ كَوْنِ

الْمَعْطُوفِ بِهَا أَعْلَى مَرْتَبَةً، وَهُنَا بِالْعَكْسِ بَلْ هِيَ لِلتَّرَاخِي فِي الْإِخْبَارِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَوْجَبِ مَا يُهِمُّنِي السُّؤَالُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ الْأَوْجَبُ فَالْأَوْجَبُ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِهَا أَدْنَى مَرْتَبَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» ) . وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، وَأَفْحَشُ أَنْوَاعِهِ قَتْلُ الْقَرِيبِ؛ لِأَنَّكَ ضَمَمْتَ إِلَى مَعْصِيَةِ الْقَتْلِ مَعْصِيَةَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَأَفْحَشُ أَنْوَاعِهِ قَتْلُ الْقَرِيبِ؛ قَتْلُ الْوَالِدِ ثُمَّ قَتْلُ الْوَلَدِ، فَكَوْنُ قَتْلِ الْوَلَدِ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ إِنَّمَا هُوَ بِضَمِّ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّهُ يَضُمُّ إِلَى تِلْكَ الْقَبَائِحِ عَدَمُ رُؤْيَةِ الرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْتِفَاءُ التَّوَكُّلِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى كَمَالِ قَسَاوَتِهِ بِقَتْلِ نَفْسٍ زَكِيَّةٍ صَغِيرَةٍ بِأَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَهُوَ دَفْنُهُ حَيًّا. (قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ ") أَيْ تَزْنِيَ (حَلِيلَةَ جَارِكَ) أَيْ زَوْجَتَهُ، مِنْ حَلَّ يَحِلُّ بِالْكَسْرِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَلَالٌ لِلْآخَرِ، أَوْ مِنْ حَلَّ يَحُلُّ بِالضَّمِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالٌّ عِنْدَ الْآخَرِ، فَمُطْلَقُ الزِّنَا ذَنْبٌ كَبِيرٌ، وَخَاصَّةً مَعَ مَنْ سَكَنَ جَارَكَ، وَالْتَجَأَ لِأَمَانَتِكَ، فَهُوَ زِنًا وَإِبْطَالُ حَقِّ الْجُوَارِ، وَالْخِيَانَةُ مَعَهُ أَقْبَحُ، فَحَاصِلُ الْقُيُودِ مِنَ النِّدِّ وَالْوَلَدِ وَالْجَارِ كَمَالُ تَقْبِيحِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، لَا أَنَّهَا قُيُودٌ احْتِرَازِيَّةٌ، وَإِلَّا فَأَفْحَشُ الزِّنَا أَنْ يَكُونَ بِالْمَحَارِمِ. ثُمَّ الْإِتْيَانُ بِقَوْلِهِ: (أَنْ تُزَانِيَ) بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى، فَالْحَدِيثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] أَوْ رِعَايَةً لِحَالِ السَّائِلِ، وَلِذَا قَيَّدَ الْكَبَائِرَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لِكَوْنِهَا سَبْعًا، وَاقْتَصَرَ فِي بَعْضِهَا عَلَى ثَلَاثٍ مِنْهَا كَمَا هُنَا، أَوْ أَرْبَعٍ كَمَا يَأْتِي بِنَاءً عَلَى بَيَانِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنْهَا وَقْتَ ذِكْرِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أُقْرَبُ، قِيلَ: يَأْتِ بِاعْتِبَارِ أَصْنَافِ أَنْوَاعِهَا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ) وَفِي نُسْخَةٍ: عَزَّ وَجَلَّ (تَصْدِيقَهَا) أَيْ تَصْدِيقَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَوِ الْأَحْكَامِ، أَوِ الْوَاقِعَةِ، وَنَصَبَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ تَصْدِيقًا لَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَقْرِيرِ السُّنَّةِ وَتَصْدِيقِهَا بِالْكِتَابِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا فِي هَذَا الْمَقَالِ لِيَحْتَاجَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَيُمْكِنَ أَنْ يُرَادَ بِالتَّصْدِيقِ الْمُطَابَقَةُ وَالتَّوْفِيقُ، وَتَكُونُ السُّنَّةُ مُقْتَبَسَةً مِنَ الْآيَةِ مَعَ زِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَقْبَحِ الْأَفْرَادِ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ} [الفرقان: 68] يَعْنِي نَفْسَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَعَاهِدِ {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الفرقان: 68] أَيْ قَتْلَهَا، وَالْمَعْنَى لَا يَقْتُلُونَ نَفْسَ غَيْرِ الْحَرْبِيِّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُودِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ {إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ الْمُقَدَّرِ، وَقِيلَ: بِلَا يَقْتُلُونَ أَيْ بِإِحْدَى الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الرِّدَّةُ، وَزِنَا الْإِحْصَانِ، وَالْقَصَاصِ {وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الْآيَةَ: بِتَمَامِهَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، وَفِي كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ مُصَدِّقَةً لِلْحَدِيثِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ الْوَلَدِ، وَالْخَشْيَةَ، وَحَلِيلَةَ الْجَارِ إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ زِيَادَةِ الْفُحْشِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَكْبَرِيَّةِ الْقَتْلِ وَالزِّنَا لَا بِقَيْدِ مُطَابَقَةٍ لِلْحَدِيثِ حَتَّى تُصَدِّقَهُ، بَلْ كَانَ الْحَدِيثُ مُقَيِّدًا لَهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

50 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 50 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) هُوَ جَعْلُ أَحَدٍ شَرِيكًا لِلْآخَرِ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا اتِّخَاذُ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَرَادَ بِهِ الْكُفْرَ، وَاخْتَارَ لَفْظَ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُ كَانَ غَالِبًا فِي الْعَرَبِ (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) أَيْ قَطْعُ صِلَتِهِمَا، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَقِّ، وَهُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، وَالْمُرَادُ عُقُوقُ أَحَدِهِمَا،

قِيلَ: هُوَ إِيذَاءٌ لَا يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ مِنَ الْوَلَدِ عَادَةً، وَقِيلَ: عُقُوقُهُمَا مُخَالَفَةُ أَمْرِهِمَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، وَفِي مَعْنَاهُمَا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ، ثُمَّ اقْتِرَانُهُ بِالْإِشْرَاكِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، إِذْ فِي كُلٍّ قَطْعُ حُقُوقِ السَّبَبِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ حَقِيقَةً وَلِلْوَالِدَيْنِ صُورَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] (وَقَتْلُ النَّفْسِ) أَيْ بِغَيْرِ حَقٍّ (وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ) الَّذِي يَغْمِسُ صَاحِبَهُ فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: فِي الْكَفَّارَةِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمَاضِي عَالِمًا بِكَذِبِهِ، وَقِيلَ: أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا لِيَذْهَبَ بِمَالِ أَحَدٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْكَبِيرَةُ لَا تَنْحَصِرُ فِي عَدَدٍ، وَمَا قَالَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ عَدَدٍ فَذَلِكَ بِسَبَبِ الْوَحْيِ أَوِ اقْتِضَاءِ الْمَقَامِ، وَالْأَنْسَبُ أَنْ يُضْبَطَ ذَلِكَ وَيُقَاسَ الذَّنْبُ إِلَى مَفْسَدَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَقَلِّ الْمَفَاسِدِ فَهِيَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَإِلَّا فَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ. هَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا.

51 - وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ: " وَشَهَادَةُ الزُّورِ " بَدَلُ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 51 - (وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ قَوْلُهُ: (وَشَهَادَةُ الزُّورِ) أَيِ الْكَذِبِ، وَسُمِّيَ زُورًا لِمَيَلَانِهِ عَنْ جِهَةِ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُ: (بَدَلَ (الْيَمِينُ الْغَمُوسُ) مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَعَامِلُهُ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي فِي " وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ " أَيْ مَكَانَ الْيَمِينِ عَلَى الرَّفْعِ حِكَايَةً، وَعَلَى الْجَرِّ عَمَلًا بِالْإِضَافَةِ، وَإِطْلَاقُ الْبَدَلِ عَلَى الْمَكَانِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَبْدَلَ شَيْئًا بِشَيْءٍ فَقَدْ وَضَعَهُ مَكَانَهُ، قِيلَ: وَلَعَلَّ مُخَالَفَةَ أَنَسٍ لِابْنِ عَمْرٍو لِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ، أَوْ تَعَدُّدِ الْحَدِيثِ، أَوْ نِسْيَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْجَزْرِيِّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ.

52 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: " الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 52 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ) أَيِ احْذَرُوا فِعْلَهَا (الْمُوبِقَاتِ) أَيِ الْمُهْلِكَاتِ، أَجْمَلَ بِهَا ثُمَّ فَصَّلَهَا لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَقْرَبُ إِلَى السَّبْعِينَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ صَاحِبُ قُوتِ الْقُلُوبِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ إِحْيَاءِ الْعُلُومِ لِلْغَزَالِيِّ: قَدْ جَمَعْتُ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَوَجَدْتُ سَبْعَةَ عَشَرَ؛ أَرْبَعَةٌ فِي الْقَلْبِ: الشِّرْكُ، وَنِيَّةُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَأَرْبَعَةٌ فِي اللِّسَانِ: شَهَادَةُ الزُّورِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالسِّحْرُ، وَثَلَاثَةٌ فِي الْبَطْنِ: شُرْبُ الْخَمْرِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ مَالِ الرِّبَا، وَاثْنَانِ فِي الْفَرْجِ: الزِّنَا، وَاللُّوَاطُ، وَاثْنَانِ فِي الْيَدِ: الْقَتْلُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالسَّرِقَةُ، وَوَاحِدٌ فِي الرِّجْلِ: وَهُوَ الْفِرَارُ مِنَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَوَاحِدٌ يَشْمَلُ الْبَدَنَ وَهُوَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. (قَالُوا) يَعْنِي بَعْضَ الصَّحَابَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ، أَيْ رَجُلٌ أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟) أَيْ تِلْكَ السَّبْعُ (قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ) أَيِ الْكُفْرُ بِهِ (وَالسِّحْرُ» ) قَالَ فِي الْمَدَارِكِ: إِنْ كَانَ فِي قَوْلِ السَّاحِرِ أَوْ فِعْلِهِ رَدُّ مَا لَزِمَ فِي شَرْطِ الْإِيمَانِ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ يَقَعُ كَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ: السِّيمِيَاءُ، وَالْهِيمْيَاءُ، وَخَوَاصُّ الْحَقَائِقِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا، وَالطَّلْسَمَاتُ، وَالْأَوْفَاقُ الرُّقَى الَّتِي تُحْدِثُ ضَرَرًا، وَالْعَزَائِمُ، وَالِاسْتِخْدَامَاتُ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ بِمَا ذَكَرْتُهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ الْآتِي ذِكْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَقَعُ لِلسَّحَرَةِ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ عَقَاقِيرَ، وَيَجْعَلُونَهَا فِي نَهْرٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوْ قَبْرٍ، أَوْ بَابِ يُفْتَحُ لِلشَّرْقِ فَيَحْدُثُ عَنْهَا آثَارٌ بِخَوَاصِّ نُفُوسِهِمُ الَّتِي طَبَعَهَا اللَّهُ عَلَى الرَّبْطِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْآثَارِ عِنْدَ صِدْقِ الْعَزْمِ، وَقَدْ يَأْتِي السَّاحِرُ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَضُرُّ بِحَالِ الْمَسْحُورِ،

فَيَمْرَضُ وَيَمُوتُ مِنْهُ إِمَّا بِوَاصِلٍ إِلَى بَدَنِهِ مِنْ دُخَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ بِدُونِهِ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: السَّاحِرُ بِفِعْلِ مَنْ يَرْكَبُ مِكْنَسَةً فَتَسِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ أَوْ نَحْوَهُ، وَكَذَا مُعَزِّمٌ عَلَى الْجِنِّ، وَمَنْ يَجْمَعُهَا بِزَعْمِهِ، وَأَنَّهُ يَأْمُرُهَا فَتُطِيعُهُ، وَكَاهِنٌ، وَعَرَّافٌ، وَمُنَجِّمٌ، وَمُشَعْبِذٌ، وَقَائِلٌ يَزْجُرُ الطَّيْرَ، وَضَارِبُ عَصًا وَشَعِيرٍ وَقِدَاحٍ، وَمَنْ يَسْحَرُ بِدَوَاءٍ، أَوْ تَدْخِينٍ، أَوْ سَقْيٍ مُضِرٍّ. قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِهِمْ: وَمِنَ السِّحْرِ السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِقَوْلِ جَمْعٍ مِنَ السَّلَفِ: يُفْسِدُ النَّمَّامُ وَالْكَذَّابُ فِي سَاعَةٍ مَا لَا يُفْسِدُهُ السَّاحِرُ فِي سَنَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الِاسْتِرَابَاذِيِّ، ثُمَّ ظَاهِرُ عَطْفِ السِّحْرِ عَلَى الشِّرْكِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَقَدْ كَثُرَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَحَاصِلُ مَذْهَبِنَا أَنَّ فِعْلَهُ فِسْقٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: ( «لَيْسَ مِنَّا مِنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ» ) . وَيَحْرُمُ تَعَلُّمُهُ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ؛ لِخَوْفِ الِافْتِتَانِ وَالْإِضْرَارِ، وَلَا كُفْرَ فِي فِعْلِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ إِلَّا إِنِ اشْتَمَلَ عَلَى عِبَادَةِ مَخْلُوقٍ، أَوْ تَعْظِيمِهِ كَمَا يُعَظَّمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَوِ اعْتِقَادَ أَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا بِذَاتِهِ، أَوْ أَنَّهُ مُبَاحٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، وَأَطْلَقَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ، وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ، وَأَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كَفْرٌ، وَأَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ، سَوَاءً سَحَرَ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا. وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ السِّحْرَ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ وَتَمْوِيهٍ لَمْ يَكْفُرْ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُفْرِهِ، وَفِي " التَّنْقِيحِ " مِنْ كُتُبِهِمْ: وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ سَاحِرٍ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ، وَيُقْتَلُ سَاحِرٌ مُسْلِمٌ يَرْكَبُ الْمِكْنَسَةَ فَتَسِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ وَنَحْوَهُ، وَيَكْفُرُ هُوَ وَمَنْ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ. وَفِي الْفُرُوعِ لَهُمْ أَيْضًا: أَنَّ مَنْ أَوْهَمَ قَوْمًا بِطَرِيقَتِهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ؛ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ، وَبَقِيَ لِهَذَا الْمَبْحَثِ مُتَمِّمَاتٌ بَسَطْتُهَا مَعَ ذِكْرِ فُرُوقٍ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ فِي كِتَابِي: الْإِعْلَامُ بِقَوَاطِعِ الْإِسْلَامِ. ( «وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهَ) بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (إِلَّا بِالْحَقِّ» ) وَهُوَ أَنْ يَجُوزَ قَتْلُهَا شَرْعًا بِالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ (وَأَكْلُ الرِّبَا) وَتَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ) إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ صَغِيرٌ لَا أَبَّ لَهُ، وَالتَّعْبِيرُ فِيهِمَا بِالْأَكْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ سَائِرُ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا (وَالتَّوَلِّي) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيِ الْإِدْبَارُ لِلْفِرَارِ (يَوْمَ الزَّحْفِ) وَهُوَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي يَزْحَفُونَ إِلَى الْعَدُوِّ، أَيْ يَمْشُونَ إِلَيْهِمْ بِمَشَقَّةٍ، مِنْ زَحَفِ الصَّبِيِّ إِذَا دَبَّ عَلَى اسْتِهِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ لِكَثْرَتِهِ وَثِقَلِ حَرَكَتِهِ كَأَنَّهُ يَزْحَفُ، وَسُمُّوا بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً، وَإِذَا كَانَ بِإِزَاءِ كُلِّ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ مِنْ كَافِرَيْنِ جَازَ التَّوَلِّي. (وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ) أَيِ الْعَفَائِفِ يَعْنِي رَمْيَهُنَّ بِالزِّنَا، وَهِيَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَتُكْسَرُ أَيْ أَحْصَنَهَا اللَّهُ وَحِفْظَهَا، أَوِ الَّتِي حَفِظَتْ فَرْجَهَا مِنَ الزِّنَا (الْمُؤْمِنَاتُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَذْفِ الْكَافِرَاتِ، فَإِنَّ قَذْفَهُ لَيْسَ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَقَذْفُهَا مِنَ الصَّغَائِرِ، وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَفِي قَذْفِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ التَّعْزِيرُ دُونَ الْحَدِّ، وَيَتَعَلَّقُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ رَجُلًا يَكُونُ الْقَذْفُ أَيْضًا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَيَجِبُ الْحَدُّ أَيْضًا، فَتَخْصِيصُهُنَّ لِمُرَاعَاةِ الْآيَةِ وَالْعَادَةِ. (الْغَافِلَاتُ) عَنِ الِاهْتِمَامِ بِالْفَاحِشَةِ كِنَايَةً عَنِ الْبَرِيئَاتِ، فَإِنَّ الْبَرِيءَ غَافِلٌ عَمَّا بُهِتَ بِهِ، وَالْغَافِلَاتُ مُؤَخَّرٌ عَنِ الْمُؤْمِنَاتِ فِي الْحَدِيثِ عَكْسَ الْآيَةِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ بِالْعَكْسِ وَفْقَ الْآيَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

53 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ حِينَ يَغُلُّ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ; فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 53 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَزْنِي) بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ خَطًّا (الزَّانِي حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَظَاهِرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَأَصْحَابُنَا أَوَّلُوهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ فِي إِيمَانِهِ، أَوْ ذُو أَمْنٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الْمُرَادُ الْمُؤْمِنُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ، يُقَالُ: أَمِنَ لَهُ، إِذَا انْقَادَ وَأَطَاعَ، أَوْ مَعْنَاهُ الزَّجْرُ وَالْوَعِيدُ، أَوِ الْإِنْذَارُ لِمُرْتَكِبِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ، إِذْ مُرْتَكِبُهَا لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ فِي الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِيمَانِ، أَوْ أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ مِنْهُ، وَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ، فَإِذَا انْقَلَعَ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى مُؤْمِنٍ مُسْتَحٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْحَيَاءَ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ، فَلَوِ اسْتَحَى مِنْهُ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ نَاظِرٌ لَمْ يَرْتَكِبْ هَذَا الْفِعْلَ الشَّنِيعَ، وَفِيهِ بَحْثٌ، إِذْ سُئِلَ الْجُنَيْدُ: أَيَزْنِي الْعَارِفُ؟ فَقَالَ: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. مَعَ أَنَّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى تِلْكَ الشُّعْبَةُ انْتَفَى كَمَالُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ،

وَنَظِيرُهُ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ صِيَغَ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً عَلَى طَرِيقِ الْإِخْبَارِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا النَّهْيُ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ رُوِيَ: " لَا يَزْنِ " بِحَذْفِ الْيَاءِ، وَ " لَا يَشْرَبِ " بِكَسْرِ الْبَاءِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْأَعْمَالُ خَارِجَةٌ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] وَنَظَائِرُهُ. وَفِي حَمْلِهِ عَلَى النَّهْيِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ كَقَوْلِ الطَّبِيبِ: لَا تَشْرَبِ اللَّبَنَ وَأَنْتَ مَحْمُومٌ، وَأَمَّا حَذْفُ الْيَاءِ فَإِنْ صَحَّ، فَهُوَ عَلَى أُسْلُوبِ لَا تَكْذِبْ وَأَنْتَ عَالِمٌ أَيْ أَنَّ كَذِبَكَ عَالِمًا أَفْحَشُ مِنْهُ غَيْرَ عَالِمٍ ( «وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) » أَيْ وَلَا يَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهِ وَحُذِفَ، وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَعُودُ إِلَى مُؤْمِنٍ. قَالَ الْمَالِكِيُّ: وَمِنْ حَذْفِ الْفَاعِلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «وَلَا يَشْرَبُ، وَلَا يَنْتَهِبُ، وَلَا يَغُلُّ، وَلَا يَقْتُلُ» ) . أَيْ شَارِبٌ، وَنَاهِبٌ، وَغَالٌّ، وَقَاتِلٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} [آل عمران: 169] فِي قِرَاءَةِ هِشَامٍ أَيْ حَاسِبٌ، كَذَا نَقْلَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُهُ: غَالٌّ سَهْوٌ؛ إِذْ فَاعِلُهُ مَوْجُودٌ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَحَدُكُمْ، وَقَوْلُهُ: قِرَاءَةُ هِشَامٍ يَعْنِي بِالْغَيْبَةِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ (وَلَا يَنْتَهِبُ) انْتَهَبَ وَنَهَبَ، إِذَا أَغَارَ عَلَى أَحَدٍ وَأَخَذَ مَالَهُ قَهْرًا (نُهْبَةً) بِالضَّمِّ: الْمَالُ الَّذِي يُنْتَهَبُ، فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ (يَرْفَعُ النَّاسُ) صِفَةُ نُهْبَةٍ (إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى الْمُنْتَهِبِ (فِيهَا) أَيْ بِسَبَبِهَا وَلِأَجْلِهَا، أَوْ فِي حَالِ فِعْلِهَا أَوْ أَخْذِهَا (أَبْصَارَهُمْ) أَيْ تَعَجُّبًا مِنْ جَرَاءَتِهِ، أَوْ خَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ، وَهُوَ مَفْعُولُ يَرْفَعُ (حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وَالْمَعْنَى لَا يَأْخُذُ رَجُلٌ مَالَ قَوْمٍ قَهْرًا وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَضَرَّعُونَ لَدَيْهِ، وَيَبْكُونَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهِ - وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُؤْمِنِ (وَلَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ) الْغُلُولُ: الْجِنَايَةُ أَوِ الْخِيَانَةُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالْغِلُّ الْحِقْدُ، وَمُضَارِعُ الْأَوَّلِ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْمُرَادُ، وَالثَّانِي بِالْكَسْرِ (حِينَ يَغِلُّ) أَيْ يَسْرِقُ شَيْئًا مِنْ غَنِيمَةٍ، أَوْ يَخُونُ فِي أَمَانَةٍ (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ) نَصْبُهُ عَلَى التَّحْذِيرِ، وَالتَّكْرِيرُ تَوْكِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ أَيْ أُحَذِّرُكُمْ مِنْ فِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) إِلَّا قَوْلَهُ: " وَلَا يَغُلُّ " فَإِنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، كَذَا قَالَهُ مِيرَكُ.

54 - وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «وَلَا يَقْتُلُ حِينَ يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُنْزَعُ الْإِيمَانُ؟ قَالَ: هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَكُونُ هَذَا مُؤْمِنًا تَامًّا، وَلَا يَكُونُ لَهُ نُورُ الْإِيمَانِ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 54 - (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) زِيَادَةٌ ( «وَلَا يَقْتُلُ حِينَ يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» ) قَالَ عِكْرِمَةُ) مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُنْزَعُ الْإِيمَانُ مِنْهُ؟ قَالَ: هَكَذَا) أَيْ تَفْسِيرُهُ (وَشَبَّكَ) أَوْ قَالَ: هَكَذَا وَفَعَلَ التَّشْبِيكَ، يَعْنِي جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ هَكَذَا وَفِعْلِ التَّشْبِيكِ (بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا) تَعْبِيرٌ لِلْأَمْرِ الْمَعْنَوِيِّ بِالْمُدْرَكِ الْحِسِّيِّ؛ تَقْرِيبًا لِلْفَهْمِ (قَالَ) كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَخْرَجُ عَنْ مُرْتَكِبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حِينَ الِارْتِكَابِ، وَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَالتَّأْوِيلُ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَنُورَهُ، وَثَمَرَتَهُ، وَنَتِيجَتَهُ مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالشَّفَقَةِ، وَالدِّيَانَةِ - تُفَارِقُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَيَنْصُرُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ الْمَعْنَى يُنْزَعُ عَنْهُ اسْمُ الْمَدْحِ الَّذِي يُسَمَّى بِهِ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَسْتَحِقُّ اسْمَ الذَّمِّ فَيُقَالُ: سَارِقٌ، وَزَانٍ، وَفَاسِقٌ. (وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبُخَارِيُّ (لَا يَكُونُ هَذَا مُؤْمِنًا تَامًّا) أَيْ كَامِلًا (وَلَا يَكُونُ لَهُ نُورُ الْإِيمَانِ) أَيْ بَهَاؤُهُ، وَبَهْجَتُهُ، وَضِيَاؤُهُ، وَثَمَرَتُهُ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ) فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَقَوْلُهُ، وَقَالَ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ سَمَاجَةٌ لَا تَخْفَى، قَالَهُ مِيرَكُ.

55 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ» ". زَادَ مُسْلِمٌ: " «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» "، ثُمَّ اتَّفَقَا: ( «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 55 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَعَنْهُ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوِ الْبُخَارِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (آيَةُ الْمُنَافِقِ) أَيْ عَلَامَةُ نِفَاقِهِ الدَّالِّ عَلَى قُبْحِ نِيَّتِهِ وَفَسَادِ طَوِيَّتِهِ، وَأَصْلِهِ مَنْ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ (ثَلَاثٌ) أَيْ خِصَالٌ، وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ، وَإِفْرَادُهَا إِمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا آيَةٌ أَنَّ الْعَلَّامَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِاجْتِمَاعِ الثَّلَاثِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ بِلَفْظِ: عَلَامَاتُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْحَصْرِ فِي الثَّلَاثِ فَكَيْفَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِلَفْظِ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ. . . الْحَدِيثَ؟ أَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَجَدَّ لَهُ الْعِلْمُ بِخِصَالِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارُضٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِّ الْخَصْلَةِ كَوْنُهَا عَلَامَةً عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ عَدَمِ الْحَصْرِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ مِنْ عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِبَعْضِ الْعَلَامَاتِ فِي وَقْتٍ وَبَعْضَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ. (زَادَ مُسْلِمٌ: (وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى) التَّثْنِيَةُ لِلتَّكْرِيرِ وَالِاسْتِيعَابُ. أَيْ وَإِنْ عَمِلَ عَمَلَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ صَلَّى، وَصَامَ، وَحَجَّ، وَاعْتَمَرَ، وَقَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ. وَهَذَا الشَّرْطُ اعْتِرَاضٌ وَارِدٌ لِلْمُبَالَغَةِ لَا يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ. (وَزَعَمَ) أَيِ ادَّعَى (أَنَّهُ مُسْلِمٌ) أَيْ كَامِلٌ (ثُمَّ اتَّفَقَا) أَيِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، فَقَالَا: (إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ) وَهُوَ أَقْبَحُ الثَّلَاثَةِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ (وَإِذَا وَعَدَ) أَيْ أَخْبَرَ بِخَيْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذْ " وَعَدَ " يَغْلِبُ فِي الْخَيْرِ، وَ " أَوْعَدَ " فِي الشَّرِّ، وَأَيْضًا الْخُلْفُ فِي الْوَعِيدِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لِمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي (أَخْلَفَ) أَيْ جَعَلَ الْوَعْدَ خِلَافًا بِأَنْ لَمْ يَفِ بِوَعْدِهِ، وَوَجْهُ الْمُغَايِرَةِ بَيْنَ هَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّ الْإِخْلَافَ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ غَيْرُ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ لَازِمُ التَّحْدِيثِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ؛ لِأَنَّ ذَمَّ الْإِخْلَافِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ تَضْمِينِهِ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ إِنْ عَزَمَ عَلَى الْإِخْلَافِ حَالَ الْوَعْدِ لَا إِنْ طَرَأَ لَهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ عَلَامَةَ النِّفَاقِ لَا يَلْزَمُ تَحْرِيمُهَا، إِذًا الْمَكْرُوهُ لِكَوْنِهِ يَجُرُّ إِلَى الْحَرَامِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَامَةً عَلَى الْمُحَرَّمِ، وَنَظِيرُهُ عَلَامَاتُ السَّاعَةِ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ (وَإِذَا اؤْتُمِنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ جُعِلَ أَمِينًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ: اتُّمِنَ، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ لِقَلْبِ هَمْزَتِهِ الثَّانِيَةِ وَاوًا وَإِبْدَالِهَا وَإِدْغَامِ التَّاءِ فِي التَّاءِ اهـ. وَلَعَلَّ هَذَا الْإِعْلَالَ قَبْلَ دُخُولِ إِذَا عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} [البقرة: 283] قَرَأَ وَرْشٌ وَالسُّوسِيُّ " الَّذِي يَتَّمِنُ " بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَقُرِئَ " وَالَّذِتُّمِنَ " بِإِدْغَامٍ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ الْهَمْزَةِ فِي حُكْمِهَا، فَلَا تُدْغَمُ اهـ. وَلِذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ: قِرَاءَةُ هَذَا بِالتَّشْدِيدِ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، فَالصَّحِيحُ فِي الرِّوَايَةِ هُنَا إِمَّا بِالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ أَوْ إِبْدَالِهَا أَلِفًا (خَانَ) وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمُخَالَفَةِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا مَبْنَى النِّفَاقِ مِنْ مُخَالَفَةِ السِّرِّ الْعَلَنَ، فَالْكَذِبُ الْإِخْبَارُ عَلَى خِلَافِ الْوَاقِعِ، وَحَقُّ الْأَمَانَةِ أَنْ تُؤَدَّى إِلَى أَهْلِهَا، فَالْخِيَانَةُ مُخَالَفَةٌ لَهَا، وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ ظَاهِرٌ؛ وَلِهَذَا صَرَّحَ بِـ " أَخْلَفَ ". فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ قَدْ تُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِ الْمُجْمَعِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِكُفْرِهِ، قُلْنَا: اللَّامُ فِي الْمُنَافِقِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَهُوَ إِمَّا

عَلَى التَّشْبِيهِ لِنِفَاقِ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ بِنِفَاقِ الِاعْتِقَادِ الَّذِي يُنَافِيهِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا فِيهِ إِظْهَارٌ بِخِلَافِ مَا أَبْطَنَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ الِاعْتِيَادُ؛ وَلِذَا قَيَّدَ هَذَا بِإِذَا الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكْرَارِ يَعْنِي أَنَّ النِّفَاقَ الْعَمَلِيَّ إِذَا وَقَعَ كَثِيرًا بِحَيْثُ إِنَّهُ يَصِيرُ عَادَةً قَدْ يَجُرُّ إِلَى النِّفَاقِ الْحَقِيقِيِّ بِخِلَافِ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْخِصَالُ، أَوْ بَعْضُهَا نَادِرًا، فَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْخِصَالُ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِيَنْزَجِرَ الْكُلُّ عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى آكَدِ وَجْهٍ إِيذَانًا بِأَنَّهَا طَلَائِعُ النِّفَاقِ الَّذِي هُوَ أَسْمَجُ الْقَبَائِحِ؛ لِأَنَّهُ كُفْرٌ ضَمُّوا إِلَيْهِ الِاسْتِهْزَاءَ وَالْخِدَاعَ بِرَبِّ الْأَرْبَابِ، وَمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَلَّا يَرْتَعَ حَوْلَهَا، فَإِنَّ مَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحَمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُنَافِقِ الْمُنَافِقُ الْعُرْفِيُّ، وَهُوَ مَنْ يُخَالِفُ سِرُّهُ عَلَنَهُ مُطْلَقًا، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: خَالِصًا ; لِأَنَّ الْخِصَالَ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ السِّرِّ وَالْعَلَنِ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: حَصَلَ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ خَمْسُ خِصَالٍ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إِذَا عَاهَدَ غَدَرَ دَاخِلٌ فِي إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ. وَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثٍ بَلْ إِلَى وَاحِدَةٍ هِيَ أَقْبَحُهَا، وَهِيَ الْكَذِبُ، قِيلَ: لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّهَا خَمْسَةٌ بِاعْتِبَارِ تَغَايُرِهَا عُرْفًا أَوْ تَغَايُرِ أَوْصَافِهَا وَلَوَازِمِهَا، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: ثَمَّةَ ثَلَاثٌ، وَهُنَا أَرْبَعٌ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَعَلَى مُقَابِلِهِ الَّذِي صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَ بِالْوَحْيِ بِثَلَاثٍ، ثُمَّ بِأَرْبَعٍ، أَوْ مَعْنَاهُ الْإِنْذَارُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَعْتَادَ هَذِهِ الْخِصَالَ فَتُفْضِي بِهِ إِلَى النِّفَاقِ الْخَالِصِ، وَإِمَّا لِلْعَهْدِ إِمَّا مِنْ مُنَافِقِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِمَّا مِنْ مُنَافِقٍ خَاصٍّ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالنِّفَاقِ هُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ لَا الْإِيمَانِيُّ، أَوِ الْمُرَادُ النِّفَاقُ الْعُرْفِيُّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ سِرُّهُ خِلَافَ عَلَنِهِ، وَاسْتُحْسِنَ هَذَا؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ الِاعْتِقَادِيُّ الَّذِي هُوَ إِبِطَانُ الْكُفْرِ وَإِظْهَارُ الْإِسْلَامِ، وَعُرْفِيٌّ وَهُوَ الْعَمَلِيُّ الَّذِي هُوَ إِبِطَانُ الْمَعْصِيَةِ وَإِظْهَارُ الطَّاعَةِ، فَإِرَادَتُهُ هُنَا أَوْلَى. وَإِطْلَاقُ النِّفَاقِ عَلَى الْعَمَلِيِّ كَإِطْلَاقِ الْكُفْرِ عَلَى بَعْضِ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» ) . وَأَبَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مَرَّةً هَذَا الْإِطْلَاقَ، وَمَرَّةً قَالَ بِهِ، فَسَمَّى صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُنَافِقًا، وَيُحْكَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْأَوَّلِ لَمَّا أَرْسَلَ لَهُ عَطَاءٌ إِذْ بَلَغَهُ عَنْهُ ذَلِكَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وُجِدَتْ فِيهِمْ تِلْكَ الثَّلَاثَةُ أَفَتَرَاهُمْ مُنَافِقِينَ؟ فَسُرَّ بِمَا نَبَّهَهُ عَلَيْهِ عَطَاءٌ، وَرُوِيَ «أَنَّ مُقَاتِلًا قَالَ لِابْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَفْسَدَ عَلَيَّ مَعِيشَتِي لِأَنِّي أَظُنُّ أَلَّا أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْضِهَا، فَضَحِكَ وَقَالَ: قَدْ أَهَمَّنِي ذَلِكَ. فَسَأَلْتُ عَنْهُ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَضَحِكَا وَقَالَا: أَهَمَّنَا ذَلِكَ. فَسَأَلْنَا عَنْهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ فَقَالَ: (مَا لَكُمْ وَمَا لَهُنَّ) ! أَمَّا قَوْلَيْ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، وَأَمَّا إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ فَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77] الْآيَةَ. وَأَمَّا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ، وَأَنْتُمْ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا ذُكِرَ فِي أَوْلَادِ يَعْقُوبَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ أَنْبِيَاءَ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ بِحَمْلِهِ عَلَى مُحَامِلِ التَّجَوُّزَاتِ وَالْكِنَايَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ حَقَائِقِ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ إِذِ الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا عَنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَصِغَارِهَا، وَلَوْ سَهْوًا عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلُ بِنُبُوَّتِهِمْ بَلْ يَصِحُّ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136] وَهُمْ - أَعْنِي الْأَسْبَاطَ - أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، فَالْآيَةُ مُصَرِّحَةٌ بِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ مِنَ الْإِنْزَالِ إِلَيْهِمْ نُبُوَّتُهُمْ كُلُّهُمُ اهـ.

وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ السِّبْطَ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ وَلَدُ الْوَلَدِ، فَفِي الْقَامُوسِ: السِّبْطُ - بِالْكَسْرِ - وَلَدُ الْوَلَدِ، وَالْقَبِيلَةُ مِنَ الْيَهُودِ، جَمْعُهُ أَسْبَاطٌ، وَفِي النِّهَايَةِ الْأَسْبَاطُ فِي أَوْلَادِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبَائِلِ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَحَدُهُمْ سِبْطٌ، فَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى أُمَّةٍ اهـ. وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِنْزَالِ إِلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ نَبِيًّا، وَالْبَاقُونَ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] ثُمَّ عَلَى ثُبُوتِ نُبُوَّتِهِمْ جَمِيعًا وَعَدَمِ تَجْوِيزِ الصَّغِيرَةِ وَلَوْ سَهْوًا يَنْسَدُّ بَابُ تَأْوِيلِ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْعُقُوقِ، وَقَطْعِ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَبَيْعِ الْحُرِّ، وَقَوْلِهِمْ: {أَكْلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 14] وَوَعْدِهِمْ بِالْحِفْظِ بِقَوْلِهِمْ: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] وَإِتْيَانِهِمْ عِشَاءً يَبْكُونَ إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ، وَقَوْلِهِمْ: {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] وَقَوْلِهِمْ: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف: 9] وَطَرْحُهُمْ إِيَّاهُ فِي الْبِئْرِ مَعَ أَنَّ تَأْوِيلَهَا يُخَالِفُهُ أَقْوَالُ السَّلَفِ مِنْ إِلْزَامِ عَطَاءٍ وَالْتِزَامِ الْحَسَنِ. فَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ تَجْوِيزُ وُقُوعِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سَهْوًا وَالصَّغَائِرِ عَمْدًا بَعْدَ الْوَحْيِ، وَأَمَّا قَبْلَ الْوَحْيِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ صُدُورِ الْكَبِيرَةِ، وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى امْتِنَاعِهَا، وَنَفَتِ الشِّيعَةُ صُدُورَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ قَبْلَ الْوَحْيِ وَبَعْدَهُ.

56 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 56 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَرْبَعٌ) أَيْ خِصَالٌ أَرْبَعٌ، أَوْ أَرْبَعٌ مِنَ الْخِصَالِ، فَسَاغَ الِابْتِدَاءُ بِهِ (مَنْ كُنَّ فِيهِ) قِيلَ بِتَأْوِيلِ اعْتِقَادِ اسْتِحْلَالِهِنَّ (كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا) وَيُمْكِنُ أَلَّا يَجْتَمِعْنَ فِي مُؤْمِنٍ خُصُوصًا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِيَادِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ) أَيْ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ (كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا) أَيْ يَتْرُكَهَا (إِذَا اؤْتُمِنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ وُضِعَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ (خَانَ) أَيْ بِالتَّصَرُّفِ غَيْرِ الشَّرْعِيِّ (وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ) أَيْ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ) أَيْ يَنْقُضُ الْعَهْدَ ابْتِدَاءً، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِذَا حَالَفَ تَرَكَ الْوَفْدَ (وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) أَيْ شَتَمَ وَرَمَى بِالْأَشْيَاءِ الْقَبِيحَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ وَاسْتَمَرَّتْ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمَفْتُونُ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، وَإِنْ وُجِدَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهَا عَدِمَ الْأُخْرَى، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَالْمُنَافِقِ بِحَذْفِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ مِثْلَ " زَيْدٌ أَسَدٌ "، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُخْتَصًّا بِأَهْلِ زَمَانِهِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَفَ بِنُورِ الْوَحْيِ بَوَاطِنَ أَحْوَالِهِمْ، وَمَيَّزَ بَيْنَ مَنْ آمَنَ بِهِ صِدْقًا وَمَنْ أَذْعَنَ لَهُ نِفَاقًا، وَأَرَادَ اطِّلَاعَ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِمْ لِيَحْذَرُوا مِنْهُمْ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَسْمَائِهِمْ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَتُوبُ، فَلَمْ يَفْضَحْهُمْ بَيْنَ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ التَّصْرِيحِ أَوْقَعُ فِي النَّصِيحَةِ، وَأَدَلُّ عَلَى الشَّفَقَةِ، وَأَجْلَبُ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَأَبْعَدُ عَنِ النُّفُورِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالِالْتِحَاقِ بِالْمُخَالِفِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَفْظُهُمْ: ( «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» ) .

57 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغُنْمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 57 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَثَلُ الْمُنَافِقِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ صِفَتُهُ الْعَجِيبَةُ الشَّأْنُ (كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ) أَيِ الطَّالِبَةِ لِلْفَحْلِ الْمُتَرَدِّدَةِ، مِنْ " عَارَ " ذَهَبَ وَبَعُدَ (بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ) أَيِ الْقَطِيعَيْنِ فَإِنَّ الْغَنَمَ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا تَتْبَعُ (تَعِيرُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ

تَنْفِرُ، وَتَشْرُدُ (إِلَى هَذِهِ) أَيِ الْقِطْعَةِ (مَرَّةً، وَإِلَى هَذِهِ) أَيِ الْقِطْعَةِ الْأُخْرَى (مَرَّةً) أُخْرَى؛ لِيَضْرِبَهَا فَحْلُهَا، فَلَا ثَبَاتَ لَهَا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسِيرَةُ شَهْوَتِهَا، وَهُوَ تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ مَحْسُوسٌ بِمَعْنًى مَعْقُولٍ تَقْرِيبًا إِلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ، فَشَبَّهَ تَرَدُّدَهُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ أَيِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ تَبَعًا لِهَوَاهُ وَمُرَادَاتِهِ، وَقَصْدًا إِلَى شَهَوَاتِهِ - بِتَرَدُّدِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ، وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ: لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا تَتْبَعُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 58 - «عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لَا تَقُلْ: نَبِيٌّ، إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ لَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ. فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلَا تُوَلُّوا لِلْفِرَارِ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً - الْيَهُودَ - أَنْ لَا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ ". قَالَ: فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. قَالَ: " فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبَعُونِي؟ ". قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. الْفَصْلُ الثَّانِي 58 - (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ) بِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ، هُوَ الْمُرَادِيُّ، وَسَكَنَ الْكُوفَةَ، وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ) أَيْ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ (لِصَاحِبِهِ) مِنَ الْيَهُودِ (اذْهَبْ بِنَا) الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوِ التَّعْدِيَةِ (إِلَى هَذَا النَّبِيِّ) أَيْ لِنَسْأَلَهُ عَنْ مَسَائِلَ (فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لَا تَقُلْ) أَيْ لَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (نَبِيٌّ) أَيْ هُوَ نَبِيٌّ (إِنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيْ لِأَنَّ النَّبِيَّ (لَوْ سَمِعَكَ) أَيْ سُمِعَ قَوْلُكَ إِلَى هَذَا النَّبِيِّ (لَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ) أَيْ يَسُرُّ بِقَوْلِكَ هَذَا النَّبِيَّ سُرُورًا يَمُدُّ الْبَاصِرَةَ فَيَزْدَادُ بِهِ نُورًا عَلَى نُورٍ، كَذِي عَيْنَيْنِ أَصْبَحَ يُبْصِرُ بِأَرْبَعٍ، فَإِنَّ الْفَرَحَ يَمُدُّ الْبَاصِرَةَ، كَمَا أَنَّ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ يُخِلُّ بِهَا؛ وَلِذَا يُقَالُ لِمَنْ أَحَاطَتْ بِهِ الْهُمُومُ: أَظْلَمَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا (فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَاهُ) أَيِ امْتِحَانًا (عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) أَيْ وَاضِحَاتٍ، وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ الظَّاهِرَةُ، تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ كَعَلَامَةِ الطَّرِيقِ، وَالْمَعْقُولَاتِ كَالْحُكْمِ الْوَاضِحِ وَالْمَسْأَلَةِ الْوَاضِحَةِ، فَيُقَالُ لِكُلِّ مَا تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِحَسَبِ التَّفَكُّرِ فِيهِ وَالتَّأَمُّلِ، وَحَسَبِ مَنَازِلِ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ: آيَةٌ وَلِلْمُعْجِزَةِ آيَةٌ، وَلِكُلِّ جُمْلَةٍ دَالَّةٍ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ آيَةٌ، وَلِكُلِّ كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ بِفَصْلٍ لَفْظِيٍّ آيَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هَاهُنَا إِمَّا الْمُعْجِزَاتُ التِّسْعُ وَهِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالسُّنُونُ، وَنَقْصٌ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: لَا تُشْرِكُوا، كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ ذَكَرَهُ عَقِيبَ الْجَوَابِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّاوِي الْجَوَابَ اسْتِغْنَاءً بِمَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُمَا سَأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ لِلْمِلَلِ الثَّابِتَةِ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ، وَبَيَانُهَا مَا بَعْدَهَا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حَالِ مَنْ يَتَعَاطَى مُتَعَلِّقَهَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَقَوْلُهُ: وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً، حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ زَائِدٌ عَلَى الْجَوَابِ؛ وَلِذَا غَيَّرَ السِّيَاقَ ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ» ) أَيْ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ (شَيْئًا) مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوِ الْإِشْرَاكِ ( «وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» ) سَبَقَ (وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ) بِهَمْزَةٍ وَإِدْغَامٍ أَيْ بِمُتَبَرِّئٍ مِنَ الْإِثْمِ. الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ لَا تَسْعَوْا، وَلَا تَتَكَلَّمُوا بِسُوءٍ فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ ذَنْبٌ (إِلَى ذِي سُلْطَانٍ) أَيْ صَاحِبِ قُوَّةٍ، وَقُدْرَةٍ، وَغَلَبَةٍ، وَشَوْكَةٍ (لِيَقْتُلَهُ) يَعْنِي كَيْ لَا يَقْتُلَهُ مَثَلًا (وَلَا تَسْحَرُوا) بِفَتْحِ الْحَاءِ، فَإِنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ كُفْرٌ، وَبَعْضُهَا فِسْقٌ (وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا) فَإِنَّهُ سُحْقٌ وَمَحْقٌ (وَلَا تَقْذِفُوا) بِكَسْرِ الذَّالِ (مُحْصَنَةً) بِفَتْحِ الصَّادِ

وَيُكْسَرُ، أَيْ لَا تَرْمُوا بِالزِّنَا عَفِيفَةً (وَلَا تُوَلُّوا لِلْفِرَارِ) أَيْ لِأَجْلِهِ، مِنَ التَّوَلِّي وَهُوَ الْإِعْرَاضُ وَالْإِدْبَارُ. أَصْلُهُ تَتَوَلَّوْا، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ، مِنْ وَلَّى تَوْلِيَةً إِذَا أَدْبَرَ أَيْ وَلَا تُوَلُّوا أَدْبَارَكُمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْفِرَارُ بِلَا لَامِ الْعِلَّةِ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. (يَوْمَ الزَّحْفِ) أَيِ الْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ (وَعَلَيْكُمْ) ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرًا مُقَدَّمًا (خَاصَّةً) مَنَّوْنًا حَالٌ، وَالْمُسْتَتِرُ فِي الظَّرْفِ الْعَائِدِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ، أَيْ مَخْصُوصِينَ بِهَذِهِ الْعَاشِرَةِ، أَوْ حَالَ كَوْنِ عَدَمِ الِاعْتِدَاءِ مُخْتَصًّا بِكُمْ دُونَ غَيْرِكُمْ مِنَ الْمِلَلِ، أَوْ تَمْيِيزٌ، وَالْخَاصَّةُ ضِدُّ الْعَامَّةِ (الْيَهُودَ) نَصْبٌ عَلَى التَّخْصِيصِ وَالتَّفْسِيرِ، أَيْ أَعْنِي الْيَهُودَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاصَّةً بِمَعْنَى خُصُوصًا، وَيَكُونُ الْيَهُودُ مَعْمُولًا لِفِعْلِهِ أَيْ: أَخُصُّ الْيَهُودَ خُصُوصًا، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ " يَهُودُ " مَضْمُومًا بِلَا لَامٍ عَلَى أَنَّهُ مُنَادَى، وَقَوْلُهُ: (أَنْ لَا تَعْتَدُوا) بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْمُبْتَدَأُ مِنَ الْاعْتِدَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنْ لَا تَعْدُوا بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ (فِي السَّبْتِ) أَيْ لَا تَتَجَاوَزُوا أَمْرَ اللَّهِ فِي تَعْظِيمِ السَّبْتِ بِأَنْ لَا تَصِيدُوا السَّمَكَ فِيهِ، وَقِيلَ: " عَلَيْكُمْ " اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذُوا، وَ " أَنْ لَا تَعْتَدُوا " مَفْعُولُهُ، أَيِ الْزَمُوا تَرْكَ الِاعْتِدَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنِ الْآيَاتِ التِّسْعِ وَالْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ جَمِيعًا، وَأَخْبَرُوا عَنْ إِحْدَاهَا، وَأَضْمَرُوا عَنْ أُخْرَاهَا عَلَى طَرِيقِ التَّوْرِيَةِ، فَأَجَابَهُمْ عَنِ الْأَمْرَيْنِ وَحَذَفَ الرَّاوِي الْأَوَّلَ، أَوْ أَجَابَهُمْ عَنِ الْمُشْكِلِ أَوِ الْمُضْمَرِ، وَتَرَكَ الْمَشْهُورَ إِمَّا لِظُهُورِهِ، أَوْ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ؛ وَلِذَا أَذْعَنَّا لَهُ فِي الظَّاهِرِ. (قَالَ) صَفْوَانُ (فَقَبَّلَا) أَيِ الْيَهُودِيَّانِ (يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ) إِذْ هَذَا الْعِلْمُ مِنَ الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةٌ، لَكِنْ نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ إِلَى الْعَرَبِ (قَالَ: (فَمَا يَمْنَعُكُمْ) فِيهِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنْتُمَا وَقَوْمُكُمَا (أَنْ تَتَّبَعُونِي) بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَقِيلَ: بِالتَّخْفِيفِ أَيْ مِنْ أَنْ تَقْبَلُوا نُبُوَّتِي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ وَتَتَّبَعُونِي فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ (قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ) أَيْ بِأَنْ لَا يَنْقَطِعَ (مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ مُسْتَجَابًا، فَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَيَتَّبِعُهُ الْيَهُودُ، وَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُمُ الْغَلَبَةُ وَالشَّوْكَةُ (وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ) أَيْ فَإِنْ تَرَكْنَا دِينَهُمْ، وَاتَّبَعْنَاكَ لِقَتَلَنَا الْيَهُودُ إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ نَبِيٌّ وَقُوَّةٌ، وَهَذَا افْتِرَاءٌ مَحْضٌ عَلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ قَرَأَ فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ بَعْثَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّبِيِّ، وَأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ الْأَدْيَانُ، فَكَيْفَ يَدْعُو بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ . وَلَئِنْ سَلِمَ فَعِيسَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَهُوَ نَبِيٌّ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ عِلَّةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

59 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ؛ الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا تُكَفِّرْهُ بِذَنْبٍ، وَلَا تُخْرِجْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ. وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُذْ بَعَثَنِيَ اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الدَّجَّالَ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ، وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ. وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 59 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثَلَاثٌ) أَيْ خِصَالٌ (مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ) أَيْ أَسَاسُهُ وَقَاعِدَتُهُ، إِحْدَاهَا أَوْ مِنْهَا ( «الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) أَيْ الِامْتِنَاعُ عَنِ التَّعَرُّضِ بِأَهْلِ

الْإِسْلَامِ (لَا تُكَفِّرْهُ) بِالتَّاءِ نَهْيٌ، وَبِالنُّونِ نَفْيٌ، وَكَلَاهُمَا مَرْوِيٌّ، وَهُوَ بَيَانٌ لِلْكُفْرِ؛ وَلِذَا قَطَعَهُ عَنْهُ، وَالْإِكْفَارُ وَالتَّكْفِيرُ نِسْبَةُ أَحَدٍ إِلَى الْكُفْرِ (بِذَنْبٍ) أَيْ سِوَى الْكُفْرِ، وَلَوْ كَبِيرَةً خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ (وَلَا تُخْرِجْهُ) بِالْوَجْهَيْنِ (مِنَ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ) أَيْ وَلَوْ كَبِيرَةً سِوَى الْكُفْرِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي إِخْرَاجِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ إِلَى مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ (وَالْجِهَادُ مَاضٍ) أَيِ الْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْجِهَادِ مَاضِيًا، أَوْ ثَانِيَتُهَا الْجِهَادُ، أَوِ الْجِهَادُ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ. وَمَاضٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ مَاضٍ وَنَافِذٌ وَجَارٍ وَمُسْتَمِرٌّ (مُذْ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالنُّونِ أَيْ مِنِ ابْتِدَاءِ زَمَانِ (بَعَثَنِي اللَّهُ) إِلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بِالْجِهَادِ، فَمُذْ: حَرْفُ جَرٍّ، أَوْ أَوَّلُ مُدَّةِ نَفَاذِ الْجِهَادِ زَمَانَ بَعَثَنِي اللَّهُ، فَـ " مُذْ " مُبْتَدَأٌ، وَالزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ آخِرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَاضٍ (إِلَى أَنَّ يُقَاتِلَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ) أَيْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، يَعْنِي عِيسَى أَوِ الْمَهْدِيَّ (الدَّجَّالَ) وَبَعْدَ قَتْلِ الدَّجَّالِ لَا يَكُونُ الْجِهَادُ بَاقِيًا، أَمَّا عَلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَلِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالطَّاقَةِ عَلَيْهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ آيَةِ الْأَنْفَالِ، وَأَمَّا بَعْدَ إِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَافِرٌ مَا دَامَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيًّا فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا عَلَى مَنْ كَفَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلِمَوْتِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ عَنْ قَرِيبٍ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَبَقَاءِ الْكُفَّارِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَتَجِيءُ هَذِهِ الْحِكَايَةُ فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ (لَا يُبْطِلُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ) أَيْ لَا يُسْقِطُ الْجِهَادَ كَوْنُ الْإِمَامِ ظَالِمًا أَوْ عَادِلًا، وَهُوَ صِفَةُ مَاضٍ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: ( «الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا» ) وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضِ الْكَفَرَةِ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ دَوْلَةَ الْإِسْلَامِ تَنْقَرِضُ بَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْجِهَادُ مَاضٍ، أَيْ أَعْلَامُ دَوْلَتِهِ مَنْشُورَةٌ، وَأَوْلِيَاءُ أُمَّتِهِ مَنْصُورَةٌ، وَأَعْدَاءُ مَلَّتِهِ مَقْهُورَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَلَعَلَّ مُحْيِيَ السُّنَّةِ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ، فَإِنَّ الْيَهُودِيَّيْنِ نَافَقَا بِقَوْلِهِمْ: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، ثُمَّ قَوْلِهِمَا: إِنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَا رَبَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادٍ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ تَكْلَفٌ وَتَعَسُّفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَابَ مَوْضُوعٌ لِشَيْئَيْنِ؛ لِلْكَبَائِرِ، وَعَلَامَاتِ النِّفَاقِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ مُنَاسَبَتُهُ لِلْكَبَائِرِ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ كَمَا ظَهَرَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَكَذَا الْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَقَدْ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَتَرْكُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ السَّابِقُ فَفِيهِ الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَالْيَهُودِيَّانِ قَدْ صَرَّحَا بِثُبُوتِهِمَا عَلَى كُفْرِهِمَا، فَلَا يَكُونَانِ مُنَافِقَيْنِ، وَلَيْسَ تُوجَدُ دَلَالَةٌ فِي دُعَاءِ دَاوُدَ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: مَعْنَى لَا يُبْطِلُهُ إِلَخْ: لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْجِهَادِ بِأَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ ظَالِمًا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ، وَلَا بِأَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَادِلًا فَلَا يَخَافُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْغَنَائِمِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْجِهَادِ هُوَ إِعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ، فَاحْتِيجَ لِهَذَا نَفْيًا لِهَذَا التَّوَهُّمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِ عَدْلِ الْعَادِلِ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ إِبْطَالُ الْجِهَادِ بَلْ تَقْوِيَتُهُ، وَلَمَّا نَظَرَ شَارِحٌ لِهَذَا قَالَ: تَتْمِيمٌ، وَإِلَّا فَعَدْلُ الْعَادِلِ لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ إِبْطَالٌ. وَقِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ (وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ) أَيِ الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ، أَوِ الْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ، يَعْنِي بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَجْرِي فِي الْعَالِمِ هُوَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِإِثْبَاتِهِمْ لِلْعِبَادِ الْقُدْرَةَ الْمُسْتَقِلَّةَ بِإِيجَادِ الْمَعْصِيَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

60 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ، فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 60 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا زَنَى) أَيْ أَخَذَ وَشَرَعَ فِي الزِّنَا (الْعَبْدُ) أَيِ الْمُؤْمِنُ (خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ) أَيْ نُورُهُ وَكَمَالُهُ أَوْ أَعْظَمُ شُعَبِهِ وَهُوَ الْحَيَاءُ مِنْ

اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَصِيرُ كَأَنَّهُ خَرَجَ؛ إِذْ لَا يَمْنَعُ إِيمَانُهُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا لَا يَمْنَعُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ فِي الْوَعِيدِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا مِنْ بَابِ الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنِ اشْتُهِرَ بِالرُّجُولِيَّةِ وَالْمُرُوءَةِ ثُمَّ فَعَلَ مَا يُنَافِي شِيمَتَهُ: عُدِمَ عَنْهُ الرُّجُولِيَّةُ وَالْمُرُوءَةُ، تَعْيِيرًا وَتَنْكِيرًا لِيَنْتَهِيَ عَمَّا صَنَعَ، وَاعْتِبَارًا وَزَجْرًا لِلسَّامِعِينَ، وَلُطْفًا بِهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الزِّنَا مِنْ شِيَمِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِمْ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ) وَهُوَ أَوَّلُ سَحَابَةٍ تُظِلُّ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ خَالَفَ حُكْمَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ تَحْتَ ظِلِّهِ، لَا يَزُولُ عَنْهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ، وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ اسْمُهُ (فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ) قِيلَ: أَيْ بِالتَّوْبَةِ (رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ) قِيلَ: هَذَا تَشْبِيهُ الْمَعْنَى بِالْمَحْسُوسِ بِجَامِعٍ مَعْنَوِيٍّ، وَهُوَ الْإِشْرَافُ عَلَى الزَّوَالِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي حَالَةِ اشْتِغَالِهِ بِالْمَعْصِيَةِ يَصِيرُ كَالْفَاقِدِ لِلْإِيمَانِ، لَكِنْ لَا يَزُولُ حُكْمُهُ وَاسْمُهُ، بَلْ هُوَ بَعْدُ فِي ظِلِّ رِعَايَتِهِ، وَكَنَفِ بَرَكَتِهِ إِذَا نُصِبَ فَوْقَهُ كَالسَّحَابَةِ تُظِلُّهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ عَادَ الْإِيمَانُ إِلَيْهِ، قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فِي خَطَرٍ مِنَ الْكُفْرِ - نَعُوذُ بِاللَّهِ - لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ مَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ رُجُوعِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ؛ وَلِذَا قَالُوا: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ تَعْلِيقًا (وَأَبُو دَاوُدَ) وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 61 - عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: «أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ، قَالَ: " لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتُ، وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا؛ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَلَا تَشْرَبَنَّ خَمْرًا فَإِنَّهُ رَأَسَ كُلِّ فَاحِشَةٍ، وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ؛ فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخْطُ اللَّهِ، وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ، وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ، وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ وَأَنْتَ فِيهِمْ فَاثْبُتْ، (أَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ، وَلَا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ 61 - (عَنْ مُعَاذٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ أَمَرَنِي (بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ) بِعَشَرَةِ أَحْكَامٍ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي لِأَعْمَلَ بِهَا وَأُعَلِّمَهَا النَّاسَ (قَالَ: (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا) أَيْ بِقَلْبِكَ، أَوْ بِلِسَانِكَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ (وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ) أَيْ وَإِنْ عُرِّضْتَ لِلْقَتْلِ وَالتَّحْرِيقِ، شَرْطٌ جِيءَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَلَا يُطْلَبُ جَوَابًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: شَرْطٌ لِلْمُبَالَغَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَكْمَلِ مِنْ صَبْرِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا هُدِّدَ بِهِ، وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يَحْصُلْ بِمَوْتِهِ وَهْنُ الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا كَعَالَمٍ وَشُجَاعٍ يَحْصُلُ بِمَوْتِهِ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَلَا يَصْبِرَ عَلَى مَا هُدِّدَ بِهِ؛ رِعَايَةً لِأَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْجَوَازِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ وَأَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ، كَسَبِّ الْإِسْلَامِ وَسُجُودًا لِصَنَمٍ إِذَا هُدِّدَ، وَلَوْ بِنَحْوِ ضَرْبٍ شَدِيدٍ، أَوْ أَخْذِ مَالٍ لَهُ وَقْعٌ كَمَا أَفَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] الْآيَةَ. (وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ) أَيْ تُخَالِفَنَّهُمَا، أَوْ أَحَدَهُمَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً إِذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ( «وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ» )

أَيِ: امْرَأَتِكَ أَوْ جَارِيَتِكَ، أَوْ عَبْدِكَ بِالطَّلَاقِ أَوِ الْبَيْعِ أَوِ الْعِتْقِ أَوْ غَيْرِهَا (وَمَالِكَ) : بِالتَّصَرُّفِ فِي مَرْضَاتِهِمَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: شَرْطٌ لِلْمُبَالَغَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَكْمَلِ أَيْضًا أَيْ: لَا تُخَالِفْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَإِنْ غَلَا فِي شَيْءٍ أَمَرَكَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِرَاقَ زَوْجَةٍ أَوْ هِبَةَ مَالٍ، أَمَّا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْجَوَازِ فَلَا يَلْزَمُهُ طَلَاقُ زَوْجَةٍ أَمَرَاهُ بِفِرَاقِهَا، وَإِنْ تَأَذَّيًا بِبَقَائِهَا إِيذَاءً شَدِيدًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ بِهَا، فَلَا يُكَلَّفَهُ لِأَجْلِهِمَا؛ إِذْ مِنْ شَأْنِ شَفَقَتِهِمَا أَنَّهُمَا لَوْ تَحَقَّقَا ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرَاهُ بِهِ فَإِلْزَامُهُمَا لَهُ مَعَ ذَلِكَ حُمْقٌ مِنْهُمَا، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِخْرَاجُ مَالِهِ (وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً) أَيْ: مَفْرُوضَةً (مُتَعَمِّدًا) : احْتِرَازٌ مِنَ السَّهَرِ وَالنِّسْيَانِ وَالضَّرُورَةِ (فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً) أَيْ: مَفْرُوضَةً وَلَوْ نَذْرًا عَنْ وَقْتِهَا (مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ) أَيْ: لَا يَبْقَى فِي أَمْنٍ مِنَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِحْقَاقِ التَّعْزِيرِ وَالْمَلَامَةِ، وَفِي الْعُقْبَى بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كِنَايَةٌ عَنْ سُقُوطِ احْتِرَامِهِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ التَّرْكِ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْعُقُوبَةِ بِالْحَبْسِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِقَتْلِهِ حَدًّا لَا كُفْرًا بِشَرْطِ إِخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا الضَّرُورِيِّ، وَأَمْرِهِ بِهَا فِي الْوَقْتِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا، وَلِقَتْلِهِ كُفْرًا فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ بِمَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَآخَرِينَ. (وَلَا تَشْرَبَنَّ خَمْرًا فَإِنَّهُ) أَيْ: شُرْبُهَا (رَأْسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ) أَيْ: قَبِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْفَوَاحِشِ هُوَ الْعَقْلُ؛ وَلِذَا سُمِّيَ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ يَعْقِلُ صَاحِبَهُ عَنِ الْقَبَائِحِ فَبِزَوَالِهِ عَنِ الْإِنْسَانِ يَقَعُ فِي كُلِّ فَاحِشَةٍ عَرَضَتْ لَهُ، وَلِذَا سُمِّيَتْ أُمَّ الْخَبَائِثِ، كَمَا سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ أُمَّ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ) : تَحْذِيرٌ وَتَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ السَّابِقَةَ أَعْظَمُهَا ضَرَرًا (فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللَّهِ) أَيْ: نَزَلَ، وَثَبَتَ عَلَى فَاعِلِهَا، وَاسْمُ إِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمَحْذُوفِ أَيْ: فَإِنَّهُ، وَقِيلَ: ضَمِيرُ الشَّأْنِ لَا يُحْذَفُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ تَعْظِيمُ الْكَلَامِ فَيُنَافِي الِاخْتِصَارَ، وَرُدَّ بِحَذْفِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَحَذْفُهُ مَنْصُوبًا ضَعِيفٌ فَقَدْ ضَعَّفُوهُ أَيْضًا، كَيْفَ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ: «أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ» ؟ ! أَيْ: فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالشَّأْنَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَكَ أَنْ تُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ قِيَاسًا لَا اسْتِعْمَالًا، وَمِثْلُهُ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ فِي: {قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] بِنَصْبِ (أَوْلَادَ) الْفَاصِلِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ اهـ. وَأَرَادَ بِهِ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَظْهَرُ مِنْهُ وُجُودُ أَبَى يَأْبَى فِي الْقُرْآنِ مَعَ كَوْنِهِ شَاذًّا فِي الْقِيَاسِ بِلَا خِلَافٍ ( «وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ» ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ) أَيْ: بِالْفِرَارِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِنْ وَصْلِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: شَرْطٌ لِلْمُبَالَغَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَكْمَلِ أَيْضًا، وَإِلَّا فَقَدَ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الْآيَةَ. أَنَّ الْكُفَّارَ حَيْثُ زَادُوا عَلَى الْمِثْلَيْنِ جَازَ الِانْصِرَافُ (وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ) أَيْ: طَاعُونٌ وَوَبَاءٌ (وَأَنْتَ فِيهِمْ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَاثْبُتْ) : لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «وَإِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدٍ، وَأَنْتُمْ فِيهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ، وَإِذَا وَقَعَ بِبَلَدٍ، وَلَسْتُمْ فِيهِ فَلَا تَدْخُلُوا إِلَيْهِ» ) ، وَحِكْمَةُ الْأَوَّلِ أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ لَوْ مُكِّنُوا مِنْ ذَلِكَ لَذَهَبُوا، وَتَرَكُوا الْمَرْضَى فَيَضِيعُوا، وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ قَدِمَ رُبَّمَا أَصَابَهُ؛ فَيُسْنِدُ ذَلِكَ إِلَى قُدُومِهِ فَيَزِلُّ قَدَمُهُ، وَمَحَلُّ الْأَمْرَيْنِ حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ إِلَى الْخُرُوجِ، أَوِ الدُّخُولِ، وَإِلَّا فَلَا إِثْمَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ. (وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: مَنْ تَجِبُ عَلَيْكَ نَفَقَتُهُ شَرْعًا، وَمَحَلُّ بَسْطِهِ كُتُبُ الْفِقْهِ (مِنْ طَوْلِكَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: فَضْلِ مَالِكَ، وَفِي مَعْنَاهُ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَالطَّاقَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِصَادِ، وَالْوَسَطِ فِي الْمُعْتَادِ (وَلَا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا) : مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ: لِلتَّأْدِيبِ لَا لِلتَّعْذِيبِ، وَالْمَعْنَى إِذَا اسْتَحَقُّوا الْأَدَبَ بِالضَّرْبِ فَلَا

تُسَامِحْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] عَلَى التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ (وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ) أَيْ: أَنْذِرْهُمْ فِي مُخَالَفَةِ أَوَامِرَ اللَّهِ. وَنَوَاهِيهِ بِالنَّصِيحَةِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَبِالْحَمْلِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ إِطْعَامِ الْفَقِيرِ وَإِحْسَانِ الْيَتِيمِ وَبِرِّ الْجِيرَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ صَحِيحٌ لَوْ سَلِمَ مِنَ الِانْقِطَاعِ، فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرِ بْنَ نُفَيْرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ.

62 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: إِنَّمَا النِّفَاقُ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ، أَوِ الْإِيمَانُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 62 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا. هُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَاسْمُ الْيَمَانِ حُسَيْلٌ بِالتَّصْغِيرِ، وَالْيَمَانُ لَقَبُهُ، وَكُنْيَةُ حُذَيْفَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَسُكُونِ الْبَاءِ -، هُوَ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَمَاتَ بِالْمَدَائِنِ، وَبِهَا قَبْرُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. (قَالَ: إِنَّمَا النِّفَاقُ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ إِبْقَاءِ أَرْوَاحِهِمْ، وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى مَصَالِحَ مِنْهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا سَتَرُوا عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَحْوَالَهُمْ خَفِيَ عَلَى الْمُخَالِفِينَ حَالُهُمْ، وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْتَنِبُوا عَنْ مُخَاشَنَتِهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، بَلْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَخَافُوا، وَتَقِلَّ شَوْكَتُهُمْ، وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ» ". وَمِنْهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا جَمَعُوا مُخَاشَنَةَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مَنْ يَصْحَبُهُمْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُفْرَتِهِمْ مِنْهُ. وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ شَاهَدَ حُسْنَ خُلُقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ مُخَالِفِهِ رَغِبَ فِي صُحْبَتِهِ، وَوَافَقَ مَعَهُ سِرًّا، وَعَلَانِيَةً، وَدَخَلَ فِي دِينِ اللَّهِ بِوُفُورٍ، وَنَشَاطٍ. (فَأَمَّا الْيَوْمُ) أَيْ: بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَإِنَّمَا هُوَ) أَيِ: الْأَمْرُ وَالْحُكْمُ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَيِ: الشَّأْنُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ (الْكُفْرُ أَوِ الْإِيمَانُ) : وَالضَّمِيرُ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ أَيْ: لَيْسَ الْكَائِنُ الْيَوْمَ إِلَّا الْكُفْرَ أَوِ الْإِيمَانَ، وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا يَعْنِي الْكُفْرَ الصَّرِيحَ، وَالْقَتْلَ، أَوِ الْإِيمَانَ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.

[باب في الوسوسة]

[بَابٌ فِي الْوَسْوَسَةِ]

[2] بَابٌ فِي الْوَسْوَسَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 63 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ، أَوْ تَتَكَلَّمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [2] بَابٌ فِي الْوَسْوَسَةِ الْخَوَاطِرُ إِنْ كَانَتْ تَدْعُو إِلَى الرَّذَائِلِ فَهِيَ وَسْوَسَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الْفَضَائِلِ فَهِيَ إِلْهَامٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا ثِقَةَ بِخَوَاطِرِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 63 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ) أَيْ: عَفَا (عَنْ أُمَّتِي) أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي، أَيْ: لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِذَلِكَ لِأَجْلِي فَلَهُ الْمِنَّةُ الْعُظْمَى الَّتِي لَا مُنْتَهَى لَهَا عَلَيْنَا (مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا) : بِالرَّفْعِ فَاعِلًا أَيْ: مَا خَطَرَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْمُحَاوَرَةِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ مَفْعُولًا بِهِ. قِيلَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ لَازِمٌ، لَنِعْمَ وَجْهُ النَّصْبِ الظَّرْفِيَّةُ إِنْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ، وَرُوِيَ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا بِالرَّفْعِ، وَالنَّصْبُ بَدَلُهُ (مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ) أَيْ: مَا دَامَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ الْعَمَلُ إِنْ كَانَ فِعْلِيًّا (أَوْ تَكَلَّمَ) : بِهِ أَيْ: مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ إِنْ كَانَ قَوْلِيًّا كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، قَالَ صَاحِبُ الرَّوْضَةِ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ إِذَا اسْتَقَرَّتْ يُؤَاخَذُ بِهَا فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا» ) مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ، وَذَلِكَ مَعْفُوٌّ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ بِخِلَافِ الِاسْتِقْرَارِ، ثُمَّ نَقَلَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ عَنِ الْإِحْيَاءِ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ لِأَعْمَالِ الْقَلْبِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ. الْأَوَّلُ: الْخَاطِرُ كَمَا لَوْ خَطَرَ لَهُ صُورَةُ امْرَأَةٍ مَثَلًا خَلَفَ ظَهْرِهِ فِي الطَّرِيقِ لَوِ الْتَفَتَ إِلَيْهَا يَرَاهَا. وَالثَّانِي: هَيَجَانُ الرَّغْبَةِ إِلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَنُسَمِّيهِ مَيْلُ الطَّبْعِ، وَالْأَوَّلُ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَالثَّالِثُ: حُكْمُ الْقَلْبِ بِأَنْ يَفْعَلَ أَيْ: يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَإِنَّ الطَّبْعَ إِذَا مَالَ لَمْ تَنْدَفِعِ الْهِمَّةُ، وَالنِّيَّةُ، مَا لَمْ تَنْدَفِعَ الصَّوَارِفُ، وَهِيَ الْحَيَاءُ، وَالْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ عِبَادِهِ، وَنُسَمِّيهِ اعْتِقَادًا. وَالرَّابِعُ: تَصْمِيمُ الْعَزْمِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَجَزْمِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَنُسَمِّيهِ عَزْمًا بِالْقَلْبِ، أَمَّا الْخَاطِرُ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَكَذَا الْمَيْلُ، وَهَيَجَانُ الرَّغْبَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ، وَهُمَا الْمُرَادَانِ بَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي) الْحَدِيثَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ: فَهُوَ مُرَدَّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارًا لَا يُنْكِرُهُ، وَاضْطِرَارًا يُنْكِرُهُ، فَالِاخْتِيَارِيُّ يُؤَاخَذُ، وَالِاضْطِرَارِيُّ لَا يُؤَاخَذُ، وَأَمَّا الرَّابِعُ وَهُوَ الْعَزْمُ، وَالْهَمُّ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَعَلَيْهِ تَنْزِلُ الْآيَاتُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى مُؤَاخَذَةِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ تَرَكَ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ؛ لِأَنَّ هَمَّهُ سَيِّئَةٌ، وَامْتِنَاعَهُ عَنْهَا مُجَاهَدَةٌ مَعَ نَفْسِهِ فَتَكُونُ حَسَنَةً تَزِيدُ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا لِعَائِقٍ، أَوْ فَاتَهَا ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحُصُولِ كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ لِلْعَزْمِ، وَالْهِمَّةِ الْجَازِمَةِ، وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: ( «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ، وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: (إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» ) . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صَارَ إِلَى النَّارِ، وَوَقَعَ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ، وَالنِّيَّةِ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْمَلْ وَقُتِلَ مَظْلُومًا، وَكَيْفَ لَا يُؤَاخَذُ بِأَعْمَالِ الْقَلْبِ الْجَازِمَةِ، وَالْكِبْرُ، وَالْعُجْبُ، وَالنِّفَاقُ، وَالْحَسَدُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ يُؤَاخَذُ بِهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ» ) . وَقَالَ: " «الْبِرُّ مَا اطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَتَرَدَّدَ فِي صَدْرِكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ» ) اهـ. أَقُولُ: الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ الْأَخِيرِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِثْمَ عَيْنَ مَا تَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا يَكُونُ إِثْمًا، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَا تَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ أَنَّهُ إِثْمٌ، أَوْ غَيْرُ إِثْمٍ فَفِعْلُهُ إِثْمٌ احْتِيَاطًا، كَمَا إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ، وَالتَّحْلِيلِ فِي شَيْءٍ فَيَحْرُمُ. قِيلَ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّجَاوُزَ الْمَذْكُورَ خَاصِّيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَعَلَى التَّوْجِيهِ الَّذِي نَقَلَهُ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ مِنَ الرَّوْضَةِ، وَالْإِحْيَاءِ يَلْزَمُ أَنَّهُ يَكُونُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْأُمَمِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ شَخْصٌ مِنَ الْأَشْخَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّ

الْوَسْوَسَةَ ضَرُورِيَّةٌ، وَاخْتِيَارِيَّةٌ، فَالضَّرُورِيَّةُ: مَا يَجْرِي فِي الصُّدُورِ مِنَ الْخَوَاطِرِ ابْتِدَاءً، وَلَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى دَفْعِهِ، فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَالِاخْتِيَارِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَجْرِي فِي الْقَلْبِ، وَتَسْتَمِرُّ، وَهُوَ يَقْصِدُ، وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيَتَلَذَّذُ مِنْهُ كَمَا يَجْرِي فِي قَلْبِهِ حُبُّ امْرَأَةٍ، وَيَدُومُ عَلَيْهِ، وَيَقْصِدُ الْوُصُولَ إِلَيْهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي، فَهَذَا النَّوْعُ عَفَا اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَاصَّةً تَعْظِيمًا، وَتَكْرِيمًا لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأُمَّتِهِ، وَإِلَيْهِ يَنْظُرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] وَأَمَّا الْعَقَائِدُ الْفَاسِدَةُ، وَمَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ، وَمَا يَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا بِمَعْزِلٍ عَنِ الدُّخُولِ فِي جُمْلَةِ مَا وَسْوَسَتْ بِهِ الصُّدُورُ اهـ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَلِهَذَا قَيَّدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: (مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وَسُوسَةَ الْأَعْمَالِ، وَالْأَقْوَالِ مَعْفُوَّةٌ قَبْلَ ارْتِكَابِهَا، وَأَمَّا الْوَسْوَسَةُ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعَمَلِ، وَالْكَلَامِ مِنَ الْأَخْلَاقِ، وَالْعَقَائِدِ فَهِيَ ذُنُوبٌ بِالِاسْتِقْرَارِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا أَثِمَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَعَزْمِهِ، وَيُحْمَلُ مَا وَقَعَ فِي أَمْثَالِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوا عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً» ) الْحَدِيثَ. فِيمَنْ لَمْ يُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّمَا مَرَّ ذَلِكَ بِفِكْرٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ، وَيُسَمَّى هَذَا هَمًّا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْعَزْمِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: عَامَّةُ السَّلَفِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْعَزْمَ يُكْتَبُ سَيِّئَةً، وَلَيْسَتِ السَّيِّئَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهَا لَمْ يَعْمَلْهَا، وَقَطَعَ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْرُ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِنَابَةِ، لَكِنَّ الْإِصْرَارَ، وَالْعَزْمَ مَعْصِيَةٌ، فَصَارَ تَرْكُهُ لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُجَاهَدَتِهِ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةِ حَسَنَةً، فَأَمَّا الْهَمُّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ فَهِيَ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا يُوَطِّنُ النَّفْسَ عَلَيْهَا، وَلَا يَصْحَبُهَا عَقْدٌ، وَلَا نِيَّةٌ، وَعَزْمٌ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ خِلَافًا فِيمَا إِذَا تَرَكَهَا لِغَيْرِ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لِخَوْفِ النَّاسِ هَلْ تُكْتَبُ حَسَنَةً؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى تَرْكِهَا الْحَيَاءُ، وَهَذَا الْخِلَافُ ضَعِيفٌ لَا وَجْهَ لَهُ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ حَسَنٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِعَزْمِ الْقَلْبِ الْمُسْتَقِرِّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] وَقَوْلُهُ: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ، وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ، وَاحْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَادَةُ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَعَزْمِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْعَمَلِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقِيلَ: يُؤَاخَذُ بِالْهَمِّ بِالْمَعْصِيَةِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ دُونَ غَيْرِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرِدِ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] الْآيَةَ. وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْإِرَادَةَ هِيَ الْقَصْدُ، وَهُوَ الْعَزْمُ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنَ الْهَمِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: ( «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ، أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» ) .

64 - وَعَنْهُ قَالَ: «جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ! قَالَ: " أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ " قَالُوا: نَعَمْ: قَالَ: (ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 64 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: جَاءَ نَاسٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ ( «مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ» ) : وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ أَيْ: لَسَأَلُوهُ مُخْبِرِينَ إِنَّا نَجِدُ، أَوْ قَائِلِينَ عَلَى احْتِمَالِ فَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْكَسْرِ، وَقِيلَ: عَلَى الْفَتْحِ مَفْعُولٌ ثَانٍ اسْأَلُوهُ، ثُمَّ الْكَسْرُ أَوْجَهُ حَتَّى يَكُونَ بَيَانًا لِلْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَهُوَ مُجْمَلٌ يُفَسِّرُهُ الْحَدِيثَانِ الْآتِيَانِ ( «فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ» ) أَيْ: نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا أَشْيَاءَ قَبِيحَةً نَحْوَ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ وَكَيْفَ هُوَ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَاظَمُ النُّطْقُ بِهِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ قَبِيحٌ لَا يَلِيقُ شَيْءٌ مِنْهَا أَنْ نَعْتَقِدَهُ، وَنَعْلَمَ أَنَّهُ قَدِيمٌ، خَالِقُ الْأَشْيَاءَ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَمَا حُكْمُ جَرَيَانِ ذَلِكَ فِي خَوَاطِرِنَا؟

وَتَعَاظَمَ: تَفَاعَلَ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ إِذَا جَرَى بَيْنَ اثْنَيْنِ يَكُونُ مُزَاوَلَتُهُ أَشَقَّ مِنْ مُزَاوَلَتِهِ وَحْدَهُ، وَلِذَا قِيلَ: الْمُفَاعَلَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُبَالَغَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: نَسْتَعْظِمُ غَايَةَ الِاسْتِعْظَامِ، وَقَوْلُهُ: أَحَدُنَا؛ رُوِيَ بِرَفْعِ الدَّالِ، وَمَعْنَاهُ يَجِدُ أَحَدُنَا التَّكَلُّمَ بِهِ عَظِيمًا لِقُبْحِهِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: يَعْظُمُ، وَيَشُقُّ التَّكَلُّمُ بِهِ عَلَى أَحَدِنَا (قَالَ: (أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ) ؟ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَالْوَاوُ الْمَقْرُونَةُ بِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: (حَصَلَ ذَلِكَ) ، وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ، وَالضَّمِيرُ لِمَا يَتَعَاظَمُ أَيْ: ذَلِكَ الْخَاطِرُ فِي أَنْفُسِكُمْ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا، فَالْوِجْدَانُ بِمَعْنَى الْمُصَادَفَةِ، أَوِ الْمَعْنَى أَحَصَلَ ذَلِكَ الْخَاطِرُ الْقَبِيحُ، وَعَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ فَالْوِجْدَانُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. (قَالُوا: نَعَمْ) . قَالَ: (ذَاكَ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَصْدَرِ وَجَدَ أَيْ: وِجْدَانُكُمْ قُبْحَ ذَلِكَ الْخَاطِرِ، أَوْ مَصْدَرُ يَتَعَاظَمُ أَيْ: عِلْمُكُمْ بِفَسَادِ تِلْكَ الْوَسَاوِسَ، وَامْتِنَاعُ نُفُوسِكُمْ، وَتَجَافِيهَا عَنِ التَّفَوُّهِ بِهَا (صَرِيحُ الْإِيمَانِ) أَيْ: خَالِصُهُ يَعْنِي أَنَّهُ أَمَارَتُهُ الدَّالَّةُ صَرِيحًا عَلَى رُسُوخِهِ فِي قُلُوبِكُمْ، وَخُلُوصِهَا مِنَ التَّشْبِيهِ، وَالتَّعْطِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يُصِرُّ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ تَشْبِيهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ، وَيَعْتَقِدُهُ حَسَنًا، وَمَنِ اسْتَقْبَحَهَا، وَتَعَاظَمَهَا لِعِلْمِهِ بِقُبْحِهَا، وَأَنَّهَا لَا تَلِيقُ بِهِ تَعَالَى كَانَ مُؤْمِنًا حَقًّا، وَمُوقِنًا صِدْقًا فَلَا تُزَعْزِعُهُ شُبْهَةٌ، وَإِنْ قَوِيَتْ، وَلَا تَحُلُّ عُقَدَ قَلْبِهِ رِيبَةٌ، وَإِنْ مُوِّهَتْ، وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ إِيمَانُهُ مَشُوبًا يَقْبَلُ الْوَسْوَسَةَ، وَلَا يَرُدُّهَا. وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ أَمَارَةُ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ اللِّصَّ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ الْخَالِيَ، وَلِذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي لَا وَسْوَسَةَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ صَلَاةُ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ ) .

65 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 65 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ) أَيْ: يُوَسْوِسُ إِبْلِيسُ، أَوْ أَحَدُ أَعْوَانِهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى طَرِيقِ التَّلْبِيسِ (أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟) : يَعْنِي السَّمَاءَ مَثَلًا (مَنْ خَلَقَ كَذَا؟) : يَعْنِي الْأَرْضَ، وَغَرَضُهُ أَنْ يُوقِعَهُ فِي الْغَلَطِ، وَالْكُفْرِ، وَيُكْثِرُ السُّؤَالَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ (حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟) : وَهُوَ قَدِيمٌ خَالِقٌ كُلِّ شَيْءٍ (فَإِذَا بَلَغَهُ) : ضَمِيرُ الْفَاعِلِ لِأَحَدِكُمْ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ رَاجِعٌ إِلَى مَصْدَرِ يَقُولُ أَيْ: إِذَا بَلَغَ أَحَدُكُمْ هَذَا الْقَوْلَ يَعْنِي مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ، أَوِ التَّقْدِيرُ بَلَغَ الشَّيْطَانُ هَذَا الْقَوْلَ (فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ) : طَرْدًا لِلشَّيْطَانِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] وَإِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) فَإِنَّ الْعَبْدَ بِحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْمُغَالَبَةِ مَعَ الشَّيْطَانِ، وَمُجَادَلَتِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَجِئَ إِلَى مَوْلَاهُ، وَيَعْتَصِمَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذَا الْخَاطِرِ الَّذِي لَا أَقْبَحَ مِنْهُ؛ فَيَقُولُ بِلِسَانِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَيَلُوذُ بِجَنَابِهِ إِلَى جَنَابِهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ شَرَّهُ، وَكَيْدَهُ، فَإِنَّهُ مَعَ اللُّطْفِ الْإِلَهِيِّ لَا أَضْعَفَ مِنْهُ، وَلَا أَذَلَّ، فَإِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْكَلْبِ الْوَاقِفِ عَلَى الْبَابِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُوَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] (وَلْيَنْتَهِ) : بِسُكُونِ اللَّامِ، وَتُكْسَرُ؛ أَيْ: لِيَتْرُكِ التَّفَكُّرَ فِي هَذَا الْخَاطِرِ، وَلْيَشْتَغِلْ بِأَمْرٍ آخَرَ؛ لِئَلَّا يَسْتَحْوِذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ رَجَاءَ أَنْ يَقِفَ مَعَهُ، وَيَتَمَكَّنَ فِي نَفْسِهِ فَيَحْصُلَ لَهَا شَكٌّ وَرَيْبٌ فِي تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَإِنْ دَقَّتْ وَخَفِيَتْ، فَمَنْ تَنَبَّهَ، وَكَفَّ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ ذَلِكَ الْخَاطِرِ، وَأَشْغَلَ نَفْسَهُ حَتَّى انْصَرَفَتْ عَنْهُ فَقَدْ خَلَصَ، وَمَنْ لَا فَقَدِ ارْتَبَكَ فَيُخْشَى عَلَيْهِ مَزَلَّةُ الْقَدَمِ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَيْنِكَ دُونَ الِاحْتِجَاجِ

وَالتَّأَمُّلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِاسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُؤَثِّرِ، وَالْمُوجِدِ ضَرُورِيٌّ لَا يَقْبَلُ احْتِجَاجًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ إِمَّا لِيُحِجَّكَ إِنْ جَادَلَتْهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْقُلُوبِ بِإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ عَلَيْهَا لِيَخْتَبِرَ إِيمَانَهَا، وَوَسَاوِسُهُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَمَتَى عَارَضْتَهُ بِمَسْلَكٍ وَجَدَ مَسْلَكًا آخَرَ إِلَى مَا يُرِيدُهُ مِنَ الْمُغَالَطَةِ، وَالتَّشْكِيكِ، وَإِمَّا لِيُضَيِّعَ وَقْتَكَ، وَيُكَدِّرَ عَيْشَكَ إِنِ اسْتَرْسَلَتْ مَعَهُ، وَإِنْ حَجَجْتَهُ فَلَا أَخْلَصَ لَكَ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ جُمْلَةً، وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ كَمَا قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] ثَانِيهُمَا: أَنَّ الْغَالِبَ فِي مَوَارِدَ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ رُكُودِ النَّفْسِ، وَعَدَمِ اشْتِغَالِهَا بِالْمُهِمَّاتِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، فَهَذَا لَا يَزِيدُهُ فِكْرُهُ فِي ذَلِكَ إِلَّا الزَّيْغَ عَنِ الْحَقِّ، فَلَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا الِالْتِجَاءَ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَالِاعْتِصَامَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: لَوْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُحَاجَّتِهِ لَكَانَ الْجَوَابُ سَهْلًا عَلَى كُلِّ مُوَحَّدٍ أَيْ: بِإِثْبَاتِ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنْ لَا خَالِقَ لَهُ تَعَالَى بِإِبْطَالِ التَّسَلْسُلِ، وَنَحْوِهِ كَاسْتِحْضَارِ أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الْخَلْقِ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: مَنْ خَلَقَ الْخَالِقِ لَأَدَّى إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِمَذَمَّةِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى حُرْمَةِ الْمِرَاءِ، وَالْمُجَادَلَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى صِحَّةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

66 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ؟ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ فَلْيَقُلْ: آمَنَتُ بِاللَّهِ، وَرُسُلِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 66 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ) أَيْ: يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنِ الْعُلُومِ، وَالْمَوْجُودَاتِ، وَالتَّسَاؤُلُ جَرَيَانُ السُّؤَالِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْعَبْدِ، وَالشَّيْطَانِ، أَوِ النَّفْسِ، أَوْ إِنْسَانِ آخَرَ أَيْ: يَجْرِي بَيْنَهُمَا السُّؤَالُ فِي كُلِّ نَوْعٍ (حَتَّى) : يَبْلُغَ السُّؤَالُ إِلَى أَنْ [ ( «يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ» ؟) : قِيلَ: لَفْظُ هَذَا مَعَ عَطْفِ بَيَانِهِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ الْمَقُولُ مَفْعُولُ يُقَالُ؛ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَ (خَلَقَ اللَّهُ) تَفْسِيرٌ لِهَذَا، أَوْ بَيَانٌ، أَوْ بَدَلٌ، وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ أَيْ: هَذَا الْقَوْلُ، أَوْ قَوْلُكَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ وَالْجُمْلَةُ أُقِيمَتْ مَقَامَ فَاعِلِ يُقَالُ: (فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟) : إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا أَيْ: مَنْ صَادَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَالسُّؤَالِ، أَوْ وَجَدَ فِي خَاطِرِهِ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْمَقَالِ (فَلْيَقُلْ) أَيْ: فَوْرًا مِنْ حِينِهِ (آمَنَتُ بِاللَّهِ، وَرُسُلِهِ) أَيْ: آمَنَتُ بِالَّذِي قَالَ اللَّهُ، وَرُسُلُهُ مِنْ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ، وَالْقِدَمِ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ، وَإِجْمَاعُ الرُّسُلِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْحَقُّ، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؛ ثُمَّ هَذَا الْقَوْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ. هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ فَلْيَتَدَارَكْهُ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ، فَفِي كَوْنِهِ مُرَادًا نَظَرٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّائِلِ الْمُجَادِلِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، أَوِ الْجِنِّ عَلَى التَّغْلِيبِ، كَمَا يَنْصُرُهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَلَا مِنَ الْمَسْئُولِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَلْيَقُلْ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسْئُولِ كَقَوْلِهِ: فَلْيَسْتَعِذْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِذَا قِيلَ: يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ، ثُمَّ يَقُولُ آمَنَتُ بِاللَّهِ، وَرُسُلِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَإِنَّ ذَلِكَ يَذْهَبُ عَنْهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَتِهِ حَتَّى يُقَالَ هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَدِيثُ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ مُحْتَمِلٌ لِغَيْرِ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرًا. أَوْ هَذَا مُبْتَدَأٌ، وَاللَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَخَلَقَ الْخَلْقَ خَبَرُهُ، وَأَكْثَرُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ يَرْوُونَهُ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ فَيُرَجَّحُ إِذًا عَلَى السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَصَابِيحِ، وَأَنَّ كِلَاهُمَا (صِحَاحٌ.

67 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ:. قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 67 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) : مَا نَافِيَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، وَمَنْ فِي مِنْكُمْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيْ: مَا أَحَدٌّ مِنْكُمْ (إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ مَعْلُومٌ مِنَ التَّوْكِيلِ بِمَعْنَى التَّسْلِيطِ (قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ) أَيْ: صَاحِبُهُ مِنْهُمْ لِيَأْمُرَهُ بِالشَّرِّ، وَاسْمُهُ الْوَسْوَاسِ، وَهُوَ وَلَدٌ يُولَدُ لِإِبْلِيسَ حِينَ يُولَدُ لِبَنِي آدَمَ وَلَدٌ، وَقَوْلُهُ: (وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ) أَيْ: لِيَأْمُرَهُ بِالْخَيْرِ، وَاسْمُهُ الْمُلْهِمُ، وَلَيْسَ هَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، لَكِنْ ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَالصَّغَانِيِّ فِي الْمَشَارِقِ عَنْ مُسْلِمٍ، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ. وَفِي رِوَايَةِ: قَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ اهـ. فَصَاحِبُ الْمِشْكَاةِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْجَامِعَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ ظُهُورُ خِسَّةِ الْعَاصِي، وَشَرَفِ الطَّائِعِ (قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: لَكَ قَرِينٌ مِنَ الْجِنِّ؟ وَالْقِيَاسُ، وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِصِيغَةِ الْمَرْفُوعِ الْمُنْفَصِلِ، وَكَذَا فِي الْجَوَابِ يَعْنِي (قَالَ: (وَإِيَّايَ) أَيْ: وَلِي ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَا فَأَقَامَ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ مَقَامَ الْمَرْفُوعِ الْمُنْفَصِلِ، وَهُوَ سَائِغٌ شَائِعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، وَإِيَّاكَ نَعْنِي فِي هَذَا الْخِطَابِ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِيَّايَ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي مِنْكُمْ عَامٌّ لَا يَخُصُّ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ بَلْ كُلُّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ دَاخِلٌ فِيهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا مِنْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ مِنْ أَحَدٍ، وَهَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخِطَابِ، وَقِيلَ: عَطْفٌ عَلَى مَحَلٍّ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ الْمُقَدَّرِ تَقْدِيرُهُ قَالُوا: قَدْ وُكِّلَ بِهِ وَإِيَّاكَ، قَالَ: وُكِّلَ بِهِ وَإِيَّايَ (وَلَكِنَّ اللَّهَ) : بِالتَّشْدِيدِ، وَيُخَفَّفُ (أَعَانَنِي عَلَيْهِ) أَيْ: بِالْعِصْمَةِ، أَوْ بِالْخُصُوصِيَّةِ (فَأَسْلَمَ) : بِضَمِّ الْمِيمِ، أَوْ فَتْحِهَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَسْلَمُ بِالضَّمِّ أَيْ: أَسْلَمُ أَنَا مِنْهُ، وَالشَّيْطَانُ لَا يُسْلِمُ، وَفِي جَامِعِ الدَّارِمِيِّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَسْلَمَ بِالْفَتْحِ أَيِ: اسْتَسْلَمَ، وَذَلَّ، وَانْقَادَ، وَالْخَطَّابِيُّ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ، وَالْقَاضِي عِيَاضُ إِلَى الثَّانِي، وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَخُصَّ نَبِيَّهُ هَذِهِ الْكَرَامَةَ أَعْنِي إِسْلَامَ قَرِينِهِ، وَبِمَا فَوْقَهَا. قِيلَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ) : قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُؤَيِّدٌ لِلْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَقِيلَ أَسْلَمَ: أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَأَنَا أَسْلَمُ مِنْكُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجْرِي بَعْضَ الزَّلَّاتِ فِي بَعْضِ السَّاعَاتِ بِوَسْوَسَةٍ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ فِي أَعَمِّ الْأَوْقَاتِ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ الْوَسْوَسَةِ مِنَ النَّفْسِ دُونَ الشَّيْطَانِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْقَرِينَ مِنَ الْجِنِّ رُبَّمَا يَدْعُوهُ إِلَى الْخَيْرِ، وَقَصْدُهُ فِي ذَلِكَ الشَّرَّ بِأَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الْمَفْضُولِ فَيَمْنَعَهُ عَنِ الْفَاضِلِ، أَوْ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الْخَيْرِ لِيَجُرَّهُ إِلَى ذَنْبٍ عَظِيمٍ لَا يَفِي خَيْرُهُ بِذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ عُجْبٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَلِذَا قِيلَ: مَعْصِيَةٌ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَاسْتِحْقَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عُجْبًا وَاسْتِكْبَارًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِبْعَادَ سُفْيَانَ لِإِسْلَامِهِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ عِفْرِيتًا، لَا لِكَوْنِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ لِمَا فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ: أَنَّ هَامَّةَ بْنَ إِبْلِيسَ جَاءَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ أَنَّهُ حَضَرَ قَتْلَ هَابِيلَ، وَأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِنُوحٍ فَمَنْ بَعْدَهُ، ثُمَّ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ نَقَلَ السَّلَامَ مِنْ عِيسَى فَرَدَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَطَلَبَ أَنْ يُعَلِمَّهُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَعَلَّمَهُ الْوَاقِعَةَ، وَالْمُرْسَلَاتَ، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] ، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

68 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 68 - (وَعَنْ أَنَسٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الشَّيْطَانَ) أَيْ: كَيْدَهُ، وَوَسْوَاسَهُ (يَجْرِي) أَيْ: يَسْرِي (مِنَ الْإِنْسَانِ) أَيْ: فِيهِ، وَقِيلَ عُدِّيَ يَجْرِي بِمِنْ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى التَّمَكُّنِ أَيْ: يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانَ فِي جَرَيَانِهِ (مَجْرَى الدَّمِ) أَيْ: فِي جَمِيعِ عُرُوقِهِ، وَالْمَجْرَى إِمَّا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ: يَجْرِي مِثْلَ جَرَيَانِ الدَّمِ فِي أَنَّهُ لَا يُحَسُّ

بِجَرْيِهِ كَالدَّمِ فِي الْأَعْضَاءِ شَبَّهَ سَرَيَانَ كَيْدِهِ، وَجَرَيَانَ وَسَاوِسِهِ فِي الْإِنْسَانِ بِجَرَيَانِ دَمِهِ فِي عُرُوقِهِ، وَجَمِيعِ أَعْضَائِهِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَمَكُّنِهِ مِنْ إِغْوَاءِ الْإِنْسَانِ، وَإِضْلَالِهِ تَمَكُّنًا تَامًّا، وَتَصَرُّفِهِ فِيهِ تَصَرُّفًا كَامِلًا بِوَاسِطَةِ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ النَّاشِئِ قُوَاهَا مِنَ الدَّمِ، وَلَقَدْ صَدَقَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ حَيْثُ قَالَ: الشَّيْطَانُ فَارِغٌ، وَأَنْتَ مَشْغُولٌ، وَهُوَ يَرَاكَ، وَأَنْتَ لَا تَرَاهُ، وَأَنْتَ تَنْسَى الشَّيْطَانَ، وَهُوَ لَا يَنْسَاكَ، وَمِنْ نَفْسِكَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْكَ عَوْنٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] ) أَوِ اسْمٌ مَكَانَ ظَرْفٍ لِيَجْرِيَ، وَمِنَ الْإِنْسَانِ حَالٌ مِنْهُ أَيْ: يَجْرِي فِي الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ كَائِنًا مِنَ الْإِنْسَانِ، أَوْ بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْإِنْسَانِ، أَيْ: يَجْرِي فِي الْإِنْسَانِ حَيْثُ يَجْرِي فِيهِ الدَّمُ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْإِنْسَانِ مَا جَرَى دَمُهُ فِي عُرُوقِهِ أَيْ: مَا دَامَ حَيًّا، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِرَادَةُ الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ قَادِرَةٌ بِأَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَمَالِ التَّصَرُّفِ ابْتِلَاءً لِلْبَشَرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَةَ عَنْ صَفِيَّةَ.

69 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، غَيْرَ مَرْيَمَ، وَابْنِهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 69 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ بَنِي آدَمَ) أَيْ: مَا مِنْ أَوْلَادِهِ، وَالْمُرَادُ هَذَا الْجِنِّيِّ (مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ) : رُفِعَ مَوْلُودٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الظَّرْفِ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ عَامِّ الْوَصْفِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ يَعْنِي مَا وُجِدَ مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ مُتَّصِفٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَوْصَافِ حَالَ وِلَادَتِهِ إِلَّا بِهَذَا الْوَصْفِ أَيْ: مَسِّ الشَّيْطَانِ لَهُ كَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ، وَالْأَوْلِيَاءَ لَا يَمَسُّهُمُ الشَّيْطَانُ، فَهُوَ مِنْ قِصَرِ الْقَلْبِ الَّذِي يُلْقَى لِمُعْتَقِدِ الْعَكْسِ، وَقِيلَ: مَا: هِيَ غَيْرُ عَامِلَةٍ هُنَا حَتَّى عِنْدَ الْحِجَازِيَّةِ لِتَقَدُّمِ الْخَبَرِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى مُبْتَدَئِهِ، وَهُوَ مَوْلُودٌ (حِينَ يُولَدُ) : قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْحِسِّيِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ حِينَ يُولَدُ» ) . وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْوَجْهُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْمَسِّ الطَّمَعُ فِي الْإِغْوَاءِ فَيَرُدُّهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ (فَيَسْتَهِلُّ) أَيْ: يَصِيحُ (صَارِخًا) : رَافِعًا صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ، وَهُوَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، أَوْ مُؤَسَّسَةٌ أَيْ: مُبَالَغَةٌ فِي رَفْعِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالِاسْتِهْلَالِ مُجَرَّدُ رَفْعِ الصَّوْتِ، وَبِالصُّرَاخِ الْبُكَاءُ (مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ) أَيْ: لِأَجْلِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي التَّصْرِيحِ بِالصُّرَاخِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَسَّ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِصَابَةِ بِمَا يُؤْذِيهِ لَا كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مِنْ أَنَّ مَسَّ الشَّيْطَانِ تَخْيِيلٌ، وَاسْتِهْلَالُهُ صَارِخًا مِنْ مَسِّهِ تَصْوِيرٌ لِطَمَعِهِ فِيهِ كَأَنَّهُ يَمَسُّهُ، وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: هَذَا مِمَّنْ أُغْوِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ: لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الدُّنْيَا مِنْ صُرُوفِهَا ... يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُوَلَدُ إِذَا أَبْصَرَ الدُّنْيَا اسْتَهَلَّ كَأَنَّهُ ... بِمَا هُوَ لَاقٍ مِنْ أَذَاهَا يُهَدَّدُ وَإِلَّا فَمَا يُبْكِيهِ مِنْهَا، وَإِنَّهَا ... لَأَوْسَعُ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَأَرْغَدُ فَمِنْ بَابِ حُسْنِ التَّعْلِيلِ فَلَا يَسْتَقِيمُ تَنْزِيلُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ (غَيْرَ مَرْيَمَ، وَابْنِهَا) : حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ يَمَسُّ؛ قَالَهُ ابْنُ حَجْرٍ، وَاسْتِثْنَاؤُهُمَا لِاسْتِعَاذَةِ أُمِّهَا حَيْثُ قَالَتْ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] وَتَفَرُّدُ عِيسَى، وَأُمِّهِ بِالْعِصْمَةِ عَنِ الْمَسِّ لَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِمَا عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَهُ فَضَائِلَ، وَمُعْجِزَاتٍ لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَاضِلِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْمَفْضُولِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَنَظِيرُهُ خَبَرُ الطَّبَرَانِيِّ: «مَا أَحَدٌّ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ، أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا» . قُلْتُ: وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّ شَيْطَانَهُ أَسْلَمَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) :

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعَيْهِ حِينَ يُوَلَدُ غَيْرَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ» ، وَفِي أُخْرَى لِلْحَاكِمِ، وَغَيْرِهِ: ( «كُلُّ وَلِيدٍ الشَّيْطَانُ نَائِلٌ مِنْهُ تِلْكَ الطَّعْنَةَ، وَلَهَا يَسْتَهِلُّ الْمَوْلُودُ صَارِخًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَابْنِهَا فَإِنَّ أُمَّهَا حِينَ وَضَعَتْهَا قَالَتْ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] فَضُرِبَ دُونَهَا حِجَابٌ فَطَعَنَ» ) اهـ. وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَهَا بِأَنْ دَعَتْ هَذَا الدُّعَاءَ حَالَ الْوَضْعِ لَا بَعْدَهُ فَقَوْلُهُ: حِينَ وَضَعَتْهَا أَيْ: أَرَادَتْ وَضْعَهَا، فَلَا يُشْكِلُ أَنَّ الْمَسَّ يَكُونُ حَالَ الْوَضْعِ فَكَيْفَ امْتَنَعَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الدُّعَاءِ؟ وَقَوْلُهَا فِي الْآيَةِ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا} [آل عمران: 36] بِمَعْنَى أَعَذْتُهَا وَعَدَلَ إِلَى الْمُضَارِعِ لِإِرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ، أَوْ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ فَقَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَحَلُّ نَظَرٍ إِلَّا أَنْ يُقَالَ مُرَادُهُ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعْنًى، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ لَكِنَّ ذِكْرَ لَفْظِ كُلِّ بَنِي آدَمَ إِلَخْ. أَيْضًا مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ فَتَأَمَّلْ.

70 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «صِيَاحُ الْمَوْلُودِ حِينَ يَقَعُ نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 70 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صِيَاحُ الْمَوْلُودِ) أَيْ: سَبَبُ صَيْحَتِهِ فِي بُكَائِهِ (حِينَ يَقَعُ) أَيْ: يَسْقُطُ، وَيَنْفَصِلُ عَنْ أُمِّهِ (نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) أَيْ: إِصَابَةٌ بِمَا يُؤْذِيهِ، وَقِيلَ النَّزْغُ طَعْنَةٌ خَفِيفَةٌ أَيْ: وَسْوَسَةٌ، فَإِنَّ النَّزْغَ هُوَ الدُّخُولُ فِي أَمْرِ الْفَسَادِ، وَالشَّيْطَانُ إِنَّمَا يَبْغِي بِلَمَّتِهِ إِفْسَادَ مَا وُلِدَ الْمَوْلُودُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ اهـ. وَالْمُعَوَّلُ هُوَ الْأَوَّلُ إِذْ لَا إِفْسَادَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ.

71 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ يَفْتِنُونَ النَّاسَ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلَتُ كَذَا، وَكَذَا فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكَتُهُ حَتَّى فَرَّقَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ " قَالَ الْأَعْمَشُ: أَرَاهُ قَالَ: " فَيَلْتَزِمُهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 71 - (وَعَنْ جَابِرٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ) أَيْ: سَرِيرَهُ (عَلَى الْمَاءِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى الْبَحْرِ، وَالصَّحِيحُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ تَمَرُّدِهِ، وَطُغْيَانِهِ وَضْعُ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ يَعْنِي جَعْلَهُ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرًا عَلَيْهِ اسْتِدْرَاجًا لِيَغْتَرَّ بِأَنَّ لَهُ عَرْشًا عَلَى هَيْئَةِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] وَيَغُرُّ بَعْضَ السَّالِكِينَ الْجَاهِلِينَ بِاللَّهِ أَنَّهُ الرَّحْمَنُ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي النَّفَحَاتِ الْأُنْسِيَّةِ فِي الْحَضَرَاتِ الْقُدْسِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ ابْنِ صَيَّادٍ حَيْثُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ» ) ، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَتَسَلُّطِهِ عَلَى إِضْلَالِهِمْ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ (ثُمَّ يَبْعَثُ) أَيْ: يُرْسِلُ (سَرَايَاهُ) : جَمْعُ سَرِيَّةٍ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تُوَجَّهُ نَحْوَ الْعَدْوِ لِتَنَالَ مِنْهُ، وَفِي النِّهَايَةِ هِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعَمَائَةٍ تُبْعَثُ إِلَى الْعَدُوِّ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ خُلَاصَةَ الْعَسْكَرِ، وَخِيَارَهُمْ مِنَ الشَّيْءِ السِّرِّيِّ، وَهُوَ النَّفِيسُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ سِرًّا وَرُدَّ بِأَنَّ لَامَهُ رَاءٌ، وَلَامَهَا يَاءٌ (يَفْتِنُونَ النَّاسَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَسْرِ التَّاءِ أَيْ: يُضِلُّونَهُمْ، أَوْ يَمْتَحِنُوهُمْ بِتَزْيِينِ الْمَعَاصِي إِلَيْهِمْ حَتَّى يَقَعُوا فِيهَا (فَأَدْنَاهُمْ) أَيْ: أَقْرَبَهُمْ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ إِبْلِيسَ (مَنْزِلَةً) : مَرْتَبَةً (أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً) أَيْ: أَكْبَرُهُمْ إِضْلَالًا، أَوْ أَشَدُّهُمُ ابْتِلَاءً (يَجِيءُ أَحَدُهُمْ) : جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِقَوْلِهِ: أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً (فَيَقُولُ) أَيْ: أَحَدُهُمْ (فَعَلْتُ كَذَا، وَكَذَا) أَيْ: أَمَرْتُ بِالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا (فَيَقُولُ) أَيْ: إِبْلِيسُ (مَا صَنَعْتَ شَيْئًا) أَيْ: أَمْرًا كَبِيرًا، أَوْ شَيْئًا مُعْتَدًّا بِهِ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ (ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ) أَيْ: فَلَانًا (حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ) : هَذَا، وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَمْرًا مُبَاحًا، وَظَاهِرُهُ خَيْرٌ، وَلِذَا قَالَ

تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] ، وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ يَجُرُّ إِلَى الْمَفَاسِدِ يَصِيرُ مَذْمُومًا، وَيَحُثُّ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، وَيَفْرَحُ بِهِ كَبِيرُهُمْ، وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» ) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] (قَالَ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فَيُدْنِيهِ مِنْهُ) أَيْ: فَيُقَرِّبُ إِبْلِيسُ ذَلِكَ الْمُغْوِي مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الْإِدْنَاءِ، وَهُوَ التَّقْرِيبُ (فَيَقُولُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَيَقُولُ أَيْ: إِبْلِيسُ لِلْمُغْوِي (نِعْمَ أَنْتَ) أَيْ: نِعْمَ الْوَلَدُ، أَوِ الْعَوْنُ أَنْتَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مَدْحٍ، وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَقِيلَ: حَرْفُ إِيجَابٍ، وَأَنْتَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: أَنْتَ صَنَعْتَ شَيْئًا عَظِيمًا، وَقَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ هُوَ الصَّوَابُ هُوَ الْخَطَأُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الرِّوَايَةِ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَى التَّكَلُّفِ، وَالتَّعَسُّفِ فِي تَوْجِيهِ صِحَّةِ الدِّرَايَةِ، (قَالَ الْأَعْمَشُ) : وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (أُرَاهُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: أَظُنُّ أَبَا سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنَ نَافِعٍ الْمَكِّيَّ، وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ جَابِرٍ كَذَا فِي الْأَزْهَارِ نَقَلَهُ السَّيِدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمِيرُ الْفَاعِلِ لِلْأَعْمَشِ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ لِجَابِرٍ، وَقِيلَ: أَظُنُّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ (قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ) : فَإِنَّهُ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى فَيُدْنِيهِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ كَذَا قِيلَ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى فَيَقُولُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْمَعْنَى فَيُعَانِقُهُ مِنْ غَايَةِ حُبِّهِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُحِبُّ كَثْرَةِ الزِّنَا، وَغَلَبَةِ أَوْلَادِ الزِّنَا لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَيَهْتِكُوا حُدُودَ الشَّرْعِ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زَانِيَةٍ) . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ فِي سُنَنِهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ الْفَضَائِلَ، وَيَتَيَسَّرُ لَهُ أَخْلَاقُ الرَّذَائِلَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ.

72 - وَعَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّ التَّحْرِيشَ بَيْنَهُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 72 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولٌ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الشَّيْطَانَ) : يَحْتَمِلُ الْجِنْسَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِبْلِيسُ رَئِيسُهُمْ (وَقَدْ أَيِسَ) أَيْ: صَارَ مَحْرُومًا، وَيَئِسَ (وَمِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ) : اخْتَصَرَ الْقَاضِي كَلَامَ الشُّرَّاحِ، وَقَالَ: عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ عِبَادَةُ الصَّنَمِ؛ لِأَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، وَالدَّاعِي إِلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: 44] وَالْمُرَادُ بِالْمُصَلِّينَ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " نَهَيْتُكُمْ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ ": سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْأَعْمَالِ، وَأَظْهَرُ الْأَفْعَالِ الدَّالَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَيِسَ مِنْ أَنْ يَعُودَ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عِبَادَةِ الصَّنَمِ، وَيَرْتَدَّ إِلَى شِرْكِهِ (فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) : وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ ارْتِدَادُ أَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ، وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنِ ارْتَدَوْا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا الصَّنَمَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ دَعْوَةَ الشَّيْطَانِ عَامَّةٌ إِلَى أَنْوَاعِ الْكُفْرِ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِعِبَادَةِ الصَّنَمِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُصَلِّينَ لَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ كَمَا فَعَلَتْهُ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، ثُمَّ الْجَزِيرَةُ هِيَ كُلُّ أَرْضٍ حَوْلَهَا الْمَاءُ، فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ مِنْ جَزَرَ عَنْهَا الْمَاءُ أَيْ: ذَهَبَ، وَقَدِ اكْتَنَفَتْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الْبِحَارُ، وَالْأَنْهَارُ كَبَحْرِ الْبَصْرَةِ، وَعُمَانَ وَعَدَنٍ إِلَى بِرْكَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ بِهَا، وَبَحْرِ الشَّامِ، وَالنِّيلِ، وَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتِ أُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهَا مَسْكَنُهُمْ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ مَكَّةُ، وَالْمَدِينَةُ، وَالْيَمَنُ قِيلَ إِنَّمَا خَصَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ لِأَنَّ الدِّينَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَتَعَدَّ عَنْهَا، وَقِيلَ لِأَنَّهَا مَعْدِنُ الْعِبَادَةِ، وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ (وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ) : خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ فِي التَّحْرِيشِ، أَوْ ظَرْفٌ لِمُقَدَّرٍ أَيْ يَسْعَى فِي التَّحْرِيشِ (بَيْنَهُمْ) أَيْ: فِي إِغْرَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالتَّحْرِيضِ بِالشَّرِّ بَيْنَ

النَّاسِ مِنْ قَتْلٍ، وَخُصُومَةٍ، وَالْمَعْنَى لَكِنَّ الشَّيْطَانَ غَيْرُ آيِسٍ مِنْ إِغْرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى الْفِتَنِ بَلْ لَهُ مَطْمَعٌ فِي ذَلِكَ، قِيلَ: وَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا يَجْرِي فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ التَّحْرِيشِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ أَيْ: أَيِسَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُعْبَدَ فِيهَا لَكِنْ طَمِعَ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَ سَاكِنِيهَا، وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ فَكَانَ مُعْجِزَةً لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 73 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالشَّيْءِ لَأَنْ أَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. الْفَصْلُ الثَّانِي 73 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي) أَيْ: أُكَلِّمُهَا بِالسِّرِّ يَعْنِي تُوَسْوِسُنِي فَإِنَّهُ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، أَوْ مَعْنَاهُ أَرُدُّ عَلَيْهَا (بِالشَّيْءِ) : هُوَ فِي قُوَّةِ النَّكِرَةِ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ مَعْرِفَةً لَفْظًا لِأَنَّ (اَلْ) فِيهِ لِلْجِنْسِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ (لَأَنْ أَكُونَ حُمَمَةً) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ أَيْ: فَحْمًا (أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ) أَيْ: بِشَيْءٍ، لَكَوْنِي حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ التَّكَلُّمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ غَايَةِ قُبْحِهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَوْضِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا لَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ تَجْسِيمٍ، وَتَشْبِيهٍ، أَوْ تَعْطِيلٍ، وَنَحْوِهَا، وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ، أَوْ لِلِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى أَدَاةِ الشَّرْطِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْجَوَابَ بَعْدَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَسَمٍ قَبْلَهَا لَا عَلَى الشَّرْطِ، وَمِنْ ثَمَّ تُسَمَّى لَامَ الْمُؤْذِنَةِ، وَتُسَمَّى الْمُوَطِّئَةَ لِأَنَّهَا وَطَّأَتِ الْجَوَابَ لِلْقَسَمِ أَيْ: مَهَّدَتْهُ لَهُ نَحْوُ: {لَإِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} [الحشر: 12] الْآيَةَ: كَذَا ذَكَرَهُ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ. (قَالَ) : - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أُمَّتِهِ (الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ) : الضَّمِيرُ فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ، وَالْأَمْرُ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ وَاحِدَ الْأَوَامِرِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ يَعْنِي كَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْكُفْرِ قَبْلَ هَذَا، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِمْ سِوَى الْوَسْوَسَةِ، وَلَا بَأْسَ بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا قَبِيحَةٌ، وَالتَّعَوُّذُ بِاللَّهِ مِنْهَا، أَوِ الْمَعْنَى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ شَأْنَ هَذَا الرَّجُلِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْوَسْوَسَةِ، وَهِيَ مَعْفُوَّةٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

74 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِنَّ لِلشَّيْطَانَ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً: فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانَ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى؛ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . ثُمَّ قَرَأَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] » ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 74 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ) أَيْ: إِبْلِيسَ، أَوْ بَعْضِ جُنْدِهِ (لَمَّةً) : اللَّمَّةُ بِالْفَتْحِ مِنَ الْإِلْمَامِ، وَمَعْنَاهُ النُّزُولُ، وَالْقُرْبُ، وَالْإِصَابَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِوَاسِطَةِ الشَّيْطَانِ، أَوِ الْمَلَكِ (بِابْنِ آدَمَ) أَيْ: بِهَذَا الْجِنْسِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْسَانُ (وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً) : فَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ تُسَمَّى وَسَوْسَةً، وَلَمَّةُ الْمَلَكِ إِلْهَامًا (فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ) : كَالْكُفْرِ، وَالْفِسْقِ، وَالظُّلْمِ (وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ) أَيْ: فِي حَقِّ اللَّهِ، أَوْ حَقِّ الْخَلْقِ، أَوْ بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ كَالتَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْبَعْثِ، وَالْقِيَامَةِ، وَالنَّارِ، وَالْجَنَّةِ (وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ) : كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ (وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ) : كَكُتُبِ اللَّهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْإِيعَادُ فِي اللَّمَّتَيْنِ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ، وَالْوَعِيدُ فِي الِاشْتِقَاقِ كَالْوَعْدِ

إِلَّا أَنَّ الْإِيعَادَ اخْتَصَّ بِالشَّرِّ عُرْفًا يُقَالُ أَوْعَدَ إِذَا وَعَدَ بِشَرٍّ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْخَيْرِ لِلِازْدِوَاجِ، وَالْأَمْنِ عَنِ الِاشْتِبَاهِ بِذِكْرِ الْخَيْرِ بَعْدَهُ كَذَا قَالُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي وَأَمَّا عِنْدَ التَّقْيِيدِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِالتَّجْرِيدِ فِيهِمَا، أَوْ بِأَصْلِ اللُّغَةِ، وَاخْتِيَارِ الزِّيَادَةِ لِاخْتِيَارِ الْمُبَالَغَةِ (فَمَنْ وَجَدَ) : أَيْ فِي نَفْسِهِ، أَوْ أَدْرَكَ، وَعَرَفَ (ذَلِكَ) أَيْ: لَمَّةَ الْمَلَكِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِلْمَامِ، أَوِ الْمَذْكُورِ (فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ) : أَيْ: مِنَّةٌ جَسِيمَةٌ، وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَاصِلَةٌ إِلَيْهِ، وَنَازِلَةٌ عَلَيْهِ إِذْ أَمَرَ الْمَلَكَ بِأَنْ يُلْهِمَهُ (فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ) أَيْ: عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ حَيْثُ أَهَّلَهُ لِهِدَايَةِ الْمَلَكِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ تَصْدِيقًا وَتَحْصِيلًا، ثُمَّ مَعْرِفَةُ الْخَوَاطِرِ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهَا مَحَلُّ بَسْطِهَا كُتُبُ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَهَا الْغَزَالِيُّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ تَبْيِينًا لَطِيفًا، وَاتَّفَقَ الْمَشَايِخُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَأْكَلُهُ مِنَ الْحَرَامِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ، بَلْ قَالَ الدَّقَّاقُ: مَنْ كَانَ قُوتُهُ مَعْلُومًا أَيْ: بِأَنْ لَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ الْإِلْهَامُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي مَعْرِفَةِ وَسَاوِسِ النَّفْسِ، وَمَكَايِدِ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَهَا هُنَا، وَأَخَّرَهَا أَوَّلًا لِأَنَّ لَمَّةَ الشَّيْطَانِ شَرٌّ، وَالِابْتِلَاءُ بِهَا أَكْثَرُ، فَكَانَتِ الْحَاجَةُ بِبَيَانِهَا أَمَسُّ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَدَّمَ لَمَّةَ الْمَلَكِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ (وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى) أَيْ: لَمَّةَ الشَّيْطَانِ (فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرِّجِيمِ) : وَلْيُخَالِفْهُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الشَّيْطَانُ عَبْدٌ مُسَخَّرٌ أُعْطِيَ لَهُ التَّسْلِيطُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ هُنَا فَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَأَدُّبًا مَعَهُ إِذْ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَّا الْخَيْرُ (ثُمَّ قَرَأَ) : - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِشْهَادًا {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268] أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِهِ، {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] أَيْ: بِالْبُخْلِ، وَالْحِرْصِ، وَسَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، أَوْ مَعْنَاهُ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ لِيَمْنَعَكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ، وَيُخَوِّفُكُمُ الْحَاجَةَ لَكُمْ، أَوْ لِأَوْلَادِكُمْ فِي ثَانِي الْحَالِ سِيَّمَا فِي كِبَرِ السِّنِّ، وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ أَيِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا الْوَعْدُ، وَالْأَمْرُ هُمَا الْمُرَادَانِ بِالشَّرِّ فِي الْحَدِيثِ، وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً} [البقرة: 268] أَيْ: لِذُنُوبِكُمْ عَلَى الصَّبْرِ فِي الْفَقْرِ، وَالطَّاعَةِ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ عَدْلًا، أَوْ فَضْلًا، أَيْ: يَعِدُكُمْ زِيَادَةَ الْخَيْرِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ، وَثَوَابَ الطَّاعَةِ بِالْأَضْعَافِ الْمُضَاعَفَةِ، أَوْ خَلَفًا فِي الدُّنْيَا، وَعِوَضًا فِي الْعُقْبَى {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] : تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ إِشَارَةٌ إِلَى سِعَةِ مَغْفِرَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَوُفُورِ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ وَمَصَالِحِهِمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَتَعْرِيفُ الْغَرَابَةِ، وَتَفْصِيلُهَا مَتْنًا، وَإِسْنَادًا مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ.

75 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: {اللَّهُ أَحَدٌ} [الجن: 22] ، {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] ، {لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص: 3] ، {وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، ثُمَّ يَتْفُلُ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَمْرٍو بْنِ الْأَحْوَصِ فِي بَابِ خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 75 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ) أَيْ: لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْ سُؤَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي أَشْيَاءَ (حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ) : مَرَّ الْبَيَانُ فِيهِ (فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟) : فَلَمَّا جَرَّ كَثْرَةُ السُّؤَالِ إِلَى الْجَرْأَةِ عَلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَعَنْ قِيلَ وَقَالِ، أَوِ الْمُرَادُ

بِالتَّسَاؤُلِ حِكَايَةُ النَّفْسِ، وَحَدِيثُهَا، وَوَسْوَسَتُهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ التَّفْلِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا اللَّهُ أَحَدٌ) : يَعْنِي قُولُوا فِي رَدِّ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، أَوِ الْوَسْوَسَةِ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مَخْلُوقًا، بَلْ هُوَ أَحَدٌ، وَالْأَحَدُ هُوَ الَّذِي لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الذَّاتِ، وَلَا فِي الصِّفَاتِ {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] : الْمَرْجِعُ فِي الْحَوَائِجِ الْمُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ {لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص: 3] ، {وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] : تَقَدَّمَ (ثُمَّ لْيَتْفُلْ) : بِسُكُونِ اللَّامِ الْأُولَى، وَيُكْسَرُ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ، وَيُكْسَرُ أَيْ: لِيَبْصُقْ أَحَدُكُمْ، أَوْ هَذَا الرَّجُلُ يَعْنِي الْمُوَسْوَسَ (عَنْ يَسَارِهِ) : كَرَامَةً لِلْيَمِينِ، وَقِيلَ اللَّمَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ عَنْ يَسَارِ الْقَلْبِ، وَالرَّحْمَانِيَّةُ عَنْ يَمِينِهِ (ثَلَاثًا) أَيْ: لِيُلْقِ الْبُزَاقَ مِنَ الْفَمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَرَاهَةِ الشَّيْءِ، وَالنُّفُورِ عَنْهُ كَمَنْ يَجِدُ جِيفَةً، وَالتَّكْرَارُ مُرَاغَمَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَتَبْعِيدٌ لَهُ لِيَنْفِرَ مِنْهُ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُطِيعُهُ فِيهِ، وَيَكْرَهُ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ مِنْهُ (وَلْيَسْتَعِذْ) : ضُبِطَ بِالْوَجْهَيْنِ (بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) : وَالِاسْتِعَاذَةُ طَلَبُ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى دَفْعِ الشَّيْطَانِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ) : أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ (فِي بَابِ خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 76 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؟) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِمُسْلِمٍ (قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يَزَالُونَ يَقُولُوا: مَا كَذَا؟ مَا كَذَا؟ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» .؟ . الْفَصْلُ الثَّالِثُ 76 - (عَنْ أَنَسٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ) أَيْ: لَنْ يَزَالُوا، وَلَنْ يَنْقَطِعُوا، وَإِفَادَتُهُ الْإِثْبَاتَ؛ لِأَنَّهُ كَزَالَ يُفِيدُ مَعْنَى النَّفْيِ، وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ نَفْيٌ آخَرُ أَثْبَتَهُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ (يَتَسَاءَلُونَ) أَيْ: مُتَسَائِلِينَ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ تُحَدِّثُهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ (حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللَّهُ) : مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) : اسْتِئْنَافٌ، أَوْ حَالٌ، وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ، وَالْعَامِلُ مَعْنَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ هَذَا مُبْتَدَأٌ، وَاللَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ خَبَرُهُ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ (فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) : قَاسُوا الْقَدِيمَ عَلَى الْحَادِثِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُحْدِثٍ، وَيَتَسَلْسَلُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى خَالِقٍ قَدِيمٍ، وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَمَحَلُّ تَحْقِيقِ هَذَا الْمَرَامِ كُتُبُ الْكَلَامِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِمُسْلِمٍ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَيَكُونُ الْحَدِيثُ قُدْسِيًّا (وَإِنَّ أُمَّتَكَ) أَيْ: أُمَّةَ الدَّعْوَةِ، أَوْ بَعْضَ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ بِطَرِيقِ الْجَهَالَةِ، أَوِ الْوَسْوَسَةِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ (لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ) أَيْ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، أَوْ فِي خَوَاطِرِهِمْ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ (مَا كَذَا مَا كَذَا) : كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَقِيلَ وَقَالَ؛ أَيْ: مَا شَأْنُهُ، وَمَنْ خَلَقَهُ (حَتَّى يَقُولُوا) أَيْ: حَتَّى يَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ، وَيَنْتَهُوا إِلَى أَنْ يَقُولُوا: (هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) : وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ إِعْلَامُهُ تَعَالَى لِنَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِمَّا سَيَقَعُ مِنْ أُمَّتِهِ لِيُحَذِّرَهُمْ مِنْهُ.

77 - وَعَنْ عُثْمَانِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي، وَبَيْنَ قِرَاءَتِي يُلَبِّسُهَا عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزِبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا) فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي» . رَوَاهُ مَسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 77 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ) : هُوَ الثَّقَفِيُّ، اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الطَّائِفِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عُمَرُ، وَوَلَّاهُ عُمَانَ، وَالْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، وَهُوَ أَحْدَثُهُمْ سِنًّا، وَلَهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَذَلِكَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَسَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَزَمَتْ ثَقِيفٌ عَلَى الرِّدَّةِ قَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ كُنْتُمْ آخِرَ النَّاسِ إِسْلَامًا فَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ النَّاسِ رِدَّةً فَامْتَنَعُوا عَنِ الرِّدَّةِ. رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ( «قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي، وَبَيْنَ صَلَاتِي، وَبَيْنَ قِرَاءَتِي» ) أَيْ: يَمْنَعُنِي مِنَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ مِنَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ بِدَلِيلِ تَثْلِيثِ التَّفْلِ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَلْيَتْفُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَيْرَ مُتَوَالِيَاتٍ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ التَّفْلِ وَالتَّعَوُّذِ عَلَى مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَى جَعَلَ بَيْنِي وَبَيْنَ كَمَالِهِمَا حَاجِزًا مِنْ وَسْوَسَتِهِ الْمَانِعَةِ مِنْ رُوحِ الْعِبَادَةِ، وَسِرِّهَا، وَهُوَ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ (يُلَبِّسُهَا عَلَيَّ) : بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ ظَاهِرَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَكَسْرِ ثَالِثِهِ أَيْ: يَخْلِطُ، وَيُشَكِّكُنِي فِيهَا أَيْ: فِي الصَّلَاةِ أَوِ الْقِرَاءَةِ، أَوْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ حَالَ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ذَاكَ شَيْطَانٌ) أَيِ: الْمُلَبِّسُ أَيْ: خَاصٌّ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا رَئِيسُهُمْ (يُقَالُ لَهُ خِنْزِبٌ) : بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ، ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ زَايٍّ مَكْسُورَةٍ، أَوْ مَفْتُوحَةٍ. كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَهُوَ مِنَ الْأَوْزَانِ الرُّبَاعِيَّةِ كَزِبْرِجٍ، وَدِرْهَمٍ، وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالزَّايِ، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَنَظِيرُهُ جَعْفَرٌ، وَيُقَالُ أَيْضًا بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ فَتْحُ الْخَاءِ مَعَ ضَمِّ الزَّايِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَزْنُ فِي الرُّبَاعِيِّ الْمُجَرَّدِ، وَلَيْسَ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْجَرِيءُ عَلَى الْفُجُورِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَامُوسِ. (فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ) أَيْ: أَدْرَكْتَهُ وَعَلِمْتَهُ (فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ) : فَإِنَّهُ لَا خَلَاصَ مِنْ وَسْوَسَتِهِ إِلَّا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَحِفْظِهِ وَمَعُونَتِهِ (وَاتْفُلْ) : بِضَمِّ الْفَاءِ، وَيُكْسَرُ (عَلَى يَسَارِكَ) أَيْ: عَنْ يَسَارِكَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ إِشَارَةً إِلَى التَّنَفُّرِ، وَالتَّبَعُّدِ عَنِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَجُرُّ إِلَى كِتَابَةِ صَاحِبِ الْيَسَارِ، أَوْ إِلَى طَرِيقَةِ أَصْحَابِ الشِّمَالِ (ثَلَاثًا) أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمُبَاعَدَةِ (فَفَعَلْتُ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ التَّعَوُّذِ، وَالتَّفْلِ (فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ) أَيِ: الْوَسْوَاسَ (عَنِّي) : بِبَرَكَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

78 - وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَهِمُ فِي صَلَاتِي فَيَكْبُرُ ذَلِكَ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ: امْضِ فِي صَلَاتِكَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَذْهَبَ ذَلِكَ عَنْكَ حَتَّى تَنْصَرِفَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا أَتْمَمْتُ صَلَاتِي. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 78 - (وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: مَا أَدْرَكْنَا بِالْمَدِينَةِ أَحَدًا نُفَضِّلُهُ عَلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ، وَعَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ، وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً. (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَهِمُ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ (فِي صَلَاتِي) : يُقَالُ: وَهَمْتُ فِي الشَّيْءِ بِالْفَتْحِ أَهِمُ وَهْمًا إِذَا أُذْهِبَ وَهْمُكَ إِلَيْهِ، وَأَنْتَ تُرِيدُ غَيْرَهُ، وَيُقَالُ: وَهَمْتُ فِي الْحِسَابِ أُوهَمُ، وَهْمًا إِذَا غَلِطْتَ فِيهِ، وَسَهَوْتَ (فَيَكْبُرُ) : بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ أَيْ: يَعْظُمُ (ذَلِكَ) أَيِ: الْوَهْمُ (عَلَيَّ) : وَرُوِيَ بِالْمُثَلَّثَةِ مِنَ الْكَثْرَةِ أَيْ: يَقَعُ كَثِيرًا هَذَا الْوَهْمُ عَلَيَّ (فَقَالَ لَهُ: امْضِ فِي صَلَاتِكَ) : سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَسْوَسَةُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، أَوْ دَاخِلَهَا، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى مَوَانِعِهَا (فَإِنَّهُ لَنْ يَذْهَبَ ذَلِكَ عَنْكَ) : فَإِنَّهُ ضَمِيرٌ لِلشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَهْمِ الْمَعْنِيِّ بِهِ الْوَسْوَسَةُ، وَالْمَعْنَى لَا يَذْهَبُ عَنْكَ تِلْكَ

الْخَطَرَاتُ الشَّيْطَانِيَّةُ، (حَتَّى تَنْصَرِفَ) أَيْ: تَفْرُغَ مِنَ الصَّلَاةِ (وَأَنْتَ تَقُولُ) : لِلشَّيْطَانِ صَدَقْتَ (مَا أَتْمَمْتُ صَلَاتِي) : لَكِنْ مَا أَقْبَلُ قَوْلَكَ، وَلَا أُتِمُّهَا إِرْغَامًا لَكَ، وَنَقْضًا لِمَا أَرَدْتَهُ مِنِّي، وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ لِدَفْعِ الْوَسَاوِسِ، وَقَمْعِ هَوَاجِسِ الشَّيْطَانِ فِي سَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَلَاصَ مِنَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ بِعَوْنِ الرَّحْمَنِ، وَالِاعْتِصَامِ بِظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْخَطَرَاتِ، وَالْوَسَاوِسِ الذَّمِيمَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

[باب الإيمان بالقدر]

[بَابُ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 79 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قَالَ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] » ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [3] بَابُ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ هَذَا نَوْعُ تَخْصِيصٍ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوْ ذِكْرُ جُزْئِيٍّ بَعْدَ الْكُلِّيِّ اهْتِمَامًا بِهِ، وَاعْتِنَاءً بِاتِّصَافِهِ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ النَّاشِئِ عَنِ التَّحَيُّرِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ عَظِيمُ الشَّأْنِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْقَدَرُ: بِالْفَتْحِ، وَتُسَكَّنُ مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقَضَايَا. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ فَرْضٌ لَازِمٌ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ خَيْرِهَا، وَشَرِّهَا، وَكَتَبَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ أَنْ خَلَقَهُمْ، وَالْكُلُّ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَرْضَى الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ، وَوَعَدَ عَلَيْهِمَا الثَّوَابَ، وَلَا يَرْضَى الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ وَأَوْعَدَ عَلَيْهِمَا الْعِقَابَ. وَالْقَدَرُ: سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا مَلَكًا مُقَرَّبًا، وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَلَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيهِ، وَالْبَحْثُ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْعَقْلِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً خَلَقَهُمْ لِلنَّعِيمِ فَضْلًا، وَفِرْقَةً لِلْجَحِيمِ عَدْلًا، وَسَأَلَ رَجُلٌ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْقَدَرِ؟ قَالَ: طَرِيقٌ مُظْلِمٌ لَا تَسْلُكْهُ، وَأَعَادَ السُّؤَالَ فَقَالَ: بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا تَلِجْهُ، فَأَعَادَ السُّؤَالَ فَقَالَ: سِرُّ اللَّهِ قَدْ خَفِيَ عَلَيْكَ فَلَا تَفْتِشْهُ، وَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ قَالَ: تَبَارَكَ مَنْ أَجْرَى الْأُمُورَ بِحُكْمِهِ ... كَمَا شَاءَ لَا ظُلْمًا أَرَادَ، وَلَا هَضْمًا فَمَا لَكَ شَيْءٌ غَيْرُ مَا اللَّهُ شَاءَهُ ... فَإِنْ شِئْتَ طِبْ نَفْسًا وَإِنْ شِئْتَ مُتْ كَظْمًا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 79 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ) : جَمْعُ مِقْدَارٍ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ قَدْرُ الشَّيْءِ، وَكَمِّيَّتُهُ كَالْمِكْيَالِ، وَالْمِيزَانِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقَدَرِ نَفْسِهِ، وَهُوَ الْكَمِّيَّةُ، وَالْكَيْفِيَّةُ (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضَ) : وَمَعْنَى كَتَبَ اللَّهُ؛ أَجْرَى اللَّهُ الْقَلَمَ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِإِيجَادِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ، وَأَثْبَتَ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ عَلَى وَفْقِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ أَزَلًا كَإِثْبَاتِ الْكَاتِبِ مَا فِي ذِهْنِهِ بِقَلَمِهِ عَلَى لَوْحِهِ، وَقِيلَ: أَمَرَ اللَّهُ الْقَلَمَ أَنْ يُثْبِتَ فِي اللَّوْحِ مَا سَيُوجَدُ مِنَ الْخَلَائِقِ ذَاتًا وَصِفَةً، وَفِعْلًا، وَخَيْرًا، وَشَرًّا عَلَى مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ إِطْلَاعُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا سَيَقَعُ لِيَزْدَادُوا بِوُقُوعِهِ إِيمَانًا، وَتَصْدِيقًا، وَيَعْلَمُوا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ فَيَعْرِفُوا لِكُلٍّ مَرْتَبَتَهُ، أَوْ قَدَّرَ وَعَيَّنَ مَقَادِيرَهُمْ تَعْيِينًا بَتًّا لَا يَتَأَتَّى خِلَافُهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فِي عِلْمِهِ الْقَدِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِأُمِّ الْكِتَابِ، أَوْ مُعَلَّقًا كَأَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فُلَانٌ يَعِيشُ عِشْرِينَ سَنَةً إِنْ حَجَّ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ إِنْ لَمْ يَحُجَّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] أَيِ: الَّتِي لَا مَحْوَ فِيهَا، وَلَا إِثْبَاتَ فَلَا يَقَعُ فِيهِمَا إِلَّا مَا يُوَافِقُ مَا أَبْرَمَ

فِيهَا. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي كَلَامِهِ خَفَاءٌ إِذِ الْمُعَلَّقُ، وَالْمُبْرَمُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُثْبَتٌ فِي اللَّوْحِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْمَحْوِ، نَعَمِ الْمُعَلَّقُ فِي الْحَقِيقَةِ مُبْرَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى، فَتَعْبِيرُهُ بِالْمَحْوِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ التَّرْدِيدِ الْوَاقِعِ فِي اللَّوْحِ إِلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ الْمُبْرَمِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ مَعْلُومٌ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، أَوْ مَحْوُ أَحَدِ الشِّقَّيْنِ الَّذِي لَيْسَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ دَقِيقٌ، وَبِالتَّحْقِيقِ حَقِيقٌ. (وَقَوْلُهُ: (بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) : مَعْنَاهُ طُولُ الْأَمَدِ مَا بَيْنَ التَّقْدِيرِ، وَالْخَلْقِ مِنَ الْمُدَدِ، أَوْ تَقْدِيرُهُ بِبُرْهَةٍ مِنَ الدَّهْرِ الَّذِي يَوْمٌ مِنْهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وَهُوَ الزَّمَانُ، أَوْ مِنَ الزَّمَانِ نَفْسِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى الزَّمَانِ، وَلَمْ يُخْلَقِ الزَّمَانُ، وَلَا مَا يَتَحَدَّدُ بِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَالشُّهُورِ، وَالسِّنِينَ؟ قُلْتُ: يُحْمَلُ الزَّمَانُ حِينَئِذٍ عَلَى مِقْدَارِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هُوَ الْعَرْشُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ حِينَئِذٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ يَعْنِي كَانَ عَرْشُ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَالرِّيحُ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ، وَالْمَاءَ كَانَا مَخْلُوقَيْنِ قَبْلَ خَلْقِهِمَا، وَقِيلَ ذَلِكَ الْمَاءُ هُوَ الْقَلَمُ، وَقِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْعَالَمِ الْمَاءُ، وَإِنَّمَا أَوْجَدَ سَائِرَ الْأَجْسَامِ مِنْهُ تَارَةً بِالتَّلْطِيفِ، وَتَارَةً بِالتَّكْثِيفِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَحَاصِلُهَا كَمَا بَيَّنْتُهَا فِي شَرْحِ شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ أَوَّلَهَا النُّورُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ثُمَّ الْمَاءُ، ثُمَّ الْعَرْشُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

80 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ، وَالْكَيْسُ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 80 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : (كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ) : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: بِمِقْدَارٍ مُرَتَّبٍ مَكْتُوبٍ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ فِي الْخَارِجِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ (حَتَّى الْعَجْزُ، وَالْكَيْسُ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَرُوِيَ بِرَفْعِهَا عَطْفًا عَلَى كُلِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ أَيْ: حَتَّى الْعَجْزُ، وَالْكَيْسُ كَذَلِكَ أَيْ: كَائِنَانِ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِجَرِّهِمَا عَطْفًا عَلَى شَيْءٍ. قِيلَ: وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَكُونَ حَتَّى هُنَا جَارَّةٌ بِمَعْنَى إِلَى لِأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ يَقْتَضِي الْغَايَةَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اكْتِسَابَ الْعِبَادِ، وَأَفْعَالَهُمْ كُلَّهَا بِتَقْدِيرِ خَالِقِهِمْ حَتَّى الْكَيْسُ الَّذِي يَتَوَسَّلُ صَاحِبُهُ بِهِ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَالْعَجْزُ الَّذِي يَتَأَخَّرُ بِهِ عَنْهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْعَجْزِ هُنَا عَدَمُ الْقُدْرَةِ، أَوْ تَرْكُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ، وَالتَّسْوِيفُ بِهِ، وَالتَّأْخِيرُ عَنْ وَقْتِهِ، أَوِ الْعَجْزُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَالْكَيْسُ ضِدُّ الْعَجْزِ، وَهُوَ النَّشَاطُ، وَالْحِذْقُ بِالْأُمُورِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعَاجِزَ قَدْ قُدِّرَ عَجْزُهُ، وَالْكَيِّسُ قَدْ قُدِّرَ كَيْسُهُ، وَقِيلَ: الْكَيْسُ هُوَ كَمَالُ الْعَقْلِ، وَشِدَّةُ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ، وَتَمْيِيزُ مَا فِيهِ النَّفْعُ مِمَّا فِيهِ الضُّرُّ، وَالْعَجْزُ مُقَابِلُهُ، وَقِيلَ: قُوبِلَ الْكَيْسُ بِالْعَجْزِ عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمُقَابِلَ الْحَقِيقِيَّ لِلْكَيْسِ الْبَلَادَةُ، وَلِلْعَجْزِ الْقُوَّةُ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْأُسْلُوبِ تَقْيِيدُ كُلٍّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ. مِمَّا يُقَابِلُ الْآخَرَ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَتَّى الْكَيْسُ، وَالْقُوَّةُ، وَالْعَجْزُ، وَالْبَلَادَةُ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ الْقُدْرَةَ، وَالِاخْتِيَارَ لِلْعِبَادِ؛ لِأَنَّ مَصْدَرَ الْفِعْلِ الدَّاعِيَةُ، وَمَنْشَؤُهَا الْقَلْبُ الْمَوْصُوفُ بِالْكَيَاسَةِ وَالْبَلَادَةِ، ثُمَّ الْقُوَّةِ، وَالضَّعْفِ، وَمَكَانُهَا الْأَعْضَاءُ، وَالْجَوَارِحُ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَأَيُّ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْكَيْسُ جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ، وَإِنَّمَا قُوبِلَ بِالْعَجْزِ؛ لِأَنَّهُ الْخَصْلَةُ الَّتِي تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى الْجَلَادَةِ، وَإِتْيَانِ الْأُمُورِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَذَلِكَ نَقِيضُ الْعَجْزِ، وَالْعَجْزُ هُنَا عَدَمُ الْقُدْرَةِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَاجِزًا وَضَعِيفًا فِي الْجُثَّةِ، أَوِ الرَّأْيِ، وَالتَّمْيِيزِ، أَوْ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ لَا تُعَيِّرْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَلْقِهِ إِيَّاهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَمَنْ كَانَ كَامِلَ الْعَقْلِ بَصِيرًا بِالْأُمُورِ تَامَّ الْجُثَّةِ، فَهُوَ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقُوَّتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قِيلَ الْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ.

81 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «احْتَجَّ آدَمُ، وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى؟ قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهَبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الْأَرْضِ؟ قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فَبِكَمْ وَجَدَتِ اللَّهِ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 81 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (احْتَجَّ) أَيْ: تَحَاجَّ (آدَمُ، وَمُوسَى) أَيْ طَلَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْحُجَّةَ مِنْ صَاحِبِهِ عَلَى مَا يَقُولُ. قِيلَ: هَذِهِ الْمُحَاجَّةُ كَانَتْ رُوحَانِيَّةً فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (عِنْدَ رَبِّهِمَا) أَيْ: عِنْدَ تَجَلِّيهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا حَالَ تَفَاوُضِهِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُسْمَانِيَّةً بِأَنْ أَحْيَاهُمَا، أَوْ أَحْيَا آدَمَ فِي حَيَاةِ مُوسَى، وَاجْتَمَعَا فِي حَضَائِرِ الْقُدْسِ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اجْتَمَعَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ. (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) أَيْ: غَلَبَهُ فِي الْحُجَّةِ بِأَنْ أَلْزَمَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَرْكِهِ، بَلْ كَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَاللَّوْمُ بَعْدَ زَوَالِ التَّكْلِيفِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُ لَا سِيَّمَا مِمَّنْ شَاهَدَ سِرَّ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ الْأَسْتَارِ فِي الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ مِمَّا لَا يُحَسُّ عَقْلًا، وَأَمَّا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ شَرْعًا مِنَ الْحُدُودِ، وَالتَّعْزِيرِ فَحُسْنُهُ مِنَ الشَّارِعِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَرَضٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ (قَالَ مُوسَى) : إِلَخْ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهَا (أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ) أَيْ: قُدْرَتِهِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ إِكْرَامًا، وَتَشْرِيفًا لَهُ، وَأَنَّهُ خُلِقَ إِبْدَاعًا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ أَبٍ، وَأُمٍّ، وَالْقِيَاسُ خَلَقَهُ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَوْصُولِ حَتَّى يَصِحَّ وُقُوعُ الْجُمْلَةِ صِلَةً، فَالْتَفَتَ تَلَذُّذًا بِخِطَابِ الْأَبِ الْحَائِزِ هَذَا الشَّرَفِ الْأَكْبَرِ، قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لُغَةٌ كَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَةَ (وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ) : الْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَالتَّخْصِيصِ أَيْ: مِنَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقٌ، وَلَا يَدَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي الْقُرْآنِ (وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ) أَيْ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَكَ، أَوْ إِلَيْكَ تَعْظِيمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ سُجُودُهُمْ لَهُ انْحِنَاءً لَا خُرُورًا عَلَى الذَّقَنِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أُمِرُوا بِأَنْ يَأْتَمُّوا بِهِ فَسَجَدَ، وَسَجَدُوا لِلَّهِ، فَالتَّقْدِيرُ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ لِأَجْلِ سُجُودِكَ إِيَّاهُ، أَوِ اللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: خَضَعُوا لَهُ، وَأَقَرُّوا بِفَضْلِهِ، فَالسَّجْدَةُ لُغَوِيَّةٌ. بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ (وَأَسْكَنَكَ) أَيْ: جَعَلَكَ سَاكِنًا، أَوْ جَعَلَ لَكَ سُكْنَى (فِي جَنَّتِهِ) : الْخَاصَّةِ بِهِ، وَفِيهِ رَدٌّ لَفْظًا وَمَعْنًى عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا فِي بُسْتَانٍ مِنْ بَسَاتِينِ الدُّنْيَا (ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ) أَيِ: الَّتِي صَدَرَتْ مِنْكَ غَيْرَ لَائِقَةٍ بِعُلُوِّ مَقَامِكَ، وَهِيَ أَكْلُكَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَإِنْ كَانَ نِسْيَانًا، أَوْ خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الْكُمَّلَ يُعَاتَبُونَ، وَيُؤَاخَذُونَ بِمَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ: صِرْتَ سَبَبًا لِإِهْبَاطِهِمْ وَإِنْزَالِهِمْ، وَإِسْقَاطِهِمْ، فَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ لَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى شَرَفِ الْوُجُودِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ مُهْبَطِينَ مِنْهَا (إِلَى الْأَرْضِ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَهْبَطْتَ يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ، وَأَنْتَ عَصَيْتَهُ بِأَكْلِ الشَّجَرَةِ حَتَّى أُخْرِجْتَ مِنَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِهَا، وَبَقِيَ أَوْلَادُكَ فِي دَارِ الْمَشَقَّةِ وَالْبَلْوَى وَالِابْتِلَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوِ اسْتَمَرُّوا فِي الْجَنَّةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي لَا نَعِيمَ فَوْقَهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُخِلُّ بِالْأَدَبِ مَعَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ مَقَامَ الِاحْتِجَاجِ يُسَامَحُ فِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. (قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ) أَيِ: اخْتَارَكَ (اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ) : بِالْجَمْعِ لِإِرَادَةِ الْأَنْوَاعِ، أَوْ بِالْإِفْرَادِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ كَمَا قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَمْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا

يَنْفِي رِسَالَةَ آدَمَ؛ لِأَنَّ كُلًّا ذَكَرَ مَا هُوَ الْأَشْرَفُ مِنْ صِفَاتِ صَاحِبِهِ، وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اصْطَفَاهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّسَالَةِ وَالتَّكْلِيمِ، وَاخْتُصَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَ اللَّهِ الْقَدِيمَ أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُ، وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] (وَبِكَلَامِهِ) أَيْ: بِتَكْلِيمِهِ إِيَّاكَ (وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ) : وَهِيَ أَلْوَاحُ التَّوْرَاةِ (فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: بَيَانُهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْحَرْفِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ، أَوْ صِفَةٌ أَيِ: الْأَلْوَاحُ الَّتِي فِيهَا إِظْهَارُ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ وَالْقَصَصِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَالْحُدُودِ، وَالْأَحْكَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] (وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا) : النَّجِيُّ: الْمُنَاجَى يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَهُوَ مَنْ يَجْرِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ كَلَامٌ فِي السِّرِّ. أَيْ: وَكَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ، أَوِ الْمَعْنَى وَخَصَّكَ بِالنَّجْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ. (فَبِكَمْ) : مُمَيِّزُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَبِكَمْ زَمَانًا، أَوْ فَبِأَيِّ زَمَانٍ (وَجَدْتَ اللَّهَ) أَيْ: عَلِمْتَهُ، أَوْ صَادَفْتَ حُكْمَهُ (كَتَبَ التَّوْرَاةَ) أَيْ: أَمَرَ بِكَتْبِ التَّوْرَاةِ فِي الْأَلْوَاحِ لِمَا سَبَقَ أَنَّ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُتِبَ قَبْلَ ذَلِكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ) : عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا) : الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْدِيدُ، أَوِ التَّكْثِيرُ (قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا) أَيْ: فِي التَّوْرَاةِ، وَقَرَأْتَ، وَعَلِمْتَ مَضْمُونَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121] : أَيْ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ {فَغَوَى} [طه: 121] أَيْ: فَخَرَجَ بِالْعِصْيَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَاشِدًا فِي فِعْلِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لَفْظَهُ بِهَذَا التَّرْكِيبِ بَلْ مَعْنَاهُ بِالْعِبْرِيَّةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا مِنْهُ فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ، وَإِذْعَانٌ لِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ، وَلَهُ تَعَالَى أَنْ يُخَاطِبَ عَبِيدَهُ، وَيَصِفَهُمْ بِمَا يَشَاءُ؛ إِذِ الْمَعْصِيَةُ وَالْغَوَايَةُ يُطْلَقَانِ عَلَى مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ، وَلَوْ مَعَ النِّسْيَانِ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَتَعَمَّدِ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بَلْ تَأَوَّلَ، أَوْ نَسِيَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] وَمَعَ ذَلِكَ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ عَصَى وَغَوَى إِقَامَةً لِنَامُوسِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْهِ لَا لِيَتَأَسَّى بِهِ النَّاسُ فِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ لِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا، فَلَمْ يُوصَفْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ الْعَامَّةَ وُقُوعَ مَعْصِيَةٍ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (قَالَ) أَيْ: مُوسَى (نَعَمْ. قَالَ) أَيْ: آدَمُ (أَفَتَلُومُنِي) أَيْ: أَتَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ هَذَا فَتَلُومُنِي (عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ) أَيْ: فِي الْأَلْوَاحِ (أَنْ أَعْمَلَهُ) : بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ كَتَبَهُ الْمَنْصُوبِ (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِ آدَمَ: كَتَبَهُ اللَّهُ أَلْزَمَهُ إِيَّايَ، وَأَوْجَبَهُ عَلَيَّ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تَنَاوُلِ الشَّجَرَةِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَبْلَ كَوْنِي، وَحَكَمَ بِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ خِلَافِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَكَيْفَ تَغْفُلُ عَنِ الْعِلْمِ السَّابِقِ، وَتَذْكُرُ الْكَسْبَ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ، وَتَنْسَى الْأَصْلَ الَّذِي هُوَ الْقَدَرُ، وَأَنْتَ مِمَّنِ اصْطَفَاكَ اللَّهُ، وَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ سِرَّ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ الْأَسْتَارِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ مُحَرِّرَةٍ لِدَعْوَى آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُقَرِّرَةٌ لِحُجَّتِهِ. مِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاجَّةَ لَمْ تَكُنْ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ قَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْوَسَائِطِ وَالِاكْتِسَابِ، بَلْ فِي عَالَمِ الْعُلْوِيِّ عِنْدَ مُلْتَقَى الْأَرْوَاحِ

وَمِنْهَا: أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احْتَجَّ بِذَلِكَ بَعْدَ انْدِفَاعِ مَوَاجِبِ الْكَسْبِ مِنْهُ، وَارْتِفَاعِ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّائِمَةَ كَانَتْ بَعْدَ سُقُوطِ الذَّنْبِ وَمُوجِبِ الْمَغْفِرَةِ. قِيلَ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْجَبْرِ إِثْبَاتُ التَّقْدِيرِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَنَفْيُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَبْدِ أَصْلًا، وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَكِلَاهُمَا عَلَى شَرَفِ جُرُفٍ هَارٍ، وَالطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ الْقَصْدُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِذْ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْقَدْرُ، وَلَا إِبْطَالُ الْكَسْبِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) : لِامْتِنَاعِ رَدِّ عِلْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ حَيْثُ أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ إِنَّمَا خَلَقَهُ لِلْأَرْضِ، وَأَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ فِي الْجَنَّةِ بَلْ إِنَّهُ يَنْقُلُهُ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ لِيَكُونَ خَلِيفَتَهُ تَعَالَى فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِعَادَتُهُ فَذْلَكَةٌ لِلتَّفْصِيلِ تَثْبِيتًا لِلْأَنْفُسِ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَحَجَّ أَوَّلًا تَحْرِيرٌ لِلدَّعْوَى، وَثَانِيًا إِثْبَاتٌ لَهَا، فَالْفَاءُ فِي الْأَوَّلِ لِلْعَطْفِ، وَفِي الْأَخِيرِ لِلنَّتِيجَةِ اهـ. وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ فِي الْمَعْنَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

82 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: ( «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: فَيَكْتُبُ عَمَلَهُ، وَأَجَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرَهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 82 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) : الْأَوْلَى أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةً لَا حَالِيَّةً لِتَعُمَّ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ عَادَتِهِ ذَلِكَ فَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَهُ هَاهُنَا. وَمَعْنَاهُ الصَّادِقُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ حَتَّى قَبْلَ النُّبُوَّةِ لِمَا كَانَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِمُحَمَّدٍ الْأَمِينِ. الْمَصْدُوقُ فِي جَمِيعِ مَا أَتَاهُ مِنَ الْوَحْيِ الْكَرِيمِ صَدَّقَهُ زِيدُ رَاسَتْ كَفَتْ بَاوَزِيدَ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ: (فَصَدَقَنِي) . وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ» ) ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: «سَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقَكَ» ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. كَذَا قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا قِيلَ: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدٌ إِذْ يَلْزَمُ مِنْ أَحَدِهِمَا الْآخَرُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُخَصَّ بِهِ. (إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ التَّحْدِيثِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا أَيْ: مَادَّةُ خَلْقِ أَحَدِكُمْ، أَوْ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ أَحَدُكُمْ (يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) أَيْ: يُقَرَّرُ وَيُحْرَزُ فِي رَحِمِهَا. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجَمْعِ مُكْثُ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ (أَرْبَعِينَ يَوْمًا) : يَتَخَمَّرُ فِيهَا حَتَّى يَتَهَيَّأَ لِلْخَلْقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْهَا بَشَرًا طَارَتْ فِي بَشَرَةِ الْمَرْأَةِ تَحْتَ كُلِّ ظُفُرٍ وَشَعْرٍ، ثُمَّ تَمْكُثُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةٍ، ثُمَّ تَنْزِلُ دَمًا فِي الرَّحِمِ فَذَلِكَ جَمْعُهَا، وَالصَّحَابَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِتَفْسِيرِ مَا سَمِعُوهُ، وَأَحَقُّهُمْ بِتَأْوِيلِهِ، وَأَكْثَرُهُمُ احْتِيَاطًا، فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدِهِمْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابنُ حَجَرٍ: وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَغَيْرُهُ، وَصَحَّ تَفْسِيرُ الْجَمْعِ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ خَلْقَ عَبْدٍ فَجَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ وَعُضْوٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ كُلَّ عِرْقٍ لَهُ دُونَ آدَمَ {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] » ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَنْ قَالَ لَهُ: وَلَدَتِ امْرَأَتِي غُلَامًا أَسْوَدَ: ( «لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ» ) . وَأَصْلُ النُّطْفَةِ الْمَاءُ الْقَلِيلُ؛ سُمِّيَ بِهَا الْمَنِيُّ لِقِلَّتِهِ، وَقِيلَ لِنَطَافَتِهِ أَيْ: سَيَلَانِهِ لِأَنَّهُ يَنْطُفُ نَطْفًا أَيْ: يَسِيلُ. قَالَ الصُّوفِيَّةُ: خُصُوصِيَّةُ الْأَرْبَعِينَ لِمُوَافَقَتِهِ تَخْمِيرَ طِينَةِ آدَمَ، وَمِيقَاتِ مُوسَى، ثُمَّ إِنَّهُ يُعْجَنُ النُّطْفَةُ بِتُرَابِ قَبْرِهِ كَمَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] أَنَّ الْمَلَكَ يَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ مَدْفَنِهِ فَيُبَدِّدُهَا عَلَى النُّطْفَةِ، وَلِكَوْنِهِ سُلَالَةً مِنَ الطِّينِ جَاءَ مُخْتَلِفَ الْأَلْوَانِ وَالْأَخْلَاقِ حَسَبَ اخْتِلَافِ أَجْزَاءِ الطِّينِ، بَلْ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُرَّكَبَاتِ مِنَ الطِّينِ فِيهِ حِرْصُ النَّمْلَةِ، وَالْفَأْرَةِ، وَشَهْوَةُ الْعُصْفُورِ، وَغَضَبُ الْفَهْدِ، وَكِبْرُ النَّمِرِ، وَبُخْلُ الْكَلْبِ، وَشَرَهُ الْخِنْزِيرِ، وَحِقْدُ الْحَيَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ ذَمَائِمِ الصِّفَاتِ، وَفِيهِ شَجَاعَةُ الْأَسَدِ، وَسَخَاوَةُ الدِّيكِ، وَقَنَاعَةُ

الْبُومِ، وَحِلْمُ الْجَمَلِ، وَتَوَاضَعُ الْهِرَّةِ، وَوَفَاءُ الْكَلْبِ، وَبُكُورُ الْغُرَابِ، وَهِمَّةُ الْبَازِي، وَنَحْوُهَا مِنْ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ. (نُطْفَةً) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُجْمَعُ (ثُمَّ يَكُونُ) أَيْ: خَلْقُ أَحَدِكُمْ (عَلَقَةً) أَيْ: دَمًا غَلِيظًا جَامِدًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: ثُمَّ عَقِبَ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ النُّطْفَةُ عَلَقَةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَكُونُ بِمَعْنَى يَصِيرُ، وَالضَّمِيرُ إِلَى مَا جُمِعَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً، وَقِيلَ: يَصِيرُ خَلْقُهُ عَلَقَةً لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ تَعَلَّقَ بِالرَّحِمِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّيْرُورَةَ فِي أَرْبَعِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَدِّرَ، وَيَبْقَى، أَوْ يَمْكُثَ (مِثْلَ ذَلِكَ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: مِثْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ يَعْنِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا (ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً) أَيْ: قِطْعَةَ لَحْمٍ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ (مِثْلَ ذَلِكَ) : وَيَظْهَرُ التَّصْوِيرُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ. قَالَ: الْمُظْهِرُ فِي هَذَا التَّحْوِيلِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ فِي لَمْحَةٍ فَوَائِدُ وَعِبَرٌ. مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ دَفْعَةً لَشَقَّ عَلَى الْأُمِّ لِعَدَمِ اعْتِيَادِهَا، وَرُبَّمَا تَظُنُّ عِلَّةً، فَجُعِلَ أَوَّلًا نُطْفَةً لِتَعْتَادَهَا مُدَّةً، وَهَكَذَا إِلَى الْوِلَادَةِ. وَمِنْهَا: إِظْهَارُ قُدْرَتِهِ، وَنِعْمَتِهِ لِيَعْبُدُوهُ، وَيَشْكُرُوهُ حَيْثُ قَلَبَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَطْوَارِ إِلَى كَوْنِهِمْ إِنْسَانًا حَسَنَ الصُّورَةِ مُتَحَلِّيًا بِالْعَقْلِ، وَالشَّهَامَةِ. وَمِنْهَا: إِرْشَادُ النَّاسِ، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَشْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُهَيَّأَةٍ لِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَى حَشْرِهِ، وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. قُلْتُ: وَمِنْهَا: بَلْ أَظْهَرُهَا تَعْلِيمُ الْعِبَادِ فِي تَدْرِيجِ الْأُمُورِ، وَعَدَمِ تَعْجِيلِهِمْ فِيهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَقُوَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ دُفْعَةً حَيْثُ خَلَقَهُ مُدَرَّجًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَوْلَى بِهِ التَّأَنِّي فِي فِعْلِهِ كَمَا قَالُوا مِثْلَ هَذِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] فَحَصَلَتِ الْمُطَابَقَةُ وَالْمُنَاسَبَةُ، وَالْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْآفَاقِيَّةِ، وَالدَّلَالَاتِ الْأَنْفُسِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] . وَمِنْهَا تَنْبِيهُهُمْ، وَتَفْهِيمُهُمْ أَصْلَهُمْ وَفَرْعَهُمْ فَلَا يَغْتَرُّوا بِقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ، وَأَعْضَائِهِمْ، وَحَوَاسِّهِمْ، وَيَعْرِفُوا أَنَّهَا كُلَّهَا عَطَايَا، وَهَدَايَا، بَلْ عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَةِ مَوْجُودَةٌ عِنْدَهُمْ لِيَنْظُرُوا فِي مَبْدَئِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» (ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى خَلْقِ أَحَدِكُمْ، أَوْ إِلَى أَحَدِكُمْ يَعْنِي فِي الطَّوْرِ الرَّابِعِ حِينَ مَا يَتَكَامَلُ بَيَانُهُ، وَيَتَشَكَّلُ أَعْضَاؤُهُ (مَلَكًا) : وَفِي الْأَرْبَعِينَ: ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرْسَالِ أَمْرُهُ بِهَا، وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ مُوَكَّلٌ بِالرَّحِمِ حِينَ كَانَ نُطْفَةً، أَوْ ذَاكَ مَلَكٌ آخَرُ غَيْرُ مَلَكِ الْحِفْظِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِرِوَايَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ خِلَافُ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي الْمَشَارِقِ، «أَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا، وَبَصَرَهَا، وَجِلْدَهَا، وَعِظَامَهَا، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، ثُمَّ يَكْتُبُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ» ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ التَّصْوِيرَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَهُوَ مُنَافٍ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ. فَجَوَابُهُ: أَنَّ لِتَصَرُّفِ الْمَلَكِ أَوْقَاتًا. أَحَدُهَا: حِينَ يَكُونُ نُطْفَةً، ثُمَّ يَنْقَلِبُ عَلَقَةً، وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمِ الْمَلَكِ بِأَنَّهُ وَلَدٌ، وَذَلِكَ عَقِيبَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَحِينَئِذٍ يَبْعَثُ إِلَيْهِ رَبُّهُ يَكْتُبُ رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَخِلْقَتَهُ، وَصُورَتَهُ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِتَصْوِيرِهِ، وَخَلْقِ أَعْضَائِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَالْمُرَادُ بِتَصْوِيرِهَا بَعْدَهُ أَنَّهُ يَكْتُبُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَفْعَلُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ التَّصْوِيرَ الْأَوَّلَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى غَيْرُ مَوْجُودٍ عَادَةً، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ بَيْنَ النِّسَاءِ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا قُدِّرَتْ ذَكَرًا تَتَصَوَّرُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى بِحَيْثُ يُشَاهَدُ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى السَّوْأَةَ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْبَنَاتِ، أَوِ الْغَالِبِ. (بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) أَيْ: بِكِتَابَتِهَا، وَكُلُّ قَضِيَّةٍ تُسَمَّى كَلِمَةٌ قَوْلًا كَانَ، أَوْ فِعْلًا (فَيَكْتُبُ عَمَلَهُ) : مِنَ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ (وَأَجَلَهُ) : مُدَّةَ حَيَاتِهِ، أَوِ انْتِهَاءَ عُمُرِهِ (وَرِزْقَهُ) : يَعْنِي أَنَّهُ قَلِيلٌ أَوْ

كَثِيرٌ، وَغَيْرُهُمَا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَهُ، فَيُعَيَّنُ لَهُ، وَيُنْقَشُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْأَعْمَارِ، وَالْأَرْزَاقِ حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَسَبَقَتْ كَلِمَتُهُ، فَمَنْ وَجَدَهُ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ الْحَقِّ، وَاتِّبَاعِهِ، وَرَآهُ أَهْلًا لِلْخَيْرِ، وَأَسْبَابَ الصَّلَاحِ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ أَثْبَتَهُ فِي عِدَادِ السُّعَدَاءِ، وَمَنْ وَجَدَهُ مُتَجَافِيًا قَاسِيَ الْقَلْبِ مُتَأَبِّيًا عَنِ الْحَقِّ أَثْبَتَهُ فِي دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ، وَكَتَبَ مَا يَتَوَقَّعُ مِنْهُ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي، هَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ حَالِهِ مَا يَقْتَضِي تَغَيُّرَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَتَبَ لَهُ أَوَائِلَ أَمْرِهِ، وَأَوَاخِرَهُ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ حَسَبَ مَا يَتِمُّ بِهِ عَمَلُهُ، فَإِنَّ مِلَاكَ الْعَمَلِ خَوَاتِيمُهُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَتْبِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِظْهَارُهُ لِلْمَلَكِ، وَإِلَّا فَقَضَاؤُهُ سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ مُجَاهِدُ: يَكْتُبُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي وَرَقَةٍ، وَتُعَلَّقُ فِي عُنُقِهِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا النَّاسُ. قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَرَادَ بِالطَّائِرِ مَا قَضَى عَلَيْهِ أَنَّهُ عَامِلُهُ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ، وَخَصَّ الْعُنُقَ لِأَنَّهُ مَوْضِعَ الْقِلَادَةِ وَالْأَطْوَاقِ. قُلْتُ: وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الذِّمَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ يَفْعَلَهَا، وَلَا يَقْدِرَ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْهَا، وَقِيلَ: يُؤْمَرُ بِكِتَابَةِ الْأَحْكَامِ الْمُقَدَّرَةِ لَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، أَوْ بَطْنِ كَفِّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَةَ الَّتِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ تَعُمُّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا، وَهَذَا مَا يُخَصُّ بِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ؛ إِذْ لِكُلٍّ كِتَابَةٌ سَابِقَةٌ، وَهِيَ مَا فِي اللَّوْحِ، وَلَاحِقَةٌ تُكْتَبُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَمُتَوَسِّطَةٌ أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ، وَفِي أَصْلِ الْأَرْبَعِينَ يُكْتَبُ رِزْقُهُ، وَأَجَلُهُ، وَعَمَلُهُ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ أَرْبَعُ إِذِ الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ فِيهِ، وَيُرْوَى يَكْتُبُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. (وَشَقِيٌّ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: يَكْتُبُ هُوَ شَقِيٌّ (أَوْ سَعِيدٌ) : قِيلَ: كَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَيَكْتُبُ سَعَادَتَهُ وَشَقَاوَتَهُ، فَعَدَلَ إِمَّا حِكَايَةً لِصُورَةِ مَا يَكْتُبُهُ الْمَلَكُ؛ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ أَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ شَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، فَعَدَلَ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ إِلَيْهِمَا، وَالتَّفْصِيلُ وَهُوَ قَوْلَهُ: فَوَالَّذِي إِلَخْ وَارِدٌ عَلَيْهِمَا، وَالسَّعَادَةُ مُعَاوَنَةُ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ عَلَى نَيْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتُضَادُّهَا الشَّقَاوَةُ، وَهِيَ إِمَّا قَلْبِيَّةٌ، أَوْ بَدَنِيَّةٌ، أَوْ مَا حَوْلَ الْبَدَنِ فَالْقَلْبِيَّةُ هِي الْمَعَارِفُ، وَالْحِكَمُ وَالْكَمَالَاتُ الْعِلْمِيَّةُ، وَالْعَمَلِيَّةُ الْقَلْبِيَّةُ، وَالْخُلُقِيَّةُ، وَالْبَدَنِيَّةُ، الصِّحَّةُ وَالْقُوَّةُ، وَاللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ، وَمَا حَوْلَ الْبَدَنِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْأَسْبَابِ، وَقَدَّمَ الشَّقَاوَةَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الشَّرَّ كَالْخَيْرِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَقْدِيرُهُ رَدًّا عَلَى الثَّنَوِيَّةِ الْمُثْبِتِينَ شَرِيكًا فَاعِلًا لِلشَّرِّ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْحِكْمَةَ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ فَقَالُوا: مُدَبِّرُ الْعَالَمِ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَخُصَّ هَذَا بِأَنْوَاعِ الْخَيْرَاتِ وَالصِّحَّةِ وَالْغِنَى، وَذَلِكَ بِأَصْنَافِ الشُّرُورِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ الرَّبُّ بِقَوْلِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: كَمْ مِنْ أَدِيبٍ فَطِنٍ عَالِمٍ ... مُسْتَكْمِلِ الْعَقْلِ مُقِلٍّ عَدِيمِ وَكَمْ جَهُولٍ مُكْثِرٍ مَالَهُ ... ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ صِفَتَيْ لُطْفٍ وَقَهْرٍ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُلْكُ سِيَّمَا مُلْكُ الْمُلُوكِ كَذَلِكَ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَّا بِوُجُودِ الْآخَرِ، كَمَا لَا تَتَبَيَّنُ اللَّذَّةُ إِلَّا بِالْأَلَمِ، وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ، وَلَا بُدَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مَظْهَرٍ، فَالسُّعَدَاءُ، وَأَعْمَالُهُمْ مَظَاهِرُ اللُّطْفِ، وَفَائِدَةُ بِعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْكُتُبِ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ {إِنَّمَا أَنْتِ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] كَمَا أَنَّ فَائِدَةَ نُورِ الشَّمْسِ لِأَهْلِ الْبَصَرِ، وَالْأَشْقِيَاءُ وَأَفْعَالُهُمْ مَظَاهِرُ الْقَهْرِ، وَفَائِدَةُ الْبِعْثَةِ لَهُمْ إِلْزَامُ الْحُجَّةِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَعْيٌ عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاوَةِ (ثُمَّ يُنْفَخُ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْلُومٌ (فِيهِ الرُّوحُ) : بِالْوَجْهَيْنِ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْبَعْثُ لَا قَبْلَهُ، وَعَكْسُ ذَلِكَ الْوَاقِعُ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ الْمُرَادُ بِهِ تَرْتِيبُ الْأَخْبَارِ فَقَطْ عَلَى أَنَّ

رِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنْ وَقَعَ فِي الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ بِلَفْظِ: فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ إِلَخْ. وَنُسِبَ إِلَى الشَّيْخَيْنِ فَتَأَمَّلْ، فَلَعَلَّهُمَا لَهُمَا رِوَايَتَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ) : الْقَسَمُ لِإِفَادَةِ التَّحْقِيقِ، وَتَأْكِيدِ التَّصْدِيقِ أَيْ: إِذَا كَانَ الشَّقَاوَةُ، وَالسَّعَادَةُ مَكْتُوبَةً فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلِيَعْلَمَ فِي أَمْرِ الْقَضَاءِ أَنَّ الْكَسْبَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ (إِنَّ أَحَدَكُمْ) : وَلَفَظُ الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّ الرَّجُلَ أَيِ: الشَّخْصَ (لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ) : فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالرَّفْعِ لَا لِأَنَّ مَا النَّافِيَةُ كَافَّةٌ عَنِ الْعَمَلِ، بَلْ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى حِكَايَةِ حَالِ الرَّجُلِ لَا الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ. كَذَا قَالَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: حَتَّى هِيَ النَّاصِبَةُ، وَمَا نَافِيَةٌ. وَلَفْظَةُ: يَكُونُ مَنْصُوبَةٌ بِحَتَّى، وَمَا غَيْرُ مَانِعَةٍ لَهَا مِنَ الْعَمَلِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَوْجَهُ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ، وَيَكُونُ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ (بَيْنَهُ، وَبَيْنَهَا) أَيْ: بَيْنَ الرَّجُلِ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ (إِلَّا ذِرَاعٌ) : تَمْثِيلٌ لِغَايَةِ قُرْبِهَا (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ) : ضُمِّنَ مَعْنَى يَغْلِبُ، وَلِذَا عُدِّيَ بِعَلَى، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ أَيْ: يَغْلِبُ عَلَيْهِ كِتَابُ الشَّقَاوَةِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَالْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ أَيِ: الْمُقَدَّرُ، أَوِ التَّقْدِيرُ أَيِ: التَّقْدِيرُ الْأَزَلِيُّ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ السَّبْقِ بِلَا مُهْلَةٍ. ( «فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا» ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ دُخُولَ النَّارِ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ الْعَمَلِ الْمَخْلُوقِيِّ فَلَا يَكُونُ جَبْرًا مَحْضًا، وَلَا قَدَرًا بَحْتًا، وَهَذَا مِمَّا سَنَحَ لِي، وَقِيلَ: لِأَنَّ بَذْرَ الشَّقَاوَةِ، وَالسَّعَادَةِ قَدِ اخْتَفَى فِي الْأَطْوَارِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يَبْرُزُ إِلَّا إِذَا انْتَهَى إِلَى الْغَايَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، أَوِ الطُّغْيَانِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ) أَيِ: الْآخَرَ (لِيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ) : مِنَ الْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي (حَتَّى مَا يَكُونُ) : بِالْوَجْهَيْنِ (بَيْنَهُ، وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ) : قِيلَ: فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ أَمَارَاتٌ لَا مُوجِبَاتٌ، وَأَنَّ مَصِيرَهَا إِلَى مَا جَرَى بِهِ الْمَقَادِيرُ فِي الْبِدَايَةِ (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) : بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ، وَيَتُوبَ (فَيَدْخُلُهَا) : أَقُولُ: فِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ السَّالِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْتَرَّ بِأَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ، وَيَجْتَنِبَ الْعُجْبَ، وَالتَّكَبُّرَ، وَالْأَخْلَاقَ السَّيِّئَةَ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَمُسَّلِمًا بِالرِّضَا تَحْتَ حُكْمِ الْقَضَاءِ، وَكَذَا إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَلَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَعَالَى الطَّيِّبَةِ، فَإِنَّهَا إِذَا بَدَتْ عَيْنُ الْعِنَايَةِ أَلْحَقَتِ الْآخِرَةَ بِالسَّابِقَةِ، وَكَذَا الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَجْزِ فِي الْأَعْمَالِ فَلَا يُحْكَمُ لِأَحَدٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالدَّرَجَاتِ، وَإِنْ عَمِلَ مَا عَمِلَ مِنَ الطَّاعَاتِ، أَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ، وَلَا يَجْزِمْ فِي حَقِّ أَحَدٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ جَمِيعُ السَّيِّئَاتِ، وَالْمَظَالِمِ، وَالتَّبِعَاتِ، فَإِنَّ الْعِبَرَ بِخَوَاتِيمَ الْحَالَاتِ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُ عَالِمِ الْغَيْبِ، وَالشَّهَادَاتِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، وَالسَّعَادَةِ، وَالشَّقَاوَةِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَإِيجَادِهِ، إِذْ لَا مُؤَثِّرَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ الْمُتَعَالِي عَنِ الشَّرِيكِ ذَاتًا وَصِفَةً، وَفِعْلًا، يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ لَا عِلَّةَ لِفِعْلِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَلَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِي تَحْسِينِ الْأَفْعَالِ وَتَقْبِيحِهَا، بَلْ يَحْسُنُ صُدُورُهَا كُلُّهَا عَنْهُ، وَالِاسْتِقْلَالُ لِلْعَبْدِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِيَّةِ كَمَا يُمْدَحُ الشَّيْءُ بِحُسْنِهِ وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنْ يُوجِدَ الْأَسْبَابَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُوجِدُ الْمُسَبِّبَاتُ عَقِيبَهَا، فَكُلٌّ مِنْهُمَا صَادِرٌ عَنْهُ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا الْبِعْثَةُ، وَالتَّكْلِيفُ فَلِأَنَّ اللَّهَ يَجِبُ اتِّصَافَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُظْهِرٍ كَمَا كَانَ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ فَكَلَّفَ الْعِبَادَ بِهِمَا، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ إِظْهَارًا لِمُقْتَضَى سُلْطَتِهِ كَمَا قَالَ: كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا فَأَرَدْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأَنْ أُعْرَفَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

83 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 83 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنَ سَعْدٍ) أَيِ: السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ يُكَنَّى أَبَا الْعَبَّاسِ، وَكَانَ اسْمُهُ حَزْنًا فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْلًا، وَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَاتَ سَهْلٌ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ. رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْعَبَّاسُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَازِمٍ. (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الْعَبْدَ) أَيُّ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ (لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ) أَيْ: ظَاهِرًا، وَصُورَةً، أَوْ أَوَّلًا، أَوْ فِي نَظَرِ الْخَلْقِ (وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)

أَيْ: بَاطِنًا، وَمَعْنًى، أَوْ آخِرًا، أَوْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَاوُ حَالِيَّةٌ، وَإِنَّ مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا (وَيَعْمَلُ) أَيْ: عَبْدٌ آخَرُ (عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ) أَيِ: اعْتِبَارُهَا (بِالْخَوَاتِيمِ) أَيْ:. مِمَّا يَخْتِمُ عَلَيْهِ أَمْرُ عَمَلَهَا، وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَاصِلِهِ، فَرُبَّ كَافِرٍ مُتَعَنِّدٍ يُسْلِمُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَرُبَّ مُسْلِمٍ مُتَعَبِّدٍ يَكْفُرُ فِي غَايَةِ أَمْرِهِ. قِيلَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى مُوَاظَبَةِ الطَّاعَاتِ، وَمُحَافَظَةِ الْأَوْقَاتِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَالسَّيِّئَاتِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ آخِرَ عَمَلِهِ، وَفِيهِ زَجْرٌ عَنِ الْعُجْبِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَدْرِي مَاذَا يُصِيبُهُ فِي الْعَاقِبَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ لِأَحَدٍ بِالْجَنَّةِ، وَلَا بِالنَّارِ، وَقِيلَ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَدْلٌ، وَصَوَابٌ، وَلَا اعْتِرَاضَ، بَلْ لَا نَجَاةَ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

84 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لَمْ يَعْمَلِ السُّوءُ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ. فَقَالَ: (أَوَ غَيْرُ ذَلِكِ يَا عَائِشَةُ) إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا، وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا، وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 84 - (وَعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) : هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأُمُّهَا أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ، خَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ فِي شَهْرِ شَوَّالَ سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَعْرَسَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّالَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَلَهَا تِسْعُ سِنِينَ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْهَا وَلَهَا ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، كَانَتْ فَقِيهَةً عَالِمَةً فَصِيحَةً فَاضِلَةً، كَثِيرَةَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَارِفَةً بِأَيَّامِ الْعَرَبِ، وَأَشْعَارِهَا، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمَرَتْ أَنْ تُدْفَنَ لَيْلًا فَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةَ مَرْوَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ، مَرْوِيَّاتُهَا أَلْفٌ وَمِائَتَا حَدِيثٍ، وَعَشْرَةُ أَحَادِيثَ. (قَالَتْ: دُعِيَ) : مَجْهُولٌ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِلصَّلَاةِ (إِلَى جِنَازَةِ صَبِيٍّ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَتُكْسَرُ (مِنَ الْأَنْصَارِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لِهَذَا) : طُوبَى فُعْلَى مَنْ طَابَ يَطِيبُ قُلِبَتِ الْيَاءُ وَاوًا، وَكُسِرْتِ الْبَاءُ فِي بِيضٍ جَمْعُ أَبْيَضَ إِبْقَاءً لِلْأَصْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {طُوبَى لَهُمْ} [الرعد: 29] مَعْنَاهُ فَرَحٌ، وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَهُمْ، وَقِيلَ الْحَسَنُ، وَقِيلَ خَيْرٌ وَكَرَامَةٌ لَهُمْ، وَقِيلَ اسْمُ الْجَنَّةِ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَقِيلَ اسْمُهَا بِالْهِنْدِيَّةِ، وَقِيلَ اسْمُ شَجَرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أُصِيبُ خَيْرًا عَلَى الْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّ إِصَابَةَ الْخَيْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِطِيبِ الْعَيْشِ؛ وَلِأَنَّهُ يُقَالُ فِي حَقِّ الْمُصِيبِ طُوبَى لَكَ فَأُطْلِقَ اللَّازِمُ عَلَى الْمَلْزُومِ، وَقِيلَ طُوبَى تَأْنِيثُ أَطْيَبُ أَيِ: الرَّاحَةُ، وَطِيبُ الْعَيْشِ حَاصِلٌ لِهَذَا الصَّبِيِّ (هُوَ عُصْفُورٌ) أَيْ: طَيْرٌ صَغِيرٌ (مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ) أَيْ: هُوَ مِثْلُهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا ذَنْبَ عَلَيْهِ، وَيَنْزِلُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ يَشَاءُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: شَبَّهَتْهُ بِالْعُصْفُورِ كَمَا هُوَ صَغِيرٌ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنَ الطُّيُورِ، وَأَمَّا لِكَوْنِهِ - خَالِيًا مِنَ الذُّنُوبِ مِنْ عَدَمِ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا اهـ. وَالْأَظْهَرُ الثَّانِي، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا عُصْفُورَ فِي الْجَنَّةِ، فَمَمْنُوعٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ طَيْرًا كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ تَأْتِي الرَّجُلَ فَيُصِيبُ مِنْهَا، ثُمَّ تَذْهَبُ كَأَنَّ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْءٌ» ) . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] وَأَمَّا مَا ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ حَدِيثِ: " «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ» "، وَخَبَرُ: نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ أَيْ: رُوحُهُ طَائِرٌ تَعَلَّقَ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ فَلَيْسَ يَصْلُحُ سَنَدًا لِلْمَنْعِ كَمَا لَا يَخْفَى. (لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ) : بِضَمِّ السِّينِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهُ أَيِ: الذَّنْبُ. قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: لَمْ يَعْمَلْ ذَنْبًا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ كَإِتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْغُرْمُ، وَالدِّيَةُ، وَإِذَا سَرَقَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْمَالُ، وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ. قُلْتُ: لَا تُسَمَّى هَذِهِ الْأَفْعَالُ مِنْهُ ذُنُوبًا فَتَأَمَّلْ. (وَلَمْ يُدْرِكْ) أَيْ: وَلَمْ يَلْحَقْهُ السُّوءُ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا، أَوْ لَمْ يُدْرِكْ هُوَ السُّوءَ أَيْ: وَقْتَهُ لِمَوْتِهِ. قِيلَ: التَّكْلِيفُ فَضْلًا عَنْ عَمَلِهِ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى

وَمَعَ إِفَادَةِ الْمُبَالَغَةِ أَحْرَى (فَقَالَ: أَوَ غَيْرُ ذَلِكِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَضَمِّ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْكَافِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَتَعْتَقِدِينَ مَا قُلْتُ، وَالْحَقُّ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ عَدَمُ الْجَزْمِ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَالْوَاوُ لِلْحَالِ. وَفِي الْفَائِقِ: الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ أَيِ: الْإِنْكَارِيِّ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَغَيْرُ مَرْفُوعٍ بِضَمِيرٍ تَقْدِيرُهُ، أَوْ وَقَعَ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ. قِيلَ: وَرُوِيَ أَوْ بِسُكُونِ الْوَاوِ الَّتِي لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَيِ: الْوَاقِعُ هَذَا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ، أَوْ هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ بِنَصْبِ (غَيْرَ) أَيْ: أَوْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوِ التَّقْدِيرُ، أَوْ غَيْرُ مَا قُلْتَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَوْ) . بِمَعْنَى (بَلْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أَيْ: بَلْ غَيْرُ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، أَوْ يَحْتَمِلُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَرْتَضِ قَوْلَهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ بِالْجَزْمِ بِتَعْيِينِ إِيمَانِ أَبَوَيِ الصَّبِيِّ، أَوْ أَحَدِهِمَا إِذْ هُوَ تَبَعٌ لَهُمَا، وَمَرْجِعُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ إِلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لِلْإِنْكَارِ لِلْجَزْمِ، وَتَقْرِيرٌ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ. قُلْتُ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْكُفَّارِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ( «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا» ) : يَدْخُلُونَهَا، وَيَتَنَعَّمُونَ بِهَا (خَلَقَهُمْ) : كَرَّرَهُ لِإِنَاطَةِ أَمْرٍ زَائِدٍ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ) : وَالْجُمْلَةُ حَالٌ اهْتِمَامًا، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خَلْقُ الذَّرِّ فِي ظَهْرِ آدَمَ، وَاسْتَخْرَجَهَا ذُرِّيَّةً مِنْ صُلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ، وَقِيلَ: عُيِّنَ فِي الْأَزَلِ مَنْ سَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ سَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَزَلِ بِأَصْلَابِ الْآبَاءِ تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِ الْعَامَّةِ (وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لَهَا أَهْلِيَّةً لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا خَالِقُهَا (خَلَقَهُمْ لَهَا، وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ) : وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مَنِ الْأَعْمَالِ مَا قُدِّرَ فِي الْأَزَلِ. قَالَ الْقَاضِي: فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا لِأَجَلِ الْأَعْمَالِ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَرَارِيُّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَافِرِينَ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، بَلِ الْمُوجِبُ هُوَ اللُّطْفُ الرَّبَّانِيُّ، وَالْخِذْلَانُ الْإِلَهِيُّ الْمُقَدَّرُ لَهُمْ، وَهُمْ فِي الْأَصْلَابِ، فَالْوَاجِبُ التَّوَقُّفُ، وَعَدَمُ الْجَزْمِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ بَعْضٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ نَهَاهَا عَنِ الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ. اهـ. وَالْأَصَحُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ بِالْغَيْبِ، وَالْجَزْمِ بِإِيمَانِ أَصْلِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى طِفْلٍ مُعَيَّنٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ وُرُودِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ يُقَالُ التَّبَعِيَّةُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَحُكْمُهَا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ فَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْأُمَّةِ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي الْأُمُورِ الْمُبْهَمَةِ، وَالسُّكُوتِ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، وَحُسْنُ الْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ. قَالَ ابنُ حَجَرٍ: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ فِي وِلْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ إِذْ هُمْ فِي الْجَنَّةِ إِجْمَاعًا فِي الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ فِي الثَّانِي. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

85 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ) . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ؟ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5 - 6] الْآيَةَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 85 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ، وَأَبَا تُرَابٍ، الْقُرَشِيِّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ فِي جَمِيعِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سِنِّهِ يَوْمَئِذٍ فَقِيلَ: كَانَ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِ سِنِينَ، وَقِيلَ: عَشْرُ سِنِينَ، شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا غَيْرَ تَبُوكَ فَإِنَّهُ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ، وَفِيهَا قَالَ لَهُ: ( «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟» ) . كَانَ آدَمَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ، عَظِيمَ الْعَيْنَيْنِ، أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ مِنَ الطُّولِ ذَا بَطْنٍ كَثِيرَ الشَّعْرِ عَرِيضَ اللِّحْيَةِ أَصْلَعَ أَبْيَضَ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، اسْتُخْلِفَ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ

وَهُوَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَضَرَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيُّ بِالْكُوفَةِ صَبِيحَةَ الْجُمْعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ ضَرْبَتِهِ، وَغَسَّلَهُ ابْنَاهُ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَسَنُ، وَدُفِنَ سَحَرًا، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، رَوَى عَنْهُ بَنُوهُ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَمُحَمَّدٌ، وَخَلَائِقُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) : مِنْ: مَزِيدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ (إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ) : الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ أَيْ: مَا وُجِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْ: إِلَّا وَقَدْ قُدِّرَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ (وَمَقْعَدُهُ) : الْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: أَفَلَا نَتَّكِلُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ أَوْ كَذَا حَرَّرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَيْ: مَوْضِعُ قُعُودِهِ. (مِنَ الْجَنَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كُنِّيَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِاسْتِقْرَارِهِ فِيهَا، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ مَقْعَدٌ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهَذَا وَإِنْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ يَعْنِي فِي عَذَابِ الْقَبْرِ. رَوَاهُ أَنَسٌ لَكِنَّ التَّفْصِيلَ الْآتِيَ يَأْبَى حَمْلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ. قَالَ الْمُظْهِرُ: قَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِ الْوَاوِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلَيْسَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ إِلَّا بِلَفْظِ أَوْ ( «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا» ) : الْمُقَدَّرِ لَنَا فِي الْأَزَلِ. قِيلَ: الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَعْتَمِدُ عَلَى مَا كُتِبَ لَنَا فِي الْأَزَلِ (وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟) أَيْ: نَتْرُكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِتْعَابِ أَنْفُسِنَا بِالْأَعْمَالِ لِأَنَّ قَضَايَاهُ لَا تَتَغَيَّرُ، فَلَمْ يُرَخِّصْ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الِاتِّكَالِ، وَتَرْكِ الْأَعْمَالِ حَيْثُ ( «قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» ) : بَلْ أَمَرَهُمْ بِالْتِزَامِ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ امْتِثَالِ أَمْرِ مَوْلَاهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ عَاجِلًا، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ بِحُكْمِ الرُّبُوبِيَّةِ آجِلًا، وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ هَاهُنَا أَمْرَيْنِ لَا يُبْطِلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ: بَاطِنٌ، وَهُوَ حُكْمُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظَاهِرٌ، وَهُوَ سِمَةُ الْعُبُودِيَّةِ، فَأَمَرَ بِكِلَيْهِمَا لِيَتَعَلَّقَ الْخَوْفُ بِالْبَاطِنِ الْمُغَيَّبِ، وَالرَّجَاءُ بِالظَّاهِرِ الْبَادِي لِيَسْتَكْمِلَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ صِفَاتَ الْإِيمَانِ، وَنُعُوتَ الْإِيقَانِ، وَمَرَاتِبَ الْإِحْسَانِ يَعْنِي: عَلَيْكُمْ بِالْتِزَامِ مَا أُمِرْتُمْ، وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيتُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ بِمُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّصَرُّفَ فِي الْأُمُورِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا تَجْعَلُوا الْأَعْمَالَ أَسْبَابًا لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، بَلْ أَمَارَاتٌ لَهُمَا وَعَلَامَاتٌ، فَكُلٌّ مُوَفَّقٌ، وَمُهَيَّأٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَيْ: لِأَمْرٍ قُدِّرَ ذَلِكَ الْأَمْرُ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْفَاءُ فِي فَكُلٌّ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ المُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُبْهَمَ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْقَدَرَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَاقِعٌ عَلَى تَدْبِيرِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ تَكْلِيفَهُمُ الْعَمَلَ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، فَكُلٌّ مِنَ الخَلْقِ مُيَسَّرٌ لِمَا دُبِّرَ لَهُ فِي الْغَيْبِ فَيَسُوقُهُ الْعَمَلُ إِلَى مَا كُتِبَ لَهُ فِي الْأَزَلِ مِنْ سَعَادَةٍ، أَوْ شَقَاوَةٍ، فَمَعْنَى الْعَمَلِ التَّعَرُّضُ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَنَظِيرُهُ الرِّزْقُ الْمَقْسُومُ مَعَ الْأَمْرِ بِالْكَسْبِ، ثُمَّ فَصَّلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا أَجْمَلَهُ بِقَوْلِهِ: (أَمَّا مَنْ كَانَ) أَيْ: فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ كِتَابِهِ، أَوْ فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَخَاتِمَةِ عَمَلِهِ (مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ) أَيِ: الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى (فَسَيُيَسَّرُ) أَيْ: يُسَهَّلُ، وَيُوَفَّقُ، وَيُهَيَّأُ (لِعَمَلِ السَّعَادَةِ) أَيْ: لِعَمَلِ أَهْلِهَا، (وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ) : وَهُوَ ضِدُّ السَّعَادَةِ. وَفِي الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِ الشِّقْوَةِ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الشَّقَاوَةِ (فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ) أَيْ: أَهْلِهَا مِنَ الْكَفَرَةِ، وَالْفَجَرَةِ (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِشْهَادًا، أَوِ اعْتِضَادًا {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل: 5] أَيْ: حَقَّ اللَّهِ مِنَ الْمَالِ، أَوِ الِامْتِثَالِ {وَاتَّقَى} [الليل: 5] أَيْ: خَافَ مُخَالَفَتَهُ، أَوْ عُقُوبَتَهُ، وَاجْتَنَبَ مَعْصِيَتَهُ {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] أَيْ: بِكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ

وَأُخِّرَ فِي الذَّكَرِ تَرَقِّيًا، أَوْ إِشَارَةً إِلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ (الْآيَةَ) " لَا يَخْفَى أَنَّ الْحُسْنَى رَأْسُ آيَةٍ، فَالْمُرَادُ بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا الْمُنَاسِبَةِ لَهَا، وَهِيَ {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] : قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ أَيْ: فَسَنُهَيِّئُهُ لِلْخَلَّةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى يُسْرٍ، وَرَاحَةٍ كَدُخُولِ الْجَنَّةِ، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} [الليل: 8] أَيْ: مِمَّا أُمِرَ بِهِ {وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8] : بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ نَعِيمِ الْعُقْبَى، {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9] أَيْ: بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] أَيْ: لِلْخَلَّةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْعُسْرِ وَالشِّدَّةِ كَدُخُولِ النَّارِ، وَفِي الْكَشَّافِ سَمَّى طَرِيقَ الْخَيْرِ بِالْيُسْرِ؛ لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ الْيُسْرُ، وَطَرِيقَ الشَّرِّ بِالْعُسْرَى؛ لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ الْعُسْرُ، وَفِي الْمَعَالِمِ فَسَنُيَسِّرُهُ أَيْ: نُهَيِّئُهُ فِي الدُّنْيَا لِلْيُسْرَى لِلْخَلَّةِ الْيُسْرَى، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا يَرْضَاهُ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْخَيْرِ، وَاسْتَغْنَى عَنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَرْغَبُ فِيهِ {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] . أَيْ: سَنُهَيِّئُهُ لِلشَّرِّ بِأَنْ نُجْرِيَهُ عَلَى يَدَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَ بِمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَيَسْتَوْجِبَ بِهِ النَّارَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْسُرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَأْتِيَ خَيْرًا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَعْنَى الْحَدِيثِ؛ لِانْعِكَاسِهِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ، فَالْمَدَارُ عَلَى مَا فِي الْمَعَالِمِ، وَالْكَشَّافِ، لَكِنَّ السِّينَ فِي الْآيَةِ تُحْمَلُ عَلَى مُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لَا عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

86 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، وَيُكَذِّبُهُ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: ( «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ، وَيُكَذِّبُهُ» ") . ـــــــــــــــــــــــــــــ 86 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ) أَيْ: أَثْبَتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ) أَيْ: نَصِيبَهُ (مِنَ الزِّنَا) بِالْقَصْرِ عَلَى الْأَفْصَحِ، وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا حَالٌ مِنْ حَظَّهُ، وَجَعْلُهَا تَبْعِيضِيَّةً كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَظِّ مُقَدَّمَاتُ الزِّنَا مِنَ التَّمَنِّي، وَالتَّخَطِّي، وَالتَّكَلُّمِ لِأَجْلِهِ، وَالنَّظَرِ، وَاللَّمْسِ، وَالتَّخَلِّي، وَقِيلَ: أَثْبَتُ فِيهِ سَبَبَهُ، وَهُوَ الشَّهْوَةُ، وَالْمَيْلُ إِلَى النِّسَاءِ، وَخَلَقَ فِيهِ الْعَيْنَيْنِ، وَالْأُذُنَيْنِ، وَالْقَلْبَ، وَالْفَرْجَ، وَهِيَ الَّتِي تَجِدُ لَذَّةَ الزِّنَا، أَوِ الْمَعْنَى قَدَّرَ فِي الْأَزَلِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ الزِّنَا فِي الْجُمْلَةِ (أَدْرَكَ) أَيْ: أَصَابَ ابْنُ آدَمَ، وَوَجَدَ (ذَلِكَ) أَيْ: مَا كَتَبَهُ اللَّهُ، وَقَدَّرَهُ، وَقَضَاهُ، أَوْ حَظَّهُ (لَا مَحَالَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَيُضَمُّ أَيْ: لَا بُدَّ لَهُ، وَلَا فِرَاقَ، وَلَا احْتِيَالَ مِنْهُ، فَهُوَ وَاقِعٌ أَلْبَتَّةَ (فَزِنَا الْعَيْنِ) بِالْإِفْرَادِ؛ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ (النَّظَرُ) أَيْ: حَظُّهَا النَّظَرُ عَلَى قَصْدِ الشَّهْوَةِ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَقَدْ وَرَدَ «النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ» ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ قَدْ يَجُرُّ إِلَى الزِّنَا فَتَسْمِيَةُ مُقَدِّمَةِ الزِّنَا بِالزِّنَا مُبَالَغَةٌ، أَوْ إِطْلَاقٌ لِلْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ ( «وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ» ) أَيِ: التَّكَلُّمُ عَلَى وَجْهِ الْحُرْمَةِ كَالْمُوَاعَدَةِ (وَالنَّفْسُ) أَيِ: الْقَلْبُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ، وَلَعَلَّ النَّفْسَ إِذَا طَلَبَتْ تَبِعَهَا الْقَلْبُ (تَمَنَّى) : بِحَذْفِ أَحَدِ التَّاءَيْنِ (وَتَشْتَهِي) : لَعَلَّهُ عَدَلَ عَنْ سَنَنِ السَّابِقِ، لِإِفَادَةِ التَّجْدِيدِ أَيْ: زِنَا النَّفْسِ تَمَنِّيهَا، وَاشْتِهَاؤُهَا وُقُوعَ الزِّنَا الْحَقِيقِيَّ، وَالتَّمَنِّي أَعَمُّ مِنَ الِاشْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمُمْتَنِعَاتِ دُونَهُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّيَ إِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْبَاطِنِ، وَأَصَرَّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَدْفَعْهُ يُسَمَّى زِنَا، فَيَكُونُ مَعْصِيَةً، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ فَتَأَمَّلْ. (وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، وَيُكَذِّبُهُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: سَمَّى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِاسْمِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهَا مُقَدِّمَاتٌ مُؤْذِنَةٌ بِوُقُوعِهِ، وَنَسَبَ التَّصْدِيقَ، وَالتَّكْذِيبَ إِلَى الْفَرْجِ، لِأَنَّهُ مَنْشَؤُهُ، وَمَكَانُهُ أَيْ: يُصَدِّقُهُ بِالْإِتْيَانِ. مِمَّا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَيُكَذِّبُهُ بِالْكَفِّ عَنْهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنْ فَعَلَ بِالْفَرْجِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ الْفَرْجُ مُصَدِّقًا لِتِلْكَ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ تَرَكَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ الْفَرْجُ مُكَذِّبًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ حَقَّقَ زِنَاهُ فَيُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي تِلْكَ الْكَبِيرَةِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ بِأَنْ لَا يَزْنِي فَيَسْتَمِرُّ زِنَا تِلْكَ الْأَعْضَاءِ عَلَى كَوْنِهَا صَغِيرَةً. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: وَالْفَرْجُ أَيْ: عَمَلُهُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ التَّمَنِّي، وَيُكَذِّبُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ لَفْظًا، وَأَنْسَبُ مَعْنًى، وَقِيلَ: مَعْنَى كُتِبَ أَنَّهُ أَثْبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَنْ خَلَقَ لَهُ الْحَوَاسَّ الَّتِي يَجِدُ بِهَا لَذَّةَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَأَعْطَاهُ الْقُوَى الَّتِي بِهَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَبِالْعَيْنَيْنِ، وَبِمَا رُكِّبَ فِيهِمَا مِنَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ تَجِدُ لَذَّةَ النَّظَرِ، وَعَلَى هَذَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ، وَأَجْبَرَهُ عَلَيْهِ، بَلْ رَكَّزَ فِي جِبِلِّتِهِ حُبَّ الشَّهَوَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ يَعْصِمُ مَنْ يَشَاءُ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَقِيلَ هَذَا لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ فَإِنَّ الْخَوَاصَّ مَعْصُومُونَ عَنِ الزِّنَا، وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ بِأَنْ يُقَالَ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ

صُدُورَ نَفْسِ الزِّنَا، فَمَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ عَنْهُ بِفَضْلِهِ صَدَرَ عَنْهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَمَنْ عَصَمَهُ بِمَزِيدِ فَضْلِهِ، وَرَحْمَتِهِ عَنْ صُدُورِ مُقَدِّمَاتِهِ، وَهُمْ خَوَاصُّ عِبَادِهِ صَدَرَ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ مُقَدِّمَاتُهُ الْبَاطِنَةُ، وَهِيَ تَمَنِّي النَّفْسِ، وَاشْتِهَاؤُهَا اهَـ. قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالْمُقَدِّمَاتِ الْبَاطِنَةِ الْخَوَاطِرُ الذَّمِيمَةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ اخْتِيَارِيَّةٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أُخْرَى (لِمُسْلِمٍ قَالَ: (كُتِبَ) : مَجْهُولٌ، وَقِيلَ مَعْلُومٌ (عَلَى ابْنِ آدَمَ) أَيْ: هَذَا الْجِنْسُ، أَوْ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَاسْتُثْنِيَ الْأَنْبِيَاءُ. (نَصِيبُهُ) أَيْ: حَظُّهُ، أَوْ مِقْدَارُ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ الزِّنَا مُدْرِكٌ) : بِالتَّنْوِينِ، وَيَجُوزُ الْإِضَافَةُ (ذَلِكَ) : يَعْنِي هُوَ أَيِ: ابْنُ آدَمَ، وَأَصْلُهُ حَظَّهُ، وَنَصِيبَهُ، أَوْ نَصِيبَهُ الْمُقَدَّرَ يُدْرِكُهُ، وَيُصِيبُهُ (لَا مَحَالَةَ) أَيْ: لَا حَائِلَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَهُ أَوْ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ إِذْ لَا حَذَرَ مِنَ الْقَدَرِ، وَلَا قَضَاءَ مَعَ الْقَضَاءِ. ( «الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ» ) ؟ فَإِنَّهُ حَظُّهُمَا وَلَذَّتُهُمَا (وَالْأُذُنَانِ) : بِضَمِّ الذَّالِ، وَتُسَكَّنُ (زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ) أَيْ: إِلَى كَلَامِ الزَّانِيَةِ أَوِ الْوَاسِطَةِ، فَهُوَ حَظُّهُمَا وَلَذَّتُهُمَا بِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: إِلَى صَوْتِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَوْرَةٌ، أَوْ بِشَرْطِ الْفِتْنَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ( «وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ» ) أَيْ: مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالْمُوَاعَدَةِ عَلَى الزِّنَا، أَوْ مَعَ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ الْحَرَامِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِنْشَاءُ الشِّعْرِ، وَإِنْشَادُهُ فِيهَا ( «وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ» ) ، أَيِ: الْأَخْذُ، وَاللَّمْسُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْكِتَابَةُ إِلَيْهَا، وَرَمِيُ الْحَصَا عَلَيْهَا، وَنَحْوُهُمَا ( «وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا» ) : جَمْعُ خُطْوَةٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ يَعْنِي زِنَاهُمَا نَقْلُ الْخُطَا أَيِ: الْمَشْيُ، أَوِ الرُّكُوبُ إِلَى مَا فِيهِ الزِّنَا ( «وَالْقَلْبُ يَهْوَى» ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: يُحِبُّ، وَيَشْتَهِي (وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ أَيْ: مَا تَتَمَنَّاهُ النَّفْسُ، وَتَدْعُو إِلَيْهِ الْحَوَاسُّ، وَهُوَ الْجِمَاعُ. (الْفَرْجُ) أَيْ: يُوَافِقُهُ، وَيُطَابِقُهُ بِالْفِعْلِ (وَيُكَذِّبُهُ) أَيْ: بِالتَّرْكِ، وَالْكَفِّ عَنْهُ، فَإِنْ تَرَكَهُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ اضْطِرَارًا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَقَطْ.

87 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَيَكْدَحُونَ فِيهِ؟ أَشِيءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: لَا؟ بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى فِيهِمْ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] » ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 87 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ) : مُصَغَّرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُكَنَّى أَبَا نُجَيْدٍ بِضَمِّ النُّونِ، وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ بَعْدَهَا دَالٌّ مُهْمَلَةٌ الْخُزَاعِيِّ الْكَعْبِيِّ، أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ سَكَنَ الْبَصْرَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ، رَوَى عَنْهُ أَبُو رَجَاءٍ، وَمُطَرِّفُ، وَزُرَارَةَ بْنُ أَبِي أَوْفَى (أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ اسْمُ قَبِيلَةٍ (قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ الْأَشْيَاءِ طَرِيقٌ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهَا، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ مُقَرِّرَةٌ أَيْ: قَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ فَأَخْبِرْنِي بِهِ (مَا يَعْمَلُ النَّاسُ) : مِنَ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ (الْيَوْمَ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا (وَيَكْدَحُونَ لَهُ؟) أَيْ: يَسْعَوْنَ فِي تَحْصِيلِهِ بِجُهْدٍ وَكَدٍّ (أَشَيْءٌ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَهُوَ شَيْءٌ (قُضِيَ عَلَيْهِمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: قُدِّرَ فِعْلُهُ عَلَيْهِمْ (وَمَضَى فِيهِمْ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: نَفِدَ فِي حَقِّهِمْ (مِنْ قَدَرٍ سَبَقَ) أَيْ: فِي الْأَزَلِ، وَمِنْ إِمَّا بَيَانِيَّةُ الشَّيْءِ، وَيَكُونُ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ شَيْئًا وَاحِدًا كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ، وَإِمَّا تَعْلِيلِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَضَى، أَيْ: قُضِيَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ قَدَرٍ سَبَقَ، وَإِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ أَيِ: الْقَضَاءُ نَشَأَ، وَابْتَدَأَ مِنْ خَلْقٍ مُقَدَّرٍ، فَيَكُونُ الْقَدَرُ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْمُرَادُ بِالْقَدَرِ التَّقْدِيرُ، وَبِالْقَضَاءِ الْخَلْقُ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] فَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ مُتَلَازِمَانِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ الْقَدَرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَسَاسِ، وَالْأَسَاسُ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْقَضَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَخَصُّ مِنَ الْقَدَرِ؛ لِأَنَّهُ الْفَصْلُ بَيْنَ التَّقْدِيرِ وَالْقَدَرِ، وَالْقَضَاءُ هُوَ الْفَصْلُ وَالْقَطْعُ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَدَرَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَدِّ لِلْكَيْلِ، وَالْقَضَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ، وَهَذَا لِمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِعُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَرَادَ الْفِرَارَ مِنَ الطَّاعُونِ بِالشَّامِ: أَتَفِرُّ مِنَ الْقَضَاءِ؟ قَالَ: أَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ مَا لَمْ يَكُنْ قَضَاءً فَمَرْجُوٌّ أَنْ يَدْفَعَهُ اللَّهُ، فَأَمَّا إِذَا قُضِيَ فَلَا يَنْدَفِعُ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21] وَقَوْلُهُ: حَتْمًا مَقْضِيًّا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ صَارَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ، وَهَذَا مُخَالَفَةٌ لِمَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْقَاضِي فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْقَدَرُ كَتَقْدِيرِ النَّقَّاشِ الصُّورَةَ فِي ذِهْنِهِ، وَالْقَضَاءُ كَرَسْمِهِ تِلْكَ الصُّورَةِ لِلتِّلْمِيذِ بِالْأُسْرُبِّ، وَوَضْعِ التِّلْمِيذِ الصِّبْغَ عَلَيْهَا مُتَّبِعًا لِرَسْمِ الْأُسْتَاذِ هُوَ الْكَسْبُ وَالِاخْتِيَارُ، وَالتِّلْمِيذُ فِي اخْتِيَارِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ رَسْمِ الْأُسْتَاذِ كَذَلِكَ الْعَبْدُ فِي اخْتِيَارِهِ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. (أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ) . قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: كَذَا وَقَعَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ مَعْنًى أَيْضًا، لَكِنْ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا يَعْنِي، أَوْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَوَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أَمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ. قِيلَ: عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ لَيْسَ السُّؤَالُ عَنْ تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ قَوْلُهُ: (لَا) غَيْرُ مُطَابِقٍ لَهُ، فَنَقُولُ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ، وَأَوْ بِمَعْنَى بَلْ، فَإِنَّ السَّائِلَ لَمَّا رَأَى أَنَّ الرُّسُلَ يَأْمُرُونَ أُمَمَهُمْ، وَيَنْهَوْنَ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ كَمَا زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فَأَضْرَبَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْدِيرِ وَالْإِثْبَاتِ، فَلِذَلِكَ نَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَثْبَتَهُ وَقَرَّرَهُ، وَأَكَّدَهُ بِبَلْ، وَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ عَنِ التَّعْيِينِ لَقَالَ السَّائِلُ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ أَمْ شَيْءٌ يَسْتَقْبِلُونَهُ؟ وَقِيلَ: كَانَ حَقُّ الْعِبَارَةِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْنَا أَمْ شَيْءٌ نَسْتَقْبِلُهُ بِالتَّكَلُّمِ؟ فَغَيَّرَ الْعِبَارَةَ وَعَدَلَ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَعَمَّمَ الْأُمَمَ كُلَّهَا، وَأَنْبِيَاءَهُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا قِيلَ مِنَ الْإِضْرَابِ، وَقِيلَ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَمْ شَيْءٌ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَزَلِ، بَلْ هُوَ كَائِنٌ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الزَّمَانِ فِيهِ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَقْصِدُونَ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَقْدِيرٍ قَبْلَ ذَلِكَ (مِمَّا أَتَاهُمْ) أَيْ: جَاءَهُمْ (بِهِ نَبِيُّهُمْ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَلَفْظُ مِنْ فِيمَا أَتَاهُمْ بَيَانٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، أَوْ بَيَانٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَسْتَقْبِلُونَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كَمَا قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ) : قَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] (فَقَالَ: لَا) أَيْ: لَا تَرَدُّدَ (بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ) أَيْ: قُدِّرَ (عَلَيْهِمْ، وَمَضَى) أَيْ: سَبَقَ فِيهِمْ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَ أَنَّهُ قُضِيَ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَنَفْسٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ {وَمَا سَوَّاهَا - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا، وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] : وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَةِ أَنَّ أَلْهَمَهَا بِلَفْظِ الْمَاضِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَدْ جَرَى فِي الْأَزَلِ، وَالْوَاوُ فِي (وَنَفْسٍ) لِلْقَسَمِ عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ، وَالْمُرَادُ نَفْسُ آدَمَ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فَالتَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ جَمِيعُ النُّفُوسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] فَالتَّنْوِينُ لِلتَّنْكِيرِ، وَمَا فِي (مَا سَوَّاهَا) . بِمَعْنَى مَنْ أَيْ: وَمَنْ خَلَقَهَا يَعْنِي بِهِ ذَاتَهُ تَعَالَى أَيْ: خَلَقَهَا عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَزَيَّنَهَا بِالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، وَفِي الْحَدِيثِ: ( «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا فَأَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا، وَمَوْلَاهَا» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

88 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ، وَأَنَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ، وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ - كأَنَّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الِاخْتِصَاءِ - قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ ذَرْ» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 88 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ) أَيْ: قَوِيُّ الشَّهْوَةِ (وَأَنَا أَخَافُ) : قَالَ الشَّيْخُ: وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَإِنِّي أَخَافُ (عَلَى نَفْسِي) : بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَتُسَكَّنُ (الْعَنَتَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الزِّنَا، أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَأَصْلُ الْعَنَتِ الْمَشَقَّةُ سُمِّيَ بِهِ الزِّنَا لِأَنَّهُ سَبَبُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعُقْبَى (وَلَا أَجِدُ) أَيْ: مِنَ الْمَالِ (مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ) : أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ أَيْ: مِقْدَارُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ امْرَأَةً، وَأُنْفِقُ عَلَيْهَا، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ فَالْعَجْزُ عَنْ شِرَاءِ الْجَارِيَةِ أَوْلَى ( «كَأَنَّهُ يَسْتَأْذِنُ فِي الِاخْتِصَاءِ» ) : بِالْمَدِّ أَيْ: قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ، أَوْ سَلِّهِمَا، وَيُحْتَمَلُ قَطْعُ الذَّكَرِ أَيْضًا فَيَكُونُ الِاخْتِصَاءُ تَغْلِيبًا، هَذَا كَلَامُ الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (فَسَكَتَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَنِّي) أَيْ: عَنْ جَوَابِي (ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيِ: الْقَوْلَ (فَسَكَتَ عَنِّي) : ثَانِيًا (ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ) : لَعَلَّهُ يُجِيبُ (فَسَكَتَ عَنِّي) : ثَالِثًا (ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: إِلْحَاحًا، وَمُبَالَغَةً (فَقَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ» ) أَيْ: مُلَاقٍ بِمَا تَفْعَلُهُ، وَتَقَولُهُ، وَيَجْرِي عَلَيْكَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: جَفَّ الْقَلَمُ كِنَايَةٌ عَنْ جَرَيَانِ الْقَلَمِ بِالْمَقَادِيرِ وَإِمْضَائِهَا، وَالْفَرَاغِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْفُرُوغَ بَعْدَ الشُّرُوعِ يَسْتَلْزِمُ جَفَافَ الْقَلَمِ عَنْ مِدَادِهِ، فَأُطْلِقَ اللَّازِمُ عَلَى الْمَلْزُومِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفَصَاحَةِ النَّبَوِيَّةِ (فَاخْتَصَّ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فَاخْتَصِ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ مِنَ الِاخْتِصَاءِ، وَقَدْ صَحَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ النَّقْلِ فَرَوَاهُ عَلَى مَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ يَعْنِي فَاخْتَصِرْ بِزِيَادَةِ الرَّاءِ. قَالَ: وَلَا يَشْتَبِهُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى عَوَامِّ أَصْحَابِ النَّقْلِ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ كَمَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ (عَلَى ذَلِكَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ يَعْنِي: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّرٌ فَاخْتَصِ حَالَ كَوْنِ فِعْلِكَ، وَتَرْكِكَ وَاقِعًا عَلَى مَا جَفَّ الْقَلَمُ (أَوْ ذَرْ) أَيِ: اتْرُكِ الِاخْتِصَاءَ، وَأَذْعِنْ، وَسَلِّمْ لِلْقَضَاءِ، وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ. قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: مَا كَانَ، وَمَا يَكُونُ مُقَدَّرٌ فِي الْأَزَلِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاخْتِصَاءِ، فَإِنْ شِئْتَ فَاخْتَصِ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْ، وَلَيْسَ هَذَا إِذْنًا فِي الِاخْتِصَاءِ، بَلْ تَوْبِيخٌ وَلَوْمٌ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي قَطْعِ عُضْوٍ بِلَا فَائِدَةٍ، وَقِيلَ: أَوْ لِلتَّسْوِيَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاخْتَصِرْ، أَوْ ذَرْ. بِمَعْنَى أَنَّ الِاخْتِصَارَ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَالتَّسْلِيمَ لَهُ، وَتَرْكَهُ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ سَوَاءٌ. فَإِنَّ مَا قُدِّرَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ، أَوْ شَرٍّ، فَهُوَ لَا مَحَالَةَ لَاقِيكَ، وَمَا لَا فَلَا. وَذُكِرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الطَّاهِرَ دَعَا الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ فَقَالَ: أَشْكَلَ عَلَيَّ قَولُهُ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ» ) فَأَجَابَ: بِأَنَّهَا شُئُونٌ يُبْدِيهَا لَا شُئُونٌ يَبْتَدِئُ بِهَا فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَبَّلَ رَأْسَهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

89 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلِّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ "، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 89 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ) أَيْ: هَذَا الْجِنْسَ، وَخُصَّ لِخُصُوصِيَّةِ قَابِلِيَّةِ التَّقْلِيبِ بِهِ، وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ (كُلَّهَا) : لِيَشْمَلَ الْأَنْبِيَاءَ، وَالْأَوْلِيَاءَ، وَالْفَجَرَةَ، وَالْكَفَرَةَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَتَنَزَّهُ السَّلَفُ عَنْ تَأْوِيلِهِ كَأَحَادِيثِ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْيَدِ، وَمَا يُقَارِبُهَا فِي الصِّحَّةِ، وَالْوُضُوحِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَبَّهَ بِمُسَمَّيَاتِ الْجِنْسِ، أَوْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى الِاتِّسَاعِ وَالْمَجَازِ، بَلْ يُعْتَقَدُ أَنَّهَا صِفَاتُ اللَّهِ لَا كَيْفِيَّةَ لَهَا، وَإِنَّمَا تَنَزَّهُوا عَنْ تَأْوِيلِ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ مَعَهُ، وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَضِيهِ الْعَقْلُ إِلَّا وَيَمْنَعَ مِنْهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَأَمَّا مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ

فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَقْسَامِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنْ أَلْفَاظٌ مُشَاكِلَةٌ لَهَا فِي وَضْعِ الِاسْمِ، فَوَجَبَ تَخْرِيجُهُ عَلَى وَجْهٍ يُنَاسِبُ نَسَقَ الْكَلَامَ. قِيلَ: الْمُتَشَابِهُ قِسْمَانِ. الْأَوَّلُ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كَالنَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] وَالْمَجِيءِ فِي (جَاءَ رَبُّكَ) وَفَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَالثَّانِي يَقْبَلُهُ ذَكَرَ شَيْخُ الشُّيُوخِ السَّهْرَوَرْدِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالِاسْتِوَاءِ، وَالزَّوَالِ، وَالْيَدِ، وَالْقَدَمِ، وَالتَّعَجُّبِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ فَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِتَشْبِيهٍ، وَتَعْطِيلٍ. قِيلَ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعَوَّلُ، وَعَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شَرَطَ فِي التَّأَوِيلِ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ ابنُ حَجَرٍ: أَكْثَرُ السَّلَفِ لِعَدَمِ ظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي أَزْمِنَتِهِمْ يُفَوِّضُونَ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ تَنْزِيهِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ ظَاهِرِهَا الَّذِي لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ ذَاتِهِ، وَأَكْثَرُ الْخَلَفِ يُؤَوِّلُونَهَا بِحَمْلِهَا عَلَى مَحَالٍّ تَلِيقُ بِذَلِكَ الْجَلَالِ الْأَقْدَسِ، وَالْكَمَالِ الْأَنْفَسِ لِاضْطِرَارِهِمْ إِلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْبِدَعِ فِي أَزْمِنَتِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ بَقِيَ النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَمْ نُؤْمَرْ بِالِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ كَثُرَتِ الْبِدَعُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ أَمْوَاجِ الْفِتَنِ تَلْتَطِمُ، وَأَصْلُ هَذَا اخْتِلَافُهمْ فِي الْوَقْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى الْجَلَالَةِ، وَالْأَقَلُّونَ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى (الْعِلْمِ) ، وَمِنْ أَجَلِّهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ حَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى سُؤَالِهِ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ رَفْعُ الْخِلَافِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَا لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا قَرِيبًا فَهَذَا مَحْمَلُ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ، وَمَا يَقْبَلُهُ فَهَذَا مَحْمَلُ الثَّانِي، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ قَبُولَ التَّأْوِيلِ إِنْ قَرُبَ مِنَ اللَّفْظِ، وَاحْتَمَلَهُ وَضْعًا، وَرَدَّهُ إِنْ بَعُدَ عَنْهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّلَفَ، وَالْخَلَفَ مُؤَوِّلُونَ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ السَّلَفِ إِجْمَالِيٌّ لِتَفْوِيضِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَأْوِيلَ الْخَلَفِ تَفْصِيلِيٌّ لِاضْطِرَارِهِمْ إِلَيْهِ لِكَثْرَةِ الْمُبْتَدِعِينَ. (بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَإِلَّا فَفِيهِ تِسْعُ لُغَاتٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْأُصْبُعُ مُثَلَّثُ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ (مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ) : إِطْلَاقُ الْأُصْبُعِ عَلَيْهِ تَعَالَى مَجَازٌ أَيْ: تَقْلِيبُ الْقُلُوبِ فِي قُدْرَتِهِ يَسِيرٌ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى مُتَصَرِّفٌ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَغَيْرِهَا كَيْفَ شَاءَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا يَفُوتُهُ مَا أَرَادَهُ، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ فِي قَبْضَتِي أَيْ: كَفِّي، لَا يُرَادُ أَنَّهُ فِي كَفِّهِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَحْتَ قُدْرَتِي، وَفُلَانٌ بَيْنَ أُصْبُعِي أُقَلِّبُهُ كَيْفَ شِئْتُ أَيْ: إِنَّهُ هَيِّنٌ عَلَيَّ قَهْرُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ شِئْتُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأُصْبُعَيْنِ صِفَتَا اللَّهِ، وَهُمَا صِفَةُ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَبِصِفَةِ الْجَلَالِ يُلْهِمُهَا فُجُورَهَا، وَبِصِفَةِ الْإِكْرَامِ يُلْهِمُهَا تَقْوَاهَا. أَيْ: يُقَلِّبُهَا تَارَةً مِنْ فُجُورِهَا إِلَى تَقْوَاهَا، وَتَارَةً مِنْ تَقْوَاهَا إِلَى فُجُورِهَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ بَيْنَ أَثَرَيْنِ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ، وَقَهْرِهِ أَيْ: قَادِرٌ أَنْ يُقَلِّبُهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ. قَالَ الْقَاضِي: نَسَبَ تَقْلِيبَ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ تَعَالَى إِشْعَارًا بِأَنَّهُ تَعَالَى تَوَلَّى بِذَاتِهِ أَمْرَ قُلُوبِهِمْ، وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَخَصَّ الرَّحْمَنَ بِالذِّكْرِ إِيذَانًا بِأَنَّ ذَلِكَ التَّوَلِّيَ مَحْضُ رَحْمَتِهِ كَيْلَا يَطَّلِعَ أَحَدٌ غَيْرُهُ عَلَى سَرَائِرِهِمْ، وَلَا يَكْتُبُ عَلَيْهِمْ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَقَوْلُهُ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ: بِالْوَصْفِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ أَحَدَكُمْ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ اللَّهُ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْقَلْبِ الْوَاحِدِ أَسْهَلُ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ، إِذْ لَا صُعُوبَةَ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ تَعَالَى، بَلْ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ إِلَى مَا عَرَفُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ. (يُصَرِّفُهُ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يُقَلِّبُ الْقَلْبَ الْوَاحِدَ، أَوْ جِنْسَ الْقَلْبِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ أَيِ: الْقُلُوبَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ (كَيْفَ يَشَاءُ) : حَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ هَيِّنًا سَهْلًا لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ، أَوْ مَصْدَرٌ أَيْ: تَقْلِيبًا سَرِيعًا سَهْلًا، وَفِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَفِي مُسْلِمٍ حَيْثُ يَشَاءُ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ. (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ (اللَّهُمَّ) : أَصْلُهُ يَا اللَّهُ فَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَعُوِّضَ عَنْهُ الْمِيمُ، وَلِذَا لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقِيلَ:

أَصْلُهُ يَا اللَّهُ أَمِّنَا بِخَيْرٍ أَيِ: اقْصُدْنَا فَحُذِفَ مَا حُذِفَ اخْتِصَارًا، مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ: بِالْإِضَافَةِ صِفَةُ اللَّهُمَّ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ وَالْأَخْفَشِ لِأَنَّ (يَا) لَا يَمْنَعُ مِنَ الْوَصْفِ فَكَذَا بَدَلُهَا، وَمُنَادَى بِرَأْسِهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ حُذِفَ مِنْهُ النِّدَاءُ لِأَنَّ ضَمَّ الْمِيمِ لِلْجَلَالَةِ مَنَعَ وَصْفَهَا ( «صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» ) أَيْ: إِلَيْهَا، أَوْ ضُمِّنَ مَعْنَى التَّثْبِيتِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: «اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» . قِيلَ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الْإِيجَادِ؟ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ سَاعَةً مِنَ الْإِمْدَادِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

90 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : « (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 90 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ) أَيْ: مِنَ الثَّقَلَيْنِ (إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ) قِيلَ: مَوْلُودٌ: مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ: يُولَدُ أَيْ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُوجَدُ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، وَالْفِطْرَةُ: تَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالِاخْتِرَاعِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْفِطْرَةِ كَالْجِلْسَةِ، وَاللَّامُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْهُودٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (فِطْرَةَ اللَّهِ) وَهِيَ الْإِيمَانُ إِذِ الْمُرَادُ بِأَقِمْ وَجْهَك لِلدِّينِ حَنِيفًا اثْبُتْ عَلَى إِيمَانِكَ الْقَدِيمِ الْوَاقِعِ مِنْكَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ (يَوْمَ) أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: الْمِلَّةَ بَدَلَ الْفِطْرَةِ؛ لِأَنَّ مَاصَدَقَهُمَا وَاحِدٌ. قَالَ تَعَالَى: {دِينًا قَيِّمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161] كَذَا ذَكَرَهُ ابنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِلَّةَ أَخَصُّ مِنَ الدِّينِ، وَلِذَا قِيلَ بِاتِّحَادِ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالتَّوْحِيدُ، وَاخْتِلَافُ مِلَلِهِمْ لِاخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ، وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: ( «خَلَقْتُ عِبَادِيَ حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ» ) ، وَالْمَعْنَى مَا أَحَدٌ يُوَلَدُ إِلَّا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ تَمَكُّنُ النَّاسِ مِنَ الْهُدَى فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ، وَالتَّهَيُّؤُ لِقَبُولِ الدِّينِ، فَلَوْ تُرِكَ عَلَى تَمَكُّنِهِ، وَتَهَيُّؤِهِ الْمَذْكُورَيْنِ لَاسْتَمَرَّ عَلَى الْهُدَى وَالدِّينِ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ حُسْنَهُ رَكَزَ فِي النُّفُوسِ فَلَمْ يَقَعْ لَهَا عُدُولٌ عَنْهُ إِلَّا لِآفَةٍ بَشَرِيَّةٍ، أَوْ تَقْلِيدٍ لِلْغَيْرِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] فَجَعَلَ الْهُدَى رَأْسَ الْمَالِ الْحَاصِلَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ عَرَّضُوهُ لِلزَّوَالِ بِبَذْلِهِ فِي أَخْذِهِمُ الضَّلَالَةَ الْبَعِيدَةَ عَنْهُمْ (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: يُعْلِمَانِهِ الْيَهُودِيَّةَ، وَيَجْعَلَانِهِ يَهُودِيًّا (أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) : وَالْفَاءُ إِمَّا لِلتَّعْقِيبِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِمَّا لِلتَّسَبُّبِ أَيْ: إِذَا كَانَ كَذَا فَمَنْ تَغَيَّرَ كَانَ بِسَبَبِ أَبَوَيْهِ غَالِبًا (كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ) : صِفَةُ الْمَصْدَرِ مَحْذُوفٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وِلَادَةً مِثْلَ نِتَاجِ الْبَهِيمَةِ، أَوْ يُغَيِّرَانِهِ تَغْيِيرًا كَتَغْيِيرِهِمُ الْبَهِيمَةَ، وَقِيلَ: حَالٌ أَيْ: مُشَبَّهًا شَبَّهَ وِلَادَتَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ بِوِلَادَةِ الْبَهِيمَةِ السَّلِيمَةِ غَيْرَ أَنَّ السَّلَامَةَ حِسِّيَّةٌ، وَمَعْنَوِيَّةٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ أَيْ: يُهَوِّدَانِهِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ تَنَازَعَتْ فِي كَمَا تُنْتَجُ الْمُفِيدُ لِتَشْبِيهِ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ بِهَذَا الْمَحْسُوسِ الْمُعَايَنِ لِيَتَّضِحَ بِهِ أَنَّ ظُهُورَهُ بَلَغَ فِي الْكَشْفِ، وَالْبَيَانِ مَبْلَغَ هَذَا الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ فِي الْعَيَانِ، وَهُوَ يُرْوَى عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَعَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ يُقَالُ: نَتَجَ النَّاقَةَ يُنْتِجُهَا إِذَا تَوَلَّى نِتَاجَهَا حَتَّى وَضَعَتْ، فَهُوَ نَاتِجٌ، وَهُوَ لِلْبَهَائِمِ كَالْقَابِلَةِ لِلنِّسَاءِ، وَالْأَصْلُ نَتَجَهَا أَهْلُهَا وَلَدًا، وَلِذَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَإِذَا بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ قِيلَ نَتَجَتْ وَلَدًا إِذَا وَضَعَتْ، وَإِذَا وَضَعَتْ لِلثَّانِي قِيلَ: نَتَجَ الْوَلَدُ إِذَا وَضَعَتْهُ (بَهِيمَةً) ، وَقِيلَ: مُصَغَّرَةً، وَنَصْبُهَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتُنْتَجُ، وَالْأَوَّلُ أُقِيمَ مَقَامَ فَاعِلِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ تُنْتَجُ مَجْهُولًا أَيْ: وُلِدَتْ فِي حَالِ كَوْنِهَا بَهِيمَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا مَنْ نَتَجَ إِذَا وُلِدَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: تُنْتَجُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ لَا غَيْرُ. (جَمْعَاءَ) أَيْ: سَلِيمَةَ الْأَعْضَاءِ كَامِلَتِهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ سَلَامَةِ أَعْضَائِهَا مِنْ نَحْوِ جَدْعٍ، وَكَيٍّ (هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا) ، أَيْ: فِي الْبَهِيمَةِ الْجَمْعَاءِ، وَالْمُرَادُ بِمَا الْجِنْسُ، وَتُحِسُّونَ بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَقِيلَ:

بِفَتْحِ التَّاءِ، وَضَمِّ الْحَاءِ أَيْ: هَلْ تُدْرِكُونَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: بَهِيمَةٌ سَلِيمَةٌ مَقُولًا فِي حَقِّهِ هَذَا الْقَوْلِ، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ يَعْنِي كُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِظُهُورِ سَلَامَتِهَا، وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ أُخْرَى بِتَقْدِيرِهِ مَقُولًا فِي حَقِّهَا (مِنْ جَدْعَاءَ؟) : بِالْمُهْلَمَةِ أَيْ: مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا. قِيلَ: تَخْصِيصُ الْجَدْعِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إِنَّمَا كَانَ لِصَمِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ. (ثُمَّ يَقُولُ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ) أَبِي هُرَيْرَةَ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الْآيَةَ كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. أَقُولُ: وَكَذَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الرَّازِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] . أَخْرَجَهُ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ. كَذَا حَقَّقَهُ مِيرَكُ شَاهْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ ثُمَّ قَرَأَ، فَعَدَلَ إِلَى الْقَوْلِ، وَأَتَى بِالْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ اسْتِحْضَارًا كَأَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْآنَ اهـ. وَفِيهِ: أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ لِلْعُدُولِ إِلَى الْقَوْلِ، فَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ: ثُمَّ قَرَأَ فَعَدَلَ عَنْهُ لَفْظًا، إِشَارَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ اللَّفْظَ الْقُرْآنِيَّ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ صَارِفٌ لَهُ عَنِ الْقُرْآنِيَّةِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ تَرْكُ الِاسْتِعَاذَةِ فِي ابْتِدَائِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (فِطْرَةَ اللَّهِ) أَيِ: الْزَمُوهَا، وَهِيَ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَعْرِفَةِ {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] أَيْ: خَلَقَهُمُ ابْتِدَاءً وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهَا {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] أَيْ: فِيكُمْ مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَوِ الْغَالِبُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُبَدَّلُ، أَوْ يُقَالُ الْخَبَرُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مَحْضًا لِحُصُولِ التَّبْدِيلِ، قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ: هَذَا عِنْدَنَا حَيْثُ أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَقَالُوا: بَلَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الْمُكْتَسَبُ بِالْإِرَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ) ، فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، فَهُوَ مَعَ وُجُودِ الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ فِيهِ مَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ. قِيلَ: وَتَلْخِيصُهُ أَنَّ الْعَالَمَ إِمَّا عَالَمُ الْغَيْبِ، وَإِمَّا عَالَمُ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا نَزَلَ الْحَدِيثُ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ أَشْكَلَ مَعْنَاهُ، وَإِذَا صُرِفَ إِلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ الَّذِي عَلَيْهِ مَبْنَى ظَاهِرِ الشَّرْعِ سَهُلَ تَعَاطِيهِ، وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ النَّاظِرَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْمَوْلُودِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى الْخِلْقَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا مِنَ الْاسْتِعْدَادِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَقَبُولِ الْحَقِّ، وَالتَّأَبِّي عَنِ الْبَاطِلِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، حَكَمَ بِأَنَّهُ إِنْ تُرِكَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَوِرْهُ مِنَ الْخَارِجِ مَا يَصُدُّهُ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالْإِلْفِ بِالْمَحْسُوسَاتِ، وَالِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَلَمْ يَخْتَرْ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَيَنْظُرْ مَا نُصِبَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَصِدْقِ الرَّسُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ نَظَرًا صَحِيحًا يُوَصِّلُهُ إِلَى الْحَقِّ، وَيَهْدِيهِ إِلَى - الرُّشْدِ، وَعَرَفَ الصَّوَابَ، وَاتَّبَعَ الْحَقَّ، وَدَخَلَ فِي الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا سِوَاهَا، لَكِنْ يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَالُ هَذِهِ الْعَوَائِقِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: أُمُّ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ، فَإِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَظَرَ إِلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَظَاهِرِ الشَّرْعِ فَأَنْكَرَ، وَالْخَضِرُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَظَرَ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا فَقَتَلَهُ، وَلِذَلِكَ اعْتَذَرَ الْخَضِرُ بِالْعِلْمِ الْخَفِيِّ الْغَائِبِ أَمْسَكَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ الِاعْتِرَاضِ كَذَا قَالُوهُ، وَلَعَلَّ مَعْنَى أَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا أَيْ: خُلِقَ، وَقُدِّرَ، وَجُبِلَ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ يَصِيرُ كَافِرًا؟ لِئَلَّا يُنَاقِضَهُ هَذَا الْحَدِيثُ. (ذَلِكَ) ، أَيِ: التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْفِطْرَةِ هُوَ (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أَيِ: الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ لَهُ، وَلَا مَيْلَ إِلَى تَشْبِيهٍ وَتَعْطِيلٍ وَلَا قَدَرٍ، وَلَا جَبْرٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

91 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 91 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَكَانَ إِذَا وَعَظَ قَامَ (بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ) : وَالْكَلِمَةُ الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ أَيْ: مُتَفَوِّهًا بِخَمْسِ فُصُولٍ، وَقِيلَ قَامَ فِينَا كِنَايَةً عَنِ التَّذْكِيرِ أَيْ: خَطَبَنَا، وَذَكَّرَنَا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلَهُ: فِينَا، وَبِخَمْسٍ إِمَّا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ، أَوْ مُتَدَاخِلَانِ. أَيْ: قَامَ خَطِيبًا مُذَكِّرًا لَنَا، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ فِينَا بِقَامَ عَلَى تَضْمِينِ قَامَ مَعْنَى خَطَبَ، وَيَكُونُ بِخَمْسٍ حَالًا، وَقَامَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بِمَعْنَى الْقِيَامِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِخَمْسٍ بِقَامَ، وَيَكُونُ فِينَا بَيَانًا، كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ قَامَ بِخَمْسٍ قِيلَ فِي حَقِّ مَنْ؟ فَقِيلَ: فِي حَقِّنَا، وَعَلَى هَذَا قَامَ بِمَعْنَى قَامَ بِالْأَمْرِ أَيْ: تَشَمَّرَ لَهُ أَيْ: قَامَ بِحِفْظِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ فِينَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤَيِّدُ الْحَقِيقَةَ حَدِيثُ: كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَنْصَرِفُ إِلَيْنَا بَعْدَ الْعِشَاءِ فَيُحَدِّثُنَا قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ حَتَّى يُرَاوِحَ بَيْنَ قَدَمَيْهِ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَفِيهِ أَنَّ كَوْنَ الْقِيَامِ حَقِيقَةً فِي بَعْضِ الْمَقَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِمْرَارَهُ فِي الْمَرَامِ. (فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ) : قَالَ تَعَالَى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] وَالسِّنَةُ: النُّعَاسُ، وَهُوَ نَوْمٌ خَفِيفٌ، أَوْ مُقَدِّمَةُ النَّوْمِ (وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ) : نَفْيٌ لِلْجَوَازِ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ الْوُقُوعِ عَلَى سَبِيلِ التَّتْمِيمِ أَيْ: لَا يَكُونُ، وَلَا يَصِحُّ، وَلَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا يُمْكِنُ لَهُ النَّوْمُ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ النَّوْمَ لِاسْتِرَاحَةِ الْقُوَى، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْخَمْسِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: اعْتِرَاضٌ فَتَأَمَّلْ. وَالثَّالِثَةُ: هِيَ قَوْلُهُ: (يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْقِسْطَ بِالرِّزْقِ أَيْ يُقَتِّرُهُ، وَيُوَسِّعُهُ، وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الرِّزْقِ لِأَنَّهُ قِسْطُ كُلِّ مَخْلُوقٍ أَيْ: نَصِيبُهُ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْمِيزَانِ، وَيُسَمَّى الْمِيزَانُ قِسْطًا لِمَا يَقَعُ بِهِ مِنَ الْمَعْدَلَةِ بِالْقِسْطِ أَيْ: فِي الْقِسْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَرْفَعُ الْمِيزَانَ وَيَخْفِضُهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمِيزَانِ مَا يُوزَنُ مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ النَّازِلَةِ مِنْ عِنْدِهِ وَأَعْمَالِهِمُ الْمُرْتَفِعَةِ إِلَيْهِ يَعْنِي: فَيَخْفِضُهُ تَارَةً بِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ، وَالْخُذْلَانِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَرْفَعُهُ أُخْرَى بِتَوْسِيعِ الرِّزْقِ، وَالتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَةِ. وَفِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ هُنَا، وَفِيمَا بَعْدَهُ تَضَادٌّ وَمُطَابَقَةٌ، وَهُمَا مُسْتَعَارَانِ مِنَ الْمَعَانِي مِنَ الْأَعْيَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى بِمَا شُوهِدَ مِنْ وَزْنِ الْمِيزَانِ الَّذِي يَزِنُ فَيَخْفِضُ يَدَهُ، وَيَرْفَعُهَا. قِيلَ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ أَيْ: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ أَبَدًا فِي مُلْكِهِ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ. وَالرَّابِعَةُ: (يُرْفَعُ إِلَيْهِ) : قَالَ الْقَاضِي أَيْ: إِلَى خَزَائِنِهِ كَمَا يُقَالُ حُمِلَ الْمَالُ إِلَى الْمَلِكِ (عَمَلُ اللَّيْلِ) أَيِ: الْمَعْمُولُ فِيهِ (قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ) أَيْ: قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى - " بِعَمَلِ النَّهَارِ فَيُضْبَطُ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ، أَوْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ لِيَأْمُرَ مَلَائِكَتَهُ بِإِمْضَاءِ مَا قُضِيَ لِفَاعِلِهِ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَقْبَلُ اللَّهُ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونَ عِبَارَةً عَنْ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ (وَعَمَلُ النَّهَارِ) : عَطْفٌ عَلَى عَمَلِ اللَّيْلِ (قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ) : إِشَارَةً إِلَى السُّرْعَةِ فِي الرَّفْعِ، وَالْعُرُوجُ إِلَى مَا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُ لَا فَاصِلَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّارِ، وَقِيلَ: قَبْلَ رَفْعِ عَمَلِ اللَّيْلِ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ بَيَانٌ لِمُسَارَعَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِرَفْعِ أَعْمَالِ النَّهَارِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَاللَّيْلِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْقَلِيلِ تِلْكَ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ: أَنَّ مَسِيرَةَ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ الدُّنْيَا خَمْسُمَائَةِ سَنَةٍ، وَمَا بَيْنَ كُلٍّ سَمَاءَيْنِ كَذَلِكَ، وَسُمْكَ كُلِّ سَمَاءٍ كَذَلِكَ، وَتَقْدِيرُ رَفَعَ فِي الْأَوَّلِ، وَرَفَعَ أَوْ فَعَلَ فِي الثَّانِي هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: إِنَّ أَعْمَالَ النَّهَارِ تُرْفَعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَأَعْمَالَ اللَّيْلِ تُرْفَعُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَا يَقَعُ رَفْعُ عَمَلِ اللَّيْلِ إِلَّا بَعْدَ فِعْلٍ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ، وَأَمَّا رَفْعُ عَمَلِ النَّهَارِ فَيَقَعُ قَبْلَ فِعْلِ أَوْ رَفْعِ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ ابْتِدَاءِ رَفْعِهَا، وَعَمَلِ اللَّيْلِ فَاصِلًا يَسَعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ تَقْدِيرُ رَفَعَ؛ وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ فَعَلَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ يَصِحُّ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ أَقْصَرُ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ لِتَعْلَمْ فَسَادَ مَا أَطْلَقَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ اهـ. كَلَامَهُ.

وَالْخَامِسَةُ: (حِجَابُهُ النُّورُ) أَيِ: الْمَعْنَوِيُّ (لَوْ كَشَفَهُ) : اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا عَمَّنْ قَالَ: لَا نُشَاهِدُهُ أَيْ: لَوْ أَزَالَ الْحِجَابَ، وَرَفَعَهُ (لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ) : بِضَمٍّ أَوَّلَيْهِ جَمْعُ سُبْحَةٍ بِالضَّمِّ أَيْ: أَنْوَارُ وَجْهِهِ، وَالْوَجْهُ الذَّاتُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ: هِيَ الْأَنْوَارُ الَّتِي إِذَا رَآهَا الرَّاءُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ سَبَّحُوا، وَهَلَّلُوا لِمَا يَرُوعُهُمْ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، وَتَعْجِيبٍ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ. وَقَالَ الْكَشَّافُ: فِيهَا مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُسَبَّحَ اللَّهُ فِي رُؤْيَةِ الْعَجَبِ مِنْ صَنَائِعِهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ، وَقِيلَ: حِجَابُهُ النُّورُ أَيْ: حِجَابُهُ خِلَافُ الْحُجُبِ الْمَعْهُودَةِ، فَهُوَ مُحْتَجِبٌ عَنْ خَلْقِهِ بِأَنْوَارِ عِزِّهِ وَجَلَالِهِ، وَلَوْ كَشَفَ ذَلِكَ الْحِجَابَ، وَتَجَلَّى لِمَا وَرَاءَهُ مِنْ حَقَائِقِ الصِّفَاتِ وَعَظَمَةِ الذَّاتِ لَمْ يَبْقَ مَخْلُوقٌ إِلَّا احْتَرَقَ، وَأَصْلُ الْحِجَابِ السِّتْرُ الْحَائِلُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ، وَهُوَ هَاهُنَا يَرْجِعُ إِلَى مَنْعِ الْأَبْصَارِ مِنَ الْإِصَابَةِ بِالرُّؤْيَةِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مَنْعِ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، أَوْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِذَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى، وَجُمْلَةُ لَوْ كَشَفَهُ إِلَخْ. اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ خَصَّ حِجَابَهُ بِالنُّورِ، أَوْ لِمَ يَكْشِفُ ذَلِكَ الْحِجَابَ؟ فَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ لَوْ كَشَفَهُ لَاحْتَرَقَ الْعَالَمُ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْجُمَلَ السَّابِقَةَ فِعْلِيَّةً مُضَارِعِيَّةً لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ مَعَ الِاسْتِمْرَارِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فَتَدُلُّ عَلَى الثَّبَاتِ، وَالدَّوَامِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَإِذَا صَفَتِ الْمُؤْمِنُونَ عَنِ الْكُدُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فِي دَارِ الثَّوَابِ فَيَرَونَهُ بِلَا حِجَابٍ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَآهُ فِي الدُّنْيَا لِانْقِلَابِهِ نُورًا كَمَا قَالَ فِي الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي بَشَرِي نُورًا» ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَاجْعَلْنِي نُورًا) (مَا انْتَهَى) أَيْ: وَصَلَ (إِلَيْهِ) : الضَّمِيرُ لِمَا (بَصَرُهُ) : تَعَالَى، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَصَرِهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا، وَهُوَ مَوْصُولٌ مَفْعُولٌ بِهِ لَأَحْرَقَتْ، وَضَمِيرُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى وَجْهِهِ تَعَالَى، وَ (مِنْ خَلْقِهِ) :] بَيَانٌ لِمَا، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِأَحْرَقَتَ، وَالْمُرَادُ مِنْ خَلْقِهِ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قِيلَ: مَعْنَاهُ مَسْبُوكٌ مِنْ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَهُوَ سَيِّدُ الْأَحَادِيثِ كَمَا أَنَّهَا سَيِّدَةُ الْآيَاتِ.

92 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : «يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ، وَيَرْفَعُ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ( «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى - قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: مَلْآنُ - سَحَّاءُ لَا يُغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 92 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَدُ اللَّهِ) : كِنَايَةٌ عَنْ مَحَلِّ عَطَائِهِ أَيْ: خَزَائِنُهُ (مَلْأَى) : عَلَى زِنَةِ فَعْلَى، تَأْنِيثُ مَلْآنَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَعُمُومِهَا (لَا تَغِيضُهَا) : بِالتَّأْنِيثِ، وَقِيلَ بِالْيَاءِ أَيْ: لَا تُنْقِصُهَا (نَفَقَةٌ) أَيْ: إِنْفَاقٌ. (سَحَّاءُ) : بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَالْمَدِّ مِنْ سَحَّ الْمَاءُ إِذَا سَالَ مِنْ فَوْقِ، وَمِنْ سَحَحْتُ الْمَاءَ أَيْ: صَبَبْتُهُ صِفَةٌ لِنَفَقَةٍ، أَوْ لِيَدٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَوْلُهُ: (اللَّيْلَ، وَالنَّهَارَ) : مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ: دَائِمَةُ الصَّبِّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ سَحًّا بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: سَحَّ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْإِضَافَةِ قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا الْمُعْطِيَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا انْصَبَّ مِنْ فَوْقٍ انْصَبَّ بِسُهُولَةٍ، وَإِلَى جَزَالَةِ عَطَايَاهُ؛ لِأَنَّ السَّحَّ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا بَلَغَ وَارْتَفَعَ عَنِ الْقَطْرِ حَدِّ السَّيَلَانِ، وَإِلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ لِإِعْطَائِهِ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَخَذَ فِي الِانْصِبَابِ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّهُ (أَرَأَيْتُمْ) : أَخْبِرُونِي، وَقِيلَ: أَعْلِمْتُمْ، وَأَبْصَرْتُمْ (مَا أَنْفَقَ) : مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: إِنْفَاقُ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَا مَوْصُولَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ (مُذْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ؟) أَيْ: مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ خَلْقِ أَهْلِهِمَا (فَإِنَّهُ) أَيِ: الْإِنْفَاقُ (لَمْ يَغِضْ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الْغَيْنِ لَمْ يُنْقِصْ (مَا فِي يَدِهِ) : مَوْصُولَةُ مَفْعُولٍ أَيْ: فِي خَزَائِنِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُ اللَّهِ مَلْأَى أَيْ: نِعْمَتُهُ غَزِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» ) فَإِنَّ بَسْطَ الْيَدِ مَجَازٌ

عَنِ الْجُودِ، وَلَا قَصْدَ إِلَى إِثْبَاتِ يَدٍ وَلَا بَسْطٍ؛ كَذَا فِي الْكَشَّافِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَدُ اللَّهِ أَيْ: خَزَائِنُ اللَّهِ. قِيلَ: إِطْلَاقُ الْيَدِ عَلَى الْخَزَائِنِ لِتَصَرُّفِهَا فِيهَا، وَالْمَعْنِيُّ بِالْخَزَائِنِ قَوْلُهُ: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] لِأَنَّهُ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى إِيجَادِ الْمَعْدُومِ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْقُصُ أَبَدًا، وَقَوْلُهُ: مَلْأَى وَلَا تَغِيضُهَا، وَسَحَّاءُ، وَأَرَأَيْتُمْ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَوْلِ أَيْ: مَقُولٌ فِيهَا أَخْبَارٌ مُتَرَادِفَةٌ لِيَدِ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ وَصْفًا لِمَلْأَى، وَأَنْ يَكُونَ أَرَأَيْتُمُ اسْتِئْنَافًا، وَقَوْلُهُ: ( «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خَلَقَ، وَكَذَا قَوْلُهُ ( «وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ» ) : حَالٌ مِنْهُ، أَوْ مِنْ خَبَرِ كَانَ، أَوِ اسْمِهِ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فِي بَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ «بِيَدِهِ الْمِيزَانُ» : بِقُدْرَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ مِيزَانُ الْأَعْمَالِ، وَالْأَرْزَاقِ (يَخْفِضُ، وَيَرْفَعُ) أَيْ: يُنْقِصُ النَّصِيبَ، وَالرِّزْقَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ يَمْنَحُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَزِيدُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ. بِمُقْتَضَى قَدَرِهِ الَّذِي هُوَ تَفْصِيلٌ لِقَضَائِهِ الْأَوَّلِ، أَوْ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ مِيزَانَ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الْمُرْتَفِعَةِ إِلَيْهِ يُقَلِّلُهَا لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُكْثِرُهَا لِمَنْ يَشَاءُ كَمَنْ بِيَدِهِ الْمِيزَانُ؛ يَخْفِضُ تَارَةً، وَيَرْفَعُ أُخْرَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ يَعْنِي يُنْقِصُ الْعَدْلَ فِي الْأَرْضِ تَارَةً بِغَلَبَةِ الْجَوْرِ وَأَهْلِهِ، وَيَرْفَعُهُ تَارَةً بِغَلَبَةِ الْعَدْلِ وَأَهْلِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) : ( «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى» ) : قِيلَ: خَصَّ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّهَا مَظَنَّةُ الْعَطَاءِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى يُمْنِ الْعَطَاءِ وَبَرَكَتِهِ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالرِّضَا بُورِكَ لَهُ فِي قَلِيلِهِ حَتَّى فَاقَ عَلَى كَثِيرٍ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: ( «وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» ) أَيْ: مُبَارَكَةٌ قَوِيَّةٌ قَادِرَةٌ لَا مَزِيَّةَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْيَدَيْنِ التَّصَرُّفَيْنِ مِنْ إِعْطَاءِ الْجَزِيلِ، وَالْقَلِيلِ. (قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ فِي رِوَايَتِهِ (مَلْآنُ) أَيْ: رَوَاهُ كَذَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالُوا: هُنَا غَلَطٌ مِنْهُ، وَصَوَابُهُ مَلْأَى بِالتَّأْنِيثِ كَمَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ أَرَادُوا رَدَّهُ رِوَايَةً، وَنَقْلًا فَلَا نِزَاعَ، وَإِنْ أَرْادَوْا رَدَّهُ لِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، فَإِنَّ الْيَدَ مُؤَنَّثَةٌ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى يَدُ اللَّهِ إِحْسَانُهُ وَإِفْضَالُهُ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ. قَوْلُهُ: (سَحَّاءُ لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) .

93 - وَعَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) عَنْ ذَرَّارِيِّ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 93 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَنْ ذَرَّارِيِّ الْمُشْرِكِينَ) . جَمْعُ ذُرِّيَّةٍ، وَهِيَ نَسْلُ الْإِنْسِ، وَالْجِنِّ، وَيَقَعُ عَلَى الصِّغَارِ، وَالْكِبَارِ إِمَّا مِنَ الذَّرِّ. بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَهُمْ فِي الْأَرْضِ، أَوْ مِنَ الذَّرْءِ. بِمَعْنَى الْخَلْقِ فَتُرِكَتِ الْهَمْزَةُ، أَوْ أُبْدِلَتْ، وَالْمُرَادُ عَنْ حُكْمِ أَوْلَادِهِمْ إِذَا مَاتُوا قَبْلَ الْبُلُوغِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَوِ الْجَنَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِأَشْرَفِ الْأَبَوَيْنِ دِينًا فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أُمُورِ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَمَّا فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَمَوْقُوفٌ مَوْكُولٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ لَيْسَتَا مُعَلَّلَتَيْنِ عِنْدَنَا بِالْأَعْمَالِ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَنْ شَاءَ شَقِيًّا، وَمَنْ شَاءَ سَعِيدًا، وَجَعَلَ الْأَعْمَالَ دَلِيلًا عَلَى السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. (قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) ، أَيِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، أَوِ التَّرْكِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقِيلَ إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ، وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ خُدَّامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا مُنَعَّمِينَ، وَلَا مُعَذَّبِينَ، وَقِيلَ: مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ، وَيَمُوتُ عَلَيْهِ إِنْ عَاشَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْجَزُ، وَيَكْفُرُ أَدْخَلَهُ النَّارَ، وَقِيلَ: بِالتَّوَقُّفِ فِي أَمْرِهِمْ، وَعَدَمِ الْقَطْعِ بِشَيْءٍ، وَهُوَ الْأَوْلَى لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَقْطَعْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالِاعْتِقَادِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ التَّوَقُّفِ فِي أَمْرِهِمْ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ، وَفِيهِ أَنَّ التَّرْكَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَهْلُ الْأَعْرَافِ مَآلُهُمُ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ بِدُخُولِ النَّارِ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ شَيْءٌ فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 94 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ. فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 94 - (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ» : بِالرَّفْعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَرُوِيَ بِالنَّصْبِ، قَالَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ: رَفْعُ الْقَلَمِ هُوَ الرِّوَايَةُ فَإِنْ صَحَّ النَّصْبُ كَانَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَنْصِبُ خَبَرَ إِنَّ، وَقَالَ الْمَالِكِيُّ: يَجُوزُ نَصْبُهُ بِتَقْدِيرِ كَانَ؛ عَلَى مَذْهَبِ النَّسَائِيِّ كَقَوْلِهِ: يَا لَيْتَ أَيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعَا وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَلَمُ مَفْعُولَ خَلَقَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَلَمَ أَوَّلُ مَخْلُوقٍ، وَإِذَا جُعِلَ مَفْعُولًا لِخَلَقَ أَوْجَبَ أَنْ يُقَالَ اسْمُ إِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَأَوَّلُ ظَرْفٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْقُطَ الْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ فَقَالَ؟ إِذْ يَرْجِعُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ حِينَ خَلَقَهُ فَلَا إِخْبَارَ بِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَخْلُوقٍ اهـ. وَإِنَّمَا أَوْجَبَ مَا ذَكَرَ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِهِ يَفْسُدُ أَصْلُ الْمَعْنَى إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقِيلَ: لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ لَمْ تَمْنَعِ الْفَاءُ ذَلِكَ إِذْ يُقَدَّرُ قَبْلُ فَقَالَ: أَمَرَهُ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ تَنْصِيصٌ عَلَى أَوَّلِيَّةِ خَلْقِ الْقَلَمِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الرَّفْعِ الصَّحِيحَةِ، وَفِي الْأَزْهَارِ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ يَعْنِي بَعْدَ الْعَرْشِ وَالْمَاءِ، وَالرِّيحِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَكَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرَاضِينَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، فَالْأَوَّلِيَّةُ إِضَافِيَّةٌ، وَالْأَوَّلُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ النُّورُ الْمُحَمَّدِيُّ عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ فِي الْمَوْرِدِ لِلْمَوْلِدِ. (فَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (لَهُ) ، أَيْ: لِلْقَلَمِ (اكْتُبْ) : أَمْرٌ بِالْكِتَابَةِ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاءِ (مَا أَكْتُبُ؟) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفِعْلِ (قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ) أَيِ: الْمُقَدَّرَ الْمَقْضِيَّ، وَفِي الْمَصَابِيحِ قَالَ: الْقَدَرُ مَا كَانَ إِلَخْ. قَالَ شُرَّاحُهُ أَيِ: اكْتُبِ الْقَدَرَ فَنَصَبَهُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَمَا كَانَ بَدَلٌ مِنَ الْمُقَدَّرِ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (فَكَتَبَ مَا كَانَ) : الْمُضِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ حِكَايَةً عَمَّا أَمَرَ بِهِ الْقَلَمَ، وَإِلَّا لَقِيلَ فَكَتَبَ مَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْ: قَبْلَ تَكَلُّمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ لَا قَبْلَ الْقَلَمِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَخْلُوقٍ. نَعَمْ إِذَا كَانَتِ الْأَوَّلِيَّةُ نِسْبِيَّةً صَحَّ أَنْ يُرَادَ مَا كَانَ قَبْلَ الْقَلَمِ، (وَمَا هُوَ كَائِنٌ) مَا: مَوْصُولَةٌ (إِلَى الْأَبَدِ) : قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: مَا كَانَ يَعْنِي الْعَرْشَ، وَالْمَاءَ، وَالرِّيحَ، وَذَاتَ اللَّهِ وَصِفَاتَهُ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ مَا كَانَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ عَلَى الْقَدَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ظَهَرَ لِي فِيهِ إِشْكَالٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَهُوَ: أَنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي الْمَآلِ كَيْفَ يَنْحَصِرُ، وَيَنْضَبِطُ تَحْتَ الْقَلَمِ فِي الِاسْتِقْبَالِ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (جَفَّ الْقَلَمُ) اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِهِ كِتَابَةُ الْأُمُورِ الْإِجْمَالِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لَا الْأَحْوَالِ التَّفْصِيلِيَّةِ الْجُزْئِيَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَوَاهِرِ الْأَدِلَّةِ الْمَرْوِيَّةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْأَبْهَرِيَّ نَقَلَ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ أَنَّ الْأَبَدَ هُوَ الزَّمَانُ الْمُسْتَمِرُّ غَيْرُ الْمُنْقَطِعِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلَى مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُصُولُ شَيْءٍ إِلَيْهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ. قُلْتُ: يُحْمَلُ الْأَبَدُ - عَلَى الزَّمَانِ الطَّوِيلِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ اللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ انْقِرَاضُ الْعَالَمِ، أَوِ اسْتِقْرَارُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَكُونَ أَحْوَالُ الدَّارَيْنِ مَكْتُوبَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ؛ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ يَجْرِي مِنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، ثُمَّ طُوِيَ الْكِتَابُ، وَرُفِعَ الْقَلَمُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ. وَفِي الدُّرِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ،

قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ، أَوْ أَثَرٍ، أَوْ رِزْقٍ، أَوْ أَجَلٍ، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خُتِمَ عَلَى فَمِ الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ، وَلَا يَنْطِقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) أَخْرَجَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، هَذَا وَرُوِيَ: «أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ، وَإِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ نُورِي، وَإِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ رُوحِي، وَإِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَرْشُ» ، وَالْأَوَّلِيَّةُ مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ فَيُؤَوَّلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ خُلِقَ قَبْلَ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، فَالْقَلَمُ خُلِقَ قَبْلَ جِنْسِ الْأَقْلَامِ، وَنُورُهُ قَبْلَ الْأَنْوَارِ، وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَرْشَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضِ، فَتُطْلَقُ الْأَوَّلِيَّةُ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ بِشَرْطِ التَّقْيِيدِ فَيُقَالُ: أَوَّلُ الْمَعَانِي كَذَا، وَأَوَّلُ الْأَنْوَارِ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ( «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ نُورِي» ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: رُوحِي، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ نُورَانِيَّةٌ أَيْ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْأَرْوَاحِ رُوحِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) أَيْ: لَا مَتْنًا، وَالْمُرَادُ بِهِ حَدِيثٌ يُعَرَفُ مَتْنُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ بِرِوَايَتِهِ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَاسْتِيفَاءُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ.

95 - وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سُئِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، قَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ عَنْهَا قَالَ " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً؛ فَقَالَ: خَلَقَتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ خَلَقَتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ» " رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 95 - (وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارِ) أَيِ: الْجُهَنِيِّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُهُ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ عُمَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ (قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ) أَيْ: عَنْ كَيْفِيَّةِ أَخْذِ اللَّهِ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمُ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ (وَإِذْ أَخَذَ) أَيْ: أَخْرَجَ {رَبُّكَ مَنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف: 172] : بَدَلُ الْبَعْضِ قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: إِنَّهُ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ، وَوَافَقَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ لَفْظًا، وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي حَاشِيَتَيِ الْجَمَالَيْنِ عَلَى الْجَلَالَيْنِ (ذُرِّيَّتَهُمْ) : الْجُمْهُورُ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْجَمْعِ (الْآيَةَ) : بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ (قَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (عَنْهَا) أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ( «فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ» ") أَيْ: ظَهَرَ آدَمَ (" بِيَمِينِهِ ") أَيْ: بِقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُنْسَبُ الْخَيْرُ إِلَى الْيَمِينِ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَخْصِيصِ آدَمَ بِالْكَرَامَةِ، وَقِيلَ بِيَدِ بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ عَلَى تَصْوِيرِ الْأَجِنَّةِ أُسْنِدَ إِلَيْهِ تَعَالَى لِلتَّشْرِيفِ، أَوْ لِأَنَّهُ الْآمِرُ وَالْمُتَصَرِّفُ، كَمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ التَّوَفِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النحل: 28] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاسِحُ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَالْمَسْحُ مِنْ بَابِ التَّصْوِيرِ، وَالتَّمْثِيلِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمِسَاحَةِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: قَدَّرَ وَبَيَّنَ مَا فِي ظَهْرِهِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ نَزَّلَ تَمْكِينَ بَنِي آدَمَ مِنَ الْعِلْمِ بِرُبُوبِيَّتِهِ بِنَصْبِ الدَّلَائِلِ، وَخَلْقِ الِاسْتِعْدَادَ فِيهِمْ، وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، وَالْإِقْرَارِ بِهَا مَنْزِلَةَ الْإِشْهَادِ وَالِاعْتِرَافِ تَمْثِيلًا وَتَخْيِيلًا، فَلَا قَوْلَ ثَمَّ وَلَا شَهَادَةً حَقِيقَةً اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: أَطْبَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف: 172] بَدَلٌ مِنْ (بَنِي آدَمَ) فَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَخْذَ مَنْ ظَهْرِ آدَمَ لَقِيلَ مِنْ ظَهْرِهِ. وَأَجَابَ: بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وَأَمَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى إِثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ، وَالْخَبَرُ قَدْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِمَا مَعًا بِأَنَّ بَعْضَ الذَّرِّ مَنْ ظَهْرِ بَعْضَ الذَّرِّ، وَالْكُلُّ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ صَوْنًا لِلْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَنِ الِاخْتِلَافِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ بَنِي آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ فَكُلُّ مَا أُخْرِجَ مِنْ ظُهُورِهِمْ فِيمَا لَا يَزَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُمُ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ الْأَزَلِيَّ لِيَعْرِفَ مِنْهُ أَنَّ النَّسْلَ الْمُخْرَجَ فِيمَا لَا يَزَالُ مِنْ أَصْلَابِ بَنِيهِ هُوَ الْمُخْرَجُ فِي الْأَزَلِ مِنْ صُلْبِهِ. وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الْمَقَالِيُّ الْأَزَلِيُّ كَمَا أَخَذَ مِنْهُمْ فِيمَا لَا يَزَالُ بِالتَّدْرِيجِ حِينَ أُخْرِجُوا الْمِيثَاقَ الثَّانِيَ، وَهُوَ الْحَالُ الْإِنْزَالِيُّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ لَهُ مِيثَاقَانِ مَعَ بَنِي آدَمَ أَحَدُهُمَا تَهْتَدِي إِلَيْهِ الْعُقُولُ مِنْ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْحَامِلَةِ عَلَى الِاعْتِرَافِ الْمَقَالِيِّ، وَثَانِيهُمَا الْمَقَالِيُّ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْعَقْلُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَوْقِيفِ وَاقِفٍ عَلَى أَحْوَالِ الْعِبَادِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ؛ كَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرَادَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُعَلِّمَ الْأُمَّةَ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ وَرَاءَ الْمِيثَاقِ الَّذِي يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ مِيثَاقًا آخَرَ أَزَلِيًّا مَا. فَقَالَ قَائِلٌ: مِنْ مَسْحِ ظَهْرِ آدَمَ فِي الْأَزَلِ وَإِخْرَاجِ ذُرِّيَّتِهِ، وَأَخْذِهِ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمُ اهـ. وَبِهَذَا يَزُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ فَتَأَمَّلْ فِيهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ لِلْمَصَابِيحِ: التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ بَنِي آدَمَ هُوَ أَوْلَادَهُ فَكَأَنَّهُ صَارَ اسْمًا لِلنَّوْعِ كَالْإِنْسَانِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِخْرَاجِ تَوْلِيدُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ، وَاقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى آدَمَ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ التَّوْلِيدَ عَلَى الْمَرِّ الزَّمَانِيِّ يُنَافِي الْمِيثَاقِيَّ الْمَوْصُوفِ بِالْآنِيِّ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ؟ ثُمَّ سَنَحَ لِي بِالْبَالِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي الْآيَةِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ لِظُهُورِ أَمْرِ آدَمَ بِالْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ خُصُوصًا مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَّا بِنِيَّةٍ؛ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْفَصَاحَةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْبَلَاغَةِ الْفُرْقَانِيَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْإِعْجَازِ الَّتِي جُمْلَةُ دَلَالَاتِهِ صَنْعَةُ الْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ، وَلَمَّا فَهِمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ السُّؤَالِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ مَوْضِعَ الْإِشْكَالِ لِمَا وُقِعَ فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ اقْتَصَرَ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنَ الْمَقَالِ فَقَالَ: ( «فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً» ) : قِيلَ: قَبْلَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ بَيْنَ مَكَّةَ، وَالطَّائِفَ، وَقِيلَ بِبَطْنِ نَعْمَانَ، وَأَنَّهُ بِقُرْبِ عَرَفَةَ، وَقِيلَ فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ بَعْدَ النُّزُولِ مِنْهَا بِأَرْضِ الْهِنْدِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( «أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ - يَعْنِي عَرَفَةَ - فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَاهَا فَنَشَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا؛ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا» ، وَسَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ هَذَا، وَلَمَّا كَانَ السَّائِلُ بَلِيغًا عَارِفًا بِصِنَاعَةِ الْكَلَامِ سَكَتَ عِنْدَ حُصُولِ الْمَرَامِ، وَنَقَلَ السَّيِّدُ السَّنَدَ عَنِ الْأَزْهَارِ أَنَّهُ قِيلَ: شَقَّ ظَهْرَهُ، وَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْهُ، وَقِيلَ إِنَّهُ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ ثُقُوبِ رَأْسِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ مَسَامَّ شَعَرَاتِ ظَهْرِهِ. ( «فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ» ، وَفِي تَقْدِيمِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: ( «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي) » ، (وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنَ الطَّاعَاتِ (يَعْمَلُونَ) : إِمَّا فِي جَمِيعِ عُمُرِهِمْ، أَوْ فِي خَاتِمَةِ أَمْرِهِمْ (ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ) أَيْ: بِيَدِهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا بِيَمِينِهِ بِخِلَافِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَظْهَرُ الْخَيْرِ، وَلِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا بِشِمَالِهِ

تَأَدُّبًا، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: كِلْتَا يَدَيِ الرَّحْمَنِ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الشَّرَّ الْمَحْضَ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْكَوْنِ ( «فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقَتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» ) أَيْ: مِنَ السَّيِّئَاتِ (يَعْمَلُونَ) كَمَا سَبَقَ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْعَمَلِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ ( «فَقَالَ رَجُلٌ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟» ) : الْفَاءُ دَخَلَ جَوَابَ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، وَفِي: وَقَعَ مَوْقِعَ لَامِ الْفَرْضِ؛ أَيْ: إِذَا كَانَ كَمَا ذَكَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ سَبْقِ الْقَدَرِ فَفِي أَيِّ شَيْءٍ يُفِيدُ الْعَمَلُ، أَوْ بأَيِّ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ الْعَمَلُ، أَوْ فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُمِرْنَا بِالْعَمَلِ؟ يَعْنِي أَنَّهُ حَيْثُ خُلِقَ لَهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَغْيِيرُهُ وَتَبْدِيلُهُ؛ يَسْتَوِي عَمَلُهُ وَتَرْكُهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا جَبْرًا مَحْضًا مَزَجَهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْقَدَرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَمَلِ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ الْمُسْتَقِيمُ، وَالدِّينُ الْقَوِيمُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ وَكَسْبِ عَبْدِهِ ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ» ) أَيْ: جَعَلَهُ عَامِلًا، وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ (بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْوِيَةِ الْجَبْرِ، وَلِذَا لَا يُذَمُّ إِلَّا مَحْضُ الْجَبْرِ ( «حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى عَمَلٍ مُقَارِنٍ بِالْمَوْتِ (فَيُدْخِلُهُ بِهِ الْجَنَّةَ) الْإِدْخَالُ بِالْإِفْضَالِ، وَالدَّرَجَاتُ بِالْأَعْمَالِ وَالْخُلُودُ بِالنِّيَّةِ فِي الْأَحْوَالِ. ( «وَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلنَّارِ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ بِهِ النَّارَ» ) : الْإِدْخَالُ بِالْعَدْلِ، وَالدَّرَجَاتُ بِالْعَمَلِ، وَالْخُلُودُ بِالنِّيَّةِ، وَطُولِ الْأَمَلِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ كَفَرَ سَبْعِينَ سَنَةً أَنْ لَا يُعَذَّبَ زِيَادَةً عَلَيْهَا، فَإِنَّ نِيَّةَ الْكَافِرِ أَنْ لَوْ عَاشَ أَبَدَ الْآبَادِ لَأَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ إِمَّا جَهْلًا، وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَحَسَّنَاهُ، أَحْمَدُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، والْآجُرِّيُّ. كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي الْكَبِيرِ؛ فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ.

96 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وَفِي يَدَيْهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟ ". قُلْنَا: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: (هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: (هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ، وأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ؛ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: (سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ) . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: (فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] » ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 96 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ. (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي يَدَيْهِ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَفِي يَدِهِ كَمَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ فَيُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ (كِتَابَانِ) : وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (فَقَالَ) : (أَتَدْرُونَ) أَيْ: أَتَعْلَمُونَ (مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟) : الظَّاهِرُ مِنَ الْإِشَارَةِ أَنَّهُمَا حِسِّيَّانِ، وَقِيلَ: تَمْثِيلٌ، وَاسْتِحْضَارٌ

لِلْمَعْنَى الدَّقِيقِ الْخَفِيِّ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ رَأْيَ الْعَيْنِ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كُوشِفَ لَهُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ اطِّلَاعًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ خَفَاءٌ صَوَّرَ الشَّيْءَ الْحَاصِلَ فِي قَلْبِهِ بِصُورَةِ الشَّيْءِ الْحَاصِلِ فِي يَدِهِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى الْمَحْسُوسِ (قُلْنَا: لَا) أَيْ: لَا نُدْرِكُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا) : اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ؛ أَيْ: طَلَبُوا بِهَذَا الِاسْتِدْرَاكِ إِخْبَارَهُ إِيَّاهُمْ ( «فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى» ) أَيْ: لِأَجْلِهِ، وَفِي شَأْنِهِ، أَوْ عَنْهُ، وَقِيلَ: قَالَ بِمَعْنَى أَشَارَ فَاللَّامُ. بِمَعْنَى (إِلَى) ( «هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ) : خَصَّهُ بِالذِّكْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكُهُمْ، وَهُمْ لَهُ مَمْلُوكُونَ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ، فَيُسْعِدُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُشْقِي مَنْ يَشَاءُ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَدْلٌ وَصَوَابٌ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ صَادِرٌ عَلَى طَرِيقِ التَّصْوِيرِ وَالتَّمْثِيلِ مُثِّلَ الثَّابِتُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ بِالْمُثْبَتِ بِالْكِتَابِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَعِدٌّ لِإِدْرَاكِ الْمَعَانِي الْغَيْبِيَّةِ، وَمُشَاهَدَةِ الصُّوَرِ الْمَصُوغَةِ لَهَا ( «فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ» ) : الظَّاهِرُ أَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ يُكْتَبُ أَسْمَاؤُهُمْ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوِ النَّارِ لِلتَّمْيِيزِ التَّامِّ، كَمَا يُكْتَبُ فِي الصُّكُوكِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: أَهْلُ الْجَنَّةِ تُكْتَبُ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ لِلَّذِينَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بِالْيَمِينِ، وَبِالْعَكْسِ فِي أَهْلِ النَّارِ، وَإِلَّا فَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ إِذَا كَانُوا مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوْ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ النَّارِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِفْرَادِ ذِكْرِهِمْ لِدُخُولِهِمْ تَحْتَ قَوْلِهِ: فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ (ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ) : مِنْ قَوْلِهِمْ: أُجْمِلَ الْحِسَابُ إِذَا تُمِّمَ وَرُدَّ التَّفْصِيلُ إِلَى الْإِجْمَالِ، وَأُثْبِتَ فِي آخِرِ الْوَرَقَةِ مَجْمُوعُ ذَلِكَ وَجُمْلَتُهُ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُحَاسِبِينَ أَنْ يَكْتُبُوا الْأَشْيَاءَ مُفَصَّلَةً، ثُمَّ يُوَقِّعُوا فِي آخِرِهَا فَذْلَكَةً تَرُدُّ التَّفْصِيلَ إِلَى الْإِجْمَالِ، وَضُمِّنَ (أُجْمِلَ) مَعْنَى أَوْقَعَ فَعُدِّيَ بِعَلَى أَيْ: أَوْقَعَ الْإِجْمَالَ عَلَى مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ التَّفْصِيلُ، وَقِيلَ: ضَرَبَ بِالْإِجْمَالِ عَلَى آخَرَ التَّفْصِيلِ أَيْ: كَتَبَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ: أُجْمِلَ فِي حَالِ انْتِهَاءِ التَّفْصِيلِ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَلَى بِمَعْنَى (إِلَى) (فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ) : جَزَاءُ شَرْطٍ؛ أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَالتَّعْيِينِ وَالْإِجْمَالِ بَعْدَ التَّفْصِيلِ فِي الصَّكِّ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ (وَلَا يُنْقَصُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِنْهُمْ أَبَدًا) : لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ لَا يَتَغَيَّرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ - يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 38 - 39] فَمَعْنَاهُ لِكُلِّ انْتِهَاءِ مُدَّةٍ وَقْتٌ مَضْرُوبٌ، فَمَنِ انْتَهَى أَجَلُهُ يَمْحُوهُ، وَمَنْ بَقِيَ مِنْ أَجَلِهِ يُبْقِيهِ عَلَى مَا هُوَ مُثْبَتٌ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُثْبَتٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقَدَرُ، كَمَا أَنَّ (يَمْحُو وَيُثْبِتُ) هُوَ الْقَضَاءُ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَيْنَ مَا قَدَّرَ وَجَرَى فِي الْأَوَّلِ، كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَغْيِيرًا، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَحْوُ الْمَنْسُوخِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِثْبَاتُ النَّاسِخِ، أَوْ مَحْوُ السَّيِّئَاتِ مِنَ التَّائِبِ، وَإِثْبَاتُ الْحَسَنَاتِ بِمُكَافَأَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمَحْوُ، وَالْإِثْبَاتُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْأُمُورِ الْمُعَلَّقَةِ دُونَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْكَمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ صَفَحَاتُهَا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمُهُ نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، لِلَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سِتُّونَ وَثَلَاثُمَائَةِ لَحْظَةٍ؛ يَخْلُقُ، وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ، وَيَحْرُسُ، وَيُعِزُّ، وَيُذِلُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ» ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَعِلْمِ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ فِيهِ قَدْ تَكُونُ مُعَلَّقَةً عَلَى أَسْبَابٍ يَتَغَيَّرُ بِوُجُودِهَا، وَفَقْدِهَا لَا لِأُمِّ الْكِتَابِ الْمُرَادُ بِهَا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَحْوَ فِيهِ، وَلَا إِثْبَاتَ، وَسِرُّ ذَلِكَ التَّعْلِيقِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا الْمُوَافِقُ لِلْعِلْمِ الْقَدِيمِ مَزِيدُ التَّعْمِيَةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَتَحْقِيقُ انْفِرَادِهِ تَعَالَى

بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ، وَأَنَّهُ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ لِجُزْئِيَّاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَإِعْلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى التَّعْيِينِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. ( «ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: (هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ» ) : وَالْفَاسِقُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْوَعْدِيَّةِ، وَالْوَعِيدِيَّةِ، لِيَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ رَاضِيًا. بِمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَاءِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إِلَيْهَا، وَإِنْ دَخَلَ النَّارَ فَإِنَّ الْخَاتِمَةَ هِيَ الْمَدَارُ عَلَيْهَا. ( «ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا» ) . فَقَالَ أَصْحَابُهُ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( «فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ يَعْنِي إِذَا كَانَ الْمَدَارُ عَلَى كِتَابَةِ الْأَزَلِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي اكْتِسَابِ الْعَمَلِ؟ (فَقَالَ: سَدِّدُوا) أَيِ: اجْعَلُوا أَعْمَالَكُمْ مُسْتَقِيمَةً عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ (وَقَارِبُوا) أَيِ: اطْلُبُوا قُرْبَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُونَهُ، وَالْجَوَابُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ؛ أَيْ: فِيمَ أَنْتُمْ مِنْ ذِكْرِ الْقَدَرِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ لِلْعِبَادَةِ فَاعْمَلُوا، وَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: سَدِّدُوا أَيِ: الْزَمُوا السَّدَادَ، وَهُوَ الصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ، وَقَارِبُوا أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقَارِبُوا فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا تُبَاعِدُوا فَإِنَّكُمْ إِنْ بَاعَدْتُمْ فِي ذَلِكَ لَمْ تَبْلُغُوهُ، أَوْ مَعْنَاهُ سَاعِدُوا. يُقَالُ: قَارَبْتُ فَلَانًا إِذَا سَاعَدْتُهُ أَيْ: لِيُسَاعِدْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْأُمُورِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -: نَفْيُ الْجَبْرِ، وَالْقَدَرِ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِاعْتِدَالِ الْأَمْرَيْنِ كِتَابَةُ الْأَزَلِ، وَسِرَايَةُ الْعَمَلِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ أَمَارَاتٌ، وَعَلَامَاتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا إِذْ لَا يَعْمَلُ اللَّهُ تَعَالَى بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ: بِعَمَلٍ مُشْعِرٌ بِإِيمَانِهِ، وَمُشِيرٌ بِإِيقَانِهِ، (وَإِنْ عَمِلَ) أَيْ: وَلَوْ عَمِلَ قَبْلَ ذَلِكَ (أَيَّ عَمَلٍ) مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ ( «وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» ) : أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي (وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ) أَيْ: قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: أَشَارَ (بِيَدَيْهِ) ؛ الْعَرَبُ: تَجْعَلُ الْقَوْلَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، فَتُطْلِقُهُ عَلَى غَيْرِ الْكَلَامِ وَاللِّسَانِ، فَتَقُولُ قَالَ بِيَدِهِ أَيْ: أَخَذَ، وَقَالَ بِرِجْلِهِ أَيْ: مَشَى. وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَحَدَّرَتَا كَالدُّرِّ لَمَّا يُثَّقَّبِ أَيْ: أَوْمَأَتْ، وَقَالَ بِالْمَاءِ عَلَى يَدِهِ، أَيْ: قَلَبَ، وَقَالَ بِثَوْبِهِ أَيْ: رَفَعَهُ (فَنَبَذَهُمَا) أَيْ: طَرَحَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْكِتَابَيْنِ؛ قِيلَ: وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَفِي الْأَزْهَارِ الضَّمِيرُ فِي نَبَذَهُمَا لِلْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ نَبْذَ الْكِتَابَيْنِ بَعِيدٌ مِنْ دَأْبِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ نَبْذَهُمَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْإِهَانَةِ، بَلْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ نَبَذَهُمَا إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ كِتَابٌ حَقِيقِيٌّ، وَأَمَّا عَلَى التَّمْثِيلِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى نَبَذَهُمَا أَيِ: الْيَدَيْنِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ قَالَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا. بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ» ، كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَصَارَ كَمَا تُخَلِّفُهُ وَرَاءَ ظَهْرِكَ؛ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَالَ: (فَرَغَ رَبُّكُمْ) : تَفْسِيرًا لِهَذَا الْفِعْلِ، وَيَكُونُ نَتِيجَةً لِهَذَا الْكَلَامِ (مِنَ الْعِبَادِ) : قَالَ الْأَشْرَفُ أَيْ: مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الشَّأْنُ؛ أَيْ: قَدَّرَ أَمْرَهُمْ لَمَّا قَسَّمَهُمْ قِسْمَيْنِ، وَقَدَّرَ لِكُلِّ قِسْمٍ عَلَى التَّعْيِينِ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوِ النَّارِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ فَكَأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَإِلَّا فَالْفَرَاغُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ تَعَالَى {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ

هَذَا اسْتِشْهَادًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَاعْتِضَادًا بِالْفُرْقَانِ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْفَرِيقَيْنِ مُبْهَمٌ عِنْدَنَا وَمُجْمَلٌ، وَمَعْلُومٌ عِنْدَهُ تَعَالَى وَمُفَصَّلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُوَافَقَةً لَفْظِيَّةً، وَمُطَابَقَةً مَعْنَوِيَّةً بِنَوْعٍ مِنَ الِاقْتِبَاسَاتِ الْحِكَمِيَّةِ، وَالتَّضَمُّنَاتِ بِالْكَلِمَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

97 - وَعَنْ أَبِي خِزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: (هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 97 - (وَعَنْ أَبِي خِزَامَةَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَتَخْفِيفِ الزَّاءِ (عَنْ أَبِيهِ) : وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَرُوِيَ هَكَذَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي خُزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَفِي اسْمِ الرَّاوِي أَبِي خِزَامَةَ خِلَافٌ لِلْمُحَدِّثِينَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ أَبُو خِزَامَةَ بْنِ يَعْمُرَ أَحَدُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ سَعْدٍ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ (قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا» ) : جَمْعُ رُقْيَةٍ كَظُلَمٍ جَمْعُ ظُلْمَةٍ، وَهِيَ مَا يُقْرَأُ لِطَلَبِ الشِّفَاءِ، وَالِاسْتِرْقَاءُ طَلَبُ الرُّقْيَةِ (وَدَوَاءً) : بِالنَّصْبِ (نَتَدَاوَى بِهِ) أَيْ: نَسْتَعْمِلُهُ (وَتُقَاةً) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (نَتَّقِيهَا) أَيْ: نَلْتَجِئُ بِهَا، أَوْ نَحْذَرُ بِسَبَبِهَا، وَأَصْلُ تُقَاةٍ، وُقَاةٌ؛ مِنْ وَقَى، وَهِيَ اسْمُ مَا يَلْتَجِئُ بِهِ النَّاسُ مِنْ خَوْفِ الْأَعْدَاءِ كَالتُّرْسِ، وَهُوَ مَا يَقِي مِنَ الْعَدُوِّ أَيْ: يَحْفَظُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا. بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ، فَالضَّمِيرُ فِي نَتَّقِيهَا لِلْمَصْدَرِ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْمَنْصُوبَاتِ أَعْنِي رُقًى، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَوْصُوفَاتٌ بِالْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَهَا، وَمُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى أَرَأَيْتَ أَيْ: أَخْبِرْنِي عَنْ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا فَنُصِبَتْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَفْظِ: أَرَأَيْتَ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ الْمَوْصُوفُ مَعَ الصِّفَةِ، وَالثَّانِي الِاسْتِفْهَامُ بِتَأْوِيلِ مَقُولًا فِي حَقِّهَا (هَلْ تَرُدُّ) أَيْ: هَذِهِ الْأَسْبَابُ (مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: (هِيَ) ؛ أَيِ الْمَذْكُورَاتُ الثَّلَاثُ (مِنْ قَدَرِ اللَّهِ) أَيْضًا؛ يَعْنِي: كَمَا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الدَّاءَ قَدَّرَ زَوَالَهُ بِالدَّوَاءِ، وَمَنِ اسْتَعْمَلَهُ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا قَدَّرَهُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الرُّقْيَةِ؛ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «اسْتَرَقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ» ) ، أَيِ: اطْلُبُوا لَهَا مَنْ يَرْقِيهَا، وَفِي بَعْضِهَا النَّهْيُ عَنْهَا كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَابِ التَّوَكُّلِ: «الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ» ) ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْقِسْمَيْنِ كَثِيرَةٌ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الرُّقْيَةِ بِغَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، أَوْ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْهَا أَنَّهَا نَافِعَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَيَتَّكِلُ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا مَنْهِيَّةٌ، وَإِيَّاهَا أَرَادَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: ( «مَا تَوَكَّلَ مَنِ اسْتَرْقَى» ) : وَمَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَالتَّعَوُّذِ بِالْقُرْآنِ، وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرُّقَى الْمَرْوِيَّةُ فَلَيْسَتْ بِمَنْهِيَّةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي رَقَى بِالْقُرْآنِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَجْرًا: ( «مَنْ أَخَذَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَقَدْ أَخَذْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ» ) . وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حُمَةٍ» ) فَمَعْنَاهُ: لَا رُقْيَةَ أَوْلَى وَأَنْفَعُ مِنْهُمَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِتَحْرِيمِ الرُّقْيَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ؛ صَرَّحَتْ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا: وَابْنُ مَاجَهْ.

98 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: (أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلُكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ، عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ، عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَنَازَعُوا فِيهِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 98 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ» ) أَيْ: حَالَ كَوْنِنَا نَتَبَاحَثُ (فِي الْقَدَرِ) أَيْ: فِي شَأْنِهِ فَيَقُولُ بَعْضُنَا: إِذَا كَانَ الْكُلُّ بِالْقَدَرِ فَلِمَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَالْآخَرُ يَقُولُ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيرِ بَعْضٍ لِلْجَنَّةِ، وَبَعْضٍ لِلنَّارِ؟ فَيَقُولُ الْآخَرُ: لِأَنَّ لَهُمْ فِيهِ نَوْعَ اخْتِيَارٍ كَسْبِيٍّ. فَيَقُولُ الْآخَرُ: فَمَنْ أَوْجَدَ ذَلِكَ الِاخْتِيَارَ وَالْكَسْبَ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ) أَيْ: نِهَايَةَ الِاحْمِرَارِ (حَتَّى) أَيْ: حَتَّى صَارَ مِنْ شِدَّةِ حُمْرَتِهِ، (كَأَنَّمَا فُقِئَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ؛ أَيْ: شُقَّ، أَوْ عُصِرَ (فِي وَجْنَتَيْهِ) أَيْ: خَدَّيْهِ (حَبُّ الرُّمَّانِ) : فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مَزِيدِ حُمْرَةِ وَجْهِهِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ مَزِيدِ غَضَبِهِ، وَإِنَّمَا غَضِبَ؛ لِأَنَّ الْقَدَرَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَلَبُ سِرِّ اللَّهِ مَنْهِيٌّ؛ وَلِأَنَّ مَنْ يَبْحَثُ فِيهِ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ قَدَرِيًّا، أَوْ جَبْرِيًّا، وَالْعِبَادُ مَأْمُورُونَ بِقَبُولِ مَا أَمَرَهُمُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبُوا سِرَّ مَا لَا يَجُوزُ طَلَبُ سِرِّهِ، (فَقَالَ) : - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (أَبِهَذَا) أَيْ: «أَبِالتَّنَازُعِ فِي الْقَدَرِ (أُمِرْتُمْ؟» ) : وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ (أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟) : أَمْ مُنْقَطِعَةٌ؛ بِمَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةُ وَهِيَ لِلْإِنْكَارِ أَيْضًا تَرَقِّيًا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ، وَإِنْكَارٌ غِبَّ إِنْكَارٍ (إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلُكُمْ) أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ؛ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابًا عَمَّا اتَّجَهَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لِمَ تُنْكِرُ هَذَا الْإِنْكَارَ الْبَلِيغَ؟ (حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ، وَإِهْلَاكَهُمْ كَانَ مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ، فَفِيهِ زِيَادَةُ وَعِيدٍ، (عَزَمْتُ) أَيْ: أَقْسَمْتُ أَوْ أَوْجَبْتُ (عَلَيْكُمْ) قِيلَ: أَصْلُهُ عَزَمْتُ بِإِلْقَاءِ الْيَمِينِ، وَإِلْزَامِهَا عَلَيْكُمْ ( «عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَنَازَعُوا» ) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (فِيهِ) : وَلَا تَبْحَثُوا فِي الْقَدَرِ بَعْدَ هَذَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَنْ هَذِهِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مَصْدَرِيَّةً وَزَائِدَةً؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً، وَأَنْ تَزْدَادَ مَعَ لَا فَهِيَ إِذًا مُفَسِّرَةٌ كَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا ضَرَبْتُ، وَتَنَازَعُوا جُزِمَ بِلَا النَّاهِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعَ اسْمِهَا، وَخَبَرِهَا سَدَّتْ مَسَدَّ الْجُمْلَةِ كَذَا قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: هَذَا اللَّفْظُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُ الْحَدِيثَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، وَلَهُ غَرَائِبُ يَنْفَرِدُ بِهَا اهـ.

99 - وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ. عَنْ عَمْرٍو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 99 - (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ) أَيْ: بِالْمَعْنَى (عَنْ عَمْرٍو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) : اعْلَمْ أَنَّ عَمْرًا بْنَ شُعَيْبِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنَ الْعَاصِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الصَّحِيحِ، أَحَدُ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ، رُوِيَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةً يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرٍو، وَلَكِنَّ الْبُخَارِيَّ مَا احْتَجَّ بِهِ فِي جَامِعِهِ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: إِنَّمَا أَنْكَرُوا حَدِيثَهُ لِكَثْرَةِ رِوَايَتِهِ، وَإِنَّمَا سَمِعَ أَحَادِيثَ بُسْرَةَ، وَأَخَذَ صَحِيفَةً كَانَتْ عِنْدَهَا فَرَوَاهَا، وَشُعَيْبٌ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَكِنْ مَا عَلِمْتُ أَحَدًا وَثَّقَهُ، بَلْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي تَارِيخِ الثِّقَاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ثِقَةٌ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ مُرْسِلًا. قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي رَبَّاهُ حَتَّى قِيلَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَفَلَ شُعَيْبًا جَدُّهُ عَبْدُ اللَّهِ كَذَا فِي الْمِيزَانِ لِلذَّهَبِيِّ، وَقَالَ

بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي جَدِّهِ رَاجِعٌ إِلَى شُعَيْبٍ، وَكَثِيرًا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَغَيْرِهِمَا بِلَفْظِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ، فَحَدِيثُهُ لَا طَعْنَ فِيهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ شُعَيْبًا سَمِعَ مِنْ مُحَمَّدٍ لَا عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَيَكُونُ حَدِيثُهُ مُرْسَلًا، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَحَدِيثُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مُتَّصِلٌ لَكِنْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِجَدِّهِ فِي الْإِسْنَادِ مُحَمَّدٌ لَا عَبْدُ اللَّهِ لَمْ يَدْخُلْ حَدِيثُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الصِّحَاحِ، وَإِنِ احْتَجُّوا بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: تَرْجَمَةُ عَمْرٍو قَوِيَّةٌ عَلَى الْمُخْتَارِ حَيْثُ لَا تَعَارُضَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَذَا حَرَّرَهُ مِيرَكُ شَاهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

100 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 100 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ» : بِالضَّمِّ وَيُفْتَحُ، وَمِنْ: ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقَ، أَوْ بَيَانِيَّةٌ حَالٌ مِنْ آدَمَ (قَبَضَهَا) أَيْ: أَمَرَ الْمَلَكَ بِقَبْضِهَا، وَالْقُبْضَةُ بِالضَّمِّ مِلْءُ الْكَفِّ، وَرُبَّمَا جَاءَ بِفَتْحِ الْقَافِ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْقَبْضَةُ: وَضَمُّهُ أَكْثَرُ مَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ، وَفِي النِّهَايَةِ الْقَبْضُ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ، وَالْقَبْضَةُ الْمَرَّةُ مِنْهُ، وَبِالضَّمِّ الِاسْمُ مِنْهُ (مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ) : يَعْنِي: وَجْهَهَا أَيْ: مِنْ جَمِيعِ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُنَهُ بَنُو آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ لِأَنَّ مِنَ الْأَرْضِ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ قَدَمُ آدَمِيٍّ، وَالْقَابِضُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ هُوَ عِزْرَائِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَنُسِبَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ عِزْرَائِيلُ مُتَوَلِّي الْقَبْضَةَ، وَلِيَ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ مِنْ أَجْسَادِهَا لِيَرُدُّوا وَدِيعَةَ اللَّهِ الَّتِي قَبَضَهَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَيْهَا كَذَا قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى آيَةِ {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] هَذَا، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خُلِقَتِ الْكَعْبَةُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ. قَالُوا: كَيْفَ خُلِقَتْ قَبْلُ وَهِيَ مِنَ الْأَرْضِ؟ قَالَ: كَانَتْ خَشْفَةً عَلَى الْمَاءِ، وَهِيَ بِالْخَاءِ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَالْفَاءِ أَيْ: حَجَرَةٌ، أَوْ أَكَمَةٌ، أَوْ جَزِيرَةٌ عَلَيْهَا مَلَكَانِ يُسَبِّحَانِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَلْفَيْ سَنَةٍ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ الْأَرْضَ دَحَاهَا مِنْهَا فَجَعَلَهَا فِي وَسَطِ الْأَرْضِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بَعَثَ مَلَكًا مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ يَأْتِي بِتُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَلَمَّا هَوَى لِيَأْخُذَ قَالَتِ الْأَرْضُ: أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَرْسَلَكَ أَنْ لَا تَأْخُذْ مِنِّي الْيَوْمَ شَيْئًا يَكُونُ مِنْهُ لِلنَّارِ نَصِيبٌ غَدًا فَتَرَكَهَا، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ بِمَا أَمَرْتُكَ؟ قَالَ: سَأَلَتْنِي بِكَ فَعَظِّمْتُ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا سَأَلَنِي بِكَ، فَأَرْسَلَ آخَرَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أَرْسَلَهُمْ كُلَّهُمْ، فَأَرْسَلَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي أَحَقُّ بِالطَّاعَةِ مِنْكِ، فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كُلِّهَا مِنْ طَيِّبِهَا، وَخَبِيثِهَا حَتَّى كَانَتْ قَبْضَةً عِنْدَ مَوْضِعَ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ فَصَبَّ عَلَيْهِ مِنْ مَاءِ الْجَنَّةِ فَجَاءَ حَمَأً مَسْنُونًا فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ بِيَدِهِ. الْحَدِيثَ. ( «فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ» ) أَيْ: مَبْلَغِهَا مِنَ الْأَلْوَانِ وَالطِّبَاعِ ( «مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ، وَالْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ» ) : بِحَسَبِ تُرَابِهِمْ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولُ الْأَلْوَانِ، وَمَا عَدَاهَا مُرَكَّبٌ مِنْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَبَيْنَ ذَلِكَ) أَيْ: بَيْنَ الْأَحْمَرِ، وَالْأَبْيَضِ، وَالْأَسْوَدِ بِاعْتِبَارِ أَجْزَاءِ أَرْضِهِ (وَالسَّهْلُ) أَيْ: وَمِنْهُمُ السَّهْلُ أَيِ: اللَّيِّنُ (وَالْحَزْنُ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَسُكُونِ الزَّايِ أَيِ: الْغَلِيظُ (وَالْخَبِيثُ) أَيْ: خَبِيثُ الْخِصَالِ (وَالطَّيِّبُ) : عَلَى طَبْعِ أَرْضِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَوْنًا، وَطَبْعًا، وَخُلُقًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَمَّا كَانَتِ الْأَوْصَافُ الْأَرْبَعَةُ ظَاهِرَةً فِي الْإِنْسَانِ وَالْأَرْضِ أُجْرِيَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَأُوِّلَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخِيرَةُ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنِيَّ بِالسَّهْلِ الرِّفْقُ وَاللِّينُ، وَبِالْحَزْنِ الْخَرَقُ وَالْعُنْفُ، وَبِالطَّيِّبِ الَّذِي يَعْنِي بِهِ الْأَرْضَ الْعَذْبَةَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي هُوَ نَفْعٌ كُلُّهُ، بِالْخَبِيثِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْأَرْضُ السَّبْخَةُ الْكَافِرُ الَّذِي هُوَ ضُرٌّ كُلُّهُ، وَالَّذِي سَبَقَ لَهُ الْحَدِيثُ هُوَ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَدِيثِ الْقَدَرِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ مِنَ الْأَلْوَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً فَلَا اعْتِبَارَ لَهَا فِيهِ اهـ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا اعْتِبَارُ إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ وَالْآثَارَ بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْأَلْوَانِ فِي كَوْنِهَا تَحْتَ الْأَقْدَارِ غَايَتُهُ أَنَّ الْأَوْصَافَ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ بِحَسَبِ الطَّاعَةِ وَالْإِمْكَانِ لِمُجَاهَدَةِ الْإِنْسَانِ بِخِلَافِ الْأَلْوَانِ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا تَبْدِيلَ، وَلَا تَغْيِيرَ لِخَلْقِ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ» . (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ.

101 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى. وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 101 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ) أَيِ: الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَا الْمَلَائِكَةَ (فِي ظُلْمَةٍ) أَيْ: كَائِنِينَ فِي ظُلْمَةِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ الْمَجْبُولَةِ بِالشَّهَوَاتِ الْمُرْدِيَةِ، وَالْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ، وَالرُّكُونِ إِلَى الْمَحْسُوسَاتِ، وَالْغَفْلَةِ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ (فَأَلْقَى) أَيْ: رَشَّ (عَلَيْهِمْ) : شَيْئًا (مِنْ نُورِهِ) : فَمِنْ نُورِهِ صِفَةُ مَحْذُوفٍ أَيْ: شَيْئًا مِنْهُ، وَمِنْ لِلتَّبْيِينِ، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ، أَوْ زَائِدَةٌ، الْمُرَادُ مِنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْإِيقَانِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْإِحْسَانِ ( «فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ» ) أَيْ: نُورِهِ الْمَعْنَوِيِّ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ، وَالنُّورُ مَجْرُورٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ أَصَابَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنْهُ؛ ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ، (اهْتَدَى) أَيْ: إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، (وَمَنْ أَخْطَأَهُ) أَيْ: ذَلِكَ النُّورَ يَعْنِي جَاوَزَهُ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ (ضَلَّ) أَيْ: خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنُّورِ الْمُلْقَى إِلَيْهِمْ مَا انْصَبَّ مِنَ الشَّوَاهِدِ وَالْحُجَجِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ؛ إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَبَقَوْا فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالَةِ فِي بَيْدَاءَ الْجَهَالَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالظُّلْمَةِ كَالْحِرْصِ، وَالْحَسَدِ، وَالْكِبْرِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَبِالنُّورِ التَّوْفِيقُ، وَالْهِدَايَةُ؛ بِقَلْعِ ذَلِكَ، فَمَنْ وَفَّقَهُ لِذَلِكَ اهْتَدَى، وَمَنْ لَمْ يُوَفِّقْهُ ضَلَّ وَغَوَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالظُّلْمَةِ الْجَهَالَةُ، وَبِالنُّورِ الْمَعْرِفَةُ؛ يَعْنِي خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ جَاهِلِينَ بِهِ، وَبِصِفَاتِهِ فَعَرَّفَهُمْ ذَاتَهُ وَصِفَاتَهُ لِيَعْرِفُوهُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: أَنَّهُ خَلَقَ أَرْوَاحَهُمْ فِي ظُلْمَةٍ، وَحَيْرَةٍ؛ فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ نُورَ الرَّحْمَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ أَحَدٌ: لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا، وَلَا صَلَّيْنَا قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى خَلْقِ الذَّرِّ الْمُسْتَخْرَجِ فِي الْأَزَلِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ فَعَبَّرَ بِالنُّورِ عَنِ الْأَلْطَافِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَبَاشِيرُ صُبْحِ الْهِدَايَةِ، وَإِشْرَاقُ لَمِعَاتِ بَرْقِ الْعِنَايَةِ، ثُمَّ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (أَصَابَ، وَأَخْطَأَ) إِلَى ظُهُورِ تِلْكَ الْعِنَايَةِ فِيمَا لَا يَزَالُ مِنْ هِدَايَةِ بَعْضٍ، وَضَلَالِ بَعْضٍ، (فَلِذَلِكَ) أَيْ: وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ وَالضَّلَالَ قَدْ جَرَى؛ ( «أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ» ) أَيْ: عَلَى مَا عَلِمَ اللَّهُ، وَحَكَمَ بِهِ فِي الْأَزَلِ لَا يَتَغَيَّرُ، وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَجَفَافُ الْقَلَمِ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَقِيلَ مِنْ أَجْلِ عَدَمِ تَغَيُّرِ مَا جَرَى فِي الْأَزَلِ؛ تَقْدِيرُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْكُفْرِ، وَالْمَعْصِيَةِ: أَقُولُ جَفَّ الْقَلَمُ، قِيلَ: وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ؛ أَنْ يُقَالَ: الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنَ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْعُرُوجَ إِلَى عَالَمِ الْقُدْسِ، وَهِيَ مُسْتَعِدَّةٌ لِقَبُولِ فَيَضَانِ نُورِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّحَلِّي بِالْكَمَالَاتِ، وَمِنَ النَّفْسَانِيَّةِ الْمَائِلَةِ إِلَى ظُلُمَاتِ الشَّهَوَاتِ، وَالضَّلَالِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ مَسُوقٌ فِي الْقَدَرِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: جَفَّ الْقَلَمُ فَنَبَّهَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ

خُلِقَ عَلَى حَالَةٍ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ظُلْمَةٍ؛ إِلَّا مَنْ أَصَابَهُ مِنَ النُّورِ الْمُلْقَى عَلَيْهِمْ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْحٌ إِلَى الْقَضَاءِ؛ كَقَوْلِهِ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ؛ فَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

102 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ! آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: " نَعَمْ؟ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 102 - (وَعَنْ أَنَسٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ) مِنَ الْإِكْثَارِ (أَنْ يَقُولَ) : هَذَا الْقَوْلَ (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ) أَيْ: مُصَرِّفُهَا تَارَةً إِلَى الطَّاعَةِ، وَتَارَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَتَارَةً إِلَى الْحَضْرَةِ، وَتَارَةً إِلَى الْغَفْلَةِ، ( «ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ) ، أَيِ: اجْعَلْهُ ثَابِتًا عَلَى دِينِكَ غَيْرَ مَائِلٍ عَنِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْخُلُقِ الْعَظِيمِ (فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ) أَيْ: بِنُبُّوتِكَ، وَرِسَالَتِكَ (وَبِمَا جِئْتَ بِهِ) : مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟) : يَعْنِي أَنَّ قَوْلَكَ هَذَا لَيْسَ لِنَفْسِكَ؛ لِأَنَّكَ فِي عِصْمَةٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَّةِ خُصُوصًا مِنْ تَقَلُّبِ الْقَلْبِ عَنِ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا مِنْ زَوَالِ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، أَوِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النُّقْصَانِ؟ (قَالَ: نَعَمْ) : يَعْنِي أَخَافُ عَلَيْكُمْ (إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ) : وَفِي خَبَرِ مُسْلِمٍ: (مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ) . وَالْفَرْقُ أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِهِ ثَمَّةَ فَالرَّحْمَةُ سَبَقَتِ الْغَضَبَ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ، وَهُنَا وَقَعَ تَأْيِيدًا لِلْخَوْفِ عَلَيْهِمْ، فَالْمَقَامُ مَقَامُ هَيْبَةٍ وَإِجْلَالٍ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ مَقَامِ الْجَلَالَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِأَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنْ هِدَايَةٍ أَوْ ضَلَالَةٍ، (يُقَلِّبُهَا) أَيِ: الْقُلُوبَ (كَيْفَ يَشَاءُ) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: تَقْلِيبًا يُرِيدُهُ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ أَيْ: يُقَلِّبُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شَاءَهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

103 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ الْقَلْبِ كَرِيشَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 103 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَثَلُ الْقَلْبِ) أَيْ: صِفَةُ الْقَلْبِ الْعَجِيبَةُ الشَّأْنِ، وَمَا يَرِدُ علَيْهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الدَّوَاعِي، وَسُرْعَةِ تَقَلُّبِهِ بِسَبَبِهَا، (كَرِيشَةٍ) أَيْ: كَصِفَةِ رِيشَةٍ، وَهِيَ وَحْدَةُ الرِّيشِ، (بِأَرْضٍ) : بِالتَّنْوِينِ، وَقِيلَ بِالْإِضَافَةِ، (فَلَاةٍ) : صِفَةٌ أَيْ: مَفَازَةٌ خَالِيَةٌ مِنَ النَّبَاتِ، قِيلَ ذِكْرُ الْأَرْضِ مُقْحَمٌ؛ لِأَنَّ الْفَلَاةَ تَدُلُّ عَلَيْهَا، فَالْمَقْصُودُ التَّأْكِيدُ لِدَفْعِ التَّجَوُّزِ كَمَا فِي أَبْصَرْتُهَا بِعَيْنِي، وَتَخْصِيصُ الْفَلَاةِ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيبَ فِيهَا أَشَدُّ مِنَ الْعُمْرَانِ (يُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ) : بِالتَّذْكِيرِ، وَقِيلَ: بِالتَّأْنِيثِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ أُخْرَى لِرِيشَةٍ، وَجَمَعَ الرِّيَاحَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ظُهُورِ التَّقْلِيبِ. إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ الرِّيحُ عَلَى جَانِبٍ وَاحِدٍ لَمْ يَظْهَرِ التَّقَلُّبُ، (ظَهْرًا لَبَطَنٍ) أَيْ: وَبَطْنًا لِظَهْرٍ يَعْنِي كُلَّ سَاعَةٍ يُقَلِّبُهَا عَلَى صِفَةٍ، فَكَذَا الْقَلْبُ يَنْقَلِبُ سَاعَةً مِنَ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ، وَبِالْعَكْسِ، وَقَوْلُ: ظَهْرًا بَدَلُ

الْبَعْضِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُقَلِّبُهَا، وَاللَّامُ فِي الْبَطْنِ. بِمَعْنَى: (إِلَى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ مَفْعُولًا مُطْلَقًا؛ أَيْ: تَقْلِيبًا مُخْتَلِفًا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا يَعْنِي مَقْدِرَةً؛ أَيْ: يُقَلِّبُهَا مُخْتَلِفَةً، وَلِهَذَا الِاخْتِلَافِ وَالِانْقِلَابِ يُسَمَّى الْقَلْبُ قَلْبًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: «مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ يُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلَاةٍ» .

104 - وَعَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 104 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ) : هَذَا نَفْيُ أَصْلِ الْإِيمَانِ أَيْ: لَا يُعْتَبَرُ مَا عِنْدَهُ مِنَ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ (حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدَ) : مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى يُؤْمِنَ، وَقِيلَ: مَرْفُوعٌ تَفْصِيلٌ لِمَا سَبَقَهُ؛ أَيْ: يَعْمَلُ، وَيَتَيَقَّنُ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) ؛ أَيْ: يُؤْمِنُ بِالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَعَدَلَ إِلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ أَمْنًا مِنَ الْإِلْبَاسِ بِأَنْ يَشْهَدَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ، أَوْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْكَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَشْهَدُ بِاللِّسَانِ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ بِالْجَنَانِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِالظَّوَاهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ. (بَعَثَنِي بِالْحَقِّ) : اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ لَمْ يَشْهَدْ؛ فَقَالَ: بَعَثَنِي بِالْحَقِّ أَيْ: إِلَى كَافَّةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُؤَكِّدَةً، أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ فَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا فِي حَيِّزِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ حَكَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَلَامَ الشَّاهِدِ بِالْمَعْنَى؛ إِذْ عِبَارَتُهُ أَنَّ مُحَمَّدًا وَبَعَثَهُ (وَيُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ) : بِالْوَجْهَيْنِ، (وَالْبَعْثِ) أَيْ: يُؤْمِنُ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ (بَعْدَ الْمَوْتِ) : وَتَكْرِيرُ الْمَوْتِ إِيذَانٌ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ أَكَّدَ الْمَوْتَ بِذِكْرِ لِفَظِ يُؤْمِنُ دُونَ الْبَعْثِ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ ظَاهِرٌ لَا يُنْكَرُ، وَالْبَعْثُ خَفِيٌّ يُنْكَرُ؟ قُلْتُ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَدِلَّةَ الْبَعْثِ ظَاهِرَةٌ، وَإِلَى أَنَّهُمْ مُتَمَادُونَ فِي الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ. قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ لَيْسَ يَقِينٌ أَشْبَهُ بِالشَّكِّ مِنَ الْمَوْتِ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْمَوْتُ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى النَّعِيمِ، فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ فَنَاءٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ وِلَادَةٌ ثَانِيَةٌ وَبَقَاءُ، وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَلِذَلِكَ مَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ بِخَلْقِهِ حَيْثُ قَالَ: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) ، وَقُدِّمَ لِأَنَّهُ الْمُوصِّلُ إِلَى الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَالتَّغْيِيرَاتُ الْوَاقِعَةُ لِأَجْلِهِ كَمَا فِي النَّوَى الْمَزْرُوعِ إِذْ لَا يَصِيرُ نَخْلًا إِلَّا بِفَسَادِ جُثَّتِهِ، وَكَمَا فِي الْبَرِّ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَجْعَلَهُ زِيَادَةً فِي أَبْدَانِنَا، وَكَمَا فِي الْبَذْرِ إِذَا زُرِعَ؛ قِيلَ فَكَانَ ذَلِكَ الْفَسَادُ ظَاهِرًا هُوَ عَيْنُ الصَّلَاحِ بَاطِنًا، فَرِضَا النَّفْسِ بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ لِقُدْرَتِهَا وَرِضَاهَا بِالْأَعْرَاضِ الدَّنِيَّةِ كَمَا رَضِيَ الْجُعَلُ بِالِانْغِمَاسِ فِي الْعَذِرَةِ دَائِمًا، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ إِذَا شَمَّ الْمِسْكَ مَاتَ لِوَقْتِهِ. (وَيُؤْمِنَ) : بِالْوَجْهَيْنِ (بِالْقَدَرِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَفْيُ أَصْلِ الْإِيمَانِ لَا نَفْيُ الْكَمَالِ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. الْأَوَّلُ: الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى كَافَّةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالثَّانِي أَنْ يُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ أَيْ: يَعْتَقِدُ فَنَاءَ الدُّنْيَا، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَبَقَائِهِ أَبَدًا. وَفِي مَعْنَاهِ التَّنَاسُخِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ اعْتِقَادُ أَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا بِفَسَادِ الْمِزَاجِ كَمَا يَقُولُهُ الطِّيبِيُّ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، وَالرَّابِعُ: أَنْ يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ؛ يَعْنِي بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدَرِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

105 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ (حَسَنٌ صَحِيحٌ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 105 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (صِنْفَانِ) أَيْ: نَوْعَانِ، (مِنْ أُمَّتِي) أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، (لَيْسَ لَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ) أَيْ: حَظٌّ كَامِلٌ، أَوْ لَيْسَ لَهُمَا فِي كَمَالِ الِانْقِيَادِ لِمَا قُضِيَ، وَقُدِّرَ عَلَى الْعِبَادِ مِمَّا أَرَادَ نَصِيبٌ؛ أَيْ: حَظٌّ مُطْلَقًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ؟ رُبَّمَا يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يُكَفِّرُ الْفَرِيقَيْنِ، وَالصَّوَابُ أَنْ لَا يُسَارِعَ إِلَى تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْجَاهِلِ، أَوِ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ احْتِيَاطًا فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَهُمَا نَصِيبٌ عَلَى سُوءِ الْحَظِّ وَقِلَّةِ النَّصِيبِ، كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ لِلْبَخِيلِ مِنْ مَالِهِ نَصِيبٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «يَكُونُ فِي أَمَّتِي خَسْفٌ» ) ، وَقَوْلُهُ: ( «سِتَّةٌ لَعْنَتُهُمْ» ) . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُكَذِّبِ بِهِ؛ أَيْ: بِالْقَدَرِ إِذْ أَتَاهُ مِنَ الْبَيَانِ مَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْعُذْرُ، أَوْ عَلَى مَنْ تُفْضِي بِهِ الْعَصَبِيَّةُ إِلَى تَكْذِيبِ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ النُّصُوصِ، أَوْ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَهُ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَارِدَةٌ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَمَنْ أَطْلَقَ تَكْفِيرَ الْفَرِيقَيْنِ أَخْذًا بِظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ فَقَدِ اسْتَرْوَحَ، بَلِ الصَّوَابُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّا لَا نُكَفِّرُ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ إِلَّا إِنْ أَتَوْا بِمُكَفِّرٍ صَرِيحٍ لَا اسْتِلْزَامِيٍّ؛ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي نِكَاحِهِمْ، وَإِنْكَاحِهِمْ، وَالصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَاهُمْ، وَدَفْنِهِمْ فِي مَقَابِرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ غَيْرَ مَعْذُورِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْفِسْقِ وَالضَّلَالِ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصُدُوا بِمَا قَالُوهُ اخْتِيَارَ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا بَذَلُوا وُسْعَهُمْ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ، لَكِنْ لِتَقْصِيرِهِمْ بِتَحْكِيمِ عُقُولِهِمْ، وَأَهْوِيَتِهِمْ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ صَرِيحِ السُّنَةِ وَالْآيَاتِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ سَائِغٍ، وَبِهَذَا فَارَقُوا مُجْتَهَدِي الْفُرُوعِ فَإِنَّ خَطَأَهُمْ إِنَّمَا هُوَ لِعُذْرِهِمْ بِقِيَامِ دَلِيلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ مُقَاوِمٌ لِدَلِيلِ غَيْرِهِمْ مِنْ جِنْسِهِ فَلَمْ يُقَصِّرُوا، وَمِنْ ثَمَّ أُثِيبُوا عَلَى اجْتِهَادِهِمْ، (الْمُرْجِئَةُ) : يُهْمَزُ، وَلَا يُهْمَزُ مِنَ الْإِرْجَاءِ مَهْمُوزًا وَمُعْتَلًّا، وَهُوَ التَّأْخِيرُ. يَقُولُونَ: الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا اخْتِيَارٌ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ فَيُؤَخِّرُونَ الْعَمَلَ عَنِ الْقَوْلِ. وَهَذَا غَلَطٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ هُمُ الْجَبْرِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى الْعَبْدِ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الْجَمَادِ اتَّسَمُوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ عَنِ الِاعْتِدَادِ بِهِمَا، وَيَرْتَكِبُونَ الْكَبَائِرَ فَهُمْ عَلَى الْإِفْرَاطِ، (وَالْقَدَرِيَّةُ) : عَلَى التَّفْرِيطِ، وَالْحَقُّ مَا بَيْنَهُمَا اهـ. وَالْقَدَرِيَّةُ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَتُسَكَّنُ، وَهُمُ الْمُنْكِرُونَ لِلْقَدَرِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَتِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ لَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، وَإِنَّمَا نُسِبَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إِلَى الْقَدَرِ لِأَنَّهُمْ يَبْحَثُونَ فِي الْقَدَرِ كَثِيرًا.

(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : عَدَّهُ فِي الْخُلَاصَةِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ لَكِنْ قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَكَتَبَ مَوْلَانَا زَادَهْ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي زَمَانِنَا أَنَّهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا أَنَّ رُوَاتَهُ مَجْهُولُونَ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ، وَقَالَ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ: لَا يَصِحُّ فِي ذَمِّ الْمُرْجِئَةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ حَدِيثٌ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ، وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: ( «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا تَنَالُهُمْ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ» .

106 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «يَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْفٌ، وَمَسْخٌ، وَذَلِكَ فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 106 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (يَكُونُ فِي أُمَّتِي) أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ (خَسْفٌ، وَمَسْخٌ) يُقَالُ: خَسَفَ اللَّهُ بِهِ؛ أَيْ: غَابَ بِهِ فِي الْأَرْضِ، وَالْمَسْخُ تَحْوِيلُ صُورَةٍ إِلَى مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْهَا، (وَذَلِكَ) أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَاقِعٌ، (فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ) : بِهَذَا الْحَدِيثِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْمَذْمُومَةَ إِنَّمَا هُمُ الْمُكَذِّبَةُ بِالْقَدَرِ لَا الْمُؤْمِنَةُ بِهِ كَمَا زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَنَسَبُوا أَهْلَ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ إِلَى الْقَدَرِيَّةِ لِمَا هُوَ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ بِالْجَبْرِيَّةِ، وَإِنَّمَا عَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِهِمَا لِإِضَافَتِهِمَا الْكَوَائِنَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ مَحَقُوا خَلْقَ اللَّهِ، وَمَسَخُوا صُوَرَ خَلْقِهِ، فَجَازَاهُمُ اللَّهُ. بِمَحْقٍ وَمَسْخٍ. قَالَ الْأَشْرَفُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ إِنْ يَكُنْ مَسْخٌ، وَخَسْفٌ يَكُونَا فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمَرْحُومَةَ مَأْمُونَةٌ مِنْهُمَا، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّرْطِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ أَيْ فِي الْحَدِيثِ؛ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَا سَبَقَ؛ أَيْ: مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ لِأَجْلِ مَا بَعْدَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَقَدْ سَبَقَ عَنِ التُّورِبِشْتِيِّ: أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ ذَهَبَ إِلَى وُقُوعِ الْخَسْفِ، وَالْمَسْخِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ قَالَ: قَدْ يَكُونَانِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأُمَمِ خِلَافُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِنَّمَا مَسْخُهَا بِقُلُوبِهَا؛ ذَكَرَهُ فِي أَعْلَامِ السُّنَنِ: قِيلَ الْمُرَادُ بِالْخَسْفِ الْإِذْهَابُ فِي الْأَرْضِ كَمَا فُعِلَ بِقَارُونَ وَأَمْوَالِهِ، وَبِالْمَسْخِ تَبْدِيلُ الْأَبْدَانِ إِلَى الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ دَاوُدَ وَعِيسَى، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَسْفِ تَسْوِيدُ الْوَجْهِ وَالْأَبْدَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ خُسُوفِ الْقَمَرِ، وَبِالْمَسْخِ تَسْوِيدُ قُلُوبِهِمْ وَإِذْهَابُ مَعْرِفِتِهُمْ، وَإِدْخَالُ الْقَسَاوَةِ وَالْجَهْلِ، وَالتَّكَبُّرِ فِيهَا، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَسْخُهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتَسْوِيدِ وُجُوهِهِمَا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] ؛ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] ؛ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَخَسْفُهُمَا انْهِيَارُهُمَا مِنَ الصِّرَاطِ فِي النَّارِ، أَوْ نُزُولُهُمَا فِي قَعْرِ دَارِ الْبَوَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَسْرَارِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ؛ أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ، (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) أَيْ: بِالْمَعْنَى.

107 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 107 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» ) ، أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ بِقَدَرِهِمْ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهَيْنِ: خَالِقُ الْخَيْرِ، وَهُوَ يَزْدَانُ، وَخَالِقُ الشَّرِّ، وَهُوَ أَهْرِمَنْ؛ أَيِ: الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ: الْمَجُوسُ يَقُولُونَ: الْخَيْرُ مِنْ فِعْلِ النُّورِ، وَالشَّرُّ مِنْ فِعْلِ الظُّلْمَةِ، كَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: الْخَيْرُ مِنَ اللَّهِ، وَالشَّرُّ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمِنَ النَّفْسِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لِإِحْدَاثِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مَذْهَبًا يُشْبِهُ مَذْهَبَ الْمَجُوسِ مِنْ وَجْهٍ؛ هُوَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ الْكَائِنَاتِ أَعْيَانًا وَأَحْدَاثًا إِلَى إِلَهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ، وَالثَّانِي: لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا مَا هُوَ شَرٌّ، وَقَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ يُشْبِهُ ذَلِكَ لَكِنَّ فِي الْأَحْدَاثِ لَا الْأَعْيَانِ؛ لِإِضَافَتِهِمُ الْخَيْرَ إِلَى اللَّهِ، وَالشَّرَّ إِلَى النَّفْسِ اهـ. وَلَعَلَّهُ مَذْهَبُ فِرْقَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ مَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي هِيَ الْخِصْبُ وَالصِّحَّةُ، وَالسَّيِّئَةُ الَّتِي هِيَ الْقَحْطُ وَالْمَرَضُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الطَّاعَةُ فَمِنَ الْعَبْدِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ لَطَفَ بِهِ فِي أَدَائِهَا وَبَعْثِهِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ أَيْضًا، وَاللَّهُ تَعَالَى بَرِيءٌ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَعَلَى هَذَا فَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِمْ مَجُوسًا أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا تَعَدُّدُ الْإِلَهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الطَّاعَةِ غَيْرُ الْبَاعِثِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَرَّرَ. ( «إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ» ) : النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَتَقْبِيحُ اعْتِقَادِهِمْ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِكُفْرِهِمْ. وَعَلَى الْحَقِيقَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ حَكَمَ بِكُفْرِهِمْ؛ إِذِ الْفَاسِقُ لَا مَنْعَ وَلَا كَرَاهَةَ فِي شُهُودِ جِنَازَتِهِ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ فَضْلًا عَنْ كُفْرِهِ يَمْنَعُ عَنْ عِيَادَتِهِ كَذَا ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِنَا، فَإِنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَشُهُودِ جِنَازَتِهِمْ، وَخَصَّ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمُ وَأَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ، فَإِنَّهَا حَالَتَانِ مُفْتَقِرَتَانِ إِلَى الدُّعَاءِ بِالصِّحَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُمَا أَبْلَغَ فِي الْمَقْصُودِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ

108 - وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 108 - (وَعَنْ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ» ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: لَا تُوَادِدُوهُمْ، وَلَا تُحَابُوهُمْ، فَإِنَّ الْمُجَالَسَةَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْمُمَاشَاةِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ وَأَمَارَاتِ الْمَوَدَّةِ، فَالْمَعْنَى لَا تُجَالِسُوهُمْ مُجَالَسَةَ تَأْنِيسٍ وَتَعْظِيمٍ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ إِمَّا أَنْ يَدْعُوَكَ إِلَى بِدْعَتِهِمْ بِمَا زَيَّنَهُ لَهُمْ شَيْطَانُهُمْ مِنَ الْحُجَجِ الْمُوهِمَةِ، وَالْأَدِلَّةِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي تَجْلِبُ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ إِلَيْهِمْ بِبَادِيَ الرَّأْيِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ عَلَيْكُمْ مِنْ نَقْصِهِمْ وَسُوءِ عَمَلِهِمْ مَا يُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ؛ إِذْ مُجَالَسَةُ الْأَغْيَارِ تَجُرُّ إِلَى غَايَةِ الْبَوَارِ وَنِهَايَةِ الْخَسَارِ. قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَلَا يُنَافِي إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ تَقْيِيدَ الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] وَكَذَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] فَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ؛ فَيُمْنَعُ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ مُطْلَقًا، وَالْآيَةُ عَلَى مَنْ أَمِنَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي مُجَالَسَتِهِ لَهُمْ بِغَيْرِ التَّأْنِيسِ، وَالتَّعْظِيمِ مَا لَمْ يَكُونُوا فِي كَفْرٍ، وَبِدْعَةٍ، وَكَذَا إِذَا خَاضُوا وَقَصَدَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ وَتَسْفِيهَ أَدِلَّتِهِمْ، وَمَعَ هَذَا؛ الْبُعْدُ عَنْهُمْ أَوْلَى، وَالِاجْتِنَابُ عَنْ مُبَاحَثَتِهِمْ أَحْرَى

(وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ) : مِنَ الْفُتَاحَةِ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا؛ أَيِ: الْحُكُومَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] أَيْ: لَا تُحَاكِمُوا إِلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ عِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ، وَقِيلَ: لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، أَوْ بِالْكَلَامِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: لَا تُنَاظِرُوهُمْ فَإِنَّهُمْ يُوقِعُونَكُمْ فِي الشَّكِّ، وَيُشَوِّشُونَ عَلَيْكُمُ اعْتِقَادَهُمْ أَيْ: وَإِنْ لَمْ تُجَالِسُوهُمْ، فَهُوَ عَطْفٌ مُغَايِرٌ، وَقِيلَ: عَطْفٌ خَاصٌّ؛ لِأَنَّ الْمُجَالَسَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ، وَالْمُحَادَثَةِ وَغَيْرِهَا، وَفَتْحُ الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ.

109 - وَعَنْ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سِتَّةٌ لَعَنْتُهُمْ، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَكُلُّ نَبِيٍّ يُجَابُ: الزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ لِيُعِزَّ مَنْ أَذَلَّهُ اللَّهُ، وَيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ، وَالْمُسْتَحِلُّ لِحَرَمِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي» ) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الْمَدْخَلِ) ، وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 109 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (سِتَّةٌ) أَيْ: أَشْخَاصٌ، أَوْ أَقْوَامٌ (لَعَنْتُهُمْ) أَيْ: دَعَوْتُ عَلَيْهِمْ بِالْبُعْدِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ) : بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَبِدُونِهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى جُمْلَةٍ قَبْلَهُ؛ إِمَّا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَمَا قَبْلَهُ خَبَرٌ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عِبَارَةً عَمَّا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ هِيَ لَعْنَةُ رَسُولِهِ وَبِالْعَكْسِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ اسْتِئْنَافًا؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا بَعْدُ؟ فَأُجِيبَ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَالثَّانِيَةُ مُنْبِئَةٌ عَنِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: لِمَاذَا؟ فَبِالْعَكْسِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (وَكُلُّ نَبِيٍّ يُجَابُ) : مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ؛ يَعْنِي مِنْ شَأْنِ كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ يُجَابُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْمُضَارِعِ؛ أَيْ: يُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَيُرْوَى بِالْمِيمِ أَيْ: مُجَابُ الدَّعْوَةِ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ إِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ، وَأَمَّا عَطْفٌ عَلَى: سِتَّةٌ لَعَنْتُهُمْ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَعَنْتُهُمْ، وَجُمْلَةُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إِنْشَائِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحَبِهَا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا يَصِحُّ عَطْفُ: وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٌ عَلَى فَاعِلِ لَعَنْتُهُمْ، وَمُجَابٍ صِفَةٌ، وَصَحَّحَهُ الْأَشْرَفُ لِوُجُودِ الْفَاصِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُفْرَدِ؛ يَعْنِي لَا الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ، وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ (مُجَابٍ) صِفَةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ عَطْفَ الْجُمْلَةِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ (مُجَابٍ) صِفَةً لَا خَبَرًا إِذْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَمِنْهُ فَرَّ التُّورِبِشْتِيُّ، وَأَبْطَلَ رِوَايَةَ الْجَرِّ فِي: مُجَابٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً كَاشِفَةً (الزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ) أَيِ: الْقُرْآنِ، وَسَائِرِ كُتُبِهِ؛ بِأَنْ يُدْخِلَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَوْ يُؤَوِّلَهُ بِمَا يَأْبَاهُ اللَّفْظُ، وَيُخَالِفَ الْحُكْمَ كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ، وَالزِّيَادَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي نَظْمِهِ وَحُكْمِهِ كُفْرٌ، وَتَأْوِيلُهُ بِمَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِدْعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيِ: الزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَفْظَةٌ لَمْ تَتَوَاتَرْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَاعِمًا قُرْآنِيَّتَهَا لِحَوْمَةِ الْقِرَاءَةِ بِالشَّوَاذِّ، وَإِنْ صَحَّتْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْخَبَرِ لَا الْقُرْآنِ فَلَا تُذْكَرُ إِلَّا لِبَيَانِ تَفْسِيرٍ، أَوْ زِيَادَةِ حُكْمٍ، فَمَنْ أَتَى بِهَا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ كَمَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَشْمَلُهُ اللَّعْنُ لِفِسْقِهِ، بَلْ كُفْرِهِ إِنِ اسْتَبَاحَ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ فِي الْقُرْآنِ، (وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ) : تَقَدَّمَ حُكْمُهُ (وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ) ؛ أَيِ: الْإِنْسَانُ الْمُسْتَوْلِي الْمُتَقَوِّي الْغَالِبُ، أَوِ الْحَاكِمُ بِالتَّكَبُّرِ وَالْعَظَمَةِ الناشِيءُ عَنِ الشَّوْكَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَالْجَبَرُوتُ فَعَلُوتٌ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْجَبْرِ وَهُوَ الْقَهْرُ، قِيلَ: وَإِنَّمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ فِي صِفَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَنْ يُجْبِرُ نَقِيصَتَهُ بِادِّعَاءِ مَنْزِلَةً مِنَ التَّعَالِي، وَلَا يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ بِتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَمَنْعِهَا مَنْ يَسْتَحِقُّهَا ( «لِيُعِزَّ مَنْ أَذَلَّهُ اللَّهُ، وَيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ» ) ؛ قِيلَ: اللَّامُ فِي لِيُعِزَّ لِلْعَاقِبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] ، وَفِي الْحَدِيثِ: ( «لِدُوا لِلْمَوْتِ، وَابْنُوا

لِلْخَرَابِ» ) . لَا لِلتَّعْلِيلِ إِذْ يَلْزَمُ جَوَازُ التَّسَلُّطِ بِغَيْرِ ذَلِكَ ظَاهِرًا؛ أَيْ: مَنْ أَذَلَّهُ اللَّهُ لِفِسْقِهِ أَوْ لِكُفْرِهِ يَرْفَعُ مَرْتَبَتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُحَكِّمُهُ فِيهِمْ، كَمَا فَعَلَ كَثِيرٌ مِنْ حُكَّامِ الْجُورِ بِرَفْعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْفَسَقَةِ عَلَى الْعُدُولِ الْمُبَرَّزِينَ، وَيُذِلُّ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ بِأَنْ يُخَفِّضَ مَرَاتِبَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ أَوْ نَحْوِهُمْ (وَالْمُسْتَحِلُّ لِحَرَمِ اللَّهِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالرَّاءِ يُرِيدُ حَرَمَ مَكَّةَ؛ بِأَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَا لَا يَحِلُّ فِيهِ مِنَ الِاصْطِيَادِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ، وَدُخُولِهِ بِلَا إِحْرَامٍ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَضَمُّ الْحَاءِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ حُرْمَةٍ تَصْحِيفٌ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ شَاهْ عَنِ التَّخْرِيجِ أَنَّهُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بِفَتْحِهِمَا، وَمَا قَدَّمْنَا أَعَمُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ كَمَا قَالَ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ اهـ. وَالنُّسْخَتَانِ صَحِيحَتَانِ، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى قَوْلَهُ: وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللَّهُ) أَيْ: مِنْ إِيذَائِهِمْ، وَتَرْكِ تَعْظِيمِهِمْ، وَالْعِتْرَةُ: الْأَقَارِبُ الْقَرِيبَةُ، وَهُمْ أَوْلَادُ فَاطِمَةَ وَذَرَارِيُّهُمْ، وَتَخْصِيصُ ذِكْرِ الْحَرَمِ وَالْعِتْرَةِ وَكُلِّ مُسْتَحِلِّ مُحَرَّمٍ مَلْعُونٌ لِشَرَفِهِمَا، وَإِنَّ أَحَدَهُمَا مَنْسُوبٌ إِلَى اللَّهِ، وَالْآخَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا مِنْ: فِي (مِنْ عِتْرَتِي ابْتِدَائِيَّةٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً؛ بِأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِيهِ تَعْظِيمُ الْجُرْمِ الصَّادِرِ عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَهَذَا كَافِرٌ إِذْ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ مَنِ اسْتَبَاحَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَفَرَ، بَلْ قَالَ كَثِيرُونَ: لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ ضَرُورَةً (وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي) أَيِ: الْمُعْرِضُ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ بَعْضِهَا اسْتِخْفَافًا وَقِلَّةَ مُبَالَاةٍ كَافِرٌ وَمَلْعُونٌ، وَتَارِكُهَا تَهَاوُنًا، وَتَكَاسُلًا لَا عَنِ اسْتِخْفَافٍ عَاصٍ، وَاللَّعْنَةُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ؛ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَالْخَاءِ (وَرَزِينٌ) أَوْ: وَرَوَاهُ رَزِينٌ (فِي كِتَابِهِ) . أَيِ: الَّذِي جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الصِّحَاحِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُوَفِّ بِذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ حَتَّى الْمَوْضُوعَ كَخَبَرِ الصَّلَاةِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَالرَّغَائِبِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي " الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَلِيٍّ.

110 - وَعَنْ مَطَرِ بْنِ عُكَامِسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا قَضَى اللَّهُ لِعَبْدٍ أَنْ يَمُوتَ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 110 - (وَعَنْ مَطَرِ بْنِ عُكَامِسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ السُّلَمِيِّ، عِدَادُهُ فِي الْكُوفِيِّينَ، لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا قَضَى اللَّهُ) أَيْ: أَرَادَ، أَوْ قَدَّرَ، أَوْ حَكَمَ (لِعَبْدٍ أَنْ يَمُوتَ بِأَرْضٍ) : وَهُوَ فِي غَيْرِهَا (جَعَلَ) أَيْ: أَظْهَرَ اللَّهُ (لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً) أَيْ: فَيَأْتِيهَا، وَيَمُوتُ فِيهَا إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ لِمَطَرٍ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ. وَفِي " الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ": ( «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قَبْضَ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ بِهَا حَاجَةً» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي عَزَّةَ بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ، وَتَشْدِيدِ الزَّايِ.

111 - «وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ذَرَارِيُّ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: (مِنْ آبَائِهِمْ) . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِلَا عَمَلٍ؟ قَالَ: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . قُلْتُ: فَذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: (مِنْ آبَائِهِمْ) قُلْتُ بِلَا عَمَلٍ؟ قَالَ: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) .» رَوَاهُ دَاوُدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 111 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ( «قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَرَارِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» ؟) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: مَا حُكْمُ ذَرَارِيِّهِمْ أَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَمِ النَّارِ؟ (قَالَ: مِنْ آبَائِهِمْ؟) مِنْ اتِّصَالِيَّةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَا أَنَا مِنْ دَدٍ، وَلَا الدَّدُ مِنِّي» " أَيِ: اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَّصِلُونَ بِآبَائِهِمْ، وَقِيلَ: مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى هُمْ بَعْضُ آبَائِهِمْ فَلَهُمْ حُكْمُهُمْ أَيْ: يَعْلَمُ حُكْمَهُمْ مِنْ حُكْمِ آبَائِهِمْ؛ يَعْنِي إِنْ كَانَ آبَاؤُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَهُمْ كَذَلِكَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: مَعْدُودُونَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ يَحْكُمُ بِالْإِسْلَامِ لِإِسْلَامِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، وَيَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَبِمُرَاعَاةِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ يَحْكُمُ عَلَى ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَبِمُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِمْ فِيهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَبِانْتِفَاءِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ مُلْحَقُونَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِآبَائِهِمْ. (فَقُلْتُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ بِلَا عَمَلٍ؟) هَذَا وَارِدٌ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ، إِذْ لَا مُوجِبَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْمَعْنَى أَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا عَمَلٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] (قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) أَيْ: لَوْ بَلَغُوا رَدًّا لِتَعَجُّبِهَا، وَإِشَارَةً إِلَى الْقَدَرِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي بَابِ الْقَدَرِ (قُلْتُ: فَذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ؟) أَيْ: فَمَا حُكْمُهُمْ؟ (قَالَ مِنْ آبَائِهِمْ) أَيْ: يَعْلَمُ مِنْ حُكْمِ آبَائِهِمْ، أَوْ مَعْنَاهُ أَتْبَاعٌ لِآبَائِهِمْ (قُلْتُ: بِلَا عَمَلٍ؟ قَالَ: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَمَوْكُولٌ أَمْرُهُمْ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ لَيْسَا بِالْأَعْمَالِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَرَارِيُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، بَلِ الْمُوجِبُ اللُّطْفُ الْإِلَهِيُّ، وَالْخِذْلَانُ الْمُقَدَّرُ لَهُمْ فِي الْأَزَلِ، فَالْوَاجِبُ فِيهِمُ التَّوَقُّفُ، وَعَدَمُ الْجَزْمِ؛ فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ مَوْكُولَةٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ فِيمَا يَعُودُ إِلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالْأَعْمَالُ دَلَائِلُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ الدَّلِيلِ انْتِفَاءُ الْمَدْلُولِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُمْ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ فِي النَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا: حَدِيثُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَوْلَهُ أَوْلَادُ النَّاسِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: (وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَلَا تَكْلِيفَ عَلَى الْمَوْلُودِ حَتَّى يَلْزَمَ الْحُجَّةَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْحَقُّ مَذْهَبُ التَّوَقُّفِ لِمَا وَرَدَ فِي أَوْلَادِ خَدِيجَةَ كَمَا سَيَأْتِي، وَحَدِيثِ «الْوَائِدَةِ وَالْمَوْءُودَةِ فِي النَّارِ» ، مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَالْوَجْهُ أَنْ يُبْنَى الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَوْلُهَا: عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ فِي شَأْنِ وَلَدٍ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْكَرَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْجَزْمَ بِذَلِكَ جَزْمٌ بِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا فِي الْجَنَّةِ، فَعَلَى هَذَا أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا حِينَئِذٍ، ثُمَّ فِي الْمَآلِ آمَنُوا، وَأَمَّا أَوْلَادُ خَدِيجَةَ وَالْمَوْءُودَةِ فَهُمُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} [الإسراء: 15] فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَذَابِ الِاسْتِئْصَالُ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ حَتَّى تَقْتَضِي ظَاهِرًا أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَتْبَعَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَمَا أَنَّ الْبَالِغِينَ

مِنْهُمْ شَقِيٌّ، وَسَعِيدٌ، فَالْأَطْفَالُ مِنْهُمْ مَنْ سَبَقَ الْقَضَاءَ بِأَنَّهُ سَعِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَهُوَ لَوْ عَاشَ عَمِلَ عَمَلَ أَهْلِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ سَبَقَ التَّسَلُّمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَهُوَ لَوْ عَاشَ عَمِلَ عَمَلَ أَهْلِهَا اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ قَضِيَّةُ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ أَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا، فَهُوَ مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ وَبَلَغَ أَشْرَكَ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ بِرَمْيِ أَنْفُسِهِمْ فِي النَّارِ فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ أَبَى دَخَلَ النَّارَ، وَكَذَا الْمَجَانِينُ وَأَهْلُ الْفَتْرَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَقُّ أَيْضًا فِيمَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي النَّارِ لِتِلْكَ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَخَبَرِ مُسْلِمٍ: ( «أَبِي وَأَبُوكَ فِي النَّارِ» ) مُؤَوَّلَةٌ، وَعَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ. اهـ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

112 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْوَائِدَةُ، وَالْمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 112 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَائِدَةُ، وَالْمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ» : وَأَدَ بِنْتَهُ يَئِدُهَا وَأْدًا فَهِيَ مَوْءُودَةٌ إِذَا دَفَنَهَا فِي الْقَبْرِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَهَذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ، أَوْ فِرَارًا مِنَ الْعَارِ، وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يُخَلُّونَهَا، وَيُرَبُّونَهَا عَلَى طَرِيقِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ. قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ - يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58 - 59] اهـ؛ أَيْ: حُكْمُهُمْ بِإِثْبَاتِ الْبَنَاتِ لِلَّهِ بِقَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الْبَنَاتِ. قَالَ الْقَاضِي: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ حَيَّةً، فَالْوَائِدَةُ فِي النَّارِ لِكُفْرِهَا وَفِعْلِهَا، وَالْمَوْءُودَةُ فِيهَا لِكُفْرِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْذِيبِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تُؤَوَّلُ الْوَائِدَةُ بِالْقَابِلَةِ لِرِضَاهَا بِهِ، وَالْمَوْءُودَةُ بِالْمَوْءُودَةِ لَهَا، وَهِيَ أُمُّ الطِّفْلِ، فَحُذِفَتِ الصِّلَةُ إِذْ كَانَ مِنْ دَيْدَنِهِمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَخَذَهَا الطَّلْقُ حَفَرُوا لَهَا حُفْرَةً عَمِيقَةً فَجَلَسَتِ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا، وَالْقَابِلَةُ وَرَاءَهَا تَرْقُبُ الْوَلَدَ، فَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا أَمْسَكَتْهُ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى أَلْقَتْهَا فِي الْحُفْرَةِ، وَأَهَالَتِ التُّرَابَ عَلَيْهَا، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَإِيرَادُ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْبَابِ يَأْبَى عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ تَأَمَّلْ. وَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي قَبْلَهُ إِنَّمَا أُورِدَا فِي هَذَا الْبَابِ اسْتِدْلَالًا عَلَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَتَعْذِيبِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ، وَمَنْ أَرَادَ تَأْوِيلَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنَّ يُخْرِجَهُمَا مِنْ هَذَا الْبَابِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنْ أُرِيدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا يَعُمُّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مَا نُقِلَ عَنِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ، أَوْ مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ كَانَ مَحْمُولًا فِي الْمَوْءُودَةِ عَلَى الْبَالِغَةِ اهـ. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ دَفَنَ وَلَدَهُ حَيًّا بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي قِصَّةٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ ابْنَيْ مُلَيْكَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَاهُ عَنْ أُمٍّ لَهُمَا كَانَتْ تَئِدُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْحَدِيثَ. أَمَّا الْوَائِدَةُ: فَلِأَنَّهَا كَانَتْ كَافِرَةً، وَأَمَّا الْمَوْءُودَةُ فَلِأَنَّهَا وَلَدُ الْكَافِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ بَالِغَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَكُونُ غَيْرَ بَالِغَةٍ، وَلَكِنْ عَلِمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْمُعْجِزَةِ كَوْنَهَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ: وَرَدَ فِي حَقِّ امْرَأَةٍ أَسْقَطَتْ حَمْلَهَا مِنَ الزِّنَا وَمَاتَا، فَلَا يَتَعَيَّنُ الْقَطْعُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَعْذِيبِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، نَعَمْ رَوَى الدَّارِمِيُّ فِي " جَامِعِ الصَّحِيحِ " «أَنْ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ فَكُنَّا نَقْتُلُ الْأَوْلَادَ، وَكَانَتْ عِنْدِي

ابْنَةٌ لِي، فَلَمَّا أَجَابَتْ، وَكَانَتْ مَسْرُورَةً بِدُعَائِي إِذَا دَعَوْتُهَا يَوْمًا فَاتَّبَعَتْنِي فَمَرَرْتُ حَتَّى أَتَيْنَا بِئْرًا مِنْ أَهْلِي غَيْرَ بَعِيدٍ، فَأَخَذَتُ بِيَدِهَا فَرَدَّيْتُ بِهَا فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِي بِهَا أَنْ تَقُولَ: يَا أَبَتَاهُ يَا أَبَتَاهُ، فَبَكَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى وَكَفَ دَمْعُ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحْزَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ لَهُ: " كُفَّ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا أَهَمَّهُ ". ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَعِدْ عَلَيَّ حَدِيثَكَ فَأَعَادَ فَبَكَى حَتَّى وَكَفَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَظَاهِرُ قَوْلِهِ مَا عَمِلُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَهْلُ الْفَتْرَةِ، قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَضَعَ عَنْهُمْ مَا عَمِلُوا إِذَا أَسْلَمُوا، وَلِذَا قَالَ تَسْلِيَةً لَهُ: فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ، فَهُوَ كَحَدِيثِ: " «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» ". وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95] : رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُ أَبِي مُعَاذٍ، وَهُوَ نَاسِي الْحَدِيثِ؛ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ شَاهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 113 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَغَ إِلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ أَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَمَضْجَعِهِ، وَأَثَرِهِ، وَرِزْقِهِ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 113 - (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، هُوَ عُوَيْمِرُ بْنُ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، اشْتَهَرَ بِكُنْيَتِهِ، وَالدَّرْدَاءُ ابْنَتُهُ، تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ قَلِيلًا فَكَانَ آخِرَ أَهْلِ دَارِهِ إِسْلَامًا، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ فَقِيهًا عَالِمًا حَكِيمًا، سَكَنَ الشَّامَ، وَمَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَغَ إِلَى كُلِّ عَبْدٍ» ) : فَرَغَ: يُسْتَعْمَلُ بِاللَّامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31] وَاسْتِعْمَالُهُ بِإِلَى هُنَا لِتَضْمِينِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ، أَوْ يَكُونُ حَالًا بِتَقْدِيرِ مُنْتَهِيًا، وَالْمَعْنَى انْتَهَى تَقْدِيرُهُ فِي الْأَزَلِ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ إِلَى تَدْبِيرِ هَذَا الْعَبْدِ بِإِبْدَائِهَا كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: شُئُونٌ يُبْدِيهَا لَا يَبْتَدِئُ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى بِمَعْنَى اللَّامِ، يُقَالُ: هَدَاهُ إِلَى كَذَا، وَلِكَذَا، وَقَوْلُهُ (مِنْ خَلْقِهِ) : صِلَةُ فَرَغَ؛ أَيْ: مِنْ خِلْقَتِهِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنَ الْأَجَلِ وَالْعَمَلِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَوْلُهُ (مِنْ خَمْسٍ) : عَطَفٌ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ سُقُوطَ الْوَاوِ مِنَ الْكَاتِبِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّ الْخَلْقَ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقُ، وَمِنْ: فِيهِ بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَمِنْ فِي خَمْسٍ مُتَعَلِّقٌ بِفَرَغَ؛ أَيْ: فَرَغَ إِلَى كُلِّ عَبْدٍ كَائِنٍ مِنْ مَخْلُوقِهِ مِنْ خَمْسٍ (مِنْ أَجَلِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ، مِنْ: بَيَانِيَّةٌ لِلْخَمْسِ، أَوْ بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ مُدَّةُ عُمُرِهِ، (وَعَمَلِهِ) : خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ، (وَمَضْجَعِهِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ؛ أَيْ: سُكُونِهِ، وَقَرَارِهِ، (وَأَثَرِهِ) : بِحَرَكَتَيْنِ؛ أَيْ: حَرَكَتِهِ، وَاضْطِرَارِهِ، (وَرِزْقِهِ) : حَلَالِهِ، وَحَرَامِهِ، وَكَثِيرِهِ، وَقَلِيلِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِأَثَرِهِ: مَشْيُهُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَجَمَعَ بَيْنَ مَضْجَعِهِ، وَأَثَرِهِ، وَأَرَادَ سُكُونَهُ وَحَرَكَتَهُ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِ مِنَ الْحَرَكَاتِ، وَالسَّكَنَاتِ، وَقَالَ نَجْلُهُ السَّعِيدُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ مَضْجَعِهِ مَحَلُّ قَبْرِهِ، وَأَنَّهُ بِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ، وَمِنْ أَثَرِهِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

114 - وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقَدَرِ سُئِلَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ» ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 114 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ» ) أَيْ: وَإِنْ قَلَّ، (مِنَ الْقَدَرِ) : أَعَمُّ مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ فِي الْقَدَرِ لِإِفَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقَدَرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ اهـ. وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ التَّكَلُّمِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَسْأَلَةِ الْقَدَرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِإِثْبَاتِهِ؛ لِأَنَّ انْتِهَاءَهَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] (يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ؛ أَيْ: كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ، وَالْأَفْعَالِ، وَجُوزِيَ كُلُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَعَلَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى تَخْصِيصِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ( «وَمَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ» ) : لِأَنَّ الْخَلْقَ مُكَلَّفُونَ بِالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ، غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِتَحْقِيقِهِ بِمُوجِبِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَالشَّخْصُ إِذَا آمَنَ بِالْقَدَرِ، وَلَمْ يَبْحَثْ عَنْهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالُ الِاعْتِرَاضِ بِعَدَمِ التَّفَحُّصِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ: بِهَذَا أُمِرْتُمْ؛ أَيْ: بِالتَّنَازُعِ فِي الْبَحْثِ بِالْقَدَرِ، وَقَالَ أَيْضًا: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

115 - «وَعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ، فَحَدِّثْنِي لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي. فَقَالَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وأَهْلَ أَرْضِهِ؟ عَذَّبَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ. قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 115 - (وَعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: أَبُو الضَّحَّاكِ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ الْحِمْيَرِيُّ؛ لِنُزُولِهِ فِي حِمْيَرَ، وَهُوَ مِنْ أَبْنَاءِ الْفُرْسِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ كِسْرَى إِلَى الْيَمَنِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ: وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ: فَيْرُوزُ بْنُ الدَّيْلَمِيِّ، وَهُوَ وَاحِدٌ. وَفِدَ فَيْرُوزُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ قَاتِلُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ الْكَذَّابِ الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ، قَتَلَهُ فِي آخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَصَلَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِيَّاهُ إِلَيْهِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قَتَلَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيْرُوزُ، فَازَ فَيْرُوزُ، فَازَ فَيْرُوزُ» ، وَيُقَالُ: إِنَّ فَيْرُوزَ ابْنَ أُخْتِ النَّجَاشِيِّ، رَوَى عَنِ ابْنِ الضَّحَّاكِ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرِهِمَا، تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَقِيلَ: فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ كَذَا فِي " تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ ". قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ فِي هَذَا الْمَحَلِّ هُوَ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ، بَلِ الْمُرَادُ ابْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَقْبُولٌ مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ، وَأَبُوهُ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَهُ أَحَادِيثُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ فَيْرُوزَ أَخَا الضَّحَّاكِ، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ عِنْدِي أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمِشْكَاةِ ابْنَ الدَّيْلَمِيِّ هُوَ: الضَّحَّاكُ بْنُ فَيْرُوزَ؛ تَابِعِيٌّ حَدِيثُهُ فِي الْمِصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ بِفَتْحِ الدَّالِ مَنْسُوبٌ إِلَى الدَّيْلَمَ، هُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ النَّاسِ، وَفَيْرُوزُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَضَمِّ الرَّاءِ، وَبِالزَّايِ: (قَالَ: أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ) : أَقْرَأَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْأَكْبَرُ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيَ، وَهُوَ أَحَدُ السِّتَّةِ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَنَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا الْمُنْذِرِ، وَعُمَرُ أَبَا الطُّفَيْلِ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدَ الْأَنْصَارِ، وَعُمَرُ سَيِّدَ الْمُسْلِمِينَ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعَةَ عَشَرَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (فَقُلْتُ لَهُ) : بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (وَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ) أَيْ: حَزَازَةٌ، وَاضْطِرَابٌ عَظِيمٌ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْلِ لَا بِمُوجِبِ النَّقْلِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ؛ أَيْ: مِنْ بَعْضِ شُبَهِ الْقَدَرِ الَّتِي رُبَّمَا تُؤَدِّي إِلَى الشَّكِّ فِيهِ كَاعْتِقَادِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ كَمَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى الْفِعْلِ كَمَا قَالَتْهُ الْجَبْرِيَّةُ فَكَيْفَ يُعَذَّبُ، وَأَنَا أُرِيدُ الْخَلَاصَ مِنْهُ أَيْ: مِنْ

هَذَا الْمَبْحَثِ. (فَحَدِّثْنِي) أَيْ: بِحَدِيثٍ (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي.) أَيْ: رَجَاءَ أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ مِنِّي، وَقَالَ أَوَّلًا فِي نَفْسِي، وَثَانِيًا مِنْ قَلْبِي إِشْعَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِهِ مِنْ ذَاتِهِ، وَقَلْبِهِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْحَزَازَةَ تَنْشَأُ مِنَ الْخَطَرَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَالثَّبَاتُ وَالِاطْمِئْنَانُ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: أَنْ يُذْهِبَهُ: خَبَرُ لَعَلَّ أَعْطَاهُ حُكْمَ عَسَى فِي دُخُولِ أَنَّ فِي خَبَرِهِ، (فَقَالَ) أَيْ: أُبَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَحَرِّيًا غَايَةَ الْبَيَانِ الشَّافِي، وَغَايَةَ الْإِرْشَادِ الْوَافِي (لَوْ) أَيْ: فُرِضَ (أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ) مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ (وَأَهْلَ أَرْضِهِ) : مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ (عَذَّبَهُمْ) : وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَدَفَعَهُ أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ غَيْرُ لَازِمَةِ الْوُقُوعِ (وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ) : الْوَاوُ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَمُلْكِهِ فَعَذَابُهُ عَدْلٌ، وَثَوَابُهُ فَضْلٌ. قِيلَ فِيهِ إِرْشَادٌ عَظِيمٌ، وَبَيَانٌ شَافٍ لِإِزَالَةِ مَا طُلِبَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَهْدِمُ مِنْهُ قَاعِدَةَ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّينَ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْجَمِيعِ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ كَيْفَ شَاءَ، وَلَا ظُلْمَ أَصْلًا (وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ) أَيِ: الصَّالِحَةِ؛ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَإِيجَابِهَا إِيَّاهَا إِذْ هِيَ لَا تُوجِبُهَا عَلَيْهِ، كَيْفَ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ رَحْمَتِهِ بِهِمْ، فَرَحْمَتُهُ إِيَّاهُمْ مَحْضُ فَضْلٍ مِنْهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، فَلَوْ رَحِمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ حِكْمَةِ غَايَتِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُطِيعِينَ لَهُمُ الثَّوَابُ، وَأَنَّ الْعَاصِينَ لَهُمُ الْعِقَابُ كَمَا هُوَ مُثْبَتٌ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَالْأَمْرُ الْمُقَدَّرُ لَا يَتَبَدَّلُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ (وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ) : بِضَمَّتَيْنِ جَبَلٌ عَظِيمٌ قَرِيبُ الْمَدِينَةِ الْمُعَظَّمَةِ (ذَهَبًا) تَمْيِيزٌ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: مَرْضَاتِهِ، وَطَرِيقِ خَيْرَاتِهِ (مَا قَبِلَهَا اللَّهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَبَلِ (مِنْكَ) : وَهُوَ تَمْثِيلٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لَا تَحْدِيدٍ؛ إِذْ لَوْ فُرِضَ إِنْفَاقُ مِلْءِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ كَذَلِكَ (حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ) أَيْ: بِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ خَيْرِهَا، وَشَرِّهَا، وَحُلْوِهَا، وَمُرِّهَا، وَنَفْعِهَا، وَضَرِّهَا، وَقَلِيلِهَا، وَكَثِيرِهَا، وَكَبِيرِهَا، وَصَغِيرِهَا، بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا لَهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ الْكَسْبِ، وَمُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ هَنَا كَمَالُ الْإِيمَانِ، وَسَلْبُ الْقَبُولِ مَعَ فَقْدِهِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَةَ لَا تُقْبَلُ لَهُمْ أَعْمَالٌ أَيْ: لَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا مَا دَامُوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ: أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَتُوبَ مِنْ بِدْعَتِهِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَهْلَ الْبِدْعَةِ لَيْسُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. (وَتَعْلَمَ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (أَنَّ مَا أَصَابَكَ) : مِنَ النِّعْمَةِ، وَالْبَلِيَّةِ، أَوِ الطَّاعَةِ، وَالْمَعْصِيَةِ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ (لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ) أَيْ: يُجَاوِزَكَ (وأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ) : مِنَ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ (لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ) : وَهَذَا وُضِعَ مَوْضِعِ الْمُحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُحَالٌ أَنْ يُخْطِئَكَ، وَفِيهِ ثَلَاثُ مُبَالَغَاتٍ: دُخُولُ أَنَّ، وَلُحُوقُ اللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ، وَتَسْلِيطُ النَّفْيِ عَلَى الْكَيْنُونَةِ، وَسِرَايَتُهُ فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّوَكُّلِ وَالرِّضَا، وَنَفْيِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَمُلَازَمَةِ الْقَنَاعَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ (وَلَوْ مُتَّ) : بِضَمِّ الْمِيمِ مَنْ مَاتَ يَمُوتُ، وَبِكَسْرِهَا مَنْ مَاتَ يُمِيتُ، (عَلَى غَيْرِ هَذَا) أَيْ: عَلَى اعْتِقَادِ غَيْرِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ (لَدَخَلْتَ النَّارَ) : يَحْتَمِلُ الْوَعِيدَ، وَيَحْتَمِلُ التَّهْدِيدَ، (قَالَ) أَيِ: ابْنُ الدَّيْلَمِيِّ (ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ) : صَاحِبَ السِّجَّادَةِ، وَالْمِخَدَّةِ، وَالنَّعْلَيْنِ، وَالْمِطْهَرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: مِثْلَ جَوَابِ أُبَيٍّ فِي سُؤَالِي (قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ) : مَرَّ ذِكْرُهُ، وَهُوَ صَاحِبُ سِرِّ النَّبِيِّ صَلِيَ اللَّه

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُوهُ اسْمُهُ حُسَيْلٌ بِالتَّصْغِيرِ، وَالْيَمَانُ لَقَبٌ لَهُ، وَقُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ) : فَالْحَدِيثُ مِنْ طُرُقِهِمْ صَارَ موْقُوفًا (ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) : أَفْضَلَ كَتَبَةِ الْوَحْيِ، وَأَفْرَضَ الصَّحَابَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، كَاتِبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ لَهُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ أَحَدَ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّةِ الْقَائِمَ بِالْفَرَائِضِ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَكَتَبَهُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَنَقَلَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَلَهُ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً. (فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ.) فَصَارَ الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِهِ مَرْفُوعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي سُؤَالِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَاتِّفَاقِهِمْ فِي الْجَوَابِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، ثُمَّ انْتِهَاءِ الْجَوَابِ إِلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلٌ عَلَى الْإِجْمَاعِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى النَّصِّ الْجَلِيِّ، فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَقَدْ كَابَرَ الْحَقَّ الصَّرِيحَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

116 - وَعَنْ نَافِعٍ، «أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، فَقَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ فَلَا تُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (يَكُونُ فِي أُمَّتِي -، أَوْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ - خَسْفٌ، أَوْ مَسْخٌ، أَوْ قَذْفٌ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 116 - (وَعَنْ نَافِعٍ) أَيِ: ابْنُ سَرْجِسَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَ دَيْلَمِيًّا، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ وَأَبَا سَعِيدٍ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمِ: الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَهُوَ مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالْحَدِيثِ، وَمِنَ الثِّقَاتِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ عَنْهُمْ، وَيُجْمَعُ حَدِيثُهُمْ، وَيُعْمَلُ بِهِ، مُعْظَمُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ دَائِرٌ عَلَيْهِ. قَالَ مَالِكُ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ حَدِيثَ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وسَرْجِسُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْجِيمِ. (أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ، (إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ) : وَفِي نُسْخَةٍ يُقْرِئُ (عَلَيْكَ السَّلَامَ) : فِي " الْقَامُوسِ " قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامَ أَبْلَغَهُ كَأَقْرَأَهُ، أَوْ لَا يُقَالُ أَقْرَأَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّلَامُ مَكْتُوبًا (فَقَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ، وَتَفْسِيرُهُ الْخَبَرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ (بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ) أَيِ: ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ (فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ (فَلَا تُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ) : كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ سَلَامِهِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ لَا تُبَلِّغَهُ مِنِّي السَّلَامَ، أَوْ رَدَّهُ فَإِنَّهُ بِبِدْعَتِهِ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابَ السَّلَامِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا تُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِمُهَاجَرَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَجِبُ رَدُّ سَلَامِ الْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ، بَلْ لَا يُسَنُّ زَجْرًا لَهُمَا، وَمِنْ ثَمَّ جَازَ هَجْرُهُمْ لِذَلِكَ (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (يَكُونُ فِي أُمَّتِي -، أَوْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ -) يُحْتَمَلُ الدَّعْوَةُ وَالْإِجَابَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَوْ لِلشَّكِّ، (خَسْفٌ) : فِي الْأَرْضِ (وَمَسْخٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ مَسْخٌ أَيْ: تَغْيِيرٌ فِي الصُّورَةِ (أَوْ قَذْفٌ) أَيْ: رَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ كَقَوْمِ لُوطٍ. قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ التَّنْوِيعُ أَيْضًا اهـ. وَهَذَا صَحِيحٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ عُطِفَ: (مَسْخٌ) ، عَلَى: (خَسْفٌ) بِالْوَاوِ، تَأَمَّلْ، (فِي أَهْلِ الْقَدَرِ) : بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ قَوْلِهِ فِي أُمَّتِي بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) : اعْلَمْ أَنَّ الْغَرَابَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ، أَوِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُسْنِ، وَالصِّحَّةِ إِشْكَالٌ؛ إِذِ الْحُسْنُ

قَاصِرٌ عَلَى الصَّحِيحِ، فَقِيلَ: يُرِيدُ التِّرْمِذِيُّ بِهِ أَنَّهُ رُوِيَ بِإِسْنَادَيْنِ. أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي الصِّحَّةَ. وَالْآخَرُ الْحُسْنَ، أَوْ مُرَادٌ بِالْحُسْنِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَتَسْتَحْسِنُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِي الصَّحِيحَ فَانْدَفَعَ التَّنَاقُضُ، وَقَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ أَنَّهُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْحَسَنَ إِذَا رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ تَرَقَّى مِنَ الْحَسَنِ إِلَى الصَّحِيحِ لِقُوَّتِهِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَيَعْتَضِدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.

117 - وَعَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَأَلَتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَلَدَيْنِ مَاتَا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُمَا فِي النَّارِ) . فَلَمَّا رَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهَا قَالَ: (لَوْ رَأَيْتِ مَكَانَهُمَا لَأَبْغَضْتِهِمَا) . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَلَدِي مِنْكَ؟ قَالَ: (فِي الْجَنَّةِ) . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) » رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 117 - (وَعَنْ عَلِيٍّ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: سَأَلَتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَلَدَيْنِ مَاتَا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: عَنْ شَأْنِهِمَا، وَأَنَّهُمَا فِي الْجَنَّةِ، أَوِ النَّارِ؟ وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيَّةُ، كَانَتْ تَحْتَ بَنِي هَالَةَ بْنَ زُرَارَةَ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَتِيقُ بْن عَائِد، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَهَا يَوْمئِذٌ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَلَمْ يَنْكِحِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَهَا امْرَأَةً، وَلَا نَكَحَ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنْ كَافَّةِ النَّاسِ مَنْ ذَكَرِهِمْ، وَأُنْثَاهُمْ، وَجَمِيعُ أَوْلَادِهِ مِنْهَا غَيْرَ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ، وَمَاتَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِثَلَاثٍ، وَكَانَ قَدْ مَضَى مِنَ النُّبُوَّةِ عَشْرُ سِنِينَ، وَكَانَ لَهَا مِنَ الْعُمْرِ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ مَقَامِهَا مَعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَدُفِنَتْ فِي الْحَجُونِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُمَا فِي النَّارِ قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (فَلَمَّا رَأَى) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْكَرَاهَةَ) أَيْ: أَثَرَهَا مِنَ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ (فِي وَجْهِهَا قَالَ) أَيْ: تَسْلِيَةً لَهَا (لَوْ رَأَيْتِ مَكَانَهُمَا) : وَهُوَ جَهَنَّمُ (لَأَبْغَضْتِهِمَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: لَأَبْغَضْتِيهِمَا بِإِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ يَاءً؛ أَيْ: لَوْ أَبْصَرْتِ مَنْزِلَتَهُمَا فِي الْحَقَارَةِ وَالْبُعْدِ عَنْ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى لَرَأَيْتِ الْكَرَاهَةَ، وَأَبْغَضْتِهِمَا، أَوْ لَوْ عَلِمْتِ مَكَانَهُمَا أَيْ: مَنْزِلَتَهُمَا، وَبُغْضِ اللَّهِ إِيَّاهُمَا لَأَبْغَضْتِهِمَا، وَتَبَرَّأَتِ مِنْهُمَا تَبَرُّؤَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ، (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَوَلَدِي مِنْكَ؟ قَالَ: (فِي الْجَنَّةِ) : وَالْمُرَادُ بِأَوْلَادِهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْقَاسِمُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: الطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ أَيْضًا، وَقِيلَ هُمَا لَقَبَانِ لِعَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ» ) : وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ يُعْتَدُّ بِهِ ( «وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ، وَأَوْلَادَهُمْ فِي النَّارِ» ) ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21] : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: ذُرِّيَّاتُهُمْ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَوْلَادَ تَابِعَةٌ لِآبَائِهِمْ لَا لِأُمَّهَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ اسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] وَأَمَّا طَرِيقُ الِاسْتِشْهَادِ لِإِلْحَاقِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ بِالْآبَاءِ فَأَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْإِلْحَاقَ لِكَرَامَةِ آبَائِهِمْ وَمَزِيدِ سُرُورِهِمْ وَغِبْطَتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِلَّا فَيُنَغَّصُ عَلَيْهِمْ كُلُّ نَعِيمٍ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي مَحَلٍّ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ: وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أَلْحَقْنَا بِهِمْ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ. الْكَشَّافُ: الَّذِينَ آمَنُوا: مُبْتَدَأٌ، وَبِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ خَبَرُهُ، وَالَّذِي بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالتَّنْكِيرُ فِي إِيمَانٍ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْمَعْنَى بِسَبَبِ إِيمَانٍ عَظِيمٍ رَفِيعِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ إِيمَانُ الْآبَاءِ أَلْحَقْنَا بِدَرَجَاتِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يسْتَأْهِلُونَهَا تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ لِيَتِمَّ سُرُورُهُمْ، وَلِيَكْمُلَ نَعِيمُهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي الْكُفَّارِ اهـ.

قُلْتُ: بَلْ كَوْنُ أَوْلَادِهِمْ مُعَذَّبِينَ مَعَهُمْ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ عَذَابِهِمْ، وَشِدَّةِ عِقَابِهِمْ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْمُدَّعَى مِنَ الْحَدِيثِ، أَوْ أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ الصِّغَارُ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، أَوْ فِي رَفْعِ الدَّرَجَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ حَيْثُ قَالَ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهَا {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21] يَعْنِي: أَوْلَادَهُمُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ، فَالْكِبَارُ بِإِيمَانِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالصِّغَارُ بِإِيمَانِ آبَائِهِمْ، فَإِنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ. أَلْحَقَنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ بِدَرَجَاتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا بِأَعْمَالِهِمْ دَرَجَاتِ آبَائِهِمْ تَكْرِمَةً لِآبَائِهِمْ لِتَقَرَّ بِذَلِكَ أَعْيُنُهُمْ، وَهِيَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] الْبَالِغُونَ {بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] الصِّغَارَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْإِيمَانَ بِإِيمَانِ آبَائِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ، وَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَجْمَعُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ ذُرِّيَّتَهُ فِي الْجَنَّةِ كَمَا كَانَ يُحِبُّ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ، وَيُلْحِقُهُمْ بِدَرَجَتِهِ بِعَمَلِ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ الْآبَاءُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} [الطور: 21] أَيْ: مَا نَقَصْنَاهُمْ يَعْنِي الْآبَاءَ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي دَرَجَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ لِتَقَرَّ بِهِ عَيْنُهُ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] » الْآيَةَ اهـ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أَعَمُّ مِنَ الْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ، وَلَعَلَّ أَوْلَادَ خَدِيجَةَ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا حَالَ مَوْتِهِمْ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً، فَلَا يُنَافِي قَوْلَ الْعُلَمَاءِ الْوَلَدُ الصَّغِيرُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ كَلَامُ الطِّيبِيِّ عَلَى صَرَافَتِهِ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

118 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ عَنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ! مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ ذُرِّيَّتُكَ. فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ، وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، قَالَ: أَيْ رَبِّ! مَنْ هَذَا؟ قَالَ: دَاوُدُ. فَقَالَ: رَبِّ! كَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً) . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ إِلَّا أَرْبَعِينَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ آدَمُ) : أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ ! فَجَحَدَ آدَمُ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطَأَ وَخَطَأَتْ ذُرِّيَّتُهُ) » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 118 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ» ) : تَقَدَّمَ (فَسَقَطَ) أَيْ: خَرَجَ (مِنْ ظَهْرِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: عَنْ ظَهْرِهِ أَيْ: بِوَاسِطَةٍ وَغَيْرِهَا (كُلُّ نَسَمَةٍ) أَيْ: ذِي رُوحٍ، وَقِيلَ: كُلُّ ذِي نَفْسٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّسِيمِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي " الْقَامُوسِ " النَّسَمُ مُحَرَّكَةٌ؛ نَفْسُ الرُّوحِ كَالنَّسَمَةِ مُحَرَّكَةٌ، وَنَفْسُ الرِّيحِ إِذْ كَانَ ضَعِيفًا كَالنَّسِيمِ (هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ) : الْجُمْلَةُ صِفَةُ نَسَمَةٍ ذَكَرَهَا لِيَتَعَلَّقَ بِهَا قَوْلُهُ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الذُّرِّيَّةِ كَانَ حَقِيقِيًّا ( «وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ» ) ، أَيْ: مِنْهُمْ عَلَى نُسْخَةٍ، وَالْأَصَحُّ بَيْنَ عَيْنَيْ ثَانِي مَفْعُولَيْ جَعَلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى خَلَقَ فَيَكُونُ ظَرْفًا لَهُ (وَبِيصًا) أَيْ: بَرِيقًا وَلَمَعَانًا (مِنْ نُورٍ) : وَفِي ذِكْرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: (بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ) إِيذَانٌ بِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ كَانَتْ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى مِقْدَارِ الذَّرِّ، ( «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ» ) تَعَالَى: هُمْ ( «ذُرِّيَّتُكَ. فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، قَالَ» ) : بِغَيْرِ الْفَاءِ (أَيْ رَبِّ! مَنْ هَذَا؟ قَالَ) : تَعَالَى (هُوَ دَاوُدُ) : قِيلَ: تَخْصِيصُ التَّعَجُّبِ مِنْ وَبِيصِ دَاوُدَ إِظْهَارٌ

لِكَرَامَتِهِ، وَمَدْحٌ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَزِيَّةٌ، بَلْ مَزَايَا لَيْسَتْ فِي الْفَاضِلِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكُ نِسْبَةِ الْخِلَافَةِ (فَقَالَ: رَبِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْ رَبِّ (كَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ؟) : بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالْمِيمِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ، وَكَمْ مَفْعُولٌ لِمَا بَعْدَهُ، وَقُدِّمَ لِمَا لَهُ الصَّدْرُ أَيْ: كَمْ سَنَةً جَعَلْتَ عُمُرَهُ (قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمُرِي) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَلْفِ، وَمِنْ عُمُرِي صِفَةُ أَرْبَعِينَ قُدِّمَتْ فَعَادَتْ حَالًا، وَقَوْلُهُ: (أَرْبَعِينَ سَنَةً) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: زَادَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا كَقَوْلِهِ: زَادَ الْمَاءُ، وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِهِ: زِدْتُهُ دِرْهَمًا، وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا لِوَاحِدٍ كَزَادَ الْمَالُ دِرْهَمًا. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْثِلَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي التَّعْدِيَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ لِاحْتِمَالِ التَّمْيِيزِ تَأَمَّلْ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ إِلَّا أَرْبَعِينَ» ) أَيْ: سَنَةً كَمَا فِي نُسْخَةٍ ( «جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ آدَمُ: أَوْلَمَ يَبْقَ» ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْقَافِ (مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ !) : بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُنْصَبِّ عَلَى نَفْيِ الْبَقَاءِ فَيُفِيدُ إِثْبَاتَهُ، وَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِصَدَارَتِهَا، وَالْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ انْقَضَى عُمُرُهُ إِلَّا أَرْبَعِينَ، وَبَيْنَ بَقِيَ مِنْ عُمُرِ آدَمَ أَرْبَعُونَ؟ قُلْتُ: فِي الِاسْتِثْنَاءِ تَوْكِيدٌ لَيْسَ فِي غَيْرِهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قُلْتُ: لِأَنَّ غَيْرَهُ يَحْتَمِلُ الْأَكْثَرَ، وَهُوَ نَصٌّ فِي بَقَاءِ الْأَرْبَعِينَ كُلِّهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] مَعَ زِيَادَةِ الْإِفَادَةِ فِي الْآيَةِ مِنَ الْأَقْرَبِيَّةِ إِلَى الضَّبْطِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْهُورِ فِي الْكَثْرَةِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى جَوَازِ إِلْغَاءِ الْكَسْرِ كَمَا هُوَ جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ (قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا) أَيْ: أَتَقُولُ ذَلِكَ، وَلَمْ تُعْطِهَا أَيِ: الْأَرْبَعِينَ (ابْنَكَ) : مَفْعُولٌ ثَانٍ (دَاوُدَ؟ !) ، بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (فَجَحَدَ آدَمُ) أَيْ: ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْهُ حَالَةَ مَجِيءِ مَلَكِ الْمَوْتِ لَهُ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ) : لِأَنَّ الْوَلَدَ سِرُّ أَبِيهِ (وَنَسِيَ آدَمُ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَحْدَ كَانَ نِسْيَانًا أَيْضًا إِذْ لَا يَجُوزُ جَحْدُهُ عِنَادًا (وَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ) قِيلَ: نَسِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ جِنْسِ الشَّجَرَةِ، أَوِ الشَّجَرَةِ بِعَيْنِهَا فَأَكَلَ مِنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ، وَكَانَ النَّهْيُ عَنِ الْجِنْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ) : وَلِذَا قِيلَ: أَوَّلُ النَّاسِ أَوَّلُ النَّاسِي (وَخَطَأَ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ: فِي اجْتِهَادٍ مِنْ جِهَةِ التَّعْيِينِ، وَالتَّخْصِيصِ، (وَخَطَأَتْ ذُرِّيَّتُهُ) : وَالْأَظْهَرُ أَنَّ خَطَأَ بِمَعْنَى عَصَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «كُلُّكُمْ خَطَّاءُونَ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ فِيهِ اثْنَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ، وَابْنُ آدَمَ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، وَابْنُ آدَمَ مَجْبُولٌ مَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ عَلَى الْجَحْدِ وَالنِّسْيَانِ، وَالْخَطَأِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ» . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

119 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ، فَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُمْنَى، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمُ الذَّرُّ، وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ: إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا أُبَالِي، وَقَالَ لِلَّذِي فِي كَتِفهِ الْيُسْرَى: إِلَى النَّارِ، وَلَا أُبَالِي» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 119 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ (فَضَرَبَ) : وَلَا يَمْنَعُ الْفَاءَ مِنَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ السَّبَبِيَّةَ أَيْضًا غَيْرُ مَانِعَةٍ لِعَمَلِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، فَإِنَّ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (فَلْيَعْبُدُوا) عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ؛ أَيْ: إِمَّا لَا فَلْيَعْبُدُوهُ كَذَا فِي " الْكَشَّافِ ". تَقُولُ الْعَرَبُ: إِمَّا لَا أَيْ: إِنْ كُنْتَ لَا تَفْعَلُ غَيْرَهُ فَافْعَلْ هَذَا. قَالَ الْقَاضِي أَيْ: إِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لِسَائِرِ نِعَمِهِ فَلْيَعْبُدُوهُ لِأَجْلِ إِيلَافِهِمْ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا؛ لِقَوْلِهِ: خَلَقَ اللَّهُ، وَالْمَقْصُودُ الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِزَمَانِ خَلْقِهِ، تَأَمَّلْ. اهـ. وَقِيلَ: تَقْدِيمُ الظَّرْفِ مَعَ وُجُودِ التَّعْقِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِخْرَاجَ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ خَلْقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَفِيهِ نَصٌّ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ حَاصِلَةٌ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الظَّرْفُ، بِقَوْلِهِ: فَضَرَبَ؛ قِيلَ أَمَرَ بِالضَّرْبِ فَضَرَبَ الْمَلَكُ (كَتِفَهُ الْيُمْنَى) : بِفَتْحِ الْكَافِ، وَكَسْرِ التَّاءِ كَذَا مَضْبُوطٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: كَتِفٌ كَفَرِحٌ وَمَثِلٌ وَجَبِلٌ، (فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ) أَيْ: نُورَانِيَّةٌ (كَأَنَّهُمُ الذَّرُّ) : فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَالتَّشْبِيهُ فِي الْهَيْئَةِ، وَقِيلَ: أَيِ: الْأَبْيَضُ بِدَلِيلِ مُقَابَلَةِ الْآتِي، وَفِي بَعْضِهَا بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، فَالتَّشْبِيهُ بِاعْتِبَارِ اللَّوْنِ وَالصَّفَاءِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُحْتَمَلَ عَلَى تَكْرَارِ الْإِخْرَاجِ عَلَى صِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا صَنَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ) أَيْ: ظَلْمَانِيَّةٌ (كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ) : بِضَمِّ الْحَاءِ، جَمْعُ حُمَمَةٍ، يُقَالُ: حَمِمْتُ الْجَمْرَةُ كَفَرِحْتُ، تَحَمُّ بِالْفَتْحِ إِذَا صَارَتْ فَحْمًا (فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ) أَيْ: فِي جِهَةِ يَمِينِ آدَمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ كَتِفِهِ الْيُمْنَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: لِلَّذِي فِي كَتِفِ الْيَمِينِ بِدَلِيلِ فِي كَتِفِهِ الْيُسْرَى الْآتِي فَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ اهـ. وَالْمَعْنَى يَعْنِي قَالَ تَعَالَى لِآدَمَ لِأَجْلِ الَّذِي فِي يَمِينِهِ، وَعَنْ قَبْلِهِمْ، وَفِي حَقِّهِمْ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] ، وَالَّذِي صِفَةٌ لِفَرِيقٍ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] : (إِلَى الْجَنَّةِ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَؤُلَاءِ أُوصِلُهُمْ، أَوْ أُصَيِّرُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْمُشَافَهَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْتُمْ أُوصِلُكُمْ، أَوْ أُصَيِّرُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ (وَلَا أُبَالِي) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ، وَالْخَبَرِ؛ أَيْ: وَالْحَالُ أَنِّي لَا أُبَالِي بِأَحَدٍ، كَيْفَ وَأَنَا الْفَعَّالُ لِمَا أُرِيدُ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ لِي عَبِيدٌ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ " وَإِنْ، «رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ» " فَإِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْمُبْتَدِعَةِ يَقُولُ بِخِلَافِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيرِهِمْ، وَتَسْفِيهِ عُقُولِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَالْهَبَاءِ الَّذِي لَا يُبَالِي أَحَدٌ بِهِ، وَإِنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ. ( «وَقَالَ لِلَّذِي فِي كَفِّهِ الْيُسْرَى» ) : بِفَتْحِ الْكَافِ، وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ كَذَا فِي أَصْلِ

السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ: فِي يَدِهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَعْنَى الْمُقَابَلِ بِقَوْلِهِ: فِي يَمِينِهِ، وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَلَعَلَّهُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذِكْرُ الْيَمِينِ وَالْكَتِفِ لِتَصْوِيرِ الْعَظَمَةِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِير يَمِينِهِ، وَكَفِّهِ إِلَى آدَمَ، وَالْمُرَادُ جِهَتَاهُ، وَرِوَايَةُ كَتِفِهِ صَرِيحَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَالْيُسْرَى أَيْضًا فَإِنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى يَدِهِ تَعَالَى، فَإِنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ (إِلَى النَّارِ، وَلَا أُبَالِي) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ أَمَارَاتٌ لَا مُوجِبَاتٌ. فَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، خَلَقَ فَرِيقًا لِلْجَنَّةِ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ، وَجَعَلَ طَائِفَةً لِلنَّارِ عَلَى سَبِيلِ الْعَدْلِ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

120 - وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - دَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالُوا لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خُذْ مِنْ شَارِبِكَ، ثُمَّ أَقِرَّهُ حَتَّى تَلْقَانِي؟) قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَبَضَ بِيَمِينِهِ قَبْضَةً، وَأُخْرَى بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وَقَالَ: هَذِهِ لِهَذِهِ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ، وَلَا أُبَالِي) ، وَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَنَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 120 - (وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ) : هُوَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكٍ الْعَبْدِيُّ، عِدَادُهُ فِي تَابِعِي الْبَصْرَةِ، مَاتَ قَبْلَ الْحَسَنِ بِقَلِيلٍ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبَا سَعِيدٍ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَرَوَى عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ. (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَالُ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ -) : وَجَهَالَةُ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ حَيْثُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ (دَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ) أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوِ التَّابِعِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي (يَعُودُونَهُ) : مِنَ الْعِيَادَةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى (وَهُوَ يَبْكِي) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَقَالُوا لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَكَ بَاكِيًا، وَمَا السَّبَبُ، وَالْبَاعِثُ لِبُكَائِكَ (أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خُذْ مِنْ شَارِبِكَ) أَيْ: بَعْضَهُ يَعْنِي قُصَّهُ، وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يُسَاوِي الشَّفَةَ (ثُمَّ أَقِرَّهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ الْقَافِ، وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: دُمْ عَلَيْهِ (حَتَّى تَلْقَانِي؟) ، أَيْ: فِي الْحَوْضِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَحَتَّى تَحْتَمِلَ الْغَايَةَ وَالْعِلَّةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ فَأَفَادَتِ التَّقْرِيرَ، وَالتَّعَجُّبَ أَيْ: كَيْفَ تَبْكِي، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَ بِأَنَّكَ تَلْقَاهُ لَا مَحَالَةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ رَاضِيًا عَنْهُ مِثْلُكَ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ (قَالَ: بَلَى) أَيْ: أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ (وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَبَضَ) أَيْ: بَعْضَ الذُّرِّيَّةِ بِيَمِينِهِ قَبْضَةً؟) أَيْ: وَاحِدَةً (وَأُخْرَى) أَيْ: وَقَبَضَ قَبْضَةً أُخْرَى لِبَعْضِ الذُّرِّيَّةِ الْأُخْرَى (بِالْيَدِ الْأُخْرَى) : لَمْ يَقُلْ بِيَسَارِهِ أَدَبًا، وَلِذَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: (وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ) . وَفِي هَذَا تَصْوِيرٌ لِجَلَالِ اللَّهِ، وَعَظَمَتِهِ لِتَعَالِيهِ عَنِ الْجِسْمِ، وَلَوَازِمِهِ (وَقَالَ: هَذِهِ) أَيِ: الْقَبْضَةُ الَّتِي قَبَضَهَا بِالْيَمِينِ يَعْنِي مَنْ فِيهَا، أَوْ هَذِهِ الْمَقْبُوضَةُ (لِهَذِهِ) أَيْ: لِلْجَنَّةِ (وَهَذِهِ) أَيِ: الْقَبْضَةُ الَّتِي قَبَضَهَا بِالْأُخْرَى (لِهَذِهِ) أَيْ: لِلنَّارِ (وَلَا أُبَالِي) أَيْ: فِي الْحَالَتَيْنِ (وَلَا أَدْرِي) أَيْ: وَلَا أَعْلَمُ (فِي) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ (أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَنَا) ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنِّي أَخَافُ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِفَالِ وَالِاكْتِرَاثِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا أُبَالِي. كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ يَعْنِي غَلَبَ عَلَيَّ الْخَوْفُ بِالنَّظَرِ إِلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ بِحَيْثُ مَنَعَنِي عَنِ التَّأَمُّلِ فِي رَحْمَتِهِ وَجَمَالِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لِذَاتِهِ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُرِيدُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِلْعَبِيدِ، وَأَيْضًا لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ قَدْ يَنْسَى الْبِشَارَةَ وَالرَّجَاءَ بِهَا مَعَ أَنَّ الْبِشَارَةَ مُقَيَّدَةٌ بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى طَرِيقِ السُّنَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ دَقِيقٌ، وَبِالْخَوْفِ حَقِيقٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَصَّ الشارِبِ مِنَ السُّنَنِ الْمُتَأَكِّدَةِ، وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ مُوَصِّلَةٌ إِلَى قُرْبِ دَارِ النَّعِيمِ فِي جِوَارِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، فَيُعْلَمُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ سُنَّةً أَيَّ سُنَّةٍ فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَكَيْفَ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى تَرْكِ سَائِرِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الزَّنْدَقَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

121 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مَنْ ظَهَرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ - يَعْنِي عَرَفَةَ - فَأَخْرَجَ مَنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَاهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا؛ قَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] ، {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173] » رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 121 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ) مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ ـ يَعْنِي: الْعَهْدَ أَيْ: أَرَادَ أَخْذَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَأَخْرَجَ، (مِنْ ظَهْرِ آدَمَ) أَيْ: مِنَ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ ظَهْرِهِ (بِنَعْمَانَ) : قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: نَعْمَانُ بِالْفَتْحِ، وَادٍ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ يُخْرِجُ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَفِي " الْقَامُوسِ " وَادٍ وَرَاءَ عَرَفَةَ، وَهُوَ نَعْمَانُ الْأَرَاكِ، وَفِي " النِّهَايَةِ " جَبَلٌ بِقُرْبِ عَرَفَةَ، وَيُقَالُ لَهُ نَعْمَانُ السَّحَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْكَدُ فَوْقَهُ لِعُلُوِّهِ فَلِمُجَاوَرَتِهِ لَهَا، قَالَ أَيِ: الرَّاوِي: (- يَعْنِي عَرَفَةَ - فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ فَقَارُ الظَّهْرِ (كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَاهَا) : بِالْهَمْزِ أَيْ: خَلَقَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامِ مِنْ ذَرَا اللَّهُ الْخَلْقَ أَوْجَدَ أَشْخَاصَهُمْ؛ يَعْنِي بَعْضَهُمْ بِوَاسِطَةٍ، وَبَعْضَهُمْ بِغَيْرِهَا، (فَنَثَرَهُمْ) أَيْ: فَرَّقَهُمْ وَبَثَّهُمْ، وَنَشَرَهُمْ (بَيْنَ يَدَيْهِ،) أَيْ: قُدَّامَ آدَمَ، أَوْ بَعْضَهُمْ فِي يَمِينِهِ، وَبَعْضَهُمْ فِي شِمَالِهِ (كَالذَّرِّ) ، أَيْ: مُشَبَّهِينَ بِالنَّمْلِ فِي صِغَرِ الصُّورَةِ (ثُمَّ كَلَّمَهُمْ) أَيْ: خَاطَبَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (قُبُلًا) : بِضَمَّتَيْنِ، وَقِيلَ: كَعِنَبٍ، وَصُرَدٍ وَقُفُلٍ، وَجَبَلٍ، وَهُوَ حَالٌ؛ أَيْ: كَلَّمَهُمْ عِيَانًا، وَمُقَابَلَةً لَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَلَا بِأَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَدَلٌ مِنْ كَلَّمَهُمْ؛ أَيْ: وَقَالَ لَهُمْ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] : أَنْتَ رَبُّنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ قَالُوا بَدَلَ: بَلَى نَعَمْ لَكَفَرُوا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّهَا لِتَقْرِيرِ النَّفْيِ، وَبَلَى رَدُّ لَهُ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَلِذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَوْ قَالَ أَلَيْسَ لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ؟ فَقَالَ: بَلَى لَزِمَهُ، وَلَوْ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْزَمُهُ فِيهِمَا، وَجَرَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى الْعُرْفِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنْ يَقَعُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا يُجَابُ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ الْمُجَرَّدُ فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " فِي: " كِتَابِ الْإِيمَانِ ": أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " «أَتَرْضُونَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ "، قَالُوا بَلَى» ، وَفِي: " صَحِيحُ مُسْلِمٍ " فِي " كِتَابِ الْهِبَةِ ": «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَلَا إِذَنْ» ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «أَنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُجِيبُ: بَلَى، ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ هَذَا قَلِيلٌ فَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ التَّنْزِيلُ» اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ. فِي الْأَزْهَارِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ جَوَابَهُمْ بِقَوْلِ بَلَى كَانَ بِالْمُطْلَقِ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ عُقَلَاءُ، وَقِيلَ: بِلِسَانِ الْحَالِ، ثُمَّ قِيلَ تَجَلَّى لِلْكُفَّارِ بِالْهَيْبَةِ فَقَالُوا: بَلَى مَخَافَةً فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيمَانُهُمْ، وَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالرَّحْمَةِ، فَقَالُوا: بَلَى طَوْعًا فَنَفَعَهُمْ إِيمَانُهُمْ (شَهِدْنَا) : هُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمَقُولِ أَيْ: شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا بِذَلِكَ، وَأَقْرَرْنَا بِوَحْدَانِيَّتِكَ، وَإِنَّمَا احْتَاجُوا إِلَى هَذَا مَعَ أَنَّ بَلَى يُغْنِي عَنْهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأعراف: 172] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: شَهِدْنَا عَلَى إِقْرَارِكُمْ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَقْدِيرُ الطِّيبِيِّ فَعَلْنَا ذَلِكَ كَرَاهَةَ (أَنْ تَقُولُوا) أَيِ: احْتِجَاجًا، وَقِيلَ: لِئَلَّا تَقُولُوا، وَالْجُمْهُورُ بِالْخِطَابِ، وَأَبُو عَمْرٍو بِالْغَيْبَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: اشْهَدُوا. قَالُوا شَهِدْنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَالَ اللَّهُ: شَهِدْنَا يَعْنِي نَفْسَهُ، وَالْمَلَائِكَةَ وَالسَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضَ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا أَتَذَكَّرُ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : ظَرْفُ أَنْ تَقُولُوا؛ أَيْ: حِينَ يُحَاسَبُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْمَقُولُ (إِنِّا كُنَّا عَنْ هَذَا) أَيِ: الْمِيثَاقِ، أَوِ الْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ (غَافِلِينَ) أَيْ: جَاهِلِينَ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَا نُبِّهْنَا عَلَيْهِ، (أَوْ تَقُولُوا) أَيِ: الْبَعْضُ الْمُتَأَخِّرُونَ احْتِجَاجًا آخَرَ {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 173] أَيْ: مِنْ قَبْلِ ظُهُورِنَا وَوُجُودِنَا، أَوْ مِنْ قَبْلِ إِشْرَاكِنا

{وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173] : فَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ فَاللَّوْمُ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْنَا (أَفَتُهْلِكُنَا) أَيْ: أَتَعْلَمُ ذَلِكَ فَتُعَذِّبَنَا {بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173] : مِنْ آبَائِنَا بِتَأْسِيسِ الشِّرْكِ، وَالْمَعْنَى لَا يُمْكِنُهُمُ الِاحْتِجَاجُ بِذَلِكَ مَعَ إِشْهَادِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَالتَّذْكِيرُ بِهِ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الْمُعْجِزَةِ قَائِمٌ مَقَامَ ذِكْرِهِ فِي النُّفُوسِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَيْسَ النَّسَائِيُّ مَوْجُودًا فِي النُّسَخِ، وَلَعَلَّهُ إِلْحَاقٌ فِي الشَّرْحِ، لَكِنَّهُ مُسْتَبْعَدٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ. قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: كَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي كِتَابِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ، وَلَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا أَرَى الْمُعْتَزِلَةَ يُقَابِلُونَ هَذِهِ الْحُجَّةَ إِلَّا بِقَوْلِهِمْ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا مِنَ الْآحَادِ فَلَا نَتْرُكُ بِهِ ظَاهِرَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هَرَبُوا عَنِ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ لِمَكَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] فَقَالُوا: إِنْ كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ عَنِ اضْطِرَارٍ حَيْثُ كُوشِفُوا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَشَاهَدُوهُ عَيْنَ الْيَقِينِ، فَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَقُولُوا شَهِدْنَا يَوْمَئِذٍ، فَلَمَّا زَالَ عَنَّا عَلِمْنَا عِلْمَ الضَّرُورَةِ، وَوُكِلْنَا إِلَى آرَائِنَا كَانَ مِنَّا مَنْ أَصَابَ، وَمِنَّا مَنْ أَخْطَأَ، وَإِنْ كَانَ عَنِ اسْتِدْلَالٍ، وَلَكِنَّهُمْ عُصِمُوا عِنْدَهُ مِنَ الْخَطَأِ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا أُيِّدْنَا يَوْمَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْفِيقِ، وَالْعِصْمَةِ، وَحُرِمْنَاهُمَا مِنْ بَعْدُ، وَلَوْ مُدِدْنَا بِهِمَا لَكَانَتْ شَهَادَتُنَا فِي كُلِّ حِينٍ كَشَهَادَتِنَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِيثَاقَ مَا رَكَزَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنَ الْعُقُولِ، وَآتَاهُمْ، وَآبَاءَهُمْ مِنَ الْبَصَائِرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْحُجَّةُ الْبَاقِيَةُ الْمَانِعَةُ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْإِقْرَارَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ كَمَا جَعَلَ بَعْثَ الرُّسُلِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِمَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَخُلَاصَةُ مَا قَالُوهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُحْتَجِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ زَالَ عَنَّا عَلِمُ الضَّرُورَةِ، وَوُكِلْنَا إِلَى آرَائِنَا فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ بَلْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى يُوقِظُونَكُمْ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حُرِمْنَا عَلَى التَّوْفِيقِ، وَالْعِصْمَةِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ. فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ إِذْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَا مَنْفَعَةَ لَنَا فِي الْعُقُولِ، وَالْبَصَائِرِ حَيْثُ حُرِمْنَا عَنِ التَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ، وَالْحَقُّ أَنْ تُحْمَلَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَلَا يُقْدَمُ عَلَى الطَّعْنِ فِيهَا بِأَنَّهَا آحَادٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِمُعْتَقَدِ أَحَدٍ، وَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَخَالَفَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ خَبَرَ وَاحِدٍ عَنْ وَاحِدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَجْعَلُونَهُ سُنَّةً؛ حُمِدَ مَنْ تَبِعَهَا وَعِيبَ مَنْ خَالَفَهَا اهـ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: نَزَلَ تَمْكِينُ بَنِي آدَمَ مِنَ الْعِلْمِ بِرُبُوبِيَّتِهِ بِنَصْبِ الدَّلَائِلِ، وَخَلْقِ الِاسْتِعْدَادِ فِيهِمْ، وَتَمْكِينِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، وَالْإِقْرَارِ بِهَا مَنْزِلَةَ الْإِشْهَادِ، وَالِاعْتِرَافِ تَمْثِيلًا، وَتَخْيِيلًا لَا قَوْلَ ثَمَّةَ، وَلَا شَهَادَةَ حَقِيقَةً. أَقُولُ: لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَبِهِ يَلْتَئِمُ الْعَقْلُ، وَالسَّمْعُ. قَالَ الْمَوْلَى الْعَلَّامَةُ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ تَقَرَّرَ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ بَنِي آدَمَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، فَيَكُونُ كُلُّ مَا أُخْرِجَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ فِيمَا لَا يَزَالُ هُمُ الَّذِينَ قَدْ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْمِيثَاقَ الْأَزَلِيَّ لِيُعْرِفَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّسْلَ الَّذِي يَخْرُجُ فِيمَا لَا يَزَالُ مِنْ أَصْلَابِ بَنِي آدَمَ هُوَ الذَّرُّ الَّذِي أُخْرِجَ فِي الْأَزَلِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، وَأُخِذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَقَالِيُّ الْأَزَلِيُّ، كَمَا أُخِذَ مِنْهُمْ فِيمَا لَا يَزَالُ بِالتَّدْرِيجِ حِينَ أَخْرَجُوا الْمِيثَاقَ الثَّانِيَ، وَهُوَ الْحَالِيُّ الْأَزَلِيُّ، فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِيثَاقَانِ مَعَ بَنِي آدَمَ أَحَدُهُمَا: تَهْتَدِي إِلَيْهِ الْعُقُولُ مِنْ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الِاعْتِرَافِ الْحَالِيِّ، وَثَانِيهِمَا: الْمَقَالِيُّ الَّذِي لَا تَهْتَدِي إِلَيْهِ الْعُقُولُ، بَلْ يُتَوَقَّفُ عَلَى تَوْقِيفِ وَاقِفٍ عَلَى أَحْوَالِ الْعِبَادِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْآبَادِ كَالْأَنْبِيَاءِ، فَأَرَادَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُعْلِمَ الْأُمَّةَ بِأَنَّ وَرَاءَ الْمِيثَاقِ الَّذِي يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ مِيثَاقًا آخَرَ أَزَلِيًّا، فَقَالَ مَا قَالَ مِنْ مَسْحِ ظَهْرِ آدَمَ فِي الْأَزَلِ إِلَخْ. وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةِ التَّدْقِيقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

122 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] قَالَ: جَمَعَهُمْ فَجَعَلَهُمْ أَزْوَاجًا، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فَاسْتَنْطَقَهُمْ، فَتَكَلَّمُوا، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ، وَالْمِيثَاقَ، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] . قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ، وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا. اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي، وَلَا رَبَّ غَيْرِي، وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا. إِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلِي يُذَكِّرُونَكُمْ عَهْدِي، وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي. قَالُوا: شَهِدْنَا بِأَنَّكَ رَبُّنَا، وَإِلَهُنَا. لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ. فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَرُفِعَ عَلَيْهِمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى الْغَنِيَّ، وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ الصُّورَةِ، وَدُونَ ذَلِكَ. فَقَالَ: رَبِّ لَوْلَا سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَشْكُرَ، وَرَأَى الْأَنْبِيَاءَ فِيهِمْ مِثْلَ السُّرُجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ، خُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ فِي الرِّسَالَةِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] إِلَى قَوْلِهِ: {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] كَانَ فِي تِلْكَ الْأَرْوَاحِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَحُدِّثَ عَنْ أُبَيٍّ: أَنَّهُ دَخَلَ مِنْ فِيهَا. رَوَاهُ أَحْمَدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 122 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) أَيْ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: ذُرِّيَّاتِهِمْ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ (قَالَ) أَيْ: أُبَيٌّ (جَمَعَهُمْ) أَيِ: اللَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُمْ (فَجَعَلَهُمْ أَزْوَاجًا) أَيْ: ذُكُورًا، وَإِنَاثًا، أَوْ أَصْنَافًا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: أَرَادَ جَعْلَهُمْ أَصْنَافًا، وَفَسَّرَ الْأَصْنَافَ بِقَوْلِهِ الْآتِي فَرَأَى الْغَنِيَّ، وَالْفَقِيرَ (ثُمَّ صَوَّرَهُمْ) أَيْ: عَلَى صُوَرِهِمُ الَّتِي يَكُونُونَ عَلَيْهَا بَعْدُ (فَاسْتَنْطَقَهُمْ) : أَيْ: خَلَقَ فِيهِمُ الْعَقْلَ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ النُّطْقَ (فَتَكَلَّمُوا) : بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ بِمَا سَيَأْتِي (ثُمَّ) أَيْ: بَعْدَ التَّصْوِيرِ، وَالِاسْتِنْطَاقِ بِحُكْمِ تَقْدِيرِ الْخَلَّاقِ (أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ) أَيْ: بِالتَّوْحِيدِ، وَالْمِيثَاقِ، وَهُوَ - تَوْكِيدُ الْعَهْدِ بِالْإِقْرَارِ، أَوِ الْمُرَادُ الْعَهْدُ لَئِنْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِمْ، وَالْمِيثَاقُ الْأَيْمَانُ الْمُؤَكَّدَةُ لَيُوَفُّنَّ بِذَلِكَ {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأعراف: 172] أَيْ: عَلَى ذَوَاتِهِمْ، أَوْ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ قَالَ لَهُمِ: اشْهَدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُؤَيَّدُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ شَهِدْنَا بِقَوْلِهِمْ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] : إِمَّا اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَإِمَّا التَّقْدِيرُ: أَشْهَدَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أَيِ: اسْتَشْهَدَهُمْ بِهَذَا (قَالُوا: بَلَى) : كَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا مَتْرُوكٌ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا مَعْنًى إِذِ الْمَعْنَى قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا (قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ) أَيْ: نَفْسَهَا بِأَنْ رَكَّبَ فِيهَا عُقُولًا مَعَ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عِلْمًا بِمُوجِدِهَا أَيْ: نَفْسِهَا، أَوْ أَهْلِهَا (وَالْأَرَضِينَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَتُسَكَّنُ (السَّبْعَ) : كَذَلِكَ أَيْ: زِيَادَةً عَلَى شَهَادَتِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةً إِلَى نَصْبِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ، فَأُشْهِدُ بِمَعْنَى أَنْصِبُ، وَأُبَيِّنُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ (وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ) : وَأَوَّلَ الطِّيبِيُّ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: يُذَكِّرُونَكُمْ إِشَارَةً إِلَى النُّصُوصِ الشَّاهِدَةِ الْوَارِدَةِ مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ (أَنْ تَقُولُوا) : بِالْخِطَابِ لَا غَيْرَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَمْ نَعْلَمْ) أَيْ: لَمْ نُوقِنْ بِهَذَا (اعْلَمُوا) أَيْ: تَحَقَّقُوا الْآنَ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَتَبَيُّنِ الْأَمْرِ بِالْعِيَانِ (أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي) : مَعْبُودٌ (وَلَا رَبَّ غَيْرِي) : مَوْجُودٌ (وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا) : فَإِنِّي مَقْصُودٌ (إِنِّي) : قِيلَ: بِالْفَتْحِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِمَّا قَبْلَهُ، وَبِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ: إِنِّي مَعَ هَذَا الْبَيَانِ (سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ) : فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ (رُسُلِي) : بِالْبُرْهَانِ (يُذَكِّرُونَكُمْ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ (عَهْدِي، وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي) : بِوَاسِطَةِ رُسُلِي، وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعَهْدِي، وَمِيثَاقِي، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمِيثَاقِ الْمَقَالِيِّ، وَالْحَالِيِّ، وَالْعَهْدِ الْحِسِّيِّ، وَالْمَعْنَوِيِّ (قَالُو: شَهِدْنَا) أَيْ: عَلِمْنَا، وَاعْتَرَفْنَا (بِأَنَّكَ رَبُّنَا) : وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ رَضِينَا بِرُبُوبِيَّتِكَ (وَإِلَهُنَا) : وَإِلَهُ كُلِّ شَيْءٍ فَنَقُومُ بِحَقِّ عُبُودِيَّتِكَ. بِمُقْتَضَى أُلُوهِيَّتِكَ (لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ) : فَإِنَّكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (وَلَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ) : فَإِنَّكَ إِلَهُ الْعَابِدِينَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَانَ وَجْهُ تَقْدِيمِهِمْ هَاهُنَا مَقَامَ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّ شُهُودَ تَرْبِيَةِ الْحَقِّ حَامِلٌ أَيْ: حَامِلٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْأُلُوهِيَّةِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ هُنَا، وَإِنَّمَا عُكِسَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَقَامَ الْأُلُوهِيَّةِ هُوَ الْأَحَقُّ بِأَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَمَا عَدَاهُ وَسِيلَةٌ لَهُ كَمَا تُقُرِّرَ (فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ) أَيْ: بِجَمِيعِ مَا ذَكَرَ (وَرُفِعَ) : بِالْبِنَاءِ

لِلْمَفْعُولِ أَيْ: أَشْرَفَ (عَلَيْهِمْ آدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) : مِنْ مَقَامٍ عَالٍ (يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) : حَالٌ، أَوْ مَفْعُولٌ بِتَقْدِيرِ أَنْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَحْضُرَ الْوَغَى (فَرَأَى) أَيْ: آدَمُ مِنْهُمْ (الْغَنِيَّ) : صُورَةً، وَمَعْنًى بِاعْتِبَارِ الْآثَارِ اللَّائِحَةِ، وَاللَّامِعَةِ (وَالْفَقِيرَ) : يَدًا، وَقَلْبًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَقْدِيمِ الْفَقِيرِ (وَحَسَنَ الصُّورَةِ) أَيِ: الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ (وَدُونَ ذَلِكَ) ، أَيْ: فِي الْحُسْنِ، أَوْ غَيْرِ مَا ذَكَرَ (فَقَالَ: رَبِّ لَوْلَا) أَيْ: هَلَّا (سَوَّيْتَ) : يَعْنِي لِمَا مَا سَوَّيْتَ (بَيْنَ عِبَادِكَ!) : وَالْقَصْدُ هُوَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ حِكْمَتَهُ قَالَ: (إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: أُعْرَفَ بِالْإِنْعَامِ، وَأُشْكَرَ عَلَى الدَّوَامِ عَلَى لِسَانِ الْأَنَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُصَحِّحُ مَعْنَى مَا يُنْقَلُ حَدِيثًا، وَلَمْ يَصِحَّ لَفْظًا (كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأَنْ أُعْرَفَ) ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أَيْ: لِيَعْرِفُوا، وَالْمَعْنَى يَنْظُرُ الْغَنِيُّ إِلَى الْفَقِيرِ فَيَشْكُرُ، وَيَنْظُرُ الْفَقِيرُ إِلَى دِينِهِ فَيَرَى نِعْمَتَهُ فَوْقَ الْغَنِيِّ فَيَشْكُرُ، وَيَرَى حَسَنُ الصُّورَةِ جَمَالَهُ فَيَشْكُرُ، وَقَبِيحُ الصُّورَةِ حُسْنَ خِصَالِهِ فَيَشْكُرُ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّ حَسَنَ الصُّورَةِ، وَالسِّيرَةِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَأَنَّ الْغِنَى وَالدِّينَ مُتَنَافِيَانِ فَالْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ إِنَّ الْغَنِيَّ يَرَى عِظَمَ نِعْمَةِ الْغِنَى، وَالْفَقِيرَ يَرَى عِظَمَ نِعْمَةِ الْمُعَافَاةِ مِنْ كَدَرِ الدُّنْيَا، وَنَكَدِهَا، وَتَعَبِهَا الَّذِي لَا حَاصِلَ لَهُ غَيْرُ طُولِ الْحِسَابِ، وَتَرَادُفِ الْمِحَنِ، وَتَوَالِي الْعَذَابِ، وَحَسَنُ الصُّورَةِ يَرَى مَا مُنِحَهُ مِنْ ذَلِكَ الْجَمَالِ الظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى الْجَمَالِ الْبَاطِنِ غَالِبًا، وَغَيْرُهُ يَرَى أَنَّ عَدَمَ الْجَمَالِ أَدْفَعُ لِلْفِتْنَةِ، وَأَسْلَمُ مِنَ الْمِحْنَةِ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ مَزِيدَ تِلْكَ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ فَيَشْكُرُونَ عَلَيْهَا، وَلَوْ تَسَاوَوْا فِي وَصْفٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَيَقَّظُوا لِذَلِكَ (وَرَأَى) أَيْ: آدَمُ (الْأَنْبِيَاءَ) : وَهُمْ أَعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ (فِيهِمْ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ مُنْدَرِجِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ (مِثْلَ السُّرُجِ) : جَمْعُ سِرَاجٍ (عَلَيْهِمُ النُّورُ) أَيْ: يَغْلِبُ كَأَنَّهُ بَيَانٌ لِوَجْهِ شَبَهِهِمْ بِالسُّرُجِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ خُلِقُوا فِي ظُلْمَةٍ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَنْوَارُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَائِحَةٌ يَهْتَدُونَ بِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَيْضًا لَا يَخْلَوْنَ عَنْ ظُلْمَةِ الْأَخْلَاقِ الْبَشَرِيَّةِ، لَكِنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْعِصْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْأَنْوَارُ الرَّبَّانِيَّةُ، وَلِذَا (خُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ) : بَعْدَ مَا دَخَلُوا فِي عُمُومِ مِيثَاقِ الْعَوَامِّ لِلِاهْتِمَامِ التَّامِّ. بِمَرَامِهِمْ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَوْلُهُ: خُصُّوا اسْتِئْنَافٌ، أَوْ صِفَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ (فِي الرِّسَالَةِ، وَالنُّبُوَّةِ) أَيْ: فِي شَأْنِهِمَا، وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ سَوَاءٌ أُمِرَ بِأَنْ يُنْبِئَ عَنِ اللَّهِ أَمْ لَا، وَالرَّسُولُ مَنْ أُمِرَ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ (وَهُوَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) أَيْ: هَذَا الْمِيثَاقُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] إِلَى قَوْلِهِ (عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) : وَمَا قَبْلُهُ، {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزاب: 7] فَفِيهِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، فَإِنَّ الْخَمْسَةَ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقُدِّمَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الذِّكْرِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الرُّتْبَةِ، أَوْ فِي الْوُجُودِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ رُوحِي، وَقَوْلِهِ: كُنْتُ نَبِيًّا، وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ

وَالْجَسَدِ» ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7] أَيْ: عَظِيمًا مُؤَكَّدًا يَسْأَلُ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ الْمِيثَاقَ الْخَاصَّ هُوَ الْعَهْدُ بِالصِّدْقِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مِيثَاقَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا هُوَ مُظَاهَرَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْمُعَاوَنَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] أَيْ: عَهْدِي {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] وَهَذَا الْمِيثَاقُ الْخَاصُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْعَامِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ تَعْظِيمًا لَهُمْ، وَتَكْرِيمًا، وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «كُنْتُ نَبِيًّا، وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ، وَالْجَسَدِ» ) . . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (كَانَ) أَيْ: عِيسَى (فِي تِلْكَ الْأَرْوَاحِ، فَأَرْسَلَهُ) أَيْ: رُوحَهُ، وَهُوَ يُذَكَّرُ، وَيُؤَنَّثُ يَعْنِي مَعَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (إِلَى مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ (فَحُدِّثَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: رُوِيَ (عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ دَخَلَ) أَيِ: الرُّوحُ إِلَى جَوْفِهَا، ثُمَّ رَحِمِهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرُّوحَ بِتَأْوِيلِ الْمَنْفُوخِ، أَوْ عِيسَى كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي " الْقَامُوسِ " الرُّوحُ بِالضَّمِّ مَا بِهِ حَيَاةُ الْأَنْفُسِ، وَيُؤَنَّثُ اهـ. فَجُعِلَ التَّذْكِيرُ أَصْلًا كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي اللَّفْظِ. (مِنْ فِيهَا) أَيْ: مِنْ فَمِهَا كَذَا قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ} [التحريم: 12] أَيْ: فِي فِيهَا، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (فِيهَا) أَيْ: فِي مَرْيَمَ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ فِي فَمِهَا، أَوْ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِفَرْضِ ثُبُوتِهَا بِأَنَّ بَعْضَ تِلْكَ النَّفْخَةِ دَخَلَتْ مِنْ جَيْبِهَا، وَبَعْضَهَا مِنْ فَمِهَا، وَتَخْصِيصُ عِيسَى، وَتَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: دَخَلَ مِنْ فِيهَا تَسْجِيلٌ عَلَى النَّصَارَى بِرَكَاكَةِ عُقُولِهِمْ أَيْ: كَيْفَ يُتَّخَذُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ هَذَا حَالُهُ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] قِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ: يَبُولَانِ، وَيَغُوطَانِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

123 - «وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَذَاكَرُ مَا يَكُونُ، إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ تَغَيَّرَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 123 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَذَاكَرُ) أَيْ: مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَعَ بَعْضِنَا بِحَضْرَتِهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ (مَا يَكُونُ) مَا: مَوْصُولَةٌ أَيِ: الَّذِي يَحْدُثُ مِنَ الْحَوَادِثِ أَهُوَ شَيْءٌ مَقْضِيٌّ مَفْرُوغٌ مِنْهُ فَتُوجَدَ تِلْكَ الْحَوَادِثُ عَلَى طَبَقَةٍ، أَوْ شَيْءٍ يُوجَدُ آنِفًا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ قَضَائِهِ؟ (إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوهُ» ) ، أَيْ: لِإِمْكَانِهِ، بَلْ حُكِيَ وُقُوعُهُ كَمَا قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ جِبَالِ الْمَغْرِبِ سَارَ عَنْ مَحَلِّهِ مَسَافَةً طَوِيلَةً ( «وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ تَغَيَّرَ عَنْ خُلُقِهِ» ) : بِضَمِّ اللَّامِ، وَتُسَكَّنُ أَيْ: خُلُقِهِ الْأَصْلِيِّ بِالْكُلِّيِّ (فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ) أَيْ: بِالْخَبَرِ عَنْهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَادَةً، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] وَلَمْ يَقُلْ وَالْعَادِمِينَ لَهُ (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الرَّجُلُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ (يَصِيرُ) : فِي كُلِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُحْدِثَهُ (إِلَى مَا جُبِلَ) : أَيْ: خُلِقَ وَطُبِعَ (عَلَيْهِ) : مِنَ الْأَخْلَاقِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفْقَ مَا سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَدَّلَ وَيُغَيَّرَ، فَالْكَيِّسُ مَثَلًا لَا يَصِيرُ بَلِيدًا، وَالسَّخِيُّ لَا يَصِيرُ بَخِيلًا، وَالشُّجَاعُ لَا يَصِيرُ جَبَانًا وَعَكْسُهَا وَهَذَا مِثَالٌ تَقْرِيبِيٌّ. بِاعْتِبَارِ اسْتِبْعَادِ الْعَادَةِ لِزَوَالِ الْجَبَلِ عَنْ مَكَانِهِ اسْتِبْعَادًا يُلْحِقُهُ بِالْمُحَالِ الْعَقْلِيِّ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ إِمْكَانُ زَوَالِ الْجَبَلِ عَنْ مَكَانِهِ دُونَ الْخُلُقِ الْمُقَدَّرِ عَمَّا قُدِّرَ عَلَيْهِ اهـ. فَإِنْ قُلْتَ: مَدَارُ الصُّوفِيَّةِ عَلَى تَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ فَكَيْفَ هَذَا الْحَدِيثُ؟ قُلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ خُلِقَ وَطُبِعَ فِيهِ الْأَخْلَاقُ جَمِيعُهَا، وَهِيَ صَالِحَةٌ بِأَصْلِهَا أَنْ تَكُونَ حَمِيدَةً وَأَنْ تَكُونَ ذَمِيمَةً، وَإِنَّمَا تُحْمَدُ إِذَا كَانَتْ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالذَّمِيمَةُ ضِدُّهَا. فَمَثَلًا السَّخَاوَةُ صِفَةٌ مُعْتَدِلَةٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْبُخْلِ، وَكَذَا الشَّجَاعَةُ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَكَذَا التَّوَاضُعُ بَيْنَ الضَّعَةِ وَالتَّكَبُّرِ، وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ عَادَةً عَدَمُ الِاعْتِدَالِ، فَالصُّوفِيَّةُ يُجَاهِدُونَ وَيَرْتَاضُونَ فِي الْأَخْلَاقِ لِيُبَدِّلُوهَا عَنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ وَيُعَدِّلُوهَا عَلَى سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَلِذَا قِيلَ: الْإِرَادَةُ تَرْكُ الْعَادَةِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْبُغْضُ، وَحَالَةُ اعْتِدَالِهِ الْمَحْمُودِ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَحْدُودِ فِي الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ ضِدُّهُ الْمَحَبَّةُ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانُهُ» ". وَأَمَّا إِزَالَةُ صِفَةِ الْبُخْلِ مِنْ أَصْلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَغَيْرُ مُمْكِنَةٍ إِلَّا بِالْجَذْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] أَيْ بَخِيلًا. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» " بَلْ قِيلَ لَوْ أُزِيلَتِ الصِّفَاتُ الذَّمِيمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ نَاقِصًا إِذْ كَمَالُهُ أَنْ تَغْلِبَ صِفَاتُهُ الْحَمِيدَةُ، وَبِهَذَا فُضِّلَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَوْعِ الْمَلَكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّبْدِيلَ الْأَصْلِيَّ الذَّاتِيَّ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ، وَأَمَّا التَّبْدِيلُ الْوَصْفِيُّ فَهُوَ مُمْكِنٌ بَلِ الْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَيُسَمَّى تَهْذِيبُ النَّفْسِ وَتَحْسِينُ الْأَخْلَاقِ. قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] وَفِي الْحَدِيثِ: " «حَسِّنُوا أَخْلَاقَكُمْ» " وَفِي الدُّعَاءِ: " «اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي، وَاللَّهُمَّ اهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا إِلَّا أَنْتَ» "، وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ فَعَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْخُلُقَ الْمُبْرَمَ لَا يُبَدَّلُ وَالْخُلُقَ الْمُعَلَّقَ يُغَيَّرُ وَهُوَ مُبْهَمٌ عِنْدَنَا مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَعَلَيْنَا الْمُجَاهَدَةُ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَلِهَذَا تَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُرْتَاضِينَ لَمْ تَحْسُنْ أَخْلَاقُهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ طَوِيلَةٍ، وَبَعْضُهُمْ تُبَدَّلُ أَخْلَاقُهُمُ الذَّمِيمَةُ بِالْحَمِيدَةِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ أَوِ النَّفْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى خَرْقِهَا، وَهُوَ تَارَةً يَكُونُ بِالْجَذْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَارَةً بِالرِّيَاضَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَتَارَةً بِالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُ هَذَا فِي النَّظَرِ لِلْخَلْقِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ حَتَّى تُقَامَ أَعْذَارُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقَامَتِهَا فِيهَا مَحْذُورٌ فَإِنَّ كُلًّا يَجْرِي فِي تَيَّارِ مَا قُدِّرَ لَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّاوِي، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيٍّ، وَكَانَ مُقْتَضَى دَأْبِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ أَحْمَدُ.

124 - «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا يَزَالُ يُصِيبُكَ فِي كُلِّ عَامٍ وَجَعٌ مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ الَّتِي أَكَلْتَ. قَالَ: (مَا أَصَابَنِي شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا وَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيَّ وَآدَمُ فِي طِينَتِهِ) » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 124 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَبُو سَلَمَةَ، وَمَاتَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ عُمُرُهَا أَرْبَعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُهَا، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا تَزَالُ) : بِالْخِطَابِ وَقِيلَ بِالْغَيْبَةِ (يُصِيبُكَ) ، أَيْ: يَحْصُلُ لَكَ (فِي كُلِّ عَامٍ) : أَيْ سَنَةٍ (وَجَعٌ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ أَلَمٌ (مِنَ الشَّاةِ) ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَثَرِ الشَّاةِ (الْمَسْمُومَةِ) : أَيْ: بِالسُّمِّ الَّذِي بَالَغَ الْيَهُودِيُّ فِي اصْطِنَاعِهِ وَإِتْقَانِهِ لِيُثْقِلَ فِي وَقْتِهِ وَسَاعَتِهِ (الَّتِي أَكَلْتَ) : أَيْ: فِي خَيْبَرَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ قَالَ: (مَا أَصَابَنِي شَيْءٌ مِنْهَا) ، أَيْ: مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ (إِلَّا وَهُوَ) : أَيْ: ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنَ الْأَلَمِ (مَكْتُوبٌ عَلَيَّ وَآدَمُ فِي طِينَتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَثَلٌ لِلتَّقْدِيرِ السَّابِقِ لَا تَعْيِينٌ فَإِنَّ كَوْنَ آدَمَ فِي طِينَتِهِ أَيْضًا مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ، كَمَا يُقَالُ: لَا، مَا لَاحَ كَوْكَبٌ وَمَا أَقَامَ ثَبِيرٌ فِي التَّأْبِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَبَّدًا اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] : أَيْ: نَخْلُقَهَا. وَقَضِيَّةُ الشَّاةِ تَأْتِي فِي بَابِ الْمُعْجِزَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب إثبات عذاب القبر]

[بَابُ إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 125 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ؟ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] .» وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، يُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

[4] بَابُ إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ. قَالَ تَعَالَى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَلَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَلَا مَانِعَ فِي الْعَقْلِ مِنْ أَنْ يُعِيدَ اللَّهُ الْحَيَاةَ فِي جُزْءٍ مِنَ الْجَسَدِ، أَوْ فِي الْجَمِيعِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنِ الْأَصْحَابِ فَيُثِيبَهُ وَيُعَذِّبَهُ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمَيِّتِ قَدْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ كَمَا يُشَاهَدُ فِي الْعَادَةِ، أَوْ أَكْلَتْهُ السِّبَاعُ وَالطُّيُورُ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ لِشُمُولِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ نُشَاهِدُ الْمَيِّتَ عَلَى حَالِهِ فَكَيْفَ يُسْأَلُ وَيُقْعَدُ وَيُضْرَبُ وَلَا يَظْهَرُ أَثَرٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مُمْكِنٌ وَلَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّاهِدِ وَهُوَ النَّائِمُ فَإِنَّهُ يَجِدُ لَذَّةً وَأَلَمًا يُحِسُّهُ وَلَا نُحِسُّهُ، وَكَذَا يَجِدُ الْيَقْظَانُ لَذَّةً وَأَلَمًا يَسْمَعُهُ وَيَتَفَكَّرُ فِيهِ وَلَا يُشَاهِدُ ذَلِكَ جَلِيسُهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُوحِي بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَلَا يَرَاهُ أَصْحَابُهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 125 - (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) : هُوَ وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ. وَهُوَ أَبُو عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْحَارِثِيُّ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَافْتَتَحَ الرَّيَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ وَالنَّهْرَوَانَ، وَمَاتَ بِالْكُوفَةِ. وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَعُمَارَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَعَازِبُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ (الْمُسْلِمُ) : وَفِي مَعْنَاهُ الْمُؤْمِنُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَيَشْمَلُ الْمُذَكَّرَ

وَالْمُؤَنَّثَ أَوْ حُكْمُهَا يُعْرَفُ بِالتَّبَعِيَّةِ (إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ) : التَّخْصِيصُ لِلْعَادَةِ أَوْ كُلُّ مَوْضِعٍ فِيهِ مَقَرُّهُ فَهُوَ قَبْرُهُ، وَالْمَسْئُولُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: سُئِلَ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ " يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ "، أَيْ: يُجِيبُ بِأَنْ لَا رَبَّ إِلَّا اللَّهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ، وَبِأَنَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ (فَذَلِكَ: أَيْ: فَمِصْدَاقُ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ الْجَوَابِ الَّتِي يُعْطِيهَا جَعَلَ إِذَا ظَرْفًا لِيَشْهَدَ وَالْفَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْآيَةَ سَبَبٌ لِمَا فِي الْحَدِيثِ دُونَ الْعَكْسِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَاءَ تَفْرِيعِيَّةٌ أَوْ تَفْصِيلِيَّةٌ (قَوْلُهُ) : أَيْ: تَعَالَى كَمَا فِي نُسْخَةٍ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] : أَيْ يُجْرِي لِسَانَهُمْ {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] : وَهُوَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ الْمُتَمَكِّنَةُ فِي الْقَلْبِ بِتَوْفِيقِ الرَّبِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاللَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ اهـ. وَهَذَا مُقْتَبَسٌ مِنْ: قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلًا كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] وَهِيَ النَّخْلَةُ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحِ، قِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُثَبِّتُ وَكَذَا {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم: 27] : بِأَنْ لَا يَزَالُوا عَنْهُ إِذَا فُتِنُوا وَلَمْ يَرْتَابُوا بِالشُّبُهَاتِ وَإِنْ أُلْقُوا فِي النَّارِ {وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] أَيِ: الْبَرْزَخِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ: فِي الْقَبْرِ عِنْدَ السُّؤَالِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا وَقَعَ بِهِ التَّصْرِيحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَعَادَ الْجَارَّ لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ فِي التَّثْبِيتِ. (وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ} [إبراهيم: 27] مُبْتَدَأٌ، أَيْ: آيَةُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] : أَيْ إِلَى قَوْلِهِ {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] أَيِ الْكَافِرِينَ {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] (نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ) : أَيْ: فِي إِثْبَاتِهِ، قَالَ فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى عَذَابِ الْمُؤْمِنَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ؟ قُلْتُ: لَعَلَّهُ سَمَّى أَحْوَالَ الْعَبْدِ فِي الْقَبْرِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى تَغْلِيبِ فِتْنَةِ الْكَافِرِ عَلَى فِتْنَةِ الْمُؤْمِنِ تَرْهِيبًا؛ وَلِأَنَّ الْقَبْرَ مَقَامُ الْهَوْلِ وَالْوَحْشَةِ، وَلِأَنَّ مُلَاقَاةَ الْمَلَكَيْنِ مِمَّا يَهِيبُ الْمُؤْمِنَ أَيْضًا اهـ. وَفِيهِ: أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ مُجْمَلًا غَايَتُهُ أَنَّ عَذَابَ الْمُؤْمِنِ الْفَاسِقِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْقُرْآنِ فِي اقْتِصَارٍ عَلَى حُكْمِ الْفَرِيقَيْنِ، كَمَا وَرَدَ فِي إِعْطَاءِ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَخِفَّةِ الْمِيزَانِ وَثِقَلِهِ وَأَمْثَالِهَا، وَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الدَّلِيلِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُخَالِفِ إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ. (يُقَالُ لَهُ) ، أَيْ: لِصَاحِبِ الْقَبْرِ (مَنْ رَبُّكَ) ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَزَالَ اللَّهُ الْخَوْفَ عَنْهُ وَثَبَّتَ لِسَانَهُ فِي جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ (فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ) : زَادَ فِي الْجَوَابِ تَبَجُّحًا: أَوْ مَنْ نَبِيُّكَ مُقَدَّرٌ فِي السُّؤَالِ، أَوْ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ التَّوْحِيدِ يَسْتَلْزِمُهُ إِذْ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ دُونَهُ، وَزَادَ فِي " الْمَصَابِيحِ ": وَالْإِسْلَامُ دِينِي، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُنَعَّمًا فِي الْقَبْرِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَالْحَيْرَةُ وَالدَّهْشَةُ وَالْوَحْشَةُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى جَوَابِهِمَا فَيَكُونَ مُعَذَّبًا فِيهِ. قِيلَ: وَلَمْ يُذْكَرْ حَالُ الْكَافِرِ لِأَنَّ الضِّدَّ أَقْرَبُ خُطُورًا بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ ضِدِّهِ فَاكْتَفَى بِهِ عَنْهُ (فَإِنَّهُ) : (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

126 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 126 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الْعَبْدَ) : الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ (إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ) : شَرْطٌ وَ " أَتَاهُ " جَوَابُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ (وَتَوَلَّى) : أَيْ: أَدْبَرَ وَأَعْرَضَ (عَنْهُ أَصْحَابُهُ) : أَيْ: عَنْ قَبْرِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِالْأَكْثَرِ أَوْ عَنْ وَضْعِهِ، وَالْمَعْنَى دَفَنُوا وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْأَصْحَابِ نَظَرًا لِلْغَالِبِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ (إِنَّهُ) : بِالْكَسْرِ وَهُوَ إِمَّا حَالٌ بِحَذْفِ الْوَاوِ كَمَا فِي أَحَدِ وَجْهَيْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] أَيْ: وَوُجُوهُهُمْ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ وَهُوَ عَلَى حَدِّ كَلِمَتِهِ: فُوهُ إِلَى فِي، أَوْ يَكُونُ أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ فَيَكُونُ " أَتَاهُ " حَالًا مِنْ فَاعِلِ يَسْمَعُ وَقَدْ مَقَدَّرَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِذَا ظَرْفًا مَحْضًا، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الْعَبْدَ (لَيَسْمَعُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ لِلتَّأْكِيدِ (قَرْعَ نِعَالِهِمْ) : بِكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ نَعْلٍ، قِيلَ أَيْ: يَسْمَعُ صَوْتَهَا لَوْ كَانَ حَيًّا فَإِنَّ جَسَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَلَكُ فَيُقْعِدَهُ مَيِّتٌ لَا يُحِسُّ بِشَيْءٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِذْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ يَعْلَمُ مَنْ يُكَفِّنُهُ وَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ وَمَنْ يَحْمِلُهُ وَمَنْ يَدْفِنُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ صَوْتَ دَقِّهَا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حَيَاةِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ لِأَنَّ الْإِحْسَاسَ بِدُونِ الْحَيَاةِ مُمْتَنِعٌ عَادَةً، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ اهـ. وَلَعَلَّ تَوَقُّفَ الْإِمَامِ فِي أَنَّ الْإِعَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِجُزْءِ الْبَدَنِ أَوْ كُلِّهِ. قَالَ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ": يَجُوزُ الْمَشْيُ بِالنَّعْلِ فِي الْقُبُورِ (أَتَاهُ مَلَكَانِ) : أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ زَمَانٌ طَوِيلٌ (فَيُقْعِدَانِهِ) : مِنَ الْإِقْعَادِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: فَيُجْلِسَانِهِ مِنَ الْإِجْلَاسِ، وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْقُعُودَ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسَ فِي مُقَابَلَةِ الِاضْطِجَاعِ وَالِاسْتِلْقَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا حُكِيَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ شُمَيْلٍ مَثَلَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ فَقَالَ: اجْلِسْ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَسْتُ مُضْطَجِعًا فَأَجْلِسَ، قَالَ: كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلِ اقْعُدْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِقْعَادِ الْإِيقَاظُ وَالتَّنْبِيهُ، وَإِنَّمَا يُسْأَلَانِ عَنْهُ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ مِنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ وَالْهَيْبَةِ وَالدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ فَيُقْعِدَانِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ مَنْ رَوَى فَيُقْعِدَانِهِ ظَنَّ أَنَّ اللَّفْظَيْنِ يُنَزَّلَانِ فِي الْمَعْنَى مَنْزِلَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ فَاتَهُ دِقَّةُ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا نَهَى كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ عَنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقُعُودُ وَالْجُلُوسُ مُتَرَادِفَانِ، وَاسْتِعْمَالُ الْقُعُودِ مَعَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ مَعَ الِاضْطِجَاعِ مُنَاسَبَةٌ لَفْظِيَّةٌ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ إِذَا كَانَا مَذْكُورَيْنِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُذْكَرْ إِلَّا أَحَدُهُمَا فَلَمْ نَقُلْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَقُولُ: صُرِّحَ فِي الْقَامُوسِ بِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ حَيْثُ قَالَ: الْقُعُودُ الْجُلُوسُ أَوْ هُوَ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسُ مِنَ الضَّجْعَةِ، وَمِنَ السُّجُودِ اهـ. وَيُؤَيِّدُ اللُّغَةَ الثَّانِيَةَ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْقَعْدَةَ الْأُولَى وَالْقَعْدَةَ الْأُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (فَيَقُولَانِ) : أَيْ لَهُ (مَا كُنْتَ تَقُولُ) : أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ كُنْتَ تَقُولُهُ، أَيْ: تَعْتَقِدُ فِي هَذَا الرَّجُلِ) ، أَيْ: فِي شَأْنِهِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَفِي الْإِشَارَةِ إِيمَاءٌ إِلَى تَنْزِيلِ الْحَاضِرِ الْمَعْنَوِيِّ مَنْزِلَةَ الصُّورِيِّ مُبَالَغَةً (لِمُحَمَّدٍ) : بَيَانٌ مِنَ الرَّاوِي لِلرَّجُلِ، أَيْ: لِأَجْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَشُرَّاحُ الْمَصَابِيحِ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لِمُحَمَّدٍ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِ الرَّسُولِ، وَالتَّعْبِيرُ بِمُحَمَّدٍ دُونَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ يُؤْذِنُ بِذَلِكَ اهـ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَدُعَاؤُهُ بِالرَّجُلِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَكِ، فَعَبَّرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَعْظِيمٌ امْتِحَانًا لِلْمَسْئُولِ لِئَلَّا يَتَلَقَّنَ تَعْظِيمَهُ عَنْ عِبَارَةِ الْقَائِلِ: ثُمَّ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ: «مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ» ، فَيَقُولُ إِلَخْ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِشَارَةِ مَا قِيلَ مِنْ رَفْعِ الْحُجُبِ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَبَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَرَاهُ وَيَسْأَلَ عَنْهُ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ عَلَى أَنَّهُ مَقَامُ امْتِحَانٍ، وَعَدَمُ رُؤْيَةِ شَخْصِهِ الْكَرِيمِ أَقْوَى فِي الِامْتِحَانِ. قُلْتُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَنْ أَدْرَكَهُ فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَشَرَّفَ بِرُؤْيَةِ طَلْعَتِهِ الشَّرِيفَةِ. (فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ) : أَيْ فِي جَوَابِهِ لَهُمَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالتَّوْحِيدِ كَمَا مَرَّ (أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) : لَا كَمَا زَعَمَتِ النَّصَارَى مِنْ أُلُوهِيَّةِ نَبِيِّهِمْ، وَلَا كَمَا زَعَمَتِ الْفِرَقُ الضَّالَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولِهِ (فَيُقَالُ لَهُ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى لِسَانِهِمَا تَعْجِيلًا لِمَسَرَّتِهِ وَتَبْشِيرًا لِعَظِيمِ نِعْمَتِهِ (انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ) : أَيْ: لَوْ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَلَمْ تُجِبِ الْمَلَكَيْنِ (قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ) : أَيْ: بِمَقْعَدِكَ هَذَا (مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ) ، أَيْ: بِإِيمَانِكَ، وَالْقُعُودُ هُنَا أَيْضًا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْأَعَمِّ (فَيَرَاهُمَا) ، أَيِ: الْمَقْعَدَيْنِ (جَمِيعًا) : لِيَزْدَادَ فَرَحُهُ (وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ (فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي) أَيْ: حَقِيقَةَ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَمْ لَا (كُنْتُ أَقُولُ) ، أَيْ: فِي الدُّنْيَا (مَا يَقُولُ النَّاسُ) ، أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُنَافِقِ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ تَقِيَّةً لَا اعْتِقَادًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَقُولُ فِي الْقَبْرِ شَيْئًا أَوْ يَقُولُ: لَا أَدْرِي فَقَطْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي الدُّنْيَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ الْكَافِرُ أَيْضًا دَفْعًا لِعَذَابِ الْقَبْرِ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنْ أَرَادَ بِالنَّاسِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ حَتَّى فِي الْمُنَافِقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ قَوْلِ اللِّسَانِ، بَلِ اعْتِقَادُ الْقَلْبِ وَإِنْ أَرَادَ مَنْ هُوَ لِصِفَتِهِ فَهُوَ جَوَابٌ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُ اهـ. وَالثَّانِي أَظْهَرُ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالنَّاسِ الْكُفَّارُ وَمُرَادُهُ بَيَانُ الْوَاقِعِ لَا الْجَوَابُ النَّافِعُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِالنَّاسِ الْمُسْلِمُونَ لَا مَحْذُورَ أَيْضًا فِي كَذِبِهِمْ، إِذْ هَذَا دَأْبُهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18] أَيْ فِي قَوْلِهِمْ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] (فَيُقَالُ) ، أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (لَا دَرَيْتَ) ، أَيْ: لَا عَلِمْتَ مَا هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ (وَلَا تَلَيْتَ) أَيْ: لَا تَبِعْتَ النَّاجِينَ يَعْنِي مَا وَقَعَ مِنْكَ التَّحْقِيقُ وَالتَّسْدِيدُ وَلَا صَدَرَ مِنْكَ الْمُتَابَعَةُ وَالتَّقْلِيدُ، وَقِيلَ: دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، أَيْ: لَا قَرَأْتَ، فَأَصْلُهُ تَلَوْتَ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِازْدِوَاجِ دَرَيْتَ أَيْ: مَا عَلِمْتَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، أَيِ: الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ رَسُولٌ، وَمَا قَرَأْتَ كِتَابَ اللَّهِ لِتَعْلَمَهُ مِنْهُ، أَيْ: بِالدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ، وَيُنْبِئُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ: ( «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولَانِ: مَا يُدْرِيكَ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ» ) . كَذَا فِي " الْأَزْهَارِ "، وَقِيلَ: لَا تَلَيْتَ لَا اتَّبَعْتَ الْعُلَمَاءَ بِالتَّقْلِيدِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ قَوْلُهُ: وَلَا تَلَيْتَ مِنْ تَلَا يَتْلُو إِذَا قَرَأَ، أَيْ: وَلَا قَرَأْتَ الْكِتَابَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، أَيْ: بِدَوَامِ الْجَهْلِ أَوْ إِخْبَارٌ. وَقِيلَ: رِوَايَةٌ وَلَا تَلَيْتَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ: وَلَا أَتْلَيْتَ مِنْ أَتْلَاهُ إِذَا اتَّبَعَهُ، فَالْمَعْنَى مَا عَلِمْتَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ حَقِيقَةَ نُبُوَّتِهِ، وَلَا اتَّبَعْتَ الْعُلَمَاءَ بِالتَّقْلِيدِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا. اهـ. هَذَا وَفِي " الْقَامُوسِ " تَلَوْتُهُ كَدَعَوْتُهُ وَرَمْيَتُهُ تَبِعْتُهُ وَالْقُرْآنَ أَوْ كُلَّ كَلَامٍ قَرَأْتُهُ وَأَتْلَيْتُهُ إِيَّاهُ اتَّبَعْتُهُ، فَبِهَذَا يَظْهَرُ تَكَلُّفُ بَعْضٍ وَخَطَأُ بَعْضٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي " الْأَزْهَارِ " فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُكَلِّمُ الْمَلَكَانِ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ، وَكَيْفَ يَسْأَلَانِهِمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ فِي الْآفَاقِ وَالْأَطْرَافِ وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَأَيُّ فَائِدَةٍ مِنْ سُؤَالِ اثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ؟ قِيلَ: يَكُونُ لَهُمَا أَعْوَانٌ كَمَا لِمَلَكِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْأَرْضِ مَكْشُوفٌ لَهُمَا وَفِي نَظَرِهِمَا كَمَا لِمَلَكِ الْمَوْتِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَسْأَلُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْآخَرَ الْكَافِرِينَ اهـ.

وَفِي قَوْلِ الْأَخِيرِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: حِكْمَةُ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ عِوَضَ الْمَلَكَيْنِ الْكَاتِبَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَيُضْرَبُ) : أَيِ الْكَافِرُ (بِمَطَارِقَ) : وَفِي " الْمَصَابِيحِ: بِمِطْرَقَةٍ وَهِيَ آلَةُ الضَّرْبِ (مِنْ حَدِيدٍ) : لِأَنَّهُ مِنْ بَيْنِ الْفِلِزَّاتِ أَشَدُّ شَدِيدٍ (ضَرْبَةً) ، أَيْ: بَيْنَ أُذُنَيْهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَفْرَدَ الضَّرْبَةَ وَجَمَعَ الْمَطَارِقَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: مَعِي جِيَاعًا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمِطْرَقَةِ مِطْرَقَةٌ بِرَأْسِهَا مُبَالَغَةً اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَطَارِقَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ سَوَاءٌ يَكُونُ أَقَلَّهُ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ " ضَرْبَةً " دُفْعَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الضَّرْبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: كَانَ وَجْهُ إِفْرَادِهَا مَعَ جَمْعِ الْمَطَارِقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَصَارَتْ كَالضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ صُورَةً. ثُمَّ قَالَ: وَفِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ نَظَرٌ لِأَنَّ فِيهِ إِخْرَاجَ الْمَطَارِقِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ فِي النَّكَالِ وَالْعَذَابِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ لِذَلِكَ (فَيَصِيحُ) ، أَيْ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ مِنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ (صَيْحَةً يَسْمَعُهَا) ، أَيْ: تِلْكَ الصَّيْحَةَ (مَنْ يَلِيهِ) ، أَيْ: يَقْرُبُ مِنْهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْمَلَائِكَةِ، وَعَبَّرَ بِمَنْ تَغْلِيبًا لِلْمَلَائِكَةِ لِشَرَفِهِمْ، وَلَا يُذْهَبُ فِيهِ إِلَى الْمَفْهُومِ مِنْ أَنَّ مَنْ بَعُدَ لَا يَسْمَعُ لِمَا وَرَدَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مِنْ أَنَّهُ يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَالْمَفْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمَنْطُوقَ (غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ) ، أَيِ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ سُمِّيَ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا ثَقُلَا عَلَى الْأَرْضِ وَنَصَبَ غَيْرَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَاسْتُثْنِيَا لِأَنَّهُمَا بِمَعْزِلٍ عَنْ سَمَاعِ ذَلِكَ لِئَلَّا يَفُوتَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْإِيمَانُ بِهِ لَوْ سَمِعُوهُ ضَرُورِيًّا، وَالْإِيمَانُ الضَّرُورِيُّ لَا يُفِيدُ ثَوَابًا فَيَرْتَفِعَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ، وَقِيلَ: لَوْ سَمِعُوهُ لَأَعْرَضُوا عَنِ التَّدَابِيرِ وَالصَّنَائِعِ وَنَحْوِهِمَا، فَيَنْقَطِعَ الْمَعَاشُ وَيَخْتَلُّ نِظَامُ الْعَالَمِ، وَلِذَا قِيلَ: لَوْلَا الْحَمْقَى لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْغَفْلَةُ رَحْمَةٌ، وَقِيلَ: لَوْلَا الْأَمَلُ لَاخْتَلَّ الْعَمَلُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، أَيْ: بِحَسَبِ الْمَعْنَى (وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ) : قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ انْتَهَتْ إِلَى قَوْلِهِ: " فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا " فَيُحْمَلُ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْأَكْثَرِ فَتَدَبَّرْ.

127 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 127 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ» ) ، أَيْ: أُظْهِرَ لَهُ مَكَانُهُ الْخَاصُّ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي عَرْضَ مَقْعَدٍ آخَرَ فَرْضِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ (بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) ، أَيْ: طَرَفَيِ النَّهَارِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِمَا الدَّوَامُ (إِنْ كَانَ) ، أَيِ: الْمَيِّتُ (مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ، أَيْ: فَالْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ مِنْ مَقَاعِدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ فَمَقْعَدُهُ مِنْ مَقَاعِدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ ( «وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُبَشَّرُ بِمَا لَا يَكْتَنِهُ كُنْهَهُ، وَيَفُوزُ بِمَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَبِالْعَكْسِ؟ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ إِذَا اتَّحَدَا دَلَّ الْجَزَاءُ عَلَى الْفَخَامَةِ كَقَوْلِهِ: مَنْ أَدْرَكَ الضَّمَانَ فَقَدْ أَدْرَكَ (فَيُقَالُ) ، أَيْ: لِكُلٍّ مِنْهُمَا (هَذَا) ، أَيِ: الْمَقْعَدُ الْمَعْرُوضُ عَلَيْكَ (مَقْعَدُكَ) الَّذِي أَنْتَ مُسْتَقِرٌّ فِي نَعِيمِ عَرْضِهِ أَوْ جَحِيمِهِ وَمُسْتَمِرٌّ (حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ) . قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَقْعَدِ، فَالْمَعْنَى هَذَا مَقْعَدُكَ تَسْتَقِرُّ فِيهِ حَتَّى تُبْعَثَ إِلَى مِثْلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] أَيْ: مِثْلُ الَّذِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ

رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ; أَيْ: إِلَى لِقَائِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْمَقْعَدِ الْمَعْرُوضِ، أَوْ إِلَى الْمَقْعَدِ الَّذِي هُوَ الْقَبْرُ وَ (إِلَى) بِمَعْنَى مِنْ، أَيِ: الْمَعْرُوضُ عَلَيْكَ مَقْعَدُكَ بَعْدُ، وَلَا تَدْخُلْهُ الْآنَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ، أَوِ الْقَبْرُ مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ مِنْهُ إِلَى مَقْعَدِكَ الْآخَرِ الْمَعْرُوضِ عَلَيْكَ اهـ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ.، أَيْ: هَذَا الْآنَ مَقْعَدُكَ إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ فَتَرَى عِنْدَ ذَلِكَ كَرَامَةً أَوْ هَوَانًا تَنْسَى عِنْدَهُ هَذَا الْمَقْعَدَ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَهَذَا لَفْظُ " الْمَصَابِيحِ " وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ: «حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .، أَيْ: هَذَا مُسْتَقَرُّكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى مَحْشَرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ اهـ. وَفِي " الْأَزْهَارِ: الْمُرَادُ بِالْقِيَامَةِ هُنَا النَّفْخَةُ الْأُولَى لَا الْأُخْرَى، لِأَنَّ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ. قُلْتُ: لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: (هَذَا مَقْعَدُكَ) مُطْلَقٌ مُتَنَاوَلٌ لِلْعَذَابِ وَغَيْرِهِ مَعَ أَنَّ النَّفْخَةَ الْأُولَى حَالَةُ إِمَاتَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَغَشَيَانٍ لِلْأَمْوَاتِ، وَمَا ثَمَّ هُنَاكَ بَعْثٌ فَتَأَمَّلَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

128 - «وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَقَالَ: (نَعَمْ، عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ) . قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 128 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا) ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رُؤْيَةُ الْيَهُودِيَّةِ لِعَائِشَةَ الْمُحَرَّمُ عِنْدَنَا لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] الْمُقْتَضِي لِحُرْمَةِ كَشْفِ الْمُسْلِمَةِ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا لِكَافِرَةٍ لِأَنَّهَا قَدْ تَصِفُهَا لِكَافِرٍ فَيَفْتِنُهَا اهـ. وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ كُنَّ يَحْتَجِبْنَ عَنْ نِسَاءِ الْكُفَّارِ (فَذَكَرَتْ) ، أَيِ: الْيَهُودِيَّةُ (عَذَابَ الْقَبْرِ، فَقَالَتْ) ، أَيِ: الْيَهُودِيَّةُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا أَوْ تَفْرِيعًا (لَهَا) ، أَيْ: لِعَائِشَةَ (أَعَاذَكِ اللَّهُ) ، أَيْ: حَفِظَكِ وَأَجَارَكِ (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) ، جَازَ عِلْمُ الْيَهُودِيَّةِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ لِقِرَاءَتِهَا فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ لِسَمْعِهَا مِمَّنْ قَرَأَ فِي التَّوْرَاةِ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ لَمْ تَعْلَمْ وَلَمْ تَسْمَعْ ذَلِكَ (فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) ، أَيْ: أَحَقٌّ هُوَ؟ ( «فَقَالَ: نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ» ) .، أَيْ: ثَابِتٌ وَمُتَحَقِّقٌ وَكَائِنٌ وَصِدْقٌ (قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدُ) ، أَيْ: بَعْدَ سُؤَالِي ذَلِكَ ( «صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ) . وَهُوَ يَحْتَمِلُ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرٌ، وَمِنْ ثَمَّ أَوْجَبَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَا عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلُ، أَوْ عَلِمَ وَلَمْ يَتَعَوَّذْ حَتَّى سَمِعَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ فَتَعَوَّذَ، أَوْ كَانَ يَتَعَوَّذُ وَلَمْ تَشْعُرْ بِهِ عَائِشَةُ، وَقِيلَ: كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُ قَبْلَ هَذَا سِرًّا، فَلَمَّا رَأَى تَعَجُّبَهَا مِنْهُ أَعْلَنَ بِهِ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ; لِيَثْبُتَ فِي قَلْبِهَا وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ، وَلِيَشْتَهِرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَيَتَرَسَّخَ فِي عَقَائِدِهِمْ، وَلِيَكُونُوا عَلَى خِيفَةٍ مِنْهُ، وَجَازَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَبْلَ هَذَا يَتَعَوَّذُ مِنْهُ سِرًّا مُتَوَقِّفًا فِي شَأْنِ أُمَّتِهِ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ تَعَوَّذَ مِنْهُ أَعَاذَنَا اللَّهُ بِلُطْفِهِ مِنْهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: رَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمِعَ الْيَهُودِيَّةَ قَالَتْ ذَلِكَ فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَوَجَدْتُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «لَا أَدْرِي أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَمْ أَشْعُرْ بِهِ، أَوْ تَعَوَّذَ بِقَوْلِ الْيَهُودِيَّةِ» ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى

هَذَا فِيهِ تَوَاضُعٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِرْشَادٌ لِلْخَلْقِ إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ مِنْ أَيِّ شَخْصٍ كَانَ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَعْتَمِدُ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الْيَهُودِيَّةِ، بَلْ إِنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى الْوَحْيِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " وَمَا نُقِلَ عَنِ الطَّحَاوِيِّ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ " فَهُوَ غَرِيبٌ لِأَنَّ نَقْلَهُ نَقْلٌ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْمَشْهُورِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ فِي الْغَايَةِ، لَا سِيَّمَا وَهَذَا لَيْسَ مِمَّا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَيَجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِهِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُ لَوْ نُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ مِنْ أَصْحَابِ مَذْهَبِهِ كَانَ سَنَدًا مُعْتَمَدًا عِنْدَهُ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

129 - «وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ. وَإِذَا أَقْبُرُ سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ، فَقَالَ: (مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟) قَالَ رَجُلٌ: أَنَا. قَالَ: (فَمَتَى مَاتُوا؟) قَالَ: فِي الشِّرْكِ. فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ) ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ) . قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. قَالَ: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَقَالَ: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) . قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالَ: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ) . قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 129 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَائِطٍ) ، أَيْ: كَائِنٌ فِي بُسْتَانٍ (لِبَنِي النَّجَّارِ) : قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ (عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ) : حَالٌ مِنَ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ (وَنَحْنُ مَعَهُ) : حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِأَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْحَالِ (إِذْ حَادَتْ) : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ بِالْجِيمِ مِنَ الْجَوْدَةِ بِالضَّمِّ أَيْ مَالَتْ وَنَفَرَتْ (بِهِ) ، أَيْ: مُلْتَبِسَةٌ بِهِ، فِيهِ حَالٌ، وَإِذْ بِسُكُونِ الذَّالِ لِلْمُفَاجَأَةِ بَعْدَ بَيْنَا. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي (فَكَادَتْ تُلْقِيهِ) : مِنَ الْإِلْقَاءِ، أَيْ: تُسْقِطُهُ وَتَرْمِيهِ عَنْ ظَهْرِهَا (وَإِذَا أَقْبُرُ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ (سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ) : إِذْا بِالْأَلِفِ لِلْمُفَاجَأَةِ، وَالْوَاوِ لِلْحَالِ، أَيْ: نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا أَقْبُرُ أَيْ ظَهَرَتْ لَنَا قُبُورٌ مَعْدُودَةٌ فَاجَأْنَاهَا (فَقَالَ: مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟) ، أَيْ: ذَوَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَتَارِيخَ وَفَاتِهِمْ وَأَيَّامَ حَيَاتِهِمْ (قَالَ رَجُلٌ: أَنَا) .، أَيْ: أَعْرِفُهُمْ (قَالَ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا كُنْتَ تَعْرِفُهُمْ (فَمَتَى مَاتُوا؟) ، أَيْ: فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ بَعْدَهَا مُشْرِكِينَ أَوْ مُؤْمِنِينَ (قَالَ: فِي الشِّرْكِ) .، أَيْ: فِي زَمَنِهِ أَوْ صِفَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ بَعْدَ بَعْثَتِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا» أَيْ بِالْعَذَابِ فِيهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا حَمَلْتُهُ عَلَى ذَلِكَ لِيُوَافِقَ الْأَصَحَّ أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ لَا عِقَابَ عَلَيْهِمُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ عَلَى مَا حَقَّقُوا فِيهِ نَادِرُ الْوُجُودِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ (فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ) ، أَيْ: جَنْسَ الْإِنْسَانِ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ لِمَا فِي الذِّهْنِ وَخَبَرُهُ بَيَانٌ لَهُ كَهَذَا أَخُوكَ، وَأَصْلُ الْأُمَّةِ كُلُّ جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهُمْ أَمْرٌ وَاحِدٌ إِمَّا دِينٌ أَوْ زَمَانٌ أَوْ مَكَانٌ (تُبْتَلَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: تُمْتَحَنُ (فِي قُبُورِهَا) : ثُمَّ تَنْعَمُ أَوْ تُعَذَّبُ ( «فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا» ) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ: لَوْلَا مَخَافَةُ عَدَمِ التَّدَافُنِ إِذَا كُشِفَ لَكُمْ (لَدَعَوْتُ اللَّهَ) ، أَيْ: سَأَلْتُهُ (أَنْ يُسْمِعَكُمْ) : مِنَ الْإِسْمَاعِ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى تَضْمِينِ سَأَلْتُهُ) أَنْ يَجْعَلَكُمْ سَامِعِينَ (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً. قَالَ فِي " الْأَزْهَارِ ": قِيلَ: الْمَعْنَى الْمَانِعُ مِنَ الدُّعَاءِ هُوَ الْخَوْفُ وَالْحَيْرَةُ وَالدَّهْشَةُ وَانْخِلَاعُ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: الْمَانِعُ تَرْكُ الْإِعَانَةِ فِي الدَّفْنِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَوْ سَمِعُوا ذَلِكَ لَهَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خُوَيْصَةَ نَفْسِهِ وَعَمَّهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَفْضَى بِهِمْ إِلَى تَرْكِ التَّدَافُنِ وَخَلَعَ الْخَوْفُ أَفْئِدَتَهُمْ حَتَّى لَا يَكَادُوا يَقْرَبُونَ جِيفَةَ مَيِّتٍ (الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ) ، أَيِ: الَّذِي أَسْمَعُهُ مِنَ الْقَبْرِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مِثْلُ الَّذِي أَسْمَعُهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَسْمَعَ، أَيْ: أَنْ يُوصَلَ إِلَى آذَانِكُمْ أَصْوَاتُ الْمُعَذَّبِينَ فِي الْقَبْرِ، فَإِنَّكُمْ لَوْ سَمِعْتُمْ ذَلِكَ تَرَكْتُمُ التَّدَافُنَ مِنْ خَوْفِ قَلْعِ صِيَاحِ الْمَوْتَى أَفْئِدَتَكُمْ، أَوْ خَوْفِ الْفَضِيحَةِ فِي الْقَرَائِبِ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» وَفِيهِ أَنَّ الْكَشْفَ بِحَسْبِ الطَّاقَةِ، وَمَنْ كُوشِفَ بِمَا لَا يَسَعُهُ يَطِيحُ وَيَهْلِكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ؟ وَوَجْهُ هَذَا التَّلَازُمِ أَنَّ الْكَشْفَ عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ يُؤَدِّي جَهَلَةَ

الْعَامَّةِ إِلَى تَرْكِ التَّدَافُنِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَيُؤَدِّي الْخَاصَّةَ إِلَى اخْتِلَاطِ عُقُولِهِمْ وَانْخِلَاعِ قُلُوبِهِمْ مِنْ تَصَوُّرِ ذَلِكَ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ، فَلَا يَقْرَبُونَ جِيفَةَ مَيِّتٍ، وَبِهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ كَيْفَ يَلِيقُ بِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتْرُكَ الدَّفْنَ الْمَأْمُورَ بِهِ حَذَرًا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ تَعْذِيبَ أَحَدٍ عَذَّبَهُ وَلَوْ فِي بَطْنِ الْحِيتَانِ وَحَوَاصِلِ الطُّيُورِ. (ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ) : تَأْكِيدٌ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي ( «فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ» ) ، أَيِ: اطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْكُمْ عَذَابَهَا ( «قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ» ) ، أَيْ: نَعْتَصِمُ بِهِ مِنْهَا (قَالَ: ( «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ) . قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) . وَلَعَلَّ تَقْدِيمَ عَذَابِ النَّارِ فِي الذِّكْرِ مَعَ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ مُقَدَّمٌ فِي الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ وَأَبْقَى وَأَعْظَمَ وَأَقْوَى. قَالَ: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، جَمْعُ فِتْنَةٍ وَهِيَ الِامْتِحَانُ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكْرِ وَالْبَلَاءِ وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ: بَدَلٌ مِنَ الْفِتَنِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ شُمُولِهَا لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَخْلُو مِنْهُمَا، أَيْ: مَا جُهِرَ وَأُسِرَّ، وَقِيلَ: مَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِ الْإِنْسَانِ، وَمَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ مِنَ الشِّرْكِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَذْمُومَاتِ الْخَوَاطِرِ. ( «قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» ) .، أَيْ: كُلِّ فِتْنَةٍ تَجُرُّ إِلَى عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ( «قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» ) . خُصَّ؛ فَإِنَّهُ أَكْبَرُ الْفِتَنِ حَيْثُ يَجُرُّ إِلَى الْكُفْرِ الْمُفْضِي إِلَى الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 130 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ: لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَالْآخَرُ: النَّكِيرُ. فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ. فَيَقُولُ: أَرْجِعُ. إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ. فَيَقُولَانِ نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 130 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ) ، أَيْ: دُفِنَ وَهُوَ قَيْدٌ غَالِبِيٌّ وَإِلَّا فَالسُّؤَالُ يَشْمَلُ الْأَمْوَاتِ جَمِيعَهَا، حَتَّى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَأَكَلَتْهُ السِّبَاعُ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُعَلِّقُ رُوحَهُ الَّذِي فَارَقَهُ بِجُزْئِهِ الْأَصْلِيِّ الْبَاقِي مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى حَالِهِ حَالَتَيِ النُّمُوِّ وَالذُّبُولِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّوحُ أَوَّلًا فَيَحْيَا وَيَحْيَا بِحَيَاتِهِ سَائِرُ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ لِيُسْأَلَ فَيُثَابَ أَوْ يُعَذَّبَ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ كُلِّهَا حَسْبَ مَا هِيَ عَلَيْهَا، فَيَعْلَمُ الْأَجْزَاءَ بِتَفَاصِيلِهَا وَيَعْلَمُ مَوَاقِعَهَا وَمَحَالِهَا، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَا هُوَ أَصْلٌ وَفَصْلٌ، وَيَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيقِ الرُّوحِ بِالْجُزْءِ الْأَصْلِيِّ مِنْهَا حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَتَعْلِيقِهِ بِهِ حَالَ الِاجْتِمَاعِ، فَإِنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ، بَلْ لَا يُسْتَبْعَدُ تَعْلِيقُ ذَلِكَ الرُّوحِ الشَّخْصِيِّ الْوَاحِدِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحُلُولِ حَتَّى يُمْنَعَ الْحُلُولُ فِي جُزْءٍ آخَرَ. (أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ) : مَنْظَرُهُمَا (أَزْرَقَانِ) : أَعْيُنُهُمَا، وَإِنَّمَا يَبْعَثُهُمَا اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لِمَا فِي السَّوَادِ وَزُرْقَةِ الْعَيْنِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْوَحْشَةِ، وَيَكُونُ خَوْفُهُمَا عَلَى الْكُفَّارِ أَشَدَّ لِيَتَحَيَّرُوا فِي الْجَوَابِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ، فَيُثَبِّتُهُمُ اللَّهُ فَلَا يَخَافُونَ وَيَأْمَنُونَ جَزَاءً لِخَوْفِهِمْ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا (يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ) : مَفْعُولٌ مِنْ أَنْكَرَ. بِمَعْنَى نَكِرَ

إِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا (وَالْآخَرُ: النَّكِيرُ) : فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ نَكِرَ بِالْكَسْرِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ فَهُمَا كِلَاهُمَا ضِدُّ الْمَعْرُوفِ، سُمِّيَا بِهِمَا لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَعْرِفْهُمَا، وَلَمْ يَرَ صُورَةً مِثْلَ صُورَتِهِمَا، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَمَثَّلَ الْمَلَكَانِ لِلْمَيِّتِ بِهَذَا اللَّوْنِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمَا مَبْغُوضَانِ، وَالزُّرْقَةُ أَبْغَضُ الْأَلْوَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ لِأَنَّ الرُّومَ أَعْدَاؤُهُمْ وَهُمْ زُرْقُ الْعُيُونِ غَالِبًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالزُّرْقَةِ الْعَمَى. قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102] ، أَيْ: عُمْيًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: فَيُقَيَّضُ أَيْ يُقَدَّرُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّوَادِ قُبْحَ الصُّورَةِ وَفَظَاعَةَ الْمَنْظَرِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ، وَبِالزُّرْقَةِ تَقْلِيبَ الْبَصَرِ فِيهِ وَتَحْدِيدَ النَّظَرِ إِلَيْهِ. يُقَالُ: زَرِقَتْ عَيْنُهُ نَحْوِي إِذَا انْقَلَبَتْ وَظَهَرَ بَيَاضُهَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ (فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟) : قِيلَ يُصَوَّرُ صُورَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيُشَارُ إِلَيْهِ (فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) : هَذَا هُوَ الْجَوَابُ، وَذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ إِطْنَابٌ لِلْكَلَامِ ابْتِهَاجًا وَسُرُورًا وَافْتِخَارًا وَتَلَذُّذًا (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَأَشْهَدُ أَنَّ (مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) . وَلِذَا قَدْ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فِيمَا هُنَالِكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 17 - 18] إِلَخْ. فَأَطْنَبَ ; اسْتِلْذَاذًا بِمُخَاطَبَةِ الْحَقِّ وَاسْتِذْكَارًا بِنِعْمَتِهِ، كَذَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ لَيْسَ جَوَابًا شَرْعِيًّا لِتَوَقُّفِهِ عَلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَعَلَى التَّوْحِيدِ عِنْدَ الْكُلِّ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا دَلَالَةً عَلَى الْإِيمَانِ عَلَى جِهَةِ الْإِيقَانِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ الْآتِي ذِكْرُهُ حَيْثُ يَدَّعِي الْإِيمَانَ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ دِرَايَةٍ وَبُرْهَانٍ. (فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا؟) ، أَيِ: الْإِقْرَارُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَعِلْمُهُمَا بِذَلِكَ إِمَّا بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمَا بِذَلِكَ، أَوْ بِمُشَاهَدَتِهِمَا فِي جَبِينِهِ أَثَرَ السَّعَادَةِ وَشُعَاعَ نُورِ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ (ثُمَّ يُفْسَحُ) : مَجْهُولٌ مُخَفَّفٌ، وَقِيلَ: مُشَدَّدٌ أَيْ يُوَسَّعُ (لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا) : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بِذِرَاعِ الدُّنْيَا الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بِذِرَاعِ الْمَلَكِ، الْأَكْبَرِ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُهُ يُفْسَحُ قَبْرُهُ مِقْدَارَ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، فَجَعَلَ الْقَبْرَ ظَرْفًا لِلسَّبْعِينَ، وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى السَّبْعِينَ مُبَالَغَةً فِي السَّعَةِ (فِي سَبْعِينَ) ، أَيْ: ذِرَاعًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ.، أَيْ: فِي عَرْضِ سَبْعِينَ يَعْنِي طُولُهُ وَعَرْضُهُ كَذَلِكَ، قِيلَ: لِأَنَّهُ غَالِبُ أَعْمَارِ أُمَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَيَفْسَحُ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ سَنَةٍ عَبَدَ اللَّهَ فِيهَا ذِرَاعًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَثْرَةُ، وَلِذَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: مَدَّ بَصَرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ) ، أَيْ: يُجْعَلُ النُّورُ لَهُ فِي قَبْرِهِ الَّذِي وُسِّعَ عَلَيْهِ (ثُمَّ يُقَالُ لَهُ نَمْ) أَمْرٌ مِنْ نَامَ يَنَامُ (" فَيَقُولُ ") ، أَيِ: الْمَيِّتُ لِعَظِيمِ مَا رَأَى مِنَ السُّرُورِ (" أَرْجِعُ ") ، أَيْ: أُرِيدُ الرُّجُوعَ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُقَدَّرٌ (إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ) ، أَيْ: بِأَنَّ حَالِي طَيِّبٌ وَلَا حَزَنَ لِي لِيَفْرَحُوا بِذَلِكَ قَالَ: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26] فَيَقُولَانِ: أَيْ لَهُ مُعْرِضِينَ عَنِ الْجَوَابِ لِاسْتِحَالَتِهِ كَذَا قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ،

وَأَقُولُ: قَوْلُهُ (نَمْ) : مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ وَمُغْنٍ عَنِ الْإِطْنَابِ (كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ) : هُوَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي أَوَّلِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَقَدْ يُقَالُ لِلذَّكَرِ الْعَرِيسُ (الَّذِي لَا يُوقِظُهُ) : الْجُمْلَةُ صِفَةُ الْعَرُوسِ، وَإِنَّمَا شُبِّهَ نَوْمُهُ بِنَوْمَةِ الْعَرُوسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي طَيِّبِ الْعَيْشِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ فِي تَمَامِ طَيِّبِ الْعَيْشِ (إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ) . قَالَ الْمُظْهِرُ: عِبَارَةٌ عَنْ عِزَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَ أَهْلِهِ يَأْتِيهِ غَدَاةَ لَيْلَةِ زِفَافِهِ مَنْ هُوَ أَحَبُّ وَأَعْطَفُ فَيُوقِظُهُ عَلَى الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ (حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ) : هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقُولِ الْمَلَكَيْنِ، بَلْ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِعْلَامًا لِأُمَّتِهِ بِأَنَّ هَذَا النَّعِيمَ يَدُومُ لَهُ مَا دَامَ فِي قَبْرِهِ، وَحَتَّى مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ يَنَامُ طَيِّبَ الْعَيْشِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ (مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ مَوْضِعُ الضَّجْعِ وَهُوَ النَّوْمُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَتَّى بِنَمْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ إِشَارَةٌ إِلَى غَيْبَتِهِ عَنْهُمَا بِانْصِرَافِهِ عَنْهُمَا (وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ (سَمِعْتُ النَّاسَ) ، أَيِ: الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْكُفَّارَ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ (يَقُولُونَ قَوْلًا) : هُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (فَقُلْتُ مِثْلَهُ) أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ (وَلَا أَدْرِي) ، أَيْ: أَنَّهُ نَبِيٌّ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ أَيْ مَا شَعَرْتُ غَيْرَ ذَلِكَ الْقَوْلِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَوْ صِفَةٌ لِمِثْلِهِ، وَفِي الثَّانِي نَظَرٌ (فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ) ، أَيْ: بِالْوَحْيِ أَوْ بِرُؤْيَتِنَا فِي وَجْهِكَ أَثَرَ الشَّقَاوَةِ وَظُلْمَةَ الْكُفْرِ (أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ) ، أَيِ: الْقَوْلَ (فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ) ، أَيْ: لِلْقَبْرِ مِنْ قِبَلِهِمَا أَوْ مِنْ قِبَلِ مَلَكٍ آخَرَ (الْتَئِمِي) : أَيِ انْضَمِّي وَاجْتَمِعِي (عَلَيْهِ) ضَاغِطَةً لَهُ يَعْنِي ضَيِّقِي عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى حَقِيقَةِ الْخِطَابِ لَا أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لِتَعْذِيبِهِ وَعَصْرِهِ (فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ) ، أَيْ: يَجْتَمِعُ أَجْزَاؤُهَا عَلَيْهِ بِأَنْ يُقَرَّبَ كُلُّ جَانِبٍ مِنْ قَبْرِهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَضُمُّهُ وَيَعْصِرُهُ (فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ ضِلَعٍ وَهُوَ عَظْمُ الْجَنْبِ، أَيْ: تَزُولُ عَنِ الْهَيْئَةِ الْمُسْتَوِيَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا مِنْ شِدَّةِ الْتِئَامِهَا عَلَيْهِ وَشِدَّةِ الضَّغْطَةِ وَانْعِصَارِ أَعْضَائِهِ وَتَجَاوُزِ جَنْبَيْهِ مِنْ كُلِّ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ آخَرَ (فَلَا يَزَالُ فِيهَا) ، أَيْ: فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ فِي تُرْبَتِهِ ( «مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» ) . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِانْقِطَاعِ الْحِكَايَةِ مِنَ الْمَلَكَيْنِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

131 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ: لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهٌ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] الْآيَةَ. قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُفْتَحُ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَذَكَرَ مَوْتَهُ، قَالَ: وَيُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي! فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنَّ كَذَبَ فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا. قَالَ: وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، ثُمَّ يُقَيَّدُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ، مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ، لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا، فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، فَيَصِيرُ تُرَابًا، ثُمَّ يُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 131 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ) : بِالتَّخْفِيفِ وَالْمَدِّ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ بِالْقَصْرِ نَقَلَهُ الْكِرْمَانِيُّ (بْنِ عَازِبٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (يَأْتِيهِ مَلَكَانِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبَرَاءُ كَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَّا أَنَّ أَلْفَاظَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْبَرَاءِ: يَأْتِيهِ، أَيِ: الْمُؤْمِنُ مَلَكَانِ (فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتُسَكَّنُ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ أَعْجَمِيًّا صَارَ عَرَبِيًّا (فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ) ، أَيِ: الَّذِي اخْتَرْتَهُ مِنْ بَيْنِ الْأَدْيَانِ (فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ) ، أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟) ، أَيْ: مَا وَصْفُهُ لِأَنَّ (مَا) يُسْأَلُ بِهِ عَنِ الْوَصْفِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ، أَيْ: مَا وَصْفُهُ أَرَسُولٌ هُوَ، أَوْ مَا اعْتِقَادُكَ فِيهِ؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مَا) : بِمَعْنَى (مَنْ) لِيُوَافِقَ بَقِيَّةَ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: مَنْ نَبِيُّكَ (فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ) . وَفِي نُسْخَةٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَيَقُولَانِ لَهُ) ، أَيْ: لِلْمَيِّتِ (وَمَا يُدْرِيكَ؟) ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ وَأَخْبَرَكَ بِمَا تَقُولُ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالرِّسَالَةِ؟ وَقِيلَ: إِنَّمَا وَصَلَ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ هُنَا لِاتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ بِخِلَافِ مَا دِينُكَ وَمَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ (فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ) ، أَيِ: الْقُرْآنَ (فَآمَنْتُ بِهِ) ، أَيْ: بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ آمَنْتُ بِالنَّبِيِّ أَنَّهُ حَقٌّ (وَصَدَّقْتُ) ، أَيْ: صَدَّقْتُهُ بِمَا قَالَ، أَوْ صَدَّقْتُ بِمَا فِي الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُ فِيهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] وَ {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: 62] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ رَبِّي وَرَبَّ الْمَخْلُوقَاتِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ أَيْضًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ - وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 19 - 85] فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا دِينَ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ أَيْضًا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وَغَيْرُ ذَلِكَ. كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَرَأَيْتُ فِيهِ الْفَصَاحَةَ وَالْبَلَاغَةَ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ مُعْجِزٌ فَآمَنْتُ بِهِ أَوْ تَفَكَّرْتُ فِيمَا فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ، وَمِنْ ذِكْرِ الْغُيُوبِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْمَعَ مِنْ أَحَدٍ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ (فَذَلِكَ) ، أَيْ: وَصَدَاقُ هَذَا قَوْلُهُ، أَيْ: جَرَيَانُ لِسَانِهِ بِالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ هُوَ التَّثْبِيتُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] الْآيَةَ قَالَ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَيُنَادِي مُنَادٍ) ، أَيْ: لِلْمَلَكَيْنِ (مِنَ السَّمَاءِ) ، أَيْ: مِنْ جِهَتِهَا (أَنْ صَدَقَ عَبْدِي) : أَنْ مُفَسِّرَةٌ لِلنِّدَاءِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مَجْرُورًا بِتَقْدِيرِ اللَّامِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ مَعْنًى إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ (فَأَفْرِشُوهُ) : وَالْمَعْنَى صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يَقُولُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْإِكْرَامِ، وَلِذَا سَمَّاهُ عَبْدًا وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا فَأَفْرِشُوهُ بِهَمْزَةِ الْقَطْعِ (مِنَ الْجَنَّةِ) : وَالْفَاءُ فِيهِ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِذَا صَدَقَ عَبْدِي فَاجْعَلُوا لَهُ فَرْشًا مِنْ فَرْشِ الْجَنَّةِ، فَيَكُونُ أَفْرَشَ بِمَعْنَى فَرَشَ كَذَا قِيلَ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ فِي الْمَصَادِرِ الْإِفْرَاشُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا هُوَ أَفْرَشَ أَيْ أَقْلَعَ عَنْهُ، فَهَذَا اللَّفْظُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ بِإِلْحَاقِ الْأَلِفِ فِي الثُّلَاثِيِّ، فَلَوْ كَانَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ لَكَانَ حَقُّهُ الْوَصْلَ وَلَمْ نَجِدِ الرِّوَايَةَ إِلَّا بِالْقَطْعِ اهـ. لَكِنْ قَالَ فِي " الْقَامُوسِ ": أَفْرَشَ عَنْهُ أَقْلَعَهُ وَأَفْرَشَهُ أَعْطَاهُ فَرْشًا مِنَ الْإِبِلِ أَيْ صِغَارًا وَأَفْرَشَ فُلَانًا بِسَاطًا بَسَطَهُ لَهُ كَفَرَشَهُ فَرْشًا وَفَرَشَهُ تَفْرِيشًا. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: أَصْلُهُ أَفْرِشُوا لَهُ فَحَذَفَ لَامَ الْجَرِّ وَوَصَلَ الضَّمِيرَ بِالْفِعْلِ اتِّسَاعًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَعْطُوهُ فِرَاشًا مِنْهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اجْعَلُوهُ ذَا فَرْشٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْنِي عَنْ سَمَاعِهِ صِحَّةَ الرِّوَايَةِ اهـ. وَكُلُّهُ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ فِي الْقَامُوسِ. (وَأَلْبِسُوهُ) : بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَيِ اكْسُوهُ أَوْ أَعْطُوهُ لِبَاسًا (مِنَ الْجَنَّةِ) : أَيْ مِنْ حُلَلِهَا (وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ) ، أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ مُكَاشَفَةً كَذَا فِي " الْأَزْهَارِ "، وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا يَأْتِي (فَيُفْتَحُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَيُفْسَحُ أَيْ لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ) : - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَيَأْتِيهِ) ، أَيِ: الْمُؤْمِنَ (مِنْ رَوْحِهَا) ، أَيْ: بَعْضُ رَوْحِهَا، وَالرَّوْحُ: بِالْفَتْحِ الرَّاحَةُ وَنَسِيمُ الرِّيحِ (وَطِيبِهَا) ، أَيْ: بَعْضُ تِلْكَ الرَّائِحَةِ وَالطِّيبِ: أَيْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَمْ يُؤْتَ بِهَذَا التَّعْبِيرُ إِلَّا لِيُفِيدَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُوصَفُ كُنْهُهُ، وَكُلُّ طِيبٍ رَوْحٌ وَلَا عَكْسَ، وَقِيلَ: (مِنْ) زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ (وَيُفْسَحُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: تُفْتَحُ وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَدِّ الْبَصَرِ (لَهُ فِيهَا) ، أَيْ: فِي تُرْبَتِهِ وَهِيَ قَبْرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ الْآتِي وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: فِي رُؤْيَتِهِ وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ (مَدَّ بَصَرِهِ) : الْمَعْنَى أَنَّهُ يُرْفَعُ عَنْهُ الْحِجَابُ فَيَرَى مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرَاهُ. قِيلَ: نُصِبَ (مَدَّ) عَلَى الظَّرْفِ أَيْ مَدَاهُ وَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا الْبَصَرُ وَالْأَصْوَبُ أَنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ فَسْحًا قُدِّرَ مَدَّ بَصَرِهِ، وَقِيلَ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ أَنَّ هَذِهِ الْفُسْحَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُعْرَضُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَتِلْكَ عَنْ تَوْسِيعِ مَرْقَدِهِ عَلَيْهِ أَوْ كِلَاهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّوْسِعَةِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فِي الْأَعْمَالِ وَالدَّرَجَاتِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَدَّ بَصَرِهِ بِالْفَتْحِ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ فَلَهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ وَبِرَفْعِهِ فِي نُسَخٍ، وَيُؤَيِّدُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا السَّابِقُ (وَأَمَّا الْكَافِرُ فَذَكَرَ) ، أَيْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (مَوْتَهُ) ، أَيْ: حَالَ مَوْتِ الْكَافِرِ وَشِدَّتِهِ (قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَيُعَادُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَقِيلَ بِالتَّأْنِيثِ (رُوحُهُ) : أَيْ بَعْدَ الدَّفْنِ (فِي جَسَدِهِ) ، أَيْ: بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ (وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ) : أَيْ لَهُ مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ) : بِسُكُونِ الْهَاءِ فِيهِمَا بَعْدَ الْأَلِفِ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَحَيِّرُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ مِنْ حَيْرَتِهِ لِلْخَوْفِ، أَوْ لِعَدَمِ الْفَصَاحَةِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ لِسَانَهُ فِي فِيهِ (لَا أَدْرِي) : هَذَا كَأَنَّهُ بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: هَاهْ هَاهْ فَالْمَعْنَى لَا أَدْرِي شَيْئًا مَا أَوْ لَا أَدْرِي مَا أُجِيبُ بِهِ (فَيَقُولَانِ لَهُ) ، أَيْ: لِلْكَافِرِ (مَا دِينُكَ) : مِنَ الْأَدْيَانِ (فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي: فَيَقُولَانِ) : أَيْ لَهُ: (مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟) يَعْنِي مَا تَقُولُ فِي حَقِّهِ أَنَبِيٌّ أَمْ لَا (فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي) : قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ) : أَنْ مُفَسِّرَةٌ لِلنِّدَاءِ أَيْضًا، أَيْ: كَذَبَ هَذَا الْكَافِرُ فِي قَوْلِهِ: لَا أَدْرِي لِأَنَّ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى وَنُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ ظَاهِرًا فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، بَلْ جَحَدَ نُبُوَّتَهُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالِاعْتِقَادِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُفْرَهُ جَهْلٌ أَوْ عِنَادٌ (فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ) . قَالَ تَعَالَى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ.

وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَيَأْتِيهِ) ، أَيِ: الْكَافِرَ (مِنْ حَرِّهَا) ، أَيْ: حَرِّ النَّارِ وَهُوَ تَأْثِيرُهَا (وَسَمُومِهَا) : وَهِيَ الرِّيحُ الْحَارَّةُ (قَالَ: وَيُضَيَّقُ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ (عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، ثُمَّ يُقَيَّضُ) ، أَيْ: يُسَلَّطُ وَيُوَكَّلُ وَيُقَدَّرُ (لَهُ) : فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ اسْتِيلَاءَ الْقَيْضِ عَلَى الْبَيْضِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَيْضِ وَهُوَ الْقِشْرَةُ الْأَعْلَى مِنَ الْبَيْضِ (أَعْمَى) ، أَيْ: زَبَانِيَةٌ لَا عَيْنَ لَهُ " كَيْلَا يَرْحَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عَيْنٌ لِأَجْلِهِ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ نَظَرِهِ إِلَيْهِ (أَصَمُّ) ، أَيْ: لَا يَسْمَعُ صَوْتَ بُكَائِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ فَيَرِقُّ لَهُ (مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ) : الْمَسْمُوعُ فِي الْحَدِيثِ تَشْدِيدُ الْبَاءِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يُخَفِّفُونَهَا وَهِيَ الَّتِي يُدَقُّ بِهَا الْمَدَرُ وَيُكَسَّرُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمِرْزَبَةُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَاعْتَرَضُوا بِأَنَّ الصَّوَابَ تَخْفِيفُهَا اهـ. وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ مِفْعَلَّةَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ لَا يُعْرَفُ فِي أَنْوَاعِ الْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا الْمِرْزَبَّةُ فَالْمُحَدِّثُونَ يُشَدِّدُونَ الْبَاءَ، وَالصَّوَابُ تَخْفِيفُهُ وَإِنَّمَا تُشَدَّدُ الْبَاءُ إِذَا أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ مِنَ الْمِيمِ وَهِيَ وَالْأَرْزَبَّةُ:، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: ضَرْبَكَ بالْمِرْزَبَةِ العُودَ النَخِرْ اهـ. أَقُولُ: أَخَطَأَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَخْطِئَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَتَصْوِيبِ اللُّغَوِيِّينَ، إِذْ نَقْلُ الْأَوَّلِينَ مِنْ طُرُقِ الْعُدُولِ عَلَى وَجْهِ الرِّوَايَةِ، وَنَقْلُ الْآخِرِينَ مِنْ سَبِيلِ الْفُضُولِ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِإِنْشَادِ الْفَرَّاءِ فَضَعِيفٌ إِذْ يُحْتَمَلُ تَخْفِيفُهُ ضَرُورَةً أَوْ لُغَةً أُخْرَى، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ أَبَدًا فَقَالَ: الْأَرْزَبَّةُ وَالْمِرْزَبَّةُ مُشَدَّدَتَانِ أَوِ الْأُولَى فَقَطْ: عُصَيَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ اهـ. فَظَهَرَ أَنَّ التَّشْدِيدَ فِيهِمَا لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَلَوْ وَافَقَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ جَمِيعَ الْمُحَدِّثِينَ لَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ، فَكَيْفَ بِالتَّكْثِيرِ مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَيْضًا يُرَجَّحُ جَانِبُ الْمُحَدِّثِينَ لِمَا تَقَدَّمَ. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا طَعْنُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَفْقِ مَسْمُوعِهِمْ وَهُوَ كُفْرٌ ظَاهِرٌ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ وَحَافِظُ كِتَابِهِ وَقَادِرٌ عَلَى ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ. (لَوْ ضُرِبَ بِهَا) ، أَيِ: الْمِرْزَبَّةُ (جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا) ، أَيِ: انْدَقَّ أَجْزَاؤُهُ كَالتُّرَابِ (فَيَضْرِبُهُ بِهَا) : وَفِي نُسْخَةٍ بِهَا سَاقِطٌ (ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا) ، أَيْ: صَوْتَهَا وَحِسَّهَا (مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ (مَا) بِمَعْنَى (مَنْ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ) ، أَيِ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَهَلِ الْأَمْوَاتُ مِنْهُمَا مُسْتَثْنًى أَمِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا؟ فَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ، وَالْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا يُؤَيِّدُ الثَّانِيَ. (فَيَصِيرُ تُرَابًا، ثُمَّ يُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ) كَرَّرَ إِعَادَةَ الرُّوحِ فِي الْكَافِرِ بَيَانًا لِشِدَّةِ الْعَذَابِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ الْإِعَادَةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ذُقْ هَذَا جَزَاءً بِمَا كُنْتَ تُنْكِرُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْقَبْرِ إِمَاتَتَيْنِ وَإِحْيَاءَتَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْرِيرُ وَالتَّكْثِيرُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] وَقَوْلُهُمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ التَّثْنِيَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: وَمَعْلُومٌ اسْتِمْرَارُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا إِذَا أُعِيدَتْ تُضْرَبُ أُخْرَى فَيَصِيرُ تُرَابًا، ثُمَّ يُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ وَهَكَذَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ تِلْكَ الْإِعَادَةَ لَا تَتَكَرَّرُ وَأَنَّ عَذَابَهُ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ بِمَوْتِهِمْ بَلْ تُعَادُ فِيهِمُ الرُّوحُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِيَزْدَادُوا عَذَابًا، وَيُمْكِنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ تَكُونَ إِعَادَةُ الرُّوحِ كِنَايَةً عَنْ رُجُوعِهِمْ إِلَى حَالَتِهِمُ الْأُولَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَيْرُورَتِهِمْ تُرَابًا خُرُوجُ الرُّوحِ مِنْهُمْ لِأَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

132 - «وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ ! فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ ". قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 132 - (وَعَنْ عُثْمَانَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّهُ كَانَ) ، أَيْ: دَائِمًا أَوْ غَالِبًا (إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ) أَيْ عَلَى رَأْسِ قَبْرٍ أَوْ عِنْدَهُ (بَكَى حَتَّى يَبُلَّ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ بُكَاؤُهُ يَعْنِي دُمُوعَهُ (لِحْيَتَهُ) ، أَيْ: يَجْعَلُهَا مَبْلُولَةً مِنَ الدُّمُوعِ (فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي) : أَيْ مِنْ خَوْفِ النَّارِ وَاشْتِيَاقِ الْجَنَّةِ يَعْنِي لَا تَبْكِي مِنْهُمَا دَائِمًا (وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟) ، أَيْ: مِنَ الْقَبْرِ يَعْنِي مِنْ أَجْلِ خَوْفِهِ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ يَبْكِي - عُثْمَانُ وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ - إِمَّا لِاحْتِمَالِ أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ كَانَتْ فِي غَيْبَتِهِ وَلَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ، أَوْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ آحَادًا، فَلَمْ يُفِدِ الْيَقِينَ، أَوْ كَانَ يَبْكِي لِيُعْلَمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَخَافُ مَعَ عِظَمِ شَأْنِهِ وَشَهَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْجِنَّةِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِأَنْ يَخَافَ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْتَرِزَ مِنْهُ. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّبْشِيرِ بِالْجَنَّةِ عَدَمُ عَذَابِ الْقَبْرِ، بَلْ وَلَا عَدَمُ عَذَابِ النَّارِ مُطْلَقًا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ التَّبْشِيرُ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ مَعْلُومٍ أَوْ مُبْهَمٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْسَى الْبِشَارَةَ حِينَئِذٍ لِشِدَّةِ الْفَظَاعَةِ، أَوْ بُكَاؤُهُ لِفَقْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، أَوْ لِابْتِلَائِهِ بِزَمَنِ الْجَوْرِ وَأَرْبَابِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَوْفًا مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ سَعْدٍ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ كُلُّ سَعِيدٍ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بُكَاؤُهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ) : وَمِنْهَا عَرْضَةُ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْعَرْضِ، وَمِنْهَا الْوُقُوفُ عِنْدَ الْمِيزَانِ، وَمِنْهَا الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَمِنْهَا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَآخِرُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الدُّنْيَا، وَلِذَا يُسَمَّى الْبَرْزَخُ (فَإِنْ نَجَا) ، أَيْ: خَلَصَ الْمَقْبُورُ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ (فَمَا بَعْدَهُ) ، أَيْ: مِنْ مَنَازِلَ (أَيْسَرُ مِنْهُ) : وَأَسْهَلُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ لَكُفِّرَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ (وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ) ، أَيْ: يَتَخَلَّصُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَلَمْ يُكَفِّرْ ذُنُوبَهُ بِهِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ بِهِ (فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ) : لِأَنَّ النَّارَ أَشَدُّ الْعَذَابِ وَالْقَبْرُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ لِتَحَقُّقِ إِيمَانِهِ الْمُنْقِذِ لَهُ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ وَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ لِتَحَقُّقِ كُفْرِهِ الْمُوجِبِ لِتَوَالِي الشَّدَائِدِ الْمُتَزَايِدَةِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ (قَالَ) ، أَيْ: عُثْمَانُ (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالظَّاءِ أَيْ مَوْضِعًا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمَوْضِعِ بِالْمَنْظَرِ مُبَالَغَةً لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى الشَّيْءَ مَعَ لَازِمِهِ يَنْتَفِي بِالطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ (قَطُّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمَضْمُومَةِ أَيْ أَبَدًا وَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَاضِي (إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ) : مِنْ فَظُعَ بِالضَّمِّ أَيْ صَارَ مُنْكَرًا يَعْنِي أَشَدَّ وَأَفْزَعَ ; وَأَنْكَرُ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ قِيلَ الْمُسْتَثْنِي جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ مَنْظَرٍ وَهُوَ مَوْصُوفٌ حُذِفَتْ صِفَتُهُ، أَيْ: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا فَظِيعًا عَلَى حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْفَظَاعَةِ قَطُّ إِلَّا فِي حَالَةِ كَوْنِ الْقَبْرِ أَقْبَحَ مِنْهُ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ وَإِنَّمَا كَانَ أَفْظَعَ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةُ الْعِقَابِ وَنِهَايَةُ التَّعَلُّقِ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْأَصْحَابِ، وَغَايَةُ الرُّجُوعِ إِلَى مَوْضِعِ الذُّلِّ وَالظُّلْمَةِ وَالدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ وَالْوَحْشَةِ وَالْغُرْبَةِ وَالدُّودِ وَالتُّرَابِ، وَمُطَالَعَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَمُشَاهَدَةِ الْحِسَابِ، وَمُرَاقَبَةِ الْحِجَابِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ إِلَّا رَبُّ الْأَرْبَابِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَابْنُ مَاجَهْ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ) .

133 - (وَعَنْهُ) ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، ثُمَّ سَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 133 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ عُثْمَانَ (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَرَغَ) : مَعْلُومٌ، وَقِيلَ مَجْهُولٌ (مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ) : الْمُرَادُ مِنْهُ الْجِنْسُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ النَّكِرَةِ (وَقَفَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ (فَقَالَ) ، أَيْ: لِأَصْحَابِهِ (اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ) : أَيِ اطْلُبُوا الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِ أَخِيكُمُ الْمُؤْمِنِ، وَذِكْرُ الْأَخِ لِلْعَطْفِ عَلَيْهِ وَاسْتِكْثَارِ الدُّعَاءِ لَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ الْأَحْيَاءِ يَنْفَعُ الْأَمْوَاتَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ (ثُمَّ سَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ) : ضَمَّنَ السُّؤَالَ مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَلِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} [المعارج: 1] أَيِ ادْعُوَا لَهُ بِدُعَاءِ التَّثْبِيتِ يَعْنِي قُولُوا ثَبَّتَهُ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، أَوِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَهُوَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَهَذَا أَفْضَلُ مِنَ التَّلْقِينِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عَنْهُ غَافِلُونَ. (فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّلْقِينِ عِنْدَ الدَّفْنِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ، وَلَا نَجِدُ فِيهِ حَدِيثًا مَشْهُورًا وَلَا بَأْسَ بِهِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَرْضُ الِاعْتِقَادِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالْحَاضِرِينَ وَالدُّعَاءُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَالْإِرْغَامُ لِمُنْكِرِي الْحَشْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَأَوْرَدَ الْغَزَّالِيُّ فِي " الْإِحْيَاءِ "، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَدْعِيَةِ حَدِيثًا فِي تَلْقِينِ الْمَيِّتِ عِنْدَ الدَّفْنِ، وَلَمْ يُصَحِّحْهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَالْمُرَادُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا عِنْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ تَمَامِ دَفْنِهِ وَكَيْفِيَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ مَذْهَبِنَا خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، كَيْفَ وَفِيهِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ اتِّفَاقًا بَلِ اعْتَضَدَ بِشَوَاهِدَ يَرْتَقِي بِهَا إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَذُكِرَ فِي " الْأَذْكَارِ " عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالُوا: وَإِنْ خَتَمُوا الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَانَ حَسَنًا. وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَحَبَّ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّلُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتُهَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُقْرَأُ أَوَّلُ الْبَقَرَةِ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ وَخَاتِمَتُهَا عِنْدَ رِجْلِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَقَالَ مِيرَكُ شَاهْ: بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

134 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيُسَلَّطُ عَلَى الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا تَنْهَسُهُ وَتَلْدَغُهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، لَوْ أَنَّ تِنِّينًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الْأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ خَضِرًا» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ، وَقَالَ: (سَبْعُونَ) بَدَلَ (تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 134 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَيُسَلَّطُ) : بِفَتْحِ اللَّامَيْنِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ (عَلَى الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ) ، أَيْ: وَاللَّهِ لَيُجْعَلَ مُوَكَّلًا عَلَيْهِ لِلتَّعْذِيبِ وَالْأَذَى (تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةُ السُّمِّ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْعَدَدِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةٌ وَتِسْعِينَ اسْمًا، فَالْكَافِرُ أَشْرَكَ بِمَنْ لَهُ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فَسَلَّطَ عَلَيْهِ بِعَدَدِ كُلِّ اسْمٍ تِنِّينًا، أَوْ يُقَالُ قَدْ رُوِيَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا وَاحِدَةً فِي الدُّنْيَا بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فِيهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطُفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى الْآخِرَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُسَلَّطْ عَلَى الْكَافِرِ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ رَحْمَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تِنِّينًا كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: عَدَدُ التِّنِّينِ بِعَدَدِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي فِيهِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْحَيَاةِ لِأَنَّ الدُّنْيَا عَالَمُ الصُّورَةِ وَالْآخِرَةَ عَالَمُ الْمَعْنَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّ أَوَّلَ التِّنِينَاتِ بِمَا يَنْزِلُ بِالشَّخْصِ مِنَ التَّبِعَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، فَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَرَبِيَّةِ مَسَاغٌ، وَلَكِنَّ الْأَخْذَ بِالظَّوَاهِرِ أَوْلَى بِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَأَمَّا اسْتِحَالَةُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْعُقُولِ فَإِنَّهَا سَبِيلُ

مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الدِّينِ، عَصَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَثْرَةِ الْعَقْلِ وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ (تَنْهَسُهُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَقِيلَ بِالتَّذْكِيرِ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَرُوِيَ بِالْمُعْجَمَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ: النَّهْسُ: أَخْذُ اللَّحْمِ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَالنَّهْشُ الْأَخْذُ بِجَمِيعِهَا. وَفِي الْقَامُوسِ نَهَسَ اللَّحْمُ كَمَنَعَ وَسَمِعَ، أَخَذَهُ بِمُقَدَّمِ أَسْنَانِهِ وَنَتَفَهُ، وَنَهَشَهُ كَمَنَعَهُ نَهَسَهُ وَلَسَعَهُ وَعَضَّهُ أَوْ أَخَذَهُ بِأَضْرَاسِهِ وَبِالسِّينِ أَخَذَهُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ (وَتَلْدَغُهُ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ. قِيلَ: نَهْسٌ وَلَدْغٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ جَمْعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا أَوْ لِبَيَانِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَقِيلَ: النَّهْسُ الْقَطْعُ بِالسِّنِّ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالِ السُّمِّ فِيهِ، وَاللَّدْغُ ضَرْبُ السِّنِّ بِلَا قَطْعٍ لَكِنْ مَعَ إِرْسَالِ السُّمِّ فِيهِ كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ (حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، لَوْ أَنَّ تِنِّينًا مِنْهَا نَفَخَ) : بِالْمُعْجَمَةِ، وَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ (فِي الْأَرْضِ) ، أَيْ: لَوْ وَصَلَ رِيحُ فَمِهِ وَحَرَارَتُهُ إِلَيْهَا (مَا أَنْبَتَتْ) ، أَيِ: الْأَرْضُ (خَضِرًا) : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ أَيْ نَبَاتًا أَخْضَرَ، وَرُوِيَ بِسُكُونِ الضَّادِ مَمْدُودًا عَلَى فَعْلَاءَ كَحَمْرَاءَ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَخْضَرُ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ، أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ حَبَّةً خَضْرَاءَ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) ، أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) ، أَيْ: بِالْمَعْنَى (وَقَالَ: سَبْعُونَ بَدَلَ) : بِالنَّصْبِ ظَرْفٌ (تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ. قَالَ الْعَيْنِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ ضَعِيفَةٌ عَلَى مَا فِي الْأَزْهَارِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِتَقْدِيرِ وُرُودِهِمَا يُجْمَعُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ لِلْمَتْبُوعِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِي لِلتَّابِعِينَ، أَوْ بِأَنَّ سَبْعِينَ يُعَبَّرُ بِهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَنِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ جِدًّا، فَحِينَئِذٍ هِيَ لَا تُنَافِي الْأُولَى لِأَنَّهَا مُجْمَلَةٌ وَتِلْكَ مُبَيِّنَةٌ لَهَا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّ الْإِمَامَ الْغَزَّالِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَرَّحَ بِأَنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ الْفَقِيرِ فِي النَّارِ أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْكَافِرِ الْغَنِيِّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 135 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ حِينَ تُوُفِّيَ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَسُوِّيَ عَلَيْهِ، سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَبَّحْنَا طَوِيلًا، ثُمَّ كَبَّرَ، فَكَبَّرْنَا. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ سَبَّحَتْ ثُمَّ كَبَّرْتَ؟ قَالَ: " لَقَدْ تَضَايَقَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ قَبْرُهُ حَتَّى فَرَّجَهُ اللَّهُ عَنْهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 135 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) ، أَيْ: جِنَازَتِهِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَوْسِ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ الْعَقَبَةِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةِ، وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارُهُمْ أَوَّلُ دَارٍ أَسْلَمَتْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا مُطَاعًا شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ، مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ، وَرُمِيَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي أَكْحَلِهِ فَلَمْ يَرْقَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ الْحَرَامِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ (حِينَ تُوُفِّيَ) : بِضَمَّتَيْنِ، وَحُكِيَ بِفَتْحِهِمَا وَهُوَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ أَيْ مَاتَ (فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَسُوِّيَ عَلَيْهِ) ، أَيِ: التُّرَابُ وَدُفِنَ وَالْفِعْلَانِ مَجْهُولَانِ (سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَلَعَلَّ التَّسْبِيحَ كَانَ لِلتَّعَجُّبِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ لِإِرَادَةِ تَنْزِيهٍ لِإِرَادَةِ تَنْزِيهِهِ تَعَالَى أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: وَمُنَاسَبَةُ تَسْبِيحِهِ لِمُشَاهَدَةِ التَّضْيِيقِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ بِشُهُودِ ذَلِكَ يَسْتَحْضِرُ الْإِنْسَانُ مَقَامَ جَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِمَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا الْمَقَامُ يُنَاسِبُهُ التَّنْزِيهُ لِأَنَّهُ مَقَامُ الْعِزَّةِ الْكُبْرَى الْمُقْتَضِيَةُ لِذَلِكَ التَّنَزُّهِ فَتَأَمَّلْ. (فَسَبَّحْنَا) ، أَيْ: تَبَعًا لَهُ (طَوِيلًا) : قَيْدٌ لِلْفِعْلَيْنِ أَيْ زَمَانًا طَوِيلًا) أَوْ تَسْبِيحًا طَوِيلًا يَعْنِي كَثِيرًا (ثُمَّ كَبَّرَ) : وَلَعَلَّ التَّكْبِيرَ كَانَ بَعْدَ التَّفْرِيجِ (فَكَبَّرْنَا) ، أَيْ: عَقِيبَ تَكْبِيرِهِ اقْتِدَاءً بِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يَقُلْ طَوِيلًا إِمَّا لِلِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِهِ أَوَّلًا: أَوْ لِأَنَّهُ هُنَا لَمْ يُطِلْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَبَّرَ عِنْدَ وُقُوعِ التَّفْرِيجِ عَنْ سَعْدٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ يَغْلِبُ ذِكْرُهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْأَمْرِ الْبَاهِرِ. (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لِمَ سَبَّحْتَ ثُمَّ كَبَّرْتَ؟) : أَيْ مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَسْتَدْعِي ذَلِكَ (وَلَقَدْ تَضَايَقَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ قَبْرَهُ) : هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ تَمْيِيزِهِ وَرَفْعِ

مَنْزِلَتِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِالْعَبْدِ وَنَعَتَهُ بِالصَّلَاحِ لِمَزِيدِ التَّخْوِيفِ وَالْحَثِّ عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْفَظِيعِ، أَيْ: إِذَا كَانَ حَالُهُ كَذَا فَمَا حَالُ غَيْرِهِ؟ (حَتَّى فَرَّجَهُ اللَّهُ) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفِّفُ، أَيْ: مَازِلْتُ وَاقِفًا لِلتَّسْبِيحِ حَتَّى فَرَّجَهُ اللَّهُ أَيْ كَشَفَهُ وَأَزَالَهُ (عَنْهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَحَتَّى مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مَازِلْتُ أُكَبِّرُ وَتُكَبِّرُونَ وَأُسَبِّحُ وَتُسَبِّحُونَ حَتَّى فَرَّجَهُ اللَّهُ اهـ. وَالْأَنْسَبُ تَقْدِيمُ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى هَذَا لِإِطْفَاءِ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ، وَلِهَذَا وَرَدَ اسْتِحْبَابُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ رُؤْيَةِ التَّحْرِيقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

136 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 136 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (هَذَا) : إِشَارَةٌ إِلَى سَعْدٍ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ لِلتَّعْظِيمِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ (الَّذِي تَحَرَّكَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: اهْتَزَّ (لَهُ الْعَرْشُ) : فِي النِّهَايَةِ: أَصْلُ الْهَزِّ الْحُرْمَةُ، وَاهْتَزَّ إِذَا تَحَرَّكَ، وَاسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَى الِارْتِيَاحِ أَيِ ارْتَاحَ بِصُعُودِهِ وَاسْتَبْشَرَ لِكَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَكُلُّ مَنْ خَفَّ لِأَمْرٍ وَارْتَاحَ فَقَدِ اهْتَزَّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ الْعَرْشَ وَإِنْ كَانَ جَمَادًا فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ فِيهِ إِدْرَاكًا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَكِمَالَاتِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مُمْكِنٌ ذَكَرَهُ الشَّارِعُ بَيَانًا لِمَزِيدِ فَضْلِ سَعْدٍ وَتَرْهِيبٍ لِلنَّاسِ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ، فَتُعُيِّنُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى يَرِدَ مَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ فَرَحَ أَهْلِ الْعَرْشِ بِمَوْتِهِ لِصُعُودِ رُوحِهِ، وَأَقَامَ الْعَرْشَ مَقَامَ مَنْ حَمَلَهُ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ. وَقَالَ: السُّيُوطِيُّ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ وَهُوَ سَرِيرُ الْمَيِّتِ، وَاهْتِزَازُهُ فَرَحُهُ لِحَمْلِ سَعْدٍ عَلَيْهِ إِلَى مَدْفَنِهِ (وَفُتِحَتْ) : بِالتَّخْفِيفِ، وَقِيلَ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّكْثِيرِ (لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) : لِإِنْزَالِ الرَّحْمَةِ وَنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ تَزْيِينًا لِقُدُومِهِ وَطُلُوعِ رُوحِهِ، لِأَنَّ مَحَلَّ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةُ وَهِيَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، أَوْ عَرْضًا لِلْأَبْوَابِ بِأَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ لِعِظَمِ كَمَالِهِ، كَفَتْحِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ (وَشَهِدَهُ) ، أَيْ: حَضَرَ جِنَازَتَهُ (سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ) ، أَيْ: تَعْظِيمًا لَهُ (لَقَدْ) : جَوَابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ (ضُمَّ) : بِالضَّمِّ أَيْ عُصِرَ سَعْدٌ فِي قَبْرِهِ (ضَمَّةً) ، أَيْ: وَاحِدَةً، وَالتَّنْوِينُ يَحْتَمِلُ التَّفْخِيمَ وَالتَّقْلِيلَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِتَطْوِيلِ تَسْبِيحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ) ، أَيْ: فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِبَرَكَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

137 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا، فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يُفْتَنُ فِيهَا الْمَرْءُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ، ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا، وَزَادَ النَّسَائِيُّ: حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَفْهَمَ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سَكَنَتْ ضَجَّتُهُمْ قُلْتُ لِرَجُلٍ قَرِيبٍ مِنِّي، أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ! مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ قَوْلِهِ؟ قَالَ: " قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 137 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ) : غَيْرُ مُنْصَرِفٍ بِالْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ الْمَعْنَوِيِّ، وَقِيلَ أَصْلُهُ وَسْمَاءُ فَهُوَ فَعْلَاءُ (بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَمِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَتُسَمَّى ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ لِأَنَّهَا شَقَّتْ نِطَاقَهَا لَيْلَةَ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهَاجِرًا، فَجَعَلَتْ وَاحِدًا شِدَادًا لِسُفْرَتِهِ، وَالْآخِرَ عِصَامًا لِقِرْبَتِهِ، وَقِيلَ: جَعَلَتِ النِّصْفَ الثَّانِيَ نِطَاقًا لَهَا، أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ قَدِيمًا. قِيلَ: أَسْلَمَتْ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ إِنْسَانًا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا عَائِشَةَ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَمَاتَتْ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِهَا بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ بِعِشْرِينَ يَوْمًا بَعْدَمَا أُنْزِلَ ابْنُهَا مِنَ الْخَشَبَةِ، وَلَهَا مِائَةُ سَنَةٍ، وَلَمْ يَقَعْ لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يُنْكَرْ مِنْ عَقْلِهَا شَيْءٌ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِمَكَّةَ. رَوَى عَنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. (قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ خَطِيبًا) : حَالٌ أَيْ وَاعِظًا (فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ) ، أَيْ: وَعَذَابَهُ أَوِ ابْتِلَاءَهُ وَالِامْتِحَانَ فِيهِ (الَّتِي يُفْتَنُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُبْتَلَى (فِيهَا الْمَرْءُ) : صِفَةٌ لِفِتْنَةٍ يَعْنِي ذَكَرَ الْفِتْنَةَ بِتَفَاصِيلِهَا كَمَا يَجْرِي عَلَى الْمَرْءِ فِي قَبْرِهِ وَمِنْ ثَمَّ (فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ) ، أَيْ: مَا ذَكَرَ أَوِ الْفِتْنَةَ بِمَعْنَى الِافْتِتَانِ (ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ) ، أَيْ: صَاحُوا وَجَزِعُوا (ضَجَّةً) : التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا) ، أَيْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ (وَزَادَ النَّسَائِيُّ) : أَيْ بَعْدَ ضَجَّةٍ (حَالَتْ) : صِفَةُ ضَجَّةٍ (بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَفْهَمَ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ:

بَعْدَ هَذَا (فَلَمَّا سَكَنَتْ ضَجَّتُهُمْ) ، أَيْ: صَيْحَتُهُمْ وَارْتِفَاعُ صَوْتِهِمْ (قَلْتُ لِرَجُلٍ قَرِيبٍ مِنِّي) ، أَيْ: مَكَانًا أَوْ نَسَبًا وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ (أَيْ) : الْمُنَادَى مَحْذُوفٌ أَيْ فُلَانٌ (بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ) : أَوْ زَادَكَ اللَّهُ عِلْمًا وَحِلْمًا، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ (مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ قَوْلِهِ؟) : أَيْ بَعْدَ الصِّيَاحِ (قَالَ) ، أَيِ: الرَّجُلُ، قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ) ، أَيْ: وَحْيًا جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا (أَنَّكُمْ) : أَيُّهَا الْأُمَّةُ (تُفْتَنُونَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تُمْتَحَنُونَ (فِي الْقُبُورِ) : أَيِ افْتِنَانًا قَرِيبًا (مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: فِتْنَةً قَرِيبَةً، وَذَكَرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] أَيْ فِتْنَةً عَظِيمَةً إِذْ لَيْسَ فِيهَا _ أَيْ فِي الْفِتَنِ - أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ.

138 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ مَثَلَتْ لَهُ الشَّمْسُ عِنْدَ. غُرُوبِهَا. فَيَجْلِسُ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ، وَيَقُولُ: دَعُونِي أُصَلِّي» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 138 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (مَثَلَتْ لَهُ الشَّمْسُ) ، أَيْ: صُوِّرَتْ وَخُيِّلَتْ (عِنْدَ غُرُوبِهَا) : حَالٌ مِنَ الشَّمْسِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا قَرِيبَةَ الْغُرُوبِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَالَ كَوْنِهَا غَارِبَةً لَا ظَرْفَ لِمَثَلَتْ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ التَّمْثِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَيَتَقَرَّرُ أَنَّهُ عِنْدَ نُزُولِ الْمَلَكَيْنِ أَوْ بَعْدَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَهَذَا لَا يُقَيَّدُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّمْثِيلَ بِهَا حَالَةَ كَوْنِهَا غَارِبَةً عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ الْمَلَكَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى مُسَارَعَتِهِ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَإِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: كَمَا تَعِيشُونَ تَمُوتُونَ وَكَمَا تَمُوتُونَ تُحْشَرُونَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَعْدَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ تَنْبِيهًا عَلَى رَفَاهِيَتِهِ وَقِيَامًا بِشُكْرِ نِعْمَتِهِ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: (فَيَجْلِسُ) : وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَقِيلَ مَجْهُولٌ (يَمْسَحُ) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مَاسِحًا (عَيْنَيْهِ) : عَلَى هَيْئَةِ الْمُسْتَيْقِظِ لِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَوَرَدَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا) (وَيَقُولُ: دَعُونِي) : أَيِ اتْرُكُوا كَلَامِيَ وَالسُّؤَالَ عَنِّي (أُصَلِّي) ، أَيْ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ خَوْفَ الْفَوْتِ قَبْلَ الْمَوْتِ كَأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ بَعْدُ فِي الدُّنْيَا، وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْفَرْضِ وَيَشْغَلُهُ مِنْ قِيَامِهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَذَلِكَ مِنْ رُسُوخِهِ فِي أَدَائِهِ وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا تَخْصِيصُ ذِكْرِ الْغُرُوبِ فَإِنَّهُ يُنَاسِبُ الْغَرِيبَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ يَنْزِلُهُ عِنْدَ الْغُرُوبِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّفَرِ يَكُونُ أَوَّلَ النَّهَارِ فَآخِرُ مَرْحَلَةٍ يَكُونُ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ وَجْهَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى تَأَكُّدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَأَنَّهَا الْوُسْطَى، فَمُثِّلَ لَهُ آخِرُ وَقْتِهَا لِيَطْلُبَ صَلَاتَهَا إِعْلَامًا بِمَزِيدِ فَضْلِهَا وَتَأَكُّدِهَا، أَوْ إِلَى الِاحْتِرَاسِ عَنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ يَجْلِسُونَ يُرَاقِبُونَ الْغُرُوبَ حَتَّى إِذَا دَنَتِ الشَّمْسُ إِلَيْهِمْ نَقَرُوا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ. فَبَادَرَ الْمَيِّتُ إِذْ زَالَ مَانِعُهُ وَمَثَلَ لَهُ هَذَا الْوَقْتُ إِلَى الصَّلَاةِ لِيَسْلَمَ مِنْ وَصْمَتِهِمِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْغُرُوبَ إِشَارَةٌ إِلَى ارْتِحَالِهِ مِنَ الدُّنْيَا وَزَوَالِهِ وَغُرُوبِهِ عَنْهَا فَإِنَّ الْقَبْرَ آخِرُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخُ مُشَبَّهٌ بِاللَّيْلِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْيَوْمِ السَّابِقِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ اللَّاحِقِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ لِتَمْثِيلٍ يُنَاسِبُ ظُلْمَةَ الْقَبْرِ وَظُهُورِ نُورِ الْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ الْمُؤَدِّي لِلصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ) .

139 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيَجْلِسُ الرَّجُلُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْغُوبٍ، ثُمَّ يُقَالُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الْإِسْلَامِ. فَيُقَالُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَصَدَّقْنَاهُ. فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ؟ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ، فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةً قِبَلَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةً قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مِتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَجْلِسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فِي قَبْرِهِ فَزِعًا مَشْغُوبًا، فَيُقَالُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي! فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَقُلْتُهُ، فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةً قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةً إِلَى النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مِتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 139 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (عَنِ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ الْمَيِّتَ) : اللَّامُ لِلْجِنْسِ (يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ) : وَكُلُّ مَا اسْتَقَرَّ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَبْرُهُ (فَيَجْلِسُ) : قِيلَ مَجْهُولٌ (الرَّجُلُ) ، أَيِ: الصَّالِحُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ) : بِكَسْرِ الزَّايِ وَنَصْبُ (غَيْرَ) عَلَى الْحَالِيَّةِ وَقَوْلُهُ: (وَلَا مَشْغُوبٍ) : تَأْكِيدٌ مِنَ الشَّغَبِ وَهُوَ تَهْيِيجُ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَزِعٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِإِيهَامِهِ هُنَا إِذْ سَلْبُ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى سَلْبِ أَصْلِ الْفِعْلِ كَمَا قَالُوهُ فِي {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ ذِي فَزَعٍ كَمَا أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ بِذِي ظُلْمٍ أَقُولُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ مُسَلَّمٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ فَإِنَّ بَقَاءَ أَصْلِ الْفَزَعِ غَيْرُ مَنْفِيٍّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ بَلِ النَّفْيُ مُنْصَبٌ عَلَى شِدَّةِ الْفَزَعِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا مَشْغُوبٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي مُدَّعَاهُ (ثُمَّ يُقَالُ) ، أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (" فِيمَ كُنْتَ ") أَيْ فِي أَيِّ دِينٍ عِشْتَ (فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الْإِسْلَامِ) . هَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ خِلَافَ الْمُنَافِقِ لِأَنَّ الْجَوَابَ الظَّاهِرَ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِسْلَامِ (فَيُقَالُ) : أَيْ لَهُ (مَا هَذَا الرَّجُلُ) : مَا: اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأٌ وَهَذَا الرَّجُلُ خَبَرُهُ، أَيْ مَا وَصْفُهُ وَنَعْتُهُ؟ أَوْ مَا اعْتِقَادُكَ فِيهِ (فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ) ، أَيْ: صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ الْمُفَخَّمِ الْمُشْتَهِرِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ (رَسُولُ اللَّهِ) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُحَمَّدٍ، وَالْجُمْلَةُ مَقُولٌ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَنْ وَصْفِهِ. وَقَوْلُهُ: (جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) ، أَيِ: الْآيَاتِ الظَّاهِرَاتِ أَوِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صِفَةً وَجَاءَنَا خَبَرًا وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) : مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَ أَوْ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ (فَصَدَّقْنَاهُ) ، أَيْ: بِجَمِيعِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ؟) : قِيلَ: نَشَأَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ: كَيْفَ تَقُولُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَهَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا؟ (فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي) ، أَيْ: لَا يَصِحُّ (لِأَحَدٍ) : جَوَابٌ بِالْأَعَمِّ فَإِنَّهُ لِلْمَقْصُودِ أَتَمٌّ (أَنْ يَرَى اللَّهَ) ، أَيْ: يُبْصِرَهُ بِبَصَرِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ يُحِيطَ بِكُنْهِهِ مُطْلَقًا (فَيُفْرَجُ لَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ، وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ، وَكِلَاهُمَا عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: يُكْشَفُ وَيُفْتَحُ لَهُ (فُرْجَةً) : بِضَمِّ الْفَاءِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي (قِبَلَ النَّارِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ: جِهَتَهَا؛ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ يُرْفَعُ الْحُجُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى يَرَاهَا (فَيَنْظُرُ) ، أَيِ: الْمُؤْمِنُ (إِلَيْهِ) : ذُكِّرَ ضَمِيرُ النَّارِ بِتَأْوِيلِ الْعَذَابِ، وَأُنِّثَ فِي قَوْلِهِ (يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا) : نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ وَالْحَطْمُ: الْحَبْسُ فِي الْمَوْضِعِ الْمُتَضَايِقِ الَّذِي يَتَحَطَّمُ فِيهِ الْخَيْلُ، أَيْ: يَدُوسُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَالْمَعْنَى: يَكْسِرُ وَيَغْلِبُ وَيَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا لِشِدَّةٍ تَلَهُّبِهَا وَكَثْرَةِ وَقُودِهَا (فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ) ، أَيْ: حَفِظَكَ بِحِفْظِهِ تَعَالَى إِيَّاكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تَجُرُّ إِلَى النَّارِ (ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةً قِبَلَ الْجَنَّةِ) : وَفِي تَقْدِيمِ فُرْجَةُ النَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَسَرَّةَ بَعْدَ الْمَضَرَّةِ أَنْفَعُ وَفِي النَّفْسِ أَوْقَعُ، وَإِشَارَةٌ إِلَى فَضْلِهِ بَعْدَ ظُهُورِ عَدْلِهِ (فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا) ؟ بِفَتْحِ الزَّايِ أَيْ حُسْنِهَا وَبَهْجَتِهَا (وَمَا فِيهَا) : مِنَ الْحُورِ وَالْقُصُورِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَالْمُلْكِ الْكَبِيرِ (فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ) ، أَيْ: فِي الْعُقْبَى (عَلَى الْيَقِينِ) : حَالٌ، وَالْعَامِلُ مَا فِي حَرْفِ التَّنْبِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِصَاحِبِ الْحَالِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَقِينِ لِلْجِنْسِ وَقَوْلُهُ: (كُنْتَ) :

صِفَةٌ لَهُ، وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ قَوْلُهُ عَلَى الشَّكِّ، وَالتَّقْدِيرُ أُنَبِّهُكَ حَالَ كَوْنِكَ ثَابِتًا أَوْ مُثَبَّتًا عَلَى يَقِينِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى لِلْوُجُوبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، أَيْ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَالَ كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَدًا أَوْ وَعِيدًا عَلَى الْيَقِينِ أَوِ الشَّكِّ. كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ فِيهِ تَكَلُّفٌ بَلْ تَعَسُّفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: (عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: هَذَا مَقْعَدُكَ لِأَنَّكَ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْيَقِينِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ التَّامِّ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجْرٍ قَدَّمَ قَوْلِي عَلَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى انْفِصَالِ قَوْلِهِ عَلَى الْيَقِينِ عَمَّا قَبْلَهُ قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهِ مُتَّ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا (وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ) : يَعْنِي كَمَا تَعِيشُ تَمُوتُ وَكَمَا تَمُوتُ تُحْشَرُ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِلتَّحْقِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] (وَيَجْلِسُ الرَّجُلُ) : بِالْوَجْهَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ (السَّوْءُ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَتُضَمُّ ضِدُّ الصَّالِحِ (فِي قَبْرِهِ فَزِعًا) ، أَيْ: خَائِفًا غَايَةَ الْفَزَعِ (مَشْغُوبًا) ، أَيْ: مَرْعُوبًا (فَيُقَالُ لَهُ) ، أَيْ: لِلرَّجُلِ السَّوْءِ (فِيمَ كُنْتَ؟) : أَيْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ (فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي) ! مَا الدِّينُ أَوْ لِلْهَيْبَةِ نَسِيَ دِينَهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مَا الَّذِي كُنْتَ فِيهِ وَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ وَتَمْوِيهٌ عَنْ أَنْ يُجِيبَ بِالْجَوَابِ الْمُطَابِقِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْكُفْرِ أَوِ النِّفَاقِ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا كَلَامُ الرَّجُلِ الْمَدْهُوشِ الْمُتَحَيِّرِ الَّذِي لَا يَدْرِي الْجَوَابَ الْمُطْلَقَ مُطَابِقًا أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ صَوَابًا أَوْ غَيْرَ صَوَابٍ (فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟) ، أَيِ: الَّذِي رَأَيْتَهُ أَوْ سَمِعْتَهُ (فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ) ، أَيِ: الْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْكُفَّارَ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُمَا (يَقُولُونَ) ، أَيْ: فِي حَقِّهِ (قَوْلًا) : بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ عَلَى زَعْمِهِ (فَقُلْتُهُ) ، أَيْ: تَقْلِيدًا لَا تَحْقِيقًا وَاعْتِقَادًا (فَيُفْرَجُ لَهُ) ، أَيْ: فُرْجَةٌ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قِبَلَ الْجَنَّةِ) : قَبْلَ النَّارِ لِأَنَّ الْمِحْنَةَ بَعْدَ النِّعْمَةِ أَقْوَى وَأَشَدُّ (فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا) : كَمَا كَانَ يَنْظُرُ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْأَنْفُسِيَّةِ وَالْآفَاقِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا (فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ) : حَيْثُ خَذَلَكَ وَلَمْ يَهْدِكَ وَلَمْ يُوَفِّقْكَ إِلَى مَا يَجُرُّكَ إِلَى الْجَنَّةِ اخْتَرْتَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَوْزَارِ مَا يُفْضِي إِلَى النَّارِ، وَلِهَذَا (ثُمَّ يُفْرَجُ) : أَيْ لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فُرْجَةٌ إِلَى النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا) : هُنَا بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ (يُحَطِّمُ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ (بَعْضُهَا بَعْضًا) : إِشَارَةٌ إِلَى عَظَمَةِ النَّارِ (فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ) ، أَيْ: مَكَانُكَ اللَّازِمُ وَمَحَلُّكَ الدَّائِمُ (عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : وَالْكُلُّ بِقَضَائِهِ وَبِقَدَرِهِ، وَبِهَذَا تَحْصُلُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَذَا الْبَابِ وَمَا قَبْلَهُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب الاعتصام بالكتاب والسنة]

[بَابُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 140 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [5] بَابُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعِصْمَةُ: الْمَنْعُ، وَالْعَاصِمُ الْحَامِي، وَالِاعْتِصَامُ الِاسْتِمْسَاكُ بِالشَّيْءِ افْتِعَالٌ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] أَيْ تَمَسَّكُوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ كَذَا قِيلَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَالِاعْتِصَامُ بِهِ مُسْتَلْزِمُ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ هُنَا أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ وَأَحْوَالُهُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ، وَلِذَا

قَالَ: " بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ " وَفِي نَظْمِ الْبَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَحْثَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ هُوَ الَّذِي وَرَّطَ الْقَدَرِيَّةَ وَالْجَبْرِيَّةَ فِي بَيْدَاءِ الظُّلْمَةِ وَالْحَيْرَةِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحِكَمِ الْمَجْهُولَةِ عِنْدَنَا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وَالتَّعَبُّدُ الْمَحْضُ هُوَ مِنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُقْتَضِي لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِ الرُّبُوبِيَّةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 140 - (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) : بِالْهَمْزِ وَأَمَّا بِالْيَاءِ فَلَحْنٌ عَامِّيٌّ (قَالَتْ) ، أَيْ: رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَحْدَثَ) ، أَيْ: جَدَّدَ وَابْتَدَعَ أَوْ أَظْهَرَ وَاخْتَرَعَ فِي أَمْرِنَا هَذَا) ، أَيْ: فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَفِي إِيرَادِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَدَلًا أَوْ صِلَةً إِفَادَةُ التَّعْظِيمِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى تَمْيِيزِ الدِّينِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ تَنْبِيهًا عَلَى) أَنَّ هَذَا الدِّينَ هُوَ أَمْرُنَا الَّذِي نَهْتَمُّ لَهُ وَنَشْتَغِلُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا. قَالَ الْقَاضِي: الْأَمْرُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الطَّالِبِ لِلْفِعْلِ، مَجَازٌ فِي الْفِعْلِ وَالشَّأْنِ، وَالطَّرِيقُ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الدِّينِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ طَرِيقُهُ وَشَأْنُهُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ (مَا لَيْسَ مِنْهُ) : كَذَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَالْحُمَيْدِيِّ وَ " جَامِعِ الْأُصُولِ " وَ " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَفِي " الْمَشَارِقِ " وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مَا لَيْسَ فِيهِ (فَهُوَ) ، أَيِ: الَّذِي أَحْدَثَهُ (رَدٌّ) ، أَيْ: مَرْدُودٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ الْكَسْرُ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُ عَلَى مَا فِي " الْقَامُوسِ ". بِمَعْنَى الْعِمَادِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى مَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ رَأْيًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَنَدٌ ظَاهِرٌ أَوْ خَفِيٌّ مَلْفُوظٌ أَوْ مُسْتَنْبَطٌ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، قِيلَ: فِي وَصْفِ الْأَمْرِ بِهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الْإِسْلَامِ كَمُلَ وَانْتَهَى وَشَاعَ وَظَهَرَ ظُهُورَ الْمَحْسُوسِ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ ذِي بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، فَمَنْ حَاوَلَ الزِّيَادَةَ فَقَدْ حَاوَلَ أَمْرًا غَيْرَ مَرْضِيٍّ لِأَنَّهُ مِنْ قُصُورِ فَهْمِهِ رَآهُ نَاقِصًا، فَعَلَى هَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ (هُوَ) رَاجَعٌ إِلَى (مَنْ) أَيْ فَذَلِكَ الشَّخْصُ نَاقِصٌ مَرْدُودٌ عَنْ جِنَابِنَا مَطْرُودٌ عَنْ بَابِنَا، فَإِنَّ الدِّينَ اتِّبَاعُ آثَارِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَاسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، فَالضَّمِيرُ إِلَى الشَّخْصِ أَبْلَغُ وَإِلَى الْأَمْرِ أَظْهَرُ، وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَيْسَ مِنْهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِحْدَاثَ مَا لَا يُنَازِعُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَمَا سَنُقَرِّرُهُ بَعْدُ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَذُكِرَ فِي " الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ "، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا) أَيْ مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْدَثًا أَوْ سَابِقًا عَلَى الْأَمْرِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، أَيْ: وَكَانَ مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِذْنُنَا بَلْ أَتَى بِهِ عَلَى حَسَبِ هَوَاهُ فَهُوَ رَدٌّ.، أَيْ: مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَعَمُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ عِمَادٌ فِي التَّمَسُّكِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَأَصْلٌ فِي الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ الْأَعْلَى، وَرَدٌّ لِلْمُحْدَثَاتِ وَالْبِدَعِ وَالْهَوَى، وَقَدْ أُنْشِدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: إِذَا مَا دَجَا اللَّيْلُ الْبَهِيمُ وَأَظْلَمَا ... بِأَمْرٍ فَظِيعٍ شَقَّ أَسْوَدَ أَدْهَمَا فَأَعْلَى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى السُّنَنِ اعْتَزَى ... وَأَعْمَى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى الْبِدَعِ انْتَمَى وَمَنْ تَرَكَ الْقُرْآنَ قَدْ ضَلَّ سَعْيُهُ ... وَهَلْ يَتْرُكُ الْقُرْآنَ مَنْ كَانَ مُسْلِمَا

قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ رُوحٌ نُورَانِيٌّ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ وَنَفْسٌ ظُلْمَانِيَّةٌ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نِزَاعٌ وَشَوْقٌ إِلَى عَالَمِهِ فَغَايَةُ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ تَزْكِيَةُ النُّفُوسِ عَنْ ظُلْمَةِ أَوْصَافِهَا، وَتَحْلِيَتُهَا بِأَنْوَارِ الْأَرْوَاحِ حَتَّى يَنْجَلِيَ فِيهَا أَنَّ الْمَوْجُودَ الْحَقِيقِيَّ ذَاتُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَدُقَّ بِمِطْرَقَةِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ تَمَرُّدَ النَّفْسِ إِلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِذَلِكَ وَتَكْفُرَ بِطَاغُوتِ وُجُودِهِ وَوُجُودِ مَا سِوَى اللَّهِ، هَذَا هُوَ الدِّينُ الْحَنِيفِيُّ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهِ بِتَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ غَيْرَ ذَلِكَ بِأَنْ أَيِسَ عَنِ الْحَقِّ وَشَكَّ فِي مَوَاعِيدِهِ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَنْسَلِخْ عَنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَمْ تَنْطَمِسْ ظُلُمَاتُ ذَاتِهِ فِي أَنْوَارِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ لَمْ يَتَّبِعْ إِلَّا الشَّيْطَانَ مُرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهِ، وَبِهَذَا يَتَعَيَّنُ لَكَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ جَمِيعَ أَمْرِ الْآخِرَةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَجَمِيعَ أَمْرِ الدُّنْيَا فِي كَلِمَةِ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَكَأَنَّهُ حَمَلَ الْأَعْمَالَ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

141 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 141 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَمَّا بَعْدُ: الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمَّا بَعْدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ أَوْ مَوْعِظَتِهِ، لِأَنَّهُ فَصْلُ الْخِطَابَ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ قِصَّةٍ أَوْ حَمْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَوْلُهُ: بَعْدُ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ بِحَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَعَ نِيَّةِ مَعْنَاهُ، أَيْ: بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ (فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ) ، أَيْ: مَا يُتَحَدَّثُ بِهِ وَيُتَكَلَّمُ فَالْفَاءُ لِمَا فِي إِمَّا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَمَا ذُكِرَ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ أَيِ الْكَلَامِ (كِتَابُ اللَّهِ) : لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ دَقَائِقِ عُلُومِ الْفَصَاحَةِ، وَالْبَلَاغَةِ، وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ بَيَانِ كُلِّ شَيْءٍ تَصْرِيحًا أَوْ تَلْوِيحًا. قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، أَيْ: مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْعُقْبَى، كَالْعُلُومِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَالْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْبَهِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ (وَخَيْرَ الْهَدْيِ) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا (هَدْيُ مُحَمَّدٍ) : وَالْهَدْيُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ: السِّيرَةُ، وَيُقَالُ: هُدِيَ هَدْيَهَ إِذَا سَارَ سِيرَتَهُ، وَلَا تَكَادُ تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ، وَلِذَا حَسُنَ إِضَافَةُ الْخَيْرِ إِلَيْهِ وَالشَّرِّ إِلَى الْأُمُورِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ ضَمُّ الْهَاءِ وَفَتْحُ الدَّالِ اهـ. وَاللَّامُ فِي الْهَدْيِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِأَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ يُضَافُ إِلَى مَا هُوَ بَعْضٌ مِنْهُ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ تَفْضِيلُ دِينِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ (وَشَرَّ الْأُمُورِ) : بِالنَّصْبِ وَقِيلَ بِالرَّفْعِ (مُحْدَثَاتُهَا) : بِفَتْحِ الدَّالِ يَعْنِي الْبِدَعَ الِاعْتِقَادِيَّةَ وَالْقَوْلِيَّةَ وَالْفِعْلِيَّةَ (وَكُلَّ بِدْعَةٍ) : بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ (ضَلَالَةٌ) : قَالَ فِي " الْأَزْهَارِ "، أَيْ: كُلُّ بِدْعَةٍ سَيِّئَةٍ ضَلَالَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا ". وَجَمَعَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ الْقُرْآنَ، وَكَتَبَهُ زِيدٌ فِي الْمُصْحَفِ، وَجُدِّدَ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْبِدْعَةُ كُلُّ شَيْءٍ عُمِلَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، وَفِي الشَّرْعِ إِحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ: " كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " عَامٌ مَخْصُوصٌ. قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي آخِرِ كِتَابِ " الْقَوَاعِدِ ": الْبِدْعَةُ إِمَّا وَاجِبَةٌ كَتَعَلُّمِ النَّحْوِ لِفَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَتَدْوِينِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَإِمَّا مُحَرَّمَةٌ كَمَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ، وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِمَّا مَنْدُوبَةٌ كَإِحْدَاثِ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ، وَكُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَكَالتَّرَاوِيحِ أَيْ بِالْجَمَاعَةِ الْعَامَّةِ

وَالْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ الصُّوفِيَّةِ، وَإِمَّا مَكْرُوهَةٌ كَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقِ الْمَصَاحِفِ يَعْنِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَمُبَاحٌ، إِمَّا مُبَاحَةٌ كَالْمُصَافَحَةِ عَقِيبِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَإِلَّا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَكْرُوهٌ، وَالتَّوَسُّعُ فِي لَذَائِذِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَسَاكِنِ، وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي كَرَاهَةِ بَعْضِ ذَلِكَ أَيْ كَمَا قَدَّمْنَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْأَثَرَ أَوِ الْإِجْمَاعَ فَهُوَ ضَلَالَةٌ، وَمَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: نِعْمَتُ الْبِدْعَةُ. هَذَا هُوَ آخِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ فِي " تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ " وَاللُّغَاتِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا رَأَوْهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثٍ بِدَعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ " الْحَدِيثَ.

142 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطْلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهْرِيقَ دَمَهُ» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 142 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَبْغَضُ النَّاسِ) : هُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْمَفْعُولِ عَلَى الشُّذُوذِ، وَاللَّامُ فِي النَّاسِ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا قَالَهُ بَعْضٌ مِنْ أَنَّهَا لِلْجِنْسِ فَبَعِيدٌ، إِذْ لَا مَعْصِيَةَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّهْدِيدِ (إِلَى اللَّهِ) أَيْ: وَإِنْ كَانَ أَحَبَّهُمْ إِلَى غَيْرِهِ (ثَلَاثَةٌ) ، أَيْ: أَشْخَاصٍ أَحَدُهُمْ أَوْ مِنْهُمْ (مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ) ، أَيْ: ظَالِمٌ أَوْ عَاصٍ فِيهِ، فَإِنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَاتِكٌ حُرْمَةَ الْحَرَمِ، وَالْإِلْحَادُ الْمَيْلُ عَنِ الصَّوَابِ وَمِنْهُ اللَّحْدُ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَاعِلُ الصَّغِيرَةِ فِيهِ مَائِلٌ عَنِ الْحَقِّ فَيَكُونُ أَبْغَضَ مِنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ الْمُفَعْوِلَةِ فِي غَيْرِهِ. قُلْتُ: نَعَمْ مُقْتَضَاهُ ذَلِكَ بَلْ مُرِيدُهَا كَذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] وَالظُّلْمُ فَسَّرَهُ هُنَا بَعْضُ السَّلَفِ بِشَتْمِ الْخَادِمِ (وَمُبْتَغٍ) ، أَيْ: طَالِبٍ (فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) : إِطْلَاقُ السُّنَّةِ عَلَى فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِمَّا عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ أَوْ عَلَى التَّهَكُّمِ وَهِيَ مِثْلُ النِّيَاحَةِ وَالْمَيْسِرِ وَالنَّيْرُوزِ وَقَتْلِ الْأَوْلَادِ وَبُغْضِ الْبَنَاتِ وَجَزَاءِ شَخْصٍ بِجِنَايَةِ مَنْ هُوَ مِنْ قَبِيلَتِهِ (وَمُطَّلِبٍ) : بِالتَّنْوِينِ (دَمَ امْرِئٍ) : بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مِنَ الْإِطِّلَابِ، أَيْ: مُتَكَلِّفٌ فِي الطَّلَبِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، أَيْ: مُجْتَهِدٌ فِي الطَّلَبِ، وَأَصْلُهُ مُتَطَلِّبٌ فَحَذَفَ التَّاءَ وَشَدَّدَ الطَّاءَ إِيذَانًا بِالتَّاءِ وَأَدْغَمَ فِيهَا. كَذَا فِي " زَيْنِ الْعَرَبِ " وَ " الْأَزْهَارِ "، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مُشَدَّدَةً يَعْنِي كَالْمُزَّمِّلِ لَكِنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ تَشْدِيدُ الطَّاءِ دُونَ اللَّامِ اهـ. فَيَكُونُ كَالْمُدَّكِرِ وَوَجْهُهُ أَنَّ مُطَّلِّبَ أَصْلُهُ مُتَطَلِّبٌ عَلَى مُفْتَعِلٍ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً وَأُدْغِمَتْ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُسْلِمٍ) : كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ صِفَةُ امْرِئٍ (بِغَيْرِ حَقٍّ) : فَالْقَاتِلُ ارْتَكَبَ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا ظُلْمٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَسُوءُ الْعَبْدَ وَاللَّهُ يَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ (لِيُهْرِيقَ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيَسْكُنُ (دَمَهُ) : مِنْ هَرَاقَ الْمَاءَ إِذَا صَبَّهُ، وَالْأَصْلُ أَرَاقَ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَهْرَاقَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبْغَضَ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الذَّنْبِ وَمَا يَزِيدُ بِهِ قُبْحًا مِنَ الْإِلْحَادِ، وَكَوْنَهُ فِي الْحَرَمِ، وَإِحْدَاثِ الْبِدْعَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ لَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، بَلْ لِكَوْنِهِ قَتْلًا كَمَا يَفْعَلُ شُطَّارُ زَمَانِنَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ لِيُهْرِيقَ دَمَهُ، وَمَزِيدُ الْقُبْحِ فِي الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ، وَفِي الثَّانِي بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِ، وَفِي الثَّالِثِ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، وَفِي كُلٍّ مِنْ لَفْظَيِ الْمُبْتَغِي وَالْمُطَّلِبِ، مُبَالَغَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْغَالِبِ وَالْمُتَمَنِّي فَكَيْفَ بِالْمُبَاشِرِ؟ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

143 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى) قِيلَ: وَمَنْ أَبَى؟ قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 143 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) : عَلَى صِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَقِيلَ: عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (إِلَّا مَنْ أَبَى) أَيِ امْتَنَعَ عَنْ قَبُولِ مَا جِئْتُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ أُرِيدَ مِنَ الْأُمَّةِ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ إِمَّا أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فَالْآبِي هُوَ الْكَافِرُ، أَوْ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ فَالْآبِي هُوَ الْعَاصِي اسْتَثْنَاهُ زَجْرًا وَتَغْلِيظًا (قِيلَ: وَمَنْ أَبَى) : هَذِهِ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ أَيْ: عَرَفْنَا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَمَنِ الَّذِي أَبَى أَيِ الَّذِي أَبَى لَا نَعْرِفُهُ، وَحَقُّ الْجَوَابِ اخْتِصَارًا أَنْ يَقُولَ: مَنْ عَصَانِي فَعَدَلَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَا سَيَأْتِي لِإِرَادَةِ التَّفْصِيلِ. قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) . تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوا هَذَا وَلَا ذَاكَ، أَوِ التَّقْدِيرُ: مَنْ أَطَاعَنِي وَتَمَسَّكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَزَالَ عَنِ الصَّوَابِ وَضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ فَقَدْ دَخَلَ النَّارَ، وَوَضَعَ أَبَى مَوْضِعَ هَذَا وَضْعًا لِلسَّبَبِ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي بَابِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

144 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالُوا إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ. فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ. فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ. فَقَالُوا: الدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 144 - (وَعَنْ جَابِرٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ) ، أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ نَائِمٌ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَذَا الْحَدِيثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً سَمِعَهَا جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَكَاهُ، وَأَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَمَّا شَاهَدَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَانْكَشَفَ لَهُ. قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ مُتَعَيَّنٌ لِمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيَّ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ: " إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي " إِلَخْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْمِصْرِيِّ أَحَدِ الثِّقَاتِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ جَابِرٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ؛ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ لَمْ يَدْرِكْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ. أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " إِلَى رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ تَعْلِيقًا، وَجَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِسْنَادٍ أَصَحَّ مِنْ هَذَا. قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَسَّدَ فَخِذَهُ فَرَقَدَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَبَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ إِذْ أَنَا بِرِجَالٍ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَهُمْ مِنَ الْجَمَالِ، فَجَلَسَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَائِفَةً مِنْهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ ثُمَّ قَالَ: هَذَا صَحِيحٌ اهـ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَوَصْفُ التِّرْمِذِيِّ لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ يُرِيدُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ سَعِيدٍ وَجَابِرٍ، وَقَدِ اعْتَضَدَ هَذَا الْمُنْقَطِعُ بِحَدِيثِ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ يَعْنِي الْآتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّانِي. قَالَ: وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ كَلَامُ مِيرَكِ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (فَقَالُوا) ، أَيْ: بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ لِبَعْضٍ (إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ) ، أَيْ: لِمُحَمَّدٍ (هَذَا) : إِشَارَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَالْمُخَاطَبُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ (مَثَلًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ صِفَةُ كَمَالٍ تَبْهَرُ الْعُقُولَ، إِذِ الْمَثَلُ هُوَ الصِّفَةُ الْعَجِيبَةُ الشَّأْنِ (فَاضْرِبُوا) ، أَيْ: بَيِّنُوا وَاجْعَلُوا (لَهُ مَثَلًا) ، أَيْ: تَمْثِيلًا وَتَصْوِيرًا لِلْمَعْنَى الْمَعْقُولِ فِي صُورَةِ الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ تَأْثِيرًا فِي النُّفُوسِ (قَالَ) : بِغَيْرِ الْفَاءِ (بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ) ، أَيْ: فَلَا يَسْمَعُ فَلَا يُفِيدُ ضَرْبُ الْمَقَالِ شَيْئًا (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) : وَهُمُ الْأَكْمَلُونَ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ

الْأَوَّلُونَ (إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ) : بِالنَّصْبِ وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ (يَقْظَانُ) : غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَقِيلَ مُنْصَرِفٌ لِمَجِيءِ فَعْلَانَةَ مِنْهُ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: يَقْظَانُ مُنْصَرِفٌ لِمَجِيءِ فَعْلَانَةَ، لَكِنَّهُ قَدْ صَحَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ " عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ يَعْنِي فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِمَّا تَقُولُونَ، فَإِنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْمَدَارِكِ الْبَاطِنِيَّةِ دُونَ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ مُنَاظَرَةٌ جَرَتْ بَيْنَهُمْ بَيَانًا وَتَحْقِيقًا لِمَا أَنَّ النُّفُوسَ الْقُدْسِيَّةَ لَا يَضْعُفُ إِدْرَاكُهَا بِضَعْفِ الْحَوَاسِّ أَيْ الْحِسِّيَّةِ لِاسْتِرَاحَةِ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ، بَلْ رُبَّمَا يَقْوَى إِدْرَاكُهَا عِنْدَ ضَعْفِهَا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الصُّوفِيَّةِ (فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ) ، أَيْ: عَظِيمٍ كَرِيمٍ (بَنَى دَارًا) : يَعْنِي قِصَّتُهُ كَهَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ آخِرِهَا، لَا أَنَّ حَالَهُ كَحَالِ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الدَّاعِي لَا الْبَانِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ، وَيُقَالَ: كَمَثَلِ دَاعِي رَجُلٍ بَنَى دَارًا (وَجَعَلَ) ، أَيِ: الْبَانِي (فِيهَا) ، أَيْ: فِي الدَّارِ (مَأْدُبَةً) : بِضَمِّ الدَّالِ وَتُفْتَحُ، طَعَامٌ عَامٌّ يُدْعَى النَّاسُ إِلَيْهِ كَالْوَلِيمَةِ، وَقِيلَ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْأَدَبِ وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى طَعَامٍ كَالْمَعْتَبَةِ. بِمَعْنَى الْعَتَبَةِ فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ الضَّمُّ (وَبَعَثَ دَاعِيًا) : يَدْعُو النَّاسَ إِكْرَامًا لَهُمْ (إِلَيْهَا) ، أَيْ: إِلَى مَا يُوصِلُ إِلَيْهَا إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193] (فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ) ، أَيْ: قَبِلَ دُعَاءَهُ (دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ) : عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ وَتَمَامِ الْإِنْعَامِ (وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ) : بَلْ طُرِدَ مِنَ الْبَابِ وَحُرِمَ مِنَ الثَّوَابِ وَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ (فَقَالُوا) ، أَيْ: فَقَالَ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ لِبَعْضٍ (أَوِّلُوهَا لَهُ) ، أَيْ: فَسِّرُوا الْحِكَايَةَ التَّمْثِيلِيَّةَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلَ تَأْوِيلًا إِذَا فُسِّرَ. بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ (يَفْقَهْهَا) : بِالْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ أَيْ يَفْهَمْهَا ثُمَّ يَفْهَمْهَا (قَالَ بَعْضُهُمْ) : بِاعْتِبَارِ مَا فِي ظَنِّهِ (إِنَّهُ نَائِمٌ) : فَهُوَ غَيْرُ فَاهِمٍ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ) ، أَيْ: عَيْنَهُ (نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ) ، أَيْ: قَلْبَهُ (يَقْظَانُ) : فَيُدْرِكُ الْبَيَانَ وَكَرَّرُوا هَذَا لِيُنَبَّهَ السَّامِعُونَ إِلَى هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ نَوْمُ الْعَيْنِ وَيَقَظَةُ الْقَلْبِ (فَقَالُوا: الدَّارُ) : أَيْ مِثْلُهَا (الْجَنَّةُ) ، أَيْ: نَفْسُهَا فَإِنَّهَا دَارُ الْمُتَّقِينَ كَمَا فِي الْقُرْآنِ الْمُبِينِ، وَالْمَأْدُبَةُ نَعِيمُهَا وَتَرَكَ بَيَانَهَا لِظُهُورِهَا، وَقِيلَ: لِاشْتِمَالِ الْجَنَّةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا دَارُ الْمَأْدُبَةِ (وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ) : قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 46] (فَمَنْ أَطَاعَ) : الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: لَمَّا كَانَ هُوَ الدَّاعِي فَمَنْ أَطَاعَ (مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: رُوعِيَ فِي التَّأْوِيلِ حُسْنُ أَدَبٍ حَيْثُ لَمْ يُصَرَّحُ بِالْمُشَبَّهِ بِالرَّجُلِ، لَكِنْ لَمَّحَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ (وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا) : أَظْهَرَ الضَّمِيرَ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ وَحَمْدِهِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهِ يَنْدَفِعُ وَهْمُ الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِ (فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ) . رُوِيَ مُشَدَّدًا عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ وَمُخَفَّفًا عَلَى الْمَصْدَرِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: فَارِقٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالصَّالِحِ وَالْفَاسِقِ، وَقَالَ مِيرَكُ شَاهْ: كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

145 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أُخْبِرُوا بِهَا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ; فَقَالُوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ ! . فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَصُومُ النَّهَارَ أَبَدًا، وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ فَقَالَ: " أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ ! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 145 - (وَعَنْ أَنَسٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ) : الرَّهْطُ: الْعِصَابَةُ دُونَ الْعَشَرَةِ وَقِيلَ: دُونَ الْأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: هُمْ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقِيلَ: الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ بَدَلَ عَبْدِ اللَّهِ كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّمَا جَاءَ تَفْسِيرُ الثَّلَاثَةِ بِالرَّهْطِ لِأَنَّهُ مَعْنَى الْجَمَاعَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْطِ وَالنَّفَرِ أَنَّهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَالنَّفَرُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ. قَالَ الشَّيْخُ: وَقَعَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَبْدِ الرَّازِقِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورِينَ هُمْ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ. قَالَ: لَكِنْ فِي عَدِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْهُمْ نَظَرٌ لِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَا أَحْسِبُ كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَذَكَرَ فِي " الْخَلْخَالِيِّ " مَكَانَ عَبْدِ اللَّهِ الْمِقْدَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ، أَيْ: عِبَادَتِهِ فِي الْبَيْتِ، وَالْمُرَادُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ عَادَةِ وَظَائِفِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى يَفْعَلُوا ذَلِكَ (فَلَمَّا أُخْبِرُوا) : عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: أَخْبَرَتْهُمْ (بِهَا) أَيْ: بِعِبَادَتِهِ (كَأَنَّهُمْ تَقَالُوهَا) : تَفَاعُلٌ مِنَ الْقِلَّةِ أَيِ اسْتَقَلُّوهَا، وَجَدُوهَا أَوْ عَدُّوهَا قَلِيلَةً لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهَا أَكْثَرُ مِمَّا أُخْبِرُوا بِهِ بِكَثِيرٍ (فَقَالُوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بَوْنٌ بَعِيدٌ فَإِنَّا عَلَى صَدَدِ التَّفْرِيطِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ وَهُوَ مَعْصُومٌ مَأْمُونُ الْخَاتِمَةِ، أَوْ لِأَنَّ لَهُ مُعَامَلَةً بَاطِنِيَّةً مَعَ اللَّهِ تَعَالَى سَاعَةٌ مِنْهَا أَفْضَلُ مِنْ طَاعَةِ سَنَةٍ ظَاهِرِيَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا وَرَدَ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ أَوْ سِتِّينَ سَنَةً لَهُ، لَا سِيَّمَا فِي الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَقِيلَ: فَإِنَّا مُذْنِبُونَ وَمُحْتَاجُونَ إِلَى الْمَغْفِرَةِ (وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ !) فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ نُصْبَ أَعْيُنِنَا وَلَا نَصْرِفَ عَنْهَا وُجُوهَنَا لَيْلًا وَنَهَارًا، ثُمَّ الذَّنْبُ: مَا لَهُ تَبِعَةٌ دِينِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الذَّنْبِ، وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاتَبًا بِتَرْكِ الْأَوْلَى تَأْكِيدًا لِلْعِصْمَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الذَّنْبِ، أَوْ يَكُونُ مِنْ بَابِ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ ". قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: سُتِرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِعِصْمَتِهِ مِنْهُ فَلَمْ يُمْكِنْ صُدُورُهُ مِنْهُ وَلَوْ صَغِيرَةً قَبْلَ النُّبُوَّةِ عَلَى الصَّوَابِ. هَذَا مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَعْنَاهَا فِي غَيْرِهِمْ سُتْرَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُقُوبَةِ ذُنُوبِهِمْ اهـ -. وَفِي قَوْلِهِ: عَلَى الصَّوَابِ تَخْطِئَةٌ لِأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَهُو غَيْرُ صَوَابٍ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ عَلَى الصَّحِيحِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ حَتَّى فِي كُلِّ حَالَاتِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا تَفَكُّرٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِمْ أَوْ ظَنِّهِمْ ذَلِكَ عَنْهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى عِصْمَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ شَيْءٌ لَا يُتَأَسَّى بِهِ فِيهِ مِمَّا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ اهـ. وَالْجُمْهُورُ جَوَّزُوا وُقُوعَ الْكَبَائِرِ سَهْوًا وَالصَّغَائِرِ عَمْدًا، لَكِنِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمُ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ لَا يُنَافِي الْإِجْمَاعَ الْمَذْكُورَ. قَالَ الْمُظْهِرُ: ظَنُّوا أَنَّ وَظَائِفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرَةٌ: فَلَمَّا سَمِعُوهَا عَدُّوهَا قَلِيلَةً، وَقَدْ رَاعُوا الْأَدَبَ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبُوهُ إِلَى التَّقْصِيرِ بَلْ أَظْهَرُوا كَمَالَهُ وَلَامُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِمْ إِيَّاهَا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْمُرِيدِ بِأَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى الشَّيْخِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ وَإِنْ رَأَى عِبَادَتَهُ قَلِيلَةً، فَلْيُظْهِرْ عُذْرَهُ وَلْيَلُمْ نَفْسَهُ إِنْ جَرَى فِيهَا إِنْكَارٌ عَلَى شَيْخِهِ لِأَنَّ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى شَيْخِهِ لَمْ يُفْلِحْ أَبَدًا، وَفِيهِ أَنَّ قِلَّةَ وَظَائِفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

كَانَتْ رَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ لِئَلَّا يَتَضَرَّرُوا بِالِاقْتِدَاءِ، إِذْ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِمْ حَقٌّ وَلِأَزْوَاجِهِمْ عَلَيْهِمْ حَقٌّ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ إِلَى الطَّعَامِ لِيَتَقَوَّى صُلْبُهُ، وَالرِّجَالُ مُحْتَاجُونَ إِلَى النِّسَاءِ لِبَقَاءِ النَّسْلِ (فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا) ، أَيْ: أَمَّا: رَسُولُ اللَّهِ فَقَدْ خُصَّ بِالْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يُكْثِرَ الْعِبَادَةَ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِثْلَهُ (فَأُصَلِّي اللَّيْلَ) ، أَيْ: أُحْيِيهِ بِالصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَمَا قَبْلَهُ عَزَمَ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَيُحْتَمَلُ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَلِكَ (أَبَدًا) ، أَيْ: طُولَ اللَّيْلِ أَوْ دَائِمًا غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِلَيْلٍ دُونَ لَيْلٍ (وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَصُومُ النَّهَارَ) ، أَيْ: أَبَدًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ لَكِنْ يُسْتَغْنَى عَنْهُ بِقَوْلِ (وَلَا أُفْطِرُ) ، أَيْ: بِالنَّهَارِ يَعْنِي غَيْرَ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ الْمَنْهِيَّةِ (وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ) : أَيِ أَجْتَنِبُهُنَّ (فَلَا أَتَزَوَّجُ) ، أَيْ: مِنْهُنَّ أَحَدًا (أَبَدًا) ، فَإِنَّهُنَّ وَالِاشْتِغَالَ بِهِنَّ يَمْنَعُ الشَّخْصَ عَنِ الْعِبَادَةِ وَيُوقِعُهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِهَا فِي الْعَادَةِ، وَهُوَ خِلَافُ سُلُوكِ أَهْلِ الْإِرَادَةِ مِنَ السَّادَةِ (فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ) ، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِأَنْ جَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَأَخْبَرُوهُ وَإِمَّا بِالْوَحْيِ (فَقَالَ: أَنْتُمْ) ، أَيْ: أَأَنْتُمْ فَحُذِفَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الَّتِي لِلْإِنْكَارِ مِنْ قَبْلِ أَنْتُمُ الَّذِي هُوَ الْفَاعِلُ الْمَعْنَوِيُّ الْمُزَالُ عَنْ مَقَرِّهِ عَلَى حَدِّ: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ (الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ !) كِنَايَةٌ عَمَّا تَقَدَّمَ (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ وَاسْتِفْتَاحٍ. بِمَنْزِلَةِ أَلَا وَيَكْثُرُ قَبْلَ الْقَسَمِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ حَقًّا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَمَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ) . قَالَ الْقَاضِي، أَيْ: أَنَا أَعْلَمُ بِهِ وَبِمَا هُوَ أَعَزُّ لَدَيْهِ وَأَكْرَمُ عِنْدَهُ، فَلَوْ كَانَ مَا اسْتَأْثَرْتُمُوهُ مِنَ الْإِفْرَاطِ فِي الرِّيَاضَةِ أَحْسَنُ مِمَّا أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِدَالِ لَمَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ (لِلَّهِ) : مَفْعُولٌ بِهِ لِأَخْشَاكُمْ، وَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا فِي الظَّرْفِ (وَأَتْقَاكُمْ لَهُ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ الَّتِي لَا تُورِثُ التَّقْوَى لَا عِبْرَةَ بِهَا (لَكِنِّي أَصُومُ) : اسْتِدْرَاكٌ عَنْ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَنَا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، فَيَنْبَغِي عَلَى زَعْمِكُمْ أَوْ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْ أَقُومَ فِي الرِّيَاضَةِ إِلَى أَقْصَى مَدَاهُ، لَكِنْ أَقْتَصِدُ وَأَتَوَسَّطُ فِيهَا فَأَصُومُ فِي وَقْتٍ (وَأُفْطِرُ) : فِي آخَرَ (وَأُصَلِّي) : بَعْضَ اللَّيْلِ (وَأَرْقُدُ) : فِي بَعْضِهِ (وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ) : وَلَا أَزْهَدُ فِيهِنَّ وَكَمَالُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّهِنَّ مَعَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، وَهَذَا كُلُّهُ لِيَقْتَدِيَ بِيَ الْأُمَّةُ (فَمَنْ رَغِبَ) ، أَيْ: مَالَ وَأَعْرَضُ (عَنْ سُنَّتِي) ، أَيِ: اسْتِهَانَةً وَزُهْدًا فِيهَا لَا كَسَلًا وَتَهَاوُنًا (فَلَيْسَ مِنِّي) ، أَيْ: مِنْ أَشْيَاعِي، وَضَعَ قَوْلَهُ: عَنْ سُنَّتِي مَكَانَ ذَلِكَ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ فِي مِنِّي اتِّصَالِيَّةٌ، وَذَكَرَ الْأَبْهَرِيُّ عَنِ الشَّيْخِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّحَ بِذَلِكَ إِلَى طَرِيقَةِ الرَّهْبَانِيَّةِ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا التَّشْدِيدَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ عَابَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا وَفُّوا بِمَا الْتَزَمُوهُ اهـ. قُلْتُ: مَا هُوَ تَلْمِيحٌ بَلْ هُوَ تَصْرِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] . قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا وَوَصَفَ الْقِيَامَةَ فَرَقَّ لَهُ النَّاسُ وَبَكَوْا، فَاجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيِّ وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَمَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَتَشَاوَرُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَتَرَهَّبُوا وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ جَمْعُ الْمُسْحِ وَهُوَ الصُّوفُ، وَيَجُبُوا مَذَاكِيرَهُمْ، أَيْ: يَقْطَعُوهَا، وَيَصُومُوا الدَّهْرَ،

وَيَقُومُوا اللَّيْلَ، وَلَا يَنَامُوا عَلَى الْفِرَاشِ، وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْمَ، وَالْوَدَكَ أَيِ الدَّسَمَ مِنَ السَّمْنِ، وَالدُّهْنِ، وَلَا يَقْرَبُوا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى دَارَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَلَمْ يُصَادِفْهُ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَاسْمُهَا الْحَوْلَاءُ، وَكَانَتْ عَطَّارَةً: أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْ زَوْجِكِ وَأَصْحَابِهِ؟ " فَكَرِهَتْ أَنْ تَكْذِبَ وَكَرِهَتْ أَنْ تُبْدِي عَلَى زَوْجِهَا أَيْ تُظْهِرَ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَخْبَرَكَ عُثْمَانُ فَقَدْ صَدَقَكَ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكُمُ اتَّفَقْتُمْ عَلَى كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ "، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَقُومُوا وَنَامُوا فَإِنِّي أَقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ وَآتِي النِّسَاءَ، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ". ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ وَالطِّيبَ وَالنَّوْمَ وَشَهَوَاتِ الدُّنْيَا إِنِّي لَسْتُ آمُرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ وَلَا اتِّخَاذُ الصَّوَامِعَ، وَإِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الصَّوْمُ، وَرَهْبَانِيَّتُهُمُ الْجِهَادُ، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ وَاسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ لَكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

146 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ؟ ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 146 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ: صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا) ، أَيْ: مِنَ الْمُبَاحَاتِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الصُّنْعُ إِجَادَةُ الْفِعْلِ فَكُلُّ صُنْعٍ فِعْلٌ وَلَا يَنْعَكِسُ وَلَا يُنْسَبُ إِلَى الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ كَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهَا الْفِعْلُ (فَرَخَّصَ) ، أَيْ: لِلنَّاسِ فِيهِ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الصُّنْعِ أَوْ مِنْ أَجْلِهِ (فَتَنَزَّهَ عَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ ذَلِكَ الصُّنْعِ (قَوْمٌ) وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ الصُّنْعَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ فِعْلَهُ يُنَافِي فِي الْكَمَالِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. قَالَ الشَّيْخُ: لَمْ أَعْرِفْ أَعْيَانَ الْقَوْمِ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ: وَلَا الشَّيْءَ الَّذِي تُرُخِّصُ فِيهِ، وَأَوْمَأَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّهُ الْقِبْلَةُ لِلصَّائِمِ، وَقِيلَ: الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقَوْمَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالشَّيْءُ الْمُرَخَّصُ مَا ذُكِرَ فِيمَا سَبَقَ (فَبَلَغَ ذَلِكَ) ، أَيْ: تَنَزُّهُهُمْ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَطَبَ) ، أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (فَحَمِدَ اللَّهَ) : إِلَخْ تَفْسِيرًا لِمَا قَبْلَهُ (ثُمَّ قَالَ) ، أَيْ: فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهَا مُعَرِّضًا لَا مُصَرِّحًا سَتْرًا عَلَى الْفَاعِلِ وَرَحْمَةً بِهِ (مَا بَالُ أَقْوَامٍ) : اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ، أَيْ: مَا حَالُهُمْ (يَتَنَزَّهُونَ) : صِفَةُ أَقْوَامٍ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ نَحْوَ: مَا لَكَ قَائِمًا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] ، أَيْ: يَتَبَاعَدُونَ وَيَحْتَرِزُونَ (عَنِ الشَّيْءِ) : مِنَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ وَالْأَكْلِ بِالنَّهَارِ وَالتَّزَوُّجِ بِالنِّسَاءِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ (أَصْنَعُهُ؟ !) : حَالٌ مِنَ الشَّيْءِ، وَأَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ شَيْئًا وَقِيلَ: اللَّامُ فِي الشَّيْءِ لِلْجِنْسِ وَأَصْنَعُهُ صِفَتُهُ (فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيْ: فَإِنِ احْتَرَزُوا عَنْهُ لِخَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ فَأَنَا أَعْلَمُ بِقَدْرِ عَذَابِ اللَّهِ فَأَنَا أَوْلَى بِالِاحْتِرَازِ (وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) : إِشَارَةٌ إِلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَقَدَّمَ الْعِلْمَ عَلَى الْخَشْيَةِ لِأَنَّهَا نَتِيجَتُهُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَخْشَاهُمْ عَلَى الْأَصْلِ فَإِنَّهُ (عَدَلَ عَنْهُ وَجُعِلَ أَشَدَّ، ثُمَّ فُسِّرَ بِخَشْيَةٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأَشَدَّ نَفْسَهُ خَشْيَةٌ) (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .

147 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟ . قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ. قَالَ: " لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا. فَتَرَكُوهُ؟ فَنَقَصَتْ. قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، فَخُذُوا بِهِ ; وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 147 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ الْأَنْصَارِيَّ، أَصَابَهُ سَهْمٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنَا شَهِيدٌ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَانْقَضَتْ جِرَاحَتُهُ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِالْمَدِينَةِ وَلَهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَخَدِيجٌ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْجِيمِ (قَالَ: قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ) ، أَيْ: طَابَةَ السّكينَةِ (وَهُمْ) ، أَيْ: أَهْلُهَا (يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: يُلَقِّحُونَ كَمَا فِي رِوَايَةِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يَعْنِي: يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ، وَرُوِيَ يَأْبِرُونَ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَقَدْ يُضَمُّ، وَالْأَبْرُ وَالْإِبَّارُ وَالتَّأْبِيرُ الْإِصْلَاحُ، وَالْمَعْنَى يُشَقِّقُونَ طَلْعَ الْإِنَاثِ وَيَذَرُوَنَ فِيهِ طَلْعَ الذَّكَرِ لِيَجِيءَ ثَمَرُهُ جَيِّدًا، إِذِ النَّخْلَةُ خُلِقَتْ مِنْ فَضْلَةِ طِينَةِ آدَمَ عَلَى مَا وَرَدَ، فَلَابُدَّ عَادَةً فِي صَلَاحِ نَتَاجِهَا مِنِ اجْتِمَاعِ طَلْعِ الذَّكَرِ مَعَ طَلْعِ الْأُنْثَى، كَمَا أَنَّهُ لَابُدَّ عَادَةً فِي تَخَلُّقِ ابْنِ آدَمَ مِنِ اجْتِمَاعِ مَنِيِّ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟) مَا: اسْتِفْهَامِيَّةٌ (قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُ) ، أَيْ: هَذَا دَأْبُنَا وَعَادَتُنَا (قَالَ: لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ لَكَانَ (خَيْرًا) ، أَيْ: تَتْعَبُونَ فِيمَا لَا يَنْفَعُ كَمَا جَاءَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا (فَتَرَكُوهُ) ، أَيِ: التَّأْبِيرَ (فَنَقَصَتْ) ، أَيِ: النَّخْلُ ثِمَارَهَا أَوِ انْتَقَصَتْ ثِمَارُهَا فَإِنَّ النَّقْصَ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٍ، أَيْ: لَمْ يَأْتِ مِنْهَا شَيْءٌ صَالِحٌ (قَالَ) ، أَيْ: رَافِعٌ (فَذَكَرُوا) ، أَيْ: أَصْحَابُ النَّخْلِ (ذَلِكَ) ، أَيِ: النُّقْصَانُ (لَهُ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) ، أَيْ: فَلَيْسَ لِيَ اطِّلَاعٌ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ قُلْتُهُ بِحَسْبَ الظَّنِّ لِشُهُودِي إِذْ ذَاكَ إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَاسْتِغْرَاقِي فِي عَجَائِبَ قُدْرَتِهِ وَغَرَائِبِ قُوَّتِهِ الَّتِي لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى سَبَبٍ، لَكِنَّهُ تَعَالَى قَضَى لِيُظْهِرَ حِكْمَتَهُ الْبَاهِرَةَ وَتَتَفَاوَتُ شُهُودُ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِأَنَّ دَائِرَةَ الْأَسْبَابِ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا (إِذَا أَمَرْتُكُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ أُمِرْتُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ (بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: مِنْ أَمْرِ دِينِكِمْ أَيْ مِمَّا يَنْفَعُكُمْ فِي أَمْرِ دِينِكُمْ (فَخُذُوا بِهِ) : أَيِ افْعَلُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا نَطَقْتُ بِهِ عَنِ الْوَحْيِ (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي) . وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ رَأْيٍ أَيْ مُتَعَلِّقٍ بِالدُّنْيَا الَّتِي لَا ارْتِبَاطَ لَهَا بِالدِّينِ وَأَخْطَأْتُ فَلَا تَسْتَبْعِدُوا، وَقِيلَ: فَمَنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهُ (فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) ، أَيْ: فَإِنِّي بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ أَحْمَدَ، وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَلْتَفِتُ غَالِبًا إِلَّا إِلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ. وَفِي " الْمَصَابِيحِ " فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ! . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

148 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ! إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنِي، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ! فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ. فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهْلِهِمْ، فَنَجَوْا. وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 148 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّمَا مَثَلِي) : الْمَثَلُ بِفَتْحَتَيْنِ الصِّفَةُ الْعَجِيبَةُ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْمَثَلِ الَّذِي هُوَ النَّظِيرُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْقَوْلِ السَّائِرِ: الْمَثَلُ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَوْلًا فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ قِصَّةٍ وَحَالٍ وَصِفَةٍ (وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ) ، أَيْ: إِلَى أُمَّتِي، وَقِيلَ (مَا) بِمَعْنَى (مِنْ) ، أَيْ: مَنْ أَرْسَلَنِي إِلَيْهِ (كَمَثَلِ رَجُلٍ) : قِيلَ: هَذَا مِنَ التَّشْبِيهَاتِ الْمَفْرُوقَةِ وَهِيَ أَنْ يُؤْتَى بِمُشَبَّهٍ وَمُشَبَّهٍ بِهِ ثُمَّ بِآخَرَ وَآخَرَ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ (أَتَى قَوْمًا) ، أَيْ: لِيُنْذِرَهُمْ بِقُرْبِ عَدُوِّهِمْ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى لِقَائِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُنْجِيهِمْ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَهْرُبُونَ

عَنْهُ، وَذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ أَجِلَّتِهِمْ وَأَمِينٌ مِنْ أَخْبَارِهِ عِنْدَهُمْ (فَقَالَ: يَا قَوْمِ! إِنِّي رَأَيْتُ) ، أَيْ: أَبْصَرْتُ (الْجَيْشَ) ، أَيِ: الْعَسْكَرَ الْكَثِيرَ الْمُتَوَجِّهَ إِلَيْكُمْ (بِعَيْنِي) : لِلتَّأَكُّدِ وَدَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ، وَهُوَ بِالتَّثْنِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ. وَرُوِيَ بِالْإِفْرَادِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ (وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ) : فِيهِ الْحَصْرُ (الْعُرْيَانُ) ، أَيْ: بِلَا غَرَضٍ، وَالنَّذِيرُ الْعُرْيَانُ: مَثَلٌ مَشْهُورٌ سَائِرٌ بَيْنَ الْعَرَبِ يُضْرَبُ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَدُنُوِّ الْمَحْذُورِ وَبَرَاءَةِ الْمُحَذِّرِ عَنِ التُّهْمَةِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا رَأَى الْعَدُوَّ قَدْ هَجَمَ عَلَى قَوْمِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُفَاجِئَهُمْ وَكَانَ يَخْشَى لُحُوقَهُمْ قَبْلَ لُحُوقِهِ تَجَرَّدَ عَنْ ثَوْبِهِ وَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ خَشَبَةٍ وَصَاحَ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي غَشِيَهُ الْعَدُوُّ وَكَانَ رَبِيئَةَ قَوْمِهِ، أَيْ: جَاسُوسَهُمْ، فَأَخَذُوهُ وَتَعَلَّقُوا بِثِيَابِهِ فَانْسَلَّ مِنْهَا وَلَحِقَ بِقَوْمِهِ فَأَنْذَرَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلَى حَالَتِهِ تِلْكَ ارْتَحَلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي سَلَبَ الْعَدُوُّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ فَأَتَى قَوْمَهُ عُرْيَانًا يُخْبِرُهُمْ فَصَدَّقُوهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ آثَارِ الصِّدْقِ، وَخُصَّ الْعُرْيَانُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَبْيَنُ فِي الْعَيْنِ وَأَغَرُّ وَأَشْنَعُ عِنْدَ الْبَصَرِ (فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ) : فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ مَرَّتَيْنِ. وَفِي نُسْخَةٍ مَرَّةً وَهُوَ بِالْمَدِّ عَلَى الْأَصَحِّ مَصْدَرُ نَجَا إِذَا أَسْرَعَ. يُقَالُ: نَاقَةٌ نَاجِيَةٌ أَيْ مُسْرِعَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِالْفَاءِ وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: اطْلُبُوا النَّجَاءَ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ: انْجُوا وَهُوَ الْإِسْرَاعُ، كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ. قِيلَ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَبَعْضِ نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ " مَرَّةً، وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا مَرَّتَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَوَى الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ الْمَعْرُوفِ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: إِذَا أُفْرِدَ النَّجَاءُ مُدَّ، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ فِيهَا الْقَصْرَ، وَأَمَّا إِذَا كُرِّرَ فَفِيهِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ مَعًا اهـ. وَنَقَلَ الْأَبْهَرِيُّ عَنِ الشَّيْخِ بِالْمَدِّ فِيهِمَا وَبِمَدِّ الْأُولَى وَقَصْرِ الثَّانِيَةِ وَبِالْقَصْرِ فِيهِمَا تَخْفِيفًا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: اطْلُبُوا النَّجَاءَ بِأَنْ تُسْرِعُوا الْهَرَبَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ مُقَاوَمَةَ ذَلِكَ الْجَيْشِ (فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِطَاعَةُ تَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ يَعْنِي فَيَحْسُنُ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ فِيمَا يَأْتِي (فَأَدْلَجُوا) : هَمْزَةُ قَطْعٍ ثُمَّ سُكُونٌ هُوَ الصَّحِيحُ، أَيْ: سَارُوا أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ سَارُوا اللَّيْلَ كُلَّهُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي مَدْلُولِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَأَمَّا بِالْوَصْلِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سَيْرُ آخِرِ اللَّيْلِ فَلَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: سَارُوا فِي الدُّلْجَةِ وَهِيَ الظُّلْمَةُ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَالدُّلْجَةُ أَيْضًا السَّيْرُ فِي اللَّيْلِ، وَكَذَا الدَّلْجُ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَادَّلَجُوا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ سَارُوا آخِرَ اللَّيْلِ (فَانْطَلَقُوا) ، أَيْ: ذَهَبُوا وَسَارُوا (عَلَى مَهْلِهِمْ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَهْلُ بِالْحَرَكَةِ الْهَيْئَةُ وَالسُّكُونُ وَبِالسُّكُونِ الْإِمْهَالُ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي نُسَخِ " مُسْلِمٍ ": بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَبِتَاءٍ بَعْدَ اللَّامِ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ " الصَّحِيحَيْنِ " مَهَلِهِمْ بِحَذْفِ التَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَاءِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحَانِ اهـ. لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي نُسَخِ " الْمِشْكَاةِ " إِلَّا بِدُونِ التَّاءِ اخْتِيَارًا لِلَفْظِ الْبُخَارِيِّ عَلَى لَفْظِ مُسْلِمٍ لِكَوْنِهِ أَصَحَّ (فَنَجَوْا) ، أَيْ: بِسَبَبِ تَصْدِيقِ الْمُنْذِرِينَ (وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّكْذِيبُ يَسْتَتْبِعُ الْعِصْيَانَ يَعْنِي فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ) ، أَيْ: دَخَلُوا وَقْتَ الصَّبَاحِ فِي مَكَانِهِمْ (فَصَبَّحَهُمْ) : بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ (الْجَيْشُ) ، أَيْ: أَتَاهُمْ جَيْشُ الْعَدُوِّ صَبَاحًا لِلْإِغَارَةِ (فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ) : بِالْجِيمِ فِي الْأُولَى وَالْمُهْمَلَةِ فِي الثَّانِيَةِ، أَيِ: اسْتَأْصَلَهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ بِشُؤْمِ التَّكْذِيبِ، وَهَذَا فَائِدَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (فَذَلِكَ) ، أَيِ: الْمَثَلُ الْمَذْكُورُ (مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ (مَا جِئْتُ بِهِ) ، أَيْ: مِنَ الْحَقِّ، وَهَذَا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَرْوَحَ بِظَاهِرِ الطَّاعَةِ عَنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ (وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ) . قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: مِنَ التَّشْبِيهَاتِ الْمَفْرُوقَةِ شَبَّهَ ذَاتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالرَّجُلِ، وَمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ إِنْذَارِ الْقَوْمِ بِعَذَابِ اللَّهِ الْقَرِيبِ بِإِنْذَارِ الرَّجُلِ قَوْمَهُ بِالْجَيْشِ الْمُصَبِّحِ، وَشَبَّهَ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ وَمَنْ عَصَاهُ بِمَنْ صَدَّقَ الرَّجُلَ فِي إِنْذَارِهِ، وَكَذَّبَهُ اهـ. فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا ... لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي شَبَّهَ الْقُلُوبَ الرَّطْبَةَ بِالْعُنَّابِ وَالْيَابِسَةِ بِالْحَشَفِ عَلَى التَّفْرِيقِ بِطَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

149 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا، جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا. هَذِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوَهَا، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ: هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ! فَتَغْلِبُونِي. تَقَحَّمُونَ فِيهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 149 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلِي) ، أَيْ: صِفَتِي الْعَجِيبَةُ الشَّأْنِ مَعَكُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ أَوْ مَعَ النَّاسِ (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ) ، أَيْ: أَوْقَدَ وَزِيدَتِ السِّينُ لِلتَّأْكِيدِ (نَارًا) ، أَيْ: عَظِيمَةً (فَلَمَّا أَضَاءَتْ) : الْإِضَاءَةُ فَرْطُ الْإِنَارَةِ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى وَهَاهُنَا مُتَعَدٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا وَفَاعِلُهُ (مَا حَوْلَهَا) : وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْأَمَاكِنِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (مَا) مَزِيدَةً أَوْ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَضَاءَتْ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ. وَقَوْلُهُ: مَا حَوْلَهَا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، فَالضَّمِيرُ لِلنَّارِ أَيْ أَضَاءَتِ النَّارُ جَوَانِبَ تِلْكَ النَّارِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: مَا حَوْلَهُ فَالضَّمِيرُ لِلْمُسْتَوْقَدِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَمَا ظَهَرَ لِي وَجْهُ عُدُولِ صَاحِبِ " الْمِشْكَاةِ " إِلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَعَ كَوْنِهَا أَصَحُّ، وَمَعَ ثُبُوتِ مُوَافَقَتِهَا لِلَفْظِ الْقُرْآنِ الْأَفْصَحِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى الْمَقْصُودِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْضَحِ مَعَ قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: هَذِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مَحَلُّ خَطَلٍ (جَعَلَ) ، أَيْ: شَرَعَ (الْفَرَاشُ) : هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ دُوَيْبَةٌ: طَيْرٌ تَتَسَاقَطُ فِي النَّارِ يُقَالُ بِالْفَارِسِيِّ بَرْوَانَهْ (وَهَذِهِ الدَّوَابُّ) : قِيلَ: عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِلْفَرَاشِ وَأَنَّثَهُ نَظَرًا لِخَبَرِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْفَرَاشِ اسْمُ جِنْسٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي} [النحل: 68] وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِشَارَةٌ إِلَى غَيْرِ الْفَرَاشِ (الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ) ، أَيْ: عَادَتُهَا إِلْقَاءُ نَفْسِهَا فِي النَّارِ كَالْبَقِّ وَالْبَعُوضِ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، نَعَمْ الْجَرَادُ بَعْضُهُ كَذَلِكَ (يَقَعْنَ) ، أَيِ: الْفَرَاشُ وَالدَّوَابُّ (فِيهَا، وَجَعَلَ) ، أَيِ: الْمُسْتَوْقِدُ (يَحْجُزُهُنَّ) : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ يَمْنَعُهُنَّ (وَيَغْلِبْنَهُ) ، أَيْ: لِلْوُقُوعِ فِيهَا (فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا) ، أَيْ: يَدْخُلْنَ فِيهَا بِشِدَّةٍ وَمُزَاحَمَةٍ. قِيلَ: التَّقَحُّمُ هُوَ الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْهَلَاكِ وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي الْهَلَاكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: التَّقَحُّمُ الْإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي أَمْرٍ شَاقٍّ (فَأَنَا) : الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ: إِذَا صَحَّ هَذَا التَّمْثِيلُ بِأَنِّي كَالْمُسْتَوْقِدِ وَأَنْتُمْ كَالْفَرَاشِ فِيمَا ذُكِرَ فَأَنَا (آخِذٌ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْمُ فَاعِلٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَتَنْوِينِ الذَّالِ، وَالثَّانِي فِعْلٌ مُضَارِعٌ بِضَمِّ الْخَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَهُمَا صَحِيحَانِ (بِحُجَزِكُمْ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ بَعْدَهَا زَايٌ جَمْعُ حُجْزَةَ وَهِيَ مَعْقَدُ الْإِزَارِ، وَمِنَ السَّرَاوِيلِ مَوْضِعُ التِّكَّةِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَيَجُوزُ ضَمُّ الْجِيمِ فِي الْجَمْعِ (عَنِ النَّارِ) ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْحُجَزَ لِأَنَّ مَحَلَّ الزِّنَا الَّذِي هُوَ أَفْحَشُ الْفَوَاحِشِ تَحْتَهَا أَوْ لِأَنَّ أَخْذَ الْوَسَطِ أَقْوَى وَأَوْثَقُ مِنَ الْأَخْذِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي التَّبْعِيدِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَالْأَوَّلُ بِعِيدٌ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا) : مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: تَقْتَحِمُونَ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ (هَذِهِ) ، أَيْ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ أَوْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ إِلَى هُنَا وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ، وَفِي نُسْخَةٍ هَذَا أَيْ هَذَا اللَّفْظُ (رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهَا) ، أَيْ: رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مَعْنًى، وَفِي " شَرْحِ ابْنِ حَجْرٍ " مِثْلُهَا وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً (وَقَالَ) ، أَيْ: مُسْلِمٌ (فِي آخِرِهَا) ، أَيْ: آخِرَ رِوَايَتِهِ (قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَذَلِكَ) ، أَيِ: الْمَثَلُ الْمَذْكُورُ (مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا تَأْكِيدٌ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِطُولِ الْكَلَامِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَوَّلِهِ كَقَوْلِهِ: أَنَا آخِذٌ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَيَانٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَبَيَانُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ: فَأَنَا آخِذٌ إِلَخْ. وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ: فَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ

أَنَا آخِذٌ إِلَخْ. وَقَوْلُهُ (أَنَا آخِذٌ) : بِالْوَجْهَيْنِ (بِحُجَزِكُمْ) ، أَيْ: لِلتَّبْعِيدِ (عَنِ النَّارِ) : وَأَقُولُ (هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ) : كَرَّرَ لِفَرْطِ الِاهْتِمَامِ، وَالْمَعْنَى أَسْرِعُوا إِلَيِّ وَأَبْعِدُوا أَنْفُسَكُمْ عَنِ النَّارِ، قَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُهُ لُمَّ أَيْ لُمَّ أَنْفُسَكُمْ إِلَيْنَا بِالْقُرْبِ مِنَّا وَهَا لِلتَّنْبِيهِ، وَإِنَّمَا حُذِفَ أَلِفُهَا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَجُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ أَصْلُهُ هَلْ أَمْ أَيْ هَلْ لَكَ فِي كَذَا أَمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ قُصِدَ فَرُكِّبَ الْكَلِمَتَانِ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ ضَمِّ اللَّامِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اقْرُبْ إِلَيْنَا وَابْعُدْ عَنِ النَّارِ، فَالْخِطَابُ عَامٌّ وَمَحَلُّ هَلُمَّ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَمْنَعُكُمْ قَائِلًا: هَلُمَّ (فَتَغْلِبُونِي) : النُّونُ مُشَدَّدَةٌ إِذْ أَصْلُهُ تَغْلِبُونِي فَأَدْغَمَ نُونَ الْجَمْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ بِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي نُونِ التَّأْكِيدِ اهـ. وَرُوِيَ بِتَخْفِيفِهَا عَلَى حَذْفِ إِحْدَى النُّونَيْنِ، وَاخْتَارَ الشَّاطِبِيُّ حَذْفَ الْأَخِيرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ عَلَى التَّعْكِيسِ كَاللَّامِ فِي لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا (تَقَحَّمُونَ) ، أَيْ: تَتَقَحَّمُونَ (فِيهَا) . وَهُوَ حَالٌ عَنْ فَاعِلِ تَغْلِبُونِي؟ وَقِيلَ: بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَثَلَ بِوُقُوعِ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ لِجَهْلِهِ بِمَا يَعْقُبُ التَّقَحُّمَ فِيهَا مِنَ الِاحْتِرَاقِ وَلِتَحْقِيرِ شَأْنِهَا. قَالَ: وَهَذِهِ الدَّوَابُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26] وَتَخْصِيصُ ذِكْرِ الدَّوَابِّ وَالْفَرَاشِ لَا يُسَمَّى دَابَّةً عُرْفًا لِبَيَانِ جَهْلِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنفال: 22] الْآيَةَ. كُلُّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ لِطَالِبِ الدُّنْيَا الْمُتَهَالِكِ فِيهَا جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُهْلِكَاتِ نَفْسَ النَّارِ وَضْعًا لِلسَّبَبِ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] وَشَبَّهَ إِظْهَارَهُ بِمَحَارِمِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ بِبَيَانَاتِهِ الشَّافِيَةِ الْكَافِيَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِاسْتِيقَادِ الرَّجُلِ النَّارَ، وَشَبَّهَ فُشُوَّ ذَلِكَ الْكَشْفِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بِإِضَاءَةِ تِلْكَ النَّارِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقَدِ، وَشَبَّهَ النَّاسَ وَعَدَمَ مُبَالَاتِهِمْ بِذَلِكَ الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ وَتَعَدِّيهِمْ حُدُودَ اللَّهِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى اللَّذَّاتِ، وَمَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ بِأَخْذِ حُجَزِهِمْ بِالْفَرَاشِ الَّتِي يَتَقَحَّمْنَ فِي النَّارِ وَيَغْلِبْنَ الْمُسْتَوْقِدَ، وَكَمَا أَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَوْقِدِ هُوَ انْتِفَاعُ الْخَلْقِ بِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ وَالِاسْتِدْفَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْفَرَاشُ لِجَهْلِهَا جَعَلَتْهُ سَبَبًا لِهَلَاكِهَا، كَذَلِكَ كَانَ الْقَصْدُ بِتِلْكَ الْبَيَانَاتِ اهْتِدَاءَ تِلْكَ الْأُمَّةِ وَاحْتِمَاءَهَا عَمَّا هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ جَعَلُوهَا مُوجِبَةً لِتَرَدِّيهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: (آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ) اسْتِعَارَةٌ مَثَّلَتْ حَالَهُ فِي مَنْعِ الْأُمَّةِ عَنِ الْهَلَاكِ بِحَالِ رَجُلٍ آخِذٍ بِحُجْزَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي يَهْوِي فِي قَعْرِ بِئْرٍ مُرْدِيَةٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . فِيهِ: أَنَّ هَذَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا سَبَقَ فَإِيرَادُهُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاتِّفَاقِ هُنَا بِحَسَبِ الْمَعْنَى فِي الْأَكْثَرِ.

150 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةً قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 150 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ) : الْهُدَى: الدَّلَالَةُ عَلَى الْخَيْرِ مُطْلَقًا أَوِ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ: هُنَا الظَّاهِرُ

وَالْخَفِيُّ، وَالْهُدَى وَسِيلَةٌ إِلَى الْعِلْمِ فَلِذَا قَدَّمَهُ، وَفِي الْعَوَارِفِ: الْعِلْمُ جُمْلَةً مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْقُلُوبِ وَالْمَعْرِفَةُ تَمْيِيزُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَالْهُدَى وِجْدَانُ الْقُلُوبِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْعِلْمُ صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، وَعَطْفُهُ عَلَى الْهُدَى إِمَّا لِرُجُوعِهِ لِلنَّفْسِ وَرُجُوعِهَا لِلْغَيْرِ أَوْ لِأَنَّهَا لِلدَّلَالَةِ وَالْعِلْمِ الْمَدْلُولِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهَا الطَّرِيقَةُ وَالْعَمَلُ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ هُدًى - أَيْ قُرْبًا مِنَ اللَّهِ - لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا. (كَمَثَلِ الْغَيْثِ) ، أَيِ: الْمَطَرِ الْكَثِيرِ، وَاخْتَارَ اسْمَ الْغَيْثِ لِيُؤْذِنَ بِاضْطِرَارِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ إِذْ جَاءَهُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَالْغَيْثُ يُحْيِي الْبَلَدَ الْمَيِّتَ وَالْعِلْمُ يُحْيِي الْقَلْبَ الْمَيِّتَ (أَصَابَ أَرْضًا) ، أَيْ: صَالِحَةً. وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْغَيْثِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ أَوْ زَائِدَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا (فَكَانَتْ مِنْهَا) : أَيْ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ (طَائِفَةٌ) ، أَيْ: قِطْعَةٌ، وَمِنْهَا صِفَةُ طَائِفَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا فَصَارَتْ حَالًا (طَيِّبَةٌ) : أَيْ غَيْرُ خَبِيثَةٍ بِسِبَاخٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ: فَكَانَتْ مِنْهَا نَقِيَّةٌ بِنُونٍ فَقَافٍ مَكْسُورَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ وَهِيَ بِمَعْنَى طَيِّبَةٍ اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ هُنَا اهـ. وَطَيِّبَةٌ مَرْفُوعَةٌ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ (طَائِفَةٌ) ، وَقَوْلُهُ: (قَبِلَتِ الْمَاءَ) ، أَيْ: دَخَلَ الْمَاءُ فِيهَا لِلِينِهَا مَنْصُوبَةٌ بِخَبَرِ كَانَتْ، وَقِيلَ: هِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ كَانَتْ، وَقَبِلَتِ الْمَاءَ صِفَةٌ لِطَيِّبَةٍ وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي لَفْظِ: أَجَادِبَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرِوَايَةُ قِيلَتْ بِالتَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ قِيلَ تَصْحِيفٌ، وَقِيلَ: صَحِيحَةٌ، وَمَعْنَاهُ شَرِبَتْ مِنَ الْقِيلِ وَهُوَ شُرْبُ بَعْضِ الْأَنْهَارِ (فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ) : بِالْهَمْزِ مَفْتُوحَتَيْنِ مَقْصُورًا (وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ) : هُمَا مَعَ الْحَشِيشِ أَسْمَاءٌ لِلنَّبَاتِ، لَكِنَّ الْحَشِيشَ مُخْتَصٌّ بِالْيَابِسِ. وَالْعُشْبُ بِالضَّمِّ وَالْكَلَا مَقْصُورًا مُخْتَصَّانِ بِالرَّطْبِ، وَالْكَلَأُ بِالْهَمْزِ عَلَى زِنَةِ جَبَلٍ يَقَعُ عَلَى الْيَابِسِ وَالرَّطْبِ، فَالْكَلَأُ بِالْهَمْزِ أَنْسَبُ لِيَكُونَ عَطْفُ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ (وَكَانَتْ مِنْهَا) : أَيْ مِنَ الْأَرْضِ الصَّالِحَةِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ (أَجَادِبُ) : كَذَا فِي رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ بِالْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ أَجْدَبَ وَهِيَ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ مِنَ الْجَدْبِ وَهُوَ الْقَحْطُ، سَمَّاهَا أَجَادِبَ لِأَنَّهَا لِصَلَابَتِهَا لَا تَنْبُتُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: إِخَاذَاتٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَآخِرُهُ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ قَبْلَهَا أَلِفٌ جَمْعُ إِخَاذَةٍ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَوَّبَهُ بَعْضُهُمْ، وَرُوِيَ أَجَاذِبُ بِجِيمٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ مَرْدُودَةٌ (أَمْسَكَتْ) ، أَيْ: تِلْكَ الْأَرْضُ، أَوِ الْأَجَادِبُ (الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا) : أَيْ بِالْأَجَادِبِ أَوْ بِتِلْكَ الْأَرْضِ (النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا) ، أَيْ: دَوَابَّهُمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَجُوزُ أَسْقَوْا: قُلْتُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ وَتَجْوِيزُ اللُّغَوِيِّ غَيْرُ مُرَادٍ (وَزَرَعُوا) . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ: وَرَعَوْا مِنَ الرَّعْيِ، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ زَرَعُوا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ اهـ. وَفِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ: زَرَعُوا مُوَافِقًا لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَهُوَ الْأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ أَصْلًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَعَوْا مِنَ الرَّعْيِ، وَرِوَايَةُ: وَزَرَعُوا قِيلَ تَصْحِيفٌ، وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ زَرَعُوا بِهِ غَيْرَ تِلْكَ الْأَرْضِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ رَبْطٌ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ رَعَوْا تَشْوِيشُ النَّشْرِ لِأَنَّ الشُّرْبَ وَالسَّقْيَ لِلْقِسْمِ الثَّانِي، وَالرَّعْيَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقِسْمُ الثَّانِي جَامِعًا لِلثَّلَاثِ مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الزَّرْعِ وُصُولُ الرَّعْيِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْقِسْمِ الثَّانِي مَرْزُقُونَ مِنْ جَمِيعِ النِّعَمِ مُنْفِقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَهُمْ كَامِلُونَ مُكَمِّلُونَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ) ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ التَّقْسِيمُ

تَرَقِّيًا ثُمَّ تَدَلِّيًا (وَأَصَابَ) ، أَيِ: الْغَيْثُ (مِنْهَا) : أَيْ مِنَ الْأَرْضِ (طَائِفَةً) ، أَيْ: قِطْعَةً (أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ) : تِلْكَ الطَّائِفَةُ (قِيعَانٌ) : بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قَاعٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ (لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً) : لِأَنَّهَا سَبْخَةٌ (فَذَلِكَ) ، أَيِ: الْمَذْكُورُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ (مِثْلُ مَنْ فَقُهَ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، وَالْمَشْهُورُ الضَّمُّ إِذَا فَهِمَ وَأَدْرَكَ الْكَلَامَ، وَالضَّمُّ أَجْوَدُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ الشَّرْعِيَّ صَارَ سَجِيَّةً لَهُ (فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ) ، أَيْ: بِالْعَمَلِ (فَعَلِمَ وَعَلَّمَ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ. هَذَا مَثَلُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى الَّتِي قَبِلَتِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ، فَقَبُولُ الْمَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ، وَإِنْبَاتُ الْكَلَأِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْلِيمِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ) ، أَيْ: بِمَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ (رَأْسًا) ، أَيْ: لِلتَّكَبُّرِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، يُقَالُ: لَمْ يَرْفَعْ فُلَانٌ رَأْسَهُ بِهَذَا أَيْ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ مِنْ غَايَةِ تَكَبُّرِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَدَمُ رَفْعِ رَأْسِهِ بِالْعِلْمِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِعَدَمِ الْعَمَلِ، أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِلَى حُطَامِ الدُّنْيَا، وَهَذَا مِثْلُ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً (وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ (وَالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِعْدَادَاتِ لَيْسَتْ بِمُكْتَسَبَةٍ، بَلْ هِيَ مَوَاهِبُ رَبَّانِيَّةٌ وَكَمَالُهَا أَنْ تَسْتَفِيضَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ الْفَقِيهَ مَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ. قَالَ الْمُظْهِرُ: ذَكَرَ فِي تَقْسِيمِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةً، وَفِي تَقْسِيمِ النَّاسِ قِسْمَيْنِ: مَنْ فَقُهَ وَمَنْ أَبَى وَلَمْ يَرْفَعْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ مِنَ الْأَرْضِ كَقِسْمٍ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ قِسْمَانِ: مَنْ يَقْبَلُ الْعِلْمَ وَأَحْكَامَ الدِّينِ وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهُمَا، وَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَالنَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَنْ يَقْبَلُ بِقَدْرِ مَا يَعْمَلُ بِهِ وَلَا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الْفَتْوَى وَالتَّدْرِيسِ، وَثَانِيهَا: مَنْ يَبْلُغُهُمَا، وَثَالِثُهَا: مَنْ لَا يَقْبَلُ الْعِلْمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اتَّفَقَ الشَّارِحُونَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَالْحَدِيثُ يَنْصُرُ الْأَوَّلَ، فَعَلَى هَذَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الطَّرَفَانِ الْعَالِي فِي الِاهْتِدَاءِ، وَالْغَالِي فِي الضَّلَالِ، وَتَرَكَ قِسْمَانِ مَنِ انْتَفَعَ بِالْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ نَفَعَ فِي غَيْرِهِ اهـ. وَجَعَلَ الْخَطَّابِيُّ الْقِسْمَةَ ثُنَائِيَّةً بِجَعْلِ الْعُلَمَاءِ قِسْمًا وَالْجُهَلَاءِ قِسْمًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى كَوْنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ اهـ. وَخَالَفَهُمُ ابْنُ حَجْرٍ وَجَعَلَ الْقِسْمَةَ ثُلَاثِيَّةً، وَأَغْرَبَ حَيْثُ جَعَلَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ أَفْضَلَهَا مَعَ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْأَرْضِ لَا يُسَاعِدُهُ، ثُمَّ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ حَيْثُ جَعَلَ الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا مُنْحَصِرَةً فِي الْفُقَهَاءِ، وَجَعَلَ بَقِيَّةَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى، وَجَعَلَهُمْ كَالْأَتْبَاعِ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ مَنْ فَاقَ أَقْرَانَهُ فِي فَنٍّ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِالْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ فَهُوَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ الْكَامِلِينَ الْمُكَمِّلِينَ، فَكَأَنَّهُ ذُهِلَ عَنْ قَوْلِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَّالِيِّ: ضَيَّعْتُ قِطْعَةً مِنَ الْعُمُرِ الْعَزِيزِ فِي تَصْنِيفِ الْبَسِيطِ وَالْوَسِيطِ وَالْوَجِيزِ، لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ - كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 60 - 53] فَالْأَظْهَرُ كَلَامُ الْمُظْهِرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي التَّشْبِيهِ مِنَ اللَّطَافَةِ حَيْثُ جَعَلَ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْوَحْيِ مُشَبَّهًا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَاسِمٌ وَوَاسِطَةٌ فِي إِيصَالِ الْفَيْضِ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ مُشَبَّهٌ بِالسَّحَابِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ وَقُلُوبِ الْعِبَادِ مُشَبَّهَةٌ بِالْأَرَاضِي الْمُخْتَلِفَةِ، فَالْأَوَّلُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَبِيلِ

الْمَحْسُوسِ. بِمِثْلِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58] ثُمَّ الْخَبِيثُ كَأَنَّهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [الأنعام: 99] الْآيَهَ وَقَدْ قِيلَ: عَلَى مَا فِي الْبَغَوِيِّ قَوْلُهُ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: 99] هَذَا مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ، وَالْأَوْدِيَةُ مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ يُرِيدُ: يَنْزِلُ الْقُرْآنُ فَتَحْتَمِلُ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ الْيَقِينِ وَالْعَقْلِ وَالشَّكِّ وَالْجَهْلِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد: 17] رُؤْيَتُكَ لِأَعْمَالِكَ. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد: 17] عِنْدَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [الرعد: 17] فَهُوَ الْيَقِينُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

151 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] وَقَرَأَ إِلَى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] . قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَإِذَا رَأَيْتَ - وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: رَأَيْتُمُ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 151 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 7] ، أَيِ: الْقُرْآنَ (مِنْهُ) : أَيْ بَعْضِهِ {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] : وَهِيَ مَا أَمِنَ مِنِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ، كَالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ (وَقَرَأَ إِلَى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] يُحْتَمَلُ الِاخْتِصَارُ فِي الذِّكْرِ مِنْ عَائِشَةَ، أَوْ مِمَّنْ دُونَهَا، وَالتَّتِمَّةُ: هُنَّ أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ: {أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] أَيْ أَصْلُهُ، وَأُخَرُ أَيْ آيَاتٌ أُخَرُ {مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] الْمُتَشَابَهُ: مَا بَلَغَ فِي الْخَفَاءِ غَايَتُهُ وَلَا يُرْجَى مَعْرِفَتَهُ كَقَوْلِهِ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] أَيْ مَيْلٌ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] أَيْ يَبْحَثُونَ فِيهِ {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] ، أَيْ: لِطَلَبِ الْفِتْنَةِ، يَعْنِي إِيقَاعَ الشَّكِّ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ {وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] لِاسْتِنْبَاطِ مَعَانِيهِ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ {وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7] مُبْتَدَأٌ أَيِ الثَّابِتُونَ {فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ، أَيْ: فِي عِلْمِ الدِّينِ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ، أَيْ: بِالْمُتَشَابِهِ وَوَكَلْنَا عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الِاسْتِوَاءِ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفٌ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. كُلٌّ أَيْ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ {مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] ، أَيْ: نُزِّلَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ حَقٌّ وَصَوَابٌ وَحِكْمَةُ وُقُوعِ الْمُتَشَابِهِ فِيهِ إِعْلَامٌ (لِلْعُقُولِ) - بِقُصُورِهَا لِتَسْتَسْلِمَ لِبَارِئِهَا وَتَعْتَرِفَ بِعَجْزِهَا وَتَسْلَمَ مِنَ الْغُرُورِ وَالْعَجَبِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّعَزُّزِ {وَمَا يَذَّكَّرُ} [آل عمران: 7] ، أَيْ: يَتَّعِظُ وَيَنْتَفِعُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] ، أَيْ: أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ عِلَلِ الْخَوَاطِرِ السَّقِيمَةِ. (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِذَا رَأَيْتَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ، أَيْ: أَيُّهَا الرَّائِي، وَحُكِيَ بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِعَائِشَةَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَامًا (وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: رَأَيْتُمْ) : وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؟) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يَقْتَصِرُونَ عَلَى تَتَبُّعِ الْمُتَشَابِهِ، وَيُحْتَمَلُ الْإِطْلَاقُ سَدًّا لِلْبَابِ (فَأُولَئِكَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَقِيلَ بِالْكَسْرِ (الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ) : أَهْلَ الزَّيْغِ أَوْ زَائِغَيْنِ لِقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ (فَاحْذَرُوهُمْ) ، أَيْ: لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُكَالِمُوهُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: رَأَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ، وَلِهَذَا جَمَعَهُ فِي: فَاحْذَرُوهُمْ وَفِي بَعْضِهَا بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى خِطَابِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ بَيَانًا لِشَرَفِهَا وَغَزَارَةِ عِلْمِهَا كَمَا يُقَالُ: يَا فُلَانُ افْعَلُوا كَيْتَ وَكَيْتَ لِرَئِيسِ الْقَوْمِ إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ وَتَقَدُّمِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ: أَنَّ هَذَا التَّحْقِيقَ يَسْتَدْعِي حُضُورَ قَوْمٍ مَعَهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ خِطَابُ الْمُذَكَّرِ الْجَمْعِ عَلَى تَعْظِيمِهَا تَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الرِّجَالِ لِكَمَالِ عَقْلِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ اخْتِلَافٍ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ كَاخْتِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ مِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ الْقُرْآنِ، أَوْ فِي مَعْنًى لَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، أَوْ فِيمَا يُوقِعُ فِي شَكٍّ وَشُبْهَةٍ وَفِتْنَةٍ وَخُصُومَةٍ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ لِاسْتِنْبَاطِ فُرُوعٍ فِي الدِّينِ مِنْهُ، وَمُنَاظَرَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَائِدَةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ فَلَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَفَضِيلَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآنَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْوَقْفِ عَلَى الْجَلَالَةِ لِيُفِيدَ أَنَّ عِلْمَ الْمُتَشَابَهِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُنَافِي هَذَا جَعْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْآخَرِينَ الْوَقْفَ عَلَى الْعِلْمِ الْمُفِيدِ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِيهِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابَهِ؟ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ عَلِمُوهُ لَمْ يُدْرِكُوا حَقِيقَتَهُ الْمُرَادَةَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَإِنَّمَا عَلِمُوهُ بِصَرْفِ ظَاهِرِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِاسْتِحَالَتِهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدُ فَأَمْسَكَ أَكْثَرُ السَّلَفِ عَنِ الْخَوْضِ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَشَابِهِ، وَفَوَّضُوا عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَسْلَمُ لِأَنَّ مَنْ أَوَّلَ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ مَعْنًى غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ تَعَالَى فَيَقَعَ فِي وَرْطَةِ التَّعْيِينِ وَخَطَرِهِ، وَخَاضَ أَكْثَرُ الْخَلَفِ فِي التَّأْوِيلِ، وَلَكِنْ غَيْرَ جَازِمِينَ بِأَنَّ هَذَا مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا بِذَلِكَ صَرْفَ الْعَامَّةِ عَنِ اعْتِقَادِ ظَوَاهِرِ الْمُتَشَابِهِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِأَكْثَرِ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ الْمُوَافِقَةِ لِاعْتِقَادَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحِلُّ تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا بِسَنَدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ خَبَرٍ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

152 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا، قَالَ: فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 152 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: هَجَّرْتُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أَتَيْتُ فِي الْهَاجِرَةِ أَيْ الظَّهِيرَةِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . قَالَ الْمُظْهِرُ: التَّهْجِيرُ السَّيْرُ فِي الْهَاجِرَةِ وَهِيَ وَقْتُ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَلَعَلَّ خُرُوجَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِيُدْرِكَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحُجْرَةِ فَلَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ وَالْإِسْرَاعِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ (يَوْمًا) : أَيْ مِنَ الْأَيَّامِ أَوِ التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ (قَالَ) ، أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ (فَسَمِعَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حُجْرَتِهِ (أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ) : صَرَّحَ الرَّضِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا أُضِيفَ الْجُزْءَانِ إِلَى مُتَضَمِّنَيْهِمَا، وَكَانَ الْمُتَضَمِّنَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَلَفْظُ الْإِفْرَادِ فِي الْمُضَافِ أَوْلَى مِنْ لَفْظِ الْمُثَنَّى، وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِيهِ أَوْلَى مِنَ الْإِفْرَادِ، وَلَكِنْ فِي عَدِّ الْأَصْوَاتِ أَجْزَاءٌ مِنْهُمَا مَحَلُّ نَظَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَمْعَ الْأَصْوَاتِ

عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ كَلِمَاتِ الرَّجُلَيْنِ صَوْتٌ مُعْتَمِدٌ عَلَى مَخْرَجِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أَطْلَقَ قُلُوبَ عَلَى قَلْبَيْنِ، وَلَمْ يُعَبِّرْ بِهِ لِاسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ فِيمَا هُوَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ (اخْتَلَفَا) : صِفَةُ رَجُلَيْنِ، أَيْ: تَنَازَعَا وَاخْتَصَمَا (فِي آيَةٍ) ، أَيْ: فِي مَعْنَى آيَةٍ مُتَشَابِهَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي لَفْظِهَا اخْتِلَافَ قِرَاءَةٍ (فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْرَفُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مِنْ فَاعِلِ خَرَجَ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا كَانَ يَغْضَبُ لِلَّهِ، فَيَشْتَدُّ بِهِ ذَلِكَ الْغَضَبُ حَتَّى يُرَى أَثَرُهُ مِنْ حُمْرَةِ اللَّوْنِ وَنَحْوِهَا فِي وَجْهِهِ الْكَرِيمِ (فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) : أَيْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ) ، أَيِ: الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِمْ بِأَنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا شَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ الْمَنْهِيِّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

153 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى النَّاسِ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 153 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ مِنَ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ، يُكْنَى أَبَا إِسْحَاقَ، وَاسْمُ أَبِي وَقَّاصٍ: مَالِكُ بْنُ وَهِيبٍ الزُّهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَالَ: كُنْتُ ثَالِثَ الْإِسْلَامِ، وَأَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ مَشْهُورًا بِذَلِكَ، تُخَافُ دَعْوَتُهُ وَتُرْجَى لِاشْتِهَارِ إِجَابَتِهَا عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِ: اللَّهُمَّ سَدِّدْ سَهْمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ وَجَمَعَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلزُّبَيْرِ أَبَوَيْهِ فَقَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: (فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا، مَاتَ فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ الرِّجَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَالِي الْمَدِينَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ آخِرُ الْعَشَرَةِ مَوْتًا، وَلَّاهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ الْكُوفَةَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ) ، أَيْ: فِي حَقِّهِمْ وَجِهَتِهِمْ (جُرْمًا) : تَمْيِيزٌ أَيْ ذَنْبًا وَظُلْمًا كَائِنًا فِيهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُهُ أَجْرَمَ الْمُسْلِمِينَ فَعَدَلَ إِلَى أَعْظَمَ، ثُمَّ فُسِّرَ بِـ (جُرْمًا) لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْظَمَ نَفْسَهُ جُرْمٌ (مَنْ سَأَلَ) ، أَيْ: نَبِيَّهُ (عَنْ شَيْءٍ) : بِالتَّنْكِيرِ (لَمْ يُحَرَّمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّحْرِيمِ (عَلَى النَّاسِ) : الْجُمْلَةُ صِفَةُ شَيْءٍ بِأَنْ يَسْأَلَ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَمْ لَا؟ (فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ) .، أَيْ: فَحُرِّمَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لِأَجْلِ سُؤَالِهِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي سُؤَالِهِ، إِذْ أُمِرَ بِالسُّكُوتِ وَنُهِيَ عَنِ النُّطْقِ فَعُوقِبَ بِتَحْرِيمِ مَا سَأَلَ عَنْهُ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا فِي حَقِّ مَنْ سَأَلَ عَبَثًا وَتَكَلُّفَا فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ كَمُسَأَلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي شَأْنِ الْبَقَرَةِ دُونَ مَنْ يَسْأَلُ سُؤَالَ حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ يُثَابُ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: أَصْلُ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْحَظْرِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّهُ إِنْ سَكَتَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ جَوَابِهِ يَكُونُ رَدْعًا لِسَائِلِهِ، وَإِنْ أَجَابَ عَنْهُ كَانَ تَغْلِيظًا لَهُ، فَيَكُونُ بِسَبَبِهِ تَغْلِيظًا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَعْظَمَ جُرْمًا لِتَعَدِّي جِنَايَتِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِشُؤْمِ لَجَاجِهِ، وَأَمَّا مَنْ سَأَلَ لِاسْتِبَانَةِ حُكْمٍ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ أَوْ مُبَاحٍ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قِيلَ: لَفْظُ: " فِي الْمُسْلِمِينَ " لَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ، وَكَذَا لَفْظُ " عَلَى النَّاسِ ".

154 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 154 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ) ، أَيْ: آخِرِ زَمَانِ هَذِهِ الْأُمَّةِ (دَجَّالُونَ) : مِنَ الدَّجَلِ وَهُوَ التَّلْبِيسُ جَمْعُ الدَّجَّالِ، وَهُوَ كَثِيرُ الْمَكْرِ وَالتَّلْبِيسِ.، أَيِ: الْخَدَّاعُونَ. يَعْنِي: سَيَكُونُ جَمَاعَةٌ يَقُولُونَ لِلنَّاسِ: نَحْنُ عُلَمَاءُ وَمَشَايِخٌ نَدْعُوكُمْ إِلَى الدِّينِ وَهُمْ (كَذَّابُونَ) : فِي ذَلِكَ (يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ) ، أَيْ: يَتَحَدَّثُونَ بِالْأَحَادِيثِ الْكَاذِبَةِ وَيَبْتَدِعُونَ أَحْكَامًا بَاطِلَةً وَاعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةً اهـ. كَلَامُ الْمُظْهِرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْأَحَادِيثُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، فَيَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْمَوْضُوعَاتِ، وَأَنْ يُرَادَ مَا بَيْنَ النَّاسِ أَيْ يُحَدِّثُونَكُمْ بِالَّذِي مَا سَمِعْتُمْ عَنِ السَّلَفِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْجِدَالِ فِي الصِّفَاتِ، وَعَنِ الْخَوْضِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَتَعَلُّمِهِ. قَالَ مَالِكٌ: إِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ. قِيلَ: وَمَا الْبِدَعُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا يَسْكُتُونَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عِلْمًا لَتَكَلَّمُوا فِيهِ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَحْكَامِ، وَسُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْكَلَامِ فَقَالَ: دَعِ الْبَاطِلَ؛ أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْحَقِّ، اتَّبِعِ السُّنَّةَ وَدَعِ الْبِدْعَةَ. وَقَالَ: وَجَدْتُ الْأَمْرَ فِي الِاتِّبَاعِ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِمَا عَلَيْهِ الْجَمَّالُونَ، وَالنِّسَاءُ فِي الْبُيُوتِ، وَالصِّبْيَانُ فِي الْكُتَّابِ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَأَنْ يُبْتَلَى الرَّجُلُ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ خَلَا الشِّرْكِ بِاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلَامِ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: لِأَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكِ بِاللَّهِ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ أَلْقَاهُ بِمَسْأَلَةٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَالَ: رَأْيِي وَحُكْمِي فِي أَهْلِهِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ، وَيُقَالُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَاشْتَغَلَ بِالْكَلَامِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ الْإِمَامِ النَّوَوِيِّ فِيمَا سَبَقَ: إِنَّ عِلْمَ الْكَلَامِ مِنَ الْبِدْعَةِ الْوَاجِبَةِ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ حَيْثُ الضَّرُورَةِ مِنْ غُلُوِّ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْمُلْحِدَةِ، فَحِينَئِذٍ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَفْعُهُمْ، وَالْمَحْذُورُ جَعْلُهُ صَنْعَةً وَعَادَةً، وَلِهَذَا كَانَ تَعَلُّمُ عِلْمِ الْكَلَامِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَسَائِرِ الصِّنَاعَاتِ الْمُبَاحَةِ. كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَدْ أَلَّفَ الْإِمَامُ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ رِسَالَةً فِي تَحْرِيمِ الْمَنْطِقِ وَالْكَلَامِ، وَفِيهَا اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ. (فَإِيَّاكُمْ) ، أَيْ: أَبْعِدُوا أَنْفُسَكُمْ عَنْهُمْ (وَإِيَّاهُمْ) ، أَيْ: بَعِّدُوهُمْ عَنْكُمْ (لَا يُضِلُّونَكُمْ) : اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ لِقَائِلٍ: لِمَ نُبْعِدُهُمْ؟ لِئَلَّا يُضِلُّوكُمْ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَالنَّاصِبَ فَعَادَ الْفِعْلُ إِلَى الرَّفْعِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ قِيلَ مَاذَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَذَرِ؟ فَأُجِيبَ: لَا يُضِلُّونَكُمُ اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، فَهُوَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْمَقْصُودِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، وَيُؤَيِّدُهُ إِنْ قُرِئَ " لَا يَضُرُّكُمْ "، وَيَحْتَمِلُ الْجَزْمَ عَلَى الْجَوَابِ أَوِ النَّهْيِ، وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ، لَكِنَّهُ ضُمَّتِ الرَّاءُ اتْبَاعًا لِضَمَّةِ الضَّادِ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْهَا مِنَ الرَّاءِ الْمُدْغَمَةِ، وَيَنْصُرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ " لَا يَضُرَّكُمْ " بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَإِنْ أَرَادَ بِالرَّفْعِ إِثْبَاتَ النُّونِ فَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مَعَ أَنَّهُ مِنْ لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، أَوْ نَقُولُ: هُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ مُبَالَغَةً فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ بِالْحَذَرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ الْأَمْرِ لِوُجُودِ النُّونِ (وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ) ، أَيْ: يُوقِعُونَكُمْ فِي الْفِتْنَةِ وَهِيَ الشِّرْكُ قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] أَوْ يُرَادُ بِهَا عَذَابُ الْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

155 - وَعَنْهُ، قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الْآيَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 155 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ) ، أَيِ: الْيَهُودُ (يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ (وَيُفَسِّرُونَهَا) ، أَيْ: يُتَرْجِمُونَهَا (بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) أَعَمُّ مِمَّنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تُصَدِّقُوا) : أَيْ فِيمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ صِدْقُهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ (أَهْلَ الْكِتَابِ) ، أَيِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا كِتَابَهُمْ (وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ) : أَيْ فِيمَا حَدَّثُوا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ كَذِبُهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا وَإِنْ كَانَ نَادِرًا لِأَنَّ الْكَذُوبُ قَدْ يَصْدُقُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوَقُّفِ فِيمَا أُشَكِلُ مِنَ الْأُمُورِ وَالْعُلُومِ، فَلَا يُقْضَى بِجَوَازٍ وَلَا بُطْلَانٍ وَعَلَيْهِ السَّلَفُ وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا أَدْرِي فِيمَا يُسْأَلُونَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: مَنْ أَخْطَأَ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ وَ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] ، أَيْ: صَدَّقْنَا مُعْتَرِفِينَ بِهِ أَوْ مُوقِنِينَ بِهِ {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] : مِنَ الْقُرْآنِ (الْآيَةُ) . تَمَامُهَا: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِي مُوسَى وَعِيسَى} [البقرة: 136] أَيْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهَذَا مَحَلُ الشَّاهِدِ وَالْمَقْصُودُ: رَفْعُ النِّزَاعِ ; يَعْنِي تُؤْمِنُ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 136] تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] ، أَيْ: فِي الْإِيمَانِ بِهِمْ وَبِكُتُبِهِمْ وَنَحْنُ لَهُ، أَيْ: لِلَّهِ أَوْ لِمَا أُنْزِلَ مُسْلِمُونَ، أَيْ: مُطِيعُونَ أَوْ مُنْقَادُونَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

156 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 156 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كَفَى بِالْمَرْءِ) : مَفْعُولُ كَفَى وَالْبَاءُ، زَائِدَةٌ (كَذِبًا) : تَمْيِيزٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَيَجُوزُ كَسْرُ الْكَافِ وَسُكُونُ الذَّالِ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِثْمًا " بَدَلَ " كَذِبًا (أَنْ يُحَدِّثَ) : فَاعِلُ كَفَى (بِكُلِّ مَا سَمِعَ) : يَعْنِي: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ كَذِبٌ إِلَّا تَحْدِيثُهُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِ تَيَقُّنٍ أَنَّهُ صِدْقٌ أَمْ كَذِبٌ، لَكَفَاهُ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ لَا يَكُونَ بَرِيئًا مِنْهُ، وَهَذَا زَجْرٌ عَنِ التَّحْدِيثِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ، بَلْ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَبْحَثَ فِي كُلِّ مَا سَمِعَ خُصُوصًا فِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ الِاعْتِصَامِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

157 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّتِهِ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ فِي أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» ". رَوَاهَ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 157 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ نَبِيٍّ) : زِيَادَةُ (مِنْ) لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ، وَهُوَ يُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ نَبِيًّا يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يَتْبَعْهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا وَاحِدٌ

(بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّتِهِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: (أُمَّةٍ قَبْلِي) : قِيلَ: عَلَى رِوَايَةِ أُمَّتِهِ بِالْهَاءِ يَتَعَلَّقُ قَبْلِي بِبَعَثَ أَوْ يَكُونُ حَالًا مِنْ أُمَّتِهِ، وَعَلَى رِوَايَةِ فِي أُمَّةٍ يَكُونُ قَبْلِي صِفَةً لِأُمَّةٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: نَحْنُ نَرْوِي مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فِي أُمَّةٍ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالْهَاءِ بَعْدَ التَّاءِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ وَالْأَمْثَلُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَقَدْ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَالْجَامِعِ وَالْمَشَارِقِ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: الرِّوَايَةُ بِالْهَاءِ أَصَحُّ. قِيلَ قَوْلُهُ: نَبِيٌّ نَكِرَةٌ، وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُؤْتَى بِأُمَّةٍ نَكِرَةً إِذِ الْمَعْنَى مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ لِاقْتِضَاءِ مَا النَّافِيَةِ وَمِنَ الْاسْتِغْرَاقِيَّةِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ (إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فِي أُمَّتِهِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّكِرَةِ فَهُوَ كَالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ بَعْدَ النَّكِرَةِ (حَوَارِيُّونَ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَخُفِّفَ فِي الشَّوَاذِّ أَيْ نَاصِرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَوَارِيُّ الرَّجُلِ صَفْوَتُهُ وَخَالِصَتُهُ الَّذِي أُخْلِصَ وَنُقِيَّ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَقِيلَ: صَاحِبُ سِرِّهِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِخُلُوصِ نِيَّتِهِ وَصَفَاءِ طَوِيَّتِهِ مِنَ الْحَوَرِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ، وَقِيلَ: الْحَوَارِيُّ الْقِصَارُ بِلُغَةِ النَّبْطِ، وَكَانَ أَصْحَابُ عِيسَى قَصَّارِينَ لِأَنَّهُمْ يُحَوِّرُونَ الثِّيَابَ أَيْ يُبَيِّضُونَهَا فَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الِاسْمُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَنْ يَنْصُرُ نَبِيًّا وَيَتَّبِعُ هُدَاهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ تَشْبِيهًا بِأُولَئِكَ (وَأَصْحَابٌ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا تَفْسِيرِيًّا، وَأَنْ يَكُونَ الْأَصْحَابُ غَيْرَ الْحَوَارِيِّينَ أَعَمُّ مِنْهُمْ (يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ) ، أَيْ: بِهَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ (وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ) ، أَيْ: يَتْبَعُونَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ (ثُمَّ) : إِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي التَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى الْبُعْدِ فِي الْمَرْتَبَةِ (إِنَّهَا) : الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ (تَخْلُفُ) : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ تَحْدُثُ (مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ) : بِضَمِّ الْخَاءِ جَمْعُ خَلْفٍ بِسُكُونِ اللَّامِ مَعَ فَتْحِ الْخَاءِ الرَّدِيءُ مِنَ الْأَعْقَابِ، أَوْ وَلَدُ السُّوءِ كَعَدْلٍ وَعُدُولٍ. قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] وَالْخَلَفُ بِفَتْحَتَيْنِ يُجْمَعُ عَلَى أَخْلَافٍ كَمَا يُقَالُ: سَلَفٌ وَأَسْلَافٌ وَهُوَ الصَّالِحُ مِنْهُمْ (يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) : وَصْفُ الْخُلُوفِ بِأَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ وَمُتَمَدِّحُونَ. بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَيْثُ يَقُولُونَ: فَعَلْنَا مَا أُمِرْنَا وَلَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ فَعَلُوا مَا نُهُوا عَنْهُ وَهُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: (وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ) : وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] وَأَمَّا السَّلَفُ الصَّالِحُ ; فَإِنَّهُمْ لَمَّا اقْتَدَوْا بِسُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَسِيرَةِ إِمَامِ الْمُتَّقِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْخَرَطُوا فِي سِلْكِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (فَمَنْ جَاهَدَهُمْ) : جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ حَارَبَهُمْ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ (بِيَدِهِ فَهُوَ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَتُسَكَّنُ (مُؤْمِنٌ) : بِالْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ (وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ) ، أَيْ: أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ (بِقَلْبِهِ) : بِأَنْ يَغْضَبَ عَلَيْهِمْ وَلَوْ قَدَرَ لَحَارَبَهُمْ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ (فَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، قِيلَ: التَّنْكِيرُ فِي مُؤْمِنٍ لِلتَّنْوِيعِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَالثَّالِثَ عَلَى نُقْصَانِهِ، وَالثَّانِي عَلَى الْقَصْدِ فِيهِ (وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) : هِيَ اسْمُ لَيْسَ، وَمِنَ الْإِيمَانِ صِفَتُهُ قُدِّمَتْ فَصَارَتْ حَالًا، وَرَاءَ ذَلِكَ خَبَرُهُ، ثُمَّ ذَهَبَ الْمُظْهِرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ فِي

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى الْإِيمَانِ فِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُنْكِرْ بِالْقَلْبِ رَضِيَ بِالْمُنْكَرِ وَهُوَ كُفْرٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِلَيَسَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا بِكَمَالِهَا كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، أَيْ: وَرَاءَ الْجِهَادِ بِالْقَلْبِ يَعْنِي مَنْ لَمْ يُنْكِرْهُمْ بِالْقَلْبِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ جِهَادِهِمْ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ أَدْنَى مَرَاتِبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَنْ لَا يَسْتَحْسِنَ الْمَعَاصِيَ وَيُنْكِرَهَا بِقَلْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ دَائِرَةِ الْإِيمَانِ وَدَخَلَ فِيمَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَ اللَّهِ وَاعْتَقَدَ بُطْلَانَ أَحْكَامِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

158 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا. وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 158 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهُدَى إِمَّا الدَّلَالَةُ الْمُوصِلَةُ أَوْ مُطْلَقُ الدَّلَالَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُهْدَى بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ بِحَسَبَ التَّنْكِيرِ شَائِعٌ فِي جِنْسِ مَا يُقَالُ هُدًى أَعْظَمُهُ هُدَى مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا، وَأَدْنَاهُ هُدَى مَنْ دَعَا إِلَى إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَهُ، أَيْ: لِلدَّاعِي (مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ) : فَعَمِلَ بِدَلَالَتِهِ أَوِ امْتَثَلَ أَمْرَهُ (لَا يَنْقُصُ) : بِضَمِّ الْقَافِ (ذَلِكَ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَصْدَرِ كَانَ، كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَجْرِ (مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ تَمْيِيزٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّقْصَ يَأْتِي لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ شَيْئًا مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ شَيْئًا مِنْ أُجُورِهِمْ أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ شَيْئًا مِنَ النَّقْصِ (وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ) ، أَيْ: مَنْ أَرْشَدَ غَيْرَهُ إِلَى فِعْلِ إِثْمٍ وَإِنْ قَلَّ أَوْ أَمَرَهُ بِهِ أَوْ أَعَانَهُ عَلَيْهِ (كَانَ عَلَيْهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ [لَهُ] : فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ أَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ مِنَ الْإِثْمِ (مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) . قَالَ الْقَاضِي: أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِلَّا أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ جَرَتْ بِرَبْطِهَا بِهَا ارْتِبَاطَ الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ، وَفِعْلُ الْعَبْدِ مَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي صُدُورِهِ بِوَجْهٍ، فَكَمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى مَا يُبَاشِرُهُ يَتَرَتَّبُ أَيْضًا عَلَى مَا هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِهِ كَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ وَالْبَحْثِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْجِهَةُ الَّتِي اسْتَوْجَبَ بِهَا الْمُسَبَّبُ الْأَجْرَ غَيْرَ الْجِهَةِ الَّتِي اسْتَوْجَبَ بِهَا الْمُبَاشِرُ لَمْ يَنْقُصْ أَجْرُهُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا اهـ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ بِحَسَبِ تَضَاعُفِ أَعْمَالِ أُمَّتِهِ بِمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحَدُّ. وَكَذَا السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ السَّلَفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلَفِ، وَكَذَا الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَتْبَاعِهِمْ، وَبِهِ يُعْرَفُ فَضْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ - فِي كُلِّ طَبَقَةٍ وَحِينٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَنْبِيهٌ: لَوْ تَابَ الدَّاعِي لِلْإِثْمِ وَبَقِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَهَلْ يَنْقَطِعُ إِثْمُ دَلَالَتِهِ بِتَوْبَتِهِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا أَوْ لَا لِأَنَّ شَرْطَهَا رَدُّ الظُّلَامَةِ وَالْإِقْلَاعِ وَمَا دَامَ الْعَمَلُ بِدَلَالَتِهِ مَوْجُودًا فَالْفِعْلُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ وَلَمْ يُقْلِعْ؟ كُلٌّ مُحْتَمَلٌ، وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَقْلًا وَالْمُنْقَدِحُ الْآنَ الثَّانِي اهـ. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ أَنْ نَقُولَ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، ثُمَّ رَدُّ الْمَظَالِمِ مُقَيَّدٌ بِالْمُمْكِنِ، وَإِقْلَاعُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ حَتْمًا، وَأَيْضًا اسْتِمْرَارُ ثَوَابِ الِاتِّبَاعِ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِدَامَةِ رِضَا الْمَتْبُوعِ بِهِ، فَإِذَا تَابَ وَنَدِمَ انْقَطَعَ، كَمَا أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْهُدَى إِنْ وَقَعَ فِي الرَّدَى - نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ - انْقَطَعَ ثَوَابُ الْمُتَابَعَةِ لَهُ، وَأَيْضًا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ دُعَاةً إِلَى الضَّلَالَةِ، وَقُبِلَ مِنْهُمُ الْإِسْلَامُ لِمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فَالتَّوْبَةُ كَذَلِكَ بَلْ أَقْوَى، فَإِنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

159 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 159 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، فِي الْأَزْهَارِ: بَدَا بِلَا هَمْزَةٍ أَيْ ظَهَرَ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِالْهَمْزَةِ مِنَ الِابْتِدَاءِ، كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: بَدَأَ بِالْهَمْزَةِ مِنَ الِابْتِدَاءِ كَذَا ضَبَطَاهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمَّا بَدَأَ أَوَّلَ الْوَهْلَةِ نَهَضَ بِإِقَامَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ نَاسٌ قَلِيلُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَشَرَّدُوهُمْ عَنِ الْبِلَادِ فَأَصْبَحُوا غُرَبَاءَ أَوْ فَيُصْبِحُ أَحَدُهُمْ مُعْتَزِلًا مَهْجُورًا كَالْغُرَبَاءِ، ثُمَّ يَعُودُ آخِرًا إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا يَكَادُ يُوجَدُ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِلَّا الْأَفْرَادُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَسَيَعُودُ) ، أَيْ: فِي آخِرِ الزَّمَانِ (كَمَا بَدَأَ (: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْحَالَةِ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ، لِقِلَّةٍ مَنْ كَانُوا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ وَقِلَّةِ مَنْ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الْآخَرِ) فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ (: الْمُتَشَبِّثِينَ بِذَيْلِهِ يَعْنِي: الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ لِصَبْرِهِمْ عَلَى الْأَذَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْغُرَبَاءِ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ هَجَرُوا إِلَى اللَّهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ سُنَّتِهِ كَمَا وَرَدَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي لِلتِّرْمِذِيِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا أَنْ يُسْتَعَارَ الْإِسْلَامُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْغُرْبَةُ هِيَ الْقَرِينَةُ فَيَرْجِعُ مَعْنَى الْوَحْدَةِ وَالْوَحْشَةِ إِلَى نَفْسِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَجْرِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ وَالْوَحْشَةِ بِاعْتِبَارِ ضَعْفِ الْإِسْلَامِ وَقِلَّتِهِ، فَعَلَى هَذَا: غَرِيبًا إِمَّا حَالٌ أَيْ بَدَأَ الْإِسْلَامُ مُشَابِهًا لِلْغَرِيبِ أَوْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَيْ ظُهُورَ الْغُرَبَاءِ فَرِيدًا وَحِيدًا لَا مَأْوَى لَهُ حَتَّى تَبَوَّأَ دَارَ الْإِيمَانِ. أَعْنِي: طِيبَةً فَطُوبَى لَهُ وَطَابَ عَيْشًا، ثُمَّ أَتَمَّ اللَّهُ نُورَهُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ فَيَعُودُ آخِرَ الْأَمْرِ وَحِيدًا شَرِيدًا إِلَى طِيبَةَ كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لَهُ، وَلَهْفِي عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ: الْإِيمَانُ لَيَأْرِزُ اهـ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

160 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ) فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ، وَحَدِيثَيْ مُعَاوِيَةَ وَجَابِرٍ: (لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي) . وَالْآخَرُ (لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي) فِي بَابِ: ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. 160 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ) : بِالْكَسْرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَرُوِيَ بِالْفَتْحِ، وَحُكِيَ بِالضَّمِّ (إِلَى الْمَدِينَةِ) ، أَيْ: يَأْوِي وَيَنْضَمُّ وَيَنْقَبِضُ وَيَلْتَجِئُ إِلَيْهَا أَيْ تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا) ، أَيْ: ثُقْبِهَا. مِنْ أَرِزَتِ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَى ذَنَبِهَا الْقَهْقَرَى، قِيلَ: هِيَ أَشَدُّ فِرَارًا وَانْضِمَامًا مِنْ غَيْرِهَا، فَلِهَذَا شُبِّهَ بِهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَفِرُّونَ بِإِيمَانِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ وِقَايَةً بِهَا عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهَا وَطَنُهُ الَّذِي ظَهَرَ وَقَوِيَ بِهَا، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ يَقِلُّ الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ: هَذَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاجْتِمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِيهَا، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَدِينَةِ جَمِيعُ الشَّامِ فَإِنَّهَا مِنَ الشَّامِ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَدِينَةُ وَجَوَانِبُهَا وَحَوَالَيْهَا لِيَشْمَلَ مَكَّةَ فَيُوَافِقَ رِوَايَةَ الْحِجَازِ وَهَذَا أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ) ، أَيْ: إِلَى آخِرِهِ (فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ) : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: سَنَذْكُرُ (وَحَدِيثَيْ مُعَاوِيَةَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَجَابِرٍ) : عَطْفٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ (لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي) ، أَيْ: أَحَدِهِمَا أَوْ لَهُ هَذَا (وَ) : الْآخَرُ (لَا يَزَالُ) : بِالْيَاءِ أَوِ التَّاءِ (طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي) : كِلَاهُمَا (فِي بَابِ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) . وَهُوَ اعْتِذَارٌ مُتَضَمِّنٌ لِاعْتِرَاضٍ؛ تَأَمَّلْ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 161 - عَنْ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِي نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهُ: لِتَنَمْ عَيْنُكَ، وَلِتَسْمَعْ أُذُنُكَ، وَلِيَعْقِلْ قَلْبُكَ. قَالَ: (فَنَامَتْ عَيْنِي، وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَعَقَلَ قَلْبِي) . قَالَ: فَقِيلَ لِي: سَيِّدٌ بَنَى دَارًا، فَصَنَعَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَأَرْسَلَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ، دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ، لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَسَخِطَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ) . قَالَ: (فَاللَّهُ السَّيِّدُ، وَمُحَمَّدٌ الدَّاعِي، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْمَأْدُبَةُ الْجَنَّةُ» ) . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 161 - (عَنْ رَبِيعَةَ) : هُوَ ابْنُ عَمْرٍو (الْجُرَشِيُّ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ نَاحِيَةٌ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ. كَذَا فِي الِاسْتِيعَابِ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أُتِيَ) : عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: أَتَاهُ آتٍ (فَقِيلَ لَهُ) ، أَيْ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لِتَنَمْ عَيْنَكَ، وَلِتَسْمَعْ: بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا (أُذُنُكَ) : بِضَمِّ الذَّالِ وَسُكُونِهَا (وَلْيَعْقِلْ قَلْبُكَ) . قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيْ: أَتَى مَلَكٌ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ لَا تَنْظُرْ بِعَيْنِكَ إِلَى شَيْءٍ وَلَا تُصْغِ بِأُذُنِكَ إِلَى شَيْءٍ وَلَا تُجْرِ شَيْئًا فِي قَلْبِكَ أَيْ كُنْ حَاضِرًا حُضُورًا تَامًّا لِتَفْهَمَ هَذَا الْمَثَلَ (قَالَ (فَنَامَتْ عَيْنِي) : بِالْإِفْرَادِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَيْنَايَ (وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَعَقَلَ قَلْبِي) : يَعْنِي فَأَجَابَهُ بِأَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ، قِيلَ: الْأَوَامِرُ الثَّلَاثَةُ وَارِدَةٌ عَلَى الْجَوَارِحِ ظَاهِرًا وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْخِلَالِ الثَّلَاثِ: نَوْمُ الْعَيْنِ وَحُضُورُ السَّمْعِ وَالْقَلْبِ، وَعَلَى هَذَا جَوَابُهُ بِقَوْلِهِ: فَنَامَتْ: أَيِ امْتَثَلَتْ لِمَا أَمَرْتُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّةَ قَوْلٌ وَلَا جَوَابٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] الْكَشَّافُ: أَخَطَرَ بِبَالِكَ النَّظَرُ فِي الدَّلَائِلِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْإِسْلَامِ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ فَنَظَرَ فَعَرَفَ، وَالْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَعَانِيَ فَاجْتَمَعَتْ فِيهِ، كَذَا حَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ، وَرَدَّهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ بِأَنْ يُرَكَّبَ فِي الْجَمَادِ عَقْلٌ وَيُخَاطَبُ، وَيَكُونُ مَعْنَى أَسْلَمَ اسْتَسْلِمْ لِأَمْرِي اسْتِسْلَامًا يَلِيقُ بِخَلَّتِكَ وَجُعِلُ النَّوْمُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنْهُ، أَيْ: أَنْتَ نَائِمٌ سَامِعٌ وَاعٍ لِأَنَّ الْمَلَكَ إِنَّمَا جَاءَهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلِاسْتِمْرَارِ فِي الْكُلِّ قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ نَوْمَ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا لَا يَسْتَوْلِي عَلَى قُلُوبِهِمْ لَا يَسْتَوْلِي عَلَى أَسْمَاعِهِمْ، وَكَانَ فِي وَجْهِهِ أَنَّ نَوْمَهُمْ إِنَّمَا يَسْتَوْلِي عَلَى ظَوَاهِرَ أَبْدَانِهِمْ، وَمِنْهَا الْعَيْنُ دُونَ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَسْمَعُ لِأَنَّهَا فِي جَوْفِ الرَّأْسِ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ كَالْقَلْبِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السَّمَاعَ الْبَاطِنِيَّ غَيْرُ مَسْلُوبٍ عَنْهُ بِالنَّوْمِ فَإِنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا السَّمَاعُ الظَّاهِرِيُّ فَمَوْقُوفٌ عَلَى السَّمَاعِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ. (قَالَ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَقِيلَ لِي) ، أَيْ: بِطَرِيقِ الْمَثَلِ مِنْ جِهَةِ الْمَلَكِ (سَيِّدٌ) ، أَيْ: سَيِّدٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَعْنِي هُوَ وَقَوْلُهُ: (بَنَى دَارًا) : صِفَتُهُ أَيْ مِثْلُ سَيِّدٍ بَنَى دَارًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَبَنَى خَبَرُهُ وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ سَوَّغَهُ كَوْنُهُ فَاعِلًا مَعْنًى (فَصَنَعَ مَأْدُبَةً) : بِضَمِّ الدَّالِ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ أَنَّ طَعَامًا (وَأَرْسَلَ دَاعِيًا) : يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الطَّعَامِ (فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ، دَخَلَ الدَّارَ) : بِالْإِكْرَامِ (وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ) : عَلَى وَجْهِ الْإِنْعَامِ (وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ) : بِسَبَبِ الْإِجَابَةِ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ

(وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ) : تَكَبُّرًا وَعِنَادًا أَوْ جَهْلًا وَاسْتِبْعَادًا (لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ) : بَلْ طُرِدَ مِنَ الْبَابِ (وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ) : بَلْ عُذِّبَ بِالْحِجَابِ (وَسَخَطَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ) : فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ؟ قِيلَ: السُّخْطُ فَوْقَ الْغَضَبِ وَالْمُقْتُ فَوْقَ السُّخْطِ (قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْمَلَكُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَالتَّقْدِيرُ إِنْ أَرَدْتَ بَيَانَ هَذَا الْمِثَالِ (فَاللَّهُ السَّيِّدُ) ، أَيِ: الْبَانِي الْمُرْسِلُ، وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ السَّيِّدِ عَلَيْهِ تَعَالَى (وَمُحَمَّدٌ الدَّاعِي، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْمَأْدُبَةُ الْجَنَّةُ) : كَانَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ مَقَامِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَذْكُورَاتِ فِي التَّمْثِيلِ كُلَّهَا مُبْتَدَآتٍ وَيُخْبِرَ عَنْهَا بِالصِّفَاتِ الْمُتَمَيِّزَاتِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ أَنَّ اللَّهَ وَمُحَمَّدًا عَلَمَانِ وَالْعَلَمُ لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ مِنَ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَعَانِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَ: زَيْدٌ أَخُوكَ، وَعَمْرٌو الْمُنْطَلِقُ، وَعَكْسُهُمَا حَيْثُ قَالُوا وَالضَّابِطُ فِي التَّقْدِيمِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلشَّيْءِ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ التَّعْرِيفِ وَعَرَفَ السَّامِعُ اتِّصَافَهُ بِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَأَيُّهُمَا كَانَ بِحَيْثُ يَعْرِفُ السَّامِعُ اتِّصَافَ الذَّاتِ بِهِ وَهُوَ كَالطَّالِبِ بِحَسَبِ زَعْمِكَ أَنْ تَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْأُخْرَى يَجِبُ أَنْ تُقَدِّمَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَيْهِ تَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً، أَوْ أَيُّهُمَا كَانَ بِحَيْثُ يَجْهَلُ اتِّصَافَ الذَّاتِ بِهِ وَهُوَ كَالطَّالِبِ أَنْ تَحْكُمَ بِثُبُوتِهِ لِلذَّاتِ أَوِ انْتِفَائِهِ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ يُؤَخِّرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَيْهِ فَتَجْعَلَهُ خَبَرًا. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ شَبَّهَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ الْجَنَّةَ بِالدَّارِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْإِسْلَامَ بِالدَّارِ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْدُبَةً؟ أُجِيبُ: بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ سَبَبًا لِدُخُولِهَا اكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، وَلَمَّا كَانَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْجَنَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وُضِعَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، وَلَمَّا كَانَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَبَهْجَتُهَا هُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَصْلِيُّ جَعَلَ الْجَنَّةَ نَفْسَ الْمَأْدُبَةِ مُبَالَغَةً. كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَوْسَعُ مِنَ الْجَنَّةِ. قُلْتُ: هُوَ كَذَلِكَ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ: «مَا وَسِعَنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي وَلَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

162 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 162 - (وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ) : مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمُهُ أَسْلَمُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، كَانَ قِبْطِيًّا وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ فَوَهَبَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا بُشِّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْلَامِ عَبَّاسٍ أَعْتَقَهُ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ بَدْرٍ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ قَبْلَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِيَسِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا أُلْفِيَنَّ) : بِالنُّونِ الْمُؤَكِّدَةِ مِنَ الْإِلْفَاءِ أَيْ لَا أَجِدَنَّ. (أَحَدَكُمْ) : وَهُوَ كَقَوْلِكَ لَا أُرِيَنَّكِ هَاهُنَا نَهَى نَفْسَهُ أَنْ تَرَاهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُهُمْ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ (مُتَّكِئًا) : حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ (عَلَى أَرِيكَتِهِ) ، أَيْ: سَرِيرِهِ الْمُزَيَّنِ بِالْحُلَلِ وَالْأَثْوَابِ فِي قُبَّةٍ أَوْ بَيْتٍ كَمَا لِلْعَرُوسِ يَعْنِي الَّذِي لَزِمَ الْبَيْتَ وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ التَّرَفُّهُ وَالدَّعَةُ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُتَكَبِّرِ الْمُتَجَبِّرِ الْقَلِيلِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ (يَأْتِيهِ الْأَمْرُ) ، أَيِ: الشَّأْنُ مِنْ شُئُونِ الدِّينِ، وَقِيلَ اللَّامُ زَائِدَةٌ (مِنْ أَمْرِي) : بَيَانُ الْأَمْرِ أَوْ مَعْنَاهُ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِي أَيِ الشَّأْنِ مِنْ شُئُونِي (مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ) : بَدَلٌ مِنْ أَمْرِي (أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ) : عَطَفَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَعَمُّ مِنَ الْأَمْرِ (فَيَقُولُ) : مُرَتَّبٌ عَلَى

يَأْتِيهِ، وَالْجُمْلَةُ كَمَا هِيَ حَالٌ أُخْرَى مِنَ الْمَفْعُولِ وَيَكُونُ النَّهْيُ مُنْصَبًّا عَلَى الْمَجْمُوعِ، أَيْ: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ وَيَأْتِيهِ الْأَمْرُ فَيَقُولُ (لَا أَدْرِي) ، أَيْ: لَا أَعْلَمُ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَلَا أَتَّبِعُ غَيْرَهُ أَوْ لَا أَدْرِي قَوْلَ الرَّسُولِ (مَا وَجَدْنَا) : مَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ (فِي كِتَابِ اللَّهِ) ، أَيِ: الْقُرْآنِ (اتَّبَعْنَاهُ) : يَعْنِي: وَمَا وَجَدْنَاهُ فِي غَيْرِهِ لَا نَتَّبِعُهُ، أَيْ: وَهَذَا أَمْرُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ نَهَى عَنْهُ لَمْ نَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَا نَتَّبِعْهُ، وَالْمَعْنَى لَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْ حَدِيثِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنْهُ مَعْرِضٌ عَنِ الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ، كَذَا فِي الدُّرِّ، ثُمَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مُجْتَهِدًا يُنَزِّلُ اجْتِهَادَهُ مَنْزِلَةَ الْوَحْيِ لِأَنَّهُ لَا يُخْطِئُ، وَإِذَا أَخْطَأَ يُنَبِّهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بَالْبَيْهَقِيِّ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهِ الْمُقَدَّرِ.

163 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ; أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمُ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ نَحْوَهُ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ: (كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 163 - (وَعَنِ الْمِقْدَامِ) : آخِرُهُ مِيمٌ كَأَوَّلِهِ، وَهُوَ أَبُو كَرِيمَةَ عَلَى الْأَشْهَرِ وَهُوَ كِنْدِيٌّ يُعَدُّ فِي أَهْلِ الشَّامِ وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِالشَّامِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَلَهُ إِحْدَى وَتِسْعُونَ سَنَةً، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (ابْنِ مَعْدِ يكَرِبَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَأَمَّا الْبَاءُ فَيَجُوزُ كَسْرُهَا مَعَ التَّنْوِينِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهُ عَلَى الْبِنَاءِ كَذَا فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ، وَالثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ النُّسَخِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلَا) : حَرْفُ تَنْبِيهٍ، أَيْ: أُنَبِّهُكُمْ فَتَنَبَّهُوا (إِنِّي أُوتِيتُ) ، أَيْ: أَتَانِيَ اللَّهُ (الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ) ، أَيْ: أُعْطِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَ الْقُرْآنِ - حَالَ كَوْنِهِ مُنْضَمًّا - (مَعَهُ) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الْوَحْيِ الْبَاطِنِ غَيْرِ الْمَتْلُوِّ مِثْلَ مَا أُعْطِي مِنَ الظَّاهِرِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أُوتِيَ الْكِتَابَ وَحْيًا وَأُوتِيَ مِنَ التَّأْوِيلِ مِثْلَهُ، أَيْ: أُذِنَ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ فِي الْكِتَابِ فَيُعَمِّمَ وَيُخَصِّصَ وَيَزِيدَ وَيَنْقُصَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ وَلُزُومِ قَبُولِهِ كَالظَّاهِرِ الْمَتْلُوِّ مِنَ الْقُرْآنِ يَعْنِي: أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَأَحْكَامًا وَمَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا تُمَاثِلُ الْقُرْآنَ فِي كَوْنِهَا وَاجِبَةَ الْقَبُولِ أَوْ فِي الْمِقْدَارِ (أَلَا) : فِي تَكْرِيرِ كَلِمَةِ التَّنْبِيهِ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ نَشَأَ مِنْ غَضَبٍ عَظِيمٍ عَلَى مَنْ تَرَكَ السُّنَّةَ وَالْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ اسْتِغْنَاءً بِالْكِتَابِ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَجَّحَ الرَّأْيَ عَلَى الْحَدِيثِ. كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلِذَا رَجَّحَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ الْحَدِيثَ وَلَوْ ضَعِيفًا عَلَى الرَّأْيِ وَلَوْ قَوِيًّا (يُوشِكُ) : بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْفَتْحُ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، أَيْ: يَقْرُبُ (رَجُلٌ شَبْعَانٌ) : بِالضَّمِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا وَصَفَهُ بِالشِّبَعِ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِمَّا الْبَلَادَةُ وَسُوءُ الْفَهْمِ، وَمِنْ أَسْبَابِهِ الشِّبَعُ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ، وَإِمَّا الْحَمَاقَةُ وَالْبَطَرُ وَمِنْ مُوجِبَاتِهِ التَّنَعُّمُ وَالْغُرُورُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالشِّبَعُ يُكْنَى بِهِ عَنْ ذَلِكَ (عَلَى أَرِيكَتِهِ) ، أَيْ: مُتَّكِئًا أَوْ جَالِسًا عَلَيْهَا، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِحَمَاقَةِ الْقَائِلِ وَبَطَرِهِ وَسُوءِ أَدَبِهِ.

قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الْمُتَّكِئُ الْقَاعِدُ الْمُتَقَوِّي عَلَى وِطَاءٍ مُتَمَكِّنًا، وَالْعَامَّةُ لَا تَعْرِفُ الْمُتَّكِئَ إِلَّا مِنْ مَالٍ فِي قُعُودِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاتِّكَاءَ عَامٌّ فِي اللُّغَةِ شَامِلٌ لِكَلَامِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَقَامُ يَخُصُّهُ، وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» أَيْ جَالِسًا جُلُوسَ الْمُتَمَكِّنِ الْمُتَرَبِّعِ وَنَحْوَهُ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لِكَثْرَةِ الْأَكْلِ، بَلْ كَانَ جُلُوسُهُ لِلْأَكْلِ مُسْتَوْفِزًا مُقْعِيًا غَيْرَ مُتَرَبِّعٍ وَلَا مُتَمَكِّنٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَيْلَ عَلَى شِقٍّ كَمَا يَظُنُّهُ عَوَامُّ الطَّلَبَةِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَقَامَنَا يَقْتَضِي الْمَيْلَ إِلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ النَّاشِئِ عَنِ التَّكَبُّرِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِمْسَاكِ نَفْسِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " شَبْعَانٌ " كِنَايَةً عَنْ غُرُورِهِ بِكَثْرَةِ عِلْمِهِ وَادِّعَائِهِ أَنْ لَا مَزِيدَ عَلَى فَضْلِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السَّالِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَائِمًا حَرِيصًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَالْجِيعَانِ " فِي طَلَبِ الرِّزْقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ الْعِلْمِ وَطَالَبُ الدُّنْيَا» : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُبَايَنَةِ بَيْنَهُمَا. (يَقُولُ) ، أَيْ: لِأَصْحَابِهِ وَهُوَ خَبَرٌ يُوشِكُ (عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ) ، أَيِ: الْزَمُوهُ وَاعْمَلُوا بِهِ وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِهِ (فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ) ، أَيْ: فِي الْقُرْآنِ (مِنْ حَلَالٍ) : بَيَانٌ لِمَا (فَأَحِلُّوهُ) : أَيِ اعْتَقِدُوهُ حَلَالًا أَوْ احْكُمُوا بِأَنَّهُ حَلَالٌ وَاسْتَعْمِلُوهُ (وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ) ، أَيِ: اجْتَنِبُوهُ أَوِ انْسُبُوهُ إِلَى الْحَرَامِ اعْتِقَادًا وَحُكْمًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَكَرَهُ رَدًّا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَإِنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَتَرَكُوا السُّنَّةَ الَّتِي تَضَمَّنَتْ بَيَانَ الْقُرْآنِ فَتَحَيَّرُوا وَضَلُّوا (وَإِنَّ) : هَذَا ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَهُوَ بِعِيدٌ (مَا حَرَّمَ) . قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: مَا مَوْصُولَةٌ مَعْنًى مَفْصُولَةٌ لَفْظًا أَيْ الَّذِي حَرَّمَهُ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: فِي (غَيْرِ) الْقُرْآنِ (كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ) ، أَيْ: فِي الْقُرْآنِ وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ التَّحْلِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ إِبَاحَتُهَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مَا حَرَّمَ وَأَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا حَرَّمَ وَأَحَلَّ اللَّهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ (أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمُ الْحِمَارُ) : شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْكِتَابِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا التَّحْدِيدِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ أَيْ أَثَرٌ ظَاهِرٌ وَإِلَّا فَفِي آيَةِ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] الْأَثَرُ وُجُودٌ وَلَكِنَّهُ خَفِّيٌّ دَقِيقٌ أَدْرَكَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَكَرِهَ لَحْمَ الْخَيْلِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْأَهْلِيُّ) : التَّخْصِيصُ بِالصِّفَةِ لِنَفْيِ عُمُومِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْبَرِّيَّ حَلَالٌ (وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ) ، أَيْ: سِبَاعُ الْوُحُوشِ

كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ أَوْ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأَنَّهَا مِنَ الْخَبَائِثِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] (وَلَا لُقَطَةُ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ مَا يُلْتَقَطُ مِمَّا ضَاعَ مِنْ شَخْصٍ بِسُقُوطٍ أَوْ غَفْلَةٍ (مُعَاهِدٍ) ، أَيْ: كَافِرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ بِأَمَانٍ فِي تِجَارَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَفِي مَعْنَاهُ: الذِّمِّيُّ (إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا) ، أَيْ: يَتْرُكُهَا لِمَنْ أَخَذَهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِأَنْ كَانَتْ شَيْئًا حَقِيرًا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَطْلُبُهُ كَالنَّوَاةِ وَقِشْرِ الرُّمَّانِ وَنَحْوِهِمَا، فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ بِالْإِضَافَةِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي لُقَطَةِ الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ التَّخْصِيصِ الِاهْتِمَامَ بِشَأْنِ الْمُعَاهَدِ لِعَهْدِهِ لِأَنَّ النَّفْسَ رُبَّمَا تَتَسَاهَلُ فِي لُقَطَتِهِ لِكَوْنِهِ كَافِرًا وَلِأَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الْمُسَامَحَةِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذِهِ يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286] إِذِ الِالْتِقَاطُ اكْتِسَابٌ فَاللُّقَطَةُ مِنَ الْكَسْبِ، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِأَنَّ مَنْ تَمَلَّكَ لُقَطَةً بِشُرُوطِهَا لَا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِهِ بِخِلَافِ الدُّيُونِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتٍ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ لِلْمَنْفَعَةِ وَعَلَى لِلْمَضَرَّةِ مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِقَوْلِهِ: إِذِ الِالْتِقَاطُ اكْتِسَابٌ وَاللُّقَطَةُ مِنَ الْكَسْبِ (وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ) : أَخْرَجَهُ مِنْ سِيَاقِ الْمَنْهِيَّاتِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يَحِلُّ لِلْمُضِيفِ أَنْ لَا يُكْرِمَ ضَيْفَهُ وَأَبْرَزَهُ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَلَكِنْ خَارِجٌ مِنْ سَمْتِ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَهَدْيِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَيَسْتَأْهِلُ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْذَلَ وَيُسْتَهْجَنَ فِعْلُهُ، وَيُجَازَى بِكُلِّ قَبِيحٍ، وَالْمَعْنَى: مَنِ اسْتَضَافَ قَوْمًا (فَعَلَيْهِمْ) : أَيْ عَلَى الْقَوْمِ (أَنْ يُقِرُّوهُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيْ يُضِيفُوهُ مَنْ قَرَيْتُ الضَّيْفَ قِرًى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ وَقِرَاءً بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ. قَالَ الْأَشْرَفُ، أَيْ: سُنَّةً وَاسْتِحْبَابًا لِأَنَّ قِرَى الضَّيْفِ غَيْرُ وَاجِبٍ قَطْعًا لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ " اهـ. وَقِيلَ: وَاجِبٌ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلْوُجُوبِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. وَأَجَابَ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ الْقَائِلُونَ بِنَدْبِ الْإِضَافَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ» " وَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِطْعَامُهُ إِجْمَاعًا، وَقِيلَ هَذَا كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَبْعَثُ الْجُيُوشَ إِلَى الْغَزْوِ، وَكَانُوا يَمُرُّونَ فِي طَرِيقِهِمْ بِأَحْيَاءِ الْعَرَبِ لَيْسَ هُنَاكَ سُوقٌ يَشْتَرُونَ مِنْهُ الطَّعَامَ وَلَا مَعَهُمْ زَادٌ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَتَهُمْ لِئَلَّا يَنْقَطِعُوا عَنِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ وَغَلَبَتِ الشَّفَقَةُ وَالرَّحْمَةُ عَلَى النَّاسِ نُسِخَ الْوُجُوبُ وَبَقِيَ الْجَوَازُ وَالِاسْتِحْبَابُ (فَإِنْ لَمْ يُقْرُوهُ فَلَهُ) ، أَيْ: لِلنَّازِلِ (أَنْ يُعْقِبَهُمْ) : مِنَ الْإِعْقَابِ بِأَنْ يَتْبَعَهُمْ وَيُجَازِيَهُمْ مِنْ صَنِيعِهِ يُقَالُ: أَعْقَبَهُ بِطَاعَتِهِ إِذَا جَازَاهُ، وَرُوِيَ بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْقَافِ (بِمِثْلِ قِرَاهُ) : بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ لَا غَيْرُ. قَالَ فِي نِهَايَةِ الْجَزَرِيِّ، أَيْ: فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَمَّا حَرَمُوهُ مِنَ الْقِرَى، يُقَالُ: عَقَّبَهُمْ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا، وَأَعْقَبَهُمْ إِذَا أَخَذَ مِنْهُمْ عُقْبَى وَعَقَبَةً، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ بَدَلًا عَمَّا فَاتَهُ، وَهَذَا فِي الْمُضْطَرِّ أَوْ مَنْسُوخٌ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ الْآتِي: وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ. . . . إِلَى قَوْلِهِ: إِذَا أَعْطُوكُمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: لِلضَّيْفِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الَّذِينَ

نَزَلَ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ سُكَّانِ الْبَادِيَةِ إِذَا وَضَعَ عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ ضِيَافَةَ الْمُسْلِمِ الْمَارِّ بِهِمْ بِقَدْرِ ضِيَافَتِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ يُقَدَّرُ قَهْرًا أَوْ خِفْيَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ مِقْدَارِ الْقِرَى مِنْ مَالِ الْمَنْزُولِ بِهِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي نُسِخَتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا ذَكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا حَرَّمَهُ فَأَيْنَ مَا أَحَلَّهُ؟ قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا بِالنَّصِّ حَيْثُ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا. وَقَالَ: فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ. . . . إِلَخْ. وَعَجِيبٌ مِنَ الطِّيبِيِّ حَيْثُ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ بِمَا لَا يَدْفَعُهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ النَّظَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فَخُصَّتْ مِنْهَا أَشْيَاءٌ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ وَبَقَى مَا عَدَاهَا فِي مَعْرِضِ التَّحْلِيلِ، وَخُصَّ مِنْهَا بِنَصِّ الْحَدِيثِ بَعْضٌ فَبَقِيَ سَائِرُهَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَصَّ عَلَى تَحْلِيلِهَا فَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ اهـ. وَكَلَامُ الطِّيبِيُّ كَالْمِسْكِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْلِيلِ الِابْتِدَائِيِّ نَصًّا، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ احْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ تَقْرِيعٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ فِي قَبُولِ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ وَمُجَازَاةٍ لَهُمْ، بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ إِجَازَةٌ لِأَنْ يَأْخُذُ حَقَّهُ بِيَدِ الْقُوَّةِ مِنْهُمْ، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ التَّحْلِيلِ الَّذِي هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ الْحَرَامِ حَلَالًا مَعَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالْمُضْطَرِّ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِبَاحَةِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ تَحْلِيلٌ مُخْتَصٌّ بِالْحَدِيثِ مَعَ نَصِّهِ فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى الدَّارِمِيُّ نَحْوَهُ) ، بِالْمَعْنَى (وَكَذَا) : رَوَى نَحْوَهُ (ابْنُ مَاجَهْ) ، لَكِنْ إِلَى قَوْلِهِ: (كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ) .

164 - وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ؟ ! أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ أَمَرْتُ وَوَعَظْتُ وَنَهَيْتُ عَنَ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ: أَشْعَثُ بْنُ شُعْبَةَ الْمِصِّيصِيُّ، قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 164 - (وَعَنِ الْعِرْبَاضِ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ الْبَكَّائِينَ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: كَبُرَتْ سِنِّي وَوَهَنَ عَظْمِي فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ (ابْنُ سَارِيَةَ) : يُكْنَى أَبَا نَجِيحٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، رَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَرْوِيَّاتُهُ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا (قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: خَطِيبًا أَوْ خَطَبَ (فَقَالَ: (أَيَحْسَبُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ أَيَظُنُّ (أَحَدُكُمْ) : حَالَ كَوْنِهِ (مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَظُنُّ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: بَدَلٌ مِنْ يَحْسَبُ بَدَّلَ الْفِعْلَ مِنَ الْفِعْلِ أَيْ لِلْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188] . (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ؟ !) ، أَيِ: الْعَظِيمِ الشَّأْنِ الْكَثِيرِ الْبَيَانِ (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (وَإِنِّي) : الْوَاوُ لِلْحَالِ (وَاللَّهِ قَدْ أَمَرْتُ وَوَعَظْتُ وَنَهَيْتُ) : فِيهِ ثَلَاثُ تَأْكِيدَاتٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَاوُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ فِي " وَإِنَّمَا " فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: هَمْزَةُ أَيَحْسَبُ، وَوَهَمَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: فَالْهَمْزَةُ فِي أَيَحْسَبُ لِلْإِنْكَارِ، وَكَذَا فِي أَلَا، وَحَرْفُ التَّنْبِيهِ مُقْحَمٌ. . . . إِلَخْ. مَعَ مُنَاقَضَتِهِ لِقَوْلِهِ السَّابِقِ مِنْ أَنَّ أَلَا لِلتَّنْبِيهِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَا النَّافِيَةُ تُفِيدُ تَحَقُّقَ مَا بَعْدَهَا، وَمِنْ ثَمَّ صُدِّرَتْ بِمَا يُصَدَّرُ بِهِ جَوَابُ الْقَسَمِ وَمِثْلُهَا (أَمَا) اهـ.

وَوَقَعَ فِي (أَمَا) فِيمَا تَقَدَّمَ كَمَا وَقَعَ هُنَا فِي (أَلَا) ، نَعَمْ أَصْلُ هَذِهِ الْهَمْزَةِ لِلْإِنْكَارِ لِأَنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَتِ التَّحْقِيقَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ لَكِنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلِانْفِصَالِ فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ مَزَلَّةٌ لِلرِّجَالِ، وَالْمَعْنَى أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَصَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَالُ أَنِّي قَدْ حَرَّمْتُ، فَأَقْحَمَ حَرْفَ التَّنْبِيهِ الْمُتَضَمِّنَ لِلْإِنْكَارِ بَيْنَ الْحَالِ وَعَامِلِهَا، كَمَا أُقْحِمَ حَرْفُ الْإِنْكَارِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر: 19] جَاءَتِ الْهَمْزَةُ مُؤَكِّدَةً مُعَادَةً بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ الْمُتَضَمِّنِ لِلشَّرْطِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ (عَنْ أَشْيَاءَ) : مُتَعَلِّقٌ بِالنَّهْيِ فَحَسْبُ وَمُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ وَالْمَوْعِظَةِ مَحْذُوفٌ أَيْ بِأَشْيَاءَ (إِنَّهَا) ، أَيِ: الْأَشْيَاءَ الْمَأْمُورَةَ وَالْمَنْهِيَّةَ عَلَى لِسَانِي بِالْوَحْيِ الْخَفِيِّ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحَيٌّ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] (لَمِثْلُ الْقُرْآنِ) : فِي الْمِقْدَارِ (أَوْ أَكْثَرُ) ، أَيْ: بَلُ أَكْثَرُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَوْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَكْثَرُ لَيْسَ لِلشَّكِّ بَلْ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَزَالُ يَزْدَادُ عِلْمًا طَوْرًا بَعْدَ طَوْرٍ، إِلْهَامًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَمُكَاشَفَةً لَحْظَةً فَلَحْظَةً فَكُوشِفَ لَهُ أَنَّ مَا أُوتِيَ مِنَ الْأَحْكَامِ غَيْرَ الْقُرْآنِ مِثْلُهُ، ثُمَّ كُوشِفَ لَهُ بِالزِّيَادَةِ مُتَّصِلًا بِهِ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ. وَقَدْ يُسْتَشْكَلُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] بِنَاءً عَلَى بَقَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ أَيْ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ، يُجَابُ بِأَنَّ نِسْبَةَ هَذَا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ وَاسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مَا يُؤَيِّدُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» ". وَقَالَ: جَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الْأَئِمَّةُ شَرْحٌ لِلسُّنَّةِ، وَجَمِيعُ السُّنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ. وَقَالَ: مَا نَزَلَ بِأَحَدٍ مِنَ الدِّينِ نَازِلَةٌ إِلَّا وَهِيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِحَدِيثٍ أَنْبَأْتُكُمْ بِتَصْدِيقِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا وَجَدْتُ مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ) : مِنَ الْإِحْلَالِ (أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا (أَهْلِ الْكِتَابِ) : يَعْنِي أَهْلَ الذِّمَّةِ الَّذِينَ قَبِلُوا الْجِزْيَةَ (إِلَّا بِإِذْنٍ) : كَذَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ وَلَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ " إِلَّا بِإِذْنِهِمْ " أَيْ إِلَّا أَنْ يَأْذَنُوا لَكُمْ بِالطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ كَمَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ (وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ) : يُرِيدُ الضَّرْبَ الْمَعْرُوفَ بِالْخَشَبِ يَعْنِي لَا يَجُوزُ أَنْ تَضْرِبُوا نِسَاءَهُمْ وَتَأْخُذُوا طَعَامًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْهُنَّ بِالْقَهْرِ، وَقِيلَ: الضَّرْبُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ يَعْنِي لَا تَظُنُّوا أَنَّ نِسَاءَهُمْ مُحَلَّلَاتٌ لَكُمْ كَنِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ (وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ) ، أَيْ: بِالْقَهْرِ مِنْ بَسَاتِينِهِمْ فَضْلًا عَنْ بَقِيَّةِ أَمْوَالِهِمْ (إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ) ، أَيْ: مِنَ الْجِزْيَةِ، وَالْحَاصِلُ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِإِيذَائِهِمْ فِي الْمَسْكَنِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ إِذَا أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ، وَإِذَا أَبَوْا عَنْهَا انْتَقَضَتْ ذِمَّتُهُمْ وَحَلَّ دَمُهُمْ وَمَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، وَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي قَوْلٍ صَحِيحٍ. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا وُضِعَ قَوْلُهُ الَّذِي عَلَيْهِمْ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ لِيُؤْذِنَ بِفَخَامَةِ الْعِلَّةِ، وَبِأَنَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ مُعَلَّلٌ بِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَا لَمْ يُفَخَّمْ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ أَعَمُّ مِنَ الْجِزْيَةِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُحْدِثُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً فِي دَارِنَا وَأَنْ يَتَمَيَّزُوا فِي زِيِّهِمْ وَمَرْكَبِهِمْ وَسُرُجِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ فَلَا يَرْكَبُوا خَيْلًا وَلَا يَلْبَسُوا مَا يَخُصُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ وَيَرْكَبُوا عَلَى سُرُجٍ كَالْإِكَافِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَلَا وَجْهَ

لِتَخْصِيصِ الَّذِي عَلَيْهِمْ بِالْجِزْيَةِ فَقَطْ كَمَا لَا يَخْفَى غَايَتُهُ أَنَّهُ وَضَعَ " أَعْطَوْا " مَوْضِعَ " فَعَلُوا " تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْجِزْيَةِ فَإِنَّهَا مُعْظَمُ مَا عَلَيْهِمْ (رَوَاهُ) : كَذَا فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ بَعْدَ قَوْلِهِ " رَوَاهُ " وَسَبَبُهُ تَقَدَّمَ فِي الْخُطْبَةِ فَأَلْحَقَهُ مِيرَكُ شَاهْ فِي هَذَا الْمَحَلِّ. وَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِي إِسْنَادِهِ: أَشْعَثُ بْنُ شُعْبَةَ الْمِصِّيصِيُّ، تُكُلِّمَ فِيهِ اهـ. وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ الْأَوْلَى نِسْبَةً إِلَى بَلَدٍ بِالشَّامِ.

165 - وَعَنْهُ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، فَقَالَ " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا الصَّلَاةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 165 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ الْعِرْبَاضِ (قَالَ: صَلَّى بِنَا) ، أَيْ: إِمَامًا لَنَا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ) : أَقْحَمَ ذَاتَ لِدَفْعِ الْمَجَازِ أَيْ نَهَارًا (ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ) : تَأْكِيدٌ (فَوَعَظَنَا) : بِفَتْحِ الظَّاءِ، أَيْ: نَصَحَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَوْعِظَةً) : وَهِيَ مَا يُوعَظُ بِهِ (بَلِيغَةً) ، أَيْ: تَامَّةً فِي الْإِنْذَارِ قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، أَيْ: وَجِيزَةَ اللَّفْظِ كَثِيرَةَ الْمَعْنَى، أَوْ بَالَغَ فِيهَا بِالْإِنْذَارِ وَالتَّخْوِيفِ اهـ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ، أَيْ: بَالَغَ فِيهَا الْإِنْذَارَ وَالتَّخْوِيفَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَجَازَةَ اللَّفْظِ وَكَثْرَةَ الْمَعْنَى مَعَ الْبَيَانِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ قَوْلَهُ. ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ يَدُلُّ عَلَيْهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِرَادَةِ وَجَازَةِ اللَّفْظِ عَدَمُ إِفَادَةِ الْإِنْذَارِ الَّذِي سَبَّبَ الْبُكَاءَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ذَرَفَتْ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ، أَيْ: دَمَعَتْ (مِنْهَا الْعُيُونُ) : أَيْ: سَالَتْ مِنْ مَوْعِظَتِهِ دُمُوعُ الْعُيُونِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83] (وَوَجِلَتْ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْوَجَلُ خَوْفٌ مَعَ الْحَذَرِ، أَيْ: خَافَتْ (مِنْهَا الْقُلُوبُ) : لِتَأْثِيرِهَا فِي النُّفُوسِ وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْخَشْيَةِ عَلَى الْقُلُوبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَرَفَتْ أَيْ سَالَتْ وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْعُيُونِ مُبَالَغَةٌ وَفَائِدَةُ تَقْدِيمِ ذَرَفَتْ عَلَى وَجِلَتْ وَحَقُّهُ التَّأْخِيرُ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَوْعِظَةَ أَثَّرَتْ فِيهِمْ وَأَخَذَتْ بِمَجَامِعِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِلتَّأْخِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَجْهُهُ أَنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، يُسْتَدَلُّ بِالدَّمْعَةِ عَلَى الْخَشْيَةِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مُوجِبَةً لِلدَّمْعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَالَ رَجُلٌ) : وَفِي الْأَرْبَعِينَ: قُلْنَا (يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّ) : بِالتَّشْدِيدِ (هَذِهِ) ، أَيْ: هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ: كَأَنَّهَا (مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ) : بِالْإِضَافَةِ فَإِنَّ الْمُوَدِّعَ بِكَسْرِ الدَّالِ عِنْدَ الْوَدَاعِ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا يَهُمُّ الْمُوَدَّعَ بِفَتْحِ الدَّالِ، أَيْ: كَأَنَّكَ تُوَدِّعُنَا بِهَا لِمَا رَأَى مِنْ مُبَالَغَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمَوْعِظَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا رَأَى تَأْثِيرًا عَجِيبًا مِنْ مَوْعِظَتِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بِحَيْثُ أَدَّى إِلَى الْبُكَاءِ، فَشَبَّهَ مَوْعِظَتَهُ بِمَوْعِظَةِ الْمُوَدِّعِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرِ وَالْبُكَاءِ، أَوْ لِكَمَالِ التَّأْثِيرِ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يُعْقِبُهُ الزَّوَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. (فَأَوْصِنَا) ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمُرْنَا بِمَا فِيهِ كَمَالُ صَلَاحِنَا وَإِرْشَادِنَا فِي مَعَاشِنَا وَمَعَادِنَا بَعْدَ وَفَاتِكَ (فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ) ، أَيْ: بِمَخَافَتِهِ وَالْحَذَرِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبِلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] ، أَيْ: بِأَقْسَامِهَا الثَّلَاثَةِ وَهِيَ تَقْوَى الشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ وَتَقْوَى مَا سِوَى اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّ التَّقْوَى امْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهِيَ زَادُ الْآخِرَةِ تُنْجِيكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ وَتُبَلِّغُكُمْ إِلَى دَارِ السُّرُورِ، وَتُوجِبُ الْوُصُولَ إِلَى عَتَبَةِ الْجَلَالِ وَالْقُدْسِ وَالنُّورِ. إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مَنِ التُّقَى ... وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا

وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ (وَالسَّمْعِ) ، أَيْ: وَبِسَمْعِ كَلَامِ الْخَلِيفَةِ وَالْأَئِمَّةِ (وَالطَّاعَةِ) : لِمَنْ يَلِي أَمْرَكُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ عَادِلًا كَانَ أَوْ جَائِرًا، وَإِلَّا فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ مُحَارَبَتُهُ (وَإِنْ كَانَ) ، أَيِ: الْمُطَاعُ يَعْنِي مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ عَلَيْكُمْ (عَبْدًا حَبَشِيًّا) : فَأَطِيعُوهُ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى نَسَبِهِ بَلِ اتَّبِعُوهُ عَلَى حَسَبِهِ، وَلَفْظُ الْأَرْبَعِينَ: وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، أَيْ: صَارَ أَمِيرًا أَدْنَى الْخَلْقِ فَلَا تَسْتَنْكِفُوا عَنْ طَاعَتِهِ، أَوْ وَلَوِ اسْتَوْلَى عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَأَطِيعُوهُ مَخَافَةَ إِثَارَةِ الْفِتَنِ، فَعَلَيْكُمُ الصَّبْرَ وَالْمُدَارَاةَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَقِيلَ: هَذَا وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْحَثِّ وَالْمُبَالَغَةِ عَلَى طَاعَةِ الْحُكَّامِ لَا التَّحْقِيقِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» " وَقِيلَ: ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ إِذْ لَا تَصِحُّ خِلَافَتُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ". قُلْتُ: لَكِنْ تَصِحُّ إِمَارَتُهُ مُطْلَقًا، وَكَذَا خِلَافَتُهُ تَسَلُّطًا كَمَا هُوَ فِي زَمَانِنَا فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَكَأَنَّ ذِكْرَ الْحَبَشِيِّ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ وَإِلَّا فَغَيْرُهُ كَالزِّنْجِيِّ أَخَسُّ مِنْهُ فَكَانَ أَنْسَبَ بِالْغَايَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحَبَشِيِّ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ فَيَشْمَلُ الزِّنْجِيَّ وَالْهِنْدِيَّ ثُمَّ التُّرْكِيُّ يُعْلَمُ بِالْأَوْلَى (فَإِنَّهُ) ، أَيِ: الشَّأْنُ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ: وَإِنَّهُ بِالْوَاوِ (مَنْ يَعِشْ) : بِالْجَزْمِ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ: بِالرَّفْعِ (مِنْكُمْ بَعْدِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ جَعَلَ مَا بَعْدَهَا سَبَبًا لِمَا قَبْلَهَا يَعْنِي مِنْ قَبْلِ وَصِيَّتِي وَالْتَزَمَ تَقْوَى اللَّهِ وَقَبِلَ طَاعَةَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُهَيِّجِ الْفِتَنَ أَمِنَ بَعْدِي مِمَّا يَرَى مِنَ الِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ وَتَشَعُّبِ الْآرَاءِ وَوُقُوعِ الْفِتَنِ اهـ. وَكَتَبَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ تَحْتَهُ: وَفِيهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ نَظَرِهِ ظَاهِرًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ ظُهُورِ وَجْهِ السَّبَبِيَّةِ، وَثَانِيهِمَا: عَدَمُ وُجُودِ الْأَنْسَبِيَّةِ بَلِ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، وَالْمَعْنَى الْزَمُوا مَا قُلْتُ لَكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي لَا مُخَلِّصَ لَهُ إِلَّا نَصِيحَتِي (فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا) ، أَيْ: مِنْ مِلَلٍ كَثِيرَةٍ كَلٌّ يَدَّعِي اعْتِقَادًا غَيْرَ اعْتِقَادِ الْآخَرِ إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ أَوِ اخْتِلَافًا عَلَى الْمُلْكِ وَغَيْرِهِ كَثِيرًا يُؤَدِّي إِلَى الْفِتَنِ وَظُهُورِ الْمَعَاصِي وَوَلَايَةُ الْأَخِسَّاءِ حَتَّى الْعَبِيدِ (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي) : اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا، أَيْ: بِطَرِيقَتِي الثَّابِتَةِ عَنِّي وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا (وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ) : فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي، فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا (الْمَهْدِيِّينَ) ، أَيِ: الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ. قِيلَ: هُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً» ". وَقَدِ انْتَهَتْ بِخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَوَصْفُ الرَّاشِدِينَ بِالْمَهْدِيِّينَ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْخَلْقَ فِي الضَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يُشْعِرُهُمْ، الصِّدِّيقُ، وَالْفَارُوقُ، وَذُو النُّورَيْنِ، وَأَبُو تُرَابٍ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ وَوَاظَبُوا عَلَى اسْتِمْطَارِ الرَّحْمَةِ مِنَ السَّحَابَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَخَصَّهُمُ اللَّهُ بِالْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَنَاقِبِ السَّنِيَّةِ، وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَشَاقِّ الْأَسْفَارِ وَمُجَاهَدَةِ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ الْعُظْمَى وَالتَّصَدِّي إِلَى الرِّئَاسَةِ الْكُبْرَى لِإِشَاعَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ أَعْلَامِ الشَّرْعِ الْمَتِينِ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمْ وَازْدِيَادًا لِمَثُوبَاتِهِمْ، فَخَلَفَ الصِّدِّيقُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ لِحِلْمِهِ وَوَقَارِهِ وَسَلَامَةِ نَفْسِهِ وَلِينِ جَانِبِهِ، وَالنَّاسُ مُتَحَيِّرُونَ، وَالْأَمْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَحَمَى بَيْضَةَ الدِّينِ، وَدَفَعَ غَوَائِلَ الْمُرْتَدِّينَ، وَجَمَعَ الْقُرْآنَ، وَفَتَحَ بَعْضَ الْبُلْدَانِ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَ الْفَارُوقَ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَقِرٌّ وَالْقَوْمَ مُطِيعٌ وَالْفِتَنَ سَاكِنَةٌ، فَرَفَعَ رَايَاتِ

الْإِسْلَامِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَفَتَحَ أَكْثَرَ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّلَابَةِ وَكَمَالِ الشَّهَامَةِ وَمَتَانَةِ الرَّأْيِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، وَخِلَافَتُهُ عَشْرُ سِنِينَ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ، ثُمَّ بُويِعَ لِعُثْمَانَ لِشَوْكَةِ أَقَارِبِهِ، وَبَسْطِ أَيْدِي بَنِي أُمَيَّةَ فِي حُكُومَةِ الْأَطْرَافِ زَمَنَ عُمَرَ، فَلَوْ نُصِّبَ غَيْرُهُ لَوَقَعَ الْخِلَافُ، فَأَظْهَرَ فِي مُدَّةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً مَسَاعِيَ جَمِيلَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ بَعْدَ مَا كَانُوا يَقْرَءُونَ بِقِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى حَسَبِ السَّمَاعِ، وَبَعْثَ بِهِ إِلَى الْآفَاقِ، وَلِذَا نُسِبَ الْمُصْحَفُ إِلَيْهِ وَجُعِلَ إِمَامًا، ثُمَّ بُويِعَ بَعْدَهُ لِعَلِيٍّ الْمُرْتَضَى لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُمْ، وَسَيِّدُ بَنِي هَاشِمٍ مَا خَلَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْ لَمْ تَقَعِ الْخِلَافَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ لَحُرِمَ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْصِبِ الْمَشْكُورِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّالِّ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ لِأَنَّهُ اسْتَبَدَّ بِذِكْرِ هَذَا الْغَيْبِ وَقَالَ: " «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا» وَوَقَعَ كَمَا قَالَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَأَمَّا ذِكْرُ سُنَّتِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ سُنَّتِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُخْطِئُونَ فِيمَا يَسْتَخْرِجُونَ مِنْ سُنَّتِهِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَهَا مَا اشْتَهَرَ إِلَّا فِي زَمَانِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِفَاءَ الْخِلَافَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ حَتَّى يُنَافِيَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (يَكُونُ فِي أُمَّتِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً) بَلِ الْمُرَادُ تَصْوِيبُ رَأْيِهِمْ وَتَفْخِيمُ أَمْرِهِمْ، وَقِيلَ هُمْ وَمَنْ عَلَى سِيرَتِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إِحْيَاءِ الْحَقِّ وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ وَإِعْلَاءِ الدِّينِ وَكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ (تَمَسَّكُوا بِهَا) أَيْ بِالسُّنَّةِ (وَعَضُّوا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى السُّنَّةِ (بِالنَّوَاجِذِ) جَمْعُ نَاجِذَةٍ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الضِّرْسُ الْأَخِيرُ وَقِيلَ هُوَ مُرَادِفُ السِّنِّ وَقِيلَ هُوَ النَّابُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَكَامَلَتِ الْأَسْنَانُ فَهِيَ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ ثَنَايَا وَهِيَ أَوَائِلُ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ مُقَدَّمِ الْفَمِ ثُمَّ أَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ ثُمَّ أَرْبَعُ أَنْيَابٍ ثُمَّ أَرْبَعُ ضَوَاحِكَ ثُمَّ اثْنَا عَشَرَ أَضْرَاسًا وَهُوَ الطَّوَاحِنُ ثُمَّ أَرْبَعُ نَوَاجِذَ وَهِيَ أَوَاخِرُ الْأَسْنَانِ كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَضْرَاسَ عِشْرُونَ شَامِلَةً لِلضَّوَاحِكِ وَالطَّوَاحِنِ وَالنَّوَاجِذِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْعَضُّ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةٍ مُلَازَمَةِ السُّنَّةِ وَالتَّمَسُّكِ بِهَا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا أَخْذًا شَدِيدًا يَأْخُذُهُ بِأَسْنَانِهِ أَوِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِالصَّبْرِ عَلَى مُقَاسَاةِ الشَّدَائِدِ كَمَنْ أَصَابَهُ أَلَمٌ لَا يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَهُ فَيَشْتَدُّ بِأَسْنَانِهِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ حَالَ الْمُتَمَسِّكِ بِالسُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَيْهِ بِحَالِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِشَيْءٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يَسْتَعِينُ عَلَيْهِ اسْتِظْهَارًا لِلْمُحَافَظَةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ تَحْصِيلَ السَّعَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ بَعْدَ مُجَانَبَةِ كُلِّ صَاحِبٍ يُفْسِدُ الْوَقْتَ، وَكُلِّ سَبَبٍ يَفْتِنُ الْقَلْبَ مَنُوطٌ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ بِأَنْ يَمْتَثِلَ الْأَمْرَ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْإِخْلَاصِ، وَيُعَظِّمَ النَّهْيَ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْخَوْفِ، بَلْ بِاقْتِفَاءِ آثَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ وَمَصَادِرِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَيَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، حَتَّى يُلْجِمَ النَّفْسَ بِلِجَامِ الشَّرِيعَةِ، وَيَتَجَلَّى فِي الْقَلْبِ حَقَائِقُ الْحَقِيقَةِ بِتَصْقِيلِهِ مِنْ مَفَاتِحِ الْأَخْلَاقِ وَتَنْوِيرِهِ بِأَنْوَارِ الذِّكْرِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْوِفَاقِ، وَتَعْدِيلِهِ بِإِجْرَاءِ جَمِيعِ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ حَتَّى يُحْدِثَ فِيهِ هَيْئَةً عَادِلَةً مَسْنُونَةً مِنْ آثَارِ الْفَضْلِ، يَسْتَعِدُّ لِقَبُولِ الْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِقِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ رُوحُ اللَّهِ الْمَخْصُوصُ بِسُلُوكِ أَحْسَنِ الطَّرَائِقِ، هَذَا وَقِيلَ: تَمَسَّكُوا وَعَضُّوا فِعْلَا مَاضٍ صِفَتَانِ لِلْخُلَفَاءِ (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ) : عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَعَلَيْكُمْ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ، أَيِ: احْذَرُوا عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي أُحْدِثَتْ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَاتَّقُوا أَحْدَاثَهَا (فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ) ، أَيْ: فِي الشَّرِيعَةِ (وَكُلَّ بِدْعَةٍ) : بِنَصْبِ كُلَّ، وَقِيلَ: بِرَفْعِهِ (ضَلَالَةٌ) : إِلَّا مَا خُصَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّهُمَا) ، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (لَمْ يَذْكُرَا الصَّلَاةَ) ، أَيْ: لَمْ يُورِدَا أَوَّلَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعِرْبَاضِ: " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ " بَلْ قَالَا: " وَعَظَنَا كَمَا فِي " الْمَصَابِيحِ "، فَإِنَّهُ افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

166 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًّا. ثُمَّ قَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ "، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ: " هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ "، وَقَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] الْآيَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 166 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا) ، أَيْ: لِأَجْلِنَا تَعْلِيمًا وَتَفْهِيمًا وَتَقْرِيبًا لِأَنَّ التَّمْثِيلَ يَجْعَلُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَعْنَى كَالْمَحْسُوسِ مِنَ الْمُشَاهَدِ فِي الْمَبْنَى (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًّا) ، أَيْ: مُسْتَوِيًا مُسْتَقِيمًا (ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ، أَيْ: هَذَا الرَّأْيُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُمَا الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ وَالْعَمَلُ الصَّالِحِ، وَهَذَا الْخَطُّ لَمَّا كَانَ مِثَالًا سَمَّاهُ سَبِيلَ اللَّهِ. كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هَذَا هُوَ الْخَطُّ الْمُسْتَوِي، وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا مَثَلُ سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مَثَلًا، وَقِيلَ: تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ مَعْكُوسٌ أَيْ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ مِثْلُ الْخَطِّ فِي كَوْنِهِ عَلَى غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ (ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا) ، أَيْ: سَبْعَةً صِغَارًا مُنْحَرِفَةً (عَنْ يَمِينِهِ) ، أَيْ: عَنْ يَمِينِ الْخَطِّ الْمُسْتَوِي (وَعَنْ شِمَالِهِ) : كَذَلِكَ (وَقَالَ: (هَذِهِ) ، أَيِ: الْخُطُوطُ (سُبُلٌ) ، أَيْ: غَيْرُ سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ سَبِيلٌ لِلشَّيْطَانِ لِقَوْلِهِ (عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ) ، أَيْ: رَأْسِهِ (مِنْهَا) ، أَيْ: مِنَ السُّبُلِ (شَيْطَانٌ) : مِنَ الشَّيَاطِينِ (" يَدْعُو ") ذَلِكَ الشَّيْطَانُ النَّاسَ (إِلَيْهِ) ، أَيْ: إِلَى سَبِيلٍ مِنَ السُّبُلِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ وَسَطٌ لَيْسَ فِيهِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ، بَلْ فِيهِ التَّوْحِيدُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَمُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ فِي الْجَادَّةِ، وَسُبُلُ أَهْلِ الْبِدَعِ مَائِلَةٌ إِلَى الْجَوَانِبِ، وَفِيهَا تَقْصِيرٌ وَغُلُوٌّ وَمَيْلٌ وَانْحِرَافٌ وَتَعَدُّدٌ وَاخْتِلَافٌ، كَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ. (وَقَرَأَ) ، أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا: بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ، وَتَقْدِيرُهُ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُقَدَّرُ اللَّامُ، وَبِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافٌ، وَبِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ وَهَذَا رَفْعٌ وَقَوْلُهُ: صِرَاطِي خَبَرٌ وَهُوَ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا {صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى التَّنْبِيهِ أَوِ الْإِشَارَةِ فَاتَّبِعُوهُ، أَيْ: صِرَاطِي وَسَبِيلِي (الْآيَةَ) : بَعْدَهَا {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] أَيْ سُبُلَ الشَّيَاطِينِ الْمُنْحَرِفَةَ الزَّائِغَةَ الْمُتَشَعِّبَةَ مِنْ طُرُقِ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا الَّتِي عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ أَنَا وَأَصْحَابِي» " وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يَنْدَفِعُ زَعْمُ كُلِّ فَرِيقٍ أَنَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. فَتَفَرَّقَ بِكُمْ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَنْ سَبِيلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ سَبِيلِ الْحَقِّ مَعَ السُّبُلِ الْبَاطِلَةِ. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ} [الأنعام: 153] ، أَيِ: اللَّهُ {بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] أَيْ لِكَيْ تَتَّقُوهُ، أَيْ: عَذَابَهُ أَوْ مُخَالَفَتَهُ أَوْ سَبِيلَ غَيْرِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

167 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» ) . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةَ) ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي (أَرْبَعِينِهِ) هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْحُجَّةِ) . بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 167 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ) ، أَيْ: مَيْلُ نَفْسِهِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَهْوِي صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى الدَّاهِيَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَكَأَنَّهُ مِنْ هَوِيَ يَهْوِي هَوًى إِذَا سَقَطَ (تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ) . يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى نَفْيِ أَصْلِ الْإِيمَانِ، أَيْ: حَتَّى يَكُونَ تَابِعًا مُقْتَدِيًا لِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ عَنِ اعْتِقَادٍ لَا عَنْ إِكْرَاهٍ وَخَوْفِ سَيْفٍ كَالْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْيُ الْكَمَالِ، أَيْ: لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَكُونَ مَيْلُ نَفْسِهِ، أَيْ: مَا تَشْتَهِيهِ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ وَافَقَهَا هَوَاهُ اشْتَغَلَ بِهَا لِشَرْعِيَّتِهَا لَا لِأَنَّهَا هَوًى، وَإِنْ خَالَفَهَا اجْتَنَبَ هَوَاهُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُؤْمِنًا كَامِلًا. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَيْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ - الَّذِي مِنْ أَصْلِ صِفَاتِهِ النَّفْسَانِيَّةِ بَلِ الْمَعْبُودُ الْبَاطِلُ الْمُطَاعُ وَالْمَحْبُوبُ الِاتِّبَاعِ - تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ الزَّهْرَاءِ، وَالْمِلَّةِ النَّقِيَّةِ الْبَيْضَاءِ، حَتَّى تَصِيرَ هُمُومُهُ الْمُخْتَلِفَةُ وَخَوَاطِرُهُ الْمُتَفَرِّقَةُ الَّتِي تَنْبَعِثُ عَنْ هَوَى النَّفْسِ وَمَيْلِ الطَّبْعِ هَمًّا وَاحِدًا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ رَبِّهِ، وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَشَفَقَةً عَلَى خَلْقِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَانَتْ لِقَلْبِيَ أَهْوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ ... فَاسْتَجْمَعَتْ مُذْ رَأَتْكَ الْعَيْنُ أَهْوَاي فَصَارَ يَحْسُدُنِي مَنْ كُنْتُ أَحْسُدُهُ ... وَصِرْتُ مَوْلَى الْوَرَى مُذْ صِرْتَ مَوْلَايَ تَرَكْتُ لِلنَّاسِ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمُ ... شُغُلًا بِحُبِّكَ يَا دِينِي وَدُنْيَايَ فَلَا يَمِيلُ إِلَّا بِحُكْمِ الدِّينِ، وَلَا يَهْوَى إِلَّا بِأَمْرِ الشَّرْعِ فَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْفَرِيدُ الْكَامِلُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُقْبَلُ مِنْهُ التَّوْحِيدُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ مُتَّبِعًا لِمَا هَوَاهُ مُبْتَغِيًا لِمَرْضَاهُ فَهُوَ الْكَافِرُ الْخَاسِرُ فِي دُنْيَاهُ وَعُقْبَاهُ، وَمَنِ اتَّبَعَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ دُونَ فُرُوعِهَا فَهُوَ الْفَاسِقُ، وَمَنْ عَكَسَ فَهُوَ الْمُنَافِقُ. وَالْهَوَى: مَصْدَرُ هَوِيَهُ: أَحَبَّهُ، وَشَرَعًا: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ، وَأَمَّا إِذَا وَافَقَ الْهَوَى الْهُدَى، فَهُوَ كَالزُّبْدَةِ عَلَى الْعَسَلِ، وَنُورٌ عَلَى نُورٍ، وَسُرُورٌ عَلَى سُرُورٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] فَإِنْ قُلْتَ: مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُورٌ وَضِيَاءٌ، وَالْهَوَى ظُلْمَةٌ فِي النَّفْسِ انْبَعَثَتْ مِنَ الطَّبِيعَةِ التُّرَابِيَّةِ، فَكَيْفَ يَصِيرُ الْهَوَى الظُّلْمَانِيُّ تَبَعًا لِلدِّينِ النُّورَانِيِّ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ النَّفْسَ لَطِيفَةٌ فِي الْجَسَدِ تَوَلَّدَتْ مِنِ ازْدِوَاجِ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ وَاتِّصَالِهِمَا، وَالرُّوحُ لَطِيفٌ رُوحَانِيٌّ، وَالْجَسَدُ كَثِيفٌ ظُلْمَانِيُّ، وَالنَّفْسُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا تَقْبَلُ اللَّطَافَةَ الرُّوحَانِيَّةَ وَالْكَثَافَةَ الْجُسْمَانِيَّةَ، وَهَذَا هُوَ التَّسْوِيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] بِاسْتِقَامَةِ الرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ فِي الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ بِمَثَابَةِ النُّورِ فِي الْحَدَقَةِ، فَصَارَتِ النَّفْسُ بِهَا قَابِلَةً لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْفُجُورِ وَالتَّقْوَى، فَإِذَا غَلَبَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى صَارَتْ مُزَكَّاةً عَنِ الْكُدُورَاتِ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الدِّينِ قَابِلَةً لِلْيَقِينِ، وَإِذَا غَلَبَ الْأَمْرُ بِالْفُجُورِ صَارَتْ تَابِعَةً لِلْهَوَى، سَالِكَةً مَسَالِكِ الرَّدَى. نُونُ الْهَوَانِ مِنَ الْهَوَى مَسْرُوقَةٌ ... فَصَرِيعُ كُلِّ هَوًى صَرِيعُ هَوَانِ قَالَ الرَّاغِبُ: مَثَلُ النَّفْسِ فِي الْبَدَنِ كَمُجَاهِدٍ بُعِثَ إِلَى ثَغْرٍ يُرَاعِي أَحْوَالَهُ، وَعَقْلُهُ خَلِيفَةُ مَوْلَاهُ، ضُمَّ إِلَيْهِ لِيُرْشِدَهُ وَيَشْهَدَ لَهُ وَعَلَيْهِ إِذَا عَادَ، وَبَدَنُهُ بِمَنْزِلَةِ مَرْكُوبِهِ، وَهَوَاهُ وَشَهَوَاتُهُ سَائِسٌ خَبِيثٌ ضُمَّ إِلَيْهِ لِيَفْقِدَ مَرْكُوبَهُ، وَالْقُرْآنُ

بِمَنْزِلَةِ كِتَابٍ أَتَاهُ عَنْ مَوْلَاهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً، وَالنَّبِيُّ رَسُولٌ أَتَاهُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ جَاهَدَ أَعْدَاءَهُ وَقَهَرَهُمْ وَاسْتَعَانَ بِالْعَقْلِ وَسَلَّطَهُ حُمِدَ إِذَا عَادَ إِلَى حَضْرَتِهِ وَهُوَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَمَنْ ضَيَّعَ ثَغْرَهُ وَأَهْمَلَ رَعِيَّتَهُ وَصَرَفَ هَمَّهُ إِلَى تَفَقُّدِ مَرْكُوبِهِ، وَأَقَامَ سَائِسَ الْمَرْكُوبِ مَقَامَ خَلِيفَةِ رَبِّهِ، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ. (رَوَاهُ) ، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، أَيْ: بِإِسْنَادِهِ (وَقَالَ النَّوَوِيُّ) : بِالْقَصْرِ وَيَجُوزُ مَدُّهُ (فِي أَرْبَعِينِهِ) ، أَيِ: الْأَرْبَعِينَ حَدِيثًا الَّذِي صَنَّفَهُ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَيْنَاهُ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَقِيلَ مَجْهُولٌ (فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ) ، أَيْ: فِي اتِّبَاعِ الْمَحَجَّةِ اسْمُ كِتَابٍ لِأَبِي الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْفَهَانِيِّ التَّيْمِيِّ (بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ) .

168 - وَعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا (يَرْضَاهَا) اللَّهُ وَرَسُولُهُ، كَانَ عَلَيْهِ (مِنَ الْإِثْمِ) مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ (أَوْزَارِهِمْ) شَيْئًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 168 - (وَعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: حَارِثٌ (الْمُزَنِيُّ) : أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَدَنِيٌّ، سَكَنَ بِالْإِسْتِعْرَى وَرَاءَ الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ الْوَقَّاصِ، مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَحْيَا سُنَّةً) ، أَيْ: مَنْ أَظْهَرَهَا وَأَشَاعَهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ (مِنْ سُنَّتِي) : قَالَ الْأَشْرَفُ: ظَاهِرُ النَّظْمِ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ مِنْ سُنَنِي، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ اهـ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ، أَيْ: طَرِيقَةً مِنَ الطُّرُقِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيَّ وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً أُخِذَتْ عَنِّي بِنَصٍّ أَوِ اسْتِنْبَاطٍ، كَمَا أَفَادَهُ إِضَافَةُ سُنَّةٍ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعُمُومِ (قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: تُرِكَتْ تِلْكَ السُّنَّةُ عَنِ الْعَمَلِ بِهَا يَعْنِي مَنْ أَحْيَاهَا مِنْ بَعْدِي بِالْعَمَلِ بِهَا أَوْ حَثَّ الْغَيْرَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا (فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ) ، أَيِ: الثَّوَابِ الْكَامِلِ (مِثْلَ أُجُورِ مَنْ عَمِلَ بِهَا) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَشْمَلُ بِإِطْلَاقِهِ الْعُمَّالَ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ وَبَعْدِهِ، وَفِيهِ أَنَّ شُمُولَهُ لِمَا قَبْلَ الْإِحْيَاءِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ) : مُتَعَدٍّ وَيُحْتَمَلُ اللُّزُومُ (مِنْ أُجُورِهِمْ) : مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: مِنْ أُجُورِ مَنْ عَمِلَ بِهَا فَأَفْرَدَ أَوَّلًا رِعَايَةً لِلَفْظِهِ وَجَمَعَ ثَانِيًا لِمَعْنَاهُ (شَيْئًا) : مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِاعْتِبَارِ الدَّلَالَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْحَثِّ وَلِلْعَامِلِينَ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ حَتَّى يُتَوَهَّمَ أَنَّ حُصُولَ أَحَدِهِمَا يَنْقُصُ الْآخَرَ (وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً) : يُرْوَى بِالْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ نَعْتًا وَمَنْعُوتًا وَهِيَ مَا أَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كَالْبِنَاءِ عَلَى الْقُبُورِ وَتَجْصِيصِهَا وَقَيْدُ الْبِدْعَةِ بِالضَّلَالَةِ لِإِخْرَاجِ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ كَالْمَنَارَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) : صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِلضَّلَالَةِ أَوِ احْتِرَازِيَّةٌ لِلْبِدْعَةِ (كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ) ، أَيِ: الْوِزْرِ (مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ) ، أَيْ: ذَلِكَ الْإِثْمُ (مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا) :

مَفْعُولٌ بِهِ لَا غَيْرُ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي إِيجَادِ شَيْءٍ صَحَّتْ نِسْبَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ وَبِدَوَامِ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ يُضَاعَفُ ثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِيهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ عَنْ بِلَالٍ.

169 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 169 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) ، أَيِ: ابْنِ عَوْفٍ مُزَنِيٍّ مَدَنِيٍّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) .، أَيْ: جَدُّ كَثِيرٍ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ، كَانَ قَدِيمَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92] رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّارِحُونَ: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ مِلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ زَيْدَ بْنَ مِلْحَةَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. كَذَا فِي التَّهْذِيبِ، وَعَدَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نُسْخَةٌ مَوْضُوعَةٌ، وَأَمَّا التِّرْمِذِيُّ فَرَوَى عَنْ حَدِيثِهِ: " «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» "، وَصَحَّحَهُ، فَلِذَا لَا يَعْتَمِدُ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْحِيحِهِ، كَذَا فِي مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ مُلْحَةَ جَاهِلِيٌّ لَمْ يُدْرِكِ الْإِسْلَامَ.

170 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْحِجَازِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا، وَلَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنَ الْحِجَازِ مِعْقَلَ الْأُرْوِيَّةِ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ. إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 170 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ) : هُوَ مُزَنِيٌّ، كَانَ قَدِيمَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92] سَكَنَ الْمَدِينَةِ وَمَاتَ بِهَا فِي آخِرَ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ وَكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَحُكِيَ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ، أَيْ: يَنْضَمُّ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ وَاسْتِيلَاءِ الْكَفَرَةِ (إِلَى الْحِجَازِ) : وَهُوَ اسْمُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَحَوَالَيْهِمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسُمِّيتْ حِجَازًا لِأَنَّهَا حَجَزَتْ أَيْ مَنَعَتْ وَفَصَلَتْ بَيْنَ بِلَادِ نَجْدٍ وَالْغَوْرِ قِيلَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ إِنْ سُلِّمَ أَنَّ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ مُتَرَادِفَانِ أَنَّهُ يَأْرِزُ أَوَّلًا إِلَى الْحِجَازِ أَجْمَعَ، ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّهُ أَوَّلًا فَعَادَ إِلَيْهَا لِتَكَوُّنَ مُسْتَقَرَّهُ آخِرًا أَيْضًا، فَإِنَّ النِّهَايَةَ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبِدَايَةِ، وَلِأَنَّ الْمَدِينَةَ مَغِيبُ النُّبُوَّةِ فَتَصِيرُ مَغِيبَ الشَّرِيعَةِ (كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا، وَلَيَعْقِلَنَّ) : جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاللَّهِ لَيَعْتَصِمَنَّ (الدِّينُ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَطْفٌ عَلَى لَيَأْرِزُ أَوْ عَلَى إِنَّ وَمَعْمُولَهَا، أَيْ: لَيَتَحَصَّنَنَّ وَيَنْضَمَّ وَيَلْتَجِئَ الدِّينُ، أَبْرَزَهُ وَحَقُّهُ الْإِضْمَارُ إِعْلَامًا بِعَظِيمِ شَرَفِهِ وَمَزِيدِ فَخَامَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ ضُوعِفَتْ أَدَوَاتُ التَّأْكِيدِ وَأُتِيَ بِالْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ (مِنَ الْحِجَازِ) ، أَيْ: بِمَكَانٍ مِنْهُ أَوْ مَكَانًا مِنْهُ، يُقَالُ: عَقَلَ الْوَعْلُ أَيِ امْتَنَعَ بِالْجِبَالِ الْعَوَالِي يَعْقِلُ عُقُولًا، أَيْ: لَيَمْتَنِعَنَّ بِالْحِجَازِ وَيَتَّخِذَنَّ مِنْهُ حِصْنًا وَمَلْجَأً (مَعْقِلَ الْأُرْوِيَّةِ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَتُكْسَرُ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأُنْثَى مِنَ الْمَعِزِ الْجَبَلِيِّ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعَقْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ أَيْ كَاتِّخَاذِ الْأُرْوِيَّةِ (مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ) : حِصْنًا، وَخَصَّ الْأُرْوِيَّةَ دُونَ الْوَعْلِ لِأَنَّهَا أَقْدَرُ مِنَ الذَّكَرِ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنَ الْجِبَالِ الْوَعِرَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الدِّينَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ وَاسْتِيلَاءِ الْكَفَرَةِ وَالظَّلَمَةِ عَلَى بِلَادِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يَعُودُ إِلَى الْحِجَازِ كَمَا بَدَأَ مِنْهُ.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ بَعْدَ انْضِمَامِ أَهْلِ الدِّينِ إِلَى الْحِجَازِ يَنْقَرِضُونَ عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ فِيهِ أَحَدٌ (إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ) : بِالْهَمْزَةِ هُوَ الصَّحِيحُ (غَرِيبًا) : أَيْ: كَالْغَرِيبِ أَوْ حَالٍ (وَسَيَعُودُ) ، أَيْ: غَرِيبًا (كَمَا بَدَأَ) ، يَعْنِي: إِنْ أَهَّلَ الدِّينِ فِي الْأَوَّلِ كَانُوا غُرَبَاءَ يُنْكِرُهُمُ النَّاسُ وَلَا يُخَالِطُونَهُمْ، فَكَذَا فِي الْآخَرِ (فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) : أَيْ: أَوَّلًا وَآخِرًا، وَسُمُّوا غُرَبَاءَ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِمْ بِالدُّنْيَا وَأَهْلِهَا (وَهُمُ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي) . أَيْ: يَعْمَلُونَ بِهَا وَيُظْهِرُونَهَا بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

171 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنَّ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً، لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ. وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً " قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 171 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي) : الْإِتْيَانُ الْمَجِيءُ بِسُهُولَةٍ، وَعُدِّيَ بِعَلَى لِمَعْنَى الْغَلَبَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} [الذاريات: 42] وَالْمُرَادُ بَعْضُ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ إِمَّا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ مُطْلَقًا فَيَشْمَلُ مِلَلَ الْكُفْرِ أَيْضًا) (كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) : فَاعِلُ لَيَأْتِيَنَّ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَالْكَافُ مَنْصُوبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى الْمَصْدَرِ) ، أَيْ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ إِتْيَانًا مِثْلُ الْإِتْيَانِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مُخَالَفَةٌ لِمَا أَنَا عَلَيْهِ مِثْلُ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي أَتَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ الْكَافُ فَاعِلًا أَيْ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مِثْلُ مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ) : حَذْوَ النَّعْلِ اسْتِعَارَةٌ فِي التَّسَاوِي، وَقِيلَ: الْحَذْوُ: الْقَطْعُ، وَالتَّقْدِيرُ أَيْضًا يُقَالُ: حَذَوْتُ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ إِذْ قَدَّرْتَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ طَاقَاتِهَا عَلَى صَاحِبَتِهَا لِتَكُونَا عَلَى السَّوَاءِ وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ يَحْذُونَهُمْ حَذْوًا مِثْلَ حَذْوِ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، أَيْ: تِلْكَ الْمُمَاثَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ كَمُطَابَقَةِ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ (حَتَّى إِنَّ كَانَ مِنْهُمْ) : حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَالْوَاقِعُ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ الْآتِي (لَكَانَ) إِمَّا جَوَابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ وَالْمَجْمُوعُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَإِمَّا إِنْ بِمَعْنَى (لَوْ) كَمَا يَقَعُ عَكْسُهُ، وَلَيْسَتْ (إِنْ) هَذِهِ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ كَمَا زَعَمَ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ، وَفِي الْأَزْهَارِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ مُخَفَّفَةٌ أَيْ حَتَّى إِنَّهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ حَذْفُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مِنْ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ فَمَنَعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَجَوَّزَهُ ابْنُ مَالِكٍ (مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً) : إِتْيَانُهَا كِنَايَةٌ عَنِ الزِّنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا زَوْجَةَ الْأَبِ لَوْ مَوْطُوءَتَهُ وَسَائِرَ مَنْ حُرِّمْنَ عَلَيْهِ بِرِضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْغَرَابَةَ وَالِاسْتِبْعَادَ فِيهِ أَكْثَرُ، وَلِذَا قَيَّدَهُ بِعَلَانِيَةٍ (لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ) ، أَيْ: يَفْعَلُ (ذَلِكَ) ، أَيِ: الْإِتْيَانِ (وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) : يَعْنِي النَّصَارَى أَوْ أَهْلَ الْكِتَابِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَبْرَزَ ضَمِيرَهُمْ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ صَنِيعِهِمْ وَبَيَانًا لِكَوْنِ ذَلِكَ دَأْبَهُمْ وَعَادَتَهُمُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أُبْرِزَ حَتَّى لَا يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى غَيْرِهِمْ (تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً) : سَمَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرِيقَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِلَّةً اتِّسَاعًا وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَا شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى الْقُرْبِ مِنْ حَضْرَتِهِ تَعَالَى، وَيُسْتَعْمَلُ فِي جُمْلَةِ الشَّرَائِعِ دُونَ آحَادِهَا وَلَا تَكَادُ تُوجَدُ مُضَافَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا إِلَى آحَادِ أُمَّةِ النَّبِيِّ، بَلْ يُقَالُ: مِلَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِلَّتُهُمْ، كَذَا ثُمَّ إِنَّهَا اتَّسَعَتْ فَاسْتُعْمِلَتْ فِي الْمِلَلِ الْبَاطِلَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَظُمَ تَفَرُّقُهُمْ وَتَدَيَّنَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا تَتَدَيَّنُ بِهِ غَيْرُهَا كَانَتْ طَرِيقَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ كَالْمِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي التَّدَيُّنِ فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهَا مَجَازًا، وَقِيلَ: الْمِلَّةُ كُلُّ فِعْلٍ وَقَوْلٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَفْتَرِقُونَ فِرَقًا تَتَدَيَّنُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا تَتَدَيَّنُ بِهِ الْأُخْرَى (وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً) ، قِيلَ: فِيهِ إِشَارَةٌ لِتِلْكَ الْمُطَابَقَةِ مَعَ زِيَادَةِ هَؤُلَاءِ فِي ارْتِكَابِ الْبِدَعِ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ فَيَنْدَرِجُ سَائِرُ الْمِلَلِ الَّذِينَ لَيْسُوا عَلَى قِبْلَتِنَا فِي عَدَدِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ، وَيَحْتَمِلُ أُمَّةَ الْإِجَابَةِ فَيَكُونُ الْمِلَلُ الثَّلَاثُ وَالسَّبْعُونَ مُنْحَصِرَةً فِي أَهْلِ قِبْلَتِنَا، وَالثَّانِي هُوَ الْأَظْهَرُ، وَنَقَلَ الْأَبْهَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ (كُلُّهُمْ فِي النَّارِ) : لِأَنَّهُمْ يَتَعَرَّضُونَ لِمَا يُدْخِلُهُمُ النَّارَ فَكُفَّارُهُمْ مُرْتَكِبُونَ مَا هُوَ سَبَبٌ فِي دُخُولِهَا الْمُؤَبَّدَةِ عَلَيْهِمْ وَمُبْتَدِعَتُهُمْ مُسْتَحِقَّةٌ لِدُخُولِهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُمْ (إِلَّا مِلَّةً) : بِالنَّصْبِ أَيْ إِلَّا أَهْلَ مِلَّةٍ (وَاحِدَةً) قَالُوا: مَنْ هِيَ؟) ، أَيْ: تِلْكَ الْمِلَّةُ، أَيْ أَهْلُهَا، النَّاجِيَةُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) .، أَيْ: هِيَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي، قِيلَ: جَعَلَهَا عَيْنَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مُبَالَغَةً فِي مَدْحِهَا وَبَيَانًا لِبَاهِرِ اتِّبَاعِهَا حَتَّى يُخَيَّلَ إِنَّهَا عَيْنُ ذَلِكَ الْمُتَّبَعِ، أَوِ الْمُرَادُ بِـ (مَا) الْوَصْفِيَّةُ عَلَى حَدِّ {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] ، أَيِ: الْقَادِرُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ سَوَّاهَا، فَكَذَا هُنَا الْمُرَادُ هُمُ الْمُهْتَدُونَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، فَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَهْلُهَا مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي مِنَ الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْإِجْمَاعِ، فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ الْبِدَعِ كَمَا نُقِلَ فِي الْمَوَاقِفِ ثَمَانِيَةٌ: الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعِبَادَ خَالِقُو أَعْمَالِهِمْ وَبِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ وَبِوُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُمْ عِشْرُونَ فِرْقَةً، وَالشِّيعَةُ الْمُفْرِطُونَ فِي مَحَبَّةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَهُمُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فِرْقَةً، وَالْخَوَارِجُ الْمُفْرِطَةُ الْمُكَفِّرَةُ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ أَذْنَبَ كَبِيرَةً وَهُمْ عِشْرُونَ فِرْقَةً، وَالْمُرْجِئَةُ الْقَائِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ، وَهِيَ خَمْسُ فِرَقٍ، وَالنَّجَّارِيَّةُ الْمُوَافِقَةُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ وَحُدُوثِ الْكَلَامِ، وَهُمْ ثَلَاثُ فِرَقٍ، وَالْجَبْرِيَّةُ الْقَائِلَةُ بِسَلْبِ الِاخْتِيَارِ عَنِ الْعِبَادِ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُشَبِّهَةُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ الْحَقَّ بِالْخَلْقِ فِي الْجِسْمِيَّةِ وَالْحُلُولِ فِرْقَةٌ أَيْضًا فَتِلْكَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ، وَالْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ الْبَيْضَاءِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَالطَّرِيقَةِ النَّقِيَّةِ الْأَحْمَدِيَّةِ، وَلَهَا ظَاهِرٌ سُمِّيَ بِالشَّرِيعَةِ شِرْعَةً لِلْعَامَّةِ، وَبَاطِنٌ سُمِّيَ بِالطَّرِيقَةِ مِنْهَاجًا لِلْخَاصَّةِ وَخُلَاصَةٌ خُصَّتْ بِاسْمِ الْحَقِيقَةِ مِعْرَاجًا لِأَخَصِّ الْخَاصَّةِ، فَالْأَوَّلُ نَصِيبُ الْأَبْدَانِ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَالثَّانِي نَصِيبُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ: وَالثَّالِثُ نَصِيبُ الْأَرْوَاحِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ وَالرُّؤْيَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالشَّرِيعَةُ أَمْرٌ بِالْتِزَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْحَقِيقَةُ مُشَاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَكُلُّ شَرِيعَةٍ غَيْرُ مُؤَيَّدَةٍ بِالْحَقِيقَةِ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ، وَكُلُّ حَقِيقَةٍ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالشَّرِيعَةِ فَغَيْرُ مَحْصُولٍ. فَالشَّرِيعَةُ قِيَامٌ بِمَا أُمِرَ وَالْحَقِيقَةُ شُهُودٌ لِمَا قُضِيَ وَقُدِّرَ وَأُخْفِيَ وَأُظْهِرَ، وَالشَّرِيعَةُ حَقِيقَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَجَبَتْ بِأَمْرِهِ، وَالْحَقِيقَةُ شَرِيعَةٌ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَعَارِفَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَجَبَتْ بِأَمْرِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: أَلَا فَالْزَمُوا سُنَّةَ الْأَنْبِيَاءِ ... أَلَا فَاحْفَظُوا سِيرَةَ الْأَصْفِيَاءِ وَمَنْ يَبْتَدِعْ بِدْعَةً لَمْ يُكَرَّمْ ... بِوِجْدَانِهِ رُتْبَةَ الْأَتْقِيَاءِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو كَذَا.

172 - وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ: " «ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 172 - (وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ) ، أَيْ: أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (وَأَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ) : أَيْ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً (ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) ، أَيْ: أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى اتِّبَاعِ آثَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَلَمْ يَبْتَدِعُوا بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ. قَالَ شُرَيْحٌ: إِنَّ السُّنَّةَ قَدْ سَبَقَتْ قِيَاسَكُمْ فَاتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ فَإِنَّكَ لَمْ تَضِلَّ مَا أَخَذْتَ بِالْأَثَرِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّمَا رَأْيِي بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِذَا احْتَجْتَ إِلَيْهَا أَكَلْتَهَا، وَعَنْ سُفْيَانَ: لَوْ أَنَّ فَقِيهًا عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لَكَانَ هُوَ الْجَمَاعَةُ (وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ أَيْ يَظْهَرُ (فِي أُمَّتِي) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ أُمَّتِي (أَقْوَامٌ) ، أَيْ: جَمَاعَاتٌ (تَتَجَارَى) : بِالتَّاءَيْنِ أَيْ تَدْخُلُ وَتَجْرِي وَتَسْرِي (بِهِمْ) ، أَيْ: فِي مَفَاصِلِهِمْ (تِلْكَ الْأَهْوَاءُ) : جَمْعُ هَوًى وَهُوَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى مَا تَشْتَهِيهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْبِدْعَةُ، فَوَضَعَهَا مَوْضِعَهَا وَضْعًا لِلسَّبَبِ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ لِأَنَّ هَوَى الرَّجُلِ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى إِبْدَاعِ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ أَوِ الْعَمَلِ بِهِ، وَذِكْرُ الْأَهْوَاءِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَنْبِيهًا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْهَوَى وَأَصْنَافِ الْبِدَعِ يُقَالُ: تَجَارُوا فِي الْحَدِيثِ إِذَا جَرَى كُلٌّ مِنْهُمْ مَعَ صَاحِبِهِ (كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ) : بِفَتْحَتَيْنِ دَاءٌ مَخُوفٌ يَحْصُلُ مِنْ عَضِّ الْكَلْبِ الْمَجْنُونِ وَيَتَفَرَّقُ أَثَرُهُ (بِصَاحِبِهِ) ، أَيْ: مَعَ صَاحِبِهِ إِلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، أَيْ: مِثْلُ جَرْيِ الْكَلْبِ فِي الْعُرُوقِ (لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ (وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ) . فَكَذَلِكَ تَدْخُلُ الْبِدَعُ فِيهِمْ وَتُؤَثِّرُ فِي أَعْضَائِهِمْ، قِيلَ: الْكَلْبُ دَاءٌ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَضَّةِ الْكَلْبِ الْكَلِبِ أَيْ الْمَكْلُوبِ، وَهُوَ الْمَجْنُونُ فَيُصِيبُهُ شِبْهُ الْجُنُونِ، وَلَا يَعَضُّ الْمَجْنُونُ أَحَدًا إِلَّا كَلِبَ أَيْ جُنَّ، وَيَعْرِضُ لَهُ أَعْرَاضٌ رَدِيئَةٌ تُشْبِهُ الْمَالِيخُولْيَا مُهْلِكَةٌ غَالِبًا، وَيَمْتَنِعُ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ حَتَّى يَمُوتَ عَطَشًا، وَأَجْمَعَتِ الْعَرَبُ أَنَّ دَوَاءَهُ قَطْرَةٌ مِنْ دَمٍ يُخْلَطُ بِمَاءٍ فَيُسْقَاهُ.

173 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 173 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي) أَوْ قَالَ: (أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ) ، قَالَ الْمُظْهِرُ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حَقِّيَّةِ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قِيلَ قَوْلُهُ: أَوْ قَالَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَعَلَّ هَذَا أَظْهَرُ فِي الدِّرَايَةِ مِنْهَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ يَقْتَضِي هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي امْتَازَتْ بِهَا أُمَّتُهُ عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، أَيْ: لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ غَيْرَ الْكُفْرِ، وَلِذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ اجْتِمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى الْكُفْرِ مُمْكِنٌ بَلْ وَاقِعٌ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَبْقَى بَعْدَ الْكُفْرِ أُمَّةٌ لَهُ وَالْمَنْفِيُّ اجْتِمَاعُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَإِنَّمَا حَمَلَ الْأُمَّةَ عَلَى أُمَّةِ الْإِجَابَةِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى الْكُفَّارِ، فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَ الْمُسْلِمِينَ حَقٌّ، وَالْمُرَادُ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِجْمَاعِ الْعَوَامِّ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَنْ عِلْمٍ.

وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: قَوْلُهُ: عَلَى ضَلَالَةٍ أَيْ عَلَى خَطَأٍ، وَقِيلَ: عَلَى كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ (وَيَدُ اللَّهِ) : كِنَايَةٌ عَنِ النُّصْرَةِ وَالْغَلَبَةِ أَوِ الْحِفْظِ وَالرَّحْمَةِ، أَوْ مَعْنَاهُ إِحْسَانُهُ وَتَوْفِيقُهُ لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ (عَلَى الْجَمَاعَةِ) أَيِ: الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الدِّينِ يَحْفَظُهُمُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْخَطَأِ أَوْ لِلتَّوْفِيقِ لِمُوَافَقَةِ إِجْمَاعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ (وَمَنْ شَذَّ) أَيِ: انْفَرَدَ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِاعْتِقَادٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَمْ يَكُونُوا عَلَيْهِ (شَذَّ فِي النَّارِ) . أَيِ انْفَرَدَ فِيهَا، وَمَعْنَاهُ: انْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

174 - وَعَنْهُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « (اتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 174 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ) : يُعَبِّرُ بِهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمُرَادُ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ قِيلَ: وَهَذَا فِي أُصُولِ الِاعْتِقَادِ كَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْفُرُوعُ كَبُطْلَانِ الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ مَثَلًا فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْإِجْمَاعِ، بَلْ يَجُوزُ اتِّبَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فِي مَسَائِلَ فَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْفُرُوعِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهَا ظَنِّيَّاتٌ، فَلَمْ تَكُنْ مِنَ الِاعْتِقَادِيَّاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْيَقِينِيَّاتِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْكُلِّ لَفْظِيٌّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي طَاعَةِ الْإِمَامِ وَهُوَ السُّلْطَانُ الْأَعْظَمُ، وَقِيلَ: الْجَمَاعَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لِكَثْرَةِ مَعَانِيهِمَا، وَقِيلَ: كُلُّ عَالَمٍ عَامِلٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فِي الْأَزْهَارِ: اتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعَاظِمَ النَّاسِ الْعُلَمَاءُ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ وَلَمْ يَقُلِ الْأَكْثَرَ لِأَنَّ الْعَوَامَ وَالْجُهَّالَ أَكْثَرُ عَدَدًا (فَإِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنُ (" مَنْ شَذَّ ") أَيْ فِي الدِّينِ بِخُرُوجِهِ عَنْ مُتَابَعَةِ الْأَكْثَرِينَ (شَذَّ فِي النَّارِ) رَوَاهُ. . . .) : بَعْدَهُ بَيَاضٌ وَأَلْحَقُ مَيْرَكُ شَاهْ (ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ) . وَزَادَ الطِّيبِيُّ: وَابْنُ عَاصِمٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ.

175 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ) . ثُمَّ قَالَ: (يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحَبَّ سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 175 - (وَعَنْ أَنَسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ لِي) أَيْ وَحْدِي أَوْ مُخَاطِبًا لِي مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا بُنَيَّ) : بِضَمِّ الْبَاءِ تَصْغِيرُ ابْنٍ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، وَالْكَسْرُ أَكْثَرُ وَهُوَ تَصْغِيرُ لُطْفٍ وَمَرْحَمَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ هَذَا لِمَنْ لَيْسَ ابْنَهُ وَمَعْنَاهُ اللُّطْفُ وَإِنَّكَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ وَلَدِي فِي الشَّفَقَةِ (إِنْ قَدَرْتَ) : أَيِ اسْتَطَعْتَ وَالْمُرَادُ اجْتَهِدْ قَدْرَ مَا تَقْدِرُ (أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ) أَيْ تَدْخُلَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالْمُرَادُ جَمِيعُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ أَيْ: وَلَيْسَ كَائِنًا فِي قَلْبِكَ (غِشٌّ) : ضِدُّ النُّصْحِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ (لِأَحَدٍ) : وَهُوَ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَإِنَّ نَصِيحَةَ الْكَافِرِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِيمَانِهِ وَيَسْعَى فِي خَلَاصِهِ مِنْ وَرْطَةِ الْهَلَاكِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَالتَّأَلُّفِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (فَافْعَلْ) : جَزَاءُ كِنَايَةٍ عَمَّا سَبَقَ فِي الشَّرْطِ أَيِ افْعَلْ نَصِيحَتَكَ (ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ! وَذَلِكَ) أَيْ خُلُوُّ الْقَلْبِ مِنَ الْغِشِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَفِيعُ الْمَرْتَبَةِ أَيْ بَعِيدُ التَّنَاوُلِ (مِنْ سُنَّتِي) أَيْ طَرِيقَتِي (وَمَنْ أَحَبَّ سُنَّتِي) : فَعَمِلَ بِهَا (فَقَدْ أَحَبَّنِي) أَيْ حُبًّا كَامِلًا لِأَنَّ مُحِبَّةَ الْآثَارِ عَلَامَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَصْدَرِهَا (وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِيَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا أَيْ مَعِيَّةَ مُقَارَبَةٍ لَا مَعِيَّةً مُتَّحِدَةً فِي الدَّرَجَةِ (فِي الْجَنَّةِ) : فَإِنَّ «الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» كَمَا فِي حَدِيثٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] الْآيَةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

176 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي، فَلَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ» ) . رَوَاهُ. . . .) ـــــــــــــــــــــــــــــ 176 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَمَسَّكَ) أَيْ: عَمِلَ (بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي) أَيْ: عِنْدَ غَلَبَةِ الْبِدْعَةِ وَالْجَهْلِ وَالْفِسْقِ فِيهِمْ (فَلَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ: لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِالْعَمَلِ بِهَا بِإِحْيَائِهَا وَتَرْكِهِمْ لَهَا كَالشَّهِيدِ الْمُقَاتِلِ مَعَ الْكُفَّارِ لِإِحْيَاءِ الدِّينِ بَلْ أَكْثَرُ. (رَوَاهُ. . . . . . .) : بَعْدَهُ بَيَاضٌ، وَأُلْحِقَ بِهِ مَيْرَكُ وَغَيْرُهُ: الْبَيْهَقِيَّ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

177 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ «أَتَاهُ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ مِنْ يَهُودَ تُعْجِبُنَا، أَفْتَرَى أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا؟ فَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ ! لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ (شُعَبِ الْإِيمَانِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 177 - (وَعَنْ جَابِرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ فَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ (إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ) أَيْ: حِكَايَاتٍ وَمَوَاعِظَ (مِنْ يَهُودَ) : قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَصْلُ فِي (يَهُودَ) وَ (مَجُوسَ) تَرْكُ اللَّامِ لِأَنَّهُمَا عَلَمَانِ لِقَوْمَيْنِ، وَمَنْ عَرَفَ فَإِنَّهُ أَجْرَى يَهُودِيًّا وَيَهُودَ مَجْرَى شَعِيرَةٍ وَشَعِيرٍ اهـ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: يَهُودُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعِلْمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَبِيلَةِ، وَقِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْقَبَائِلِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَأْنِيثٌ لَفْظِيٌّ يَجُوزُ صَرْفُهَا حَمْلًا عَلَى الْحَيِّ وَعَدَمُ صَرْفِهَا حَمْلًا عَلَى الْقَبِيلَةِ، وَيَهُودُ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا عَدَمُ الصَّرْفِ (تُعْجِبُنَا) : بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: تَحْسُنُ عِنْدَنَا وَتَمِيلُ قُلُوبُنَا إِلَيْهَا (أَفَتَرَى) : بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ: أَتُحَسِّنُ لَنَا اسْتِمَاعَهَا فَتَرَى يَعْنِي فَتَأْذَنُ (أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا؟ فَقَالَ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَجْرًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ (أَمُتَهَوِّكُونَ) أَيْ: أَمُتَحَيِّرُونَ فِي دِينِكُمْ حَتَّى تَأْخُذُوا الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِ كِتَابِكُمْ وَنَبِيِّكُمْ (أَنْتُمْ) : لِلتَّأْكِيدِ (كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ !) أَيْ: كَتَحَيُّرِهِمْ حَيْثُ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ (لَقَدْ جِئْتُكُمْ) : جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ (بِهَا) أَيْ: بِالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ بِقَرِينَةِ الْكَلَامِ (بَيْضَاءَ) أَيْ: وَاضِحَةً، حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ " بِهَا " (نَقِيَّةً) : صِفَةُ بَيْضَاءَ، أَيْ: ظَاهِرَةٌ صَافِيَةٌ خَالِصَةٌ خَالِيَةٌ عَنِ الشِّرْكِ وَالشُّبْهَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا مَصُونَةٌ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ خَافِيَةٌ عَنِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، لِأَنَّ فِي دِينِ الْيَهُودِ (إِخْرَاجُ رُبُعِ مَالِهِمْ زَكَاةً، وَقَطْعُ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ بَدَلًا عَنِ الْغَسْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَتَحَتُّمِ الْقِصَاصِ فِي دِينِ الْيَهُودِ، وَتَحَتُّمِ الدِّيَةِ فِي دِينِ النَّصَارَى، وَأَخَّرَ (نَقِيَّةً) لِأَنَّهَا صِفَةُ (بَيْضَاءَ) إِذْ يُقَالُ: أَبْيَضُ نَقِيٌّ دُونَ الْعَكْسِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُفَسَّرِ بِالْمِلَّةِ اهـ. قِيلَ: وَوَصَفَ الْمِلَّةَ بِالْبَيَاضِ تَنْبِيهًا عَلَى كَرَمِهَا وَفَضْلِهَا، وَكَرَمُهَا إِفَادَتُهَا كُلَّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيَاضَ لَمَّا كَانَ أَفْضَلَ لَوْنٍ عِنْدَ الْعَرَبِ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْكَرَمِ وَالْفَضْلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ أَتَاهُمْ بِالْأَعْلَى وَالْأَفْضَلِ، وَاسْتِبْدَالُ الْأَدْنَى عَنْهُ مَظِنَّةٌ لِلتَّحَيُّرِ (وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ) أَيْ: مَا جَازَ لَهُ (إِلَّا اتِّبَاعِي) : فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا فَائِدَةً مِنْ قَوْمِهِ مَعَ وُجُودِي. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [آل عمران: 81] الْآيَةَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيًّا، آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى قَوْمِهِ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَلَئِنْ بُعِثَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيَنْصُرُنَّهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ، فَيَكُونُ التَّنْكِيرُ فِي " رَسُولٍ " لِلتَّعْظِيمِ فَهُوَ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَامُ الرُّسُلِ، وَلِذَا قَالَ: «آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ) ، أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ رَدِيءَ الْحِفْظِ يَقْلِبُ الْأَسَانِيدَ وَيَرْفَعُ الْمَرَاسِيلَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَدِيثُ عَنْ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ حَرَامٌ، وَعَنْ مُجَالِدٍ تَجَالُدٌ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ رِيَاحٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدِيثُ مُجَالِدٍ حُلْمٌ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ جَاءَ عَنْ غَيْرِ مُجَالِدٍ فَتَأَيَّدَ بِهِ.

178 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا، وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ، وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ) . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَكَثِيرٌ فِي النَّاسِ؟ قَالَ: (وَسَيَكُونُ فِي قُرُونٍ بَعْدِي» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 178 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا أَيْ: مَنْ كَانَ قُوتُهُ حَلَالًا، وَلَمْ يَقُلْ حَلَالًا، لِأَنَّ الطَّيِّبَ مَا يَفُوحُ عَنْهُ رِيحُ الْوَرِعِ أَخْذًا مِنَ الطَّيِّبِ، فَمَا اكْتُسِبَ عَلَى وَجْهٍ، تَعَلَّقَ بِسَوَابِقِهِ أَوْ قَرَائِنِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ مَعْصِيَةٌ - لَمْ يَكُنْ طَيِّبًا (وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ) أَيْ: فِي مُوَافَقَةِ سُنَّةٍ وَرَدَتْ فِيهِ، أَيْ: وَعَمِلَ كُلَّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ وَكُلَّ قَوْلٍ يَقُولُهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ، يَعْنِي: وَيَكُونُ مُتَمَسِّكًا فِي كُلِّ عَمَلٍ بِسُنَّةٍ، أَيْ: بِحَدِيثٍ جَاءَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ حَتَّى قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى، فَالْمُرَادُ شُمُولُ كُلِّ سُنَّةٍ لَا وَاحِدَةٍ مِنْهَا غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَقِيلَ: تَنْكِيرُهَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِي مُوَافَقَةِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَعَ أُخْتَيْهَا مِمَّا يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَقُدِّمَ أَكْلُ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ مُوَرِّثٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] (وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ) : الْبَائِقَةُ: الدَّاهِيَةُ وَهِيَ الْمِحْنَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الشُّرُورُ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْبَوَائِقُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، فَرُوِيَ: ظُلْمُهُ وَغِشُّهُ (دَخَلَ الْجَنَّةَ) : أَيِ: اسْتَحَقَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا) : أَيِ: الرَّجُلُ الْمَوْصُوفُ الْمَذْكُورُ (الْيَوْمَ) : ظَرْفٌ مُقَدَّمٌ لِخَبَرِ " إِنَّ " (لَكَثِيرٌ فِي النَّاسِ؟) : بِحَمْدِ اللَّهِ، فَمَا حَالُ الْمُسْتَقْبَلِ؟ (قَالَ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَسَيَكُونُ) أَيْ هُمْ كَثِيرُونَ الْيَوْمَ وَسَيُوجَدُ مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ (فِي قُرُونٍ بَعْدِي) . فِي الْأَزْهَارِ: الْقَرْنُ أَهْلُ عَصْرٍ، وَقِيلَ: أَهْلُ كُلِّ مُدَّةٍ أَوْ طَبَقَةٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ سَنَةٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ. وَقِيلَ: مِائَةٌ اهـ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَرْنَ هَاهُنَا أَهْلُ الْعَصْرِ، فَإِنَّ كُلَّ عَصْرٍ هُوَ أَبْعَدُ مِنْ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ الصُّلَحَاءُ فِيهِمْ أَقَلَّ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمُ» " الْحَدِيثَ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَفْيًا لِلِاسْتِعْجَابِ عَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. كَذَا قِيلَ، وَأَقُولُ: وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ حَمْدًا لِلَّهِ وَتَحَدُّثًا بِنِعَمِهِ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الْقَرْنِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ.

179 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا» ) . رُوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 179 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكُمْ) : أَيُّهَا الصَّحَابَةُ (فِي زَمَانٍ) أَيْ: زَمَانٍ عَظِيمٍ مِنْ عِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَمْنِ أَهْلِهِ، وَهُوَ زَمَانُ نُزُولِ الْوَحْيِ وَسَمَاعِ كَلَامِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ (مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ) أَيْ: فِيهِ وَهُوَ الرَّابِطُ لِجُمْلَةِ الشَّرْطِ بِمَوْصُوفِهَا وَهُوَ زَمَانٌ (عُشْرَ) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَضَمِّهَا (مَا أُمِرَ بِهِ) أَيْ: مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِذْ لَا يَجُوزُ صَرْفُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى عُمُومِ الْمَأْمُورَاتِ لِأَنَّهُ عُرِفَ أَنَّ مُسْلِمًا لَا يُعْذَرُ فِيمَا يُهْمِلُ مِنَ الْفَرْضِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ. هَكَذَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ هَذَا غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِبَابِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ: بَلْ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَهُوَ مَنْ عَمِلَ فِي سُنَّةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ كَانَ أَنْسَبَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَجْرِي مَعْنَى قَوْلِهِ " مَا أُمِرَ بِهِ " فِي أَمْرِ النَّدْبِ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ الْهَلَاكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ النَّدْبِ مُطْلَقًا فَضْلًا عَنْ عُشْرِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ وَافَقَنِي فِي الْمَحَلَّيْنِ (هَلَكَ) : لِأَنَّ الدِّينَ عَزِيزٌ وَالْحَقُّ ظَاهِرٌ، وَفِي أَنْصَارِهِ كَثْرَةٌ فَالتَّرْكُ يَكُونُ تَقْصِيرًا مِنْكُمْ فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي التَّهَاوُنِ (ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ) : يَضْعُفُ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَيَكْثُرُ الظَّلَمَةُ وَالْفُسَّاقُ وَقَلَّ أَنْصَارُهُ، فَيُعْذَرُ الْمُسْلِمُونَ فِي التَّرْكِ إِذْ ذَاكَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ لَا لِلتَّقْصِيرِ (مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا) : لِانْتِفَاءِ تِلْكَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

180 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ) ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] » رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 180 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْهُدَى (إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ) أَيْ: أُعْطَوْهُ وَهُوَ حَالٌ، وَقَدَّمَ مَقْدِرَةً وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ عَامَّ الْأَحْوَالِ، وَصَاحِبُهَا الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي خَبَرِ " كَانَ "، وَالْمَعْنَى مَا كَانَ ضَلَالَتُهُمْ وَوُقُوعُهُمْ فِي الْكُفْرِ إِلَّا بِسَبَبِ الْجِدَالِ وَهُوَ الْخُصُومَةُ بِالْبَاطِلِ مَعَ نَبِيِّهِمْ، وَطَلَبُ الْمُعْجِزَةِ مِنْهُ عِنَادًا أَوْ جُحُودًا، وَقِيلَ: مُقَابَلَةُ الْحُجَّةِ بِالْحُجَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا الْعِنَادُ، وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ ضَرْبُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لِتَرْوِيجِ مَذَاهِبِهِمْ وَآرَاءِ مَشَايِخِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ نُصْرَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا الْمُنَاظَرَةُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَإِظْهَارِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ (ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ) أَيِ: اسْتِشْهَادٌ عَلَى مَا قَرَّرَهُ (مَا ضَرَبُوهُ) أَيْ: هَذَا الْمَثَلُ (لَكَ) : يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ أَرَادُوا بِالْآلِهَةِ هُنَا الْمَلَائِكَةَ يَعْنِي: الْمَلَائِكَةُ خَيْرٌ أَمْ عِيسَى؟ يُرِيدُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَيْرٌ مِنْ عِيسَى، فَإِذَا عَبَدَتِ النَّصَارَى عِيسَى فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ أَيْ: مَا قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ {إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف: 58] أَيْ إِلَّا لِمُخَاصَمَتِكَ وَإِيذَائِكَ بِالْبَاطِلِ لَا لِطَلَبِ الْحَقِّ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَالْأَصَحُّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ ابْنَ الزَّبْعَرِيِّ جَادَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] آلِهَتُنَا أَيِ الْأَصْنَامُ خَيْرٌ عِنْدَكَ أَمْ عِيسَى؟ فَإِنْ كَانَ فِي النَّارِ فَلْتَكُنْ آلِهَتُنَا مَعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ ذَكَرَ مِثْلَ مَا ذَكَرْتُهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَأَوَّلًا: أَنَّ (مَا) لِغَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ، فَالْإِشْكَالُ نَشَأَ عَنِ الْجَهْلِ بِالْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَثَانِيًا: أَنَّ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ خُصُّوا عَنْ هَذَا بِقُولِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ - بَلْ هُمْ} [الأنبياء: 101 - 42] : أَيِ الْكُفَّارُ {قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] : أَيْ: كَثِيرُو الْخُصُومَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْحَاكِمُ.

181 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: ( «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] » رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 181 - (وَعَنْ أَنَسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّكْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ (لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَيْ: بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ كَصَوْمِ الدَّهْرِ وَإِحْيَاءِ اللَّيْلِ كُلِّهِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ لِئَلَّا تَضْعُفُوا عَنِ الْعِبَادَةِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَالْفَرَائِضِ (فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) : بِالنَّصْبِ جَوَابُ النَّهْيِ أَيْ: يَفْرِضُهَا عَلَيْكُمْ فَتَقَعُوا فِي الشِّدَّةِ، أَوْ بِأَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْكُمْ بَعْضَ مَا وَجَبَ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ ضَعْفِكُمْ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ كَذَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، بِإِيجَابِ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ عَلَى سَبِيلِ النَّذْرِ أَوِ الْيَمِينِ، فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَيُوجِبَ عَلَيْكُمْ بِإِيجَابِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَتَضْعُفُوا عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ وَتَمَلُّوا وَتَكْسَلُوا وَتَتْرُكُوا الْعَمَلَ فَتَقَعُوا فِي عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُلَائِمُ لِلتَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ قَوْمًا) أَيْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) : بِالْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ، وَالرِّيَاضَاتِ الصَّعْبَةِ، وَالْمُجَاهَدَاتِ التَّامَّةِ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِإِتْمَامِهَا وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا، وَقِيلَ: شَدَّدُوا حِينَ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ فَسَأَلُوهُ عَنْ لَوْنِهَا وَسِنِّهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهَا. (فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) : بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ عَلَى صِفَةٍ، لَمْ تُوجَدْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ إِلَّا بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَبِعْهَا صَاحِبُهَا إِلَّا بِمِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا، وَيُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ (فَتِلْكَ) : الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ تَصَوُّرِ جَمَاعَةٍ بَاقِيَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُشَدِّدِينَ بَقِيَتْ فِي الصَّوَامِعِ يُفَسِّرُهَا قَوْلُهُ (بَقَايَاهُمْ) أَيْ: بَقَايَا قَوْمٍ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ (فِي الصَّوَامِعِ) : جَمْعُ صَوْمَعَةٍ، وَهِيَ مَوْضِعُ عِبَادَةِ الرُّهْبَانِ مِنَ النَّصَارَى. قِيلَ: هُوَ بِنَاءٌ صَغِيرٌ عَلَى شَكْلِ دَائِرَةٍ (وَالدِّيَارِ) : جَمْعُ الدَّيْرِ، وَهُوَ الْكَنِيسَةُ وَهِيَ مَعْبَدُ الْيَهُودِ، قِيلَ: وَهُوَ بِنَاءٌ وَسِيعٌ فِيهِ مَحَلُّ الْعِبَادَةِ، وَبَاقِيهِ لِنَحْوِ نُزُولِ الْمَارَّةِ وَإِيوَاءِ الْغَرِيبِ (رَهْبَانِيَّةً) : نُصِبَ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيِ: ابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً (ابْتَدَعُوهَا) يُقَالُ: ابْتَدَعَ إِذَا أَتَى بِشَيْءٍ بَدِيعٍ أَيْ: جَدِيدٍ لَمْ يَفْعَلْهُ قَبْلَهُ أَحَدٌ، وَالرَّهْبَانِيَّةُ بِالْفَتْحِ الْخَصْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الرُّهْبَانِ، وَهُوَ الْخَائِفُ، فُعْلَانٌ مِنْ رَهِبَ رَهْبَةً أَيْ خَافَ، وَبِالضَّمِّ نِسْبَةً إِلَى الرُّهْبَانِ جَمْعُ رَاهِبٍ، وَفِي الْآيَةِ قُرِئَتْ بِالضَّمِّ شَاذًّا، وَقِيلَ: الرَّهْبَةُ الْخَوْفُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْعِبَادَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى عِبَادَةِ الرُّهْبَانِ، وَهُوَ جَمْعُ الرَّاهِبِ أَيْ: عَابِدُ النَّصَارَى وَهِيَ مَا يَفْعَلُونَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ (مَا كَتَبْنَاهَا) أَيْ: مَا فَرَضْنَا تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ (عَلَيْهِمْ) : مِنْ تَرْكِ التَّلَذُّذِ بِالْأَطْعِمَةِ وَتَرْكِ التَّزَوُّجِ وَالِاعْتِزَالِ عَنِ النَّاسِ، وَالتَّوَطُّنِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْعُمْرَانِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ: وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] أَيْ: لَمْ يَرْعَوُا الرَّهْبَانِيَّةَ حَقَّ رِعَايَتِهَا وَضَيَّعُوا وَكَفَرُوا بِدِينِ عِيسَى، فَتَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا وَدَخَلُوا فِي دِينِ مُلُوكِهِمْ وَتَرَكُوا التَّرَهُّبَ، وَأَقَامَ مِنْهُمْ أُنَاسٌ عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَتَّى أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَآمَنُوا بِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] كَذَا فِي الْمَعَالِمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

182 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ. فَأَحِلُّوا الْحَلَالَ، وَحَرِّمُوا الْحَرَامَ، وَاعْمَلُوا بِالْمُحْكَمِ، وَآمِنُوا بِالْمُتَشَابِهِ، وَاعْتَبِرُوا بِالْأَمْثَالِ» ) . هَذَا لَفَظُ الْمَصَابِيحِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) ، وَلَفْظُهُ ( «فَاعْمَلُوا بِالْحَلَالِ، وَاجْتَنِبُوا الْحَرَامَ، وَاتَّبِعُوا الْمُحْكَمَ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 182 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نَزَلَ الْقُرْآنُ) أَيْ: بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ (عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ) : مِنْ وُجُوهِ الْكَلَامِ (حَلَالٍ) : بِالْجَرِّ، وَهُوَ بَدَلٌ بَعْدَ الْعَطْفِ قَبْلَ الرَّبْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] وَقَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] وَغَيْرِهِمَا. (وَحَرَامٍ) : كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173] الْآيَةَ وَغَيْرِهَا (وَمُحْكَمٍ) : كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَوْعِظَةِ (وَمُتَشَابِهٍ) : كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَاءَ رَبُّكَ) وَأَمْثَالِ ذَلِكَ (وَأَمْثَالٍ) : يَعْنِي قَصَصَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمَا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَمْثَالَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41] وَلِذَا عَقَّبَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] (فَأَحِلُّوا الْحَلَالَ) : أَيِ: اعْتَقِدُوا حِلِّيَّتَهُ وَجَوِّزُوا مَنْفَعَتَهُ (وَحَرَّمُوا الْحَرَامَ) أَيِ: اجْتَنِبُوهُ وَاعْتَقِدُوا حُرْمَتَهُ وَاحْكُمُوا بِمَضَرَّتِهِ (وَاعْمَلُوا بِالْمُحْكَمِ) : مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ (وَآمِنُوا بِالْمُتَشَابِهِ) مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ بِكَيْفِيَّتِهِ (وَاعْتَبِرُوا بِالْأَمْثَالِ) : أَيِ: الظَّاهِرِيَّةِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ (هَذَا) : أَيِ الْمَذْكُورُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ (لَفْظُ الْمَصَابِيحِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) أَيْ: مَعْنَاهُ وَحَذَفَ هَذَا لِلْعِلْمِ بِهِ (وَلَفْظُهُ) أَيْ: لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ (فَاعْمَلُوا بِالْحَلَالِ) : وَلَا تَجْتَنِبُوهُ (وَاجْتَنِبُوا الْحَرَامَ) : وَلَا تَرْتَكِبُوهُ (وَاتَّبِعُوا الْمُحْكَمَ) : وَلَا تَتْرُكُوهُ فَفِيهِ نَوْعُ اعْتِرَاضٍ مِنَ الْمُصَنِّفِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ.

183 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْأَمْرُ ثَلَاثَةٌ: أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَاتَّبِعْهُ، وَأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَاجْتَنِبْهُ، وَأَمْرٌ اخْتُلِفَ فِيهِ فَكِلْهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 183 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْأَمْرُ) : وَاحِدُ الْأُمُورِ أَيِ: الْحُكْمُ وَالشَّأْنُ وَالْحَالُ فِي الْأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ (" أَمْرٌ ") أَيْ: مِنْهَا أَمْرٌ أَوْ أَحَدُهُمَا أَمْرٌ (بَيِّنٌ رُشْدُهُ) أَيْ ظَاهِرٌ صَوَابُهُ كَأُصُولِ الْعِبَادَاتِ، مِثْلَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ (فَاتَّبِعْهُ، وَأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ) أَيْ ضَلَالَتُهُ، كَمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَعْيَادِهِمْ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَنْسَبُ بِحُسْنِ الْمُقَابَلَةِ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَوَّلِ كَأُصُولِ الْعَقَائِدِ

مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْقِيَامَةِ، وَفِي الثَّانِي كَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَا (فَاجْتَنِبْهُ) : أَيِ احْتَرِزْ عَنْهُ (وَأَمْرٌ اخْتُلِفَ فِيهِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَضُبِطَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ الضَّمَّةُ مَكْتُوبَةً أَوْ تُكْتَبَ بِالْحُمْرَةِ لِيَكُونَ فَرْقًا بَيْنَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَالْقَطْعِ، حَتَّى فِي الْمُصْحَفِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْقَارِعَةِ} [القارعة: 1] وَ {أَلْهَاكُمُ} [التكاثر: 1] ثُمَّ هَمْزَةُ " اخْتُلِفَ " مَضْمُومَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا سَقَطَتْ فِي الدَّرَجِ يَجُوزُ ضَمُّ التَّنْوِينِ وَكَسْرُهُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اشْتَبَهَ وَخَفِيَ حُكْمُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ، أَيْ: وَالْأَدِلَّةُ، وَقِيلَ: الْأَوْلَى أَنَّ يُفَسَّرَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا وَرَدَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ اهـ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ الشَّرْعُ مِثْلَ الْمُتَشَابِهَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حُكْمَهُ، كَتَعْيِينِ وَقْتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحُكْمِ أَطْفَالِ الْكَفَرَةِ (فَكِلْهُ) : أَمَرٌ مِنْ وَكَلَ يَكِلُ (إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) أَيْ: فَوِّضْ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَقُلْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 184 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّاذَّةَ وَالْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ وَإِيَاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 184 - (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ) : الذِّئْبُ مُسْتَعَارٌ لِلْمُفْسِدِ وَالْمُهْلِكِ وَهُوَ بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (كَذِئْبِ الْغَنَمِ) أَيْ: فِي الْعَدَاوَةِ وَالْإِهْلَاكِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] الْآيَةَ (يَأْخُذُ) أَيْ: ذِئْبَ الْغَنَمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ الذِّئْبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ كَمَثَلِ الْحِمَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهُ وَالْعَامِلُ مَعْنَى التَّشْبِيهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا قَالَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآيَةِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَدِيثِ فَالْإِطْلَاقُ أَوْلَى مِنَ التَّقْيِيدِ، وَالْمَعْنَى يَأْخُذُ غَالِبًا أَوْ بِالسُّهُولَةِ مِنْ غَيْرِ تَدَارُكٍ (الشَّاذَّةَ) : بِتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ: النَّافِرَةَ الَّتِي لَمْ تُؤْنَسْ بِأَخَوَاتِهَا، وَلَمْ تَخْتَلِطْ بِهِنَّ (وَالْقَاصِيَةَ) : الَّتِي قَصَدَتِ الْبُعْدَ عَنْهُنَّ لِأَجْلِ الْمَرْعَى مَثَلًا لَا لِلتَّنَفُّرِ (وَالنَّاحِيَةَ) : الَّتِي غُفِلَ عَنْهَا، وَبَقِيَتْ فِي جَانِبٍ مِنْهَا فَإِنَّ النَّاحِيَةَ هِيَ الَّتِي صَارَتْ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ عَنْ أَخَوَاتِهَا لِغَفْلَتِهَا. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ النَّاحِيَةَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ فِي بَابِ النُّونِ مَعَ الْجِيمِ: النَّجَاءُ السُّرْعَةُ، يُقَالُ: نَجَا يَنْجُو إِذَا أَسْرَعَ، وَنَجَا مِنَ الْأَمْرِ إِذَا خَلَصَ وَأَنْجَى غَيْرَهُ، وَمِنْهُ: إِنَّمَا يَأْخُذُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ وَالشَّاذَّةَ وَالنَّاجِيَةَ، أَيِ: السَّرِيعَةَ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْحَرْبِيِّ بِالْجِيمِ اهـ.

وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ الْحَاءُ، وَأَمَّا الْجِيمُ فَإِنَّمَا هُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَلِهَذَا أَطْبَقَتْ نُسَخُ الْمِشْكَاةِ عَلَى الْحَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ) : بِالْكَسْرِ وَالنَّصْبِ مِنَ الشِّعْبِ، وَهُوَ الْوَادِي مَا اجْتَمَعَ مِنْهُ طَرَفٌ وَتَفَرَّقَ طَرَفٌ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: شَعَّبْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَمَّعْتَهُ، وَشَعَّبْتُهُ إِذَا فَرَّقْتَهُ، وَالْمُرَادُ الْمُنْعَطَفَاتُ فِي الْأَوْدِيَةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ السِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالسُّرَّاقِ وَأَمَاكِنِ الْجِنِّ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّمْثِيلِ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكُمْ، وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: (وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ) : تَقْرِيرًا بَعْدَ تَقْرِيرٍ (وَالْعَامَّةٍ) أَيْ عَامَّةِ الْجَمَاعَةِ، يَعْنِي: عَلَيْكُمْ بِمُتَابَعَةِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَوْ عَلَيْكُمْ بِمُخَالَطَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِيَّاكُمْ وَمُفَارَقَتَهُمْ وَالْعُزْلَةَ عَنْهُمْ وَاخْتِيَارَ الْجِبَالِ وَالشِّعَابِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْعُمْرَانِ، وَهَذَا أَظْهَرُ لِلَفْظِ التَّمْثِيلِ وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

185 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 185 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا) أَيْ: وَلَوْ سَاعَةً، أَوْ وَلَوْ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْأَحْكَامِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: مُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ تَرْكُ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعُ الْبِدْعَةِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُفَارَقَةَ الْجَمَاعَةِ مُتَارَكَةُ إِجْمَاعِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَقَدْ خَلَعَ) أَيْ: نَزَعَ (رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: ذِمَّتَهُ (مِنْ عُنُقِهِ) : إِلَّا أَنْ يَحْمِلَ الْإِسْلَامُ عَلَى كَمَالِهِ، أَوِ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّخْوِيفِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْ هَذِهِ الْمُفَارَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ تُؤَدِّي إِلَى الْخَلْعِ الْحَقِيقِيِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّبْقَةُ: عُرْوَةٌ فِي حَبْلٍ تُجْعَلُ فِي عُنُقِ الْبَهِيمَةِ أَوْ يَدِهَا تَمْسِكُهَا، فَاسْتُعِيرَتْ لِانْقِيَادِ الرَّجُلِ وَاسْتِسْلَامِهِ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ وَخَلْعُهَا ارْتِدَادُهُ وَخُرُوجُهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

186 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُرْسَلًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ» ". رَوَاهُ فِي (الْمُوَطَّأِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 186 - (وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الْإِمَامُ مَالِكٌ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ (مُرْسَلًا) : اعْلَمْ أَنَّ الْمُرْسَلَ هُوَ أَنْ يَقُولَ التَّابِعِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ أَنَّ قَوْلَ مَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ أَيْضًا يُسَمَّى مُرْسَلًا، وَبِهِ ذَهَبَ الْخَطِيبُ، لَكِنْ قَالَ: إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُوصَفُ بِهِ رِوَايَةُ التَّابِعِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. فَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِهِ ; فَإِنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ) أَيْ: شَيْئَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَوْ حَكَمَيْنِ بِفَتْحِهِمَا (لَنْ تَضِلُّوا) ؟ أَيْ: لَنْ تَقَعُوا فِي الضَّلَالَةِ (مَا تَمَسَّكْتُمْ) أَيْ: مُدَّةَ تَمَسُّكِكُمْ (بِهَا) أَيْ: بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا (كِتَابَ اللَّهِ) : أَيِ: الْقُرْآنَ (وَسُنَّةَ رَسُولِهِ) أَيْ: حَدِيثَ رَسُولِهِ، وَهُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي. وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ بِتَقْدِيرِهِمَا، ثُمَّ فِي الْعُدُولِ عَنْ سُنَّتِي مُبَالَغَةٌ فِي زِيَادَةِ شَرَفِهِ وَالْحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِسُنَّتِهِ بِذِكْرِهِ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ خِلَافَتُهُ عَنِ اللَّهِ وَقِيَامُهُ بِرِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الرِّسَالَةِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.

(رَوَاهُ) أَيْ: مَالِكٌ وَفِيهِ أَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ مَالِكٍ فِي (الْمُوَطَّأِ) : فَكَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ التَّابِعِيَّ مَكَانَ مَالِكٍ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْآخِرِ: رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا لِأَنَّهُ مِنَ الْمُخْرِجِينَ، أَوْ يَقُولُ: كَذَا فِي الْمُوَطَّأِ مَعَ أَنَّهُ يَبْقَى مُنَاقَشَةٌ أُخْرَى فِي قَوْلِهِ: " عَنْ " فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى رَاوٍ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، ثُمَّ الْمُوَطَّأُ بِالْهَمْزِ، وَقِيلَ بِالْأَلْفِ كِتَابٌ مَشْهُورٍ مُصَنَّفٌ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ، قَرَأَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي حَقِّهِ: هُوَ أَصَحُّ الْكُتُبِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ، لَكِنَّ هَذَا قَبْلَ وُجُودِ الصَّحِيحَيْنِ وَإِلَّا فَصَحِيحُ الْبُخَارِيِّ هُوَ الْأَصَحُّ مُطْلَقًا عَلَى الْأَصَحِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

187 - وَعَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ الثُّمَالِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِثْلُهَا مِنَ السُّنَّةِ ; فَتَمَسُّكٌ بِسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 187 - (وَعَنْ غُضَيْفٍ) : بِالْمُعْجَمَتَيْنِ مُصَغَّرًا، وَقِيلَ بِالظَّاءِ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ غُضَيْفٍ فَأَثْبَتَ صُحْبَتَهُ، وَغُضَيْفٌ تَابِعِيٌّ وَهُوَ أَشْبَهُ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: يُكَنَّى أَبَا أَسْمَاءَ، شَامِيٌّ، أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ وَقَالَ: وُلِدْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْتُهُ وَصَافَحَنِي، وَسَمِعَ عُمَرَ، وَأَبَا ذَرٍّ، وَعَائِشَةَ، وَرَوَى عَنْهُ مَكْحُولٌ وَسُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ (ابْنِ الْحَارِثِ الثُّمَالِيِّ) : بِضَمِّ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ نِسْبَةً إِلَى ثُمَالَةَ بَطْنٌ مِنَ الْأَزْدِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أَحْدَثَ) أَيْ: أَبْدَعَ وَجَدَّدَ (قَوْمٌ بِدْعَةً) أَيْ: مُزَاحِمَةً لِسُنَّةٍ (إِلَّا رُفِعَ مِثْلُهَا) أَيْ: مِقْدَارُهَا فِي الْكَمِّيَّةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ (مِنَ السُّنَّةِ) وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سُمِّيَ الضِّدُّ مِثْلًا لِأَنَّهُ أَقْرَبُ خُطُورًا بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَأَسْرَعُ ثُبُوتًا عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا تَنَاسُبٌ مَا (فَتَمَسُّكٌ) : جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِذَا عَزَمْتَ ذَلِكَ فَتَمَسُّكٌ (بِسُنَّةٍ) أَيْ: صَغِيرَةٍ أَوْ قَلِيلَةٍ كَإِحْيَاءِ آدَابِ الْخَلَاءِ مَثَلًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيُّ: أَيْ سُنَّةٍ قَذِرَةٍ، فَلَغْزَةُ قَلَمٍ وَزَلَّةُ قَدَمٍ مِمَّا يَنْفُرُ عَنْهُ الطَّبْعُ وَيَمُجُّهُ السَّمْعُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَوْلَا اشْتِهَارُ عِلْمِ الرَّجُلِ وَتَحْقِيقِهِ وَحُسْنِ حَالِهِ وَطَرِيقِهِ لَقُضِيَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، كَيْفَ؟ ! وَأَصْحَابُنَا مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ مَنِ اسْتَقْذَرَ شَيْئًا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَفَرَ وَالسُّنَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِ فَوَصْفُهَا بِالْقَذَارَةِ يُوقِعُ فِي تِلْكَ الْوَرْطَةِ لَوْلَا إِمْكَانُ تَأْوِيلِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْهَا بِالْقَذَارَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا سُنَّةً، بَلْ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ فِعْلِهَا بِمُسْتَقْذَرٍ، وَهَذَا بِفَرْضِ قَبُولِهِ إِنَّمَا يَمْنَعُ الْكُفْرَ فَحَسْبُ لَا الشَّنَاعَةَ وَالْقُبْحَ وَسُوءَ الْأَدَبِ! (خَيْرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ) أَيْ: أَفْضَلُ مِنْ حَسَنَةٍ عَظِيمَةٍ كَبِنَاءِ رِبَاطٍ وَمَدْرَسَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَعَلَى حَدِّ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ، فَالتَّقْدِيرُ حِينَئِذٍ التَّمَسُّكُ بِسُنَّةٍ فِيهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ، وَبِبِدْعَةٍ لَا خَيْرَ فِيهِ

أَصْلًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَمَا مَثَّلَهُ الطِّيبِيُّ أَوَّلًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْبِدْعَةَ الْحَسَنَةَ مُلْحَقَةٌ بِالسُّنَنِ الْمَنْصُوصَةِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ تُؤْلَفْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ سُمِّيَتْ بِدْعَةً، وَأَمَا ثَانِيًا فَنَحْوُ الْمَدْرَسَةِ نَفْعُهَا عَامٌّ دَائِمٌ وَثَوَابُهَا مُتَضَاعِفٌ بَاقٍ بِبَقَائِهَا، فَكَيْفَ يُفَضَّلُ عَلَيْهَا مَا نَفْعُهُ قَاصِرٌ وَثَوَابُهُ مُنْقَطِعٌ بِانْقِضَاءِ فِعْلِهِ هَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُبَالَغَةُ فِي مُتَابَعَتِهِ، وَأَنَّ سُنَّتَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا سُنَّةٌ أَفْضَلُ مِنْ بِدْعَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَحْسَنَةً مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهَا مُتَعَدِّيَةً أَوْ قَاصِرَةً أَوْ دَائِمَةً أَوْ مُنْقَطِعَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَ سُنَّةٍ أَيِّ سُنَّةٍ تَكَاسُلًا يُوجِبُ اللَّوْمَ وَالْعِتَابَ وَتَرْكُهَا اسْتِخْفَافًا يُثْبِتُ الْعِصْيَانَ وَالْعِقَابَ وَإِنْكَارُهَا يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مُبْتَدِعًا بِلَا ارْتِيَابٍ، وَالْبِدْعَةُ وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَحْسَنَةٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا جَعْلُ خَيْرٍ بِغَيْرِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ فَبَعِيدٌ، بَلْ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ تَامَّةٌ وَلَا مُبَالَغَةٌ كَامِلَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) ، قَالَ مَيْرَكُ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.

188 - وَعَنْ حَسَّانَ، قَالَ: مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَا يُعِيدُهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 188 - (وَعَنْ حَسَّانَ) : غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَلَى أَنَّهُ فَعْلَانُ، وَقَدْ يَنْصَرِفُ عَلَى أَنَّهُ فَعَّالٌ، وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ شَاعِرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَنَّى أَبَا الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، وَهُوَ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَجْمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أَشْعَرَ أَهْلِ الْمَدَرِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، رَوَى عَنْهُ عُمَرُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، وَمَاتَ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: سَنَةُ خَمْسِينَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، عَاشَ مِنْهَا سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ (قَالَ) أَيْ: حَسَّانُ (مَا ابْتَدَعَ قُوْمٌ بِدْعَةً) أَيْ سَيِّئَةً مُزَاحِمَةً لِسُنَّةٍ (فِي دِينِهِمْ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا) أَيْ فِي الْعَدَدِ وَالْقَدْرِ، أَوْ مِنْ شَآمَةِ ارْتِكَابِ الْبِدْعَةِ يُحْرَمُونَ مِنْ بَرَكَاتِ السُّنَّةِ (ثُمَّ لَا يُعِيدُهَا) : أَيِ اللَّهُ تِلْكَ الْحَسَنَةَ (إِلَيْهِمْ) أَيْ إِلَى ذَلِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى ابْتِدَاعِ السَّيِّئَةِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ مُتَأَصِّلَةً مُسْتَقِرَّةً فِي مَكَانِهَا، فَلَمَّا أُزِيلَتْ عَنْهُ لَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا كَمَا كَانَتْ أَبَدًا فَمَثَلُهَا كَمَثَلِ شَجَرَةٍ ضَرَبَتْ عُرُوقَهَا فِي تُخُومِ الْأَرْضِ، فَإِذَا قُلِعَتْ لَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا كَمَا كَانَتْ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . أَيْ: مَوْقُوفًا، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إِخْبَارٍ بِغَيْبٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ. . إِلَى. . . إِلَخْ. فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.

189 - وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ، فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 189 - (وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ) : بِفَتْحِ السِّينِ الطَّائِفِيِّ، يُعَدُّ فِي التَّابِعِينَ، ثِقَةٌ صَحِيحُ الْحَدِيثِ، حَدِيثُهُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ وَقَّرَ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: عَظَّمَ أَوْ نَصَرَ (صَاحِبَ بِدْعَةٍ) : سَوَاءٌ كَانَ دَاعِيًا لَهَا أَمْ لَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَأَنْ قَامَ وَصَدَّرَهُ فِي مَجْلِسٍ أَوْ خَدَمَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُلْجِئُهُ إِلَى ذَلِكَ (فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ) أَيْ: إِسْلَامِهِ أَوْ كَمَالِ إِسْلَامِهِ أَوْ عَلَى هَدْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ السُّنَّةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ، فَإِذَا كَانَ حَالُ الْمُوَقِّرِ كَذَا، فَمَا حَالُ الْمُبْتَدِعِ؟ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ سُنَّةٍ كَانَ الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ، وَكَذَا مَنْ أَهَانَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ يُخَالِفُ حُكْمَهُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مُرْسَلًا) . لِإِسْقَاطِ الصَّحَابِيِّ مِنَ السَّنَدِ.

190 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ كِتَابَ اللَّهِ ثُمَّ اتَّبَعَ مَا فِيهِ ; هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ فِي الدُّنْيَا، وَوَقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوءَ الْحِسَابِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: مَنِ اقْتَدَى بِكِتَابِ اللَّهِ لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 190 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ) أَيْ مَوْقُوفًا (مَنْ تَعَلَّمَ كِتَابَ اللَّهِ) : نَظَرًا أَوْ حِفْظًا أَوْ عِلْمًا بِمَعْنَاهُ (ثُمَّ اتَّبَعَ مَا فِيهِ) : مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ (هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ) : ضَمَّنَ هَدَى مَعْنَى آمَنَ، فَعَدَّاهُ بِمَنْ أَيْ آمَنَهُ اللَّهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ ثَبَّتَهُ اللَّهُ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَوَقَاهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالَةِ مَا دَامَ يَعِيشُ (فِي الدُّنْيَا، وَوَقَاهُ) أَيْ: حَفِظَهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوءَ الْحِسَابِ) أَيْ: مُنَاقَشَتَهُ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى السُّوءِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ نُوقِشَ فِي الْحِسَابِ عُذِّبَ» " قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ مَنُوطَةٌ بِمُتَابَعَةِ كِتَابِ اللَّهِ اهـ. وَمُتَابَعَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ سُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُتَابَعَتِهِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ شَرْعًا لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ. (وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ:) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (مَنِ اقْتَدَى بِكِتَابِ اللَّهِ) أَيْ: فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا (لَا يَضِلُّ) أَيْ: لَا يَقَعُ فِي الضَّلَالَةِ (فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى) أَيْ: لَا يَتْعَبُ وَلَا يُعَذَّبُ (فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ) اسْتِشْهَادًا لِمَا قَالَهُ {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} [طه: 123] أَيْ مَا يُهْدَى بِهِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ مُبَالَغَةً، وَهُوَ الْقُرْآنُ بِقَرِينَةِ الْإِضَافَةِ أَيِ: الْهِدَايَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِي الْمَنْسُوبَةُ إِلَيَّ، وَفِي مَعْنَاهَا الْهِدَايَةُ النَّبَوِيَّةُ وَالسُّنَّةُ الْمُصْطَفَوِيَّةُ، وَلِذَا قَالَ فِي الْمَعَالِمِ أَيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ {فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] : ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفْيَ الضَّلَالَةِ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْيَ التَّعَبِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَّرِيُّ: مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَهُوَ مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لَا يَضِلُّ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعِدَّ التَّعَبَ الدُّنْيَوِيَّ مَعَ النَّعِيمِ الْأُخْرَوِيِّ تَعَبًا أَوْ لِانْشِرَاحِ صَدْرِهِ وَاطْمِئْنَانِ قَلْبِهِ وَتَسْلِيمِهِ تَحْتَ الْقَضَاءِ مَعَ الرِّضَا ارْتَفَعَ التَّعَبُ كُلُّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

191 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرَخَاةٌ، وَعِنْدَ رَأْسِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: اسْتَقِيمُوا عَلَى الصِّرَاطِ وَلَا تَعْوَجُّوا، وَفَوْقَ ذَلِكَ دَاعٍ يَدْعُو، كُلَّمَا هَمَّ عَبْدٌ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ! لَا تَفْتَحْهُ ; فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ ". ثُمَّ فَسَّرَهُ فَأَخْبَرَ: " أَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُفَتَّحَةَ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَأَنَّ السُّتُورَ الْمُرَخَاةَ حُدُودُ اللَّهِ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ مِنْ فَوْقِهِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 191 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) أَيْ: بَيَّنَ مَثَلًا (صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) : بَدَلٌ مِنْ مَثَلًا عَلَى إِهْدَامِ الْمُبْدَلِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: زِيدٌ رَأَيْتُ غُلَامَهُ رَجُلًا صَالِحًا (وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ) : بِفَتْحِ النُّونِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقَلَهُ مَيْرَكُ أَيْ: عَنْ طَرَفَيْهِ وَجَانِبَيْهِ يَعْنِي يَمِينَهُ وَيَسَارَهُ (سُورَانِ) : وَالْجُمْلَةُ حَالٌ عَنْ صِرَاطًا (فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ) : الْجُمْلَةُ صِفَةُ سُورَانِ أَيْ: جِدَارَانِ فَاصِلَانِ بَيْنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَطَرَفَيْهِ الْخَارِجَيْنِ عَنِ الصِّرَاطِ الْقَوِيمِ، الْمُشَبَّهَيْنِ بِسُورِ الْبَلَدِ مِنْ جَنَبَتَيْهِ، أَحَدُ جَانِبَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَالْآخَرُ مِنَ الْعَدُوِّ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ) : جَمْعُ السِّتْرِ بِالْكَسْرِ (مُرَخَاةٌ) أَيْ: مُرْسَلَةٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْأَبْوَابِ فِي " مُفَتَّحَةٌ "، وَوَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى صَاحِبِهَا لِإِفَادَةِ التَّفْخِيمِ (وَعِنْدَ رَأْسِ الصِّرَاطِ) أَيْ: عَلَيْهِ (دَاعٍ) : عَطُوفٌ عَلَى وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ (يَقُولُ) : أَيِ الدَّاعِي (اسْتَقِيمُوا) : أَيِ اسْتَوُوا (عَلَى الصِّرَاطِ وَلَا تَعْوَجُّوا) : بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنَ الِاعْوِجَاجِ، كَذَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ وَغَيْرِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: لَا تَمِيلُوا إِلَى الْأَطْرَافِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطَفَ عَلَى " اسْتَقِيمُوا " عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، لِأَنَّ مَفْهُومَ كُلٍّ مِنْهُمَا يُقَرِّرُ مَنْطُوقَ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ (وَفَوْقَ ذَلِكَ) : عَطْفٌ عَلَى: وَعِنْدَ رَأْسِ الصِّرَاطِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الصِّرَاطُ أَوِ الدَّاعِي (دَاعٍ يَدْعُو، كُلَّمَا هَمَّ عَبْدٌ) أَيْ: قَصَدَ وَأَرَادَ (أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا) أَيْ: قَدْرًا يَسِيرًا (مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ) أَيْ: سُتُورِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: كُلَّمَا ظَرْفٌ يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ وَهُوَ: قَالَ اهـ. وَالضَّمِيرُ فِي (قَالَ) : رَاجِعٌ إِلَى الدَّاعِي (وَيْحَكَ) : زَجْرٌ لَهُ عَنْ تِلْكَ الْهِمَّةِ، وَهِيَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَتَوَجُّعٍ تُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، يَعْنِي ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِمُجَرَّدِ الزَّجْرِ عَمَّا هَمَّ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ (لَا تَفْتَحْهُ) أَيْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ أَيْ سُتُورِهَا. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَبْوَابَ مَرْدُودَةٌ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ سَابِقًا " أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ ": غَيْرُ مُغْلَقَةٍ اهـ. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ (فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ) أَيْ: تَدْخُلْهُ يَعْنِي: لَا تَقْدِرُ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَكَ وَتُمْسِكَهَا عَنِ الدُّخُولِ بَعْدَ الْفَتْحِ. (ثُمَّ فَسَّرَهُ) أَيْ: أَرَادَ تَفْسِيرَهُ (فَأَخْبَرَ: أَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ الْإِسْلَامُ) : وَهُوَ طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْعَبْدِ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ (وَأَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُفَتَّحَةَ مَحَارِمُ اللَّهِ) : فَإِنَّهَا أَبْوَابٌ لِلْخُرُوجِ عَنْ كَمَالِ الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالدُّخُولِ فِي الْعَذَابِ وَالْمَلَامَةِ (وَأَنَّ السُّتُورَ الْمُرَخَاةَ حُدُودُ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَحَارِمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] اهـ. وَالظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السُّتُورِ الْأُمُورُ الْمَسْتُورَةُ غَيْرُ الْمُبَيَّنَةِ مِنَ الدِّينِ الْمُسَمَّاةُ بِالشُّبْهَةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِ " حَوْلَ الْحِمَى " فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ. (وَأَنَّ الدَّاعِيَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَالدَّاعِي بِالرَّفْعِ (عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ مِنْ فَوْقِهِ) أَيْ: فَوْقِ الصِّرَاطِ أَوْ مِنْ فَوْقِ الدَّاعِي الْأَوَّلِ (هُوَ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ لَمَّةُ الْمَلَكِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَاللَّمَّةُ الْأُخْرَى هِيَ لَمَّةُ الشَّيْطَانِ اهـ. أَيِ: الَّتِي أَثَرُهَا الْهَمُّ، وَكَانَ الْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ: وَالْهَمُّ لَمَّةُ الشَّيْطَانِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) . أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ) .

192 - وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَخْصَرَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 192 - (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ النَّوَّاسِ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ (ابْنِ سِمْعَانَ) : بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا، وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، كِلَابِيٌّ سَكَنَ الشَّامَ، وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْهُمْ، رَوَى عَنْهُ جُبَيْرُ بْنُ نَفِيرٍ، وَأَبُو دَاوُدَ الْخَوْلَانِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ. (وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ) أَيْ: رَوَى عَنِ النَّوَّاسِ (إِلَّا أَنَّهُ) : أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (ذَكَرَ أَخْصَرَ مِنْهُ) . أَيْ: مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ أَخْصَرَ مِمَّا ذَكَرَ غَيْرُهُ.

193 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا ; فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَبَرَّهَا قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 193 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: مُقْتَدِيًا بِسُنَّةِ أَحَدٍ وَطَرِيقَتِهِ (فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ) أَيْ: عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَعَلِمَ حَالَهُ وَكَمَالَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقَامَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَتَحَرِّي طَرِيقِ الصَّوَابِ بِنَفْسِهِ بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَلْيَقْتَدِ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ نُجُومُ الْهُدَى وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُوصِي الْقُرُونَ الْآتِيَةَ بَعْدَ قُرُونِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِاقْتِفَاءِ أَثَرِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِسِيَرِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُوصِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِالصَّحَابَةِ، لَكِنْ خَصَّ أَمْوَاتَهُمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ اسْتِقَامَتَهُمْ عَلَى الدِّينِ وَاسْتِدَامَتَهُمْ عَلَى الْيَقِينِ بِخِلَافِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَيًّا فَإِنَّهُ يُمْكِنُ مِنْهُمُ الِافْتِتَانُ وَوُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ وَالطُّغْيَانِ، بَلِ الرِّدَّةُ وَالْكُفْرَانُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ، وَهَذَا تَوَاضُعٌ مِنْهُ فِي حَقِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِكَمَالِ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمَّا رَأَى مِنَ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ وَوُقُوعِ الْهَالِكِينَ فِيهَا وَإِلَّا فَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْجَنَّةِ وَقَالَ: " «رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رُضِيَ لَهُمْ» " وَأَنَّهُ أَفْقَهُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلِذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ تَشَهُّدَهُ عَلَى تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفِتْنَةُ كَالْبَلَاءِ يُسْتَعْمَلَانِ فِيمَا يُدَافَعُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ اهـ. وَهُمَا فِي الشِّدَّةِ أَظْهَرُ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا قَدْ أَمِنُوا مِنَ الْفِتْنَةِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ مَاتَ، أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي " مَاتَ " نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ. وَقَالَ: (أُولَئِكَ) نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآمَنَ بِهِ وَمَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَمَّا مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي خَطَرٍ مِنَ الرِّدَّةِ، سَوَاءٌ آمَنَ بَعْدَهَا أَوْ لَا، فَإِنَّ بِالرِّدَّةِ تَبْطُلُ الصُّحْبَةُ فِي مَذْهَبِنَا (كَانُوا أَفَضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ) أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فَكَانُوا أَفْضَلَ الْأُمَمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ اهـ. أَوْ يُقَالُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَوْجُودِينَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْأَفْضَلِيَّةُ عَلَى سَائِرِ الْقُرُونِ لِحَدِيثِ: " «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» " الْحَدِيثَ. (أَبِرَّهَا قُلُوبًا) أَيْ: أَطْوَعَهَا وَأَحْسَنَهَا وَأَخْلَصَهَا وَأَعْلَمَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا إِيمَانًا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177] الْآيَةَ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] أَيْ ضَرَبَهَا بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ وَالتَّكْلِيفَاتِ الصَّعْبَةِ وَالشَّدَائِدِ الَّتِي لَا تُطَاقُ لِأَجْلِ أَنْ يَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهَا مِنَ التَّقْوَى، إِذْ لَا تَظْهَرُ حَقِيقَتُهَا إِلَّا عِنْدَ ذَلِكَ فَوَجَدَهَا مَعَ ذَلِكَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِانْقِيَادِ وَالرِّضَا أَوْ أَخْلَصَهَا لِلتَّقْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ: امْتَحَنْتُ الذَّهَبَ وَفَتَنْتُهُ إِذَا أَذَبْتَهُ بِالنَّارِ حَتَّى خَرَجَ خَالِصًا نَقِيًّا، أَوْ أَذْهَبَ الشَّهَوَاتِ وَالْحُظُوظَ الدُّنْيَوِيَّةَ عَنْهَا كَمَا قَالَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا) أَيْ: أَكْثَرَهَا غَوْرًا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَأَدَقَّهَا فَهْمًا وَأَوْفَرَهَا حَظًّا مِنَ

الْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْفَرَائِضِ وَالتَّصَوُّفِ لِسَعَةِ صُدُورِهِمْ وَشَرْحِ قُلُوبِهِمْ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُمَّةً جَامِعًا لِلشَّمَائِلِ السَّنِيَّةِ وَالْفَضَائِلِ الْبَهِيَّةِ لَا تُوجَدُ غَالِبًا إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَقَدِ افْتَرَقُوا فَبَعْضُهُمْ صَارَ مُفَسِّرًا وَبَعْضُهُمْ مُحَدِّثًا وَغَيْرُ ذَلِكَ لِعَدَمِ تِلْكَ الْقَابِلِيَّةِ الْعُظْمَى وَالِاسْتِعْدَادَاتِ الْكَامِلَةِ الْعُلْيَا، وَلِذَا اعْتَرَضَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ عَلَى الْعَلَّامَةِ التَّفْتَازَانِيِّ فِي قَوْلِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] أَنَّ الْجَوَابَ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُدْرِكُونَ تَحْقِيقَ مَاهِيَّةِ الْأَهِلَّةِ، وَلِذَا عَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] مَعَ أَنَّ السَّائِلَ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الَّذِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّهِ: " هُوَ أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ". (وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا) أَيْ: فِي الْعَمَلِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ حُفَاةً، وَيُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُونَ مِنْ كُلِّ آنِيَةٍ، وَيَشْرَبُونَ مِنْ سُؤْرِ النَّاسِ، وَكَذَا فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِمْ، وَيَقُولُونَ فِيمَا لَا يَدْرُونَ: لَا نَدْرِي، وَكَانُوا يَتَدَافَعُونَ الْفَتْوَى عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيُشِيرُونَ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، وَكَذَا فِي الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتْلُونَ الْقُرْآنَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ عَلَى لُحُونِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ النَّغَمَاتِ وَالتَّمْطِيطَاتِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا فِي الْأَحْوَالِ الْبَاطِنِيَّةِ فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرْقُصُونَ وَلَا يَصِيحُونَ وَلَا يُطِيحُونَ وَلَا يَطْرُقُونَ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ لِلْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ، وَلَا يَتَحَلَّقُونَ لِلْأَذْكَارِ وَالصَّلَوَاتِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي بُيُوتِهِمْ، بَلْ كَانُوا فَرْشِيِّينَ بِأَبْدَانِهِمْ، عَرْشِيِّينَ بِأَرْوَاحِهِمْ، كَائِنِينَ مَعَ الْخَلْقِ فِي الظَّاهِرِ، بَائِنِينَ عَنِ الْخَلْقِ مَعَ الْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ، وَكَانُوا يَلْبَسُونَ مَا تَيَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الصُّوفِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، غَيْرَ مُتَقَيِّدِينَ بِالْأَوْصَافِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْمُرَقَّعَاتِ الْمُنْتَقَشَةِ، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ مَا تَهَيَّأَ لَهُمْ مِنَ الْحَلَالَاتِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ، غَيْرَ مُحْتَرِزِينَ مِنَ اللَّحْمِ أَوِ اللَّبَنِ أَوِ الْفَوَاكِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذَا بِتَرْبِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُرَبِّي الْكَامِلِ الْمُكَمَّلِ الَّذِي قَالَ: " «أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي» " كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: (اخْتَارَهُمُ اللَّهُ) أَيْ: مِنْ بَيْنِ الْخَلَائِقِ (لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ) : الَّذِي كَانَ كَالْإِكْسِيرِ فِي كَمَالِ التَّأْثِيرِ (وَلِإِقَامَةِ دِينِهِ) : فَإِنَّهُمْ نَقَلَةُ أَقْوَالِهِ وَحَمَلَةُ أَحْوَالِهِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَيْضًا جَاهَدُوا حَقَّ الْجِهَادِ حَتَّى فَتَحُوا الْبِلَادَ وَأَظْهَرُوا الدِّينَ لِلْعِبَادِ، مَعَ اشْتِغَالِهِمْ بِأَحْوَالِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، جَزَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ فِي يَوْمِ التَّنَادِ (فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ) أَيْ: عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ، أَيْ زِيَادَةَ قَدْرِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْغَزْوِ وَالْإِنْفَاقِ وَمَزِيَّةِ الثَّوَابِ وَغَيْرِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] (وَاتَّبِعُوهُمْ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ أَيْ: كُونُوا مُتَّبِعِينَ لَهُمْ حَالَ كَوْنِكُمْ مَاشِينَ (عَلَى أَثَرِهِمْ) : بِفَتْحِهِمَا وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: عَقِبَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَإِنَّهُمُ اتَّبَعُوا أَثَرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا شَاهَدُوا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» " (وَتَمَسَّكُوا) أَيْ: خُذُوا وَاعْمَلُوا (بِمَا اسْتَطَعْتُمْ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَجْزِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ الْكَامِلَةِ، لَكِنْ مَا لَا يُدْرَكُ

كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ وَالْمَحَبَّةُ عَلَى قَدْرِ الْمُتَابَعَةِ كَمَا أَنَّ الْمُتَابَعَةَ عَلَى قَدْرِ الْمَحَبَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] (مِنْ أَخْلَاقِهِمْ) : الْحَمِيدَةِ (وَسِيَرِهِمُ) : السَّعِيدَةِ (فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ) : لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَتْبَاعَ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ فِي الدِّينِ الْقَوِيمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: " فَاعْرِفُوا لَهُمْ " قَدْ أَجْمَلَ هَاهُنَا ثُمَّ فَصَّلَ بِقَوْلِهِ: فَضْلَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِرْفَانِ مَا يُلَازِمُهُ مِنْ مُتَابَعَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: " وَاتَّبِعُوهُمْ " عَطْفٌ عَلَى اعْرِفُوا عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، وَقَوْلُهُ: " عَلَى أَثَرِهِمْ " حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ مِنْ فَاعِلِ " اتَّبِعُوا " نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَفْعُولِ اهـ. وَخَطَرَ بِالْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ أَنَّ هَذَا مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهَادَةٌ عَلَى حَقِّيَّةِ الْأَصْحَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ رَدًّا عَلَى الرَّافِضَةِ وَالْمُلْحِدِينَ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

194 - وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنُسْخَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَسَكَتَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَغَيَّرُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ! مَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لَاتَّبَعَنِي» رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 194 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنُسْخَةٍ) : بِضَمِّ النُّونِ أَيْ: بِشَيْءٍ نُسِخَ وَنُقِلَ (مِنَ التَّوْرَاةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ) أَيْ: فَهَلْ تَأْذَنُ لَنَا أَنْ نُطَالِعَ فِيهَا لِنَطَّلِعَ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَشَرَائِعِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (فَسَكَتَ) : مِنْ كَمَالِ حِلْمِهِ وَغَايَةِ لِينِهِ وَرَحْمَتِهِ (فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ عُمَرُ (يَقْرَأُ) : تِلْكَ النُّسْخَةَ ظَنًّا أَنَّ السُّكُوتَ عَلَامَةُ الرِّضَا وَالْإِذْنِ (وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَغَيَّرُ) : مِنْ أَثَرِ الْغَضَبِ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعُمَرَ: ثَكِلَتْكَ) : بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ فَقَدَتْكَ (الثَّوَاكِلُ) أَيْ: مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَأَصْلُهُ دُعَاءٌ لِلْمَوْتِ، لَكِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُهُ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ غَيْرَ قَاصِدِينَ بِهِ حَقِيقَةَ ذَلِكَ كَتَرِبَتْ يَمِينُهُ وَرَغِمَ أَنْفُهُ (مَا تَرَى) : مَا: نَافِيَةٌ بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ (مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ !) " مَا " هَذِهِ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ (فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : فَعَرِفَ آثَارَ الْغَضَبِ فِيهِ (فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ) : غَضَبُ اللَّهِ تَوْطِئَةٌ لِذِكْرِ غَضَبِ رَسُولِهِ إِيذَانًا بِأَنَّ غَضَبَهُ غَضَبُهُ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَوَّذُ مَنْ غَضِبِ رَسُولِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِغَضَبِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا) : قَالَهُ اعْتِذَارًا عَمَّا صَدَرَ عَنْهُ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ إِرْشَادًا لِلسَّامِعِينَ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى أَنِّي مَعَ الْحَاضِرِينَ فِي مَقَامِ الرِّضَا طَلَبًا لِلرِّضَا وَاجْتِنَابًا عَنِ الْغَضَبِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) أَيْ: بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ

(لَوْ بَدَا) : بِالْأَلِفِ دُونَ الْهَمْزَةِ، أَيْ: ظَهَرَ (لَكُمْ مُوسَى) : عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ (فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي) : لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ فِي اتِّبَاعٍ يُؤَدِّي إِلَى التَّرْكِ (لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) : فَكَيْفَ مَعَ وُجُودِي وَعَدَمِ ظُهُورِ مُوسَى تَتَّبِعُونَ كِتَابَهُ الْمَنْسُوخَ وَتَتْرُكُونَ الْأَخْذَ مِنِّي (وَلَوْ كَانَ) أَيْ: مُوسَى كَمَا فِي نُسْخَةٍ (حَيًّا) أَيْ: فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ (وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي) أَيْ: زَمَانَهَا (لَاتَّبَعَنِي) : لِأَنَّ دِينَهُ صَارَ مَنْسُوخًا فِي زَمَانِي، وَلِأَخْذِ الْمِيثَاقِ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] الْآيَةَ. قِيلَ: رَسُولٌ عَامٌّ فَالتَّنْوِينُ لِلتَّنْكِيرِ، وَقِيلَ: خَاصٌّ وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ نَهْيٌ بَلِيغٌ عَنِ الْعُدُولِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى غَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

195 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَامِي لَا يَنْسَخُ كَلَامَ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ كَلَامِي وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضًا» " ـــــــــــــــــــــــــــــ 195 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «كَلَامِي لَا يَنْسَخُ كَلَامَ اللَّهِ» ) : النَّسْخُ لُغَةً التَّبْدِيلُ وَشَرْعًا بَيَانٌ لِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُطْلَقِ، ثُمَّ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَمِنْهُ نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» " وَأُجِيبَ: بِأَنَّ النَّاسِخَ إِنَّمَا هُوَ آيَةُ الْمِيرَاثِ وَفِيهِ بَحْثٌ إِذِ الْكَلَامُ فِي الْوَصِيَّةِ لَا فِي مِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» " (وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ كَلَامِي) : وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَوَازِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمِثَالُهُ نَسْخُ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ خِلَافٌ لِلْأُصُولِيِّينَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ كُلٍّ بِالْآخَرِ لِاسْتِوَائِهِمَا مِنْ حَيْثُ ظَنِّيَّةِ الدَّلَالَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَلَا يَرِدُّ عَلَيْهِمْ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِتَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ حُسْنِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ بِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْسَخُ لَفْظُهُ (وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضًا) : وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ كَآيَاتِ الْمُسَالَمَةِ بِآيَاتِ الْقِتَالِ، وَالْمَنْسُوخُ أَنْوَاعٌ. مِنْهَا: التِّلَاوَةُ وَالْحُكْمُ مَعًا وَهُوَ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِنْسَاءِ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَمِنْهَا: الْحُكْمُ دُونَ التِّلَاوَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] وَمِنْهَا التِّلَاوَةُ دُونَ الْحُكْمِ كَآيَةِ الرَّجْمِ وَهِيَ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "، وَبَقِيَ فِي الْحَدِيثِ قِسْمٌ رَابِعٌ وَهُوَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، وَجَوَازُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِثَالُهُ: " «كُنْتُ

نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» " فَاجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي وَهُوَ قَوْلُهُ.

196 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَحَادِيثَنَا يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَنَسْخِ الْقُرْآنِ» " ـــــــــــــــــــــــــــــ 196 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَحَادِيثَنَا) أَيْ: بِشَرْطِ صِحَّتِهَا (يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا) أَيْ: بِشَرْطِ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ (كَنَسْخِ الْقُرْآنِ) أَيْ: كَمَا نَسَخَ بَعْضُ آيَاتِهِ بَعْضًا، وَالتَّشْبِيهُ فِي مُجَرَّدِ النَّسْخِ لَا فِي أَنْوَاعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

197 - وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» " رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 197 - (وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ) : مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَاسْمُهُ جُرْثُومُ بْنُ نَاشِرٍ (الْخُشَنِيِّ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ الْأَوْلَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، بَطْنٌ مِنْ قُضَاعَةَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كَذَا فِي التَّهْذِيبِ، وَأَرْسَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى قَوْمِهِ فَأَسْلَمُوا، وَنَزَلَ بِالشَّامِ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، وَمَرْوِيَّاتُهُ أَرْبَعُونَ حَدِيثًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ) : بِالْهَمْزِ جَمْعُ فَرِيضَةٍ بِمَعْنَى مَفْرُوضَةٍ وَالتَّاءُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ، وَهِيَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهِ الثَّوَابُ وَعَلَى تَرْكِهِ الْعِقَابُ مِنَ الْعِبَادَاتِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْفَرْضُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ مَعَالِمَ وَحُدُودًا، وَاصْطِلَاحًا: هُوَ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ شَرْعًا وَيُذَمُّ تَارِكُهُ قَصْدًا مُطْلَقًا وَيُرَادِفُهُ الْوَاجِبُ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَالْوَاجِبُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، كَذَا فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ، وَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا فَرْضٌ عَمَلِيٌّ أَيْضًا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ الْعِقَابُ، لَكِنْ دُونَ عِقَابِ الْفَرْضِ، وَالْمَقَامُ يُنَاسِبُ الْمَعْنَى الْأَعَمَّ، أَيْ: أَوْجَبَ أَحْكَامَهَا مَقَدَّرَةً مَقْطُوعَةً كَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَكَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، سَوَاءٌ يَكُونُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ أَوِ الْعَيْنِيَّةِ، وَسَوَاءٌ أَوْجَبَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ (فَلَا تُضَيِّعُوهَا) : بِتَرْكِهَا رَأْسًا أَوْ بِتَرْكِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا أَوْ بِالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ أَوْ بِالْعَجَبِ وَالْغُرُورِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَعِنْدَ الْعَارِفِينَ هِيَ الْمَعْرِفَةُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ الْخَلْقِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَقُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أَيْ: لِيَعْرِفُونِ وَلَا تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ غَالِبًا إِلَّا بِالْمُجَاهَدَةِ وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ عَنْ ظُلْمَةِ أَخْلَاقِهَا وَتَخْلِيَتِهَا عَنْ أَوْصَافِ الرَّذَائِلِ وَتَحْلِيَتِهَا بِأَنْوَارِ الْفَضَائِلِ كَالتَّوْبَةِ وَالتَّقْوَى وَالزُّهْدِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالِارْتِقَاءِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالتَّصَاعُدِ مِنْ مَقَامٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى تَنْجَلِيَ شَمْسُ صِفَاتِ الْجَلَالِ، وَتَظْهَرَ طَوَالِعُ أَنْوَارِ الْجَمَالِ، وَيَسْتَوْلِيَ سُلْطَانُ الْحَقِيقَةِ عَلَى مَمَالِكِ الْخَلِيقَةِ، وَيُطْوَى بِأَيْدِي سَطَوَاتِ الْجُودِ سُرَادِقَاتِ الْوُجُودِ فَمَا بَقِيَ الْأَرْضُ وَلَا السَّمَاءُ، وَلَا الظُّلْمَةُ وَلَا الضِّيَاءُ، وَتَلَاشَى الْعَبْدُ فِي كَعْبَةِ الْعِنْدِيَّةِ، وَنُودِيَ بِفَنَاءِ الْفَنَاءِ مِنْ عَالَمِ الْبَقَاءِ، رُفِعَتِ الْقِبْلَةُ وَمَا بَقِيَ إِلَّا اللَّهُ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَهَذَا حَالُ السَّلِكِ الْمَجْذُوبِ أَوِ الْمَجْذُوبِ السَّالِكِ، وَمَعْنَى الْجَذْبَةِ أَنَّهُ يُنَاجِي الْمَجْذُوبَ مِنْ أَمْرِ الْمَلَكُوتِ مَا يُدْهِشُ عَقْلَهُ وَيَأْخُذُهُ عَنْ نَفْسِهِ (وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ) أَيْ: مُحَرَّمَاتٍ مِنَ الْمَعَاصِي، وَفِي الْأَرْبَعِينَ لِلنَّوَوِيِّ: وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ، أَيْ: كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ (فَلَا تَنْتَهِكُوهَا) أَيْ: لَا تَقْرَبُوهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَنَاوَلُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: انْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ تَنَاوُلُهَا بِمَا لَا يَحِلُّ، وَقِيلَ: الِانْتِهَاكُ خَرْقُ مَحَارِمِ الشَّرْعِ كَذَا ذَكَرَهُ

السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَقَالَ مَيْرَكُ: وَهُوَ عِنْدَ الطَّائِفَةِ الصُّوفِيَّةِ مُتَابَعَةُ الشَّيْطَانِ وَالْهَوَى وَالْإِقْبَالُ عَلَى الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْعُقْبَى، إِذْ يَجِبُ أَنْ يَنْقَطِعَ الْمُحِبُّ عَنْ كُلِّ مَطْلُوبٍ، بَلْ يَنْقَطِعُ عَمَّا سِوَى الْمَحْبُوبِ (وَحَدَّ حُدُودًا) أَيْ: بَيَّنَ وَعَيَّنَ حُدُودًا فِي الْمَعَاصِي مِنَ الْقَتْلِ وَالضَّرْبِ (فَلَا تَعْتَدُوهَا) أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُوا عَنِ الْحَدِّ لَا بِالزِّيَادَةِ وَلَا بِالنُّقْصَانِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْحُدُودُ هِيَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَعُقُوبَاتُهَا الَّتِي قَرَنَهَا بِالذُّنُوبِ، وَأَصْلُ الْحَدِّ الْمَنْعُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَكَأَنَّ حُدُودَ الشَّرْعِ فَصَلَتْ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَمِنْهَا مَا لَا يُقْرَبُ كَالْفَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] وَمِنْهَا مَا لَا تُتَعَدَّى كَالْمَوَارِيثِ الْمُعَيَّنَةِ وَتَزْوِيجِ الْأَرْبَعَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وَالتَّلْخِيصُ أَنَّ حُدُودَ اللَّهِ مَا مَنَعَ مِنْ مُخَالَفَتِهَا بَعْدَ أَنْ قَدَّرَهَا بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَاتٍ مَضْبُوطَةٍ، وَمِنْهُ تَعْيِينُ الرَّكَعَاتِ وَالْأَوْقَاتِ وَمَا وَجَبَ إِخْرَاجُهُ فِي الزَّكَوَاتِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْحَجِّ وَحُدُودِ الْعُقُوبَاتِ، فَكَأَنَّهُ تَقْرِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِلْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. هَذَا وَفِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَقَلَّبُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْحُدُودِ، وَلِكُلِّ عَمَلٍ حَدٌّ، وَلِكُلِّ وَقْتٍ حَدٌّ، وَلِكُلِّ حَالٍ وَمَقَامٍ حَدٌّ، فَمَنْ تَخَطَّاهَا فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ) أَيْ: تَرَكَ ذِكْرَ أَشْيَاءَ أَيْ: حُكْمَهَا مِنَ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَالْحَلِّ (مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ) : بَلْ مِنْ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ. وَفِي الْأَرْبَعِينَ: رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ بِنَصْبِ (رَحْمَةً) عَلَى الْعِلَّةِ، وَنَصْبِ (غَيْرَ) عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَالنِّسْيَانُ: هُوَ تَرْكُ الْفِعْلِ بِلَا قَصْدٍ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِخِلَافِ السَّهْوِ (فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا) أَيْ: لَا تُفَتِّشُوا عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] هَذَا وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَلَّى عَلَى عَامَّةِ عِبَادِهِ بِأَفْعَالِهِ وَآيَاتِهِ الْمُنْبَثَّةِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ وَلِخَوَاصِّ أَصْفِيَائِهِ بِصِفَاتِهِ الْعُظْمَى، وَلِأَعْظَمِ أَنْبِيَائِهِ بِذَاتِهِ وَحَقَائِقِ صِفَاتِهِ، وَخَصَّهُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ عُرَفَائِهِ رَحْمَةً لَهُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ، إِذْ مَا قَامَ عَظِيمٌ عِنْدَ عَظَمَتِهِ إِلَّا كَلَّ وَزَلَّ وَلَا اسْتَقَامَ كَبِيرٌ دُونَ كِبْرِيَائِهِ إِلَّا هَامَ وَقَامَ كَمَا قَالَ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ: لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ وَلَا رَطْبٌ إِلَّا تَفَرَّقَ، وَإِنَّمَا يَرَانِي أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لَا تَمُوتُ أَعْيُنُهُمْ، وَلَا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ، وَلِذَا قَالَ: فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا أَيْ: لَا تَتَفَكَّرُوا فِيهَا، فَإِنَّ الْبَابَ إِلَى وُصُولِ مَعْرِفَةِ كُنْهِ الذَّاتِ مَرْدُودٌ، وَالطَّرِيقُ إِلَى كُنْهِ الصِّفَاتِ مَسْدُودٌ، «تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ» . الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكُ وَالْبَحْثُ عَنْ سِرِّ ذَاتِ الرَّبِّ إِشْرَاكُ (رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ الدَّارَقُطْنِيُّ) . وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَخِيرِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.

[كتاب العلم]

[كِتَابُ الْعِلْمِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 198 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [2] كِتَابُ الْعِلْمِ أَيْ: فَضْلُهُ وَفَضْلُ تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَبَيَانُ مَا هُوَ عِلْمٌ شَرْعًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُ بَعْدَ بَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْ بَابِ التَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَالْعِلْمُ نُورٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مُقْتَبَسٌ مِنْ مَصَابِيحِ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَالْأَفْعَالِ الْأَحْمَدِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ الْمَحْمُودِيَّةِ يُهْتَدَى بِهِ إِلَى اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، فَإِنْ حَصَلَ بِوَاسِطَةِ الْبَشَرِ فَهُوَ كَسْبِيُّ، وَإِلَّا فَهُوَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ الْمُنْقَسِمُ إِلَى الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ وَالْفَرَاسَةِ، فَالْوَحْيُ لُغَةً إِشَارَةٌ بِسُرْعَةٍ وَاصْطِلَاحًا كَلَامٌ إِلَهِيٌّ يَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ النَّبَوِيِّ. فَمَا أَنْزَلَ صُورَتَهُ وَمَعْنَاهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ فَهُوَ الْكَلَامُ الْإِلَهِيُّ. وَمَا نَزَلَ مَعْنَاهُ عَلَى الشَّارِعِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِكَلَامِهِ فَهُوَ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي مَحَلِّ الشُّهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وَقَدْ يَكُونُ بِوَاسِطَةِ نُزُولِ الْمَلَكِ، أَيْ: بِنُزُولِهِ مِنَ الصُّورَةِ الْمَلَكِيَّةِ إِلَى الْهَيْئَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْحَقُّ، فَكَلَّمَ أَوَّلًا مُحَمَّدًا بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، وَثَانِيًا أَصْحَابَهُ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ، وَثَالِثًا التَّابِعِينَ بِوَاسِطَةِ الصَّحَابَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا. وَقَدْ يَكُونُ بِنَفْثِهِ قِي قَلْبِهِ بِأَنْ يُلْقِيَ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِصُورَةِ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي، وَالْإِلْهَامُ لُغَةً الْإِبْلَاغُ، وَهُوَ عِلْمٌ حَقٌّ يَقْذِفُهُ اللَّهُ مِنَ الْغَيْبِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ: 48] وَالْفَرَاسَةُ عِلْمٌ يَنْكَشِفُ مِنَ الْغَيْبِ بِسَبَبِ تَفَرُّسِ آثَارِ الصُّوَرِ، «اتَّقَوْا فَرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِلْهَامِ وَالْفِرَاسَةِ أَنَّهَا كَشْفُ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ بِوَاسِطَةِ تَفَرُّسِ آثَارِ الصُّوَرِ، وَالْإِلْهَامُ كَشْفُهَا بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِلْهَامِ وَالْوَحْيِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، ثُمَّ عِلْمُ الْيَقِينِ مَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ مَا كَانَ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ وَالنَّوَالِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ مَا كَانَ بِتَحْقِيقِ الِانْفِصَالِ عَنْ لَوْثِ الصَّلْصَالِ لِوُرُودِ رَائِدِ الْوِصَالِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 198 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَلِّغُوا عَنِّي) : أَيِ: انْقُلُوا إِلَى النَّاسِ، وَأَفِيدُوهُمْ مَا أَمْكَنَكُمْ، أَوْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِمَّا سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي، وَمَا أَخَذْتُمُوهُ عَنِّي مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، أَوْ تَقْرِيرٍ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ (وَلَوْ آيَةً) أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْمُبَلَّغُ آيَةً وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْعَلَامَةُ الظَّاهِرَةُ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَإِنَّمَا قَالَ " آيَّةً " لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يُفِيدُ فِي بَابِ التَّبْلِيغِ، وَلَمْ يَقُلْ حَدِيثًا لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْآيَاتِ إِذَا كَانَتْ وَاجِبَةَ التَّبْلِيغِ مَعَ انْتِشَارِهَا، وَكَثْرَةِ حَمَلَتِهَا لِتَوَاتُرِهَا، وَتَكَفُّلِ اللَّهِ تَعَالَى بِحِفْظِهَا وَصَوْنِهَا عَنِ الضَّيَاعِ وَالتَّحْرِيفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فَالْحَدِيثُ مَعَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ مِمَّا ذُكِرَ أَوْلَى بِالتَّبْلِيغِ، وَأَمَّا لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِنَقْلِ الْآيَاتِ لِبَقَائِهَا مِنْ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، وَلِمَسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَى ضَبْطِهَا وَنَقْلِهَا إِذْ لَا بُدَّ مِنْ تَوَاتُرِ أَلْفَاظِهَا، وَالْآيَةُ مَا وُزِّعَتِ السُّورَةُ عَلَيْهَا اهـ. وَالثَّانِي: أَظْهَرُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَالَ الْمَظْهَرُ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ، نَحْوَ: مَنْ صَمَتَ نَجَا، وَالدِّينُ النَّصِيحَةُ، أَيْ: بَلِّغُوا عَنِّي أَحَادِيثِي، وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَالَ وَلَوْ آيَةً وَلَمْ يَقُلْ وَلَوْ حَدِيثًا مَعَ أَنَّهُ الْمُرَادُ؟ قُلْنَا: لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُبَلِّغُهُمْ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ طِبَاعَ الْمُسْلِمِينَ مَائِلَةٌ إِلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَنَشْرِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْآيَةِ لِشَرَفِهَا، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْحُكْمُ الْمُوحَى إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَتْلُوَّةِ وَغَيْرِهَا بِحُكْمِ عُمُومِ الْوَحْيِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، أَوْ لِأَنَّ كُلَّ مَا صَدَرَ عَنْ صَدْرِهِ فَهُوَ آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ ظُهُورَ مِثْلِ هَذِهِ الْعُلُومِ مِنَ الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ، مِنْهَا: التَّحْرِيضُ عَلَى نَشْرِ الْعِلْمِ، وَمِنْهَا: جَوَازُ تَبْلِيغِ بَعْضِ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ عَادَةُ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ وَالْمَشَارِقِ وَلَا بَأْسَ بِهِ، إِذِ الْمَقْصُودُ تَبْلِيغُ لَفْظِ الْحَدِيثِ مُفِيدًا سَوَاءٌ كَانَ تَامًّا أَمْ لَا. (وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ) . الْحَرَجُ: الضِّيقُ وَالْإِثْمُ وَهَذَا لَيْسَ عَلَى مَعْنَى إِبَاحَةِ الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ، بَلْ دَفْعٌ لِتَوَهُّمِ الْحَرَجِ فِي التَّحْدِيثِ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ صِحَّتُهُ وَإِسْنَادُهُ لِبُعْدِ الزَّمَانِ كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَتَبِعَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْمُظْهِرُ وَهُوَ مُقَيِّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ نَرَ كَذِبَ مَا قَالُوهُ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِمَا جَاءَ عَنْهُمْ، وَبَيْنَ التَّرْخِيصِ الْمَفْهُومِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَدُّثِ هَاهُنَا التَّحَدُّثُ بِقِصَصٍ مِنَ الْآيَاتِ الْعَجِيبَةِ، كَحِكَايَةِ عِوَجِ بْنِ عُنُقٍ، وَقَتْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْفُسَهُمْ فِي تَوْبَتِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَفْصِيلِ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ هُنَاكَ النَّهْيُ عَنْ نَقْلِ أَحْكَامِ كُتُبِهِمْ لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ مَنْسُوخَةٌ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَا رُوِيَ عَنْ عِوَجٍ أَنَّهُ رَفَعَ جَبَلًا قَدْرَ عَسْكَرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ لِيَضَعَهُ عَلَيْهِمْ، فَنَقَرَهُ هُدْهُدٌ بِمِنْقَارِهِ وَثَقَبَهُ وَوَقَعَ فِي عُنُقِهِ، فَكَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَرَوَى الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ فِيهِمْ أَعَاجِيبُ» " ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَقْبَرَةٍ فَقَالُوا: لَوْ صَلَّيْنَا ثُمَّ دَعَوْنَا رَبَّنَا حَتَّى يُخْرِجَ اللَّهُ لَنَا بَعْضَ الْمَوْتَى فَيُخْبِرَنَا عَنِ الْمَوْتِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ دَعَوْا رَبَّهُمْ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا رَجُلٌ قَدْ أَطْلَعَ رَأْسَهُ مَنْ قَبَرِهِ وَهُوَ أَسْوَدُ خَلَا شَيْبًا أَيْ بَيَاضُ رَأَسِهِ يُخَالِطُ سَوَادَهُ وَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ مَا أَرَدْتُمْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ مُتُّ مُنْذُ تِسْعِينَ سَنَةً، فَمَا ذَهَبَتْ مَرَارَةُ الْمَوْتِ مِنِّي حَتَّى كَأَنَّهُ الْآنَ، فَادْعُوا اللَّهَ أَنْ يُعِيدَنِي كَمَا كُنْتُ، وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ» . (وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ) ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَى كَذَبَ عَلَيْهِ نَسَبَ الْكَلَامَ كَاذِبًا إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ اهـ. وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ زَعْمُ مَنْ جَوَّزَ وَضْعَ الْأَحَادِيثِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْعِبَادَةِ، كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ الْجَهَلَةِ فِي وَضْعِ أَحَادِيثَ فِي فَضَائِلِ السُّورِ، وَفِي الصَّلَاةِ اللَّيْلِيَّةِ وَالنَّهَارِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ تَعْدِيَتَهُ بِ " عَلَيَّ " لِتَضْمِينِ مَعْنَى الِافْتِرَاءِ (مُتَعَمِّدًا) : نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ حَالًا مُؤَكَّدَةً، لِأَنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ النَّارِ فِيهِ (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) : يُقَالُ: تَبَوَّأَ الدَّارَ إِذَا اتَّخَذَهَا مَسْكَنًا وَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ يَعْنِي: فَإِنَّ اللَّهَ يُبَوِّئُهُ وَتَعْبِيرُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْإِهَانَةِ، وَلِذَا قِيلَ: الْأَمْرُ فِيهِ لِلتَّهَكُّمِ وَالتَّهْدِيدِ، إِذْ هُوَ أَبْلَغُ فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مَقْعَدُهُ فِي النَّارِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّهُ كَفَرَ يَعْنِي لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِاسْتِخْفَافُ بِالشَّرِيعَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَرَأَ حَدِيثَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَلْحَنُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَدَائِهِ أَوْ إِعْرَابِهِ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، لِأَنَّهُ بِلَحْنِهِ كَاذِبٌ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ نَقَلَ حَدِيثًا وَعَلِمَ كَذِبَهُ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلنَّارِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، لَا مَنْ نَقَلَ عَنْ رَاوٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ رَأَى فِي كِتَابٍ وَلَمْ يَعْلَمْ كَذِبَهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِيجَابُ التَّحَرُّزِ عَنِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ لَا يُحَدِّثَ عَنْهُ إِلَّا بِمَا يَصِحُّ بِنَقْلِ الْإِسْنَادِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا أَوْهَمَهُ كَلَامُ شَارِحٍ مِنْ حُرْمَةِ التَّحْدِيثِ بِالضَّعِيفِ مُطْلَقًا مَرْدُودٌ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الطِّيبِيِّ بِقَوْلِهِ " إِلَّا بِمَا يَصِحُّ " - الصِّحَّةُ اللُّغَوِيَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى الثُّبُوتِ لَا الِاصْطِلَاحِيَّةُ وَإِلَّا لَأَوْهَمَ حُرْمَةَ التَّحْدِيثِ بِالْحَسَنِ أَيْضًا وَلَا يَحْسُنُ ذَلِكَ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ هَذَا، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْفُرُوعِ حِسَانٌ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَلَامُهُ أَيْضًا مُشْعِرٌ بِذَلِكَ إِذْ لَمْ يَقُلْ بِنَقْلِ الْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ مُوهِمٌ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْإِسْنَادِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يُحَدِّثُ عَنْهُ إِلَّا بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ، وَذَلِكَ الثُّبُوتُ إِنَّمَا يَكُونُ بِنَقْلِ الْإِسْنَادِ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ لَوْ رَوَى عَنْهُ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ صَحِيحًا لَكِنْ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ عَنْهُ، وَاللَّامُ فِي الْإِسْنَادِ لِلْعَهْدِ، أَيِ: الْإِسْنَادِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ لِلْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ إِسْنَادٌ أَيْضًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِكَوْنِ الْإِسْنَادِ يُعْلَمُ بِهِ الْمَوْضُوعُ مَنْ غَيْرِهِ كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. قِيلَ: " بَلِّغُوا عَنِّي " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اتِّصَالُ السَّنَدِ بِنَقْلِ الثِّقَةِ عَنْ مَثَلِهِ إِلَى مُنْتَهَاهُ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ مِنَ الْبُلُوغِ وَهُوَ إِنْهَاءُ الشَّيْءِ إِلَى غَايَتِهِ. وَالثَّانِي: أَدَاءُ اللَّفْظِ كَمَا سُمِعَ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَالْمَطْلُوبُ فِي الْحَدِيثِ كِلَا الْوَجْهَيْنِ لِوُقُوعِ بَلِّغُوا مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) أَيْ: مَجْمُوعَ الْحَدِيثِ. وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ كَذَبَ إِلَخْ. فَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: حَدِيثُ " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ " مِنَ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا فِي مَرْتَبَتِهِ مِنَ التَّوَاتُرِ، فَإِنَّ نَاقِلِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمٌّ غَفِيرٌ. قِيلَ: اثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمُ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةُ، وَقِيلَ: لَا نَعْرِفُ حَدِيثًا اجْتَمَعَ فِيهِ الْعَشَرَةُ إِلَّا هَذَا، ثُمَّ عَدَدُ الرُّوَاةِ كَانَ فِي التَّزَايُدِ فِي كُلِّ قَرْنٍ.

199 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 199 - (وَعَنْ سَمُرَةَ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْمِيمِ (ابْنِ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ، الْفَزَارِيُّ، حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ آخِرَ سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ (وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَالضَّمُّ أَشْهَرُ قِيلَ: إِنَّهُ أَحْصَنَ ثَلَاثَمِائَةِ امْرَأَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، كَذَا فِي التَّهْذِيبِ، ثَقَفِيٌّ، أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَقِ وَقَدِمَ مُهَاجِرًا، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسِينَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً. وَهُوَ أَمِيرُهَا لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ. (قَالَا) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ) أَيْ: وَلَوْ بِوَاحِدٍ (يُرَى) : رُوِيَ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِرَاءَةِ. أَيْ: يَظُنُّ. وَبِفَتْحِهَا مِنَ الرَّأْيِ أَيْ يَعْلَمُ (أَنَّهُ) : أَيِ: الْحَدِيثَ (كَذِبٌ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَجُوِّزَ كَسْرُ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ يَعْنِي وَلَمْ يُبَيِّنْ كَذِبَهُ (فَهُوَ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا (أَحَدُ الْكَاذِبِينَ) : جَمَعَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ النَّقَلَةِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: سَمَّاهُ كَاذِبًا لِأَنَّهُ يُعِينُ الْمُفْتَرِيَ وَيُشَارِكُهُ بِسَبَبِ إِشَاعَتِهِ، فَهُوَ كَمَنْ أَعَانَ ظَالِمًا عَلَى ظُلْمِهِ.

قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ: يُرَى ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَالْكَاذِبِينَ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْجَمْعِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الرِّوَايَةُ عِنْدَنَا عَلَى الْجَمْعِ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ لَهُ يُشَارِكُ الْبَادِئَ بِهَذَا الْكَذِبِ، ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ الْكَاذِبَيْنِ أَوِ الْكَاذِبِينَ عَلَى الشَّكِّ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ جَوَازَ فَتْحِ الْيَاءِ مِنْ " يُرَى " بِمَعْنَى يَعْلَمُ وَهُوَ ظَاهِرٌ حَسَنٌ، فَأَمَّا مَنْ ضَمَّ الْيَاءَ فَمَعْنَاهُ يُظَنُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ بِمَعْنَى يَظُنُّ أَيْضًا، فَقَدْ حُكِيَ رَأَى بِمَعْنَى ظَنَّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَأْثَمُ إِلَّا بِرِوَايَةِ مَا يَعْلَمُهُ أَوْ يَظُنُّهُ كَذِبًا، وَأَمَّا مَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَظُنُّهُ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ وَإِنْ ظَنَّهُ غَيْرُهُ كَذِبًا أَوْ عَلِمَهُ اهـ. كَلَامُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي تَجْوِيزِ فَتْحِ الْيَاءِ بِمَعْنَى يَعْلَمُ تَأَمَّلْ، وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّأَمُّلِ أَنَّ الظَّنَّ يَكْفِي فِي هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ أَبْلَغُ فِي إِفَادَةِ الْمَرَامِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ التَّامِّ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ يَقِينِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

200 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهِ يُعْطِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 200 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، ثُمَّ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ كَتَبُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: لَمْ يَكْتُبْ لَهُ مِنَ الْوَحْيِ شَيْئًا إِنَّمَا كَتَبَ لَهُ كُتُبَهُ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، تَوَلَّى الشَّامَ بَعْدَ أَخِيهِ يَزِيدَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا مُتَوَلِّيًا حَاكِمًا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَنَةً. مِنْهَا فِي أَيَّامِ عُمَرَ أَرْبَعُ سِنِينَ أَوْ نَحْوَهَا. وَمُدَّةُ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَخِلَافَةِ عَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ تَمَامُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتُوثِقَ لَهُ الْأَمْرُ بِتَسْلِيمِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَدَامَ لَهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ فِي رَجَبٍ بِدِمَشْقَ، وَلَهُ ثَمَانُ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَكَانَ أَصَابَتُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ لَقْوَةٌ، وَكَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ: لَيْتَنِي كُنْتُ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ بِذِي طِوًى، وَلَمْ أَرَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ شَيْئًا، وَكَانَ عِنْدَهُ إِزَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِدَاؤُهُ وَقَمِيصُهُ وَشَيْءٌ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ فَقَالَ: كَفِّنُونِي فِي قَمِيصِهِ، وَأَدْرِجُونِي فِي رِدَائِهِ، وَأَزِّرُونِي بِإِزَارِهِ، وَاحْشُوا مَنْخَرَيَّ وَشِدْقَيَّ وَمَوَاضِعَ السُّجُودِ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ، وَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا) : تَنْكِيرُهُ لِلتَّفْخِيمِ أَيْ خَيْرًا كَثِيرًا " (يُفَقِّهْهُ) : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ: يَجْعَلْهُ عَالِمًا (فِي الدِّينِ) أَيْ: أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ، وَلَا يُخَصُّ بِالْفِقْهِ الْمُصْطَلِحِ الْمُخْتَصِّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ كَمَا ظُنَّ، فَقَدْ رَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ يَوْمًا فِي شَيْءٍ قَالَهُ، يَا أَبَا سَعِيدٍ! هَكَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ. قَالَ: وَيْحَكَ هَلْ رَأَيْتَ فَقِيهًا قَطُّ إِنَّمَا الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ، الْبَصِيرُ بِأَمْرِ دِينِهِ، الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّمَا الْفَقِيهُ مَنِ انْفَقَأَتْ عَيْنَا قَلْبِهِ فَنَظَرَ إِلَى رَبِّهِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةٍ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَيُلْهِمْهُ رُشْدَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ) أَيْ لِلْعِلْمِ (وَاللَّهُ يُعْطِي) . أَيِ: الْفَهْمَ فِي الْعِلْمِ بِمَبْنَاهُ، وَالتَّفَكُّرَ فِي مَعْنَاهُ، وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَاوُ فِي وَإِنَّمَا لِلْحَالِ مِنْ فَاعِلِ (يُفَقِّهُ) أَوْ مَفْعُولِهِ أَيْ: أَنَا أُقَسِّمُ الْعِلْمَ بَيْنَكُمْ، فَأُلْقِي إِلَيْكُمْ جَمِيعًا مَا يَلِيقُ بِكُلِّ أَحَدٍ، وَاللَّهُ يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ مِنْكُمْ لِفَهْمِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ ثَمَّ تَفَاوَتَتْ أَفْهَامُ الصَّحَابَةِ مَعَ اسْتِوَاءِ تَبْلِيغِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ فَاقَ بَعْضُ مَنْ جَاءَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ بَعْضَهُمْ فِي الْفَهْمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ كَمَا أَشَارَ لِذَلِكَ الْخَبَرُ الْآتِي: «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَا أُقَسِّمُ الْمَالَ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ يُعْطِيهِ، فَلَا يَكُونُ فِي قُلُوبِكُمْ سُخْطٌ وَتَنَكُّرٌ عَنِ التَّفَاضُلِ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَا أُقَسِّمُ الْعِلْمَ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ يُعْطِي الْعِلْمَ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي الْعِلْمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قِيلَ: وَلَمْ يَقُلْ مُعْطٍ لِأَنَّ إِعْطَاءَهُ مُتَجَدِّدٌ سَاعَةً فَسَاعَةً (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

201 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 201 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النَّاسُ مَعَادِنُ) : جَمْعُ مَعْدِنٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ مُسْتَقِرُّ الْأَخْلَاقِ كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ (كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) : وَغَيْرِهِمَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَدْنَى، فَمَنْ كَانَ اسْتِعْدَادُهُ أَقْوَى كَانَتْ فَضِيلَتُهُ أَتَمَّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا فِي مَعَادِنِ الطِّبَاعِ مِنْ جَوَاهِرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَخْرَجَ بِرِيَاضَةِ النُّفُوسِ كَمَا تُسْتَخْرَجُ جَوَاهِرُ الْمَعَادِنِ بِالْمُقَاسَاةِ وَالتَّعَبِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْدِنُ الْمُسْتَقِرُّ مَنْ عَدَنْتَ الْبَلَدَ إِذَا تَوَطَّنْتَهُ، وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ لِمُسْتَقَرِّ الْجَوَاهِرِ، وَمَعَادِنُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ إِلَّا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أَسَدٌ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ بَدَلًا مِنْهُ أَيِ: النَّاسُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ مَجَازٌ عَنِ التَّفَاوُتِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ يَعْنِي فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الصِّفَاتِ تَفَاوُتًا مِثْلَ تَفَاوُتِ مَعَادِنِ الذَّهَبِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّفَاوُتِ تَفَاوُتُ النَّسَبِ فِي الشَّرَفِ وَالضِّعَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ " فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَنِي؟ " قَالُوا: نَعَمْ أَيْ أُصُولُهَا الَّتِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهَا وَيَتَفَاخَرُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ مَعَادِنَ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعْدَادَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ، فَمِنْهَا قَابِلَةٌ لِفَيْضِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَرَاتِبِ الْمَعَادِنِ، وَمِنْهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ. وَقَوْلُهُ: (خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) : إِلَخْ. جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ، شَبَّهَهُمْ بِالْمَعَادِنِ فِي كَوْنِهَا أَوْعِيَةً لِلْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ وَالْفِلِزَّاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، الْمَعْنِيُّ بِهَا الْعُلُومُ وَالْحِكَمُ، فَالتَّفَاوُتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِحَسَبِ الْأَنْسَابِ، وَفِي الْإِسْلَامِ بِالْأَحْسَابِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِالثَّانِي، فَالْمَعْنَى خِيَارُهُمْ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ) : أَيْضًا بِهَا (إِذَا فَقُهُوا) : بِضَمِّ الْقَافِ، وَقِيلَ بِالْكَسْرِ أَيْ: إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ، وَإِلَّا فَالشَّرَفُ لِلْأَفْقَهِ مِنْهُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَقِهَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ إِذَا عَلِمَ، وَفَقُهَ بِالضَّمِّ إِذَا صَارَ فَقِيهًا عَالِمًا وَجَعَلَهُ الْعَرَبُ خَاصًّا بِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَتَخْصِيصًا بِعِلْمِ الْفُرُوعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

202 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 202 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا حَسَدَ) : وَهُوَ تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ أَحَدٍ وَانْتِقَالُهَا إِلَيْهِ كَذَا قِيلَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ أَعَمُّ وَهُوَ مَذْمُومٌ إِذَا عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ تَصْمِيمٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ لِكَافِرٍ أَوْ فَاسْقٍ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْغِبْطَةُ وَهِيَ تَمَنِّي حُصُولِ مِثْلِهَا لَهُ، وَأُطْلِقَ الْحَسَدُ عَلَيْهَا مَجَازًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَوْ جَازَ الْحَسَدُ لَمَا جَازَ إِلَّا فِيمَا ذُكِرَ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ نَوْعٍ مِنَ الْحَسَدِ لِتَضَمُّنِهِ الْمَنْفَعَةَ فِي الدِّينِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ (إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ) أَيْ: فِي نَفِيسَيْنِ أَوْ خَصْلَتَيْنِ، وَرُوِيَ بِالتَّذْكِيرِ أَيْ فِي شَأْنِ اثْنَيْنِ (رَجُلٍ) : رُوِيَ مَجْرُورًا عَلَى الْبَدَلِ وَهُوَ أَوْثَقُ الرِّوَايَاتِ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مُبْتَدَأً. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: رُوِيَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَيْنِ فَيَكُونُ " رَجُلٍ " بَدَلًا مِنْهُ، وَرُوِيَ فِي اثْنَتَيْنِ أَيْ خَصْلَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ لِيَسْتَقِيمَ الْمَعْنَى، فَإِذَا رُوِيَ فِي اثْنَيْنِ يُقَدَّرُ فِي شَأْنِ اثْنَتَيْنِ، وَإِذَا رُوِيَ اثْنَتَيْنِ، يُقَدَّرُ خَصْلَةُ رَجُلٍ (آتَاهُ اللَّهُ) : بِالْمَدِّ أَيْ أَعْطَاهُ (مَالًا) أَيْ: مَالًا كَثِيرًا أَوْ نَوْعًا مِنَ الْمَالِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا " (فَسَلَّطَهُ) " أَيْ: وَكَّلَهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ (عَلَى هَلَكَتِهِ) ": بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: إِنْفَاقِهِ وَإِهْلَاكِهِ، وَعَبَّرَ بِذَلِكَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبْقِي مِنْهُ شَيْئًا وَكَمَّلَهُ بِقَوْلِهِ: (فِي الْحَقِّ) : لِيُزِيلَ الْإِسْرَافَ الْمَذْمُومَ وَالرِّيَاءَ الْمَلُومَ، وَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ

كَمَا لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ (وَرَجُلٍ) : بِالْوَجْهَيْنِ لِلْعَطْفِ (آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ) : وَهِيَ إِصَابَةُ الْحَقِّ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ أَوْ عِلْمِ أَحْكَامِ الدِّينِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عَرَّفَ الْحِكْمَةَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ، وَأَرَادَ التَّعْرِيفَ بِلَامِ الْعَهْدِ (فَهُوَ يَقْضِي) أَيْ: يَعْمَلُ وَيَحْكُمُ (بِهَا) " أَيْ: بِالْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيهَا (وَيُعَلِّمُهَا) . أَيْ غَيْرَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

203 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 203 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ) أَيْ: أَعْمَالُهُ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُرَادُ فَائِدَةُ عَمَلِهِ لِانْقِطَاعِ عَمَلِهِ يَعْنِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ (إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ) أَيْ: مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنَّ فَائِدَتَهَا لَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُثِيبُ الْمُكَلَّفَ بِكُلِّ فِعْلٍ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ بِوَجْهِ مَا عَلَى كَسْبِهِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْمُبَاشَرَةُ وَالتَّسَبُّبُ (إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ) . قَالَ الطِّيبِيُّ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَسْقَطُوا (إِلَّا) وَهِيَ مُثْبَتَةٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَالْمَشَارِقِ، وَهُوَ إِلَى آخِرِهِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَعَلَى التَّكْرِيرِ فِيهِ مَزِيدُ تَقْرِيرٍ وَاعْتِنَاءٍ بِشَأْنِهِ اهـ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: " مِنْ " زَائِدَةٌ وَالتَّنْوِينُ عِوَضُ الْإِعْمَالِ، وَقِيلَ: بَلِ الضَّمِيرُ فِي عَنْهُ زَائِدٌ، وَمَعْنَاهُ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْ أَعْمَالِهِ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ كِلْتَاهُمَا أَصْلِيَّتَانِ، وَمَعْنَاهُ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ وَانْقَطَعَ هُوَ عَنْ عَمَلِهِ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَعْمَالٍ (جَارِيَةٍ) : يَجْرِي نَفْعُهَا فَيَدُومُ أَجْرُهَا كَالْوَقْفِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَفِي الْأَزْهَارِ قَالَ أَكْثَرُهُمْ: هِيَ الْوَقْفُ وَشِبْهُهُ مِمَّا يَدُومُ نَفْعُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الْقَنَاةُ وَالْعَيْنُ الْجَارِيَةُ الْمُسَبَّلَةُ. قُلْتُ: وَهَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْأَوَّلِ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا الْخَاصَّ لَكِنْ لَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ (أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ) أَيْ: بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قُيِّدَ الْعِلْمُ بِالْمُنْتَفَعِ بِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُؤْتَى بِهِ أَجْرًا، وَالْمُرَادُ بِالْمُنْتَفَعِ بِهِ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ عِلْمُ الْكَلَامِ، أَيِ: الْعَقَائِدُ وَالْعِلْمُ بِكُتُبِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّفْسِيرُ وَبِمَلَكُوتِ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ عِلْمُ الرِّيَاضِيِّ. أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ. قَالَ: وَالْعِلْمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّفْسِيرُ أَيْضًا، وَالْحَدِيثُ وَالْفِقْهُ وَأُصُولُهُ. قُلْتُ: الْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَخِيرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى النَّقِيرِ الْقِطْمِيرِ. (أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ) أَيْ: مُؤْمِنٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ (يَدْعُو لَهُ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَيَّدَ الْوَلَدَ بِالصَّالِحِ لِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ دُعَاءَهُ تَحْرِيضًا لِلْوَلَدِ عَلَى الدُّعَاءِ لِأَبِيهِ حَتَّى قِيلَ: لِلْوَالِدِ ثَوَابٌ مِنْ عَمَلِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ سَوَاءٌ دَعَا لِأَبِيهِ أَمْ لَا، كَمَا أَنَّ غَرْسَ شَجَرَةٍ يُجْعَلُ لِلْغَارِسِ ثَوَابٌ بِأَكْلِ ثَمَرَتِهَا، سَوَاءٌ دَعَا لَهُ الْآكِلُ أَمْ لَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ تَقْدِيرُهُ يَنْقَطِعُ عَنْهُ ثَوَابُ أَعْمَالِهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَلَا يَنْقَطِعُ ثَوَابُ أَعْمَالِهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَعْنِي: إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ لَا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ أَعْمَالِهِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْعَمَلِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بِمَوْتِهِ إِلَّا فِعْلًا دَائِمَ الْخَيْرِ مُسْتَمِرَّ النَّفْعِ مِثْلَ وَقْفِ أَرْضٍ أَوْ تَصْنِيفِ كِتَابٍ أَوْ تَعْلِيمِ مَسْأَلَةٍ يُعْمَلُ بِهَا، أَوْ وُلِدٍ صَالَحٍ، وَجَعَلَ الْوَلَدَ مِنَ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي وُجُودِهِ اهـ. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا الْحَصْرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمَسْنُونَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، وَكَذَا لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " لِأَنَّ النَّامِيَ مِنْ عَمَلِ الْمُرَابِطِ مَا قَدَّمَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فَإِنَّهَا أَعْمَالٌ تَحْدُثُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ سَبَبُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يَلْحَقُهُ مِنْهَا ثَوَابٌ صَارَ خِلَافَ أَعْمَالِهِ الَّذِي مَاتَ عَلَيْهَا، أَوْ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ لَا يُزَادُ فِي ثَوَابِ مَا عَمِلَ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا الْغَازِيَ، فَإِنَّ ثَوَابَ مُرَابَطَتِهِ يَنْمُو وَيَتَضَاعَفُ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُ يُزَادُ بِضَمِّ غَيْرِهِ أَوْ لَا يُزَادُ، وَقِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْمُرَابَطَةُ دَاخِلَةً فِي الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ إِذِ الْمَقْصُودُ نُصْرَةُ الْمُسْلِمِينَ اهـ. وَهُوَ الْأَظْهَرُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

204 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمِنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 204 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ نَفَّسَ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: فَرَّجَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ فَتَحَ مَدَاخِلَ الْأَنْفَاسِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَنْتَ فِي نَفَسٍ أَيْ سَعَةٍ كَأَنَّ مَنْ كَانَ فِي كُرْبَةٍ سُدَّ عَنْهُ مَدَاخِلُ الْأَنْفَاسِ، فَإِذَا فُرِّجَ عَنْهُ فُتِحَتْ بِمَعْنَى مَنْ أَزَالَ وَأَذْهَبَ (عَنْ مُؤْمِنٍ) : أَيَّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا مُرَاعَاةً لِإِيمَانِهِ (كُرْبَةً) أَيْ: أَيَّ حَزَنٍ وَعَنَاءٍ وَشِدَّةٍ وَلَوْ حَقِيرَةً (مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا) : الْفَانِيَةِ الْمُنْقَضِيَةِ، وَمِنْ: تَبْعِيضِيَّةٌ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ (نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً) أَيْ: عَظِيمَةً (مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : أَيِ: الْبَاقِيَةِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْكِمِّيَّةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالَ اللَّهِ وَتَنْفِيسُ الْكُرَبِ إِحْسَانٌ فَجَزَاهُ اللَّهُ جَزَاءً وِفَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] (وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ) أَيْ: سَهَّلَ عَلَى فَقِيرٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، أَيْ: مَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى فَقِيرٍ فَسَهَّلَ عَلَيْهِ بِإِمْهَالٍ أَوْ بِتَرْكِ بَعْضِهِ أَوْ كُلِّهِ (يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ) : بَدَّلَ تَيْسِيرَهُ عَلَى عَبْدِهِ مُجَازَاةً بِجِنْسِهِ (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أَيْ: فِي الدَّارَيْنِ أَوْ فِي أُمُورِهَا. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُعْسِرَ وَصَاحِبَ الْكُرْبَةِ هُوَ الْمُرِيدُ فِي وَادِي الْغُرْبَةِ الْمُحْتَاجُ إِلَى قَطْعِ الْعَقَبَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْمُنَازِلِ الظُّلُمَانِيَّةِ وَالنُّورَانِيَّةِ، كَمَا اشْتُهِرَ عَنِ الْكَتَّانِيِّ: إِنَّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحَقِّ أَلْفَ مَقَامٍ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ وَيَتَلَقَّاهُ الْوَسَاوِسُ وَالْهَوَاجِسُ، فَعَلَى شَيْخِهِ أَنْ يُنَفِّسَ كُرْبَةَ الْوَسَاوِسِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ بِتَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِهَا وَالتَّأَمُّلِ فِي الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ إِنِ اسْتَأْهَلَهُ، وَاسْتِدَامَةِ الذِّكْرِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى الْمَوْلَى، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ سَوَاءَ الطَّرِيقِ وَيُذِيقُهُ حَلَاوَةَ التَّحْقِيقِ حَتَّى يَسْطُعَ فِي قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْقُلُوبِ وَيَطْلُعَ فِي سِرِّهِ شُمُوسُ الْوُصُولِ إِلَى الْمَحْبُوبِ. (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا) أَيْ: فِي قَبِيحٍ يَفْعَلُهُ فَلَا يَفْضَحُهُ أَوْ كَسَاهُ ثَوْبًا (سَتَرَهُ اللَّهُ) أَيْ: عُيُوبَهُ أَوْ عَوْرَتَهُ (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) : كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَيْ سَتَرَ بَدَنَهُ بِالْإِلْبَاسِ، أَوْ عُيُوبَهُ بِعَدَمِ الْغَيْبَةِ لَهُ وَالذَّبِّ عَنْ مَعَايِبِهِ، وَهَذَا عَلَى مَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ، وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِهِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُرْفَعَ قِصَّتُهُ إِلَى الْوَالِي وَلَوْ رَآهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَيُنْكِرُهَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ عَجَزَ يَرْفَعُهَا إِلَى الْحَاكِمِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ لِمَنْ وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ وَكَرَامَاتِ ذَوِي الْإِيقَانِ أَنْ يَحْفَظَ سِرَّهُ وَيَكْتُمَ عَنْ غَيْرِهِ أَمْرَهُ، فَإِنَّ كَشْفَ الْأَسْرَارِ عَلَى الْأَغْيَارِ يَسُدُّ بَابَ الْعِنَايَةِ وَيُوجِبُ الْحِرْمَانَ وَالْغَوَايَةَ. مَنْ أَطْلَعُوهُ عَلَى سِرٍّ فَبَاحَ بِهِ لَمْ يَأْمَنُوهُ عَلَى الْأَسْرَارِ مَا عَاشَا (وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ) : الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِكَلَامِ السَّابِقِ (مَا كَانَ) أَيْ: مَا دَامَ (الْعَبْدُ) : مَشْغُولًا (فِي عَوْنِ أَخِيهِ) : أَيِ: الْمُسْلِمِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. أَيْ: فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى فَضِيلَةِ عَوْنِ الْأَخِ عَلَى أُمُورِهِ وَالْمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا بِجِنْسِهَا مِنَ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَلْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ بِهِمَا لِدَفْعِ الْمَضَارِّ أَوْ جَلْبِ الْمَسَارِّ إِذِ الْكُلُّ عَوْنٌ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْحَثِّ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ أَتْبَعَهُ بِمَا يُنْبِئُ عَنِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ فَقَالَ: (وَمَنْ سَلَكَ) أَيْ: دَخَلَ أَوْ مَشَى (طَرِيقًا) أَيْ: قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا. قِيلَ: التَّنْوِينُ لِلتَّعْمِيمِ؛ إِذِ النَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ قَدْ تُفِيدُ الْعُمُومَ أَيْ: بِسَبَبِ أَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالتَّصْنِيفِ وَمُفَارَقَةِ الْوَطَنِ وَالْإِنْفَاقِ فِيهِ (يَلْتَمِسُ فِيهِ) : حَالٌ أَوْ صِفَةٌ (عِلْمًا) : نَكِرَةٌ لِيَشْمَلَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِ الدِّينِ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، إِذَا كَانَ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ وَالنَّفْعِ وَالِانْتِفَاعِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الرِّحْلَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَقَدْ ذَهَبَ مُوسَى إِلَى الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ لَهُ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ. كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ) أَيْ: بِذَلِكَ السُّلُوكِ أَوِ الطَّرِيقِ أَوِ الِالْتِمَاسِ أَوِ الْعِلْمِ (طَرِيقًا) أَيْ: مُوَصِّلًا وَمَنْهِيًّا (إِلَى الْجَنَّةِ) . مَعَ قَطْعِ الْعَقَبَاتِ الشَّاقَّةِ دُونَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ) أَيْ: جَمْعٌ (فِي بَيْتٍ) أَيْ: مَجْمَعٍ (مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ مَسَاجِدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّهُ " يُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهَا وَالْعُدُولُ عَنِ الْمَسَاجِدِ إِلَى بُيُوتِ اللَّهِ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يُبْنَى تَقْرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ، (يَتْلُونَ) : حَالٌ مِنْ قَوْمٍ لِتَخْصِيصِهِ (كِتَابَ اللَّهِ) : أَيِ: الْقُرْآنَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ مُجَرَّدَ إِجْرَاءِ الْأَلْفَاظِ عَلَى اللِّسَانِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُقَدِّرَ الْعَبْدُ أَنَّهُ يَقْرَأُ عَلَى اللَّهِ وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَيْهِ، بَلْ يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ كَأَنَّ رَبَّهُ يُخَاطِبُهُ بَلْ يَسْتَغْرِقُ بِمُشَاهَدَةِ الْمُتَكَلِّمِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى غَيْرِهِ سَامِعًا مِنْهُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الصَّادِقُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ حَالَةٍ لَحِقَتْهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: مَا زِلْتُ أُرَدِّدُ الْآيَةَ عَلَى قَلْبِي حَتَّى سَمِعْتُهَا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ جِسْمِي لِمُعَايَنَةِ قُدْرَتِهِ، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَيَقْتَبِسُ مَعْرِفَةَ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِهْلَاكِ الْأَعْدَاءِ وَيَقْتَبِسُ مَعْرِفَةَ الْعِزَّةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ وَالْقَهْرِ وَالْإِفْنَاءِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَحِبَّاءِ، وَيَقْتَبِسُ مَعْرِفَةَ اللُّطْفِ وَالْفَضْلِ وَالنَّعْمَاءِ، وَفِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّكْلِيفِ وَالْإِرْشَادِ، وَيَقْتَبِسُ مَعْرِفَةَ اللُّطْفِ وَالْحِكَمِ وَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ (وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ) : وَالتَّدَارُسُ قِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تَصْحِيحًا لِأَلْفَاظِهِ أَوْ كَشْفًا لِمَعَانِيهِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّدَارُسِ الْمُدَارَسَةَ الْمُتَعَارَفَةَ بِأَنْ يَقْرَأَ بَعْضُهُمْ عُشْرًا مَثَلًا وَبَعْضُهُمْ عُشْرًا آخَرَ، وَهَكَذَا فَيَكُونُ أَخَصَّ مِنَ التِّلَاوَةِ أَوْ مُقَابِلًا لَهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا يُنَاطُ بِالْقُرْآنِ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ (إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ) : يَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ كَسْرُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْمِيمِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَضَمُّهُمَا وَكَسْرِهُمَا. وَالسَّكِينَةُ: هِيَ الْوَقَارُ وَالْخَشْيَةُ يَعْنِي الشَّيْءَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ سُكُونُ الْقَلْبِ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ وَنُزُولُ الْأَنْوَارِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ هَنَا صَفَاءُ الْقَلْبِ بِنُورِهِ وَذَهَابُ الظُّلْمَةِ النَّفْسَانِيَّةِ وَحُصُولُ الذَّوْقِ وَالشَّوْقِ، وَقِيلَ: السَّكِينَةُ مَلَكٌ يَسْكُنُ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ وَيُؤَمِّنُهُ وَيَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ، وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: السَّكِينَةُ مَغْنَمٌ وَتَرْكُهَا مَغْرَمٌ (وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ) أَيْ: أَتَتْهُمْ وَعَلَتْهُمْ وَغَطَّتْهُمْ (وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ) أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ أَحْدَقُوا وَأَحَاطُوا بِهِمْ، أَوْ طَافُوا بِهِمْ وَدَارُوا حَوْلَهُمْ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَدِرَاسَتَهُمْ وَيَحْفَظُونَهُمْ مِنَ الْآفَاتِ وَيَزُورُونَهُمْ وَيُصَافِحُونَهُمْ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِمْ، قِيلَ: وَبِلِسَانِ الْإِشَارَةِ بُيُوتُ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُذْكَرُ فِيهِ الْحَقُّ مِنَ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالسِّرِّ وَالْخَفِيِّ، فَذِكْرُ بَيْتِ النَّفْسِ الطَّاعَاتُ، وَذِكْرُ بَيْتِ الْقَلْبِ التَّوْحِيدُ وَالْمَعْرِفَةُ، وَذِكْرُ بَيْتِ الرُّوحِ الشَّوْقُ وَالْمَحَبَّةُ، وَذِكْرُ بَيْتِ السِّرِّ الْمُرَاقَبَةُ وَالشُّهُودُ، وَذِكْرُ بَيْتِ الْخَفِيِّ بَذْلُ الْوُجُودِ وَتَرْكُ الْمَوْجُودِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا نَزَلَتْ إِلَخْ - إِشَارَةٌ إِلَى ثَمَرَاتِ التِّلَاوَةِ وَهِيَ الْأُنْسُ وَالْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ وَتَمَثُّلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ فِي صُوَرٍ لَطِيفَةٍ، وَالصُّعُودُ مِنْ حَضِيضِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى ذُرْوَةِ الْمَلَكُوتِ

الْأَعْلَى، بَلِ الْفَرَحُ بِالْبَقَاءِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ الْفَنَاءِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّاهُوتِ وَالتَّبَرُّؤِ مِنَ النَّاسُوتِ، وَهَذَا مَقَامٌ يَضِيقُ عَنْ إِعْلَانِهِ نِطَاقُ النُّطْقِ وَلَا يَسَعُ إِظْهَارُهُ فِي ظُهُورِ الْحُرُوفِ وَإِنَّ قَمِيصًا خِيطَ مِنْ نَسْجِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا مِنْ مَعَانِيهِ قَاصِرٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوَالِيَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ ذِكْرِهِ، فَإِنِ اسْتَلَذَّ بِالذِّكْرِ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْقُرْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى مَجَالِسِ الْأُنْسِ، ثُمَّ أَجْلَسَهُ عَلَى كُرْسِيِّ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ رَفَعَ عَنْهُ الْحِجَابَ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْفَرْدَانِيَّةِ، وَكَشَفَ لَهُ حِجَابَ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، فَإِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ بَقِيَ بِلَا هُوَ، فَحِينَئِذٍ صَارَ الْعَبْدُ زَمَنًا فَانِيًا فِي حِفْظِ سَبَحَاتِهِ وَبَرِئَ مِنْ دَعَاوَى نَفْسِهِ (وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) : أَيِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَالطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُبَاهَاةِ بِهِمْ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبِيدِي يَذْكُرُونِي وَيَقْرَءُونَ كِتَابِي (وَمَنْ بَطَّأَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مِنَ التَّبْطِئَةِ ضِدِّ التَّعَجُّلِ كَالْإِبْطَاءِ، وَالْبُطْءُ نَقِيضُ السُّرْعَةِ وَالْبَاءُ فِي (بِهِ) : لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: مَنْ أَخَّرَهُ وَجَعَلَهُ بَطِيئًا عَنْ بُلُوغِ دَرَجَةِ السَّعَادَةِ (عَمَلُهُ) : السَّيِّئُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ تَفْرِيطُهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا (لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) . مِنَ الْإِسْرَاعِ أَيْ: لَمْ يُقَدِّمْهُ نَسَبُهُ، يَعْنِي: لَمْ يُجْبِرْ نَقِيصَتَهُ لِكَوْنِهِ نَسِيبًا فِي قَوْمِهِ، إِذْ لَا يَحْصُلُ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّسَبِ بَلْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَشَاهِدُ ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَا أَنْسَابَ لَهُمْ يُتَفَاخَرُ بِهَا، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ مَوَالٍ، وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ سَادَاتُ الْأُمَّةِ وَيَنَابِيعُ الرَّحْمَةِ وَذَوُو الْأَنْسَابِ الْعَلِيَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا كَذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ جَهْلِهِمْ نِسْيًا مَنْسِيًّا، وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الدِّينِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» " وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ مُحَمَّدٍ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ائْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِكُمْ لَا بِأَنْسَابِكُمْ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» " وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ أَنَّ مُرِيدًا لَهُ تَتَبَّعَ خُطَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ قَائِلًا: وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ سَلَخْتَ جِلْدَ أَبِي يَزِيدَ وَلَبِسْتَهُ لَمْ تَنَلْ مِثْقَالَ خَرْدَلٍ مِنْ مَقَامَاتِهِ مَا لَمْ تَعْمَلْ عَمَلَهُ وَأَنْشَدَ: مَا بَالُ نَفْسِكَ أَنْ تَرْضَى تُدَنِّسُهَا ... وَثَوْبُ جِسْمِكَ مَغْسُولٌ مِنَ الدَّنَسِ تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ: بِهَذَا اللَّفْظِ.

205 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنْ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: إِنَّكَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ ; فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 205 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ) : قِيلَ: هُوَ صِفَةٌ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي الْمَعْنَى، أَيْ: يُحَاسَبُ وَيُسْأَلُ عَنْ أَفْعَالِهِ قَبْلُ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِمْ لَا مُطْلَقًا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: ثَلَاثَةٌ (رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (فَأَتَى بِهِ) أَيْ: بِالرَّجُلِ لِلْحِسَابِ (فَعَرَّفَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: ذَكَّرَهُ تَعَالَى (نِعْمَتَهُ) : عَلَى صِيغَةِ الْمُفْرَدِ هَاهُنَا، وَالْبَاقِيَتَانِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ هَكَذَا جَاءَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي الرِّيَاضِ لِلنَّوَوِيِّ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ اعْتِبَارُ الْإِفْرَادِ فِي الْأُولَى وَالْكَثْرَةِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْكَثْرَةِ أَصْنَافُ الْعُلُومِ وَالْأَمْوَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِفْرَادِ نِعْمَةَ الشَّهَادَةِ كَمَا يُتَوَهَّمُ فَإِنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ، بَلِ الْمُرَادُ إِفْرَادُ جِنْسِيَّةِ النِّعْمَةِ فَإِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ لِلْعُمُومِ بِخِلَافِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِنَّهُ جُمِعَ فِيهِمَا لِإِرَادَةِ الْأَنْوَاعِ، أَوْ أَفْرَدَ فِي الْأَوَّلِ لِنِعْمَتِهِ الْبَدَنِيَّةِ فَقَطْ بِخِلَافِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِنَّهُ انْضَمَّ مَعَهَا النِّعْمَةُ الْمَالِيَّةُ أَوِ الْعِلْمِيَّةُ (فَعَرَفَهَا) : بِالتَّخْفِيفِ

أَيْ: تَذَكَّرَهَا فَكَأَنَّهُ مِنَ الْهَوْلِ وَالدَّهْشَةِ، نَسِيَهَا وَذَهَلَ عَنْهَا (فَقَالَ تَعَالَى: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟) أَيْ: فِي مُقَابَلَتِهَا شُكْرًا لَهَا أَيْ فِي أَيَّامِهَا لِيَنْفَعَكَ الْيَوْمَ (قَالَ) : أَيِ الرَّجُلُ (قَاتَلْتُ فِيكَ) أَيْ: جَاهَدْتُ فِي جِهَتِكَ خَالِصًا لَكَ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. أَيْ: حَارَبْتُ لِأَجْلِكَ فَفِي تَعْلِيلِيَّةٌ (حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَقُولَ صَدَرَ مِنْهُ عَلَى زَعْمِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّمْوِيهِ الْمُعْتَادِ بِهِ عَلَى مَا وَرَدَ: كَمَا يَعِيشُونَ يَمُوتُونَ وَكَمَا يَمُوتُونَ يُحْشَرُونَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18] (قَالَ) : تَعَالَى (كَذَبْتَ) أَيْ: فِي دَعْوَى الْإِخْلَاصِ أَوْ فِي هَذَا الْقَوْلِ (وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ) أَيْ: فِي حَقِّكَ أَنَّكَ أَوْ هُوَ (جَرِيءٌ) فَعِيلٌ مِنَ الْجَرَاءَةِ فَهُوَ مَهْمُوزٌ، وَقَدْ يُدْغَمُ أَيْ: شُجَاعٌ (فَقَدْ قِيلَ) أَيْ ذَلِكَ الْقَوْلُ لَكَ وَفِي شَأْنِكَ فَحَصَلَ مَقْصُودُكَ وَغَرَضُكَ (ثُمَّ أَمَرَ بِهِ) أَيْ: قِيلَ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ أَلْقُوهُ فِي النَّارِ (فَسُحِبَ) أَيْ: جُرَّ (عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ) : مُبَالَغَةً فِي تَنْكِيلِهِ (وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ) : أَيِ: الشَّرْعِيَّ (وَعَلَّمَهُ) : أَيِ: النَّاسَ، أَيْ: وَصَلَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ وَالتَّكْمِيلِ (وَقَرَأَ الْقُرْآنَ) : فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، يَعْنِي: التَّعَلُّمُ وَالتَّعْلِيمُ لَمْ يَمْنَعَاهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا أَظْهَرُ (فَأَتَى بِهِ) : إِلَى مَحْضَرِ الْحِسَابِ (فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ) : تَعَالَى أَوْ نِعَمَ الرَّجُلِ (فَعَرَفَهَا) : فَكَأَنَّهُ لِغَفْلَتِهِ عَنْهَا كَانَ أَنْكَرَهَا (قَالَ) : تَعَالَى (فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا) أَيْ: هَلْ صَرَفْتَهَا فِي مَرْضَاتِي أَمْ فِي غَيْرِهَا (قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ) أَيْ: صَرَفْتُ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْقِرَاءَةِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِكَ وَشُكْرًا لِنِعْمَتِكَ (قَالَ: كَذَبْتَ) : فِي دَعْوَى مَقَامِ الْإِخْلَاصِ أَوْ عَلَى مُقْتَضَى عَادَتِكَ (وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: إِنَّكَ عَالِمٌ) : وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ إِنَّكَ مُعَلِّمٌ؛ لِلِاخْتِصَارِ وَاكْتِفَاءً بِالْمُقَايَسَةِ، أَوْ لِأَنَّ أَسَاسَ الشَّيْءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِخْلَاصِ، فَيَبْعُدُ بِنَاؤُهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ (وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ) : لَكَ عَالِمٌ وَقَارِئٌ فَمَا لَكَ عِنْدَنَا أَجْرٌ (ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ) . نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا (وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ: كَثُرَ مَالُهُ (وَأَعْطَاهُ) : عَطْفُ بَيَانٍ (مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ) : كَالنُّقُودِ وَالْمَتَاعِ وَالْعَقَارِ وَالْمَوَاشِي (فَأَتَى بِهِ) : عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ لِلِافْتِضَاحِ (فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ) : تَعَالَى (فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟) أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ أَوْ فِي الْأَمْوَالِ (قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ) " مِنْ " زَائِدَةٌ تَأْكِيدًا لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ (تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا) : كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ (إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ) أَيْ: فِي قَوْلِكَ: لَكَ (وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ) أَيْ: سَخِيُّ كَرِيمٌ (فَقَدْ قِيلَ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ عَمِلَ لِأَيِّ غَرَضٍ يَكُونُ (ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ) : (ثُمَّ) : هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الصَّحِيحُ مِنَ النُّسَخِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَفِي نُسْخَةٍ هُنَا أَيْضًا (حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

206 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ; اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 206 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ ": الْمُرَادُ بِهِ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا (انْتِزَاعًا) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ عَلَى مَعْنَى يَقْبِضُ نَحْوَ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَقَوْلُهُ (يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ) : صِفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلنَّوْعِ كَذَا قَالَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: انْتِزَاعًا مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ يَعْنِي لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ مِنَ الْعِبَادِ بِأَنْ يَرْفَعَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ (وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ) أَيْ: يَرْفَعُهُ (بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ) أَيْ: بِمَوْتِهِمْ وَرَفْعِ أَرْوَاحِهِمْ (حَتَّى) : هِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَهِيَ هُنَا الشُّرَطُ وَالْجَزَاءُ يَعْنِي (إِذَا لَمْ يُبْقِ) : أَيِ: اللَّهُ (عَالِمًا) : بِقَبْضِ رُوحِهِ مِنَ الْإِبْقَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ: حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ، وَعَالِمٌ بِالرَّفْعِ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا (اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا) أَيْ خَلِيفَةً وَقَاضِيًا وَمُفْتِيًا وَإِمَامًا وَشَيْخًا " (جُهَّالًا) : جَمْعُ جَاهِلٍ أَيْ جَهَلَةً بِمَا يُنَاسِبُ مَنْصِبَهُ. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَاهُ فِي الْبُخَارِيِّ رُءُوسًا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالتَّنْوِينِ جَمْعُ رَأْسٍ، وَضَبَطُوهُ فِي مُسْلِمٍ هُنَا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا وَالثَّانِي رُؤَسَاءُ جَمْعُ رَئِيسٍ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ (فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا) أَيْ: أَجَابُوا وَحَكَمُوا (بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا) أَيْ: صَارُوا ضَالِّينَ (وَأَضَلُّوا) أَيْ مُضِلِّينَ لِغَيْرِهِمْ فَيَعُمُّ الْجَهْلُ الْعَالَمَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

207 - وَعَنْ شَقِيقٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 207 - (وَعَنْ شَقِيقٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ، يُكَنَّى أَبَا وَائِلٍ الْأَسَدِيَّ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَهُوَ ثِقَةٌ حُجَّةٌ، رَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَ خِصِّيصًا بِهِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ مَاتَ زَمَنَ الْحَجَّاجِ قَالَهُ الْمُصَنِّفُ. (قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُذَكِّرُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يَعِظُ (النَّاسَ) : وَيُخَوِّفُهُمْ أَيْ: يَذْكُرُ كَلَامَ اللَّهِ وَحَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ (فِي كُلِّ خَمِيسٍ) . وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ لِيَصِلَ بَرَكَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ) : يُحْتَمَلُ الرَّاوِي وَغَيْرُهُ (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ) أَيْ: أَحْبَبْتُ أَوْ تَمَنَّيْتُ (أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ) : لِغَلَبَةِ الْغَفْلَةِ عَلَيْنَا لِيَعُودَ بِتَذْكِيرِكَ الْحُضُورُ إِلَيْنَا (قَالَ: أَمَا) : بِمَعْنَى أَلَا لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِنَ التَّذْكِيرِ كُلَّ يَوْمٍ (أَنِّي أَكْرَهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَاعِلُ يَمْنَعُنِي، أَيْ: كَرَاهَتِي (أَنْ أُمِلَّكُمْ) : مَفْعُولُ أَكْرَهُ أَيْ: إِمْلَالَكُمْ يَعْنِي إِيقَاعَكُمْ فِي الْمَلَالَةِ (وَإِنِّي) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَطْفٌ عَلَى " إِنَّهُ " أَوْ حَالٌ (أَتَخَوَّلُكُمْ) : مِنَ التَّخَوُّلِ، وَهُوَ التَّعَفُّفُ وَحَسْنُ الرِّعَايَةِ (بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَوَّلُنَا) : مِنَ التَّخَوُّلِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ تَفَقُّدُ الْحَالِ. رَوَى يَتَخَوَّنُنَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ بِمَعْنَى يَتَخَوَّلُنَا. قِيلَ: الرِّوَايَةُ بِاللَّامِ أَكْثَرُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَحَوَّلُنَا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ فِي الصِّحَاحِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ يَتَخَوَّنُنَا وَالتَّخَوُّنُ: التَّعَهُّدُ، وَقَدْ رَدَّ عَلَى الْأَعْمَشِ رِوَايَتَهُ بِاللَّامِ، وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَقُولُ: ظَلَمَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيُقَالُ: يَتَخَوَّلُنَا وَيَتَخَوَّنُنَا جَمِيعًا. كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، يَعْنِي يَتَفَقَّدُنَا (بِهَا) أَيْ: بِالْمَوْعِظَةِ فِي مَظَانِّ الْقَبُولِ، وَلَا يُكْثِرُ عَلَيْنَا وَلَا يَعِظُنَا مُتَوَالِيًا (مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا) . وَفِي الْمَصَابِيحِ: كَرَاهَةَ السَّآمَةِ أَيِ الْمَلَالَةِ إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْمَوْعِظَةِ عِنْدَ الْمَلَالَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ يَعِظُنَا يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ وَوَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، وَيُرْوَى بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا أَيْ: يَتَأَمَّلُ أَحْوَالَنَا الَّتِي نَنْشَطُ فِيهَا لِلْمَوْعِظَةِ فَيَعِظُنَا فِيهَا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْمَشَايِخُ وَالْوُعَّاظُ فِي تَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

208 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 208 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: غَالِبًا أَوْ أَحْيَانًا (إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ) أَيْ: بِجُمْلَةٍ مُفِيدَةٍ (أَعَادَهَا) أَيْ: كَرَّرَهَا (ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ) أَيْ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ (عَنْهُ) أَيْ: فَهْمًا قَوِيًّا رَاسِخًا فِي النَّفْسِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ الْكَلَامُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِالْإِعَادَةِ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الثَّلَاثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُقْتَضَى مَرَاتِبِ فُهُومِ النَّاسِ مِنَ الْأَدْنَى وَالْأَوْسَطِ وَالْأَعْلَى، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ لَمْ يَفْهَمْ فِي ثَلَاثِ مَرَّاتٍ لَمْ يَفْهَمْ أَبَدًا (وَإِذَا أَتَى) أَيْ: مَرَّ (عَلَى قَوْمٍ) : أَوْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) أَيْ: فَأَرَادَ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ (سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا) . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَعَلَّ هَذَا كَانَ هَدْيَهُ فِي السَّلَامِ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ سَلَامٌ وَاحِدٌ اهـ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمُوَاجِهِينَ ثُمَّ يَمْنَةً ثُمَّ يَسْرَةً، وَقِيلَ: هَذَا عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ أَيْ: إِذَا لَمْ يُؤْذَنْ بِمَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الِاسْتِئْذَانِ، وَقِيلَ: سَلَّمَ لِلِاسْتِئْذَانِ وَلِلتَّحِيَّةِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَلِلْوَدَاعِ عِنْدَ الْخُرُوجِ. وَهَذِهِ التَّسْلِيمَاتُ الثَّلَاثُ سُنَّةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ أَتَى شَخْصًا أَوْ قَوْمًا، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا كَمَا أَفَادَتْهُ " كَانَ " الْمُقْتَضِيَةُ لِتَكْرِيرِ الْفِعْلِ وَضْعًا عِنْدَ جَمَاعَةٍ وَعُرْفًا عِنْدَ آخَرِينَ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

209 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّهُ أُبْدِعَ بِي فَاحْمِلْنِي فَقَالَ: (مَا عِنْدِي) . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 209 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) : هُوَ أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ لِأَنَّهُ نَزَلَهُ فَنُسِبُ إِلَيْهِ، وَسَكَنَ الْكُوفَةَ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ بَشِيرٌ، وَخَلْقٌ سِوَاهُ. (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّهُ) الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (أُبْدِعَ بِي) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ يُقَالُ: أُبْدِعَتِ الرَّاحِلَةُ إِذَا انْقَطَعَتْ عَنِ السَّيْرِ لَهَا، لِكَلَالٍ جَعَلَ انْقِطَاعَهَا عَمَّا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً عَلَيْهِ إِبْدَاعًا عَنْهَا، أَيْ: إِنْشَاءَ أَمْرٍ خَارِجٍ عَمَّا اعْتِيدَ مِنْهَا، وَمَعْنَى أُبْدِعَ بِالرَّجُلِ، انْقَطَعَ بِهِ رَاحِلَتُهُ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، أَيِ: انْقَطَعَ رَاحِلَتِي بِي، وَلَمَّا حُوِّلَ لِلْمَفْعُولِ صَارَ الظَّرْفُ نَائِبَهُ كَسِيرَ بِعَمْرٍو، (فَاحْمِلْنِي) : بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ أَيْ: رَكِّبْنِي وَاجْعَلْنِي مَحْمُولًا عَلَى دَابَّةٍ غَيْرِهَا (فَقَالَ) : - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا عِنْدِي) أَيْ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ) أَيْ: مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَعُثْمَانَ أَوِ ابْنِ عَوْفٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَنْ دَلَّ) أَيْ: بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوِ الْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ (عَلَى خَيْرٍ) أَيْ: عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ مِمَّا فِيهِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ (فَلَهُ) : فَلِلدَّالِّ (مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: " «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْجَامِعِ، وَالضِّيَاءُ عَنْ بُرَيْدَةَ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: " «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَاللَّهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ» ". كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

210 - وَعَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا فِي صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ قَوْمٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] ، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي الْحَشْرِ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ " وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ". قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجَزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ. حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 210 - (وَعَنْ جَرِيرٍ) : هُوَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَمْرٍو، أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ جَرِيرٌ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ وَسَكَنَهَا زَمَانًا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى قَرْقِيسِيَا وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (قَالَ: كُنَّا فِي صَدْرِ النَّهَارِ) أَيْ: أَوَّلِهِ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَهُ قَوْمٌ عُرَاةٌ) أَيْ: يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْعُرْيُ حَالَ كَوْنِهِمْ (مُجْتَابِي) : هُوَ بِالْجِيمِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ بَاءٌ أَيْ لَابِسِي (النِّمَارِ) : بِكَسْرِ النُّونِ وَهِيَ أَكْسِيَةٌ مِنْ صُوفٍ مُخَطَّطَةٍ. وَاحِدَتُهَا نَمِرَةٌ بِفَتْحِ النُّونِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ (أَوِ الْعَبَاءِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، فَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ كِسَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَالنَّمِرَةُ: شَمْلَةٌ فِيهَا خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ، أَوْ بُرْدَةٌ مِنْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا الْأَعْرَابُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ أَوْ مُتَرَادِفَةٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ مُتَقَلِّدُونَ لِلسُّيُوفِ مِنْ جَوَانِبِهِمْ (وَمُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ) : كَذَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ بِالْوَاوِ، وَعَلَيْهِ صَحٌّ بِالْحُمْرَةِ، لَكِنْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ هَذِهِ الْوَاوُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ (عَامَّتُهُمْ) أَيْ: أَكْثَرُهُمْ (مِنْ مُضَرَ) : كَعُمَرَ، قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ (بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ) أَيْ مُبَالَغَةً (فَتَمَعَّرَ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: فَتَغَيَّرَ (وَجْهُ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وَظَهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ الْحُزْنِ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ) : أَيِ: الْفَقْرِ الشَّدِيدِ، وَمِنْ بَيَانٌ لِ " مَا "، يَعْنِي: لِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يُجْبِرُ كَسْرَهُمْ وَيُغْنِي فَقْرَهُمْ وَيَكْسِبُهُمْ وَيُعْطِيهُمْ مَا يُغْنِيهِمْ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ خُصُوصًا فِي حَقِّ أُمَّتِهِ (فَدَخَلَ) أَيْ فِي بَيْتِهِ لَعَلَّهُ يَلْقَى شَيْئًا مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ أَوْ لِتَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلْمَوْعِظَةِ (ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا) أَيْ بِالْأَذَانِ (فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ فَصَلَّى) أَيْ: إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ بِدَلِيلِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الظُّهْرُ أَوِ الْجُمُعَةُ لِقَوْلِهِ: فِي صَدْرِ النَّهَارِ (ثُمَّ خَطَبَ) أَيْ: وَعَظَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا فَوْقَ الْمِنْبَرِ أَوْ دُونَهُ (فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 1] : أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ غَالِبِيٌّ {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] أَيْ: عَذَابَهُ أَوْ مُخَالَفَتَهُ {الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء: 1] أَيْ: بِالْوَاسِطَةِ {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] : وَهِيَ آدَمُ (إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) : وَتَمَامُهَا {وَخَلَقَ مِنْهَا} [النساء: 1] أَيْ: مِنْ ضِلْعِهَا زَوْجَهَا أَيْ: حَوَّاءَ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ أَوْ لِلْحَالِ، وَقَدْ تُقَدَّرُ أَوْ لَا تُقَدَّرُ {وَبَثَّ مِنْهُمَا} [النساء: 1] أَيْ: فَرَّقَ مِنْ أَوْلَادِهِمَا بِوَسَطٍ أَوْ غَيْرِ وَسَطٍ. رُوِيَ أَنَّ بَنِي آدَمَ لِصُلْبِهِ أَرْبَعُونَ فِي عِشْرِينَ بَطْنًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ لِآدَمَ أَرْبَعُونَ وَلَدًا عِشْرُونَ غُلَامًا وَعِشْرُونَ جَارِيَةً " رِجَالًا " كَثِيرًا " وَنِسَاءً " أَيْ كَثِيرَةً، فَاكْتَفَى بِوَصْفِ الرِّجَالِ بِالْكَثْرَةِ عَنْ وَصْفِ النِّسَاءِ بِهَا، إِذِ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُنَّ أَكْثَرَ، وَتَذْكِيرُ الْكَثِيرِ حَمْلُ الْجَمْعِ دُونَ الْجَمَاعَةِ وَلِأَنَّ الْفَعِيلَ يَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ} [النساء: 1] بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ " بِهِ " أَيْ: بِاللَّهِ وَالْأَرْحَامَ بِالنَّصْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَطْفًا عَلَى الْجَلَالَةِ، أَيِ: اتَّقُوا قَطْعَهَا وَبِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ وَهُوَ جَائِزٌ فَصِيحٌ، وَأَخْطَأَ مَنْ ضَعَّفَهُ، وَكَانَ الْعَرَبُ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ كَذَا. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] أَيْ: مُطَّلِعًا عَلَى أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ فَرَاقِبُوا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا (وَالْآيَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا} [النساء: 1] عَلَى تَأْوِيلٍ " قَالَ " بِ " قَرَأَ " أَيْ: قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (الَّتِي فِي الْحَشْرِ) . اهـ. وَأَوَّلُهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 18] وَبَعْدَهُ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ} [الحشر: 18] وَهِيَ نَكِرَةٌ تُفِيدُ الْعُمُومَ

أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5] {مَا قَدَّمَتْ} [الانفطار: 5] : وَأَخَّرَتْ أَيْ: لِتَتَفَكَّرْ وَتَتَأَمَّلِ النُّفُوسُ مَا قَدَّمَتْ، أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْخَيْرَاتِ أَرْسَلَتْهُ إِلَى الْآخِرَةِ (لِغَدٍ) أَيْ: لِنَفْعِ الْغَدِ مِنَ الزَّمَانِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَتَمَامُهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْأَوَّلُ مَعْنَاهُ اتَّقُوا مُخَالَفَتَهُ، وَالثَّانِي اتَّقُوا عُقُوبَتَهُ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] أَيْ: عَالِمٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَيُخْبِرُكُمْ بِهَا وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَفِيهِ جَوَازُ تَقْطِيعِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِأَنْ يُؤْتَى بِبَعْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " تَصَدَّقَ رَجُلٌ ": بِفَتْحِ الْقَافِ وَتُسَكَّنُ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الظَّاهِرَ لِيَتَصَدَّقْ رَجُلٌ، وَلَامُ الْأَمْرِ لِلْغَائِبِ مَحْذُوفٌ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَنَقَلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ نَبْكِ فِي: قِفَا نَبْكِ مَجْزُومٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَمْرِ أَيْ: فَلْنَبْكِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا} [الحجر: 3] أَيْ: فَلْيَأْكُلُوا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} [الجاثية: 14] أَيْ: فَلْيَغْفِرُوا وَلَوْ حَمَلَ " تَصَدَّقَ " عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي لَمْ يُسَاعِدْهُ قَوْلُهُ: " وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " إِذِ الْمَعْنَى لِيَتَصَدَّقَ رَجُلٌ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، كَذَا قَوْلُهُ: فَجَاءَ رَجُلٌ. . إِلَخْ: لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِامْتِثَالِ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَقِيبَ الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَلِمَنْ يُجْرِيهِ عَلَى الْإِخْبَارِ وَجْهٌ، لَكِنْ فِيهِ تَعَسُّفٌ غَيْرُ خَافٍ اهـ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَيَأْبَى عَنِ الْحَمْلِ عَلَى حَذْفِ اللَّامِ عَدَمُ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ اهـ. فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لَفْظًا وَأَمْرٌ مَعْنًى، وَإِتْيَانُ الْإِخْبَارِ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَكَلُّفٌ فَضْلًا عَنْ تَعَسُّفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الصف: 11] : قِيلَ: إِنَّهُمَا بِمَعْنَى آمِنُوا وَجَاهِدُوا، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ " تَعْبُدُ اللَّهَ " بِمَعْنَى اعْبُدِ اللَّهَ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ أَبْلَغُ فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ وَامْتَثَلَ بِهِ فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا يُقَالُ هَذَا الْإِخْبَارُ مُضَارِعٌ وَالْكَلَامُ فِي الْمَاضِي، لِأَنَّ الْخَبَرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَبَرٌ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ مَاضِيًا أَوْ مُضَارِعًا مَعَ أَنَّ الْأَغْلَبِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ أَظْهَرُ فِي الْمَاضِي لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْآتِيَ: " فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ " حَمَلَ بَعْضُهُمْ " أَخَذَ " الثَّانِيَ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ. (مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مِنْ قَمْحِهِ وَحِنْطَتِهِ وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ شَعِيرِهِ (مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ) : وَإِعَادَةُ الْعَامِلِ تُفِيدُ الِاسْتِقْلَالَ وَتَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ الصَّاعُ مِنْهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَجُلٌ نَكِرَةٌ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْجَمْعِ الْمَعْرُوفِ لِإِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْإِفْرَادِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَشَجَرَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] فَإِنَّ شَجَرَةً وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْأَشْجَارِ، وَمِنْ ثَمَّ كَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ مِرَارًا بِلَا عَطْفٍ أَيْ: لِيَتَصَدَّقْ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، وَرَجُلٌ مِنْ دِرْهَمِهِ وَهَلُمَّ جَرًّا. وَ " مِنْ " فِي: " مِنْ دِينَارٍ "، إِمَّا تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: لِيَتَصَدَّقْ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَإِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ فَالْإِضَافَةُ بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ: لِيَتَصَدَّقْ بِمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] (حَتَّى قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَتَصَدَّقْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) : أَيِ: الرَّاوِي (فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ) : بِالضَّمِّ، أَيْ: رَبْطَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ (كَادَتْ كَفُّهُ) أَيْ قَارَبَتْ (تَعْجِزُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ (عَنْهَا) أَيْ: عَنْ حَمْلِ الصُّرَّةِ لِثِقَلِهَا لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا (بَلْ قَدْ عَجَزَتْ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتُكْسَرُ (ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ) أَيْ: تَوَالَوْا فِي إِعْطَاءِ الْخَيْرَاتِ وَإِتْيَانِ الْمَبَرَّاتِ (حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ) : الْكَوْمَةُ: بِالْفَتْحِ الصُّبْرَةُ (مِنْ طَعَامٍ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ هُنَا حُبُوبٌ، وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ النُّقُودِ لِغَلَبَتِهِ (وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ) : بَدَلٌ مِنْ حَتَّى الْأُولَى أَوْ غَايَةٌ لَهَا أَيْ:

حَتَّى أَبْصَرْتُ (وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَهَلَّلُ) أَيْ: يَسْتَنِيرُ وَيَظْهَرُ عَلَيْهِ أَمَارَاتُ السُّرُورِ (كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، بَعْدَهُ مُوَحَّدَةٌ، فِي مَا مُوِّهَ بِالذَّهَبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْهَاءِ وَالنُّونِ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الدُّهْمَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: مُدْهُنَةٌ بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَضَمِّ الْهَاءِ وَبِالنُّونِ، وَكَذَا ضَبَطَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الصَّفَاءُ وَالِاسْتِنَارَةُ، كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً» ) أَيْ: أَتَى بِطَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ يُقْتَدَى بِهِ فِيهَا (فَلَهُ أَجْرُهَا) أَيْ: أَجْرُ تِلْكَ السُّنَّةِ، أَيْ: ثَوَابُ الْعَمَلِ بِهَا. وَفِي نُسْخَةٍ: أَجْرُهُ، أَيْ: أَجْرُ مَنْ سَنَّ، يَعْنِي أَجْرَ عَمَلِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَلَهُ أَجْرُهَا، وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ رِوَايَةً وَمَعْنًى إِنَّمَا الصَّوَابُ أَجْرُهُ، وَالضَّمِيرُ لِصَاحِبِ الطَّرِيقَةِ، أَيْ: لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِسُنَّتِهِ، وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى السُّنَّةِ. (وَقَدْ وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ رُوَاةِ الْكِتَابَيْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ فِي شَيْءٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُورِدْهُ الْبُخَارِيُّ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَوُجِدَ فِي نُسَخٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ مُسْلِمٍ: أَجْرُهَا. وَعَلَى هَذَا شَرْحُ الْإِمَامِ النَّوَوِيِّ وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَتِهِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْأَجْرِ فَجَازَتِ الْإِضَافَةُ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ اتِّفَاقُ النُّسَخِ عَلَى وِزْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ (مِنْ بَعْدِهِ) : مِنْ بَيَانِ مِنْ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بَعْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ بَعْدَ مَمَاتِ مَنْ سَنَّهَا قُيِّدَ بِهِ لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَجْرَ يُكْتَبُ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا اهـ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ يُتَوَهَّمُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْأَجْرَ لَا يُكْتَبُ لَهُ وَهُوَ حَيٌّ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ مِنْ بَعْدِ مَا سَنَّهُ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ (مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ النَّقْصِ (وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً) أَيْ: بِدْعَةً مَذْمُومَةً عَمِلَ بِهَا (كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا) أَيْ: إِثْمُهَا (وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ) أَيْ: مِنْ جِهَةِ تَبَعِيَّتِهِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ) : تَقَدَّمَ (مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) : جَمَعَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى " مِنْ " كَمَا أَفْرَدَ فِي " يَنْقُصَ " بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

211 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ: (لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي) فِي بَابِ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 211 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا) : نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ (إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ) : صِفَةٌ لِابْنٍ، وَهُوَ قَابِيلُ قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ حِينَ تَزَوَّجَ كُلٌّ بِأُخْتِهِ الَّتِي مَعَ الْآخَرِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ شَرِيعَةَ آدَمَ أَنَّ بُطُونَ حَوَّاءَ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْأَقَارِبِ الْأَبَاعِدِ، وَحِكْمَتُهُ تَعَذُّرُ التَّزَوُّجِ فَاقْتَضَتْ مَصْلَحَةُ بَقَاءِ النَّسْلِ تَجْوِيزَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ قَتَلَ أَخَاهُ لِأَنَّ زَوْجَتَهُ كَانَتْ أَجْمَلَ، وَبَسْطُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي التَّفْسِيرِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّمَا قَيَّدَ بِالْأَوَّلِ لِئَلَّا يُشْتَبَهَ إِذْ فِي بَنِي آدَمَ كَثْرَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا أَنَّ قَضِيَّتَهُمَا كَانَتْ بَعْدَ بُطُونٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ أَيِ الْأَوَّلُ مِنَ الْقَتَلَةِ (كِفْلٌ) أَيْ: نَصِيبٌ (مِنْ دَمِهَا) أَيْ: دَمِ النَّفْسِ (لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) : وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي) فِي بَابِ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) . وَتَقَدَّمَ وَجْهُهُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 212 - عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ. قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ وَسَمَّاهُ التِّرْمِذِيُّ قَيْسَ بْنَ كَثِيرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 212 - (عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ) : ذَكَرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ أَيِ: الشَّامِ (فَجَاءَهُ) أَيْ: أَبَا الدَّرْدَاءِ (رَجُلٌ) أَيْ: مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ (فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ!) : يُقْرَأُ بِالْهَمْزَةِ بَعْدَ حَرْفِ النِّدَاءِ وَلَا يُكْتَبُ رَسْمًا (إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَرِهَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وَرَسُولِ غَيْرِهِ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ الْآيَةَ. لِأَنَّ خِطَابَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ تَشْرِيفٌ لَهُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَلَهُ تَعَالَى أَنْ يُخَاطِبَ عَبِيدَهُ بِمَا شَاءَ وَمِنْ ثَمَّ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] أَنَّهُ يَحْرُمُ نِدَاؤُهُ بِاسْمِهِ كَ " يَا مُحَمَّدُ "، أَوْ بِكُنْيَتِهِ كَ " يَا أَبَا الْقَاسِمِ ". قَالَ: وَإِنَّمَا يُنَادَى بِنَحْوِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ اهـ. وَفِيهِ: أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمَانِعَةَ مِنْ إِرَادَةِ الْإِشْرَاكِ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ بَلْ لَا يُتَوَهَّمُ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْوِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لِحَدِيثٍ) أَيْ: لِأَجْلِ تَحْصِيلِ حَدِيثٍ (بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْحَدِيثَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ إِجْمَالًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ الْحَدِيثَ، لَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ لِإِفَادَةِ الْعِلْمِ وَزِيَادَةِ يَقِينِهِ أَوْ لِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ فَإِنَّهُ مِنَ الدِّينِ (مَا جِئْتُ) : إِلَى الشَّامِ (لِحَاجَةٍ) : أُخْرَى، غَيْرَ أَنْ أُسْمِعَكَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ تَحْدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِمَا حَدَّثَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبَ الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ أَوْ يَكُونَ بَيَانًا أَنَّ سَعْيَهُ مَشْكُورٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا هُوَ مَطْلُوبُهُ، وَالْأَوَّلُ أَغْرَبُ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ (قَالَ) أَيْ: أَبُو الدَّرْدَاءِ (فَإِنِّي) أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنِّي (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ) أَيْ: دَخَلَ أَوْ مَشَى، (طَرِيقًا) أَيْ: قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا (يَطْلُبُ فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ أَوْ فِي ذَلِكَ الْمَسْلَكِ أَوْ فِي سُلُوكِهِ (عِلْمًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الطَّرِيقَ وَالْعِلْمَ لِيَشْمَلَا فِي جِنْسِهِمَا أَيَّ طَرِيقٍ كَانَ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ وَالضَّرْبِ فِي الْبُلْدَانِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ، وَأَيَّ عِلْمٍ كَانَ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا رَفِيعًا أَوْ غَيْرَ رَفِيعٍ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنِ الثَّوْرِيِّ: مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ نِيَّةٌ. قَالَ: طَلَبُهُمْ لَهُ نِيَّةٌ، أَيْ: سَبَبُهَا، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ اهـ. لِأَنَّهُ إِمَّا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ النَّافِلَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: الْعِلْمُ الْحِكْمَةُ وَهُوَ نُورٌ يَهْدِي اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَلَيْسَ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ اهـ. وَلَعَلَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَعْنَى الْآيَةِ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] " سَلَكَ اللَّهُ بِهِ ": الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى " مَنْ " وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: جَعَلَهُ سَالِكًا وَوَفَّقَهُ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: عَائِدٌ إِلَى الْعِلْمِ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَسَلَكَ بِمَعْنَى سَهَّلَ، وَالْعَائِدُ إِلَى " مَنْ " مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِسَبَبِ الْعِلْمِ (طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ) : فَعَلَى الْأَوَّلِ سَلَكَ مِنَ السُّلُوكِ، وَعَلَى الثَّانِي مِنَ السَّلْكِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17] قِيلَ: عَذَابًا مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ نِسْبَةُ سَلَكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ طُرُقَ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ، وَكُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِهَا، وَطُرُقُ الْعِلْمِ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَيْهَا وَأَعْظَمُ اهـ.

قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ طَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ تَنْكِيرِهِمَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ طُرُقَ الْجَنَّةِ مَحْصُورَةٌ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَوْلُ الصُّوفِيَّةِ الطُّرُقُ إِلَى اللَّهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ طَرِيقَ غَيْرِ الْعِلْمِ هُوَ طَرِيقُ الْجَهْلِ وَمَا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلِيًّا جَاهِلًا وَلَوِ اتَّخَذَهُ لَعَلَّمَهُ. (وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ) : اللَّامُ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ أَيْ: مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلَّهُمْ وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فِي قَوْلِهِ: (لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا) : حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ عَلَى مَعْنَى إِرَادَةِ رِضًا لِيَكُونَ فِعْلًا لِفَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُعَلِّلِ (لِطَالِبِ الْعِلْمِ) : اللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِرِضًا، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لِأَجْلِ الرِّضَا الْوَاصِلِ مِنْهَا إِلَيْهِ أَوْ لِأَجْلِ إِرْضَائِهَا الطَّالِبَ الْعِلْمَ بِمَا يَصْنَعُ مِنْ حِيَازَةِ الْوِرَاثَةِ الْعُظْمَى وَسُلُوكِ السَّنِّ الْأَسْنَى. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ وَغَيْرُهُ: قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَتَوَاضَعُ لِطَالِبِهِ تَوْقِيرًا لِعِلْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا، أَوِ الْمُرَادُ الْكَفُّ عَنِ الطَّيَرَانِ وَالنُّزُولِ لِلذِّكْرِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " وَحَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ " أَوْ مَعْنَاهُ الْمَعُونَةُ وَتَيْسِيرُ الْمُؤْنَةِ بِالسَّعْيِ فِي طَلَبِهِ أَوِ الْمُرَادُ تَلْيِينُ الْجَانِبِ وَالِانْقِيَادُ وَالْفَيْءُ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ وَالِانْعِطَافِ، أَوِ الْمُرَادُ حَقِيقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تُشَاهَدْ، وَهِيَ فَرْشُ الْجَنَاحِ وَبَسْطُهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ لِتَحْمِلَهُ عَلَيْهَا وَتُبَلِّغَهُ مَقْعَدَهُ مِنَ الْبِلَادِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ بِالْبَصْرَةِ فَحَدَّثَنَا هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِي الْمَجْلِسِ شَخْصٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَجَعَلَ يَسْتَهْزِئُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَطْرُقَنَّ غَدًا نَعْلِي وَأَطَأُ بِهَا أَجْنِحَةَ الْمَلَائِكَةِ فَفَعَلَ وَمَشَى فِي النَّعْلَيْنِ فَحَفَتْ رِجْلَاهُ وَوَقَعَتْ فِيهِمَا الْأَكَلَةُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: سَمِعْتُ ابْنَ يَحْيَى السَّاجِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَمْشِي فِي أَزِقَّةِ الْبَصْرَةِ إِلَى بَابِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ، وَكَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مَاجِنٌ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ فَقَالَ: ارْفَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَنْ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ لَا تَكْسِرُوهَا كَالْمُسْتَهْزِئِ بِالْحَدِيثِ، فَمَا زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى حَفَتْ رِجْلَاهُ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ اهـ. وَالْحَفَاءُ: رِقَّةُ الْقَدَمِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ «عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ. قَالَ: " مَرْحَبًا بِطَالِبِ الْعِلْمِ إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَتَحُفُّ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا فَيَرْكَبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَبْلُغَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا يَطْلُبُ» . نَقَلَهُ الشَّيْخُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ (وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مَجَازٌ مِنْ إِرَادَةِ اسْتِقَامَةِ حَالِ الْمُسْتَغْفَرِ لَهُ اهـ. وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ) : لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِتَعْرِيفِ الْعُلَمَاءِ وَعَظُمُوا بِقَوْلِهِمْ (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) : قِيلَ: فِيهِ تَغْلِيبٌ، وَالْمُرَادُ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ بَقَاءَهُمْ وَصَلَاحَهُمْ مَرْبُوطٌ بِرَأْيِ الْعُلَمَاءِ وَفَتْوَاهُمْ وَلِذَلِكَ قِيلَ: مَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ حَيِّهَا وَمَيِّتِهَا إِلَّا وَلَهُ مَصْلَحَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِلْمِ (وَالْحِيتَانُ) : جَمْعُ الْحُوتِ (فِي جَوْفِ الْمَاءِ) : خُصَّ لِدَفْعِ إِيهَامِ أَنَّ مَنْ فِي الْأَرْضِ لَا يَشْمَلُ مَنْ فِي الْبَحْرِ أَوْ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ بِأَنْ يُرَادَ بِالْحِيتَانِ جَمِيعُ دَوَابِّ الْمَاءِ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ عَوَالِمِ الْبَرِّ لِمَا جَاءَ: أَنَّ عَوَالِمَ الْبَرِّ أَرْبَعُمِائَةِ عَالَمٍ، وَعَوَالِمُ الْبَحْرِ سِتُّمِائَةِ عَالَمٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَخُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهَا فِي الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ إِذْ هِيَ فِي الْمَاءِ اهـ. وَبَيْنَ كَلَامَيْهِ تَنَاقُضٌ، نَعَمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا وَجَوَابًا ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ سَلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ فِي الْأَرْضِ يَشْمَلُهَا فَذَكَرَهَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ مَاءٌ، وَلِذَلِكَ اسْتَغْفَرَ لِلْعَالِمِ لِأَنَّ السَّبَبَ لِبَقَائِهِ مُخْتَصٌّ بِهِ قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَاءُ الْعِلْمُ وَالْأَوْدِيَةُ الْقُلُوبُ اهـ كَلَامُهُ، وَفِيهِ مَا فِيهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَخْصِيصُ الْحِيتَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْمَطَرِ بِبَرَكَتِهِمْ حَتَّى إِنَّ الْحِيتَانَ تَعِيشُ بِسَبَبِهِمْ اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ: بِهِمْ تُمْطَرُونَ وَبِهِمْ تُرْزَقُونَ (وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ) : أَيِ: الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِنَشْرِ الْعِلْمِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ (عَلَى الْعَابِدِ) أَيِ: الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ، وَهُوَ الَّذِي يَصْرِفُ أَوْقَاتَهُ بِالنَّوَافِلِ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِمَا تَصِحُّ بِهِ الْعِبَادَةُ (كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أَيْ: لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَبِهِ أَوَّلُ " طه " عَلَى حِسَابِ الْجُمَلِ، وَأُرِيدَ بِهِ

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الْمُشَبَّهَ بِهِ فِي نِهَايَةِ النُّورِ وَغَايَةِ الظُّهُورِ، فَيَكُونُ فِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ: " كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ " كَمَا فِي قَوْلِهِ (عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ) : إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» " فَإِنَّ نُورَ الْمُؤْمِنِ - وَلَوْ كَانَ عَابِدًا - ضَعِيفٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ لَا عَلَى عَالِمٍ فَقَطْ وَعَابِدٍ فَقَطْ، لِأَنَّ هَذَيْنِ لَا فَضْلَ لَهُمَا بَلْ إِنَّهُمَا مُعَذَّبَانِ فِي النَّارِ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الْعَمَلِ عَلَى الْعِلْمِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ، بَلْ وَرَدَ: «وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ، وَوَرَدَ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» ; لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضَالًّا مُضِلًّا. وَقَالَ الْقَاضِي: شَبَّهَ الْعَالِمَ بِالْقَمَرِ، وَالْعَابِدَ بِالْكَوْكَبِ، لِأَنَّ كَمَالَ الْعِبَادَةِ وَنُورَهَا لَا يَتَعَدَّى مِنَ الْعَابِدِ، وَنُورَ الْعَابِدِ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَضِيءُ بِنُورِهِ الْمُتَلَقِّي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْقَمَرِ يَتَلَقَّى نُورَهُ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ مِنْ خَالِقِهَا عَزَّ وَجَلَّ ( «وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» ) : وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَرَثَةُ الرُّسُلِ لِيَشْمَلَ الْكُلَّ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي: فَإِنَّ الْبَعْضَ وَرَثَةُ الرُّسُلِ كَأَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ، وَالْبَاقُونَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ (وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا) : بِالتَّشْدِيدِ (دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا) أَيْ: شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا وَخُصَّا لِأَنَّهُمَا أَغْلَبُ أَنْوَاعِهَا، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى زَوَالِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهَا إِلَّا بِقَدْرِ ضَرُورَتِهِمْ، فَلَمْ يُوَرِّثُوا شَيْئًا مِنْهَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ شَيْئًا مِنْهَا يُوَرَّثُ عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ مُبَالَغَةً فِي تَنَزُّهِهِمْ عَنْهَا، وَلِذَا قِيلَ: الصُّوفِيُّ لَا يَمْلِكُ وَلَا يُمَلِّكُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ طَالِبَ الدُّنْيَا لَيْسَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْوَرَثَةِ، وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَقَلُّ الْعِلْمِ بَلْ أَقَلُّ الْإِيمَانِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَأَنَّ الْعُقْبَى بَاقِيَةٌ. وَنَتِيجَةُ هَذَا الْعِلْمِ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ الْفَانِي وَيُقْبِلَ عَلَى الْبَاقِي. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: خَصُّوا الدِّرْهَمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَفْيَ الدِّينَارِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ هُنَا، وَالْعَطْفُ يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَإِنَّمَا زِيدَتْ لَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَرِدُ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَهُ صَفَايَا بَنِي النَّضِيرِ وَفَدَكَ وَخَيْبَرَ إِلَى أَنْ مَاتَ وَخَلَّفَهَا، وَكَانَ لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ أَيُّوبُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَوِي نِعْمَةٍ كَثِيرَةٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَا وَرِثَتْ أَوْلَادُهُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ بَقِيَ بَعْدَهُمْ مُعَدًّا لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ اهـ. وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ يَوْمًا فِي السُّوقِ بِقَوْمٍ مُشْتَغِلِينَ بِتِجَارَاتِهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ هَاهُنَا، وَمِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسَّمُ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَامُوا سِرَاعًا إِلَيْهِ فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ إِلَّا الْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ وَمَجَالِسَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: أَيْنَ مَا قُلْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: هَذَا مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسَّمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَلَيْسَ بِمَوَارِيثِهِ دُنْيَاكُمْ (وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ) : لِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَنَشْرِ الْأَحْكَامِ، أَوْ بِأَحْوَالِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى تَبَايُنِ أَجْنَاسِهِ وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ (فَمَنْ أَخَذَهُ) : أَيِ: الْعِلْمَ (أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) أَيْ: أَخَذَ حَظًّا وَافِرًا يَعْنِي نَصِيبًا تَامًّا أَيْ: لَا حَظَّ أَوْفَرُ مِنْهُ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَوِ الْمُرَادُ أَخْذُهُ مُتَلَبِّسًا بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " أَخَذَ " بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ: فَمَنْ أَرَادَ أَخْذَهُ فَلْيَأْخُذْ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَلَا يَقْتَنِعْ بِقَلِيلٍ. هَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ الشَّرْحِ هُنَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَسَمَّاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: كَثِيرَ بْنَ قَيْسٍ (قَيْسَ بْنَ كَثِيرٍ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَثِيرُ بْنُ قَيْسٍ. قَالَ مَيْرَكُ شَاهُ: وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمِشْكَاةِ: قَيْسُ بْنُ كَثِيرٍ سَمِعَ أَبَا الدَّرْدَاءِ. هَكَذَا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ وَقَالَ: كَذَا حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَثِيرُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَذَلِكَ سَمَّاهُ أَبُو دَاوُدَ كَثِيرَ بْنَ قَيْسٍ، وَأَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ كَثِيرٍ لَا فِي بَابِ قَيْسٍ.

213 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 213 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: ذُكِرَ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: وُصِفَ (لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ) أَيْ: بِوَصْفِ الْكَمَالِ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا وَأَنْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ فِي الْخَارِجِ قَبْلَ زَمَانِهِ أَوْ فِي أَوَانِهِ (أَحَدُهُمَا عَابِدٌ) أَيْ: كَامِلٌ فِي الْعِبَادَةِ (وَالْآخَرُ عَالِمٌ) أَيْ: كَامِلٌ بِالْعِلْمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : لَا يَسْتَوِيَانِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَامِلًا فِي مَقَامِهِ (فَضْلُ الْعَالِمِ) بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ الْقِيَامِ بِفَرَائِضِ الْعُبُودِيَّةِ (عَلَى الْعَابِدِ) أَيْ: عَلَى الْمُتَجَرِّدِ لِلْعِبَادَةِ بَعْدَ تَحْصِيلِ قَدْرِ الْفَرْضِ مِنَ الْعُلُومِ (كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ) : وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: كَفَضْلِي عَلَى أَعْلَاكُمْ لَكَفَى فَضْلًا وَشَرَفًا، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ " مَعَ إِفَادَةِ التَّوَاضُعِ فِي الثَّانِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِيهِمَا لِلْجِنْسِ فَالْحُكْمُ عَامٌّ، وَيُحْتَمَلُ الْعَهْدُ فَغَيْرُهُمَا يُؤْخَذُ بِالْمُقَايَسَةِ. (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ تَعْلِيلٌ (وَمَلَائِكَتَهُ) أَيْ: حَمَلَةَ الْعَرْشِ (وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (وَالْأَرْضِ) أَيْ: أَهْلَ الْأَرْضِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ (حَتَّى النَّمْلَةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ حَتَّى عَاطِفَةٌ، وَبِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا جَارَّةٌ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (فِي جُحْرِهَا) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، أَيْ: ثُقْبِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصَلَاتُهُ بِحُصُولِ الْبَرَكَةِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ (وَحَتَّى الْحُوتَ) : كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُمَا غَايَتَانِ مُسْتَوْعِبَتَانِ لِدَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَخُصَّتِ النَّمْلَةُ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْحَيَوَانَاتِ ادِّخَارًا لِلْقُوتِ فِي جُحْرِهَا فَهِيَ أَحْوَجُ إِلَى بَرَكَتِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَخْصِيصِ الْحُوتِ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ، وَقِيلَ: وَجْهُ تَخْصِيصِهِمَا بِالذِّكْرِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقِيلَ: إِلَى الْجِنْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْقَتْلُ وَغَيْرِهِ (لَيُصَلُّونَ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ لِلْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، أَيْ: يَدْعُونَ بِالْخَيْرِ (عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ) : قِيلَ: أَرَادَ بِالْخَيْرِ هَنَا عِلْمَ الدِّينِ وَمَا بِهِ نَجَاةُ الرَّجُلِ، وَلَمْ يُطْلِقِ الْمُعَلِّمَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدُّعَاءِ لِأَجْلِ تَعْلِيمِ عِلْمٍ مُوصِلٍ إِلَى الْخَيْرِ اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ الْأَفْضَلِيَّةِ بِأَنَّ نَفْعَ الْعِلْمِ مُتَعَدٍّ وَنَفْعَ الْعِبَادَةِ قَاصِرٌ، مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ فِي نَفْسِهِ فَرْضٌ، وَزِيَادَةَ الْعِبَادَةِ نَافِلَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : يَعْنِي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا.

214 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا، وَلَمْ يَذْكُرْ: رَجُلَانِ وَقَالَ: ( «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] » وَسَرَدَ الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 214 - (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ) : وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ مِنْ سَبْيِ كَابُلَ، كَانَ مُعَلِّمَ الْأَوْزَاعِيِّ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ بِالْمَدِينَةِ، وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالْبَصْرَةِ، وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ مَكْحُولٍ أَبْصَرُ بِالْفُتْيَا مِنْهُ، وَكَانَ لَا يُفْتِي حَتَّى يَقُولَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. هَذَا رَأْيِي. وَالرَّأْيُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (مُرْسَلًا) : يَعْنِي حَذْفَ الصَّحَابِيِّ (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ مَكْحُولٌ (رَجُلَانِ) : رَفَعَهُ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَالْمُرَادُ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ، وَلِذَا قَالَ (وَقَالَ) أَيْ مَكْحُولٌ رِوَايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِكَايَةَ (فَضْلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ) : وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْجِنْسِيَّةَ فِيمَا تَقَدَّمَ (كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ) أَيْ: أَيُّهَا الصَّحَابَةُ أَوْ أَيُّهَا

الْأُمَّةُ، وَالثَّانِي أَكْثَرُ مُبَالَغَةً (ثُمَّ تَلَا) أَيْ: مَكْحُولٌ أَوْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (هَذِهِ الْآيَةَ) : اسْتِشْهَادًا أَوْ تَصْدِيقًا {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} [فاطر: 28] : بِالنَّصْبِ {مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] : بِالرَّفْعِ، وَالْخَشْيَةُ خَوْفٌ مَعَ التَّعْظِيمِ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِرَفْعِ الْجَلَالَةِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ، أَيْ: يُعَظِّمُ عَلَى التَّجْرِيدِ، قِيلَ: اسْتِشْهَادٌ لِبَيَانِ عِلَّةِ الْفَضْلِ لِأَنَّ الْعَالِمَ الْحَقِيقِيَّ أَعْرَفُ بِاللَّهِ وَبِجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ مِنَ الْعَابِدِ الَّذِي غَلَبَتْ عِبَادَتُهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَيَكُونُ الْعَالِمُ أَتْقَى. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعِلْمَ يُوَرِّثُ الْخَشْيَةَ وَهِيَ تُنْتِجُ التَّقْوَى وَهُوَ مُوجَبُ الْأَكْرَمِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمُهُ كَذَلِكَ فَهُوَ كَالْجَاهِلِ، بَلْ هُوَ الْجَاهِلُ، وَلِذَا قِيلَ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلْعَالِمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَأَطْبَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] (وَسَرَدَ) أَيْ: ذَكَرَ وَأَوْرَدَ مَكْحُولٌ (الْحَدِيثَ) أَيْ: بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ (إِلَى آخِرِهِ) .

215 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ، وَإِنَّ رِجَالًا يَأْتُونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 215 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ النَّاسَ) أَيْ: جِنْسَهُمْ (لَكُمْ تَبَعٌ) : جَمْعُ تَابِعٍ كَخَدَمٍ وَخَادِمٍ، وَقِيلَ: وَضَعَ الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ مُبَالَغَةً كَرَجُلٍ عَدْلٍ، وَالْخِطَابُ لِعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، يَعْنِي أَنَّ النَّاسَ يَتَّبِعُونَكُمْ فِي أَفْعَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ، لِأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ عَنِّي مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ أَقْوَالِي، وَالطَّرِيقَةَ أَفْعَالِي، وَالْحَقِيقَةَ أَحْوَالِي، وَفِيهِ مَأْخَذٌ لِتَسْمِيَةِ التَّابِعِيِّ تَابِعِيًّا، وَإِنْ كَانَتِ التَّبَعِيَّةُ عَامَّةً بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ (وَإِنَّ رِجَالًا) : أَوْ نَوْعًا مِنْهُمْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الرُّجُولِيَّةُ الْكَامِلَةُ (يَأْتُونَكُمْ) أَيْ: بِجِهَادِ أَنْفُسِهِمْ طَالِبِينَ خَالِصِينَ مُتَوَاضِعِينَ (مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ) أَيْ: جَوَانِبِهَا (يَتَفَقَّهُونَ) أَيْ: يَطْلُبُونَ الْفِقْهَ (فِي الدِّينِ) : وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِبَيَانِ عِلَّةِ الْإِتْيَانِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْمَرْفُوعِ فِي يَأْتُونَكُمْ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الذَّوْقِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ (فَإِذَا أَتَوْكُمْ) أَيْ: بِهَذَا الْقَصْدِ وَآثَرَهَا عَلَى " إِنَّ " لِإِفَادَتِهَا تَحْقِيقَ وُقُوعِ هَذَا الْأَمْرِ، فَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ وَبِوَاهِرِ مُعْجِزَتِهِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ (فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا) أَيْ: فِي تَعْلِيمِهِمْ عُلُومَ الدِّينِ وَأَخْلَاقِ الْمُهْتَدِينَ كَمَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «إِذَا رَأَيْتَ لِي طَالِبًا فَكُنْ لَهُ خَادِمًا» "، وَتَحْقِيقُهُ اطْلُبُوا الْوَصِيَّةَ وَالنَّصِيحَةَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَالسِّينُ لِلطَّلَبِ، وَالْكَلَامُ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ أَيْ: لِيُجَرِّدْ كُلٌّ مِنْكُمْ شَخْصًا مِنْ نَفْسِهِ وَيَطْلُبْ مِنْهُ التَّوْصِيَةَ فِي حَقِّ الطَّالِبِينَ وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمْ، وَقِيلَ: الِاسْتِيصَاءُ طَلَبُ الْوَصِيَّةِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِأَحَدٍ أَوْ بِشَيْءٍ، يُقَالُ: اسْتَوْصَيْتُ زَيْدًا بِعَمْرٍو خَيْرًا، أَيْ: طَلَبْتُ مِنْ زَيْدٍ أَنْ يَفْعَلَ بِعَمْرٍو خَيْرًا، وَالْبَاءُ فِي بِهِمْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقِيلَ: الِاسْتِيصَاءُ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ وَمَعْنَاهُ اقْبَلُوا الْوَصِيَّةَ مِنِّي بِإِيتَائِهِمْ خَيْرًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُرُوهُمْ بِالْخَيْرِ وَعِظُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ إِيَّاهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

216 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْحَكِيمِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ الرَّاوِي يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 216 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْكَلِمَةُ) : أَيِ: الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ (الْحِكْمَةُ) ، قَالَ مَالِكٌ: هِيَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ. قَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] الْآيَةَ. وَقِيلَ: الَّتِي أُحْكِمَتْ مَبَانِيهَا بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ دَالَّةً عَلَى مَعْنًى فِيهِ دِقَّةٌ مَصُونَةٌ مَعَانِيهَا عَنِ الِاخْتِلَالِ وَالْخَطَأِ وَالْفَسَادِ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: جُعِلَتِ الْكَلِمَةُ نَفْسَ الْحِكْمَةِ مُبَالَغَةً كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ عَدْلٌ، وَيُرْوَى كَلِمَةُ الْحِكْمَةِ بِالْإِضَافَةِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَيُرْوَى الْكَلِمَةُ الْحَكِيمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ الْحَكَمَ قَائِلُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يس - وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1 - 2] كَذَا فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ، وَذَكَرَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] وُصِفَ بِالْحَكِيمِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْحُكْمِ فَعَلَى هَذَا هُوَ يُفِيدُ وَجْهًا آخَرَ فِي الْكَلِمَةِ الْحَكِيمَةِ، وَقِيلَ: الْحَكِيمَةُ بِمَعْنَى الْمُحْكَمَةِ أَوِ الْحَاكِمَةِ (ضَالَّةُ الْحَكِيمِ) أَيْ: مَطْلُوبُهُ وَالْحَكِيمُ هُوَ الْمُتْقِنُ لِلْأُمُورِ الَّذِي لَهُ فِيهَا غَوْرٌ (فَحَيْثُ وَجَدَهَا) : أَيِ: الْحَكِيمُ الْحِكْمَةَ (فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) أَيْ: بِقَبُولِهَا، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: يَعْنِي أَنَّ الْحَكِيمَ يَطْلُبُ الْحِكْمَةَ، فَإِذَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا أَيْ بِالْعَمَلِ بِهَا وَاتِّبَاعِهَا، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ كَلِمَةَ الْحِكْمَةِ رُبَّمَا تَفَوَّهَ بِهَا مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، ثُمَّ وَقَعَتْ إِلَى أَهْلِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ قَائِلِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى خَسَاسَةِ مَنْ وَجَدَهَا عِنْدَهُ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي وَاسْتِنْبَاطِ الْحَقَائِقِ الْمُحْتَجَبَةِ وَاسْتِكْشَافِ الْأَسْرَارِ الْمَرْمُوزَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ إِدْرَاكِ حَقَائِقِ الْآيَاتِ وَدَقَائِقِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَنْ رُزِقَ فَهْمًا وَأُلْهِمَ تَحْقِيقًا كَمَا لَا يُنَازَعُ صَاحِبُ الضَّالَّةِ فِي ضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا، أَوْ كَمَا أَنَّ الضَّالَّةَ إِذَا وُجِدَتْ مُضَيَّعَةً فَلَا تُتْرَكُ بَلْ تُؤْخَذُ وَيُتَفَحَّصُ عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ السَّامِعُ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَلَا يَبْلُغُ كُنْهَهُ، فَعَلَيْهِ أَلَّا يُضَيِّعَهُ وَأَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، فَلَعَلَّهُ يَفْهَمُ أَوْ يَسْتَنْبِطُ مِنْهُ مَا لَا يَفْهَمُهُ وَلَا يَسْتَنْبِطُهُ هُوَ، أَوْ كَمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَنْعُ صَاحِبِ الضَّالَّةِ عَنْهَا فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهَا كَذَلِكَ الْعَالِمُ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَعْنًى لَا يَحِلُّ لَهُ كِتْمَانُهُ إِذَا رَأَى فِي السَّائِلِ اسْتِعْدَادًا لِفَهْمِهِ كَذَا قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ الرَّاوِي) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ (يُضَعَّفُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُنْسَبُ إِلَى ضَعْفِ الرِّوَايَةِ (فِي الْحَدِيثِ) . أَيْ: فِي بَابِ نَقْلِ الْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ وَكَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَا قَالَ مَوْقُوفًا: انْظُرْ إِلَى مَا قَالَ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ قَالَ.

217 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 217 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَقِيهٌ وَاحِدٌ) أَيْ: بَقَاؤُهُ وَحَيَاتُهُ (أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ) : لِأَنَّ الْفَقِيهَ لَا يَقْبَلُ إِغْوَاءَهُ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالْخَيْرِ عَلَى ضِدِّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِالشَّرِّ (مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ) . قِيلَ: الْمُرَادُ الْكَثْرَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ كُلَّمَا فَتَحَ بَابًا مِنَ الْأَهْوَاءِ عَلَى النَّاسِ، وَزَيَّنَ الشَّهَوَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ بَيَّنَ الْفَقِيهُ الْعَارِفُ بِمَكَائِدِهِ وَمَكَامِنِ غَوَائِلِهِ لِلْمُرِيدِ السَّالِكِ مَا يَسُدُّ ذَلِكَ الْبَابَ، وَيَجْعَلُهُ خَائِبًا خَاسِرًا بِخِلَافِ الْعَابِدِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ. وَهُوَ فِي حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ وَلَا يَدْرِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ الرَّبِيعُ، حَدِيثُ: «لَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِهِ فِي حَدِيثٍ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: سَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ أَسَانِيدُهَا ضَعِيفَةٌ اهـ. لَكِنَّ كَثْرَةَ طُرُقِهِ تُخْرِجُهُ عَنِ الضَّعْفِ خُصُوصًا حَيْثُ اعْتَضَدَهُ بِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

218 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّوْلُؤَ وَالذَّهَبَ» ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) إِلَى قَوْلِهِ (مُسْلِمٍ) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مَتْنُهُ مَشْهُورٌ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ كُلُّهَا ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 218 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (طَلَبُ الْعِلْمِ) أَيِ: الشَّرْعِيِّ (فَرِيضَةٌ) أَيْ: مَفْرُوضٌ فَرْضَ عَيْنٍ (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) : أَوْ كِفَايَةٍ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ وَمُسْلِمَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. قَالَ الشُّرَّاحُ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ مَا لَا مَنْدُوحَةَ لِلْعَبْدِ مِنْ تَعَلُّمِهِ كَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ وَالْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَنُبُوَّةِ رَسُولِهِ وَكَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَأَمَّا بُلُوغُ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْفُتْيَا فَفَرْضُ كِفَايَةٍ. قَالَ السَّيِّدُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُمَّ الْعِلْمَ وَيُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ اهـ. وَفِيهِ تَأَمُّلٌ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ وَتَحَزَّبُوا فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ فِرْقَةً، فَكَانَ فَرِيقٌ نَزَّلَ الْوُجُوبَ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي بِصَدَدِهِ اهـ. قَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ الرَّبَّانِيُّ السَّهَرْوَرْدِيُّ: اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرِيضَةٌ. قِيلَ: هُوَ عِلْمُ الْإِخْلَاصِ وَمَعْرِفَةُ آفَاتِ النَّفْسِ وَمَا يُفْسِدُ الْأَعْمَالَ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ مَأْمُورٌ بِهِ، فَصَارَ عِلْمُهُ فَرْضًا آخَرَ، وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الْخَوَاطِرِ وَتَفْصِيلُهَا فَرِيضَةٌ لِأَنَّ الْخَوَاطِرَ هِيَ مَنْشَأُ الْفِعْلِ، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ وَلَمَّةِ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: هُوَ طَلَبُ عِلْمِ الْحَلَالِ حَيْثُ كَانَ أَكْلُ الْحَلَالِ وَاجِبًا، وَقِيلَ: عِلْمُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَقِيَامُ عِلْمِ الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ، وَقِيلَ: هُوَ طَلَبُ عِلْمِ التَّوْحِيدِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالنَّقْلِ، وَقِيلَ: هُوَ طَلَبُ عِلْمِ الْبَاطِنِ وَهُوَ مَا يَزْدَادُ بِهِ الْعَبْدُ يَقِينًا، وَهُوَ الَّذِي يُكْتَسَبُ بِصُحْبَةِ الصَّالِحِينَ وَالزُّهَّادِ الْمُقَرَّبِينَ، فَهُمْ وُرَّاثُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ اهـ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْضُ قَبْلَ الْفَرْضِ؟ فَقُلِ: الْعِلْمُ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْضُ فِي الْفَرْضِ؟ فَقُلِ: الْإِخْلَاصُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْضُ بَعْدَ الْعَمَلِ؟ فَقُلِ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ. (وَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ) : بِأَنْ يُحَدِّثَهُ مَنْ لَا يَفْهَمُهُ، أَوْ مَنْ يُرِيدُ مِنْهُ غَرَضًا دُنْيَوِيًّا، أَوْ مَنْ لَا يَتَعَلَّمُهُ لِلَّهِ (كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ (وَالذَّهَبَ) : قِيلَ: يُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِاسْتِعْدَادٍ وَلَهُ أَهْلٌ، فَإِذَا وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَقَدْ ظَلَمَ، فَمَثَّلَ مَعْنَى الظُّلْمِ بِتَقْلِيدِ أَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ بِأَنْفَسِ الْجَوَاهِرِ تَهْجِينًا لِذَلِكَ الْوَضْعِ وَتَنْفِيرًا عَنْهُ، وَلِذَا قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهِ وَجْهَهُ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَوْ يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَيْ: إِذَا سَمِعُوا مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ عُقُولُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُبَادِرُونَ إِلَى تَكْذِيبِهِ، وَفِي تَعْقِيبِ هَذَا التَّمْثِيلِ بِقَوْلِهِ: طَلَبُ الْعِلْمِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّلَبِ طَلَبٌ مِنَ الْمُسْتَعِدِّينَ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ: يُوَافِقُ مَنْزِلَتَهُ بَعْدَ حُصُولِ مَا هُوَ وَاجِبٌ مِنَ الْفَرَائِضِ الْعَامَّةِ، وَعَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَخُصَّ كُلَّ طَالِبٍ بِمَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . يَعْنِي: بِكَمَالِهِ، وَغَيْرُهُ. كَذَا فِي التَّرْغِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ إِلَى قَوْلِهِ: (مُسْلِمٍ) وَقَالَ: أَيِ: الْبَيْهَقِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ مَتْنُهُ مَشْهُورٌ) أَيْ: عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ كَذَا فِي بِدَايَةِ الْجَزَرِيِّ (وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ) ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ (وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ) . لَكِنَّ كَثْرَةَ الطُّرُقِ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَيَقْوَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. قَالَ الْمِزِّيُّ تِلْمِيذُ النَّوَوِيِّ: إِنَّ طُرُقَهُ تَبْلُغُ رُتْبَةَ الْحَسَنِ، وَقَالَ الْعَلْقَمِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَأَيْتُ لَهُ خَمْسِينَ طَرِيقًا جَمَعْتُهَا فِي جُزْءٍ وَحَكَمْتُ بِصِحَّتِهِ، لَكِنَّ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ بِغَيْرِهِ، فَقَوْلُ الْجَزَرِيِّ فِي الْبِدَايَةِ: لَا أَصْلَ لَهُ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ لِلْمَشْهُورِ الَّذِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لَكِنْ قَالَ الْعِرَاقِيُّ. قَدْ صَحَّحَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بَعْضَ طُرُقِهِ، هَذَا وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ بِآخِرِ الْحَدِيثِ (وَمُسْلِمَةٍ) وَلَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ.

219 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ، وَلَا فِقْهٌ فِي الدِّينِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 219 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ) : بِأَنْ تَكُونَ فِيهِ وَاحِدَةٌ دُونَ الْأُخْرَى، أَوْ لَا يَكُونَا فِيهِ بِأَنْ لَا تُوجَدَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فِيهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالِاجْتِمَاعِ تَحْرِيضًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى جَمْعِهِمَا وَزَجْرًا لَهُمْ عَنِ الِاتِّصَافِ بِأَحَدِهِمَا، وَالْمُنَافِقُ إِمَّا حَقِيقِيٌّ وَهُوَ النِّفَاقُ الِاعْتِقَادِيُّ أَوْ مَجَازِيٌّ وَهُوَ الْمُرَائِي وَهُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ (حُسْنُ سَمْتٍ) أَيْ: خُلُقٍ وَسِيرَةٌ وَطَرِيقَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ التَّزَيِّي بِزِيِّ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ مَيْرَكُ: السَّمْتُ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ أَعْنِي الْمَقْصِدَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ هَيْئَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ تَحَرِّي طُرُقِ الْخَيْرِ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّ الصَّالِحِينَ مَعَ التَّنَزُّهِ عَنِ الْمَعَايِبِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ (وَلَا فِقْهٌ فِي الدِّينِ) : عَطَفَ بِلَا لِأَنَّ حُسْنَ سَمْتٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَلَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الْمُسَاقِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: حَقِيقَةُ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ مَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى اللِّسَانِ، فَأَفَادَ الْعَمَلَ، وَأَوْرَثَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى، وَأَمَّا الَّذِي يَتَدَارَسُ أَبْوَابًا مِنْهُ لِيَتَعَزَّزَ بِهِ وَيَتَأَكَّلَ بِهِ فَإِنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الرُّتْبَةِ الْعُظْمَى لِأَنَّ الْفِقْهَ تَعَلَّقَ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ، وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقٍ عَلِيمَ اللِّسَانِ، قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ إِحْدَاهُمَا قَدْ تَحْصُلُ دُونَ الْأُخْرَى، بَلْ هُوَ تَحْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِهِمَا وَالِاجْتِنَابِ عَنْ أَضْدَادِهَا، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَكُونُ عَارِيًا مِنْهُمَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ وَنَحْوِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7] إِذْ فِيهِ حَثٌّ عَلَى أَدَائِهَا وَتَخْوِيفٌ مِنَ الْمَنْعِ حَيْثُ جَعَلَهُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُشْرِكِينَ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)

220 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 220 - (وَعَنْ أَنَسٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ خَرَجَ) أَيْ: مِنْ بَيْتِهِ أَوْ بَلَدِهِ (فِي طَلَبِ الْعِلْمِ) : أَيِ الشَّرْعِيِّ فَرْضِ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ (فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: فِي الْجِهَادِ لِمَا أَنَّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ إِحْيَاءِ الدِّينِ وَإِذْلَالِ الشَّيْطَانِ وَإِتْعَابِ النَّفْسِ كَمَا فِي الْجِهَادِ (حَتَّى يَرْجِعَ) أَيْ: إِلَى بَيْتِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ لَهُ دَرَجَةٌ أَعْلَى لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ وَارِثُ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَكْمِيلِ النَّاقِصِينَ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ} [التوبة: 122] أَيْ خَرَجَ {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] أَيْ: بَعْضُهُمْ {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) ، وَكَذَا الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ.

221 - وَعَنْ سَخْبَرَةَ الْأَزْدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مِنْ طَلَبَ الْعِلْمَ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ وَأَبُو دَاوُدَ الرَّاوِي يُضَعَّفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 221 - (وَعَنْ سَخْبَرَةَ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (الْأَزْدِيَّ) : فِي الْقَامُوسِ: أَزْدُ بْنُ الْغَوْثِ وَبِالسِّينِ أَفْصَحُ، أَبُو حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ، وَمِنْ أَوْلَادِهِ الْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ، لَهُ رِوَايَةٌ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ. ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ) أَيْ: لِيَعْمَلَ بِهِ (كَانَ) أَيْ: طَلَبُهُ لِلْعِلْمِ (كَفَّارَةً) : وَهِيَ مَا يَسْتُرُ الذُّنُوبَ وَيُزِيلُهَا مِنْ كُفْرٍ إِذَا سَتَرَ (لِمَا مَضَى) أَيْ:

مِنْ ذُنُوبِهِ. قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ، إِلَّا إِذَا قُلْنَا بِالتَّخْصِيصِ يَعْنِي بِالصَّغَائِرِ، وَهُوَ مَوْضِعُ بَحْثٍ كَذَا فِي زَيْنِ الْعَرَبِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالصَّغَائِرِ أَوْ بِحُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا تَدَارُكٌ، أَوْ يَشْمَلُ حُقُوقَ الْعِبَادِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ لَهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ وَسِيلَةٌ إِلَى مَا يُكَفِّرُ بِهِ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَغَيْرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَأَبُو دَاوُدَ الرَّاوِي) أَيْ: مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (يُضَعَّفُ) : بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ أَيْ: يُنْسَبُ إِلَى الضَّعْفِ فِي الرِّوَايَةِ، لَيْسَ أَبَا دَاوُدَ الْمُخَرِّجَ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، فَإِنَّهُ ثِقَةٌ إِمَامٌ فِي الْحَدِيثِ، قَوِيٌّ فِي الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ.

222 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الْجَنَّةَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 222 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ) : أَيِ: الْكَامِلُ (مِنْ خَيْرٍ) أَيْ: عِلْمٍ (يَسْمَعُهُ حَتَّى) : لَمَّا كَانَ " يَشْبَعَ " مُضَارِعًا دَالًّا عَلَى الِاسْتِمْرَارِ تَعَلَّقَ بِهِ " حَتَّى " (يَكُونَ مُنْتَهَاهُ) أَيْ: غَايَتُهُ وَنِهَايَتُهُ (الْجَنَّةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، أَوِ الرَّفْعِ عَلَى الِاسْمِيَّةِ، يَعْنِي: حَتَّى يَمُوتَ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

223 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «وَمَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ ; أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 223 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ) : وَهُوَ عِلْمٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ فِي أَمْرِ دِينِهِ (ثُمَّ كَتَمَهُ) : بِعَدَمِ الْجَوَابِ أَوْ بِمَنْعِ الْكِتَابِ (أُلْجِمَ) أَيْ: أُدْخِلَ فِي فَمِهِ لِجَامٌ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ خُرُوجِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ مَا يُوضَعُ فِي فِيهِ مِنَ النَّارِ بِلِجَامٍ فِي فَمِ الدَّابَّةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ) : مُكَافَأَةً لَهُ حَيْثُ أَلْجَمَ نَفْسَهُ بِالسُّكُوتِ، وَشُبِّهَ بِالْحَيَوَانِ الَّذِي سُخِّرَ وَمُنِعَ مِنْ قَصْدِهِ مَا يُرِيدُهُ، فَإِنَّ الْعَالِمَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى الْحَقِّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ هُنَا اسْتِبْعَادِيَّةٌ لِأَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ إِنَّمَا يُقْصَدُ لِنَشْرِهِ وَنَفْعِهِ النَّاسَ، وَبِكَتْمِهِ يَزُولُ ذَلِكَ الْغَرَضُ الْأَكْمَلُ، فَكَانَ بَعِيدًا مِمَّنْ هُوَ فِي صُورَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ. قَالَ السَّيِّدُ: هَذَا فِي الْعِلْمِ اللَّازِمِ التَّعْلِيمِ كَاسْتِعْلَامِ كَافِرٍ عَنِ الْإِسْلَامِ " مَا هُوَ؟ "، أَوْ حَدِيثِ عَهْدٍ بِهِ عَنْ تَعْلِيمِ صَلَاةٍ حَضَرَ وَقْتُهَا، وَكَالْمُسْتَفْتِي فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْجَوَابُ لَا نَوَافِلُ الْعُلُومِ غَيْرُ الضَّرُورِيَّةِ، وَقِيلَ: الْعِلْمُ هَنَا عِلْمُ الشَّهَادَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

224 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 224 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ اهـ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو يَعْلَى أَيْضًا. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِلْخَطَّابِيِّ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ اهـ.

وَفِي الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ لِلسَّخَاوِيِّ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . لِجَمَاعَةٍ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَيَشْمَلُ الْوَعِيدُ حَبْسَ الْكُتُبِ عَنِ الطَّالِبِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ عَدَمِ التَّعَدُّدِ وَالِابْتِلَاءِ، هَذَا كَثِيرٌ اهـ. وَخُصُوصًا كِتَابَ الْوَقْفِ.

225 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ ; أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 225 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) : أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجِيِّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ، وَاخْتُلِفَ فِي شُهُودِهِ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا غَيْرَ تَبُوكَ، وَكَانَ أَحَدَ شُعَرَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، يَجْمَعُ أَوَائِلَ أَسْمَائِهِمْ مَكَّةُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ أَنْ عَمِيَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ) أَيْ: لَا لِلَّهِ بَلْ (لِيُجَارِيَ) أَيْ لِيُقَاوِمَ بِهِ (الْعُلَمَاءَ) : الْمُجَارَاةُ الْمُعَارَضَةُ فِي الْجَرْيِ، وَقِيلَ: الْمُفَاخَرَةُ وَجَعَلَ نَفْسَهُ مِثْلَ غَيْرِهِ (أَوْ لِيُمَارِيَ) : أَنْ: يُجَادِلَ (بِهِ السُّفَهَاءَ) : جَمْعُ سَفِيهٍ وَهُوَ قَلِيلُ الْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَاهِلُ. وَالْمُمَارَاةُ مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَحَاجِّينَ يَشُكُّ فِيمَا يَقُولُ صَاحِبُهُ وَيُشَكِّكُهُ مِمَّا يُورِدُ عَلَى حُجَّتِهِ، أَوْ مِنَ الْمَرْيِ وَهُوَ مَسْحُ الْحَالِبِ لِيَسْتَنْزِلَ مَا بِهِ مِنَ اللَّبَنِ فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ يَسْتَخْرِجُ مَا عِنْدَ صَاحِبِهِ. كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَمَّا كَانَ غَرَضُهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَاسِدًا مَا احْتِيجَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمُجَادَلَةِ بِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22] . وَقَوْلِهِ: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] (أَوْ يَصْرِفُ بِهِ) أَيْ: يَمِيلُ بِالْعِلْمِ (وُجُودَ النَّاسِ) : أَيِ: الْعَوَامَّ أَوِ الطَّلَبَةَ (إِلَيْهِ) أَيْ: لِيُعَظِّمُوهُ أَوْ يُعْطُوا الْمَالَ لَهُ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: أَيْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِمُجَرَّدِ الشُّهْرَةِ بَيْنَ النَّاسِ (أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ دُخُولَ النَّارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً دُعَائِيَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: عَنْ كَعْبٍ.

226 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 226 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) .

227 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا ; لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " يَعْنِي رِيحَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 227 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى) : مِنْ لِلْبَيَانِ، أَيْ: مِمَّا يُطْلَبُ (بِهِ وَجْهُ اللَّهِ) أَيْ: رِضَاهُ كَالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ (لَا يَتَعَلَّمُهُ) : حَالٌ إِمَّا مِنْ فَاعِلِ تَعَلَّمَ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ، لِأَنَّهُ تَخَصَّصَ بِالْوَصْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لِ " عِلْمًا " (إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ) أَيْ: يَنَالَ وَيُحَصِّلَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ (عَرَضًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: حَظًّا مَالًا أَوْ جَاهًا (مِنَ الدُّنْيَا) : يُقَالُ: الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَنَكِرَةٌ لِيَتَنَاوَلَ الْأَنْوَاعَ وَيَنْدَرِجَ فِيهِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَفِي الْأَزْهَارِ: الْعَرَضُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ الْمَالُ، وَقِيلَ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ، وَقَالَ الْجِيلِيُّ: الْعَرْضُ بِالسُّكُونِ أَصْنَافُ الْمَالِ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَبِحَرَكَةِ الرَّاءِ جَمِيعُ الْمَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ كُلِّهَا، كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ تَعَلَّمَ لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى مَعَ إِصَابَةِ الْعَرَضِ الدُّنْيَوِيِّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ لِأَنَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى يَأْبَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا، وَيَكُونَ الْعَرَضُ

تَابِعًا، وَوَصْفُ الْعِلْمِ بِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ إِمَّا لِلتَّفْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ فَإِنَّ بَعْضًا مِنَ الْعُلُومِ مِمَّا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ كَمَا وَرَدَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» ، وَإِمَّا لِلْمَدْحِ وَالْوَعِيدِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ، وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الزَّاهِدِينَ يَقُولُ: مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِالْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَطْلُبَهَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ، فَهُوَ كَمَنْ جَرَّ جِيفَةً بِآلَةٍ مِنْ آلَاتِ اللَّهْوِ، وَذَلِكَ كَمَنْ جَرَّهَا بِأَوْرَاقِ تِلْكَ الْعُلُومِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ رَأَى شَخْصًا يَلْعَبُ فَوْقَ الْحِبَالِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا وَأَصْحَابُنَا يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ اهـ. لَكِنْ قَالُوا: فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَأْخُذُ الدُّنْيَا لِيَتَفَرَّغَ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَبَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِيَأْخُذَ الدُّنْيَا فَتَأَمَّلْ. فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الزَّلَلِ ثُمَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْأَوْصَافِ، أَيْ: لَا يَتَعَلَّمُهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مُتَمَتِّعَاتِ الدُّنْيَا وَإِنْ قَلَّ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَصْدَهَا هَذَا وَلَوْ مَعَ قَصْدِ الْآخِرَةِ مُوجِبٌ لِلْإِثْمِ، فَوَجْهُ التَّقْيِيدِ تَرَتَّبَ الْعِقَابُ الْآتِي عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الدُّنْيَا لَا يَقْصِدُ مَعَهَا الْآخِرَةَ (لَمْ يَجِدْ) : حِينَ يَجِدُ عُلَمَاءُ الدِّينِ مِنْ مَكَانٍ بِعِيدٍ (عَرْفَ الْجَنَّةِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ رِيحَهَا الطَّيِّبَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِأَنْ تُوجَدَ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَعْنِي) : هَذَا تَفْسِيرُ الرَّاوِي (رِيحُهَا) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ حُمِلَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَحْرِيمِ الْجَنَّةِ عَلَى الْمُخْتَصِّ بِهَذَا الْوَعِيدِ كَقَوْلِكَ: مَا شَمَمْتُ قُتَارَ قَدْرِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّبَرُّؤِ عَنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ أَيْ: مَا شَمَمْتُ رَائِحَتَهَا فَكَيْفَ بِالتَّنَاوُلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُخْتَصَّ بِهَذَا الْوَعِيدِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ عُرِفَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، فَتَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ تَهْدِيدًا وَزَجْرًا عَنْ طَلَبِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَأَيْضًا يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ مَوْصُوفٌ، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ يُحْشَرُ النَّاسُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وِجْدَانِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَطْ عَدَمُ وِجْدَانِهَا مُطْلَقًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْآمِنِينَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ إِذَا وَرَدُوا الْقِيَامَةَ يُمَدُّونَ بِرَائِحَةِ الْجَنَّةِ تَقْوِيَةً لِقُلُوبِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ، وَتَسْلِيَةً لِهُمُومِهِمْ وَأَشْجَانِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ حَالِهِمْ فِي الْمَعْرِفَةِ وَإِيقَانِهِمْ، وَمَنْ تَعَلَّمَ لِلْأَغْرَاضِ الْفَانِيَةِ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَتَعَلَّمَهُ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ يَكُونُ كَمَنْ حَدَثَ مَرَضٌ فِي دِمَاغِهِ يَمْنَعُهُ عَنْ إِدْرَاكِ الرَّوَائِحِ فَلَا يَجِدُ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالْقُوَى الْإِيمَانِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا الْوَعِيدُ مُطْلَقٌ إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيمَ طَلَبِ الْعِلْمِ بِهَذَا الْقَصْدِ فَقَطْ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَمَفْهُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَخْلَصَ قَصْدَهُ فَتَعَلَّمَ لِلَّهِ لَا يَضُرُّهُ حُصُولُ الدُّنْيَا لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهَا بِتَعَلُّمِهِ، بَلْ مِنْ شَأْنِ الْإِخْلَاصِ بِالْعِلْمِ أَنْ تَأْتِيَ الدُّنْيَا لِصَاحِبِهِ رَاغِمَةً، كَمَا وَرَدَ: " «مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَتَأْتِيهِ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» ": (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ".

228 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 228 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: النَّضْرَةُ الْحُسْنُ وَالرَّوْنَقُ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَرُوِيَ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: التَّشْدِيدُ أَكْثَرُ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ: هُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَرَوَاهُ الْأَصْمَعِيُّ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ: الْمُخَفَّفُ لَازِمٌ وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّعْدِيَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ اهـ. وَالْمَعْنَى خَصَّهُ اللَّهُ بِالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ لِمَا رُزِقَ بِعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مِنَ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَنِعَمِهِ فِي الْآخِرَةِ، حَتَّى يُرَى عَلَيْهِ رَوْنَقُ الرَّخَاءِ وَالنِّعْمَةِ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ إِخْبَارٌ يَعْنِي جَعَلَهُ ذَا نَضْرَةٍ، وَقِيلَ: دُعَاءٌ لَهُ بِالنَّضْرَةِ وَهِيَ الْبَهْجَةُ وَالْبَهَاءُ فِي الْوَجْهِ مِنْ أَثَرِ النِّعْمَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا النَّضْرَةُ مِنْ حَيْثُ الْجَاهِ وَالْقَدْرِ، كَمَا جَاءَ: اطْلُبُوا الْحَوَائِجَ مِنْ حِسَانِ الْوُجُوهِ، أَيْ: ذَوِي الْأَقْدَارِ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُ جَدَّدَ بِحِفْظِهِ وَنَقْلِهِ طَرَاوَةَ الدِّينِ فَجَازَاهُ فِي دُعَائِهِ بِمَا يُنَاسِبُ عَمَلَهُ. قُلْتُ: لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمِيعِ وَالْإِخْبَارُ أَوْلَى مِنَ الدُّعَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قِيلَ: وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَلِذَلِكَ تَجِدُ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَجْمَلَهُمْ هَيْئَةً. وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ إِلَّا وَفِي وَجْهِهِ نَضْرَةٌ، أَيْ: بَهْجَةٌ صُورِيَّةٌ أَوْ مَعْنَوِيَّةٌ (سَمِعَ مَقَالَتِي) أَيْ حَدِيثِي: (فَحَفِظَهَا) أَيْ: بِالْقَلْبِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: فَحَفِظَهَا بِلِسَانِهِ (وَوَعَاهَا) أَيْ: دَامَ عَلَى حِفْظِهَا وَلَمْ يَنْسَهَا. قِيلَ: بِالتَّكْرَارِ وَالتِّذْكَارِ إِذَا حَفِظَهَا لِئَلَّا يَنْسَى، وَقِيلَ: بِالرِّوَايَةِ وَالتَّبْلِيغِ فَيَكُونُ عَطْفًا (وَأَدَّاهَا) : عَلَيْهِ تَفْسِيرِيًّا، أَيْ: أَوْصَلَهَا إِلَى النَّاسِ وَعَلِمَهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفُسْحَةِ فِي الْأَدَاءِ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهُ مُعَجَّلًا، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ فَقَالَ: مَعْنَى حَفِظَهَا أَيْ: عَمِلَ بِمُوجِبِهَا فَإِنَّ الْحِفْظَ قَدْ يُسْتَعَارُ لِلْعَمَلِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112] أَيِ: الْعَامِلُونَ بِفَرَائِضِهِ اهـ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا. وَفِي الْأَرْبَعِينَ: سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا) أَيْ غَضًّا طَرِيًّا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَتَغْيِيرٍ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، أَوْ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِلَفْظِهَا وَلَا مَعْنَاهَا، فَيَكُونُ تَنْبِيهًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، فَلَا يُنَافِي جَوَازَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مَعَ أَنَّ التَّشْبِيهَ يُلَائِمُ هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمِثْلِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَالْمَدَارُ عَلَى الْمَعَانِي الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْمُحَسِّنَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَيْثُ نَسِيَ اللَّفْظَ بِخُصُوصِهِ وَتَذَكَّرَ الْمَعْنَى بِعُمُومِهِ، فَلَوْ لَمْ يُعَبِّرْ عَنْهُ بِلَفْظٍ آخَرَ فَاتَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ لِأَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَمَحَلُّ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عِلْمُ أُصُولِ الْحَدِيثِ. (فَرُبَّ) : اسْتُعِيرَتْ لِلتَّكْثِيرِ، وَقِيلَ: اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ حَقِيقَةٌ أَيْضًا (حَامِلِ فِقْهٍ) أَيْ: عِلْمٍ (غَيْرِ فَقِيهٍ) : بِالْجَرِّ صِفَةُ حَامِلٍ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ، فَتَقْدِيرُهُ هُوَ غَيْرُ فَقِيهٍ، يَعْنِي: لَكِنْ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ لِنَفْعِهِ بِالنَّقْلِ (وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ) : قَدْ يَكُونُ فَقِيهًا وَلَا يَكُونُ أَفْقَهَ، فَيَحْفَظُهُ وَيُبَلِّغُهُ (إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) : فَيَسْتَنْبِطُ مِنْهُ مَا لَا يَفْهَمُهُ الْحَامِلُ أَوْ إِلَى مَنْ يَصِيرُ أَفْقَهَ مِنْهُ إِشَارَةً إِلَى فَائِدَةِ النَّقْلِ وَالدَّاعِي إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ صِفَةٌ لِمَدْخُولِ " رُبَّ " اسْتَغْنَى بِهَا عَنْ جَوَابِهَا أَيْ: رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ أَدَّاهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ (ثَلَاثٌ) أَيْ: ثَلَاثُ خِصَالٍ (لَا يَغِلُّ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَبِكَسْرِ الْغَيْنِ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْغِلِّ الْحِقْدِ، وَالثَّانِي مِنَ الْإِغْلَالِ الْخِيَانَةِ (عَلَيْهِنَّ) أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْخِصَالِ (قَلْبُ مُسْلِمٍ) : أَيْ كَامِلٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخُونُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَلَا يَدْخُلُهُ ضِغْنٌ يُزِيلُهُ عَنِ الْحَقِّ حِينَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ: إِنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ يُسْتَصْلَحُ بِهَا الْقُلُوبُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا طَهُرَ قَلْبُهُ مِنَ الْغِلِّ وَالْفَسَادِ، وَ " عَلَيْهِنَّ " فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: لَا يَغِلُّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ كَائِنًا عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا انْتَصَبَ عَنِ النَّكِرَةِ لِتُقَدُّمِهِ اهـ.

وَقِيلَ: النَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ يَعْنِي لَا يَتْرُكُهَا بَلْ يَأْتِي بِهَا، وَقِيلَ أَيْ: ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ قَلْبُ مُسْلِمٍ حَالَ كَوْنِهِ ثَابِتًا عَلَيْهِنَّ، يَعْنِي مَنْ تَمَسَّكَ بِهِنَّ طَهَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ مِنَ الْحِقْدِ وَالْخِيَانَةِ. وَنَقَلَ السَّيِّدُ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ أَنَّهُ يُرْوَى أَيْضًا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، مِنَ الْوُغُولِ الدُّخُولِ فِي الشَّرِّ وَنَحْوِهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ يَسْتَصْلِحُ بِهَا الْقُلُوبَ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا طَهُرَ قَلْبُهُ مِنَ الْغِلِّ وَالشَّرِّ اهـ. ثُمَّ قَالَ السَّيِّدُ: وَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي الْفَائِقِ اهـ. وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فَتْحَ الْيَاءِ وَضَمَّ الْغَيْنِ وَتَشْدِيدَ اللَّامِ، مِنْ غَلَّ مِنَ الْمَغْنَمِ شَيْئًا غُلُولًا إِذَا أَخَذَهُ فِي خُفْيَةٍ فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْخِيَانَةِ أَيْضًا (إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ) أَيْ: مِنْهَا أَوْ إِحْدَاهَا أَوِ الرَّبْطُ بَعْدَ الْعَطْفِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ثَلَاثٍ، وَمَعْنَى الْإِخْلَاصِ أَنْ يُقْصَدَ بِالْعَمَلِ وَجْهُهُ وَرِضَاهُ فَقَطْ دُونَ غَرَضٍ آخَرَ دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ، كَنَعِيمِ الْجَنَّةِ وَلَذَّاتِهَا، أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ دُنْيَوِيٌّ مِنْ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، وَالْأَوَّلُ إِخْلَاصُ الْخَاصَّةِ، وَالثَّانِي إِخْلَاصُ الْعَامَّةِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْعَمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَتَرْكُ الْعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ رِيَاءٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُخَلِّصَهُ اللَّهُ مِنْهُمَا (وَالنَّصِيحَةُ) : وَهِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ (لِلْمُسْلِمِينَ) أَيْ: كَافَّتِهِمْ (وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ) أَيْ: مُوَافَقَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ) أَيْ: تَدُورُ (مِنْ وَرَائِهِمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ " مَنْ " مَوْصُولَةٌ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ مَرْسُومٌ بِالْيَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهِمْ فَتَحْرُسُهُمْ عَنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَعَنِ الضَّلَالَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ لَمْ يَنَلْ بَرَكَتَهُمْ وَبَرَكَةَ دُعَائِهِمْ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَمَّا أَحَاطَتْ بِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَفْضِيلِ الْخُلْطَةِ عَلَى الْعُزْلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الصَّوَابَ فَتْحُ " مَنْ " مَوْصُولًا مَفْعُولًا لِ " تُحِيطُ "، فَإِنَّهُ قَالَ: الدَّعْوَةُ الْمَرَّةُ مِنَ الدُّعَاءِ أَيْ: تَحْوِيهِمْ وَتُثَبِّتُهُمْ وَتَحْفَظُهُمْ، يُرِيدُ بِهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَ النِّهَايَةِ حَاصِلُ الْمَعْنَى، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَعَلَيْهِ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ. قُلْتُ: هَذَا التَّقْدِيرُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ لِأَنَّ لُزُومَ الْجَمَاعَةِ خَصْلَةٌ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: ثَلَاثٌ الْمُسْتَأْنَفُ وَمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا حَرَّضَ سَامِعَ سُنَّتِهِ عَلَى أَدَائِهَا بَيَّنَ أَنَّ هُنَاكَ خِصَالًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْطَوِيَ قَلْبُهُ عَلَيْهَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا مُحَرِّضٌ لَهُ عَلَى ذَلِكَ التَّبْلِيغِ، وَجَوَّزَ كَوْنَ " ثَلَاثٌ " بَيَانًا لِلْمَقَالَةِ الَّتِي أَكَدَّ فِي تَبْلِيغِهَا، وَكَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: مَا تِلْكَ الْمَقَالَةُ؟ فَقِيلَ: هِيَ ثَلَاثٌ جَامِعَةٌ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) : وَلَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ كِتَابٍ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْخَاءِ كِتَابٌ لَهُ، يَعْنِي كِلَاهُمَا. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

229 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ، وَأَبَا دَاوُدَ لَمْ يَذْكُرَا: (ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ) إِلَى آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 229 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) . أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ، وَأَبَا دَاوُدَ لَمْ يَذْكُرَا: (ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ) إِلَخْ) . وَمَعَ هَذَا كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُصَدِّرَ الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ: عَنْ زَيْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

230 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 230 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) : لَمْ يَقُلْ وَعَنْهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى زَيْدٍ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ) : حَالٌ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ ثَانٍ (نَضَّرَ اللَّهُ) أَيْ: نَوَّرَ (امْرَأً) أَيْ: شَخْصًا (سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا) : يَعُمُّ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ الصَّادِرَةَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي مِنَّا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ قَوْلُهُ: مِنَّا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلْجَمَاعَةِ فَيَشْمَلُ مَنْ سَمِعَ مِنَ الصَّحَابَةِ شَيْئًا مِنَ الْأَقْوَالِ، وَقَوْلُ شَارِحٍ: الْمُرَادُ مِنْ " شَيْئًا " عُمُومُ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابِهِ غَفْلَةً عَنْ كَوْنِهِ مَعْمُولًا لِسَمِعَ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقَوْلِ. أَقُولُ: لَمَّا قِيلَ بِعُمُومِ " مِنَّا "، وَقَدْ يُسْمَعُ مِنَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَفْعَلُ، كَذَا صَحَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ السَّمْعُ بِالْفِعْلِ بِهَذَا الْمَعْنَى، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمْعِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ وَالشَّمَائِلَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا خَصَّ السَّمْعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَدَارَ الْعِلْمِ عَلَيْهِ غَالِبًا (فَبَلَّغَهُ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: نَقَلَ الشَّيْءَ الْمَسْمُوعَ لِلنَّاسِ (كَمَا سَمِعَهُ) ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: إِمَّا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ بَلَّغَهُ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ، وَإِمَّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَمَا: مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ خَصَّ مُبَلِّغَ الْحَدِيثِ كَمَا سَمِعَهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ، لِأَنَّهُ سَعَى فِي نَضَارَةِ الْعِلْمِ وَتَجْدِيدِ السُّنَّةِ فَجَازَاهُ بِالدُّعَاءِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْحَدِيثِ وَفَضْلِهِ وَدَرَجَةِ طُلَّابِهِ حَيْثُ خَصَّهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدُعَاءٍ لَمْ يُشْرِكْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَحِفْظِهِ وَتَبْلِيغِهِ - فَائِدَةٌ سِوَى أَنْ يَسْتَفِيدَ بَرَكَةَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْمُبَارَكَةِ لَكَفَى ذَلِكَ فَائِدَةً وَإِنَّمَا وَجَدَ فِي الدَّارَيْنِ حَظًّا وَقَسْمًا. وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: اخْتُلِفَ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَإِلَى جَوَازِهِ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَقِّصْ مِنَ الْحَدِيثِ مَا شِئْتَ وَلَا تَزِدْ: وَقَالَ سُفْيَانُ: إِنْ قُلْتُ حَدَّثْتُكُمْ كَمَا سَمِعْتُ فَلَا تُصَدِّقُونِي فَإِنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى، وَقَالَ وَكِيعٌ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى وَاسِعًا فَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ، وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: كُنْتُ أَسْمَعُ الْحَدِيثَ عَنْ عَشَرَةٍ وَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى اتِّبَاعِ اللَّفْظِ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَجَائِزَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَالْأَوْلَى اجْتِنَابُهَا. قُلْتُ: إِلَّا عِنْدَ نِسْيَانِ اللَّفْظِ. (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ) : بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مَنْقُولٍ إِلَيْهِ وَمَوْصُولٍ لَدَيْهِ (أَوْعَى لَهُ) أَيْ: أَحْفَظُ لِلْحَدِيثِ وَأَضْبَطُ وَأَفْهَمُ وَأَتْقَنُ لَهُ (مِنْ سَامِعٍ) أَيْ: مِمَّنْ سَمِعَ أَوَّلًا وَبَلَّغَهُ ثَانِيًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَلَفْظُهُ: " «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» ". وَفِي اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخِلَافَ اللَّفْظِيَّ إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الرُّوَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

231 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 231 - (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) .

232 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ. فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 232 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اتَّقُوا الْحَدِيثَ) أَيِ: احْذَرُوا رِوَايَتَهُ (عَنِّي) : وَالْمَعْنَى: لَا تُحَدِّثُوا عَنِّي (إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ) أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَدِيثِ الِاسْمُ، فَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ أَيِ: احْذَرُوا رِوَايَةَ الْحَدِيثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى " مَفْعُولًا "، وَ " عَنِّي " مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَالِاسْتِثْنَاءُ

مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى احْذَرُوا مِمَّا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنَ التَّحْدِيثِ عَنِّي، لَكِنْ لَا تَحْذَرُوا مِمَّا تَعْلَمُونَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِلْمَ هُنَا يَشْتَمِلُ الظَّنَّ فَإِنَّهُمْ إِذَا جَوَّزُوا الشَّهَادَةَ بِهِ مَعَ أَنَّهَا أَضْيَقُ مِنَ الرِّوَايَةِ اتِّفَاقًا فَلِأَنْ تَجُوزَ بِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْحَظِّ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (فَمَنْ كَذَبَ) : أَيِ: افْتَرَى (عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا) أَيْ: لَا خَطَأً (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ) أَيْ: لِيُهَيِّئْ مَكَانَهُ (مِنَ النَّارِ) . قِيلَ: الْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

233 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ: " «اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 233 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ) : أَيِ ابْنُ مَاجَهْ ( «اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ» ) : يَعْنِي: وَالْفَاءُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ " فَمَنْ "، فَإِنَّهَا لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي هَذَا مِنَ الْمُؤَلِّفِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَاجَهْ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ هُنَا فَهُوَ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي قَدَّمَهُ أَوَّلَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى ذِكْرِهِ وَلَا إِلَى نِسْبَتِهِ إِلَى ابْنِ مَاجَهْ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ حَدِيثَ الْبُخَارِيِّ، بَلْ بَعْضُهُ، فَإِنَّهُ مَسْبُوقٌ يَحْمِلُ أُخْرَى فِي حَدِيثِهِ، فَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

234 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 234 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : لَمْ يَقُلْ عَنْهُ لِئَلَّا يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى غَيْرِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْمُصَدَّرُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَالَ) أَيْ: مَنْ تَكَلَّمَ (فِي الْقُرْآنِ) أَيْ: فِي مَعْنَاهُ أَوْ قِرَاءَتِهِ (بِرَأْيِهِ) أَيْ: مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَتَبُّعِ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ الْمُطَابِقَةِ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ عَقْلُهُ، وَهُوَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ بِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَصَصِ وَالْأَحْكَامِ، أَوْ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ النَّقْلِ، وَهُوَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَقْلِ كَالْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي أَخَذَ الْمُجَسِّمَةُ بِظَوَاهِرِهَا، وَأَعْرَضُوا عَنِ اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي الْعُقُولِ، أَوْ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ بَعْضُ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِبَقِيَّتِهَا وَبِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا يَحْتَاجُ لِذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمُرَادُ رَأْيٌ غُلِّبَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ، أَمَّا مَا يَشُدُّهُ بُرْهَانٌ فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، فَعُلِمَ أَنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ إِنَّمَا يُتَلَقَّى مِنَ النَّقْلِ، أَوْ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ، أَوْ مِنَ الْمَقَايِيسِ الْعَرَبِيَّةِ، أَوِ الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَوْ أُصُولِ الدِّينِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِالنَّقْلِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ يُسَمَّى تَفْسِيرًا، وَكُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِالِاسْتِنْبَاطِ يُسَمَّى تَأْوِيلًا (فَلَيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) وَفِي رِوَايَةٍ: (مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ) أَيْ: قَوْلًا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَيْ: دَلِيلٍ يَقِينِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ نَقْلِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ مُطَابِقٍ لِلشَّرْعِيِّ (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) . قِيلَ: يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَحَقُّ النَّاسِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ سَلَبُوا لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَأُرِيدَ بِهِ أَوْ حَمَلُوهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِمَّا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إِثْبَاتَهُ مِنَ الْمَعْنَى، فَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ، مِثْلُ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ الْأَصَمِّ، وَالْجُبَّائِيِّ، وَعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَالرُّمَّانِيِّ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَدُسُّ الْبِدَعَ وَالتَّفَاسِيرَ الْبَاطِلَةَ فِي كَلَامِهِمُ الْجَزْلِ، فَيَرُوجُ عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هُؤَلَاءِ تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ، بَلْ كَانَ الْإِمَامُ ابْنُ عَرَفَةَ الْمَالِكِيُّ يُبَالِغُ فِي الْحَطِّ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ أَقْبَحُ مِنْ صَاحِبِ الْكَشَّافِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ اعْتِزَالَ ذَلِكَ فَيَجْتَنِبُهُ بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ يُوهِمُ النَّاسَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

235 - وَعَنْ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 235 - (وَعَنْ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَيُفْتَحُ كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا مَعَ ضَمِّ الْجِيمِ وَبِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْضًا مَعَ فَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا، وَوَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: جُنْدُبٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَثْلِيثِ الدَّالِ إِذْ لَيْسَ فُعْلِلٌ بِضَمٍّ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ مَا قَبْلَ الْآخَرِ مِنْ أَوْزَانِ الرُّبَاعِيِّ الْمُجَرَّدِ وَالْمُلْحَقِ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا أَيْضًا، ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيُّ الْعُلَّفِيُّ، وَعُلَّفَةُ: بَطْنٌ مِنْ بَجِيلَةَ، مَاتَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ) أَيْ: فِي لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ (بِرَأْيِهِ) أَيْ: بِعَقْلِهِ الْمُجَرَّدِ (فَأَصَابَ) أَيْ: وَلَوْ صَارَ مُصِيبًا بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ (فَقَدْ أَخْطَأَ) أَيْ: فَهُوَ مُخْطِئٌ بِحَسَبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ أَخْطَأَ طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ بِخَوْضِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالتَّخْمِينِ وَالْحَدَسِ لِتَعَدِّيهِ بِهَذَا الْخَوْضِ مَعَ عَدَمِ اسْتِجْمَاعِهِ لِشُرُوطِهِ، فَكَانَ آثِمًا بِهِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِمُوَافَقَتِهِ لِلصَّوَابِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَنْ قَصْدٍ وَلَا تَحَرٍّ، بِخِلَافِ مَنْ كَمُلَتْ فِيهِ آلَاتُ التَّفْسِيرِ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ عِلْمًا: اللُّغَةُ، وَالنَّحْوُ، وَالتَّصْرِيفُ، وَالِاشْتِقَاقُ، لِأَنَّ الِاسْمَ إِذَا كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ مَادَّتَيْنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِهِمَا، كَالْمَسِيحِ هَلْ هُوَ مِنَ السِّيَاحَةِ أَوِ الْمَسْحِ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانُ، وَالْبَدِيعُ، وَالْقِرَاءَاتُ، وَالْأَصْلَيْنِ، وَأَسْبَابُ النُّزُولِ، وَالْقَصَصُ، وَالنَّاسِخُ، وَالْمَنْسُوخُ، وَالْفِقْهُ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُبَيِّنَةُ لِتَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبْهَمِ، وَعِلْمُ الْمَوْهِبَةِ، وَهُوَ عِلْمٌ يُورِثُهُ اللَّهُ لِمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُلُومِ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ السَّلَفِ بِالْفِعْلِ، وَبَعْضُهَا بِالطَّبْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ فَإِنَّهُ مَأْجُورٌ بِخَوْضِهِ فِيهِ وَإِنْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ لَا تَعَدِّيَ مِنْهُ، فَكَانَ مَأْجُورًا أَجْرَيْنِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، أَوْ عَشَرَةُ أُجُورٍ كَمَا فِي أُخْرَى إِنْ أَصَابَ وَأَجْرٌ إِنْ أَخْطَأَ كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْأَحْكَامِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاضْطَرَّهُ الدَّلِيلُ إِلَى مَا رَآهُ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ بِوَجْهٍ، وَقَدْ أَخْطَأَ الْبَاطِنِيَّةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَأَنَّ الْمُرَادَ بَاطِنُهُ دُونَ ظَاهِرِهِ، وَمِنْ هَذَا مَا يَسْلُكُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ فِرْعَوْنَ بِالنَّفْسِ وَمُوسَى بِالْقَلْبِ إِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ لَا إِشَارَاتٌ وَمُنَاسَبَاتٌ لِلْآيَاتِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ ظَاهِرٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ فِيهِ بِنَقْلٍ مِنَ الشَّارِعِ، وَمِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُتَوَرِّعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرٍ، وَامْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ بِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ صَحِبَهَا شَوَاهِدُ سَالِمَةٌ عَنِ الْمُعَارِضِ، وَهَذَا عُدُولٌ عَمَّا تَعَّبْدَنَا بِمَعْرِفَتِهِ مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وَفِي حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ وَغَيْرِهِ: " «الْقُرْآنُ ذَلُولٌ ذُو وُجُوهٍ فَاحْمِلُوهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ» " وَمَعْنَى ذَلُولٍ سَهْلٌ حِفْظُهُ وَفَهْمُهُ حَتَّى لَا يَقْصُرَ عَنْهُ أَفْهَامُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَعْنَى ذُو وُجُوهٍ أَنَّ بَعْضَ جُمَلِهِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ، أَوْ أَنَّهُ جَمَعَ وُجُوهًا مِنَ الْأَمْرِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّحْلِيلِ وَأَضْدَادِهَا، وَمَعْنَى فَاحْمِلُوهُ إِلَخْ: احْمِلُوهُ عَلَى أَحْسَنِ مَعَانِيهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَوَرِّعَةِ قَالَ بِهِ قَوْمٌ فَحَرَّمُوا التَّفْسِيرَ مُطْلَقًا، وَلَوْ عَلَى مَنِ اتَّسَعَتْ عُلُومُهُ إِلَّا مَا أُثِرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَؤُلَاءِ مِنَ الْإِفْرَاطِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَإِطْبَاقُ الْعُلَمَاءِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ عَلَى خِلَافِ مَقَالَتِهِمْ كَافٍ فِي تَسْفِيهِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَقَدْ قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ، وَآخَرُونَ: التَّأْوِيلُ الَّذِي هُوَ صَرْفُ الْآيَةِ لِمَعْنًى يَحْتَمِلُهُ

مُوَافِقٌ لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالتَّفْسِيرِ، بِخِلَافِ نَحْوِ تَأْوِيلِ الْبَحْرَيْنِ بِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، وَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ بِالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَإِنَّهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْجَهَلَةِ وَالْحَمْقَاءِ كَالرَّوَافِضِ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَيْ مَنْ شَرَعَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وُقُوفٌ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَوُجُوهِ اسْتِعْمَالَاتِهَا مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَصَّلِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُفَسِّرِ، فَهُوَ وَإِنْ طَابَقَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ فَهُوَ مُخْطِئٌ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الشَّارِعِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَضَى بِتَأْوِيلِهِ وَاجْتِهَادِهِ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ التُّورِبِشْتِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّأْيِ مَا لَا يَكُونُ مُؤَسَّسًا عَلَى عُلُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ يَكُونُ قَوْلًا تَقُولُهُ بِرَأْيِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ عَقْلُهُ، وَعِلْمُ التَّفْسِيرِ يُؤْخَذُ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَمِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ بِالْمَقَايِيسِ الْعَرَبِيَّةِ كَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَصَّلِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، ثُمَّ يَتَكَلَّمُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ أُصُولُ الدِّينِ، فَيُئَوَّلُ الْقِسْمُ الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ عَلَى وَجْهٍ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَجْمِعْ هَذِهِ الشَّرَائِطَ كَانَ قَوْلُهُ مَهْجُورًا، وَحَسْبُهُ مِنَ الزَّاجِرِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، فَمَا بُعْدُ مَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَالْمُتَكَلِّفِ، فَالْمُجْتَهِدُ مَأْجُورٌ عَلَى الْخَطَأِ، وَالْمُتَكَلِّفُ مَأْخُوذٌ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ: يَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ مَيْلًا عَنْ طَبْعِهِ وَهَوَاهُ فَيُئَوِّلُ عَلَى وَفْقِ رَأْيِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ الْهَوَى لَمْ يَلُحْ لَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنْ يَتَسَارَعَ إِلَى التَّفْسِيرِ بِظَاهِرِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِظْهَارٍ بِالسَّمَاعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَرَائِبِ الْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْمَارِ وَالتَّقْدِيمِ وَلَا مَطْمَعَ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْبَاطِنِ بِدُونِ مَعْرِفَةِ الظَّاهِرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

236 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 236 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْمِرَاءُ) : أَيِ: الْجِدَالُ (فِي الْقُرْآنِ) أَيْ: فِي مُتَشَابِهِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجُحُودِ (كُفْرٌ) : سَمَّاهُ كُفْرًا بِاسْمِ مَا يُخْشَى عَاقِبَتُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُسْنِدَ أَحَدُهُمْ كَلَامَهُ إِلَى آيَةٍ ثُمَّ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ بِآيَةٍ أُخْرَى تَدَافُعًا لَهُ كَأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ نَقِيضُ مَا اسْتَدْلَلْتَ بِهِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْمُرَادُ بِالْمِرَاءِ فِي الْقُرْآنِ الشَّكُّ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [هود: 17] أَيْ: فِي شَكٍّ، يَعْنِي: الشَّكُّ فِي كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ - كُفْرٌ، وَالْمِرَاءُ الْمُجَادَلَةُ فِيمَا فِيهِ مِرْيَةٌ وَشَكٌّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمِرَاءِ فِيهِ التَّدَارُؤُ، وَهُوَ أَنْ يَرُومَ تَكْذِيبَ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ لِيَدْفَعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَيَطْرُقَ إِلَيْهِ قَدْحًا وَطَعْنًا، وَمِنْ حَقِّ النَّاظِرِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ التَّوْفِيقُ فَلْيَعْتَقِدْ أَنَّهُ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ وَلْيَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] اهـ. وَقَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قِيلَ: هُوَ الْمِرَاءُ فِي قِرَاءَتِهِ بِأَنْ يُنْكِرَ بَعْضَ الْقِرَاءَاتِ الْمَرْوِيَّةَ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَتَوْعِيدُهُ بِالْكُفْرِ لِيَنْتَهُوا عَنِ الْمِرَاءِ فِيهَا وَالتَّكْذِيبِ بِهَا، إِذْ كُلُّهَا قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

237 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا يَتَدَارَءُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ: " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا: ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ. فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 237 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى عَمْرٍو، فَيَكُونَ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا لِأَنَّ جَدَّ عَمْرٍو وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو تَابِعِيٌّ، وَأَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى شُعَيْبٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفْكِيكِ الضَّمِيرَيْنِ، فَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ لِأَنَّ جَدَّ شُعَيْبٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَحَابِيٌّ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ تَكَلَّمُوا فِي صَحِيفَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لِمَا فِيهَا مِنِ احْتِمَالِ التَّدْلِيسِ (وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا) أَيْ: كَلَامَ قَوْمٍ (يَتَدَارَءُونَ فِي الْقُرْآنِ) أَيْ: يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَيَتَدَافَعُونَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَالتَّدَارُؤُ دَفْعُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ قَوْلَ صَاحِبِهِ بِمَا يَقَعُ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ دَلِيلَ بَعْضٍ مِنْهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] وَيَقُولُ الْقَدَرِيُّ: لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَنْهِيٌّ، أَيْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْآيَاتِ أَنْ يُؤْخَذَ مَا عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَيُئَوِّلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى كَمَا نَقُولُ: الْعَقْدُ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ} [النساء: 79] إِلَخْ. فَذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] يَعْنِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ الصَّوَابُ، وَيَقُولُونَ مَا أَصَابَكَ إِلَخْ. وَقِيلَ: الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْ: مَا أَصَابَكَ يَا مُحَمَّدُ أَوْ يَا إِنْسَانُ مِنْ حَسَنَةٍ، أَيْ: فَتْحٍ وَغَنِيمَةٍ وَرَاحَةٍ وَغَيْرِهَا، فَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ، أَيْ: مِنْ هَزِيمَةٍ وَتَلَفِ مَالٍ وَمَرَضٍ فَهُوَ جَزَاءُ مَا عَمِلْتَ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] فَالْآيَةُ السَّابِقَةُ خَارِجَةٌ عَنْ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ (فَقَالَ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أَيْ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (بِهَذَا) أَيْ: بِسَبَبِ التَّدَارُؤِ، إِشَارَةُ تَحْقِيرٍ أَوْ تَعْظِيمٍ لِعِظَمِ ضَرَرِهِ، وَقِيلَ: الْمُضَافُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمَذْمُومِ (ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ) أَيْ: جِنْسَهُ (بَعْضَهُ بِبَعْضٍ) : بَدَلُ بَعْضٍ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ: خَلَطَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَمَعْنَاهُ: دَفَعَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ الْإِنْجِيلَ وَأَهْلُ الْإِنْجِيلِ التَّوْرَاةَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ - مَا لَا يُوَافِقُ مُرَادَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكِتَابِ اللَّهِ الْقُرْآنُ، أَيْ: خَلَطُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَحَكَمُوا فِي كُلِّهَا حُكْمًا وَاحِدًا مِنْ ضَرَبْتُ اللَّبَنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، أَيْ: خَلَطْتُهُ، وَالضَّرْبُ الصَّرْفُ أَيْضًا، فَإِنَّ الرَّاكِبَ إِذَا أَرَادَ صَرْفَ الدَّابَّةِ ضَرَبَهَا، أَيْ: صَرَفُوا كِتَابَ اللَّهِ عَنِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ إِلَى مَا مَالَ إِلَيْهِ أَهْوَاؤُهُمْ، وَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلْيَتَوَقَّفْ فِيهِ وَيَسْتَنِدْ إِلَى سُوءِ فَهْمِهِ وَيَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِذَا قَالَ: (وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ) : الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ (يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا) : يَعْنِي أَنَّ الْإِنْجِيلَ مَثَلًا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّوْرَاةَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ حَقٌّ، وَالْقُرْآنَ يُبَيِّنُ أَنَّ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ حَقٌّ، وَكَذَلِكَ النَّاسِخُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْمَنْسُوخِ وَالْمُحْكَمُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْمُتَشَابِهِ، وَالْمُئَوَّلُ لِدَلِيلٍ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ، وَالْخَاصُّ وَالْمُقَيَّدُ يُبَيِّنَانِ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ (فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ) : بَلْ قُولُوا: كُلُّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ حَقٌّ، أَوْ بِأَنْ تَنْظُرُوا إِلَى اللَّهِ ظَاهِرَ لَفْظَيْنِ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ النَّظَرِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي تَصْرِفُ أَحَدَهُمَا عَنِ الْعَمَلِ بِهِ

بِنَسْخِهِ أَوْ بِتَخْصِصِهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى قَدْحٍ فِي الدِّينِ (فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ) أَيْ: عِلْمًا مُوَافِقًا لِلْقَوَاعِدِ (فَقُولُوا) أَيْ: بِهِ (وَمَا جَهِلْتُمْ) أَيْ: مِنْهُ كَالْمُتَشَابِهَاتِ وَغَيْرِهَا (فَكِلُوهُ) أَيْ: رُدُّوهُ وَفَوِّضُوهُ (إِلَى عَالِمِهِ) : وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا تُلْقُوا مَعْنَاهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ آيَاتٍ ظَاهِرَةِ التَّنَافِي؟ فَأَجَابَ عَنْهَا، مِنْهَا: نَفْيُ الْمُسَاءَلَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِثْبَاتُهَا، فَنَفْيُهَا فِيمَا قَبْلَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِثْبَاتُهَا فِيمَا بَعْدَهَا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِلْتَاهُمَا بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ يَكُونَ النَّفْيُ فِي أَوَائِلِ الْمَوَاقِفِ وَالْإِثْبَاتُ فِي أَوَاخِرِهَا. وَمِنْهَا: كِتْمَانُ الْمُشْرِكِينَ حَالَهُمْ وَإِفْشَاؤُهُ فَالْأَوَّلُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالثَّانِي بِأَيْدِيهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ. قُلْتُ: وَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بِأَلْسِنَتِهِمْ أَيْضًا، لَكِنْ لَا بِاخْتِيَارِهِمْ كَشَهَادَةِ أَيْدِيهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور: 24] وَمِنْهَا: خَلْقُ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ وَعَكْسُهُ، وَجَوَابُ هَذَا: أَنَّهُ بَدَأَ خَلْقَ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَغَيْرَهَا فِي يَوْمَيْنِ. فَتِلْكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لِلْأَرْضِ، وَقَدْ سَأَلَهُ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، فَكَيْفَ هُوَ الْيَوْمَ؟ وَأَجَابَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمَاضِيَ إِنَّمَا هُوَ التَّسْمِيَةُ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ انْقَضَى، وَأَمَّا الِاتِّصَافُ فَهُوَ دَائِمٌ. قُلْتُ: وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: مَا ثَبَتَ قَدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ. وَأَجَابَ أَيْضًا: بِأَنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ بِهَا مُرَادُ الدَّوَامِ كَثِيرًا. وَسُئِلَ أَيْضًا عَنِ الْيَوْمِ الْمُقَدَّرِ بِأَلْفِ سَنَةٍ وَالْمُقَدَّرِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَعْلَمُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَدُ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا الْعَالَمَ، وَالثَّانِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلٌّ مِنْهُمَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِاعْتِبَارِ قِصَرِهِ عَلَى الْمُؤْمِنَ الْعَاصِي وَطُولِهِ عَلَى الْكَافِرِ، وَأَمَّا الطَّائِعُ فَيَكُونُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا وَرَدَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

238 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ» ". رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 238 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أُنْزِلَ الْقُرْآنُ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُشْتَمِلًا (عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) أَيْ: قِرَاءَاتٍ أَوْ لُغَاتٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَحْكَامِ. قَالَ الشُّرَّاحُ: الْحَرْفُ الطَّرَفُ، وَحُرُوفُ التَّهَجِّي سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا أَطْرَافُ الْكَلِمَةِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ أَطْرَافُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى سَبْعِ لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَهُمُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْفَصَاحَةِ: كَقُرَيْشٍ، وَثَقِيفٍ، وَطَيِّئٍ، وَهَوَازِنَ، وَهُذَيْلٍ، وَالْيَمَنِ، وَبَنِي تَمِيمٍ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَوِيِّينَ. وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ بِمَجِيءِ التَّصْرِيحِ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُدَّ بِأَنَّ لُغَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعٍ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَفْصَحُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ، وَقِيلَ: الْكُلُّ فِي بُطُونِ قُرَيْشٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وَقِيلَ: فِي بُطُونِ مُضَرَ. وَرُدَّتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا بِأَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَى هِشَامٍ قِرَاءَتَهُ حَتَّى جَرَّهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُحَالٌ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ لُغَتَهُ وَهُمَا مِنْ قَبِيلَةٍ وَلُغَةٍ وَاحِدَةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ غَيْرُ اللُّغَاتِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ بَحْثٌ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارُ عُمَرَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْجَوَازِ، فَلَا دَلَالَةَ حِينَئِذٍ عَلَى نَفْيِ

إِرَادَةِ اللُّغَاتِ مَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ وُرُودِ اللُّغَةِ لَا يَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِدُونِ الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأَئِمَّةُ السَّبْعَةُ، وَقِيلَ: أَجْنَاسُ الِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ فَإِنَّ اخْتِلَافَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَوِ الْمُرَكَّبَاتِ، وَالثَّانِي كَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، مِثْلَ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19] ، وَ " جَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ ". وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِوُجُودِ الْكَلِمَةِ وَعَدَمِهَا نَحْوَ: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 24] قُرِئَ بِالضَّمِيرِ وَعَدَمِهِ، أَوْ تَبْدِيلِ الْكَلِمَةِ بِغَيْرِهَا مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] وَالصُّوفِ الْمَنْقُوشُ أَوْ مَعَ اخْتِلَافِهِ مِثْلِ: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] وَطَلْعٍ مَنْضُودٍ أَوْ بِتَغْيِيرِهَا أَمَّا بِتَغْيِيرِ هَيْئَةٍ كَإِعْرَابٍ، مِثْلَ " {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] " بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِي الرَّاءِ، أَوْ صُورَةٍ، مِثْلَ: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة: 259] نَنْشُرُهَا، أَوْ حَرْفٍ، مِثْلَ: " بَاعَدَ " وَ " بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا "، وَقِيلَ: أَرَادَ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مَقْرُوءٌ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَإِنَّهُ قُرِئَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ مُنَوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ وَبِالسُّكُونِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ مُشْتَمِلًا عَلَى سَبْعَةِ مَعَانٍ: الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَقِيلَ: الْمَعَانِي السَّبْعَةُ هِيَ الْعَقَائِدُ وَالْأَحْكَامُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَقِيلَ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ، لِخَبَرِ الْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ: " «كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٍ وَآمِرٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ وَمُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ وَأَمْثَالِ الْحَدِيثِ» ". وَأُجِيبَ: بِأَنَّ قَوْلَهُ زَاجِرٌ اسْتِئْنَافٌ لَا تَفْسِيرٌ؛ لِأَنَّهُ فِي رِوَايَةٍ " زَاجِرًا " بِالنَّصْبِ، أَيْ: نَزَلَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْأَبْوَابِ السَّبْعَةِ، وَبِتَسْلِيمِ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ - هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْإِنْزَالِ لَا لِلْأَحْرُفِ، أَيْ: هِيَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِهِ، أَيْ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، أَيْ: غَيْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَمَنْ ثَمَّ قَالَ: جَمْعُ هَذَا الْقَوْلِ فَاسِدٌ لِأَنَّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ التَّوْسِعَةَ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ لَمْ يَقَعْ فِي تَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ وَلَا فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْأَقَالِيمُ السَّبْعَةُ يَعْنِي حُكْمُ الْقُرْآنِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكَثْرَةُ تَوْسِعَةً لَا الْحَصْرُ فِي هَذَا الْعَدَدِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَمَّا شَقَّ عَلَى كُلِّ الْعَرَبِ الْقِرَاءَةُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْأَلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ إِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ» ". ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ: (لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ تِلْكَ السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ صِفَةٌ لِسَبْعَةٍ وَالضَّمِيرُ رَابِطَةٌ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ، وَالْوَجْهُ عِنْدِي عَوْدُهُ عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ جُمْلَتِهِ، ثُمَّ أَغْرَبَ فِي تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ تِلْكَ الْأَحْرُفِ عَلَى أَيِّ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ (ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاءَاتِ كَمَا فَعَلَ الْمُظْهِرُ حَيْثُ قَالَ: حَدُّ كُلِّ حَرْفٍ مَعْلُومٌ فِي التِّلَاوَةِ، لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ مِثْلُ عَدَمِ

جَوَازِ إِبْدَالِ الضَّادِ بِحَرْفٍ آخَرَ، وَكَذَا سَائِرُ الْحُرُوفِ لَا يَجُوزُ إِبْدَالُهَا بِآخِرَ إِلَّا مَا جَاءَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْكَلِمَةِ كَالْإِمَالَةِ وَإِبْدَالِ الْحُرُوفِ وَالْإِدْغَامِ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ، وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ، فَالْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ الْكَثْرَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] وَالْأَحْرُفُ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْكَلِمَاتِ فِي الْآيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْأَحْرُفُ عَلَى أَجْنَاسِ الِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، ثُمَّ قَسَّمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ حَرْفٍ تَارَةً بِالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، وَالْأُخْرَى بِالْحَدِّ وَالْمَطْلَعِ، فَالظَّهْرُ مَا يُبَيِّنُهُ النَّقْلُ، وَالْبَطْنُ مَا يَسْتَكْشِفُهُ التَّأْوِيلُ، وَالْحَدُّ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي يَقْتَضِي اعْتِبَارَ كُلٍّ مِنَ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ فِيهِ فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَالْمَطْلَعُ الْمَكَانُ الَّذِي يُشْرَفُ مِنْهُ عَلَى تَوْفِيَةِ خَوَاصِّ كُلِّ مَقَامِ حَدَّهُ، وَلَيْسَ لِلْحَدِّ وَالْمَطْلَعِ انْتِهَاءٌ لِأَنَّ غَايَتَهُمَا طَرِيقُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، وَمَا يَكُونُ سِرًّا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ. كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ. وَقِيلَ: الظَّهْرُ مَا ظَهَرَ تَأْوِيلُهُ وَعُرِفَ مَعْنَاهُ، وَالْبَطْنُ مَا خَفِيَ تَفْسِيرُهُ وَأُشْكِلُ فَحَوَاهُ، وَقِيلَ: الظَّهْرُ اللَّفْظُ وَالْبَطْنُ الْمَعْنَى. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أُوَقِّرَ سَبْعِينَ بَعِيرًا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لَفَعَلْتُ، وَلِهَذَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَأَمَّا مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَمَعَ ذَلِكَ فِيهَا إِشَارَاتٌ إِلَى دَقَائِقَ تَنْكَشِفُ لِأَرْبَابِ السُّلُوكِ يُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُرَادَةِ، فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَمَحْضِ الْعِرْفَانِ اهـ. وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ قَالَ: صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ حَقَائِقَ التَّفْسِيرِ، فَإِنْ كَانَ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ تَفْسِيرٌ فَقَدْ كَفَرَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الظَّنُّ بِمَا يُوثَقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ كَالسِّلْمِيِّ، فَإِنَّهُ مِنْ أَكَابِرِهِمْ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ تَفْسِيرًا وَلَا ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الشَّرْحِ التَّصَوُّفِ لِلْكَلِمَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمْ تَنْظِيرُ مَا وَرَدَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ، قِيلَ: الظَّهْرُ لَفْظُ الْقُرْآنِ، وَالْبَطْنُ تَأْوِيلُهُ، وَالْمَطْلَعُ الْفَهْمُ، وَقَدْ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى الْمُتَدَبِّرِ وَالْمُتَفَكِّرِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالْمَعَانِي مَا لَا يَفْتَحُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، وَالتَّفَهُّمُ يَكُونُ بِصِدْقِ النِّيَّةِ وَتَعْظِيمِ الْحُرْمَةِ وَطِيبِ الطُّعْمَةِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الظَّهْرُ مَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَالْبَطْنُ بِخِلَافِهِ اهـ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ: الظَّهْرُ مَا يُبَيِّنُهُ النَّقْلُ، وَالْبَطْنُ مَا يَسْتَكْشِفُهُ التَّأْوِيلُ. قَالَ: أَوِ الظَّهْرُ الْإِيمَانُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَالْبَطْنُ التَّفَاوُتُ فِي فَهْمِهِ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْفَضِيلَةِ، أَوِ الظَّهْرُ الْمَعْنَى الْجَلِيُّ وَالْبَطْنُ الْخَفِيُّ وَهُوَ سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ الْمُصْطَفَيْنَ. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَلْيُؤْثِرِ الْقُرْآنَ، وَقَوْلُهُ: وَلِكُلِّ حَدِّ مَطْلَعٌ. الْحَدُّ: الْمَنْعُ وَسُمِّيَتْ حُدُودُ اللَّهِ بِهَا لِمَنْعِ مُرْتَكِبِيهَا مِنَ الْعَوْدِ، وَالْمَطْلَعُ مَكَانُ الِاطِّلَاعِ عَنْ مَوْضِعٍ عَالٍ يُقَالُ: مَطْلَعُ هَذَا الْجَبَلِ مِنْ مَكَانِ كَذَا أَيْ: مَأْتَاهُ وَمَصْعَدُهُ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لِكُلِّ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ أَحْكَامُ الدِّينِ الَّتِي شَرَعَ لِلْعِبَادِ مَوْضِعَ اطِّلَاعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فِمَنْ وُفِّقَ أَنْ يَرْتَقِيَ ذَلِكَ الْمُرْتَقَى اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ الْمُتَعَلِّقِ بِذَلِكَ الْمَطْلَعِ كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَقِيلَ: أَيْ لِكُلِّ حَدٍّ وَطَرَفٍ مِنَ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ مَطْلَعٌ، أَيْ: مِصْعَدٌ أَيْ مَوْضِعٌ يُطْلَعُ عَلَيْهِ بِالتَّرَقِّي إِلَيْهِ، فَمَطْلَعُ الظَّاهِرِ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ وَتَتَبُّعُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الظَّاهِرِ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَطْلَعُ الْبَاطِنِ تَصْفِيَةُ النَّفْسِ وَالرِّيَاضَةُ بِآدَابِ الْجَوَارِحِ وَإِتْعَابُهَا فِي اتِّبَاعِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا عَمِلَ بِهَا قَوْمٌ وَلَهَا قَوْمٌ سَيَعْمَلُونَ بِهَا، وَقِيلَ:

إِنَّ مَا قَصَّهُ عَمَّنْ سَبَقَ ظَاهِرُهَا الْإِخْبَارُ بِإِهْلَاكِهِمْ، وَبَاطِنُهَا وَعْظُ السَّامِعِينَ. وَقِيلَ: ظَاهِرُهَا مَعْنَاهُ الظَّاهِرُ لِعُلَمَاءِ الظَّاهِرِ وَبَاطِنُهَا مِنَ الْأَسْرَارِ لِعُلَمَاءِ الْبَاطِنِ، وَقِيلَ: ظَاهِرُهَا التِّلَاوَةُ وَمَعْنَاهَا الْفَهْمُ. (رَوَاهُ) أَيْ: مُصَنِّفُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ: بِإِسْنَادِهِ فِيهِ، وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا: " «لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ» ". وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ خَبَرًا: " «الْقُرْآنُ تَحْتَ الْعَرْشِ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ يُحَاجُّ الْعِبَادَ» "، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُمْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ لَهُ حَرْفٌ إِلَّا لَهُ حَدٌّ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْجُمْلَةُ الْأُولَى جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ صَحَابِيًّا، وَمِنْ ثَمَّ نَصَّ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، أَيْ مَعْنًى، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلًا، مِنْهَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجَهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَنَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: «إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ حَتَّى يَبْلُغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ. قَالَ: كُلٌّ شَافٍ كَافٍ، مَا لَمْ يَخْتِمْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ أَوْ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، نَحْوَ قَوْلِكَ: تَعَالَ وَأَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَعَجِّلْ» ، هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا» ، وَفِي أُخْرَى لَهُ: «الْقُرْآنُ كُلُّهُ صَوَابٌ مَا لَمْ تَجْعَلْ مَغْفِرَةً عَذَابًا أَوْ عَذَابًا مَغْفِرَةً» ، وَسَنَدُهُمَا جَيِّدٌ، قَالَ كَثِيرُونَ مِنَ الْأَئِمَّةِ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَيْ جَوَازُ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ بِمُرَادِفِهِ رُخْصَةً لِمَا كَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمُ التِّلَاوَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ وَالضَّبْطِ وَإِتْقَانِ الْحِفْظِ، فَالْقُرَشِيُّ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ، وَالْيَمَنِيُّ تَرْكُهُ، فَلِذَلِكَ سَهُلَ عَلَى قَبِيلَةٍ أَنْ تَقْرَأَ بِلُغَتِهَا، ثُمَّ نُسِخَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ وَتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ وَالْحِفْظِ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَرَأَ مَا لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، أَحَدُهُمَا: وَعَلَيْهِ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى نَقْلِهَا مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَثَانِيهِمَا: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ رَسْمُهَا مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَقَطْ جَامِعَةً لِلْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ مُتَضَمِّنَةً لَهَا لَمْ يُتْرَكْ حَرْفٌ مِنْهَا. وَأُجِيبُ عَنِ الْأَوَّلِ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ جَائِزًا لَهُمْ وَمُرَخَّصًا لَهُمْ فِيهِ، فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ إِذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعًا شَائِعًا وَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ، وَلَا فِعْلُ حَرَامٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ مِنْهُ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَغُيِّرَ مِنْهُ، فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنْ كَتَبُوا مَا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ قُرْآنٌ مُسْتَقِرٌّ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ: جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ فِي صُحُفٍ، وَجَمَعَهُ عُثْمَانُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ بِذَهَابِ حَامِلِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُ فِي صَحَائِفَ مُرَتِّبًا لِآيَاتِ سُوَرِهِ عَلَى مَا وَقَّفَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَعَ عُثْمَانُ لَمَّا كَانَ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوهِ الْقُرْآنِ حِينَ قَرَءُوهُ بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ، فَأَدَّى ذَلِكَ بَعْضَهُمْ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ، فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفَ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ، وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُسِّعَ فِي قِرَاءَتِهِ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ دَفَعَا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَرَأَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ فَاقْتَصَرَ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ اهـ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ جُمِعَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. الْأُولَى: بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَدْ صَحَّ «عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ فِي الرِّقَاعِ» ، أَيْ: يُؤَلِّفُونَ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُفَرَّقَةِ وَيَجْمَعُونَهَا فِي سُوَرِهَا بِإِشَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كُتِبَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ كَانَ غَيْرَ مَجْمُوعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَا مُرَتَّبَ السُّوَرِ، وَالثَّانِيَةُ بِحَضْرَةِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا رَأَى عُمَرُ ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَهُ أَيْ أَشَارَ بِجَمْعِهِ، وَوَافَقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَمَرَ زَيْدًا بِجَمْعِهِ فَجَمَعَهُ فِي صُحُفٍ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فَعُمَرَ فَبِنْتِهِ حَفْصَةَ، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَمَعَهُ مُنْقَطِعًا، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ حَفِظَهُ صَدْرُهُ، وَالثَّالِثَةُ: بِحَضْرَةِ عُثْمَانَ مُرَتِّبًا لَهُ عَلَى السُّورِ.

239 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ. وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 239 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْعِلْمُ) : أَيِ: الَّذِي هُوَ أَصْلُ عُلُومِ الدِّينِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: مَعْرِفَةُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ (آيَةٌ مُحْكَمَةٌ) أَيْ: غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ أَوْ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا تَأْوِيلًا وَاحِدًا (أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ) أَيْ: ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْمُولٌ بِهَا، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ كَقَوْلِهِ (أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ) . أَيْ: مُسْتَقِيمَةٌ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْحُكْمُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ لِمُعَادَلَتِهِ الْحُكْمَ الْمَنْصُوصَ فِيهِمَا وَمُسَاوَاتِهِ لَهُمَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَكَوْنِهِ صِدْقًا وَصَوَابًا، وَقِيلَ: فَرِيضَةٌ مُعْدَلَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْ مُزَكَّاةٌ بِهِمَا، وَقِيلَ: الْفَرِيضَةُ الْعَادِلَةُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ عِلْمُ الْفَرَائِضِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَيُسَمَّى الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ فَرِيضَةً عَادِلَةً، قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ مُلَخَّصًا نَقَلَهُ السَّيِّدُ (وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ) أَيِ: الْمَذْكُورِ (فَهُوَ فَضْلٌ) أَيْ: مِنَ الْفُضُولِ يَعْنِي كُلُّ عِلْمٍ سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا تَتَوَقَّفُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَلَيْهِ زَائِدٌ لَا ضَرُورَةَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ كَالنَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَالْعَرُوضِ وَالطِّبِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ كَعِلْمِ الْعَرُوضِ وَالطِّبِّ وَالْهَنْدَسَةِ وَالْهَيْئَةِ وَالْمِيقَاتِ، فَهُوَ فَضْلٌ أَيْ زِيَادَةٌ عَلَى تِلْكَ الْعُلُومِ، فَفِيهِ أَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ لِبَيَانِ الْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي طَلَبَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرُ النَّافِعِ الَّذِي تَعَوَّذَ بِهِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» " وَأَيْضًا مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ مُرَادَ الشَّارِعِ أَنْ يُبَيِّنَ حَصْرَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَعَرُّضِ الْأُمَّةِ عَنْ غَيْرِهَا وَيَتَوَجَّهُوا إِلَيْهَا، وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِنَفْيِ مَا عَدَاهَا وَذَمِّهِ بِأَنَّهُ زَائِدٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ بَلْ فَضْلَةٌ وَشَاغِلٌ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَلِذَا وَرَدَ: " إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا " وَ " «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» " وَالْغَرِيبُ مِنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْقَوْلَ بَعِيدًا، بَلْ قَالَ: لَا يَصِحُّ، وَعَلَّلَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ الزَّائِدَةِ مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالطِّبِّ وَتَقَدَّمَ جَوَابُهُ وَقَالَ: بَلْ عَيْنٌ كَعِلْمِ الْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ عِلْمَهُمَا إِجْمَالًا عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عِلْمَهُمَا عَلَى وَفْقِ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ وَالْحِكْمَةِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ فَحَاشَا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا فَضْلًا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا فَضْلًا أَنَّ يَكُونَ فَرْضَ عَيْنٍ، وَإِلَّا لَكَانَ السَّلَفُ وَأَكْثَرُ الْخَلَفِ عَاصِينَ بِتَرْكِ هَذَا الْعِلْمِ، وَمَا كَانَتْ صَلَاتُهُمْ صَحِيحَةً بِالتَّحَرِّي فِي الْقِبْلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ: عِلْمُ الْكِتَابِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ " آيَةٌ مُحْكَمَةٌ " فَإِنَّ الْمُحْكَمَاتِ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَيَجِبُ رَدُّ الْمُتَشَابِهَاتِ إِلَيْهَا وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْعُلُومِ كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأُصُولِيِّينَ. يَعْنِي: أُصُولَ الْعَقَائِدِ وَأُصُولَ الْفِقْهِ وَعِلْمَ السُّنَّةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَعْنَى قِيَامِهَا ثَبَاتُهَا وَدَوَامُهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَسَانِيدِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ وَمَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْحَدِيثِ أَوْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى مُتُونِهَا مِنَ التَّغْيِيرِ بِالْإِتْقَانِ، وَعِلْمِ الْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:

أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ عَادِلَةً لِأَنَّهَا مُعَادِلَةٌ لِمَا أُخِذَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْفُضُولِ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي عِلْمِ الدِّينِ، وَأَمَّا الطِّبُّ فَلَيْسَ بِفُضُولٍ لِمَا ثَبَتَ بِنُصُوصِ السُّنَّةِ الِافْتِقَارُ إِلَيْهِ. أَقُولُ فِيهِ: إِنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الِافْتِقَارُ إِلَيْهِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا كَالْحِجَامَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالنِّسَاجَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَلَا تُسَمَّى عُلُومًا مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالطِّبِّ جَائِزٌ لَا فَرْضٌ إِجْمَاعًا وَأَصْلُهُ مَوْجُودٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالزَّائِدُ عَنْهُمَا لَا شَكَّ أَنَّهُ فُضُولٌ كَالزَّائِدِ مِنْ نَحْوِ النَّحْوِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

240 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَقُصُّ إِلَّا أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ أَوْ مُخْتَالٌ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 240 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَقُصُّ) : نَفْيٌ لَا نَهْيٌ، كَذَا قَالَهُ السَّيِّدُ وَوَجْهَهُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى النَّهْيِ الصَّرِيحِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَالُ مَأْمُورًا بِالِاقْتِصَاصِ، ثُمَّ الْقَصُّ التَّكَلُّمُ بِالْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ وَالْمَوَاعِظِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْخُطْبَةُ خَاصَّةً وَالْمَعْنَى لَا يَصْدُرُ هَذَا الْفِعْلُ إِلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَقَوْلُهُ: (إِلَّا أَمِيرٌ) أَيْ: حَاكِمٌ (أَوْ مَأْمُورٌ) أَيْ: مَأْذُونٌ لَهُ بِذَلِكَ مِنَ الْحَاكِمِ أَوْ مَأْمُورٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَبَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ (أَوْ مُخْتَالٌ) أَيْ: مُفْتَخِرٌ مُتَكَبِّرٌ طَالِبٌ لِلرِّئَاسَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: عَنْ عَوْفٍ.

241 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَفِي رِوَايَتِهِ: " أَوْ مَرَّاءٌ " بَدَلُ " مُخْتَالٌ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 241 - (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَفِي رِوَايَتِهِ) أَيْ: رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي رِوَايَةٍ (أَوْ مُرَاءٌ) بَدَلَ (أَوْ مُخْتَالٌ) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الِاخْتِيَالِ أَيِ: التَّكَبُّرِ، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْحِيلَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ صَحَّ بِالْمُهْمَلَةِ.

242 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ، وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 242 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أُفْتَى) : عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَقِيلَ: مَعَ الْمَعْلُومِ (بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: وَتَبِعَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَفْتَى) الثَّانِي بِمَعْنَى اسْتَفْتَى، وَأُفْتَى الْأَوَّلُ مَعْرُوفًا، أَيْ: كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنِ اسْتَفْتَاهُ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ فِي مَعْرِضِ الْإِفْتَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا، أَيْ: فَإِثْمُ إِفْتَائِهِ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ، أَيِ: الْإِثْمُ عَلَى الْمُفْتِي دُونَ الْمُسْتَفْتِي اهـ. وَالْأَظْهَرُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنَ النُّسَخِ يَعْنِي: كُلُّ جَاهِلٍ سَأَلَ عَالِمًا عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَفْتَاهُ الْعَالِمُ بِجَوَابٍ بَاطِلٍ، فَعَمِلَ السَّائِلُ بِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بُطْلَانَهُ فَإِثْمُهُ عَلَى الْمُفْتِي إِنْ قَصَّرَ فِي اجْتِهَادِهِ (وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ) ": قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا عُدِّيَ " أَشَارَ " بِ " عَلَى " كَانَ بِمَعْنَى الْمَشُورَةِ، أَيِ: اسْتَشَارَهُ وَسَأَلَهُ كَيْفَ أَفْعَلُ هَذَا الْأَمْرَ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: أَشَارَ عَلَيْهِ بِكَذَا أَمَرَهُ، وَاسْتَشَارَ: طَلَبَهُ الْمَشُورَةَ، فَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ وَهُوَ مُسْتَشِيرٌ، وَأَمَرَ الْمُسْتَشِيرَ بِأَمْرٍ (يَعْلَمُ) : وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ (أَنَّ الرُّشْدَ) أَيِ: الْمَصْلَحَةَ

(فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ (فَقَدْ خَانَهُ) أَيْ: خَانَ الْمُسْتَشَارُ الْمُسْتَشِيرَ إِذْ وَرَدَ: أَنَّ " «الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ» " وَ " «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ". (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

243 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 243 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ» ) : جَمْعُ أُغْلُوطَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ، أَيْ: عَنْ سُؤَالِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُغَالِطُ بِهَا الْعُلَمَاءَ لِإِشْكَالٍ فِيهَا لِمَا فِيهَا مِنْ إِيذَاءِ الْمَسْئُولِ وَإِظْهَارِ فَضْلِ السَّائِلِ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ إِذَا كَانَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِيذَاءِ، وَالْإِيذَاءُ حَرَامٌ وَتَهْيِيجٌ لِلْفِتْنَةِ وَالْعَدَاوَةِ، وَفِيهِ إِظْهَارُ فَضْلِ النَّفْسِ وَنَقْصِ الْغَيْرِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ جَوَابًا وَجَزَاءً فَلَا يَكُونُ حَرَامًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ فِي مَجْلِسِ هَارُونَ الرَّشِيدِ عَنْ مَسَائِلَ مُشْكِلَةٍ، فَأَجَابَهَا سَرِيعًا، فَسَأَلَ الشَّافِعِيُّ مِمَّنْ سَأَلَ مِنْهُ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ عَنْ سِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَخُصَّ أُخْتَهُ إِلَّا دِرْهَمٌ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا وَعَجَزَ، فَأَشَارَ هَارُونُ بِتَصْوِيرِهِ، فَقَالَ: مَاتَ رَجُلٌ عَنْ بِنْتَيْنِ وَأُمٍّ وَزَوْجَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخًا وَأُخْتًا وَسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

244 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَالْقُرْآنَ وَعَلِّمُوا النَّاسَ فَإِنِّي مَقْبُوضٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 244 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «تَعْلَّمُوا الْفَرَائِضَ» ) : قِيلَ: هُوَ عِلْمُ الْمِيرَاثِ، وَقِيلَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَقِيلَ: الْفَرَائِضُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ مَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ مَعْرِفَتُهُ، وَإِنَّمَا حَثَّ عَلَى تَعَلُّمِهَا لِأَنَّ الْعِقَابَ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِهَا (وَالْقُرْآنَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا حَثَّ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْفَرَائِضِ السُّنَنَ الصَّادِرَةَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، الدَّالُّ عَلَيْهَا أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ (وَعَلِّمُوا النَّاسَ فَإِنِّي مَقْبُوضٌ) أَيْ: سَأُقْبَضُ وَيَنْقَطِعَانِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

245 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: " هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ فِيهِ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 245 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَخَصَ) أَيْ: رَفَعَ (بِبَصَرِهِ) : أَوْ نَظَرَ بِعَيْنِهِ (إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا أَوَانٌ) أَيْ: وَقْتٌ (يُخْتَلَسُ) : صِفَةُ أَوَانٍ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ: يُخْتَطَفُ وَيُسْلَبُ بِسُرْعَةٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَفِي نُسْخَةٍ: يُخْتَلَسُ فِيهِ (الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ) أَيْ: عِلْمُ الْوَحْيِ (حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْعِلْمِ (عَلَى شَيْءٍ) : مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ كُوشِفَ بِاقْتِرَابِ أَجَلِهِ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)

246 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةً: " «يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ، فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِي جَامِعِهِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمَثَلُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى: وَسَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 246 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ رَفْعِ الْحَدِيثِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا لَكَانَ مَوْقُوفًا (يُوشِكُ) : بِالْكَسْرِ، وَالْفَتْحُ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، أَيْ: يَقْرُبُ (أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ) : هُوَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ اسْمٌ لِيُوشِكَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْخَبَرِ لِاشْتِمَالِ الِاسْمِ عَلَى الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ (أَكْبَادَ الْإِبِلِ) : أَيِ: الْمُحَاذِيَ لِأَكْبَادِهَا، يَعْنِي يَرْحَلُونَ وَيُسَافِرُونَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِسْرَاعِ الْإِبِلِ وَإِجْهَادِهَا فِي السَّيْرِ، فَتُسْتَضَرُّ بِذَلِكَ فَتُقْطَعُ أَكْبَادُهَا مِنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ، وَيَمَسُّهَا الْأَدْوَاءُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا ضُرِبَتْ أَكْبَادُهَا مَكَانَ ضَرْبِهَا عَلَى السَّيْرِ، وَقِيلَ: أَيْ يُجْهِدُونَ الْإِبِلَ وَيَرْكُضُونَهَا، كَنَّى بِضَرْبِ الْأَكْبَادِ عَنِ السَّيْرِ وَالرَّكْضِ، لِأَنَّ أَكْبَادَ الْإِبِلِ وَالْفَرَسِ وَغَيْرِهِمَا تَتَحَرَّكُ عِنْدَ الرَّكْضِ وَيَلْحَقُهَا ضَرَرٌ وَقَطْعٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضَرْبُ أَكْبَادِ الْإِبِلِ كِنَايَةٌ عَنِ السَّيْرِ السَّرِيعِ، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ يَرْكَبُ الْإِبِلَ وَيَضْرِبُ عَلَى أَكْبَادِهَا بِالرِّجْلِ، وَفِي إِيرَادِ هَذَا الْقَوْلِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ طَلَبَةَ الْعِلْمِ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا وَأَعَزُّهُمْ مَطْلَبًا، لِأَنَّ الْجِدَّ فِي الطَّلَبِ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَدْرِ شِدَّةِ الْحِرْصِ وَعِزَّةِ الْمَطْلَبِ، وَالْمَعْنَى: قَرُبَ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ يَسِيرُ النَّاسُ سَيْرًا شَدِيدًا فِي الْبُلْدَانِ الْبَعِيدَةِ (يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ) : وَهُوَ حَالٌ أَوْ بَدَلٌ (فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا) أَيْ: فِي الْعَالَمِ (أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ) : قِيلَ: هَذَا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَتِ الْعُلَمَاءُ الْفُحُولُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ مَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، فَالْإِضَافَةُ لِلْجِنْسِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ ذَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْإِضَافَةُ لِلْعَهْدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِي جَامِعِهِ) : بِالْوَاوِ أَيْ: ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ تَفْسِيرَهُ فِي جَامِعِهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) : اسْمُهُ سُفْيَانُ، وَهُوَ إِمَامٌ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرُهُمَا (إِنَّهُ) أَيْ عَالِمَ الْمَدِينَةِ (مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) : وَهُوَ إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ وَأَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ، وَهُوَ أُسْتَاذُ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْعِلْمِ أَعْلَمُ مِنْهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ: مِثْلُ مَقُولِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي مَالِكٍ مَنْقُولٌ (عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ) : وَهُوَ مِنْ فُضَلَاءِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ أَحَدُ الْمَشْهُورِينَ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الرِّوَايَةِ، صَاحِبُ تَأْلِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي شَرْحِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِنْ أُرِيدَ مُطَابَقَتُهُ إِيَّاهُ قُرِئَ " وَمِثْلَهُ " تَتِمَّةً لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، وَابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ " عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ " تَأَمَّلْ اهـ.

قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ قَوْلَانِ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى: وَسَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ) : أَيِ: الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ (الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: قِيلَ: هُوَ الْعُمَرِيُّ (وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَالِكٌ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بِالْعُمَرِيِّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَذَكَرَ فِي الْمَتْنِ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْجَامِعِ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَأَعْلَامِهِمْ، سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ، وَأَبَا حَازِمٍ، وَحُمَيْدًا الطَّوِيلَ، وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ. كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةَ. قِيلَ لَهُ الْعُمَرِيُّ نِسْبَةً إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِأَنَّهُ ابْنُ بِنْتِهِ، وَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الْخَطَّابِ، قِيلَ: كَانَ آخِرَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، وَكَانَ يُقَدَّمُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.

247 - وَعَنْهُ، فِيمَا أَعْلَمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةٍ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 247 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (فِيمَا أَعْلَمُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَقِيلَ: هُوَ لَفْظُ الْمُصَنِّفِ أَيْ فِي عِلْمِي، أَوْ فِي جُمْلَةِ مَا أَعْلَمُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : لَا عَنْ غَيْرِهِ وَقَدْ شَكَّ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ. قَالَ السَّيِّدُ: قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِلتُّورِبِشْتِيِّ: فِيمَا أَعْلَمُ مُضَارِعًا أَوْ مَاضِيًا هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ كَائِنًا فِي عِلْمِي هُوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً، أَوْ كَائِنًا فِي إِعْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَائِرَ الصَّحَابَةِ اهـ. أَقُولُ: قَوْلُهُ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ - غَيْرُ ظَاهِرٍ لِأَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الْفَهْمِ، وَقَدْ تَفَحَّصْتُهُ مِنْ أَصْلِ أَبِي دَاوُدَ فَوَجَدْتُهُ مُخَرَّجًا عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا أَعْلَمُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ. فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيمَا أَعْلَمُ يَجُوزُ بِضَمِّ الْمِيمِ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبِفَتْحِهَا مَاضِيًا مِنَ الْإِعْلَامِ حِكَايَةً عَنْ فِعْلِهِ اهـ. أَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ: بِضَمِّ الْمِيمِ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَلْقَمَةَ الرَّاوِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: حِكَايَةً عَنْ فِعْلِهِ فَفِيهِ تَأَمُّلٌ وَمُسَامَحَةٌ، تَأَمَّلْ. انْتَهَى كَلَامُ السَّيِّدِ. (قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ") أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، وَيَحْتَمِلُ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ (عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةٍ سَنَةٍ) : أَيِ: انْتِهَائِهِ أَوِ ابْتِدَائِهِ إِذَا قَلَّ الْعِلْمُ وَالسُّنَّةُ وَكَثُرَ الْجَهْلُ وَالْبِدْعَةُ (مَنْ يُجَدِّدُ) : مَفْعُولُ يَبْعَثُ (لَهَا) أَيْ: لِهَذِهِ الْأُمَّةِ (دِينَهَا) أَيْ: يُبَيِّنُ السُّنَّةَ مِنَ الْبِدْعَةِ وَيُكْثِرُ الْعِلْمَ وَيُعِزُّ أَهْلَهُ وَيَقْمَعُ الْبِدْعَةَ وَيَكْسِرُ أَهْلَهَا. قَالَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ: وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ أَشَارَ إِلَى الْعَالِمِ الَّذِي هُوَ فِي مَذْهَبِهِ، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ، وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ فَإِنَّ لَفْظَةَ " مَنْ " تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَلَا يَخْتَصُّ أَيْضًا بِالْفُقَهَاءِ فَإِنَّ انْتِفَاعَ الْأُمَّةِ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَانْتِفَاعُهُمْ بِأُولِي الْأَمْرِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْقُرَّاءِ وَالْوُعَّاظِ وَالزُّهَّادِ أَيْضًا كَثِيرٌ، إِذْ حِفْظُ الدِّينِ وَقَوَانِينُ السِّيَاسَةِ وَبَثُّ الْعَدْلِ وَظِيفَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَكَذَا الْقُرَّاءُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَنْفَعُونَ بِضَبْطِ التَّنْزِيلِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الشَّرْعِ وَأَدِلَّتَهُ، وَالْوُعَّاظُ يَنْفَعُونَ بِالْوَعْظِ وَالْحَثِّ عَلَى لُزُومِ التَّقْوَى لَكِنِ الْمَبْعُوثُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ. نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَحَمَلَ الْمُجَدِّدِينَ مَحْصُورِينَ عَلَى الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَخَتَمَهُمْ بِشَيْخِهِ الشَّيْخِ زَكَرِيَّا مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِتَجْدِيدِ فَنٍّ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَشَيْخُ مَشَايِخِنَا السُّيُوطِيُّ هُوَ الَّذِي أَحْيَا عِلْمَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَجَمَعَ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي جَامِعِهِ الْمَشْهُورِ، وَمَا تَرَكَ فَنًّا إِلَّا وَلَهُ فِيهِ مَتْنٌ أَوْ شَرْحٌ مَسْطُورٌ، بَلْ وَلَهُ زِيَادَاتٌ وَمُخْتَرَعَاتٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُجَدِّدُ فِي الْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ كَمَا ادَّعَاهُ وَهُوَ فِي دَعْوَاهُ مَقْبُولٌ وَمَشْكُورٌ، هَذَا وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ يُجَدِّدُ لَيْسَ شَخْصًا وَاحِدًا، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ

جَمَاعَةٌ يُجَدِّدُ كُلُّ أَحَدٍ فِي بَلَدٍ فِي فَنٍّ أَوْ فَنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ التَّقْرِيرِيَّةِ أَوِ التَّحْرِيرِيَّةِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِبَقَائِهِ وَعَدَمِ انْدِرَاسِهِ وَانْقِضَائِهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّجْدِيدَ أَمْرٌ إِضَافِيٌّ، لِأَنَّ الْعِلْمَ كُلَّ سَنَةٍ فِي التَّنَزُّلِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ كُلَّ عَامٍ فِي التَّرَقِّي، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ تَرَقِّي عُلَمَاءِ زَمَانِنَا بِسَبَبِ تَنَزُّلِ الْعِلْمِ فِي أَوَانِنَا، وَإِلَّا فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ عِلْمًا وَعَمَلًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا وَتَحْقِيقًا وَتَدْقِيقًا لِمَا يَقْتَضِي الْبُعْدَ عَنْ زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَالْبُعْدِ عَنْ مَحَلِّ النُّورِ وَيُوجِبُ كَثْرَةَ الظُّلْمَةِ وَقِلَّةَ الظُّهُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " «لَا يَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ» ". وَمَا فِي الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا " «مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَيَنْتَقِصُ الْخَيْرُ فِيهِ وَيَزِيدُ الشَّرُّ» " وَمَا فِي الطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَيُحْدِثُ النَّاسُ بِدَعَةً وَيُمِيتُونَ سُنَّةً حَتَّى تُمَاتَ السُّنَنُ وَتَحْيَا الْبِدَعُ» . وَهَذِهِ النُّبْذَةُ الْيَسِيرَةُ أَيْضًا إِنَّمَا هِيَ مِنْ بَرَكَاتِ عُلُومِهِمْ وَمَدَدِهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ الْفَضْلَ لِلْمُتَقَدِّمِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَكَذَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

248 - وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 248 - (وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، مَنْسُوبٌ إِلَى عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ أَبِي قَبِيلَةٍ مِنْ خُزَاعَةَ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ لَا فِي الصَّحَابَةِ وَلَا فِي التَّابِعِينَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْمِلُ) أَيْ: يَحْفَظُ (هَذَا الْعِلْمَ) أَيْ: عِلْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ: الْفِقْهَ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ مُصْطَلَحٌ حَادِثٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ عِنْدَ قَوْلِهِ هَذَا، وَالْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ، يَعْنِي يَأْخُذُهُ وَيَقُومُ بِإِحْيَائِهِ (مِنْ كُلِّ خَلَفٍ) أَيْ: مِنْ كُلِّ قَرْنٍ يَخْلِفُ السَّلَفَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ الْجَمَاعَةُ الْمَاضِيَةُ، وَالْخَلَفُ بِفَتْحِ اللَّامِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ أَحَدٍ وَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ " (عُدُولُهُ) أَيْ: ثِقَاتُهُ يَعْنِي مَنْ كَانَ عَدْلًا صَاحِبَ التَّقْوَى وَالدِّيَانَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَ " مِنْ " إِمَّا تَبْعِيضِيَّةٌ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ " يَحْمِلُ " وَ " عُدُولُهُ " بَدَلٌ مِنْهُ، وَإِمَّا بَيَانِيَّةٌ عَلَى طَرِيقَةِ لَقِيَنِي مِنْكَ (أَسَدٌ) جُرِّدَ مِنَ الْخَلَفِ الصَّالِحِ، وَالْعُدُولُ الثِّقَاتُ وَهُمْ هُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِمْ (يَنْفُونَ عَنْهُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: نَافِينَ عَنْهُ يَعْنِي طَارِدِينَ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ (تَحْرِيفَ الْغَالِينَ) : أَيِ: الْمُبْتَدَعَةِ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَنِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَيَنْحَرِفُونَ عَنْ جِهَتِهِ، مِنْ غَلَا يَغْلُو إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ كَأَقْوَالِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ (وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ) الِانْتِحَالُ: ادِّعَاءُ قَوْلٍ أَوْ شِعْرٍ، وَيَكُونُ قَائِلُهُ غَيْرَهُ بِانْتِسَابِهِ إِلَى نَفْسِهِ، قِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَذِبِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ فِي النِّهَايَةِ: الِانْتِحَالُ مِنَ النِّحْلَةِ وَهِيَ التَّشَبُّهُ بِالْبَاطِلِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِانْتِحَالُ ادِّعَاءُ الشَّيْءِ بِالْبَاطِلِ، وَقِيلَ: لَعَلَّ الْأَوَّلَ أَنْسَبُ لِمَعْنَى الْحَدِيثِ اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُبْطِلَ إِذَا اتَّخَذَ قَوْلًا مِنْ عِلْمِنَا لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى بَاطِلِهِ أَوِ اعْتَزَى إِلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ نَفَوْا عَنْ هَذَا الْعِلْمِ قَوْلَهُ، وَنَزَّهُوهُ عَمَّا يَنْتَحِلُهُ (وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ: مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إِلَى مَا لَيْسَ بِصَوَابٍ، أَوِ الْجُمْلَةُ

اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ الْعَلِيَّةِ؟ فَأُجِيبَ: بِأَنَّهُمْ يَحْمُونَ الشَّرِيعَةَ وَمُتُونَ الرِّوَايَاتِ مِنْ تَحْرِيفِ الَّذِينَ يَغْلُونَ فِي الدِّينِ، وَالْأَسَانِيدَ مِنَ الْقَلْبِ وَالِانْتِحَالِ، وَالْمُتَشَابِهَ مِنْ تَأْوِيلِ الزَّائِغِينَ الْمُبْتَدِعِينَ بِنَقْلِ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ لِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إِلَيْهَا، وَهَذَا مَعْنَى مَا وَرَدَ: " «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ مَعْنًى (رَوَاهُ) . . . . . " وَأَلْحَقَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ مُعَانٍ بِضَمِّ الْمِيمِ ابْنِ رِفَاعَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ. وَقَالَ السَّيِّدُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ إِلَى السُّنَنِ فِي بَابِ تَبْيِينِ حَالِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ رَدَّ خَبَرِهِ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ» ". وَذَكَرَهُ ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُعَاذٍ وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الثِّقَةِ أَشْيَاخِهِمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ ضَعِيفَةٍ. وَمُعَانٌ: بِالنُّونِ دِمَشْقِيٌّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، كَذَا فِي التَّخْرِيجِ (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ: فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، أَيِ: الْعَاجِزِ عَنِ الْعِلْمِ (السُّؤَالُ) أَيْ: عَنِ الْعُلَمَاءِ (فِي بَابِ التَّيَمُّمِ) : لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَهُوَ اعْتِذَارٌ وَاعْتِرَاضٌ: (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : مُتَعَلِّقٌ بِ (سَنَذْكُرُ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 249 - عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 249 - (عَنِ الْحَسَنِ) : وَهُوَ إِذَا أُطْلِقَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ فَالْمُرَادُ الْبَصْرِيٌّ (مُرْسَلًا) : لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ، حَذَفَ الصَّحَابِيَّ إِمَّا لِنِسْيَانِهِ أَوْ لِكَثْرَةِ مَنْ يَرْوِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ» ) : الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي " جَاءَهُ "، أَيْ: مَنْ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي حَالِ اسْتِمْرَارِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَنَشْرِهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ (لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ) أَيْ: لِإِحْيَاءِ الدِّينِ عَمَّا انْدَرَسَ قَوَاعِدُهُ وَأَحْكَامُهُ بِبِنَائِهَا لَا لِغَرَضٍ فَاسِدٍ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ (فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ) : وَهِيَ مَرْتَبَةُ النُّبُوَّةِ (فِي الْجَنَّةِ) ": أَرْدَفَهَا بِوَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ سَبَقَ لِلْعَدَدِ، وَقَدْ سَبَقَ: إِنَّ وَارِثَ الْأَنْبِيَاءِ هُمُ الْعُلَمَاءُ الزَّاهِدُونَ الدَّاعُونَ الْخَلْقَ إِلَى الْحَقِّ فَيُحِبُّونَ الْإِسْلَامَ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَوْضِيحُهُ فِي كَلَامِ الْأَبْهَرِيِّ: أَكَّدَ الدَّرَجَةَ بِوَاحِدَةٍ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِيَّةِ وَعَلَى الْعَدَدِ، وَالَّذِي سَبَقَ لَهُ الْكَلَامُ هُوَ الْعَدَدُ الْحَاصِلُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ الْمُخْلِصِينَ لَمْ تَفُتْهُمْ إِلَّا دَرَجَةُ الْوَحْيِ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

250 - وَعَنْهُ مُرْسَلًا، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَحَدُهُمَا كَانَ عَالِمًا يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَالْآخِرُ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ ; أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَضْلُ هَذَا الْعَالِمِ الَّذِي يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ عَلَى الْعَابِدِ الَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 250 - (وَعَنْهُ) : أَيِ: الْحَسَنِ (مُرْسَلًا) : أَيْضًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلَيْنِ) أَيْ: عَنْ شَأْنِهِمَا وَحُكْمِهِمَا (كَانَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَحَدُهُمَا كَانَ عَالِمًا) أَيْ: غَلَبَ عِلْمُهُ عَلَى الْعِبَادَةِ (يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ) أَيْ: يَكْتَفِي بِالْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ (ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ) : أَيِ: الْعِلْمَ وَالْعِبَادَةَ وَالزُّهْدَ وَالرِّيَاضَةَ وَالصَّبْرَ وَالْقَنَاعَةَ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ تَدْرِيسًا أَوْ تَأْلِيفًا أَوْ غَيْرَهُمَا (وَالْآخَرُ يَصُومُ النَّهَارَ) أَيْ: دَائِمًا أَوَ غَالِبًا (وَيَقُومُ اللَّيْلَ) أَيْ: كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ وَقَدْ تَعَلَّمَ فَرْضَ عِلْمِهِ (أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟) أَيْ: أَكْثَرُ ثَوَابًا فَإِنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْعَالِمِ ظَاهِرَةٌ.

(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَضْلُ هَذَا الْعَالِمِ) : يُحْتَمَلُ الشَّخْصُ وَالْجِنْسُ ( «الَّذِي يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ عَلَى الْعَابِدِ الَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ» ) : أَطْنَبَ فِي الْجَوَابِ حَيْثُ لَمْ يَقُلِ الْأَوَّلَ أَوِ الْعَالِمَ لِتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَتَقْرِيرِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ (كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ) : فَإِنِّي عَالِمٌ مُعَلِّمٌ، وَأَدْنَاكُمْ مَنْ يَقُومُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ الْعِلْمِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْعِلْمَ نَفْعُهُ مُتَعَدٍّ وَالْعِبَادَةَ مَنْفَعَتُهَا قَاصِرَةٌ، وَالْعِلْمُ إِمَّا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ، وَالْعِبَادَةُ الزَّائِدَةُ نَافِلَةٌ وَثَوَابُ الْفَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ أَجْلِ النَّفْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

251 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَ الرَّجُلُ الْفَقِيهُ فِي الدِّينِ ; إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ نَفَعَ، وَإِنِ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ أَغْنَى نَفْسَهُ» " رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 251 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نِعْمَ الرَّجُلُ) أَيِ: الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ (الْفَقِيهُ فِي الدِّينِ) الْفَقِيهُ: هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أَيِ: الَّذِي فَقِهَ فِي الدِّينِ، وَعَلِمَ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَيَنْفَعُ النَّاسَ، وَلِذَا وَرَدَ: " «مَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ؛ يُدْعَى فِي الْمَلَكُوتِ عَظِيمًا» ; وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْفَقِيهِ مَنْ يَعْلَمُ الْفُرُوعَ فَقَطْ، كَمَا فَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ وَتَبَجَّحَ بِهِ بِنَاءً عَلَى مَا وَهِمَ، وَنَقَلَ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ غَايَةَ الصُّوفِيِّ الْمُحِقِّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ كَرَامَةٌ أَوْ كَرَامَاتٌ فَيَفْتَخِرَ بِهَا هُوَ وَجَمَاعَتُهُ الدَّهْرَ، وَالْفُقَهَاءُ تَظْهَرُ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمُ الْكَرَامَاتُ الْكَثِيرَةُ بِفَتْحِ أَبْوَابِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْعَلِيَّةِ لَهُ وَإِلْهَامِهِ فِيهَا مَا لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ إِلَيْهِ فَيُفِيدُ مِنْهُ مَا لَا يُحْصَى اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا كُرِهَ مِنْ غَايَةِ الصُّوفِيِّ صَدَرَ عَنْ قِلَّةِ التَّحْقِيقِ، فَإِنَّ بِدَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِنِهَايَةِ مَا ثَبَتَ بِالنُّبُوَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَعْلِيمًا عَلَى شَرِيطَةِ الْإِخْلَاصِ، وَأَمَّا نِهَايَتُهُ فَالَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا هُوَ أَنْ يَصِيرَ مُسْتَغْرِقًا فِي مُشَاهَدَةِ مَوْلَاهُ وَفَانِيًا عَمَّا سِوَاهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْفَارِضِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي وَأَمَّا الْكَرَامَةُ فَعِنْدَهُمْ حَيْضُ الرِّجَالِ فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ بَيْنَ الْهَيْئَاتِ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: ضَيَّعْتُ قِطْعَةً مِنَ الْعُمُرِ الْعَزِيزِ فِي تَأْلِيفِ الْبَسِيطِ وَالْوَسِيطِ وَالْوَجِيزِ، وَلَكِنْ سُبْحَانَ مَنْ أَقَامَ الْعِبَادَ بِمَا أَرَادَ، وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (إِنِ احْتِيجَ) : بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا، شَرْطِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ، أَيْ: إِنِ احْتَاجَ النَّاسُ (إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى فِقْهِهِ (نَفَعَ) أَيْ: غَيْرَهُ (وَإِنِ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (أَغْنَى نَفْسَهُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: قُوبِلَ نَفَعَ بِأَغْنَى لِيَعُمَّ الْفَائِدَةَ، أَيْ: نَفَعَ النَّاسَ وَأَغْنَاهُمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَنَفَعَ نَفْسَهُ وَأَغْنَاهَا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

252 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ ; وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلَّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 252 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ) : هُوَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ وَتَابِعِيهَا (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) : وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا أُطْلِقَ (قَالَ) : أَيْ لِعِكْرِمَةَ (حَدِّثِ النَّاسَ) : أَيْ: بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَالْوَعْظِ (كُلَّ جُمُعَةٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ (مَرَّةً) : أَيْ: فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهَا (فَإِنْ أَبَيْتَ) : أَيِ: التَّحْدِيثَ مَرَّةً، وَأَرَدْتَ الزِّيَادَةَ حِرْصًا عَلَى إِفَادَةِ الْعِلْمِ وَنَفْعِ النَّاسِ (فَمَرَّتَيْنِ) : أَيْ: فَحَدِّثْ مَرَّتَيْنِ (فَإِنْ أَكْثَرْتَ) : أَيْ: أَرَدْتَ الْإِكْثَارَ (فَثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَا تُمِلَّ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَهُوَ بِضَمِّ الْفَوْقَانِيَّةِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ (النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ) . يُقَالُ: مَلِلْتُهُ وَمَلِلْتُ مِنْهُ بِالْكَسْرِ سَئِمْتُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِهِ، فَرَتَّبَ وَصْفَ التَّعْظِيمِ عَلَى الْحُكْمِ لِلْإِشْعَارِ بِالْعِلْيَةِ أَيْ: لَا تُحَقِّرْ هَذَا الْعَظِيمَ الشَّأْنِ الَّذِي جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَعَدَمِ الشِّبَعِ مِنْهُ، أَيْ: وَإِذَا كَانَ الْإِكْثَارُ يُوجِبُ الْمَلَلَ عَمَّا هَذِهِ أَوْصَافُهُ فَمَا بَالُكَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى النُّفْرَةِ مِنْ مَشَاقِّهَا وَمَتَاعِبِهَا (فَلَا أُلْفِيَنَّكَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: لَا أَجِدَنَّكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ لَا أَرَيَنَّكَ أَيْ: لَا تَكُنْ بِحَيْثُ أُلْفِيَنَّكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَهِيَ أَنَّكَ (تَأْتِي الْقَوْمَ) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنَ الْمَرْفُوعِ فِي تَأْتِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ (الْقَوْمَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَشْغُولُونَ عَنْكَ (فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ) : أَيْ قَصَصًا مِنْ وَعْظٍ أَوْ عِلْمٍ (فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ) : أَيْ: كَلَامَهُمُ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْطُوفَانِ عَلَى تَأْتِي، وَهُوَ الظَّاهِرُ لَكِنَّهُمَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ مَنْصُوبَانِ، فَيَكُونُ نَصْبُهُمَا عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ وَيُتَكَلَّفُ لِلسَّبَبِيَّةِ (فَتُمِلَّهُمْ) : مَنْصُوبٌ بِلَا خِلَافٍ جَوَابًا لِلنَّهْيِ (وَلَكِنْ أَنْصِتْ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِنْصَاتِ وَهُوَ السُّكُوتُ (وَإِذَا أَمَرُوكَ) : أَيْ: طَلَبُوا مِنْكَ التَّحْدِيثَ (فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ) : حَالٌ مُقَيَّدَةٌ (وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ نُهِيَ عَنِ السَّجْعِ وَأَكْثَرُ الْأَدْعِيَةِ مُسَجَّعَةٌ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمَعْهُودُ وَهُوَ السَّجْعُ الْمَذْمُومُ الَّذِي كَانَ الْكُهَّانُ وَالْمُتَشَدِّقُونَ يَتَعَاطَوْنَهُ وَيَتَكَلَّفُونَهُ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ، لَا الَّذِي يَقَعُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ بِلَا كُلْفَةٍ، فَإِنَّ الْفَوَاصِلَ التَّنْزِيلِيَّةَ وَارِدَةٌ عَلَى هَذَا، وَيُؤَيِّدُهُ إِنْكَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: " أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ! " عَلَى مَنْ قَالَ: أُؤَدِّي لِمَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلَّ، الْمَعْنَى: تَأَمَّلِ السَّجْعَ الَّذِي يُنَافِي إِظْهَارَ الِاسْتِكَانَةِ وَالتَّضَرُّعِ فِي الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ (فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: عَرَفْتُهُ (وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ) . أَيْ: تَكَلُّفَ السَّجْعِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ الْأَبْهَرِيُّ فِي الْبُخَارِيِّ: لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ، بِزِيَادَةِ إِلَّا، قَالَ الشَّيْخُ: لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ، أَيْ: تَرْكَ السَّجْعِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، بِسَنَدِهِ فِيهِ: لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِإِسْقَاطِ إِلَّا وَهُوَ وَاضِحٌ، كَذَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ.

253 - وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ فَأَدْرَكَهُ كَانَ لَهُ كِفْلَانِ مِنَ الْأَجْرِ، فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ كَانَ لَهُ كِفْلٌ مِنَ الْأَجْرِ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 253 - (وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ - كَذَا فِي التَّهْذِيبِ، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ فَأَدْرَكَهُ ": أَيْ: حَصَّلَهُ، وَقِيلَ: أَدْرَكَهُ أَبْلَغُ مِنْ حَصَّلَهُ، لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ بُلُوغُ أَقْصَى الشَّيْءِ (كَانَ لَهُ كِفْلَانِ) : نَصِيبَانِ " مِنَ الْأَجْرِ ": أَجْرِ الطَّلَبِ وَالْإِدْرَاكِ كَالْمُجْتَهِدِ الْمُصِيبِ (" فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ، كَانَ لَهُ كِفْلٌ مِنَ الْأَجْرِ) : كَالْمُخْطِئِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ: " «إِذَا اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» " (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

254 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلِمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 254 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ) : خَبَرُ إِنَّ: أَيْ كَائِنٌ مِمَّا يَلْحَقُهُ، وَاسْمُهَا عِلْمًا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً لِأَنَّهُ يُنَافِي الْحَصْرَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ " (مِنْ عَمَلِهِ) : بَيَانٌ لَهُ (وَحَسَنَاتِهِ) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ (بَعْدَ مَوْتِهِ) : ظَرْفٌ يَلْحَقُ (عِلْمًا عَلِمَهُ) : بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ (وَنَشَرَهُ) : هُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّعْلِيمِ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ التَّأْلِيفَ وَوَقْفَ الْكُتُبِ (وَوَلَدًا صَالِحًا) : أَيْ: مُؤْمِنًا (تَرَكَهُ) : أَيْ: خَلَّفَهُ أَيْ " بَعْدَ مَوْتِهِ احْتِرَازًا عَنِ الْفَرَطِ (أَوْ مُصْحَفًا) : بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ (وَرَّثَهُ) : أَيْ: تَرَكَهُ لِلْوَرَثَةِ وَلَوْ مِلْكًا وَفِي مَعْنَاهُ: كُتُبُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ التَّسَبُّبِ (أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ) : وَفِي مَعْنَاهُ مَدْرَسَةُ الْعُلَمَاءِ وَرِبَاطُ الصُّلَحَاءِ (أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ) : أَيِ الْمُسَافِرِ وَالْغَرِيبِ (بَنَاهُ) : حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا (أَوْ نَهَرًا) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ (أَجْرَاهُ) : أَيْ: جَعَلَهُ جَارِيًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْخَلْقُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمَلُ الْمُصَدَّرَةُ بِأَوْ مِنْ قِسْمِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، وَأَوْ فِيهَا لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّفْصِيلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ (أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ) : فَدَاخِلٌ فِي الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ وَلِإِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: (تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ) . وَفِي عَطْفِ حَيَاتِهِ عَلَى صِحَّتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: «أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى» . الْحَدِيثَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ مَفْهُومَةٌ مِنْ نَفْسِ قَوْلِهِ وَصِحَّتِهِ لَا مِنَ الْعَطْفِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مَفْهُومَةٌ مِنْ تَقَدُّمِ الصِّحَّةِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " وَحَيَاتِهِ " أَيْ: وَلَوْ فِي مَرَضِهِ. فَالْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) وَقَوْلُهُ أَخْرَجَهَا أَيْ بِالْوَصِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَجْرَى نَهَرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، أَوْ، وَرَّثَ مُصْحَفًا» "

255 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنَّهُ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، سَهَّلْتُ لَهُ طَرِيقَ الْجَنَّةِ وَمَنْ سَلَبْتُ كَرِيمَتَيْهِ، أَثَبْتُهُ عَلَيْهِمَا الْجَنَّةَ، وَفَضْلٌ فِي عِلْمٍ خَيْرٌ مِنْ فَضْلٍ فِي عِبَادَةٍ، وَمِلَاكُ الدِّينِ الْوَرَعُ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 255 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ، وَالْأَصْلُ سَمِعْتُ قَوْلَهُ فَأُخِّرَ الْقَوْلُ وَجُعِلَ حَالًا لِيُفِيدَ الْإِبْهَامَ وَالتَّبْيِينَ اهـ. وَقِيلَ: سَمِعَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) : أَيْ: عَزَّتْ ذَاتُهُ وَجَلَّتْ صِفَاتُهُ (أَوْحَى إِلَيَّ ") : أَيْ: وَحْيًا خَفِيًّا غَيْرَ مَتْلُوٍّ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ أَوْ لَا. وَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْلُهُ، وَلَوْ بِالْمَعْنَى، وَبِهَذِهِ الْقُيُودِ فَارَقَ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ الْكَلَامَ الْقُرْآنِيَّ (أَنَّهُ) : الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (مَنْ سَلَكَ) : أَيْ: دَخَلَ أَوْ ذَهَبَ وَمَشَى (مَسْلَكًا) : أَيْ: طَرِيقًا أَوْ سُلُوكًا، وَالْمَعْنَى تَعَاطَى سَبَبًا مِنَ الْأَسْبَابِ (فِي طَلَبِ الْعِلْمِ) : أَيْ: فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ (سَهَّلْتُ) : أَيْ: يَسَّرْتُ (لَهُ طَرِيقَ الْجَنَّةِ) : أَيْ: طَرِيقًا مُوَصِّلًا إِلَى الْجَنَّةِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْعِبَادَةِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ طَرِيقًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَسَبِيلًا إِلَى قُصُورِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فِي الْعُقْبَى، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ سَبِيلَ الْجَنَّةِ مَسْدُودَةٌ مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِ الْعُلُومِ، لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِخْلَاصِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعَمَلِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ (وَمَنْ سَلَبْتُ) : أَيْ: أَخَذْتُ (كَرِيمَتَيْهِ) : أَيْ: عَيْنَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ عَلَيْهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ

يَكْرُمُ عَلَيْكَ فَهُوَ كَرِيمُكَ وَكَرِيمَتُكَ، وَالْمَعْنَى أَعْمَيْتُهُ فَالْأَكْمَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى (أَثَبْتُهُ) : أَيْ: جَازَيْتُهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ} [المائدة: 85] وَفِي الْقَامُوسِ: أَثَابَهُ اللَّهُ مَثُوبَةً أَعْطَاهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَثَبْتُهُ مِنَ الْإِثْبَاتِ (عَلَيْهِمَا) : أَيْ عَلَى الْكَرِيمَتَيْنِ يَعْنِي: عَلَى فَقْدِهِمَا وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمَا (الْجَنَّةَ) : مَفْعُولٌ ثَانٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَثَبْتُهُ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى أَعْطَيْتُ، وَكِلَاهُمَا تَكَلُّفٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ (وَفَضْلٌ) : أَيْ: زِيَادَةٌ (فِي عِلْمٍ خَيْرٌ مِنْ فَضْلٍ فِي عِبَادَةٍ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: التَّنْكِيرُ فِيهِ يَعْنِي فِي فَضْلِ الْأَوَّلِ لِلتَّقْلِيلِ، وَفِي الثَّانِي لِلتَّكْثِيرِ (وَمِلَاكُ الدِّينِ) : أَيْ: أَصْلُهُ وَصَلَاحُهُ (الْوَرَعُ) : كَمَا أَنَّ فَسَادَ الدِّينِ الطَّمَعُ، وَالْمُرَادُ بِالْوَرَعِ التَّقْوَى عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَالطَّمَعُ يُؤَدِّي إِلَى السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ. فِي النِّهَايَةِ: الْمِلَاكُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ قِوَامُ الشَّيْءِ وَنِظَامُهُ، وَمَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمِنْهُ مِلَاكُ الدِّينِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمِلَاكُ بِالْكَسْرِ مَا بِهِ إِحْكَامُ الشَّيْءِ وَتَقْوِيَتُهُ وَإِكْمَالُهُ، وَالْوَرَعُ فِي الْأَصْلِ الْكَفُّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالتَّحَرُّجُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْكَفِّ عَنِ الْمُبَاحِ وَالْحَلَالِ. قُلْتُ: لَعَلَّ مُرَادَهُ الْمُبَاحُ وَالْحَلَالُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الشُّبْهَةِ وَإِلَّا فَتَرْكُهَا زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ لَا يُسَمَّى وَرَعًا بَلْ يُسَمَّى زُهْدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

256 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «تَدَارُسُ الْعِلْمِ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ إِحْيَائِهَا» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 256 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَدَارُسُ الْعِلْمِ) : بَيْنَ النُّظَرَاءِ أَوِ الشَّيْخِ وَتَلَامِذَتِهِ، وَيَلْحَقُ بِهِ كِتَابَتُهُ وَتَفَهُّمُهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ (سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ) : الْأَبْلَغُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّاعَةِ اللُّغَوِيَّةُ لَا الْعُرْفِيَّةُ (خَيْرٌ مِنْ إِحْيَائِهَا) . أَيْ: مِنْ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ بِالْعِبَادَةِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي شُرُوحِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: مِنْ إِحْيَاءِ تِلْكَ السَّاعَةِ بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ حَيَاةُ النُّفُوسِ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

257 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ فِي مَسْجِدِهِ فَقَالَ: كِلَاهُمَا عَلَى خَيْرٍ وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ ; أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ، فَإِنْ شَاءَ، أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ) . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ أَوِ الْعِلْمَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ، فَهُمْ أَفْضَلُ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا ". ثُمَّ جَلَسَ فِيهِمْ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 257 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ) : أَيْ: بِأَهْلِهِمَا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ حَلْقَتَيْنِ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْحَدِيثِ (فِي مَسْجِدِهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ: (كِلَاهُمَا) : أَيْ: كِلَا الْمَجْلِسَيْنِ يَعْنِي أَهْلَهُمَا، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ أَوِ الدَّلَالَةُ بِطَرِيقِ الْبُرْهَانِ، فَإِنَّ شَرَفَ الْمَكَانِ بِالْمَكِينِ (عَلَى خَيْرٍ) : أَيْ جَالِسِينَ أَوْ ثَابِتِينَ عَلَى عَمَلِ خَيْرٍ (وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ) : أَيْ: أَكْثَرُ ثَوَابًا (أَمَّا هَؤُلَاءِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تُقَسِّمُ لِلْمَجْلِسَيْنِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الْقَوْمِ أَوِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إِلَى الْمَجْلِسَيْنِ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ (فَيَدْعُونَ اللَّهَ) : أَيْ: يَعْبُدُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوِ الْحَالِ (وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ) : أَيْ: يَرْغَبُونَ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ مُتَوَسِّلِينَ إِلَيْهِ وَمُتَوَجِّهِينَ وَمُنْتَظَرِينَ لَدَيْهِ (فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ) : أَيْ: فَضْلًا، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ أَيْ مَا

عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ. (وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ) : أَيْ: إِيَّاهُ عَدْلًا، وَفِي تَقْدِيمِ الْإِعْطَاءِ عَلَى الْمَنْعِ إِيمَاءٌ إِلَى سَبْقِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ أَوْجَبُوا الثَّوَابَ فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَقْيِيدِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بِالثَّالِثَةِ وَإِطْلَاقِ الْقِسْمِ الثَّانِي يَعْنِي الْآتِي إِشَارَةٌ إِلَى بَوْنٍ بَعِيدٍ بَيْنَهُمَا (أَمَّا هَؤُلَاءِ) : أَيْ: وَأَمْثَالُهُمْ (فَيَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ) : أَيْ أَوَّلًا (أَوِ الْعِلْمَ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ) : أَيْ: ثَانِيًا (فَهُمْ أَفْضَلُ) : لِكَوْنِهِمْ جَامِعِينَ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ وَهُمَا الْكَمَالُ وَالتَّكْمِيلُ، فَيَسْتَحِقُّونَ الْفَضْلَ عَلَى جِهَةِ التَّبْجِيلِ (وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا) : أَيْ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ لَا بِالتَّعَلُّمِ مِنَ الْخَلْقِ، وَلِذَا اكْتَفَى بِهِ (ثُمَّ جَلَسَ فِيهِمْ) : إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ مِنْهُ وَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَنْ جَلَسَ فِيهِمْ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ جَلَسَ فِيهِمْ لِاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى التَّعْلِيمِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: بُعِثْتُ مُعَلِّمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

258 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا حَدُّ الْعِلْمِ الَّذِي إِذَا بَلَغَهُ الرَّجُلُ كَانَ فَقِيهًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا فِي أَمْرِ دِينِهَا، بَعَثَهُ اللَّهُ فَقِيهًا، وَكُنْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَافِعًا وَشَهِيدًا» ـــــــــــــــــــــــــــــ 258 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (مَا حَدُّ الْعِلْمِ) . قَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ وَصْفُ الشَّيْءِ الْمُحِيطِ بِمَعْنَاهُ الْمُتَمَيِّزِ عَنْ غَيْرِهِ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. أَقُولُ: هَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ، وَالْأَظْهَرُ الْمُرَادُ بِالْحَدِّ: الْمِقْدَارُ؛ وَلِذَا قَالَ: الَّذِي إِذَا بَلَغَهُ الرَّجُلُ كَانَ فَقِيهًا؟) يَعْنِي عَالِمًا فِي الْآخِرَةِ وَمَبْعُوثًا فِي زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي) : أَيْ: شَفَقَةً عَلَيْهِمْ أَوْ لِأَجْلِ انْتِفَاعِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضُمِّنَ حَفِظَ مَعْنَى رَقَبَ، وَعُدِّيَ بِعَلَى، احْفَظْ عَلَيَّ عِنَانَ فَرَسِي وَلَا تَغْفُلْ عَنِّي، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْحِفْظُ: خِلَافُ النِّسْيَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي حَفِظَ يَعْنِي: مَنْ جَمَعَ أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةً مُرَاقِبًا إِيَّاهَا بِحَيْثُ تَبْقَى مَسْأَلَةً عَلَى أُمَّتِي اهـ. وَفِيهِ تَكَلُّفَاتٌ وَالْوَجْهُ مَا قَدَّمْتُهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْتُهُ فِي تَقْرِيرِهِ اهـ. وَلَيْسَ فِي تَقْرِيرِهِ، وَلَا تَحْرِيرِهِ ذِكْرُ وَجْهٍ حَتَّى يُنْظَرَ فِي وَجْهِهِ (أَرْبَعِينَ حَدِيثًا) : وَفِي مَعْنَاهُ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً (" فِي أَمْرِ دِينِهَا) : احْتِرَازٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْإِخْبَارِيَّةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالدِّينِ اعْتِقَادًا أَوْ عِلْمًا أَوْ عَمَلًا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنْوَاعٍ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَيَّدَهَا بِكَوْنِهَا مُتَفَرِّقَةً (بَعَثَهُ اللَّهُ فَقِيهًا) : مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ (وَكُنْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَافِعًا) : بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَاتِ الْخَاصَّةِ (وَشَهِيدًا) : أَيْ: حَاضِرًا لِأَحْوَالِهِ، وَمُزَكِّيًا لِأَعْمَالِهِ، وَمُثْنِيًا عَلَى أَقْوَالِهِ، وَمُخَلِّصًا لَهُ مِنْ أَهْوَالِهِ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْحِفْظِ هُنَا نَقْلُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا وَلَا عَرِفَ مَعْنَاهَا، هَذَا حَقِيقَةُ مَعْنَاهُ، وَبِهِ يَحْصُلُ انْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَحْفَظُهَا مَا لَمْ يَنْقُلْ إِلَيْهِمْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَأَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا عَرِفَ مَعْنَاهَا نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ الْمَقَامَ الَّذِي هُوَ حَدُّ الْعِلْمِ إِذِ الْفِقْهُ هُوَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَالْفَهْمُ لَهُ وَغَلَبَ عَلَى عِلْمِ الدِّينِ لِشَرَفِهِ وَإِلَّا فَالْحَامِلُ غَيْرُ فَقِيهٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ طَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ مَعْرِفَةُ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا بِأَسَانِيدِهَا مَعَ تَعْلِيمِهَا النَّاسَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْرِفَةَ أَسَانِيدِهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، ثُمَّ قَالَ أَوْ. . . . .

259 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «هَلْ تَدْرُونَ مَنْ أَجْوَدُ جُودًا؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " اللَّهُ تَعَالَى أَجْوَدُ جُودًا، ثُمَّ أَنَا أَجْوَدُ بَنِي آدَمَ وَأَجْوَدُهُمْ مِنْ بَعْدِي رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَنَشَرَهُ، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمِيرًا وَحْدَهُ أَوْ قَالَ: أُمَّةً وَاحِدَةً» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 259 - (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلْ تَدْرُونَ مَنْ أَجْوَدُ جُودًا؟) : أَيْ: أَكْثَرُ كَرَمًا. قَالَ الرَّاغِبُ: الْجُودُ بَذْلُ الْمُقْتَنَيَاتِ مَالًا كَانَ أَوْ عِلْمًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

" إِنَّ عِلْمًا لَا يُقَالُ بِهِ كَكَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ مَنِ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مُبْتَدَأٌ، وَأَجْوَدُ خَبَرُهُ، وَجُودًا تَمْيِيزٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَجْوَدُ مِنَ الْجُودِ أَيْ أَحْسَنُ جُودًا أَوْ مِنَ الْجُودِ أَيْ مِنَ الَّذِي جُودُهُ أَجْوَدُ عَلَى حَدِّ نَهَارِهِ صَائِمٌ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (اللَّهُ تَعَالَى أَجْوَدُ جُودًا) : وَهُوَ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّهُ الْمُتَفَضِّلُ بِالْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ طِبْقَ الْمُرَادِ (ثُمَّ أَنَا أَجْوَدُ بَنِي آدَمَ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْ: أَفْضَلُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» ، ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ أَنَّ الْجِنْسَ الْبَشَرِيَّ أَفْضَلُ مِنَ الْجِنْسِ الْمَلَكِيِّ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ (وَأَجْوَدُهُ) : أَيْ: جِنْسُ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ لِبَنِي آدَمَ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِنْسَانِ أَوْ لِلْجُودِ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: أَجْوَدُهُمْ يَعْنِي فِي زَمَانِهِ (مِنْ بَعْدِي) : يَحْتَمِلُ الْبَعْدِيَّةَ بِحَسَبِ الْمَرْتَبَةِ وَبِحَسَبِ الزَّمَانِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (رَجُلٌ عَلِمَ) : بِالتَّخْفِيفِ بِلَا خِلَافٍ (عِلْمًا) : أَيْ: عَظِيمًا نَافِعًا فِي الدِّينِ (فَنَشَرَهُ) : يَعُمُّ التَّدْرِيسَ وَالتَّصْنِيفَ وَتَرْغِيبَ النَّاسِ، فِيهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَمِنْهُ وَقْفُ الْكُتُبِ وَإِعَارَتُهَا لِأَهْلِهَا (يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمِيرًا وَحْدَهُ) : يَعْنِي كَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لَهَا أَمِيرٌ وَمَأْمُورٌ فِي الْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا مُسْتَقِلًّا مَعَ أَتْبَاعِهِ غَيْرَ تَابِعٍ لِغَيْرِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. (أَوْ قَالَ: (أُمَّةً وَاحِدَةً) : الشَّكُّ يُحْتَمَلُ مِنْ أَنَسٍ، أَوْ مَنْ بَعْدَهُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] حَيْثُ أَطْلَقَ الْأُمَّةَ عَلَى مَنْ جَمَعَ خِصَالًا لَا تُوجَدُ غَالِبًا إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ، وَلِذَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ وَلَمَّا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مُعَاذٍ: كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ، فَقِيلَ لَهُ: ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: الْأُمَّةُ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَيْرَ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ خَبَرُ: مُعَاذٌ أُمَّةٌ قَانِتٌ لِلَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا الْمُرْسَلُونَ. سَبَبُ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ " أَنَّهُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ".

260 - وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: مَنْهُومٌ فِي الْعِلْمِ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ، وَمَنْهُومٌ فِي الدُّنْيَا لَا يَشْبَعُ مِنْهَا» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: هَذَا مَتْنٌ مَشْهُورٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. 260 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْهُومَانِ) : حَرِيصَانِ عَلَى تَحْصِيلِ أَقْصَى غَايَاتِ مَطْلُوبَيْهِمَا، وَفِي النِّهَايَةِ النَّهْمَةُ: بُلُوغُ الْهِمَّةِ فِي الشَّيْءِ (لَا يَشْبَعَانِ) : أَيْ لَا يَقْنَعَانِ (مَنْهُومٌ فِي الْعِلْمِ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ) : لِأَنَّهُ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ دَائِمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وَلَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ إِذْ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (وَمَنْهُومٌ فِي الدُّنْيَا) : أَيْ فِي تَحْصِيلِ مَالِهَا وَجَاهِهَا (لَا يَشْبَعُ مِنْهَا) : فَإِنَّهُ كَالْمَرِيضِ

الْمُسْتَشْفِي (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ) : أَيِ: الْبَيْهَقِيُّ (قَالَ قُلْتُ: وَفِي قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ.

261 - وَعَنْ عَوْنٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: صَاحِبُ الْعِلْمِ، وَصَاحِبُ الدُّنْيَا، وَلَا يَسْتَوِيَانِ ; أَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ فَيَزْدَادُ رِضًى لِلرَّحْمَنِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا فَيَتَمَادَى فِي الطُّغْيَانِ. ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى - أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] قَالَ: وَقَالَ الْآخَرُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 261 - (وَعَنْ عَوْنٍ) : تَابِعِيٌّ (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْهُومَانِ) : أَيْ: حَرِيصَانِ لَا يَشْبَعَانِ) : فِي الْقَامُوسِ النَّهَمُ: مُحَرَّكَةً إِفْرَاطُ الشَّهْوَةِ فِي الطَّعَامِ، وَأَنْ لَا تَمْتَلِئَ عَيْنُ الْآكِلِ وَلَا يَشْبَعُ، نَهِمَ كَفَرِحَ وَعُنِيَ فَهُوَ نَهِمٌ وَنَهِيمٌ وَمَنْهُومٌ، وَهُوَ مَنْهُومٌ بِكَذَا مُولَعٌ بِهِ (صَاحِبُ الْعِلْمِ، وَصَاحِبُ الدُّنْيَا، وَلَا يَسْتَوِيَانِ) : أَيْ فِي الْمَآلِ وَالْعَاقِبَةِ فِيمَا يَزِيدَانِ (أَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ فَيَزْدَادُ رِضًا لِلرَّحْمَنِ) . وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ بِالرَّحْمَنِ أَنَّهُ مَظْهَرُ الرَّحْمَةِ حَيْثُ رَحِمَ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَتَخْلِيصِ الْجَهْلِ (وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا فَيَتَمَادَى) . أَيْ: يَزْدَادُ وَيَتَوَسَّعُ (فِي الطُّغْيَانِ) : وَيَبْعُدُ عَنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ (ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ) : اسْتِشْهَادًا لِذَمِّ الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى - أَنْ رَآهُ} [العلق: 6 - 7] أَيْ: لِأَجْلِ أَنْ رَأَى نَفْسَهُ (اسْتَغْنَى) عَنِ النَّاسِ لِكَثْرَةِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ (قَالَ) : أَيْ عَوْنٌ (وَقَالَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ مَا سَبَقَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] (الْآخَرُ) : بِالرَّفْعِ أَيِ الِاسْتِشْهَادُ الْآخَرُ، وَقِيلَ: بِالنَّصْبِ أَيْ: وَذَكَرَ الِاسْتِشْهَادَ الْآخَرَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] بِنَصْبِ الْأَوَّلِ وَرَفْعِ الثَّانِي فِي الْمُتَوَاتِرِ وَعَكْسُهُ فِي الشَّوَاذِّ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَوَّلَ مُوجِبٌ لِزِيَادَةِ الطُّغْيَانِ الْمُقْتَضِي تَرْكَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَالثَّانِي سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْخَشْيَةِ الْمُوَرَّثَةِ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

262 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَقُولُونَ: نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إِلَّا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا - قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ: كَأَنَّهُ يَعْنِي - الْخَطَايَا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 262 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ أُنَاسًا) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: جَمَاعَةً (مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ) : أَيْ سَيَدَّعُونَ الْفِقْهَ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ أَوْ يَطْلُبُونَ الْفِقْهَ وَيُحَصِّلُونَهُ (فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) : أَيْ بِالْقِرَاءَاتِ أَوْ بِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَيَأْتُونَ الْأُمَرَاءَ لَا لِحَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ إِلَيْهِمْ، بَلْ لِإِظْهَارِ الْفَضْلِيَّةِ وَالطَّمَعِ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ تَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّفَقُّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ (يَقُولُونَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَيَقُولُونَ (نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ) : أَيْ: نَأْخُذُ (مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ) : أَيْ: نَبْعُدُ عَنْهُمْ (بِدِينِنَا) : بِأَنْ لَا نُشَارِكَهُمْ فِي إِثْمٍ يَرْتَكِبُونَهُ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ) : أَيْ: لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ ثُمَّ مَثَّلَ وَقَالَ (كَمَا لَا يُجْتَنَى) : أَيْ: لَا يُؤْخَذُ (مِنَ الْقَتَادِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ شَجَرٌ كُلُّهُ شَوْكٌ (إِلَّا الشَّوْكُ) : لِأَنَّهُ لَا يُثْمِرُ إِلَّا الْجِرَاحَةَ وَالْأَلَمَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ (كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى) : أَيْ: لَا يَحْصُلُ (مِنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا) : وَقَعَ كَلَامُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِلَا ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ لِكَمَالِ ظُهُورِهِ. (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) : أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (كَأَنَّهُ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَعْنِي) : أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُسْتَثْنَى الْمُقَدَّرِ بَعْدَ إِلَّا (الْخَطَايَا) : وَهِيَ مَضَرَّةُ الدَّارَيْنِ، وَلَقَدْ أَشَارَ إِلَى كَثِيرٍ مِنْهَا بَعْضُ مَنْ كَتَبَ لِلزُّهْرِيِّ لَمَّا خَالَطَ السَّلَاطِينَ بِقَوْلِهِ فِي جُمْلَةِ مَوَاعِظَ وَعَظَهُ بِهَا: وَاعْلَمْ أَنَّ أَيْسَرَ مَا ارْتَكَبْتَ، وَأَخَفَّ مَا احْتَمَلْتَ، أَنَّكَ آنَسْتَ وَحْشَةَ الظَّلَمَةِ، وَسَهَّلْتَ سَبِيلَ الْغَيِّ بِدُنُوِّكَ مِمَّنْ لَمْ يُؤَدِّ حَقًّا، وَلَمْ يَتْرُكْ بَاطِلًا، حِينَ أَدْنَاكَ اتَّخَذُوكَ قُطْبًا تَدُورُ عَلَيْكَ رَحَى بَاطِلِهِمْ، وَجِسْرًا يَعْبُرُونَ عَلَيْكَ إِلَى بَلَائِهِمْ، وَسُلَّمًا يَصْعَدُونَ فِيكَ إِلَى ضَلَالِهِمْ، يُدْخِلُونَ الشَّكَّ بِكَ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَيَقْتَادُونَ بِكَ قُلُوبَ الْجُهَلَاءِ، فَمَا أَيْسَرَ مَا عَمَّرُوا لَكَ فِي جَنْبِ مَا خَرَّبُوا لَكَ، وَمَا أَكْثَرَ مَا أَخَذُوا مِنْكَ فِيمَا أَفْسَدُوا عَلَيْكَ مِنْ دِينِكَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الذُّبَابُ عَلَى الْعُذْرَةِ أَحْسَنُ مِنْ قَارِئٍ عَلَى بَابِ هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ، وَرَحِمَ اللَّهُ وَالِدِي كَانَ يَقُولُ لِي: مَا أُرِيدُ أَنْ تَصِيرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ خَشْيَةَ أَنْ تَقِفَ عَلَى بَابِ الْأُمَرَاءِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)

263 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 263 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ) : أَيِ: الشَّرْعِيِّ (صَانُوا الْعِلْمَ) : أَيْ: حَفِظُوهُ عَنِ الْمَهَانَةِ بِحِفْظِ أَنْفُسِهِمْ عَنِ الْمَذَلَّةِ وَمُلَازَمَةِ الظَّلَمَةِ وَمُصَاحَبَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا طَمَعًا لِمَا لَهُمْ مِنْ جَاهِهِمْ وَمَالِهِمْ، وَعَنِ الْحَسَدِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ (وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ) : أَيْ: أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْنِي: الَّذِينَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَيُلَازِمُونَ الْعُلَمَاءَ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُؤْتَى وَلَا يَأْتِي (لَسَادُوا بِهِ) : أَيْ: فَاقُوا بِالسِّيَادَةِ وَفَضِيلَةِ السَّعَادَةِ بِسَبَبِ الصِّيَانَةِ وَالْوَضْعِ عَنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ دُونَ أَهْلِ الْإِهَانَةِ (أَهْلَ زَمَانِهِمْ) : أَيْ كَمَالًا وَشَرَفًا لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ الْمُلُوكُ فَمَنْ دُونَهُمْ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ، وَطَوْعَ آرَائِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ رَفِيعُ الْقَدْرِ يَرْفَعُ قَدْرَ مَنْ يَصُونُهُ عَنِ الِابْتِذَالِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعِلْمُ ذَكَرٌ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا ذُكُورُ الرِّجَالِ أَيِ: الَّذِينَ يُحِبُّونَ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَتَنَزَّهُونَ عَنْ

سَفْسَافِهَا اهـ. وَفِي كَلَامِ الزُّهْرِيِّ إِيمَاءٌ بِطْرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالْمُقَابَلَةِ إِلَى أَنَّ الدُّنْيَا أُنْثَى لَا يُحِبُّهَا إِلَّا نَاقِصُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ الْمَرَاتِبَ الدَّنِيَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا) : أَيْ: بِأَنْ خَصُّوهُمْ بِهِ أَوْ تَرَدَّدُوا إِلَيْهِمْ بِهِ (لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ) : لَا لِأَجْلِ الدِّينِ بِالنَّصِيحَةِ وَالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا (فَهَانُوا) : أَيْ: أَهْلُ الْعِلْمِ ذَلُّوا قَدْرًا (عَلَيْهِمْ) : أَيْ: مُسْتَثْقَلِينَ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ " عِلْمُهُمْ " بَدَلَ " عَلَيْهِمْ " وَهُوَ تَصْحِيفٌ لِأَنَّ هَانَ لَازِمٌ بِمَعْنَى ذَلَّ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَصِيرَ مُتَعَدِّيًا إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ فِي عِلْمِهِمْ وَبَذْلِهِ إِيَّاهُمْ (سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قَالَ الطِّيبِيُّ، هَذَا الْخِطَابُ تَوْبِيخٌ لِلْمُخَاطَبِينَ حَيْثُ خَالَفُوا أَمْرَ نَبِيِّهِمْ، فَخُولِفَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ افْتِتَانًا (يَقُولُ: (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ) : أَيِ: الْهُمُومَ الَّتِي تَطْرُقُهُ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا وَكَدَرِهَا وَمُرِّ عَيْشِهَا (هَمًّا وَاحِدًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَمَّ الْأَمْرَ يَهِمُّ إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ اهـ. أَيْ: مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى هَمٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْهُمُومِ وَتَرَكَ سَائِرَ الْمَطَالِبِ وَبَقِيَّةَ الْمَقَاصِدِ وَجَعَلَ كَأَنَّهُ لَا هَمَّ إِلَّا هَمٌّ وَاحِدٌ (هَمَّ آخِرَتِهِ) : بَدَلٌ مِنْ هَمًّا وَهُوَ هَمُّ الدِّينِ (كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ) : الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْهُمُومِ يَعْنِي كَفَاهُ هَمَّ دُنْيَاهُ أَيْضًا (وَمَنْ تَشَعَّبَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: تَشَعَّبَ (بِهِ الْهُمُومُ) : أَيْ: تَفَرَّقَتْ يَعْنِي مَرَّةً اشْتَغَلَ بِهَذَا الْهَمِّ وَأُخْرَى بِهَمٍّ آخَرَ وَهَلُمَّ جَرًّا ( [فِي] أَحْوَالِ الدُّنْيَا) : بَدَلٌ مِنَ الْهُمُومِ (لَمْ يُبَالِ اللَّهُ) : أَيْ: لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ رَحْمَةٍ (فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا) : أَيْ: أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا أَوِ الْهُمُومِ (هَلَكَ) : يَعْنِي لَا يَكْفِيهِ هَمُّ دُنْيَاهُ وَلَا هَمُّ أُخْرَاهُ، فَيَكُونُ مِمَّنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ.

264 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ) إِلَى آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 264 - (وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ) : أَيْ مُبْتَدَأٌ مِنْ قَوْلِهِ، (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ إِلَخْ) . يَعْنِي: رَوَى الْمَرْفُوعَ لَا الْمَوْقُوفَ.

265 - وَعَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آفَةُ الْعِلْمِ النِّسْيَانُ، وَإِضَاعَتُهُ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ غَيْرَ أَهْلِهِ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 265 - (وَعَنِ الْأَعْمَشِ) : هُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَأَحَدِ الْأَعْلَامِ الْمَشْهُورِينَ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْقِرَاءَةِ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ كَاهِلٍ فَأَعْتَقَهُ فَاجْتَهَدَ فِي الْعِلْمِ فَصَارَ إِمَامًا عَلَمًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «آفَةُ الْعِلْمِ النِّسْيَانُ» ) : أَيْ: بَعْدَ حُصُولِهِ وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ: لِكُلِّ شَيْءٍ آفَةٌ وَلِلْعِلْمِ آفَاتٌ. أَيْ: قَبْلَ التَّحْصِيلِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَلْيُحْذَرْ مِنْ أَسْبَابِ النِّسْيَانِ كَالْإِعْرَاضِ عَنِ اسْتِحْضَارِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُشْغِفُ الْقَلْبَ مِنَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَيُذْهِلُ الْعَقْلَ مِنَ الْمَظَاهِرِ الشَّهَوِيَّةِ (وَإِضَاعَتُهُ) : أَيْ: جَعْلُ الْعِلْمِ ضَائِعًا (أَنْ تُحَدِّثَ) : أَيْ أَنْتَ (" بِهِ غَيْرَ أَهْلِهِ ") : بِأَنْ لَا يَفْهَمَهُ أَوْ لَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا: (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا) . قَالَ السَّيِّدُ: الْمُرَادُ بِالْإِرْسَالِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ الِانْقِطَاعُ، لِأَنَّ الْأَعْمَشَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْ أَنَسٍ فَالْمُرْسَلُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ.

266 - وَعَنْ سُفْيَانَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِكَعْبٍ: مَنْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ. قَالَ فَمَا أَخْرَجَ الْعِلْمَ مِنْ قُلُوبِ الْعُلَمَاءِ؟ قَالَ: الطَّمَعُ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 266 - (وَعَنْ سُفْيَانَ) : أَيِ: الثَّوْرِيِّ، وَهُوَ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ فِي الْفِقْهِ وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى دِينِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، وَكَوْنِهِ ثِقَةً أَخَذَ عَنْهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِكَعْبٍ) : أَيْ: كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَيُقَالُ لَهُ كَعْبُ الْحَبْرُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَخَصَّهُ بِذَلِكَ السُّؤَالِ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ عَلِمَ التَّوْرَاةَ وَغَيْرَهَا، وَأَحَاطَ بِالْعِلْمِ الْأَوَّلِ (مِنْ أَرْبَابِ الْعِلْمِ) أَيْ: مَنْ هُمْ أَصْحَابُهُ عِنْدَكُمْ، أَوْ فِي كِتَابِكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَنْ مَلَكَ الْعِلْمَ وَرَسَخَ فِيهِ وَاسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ (قَالَ: الَّذِينَ) : أَيْ: هُمُ الَّذِينَ (يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ وَهُمُ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ الْحُكَمَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ. (قَالَ) : أَيْ: عُمَرُ (فَمَا أَخْرَجَ الْعِلْمَ) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَخْرَجَ الْعِلْمَ أَيْ نُورَهُ وَثَمَرَتَهُ وَتَأْثِيرَهُ وَبَرَكَتَهُ (مِنْ قُلُوبِ الْعُلَمَاءِ؟) أَيِ: الْعَامِلِينَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ غَيْرَ الْعَامِلِينَ لَيْسُوا عُلَمَاءَ (قَالَ: الطَّمَعُ) . لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِدُونِ الْإِخْلَاصِ لَا يُوصِلَانِ السَّالِكَ إِلَى مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْوَرَعَ يُدْخِلُ الْعِلْمَ فِي قُلُوبِ الْعُلَمَاءِ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِلْمِ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْعِلْمِ أَيْ: إِذَا كَانَ أَرْبَابُ الْعِلْمِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَلِمَ تَرَكَ الْعَالِمُ الْعَمَلَ، وَمَا الَّذِي دَعَاهُ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ لِيُعْزَلَ عَنْ هَذَا الِاسْمِ؟ قَالَ: الطَّمَعُ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةُ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) : أَيْ مَوْقُوفًا.

267 - وَعَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الشَّرِّ. فَقَالَ: " لَا تَسْأَلُونِي عَنِ الشَّرِّ، وَسَلُونِي عَنِ الْخَيْرِ " يَقُولُهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: " أَلَا إِنَّ شَرَّ الشَّرِّ شِرَارُ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّ خَيْرَ الْخَيْرِ خِيَارُ الْعُلَمَاءِ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 267 - (وَعَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ) : لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الشَّرِّ) : أَيْ فَقَطْ (فَقَالَ: (لَا تَسْأَلُونِي) : بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّ لَا نَاهِيَةٌ (عَنِ الشَّرِّ) : فَحَسْبُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنِّي رَءُوفٌ رَحِيمٌ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، فَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ لَازِمِ ذَلِكَ مِنْ إِيهَامِ غَلَبَةِ مَظَاهِرِ الْجَلَالِ فِيهِ عَلَى مَظَاهِرِ الْجَمَالِ، وَإِلَّا فَالسُّؤَالُ عَنِ الشَّرِّ لِيُجْتَنَبَ وَاجِبٌ كِفَايَةً أَوْ عَيْنًا فَكَيْفَ يُنْهَى عَنْهُ (وَسَلُونِي عَنِ الْخَيْرِ) : إِمَّا مُنْفَرِدًا أَوْ مُنْضَمًّا بِالسُّؤَالِ عَنِ الشَّرِّ (يَقُولُهَا ثَلَاثًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَالَ، وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ أَعْنِي: لَا تَسْأَلُونِي إِلَخْ. وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ لِأَنَّهُ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] قُلْتُ الْأَقْرَبُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْقَرِيبَةِ (ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ شَرَّ الشَّرِّ) : أَيْ: أَعْظَمَهُ (شِرَارُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّ خَيْرَ الْخَيْرِ خِيَارُ الْعُلَمَاءِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا كَانُوا شَرَّ الشَّرِّ وَخَيْرَ الْخَيْرِ لِأَنَّهُمْ سَبَبٌ لِصَلَاحِ الْعَالَمِ وَفَسَادِهِ، وَإِلَيْهَا تَنْتَمِي أُمُورُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَبِهِمُ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ اهـ. أَوْ لِأَنَّ عَذَابَ شِرَارِهِمْ فِي الْعُقْبَى شَرُّ الْعِقَابِ، وَمَرَاتِبَ خِيَارِهِمْ فِي الْمَنَازِلِ الْجَنَّةِ خَيْرُ مَآبٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

268 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَالِمٌ لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 268 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ) : الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ. وَعَالِمٌ خَبَرُ إِنَّ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ: لُغَةٌ قَلِيلَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا قَلِيلَةٌ وَأَنَّ مِنْ غَيْرُ زَائِدَةٍ بَلْ هِيَ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ بَعْضَ أَشْرَارِهِمْ (عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً) : تَمْيِيزٌ أَيْ مَرْتَبَةً (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَالِمُ لَا يَنْتَفِعُ) : أَيْ هُوَ (بِعِلْمِهِ) : بِأَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لَا يَنْفَعُ، أَوْ تَعَلَّمَ عِلْمًا شَرْعِيًّا، لَكِنْ مَا عَمِلَ بِهِ، فَإِنَّهُ شَرٌّ مِنَ الْجَاهِلِ وَعَذَابُهُ أَشَدُّ مِنْ عِقَابِهِ كَمَا قِيلَ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلْعَالِمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَكَمَا وَرَدَ: " «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» . (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) : أَيْ مَوْقُوفًا.

269 - وَعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا! قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 269 - (وَعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا رَاءٌ كَذَا فِي الْأَسْمَاءِ لِلْمُصَنِّفِ. قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: تَابِعِيٌّ سَمِعَ عُمَرَ وَعَلِيًّا (قَالَ) : قَالَ لِي عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ أَيْ: يُزِيلُ عِزَّتَهُ، وَالْهَدْمُ فِي الْأَصْلِ إِسْقَاطُ الْبِنَاءِ: (قُلْتُ: لَا!) . أَيْ: لَا أَعْرِفُ (قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ) : أَيْ عَثْرَتُهُ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ (وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ) : الَّذِي يُظْهِرُ السُّنَّةَ وَيُبْطِنُ الْبِدْعَةَ (بِالْكِتَابِ) : وَإِنَّمَا خُصَّ لِأَنَّ الْجِدَالَ بِهِ أَقْبَحُ، إِذْ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ (وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ) : بِالْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ (الْمُضِلِّينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِهَدْمِ الْإِسْلَامِ تَعْطِيلُ أَرْكَانِهِ الْخَمْسَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» " الْحَدِيثَ. وَتَعْطِيلُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمِنْ جِدَالِ الْمُبْتَدِعَةِ، وَغُلُوِّهِمْ فِي إِقَامَةِ الْبِدَعِ بِالتَّمَسُّكِ بِتَأْوِيلَاتِهِمُ الزَّائِفَةِ وَمِنْ ظُهُورِ ظُلْمِ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ وَحُكْمِ الْمُزَوِّرِينَ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ زَلَّةُ الْعَالِمِ لِأَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ فِي الْخَصْلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، كَمَا جَاءَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ زَلَّةُ الْعَالَمِ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) : أَيْ مَوْقُوفًا.

270 - وَعَنِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: فَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ابْنِ آدَمَ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 270 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) : أَيِ: الْبَصْرِيِّ (قَالَ: الْعِلْمُ) : أَيِ الْمَعْرِفَةُ أَوِ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ (عِلْمَانِ) : أَيْ: نَوْعَانِ (فَعِلْمٌ) : الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ أَيْ: فَنَوْعٌ مِنْهُ (فِي الْقَلْبِ) : أَيْ: حَاصِلٌ وَدَاخِلٌ فِيهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ (فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ) : إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فِي كَمَالِ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ لَا يَنَالُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَذَلِكَ بِاللَّامِ، وَلَعَلَّ الْأُولَى أَوْلَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرَّبَ الْمَرْءُ إِلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ، كَمَا أَنَّهُ أَوْرَدَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبْعَدَ عَنْهُ، وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ: فَبِسَبَبِ اسْتِقْرَارِهِ فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ حُبِّ الرَّبِّ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ فِي الدَّارَيْنِ (وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ) : أَيْ: وَنَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْعِلْمِ جَارٍ عَلَى اللِّسَانِ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلِكَوْنِ مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْخُلُقِ الْمُقْتَضِي لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَالْمُدَاهَنَةِ لِلْأُمَرَاءِ قَالَ (فَذَلِكَ) : أَيْ: فَبِسَبَبِ ذَلِكَ هُوَ (حُجَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ابْنِ آدَمَ) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وَقَدْ يُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى عِلْمِ الْبَاطِنِ، وَالثَّانِي عَلَى عِلْمِ

الظَّاهِرِ، لَكِنْ فِيهِ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْ عِلْمِ الْبَاطِنِ إِلَّا بَعْدَ التَّحَقُّقِ بِإِصْلَاحِ الظَّاهِرِ كَمَا أَنَّ عِلْمَ الظَّاهِرِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِصْلَاحِ الْبَاطِنِ، وَلِذَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: مَنْ تَفَقَّهَ وَلَمْ يَتَصَوَّفْ فَقَدْ تَفَسَّقَ، وَمَنْ تَصَوَّفَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فَقَدْ تَزَنْدَقَ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ تَحَقَّقَ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: هُمَا عِلْمَانِ أَصْلِيَّانِ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مُرْتَبِطٌ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، كَالْجِسْمِ وَالْقَلْبِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ عَنْ صَاحِبِهِ، (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . أَيْ: مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَالْمُنَاسِبُ لِدَأْبِهِ أَنْ يَقْتَصِرَ وَيَقُولَ: رَوَى الْأَحَادِيثَ السِّتَّةَ الدَّارِمِيُّ.

271 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ فِيكُمْ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ - يَعْنِي مَجْرَى الطَّعَامِ - رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 271 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ (عَنْ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ (مِنْ) بَدَلَ (عَنْ) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَلَقِّيهِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا وَاسِطَةٍ (وِعَاءَيْنِ) : أَيْ: نَوْعَيْنِ كَثِيرَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ مِلْءَ ظَرْفَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ (فَأَمَّا أَحَدُهُمَا) : وَهُوَ عِلْمُ الظَّاهِرِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْأَخْلَاقِ (فَبَثَثْتُهُ) : أَيْ: أَظْهَرْتُهُ بِالنَّقْلِ (فِيكُمْ، وَأَمَّا الْآخَرُ) : وَهُوَ عِلْمُ الْبَاطِنِ (قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ) : بِضَمِّ الْبَاءِ أَيِ الْحُلْقُومُ، لِأَنَّ أَسْرَارَ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ مِمَّا يَعْسُرُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمُرَادِ، وَلِذَا كُلُّ مَنْ نَطَقَ بِهِ وَقَعَ فِي تَوْهِيمِ الْحُلُولِ وَالْإِلْحَادِ، إِذَ فَهْمُ الْعَوَامِّ قَاصِرٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَرَامِ، وَمِنْ كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ صُدُورُ الْأَحْرَارِ قُبُورُ الْأَسْرَارِ، وَقَوْلُهُ: " قُطِعَ " يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ مِمَّا يُتَوَقَّعُ، وَيَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ مُبَالَغَةً فِي إِسْرَارِ الْأَسْرَارِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْخُلَّصِ مِنَ الْأَبْرَارِ، وَقِيلَ إِنَّهُ عِلْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُنَافِقِينَ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِوِلَادَةِ الْجَوْرِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ أَوْ بِفِتَنٍ أُخْرَى فِي زَمَنِهِ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: حَمَلَ الْعُلَمَاءُ الْوِعَاءَ الَّذِي لَمْ يَبُثَّهُ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا يَتَبَيَّنُ أَسَامِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ وَأَحْوَالُهُمْ وَذَمُّهُمْ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكَنِّي عَنْ بَعْضِهِ وَلَا يُصَرِّحُ بِهِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السِّتِّينَ، وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ، يُشِيرُ إِلَى خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ سِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَاتَ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ (يَعْنِي مَجْرَى الطَّعَامِ) . تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . لَكِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: زَادَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْبُلْعُومُ مَجْرَى الطَّعَامِ وَعَلَى هَذَا لَا يَخْفَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ إِذْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ أَحَدِ رُوَاتِهِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لِلْبُخَارِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

272 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لَا تَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 272 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ) : إِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ (قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ!) : يَشْمَلُ الْعُلَمَاءَ وَغَيْرَهُمْ (مَنْ عَلِمَ شَيْئًا) : مِنْ عُلُومِ الدِّينِ فَسَأَلَهُ عَنْهُ مَنْ هُوَ مُتَأَهِّلٌ لِفَهْمِ جَوَابِهِ (فَلْيَقُلْ بِهِ) : أَيْ: بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ لِوَخِيمِ عَذَابِ سَتْرِهِ وَلِعَظِيمِ ثَوَابِ نَشْرِهِ (وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ) : أَيْ: فِي الْجَوَابِ (اللَّهُ أَعْلَمُ) : كَمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] وَلَا يَسْتَحْيِي فِي نَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ جَهْلَ الْإِنْسَانِ أَكْثَرُ مِنْ عِلْمِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فَمَعْنَاهُ: اللَّهُ أَكْثَرُ عِلْمًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَعْلَمُ بِمَعْنَى عَالِمٍ لِاسْتِحَالَةِ الْمُشَارَكَةِ. قُلْتُ: الْمُشَارَكَةُ الِاسْتِقْلَالِيَّةُ هِيَ الْمُسْتَحِيلَةُ، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فِي الْأَبْرَارِ أَنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ؟

فَقَالَ: لَا أَدْرِي: فَقِيلَ: كَيْفَ تَقُولُ لَا أَدْرِي وَأَنْتَ طَلَعْتَ فَوْقَ الْمِنْبَرِ؟ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّمَا طَلَعْتُ بِقَدْرِ عِلْمِي، وَلَوْ طَلَعْتُ بِمِقْدَارِ جَهْلِي لَبَلَغْتُ السَّمَاءَ (فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ) : أَيْ: مِنْ آدَابِهِ الْوَاجِبِ رِعَايَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا مُتَأَكِّدًا عَلَى كُلِّ مَنْ نُسِبَ لِلْعِلْمِ أَوِ التَّقْدِيرِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِلْمِ وَهُوَ خَبَرُ إِنَّ وَاسْمُهُ (أَنْ تَقُولَ لِمَا لَا تَعْلَمُ) : بِالْخِطَابِ فِيهِمَا، وَقِيلَ: بِالْغَيْبَةِ أَيْ لِأَجْلِهِ أَوْ عَنْهُ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) . أَيْ: وَنَحْوُهُ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: فَإِنَّ تَمْيِيزَ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَجْهُولِ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا قِيلَ: لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ. وَيُقَالُ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ هَذَا التَّمْيِيزُ جَهْلُهُ مُرَكَّبٌ، وَمِنْ ثَمَّ اشْتَدَّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنَ الْإِفْتَاءِ فَكَثُرَ امْتِنَاعُهُمْ مِنْهُ حَتَّى أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَأَجَابَ عَنْ أَرْبَعَةٍ: وَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ اسْتَدَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ امْتِنَاعِ التَّكَلُّفِ وَالتَّصَنُّعِ فِي الْجَوَابِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِفْتَاءِ بِالْبَاطِلِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ) وَهُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [ص: 86] : أَيْ: عَلَى التَّبْلِيغِ (مِنْ أَجْرٍ) : أَيْ: آخُذُهُ مِنْكُمْ {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] : أَيْ: مِنَ الَّذِينَ يَتَصَنَّعُونَ وَيَتَحَلَّوْنَ بِمَا لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ، كَذَا قَالَهُ مِيرَكُ شَاهْ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سُئِلَ الصِّدِّيقُ عَنِ الْأَبِّ فِي: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] قَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لِي بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

273 - وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ ; فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 273 - (وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ) : وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، مَوْلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَالْمَزِيدَتَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ فِي اعْتِبَارِ مُجَرَّدٍ الزَّائِدَتَيْنِ (قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ) : اللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَعْلِيمِ الْخَلْقِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمَا أُصُولُ الدِّينِ (فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ) : الْمُرَادُ الْأَخْذُ مِنَ الْعُدُولِ وَالثِّقَاتِ، " وَعَنْ " مُتَعَلِّقٌ بِتَأْخُذُونَ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى تَرْوُونَ، وَدُخُولُ الْجَارِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ هُنَا كَدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 221] وَتَقْدِيرُهُ أَعَمَّنْ تَأْخُذُونَ، وَضُمِّنَ انْظُرْ مَعْنَى الْعِلْمِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ تَعْلِيقًا كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

274 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ! اسْتَقِيمُوا، فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَإِنْ أُخِذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 274 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ) أَيِ: الَّذِينَ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ، قَالَ الشَّيْخُ، الْمُرَادُ بِهِمُ الْعُلَمَاءُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ اهـ. فَكَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّغْلِيبِ أَوِ الْقُرَّاءُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانُوا جَامِعِينَ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلِذَا وَرَدَ الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ وَالْأَقْرَأُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ " «أَكْثَرُ مُنَافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا» " فَلَا وَجْهَ لَهُ تَقْيِيدًا وَتَعْلِيلًا (اسْتَقِيمُوا) : أَيْ: عَلَى جَادَّةِ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ كَرَامَةٍ وَهِيَ الثَّبَاتُ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ. وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْإِخْلَاصُ الْخَالِصُ، وَالْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ وَالْغَيْبَةُ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَاهُ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الِاسْتِقَامَةُ كِنَايَةٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ فِعْلًا وَتَرْكًا (فَقَدْ سَبَقْتُمْ) : قِيلَ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاءِ وَالْمَشْهُورُ ضَمُّ السِّينِ وَكَسْرُ الْبَاءِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ اسْلُكُوا طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ لِأَنَّكُمْ أَدْرَكْتُمْ أَوَائِلَ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ تَتَمَسَّكُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَسْبِقُوا إِلَى خَيْرٍ إِذْ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ وَإِنْ عَمِلَ بِعَمَلِكُمْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْكُمْ لِسَبْقِكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَرْتَبَةُ الْمَتْبُوعِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّابِعِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ أَيْ سَبَقَكُمُ الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِنُفُوسِكُمْ هَذَا التَّخَلُّفَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الِانْحِرَافِ عَنْ سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ يَمِينًا وَشِمَالًا الْمُوجِبِ لِلْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ (سَبْقًا بَعِيدًا) : أَيْ ظَاهِرُ

التَّفَاوُتِ (وَإِنْ أُخِذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا) : أَيْ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَادَّةِ وَالدُّخُولِ فِي طُرُقِ الضَّلَالَةِ (لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بِعِيدًا) . أَيْ: عَنِ الْحَقِّ بِحَيْثُ يَبْعُدُ رُجُوعُكُمْ عَنْهُ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] قَالَ الطِّيبِيُّ: النَّاسُ مَخْلُوقُونَ لِلْعِبَادَةِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّ الْعَبْدَ يَتَحَرَّى فِيهِمَا السَّيْرَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَتَوَخَّى سُلُوكَ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ لِيُوصِلَهُ إِلَى الْمَقْصُودِ وَالطَّرِيقُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالِاسْتِسْلَامُ، فَمَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ وَثَبَتَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَأْخُذْ يَمِينًا وَشِمَالًا قَدْ فَازَ وَسَبَقَ، وَمَنْ رَكِبَ مَتْنَ الرِّيَاءِ أُخِذَ عَنْ يَمِينِ الصِّرَاطِ وَشَمَالِهِ، ثُمَّ إِذَا ثَبَتَ الْمُرَائِي عَلَى اعْوِجَاجِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ هَامَ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ، وَأَدَّاهُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ إِلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ضَلَالًا بَعِيدًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

275 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ؟ قَالَ: " وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَتَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ ". قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنْ يَدْخُلُهَا؟ قَالَ: " الْقُرَّاءُ الْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ فِيهِ: " «وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْقُرَّاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ» " قَالَ الْمُحَارِبِيُّ: يَعْنِي الْجَوَرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 275 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ» ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِفَتْحِهَا أَيْ مِنْ بِئْرٍ فِيهَا الْحُزْنُ لَا غَيْرَ: قَالَ الطِّيبِيُّ: جُبُّ الْحَزَنِ عَلَمٌ وَالْإِضَافَةُ فِيهِ كَمَا هِيَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْ: دَارٌ فِيهَا السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ حَزَنٍ وَآفَةٍ: ( «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ؟ قَالَ: (وَادٍ» ) : أَيْ: هُوَ وَادٍ عَمِيقٌ مِنْ كَمَالِ عُمْقِهِ يُشْبِهُ الْبِئْرَ (فِي جَهَنَّمَ) : بِالتَّذْكِيرِ لِلْفَصْلِ، وَقِيلَ: بِالتَّأْنِيثِ (مِنْهُ) : أَيْ: مِنْ شِدَّةِ عَذَابِهِ (جَهَنَّمُ) : مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعَوُّذُ مِنْ جَهَنَّمَ هُنَا كَالنُّطْقِ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] وَكَالتَّمَيُّزِ وَالتَّغَيُّظِ {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] وَالظَّاهِرُ أَنْ يَجْرِيَ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَعَارَفِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: سُؤَالُ جَهَنَّمَ وَجَوَابُهَا مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَصْوِيرُ الْمَعْنَى فِي الْقَلْبِ، وَتَبْيِينُهُ وَتَمَيُّزُهَا وَتَغَيُّظُهَا تَشْبِيهٌ لِشِدَّةِ غَلَيَانِهَا بِالْكُفَّارِ بِغَيْظِ الْمُغْتَاظِ وَتَمَيُّزِهِ وَاضْطِرَابِهِ عِنْدَ الْغَضَبِ (كُلَّ يَوْمٍ) : يُحْتَمَلُ النَّهَارُ وَالْوَقْتُ (أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ) : لَعَلَّ خُصُوصَ الْعَدَدِ بِاعْتِبَارِ جِهَاتِهَا الْأَرْبَعَةِ يَعْنِي كُلَّ جِهَةٍ مِائَةٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّحْدِيدَ وَالتَّكْثِيرَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ أَيْ: يَتَعَوَّذُ زَبَانِيتُهَا أَوْ أَهْلُهَا ( «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنْ يَدْخُلُهَا» ؟) أَيْ تِلْكَ: الْبُقْعَةُ الْمُسَمَّاةُ بِجُبِّ الْحَزَنِ الَّتِي ذَكَرَ شِدَّتَهَا وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: ذَلِكَ شَيْءٌ عَظِيمٌ هَائِلٌ، فَمِنَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهَا وَمَنِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهَا؟ (قَالَ: (الْقُرَّاءُ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيِ الرَّجُلِ الْمُتَنَسِّكُ يُقَالُ: تَقَرَّأَ تَنَسَّكَ أَيْ تَعَبَّدَ، وَالْجَمْعُ الْقُرَّاءُونَ وَقَدْ يَكُونُ جَمْعُ الْقَارِئِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي الْقَامُوسِ الْقَرَّاءُ: كَكَتَّانٍ، الْحَسَنُ الْقِرَاءَةِ وَكَرُمَّانٍ النَّاسِكُ الْمُتَعَبِّدُ كَالْقَارِئُ وَالْمُقْرِئُ (الْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ) : السَّمَّاعُونَ بِأَقْوَالِهِمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، كَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ) : أَيِ: ابْنُ مَاجَهْ (فِيهِ) : أَيْ فِي حَدِيثِهِ أَوْ مَرْوِيِّهِ ( «وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْقُرَّاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى» ) : قِيلَ: أَيْ مِنَ الْقُرَّاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَهُمُ الْمُرَاءُونَ قَرَّائِينَ مَخْصُوصِينَ ( «وَهُمُ الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ» ) . أَيْ: مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تُلْجِئُهُمْ بِهِمْ بَلْ طَمَعًا فِي مَالِهِمْ وَجَاهَهِمْ، وَلِذَا قِيلَ: بِئْسَ الْفَقِيرُ عَلَى بَابِ الْأَمِيرِ، وَنِعْمَ الْأَمِيرُ عَلَى بَابِ الْفَقِيرِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الدُّنْيَا، وَالثَّانِي مُشِيرٌ بِأَنَّهُ مُتَقَرِّبٌ إِلَى الْأُخْرَى (قَالَ الْمُحَارِبِيُّ) : أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (يَعْنِي الْجَوَرَةَ) : جَمْعُ جَائِرٍ أَيِ: الظَّلَمَةُ لِأَنَّ زِيَارَةَ الْأَمِيرِ الْعَادِلِ عِبَادَةٌ.

276 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ. وَلَا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى، عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، مِنْ عِنْدِهِمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ، وَفِيهِمْ تَعُودُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 276 - (وَعَنْ عَلِيٍّ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يُوشِكُ) : أَيْ: يَقْرُبُ (أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ) : أَيْ: فَاسِدٌ لِفَسَادِ أَهْلِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَتَى مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِلَا وَاسِطَةٍ فَعُدِّيَ بِعَلَى لِيُشْعِرَ بِأَنَّ الزَّمَانَ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُمْ. قَالَ مِيرَكُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ ضُمِّنَ أَتَى مَعْنَى الْإِقْبَالِ أَوِ الْمُرُورِ فَعُدِّيَ بِعَلَى اهـ. قُلْتُ: يُؤَيِّدُ كَلَامَ الطِّيبِيِّ مَا فِي الْقَامُوسِ: أَتَى عَلَيْهِ الدَّهْرُ أَهْلَكَهُ مَعَ أَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ لَا يُنَافِي التَّضْمِينَ ثُمَّ لَا خَفَاءَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ يُوشِكُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ إِلَّا فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالْمُرُورُ أَكْثَرُ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ (لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ) : أَيْ شَعَائِرِهِ (إِلَّا اسْمَهُ) : أَيْ: مَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ كَلَفْظَةِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ (وَلَا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ) : أَيْ: مِنْ عُلُومِهِ وَآدَابِهِ (إِلَّا رَسْمَهُ) : أَيْ: أَثَرَهُ الظَّاهِرَ مِنْ قِرَاءَةِ لَفْظِهِ وَكِتَابَةِ خَطِّهِ بِطَرِيقِ الرَّسْمِ وَالْعَادَةِ لَا عَلَى جِهَةِ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: خُصَّ الْقُرْآنُ بِالرَّسْمِ، وَالْإِسْلَامُ بِالِاسْمِ دَلَالَةً عَلَى مُرَاعَاةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ مِنَ التَّجْوِيدِ فِي حِفْظِ مَخَارِجِ حُرُوفِهِ وَتَحْسِينِ الْأَلْحَانِ فِيهِ دُونَ التَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ وَالِامْتِثَالِ بِأَوَامِرِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ نَوَاهِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ، فَإِنَّ الِاسْمَ بَاقٍ وَالْمُسَمَّى مَدْرُوسٌ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ الَّتِي شُرِعَتْ لِلشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى انْدَرَسَتْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ سَاهُونَ عَنِ الصَّلَاةِ تَارِكُوهَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَيُقِيمُونَهَا وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَتْرُكُونَهَا اهـ. وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمُ اهـ، وَالْمَشْهُورُ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أَنَّهَا بِمَعْنَى (عَلَى) فَكَانَ الِاكْتِفَاءُ بِالْآيَةِ الْأُولَى أَوْلَى (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . قُلْتُ: وَمِنْ مُنَاسَبَةِ الرَّسْمِ بِالْقُرْآنِ أَنَّ مُحَافَظَةَ آدَابِ كَيْفِيَّةِ كِتَابَةِ كَلِمَاتِهِ مِنَ الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ وَالْمَجْرُورِ وَالْمَرْبُوطِ وَالْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ بِغَيْرِهَا مِمَّا يُسَمَّى بِعِلْمِ الرَّسْمِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الْقُرْآنِ الَّتِي انْدَرَسَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ (مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ) : أَيْ بِالْأَبْنِيَةِ الْمُرْتَفِعَةِ وَالْجُدْرَانِ الْمُنْتَقَشَةِ وَالْقَنَادِيلِ الْمُسَرَّجَةِ وَالْبُسُطِ الْمَفْرُوشَةِ، وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنَةِ الْجَهَلَةِ الْمُوَظَّفَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ (وَهِيَ) : أَيِ: الْمَسَاجِدُ أَوْ أَهْلُهَا (خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى) : أَيْ: مِنْ ذِي الْهُدَى أَوِ الْهَادِي لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْهَادِي لَوُجِدَ الْهُدَى، فَأُطْلِقَ الْهُدَى وَأُرِيدَ الْهَادِي عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ خَرَابَ الْمَسَاجِدِ مِنْ أَجْلِ عَدَمِ الْهَادِي الَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ بِهُدَاهُ فِي أَبْوَابِ الدِّينِ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ خَرَابَهَا لِوُجُودِ هُدَاةِ السُّوءِ الَّذِينَ يُزِيغُونَ النَّاسَ بِبِدْعَتِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، وَتَسْمِيَتُهُمْ بِالْهُدَاةِ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ، لِذَا عَقَّبَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ لِبَيَانِ الْمُوجَبِ بِقَوْلِهِ: (عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ) . أَيْ: وَجْهِهَا، وَكَذَا أَدِيمُ الْأَرْضِ وَهُوَ صَعِيدُهَا. قِيلَ: وَمِنْهُ اشْتُقَّ آدَمُ، لِأَنَّ جَسَدَهُ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ السَّيِّدُ، أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ مَسَاجِدِهِمْ عَامِرَةً عِمَارَةُ بِنَائِهَا الظَّاهِرِ، وَبِكَوْنِهَا خَرَابًا مِنَ الْهُدَى تَرْكُهَا إِيَّاهَا عَاطِلَةً مِنَ الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِقَامَةِ الْأَذَانِ فِيهَا، وَوَضْعِ الْمَصَابِيحِ وَالسُّرُجِ فِيهَا وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالْهُدَى لِأَنَّهَا سَبَبُ هِدَايَةِ الشَّخْصِ اهـ. أَوِ التَّقْدِيرُ مِنْ آثَارِ الْهِدَايَةِ أَوْ أَهْلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مِنْ عِنْدِهِمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ) : أَيْ: لِلنَّاسِ لِمَا مَرَّ أَنَّ فَسَادَ الْعَالِمِ فَسَادُ الْعَالَمِ (وَفِيهِمْ تَعُودُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي مِثْلِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أَيْ: يَسْتَقِرُّ عَوْدُ ضَرَرِهِمْ فِيهِمْ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمُ اهـ. وَالْمَشْهُورُ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أَنَّهَا بِمَعْنَى (عَلَى) فَكَانَ الِاكْتِفَاءُ بِالْآيَةِ أَوْلَى (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

277 - وَعَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا: فَقَالَ: ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ! إِنْ كُنْتُ لَأُرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ! أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا؟» ! " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 277 - (وَعَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ) : أَنْصَارِيٌّ، خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ (قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا) : أَيْ: هَائِلًا (فَقَالَ: (ذَلِكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: ذَاكَ أَيِ: الشَّيْءُ الْمَخُوفُ يَقَعُ (عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ) : أَيْ: وَقْتَ انْدِرَاسِهِ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ) : الْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَيْ: مَتَى يَقَعُ ذَلِكَ الْمَهُولُ وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ (وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : يَعْنِي: وَالْحَالُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَمِرٌّ بَيْنَ النَّاسِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى بَقَاءِ الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ يُرْفَعَ قُرْبَ السَّاعَةِ، فَالْمَعْنَى مَعَ وُجُودِ كَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ؟ (فَقَالَ (: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ) : أَيْ: فَقَدَتْكَ وَأَصْلُهُ الدُّعَاءُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ (زِيَادُ!) : أَيْ: يَا زِيَادُ (إِنْ كُنْتُ) : إِنَّ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ بِدَلِيلِ اللَّامِ الْآتِيَةِ الْفَارِقَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ أَيْ: إِنَّ الشَّأْنَ كُنْتُ أَنَا (لَأُرَاكَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: لَأَظُنُّكَ أَوْ بِفَتْحِهَا أَيْ: لَأَعْلَمُكَ (مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ!) : ثَانِي مَفْعُولَيْ أُرَاكَ، وَمِنْ زَائِدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ أَيْ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ كَائِنًا كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ الثَّانِي، وَلَا نَظَرَ لِإِفْرَادِ رَجُلٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ (أَوَلَيْسَ) : أَيْ: أَتَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ وَلَيْسَ (هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) : أَيْ: آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ (وَلَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا؟) : أَيْ: فَكَمَا لَمْ تُفِدْهُمْ قِرَاءَتُهُمَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا فِيهِمَا، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ يَقْرَءُونَ أَيْ يَقْرَءُونَ غَيْرَ عَالِمِينَ نَزَّلَ الْعَالِمَ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ، بَلْ مَنْزِلَةَ الْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ أَسْفَارًا، بَلْ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ) : بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ) : أَيْ: عَنْ زِيَادٍ (نَحْوَهُ) : أَيْ: نَحْوَ هَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ مَعْنَاهُ.

278 - وَكَذَا الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 278 - (وَكَذَا الدَّارِمِيُّ) . أَيْ: رَوَاهُ بِمَعْنَاهُ لَكِنْ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) : لَا عَنْ زِيَادٍ.

279 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ ; فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَالْعِلْمُ سَيَنْقَبِضُ بَعْدِي، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي فَرِيضَةٍ لَا يَجِدَانِ أَحَدًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا» ، رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 279 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ أَوْ خَصَّهُ بِالْخِطَابِ وَعَمَّ الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ ( «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ» ) : أَوِ الْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ بِأَنْوَاعِهَا (وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ) : لِتَكُونُوا كَامِلِينَ مُكَمِّلِينَ ( «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ» ) : أَيْ: عِلْمُهَا خُصُوصًا سَوَاءً أُرِيدَ بِهَا فَرَائِضُ الْإِسْلَامِ أَوْ

فَرَائِضُ الْإِرْثِ (وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ) : أَيْ: هَذَا الْعِلْمُ فَالضَّمِيرُ إِلَى الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنَّ عِلْمَهَا أَهَمُّ وَثَوَابَهَا أَتَمُّ ( «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ» ) وَهُوَ تَخْصِيصٌ مِنْ وَجْهٍ وَتَعْمِيمٌ مِنْ وَجْهٍ، وَعَلَى كُلٍّ فَتَأْخِيرُهُ لِلتَّرَقِّي فَإِنَّ الِاهْتِمَامَ بِحِفْظِهِ وَلَوْ بِلَفْظِهِ أَوْجَبُ، فَإِنَّهُ مُعْجِزَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( «فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ» ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] أَيْ كَوْنِي امْرَءًا مِثْلَكُمْ عِلَّةٌ لِكَوْنِي مَقْبُوضًا لَا أَعِيشُ أَبَدًا فَاغْتَنِمُوا فُرْصَةَ حَيَاتِي ( «وَالْعِلْمُ سَيَنْقَبِضُ» ) : لِأَنَّ بَعْدَ كُلِّ كَمَالٍ نُقْصَانًا وَزَوَالًا، وَفِي نُسْخَةٍ: سَيَنْقَبِضُ، أَيْ: بِقَبْضِي أَوْ بِغَيْرِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: سَيُقْبَضُ مَجْهُولٌ مُجَرَّدٌ أَيْ: بِقَبْضِ أَهْلِهِ (وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ) الْوَاوُ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِيَّةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبْضُ الْعِلْمِ سَبَبَ الْفِتْنَةِ أَوْ هِيَ سَبَبُ قَبْضِ الْعِلْمِ (حَتَّى يَخْتَلِفَ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكُلٍّ مِنَ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ (اثْنَانِ) : أَيْ: مُتَكَلِّمَانِ أَوْ وَارِثَانِ (فِي فَرِيضَةٍ) : مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ فَرَائِضِ الْمِيرَاثِ ( «لَا يَجِدَانِ أَحَدًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا» ) : لِقِلَّةِ الْعِلْمِ أَوْ لِكَثْرَةِ الْفِتْنَةِ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ) .

280 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ عِلْمٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَمَثَلِ كَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 280 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَثَلُ عِلْمٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ» ) : أَيْ: بِالْعَمَلِ وَالتَّعْلِيمِ وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ فِي نَفْسِهِ نَافِعًا ( «كَمَثَلِ كَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ) : أَيْ: لَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ فِي الْجِهَادِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْخَيْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّشْبِيهُ فِي عَدَمِ النَّفْعِ وَالِانْتِفَاعِ وَالْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا لَا فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَكَيْفَ لَا وَالْعِلْمُ يَزِيدُ بِالْإِنْفَاقِ وَالْكَنْزُ يَنْقُصُ، وَالْعِلْمُ بَاقٍ وَالْكَنْزُ فَانٍ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ) .

[كتاب الطهارة]

[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]

[3]- كِتَابُ الطَّهَارَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 281 - عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ ( «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ) لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَلَا فِي (الْجَامِعِ) . وَلَكِنْ ذَكَرَهَا الدَّارِمِيُّ بَدَلَ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ [3] كِتَابُ الطَّهَارَةِ أَيْ: مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَأَصْلُهَا النَّظَافَةُ وَالنَّزَاهَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ حِسِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) وَلَمَّا كَانَتِ الْعِبَادَةُ نَتِيجَةَ الْعِلْمِ، وَالصَّلَاةُ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ، وَالطَّهَارَةُ مِنْ شُرُوطِهَا الْمُتَوَقِّفِ صِحَّتُهَا عَلَيْهَا عَقَّبَ كِتَابَ الْعِلْمِ بِكِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَاخْتُصَّتْ مِنْ بَيْنِ شُرُوطِهَا لِكَوْنِهَا غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلسُّقُوطِ، وَلِكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا هُنَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: لِلطَّهَارَةِ مَرَاتِبُ مِنْ تَطْهِيرِ الظَّاهِرِ عَنِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، ثُمَّ تَطْهِيرِ الْجَوَارِحِ عَنِ الْجَرَائِمِ، ثُمَّ تَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، ثُمَّ تَطْهِيرِ السِّرِّ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 281 - (وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَالِكٌ، كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيُّ، كَذَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ أَوْ أَبُو عَامِرٍ بِالشَّكِّ قَالَ ابْنُ الْمَدَنِيِّ: أَبُو مَالِكٍ هُوَ الصَّوَابُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الطُّهُورُ) : بِالضَّمِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْأَظْهَرُ أَوْ بِالْفَتْحِ: قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ: عَلَى أَنَّ الطُّهُورَ وَالْوُضُوءَ يُضَمَّانِ إِذَا أُرِيدَ بِهِمَا الْمَصْدَرُ، وَيُفْتَحَانِ إِذَا أُرِيدَ بِهِمَا مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، كَذَا عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَذَهَبَ الْخَلِيلُ وَالْأَصْمَعِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، وَالْأَظْهَرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ بِالْفَتْحِ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ اهـ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الطُّهُورُ بِالضَّمِّ هَهُنَا، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَنْ جُمْهُورِ الرُّوَاةِ وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ لِأَنَّ الْفَعُولُ قَدْ يَجِيءُ مَصْدَرًا كَالْوَلُوعِ وَالْقَبُولِ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ اسْمًا لِمَا يُتَطَهَّرُ بِهِ كَالسَّعُوطِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيِ اسْتِعْمَالُهُ وَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَلَا إِشْكَالَ (شَطْرُ الْإِيمَانِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: أَصْلُ الشَّطْرِ النِّصْفُ، قِيلَ مَعْنَى شَطْرِ الْإِيمَانِ: أَنَّ الْأَجْرَ فِي الْوُضُوءِ يَنْتَهِي إِلَى نِصْفِ أَجْرِ الْإِيمَانِ، قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ ثَوَابَ الصَّلَاةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَةِ شُرُوطِهَا الْوُضُوءُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ نِصْفُ ثَوَابِ الْإِيمَانِ بَلْ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نِصْفًا لِلْإِيمَانِ إِلَّا عَلَى مُعْتَقَدٍ فَاسِدٍ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ، حَيْثُ جَعَلُوا الْعَمَلَ شَطْرَ الْإِيمَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْعَمَلِ شَطْرًا أَنَّهُ يُسَاوِي ثَوَابُهُ ثَوَابَ الْإِيمَانِ، كَيْفَ وَيَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ دُونَ الْعَكْسِ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْفَرْعِ أَبَدًا مَعَ أَنَّهُ كَالْعَلَامَةِ عَلَى تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ وَقِيلَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْخَطَايَا، وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ إِلَّا أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ فَصَارَ لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الشَّطْرِ. قُلْتُ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَهِيَ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ أَهْلِهَا وَإِلَّا فَعِنْدَنَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ مِنَ الْكَافِرِ فَالْأَظْهَرُ أَنَمَا يُقَالُ: إِنَّمَا كَانَ شَطْرًا لَهُ لِأَنَّهُ يَحُطُّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ وَالْوُضُوءُ يَخْتَصُّ بِالصَّغَائِرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذَا الْوُضُوءِ عِنْدَنَا أَيْضًا بِالنِّيَّةِ لِيَصِيرَ عِبَادَةً مُكَفِّرَةً لِلسَّيِّئَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: الْمُرَادُ هُنَا بِالْإِيمَانِ الصَّلَاةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أَيْ: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأُطْلِقَ الْإِيمَانُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا أَعْظَمُ آثَارِهِ وَأَشْرَفُ نَتَائِجِهِ وَأَنْوَارُ أَسْرَارِهِ وَجُعِلَتِ الطَّهَارَةُ شَطْرَهَا لِأَنَّ صِحَّتَهَا بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ وَالطَّهَارَةُ أَقْوَى الشَّرَائِطِ وَأَظْهَرُهَا، فَجُعِلَتْ كَأَنَّهَا لَا شَرْطَ سِوَاهَا، وَالشَّرْطُ شَرْطُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَشْرُوطُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّطْرِ مُطْلَقُ الْجُزْءِ لَا النِّصْفُ الْحَقِيقِيُّ. قُلْتُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] ثُمَّ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْإِيمَانِ الصَّلَاةُ فَلَا إِشْكَالَ أَوْ يُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ الْمُتَعَارَفُ، فَالْجُزْءُ مَحْمُولٌ عَلَى أَجْزَاءِ كَمَالِهِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ بِعِبَارَةِ النِّصْفِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النِّصْفِ كَمَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: ( «عِلْمُ الْفَرَائِضِ نِصْفُ الْعِلْمِ» ) وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ حَقِيقَتُهُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ عَنِ الشِّرْكِ وَالطَّهُورُ طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الطَّهَارَةَ نِصْفَانِ أَيْ: فَجِنْسُهَا نَوْعَانِ طَهَارَةُ الظَّاهِرِ وَطَهَارَةُ الْبَاطِنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الطَّهُورُ تُزَكِّيهِ عَنِ الْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَهِيَ شَطْرُ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، فَإِنَّهُ تَخْلِيَةٌ وَتَحْلِيَةٌ، وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْإِيمَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ نَفْيِ

الْأُلُوهِيَّةِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ الذَّاتِيِّ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا الْمُرَكَّبُ هُوَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَبْنَى الْإِيمَانِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] وَلَا يَضُرُّنَا إِيرَادُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فَإِنَّهُ بِحَسَبِ فَهْمِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ وَبِمَا قُلْنَا تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ التَّامَّةُ بَيْنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ فِي قَوْلِهِ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) : أَيْ تَلَفُّظُهُ أَوْ تَصَوُّرُهُ (تَمْلَأُ الْمِيزَانَ) بِالتَّأْنِيثِ عَلَى تَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ وَقِيلَ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى إِرَادَةِ اللَّفْظِ أَوِ الْكَلَامِ أَوِ الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ أَيْ: لَوْ قُدِّرَ ثَوَابُهُ مُجَسَّمًا لَمَلَأَ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْأَقْوَالَ وَالْأَعْمَالَ وَالْمَعَانِيَ تَتَجَسَّدُ ذَوَاتُهَا فِي الْعَالَمِ الثَّانِي وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: ثَوَابُهَا لَوْ جُسِّمَ أَوْ هِيَ لَوْ جُسِّمَتْ بِاعْتِبَارِ ثَوَابِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِظُهُورِ عَدَمِ الْفَرْقِ هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تُوزَنُ الْأَعْمَالُ وَهِيَ أَعْرَاضٌ مُسْتَحِيلَةُ الْبَقَاءِ، وَكَذَا الْأَعْرَاضُ لَا تُوصَفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ نُصُوصَ الشَّرْعِ تَظَاهَرَتْ عَلَى وَزْنِ الْأَفْعَالِ وَثِقَلِ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتِهَا، وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لِلْمِيزَانِ لِسَانًا وَكِفَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْمَشْرِقِ، وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ، تُكْتَبُ حَسَنَاتُهُ فِي صَحِيفَةٍ وَتُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، وَتُكْتَبُ سَيِّئَاتُهُ وَتُوضَعُ فِي الْأُخْرَى فَوَجَبَ الْقَبُولُ وَتُرِكَ الِاعْتِرَاضُ بِسَبَبِ قُصُورِ الْفَهْمِ وَرَكَاكَةِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَسْرَارِ وَكَشَفَ لَهُ عَجَائِبَ الْأَقْدَارِ يَرَى أَنَّ الْمُقَيَّدَ بِعَقْلِهِ لَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ وَزْنُ الصَّحَائِفِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: النَّفْسُ بِذَاتِهَا مُهَيِّئَةٌ لِأَنْ يَنْكَشِفَ لَهَا حَقَائِقُ الْأُمُورِ، لَكِنَّ تَعَلُّقَهَا بِالْجَسَدِ مَانِعٌ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ بِالْمَوْتِ يَعْرِفُ أَنَّ أَعْمَالَهُ مُؤَثِّرَةٌ فِي تَقْرِيبِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِبْعَادِهِ، وَيَعْلَمُ مَقَادِيرَ تِلْكَ الْآثَارِ وَأَنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنَ الْبَعْضِ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُجْرِيَ سَبَبًا يُعَرِّفُ الْخَلْقَ فِي لَحْظَةٍ مَقَادِيرَ الْأَعْمَالِ بِتَشْكِيلٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ تَمْثِيلٍ خَيَالِيٍّ، فَحَدُّ الْمِيزَانِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، وَمِثَالُهُ فِي الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ مُخْتَلِفٌ، كَالْمِيزَانِ وَالْقَبَّانِ لِلْأَثْقَالِ، وَالِاضْطِرَابِ لِحَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، وَالْمَسْطَرَةِ لِمَقَادِيرِ الشِّعْرِ فَلِتَقْرِيبِهِ بِأَفْهَامِ الْبَلِيدِ وَالْجَلِيدِ مِثْلَ مَا أُرِيدَ اهـ. فَمُخَالَفَتُهُ الْمُعْتَزِلَةَ فِيهِ كَنَظَائِرِهِ إِنَّمَا نَشَأَتْ عَنْ تَحْكِيمِ عُقُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَنَظَرِهِمْ إِلَى الْأَدِلَّةِ الْوَاهِيَةِ الْكَاسِدَةِ ( «وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ» ) الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَاهُمَا بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ قَالَ الطِّيبِيُّ فَالْأَوَّلُ أَيْ: تَمْلَآنِ ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي فِيهَا ضَمِيرُ الْجُمْلَةِ أَيِ: الْجُمْلَةُ الشَّامِلَةُ لَهُمَا. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِفْرَادُ بِتَقْدِيرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) : إِمَّا بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ أَوْ لِأَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ وَنَفْيِ النُّعُوتِ السَّلْبِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ( «وَالصَّلَاةُ نُورٌ» ) أَيْ: فِي الْقَبْرِ وَظُلْمَةِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ: إِنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَتَهْدِي إِلَى الصَّوَابِ كَالنُّورِ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالنُّورِ الْأَمْرَ الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ صَاحِبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ تَعَالَى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12] وَقِيلَ: لِأَنَّهَا سَبَبُ إِشْرَاقِ أَنْوَاعِ الْعَارِفِ وَانْشِرَاحِ الْقَلْبِ وَمُكَاشَفَاتِ الْحَقَائِقِ لِفَرَاغِ الْقَلْبِ فِيهَا، وَقِيلَ: النُّورُ: السِّيمَا فِي وَجْهِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ» ) مَعْنَاهُ يُفْزَعُ إِلَيْهَا كَمَا يُفْزَعُ إِلَى الْبُرْهَانِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سُئِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ مَصْرِفِ مَالِهِ كَانَتْ صَدَقَتُهُ بَرَاهِينُ فِي الْجَوَابِ، وَقِيلَ: يُوسَمُ الْمُتَصَدِّقُ بِسِيمَاءَ يُعْرَفُ بِهَا فَيَكُونُ بُرْهَانًا عَلَى الْفَلَاحِ وَالْهُدَى، فَلَا يُسْأَلُ عَنِ الْمَصْرِفِ وَقِيلَ: إِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى إِيمَانِ صَاحِبِهَا فَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَمْتَنِعُ مِنْهَا ( «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» ) : بِالْيَاءِ الْمُنْقَلِبَةِ عَنِ الْوَاوِ لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا وَرُوِيَ بِالْهَمْزَةِ قَبْلَ الْأَلِفِ، قِيلَ: الصَّبْرُ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَتَمَنَّى مِنَ الشَّهَوَاتِ وَعَلَى مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَفِيمَا يَصْعُبُ عَلَيْهَا مِنَ النَّائِبَاتِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الصَّبْرُ عَنِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا الدَّنِيَّةِ، وَعَنِ الْمَعَاصِي، وَعَلَى التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ. وَفِي الْمُصِيبَاتِ وَالْمِحَنِ الْكَوْنِيَّةِ فَيَخْرُجُ الْعَبْدُ عَنْ عُهْدَتِهَا فَتَكُونُ ضِيَاءً لِأَنَّ بِتَرْكِ الصَّبْرِ عَلَيْهَا يَدْخُلُ فِي ظُلْمَةِ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّبْرِ هُنَا الصَّوْمُ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ مَعَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِهَا الزَّكَاةُ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] وَسُمِّيَ الصَّوْمُ صَبْرًا لِثَبَاتِ الصَّائِمِ وَحَبْسِهِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَسُمِّيَ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ: (ضِيَاءٌ) يَعْنِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا صَبَرَ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْبَلَايَا فِي سَعَةِ الدُّنْيَا، وَعَنِ الْمَعَاصِي فِيهَا جَازَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّفْرِيجِ وَالتَّنْوِيرِ فِي ضِيقِ الْقَبْرِ وَظُلْمَتِهِ: وَقَالَ

بَعْضُهُمْ: الصَّبْرُ ضِيَاءٌ فِي قَلْبِهِ لِأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَذَلُّلٌ وَمَنْ تَذَلَّلَ فِي اللَّهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الطَّاعَاتُ وَمَشَاقُّ الْعِبَادَاتِ وَتَجَنُّبُ الْمَحْظُورَاتِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شِعَارَهُ لَا شَكَّ أَنَّ فِي قَلْبِهِ ضِيَاءً وَالضِّيَاءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّبْرَ أَوْسَعُ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ تَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ، نَعَمْ إِذَا فُسِّرَ الصَّوْمُ بِالصَّبْرِ، فَذَلِكَ لِتَخْصِيصِهِ بِالنَّهَارِ كَتَخْصِيصِ الشَّمْسِ بِهِ، لَا لِمَزِيَّةِ الصَّوْمِ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّوْمَ إِمْسَاكٌ يُشْبِهُ الصَّمَدَانِيَّةَ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ وَالصَّلَاةُ تَذَلُّلٌ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْعَبْدِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» ) كَذَا حَقَّقَهُ السَّيِّدُ (وَالْقُرْآنُ) : أَيْ: قِرَاءَتُهُ (حُجَّةٌ لَكَ) : إِنْ عَمِلْتَ بِهِ (أَوْ عَلَيْكَ) : إِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ أَوْ قَصَّرْتَ مِنْهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِمَعَانِيهِ (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو) أَيْ يُصْبِحُ أَوْ يَسِيرُ، قِيلَ: الْغُدُوُّ: السَّيْرُ أَوَّلَ النَّهَارِ ضِدُّ الرَّوَاحِ، وَقَدْ غَدَا يَغْدُو غُدُوًّا مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَدْوَةِ مَا بَيْنَ الصَّبَاحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْمَعْنَى كُلُّ أَحَدٍ يَسْعَى وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّنْيَا وَيَرَى أَثَرَ عَمَلِهِ فِي الْعُقْبَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مُجْمَلٌ تَفْصِيلُهُ (فَبَائِعٌ نَفْسَهُ) : أَيْ: حَظَّهَا بِإِعْطَائِهَا وَأَخْذِ عِوَضِهَا وَهُوَ عَمَلُهُ وَكَسْبُهُ، فَإِنْ عَمِلَ خَيْرًا فَقَدْ بَاعَهَا وَأَخَذَ الْخَيْرَ عَنْ ثَمَنِهَا (فَمُعْتِقُهَا) مِنَ النَّارِ بِذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنْ قَوْلِهِ: فَبَائِعٌ نَفْسَهُ (أَوْ مُوبِقُهَا) أَيْ: مُهْلِكُهَا بِأَنْ بَاعَهَا وَأَخَذَ الشَّرَّ عَنْ ثَمَنِهَا. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِلْأَشْرَافِ وَغَيْرُهُ: الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يُطْلَقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِارْتِبَاطِهِ بِهِ، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَنْ تَرْكِ حَالَةٍ وَكَسْبِ أُخْرَى كَتَرْكِ الْبَائِعِ مَا فِي يَدِهِ إِيثَارًا لِمَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَمَنْ صَرَفَ نَفْسَهُ عَمَّا تَتَوَخَّاهُ وَآثَرَ آخِرَتَهُ عَلَى دُنْيَاهُ وَاشْتَرَى نَفْسَهُ بِالْآخِرَةِ، فَقَدْ أَعْتَقَهَا عَنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ، وَمَنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَاشْتَرَاهَا بِهَا فَقَدْ أَوْبَقَ نَفْسَهُ أَيْ: أَهْلَكَهَا بِأَنْ جَعَلَهَا عُرْضَةً لِعَظِيمِ عَذَابِهِ وَقَوْلُهُ: فَبَائِعٌ نَفْسَهُ أَيْ: فَمُشْتَرِي نَفْسَهُ مِنْ رَبِّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَمُعْتِقُهَا. وَالْإِعْتَاقُ إِنَّمَا يَصِحُّ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا وَآثَرَ الْآخِرَةَ يَكُونُ مُشْتَرِيًا نَفْسَهُ مِنْ رَبِّهِ بِالدُّنْيَا، فَيَكُونُ مُعْتِقَهَا، وَمَنْ تَرَكَ الْآخِرَةَ وَآثَرَ الدُّنْيَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا بِالْأُخْرَى فَيَكُونُ مُوبِقَهَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْعَى فِي الْأُمُورِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهَا مِنَ اللَّهِ فَيُعْتِقُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهَا مِنَ الشَّيْطَانِ فَيُوبِقُهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، (وَفِي رِوَايَةٍ) : ظَاهِرَةٌ أَنَّهَا لِمُسْلِمٍ، وَلِذَا يَجِيءُ الِاعْتِرَاضُ الْآتِي (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَمْلَآنِ) : التَّأْنِيثُ، وَقِيلَ بِالتَّذْكِيرِ (مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) إِمَّا بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ (لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ) : أَيِ: الَّتِي نَسَبَهَا صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ إِلَى مُسْلِمٍ (فِي الصَّحِيحَيْنِ) : أَيْ: مَتْنُهُمَا (لَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) : الْجَامِعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ (وَلَا فِي الْجَامِعِ: أَيْ لِلْأُصُولِ السِّتَّةِ (وَلَكِنْ ذَكَرَهَا) : أَيْ: هَذِهِ الرِّوَايَةَ الدَّارِمِيُّ بَدَلَ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) : وَهُوَ لَيْسَ بِمُخْلِصٍ لَهُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ مِنَ الصِّحَاحِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِمَّا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ فِي أَحَدِهِمَا، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الِالْتِزَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي أُصُولِ الْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا هَذِهِ فَإِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ إِفَادَةٍ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ الْمَوْجُودِ فِي مُسْلِمٍ

اللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَفِي تَخْرِيجِ الْمَصَابِيحِ لِلْقَاضِي عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيِّ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا فِي مُسْلِمٍ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، فَظَاهِرُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ لَا التَّبْدِيلَ، وَأَمَّا ظَاهِرُ رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ فَالتَّبْدِيلُ اهـ.

282 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 282 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلَا أَدُلُّكُمْ) الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَلَا نَافِيَةٌ وَلَيْسَ أَلَا لِلتَّنْبِيهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ بَلَى، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ غَفْلَةٌ مِنْهُ ( «عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَحْوُ الْخَطَايَا كِنَايَةٌ عَنْ غُفْرَانِهَا، وَيُحْتَمَلُ الْمَحْوُ عَنْ كِتَابِ الْحَفَظَةِ دَلَالَةً عَلَى غُفْرَانِهَا ( «وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ» ؟) : أَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْجَنَّاتِ (قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ!) : وَفَائِدَةُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ بِحُكْمِ الْإِبْهَامِ وَالتَّبْيِينِ قَالَ: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ) : بِضَمِّ الْوَاوِ، وَقِيلَ بِالْفَتْحِ أَيْ تَكْمِيلُهُ وَإِتْمَامُهُ بِاسْتِيعَابِ الْمَحَلِّ بِالْغُسْلِ وَتَطْوِيلُ الْغُرَّةِ وَتَكْرَارُ الْغُسْلِ ثَلَاثًا، وَقِيلَ: إِسْبَاغُهُ مَا لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ. كَذَا فِي زَيْنِ الْعَرَبِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَهَذَا بَعِيدٌ يَأْبَى عَنْهُ لَفْظُ الْإِسْبَاغِ وَمَعْنَى رَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَأَصْلُ الْوُضُوءِ مِنَ الْوَضَاءَةِ لِأَنَّهُ يُحَسِّنُ الْمُتَوَضِّئَ وَفِي النِّهَايَةِ أَثْبَتَ سِيبَوَيْهِ الْوَضُوءَ وَالطَّهُورَ وَالْوَقُودَ بِالْفَتْحِ فِي الْمَصَادِرِ وَهِيَ تَقَعُ عَلَى الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ (عَلَى الْمَكَارِهِ) : جَمْعُ مَكْرَهٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْكُرْهِ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ قِيلَ: مِنْهَا إِعْوَازُ الْمَاءِ وَالْحَاجَةُ إِلَى طَلَبِهِ أَوِ ابْتِيَاعِهِ بِالثَّمَنِ الْغَالِي، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَالُ مَا يَكْرَهُ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ كَالتَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الشِّتَاءِ أَوْ أَلَمِ الْجِسْمِ (وَكَثْرَةُ الْخُطَا) : جَمْعُ خُطْوَةٍ بِضَمِّ الْخَاءِ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ وَكَثْرَتِهَا إِمَّا لِبُعْدِ الدَّارِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ (إِلَى الْمَسَاجِدِ) : لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى فَضْلِ الدَّارِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَرِيبَةِ مِنْهُ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فَإِنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لِلْبُعْدِ فِي ذَاتِهِ، بَلْ فِي تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَا لَوْ كَانَ لِلدَّارِ طَرِيقَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَيَأْتِي مِنَ الْأَبْعَدِ لَيْسَ لَهُ ثَوَابٌ عَلَى قَدْرِ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا رَغَّبَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى كَثْرَةِ الْخُطَا تَسْلِيَةً لِمَنْ بَعُدَ دَارُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «دِيَارُكُمْ تَكْتُبُ آثَارَكُمْ» ) لِمَنْ بَعُدَتْ دِيَارُهُمْ عَنْ مَسْجِدِهِ؛ فَأَرَادُوا الْقُرْبَ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ الْقُرْبَ مِنْهُ أَفْضَلُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ وَعَدَمِ فَوْتِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، فَسَلَّاهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: (تَكْتُبُ آثَارَكُمْ) يَعْنِي إِنْ فَاتَكُمْ بَعْضُ الْفَوَائِدِ يَحْصُلُ لَكُمْ بَعْضُ الْعَوَائِدِ، وَالْأَمْرُ بِلُزُومِ الدِّيَارِ لِمَا يَتَرَتَّبُ مِنْ تَغْيِيرِ الدَّارِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَكْدَارِ مَعَ أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّمَا أَمْرَهُمْ بِالِاسْتِمْرَارِ لِئَلَّا يَخْلُوَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَصِيرَ مَحَلَّ الْإِمْكَارِ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا عَدُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ شُؤْمِ الدَّارِ بُعْدَهَا مِنَ الْمَسْجِدِ (وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ) : أَيْ: وَقْتُهَا أَوْ جَمَاعَتُهَا (بَعْدَ الصَّلَاةِ) : يَعْنِي إِذَا صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ أَوْ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ يَنْتَظِرُ صَلَاةً أُخْرَى وَيُعَلِّقُ فِكْرَهُ بِهَا بِأَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي بَيْتِهِ يَنْتَظِرُهَا، أَوْ يَكُونَ فِي شُغْلِهِ وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِهَا (فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ يُقَالُ: رَابَطْتُ أَيْ لَازَمْتُ الثَّغْرَ وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ لِمَا يُرْبَطُ بِهِ وَسُمِّيَ مَكَانُ الْمُرَابَطَةِ رِبَاطًا قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ هِيَ الْمُرَابَطَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِأَنَّهَا تَسُدُّ طُرُقَ الشَّيْطَانِ عَلَى النَّفْسِ وَتَقْهَرُ الْهَوَى وَتَمْنَعُهَا مِنْ قَبُولِ الْوَسَاوِسِ فَيَغْلِبُ بِهَا حِزْبُ اللَّهِ جُنُودَ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ.

283 - وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: ( «فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ) رَدَّدَ مَرَّتَيْنِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 283 - (وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: ( «فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» ) قِيلَ: اسْمُ الْإِشَارَةِ يَدُلُّ عَلَى بُعْدِ مَنْزِلَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِيقَاعُ الرِّبَاطِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ خَبَرًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَيْ: هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى رِبَاطًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] كَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ، وَلِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ (رَدَّدَ مَرَّتَيْنِ) : أَيْ: كَرَّرَ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ الرِّبَاطُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] وَالرِّبَاطُ (الْجِهَادُ أَيْ ثَوَابُ هَذِهِ كَثَوَابِ الْجِهَادِ إِذْ فِيهِ مُجَاهَدَةُ

النَّفْسِ بِإِذَاقَتِهَا الْمَكَارِهَ وَالشَّدَائِدَ كَمَا فِي الْجِهَادِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: ثَلَاثًا) أَيْ: كَرَّرَهُ ثَلَاثًا لِأَجْلِ زِيَادَةِ الْحَثِّ، وَقِيلَ: يُرِيدُ بِالْأَوَّلِ رَبْطُ الْخَيْلِ، وَبِالثَّانِي جِهَادُ النَّفْسِ، وَبِالثَّالِثِ طَلَبُ الْحَلَالِ.

284 - وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ» : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 284 - (وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ بِمَنْزِلَةِ ثُمَّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْإِجَادَةَ مِنْ تَطْوِيلِ الْغُرَّةِ وَتَكْرَارِ الْغُسْلِ ثَلَاثًا وَمُرَاعَاةِ الْأَدَبِ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ مُطْلَقًا، وَفِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ مِنْ أَنَّ ثَوَابَ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ أَجْرِ النَّفْلِ: نَعَمْ يُقَالُ: إِحْسَانُ الْوُضُوءِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْمُكَمِّلَاتِ أَفْضَلُ مِنْ مَرْتَبَةِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ وَالْجَزَاءُ الْمَذْكُورُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الشَّرْطِ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، (خَرَجَتْ خَطَايَاهُ) تَمْثِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِبَرَاءَتِهِ، لَكِنَّ هَذَا الْعَامَّ خُصَّ بِالصَّغَائِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا سَيَأْتِي مَا لَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً، وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَنُوطَةٌ بِرِضَاهُمْ، كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ: أَنَّهُ بِظَاهِرِهِ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ الْقَاطِعِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَالتَّقْيِيدُ بِالتَّوْبَةِ فِي الثَّانِي مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ الْمَدْفُوعُ بِأَنَّ الشِّرْكَ أَيْضًا يُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ (مِنْ جَسَدِهِ) أَيْ: جَمِيعِ بَدَنِهِ أَوْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ ( «حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ» ) أَيْ: مَثَلًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَاقْتَصَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَالْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى عَزْوِهِ لِمُسْلِمٍ.

285 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ، خَرَجَ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 285 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ» ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ النُّبُوَّةِ وَإِلَّا فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي حُكْمِ الْمُؤْمِنِ (فَغَسَلَ وَجْهَهُ) : عَطْفٌ عَلَى تَوَضَّأَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ، أَوِ الْمُرَادُ إِذَا أَرَادَ الْوُضُوءَ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمَثُوبَةِ ( «خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ» ) جَوَابُ إِذَا ( «كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا» ) إِلَى الْخَطِيئَةِ يَعْنِي إِلَى سَبَبِهَا إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ مُبَالَغَةً (بِعَيْنَيْهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْكِيدٌ، وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَإِلَّا فَالنَّظَرُ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ الْعَيْنِ اهـ. وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّهُ مِنْ بَابِ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِنَظَرٍ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا (مَعَ الْمَاءِ) : أَيْ: مَعَ انْفِصَالِهِ وَالْجُمْلَةُ الْمَجْرُورَةُ الْمَحَلِّ صِفَةُ الْخَطِيئَةِ مَجَازًا، وَكَذَا أَخَوَاتُهُ (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) قِيلَ: أَوْ لِشَكِّ الرَّاوِي، وَقِيلَ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْقَطْرُ إِجْرَاءُ الْمَاءِ وَإِنْزَالُ قَطْرِهِ (فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ) : أَيْ: ذَهَبَ وَمُحِيَ (كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا) : أَيْ: أَخَذَتْهَا (يَدَاهُ) كَمُلَامَسَةِ الْمُحَرَّمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: يَدَاهُ لِلتَّأْكِيدِ وَفِيهِ مَا سَبَقَ (مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا: الضَّمِيرُ لِلْخَطِيئَةِ وَنُصِبَتْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: مَشَتْ بِهَا

إِلَى الْخَطِيئَةِ أَوْ يَكُونُ مَصْدَرًا أَيْ: مَشَتِ الْمِشْيَةَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ) أَيِ اجْعَلِ الْجَعْلَ. (رِجْلَاهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْكِيدٌ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ (مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ) أَيْ: ذُنُوبِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ مِنَ الصَّغَائِرِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يَفْرُغُ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ وُضُوئِهِ طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ أَيِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَغْفُورَ ذُنُوبُ أَعْضَائِهِ الْمَغْسُولَةِ، فَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ غُفْرَانَ جَمِيعِ الْجَسَدِ يَكُونُ عِنْدَ التَّوَضُّؤِ بِالتَّسْمِيَةِ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِحْسَانُ الْوُضُوءِ وَغُفْرَانُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ نَصٌّ عَلَى غُفْرَانِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ جَسَدِهِ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، أَوْ أَعْضَاءَ الْوُضُوءَ يُشِيرُ إِلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ لِكُلِّ عُضْوٍ مَا يُخَصُّ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا يُزِيلُهَا عَنْ ذَلِكَ وَالْوَجْهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ فَلِمَ خُصَّتِ الْعَيْنُ بِالذِّكْرِ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْعَيْنَ طَلِيعَةُ الْقَلْبِ وَرَائِدُهُ، فَإِذَا ذُكِرَتْ أَغْنَتْ عَنْ سَائِرِهَا، وَيُعَضِّدُهُ الْخَبَرُ الْآتِي: فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَنْفَ وَاللِّسَانَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالْأُذُنَ بِالْمَسْحِ فَيَتَعَيَّنُ الْعَيْنُ وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مَا هُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ، أَوْ يُقَالُ: خُصَّتِ الْعَيْنُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَدَمُ خُرُوجِ ذُنُوبِهَا لِعَدَمِ غَسْلِ دَاخِلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ ذَكَرَ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلِي حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الطِّيبِيِّ: وَجَعْلُ الْأُذُنِ مِنَ الْوَجْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا، بَلْ هِيَ لَيْسَتْ مِنَ الْوَجْهِ وَلَا مِنَ الرَّأْسِ وَخَبَرُ «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» ضَعِيفٌ، وَكَوْنُ الْعَيْنِ طَلِيعَةً كَمَا ذُكِرَ لَا يُنْتِجُ الْجَوَابَ عَنْ تَخْصِيصِ خَطِيئَتِهَا بِالْمَغْفِرَةِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ، بَلِ الَّذِي يَتَّجِهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّخْصِيصِ هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَمِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ لَهُ طَهَارَةٌ مَخْصُوصَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ طَهَارَةِ الْوَجْهِ، فَكَانَتْ مُتَكَلِّفَةً بِإِخْرَاجِ خَطَايَاهُ بِخِلَافِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا طَهَارَةٌ إِلَّا فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فَخُصَّتْ خَطِيئَتُهَا بِالْخُرُوجِ عِنْدَ غَسْلِهِ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّا ذُكِرَ فَتَأَمَّلْهُ اهـ. وَقَوْلُهُ: خَبَرُ الْأُذُنَانِ ضَعِيفٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» ) أَيْ حُكْمُهُمَا إِذْ لَمْ يُبْعَثْ لِبَيَانِ الْخِلْقَةِ، وَقَدْ نَصَّ «ابْنُ الْقَطَّانِ» عَلَى صِحَّتِهِ أَيْضًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

286 - وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 286 - (وَعَنْ عُثْمَانَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّصِّ عَلَى الْعُمُومِ ( «تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ» ) : أَيْ: مَفْرُوضَةٌ أَيْ يَأْتِي وَقْتُهَا أَوْ يَقْرُبُ دُخُولُ وَقْتِهَا ( «فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا» ) : بِأَنْ يَأْتِيَ بِفَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ (وَخُشُوعَهَا) : بِإِتْيَانِ كُلِّ رُكْنٍ عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَكْثَرُ تَوَاضُعًا وَإِخْبَاتًا، أَوْ خُشُوعُهَا خَشْيَةُ الْقَلْبِ وَإِلْزَامُ الْبَصَرِ مَوْضِعَ السُّجُودِ، وَجَمْعُ الْهِمَّةِ لَهَا وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهَا وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ يَتَوَقَّى كَفَّ الثَّوْبِ وَالِالْتِفَاتِ وَالْعَبَثِ وَالتَّثَاؤُبِ وَالتَّغْمِيضِ وَنَحْوِهَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] وَهُوَ يَكُونُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَنْ كَانَ يَعْبَثُ فِي الصَّلَاةِ بِلِحْيَتِهِ أَوْ ثَوْبِهِ ( «لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» (وَرُكُوعَهَا) ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الرُّكُوعِ

عَنِ السُّجُودِ لِأَنَّهُمَا رُكْنَانِ مُتَعَاقِبَانِ، فَإِذَا حُثَّ عَلَى إِحْسَانِ أَحَدِهِمَا حُثَّ عَلَى الْآخَرِ، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَشَدُّ فَافْتُقِرَ إِلَى زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ، لِأَنَّ الرَّاكِعَ يَحْمِلُ نَفْسَهُ فِي الرُّكُوعِ وَيَتَحَامَلُ فِي السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا خُصَّ الرُّكُوعُ بِالذِّكْرِ دُونَ السُّجُودِ! لِاسْتِتْبَاعِهِ السُّجُودَ، إِذْ لَا يَسْتَقِلُّ عِبَادَةً وَحْدَهُ بِخِلَافِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِلُّ عِبَادَةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: تَخْصِيصُ الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادَ التَّحْرِيضَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْأَغْلَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ مَرْيَمَ: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] قِيلَ: أُمِرَتْ أَنْ تَرْكَعَ مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَلَا تَكُنْ مَعَ مَنْ لَا يَرْكَعُ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْقَادِي وَصَلِّي مَعَ الْمُصَلِّينَ فَحِينَئِذٍ لَا إِشْكَالَ (إِلَّا كَانَتْ) : أَيِ: الصَّلَاةُ (كَفَّارَةً) : أَيْ: سَاتِرَةً (لِمَا قَبْلَهَا) : أَيْ: لِجَمِيعِ مَا قَبْلَهَا (مِنَ الذُّنُوبِ) : وَإِذَا أَتَى الْكَبِيرَةَ لَمْ يَكُنْ كَفَّارَةً لِلْجَمِيعِ، وَلِذَا قَالَ (مَا لَمْ يُؤْتِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ مَعْلُومًا مِنَ الْإِيتَاءِ، وَقِيلَ: مَجْهُولٌ أَيْ مَا لَمْ يَعْمَلْ (كَبِيرَةً) بِالنَّصْبِ لَا غَيْرَ كَانَ الْفَاعِلُ يُعْطَى الْعَمَلَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ يُعْطِيهِ غَيْرَهُ مِنَ الدَّاعِي، أَوِ الْمُحَرِّضِ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُمَكِّنِ لَهُ مِنْهُ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} [الأحزاب: 14] بِالْمَدِّ لَأَعْطَوْهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي نُسْخَةٍ: مَا لَمْ يَأْتِ مِنَ الْإِتْيَانِ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ أَيْ: مَا دَامَ لَمْ يَعْمَلْ كَبِيرَةً قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِثْبَاتُ يَأْتِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ فِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مَفَارِيدِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يَرْوِهِ إِلَّا مِنَ الْإِتْيَانِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْتِ أَوْضَحَ مَعْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ: أَتَى فُلَانٌ مُنْكَرًا لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ جِهَةِ الرَّاوِيَةِ الْإِيتَاءُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى مَا لَمْ يَعْمَلْ كَبِيرَةً وَضَعَ الْإِيتَاءَ مَوْضِعَ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَامِلَ يُعْطِي الْعَمَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مَا لَمْ يُصَبْ بِكَبِيرَةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: أُتِيَ فُلَانٌ فِي بَدَنِهِ أَيْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (وَذَلِكَ) أَيِ: التَّكْفِيرُ بِسَبَبِ الصَّلَاةِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَذُو الْحَالِ مُسْتَتِرٌ فِي خَبَرِ كَانَتْ وَهُوَ كَفَّارَةٌ قَالَ الطِّيبِيُّ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ (الدَّهْرَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ أَيْ: حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الدَّهْرِ (كُلَّهُ) : تَأْكِيدٌ لَهُ أَيْ: لَا وَقْتٌ دُونَ وَقْتٍ قَالَ الْأَشْرَفُ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ إِمَّا تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ أَيْ تَكْفِيرُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّغَائِرَ لَا يَخْتَصُّ بِفَرْضٍ وَاحِدٍ، بَلْ فَرَائِضُ الدَّهْرِ تُكَفِّرُ صَغَائِرَهُ، وَأَمَّا مَعْنَى مَا لَمْ يُؤْتِ أَيْ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِالْكَبِيرَةِ فِي الدَّهْرِ كُلِّهِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْمَكْتُوبَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَأَمَّا مَا قِيلَ أَيِ الْمَكْتُوبَةُ تُكَفِّرُ مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ذُنُوبُ الْعُمْرِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا وَرَدَ: ( «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» ) وَانْتَصَبَ الدَّهْرُ بِالظَّرْفِيَّةِ أَيْ: وَذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ الدَّهْرِ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَفَّارَةٌ لِمَا قَبْلَهَا إِلَخْ، أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا تُغْفَرُ إِلَّا الْكَبَائِرَ فَإِنَّهَا لَا تُغْفَرُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يُغْفَرُ شَيْءٌ مِنَ الصَّغَائِرِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَلَا يُذْهَبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا أَشْبَهَهُ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ فَإِنْ وُجِدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنَ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ، وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً وَلَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً يَعْنِي غَيْرَ مُكَفَّرَةٍ رَجَوْنَا أَنْ يُخَفَّفَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَإِلَّا كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَ بِهِ دَرَجَاتٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقَوْلُ الْأَشْرَفِ: أَيِ الْمَكْتُوبَةُ تُكَفِّرُ مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ذُنُوبُ الْعُمْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَتَأَمَّلْهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

287 - وَعَنْهُ، أَنَّهُ «تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: (مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا بِشَيْءٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 287 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ عُثْمَانَ (أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ) : مِنَ الْإِفْرَاغِ عُطِفَ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ أَيْ: صَبَّ الْمَاءَ (عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا) : أَيْ: فَغَسَلَهُمَا إِلَى رُسْغَيْهِ (ثُمَّ تَمَضْمَضَ) : أَيْ: رَدَّدَ الْمَاءَ فِي فَمِهِ (وَاسْتَنْثَرَ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْثَارَ هُوَ إِخْرَاجُ الْمَاءِ مِنَ الْأَنْفِ بَعْدَ الِاسْتِنْشَاقِ، وَهُوَ جَذْبُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إِلَى الْأَقْصَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى اسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّثْرَةِ طَرَفِ الْأَنْفِ وَقَدْ

أَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمُسْتَوْعِبَةِ لِلْعُضْوِ، وَإِذَا لَمْ يُسْتَوْعَبْ إِلَّا بِغُرْفَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَلَمْ يُذْكَرِ الْعَدَدُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، فَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ اهـ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْمَسْحِ يُفْضِي إِلَى الْغُسْلِ. (ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا) : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ لِكُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ (ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَضُبِطَ بِالْعَكْسِ أَيْضًا (ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا: مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّيَامُنِ، وَإِلَى بِمَعْنَى (مَعَ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ (ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ) : أَيْ: بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ وَالظَّاهِرُ الْأَخِيرُ (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا، وَلَيْسَتْ ثُمَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِلتَّرَاخِي الْمُنَافِي لِلْمُوَالَاةِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ (ثُمَّ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا» ) : لَمْ يَقُلْ مِثْلَهُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مُمَاثَلَةِ وُضُوئِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ. هَذَا كَلَامُ النَّوَوِيِّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَعَقُّبِهِ بِقَوْلِهِ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا» ) أَيْ مِثْلَهُ صَرِيحٌ فِي رَدِّهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ فِي شَيْءٍ الْمُمَاثَلَةُ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِهِ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ، بَلْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ كَلَامَ النَّوَوِيِّ إِنَّهُ آثَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَفْظَ نَحْوِهِ عَلَى مِثْلِهِ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِخِلَافِ مِثْلِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ فِي الْأَغْلَبِ سِيَّمَا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ رُوِيَ مِثْلُهُ أَيْ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِذَا قِيلَ: رُوِيَ نَحْوُهُ أَيْ مَعْنًى لَا لَفْظًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا لَيْسَ الْمُرَادُ إِلَّا نَحْوَهُ بِالْإِجْمَاعِ فَتَقْدِيرُ مِثْلِهِ مِنْهُ مَرْدُودٌ بِلَا نِزَاعٍ فَإِنَّ عُثْمَانَ مَعَ جَلَالَتِهِ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَيَرْضَى كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِنَحْوِهِ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ سُنَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعِزُّ عَلَى أَكْثَرِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ وَالسُّوقَةِ. (ثُمَّ قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ ( «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا» ) أَيْ جَامِعًا لِفَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ (ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَ كُلِّ وُضُوءٍ وَلَوْ صَلَّى فَرِيضَةً حَصُلَتْ لَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ كَمَا تَحْصُلُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ بِذَلِكَ (لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ) : أَيْ: لَا يُكَلِّمُهَا (فِيهِمَا بِشَيْءٍ) مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، وَلَوْ عَرَضَ لَهُ حَدِيثٌ فَأُعْرِضَ عَنْهُ عُفِيَ لَهُ ذَلِكَ وَحَصُلَتْ لَهُ الْفَضِيلَةُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَفَا عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَوَاطِرَ الَّتِي تَعْرِضُ وَلَا تَسْتَقِرُّ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقِيلَ: أَيْ بِشَيْءٍ غَيْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ صَلَاتِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْآخِرَةِ وَقِيلَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يُجَهِّزُ الْجَيْشَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ يَعْنِي يَكُونُ قَلْبُهُ حَاضِرًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِخْلَاصُ الصَّلَاةِ لِلَّهِ يَعْنِي لَا تَكُونُ صَلَاتُهُ لِلرِّيَاءِ وَالطَّمَعِ (غُفِرَ لَهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) : أَيْ: مِنَ الصَّغَائِرِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْغُفْرَانَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوُضُوءِ مَعَ الصَّلَاةِ. وَمِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ تَرَتُّبُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الْوُضُوءِ لِمَزِيدِ فَضْلِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِيهِ أَنَّ لِلصَّلَاةِ مَزِيَّةً عَلَى الْوُضُوءِ دُونَ الْعَكْسِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ، فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ وَشَرْطٌ لَهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُكَفِّرٌ أَوِ الْوُضُوءُ الْمُجَرَّدُ مُكَفِّرٌ لِذُنُوبِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَمَعَ الصَّلَاةِ مُكَفِّرٌ لِذُنُوبِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، أَوِ الْوُضُوءُ مُكَفِّرٌ لِلذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ، وَمَعَ الصَّلَاةِ مُكَفِّرٌ لِلذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ) .

288 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلًا عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 288 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ» ) : أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: أَيْ بِأَنْ يَأْتِيَ بِوَاجِبَاتِهِ وَيَحْتَمِلَ مُكَمِّلَاتِهِ اهـ. فَإِنَّ إِحْسَانَ الْوُضُوءِ بَعْدَ التَّوَضُّؤِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمُكَمِّلَاتِ مَعَ أَنَّ فِي لَفْظِهِ الْإِحْسَانَ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِ (ثُمَّ يَقُومُ) : أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا سِيَّمَا إِذَا كَانَ يُعْذَرُ فَإِطْلَاقُهُ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ لَا أَنَّهُ قَيْدٌ احْتِرَازِيٌّ، وَثُمَّ لِلتَّرَقِّي (فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا) : أَيْ: عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ (بِقَلْبِهِ) : أَيْ: بَاطِنِهِ (وَوَجْهِهِ) : أَيْ ظَاهِرِهِ أَوْ ذَاتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مُقْبِلٌ، وُجِدَ بِالرَّفْعِ فِي الْأُصُولِ وَفِي

بَعْضِ النُّسَخِ مُقْبِلًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ يَعْنِي حَالَ كَوْنِهِ مُتَوَجِّهًا، وَكَوْنُهُ مَرْفُوعًا مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ إِمَّا صِفَةٌ لِمُسْلِمٍ عَلَى أَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ فَفِيهِ فَصْلٌ، وَإِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ لِعَدَمِ الْوَاوِ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ فُوهٍ إِلَى فِي، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ مُبَالَغَةً اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ صِفَةُ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ الْفَصْلُ أَجْنَبِيًّا (إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ بِحَيْثُ لَا يُخَالِفُ وَعْدَهُ أَلْبَتَّةَ كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

289 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» . هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحِمْيَرِيُّ فِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ. وَكَذَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي آخِرِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ» . وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي الصِّحَاحِ: ( «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ» ) إِلَى آخِرِهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي (جَامِعِهِ) بِعَيْنِهِ إِلَّا كَلِمَةَ (أَشْهَدُ) فِي (أَنَّ مُحَمَّدًا) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 289 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْكُمْ) : مِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَقِيلَ تَبْعِيضِيَّةٌ وَهُوَ حَالٌ عَلَى ضَعْفٍ (مِنْ أَحَدٍ) : الَّذِي هُوَ مُبْتَدَأٌ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، وَمِنْ زَائِدَةٌ (يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ) : مِنَ الْإِبْلَاغِ (- أَوْ فَيُسْبِغُ -) : مِنَ الْإِسْبَاغِ، وَهُوَ لِلشَّكِّ (الْوَضُوءَ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقِيلَ بِالضَّمِّ أَيْ: مَاءُ الْوُضُوءِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: أَنْ يَأْتِيَ بِوَاجِبَاتِهِ وَيَحْتَمِلَ مُكَمِّلَاتِهِ اهـ. لِأَنَّ عَطْفَ الْإِبْلَاغِ وَالْإِسْبَاغِ عَلَى التَّوَضُّؤِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِرَادَةِ الْمُكَمِّلَاتِ فَإِنَّ أَصْلَ الْوُضُوءِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْوَاجِبَاتِ (ثُمَّ يَقُولُ) : أَيْ: عَقِيبَ وُضُوئِهِ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُ الشَّهَادَتَيْنِ عُقَيْبِ الْوُضُوءِ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَطَهَارَةُ الْقَلْبِ مِنَ الشِّرْكِ وَالرِّيَاءِ بَعْدَ طَهَارَةِ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخُبْثِ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ عَقِيبَ الْوُضُوءِ كَلِمَتَا الشَّهَادَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِمَا مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيُّ ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ» ) وَيُضَمُّ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرْفُوعًا: ( «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» ) قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتُسْتَحَبُّ هَذِهِ الْأَذْكَارُ لِلْمُغْتَسِلِ أَيْضًا اهـ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِمُسْلِمٍ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) : أَيْ: وَاحِدًا بِالذَّاتِ مُنْفَرِدًا بِالصِّفَاتِ (لَا شَرِيكَ لَهُ) فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ (وَأَشْهَدُ) : وَلَعَلَّ تَكْرَارَهُ هُنَا لِطُولِ الْفَصْلِ (أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ) الْأَفْضَلُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْحُمَيْدِيُّ فِي (أَفْرَادِ مُسْلِمٍ) وَكَذَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي (جَامِعِ الْأُصُولِ) وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي آخِرِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ» ) . وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي الصِّحَاحِ: ( «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ» ) إِلَى آخِرِهِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي (جَامِعِهِ) بِعَيْنِهِ إِلَّا كَلِمَةَ (أَشْهَدُ) قَبْلَ (أَنَّ مُحَمَّدًا) (وَرَسُولُهُ) : الْأَكْمَلُ (إِلَّا فُتِحَتْ) : بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ (لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ) : بِالرَّفْعِ (يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ) : الْأَظْهَرُ أَنَّهَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِصِحَّةِ قِيَامِ " لِيَدْخُلَ " مَقَامَهَا. قِيلَ: فَيُخَيَّرُ إِظْهَارًا لِمَزِيدِ شَرَفِهِ، لَكِنَّهُ لَا يُلْهَمُ إِلَّا اخْتِيَارَ الدُّخُولِ مِنَ الْبَابِ الْمُعَدِّ لِعَامِلِي نَظِيرِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِ كَالرَّيَّانِ لِلصَّائِمِينَ. (هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْحُمَيْدِيُّ فِي إِفْرَادِ مُسْلِمٍ وَكَذَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ. (وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ) : لَا يُنَافِي مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَجْعَلُ فِي حِلٍّ مَنْ يُسَمِّينِي مُحْيِي الدِّينِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ (النَّوَوِيُّ) : بِوَاوَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُونَ النَّوَاوِيُّ بِالْأَلِفِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى نَوَى قَرْيَةٌ قُرْبَ دِمَشْقَ كَذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي آخِرِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ) : مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَقِيلَ مَجْهُولٌ أَيْ: عَلَى وَقْفِهِ (وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ) هَذَا مَذْكُورُ النَّوَوِيِّ ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ

التَّوَّابِينَ» ) : أَيْ: لِلذُّنُوبِ وَالرَّاجِعِينَ عَنِ الْعُيُوبِ، وَلَيْسَ فِيهِ دُعَاءً صَرِيحًا وَلَا لُزُومًا بِإِكْثَارِ وُقُوعِ الذُّنُوبِ مِنْهُ، بَلْ بِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ ذَنْبٌ أُلْهِمَ التَّوْبَةَ عَنْهُ، وَإِنْ كَثُرَ وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ كَمَا وَرَدَ: «كُلُّكُمْ خَطَّاءُونَ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» . وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] أَيِ الَّذِينَ لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ بَابِ مَوْلَاهُمْ، وَلَمْ يَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ( «وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ» ) : أَيْ: بِالْخَلَاصِ مِنْ تَبِعَاتِ الذُّنُوبِ السَّابِقَةِ، وَعَنِ التَّلَوُّثِ بِالسَّيِّئَاتِ اللَّاحِقَةِ، أَوْ مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَيَكُونُ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ طَهَارَةَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ لَمَّا كَانَتْ بِيَدِنَا طَهَّرْنَاهَا، وَأَمَّا طَهَارَةُ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّمَا هِيَ بِيَدِكَ فَأَنْتَ تُطَهِّرُهَا بِفَضْلِكَ وَكَرَمِكَ. (وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُحْيِي السُّنَّةِ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (فِي الصِّحَاحِ) ( «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ» إِلَى آخِرِهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، ثُمَّ قَالَ: ( «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» رَوَاهُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ اهـ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِعَيْنِهِ إِلَّا كَلِمَةَ " أَشْهَدُ " قَبْلَ أَنَّ مُحَمَّدًا) وَالْحَاصِلُ وُرُودُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ حَيْثُ ذَكَرَ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ فِي الصِّحَاحِ لِإِيهَامِهَا أَنَّهُ كُلَّهُ فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ وَمُنْقَطِعٌ، وَإِلْحَاقُ الضَّعِيفِ بِالصَّحِيحِ غَيْرُ مَقْبُولٍ مَعَ تَغْيِيرِ الْعِبَارَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى.

290 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ. فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 290 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ أُمَّتِي) : يَعْنِي أُمَّةَ الْإِجَابَةِ بَلِ الْخَوَاصَّ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْعِبَادَةِ (يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: يُسَمَّوْنَ (غُرًّا مُحَجَّلِينَ) وَقِيلَ يُنَادَوْنَ: أَيُّهَا الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ هَلُمُّوا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقِيلَ يُدْعَوْنَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، أَوْ يُطْلَبُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ أَوْ إِلَى الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِمْ غُرًّا مُحَجَّلِينَ. قَالَ الْأَشْرَفُ: الْغُرُّ جَمْعُ الْأَغَرِّ وَهُوَ الْأَبْيَضُ الْوَجْهِ، وَالْمُحَجَّلُ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي قَوَائِمُهَا بِيضٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَجَلِ، وَهُوَ الْقَيْدُ كَأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْبَيَاضِ، وَأَصْلُ هَذَا فِي الْخَيْلِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ أَوْ إِلَى الْجَنَّةِ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الْحَالِ إِذَا كَانَ يُدْعَوْنَ بِمَعْنَى يُنَادَوْنَ أَوْ يُطْلَبُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غُرًّا مَفْعُولًا ثَانِيًا لِيُدْعَوْنَ بِمَعْنَى يُسَمَّوْنَ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُدْعَى لَيْثًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ بِهَذَا الِاسْمِ لِمَا يُرَى عَلَيْهِمْ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَالْمَعْنَى هُوَ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ» ) لِأَنَّهَا الْعَلَامَةُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ وَقِيلَ: لَا يَبْعُدُ التَّسْمِيَةُ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الظَّاهِرِ كَمَا يُسَمَّى رَجُلٌ بِهِ حُمْرَةٌ أَحْمَرُ لِلْمُنَاسَبَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُوَ الشُّهْرَةُ وَالتَّمْيِيزُ ( «مِنْ آثَارِ الْوَضُوءِ» ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي وَصَلَ إِلَى أَعْضَاءِ الْمُتَوَضِّئِ، وَقِيلَ بِالضَّمِّ قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَلَكِنَّ الْفَتْحَ هُوَ أَصْلُ السَّيِّدِ وَهُوَ أَظْهَرُ مَعْنًى ( «فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ» ) : أَيْ: وَتَحْجِيلَهُ بِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَحُذِفَ اكْتِفَاءً (فَلْيَفْعَلْ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: قَوْلُهُ: فَمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَخْ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامٍ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ اهـ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: لَا أَدْرِي قَوْلَهُ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَخْ. مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِمَّنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ عَشْرَةٌ وَلَا مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرَ رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ هَذِهِ وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَدَعْوَى أَنَّ: فَمِنْ. . إِلَخْ، مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَا يَسُنُّ غُرَّةً وَلَا تَحْجِيلَ، يَرُدُّهَا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِدْرَاجِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ إِذْ لَوْ كَانَ ثَمَّةَ إِدْرَاجٍ لَبَيَّنَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي طَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ

وَاحْتِمَالُهُ لَا يُجْدِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ كَلَامَ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ تَحَقُّقٌ مِنَ اصْطِلَاحِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ الْمُسْتَدِلِّينَ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِهِ: فَمَنِ اسْتَطَاعَ. . إِلَخْ. مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَسُنَّ غُرَّةً وَلَا تَحْجِيلَ فَإِنَّ اسْتِحْبَابَهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( «يُدْعَوْنَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ» ) وَيُعْلَمُ إِطَالَتُهُ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي. وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ حُفَّاظَ الْحَدِيثِ إِذَا قَالُوا فِي كَلَامٍ أَنَّهُ مُدْرَجٌ أَوْ مَوْقُوفٌ وَجَبَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مُتَابَعَتُهُمْ، بَلْ إِذَا تَرَدَّدُوا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ أَوْ مَرْفُوعٌ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مَرْفُوعًا مَجْزُومًا بِهِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ الْفِقْهِيَّةَ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَبَيَّنَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، غَيْرُ مُتَّجِهٍ إِذِ الْكَلَامُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ، فَكَيْفَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَوْلُهُ أَوْ قَوْلُ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا بَيَّنَهُ مَنْ بَعْدَهُ، وَيَكْفِي تَرَدُّدُ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهُوَ نُعَيْمٌ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ مَوْقُوفًا أَوْ مَرْفُوعًا، مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ شُذُوذِهِ وَانْفِرَادِهِ عَمَّنْ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ سَائِرِ الطُّرُقِ الْوَاصِلَةِ إِلَى حَدِّ الْعَشَرَةِ الْكَامِلَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

291 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنَ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 291 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ) : أَيِ: الْبَيَاضُ، وَقِيلَ الزِّينَةُ فِي الْجَنَّةِ ( «مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ» ) : بِالْفَتْحِ أَيْ: مَاؤُهُ، وَقِيلَ بِالضَّمِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ضُمِّنَ " يَبْلُغُ " مَعْنَى " يَتَمَكَّنُ " وَعُدِّيَ بِمِنْ أَيْ تَتَمَكَّنُ مِنَ الْمُؤْمِنَ الْحِلْيَةُ مَبْلَغًا يَتَمَكَّنُهُ الْوُضُوءُ مِنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدِ اسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الْوُضُوءُ مُخْتَصًّا وَإِنَّمَا الْمُخْتَصُّ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» ) وَرُدَّ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ مَعْرُوفُ الضَّعْفِ، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ الْأُمَمِ، لَكِنْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ سَارَةَ وَجُرَيْجًا تَوَضَّأَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَخْتَصَّ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 292 - عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ) رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 292 - (عَنْ ثَوْبَانَ) : مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ثَوْبَانُ بْنُ بُجْدُدٍ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، اشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْتَقَهُ وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ سَفَرًا وَحَضَرًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَنَزَلَ إِلَى الرَّمْلَةِ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حِمْصَ وَتُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقِيمُوا) : قَالَ الْقَاضِي: الِاسْتِقَامَةُ اتِّبَاعُ الْحَقِّ وَالْقِيَامُ بِالْعَدْلِ وَمُلَازِمَةُ الْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ وَذَلِكَ خَطْبٌ جَسِيمٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْأَمْرُ بِالْمُسْتَطَاعِ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ (وَلَنْ تُحْصُوا) : أَيْ: لَنْ تُطِيقُوا أَنْ تَسْتَقِيمُوا حَقَّ الِاسْتِقَامَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خَطْبٌ عَظِيمٌ وَتَوْفِيَةُ حَقِّهَا عَلَى الدَّوَامِ عُسْرٌ، وَكَانَ الْقَصْدُ فِيهِ التَّنْبِيهَ لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى رُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْجِدِّ لِكَيْلَا يَتَّكِلُوا عَلَى مَا يَأْتُونَ بِهِ وَلَا يَغْفَلُونَ عَنْهُ، وَلَا يَيْأَسُوا مِنْ رَحْمَتِهِ فِيمَا يَذَرُونَ عَجْزًا لَا تَقْصِيرًا، وَقِيلَ: لَنْ تُحْصُوا أَيْ ثَوَابَهَا مِنَ الْإِحْصَاءِ وَهُوَ الْعَدُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِحْصَاءُ التَّحْصِيلُ بِالْعَدِّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَصَى لِاسْتِعْمَالِهِمْ ذَلِكَ فِيهِ كَاعْتِمَادِنَا عَلَى الْأَصَابِعِ اهـ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَنْ تُطِيقُوا وَلَكِنِ ابْذُلُوا جُهْدَكُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُونَ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَبْذُلُ جُهْدَهُ يَصِلُ إِلَى غَايَتِهَا (وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ) أَيْ أَفْضَلُهَا وَأَتَمُّهَا دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِقَامَةِ (الصَّلَاةُ) : أَيِ: الْمَكْتُوبَةُ: أَوْ جِنْسُهَا لِأَنَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ شَيْئًا كَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهِيَ أُمُّ الْعِبَادَاتِ وَنَاهِيَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ (وَلَا يُحَافِظُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ أَيْ لَا يُوَاظِبُ (عَلَى الْوُضُوءِ) حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا لِيَشْمَلَ حَالَةَ النَّوْمِ (إِلَّا مُؤْمِنٌ) : الْمُرَادُ الْجِنْسُ وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ: لَا يُدَاوِمُ عَلَيْهِ إِلَّا مُؤْمِنٌ كَامِلٌ فِي إِيمَانِهِ دَائِمُ الشُّهُودِ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ فِي حَضْرَةِ رَبِّهِ، لِأَنَّ الْحُضُورَ فِي الْحَضْرَةِ الْقُدْسِيَّةِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ بَعِيدٌ مِنَ الْآدَابِ، بَلْ صَاحِبُهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُطْرَدَ مِنَ الْبَابِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ ثَوْبَانَ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَالطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُبَادَةَ وَلَفْظُهُمَا: ( «اسْتَقِيمُوا وَنِعِمَّا إِنِ اسْتَقَمْتُمْ وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» ) الْحَدِيثَ.

293 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ، كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 293 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ، كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ إِذَا كَانَ قَدْ صَلَّى بِالْوُضُوءِ الْأَوَّلِ صَلَاةً وَكَرِهَهُ قَوْمٌ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِالْأَوَّلِ صَلَاةً ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَا يُسْتَحَبُّ قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي مَعْنَاهَا الطَّوَافَ وَالتِّلَاوَةَ، وَلَعَلَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ هُوَ الْإِسْرَافُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 294 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ الصَّلَاةُ وَمِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 294 - (عَنْ جَابِرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ الصَّلَاةُ» ) أَيْ: مِفْتَاحُ دَرَجَاتِهَا وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِفْتَاحَهَا كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ ( «وَمِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ» ) : بِالضَّمِّ وَيُفْتَحُ أَيْ: مِفْتَاحُهَا الْأَعْظَمُ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ شُرُوطِهَا قَالَ الطِّيبِيُّ: فَكَمَا لَا تَتَأَتَّى الصَّلَاةُ بِدُونِ الْوُضُوءِ كَذَلِكَ لَا يَتَهَيَّأُ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِدُونِ الصَّلَاةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يُكَفِّرُ تَارِكَ الصَّلَاةِ وَأَنَّهَا الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ حَثٌّ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا مِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا قَطُّ فَإِنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عَذَابٍ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ. قُلْتُ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

295 - وَعَنْ شَبِيبِ بْنِ أَبِي رَوْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَقَرَأَ الرُّومَ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الطَّهُورَ؟ ! وَإِنَّمَا يُلَبِّسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ أُولَئِكَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 295 - (وَعَنْ شَبِيبِ بْنِ أَبِي رَوْحٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِدُونِ ابْنٍ قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَبُو رَوْحٍ شَبِيبُ بْنُ نُعَيْمٍ، وَيُقَالُ ابْنُ أَبِي رَوْحٍ، وُحَاظِيٌّ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ مِنْ تَابِعِي الشَّامِيِّينَ، رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ مَعَ قِلَّتِهِ، وَرَوْحٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَنُعَيْمٌ بِضَمِّ النُّونِ اهـ. وَشَبِيبٌ كَحَبِيبٍ، وَفِي التَّقْرِيبِ شَبِيبُ بْنُ نُعَيْمٍ أَبُو رَوْحٍ، ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ، وَأَخْطَأَ مَنْ عَدَّهُ فِي الصَّحَابَةِ اهـ. وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُؤَلِّفِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي أَسْمَائِهِ لَا فِي التَّابِعِينَ وَلَا فِي الصَّحَابَةِ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ، وَلِذَا جَهَالَتُهُ لَا تَضُرُّ رِوَايَتَهُ، وَقَالَ مِيرَكُ اسْمُهُ أَغَرُّ الْغِفَارِيُّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَقَرَأَ) : أَيْ: فِيهَا (الرُّومَ) : أَيْ: سُورَةَ الرُّومِ كُلِّهَا أَوْ بِضْعِهَا فِي رَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ (فَالْتَبَسَ) : أَيِ: الْقُرْآنُ أَوِ الرُّومُ يَعْنِي قِرَاءَتَهُ اشْتَبَهَتْ (عَلَيْهِ فَلَمَّا صَلَّى) : أَيْ: فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ (قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ) : أَيْ: مَا حَالُ جَمَاعَاتٍ ( «يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الطُّهُورَ» ؟) بِالضَّمِّ وَيُفْتَحُ أَيْ: لَا يَأْتُونَ بِوَاجِبَاتِهِ وَسُنَنِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى إِحْسَانِ الْوُضُوءِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السُّنَنَ وَالْآدَابَ مُكْمِلَاتٌ لِلْوَاجِبِ يُرْجَى بَرَكَتُهَا، وَفِي فُقْدَانِهَا سَدُّ بَابِ الْفُتُوحَاتِ الْغَيْبِيَّةِ، وَإِنَّ بَرَكَتَهَا تَسْرِي إِلَى الْغَيْرِ كَمَا أَنَّ التَّقْصِيرَ فِيهَا يَتَعَدَّى إِلَى حِرْمَانِ الْغَيْرِ. تَأَمَّلْ أَيُّهَا النَّاظِرُ إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَأَثَّرُ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ، فَكَيْفَ بِالْغَيْرِ مِنْ صُحْبَةِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ؟ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَرَزَقَنَا صُحْبَةَ الصَّالِحِينَ (وَإِنَّمَا يُلَبِّسُ) : بِالتَّشْدِيدِ (عَلَيْنَا الْقُرْآنَ) : أَيْ: يَخْلِطُهُ وَيُغَلِّطُهُ (أُولَئِكَ) : أَيِ: الَّذِينَ لَا يُحْسِنُونَ الطُّهُورَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

296 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ: عَدَّهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَدِي - أَوْ فِي يَدِهِ قَالَ: ( «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَمْلَؤُهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ، وَالطُّهُورُ نِصْفُ الْإِيمَانِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 296 - (وَعَنْ رَجُلٍ) : أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ (مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ) : مُصَغَّرًا (قَالَ: عَدَّهُنَّ) : أَيِ الْخِصَالَ الْآتِيَةَ، فَهُوَ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] وَالْمُفَسِّرُ هُنَا قَوْلُهُ: التَّسْبِيحُ إِلَخْ. (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَدِي) أَيْ: أَخَذَ أَصَابِعَ يَدِي، وَجَعَلَ يَعْقِدُهَا فِي الْكَفِّ خَمْسَ مَرَّاتٍ عَلَى عَدِّ الْخِصَالِ لِمَزِيدِ التَّفْهِيمِ وَالِاسْتِحْضَارِ (أَوْ فِي يَدِهِ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجُوزُ رَجْعُهُ إِلَى الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِلضَّمِيرِ الْمُبْهَمِ (التَّسْبِيحُ) : أَيْ: ثَوَابُهُ أَوْ نَفْسُهُ بِاعْتِبَارِ جِسْمِهِ ( «نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُهُ» ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ أَيِ: الْمِيزَانُ كُلُّهُ أَوْ نِصْفُهُ الْآخَرُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَ الْحَمْدُ ضِعْفُ التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنَ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ، وَالتَّسْبِيحُ مِنَ السَّلْبِيَّةِ (وَالتَّكْبِيرُ يَمْلَأُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) : أَيْ: جِنْسَيْهِمَا يَعْنِي ثَوَابَهُ أَنْ قُدِّرَ جِسْمًا يَمْلَأُهُمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: التَّكْبِيرُ أَنْ يَنْفِيَ عَنِ الْغَيْرِ صِفَةَ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، لِأَنَّ " أَفْعَلَ " مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَالْكِبْرِيَاءُ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى فَيَمْتَلِئُ الْعَارِفُ عِنْدَ ذَلِكَ هَيْبَةً وَجَلَالًا فَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا سِوَاهُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُشَاهِدُ كِبْرِيَاءَهُ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ ( «وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» ) : وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَةِ فَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ أَوِ الْمُصِيبَةِ أَوِ الصَّوْمُ صَبْرٌ عَنِ الْحَلْقِ وَالْفَرْجِ، فَبَقِي نِصْفُهُ الْآخَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَانَ وَجْهُهُ أَنَّ الصَّبْرَ إِمَّا بِالْبَاطِنِ وَإِمَّا بِالظَّاهِرِ، وَالصَّوْمُ جَامِعٌ لِصَبْرِ الْبَاطِنِ بِحِفْظِهِ عَنْ تَعَاطِي أَكْثَرِ الشَّهَوَاتِ، فَجُعِلَ نِصْفًا لِذَلِكَ اهـ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ أَحْوَالِ الْبَاطِنِ لَا غَيْرَ ( «وَالطَّهُورُ نِصْفُ الْإِيمَانِ» ) : وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلشَّطْرِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

297 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَمَضْمَضَ، خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ. وَإِذَا اسْتَنْثَرَ، خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ وَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ. فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ، خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ يَدَيْهِ. فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ، خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ. فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ، خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ رِجْلَيْهِ ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهُ نَافِلَةً لَهُ» ) رَوَاهُ مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 297 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ: بِضَمِّ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، مَنْسُوبٌ إِلَى صُنَابِحِ بْنِ ظَاهِرٍ بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ، وَحَدِيثُهُ أَنَّهُ هَاجَرَ مِنْ قَبْلِ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَصَلَ إِلَى الْجَحْفَةِ فَبَلَغَتْهُ وَفَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمَعْرُوفُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْكُنَى وَغَيْرِهَا فِي نَسَبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، وَعُسَيْلَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ فَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ سُكُونِ الْيَاءِ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: قِيلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عِنْدِي أَنَّ الصُّنَابِحِيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّابِعِيُّ لَا الصَّحَابِيُّ. قَالَ: وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَالصُّنَابِحِيُّ قَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ فِي الْمُوَطَّأِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ اهـ. قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ، لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ وَيُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ اهـ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَابِعِيُّ، فَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: مُرْسَلًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ) : أَيْ: أَرَادَ الْوُضُوءَ (فَمَضْمَضَ) أَيْ: غَسَلَ فَمَهُ

فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ الْمَضْمَضَةُ الْمَصْمَصَةُ، وَقِيلَ الْمُهْمَلَةُ بِطَرَفِ اللِّسَانِ وَالْمُعْجَمَةُ بِالْفَمِ كُلِّهِ وَفِي الْقَامُوسِ الْمَضْمَضَةُ أَيْ بِالْمُعْجَمَةِ تَحْرِيكُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ، فَزِيَادَةُ النُّقْطَةِ لِإِفَادَةِ النُّكْتَةِ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْمَضْمَضَةِ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّطْهِيرِ (خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ) : أَيْ: بَعْضُ الْخَطَايَا أَوِ الْخَطَايَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَمِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِالصَّغَائِرِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَإِذَا اسْتَنْثَرَ) : أَيْ: غَسَلَ أَنْفَهُ وَبَالَغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ قَالَ الطِّيبِيُّ: خُصَّ الِاسْتِنْثَارُ لِأَنَّ الْقَصْدَ خُرُوجُ الْخَطَايَا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلِاسْتِنْثَارِ لِأَنَّهُ إِخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ أَقْصَى الْأَنْفِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَخْدِشُهُ التَّعْبِيرُ بِالْمَضْمَضَةِ وَهِيَ لَا تَسْتَلْزِمُ إِخْرَاجَ مَاءٍ لِحُصُولِ أَصْلِ سُنَّتِهَا وَإِنِ ابْتَلَعَهُ فَيُسْتَفَادُ مِنْهَا حُصُولُ التَّكْفِيرِ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ، وَكَذَا الِاسْتِنْشَاقُ فَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِنْثَارِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الِاسْتِنْشَاقِ، إِذْ هُوَ إِخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ أَقْصَى الْأَنْفِ الْمُسْتَلْزِمِ لِمَزِيدِ تَنْظِيفِهِ مِنْ أَقْذَارِهِ الَّتِي لَا يُسْتَقْصَى إِخْرَاجُهَا كُلُّهَا إِلَّا بِهِ اهـ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ، بَلْ هُوَ عَيْنُهُ مَعَ زِيَادَةِ النُّكْتَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْمَقَامِ، وَلَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَضْمَضَةِ إِخْرَاجَ الْمَاءِ مِنَ الْفَمِ اكْتُفِيَ بِهِ بِخِلَافِ الِاسْتِنْشَاقِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالِاسْتِنْثَارِ (خَرَجَتِ الْخَطَايَا) : كَشَمِّ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ (مِنْ أَنْفِهِ) : أَيْ مَعَ الْمَاءِ (وَإِذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْفَاءِ ( «غَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ» ) : أَيْ: أَهْدَابِهِمَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَرَّ أَنَّ الْخَطَايَا إِنَّمَا تَخْرُجُ مِنْ عَيْنَيْهِ فَقَطْ، وَجَعْلُ الْخُرُوجِ مِنْهَا هُنَا غَايَةً يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ مَا هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ إِنِ اكْتَسَبَ بِمَا عَدَا فَمِهِ وَأَنْفِهِ وَعَيْنِهِ مِنْ بَقِيَّةِ وَجْهِهِ خَطِيئَةً خَرَجَتْ بِغَسْلِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُلَائِمُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ مِنْ ذَقْنِهِ (فَإِذَا) : هُنَا وَفِيمَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا غَيْرَ (غَسَلَ يَدَيْهِ) : أَيْ: إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ ( «خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ يَدَيْهِ. فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ» ) ظَاهِرُهُ الِاسْتِيعَابُ ( «خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ» ) بِضَمِّ الذَّالِ وَسُكُونِهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ وَأَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ بِمَائِهِ لَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَتَكَلَّفَ لَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا يَنْبُو عَنْهُ السَّمْعُ (فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ) : أَيْ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ ( «خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ رِجْلَيْهِ. ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهُ» ) : سَوَاءٌ كَانَتْ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً (نَافِلَةً لَهُ) أَيْ: زَائِدَةً عَلَى تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَهِيَ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. أَوْ زَائِدَةً عَنْ تَكْفِيرِ سَيِّئَاتِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَهِيَ لِسَيِّئَاتٍ أُخَرَ إِنْ وُجِدَتْ وَإِلَّا فَلِتَخْفِيفِ الْكَبَائِرِ ثُمَّ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِيمَا سَبَقَ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالنَّسَائِيُّ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

298 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا) قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ، بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟) قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 298 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى الْمَقْبَرَةَ) : بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَالْكَسْرُ قَلِيلٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَقْبَرَةُ الْبَقِيعِ (فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) : إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الزَّائِرَ وَيُدْرِكُونَ كَلَامَهُ وَسَلَامَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ السَّلَامَ عَلَى الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ سَوَاءٌ فِي تَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى عَلَيْكُمْ (دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) : نَصَبَ دَارَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوِ النِّدَاءِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ، وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْجَمَاعَةُ وَالْأَهْلُ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ الْمَنْزِلُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَحَدُ الْمَجَازَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ تَعْيِينُ التَّخْصِيصِ فِي الدُّعَاءِ لِأَهْلِ مَقْبَرَةٍ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ لَفْظًا أَوْ نِيَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» ) : فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ مَنْ يُحْسِنُ الْكَلَامَ بِهِ، الثَّالِثُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ عَلَى اللُّحُوقِ بِالْمَكَانِ الْمُتَبَرِّكِ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] (وَدِدْتُ) : بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ تَمَنَّيْتُ وَأَحْبَبْتُ (أَنَا) : أَيْ: أَنَا وَأَصْحَابِي (قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا) : تَمَنَّى رُؤْيَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ، وَقِيلَ: بَعْدَ الْمَمَاتِ (قَالُوا: أَوَلَسْنَا) : أَيْ: أَتَقُولُ هَذَا وَلَسْنَا (إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي) : لَيْسَ هَذَا نَفْيًا لِأُخُوَّتِهِمْ لَكِنْ ذَكَرَ لَهُمْ مَزِيَّةً بِالصُّحْبَةِ عَلَى الْأُخُوَّةِ فَهُمْ إِخْوَةٌ وَصَحَابَةٌ، وَاللَّاحِقُونَ إِخْوَةٌ فَحَسْبُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 2] (وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ) أَيْ: لَمْ يَلْحَقُوا إِلَى الْآنَ، أَوْ لَمْ يَأْتُوا إِلَيْنَا. قِيلَ: وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اللَّاحِقِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ التَّابِعِينَ، لَكِنْ يَأْبَاهُ سُؤَالُهُمُ الْآتِي الشَّامِلُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيُّ اتِّصَالٍ لِهَذِهِ الْوِدَادَةِ بِذِكْرِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ؟ قُلْتُ: عِنْدَ تَصَوُّرِ السَّابِقِينَ تَصَوُّرُ اللَّاحِقِينَ، أَوْ كُشِفَ لَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَالَمُ الْأَرْوَاحِ، فَشَاهَدَ الْأَرْوَاحَ الْمُجَنَّدَةَ السَّابِقِينَ مِنْهُمْ وَاللَّاحِقِينَ ( «فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ؟) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَسُؤَالُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: كَيْفَ تَعْرِفُ أَيْ فِي الْمَحْشَرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّكَ تَمَنَّيْتَ رُؤْيَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُتَمَنَّى مَا لَمْ يَكُنْ حُصُولُهُ. فَإِذَنْ كَيْفَ تَعْرِفُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْآخِرَةِ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ الْآتِيَ: غَيْرُ مُحَجَّلَةٍ لِظُهُورِهِمَا حِينَئِذٍ (فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِدُونِ الْفَاءِ (أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبِرْنِي أَيُّهَا الْمُخَاطِبُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ أَيْ: مَثَلًا (غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ) قِيلَ: الظَّهْرُ مُقْحَمٌ. فِي النِّهَايَةِ: أَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ: أَيْ: أَقَامُوا بَيْنَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِظْهَارِ وَالِاسْتِنَادِ إِلَيْهِمْ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ ظَهْرًا مِنْهُمْ قُدَّامَهُ وَظَهْرًا وَرَاءَهُ، فَهُوَ مَكْنُوفٌ مِنْ جَانِبَيْهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ مُطْلَقًا كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. أَقُولُ: ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ مَجَازًا (دُهْمٍ) : أَيْ: سُودٍ (بُهْمٍ) : الْبُهْمُ: السُّودُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يُخَالِطُ لَوْنُهُ لَوْنَ سِوَاهُ قَرَنَهُ بِالدُّهْمِ مُبَالَغَةً فِي السَّوَادِ (أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟) الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ (قَالُوا: بَلَى) يَعْرِفُهَا (يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ (فَإِنَّهُمْ) : أَيْ: أُمَّةُ الْإِجَابَةِ جَمِيعًا ( «يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوَضُوءِ» ) بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ ( «وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ» ) : أَيْ: مُتَقَدِّمُهُمْ إِلَى حَوْضِي فِي الْمَحْشَرِ فَإِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا يُقَالُ: فَرَطَ يَفْرُطُ فَهُوَ فَارِطٌ، وَفَرَطٌ إِذَا تَقَدَّمَ وَسَبَقَ الْقَوْمَ لِيَرْتَادَ لَهُمُ الْمَاءَ وَيُهَيِّئَ لَهُمُ الدِّلَاءَ وَالْأَرْشِيَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

299 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِالسُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَأَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ يَدِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ، وَمِنْ خَلْفِي مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ يَمِينِي مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ شِمَالِي مِثْلُ ذَلِكَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: هُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، لَيْسَ أَحَدٌ كَذَلِكَ غَيْرَهُمْ، وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ تَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ذُرِّيَّتُهُمْ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 299 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ) : بِالْهَمْزِ وَيُبَدَّلُ (بِالسُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ رُوحَهُ أَوْ نُورَهُ (وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ) إِشَارَةً إِلَى مَقَامِ الشَّفَاعَةِ كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ: (فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا) إِلَى قَوْلِهِ: (فَيَقُولُ لِيَ ارْفَعْ مُحَمَّدُ) (فَأَنْظُرُ) : الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَوْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَنْظُرُ (إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيَّ) : أَيْ قُدَّامِي (فَأَعْرِفُ) : أَيْ: أُمَيِّزُ لِيَسْتَقِيمَ تَعَلُّقُ مَنْ بِهِ (أُمَّتِي) : أَيِ: الَّذِينَ أَجَابُوا (مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ وَمِنْ خَلْفِي) : أَيْ: وَأَنْظُرُ مِنْ وَرَائِي (مِثْلَ ذَلِكَ) : بِالنِّصْفِ أَيْ: فَأَعْرِفُ أُمَّتِي وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا خِلَافَ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ تَقْدِيرِنَا (وَعَنْ يَمِينِي مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ شِمَالِي مِثْلُ ذَلِكَ) يَعْنِي مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَتِهِمْ وَتَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ «فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ» ) : أَيْ: سَائِرِهِمْ (فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ) : بَيَانٌ لِلْأُمَمِ حَالٌ مِنْهُ أَيِ: الْأُمَمُ كَائِنَةٌ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ، وَلَوْ قِيلَ: هُوَ ظَرْفٌ لِـ " تَعْرِفُ " لَرَجَعَ الْمَعْنَى كَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ؟ وَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنَ الْأُمَمِ مَعْنًى، وَإِنَّمَا خَصَّ نُوحًا مَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَآدَمَ وَشِيثٍ وَإِدْرِيسَ قَدْ بُعِثُوا قَبْلَهُ لِشُهْرَتِهِ أَوْ لِكَثْرَةِ أُمَّتِهِ وَإِلَى فِي قَوْلِهِ (إِلَى أُمَّتِكَ؟) : لِلِانْتِهَاءِ أَيْ: مُبْتَدِئًا مِنْ نُوحٍ مُنْتَهِيًا إِلَى أُمَّتِكَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَ الْقِيَاسُ وَأُمَّتُكَ لِتَعَيُّنِ عَطْفِ مَا بَعْدَ بَيْنَ بِالْوَاوِ فَيُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ بَعْدَ نُوحٍ، وَقِيلَ إِلَى لِدَلَالَةِ كُلٍّ مِنْ " بَيْنَ " " وَإِلَى " عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَغَيْرِهِ مُبْتَدِئًا ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِهِ أَوْ زَمَنِهِ إِلَى أُمَّتِكَ أَوْ زَمَنِهِمْ (قَالَ: هُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، لَيْسَ أَحَدٌ كَذَلِكَ) وَفِي: نُسْخَةٍ كَذَاكَ (غَيْرُهُمْ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْغُرَّةَ وَالتَّحْجِيلَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ أُمَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ) : وَلَعَلَّ هَذَا فِي وَقْتٍ خَاصٍّ لَهُمْ قَبْلَ إِيتَاءِ الْكُتُبِ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ، أَوْ لِكُتُبِهِمْ نُورٌ زَائِدٌ عَلَى كُتُبِ غَيْرِهِمْ ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِمْ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ ذَلِكَ قَبْلَ غَيْرِهِمْ، أَوْ عَلَى صِفَةٍ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِمْ، إِذِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَبَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ الْعُمُومُ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ أَيْضًا، وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ أَيْضًا، وَمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ لَا يَصْلَى النَّارَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْلَاهَا صُلُوَّ الْكَافِرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل: 15] الْآيَةَ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْفَاسِقَ الَّذِي أُرِيدَ تَعْذِيبُهُ يُعْطَاهُ بِيَمِينِهِ أَوَّلًا قَبْلَ دُخُولِهِ النَّارَ، ثُمَّ خَالَفَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا يُعْطَاهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الْأَوَّلَ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّقَّاشُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا مَا يَقْتَضِيهِ اهـ. لَكِنَّ قَوْلَهُ: دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ أَيْضًا غَيْرُ ظَاهِرٍ لِأَنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ مَسْكُوتَةٌ عَنْ حَالِ الْفَاسِقِ فِي إِعْطَاءِ الْكُتُبِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَفِي ثِقَلِ الْمِيزَانِ وَخِفَّتِهِ أَيْضًا، وَلَعَلَّهُ لَيَكُونُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَأَعْرِفُهُمْ تَسْعَى) : بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) يَحْتَمِلُ الِاخْتِصَاصَ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يَأْتِ بِالْوَصْفَيْنِ هَذَيْنِ تَفْصِلَةً وَتَمْيِيزًا كَالْأَوَّلِ، بَلْ أَتَى بِهِمَا مَدْحًا لِأُمَّتِهِ وَابْتِهَاجًا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضِيلَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

[باب ما يوجب الوضوء]

[بَابُ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ]

[1] بَابُ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 300 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [1]- بَابُ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ أَيْ: أَسْبَابُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 300 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُقْبَلُ) : أَيْ: قَبُولَ إِجَابَةٍ وَإِثَابَةٍ بِخِلَافِ الْمُسْبِلِ وَالْآبِقِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُمَا لَا تُقْبَلُ أَيْضًا لَكِنَّهَا لَا تُقْبَلُ بِتَرْكِ الْإِثَابَةِ، وَتُقْبَلُ إِجَابَةً فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ عَدَمَ الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ الصِّحَّةِ ( «صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ) » : أَيْ: صَارَ ذَا حَدَثٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الْمُضَافَةِ صُورَتُهَا أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَتْ (حَتَّى يَتَوَضَّأَ) : أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، أَوْ يَتَوَضَّأُ بِمَعْنَى يَتَطَهَّرُ فَيَشْمَلُ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْمَعْنَى لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِلَا وُضُوءٍ إِلَّا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَيَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ التُّرَابَ أَيْضًا يُصَلِّي الْفَرْضَ الْوَقْتِيَّ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، ثُمَّ إِنْ مَاتَ قَبْلَ وِجْدَانِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ لَمْ يَأْثَمْ وَإِنْ وَجَدَهُمَا يَقْضِي اهـ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يُصَلِّي لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ سَوَاءٌ ضَاقَ الْوَقْتُ أَوْعُدِمَ الصَّعِيدُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لِلضَّرُورَةِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ) مَدْفُوعٌ بِأَنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ صَلَاتُهُ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: ( «وَإِذَا نُهِيتُمْ عَنْ أَمْرٍ فَاجْتَنِبُوهُ» ) أَيْ: مُطْلَقًا. وَفِي شَرْحِ الشَّمَنِيِّ: وَالْمَحْبُوسُ الَّذِي لَا يَجِدُ طَهُورًا لَا يُصَلِّي عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ تَشْبِيهًا بِالْمُصَلِّينَ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْأَدَاءِ لِمَكَانِ الْحَدَثِ، فَلَا يَلْزَمُهُ التَّشَبُّهُ كَالْحَائِضِ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ الطَّهَارَةِ مُتَعَمِّدًا لَيْسَ بِكُفْرٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُفْرًا لَمَا أَمَرَ أَبُو يُوسُفَ بِهِ، وَقِيلَ: كُفْرٌ كَالصَّلَاةِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ عَمْدًا لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَخِفِّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ لَا يُكَفَّرُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ بِحَالٍ، وَلَوْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مُتَعَمِّدًا يُكَفَّرُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ لِكُلِّ حَالٍ فَيَكُونُ مُسْتَخِفًّا اهـ. وَالظَّاهِرُ إِنَّهُ إِذَا قُصِدَ بِهِ حُرْمَةُ الْوَقْتِ لَا يُكَفَّرُ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَلِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ، بِخِلَافِ مَا إِذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ عَمْدًا لَا لِهَذَا الْقَصْدِ فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ لِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِالشَّرْعِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ صَلَّى بِلَا طَهَارَةٍ حَيَاءً أَوْ رِيَاءً أَوْ كَسَلًا فَهَلْ يَكُونُ مُسْتَخِفًّا أَمْ لَا؟ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَالْأَظْهَرُ فِي الْمُسْتَحْيِي أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَخِفًّا بِخِلَافِ الْآخَرِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَإِعَادَةُ الضَّمِيرِ يَتَوَضَّأُ لِلْمُحْدِثِ بِمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ فَإِذَا تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ أَيْ: صَلَاةُ الْمُحْدِثِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَهُنَا تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، ثُمَّ حَتَّى هُنَا إِمَّا غَائِيَّةٌ أَوْ تَعْلِيلِيَّةٌ أَوِ اسْتِثْنَائِيَّةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

301 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 301 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ» ) : وَهُوَ بِالضَّمِّ الطُّهْرُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَاءُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ نُسْخَتَانِ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُمَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: لَا تَصِحُّ إِذَا نُفِيَ الْقَبُولُ أَمَّا بِمَعْنَى نَفْيِ الصِّحَّةِ كَمَا هُنَا، وَأَمَّا بِمَعْنَى نَفْيِ الثَّوَابِ كَمَا فِي خَبَرِ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَيْ مُنَجِّمًا لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» (وَلَا صَدَقَةٌ) : أَيِ: الَّتِي هِيَ طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَقِلَّةِ الرَّحْمَةِ (مِنْ غُلُولٍ) : بِالضَّمِّ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ أَيْ: مَالٌ حَرَامٌ، وَأَصْلُ الْغُلُولِ الْخِيَانَةُ فِي الْغَنِيمَةِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالٍ حَرَامٍ وَيَرْجُو الثَّوَابَ كَفَرَ، وَوَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ فَقَالَ: أَيْ كَثِيرُ الْغَلِّ أَيِ الْخِيَانَةُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ، وَلِذَا قَالَ: وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ تَصَدَّقَ بِمَا خَانَ بِأَنْ تَصَدَّقَ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ فَلَا يُثَابُ عَلَى التَّصَدُّقِ بِهِ، بَلْ يُعَاقَبُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَثَوَابُهُ لِمَالِكِهِ اهـ. وَمَحَلُّ هَذَا إِذَا كَانَ يَعْرِفُ مَالِكَهُ أَوْ وَارِثَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ مَاجَهْ.

302 - «وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَانِ ابْنَتِهِ فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 302 - (وَعَنْ عَلِيٍّ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً) : بِالتَّشْدِيدِ وَالْمَدِّ: أَيْ كَثِيرَ الْمَذْيِ بِالْمُعْجَمَةِ مِنْ أَمْذَى وَهُوَ أَرَقُّ مِنَ الْمَنِيِّ يَخْرُجُ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ أَوِ النَّظَرِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مَاءٌ رَقِيقٌ أَصْفَرُ يَخْرُجُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ الضَّعِيفَةِ وَفِي حُكْمِهِ الْوَدْيُ بِالْمُهْمَلَةِ. وَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ ثَخِينٌ يَخْرُجُ عَقِبَ الْبَوْلِ أَوْ عِنْدَ حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ (فَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسَالَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . أَيْ: عَنْ حُكْمِ الْمَذْيِ هَلْ هُوَ نَجِسٌ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ أَمْ لَا؟ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ) : أَيْ: فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِكَوْنِهَا تَحْتَهُ وَالْمَذْيُ كَثِيرًا مَا يَخْرُجُ بِسَبَبِ مُلَاعَبَةِ الزَّوْجَةِ، وَكَانَ فِي السُّؤَالِ عَنْ كَثْرَتِهِ تَعْرِيضٌ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ ابْنَتِهِ الَّتِي يَسْتَحْيِي مِنْ إِظْهَارِهَا، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يُفْصِحُ بِهِ أُولُو الْأَحْلَامِ خُصُوصًا بِحَضْرَةِ الْأَكَابِرِ الْعِظَامِ وَعَلَّلَ الْحَيَاءَ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ السُّؤَالِ وَالتَّعَلُّمِ مَذْمُومٌ (فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ) : أَيِ؟ الْتَمَسْتُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ (فَسَأَلَهُ) : أَيْ: مُبْهِمًا بِأَنْ قَالَ مَثَلًا: رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ ذَكَرِهِ مَذْيٌ مَا الْحُكْمُ فِيهِ؟ (فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَغْسِلُ ذَكَرَهُ) : لِنَجَاسَتِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مَا مَسَّهُ مِنْهُ لَا غَيْرَ قِيَاسًا عَلَى نَحْوِ الْبَوْلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَتَعَيَّنُ غَسْلُهُ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَجَرِ لِنُدُورِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَأَحَدُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ اهـ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَتَقَلَّصَ الْعُرُوقُ وَيَنْقَطِعَ الْمَذْيُ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرِ الْإِنْسَانُ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنَ الْبَوْلِ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِغَسْلِهِ مِنَ الْمَذْيِ اهـ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِ الذَّكَرِ، وَقِيلَ: يَجِبُ غَسْلُ الْأُنْثَيَيْنِ أَيْضًا لِرِوَايَةٍ، كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ (وَيَتَوَضَّأُ) قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَنَزَّهُونَ عَنْهُ تَنَزُّهَهُمْ عَنِ الْبَوْلِ ظَنًّا أَنَّهُ أَخَفُّ مِنْهُ اهـ. وَهَذَا لَا يُجْدِي فِي صَرْفِ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْخَبَرِ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ جَمِيعِ الذَّكَرِ وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

303 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» ) (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَّلُ مُحْيِي السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 303 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» ) : أَيْ مِنْ كُلِّ مَا مَسَّتْهُ، وَهُوَ الَّذِي أَثَّرَتْ فِيهِ النَّارُ كَاللَّحْمِ وَالدِّبْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (قَالَ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ مُحْيِي السُّنَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ (هَذَا مَنْسُوخٌ) : أَيْ: قَوْلُ مَنْ حَمَلَ الْوُضُوءَ عَلَى الشَّرْعِيِّ الْوَاجِبِ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ (بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ) .

304 - قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 304 - (قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْوُضُوءُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى اللُّغَوِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ وَالْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. قَالَ الْقَاضِي: الْوُضُوءُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ وَتَنْظِيفُهُ مِنَ الْوَضَاءَةِ بِمَعْنَى النَّظَافَةِ، وَالشَّرْعُ نَقَلَهَا إِلَى الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ، وَقَدْ جَاءَ هُنَا عَلَى أَصْلِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَمِنْ نَظَائِرِهِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ لِإِزَالَةِ الزُّهُومَةِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَنَحْوِهِمَا. وَمَنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ ذَلِكَ لَوْ عُلِمَ تَارِيخُهُمَا وَتَقَدُّمُ الْأَوَّلِ، لَا يُقَالُ صُحْبَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَأَخِّرَةٌ لِأَنَّ تَأَخُّرَ الصُّحْبَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ الرِّوَايَةِ إِلَّا

إِذَا كَانَتْ صُحْبَةُ الْمُتَأَخِّرِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ غَيْبَتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوِ اجْتَمَعَا. قِيلَ: وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كِتَابِهِ بِالنَّسْخِ حَيْثُ قَالَ: وَمِمَّا يُعْرَفُ بِهِ النَّسَخُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَمْلُ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ بَعِيدٌ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَدْلُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ، وَالْوَجْهُ إِنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِ جَابِرٍ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكَ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» .

305 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ (إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَتَوَضَّأْ) قَالَ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: (نَعَمْ! فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ) قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) . قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ (لَا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 305 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) : كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ ابْنِ أُخْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَتَوَضَّأُ) : بِالنُّونِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْيَاءِ مَجْهُولًا وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَتَوَضَّأُ بِالْمُتَكَلِّمِ الْمُفْرَدِ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْكَازَرُونِيُّ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَيُتَوَضَّأُ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَتَوَضَّأُ، وَالْكُلُّ غَيْرُ مُتَّبِعٍ رِوَايَةً مُطَابِقَةً وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ أَأَتَوَضَّأُ بِهَمْزَتَيْنِ لَكِنْ حُذِفَ إِحْدَاهُمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ( «مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟» ) أَيْ: مِنْ أَكْلِهَا ( «قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَتَوَضَّأْ» ) . وَفِي نُسْخَةٍ: بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ ( «قَالَ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ» ) وَفِيهِ تَأْكِيدُ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَقْوَى دَلِيلًا وَعِنْدَ غَيْرِهِ الْمُرَادُ مِنْهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ لِمَا فِي لَحْمِ الْإِبِلِ مِنْ رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ وَدُسُومَةِ غَلِيظَةِ بِخِلَافِ لَحْمِ الْغَنَمِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ جَابِرٍ (قَالَ) : أَيِ الرَّجُلُ (أُصَلِّي) : بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ وَفِي نُسْخَةٍ بِإِثْبَاتِهِ ( «فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟» ) : جَمْعُ مَرْبِضٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ مَوْضِعُ رُبُوضِ الْغَنَمِ وَهُوَ لِلْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الِاضْطِجَاعِ لِلْإِنْسَانِ وَالْبُرُوكِ لِلْإِبِلِ وَالْجُثُومِ لِلطَّيْرِ (قَالَ (نَعَمْ) . فَلَا كَرَاهَةَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا نِفَارَ لَهَا بِحَيْثُ يُشَوَّشُ عَلَى الْمُصَلِّي الْخُشُوعُ وَالْحُضُورُ ( «قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟» ) : جَمْعُ مَبْرَكٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ (قَالَ (لَا) كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ لِمَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ نِفَارِهَا فَيَلْحَقُ الْمُصَلِّيَ ضَرَرٌ مِنْ صَدْمَةٍ وَغَيْرِهَا فَلَا يَكُونُ لَهُ حُضُورٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْبَقَرُ كَالْغَنَمِ وَفِيهِ بَحْثٌ وَمَحَلُّ الْفَرْقِ حَيْثُ خَلَتِ الْمَرَابِضُ وَالْمَبَارِكُ عَنِ النَّجَاسَةِ وَإِلَّا فَكُرِهَتْ فِي الْمَرَابِضِ أَيْضًا لَكِنْ لِلنَّجَاسَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ ( «وَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، وَتَوَضَّئُوا مِنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ أَلْبَانِ الْغَنَمِ وَصَلُّوا فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ» ) .

306 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا. فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 306 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا» ) : أَيْ كَالْقَرْقَرَةِ بِأَنْ تَرَدَّدَ فِي بَطْنِهِ رِيحٌ (فَأُشْكِلَ) : أَيِ الْتَبَسَ (عَلَيْهِ أَخَرَجَ) : بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ (مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ) : أَيْ لِلتَّوَضُّؤِ لِأَنَّ الْمُتَيَقَّنَ لَا يُبْطِلُهُ الشَّكُّ. قِيلَ: يُوهِمُ أَنَّ حُكْمَ غَيْرِ الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ، لَكِنْ أُشِيرَ بِهِ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ مَكَانُهَا، فَعَلَى الْمُؤْمِنِ مُلَازَمَةُ الْجَمَاعَاتِ لِلْمَسْجِدِ (حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا) : أَيْ: صَوْتَ رِيحٍ يَخْرُجُ مِنْهُ ( «أَوْ يَجِدَ رِيحًا» ) : أَيْ: يَجِدَ رَائِحَةَ رِيحٍ خَرَجَتْ مِنْهُ، وَهَذَا مَجَازٌ عَنْ تَيَقُّنِ الْحَدَثِ

لِأَنَّهُمَا سَبَبُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، كَذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يُحِسُّ بِخُرُوجِهِ وَإِنْ لَمْ يَشُمَّهُ، وَقَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ الْحَدَثَ لَا أَنَّ سَمَاعَ الصَّوْتِ أَوْ وِجْدَانَ الرِّيحِ شَرْطٌ، إِذْ قَدْ يَكُونُ أَصَمَّ فَلَا يَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَقَدْ يَكُونُ أَخْشَمَ فَلَا يَجِدُ الرِّيحَ وَيَنْتَقِضُ طُهْرُهُ إِذَا تَيَقَّنَ الْحَدَثَ. قَالَ الْإِمَامُ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّيحَ الْخَارِجَةَ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ تُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: خُرُوجُ الرِّيحِ مِنَ الْقُبُلِ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ اهـ. وَتَوْجِيهُ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّهُ نَادِرٌ فَلَا يَشْمَلُهُ النَّصُّ كَذَا قِيلَ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْهَمَّامِ مِنْ أَنَّ الرِّيحَ الْخَارِجَ مِنَ الذَّكَرِ اخْتِلَاجٌ لَا رِيحٌ فَلَا يَنْقُضُ كَالرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنْ جِرَاحَةٍ فِي الْبَطْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

307 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ، وَقَالَ (إِنَّ لَهُ دَسَمًا» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 307 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ» ) ، زَادَ مُسْلِمٌ: ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ أَيْ: غَسَلَ فَمَهُ. ذَكَرَ الْأَبْهَرِيُّ قَالَ الشَّيْخُ: وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ لِلتَّنْظِيفِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَالْأَظْهَرُ اسْتِحْبَابُهُ لَا إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ نَظَافَةَ الْيَدَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالْوَسَخِ وَاسْتِحْبَابُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ إِلَّا أَنْ لَا يَبْقَى عَلَى الْيَدِ أَثَرُ الطَّعَامِ بِأَنْ كَانَ يَابِسًا أَوْ لَمْ يَمَسَّهُ بِهَا (وَقَالَ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِنَّ لَهُ دَسَمًا» ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ زُهُومَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ تَعْلِيلٌ لِلتَّمَضْمُضِ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ التَّمَضْمُضَ مُنَاسِبٌ، وَقِيلَ: الْمَضْمَضَةُ بِالْمَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ عَنْ كُلِّ مَا لَهُ دُسُومَةٌ إِذْ يَبْقَى فِي الْفَمِ بَقِيَّةٌ تَصِلُ إِلَى بَاطِنِهِ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَضْمَضَ مِنْ كُلِّ مَا خِيفَ مِنْهُ الْوُصُولُ إِلَى الْبَاطِنِ طَرْدًا لِلْعِلَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ السَّوِيقِ اهـ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَفِي الظُّهَيْرِيَةِ لَوْ أَكَلَ السُّكَّرَ أَوِ الْحَلْوَاءَ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَلَاوَةُ فِي فَمِهِ فَدَخَلَ مَعَ الرِّيقِ لَا يُفْسِدُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِعُنْوَانِ الْبَابِ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ مُتَمِّمَاتِ الْوُضُوءِ أَوْ مُكَمِّلَاتِهِ.

308 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ! فَقَالَ: (عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 308 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : أَيِ ابْنِ أَبِي الْحُصَيْبِ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِخُرَاسَانَ كَذَا فِي التَّهْذِيبِ وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَسْلَمِيٌّ أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْهَا وَبَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ غَازِيًا فَمَاتَ بِمَرْوَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الصَّلَوَاتِ) : أَيِ الْخَمْسَ الْمَعْهُودَةَ (يَوْمَ الْفَتْحِ) : أَيْ: يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَمَسَحَ) : حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ (عَلَى خُفَّيْهِ) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَيْسَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِهِ مُسْتَدِلًّا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَنَسٍ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدَنَا مَا لَمْ يُحْدِثْ» . (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ؟ فَقَالَ: (عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ) : الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَعَمْدًا تَمْيِيزٌ

أَوْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فَقُدِّمَ اهْتِمَامًا لِشَرْعِيَّةِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الدِّينِ أَوِ اخْتِصَاصًا رَدًّا لِزَعْمِ مَنْ لَا يَرَى جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ لَا تُكْرَهُ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْأَخْبَثَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ، لَكِنْ رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَى مَجْمُوعِ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يُوهِمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَالْحَالُ إِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ إِلَى الْجَمْعِ فَقَطْ تَجْرِيدًا عَنِ الْحَالِ فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِلْقَضِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ يُفِيدُ اسْتِمْرَارَ حُكْمِ الْمَسْحِ إِلَى آخِرِ الْإِسْلَامِ فَيَنْتَفِي تَوَهُّمُ نَسْخِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَلَعَلَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْبَابِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أُرِيدَ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ» ) وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ فَاغْسِلُوا إِلَخْ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ كَانَ لِكُلِّ فَرْضٍ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ، ثُمَّ نُسِخَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَبَعِيدٌ مِنَ السِّيَاقِ وَاللِّحَاقِ، مَعَ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَيَرُدُّهُ أَيْضًا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.

309 - وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ - وَهِيَ مِنْ أَدْنَى خَيْبَرَ - صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِيَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 309 - (وَعَنْ سُوَيْدِ) مُصَغَّرًا (ابْنِ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ النُّونِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ إِلَّا سُوَيْدَ بْنَ قَيْسٍ وَقَالَ: يُكَنَّى أَبَا صَفْوَانَ رَوَى عَنْهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَعِدَادُهُ فِي الْكُوفِيِّينَ (إِنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ خَيْبَرَ) أَيْ: عَامَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَهِيَ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ (حَتَّى إِذَا كَانُوا) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ نَازِلِينَ (بِالصَّهْبَاءِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ (وَهِيَ) : أَيِ: الصَّهْبَاءُ (أَدْنَى خَيْبَرَ) : أَيْ: أَسْفَلُهَا أَوْ أَقْرَبُهَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: مِنْ أَدْنَى خَيْبَرَ أَيِ الصَّهْبَاءِ، مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ خَيْبَرَ ( «صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ» ) : جَمْعُ الزَّادِ ( «فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ» ) : وَهُوَ مَا يُحْرَشُ مِنَ الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَغَيْرِهِمَا لِلزَّادِ (فَأَمَرَ بِهِ) : أَيْ: بِالسَّوِيقِ (فَثُرِيَ) : أَيْ: بُلَّ لِيَسْهُلَ أَكْلُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بُلَّ مِنَ الثَّرَى وَهُوَ التُّرَابُ النَّدِيُّ الَّذِي تَحْتَ التُّرَابِ الظَّاهِرِ يُقَالُ: ثَرَى التُّرَابَ إِذَا رَشَّ عَلَيْهِ بِالْمَاءِ ( «فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا» ) فَتُسْتَحَبُّ الْمَضْمَضَةُ ( «ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ) : وَإِنْ كَانَ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمُسْلِمٌ وَمَرَّ مَا فِيهِ اهـ وَقَالَ فِيمَا مَرَّ بَعْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ طَرَفٌ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَا قَدَّمْنَاهُ فَلَيْسَ فِيهِ طَرَفٌ مِنْهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " وَمُسْلِمٌ " الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَيْثُ ذَكَرَ الْمَضْمَضَةَ فِيهِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنَ اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيُحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى الْمُؤَلِّفِ فِي تَقْصِيرِ تَتَبُّعِهُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 310 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 310 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا وُضُوءَ) : أَيْ: وَاجِبٌ (إِلَّا مِنْ صَوْتٍ) : أَيْ: إِلَّا مِنْ سَمَاعِ صَوْتٍ (أَوْ رِيحٍ) : أَيْ: وَجَدَ أَنَّ رَائِحَةَ رِيحٍ خَرَجَ مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: نَفَى جِنْسَ أَسْبَابِ التَّوَضُّؤِ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا الصَّوْتَ وَالرِّيحَ. وَالنَّوَاقِضُ كَثِيرَةٌ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَعْنِي بِحَسَبِ السَّائِلِ فَالْمُرَادُ نَفْيُ جِنْسِ الشَّكِّ وَإِثْبَاتُ الْيَقِينِ أَيْ: لَا يَتَوَضَّأُ عَنْ شَكٍّ مَعَ سَبْقِ ظَنِّ الطَّهَارَةِ إِلَّا بِيَقِينِ الصَّوْتِ أَوْ رَائِحَةِ الرِّيحِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا نَقَلَهُ مِيرَكُ.

311 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمَذْيِ، فَقَالَ: (مِنَ الْمَذْيِ الْوُضُوءُ، وَمِنَ الْمَنِيِّ الْغُسْلُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 311 - (وَعَنْ عَلِيٍّ) : رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ (قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ بِوَاسِطَةِ الْمِقْدَادِ كَمَا تَقَدَّمَ (عَنِ الْمَذْيِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنَ الْمَذْيِ أَيْ حُكْمِهِ قَالَ مِيرَكُ: الْمَذْيُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الذَّالِ وَكَسْرِهِمَا مَعًا هُوَ الْمَاءُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالتَّقْبِيلِ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ الْمَذْيُ وَالْمَذِيُّ كَغَنِيٍّ وَالْمَذِي سَاكِنَةَ الْيَاءِ مَا يَخْرُجُ مِنْكَ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالتَّقْبِيلِ اهـ. وَالْأَصَحُّ مِنَ النُّسَخِ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ غَيْرُ مَوْجُودٍ (فَقَالَ: ( «مِنَ الْمَذْيِ الْوُضُوءُ» ) : أَيْ: وَاجِبٌ ( «وَمِنَ الْمَنِيِّ الْغُسْلُ» ) وَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ الْإِفَادَةِ وَنَوْعٌ مِنْ جَوَابِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ عَلَى حَدِّ: «أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ: (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مِيتَتُهُ» ) وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَمَا مَرَّ أَنَّهُ أَمَرَ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ لَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي السُّؤَالِ عَنْ خُصُوصِ نَفْسِهِ وَكَثْرَةِ إِمْذَائِهِ، وَالْحَيَاءُ مِنْ هَذَا الْخُصُوصِ وَاضِحٌ فَاسْتَنَابَ فِيهِ، وَهَذَا عَنْ مُطْلَقِ حُكْمِ الْمَذْيِ، وَهَذَا لَا حَيَاءَ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ فَبَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ وَاخْتِلَافُ سِيَاقِ الْحَدِيثَيْنِ يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ اهـ. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا.

312 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّبْكِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 312 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ عَلِيٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ) : أَيْ: مُجَوِّزُ الدُّخُولِ فِيهَا (الطُّهُورُ) : بِالضَّمِّ وَيُفْتَحُ أَيْ بِالْمَاءِ أَوِ التُّرَابِ، فَفَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ فِي حَرَمِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الْحَصْرُ بِتَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. وَاعْتَذَرَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ صِحَّتَهَا مَعَ فَقْدِهِمَا لِلضَّرُورَةِ (وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ) قَالَ الْمُظْهِرُ: سُمِّيَ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ تَحْرِيمًا لِأَنَّهُ يُحَرِّمُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَغَيْرَهُمَا عَلَى الْمُصَلِّي فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ مُقَارِنًا بِهِ النِّيَّةَ اهـ. وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا وَرُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ " ثُمَّ الْمُرَادُ بِالتَّكْبِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] هُوَ التَّعْظِيمُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ خُصُوصِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَغَيْرِهِ مِمَّا أَفَادَهُ التَّعْظِيمُ، وَالثَّابِتُ بِبَعْضِ الْأَخْبَارِ اللَّفْظُ الْمَخْصُوصُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يُكْرَهَ لِمَنْ يُحَسِّنُهُ تَرْكُهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ وَفِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ التَّعْدِيلِ كَذَا فِي الْكَافِي. قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: وَهَذَا يُفِيدُ وُجُوبَهُ ظَاهِرًا وَهُوَ مُقْتَضَى الْمُوَاظَبَةِ الَّتِي لَمْ تَقْتَرِنْ بِتَرْكٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى هَذَا ( «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ) . التَّحْلِيلُ: جَعْلُ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ حَلَالًا وَسُمِّيَ التَّسْلِيمُ بِهِ لِتَحْلِيلِ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُصَلِّي لِخُرُوجِهِ عَنْ

الصَّلَاةِ وَهُوَ وَاجِبٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِضَافَةُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إِلَى الصَّلَاةِ لِمُلَابَسَةٍ بَيْنَهُمَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ:) أَيْ سَبَبُ كَوْنِ الصَّلَاةِ مُحَرِّمَةً مَا لَيْسَ مِنْهَا التَّكْبِيرُ وَمُحَلِّلَةً التَّسْلِيمُ أَيْ: إِنَّهَا صَارَتْ بِهِمَا كَذَلِكَ فَهُمَا مَصْدَرُ إِنَّ مُضَافَانِ إِلَى الْفَاعِلِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ قِيلَ شُبِّهَ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِالدُّخُولِ فِي حَرِيمِ الْمَلِكِ الْكَرِيمِ الْمَحْمِيِّ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَجُعِلَ فَتْحُ بَابَ الْحَرَمِ بِالتَّطْهِيرِ عَلَى الْأَدْنَاسِ، وَجُعِلَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْغَيْرِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ تَحْلِيلًا تَنْبِيهًا عَلَى التَّكْمِيلِ بَعْدَ الْكَمَالِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ (وَالدَّارِمِيُّ) أَيْ: رَوَى ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَلِيٍّ وَحْدَهُ.

313 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 313 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ) : أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) .

314 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 314 - (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ: طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِالْقَافِ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ الْبَرْقِيُّ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَرَى أَنَّهُ طَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَا فِي التَّلْقِيحِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ الْحَنَفِيُّ الْيَمَامِيُّ، رَوَاهُ عَنْهُ مُسْلِمُ بْنُ سَلَامٍ: هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ) : أَيْ: خَرَجَ الرِّيحُ الَّتِي لَا صَوْتَ لَهُ مِنْ أَسْفَلِ الْإِنْسَانِ (فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلَا تَأْتُوا النِّسَاءَ) : أَيْ: لَا تُجَامِعُوهُنَّ (فِي أَعْجَازِهِنَّ) : أَيْ: أَدْبَارِهِنَّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ لِعَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا أَعْرِفُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ السُّحَيْمِيِّ كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ هَذَا رَجُلٌ آخَرُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلَهُ مِيرَكُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَخَبَرُ فَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَخْلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِهَذَا الْمَرَامِ.

315 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّمَا الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» ) رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 315 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ) : وَهُمَا صَحَابِيَّانِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مُعَاوِيَةَ وَتَرْجَمَتُهُ، وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ الْقُرَشِيُّ، وُلِدَ قَبْلَ الْفِيلِ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ إِلَيْهِ رَايَةُ الرُّؤَسَاءِ فِي قُرَيْشٍ، أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَنَائِمِهَا مَائَةً وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فِيمَنْ أَعْطَاهُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفُقِئَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَزَلْ أَعْوَرَ إِلَى يَوْمِ الْيَرْمُوكِ فَأَصَابَ عَيْنَهُ حَجَرٌ فَعُمِيَتْ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا الْعَيْنَانِ) : أَيِ: الْيَقَظَةُ فَهُمَا كِنَايَةٌ عَنْهَا (وِكَاءُ السَّهِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ. الْوِكَاءُ: مَا يُشَدُّ بِهِ الْكِيسُ وَغَيْرُهُ لِيُحْفَظَ بِهِ مَا فِيهِ عَنِ الْخُرُوجِ، وَالسَّهِ: أَيِ: الِاسْتُ أَوْ حَلْقَةُ الدُّبُرِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الدُّبُرُ، وَأَصْلُهُ سَتَةٌ فَحُذِفَتِ التَّاءُ وَلِذَا يُجْمَعُ عَلَى الِاسْتَاهِ وَيُصَغَّرُ عَلَى سُتَيْهَةٍ (فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ) : أَيْ: جِنْسُهَا (اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ) : أَيِ: انْحَلَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَيْنَانِ كَالْوِكَاءِ لِلسَّهِ، شَبَّهَ عَيْنَ الْإِنْسَانِ وَجَوْفَهُ وَدُبُرَهُ بِقِرْبَةٍ لَهَا فَمٌ مَشْدُودٌ بِالْخَيْطِ، وَشَبَّهَ مَا يُطْلِقُهُ بِالْغَفْلَةِ عِنْدَ النَّوْمِ بِحَلِّ ذَلِكَ الْخَيْطِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ، وَفِيهِ تَصْوِيرٌ لِقُبْحِ صُدُورِ هَذِهِ الْغَفْلَةِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَيَقَّظَ أَمْسَكَ مَا فِي بَطْنِهِ فَإِذَا نَامَ زَالَ اخْتِيَارُهُ وَاسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ، فَلَعَلَّ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا يَنْقُضُ طُهْرَهُ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَقْضَ الطَّهَارَةِ بِالنَّوْمِ، وَسَائِرِ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ لَيْسَ لِأَنْفُسِهَا بَلْ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ خُرُوجِ مَا يَنْتَقِضُ بِهِ الطُّهْرُ، وَلِذَا خُصَّ نَوْمُ مُمَكَّنِ الْمَقْعَدِ مِنَ الْأَرْضِ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ ضَعِيفٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: لَيْسَ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ هَذَا فِي الْمَصَابِيحِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَعَلَّهُ أَوْرَدَهُ فِي بَابٍ آخَرَ.

316 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «وِكَاءُ السَّهِ الْعَيْنَانِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا فِي غَيْرِ الْقَاعِدِ لِمَا صَحَّ: ـــــــــــــــــــــــــــــ 316 - وَعَنْ عَلِيٍّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «وِكَاءُ السَّهِ الْعَيْنَانِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي سَنَدِهِ ضَعِيفٌ. وَقَالَ مِيرَكُ فِي إِسْنَادِهِ الْوَضِينُ بْنُ عَطَاءٍ وَبَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَفِيهِمَا مَقَالٌ. (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَالَ (الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ (هَذَا) : أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ (فِي غَيْرِ الْقَاعِدَةِ) : أَيْ: مِنَ النَّائِمِينَ يَعْنِي هَذَا فِيمَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَأَمَّا مَنْ نَامَ قَاعِدًا مُمَكِّنًا مَقْعَدَهُ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَمَقْعَدُهُ مُمَكَّنٌ كَمَا كَانَ فَلَا يَبْطُلُ وُضُوءُهُ وَإِنْ طَالَ نَوْمُهُ (لِمَا صَحَّ) .

317 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ: يَنَامُونَ بَدَلَ: «يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 317 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْنَظِرُونَ الْعِشَاءَ) : أَيْ: صَلَاتَهَا الْجَمَاعَةَ فَيَنَامُونَ أَيْ: جَالِسِينَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: حَتَّى تَخْفِقَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: تَتَحَرَّكَ وَتَضْطَرِبَ (رُءُوسُهُمْ) : مِنَ النَّوْمِ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخَفْقَةُ النَّعْسَةُ الْخَفِيفَةُ، وَمَعْنَى تَخْفِقُ رُءُوسُهُمْ تَسْقُطُ أَذْقَانُهُمْ عَلَى صُدُورِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْخُفُوقِ وَهُوَ الِاضْطِرَابُ (ثُمَّ يُصَلُّونَ) : أَيْ: بِذَلِكَ الْوُضُوءِ (وَلَا يَتَوَضَّئُونَ) : أَيْ: وُضُوءًا جَدِيدًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ) : أَيِ: التِّرْمِذِيُّ ذَكَرَ فِيهِ) : أَيْ: فِي حَدِيثِهِ (يَنَامُونَ: أَيْ: قَاعِدِينَ (بَدَلَ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ) : أَيْ: بَدَلُ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، لَا بَدَلَ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ فَقَطْ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الطَّلَبَةِ لِمَا فِي تَخْرِيجِ الْمَصَابِيحِ لِأَبِي إِسْحَاقَ السُّلَمِيِّ الشَّافِعِيِّ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ أَنَّهُ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» ، فَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ يَنَامُونَ بَدَلَ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ، وَأَمَّا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ فَهِيَ مُوَافَقَةٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَكَانَ الْمُصَنِّفُ ذُهِلَ عَنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا، كَذَا حَقَّقَهُ مِيرَكُ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

318 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 318 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (إِنَّ الْوُضُوءَ) : أَيْ: وُجُوبُهُ ( «عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ» ) : أَيْ: فَتَرَتْ وَضَعُفَتْ (مَفَاصِلُهُ: جَمْعُ مِفْصَلٍ وَهُوَ رُءُوسُ الْعِظَامِ وَالْعُرُوقِ فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالْمُتَيَقَّنِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَقَالَ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَقْفَهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ مِيرَكُ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا يَزِيدُ الدَّالَانِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ يَزِيدَ الدَّالَانِيَّ كَانَ كَثِيرَ الْخَطَأِ فَاحِشَ الْوَهْمِ مُخَالِفَ الثِّقَاتِ.

319 - وَعَنْ بُسْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ، فَلْيَتَوَضَّأْ» ) رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 319 - (وَعَنْ بُسْرَةَ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بِنْتِ صَفْوَانَ صَحَابِيَّةٌ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: هِيَ بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيَّةُ الْأَسْدِيَةُ، وَهِيَ بِنْتُ أَخِي وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ» ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَذَكَرُ غَيْرِهِ كَذَكَرِهِ لِرِوَايَةِ مَنْ مَسَّ ذَكَرًا (فَلْيَتَوَضَّأْ) : هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ بِالْكَفِّ بِلَا حِجَابٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ بِبَاطِنِ الْكَفِّ كَمَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ: «إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى فَرْجِهِ» ، وَالْإِفْضَاءُ الْمَسُّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ وَهُوَ الرَّاحَةُ وَالْأَصَابِعُ اهـ. لَكِنَّ الْإِفْضَاءَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، بَلِ الْمَشْهُورُ مَعْنَاهُ مُطْلَقُ الْإِيصَالِ. قَالَ تَعَالَى {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] ثُمَّ حَمَلَ الطَّحَاوِيُّ الْوُضُوءَ عَلَى غَسْلِ الْيَدِ اسْتِحْبَابًا (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ بُسْرَةَ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

320 - وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ. قَالَ: (وَهَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ مِنْهُ؟» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ هَذَا مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَسْلَمَ بَعْدَ قُدُومِ طَلْقٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 320 - (وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ) : يُكَنَّى أَبَا عَلِيٍّ الْحَنَفِيَّ الْيَمَانِيَّ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا طَلْقُ بْنُ ثُمَامَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ قَيْسٍ (قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ. قَالَ: (وَهَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ» ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ: قِطْعَةُ لَحْمٍ (مِنْهُ) : أَيْ: مِنَ الرَّجُلِ وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْكَ. أَيْ: فَهُوَ كَمَسِّ بَقِيَّةِ أَعْضَائِهِ فَلَا نَقْضَ بِهِ. نَقَلَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا أُبَالِي أَنْفِي مَسِسْتُ أَوْ أُذُنِي أَوْ ذَكَرِي. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَا أُبَالِي ذَكَرِي مَسِسْتُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أُذُنِي أَوْ أَنْفِي. وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوُهُ، وَعَنْ سَعْدٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْكَ نَجِسًا فَاقْطَعْهُ وَلَا بَأْسَ بِهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ مَسَّ الْفَرْجِ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ وُضُوءًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) . أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ) . أَيْ بِالْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: الْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْحَدِيثَيْنِ لَا يُنَزَّلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ لَكِنْ يَتَرَجَّحُ حَدِيثُ طَلْقٍ بِأَنَّ حَدِيثَ الرِّجَالِ أَقْوَى لِأَنَّهُمْ أَحْفَظُ لِلْعِلْمِ وَأَضْبَطُ، وَلِذَا جَعَلَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ اهـ. وَأَطَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي تَضْعِيفِ حَدِيثِ بُسْرَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ الشَّيْخُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ (مُحْيِي السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا) : أَيْ: مَا رَوَاهُ طَلْقٌ (مَنْسُوخٌ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَسْلَمَ بَعْدَ قُدُومِ طَلْقٍ) : أَيْ: مِنَ الْيَمَنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ طَلْقًا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَبْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَسْلَمَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَامَ خَيْبَرَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ.

321 - وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا شَيْءٌ فَلْيَتَوَضَّأْ» ) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 321 - (وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا أَفْضَى) : أَيْ: أَوْصَلَ (أَحْكُمُ بِيَدِهِ) : أَيْ: بِكَفِّهِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا) : أَيْ بَيْنَ ذَكَرِهِ وَبَيْنَ يَدِهِ (شَيْءٌ) : أَيْ: مَانِعٌ مِنَ الثِّيَابِ وَغَيْرِهِ، فَلْيَتَوَضَّأْ) قَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَقِّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ) . أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ، وَابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

322 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ بُسْرَةَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا شَيْءٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 322 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ بُسْرَةَ إِلَّا أَنَّهُ) : أَيِ النَّسَائِيُّ لَمْ يَذْكُرْ (لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا شَيْءٌ) : اعْتَرَضَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الشَّيْخِ مُحْيِي السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ ادِّعَاءَ النَّسْخِ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الِاحْتِيَاطِ إِلَّا إِذَا أَثْبَتَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ طَلْقًا تُوَفِّي قَبْلَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ رَجَعَ إِلَى أَرْضِهِ وَلَمْ تَبْقَ لَهُ صُحْبَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا يَدْرِي هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ طَلْقًا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ بَعْدَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةِ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَكَانَ ابْنُ مَعِينٍ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لَهُمَا كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَنَقَلَ الْبَعْضُ عَنِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَابْنَ مَعِينٍ مَعَ بُعْدِ شَأْوَيْهِمَا وَجَلَالَةِ قَدْرِهِمَا فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَرِجَالِهِ تَذَاكَرَا وَتَكَلَّمَا فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمَا أَنِ اتَّفَقَا عَلَى سُقُوطِ الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ طَلْقٍ وَبُسْرَةَ أَيْ: لِأَنَّهُمَا تَعَارَضَا فَتَسَاقَطَا وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْهُمَا اهـ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِذَنِ الْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ أَوْلَى، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَخْذِ الْعَمَلُ فَلَا مُنَاقَشَةَ فِيهِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحُكْمُ، بِالنَّقْضِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ الْأَحْوَطُ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: عَلَى تَقْدِيرِ تَعَارُضِهِمَا نَعُودُ إِلَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ. قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَمَّارٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنَّ الْمَسَّ لَا يُبْطِلُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ عُمَرُ وَابْنُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: بِالْبُطْلَانِ. وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. قُلْتُ: فَتَعَارَضَ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا فَتَسَاقَطَتْ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْضِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ بِالْبُطْلَانِ قَابِلٌ لِلْحَمْلِ عَلَى الْأَحْوَطِ فِي الْعَمَلِ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، ثُمَّ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ مَسَّهُ بِشَهْوَةٍ انْتَقَضَ وَإِلَّا فَلَا.

323 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِحَالٍ إِسْنَادُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَيْضًا إِسْنَادُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْهَا. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا مُرْسَلٌ، وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ عَائِشَةَ. 323 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ. وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمُلَامَسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهَا الْجِمَاعُ دُونَ اللَّمْسِ بِسَائِرِ الْبَدَنِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ ضَعَّفَهُ وَقَالَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَالْمُرْسَلُ أَنْوَاعٌ: فَالْمُرْسَلُ الْمُطْلَقُ هُوَ أَنْ يَقُولَ التَّابِعِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُ قِسْمٌ يُسَمَّى بِالْمُنْقَطِعِ وَهُوَ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ قِسْمٌ يُسَمَّى بِالْمُعْضَلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ

بَيْنَ الْمُرْسِلِ وَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ مِنْ رَجُلٍ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمَسُّ لَا يُبْطِلُ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُبْطِلُ بِلَمْسِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يُبْطِلُ بِالشَّهْوَةِ وَإِلَّا فَلَا (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا) : أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَوْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (بِحَالٍ) : أَيْ: مِنْ أَحْوَالِ الطُّرُقِ (إِسْنَادُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: أَعْلَمُ أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ سَمَاعَ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، فَإِنَّهُ كَانَ تِلْمِيذَهَا (وَأَيْضًا) : أَيْ: لَا يَصِحُّ (إِسْنَادُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْهَا) . أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدُ: هَذَا مُرْسَلٌ) : أَيْ: نَوْعٌ مُرْسَلٌ وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ لَكِنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ (وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ عَائِشَةَ) . وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ عَائِشَةَ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ: هَذَا كَلَامٌ لَا يَصِحُّ بِحَالٍ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَثِيرًا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ سَمَاعِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَسَمَاعُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِمَّا لَا مَجَالَ عِنْدَ عُلَمَاءِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُنَاقَشَةِ فِيهِ، وَيَبْعُدُ عَنِ التِّرْمِذِيَّ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ، مَعَ أَنَّ كِتَابَهُ مَمْلُوءٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ سَمَاعِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَعْزُوَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِهِ كَذَلِكَ بَعْدَ إِيرَادِهِ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا فِي كِتَابِهِ تَرَكَ أَصْحَابُنَا حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْإِسْنَادُ بِحَالٍ، وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْعَطَّارَ الْبَصْرِيَّ يَذْكُرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ضَعَّفَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ الْقَطَّانُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ: حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ يَعْنِي رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عُرْوَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ رَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَهَا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ، وَلَا نَعْرِفُ لِإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ سَمَاعًا عَنْ عَائِشَةَ، وَلَيْسَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ اهـ. فَتَوَهَّمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِحَالِ الْإِسْنَادِ، إِسْنَادُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَمَنْشَأُ هَذَا الْوَهْمِ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ عَلَّلَ الطَّرِيقَ الثَّانِيَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ طَرِيقُ التَّيْمِيِّ عَنْ عَائِشَةَ بِعَدَمِ صِحَّةِ سَمَاعِهِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا، وَلَا نَعْرِفُ لِإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ سَمَاعًا عَنْ عَائِشَةَ، فَفَهِمَ الْمُصَنِّفُ مِنْهُ أَنَّ تَضْعِيفَ الطَّرِيقِ الْأُولَى أَيْضًا مُعَلَّلٌ بِعَدَمِ سَمَاعِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَغَفَلَ عَنْ نَقْلِهِ عَنِ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعَدَمِ سَمَاعِ ابْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ لَا سَمَاعِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَالَ نَجْلُهُ السَّعِيدُ مِيرَكُ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا ادَّعَى بَعْضُ مُحَدِّثِي زَمَانِنَا أَنَّ عُرْوَةَ هَذَا لَيْسَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ عُرْوَةُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ صَرَّحَ بِأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَيُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عُرْوَةُ الْمَذْكُورُ هُنَا إِنْ كَانَ هُوَ الْمُزَنِيَّ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فَهُوَ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ، فَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ لِكَوْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ رَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ وَهُوَ لَمْ يُدْرِكْهُ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا.

324 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَكَلَ رَسُوُلُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتِفًا ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ بِمِسْحٍ كَانَ تَحْتَهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 324 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ كَتِفًا) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ، كَذَا ضَبَطَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْكَتِفُ كَفَرِحَ وَمِثْلٍ وَحَبْلٍ، وَالْمَعْنَى لَحْمُ كَتِفِ شَاةٍ مَشْوِيٍّ (ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِمِسْحٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: كِسَاءٍ (كَانَ تَحْتَهُ) : أَيْ: تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ (ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى) : أَيْ: وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ لَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ (وَابْنُ مَاجَهْ) . أَيْ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ كَمَا مَرَّ وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي عَدَمِ غَسْلِ الْيَدِ مِنَ الطَّعَامِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُزَالَ مَا فِيهَا مِنْ أَثَرِهِ بِالْمَسْحِ.

325 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: «قَرَّبْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَنْبًا مَشْوِيًّا فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 325 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَرَّبْتُ) : أَيْ: جَعَلْتُ قَرِيبًا (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَنْبًا) : أَيْ: ضِلْعًا (مَشْوِيًّا فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) أَيْ: لَا شَرْعِيًّا وَلَا لُغَوِيًّا لِبَيَانِ الْجَوَازِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 326 - عَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَشْهَدُ لَقَدْ كُنْتُ أَشْوِي لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَطْنَ الشَّاةِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 326 - (عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَشْهَدُ) : أَيْ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ (لَقَدْ كُنْتُ أَشْوِي) : لَمَّا كَانَ فِي " أَشْهَدُ " مَعْنَى الْقَسَمِ دَخَلَ اللَّامُ فِي قَدْ جَوَابًا لَهُ، وَإِنَّمَا ضَمَّنَ الشَّهَادَةَ مَعْنَى الْقَسَمِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِخْبَارٌ عَنْ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ اللِّسَانَ وَاعْتِقَادُ ثُبُوتِ الْمُدَّعَى وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي الْخِلَافِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ (لِرَسُولِ اللَّهِ) : أَيْ: لِأَكْلِهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَطْنَ الشَّاةِ) : يَعْنِي الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ وَمَا مَعَهُمَا مِنَ الْقَلْبِ وَغَيْرِهِمَا (ثُمَّ صَلَّى) : أَيْ: فَأَكَلَ ثُمَّ صَلَّى، وَكَانَ الْقِيَاسُ ثُمَّ يُصَلِّي لَكِنْ أَتَى بِهِ مَاضِيًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُنْتُ أَشْوِي مَاضٍ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ لِصُورَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ (وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

327 - وَعَنْهُ، قَالَ: «أُهْدِيَتْ لَهُ شَاةٌ فَجَعَلَهَا فِي الْقِدْرِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا أَبَا رَافِعٍ؟) فَقَالَ: شَاةٌ أُهْدِيَتْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَطَبَخْتُهَا فِي الْقِدْرِ. قَالَ: (نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ يَا أَبَا رَافِعٍ!) فَنَاوَلْتُهُ الذِّرَاعَ. ثُمَّ قَالَ: (نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ الْآخَرَ) فَنَاوَلْتُهُ الذِّرَاعَ الْآخَرَ. ثُمَّ قَالَ (نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ الْآخَرَ) فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا لِلشَّاةِ ذِرَاعَانِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَكَتَّ لَنَاوَلْتَنِي ذِرَاعًا فَذِرَاعًا مَا سَكَتُّ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ فَاهُ، وَغَسَلَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمْ، فَوَجَدَ عِنْدَهُمْ لَحْمًا بَارِدًا، فَأَكَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 327 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي رَافِعٍ (قَالَ: أُهْدِيَتْ لَهُ) : أَيْ لِأَبِي رَافِعٍ (شَاةٌ) : بِرَفْعِهَا عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، قِيلَ فِيهِ الْتِفَاتٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ نَقْلٌ بِالْمَعْنَى (فَجَعَلَهَا فِي الْقِدْرِ) : أَيْ: لِلطَّبْخِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (مَا هَذَا) : أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا الَّذِي فِي الْقِدْرِ (يَا أَبَا رَافِعٍ) يُقْرَأُ بِالْهَمْزَةِ وَلَا تُكْتَبُ (فَقَالَ: شَاةٌ أُهْدِيَتْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَطَبَخْتُهَا فِي الْقِدْرِ فَقَالَ: (نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتُسَكَّنُ (يَا أَبَا رَافِعٍ!) فَنَاوَلْتُهُ الذِّرَاعَ. فِي الْقَامُوسِ الذِّرَاعُ: بِالْكَسْرِ مِنْ طَرَفِ الْمِرْفَقِ إِلَى طَرَفِ الْإِصْبَعِ الْوُسْطَى وَالسَّاعِدُ، وَقَدْ يُذْكَرُ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ: (نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ الْآخَرَ) فَنَاوَلْتُهُ الذِّرَاعَ الْآخَرَ. ثُمَّ قَالَ: (نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ الْآخَرَ) : لِمَحَبَّتِهِ لِلذِّرَاعِ تَقْوِيَةً لِلْبَدَنِ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ وَلِاسْتِغْرَاقِهِ فِي الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ سِوَاهُ (فَقَالَ) : أَيْ: أَبُو رَافِعٍ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ أَوِ التَّقْدِيرِ فَقَالَ قَائِلٌ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا لِلشَّاةِ ذِرَاعَانِ) : وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: وَكَمْ لِلشَّاةِ مِنْ ذِرَاعٍ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامُ اسْتِبْعَادٍ لَا إِنْكَارٍ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّكَ) : بِالْكَسْرِ (لَوْ سَكَتَّ) : أَيْ عَمَّا قُلْتَ لِي وَامْتَثَلْتَ أَدَبِي (لَنَاوَلْتَنِي ذِرَاعًا فَذِرَاعًا مَا سَكَتَّ) : أَيْ: مَا سَكَتَّ أَنْتَ وَطَلَبْتُ أَنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي فَذِرَاعًا لِلتَّعَاقُبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، وَمَا فِي مَا سَكَتَّ لِلْمُدَّةِ وَالْمَعْنَى نَاوَلْتَنِي ذِرَاعًا عَقِبَ ذِرَاعٍ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مَا دُمْتَ سَاكِتًا فَلَمَّا نَطَقْتَ انْقَطَعَتْ. اهـ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: مَا دَعَوْتُ أَيْ مَا طَلَبْتُ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْفَتْحِ، وَالْمَعْنَى مُدَّةَ دَوَامِ طَلَبِهِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَكَانَ يَخْلُقُ فِيهَا ذِرَاعًا بَعْدَ ذِرَاعٍ مُعْجِزَةً وَكَرَامَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا مَنَعَ كَلَامُهُ مِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِأَنَّهُ شَغَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى رَبِّهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى جَوَابِ سُؤَالِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ فَاهُ) : أَيْ: حَرَّكَ مَاءَ فَمِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَمَضْمَضَ. فِي الْقَامُوسِ: الْمَضْمَضَةُ تَحْرِيكُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ، وَتَمَضْمَضَ لِلْوُضُوءِ مَضْمَضَ (وَغَسَلَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ) : أَيْ: مَحَلَّ الدُّسُومَةِ وَالتَّلَوُّثِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَا عَلَى قَصْدِ التَّكْبِيرِ (ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمْ) : أَيْ: إِلَى أَبِي رَافِعٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ (فَوَجَدَ عِنْدَهُمْ لَحْمًا بَارِدًا فَأَكَلَ) لِأَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ اللَّحْمَ وَمَا كَانَ يَجِدُهُ دَائِمًا، فَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَتِ الذِّرَاعُ أَحَبَّ اللَّحْمِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يَجِدُ اللَّحْمَ إِلَّا غِبًّا أَيْ: وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، وَكَانَ يُعَجِّلُ إِلَيْهَا أَيِ الذِّرَاعِ لِأَنَّهَا أَعْجَلُهَا أَيِ اللُّحُومِ نُضْجًا أَيْ طَبْخًا (ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ) : أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِ الْمَعَاشِ تَوَجَّهَ إِلَى السَّعْيِ فِي الْمَعَادِ (فَصَلَّى: أَيْ شَكَرَ اللَّهَ (وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً) . أَيْ: لِلْوُضُوءِ وَلَا لِغَسْلِ الْفَمِ قَبْلَ الصَّلَاةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . أَيْ عَنْ أَبِي رَافِعٍ.

328 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ (ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ) إِلَى آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 328 - (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) : وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ مَوْلَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابِيٌّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (إِلَّا أَنَّهُ) : أَيِ الدَّارِمِيُّ لَمْ يَذْكُرْ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ) إِلَى آخِرِهِ) .

329 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ أَنَا وَأَبِي وَأَبُو طَلْحَةَ جُلُوسًا فَأَكَلْنَا لَحْمًا وَخُبْزًا، ثُمَّ دَعَوْتُ بِوَضُوءٍ، فَقَالَا: لِمَ تَتَوَضَّأُ؟ فَقُلْتُ: لِهَذَا الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْنَا. فَقَالَا: أَتَتَوَضَّأُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ؟ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 329 - (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبِي) : أَيِ ابْنُ كَعْبٍ (وَأَبُو طَلْحَةَ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ مِنَ الرُّمَاةِ الْمَذْكُورِينَ. «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَةٍ» ) مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ وَمَاتَ وَدُفِنَ فِي جَزِيرَةٍ بَعْدَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مَعَ السَّبْعِينَ، ثُمَّ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. (جُلُوسًا) : أَيْ: جَالِسِينَ (فَأَكَلْنَا لَحْمًا وَخُبْزًا) : الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ (ثُمَّ دَعَوْتُ بِوَضُوءٍ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: طَلَبْتُ مَاءَ الْوُضُوءِ (فَقَالَا) : أَيْ أَبِي وَأَبُو طَلْحَةَ (لِمَ تَتَوَضَّأُ؟ فَقُلْتُ: لِهَذَا الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْنَا) : يَعْنِي اللَّحْمَ وَالْخُبْزَ فَإِنَّهُمَا مِمَّا مَسَّتْهُمَا النَّارُ (فَقَالَا: أَتَتَوَضَّأُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ؟) : فِيهِ أَنَّ نَقْضَ الْوُضُوءِ إِنَّمَا يَكُونُ بِخَبِيثٍ يُنَافِيهِ كَالْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، وَهُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَفِي مَعْنَاهُ خُرُوجُ الدَّمِ وَالْقَيْحِ وَالْقَيْءِ عِنْدَنَا وَغَيْرُهُ أُلْحِقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ وَالسُّكْرِ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِ الْخَبِيثِ، وَلِذَا قُلْنَا نَقْضُ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَوْرِدِ (لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهُ) : أَيْ: مِنْ مِثْلِ هَذَا الطَّعَامِ (مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ) . أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُوجِبَ مَنْفِيٌّ عَقْلًا وَنَقْلًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

330 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَانَ يَقُولُ: قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَجَسُّهَا بِيَدِهِ مِنَ الْمُلَامَسَةِ. وَمَنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ أَوْ جَسَّهَا بِيَدِهِ، فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 330 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (كَانَ يَقُولُ: قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ) : نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَجَسُّهَا: بِالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ أَيْ: مَسُّهَا (بِيَدِهِ مِنَ الْمُلَامَسَةِ) : أَيِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] (وَمَنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ أَوْ جَسَّهَا بِيَدِهِ) : فَقَدْ لَامَسَ، وَمَنْ لَامَسَ (فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: تَفْرِيعٌ عَلَى مَا أَصَّلَهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: إِذَا كَانَ التَّقْبِيلُ وَالْجَسُّ مِنَ الْمُلَامَسَةِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَوَضَّأَ مَنْ قَبَّلَ أَوْ جَسَّ، وَالتَّرْتِيبُ مُفَوَّضٌ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ الْأَحَقَّ هُنَا الْفَاءُ لَا الْوَاوُ فِي: وَمَنْ قَبَّلَ، لَكِنَّهَا تُرِكَتِ اتِّكَالًا عَلَى ذِهْنِ السَّامِعِ وَإِدْرَاكِهِ التَّرْتِيبَ بِأَدْنَى الْتِفَاتٍ إِلَيْهِ (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ) .

331 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ يَقُولُ: مِنْ قُبْلَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ الْوُضُوءُ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 331 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (كَانَ يَقُولُ: مِنْ قُبْلَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ قُبْلَةٍ لِأَنَّهَا اسْمُ مَصْدَرٍ (الْوُضُوءُ) : مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَجِبُ مِنْهَا الْوُضُوءُ، وَفِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْمُعَرَّفِ إِشْعَارٌ بِالْخِلَافِ وَرَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ حُكْمُ التَّقْبِيلِ وَالْجَسِّ حُكْمُ سَائِرِ النَّوَاقِضِ فَرُدَّ، وَقِيلَ لَيْسَ حُكْمُهُ إِلَّا كَحُكْمِهَا فَيَكُونُ مِنْ قَصْرِ الْقَلْبِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

332 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ الْقُبْلَةَ مِنَ اللَّمْسِ، فَتَوَضَّئُوا مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 332 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ الْقُبْلَةَ مِنَ اللَّمْسِ) : أَيِ: الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ (فَتَوَضَّئُوا مِنْهَا) . هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ قَالَ بِنَقْضِ اللَّمْسِ، وَلَيْسَتْ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إِذْ لِلرَّأْيِ فِيهِ مَجَالٌ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ - يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِلِاحْتِيَاطِ، وَلِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مَا شَاءَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَمُ النَّقْضِ بِاللَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّخْصِيصِ مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الْمُجْتَهِدِ لِلصَّحَابِيِّ.

333 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ تَمِيمِ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» ) . رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَلَا رَآهُ، وَيَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَجْهُولَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 333 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) : هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، يُكَنَّى أَبَا حَفْصٍ الْأُمَوِيَّ الْقُرَشِيَّ، أُمُّهُ أُمُّ عَاصِمٍ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَاسْمُهَا لَيْلَى، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَرَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ، وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ فِي رَجَبٍ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ أَرْضِ حِمْصٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا، وَكَانَ عَلَى صِفَةٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالتُّقَى وَالْعِفَّةِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ، لَا سِيَّمَا أَيَّامَ وِلَايَتِهِ. قِيلَ: لَمَّا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ سُمِعَ مِنْ مَنْزِلِهِ بُكَاءٌ عَالٍ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: إِنَّ عُمَرَ خَيَّرَ جَوَارِيَهُ فَقَالَ: نَزَلَ بِي مَا شَغَلَنِي عَنْكُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ أُعْتِقَهُ أَعْتَقْتُ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ أُمْسِكَهُ أَمْسَكْتُ وَلَمْ يَكُنْ لِي إِلَيْهَا شَيْءٌ وَسَأَلَ عُقْبَةُ بْنُ نَافِعٍ زَوْجَتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: أَلَا تُخْبِرِينِي عَنْ عُمَرَ؟ فَقَالَتْ: لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَةٍ وَلَا مِنَ احْتِلَامٍ مُنْذُ اسْتَخْلَفَهُ

اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى قَبَضَهُ. وَقَالَتْ: قَدْ يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ صَلَاةً وَصِيَامًا مِنْ عُمَرَ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا قَطُّ أَشَدُّ خَوْفًا مِنْ رَبِّهِ مِنْهُ، كَانَ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي مَسْجِدِهِ فَلَا يَزَالُ يَبْكِي وَيَدْعُو حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنَاهُ ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لَيْلَهُ أَجْمَعَ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ ظَاهِرَةٌ (عَنْ تَمِيمِ الدَّارِيِّ) : نِسْبَةٌ إِلَى الْجَدِّ فَإِنَّ الدَّارَ اسْمُ وَاحِدٍ مِنْ أَجْدَادِهِ، وَهُوَ أَبُو رُقَيَّةَ مُصَغَّرًا تَمِيمُ بْنُ خَارِجَةَ صَحَابِيٌّ، كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَرُبَّمَا رَدَّدَ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ فِي اللَّيْلِ كُلِّهِ، لَزِمَ الْعِبَادَةَ وَسَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا كَذَا فِي الْأَنْسَابِ لِلسَّمْعَانِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيُّ، أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ. قَالَ مُحَمَّدُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ نَامَ لَيْلَةً لَمْ يَقُمْ يَتَهَجَّدُ فِيهَا فَقَامَ سَنَةً لَمْ يَنَمْ فِيهَا عُقُوبَةً لِلَّذِي صَنَعَ سَكَنَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْرَجَ السِّرَاجَ فِي الْمَسْجِدِ، رَوَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِصَّةَ الدَّجَّالِ وَالْجَسَّاسَةِ، وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» ) أَيْ: إِلَى مَا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ (رَوَاهُمَا) : أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (الدَّارَقُطْنِيُّ) : وَرَوَى الْحَدِيثَ الثَّانِيَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّمَنِيُّ يَعْنِي مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا نَعْلَمُهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ فَرُّوخٍ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَلَكِنَّهُ يُكْتَبُ، فَإِنَّ النَّاسَ مَعَ ضَعْفِهِ قَدِ احْتَمَلُوا حَدِيثَهُ اهـ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ: قَدْ كَتَبْنَا عَنْهُ وَمَحَلُّهُ عِنْدَنَا الصِّدْقُ. قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: وَقَدْ تَظَافَرَ مَعَهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ: (قَالَ: لَا إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ» ) قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ. قَالَ أَبِي: ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَيْ: وَقْتُ الْحَيْضِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ كَذَلِكَ وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَصَحَّحَهُ، وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ» فَضَعِيفٌ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهَمَّامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَقَالَ) : أَيِ: الدَّارَقُطْنِيُّ (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَسْمَعْ) : أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ (مِنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَلَا رَآهُ) فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِخَوَاجَهْ عِصَامِ الدِّينِ، أَمَّا كَوْنُ الْحَدِيثِ مُرْسَلًا فَلَيْسَ بِطَعْنٍ عِنْدَنَا لِأَنَّا نَقْبَلُ الْمَرَاسِيلَ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهَمَّامِ وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ (وَيَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَجْهُولَانِ) . قَالَ مِيرَكُ: أَيِ الرَّاوِيَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ السَّمْعَانِيُّ: هُمَا ضَعِيفَانِ مَجْهُولَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ اهـ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ لَهُ طَرِيقًا آخَرَ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ وَمَعَ ذَلِكَ اعْتِمَادُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ عَلَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا سَبَقَ.

[باب آداب الخلاء]

[بَابُ آدَابِ الْخَلَاءِ]

(2) بَابُ آدَابِ الْخَلَاءِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 334 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَمَّا فِي الْبُنْيَانِ فَلَا بَأْسَ لِمَا رُوِيَ ـــــــــــــــــــــــــــــ (2) - بَابُ آدَابِ الْخَلَاءِ الْآدَابُ: اسْتِعْمَالُ مَا يُحْمَدُ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَالْخَلَاءُ بِالْمَدِّ كُلُّ مَوْضِعٍ يَقْضِي الْإِنْسَانُ فِيهِ حَاجَتَهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْلُو فِيهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 334 - (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ) : شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا، وَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا، تُوُفِّيَ بِالرُّومِ غَازِيًّا، وَقَبْرُهُ بِالْقُسْطُنْطِينِيَّةِ كَذَا فِي التَّهْذِيبِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَكَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي حُرُوبِهِ كُلِّهَا، وَمَاتَ بِالْقُسْطُنْطِينِيَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَكَانَ ذَلِكَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا غَزَا أَبُوهُ الْقُسْطُنْطِينِيَّةَ خَرَجَ مَعَهُ فَمَرِضَ، فَلَمَّا ثَقُلَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِذَا أَنَا مِتُّ فَاحْمِلُونِي، فَإِذَا صَادَفْتُمُ الْعَدُوَّ فَادْفِنُونِي تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ فَفَعَلُوا وَدَفَنُوهُ قَرِيبًا مِنْ سُورِهَا، وَقَبْرُهُ مَعْرُوفٌ إِلَى الْيَوْمِ يَسْتَشْفُونَ بِهِ فَيَشْفُونَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. وَالْقُسْطُنْطِينِيَّةُ: هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ وَضَمِّ الطَّاءِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَغْرِبِيُّ فِي الْمَشَارِقِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ زِيَادَةَ يَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَ النُّونِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ) : أَيْ: جِئْتُمْ وَحَضَرْتُمْ مَوْضِعَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْغَائِطُ فِي الْأَصْلِ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قِيلِ لِمَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَقْضِيَ فِي الْمُنْخَفَضِ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ، ثُمَّ اتُّسِعَ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَى النَّجْوِ نَفْسِهِ أَيِ: الْخَارِجِ تَسْمِيَةً لِلْحَالِّ بِاسْمِ مَحَلِّهِ (فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ) : أَيْ: جِهَةَ الْكَعْبَةِ تَعْظِيمًا لَهَا (وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا) : تَكْرِيمًا لَهَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَكُلٌّ مِنْهُمَا حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْعِبْرَةُ بِالصَّدْرِ حَرَامٌ فِي الصَّحْرَاءِ، وَالْبُنْيَانُ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْمَحَلُّ الْمُهَيَّأُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ، فَلَا حُرْمَةَ فِيهِ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي، لَكِنْ إِنْ أَمْكَنَهُ الْمَيْلُ عَنِ الْقِبْلَةِ بِلَا مَشَقَّةٍ كَانَ الْمَيْلُ عَنْهَا أَفْضَلَ ( «وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» ) : أَيْ: تَوَجَّهُوا إِلَى جِهَةِ الشَّرْقِ أَوِ الْغَرْبِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا خِطَابٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلِمَنْ كَانَتْ قِبْلَتُهُ عَلَى ذَلِكَ السَّمْتِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ قِبْلَتُهُ جِهَةَ الْغَرْبِ أَوِ الشَّرْقِ، فَإِنَّهُ يَنْحَرِفُ إِلَى الْجَنُوبِ أَوِ الشَّمَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ( «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالْأَرْبَعَةُ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا الْحَدِيثُ) : أَيْ: حُكْمُهُ (فِي الصَّحْرَاءِ) : أَيْ: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَذَا الْبُنْيَانُ غَيْرُ الْخَلَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ) أَنَّ الصَّحْرَاءَ لَا تَخْلُو مِنْ مُصَلٍّ مِنْ مَلَكٍ أَوْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ، فَإِذَا قَعَدَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَوْ مُسْتَدْبِرَهَا، رُبَّمَا يَقَعُ نَظَرُ مُصَلٍّ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَأَمَّا الْأَبْنِيَةُ فَلَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْحُشُوشَ لَا تَحْضُرُهُ إِلَّا الشَّيَاطِينُ (وَأَمَّا فِي الْبُنْيَانِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْنِي الْخَلَاءَ لِيُطَابِقَ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ (فَلَا بَأْسَ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَوِي الصَّحْرَاءُ وَالْبُنْيَانُ فِي حُرْمَةِ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ لِاسْتِوَاءِ الْعِلَّةِ فِيهِمَا وَهُوَ احْتِرَامُ الْقِبْلَةِ (لِمَا رُوِيَ) : وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ. فِيهِ مُسَامَحَةٌ فَإِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ أَيْ: وَلَا يُسْتَعْمَلُ " رُوِيَ " غَالِبًا إِلَّا فِي الضَّعِيفِ.

335 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 335 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا مَذْهَبُ الشَّيْخِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ عُمُومَ الْحَدِيثِ لَا يُخْتَصُّ بِالْأَثَرِ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ إِذِ الْأَثَرُ مَرْفُوعٌ (قَالَ: ارْتَقَيْتُ) : أَيْ: صَعِدْتُ (فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ) : أَيْ: سَطْحِهِ وَهِيَ أُخْتُ الرَّاوِي زَوْجَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لِبَعْضِ حَاجَتِي) : يَحْتَمِلُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ وَغَيْرَهُ ( «فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي حَاجَتَهُ» ) : أَيْ فِي الْخَلَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ( «مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ» ) : وَفِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النَّهْيِ أَوْ لِعُذْرٍ كَانَ هُنَاكَ أَوْ لِكَوْنِهِ لَا حَرَجَ فِي حَقِّهِ سِيَّمَا فِي حَالَةِ اسْتِغْرَاقِهِ ( «مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ» ) : أَيْ: بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَلَفْظُهُمَا مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ فَوَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَلَبَ الْكَلَامَ وَكَتَبَ فِي الْأَصْلِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُسْتَدْبِرَ الشَّامِ ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ وَإِذَا جَازَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي الْخَلَاءِ جَازَ الِاسْتِدْبَارُ فِيهِ بِالْأَوْلَى اهـ. فَالْغَلَطُ صَرِيحٌ وَالتَّفْرِيعُ غَيْرُ صَحِيحٍ، هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: الِاسْتِقْبَالُ مَمْنُوعٌ دُونَ الِاسْتِدْبَارِ، وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ.

336 - وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَانَا - يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 336 - (وَعَنْ سَلْمَانَ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ فَارِسٍ مِنْ رَامَهُرْمُزَ، وَيُقَالُ: بَلْ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ أَصْفَهَانَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جُنٌّ سَافَرَ يَطْلُبُ الدِّينَ فَدَانَ أَوَّلًا بِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ وَصَبَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَشَقَّاتٍ مُتَتَالِيَةٍ فَأَخَذَهُ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ فَبَاعُوهُ مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ إِنَّهُ كُوتِبَ فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابَتِهِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَةُ عَشَرَ سَيِّدًا حَتَّى أَفْضَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْلَمَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: (سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ) وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِمُ الْجَنَّةُ فَكَانَ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ، قِيلَ: عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَلَاثُمِائَةَ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِعَطَائِهِ، مَاتَ بِالْمَدَائِنِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَرَوَى عَنْهُ أَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا. (قَالَ: نَهَانَا - يَعْنِي) : أَيْ يُرِيدُ سَلْمَانُ بِالنَّاهِي (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَإِنَّمَا قَالَ الرَّاوِي: عَنْ سَلْمَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يُطْلِقُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَأَنَّهُ نَفْسُهُ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ» ) : قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الِاسْتِقْبَالُ لَهُمَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَلِلِاسْتِنْجَاءِ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ (أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَوْ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ لِلْعَطْفِ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: هُنَا بِالْوَاوِ، وَأَمَّا فِيمَا بَعْدَهُ فَبِأَوِ اتِّفَاقًا وَهُوَ لِلتَّنْوِيعِ قَالَ فِي الْفَائِقِ: الِاسْتِنْجَاءُ قَطْعُ النَّجَاسَةِ مِنْ نَجَوْتُ الشَّجَرَةَ وَأَنْجَاهَا وَاسْتَنْجَاهَا أَيْ: قَطَعَهَا مِنَ الْأَرْضِ (بِالْيَمِينِ) : نَهْيُ تَنْزِيهٍ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ ( «أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ وَكَرَاهَةٍ لَا تَحْرِيمٍ، وَالِاسْتِنْجَاءُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ حَصُلَ النَّقَاءُ بِأَقَلَّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ النَّقَاءُ مُتَعَيَّنٌ لَا الْعَدَدُ اهـ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» ) مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ فَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ ( «أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ» ) : لِنَجَاسَتِهِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ الرَّوْثُ وَالْعُذْرَةُ لِأَنَّهُ رَجْعٌ أَيْ: رَدٌّ مِنْ حَالٍ هِيَ الطَّهَارَةُ إِلَى أُخْرَى وَهِيَ النَّجَاسَةُ وَكُلُّ مَرْدُودٍ رَجِيعٌ (أَوْ بِعَظْمٍ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِعَظْمِ مَيْتَةٍ أَوْ مُذَكَّاةٍ. قِيلَ: عِلَّةُ النَّهْيِ مَلَاسَةُ الْعَظْمِ فَلَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، وَقِيلَ عِلَّتُهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ مَصُّهُ أَوْ مَضْغُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «إِنَّ الْعَظْمَ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» ) اهـ. يَعْنِي: وَإِنَّهُمْ يَجِدُونَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّحْمِ أَوْفَرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَقِيلَ لِأَنَّ الْعَظْمَ رُبَّمَا يَجْرَحُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: فِي أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدٌ بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثَةٍ أَوْ حُمَمَةٍ أَيْ فَحْمٍ.

337 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 337 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ» ) : أَيْ: إِذَا أَرَادَ دُخُولَ الْخَلَاءِ، وَفِي شَرْحِ الْأَبْهَرِيِّ قَالَ الشَّيْخُ: مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُفَصِّلُ وَيَقُولُ: أَمَّا فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُعَدَّةِ لِذَلِكَ فَيَقُولُهُ قُبَيْلَ دُخُولِهَا، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَيَقُولُهُ فِي أَوَانِ الشُّرُوعِ كَتَشْمِيرِ ثِيَابِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَقَالُوا: مَنْ نَسِيَ يَسْتَعِيذُ بِقَلْبِهِ لَا بِلِسَانِهِ وَمَنْ يُجِيزُ مُطْلَقًا كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْصِيلِ (يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا ( «أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ» ) : بِضَمِّ الْبَاءِ وَتُسَكَّنُ جَمْعُ الْخَبِيثِ، وَهُوَ الْمَؤْذِي مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ (وَالْخَبَائِثِ) : جَمْعُ الْخَبِيثَةِ يَعْنِي: ذُكْرَانَ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثَهُمْ، وَخُصَّ الْخَلَاءُ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ تَحْضُرُ الْأَخْلِيَةَ لِأَنَّهُ يُهْجَرُ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ، وَقِيلَ الْخُبْثُ بِسُكُونِ الْبَاءِ الْكُفْرُ أَوِ الشَّرُّ أَوِ الْفُجُورُ أَوِ الشَّيْءُ الْمَكْرُوهُ مُطْلَقًا، وَالْخَبَائِثُ الْأَفْعَالُ الذَّمِيمَةُ وَالْخِصَالُ الرَّدِيئَةُ وَالْعَقَائِدُ الزَّائِغَةُ وَالْأَحْوَالُ الدَّنِيَّةُ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْخُبْثُ سَاكِنُ الْبَاءِ مَصْدَرُ خَبُثَ الشَّيْءُ يَخْبُثُ خُبْثًا، وَفِي إِيرَادِ الْخَطَّابِيِّ فِي الْجُمْلَةِ الْأَلْفَاظِ التَّيْ يَرْوِيهَا الرُّوَاةُ مَلْحُونَةً نَظَرٌ، لِأَنَّ الْخَبِيثَ إِذَا جُمِعَ يَجُوزُ إِسْكَانُ الْبَاءِ لِلتَّخْفِيفِ كَمَا فِي سُبُلٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ، وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِهِمْ لَا يَجُوزُ إِنْكَارُهُ إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ إِنَّ تَرْكَ التَّخْفِيفِ أَوْلَى لِئَلَّا يُشْتَبَهُ بِالْخُبْثِ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْهُ.

338 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ - وَفِي رِوَايَةٍ: الْمُسْلِمُ لَا يَسْتَتْرِهُ مِنَ الْبَوْلِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ - ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 338 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا» ) : أَيْ: صَاحِبَيِ الْقَبْرَيْنِ ( «لَيُعَذَّبَانِ» ) : قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنَّهُ نُقِلَ بِالْمَعْنَى مَعَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ غَيْرَ عَزِيزٍ فِي كَلَامِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَيَصِحُّ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَخَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَذْفِ خَبَرِ إِنَّ مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ خَبَرًا لِإِنَّ ( «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ قَوْلُهُ: فِي كَبِيرٍ شَاهِدٌ عَلَى وُرُودِ فِي لِلتَّعْلِيلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إِنَّهُمَا لَا يُعَذَّبَانِ فِي أَمْرٍ يَشُقُّ وَيَكْبُرُ عَلَيْهِمَا الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَإِلَّا لَكَانَا مَعْذُورَيْنِ كَسَلَسِ الْبَوْلِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، أَوْ فِيمَا يَسْتَعْظِمُهُ النَّاسُ وَلَا يُجْتَرَأُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِمَا الِاسْتِتَارُ عِنْدَ الْبَوْلِ وَتَرْكُ النَّمِيمَةِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِمَا هَيِّنٌ غَيْرُ كَبِيرٍ فِي الدِّينِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَيْفَ لَا يَكُونُ كَبِيرًا وَهُمَا يُعَذَّبَانِ فِيهِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْذِيبُ عَلَى الصَّغَائِرِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْعَقَائِدِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَالْأَوْلَى يُسْتَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِمَا كَبِيرَتَيْنِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي رِوَايَةٍ: ( «بَلَى إِنَّهُمَا كَبِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ» ) . «أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ» ) : مِنَ الِاسْتِتَارِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي بَابِ الِاسْتِتَارِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ «لَا يَسْتَنْتِرُ» . قَالَ الْأَشْرَفُ فِي الْغَرِيبَيْنِ وَالنِّهَايَةِ: يَسْتَنْتِرُ بِنُونٍ بَيْنَ التَّاءَيْنِ مِنَ الِاسْتِنْتَارِ وَهُوَ الِاجْتِذَابُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ اللَّيْثُ: النَّتْرُ جَذْبُهُ فِيهِ قُوَّةٌ قِيلَ: هَذَا هُوَ الَّذِي يُسَاعِدُ عَلَيْهِ الْمَعْنَى لَا الِاسْتِتَارُ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ الْآتِي، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَسْتَتِرُ وَهُوَ غَلَطٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِيهِ: أَنِ الِاسْتِنْتَارَ وَالِاسْتِبْرَاءَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالتَّكَشُّفَ حَرَامٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّعْذِيبِ لِكَوْنِهِ كَبِيرَةً عَلَى مَا حُرِّرَ، فَكَيْفَ هُوَ الَّذِي يُسَاعِدُهُ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْتِتَارِ وَأَنَّهُ غَلَطٌ مَعَ أَنَّهُ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ فِي بَابِ الِاسْتِتَارِ، وَأَيْضًا لَا يُعْرَفُ أَصْلٌ فِي الْأَحَادِيثِ لِلِاجْتِذَابِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بَلْ جَذْبُهُ بِعُنْفٍ يَضُرُّ بِالذَّكَرِ وَيُورِثُ الْوَسْوَاسَ الْمُتْعِبَ، بَلِ الْمُخْرِجُ عَنْ حَيِّزِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، ثُمَّ وَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: لَا يَسْتَبْرِئُ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَصْلُ الشَّيْخَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ رِوَايَةُ ابْنِ عَسَاكِرَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَيْ لِمُسْلِمٍ كَمَا فِي نُسْخَةِ الْأَصْلِ «لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ» . قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِمُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْقِ، الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ: لَا يَسْتَبْرِئُ بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: لَا يَسْتَنْزِهُ بِنُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا زَايٌ ثُمَّ هَاءٌ. قَالَ الشَّيْخُ: فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ مَعْنَى الِاسْتِتَارِ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَوْلِهِ سُتْرَةً يَعْنِي

لَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ لَا يَسْتَنْزِهُ لِأَنَّهَا مِنَ التَّنَزُّهِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ اهـ. وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ وَمَآلُهُ إِلَى عَدَمِ التَّحَفُّظِ عَنِ الْبَوْلِ الْمُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ غَالِبًا وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ. قَالَ مِيرَكُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «عَامَّةُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ، اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ» ) رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «تَنَزَّهُوا عَنِ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ» ) . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «اتَّقُوا الْبَوْلَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ فِي الْقَبْرِ» ) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ (وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ) : أَيْ: إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّخْصَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ أَوْ يُلْقِي بَيْنَهُمَا عَدَاوَةً بِأَنْ يَنْقُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَقُولُ الْآخَرُ مِنَ الشَّتْمِ وَالْأَذَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّمِيمَةُ نَقْلُ كَلَامِ الْغَيْرِ لِقَصْدِ الْإِضْرَارِ وَهِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ (ثُمَّ أَخَذَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (جَرِيدَةً رَطْبَةً) : أَيْ غُصْنًا مِنَ النَّخْلِ، وَفِي الْفَائِقِ هِيَ السَّعَفَةُ الَّتِي جُرِّدَتْ عَنْهَا الْخُوصُ أَيْ -: قِشْرَتُهُ (فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ) : أَيْ: جَعَلَهَا مَشْقُوقَةً حَالَ كَوْنِهَا مُلْتَبِسَةً بِنِصْفَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ (ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً) : أَيْ: فِي كُلٍّ مِنَ الشِّقَّتَيْنِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ !) : أَيِ: الْغَرْزَ (فَقَالَ: لَعَلَّهُ) أَيِ الْعَذَابَ (أَنْ يُخَفَّفَ) : بِالضَّمِّ وَفَتْحِ الْفَاءِ أَيِ: الْعَذَابُ قَبْلَ أَنْ يُزَالَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ فَالضَّمِيرَانِ لِلَّهِ أَوْ لِلْغَرْزِ مَجَازًا وَإِدْخَالُ إِنَّ فِي خَبَرِ لَعَلَّ مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهِهَا بِعَسَى (عَنْهُمَا) : بِالتَّثْنِيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهَا. قَالَ الْمَالِكِيُّ. الرِّوَايَةُ يُخَفَّفُ عَنْهَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّأْنِيثِ وَهُوَ ضَمِيرُ النَّفْسِ فَيَجُوزُ إِعَادَةُ الضَّمِيرَيْنِ فِي " لَعَلَّهُ " وَعَنْهَا إِلَى الْمَيِّتِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ إِنْسَانًا وَنَفْسًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَفِي عَنْهَا لِلنَّفْسِ، وَجَازَ تَفْسِيرُ الشَّأْنِ بِأَنْ وَصِلَتِهَا، وَالرِّوَايَةُ بِتَثْنِيَةِ الضَّمِيرِ فِي عَنْهُمَا لَا تَسْتَدْعِي هَذَا التَّأْوِيلَ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَ رِوَايَةَ ابْنِ مَالِكٍ أَصْلًا لِلصَّحِيحِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، ثُمَّ أَغْرَبَ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ التَّثْنِيَةِ يَتَعَيَّنُ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِلشَّأْنِ، وَيَصِحُّ كَوْنُ الضَّمِيرِ مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَمَا فِي: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] أَصْلُهُ مَا الْحَيَاةُ ثُمَّ أُبْدِلَتْ بِالضَّمِيرِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْخَبَرِ عَلَيْهَا اهـ. لِأَنَّ التَّعَيُّنَ مَمْنُوعٌ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ يُحْتَاجُ فِي صِحَّتِهِ إِلَى تَكَلُّفٍ أَحْوَجَ إِلَيْهِ الرِّوَايَةُ بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا الْإِبْهَامُ وَالتَّفْسِيرُ مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ لَا يُوجَدُ لِلضَّمِيرِ مَرْجِعٌ فَلَيْسَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ نَظِيرًا لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ (مَا لَمْ يَيْبَسَا) بِالتَّذْكِيرِ أَيْ: مَا دَامَ لَمْ يَيْبَسِ النِّصْفَانِ أَوِ الْقَضِيبَانِ وَبِالتَّأْنِيثِ أَيِ الشِّقَّتَانِ أَوِ الْجَرِيدَتَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَّا وَضْعُهُمَا عَلَى الْقَبْرِ فَقِيلَ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَ الشَّفَاعَةَ لَهُمَا فَأُجِيبَ: بِالتَّخْفِيفِ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْكِتَابِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ صَاحِبَيِ الْقَبْرَيْنِ أُجِيبَتْ شَفَاعَتِي فِيهِمَا أَيْ: بِرَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْقَضِيبَانِ رَطْبَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَدْعُو لَهُمَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَقِيلَ لِأَنَّهُمَا يُسَبِّحَانِ مَا دَامَا رَطْبَيْنِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] مَعْنَاهُ أَنَّ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ ثُمَّ قَالَ: وَحَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَحَيَاةُ الْخَشَبِ مَا لَمْ يَيْبَسْ، وَالْحَجَرُ مَا لَمْ يُقَطَّعْ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَنَّ التَّسْبِيحَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ الدَّلَالَةُ عَلَى الصَّانِعِ وَاسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَبْرِ لِهَذَا الْحَدِيثِ إِذْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَوْلَى بِالتَّخْفِيفِ مِنْ تَسْبِيحِ الْجَرِيدِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ الصَّحَابِيَّ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَتَانِ، فَكَأَنَّهُ تَبَرَّكَ بِفِعْلِ مِثْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ عَلَى الْقُبُورِ مِنَ الْأَخْوَاصِ وَنَحْوِهَا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ، وَفِيهِ نَجَاسَةُ الْأَبْوَالِ، وَفِيهِ تَحْرِيمُ النَّمِيمَةِ، لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ كَانَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَفِيهِ أَنَّ عَدَمَ التَّنَزُّهِ مِنَ الْبَوْلِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَتَرْكُهَا كَبِيرَةٌ بِلَا شَكٍّ اهـ. قِيلَ: وَفِيهِ تَخْفِيفُ عَذَابِ الْقَبْرِ بِزِيَارَةِ الصَّالِحِينَ وَوُصُولِ بَرَكَتِهِمْ، وَأَمَّا إِنْكَارُ الْخَطَّابِيِّ وَقَوْلُهُ: " لَا أَصْلَ لَهُ " فَفِيهِ بَحْثٌ وَاضِحٌ، إِذْ هَذَا الْحَدِيثُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لَهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ صَرَّحَ بِهِ وَقَالَ قَوْلُهُ: " لَا أَصْلَ لَهُ " مَمْنُوعٌ، بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ أَصِيلٌ لَهُ، وَمِنْ ثَمَّ أَفْتَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا بِأَنَّ مَا اعْتِيدَ مِنْ وَضْعِ الرَّيْحَانِ وَالْجَرِيدِ سُنَّةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ اهـ. وَلَعَلَّ وَجْهَ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَاقِعَةُ حَالٍ خَاصٍّ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَلِهَذَا وَجَّهَ لَهُ التَّوْجِيهَاتِ السَّابِقَةَ فَتَدَبَّرْ فَإِنَّهُ مَحَلُّ نَظَرٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

339 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ) قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 339 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اتَّقُوا) : أَيِ: احْذَرُوا أَوِ اجْتَنِبُوا (اللَّاعِنَيْنِ) : أَيِ: الْأَمْرَيْنِ الْجَالِبَيْنِ لِلَّعْنِ وَالشَّتْمِ، فَكَأَنَّهُمَا لَاعِنَانِ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْحَامِلِ فَاعِلًا أَيْ: لِلَّذِينَ هُمَا سَبَبَا اللَّعْنَةِ غَالِبًا، وَفِي الْأَزْهَارِ قِيلَ: اللَّاعِنُ بِمَعْنَى الْمَلْعُونِ ( «قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الَّذِي يَتَخَلَّى» ) : أَيْ: يَتَغَوَّطُ وَيُنَجِّسُ بِحَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ أَحَدُهُمَا تَخَلِّي الَّذِي يَتَخَلَّى (فِي طَرِيقِ النَّاسِ) : أَوْ عَبَّرَ عَنِ الْفِعْلِ بِفَاعِلِهِ (أَوْ) : لِلتَّنْوِيعِ (فِي ظِلِّهِمْ: أَيْ: فِي مُسْتَظَلِّهِمُ الَّذِي يَجْلِسُونَ فِيهِ لِلتَّحَدُّثِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ الْمُرَادُ مَا اخْتَارُوهُ نَادِيًا وَمَقِيلًا قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَمَوَاضِعُ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ كَالظِّلِّ فِي الصَّيْفِ يَعْنِي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَشَمَّسُونِ وَيَتَدَفَّئُونَ بِهِ كَمَا فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ اهـ. وَمِثْلُهَا مَوَارِدُ الْمَاءِ وَهِيَ طُرُقُهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ تَأْتِي، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَحَلِّ مُبَاحًا فَيُكْرَهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا فَيَحْرُمُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْهُ بِلَفْظِ ( «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» ) كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

340 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ، فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 340 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ شَهِدَ مَعَهُ الْمُشَاهِدَ كُلَّهَا، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِمَّنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، وَرِبْعِيٌّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ» ) : بِالْجَزْمِ وَلَا نَاهِيَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ وَرُوِيَ بِالضَّمِّ فِيهَا عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَالْمَعْنَى لَا يُخْرِجْ نَفَسَهُ (فِي الْإِنَاءِ) : أَيْ فِي دَاخِلِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ عِلَّةَ النَّهْيِ تَغَيُّرُ مَا فِي الْإِنَاءِ اهـ. يَعْنِي لِئَلَّا يُقِلَّ بُرُودَةَ الْمَاءِ الْكَاسِرَةِ لِلْعَطَشِ بِحَرَارَةِ النَّفَسِ أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ يَنْحَدِرَ قَذَرَةٌ مِنْ نَفَسِهِ، بَلْ إِذَا أَرَادَ التَّنَفُّسَ فَلْيَرْفَعْ فَمَهُ عَنِ الْإِنَاءِ فَيَتَنَفَّسُ ثُمَّ يَشْرَبُ وَقَدْ وَرَدَ: " «مُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا وَلَا تَعِبُّوهُ عَبًّا» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَفِي النِّهَايَةِ الْعَبُّ: الشُّرْبُ بِلَا تَنَفُّسٍ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الشُّرْبُ بِثَلَاثِ دُفْعَاتٍ أَقْمَعُ لِلْعَطَشِ وَأَقْوَى عَلَى الْهَضْمِ وَأَقَلُّ أَثَرًا فِي بَرْدِ الْمَعِدَةِ وَإِضْعَافِ الْأَعْصَابِ، وَفِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا إِذَا شَرِبَ وَيَقُولُ: هُوَ أَمْرَأُ وَأَرْوَى» ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْ يَشْرَبَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ يُبِينُ الْإِنَاءَ عَنْ فِيهِ فَيَتَنَفَّسُ ثُمَّ يَعُودُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ التَّنَفُّسُ فِي الْإِنَاءِ بِلَا إِبَانَةٍ أَوْ بِلَا تَنَفُّسٍ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الشَّرَهِ وَالْحِرْصِ وَالْغَفْلَةِ، وَلِذَا وَرَدَ: «لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ» ، وَوَرَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَشْرَبُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ إِذَا أَدْنَى الْإِنَاءَ إِلَى فِيهِ سَمَّى اللَّهَ، وَإِذَا أَخَّرَهُ حَمِدَ اللَّهَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا» أَيْ غَالِبًا، إِذْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا شَرِبَ تَنَفَّسَ مَرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ لِأَنَّهُ إِنْ رُوِيَ بِنَفَسَيْنِ وَاكْتُفِيَ بِهِمَا وَإِلَّا فَبِثَلَاثٍ (وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ، فَلَا يَمَسَّ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَيَجُوزُ رَفْعُهُ (ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَمَسَّحْ) : بِالسُّكُونِ وَضَمِّهَا (بِيَمِينِهِ) : أَيْ: لَا يَسْتَنْجِي لَهُمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلَا يَسْتَنْجِ بِيَمِينِهِ» ، ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَنْجِي بِالْحَجَرِ فَإِنْ أَخَذَهُ بِشِمَالِهِ وَالذَّكَرُ بِيَمِينِهِ فَقَدْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِهَا وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ؟ قُلْنَا: طَرِيقُهُ أَنْ يَأْخُذَ الذَّكَرَ بِشِمَالِهِ وَيَمْسَحَهُ عَلَى جِدَارٍ أَوْ حَجَرٍ كَبِيرٍ بِحَيْثُ لَا يَسْتَعْمِلُ يَمِينَهُ فِي ذَلِكَ أَصْلًا كَذَا فِي الْمُظْهِرِ وَالْأَشْرَفِيِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيُنَحِّ الْإِنَاءَ ثُمَّ لْيَعُدْ إِنْ كَانَ يُرِيدُ» . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي حُسَيْنٍ مُرْسَلًا ( «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ مَصًّا وَلَا يَعِبَّ عَبًّا فَإِنَّ الْكُبَادَ مِنَ الْعَبِّ» ) وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ.

341 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 341 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ» ) : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْثَارَ هُوَ طَرْحُ الْمَاءِ الَّذِي يَسْتَنْشِقُهُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَلْيُخْرِجِ الْمُخَاطَ مِنْ أَقْصَى الْأَنْفِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، لَكِنْ مَنَعَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سُكُوتُ الْوَاصِفِينَ لِوُضُوئِهِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ وَإِلَّا لَمْ يَسْكُتُوا عَنْهُ، فَلَا يُقَالُ لَا يَلْزَمُ كَمَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ عَنْ عَدَمِ النَّقْلِ عَدَمُ الْفِعْلِ اهـ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّهُ دَلَّ عَدَمُ فِعْلِهِ مُطْلَقًا أَوْ مَعَ عَدَمِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ وَأَيْضًا قَدْ يُقَالُ: إِنَّ نَفْسَ الِاسْتِنْشَاقِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْوُضُوءِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ، فَكَيْفَ بِالِاسْتِنْثَارِ الَّذِي هُوَ مُتَمِّمٌ وَمُكَمِّلٌ لَهُ؟ ( «وَمَنِ اسْتَجْمَرَ» ) : أَيْ: مَنِ اسْتَنْجَى بِالْجَمْرَةِ وَهِيَ الْحَجَرُ (فَلْيُوتِرْ) أَيْ: ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْإِيتَارُ أَنْ يَتَحَرَّاهُ وَتْرًا اهـ. وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ لِمَا وَرَدَ: " مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ " الْحَدِيثَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

342 - وَعَنْ) أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُ الْخَلَاءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ إِدَاوَةً، مِنْ مَاءٍ. وَعَنَزَةً يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 342 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ) : مَمْدُودًا الْمُتَوَضَّأُ لِخُلُوِّ الْإِنْسَانِ فِيهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَفِي شَرْحِ الْأَبْهَرِيِّ قَالَ الشَّيْخُ: الْمُرَادُ بِالْخَلَاءِ هُنَا الْفَضَاءُ لِمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ وَلِقَرِينَةِ حَمْلِ الْعَنَزَةِ مَعَ الْمَاءِ، وَأَيْضًا الْأَخْلِيَةِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ كَانَتْ خِدْمَتُهُ فِيهَا مُتَعَلِّقَةً بِأَهْلِهِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْغُلَامَ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ (فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ) : أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: بِلَالُ، أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ (إِدَاوَةً) أَيْ: مَطْهَرَةً وَهِيَ ظَرْفٌ مِنْ جِلْدٍ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ (مِنْ مَاءٍ) : أَيْ مَمْلُوءَةً مِنْهُ (وَعَنَزَةً) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى إِدَاوَةٍ أَيْ: أَحَدُنَا يَحْمِلُ الْإِدَاوَةَ وَالْآخَرُ الْعَنَزَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بِفَتْحِ النُّونِ أَطْوَلُ مِنَ الْعَصَا وَأَقْصَرُ مِنَ الرُّمْحِ، فِيهَا سِنَانٌ، وَحَمَلَهَا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعُدُ عَنِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ دَفْعًا لِضَرَرٍ وَغَائِلَةٍ وَلِيَنْبِشَ الْأَرْضَ الصُّلْبَةَ لِئَلَّا يَرْتَدَّ الْبَوْلُ إِلَيْهِ اهـ. وَقِيلَ: لِسُتْرَتِهِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَنْجَى تَوَضَّأَ، وَإِذَا تَوَضَّأَ صَلَّى، وَقِيلَ: لِيُرْكِزَهَا بِجَنْبِهِ لِتَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَنْعِ مَنْ يَرُومُ الْمُرُورَ بِقُرْبِهِ (يَسْتَنْجِي) : أَيْ: يُزِيلُ النَّجْوَةَ وَالْعُذْرَةَ (بِالْمَاءِ) وَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَاءِ تَارَةً وَعَلَى الْحَجَرِ أُخْرَى، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 343 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَفِي رِوَايَتِهِ وَضَعَ بَدَلَ نَزَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 343 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ) : أَيْ: أَرَادَ دُخُولَهُ (نَزَعَ) : أَيْ: أَخْرَجَ مِنْ أُصْبُعِهِ (خَاتَمَهُ) : بِفَتْحِ التَّاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرِهَا لِأَنَّ نَقْشَهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَنْحِيَةِ الْمُسْتَنْجِي اسْمَ اللَّهِ وَاسْمَ رَسُولِهِ وَالْقُرْآنَ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَيَعُمُّ الرُّسُلَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمُرِيدِ التَّبَرُّزِ أَنْ يُنَحِّيَ كُلَّ مَا عَلَيْهِ مُعَظَّمٌ مِنَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ فَإِنْ خَالَفَ كُرِهَ اهـ. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَذْهَبِنَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) تَقَدَّمَ دَفْعُ الْإِشْكَالِ. (وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ) . قَالَ أَبُو دَاوُدَ: الْوَهْمُ فِيهِ مِنْ هَمَّامٍ وَلَمْ يَرْوِهِ إِلَّا هَمَّامٌ اهـ. وَهَمَّامٌ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى بْنِ دِينَارِ الْأَزْدِيُّ، وَقَدِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ: ثَبْتٌ هُوَ فِي كُلِّ الْمَشَايِخِ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هُوَ أَصْدَقُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ لَهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَحَادِيثُهُ مُسْتَقِيمَةٌ اهـ. وَلِذَا صَوَّبَ الْمُنْذِرِيُّ قَوْلَ ابْنِ عَدِيٍّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: نَرُدُّهُ لَا لِوَهْنِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا لِكَوْنِهِ غَرِيبًا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ كَذَا حَقَّقَهُ مِيرَكُ شَاهْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: دَلَّ تَصْحِيحُ التِّرْمِذِيِّ لَهُ عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ فَانْجَبَرَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فَيَكُونُ حُجَّةً (وَفِي رِوَايَتِهِ) : أَيْ أَبِي دَاوُدَ (وَضَعَ) : أَيْ: مِنْ يَدِهِ (بَدَلَ: نَزَعَ) : أَيْ: مِنْ أُصْبُعِهِ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ.

344 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ الْبَرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 344 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ الْبَرَازَ) بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَصْحِيفٌ، أَيِ: الْقَضَاءَ أَوْ قَضَاءَ الْحَاجَّةِ (انْطَلَقَ) : أَيْ: ذَهَبَ فِي الصَّحْرَاءِ (حَتَّى لَا يَرَاهُ) : أَيْ: إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مَوْضِعٍ لَا يَرَاهُ فِيهِ (أَحَدٌ) ثُمَّ يَجْلِسُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَرَازُ بِفَتْحِ الْبَاءِ اسْمٌ لِلْفَضَاءِ الْوَاسِعِ كَنُّوا بِهِ عَنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ يُقَالُ: تَبَرَّزَ إِذَا تَغَوَّطَ وَهُمَا كِنَايَتَانِ حَسَنَتَانِ يَتَعَفَّفُونَ عَمَّا يَفْحُشُ ذِكْرُهُ صِيَانَةً لِلْأَلْسِنَةِ عَمَّا تُصَانُ عَنْهُ الْأَبْصَارُ وَكَسْرُ الْبَاءِ فِيهِ غَلَطٌ لِأَنَّ الْبِرَازَ بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ بَارَزَ فِي الْحَرْبِ اهـ. وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُحَدِّثُونَ يَرْوُونَهُ بِالْكَسْرِ وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ مِنَ الْمُبَارَزَةِ فِي الْحَرْبِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا لَفْظُهُ: الْبِرَازُ الْمُبَارَزَةُ فِي الْحَرْبِ، وَالْبِرَازُ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ ثِقَلِ الْغِذَاءِ وَهُوَ الْغَائِطُ ثُمَّ قَالَ: وَالْبَرَازُ بِالْفَتْحِ الْفَضَاءُ الْوَاسِعُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ الْمُحَدِّثُونَ بَعْضُهُمْ وَتَخْطِئَتُهُمْ غَيْرُ صَوَابٍ، فَإِنَّ رِوَايَتَهُمْ أَقْوَى مِنَ اللُّغَوِيِّينَ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا، فَكَيْفَ إِذَا تَوَافَقَا وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ أَيْضًا الْبِرَازُ كَكِتَابِ الْغَائِطُ، نَعَمْ، الْمُخْتَارُ فَتْحُ الْبَاءِ لِعَدَمِ اللَّبْسِ بِخِلَافِ الْكَسْرِ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ، نَزِيلُ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «كَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي قُرَادٍ.

345 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبُولَ، فَأَتَى دَمِثًا فِي أَصْلِ جِدَارٍ فَبَالَ. قَالَ: (إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَبُولَ، فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 345 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ) : أَيْ: يَوْمًا، وَذَاتَ: زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنِ السَّاعَةِ أَيْ: كُنْتُ يَوْمًا أَوْ سَاعَةَ يَوْمٍ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَأَرَادَ أَنْ يَبُولَ فَأَتَى دَمِثًا) : بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ الْمِيمِ هُوَ الرِّوَايَةُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ مَكَانًا لَيِّنًا سَهْلًا. فِي الْفَائِقِ: دَمِثَ الْمَكَانُ دَمِثًا لَانَ وَسَهُلَ (فِي أَصْلِ جِدَارٍ) : أَيْ: قَرِيبٌ مِنْهُ (فَبَالَ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْجِدَارُ الَّذِي قَعَدَ عِنْدَهُ عَادِيًّا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، فَإِنَّ الْبَوْلَ يَضُرُّ بِأَصْلِ الْبِنَاءِ وَيُوهِي أَسَاسَهُ يَعْنِي لِأَنَّهُ مِلْحٌ يَجْعَلُ التُّرَابَ سَبَخًا كَذَا قِيلَ أَيْ: فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَعَ أَنَّ تَنْجِيسَ مَالِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قُعُودُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَرَاخِيًا عَنْ جَزْمِ الْبِنَاءِ أَيْ أَصْلُهُ فَلَا يُصِيبُهُ الْبَوْلُ ( «ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَبُولَ، فَلْيَرْتَدْ» ) : بِسُكُونِ الدَّالِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ فَلْيَطْلُبْ مَكَانًا مِثْلَ هَذَا فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ لِبَوْلِهِ) أَيْ لِئَلَّا يَرْجِعَ إِلَيْهِ مِنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: الِارْتِيَادُ افْتِعَالٌ مِنَ الرَّوْدِ كَالِابْتِغَاءِ مِنَ الْبَغْيِ، وَمِنْهُ الرَّائِدُ طَالِبُ الْمَرْعَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، وَالْحَارِثُ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ مُرْسَلًا قَالَ: «كَانَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبُولَ فَأَتَى غِرَازًا مِنَ الْأَرْضِ أَيْ مَكَانًا يَابِسًا أَخَذَ عُودًا فَنَكَتَ بِهِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يُثِيرَ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ يَبُولُ فِيهِ» ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَيُقَوَّى بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ ضَعْفُ الْحَدِيثِ.

346 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الْأَرْضِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 346 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ) : أَيْ: قَضَاءَ الْحَاجَةِ (لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ) : أَيْ: يَقْرُبَ (مِنَ الْأَرْضِ) : احْتِرَازًا عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَهَذَا مِنْ أَدَبِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَسْتَوِي فِيهِ الصَّحْرَاءُ وَالْبُنْيَانُ لِأَنَّ فِي رَفْعِ الثَّوْبِ كَشْفَ الْعَوْرَةِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الرَّفْعِ قَبْلَ الْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي حَالِ الْخَلْوَةِ يَجُوزُ كَشْفُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً اتِّفَاقًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَضَعَّفَهُ (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدَهُ حَسَنٌ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ جَابِرٍ.

347 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، أُعَلِّمُكُمْ: إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا) وَأَمَرَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ. وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ. وَنَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ الرَّجُلُ بِيَمِينِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 347 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ) : أَيْ: مَا أَنَا لَكُمْ إِلَّا مِثْلُ الْوَالِدِ فِي الشَّفَقَةِ (لِوَلَدِهِ، أُعَلِّمُكُمْ) : أَيْ: أُمُورَ دِينِكُمُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ بَسْطٌ لِلْمُخَاطَبِينَ وَتَأْنِيسٌ لَهُمْ لِئَلَّا يَحْتَشِمُوا وَلَا يَسْتَحْيُوا عَنْ مَسْأَلَةٍ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ كَالْوَلَدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَالِدِ فِيمَا يَعِنُّ لَهُ، وَفِي هَذَا بَيَانُ وُجُوبِ طَاعَةِ الْآبَاءِ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ تَأْدِيبُ أَوْلَادِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ (إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ) أَيِ: الْخَلَاءَ أَوْ أَرَدْتُمْ قَضَاءَ الْحَاجَةِ بَوْلًا أَوْ غَائِطًا ( «فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا» ) : أَيْ: مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَتَقْيِيدُهُ بِالْبُنْيَانِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِهِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِدْبَارِ فِي الْبُنْيَانِ جَوَازُ الِاسْتِقْبَالِ فِيهِ (وَأَمَرَ) : أَيْ: هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرِيدَ الِاسْتِنْجَاءِ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ (بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ) : أَيْ: بِأَخْذِهَا أَوْ بِاسْتِعْمَالِهَا لِلِاسْتِنْجَاءِ ( «وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ» ) : أَيْ: عَنِ اسْتِعْمَالِهِمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَالرَّوْثِ السِّرْجِينِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ نَجِسٍ، وَالرِّمَّةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ جَمْعُ رَمِيمٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَرُمُّهَا أَيْ تَأْكُلُهَا، وَالرُّمَّةُ بِضَمِّ الرَّاءِ الْحَبْلُ الْبَالِي كَذَا فِي الْأَزْهَارِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَفِي الْفَائِقِ الرُّمَّةُ الْعَظْمُ الْبَالِي بِمَعْنَى الرَّمِيمِ، أَوْ جَمْعُ رَمِيمٍ كَخَلِيلِ وَخُلَّةٍ، مِنْ رَمَّ الْعَظْمُ إِذَا بَلِيَ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْعَظْمِ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لِأَنَّهَا كَانَتْ مَيْتَةً أَيْ مَجَسُّهُ أَوْ أَنَّهَا لِمَلَاسَتِهَا لَا تُقْلِعُ النَّجَاسَةَ أَوْ لِأَنَّهَا تَجْرَحُ الْبَدَنَ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ تَخْصِيصُ النَّهْيِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ يَجُوزُ بِكُلِّ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَحْجَارِ فِي الْإِنْقَاءِ وَهُوَ كُلُّ جَامِدٍ طَاهِرٍ قَالِعٍ لِلنَّجَاسَةِ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ مِنْ مَدَرٍ وَخَشَبٍ وَخِرَقٍ وَخَزَفٍ اهـ. قَالُوا: وَالْكَاغِدُ وَإِنْ كَانَ بَيَاضًا فَهُوَ مُحْتَرَمٌ إِلَّا إِذَا كُتِبَ عَلَيْهِ نَحْوَ الْمَنْطِقِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ ( «وَنَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ» ) : أَيْ يَسْتَنْجِيَ (الرَّجُلُ بِيَمِينِهِ) . وَكَذَا الْمَرْأَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: سُمِّيَ الِاسْتِنْجَاءُ اسْتِطَابَةً لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَتَطْهِيرِهَا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَبُو دَاوُدَ (وَالدَّارِمِيُّ) بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَرَوَى أَحْمَدُ نَحْوَهُ. قَالَ مِيرَكُ شَاهْ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالنَّسَائِيُّ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مُخْتَصَرًا.

348 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ وَطَعَامِهِ وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 348 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ) : تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَالْعَادَةِ (يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ) : بِالضَّمِّ أَوِ الْفَتْحِ أَيْ: كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْيَدَ الْيُمْنَى لِوُضُوئِهِ (وَطَعَامِهِ) : أَيْ لِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَمَا كَانَ مِنْ مُكْرَمٍ كَالْإِعْطَاءِ وَالْأَخْذِ وَاللُّبْسِ وَالسِّوَاكِ وَالتَّنَعُّلِ وَالتَّرَجُّلِ ( «وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ» ) : أَيْ: لِأَجْلِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي الْخَلَاءِ (وَمَا كَانَ) : تَامَّةٌ أَيْ: مَا وُجِدَ وَمَعَ (مِنْ) : بَيَانِيَّةٌ (أَذًى) أَيْ: مَا تَسْتَكْرِهُهُ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ كَالْمُخَاطِ وَالرُّعَافِ، وَخَلْعِ الثَّوْثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِدْخَالَ الْمَاءِ فِي الْأَنْفِ بِالْيَمِينِ، وَالتَّمَخُّطَ بِالْيَسَارِ، وَكَثِيرًا مَا رَأَيْنَا عَوَامَّ طَلَبَةِ الْعِلْمِ يَأْخُذُونَ الْكِتَابَ بِالْيَسَارِ وَالنِّعَالَ بِالْيَمِينِ إِمَّا لِجَهْلِهِمْ أَوْ غَفْلَتِهِمْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَقَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَعْلُولٌ لَكِنْ يُعَضِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي قُبَيْلَ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْوُضُوءِ.

349 - وَعَنْهَا. قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 349 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ) : أَيِ: الْخَلَاءِ، (فَلْيَذْهَبْ) : أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ (مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (يَسْتَطِيبُ) : بِالرَّفْعِ مُسْتَأْنَفٌ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ، أَوْ حَالٌ بِمَعْنَى عَازِمًا عَلَى الِاسْتِطَابَةِ (بِهِنَّ) : الْبَاءُ لِلْآلَةِ (فَإِنَّهَا) : أَيِ: الْأَحْجَارُ (تُجْزِئُ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهُ يَاءٌ أَيْ: تَكْفِي وَتُغْنِي وَتَنُوبُ (عَنْهُ) : أَيْ: عَنِ الْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ عَنِ الْمُسْتَنْجِي وَهُوَ بَعِيدٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَهُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: يَسْتَطِيبُ أَيْ: يُزِيلُ النَّجَاسَةَ اسْتِطَابَةً لِلنُّفُوسِ بِهَذَا التَّرَخُّصِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

350 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلَا بِالْعِظَامِ، فَإِنَّهَا زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: ( «زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 350 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ» ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّهُ نَجِسٌ وَهُوَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُزِيلَ أَوْ يُخَفِّفَ آخَرَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ تَخْفِيفَهُ آخَرَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، ثُمَّ الْأَوْلَى أَنَّهُ يُعَلَّلُ بِمَا عَلَّلَهُ الشَّارِعُ بِمَا وَرَدَ أَنَّ الرَّوْثَ لِدَوَابِّهِمْ (وَلَا بِالْعِظَامِ) فَإِنَّهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَإِنَّهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي " فَإِنَّهُ " رَاجِعٌ إِلَى الرَّوْثِ وَالْعِظَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ كَمَا وَرَدَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ " فَإِنَّهَا " فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْعِظَامِ، وَالرَّوْثُ تَابِعٌ لَهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] اهـ. وَالْأَظْهَرُ فِي التَّنْظِيرِ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] فَتَأَمَّلْ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ رُوعِيَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَيْنِ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَكَتَ عَنِ الرَّوْثِ لِأَنَّ كَوْنَهُ زَادًا لَهُمْ إِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لِدَوَابِّهِمُ اهـ. وَهَذَا يُوَضِّحُ كَلَامَ الطِّيبِيِّ، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: وَالرَّوْثُ تَابِعٌ لِلْعِظَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( «زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» ) . قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ أَنَّ الْجِنَّ مُسْلِمُونَ حَيْثُ سَمَّاهُمْ إِخْوَانًا وَأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ. رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: «أَنَّ الْجِنَّ سَأَلُوا هَدِيَّةً مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَاهُمُ الْعَظْمَ وَالرَّوْثَ ; الْعَظْمُ لَهُمْ، وَالرَّوْثُ لِدَوَابِّهِمْ» . وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي دَلَائِلِ

النُّبُوَّةِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنِ مَسْعُودٍ، لَيْلَةَ الْجِنِّ: ( «أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ جَاءُونِي فَسَأَلُونِي الْمَتَاعَ» ) وَالْمَتَاعُ: الزَّادُ ( «فَمَتَّعْتُهُمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ أَوْ رَوْثَةٍ، أَوْ بَعْرَةٍ) قُلْتُ: وَمَا يُعْتَنَى مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ (فَإِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ أُخِذَ وَلَا رَوْثَةً إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا الَّذِي كَانَ فِيهَا يَوْمَ أُكِلَتْ فَلَا يَسْتَنْجِ أَحَدُكُمْ بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثٍ» ) اهـ. وَالْحَبُّ أَعَمُّ مِنَ الشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَسَنَدُهُ حَسَنٌ (وَالنَّسَائِيُّ إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ: النَّسَائِيُّ لَمْ يَذْكُرْ: زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ) أَيْ قَوْلَهُ: فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ إِلَخْ. وَاسْتِيعَابُ أَحَادِيثِ الْبَابِ يُفْضِي إِلَى الْإِطْنَابِ، وَقَدْ أَتَى ابْنُ حَجَرٍ بِجُمْلَةٍ مِنْهَا فَرَاجِعْهَا.

351 - وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «يَا رُوَيْفِعُ! لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ بَعْدِي، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ، أَوْ عَظْمٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 351 - (وَعَنْ رُوَيْفِعِ) : مُصَغَّرُ رَافِعٍ (بْنِ ثَابِتٍ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: أَنْصَارِيٌّ عِدَادُهُ فِي الْمِصْرِيِّينَ وَأَمَّرَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى طَرَابُلُسَ الْمَغْرِبِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ. وَمَاتَ بِبُرْقَةَ وَقِيلَ بِالشَّامِ. رَوَى عَنْهُ حَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ (قَالَ: قَالَ لِي) : أَيْ: خَاصَّةً (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رُوَيْفِعُ لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ) : السِّينُ لِلتَّأْكِيدِ فِي الِاسْتِقْبَالِ (بِكَ) : الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ (بَعْدِي) : أَيْ: بَعْدَ مَوْتِي (فَأَخْبِرِ النَّاسَ) : الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا طَالَتْ فَأَخْبِرْ، وَالْمَعْنَى لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَمْتَدُّ حَالَ كَوْنِهَا مُلْتَصِقَةً بِكَ حَتَّى تَرَى النَّاسَ قَدِ ارْتَكَبُوا أُمُورًا مِنَ الْمَعَاصِي يَتَجَاهَرُونَ بِهَا، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ، وَفِيهِ إِظْهَارٌ لِلْمُعْجِزَةِ بِإِخْبَارٍ عَنِ الْغَيْبِ مِنْ تَغْيِيرٍ يَحْصُلُ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ مُهْتَمٌّ بِشَأْنِهَا (أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ) : قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ مُعَالَجَتُهَا حَتَّى تَنْعَقِدَ وَتَتَجَعَّدَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الَّتِي هِيَ تَسْرِيحُ اللِّحْيَةِ، وَقِيلَ: كَانُوا يَعْقِدُونَهَا فِي الْحَرْبِ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِرْسَالِهَا لِمَا فِي عَقْدِهَا مِنَ التَّأْنِيثِ أَيِ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِ الْعَجَمِ أَيْضًا فَنُهُوا عَنْهُ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ، وَقِيلَ: كَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ عَقَدَ فِي لِحْيَتِهِ عُقْدَةً صَغِيرَةً، وَمَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ عَقَدَ عُقْدَتَيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ (أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: خَيْطًا فِيهِ تَعْوِيذٌ أَوْ خَرَزَاتٌ لِدَفْعِ الْعَيْنِ أَوِ الْحِفْظِ عَنِ الْآفَاتِ كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَى رِقَابِ الْوَلَدِ وَالْفَرَسِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا الْأَجْرَاسَ، وَالْمَعْنَى أَوْ تَقَلَّدَ الْفَرَسُ وَتَرَ الْقَوْسِ، قِيلَ النَّهْيُ عَنِ الْعَقْدِ وَالتَّقْلِيدِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَقِيلَ: كَانَ عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِي رِقَابِ دَوَابِّهِمُ الْوَتَرَ وَيَزْعُمُونَ دَفْعَ الْعَيْنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ تَقْلِيدِ الْخَيْلِ أَوْتَارَ الْقِسِيِّ لِئَلَّا يُصِيبَهَا الْعَيْنُ مَخَافَةَ اخْتِنَاقِهَا بِهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ شِدَّةِ الرَّكْضِ وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِقَطْعِ الْأَوْتَارِ مِنْ أَعْنَاقِ الْخَيْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا لَا تَرُدُّ شَيْئًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي وَأَمَّا الِاخْتِنَاقُ بِهِ فَهُوَ سَبَبٌ عَادِيٌّ فَيُحْتَرَزُ عَنْهُ ( «أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ» ) : أَيْ: رَوْثُهَا (أَوْ عَظْمٍ) : مُطْلَقًا (فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ) وَهَذَا مِنْ بَابِ الْوَعِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ الشَّدِيدِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَدَلَ إِلَيْهِ عَنْ " فَأَنَا " أَوْ " فَإِنِّي " اهْتِمَامًا بِشَأْنِ تِلْكَ الْأُمُورِ، وَتَأْكِيدًا أَوْ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْهَا اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْجُمْلَةِ لَا مِنَ الْعُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ يَسْتَوِي فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ زَيْدٍ فَإِنِّي بَرِيءٌ وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ زَيْدًا بَرِيءٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الْعُدُولِ أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الرَّاوِي الْمُخْبِرِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ، وَالْوَصْفِ الْمُكَرَّمِ الَّذِي حَمِدَهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنْهُ بَرِيءٌ فَيَكُونُ دَلَالَةً عَلَى غَايَةِ ذَمِّهِ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَبْرَأُ إِلَّا مِنْ مُذَمَّمٍ فَإِنَّهُ ضِدُّهُ (رَوَاهُ دَاوُدُ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

352 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ، فَيَلْفِظْ، وَمَا لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْتَلِعْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 352 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَنِ اكْتَحَلَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مَنْ أَرَادَ الِاكْتِحَالَ وَكَذَا الْبَوَاقِي اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلِاكْتِحَالِ مَأْمُورٌ بِالْإِيتَارِ لَا مُرِيدَ الْمُبَاشَرَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَكَذَا الْبَوَاقِي، وَالْمَعْنَى مَنْ شَرَعَ فِي الِاكْتِحَالِ (فَلْيُوتِرْ) : أَيْ ثَلَاثًا مُتَوَالِيَةً فِي كُلِّ عَيْنٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثًا فِي الْيُمْنَى وَاثْنَيْنِ فِي الْيُسْرَى، لِيَكُونَ الْمَجْمُوعُ وِتْرًا وَالتَّثْلِيثُ عُلِمَ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا فَالْوِتْرُ صَادِقٌ عَلَى مَرَّةٍ فَفِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَةً فِي هَذِهِ وَثَلَاثَةً فِي هَذِهِ» (مَنْ فَعَلَ) : أَيْ كَذَلِكَ (فَقَدْ أَحْسَنَ) : أَيْ: فَعَلَ فِعْلًا حَسَنًا وَيُثَابُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ تَخَلُّقٌ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِيتَارِ فِي الْأُمُورِ (وَمَنْ لَا) : أَيْ: لَا يَفْعَلُ الْوِتْرَ (فَلَا حَرَجَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانِ سُقُوطِ وُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ: لَا حَرَجَ أَيْ لَا إِثْمَ ( «وَمَنِ اسْتَجْمَرَ» ) : أَيِ: اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ (فَلْيُوتِرْ) : ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا (مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ) : أَيْ: بَالَغَ فِي الْحُسْنِ ( «وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» ) إِذِ الْمَقْصُودُ الْإِنْقَاءُ، وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَعَدَمِ شَرْطِ الْإِيتَارِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ( «وَمَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ» ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَالْجَزَاءُ (فَلْيَلْفِظْ) : بِالْكَسْرِ أَيْ: فَلْيَرْمِ وَلْيَطْرَحْ مَا أَخْرَجَهُ بِالْخِلَالِ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ، وَالشَّرْطِيَّةُ جَزَاءُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ (وَمَا لَاكَ) : عَطْفٌ عَلَى مَا تَخَلَّلَ أَيْ: مَا أَخْرَجَهُ بِلِسَانِهِ: قِيلَ: اللَّوْكُ إِدَارَةُ الشَّيْءِ بِلِسَانِهِ (فَلْيَبْتَلِعْ) : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً خَبَرُهُ فَلْيَلْفِظْ، وَالْفَاءُ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولَةِ لِشَبَهِهِ بِالشَّرْطِ أَوْ لِتَضَمُّنِهِ لَهُ وَالْجُمْلَةُ جَزَاءُ الشَّرْطِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنَّمَا أَمَرَ بِلَفْظِ مَا تَخَلَّلَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَخْرُجُ مَعَ الْخِلَالِ دَمٌ بِخِلَافِ مَا لَاكَ (مَنْ فَعَلَ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ رَمْيِ ذَاكَ عَنِ ابْتِلَاعِ هَذَا (فَقَدْ أَحْسَنَ) أَيْ: إِلَى نَفْسِهِ بِعَمَلِ الِاحْتِيَاطِ (وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ) وَإِنَّمَا نُفِيَ الْحَرَجُ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَيَقَّنْ خُرُوجُ الدَّمِ مَعَهُ وَإِنْ تُيُقِّنَ حُرِّمَ أَكْلُهُ (وَمَنْ أَتَى الْغَائِطَ) : أَيِ: الْخَلَاءَ (فَلْيَسْتَتِرْ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَمْرٌ بِالتَّسَتُّرِ مَا أَمْكَنَ حَيْثُ لَا يَكُونُ قُعُودُهُ حَيْثُ يَقَعُ عَلَيْهِ إِبْصَارُ النَّاظِرِينَ، فَيَتَهَتَّكُ السَّتْرُ أَوْ يَهُبُّ عَلَيْهِ الرِّيحُ فَيُصِيبُهُ الْبَلَلُ فَتَتَلَوَّثُ ثِيَابُهُ وَبَدَنُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ لَعِبِ الشَّيْطَانِ بِهِ وَقَصْدِهِ إِيَّاهُ بِالْفَسَادِ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) : أَيْ: شَيْئًا سَاتِرًا ( «إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا» ) : أَيْ: كَوْمَةً (مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ) : أَيْ: لِيَجْعَلَهُ خَلْفَهُ لِئَلَّا يَرَاهُ أَحَدٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ أَيْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ إِلَّا جَمْعَ كَثِيبٍ مِنْ رَمْلٍ فَلْيَجْمَعْهُ وَيَسْتَدْبِرْهُ لِأَنَّ الْقُبُلَ يَسْهُلُ سَتْرُهُ بِالذَّيْلِ أَوْ بِجَمْعِ الْفَخِذَيْنِ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ) فَيْعَالٌ: مِنْ شَطَنَ أَيْ: بَعُدَ، أَوْ فَعْلَانٌ: مِنْ شَاطَ إِذَا هَلَكَ (يَلْعَبُ) : أَيْ: إِذَا لَمْ يَسْتَتِرْ (بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ) : أَيْ: يَتَمَكَّنُ مِنْ وَسْوَسَةِ الْغَيْرِ إِلَى النَّظَرِ إِلَى مَقْعَدِهِ (مَنْ فَعَلَ) : أَيْ: جَمَعَ الْكَثِيبَ وَالسِّتْرَ (فَقَدْ أَحْسَنَ) : بِإِسَاءَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَدَفْعِ وَسْوَسَتِهِ (وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ) أَيْ: إِذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

353 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ، أَوْ يَتَوَضَّأُ فِيهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، إِلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ أَوْ يَتَوَضَّأُ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 353 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) : بِمُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ مُثَقَّلَةٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ بَلْدَةَ تُسْتَرَ حِينَ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: مُزَنِيٌّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، سَكَنَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَكَانَ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عُمَرُ إِلَى الْبَصْرَةِ يُفَقِّهُونَ النَّاسَ، وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ سِتِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَالَ: مَا نَزَلَ الْبَصْرَةَ أَشْرَفُ مِنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ» ) : فِي الْأَزْهَارِ النَّهْيُ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ ( «فِي مُسْتَحَمِّهِ» ) : الْمُسْتَحَمُّ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ مِنَ الْحَمِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، وَالْمُرَادُ الْمُغْتَسَلُ مُطْلَقًا، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُتَوَضَّأُ، وَلِذَا قَالَ فِيمَا بَعْدُ: أَوْ يَتَوَضَّأُ (ثُمَّ) اسْتِبْعَادِيَّةٌ يَعْنِي يُسْتَبْعَدُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا (يَغْتَسِلُ فِيهِ) يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ أَيْ: ثُمَّ هُوَ يَغْتَسِلُ وَالْجَزْمُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَجُوِّزَ النَّصْبُ فِي جَوَابِ النَّهْيِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ ثُمَّ بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ لَكِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ كَمَا فِي: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ، وَالْحَالُ أَنَّ الْبَوْلَ فِيهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ اغْتِسَالٌ أَوْ لَا. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: أَجْرَى الْكُوفِيُّونَ " ثُمَّ " مُجْرَى الْفَاءِ وَالْوَاوِ فِي جَوَازِ نَصْبِ الْمُضَارِعِ الْمَقْرُونِ بِهَا بَعْدَ فِعْلِ الشَّرْطِ وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ بِقِرَاءَةِ الْحَسَنِ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] بِنَصْبِ يُدْرِكَهُ، وَأَجْرَاهَا ابْنُ مَالِكٍ مُجْرَاهُمَا بَعْدَ الطَّلَبِ فَأَجَازَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» ) ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. الرَّفْعَ بِتَقْدِيرِ ثُمَّ هُوَ يَغْتَسِلُ وَبِهِ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ، وَالْجَزْمَ بِالْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ النَّهْيِ، وَالنَّصْبَ قَالَ: بِإِعْطَاءِ ثُمَّ حُكْمَ وَاوِ الْجَمْعِ فَتَوَهَّمَ تِلْمِيذُهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ إِعْطَاؤُهَا حُكْمَهَا فِي إِفَادَةِ مَعْنَى الْجَمْعِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ النَّصْبُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا دُونَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَلِ الْبَوْلُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ سَوَاءٌ أَرَادَ الِاغْتِسَالَ فِيهِ أَوْ مِنْهُ أَمْ لَا اهـ. وَإِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ مَالِكٍ إِعْطَاءَهَا حُكْمَهَا فِي النَّصْبِ لَا فِي الْمَعِيَّةِ أَيْضًا، ثُمَّ مَا أَوْرَدَهُ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ الْمَفْهُومِ لَا الْمَنْطُوقِ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ إِرَادَتِهِ وَنَظِيرُهُ أَجَازَهُ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42] كَوْنُ تَكْتُمُوا مَجْزُومًا وَكَوْنُهُ مَنْصُوبًا مَعَ أَنَّ النَّصْبَ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ النَّوَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ الْمَنْهِيَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ، وَإِنْ عُلِمَ نَهْيُ أَحَدِهِمَا مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُغْنِي بِخِلَافِ كَلَامِ الطِّيبِيِّ هُنَا أَنَّ الْبَوْلَ فِيهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ اغْتِسَالٌ أَوْ لَا. فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ وَالصَّوَابُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ بِدَلِيلِ التَّعْلِيلِ الْآتِي فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَالَ فِي الْمُسْتَحَمِّ وَلَمْ يَغْتَسِلْ فِيهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مَهْجُورًا مِنَ الِاغْتِسَالِ فِيهِ أَوِ اغْتَسَلَ فِيهِ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَبُلْ فِيهِ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ (أَوْ يَتَوَضَّأُ فِيهِ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ ( «فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ» ) : أَيْ: أَكْثَرُ وَسْوَاسِ الطَّهَارَةِ (مِنْهُ: أَيْ: يَحْصُلُ مِنَ الْبَوْلِ فِي الْمُسْتَحَمِّ ثُمَّ الْغُسْلُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ نَجِسًا فَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ وَسْوَسَةٌ بِأَنَّهُ هَلْ أَصَابَهُ مِنْهُ رَشَاشٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ مَاءَ الطَّهَارَةِ حِينَئِذٍ يُصِيبُ أَرْضَهُ النَّجِسَةَ بِالْبَوْلِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ فَكُرِهَ الْبَوْلُ فِيهِ لِذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ كَانَتْ أَرْضُهُ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ مِنْهَا رَشَاشٌ أَوْ كَانَ لَهُ مَنْفَذٌ بِحَيْثُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْبَوْلِ لَمْ يُكْرَهِ الْبَوْلُ فِيهِ إِذْ لَا يَجُرُّ إِلَى وَسْوَاسٍ لِأَمْنِهِ مِنْ عَوْدِ الرَّشَاشِ إِلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ وَلِطُهْرِ أَرْضِهِ فِي الثَّانِي بِأَدْنَى مَاءٍ طَهُورٍ يَمُرُّ عَلَيْهَا اهـ. وَهُوَ يُؤَيِّدُ اعْتِرَاضَنَا عَلَى الطِّيبِيِّ، وَكَأَنَّهُ ذُهِلَ عَنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَوِ انْتَقَلَ إِلَى كَلَامِ النَّوَوِيِّ، وَلِذَا سَكَتُّ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ (وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، إِلَّا أَنَّهُمَا) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ كَابْنِ مَاجَهْ (لَمْ يَذْكُرَا: ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ، أَوْ يَتَوَضَّأُ فِيهِ) . وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِطْلَاقِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْمُسْتَحَمِّ هُوَ أَنْ يَغْتَسِلَ فِيهِ أَوْ يَتَوَضَّأَ أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَغْلَبِ الْوَاقِعِ.

354 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي جُحْرٍ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 354 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ) بِسِينَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا جِيمٌ عَلَى وَزْنِ نَرْجِسٍ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ وَفِي التَّهْذِيبِ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَفِي الْقَامُوسِ: النِّرْجِسُ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا ثُمَّ فِي الْأَصْلِ مُنْصَرِفٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى عَدَمِ الصَّرْفِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَابْنُ الْمَلَكِ سَرْجِسُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ. قَالَ شَيْخُنَا الْمَرْحُومُ مَوْلَانَا عَبْدُ اللَّهِ السِّنْدِيُّ: ضُبِطَ كَنَرْجِسٍ وَعَلَيْهِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، إِذَا لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ فَعْلِلْ بِكَسْرِ اللَّامِ لِأَنَّ هَذَا الْوَزْنَ مُخْتَصٌّ بِالْأَمْرِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَأَمَّا نَرْجِسُ فَنُونُهُ زَائِدَةٌ وَإِنْ ضُبِطَ كَجَعْفَرٍ فَمُنْصَرِفٌ، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ. قُلْتُ: لَوْ ضُبِطَ كَجَعْفَرٍ لَزِمَ فَتْحُ اللَّامِ الْأُولَى، إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ ضَبْطِهِمْ بَيَانُ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَا الِانْصِرَافُ وَعَدَمُهُ، نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الضَّبْطِ أَنْ يَكُونَ مُنْصَرِفًا فَإِنَّ عِلَّةَ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ عَدَمُ وُجْدَانِ فَعْلِلْ بِكَسْرِ اللَّامِ قَدْ زَالَتْ حِينَئِذٍ فَيَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ مُنْصَرِفًا لَكِنْ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ فَلَا يُعْدَلُ عَمَّا ثَبَتَ مِنْ كَسْرِ الْجِيمِ لَكِنْ يَصِحُّ الِانْصِرَافُ عَلَى تَقْدِيرِ كَسْرِ السِّينِ الْأُولَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ كَزِبْرِجٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ مُزَنِيٌّ وَيُقَالُ مَخْزُومِيٌّ وَأَظُنُّهُ حَلِيفًا لَهُمْ وَهُوَ مِصْرِيٌّ، حَدِيثُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ وَغَيْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي جُحْرٍ» ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْخَرْقُ فِي الْجِدَارِ وَالْأَرْضِ، لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ مَا يُؤْذِيهِ، أَوْ رُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ حَيَوَانٌ ضَعِيفٌ فَيَتَأَذَّى، قِيلَ: وَالْجُحْرُ الْمُعَدُّ لِلْبَوْلِ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجْهُ النَّهْيِ أَنَّ الْجُحْرَ مَأْوَى الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ وَذَاتِ السُّمِّ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُ مَضَرَّةٌ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الَّذِي يَبُولُ فِي الْجُحْرِ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْجِنِّ وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الْخَزْرَجِيَّ قَتَلَهُ الْجِنُّ لِأَنَّهُ بَالَ فِي جُحْرٍ بِأَرْضِ حُورَانَ وَرُوِيَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْجُحْرِ: نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْ رَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَهْ وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمٍ فَلَمْ نُخْطِئْ فُؤَادَهْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

355 - وَعَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 355 - (وَعَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اتَّقُوا) : أَيِ: احْتَرِزُوا (الْمَلَاعِنَ) أَيْ: مَجَالِبَ اللَّعْنِ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا يَلْعَنُهُمُ الْمَارُّ لِفِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ أَوْ لِأَنَّهُمْ أَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَنْفَعَتَهُمْ فَكَانَ ظُلْمًا، وَكُلُّ ظَالِمٍ مَلْعُونٌ، وَهُوَ جَمْعُ مَلْعَنَةٍ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكْثُرُ فِيهِ اللَّعْنُ كَالْمَأْسَدَةِ، أَوِ اجْتَنِبُوا الْفِعْلَاتِ الَّتِي تُوجِبُ لَعْنَ فَاعِلِهَا عَادَةً كَأَنَّهُ مَظِنَّةُ اللَّعْنِ، كَحَدِيثِ: ( «الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» ) . وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: جَمْعُ مَلْعَنٍ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَوِ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ لَعَنَ إِذَا شَتَمَ اهـ. فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا مَعْنَاهُ: اتَّقُوا اللَّعَنَاتِ أَيْ أَسْبَابَهَا، أَوِ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ يَعْنِي: اجْتَنِبُوا اللَّاعِنَاتِ أَيِ: الْحَامِلَاتِ وَالْبَاعِثَاتِ عَلَى اللَّعْنِ، فَيَصِيرُ نَظِيرَ: اتَّقُوا اللَّاعِنِينَ مَعَ زِيَادَةِ وَاحِدٍ (الثَّلَاثَةَ) أَيِ: الْمَوَاضِعُ أَوِ الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتَّقُوا الْأَمَاكِنَ الَّتِي تُفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالُ فِيهَا فَكَيْفَ الْأَفْعَالُ (الْبَرَازَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَالرَّبْطِ بَعْدَ الْعَطْفِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي أَيِ: التَّغَوُّطَ وَالْبَوْلَ (فِي الْمَوَارِدِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ عَيْنٍ أَوْ نَهْرٍ اهـ. فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَاءِ الرَّاكِدِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَوَارِدِ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي يَأْتِيهَا النَّاسُ كَالْأَنْدِيَةِ أَيْ: مَوْضِعُ وُرُودِ النَّاسِ لِلتَّحَدُّثِ، وَقِيلَ: جَمْعُ مَوْرِدَةٍ مَفْعِلَةٌ مِنَ الْوُرُودِ وَهِيَ طَرِيقُ الْمَاءِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ (وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ) أَيْ: وَسَطِهِ الَّتِي يَقْرَعُهَا النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ وَتَدُقُّهَا وَتَمُرُّ عَلَيْهَا (وَالظِّلِّ) أَيْ: فِي ظِلِّ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَقِيلِ النَّاسِ وَمُنَاخِهِمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالظِّلُّ فِي الصَّيْفِ وَمِثْلُهُ الشَّمْسُ فِي الشِّتَاءِ أَيْ: فِي مَوْضِعٍ يَسْتَدْفِئُ فِيهِ النَّاسُ بِهَا، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ تَقْيِيدِ الظِّلِّ بِالصَّيْفِ أَوْلَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ (وَابْنُ مَاجَهْ) : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

356 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا يَخْرُجِ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 356 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْرُجِ الرَّجُلَانِ) أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ عَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ لِأَنَّهُ نَهْيٌ، فَيَكُونُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَصْلًا، وَقِيلَ: مَنْفِيٌّ فَيَكُونُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَصْلًا، وَكَذَا الْمَرْأَتَانِ (يَضْرِبَانِ) : أَيْ: يَفْعَلَانِ (الْغَائِطَ) : فَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ السَّبَبِ وَإِرَادَةِ الْمُسَبَّبِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُقَالُ ضَرَبْتُ الْأَرْضَ إِذَا أَتَيْتُ الْخَلَاءَ وَضَرَبْتُ فِي الْأَرْضِ إِذَا سَافَرْتُ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ الذَّهَابُ فِيهَا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الذَّاهِبَ فِي الْأَرْضِ يَضْرِبُهَا بِرِجْلِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ نُصِبَ الْغَائِطُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ لِلْغَائِطِ وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ يَضْرِبُ الْغَائِطَ وَالْخَلَاءَ وَالْأَرْضَ إِذَا ذَهَبَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَالْمَعْنَى يَمْشِيَانِ لِأَجْلِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ يَأْتِيَانِ الْخَلَاءَ حَالَ كَوْنِهِمَا (كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتِهِمَا) يَنْظُرُ كُلٌّ إِلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ عِنْدَ الذَّهَابِ أَوْ وَقْتَ التَّغَوُّطِ (يَتَحَدَّثَانِ) حَالٌ ثَانِيَةٌ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَضْرِبَانِ وَيَتَحَدَّثَانِ صِفَتَا " الرَّجُلَانِ " لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ لِلْجِنْسِ أَيْ: رَجُلَانِ مِنْ جِنْسِ الرِّجَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُمَا يَضْرِبَانِ وَيَتَحَدَّثَانِ اسْتِئْنَافًا وَكَاشِفَيْنِ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ مِنْ ضَمِيرِ يَضْرِبَانِ، وَلَوْ جُعِلَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يَتَحَدَّثَانِ لَمْ تَكُنْ مُقَدَّرَةً، وَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ النَّهْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى الْجَمِيعِ اهـ. فَإِنَّ الْجَمْعَ بِمَعْنَى الْمَجْمُوعِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْمَقْتِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْغَضَبِ وَلِذَا قَالَ: (فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ: يَغْضَبُ (عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى مَا ذُكِرَ وَهُوَ الْمَرْكَبُ مِنْ مُحَرَّمٍ وَهُوَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ، وَمَكْرُوهٌ وَهُوَ التَّحَدُّثُ وَقْتَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَا يَذْكُرِ اللَّهَ بِلِسَانِهِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَلَا فِي الْمُجَامَعَةِ بَلْ فِي النَّفْسِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: سُلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرُدَّ وَإِذَا عَطَسَ فِي الْخَلَاءِ يَحْمَدِ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ قَالَهُ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

357 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 357 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) : صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ وَسَكَنَهَا وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ حَشَّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا وَهُوَ الْكَنِيفُ، وَأَصْلُ الْحَشِّ جَمَاعَةُ النَّخْلِ لِاكْتِنَافِهِ، ثُمَّ كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْخَلَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَغَوَّطُونَ بَيْنَ النَّخِيلِ كَذَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَمْعُ حُشٍّ وَهُوَ بِالضَّمِّ مَوْضِعُ الْغَائِطِ وَبِالْفَتْحِ الْبُسْتَانُ لِأَنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يُتَّخَذَ الْكَنِيفُ فِي الْبُيُوتِ كَانُوا كَثِيرًا يَتَغَوَّطُونَ فِي الْبَسَاتِينِ (مُحْتَضَرَةٌ) : أَيْ: بِحَضْرَةِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ يَتَرَصَّدُونَ بَنِي آدَمَ بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ تُكْشَفُ الْعَوْرَةُ فِيهِ وَلَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ فِيهِ (فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ) : أَيْ: قَرُبَ إِلَيْهِ (فَلْيَقُلْ) الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ (أُعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَيُسَكَّنُ (وَالْخَبَائِثِ) وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ (إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ هَذَا مَرَّةً وَالْآخَرَ مَرَّةً أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، أَوْ هَذَا مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْأَوَّلُ لِأَرْبَابِ الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَذَاكَ فِعْلُهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

358 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمُ الْخَلَاءَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 358 - (وَعَنْ عَلِيٍّ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ( «سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ» ) : بِفَتْحِ السِّينِ مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْحِجَابُ (وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ) : بِسُكُونِ الْوَاوِ (إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمُ الْخَلَاءَ) أَيْ وَقْتَ دُخُولِ أَحَدِ بَنِي آدَمَ، وَفِي نُسْخَةٍ أَحَدُكُمْ. قَالَ الْكَازَرُونِيُّ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَحَدُكُمْ بِالْخِطَابِ، وَبِغَيْرِ أَنْ وَالصَّوَابُ الْغَيْبَةُ وَيُرَادُ (أَنْ) عَلَى (يَقُولُ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ: " سَتْرُ " مُبْتَدَأٌ " وَمَا بَيْنَ " مَوْصُولَةٌ مُضَافٌ إِلَيْهَا وَصِلَتُهَا الظَّرْفُ أَيِ: الْعَمَلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَوْلُهُ: (أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُسَنَّ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّعَوُّذَيْنِ بِسْمِ اللَّهِ اهـ. وَلَا بَعْدَ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُمَا عَلَى وَفْقِ تَقَدُّمِ الِاسْتِعَاذَةِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ فِي التِّلَاوَةِ، وَلَوِ اكْتُفِيَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا لَحَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمْعُ أَفْضَلُ، ثُمَّ الظَّرْفُ قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ غَالِبِيٌّ لِلتَّكَشُّفِ الْمُحْتَاجِ إِلَى السَّتْرِ بِالْبَسْمَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لَا أَنَّهُ احْتِرَازِيٌّ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَسْمِلَ إِذَا أَرَادَ كَشْفَ الْعَوْرَةِ عِنْدَ خَلْعِ الثَّوْبِ أَوْ إِرَادَةِ الْغُسْلِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ) : وَمَعَ هَذَا يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ سِيَّمَا وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ: " «سَتْرُ بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَبَيْنَ عَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ، إِذَا وَضَعَ أَحَدُهُمْ ثَوْبَهُ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ» ". وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ (مَا) زَائِدَةٌ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ.

359 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 359 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ» ) : نَصْبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ. قِيلَ: التَّقْدِيرُ اغْفِرْ غُفْرَانَكَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ مَصْدَرٌ كَالْمَغْفِرَةِ، وَالْمَعْنَى أَسْأَلُكَ غُفْرَانَكَ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي تَعْقِيبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخُرُوجَ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ مِنَ الْحَالَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ هِجْرَانَ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي سَائِرِ حَالَاتِهِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَشَرِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنِ الْوَفَاءِ بِشُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ تَسْوِيغِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَرْتِيبِ الْغِذَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِمَصْلَحَةِ الْبَدَنِ إِلَى أَوَانِ الْخُرُوجِ فَلَجَأَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ اعْتِرَافًا بِالْقُصُورِ عَنْ بُلُوغِ حَقِّ تِلْكَ النِّعَمِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي» " وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: " «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي مَا يُؤْذِينِي وَأَبْقَى عَلَيَّ مَا يَنْفَعُنِي» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

360 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَتَى الْخَلَاءَ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فِي تَوْرٍ أَوْ رَكْوَةٍ، فَاسْتَنْجَى، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِإِنَاءٍ آخَرَ، فَتَوَضَّأَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 360 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِذَا أَتَى الْخَلَاءَ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فِي تَوْرٍ» ) : بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ إِنَاءٌ مِنْ صُفْرٍ أَوْ حِجَارَةٍ كَالْإِجَّانَةِ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ وَيُؤْكَلُ فِيهِ (أَوْ رَكْوَةٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ إِنَاءٌ صَغِيرٌ مِنْ جِلْدٍ يُشْرَبُ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ لِلشَّكِّ مِمَّنْ يَرْوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ

أَيْ: تَارَةً وَتَارَةً (فَاسْتَنْجَى) أَيْ بِالْمَاءِ ( «ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ» ) : عِنْدَ غَسْلِهَا لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ وَهُوَ سُنَّةٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَكَذَا ابْنُ حَجَرٍ ( «ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِإِنَاءٍ آخَرَ، فَتَوَضَّأَ» ) : إِتْيَانُهُ بِإِنَاءٍ آخَرَ لَيْسَ لِعَدَمِ جَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْبَاقِي مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ، بَلْ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْمَاءِ الْكَافِي، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْوَسْوَاسِ فِي أَمْرِ الْمَاءِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي مَعْنَاهُ حَدِيثًا عَنْ عَائِشَةَ وَصَحَّحَهُ، وَنَقَلَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَسَنَدُهُ حَسَنٌ (وَرَوَى الدَّارِمِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَ سَبَبُ تَقْدِيمِ الدَّارِمِيِّ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ وَعَادَةِ غَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ أَظْهَرُ وَأَتَمُّ مِنْهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ اهـ. وَفِي تَقْيِيدِهِ بِالْعَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ، إِذْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ.

361 - وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَالَ تَوَضَّأَ وَنَضَحَ فَرْجَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 361 - (وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ) أَيِ الثَّقَفِيِّ لَهُ صُحْبَةٌ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَيُقَالُ لَهُ سُفْيَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَسَمَاعُهُ عِنْدِي صَحِيحٌ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ سُفْيَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَإِلَّا فَهُوَ مُوَهِمٌ لِلشَّكِّ (قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَالَ تَوَضَّأَ، أَوْ نَضَحَ فَرْجَهُ» ) أَيْ وَرَشَّ إِزَرَاهُ بِقَلِيلٍ مِنَ الْمَاءِ أَوْ سِرْوَالَهُ بِهِ لِدَفْعِ الْوَسْوَسَةِ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الِانْتِضَاحُ بِالْمَاءِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ قَلِيلًا مِنْهُ فَيَرُشَّ مَذَاكِيرَهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِيَنْفِيَ عَنْهُ الْوَسْوَاسَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ رَشَّ فَرْجَهُ بِكَفٍّ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ إِمَّا لِدَفْعِ نُزُولِ الْبَوْلِ وَقَطْعِهِ، وَإِمَّا لِدَفْعِ الْوَسْوَسَةِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَنْضَحْ وَوَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلَلًا رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ بَوْلٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَضَحَ فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَلَلَ مِنْهُ فَلَا يَقَعُ فِي الْوَسْوَسَةِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ وُقُوعُ يَعْلَمُ مَوْضِعَ يَظُنُّ وَبِالْعَكْسِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الِانْتِصَاحُ وَالنَّضْحُ هُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ يَعْنِي إِذَا غَسَلَ فَرْجَهُ تَوَضَّأَ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: تَوَضَّأَ بِمَعْنَى اسْتَنْجَى، وَقِيلَ: النَّضْحُ هُوَ الرَّشُّ كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَابْنُ مَاجَهْ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

362 - وَعَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَحٌ مِنْ عَيْدَانٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ بِاللَّيْلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 362 - (وَعَنْ أُمَيْمَةَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ (بِنْتِ رُقَيْقَةَ) : أُخْتُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَفِي التَّقْرِيبِ بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا، وَاسْمُ أَبِيهَا عَبْدُ اللَّهِ، صَحَابِيَّةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمَلَكِ أَنَّهَا عَمَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أُمِّهَا. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: رُقَيْقَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافَيْنِ وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ (قَالَتْ: «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَحٌ مِنْ عَيْدَانٍ» ) : فِي الْأَزْهَارِ أَيْ: مِنْ عُودٍ مِنَ الْعَيْدَانِ لَا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ عِيدَانٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَالْمِشْكَاةِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَسَّرَهُ الشُّرَّاحُ بِأَنَّهُ جَمْعُ عُودٍ وَهُوَ الْخَشَبُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا جَمَعَهُ اعْتِبَارًا لِلْأَجْزَاءِ كَبُرْمَةِ أَعْشَارٍ اهـ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهَا عَيْدَانٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ فِي كِتَابِهِ الْقَامُوسِ: الْعَيْدَانُ بِالْفَتْحِ طِوَالُ النَّخْلِ وَاحِدُهُ عَيْدَانَهْ بِالْهَاءِ مِنْهَا كَانَ قَدَحٌ يَبُولُ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا صَحَّحَهُ صَاحِبُ تَخْرِيجِ الْمَصَابِيحِ بِالْفَتْحِ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. (تَحْتَ سَرِيرِهِ) أَيْ مَوْضُوعٌ تَحْتَهُ، وَفِيهِ أَنَّ النَّوْمَ عَلَى السَّرِيرِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ، لَكِنَّهُ كَانَ يَكْتَفِي عَلَيْهِ بِأَدْنَى فَرْشٍ، وَلَقَدْ ثُنِيَ لَهُ فَرْشُهُ لَيْلَةً فَأَمَرَ بِبَسْطِهِ وَقَالَ: مَنَعَنِي أَوْ كَانَ يَمْنَعُنِي لِينُهُ مِنَ الْقِيَامِ لِوِرْدِي (يَبُولُ فِيهِ بِاللَّيْلِ رِفْقًا بِنَفْسِهِ أَنْ يُتْعِبَهَا فِي الْقِيَامِ لِذَلِكَ وَتَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوهُ تَجَنَّبُوا بِهِ دُخُولَ الْأَخْلِيَةِ فِي اللَّيْلِ، فَإِنَّهَا مَحَلُّ الشَّيَاطِينِ، وَضَرَرُهُمْ بِاللَّيْلِ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالنَّهَارِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ (وَالنَّسَائِيُّ) : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

363 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَآنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَبُولُ قَائِمًا، فَقَالَ: (يَا عُمَرُ! لَا تَبُلْ قَائِمًا) فَمَا بُلْتُ قَائِمًا بَعْدُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ صَحَّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 363 - (وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «رَآنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَبُولُ قَائِمًا» ) : حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ ( «فَقَالَ: يَا عُمَرُ لَا تَبُلْ قَائِمًا» ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: نَهْيُ تَنْزِيهٍ وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَنَّهُ تَبْدُو الْعَوْرَةُ بِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَلَا يَأْمَنُ مِنْ رُجُوعِ الْبَوْلِ إِلَيْهِ (فَمَا بُلْتُ قَائِمًا بَعْدُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بَعْدَهُ بِالضَّمِيرِ أَيْ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا رَفَعَهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ضَعَّفَهُ السِّجِسْتَانِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَالثَّانِي قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ عُمَرُ مَا بُلْتُ قَائِمًا مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ (إِنَّ مِنَ الْجَفَاءِ أَنْ تَبُولَ قَائِمًا) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ. قُلْتُ: فِي الْوَجْهِ الثَّانِي نَظَرٌ إِذْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مُرَادَهُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ نُهِيتُ عَنِ الْبَوْلِ قَائِمًا إِذْ لَا يُعْلَمُ الْحُسْنُ وَلَا الْقُبْحُ إِلَّا مِنَ الشَّارِعِ. (وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ صَحَّ.

364 - عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 364 - (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُبَاطَةَ قَوْمٍ» ) : بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةً هِيَ الْمَزْبَلَةُ وَالْكُنَاسَةُ كَذَا قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي الْأَصْلِ قُمَامَةُ الْبَيْتِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِمَطْرَحِهَا وَمُلْقَاهَا مَجَازًا، ثُمَّ تُوُسِّعَ وَاسْتُعْمِلَ لِلْفِنَاءِ (فَبَالَ قَائِمًا) قِيلَ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَهْيَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلْحُرْمَةِ، وَقِيلَ ذَلِكَ لِلْحُرْمَةِ وَفِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لِعُذْرٍ وَهُوَ إِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا لِلْقُعُودِ، أَوْ كَانَ بِرِجْلِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقُعُودِ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: رَخَّصَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ قَائِمًا وَكَرِهَهُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَبِهِ نَقُولُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السُّبَاطَةُ وَالْكُنَاسَةُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُرْمَى فِيهِ التُّرَابُ وَالْأَوْسَاخُ وَمَا يُكْنَسُ مِنَ الْمَنَازِلِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى الْقَوْمِ لِلتَّخْصِيصِ لَا لِلتَّمْلِيكِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوَاتًا سَبْخَةً اهـ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَإِلَّا لَمْ يَفْعَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِلْكِهِمْ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ إِذْنَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالتَّصْرِيحِ أَوْ غَيْرِهِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: السُّبَاطَةُ فِي الْأَغْلَبِ تَكُونُ مُرْتَفِعَةً عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْبَوْلُ إِلَى الْبَائِلِ، وَتَكُونُ سَهْلًا. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: قِيلَ كَانَ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ السُّبَاطَةِ عَالِيًا وَمِنْ خَلْفِهِ مُنْحَدِرًا مُسْتَفِلًا. لَوْ جَلَسَ مُسْتَقْبِلَ السُّبَاطَةِ سَقَطَ إِلَى خَلْفِهِ وَلَوْ جَلَسَ مُسْتَدْبِرًا لَهَا بَدَا عَوْرَتُهُ لِلنَّاسِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الشَّيْخُ: لَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ فِيهِ غِنًى عَنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ. (قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ) . قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا لِلْقُعُودِ لِامْتِلَاءِ الْمَوْضِعِ بِالنَّجَاسَةِ، وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنِ اسْتَدْبَرَ لِلسُّبَاطَةِ تَبْدُو الْعَوْرَةُ لِلْمَارَّةِ، وَإِنِ اسْتَقْبَلَهَا خِيفَ أَنْ يَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ مَعَ احْتِمَالِ ارْتِدَادِ الْبَوْلِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ لِلْأَمْنِ حِينَئِذٍ مِنْ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ السَّبِيلِ الْآخَرِ، وَقِيلَ كَانَ بِرِجْلِهِ جُرْحٌ، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ كَمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَ قَائِمًا لِجُرْحِ مَأْبِضِهِ» ، وَهِيَ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ بَاطِنُ الرُّكْبَةِ، إِذْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْقُعُودِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَشْفِي لِوَجَعِ الصُّلْبِ بِالْبَوْلِ قَائِمًا، فَلَعَلَّهُ كَانَ بِهِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَالْمُعْتَادُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَوْلُهُ قَاعِدًا وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، وَفِي الْإِحْيَاءِ أَجْمَعَ أَرْبَعُونَ طَبِيبًا عَلَى أَنَّ الْبَوْلَ فِي الْحُمَّى قَائِمَا دَوَاءٌ عَنْ سَبْعِينَ دَاءً قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 365 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 365 - (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ» ) . قَالَ الشَّيْخُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ مُسْتَنِدٌ إِلَى عِلْمِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْبُيُوتِ ( «مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذُكِرَ أَنَّ بَوْلَهُ قَائِمًا كَانَ لِعُذْرٍ يَعْنِي لِأَنَّ كَانَ لِلِاسْتِمْرَارِ وَالْعَادَةِ غَالِبًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَالنَّسَائِيُّ) .

366 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فِي أَوَّلِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْوُضُوءِ، أَخَذَ غُرْفَةً مِنَ الْمَاءِ، فَنَضَحَ بِهَا فَرْجَهُ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 366 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ) : يُكَنَّى أَبَا أُسَامَةَ، وَأُمُّهُ سَعْدَاءُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ مِنْ بَنِي مَعْنٍ خَرَجَتْ بِهِ أُمُّهُ تَزُورُ قَوْمَهَا فَأَغَارَتْ خَيْلٌ لِبَنِي الْقَيْنِ بْنِ الْحُرَّةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَرُّوا عَلَى أَبْيَاتٍ مِنْ بَنِي مَعْنٍ رَهْطِ أُمِّ زَيْدٍ، فَاحْتَمَلُوا زَيْدًا وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ يُقَالُ: لَهُ ثَمَانُ سِنِينَ، فَوَافَوْا بِهِ سُوقَ عُكَاظٍ، فَعُرِضَ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَتْهُ لَهُ فَقَبَضَهُ، ثُمَّ إِنَّ خَبَرَهُ اتَّصَلَ بِأَهْلِهِ، فَحَضَرَ أَبُوهُ حَارِثَةُ وَعَمُّهُ كَعْبٌ فِي فِدَائِهِ فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَالْمُقَامِ عِنْدَهُ، وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فَاخْتَارَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَرَى مِنْ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ فَحِينَئِذٍ «خَرَجَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْحِجْرِ فَقَالَ: يَا مَنْ حَضَرَ اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ» ) فَصَارَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَنَزَلَ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] فَقِيلَ لَهُ: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الذُّكُورِ فِي قَوْلٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْبَرَ مِنْهُ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَقِيلَ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَزَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْلَاتَهُ أُمَّ أَيْمَنَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] رَوَى عَنْهُ أُسَامَةُ وَغَيْرُهُ، وَقُتِلَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَهُوَ أَمِيرُ الْجَيْشِ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جِبْرِيلَ) : تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ ( «أَتَاهُ فِي أَوَّلِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» ) : فَنُزُولُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ آخِرًا كَانَ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ وَتَأْيِيدًا لِلْأَمْرِ (فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْوُضُوءِ) : هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّضْحَ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّضْحِ غَسْلُ الْفَرْجِ كَمَا تَقَدَّمَ (أَخَذَ غُرْفَةً) : بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ (مِنَ الْمَاءِ فَنَضَحَ بِهَا فَرْجَهُ) : حَقِيقَةً أَوْ حِذَاءَهُ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَلَعَلَّهُ لِتَعْلِيمِ الْأُمَّةِ مَا يَدْفَعُ الْوَسْوَسَةَ أَوْ لِقَطْعِ الْبَوْلِ فَإِنَّ النَّضْحَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ يَرْدَعُ الْبَوْلَ فَلَا يَنْزِلُ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّضْحَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يَسْتَنْجِي بِغَيْرِ الْمَاءِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّرَقُطْنِيُّ) وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

367 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ! إِذَا تَوَضَّأْتَ فَانْتَضِحْ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - يَقُولُ: الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ الرَّاوِي مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 367 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ!) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ النِّدَاءِ بِاسْمِهِ مَخْصُوصٌ بِالْإِنْسَانِ (إِذَا تَوَضَّأْتَ) أَيْ فَرَغْتَ مِنَ الْوُضُوءِ (فَانْتَضِحْ) أَيْ فَرُشَّ الْمَاءَ عَلَى الْفَرْجِ أَوِ السِّرْوَالِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) أَيْ: تَفَرَّدَ بِهِ رَاوِيهِ (وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَعْنِي: الْبُخَارِيَّ يَقُولُ) أَيْ مُحَمَّدٌ (الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ الرَّاوِي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ (مُنْكَرُ الْحَدِيثِ) : الْمُنْكَرُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ مَنْ لَيْسَ ثِقَةً وَلَا ضَابِطًا هُوَ الصَّوَابُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ لَمْ يَشْتَدَّ ضَعْفُهُ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ السَّابِقَةِ فَيَكُونُ حُجَّةً فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.

368 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «بَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ عُمَرُ خَلْفَهُ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عُمَرُ!) فَقَالَ: مَاءٌ تَتَوَضَّأُ بِهِ. قَالَ: (مَا أُمِرْتُ كُلَّمَا بُلْتُ أَنْ أَتَوَضَّأَ وَلَوْ فَعَلْتُ لَكَانَتْ سُنَّةً» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 368 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «بَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ عُمَرُ خَلْفَهُ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ» ) : قِيَامًا بِوَظِيفَةِ الْخِدْمَةِ، فَإِنَّ مَنْ خَدَمَ خُدِمَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَبَّ عَلَى يَدِ عُمَرَ الْوُضُوءَ (فَقَالَ: مَا هَذَا) أَيِ: الْكُوزُ (يَا عُمَرُ؟) فَقَالَ: مَاءٌ تَتَوَضَّأُ بِهِ) أَيْ تَتَطَهَّرُ بِهِ لِيَشْمَلَ الِاسْتِنْجَاءَ قَالَ: (مَا أُمِرْتُ) أَيْ وُجُوبًا (كُلَّمَا بُلْتُ) : بِضَمِّ الْبَاءِ (أَنْ أَتَوَضَّأَ) أَيْ بِأَنْ أَتَطَهَّرَ (وَلَوْ فَعَلْتُ) أَيْ: كُلَّ مَرَّةٍ (لَكَانَتْ) أَيِ: الْفِعْلَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ: لَكَانَ أَيِ الْفِعْلُ (سُنَّةً) : أَيْ مُؤَكَّدَةً وَإِلَّا فَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ وَدَوَامُ الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ بِلَا خِلَافٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا فَعَلَ أَمْرًا وَلَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ سُنَّتَهُ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا وَإِنْ كَانَ يَتْرُكُ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ تَخْفِيفًا عَلَى الْأُمَّةِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْيُسْرِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

369 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ فَمَا طَهُورُكُمْ؟ قَالُوا: نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَنَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَنَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ» ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 369 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَجَابِرٍ، وَأَنَسٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ) أَيِ الْآتِيَةَ أُطْلِقَتْ عَلَى بَعْضِهَا لِمَا نَزَلَتْ: {فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة: 108] ضَمِيرُ فِيهِ لِمَسْجِدِ قُبَاءَ أَوْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنَ الْآيَةِ {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] وَالتَّطَهُّرُ الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّهَارَةِ، وَيُحْتَمَلُ التَّثْلِيثُ قَالَهُ. الطِّيبِيُّ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] أَصْلُهُ الْمُتَطَهِّرِينَ أُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً، وَأُدْغِمَتْ أَيْ يَرْضَى عَنْهُمْ وَيَرْفَعُ مَأْوَاهُمْ، أَوْ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُحِبِّ مَعَ مَحْبُوبِهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ» ) : بِالضَّمِّ أَوِ الْفَتْحِ أَيْ: بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِهِ، أَوْ فِي فِعْلِهِ وَجُعِلَ ظَرْفًا لِلثَّنَاءِ مُبَالَغَةً «فَمَا طَهُورُكُمْ؟) قَالُوا: نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَنَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَنَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ، قَالَ» ) أَيْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَهُوَ ذَاكَ) أَيْ ثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ إِثْرَ تَطَهُّرِكُمُ الْبَالِغِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَقَوْلُهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: فَثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا هُوَ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ حَاصِلُ الْمَعْنَى لِأَجْلِ اللَّفْظِ كَمَا لَا يَخْفَى (فَعَلَيْكُمُوهُ) أَيِ: الْزَمُوا كَمَالَ الطَّهَارَةِ مَا اسْتَطَعْتُمْ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الِاسْتِنْجَاءِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَمَخْصُوصٍ بِهِمْ، وَإِلَّا فَالْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَفْعَلُونَهُمَا أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِالْمَاءِ عَنِ الْأَحْجَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي اخْتُصُّوا بِهِ وَكَانَ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ الْعُظْمَى حِرْصُهُمْ عَلَى تَكْمِيلِ الْأَوَّلِينَ وَمُلَازَمَةِ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَحْجَارِ اهـ. وَفَى إِثْبَاتِ تَكْمِيلِ الْأَوَّلِينَ لَهُمْ دُونَ الْمُهَاجِرِينَ تَوَقُّفٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ صَحِيحٍ وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ» ، وَفِي الدُّرِّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عُوَيْمِرِ بْنِ سَاعِدَةَ فَقَالَ: (مَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ مِنَ الْغَائِطِ إِلَّا غَسَلَ فَرْجَهُ أَوْ قَالَ: مَقْعَدَهُ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (هُوَ هَذَا» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ «أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ خَيْرًا فِي الطَّهُورِ فَمَا طَهُورُكُمْ هَذَا؟) قَالُوا: نَتَوَضَّأُ

لِلصَّلَاةِ وَنَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ قَالَ: فَهَلْ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُهُ) قَالُوا: لَا، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَنَا إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَائِطِ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ قَالَ: (هُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ» ) فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . أَيْ وَغَيْرُ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، لَكِنَّ ابْنَ مَاجَهْ اقْتَصَرَ فِي رِوَايَتِهِ هَذِهِ اقْتِصَارًا مُخِلًّا لِلْمَقْصُودِ فَتَدَبَّرْ.

370 - وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ يَسْتَهْزِئُ: إِنِّي لَأَرَى صَاحِبَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ حَتَّى الْخَرَاءَةَ. قُلْتُ: (أَجَلْ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَلَا نَسْتَنْجِيَ بِأَيْمَانِنَا وَلَا نَكْتَفِيَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَلَا عَظْمٌ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 370 - (وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ) : أَيْ سَلْمَانُ (قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ يَسْتَهْزِئُ) : أَيْ بِسَلْمَانَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (إِنِّي لَأَرَى صَاحِبَكُمْ) : يَعْنِي النَّبِيَّ (يُعَلِّمُكُمْ) : أَيْ كُلَّ شَيْءٍ (حَتَّى الْخَرَاةَ) : أَيْ: أَدَبَهَا وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مَقْصُورًا عَلَى الْأَكْثَرِ وَقِيلَ مَمْدُودًا، وَقِيلَ بِالْمَدِّ مَعَ كَسْرِ الْخَاءِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْخَرَاءَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ اسْمٌ لِهَيْئَةِ الْحَدَثِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْحَدَثِ فَبِحَذْفِ التَّاءِ وَبِالْمَدِّ مَعَ فَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْخِرَاءَةُ، مَكْسُورَةُ الْخَاءِ مَمْدُودَةٌ التَّخَلِّي وَالْقُعُودُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ يَفْتَحُونَ الْخَاءَ وَيَقْصُرُونَ الرَّاءَ كَذَا فِي الطِّيبِيِّ نَقْلًا عَنِ الْخَطَّابِيِّ ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالْكَسْرِ اسْمٌ (قُلْتُ: أَجَلْ!) أَيْ: نَعَمْ (أَمَرَنَا) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آدَابِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (أَنْ لَا نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ) أَيْ تَعْظِيمًا لِلْكَعْبَةِ لِكَوْنِهَا قِبْلَةً لَنَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ وَلَا نَسْتَدْبِرُهَا كَمَا مَرَّ وَلَعَلَّهُ آثَرَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِهِ أَكْمَلُ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ أَفْحَشُ مِنَ الِاسْتِدْبَارِ اهـ. وَتَقَدَّمَ مَا فِي كَلَامِهِ: وَيُمْكِنُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ وَقَعَ أَوَّلًا، عَنِ الِاسْتِدْبَارِ أَيْضًا أَوْ خَصَّهُ لِكَوْنِ الِامْتِنَاعِ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ أَدَلَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى أَحَدِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ الِاسْتِدْبَارَ، وَلَوْلَا مَخَافَةُ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ لَقُلْتُ: يَجُوزُ الِاسْتِدْبَارُ فِي الْبُنْيَانِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ فِيهِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي شَرْحِ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ قَوْلِ الْمَاتِنِ: وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ، فَإِنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَحَالَ الِاسْتِنْجَاءِ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا الِاسْتِدْبَارُ فِي رِوَايَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ فَرْجَ الْمُسْتَدْبِرِ لَا يَكُونُ مُوَازِيًا لِلْقِبْلَةِ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبِلِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ الِاسْتِدْبَارِ إِذَا كَانَ ذَيْلُهُ سَاقِطًا لَا مَرْفُوعًا. كَذَا فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَهْيِ الِاسْتِدْبَارِ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ اهـ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلْقِبْلَةِ، وَأَمَّا إِذَا غَفَلَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. ( «وَلَا نَسْتَنْجِيَ بِأَيْمَانِنَا» ) : أَيْ: تَكْرِيمًا لَهَا لِأَنَّهَا آلَةٌ لِأَكْلِنَا ( «وَلَا نَكْتَفِيَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» ) : تَنْظِيفًا بَلِيغًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَذْهَبِنَا أَنَّهَا تَجِبُ وَإِنْ أَنْقَى بِدُونِهَا. قُلْتُ: التَّصْرِيحُ غَيْرُ صَرِيحٍ، وَفِي الظُّهُورِ مَحَلُّ بَحْثٍ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ إِذِ الْإِنْقَاءُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الثَّلَاثِ غَالِبًا، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ: ( «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» (لَيْسَ فِيهَا) أَيِ الْأَحْجَارُ (رَجِيعٌ) أَيْ رَوْثٌ لِنَجَاسَتِهِ (وَلَا عَظْمٌ) : لِمَلَاسَتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِمَا زَادَ الْجِنِّ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَحْجَارِ مُزِيلَةٌ لِتَوَهُّمِ أَنَّهَا مَجَازٌ، أَوْ وَارِدَةٌ عَلَى التَّغْلِيبِ وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ وَأَمَرَنَا بِالثَّلَاثَةِ الْأَحْجَارِ الَّتِي أَوْجَبَهَا عَلَيْنَا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا رَجِيعٌ يُوهِمُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مُصَدَّرَةٌ بِالْوَاوِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِقْصَاءٌ لِلْإِرْشَادِ وَمُبَالَغَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ سَلْمَانَ مِنْ بَابِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَمَّا اسْتَهْزَأَ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُهَدِّدَ أَوْ يَسْكُتَ عَنْ جَوَابِهِ، لَكِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا الْتَفَتَ إِلَى مَا قَالَ وَمَا فَعَلَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَخْرَجَ الْجَوَابَ مَخْرَجَ الْمُرْشِدِ الَّذِي يُلَقِّنُ السَّائِلَ الْمُجِدَّ يَعْنِي: لَيْسَ هَذَا مَكَانُ الِاسْتِهْزَاءِ بَلْ هُوَ جَدٌّ وَحَقٌّ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَتْرُكَ الْعِنَادَ وَتَلْزَمَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ وَالْمَنْهَجَ الْقَوِيمَ بِتَطْهِيرِ بَاطِنِكَ وَظَاهِرِكَ مِنَ الْأَرْجَاسِ وَالْأَنْجَاسِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ) أَيْ لِأَحْمَدَ.

371 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ حَسَنَةَ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي يَدِهِ الدَّرَقَةُ فَوَضَعَهَا ثُمَّ جَلَسَ، فَبَالَ إِلَيْهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: انْظُرُوا إِلَيْهِ يَبُولُ كَمَا تَبُولُ الْمَرْأَةُ، فَسَمِعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (وَيْحَكَ! أَمَا عَلِمْتَ مَا أَصَابَ صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَوْلُ قَرَضُوهُ بِالْمَقَارِيضِ فَنَهَاهُمْ فَعُذِّبَ فِي قَبْرِهِ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 371 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثٌ. كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (ابْنُ حَسَنَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ نُونٌ هِيَ أُمُّهُ، وَأَمَّا اسْمُ أَبِيهِ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُطَاعِ، رَوَى عَنْهُ يَزِيدُ بْنُ وَهْبٍ (قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي يَدِهِ الدَّرَقَةُ» ) : بِالْفَتَحَاتِ التُّرْسُ مِنْ جُلُودٍ لَيْسَ فِيهِ خَشَبٌ وَلَا عَصَبٌ (فَوَضَعَهَا) : أَيْ: جَعَلَهَا حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ (ثُمَّ جَلَسَ) : أَيْ: لِلْبَوْلِ (فَبَالَ) : أَيْ: مُسْتَقْبِلًا (إِلَيْهَا) : أَيِ الدَّرَقَةِ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ) : أَيْ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ أَوْ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ (انْظُرُوا إِلَيْهِ) : أَيْ: نَظَرَ تَعَجُّبٍ (يَبُولُ) : وَهُوَ رَجُلٌ (كَمَا تَبُولُ الْمَرْأَةُ) : أَيْ فِي التَّسَتُّرِ أَوْ فِي الْقُعُودِ أَوْ فِيهِمَا قَالَهُ السُّيُوطِيُّ (فَسَمِعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَيْحَكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ النِّهَايَةِ: وَيْحُ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ تَرْحَمُ وَتَرْفُقُ بِهِ اهـ. فَوَضَعَ وَيْحَكَ مَوْضِعَ وَيْلَكَ إِيمَاءً إِلَى كَمَالِ رَأْفَتِهِ، وَإِشَارَةً إِلَى إِرَادَةِ أُلْفَتِهِ، فَإِنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَحَرِيصٌ عَلَى هِدَايَةِ الْكَافِرِينَ. (أَمَا عَلِمْتَ مَا أَصَابَ) : مَا الْأُولَى نَافِيَةٌ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ، وَالثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ (صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ: مِنَ الْعَذَابِ لِنَهْيِهِ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَصَاحِبَ مَنْصُوبٌ، وَقِيلَ: مَرْفُوعٌ قَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ: بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ النَّسَائِيِّ (كَانُوا) أَيْ: بَنُو إِسْرَائِيلَ (إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَوْلُ قَرَضُوهُ) : أَيْ: قَطَعُوهُ (بِالْمَقَارِيضِ) : جَمْعُ الْمِقْرَاضِ وَهُوَ آلَةُ الْقَطْعِ (فَنَهَاهُمْ) : أَيْ: صَاحِبُهُمْ عَنِ الْقَطْعِ (فَعُذِّبَ فِي قَبْرِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: بِهِ نَهَى هَذَا الْمُنَافِقُ عَنِ الْأَمْرِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِنَهْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَوْبِيخُهُ وَتَهْدِيدُهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، فَلَمَّا عَيَّرَهُ بِالْحَيَاءِ وَفِعْلِ النِّسَاءِ وَبَخَّهُ بِالْوَقَاحَةِ، وَأَنَّهُ يُنْكِرُ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ رِجَالِ اللَّهِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) . أَيْ: عَنْهُ مُرْسَلًا، وَمُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

372 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِي مُوسَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 372 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُ) : أَيْ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (عَنْ أَبِي مُوسَى) . فَيَكُونُ رِوَايَةَ الصَّحَابِيِّ عَنِ الصَّحَابِيِّ.

373 - وَعَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟ قَالَ: بَلْ إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ. فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ، فَلَا بَأْسَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 373 - (وَعَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ) : بِالْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ، بِالْغَيْنِ، وَهُوَ مَوْلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، كَذَا بِخَطِّ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ فِي حَاشِيَةِ الْمِشْكَاةِ، وَأَسْقَطَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ مِنْ أَسْمَاءِ رِجَالِهِ (قَالَ: «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيْهَا» ) أَيْ: إِلَى الرَّاحِلَةِ (فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ (أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ؟) : أَيِ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (قَالَ: بَلْ) : لِلْإِضْرَابِ أَيْ: لَا مُطْلَقًا ( «إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ» ) : أَيِ: الصَّحْرَاءِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَلْحَقْنَا بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْبِنَاءُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ إِلَّا الْبِنَاءُ الْمُعَدُّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ( «فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ، فَلَا بَأْسَ» ) : تَقَدَّمَ هَذَا الْبَحْثُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلًا) . وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا حُجَّةً لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدِ احْتَمَلَ احْتِمَالَاتٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَمَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ.

374 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي» ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 374 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ» ) : أَيِ: الْمَطْهَرِ ( «قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى» " أَيِ الْمُؤْذِي " «وَعَافَانِي» ": أَيْ: مِنَ احْتِبَاسِهِ أَوْ مِنْ نُزُولِ الْأَمْعَاءِ مَعَهُ كَذَا قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي مَا يُؤْذِينِي وَأَبْقَى عَلَيَّ مَا يَنْفَعُنِي» " فَانْظُرْ إِلَى النِّعْمَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا يَخْطُرَانِ بِبَالِ الْآكِلِينَ غَالِبًا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَذَا النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

375 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ الْجِنِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْهَ أُمَّتَكَ أَنْ يَسْتَنْجُوا بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثَةٍ أَوْ حُمَمَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَنَا فِيهَا رِزْقًا. فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 375 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ الْجِنِّ عَلَى النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْهَ) : بِسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْهَاءِ أَمْرٌ مِنْ نَهَى يَنْهَى (أُمَّتَكَ أَنْ يَسْتَنْجُوا) : مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ (بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثَةٍ) : تَقَدَّمَ وَجْهُهُمَا (أَوْ حُمَمَةٍ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: فَحْمٌ يَصِيرُ نَارًا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ الْحُمَمُ: الْفَحْمُ وَمَا احْتَرَقَ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْعِظَامِ وَنَحْوِهِمَا، وَالِاسْتِنْجَاءُ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ جُعِلَ رِزْقًا لِلْجِنِّ فَلَا يَجُوزُ إِفْسَادُهُ كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ وَقَوْلُهُ: رِزْقًا لِلْجِنِّ أَيِ انْتِفَاعًا لَهُمْ بِالطَّبْخِ وَالدِّفَاءِ وَالْإِضَاءَةِ (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَنَا) : أَيْ: وَلِدَوَابِّنَا (فِيهَا رِزْقًا. فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَسَكَتَ عَلَيْهِ، قَالَهُ مِيرَكُ.

[باب السواك]

[بَابُ السِّوَاكِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 376 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ، وَبِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [3] بَابُ السِّوَاكِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: السِّوَاكُ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ، وَعَلَى الْعُودِ الَّذِي يُسْتَاكُ بِهِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: السِّوَاكُ بِالْكَسْرِ وَالْمِسْوَاكُ مَا يُدَلَّكُ بِهِ الْأَسْنَانُ مِنَ الْعِيدَانِ يُقَالُ: سَاكَ فَاهُ يُسَوِّكُهُ إِذَا دَلَّكَهُ بِالسِّوَاكِ فَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْفَمُ يُقَالُ اسْتَاكَ اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: السِّوَاكُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ لِلِاسْتِيَاكِ، وَلِلْعُودِ الَّذِي يُسْتَاكُ بِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوِ الثَّانِي، وَالْمُرَادُ وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَفِي إِفْرَادِ هَذَا الْبَابِ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ السِّوَاكَ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْوُضُوءِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وَإِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ السِّوَاكِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ قُبَيْلَ الْمَضْمَضَةِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السِّوَاكُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْمُرَّةِ فِي غِلَظِ الْخِنْصَرِ وَطُولِ الشِّبْرِ، وَأَنْ يَكُونَ الِاسْتِيَاكُ عَرْضًا لَا طُولًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَاكَ طُولًا وَعَرْضًا فَإِنِ اقْتُصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَعَرْضًا وَأَنْ يَكُونَ حَالَ الْمَضْمَضَةِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَقِيلَ: قَبْلَ الْوُضُوءِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِوَاكٌ أَوْ كَانَ مَقْلُوعَ الْأَسْنَانِ اسْتَاكَ بِأُصْبُعِ يَمِينِهِ لِمَا فِي الْمُحِيطِ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: " التَّشْوِيصُ بِالْمِسْبَحَةِ وَالْإِبْهَامِ سِوَاكٌ " وَلِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يُجْزِئُ مِنَ السِّوَاكِ الْأَصَابِعُ» وَتُكُلِّمَ فِيهِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ يَذْهَبُ فُوهُ يَسْتَاكُ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قُلْتُ: كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: " يُدْخِلُ أُصْبُعَهُ فِي فِيهِ» " قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَاكَ بِعُودٍ مِنْ أَرَاكٍ، وَبِمَا يُزِيلُ التَّغَيُّرَ مِنَ الْخِرْقَةِ الْخَشِنَةِ وَالْأُصْبُعِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَيِّنَةً وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنْ فَمِهِ عَرْضًا وَلَا يَسْتَاكُ طُولًا لِئَلَّا يُدْمِيَ لَحْمَ أَسْنَانِهِ، فَإِنْ خَالَفَ صَحَّ مَعَ كَرَاهَةٍ. قِيلَ: عَرْضًا حَالٌ مِنَ الْفَمِ كَذَا فِي شَرْحِ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 376 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي: يُقَالُ: شَقَّ عَلَيْهِ أَيْ ثَقُلَ أَوْ حَمَّلَهُ مِنَ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ مَا يَشُقُّ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: لَوْلَا خَشْيَةُ وُقُوعِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ " لَأَمَرْتُهُمْ ": أَيْ: وُجُوبًا " بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ ": أَيْ: لَفَرَضْتُ عَلَيْهِمْ تَأْخِيرَهُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ، فَإِنَّ هَذَا التَّأْخِيرَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ أَوْ بِالسِّوَاكِ ": أَيْ: بِفَرْضِيَّتِهِ " عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ: أَيْ: وُضُوئِهَا لِمَا رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» " وَلِخَبَرِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: " «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ

طَهُورٍ» " فَتَبَيَّنَ مَوْضِعُ السِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِالسِّوَاكِ فِي ابْتِدَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْوُضُوءِ وَالطَّهُورِ بَيَانٌ لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَأَكَّدُ اسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ فِيهَا، أَمَّا أَصْلُ اسْتِحْبَابِهِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِوَقْتٍ وَلَا سَبَبٍ، بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ كَتَغَيُّرِ الْفَمِ بِالْأَكْلِ أَوْ بِسُكُوتٍ طَوِيلٍ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ جِرَاحَةِ اللِّثَةِ وَخُرُوجِ الدَّمِ وَهُوَ نَاقِضٌ عِنْدَنَا، فَرُبَّمَا يُفْضِي إِلَى جُرْحٍ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَاكَ عِنْدَ قِيَامِهِ إِلَى الصَّلَاةِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» " عَلَى كُلِّ وُضُوءٍ " بِدَلِيلِ رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ: «لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءِ» ، " أَوِ التَّقْدِيرُ: لَوْلَا وُجُودُ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ لَأَمَرْتُهُمْ بِهِ، لَكِنِّي لَمْ آمُرْ بِهِ لِأَجْلِ وُجُودِهَا كَمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي الْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ فَيَكُونُ الْقَرِينَتَانِ عَلَى طَبَقٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ عُرِفَ سُنِّيَّةُ السِّوَاكِ لِلْوُضُوءِ وَاسْتِحْبَابُ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، وَهَذَا الْوَجْهُ بِالْقَبُولِ أَحْرَى، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الصُّوفِيَّةِ فِي نَصَائِحِهِ الْعِبَادِيَّةِ: وَمِنْهَا مُدَاوَمَةُ السِّوَاكِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الصَّلَاةِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَرَوَى أَحْمَدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ» " وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ، وَحَقِيقَتُهُمَا فِيمَا اتَّصَلَ حِسًّا أَوْ عُرْفًا، وَكَذَا حَقِيقَةُ كَلِمَةِ مَعَ وَعِنْدَ، وَالنُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إِذْ أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ هَهُنَا فَلَا مَسَاغَ إِذًا عَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ، أَوْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، كَيْفَ وَقَدْ ذُكِرَ السِّوَاكُ عِنْدَ نَفْسِ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفُرُوعِ الْمُعْتَبَرَةِ. قَالَ فِي التَّتَارَخَانِيَّةِ نَقْلًا عَنِ التَّتِمَّةِ: وَيُسْتَحَبُّ السِّوَاكُ عِنْدَنَا عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَوُضُوءٍ، وَكُلِّ شَيْءٍ يُغَيِّرُ الْفَمَ، وَعِنْدَ الْيَقَظَةِ اهـ. وَقَالَ الْفَاضِلُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهَمَّامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَيُسْتَحَبُّ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: اصْفِرَارِ السِّنِّ، وَتَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ، وَالْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، وَالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الْوُضُوءِ اهـ. فَظَهَرَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ مِنْ تَصْرِيحِ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ مُعَلًّا بِأَنَّهُ قَدْ يُخْرِجُ الدَّمَ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ، نَعَمْ مَنْ يَخَافُ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعْمِلْ بِالرِّفْقِ عَلَى نَفْسِ الْأَسْنَانِ وَاللِّسَانِ دُونَ اللِّثَةِ، وَذَلِكَ لَا يَخْفَى. قَالَ الْقَاضِي: لَوْلَا تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ لَوْ وَلَا، وَلَوْ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، فَتَدُلُّ هُنَا مَثَلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْأَمْرِ لِانْتِفَاءِ نَفْيِ الْمَشَقَّةِ وَانْتِفَاءِ النَّفْيِ بِثُبُوتِ النَّفْيِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ مُنْتَفِيًا لِثُبُوتِ الْمَشَقَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ لِانْتِفَاءِ الْأَمْرِ مَعَ ثُبُوتِ النَّدْبِيَّةِ، وَأَيْضًا جُعِلَ الْأَمْرُ ثَقِيلًا وَشَاقًّا عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْوُجُوبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

377 - وَعَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 377 - (وَعَنْ شُرَيْحِ) : مُخَضْرَمٌ ثِقَةٌ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (ابْنِ هَانِئٍ) : بِالْهَمْزِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ أَبُو الْمِقْدَامِ الْحَارِثِيُّ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «وَكَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاهُ هَانِئَ بْنَ يَزِيدَ وَقَالَ أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» ، وَشُرَيْحٌ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ابْنُهُ الْمِقْدَامُ اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَابِعِيٌّ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي مَتْنِ مَنَارِ الْأُصُولِ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا التَّابِعِيُّ فَإِنْ ظَهَرَتْ فَتْوَاهُ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ كَشُرَيْحٍ كَانَ مِثْلَهُمْ عِنْدَ الْبَعْضِ اهـ. فَعَدَّ الْمُصَنِّفُ أَبَاهُ فِي الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ. (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ بِأَيِّ شَيْءٍ) ؟ أَيْ: مِنَ الْأَفْعَالِ ( «كَانَ يَبْدَأُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ» ) : أَيْ: يَبْدَأُ بِهِ، وَفِي السِّوَاكِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا إِزَالَةُ التَّغَيُّرِ الْحَاصِلِ بِالسُّكُوتِ قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذِ الْغَالِبُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتَكَلَّمُ فِي الطَّرِيقِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الطَّرِيقَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى حُجْرَتِهِ رَيْبٌ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْفَوَائِدِ، فَإِنَّهُ قِيلَ فِيهِ سَبْعُونَ فَائِدَةً أَدْنَاهَا أَنْ يَذْكُرَ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَفِي الْأَفْيُونِ سَبْعُونَ مَضِرَّةً أَقَلُّهَا نِسْيَانُ الشَّهَادَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: فَيَتَأَكَّدُ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالسِّوَاكِ فَإِنَّهُ أَزْيَدُ فِي طِيبِ فَمِهِ، وَأَدْعَى لِمُعَاشَرَةِ أَهْلِهِ، وَأَذْهَبُ بِمَا عَسَاهُ حَدَثَ بِفَمِهِ مِنْ تَغَيُّرٍ كَرِيهٍ، سِيَّمَا إِذَا طَالَ سُكُوتُهُ، وَهَذَا أَوْلَى

مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ فِي طَرِيقٍ، وَالْفَمُ يَتَغَيَّرُ بِالسُّكُوتِ فَيَسْتَاكُ لِيُزِيلَهُ وَهُوَ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ، فَمَنْ سَكَتَ ثُمَّ أَرَادَ التَّكَلُّمَ مَعَ صَاحِبِهِ يَسْتَاكُ لِذَلِكَ لِئَلَّا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَةِ فَمِهِ اهـ. وَمِمَّا يَرُدُّ ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَنَا جَعَلُوا التَّأْكِيدَ لِلدَّاخِلِ الْمَنْزِلَ غَيْرَ التَّأْكِيدِ لِلسُّكُوتِ فَجَعَلُوهُمَا سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَوَّلِ غَيْرُ السُّكُوتِ وَهُوَ مَا قَدَّمْتُهُ فَتَأَمَّلْهُ. قُلْتُ: وَكَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِهِ. قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: الْحَقُّ أَنَّ السِّوَاكَ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ أَيْ: لَا مِنْ سُنَنِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ، وَيُسْتَحَبُّ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: اصْفِرَارِ السِّنِّ، وَتَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ، وَالْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، وَالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الْوُضُوءِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَهَا. وَمِنْهَا أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مُحَافَظَتِهِ عَلَى السِّوَاكِ اسْتِيَاكُهُ السِّوَاكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

378 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 378 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ» ) : مِنَ الْهُجُودِ وَهُوَ النَّوْمُ يُقَالُ: هَجَّدْتُهُ فَتَهَجَّدَ أَيْ: أَزَلْتُ هُجُودَهُ ; فَالتَّهَجُّدُ التَّيَقُّظُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ (مِنَ اللَّيْلِ) : تَبْعِيضِيَّةٌ مَفْعُولُ التَّهَجُّدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] أَيْ: عَلَيْكَ بَعْضُ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ( «يَشُوصُ» ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةً (فَاهُ) : أَيْ: يُدَلِّكُ أَسْنَانَهُ وَيُنَقِّيهَا (بِالسِّوَاكِ) : وَأَصْلُ الشَّوْصِ الْغَسْلُ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَسْتَاكَ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

379 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ) - يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ - قَالَ الرَّاوِي: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 379 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ» ": أَيْ: عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أُمِرْنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ، فَكَأَنَّا فُطِرْنَا عَلَيْهَا كَذَا نُقِلَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي فُطِرَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى التَّدَيُّنِ بِهَا، أَوْ فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَرُكِّبَ فِي عُقُولِهِمُ اسْتِحْسَانُهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ أَوْ مِنْ تَوَابِعِ الدِّينِ، وَالْفِطْرَةُ الدِّينُ، وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ، قِيلَ: وَهَذَا أَوْجَهُ، قَالَ تَعَالَى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] أَيْ: دِينُ اللَّهِ الَّذِي اخْتَارَهُ لِأَوَّلِ مَفْطُورٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَقِيلَ: أَيْ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ - أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 90 - 123] وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ " قَصُّ الشَّارِبِ ": قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَيُسَنُّ إِحْفَاؤُهُ حَتَّى تَبْدُوَ حُمْرَةُ الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَلَا يُحْفِيهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْأَمْرُ بِإِحْفَائِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَخُرِّجَ بِقَصِّهِ حَلْقُهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَقِيلَ سُنَّةٌ لِرِوَايَةٍ بِهِ حُمِلَتْ عَلَى الْإِحْفَاءِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ " وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ". قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ تَوْفِيرُهَا يُقَالُ: عَفَا النَّبْتُ إِذَا كَثُرَ وَأَعْفَوْتُهُ أَنَا وَأَعْفَيْتُهُ لُغَتَانِ، وَقَصُّ اللِّحْيَةِ مِنْ صُنْعِ الْأَعَاجِمِ وَهُوَ الْيَوْمَ شِعَارُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَالْإِفْرِنْجِ وَالْهُنُودِ، وَمَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الدِّينِ مِنَ الطَّائِفَةِ الْقَلَنْدَرِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْ أَطْرَافِ اللِّحْيَةِ طُولِهَا أَوْ عَرْضِهَا لِلتَّنَاسُبِ فَحَسَنٌ، لَكِنَّ الْمُخْتَارَ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا إِذَا نَبَتَتِ اللِّحْيَةُ لِلْمَرْأَةِ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا حَلْقُهَا " وَالسِّوَاكُ " قِيلَ: لَا يُسَنُّ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا خُشِيَ تَطَايُرُ شَيْءٍ مِنَ الرِّيقِ أَوْ نَحْوِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ السِّوَاكُ سُنَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَقَالَ دَاوُدُ: وَاجِبٌ، وَزَادَ إِسْحَاقُ فَقَالَ: إِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا بَطُلَتْ صَلَاتُهُ " وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ ": وَهُوَ كَالْمَضْمَصَةِ الْآتِيَةِ سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ فَرْضَانِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَنَا وَسُنَّتَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ بِوُجُوبِهِمَا " وَقَصُّ الْأَظْفَارِ ": أَيْ: تَقْلِيمُهَا وَتَحْصُلُ سُنِّيَّتُهَا بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ كَانَتْ، وَأَوْلَاهَا أَنْ يَبْدَأَ فِي الْيَدَيْنِ بِمِسْبَحَةِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْبِنْصَرِ ثُمَّ الْخِنْصَرِ ثُمَّ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ خِنْصَرِ الْيَدِ الْيُسْرَى ثُمَّ بِنْصَرِهَا ثُمَّ وُسْطَاهَا ثُمَّ مِسْبَحَتِهَا ثُمَّ إِبْهَامِهَا وَفِي الرِّجْلَيْنِ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى وَيَخْتِمُ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى " وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ " بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ أَيِ الْعُقَدُ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ مَفَاصِلِ الْأَصَابِعِ، وَالَّذِي فِي بَوَاطِنِهَا رَوَاجِبُ بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْعِرَاقِيِّ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْبَرَاجِمُ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ اللَّاتِي بَيْنَ الْأَسَاجِعِ، وَالرَّوَاجِبُ وَالرَّوَاجِي الْمَفَاصِلُ الَّتِي تَلِي الْأَنَامِلَ وَبَعْدَهَا الْبَرَاجِمُ وَبَعْدَهَا

الْأَسَاجِعُ كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ غَسْلُ جَمِيعِ عُقَدِهَا مِنْ مَفَاصِلِهَا وَمَعَاطِفِهَا " وَنَتْفُ الْإِبِطِ " بِالسُّكُونِ وَيُكْسَرُ أَيْ: قَلْعُ شَعْرِهِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ حَلْقَهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَقِيلَ: النَّتْفُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ " وَحَلْقُ الْعَانَةِ " قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَوْ أَزَالَ شَعْرَهَا بِغَيْرِ الْحَلْقِ لَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ أَنَّ إِزَالَتَهُ قَدْ تَكُونُ بِالنَّوْرَةِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَعْمَلَ النَّوْرَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ، نَعَمْ لَوْ أَزَالَهَا بِالْمِقَصِّ مَثَلًا لَا يَكُونُ آتِيًا بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَلَا يُتْرَكُ حَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالْأَظْفَارِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا تُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَلَوْ لِلْمَرْأَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ الْإِطْلَاقُ، بَلْ حَدِيثُ: وَتَسْتَحِدَّ الْمَغِيبَةُ ظَاهِرٌ فِيهِ، لَكِنْ قَيَّدَهُ كَثِيرُونَ بِالرَّجُلِ، وَقَالُوا الْأَوْلَى لِلْمَرْأَةِ النَّتْفُ لِأَنَّهُ أَنْظَفُ وَأَبْعَدُ لِنَفْرَةِ الْحَلِيلِ مِنْ بَقَايَا أَثَرِ الْحَلْقِ، وَلِأَنَّ شَهْوَةَ الْمَرْأَةِ أَضْعَافُ شَهْوَةِ الرَّجُلِ إِذْ جَاءَ أَنَّ لَهَا تِسْعًا وَتِسْعِينَ جُزْءًا مِنْهَا وَلِلرَّجُلِ جُزْءٌ وَاحِدٌ وَالنَّتْفُ يُضْعِفُهَا وَالْحَلْقُ يُقَوِّيهَا فَأُمِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ الْأَنْسَبُ بِهِ " وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ ": بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ انْتِقَاصُ الْبَوْلِ بِالْمَاءِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي غَسْلِ الْمَذَاكِيرِ وَقَطْعُهُ لِيَرْتَدَّ الْبَوْلُ بِرَدْعِ الْمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَغْسِلْ لَنَزَلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَشَيْءٌ فَيَعْسُرُ الِاسْتِبْرَاءُ وَالِاسْتِنْجَاءُ، فَالْمَاءُ عَلَى الْأَوَّلِ الْمُسْتَنْجَى بِهِ، وَعَلَى الثَّانِي الْبَوْلُ فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَاءُ الْمَغْسُولُ بِهِ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ الْبَوْلَ، وَانْتَقَصَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ وَاللُّزُومُ أَكْثَرُ، وَقِيلَ: هُوَ تَصْحِيفٌ، وَالصَّحِيحُ وَانْتِفَاضٌ بِالْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَهُوَ الِانْتِضَاحُ بِالْمَاءِ عَلَى الذَّكَرِ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: وَالِانْتِضَاحُ وَلَمْ يَذْكُرِ انْتِقَاصَ الْمَاءِ قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ (يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ) وَهُنَا تَفْسِيرُ الرَّاوِي قِيلَ: هُوَ وَكِيعٌ، وَالتَّفْسِيرُ السَّابِقُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ (قَالَ الرَّاوِي) : ذَكَرَ الْأَبْهَرِيُّ أَنَّ مُسْلِمًا وَأَصْحَابَ السُّنَنِ ذَكَرُوا أَنَّ مُصْعَبًا هُوَ الَّذِي نَسِيَ الْعَاشِرَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِنَّ الَّذِي نَسِيَهَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَقَالَ إِلَّا أَنْ يُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُصْعَبًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَنْهُ (وَنَسِيتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِالتَّشْدِيدِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ) : أَيِ الْعَاشِرَةُ (الْمَضْمَضَةُ) قَالَ الطِّيبِيُّ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ وَنَسِيتُ مُؤَوَّلٌ بِاسْمِ أَتَذَكَّرُ أَيْ: لَمْ أَتَذَكَّرِ الْعَاشِرَةَ فِيمَا أَظُنُّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَضْمَضَةً. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ضُمِّنَ نَسِيَ مَعْنَى النَّفْيِ لِأَنَّ التَّرْكَ مَوْجُودٌ فِي ضِمْنِ كُلٍّ أَيْ: لَمْ أَتَذَكَّرْ شَيْئًا يَتِمُّ الْخِصَالُ بِهِ عَشْرَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَضْمَضَةً اهـ. وَهُوَ تَوْضِيحُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ يُذْكَرَانِ مَعًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَفِي رِوَايَةٍ: الْخِتَانُ) : وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدَةِ الزَّائِدَةِ مِنَ الذَّكَرِ (بَدَلَ) : بِالنَّصْبِ (إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ) : بِرَفْعِ " إِعْفَاءُ " عَلَى الْحِكَايَةِ، وَقِيلَ بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي بَعْضِهَا خِلَافٌ فِي وُجُوبِهِ كَالْخِتَانِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَلَا يَمْنَعُ اقْتِرَانُ الْوَاجِبِ بِغَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141] فَإِنَّ الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ وَالْأَكْلَ مُبَاحٌ، فَالْخِتَانُ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، فَالتَّقْلِيمُ سُنَّةٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِمِسْبَحَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْبِنْصَرِ ثُمَّ الْخِنْصَرِ، ثُمَّ خِنْصَرِ الْيُسْرَى إِلَى إِبْهَامِهَا ثُمَّ بِخِنْصَرِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى فَيُتِمُّ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى، وَنَتْفُ الْإِبِطِ سُنَّةٌ، وَيَحْصُلُ أَيْضًا بِالْحَلْقِ وَالنَّوْرَةِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ سُنَّةٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَيْمَنِ وَلَوْ وَلَّى غَيْرَهُ بِقَصِّهِ جَازَ مِنْ غَيْرِ هَتْكِ مُرُوءَةٍ وَلَا حُرْمَةٍ بِخِلَافِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ. قُلْتُ: فِي الْإِبِطِ نَظَرٌ ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: وَالْأَوْلَى فِيهِ أَنْ لَا يُفَوِّضَهُ لِغَيْرِهِ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: " الْخِتَانُ " بَدَلَ: " إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ". لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَلَا فِي كِتَابِ " الْحُمَيْدِيِّ "، وَلَكِنْ ذَكَرَهَا صَاحِبُ " الْجَامِعِ " وَكَذَا الْخَطَّابِيُّ فِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ ". وَهَذَا فِي نَتْفِهِ، وَأَمَّا حَلْقُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ غَيْرُ التَّفْوِيضِ، وَقَدْ جَوَّزُوا حَلْقَهُ مِنْ غَيْرِ حُرْمَةٍ وَهَتْكِ مُرُوءَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ نَتْفَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَصَّ الشَّارِبُ حَتَّى تَبْدُوَ الشَّفَةُ وَلَا يُحْفِيهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " «أَحْفُوا الشَّارِبَ» " أَحْفُوا

مَا طَالَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَهِيَ عُقَدُ الْأَصَابِعِ وَمَعَاطِفُهَا وَهِيَ بِفَتْحِ الْبَاءِ جَمْعُ بُرْجُمَةٍ بِضَمِّ الْبَاءِ وَالْجِيمِ سُنَّةٌ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْوُضُوءِ، وَيُلْحَقُ بِهَا مَا يُجَمَّعُ مِنَ الْوَسَخِ فِي مَعَاطِفِ الْأُذُنِ وَقَعْرِ الصِّمَاخِ وَمَا يَجْتَمِعُ فِي دَاخِلِ الْأَنْفِ، وَكَذَا جَمِيعُ الْوَسَخِ عَلَى الْبَدَنِ (لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ) : أَيِ: الَّتِي رَوَاهَا صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي كِتَابِهِ (فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) : أَيِ: الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (وَلَكِنْ ذَكَرَهَا) : أَيْ: هَذِهِ الرِّوَايَةَ (صَاحِبُ الْجَامِعِ) : أَيْ لِلْأُصُولِ وَهُوَ ابْنُ الْأَثِيرِ (وَكَذَا) : أَيْ ذَكَرَهَا (الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ) : الَّذِي شَرَحَ بِهِ سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ.

380 - وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ، بِرِوَايَةِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 380 - (وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ) : مُتَعَلِّقٌ بِذِكْرِهَا الْمَذْكُورِ (بِرِوَايَةِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ) أَيْ: لَا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ. قَالَ السَّيِّدُ: كَأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى مُحْيِي السُّنَّةِ حَيْثُ ذَكَرَهَا فِي الصِّحَاحِ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا وَعَدَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَقَاصِدِ الْبَابِ وَالْأُصُولِ، دُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَشْمَلُ الْفَائِدَةَ تَأَمَّلْ. اهـ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 381 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» " رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِلَا إِسْنَادٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 381 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ» ) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ " «مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» ": بِفَتْحِ الْمِيمِ فِيهِمَا وَقِيلَ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْمَطْهَرَةُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ: أَيْ: مُطَهِّرٌ لِلْفَمِ وَكَذَا الْمَرْضَاةُ أَيْ مُحَصِّلٌ لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مَرْضِيٌّ لِلرَّبِّ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا بَاقِيَيْنِ عَلَى مَصْدَرِيَّتِهِمَا أَيْ: سَبَبُ الطَّهَارَةِ وَالرِّضَا أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ، وَقِيلَ: هُمَا لِلْكَثْرَةِ كَالْمَأْسَدَةِ وَالْمَأْذَبَةِ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ أَيْ: مَظَنَّةٌ لِلطَّهَارَةِ وَالرِّضَا حَامِلَةٌ عَلَيْهِمَا وَبَاعِثَةٌ لَهُمَا كَمَا فِي حَدِيثِ: «الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» " وَلَعَلَّ وُرُودَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْخَصْلَتَيْنِ مَعَ أَنَّ لَهُ فَوَائِدَ أُخَرَ لِأَنَّهُمَا أَفْضَلُهَا أَوْ لِكَوْنِهِمَا شَمِلَتَا غَيْرَهُمَا فَإِنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي تَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي تَكْمِيلِ رِضَا الرَّبِّ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْلَى فِي الْعُقْبَى (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ، النَّسَائِيُّ) : بِسَنَدٍ حَسَنٍ (وَرَوَى الْبُخَارِيُّ) : أَيْ: ذَلِكَ الْحَدِيثَ عَنْهَا (فِي صَحِيحِهِ بِلَا إِسْنَادٍ) . أَيْ: تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ جَزْمٍ وَالْمُعَلَّقَاتُ الْمَجْزُومَةُ صَحِيحَةٌ قَالَهُ مِيرَكُ.

382 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحَيَاءُ - وَيُرْوَى الْخِتَانُ - وَالتَّعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 382 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَرْبَعٌ ": أَيْ: خِصَالٌ عَظِيمَةُ الْمِقْدَارِ جَلِيلَةُ الِاعْتِبَارِ " «مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ» ": أَيْ فِعْلًا وَقَوْلًا يَعْنِي الَّتِي فَعَلُوهَا وَحَثُّوا عَلَيْهَا وَفِيهِ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَعِيسَى مَا ظَهَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الْخِصَالِ وَهُوَ النِّكَاحُ " الْحَيَاءُ " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَدَأَ بِهِ فَإِنَّ «الْحَيَاءَ خَيْرٌ كُلُّهُ» عَلَى مَا وَرَدَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْبِكْرِ فِي خِدْرِهَا» اهـ. وَقَدْ أَوْرَدَ التُّورِبِشْتِيُّ مَا رَوَاهُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي نُسْخَةٍ: الْحِنَّاءُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرُوِيَ الْحِنَّاءُ بِالنُّونِ وَهُوَ إِنْ وَقَعَ فِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ تَصْحِيفٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي شَنِّ الْغَارَةِ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ مَعَرَّةً بِقَوْلِهِ: فِي الْحِنَّاءِ وَعَوَارِهِ، فَإِنَّ جَمْعًا يَمَنِيِّينَ زَعَمُوا حِلَّ الْحِنَّاءِ لِلرِّجَالِ وَصَنَّفُوا فِيهِ وَقَلَّ أَدَبُهُمْ عَلَى بَقِيَّةِ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، وَخَضْبُ اللِّحْيَةِ سُنَّةٌ لَمْ تُعْرَفْ لِغَيْرِ نَبِيِّنَا فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّفَةِ عَلَيْهِ اهـ. وَفِيهِ أَبْحَاثٌ لَا تَخْفَى (وَيُرْوَى الْخِتَانُ -) قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ النُّونَ سَقَطَ مِنْهُ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَهْلِ الرِّوَايَةِ فَرُوِيَ عَلَى رَسْمِ الْخَطِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اخْتَصَرَ الْمُظْهِرُ كَلَامَ التُّورِبِشْتِيِّ، وَقَالَ فِي الْحَيَاءِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ

بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ يَعْنِي بِهِ مَا يَقْتَضِي الْحَيَاءَ مِنَ الدِّينِ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَمَّا تَأْبَاهُ الْمُرُوءَةُ وَيَذُمُّهُ الشَّرْعُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَغَيْرِهَا، لَا الْحَيَاءُ الْجِبِلِّيُّ نَفْسُهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ خُلُقٌ غَرِيزِيٌّ لَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ السُّنَنِ، وَثَانِيهَا الْخِتَانُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَتَاءٍ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ وَهِيَ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا سَبَقَ مِنْ لَدُنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى زَمَنِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ «أَنَّ آدَمَ وَشِيثًا وَنُوحًا وَهُودًا وَصَالِحًا وَلُوطًا وَشُعَيْبًا وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَسُلَيْمَانَ وَزَكَرِيَّا وَعِيسَى وَحَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ نَبِيُّ أَصْحَابِ الرَّسِّ وَمُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وُلِدُوا مَخْتُونِينَ» ، وَثَالِثُهَا الْحِنَّاءُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَلَعَلَّهَا تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ خِضَابُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ، وَأَمَّا خِضَابُ الشَّعْرِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ إِلَى الْمُرْسَلِينَ " وَالتَّعَطُّرُ ": أَيِ التَّطَيُّبِ بِالطِّيبِ فِي الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَطَيَّبُ بِالْمِسْكِ مِمَّا لَوْ كَانَ لِأَحَدِنَا لَكَانَ رَأْسَ مَالٍ» " وَالسِّوَاكُ " وَلَقَدْ أَكْثَرَ نَبِيُّنَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَشِيَ عَلَى فَمِهِ الْحِفَاءَ وَهُوَ دَاءٌ عَظِيمٌ يَضُرُّ بِالْأَسْنَانِ وَاللِّثَةِ " وَالنِّكَاحُ " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَقَدْ جَمَعْتُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا فِي جُزْءٍ وَسَمَّيْتُهَا: " الْإِفْصَاحُ فِي فَضَائِلِ النِّكَاحِ " فَزَادَتْ عَلَى الْمِائَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

383 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ فَيَسْتَيْقِظُ، إِلَّا يَتَسَوَّكُ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 383 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْقُدُ) : أَيْ: لَا يَنَامُ (مِنْ لَيْلٍ) أَيْ: بَعْضِ لَيْلٍ، أَوْ فِي لَيْلٍ (وَلَا نَهَارٍ) لِأَنَّ النَّوْمَ يُغَيِّرُ الْفَمَ فَيَتَأَكَّدُ السِّوَاكُ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْهُ إِزَالَةً لِذَلِكَ التَّغَيُّرِ، سِيَّمَا إِنْ أُرِيدَتْ مُحَادَثَةٌ أَوْ ذِكْرٌ ثَمَّةَ (فَيَسْتَيْقِظُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ أَيْ: يَسْتَنْبِهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِي يَسْتَيْقِظُ الرَّفْعُ لِلْعَطْفِ، وَيَكُونُ النَّفْيُ مُنْصَبًّا عَلَيْهِمَا مَعًا، وَالنَّصْبُ جَوَابًا لِلنَّفْيِ لِأَنَّ الِاسْتِيقَاظَ مَسْبُوقٌ بِالنَّوْمِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ، وَفِي إِيرَادِهَا هَكَذَا مُطْنِبًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ دَأْبَهُ ( «إِلَّا يَتَسَوَّكُ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ» ) . يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَكْتَفِي بِذَلِكَ السِّوَاكِ عَنِ السِّوَاكِ لِلْوُضُوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَاكُ ثَانِيًا عِنْدَ إِرَادَةِ الْوُضُوءِ أَوْ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

384 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَاكُ، فَيُعْطِينِي السِّوَاكَ لِأَغْسِلَهُ فَأَبْدَأُ بِهِ فَأَسْتَاكُ، ثُمَّ أَغْسِلُهُ وَأَدْفَعُهُ إِلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 384 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَاكُ» ) : أَيْ: يَسْتَعْمِلُ السِّوَاكَ «فَيُعْطِينِي السِّوَاكَ لِأَغْسِلَهُ» ) : لِلتَّلْيِينِ أَوْ لِلتَّنَظُّفِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَسْلَ السِّوَاكِ مُسْتَحَبٌّ بَعْدَ الِاسْتِيَاكِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ غَسْلَ السِّوَاكِ فِي أَثْنَاءِ التَّسَوُّكِ بِهِ وَبَعْدَهُ قَبْلَ وَضْعِهِ سُنَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: يُسْتَحَبُّ فِي السِّوَاكِ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ مِيَاهٍ وَأَنْ يَكُونَ السِّوَاكُ لَيِّنًا (فَأَبْدَأُ بِهِ) : أَيْ: بِاسْتِعْمَالِهِ قَبْلَ الْغَسْلِ لِنَيْلِ الْبَرَكَةِ، وَلَا أَرْضَى أَنْ يَذْهَبَ بِالْمَاءِ مَا صَحِبَهُ السِّوَاكُ مِنْ مَاءِ أَسْنَانِهِ ( «فَأَسْتَاكُ ثُمَّ أَغْسِلُهُ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ قَبْلَ الْغَسْلِ أَسْتَاكُ بِهِ تَبَرُّكًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ سِوَاكِ الْغَيْرِ بِرِضَاهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَإِنَّمَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لِمَا بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مِنَ الِانْبِسَاطِ (وَأَدْفَعُهُ إِلَيْهِ) لِيُكْمِلَ سِوَاكَهُ أَوْ لِيَحْفَظَهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالثَّانِي غَيْرُ ظَاهِرٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَدَبِ عُرْفًا وَلِوُرُودِ: «كُنَّا نَعُدُّ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَدْفَعُهُ إِلَيْهِ وَقْتًا آخَرَ، بَلْ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى غَسْلِ السِّوَاكِ فِي أَثْنَاءِ التَّسَوُّكِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ كَمَا لَا يَخْفَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 385 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءَنِي رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الْأَكْبَرِ مِنْهُمَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 385 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَرَانِي ": قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ يَعْنِي بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ: أَرَى نَفْسِي، وَأَصْلُهُ رَأَيْتُ نَفْسِي وَعَدَلَ إِلَى الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: وَوَهِمَ مِنْ ضَمَّهَا: لَكِنْ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فَمَعْنَاهُ أَظُنُّ نَفْسِي قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ كَأَنَّهُ ظَنَّ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ الرُّؤْيَا الْمَنَامِيَّةَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالظَّنِّ، وَلِذَا يُقَالُ: رَأَيْتُ كَأَنِّي أَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ بَعْضِ الظَّنِّ إِذْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ فَإِنْ ثَبُتَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مَجْهُولٌ مِنْ بَابِ الْإِرَاءَةِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ حَجَرٍ إِلَّا مَعْنَى الضَّمِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ " فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ " أَيْ: رَأَيْتُ نَفْسِي فِي الْمَنَامِ مُتَسَوِّكًا فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مُسْتَتِرٌ وَالثَّانِي الْبَارِزُ، وَجَازَ فِي " عَلِمْتُ " كَوْنُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ضَمِيرَيْ وَاحِدٍ، وَالثَّالِثُ أَتَسَوَّكُ كَذَا قِيلَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الضَّمِّ مِنَ الْإِرَاءَةِ دُونَ الرُّؤْيَةِ وَأَتَسَوَّكُ بِإِضْمَارِ أَنْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ " فَجَاءَنِي رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ " أَيْ: سِنًّا " مِنَ الْآخَرِ، فَنَاوَلْتُ ") أَيْ أَعْطَيْتُ " السِّوَاكَ ": يَعْنِي: أَرَدْتُ مُنَاوَلَةَ السِّوَاكِ " الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا ": لَعَلَّهُ لِقُرْبِهِ " فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ ": أَيْ: قَدِّمِ الْكَبِيرَ فِي السِّنِّ يَعْنِي ادْفَعْ إِلَى الْأَكْبَرِ " فَدَفَعْتُهُ إِلَى الْأَكْبَرِ مِنْهُمَا " الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا كَانَا فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ أَوْ فِي يَسَارِهِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ فَأَرَادَ تَقْدِيمَ الْأَقْرَبِ فَأُمِرَ بِتَقْدِيمِ الْأَكْبَرِ، فَلَا يُنَافِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْأَعْرَابِيِّ فِي إِيثَارِهِ بِسُؤْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ اللَّبَنِ لِكَوْنِهِ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى الْأَشْيَاخِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، لِكَوْنِهِمْ عَلَى الْيَسَارِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِعْطَائِهِ لَهُمْ فَقَالَ: «لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا» ، وَأَطْنَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ حَيْثُ قَالَ: وَظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ الْكِبَرُ هُنَا فِي السِّنِّ لَا فِي الْعِلْمِ وَالْقَدْرِ وَوَجْهُ أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ مَنْ عَلَى الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِسِنِّهِ وَلَا لِفَضْلِهِ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ جُلُوسَهُ بِالْيَمِينِ هُوَ الْمُرَجِّحُ لَهُ، فَكَذَا كِبَرُ السِّنِّ هَهُنَا يَكُونُ مُرَجِّحًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ فَضْلٍ وَلَا قَدْرٍ. فَإِنْ قُلْتَ: يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّ ثَمَّةَ وُجِدَ مُرَجِّحٌ خَارِجِيٌّ أَيْضًا وَهُوَ كِبَرُ السِّنِّ فَهُوَ لِظُهُورِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِالرِّعَايَةِ مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ إِلَّا لِلْبَعْضِ اهـ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ كِبَرَ سِنِّ الصِّدِّيقِ وَفَضْلِهِ مَعًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْأَعْرَابِيِّ أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ وَمَعَ هَذَا حَيْثُ كَانَ الْمَفْضُولُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ عَلَى الْيَمِينِ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ، ثُمَّ قَوْلُهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا أَمَامَهُ مَدْفُوعٌ لِتَحَقُّقِ تَقَابُلِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ حِينَئِذٍ أَيْضًا، ثُمَّ الْمَنْعُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ فِي الْجَوَابِ فَالْعُدُولُ عَنْ سُنَنِ الْمَنْعِ إِلَى الِاضْطِرَابِ لَيْسَ مِنْ آدَابِ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَنَامِ قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ.

386 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا جَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطُّ إِلَّا أَمَرَنِي بِالسِّوَاكِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أُحْفِيَ مُقَدِّمَ فِيَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 386 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَا جَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّسْلِيمُ مِنْ لَفْظِ النُّبُوَّةِ أَوْ مِنْ زِيَادَةِ الرَّاوِي تَعْظِيمًا " قَطُّ " لَعَلَّهُ مُقَيِّدٌ لِتَعْلِيمِ السُّنَنِ أَوْ قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ " «إِلَّا أَمَرَنِي بِالسِّوَاكِ لَقَدْ خَشِيتُ» ": جَوَابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ خِفْتُ " أَنْ أُحْفِيَ " مِنَ الْإِحْفَاءِ " مُقَدِّمَ فِيَّ ": أَيْ: فَمِي يَعْنِي أَنِ اسْتَأْصِلَ لِثَتِي مِنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ السِّوَاكِ بِسَبَبِ وَصِيَّةِ جِبْرِيلَ وَكَثْرَةِ مُدَاوَمَتِي عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.

387 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَقَدْ أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 387 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَقَدْ أَكْثَرْتُ " بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ " عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ ": أَيْ: فِي شَأْنِ السِّوَاكِ وَأَمْرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِهِ إِظْهَارُ الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، وَقَوْلُهُ: أَكْثَرْتُ مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَطْنَبْتُ الْكَلَامَ فِي السِّوَاكِ كَائِنًا عَلَيْكُمُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ عَلَى صِلَةٌ لِلْإِكْثَارِ، وَالتَّقْدِيرُ أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمُ الْأَمْرَ وَالْوَصِيَّةَ فِي حَقِّ السِّوَاكِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: أُكْثِرْتُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَجْهُولِ) أَيْ بُولِغْتُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

388 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَنُّ وَعِنْدَهُ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، فَأُوحِيَ إِلَيْهِ فِي فَضْلِ السِّوَاكِ أَنْ كَبِّرْ، أَعْطِ السِّوَاكَ أَكْبَرَهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 388 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنُّ» ) : أَيْ: يَسْتَاكُ. فِي النِّهَايَةِ: الِاسْتِنَانُ اسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ افْتِعَالٌ مِنَ الْأَسْنَانِ أَيْ يُمَرُّ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: قِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ السِّنِّ بِكَسْرِ السِّينِ، وَقِيلَ: مِنَ السَّنِّ بِفَتْحِهَا يُقَالُ: سَنَنْتُ الْحَدِيدَ أَيْ حَكَكْتُ الْحَجَرَ حَتَّى يَتَحَدَّدَ وَالْمِسَنُّ الْحَجَرُ الَّذِي يُحَدُّ بِهِ ( «وَعِنْدَهُ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ» ) : أَيْ: سِنًّا أَوْ فَضْلًا وَإِنَّمَا اقْتَصَرْنَا فِي الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِنَا سِنًّا لِنُقَابِلَهُ بِالْأَصْغَرِ (فَأُوحِيَ إِلَيْهِ) : أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْآخَرِ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِلْوَحْيِ الْمَنَامِي أَوْ بَعْدَ إِرَادَتِهِ لِمُقْتَضَى مَا هُوَ تَقْدِيمُ الْأَصْغَرِ فَتَكُونُ الْقَضِيَّةُ وَاحِدَةً (فِي فَضْلِ السِّوَاكِ) : أَيْ: فَضِيلَتِهِ وَزِيَادَتِهِ (أَنْ كَبِّرْ) : هُوَ الْمُوحَى بِهِ ( «أَعْطِ السِّوَاكَ أَكْبَرَهُمَا» ) . الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ تَقْدِيمٌ حَقِّ الْأَكْبَرِ مِنَ الْحَاضِرِينَ فِي السَّلَامِ وَالشَّرَابِ وَالطِّيبِ وَنَحْوِهَا. قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ عَلَى الْيَمِينِ. قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ سِوَاكِ الْغَيْرِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَتَقَذَّرُ إِلَّا أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَغْسِلَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُعِيرَهُ: مَحَلُّ التَّقْذِرَةِ غَيْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَمَّا هُوَ فَمَحْمَلُ التَّبَرُّكِ عِنْدَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُنَافِي الْغَسْلَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: ثُمَّ يُنَاوِلُهُ بَدَلَ ثُمَّ يُعِيرُهُ، هَذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ حِكَايَةِ الْمَنَامِ وَإِلَّا يُشْكِلُ تَعَدُّدُ الْوَحْيِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)

389 - وَعَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَفْضُلُ الصَّلَاةُ الَّتِي يُسْتَاكُ لَهَا عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يُسْتَاكُ لَهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 389 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَفْضُلُ الصَّلَاةُ: أَيْ: تَزِيدُ فِي الْفَضِيلَةِ وَزِيَادَةِ الْمَثُوبَةِ " الَّتِي يُسْتَاكُ لَهَا ": أَيْ عِنْدَ الْوُضُوءِ " «عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يُسْتَاكُ لَهَا سَبْعِينَ» " مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ ظَرْفٌ أَيْ: تَفْضُلُ مِقْدَارَ سَبْعِينَ. وَقَوْلُهُ " ضِعْفًا " تَمْيِيزٌ أُرِيدَ بِهِ مِثْلَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ. فِي الْقَامُوسِ: ضِعْفُ الشَّيْءِ بِالْكَسْرِ مِثْلُهُ أَوِ الضِّعْفُ الْمِثْلُ إِلَى مَا زَادَ اهـ. وَاخْتَارَ ابْنُ حَجَرٍ الْأَخِيرَ وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ لَا يُشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّ «صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» ، مَعَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ أَوْ عَيْنٍ عِنْدَ غَيْرِنَا لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ تُسَاوِي كَثِيرًا مِنَ السَّبْعِينَ، وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْفَرْضِ كَالسَّلَامِ وَرَدِّهِ وَكَإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَإِبْرَائِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُمَا حَصَّلَا مَصْلَحَةَ الْفَرْضِ وَزِيَادَةً (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي: " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: «صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ» كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهَمَّامِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُهُ مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الضِّعْفَ بِمَعْنَى الْمِثْلِ إِذِ الْأَحَادِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْحَمْلُ عَلَى أَنَّ الضِّعْفَ هُوَ وَمِثْلُهُ ثُمَّ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْكَثِيرِ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِالْقَلِيلِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ: فِي هَذَا الْخَبَرِ شَيْءٌ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ شِهَابٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ كَذَا قَالَ وَمُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ إِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَلِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَخْرَجَهُمَا أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ حَسَنَيْنِ.

390 - وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَلَأَخَّرْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ. قَالَ: فَكَانَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَسِوَاكُهُ عَلَى أُذُنِهِ مَوْضِعَ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ لَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا اسْتَنَّ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: «وَلَأَخَّرْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» . (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 390 - (وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: رَوَى عَمُّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَعْلَامِهِمْ، وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَغَيْرَهُمْ، وَرَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) : نَزَلَ الْكُوفَةَ رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ» : أَيْ: لَوْلَا خَوْفُ الْمَشَقَّةِ وَتَوَقُّعُهَا عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ ": أَيْ: وُجُوبًا " «بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» ": أَيْ: طَهَارَتُهَا أَوْ إِرَادَتُهَا " وَلَأَخَّرْتُ ": أَيْ دَائِمًا " صَلَاةَ الْعِشَاءِ ": أَوْ حَكَمْتُ بِتَأْخِيرِهَا وُجُوبًا " إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ": بِضَمِّ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ " قَالَ: أَيْ: أَبُو سَلَمَةَ (فَكَانَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ) أَيْ: رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ) : أَيِ: الْخَمْسَ (فِي الْمَسْجِدِ) : أَيْ: يَحْضُرُهَا لِلْجَمَاعَةِ (وَسِوَاكُهُ عَلَى أُذُنِهِ) بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ ( «مَوْضِعَ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ، لَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا اسْتَنَّ» ) : أَيِ: اسْتَاكَ لِلصَّلَاةِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً، أَوِ اسْتَاكَ لِطَهَارَتِهَا (ثُمَّ) : أَيْ بَعْدَ الصَّلَاةِ (رَدَّهُ) : أَيِ: السِّوَاكَ (إِلَى مَوْضِعِهِ) . أَيْ: مِنَ الْأُذُنِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحِكْمَتُهُ أَنَّ وَضْعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ يُسَهِّلُ تَنَاوُلَهُ وَيُذَكِّرُ صَاحِبَهُ لَهُ فَيُسَنُّ اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ التَّكَلُّفِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ، وَرِوَايَةُ: " «كَانَ مَحَلُّ السِّوَاكِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مَحَلَّ الْقَلَمِ» " مَحْمُولٌ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا عَلَى بَعْضِهِمُ الصَّادِقِ عَلَى وَاحِدٍ فَلَا يُفِيدُ السُّنِّيَّةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ إِلَّا أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا دَاوُدَ (لَمْ يَذْكُرْ: " «وَلَأَخَّرْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَهُ إِسْنَادَانِ. أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ وَالْآخَرُ حَسَنٌ اهـ. أَوْ حَسَنٌ لُغَةً، أَوْ حَسَنٌ عِنْدَ بَعْضٍ صَحِيحٌ عِنْدَ بَعْضٍ، أَوْ حَسَنٌ لِذَاتِهِ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

[باب سنن الوضوء]

[بَابُ سُنَنِ الْوُضُوءِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 391 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ. مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (4) بَابُ سُنَنِ الْوُضُوءِ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يُرِدْ بِالسُّنَنِ سُنَنَ الْوُضُوءِ فَقَطْ، بَلْ أَرَادَ بِالسُّنَنِ الْأَقْوَالَ أَوِ الْأَفْعَالَ أَوِ التَّقْرِيرَاتِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً أَوْ فَرْضًا، كَمَا يُقَالُ جَاءَ فِي السُّنَّةِ كَذَا أَيْ: فِي الْحَدِيثِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ حَمْلَ سُنَنِ الْوُضُوءِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى بَعِيدٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْعُنْوَانُ عَلَى التَّغْلِيبِ. وَقِيلَ: السِّوَاكُ مِنَ السُّنَنِ أَيْضًا فَكَأَنَّهُ ذُكِرَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْوُضُوءِ، وَوَرَدَ بِأَنَّ غَسْلَ الْيَدِ لِلْمُسْتَيْقِظِ أَيْضًا غَيْرُ خَاصٍّ عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَكَذَا التَّيَامُنُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ شَيْءٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 391 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ» ": التَّقَيُّدُ بِهِ لِأَنَّ تَوَهُّمَ نَجَاسَةِ الْيَدِ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَيْقِظِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَلِذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ هَذَا الْغَسْلَ سُنَّةً فِي غَيْرِ الْمُسْتَيْقِظِ أَيْضًا لِأَنَّ عِلَّةَ الْغَسْلِ وَهِيَ احْتِمَالُ أَنَّهُ مَسَّ بِيَدِهِ أَعْرَاقَ بَدَنِهِ وَأَوْسَاخَهُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُتَنَبِّهِ أَيْضًا. قُلْتُ: بَلِ الْمُتَنَبِّهُ يَفْهَمُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ مَعَ زِيَادَةِ احْتِمَالَاتٍ أُخَرَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَةَ يَدِهِ وَإِنْ نَامَ

كَرَاهَةَ لِانْتِفَاءِ تَوَهُّمِ التَّنَجُّسِ فَمُعَارَضَةٌ بِالنَّصِّ " «فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ» ": أَيْ مَثَلًا كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَوْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا آلَةً إِذَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً فَغَيْرُهَا أَوْلَى، فَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى " فِي الْإِنَاءِ: أَيْ إِنَاءِ الْمَاءِ وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَائِعٍ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَاءَ الْإِنَاءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا قَلِيلًا فَلَا يُحْتَاجُ تَقْيِيدُهُ بِالْقَلِيلِ، كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: بِالتَّأْكِيدِ فِي مُسْلِمٍ وَبِدُونِ التَّأْكِيدِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِغَيْرِ نُونِ التَّأْكِيدِ، وَأَمَّا بِهَا فَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَلَفْظُهُ: «فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي طَهُورِهِ حَتَّى يُفْرِغَ عَلَيْهَا ثَلَاثًا» " حَتَّى يَغْسِلَهَا " أَيْ: إِلَى رُسْغِهَا " ثَلَاثًا ": قَالَ السَّيِّدُ: لَفْظُ ثَلَاثًا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ فَقَوْلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَحَلُّ بَحْثٍ اهـ. وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، فَيَكُونُ الْغَسْلُ ثَلَاثًا سُنَّةً، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا حَيْثُ قَيَّدُوا تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ الْغَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ الشَّرْعُ فِي النَّجَاسَةِ الْمُتَوَهَّمَةِ بِالتَّثْلِيثِ فَالْمُتَحَقِّقَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ " فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي: تَعْلِيلٌ أَيْ: لَا يَعْلَمُ " «أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» " رَوَى النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْحِجَارَةِ وَبِلَادُهُمْ حَارَةٌ، فَإِذَا نَامُوا عَرِقُوا، فَلَا يُؤَمَنُ أَنْ تَطُوفَ يَدُهُ عَلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ أَوْ عَلَى بَثْرَةٍ أَوْ قَمْلَةٍ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْغَمْسِ قَبْلَ غَسْلِ الْيَدِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْجَمَاهِيرَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ فَلَوْ غَمَسَ لَمْ يُفْسِدِ الْمَاءَ وَلَمْ يَأْثَمِ الْغَامِسُ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا فِي حَقِّ مَنْ بَاتَ مُسْتَنْجِيًا بِالْأَحْجَارِ مُعْرَوْرِيًا، وَمَنْ بَاتَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَفِي أَمْرِهِ سَعَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَيْضًا غَسْلُهَا لِأَنَّ السُّنَّةَ إِذَا وَرَدَتْ لِمَعْنًى لَمْ تَكُنْ لِتَزُولَ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسْلَ الْيَدَيْنِ بِالْأَمْرِ الْمَوْهُومِ وَمَا عُلِّقَ بِالْمَوْهُومِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، فَأَصْلُ الْمَاءِ وَالْيَدَيْنِ عَلَى الطَّهَارَةِ، فَحَمَلَ الْأَكْثَرُونَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى الظَّاهِرِ، وَأَوْجَبَا الْغَسْلَ وَحَكَمَا بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الشَّمَنِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَدَاوُدَ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَنَا: أَنَّ النَّوْمَ إِنْ كَانَ حَدَثًا فَهُوَ كَالْبَوْلِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلْحَدَثِ فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّلَ الْغَسْلَ بِتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ، وَتَوَهُّمُهَا لَا يُوجِبُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى السُّنَّةِ وَعَدَمِ الْوُجُوبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

392 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ فِي خَيْشُومِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 392 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَتَوَضَّأَ» ": أَيْ: أَرَادَ الْوُضُوءَ " فَلْيَسْتَنْثِرْ: الْفَاءُ لِجَوَابِ الشَّرْطِ أَيْ: لِيَغْسِلْ دَاخِلَ أَنْفِهِ " ثَلَاثًا ": أَوِ التَّقْدِيرُ: إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ عِنْدَ الِاسْتِنْشَاقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَنْثَرَ حَرَّكَ النَّثْرَةَ وَهِيَ طَرَفُ الْأَنْفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى نَثَرْتُ الشَّيْءَ، إِذَا فَرَّقْتُهُ وَبَدَّدْتُهُ اهـ. وَقِيلَ: الِاسْتِنْثَارُ نَثْرُ مَا فِي الْأَنْفِ الْمُتَّصِلِ بِالْبَطْنِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ: " الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ " يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ ": يَعْنِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْوَسْوَسَةَ عِنْدَ النَّوْمِ لِزَوَالِ الْإِحْسَاسِ يَبِيتُ عَلَى أَقْصَى أَنْفِهِ لِيُلْقِيَ فِي دِمَاغِهِ الرُّؤْيَا الْفَاسِدَةَ، وَيَمْنَعَهُ عَنِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ الدِّمَاغُ فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَغْسِلُوا دَاخِلَ أُنُوفِهِمْ لِإِزَالَةِ لَوْثِ الشَّيْطَانِ وَنَتَنِهِ مِنْهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَالْقَاضِي: الْخَيْشُومُ أَقْصَى الْأَنْفِ الْمُتَّصِلِ بِالْبَطْنِ الْمُقَدَّمِ مِنَ الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ وَمُسْتَقَرُّ الْخَيَالِ، فَإِذَا نَامَ تَجْتَمِعُ الْأَخْلَاطُ وَيَيْبَسُ عَلَيْهِ الْمُخَاطُ وَيَكِلُّ الْحِسُّ وَيَتَشَوَّشُ الْفِكْرُ فَيَرَى أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ، فَإِذَا قَامَ وَتَرَكَ الْخَيْشُومَ بِحَالِهِ اسْتَمَرَّ الْكَسَلُ وَالْكَلَالُ وَاسْتَعْصَى عَلَيْهِ النَّظَرُ الصَّحِيحُ وَعَسُرَ الْخُضُوعُ وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ، وَحَقُّ الْأَدَبِ فِي الْكَلِمَاتِ النَّبَوِيَّةِ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ خَصَّهُ بِغَرَائِبِ الْمَعَانِي وَحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ مَا يَقْصُرُ عَنْهُ بَاعُ غَيْرِهِ، وَرَوَى النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ: تُحْتَمَلُ بَيْتُوتَةُ الشَّيْطَانِ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْأَنْفَ أَحَدُ الْمَنَافِذِ إِلَى الْقَلْبِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْأُذُنَيْنِ غَلْقٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ الْغَلْقَ وَجَاءَ الْأَمْرُ بِكَظْمِ الْفَمِ فِي التَّثَاؤُبِ مِنْ أَجْلِ عَدَمِ دُخُولِ الشَّيْطَانِ فِي الْفَمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ مِنَ الْغُبَارِ وَرُطُوبَةِ الْخَيَاشِيمِ قَذَرٌ يُوَافِقُ الشَّيَاطِينَ، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

393 - «وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهَ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالنَّسَائِيُّ. وَلِأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 393 - (وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ) : أَنْصَارِيٌّ مَازِنِيٌّ مِنْ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ قِيلَ: شَارَكَ وَحْشِيًّا فِي قَتْلِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، قُتِلَ يَوْمَ الْحَرَّةِ، شَهِدَ أُحُدًا وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي التَّهْذِيبِ رَمَى وَحْشِيٌ مُسَيْلِمَةَ بِالْحَرْبَةِ، وَقَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بِسَيْفِهِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ يَوْمَ الْحِرَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ( «كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِوَضُوءٍ» ) بِفَتْحِ الْوَاوِ: مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ طَلَبَهُ (فَأَفْرَغَ) أَيْ: صَبَّ الْمَاءَ (عَلَى يَدَيْهِ: بِالتَّثْنِيَةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ الْإِظْهَارُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: (فَغَسَلَ يَدَيْهِ) أَيْ: إِلَى الرُّسْغَيْنِ (مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) : لَيْسَ فِي الْمَصَابِيحِ تَكْرَارٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجْهُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّكْرِيرِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَوَّلِ يُوهِمُ التَّوْزِيعَ وَاقْتِصَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَإِلَّا فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَ الثَّلَاثَ وَقَالَ: " «مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ» " اهـ. وَلَعَلَّ حَذْفَ الْبَسْمَلَةِ وَالنِّيَّةِ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ أَوْ لِأَنَّهُمَا تُخْفَيَانِ، وَالسِّوَاكُ لَيْسَ مِنْ مُخْتَصَّاتِ الْوُضُوءِ ( «ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا» ) تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ ( «ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ» ) : كَذَا كَرَّرَ مَرَّتَيْنِ (إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَبِالْعَكْسِ أَيْ: مَعَهُمَا ( «ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ» ) : بَيَانٌ لِلْمَسْحِ (بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ) : تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ فَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ (بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ) : أَيْ وَضَعَ كَفَّيْهِ وَأَصَابِعَهُ عِنْدَ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ (ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا) : أَيْ: أَمَرَّهُمَا حَتَّى وَصَلَ (إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا) أَيْ: عَلَى جَنْبَيِ الرَّأْسِ ( «حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» ) : وَهُوَ الْوَجْهُ الْمُسْتَحَبُّ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ وَسُنِّيَّةُ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ بِمَائِهِ يُعْرَفُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ (وَلِأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ (ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ) : أَيْ: جَامِعُ الْأُصُولِ وَهُوَ ابْنُ الْأَثِيرِ.

394 - وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ: تَوَضَّأْ لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَكْفَأَ مِنْهُ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا، " ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. وَفِي أُخْرَى لَهُ: فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 394 - (وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ) : قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَمْ يُوجَدْ بِلَفْظِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِهِمَا أَوْ بِلَفْظِ أَحَدِهِمَا وَإِذَا كَانَ مَسُّ أَحَدِهِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ اعْتِذَارًا عَنْ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي الْجُمْلَةِ. فَكَيْفَ إِذَا وُجِدَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا؟ ( «قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ: تَوَضَّأْ) : بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ) : أَيْ: نَحْوَ وُضُوئِهِ (فَدَعَا بِإِنَاءٍ) فِيهِ مَاءٌ (فَأَكْفَأَ) : فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: كَفَأْتُ الْإِنَاءَ إِذَا كَبَبْتُهُ وَإِذَا أَمَلْتُهُ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: قَالَ الشَّيْخُ كَفَأَ وَأَكْفَأَ بِمَعْنَى أَمَالَ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كَفَأَهُ كَبَّهُ وَأَكْفَأَهُ أَمَالَهُ (مِنْهُ) ضَمَّنَ أَكْفَأَ مَعْنَى أَفْرَغَ وَصَبَّ فَعَدَّاهُ بِمِنْ قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ (عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا) : أَيْ: إِلَى رُسْغَيْهِمَا (ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ) : أَيِ: الْيُمْنَى فِي الْإِنَاءِ (فَاسْتَخْرَجَهَا) : أَيِ: الْيَدُ مِنَ الْإِنَاءِ مَعَ الْمَاءِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ بَقِيَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَطَهُورِيَّتِهِ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ نَوَى جَعْلَ الْيَدِ آلَةً لَهُ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْحَدَثِ طَهُورٌ، وَكَرِهَهُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ الْخِلَافِ، وَكَذَا الْحَالُ عِنْدَهُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ تَحِلُّهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ: وَدِدْتُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ إِذِ الْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إِلَيْهِ، وَمَثَارُ الْوَسْوَسَةِ مِنَ اشْتِرَاطِ الْقُلَّتَيْنِ، وَلِأَجْلِهِ شَقَّ عَلَى النَّاسِ ذَلِكَ: وَلَعَمْرِي إِنَّ الْحَالَ عَلَى مَا قَالَهُ، وَلَوْ كَانَ مَا ذُكِرَ شَرْطًا لَكَانَ أَعْسَرَ الْبِقَاعِ فِي الطَّهَارَةِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ، إِذْ لَا يَكْثُرُ فِيهِمَا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ وَلَا الرَّاكِدَةُ الْكَثِيرَةُ، وَمِنْ أَوَّلِ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَمْ يَنْقُلْ وَاقِعَةً فِي الطَّهَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ حِفْظِ الْمَاءِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَكَانَتْ أَوَانِي مِيَاهِهِمْ يَتَعَاطَاهَا الصِّبْيَانُ وَالْإِمَاءُ، وَتَوَضُّؤُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَاءٍ فِي جَرَّةٍ نَصْرَانِيَّةٍ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ لَمْ يُعَوِّلْ إِلَّا عَلَى عَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَاءِ، وَكَانَ

اسْتِغْرَاقُهُمْ فِي تَطْهِيرِ الْقُلُوبِ وَتَسَاهُلُهُمْ فِي الْأَمْرِ الظَّاهِرِ ( «فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ» ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: بِزِيَادَةِ التَّاءِ مَعَ فَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْضًا. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الْأَكْثَرُ مِنْ كَفٍّ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ كَفَّةٌ بِالتَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ غُرْفَةٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِالْكِفَّةِ الْغُرْفَةُ فَاشْتُقَّ لِذَلِكَ مِنَ اسْمِ الْكَفِّ وَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى. قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلْحَاقَ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْكَفِّ. قَالَ الشَّيْخُ: مُحَصِّلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: كِفَّةٌ فِعْلَةٌ لَا أَنَّهَا تَأْنِيثُ الْكَفِّ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ: قَوْلُهُ: مِنْ كَفَّةٍ هِيَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ كَغُرْفَةٍ وَغَرْفَةٍ أَيْ: مِنْ مَلْءِ كَفَّةٍ (وَاحِدَةً، فَفَعَلَ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ (ثَلَاثًا) : وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ (ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ) : أَيْ: فِي الْإِنَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْجِنْسُ ( «فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا» ) : قَيْدٌ لِلْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ لَا لِلْأَخِيرِ فَقَطْ ( «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» ) : بِالضَّبْطَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ (مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) : قَيْدَانِ لِلْأَفْعَالِ ( «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ» ) : يَعْنِي: اسْتَوْعَبَ الْمَسْحَ (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) : ثُمَّ فِي الْمَوَاضِعِ مَعَ الْمَذْكُورَةِ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ التَّعْقِيبِيِّ الْمُفِيدِ لِسُنِّيَّةِ التَّرْتِيبِ لَا لِلتَّرَاخِي الْمُنَافِي لِلتَّوَالِي الَّذِي هُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا، وَفَرْضٌ عِنْدَ مَالِكٍ (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) : ظَاهِرُهُ الِاكْتِفَاءُ بِمَرَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ مَرَّتَيْنِ بِقَرِينَةِ مَا قَبْلَهُ وَيُحْتَمَلُ التَّثْلِيثُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ دَأْبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ ثَلَاثًا لِئَلَّا يُوهِمَ قَيْدَ الْفِعْلَيْنِ مَعًا (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ ( «هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ) : أَيْ: غَالِبًا فِي زَعْمِهِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. (" فِي رِوَايَةٍ: «فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهَا» أَيْ: عَلَى أَطْرَافِ الرَّأْسِ (حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ) وَهَذَا أَحْسَنُ أَنْوَاعِ الْمَسْحِ الْمُسْتَوْعَبِ (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) : أَيْ ثَلَاثًا. (وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ) الْوَاوُ فِيهِمَا بِمَعْنَى الْفَاءِ لِيُفِيدَ اسْتِحْبَابَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْغَيْرِ الْمَفْرُوضَةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ: فَقَالَ الْوَاوُ هُنَا مَعْنَى ثُمَّ السَّابِقَةِ (ثَلَاثًا) قَيْدٌ لِلثَّلَاثَةِ (بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالرَّاءِ، وَقِيلَ: بِضَمِّهِمَا جَمْعُ غُرْفَةٍ بِمَعْنَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَاءٍ. قِيلَ: الْغَرْفَةُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ غَرَفَ أَيْ أَخْذُ الْمَاءِ بِالْكَفِّ وَبِضَمِّ الْغَيْنِ الِاسْمُ وَهُوَ الْمَاءُ الْمَغْرُوفُ، وَقِيلَ هِيَ مَلْءُ الْكَفِّ مِنَ الْمَاءِ يَعْنِي أَخَذَ غُرْفَةً وَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِهَا، وَكَذَا بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الثَّلَاثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَقَعَ بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ. (وَفِي أُخْرَى «فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ» ) بِأَنْ جَعَلَ مَاءَ الْكَفِّ بَعْضَهُ فِي فَمِهِ وَبَعْضَهُ فِي أَنْفِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَيِ الْمَذْكُورَ مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ثَلَاثًا أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مِنْ كَفَّةٍ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، وَالْمَعْنَى مَضْمَضَ مِنْ كَفَّةٍ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَقَيْدُ الْوَحْدَةِ احْتِرَازٌ مِنَ التَّثْنِيَةِ (فَفَعَلَ ذَلِكَ) : أَيْ: كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ مَا ذَكَرُوهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً» ) : الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ تَثْلِيثِ مَسْحِ الرَّأْسِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) : فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي وُضُوئِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدٌّ عَلَى الشِّيعَةِ فِي تَجْوِيزِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ.

(وَفِي أُخْرَى لَهُ) : أَيْ: لِلْبُخَارِيِّ (فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ) : كِنَايَةٌ عَنِ الِاسْتِنْشَاقِ أَوْ مِنْ لَوَازِمِهِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ) : بِالْفَتْحِ وَيُضَمُّ (وَاحِدَةٍ) : أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَبْعُدُ تَثْلِيثُهُمَا مَعًا مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ وَجْهًا لِلشَّافِعِيَّةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَإِنَّمَا أَطْنَبْنَا الْكَلَامَ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِهِ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَالنَّسَائِيِّ، فَأَمَّا مَعْنَاهُ فَمَا ذَكَرْتُهُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَقِبَهُ، وَبَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا أَوْرَدْتُهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا فِي الْمَصَابِيحِ مِنْهَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: كَأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى الشَّيْخِ مُحْيِي السُّنَّةِ حَيْثُ أَوْرَدَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الصِّحَاحِ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا عَزَاهُ صَاحِبُ التَّخْرِيجِ إِلَيْهِمَا حَيْثُ قَالَ: وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ فِي الصِّحَاحِ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ اهـ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ نَفَى وُجُودَ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ لَا مَعْنَاهُ، وَصَاحِبُ التَّخْرِيجِ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلِذَا قَالَ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ، بَلِ الْمُصَنِّفُ بِنَفْسِهِ أَوْرَدَ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَاعْتَذَرَ بِالْإِطْنَابِ الْمُتَضَمِّنِ لِذَلِكَ الْجَوَابِ، وَإِنْ كَانَ الِاعْتِرَاضُ وَارِدًا فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الشَّرْطَ أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْحَدِيثِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

395 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّةً لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 395 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّةً» ) : نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ يَعْنِي غَسَلَ كُلَّ عُضْوٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً (وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا) : أَيْ: فِي هَذَا الْوُضُوءِ أَوْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ صَحَّتِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَاتٍ لَا تُحْصَى وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ أَقَلُّ الْوُضُوءِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

396 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 396 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ» ) : أَيْ: لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَيْضًا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِي الْوُضُوءِ أَيْ بِالنِّسْبَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَالْأَخْصَرُ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ.

397 - وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِالْمَقَاعِدِ، فَقَالَ: أَلَا أُرِيكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 397 - (وَعَنْ عُثْمَانَ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِالْمَقَاعِدِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي مَوَاضِعِ قُعُودِ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا اهـ. وَقِيلَ: مَوَاضِعُ الْقُعُودِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ (فَقَالَ: أَلَا) : بِالتَّنْبِيهِ أَوِ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ ( «أُرِيكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ) : أَيْ: كَيْفِيَّتَهُ وَتَصْوِيرَهُ (فَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ. قَالَ مِيرَكُ: أَيْ غَسَلَ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ثَلَاثَةً، وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ الرَّأْسَ أَيْضًا ثَلَاثًا، لَكِنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فُصِّلَتْ فِيهَا أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ وَقَعَ مَرَّةً تَأَمَّلْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ طَهَّرَ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا يَشْمَلُ مَسْحَ الرَّأْسِ ثَلَاثًا، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِتَثْلِيثِ الْمَسْحِ فِي رِوَايَةٍ اهـ. وَهَى فِي أَبِي دَاوُدَ، لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنَّهَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلثِّقَاتِ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ مَعَ كَمَالِ اعْتِنَائِهِ بِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ فِي تَكْرَارِ الْمَسْحِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ عُثْمَانَ، وَرِوَايَةُ أَبِي أَنَسٍ عَنْ عُثْمَانَ مُطْلَقَةٌ، وَالرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ عَنْهُ الْمُفَسِّرَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْرَارَ وَقَعَ فِيمَا عَدَا الرَّأْسِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَأَنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً اهـ كَلَامُهُ. وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَالْجَبِيرَةِ وَالْخُفِّ وَالتَّيَمُّمِ وَلِأَنَّهُ بِالتَّعَدُّدِ يَنْقَلِبُ غَسْلًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّةً، وَأُخْرَى مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَأُخْرَى ثَلَاثًا ثَلَاثًا تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ أَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ وَأَنَّ الْأَكْمَلَ أَفْضَلُ أَيْ: أَكْثَرُ ثَوَابًا وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكَمَالِ نُقْصَانٌ وَخَطَأٌ وَظُلْمٌ وَإِسَاءَةٌ كَمَا سَنُورِدُ.

398 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " «رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ عَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عُجَّالٌ فَانْتَهَيْنَا بِهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 398 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: «رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا» ) : أَيْ: صِرْنَا (بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّرْفُ الْأَوَّلُ خَبَرُ كَانَ وَالثَّانِي صِفَةٌ أَيْ: إِذَا كُنَّا نَازِلِينَ بِمَاءٍ كَائِنٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ ( «تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عُجَّالٌ» ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ جَمْعُ عَاجِلٍ كَجُهَّالٍ جَمْعُ جَاهِلٍ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ جَمْعُ عَاجِلٍ كَقِيَامٍ جَمْعُ قَائِمٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعَجَّلَ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ يَعْنِي تَطَلَّبُوا تَعْجِيلَ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْعَصْرِ فَتَوَضَّئُوا عَاجِلِينَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ اسْتَعْجَلُوا فِي السَّيْرِ وَتَقَدَّمُوا عَلَيْنَا عِنْدَ دُخُولِ الْعَصْرِ مُبَادَرَةً إِلَى الْوُضُوءِ فَتَوَضَّئُوا عَلَى الْعَجَلَةِ بِحُكْمِ ضِيقِ الْوَقْتِ مِنَ السَّفَرِ (فَانْتَهَيْنَا) : أَيْ: وَصَلْنَا (إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ) : جَمْعُ عَقِبٍ (تَلُوحُ) : أَيْ: تَظْهَرُ يُبُوسَتُهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَكَذَا (لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِتَلُوحُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَيْلٌ " فِي النِّهَايَةِ الْوَيْلُ الْخِزْيُ وَالْهَلَاكُ وَالْمَشَقَّةُ مِنَ الْعَذَابِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: جَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ وَقِيلَ شِدَّةُ الْعَذَابِ، وَقِيلَ جَبَلٌ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَقِيلَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا كُلُّ مَكْرُوبٍ وَأَصْلُهَا الْهَلَاكُ وَالْعَذَابُ، وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى الْأَصْلِ أَيْ: هَلَاكٌ عَظِيمٌ وَعِقَابٌ أَلِيمٌ " لِلْأَعْقَابِ: أَيْ: لِأَصْحَابِهَا " مِنَ النَّارِ ": قَالَ الطِّيبِيُّ: خُصَّ الْعَقِبُ بِالْعَذَابِ لِأَنَّهُ الْعُضْوُ الَّذِي لَمْ يُغْسَلْ فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَقِيلَ: أَرَادَ صَاحِبَ الْعَقِبِ فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَقْصُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ فِي الْوُضُوءِ " أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ " بِضَمِّ الْوَاوِ أَيْ: أَتِمُّوهُ بِإِتْيَانِ جَمِيعِ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ أَوْ أَكْمِلُوا وَاجِبَاتِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتْحُ الْوَاوِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ أَيْ: أَوْصِلُوا مَاءَ الْوُضُوءِ إِلَى الْأَعْضَاءِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيعَابِ وَالِاسْتِقْصَاءِ، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَأَحْكَامِهِ، فَتَجَوَّزُوا أَيْ تَسَامَحُوا فِي غَسْلِ أَرْجُلِهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَقَعَ حِينَ الْعَجَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيعَابِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَقِرَاءَةُ جَرِّ (أَرْجُلِكُمْ) تُعَارِضُهَا قِرَاءَةُ نَصْبِهِ، وَحَمْلُ الْجَرِّ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ كَمَا فِي جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءِ شَنٍّ بَارِدٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] ، {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] " أَوْلَى مِنْ حَمْلِ النَّصْبِ عَلَى مَحَلِّ الْمَجْرُورِ لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الشَّائِعَةِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَأَنَّ الْمَسْحَ لَا يُجْزِئُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ، وَقَالُوا: لَا يَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى الْغَسْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ، وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافُ هَذَا عَنْ أَحَدٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَأَيْضًا كُلُّ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَعَلَى صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ اهـ. وَفَائِدَةُ الْجَرِّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْ أَنَّ الْأَرْجُلَ مَظِنَّةُ الْإِفْرَاطِ فِي الصَّبِّ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ حَاجِبٍ: عَطْفُ الْأَرْجُلِ عَلَى الرُّءُوسِ مَعَ إِرَادَةِ كَوْنِهَا مَغْسُولَةً مِنْ بَابِ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ الْمُتَنَاسِبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ: يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ أَتَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا وَقَوْلِ الْآخَرِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ أَظْهَرُ إِذِ الْقِرَاءَتَانِ مُجَمَلَتَانِ فِي الْآيَةِ يُبَيِّنُهُمَا فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ مَسَحَ حَالَ كَوْنِ الرِّجْلَيْنِ لَابِسَتَيِ الْخُفِّ، وَغَسَلَ حَالِ كَوْنِهِمَا عَارِيَتَيْنِ عَنِ الْخُفِّ مَعَ إِفَادَتِهِمَا التَّرْتِيبَ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

399 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى الْخُفَّيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 399 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) : مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْحُدَيْبِيَةُ كَانَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ لِمُعَاوِيَةَ وَمَاتَ بِهَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَكَذَا الْمُصَنِّفُ. (قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ» ) : قِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَاءُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ الْتَصَقَ بِالرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ جُعِلَتِ الْبَاءُ تَبْعِيضِيَّةً فَفِيهِ دَلِيلٌ لِلشَّافِعِيِّ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ قَدْرِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ، وَإِنْ جُعِلَتْ زَائِدَةً فَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّقْدِيرِ بِالرُّبُعِ وَهُوَ قَدْرُ النَّاصِيَةِ (وَعَلَى الْعِمَامَةِ) : قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَسَوَّى عِمَامَتَهُ بِيَدَيْهِ، فَحَسِبَ الرَّاوِي تَسْوِيَةَ الْعِمَامَةِ عِنْدَ الْمَسْحِ مَسْحًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ ثَوْبَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ سِرِّيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ كَانَتْ مُعَصَّبَةً عَلَى الْجِرَاحِ» ، يُحْتَمَلُ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمَائِدَةَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَالْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْلَى اهـ. قَالَ الْقَاضِي: اخْتَلَفُوا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مُطْلَقًا أَيْ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَجَوَّزَ الثَّوْرِيُّ وَدَاوُدُ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَسْحِهَا، إِلَّا أَنَّ أَحْمَدَ اعْتَبَرَ التَّعْمِيمَ عَلَى طُهْرٍ كَلُبْسِ الْخُفِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا لِظَاهِرِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِلْصَاقِ وَالْأَحَادِيثِ الْعَاضِدَةِ إِيَّاهَا، لَكِنْ لَوْ مَسَحَ مِنْ رَأْسِهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ وَكَانَ يَعْسُرُ عَلَيْهِ رَفْعُهَا، وَأَمَرَّ الْيَدَ الْمُبْتَلَّةَ عَلَيْهَا بَدَلَ الِاسْتِيعَابِ كَانَ حَسَنًا كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (وَعَلَى الْخُفَّيْنِ) : أَيْ: وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا وَهُوَ جَائِزٌ إِجْمَاعًا وَأَحَادِيثُهُ مُتَوَاتِرَةٌ مَعْنًى، فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانُونَ صَحَابِيًّا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَسَكَتَا عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَعْقِلٍ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قِطْرِيَّةٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ الْقِطْرِيَّهِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ ضَرْبٌ مِنَ الْبُرُودِ» ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ. قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاصِيَةَ وَمُقَدَّمَ الرَّأْسِ أَحَدُ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعَةِ، فَلَوْ كَانَ مَسْحُ الرُّبُعِ لَيْسَ بِمُجْزِئٍ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مَسْحُ مَا دُونَهُ مُجْزِئًا لَفَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَوْ مَرَّةً فِي عُمْرِهِ تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ اهـ. فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

400 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ: فِي طَهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 400 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ التَّيَمُّنَ» ) : أَيِ: الْبَدْءَ بِالْأَيَامِنِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، لَكِنَّ التَّيَمُّنَ فِي اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ هُوَ التَّبَرُّكُ بِالشَّيْءِ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ. فِي الْقَامُوسِ: الْيُمْنُ بِالضَّمِّ الْبَرَكَةُ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: الْيُمْنُ الْبَرَكَةُ وَضِدُّهُ الشُّؤْمُ وَالتَّيَمُّنُ الِابْتِدَاءُ فِي الْأَفْعَالِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى وَالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ (مَا اسْتَطَاعَ) : أَيْ: مَا أَمْكَنَهُ وَقَدَرَ عَلَيْهِ (فِي شَأْنِهِ) : أَيْ: فِي أَمْرِهِ (كُلِّهِ) : تَأْكِيدٌ وَالْمُرَادُ الْأُمُورُ الْمُكَرَّمَةُ (فِي طَهُورِهِ) : بِالضَّمِّ وَيُفْتَحُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا الِاسْتِنْجَاءُ وَنَدْبُ التَّيَمُّنِ فِي الطَّهُورِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بِأَنْ يَغْسِلَ يَدَهُ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى، وَكَذَا فِي الرِّجْلَيْنِ وَفِي الْغُسْلِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ قَبْلَ الْأَيْسَرِ، وَفِي مَعْنَاهُ السِّوَاكُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْمُصَافَحَةُ وَالْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ، وَمِنْهُ رِعَايَةُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ فِي الْمُنَاوَلَةِ وَنَحْوِهَا (وَتَرَجُّلِهِ) : أَيِ: امْتِشَاطِهِ الشَّعْرَ مِنَ اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ، وَمِثْلُهُ قَصُّ الشَّارِبِ وَحَلْقُ الرَّأْسِ وَالْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَتَقْلِيمُ الظُّفُرِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْأَظْهَرُ إِدْخَالُهَا فِي الطَّهُورِ فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ تَطْهِيرِ الْبَدَنِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَتَنَعُّلِهِ) : أَيْ: لُبْسِ نَعْلِهِ، مِثْلُهُ لُبْسُ الْخُفِّ وَالثَّوْبِ وَالسَّرَاوِيلِ وَنَحْوِهَا. وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُحِبُّ التَّيَاسُرَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ غَيْرِ التَّكْرِيمِ وَمَرَّ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ، وَمِنْهُ دُخُولُ الْخَلَاءِ وَالسُّوقِ وَمَحَلِّ الْمَعْصِيَةِ وَالْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَالِامْتِخَاطُ وَالْبُصَاقُ وَالِاسْتِنْجَاءُ وَخَلْعُ الثَّوْبِ وَالنَّعْلِ وَنَحْوِهَا. وَفِي الْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ هَذَا كُلُّهُ إِلَى تَكْرِيمِ الْيَمِينِ، فَفِي تَقْدِيمِ الْيَسَارِ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ إِبْقَاءٌ لِلْيَمِينِ فِي الْمَوْضِعِ الْأَشْرَفِ تِلْكَ السُّوَيْعَةَ، وَكَذَا فِي تَقْدِيمِ الْيَسَارِ حِينَ الدُّخُولِ فِي الْخَلَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُهُ: فِي طَهُورِهِ إِلَخْ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي شَأْنِهِ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ، وَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا بَدَأَ فِيهَا بِذِكْرِ الطَّهُورِ لِأَنَّهُ مِفْتَاحٌ لِأَبْوَابِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، فَبِذِكْرِهِ يُسْتَغْنَى عَنْهَا كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» ، وَثَنَّى بِذِكْرِ التَّرَجُّلِ وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّأْسِ، وَثَلَّثَ بِالتَّنَعُّلِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالرِّجْلِ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ، فَيَكُونُ كَبَدَلِ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ اهـ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ تَأَمُّلٌ اهـ. وَالَّذِي يُظْهِرُ أَنَّ مَحَلَّ التَّأَمُّلِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا بَدَأَ فَإِنَّهُ مُوهِمٌ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَصْلُ الْكَلَامِ وَالْأَبْدَالِ جَمِيعًا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ: لَكِنْ فِي مُسْلِمٍ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 401 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا لَبِسْتُمْ وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ، فَابْدَءُوا بِأَيَامِنِكُمْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 401 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا لَبِسْتُمْ " أَيْ: قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ نَعْلًا أَوْ خُفًّا وَنَحْوَهَا " وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ ": أَيْ: تَطَهَّرْتُمْ بِالْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ أَوِ التَّيَمُّمِ " فَابْدَأُوا بِأَيَامِنِكُمْ: جَعَلَ الْأَيْمَنَ وَهُوَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرِّوَايَةُ الْمُعْتَدُّ بِهَا بِمَيَامِنِكُمْ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّ الْأَيْمَنَ وَالْمَيْمَنَةَ خِلَافُ الْأَيْسَرِ وَالْمَيْسَرَةِ غَيْرَ أَنَّ الْحَدِيثَ تَفَرَّدَ أَبُو دَاوُدَ بِإِخْرَاجِهِ فِي كِتَابِهِ، وَلَفْظُهُ: بِمَيَامِنِكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالَ الْمُؤَلِّفُ - أَيْ: صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ -: كَذَا وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ فِي بَابِ النِّعَالِ. وَقَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ أَبُو دَاوُدَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا لَكِنْ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ: إِذَا لَبِسْتُمْ. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ وَلَفْظُهُ: بِأَيَامِنِكُمْ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: «إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَأُوا بِمَيَامِنِكُمْ» .

402 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 402 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ) : هُوَ قُرَشِيٌّ عَدَوِيٌّ مِنَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: يُكَنَّى أَبَا الْأَعْوَرِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَطْلُبَانِ خَبَرَ عِيرِ قُرَيْشٍ، وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمٍ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ أُخْتُ عُمَرَ تَحْتَهُ، وَبِسَبَبِهَا كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ، مَاتَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَلَهُ بِضْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا وُضُوءَ ": أَيْ: كَامِلًا " لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ " أَيْ: عَلَى وُضُوئِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُفَسِّرُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: " «تَوَضَّأُوا بَاسِمِ اللَّهِ» " أَيْ: قَائِلِينَ ذَلِكَ. هَذَا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِلَى وُجُوبِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: إِنْ تَرَكَهُ فِي ابْتِدَائِهِ بَطَلَ وُضُوءُهُ، وَقِيلَ: إِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا بَطَلَ وَإِنْ تَرَكَهُ سَاهِيًا لَا. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الصِّيغَةُ حَقِيقَةٌ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى نَفْيِ الِاعْتِدَادِ بِهِ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «وَلَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ» " وَعَلَى نَفْيِ كَمَالِهِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ". وَهَاهُنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ خِلَافًا لِأَهْلِ الظَّاهِرِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ قَالَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ كَانَ طَهُورًا لِأَعْضَاءِ وُضُوئِهِ» ". وَالْمُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ عَنِ الذُّنُوبِ ; لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يَتَجَزَّأُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَرِجَالُ التِّرْمِذِيِّ مُوَثَّقُونَ وَكَذَا رِجَالُ ابْنِ مَاجَهْ إِلَّا يَزِيدَ بْنَ عِيَاضٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ.

403 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 403 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) .

404 - وَالدَارِمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَزَادُوا فِي أَوَّلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 404 - (وَالدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّوَابُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ الرَّاوِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَبُوهُ: وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَهْوٌ بِلَا شَكٍّ، فَإِنَّ فِي سُنَنِ الدَّارِمِيِّ فِي بَابِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الْوُضُوءِ هَكَذَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي رُبَيْحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» " قَالَهُ الشَّيْخُ عَفِيفٌ الْكَازَرُونِيُّ، فَعُلِمَ أَنَّ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ سَهْوَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْإِسْنَادِ، وَالثَّانِي أَنَّ زِيَادَةَ: " «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ» " لَيْسَتْ لِلدَّارِمِيِّ، خِلَافَ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ وَزَادُوا فِي أَوَّلِهِ. تَأَمَّلْ. اهـ (وَزَادُوا) : أَيْ: أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدِّارِمِيُّ (فِي أَوَّلِهِ: " «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ» ". قَالَ مِيرَكُ: فِي التَّرْغِيبِ: لِلْحَافِظِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيِّ، عَنْ رَبَاحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حُوَيْطِبٍ، عَنْ جَدَّتِهِ، عَنْ أَبِيهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ: أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ رَبَاحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَدَّتِهِ عَنْ أَبِيهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأَبُوهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَا يَسْلَمُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ مَقَالٍ، وَقَدْ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ إِلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ، حَتَّى إِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَهَا أَعَادَ الْوُضُوءَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَسْلَمُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ مَقَالٍ، فَإِنَّهَا تَتَعَاضَدُ لِكَثْرَةِ طُرُقِهَا وَتَكْتَسِبُ قُوَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

405 - وَعَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ. قَالَ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: بَيْنَ الْأَصَابِعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 405 - (وَعَنْ لَقِيطٍ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْقَافِ (ابْنِ صَبِرَةَ) : بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، وَيَجُوزُ سُكُونُ الْبَاءِ مَعَ فَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، كَذَا فِي التَّهْذِيبِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ لَقِيطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ صَبِرَةَ، وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، عُقَيْلِيٌّ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ لَقِيطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ صَبِرَةَ، يُكَنَّى أَبَا رَزِينٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنَهُ عَاصِمٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا ( «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ» ) أَيْ: كَمَالِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ الْوُضُوءِ الْكَامِلِ الزَّائِدِ عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ، فَـ " أَلْ " فِيهِ لِلْكَمَالِ أَوْ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ وَهُوَ مَا عُرِفَ وَاسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ مَدْحُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَى فَاعِلِهِ (قَالَ: " أَسْبِغِ الْوُضُوءَ ": بِضَمِّ الْوَاوِ أَيْ: أَتِمَّ فَرَائِضَهُ وَسُنَنَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَا اشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَعُرِفَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْوُضُوءَ مَا هُوَ فَالِاسْتِخْبَارُ عِنْدَهُمْ عَنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا عَرَفَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسْبِغِ الْوُضُوءَ " وَكَمَالُهُ اتِّصَالُ الْمَاءِ مِنْ فَوْقِ الْغُرَّةِ إِلَى تَحْتِ الْحَنَكِ طُولًا، وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ عَرْضًا مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ وَالْمَضْمَضَةِ، هَذَا فِي الْوَجْهِ، وَأَمَّا فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَإِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى فَوْقِ الْمَرَافِقِ وَالْكَعْبَيْنِ مَعَ تَخْلِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَتَأَمَّلْ فِي بَلَاغَةِ هَذَا الْجَوَابِ الْمُوجَزِ: (وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ) . أَيْ: أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِالتَّشْبِيكِ لِلْيَدَيْنِ، وَمَحَلُّ كَرَاهَتِهِ لِمَنْ هُوَ بِالْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ; لِأَنَّهُ مِنْهُ عَبَثٌ، وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِهِ اهـ. وَعِنْدَنَا: يُشَبِّكُ، لَكِنْ لَا عَلَى الطَّرِيقِ الْمَنْهِيِّ الَّذِي يُقَابِلُ الْكَفَّ بِالْكَفِّ، بَلْ بِأَنْ يَضَعَ بَطْنَ الْكَفِّ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَيُدْخِلَ الْأَصَابِعَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَالْمُسْتَحَبُّ فِي تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ أَسْفَلِ خِنْصَرِ رِجْلِهِ الْيُمْنَى وَيَسْتَمِرَّ إِلَى خِنْصَرِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى لِمَا فِيهِ مِنَ السُّهُولَةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى التَّيَامُنِ، وَيَكُونُ التَّخْلِيلُ بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُسْرَى، وَأَصْلُ السُّنَّةِ يَحْصُلُ بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ كَانَتْ " «وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ» " بِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَاطِنِ الْأَنْفِ " «إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» " فَلَا تُبَالِغْ لِئَلَّا يَصِلَ إِلَى بَاطِنِهِ فَيَبْطُلَ الصَّوْمُ، وَكَذَا حُكْمُ الْمَضْمَضَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَصَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: بَيْنَ الْأَصَابِعِ ": قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَالتَّخْلِيلُ سُنَّةٌ إِنْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى أَثْنَائِهَا، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ بِأَنْ كَانَتِ الْأَصَابِعُ مُنْضَمَّةً فَوَاجِبٌ.

406 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلْ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 406 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلْ أَصَابِعَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ» ": أَيْ: إِذَا شَرَعْتَ فِي الْوُضُوءِ أَوْ إِذَا غَسَلْتَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ فَخَلِّلْ أَصَابِعَ يَدَيْكَ بَعْدَ غَسْلِهِمَا وَأَصَابِعَ رِجْلَيْكَ بَعْدَ غَسْلِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِلَّا فَلَوْ أَخَّرَ تَخْلِيلَ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ إِلَى آخِرِ الْوُضُوءِ جَازَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوَاوُ الَّتِي لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ) : بِمَعْنَاهُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

407 - وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ يُدَلِّكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 407 - (وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ. قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ (ابْنِ شَدَّادٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قُرَشِيٌّ مِنْ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ سَكَنَ مِصْرَ وَيُعَدُّ فِيهِمْ، يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ غُلَامًا يَوْمَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ وَوَعَى عَنْهُ. زَادَ الْمُصَنِّفُ وَقَالَ: وَرَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ ( «قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ يُدَلِّكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ» ) : أَيْ: يُخَلِّلُ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ (بِخِنْصَرِهِ) : كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: لِأَنَّهُ أَصْغَرُ وَالْخَدْمُ بِالصِّغَارِ أَلْيَقُ، وَالدُّخُولُ فِي الْخِلَالِ أَيْسَرُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنْ أَرَادَ الْمُسْتَوْرِدُ بِالدَّلْكِ التَّخْلِيلَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِمَا مَرَّ مِنْ نَدْبِهِ بِالْخِنْصَرِ، وَخُصَّتِ الْيُسْرَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا أَلْيَقُ بِهِ، إِذْ لَا تَكْرِمَةَ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجْلَيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ إِمْرَارَ الْخِنْصَرِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِنَدْبِ الدَّلْكِ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَلِوُجُوبِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ فِي مَذْهَبِنَا الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ فَإِنَّهُ احْتِيَاطٌ فِي الدِّينِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ. قَالَ صَاحِبُ التَّخْرِيجِ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ. قَالَ الشَّيْخُ زَيْنُ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، بَلْ تَابَعَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ.

408 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ، فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَ رَبِّي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 408 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ» ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْوُضُوءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَثْنَائِهِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ لِأَنَّهُ مِنْ مُكَمِّلَاتِهِ (فَأَدْخَلَهُ) : أَيْ: بِيَمِينِهِ (تَحْتَ حَنَكِهِ) : قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الْحَنَكُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ: بَاطِنُ الْفَمِ وَتَحْتَ الْحَنَكِ تَحْتَ الذَّقَنِ (فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ) : أَيْ: أَدْخَلَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ تَحْتَ لِحْيَتِهِ مِنْ جِهَةِ حَلْقِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ لِيَصِلَ الْمَاءُ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَكَانَ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِهِ لَا بَعْدَ فَرَاغِهِ كَمَا تُوُهِّمَ. ( «وَقَالَ: " هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي» ": أَيْ: بِالْوَحْيِ الْخَفِيِّ أَوْ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَسَكَتَ عَلَيْهِ، قَالَهُ مِيرَكُ.

409 - وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. 409 - (وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ (وَالدَّارِمِيُّ) .

410 - وَعَنْ أَبِي حَيَّةَ قَالَ: «رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا، ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلَاثًا وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَذِرَاعَهُ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَأَخَذَ فَضْلَ طَهُورِهِ فَشَرِبَهُ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ طَهُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 410 - (وَعَنْ أَبِي حَيَّةَ) : بِالتَّحْتَانِيَّةِ قَالَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ عَمْرُو بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، زَادَ الْمُصَنِّفُ: رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ) : أَيْ: شَرَعَ فِي الْوُضُوءِ أَوْ أَرَادَهُ، فَالْفَاءُ تَعْقِيبِيَّةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِتَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: تَوَضَّأَ. وَالْمُرَادُ بِالْكَفَّيْنِ الْيَدَانِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ (حَتَّى أَنْقَاهُمَا) : أَيْ: أَزَالَ الْوَسَخَ عَنْهُمَا، وَالرِّوَايَاتُ الْأُخَرُ تَدُلُّ عَلَى التَّثْلِيثِ (ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلَاثًا، وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا) : ظَاهِرُهُ الْفَصْلُ الْمُطَابِقُ لِمَذْهَبِنَا ( «وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَذِرَاعَيْهِ» " أَيْ: يَدَيْهِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ (ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً) : فِيهِ دَلِيلٌ لِعَدَمِ التَّثْلِيثِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَيْسَ بِمُشَرِّعٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّهُ عِنْدَ الشَّارِعِ جَائِزٌ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ سَائِرَ السُّنَنِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَخَفَّفَ فِي طَهَارَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ غَالِبًا - فَمَدْفُوعٌ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ لَا فَرْقَ فِي سَتْرِ أَعْضَائِهَا وَكَشْفِهَا، مَعَ أَنَّهُ يَرُدُّهُ غَسْلُ قَدَمَيْهِ مَرَّةً عَلَى ظَاهِرِهِ (ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) : أَيْ: مَعَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَسَلَهُمَا ثَلَاثًا، وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ تَرَكَهُ لِظُهُورِهِ أَوْ لِلْمُقَايَسَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ الْمَغْسُولَةِ، إِذَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُمَضْمِضَ وَيَسْتَنْشِقَ ثَلَاثًا، وَيَكْتَفِيَ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بِمَرَّةٍ، وَلِذَا لَمْ يَقُلِ الرَّاوِي: مَرَّةً، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ التَّرَدُّدُ أَوْ وَقَعَ الْحَذْفُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ نِسْيَانًا أَوِ اخْتِصَارًا (ثُمَّ قَامَ) : أَيْ: عَلِيٌّ (فَأَخَذَ فَضْلَ طَهُورِهِ) بِفَتْحِ الطَّاءِ لَا غَيْرَ، قَالَهُ الْكَازَرُونِيُّ أَيْ: بَقِيَّةَ مَائِهِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ (فَشَرِبَهُ وَهُوَ قَائِمٌ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَمَّا شُرْبُ فَضْلِهِ فَلِأَنَّهُ مَاءٌ أَدَّى بِهِ عِبَادَةً وَهِيَ الْوُضُوءُ، فَيَكُونُ فِيهِ بَرَكَةٌ فَيَحْسُنُ شُرْبُهُ قَائِمًا تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا جَائِزٌ فِيهِ (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ: عَلِيٌّ ( «أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ طُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ وُضَوْءُهُ وَطَهَارَتِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْفَتْحِ، وَالتَّقْدِيرُ اسْتِعْمَالُهُ أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الضَّمِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ وُضُوءُهُ دَائِمًا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بَلْ مُرَادُهُ بَيَانُ الْهَيْئَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الْمَرْئِيَّةِ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَعْضِ الرَّاوِيَاتِ مِنِ اخْتِلَافِ الْمَرَّاتِ، أَوْ أُرِيدَ مَا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ وُضُوءُهُ أَوْ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي أَوَاخِرِ عُمُرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَالنَّسَائِيُّ) : رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، قَالَهُ مِيرَكُ.

411 - وَعَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، «قَالَ: نَحْنُ جُلُوسٌ نَنْظُرُ إِلَى عَلِيٍّ حِينَ تَوَضَّأَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فَمَلَأَ فَمَهُ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَعَلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى طَهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا طَهُورُهُ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 411 - (وَعَنْ عَبْدِ خَيْرٍ) : ضِدُّ الشَّرِّ، كَذَا فِي الْجَامِعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَمَدَانِيٌّ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، سَكَنَ الْكُوفَةَ. وَيُقَالُ: أَتَى عَلَيْهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عُمَارَةَ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ (قَالَ: نَحْنُ جُلُوسٌ) : أَيْ: جَالِسُونَ (نَنْظُرُ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ تَوَضَّأَ) : لِنَأْخُذَ الْعِلْمَ مِنْ بَابِهِ (فَأَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى) : أَيْ: فِي الْإِنَاءِ فَأَخَذَ بِهَا الْمَاءَ (فَمَلَأَ فَمَهُ، فَمَضْمَضَ) : أَيْ: حَرَّكَ الْمَاءَ فِي فِيهِ (وَاسْتَنْشَقَ) : أَيْ: أَدْخَلَ الْمَاءَ فِي أَنْفِهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى (وَنَثَرَ) : أَيْ: أَخْرَجَ الْمُخَاطَ وَالْأَذَى مِنْ أَنْفِهِ (بِيَدِهِ الْيُسْرَى فَعَلَ) : أَيْ: عَلِيٌّ (هَذَا) : أَيِ: الْمَذْكُورَ يَعْنِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ الْمُبَيِّنِ هَذَا الْمُجْمَلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعَ إِجْمَالِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْفَصْلِ أَوِ الْوَصْلِ، وَوَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ يُسَنُّ الْوَصْلُ فِيهِمَا (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ: عَلِيٌّ (مَنْ سَرَّهُ) : أَيْ: جَعَلَهُ مَسْرُورًا وَأَحَبَّ (أَنْ يَنْظُرَ إِلَى طَهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِضَمِّ الطَّاءِ وَتُفْتَحُ (فَهَذَا طَهُورُهُ) : أَيْ: نَحْوُهُ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالنَّسَائِيُّ، وَسَنَدَهُ حَسَنٌ.

412 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 412 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ زَيْدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، شَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي أُرِيَ الْأَذَانَ فِي النَّوْمِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ ( «قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ» ) : يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ (فَعَلَ ذَلِكَ) : أَيِ: الْمَجْمُوعَ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (ثَلَاثًا) : وَالْأَخِيرُ هُوَ الْأَنْسَبُ الْمُطَابِقُ لِلْأَكْثَرِ وَالْمُوَافِقُ لِلْأَكْمَلِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَ السَّيِّدُ: الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ تَقَدَّمَ فِي الصِّحَاحِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ فِي حِسَانِ هَذَا الْبَابِ. قَالَ مِيرَكُ: ثُمَّ تَأَمَّلْتُ فَوَجَدْتُ لِإِيرَادِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ هُنَا وَجْهًا وَهُوَ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ صَنِيعَ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. تَأَمَّلْ. اهـ. قُلْتُ: تَأَمَّلْتُ فَعَجِبْتُ مِنَ السَّيِّدَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ عَلَى الشَّيْخَيْنِ الْمُؤَلِّفَيْنِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ الْوَارِدَ فِي الصَّحِيحِ لَيْسَ مِنْ إِيرَادِ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، بَلْ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ تَصْحِيحًا لِمَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَهُوَ مِنْ كَلَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي الْحِسَانِ، وَالصَّحَابِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ الصَّحَابِيِّ لِذَلِكَ، وَكَذَا الْمَخْرَجَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا إِعَادَةَ وَلَا اعْتِرَاضَ لِيُحْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

413 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأُذُنَيْهِ: بَاطِنَهُمَا بِالسَّبَّاحَتَيْنِ، وَظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 413 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَسَحَهُمَا بِمَاءِ رَأْسِهِ وَهُوَ يُوَافِقُ مَذْهَبَنَا (بَاطِنِهِمَا) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ لَفْظِ أُذُنَيْهِ، وَالنَّصْبُ بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِنِ الْجَانِبُ الَّذِي فِيهِ الثُّقْبُ (بِالسَّبَّاحَتَيْنِ) : يَعْنِي الْمُسَبِّحَتَيْنِ، سُمِّيَتَا بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ التَّسْبِيحِ بِهِمَا غَالِبًا، وَهُمَا السَّبَّابَتَانِ، وَالسَّبَّاحَةُ وَالْمُسَبِّحَةُ مِنَ التَّسْمِيَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَرَاهَةً لِمَعْنَى السَّبَّابَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَسُبُّونَ النَّاسَ وَيُشِيرُونَ بِهَا إِلَيْهِمْ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي غَيَّرَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَظَاهِرِهِمَا) : بِالْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الطَّرَفُ الَّذِي يَلْتَصِقُ بِالرَّأْسِ (بِإِبْهَامَيْهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْأَوْلَى غَسْلُهُمَا مَعَ الْوَجْهِ وَمَسْحُهُمَا مَعَ الرَّأْسِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ فِي شَرْعٍ جَمْعُ عُضْوٍ وَاحِدٍ بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ. وَأَيْضًا وُجُودُ الْمَسْحِ بَعْدَ الْغَسْلِ عَبَثٌ ظَاهِرٌ! نَعَمْ صَحَّ الْمَسْحُ وَالْغَسْلُ فِي الرِّجْلَيْنِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ، فَلَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ أَنْ قُدِّمَ الْمَسْحُ عَلَى الْغَسْلِ، فَإِنَّ الْغَسْلَ بَعْدَهُ يَقَعُ تَكْمِيلًا لَهُ مَعَ الْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ، وَلَمْ أُرِدْ خِلَافَ الشِّيعَةِ وَإِنَّمَا أُرِيدُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْمَسْحُ، وَمَا حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ مِنْ جَوَازِ مَسْحِ جَمِيعِ الْقَدَمَيْنِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، ثُمَّ غَسْلُ الْأُذُنِ بِكَمَالِهِ مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: مَا أَقَبْلَ مِنْهُمَا يُغْسَلُ وَمَا أَدْبَرَ مِنْهُمَا مَعَ الرَّأْسِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْأُذُنَيْنِ عِوَضًا عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَرَّرُ مَسْحُ الْأُذُنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَأَيْضًا الْغَسْلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَسْحِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ، فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَسْلِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ إِنَّمَا هُوَ الطِّهَارَةُ الْكَامِلَةُ، فَفَاعِلُ الْغَسْلِ قَامَ بِالْأَحْوَطِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمَسْحِ بِخِلَافِ الْمَاسِحِ، وَلَعَلَّ عَدَمَ غَسْلِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ بِخِلَافِ الْغَسْلِ، وَلِهَذَا كَثَافَةُ اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ مَانِعَةٌ لِوُجُوبِ غَسْلِ مَا تَحْتَهَا بِخِلَافِ الْغَسْلِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

414 - وَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «أَنَّهَا رَأَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ قَالَتْ: فَمَسَحَ رَأْسَهُ مَا أَقَبْلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ، وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي جُحْرَيْ أُذُنَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ الثَّانِيَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 414 - (وَعَنِ الرُّبَيِّعِ) : بِالتَّصْغِيرِ وَالتَّثْقِيلِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، أَنْصَارِيَّةٌ نَجَّارِيَّةٌ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: لَهَا قَدْرٌ عَظِيمٌ، حَدِيثُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَالرُّبَيِّعُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ (بِنْتِ مُعَوِّذٍ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّعْوِيذِ كَذَا فِي الْجَامِعِ: ابْنُ عَفْرَاءَ ( «أَنَّهَا رَأَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ. فَقَالَتْ: فَمَسَحَ رَأْسَهُ مَا أَقَبْلَ مِنْهُ» ) : مَا مَوْصُولَةٌ (وَمَا أَدْبَرَ) : عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَهُمَا بَدَلٌ مِنْ رَأْسِهِ (وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ) : مَعْطُوفٌ عَلَى رَأْسِهِ عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ؛ أَيْ: أَنَّهُمَا مَسَحَهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالصُّدْغُ مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَالْعَيْنِ، وَيُسَمَّى الشَّعَرُ الْمُتَدَلِّي عَلَيْهِ صُدْغًا، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ الشَّعَرُ الَّذِي بَيْنَ الْأُذُنِ وَبَيْنَ النَّاصِيَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَانِبَيِ الرَّأْسِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالْمَذْهَبِ، وَفِي شَرْحِ الْأَبْهَرِيِّ قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ: الصُّدْغُ الشَّعَرُ الْمُحَاذِي لِرَأْسِ الْأُذُنِ وَمَا نَزَلَ إِلَى الْعِذَارِ. وَفِي الْعَزِيزِ: وَمِمَّا يَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الْوَجْهِ الصُّدْغَانِ وَهُمَا جَانِبَا الْأُذُنِ يَتَّصِلَانِ بِالْعِذَارَيْنِ مِنْ فَوْقٍ اهـ. (مَرَّةً وَاحِدَةً) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِ الْمَسْحِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ لَا؟ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَسْحَ بِثَلَاثٍ سُنَّةٌ بِثَلَاثِ مِيَاهٍ جُدُدٍ. (وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ) : أَيْ: عِنْدَ مَسْحِ الرَّأْسِ (فِي جُحْرَيِ أُذُنَيْهِ) بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ الْمَضْمُومَةِ أَيْ: صِمَاخَيْهِمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى إِنَّمَا هُوَ فِي عُضْوَيْنِ يَعْسُرُ غَسْلُهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَمَّا الْآذَانُ فَلَا يُسْتَحَبُّ الْبَدَاءَةُ مِنْهُمَا بِالْيُمْنَى ; لِأَنَّ مَسْحَهُمَا مَعًا أَهْوَنُ، ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيِ: الرِّوَايَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا. (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ الثَّانِيَةَ.

415 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ، وَأَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مَعَ زَوَائِدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 415 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ، وَأَنَّهُ) : بِالْفَتْحِ عَطْفٌ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ بِالْكَسْرِ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تَوَضَّأَ أَوْ مِنْ مَفْعُولِ رَأَى (مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ أَخَذَ لَهُ مَاءً جَدِيدًا، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْبَلَلِ الَّذِي بِيَدَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ عَمِلَ بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ عِنْدَنَا، وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: إِنَّ الرِّوَايَةَ بِمَاءٍ غَيْرِ مِنْ فَضْلِ يَدَيْهِ أَيْ بَقِيَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مَعَ زَوَائِدَ) : قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينٍ: فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُورِدَهَا الشَّيْخُ فِي الصِّحَاحِ لَا فِي الْحِسَانِ. وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَالْمُؤَلِّفُ لَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ فَجَعَلَهُ مِنَ الْحِسَانِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا أَنَّهُ حَسَنٌ لَكِنَّ هَذَا إِنَّمَا يُرَدُّ عَلَى الْبَغَوِيِّ بِخِلَافِ الْمُؤَلِّفِ ; لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا إِيهَامَ فِي كَلَامِهِ اهـ كَلَامُهُ. وَقَدْ وَهِمَ أَنَّ مُرَادَ التُّورِبِشْتِيِّ بِالْمُؤَلِّفِ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَإِنَّ مُرَادَهُ بِهِ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ الَّذِي شَرَحَ كِتَابَهُ التُّورِبِشْتِيُّ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ. قِيلَ: لَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْأَوْلَى كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي: كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ حَدِيثَ مُسْلِمٍ فِي الصِّحَاحِ مَعَ زَوَائِدِهِ، ثُمَّ يَذْكُرَ حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ بِاقْتِصَارِهِ فِي الْحِسَانِ، بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَتِمُّ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ إِلَّا لَوْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ مَعَ زَوَائِدِهِ فِي الْحِسَانِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ تَرْكُهُ حَدِيثَ مُسْلِمٍ فِي الصِّحَاحِ عَلَى النِّسْيَانِ، وَلَا يُقَالَ فِي حَقِّهِ: تَرَكَ الْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى.

416 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «ذَكَرَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَكَانَ يَمْسَحُ الْمَاقَيْنِ، وَقَالَ: الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَذَكَرَا: قَالَ حَمَّادٌ: لَا أَدْرِي: (الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ) مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ أَمْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 416 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) : أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ سَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامَيْنِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَنَّاهُ بِكُنْيَتِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا لِصِغَرِهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الَّذِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَأَثْبَتَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَحَدُ الْجِلَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ، سَمِعَ أَبَاهُ وَأَبَا سَعِيدٍ وَغَيْرَهُمَا، رَوَى نَفَرٌ عَنْهُ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً اهـ. فَحَدِيثُهُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَبِي أُمَامَةَ هَنَا أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، وَهُوَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الرِّوَايَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ذَكَرَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بَعْدَ ذِكْرِهِ أَحْوَالًا مِنْ جُمْلَةِ وُضُوئِهِ (قَالَ) : وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ ذَكَرَ، قَالَ أَيْ: أَبُو أُمَامَةَ (وَكَانَ) : أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَمْسَحُ الْمَاقَيْنِ) : تَثْنِيَةُ مَأْقٍ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا أَيْ: يُدَلِّكُهُمَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَاقُ طَرَفُ الْعَيْنِ الَّذِي يَلِي الْأَنْفَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ: وَفِي كِتَابِ الْجَوْهَرِيِّ: الَّذِي يَلِي الْأَنْفَ وَالْأُذُنَ، وَاللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ مَوْقٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا مَسَحَهُمَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ مُبَالَغَةً فِي الْإِسْبَاغِ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَلَّمَا تَخْلُو مِنْ قَذًى تَرْمِيهِ مِنْ كُحْلٍ وَغَيْرِهِ أَوْ رَمَصٍ، فَيَسِيلُ وَيَنْعَقِدُ عَلَى طَرْفِ الْعَيْنِ، وَمَسْحُ كِلَا الطَّرَفَيْنِ أَحْوَطُ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُشْتَرَكَةٌ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ إِيرَادَ التَّثْنِيَةِ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ. (وَقَالَ) : يَحْتَمِلُ الْمَوْقُوفَ وَالْمَرْفُوعَ. (الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: قَالَ أَيْ أَبُو أُمَامَةَ: وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» . وَقِيلَ: هَذَا مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ اهـ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَلِكَ الْقَائِمِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَفْعُهُ وَهْمٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، قَالَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ نَقْلًا عَنِ التَّخْرِيجِ. (وَذَكَرَا) : أَيْ: أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلِذَا قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِمَا ابْنَ مَاجَهْ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ. (قَالَ حَمَّادٌ: لَا أَدْرَى " الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ " مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ) أَيْ: مَوْقُوفًا (أَمْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: مَرْفُوعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا نَشَأَ تَرَدُّدُ حَمَّادٍ مِنِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ، وَقَالَ عَطْفًا عَلَى كَانَ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: كَانَ يَغْسِلُ وَيَمْسَحُ الْمَاقَيْنِ، وَلَمْ يُوَصِّلِ الْمَاءَ إِلَى الْأُذُنَيْنِ، وَقَالَ: هُمَا مِنَ الرَّأْسِ فَيُمْسَحَانِ بِمَسْحِهِ، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَالَ أَيْ قِيلَ: فَكَانَ فَيَكُونُ مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ أَيْ: قَالَ الرَّاوِي: ذَكَرَ أَبُو أُمَامَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَغْسِلُ الْوَجْهَ وَيَمْسَحُ الْمَاقَيْنِ وَقَالَ: إِنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ اهـ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَمَوْقُوفُهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ أَيْضًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُؤْخَذُ لِلْأُذُنَيْنِ مَاءٌ جَدِيدٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُمَا عُضْوَانِ عَلَى حِيَالِهِمَا يُمْسَحَانِ ثَلَاثًا بِثَلَاثَةِ مِيَاهٍ جُدُدٍ. وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ يُمْسَحَانِ مَعَهُ أَيْ: بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، كَذَا قَيَّدَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُمَا مِنَ الْوَجْهِ يُمْسَحَانِ مَعَهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: ظَاهِرُهُمَا مِنَ الرَّأْسِ وَبَاطِنُهُمَا مِنَ الْوَجْهِ. وَقَالَ حَمَّادٌ: يَغْسِلُ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا. وَقَالَ إِسْحَاقُ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يَمْسَحَ مُقَدَّمَهُمَا مَعَ الْوَجْهِ وَمُؤَخَّرَهُمَا مَعَ الرَّأْسِ.

417 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ ; فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: " هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 417 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) : أَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ. (قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ: حَالٌ مِنْ فَاعِلِ جَاءَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَالْأَبْهَرِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَعْرَابِيِّ (عَنِ الْوُضُوءِ) أَيْ: كَيْفِيَّتِهِ (فَأَرَاهُ) : أَيْ: بِالْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ لِقُرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ الضَّبْطِ وَتَأَثُّرِهِ فِي الْقَلْبِ، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» " وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: فَأَرَادَ أَنْ يُرِيَهُ مَا سَأَلَهُ، فَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ الْأَعْضَاءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: " هَكَذَا الْوُضُوءُ " أَيِ: الْكَامِلُ " فَمَنْ زَادَ عَلَى

هَذَا " فَقَدْ أَسَاءَ " أَيْ: بِتَرْكِ السُّنَّةِ " وَتَعَدَّى ": أَيْ: حَدَّهَا بِالزِّيَادَةِ وَظَلَمَ: أَيْ: عَلَى نَفْسِهِ بِمُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِأَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ ثَوَابٍ لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَاءَ بِلَا فَائِدَةٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا ذَمَّهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ - إِظْهَارًا لِشِدَّةِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ، وَزَجْرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ حَافِظُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ: هَذَا إِذَا زَادَ مُعْتَقِدًا أَنَّ السُّنَّةَ هَذَا، فَأَمَّا لَوْ زَادَ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ أَوْ نِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِتَرْكِ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ اهـ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ: (لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ) فَفِيهِ أَنَّ الشَّكَّ بَعْدَ التَّثْلِيثِ لَا وَجْهَ لَهُ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهُ فَلَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ الْوَسْوَسَةُ، وَلِهَذَا أَخَذَ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِظَاهِرِهِ فَقَالَ: لَا آمَنُ إِذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ أَنْ يَأْثَمَ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا إِلَّا مُبْتَلًى أَيْ بِالْجُنُونِ لِمَظِنَّةِ أَنَّهُ بِالزِّيَادَةِ يَحْتَاطُ لِدِينِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَقَدْ شَاهَدْنَا مِنَ الْمُوَسْوَسِينَ مَنْ يَغْسِلُ يَدَهُ فَوْقَ الْمِئِينَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّ حَدَثَهُ هُوَ الْيَقِينُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ فَفِيهِ أَنَّ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِعِبَادَةٍ بَعْدَ الْوُضُوءِ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّجْدِيدُ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّجَدُّدُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْوُضُوءِ لَا فِي الْأَثْنَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أُمِرَ بِتَرْكِ مَا يَرِيبُهُ إِلَخْ. فَفِيهِ أَنَّ غَسْلَ الْمَرَّةِ الْأُخْرَى مِمَّا يَرِيبُهُ، فَيَنْبَغِي تَرْكُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَهُوَ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ لِيَتَخَلَّصَ عَنِ الرِّيبَةِ وَالْوَسْوَسَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: أَسَاءَ الْأَدَبَ بِالتَّسَاهُلِ فِي الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ الِازْدِيَادَ اسْتِنْقَاصٌ لِمَا اسْتَكْمَلَهُ الشَّرْعُ وَتَعَدٍّ عَمَّا حَدَّ لَهُ وَعَمَّا جَعَلَ غَايَةَ التَّكْمِيلِ وَظَلَمَ بِإِتْلَافِ الْمَاءِ وَوَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَا آمَنُ إِذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ أَنْ يَأْثَمَ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ إِلَّا رَجُلٌ مُبْتَلًى - أَيْ: بِوَسْوَسَةٍ - أَوْ جُنُونٍ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مَعْنَاهُ) : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّخْرِيجِ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

418 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ. قَالَ: أَيْ بُنَيَّ سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 418 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ الْكَازَرُونِيُّ: تَارَةً يَرْوُونَهُ بِالْعَيْنِ وَالْقَافِ وَتَارَةً بِدُونِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَتَارَةً يَرْوُونَهُ بِالْفَاءِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ فَارِقٌ بَيْنَ مَا هُوَ بِالْفَاءِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَكُلُّ مَا فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ هَذَا الرَّسْمِ فَهُوَ الْمُعْجَمَةُ بِالْغَيْنِ وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَأَمَّا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الصَّحَابَةِ فَهُوَ مِنَ التَّابِعَيْنِ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرْجَمَتُهُ، وَأَنَّ الْعَسْقَلَانِيَّ قَالَ: وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ. (أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ» . قَالَ:) أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ لِابْنِهِ (أَيْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ حَرْفُ نِدَاءٍ يُنَادِي الْقَرِيبَ. (بُنَيَّ) تَصْغِيرٌ لِلِابْنِ مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مَفْتُوحَةً وَمَكْسُورَةً (سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ) : أَمْرٌ مَنْ سَأَلَ يَسْأَلُ بِالْأَلْفِ أَوْ مِنَ الْمَهْمُوزِ لَكِنْ بِالنَّقْلِ (وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ) : قِيلَ فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى اسْتِدْعَاءِ الْخَتْمِ بِالْخَيْرِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ غَايَةُ مُنْتَهَى الْخَائِفِينَ (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " إِنَّهُ " أَيِ: الشَّأْنُ (سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ " بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ: يَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ " فِي الطَّهُورِ: بِالضَّمِّ وَيَفْتَحُ " وَالدُّعَاءِ " وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَنْكَرَ الصَّحَابِيُّ عَلَى ابْنِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ طَمَحَ إِلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ عَمَلًا وَسَأَلَ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَجَعَلَهَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّجَاوُزِ عَنْ حَدِّ الْأَدَبِ، وَنَظَرُ الدَّاعِي إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ الْكَمَالِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ سَأَلَ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَرُبَّمَا كَانَ مُقَدَّرًا لِغَيْرِهِ وَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ مَوْقِفِ الِافْتِقَارِ إِلَى بِسَاطِ الِانْبِسَاطِ، وَيَمِيلَ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَفِي غَيْرِهِ إِذَا دَعَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَالِاعْتِدَاءُ فِي الطَّهُورِ اسْتِعْمَالُهُ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَحَرِّي طَهُورِيَّتِهِ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى

الْوَسَاوِسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْوَى الطَّهُورُ بِضَمِّ الطَّاءِ لِيَشْمَلَ التَّعَدِّي اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ وَالزِّيَادَةَ عَلَى مَا حَدَّ لَهُ. قُلْتُ: الضَّمُّ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ ; لِأَنَّ الْفَتْحَ لُغَةٌ فِيهِ بَلِ الْفَتْحُ أَظْهَرُ فِي إِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ اسْتِعْمَالُ مَا يُطَهَّرُ بِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ قَالَهُ مِيرَكُ (وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ لَفْظُ: فِي الطَّهُورِ. قُلْتُ: فَلَا يَكُونُ شَاهِدًا فِي بَابٍ فَكَانَ الْأَوْلَى لِلْمَصنِّفِ أَنْ لَا يَذْكُرَ ابْنَ مَاجَهْ.

419 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ: الْوَلَهَانُ، فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ خَارِجَةَ، وَهُوَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 419 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ لِلْوُضُوءِ " أَيْ: لِلْوَسْوَسَةِ فِيهِ " شَيْطَانًا ": خَاصًّا " يُقَالُ لَهُ: الْوَلَهَانُ: بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ: وَلِهَ يَوْلَهُ وَلَهَانًا، وَهُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ وَالتَّحَيُّرُ مِنْ شَدَّةِ الْوَجْدِ وَغَايَةِ الْعِشْقِ، فَسُمِّيَ بِهِ شَيْطَانُ الْوُضُوءِ ; إِمَّا لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى طَلَبِ الْوَسْوَسَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَإِمَّا لِإِلْقَائِهِ النَّاسَ بِالْوَسْوَسَةِ فِي مَهْوَاةِ الْحَيْرَةِ حَتَّى يَرَى صَاحِبَهُ حَيْرَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَلْعَبُ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى الْعُضْوِ أَمْ لَا؟ وَكَمْ مَرَّةً غَسَلَهُ؟ فَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَوْ بَاقٍ عَلَى مَصْدَرِيَّتِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَرَجُلٍ عَدْلٍ. " فَاتَّقُوا: أَيِ: احْذَرُوا (وَسْوَاسَ الْمَاءِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: وَسْوَاسَهُ، هَلْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ غُسِلَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟ وَهَلْ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ أَوْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ أَوْ لَا؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ وَسْوَاسَ الْوَلَهَانِ، وُضِعَ الْمَاءُ مَوْضِعَ ضَمِيرٍ مُبَالِغَةً فِي كَمَالِ الْوَسْوَاسِ فِي شَأْنِ الْمَاءِ أَوْ لِشِدَّةِ مُلَازَمَتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : أَيْ: إِسْنَادًا (وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ) : أَيْ: وَلَوْ كَانَ رِجَالُ إِسْنَادِهِ عُدُولًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا) : عِلَّةٌ لِلْغَرَابَةِ (أَسْنَدَهُ) : أَيْ رَفَعَهُ (غَيْرَ خَارِجَةَ) : أَيْ: خَارِجَةَ بْنَ مُصْعَبِ بْنِ خَارِجَةَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: وَهِنٌ جِدًّا. وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. نَقْلُهُ مِيرَكُ (وَهُوَ) أَيْ: خَارِجَةُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ (عِنْدَ أَصْحَابِنَا) : أَيْ: أَهْلِ الْحَدِيثِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَقَالَ مِيرَكُ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ.

420 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ مَسَحَ وَجْهَهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 420 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ مَسَحَ وَجْهَهُ» ) : أَيْ: نَشَّفَهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ (بِطَرَفِ ثَوْبِهِ) : أَيْ: رِدَائِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا إِنْ صَحَّ كَالَّذِي بَعْدَهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ ; لِأَنَّ مَيْمُونَةَ أَتَتْهُ بَعْدَ وُضُوئِهِ بِمِنْدِيلٍ فَرَدَّهُ، وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ، وَلِذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسَنُّ لِلْمُتَوَضِّئِ وَالْمُغْتَسِلِ تَرْكُ التَّنْشِيفِ لِلِاتِّبَاعِ اهـ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلزَّيْلَعِيِّ: لَا بَأْسَ بِالتَّمَسُّحِ بِالْمِنْدِيلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَأَنَسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمَسْرُوقٍ. وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: إِلَّا أَنَّهُ لَا يُبَالِغُ فَيَبْقَى أَثَرُ الْوُضُوءِ عَلَى أَعْضَائِهِ، وَصَرَّحَ بِاسْتِحْبَابِ التَّمَسُّحِ صَاحِبُ الْمُنْيَةِ، هَذَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَدُّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُذْرٍ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

421 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِرْقَةٌ يُنَشِّفُ بِهَا أَعْضَاءَهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِالْقَائِمِ، وَأَبُو مُعَاذٍ الرَّاوِي ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 421 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ خِرْقَةٌ يُنَشِّفُ» ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مِنَ التَّفْعِيلِ وَبِالتَّخْفِيفِ كَيَعْلَمُ (بِهَا) : أَيْ: أَعْضَاءَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (بَعْدَ الْوُضُوءِ) : يُقَالُ: نَشِفَتِ الْأَرْضُ الْمَاءَ تَنْشَفُهُ نَشْفًا شَرِبَتْهُ، وَنَشِفَ الثَّوْبُ الْعَرَقَ يَنْشَفُهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ، يَعْنِي مِنْدِيلًا يَمْسَحُ بِهِ وَضَوْءَهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْعُبَابِ وَالْقَامُوسِ النَّشَفُ: مِنْ بَابِ عَلِمَ. وَيُقَالُ: نَشِفْتُ الْمَاءَ تَنْشِيفًا أَيْ: أَخَذْتُهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ ثَوْبٍ. فِي الْأَزْهَارِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ تَرْكُ التَّنْشِيفِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَنَشَّفُ، وَلِأَنَّ مَاءَ الْوُضُوءِ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَوْ نَشِفْتَ لَمْ يُكْرَهْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ; لِأَنَّهُ إِزَالَةٌ لِأَثَرِ الْعِبَادَةِ كَالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْبَحُ مَا دَامَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَفِي بَعْضِ مَا فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَمَاءُ الْوُضُوءِ نُورٌ، سَوَاءٌ نَشِفْتَ أَوْ لَمْ تَنْشَفْ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْوُضُوءِ لَا الْبَاقِي عَلَى الْعُضْوِ، وَلَا مَعْنَى لِكَرَاهَتِهِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَوْ مَرَّةً، وَجَوَابُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَأْتِي فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَعَدَمُ تَسْبِيحِ مَاءِ الْوُضُوءِ إِذَا نَشِفَتْ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِالْقَائِمِ) : أَيِ: الْإِسْنَادِ (وَأَبُو مُعَاذٍ الرَّاوِي) . هُوَ: سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، قَالَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ، وَقَدْ رَخَّصَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي التَّنْشِيفِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: (مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ) صَدَرَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلُ عُثْمَانَ وَأَنَسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، بَلْ فِعْلُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُحَدِّثِ أَصْلًا وَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ وَلَوْ ضَعِيفًا أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَلَوْ قَوِيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 422 - عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي صَفِيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ هُوَ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ حَدَّثَكَ جَابِرٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا وَثَلَاثًا؟ قَالَ: نَعَمْ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 422 - (وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي صَفِيَّةَ) : هُوَ يَمَانِيٌّ مِنَ الْأَزْدِ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ. رَوَى عَنْهُ وَكِيعٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ مِيرَكُ: هُوَ كُوفِيٌّ ضَعِيفٌ رَافِضِيُّ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: كُنْيَتُهُ أَبُو حَمْزَةَ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ فِي التَّابِعِينِ (قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ) : أَيِ الصَّادِقِ (- هُوَ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ - حَدَّثَكَ جَابِرٌ: أَنَّ النَّبِيَّ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً) : أَيْ: تَارَةً (وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) : أَيْ أُخْرَى (وَثَلَاثًا ثَلَاثًا؟) : أَيْ: أُخْرَى (قَالَ: نَعَمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ عَادَةِ الْمُحَدِّثِينَ أَنْ يَقُولَ الْقَارِئُ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ: حَدَّثَكَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ بِرَفْعِ إِسْنَادِهِ، وَهُوَ سَاكِتٌ يُقَرِّرُ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ الشَّيْخُ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ وَيَسْمَعُهُ الطَّالِبُ اهـ. وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ مِنْ أَحَدِ طُرُقِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَقُولَ التِّلْمِيذُ لِلشَّيْخِ: حَدَّثَكَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ كَذَا، وَالشَّيْخُ يَسْمَعُ، فَإِذَا فَرَغَ قَالَ: نَعَمْ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الشَّيْخِ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ إِلَخْ. وَالتِّلْمِيذُ سَاكِتٌ أَيْ يَسْمَعُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَسَنَدَهُ حَسَنٌ.

423 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ: هُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 423 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ» ) : أَيِ: الْأَعْضَاءَ الْمَغْسُولَةَ (وَقَالَ: " «هُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ» ": قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: «إِنَّ أُمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» " أَوْ هِدَايَةٌ عَلَى هِدَايَةٍ أَوْ سُنَّةٌ عَلَى فَرْضٍ اهـ. وَأَمَّا حَدِيثُ " «الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ» " قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ الْإِحْيَاءِ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، رَوَاهُ رَزِينٌ فِي مُسْنَدِهِ.

424 - وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: " هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَوُضُوءُ إِبْرَاهِيمَ» ) رَوَاهُمَا رَزِينٌ، وَالنَّوَوِيُّ ضَعَّفَ الثَّانِيَ فِي: شَرْحِ مُسْلِمٍ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 424 - (وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ) أَيْ: غَسَلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ ( «ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» ) : يَعْنِي دُونَ أُمَمِهِمْ أَوْ أُمَمُهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ " «وَوُضُوءُ إِبْرَاهِيمَ» " تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (رَوَاهُمَا) : أَيْ: حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَدِيثَ عُثْمَانَ (رَزِينٌ، وَالنَّوَوِيُّ) : بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ (ضَعَّفَ الثَّانِيَ) : أَيْ: حَدِيثَ عُثْمَانَ. (فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَضِيَّةُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّ سَنَدَهُ حَسَنٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ تَوَضَّآ وَصَلَّيَا، وَأَنَّ جُرَيْجًا تَوَضَّأَ وَصَلَّى، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ، نَعَمِ الَّذِي اخْتُصُّوا بِهِ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ وُضُوءُ الْأُمَمِ غَيْرَ وُضُوءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَإِلَّا فَلَا يَتِمُّ اخْتِصَاصُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَإِنَّ أَصْلَهُمَا حَاصِلٌ لِكُلِّ مُتَوَضِّئٍ وَكَمَالُهُمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ أَيْضًا.

425 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَكَانَ أَحَدُنَا يَكْفِيهِ الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 425 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» ) : أَيْ: مَفْرُوضَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ. قَالَهُ مِيرَكُ. (وَكَانَ أَحَدُنَا يَكْفِيهِ الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ) : مِنَ الْإِحْدَاثِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ بِشَهَادَةِ الْحَدِيثِ الْآتِي. قَالَ السَّخَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ خَاصَّةً، ثُمَّ نُسِخَ يَوْمَ الْفَتْحِ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ فَقَالَ: (عَمْدًا صَنَعْتُهُ) . قَالَ: وَيَحْتَمِلُ إِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ اسْتِحْبَابًا ثُمَّ خَشِيَ أَنْ يُظَنَّ وُجُوبُهُ فَتَرَكَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. قُلْتُ: وَهَذَا أَقْرَبُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ النَّسْخِ فَهُوَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ سُوِيدِ بْنِ النُّعْمَانِ، فَإِنَّهُ كَانَ بِخَيْبَرَ وَهِيَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِزَمَانٍ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ. أَقُولُ: وَحَدِيثُ ابْنِ النُّعْمَانِ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَلْيُتَأَمَّلْ. قَالَ الشَّيْخُ: وَيَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ حَدَّثَتْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ وَضَعَ عَنْهُ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَذَا حَرَّرَهُ مِيرَكُ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: قُلْتُ: وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ وَلَفْظُهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ.

426 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، قَالَ: «قُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ وُضُوءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، عَمَّنْ أَخَذَهُ؟ فَقَالَ: حَدَّثَتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلِ حَدَّثَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَوُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ. قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ، فَفَعَلَهُ حَتَّى مَاتَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 426 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَابِعِيٌّ أَنْصَارِيٌّ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَعَمَّهُ وَاسِعَ بْنَ حَبَّانَ بِفَتْحِ الْحَاءِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْمُغْنِي وَشَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِابْنِ حَجَرٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَهُوَ شَيْخُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَكَانَ يُعَظِّمُهُ، وَحِبَّانُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ نَقْلُ الْعَسْقَلَانِيِّ فِي تَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ. (قَالَ: قُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَرَأَيْتَ وُضُوءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ عَمَّنْ أَخَذَهُ؟) : مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى أَرَأَيْتَ أَيْ: أَخْبِرْنِي عَمَّنْ أَخَذَهُ، وَالضَّمِيرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ الْوُضُوءُ الْمَخْصُوصُ (فَقَالَ) : أَيْ: عُبَيْدُ اللَّهِ (حَدَّثَتْهُ) : أَيْ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ. تَأَمَّلْ. قَالَهُ السَّيِّدُ. (أَسْمَاءُ) : قَالَ مِيرَكُ: هُوَ مَعْنَى مَا قَالَهُ لَا مَا تَلَفَّظَ بِهِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ حَدَّثَتْنِي، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} [آل عمران: 12] ، قُرِئَ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ فَالْيَاءُ التَّحْتَانِيَّةُ هِيَ أَدَاءُ لَفْظِ مَا يُوعَدُونَهُ بِعَيْنِهِ، وَالتَّاءُ الْفَوْقَانِيَّةُ أَدَاءُ لَفْظِ مَعْنَى مَا يُوعَدُونَهُ لَا لَفْظُهُ، فَالْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ فَقَالَ حَدَّثَتْهُ هُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ (بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ) : هُوَ أَخُو عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ حِينَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَآهُ وَرَوَى عَنْهُ، كَانَ حَبْرًا فَاضِلًا مُقَدَّمًا فِي الْأَنْصَارِ، وَقَدْ بُويِعَ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْحَرَّةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ (ابْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلِ) : بِالْجَرِّ صِفَةُ حَنْظَلَةَ، رَوَى عَنْ عُرْوَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِامْرَأَةِ حَنْظَلَةَ: " مَا كَانَ شَأْنُهُ؟ " قَالَتْ: جُنُبًا وَغَسَلْتُ إِحْدَى شِقَّيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْهَيْعَةَ خَرَجَ فَقُتِلَ. أَيْ: يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ» " ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (حَدَّثَهَا) : أَيْ: حَدَّثَ عَبْدُ اللَّهِ أَسْمَاءَ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ فِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى فَخَامَةِ السِّوَاكِ حَيْثُ أُقِيمَ مَقَامَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ، وَكَادَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ (وَوُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ) : أَيْ: وُجُوبُهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ) : أَيْ: مِنْ حُدُوثِ حَدَثٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ حُكْمِيٍّ (قَالَ) : أَيْ عَبْدُ اللَّهِ (فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (يَرَى) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا أَيْ يَظُنُّ (أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ) : أَيِ: اسْتِطَاعَةً عَلَى نَحْوِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبْلَ النَّسْخِ (فَفَعَلَهُ) : أَيِ: الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ (حَتَّى مَاتَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. قَالَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ: وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ رَوَاهُ بِالْعَنْعَنَةِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ.

427 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ ! قَالَ: " نَعَمْ! وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 427 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ) : أَيِ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (وَهُوَ يَتَوَضَّأُ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ؛ يَعْنِي وَهُوَ يُسْرِفُ فِي وُضُوئِهِ إِمَّا فِعْلًا كَالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ، وَإِمَّا قَدْرًا كَالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ (فَقَالَ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (" مَا هَذَا السَّرَفُ ") بِفَتْحَتَيْنِ ; بِمَعْنَى الْإِسْرَافِ (" يَا سَعْدُ؟ ") خَاطَبَهُ

لِلزَّجْرِ أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ يُعَدُّ مِنَ الْبُعْدِ أَوِ التَّقْرِيبِ وَالتَّلَطُّفِ مَعَهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ وَبِجَوَابِهِ أَنْسَبُ (قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟) بِنَاءً عَلَى مَا قِيلَ: لَا خَيْرَ فِي سَرَفٍ وَلَا سَرَفَ فِي خَيْرٍ، فَظَنَّ أَنْ لَا إِسْرَافَ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. قَالَ: " نَعَمْ " فِيهِ إِسْرَافٌ (" وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ ") بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا (" جَارٍ ") فَإِنَّهُ فِيهِ (إِسْرَافُ الْوَقْتِ وَتَضْيِيعُ الْعُمُرِ، أَوْ تَجَاوُزًا عَنِ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ تَتْمِيمٌ لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ: نَعَمْ ذَلِكَ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ فِيمَا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ التَّبْذِيرُ فَكَيْفَ بِمَا تَفْعَلُهُ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِسْرَافِ الْإِثْمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

428 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ جَسَدَهُ كُلَّهُ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، لَمْ يُطَهِّرْ إِلَّا مَوْضِعَ الْوُضُوءِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 428 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ) حَقُّهُمَا أَنْ يُقَدَّمَا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ (عَنِ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: (" «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ» ") : أَيْ: فِي أَوَّلِ وُضُوئِهِ (" فَإِنَّهُ يَطْهُرُ ") : مِنَ التَّطْهِيرِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ (" جَسَدُهُ ") : أَيْ: مِنَ الذُّنُوبِ (" كُلُّهُ ") : تَأْكِيدٌ لِلْجَسَدِ، وَفِي نُسْخَةٍ: يَطْهُرُ كَيَنْصُرُ فَيُرْفَعُ " جَسَدُهُ وَكُلُّهُ " (" «وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ لَمْ يُطَهِّرْ» ") بِالْوَجْهَيْنِ (" إِلَّا مَوْضِعَ الْوُضُوءِ ") : أَيْ: إِلَّا ذُنُوبَ الْمَوَاضِعِ الْمَخْصُوصَةِ؛ يَعْنِي مِنَ الصَّغَائِرِ.

429 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ حَرَّكَ خَاتَمَهُ فِي أُصْبُعِهِ» . رَوَاهُمَا الدَّرَاقُطْنِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْأَخِيرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 429 - (وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (إِذَا تَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ) : احْتِرَازٌ عَنْ غَسْلِ الْيَدِ، فَإِنَّهُ وُضُوءٌ لُغَوِيٌّ (حَرَّكَ خَاتَمَهُ) : بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ (فِي أُصْبُعِهِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَفِي الْقَامُوسِ: بِتَثْلِيثِ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ أَيْ: لِأَنَّ اسْتِيعَابَ الْغَسْلِ فَرْضٌ، فَيُسَنُّ تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ إِذَا ظُنَّ وُصُولُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، وَإِلَّا فَيَجِبُ تَحْرِيكُهُ (رَوَاهُمَا) : أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (الدَّارَقُطْنِيُّ) : وَسَنَدُهُمَا حَسَنٌ. (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْأَخِيرَ) وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ.

[باب الغسل]

[بَابُ الْغُسْلِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 430 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (5) بَابُ الْغُسْلِ هُوَ بِالضَّمِّ غُسْلٌ مَخْصُوصٌ، وَبِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالْكَسْرِ مَا يُغْسَلُ بِهِ، وَقِيلَ: بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: الْمَضْمُومُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَاءِ الْغُسْلِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هُوَ لُغَةً: سَيَلَانُ الْمَاءِ عَلَى الْبَدَنِ، وَشَرْعًا: سَيَلَانُهُ عَلَيْهِ مَعَ التَّعْمِيمِ بِالنِّيَّةِ غَيْرَ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَعَمُّ مِنَ السَّيَلَانِ وَالْإِسَالَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالسَّيَلَانِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَمَعَ هَذَا تَخْصِيصُهُ بِالْبَدَنِ لَا وَجْهَ لَهُ، ثُمَّ تَقْيِيدُهُ شَرْعًا بِالنِّيَّةِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ قُيِّدَ لِلْكَمَالِ عِنْدَ الْكُلِّ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 430 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" إِذَا جَلَسَ ") : أَيْ: أَحَدُكُمْ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (" بَيْنَ شُعَبِهَا ") أَيِ: الْمَرْأَةِ (" الْأَرْبَعِ ") : أَيْ: يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، وَقِيلَ: رِجْلَيْهَا وَطَرَفَيْ فَرْجِهَا، وَرَجَحَ الثَّانِي بِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ سَائِرَ هَيْئَاتِ الْجِمَاعِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ; فَإِنَّهُ يُوهِمُ التَّخْصِيصَ بِهَيْئَةِ الِاسْتِلْقَاءِ، وَبِأَنَّهُ لَا قُبْحَ فِي ذِكْرِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَلَوْ أُرِيدَتْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنْهَا بِخِلَافِ الشَّفْرَيْنِ فَإِنَّهُ يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُهُمَا، فَكَنَّى بِالشُّعَبِ لِأَجْلِهِمَا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنَّ فِي قَوْلِهِ: (يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْهَيْئَاتِ) مَحَلَّ بَحْثٍ ; لِأَنَّ قَيْدَ الْجُلُوسِ يَأْبَاهُ إِلَّا أَنْ يُقَيِّدَ سَائِرَ هَيْئَاتِ الْجُلُوسِ فَتَدَبَّرْ، وَقِيلَ: فَخِذَاهَا وَاسْتَاهَا، وَقِيلَ: يَدَاهَا وَشَفْرَاهَا، وَقِيلَ: الرِّجْلَانِ وَالْفَخِذَانِ، وَقِيلَ: (الْفَخِذَانِ وَالشَّفْرَانِ، وَقِيلَ: نَوَاحِي فَرْجِهَا الْأَرْبَعُ، وَالشُّعَبُ: النَّوَاحِي، وَاحِدَتُهَا شُعْبَةٌ. (ثُمَّ جَهَدَهَا) أَيْ: جَامَعَهَا ; بِأَنْ أَدْخَلَ تَمَامَ الْحَشَفَةِ فِي فَرْجِهَا، وَالْجَهْدُ بِالْفَتْحِ مِنْ أَسْمَاءِ النِّكَاحِ ; مِنَ الْجُهْدِ الَّذِي هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي بُلُوغِ الْغَايَةِ ; لِأَنَّ الْجِمَاعَ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ غَالِبًا، وَكَنَّى بِهِ عَنْهُ اسْتِحْيَاءً مِنْ ذِكْرِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْجَهْدُ مِنْ أَسْمَاءِ النِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ كِنَايَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَيْهِ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَيَكُونَ كَالْكِنَايَةِ دُونَ التَّصْرِيحِ، ثُمَّ الْمَدَارُ عَلَى هَذَا، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَهُوَ قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ أَغْلَبِيٌّ (" فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ") : أَيْ: عَلَيْهِمَا (" وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ") وَلَا أَنْزَلَتْ هِيَ. قَالَ الْقَاضِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ إِلَى عَدَمِهِ مَا لَمْ يُنْزِلْ، وَبِهِ قَالَ الْأَعْمَشُ وَدَاوُدُ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (" «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ") فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ عُرْفًا، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " كَانَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " شَيْئًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ تُرِكَ وَأُمِرَ بِالْغُسْلِ إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ؟ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ حَيْثُ سَأَلَهَا أَبُو مُوسَى - عَنْ ذَلِكَ؟ فَرَوَتْ: " «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» ". انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: إِذْ حَاذَاهُ. وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الْمَسِّ غَيْرُ تِلْكَ الْمُحَاذَاةِ؛ إِذْ تُوجَدُ بِدُخُولِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ لِلْفَرْجِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ غَيْرُهُ، وَذِكْرُ الْخِتَانِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ جُمْلَةَ: وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَيْسَتْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ، وَشَرَفُ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ فِي تَخْرِيجِ الْمَصَابِيحِ، وَسَبَقَ إِلَيْهِ فِي عَزْوِهَا إِلَى الصَّحِيحَيْنِ جَمِيعًا ابْنُ الْأَثِيرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ. أَوْ رَأَى فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنَ الْمَتْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

431 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا مَنْسُوخٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 431 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : أَيِ: الْخُدْرِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّمَا الْمَاءُ) أَيْ: وُجُوبُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْغُسْلُ (مِنَ الْمَاءِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِ خُرُوجِ الْمَاءِ الدَّافِعِ وَهُوَ الْمَنِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَحَدُ الْمَاءَيْنِ هُوَ الْمَنِيُّ، وَالْآخَرُ هُوَ الْغَسُولُ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ. فَـ أَلْ فِيهِمَا لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا) أَيْ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ (مَنْسُوخٌ) : أَيْ: بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.

432 - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ فِي الِاحْتِلَامِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ أَجِدْهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 432 - (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ، فِي الِاحْتِلَامِ) : أَيْ: مَحْمُولٌ بِهِ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ مُجَامِعٌ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَرَأَى الْمَنِيَّ وَجَبَ الْغُسْلُ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي الِاحْتِلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ فِيهِ إِلَّا بِالْإِنْزَالِ، لَا بِالْمُجَامَعَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ سَوَاءٌ أَنَزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ.

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ تَأْوِيلٌ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِلَافِ، وَانْتَهَى الْحَدِيثُ بِطُولِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِتَنَاوُلِهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ إِلَى قُبَاءٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي بَنِي سَالِمٍ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَابِ عِتْبَانَ فَصَرَخَ بِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ إِزَارَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" أَعْجَلْنَا الرَّجُلَ ") فَقَالَ عِتْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يُعْجَلُ عَنِ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يُمْنِ مَاذَا عَلَيْهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ") وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِهِ (رَوَاهُ) : أَيْ: قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ (التِّرْمِذِيُّ) : لَكِنْ بِلَفْظِ يُرْوَى بِلَا إِسْنَادٍ ; خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: رَوَاهُ، كَذَا حَقَّقَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (وَلَمْ أَجِدْهُ) : أَيْ: قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ (فِي الصَّحِيحَيْنِ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَوْلُهُ: لَمْ أَجِدْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، كَأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى الشَّيْخِ مُحْيِي السُّنَّةِ، حَيْثُ أَوْرَدَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي الصِّحَاحِ، وَلَا اعْتِرَاضَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْرَدَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِبَيَانِ تَوْجِيهِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، أَعْنِي حَدِيثَ (" «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ) ; لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْبَابِ، فَعَدَمُ وُجُودِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا يَضُرُّهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَقَاصِدِ الْبَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَصَفَّحَ وَتَتَبَّعَ كِتَابَ الْمَصَابِيحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

433 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: " نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ " فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: (" نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكَ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 433 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ) : هِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي اسْمِهَا خِلَافٌ، تَزَوَّجَهَا مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ أَبُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَنَسًا، ثُمَّ قُتِلَ عَنْهَا مُشْرِكًا فَأَسْلَمَتْ، فَخَطَبَهَا أَبُو طَلْحَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَأَبَتْ، وَدَعَتْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، وَقَالَتْ: إِنِّي أَتَزَوَّجُكَ وَلَا آخُذُ مِنْكَ صَدَاقًا لِإِسْلَامِكَ. فَتَزَوَّجَهَا أَبُو طَلْحَةَ، رَوَى عَنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي» ) : بِيَاءَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ سُكُونِ الْحَاءِ، وَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ إِذَا ثَبَتَ رِوَايَتُهُ، وَإِنْ جَاءَ فِي لُغَةٍ أُخْرَى: لَا يَسْتَحِي بِكَسْرِ الْحَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ وَاحِدَةٌ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْيَاءِ الْأُولَى إِلَى مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ حَذْفِهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَجُوزُ حَذْفُ الْأُولَى الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ تَخْفِيفًا. ثُمَّ قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مُسْتَحْيٍ بِوَزْنِ مُسْتَفْلٍ وَمُسْتَحْيٍ بِوَزْنِ مُسْتَفْعٍ، وَمُسْتَحٍ بِوَزْنِ مُسْتَفٍ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ النُّطْقُ بِالْأَوَّلِ كَمَا لَا يُقَالُ: قَاضِي بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْيَاءِ. نَعَمْ أَصْلُ مُسْتَحْيٍ بِوَزْنِ مُسْتَفْعٍ مُسْتَحْيِي بِوَزْنِ مُسْتَفْعِلٍ لَا أَنَّهُ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ، هَذَا وَلَيْسَ لِذِكْرِهِ ضَرُورَةٌ فِي الْمَقَامِ إِلَّا تَطْوِيلَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. هَذَا وَالْحَيَاءُ تَغَيُّرٌ لِخَوْفِ مَا يُعَابُ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَالْمُرَادُ لَازِمُهُ أَيْ: لَا يَمْتَنِعُ (مِنَ الْحَقِّ) : أَيْ: بَيَانِهِ وَلَا يَتْرُكُهُ تَرْكَ الْحَيِيِّ مِنَّا. قَالَتْهُ اعْتِذَارًا عَنِ التَّصْرِيحِ مِمَّا ذَكَرَتْهُ فِي حَضْرَةِ الرِّسَالَةِ، كَمَا لَا تَسْمَحُ جِبِلَّتُهُنَّ بِذِكْرِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ لِإِشْعَارِهِ بِنُزُولِ مَنِيِّهَا الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ شَهْوَتِهَا لِلرِّجَالِ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ، وَسُؤَالُهَا مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ الَّذِي أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ. «قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ؛ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، تَعْنِي أَنَا أَيْضًا لَا أَسْتَحْيِي مِنْ سُؤَالٍ هُوَ حَقٌّ (فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ) : بِزِيَادَةِ مِنْ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ: نَوْعٍ مِنَ الْغُسْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ: غُسْلٍ (إِذَا احْتَلَمَتْ؟) أَيْ: إِذَا رَأَتْ فِي الْحُلْمِ بِالضَّمِّ الْمُجَامَعَةَ قَالَ: (" نَعَمْ ") : عَلَيْهَا الْغُسْلُ (" إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ ") : أَيِ: الْمَنِيَّ فِي بَدَنِهَا أَوْ ثَوْبِهَا بَعْدَ الْيَقَظَةِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمَذْيُ عِنْدَنَا (فَغَطَّتْ) أَيْ: سَتَرَتْ (أُمُّ سَلَمَةَ وَجْهَهَا) : مِنِ اسْتِحْيَاءِ مَا سَأَلَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَوْلُهُ: فَغَطَّتْ قِيلَ مِنْ كَلَامِ زَيْنَبَ الرَّاوِيَةِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَالْحَدِيثُ مُلَفَّقٌ، وَقِيلَ: مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، كَأَنَّهَا جَرَّدَتْ مِنْ نَفْسِهَا أُخْرَى وَأَسْنَدَتْ إِلَيْهَا التَّغْطِيَةَ. (وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحْتَلِمُ) : بِالْوَاوِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالْهَمْزَةِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ بِغَيْرِ الْهَمْزَةِ (الْمَرْأَةُ؟) : أَيْ: وَيَكُونُ لَهَا مَنِيٌّ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَالرَّجُلِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجْرٍ وَاعْتَمَدَ عَلَى نُسْخَةٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ عِنْدَهُ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِالْهَمْزَةِ فَقَالَ: أَيْ: أَتَقُولُ ذَلِكَ وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ، وَتَبِعَ الْمُصَنِّفُ فِي ذِكْرِ الْهَمْزَةِ الْمَصَابِيحَ، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِحَذْفِهَا اهـ.

وَهَذَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ عَدَمِ الْأَصْلِ الْمُعْتَمَدِ إِمَّا بِسَمَاعِهِ مِنْ حَافِظٍ أَوْ تَصْحِيحِهِ مِنْ نُسْخَةٍ قُرِئَتْ عَلَى بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ (قَالَ: " نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ " أَيْ: مَا أَصَبْتِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْفَقْرِ، أَوْ إِخْبَارٌ أَوْ دُعَاءٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَرِبَ الشَّيْءُ بِالْكَسْرِ أَصَابَهُ التُّرَابُ، لَمْ يُرِدْ بِهِ الدُّعَاءَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّعَجُّبِ مِنْ سَلَامَةِ صَدْرِهَا (" فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟ ! ") : أَيْ: فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّ لَهَا مَنِيًّا كَمَا لِلرَّجُلِ، وَالْوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَاءٌ وَخُلِقَ مِنْ مَائِهِ فَقَطْ لَمْ يُشْبِهْهَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنِيٌّ فَبِأَيِّ سَبَبٍ يُشْبِهُهَا؟ إِذِ الشَّبَهُ بِسَبَبِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الشَّرِكَةِ فِي الْمِزَاجِ الْأَصْلِيِّ الْمُعَدِّ لِقَبُولِ التَّشَكُّلَاتِ مِنْ خَالِقِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

434 - وَزَادَ مُسْلِمٌ بِرِوَايَةِ أُمِّ سُلَيْمٍ: " «أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ ; فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا أَوْ سَبَقَ يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 434 - وَزَادَ مُسْلِمٌ بِرِوَايَةِ أُمِّ سُلَيْمٍ) : أَيْ: فِي رِوَايَتِهَا «أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْمَرْأَةُ تَرَى مَا يَرَى الرَّجُلُ فِي الْمَنَامِ، فَتَرَى مِنْ نَفْسِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ مِنْ نَفْسِهِ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَضَحْتِ النِّسَاءَ تَرِبَتْ يَمِينُكِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أُفٍّ لَكِ، أَتَرَى الْمَرْأَةُ ذَلِكَ» ؟ وَزَادَ أَيْضًا (" «إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ» ") بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا (غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ) : بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ (" رَقِيقٌ أَصْفَرُ ") قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا الْوَصْفُ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ وَحَالِ السَّلَامَةِ ; لِأَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ قَدْ يَصِيرُ رَقِيقًا بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَمُحْمَرًّا بِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ، وَقَدْ يَبْيَضُّ مِنَ الْمَرْأَةِ لِقُوَّتِهَا (" فَمِنْ أَيِّهِمَا ") أَيِ: الْمَاءَيْنِ، وَمِنْ: زَائِدَةٌ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: فَالْمَنِيُّ مِنْ أَيِّهِمَا (" عَلَا ") أَيْ: غَلَبَ (" أَوْ سَبَقَ ") يَعْنِي: غَلَبَ الْمَنِيُّ فِيمَا إِذَا وَقَعَ مَنِيُّهُمَا فِي الرَّحِمِ مَعًا أَوْ سَبَقَ وُقُوعُ مَنِيِّهِ فِي الرَّحِمِ قَبْلَ وُقُوعِ مَنِيِّ صَاحِبِهِ، فَأَوْ لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّرْدِيدِ (" يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ ") : أَيْ: شَبَهُ الْوَلَدِ بِصَاحِبِهِ.

435 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ، فَيُخَلِّلْ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْإِنَاءَ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شَمَالِهِ، يَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 435 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا اغْتَسَلَ) : أَيْ: أَرَادَ الْغُسْلَ (مِنَ الْجَنَابَةِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِ رَفْعِهَا، أَوْ بِسَبَبِ حُدُوثِهَا (بَدَأَ) : أَيْ: شَرَعَ (فَغَسَلَ يَدَيْهِ) : أَيْ: إِلَى رُسْغَيْهِ ثَلَاثًا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ لِلِاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ - لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ غَسْلَ الْيَدَيْنِ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ ابْتِدَاءً عَلَى الْإِطْلَاقِ، مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَةَ الْآتِيَةَ وَهِيَ قَوْلُهَا: قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْإِنَاءَ، لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ فَمَدْفُوعٌ ; لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، هَذَا وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّ جَنَابَتَهُ كَانَتْ عَنِ احْتِلَامٍ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا احْتَلَمَ قَطُّ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( «ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ» ) : أَيْ: وُضُوءًا كَامِلًا إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاقِفًا فِي الْمُسْتَنْقَعِ، وَإِلَّا فَيُؤَخِّرُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ أَيْضًا. (ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ) لِتَأْخُذَ الْبَلَلَ، ثُمَّ يُخْرِجُهَا، (فَيُخَلِّلُ بِهَا) : أَيْ: بِبَلِّ الْأَصَابِعِ (أُصُولَ شَعَرِهِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ، وَفِي نُسْخَةٍ: أُصُولُ الشَّعَرِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ شَعَرُ لِحْيَتِهِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَيُسَنُّ لِمَنْ بِرَأْسِهِ شَعَرٌ أَنْ يُخَلِّلَهُ قَبْلَ الصَّبِّ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ التَّخْلِيلَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْغُسْلِ، فَيُنَافِيهِ قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَصُبُّ) : أَيِ: الْمَاءَ (عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: غُرَفٍ، بِضَمٍّ ثُمَّ فَتْحٍ (بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ) : أَيْ: يَصُبُّ (الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ) : أَيْ: ظَاهِرِ جَسَدِهِ (كُلِّهِ) : بِأَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ عَلَى يَمِينِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ عَلَى يَسَارِهِ ثَلَاثًا لِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كَذَلِكَ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ أَصَحُّ، وَقِيلَ: يَصُبُّ عَلَى طَرَفَيْهِ ثُمَّ عَلَى رَأْسِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: يَبْدَأُ) : أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ شَرَعَ (فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ) : أَيْ: إِلَى رُسْغَيْهِ (قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْإِنَاءَ، ثُمَّ يُفْرِغُ) مِنَ الْإِفْرَاغِ بِمَعْنَى الصَّبِّ، (بِيَمِينِهِ عَلَى شَمَالِهِ، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ) : بِشَمَالِهِ (ثُمَّ يَتَوَضَّأُ) : أَيْ: إِلَى آخِرِهِ.

436 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: «وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا فَسَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ وَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شَمَالِهِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَمَسَحَهَا، ثُمَّ غَسَلَهَا، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 436 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ) خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلةِ وَتُضَمُّ، وَقِيلَ: بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَسُكُونِ السِّينِ. قَالَ بَعْضُهُمُ: الْغُسْلُ بِالضَّمِّ كَالْغَسُولِ وَالْمُغْتَسَلِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ كَالْأَكْلِ لِمَا يُؤْكَلُ بِهِ، وَالْغَسْلُ أَيْضًا اسْمٌ مِنْ غَسَلْتُ الشَّيْءَ غَسْلًا بِالْفَتْحِ، وَيَجُوزُ فِي الْغَسْلِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ تَسْكِينُ السِّينِ وَضَمُّهُ، وَالْغِسْلُ بِالْكَسْرِ مَا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ مِنَ الْخِطْمِيِّ وَغَيْرِهِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْمَاءِ اهـ. وَرِوَايَةُ الْكَسْرِ كَمَا زَعَمَهُ الْخَلْخَالِيُّ خَطَأٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ، (فَسَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ) : أَيْ: ضَرَبْتُ لَهُ سِتْرًا يَغْتَسِلُ وَرَاءَهُ لِئَلَّا يَرَاهُ أَحَدٌ. قَالَ مِيرَكُ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مَيْمُونَةَ: سَتَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ. فَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَاءِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، (وَصَبَّ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَصَبَّ (عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا) : أَيْ: إِلَى رُسْغَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ جُمْلَةٍ: (ثُمَّ صَبَّ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا) : قَالَ مِيرَكُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي الْبُخَارِيِّ. (ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شَمَالِهِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ) : أَيْ: بِيَسَارِهِ (فَضَرَبَ بِيَدِهِ) : أَيِ: الْيُسْرَى (الْأَرْضَ، ثُمَّ مَسَحَهَا فَغَسَلَهَا) لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، (فَمَضْمَضَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَتَمَضْمَضَ (وَاسْتَنْشَقَ) : وَهُمَا وَاجِبَانِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَنَا، سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ. (وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ) : اكْتِفَاءً بِالْغَسْلِ الْمَفْرُوضِ عَنِ الْمَسْحِ الْمَسْنُونِ (وَأَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ) : أَيْ: يَمِينًا وَيَسَارًا (ثُمَّ تَنَحَّى) : أَيْ: تَبَعَّدَ عَنِ الْمُسْتَنْقَعِ (فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ) : أَيْ: إِذَا كَانَ لَمْ يَغْسِلْهُمَا حِينَ تَوَضَّأَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى لَوْحٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، (فَنَاوَلْتُهُ) أَيْ: أَعْطَيْتُهُ (ثَوْبًا) : أَيْ: أَرَدْتُ إِعْطَاءَهُ ; لِيُنَشِّفَ أَعْضَاءَهُ، (فَلَمْ يَأْخُذْهُ) : أَيِ: الثَّوْبَ ; إِمَّا لِأَنَّهُ فَضْلٌ، أَوْ لِكَوْنِهِ مُسْتَعْجِلًا، أَوْ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَانَ حَرًّا وَالْبَلَلُ مَطْلُوبٌ، أَوْ لِشُبْهَةٍ فِي الثَّوْبِ، وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى سُنِّيَّةِ تَرْكِ التَّنْشِيفِ أَوْ كَرَاهَةِ فِعْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَانْطَلَقَ) : أَيْ: ذَهَبَ وَمَشَى (وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ) : أَيْ: يُحَرِّكُهُمَا كَمَا هُوَ عَادَةُ مَنْ لَهُ رُجُولِيَّةٌ، وَقِيلَ: يَنْفُضُهُمَا لِإِزَالَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إِمَاطَةِ أَثَرِ الْعِبَادَةِ، مَعَ أَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ عَلَى الْعُضْوِ لَا يُسَمَّى مُسْتَعْمَلًا، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الْقَاضِي: مِنْ فَوَائِدِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ الِاسْتِنْجَاءِ، وَإِنَّ جَازَ تَأْخِيرُهُ ; لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ تَخْتَلِفَانِ، فَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا، وَاسْتِعْمَالُ الْيُسْرَى وَدَلْكُهَا عَلَى الْأَرْضِ مُبَالَغَةٌ فِي إِنْقَائِهَا وَإِزَالَةِ مَا عَبِقَ بِهَا، وَالْوُضُوءُ قَبْلَ الْغُسْلِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَأَوْجَبَهُ دَاوُدُ مُطْلَقًا وَقَوْمٌ إِذَا كَانَ مُحْدِثًا، أَوْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا يُوجِبُ الْجَنَابَةَ وَالْحَدَثَ، وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوُضُوءَ يَدْخُلُ فِي الْغُسْلِ فَيُجْزِئُهُ لَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قُلْتُ: وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مُقْتَضَى الطُّهْرَيْنِ وَاحِدٌ، فَكَفَى لَهُمَا غُسْلٌ وَاحِدٌ، كَمَا فِي الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ، وَتَأْخِيرُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى آخِرِ الْغُسْلِ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَالْمَذْهَبُ - أَيْ: مَذْهَبُهُ -: أَنْ لَا يُؤَخِّرَ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ يَعْنِي: لِظَاهِرِهَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ أَوَّلًا. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالتَّنَحِّي أَيِ التَّبَاعُدُ عَنْ مَكَانِهِ لِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَتَرْكِ التَّنْشِيفِ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْخُذْهُ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ وَجَوَازُ النَّفْضِ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (" «إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَلَا تَنْفُضُوا أَيْدِيَكُمْ» ") . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ النَّفْضَ عَلَى تَحْرِيكِ الْيَدَيْنِ فِي الْمَشْيِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بِعِيدٌ اهـ. قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ بَعِيدًا، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ) .

437 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، ثُمَّ قَالَ: " خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا ". قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: " تَطَهَّرِي بِهَا " قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي بِهَا " فَاجْتَذَبْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ لَهَا: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 437 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي أَصْلِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ نَبِيَّ اللَّهِ، وَفِي أَصْلِ السَّيِّدِ عَفِيفِ الدِّينِ الْكَازَرُونِيِّ: النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ) : مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ: مِنْ أَجْلِ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا (فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ) : أَيْ: بِكَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ السَّابِقَةِ أَيْ: لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا بَيْنَ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ: بَعْدَ تَعْلِيمِهَا الْغُسْلَ (" خُذِي فِرْصَةً ") بِكَسْرِ الْفَاءِ قِطْعَةٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ خِرْقَةٍ تَمْسَحُ بِهَا الْمَرْأَةُ مِنَ الْحَيْضِ؛ مِنْ فَرَصْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعْتَهُ (" مِنْ مَسْكٍ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ الْجِلْدُ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْكَسْرِ وَهُوَ طِيبٌ مَعْرُوفٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ لِفِرْصَةٍ، ثُمَّ مُتَعَلِّقُ الْجَارِّ إِنْ قُدِّرَ خَاصًّا، فَالْمَعْنَى مُطَيَّبَةٌ مِنْ مِسْكٍ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُوَافِقُ مَا وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ فِرْصَةٌ مُمَسَّكَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَكْثَرُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْ: خُذِي قِطْعَةً مِنْ صُوفٍ مُطَيَّبَةٍ بِمِسْكٍ، وَأَنْكَرَ الْقُتَيْبِيُّ هَذَا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ وُسْعٍ يَجِدُونَ الْمِسْكَ أَيْ: بِالْحَالِ الَّذِي يُمْتَهَنُ هَذَا الِامْتِهَانَ فَيُسْتَعْمَلَ فِي الْمَحِيضِ، فَعَلَى هَذَا قَالُوا: الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مِنْ مَسْكٍ أَيْ مِنْ جِلْدٍ عَلَيْهِ صُوفٌ، وَإِنْ قُدِّرَ الْمُتَعَلِّقُ عَامًّا أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ مِسْكٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ كَمَا فِي الْفَائِقِ: إِنَّ الْمُمَسَّكَةَ الْخَلَقِ الَّتِي أُمْسِكَتْ كَثِيرًا، وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْجَدِيدُ لِلِانْتِفَاعِ ; وَلِأَنَّ الْخَلَقَ أَصْلَحُ لِذَلِكَ وَأَوْفَقُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ أَمْتَنُ وَأَحْسَنُ وَأَشْبَهُ بِصُورَةِ الْحَالِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهَا مُطَيَّبَةٌ بِالْمِسْكِ لَقَالَ: فَتَطَيَّبِي، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهَا بِذَلِكَ ; لِإِزَالَةِ الدَّمِ عِنْدَ التَّطَهُّرِ، وَلَوْ كَانَ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ لَأَمَرَ بِهَا بَعْدَ إِزَالَةِ الدَّمِ اهـ. قِيلَ: فَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ سَمِعَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَفَهِمَ مِنْهُ التَّطَيُّبَ، فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّفْظَ، وَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى عَلَى: فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ (" فَتَطَهَّرِي بِهَا ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ فَتَطَيَّبِي بِالْفِرْصَةِ، أَيْ فَاسْتَعْمِلِيهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهُ الدَّمُ حَتَّى يَصِيرَ مُطَيَّبًا. وَلَفَّقَ ابْنُ حَجَرٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لِلْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِرْصَةً كَائِنَةً مِنْ مِسْكٍ هُوَ الْأَكْمَلَ إِذْ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَائِشَةَ: فَتَطَهَّرِي بِهَا أَيْ: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ، وَهَذَا التَّتَبُّعُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْمُمَسَّكِ لَا بِالْمِسْكِ بِعَيْنِهِ اهـ. وَهُوَ وَهْمٌ ; لِأَنَّ الَّذِي قَدَّرَ فِرْصَةً كَائِنَةً مِنْ مِسْكٍ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْمَسْكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْجِلْدِ، لَا بِكَسْرِ الْمِيمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى نَفْسِ الطِّيبِ ; لِأَنَّ جُمْهُورَهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَكُونَ التَّتَبُّعُ بِالْمُمَسَّكِ، فَكَيْفَ بِعَيْنِ الْمِسْكِ؟ بَلْ قَالُوا: إِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُطَيَّبَةَ بِالْمِسْكِ لَقَالَ: تَطَيَّبِي. (قَالَتْ) : أَيِ: الْمَرْأَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ (كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟) أَيْ: بِالْفِرْصَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَطَّهَّرُ بِالتَّشْدِيدَيْنِ، وَكَذَا فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي (فَقَالَ: " تَطَهَّرِي بِهَا ") . قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: (" سُبْحَانَ اللَّهِ ") : فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَأَصْلُهُ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَجَبِ مِنْ بَدَائِعِ مَصْنُوعَاتِهِ وَغَرَائِبِ مَخْلُوقَاتِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى هُنَا كَيْفَ يَخْفَى مِثْلُ هَذَا الظَّاهِرِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ فِي فَهْمِهِ إِلَى فِكْرٍ، أَوْ إِلَى تَصْرِيحٍ (" تَطَهَّرِي بِهَا ") فَاجْتَذَبْتُهَا إِلَيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِتَقَدُّمِ الْبَاءِ عَلَى الذَّالِ، وَالْمَعْنَى قَرَّبْتُهَا إِلَى نَفْسِي (فَقُلْتُ) : أَيْ: لَهَا سِرًّا (تَتَبَّعِي بِهَا) : أَيْ بِالْفِرْصَةِ (أَثَرَ الدَّمِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ وَبِفَتْحِهِمَا أَيِ: اجْعَلِيهَا فِي الْفَرْجِ، وَحَيْثُ أَصَابَهُ الدَّمُ لِلتَّنْظِيفِ أَوْ لِقَطْعِ رَائِحَةِ الْأَذَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

438 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: " لَا ; إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 438 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الشِّينِ أَيْ: أُحْكِمُ (ضَفْرَ رَأْسِي) : أَيْ: بِنَسْجِهِ أَوْ فَتْلِهِ، بِالضَّادِ الْمَفْتُوحَةِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ السَّاكِنَةِ: نَسْجُ الشَّعَرِ وَإِدْخَالُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، وَالضَّفِيرَةُ الذُّؤَابَةُ، (أَفَأَنْقُضُهُ) : أَيْ: أُفَرِّقُهُ (لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ) : أَيْ: لِأَجْلِهِ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ» ؟ (فَقَالَ: (" لَا ") : أَيْ: لَا تَنْقُضِي، بِمَعْنَى لَا يَلْزَمُكِ نَقْضُهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ مِنَ الْأَشْرَافِ وَغَيْرِهِمْ (" «إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي» ") بِسُكُونِ الْيَاءِ بَعْدَ كَسْرِ الثَّاءِ ; لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤَنَّثِ، فَحُذِفَ نُونُهُ نَصْبًا، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ فَتْحُ الْيَاءِ، وَالْحَثْيُ: الْإِثَارَةُ، أَيْ: تَصُبِّي (" عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ ") : ظَرْفٌ (" حَثَيَاتٍ ") بِفَتَحَاتٍ، أَيْ: مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَصْرَ فِي ثَلَاثٍ، بَلْ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى الشَّعَرِ، فَإِنْ وَصَلَ الْمَاءُ عَلَى ظَاهِرِهِ مَرَّةً فَالثَّلَاثُ سُنَّةٌ، وَإِلَّا فَالزِّيَادَةُ وَاجِبَةٌ، حَتَّى يَصِلَ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ إِنَّهُ أَنَمَا نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَصِلُ لِبَاطِنِ الشَّعَرِ الْمَضْفُورِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ شَدُّهَا لَهُ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ ; لِأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَصِلُ الْمَاءُ لِمَا تَحْتَهُ لِقِلَّتِهِ، إِذْ شُعُورُ الْعَرَبِ كَانَتْ خَفِيفَةً غَالِبًا، وَمَا أَفَادَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا كُلِّهِ، وَإِلَّا وَجَبَ ; لِخَبَرِ: " تَحْتَ كُلِّ شَعَرَةٍ جَنَابَةٌ "، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا لِلنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ، حَيْثُ أَوْجَبَا نَقْضَهَا مُطْلَقًا، وَلِقَوْلِ أَحْمَدَ: يَجِبُ نَقْضُهَا فِي الْجَنَابَةِ دُونَ الْحَيْضِ (" ثُمَّ تُفِيضِينَ ") : أَيْ: تَصُبِّينَ (" عَلَيْكِ ") : أَيْ: عَلَى سَائِرِ أَعْضَائِكِ (" الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ ") كَذَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَعَامَّةِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَالْقِيَاسُ حَذْفُ النُّونِ عَطْفًا عَلَى تَحْثِي، وَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ اهـ. فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْتِ تُفِيضِينَ، فَيَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

439 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 439 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُدُّ رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَالصَّاعُ: أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ اهـ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا عِنْدُ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمُدُّ: رِطْلَانِ، وَالصَّاعُ: ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ ; لِخَبَرِ النَّسَائِيِّ بِذَلِكَ، ثُمَّ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ فِي مَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَلَكِنْ يُسَنُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ، وَمَاءُ الْغُسْلِ عَنْ صَاعٍ تَقْرِيبًا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خَمْسَةُ أَمْدَادٍ. وَالْمُرَادُ بِالْمُدِّ وَالصَّاعِ وَزْنًا لَا كَيْلًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَاءَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوَضَّأَ بِإِنَاءٍ فِيهِ قَدْرُ ثُلُثَيْ مُدٍّ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِنَاءٍ فِيهِ نِصْفُ مُدٍّ اهـ. فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ غَالِبُ أَحْوَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

440 - وَعَنْ مُعَاذَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَيُبَادِرُنِي، حَتَّى أَقُولَ: دَعْ لِي دَعْ لِي. قَالَتْ: وَهُمَا جُنُبَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 440 - (وَعَنْ مُعَاذَةَ) : هِيَ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيِّ، رَوَتْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: وَرَوَى عَنْهَا قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، مَاتَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ (قَالَتْ: «قَالَتْ عَائِشَةُ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ» ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ، وَيُنْصَبُ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الطِّيبِيُّ: إِبْرَازُ الضَّمِيرِ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْعَطْفُ وَلَا يُقَالُ: اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّهُ عَلَى تَغْلِيبِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْغَالِبِ كَمَا غُلِّبَ الْمُخَاطَبُ عَلَى الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] فَإِنْ قِيلَ: النُّكْتَةُ هُنَاكَ أَنَّ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلٌ فِي سُكْنَى الْجَنَّةِ: قُلْنَا: لَا يَزَالُ النِّسَاءُ مَحَالَّ الشَّهَوَاتِ وَحَامِلَاتٍ لِلِاغْتِسَالِ فَكُنَّ أَصْلًا (مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) : أَيْ: مَوْضُوعٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ وَوَضَعَ الْإِنَاءَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَهُوَ وَاسِعُ الرَّأْسِ، فَنَجْعَلُ أَيْدِيَنَا فِيهِ وَنَأْخُذُ الْمَاءَ لِلِاغْتِسَالِ بِهِ. (فَيُبَادِرُنِي) : أَيْ: يَسْبِقُنِي لِأَخْذِ الْمَاءِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُبَادِرُنِي وَيَغْتَسِلُ بِبَعْضِهِ وَيَتْرُكُ لِي الْبَاقِيَ فَأَغْتَسِلُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الْمَاءِ. وَقَالَ: فَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا، كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ بَابِ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمَا اغْتَسَلَا فِيهِ مَعًا (حَتَّى أَقُولَ: دَعْ لِي دَعْ لِي) : أَيِ: اتْرُكْ لِي مَا أُكْمِلُ

غُسْلِي، وَالتَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ أَوِ التَّعْدِيدِ (قَالَتْ) : أَيْ: مُعَاذَةُ، وَقِيلَ: عَائِشَةُ (وَهُمَا) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (جُنُبَانِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُدْخِلُ فِيهِ الْجُنُبُ يَدَهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ سَوَاءٌ فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَمْسَ الْجُنُبِ يَدَهُ فِي الْمَاءِ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الطَّهُورِيَّةِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ عُلِمَ الْغَمْسُ قَبْلَ غَسْلِ الْيَدِ؟ وَعَلَى تَسْلِيمِهِ يُحْمَلُ عَلَى قَصْدِ الِاغْتِرَافِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا جَمِيعًا: لَوْ أَدْخَلَ الْمُحْدِثُ أَوِ الْجُنُبِ أَوِ الْحَائِضُ الَّتِي طَهُرَتِ الْيَدَ فِي الْإِنَاءِ لِلِاغْتِرَافِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِلْحَاجَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ قَالَ: بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْخَلَ الْمُحْدَثُ رِجْلَهُ أَوْ رَأْسَهُ حَيْثُ يَفْسُدُ الْمَاءُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَقُلْ: فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ: دَعْ لِي دَعْ لِي، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ إِفْرَادِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهَا: «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ» اهـ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ: «أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِنِصْفِ مُدٍّ أَوْ بِثُلُثَيْ مُدٍّ» ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 441 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ احْتِلَامًا. قَالَ: " يَغْتَسِلُ " وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ وَلَا يَجِدُ بَلَلًا. قَالَ: " لَا غُسْلَ عَلَيْهِ " قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ تَرَى ذَلِكَ غُسْلٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ، إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى الدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، إِلَى قَوْلِهِ: " «لَا غُسْلَ عَلَيْهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 441 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ» ) : مَنِيًّا كَانَ أَوْ مَذْيًا إِذَا اسْتَيْقَظَ (وَلَا يَذْكُرُ احْتِلَامًا) : أَيْ: لَا يَذْكُرُ أَنَّهُ جَامَعَ أَحَدًا فِي النَّوْمِ (قَالَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَغْتَسِلُ) : خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَهُوَ لِلْوُجُوبِ (وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا أَيْ: يَظُنُّ (أَنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ وَلَا يَجِدُ بَلَلًا. قَالَ: (" لَا غُسْلَ عَلَيْهِ ") : أَيْ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ ; لِأَنَّ الْبَلَلَ عَلَامَةٌ وَدَلِيلٌ، وَالنَّوْمُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، فَالْمَدَارُ عَلَى الْبَلَلِ سَوَاءٌ تَذَكَّرَ الِاحْتِلَامَ أَمْ لَا. (قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ) : وَهِيَ: أُمُّ أَنَسٍ (هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ تَرَى ذَلِكَ) : أَيِ: الْبَلَلَ (غُسْلٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ عَلَيْهَا غُسْلٌ ") : وَأَعَادَتْهُ بَعْدَ تَصْرِيحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِبْعَادًا لِاحْتِلَامِ النِّسَاءِ، وَلَمَّا فَهِمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ذَلِكَ ذَكَرَ لَهَا الْعِلَّةَ فِيهَا فَقَالَ: (" إِنَّ النِّسَاءَ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ (" شَقَائِقُ الرِّجَالِ ") : أَيْ: نَظَائِرُهُمْ فِي الْخَلْقِ وَالطَّبَائِعِ كَأَنَّهُنَّ شُقِقْنَ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ حَوَّاءَ شُقَّتْ مِنْ آدَمَ، وَشَقِيقُ الرَّجُلِ أَخُوهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ ; لِأَنَّ شِقَّ نَسَبِهِ مِنْ نَسَبِهِ يَعْنِي: فَيَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِرُؤْيَةِ الْبَلَلِ بَعْدَ النَّوْمِ كَالرَّجُلِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ إِثْبَاتُ الْقِيَاسِ وَإِلْحَاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، وَأَنَّ الْخِطَابَ إِذَا وَرَدَ بِلَفْظِ الذُّكُورِ كَانَ خِطَابًا لِلنِّسَاءِ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبِلَّةِ وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهَا الْمَاءُ الدَّافِقُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ بَلَلُ الْمَاءِ الدَّافِقِ، وَاسْتَحَبُّوا الْغُسْلَ احْتِيَاطًا، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْغُسْلِ إِذَا لَمْ يَرَ الْبَلَلَ، وَإِنْ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ احْتَلَمَ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْعُمَرِيُّ، ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعْدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ فِي الْحَدِيثِ قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ. (وَرَوَى الدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ: (" «لَا غُسْلَ عَلَيْهِ» ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

442 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، وَجَبَ الْغُسْلُ ". فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاغْتَسَلْنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 442 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جَاوَزَ» ") : أَيْ: تَعَدَّى، وَفِي رِوَايَةِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيِ: الْتَقَى (" الْخِتَانُ ") : بِالرَّفْعِ (" الْخِتَانَ ") : بِالنَّصْبِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنْ فَرْجِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَخْتُونًا أَمْ لَا. إِذَا مُجَاوَزَةُ خِتَانِهَا كِنَايَةٌ لَطِيفَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَهُوَ غَيْبُوبَةُ الْحَشَفَةِ وَهِيَ رَأْسُ الذَّكَرِ وَلَوْ فِي الدُّبُرِ (وَجَبَ الْغُسْلُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ» . قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ إِذَا حَاذَى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ سَوَاءٌ تَلَاقَيَا أَمْ لَا يُقَالُ: الْتَقَى الْفَارِسَانِ إِذَا تَحَاذَيَا وَتَقَابَلَا. وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِيمَا إِذَا لَفَّ عَلَى عُضْوِهِ ثُمَّ جَامَعَ، فَإِنَّ الْغُسْلَ يَجِبُ. قَالَ الْأَشْرَفُ: هَذَا الْمَعْنَى فِي رِوَايَةِ جَاوَزَ أَظْهَرُ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمُجَاوَزَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. (فَعَلْتُهُ) : الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَصْدَرِ جَاوَزَ (أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ) : بِالرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاغْتَسَلْنَا) : ظَاهِرُهُ أَنَّهَا تَعْنِي بِغَيْرِ الْإِنْزَالِ، وَأَنَّهُ نَاسِخٌ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ: (" «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ") (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. (وَابْنُ مَاجَهْ) .

443 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشْرَةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ. التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ الرَّاوِي وَهُوَ شَيْخٌ، لَيْسَ بِذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 443 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَحْتَ كُلِّ شَعَرَةٍ) : بِالسُّكُونِ وَيُفْتَحُ (" «جَنَابَةٌ، فَاغْسِلُوا الشَّعَرَ» ") بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: جَمِيعَهُ، فَلَوْ بَقِيَتْ شَعَرَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا الْمَاءُ بَقِيَتْ جَنَابَتُهُ (" وَأَنْقُوا ") : مِنَ الْإِنْقَاءِ (" الْبَشْرَةَ ") بِالْبَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْبَشْرَةُ ظَاهِرُ الْجِلْدِ أَيْ: نَظِّفُوهَا مِنَ الْوَسَخِ، فَلَوْ مَنَعَ الْوَسَخُ - يَعْنِي كَالطِّينِ الْيَابِسِ وَالْعَجِينِ وَالشَّمْعِ - وُصُولَ الْمَاءِ لَمْ يَرْفَعِ الْجَنَابَةَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ كَثَافَةُ اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ مَانِعَةً لِوُجُوبِ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَاطِنِهَا ; لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً إِذِ الْوُضُوءُ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ بِخِلَافِ الْغُسْلِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَضَعَّفَهُ (وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَالْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ) : عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (الرَّاوِي) : أَيِ: الْحَارِثُ (وَهُوَ) : أَيِ: الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ (شَيْخٌ) : أَيْ: كَبِيرٌ وَغَلَبَ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ (لَيْسَ بِذَاكَ) : الْمَقَامُ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ أَيْ: رِوَايَتُهُ لَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ، كَذَا فِي الطِّيبِيِّ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ شَيْخٌ لِلْجَرْحِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: شَيْخٌ مِنْ أَلْفَاظِ مَرَاتِبِ التَّعْدِيلِ، فَعَلَى هَذَا يَجِيءُ إِشْكَالٌ آخَرُ فِي قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَيْسَ بِذَاكَ ; مِنْ أَلْفَاظِ الْجَرْحِ اتِّفَاقًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: وَهُوَ شَيْخٌ، عَلَى الْجَرْحِ بِقَرِينَةِ مُقَارَنَتِهِ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ بِذَاكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْدِيلِ، وَلِإِشْعَارِهِ بِالْجَرْحِ ; لِأَنَّهُمْ وَإِنْ عَدُّوهُ فِي أَلْفَاظِ التَّعْدِيلِ صَرَّحُوا أَيْضًا بِإِشْعَارِهِ بِالْقُرْبِ مِنَ التَّجْرِيحِ. أَوْ نَقُولُ: لَا بُدَّ فِي كَوْنِ الشَّخْصِ ثِقَةً مِنْ شَيْئَيْنِ: الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ، كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الشَّخْصِ الْعَدَالَةُ دُونَ الضَّبْطِ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّلَ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ الْأُولَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْرَحَ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ الثَّانِيَةِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جَمْعًا بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، كَذَا فِي السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ.

444 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعَرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ ". وَقَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي، فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي، فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي. ثَلَاثًا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ، إِلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يُكَرِّرَا: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 444 - (وَعَنْ عَلِيٍّ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ» ") : بِالسُّكُونِ وَيُفْتَحُ (" مِنْ جَنَابَةٍ ") : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مَنْ تَرَكَ. أَيْ: مِنْ أَجْلِ غُسْلِ جَنَابَةٍ وَنَحْوِهَا (" لَمْ يَغْسِلْهَا ") : صِفَةُ مَوْضِعِ شَعَرَةٍ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَغْسِلْ تَحْتَهَا (" فُعِلَ ") : مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ نَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرٌ مِنْ تَرَكَ (" بِهَا ") : أَيْ: بِسَبَبِ تِلْكَ الشَّعَرَةِ (" كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ ") كِنَايَتَيْنِ عَنِ الْعَدَدِ، أَيْ: يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا إِمَّا كِنَايَةٌ عَنْ أَقْبَحِ مَا يُفْعَلُ بِهِ، أَوْ إِبْهَامٌ مِنْ شِدَّةِ الْوَعِيدِ (قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ الشَّدِيدَ (عَادَيْتُ رَأْسِي) : مَخَافَةَ أَنْ لَا يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ شَعَرِي، أَيْ: عَامَلْتُ مَعَ رَأْسِي مُعَامَلَةَ الْمُعَادِي مَعَ الْعَدُوِّ، مِنَ الْقَطْعِ وَالْجَزِّ، فَجَزَزْتُهُ وَقَطَّعْتُهُ، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَجُزُّ شَعَرَهُ، وَقِيلَ: عَادَيْتُ رَأْسِي، أَيْ: شَعَرِي، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: عَادَيْتُ شَعَرِي رَفَعْتُهُ عِنْدَ الْغُسْلِ (فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي) : أَيْ: فَعَلْتُ بِرَأْسِي مَا يُفْعَلُ بِالْعَدُوِّ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ وَقَطْعِ دَابِرِهِ ". قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى حَلْقِ الرَّأْسِ سُنَّةٌ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَّرَهُ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِمُتَابَعَةِ سُنَّتِهِمُ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِعْلَهُ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَّةِ الْخُلَفَاءِ مِنْ عَدَمِ الْحَلْقِ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ النُّسُكِ - يَكُونُ رُخْصَةً لَا سُنَّةً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ نَظَرَ فِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ، وَذَكَرَ نَظِيرَ كَلَامِي، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِيهِ، (ثَلَاثًا) : أَيْ: قَالَهُ ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمَتْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالْمَعْنَى: مَا عَادَيْتُهُ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ مِنَ الزِّينَةِ وَالتَّنَعُّمِ، وَفِيهِ نَوْعُ اعْتِذَارٍ عَنْ تَرْكِ الْمُتَابَعَةِ ظَاهِرًا، وَسَبَبُهُ كَثْرَةُ الْجِمَاعِ الْمُوجِبَةُ لِكَثْرَةِ الْغُسْلِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، إِلَّا أَنَّهُمَا) : أَيْ: أَحْمَدَ وَالدَّارِمِيَّ (لَمْ يُكَرِّرَا: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي) : أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ وَاكْتَفَيَا بِمَرَّةٍ، وَبِقَوْلِهِمَا ثَلَاثًا. وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ فَيَقْوَى بِهِ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ السَّابِقُ، مَعَ أَنَّ الضَّعْفَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ فِي إِسْنَادِ التِّرْمِذِيِّ دُونَ إِسْنَادَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالتِّرْمِذِيِّ.

445 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 445 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ» ) : أَيِ: اكْتِفَاءً بِوُضُوئِهِ الْأَوَّلِ فِي الْغُسْلِ، وَهُوَ سُنَّةٌ، أَوْ بِانْدِرَاجِ ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ تَحْتَ ارْتِفَاعِ الْأَكْبَرِ ; بِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، وَهُوَ رُخْصَةٌ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: وَهَذَا لَفْظُهُ، (وَأَبُو دَاوُدَ) : لَكِنْ بِمَعْنَاهُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ وَصَلَاةَ الْغَدْوَةِ، وَلَا أَرَاهُ يُحْدِثُ وُضُوءًا بَعْدَ الْغُسْلِ» ، (وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَالُوا: وَلَا يُشَرَّعُ وُضُوءَانِ ; اتِّفَاقًا لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ.

446 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ وَهُوَ جُنُبٌ، يَجْتَزِئُ بِذَلِكَ، وَلَا يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 446 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ» ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ: نَبْتٌ يُتَنَظَّفُ بِهِ مَعْرُوفٌ، (وَهُوَ جُنُبٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (يَجْتَزِئُ بِذَلِكَ) : أَيْ: يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ يَعْنِي: يَكْتَفِي بِالْمَاءِ الَّذِي يُفِيضُهُ عَلَى رَأْسِهِ لِإِزَالَةِ أَثَرِ الْخِطْمِيِّ، وَمَا كَانَ يَأْخُذُ مَاءً جَدِيدًا لِلْغُسْلِ كَمَا هُوَ عَادَةُ النَّاسِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ إِزَالَةِ الْوَسَخِ بِالْخِطْمِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ اسْتِئْنَافِ الْمَاءِ لِلْغُسْلِ. (وَلَا يَصُبُّ عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى رَأْسِهِ الشَّرِيفِ (الْمَاءَ) : أَيِ: الْقَرَاحَ ; لِإِزَالَةِ الْخِطْمِيِّ، بَلْ يَتْرُكُهُ بِحَالِهِ قَصْدًا لِلتَّبَرُّدِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى سَائِرِ بَدَنِهِ لِتَرْتَفِعَ الْجَنَابَةُ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَوْلُهُ: الْمَاءُ، أَيِ: الْمَاءُ الْمَحْضُ، بَلْ يَكْتَفِي بِالْمَاءِ الْمَخْلُوطِ بِالْخِطْمِيِّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قِيلَ: وَفِي سَنَدِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ.

447 - وَعَنْ يَعْلَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالتَّسَتُّرَ ; فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَغْتَسِلَ فَلْيَتَوَارَ بِشَيْءٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 447 - (وَعَنْ يَعْلَى) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، أَوْ يَعْلَى بْنُ مُرَّةَ، وَهُمَا صَحَابِيَّانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ، لَكِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَيِّدَهُ هُنَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ» ) : أَيْ: مِنْ غَيْرِ سُتْرَةٍ (بِالْبَرَازِ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: بِالْفَضَاءِ الْوَاسِعِ عُرْيَانًا (فَصَعِدَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعَ (الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، أَوِ الْحَمْدُ بِمَعْنَى الشُّكْرِ (ثُمَّ قَالَ: (" «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ» ") بِيَاءَيْنِ ; الْأُولَى مُخَفَّفَةٌ مَكْسُورَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مُشَدَّدَةٌ، أَيْ: كَرِيمٌ مَعَامِلٌ عَبْدَهُ مُعَامَلَةَ الْحَيِيِّ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، (" سِتِّيرٌ ") : فِعِّيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ (" يُحِبُّ ") أَيْ: مِنْ عَبْدِهِ (" الْحَيَاءَ ") : فَإِنَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ (" وَالتَّسَتُّرَ ") أَيِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَيَاءُ، وَفِي نُسْخَةٍ: السُّتْرَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَارِكٌ لِلْقَبَائِحِ سَاتِرٌ لِلْعُيُوبِ وَالْفَضَائِحِ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالتَّسَتُّرَ مِنَ الْعَبْدِ ; لِأَنَّهُمَا خَصْلَتَانِ تُفْضِيَانِ بِهِ إِلَى التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ، وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ تَهْجِينًا لِفِعْلِ الرَّجُلِ، وَحَثًّا لَهُ عَلَى تَحَرِّي الْحَيَاءِ وَالتَّسَتُّرِ، كَمَا وَصَفَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ بِالْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] حَثًّا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ (فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ) : أَيْ: أَرَادَ الْغُسْلَ فِي فَضَاءٍ فَلْيَسْتَتِرْ) أَيْ: فَلْيَجْعَلْ لِنَفْسِهِ سُتْرَةً كَيْلَا يَرَاهُ أَحَدٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي هَذَا إِرْشَادٌ لِنَحْوِ الْمُغْتَسِلِ بِمَحَلٍّ لَا يَرَاهُ النَّاسُ بِأَنْ لَا يَعُودَ لِذَلِكَ اسْتِحْيَاءً مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَئِمَّتُنَا: يَحْرُمُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ; لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَرُدُّ عَلَيْهِمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَيَسْتَوِي بِالنِّسْبَةِ لِاطِّلَاعِهِ وَعِلْمِهِ الْمَسْتُورُ، وَرَدُّوهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِهِمَا إِلَّا أَنَّهُ يَرَى الْمَسْتُورَ عَلَى حَالَةٍ تَقْتَضِي الْأَدَبَ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَسَكَتَ عَلَيْهِ، قَالَهُ مِيرَكُ. (وَالنَّسَائِيُّ) وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ: (" «إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَغْتَسِلَ فَلْيَتَوَارَ» ") : أَمْرٌ مِنَ التَّوَارِي بِمَعْنَى التَّسَتُّرِ، (" بِشَيْءٍ ") مِنَ الثَّوْبِ أَوِ الْجِدَارِ أَوِ الْحَجَرِ أَوِ الشَّجَرِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحَاصِلُ حُكْمِ مَنِ اغْتَسَلَ عَارِيًا أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِمَحَلٍّ خَالٍ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نَظَرُ عَوْرَتِهِ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ التَّسَتُّرُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَرَاهُ أَحَدٌ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نَظَرُ عَوْرَتِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ التَّسَتُّرُ مِنْهُ إِجْمَاعًا

عَلَى مَا حَكَى، وَوَهِمَ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَقَالَ: الْوَاجِبُ عَلَى ذَلِكَ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ التَّسَتُّرُ. وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ ; لِأَنَّ وُجُوبَ الْغَضِّ لَا يُبِيحُ التَّكَشُّفَ، وَلَا يُقَاسُ هَذَا بِمَا حُكِيَ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ سَافِرَاتِ الْوُجُوهِ وَعَلَى الرِّجَالِ الْغَضُّ، أَمَّا أَوَّلًا فَذَاكَ لِحَاجَةِ الْمَشَقَّةِ فِي سَتْرِ الْوَجْهِ فِي الطُّرُقَاتِ، وَأَمَا ثَانِيًا فَهَذَا يُتَسَامَحُ فِيهِ مَا لَا يُتَسَامَحُ بِهِ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَلِذَا أَبَاحَ النَّظَرَ لَهُ مَعَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ كَثِيرُونَ بِخِلَافِ الْعَوْرَةِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ السَّوْأَتَانِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِحِلِّ نَظَرِهَا وَكَذَا بَقِيَّةُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، فَوَجَبَ سَتْرُ الْكُلِّ حَذَرًا مِنْ تَطَرُّقِ نَظَرٍ مُحَرَّمٍ إِلَيْهِ، فَيَكُونَ مُتَسَبِّبًا لَهُ بِعَدَمِ تَسَتُّرِهِ، وَالتَّسَبُّبُ فِي الْحَرَامِ وَلَوْ مِنَ الْغَيْرِ حَرَامٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 448 - عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 448 - (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ) : أَيِ: انْحِصَارُ وُجُوبِ الْغُسْلِ (مِنَ الْمَاءِ) أَيْ مِنْ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ لَا بِمُجَرَّدِ الْجِمَاعِ (رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ) : تَدْرِيجًا لِتَكَالِيفِ الْأَحْكَامِ، وَمِنْ ثَمَّ حَلَّتْ لَهُمُ الْخَمْرُ وَالْمُتْعَةُ ابْتِدَاءً ثُمَّ نُسِخَتَا، وَلَمْ يُكَلَّفُوا أَوَّلًا إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ مَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، ثُمَّ نُسِخَ بِمَا فِي آخِرِهَا، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ مَا نَسَخَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، ثُمَّ بَعْدَ تَحَوُّلِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَرَضَ عَلَيْهِمْ رَمَضَانَ، ثُمَّ تَتَابَعَتِ الْفَرَائِضُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (ثُمَّ) : أَيْ: بَعْدَ اسْتِحْكَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ (نُهِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (عَنْهَا) أَيْ: عَنْ تِلْكَ الرُّخْصَةِ، وَفُرِضَ الْغُسْلُ وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَأَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، قَالَهُ مِيرَكُ (وَالدَّارِمِيُّ) : وَسَنَدَهُ حَسَنٌ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

449 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي اغْتَسَلْتُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَصَلَّيْتُ الْفَجْرَ، فَرَأَيْتُ قَدْرَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كُنْتَ مَسَحْتَ عَلَيْهِ بِيَدِكَ أَجْزَأَكَ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 449 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي اغْتَسَلْتُ مِنَ الْجَنَابَةِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا (وَصَلَّيْتُ الْفَجْرَ) : أَيْ: صَلَاتَهُ (فَرَأَيْتُ) : أَيْ: أَبْصَرْتُ وَعَلِمْتُ بَعْدَ انْقِضَاءِ صَلَاتِي (قَدْرَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ) : بِضَمِّ الْفَاءِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: مِقْدَارَ مَوْضِعِهِ مِنْ بَدَنِي (لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ) : حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" لَوْ كُنْتَ ") : أَيْ: عِنْدَ الْغُسْلِ (" مَسَحْتَ عَلَيْهِ بِيَدِكَ ") : أَيْ: غَسَلْتَهُ غَسْلًا خَفِيفًا، أَوْ مَرَرْتَ عَلَيْهِ بِيَدِكَ الْمَبْلُولَةِ (أَجْزَأَكَ) : أَيْ: كَفَاكَ، وَأَمَّا الْمَسْحُ الَّذِي هُوَ إِصَابَةُ الْيَدِ الْمُبْتَلَّةِ فَلَا يَكْفِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ لَوْ لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، فَالْمَعْنَى: لَا يُجْزِئُكَ ; لِأَنَّكَ فِي زَمَانِ الْغَسْلِ مَا مَسَحْتَ بِالْمَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْغَسْلُ جَدِيدًا وَقَضَاءُ الصَّلَاةِ اهـ. يَعْنِي: غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَرِجَالُهُ مُوثَقُونَ، قَالَهُ مِيرَكُ.

450 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «قَالَ: كَانَتِ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَغَسْلُ الْبَوْلِ مِنَ الثَّوْبِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ حَتَّى جُعِلَتِ الصَّلَاةُ خَمْسًا، وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ مَرَّةً، وَغَسْلُ الثَّوْبِ مِنَ الْبَوْلِ مَرَّةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 450 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتِ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَانَتِ الصَّلَاةُ مَفْرُوضَةً فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ خَمْسِينَ، لَا أَنَّهُمْ صَلَّوْا خَمْسِينَ صَلَاةً، وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: كَانَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ خَمْسِينَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: ( «وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَغَسْلُ الْبَوْلِ مِنَ الثَّوْبِ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ) : وَلَعَلَّ هَذَا بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْأُمَمِ ; لِأَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ قَطْعُ مَكَانِ الْبَوْلِ، ( «فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ» ) : أَيْ: رَبَّهُ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ لِعِظَمِ مَا عِنْدَهُ مِنْ رَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْمُرَادُ بِهِ تَكَرُّرُ السُّؤَالِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، تَأَمَّلْ. اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَكْرَارُ السُّؤَالِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهَا فِيهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ( «حَتَّى جُعِلَتِ الصَّلَاةُ خَمْسًا» ) : بِالْكَمِّيَّةِ، وَخَمْسِينَ بِمُضَاعَفَةِ الْفَضِيلَةِ ( «وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ مَرَّةً» ) : بِالْفَرْضِيَّةِ، وَتَثْلِيثًا بِالسُّنِّيَّةِ ( «وَغَسْلُ الثَّوْبِ مِنَ الْبَوْلِ مَرَّةً» ) : ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُرَافِقُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ يُطَهِّرُ الْغَسْلُ مَرَّةً ; لِأَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ مَرَّةً يُطَهِّرُ كَمَا يُطَهَّرُ الْبَدَنُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَعُلَمَاؤُنَا الْحَنَفِيَّةُ اعْتَبَرُوا غَلَبَةَ الظَّنِّ ثُمَّ قَدَّرُوهَا بِالْغَسْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَبِالْعَصْرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ تَحْصُلُ عِنْدَهُ غَالِبًا، وَقَدْ قِيلَ: يُبَالَغُ بِالْعَدَدِ إِلَى السَّبْعِ لِدَفْعِ الْوَسْوَسَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لَوْ جَرَى الْمَاءُ عَلَى ثَوْبٍ نَجِسٍ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ طَهُرَ جَازَ بِلَا عَصْرٍ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمُجَمَّعِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ لَمْ يُضَعِّفْهُ فَيَكُونَ صَالِحًا لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي سَنَدِهِ أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَضْعِيفِهِ.

[باب مخالطة الجنب وما يباح له]

[بَابُ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ وَمَا يُبَاحُ لَهُ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 451 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَكَثْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ، فَانْسَلَلْتُ، فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ، فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ، وَهُوَ قَاعِدٌ فَقَالَ: " أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هِرٍّ؟ " فَقُلْتُ لَهُ. فَقَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ» ". هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: «فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ لَقِيتَنِي وَأَنَا جُنُبٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ حَتَّى أَغْتَسِلَ» . وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ (6) بَابُ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ أَيْ: جَوَازُ مُجَالَسَتِهِ وَمُكَالَمَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. يُقَالُ: أَجْنَبَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ جُنُبًا، وَالِاسْمُ الْجَنَابَةُ، وَأَصْلُهَا الْبُعْدُ ; لِأَنَّهُ نُهِيَ أَنْ يَقْرَبَ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ، وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يَتَطَهَّرْ. (وَمَا يُبَاحُ لَهُ) : أَيْ: لِلْجُنُبِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَغَيْرِهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 451 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَإِنَّمَا نَسَبَ اللُّقِيَّ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدَمِ قَصْدِ أَبِي هُرَيْرَةَ لُقِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (وَأَنَا جُنُبٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَأَخَذَ بِيَدِي) : لِلتَّأْنِيسِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ بِهَا لِلِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا بَعِيدٌ (فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ) : وَتَخَلَّصَتْ يَدِي مِنْهُ (فَانْسَلَلْتُ) : فِي النِّهَايَةِ أَيْ: مَضَيْتُ وَخَرَجْتُ بِتَأَنٍّ وَتَدَرُّجٍ، قِيلَ: مَعْنَاهُ انْصَرَفْتُ أَوْ خَرَجْتُ، وَذَهَبْتُ بِخُفْيَةٍ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ وَأَدَبًا مَعَهُ (فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ) : أَيِ: الْبَيْتَ الْمَعْهُودَ هُنَا، وَهُوَ مَنْزِلُ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ بُيُوتَهُمْ كَانَتْ مَحَلًّا لِلرِّحَالِ. وَقَالَ الْمُظْهَرُ: أَيْ مَا بَيْنَ الرَّحْلِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَعَ الْمُسَافِرِ مِنَ الْأَقْمِشَةِ، وَالرَّحْلُ أَيْضًا الْمَوْضِعُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقَوْمُ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ (فَاغْتَسَلْتُ) : أَيْ: فِيهِ (ثُمَّ جِئْتُ) : أَيْ: جِئْتُهُ (وَهُوَ قَاعِدٌ) :

الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُقَدَّرِ (فَقَالَ: " أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ ") : كَانَ اسْمُهُ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَهَذِهِ الْكُنْيَةُ وَضَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حِينَ رَأَى فِي ثَوْبِهِ شَيْئًا يَحْمِلُهُ فَقَالَ: " «مَا هَذَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ " فَقَالَ: هِرَّةٌ فَقَالَ: " أَنْتَ أَبُو هُرَيْرَةَ» ". (فَقُلْتُ لَهُ) : أَيْ: ذَكَرْتُ لَهُ الْقِصَّةَ (فَقَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ ") : تَعَجُّبًا مِنْ عَدَمِ عِلْمِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَسْأَلَةَ (" «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ» ") بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: لَا يَصِيرُ عَيْنُهُ نَجِسًا، وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمُؤْمِنِ بَلِ الْكَافِرُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] فَالنَّجَاسَةُ فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ لَا فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِمْ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ أَعْيَانَهُمْ نَجِسَةٌ كَالْخِنْزِيرِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: مَنْ صَافَحَهُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ - فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّبَعُّدِ عَنْهُمْ، وَاحْتِرَازٌ مِنْهُمْ. كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ جَوَازُ مُصَافَحَةِ الْجُنُبِ وَمُخَالَطَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَافَقُوا عَلَى طَهَارَةِ عَرَقِ الْجُنُبِ وَمُخَالَطَتِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الِاغْتِسَالِ لِلْجُنُبِ، وَأَنْ يَسْعَى فِي حَوَائِجِهِ، قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ الْحَدَثُ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ، وَأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ أَوْ غُسْلٌ فَهُوَ نَجِسٌ حُكْمًا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَجِسَ حُكْمًا لَمَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِالطَّهَارَةِ. فَقَوْلُهُ: لَا يَنْجَسُ أَيْ: حَقِيقَةً لَا حُكْمًا، أَوْ ظَاهِرًا، أَوْ بَاطِنًا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ ; فَإِنَّهُ نَجِسٌ بَاطِنًا لِنَجَاسَةِ اعْتِقَادِهِ وَخَبَاثَةِ أَخْلَاقِهِ. (هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ، وَزَادَ) : أَيْ: مُسْلِمٌ (بَعْدَ قَوْلِهِ: فَقُلْتُ لَهُ) : أَيْ: زِيَادَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا شَرَحْنَا أَوَّلًا، وَهِيَ (لَقِيتَنِي) : إِلَى آخِرِهِ (وَأَنَا جُنُبٌ فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ) : أَيْ: فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (حَتَّى أَغْتَسِلَ) لِأَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ (وَكَذَا) : أَيْ: زَادَ (الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى) : هَذِهِ الزِّيَادَةَ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: فِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى اغْتَسَلَ لَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ.

452 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 452 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ) : الضَّمِيرُ لِعُمَرَ أَوْ لِلشَّأْنِ (تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنَ اللَّيْلِ) : يَعْنِي: وَيَكْسَلُ عَنِ الْغُسْلِ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" تَوَضَّأْ ") : أَيْ: وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ (" وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ") : عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ تَوَضَّأْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ الْغُسْلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَتَبَرُّكًا بِهِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَكَتَبَ مِيرَكُ تَحْتَهُ: وَفِيهِ وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ مَا فِيهِ. وَلَعَلَّهُ قَرَأَ الْغُسْلَ فَنَشَأَ مِنْهُ الْإِشْكَالُ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْغَسْلُ بِالْفَتْحِ، وَالْمُرَادُ غَسْلُ الذَّكَرِ، وَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: وَإِنَّمَا قُدِّمَ أَيِ: الْوُضُوءُ فَتَأَمَّلْ، وَسُنَّ غَسْلُ الذَكَرِ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ النَّجَاسَةِ لَا مِنَ الْقَذَرِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، (" ثُمَّ نَمْ ") . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ التَّصْرِيحُ لِمَذْهَبِنَا أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، أَوْ يُؤَخِّرَ الْغُسْلَ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، أَنْ يَتَوَضَّأَ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ كَمَا يَأْتِي. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ خِلَافٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ لِمَذْهَبِنَا، وَالْخِلَافُ الْآتِي إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِالْوُضُوءِ الْعُرْفِيِّ أَمْ لَا؟ وَإِنْ أَرَادَ الْكَرَاهَةَ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ فَضْلًا عَنِ الصَّرَاحَةِ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْمُوَاظَبَةِ أَوْ يُرَادُ بِهَا النَّهْيُ الْمَقْصُودُ.

453 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ، تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 453 - (" وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» ") : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَيِ: الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ ; وَهُوَ غَسْلُ الْفَمِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، قَالَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.

454 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 454 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ» ") : أَيِ: امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ، يَعْنِي: جَامَعَهَا (" ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ ") أَيْ: إِلَى الْجِمَاعِ (فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا) أَيْ: بَيْنَ الْإِتْيَانَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ هَذَا أَطْيَبُ، وَأَكْثَرُ لِلنَّشَاطِ وَالتَّلَذُّذِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ أَنْ يَغْسِلَ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يُجَامِعَ مَرَّةً أُخْرَى أَوْ يَنَامَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي خَبَرٍ لِلنَّسَائِيِّ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ فِي الْعَوْدِ لِلْوَطْءِ غَسْلُ فَرْجِهِ ; لِرِوَايَةِ: «ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَغْسِلْ فَرْجَهُ» : قِيلَ: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَيْضًا (وُضُوءًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا أَتَى بِالْمَصْدَرِ تَأْكِيدًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ غَيْرُ الْمُتَعَارَفِ كَمَا فِي الْأَكْلِ أَيْ: فِي بَابِهِ يُعَضِّدُهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ: تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ التَّنَكُّرِ إِفَادَةُ وُضُوءٍ مَا، فَيَشْمَلُ الْوُضُوءَ الْعُرْفِيَّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّنْوِينِ التَّنْكِيرُ لَا التَّعْظِيمُ، غَايَتُهُ أَنَّ تَقْيِيدَهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِوُضُوئِهِ لِلصَّلَاةِ إِيمَاءً إِلَى الْأَكْمَلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ، ثُمَّ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ تَخْفِيفُ الْحَدَثِ وَالتَّنْظِيفُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

455 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 455 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: أَحْيَانًا (" يَطُوفُ ") : أَيْ: يَدُورُ (" عَلَى نِسَائِهِ ") : حِينَ يُجَامِعُهُنَّ (بِغُسْلٍ وَاحِدٍ) : فَإِنْ قِيلَ: أَقَلُّ الْقَسْمِ لَيْلَةٌ لِكُلِّ امْرَأَةٍ، فَكَيْفَ طَافَ عَلَى الْجَمِيعِ؟ الْجَوَابُ: وُجُوبُ الْقَسْمِ عَلَيْهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ يَقْسِمُ بِالتَّسْوِيَةِ تَبَرُّعًا وَتَكَرُّمًا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى وُجُوبِهِ، وَكَانَ طَوَافُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِضَاهُنَّ، وَأَمَّا الطَّوَافُ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فِيمَا بَيْنَهُ أَوْ تَرَكَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِهِ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ. لَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ عَدَدَ النِّسْوَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ الْغُسْلَ اهـ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ الْأَزْوَاجُ الطَّاهِرَاتُ جُمْلَتُهُنَّ الْمَوْطُوءَاتُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِذْ مِنْهُنَّ لَيْسَ خَدِيجَةُ، وَهِيَ لَمْ تَجْتَمِعْ مَعَهُنَّ. قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ: فَهَؤُلَاءِ أَزْوَاجُهُ اللَّاتِي دَخَلَ بِهِنَّ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْعِلْمِ بِالْأَثَرِ: خَدِيجَةُ، وَعَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَسَوْدَةُ، وَزَيْنَبُ، وَمَيْمُونَةُ، وَأُمُّ الْمَسَاكِينِ، وَجُوَيْرِيَّةُ، وَصَفِيَّةُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِتَغْلِيبِ النِّسَاءِ عَلَى السَّرَارِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَجَاءَ فِي خَبَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لِأَنَسٍ: «أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟ فَقَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا» . وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ مُعَاذٍ: قُوَّةَ أَرْبَعِينَ. زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: كُلُّ رَجُلٍ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ ; «إِذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ» ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُعْطِيَ قُوَّةَ أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَكَذَا يَنْدَفِعُ مَا اسْتُشْكِلَ مِنْ كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُعْطِيَ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ فَقَطْ، «وَأُعْطِيَ سُلَيْمَانُ قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ أَوْ أَلْفٍ» عَلَى مَا وَرَدَ، وَحِكْمَةُ تَمَيُّزِهِ عَنِ الْخَلْقِ فِي زِيَادَةِ الْوَطْءِ وَقِلَّةِ الْأَكْلِ أَنَّ اللَّهَ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ فِي الْأُمُورِ الِاعْتِيَادِيَّةِ، كَمَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، حَتَّى يَكُونَ حَالُهُ كَامِلًا فِي الدَّارَيْنِ، بَلْ فِيهِ خَرْقٌ لِلْعَادَةِ ; لِأَنَّ مَنْ قَلَّ أَكْلُهُ قَلَّ جِمَاعُهُ غَالِبًا، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي إِبَاحَةِ أَرْبَعٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الصَّبْرِ عَنِ الْجِمَاعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أُعْطِيَ مِنْ قُوَّتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ أَكْلِ أَرْبَعِينَ فِي الْأَكْلِ أَيْضًا لِتَلَازُمِهِمَا غَالِبًا، فَيَدُلُّ عَلَى غَايَةِ صَبْرِهِ عَلَى الْجُوعِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ كَانَ يُطْعِمُهُ رَبُّهُ وَيَسْقِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُسَلِّيهِ حُضُورُهُ مَعَ اللَّهِ وَعَدَمُ شُعُورِهِ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِهِمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

456 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 456 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» ) : جَمْعُ حِينٍ بِمَعْنَى الْوَقْتِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: الذِّكْرُ نَوْعَانِ: قَلْبِيٌّ وَلِسَانِيٌّ. وَالْأَوَّلُ أَعْلَاهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] وَهُوَ أَنْ لَا يَنْسَى اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ، وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَظٌّ وَافِرٌ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ إِلَّا فِي حَالَةِ الْجَنَابَةِ وَدُخُولِ الْخَلَاءِ، فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ فِيهِمَا عَلَى النَّوْعِ الَّذِي لَا أَثَرَ فِيهِ لِلْجَنَابَةِ، وَلِذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: (" غُفْرَانَكَ ") . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» ، إِلَّا فِي الْجَنَابَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الذِّكْرِ الْقُرْآنِيِّ، وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ: (" «كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ» ") أَوْ " طَهَارَةٍ " مَحْمُولٌ عَلَى الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ، وَالْكَرَاهَةُ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَفْضَلِ، وَقِيلَ: تُحْمَلُ الْكَرَاهَةُ عَلَى مَا إِذَا تَيَسَّرَتِ الطِّهَارَةُ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ الْمَحْضَ لَا ثَوَابَ فِيهِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ ذِكْرًا مَأْمُورًا بِهِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ فَفِيهِ ثَوَابٌ ; أَيَّ ثَوَابٍ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" «لِفَضْلِ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ الْحَفَظَةُ سَبْعُونَ ضِعْفًا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَجَمَعَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ لِحِسَابِهِمْ، وَجَاءَتِ الْحَفَظَةُ بِمَا حَفِظُوا وَكَتَبُوا، قَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا هَلْ بَقِيَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ؟ فَيَقُولُونَ: مَا تَرَكْنَا شَيْئًا مِمَّا عَلِمْنَاهُ وَحَفِظَاهُ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَيْنَاهُ وَكَتَبْنَاهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لَكَ عِنْدِي حَسَنًا لَا تَعَلَمُهُ وَأَنَا أَجْزِيكَ بِهِ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ» ") . كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْبُدُورِ السَّافِرَةِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَفْظُهُ: الذِّكْرُ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ الْحَفَظَةُ يَزِيدُ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي تَسْمَعُهُ الْحَفَظَةُ سَبْعِينَ ضِعْفًا. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (" شُعَبِ الْإِيمَانِ ") عَنْ عَائِشَةَ، فَالْحَدِيثَانِ حُجَّتَانِ ظَاهِرَتَانِ لِلسَّادَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ زُبْدَةِ الْقَادَةِ الصُّوفِيَّةِ قَدَّسَ اللَّهُ أَسْرَارَهُمُ الْعَلِيَّةَ. فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَالْحَقُّ أَنَّ الْأَعْلَى مَا جَمَعَ الْقَلْبَ وَاللِّسَانَ، ثُمَّ اللِّسَانِيُّ، ثُمَّ الْقَلْبِيُّ، مَحْمُولٌ عَلَى غَفْلَتِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ بِالذِّكْرِ مُطْلَقَ الذِّكْرِ سَوَاءٌ أَمَرَهُ الشَّارِعُ بِهِ أَمْ لَا فَيَرُدُّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى أَنَّ الْحُضُورَ الْقَلْبِيَّ أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الذِّكْرَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ: أَنَّ اللِّسَانِيَّ أَعْلَى مِنَ الْقَلْبِيِّ ; لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْقَلْبِيِّ حِينَئِذٍ. (وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ) : أَيِ: الْمَذْكُورُ فِي الْمَصَابِيحِ هُنَا الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهُوَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى بِطَعَامٍ فَذَكَرُوا لَهُ الْوُضُوءَ أَيْ: قَالُوا لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ ثُمَّ نَأْكُلُ؟ فَقَالَ: " أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ، فَأَتَوَضَّأُ» ؟ " بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، أَيْ: مَا أُرِيدُ. (سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : فَإِنَّهُ أَنْسَبُ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 457 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَفْنَةٍ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا. فَقَالَ: " إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الدَّارِمِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 457 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ) : هِيَ مَيْمُونَةُ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ (فِي جَفْنَةٍ) أَيْ: مُدْخِلَةً يَدَهَا فِي جَفْنَةِ صَحْفَةٍ كَبِيرَةٍ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ: " «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» " قَالَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مُدْخِلَةً يَدَهَا فِي جَفْنَةٍ تَغْتَرِفُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا حَمَلَ عَلَى هَذَا دُونَ كَوْنِهَا فِي الْجَفْنَةِ الشَّاهِدُ لِمَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ، لِيُطَابِقَهُ الْجَوَابُ الْآتِي: إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِصِحَّةِ ذَلِكَ الْجَوَابِ عَلَى كُلِّ الْمَاءِ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجَابَ بِهِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مُحْتَمِلٌ لِكُلٍّ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، فَعَلَى احْتِمَالِ الِاعْتِرَافِ لَا حُجَّةَ لَهُمْ، وَأَنَّهَا اغْتَسَلَتْ فِي نَفْسِ الْجَفْنَةِ لَهُمْ حُجَّةٌ فِيهِ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ إِذَا احْتَمَلَ مِثْلَ ذَلِكَ يَصِيرُ لَا مُتَمَسَّكَ فِيهِ لِكُلٍّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، فَيَنْتَقِلَانِ إِلَى غَيْرِهِ، هَذَا كُلُّهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ عَنْ لَفْظِ الْمَصَابِيحِ، إِمَّا مَعَ النَّظَرِ إِلَيْهَا فَالْحَدِيثُ لَا مُتَمَسَّكَ لَهُمْ فِيهِ الْبَتَّةَ ; لِتَصْرِيحِهِ بِأَنَّ الْغُسْلَ مِنَ الْجَفْنَةِ لَا فِيهَا، وَأَنَّهُ فَضَلَ مِنْهَا فَضْلَةٌ، وَالْحُكْمُ بِطَهَارَةِ تِلْكَ الْفَضْلَةِ لَا يَقْتَضِي طَهُورِيَّةَ الْمُسْتَعْمَلِ ( «فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ» ) : أَيْ: مِنْ مَاءِ الْجَفْنَةِ ( «فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا» ) : أَيْ: وَاغْتَسَلْتُ بِهَذَا الْمَاءِ، وَهُوَ فَضْلَةُ يَدِي، وَالْجُنُبُ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ (فَقَالَ: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ، وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ وَضَمُّ النُّونِ، قَالَهُ الزَّعْفَرَانِيُّ، أَيْ: لَا يَصِيرُ جُنُبًا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَاءُ إِذَا غَمَسَ فِيهِ الْجُنُبُ يَدَهُ لَمْ يَنْجَسْ، فَرُبَّمَا سَبَقَ إِلَى فَهْمِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْعُضْوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَنَابَةُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَالْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ فَيَحْكُمَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ مَنْ غَمْسِ الْعُضْوِ الْجُنُبِ، كَمَا يَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ مَنْ غَمَسَ النَّجِسَ فِيهِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ اهـ. كَلَامُهُ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ حُمَيْدٍ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ» ؟ قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى لِلتَّنْزِيهِ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ نَقَلَهُ السَّيِّدُ، (وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : كَذَا اللَّفْظُ (وَرَوَى الدَّارِمِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَاهُ.

458 - وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنْهُ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 458 - (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْهُ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (عَنْ مَيْمُونَةَ بِلَفْظِ: الْمَصَابِيحِ) : وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: أَجْنَبْتُ أَنَا - أَيْ: صِرْتُ جُنُبًا - وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاغْتَسَلَتْ مِنْ جَفْنَةٍ، وَفَضَلَتْ فِيهَا فَضْلَةٌ، «فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ اغْتَسَلْتُ مِنْهَا. فَاغْتَسَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ: مِنْهَا. وَقَالَ: " إِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» ". قَالَ شَارِحُهُ ابْنُ الْمَلَكِ: حَسِبَتْ مَيْمُونَةُ أَنَّ الْمَاءَ يَنْجَسُ بِالنَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ كَالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ أَدْخَلَتْ فِيهِ يَدَهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «إِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ» " حُكْمِيَّةٌ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا إِذْ لَمْ يَنْوِ الْمُغَسِّلُ بِإِدْخَالِ يَدِهِ الْإِنَاءَ رَفْعَ الْجَنَابَةِ مِنْ كَفِّهِ، وَقَوْلُهُ: " «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» " أَيْ: لَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْجَنَابَةِ، وَلَا يَصِيرُ بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ إِلَى حَالٍ لَا يُسْتَعْمَلُ.

459 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ يَسْتَدْفِئُ بِي قَبْلَ أَنْ أَغْتَسِلَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 459 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ يَسْتَدْفِئُ بِي» ) : أَيْ: يَطْلُبُ الدَّفَاءَةَ بِفَتْحَتَيْنِ فَالْمَدِّ، وَهِيَ الْحَرَارَةُ، بِأَنْ يَضَعَ أَعْضَاءَهُ عَلَى أَعْضَائِي مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ (قَبْلَ أَنْ أَغْتَسِلَ) : قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: أَيْ يَطْلُبُ مِنِّي الْحَرَارَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5] أَيْ: مَا تَسْتَدْفِئُونَ بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ بَشْرَةَ الْجُنُبِ طَاهِرَةٌ ; لِأَنَّ الِاسْتِدْفَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ مَسِّ الْبَشْرَةِ الْبَشْرَةَ، كَذَا فِي الطِّيبِيِّ، وَفِيهِ بَحْثٌ. اهـ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الِاسْتِدْفَاءَ يُمْكِنُ مَعَ الثَّوْبِ أَيْضًا، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فِيهِ التَّصْرِيحُ بِطَهَارَةِ الْجُنُبِ غَيْرُ صَحِيحٍ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ: كَذَا اللَّفْظُ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ. (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ) : وَلَفْظُهُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْنِبُ فَيَغْتَسِلُ، ثُمَّ يَسْتَدْفِئُ بِي قَبْلَ أَنْ أَغْتَسِلَ» .

460 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنَ الْخَلَاءِ فَيُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ، وَلَمْ يَحْجُبْهُ - أَوْ يَحْجُزْهُ - عَنِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 460 - (وَعَنْ عَلِيٍّ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنَ الْخَلَاءِ) بِالْمَدِّ أَيِ: الْمُطَهِّرِ (فَيُقْرِئُنَا) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: يُعَلِّمُنَا (الْقُرْآنَ وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ انْضِمَامَ أَكْلِ اللَّحْمِ مَعَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْإِشْعَارِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ مَضْمَضَةٍ كَمَا فِي الصَّلَاةِ (وَلَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ - أَوْ يَحْجُزُهُ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، أَيْ: يَمْنَعُهُ (عَنِ الْقُرْآنِ) : فَضْلًا عَنِ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ (شَيْءٌ) : أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ (لَيْسَ) أَيْ: ذَلِكَ (الْجَنَابَةَ) : بِالنَّصْبِ، وَالْمُرَادُ إِلَّا الْجَنَابَةَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ بِمَعْنَى، إِلَّا تَقُولُ: جَاءَنِي الْقَوْمُ لَيْسَ زَيْدًا الضَّمِيرُ فِيهَا اسْمُهَا وَيُنْصَبُ خَبَرُهَا كَأَنَّكَ قُلْتَ: لَيْسَ الْجَائِي زَيْدًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : كَذَا اللَّفْظُ. (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ) : أَيْ بِمَعْنَاهُ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ تَخْرِيجِ الْمَصَابِيحِ إِلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ اهـ. وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُوهِنُهُ ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلِمَةَ الرَّاوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بَعْدَ كِبَرِهِ، كَذَا حَرَّرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلِمَةَ بِكَسْرِ اللَّامِ الْمُرَادِيَّ الْكُوفِيَّ، صَدُوقٌ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ مِنَ الثَّانِيَةِ.

461 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 461 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" لَا تَقْرَأُ ") : عَلَى صِيغَةِ النَّهْيِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: فَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَصْلًا ; لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَبِضَمِّهَا عَلَى الثَّانِي. وَقَالَ ابْنُ الضِّيَاءِ فِي شَرْحِ الْمُجَمَّعِ: هُوَ بِالْجَزْمِ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ. وَقَالَ الْخَلَجَانِيُّ: لَا لِلنَّهْيِ، لَكِنْ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ لِلنَّفْيِ (" الْحَائِضُ ") وَكَذَا النُّفَسَاءُ (وَلَا الْجُنُبُ) : زِيَادَةً لِلتَّأْكِيدِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ: " الْجُنُبُ وَلَا الْحَائِضُ " وَهُوَ سَهْوٌ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. (" شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ ") : أَيْ: لَا الْقَلِيلَ وَلَا الْكَثِيرَ، وَبِهِ قَالَ

الشَّافِعِيُّ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى قَصْدِ الذِّكْرِ، وَجَوَّزَ مَالِكٌ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لِلْحَائِضِ لِخَوْفِ النِّسْيَانِ، وَلِلْجُنُبِ بَعْضَ آيَةٍ دُونَ تَمَامِهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا كَمَالِكٍ وَأَصَحُّهُمَا كَالشَّافِعِيِّ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَجُوزُ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ إِلَّا طَرَفَ آيَةٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ لَكِنَّ لَهُ مُتَابَعَاتٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَمَاعَةٍ وَغَيْرُهُ تَجْبُرُ ضَعْفَهُ، وَمِنْ ثَمَّ حَسَّنَهُ الْمُنْذِرِيُّ. وَرُوِيَتْ أَحَادِيثُ بِمَعْنَاهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَلِذَلِكَ اخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَأَخَذَ بِهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ يُحِلُّ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ قِرَاءَةَ كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْحُرْمَةِ ; إِذْ هِيَ اللَّائِقَةُ بِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَيَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ضَعِيفَةً ; لِأَنَّ تَعَدُّدَ طُرُقِهَا يُورِثُهَا قُوَّةً أَيَّ قُوَّةٍ، وَتُرَقِّيهَا إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ، فَالْحَقُّ الْحُرْمَةُ إِذْ هِيَ الْجَارِيَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الْأَدِلَّةِ لَا الْحِلُّ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

462 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ ; فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 462 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ ": بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، أَيْ: حَوِّلُوا أَبْوَابَهَا (" عَنِ الْمَسْجِدِ ") : قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا اللَّفْظُ إِذَا اسْتُعْمِلَ بِـ " عَنْ " مَعْنَاهُ الصَّرْفُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ، وَبِـ " إِلَى " مَعْنَاهُ الْإِقْبَالُ إِلَى الشَّيْءِ، أَيِ: اصْرِفُوا أَبْوَابَ هَذِهِ الْبُيُوتِ الَّتِي فُتِحَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَى جَانِبٍ آخَرَ ; كَيْلَا يَمُرَّ الْجُنُبُ أَوِ الْحَائِضُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ دُونَ الْمُكْثِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، يَحْرُمُ الْمُرُورُ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضُمِّنَ مَعْنَى الصَّرْفِ؛ يُقَالُ: وُجِّهَ إِلَيْهِ أَيْ: أَقَبْلَ، وَوُجِّهَ عَنْهُ أَيْ: صُرِفَ، وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْقِيرِ الْبُيُوتِ وَتَعْظِيمِ شَأْنِ الْمَسَاجِدِ، (" «فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» ") : تَعْلِيلٌ وَبَيَانٌ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَلَا لِلْحَائِضِ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ الْمُرُورَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَجَوَّزَ أَحْمَدُ وَالْمُزَنِيُّ الْمُكْثَ فِيهِ أَيْضًا، وَأَوَّلُوا {عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] بِالْمُسَافِرِينَ تُصِيبُهُمُ الْجَنَابَةُ فَيَتَيَمَّمُونَ وَيُصَلُّونَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) مِنْ طَرِيقِ أَفْلَتَ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عِنْدَ جَسْرَةَ عَجَائِبُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهَا نَظَرٌ، وَقَالَ الْخَطَّابُ: ضَعَّفُوا هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالُوا: أَفْلَتُ رَاوِيَةٌ مَجْهُولٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِهِ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ وَالْأَحَادِيثَ الضَّعِيفَةَ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ، لَكِنْ أَبُو دَاوُدَ لَمْ يُضَعِّفْهُ فَيَكُونُ عِنْدَهُ صَالِحًا لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ حَسَّنَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ مَعَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى تَضْعِيفِ جَمْعٍ لَهُ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَيْ مَوَاضِعَهَا، وَهِيَ الْمَسَاجِدُ لَا غَيْرَ إِذْ هِيَ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا ابْتِدَاءً وَدَوَامًا بِخِلَافِ غَيْرِهَا، وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى حِلِّ إِبَاحَةِ الْمُكْثِ فِيهِ مُطْلَقًا. وَوَجَهَّهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ قَالَ: وَلَيْسَ لِمَنْ حَرَّمَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ. قَالَ:

وَخَبَرُ: " «يَا عَلِيُّ، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ» " ضَعِيفٌ، وَإِنْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، نَعَمْ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ، لَكِنْ خَالَفَهُ الْقَفَّالُ، وَغَلَّطَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ احْتَجَّ النَّوَوِيُّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ: هُوَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، فَلَعَلَّهُ اعْتَضَدَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِمَا اقْتَضَى حُسْنَهُ، لَكِنْ إِذَا شَارَكَهُ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْخَصَائِصِ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَمَعَ هَذَا يَخُصُّ مَنْ شَاءَ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الِاخْتِصَاصِ الْمُطْلَقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

463 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَلَا يَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 463 - (وَعَنْ عَلِيٍّ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَدْخُلُ ") : بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ (" الْمَلَائِكَةُ ") : اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ أَيِ: الَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَلِلزِّيَارَةِ وَاسْتِمَاعِ الذِّكْرِ لَا الْكَتَبَةُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ الْمُكَلَّفِينَ طَرْفَةَ عَيْنٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ (" بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ ") : أَيْ: لِحَيَوَانٍ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ كَالْجِدَارِ وَالسَّقْفِ ; لَا عَلَى الْبِسَاطِ وَمَوْضِعِ الْأَقْدَامِ، فَإِنَّ عَدَمَ الرُّخْصَةِ وَرَدَتْ فِيهِ لِحُرْمَةِ التَّصْوِيرِ وَمُشَابَهَتِهِ بَيْتَ الْأَصْنَامِ. بِخِلَافِ صُورَةِ مَا لَا رُوحَ فِيهِ، وَالصُّورَةِ الَّتِي فُقِدَ مِنْ بَدَنِهَا الْمُشَاهَدِ مَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْحَيَاةِ مَعَهُ فِيهِ كَالرَّأْسِ، فَهَذَانَ لَا يَمْنَعَانِ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ ; لِأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِيهَا بِوَجْهٍ، وَبِخِلَافِ الصُّورَةِ الَّتِي يَحِلُّ دَوَامُهَا وَإِنْ حَرُمَ ابْتِدَاؤُهَا ; كَالصُّورَةِ الَّتِي عَلَى مَا يُدَاسُ أَوْ يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَيْضًا دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنِ الشَّارِحِينَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَشَمَلَتِ الصُّورَةُ مَا فِي الدَّرَاهِمِ الْمَجْلُوبَةِ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ فَمَنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا مَنَعَ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنْ حَلَّ لَهُ إِمْسَاكُهَا، بَلْ وَلَوْ حَمَلَهَا وَلَوْ فِي عِمَامَةٍ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ ذَاتُهَا لَا الصُّورَةُ الَّتِي حُمِلَ عَلَيْهَا ; وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا يَحْمِلُونَهَا وَيَتَعَامَلُونَ بِهَا فِي زَمَانِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ يَبْقَى قَصْرُ الْمَنْعِ عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي فِيهِ الدَّنَانِيرُ فَقَطْ، وَقَدْ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ، هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى أَيْضًا بَنَاتُ اللَّعِبِ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْ مِنَ الْبَنَاتِ ; لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَتَقْرِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهَا فِيهَا. (" وَلَا كَلْبٌ ") : لِأَنَّهُ نَجِسٌ وَهُمْ أَطْهَارٌ، فَيُشْبِهُ الْمَبْرَزَ غَيْرَ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالزَّرْعِ وَالْمَاشِيَةِ ; لِجَوَازِ اقْتِنَائِهِ شَرْعًا الْمُسْلِمِينَ الْحَاجَةَ (" وَلَا جُنُبٌ ") : أَيِ: الَّذِي اعْتَادَ تَرْكَ الْغُسْلِ تَهَاوُنًا حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ، فَإِنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِالشَّرْعِ، لَا أَيَّ جُنُبٍ كَانَ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يَنَامُ بِاللَّيْلِ وَهُوَ جُنُبٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى فِي رَمَضَانَ» ، وَلَا جُنُبٍ مِنْ زِنًا؛ إِذِ الْمُرَادُ إِلَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. . ثَلَاثَتُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَرْفَعُهُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ فِيهِ نَظَرٌ. قَالَ الطَّبَرَيُّ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو حَاتِمٍ الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِهِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ. قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ خَرَّجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ زَيْدِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (" «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» " ) .

464 - وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثٌ لَا تَقْرَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ: جِيفَةُ الْكَافِرِ، وَالْمُتَضَمِّخُ بِالْخَلُوقِ، وَالْجُنُبُ إِلَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 464 - (وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" ثَلَاثٌ ") : أَيْ: أَشْخَاصٌ (" وَلَا تَقْرَبُهُمْ ") : بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ (" الْمَلَائِكَةُ ") : أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ (" جِيفَةُ الْكَافِرِ ") : أَيْ: جَسَدُهُ الَّذِي بِمَنْزِلَتِهَا، حَيْثُ لَا يَحْتَرِزُ عَنِ النَّجَاسَةِ ; كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا (" وَالْمُتَضَمِّخُ ") : أَيِ: الرَّجُلُ الْمُتَلَطِّخُ (" بِالْخَلُوقِ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ، وَهُوَ طِيبٌ لَهُ صِبْغٌ يُتَّخَذُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ، وَتَغْلِبُ عَلَيْهِ حُمْرَةٌ مَعَ صُفْرَةٍ، وَقَدْ أُبِيحَ تَارَةً وَنُهِيَ عَنْهُ أُخْرَى وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَالنَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَقْرَبْهُ الْمَلَائِكَةُ ; لِلتَّوَسُّعِ فِي الرُّعُونَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ - وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُزَيَّنًا مُطَيَّبًا مُكَرَّمًا عِنْدَ النَّاسِ - فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَجِسٌ أَخَسُّ مِنَ الْكَلْبِ، (" وَالْجُنُبُ إِلَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ ") : أَرَادَ بِهِ الْوُضُوءَ الْمُتَعَارَفَ كَمَا مَرَّ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَزَجْرٌ شَدِيدٌ عَنْ تَأْخِيرِ الْغُسْلِ كَيْلَا يُعْتَادَ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْوُضُوءِ الْغُسْلَ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قُلْتُ: احْتِمَالُ أَنْ يُرِيدَ ذَلِكَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ، فَالْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ.

465 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حُزَمٍ: " أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 465 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) : عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي جَدِّهِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، خِلَافًا لِمَنْ رَوَاهُ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ، أَحَدُ أَعْلَامِ الْمَدِينَةِ، تَابِعِيٌّ. رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ، رَجُلٌ صَدُوقٌ. فَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُهُ شِفَاءٌ، تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَمَاتَ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ، وُلِدَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ عِشْرِينَ بِنَجْرَانَ، وَكَانَ أَبُوهُ عَامِلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ أَبَاهُ أَنْ يُكَنِّيَهُ بِأَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ مُحَمَّدٌ فَقِيهًا، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قُتِلَ يَوْمَ الْحَرَّةِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّينَ، (أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: (" أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ ") : بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ، وَبِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ: لَا يَمَسَّ بِلَا فَاصِلَةٍ مَا كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ (" إِلَّا طَاهِرٌ ") : بِخِلَافِ غَيْرِهِ كَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمَسَّهُ إِلَّا بِغِلَافٍ مُتَجَافٍ وَكُرِهَ بِالْكُمِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] فَإِنَّ الضَّمِيرَ إِمَّا لِلْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ فِي النَّاسِ عَنْ مَسِّهِ إِلَّا عَلَى الطِّهَارَةِ، وَإِمَّا لِلَّوْحِ وَلَا نَافِيَةٌ، وَمَعْنَى الْمُطَهَّرُونَ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ كَشَفَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيُعَضِّدُهُ مَدْحُ الْقُرْآنِ بِالْكَرَمِ، وَبِكَوْنِهِ ثَابِتًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ لَا يَمَسُّهُ مُرَتَّبًا

عَلَى الْوَصْفَيْنِ الْمُتَنَاسِبَيْنِ لِلْقُرْآنِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ) : قَالَ صَاحِبُ التَّخْرِيجِ: رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِيِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا فِي الْمُوَطَّأِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ، كَذَا قَالَهُ السَّيِّدُ: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَلَفْظُهُ: «عَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ» "، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: " إِنَّهُ ضَعِيفٌ " يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ كَثْرَةَ شَوَاهِدِهِ صَيَّرَتْهُ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَا: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ " «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» "، وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بِالْحِلِّ مُطْلَقًا، وَهُمْ جَمْعٌ مِنَّا، وَدَاوُدُ وَالْحَاكِمُ، وَنَقْلُ ابْنِ الرِّفْعَةِ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ - غَلَطٌ مِنْهُ فَاحْذَرْهُ.

466 - «وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي حَاجَةٍ، فَقَضَى ابْنُ عُمَرَ حَاجَتَهُ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ يَوْمَئِذٍ أَنْ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي سِكَّةٍ مِنَ السِّكَكِ، فَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَوَارَى فِي السِّكَّةِ، ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْحَائِطِ، وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُلِ السَّلَامَ، وَقَالَ: " إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْرٍ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 466 - (وَعَنْ نَافِعٍ) : أَيْ: مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: انْطَلَقْتُ) : أَيْ: ذَهَبْتُ (مَعَ ابْنِ عُمَرَ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ (فِي حَاجَةٍ) : حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ: فِي شَأْنِ حَاجَةٍ لَهُ، وَالتَّنَكُّرُ فِيهَا لِلشُّيُوعِ، وَلَعَلَّ مَا بَعْدَهَا يُقَيِّدُهَا بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ (فَقَضَى ابْنُ عُمَرَ حَاجَتَهُ) : أَيِ: الْإِنْسَانِيَّةَ، وَهِيَ التَّبَرُّزُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ الْمُتَعَلِّقِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا حَاجَةٌ أُخْرَى، وَأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَأْتِي اسْتِطْرَادًا، (وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ) : أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي حَدَّثَهُ (يَوْمَئِذٍ أَنْ قَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ، وَأَنْ مَعَ مَدْخُولِهِ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ أَيْ: كَانَ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْلُهُ: (مَرَّ رَجُلٌ) : قِيلَ هُوَ الْمُهَاجِرُ بْنُ قُنْفُذِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (فِي سِكَّةٍ مِنَ السِّكَكِ) : أَيِ: الطُّرُقِ (فَلَقِيَ) : أَيِ الرَّجُلُ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ خَرَجَ) : أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ) : أَيْ: فَرَغَ ; لِأَنَّ الْخُرُوجَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَوْ خَرَجَ مِنْ مَحَلِّهِمَا (فَسَلَّمَ) : أَيِ: الرَّجُلُ (عَلَيْهِ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَلَمْ يَرُدَّ) : أَيِ: النَّبِيُّ (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ، وَفِي نُسْخَةٍ: السَّلَامَ (حَتَّى إِذَا كَادَ) : أَيْ (قَارَبَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَوَارَى) : أَيْ: يَخْتَفِيَ وَيَغِيبَ شَخْصُهُ (فِي السِّكَّةِ، ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : جَوَابُ إِذَا، وَحَتَّى هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ (بِيَدَيْهِ عَلَى الْحَائِطِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ عَلَاهُ الْغُبَارُ، وَلِيَصِحَّ بِهِ التَّيَمُّمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِلَّا فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اهـ. وَفِي آخِرِ كَلَامِهِ حَزَازَةٌ لَا تَخْفَى، (وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُلِ السَّلَامَ) : قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا، فَالْمُسَلِّمُ عَلَى الرَّجُلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُضَيِّعٌ حَظَّ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْكَلَامِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَعَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْحَضَرِ لِرَدِّ السَّلَامِ مَشْرُوعٌ اهـ. وَفِيهِ بَحْثَانِ: أَمَّا أَوَّلًا: فَقَوْلُهُ: فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْجَوَابَ، وَلِهَذَا أَجَابَ، وَالْفَصْلُ الْيَسِيرُ بَيْنَ السَّلَامِ وَرَدِّهِ لَا يَضُرُّهُ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ السَّلَامَ وَالْكَلَامَ كِلَاهُمَا وَقَعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجْرٍ تَعَقَّبَ الشَّارِحَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْتُهُ. (وَقَالَ: " إِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنُ (" لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْرٍ ") : قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْوُضُوءِ أَوِ التَّيَمُّمِ ; لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى

أَيْ: فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا السَّلَامَةُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَحَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْخَلَاءِ فَيُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ ; أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِالرُّخْصَةِ تَيْسِيرًا عَلَى الْأُمَّةِ، وَفِي هَذَا بِالْعَزِيمَةِ ; أَيْ: تَعْلِيمًا لَهُمْ بِالْأَفْضَلِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَصَّرَ فِي رَدِّ جَوَابِ السَّلَامِ بِعُذْرٍ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ حَتَّى لَا يُنْسَبَ إِلَى الْكِبْرِ أَوِ الْعَدَاوَةِ، وَعَلَى وُجُوبِ رَدِّ السَّلَامِ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ لِلْعُذْرِ يُؤْذِنُ بِوُجُوبِهِ. قُلْتُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ ; لِخَوْفِ فَوْتِ مَا يَفُوتُ لَا إِلَى خُلْفٍ كَصَلَاةِ الْجَنَازَةِ وَالْعِيدِ، وَلَمْ أَرَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْبُخَارِيُّ رَفْعَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَفْعُهُ غَيْرُ مُنْكَرٍ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ ثَابِتٍ الْعَبْدِيَّ ضَعِيفٌ جِدًّا لَا يُحْتَجُّ بِهِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ إِلَّا أَنْ يُقَالَ - مُرَادُهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

467 - «وَعَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُولُ. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: " إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى تَوَضَّأَ، وَقَالَ: فَلَمَّا تَوَضَّأَ رَدَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 467 - (وَعَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَبِالْفَاءِ الْمَضْمُومَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ، هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا الْمُهَاجِرُ حَقًّا ". وَقِيلَ: إِنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَسَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَمَاتَ بِهَا (أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ) : أَيِ النَّبِيُّ (يَبُولُ فَسَلَّمَ) : أَيِ: الْمُهَاجِرُ (عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: بَعْدَ الْفَرَاغِ إِذِ الْمُرُوءَةُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ لَا يُكَلَّمُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَلِذَا يُكْرَهُ السَّلَامُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، فَالِاعْتِذَارُ الْآتِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ (فَلَمْ يَرُدَّ) : أَيِ: النَّبِيُّ (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى مُهَاجِرٍ (حَتَّى تَوَضَّأَ) : أَيِ: النَّبِيُّ، وَظَاهِرُهُ تَعَدُّدُ الْوَاقِعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى تَوَضَّأَ تَطَهَّرَ، فَيَشْمَلَ التَّيَمُّمَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ يَعْنِي بَعْدَ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِ (وَقَالَ) : بَيَانٌ لِلِاعْتِذَارِ (" إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ ") : أَيِ الْحَقِيقِيَّ أَوِ الْمَجَازِيَّ، وَهُوَ الْمَقُولُ الْمَطْلُوبُ شَرْعًا، أَوِ اللَّفْظُ الْمُشَابِهُ بِالذِّكْرِ، أَوِ اللَّفْظُ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ ذِكْرٌ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ لِمَعْنًى آخَرَ مِنْ مُنَاسَبَاتِ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِي السَّلَامِ عَلَيْكَ التَّخَلُّقُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَهُوَ تَعَهُّدُ السَّلَامَةِ وَاقِعٌ عَلَيْكَ، ثُمَّ هُجِرَ هَذَا الْمَعْنَى، وَاسْتُعْمِلَ فِي مُطْلَقِ التَّحِيَّةِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحَقِيقَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالذُّهُولِ عَنِ الْإِرَادَةِ الْقَصْدِيَّةِ، (" إِلَّا عَلَى طُهْرٍ ") : أَيْ: فَلِذَا أَخَّرْتُهُ ; لِيَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ، وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَهُ مِيرَكُ، (وَرَوَى النَّسَائِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى تَوَضَّأَ. وَقَالَ:) : أَيِ النَّسَائِيُّ (فَلَمَّا تَوَضَّأَ رَدَّ عَلَيْهِ) : وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنَ الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 468 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُجْنِبُ، ثُمَّ يَنَامُ، ثُمَّ يَنْتَبِهُ، ثُمَّ يَنَامُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 468 - (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْنِبُ) : بِالْوَجْهَيْنِ (ثُمَّ يَنَامُ، ثُمَّ يَنْتَبِهُ، ثُمَّ يَنَامُ) : وَهَذَا بِظَاهِرِهِ عَمَلٌ بِالرُّخْصَةِ، وَبَيَانٌ لِلْجَوَازِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

469 - «وَعَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يُفْرِغُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى سَبْعَ مِرَارٍ، ثُمَّ يَغْسِلُ فَرْجَهُ، فَنَسِيَ مَرَّةً كَمْ أَفْرَغَ، فَسَأَلَنِي. فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: لَا أُمَّ لَكَ! وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْرِيَ؟ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى جِلْدِهِ الْمَاءُ، ثُمَّ يَقُولُ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَهَّرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 469 - (وَعَنْ شُعْبَةَ) : هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَهُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَوَّاهُ غَيْرُهُ، قَالَهُ السَّيِّدُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ. (قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَرَادَ الْغُسْلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقْتَ اغْتِسَالِهِ (مِنَ الْجَنَابَةِ، يُفْرِغُ) : مِنَ الْإِفْرَاغِ، أَيْ: يَصُبُّ (بِيَدِهِ الْيُمْنَى) : أَيِ: الْمَاءَ (عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى سَبْعَ مِرَارٍ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَعَلَّهُ لِنَجَاسَةٍ كَانَتْ فِيهَا، وَكَانَ سَبَبُ السَّبْعِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَبْلُغْ أَحْمَدَ ; فَقَالَ بِوُجُوبِ غَسْلِ كُلِّ نَجَاسَةٍ سَبْعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَلَغَهُ النَّسْخُ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ إِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ بَقِيَ النَّدْبُ، كَمَا قِيلَ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ بَقِيَ مُطْلَقُ الْجَوَازِ لَا خُصُوصُ الِاسْتِحْبَابِ. وَكَانَ لَا تُفِيدُ الدَّوَامَ عَلَى التَّحْقِيقِ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ فِيهَا لَا وَضْعِيٌّ، فَلَا يَلْزَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ دَأْبِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَادَتِهِ لَا لِنَجَاسَةٍ فِيهَا. (ثُمَّ يَغْسِلُ فَرْجَهُ) : أَيْ: سَبْعًا وَهُوَ يُعْلَمُ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى (فَنَسِيَ) : أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (مَرَّةً) : أَيْ: مِنَ الْأَوْقَاتِ (كَمْ أَفْرَغَ، فَسَأَلَنِي. فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: لَا أُمَّ لَكَ) : وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْتَ لَقِيطٌ. فِي النِّهَايَةِ: لَا أَبَا لَكَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَيْ: لَا كَافِئَ لَكَ غَيْرُ نَفْسِكَ، وَقَدْ يُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ كَمَا يُقَالُ: لَا أُمَّ لَكَ. وَفِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ دَفْعًا لِلْعَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: لِلَّهِ دَرُّكَ، وَفِي مَعْنَاهُ جِدَّ فِي أَمْرِكَ وَشَمِّرْ ; لِأَنَّ مِنْ لَهُ أَبٌ اتَّكَلَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ شَأْنِهِ. قِيلَ: إِنَّمَا جَاءَ الْفَرْقُ بَيْنَ لَا أَبَ لَكَ وَلَا أُمَّ لَكَ ; لِأَنَّ الْأَبَ إِذَا فُقِدَ دَلَّ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَالْأُمُّ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا الشَّفَقَةُ وَالرِّفْقُ، وَمَا فِي الْحَدِيثِ وَارِدٌ عَلَى الذَّمِّ لِمَا أَتْبَعَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْرِيَ؟) : وَالْوَاوُ عَطْفٌ بِالْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الدُّعَائِيَّةِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُهُمَا إِنْشَائِيَّتَيْنِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُفِيضُ) : مِنَ الْإِفَاضَةِ (عَلَى جِلْدِهِ الْمَاءَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَإِلَّا فَغَسْلُ الشَّعَرِ وَاجِبٌ أَيْضًا، (ثُمَّ يَقُولُ: هَكَذَا) : الظَّاهِرُ رُجُوعُهُ لِجَمِيعِ مَا مَرَّ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَهَّرُ) : أَيْ قَبْلَ النَّسْخِ، أَوِ الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْإِضَافَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِالتَّرْجَمَةِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ بَعْضَ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْجُنُبِ، فَذُكِرَ اسْتِطْرَادًا لِأَجْلِهَا، وَلَوْ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ لَكَانَ أَوْلَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

470 - «وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى نِسَائِهِ، يَغْتَسِلُ عِنْدَ هَذِهِ، وَعِنْدَ هَذِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَجْعَلُهُ غُسْلًا وَاحِدًا آخِرًا؟ قَالَ: " هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 470 - (وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ) : مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ ذَاتَ يَوْمٍ) : ذَاتَ: زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ زِيَادَتَهُ لِدَفْعِ الْمَجَازِ أَيْ: فِي نَهَارٍ (عَلَى نِسَائِهِ، يَغْتَسِلُ عِنْدَ هَذِهِ، وَعِنْدَ هَذِهِ) : أَيْ: يَغْتَسِلُ (قَالَ) أَيْ: أَبُو رَافِعٍ (فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَجْعَلُهُ) أَيْ: غُسْلَكَ، بِالتَّخْفِيفِ، فَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَلَا نَافِيَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَلَّا بِالتَّشْدِيدِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى هَلَّا لِلتَّخْصِيصِ، (غُسْلًا وَاحِدًا) : فَإِنَّهُ كَافٍ (آخِرًا) : تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ التَّوَهُّمِ (قَالَ: " هَذَا ") : أَيْ: تَعَدُّدُ الْغُسْلِ (" أَزْكَى ") : أَيْ: أَنْمَى، وَالْمَقْصُودُ أَقْوَى (" وَأَطْيَبُ ") : أَيْ: أَلَذُّ وَأَخَفُّ عَلَى الْبَدَنِ (" وَأَطْهَرُ ") : أَيْ: أَنْظَفُ وَأَحْسَنُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّطْهِيرُ مُنَاسَبَةً لِلظَّاهِرِ، وَالتَّزْكِيَةُ وَالتَطَيَّبُ لِلْبَاطِنِ، فَالْأُولَى لِإِزَالَةِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْأُخْرَى لِلتَّحَلِّي بِالشِّيَمِ

الْحَمِيدَةِ اهـ. وَهَذَا أَشْبَهُ بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ التَّرَادُفِ جُمِعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا اهـ. وَهُوَ اسْتِرْوَاحٌ ; لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ الْحَاصِلُ بِالتَّأْيِيدِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ: حَدِيثُ أَنَسٍ أَصَحُّ مِنْ هَذَا، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

471 - وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ: أَوْ قَالَ: بِسُؤْرِهَا، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 471 - (وَعَنِ الْحَكَمِ) : بِفَتْحَتَيْنِ (بْنِ عَمْرٍو) : أَيِ: الْغِفَارِيِّ، وَلَيْسَ غِفَارِيًّا ; إِنَّمَا هُوَ مِنْ وَلَدِ ثَعْلَبَةَ أَخِي غِفَارٍ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ» ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتُضَمُّ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَذَا النَّهْيُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِلتَّنْزِيهِ؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْحَدِيثَ السَّابِقَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ بِفَضْلِ الْمَاءِ الَّذِي اغْتَسَلَ بِهِ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ» ، مَعَ أَنَّهَا أَعْلَمَتْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ: " «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» "، وَكَذَا النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ) : أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (أَوْ قَالَ: بِسُؤْرِهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: شَكَّ الرَّاوِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ، أَوْ بِسُؤْرِهَا» "، وَهُوَ بِالْهَمْزَةِ: بَقِيَّةُ الشَّيْءِ اهـ. وَقَدْ يُخَفَّفُ الْهَمْزُ بِالْإِبْدَالِ (وَقَالَ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ (حَسَنٌ صَحِيحٌ) : وَخَالَفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ; فَقَالُوا: إِنَّهُ ضَعِيفٌ.

472 - وَعَنْ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ، قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ سِنِينَ، كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ. زَادَ مُسَدَّدٌ: وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ أَحْمَدُ فِي أَوَّلِهِ: «فِي أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 472 - (وَعَنْ حُمَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (الْحِمْيَرِيِّ) : بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، مِنْ ثِقَاتِ الْبَصْرِيِّينَ وَأَئِمَّتِهِمْ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ مِنْ قُدَمَاءِ التَّابِعِينَ، رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا) : قِيلَ: هُوَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ سِنِينَ، كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ) : لِأَنَّ إِسْلَامَهُ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ (قَالَ) : أَيِ الرَّجُلُ الصَّحَابِيُّ، وَجَهَالَتُهُ لَا تَضُرُّ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ. ( «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ» ) : أَيْ: بِزِيَادَةِ مَاءِ اغْتِسَالِهِ (أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ) : أَيْ: بِفَضْلَتِهَا (زَادَ مُسَدَّدٌ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْبَصْرِيُّ، سَمِعَ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَأَبَا عَوَانَةَ وَغَيْرَهُمَا. وَرَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ سِوَاهُمَا، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَمُسَدَّدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْأُولَى وَفَتْحِهَا، وَمُسَرْهَدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ. (وَلْيَغْتَرِفَا) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَتُكْسَرُ (جَمِيعًا) : ظَاهِرُهُ مَعًا، وَيَحْتَمِلُ الْمُنَاوَبَةَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ (وَزَادَ أَحْمَدُ فِي أَوَّلِهِ: فِي أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا) : أَيْ: يُسَرِّحُ شَعْرَ لِحْيَتِهِ وَرَأْسِهِ (كُلَّ يَوْمٍ) : لِأَنَّهُ شِعَارُ أَهْلِ الزِّينَةِ، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ يَجْعَلَهُ غِبًّا ; يَفْعَلُهُ يَوْمًا وَيَتْرُكُهُ يَوْمًا، أَوِ الْمُرَادُ الْيَوْمَ هُنَا: الْوَقْتُ (أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلٍ) : لِأَنَّهُ يُورِثُ الرِّيبَةَ وَالْوَسْوَسَةَ فَيُكْرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.

473 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 473 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَعَ الِانْصِرَافِ، وَقِيلَ بِعَدَمِهِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ.

[باب أحكام المياه]

[بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ]

(7) بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 474 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِى رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: " «لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ ". قَالُوا: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا» . (7) - بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَجَمْعُ الْمَاءِ عَلَى الْمِيَاهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ هَمْزَتَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ هَاءٍ، وَأَصْلُ الْمِيَاهِ مُوَاهٌ لِدَلَالَةِ جَمْعِهِ الْآخَرِ عَلَى الْأَمْوَاهِ، وَتَصْغِيرُ الْمَاءِ عَلَى مُوَيْهٍ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ; لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 474 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" لَا يَبُولَنَّ ") : بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّأْكِيدِ (" أَحَدُكُمْ ") أَيْ: أَيُّهَا الْأُمَّةُ (فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ) : أَيِ: الرَّاكِدِ السَّاكِنِ مِنْ دَامَ الشَّيْءُ سَكَنَ وَمَكَثَ (" الَّذِي لَا يَجْرِي ": صِفَةٌ ثَابِتَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، أَوْ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لَهَا، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَجْرِي بِشَيْءٍ مِنْ تَبْنَةٍ وَغَيْرِهَا، وَفِي مَعْنَى الْجَارِي الْمَاءُ الْكَثِيرُ، وَهُوَ الْعَشْرُ فِي الْعَشْرِ عِنْدَنَا، وَمِقْدَارُ قُلَّتَيْنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ. (" ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ ") : الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ ; أَيْ: لَا يَبُلْ ثُمَّ هُوَ يَغْتَسِلُ فِيهِ، فَيَغْتَسِلُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ عَطَفَ الْجُمْلَةَ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَبُولَنَّ، وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ النَّحْوِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا جَزْمُهُ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ لَا يَبُولَنَّ، وَنَصْبُهُ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَإِعْطَاءِ ثُمَّ حُكْمَ وَاوِ الْجَمْعِ، أَمَّا الْجَزْمُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا دُونَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، بَلِ الْبَوْلُ فِيهِ مَنْهِيٌّ، سَوَاءٌ أَرَادَ الِاغْتِسَالَ فِيهِ أَوْ مِنْهُ أَمْ لَا. كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ. قِيلَ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42] وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ، وَالْمَنْهِيُّ هُنَا الْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ. قَالَهُ مِيرَكُ. وَفِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ احْتِمَالَيْنِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى إِلَّا بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ النَّصْبَ إِنَّمَا يُفِيدُ مَنْعَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا فَيُؤْخَذُ مِنَ الْخَارِجِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: ثُمَّ يَغْتَسِلُ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمَنْعِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ، فَلَا يَجُوزُ الِاغْتِسَالُ بِهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالدَّائِمِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْجَارِيَ لَا يَتَنَجَّسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ عَطْفُ يَغْتَسِلُ عَلَى يَجْرِي بَعِيدٌ جِدًّا إِذْ يَصِيرُ تَقْدِيرُهُ: نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ، وَهَذَا فِيهِ رَكَّةٌ فِي الْمَعْنَى وَإِبْهَامُ خِلَافِ الْمُرَادِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ النَّهْيُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنَ الْحُرْمَةِ ; إِذِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ حِينَئِذٍ الْغُسْلُ بَعْدَ الْبَوْلِ لَا الْبَوْلُ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، وَيَلْزَمُهُ فَرْضُ ذَلِكَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ رَاكِدٍ، إِذْ هُوَ الْمُتَأَثِّرُ بِالْبَوْلِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَالْأَظْهَرُ عَنْهُ عَلَى مَا مَرَّ، وَثُمَّ بِحَالِهَا، فَيَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ شَيْئَيْنِ: الْبَوْلُ فِيهِ مُطْلَقًا، وَالْغُسْلُ فِيهِ مُطْلَقًا، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ صَرِيحًا فِي مُسْلِمٍ كَمَا يَأْتِي، وَالنَّهْيُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا تَارَةً يَكُونُ لِلتَّنْزِيهِ، وَتَارَةً يَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ اهـ. قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى يَبُولَنَّ، وَيَكُونُ ثَمَّ مَثْلَ الْوَاوِ فِي: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ، أَوْ مِثْلَ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] أَيْ: وَلَا يَكُنْ مِنْ أَحَدٍ الْبَوْلُ فِي الْمَاءِ الْمَوْصُوفِ، ثُمَّ الِاغْتِسَالُ، فَثُمَّ اسْتِبْعَادِيَّةٌ، أَيْ: بَعِيدٌ مِنَ الْعَاقِلِ ذَلِكَ أَيِ: الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ تَعْتَمِدُ فِي نَصْبِ يَغْتَسِلُ حَتَّى يَتَمَشَّى لَكَ هَذَا الْمَعْنَى؟ قُلْتُ: إِذَا قَوِيَ الْمَعْنَى لَا يَضُرُّ الرَّفْعُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ: أَحْضُرُ الْوَغَى. كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ نَقْلُ الْمُغْنِي فَاسْتَحْضِرْهُ، فَإِنَّ الطَّالِبَ بِهِ يَسْتَغْنِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) : أَيْ: لَهُ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَثَانِيهِمَا هَذِهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (قَالَ: " لَا يَغْتَسِلُ ") : بِالْجَزْمِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ (" أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ ") : هَذَا النَّهْيُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِاغْتِسَالِ الْجُنُبِ، فَحِينَئِذٍ قَدْ أَفْسَدَ الْمَاءَ عَلَى النَّاسِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِاغْتِسَالِ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الْقَاضِي: تَقْيِيدُ النَّهْيِ بِالْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ إِذَا كَانَ رَاكِدًا لَا يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ الْمُقَيَّدِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ إِمَّا بِزَوَالِ الطَّهَارَةِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، أَوْ بِزَوَالِ الطَّهُورِيَّةِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ اهـ. وَكَذَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، لَكِنَّ حُجَّتَهُ تَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (قَالُوا: كَيْفَ يَفْعَلُ) : أَيِ: الْجُنُبُ (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا) : أَيْ: يَأْخُذُهُ اغْتِرَافًا وَيَغْتَسِلُ خَارِجًا. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ إِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ لِيَتَنَاوَلَ الْمَاءَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُهُ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ لِيَغْسِلَهَا مِنَ الْجَنَابَةِ تَغَيَّرَ حُكْمُهُ اهـ. وَكَذَا حُكْمُهُ عِنْدَنَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤْخَذُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْجُنُبِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْغُسْلُ فِيهِ لِلتَّنْظِيفِ أَوْ لِلسُّنَّةِ، كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ ; لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ مَوْجُودٌ فِي الْأَخِيرِ، إِذْ لَنَا وَجْهٌ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي الْغُسْلِ غَيْرُ طَهُورٍ ; لِأَنَّ الِاسْتِقْذَارَ مَوْجُودٌ فِي غُسْلِ نَحْوِ التَّنْظِيفِ، فَالْوَجْهُ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْجُنُبِ لِكَوْنِهِ أَغْلَظَ.

475 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 475 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» ) : أَيِ: الْوَاقِفِ ; وَهَذَا لِأَنَّ الْمَاءَ السَّاكِنَ إِنْ كَانَ دُونَ قُلَّتَيْنِ تَنَجَّسَ، وَلَا يَجُوزُ الِاغْتِسَالُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَلَعَلَّهُ يَتَغَيَّرُ بِهِ فَيَصِيرُ نَجِسًا بِالتَّغَيُّرِ، وَكَذَا إِنْ كَثُرَ غَايَةَ الْكَثْرَةِ إِذْ لَوْ جُوِّزَ الْبَوْلُ فِيهِ لَبَالَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، فَيَتَغَيَّرُ مِنْ كَثْرَةِ الْبَوْلِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا النَّهْيُ فِي بَعْضِ الْمِيَاهِ لِلتَّحْرِيمِ، وَفِي بَعْضِهَا لِلْكَرَاهَةِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا جَارِيًا لَمْ يَحْرُمُ الْبَوْلُ فِيهِ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ، لَكِنَّ الْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَارِيًا فَقِيلَ: يُكْرَهُ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَحْرُمُ ; لِأَنَّهُ يُنَجِّسُهُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا رَاكِدًا فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ، وَلَوْ قِيلَ: يَحْرُمُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا إِذْ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَنَجُّسِهِ بِالْإِجْمَاعِ لِتَغَيُّرِهِ أَوْ تَنَجُّسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ الْغَدِيرَ الَّذِي يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحْرِيكِ الْآخَرِ يُنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَأَمَّا الرَّاكِدُ الْقَلِيلُ فَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالصَّوَابُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَحْرُمُ ; لِأَنَّهُ يُنَجِّسُهُ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: التَّغَوُّطُ فِي الْمَاءِ كَالْبَوْلِ فِيهِ بَلْ أَقْبَحُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُكْرَهُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي الْمَاءِ مُطْلَقًا بِاللَّيْلِ خَشْيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ الْجِنُّ لِمَا قِيلَ: إِنَّ الْمَاءَ بِاللَّيْلِ مَأْوَى لَهُمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

476 - «وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 476 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) : قِيلَ: أَزْدِيٌّ، وَقِيلَ هُذَلِيٌّ، وَقِيلَ كِنْدِيٌّ، وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، حَضَرَ مَعَ أَبِيهِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَذْهَبَتْنِي (إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: مَرِيضٌ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيْ: ذُو وَجَعٍ (فَمَسَحَ رَأْسِي) : أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الشَّمَائِلِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَجَعَ كَانَ بِرَأْسِهِ، فَمَسَحَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِيَدِهِ الْمُبَارَكَةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِشِفَائِهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَبَلَغَ السَّائِبُ نَحْوَ الْمِائَةِ وَلَمْ يَشِبْ لَهُ شَعْرٌ وَلَا سَقَطَ لَهُ سِنٌّ. (وَدَعَا لِي) : وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: بِالْفَاءِ (بِالْبَرَكَةِ) : أَيِ: النَّمَاءِ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ وَالنَّعْمَاءِ، (ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: مَاءِ وُضُوئِهِ. قَالَ مُلَّا حَنَفِي فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَضُوءِ هَنَا فَضْلُ وَضُوئِهِ، يَعْنِي: الْمَاءُ الَّذِي بَقِيَ فِي الظَّرْفِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِمَا يَقْصِدُهُ الشَّارِبُ مِنَ التَّبَرُّكِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى التَّدَاوِي أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا، وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ طَهَارَتِهِ كَانَ بَعْدَهُ؟ فَتَدَبَّرْ. اهـ.

وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ السَّائِلَ مِنْ أَعْضَائِهِ - لِشَرَفِهَا - لَا يَنْجُسُ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا طَهَارَةَ فَضَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ) : أَيْ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَقِيلَ: الْخَاتَمُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ بِمَعْنَى الطَّابِعُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَاتَمِ هُنَا هُوَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِهِ لَا الطَّابِعُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى النُّبُوَّةِ إِمَّا لِأَنَّهُ خُتِمَ عَلَى النُّبُوَّةِ لِحِفْظِهَا وَحِفْظِ مَا فِيهَا؛ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَامِهَا، أَوِ اسْتِيثَاقِهَا، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ) : حَالٌ مِنَ الْخَاتَمِ أَوْ صِفَةٌ لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَى الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ الثَّانِي. قَالَ بَعْضُهُمْ: خَاتَمُ النُّبُوَّةِ أَثَرٌ كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ نُعِتَ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَانَ عَلَامَةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، وَصِيَانَةً لِنُبُوَّتِهِ عَنْ تَطَرُّقِ التَّكْذِيبِ وَالْقَدْحِ، كَالشَّيْءِ الْمُسْتَوْثَقِ عَلَيْهِ بِالْخَتْمِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى خَتْمِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ بِهِ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَنْزِلُ بِنُبُوَّةٍ مُتَجَدِّدَةٍ، بَلْ يَنْزِلُ عَامِلًا بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْتَدِي بِبَعْضِ أُمَّتِهِ، وَقَتْلُهُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَدَمُ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ شَرِيعَتِنَا ; لِأَنَّ أَخْذَهَا مُغَيًّا بِنُزُولِهِ لِزَوَالِ شُبْهَتِهِمْ حِينَئِذٍ الْمُجَوِّزَةُ لِقَبُولِهَا مِنْهُمْ. قِيلَ: لَا تَتِمُّ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إِلَّا لَوْ كَانَ الْخَاتَمُ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ خَاتَمًا فَلَا يَتِمُّ اهـ. وَيُرَدُّ بِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ: هَذَا الْخَاتَمُ الْمَخْصُوصُ فِي مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ الدَّالِّ عَلَى تَمَيُّزِهِ عَنْهُمْ، فَإِنَّ خَوَاتِيمَهُمْ كَانَتْ فِي أَيْمَانِهِمْ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ وَهْبٍ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ بُعْدِهَا مِنَ الْقَلْبِ وَقُرْبِ خَاتَمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَ كَتِفَيْهِ أَيْ: تَقْرِيبًا ; حَتَّى لَا يُنَافِيَ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرَ، بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَتُفْتَحُ فَمُعْجَمَتَيْنِ، وَهُوَ أَعْلَى الْكَتِفِ، أَوِ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي عَلَى طَرَفِهِ، أَوْ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحَرُّكِ أَقْوَالٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَوْنُهُ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى رَدِّ رِوَايَةِ: أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ وَحِكْمَةُ الْأُولَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ فَوْقَ الْقَلْبِ، فَبِخَتْمِهِ لَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ شَيْءٍ إِلَى الْقَلْبِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (مِثْلَ) : نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: كَمِثْلِ وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَحْذُوفٌ هُوَ هُوَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الشَّمَائِلِ: فَإِذَا هُوَ مِثْلُ (زِرِّ الْحَجَلَةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الزِّرُّ بِتَقَدُّمِ الزَّايِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَاحِدُ الْأَزْرَارِ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى مَا يَكُونُ فِي حَجَلَةِ الْعَرُوسِ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ، وَهِيَ بِفَتْحَتَيْنِ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ يُسْتَرُ بِالثِّيَابِ، وَيَكُونُ لَهُ أَزْرَارٌ كِبَارٌ. قُلْتُ: وَتُسَمِّيهِ أَهْلُ مَكَّةَ الْآنَ النَّامُوسِيَّةَ. قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: بِتَقَدُّمِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الزَّايِ بِمَعْنَى الْبَيْضِ، وَالْحَجَلَةُ: هِيَ الْقَبَجَةُ، وَهِيَ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ بِتَقَدُّمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ. وَقَالَ مُلَّا حَنَفِي: إِنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحِيحَ الرَّاءُ قَبْلَ الزَّايِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قِيلَ الْمُرَادُ وَاحِدُ الْأَزْرَارِ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا فِي حِجَالِ الْعَرَائِسِ مِنَ الْحُلَلِ وَالسُّتُورِ. وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ طَرِيقِ الْبَلَاغَةِ، قَاصِرٌ فِي التَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُلَائِمُ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي خَاتَمِ النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بَيْضَةَ الْحَجَلَةِ، وَهِيَ الْقَبَجَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ أَنَّ الزِّرَّ بِمَعْنَى الْبَيْضِ لَمْ يُوجَدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا هُوَ رِزٌّ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ مِنْ: رَزَزَتِ الْجَرَادَةُ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَنْبَهَا فِي الْأَرْضِ وَأَلْقَتْ بَيْضَهَا، وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ لَمْ تُسَاعِدْهُ، وَالَّذِي يَنْصُرُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: كَانَ خَاتَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غُدَّةً حَمْرَاءَ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ. قِيلَ: يَكْفِي الْمُشَابَهَةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا نَاتِئًا مِنَ الْجَسَدِ لَهُ نَوْعُ مُشَابَهَةٍ بِزِرِّ الْحَجَلَةِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَاتٍ مَا قَدْ يُخَالِفُ مَا مَرَّ مِنْ كَوْنِهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ، كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَانٌ كَأَنَّهَا الثَّآلِيلُ السُّودِ، وَرِوَايَتُهُ أَيْضًا كَبَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، وَرِوَايَةُ صَحِيحِ الْحَاكِمِ: شَعْرٌ مُجْتَمِعٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ: مِثْلَ السِّلْعَةِ، وَالشَّمَائِلُ: بَضْعَةٌ نَاشِزَةٌ أَيْ: مُرْتَفِعَةٌ، وَابْنُ عَسَاكِرَ: مِثْلَ الْبُنْدُقَةِ، وَصَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ: كَالتُّفَّاحَةِ كَأَثَرِ الْمِحْجَمِ الْقَابِضَةِ عَلَى اللَّحْمِ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: شَامَةٌ خَضْرَاءُ مُحْتَفِرَةٌ فِي اللَّحْمِ، وَلَهُ أَيْضًا شَامَةٌ سَوْدَاءُ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ حَوْلَهَا شَعَرَاتٌ مُتَرَاكِبَاتٌ كَأَنَّهَا عُرْفُ الْفَرَسِ، وَالْقُضَاعِيُّ: ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمِ: كَبَيْضَةِ

حَمَامٍ مَكْتُوبٌ فِي بَاطِنِهَا: اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفِي ظَاهِرِهَا: تَوَجِّهْ حَيْثُ كُنْتَ فَإِنَّكَ مَنْصُورٌ. وَابْنٌ عَائِذٍ: كَانَ نُورًا يَتَلَأْلَأُ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ: كَالنُّقْطَةِ الَّتِي أَسْفَلَ مِنْقَارِ الْحَمَامَةِ، وَتَارِيخُ نَيْسَابُورَ: مِثْلَ الْبُنْدُقَةِ مِنْ لَحْمٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ بِاللَّحْمِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. لَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِهِ حَقِيقِيًّا، بَلْ كُلٌّ شَبَّهَ بِمَا سَنَحَ لَهُ وَالْكُلُّ مُؤَدٍّ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ وَهُوَ قِطْعَةُ لَحْمٍ، وَمَنْ قَالَ: شَعْرٌ ; فَلِأَنَّ الشَّعَرَاتِ حَوْلَهُ مُتَرَاكِبَةٌ عَلَيْهِ شَاخِصَةٌ فِي جَسَدِهِ، قَرِيبَةٌ مِنْ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ جَمْعُ الْكَفِّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ عَلَى هَيْئَتِهِ، لَكِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَرِوَايَةُ: إِنَّهُ كَالْمِحْجَمِ أَوْ كَالشَّامَةِ السَّوْدَاءِ أَوِ الْخَضْرَاءِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ مَا مَرَّ، لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَغَلَطَ ابْنُ حِبَّانَ فِي تَصْحِيحِهِ ذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ ذَكَرَ الْكِتَابَةَ هُنَا، فَإِنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِخَاتَمِ يَدِهِ الَّذِي كَانَ يَخْتِمُ بِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَيْهِ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: الْكِتَابَةُ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً أَوْ صُورِيَّةً لَكِنَّهَا كَانَتْ تُدْرِكُهَا الْبَصِيرَةُ النَّوَوِيَّةُ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِوَقْتِ وَضْعِ الْخَاتَمِ، وَكَيْفَ وُضِعَ، وَمَنْ وَضَعَهُ فِي «حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ؟ وَبِمَ عَلِمْتَ حَتَّى اسْتَيْقَنْتَ؟ قَالَ: (" أَتَانِي آتِيَانِ ") وَفِي رِوَايَةٍ: (" مَلَكَانِ، وَأَنَا بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا بِالْأَرْضِ، وَكَانَ الْآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهْوَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ هُوَ، قَالَ: فَمَرَّ بِهِ رَجَلٌ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: " ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: شُقَّ بَطْنَهُ. فَشَقَّ بَطْنِي، فَأَخْرَجَ قَلْبِي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ الشَّيْطَانِ وَعَلَقَ الدَّمِ فَطَرَحَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اغْسِلْ بَطْنَهُ غُسْلَ الْإِنَاءِ، وَاغْسِلْ قَلْبَهُ غُسْلَ الْمِلَاءِ - أَيِ: الثَّوْبِ الَّذِي يَتَرَدَّى بِهِ - ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: خِطْ بَطْنَهُ. فَخَاطَ بَطْنِي، وَجَعَلَ الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفِي كَمَا هُوَ الْآنَ، وَوَلَّيَا عَنِّي، وَكَأَنِّي أَرَى الْأَمْرَ مُعَايَنَةً» ". وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ: (" «اسْتَخْرَجَا قَلْبِي فَشَقَّاهُ فَأَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ائْتِنِي بِمَاءٍ وَثَلْجٍ، فَغَسَلَا بِهِ جَوْفِي، ثُمَّ قَالَ ائْتِنِي: بِمَاءٍ وَبَرَدٍ، فَغَسَلَا بِهِ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِالسِّكِينَةِ، فَزَادَهَا فِي قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: خِطْهُ فَخَاطَهُ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ» ") . وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِي عِيَاضًا لَمْ يُعَلِّقْ فِي قَوْلِهِ: هَذَا الْخَاتَمُ هُوَ أَثَرُ شَقِّ الْمَلَكَيْنِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; لِأَنَّ " بَيْنَ " ظَرْفٌ لِلْخَاتَمِ لَا لِلشَّقِّ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَاتَمَ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ الشَّقَّ لَمَّا وَقَعَ فِي صَدْرِهِ ثُمَّ خِيطَ حَتَّى الْتَأَمَ كَمَا كَانَ، وَوَقَعَ الْخَاتَمُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ كَانَ ذَلِكَ أَثَرَ الشَّقِّ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ: أَنَّهُ خُتِمَ بِهِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، وَقِيلَ: وُلِدَ بِهِ وَلَا مَنْعَ مِنَ التَّعَدُّدِ وَزِيَادَةِ أَثَرٍ مَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 477 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنَ الْأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ فَقَالَ: (إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارْمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ: " فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ ". الْفَصْلُ الثَّانِي 477 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ) : صِفَةٌ أَوْ حَالٌ (فِي الْفَلَاةِ) : أَيْ: فِي الصَّحْرَاءِ، أَوِ الْمَحَلِّ الْوَاسِعِ (مِنَ الْأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ) : عُطِفَ عَلَى الْمَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ نَحْوُ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ كَرَمَهُ، يُقَالُ: نَابَ الْمَكَانَ أَوْ نَابَهُ إِذَا تَرَدَّدَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ) : بَيَانٌ لِمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ نَجِسٌ، وَإِلَّا لَا يَكُنْ لِسُؤَالِهِمْ وَجَوَابِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنًى ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ مِنَ السِّبَاعِ إِذَا وَرَدَتِ الْمِيَاهَ أَنْ تَخُوضَ فِيهَا وَتَبُولَ، وَرُبَّمَا لَا تَخْلُو أَعْضَاؤُهَا مِنْ لَوَثِ أَبْوَالِهَا وَرَجِيعِهَا. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُنَا، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. (فَقَالَ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (" إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ ") : قِيلَ: الْقُلَّةُ: الْجَرَّةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي تَسَعُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رِطْلًا بِالْبَغْدَادِيِّ، فَالْقُلَّتَانِ خَمْسُمِائَةُ رِطْلٍ، وَقِيلَ: سِتُّمِائَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْقُلَّةُ مَعْرُوفَةٌ بِالْحِجَازِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْقُلَّةُ الَّتِي يُسْتَسْقَى بِهَا ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تُقِلُّهَا. وَقِيلَ: الْقُلَّةُ مَا يَسْتَقِلُّهُ الْبَعِيرُ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَرْبَعِينَ قُلَّةً غَرْبًا أَيْ: دَلْوًا، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ مُوقِعَةٌ لِلشُّبْهَةِ، وَرِوَايَةُ: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ مَعَ عَدَمِ صِحَّتِهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْمَجْهُولِيَّةِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى الْجَارِي، هَذَا وَتُرِكَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فِي الْمُتَغَيِّرِ بِنَجَاسَةٍ لِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ، أَوْ لِخَبَرِ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى طَعْمِهِ أَوْ لَوْنِهِ أَوْ رِيحِهِ، وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ

عُلَمَائِنَا: خَبَرُ الْقُلَّتَيْنِ صَحِيحٌ، وَإِسْنَادُهُ ثَابِتٌ، وَإِنْ تَرَكْنَاهُ ; لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا الْقُلَّتَانِ؛ وَلِأَنَّهُ رَوَى قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى الشَّكِّ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّونَ. اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ كَمَا فِي النُّخْبَةِ، فَلَا يَدْفَعُهُ تَصْحِيحُ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِمَّنْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ، وَسُئِلَ ابْنُ مَعِينٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ جَيِّدٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ عُلَيَّةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ زِنْجِيًّا مَاتَ بِزَمْزَمَ فَنَزَحَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِمَّا ضَعِيفٌ بَلْ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ دَمَهُ غَيَّرَ مَاءَهَا، أَوْ نَزَحَهَا اسْتِحْبَابًا؛ إِذِ الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّ الْمَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا يَنْجُسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَفِيهِ فُسْحَةٌ عَظِيمَةٌ لِلنَّاسِ مُخَالِفٌ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ الْمَذْكُورِ كَمَا عَلِمْتَ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ: فَرَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ زِنْجِيًّا وَقَعَ فِي زَمْزَمَ يَعْنِي مَاتَ، فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأُخْرِجَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُنْزَحَ، قَالَ: فَغَلَبَتْهُمْ عَيْنٌ جَاءَتْ مِنَ الرُّكْنِ قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَسُدَّتْ بِالْقَبَاطِيِّ وَالْمَطَارِقِ حَتَّى نَزَحُوهَا، فَلَمَّا نَزَحُوهَا انْفَجَرَتْ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهَا الطَّحَاوِيُّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ حَبَشِيًّا وَقَعَ فِي زَمْزَمَ فَمَاتَ، فَأَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَنُزِحَ مَاؤُهَا، فَجَعَلَ الْمَاءُ لَا يَنْقَطِعُ، فَنَظَرَ فَإِذَا عَيْنٌ تَجْرِي مِنْ قِبَلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: حَسْبُكُمْ. وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ بِاعْتِرَافِ الشَّيْخِ بِهِ فِي الْإِمَامِ. وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: كُنْتُ أَنَا بِمَكَّةَ مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ لَمْ أَرَ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا يَعْرِفُ حَدِيثَ الزِّنْجِيِّ الَّذِي قَالُوا: إِنَّهُ وَقَعَ فِي زَمْزَمَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْرَفُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَيْفَ يَرْوِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ") وَيَتْرُكُهُ. وَإِنْ كَانَ قَدْ فُعِلَ فَلِنَجَاسَةٍ ظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، أَوْ لِلتَّنْظِيفِ فَدُفِعَ بِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ كَعِلْمِكَ أَنْتَ بِهِ فَكَمَا قُلْتَ يَتَنَجَّسُ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَقَعَ عِنْدَكَ فَلَا تَسْتَبْعِدُ مِثْلَهُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالظَّاهِرُ مِنَ السَّوْقِ وَلَفْظِ الْقَائِلِ: مَاتَ فَأَمَرَ بِنَزْحِهَا أَنَّهُ لِلْمَوْتِ لَا لِنَجَاسَةٍ أُخْرَى عَلَى أَنَّ عِنْدَكَ أَيْضًا لَا تُنْزَحُ لِلنَّجَاسَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا أَيِ ابْنَ عُيَيْنَةَ وَالشَّافِعِيَّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةٍ، فَكَانَ إِخْبَارُ مَنْ أَدْرَكَ الْوَاقِعَةَ وَأَثْبَتَهَا أَوْلَى مِنْ عَدَمِ عِلْمِ غَيْرِهِ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: كَيْفَ يَصِلُ هَذَا الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَيَجْهَلُهُ أَهْلُ مَكَّةَ؟ اسْتِبْعَادٌ بَعْدَ وُضُوحِ الطَّرِيقِ، وَمُعَارَضٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَحْمَدَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَّا، فَإِذَا كَانَ خَبَرٌ صَحِيحٌ فَأَعْلِمُونِي ; حَتَّى أَذْهَبُ إِلَيْهِ كُوفِيًّا كَانَ أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا، فَهَلَّا قَالَ: كَيْفَ يَصِلُ هَذَا إِلَى أُولَئِكَ وَيَجْهَلُهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ؟ وَهَذَا لِأَنَّ الصَّحَابَةَ انْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ خُصُوصًا الْعِرَاقِ. قَالَ الْعِجْلِيُّ فِي تَارِيخِهِ: نَزَلَ الْكُوفَةَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَنَزَلَ قِرْقِيسَا سِتُّمِائَةٌ، وَقِرْقِيسَا بِالْكَسْرِ وَيُقْصَرُ: بَلَدٌ عَلَى الْفُرَاتِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. (" لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ ") : قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ بِمَنْطُوقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، فَإِنَّ مَعْنَى لَمْ يَحْمِلْ يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَحْمِلُ ضَيْمًا إِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَبُولِهِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَإِنْ تَغَيَّرَ نَجُسَ، وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَقَلَّ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ يُخَصِّصُ حَدِيثَ: " «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا» " عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْمَفْهُومِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَجْرَاهُ عَلَى عُمُومِهِ كَمَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا يَنْجُسُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَقِيلَ: لَمْ يَحْمِلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِضَعْفِهِ لَمْ يَحْمِلْهُ أَوْ لِقُوَّتِهِ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَبِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَتَرَجَّحُ الثَّانِي. قُلْتُ: التَّرَجُّحُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، وَحَمْلُ الرِّوَايَةِ الشَّاذَّةِ عَلَى الْمَعْنَى أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُحْتَمَلُ

أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الرُّوَاةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ التَّعْلِيلِيَّةُ، فَإِنَّ الْحَمْلَ لَمَّا كَانَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْجِسْمِ كَفُلَانٍ لَا يَحْمِلُ الْحَجَرَ، أَيْ: لَا يُطِقْهُ لِثِقَلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمَعْنَى ; كَفُلَانٍ لَا يَحْمِلُ الْغَمَّ، أَيْ: لَا يَقْبَلُهُ وَلَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5] أَيْ: لَمْ يَقْبَلُوا أَحْكَامَهَا، عَلَّلَ الرَّاوِي بِمُقْتَضَى رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ، لَكِنْ يَبْقَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الْقُلَّتَيْنِ فَائِدَةٌ، قِيلَ: وَلَا يَكُونُ الْجَوَابُ كَافِيًا شَافِيًا. نَعَمْ لَوْ قِيلَ: مَعْنَى لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ صَرِيحًا ; لَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلْمَالِكِيَّةِ، وَيَظْهَرُ لِذِكْرِ الْقُلَّتَيْنِ فَائِدَةٌ أَغْلَبِيَّةٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . (وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ: فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، وَرُوِيَ الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ.

478 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرٍ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَالنَّتْنُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 478 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرٍ بُضَاعَةَ؟) : بِضَمِّ الْبَاءِ، وَأُجِيزَ كَسْرُهَا، وَحُكِيَ أَيْضًا بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ بِئْرٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ التُّورِبِشْتِيُّ: بُضَاعَةُ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَضُمُّونَ الْبَاءَ وَيَكْسِرُونَهَا، وَالْمَحْفُوظُ فِي الْحَدِيثِ الضَّمُّ (وَهِيَ بِئْرٌ) : بِالْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ (يُلْقَى) : يَجُوزُ فِيهِ التَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ (فِيهَا الْحِيَضُ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ جَمْعُ حَيْضَةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَهِيَ الْخِرْقَةُ الَّتِي تَسْتَعْمِلُهَا الْمَرْأَةُ فِي دَمِ الْحَيْضِ أَوْ تَسْتَثْفِرُهَا (وَلُحُومُ الْكِلَابِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَوَجْهٌ مُعَيَّنٌ يُلْقَى فِيهَا أَنَّ الْبِئْرَ كَانَتْ بِمَسِيلٍ مِنْ بَعْضِ الْأَوْدِيَةِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْزِلَ فِيهَا أَهْلُ الْبَادِيَةِ، فَتُلْقَى تِلْكَ الْقَاذُورَاتُ بِأَفْنِيَةِ مَنَازِلِهِمْ فَيَكْسَحُهَا السَّيْلُ فَيُلْقِيهَا فِي الْبِئْرِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ الْقَائِلُ بِوَجْهٍ يُوهِمُ أَنَّ الْإِلْقَاءَ مِنَ النَّاسِ لِقِلَّةِ تَدَيُّنِهِمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُجَوِّزُهُ مُسْلِمٌ، فَأَنَّى يُظَنُّ ذَلِكَ بِالَّذِينِ هُمْ أَفْضَلُ الْقُرُونِ وَأَزْكَاهُمْ (وَالنَّتْنُ؟) : بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَتُكْسَرُ، وَهِيَ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الشَّيْءُ الْمُنْتِنُ كَالْعَذِرَةِ وَالْجِيفَةِ. قِيلَ: كَانَتِ السُّيُولُ تَكْسَحُ الْأَقْذَارَ مِنَ الطُّرُقِ وَالْأَفْنِيَةِ، فَتَحْمِلُهَا وَتُلْقِيهَا فِي هَذِهِ الْبِئْرِ، وَكَانَ مَاؤُهَا كَثِيرًا سَيَّالًا يَجْرِي بِهَا، فَسَأَلُوا عَنْ حُكْمِهَا فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمَاءَ ") : قِيلَ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ، فَتَأْوِيلُهُ: إِنَّ الْمَاءَ الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَهُوَ مَاءُ بِئْرِ بُضَاعَةَ. فَالْجَوَابُ مُطَابَقِيٌّ لَا عُمُومٌ كُلِّيٌّ، كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ مَالِكٍ (" طَهُورٌ ") : أَيْ: طَاهِرٌ كَمَا تُفِيدُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ ; لِكَوْنِهِ جَارِيًا فِي الْبَسَاتِينِ (لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ) : أَيْ: مَا يَتَغَيَّرُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نَجَاسَةِ الْمُتَغَيِّرِ، فَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّهُ كَانَ كَنُقَاعَةِ الْحِنَّاءِ مَحْمُولٌ عَلَى لَوْنِ جَوْهَرِ مَائِهَا، وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْمَاءِ أَضْعَافَ الْقُلَّتَيْنِ فَلَا يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنَ عُمَرَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: مَدَدْتُ فِيهِ رِدَائِي فَإِذَا عَرْضُهُ سِتَّةَ أَذْرُعٍ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . قَالَ السَّيِّدُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ اهـ. وَفَى الْمَصَابِيحِ: وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْ: فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ قَالَ: " «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ ". قَالَ شَارِحُهُ ابْنَ الْمَلَكِ: قَاسَ الشَّافِعِيُّ اللَّوْنَ عَلَى الطَّعْمِ وَالرِّيحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا فِي الْحَدِيثِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: أَخْذُ مَالِكٍ بِعُمُومِ هَذَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ إِلْغَاءُ الْعَمَلِ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، مَعَ عَدَمِ الْمُسَوِّغِ لِذَلِكَ. قُلْتُ: الْمُسَوِّغُ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا، ثُمَّ قَوْلُهُ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْمَاءَ يَتَنَجَّسُ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا عَظُمَ بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ طَرَفُهُ بِتَحَرُّكِ طَرَفِهِ الْآخَرِ، مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَنْطُوقِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ لَا يَضُرُّ إِذْ مَا خَالَفَهُمَا، إِلَّا وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا يُوجِبُ مُخَالَفَتَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِلَّةُ الْقِلَّةِ وَعِلَّةُ الِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَخْذِ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.

479 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 479 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ) أَيْ: مَرَاكِبَهُ مِنَ السُّفُنِ (وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ) : أَيْ: مَاءِ الْحُلْوِ (فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ (أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟) وَهُوَ ضِدُّ الْبَرِّ، يَعْنِي: أَوْ نَتَيَمَّمُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ ") أَيِ: الْبَحْرُ (" الطَّهُورُ ") : أَيِ: الْمُطَهَّرُ (" مَاؤُهُ ") : لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ تَطْهِيرِ مَائِهِ لَا عَنْ طَهَارَتِهِ، وَالْحَصْرِ فِيهِ قُلْتُ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَضُّؤَ بِمَاءِ الْبَحْرِ جَائِزٌ مَعَ تَغَيُّرِ طَعْمِهِ وَلَوْنِهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ أَنَّ طَعْمَهُ وَلَوْنَهُ جِبِلِّيَّانِ لَا أَنَّهُمَا مُتَغَيِّرَانِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، مَعَ أَنَّ التَّغَيُّرَ بِاللُّبْثِ لَا يَضُرُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ: إِنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ عُدُولَهُمْ عَنْ صِيغَةِ الْفَاعِلِ إِلَى فَعُولٍ أَوْ فَعِيلٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى ; لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَبَانِي لِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي كَمَا فِي: شَاكِرٌ وَشَكُورٌ، لَكِنَّ زِيَادَةَ الطَّهَارَةِ لَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَاهِرٍ آخَرَ هُوَ أَطْهَرُ مِنْهُ، بَلْ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، فَفِيهِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ، بِخِلَافِ طَاهِرٍ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ تُعْتَبَرُ زِيَادَةُ الطَّهَارَةِ ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهِّرُ ; لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ التَّطْهِيرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الطَّهُورُ مَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ التَّطْهِيرُ كَالصَّبُورِ، فَجُوِّزَ الْوُضُوءُ بِالْمُسْتَعْمَلِ اهـ. وَهُوَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ؛ وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ، وَعَلِمَ جَهْلَهُمْ بِحُكْمِ مَائِهِ قَاسَ جَهْلَهُمْ بِحُكْمِ صَيْدِهِ مَعَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَزَادَ فِي الْجَوَابِ إِرْشَادًا وَهِدَايَةً، كَمَا هُوَ حَالُ الْحَكِيمِ الْعَارِفِ بِالدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، قَالَ: (" الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ") : فَالْمَيِّتُ مِنَ السَّمَكِ حَلَالٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِيمَا عَدَاهُ خِلَافٌ مَحَلُّهُ كُتُبُ الْفِقْهِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ السَّيِّدُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ مَعَ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي الطَّهَارَةِ بِهِ، وَإِنْ كَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَخَبَرُ: " «تَحْتَ الْبَحْرِ نَارٌ، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرٌ» " حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً، ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا لِلْكَرَاهَةِ.

480 - وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ: " مَا فِي إِدَاوَتِكَ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: نَبِيذٌ. قَالَ: " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ: فَتَوَضَّأَ مِنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 480 - (وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ) : أَيْ: لِعَبْدِ اللَّهِ (لَيْلَةَ الْجِنِّ) : أَيْ: لَيْلَةَ ذَهَبَ الْجِنُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِمْ لِيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ الدِّينَ، وَكَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَفِي رِوَايَةٍ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ (" مَا فِي إِدَاوَتِكَ؟ ") : أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ فِي مِطْهَرَتِكَ؟ فِي النِّهَايَةِ: الْإِدَاوَةُ بِالْكَسْرِ: إِنَاءٌ صَغِيرٌ مِنْ جِلْدٍ (قَالَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (قُلْتُ: نَبِيذٌ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: نَبِيذُ تَمْرٍ، وَهُوَ مَاءٌ يُلْقَى فِيهِ تَمَرَاتٌ لِيَحْلُوَ، وَقِيلَ: النَّبِيذُ هُوَ التَّمْرُ أَوِ النَّبِيذُ الْمَنْبُوذِ أَيِ: الْمُلْقَى فِي الْمَاءِ لِتَغْيِيرِ مُلُوحَتِهِ وَمَرَارَتِهِ إِلَى الْحَلَاوَةِ (قَالَ: " «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» ") : وَزَادَ فِي الْمَصَابِيحِ: وَتَوَضَّأَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوَضُّؤَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ جَائِزٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ: إِذَا تَغَيَّرَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا (وَزَادَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ: فَتَوَضَّأَ مِنْهُ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ ابْنُ شَيْبَةَ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ: " «هَلْ مَعَكَ مِنْ وَضُوءٍ؟ ". قُلْتُ: لَا. قَالَ: " فَمَا فِي إِدَاوَتِكَ؟ ". قُلْتُ: نَبِيذُ تَمْرٍ. قَالَ: " تَمْرَةٌ حُلْوَةٌ وَمَاءٌ طَيِّبٌ» ". ثُمَّ تَوَضَّأَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ اهـ. وَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَأْتِيَ بِقَوْلِهِ: فَتَوَضَّأَ مِنْهُ أَوَّلًا كَمَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ، ثُمَّ يَقُولُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ إِلَى طَهُورٍ حَتَّى لَا يُوهِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَصَابِيحِ.

(وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو زَيْدٍ) أَيِ: الرَّاوِي هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (مَجْهُولٌ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِيهِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ، أَنَّ أَبَا زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، رَوَى عَنْهُ رَاشِدُ بْنُ كَيْسَانَ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ، وَأَبُو رَوْقٍ، وَهَذَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْجَهَالَةِ اهـ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: أَجَمَعَ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: حَدِيثُ نَبِيذِ التَّمْرِ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي أَسَانِيدِ سَائِرِهَا لِأَهْلِ النَّقْلِ مَقَالٌ، غَيْرَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ كَوْنُهُ حَقًّا، خُصُوصًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ عُدُولًا فِي أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ.

481 - وَصَحَّ عَنْ عَلْقَمَةَ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 481 - (وَصَحَّ عَنْ عَلْقَمَةَ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ) : أَيْ: فَلَمْ يَكُنْ مَا رُوِيَ عَنْهُ ثَابِتًا، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَلَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا بَلْ كَانَ مُعَدًّا لِلشُّرْبِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِيَجْتَذِبَ مُلُوحَةَ مَائِهِمْ، فَيَكُونُ أَوْفَقَ وَأَنْفَعَ لِأَمْزِجَتِهِمْ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ صِحَّةِ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ، لَكُنَّا نَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْجِنِّ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مَعَهُ بِمَدْرَجَتِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ فَخَطَّ لِي خَطًّا، وَأَجْلَسَنِي فِيهِ، وَقَالَ: (" لَا تَخْرُجْ مِنْ هَذَا ") فَبِتُّ حَتَّى أَتَانِي مَعَ السَّحَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَوَّلًا حِينَ خَرَجَ ثُمَّ لَحِقَهُ آخِرًا، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْفَقُ لِمَا فِي بَعْضِ طُرِقِ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ أَنَّ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ صَحِبَهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّا فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَكَّةَ فَقُلْنَا: اغْتِيلَ اسْتُطِيرَ مَا فَعَلَ؟ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ، فَإِذَا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ إِذَا نَحْنُ بِهِ يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ» . وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَيْلَةَ الْجِنِّ ; لِأَنَّ سَحَرَهَا مِنْهَا، وَتَعْلِيلُ تَرْكِ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ أَبِي زَيْدٍ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ وَنُزُولِ الْمَائِدَةِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ أَوْجَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى رَدِّ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا شَهِدَهَا مِنَّا أَحَدٌ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ، وَرَوَى أَيْضًا أَبُو حَفْصٍ بْنُ شَاهِينَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَعَنْهُ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا مِنَ الزُّطِّ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ، وَإِنْ جَمْعَنَا فَالْمُرَادُ مَا شَهِدَهَا مِنَّا أَحَدٌ غَيْرِي نَفْيًا لِمُشَارَكَتِهِمْ وَإِبَانَةَ اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ أَكْمَامِ الْمَرْجَانِ فِي أَحْكَامِ الْجَانِّ: أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي وِفَادَةِ الْجِنِّ أَنَّهَا كَانَتْ سِتَّ مَرَّاتٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا مَرَّةً فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَدْ حَضَرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَرَّتَيْنِ بِمَكَّةَ وَمَرَّةً رَابِعَةً خَارِجَ الْمَدِينَةِ حَضَرَهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقْطَعُ بِالنَّسْخِ اهـ. وَفَى خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ قَالَ: التَّوَضُّؤُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ جَائِزٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَيُتَيَمَّمُ مَعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يَتَوَضَّأُ وَلَا يَتَيَمَّمُ، وَفِي رِوَايَةٍ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ، وَرَوَى نُوحٌ الْجَامِعُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْخِزَانَةِ: قَالَ مَشَايِخُنَا: إِنَّمَا اخْتَلَفَ أَجْوِبَتُهُ لِاخْتِلَافِ السَّائِلِ. وَسُئِلَ مَرَّةً: إِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا؟ قَالَ: يَتَوَضَّأُ. وَسُئِلَ مَرَّةً: إِنْ كَانَتِ الْحَلَاوَةُ غَالِبَةً لَمْ يَتَيَمَّمْ وَلَا يَتَوَضَّأْ. وَسُئِلَ مَرَّةً: إِذَا لَمْ يَدْرِ أَيُّهَا الْغَالِبُ؟ قَالَ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. فَقَوْلُ ابْنُ حَجَرٍ فَلَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَةِ هَذِهِ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ، وَإِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالنَّوَوِيُّ بِجَوَازِهِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ فُقْدَانِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُبَالِيَا بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] مِنْ أَنَّهُ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ لَا يَجُوزُ إِلَّا التَّيَمُّمُ، فَتَجْوِيزُ النَّبِيذِ حِينَئِذٍ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِأُولَئِكَ أَنْ يُئَوِّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لِيُوَافِقَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ التَّمْرَةَ الْمُلْقَاةَ فِي الْمَاءِ لَمْ تُغَيِّرْهُ تَغَيُّرًا ضَارًّا، وَتَسْمِيَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُ نَبِيذًا مِنْ مَجَازِ الْأَوَّلِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ مَا يُنْبَذُ فِيهِ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يُغَيَّرِ اهـ. إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ قِلَّةِ اطِّلَاعٍ عَلَى كَلَامِهِمْ أَصْلًا وَفَصْلًا، وَكَأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَى الْآيَةِ إِلَّا بِفَهْمِهِ الْفَاتِرِ وَعَقْلِهِ الْقَاصِرِ، ثُمَّ فِي نِسْبَتِهِ عَدَمَ الْمُبَالَاةِ بِصَرِيحِ الْآيَةِ إِلَى الْإِمَامَيْنِ الْأَعْظَمَيْنِ قِلَّةُ مُبَالَاةٍ فِي الدِّينِ وَكَثْرَةُ جَرَاءَةٍ عَلَى أَرْبَابِ الْيَقِينِ، سَامَحَهُ اللَّهُ. مِمَّا زَلَقَ قَدَمُهُ وَسَبَقَ قَلَمُهُ، ثُمَّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا الْمَاءُ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ غَلَطٌ صَرِيحٌ ; لِأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُهُ، بَلْ قَالَ أَبُو لَيْلَى بِجَوَازِ رَفْعِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ النَّجَسِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ.

482 - «وَعَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ - أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 482 - (وَعَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) : أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجَيٌّ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: هِيَ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدِيثُهَا فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ، رَوَتْ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَعَنْهَا حُمَيْدَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ (وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ) : وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٌّ الْأَنْصَارِيُّ، فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْمُ ابْنِهِ: عَبْدُ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: كَانَتْ زَوْجَةَ وَلَدِهِ (أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى كَبْشَةَ (فَسَكَبَتْ) أَيْ: كَبْشَةُ، يَعْنِي: صَبَّتْ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ، وَيَجُوزُ السُّكُونُ عَلَى التَّأْنِيثِ اهـ. لَكِنَّ أَكْثَرَ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ بِالتَّأْنِيثِ، وَيُؤَيِّدُ الْمُتَكَلِّمَ مَا فِي الْمَصَابِيحِ قَالَتْ: فَسَكَبَتْ (لَهُ) : أَيْ: لِأَبِي قَتَادَةَ (وَضُوءًا) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: مَاءَ الْوُضُوءِ فِي إِنَاءٍ (فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ) : حَالٌ أَوْ صِلَةٌ (فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ) : أَيْ: أَمَالَهُ إِلَيْهَا (حَتَّى شَرِبَتْ) : أَيْ: سَهْلًا (قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي) : أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ (أَنْظُرُ إِلَيْهِ) : أَيْ: إِلَى فِعْلِهِ مُتَعَجِّبَةً (فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ) : أَيْ: بِشُرْبِهَا مِنْ وَضُوئِي (يَا ابْنَةَ أَخِي؟) : هَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ ; أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَإِنْ كَانَا ابْنَا عَمَّيْنِ، وَيَا أَخَا فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخًا لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَيَجُوزُ فِي تَعَارُفِ الشَّرْعِ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - مُرَادُهُ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا زَوْجَةُ ابْنِهِ - تَعْلِيلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ، بَلْ لِكَوْنِهَا بِنْتَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ بْنُ رِبْعِيٍّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهَا ") : أَيِ: الْهِرَّةُ أَوْ سُؤْرُهَا (" لَيْسَتْ بِنَجَسٍ ") : مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَلَوْ قِيلَ بِكَسْرِ الْجِيمِ لَقِيلَ بِنَجِسَةٍ ; لِأَنَّهَا صِفَةُ الْهِرَّةِ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَذَكَرَ الْكَازَرُونِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ قَالَ: هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَالنَّجَسُ النَّجَاسَةُ، فَالتَّقْدِيرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَاتِ نَجَسٍ، وَفِيمَا سَمِعْنَا وَقَرَأْنَا عَلَى مَشَايِخِنَا هُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ أَيْ: لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، وَلَمْ يَلْحَقِ التَّاءَ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا فِي مَعْنَى السُّؤْرِ اهـ. وَأَكْثَرُ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ ; لِأَنَّ النَّجَسَ بِالْفَتْحِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، وَبِالْكَسْرِ الْمُتَنَجَّسُ (" إِنَّهَا ") : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيْ: لِأَنَّهَا (" مِنَ الطَّوَّافِينَ ") : الطَّائِفُ الَّذِي يَخْدِمُكَ بِرِفْقٍ شَبَّهَهَا بِالْمَمَالِيكِ وَخَدَمَةِ الْبَيْتِ الَّذِينَ يَطُوفُونَ لِلْخِدْمَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] وَأَلْحَقَهَا بِهِمْ ; لِأَنَّهَا خَادِمَةٌ أَيْضًا حَيْثُ تَقْتُلُ الْمُؤْذِيَاتِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي مُوَاسَاتِهَا كَمَا فِي مُوَاسَاتِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَهَا طَاهِرٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: " إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ " مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ إِشْعَارًا بِالْعِلِّيَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ

يَكُونَ سُؤْرُ الْهِرَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ نَجَاسَةِ فَمِهَا مَعْفُوًّا عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، كَطِينِ الشَّارِعِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ كَمَا سَنُقَرِّرُهُ، هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي حَامِدِ الْغَزَالِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: الْأَحْسَنُ تَعْمِيمُ الْعَفْوِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: سُؤْرُ الْهِرَّةِ طَاهِرٌ لِطَهَارَةِ عَيْنِهَا، وَلَا يُكْرَهُ، وَلَوْ تَنَجَّسَ فَمُهَا ثُمَّ وَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: التَّفْصِيلُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنَّهَا إِنْ غَابَتْ بِمِقْدَارٍ يَحْتَمِلُ وُلُوغَهَا فِي مَاءٍ مُطَهَّرٍ كَانَ طَاهِرًا وَإِلَّا نَجِسًا اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُغَايِرِ ; عَلَّلَ إِصْغَاءَهُ لَهَا الْإِنَاءَ بِأَمْرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الطِّيبِيِّ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ، وَضَعَّفَهُ بِقَوْلِهِ: قِيلَ: وَيَصِحُّ. . . إِلَخْ. فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ طُرُقُ الزَّلَلِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَكَفَى فِيهَا أَنَّهَا لَا تَتَحَامَى النَّجَاسَةَ، فَيُكْرَهُ كَمَا لَوْ غَمَسَ الصَّغِيرُ يَدَهُ فِيهِ، وَأَمَّا النَّجَاسَةُ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى سُقُوطِهَا بِعِلَّةِ الطَّوَافِ الْمَنْصُوصِ فِي قَوْلِهِ: " إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ " يَعْنِي أَنَّهَا تَدْخُلُ الْمَضَايِقَ، وَلِمُلَازَمَةِ شِدَّةِ الْمُخَالَطَةِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ صَوْنُ الْأَوَانِي مِنْهَا، بَلِ التَّنَفُّسُ وَالضَّرُورَةُ اللَّازِمَةُ مِنْ ذَلِكَ أَسْقَطَتِ النَّجَاسَةَ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ الِاسْتِئْذَانَ، وَأَسْقَطَهُ عَنِ الْمَمْلُوكِينَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} [النور: 58] أَيْ: عَنْ أَهْلِهِمْ فِي تَمْكِينِهِمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ إِذْنٍ لِلطَّوَافِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ عَقِيبَهُ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] اهـ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ سُؤْرَ الْهِرَّةِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَإِنْ أَكَلَتِ الْهِرَّةُ الْفَأْرَةَ ثُمَّ شَرِبَتِ الْمَاءَ عَلَى الْفَوْرِ يَتَنَجَّسُ، وَإِنْ مَكَثَتْ سَاعَةً وَلَحِسَتْ فَمَهَا فَمَكْرُوهٌ. وَلَيْسَ بِنَجَسٍ عِنْدَهُمَا، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ بِغَيْرِ الْمَاءِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ. (" عَلَيْكُمْ ") : فَيَتَمَسَّحُونَ بِأَيْدِيكُمْ وَثِيَابِكُمْ، فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَأَمَرْتُكُمْ بِالْمُجَانَبَةِ عَنْهَا، فَهَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ "، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَالتَّحْقِيقُ مَا تَقَدَّمَ (" أَوِ الطَّوَّافَاتِ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ فِي الْأَزْهَارِ: شَبَّهَ ذُكُورَهَا بِالطَّوَّافِينَ، وَإِنَاثَهَا بِالطَّوَّافَاتِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَيْسَتْ لِلشَّكِّ ; لِوُرُودِهِ بِالْوَاوِ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ، بَلْ لِلتَّنْوِيعِ، وَكَوْنُ ذِكْرِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ تَمُرُّ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ، فَتَشْرَبُ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا، وَضَعَّفَهُ عَبَدُ رَبِّهِ، وَلَكِنْ قُلْنَا: هَذَا دَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمُرُّ بِهِ الْهِرَّةُ، فَيُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ، فَتَشْرَبُ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا» . وَأَبُو يُوسُفَ أَدْرَى بِعَبْدِ رَبِّهِ مِنَ الدَّارَقُطْنِيِّ ; لِعِلْمِهِ بِحَالِ شَيْخِهِ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ مَا رَوَاهُ هُوَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَارِثِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أَتَوَضَّأُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ أَصَابَتْ مِنْهُ الْهِرَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ» ، وَمَا فِي السُّنَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ «سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ الْهِرَّةِ؟ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَرْضٍ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا: بُطْحَانَ، فَقَالَ: (" يَا أُنَيْسُ، اسْكُبْ لِي وَضُوءًا ") فَسَكَبْتُ لَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ أَقْبَلَ إِلَى الْإِنَاءِ، وَقَدْ أَتَى هِرٌّ فَوَلَغَ فِي الْإِنَاءِ، فَوَقَفَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْفَةً حَتَّى شَرِبَ الْهِرُّ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَقَالَ: (" يَا أَنَسُ، إِنَّ الْهِرَّ مِنْ سِبَاعِ الْبَيْتِ، لَنْ يُقَذِّرَ شَيْئًا وَلَنْ يُنَجِّسَهُ» ") . وَمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (" إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ هِيَ كَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ» ") . وَفِي سُنَنِ الدَّارِمِيِّ: " «هِيَ كَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ» "، وَأَمَّا خَبَرُ: " «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا، وَمِنْ وُلُوغِ الْهِرَّةِ مَرَّةً» " مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا بَيَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَى الطَّحَاوِيِّ، وَلِذَا قَالَ: سُؤْرُ الْهِرَّةِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا اشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ ذَيْلَ ثَوْبِهِ الَّذِي رَقَدَتْ عَلَيْهِ هِرَّةٌ، فَلَا أَصْلَ لَهُ.

483 - «وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أُمِّهِ، أَنَّ مَوْلَاتَهَا أَرْسَلَتْهَا بِهَرِيسَةٍ إِلَى عَائِشَةَ. قَالَتْ: فَوَجَدْتُهَا تُصَلِّي، فَأَشَارَتْ إِلَيَّ: أَنْ ضَعِيهَا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ عَائِشَةُ مِنْ صَلَاتِهَا، أَكَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَكَلَتِ الْهِرَّةُ. فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ ". وَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ بِفَضْلِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 483 - (وَعَنْ دَاوُدَ) : مَوْلَى الْأَنْصَارِيِّ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، (ابْنِ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ) : أَيِ: التَّمَّارِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ، رَوَى عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ (عَنْ أُمِّهِ) : لَمْ تُسَمَّ، قَالَهُ مِيرَكُ أَيْ: عَنْ أُمِّ دَاوُدَ (أَنَّ مَوْلَاتَهَا) : أَيْ: مَوْلَاةَ أُمِّهِ، أَيْ: مُعْتَقَتُهَا، وَلَمْ تُسَمَّ أَيْضًا، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (أَرْسَلَتْهَا) : أَيْ: أُمُّهُ (بِهَرِيسَةٍ) : فِي الْقَامُوسِ: الْهَرْسُ الْأَكْلُ الشَّدِيدُ، وَالدَّقُّ الْعَنِيفُ، وَمِنْهُ الْهَرِيسُ وَالْهَرِيسَةُ (إِلَى عَائِشَةَ قَالَتْ) : أَيْ: أُمُّهُ (فَوَجَدْتُهَا) : أَيْ: عَائِشَةُ (تُصَلِّي، فَأَشَارَتْ) : أَيْ: عَائِشَةُ (إِلَيَّ) : بِالْيَدِ أَوْ بِالرَّأْسِ (أَنْ ضَعِيهَا) : مُفَسِّرَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: بِوَضْعِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ مُفَسِّرَةٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ فِي الْإِشَارَةِ، وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ جَائِزَةٌ فِي الصَّلَاةِ اهـ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَمَلِ كَثِيرٍ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَنْ مُفَسِّرَةٌ ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ كَلَامٌ، لَغْوٌ (فَجَاءَتْ هِرَّةٌ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا) : أَيْ: بَعْضُهَا (فَلَمَّا انْصَرَفَتْ عَائِشَةُ مِنْ صَلَاتِهَا، أَكَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَكَلَتِ الْهِرَّةُ) : أَيْ: مِنْ مَحَلِّ أَكْلِهَا. (فَقَالَتْ) : هُوَ إِمَّا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَوْ مُحَقَّقٍ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ ": بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ (إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ) : ظَاهِرُهُ أَنَّ أَوْ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلشَّكِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَا اقْتِصَارًا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى التَّغَلُّبِ (وَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا) : أَيْ: بِفَضْلِ الْهِرَّةِ يَعْنِي: فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ شُرْبِهَا، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ، وَبَيَانِ الْجَوَازِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، بِهَذَا اللَّفْظِ. كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ لِدَارٍ فَأَجَابَ، وَلِأُخْرَى فَلَمْ يُجِبْ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: (إِنَّ فِي تِلْكَ كَلْبًا) فَقِيلَ: وَفِي هَذِهِ هِرَّةٌ. فَقَالَ: " إِنَّ الْهِرَّةَ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ» ". قَالَ الْعُلَمَاءُ: اسْتُحِبَّ اتِّخَاذُ الْهِرَّةِ وَتَرْبِيَتُهَا ; أَخْذًا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: " «حُبِّ الْهِرَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ» " فَمَوْضُوعٌ عَلَى مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ كَالصَّغَانِيُّ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْجُرْجَانِيِّ وَالتَّفْتَازَانِيِّ فِي بَحْثِهِمَا فِيهِ، وَمُنَاقَشَتِهِمَا فِي أَنَّ إِضَافَتَهُ هَلْ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَوْ مَفْعُولِهِ؟ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ.

484 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا» " رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 484 - (وَعَنْ جَابِرٍ) أَيْ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَتَوَضَّأُ؟) بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ (بِمَا) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَلِمَةُ (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى الَّذِي، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُ النَّاسِ بِالْمَدِّ، وَلَا أَرَاهُ إِلَّا تَصْحِيفًا (أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟) : أَيِ: الْأَهْلِيَّةُ أَوِ الْوَحْشِيَّةُ، بِضَمَّتَيْنِ: جَمْعُ حِمَارٍ، أَيْ: أَبْقَتْهُ مِنْ فُضَالَةِ الْمَاءِ الَّذِي تَشْرَبُهُ. (قَالَ: " نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا ": قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ طَاهِرٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، إِلَّا سُؤْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سُؤْرُ السِّبَاعِ كُلِّهَا نَجَسٌ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ نَجَسٌ، وَذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ جَابِرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَاهُ. كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ مِنَ التَّخْرِيجِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَحَدِيثُ: سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الْآتِي عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ، أَوْ عَلَى مَا قَبْلَ تَحْرِيمِ لُحُومِ السِّبَاعِ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ مَعْلُولٌ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ

الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ، لَكِنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَأَمَّا سُؤْرُ الْحِمَارِ، وَكَذَا الْبَغْلُ، فَمَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَبَبُ الشَّكِّ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فِي إِبَاحَتِهِ وَحُرْمَتِهِ، فَحَدِيثُ خَيْبَرَ فِي إِكْفَاءِ الْقُدُورِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِإِكْفَائِهَا فَإِنَّهُ رِجْسٌ. رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ يُفِيدُ الْحُرْمَةَ، وَحَدِيثُ «غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ - بِمَفْتُوحَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ فَجِيمٍ مَفْتُوحَةِ الرَّاءِ - حَيْثُ قَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟ " فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ إِلَّا حُمَيْرَاتٍ لِي - بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ - فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ» " يُفِيدُ الْحِلَّ، وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ نَجَاسَتُهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ طَهَارَتُهُ. كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ.

485 - وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَمَيْمُونَةُ فِي قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 485 - (وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ) : بِالْهَمْزَةِ هِيَ أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: اسْمُهَا فَاخِتَةَ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَخَطَبَهَا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ فَزَوَّجَهَا أَبُو طَالِبٍ مِنْ هُبَيْرَةَ، وَأَسْلَمَتْ، فَفَرَّقَ الْإِسْلَامُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هُبَيْرَةَ، وَخَطَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأُحِبُّكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ فِي الْإِسْلَامِ؟ وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ، فَسَكَتَ عَنْهَا. رَوَى عَنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: عَلِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. (قَالَتْ: اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَمَيْمُونَةُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ يُقَالُ: إِنَّ اسْمَهَا كَانَ بَرَّةَ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ، كَانَتْ تَحْتَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أَبُو دِرْهَمٍ، وَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِسَرِفَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَقَدَّرَ اللَّهُ أَنَّهَا مَاتَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ بِسَرِفَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ الْفَضْلِ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ، وَهِيَ آخِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ (فِي قَصْعَةٍ) : بِفَتْحِ الْقَافِ ظَرْفٌ كَبِيرٌ (فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ) : وَهُوَ الدَّقِيقُ الْمَعْجُونِ، بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ فِي تِلْكَ الْقَصْعَةِ كَثِيرًا مُغَيِّرًا لِلْمَاءِ، وَجَازَتِ الطَّهَارَةُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَثَرَ الْعَجِينِ فِي تِلْكَ الْقَصْعَةِ لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا مُغَيِّرًا لِلْمَاءِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ السَّيِّدُ: وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 486 - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: إِنَّ عُمَرَ خَرَجَ فِي رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا. فَقَالَ عَمْرُو: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 486 - (عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْيَى مَدَنِيٌّ سَمِعَ أَبَاهُ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَ عُمَرَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَاطِبٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، مَدَنِيٌّ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجَمَاعَةٌ عَنْهُ (قَالَ: إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ فِي رَكْبٍ) : أَيْ: جَمَاعَةٍ مِنَ الرَّاكِبِينَ (فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا) : أَيْ: وَحَضَرُوا صَلَاةً (فَقَالَ عَمْرُو: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّ إِخْبَارَكَ بِوُرُودِهَا وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ، فَإِنْ أَخْبَرْتَنَا بِسُوءِ الْحَالِ فَهُوَ عِنْدَنَا جَائِزٌ سَائِغٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّا لَا نَمْتَنِعُ مِمَّا تَرِدُهُ ; لِعُسْرِ تَجَنُّبِهِ الْمُقْتَضِي لِبَقَائِهِ

عَلَى طَهَارَتِهِ (فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا) : أَيْ: لَا نُخَالِطُ السِّبَاعَ وَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَيْنَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّا نَرِدُ عَلَى مَا فَضَلَ مِنْهَا، وَهِيَ تَرِدُ عَلَى مَا فَضَلَ مِنَّا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: لَا تُخْبِرْنَا عَلَى إِرَادَةِ عَدَمِ التَّنَجُّسِ، وَبَقَاءِ الْمَاءِ عَلَى طَهَارَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ سُؤَالُ الصَّحَابِيِّ، وَإِلَّا فَيَكُونُ عَبَثًا، ثُمَّ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّا. . . إِلَخْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَالَ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّفَرِ، وَمَا كُلِّفْنَا بِالتَّفَحُّصِ، فَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ عَلَى أَنْفُسِنَا لَوَقَعْنَا فِي مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

487 - وَزَادَ رَزِينٌ، قَالَ: زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِي «قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: " لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا طَهُورٌ وَشَرَابٌ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 487 - (وَزَادَ رَزِينٌ، قَالَ: زَادَ بَعْضَ الرُّوَاةِ فِي قَوْلِ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَهَا ") أَيْ: لِلسِّبَاعِ (" مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا ") : أَيْ: مِمَّا شَرِبَتْهُ (" وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا طَهُورٌ وَشَرَابٌ ") يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ لَهَا فِي هَذَا الْمَاءِ مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا، فَمَا شَرِبَتْهُ حَقُّهَا الَّذِي قُسِمَ لَهَا، وَمَا فَضَلَتْ فَهُوَ حَقُّنَا، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِبْهَامِ وَعَدَمِ التَّنَجُّسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ سَيَأْتِي مَعْنَاهَا عَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ، وَسَنَدُهَا صَحِيحٌ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ; نَشَأَ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْ فَهْمِ الْحَدِيثِ الثَّانِي، فَإِنَّ فِيهِ ذِكْرَ الْكِلَابِ، وَهِيَ مُنَجَّسَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَجَوَابُهُمْ يَكُونُ جَوَابُنَا، وَجَوَابُهُمْ بِأَنَّ نَجَاسَةَ الْكَلْبِ عُلِمَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ مَدْفُوعٌ بِعَدَمِ عِلْمِ التَّارِيخِ، وَأَمَّا سُكُوتُ عَمْرٍو عَلَى قَوْلِ عُمَرَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَحَمْلُ مَاءِ الْحَوْضِ وَالْحِيَاضِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ، دَلِيلُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، مَعَ أَنَّ الْحَوْضَ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَقَوْلُهُ: وَزَعْمُ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ لُحُومِ السِّبَاعِ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مَا حُرِّمَتْ إِلَّا تَدْرِيجًا كَمَا أَنَّهَا مَا فُرِضَتْ إِلَّا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: " {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] " قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَى تِلْكَ الْآيَةِ - مُحَرَّمًا غَيْرَ هَذِهِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي وُرُودَ التَّحْرِيمِ فِي شَيْءٍ آخَرَ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَصُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، فَالْمُحَرَّمُ بِنَصِّ الْكِتَابِ مَا ذُكِرَ، وَقَدْ حَرَّمَتِ السُّنَّةُ أَشْيَاءً يَجِبُ الْقَوْلُ بِهَا، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ إِلَّا مَالِكًا، فَإِنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، هَذَا وَحَدِيثُ: «سُئِلَ عَنِ الْمَاءِ فِي الْفَلَاةِ وَتَرِدُهُ السِّبَاعُ وَالدَّوَابُّ؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ. . . . .» . حُجَّةٌ إِلْزَامِيَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ.

488 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ عَنِ الطُّهْرِ مِنْهَا فَقَالَ: " لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 488 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ) أَيِ: الْغُدْرَانُ (الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) : فِي الْبَرَارِي (تَرِدُهَا) أَيِ: الْحِيَاضَ (السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ عَنِ الطُّهْرِ) : أَيِ التَّطَهُّرِ بَدَلٌ مِنَ الْحِيَاضِ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ (مِنْهَا) : أَيْ: مِنَ الْحِيَاضِ، فَقَالَ: " لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا غَبَرَ " بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: بَقِيَ (طَهُورٌ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٍ.

489 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَا تَغْتَسِلُوا بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 489 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَا تَغْتَسِلُوا بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ) : وَهُوَ أَنْ يُوضَعَ الْمَاءُ فِي الشَّمْسِ لِيُسَخَّنَ، كَذَا قِيلَ، وَظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ، فَيَشْمَلُ مَا وُضِعَ وَغَيْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: الْمُشَمَّسُ فِي إِنَاءٍ مُنْطَبِعٍ، وَهُوَ مَا يَمْتَدُّ تَحْتَ الْمِطْرَقَةِ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ فِي قُطْرٍ حَارٍّ وَقْتَ الْحَرِّ. أَيْ: لَا تَسْتَعْمِلُوهُ فِي أَبْدَانِكُمْ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، (فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ) أَيْ: طِبًّا ; لِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مَكْرُوهٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ عَدَمُ كَرَاهِيَتِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمَاءُ الْمُسَخَّنُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ كَرَاهَتُهُ، وَكَرِهَ أَحْمَدُ الْمُسَخَّنَ بِالنَّجَاسَةِ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ " يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، وَقَوْلُهُ: " لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ " مَحَلُّهُ إِذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ تَنْزِيهِيًّا ; لِلِاحْتِيَاطِ بِنَاءً عَلَى كَلَامِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَطِبَّاءِ، مَعَ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِكَلَامِهِمْ جَمِيعًا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، حَتَّى فِي أَمْرِ الْهِلَالِ الَّذِي مَا حَقَّقُوا شَيْئًا مِثْلَ تَحْقِيقِهِمْ فِيهَا، وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الشَّافِعِيَّةِ جَعَلُوا هَذَا مِنْ عُمَرَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَأَيَّدُوهُ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ بَلْ مَوْضُوعٍ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ «عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: سَخَّنْتُ لِلنَّبِيِّ مَاءً فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: " لَا تَفْعَلِي ; فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ» " ثُمَّ عَلَى التَّنَزُّلِ فِي قَبُولِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ أَيْنَ تُؤْخَذُ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي فِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُخَالِفَةُ لِظَاهِرِ الْخِبْرَيْنِ، وَلِذَا قِيلَ: لَمْ يَثْبُتْ عَنِ الْأَطِبَّاءِ فِيهِ شَيْءٌ، وَحَدِيثُ عُمَرَ ضَعِيفٌ ; فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِكَرَاهَتِهِ.

[باب تطهير النجاسات]

[بَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَاتِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 490 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكِمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِى رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ( «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» ) . [8] - بَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَاتِ أَيِ: الْحَقِيقِيَّةُ بِالْمَاءِ وَغَيْرِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 490 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ» ) : ضُمِّنَ شَرِبَ مَعْنَى وَلَغَ، فَعُدِّيَ تَعْدِيَتَهُ فِي النِّهَايَةِ: وَلَغَ الْكَلْبُ إِذَا شَرِبَ بِلِسَانِهِ (" فَلْيَغْسِلْهُ ") : أَيْ: ذَلِكَ الْإِنَاءَ (سَبْعَ مَرَّاتٍ) : فِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ لِغَسْلِهِ سَبْعًا مِنْ غَيْرِ تُرَابٍ، لَكِنْ تَعَبُّدًا لَا لِكَوْنِهِ نَجِسًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: طُهُورٌ) : بِضَمِّ الطَّاءِ وَتُفْتَحُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَشْهُرُ فِيهِ ضَمُّ الطَّاءِ، وَيُقَالُ: بِفَتْحِهَا لُغَتَانِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِضَمِّ الطَّاءِ بِمَعْنَى التَّطَهُّرِ أَوِ الطَّهَارَةِ (إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالظَّرْفُ مَعْمُولٌ لَهُ، وَالْخَبَرُ (أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) : أَيْ: مَعَهُنَّ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ صَحِيحَةٌ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، لَكِنْ بَيَّنَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ أَنَّ فِي سَنَدِهَا ضَعِيفًا وَمَجْهُولًا، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَأَوْ فِيهَا لِلشَّكِّ، كَمَا بَيَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَيْضًا: " وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ " أَخَذَ بِظَاهِرِهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: لَا تَعَارُضَ ; لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِحَمْلِ رِوَايَةِ أُولَاهُنَّ عَلَى الْأَكْمَلِ، إِذِ الْأُولَى أَحَبُّ مِنْ غَيْرِهَا اتِّفَاقًا، وَحَمْلُ رِوَايَةِ السَّابِعَةِ عَلَى الْجَوَازِ، وَرِوَايَةُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى الْإِجْزَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الطَّهُورَيْنِ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ ; لِكَوْنِ نَجَاسَتِهِ أَغْلَظَ النَّجَاسَاتِ، وَلَوْ وَلَغَ كَلْبَانِ أَوْ كَلْبٌ وَاحِدٌ سَبْعَ مَرَّاتٍ. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكْفِي لِلْجَمِيعِ سَبْعٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ ثَلَاثًا بِلَا تَعْفِيرٍ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ: أَنَّهُ إِذَا وَلَغَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ يُغْسَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ مُكَدَّرَةٌ بِالتُّرَابِ، وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ، عَنْ مَالِكٍ: لَا يُغْسَلُ مِنْ غَيْرِ الْوُلُوغِ ; لِأَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرٌ عِنْدَهُ، وَالْغَسْلُ مِنَ الْوُلُوغِ تَعْبُدٌ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا عَدَدَ فِي غَسْلِهِ وَلَا تَعْفِيرَ، بَلْ هُوَ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَطَاءٍ: لَا يَرَى بِشَعْرِ الْإِنْسَانِ بَأْسًا أَنْ يَتَّخِذَ مِنْهُ الْخُيُوطَ وَالْحِبَالَ، وَبِسُؤْرِ الْكِلَابِ وَمَمَرِّهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِذَا وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ وَلَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرَهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْهُ شَيْئًا يَتَوَضَّأُ وَيَتَيَمَّمُ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فِي الْكَلْبِ يَلَغُ فِي الْإِنَاءِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا» . رَوَاهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ مَرْفُوعًا: " «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِهِمْ فَلْيُهْرِقْهُ، وَلْيَغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» " وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ أَهْرَاقَهُ ثُمَّ غَسَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَحِينَئِذٍ فَيُعَارِضُ حَدِيثَ السَّبْعِ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَعَ حَدِيثِ السَّبْعِ دَلَالَةُ التَّقَدُّمِ لِلْعِلْمِ بِمَا كَانَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي أَمْرِ الْكِلَابِ أَوَّلَ الْأَمْرِ، حَتَّى أَمَرَ بِقَتْلِهَا، وَالتَّشْدِيدُ فِي سُؤْرِهَا يُنَاسِبُ كَوْنَهِ إِذْ ذَاكَ، وَقَدْ ثَبَتَ نَسْخُ ذَلِكَ، فَإِذَا عَارَضَ قَرِينَتَهُ مُعَارِضٌ كَانَ التَّقَدُّمُ لَهُ، فَالْأَمْرُ الْوَارِدُ بِالسَّبْعِ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، مَعَ أَنَّ فِي عَمَلِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى خِلَافِ حَدِيثِ السَّبْعِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ - كِفَايَةً لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُتْرَكَ الْقَطْعِيُّ لِلرَّاوِي مِنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّ ظَنِّيَّةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ رَاوِيهِ، فَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَاوِيهِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَطْعِيُّ حَتَّى يُنْسَخَ بِهِ الْكِتَابُ إِذَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ فِي مَعْنَاهُ، فَلَزِمَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ إِلَّا لِعِلْمِهِ بِالنَّاسِخِ؛ إِذِ الْقَطْعِيُّ لَا يَتْرُكُهُ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، بَلْ أَشْبَهُ فَيَكُونُ الْآخَرَ بِالضَّرُورَةِ.

491 - «وَعَنْهُ قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ، فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ - أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 491 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ) وَهُوَ ذُو الْخُويْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، (فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ) : أَيْ: بِأَلْسِنَتِهِمْ سَبًّا وَشَتْمًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: وَقَعُوا فِيهِ يُؤْذُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَخَذُوهُ لِلضَّرْبِ، وَالْأَظْهَرُ زَجَرُوهُ وَمَنَعُوهُ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ وَإِيذَاءٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، (فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ) : أَيْ: اتْرُكُوهُ ; فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ عَدَمَ جَوَازِ الْبَوْلِ فِي الْمَسْجِدِ ; لِقُرْبِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَبُعْدِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقِيلَ: لِئَلَّا يَتَعَدَّدَ مَكَانُ النَّجَاسَةِ، وَقِيلَ: لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِانْحِبَاسِ الْبَوْلِ، (وَهَرِيقُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَهْرِيقُوا بِسُكُونِ

الْهَاءُ بَعْدَ هَمْزَةٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْمَصَابِيحِ، عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمْرٌ مِنْ أَهْرَاقَ يُهْرِيقُ - بِسُكُونِ الْهَاءِ - إِهْرَاقًا نَحْوَ اسْطَاعًا، وَأَصْلُهُ أَرَاقَ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً، ثُمَّ جُعِلَ عِوَضًا عَنْ ذَهَابِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهَا الْهَمْزَةُ أَيْ: صُبُّوا " عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا " بِفَتْحِ السِّينِ أَيْ: دَلْوًا (مِنْ مَاءٍ - أَوْ ذَنُوبًا) : بِفَتْحِ الذَّالِ، وَهُوَ الدَّلْوُ أَيْضًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَقَالَ مِيرَكُ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ ; لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ فَرْقٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ اهـ. وَمَالَ ابْنُ الْمَلَكِ إِلَى الثَّانِي، وَقَالَ: يَعْنِي خَيَّرَهُمْ بَيْنَ أَنْ يُهَرِيقُوا فِيهِ سَجْلًا غَيْرَ مَلْأَى، أَوْ ذَنُوبًا مَلْأَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّجْلُ الدَّلْوُ فِيهِ الْمَاءُ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَالذَّنُوبُ يُؤَنَّثُ، وَهُوَ مَا مُلِئَ مَاءً، فَقَوْلُهُ (مِنْ مَاءٍ) : أَيْ: فِي الْمَوْضِعَيْنِ زِيَادَةٌ وَرَدَتْ تَأْكِيدًا اهـ ; لِأَنَّ السَّجْلَ وَالذَّنُوبَ لَا يُسْتَعْمَلَانِ إِلَّا فِي الدَّلْوِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ، وَقِيلَ: مِنْ لِلتَّبْيِينِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَاءٍ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ التَّطْهِيرَ بِغَيْرِ الْمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ بِأَنَّ اسْتِدْلَالَ الشَّافِعِيَّةِ بِهَذَا الْخَبَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ قَطْعًا مِنْ تَخْصِيصِ الْمَاءِ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَاءُ مِنْ عُمُومِ الْمَوْجُودِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ الِابْتِدَارُ إِلَى تَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ لَا بَيَانُ مَا تُزَالُ بِهِ النَّجَاسَةُ. قَالَ الْمُظْهِرَ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَاثَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ طَهَّرَهَا، وَعَلَى أَنَّ غُسَالَاتِ النَّجَاسَةِ طَاهِرَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَغَيُّرٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُطَهِّرَةً، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الْمَاءُ الْمَصْبُوبُ عَلَى الْبَوْلِ أَكْثَرَ تَنْجِيسًا لِلْمَسْجِدِ مِنَ الْبَوْلِ نَفْسِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَطْهُرُ حَتَّى يُحْفَرَ ذَلِكَ التُّرَابُ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَجَفَّتْ أَوْ ذَهَبَ أَثَرُهَا طَهُرَتْ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ حَفْرٍ وَلَا صَبِّ مَاءٍ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ اتِّفَاقِيٌّ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَفَافِ بِالشَّمْسِ أَوِ الرِّيحِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَثَرِ الذَّاهِبِ اللَّوْنُ أَوِ الرِّيحُ اهـ. وَفَى شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ إِذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ لَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ، وَلَا يَجِبُ حَفْرُ الْأَرْضِ وَلَا نَقْلُ التُّرَابِ إِذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عَزَبًا أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتِ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْلَا اعْتِبَارُهَا أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ كَانَ ذَلِكَ تَبْقِيَةً لَهَا بِوَصْفِ النَّجَاسَةِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ أَلْبَتَّةَ، إِذْ لَا بُدَّ مِنْهُ مَعَ صِغَرِ الْمَسْجِدِ وَعَدَمِ مَنْ يَتَخَلَّفُ فِي بَيْتِهِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ يَكُونُ فِي بُقَعٍ كَثِيرَةٍ حَيْثُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ، فَإِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ يُفِيدُ تِكْرَارَ الْكَائِنِ مِنْهَا، أَوْ لِأَنَّ تَبْقِيَتَهَا نَجِسَةٌ يُنَافِي الْأَمْرَ بِتَطْهِيرِهِ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ بِخِلَافِ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِهْرَاقِ ذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ نَهَارًا، وَقَدْ لَا يَجِفُّ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِهَا بِالْمَاءِ بِخِلَافِ مُدَّةِ اللَّيْلِ؛ أَوْ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَانَ إِذْ ذَاكَ قَدْ آنَ أُرِيدَ إِذْ ذَاكَ أَكْمَلُ الطَّهَارَتَيْنِ الْمُتَيَسَّرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، هَذَا إِذَا قُصِدَ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ صُبَّ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَجُفِّفَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِخِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ، وَكَذَا لَوْ صُبَّ عَلَيْهَا مَاءٌ بِكَثْرَةٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَلَا رِيحُهَا، فَإِنَّهَا تَطْهُرُ اهـ كَلَامُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَجْوِبَةً عَجِيبَةً بِعِبَارَةٍ غَرِيبَةٍ لَا بَأْسَ بِذِكْرِهَا قَالَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ يَحْتَمِلُ تَعَلُّقُهُ بِتَبَوَّلَ، وَبِمَا بَعْدَهُ فَقَطْ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي مَذْهَبِ الْخَصْمِ، وَبِتَسْلِيمٍ أَنَّهُ عَائِدٌ لِلْجَمِيعِ كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَدَمَ الرَّشِّ إِنَّمَا هُوَ لِخَفَاءِ مَحَلِّ بَوْلِهَا، وَعَلَى التَّنَزُّلِ كَانَ هَذَا مِنْ قَبْلُ الْأَمْرِ بِقَتْلِهَا، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَعَدَمُ الرَّشِّ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّهَارَةَ، بَلِ الْعَفْوُ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِلْقَائِلِ بِالطَّهَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ النَّجِسَةَ تَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَغْمُرُهَا. قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّبُّ تَسْكِينَ رَائِحَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ لَا لِلتَّطْهِيرِ، بَلِ التَّطْهِيرُ يَحْصُلُ بِالْيُبْسِ لِخَبَرِ: زَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا، أَوْ يُقَالُ: رُوِيَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مَنْفَذًا، فَحِينَئِذٍ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا عَلَيْهِ اهـ.

لَكِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: حَدِيثُ " زَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا " لَا أَصْلَ لَهُ، إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَوْلُهُمَا اهـ. وَالْمُرَادُ بِأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ أَبُو الصَّادِقِ (فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ) : لَمَّا كَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْمَبْعُوثِ وُصِفُوا بِالْبَعْثِ. (مُيَسِّرِينَ) : حَالٌ أَيْ: مُسَهِّلِينَ عَلَى النَّاسِ (وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) : عَطَفٌ عَلَى السَّابِقِ عَلَى طَرِيقِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ مُبَالَغَةً فِي الْيُسْرِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: فَعَلَيْكُمْ بِالتَّيْسِيرِ أَيُّهَا الْأُمَّةُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ) .

492 - «وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَزْرِمُوهُ، دَعُوهُ ". فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: " إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ، إِنَّمَا لِذِكْرِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) . أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ» ، فَسَنَّهُ عَلَيْهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 492 - (وَعَنْ أَنَسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) : أَيْ: دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ (فَقَامَ) : أَيْ: وَقَفَ (يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ: اسْمُ فِعْلِ مَعْنَاهُ اكْفُفْ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَزِيَادَةِ التَّهْدِيدِ، فَإِنْ وُصِلَتْ تُؤَنَّثُ يُقَالُ: مَهْمَهْتُ بِهِ أَيْ: زَجَرْتُهُ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُزْرِمُوهُ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الزَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ ; فَإِنَّهُ يَضُرُّهُ أَوْ تَنْتَشِرُ النَّجَاسَةُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: زَرِمَ الْبَوْلُ بِالْكَسْرِ إِذَا انْقَطَعَ، وَأَزْرَمَهُ غَيْرُهُ (دَعُوهُ) : أَيْ: اتْرُكُوهُ (فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ) : أَيْ: طَلَبَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيَّ لِيُعْلِمَهُ بِمَا يَجِبُ لِلْمَسَاجِدِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ وَأَلْطَفِهِ. (فَقَالَ لَهُ) : أَيْ لِلْأَعْرَابِيِّ (إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ) : الْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِمَسْجِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَا تَصْلُحُ) : أَيْ: لَا تَلِيقُ (لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ) : الْإِشَارَةُ لِلتَّحْقِيرِ (وَالْقَذَرِ) : هُوَ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَا يَتَنَفَّرُ مِنْهُ الطَّبْعُ كَالنَّجَاسَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُنْتِنَةِ، فَذِكْرُهُ بَعْدَ الْبَوْلِ يَكُونُ تَعْمِيمًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِكَسْرِ الذَّالِ (إِنَّمَا هِيَ) : أَيِ: الْمَسَاجِدُ مَوْضُوعَةٌ شَرْعًا وَعُرْفًا (لِذِكْرِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ (أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ مِنْ أَنَسٍ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَوْ قَوْلًا شَبِيهًا بِهِ. (قَالَ) : أَيْ: أَنَسٌ (وَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ) : بِإِتْيَانِ دَلْوٍ (فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَسَنَّهُ) : بِالْمُهْمَلَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْمُعْجَمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: سَنَنْتُ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِي إِذَا أَرْسَلْتُهُ إِرْسَالًا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، فَإِذَا فَرَّقْتُهُ فِي الصَّبِّ قُلْتَ: بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ كَمَا هُوَ فِي الصِّحَاحِ اهـ. وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْقَامُوسِ، وَالْمَقَامُ يُنَاسِبُ الْأَوَّلَ أَيْ: فَصَبَّهُ (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى مَكَانِ الْبَوْلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: فِيهِ تَأْمُلٌ ; لِأَنَّ صَاحِبَ التَّخْرِيجِ نَسَبَ هَذَا الْحَدِيثَ إلَى مُسْلِمٍ دُونَ الْبُخَارِيِّ. قُلْتُ: وَفِي مَعْنَاهُ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ لِلْبُخَارِيِّ، فَكَانَ اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ.

493 - «وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصَنُّعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّي فِيهِ» ") . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 493 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ أَسْمَاءَ هِيَ السَّائِلَةُ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَضَعَّفَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِلَا دَلِيلٍ، وَهِيَ صَحِيحَةُ الْإِسْنَادِ، وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُبْهِمَ الرَّاوِي نَفْسَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ. (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا) : بِحَذْفٍ مُضَافٍ أَيْ: أَخْبِرْنِي فِي حَالِ إِحْدَانَا (إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحِيضَةِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: مِنْ دَمِ الْحَيْضِ. قَالَ صَاحِبُ التَّخْرِيجِ: هِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْحَيْضُ اهـ. وَبِكَسْرِهَا هِيَ الْخِرْقَةُ الَّتِي تَسْتَثْفِرُهَا الْمَرْأَةُ فِي الْحَيْضِ، وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ فِي الْحَدِيثِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْكَسْرُ، كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ.

قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيِ: الْخِرْقَةُ، وَقَدْ تَكُونُ اسْمًا مِنَ الْحَيْضِ وَنَوْعًا مِنْهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْقَرَائِنِ السَّابِقَةِ، وَبِالْفَتْحِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنَّهَا يُصِيبُهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضِ شَيْءٌ (كَيْفَ تَصْنَعُ؟) : مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِخْبَارِ أَيْ: أَخْبِرْنَا كَيْفَ تَصْنَعُ إِحْدَانَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضِ» ) : ذِكْرُ الثَّوْبِ لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ، بَلْ لِمُوَافَقَةِ الْوَاقِعِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ (فَلْتَقْرُصْهُ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ (ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَتُسَكَّنُ، وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتُكْسَرُ. قَالَ فِي شَمْسِ الْعُلُومِ: نَضَحَ بِالْفَتْحِ يَنْضَحُ كَذَلِكَ، وَبِالْكَسْرِ أَيْضًا بِمَاءٍ. فِي النِّهَايَةِ، الْقَرْصُ: الدَّلْكُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ وَالْأَظْفَارِ مَعَ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ حَتَّى يَذْهَبَ أَثَرُهُ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي غَسْلِ الدَّمِ، وَالنَّضْحُ يُسْتَعْمَلُ فِي الصَّبِّ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. قِيلَ: لِأَنَّ الرَّشَّ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِ الدَّمِ لَا يَزْدَادُ إِلَّا نَجَاسَةً. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ فَلْتَمَسَحْهُ بِيَدِهَا مَسْحًا شَدِيدًا قَبْلَ الْغَسْلِ حَتَّى يَتَفَتَّتَ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ أَيْ: لِتَغْسِلْهُ بِمَاءٍ، بِأَنْ تَصُبَّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَذْهَبَ أَثَرُهُ تَخْفِيفًا لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ: حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى مَا لَوْ عَسُرَتْ إِزَالَةُ الْأَثَرِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ بَقَاءِ الْأَثَرِ: الْمَاءُ يَكْفِيكِ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِخَبَرِ جَمَاعَةٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ تَغْسِلُهُ فَيَبْقَى أَثَرُهُ فَقَالَ (يَكْفِيكِ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ) (ثُمَّ لِتُصَلِّي فِيهِ» ) : أَيْ: فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بَعْدَ هَذَا ; لِأَنَّ إِزَالَةَ لَوْنِ الدَّمِ مُتَعَسِّرَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهَا بِإِزَالَةِ الْحَيْضَةِ بِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّجَاسَاتِ إِجْمَاعًا اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا تَعْيِينَ بِطْرِيقِ الْحَصْرِ، بَلْ ذَكْرُهُ وَاقِعِيٌّ غَالِبِيٌّ أَوْ يَقِيسُ عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمَائِعِ الْمُزِيلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

494 - «وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 494 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) : هُوَ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ كِبَارِ تَابِعِي الْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ) : يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالْوَصْفَ (فَقَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ) : أَيِ: الْمَنِيَّ (مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ يَحْمِلَانِ الْغَسْلِ عَلَى الطَّهَارَةِ مِنَ الْقَذَارَةِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ النَّظَافَةِ، وَحَمْلُهُ عَلَى النِّسْيَانِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا مَعَ قَوْلِهَا: " كُنْتُ " الدَّالِّ عَلَى التَّكْرَارِ وَالدَّوَامِ، وَضْعًا أَوْ عُرْفًا، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَغَسْلُهَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الِاحْتِيَاطِ ; لِطَهَارَتِهِ عِنْدَنَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ فِي حَقِّهَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَتَأَمَّلْ. (مُتَّفَق عَلَيْهِ ) .

495 - وَعَنِ الْأَسْوَدِ وَهَمَّامٍ، «عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 495 - (وَعَنِ الْأَسْوَدِ) : هُوَ النَّخَعِيُّ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَرَأَى الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ، وَهُوَ خَالُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ هِلَالٍ الْمُحَارِبِيُّ، رَوَى عَنْ عُمَرَ، وَمُعَاذٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ. (وَهَمَّامٍ) : بِالتَّشْدِيدِ، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ نَخَعِيٌّ تَابِعِيٌّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَزَادَ الْمُصَنِّفِ: سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ. رَوَى عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، (عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَتُكْسَرُ (الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: أَدْلُكُهُ وَأَمْسَحُهُ مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَرْكُ: الدَّلْكُ حَتَّى يَذْهَبَ الْأَثَرُ مِنَ الثَّوْبِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمَنِيَّ طَاهِرٌ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ نَجِسٌ يُغْسَلُ رَطْبُهُ، وَيُفْرَكُ يَابِسُهُ، وَمَنْ قَالَ بِالطَّهَارَةِ قَالَ: حَدِيثُ الْغَسْلِ لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ الْفَرْكِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّظَافَةِ يَعْنِي: كَغَسْلِ الثَّوْبِ مِنَ الْمُخَاطِ وَالنَّجَاسَةِ، وَالْحَدِيثَانِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُمَا عَلَى التَّنَاقُضِ اهـ. وَحَاصِلُ تَمَسُّكِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ نَجِسًا لَمْ يَكْتَفِ بِفَرْكِهِ، وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ، «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَمْسَحُهُ

أَوْ أَغْسِلُهُ» ، شَكَّ الْحُمَيْدِيُّ، إِذَا كَانَ رَطْبًا. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَأَغْسِلُهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَهَذَا فِعْلُهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خُصُوصًا إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهَا مَعَ الْتِفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى طَهَارَةِ ثَوْبِهِ وَفَحْصِهِ عَنْ حَالِهِ، فَلَوْ كَانَ طَاهِرًا لَمَنَعَهَا مِنْ إِتْلَافِ الْمَاءِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ «عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى بِئْرٍ أَدْلُو مَاءً فِي رَكْوَةٍ فَقَالَ: (يَا عَمَّارُ، مَا تَصْنَعُ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي وَأُمِّي، أَغْسِلُ ثَوْبِي مِنْ نُخَامَةٍ أَصَابَتْهُ، فَقَالَ: (يَا عَمَّارُ إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: مِنَ الْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ، وَالْقَيْءِ، وَالدَّمِ، وَالْمَنِيِّ، يَا عَمَّارُ مَا نُخَامَتُكَ وَدُمُوعُ عَيْنَيْكَ وَالْمَاءُ الَّذِي فِي رَكْوَتِكَ إِلَّا سَوَاءٌ» ) . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ: (إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُزَاقِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ» ) فَهُوَ بَعْدَ تَسْلِيمِ حُجَّتِهِ مَعَارَضٌ بِمَا قَدَّمْنَا، وَرُجِّحَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُحَرِّمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُبِيحِ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ ) .

496 - وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 496 - (وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ) : أَيْ: نَحْوُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَمَعْنَاهَا وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْجَارُّ الْمُتَقَدِّمُ، وَعَنْ عَائِشَةَ مُتَعَلِّقٌ بِالرِّوَايَةِ (وَفِيهِ) : أَيْ: وَفِي مَرْوِيِّهَا زِيَادَةٌ، قَوْلُهَا: (ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ) : أَيْ: فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ: فَيُصَلِّي فِيهِ، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهَا: «كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ» ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ غَرِيبٌ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ.

497 - «وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 497 - (وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ) : مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ (بِنْتِ مِحْصَنٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ بَعْدَهَا نُونٌ، أُخْتُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيِّ، أَسَلَمَتْ بِمَكَّةَ قَدِيمًا، وَبَايَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ (أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ) : بِالْجَرِّ، صِفَةٌ لِابْنٍ، (لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ) : أَيِ: الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ التَّغَذِّي مِنْ غَيْرِ اللَّبَنِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَتَتْ (فَأَجْلَسَهُ) أَيْ: ذَلِكَ الِابْنَ (رَسُولُ اللَّهِ فِي حِجْرِهِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتُفْتَحُ، قَالَ فِي الْمَشَارِقِ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، هُوَ الثَّوْبُ وَالْحِضْنُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ فَالْفَتْحُ لَا غَيْرُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْمُ فَالْكَسْرُ لَا غَيْرُ. (فَبَالَ) : أَيْ ذَلِكَ الِابْنُ (عَلَى ثَوْبِهِ) : أَيْ: ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَدَعَا بِمَاءٍ) : أَيْ: طَلَبَهُ (فَنَضَحَهُ) : أَيْ: أَسَالَ الْمَاءَ عَلَى ثَوْبِهِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ (وَلَمْ يَغْسِلْهُ) : أَيْ: لَمْ يُبَالِغْ فِي الْغَسْلِ بِالرَّشِّ وَالدَّلْكِ ; لِأَنَّ الْغُلَامَ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، فَلَمْ يَكُنْ لِبَوْلِهِ عُفُونَةٌ يُفْتَقَرُ فِي إِزَالَتِهَا إِلَى الْمُبَالَغَةِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْهُ بِالْمَرَّةِ، بَلْ أَرَادَ بِهِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْغَسْلَيْنِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ غَسْلٌ دُونَ غَسْلٍ، فَعَبَّرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالْغَسْلِ، وَعَنِ الْآخَرِ بِالنَّضْحِ، وَحَدِيثُ لُبَابَةَ الْآتِي يُبَيِّنُ أَنَّ عِلَّةَ النَّضْحِ فِي حَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ هِيَ الْمَذْكُورَةُ، وَقَوْلُهَا: لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ شَيْءٌ حَسِبَتْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْهَانٌ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِالنَّضْحِ رَشُّ الْمَاءِ بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى جَمِيعِ مَوَارِدِ الْبَوْلِ مِنْ غَيْرِ جَرْيٍ، وَالْغَسْلُ إِجْرَاءُ الْمَاءِ عَلَى مَوَارِدِهَا، وَالْفَارِقُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ أَنَّ بَوْلَهَا بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الرُّطُوبَةِ وَالْبَرْدِ عَلَى مِزَاجِهَا يَكُونُ أَغْلَظَ وَأَنْتَنَ، فَيُفْتَقَرُ فِي إِزَالَتِهَا إِلَى زِيَادَةِ مُبَالَغَةٍ بِخِلَافِ الْمَنِيِّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ تَجْوِيزُ مَنْ جَوَّزَ النَّضْحَ فِي الصَّبِيِّ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَوْلَهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَجْلِ التَّخْفِيفِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ طَاهِرٌ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ حَمْلِ الْأَطْفَالِ إِلَى أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ لِلتَّبَرُّكِ، سَوَاءٌ كَانُوا فِي حَالِ الْوِلَادَةِ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَاللِّينِ وَالتَّوَاضُعِ بِالصِّغَارِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .

498 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 498 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْجِلْدُ الْغَيْرُ الْمَدْبُوغِ، سُمِّيَ إِهَابًا؛ لِأَنَّهُ أُهْبَةٌ لِلْحَيِّ وَبِنَاءٌ لِلْحِمَايَةِ عَلَى جَسَدِهِ، كَمَا يُقَالُ لَهُ: مَسْكٌ ; لِإِمْسَاكِهِ وَرَاءَهُ، وَهَذَا كَلَامٌ قَدْ سُلِكَ فِيهِ مَسْلَكُ التَّمْثِيلِ، (فَقَدْ طَهُرَ) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا بِعُمُومِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَعَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: جِلْدُ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِهِ الْآدَمِيَّ تَكْرِيمًا لَهُ، وَالْخِنْزِيرَ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ. قَالَ الْأَشْرَفُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِهَابِ: وَفِي حَدِيثِ سَوْدَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِلْدَ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ بِالدِّبَاغِ حَتَّى جَوَّزَ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْأَشْيَاءِ الرَّطْبَةِ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِيهِ أَيْ: فِي الْبَابِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا هِيَ دُبِغَتْ، تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمَادًا أَوْ مِلْحًا أَوْ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ صَلَاحُهُ» "، يَعْنِي: إِذَا جَفَّ وَخَرَجَ مِنْهُ النَّتْنُ وَالْفَسَادُ.

499 - وَعَنْهُ قَالَ: «تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ "، فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: " إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 499 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: تُصُدِّقَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ: دُفِعَتْ صَدَقَةٌ (عَلَى مَوْلَاةٍ) : أَيْ: عَتِيقَةٍ (لِمَيْمُونَةَ) : إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (بِشَاةٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِتُصُدِّقَ (فَمَاتَتْ) : أَيِ: الشَّاةُ (فَمَرَّ بِهَا) : أَيْ: بِالشَّاةِ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " هَلَّا ") : تَحْضِيضِيَّةٌ أَيْ: لِمَ لَا (" أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ، فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ " فَقَالُوا: إِنَّهَا) أَيِ: الشَّاةُ (مَيْتَةٌ) أَيْ: لَا مُذَكَّاةٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَي أَنَّ مَا طَهُرَ بِالدَّبْغِ طَهُرَ بِالذَّكَاةِ كَمَا قَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا. (فَقَالَ: " إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا ") : قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِّينَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: حَرُمَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَحُرِّمَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَالثَّانِي فِي النُّسَخِ أَكْثَرُ، وَلِلْمُطَابَقَةِ بِالْآيَةِ أَظْهَرُ. قَالَ ابْن المَلَكِ: أَيْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا جِلْدُهَا فَيَجُوزُ دِبَاغَتُهُ، وَيَطْهُرُ بِهَا حَتَّى يَجُوزَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الرَّطْبَةِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ وَالصَّلَاةِ مَعَهُ وَعَلَيْهِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ ذَهَبَ أَيْ: أَنَّ مَا عَدَا الْمَأْكُولَ غَيْرَ مُحَرَّمِ الِانْتِفَاعِ كَالشَّعْرِ وَالسِّنِّ وَالْقَرْنِ، وَنَحْوِهَا، وَقَالُوا: لَا حَيَاةَ فِيهَا فَلَا تَنْجُسُ بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ، وَجَوَّزُوا اسْتِعْمَالَ عَظْمِ الْفِيلِ، وَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ اهـ. فِي النِّهَايَةِ، قِيلَ: الْعَاجُ شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنْ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا عَظْمُ الْفِيلِ، وَاقْتَصَرَ الْقَامُوسُ عَلَى الثَّانِي، وَجَاءَ فِي الْقَامُوسِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِثَوْبَانَ: اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سُوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .

500 - «وَعَنْ سَوْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ، فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 500 - (وَعَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَهُوَ أَفْصَحُ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ مِنَ الزَّوْجَةِ قَالَ تَعَالَى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا. (قُلْتُ: وَهُوَ أَفْصَحُ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] وَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ مِنَ الضَّمِّ فَهُوَ مِنْ سَهْوِ الْقَلَمِ (فِيهِ) أَيْ: نَطْرَحُ فِيهِ مَاءً، وَقَالَ ابْنُ المَلَكِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ نَتَّخِذُ فِيهِ نَقِيعًا مِنْ تَمْرٍ لِيَحْلُوَ، وَكَأَنَّهُمَا أُخِذَا مِنْ ظَاهِرِ النَّبْذِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَفِي الْقَامُوسِ النَّبْذُ: طَرْحُكَ الشَّيْءَ أَمَامَكَ أَوْ وَرَاءَكَ أَوْ عَامٌّ، وَالْفِعْلُ كَضَرَبَ، وَالنَّبِيذُ الْمُلْقَى وَمَا نُبِذَ مِنْ عَصِيرٍ وَنَحْوِهِ (حَتَّى صَارَ) : أَيْ: بَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ (شَنًّا) : بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: سِقَاءً خَلِقًا عَتِيقًا. وَقِيلَ: هُوَ الْقِرْبَةُ الْخَلِقَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهَا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الشِّنَانُ الْأَسْقِيَةُ الْخَلِقَةُ وَاحِدُهَا شَنٌّ وَشَنَّةٌ، وَهِيَ أَشَدُّ تَبْرِيدًا لِلْمَاءِ مِنَ الْجُدَدِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَوَرَدَ «عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: طَهُورُ كُلِّ أَدِيمٍ دِبَاغُهُ» ". أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَتَعْبِيرُ ابْنِ حَجَرٍ بِأَنَّهُ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ صَحِيحُ الْمَعْنَى، وَهُوَ خِلَافُ الْمُصْطَلَحِ ; لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ صَحِيحَ الْمَعْنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 501 - «عَنْ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ. فَقُلْتُ: الْبَسْ ثَوْبًا، وَأَعْطِنِي إِزَارَكَ حَتَّى أَغْسِلَهُ، قَالَ: إِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى، وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. الْفَصْلُ الثَّانِي 501 - (عَنْ لُبَابَةَ) : بِضَمِّ اللَّامِ هِيَ أُمُّ الْفَضْلِ مِنْ قَبِيلَةِ عَامِرٍ، وَهِيَ زَوْجَةُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُمُّ أَكْثَرِ بَنِيهِ، وَهِيَ أُخْتُ مَيْمُونَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (بِنْتِ الْحَارِثِ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: يُقَالُ أَنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ بَعْدَ خَدِيجَةَ، رَوَتْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً (قَالَتْ: كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتُضَمُّ (فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ) : أَيْ: إِزَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَقُلْتُ) : أَيْ: لِلنَّبِيِّ (الْبَسْ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ (ثَوْبًا) : أَيْ: قَمِيصًا أَوْ إِزَارًا آخَرَ (وَأَعْطِنِي إِزَارَكَ) : أَيِ الْمُتَنَجِّسَ (حَتَّى أَغْسِلَهُ. فَقَالَ: يُغْسَلُ ") أَيِ: الثَّوْبُ، عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْغَسْلِ بِالدَّلْكِ مَعَ الْإِجْرَاءِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (" مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى ") : لِمَا سَبَقَ (" وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ ") . قَالَ الطَّحَاوِيُّ: النَّضْحُ الْوَارِدُ فِي بَوْلِ الصَّبِيِّ الْمُرَادُ بِهِ الصَّبُّ لِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَيْهِ فَقَالَ: صُبُّوا عَلَيْهِ الْمَاءَ صَبًّا " قَالَ: فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ حُكْمَ بَوْلِ الْغُلَامِ الْغَسْلُ، إِلَّا أَنَّهُ يُجَزِئُ فِيهِ الصَّبُّ، يَعْنِي: وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعَصْرِ، وَحُكْمُ بَوْلِ الْجَارِيَةِ أَيْضًا الْغَسْلُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِيهِ الصَّبُّ ; لِأَنَّ بَوْلَ الْغُلَامِ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لِضِيقِ مَخْرَجِهِ، وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يَتَفَرَّقُ فِي مَوَاضِعَ لِسَعَةِ مَخْرَجِهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، قَالَهُ السَّيِّدُ، (وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهَا: «يُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ، وَيُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ» .

502 - وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، قَالَ: " «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 502 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ) : بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى ابْنِ مَاجَهْ، قَالَهُ مِيرَكُ شَاهْ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِالْجَرِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنْ إِنَّمَا يَصِحُّ الْجَرُّ لَوْ كَانَ لِلنِّسَائِيِّ رِوَايَتَانِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَحِينَئِذٍ لَوْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَهُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، فَكَانَ لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَهُ مَعَهُمْ أَوَّلًا أَيْضًا، كَمَا ذَكَرَ أَبَا دَاوُدَ مَرَّتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ النَّسَائِيُّ لَيْسَ لَهُ إِلَّا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ كَالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَبِي دَاوُدَ، فَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ لَكِنْ لَا بِالْعَطْفِ عَلَى ابْنِ مَاجَهْ لِوُجُودِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ كَذَلِكَ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} [المائدة: 69] بِالرَّفْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بَعْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُمَا صَحِيحٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، (عَنْ أَبِي السَّمْحِ) : اسْمُهُ إِيَادٌ، وَيُقَالُ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَهُوَ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ السَّيِّدُ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: وَيُقَالُ: مَوْلَاهُ، وَإِيَادٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، وَلَا يُدْرَى أَيْنَ مَاتَ، فَقَالَ: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ» ") : قَالَ مِيرَكُ: لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي السَّمْحِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: كُنْتُ أَخْدِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَالَ: " وَلِّنِي قَفَاكَ " فَأُوَلِّيَهِ قَفَايَ، فَأَسْتُرَهُ بِهِ، فَأُتِيَ بِحَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَبَالَ عَلَى صَدْرِهِ يَعْنِي: مَوْضِعَهُ مِنَ الثِّيَابِ، فَجِئْتُ أَغْسِلُهُ فَقَالَ: " «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ» ". قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقَوْلُهُ: " «يُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ» " بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَاءُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: لِيَكُنِ الْمَاءُ مِثْلَ الْبَوْلِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ بَوْلِهِ وَبَوْلِهَا، وَهُوَ أَنَّ بَوْلَهُ كَالْمَاءِ رِقَّةً وَبَيَاضًا، وَبَوْلُهَا أَصْفَرُ ثَخِينٌ، وَتَكْثُرُ نَجَاسَتُهُ بِمُخَالَطَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا وَهِيَ نَجِسَةٌ؛ وَلِأَنَّ الذُّكُورَ أَقْوَى مِزَاجًا مِنَ الْإِنَاثِ، وَالرَّخَاوَةُ غَالِبَةٌ عَلَى أَمْزِجَتِهِنَّ، فَتَكُونُ الْفَضَلَاتُ الْخَارِجَةُ مِنْهُنَّ أَشَدَّ احْتِيَاجًا إِلَى الْغَسْلِ، وَأَيْضًا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّخْفِيفِ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِحَمْلِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ دُونَ الْجَوَارِي.

وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: أَنْ يُغْسَلَ بَوْلُهُمَا مَعًا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ الْغَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ اهـ. قُلْتُ: وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: بَوْلُ الصَّبِيِّ مَا لَمْ يَأْكُلْ طَعَامًا طَاهِرٌ.

503 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلِهِ الْأَذَى، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلِابْنِ مَاجَهْ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 503 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا وَطِئَ ") : بِكَسْرِ الطَّاءِ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ) أَيْ: قَرُبَ وَمَسَحَ وَدَاسَ (أَحَدُكُمْ بِنَعْلِهِ) : وَفِي مَعْنَاهُ الْخُفُّ (الْأَذَى) : أَيِ النَّجَاسَةَ يَعْنِي فَتَنَجَّسَ (فَإِنَّ التُّرَابَ) أَيْ: بَعْدَهُ (لَهُ) أَيْ: لِنَعْلِ أَحَدِكُمْ، وَرَجْعُ الضَّمِيرِ لِلْأَذَى مُفْسِدٌ لِلْمَعْنَى (طَهُورٌ) : أَيْ: مُطَهِّرٌ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: إِذَا أَصَابَ أَكْثَرَ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلَ نَجَاسَةٌ فَدَلَكَهُ بِالْأَرْضِ حَتَّى ذَهَبَ أَكْثَرُهَا فَهُوَ طَاهِرٌ، وَجَازَتِ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا بُدَّ مِنَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ، فَيُئَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّ الْوَطْءَ عَلَى نَجَاسَةٍ يَابِسَةٍ فَيَتَشَبَّثُ شَيْءٌ مِنْهَا وَيَزُولُ بِالدَّلْكِ، كَمَا أُوِّلَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْآتِي بِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا صَدَرَ فِيمَا جُرَّ مِنَ الثِّيَابِ عَلَى مَا كَانَ يَابِسًا مِنَ الْقَذَرِ، إِذْ رُبَّمَا يَتَشَبَّثُ شَيْءٌ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَكَانَ الَّذِي بَعْدَهُ يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الثَّوْبَ إِذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ لَا يَطْهُرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَإِنَّ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَى ظَاهِرِهِ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ ; لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَطْهُرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ، بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنَ التَّابِعِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الدَّلْكَ يُطَهِّرُهُ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ حَسَنٌ لَمْ يُطْعَنْ فِيهِ، وَحَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ مَطْعُونٌ فِيهِ ; لِأَنَّ مِمَّنْ يَرْوِيهِ أُمَّ وَلَدٍ لِإِبْرَاهِيمَ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ. قِيلَ: كَانَ الشَّيْخُ يَحْمِلُ الثَّوْبَ عَلَى النَّجَاسَةِ الْيَابِسَةِ رَدًّا لِقَوْلِ مُحْيِي السُّنَّةِ: إِنَّهُمَا مَحْمُولَانِ عَلَى الْيَابِسَةِ، وَحَدِيثُ الْخُفِّ عَلَى الرَّطْبَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كِلَاهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى الرَّطْبَةِ إِذْ قَالَ الْأَوَّلُ: طَهُورُهُ التُّرَابُ، وَفِي الثَّانِي: يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ وَلَا تَطَهُّرَ إِلَّا بَعْدَ النَّجَاسَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْيُسْرِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: إِنَّ الْخُفَّ إِنَّمَا يَطْهُرُ بِالدَّلْكِ إِذَا جَفَّتِ النَّجَاسَةُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الرَّطْبَةِ، نَعَمْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا مَسَحَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ وَالنَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةٌ كَالْعَذِرَةِ وَالرَّوَثِ وَالْمَنِيِّ تُطَهِّرُهُ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ لَا تَطْهُرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ كَذَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: كَذَا اللَّفْظُ، وَفِي سَنَدِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ، وَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ حَسَنٌ لَمْ يُطْعَنْ فِيهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ الْمَجْهُولُ مَعْلُومًا عِنْدَهُ، أَوْ جَهَالَتُهُ بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ تَرْتَفِعُ مَضَرَّتُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُمُ الْأَذَى بِخُفِّهِ فَطَهُورُهُ التُّرَابُ " نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَلِابْنِ مَاجَهْ مَعْنَاهُ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

504 - «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي، وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ. قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ» " رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ وَقَالَا: الْمَرْأَةُ أُمُّ وَلَدٍ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 504 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ: إِنِّي أُطِيلُ) : مِنَ الْإِطَالَةِ (ذَيْلِي، وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ) : أَيِ: النَّجِسِ وَهُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ أَيْ: فِي مَكَانٍ ذِي قَذَرٍ (فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: فِي جَوَابِ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ (يُطَهِّرُهُ: أَيِ الذَّيْلَ (مَا بَعْدَهُ) : أَيِ: الْمَكَانُ الَّذِي بَعْدَ الْمَكَانِ الْقَذِرِ بِزَوَالِ مَا يَتَشَبَّثُ بِالذَّيْلِ مِنَ الْقَذَرِ يَابِسًا، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ مُتَعَيِّنٌ عِنْدَ الْكُلِّ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الثَّوْبَ إِذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ لَا يَطْهُرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ، بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا كَمَا سَبَقَ فَإِطْلَاقُ التَّطْهِيرِ مَجَازِيُّ كَنِسْبَتِهِ الْإِسْنَادِيَّةِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا قَالَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ. (وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ (وَالدَّارِمِيُّ وَقَالَا) : أَيْ: أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَالَ أَيِ: الدَّارِمِيُّ.

قَالَ مِيرَكُ وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا: (الْمَرْأَةُ أُمُّ وَلَدٍ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) وَنَقَلَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ عَنِ الْغَوَامِضِ أَنَّ اسْمَهَا حُمَيْدَةُ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَرَّ أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ الحديِثُ حَسَنٌ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِسْنَادٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ الْمَجْهُولَةُ فَيَعْتَضِدُ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَتَأَمَّلْ.

505 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 505 - (وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ) : كِنْدِيٌّ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كِنْدَةَ، وَيُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَمَرَّ ذِكْرُهُ أَيْضًا (قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ» ) بِضَمِّ اللَّامِ، فَإِنَّهُ مَصْدَرُ لَبِسَ يَلْبَسُ كَعَلِمَ يَعْلَمُ بِخِلَافِ فَتْحِ اللَّامِ، فَإِنَّهُ مَصْدَرُ لَبَسَ يَلْبِسُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ. بِمَعْنَى خَلَطَ (وَالرُّكُوبِ) : أَيْ: وَعَنِ الْقُعُودِ (عَلَيْهَا) . قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا النَّهْيُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهَا إِمَّا قَبْلَ الدِّبَاغِ فَلَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَإِمَّا بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ الشَّعَرُ فَهِيَ أَيْضًا نَجِسَةٌ ; لِأَنَّ الشَّعَرَ لَا يُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ ; لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُغَيِّرُ الشَّعَرَ عَنْ حَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ إِذَا قُلْنَا: إنَّ الشَّعَرَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَمَا فِي الْوَسِيطِ، فَإِنَّ لُبْسَ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبَ عَلَيْهَا مِنْ دَأْبِ الْجَبَابِرَةِ وَعَمَلِ الْمُتْرَفِينَ، فَلَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الصَّلَاحِ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَزَادَ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ: إِنَّ فِيهِ تَكَبُّرًا وَزِينَةً. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ فَرْوُ السِّنْجَابِ وَنَحْوُهُ مِنَ الْوَبَرِ، فَإِنَّ حَيَوَانَهَا لَا يُذَكَّى، بَلْ يُخْنَقُ كَمَا أَخْبَرَنَا الثِّقَاتُ، وَبِتَقْدِيرِ الذَّبْحِ فَصَائِدُهَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، وَنَاقَشَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ أَخْبَارَ الثِّقَاتِ وَكَوْنَ الصَّائِدِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا إِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ بِأَنْ يُخْبِرَ ثِقَةٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يُذْبَحْ أَوْ صَائِدَهُ غَيْرُ أَهْلٍ، وَأَمَّا ذِكْرُ الثِّقَاتِ ذَلِكَ عَنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ نَظِيرَهُ مَا اشْتُهِرَ مِنَ الْجُوخِ مِنْ أَنَّهُ يُخَمَّرُ بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَمْ يُعَوِّلِ الْأَئِمَّةُ بِذَلِكَ، بَلْ قَالُوا بِطَهَارَتِهِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، هَكَذَا هُنَا. وَالْأَوْجَهُ أَنَّ تَجَنُّبَهَا إِنَّمَا هُوَ احْتِيَاطٌ لَا وَاجِبٌ اهـ. وَفَى تَنْظِيرِهِ نَظَرٌ ; إِذِ الْأَوَّلُ يُخْبِرُ الثِّقَاتُ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَذَا، وَالثَّانِي بِاشْتِهَارِ الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالثِّقَاتِ، وَمِنْ غَيْرِ إِفَادَةِ الْحَصْرِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ حِينَئِذٍ، وَيَحْتَمِلُ عَدَمَ دُخُولِ هَذَا الْخَاصِّ فِي ضِمْنِ هَذَا الْعَامِّ، مَعَ أَنَّ صِيغَةَ يُخَمِّرُ تُفِيدُ التَّقْلِيلَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي إِسْنَادِهِ بَقِيَّةُ، وَفِيهِ مَقَالٌ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " سَنَدُهُ حَسَنٌ بَلْ صَحِيحٌ " غَيْرُ صَحِيحٍ. (وَالنَّسَائِيُّ ) .

506 - وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ: أَنْ تُفْتَرَشَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 506 - (وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، اسْمُهُ عَامِرٌ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: بَصْرِيٌّ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ (ابْنِ أُسَامَةَ) : الْهُذَلِيِّ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (عَنْ أَبِيهِ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ ; لَا فِي الصَّحَابَةِ وَلَا فِي التَّابِعِينَ، لَكِنْ يُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي أَنَّهُ صَحَابِيٌّ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى) : وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ نَهَى (عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ) أَيْ: عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنَ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِهِمَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : مَنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ: " عَنْ أَبِيهِ " غَيْرَ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: نَهَى عَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النِّمَارِ. (وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ: أَنْ تُفْتَرَشَ) : أَيْ: تُبْسَطَ وَيُجْلَسَ عَلَيْهَا لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ زِيَادَةُ أَنْ تُفْتَرَشَ مُخْتَصَّةٌ بِالتِّرْمِذِيِّ وَالدَّارِمِيِّ، فَإِلْحَاقُ ابْنِ حَجَرٍ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِنَفْسِ الْحَدِيثِ أَوَّلًا، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ - خَطَأٌ فَاحِشٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا. قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ إِرْسَالَ الْحَدِيثِ أَصَحُّ مِنْ إِسْنَادِهِ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ.

507 - وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، أَنَّهُ كَرِهَ ثَمَنَ جُلُودِ السِّبَاعِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. بِلَفْظِ: كَرِهَ جُلُودَ السِّبَاعِ. وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 507 - (وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، أَنَّهُ) : أَيْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ لِأَبِي الْمَلِيحِ (كَرِهَ ثَمَنَ جُلُودِ السِّبَاعِ) : أَيْ: بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إِنَّ بَيْعَ جُلُودِ الْمَيْتَاتِ بَاطِلٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَذْبُوحَةً أَوْ مَدْبُوغَةً. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَذْهَبُنَا صِحَّةُ بَيْعِهَا بَعْدَ الدَّبْغِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا شَعَرٌ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي ثَمَنِهَا حِينَئِذٍ، فَإِطْلَاقُ كَرَاهَةِ ثَمَنِهَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ مَذْهَبٌ لِأَبِي الْمَلِيحِ اهـ. قَالَ الْمُظْهِرُ: ذَلِكَ قَبْلَ الدِّبَاغِ لِنَجَاسَتِهَا، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا كَرَاهَةَ (رَوَاهُ) هُنَا بَيَاضٌ، وَأَلْحَقَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: كَرِهَ جُلُودَ السِّبَاعِ، وَسَنَدُ هَذَا الْأَثَرِ جَيِّدٌ كَذَا فِي التَّخْرِيجِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: رَوَاهُ فِي كِتَابِ: اللِّبَاسِ مِنْ جَامِعِهِ، وَسَنَدُهُ وَجِيهٌ. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: هَذَا الْأَثَرُ سَنَدُهُ جَيِّدٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي اللِّبَاسِ مِنْ جَامِعِهِ، وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ كَرِهَ. . . إِلَخْ. اهـ. وَالْأَثَرُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَوْقُوفِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَبِي الْمَلِيحِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ: وَعَنْهُ ; إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مَرْفُوعٌ، وَهَذَا مَوْقُوفٌ.

508 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلَا عَصَبٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 508 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ تَابِعِيٌّ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: جُهَنِيٌّ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُعْرَفُ لَهُ رُؤْيَةٌ وَلَا رِوَايَةٌ، وَقَدْ خَرَّجَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي عِدَادِ الصَّحَابَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَحَدِيثُهُ فِي الْكُوفِيِّينَ (قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا ") : أَنْ هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ (مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ) : أَيْ: قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَقِيلَ: أَيُّ جِلْدٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْمَدْبُوغَ وَغَيْرَهُ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ. " «لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا» " وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِهَابُ كَكِتَابٍ الْجِلْدُ مَا لَمْ يُدْبَغُ (وَلَا عَصَبٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ فِي شَرْحِ مَوَاهِبِ الرَّحْمَنِ: وَعَصَبُ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ فِيهِ حَيَاةً بِدَلِيلِ تَأَلُّمِهِ بِالْقَطْعِ، وَقِيلَ: طَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَظْمٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَاسِخٌ لِلْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الدِّبَاغِ لِمَا فِي بَعْضِ طَرَفِهِ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَاوِمُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ صِحَّةً وَاشْتِهَارًا، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عُكَيْمٍ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا حَدَّثَ عَنْ حِكَايَةِ حَالٍ، وَلَوْ ثَبَتَ فَحَقُّهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَهْيِ الِانْتِفَاعِ قَبْلَ الدِّبَاغِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ: وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَقُولُ فِيهِ، ثُمَّ تَرَكَهُ لَمَّا اضْطَرَبُوا فِي إِسْنَادِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرَيْنِ، وَرُوِيَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ: وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَا صُحْبَةَ لِابْنِ عُكَيْمٍ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ فِي التَّخْرِيجِ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ ) .

509 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 509 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: بِأَنْ يَسْتَمْتِعَ النَّاسُ (بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَظْهَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ جُلُودَ الْمَيْتَةِ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، لَكِنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ، وَفِي الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ.

510 - وَعَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الْحِمَارِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا. قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 510 - (وَعَنْ مَيْمُونَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَجُرُّونَ) : أَيْ.: يَسْحَبُونَ (شَاةً) أَيْ: مَيْتَةً لَهُمْ، مِثْلَ الْحِمَارِ) : مِثْلَ جَرِّهِ، أَوْ فِي كَوْنِهَا مَيْتَةً مُنْتَفِخَةً (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا ") : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " لَوْ " هَذِهِ. بِمَعْنَى " لَيْتَ " أَيْ: لِلتَّمَنِّي يَعْنِي: لَيْتَكُمْ أَخَذْتُمْ. قَالَ: وَالَّذِي لَاقَى بَيْنَهُمَا، أَيِ: الْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَمِنْ ثَمَّ أُجِيبَتَا بِالْفَاءِ. اهـ. وَكَانَ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ: " لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ " فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73] لَكِنَّ لَفْظَ: " فَدَبَغْتُمُوهُ " لَيْسَ فِي الْمِشْكَاةِ، وَوَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ وَأَدْخَلَهُ فِيهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ أَيْضًا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ لِلْعَطْفِ هَاهُنَا لَا لِلْجَوَابِ، وَلَوْ إِذَا كَانَتْ لِلتَّمَنِّي لَا تَطْلُبُ جَوَابًا، وَالْمَعْنَى تَمَنَّيْتُ أَخْذَكُمْ إِهَابَهَا فَدِبَاغَهَا. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَوْ أَخَذْتُمُوهُ فَدَبَغْتُمُوهُ لَكَانَ حَسَنًا اهـ. أَوْ لَطَهُرَ أَوْ حَلَّ لَكُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ. (فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ) أَيْ: لَا مَذْبُوحَةٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ ") : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنَ الْمَاءِ فِي الدَّبْغِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ; لِأَنَّ الدَّبْغَ مِنْ بَابِ الْإِحَالَةِ لَا مِنْ بَابِ الْإِزَالَةِ، فَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ أَوْ عَلَى الطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ (" وَالْقَرَظُ ") : بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ وَرَقُ السَلَمِ، وَهُوَ نَبْتٌ يُدْبَغُ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ قِشْرُ الْبَلُّوطِ، وَالْمَعْنَى: يُطَهِّرُهَا الْقَرَظُ بِالْمَاءِ، وَدِبَاغَةُ الْجِلْدِ بِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: بِإِسْنَادَيْنِ حَسَنَيْنِ. نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ.

511 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ، فَإِذَا قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَسَأَلَ الْمَاءَ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 511 - (وَعَنْ سَلَمَةَ) : هُذَلِيٌّ، يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ (ابْنِ الْمُحَبَّقِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَتُفْتَحُ. قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: الْمُحَبِّقُ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَفْتَحُونَهَا اهـ. لَكِنْ صُحِّحَ فِي الْكَاشِفِ بِكَسْرِهَا، نَقَلَهُ السَّيِّدُ. (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) بِعَدَمِ الِانْصِرَافِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَقَدْ يَنْصَرِفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فَعُولٌ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: هُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ الشَّامِ وَوَادِي الْقُرَى، قِيلَ: هُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، وَإِنْ جُعِلَ اسْمًا لِلْمَوْضِعِ جَازَ الصَّرْفُ اهـ. يَعْنِي: التَّأْنِيثَ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ (عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ) : أَيْ: مَرَّ عَلَيْهِمْ (فَإِذَا قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ) : أَيْ: لَهُمْ فِيهَا مَاءٌ، وَهِيَ مَدْبُوغَةٌ (فَسَأَلَ) أَيْ: طَلَبَ يَعْنِي: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (الْمَاءَ) : أَيْ: مِنْهُمْ (فَقَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا) أَيِ: الْقِرْبَةُ (مَيْتَةٌ) أَيْ: جِلْدُ مَيْتَةٍ دُبِغَ (فَقَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتُضَمُّ أَيْ: مُطَهِّرُهَا. قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 512 - عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لَنَا طَرِيقًا إِلَى الْمَسْجِدِ مُنْتِنَةً، فَكَيْفَ نَفْعَلُ إِذَا مُطِرْنَا؟ فَقَالَ: " أَلَيْسَ بَعْدَهَا طَرِيقٌ هِيَ أَطْيَبُ مِنْهَا؟ " قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: " فَهَذِهِ هَذِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 512 - (عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لَنَا طَرِيقًا إِلَى الْمَسْجِدِ مُنْتِنَةً) أَيْ: ذَاتُ نَجَسَةٍ، وَالطَّرِيقُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ أَيْ: فِيهَا أَثَرُ الْجِيَفِ وَالنَّجَاسَاتِ (فَكَيْفَ نَفْعَلُ إِذَا مُطِرْنَا؟) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا جَاءَنَا الْمَطَرُ، وَمَرَرْنَا عَلَى تِلْكَ النَّجَاسَاتِ بِأَذْيَالِنَا الْمُنْسَحِبَةِ عَلَى الْأَرْضِ (قَالَتْ: فَقَالَ: " أَلَيْسَ بَعْدَهَا ") أَيْ: أَسْفَلَ مِنْهَا (" طَرِيقٌ هِيَ أَطْيَبُ مِنْهَا؟) : أَيْ: أَطْهَرُ. بِمَعْنَى الطَّاهِرِ (قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: " فَهَذِهِ بِهَذِهِ ") : أَيْ: مَا حَصَلَ التَّنَجُّسُ بِتِلْكَ يُطَهِّرُهُ انْسِحَابُهُ عَلَى تُرَابِ هَذِهِ الطَّيِّبَةِ. قِيلَ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَرِيبَانِ. الْخَطَّابِيُّ، قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ مَعْنَاهُ إِذَا أَصَابَهُ بَوْلٌ، ثُمَّ مَرَّ بَعْدَهُ عَلَى الْأَرْضِ أَنَّهَا تُطَهِّرُهُ، وَلَكِنَّهُ يَمُرُّ بِالْمَكَانِ فَيُقْذِرُهُ ثُمَّ يَمُرُّ بِمَكَانِ أَطْيَبَ مِنْهُ، فَيَكُونُ هَذَا بِذَاكَ، لَيْسَ عَلَى أَنَّهُ يُصِيبُهُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى: إِنَّ الْأَرْضَ يُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَطَأَ الْأَرْضَ الْقَذِرَةَ ثُمَّ يَطَأُ الْأَرْضَ الْيَابِسَةَ النَّظِيفَةَ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يُطَهِّرُ بَعْضًا، وَأَمَّا النَّجَاسَةُ مِثْلُ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ يُصِيبُ الثَّوْبَ أَوْ بَعْضَ الْجَسَدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُطَهِّرُهُ إِلَّا الْغَسْلُ إِجْمَاعًا، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قُلْتُ: الْحَدِيثَانِ مُتَبَاعِدَانِ لَا كَمَا قِيلَ إِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُطْلَقٌ قَابِلٌ أَنْ يُقَيَّدَ بِالْيَابِسِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَصَرِيحٌ فِي الرَطْبِ، وَمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ مِنَ التَّأْوِيلِ لَا يَشْفِي الْعَلِيلَ، بَلْ يَكْفِي الْكَلِيلَ، وَتَأْوِيلُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعِيدٌ جِدًّا عَنِ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ طِينِ الشَّارِعِ، وَأَنَّهُ طَاهِرٌ أَوْ مَعْفُوٌّ لِعُمُومِ الْبَلوَى لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: أَلَيْسَ بَعْدَهَا. . . إِلَخْ. فَالْمُخَلِّصُ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَنَّ فِي إِسْنَادِ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا يَعْنِي حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَقَالًا ; لِأَنَّ أُمَّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَةً مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مَجْهُولَتَانِ لَا يُعْرَفُ حَالُهُمَا فِي الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: سُكُوتُ أَبِي دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا عِنْدَهُمَا صَالِحَانِ لِلْحُجِّيَّةِ. أَقُولُ: النَّاطِقُ أَقْوَى مِنَ الصَّامِتِ، كَمَا أَنَّ الْمَنْطُوقَ أَقْوَى مِنَ الْمَفْهُومِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَزَعْمُ أَنَّ جَهَالَةَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ تَقْتَضِي رَدَّ حَدِيثِهَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ; لِأَنَّهَا صَحَابِيَّةٌ، وَجَهَالَةُ الصَّحَابَةِ لَا تَضُرُّ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ، فَإِنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الْجَادَّةِ ; لِأَنَّهَا لَوْ ثَبَتَ أَنَّهَا صَحَابِيَّةٌ لَمَا قِيلَ إِنَّهَا مَجْهُولَةٌ.

513 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَوَضَّأُ مَنِ الْمُوطَىءِ» ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 513 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَوَضَّأُ) أَيْ: لَا نَغْسِلُ أَرْجُلَنَا، وَلَا نَتَنَظَّفُ (مِنَ الْمَوْطِئِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِ مَوْضِعِ الْوَطْءِ وَالْمَشْيِ، قِيلَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ رَطْبًا فَيَجِبُ الْغَسْلُ، وَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى الَّذِي غَلَبَتْ فِيهِ الطَّهَارَةُ عَلَى النَّجَاسَةِ عَمَلًا بِأَصْلِ الطَّهَارَةِ، وَإِشَارَةً إِلَى تَرْكِ الْوَسْوَسَةِ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ وَيَمْشُونَ حُفَاةً، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طِينَ الشَّارِعِ مَعْفُوٌّ لِعُمُومِ الْبَلْوَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

514 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَتِ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 514 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتِ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ) مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ (فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِنَّمَا كَانَ فِي أَوْقَاتٍ نَادِرَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ بَابٌ يَمْنَعُهَا مِنَ الْعُبُورِ (فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ) أَيْ: يَغْسِلُونَ (شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) الرَّشُّ هُنَا: الصَّبُّ بِالْمَاءِ، أَيْ: لَا يَصُبُّونَ الْمَاءَ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ لِأَجْلِ إِقْبَالِهَا وَإِدْبَارِهَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَسَبَقَ تَأْوِيلُهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

515 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا بَأْسَ بِبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 515 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا بَأْسَ بِبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ» ") قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: لَنَا وَجْهٌ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوَثُهُ طَاهِرَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا.

516 - وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ، قَالَ: " «مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَوْلِهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، والدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 516 - (وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ قَالَ: «مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَوْلِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ والدَّارَقُطْنِيُّ) : وَحَمَلَهُ أَبُو يُوسُفَ عَلَى التَّدَاوِي لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَلِلْجُمْهُورِ عُمُومُ حَدِيثِ: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ ; فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» " أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا.

[باب المسح على الخفين]

[بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 517 - عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (9) بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أُخِّرَ عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ تَأَخُّرَ الْجُزْءِ عَنِ الْكُلِّ، أَوْ تَأَخُّرَ النَّائِبِ عَنِ الْمُنَابِ، لَكِنَّ نِيَابَتَهُ مُخْتَصَّةٌ بِالْوُضُوءِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْمَسْحُ إِصَابَةُ الْيَدِ الْمُبْتَلَّةِ بِالْعُضْوِ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِعَلَى إِشَارَةً إِلَى مَوْضِعِهِ، وَهُوَ فَوْقَ الْخُفِّ دُونَ دَاخِلِهِ وَأَسْفَلِهِ عَلَى مَا وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَالْخُفُّ: مَا يَسْتُرُ الْكَعْبَ وَيُمْكِنُ بِهِ ضَرُورِيَّاتُ السَّفَرِ، وَإِنَّمَا ثُنِّيَ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ كَمَا سَتَرَى. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ يَرَوْنَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا قُلْتُ بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي فِيهِ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: أَخَافُ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَا يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ; لِأَنَّ الْآثَارَ الَّتِي جَاءَتْ فِيهِ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ، وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ لَا يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، حَتَّى سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ عَلَامَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؟ فَقَالَ: أَنْ تُحِبَّ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا تَطْعَنَ الْخَتَنَيْنِ، وَتَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ أَيْضًا، بِحَمْلِ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ بَيَّنَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَرُخْصَةٌ شُرِعَتِ ارْتِفَاقًا ; لِيَتَمَكَّنَ الْعَبْدُ مَعَهَا مِنَ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَالتَّرَدُّدِ فِي حَوَائِجِ مَعَاشِهِ، أَوْ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْمَنْفِيِّ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] " وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «بُعِثْتُ بِالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ» " وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ عَدَمَ جَوَازِهِ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْحَضَرِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الصَّحِيحَةُ الشَّهِيرَةُ فِي مَسْحِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَفَرًا وَحَضَرًا، وَأَمْرُهُ وَتَرْخِيصُهُ فِيهِ، وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّ أَحَادِيثَهُ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ رُوَاتَهُ

فَبَلَغُوا مِائَتَيْنِ، وَادَّعَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، لَكِنْ رَدَّهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْكَارُ الْمَسْحِ إِلَّا ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ جَاءَ عَنْهُمَا بِالْأَسَانِيدِ الْحِسَانِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَمُوَافَقَةُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا عَائِشَةُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا أَحَالَتْ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ عَلِيٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: «وَسَكَتُّ عَنْهُ أَعْنِي الْمَسْحَ: مَا لِي بِهَذَا عِلْمٌ» . وَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ الْبَغْدَادِيُّ عَنْهَا: " لَأَنْ أَقْطَعَ رِجْلِي بِالْمُوسَى أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ " بَاطِلٌ ; نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحُفَّاظُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 517 - (عَنْ شُرَيْحِ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ هَانِئٍ) : بِالْهَمْزِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهِ كَنَى أَبَاهُ فَقَالَ: " «أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» " مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ فِي عَدَدِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَنَارِ بِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ تَبِعَ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ذِكْرِ الْمُخَضْرَمِينَ مَعَ الصَّحَابَةِ (قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْمَسْحِ) أَيْ: عَنْ مُدَّتِهِ (عَلَى الْخُفَّيْنِ) أَوْ عَنْ جَوَازِهِ عَلَيْهِمَا، وَالْجَوَابُ عَلَى الْأَوَّلِ مُطَابِقٌ لِلسُّؤَالِ، وَعَلَى الثَّانِي مُسْتَلْزِمٌ لَهُ (فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مُدَّتَهُ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ (لِلْمُسَافِرِ) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَهُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ الْمَسْحِ، وَقِيلَ: مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ الرَّاجِحُ دَلِيلًا، وَقِيلَ: مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ (وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ) وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ ; حَيْثُ لَمْ يَرَ لِلْمُقِيمِ مَسْحًا، وَلَمْ يُقَيِّدْ لِلْمُسَافِرِ بِمُدَّةٍ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ السَّفَرَ لُغَةً قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ قَطْعٍ تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ جَوَازِ الْإِفْطَارِ وَقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَمَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا عَلَى الْخُفِّ، فَعَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُخْصَةِ الْمَسْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جِنْسَ الْمُسَافِرِينَ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمُسَافِرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِعَدَمِ الْمَعْهُودِ الْمُعَيَّنِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ عُمُومِ الرُّخْصَةِ الْجِنْسُ، حَتَّى إِنَّهُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ مُسَافِرٍ مِنْ مَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِكُلِّ سَفَرٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَوْ كَانَ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَثَبَتَ مُسَافِرٌ لَا يُمْكِنُهُ مَسْحَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ كُلُّ مُسَافِرٍ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً بِيَقِينٍ، فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِيَقِينِ مَا هُوَ سَفَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ إِذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ لِمُسَافِرٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ» ". فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي الْأَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ تُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَأُجِيبَ: بِضَعْفِ الْحَدِيثِ لِضَعْفِ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ، فَبَقِيَ قَصْرُ الْأَقَلِّ بِلَا دَلِيلٍ، كَذَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

518 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَتَبَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ الْغَائِطِ، فَحَمَلْتُ مَعَهُ إِدَاوَةً قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا رَجَعَ أَخَذْتُ أُهَرِيقُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ، وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ، ثُمَّ أَهْوَيْتُ، لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: " دَعْهُمَا ; فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ " فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْتُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَوْمِ، وَقَدْ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، فَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ مَعَهُ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْتُ مَعَهُ، فَرَكَعْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي سَبَقَتْنَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 518 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ) قِيلَ: تَبُوكُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ لَا وَزْنِ الْفِعْلِ، وَإِنْ جُعِلَ اسْمَ الْمَوْضِعِ جَازَ صَرْفُهُ - يَعْنِي التَّأْنِيثَ - بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ أَوِ الْبَلْدَةِ، وَقَوْلُهُ: " لَا وَزْنِ " الْفِعْلِ فِيهِ نَظَرٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ وَزْنَهُ فَعُولٌ لَا تَفْعَلُ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنَ الْقَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ. (قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَتَبَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي الْقَامُوسِ: بَرَزَ بُرُوزًا أَيْ: خَرَجَ إِلَى الْبَرَازِ كَتَبَرَّزَ، وَفِي النِّهَايَةِ الْبَرَازُ بِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْفَضَاءِ الْوَاسِعِ، فَكَنَوْا بِهِ عَنْ قَضَاءِ الْغَائِطِ كَمَا كَنَوْا عَنْهُ بِالْخَلَاءِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَرَّزُونَ فِي الْأَمْكِنَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ النَّاسِ، وَبِالْكَسْرِ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَائِطِ اهـ. وَعَلَى كُلٍّ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: خَرَجَ إِلَى التَّبَرُّزِ وَهُوَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ، بَلْ مَعْنَى تَبَرَّزَ هُنَا خَرَجَ وَذَهَبَ عَلَى التَّجْرِيدِ ; لِقَوْلِهِ: (قِبَلَ الْغَائِطِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: جَانِبَهُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَالْغَائِطُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْغَائِطُ فِي الْأَصْلِ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ يُقْضَى فِيهِ الْحَاجَةُ، سُمِّيَ بِاسْمِ الْخَارِجِ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْحَقِيقَةُ فَوَاضِحٌ، وَالتَّقْدِيرُ: خَرَجَ لِلتَّبَرُّزِ نَحْوَ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، أَوِ الْمُجَاوَرَةُ، فَالتَّقْدِيرُ خَرَجَ لِلتَّبَرُّزِ لِأَجْلِ الْغَائِطِ اهـ. وَفِيهِ مَعَ رَكَاكَةِ عِبَارَتِهِ - خَرَجَ لِلتَّبَرُّزِ لِأَجْلِ الْغَائِطِ - الْمُنَافِيَةِ لِمَا سَبَقَ عَنْهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ إِرَادَةِ الْمُجَاوِرِ قَوْلُهُ: قِبَلَ الْغَائِطِ، فَتَأَمَّلْ (فَحَمَلْتُ) أَيْ: ذَاهِبًا (مَعَهُ إِدَاوَةً) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ: مِطْهَرَةٌ أَوْ رَكْوَةٌ ; لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا، وَكَانَ خُرُوجُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ (قَبْلَ الْفَجْرِ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَهَيُّؤِ أَسْبَابِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ دُخُولِ أَوْقَاتِهَا، (فَلَمَّا رَجَعَ) أَيْ: مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (أَخَذْتُ) أَيْ: شَرَعْتُ (أُهَرِيقُ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَتُسَكَّنُ أَيْ: أَصُبُّ الْمَاءَ (عَلَى يَدَيْهِ) الْكَرِيمَتَيْنِ (مِنَ الْإِدَاوَةِ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ فِي الطَّهَارَةِ، سِيَّمَا إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْإِفَادَةُ وَالِاسْتِفَادَةُ (فَغَسَلَ يَدَيْهِ) أَيْ: كَفَّيْهِ (وَوَجْهَهُ) : الْوَجِيهُ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْوُضُوءِ كَمَا زَعَمَ ابْنُ حَجَرٍ ; لِاحْتِمَالِ عَدَمِ ذِكْرِهِ لَهُمَا إِمَّا اخْتِصَارًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ لِكَوْنِهِمَا دَاخِلَيْنِ فِي حَدِّ الْوَجْهِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا حَقَّقَهُ فِي مَحَلِّهِ وَمَعَ تَحَقُّقِ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ (وَعَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى بَدَنِهِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ ( «جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ» ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لُبْسَ الصُّوفِ مُسْتَحَبٌّ (ذَهَبَ) أَيْ: شَرَعَ وَأَخَذَ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ (يَحْسِرُ) بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا أَيْ: يَكْشِفُ كُمَّيْهِ (عَنْ ذِرَاعَيْهِ) أَيْ: لِيَغْسِلَهُمَا (فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ) بِحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُخْرِجَ يَدَهُ إِلَى الْمِرْفَقِ عَنْ كُمِّ الْجُبَّةِ مِنْ غَايَةِ ضِيقِهِ، فِيهِ رَدٌّ عَلَى إِطْلَاقِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لُبْسَ الْإِنْسَانِ غَيْرَ زِيِّ أَهْلِ إِقْلِيمِهِ يُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ، وَلِذَا قِيلَ: مَحَلُّهُ فِيمَنْ لَمْ يَلْبَسْهُ لِحَاجَةٍ، أَوْ لَمْ يَقْصِدِ التَّأَسِّيَ بِالسَّلَفِ فِي عَدَمِ التَّكَلُّفِ، وَتَرْكِ النَّظَرِ إِلَى هَيْئَاتِ الْعَادَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ حَدَثٌ فَأَنَاطُوا بِهِ حُكْمَهُ حَيْثُ لَا حَاجَةَ، وَلَا قَصْدَ لِلتَّأَسِّي، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: الْإِرَادَةُ تَرْكُ الْعَادَةِ، نَعَمْ لَوْ غَيَّرَ زِيَّهُ عَلَى جِهَةِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ الدَّالَّةِ عَلَى قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ التَّقْيِيدِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْعُرْفِيَّةِ، فَيُحْكَمُ بِسُقُوطِ مُرُوءَتِهِ وَعَدَمِ عَدَالَتِهِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهَا الْأَكْلُ فِي السُّوقِ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يُجْلَبُ مِنْ بِلَادِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْمُتَدَنِّسِينَ بِالنَّجَاسَةِ الطَّهَّارَةُ كَالْجُوخِ، وَإِنِ اشْتُهِرَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَكَالْجُبْنِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِيهِ أَنَافِحَ الْخِنْزِيرِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ خَبَرُ أَحْمَدَ، أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ أَنْ يَنْهَى عَنْ حُلَلِ الْحِيرَةِ ; لِأَنَّهَا تُصْبَغُ بِالْبَوْلِ، فَقَالَ لَهُ أُبَيٌّ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ ; قَدْ لَبِسَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَبِسْنَاهُنَّ مَعَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْخَلَّالِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: أَنَّ أُبَيًّا قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ لَبِسَهَا نَبِيُّ اللَّهِ، وَرَأَى اللَّهُ مَكَانَهَا، لَوْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهَا حَرَامٌ لَنَهَى عَنْهَا. فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، لَكِنَّهُ غَرِيبٌ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أُتِيَ بِجُبْنَةٍ فِي غَزْوَةٍ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " أَيْنَ يُصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: بِفَارِسَ، أَيْ: أَرْضِ الْمَجُوسِ إِذْ ذَاكَ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " ضَعُوا فِيهَا السِّكِّينَ وَكُلُوا " فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً. فَقَالَ " سَمُّوا اللَّهَ وَكُلُوا» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَ لَهُ خُفَّانِ فَلَبِسَهُمَا، وَلَا يَعْلَمُ أَهُمَا ذُكِّيَا أَمْ لَا» ؟ وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ: النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ عَنِ الْجُبْنِ وَالسَّمْنِ وَالْفِرَاءِ، مَعَ أَنَّهُمَا كَانَتْ تُجْلَبُ مِنْ بِلَادِ الْمَجُوسِ، وَذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ الْجُبْنُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُوضَعُ فِيهِ أَنَافِحُ الْمَيْتَةِ. فَقَالَ: سَمُّوا اللَّهَ وَكُلُوا. قَالَ أَحْمَدُ: أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ هَذَا الْحَدِيثُ. ( «فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ، وَأَلْقَى الْجُبَّةَ» ) أَيْ: ذَيْلَهَا (عَلَى مَنْكِبَيْهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ إِزَارٌ أَوْ قَمِيصٌ، وَإِلَّا لَظَهَرَتِ الْعَوْرَةُ (فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ) وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِرُبُعِ الرَّأْسِ لِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ (وَعَلَى الْعِمَامَةِ» ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فِي رَحْمَةِ الْأُمَّةِ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ دُونَ الرَّأْسِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ بِجَوَازِهِ ; بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ لَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُ وَلَا اسْتِيعَابُ رُبُعِهِ ; لِأَنَّ النَّاصِيَةَ دُونَهُ بِكَثِيرٍ. قُلْنَا: قَدَّرَ النَّاصِيَةَ بِالرُّبُعِ، وَعَلَى

سَلِيمِ صِحَّةِ مَنْعِهِ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ كَمَا قَدَّرَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا بِثَلَاثِ أَصَابِعَ ; لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا اكْتَفَى بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ مَعَ اسْتِيعَابِ الْمَسْحِ بِالْمُوَاظَبَةِ فِي سَائِرِ الْحَالَاتِ، فَلَوْ كَانَ أَقَلُّ مِنْهُ جَائِزًا لَفَعَلَهُ وَلَوْ مَرَّةً، فَالتَّقْدِيرُ بِمُسَمَّى - مَسَحَ وَإِنْ قَلَّ قَدْرُهُ - مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ ادِّعَاءَ الْقَائِلِ بِاسْتِيعَابِ الْكُلِّ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ، يُرَدُّ بِأَنَّ الْعُذْرَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى الِاسْتِيعَابِ، وَهُنَا جَمَعَ بَيْنَ مَسْحِ الْبَعْضِ مِنَ الرَّأْسِ وَبَيْنَ مَسْحِهِ عَلَى الْعِمَامَةِ تَكْمِيلًا لِلِاسْتِيعَابِ كَانَ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى الْعُذْرِ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَهُ مَسْحٌ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ بِدُونِ مَسْحِ الْعِمَامَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي مُوَطَّئِهِ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْعِمَامَةِ فَقَالَ: لَا، حَتَّى يَمَسَّ الشَّعَرَ الْمَاءُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَأَيْتُ صَفِيَّةَ ابْنَةَ أَبِي عُبَيْدٍ تَوَضَّأَتْ وَنَزَعَتْ خِمَارَهَا، ثُمَّ تَمْسَحُ بِرَأْسِهَا. قَالَ نَافِعٌ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ كَانَ فَتُرِكَ، (ثُمَّ أَهْوَيْتُ) أَيْ: قَصَدْتُ الْهُوِيَّ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، وَقِيلَ: الْإِهْوَاءُ إِمَالَةُ الْيَدِ إِلَى شَيْءٍ لِيَأْخُذَهُ، أَيِ: انْحَنَيْتُ (لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ) ظَنًّا أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِي مُطْلَقِ الْأَحْوَالِ (فَقَالَ: " دَعْهُمَا ") أَيِ: اتْرُكْهُمَا وَلَا تَنْزِعْهُمَا عَنْ رِجْلِي (فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا) أَيْ: لَبِسْتُهُمَا حَالَ كَوْنِ قَدَمِي (طَاهِرَتَيْنِ) وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ. قَالَ الشَّمَنِّيُّ: لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنِ اشْتِرَاطِ الطُّهْرِ بِكَوْنِهِ تَامًّا وَقْتَ اللُّبْسِ، إِذْ مَعْنَاهُ: أَدْخَلْتُ كُلًّا مِنْهُمَا وَهِيَ طَاهِرَةٌ، عَلَى حَدِّ: دَخَلْنَا الْبَلَدَ رُكْبَانًا ; أَيْ: دَخَلَ كُلٌّ مِنَّا وَهُوَ رَاكِبٌ، لَا أَنَّ جَمِيعَنَا رَاكِبٌ عِنْدَ دُخُولِ كُلٍّ مِنَّا اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ أَنْ تُوجَدَ الطَّهَارَةُ كَامِلَةً عِنْدَ اللُّبْسِ، وَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ الْحَدَثِ، وَلِهَذَا الِاخْتِلَافِ فُرُوعٌ مَحَلُّهَا كُتُبُ الْفِقْهِ. (فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا) وَفِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ: فَمَسَحَ بِهِمَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْإِجْزَاءِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ قَدْرُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: مَسْحُ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ مَالِكٌ بِالِاسْتِيعَابِ (ثُمَّ رَكِبَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَرَكِبْتُ) يَعْنِي: فَسِرْنَا (فَانْتَهَيْنَا) أَيْ: وَصَلْنَا (إِلَى الْقَوْمِ، وَقَدْ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ: صَلَاةِ الصُّبْحِ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (وَيُصَلِّي بِهِمْ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ إِمَامًا لَهُمْ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَقَدْ رَكَعَ) أَيْ: صَلَّى بِهِمْ (رَكْعَةً، فَلَمَّا أَحَسَّ) أَيْ: عَلِمَ (بِالنَّبِيِّ) أَيْ: بِمَجِيئِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ) شَرَعَ (يَتَأَخَّرُ) مِنْ مَوْضِعِهِ ; لِيَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَوْمَأَ) بِالْهَمْزِ (إِلَيْهِ) أَيْ: أَشَارَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَالِهِ (فَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ مَعَهُ) أَيْ: مُقْتَدِيًا بِهِ يَعْنِي: اقْتَدَى بِهِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْأَفْضَلِ بِالْمَفْضُولِ إِذَا عَلِمَ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ، وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِصْمَةِ لِلْإِمَامِ خِلَافًا لِلْإِمَامِيَّةِ، (فَلَمَّا سَلَّمَ) أَيِ: الْإِمَامُ (قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِأَدَاءِ مَا سَبَقَ (وَقُمْتُ مَعَهُ) أَيْ: لِأَنِّي كُنْتُ مَسْبُوقًا أَيْضًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا قَالَهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّ الْمَسْبُوقَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقِيَامُ إِلَّا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَإِنْ قَامَ قَبْلَهُ بِلَا نِيَّةِ مُفَارَقَةٍ عَمْدًا عَالِمًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، أَوْ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا يَجِبُ جَمِيعُ مَا أَتَى بِهِ اهـ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَنْ يَقُومَ إِلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ لِضَرُورَةِ صَوْنِ صَلَاتِهِ عَنِ الْفَسَادِ كَمَا إِذَا خَشِيَ إِنِ انْتَظَرَهُ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ قَبْلَ تَمَامِ صَلَاتِهِ فِي الْفَجْرِ، فَإِنْ قَامَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ; فَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ إِنْ وَقَعَ مِنْ قِرَاءَتِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ مِقْدَارُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِلَّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّ قِيَامَهُ وَقِرَاءَتَهُ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ لَا يُعْتَبَرُ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يَفْعَلُهَا الْجَاهِلُونَ، وَالنَّاسُ عَنْهَا غَافِلُونَ. (فَرَكَعْنَا) أَيْ: صَلَّى كُلٌّ مِنَّا (الرَّكْعَةَ الَّتِي سَبَقَتْنَا) أَيْ: فَاتَتْنَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْأُصُولِ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاءِ وَالْقَافِ، وَبَعْدَهَا تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقِ سَاكِنَةٌ أَيْ: وُجِدَتْ قَبْلَ حُضُورِنَا، وَأَمَّا بَقَاءُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي صَلَاتِهِ هَذِهِ، وَتَأَخُّرُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي صَلَاتِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ ; لِيَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَضِيَّةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ قَدْ رَكَعَ رَكْعَةً، فَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّقَدُّمَ لِئَلَّا يَخْتَلَّ تَرْتِيبُ صَلَاةِ الْقَوْمِ، بِخِلَافِ قَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ، نَعَمْ وَقَعَ لِأَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ مَعَ الْإِشَارَةِ لَهُ بِعَدَمِ التَّأَخُّرِ تَأَخَّرَ، وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَخَّرْ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ تَذَكَّرَ أَنَّ تَأَخُّرَهُ يَضُرُّ بِالْقَوْمِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَأَبَا بَكْرٍ عَلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَأَخُّرِهِ فَتَأَخَّرَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ - وَهُوَ الْأَحْسَنُ -: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فَهِمَ أَنَّ سُلُوكَ الْأَدَبِ أَوْلَى مِنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّهُ فَهِمَ أَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ أَوْلَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَمْرٍ عُلِمَ بِالْقَرَائِنِ أَنَّهُ لِرِعَايَةِ حَالِ الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ، فَفِي الِامْتِثَالِ إِيهَامُ إِخْلَالٍ بِكَمَالِ الْأَدَبِ مَعَ الْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ فِي الِامْتِثَالِ أَدَبٌ أَيُّ أَدَبٍ، وَفِي إِيثَارِ الْأَدَبِ إِظْهَارُ رِعَايَةِ حَالِ الْأَمْرِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ حَالِ الْمَأْمُورِ بِكُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى وَأَكْمَلَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ مِنَ الْفَرَحِ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ عَنِ التَّأَخُّرِ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِي امْتِنَاعِهِ عَنِ التَّقَدُّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا: " أَحْسَنْتُمْ، صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا» " يَعْنِي لَا تُؤَخِّرُوهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ لِانْتِظَارِ الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُ انْتِظَارِهِ إِذَا مَضَى زَمَانٌ كَثِيرٌ إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَتَى يَجِيءُ، أَمَّا إِذَا عَلِمُوا فَيُسْتَحَبُّ الِانْتِظَارُ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْإِمَامِ قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ يُسْتَحَبُّ إِعْلَامُهُ وَقْتَ الصَّلَاةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَصْلَ الْحَدِيثِ فِي اللِّبَاسِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَسْحَ عَلَى النَّاصِيَةِ فِي كِتَابِهِ، وَلَا ذَكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، وَلَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ صَلَاةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِالنَّاسِ، وَلَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 519 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ «رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا» ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الْإِسْنَادُ، هَكَذَا فِي الْمُنْتَقَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 519 - (وَعَنْ أَبِي بَكَرَةَ) : بِالتَّاءِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ: بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، قِيلَ: تَدَلَّى يَوْمَ الطَّائِفِ بِبَكَرَةَ وَأَسْلَمَ، فَكَنَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي بَكْرَةَ وَأَعْتَقَهُ ; فَهُوَ مِنْ مَوَالِيهِ، وَنَزَلَ الْبَصْرَةَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَخَّصَ) أَيْ: جَوَّزَ ( «لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً» ) وَاخْتُلِفَ هَلِ الْمَسْحُ أَفْضَلُ أَمِ الْغَسْلُ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَابِسًا لِلْخُفِّ بِشَرْطِهِ فَالْمَسْحُ أَفْضَلُ ; كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ) أَيْ: لَبِسَ خُفَّيْهِ بَعْدَ طَهَارَةِ رِجْلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّعْقِيبُ ; فَالْفَاءُ لِمُجَرَّدِ الْبَعْدِيَّةِ، فَقَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: " الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ " قَوْلٌ لَا قَائِلَ بِهِ، وَقَوْلُهُ: " أَيْ لَبِسَ خُفَّيْهِ بَعْدَ تَمَامِ الطَّهَارَةِ " مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، (أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا) مَفْعُولُ رَخَّصَ (رَوَاهُ الْأَثْرَمُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ (فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ) : مُصَغَّرًا (وَالدَّارَقُطْنِيُّ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَقَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، هَكَذَا فِي الْمُنْتَقَى) كِتَابٌ لِابْنِ تَيْمِيَةَ الْحَنْبَلِيِّ، وَقَالَ غَيْرُ الْخَطَّابِيِّ: إِنَّهُ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا هُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ مُدَّةَ الْمَسْحِ مُقَدَّرَةٌ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: لَا تُقَدَّرُ بَلْ يَمْسَحُ كُلٌّ مِنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ مَا شَاءَ لِخَبَرٍ فِيهِ، لَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرِبٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَوْلُ عُمَرَ لِمَنْ مَسَحَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ: " أَصَبْتَ السُّنَّةَ " مُعَارَضٌ بِمَا صَحَّ عَنْهُ مِنَ التَّوْقِيتِ، فَإِمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ حِينَ بَلَغَهُ، وَإِمَّا أَنَّ قَوْلَهُ بِالتَّوْقِيتِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ ; لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَصَبْتَ السُّنَّةَ، أَيْ: نَفْسَ الْمَسْحِ، رَدٌّ لِمَنْ زَعَمَ عَدَمَ جَوَازِهِ.

520 - وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 520 - (وَعَنْ صَفْوَانَ) عَلَى وَزْنِ سَلْمَانَ، مُرَادِيٌّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ (ابْنِ عَسَّالٍ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَبِاللَّامِ (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا» ) بِسُكُونِ الْفَاءِ مُنَوَّنًا جَمْعُ مُسَافِرٍ، أَيْ: مُسَافِرِينَ، وَقِيلَ: اسْمٌ لَا جَمْعَ لَهُ إِذْ لَمْ يَنْطِقُوا بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا كَانُوا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفْرًا، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (أَنْ لَا نَنْزِعَ) أَيْ: يَنْهَانَا عَنِ النَّزْعِ، وَهُوَ يُرِيدُ مَا صَحَّحْنَا مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ أَفْضَلُ (خِفَافَنَا) بِكَسْرِ الْخَاءِ جَمْعُ خُفٍّ، يَعْنِي: أَنْ نَمْسَحَ عَلَيْهَا (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا مِنْ حَدَثٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُغْتَسِلِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفِّ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ النَّزْعُ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ مُؤْذِنًا بِإِثْبَاتِ النَّزْعِ مِنْهَا اسْتَدْرَكَهُ بِالْأَحْدَاثِ الَّتِي لَمْ يُشْرَعْ فِيهَا النَّزْعُ لِيُعْلَمَ اخْتِصَاصُ وُجُوبِ النَّزْعِ بِالْجَنَابَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحَدَثِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ فَقَالَ: (وَلَكِنْ) عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَقَوْلُهُ: (مِنْ غَائِطٍ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَنَحْنُ نَنْزِعُ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ لَا نَنْزِعُ مِنْ غَائِطٍ (وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ) الْوَاوُ فِيهِمَا بِمَعْنَى " أَوْ " يَعْنِي: بَلْ نَتَوَضَّأُ، وَنَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَجْلِ أَحَدِهَا، وَيُرْوَى: " لَا مِنْ جَنَابَةٍ " وَهُوَ أَظْهَرُ، أَيْ: يَأْمُرُنَا أَنْ لَا «نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ» . مِنْ حَدَثٍ لَا مِنْ جَنَابَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ، وَلَكِنْ يَأْمُرُنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ مِنْ غَائِطٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ لَكِنْ مُفَادُهَا مُخَالَفَةُ مَا قَبْلَهَا مَا بَعْدَهَا، نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا، مُحَقَّقًا أَوْ مُئَوَّلًا، فَالتَّقْدِيرُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ نَنْزِعَ خِفَافَنَا مِنَ الْجَنَابَةِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَكِنْ لَا نَنْزِعُهَا فِيهَا مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ وَغَيْرِهَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يُنَافِي قَاعِدَةَ الْعَطْفِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ حَتَّى يُوَافِقَ تِلْكَ الْقَاعِدَةَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الرَّدَّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

521 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: «وَضَّأْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَمَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ، وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَمُحَمَّدًا - يَعْنَى الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَا: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَكَذَا ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 521 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: وَضَّأْتُ النَّبِيَّ) أَيْ: سَكَبْتُ الْوَضُوءَ عَلَى يَدَيْهِ، وَقِيلَ: سَكَبْتُ وَضُوءَهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) الصَّحِيحُ عَدَمُ صَرْفِهِ أَيْ: فِي زَمَانِهَا ( «فَمَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ» ) وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: مَسْحُ أَعْلَاهُ وَاجِبٌ، وَمَسْحُ أَسْفَلِهِ سُنَّةٌ، وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ: السُّنَّةُ أَنْ يُمْسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: السُّنَّةُ أَنْ يُمْسَحَ أَعْلَاهُ فَقَطْ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَعْلَاهُ أَجْزَأَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَسْفَلِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِالْإِجْمَاعِ اهـ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَذْهَبِ أَحْمَدَ، هَذَا وَذَكَرَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ، أَنَّهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْبَغَوِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ لَمْ يَثْبُتْ أَيْ: لَمْ يَثْبُتْ إِسْنَادُهُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ «مَسَحَ أَعْلَى خُفَّيْهِ خُطُوطًا مِنَ الْمَاءِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ» ، وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَقَوْلُ النِّهَايَةِ: فِي بَعْضِهَا صَحِيحٌ - غَلَطٌ، وَكَذَا تَأْيِيدُ الْإِسْنَويِّ لَهَا، لَكِنْ يُحْتَجُّ بِهَا لِمَذْهَبِنَا، فَإِنَّ الْأَكْمَلَ عِنْدَنَا فِي مَسْحِ الْخُفِّ أَنْ يُمْسَحَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ، وَعَقِبُهُ وَحَرْفُهُ خُطُوطًا، وَهَذَا مِنَ الْفَضَائِلِ، وَهِيَ يُعْمَلُ فِيهَا بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَالْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَبَيَّنَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا أَخَذَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ حَيْثُ قَالُوا: الْأَكْمَلُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ أَنْ يَضَعَ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُمْنَى مُفَرَّجَةً عَلَى مُقَدَّمِ ظَهْرِ الْخُفِّ، وَأَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى أَسْفَلِ الْعَقِبِ، ثُمَّ يُمِرَّهُمَا فَتَنْتَهِيَ أَصَابِعُ الْيُمْنَى إِلَى آخِرِ السَّاقِ، وَالْأُخْرَى إِلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ مِنْ تَحْتٍ اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ مَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَوِ الْحَسَنِ، وَسَيَأْتِي مَا يُخَالِفُهُ مِنْ حَدِيثِهِ الْمُتَّصِلِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَأَيْضًا إِنَّمَا يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الثَّابِتَةِ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، وَهَاهُنَا هَذَا الْحُكْمُ ابْتِدَائِيٌّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثَوَابِهِ وَفَضِيلَتِهِ، فَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَثَبِّتِ الْعَرْشَ ثُمَّ انْقُشْ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ) لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ غَيْرُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينُ عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَالْمَعْلُولُ عَلَى مَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ هُوَ مَا فِيهِ سَبَبٌ خَفِيٌّ يَقْتَضِي رَدَّهُ، وَقِيلَ: مَا وَهِمَ فِيهِ ثِقَةٌ بِرَفْعٍ أَوْ تَغَيُّرٍ أَوْ إِسْنَادٍ، أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى. (وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَمُحَمَّدَ - يَعْنِي) بِمُحَمَّدٍ (الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ) : وَالسَّائِلُ التِّرْمِذِيُّ (فَقَالَا) أَيْ: أَبُو زُرْعَةَ وَالْبُخَارِيُّ (لَيْسَ) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ يَعْنِي إِسْنَادَهُ (بِصَحِيحٍ) لِأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ رَوَى هَذَا عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ رَجَاءٍ قَالَ: حَدِيثٌ عَنْ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْمُغِيرَةُ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، عَنِ التِّرْمِذِيِّ. (وَكَذَا ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَأَعَلَّهُ بِالْإِرْسَالِ أَيْضًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لَا يَثْبُتُ.

522 - وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى ظَهْرِهِمَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 522 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ الْمُغِيرَةِ مُتَّصِلًا (أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا» ) أَيْ: عَلَى ظَاهِرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَهُوَ مُقَدَّمُ الرِّجْلِ، وَصُورَتُهُ: أَنْ يَضَعَ أَصَابِعَ الْيُمْنَى عَلَى مُقَدَّمِ خُفِّهِ الْأَيْمَنِ، وَأَصَابِعَ الْيُسْرَى عَلَى مُقَدَّمِ الْأَيْسَرِ، وَيَمُدُّهُمَا إِلَى السَّاقِ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ، وَيُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمَسْنُونُ، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ مَرَّةٍ بِمَاءٍ جَدِيدٍ عَلَى مَوْضِعٍ جَدِيدٍ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ وَضَعَ الْكَفَّ وَمَدَّهَا أَوْ مَعَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا حَسَنٌ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَمْسَحَ بِجَمِيعِ الْيَدِ حَتَّى بِأَصَابِعِهَا، وَلَوْ مَسَحَ بِرَأْسِ كَفِّهِ جَازَ، وَكَذَا بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ إِذَا بَلَغَ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَقِيلَ: مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَهُ الْكُلُّ، وَالْمُرَادُ مِنْ ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ أَعْلَاهُمَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا سَيَأْتِي، كَذَا قَالَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ (وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي أَوْسَطِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ خُفَّيْهِ، فَنَخَسَهُ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا السُّنَّةُ ; أُمِرْنَا بِالْمَسْحِ هَكَذَا، وَأَمَرَّ بِيَدَيْهِ عَلَى خُفِّهِ» ، وَفِي لَفْظٍ: «ثُمَّ أَرَاهُ بِيَدِهِ مِنْ مُقَدَّمِ الْخُفَّيْنِ إِلَى أَصْلِ السَّاقِ، وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» ، وَفِي الشَّمَنِّيُّ: رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى خُفِّهِ الْأَيْمَنِ، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى خُفِّهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ مَسَحَ أَعْلَاهُمَا مَسْحَةً وَاحِدَةً حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُفَّيْنِ» .

523 - وَعَنْهُ، قَالَ: «تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 523 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ الْمُغِيرَةِ (قَالَ: «تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ» ) أَيْ: وَنَعْلَيْهِمَا، فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِمَا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " وَالنَّعْلَيْنِ " هُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَبِسَ النَّعْلَيْنِ فَوْقَ الْجَوْرَبَيْنِ، وَقَدْ أَجَازَ الْمَسْحَ فَوْقَ الْجَوْرَبَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْهُمْ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَرْوِيَ الْمُغِيرَةُ اللَّفْظَيْنِ، وَقَدْ عَضَّدَهُ فِعْلُ الصَّحَابَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُمَامَةَ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ بِأَنْ كَانَ الْجِلْدُ أَعْلَاهُمَا وَأَسْفَلَهُمَا، أَوْ مُنَعَّلَيْنِ بِأَنْ كَانَ الْجِلْدُ أَسْفَلَهُمَا فَقَطْ، أَوْ ثَخِينَيْنِ مُسْتَمْسِكَيْنِ عَلَى السَّاقِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَكَذَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوقَيْنِ تَثْنِيَةُ الْمُوقِ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَهُوَ الْجُرْمُوقُ كَعُصْفُورٍ، مَا يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ: لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْغَالِبِ، فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّخْصَةُ، وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ: «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ سَأَلَ بِلَالًا عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: كَانَ يَخْرُجُ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ فَآتِيهِ بِالْمَاءِ فَيَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ» ؛ وَلِأَنَّ الْمُوقَ لَا يُلْبَسُ بِدُونِ الْخُفِّ عَادَةً فَأَشْبَهَ خُفَّا ذَا طَاقَيْنِ (وَأَبُو دَاوُدَ) وَضَعَّفَهُ (وَابْنُ مَاجَهْ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 524 - عَنِ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَسِيتَ؟ قَالَ: " بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ، بِهَذَا أَمَرَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 524 - (عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: «مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَسِيتَ» ؟) يُحْتَمَلُ تَقْدِيرُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَتَرْكُهُ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا نَسِيتُ (" بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ ") أَيْ: إِنِّي مُشَرِّعٌ حَيْثُ نُسِبْتُ إِلَى النِّسْيَانِ (" بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ") فَفِعْلِي عَمْدٌ، أَوِ الْمَعْنَى: تَرَكْتَ الْأَدَبَ حَيْثُ جَزَمْتَ بِنِسْبَةِ النِّسْيَانِ إِلَيَّ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: " بَلْ نَسِيتَ " مَعْنَاهُ أَخْطَأْتَ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ بِهَذَا - أَيْ بِالْمَسْحِ أَمَرَنِي رَبِّي - مَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْمَسْحَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

525 - «وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلِلدَّارِمِيِّ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 525 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) كَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ نُسْخَةِ السَّيِّدِ (أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ) أَيْ: بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ دُونَ الرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ) لِقُرْبِهِ مِنَ الْقَاذُورَاتِ وَالْأَوْسَاخِ (أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ ; لِبُعْدِهِ مِنْهَا، (وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ) : مُرَادُهُ بِهِ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِهِ، وَإِلَّا لَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْأَسْفَلِ لِشُمُولِ الظَّاهِرِ لَهُ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ. . . إِلَخْ، صَرِيحٌ فِي امْتِنَاعِ الْأَسْفَلِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِظَاهِرِ خُفَّيْهِ أَعْلَى ظَاهِرِهِمَا، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا

فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ تَابِعٌ لِلشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ، فَعَلَيْهِ التَّعَبُّدُ الْمَحْضُ بِمُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ، وَمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْمُبْتَدَعَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الْعَقْلِ، وَتَرْكِ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا: لَوْ قُلْتُ بِالرَّأْيِ لَأَوْجَبْتُ الْغُسْلَ بِالْبَوْلِ أَيْ: لِأَنَّهُ نَجِسٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْوُضُوءُ بِالْمَنِيِّ ; لِأَنَّهُ نَجِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَأَعْطَيْتُ الذَّكَرَ فِي الْإِرْثِ نِصْفَ الْأُنْثَى ; لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْهُ، هَذَا وَقَالَ فِي النَّوَوِيَّةِ نَقْلًا عَنِ الْمَبْسُوطِ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ مَسْحُ بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ بَاطِنَهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَلَوُّثٍ عَادَةً فَيُصِيبُ يَدَهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِنِ عِنْدَهُمْ مَحَلُّ الْوَطْءِ لَا مَا يُلَاقِي الْبَشَرَةَ، لَكِنْ بِتَقْدِيرِهِ لَا يَظْهَرُ أَوْلَوِيَّةُ مَسْحِ بَاطِنِهِ وَلَوْ كَانَ بِالرَّأْيِ، بَلِ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ الْأَسْفَلُ هُوَ الْمُعَيَّنُ الَّذِي قَالُوهُ، فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ عَلِيٍّ السَّابِقِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَسْحِ هُوَ الطَّهَارَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَسْفَلَ أَحْوَجُ إِلَى التَّطْهِيرِ ; فَإِنَّهُ أُجْمِعَ فِيهِ الْحَدَثُ وَالْخَبَثُ، وَفِي كَلَامِ عَلِيٍّ إِيمَاءٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلِ ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الرِّجْلِ لَكَانَ فِي مُقْتَضَى الرَّأْيِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى لَا عَلَى الْأَسْفَلِ، فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ (وَلِلدَّارِمِيِّ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، خَبَرُهُ مُقَدَّمٌ مُبْتَدَؤُهُ: (مَعْنَاهُ) أَيْ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ دُونَ لَفْظِهِ.

[باب التيمم]

[بَابُ التَّيَمُّمِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 526 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (10) بَابُ التَّيَمُّمِ وَهُوَ لُغَةٌ: الْقَصْدُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَشَرْعًا: قَصْدُ التُّرَابِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَلِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي مَفْهُومِهِ اللُّغَوِيِّ وَجَبَتِ النِّيَّةُ فِيهِ عِنْدَنَا بِخِلَافِ أَصْلَيْهِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَيْضًا الْغُسْلُ بِالْمَاءِ طَهَارَةٌ حِسِّيَّةٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ إِلَّا لِخُصُوصِ الْأَجْرِ وَالْمَثُوبَةِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ، وَفِي الظَّاهِرِ إِنَّمَا هُوَ غَبْرَةٌ صُورِيَّةٌ، فَاحْتَاجَ إِلَى النِّيَّةِ ; لِيَصِيرَ بِهَا كَالطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، ثُمَّ التَّيَمُّمُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ فَرْضِيَّتِهِ وَمَكَانِهَا وَسَبَبِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى انْهُ مُخْتَصٌّ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَإِنَّ كَانَ الْحَدَثُ أَكْبَرَ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِجْمَاعًا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 526 - (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فُضِّلْنَا ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا (عَلَى النَّاسِ) أَيْ: فَضَّلَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ (بِثَلَاثٍ) أَيْ: بِثَلَاثِ خِصَالٍ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا ; لِأَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ كَانُوا يَقِفُونَ فِي الصَّلَاةِ كَيْفَمَا اتُّفِقَ، وَلَمْ تَجُزْ لَهُمُ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُمُ التَّيَمُّمُ، وَلَيْسَ فِيهِ انْحِصَارُ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ خَصَائِصُ أُمَّتِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيُخْبِرُ عَنْ كُلِّ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْزَالِهِ مِمَّا يُنَاسِبُهُ (جُعِلَتْ صُفُوفُنَا) أَيْ: وُقُوفُنَا فِي الصَّلَاةِ (كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ) قِيلَ: فِي الْمَعْرَكَةِ، وَقِيلَ: فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: فِي الطَّاعَةِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ - وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 165 - 166] (وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا) تَأْكِيدٌ لِيَشْمَلَ مَا فِي حُكْمِهَا مِنَ الْجِبَالِ (مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا) أَيْ: تُرَابُ الْأَرْضِ لَنَا طَهُورًا) أَيْ: مُطَهِّرًا (إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ) وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ: أَنَّ غَيْرَ التُّرَابِ لَا يَكُونُ طَهُورًا، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِغَيْرِنَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

527 - وَعَنْ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ، إِذَا هُوَ بَرْجَلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلَا مَاءَ. قَالَ: " عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ ; فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 527 - (وَعَنْ عِمْرَانَ) أَيْ: ابْنِ الْحُصَيْنِ الْخُزَاعِيِّ الْكَعْبِيِّ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ (قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ) : أَيْ: إِمَامًا (فَلَمَّا انْفَتَلَ) : أَيْ: انْصَرَفَ وَفَرَغَ (مِنْ صَلَاتِهِ، إِذَا هُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِرَجُلٍ) : فَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ بِرَجُلٍ (مُعْتَزِلٍ) : عَنِ الْقَوْمِ أَيْ: خَارِجٍ مِنْ بَيْنِهِمْ وَاقِفٍ فِي نَاحِيَةٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ) : وَالْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِمَا، أَيْ: فَلَمَّا انْفَتَلَ فَاجَأَهُ رُؤْيَةُ رَجُلٍ مُعْتَزِلٍ غَيْرِ مُصَلٍّ (فَقَالَ) : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ» ؟) : أَيْ: مِنْ صَلَاتِكَ مَعَهُمْ (قَالَ: «أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلَا مَاءَ» ) : أَيْ: مَوْجُودٌ هُنَا ( «قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ» ") : اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذْ وَالْزَمْ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوِ الْمَعْنَى: يَلْزَمُ عَلَيْكَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ، وَهُوَ التُّرَابُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَوَجْهُ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، سَوَاءٌ كَانَ تُرَابًا أَمْ لَا ; لِأَنَّ الصَّعِيدَ مَا صَعِدَ عَلَى الْأَرْضِ، وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ مَا يَصِيرُ رَمَادًا أَوْ مُذَابًا (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الصَّعِيدُ (يَكْفِيكَ) : أَيْ: لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَيُغْنِيكَ وَيُجْزِئُكَ عَنِ الْمَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

528 - وَعَنْ عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ، فَقَالَ عَمَّارٌ لِعُمَرَ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ؟ فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا " فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ، وَفِيهِ: قَالَ: " «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ ثُمَّ تَنْفُخَ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 528 - (وَعَنْ عَمَّارٍ: أَيْ: ابْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ) : أَيِ: الرَّجُلُ سَائِلًا: (إِنِّي أَجْنَبْتُ) : أَيْ: صِرْتُ جُنُبًا أَوْ دَخَلْتُ فِي الْجَنَابَةِ (فَلَمْ أَصِبُ الْمَاءَ) : مِنَ الْإِصَابَةِ أَيْ: لَمْ أَجِدْهُ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ عُمَرُ فِي جَوَابِهِ: لَا تُصَلِّ حَتَّى تَجِدَ الْمَاءَ، وَيُمْكِنُ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَكَتَ عَنِ الْجَوَابِ نَاسِيًا لِلْقَضِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ (فَقَالَ عَمَّارٌ لِعُمَرَ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: فِي سَرِيَّةٍ. أَيْ: طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ (أَنَا وَأَنْتَ؟) تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِضَمِيرِ كُنَّا، فَالْمَعْنَى فَأَجْنَبْنَا كُلُّنَا (فَأَمَّا أَنْتَ) : تَفْصِيلٌ لِلْمُجْمَلِ (فَلَمْ تُصَلِّ) : لِأَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ الْوُصُولَ إِلَى الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، أَوْ لِاعْتِقَادِ أَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ الْحُكْمَ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ سُؤَالُ الْحُكْمِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ ذَاكَ (وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ) : أَيْ: تَمَرَّغْتُ وَتَقَلَّبْتُ فِي التُّرَابِ ظَنًّا بِأَنَّ إِيصَالَ التُّرَابِ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَاجِبٌ فِي الْجَنَابَةِ كَالْمَاءِ (فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) : أَيْ: فِعْلِي أَوْ مَا ذُكِرَ مِنَ امْتِنَاعِ عُمَرَ عَنِ الصَّلَاةِ وَتَمَعُّكِي فِي التُّرَابِ (لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ هَكَذَا "، مُجْمَلٌ تَفْسِيرُهُ (فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ) : هَذَا تَعْلِيمٌ فِعْلِيٌّ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِعْلَامِ الْقَوْلِيِّ (وَنَفَخَ فِيهِمَا) : لِيَقِلَّ التُّرَابُ الَّذِي حَصَلَ فِي كَفَّيْهِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ التَّطْهِيرُ لَا التَّغْيِيرُ الْمُوجِبُ لِلتَّنْفِيرِ (ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ) : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ تَبَعًا لِجَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِضَرْبَتَيْنِ أَوْ وَضْعَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا لِلْوَجْهِ وَالْأُخْرَى لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ; بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَارِّ فِي آخِرِ بَابِ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمُرَادُ بِالْكَفَّيْنِ الذِّرَاعَانِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ اهـ. وَالذِّرَاعُ بِالْكَسْرِ مِنْ طَرَفِ الْمِرْفَقِ إِلَى طَرَفِ الْأُصْبُعِ وَهُوَ السَّاعِدُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ جَاءَ حَقِيقَةً فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَجَازِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْكَفُّ الْيَدُ أَوِ الْكُوعُ، وَمَعَ هَذَا لَابُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَضَرَبَ - لِيَتِمَّ التَّأْوِيلُ الْمُوَافِقُ لِلْمَذْهَبِ، وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ» ، وَأَخَذُوا بِهِ، وَإِنْ أُعِلَّ بِالْوَقْفِ وَالضَّعْفِ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُعَضِّدُهُ إِذْ هُوَ بَدَلٌ، فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُحَاكِيَ الْمُبْدَلَ، وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ. وَأُجِيبَ عَنْ حَدِيثِ الْمَتْنِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ صُورَةُ الضَّرْبِ لِلتَّعْلِيمِ لَا بَيَانُ جَمِيعِ مَا

يَحْصُلُ بِهِ التَّيَمُّمُ، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي التَّيَمُّمِ بِمَسْحِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الِاقْتِصَارُ عَلَى الْكَفَّيْنِ أَصَحُّ رِوَايَةً، وَوُجُوبُ مَسْحِ الذِّرَاعَيْنِ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ، وَأَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ اهـ. أَيْ: لِأَنَّهُ بَدَلٌ، فَأُعْطِيَ حُكْمَ مُبْدَلِهِ، وَبِهِ يَعْتَضِدُ الْخَبَرُ الْمَوْقُوفُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ ظَاهَرُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فِي الْأَصْلِ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُهُ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ ; لِأَنَّهُ أَصْلُهُ، وَيُؤَيِّدُنَا مَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا "، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ نَفَضَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ وَجْهَهُ» اهـ. فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي عَدَمِ التَّرْتِيبِ، وَاحْتِمَالُ أَنَّ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ بَعِيدٌ جِدًّا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ) : أَيْ: مَعْنَاهُ (وَفِيهِ) : أَيْ: فِي مُسْلِمٍ، أَوْ فِي نَحْوِهِ (قَالَ) : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ، ثُمَّ تَنْفُخُ، ثُمَّ تَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ» ) : وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ فِي التَّعْلِيمِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ; تَأْكِيدًا لِلْإِعْلَامِ؛ وَتَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِمَامِ.

529 - وَعَنْ أَبِي الْجُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَرَرْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُولُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ حَتَّى قَامَ إِلَى جِدَارٍ، فَحَتَّهُ بِعَصًى كَانَتْ مَعَهُ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيَّ» . وَلَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي: الصَّحِيحَيْنِ "، وَلَا فِي " كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ "، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ " قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 529 - (وَعَنْ أَبِي الْجُهَيْمِ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ) : فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهِ: بِكَسْرِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَقِيلَ: بِتَخْفِيفِهَا (قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : الْمُرُورُ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَعَلَى، (وَهُوَ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَتُسَكَّنُ (يَبُولُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ هُوَ الْمُصَحَّحُ (عَلَيَّ) : السَّلَامَ (حَتَّى قَامَ إِلَى جِدَارٍ) : لَعَلَّهُ كَانَ جِدَارَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ رِضَاهُ أَوْ كَانَ جِدَارَهُ (فَحَتَّهُ) : بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: حَكَّهُ وَخَدَشَهُ (بِعَصًى كَانَتْ مَعَهُ) : حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ التُّرَابُ، قَصْدًا إِلَى الْأَفْضَلِ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ، أَوْ لِإِزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ، أَوِ الْمُؤْذِيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجِدَارِ، فَلَا يَكُونُ نَصًّا عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَعْلَقْ بِالْيَدِ غُبَارٌ (ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ) : أَيْ مَرَّتَيْنِ (عَلَى الْجِدَارِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " يَدَهُ " عَلَى الْإِفْرَادِ ; لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ (فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ) : مَعَ مِرْفَقَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الضَّرْبَةَ الْوَاحِدَةَ كَافِيَةٌ، وَقَدْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ (ثُمَّ رَدَّ عَلَيَّ) : أَيِ: السَّلَامَ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الطَّهَارَةِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَفِي تَأْخِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدَّ الْجَوَابِ تَعْلِيمٌ بِأَنَّ رَدَّهُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَذَا قِيلَ، وَأَقُولُ: هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَلَمْ أَجِدْ) : أَيْ: نَقَلْتُ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا تَبَعًا لِلْمُصَنِّفِ، وَلَمْ أَجِدْ (هَذِهِ الرِّوَايَةَ) : أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ (فِي الصَّحِيحَيْنِ) : وَرِوَايَتُهُمَا مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، (وَلَا فِي: كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) : فَالِاعْتِرَاضُ وَارِدٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ حَيْثُ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصِّحَاحِ الْمَوْضُوعِ فِي اصْطِلَاحِهِ لِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا. (وَلَكِنْ ذَكَرَهُ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ بِإِسْنَادِهِ أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِي نُسْخَةٍ ذَكَرَهَا، أَيْ: هَذِهِ الرِّوَايَةَ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : مَنْ كَتَبَهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بِسَنَدِهِ (وَقَالَ فِيهِ) : أَيْ: فِي حَقِّهِ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) : فَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 530 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ; فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ إِلَى قَوْلِهِ: " عَشْرَ سِنِينَ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 530 - (عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الصَّعِيدَ ") : أَيِ: التُّرَابَ، أَوْ وَجْهَ الْأَرْضِ (الطَّيِّبَ) : الطَّاهِرَ الْمُطَهَّرَ (وَضُوءُ الْمُسْلِمِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ ; لِأَنَّ التُّرَابَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ الْوَاوِ أَيْ: اسْتِعْمَالُ الصَّعِيدِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ كَوُضُوءِ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ لَا مُبِيحٌ لَهُ، كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِوَاحِدٍ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ (وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ) : إِنْ لِلْوَصْلِ (عَشْرَ سِنِينَ) بِسُكُونِ الشِّينِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَثْرَةُ لَا الْمُدَّةُ الْمُقَدَّرَةُ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ غَيْرُ نَاقِضٍ لِلتَّيَمُّمِ، بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوُضُوءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ، مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ يُعَضِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَإِنَّ ضَعُفَ سَنَدُهُ -: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُصَلَّى بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ إِلَّا فَرِيضَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يُجَدِّدُ لِلثَّانِيَةِ تَيَمُّمًا، وَمَا قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ عَلَى الصَّحِيحِ، مَحَلُّهُ أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ مَعَ رَفْعِهِ يَدُلُّ عَلَى السُّنِّيَّةِ لَا عَلَى الْفَرْضِيَّةِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ أَوْجَبَ طَهَارَتَيْنِ. وَقَوْلُ صَاحِبِ الْإِفْصَاحِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيَلْزَمُ عَلَى مَنْ جَوَّزَ فَرَضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ الْمُتَوَلِّي وَالرُّوَيَانِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّانِيَةِ وَقَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ - وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ - مَرْدُودٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْوُضُوءِ (فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ) : أَيْ: كَافِيًا لِغُسْلِهِ أَوْ وُضُوئِهِ، وَفَاضِلًا عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى شُرْبِهِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ (فَلْيُمِسَّهُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْإِمْسَاسِ (بَشَرَتَهُ) : أَيْ: فَلْيُوصِلِ الْمَاءَ إِلَى بَشَرَتِهِ وَجِلْدِهِ، يَعْنِي: فَلْيَتَوَضَّأْ أَوْ يَغْتَسِلْ (فَإِنَّ ذَلِكَ) : أَيِ: الْإِمْسَاسَ (خَيْرٌ) : مِنَ الْخَيُورِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كِلَيْهِمَا جَائِزٌ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ خَيْرٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْوُضُوءَ وَاجِبٌ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] " مَعَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ وَلَا أَحْسَنِيَّةَ لِمُسْتَقَرِّ أَهْلِ النَّارِ ; لِمَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: " التُّرَابُ كَافِيكَ وَإِنْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حُجَجٍ، وَإِنْ وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ» " وَهَذَا أَمْرٌ، وَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ - أَيْ: وُجُودَ الْمَاءِ - خَيْرٌ مِنْ فَقْدِهِ، فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَمِنْحَةٌ جَسِيمَةٌ ; لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ حِسِّيَّةٌ وَحُكْمِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً بِهِمَا، وَفِيهِمَا خَيْرٌ كَثِيرٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى. (وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْ: مَعْنَاهُ (إِلَى قَوْلِهِ: عَشْرَ سِنِينَ ") .

531 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مَنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، فَاحْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، قَالَ: " قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْا لَمْ يَعْلَمُوا ; فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 531 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ) : أَيْ: أَوْقَعَ الشَّجَّ فِيهِ نَحْوَ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي، وَكَذَا قَوْلُهُ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ مِيرَكُ: فِيهِ تَأَمَّلٌ، وَوَجْهُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ " فِي " فِي سَفَرٍ " لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ، بَلْ تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ: خَرَجْنَا لِإِرَادَةِ سَفَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَيْ: خَرَجْنَا مُسَافِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّأْسَ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، فَإِنَّ الشَّجَّ هُوَ كَسْرُ الرَّأْسِ، فَفِيهِ تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى: فَجَرَحَهُ فِي رَأْسِهِ (فَاحْتَلَمَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ احْتَلَمَ أَيْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ، وَخَافَ لَوِ اغْتَسَلَ أَنْ يُصِيبَ

الْمَاءُ الْجِرَاحَةَ فَيَضُرُّهَا» (فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ) : أَيْ: مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى زَعْمِهِ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ (هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً) : وَهُوَ ضِدُّ الْعَزِيمَةِ (فِي التَّيَمُّمِ؟) : أَيْ: فِي جَوَازِهِ، وَهُوَ وُجُودُ الْمَاءِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتِ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ، حَمَلُوا الْوِجْدَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْوِجْدَانَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي حُكْمِ الْفُقْدَانِ (فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (بِذَلِكَ. قَالَ: " قَتَلُوهُ ") : أَسْنَدَ الْقَتْلَ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لَهُ بِتَكْلِيفِهِمْ لَهُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَعَ وُجُودِ الْجُرْحِ فِي رَأْسِهِ ; لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ (قَتَلَهُمُ اللَّهُ) : أَيْ: لَعَنَهُمْ، إِنَّمَا قَالَهُ زَجْرًا وَتَهْدِيدًا، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا قَوَدَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمُفْتِي، وَإِنْ أَفْتَى بِغَيْرِ الْحَقِّ. (أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا) : أَلَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ حَرْفُ تَحْضِيضٍ دَخَلَ عَلَى الْمَاضِي، فَأَفَادَ التَّنَدُّمَ، وَإِذَا ظَرْفٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ إِذْ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنَ النُّسْخَتَيْنِ، وَالْفَاءُ الْآتِيَةِ لِلتَّسَبُّبِ، وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يَسْأَلُوا، وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مَا لَا يَعْلَمُونَ. (فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ عَدَمُ الضَّبْطِ، وَالتَّحَيُّرِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ (السُّؤَالُ) : فَإِنَّهُ لَا شِفَاءَ لِدَاءِ الْجَهْلِ إِلَّا التَّعَلُّمُ، عَابَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِفْتَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَلْحَقَ بِهِمُ الْوَعِيدَ بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ مُقَصِّرِينَ فِي التَّأَمُّلِ فِي النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ) أَيِ: الرَّجُلَ الْمُحْتَلِمَ (أَنْ يَتَيَمَّمَ) : أَوَّلًا (وَيَعْصِبَ) : أَيْ: يَشُدَّ (عَلَى جُرْحِهِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ (خِرْقَةً) : حَتَّى لَا يَصِلَ إِلَيْهِ الْمَاءُ (ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى الْخِرْقَةِ بِالْمَاءِ (وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَغَسْلِ سَائِرِ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ، دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِأَحَدِهِمَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالْجَوَابُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -: أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ خَافَ التَّلَفَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ خَافَ الزِّيَادَةَ فِي الْمَرَضِ أَوْ تَأْخِيرَ الْبُرْءِ جَازَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ بِلَا إِعَادَةٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ كَانَ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ قَرْحٌ أَوْ كَسْرٌ أَوْ جُرْحٌ، وَأَلْصَقَ عَلَيْهِ جَبِيرَةً، وَخَافَ مِنْ تَرْكِهَا التَّلَفَ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَيَضُمُّ إِلَى الْمَسْحِ التَّيَمُّمَ، وَلَا يَقْضِي عَلَى الرَّاجِحِ إِنْ وَضَعَ الْجَبِيرَةَ عَلَى طُهْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِذَا كَانَ بَعْضُ جَسَدِهِ جَرِيحًا أَوْ قَرِيحًا وَبَعْضُهُ صَحِيحًا ; إِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ صَحِيحًا غَسَلَهُ، وَمَسَحَ عَلَى الْجُرْحِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ جَرِيحًا تَيَمَّمَ، وَيَسْقُطُ الْغُسْلُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَغْسِلُ الصَّحِيحَ، وَيَتَيَمَّمُ لِلْجُرْحِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: لَا يَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ. يَعْنِي: بَابَ الْمَسْحِ عَلَى الْعَصَائِبِ وَالْجَبَائِرِ، وَلَكِنْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِعْلُهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.

532 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ". عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 532 - (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَقِيبَ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ، فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ بِتَخْرِيجِ ابْنِ مَاجَهْ، وَكَأَنَّهُ ذَهَلَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ وَاللَّهُ الْهَادِي.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ: وَهُوَ ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا، كَخَبَرِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ عَلِيًّا بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ» اهـ. وَقَوْلُ غَيْرِهِ: إِنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْجُمْهُورِ، مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ، وَدَعْوَى ابْنِ حَجَرٍ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا أُخْرَى صَحِيحَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ; لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى بَيَانِهَا، وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِاحْتِمَالِهَا. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَّ سَكَتَ أَبُو دَاوُدَ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّ سُكُوتَهُ لَا يُقَاوِمُ تَصْرِيحَ غَيْرِهِ بِالتَّضْعِيفِ، وَمِنْ أَغْرَبِ الْغَرَائِبِ أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ نَظَرُوا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَبِيرَةِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ مُصَرِّحٌ بِهَا. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ ابْنُ قَمِئَةَ قَالَ: رَأَيْتُهُ إِذَا تَوَضَّأَ حَلَّ عَنْ عِصَابَتِهِ، وَمَسَحَ عَلَيْهَا بِالْوَضُوءِ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، «عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبَائِرِ» وَقِيلَ: وَالْأَصَحُّ وَقْفُهُ، لَكِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا كَالْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّ الْإِبْدَالَ لَا يُنْصَبُ بِالرَّأْيِ.

533 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا، فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ بِوُضُوءٍ، وَلَمْ يَعُدِ الْآخَرُ. ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَا ذَلِكَ. فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: " لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 533 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ) : أَيْ: جَاءَ وَقْتُهَا. (وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا) : أَيْ: قَصَدَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، أَوْ فَتَيَمَّمَا بِالصَّعِيدِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ (فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ) : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْطَعُهَا، وَهِيَ صَحِيحَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ، أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِ الصَّلَاةِ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى بُطْلَانِ تَيَمُّمِهِ (فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ بِوُضُوءٍ) إِمَّا ظَنًّا بِأَنَّ الْأُولَى بَاطِلَةٌ، وَإِمَّا احْتِيَاطًا (وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ صَحِيحَةٌ (ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ) : أَيْ: مَا وَقَعَ لَهُمَا ( «فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: " أَصَبْتَ السُّنَّةَ» ") أَيْ؟ صَادَفْتَ الشَّرِيعَةَ الثَّابِتَةَ بِالسُّنَّةِ (وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ) : تَفْسِيرٌ لِمَا سَبَقَ (وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ) : أَيْ: لِلصَّلَاةِ (وَأَعَادَ) : أَيِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ: ( «لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» ) : أَيْ: لَكَ أَجْرُ الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ ; فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَحِيحَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَثُوبَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَحْوَطِ أَفْضَلُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : يَعْنِي مُتَّصِلًا (وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْضًا.

534 - وَقَدْ رَوَى هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 534 - (وَقَدْ رَوَى هُوَ) : أَيِ: النَّسَائِيُّ (وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا) : اعْلَمْ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مُتَّصِلًا، ثُمَّ قَالَ غَيْرُ ابْنِ نَافِعٍ يَرْوِيهِ: عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُمَيْرَةَ بْنِ أَبِي نَاجِيَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ أَبِي سَوَادَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَذَكْرُ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ اهـ. لَكِنْ قَالَ الْحَاكِمُ: رِوَايَةُ الِاتِّصَالِ صَحِيحَةٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 535 - عَنْ أَبِي الْجُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 535 - (عَنْ أَبَى الْجُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ) : مَرَّ قَرِيبًا (قَالَ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ) : بِإِضَافَةٍ أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعْرَفُ بِذَاكَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ (فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ) : هُوَ أَبُو الْجُهَيْمِ الرَّاوِي، بَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ حَيْثُ قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. (فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيِ: السَّلَامَ عَلَيْهِ (حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ) : وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ حَتَّهُ وَحَكَّهُ (فَمَسَحَ وَجْهَهُ) : أَوَّلًا (وَيَدَيْهِ) : ثَانِيًا (ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ (السَّلَامَ) : بِالنَّصْبِ، مَفْعُولُ رَدَّ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

536 - «وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّهُمْ تَمَسَّحُوا وَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّعِيدِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمُ الصَّعِيدَ، ثُمَّ مَسَحُوا بِوُجُوهِهِمْ مَسْحَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ عَادُوا، فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمُ الصَّعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى، فَمَسَحُوا بِأَيْدِيهِمْ كُلِّهَا إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالْآبَاطِ مِنْ بُطُونِ أَيْدِيهِمْ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 536 - (وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ) : يَرْوِي، أَيْ: لِلتَّابِعِينَ (أَنَّهُمْ) : أَيِ: الصَّحَابَةَ (تَمَسَّحُوا) : أَيْ: تَيَمَّمُوا (وَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ (بِالصَّعِيدِ) : مُتَعَلِّقٌ بِتَمَسَّحُوا (لِصَلَاةِ الْفَجْرِ) : أَيْ: لِأَدَائِهَا (فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمُ الصَّعِيدَ) . . . إِلَخْ، بَيَانٌ لِتَمَسَّحُوا (ثُمَّ مَسَحُوا بِوُجُوهِهِمْ مَسْحَةً وَاحِدَةً) : بِطَرِيقِ الِاسْتِيعَابِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا يُكَرَّرَ مَسْحُ التَّيَمُّمِ (ثُمَّ عَادُوا) : أَيْ: رَجَعُوا (فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمُ الصَّعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى) : أَيْ: ضَرْبَةً أُخْرَى ( «فَمَسَحُوا بِأَيْدِيهِمْ كُلِّهَا إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالْآبَاطِ» ) : بِالْمَدِّ جَمْعُ إِبِطٍ (مِنْ بُطُونِ أَيْدِيهِمْ) : مِنْ لِلِابْتِدَاءِ أَيْ: ابْتَدَأُوا بِالْمَسْحِ مِنْ بُطُونِ الْأَيْدِي لَا مِنْ ظُهُورِهَا، كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الِاسْتِحْبَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالِابْتِدَاءِ آلَةُ الْمَسْحِ لَا ابْتِدَاءُ الْمَمْسُوحِ، فَيُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، وَهُوَ أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: تَيَمَّمْنَا إِلَى الْمَنَاكِبِ، وَذَلِكَ حِكَايَةُ فِعْلِهِ لَمْ يَنْقِلْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: أَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ، فَلَمَّا سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِهِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ انْتَهَى إِلَيْهِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْيَدُ اسْمٌ لِلْعُضْوِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَيَمَّمَ وَمَسَحَ يَدَيْهِ إِلَى مِرْفَقَيْهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْوُضُوءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيْدِي هُنَا إِلَى الْمَرَافِقِ اهـ. وَيَعْنِي بِالْقِيَاسِ قِيَاسَ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

[باب الغسل المسنون]

[بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ]

(11) بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 537 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (11) بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ الْغَسْلُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالْكَسْرِ مَا يُغْسَلُ بِهِ، وَبِالضَّمِّ غُسْلٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 537 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ ") : بِالرَّفْعِ أَصَحُّ (الْجُمُعَةَ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ أَيْ: صَلَاتَهَا (فَلْيَغْتَسِلْ) ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْيَوْمِ ; وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَاعِلٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} [الأعراف: 131] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " {أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكَمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] " وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ غُسْلُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصُّبْحِ. قَالَ مِيرَكُ - وَفِيهِ تَأَمُّلٌ -: فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْغُسْلَ عَقِيبُ الْمَجِيءِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاءَ لِلْجَزَاءِ. قَالَ: وَكَلَامُ الطِّيبِيِّ غَفْلَةٌ عَنِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ: " مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ " وَسَنَدُهَا صَحِيحٌ اهـ. ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْغُسْلِ لِلِاسْتِحْبَابِ الْمُؤَكَّدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِمَا سَيَأْتِي، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَاجِبٌ، وَعَلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

538 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 538 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : أَيِ: الْخِدْرِيِّ: كَمَا فِي نُسْخَةٍ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ") : مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَظْرُوفِ إِلَى الظَّرْفِ كَمَكْرِ اللَّيْلِ، وَأُخِذَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى يَوْمِهَا لَا إِلَى وَقْتِهَا أَنَّ وَقْتَ غُسْلِهَا يَدْخُلُ بِفَجْرِ يَوْمِهَا، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ خِلَافًا لِلْأَوْزَاعِيِّ، وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الرَّوَاحِ خِلَافًا لِمَالِكٍ (وَاجِبٌ) : أَيْ: ثَابِتٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ ; لَا أَنَّهُ يَأْثَمُ تَارِكُهُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ. قِيلَ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ تَأْكِيدٌ لِلِاسْتِحْبَابِ كَمَا يُقَالُ: رِعَايَةُ فُلَانٍ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ (عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) أَيْ: بَالِغٍ مُدْرِكٍ أَوَانَ الِاحْتِلَامِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْمِهْنَةِ، وَيَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَثِيَابَ الْمِهْنَةِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا مُتَقَارِبَ السَّقْفِ، فَإِذَا عَرِقُوا تَأَذَّى بَعْضُهُمْ بِرَائِحَةِ بَعْضٍ، خُصُوصًا فِي بِلَادِهِمُ الَّتِي فِي غَايَةٍ مِنَ الْحَرَارَةِ، فَنَدَبَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الِاغْتِسَالِ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ ; لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الْإِجَابَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

539 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 539 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَقٌّ ") : أَيْ: ثَابِتٌ وَلَازِمٌ، أَوْ جَدِيرٌ وَلَائِقٌ (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) : أَيْ: بَالِغٍ عَاقِلٍ (أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا) : وَالْمُرَادُ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى (يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ) : أَوَّلًا (وَجَسَدَهُ) أَيْ: سَائِرَ بَدَنِهِ ثَانِيًا، وَاسْتَثْنَى دَاخِلَ الْعَيْنَيْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِيَغْتَسَلَ مُشْعِرٌ بِبَيَانِ عِلَّةِ الْحُكْمِ، إِذِ الرَّأْسُ وَالْجَسَدُ مَحَلَّانِ لِلْوَسَخِ غَالِبًا، وَيُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ وَتَقْدِيمُ الْوُضُوءِ، وَأَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَفِي الْوُضُوءِ سُنَّتَانِ، وَفِي الْغُسْلِ فَرْضَانِ عِنْدَنَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 540 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 540 - (عَنْ سَمُرَةَ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ (ابْنِ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَتُفْتَحُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ» ") : الْمُخْتَارُ فِيهَا كَسْرُ النُّونِ وَسُكُونُ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ فَتْحُ النُّونِ وَكَسْرُ الْعَيْنِ، وَهَذَا كَلَامٌ يُطْلَقُ لِلتَّجْوِيزِ وَالتَّحْسِينِ، وَتَقْدِيرُهُ بِتِلْكَ الْفِعْلَةِ هِيَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي " فَبِهَا " لِلسُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى، بَلْ حُكْمًا مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَبِالسُّنَّةِ أَخَذَ، وَنِعْمَتِ الْخَصْلَةُ هِيَ، قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ أَخْذًا بِالسُّنَّةِ إِذَا اغْتَسَلَ، وَأَمَّا إِذَا تَوَضَّأَ فَإِنَّمَا أَتَى بِالْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: فَبِالشَّرِيعَةِ أَوِ الرُّخْصَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ أَوِ الْخَصْلَةِ اهـ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: فَبِالرُّخْصَةِ ; إِذِ الْفِعْلَةُ وَالْخَصْلَةُ مُبْهَمَةٌ، وَالشَّرِيعَةُ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ، قِيلَ: فَبِالرُّخْصَةِ أَخَذَ، وَنِعْمَتِ السُّنَّةُ الَّتِي تَرَكَهَا، أَيِ: الْغُسْلُ، وَهَذَا وَإِنْ قَوِيَ مَعْنًى ضَعِيفٌ لَفْظًا ; لِاخْتِلَافِ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ عَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَرْجِعِ الثَّانِي، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: فَبِالْفَرْضِيَّةِ أَخَذَ، وَنِعْمَتِ الْفَرْضِيَّةُ هِيَ، أَيْ: أَوْ بِخَصْلَةِ النَّظَافَةِ أَخَذَ، وَنِعْمَتِ الْخَصْلَةُ هِيَ. (وَمَنِ اغْتَسَلَ) : أَيْ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِصَلَاتِهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ إِلَّا قَبْلَ الْفَرْضِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ (فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ) : لِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ أَكْمَلُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ بِأَنَّ غُسْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا خَبَرُ مُسْلِمٍ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» ". (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، بَلْ صَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغِ الْقَائِلَ بِالْوُجُوبِ، وَأَمَّا ادِّعَاءُ أَنَّ حَدِيثَ الْوُجُوبِ أَصَحُّ فَقُدِّمَ عَلَى هَذَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ أَصَحِّيَّتَهُ لَا تَقْتَضِي تَقْدِيمَهُ إِلَّا عَلَى ضِدِّهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَلَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ الصَّحِيحِ بِالْأَصَحِّ، بَلْ يَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَمِنْ ثَمَّ أَوَّلْنَا الْأَصَحَّ بِمَا يُوَافِقُ الصَّحِيحَ لَا الْعَكْسُ ; لِتَعَذُّرِهِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوُجُوبَ يُطْلَقُ كَثِيرًا شَائِعًا عَلَى التَّأْكِيدِ ; كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: حَقُّكَ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَدْحُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَجَعْلُ الْغُسْلِ أَفْضَلُ مِنْهُ فَلَا يُطْلَقُ ذَلِكَ مَعَ فَرْضِ وُجُوبِ الْغُسْلِ مُطْلَقًا.

541 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَزَادَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ: " وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 541 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ غَسَّلَ ") : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (" مَيِّتًا ") : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ (" فَلْيَغْتَسِلْ ") : لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا غَسَّلْتُمُوهُ، وَقِيلَ: أَمْرُ وُجُوبٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ رَشَاشِ الْمَغْسُولِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَكَانَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ بَدَنِهِ، فَإِنْ عَلِمَ بِعَدَمِهَا فَلَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الشَّكِّ لَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ، مَعَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عَلَى الصَّحِيحِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلِ سُئِلَ عَنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ؟ قَالَ: يُجْزِئُهُ الْوُضُوءُ. كَذَا فِي التَّصْحِيحِ.

(وَزَادَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَحَسَّنَهُ وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَنْكَرُوا عَلَى التِّرْمِذِيِّ تَحْسِينَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ: وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: خَرَّجَ بَعْضُهُمْ لِتَصْحِيحِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ طَرِيقًا، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدُ: " وَمَنْ حَمَلَهُ ") : أَيِ: الْمَيِّتَ يَعْنِي مَسَّهُ أَوْ أَرَادَ حَمْلَهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (فَلْيَتَوَضَّأْ) : أَيْ: لِيَكُنْ عَلَى وُضُوءٍ حَالَ حَمْلِهِ ; لِيَتَهَيَّأَ لَهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ وَضْعِ الْجِنَازَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لِيُجَدِّدَ الْوُضُوءَ احْتِيَاطًا ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ لِشِدَّةِ دَهْشَتِهِ وَخَوْفِهِ مِنْ حَمْلِ الْجِنَازَةِ وَثِقَلِ حَمْلِهَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْأَمْرُ هُنَا لِلنَّدْبِ اتِّفَاقًا.

542 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمِنَ الْحِجَامَةِ، وَمِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 542 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ) : أَيْ: يَرَى الْغُسْلَ (مِنْ أَرْبَعٍ) : أَيْ: يَأْمُرُ بِالِاغْتِسَالِ مِنْهُنَّ ; إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ غَسَّلَ مَيِّتًا فَاغْتَسَلَ مِنْ غُسْلِهِ، فَإِنَّهُ مَا غَسَّلَ مَيِّتًا قَطُّ، وَهَذَا كَرِوَايَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ رَجَمَ مَاعِزًا أَيْ: أَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الْغَسَّالَ بِالِاغْتِسَالِ. وَقَوْلُهَا: (مِنَ الْجَنَابَةِ) : بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا فَمِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَقِيلَ: ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ لَا تَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ بَلْ تَعَسُّفٍ، ثُمَّ لَا دَلِيلَ فِي عَطْفِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ غَيْرُ حُجَّةٍ كَمَا بُيِّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَالْأَكْلُ جَائِزٌ، وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ إِجْمَاعًا فِيهِمَا (وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ) : بِالْجَرِّ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلسَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، وَإِنْ صَحَّ النَّصْبُ فَيَكُونُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْجَنَابَةِ، لَكِنْ لَا مَعْنَى لِلْغُسْلِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِجَعْلِ مِنَ الْمُقَدَّرَةِ فِيهِ بِمُقْتَضَى الْعَطْفِ لِلتَّعْلِيلِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ رَدُّ مَا قِيلَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِمَنْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ; لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ لَهُ وَلِكَرَامَتِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ وَلِكَرَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِهِ فَلَمْ يَصْلُحِ التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَرْكِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْغُسْلِ الْوَاحِدِ فِيهِ يَنُوبُ عَنِ الْجَنَابَةِ وَعَنِ السُّنَّةِ (وَمِنَ الْحِجَامَةِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: لِلْمَحْجُومِ، وَاغْتِسَالُهُ مِنَ الْحِجَامَةِ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى، وَلَمَّا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ رَشَاشِ الْحِجَامَةِ فَتُسْتَحَبُّ النَّظَافَةُ، وَتَرْدِيدُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْغُسْلَ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ لِلْمَحْجُومِ أَوْ لَهُ وَلِلْحَاجِمِ؟ لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اغْتَسَلَ لَمَّا حَجَمَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اغْتَسَلَ مِنْ حَجْمِهِ هُوَ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقُلْ عَنْهُ، وَلَا يَلِيقُ نِسْبَتُهُ لِمَقَامِهِ الشَّرِيفِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ بَحْثٌ فَتَدَبَّرْ (وَمَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ: هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَسَّلَ مَيِّتًا وَاغْتَسَلَ مِنْهُ، وَاسْتَبْعَدَهُ بَعْضٌ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ. قُلْتُ: سَنَدُهُ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَنُقِلَ، وَأَمَّا هَذَا فَغَيْرُ صَرِيحٍ بَلْ مُحْتَمَلٌ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ كَانَ غَالِبًا لِلِاسْتِمْرَارِ وَإِفَادَةِ التِّكْرَارِ، وَهُوَ بِأَصْلِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَاعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ كَمَا فِي رَجَمَ مَاعِزًا أَيْ: أَمَرَ بِرَجْمِهِ، بِقَوْلِهِ: وَفِيهِ رَكَاكَةٌ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ عَائِشَةَ نَاقِلَةٌ عَنْهُ أَنَّهُ اغْتَسَلَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، فَأَيُّ إِسْنَادٍ إِلَيْهِ هُنَا، حَتَّى يُحْمَلَ عَلَى الْأَمْرِ، بَلْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ فَسَادٌ لَوْ تُصُوِّرَ وُجُودُهُ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَمِنْ أَمْرِهِ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا سَفْسَافٌ اهـ. قُلْتُ: الرَّكَاكَةُ وَالْفَسَادُ إِنَّمَا ظَهَرَ لِفَسَادِ الْفَهْمِ فِي مَحَلِّ إِسْنَادٍ، فَالطِّيبِيُّ لَمَّا نَظَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَرَأَى مَا يُوهِمُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَسَّلَ الْمَيِّتَ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ حَمْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: " كَانَ يَغْتَسِلُ " عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِتَعَذُّرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فَقَالَ: مَعْنَى يَغْتَسِلُ أَيْ: كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ أَرْبَعٍ، وَلِذَا جَعَلَ نَظِيرَهُ رَجْمَ مَاعِزٍ، فَإِنَّ الرَّجْمَ مَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اتِّفَاقًا، بَلْ وَقَعَ بِأَمْرِهِ، فَتَأَمَّلْ لِيَظْهَرْ لَكَ مَوْضِعُ الزَّلَلِ وَمَوْضِعُ الْخَطَلِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ مِيرَكُ شَاهْ: لَمْ يُنْقُلْ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَسَّلَ مَيِّتًا قَطُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " يَغْتَسَلُ "، وَسَاقَهُ.

543 - وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ «يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 543 - (وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَسْلَمَ) : قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ تَمِيمٍ وَأَسْلَمَ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْوَبَرِ» ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْحِلْمِ، يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ حَكِيمٌ، وَخَلْقٌ سِوَاهُ. (فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) : ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى اسْتِحْبَابِ اغْتِسَالِ مَنْ أَسْلَمَ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَزِمَهُ غُسْلٌ فِي حَالِ الْكُفْرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُحْتَمَلَةِ عَلَى أَعْضَائِهِ مِنَ الْوَسَخِ وَالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْغُسْلِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْظِيفِ ; لِأَنَّهُ يُطَيِّبُ الْجَسَدَ، وَاغْتِسَالُهُ مُؤَخَّرٌ عَنْ قَوْلِ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ فِي الْأَصَحِّ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ: يَجِبُ الْغُسْلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا، وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ جَامَعَ أَوِ احْتَلَمَ فِي الْكُفْرِ، فَيُفْرَضُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَإِنِ اغْتَسَلَ فِيهِ. عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ وَهِيَ عِبَادَةٌ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَكْفِيهِ اغْتِسَالُهُ فِيهِ، وَيُسَنُّ أَيْضًا حَلْقُ رَأْسِهِ قَبْلَ الْغُسْلِ لَا بَعْدَهُ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ وَاغْتَسِلْ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَحَسَّنَهُ (وَأَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ الْمُنْذِرِيُّ (وَالنَّسَائِيُّ) : وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 544 - عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ جَاءُوا فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَرَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبًا؟ قَالَ: لَا ; وَلَكِنَّهُ أَطْهَرُ وَخَيْرٌ لِمَنِ اغْتَسَلَ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِوَاجِبٍ. وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ بَدْءُ الْغُسْلِ: كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ، وَيَعْمَلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ، إِنَّمَا هُوَ عَرِيشٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَعَرِقَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الصُّوفِ، حَتَّى ثَارَتْ مِنْهُمْ رِيَاحٌ، آذَى بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَلَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الرِّيَاحَ، قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ ; فَاغْتَسِلُوا، وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَفْضَلَ مَا يَجِدُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ، وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ، وَكُفُوا الْعَمَلَ، وَوُسِّعَ مَسْجِدُهُمُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْعَرَقِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 544 - (عَنْ عِكْرِمَةَ) : هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَصْلُهُ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ وَتَابِعِيهَا، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ هَلْ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: عِكْرِمَةُ. (قَالَ: إِنَّ نَاسًا) : وَفِي نُسْخَةٍ: أُنَاسًا (مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ) : وَهُوَ بِلَادٌ مِنْ عَبَّادَانِ إِلَى مَوْصِلٍ طُولًا، وَمِنَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ عَرْضًا، وَالْعِرَاقَانِ: الْكُوفَةُ وَالْبَصْرَةُ. كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (جَاءُوا فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ) : جَرَوْا فِيهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ مِنْ عَدَمِ رِعَايَةِ مَزِيدِ الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ مَعَ الْأَكَابِرِ (أَتَرَى) : بِفَتْحِ التَّاءِ مِنَ الرَّأْيِ: تَعْتَقِدُ (الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) : ظَرْفٌ لِلْغُسْلِ (وَاجِبًا؟ قَالَ: لَا) : أَيْ: لَا أَرَاهُ وَاجِبًا (وَلَكِنَّهُ أَطْهَرُ) : أَيْ: أَكْمَلُ طَهَارَةً وَأَفْضَلُ مَثُوبَةً ; لِأَنَّهُ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالسُّنَّةِ (وَخَيْرٌ) : أَيْ: نَفْعٌ كَثِيرٌ (لِمَنِ اغْتَسَلَ) : وَأَفْضَلُ لَهُ مِنَ الْوُضُوءِ (وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ) : وَاكْتَفَى بِالْوُضُوءِ (فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِوَاجِبٍ) : هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَابٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: فَلَا بَأْسَ ; إِذْ لَيْسَ الْغُسْلُ فِيهِ وَاجِبًا (وَسَأُخْبِرُكُمْ) : السِّينُ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلِاسْتِقْبَالِ (كَيْفَ بَدْءُ الْغُسْلِ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: سَبَبُ ابْتِدَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، أَوْ سُنِّيَّتِهِ لِلْجُمُعَةِ (كَانَ النَّاسُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ الصَّحَابَةُ ; فَإِنَّهُمْ هُمُ النَّاسُ (مَجْهُودِينَ) : يُقَالُ: جَهُدَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ فَهُوَ مَجْهُودٌ، إِذَا وَجَدَ مَشَقَّةً، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مُسَلَّطًا عَلَيْهِمُ الْجُهْدُ وَالْمَشَقَّةُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لَهُمْ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ وَأَوْلَاهَا، وَهُوَ التَّنَزُّهُ عَنِ الدُّنْيَا وَقَوَاطِعِهَا إِلَّا مَا يُضْطَرُّ إِلَى مُبَاشَرَتِهِ مِنْ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَحْذُورِهَا (يَلْبَسُونَ الصُّوفَ) : جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ (وَيَعْمَلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ) أَيْ: فَيَعْرَقُونَ (وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ) : أَيْ: مَسْجِدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ لِصَلَاتِهِمْ فِيهِ (ضَيِّقًا) : بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ (مُقَارِبَ السَّقْفِ) : لِعَدَمِ ارْتِفَاعِهِ فَيَكُونُ غَيْرَهَا (إِنَّمَا هُوَ عَرِيشٌ) : أَيْ: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ كَعَرِيشِ الْكَرْمِ يَعْنِي الْقَصْدَ مِنْهُ الِاسْتِظْلَالُ،

وَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْسِ الْوَاقِفِ (فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ) : مِنْ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ (وَعَرِقَ النَّاسُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى فَخَرَجَ (فِي ذَلِكَ الصُّوفِ) : أَيِ: الَّذِي يَعْمَلُونَهُ عَلَى ظُهُورِهِمْ حِينَ لُبْسِهِ (حَتَّى ثَارَتْ) : أَيْ: انْتَشَرَتْ (مِنْهُمْ رِيَاحٌ، آذَى بِذَلِكَ) أَيْ: بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْعَرَقِ وَالرِّيَاحِ (بَعْضُهُمْ بَعْضًا) : وَتَأَذَّى الْكُلُّ (فَلَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الرِّيَاحَ) : أَيْ: أَحَسَّهَا أَوْ وَجَدَ أَثَرَهَا وَتَأْثِيرَهَا مِنَ الْأَذَى (قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ ") : أَيْ: يَا أَيُّهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (" إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ ") إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، أَوِ الْمُرَادُ مِثْلُ هَذَا الْيَوْمِ (" فَاغْتَسِلُوا ") : أَيْ: لِحُضُورِ الْجُمُعَةِ (وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَيَجُوزُ كَسْرِهَا، وَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَالسِّينِ (أَفْضَلَ مَا يَجِدُ) : أَيْ أَحْسَنَهُ (مِنْ دَهْنِهِ) : أَيْ: لِشَعْرِهِ (وَطِيبِهِ) : أَيْ: لِسَائِرِ بَدَنِهِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ؛ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُرِدْ مُجَرَّدَ الدُّهْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الدُّهْنَ الْمُطَيِّبَ، فَإِنَّهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْخَاصِّ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا كَالْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كَانَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَيَقُصُّ شَارِبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّلَاةِ» ، وَرِوَايَةُ خِلَافِهِ عَنِ ابْنَيْ عُمَرَ وَعَبَّاسٍ بَاطِلَةٌ اهـ. وَهُوَ كَلَامٌ مُوهِمٌ مُخَالِفٌ لِلْأَدَبِ، فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِهِ سَنَدَ الرِّوَايَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا فَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى بُطْلَانِهِ، بَلْ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تُفْعَلُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ قَيَّدُوهَا مِمَّا قَبْلَ الصَّلَاةِ لِمَا قَامَ عِنْدَهُمْ مِنَ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ أَوِ الْعَقْلِيِّ وَكَلَامُهُمْ غَيْرُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمَا. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) : أَعَادَهُ لِطُولِ الْكَلَامِ (ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ) : أَيِ: الْمَالِ أَوِ الرَّفَاهِيَةِ، عَطْفٌ عَلَى أَوَّلِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ " كَانَ النَّاسُ " أَوْ عَلَى " بَدْءِ الْغُسْلِ " وَآثَرَ ثُمَّ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ ; لِأَنَّهُمْ مَكَثُوا مَجْهُودِينَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَالْفُتُوحَاتُ إِنَّمَا حَصَلَتْ أَوَاخِرَ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: وَعَلَى التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ أَيْضًا ; وَلِذَا نَسَبَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى اهـ. وَوَجْهُهُ أَنَّ أَحْوَالَ جُهْدِهِمْ كَانَتْ مُنْبِئَةً عَنْ عَدَمِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ أَحْوَالِ سَعَتِهِمْ، فَإِنَّهَا مُنْبِئَةٌ عَنْ ظُهُورِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْغِنَى خَيْرٌ مِنَ الْفَقْرِ لِيَكُونَ الشُّكْرُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّبْرِ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ (وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ (وَكُفُوا) : بِالتَّخْفِيفِ مَجْهُولًا (الْعَمَلَ) : مَفْعُولٌ ثَانِي أَيْ: كَفَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْعَمَلَ بِاسْتِغْنَائِهِمْ أَوْ بِإِعْطَائِهِمُ الْخَدَمَ (وَوُسِّعَ مَسْجِدُهُمْ) : مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَّعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ (وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي) : أَيْ: بِهِ: (بَعْضُهُمْ بَعْضًا) : وَيَتَأَذَّى الْكُلُّ (مِنَ الْعَرَقِ) : بَيَانٌ لِلْبَعْضِ، أَوْ تَعْلِيلٌ إِنْ كَانَ حُكْمُهُ التَّعْبِيرَ بِالْبَعْضِ الَّذِي الْمُرَادُ بِهِ الْأَكْثَرُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الِاحْتِيَاطِ فِي الْأَخْبَارِ ; لِأَنَّ بَعْضَهُمْ رُبَّمَا تَسَاهَلَ فِي إِزَالَتِهِ، فَآذَى غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِذَلِكَ، ثُمَّ ظَاهِرُ فَحْوَى كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْغُسْلَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَاجِبًا؛ لِكَثْرَةِ الْإِيذَاءِ بِالرِّيحِ الْكَرِيهَةِ حِينَئِذٍ، ثُمَّ لَمَّا خَفَّتْ نُسِخَ وُجُوبُهُ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا بِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ.

[باب الحيض]

[بَابُ الْحَيْضِ]

(12) بَابُ الْحَيْضِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 545 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحِ " فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ. فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ. فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حَضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، أَفَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا، فَخَرَجَا، فَاسْتَقْبَلَتْهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا، فَعَرِفَا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (12) بَابُ الْحَيْضِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ ذَكَرَ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ الْمَفْرُوضَ، فَإِنَّ انْقِطَاعَ الْحَيْضِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْغُسْلِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ حَاضَ إِذَا سَالَ، وَفِي الشَّرْعِ دَمٌ يَنْفُضُهُ رَحِمُ امْرَأَةٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الدَّاءِ وَالصِّغَرِ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَمْنَعُ صَوْمًا وَصَلَاةً وَنَحْوَهُمَا، وَيُقْضَى هُوَ لَا هِيَ، وَأَصْلُ الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: " {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] " وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ رَدَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ: أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ الْحَيْضُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: قِيلَ: إِنَّ أُمُّنَا حَوَّاءَ لَمَّا كَسَرَتْ شَجَرَةَ الْحِنْطَةِ وَأَدْمَتْهَا قَالَ اللَّهُ: لَأُدْمِيَنَّكِ كَمَا أَدْمَيْتِهَا، وَابْتَلَاهَا بِالْحَيْضِ هِيَ وَجَمِيعُ بَنَاتِهَا إِلَى السَّاعَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 545 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ) : جَمْعُ يَهُودِيٌّ كَرُومٍ وَرُومِيٍّ، وَأَصْلُهُ الْيَهُودِيِّينَ ثُمَّ حُذِفَ يَاءُ النِّسْبَةِ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْيَهُودَ قَبِيلَةٌ سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَدِّهَا يَهُودَ أَخِي يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، وَالْيَهُودِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِمْ بِمَعْنَى وَاحِدٌ مِنْهُمْ (كَانُوا) : أَسْقَطَ ابْنُ حَجَرٍ لَفْظًا: " إِنَّ الْيَهُودَ " مِنَ الْحَدِيثِ، وَجَعَلَ ضَمِيرَ كَانُوا لِلنَّاسِ وَهُوَ خَطَأٌ لَفْظًا وَمَعْنًى (إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ حَيْثُ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ: حَاضَتِ الْمَرْأَةُ وَطَمِثَتْ عَلَى مَا نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي مَعْنَاهُ عَرَكَتْ وَنَفَسَتْ، وَنَهْيُ عَائِشَةَ عَنْ ذِكْرِ الْعِرَاكِ مَذْهَبُ صَحَابِيٌّ؛ وَلِأَنَّ النِّسَاءَ يَسْتَحْيِينَ مِنْ ذَلِكَ (فِيهِمْ) : كَذَا فِي مُسْلِمٍ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ (لَمْ يُؤَاكِلُوهَا) : بِالْهَمْزِ وَيُبَدَلُ وَاوًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ لُغَةٌ (وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ) : أَيْ: لَمْ يُسَاكِنُوهُنَّ وَلَمْ يُخَالِطُوهُنَّ (فِي الْبُيُوتِ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، وَإِنَّمَا جَمَعَ الضَّمِيرَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرْأَةِ الْجِنْسُ، فَعَبَّرَ أَوَّلًا بِالْمُفْرَدِ ثُمَّ بِالْجَمْعِ رِعَايَةً لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى عَلَى طَرِيقِ التَّفَنُّنِ (فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : عَنْ عَدَمِ الْمُؤَاكَلَةِ حَالَةَ الْحَيْضِ كَمَا تَفْعَلُ الْيَهُودُ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] : أَيْ: حُكْمِ زَمَانِ الْحَيْضِ (الْآيَةَ) : بِالْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ تَتِمَّتُهَا: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [الفاتحة: 222 - 638] قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: الْمَحِيضُ الْأَوَّلُ فِي الْآيَةِ هُوَ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] وَفِي الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: الدَّمُ كَالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي: زَمَانُ الْحَيْضِ، وَالثَّالِثُ: مَكَانُهُ وَهُوَ الْفَرْجُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ الْأَذَى مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ لَوْنًا كَرِيهًا وَرَائِحَةً مُنْتِنَةً وَنَجَاسَةً مُؤْذِيَةً مَانِعَةً عَنِ الْعِبَادَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَغَوِيُّ: وَالتَّنْكِيرُ هُنَا لِلْقِلَّةِ أَيْ: أَذًى يَسِيرٌ لَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَجَاوَزُ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ وَحَرَمِهِ فَتُجْتَنَبُ وَتُخْرَجُ مِنَ الْبَيْتِ، كَفِعْلِ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ. نَقَلَهُ السَّيِّدُ. يَعْنِي: الْحَيْضَ أَذًى يَتَأَذَّى مَعَهُ الزَّوْجُ مِنْ مُجَامَعَتِهَا فَقَطْ دُونَ الْمُوَاكَلَةِ وَالْمُجَالَسَةِ وَالِافْتِرَاقِ أَيْ: فَابْعُدُوا عَنْهُنَّ بِالْمَحِيضِ أَيْ: فِي مَكَانِ الْحَيْضِ، وَهُوَ الْفَرْجُ أَوْ حَوْلَهُ مِمَّا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ احْتِيَاطًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مُبَيِّنًا لِلِاعْتِزَالِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِقَصْرِهِ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ (اصْنَعُوا) : أَيْ: افْعَلُوا (كُلَّ شَيْءٍ) : مِنَ الْمُوَاكَلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ (إِلَّا النِّكَاحَ) : أَيِ: الْجِمَاعَ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، وَقِيلَ: فِي الْعَقْدِ، فَيَكُونُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ، وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ: " فَاعْتَزِلُوا " فَإِنَّ الِاعْتِزَالَ شَامِلٌ لِلْمُجَانَبَةِ عَنِ الْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ، وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ، بِمَا تَحْتَ الْإِزَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدَيمِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ

أَبِي دَاوُدَ الْآتِي، هَذَا وَاتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةٍ غَشَيَانِ الْحَائِضِ، وَمَنْ فَعَلَهُ عَالِمًا عَصَى، وَمَنِ اسْتَحَلَّهُ كَفَرَ ; لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَا يُرْفَعُ التَّحْرِيمُ إِلَّا بِقَطْعِ الدَّمِ وَالِاغْتِسَالِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ. (فَبَلَغَ ذَلِكَ) : أَيِ: الْحَدِيثُ (الْيَهُودَ فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ؟) : يَعْنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبَّرُوا بِهِ لِإِنْكَارِهِمْ نُبُوَّتَهُ (أَنْ يَدَعَ) : أَيْ يَتْرُكَ (مِنْ أَمَرِنَا) : أَيْ: مِنْ أُمُورِ دِينِنَا (شَيْئًا) : مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ (إِلَّا خَالَفَنَا) : بِفَتْحِ الْفَاءِ (فِيهِ) : أَيْ: إِلَّا حَالَ مُخَالَفَتِهِ إِيَّانَا فِيهِ يَعْنِي: لَا يَتْرُكُ أَمْرًا مِنْ أُمُورِنَا إِلَّا مَقْرُونًا بِالْمُخَالَفَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «اللَّهُمَّ لَا تَدَعْ لَنَا ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ» ". (فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا: أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ، أَسْلَمَ قَبْلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَلَى يَدِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ (وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ) : مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى يَدِ مُصْعَبٍ أَيْضًا قَبْلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا (فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا) : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ مُعَاشَرَةَ الْحَائِضِ تُوجِبُ ضَرَرًا (فَلَا) : أَيْ: أَفَلَا، كَمَا فِي نُسْخَةٍ (نُجَامِعُهُنَّ؟) : أَيْ: نُسَاكِنُهُنَّ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا نَعْتَزِلُهُنَّ فَلَا نَجْتَمِعُ مَعَهُنَّ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْبُيُوتِ، يُرِيدُ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ لِلْمُؤَالَفَةِ، وَقِيلَ: لِخَوْفِ تَرَتُّبِ ذَلِكَ الضَّرَرِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ. (فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا) : أَيْ: نَحْنُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: ظَنَّا أَيْ: هُمَا (أَنْ) : أَيْ: أَنَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا) : أَيْ: غَضِبَ (فَخَرَجَا) : خَوْفًا مِنَ الزِّيَادَةِ فِي التَّغَيُّرِ أَوِ الْغَضَبِ (فَاسْتَقْبَلَتْهُمَا هَدِيَّةٌ) : أَيْ: اسْتَقْبَلَ الرَّجُلَيْنِ شَخْصٌ مَعَهُ هَدِيَّةٌ يَهْدِيهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِسْنَادَ مَجَازِيٌّ (مِنْ لَبَنٍ) : مِنْ بَيَانِيَّةٌ (إِلَى النَّبِيِّ) : أَيْ: وَاصِلَةٌ أَوْ وَاصِلٌ إِلَيْهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ) : أَيِ: النَّبِيُّ (فِي آثَارِهِمَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِثْرِهِمَا بِكَسْرَتَيْنِ، وَقِيلَ: بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: عَقِبَهُمَا أَحَدًا، فَنَادَاهُمَا فَجَاءَاهُ (فَسَقَاهُمَا) : أَيِ: اللَّبَنَ تَلَطُّفًا بِهِمَا (فَعَرِفَا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا) : أَيْ: لَمْ يَغْضَبْ، أَوْ مَا اسْتَمَرَّ الْغَضَبُ، بَلْ زَالَ أَوْ ذَهَبَ، وَهَذَا مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

546 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكِلَانَا جُنُبٌ، وَكَانَ يَأْمُرُنِي، فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ. وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ، وَأَنَا حَائِضٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 546 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ لِلْفَصْلِ، وَرُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ بِالْوَجْهَيْنِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ) : عَلَى عَادَةَ الْعَرَبِ مِنْ وَضْعِ ظَرْفٍ كَبِيرٍ مَمْلُوءٍ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْتَرِفُونَ مِنْهُ وَيَتَنَاوَبُونَ (وَكِلَانَا) : الْوَاوُ لِلْحَالِ (جُنُبٌ) : الْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ كِلَا وَهُوَ أَفْصَحُ مِنَ التَّثْنِيَةِ لِمَعْنَاهُ (وَكَانَ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (يَأْمُرُنِي) : أَيْ: بِالِاتِّزَارِ اتِّقَاءً عَنْ مَوْضِعِ الْأَذَى (فَأَتَّزِرُ) : قَالَ الشُّرَّاحُ: صَوَابُهُ فَأَئْتَزِرُ بِهَمْزَتَيْنِ يَعْنِي: بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَإِلَّا فَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ أَنَّ الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ السَّاكِنَةَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ تُقْلَبُ مِنْ جِنْسِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا كَآدَمَ. قَالُوا: فَإِنَّ إِدْغَامَ الْهَمْزَةِ فِي التَّاءِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: هُوَ تَحْرِيفٌ وَتَصْحِيفٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ الْأَزْهَارِ. قَالَ فِي الْمُفَصَّلِ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: " فَأَتَّزِرُ " خَطَأٌ خَطَأٌ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فَأَتَّزِرُ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ وَهِيَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ حُجَّةٌ، فَالْمُخْطِئُ مُخْطِئٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: " {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} [البقرة: 283] " بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَتَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ مِنَ الْأَمَانَةِ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَالْمَعْنَى: فَأَعْقِدُ الْإِزَارَ فِي وَسَطِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ

الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ دُونَ مَا تَحْتَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ رُخْصَةً وَفِعْلَهُ عَزِيمَةٌ ; تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، فَإِنَّهُ أَحْوَطُ، فَإِنَّ مَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ (فَيُبَاشِرُنِي) : أَيْ: يُضَاجِعُنِي، فَيُلَامِسُ، وَتَمَسُّ بَشَرَتُهُ بَشَرَتِي فَوْقَ الْإِزَارِ (وَأَنَا حَائِضٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ بِلَا هَاءٍ ; لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُؤَنَّثِ، وَقَدْ تَلْحَقُهُ (وَكَانَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «يُخْرِجُ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ» ) : بِأَنْ كَانَ بَابُ الْحُجْرَةِ مَفْتُوحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْهُ إِلَى الْحُجْرَةِ وَهِيَ فِيهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ إِذَا خَرَّجَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ (فَأَغْسِلُهُ) : أَيْ: رَأْسَهُ (وَأَنَا حَائِضٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَهُ السَّيِّدُ.

547 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعٍ فِيَّ، فَيَشْرَبُ وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ، وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعٍ فِيَّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 547 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كُنْتُ أَشْرَبُ) : أَيِ: الْمَاءَ (وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ) : أَيْ: بَعْدَ الطَّلَبِ (أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أُعْطِهِ الْإِنَاءَ الَّذِي شَرِبْتُ فِيهِ، كَمَا فُهِمَ مِنَ السِّيَاقِ (فَيَضَعُ فَاهُ) : أَيْ: فَمَهُ (عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: فَمَهُ (فَيَشْرَبُ) : أَيْ: مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلْيَهُودِ بُغْضًا، وَمِنْ نِهَايَةِ مُوَافَقَتِهِ لَهَا حُبًّا (وَأَتَعَرَّقُ) : أَيْ: وَكُنْتُ أَتَعَرَّقُ (الْعَرْقَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: آخُذُ اللَّحْمَ مِنَ الْعَرْقِ بِأَسْنَانِي، وَهُوَ عَظْمٌ أُخِذَ مُعْظَمُ اللَّحْمِ مِنْهُ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَظْمُ الَّذِي عَلَيْهِ اللَّحْمُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مُؤَاكَلَةِ الْحَائِضِ وَمُجَالَسَتِهَا، وَعَلَى أَنَّ أَعْضَاءَهَا مِنَ الْيَدِ وَالْفَمِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، وَأَمَّا مَا نُسِبَ إِلَى أَبِي يُوسُفَ مِنْ أَنَّ بَدَنَهَا نَجِسٌ فَغَيْرُ صَحِيحٍ (وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ تَوَاضُعِهِ وَطِيبِ نَفْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

548 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 548 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي» ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ: يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَيَعْتَمِدُ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهِ (وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ طَاهِرَةٌ حِسًّا نَجِسَةٌ حُكْمًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

549 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ. فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ. فَقَالَ: إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 549 - (وَعَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي) : الْفَتْحُ فِي الْيَاءِ أَفْصَحُ مِنَ السُّكُونِ (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَاوِلِينِي ") : بِالْوَجْهَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْ: أَعْطِينِي (الْخُمْرَةَ) : وَهِيَ بِالضَّمِّ سَجَّادَةٌ صَغِيرَةٌ تُعْمَلُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، وَتُزَيَّنُ بِالْخُيُوطِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّخْمِيرِ. بِمَعْنَى التَّغْطِيَةِ، فَإِنَّهَا تُخَمِّرُ مَوْضِعَ السُّجُودِ أَوْ وَجْهَ الْمُصَلِّي مِنَ الْأَرْضِ (مِنَ الْمَسْجِدِ) : قِيلَ: حَالٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكُونُ الْخُمْرَةُ فِي الْحُجْرَةِ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْخُمْرَةِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ وَهُوَ الظَّاهِرُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: " مِنَ الْمَسْجِدِ " مُتَعَلِّقٌ بِنَاوِلِينِي، وَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: ادْخُلِي الْمَسْجِدَ فَخُذِيهَا وَأَعْطِينِي إِيَّاهَا مِنْ غَيْرِ مُكْثٍ، وَلَا تَرَدُّدَ فِيهِ لِحِلِّ هَذَا لِلْحَائِضِ إِذَا أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ، أَوْ مُدِّي يَدَكِ وَأَنْتِ خَارِجَةٌ فَتَنَاوَلِيهَا مِنْهُ، ثُمَّ نَاوِلِينِي إِيَّاهَا، وَهَذَا جَائِزٌ أَيْضًا بِالْأَوْلَى، وَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ " قَالَ " لَكِنَّهُ بَعِيدٌ اهـ. وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَا قَالَهُ أَوَّلًا، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ شَرْعًا وَعُرْفًا ; لِعَدَمِ دُخُولِ الْحَائِضِ الْمَسْجِدَ فِي مَذْهَبِنَا مُطْلَقًا، (فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ: فَقَالَ: " إِنَّ حَيْضَتَكِ ") : بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْحَائِضُ مِنَ الْمَحِيضِ وَالتَّجَنُّبِ، وَقَدْ رُوِيَ بِالْفَتْحِ وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْحَيْضِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ) : يَعْنِي: لَيْسَتْ نَجِسَةً يَدُكِ ; لِأَنَّهَا لَا حَيْضَ فِيهَا، وَهَذَا كَالصَّرِيحِ لِلرَّدِّ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَوَّلًا، قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْحَائِضِ أَنْ تَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مَنْ حَلِفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارًا أَوْ مَسْجِدًا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِإِدْخَالِ بَعْضِ جَسَدِهِ فِيهِ. قَالَ قَتَادَةَ: الْجُنُبُ يَأْخُذُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَلَا يَضَعُ فِيهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

550 - وَعَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ، بَعْضُهُ عَلَيَّ وَبَعْضُهُ عَلَيْهِ، وَأَنَا حَائِضٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 550 - (وَعَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ» ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ يُؤْتَزَرُ بِهِ، وَرُبَّمَا تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا وَتَتَقَنَّعُ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ شِبْهُ مِلْحَفَةٍ (بَعْضُهُ عَلَيَّ) : أَيْ: مُلْقًى عَلَى بَدَنِي (وَبَعْضُهُ عَلَيْهِ) : يَعْنِي: بَعْضُ الْمِرْطِ أَلْقَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى كَتِفِهِ يُصَلِّي (وَأَنَا حَائِضٌ) : مُلْتَفَّةٌ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْضَاءَ الْحَائِضِ طَاهِرَةٌ، وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ فِي مِرْطٍ وَاحِدٍ بَعْضُهُ مُلْقًى عَلَى النَّجَاسَةِ وَبَعْضُهُ مُتَّصِلٌ بِالْمُصَلِّي غَيْرُ جَائِزٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ التَّخْرِيجِ: مَا أَجِدُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا فِي أَحَدِهِمَا، وَلَا فِي الْحُمَيْدِيِّ. كَذَا اللَّفْظُ، وَإِنَّمَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا حِذَاءُهُ وَأَنَا حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبَهُ إِذَا سَجَدَ» . وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَعْنَاهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ وَلَفْظُهُ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَعَلَيْهِ مِرْطٌ، وَعَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ مِنْهُ وَهِيَ حَائِضٌ» ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 551 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَتَى حَائِضًا، أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ مَاجَهْ. وَالدَّارِمِيُّ وَفِي رِوَايَتِهِمَا: " فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ ; فَقَدْ كَفَرَ ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمٍ الْأَثْرَمِ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 551 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَتَى حَائِضًا ") : أَيْ: جَامَعَهَا، وَهِيَ تَشْمَلُ الْمَنْكُوحَةَ وَالْأَمَةَ وَغَيْرَهُمَا، وَكَذَا قَوْلُهُ: (أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا) : مُطْلَقًا ; سَوَاءٌ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ غَيْرَهَا (أَوْ كَاهِنًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: " أَتَى " لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ هُنَا بَيْنَ الْمُجَامَعَةِ وَإِتْيَانِ الْكَاهِنِ. قُلْتُ: الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَوْ صَدَّقَ كَاهِنًا ; فَيَصِيرُ مِنْ قَبِيلِ: عَلَفَتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَوْ يُقَالُ: مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً بِالْجِمَاعِ أَوْ كَاهِنًا بِالتَّصْدِيقِ (فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) : أَيْ: إِنِ اعْتَقَدَ حِلَّهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَفْصِلْهُ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْوَعِيدِ وَأَدْعَى إِلَى الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُئَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ بِالْمُسْتَحِلِّ وَالْمُصَدِّقِ، وَإِلَّا فَيَكُونُ فَاسِقًا، فَمَعْنَى الْكُفْرِ حِينَئِذٍ كُفْرَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ أَوْ إِطْلَاقُ اسْمِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ عِصْيَانُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِالْكَاهِنِ مَنْ يُخْبِرُ عَمَّا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَوْ بِأَشْيَاءَ مَكْتُوبَةٍ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَكَاذِيبِ الْجِنِّ الْمُسْتَرَقَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْأَعْمَارِ، وَالْأَرْزَاقِ وَالْحَوَادِثِ، فَيَأْتُونَ الْكَهَنَةَ فَيَخْلِطُونَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُخْبِرُونَ النَّاسَ بِهَا. وَفِي مَعْنَاهُ مَنْ يَتَعَاطَى الرَّمْلَ وَالضَّرْبَ بِنَحْوِ الْحَصَى، أَوِ النَّظَرَ فِي النُّجُومِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ وَعِيدٌ هَائِلٌ حَيْثُ لَمْ يَكْتَفِ بِكَفَرَ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَصَرَّحَ بِالْعِلْمِ تَجْرِيدًا، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَنَزَّلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَيْ: مَنِ ارْتَكَبَ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي تَخْصِيصِ دُبُرِ الْمَرْأَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إِتْيَانَ الذَّكَرِ أَشَدُّ نَكِيرًا، وَفِي تَأْخِيرِ الْكَاهِنِ عَنْهَا تَرَقٍّ مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ: الْكُفْرُ فِي الْأَوَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ، وَفِي الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَلِيلَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ لِشُهْرَةِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يُوجَدْ إِجْمَاعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَضْلًا عَنْ عِلْمِهِ بِالضَّرُورَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُقَالُ: إِنَّ اسْتِحْلَالَهُ كُفْرٌ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَفِي الثَّالِثِ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَفِي رِوَايَتِهِمَا) : أَيِ: الْأَخِيرَيْنِ (فَصَدَّقَهُ) : أَيِ: الْكَاهِنَ (بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ) : وَبِهِ يُقَيَّدُ الْأَوَّلُ فَيَخْرُجُ مَنْ أَتَاهُ لِيُظْهِرَ كَذِبَهُ، أَوْ لِلِاسْتِهْزَاءِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُ) : بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ مَعْرُوفًا، وَرَوِيَ بِالْيَاءِ مَجْهُولًا (هَذَا الْحَدِيثَ) : مَنْصُوبٌ أَوْ مَرْفُوعٌ (إِلَّا مِنْ حَكِيمٍ) : بِالتَّنْوِينِ (الْأَثْرَمِ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ.

552 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِي مِنِ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: " مَا فَوْقَ الْإِزَارِ، وَالتَّعَفُّفُ عَنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ. وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 552 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِي) : أَيْ: أَيُّ مَوْضِعٍ يُبَاحُ لِي (مِنِ امْرَأَتِي) : أَيْ: مِنْ أَعْضَائِهَا (وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: " مَا فَوْقَ الْإِزَارِ، وَالتَّعَفُّفُ ") : يَعْنِي: وَمَعَ ذَلِكَ وَالتَّجَنُّبُ (عَنْ ذَلِكَ) : أَيْ: عَمَّا فَوْقَ الْإِزَارِ (أَفْضَلُ) ; لِأَنَّهُ قَدْ يَجُرُّ إِلَى الْمَعْصِيَةِ (رَوَاهُ رَزِينٌ. وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ: (إِسْنَادُهُ) : أَيْ: إِسْنَادُ رَزِينٍ أَوْ إِسْنَادُ الْحَدِيثِ: (لَيْسَ بِقَوِيٍّ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَقَالَ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَتَفَرَّدَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ بِدُونِ قَوْلِهِ: " وَالتَّعَفُّفُ أَفْضَلُ ". قِيلَ: حُكْمُ الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ أَيْضًا ; لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الِاتِّزَارَ وَالْمُبَاشَرَةَ فَوْقَهُ جَائِزٌ، وَلَوْ كَانَ التَّعَفُّفُ أَفْضَلَ لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَوْلَى، وَفِيهِ بَحْثٌ ; إِذْ يُقَالُ: التَّعَفُّفُ لِغَيْرِهِ أَفْضَلُ، أَوْ كَانَ فِعْلُهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ مَعَ قُوَّةِ عِفَّتِهِ ; لِكَمَالِ عِصْمَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَاسْتَحْسَنَهُ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ أَنَّهُ إِنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِعَدَمِ الْوَطْءِ لِقِلَّةِ شَهْوَتِهِ أَوْ كَثْرَةِ تَقْوَاهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّمَتُّعُ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَإِلَّا حَرُمَ.

553 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا وَقَعَ الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِنِصْفِ دِينَارٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 553 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا وَقَعَ الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ ") : بِغَيْرِ الْأَلِفِ بَعْدَ الْوَاوِ (وَهِيَ حَائِضٌ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِنِصْفِ دِينَارٍ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يَصِحُّ مُتَّصِلًا مَرْفُوعًا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ وَطْءَ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ عَمْدًا حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ وَطِئَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: الرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إِلَيْهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ وَطِئَ فِي إِقْبَالِ الدَّمِ وَبِنِصْفِهِ فِي إِدْبَارِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: يَجِبُ مَا ذُكِرَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا وَلَوْ) أَتَاهَا مُسْتَحِلًّا كَفَرَ أَوْ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ أَتَى كَبِيرَةً وَوَجَبَتِ التَّوْبَةُ، وَيَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِهِ اسْتِحْبَابًا. وَقِيلَ: بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ أَوَّلَ الْحَيْضِ، وَبِنِصْفِهِ إِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ، كَأَنَّ قَائِلَهُ رَأَى أَنْ لَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ قَائِلَهُ أَخَذَ التَّفْصِيلَ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَتْ: حِضْتُ فَكَذَّبَهَا ; لِأَنَّ تَكْذِيبَهُ لَا يَعْمَلُ، بَلْ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِإِخْبَارِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: قَدْ وَقَعَ اضْطِرَابٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَتْنًا وَإِسْنَادًا، رَفْعًا وَوَقْفًا، إِرْسَالًا وَإِعْضَالًا، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ عَنِ التَّخْرِيجِ. فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: هَذَا بَيَانُ اضْطِرَابِ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ فِي مَتْنِهِ فَرُوِيَ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ عَلَى الشَّكِّ، وَرُوِيَ " «يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِنِصْفِ دِينَارٍ» ". وَرُوِيَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يُصِيبَهَا فِي إِقْبَالِ الدَّمِ أَوْ فِي انْقِطَاعِ الدَّمِ. وَرُوِيَ " «يَتَصَدَّقُ بِخُمُسِ دِينَارٍ» "، وَرُوِيَ " «يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ دِينَارٍ» "، وَرُوِيَ «إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ» . اهـ. وَجَاءَ بِسَنَدٍ «حَسَنٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ لَهُ امْرَأَةٌ تَكْرَهُ الرِّجَالَ، وَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَهَا اعْتَلَّتْ لَهُ بِالْحَيْضِ فَظَنَّ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ، فَأَتَاهَا فَوَجَدَهَا صَادِقَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ يَتَصَدَّقُ بِخُمُسِ دِينَارٍ» .

554 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِذَا كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 554 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا كَانَ ") أَيِ: الْحَيْضُ وَقِيسَ بِهِ النِّفَاسُ (دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ) : أَيْ: عَلَى الْمُجَامِعِ فِيهِ ; وَهَذَا لِأَنَّ أَقَلَّ الْمَقَادِيرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفُرُوجِ عَشَرَةُ دَرَاهِمٍ وَهُوَ دِينَارٌ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ نَظَرٌ (وَإِذَا كَانَ دَمًا أَصْفَرَ، فَنِصْفُ دِينَارٍ) : لِأَنَّ الصُّفْرَةَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى الثَّانِي لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْأَوَّلِ وَجَبَ الْكُلُّ فَبِنِصْفٍ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي اخْتِلَافِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ أَنَّهُ فِي أَوَّلِهِ قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْجِمَاعِ، فَلَمْ يُعْذَرْ فِيهِ بِخِلَافِهِ فِي آخِرِهِ فَخُفِّفَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ وَطِئَ حَائِضًا بِعِتْقِ رَقَبَةِ وَقِيمَتُهَا يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ. وَهُوَ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِثْلُهُ مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ; فَإِنْ تَرْكَهَا بِلَا عُذْرٍ مَعَ التَّعَمُّدِ وَالْعِلْمِ سُنَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِدِينَارٍ، أَوْ بِعُذْرٍ سُنَّ لَهُ بِنِصْفِ دِينَارٍ لِحَدِيثٍ فِيهِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ مُضْطَرِبٌ مُنْقَطِعٌ. وَقَوْلُ الْحَاكِمِ: إِنَّهُ صَحِيحٌ مِنْ تَسَاهُلِهِ، وَيُرْوَى بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِهِ أَوْ صَاعِ حِنْطَةٍ وَمُدٍّ أَوْ نِصْفِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ كُلِّهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى ضَعْفِهِ كَيْفَ يُقَالُ: سُنَّ ذَلِكَ؟ ! (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْحَاكِمِ: إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ; مَرْدُودًا، وَأَمَّا قَوْلُ الْمَجْمُوعِ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا ; فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الطَّرِيقِ اهـ. وَيَأْبَاهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: اتِّفَاقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 555 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ «رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَشُدُّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا، ثُمَّ شَأْنُكَ بِأَعْلَاهَا» " رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 555 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) : هُوَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَدَنِيٌّ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لِي مِنِ امْرَأَتِي) : وَكَذَا حُكْمُ الْجَارِيَةِ (وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَشُدُّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا ") : بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الشِّينِ وَالدَّالِ، خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، أَوْ أُرِيدُ بِهِ الْحَدَثُ مَجَازًا أَوْ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُئَوَّلَ بِالْمَصْدَرِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى حَذْفِ إِنَّ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: مَا يَحِلُّ؟ قُلْتُ: يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ: " ثُمَّ شَأْنُكَ بِأَعْلَاهَا ") : كَأَنَّهُ قِيلَ: يَحِلُّ لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ، وَشَأْنُكَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مُبَاحٌ أَوْ جَائِزٌ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا) : وَالْإِرْسَالُ حَذْفُ التَّابِعِيِّ ذِكْرَ الصَّحَابِيِّ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا مُطْلَقًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ اعْتَضَدَ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّقِي سَوْرَةَ الدَّمِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يُبَاشِرُ بَعْدَ ذَلِكَ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ.

556 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كُنْتُ إِذَا حِضْتُ نَزَلَتُ عَنِ الْمِثَالِ عَلَى الْحَصِيرِ، فَلَمْ يَقْرُبْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تَدْنُ مِنْهُ حَتَّى تَطْهُرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 556 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ إِذَا حِضْتُ نَزَلْتُ عَنِ الْمِثَالِ) : أَيِ: الْفِرَاشِ (عَلَى الْحَصِيرِ، فَلَمْ يَقْرُبْ) " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ (رَسُولُ اللَّهِ) : بِالرَّفْعِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مِنْهَا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْ: مِنْ عَائِشَةَ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَيُمْكِنُ التَّقْدِيرُ: مِنْ أَوْ مِنَّا، وَيَتَعَيَّنُ الْأَخِيرُ عَلَى نُسْخَةِ النُّونِ فِي قَوْلِهِ: (وَلَمْ تَدْنُ) : أَيْ: عَائِشَةُ أَوْ وَاحِدَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (مِنْهُ حَتَّى تَطْهُرَ) : فَإِنَّهَا بِالتَّاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ مِنْ أَصْلِ الْمِشْكَاةِ. وَفِي هَامِشِ نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ كَذَا: فَلَمْ نَقْرَبْ، بِفَتْحِ النُّونِ وَالرَّاءِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْبِ، وَلَمْ نَدْنُ، بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَضَمِّ الثَّانِيَةِ مِنْهُ، حَتَّى نَطْهُرَ بِالنُّونِ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ صَحَّ مَمْدُودًا إِلَى آخِرِهِ، وَلَيْسَ مَوْضُوعًا عَلَيْهِ لَفْظُ النُّسْخَةِ وَلَا رَمْزُهَا، وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي حَاشِيَتِهِ: كَذَا فِي أَصْلِ أَبِي دَاوُدَ، هَذَا وَفِي الْقَامُوسِ: قَرُبَ مِنْهُ كَكَرُمَ، وَقَرِبَ كَسَمِعَ دَنَا، فَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنُّونِ وَضَمِّ الرَّاءِ خَطَأٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ، وَلَعَلَّهُ مَنْسُوخٌ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ الدُّنُوُّ وَالْقُرْبَانُ عَلَى الْغَشَيَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَدْنُو وَيَقْرُبُ مِنَ الْآخَرِ عِنْدَ الْغَشَيَانِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَزِلُ فَرْشَ زَوْجَتِهِ إِذَا حَاضَتْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ خَالَتَهُ مَيْمُونَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ يَنَامُ مَعَ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ الْحَائِضِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بِقُرْبِ مَا يُجَاوِزُ الرُّكْبَتَيْنِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ هَذَا كَانَ شَأْنُهُنَّ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْنِي: إِنَّهُنَّ يَعْتَزِلْنَهُ خَوْفًا مِنْ شَمِّهِ أَوْ رُؤْيَتِهِ لِبَعْضِ مَا يُنَفِّرُ مِمَّا بِهِنَّ حَتَّى يَدْعُوهُنَّ إِلَى مُعَاشَرَتِهِ فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; لِقَوْلِهَا: " فَلَمْ يَقْرُبْ " عَلَى صِيغَةِ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ أَصْلُ الْمِشْكَاةِ.

[باب المستحاضة]

[بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 557 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ، فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، ثُمَّ صَلِّي» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (13) بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ الِاسْتِحَاضَةُ فِي الشَّرْعِ: خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ رَحِمِ الْمَرْأَةِ خَارِجَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَمُدَّتِهِ، وَحُكْمُهَا أَنْ لَا تَمْنَعَ صَلَاةً وَصَوْمًا وَوَطْئًا وَنَحْوَهَا خِلَافًا لِأَحْمَدَ فِي الْوَطْءِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 557 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ) : بِضَمِّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصِيِّ بْنِ كِلَابٍ (إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : لِتَسْأَلَهُ عَنْ أَمْرِ دِينِهَا (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ) : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَتَفْتَحُ (أُسْتَحَاضُ) : بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتَحِ تَاءٍ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَرِدُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ ; يُقَالُ: اسْتُحِيضَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ ; إِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا (فَلَا أَطْهُرُ) : أَيْ: مُدَّةً مَدِيدَةً (أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟) : بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَفَأُتَرُكُهَا مَا دَامَتِ الِاسْتِحَاضَةُ مَعِي، وَلَوْ طَالَتِ الْمُدَّةُ؟ (فَقَالَ: لَا) : أَيْ: لَا تَدَعِيهَا (إِنَّمَا ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ خِطَابًا لَهَا، وَتُفْتَحُ عَلَى خِطَابِ الْعَامِّ أَيِ: الَّذِي تَشْتَكِينَهُ (عِرْقٌ) : أَيْ: دَمُ عِرْقٍ انْشَقَّ وَانْفَجَرَ مِنْهُ الدَّمُ، أَوْ إِنَّمَا سَبَبُهَا عِرْقٌ فَمُهُ فِي أَدْنَى الرَّحِمِ (وَلَيْسَ) : أَيْ: ذَلِكَ الدَّمُ الَّذِي نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْعِرْقِ (بِحَيْضٍ) : فَإِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ تُمَيِّزُهُ الْقُوَّةُ الْمُوَلِّدَةُ بِإِذْنِ خَالِقِهَا لِأَجْلِ الْجَنِينِ، وَتَدْفَعُهُ إِلَى الرَّحِمِ فِي مَجَارِيهِ، وَيَجْتَمِعُ فِيهِ. وَلِذَا سُمِّيَ حَيْضًا مِنْ قَوْلِهِمْ:

اسْتَحْوَضَ الْمَاءُ إِذَا اجْتَمَعَ، فَإِذَا كَثُرَ وَامْتَلَأَ وَلَمْ يَكُنْ جَنِينٌ أَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ انْصَبَّ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ بِالْحَيْضَةِ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ عِرْقٍ فِي أَقْصَى الرَّحِمِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ فِيهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ جَنِينٌ تَغَذَّى بِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ جَنِينٌ خَرَجَ فِي أَوْقَاتِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ لَهُ مِنَ الْعَادَةِ غَالِبًا، وَهَذِهِ مِنْ عِرْقٍ فِي أَدْنَاهُ (فَإِذَا أَقْبَلَتْ حِيضَتُكِ) : بِالْكَسْرِ اسْمٌ لِلْحَيْضِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْفَتْحِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْحَالَةُ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فِيهَا وَهِيَ تَعْرِفُهَا، فَيَكُونُ رَدًّا إِلَى الْعَادَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْحَالَةُ الَّتِي تَكُونُ لِلْحَيْضِ مِنْ قُوَّةِ الدَّمِ فِي اللَّوْنِ وَالْقَوَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عُرْوَةَ الَّذِي يَتْلُوهُ، وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ أَيَّامَهَا، فَيَكُونُ رَدًّا إِلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ مَنَعَ اعْتِبَارَ التَّمْيِيزِ مُطْلَقًا، وَالْبَاقُونَ عَمِلُوا بِالتَّمْيِيزِ فِي حَقِّ الْمُبْتَدِأَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَعَارَضَتِ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ، فَاعْتَبَرَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا التَّمْيِيزَ وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الْعَادَةِ، وَعَكَسَ ابْنُ خَيْرَانِ اهـ. وَالْفِرْقَةُ الْأُولَى يَقُولُونَ: إِنَّ حَدِيثَ عُرْوَةَ وَهَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي تَمَسَّكْنَا بِهِ صَحِيحٌ، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَيْ: إِذَا كَانَ أَيَّامُ حَيْضَتِكِ (فَدَعِي الصَّلَاةَ) : أَيْ: اتْرُكِيهَا (وَإِذَا أَدْبَرَتْ) : أَيْ: تَوَلَّتْ حَيْضَتُكِ وَجَاوَزَ دَمُكِ أَيَّامَ عَادَتِكِ (فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ) أَيْ: أَثَرَ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَاغْتَسِلِي مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَعَلَّ الِاكْتِفَاءَ بِغَسْلِ الدَّمِ دُونَ غُسْلِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ (ثُمَّ صَلِّي) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَغْسِلُ الْمُسْتَحَاضَةُ فَرْجَهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَتَشُدُّهُ بِعِصَابَةٍ وَتَتَوَضَّأُ، أَوْ تَسْتَعْجِلُ فِي أَدَائِهَا وَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي جَرَيَانِ الدَّمِ فِيهَا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي السِّرَاجِيَّةِ: لَا يَجِبُ الِاسْتِنْجَاءُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 558 - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ «فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي جُبَيْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكِ، فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ ; فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ، فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي، فَإِنِّمَا هُوَ عِرْقٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 558 - (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) : أَيْ: ابْنِ الْعَوَّامِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ، أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ ": بِالرَّفْعِ فَكَانَ تَامَّةٌ (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الْحَيْضُ أَوْ دَمُهُ (دَمٌ أَسْوَدُ) : وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ أَحْمَرَ وَغَيْرَهُ (يُعْرَفُ) : قِيلَ بِالْفَوْقَانِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْمَجْهُولِ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ الْخِطَابُ لَقِيلَ: تَعْرِفِينَ عَلَى خِطَابِ الْمُؤَنَّثِ، أَيْ: تَعْرِفُهُ النِّسَاءُ فَإِنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ تَمْيِيزٍ بِأَنْ تَرَى فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ دَمًا أَسْوَدَ، وَفِي بَعْضِهَا دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ، فَدَمُ الْأَسْوَدِ حَيْضٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ عَشَرَ يَوْمًا، كَذَا حَرَّرَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِمْ، وَعِنْدَنَا عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا وَافَقَ التَّمْيِيزُ الْعَادَةَ (فَإِذَا كَانَ ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: دَمُ الْحَيْضِ أَعَادَهُ لِطُولِ الْفَصْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لَمَّا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلَ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ} [البقرة: 89] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ مُتَفَرِّعٌ عَلَى كَوْنِ الدَّمِ دَمَ الْحَيْضِ، وَلَا يَصْلُحُ) أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْجَوَابِ الْمَذْكُورِ، أَوِ الْمُقَدَّرِ كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتُدَبِّرْ. (فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ) : مِنَ الْإِمْسَاكِ أَيْ: اتْرُكِيهَا (فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ) : أَيِ: الِاسْتِحَاضَةُ بِأَنْ كَانَ دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ (فَتَوَضَّئِي) : أَيْ: بَعْدَ الْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ (وَصَلِّي) : وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ: ثُمَّ صَلِّي، وَهُوَ يُنَافِي مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ وَنَحْوَهَا يَلْزَمُهَا الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ.

(فَإِنَّمَا هُوَ) : أَيْ: دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ (عِرْقٌ) : أَيْ: يَخْرُجُ مِنْ عِرْقٍ فِي فَمِ الرَّحِمِ، فَلَيْسَ فِيهِ قَذَارَةُ الْحَيْضِ فَلَمْ تُمْنَعِ الصَّلَاةُ مِنْهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ إِلَى عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: لَا، اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ» " وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي سَنَدَيْهِمَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ مَاجَهْ، بِأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ عُرْوَةَ الْمُزَنِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَرْجَمَةِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْهَا. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ضَعَّفَ يَحْيَى هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيُّ: حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ لَمْ يَرَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ: «وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ» اهـ. فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " سَنَدُهُ صَحِيحٌ " غَيْرُ صَحِيحٍ.

559 - وَعَنْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا، فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لْتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ» ، رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 559 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ) : بِضَمِّ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَتُسَكَّنُ أَيْ: تَصُبُّ، وَفِيهِ ضَمِيرُ الْمَرْأَةِ، وَنَصْبُ قَوْلِهِ: (الدَّمَ) : كَنَصْبِ الْوَجْهِ فِي الْحَسَنِ الْوَجْهَ تَشْبِيهًا بِالْمَفْعُولِ، أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَإِنْ كَانَ مَعْرِفَةً عَلَى تَقْدِيرِ زِيَادَةِ اللَّامِ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّ أَوْ بِتَقْدِيرِ - تُهْرِيقُ الدَّمَ - جَوَابًا لِمَا لَوْ قِيلَ: مِمَّا تُهْرِيقُ، فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ تُهْرَاقُ فِي الْأَصْلِ تُهْرِيقُ عَلَى الْمَعْلُومِ أُبْدِلَتْ كَسْرَةِ الرَّاءِ فَتْحَةً، وَانْقَلَبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ فِي نَاصِيَةٍ نَاصَاةٌ. قَالَ أَبُو مُوسَى: هَكَذَا جَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَلَمْ يَجِئْ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ: صُيِّرَتْ ذَاتَ هِرَاقَةِ الدَّمِ، قِيلَ: وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِ تُهْرَاقُ أَيْ: يُصَبُّ دَمُهَا، وَاللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَالْمَعْنَى: صَارَتْ مُسْتَحَاضَةً (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ) : أَيْ فِي زَمَنِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَكَانَتْ مُعْتَادَةً (فَاسْتَفْتَتْ لَهَا) : أَيْ: سَأَلَتْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ (أُمُّ سَلَمَةَ) : مِنَ الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " لِتَنْظُرْ ") : أَيْ: لِتَتَفَكَّرْ وَتَعْرِفْ (عَدَدَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ) : نُصِبَ عَدَدَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ (الَّتِي كَانَتْ) صِفَةُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ (تَحِيضَهُنَّ) : مِنْ بَابِ إِجْرَاءِ الْمَفْعُولِ فِيهِ مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ: تَحِيضُ فِيهِنَّ (مِنَ الشَّهْرِ) : بَيَانٌ لَهُنَّ، أَوْ لِلْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي (قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا) : أَيْ: قَبْلَ إِصَابَةِ الِاسْتِحَاضَةِ (فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ) : أَيْ: قَدْرَ عَادَةِ حَيْضِهَا (مِنَ الشَّهْرِ) : أَيْ: مِنْ شَهْرِ الِاسْتِحَاضَةِ (فَإِذَا خَلَّفَتْ) : بِالتَّشْدِيدِ (ذَلِكَ) : أَيْ: إِذَا جَاوَزَتْ قَدْرَ حَيْضِهَا، وَدَخَلَتْ فِي أَيَّامِ الِاسْتِحَاضَةِ (فَلْتَغْتَسِلْ) : أَيْ: غُسَلَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، وَاللَّامُ بَعْدَ الْفَاءِ سَاكِنَةٌ مِنْ جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي لَامِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَاءٍ كَمَا هُنَا الْإِسْكَانُ وَالْكَسْرُ، وَكَذَا الْفَتْحُ لَكِنَّهُ غَرِيبٌ (ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ) : بِكَسْرِ اللَّامِ (بِثَوْبٍ) : الِاسْتِثْفَارُ: أَنْ تَشُدَّ فَرْجَهَا وَدُبُرَهَا بِثَوْبٍ مَشْدُودٍ أَحَدُ طَرَفَيْهِ مِنْ خَلْفِ دُبُرِهَا فِي وَسَطِهَا وَالْآخَرُ مِنْ قُبُلِهَا أَيْضًا كَذَلِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَنْ تَشُدَّ الْمَرْأَةُ ثَوْبًا تَحْتَجِزُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِ الدَّمِ لِيَمْنَعَ السَّيَلَانَ، وَمِنْهُ ثَفْرُ الدَّابَّةِ وَهُوَ مَا يُشَدُّ تَحْتَ ذَنَبِهَا، فَالْمَرْأَةُ إِذَا صَلَّتْ تُعَالِجُ نَفْسَهَا عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ جَاءَ الدَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ تَصِحُّ صَلَاتُهَا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا، وَكَذَا حُكْمُ سَلَسِ الْبَوْلِ، وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ وَالطَّوَافُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَثْفِرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ ظَاهِرُهُ الِاسْتِحْبَابُ احْتِيَاطًا (ثُمَّ لِتُصَلِّ) : بِالْوَجْهَيْنِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ مِيرَكُ: (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) لَفْظُهُ، (وَرَوَى النَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ) .

560 - وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: جَدُّ عَدِيٍّ اسْمُهُ دِينَارٌ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فِيهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَتَصُومُ، وَتُصَلِّي» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 560 - (وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ) : أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ الْكُوفِيِّ، ثِقَةٌ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ، إِمَامُ الْحُفَّاظِ فِي زَمَنِهِ (جَدُّ عَدِيٍّ اسْمُهُ دِينَارٌ) : وَقِيلَ: ثَابِتٌ جَدُّهُ لَا أَبُوهُ، وَهُوَ ابْنُ قَيْسِ بْنِ الْحَطِيمِ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ) : أَيْ: فِي شَأْنِهَا (تَدَعُ الصَّلَاةَ) : أَيْ: تَتْرُكُهَا (أَيَّامَ أَقْرَائِهَا) : جَمْعُ قُرْءٍ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْحَيْضُ لِلسِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْءَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ (الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فِيهَا) : أَيْ: قَبْلَ الِاسْتِحَاضَةِ (ثُمَّ) : أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِ زَمَنِ حَيْضِهَا بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ (تَغْتَسِلُ) : أَيْ: مِنَ الْحَيْضِ مَرَّةً (وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ) : وَفِي رِوَايَةٍ: لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَعِنْدَ كُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِتَتَوَضَّأُ لَا بِتَغْتَسِلُ (وَتَصُومُ) : أَيِ: الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ (وَتُصَلِّي) : أَيْ: كَذَلِكَ وَفِي تَقَدُّمِ الصَّوْمِ عَلَى الصَّلَاةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَهَمُّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِذَا يُقْضَى هُوَ لَا هِيَ أَيَّامَ الْحَيْضِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ: ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ وَلَمْ يُعْرَفْ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ لِبِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: " تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ " وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا الْغُسْلَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ: وَخَبَرُ عَائِشَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ لَمَّا اسْتُحِيضَتْ: " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ " ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ: أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا ثَابِتًا، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ فَاغْتَسِلِي ثُمَّ صَلِّي، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا فَعَلَتْهُ تَطَوُّعًا، وَهُوَ وَاسِعٌ لَهَا اهـ. وَيَنْبَغِي نَدْبُهُ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

561 - «وَعَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ، فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا؟ قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ. قَالَ " أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ " قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: " فَتَلَجَّمِي ". قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَاتَّخِذِي ثَوْبًا. قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ، أَيَّهُمَا صَنَعْتِ أَجَزَأَ عَنْكِ مِنَ الْآخَرِ، وَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا، فَأَنْتِ أَعْلَمُ " قَالَ لَهَا: " إِنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، حَتَّى إِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ ; فَصَلِّي ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَأَيَّامَهَا، وَصُومِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزُئِكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي كُلَّ شَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ ; مِيقَاتُ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ، وَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِينَ الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِينَ الْعَصْرَ، فَتَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَتُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَافْعَلِي وَتَغْسِلِينَ مَعَ الْفَجْرِ فَافْعَلِي ; وَصُومِي إِنْ قَدَرْتِ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَذَا أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدَ وَأَبُو دَاوُدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 561 - (وَعَنْ حَمْنَةَ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ وَهَاءٌ (بِنْتِ جَحْشٍ) : بِتَقَدُّمِ الْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى الْحَاءِ السَّاكِنَةِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ (قَالَتْ: كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حِيضَةً) : بِكَسْرِ الْحَاءِ لَا غَيْرُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَمْ يَقُلْ حَيْضًا لِتَتَمَيَّزَ تِلْكَ الْحَالَةُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا مِنْ سَائِرِ أَحْوَالِ الْمَحِيضِ فِي الشِّدَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ (كَثِيرَةً) : فِي الْكَمِّيَّةِ (شَدِيدَةً) : فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْحَيْضِ عَلَى دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ تَغْلِيبًا (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ) : الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَإِلَّا كَانَ حَقُّهُ فَأُخْبِرُهُ وَأَسْتَفْتِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَأُخْبِرُهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِهِ لِطَلَبِ بَيَانِ حُكْمِ اللَّهِ فِيهِ، وَهَذَا مِمَّا يَخْفَى، فَلِذَا احْتَاجَتْ لِذِكْرِ وَأُخْبِرُهُ بَعْدَ أَسْتَفْتِيهِ، فَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ إِنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهَا، (فَوَجَدْتُهُ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ) : مِنَ الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ (بِنْتِ جَحْشٍ) : يَعْنِي: أَنَّهَا أُخْتٌ نَسِيبَةٌ لَهَا (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً) : يَعْنِي: يَجْرِي دَمِي أَشَدُّ جَرْيًا مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، وَالْكَثْرَةُ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتِ وَالدَّمِ (فَمَا تَأْمُرُنِي) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ (فِيهَا؟) : أَيْ: فِي الْحَيْضَةِ، يَعْنِي: فِي حَالِ وُجُودِهَا (قَدْ مَنَعَتْنِي) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِمَا أَلْجَأَهَا إِلَى السُّؤَالِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ جُمْلَةً حَالِيَّةً مِنَ الْمَجْرُورِ بِفِي (الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ) : أَيْ: عَلَى زَعْمِهَا (قَالَ: أَنْعَتُ) : أَيْ: أَصِفُ (لَكِ الْكُرْسُفَ) : أَيِ: الْقُطْنَ لِكَوْنِهِ مُذْهِبًا لِلدَّمِ، يَعْنِي لِتُعَالِجِي بِهِ لِقَطْرِ الدَّمِ قِيلَ فِي

قَوْلُهُ: أَنْعَتُ إِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ أَثَرِ الْقُطْنِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّعْتَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي وَصْفِ الشَّيْءِ، بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ حُسْنٍ (فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ) : أَيْ: يَمْنَعُ خُرُوجَهُ إِلَى ظَاهِرِ الْفَرْجِ، أَوْ مَعْنَاهُ فَاسْتَعْمِلِيهِ لَعَلَّ دَمَكِ يَنْقَطِعُ (قَالَتْ) : هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ) : أَيْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَنْقَطِعَ بِالْكُرْسُفِ (قَالَ: فَتَلَجَّمِي) : أَيْ: شُدِّي اللِّجَامَ يَعْنِي خِرْقَةً عَلَى هَيْئَةِ اللِّجَامِ كَالِاسْتِثْفَارِ. (قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: " فَاتَّخِذِي ثَوْبًا ") : أَيْ: مُطْلَقًا (قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ) : أَيْ: مِنْ أَنْ يَمْنَعَهُ (إِنَّمَا أَثُجُّ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَهَ (ثَجًّا) : مِنْ ثُجَّ الْمَاءُ وَالدَّمُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، أَيْ: انْصَبَّ أَيْ: أَوْ أَصُبُّهُ، فَعَلَى الثَّانِي تَقْدِيرُهُ أَثُجُّ الدَّمَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِسْنَادُ الثَّجِّ إِلَى نَفْسِهَا لِلْمُبَالَغَةِ بِسَيْلِ دَمِي سَيَلَانًا فَاحِشًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14] أَيْ: كَثِيرًا مُنْهَمِرًا (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَآمُرُكِ) : السِّينُ لِلتَّأْكِيدِ (بِأَمْرَيْنِ) : أَيْ: حُكْمَيْنِ أَوْ صُنْعَيْنِ (أَيَّهُمَا) : بِالْفَتْحِ وَقِيلَ: بِالضَّمِّ (صَنَعْتِ أَجْزَأَ عَنْكِ مِنَ الْآخَرِ) : يُقَالُ: أَجْزَأْتُ عَنْكَ أَغْنَيْتُ عَنْكَ، فَمِنْ بِمَعْنَى الْبَدَلِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10] وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» ". فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى " عَنْ " وَعَدَلَ عَنْهَا لِثِقَلِ التَّوَالِي بَيْنَ عَنْكِ وَعَنْ غَيْرُ ظَاهِرٍ نَشَأَ عَنْ غَفْلَةٍ (وَإِنْ قَوِيتِ) : أَيْ: قَدَرْتِ (عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ) : أَيْ: بِحَالِكِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْيِيرِ (قَالَ لَهَا: " إِنَّمَا هَذِهِ ") : أَيِ: الثَّجَّةُ أَوِ الْعِلَّةُ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: إِنَّمَا هِيَ (رَكْضَةٌ) : أَيْ: دَفْعَةُ وَضَرْبَةُ، وَالرَّكْضَةُ ضَرْبُ الْأَرْضِ بِالرِّجْلِ فِي حَالِ الْعَدْوِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] (مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ: يُرِيدُ بِهِ الْإِضْرَارَ وَالْإِفْسَادَ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّهُ وَجَدَ بِذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى التَّلْبِيسِ عَلَيْهَا فِي أَمْرِ دِينِهَا وَقْتَ طُهْرِهَا وَصَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا حَتَّى أَنْسَاهَا ذَلِكَ، فَكَأَنَّهَا رَكْضَةٌ نَالَتْهَا مِنْ رَكَضَاتِهِ، أَوِ الْحَالَةُ الَّتِي ابْتُلِيَتْ بِهَا مِنَ الْخَبْطِ وَالتَّحَيُّرِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ (فَتَحَيَّضِي: أَيْ: اقْعُدِي أَيَّامَ حَيْضَتِكِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَاجْعَلِي نَفْسَكِ حَائِضَةً سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ قِيلَ: أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَدْ ذُكِرَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ مِنْ حَالِ نِسَاءِ قَوْمِهَا، وَقِيلَ: لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ كُلٍّ وَاحِدٍ مَنَ الْعَدَدَيْنِ ; لِأَنَّهُ الْعُرْفُ الظَّاهِرُ، وَالْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ النِّسَاءِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَوْ لِلتَّقْسِيمِ أَيْ: سِتَّةٌ إِنِ اعْتَادَتْهَا، أَوْ سَبْعَةٌ إِنِ اعْتَادَتْهَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً لَا مُبْتَدِأَةً، أَوْ لَعَلَّهَا شَكَّتْ هَلْ عَادَتُهَا سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ لَهَا: سِتَّةً إِنْ لَمْ تَذْكُرِي عَادَتَكِ، أَوْ سَبْعَةً إِنْ ذَكَرْتِ أَنَّهَا عَادَتُكِ، أَوْ لَعَلَّ عَادَتَهَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِيهِمَا، فَقَالَ: سِتَّةً فِي شَهْرِ السِّتَّةِ، وَسَبْعَةً فِي شَهْرِ السَّبْعَةِ اهـ. وَقِيلَ: لِلتَّنْوِيعِ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِهَا بِحَالِ مَنْ هِيَ مِثْلُهَا مِنَ النِّسَاءِ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا فِي السِّنِّ، الْمُشَارِكَةِ لَهَا فِي الْمِزَاجِ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ أَوِ الْمَسْكَنِ، فَإِنْ كَانَ عَادَةُ مِثْلِهَا سِتًّا فَسِتًّا، وَإِنْ سَبْعًا فَسَبْعًا، وَلَعَلَّ هَذَا مِنَ الْمُبْتَدِأَةِ أَوِ الْمُتَحَيِّرَةِ، وَقِيلَ: وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ مُعْتَادَةً، وَنَسِيَتْ أَنَّ عَادَتَهَا كَانَتْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، فَأَمَرَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ تَتَحَرَّى وَتَجْتَهِدَ وَتَبْنِيَ عَلَى مَا تَيَقَّنَتْ مِنْ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (فِي عِلْمِ اللَّهِ) : أَيْ: فِيمَا حَكَمَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِكِ، وَمَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ الشَّكِّ فِي عِلْمِهِ الَّذِي بَيَّنَهُ وَشَرَعَهُ لَنَا كَمَا يُقَالُ: فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَكِ: فِيمَا أَعْلَمَكِ اللَّهُ مِنْ عَادَاتِ النِّسَاءِ مِنَ السِّتِّ أَوِ السَّبْعِ، وَفِي قَوْلِ التَّخْيِيرِ فِيمَا عَلِمَ اللهُ مِنْ أَمْرِكِ مِنْ سِتَّةٍ أَوْ سَبْعَةٍ. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الشُّرَّاحِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ

لِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَدُّ سَنَةً وَسَنَتَيْنِ، وَقَدْ لَا تَحِيضُ أَصْلًا، فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ إِلَّا إِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَاحْتِيجَ إِلَى نَصْبِ الْعَادَةِ إِمَّا بِأَنْ بَلَغَتْ مُسْتَحَاضَةً، وَإِمَّا بِأَنْ بَلَغَتْ بِرُؤْيَةِ عَشَرَةٍ مَثَلًا دَمًا وَسِتَّةٍ طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، أَوْ كَانَتْ صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَنَسِيَتْ عَدَدَ أَيَّامِهَا، وَأَوَّلَهَا وَآخِرَهَا وَدَوْرَهَا. أَمَّا الْأُولَى فَيُقَدَّرُ حَيْضُهَا بِعَشَرَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَبَاقِيهِ طُهْرٌ، فَشَهْرٌ عِشْرُونَ وَشَهْرٌ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَالَ أَبُو عِصْمَةَ وَالْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ: حَيْضُهَا مَا رَأَتْ، وَطَهَارَتُهَا مَا رَأَتْ، فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَأُمًّا الثَّالِثَةُ: فَيَجِبُ أَنْ تَتَحَرَّى وَتَمْضِيَ عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْيٌ فَهِيَ الْمُخَيَّرَةُ لَا يُحْكَمُ لَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ تَأْخُذُ فِي الْأَحْوَطِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، فَتَجْتَنِبُ مَا تَجْتَنِبُهُ الْحَائِضُ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْمَسِّ وَقُرْبَانِ الزَّوْجِ، وَتَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَتُصَلِّي بِهِ الْفَرْضَ وَالْوِتْرَ، وَتَقْرَأُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَقَطْ، وَقِيلَ: الْفَاتِحَةُ وَالسُّورَةُ ; لِأَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ، وَإِنْ حَجَّتْ تَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ; لِأَنَّهُ رُكْنٌ، ثُمَّ تُعِيدُهُ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَطُوفُ لِلصَّدْرِ ; لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَتَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ تَقْضِي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا حَاضَتْ مِنْ أَوَّلِهِ عَشَرَةً وَمِنْ آخِرِهِ خَمْسَةً أَوْ بِالْعَكْسِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي الْقَضَاءِ عَشَرَةً، فَسَلِمَ خَمْسَةَ عَشَرَ بِيَقِينٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّ طُهْرَهَا فِي حَقِّ الْعِدَّةِ مُقَدَّرٌ بِشَهْرَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (ثُمَّ اغْتَسِلِي) : أَيْ: بَعْدَ السِّتَّةِ أَوِ السَّبْعَةِ مِنَ الْحَيْضِ (حَتَّى إِذَا رَأَيْتِ) : أَيْ: عَلِمْتِ (أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ) : بِأَنْ رَأَيْتِ الْبَيَاضَ (وَاسْتَنْقَأْتِ) : قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الْاسْتِنْقَاءُ مُبَالَغَةٌ فِي تَنْقِيَةِ الْبَدَنِ قِيَاسٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَيْتِ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ خَطَأٌ اهـ. وَهُوَ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا بِالْهَمْزِ مَضْبُوطٌ، فَيَكُونُ جَرَاءَةً عَظِيمَةً مِنْ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُدُولِ الضَّابِطِينَ الْحَافِظِينَ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الشُّذُوذِ، إِذِ الْيَاءُ مِنَ الْأَحْرُفِ الْأَبْدَالِ، وَقَدْ جَاءَ: شِئْمَةٌ مَهْمُوزًا بَدَلًا مِنْ شِيمَةٍ شَاذًّا عَلَى مَا فِي الشَّافِيَةِ، هَذَا وَمِنَ الْغَرِيبِ الْعَجِيبِ أَنَّهُ لَوْ نَقَلَ الزَّوْزَنِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ عَنِ الْبَدَوِيِّ الَّذِي يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ مِثْلَ هَذَا النَّقْلِ الْمُعْتَمَدِ الْمُسْتَنَدِ بِالسَّنَدِ يُخْطِئُونَ وَيُخَطِّئُونَ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ، (فَصَلِّي ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً) : يَعْنِي: وَأَيَّامَهَا، إِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَيْضَةِ سَبْعَةً (أَوْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا) : إِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَيْضَةِ سِتَّةً (وَصُومِي) : أَيْ: رَمَضَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ كَذَلِكَ (فَإِنَّ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا قُدِّرَ لَكِ مِنَ الْأَيَّامِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ (يُجْزِئُكِ) : أَيْ: يَكْفِيكِ. يُقَالُ: أَجْزَأَنِي الشَّيْءُ أَيْ كَفَانِي، وَيُرْوَى بِالْبَاءِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (وَكَذَلِكَ) : أَيْ: مِثْلُ مَا ذَكَرْتُ لَكِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي أَنْتِ فِيهِ يَعْنِي السَّائِلَةَ (فَافْعَلِي كُلَّ شَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ) : أَيِ: اللَّوَاتِي مَثْلُكِ فِي نِسْيَانِ عَادَتِهِنَّ (وَكَمَا يَطْهُرْنَ) وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اجْعَلِي حَيْضَكِ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ عَادَةُ النِّسَاءِ مِنْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ، وَكَذَلِكَ طُهْرُكِ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ عَادَةُ النِّسَاءِ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ (مِيقَاتَ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ) : نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ يَعْنِي: إِنْ كَانَ وَقْتُ حَيْضِهِنَّ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَلْيَكُنْ حَيْضُكِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. اهـ. وَأَنْتَ عَرِفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا لَكَ أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنَ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ بِالنِّسَاءِ (وَإِنْ قَوِيتِ) : هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَذَا أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ، وَتَعْلِيقُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا بِقُوَّتِهَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ السَّابِقَ، وَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لِبَيَانِ أَنَّهَا إِذَا قَوِيَتْ عَلَيْهِمَا تَخْتَارُ مَا شَاءَتْ، وَهَذَا لِبَيَانِ أَنَّهَا إِذَا قَوِيَتْ عَلَيْهِمَا تَخْتَارُ الْأَحَبَّ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقِيلَ: لَمَّا خَيَّرَهَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. بِمَعْنَى إِنْ قَوِيتِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. بِمَا تَعْلَمِينَ مِنْ حَالِكِ وَقُوَّتِكِ، فَاخْتَارِي أَيَّهُمَا شِئْتِ. وَوَصَفَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَرَأَى عَجْزَهَا عَنِ الِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ قَالَ لَهَا: دَعِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَقْوِي عَلَيْهِ، وَإِنْ قَوِيتِ إِلَخْ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهَا إِنْ عَجَزَتْ عَنْهُ أَيْضًا نَزَلَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَيْسَرَ وَأَسْهَلَ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخَطَّابِيِّ: لَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ طَالَ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَهَدَهَا الِاغْتِسَالُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، رَخَّصَ لَهَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، كَالْمُسَافِرِ رُخِّصَ لَهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَذَهَبَ إِلَى إِيجَابِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ،

ذَهَبِ ابْنَ عَبَّاسٍ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. قِيلَ: مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَشْبَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَذْهَبُ عَلِيٍّ أَقْرَبُ وَأَلْيَقُ بِالْفِقْهِ. هَذَا كَلَامُ الشُّرَّاحِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ التَّخْيِيرُ، وَلِذَى قَالَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا: ذَهَبَ إِلَى كُلٍّ قَوْمٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا مَنْسُوخٌ، أَوِ الْأَمْرُ بِالْغُسْلِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعَالَجَةِ لِإِزَالَةِ قُوَّةِ الدَّمِ وَكَثْرَتِهِ، وَفَصَّلَ تَفْصِيلًا حَسَنًا فِي مُشْكِلَاتِ الْآثَارِ. (عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِينَ الظُّهْرَ) : أَيْ: إِلَى زَمَنٍ يَسَعُهَا، وَطَهَارَتَهَا ; إِذْ تَأْخِيرُهَا إِلَى أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ (وَتُعَجِّلِينَ الْعَصْرَ) : أَيْ: فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا (فَتَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِثْبَاتُ النُّونِ فِي أَنْ تُؤَخِّرِينَ وَتُعَجِّلِينَ وَغَيْرِهِمَا فِي مَوَاقِعِ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ مَنْقُولٌ عَلَى مَا هُوَ مُثْبَتٌ فِي كُتُبِ الْأَحَادِيثِ مَعَ تَعَسُّرِ تَوْجِيهِهَا، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنْ هَذِهِ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مُقَدَّرٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ لَكِنَّهَا لَا تَنْصِبُهُ حَمْلًا عَلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مُجَاهِدٍ: " {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] " كَمَا أَنَّ مَا قَدْ تَنْصِبُ حَمْلًا عَلَى أَنْ وَمِنْهُ: كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ فِي رِوَايَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ. اهـ. لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْمَعْنَى أَنَّ شَرْطَهَا أَنْ تَقَعَ بَعْدَ فِعْلِ الْيَقِينِ أَوْ مَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: إِنْ قَوِيتِ عَلَى مَعْنَى إِنْ عَلِمْتِ مِنْ نَفْسِكِ، أَوْ ظَنَنْتِ مِنْهَا الْقُوَّةَ وَالْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ (بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ) : أَيْ: بِغُسْلٍ وَاحِدٍ (الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) : بِالْجَرِّ بَدَلٌ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُمَا وَنَصْبُهُمَا (وَتُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ) : كَمَا سَبَقَ (ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَافْعَلِي. وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الْفَجْرِ فَافْعَلِي) : هَذَا تَأْكِيدٌ، وَالشَّرْطِيَّةُ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ (وَصُومِي) : أَيْ: فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي تُصَلِّي فَرْضًا وَنَفْلًا (إِنْ قَدَرْتِ عَلَى ذَلِكَ) : بَدَلٌ مِنَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ يَنْصُرُ قَوْلَ الْخَطَّابِيُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَهَذَا) : أَيْ: أَمْرُ الِاسْتِحَاضَةِ (أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ) : وَهُمَا السَّفَرُ وَالِاسْتِحَاضَةُ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْأَمْرِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ فِيهِ رِفْقًا بِهَا، وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ هُوَ الِاغْتِسَالُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَأَعْجَبُ مَعْنَاهُ أَحَبُّ وَأَسْهَلُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 562 - «عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ اسْتُحِيضَتْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ تُصَلِّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ. لِتَجْلِسَ فِي مِرْكَنٍ، فَإِذَا رَأَتْ صُفَارَةً فَوْقَ الْمَاءِ فَلْتَغْتَسِلْ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْفَجْرِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَوَضَّأُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 562 - (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ) : بِالْمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ اسْتُحِيضَتْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا) : أَيْ: شَهْرٍ (فَلَمْ تُصَلِّ) : أَىْ: ظَنًّا مِنْهَا أَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ تَمْنَعُ الصَّلَاةَ كَالْحَيْضِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ ") : تَعَجُّبًا مِنْ تَرْكِهَا الصَّلَاةَ بِمُجَرَّدِ ظَنِّهَا الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرَاجِعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ، أَوْ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْإِفْتَاءِ فِي زَمَنِهِ (إِنَّ هَذَا) أَيْ: تَرْكَ الصَّلَاةِ تِلْكَ الْمُدَّةَ، أَوْ أَمْرَ الِاسْتِحَاضَةِ (مِنَ الشَّيْطَانِ) : حَيْثُ سَوَّلَ لَهَا أَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ كَالْحَيْضِ (لِتَجْلِسْ) : أَمْرٌ (فِي مِرْكَنٍ) : أَيْ: فِيهِ مَاءٌ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْكَافِ ظَرْفٌ كَبِيرٌ (فَإِنْ رَأَتْ صُفَارَةً) : بِضَمِّ الصَّادِ (فَوْقَ الْمَاءِ) : بِأَنْ زَالَتِ الشَّمْسُ وَقَرُبَتْ مِنَ الْعَصْرِ، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَرَى فَوْقَ الْمَاءِ شُعَاعَ الشَّمْسِ شِبْهَ صُفَارَةٍ ; لِأَنَّ شُعَاعَهَا يَتَغَيَّرُ حِينَئِذٍ وَيَقِلُّ، فَيَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ وَلَا يَصِلُ إِلَى الصُّفْرَةِ الْكَامِلَةِ إِلَّا قُبَيْلَ الْغُرُوبِ، وَأَمَّا حَدِيثُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَفِيهِ الْعَصْرُ مَا لَمْ تَصْفَرَّ، فَمَعْنَاهُ اصْفِرَارًا تَامًّا كَامِلًا (فَلْتَغْتَسِلْ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ) : بِالْجَزْمِ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْزُومِ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْفَجْرِ غُسْلًا وَاحِدًا) جَاءَ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ (وَتَوَضَّأَ) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الصَّلَوَاتِ أَوِ الْأَوْقَاتِ يَعْنِي: إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى الْوُضُوءِ تَوَضَّأُ لِلْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ) ؟

563 - رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، أَمَرَهَا أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ» ـــــــــــــــــــــــــــــ 563 - (رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : أَيْ: أَنَّهُ قَالَ (لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهَا الْغُسْلُ) : أَيْ: لِكُلِّ صَلَاةٍ (أَمَرَهَا) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ) : يَعْنِي: حُكْمًا. كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْخِيرِ صَلَاةٍ وَتَقْدِيمِ أُخْرَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَأَنَّهُ لَا يَرِدُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرْضٍ وَلَا يَلْزَمُهَا غُسْلٌ.

[كتاب الصلاة]

[كِتَابُ الصَّلَاةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 564 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ ; مُكَفِّرَاتٌ لَمَّا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ (4) كِتَابُ الصَّلَاةِ فِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ اشْتِقَاقَ الصَّلَاةِ مِنَ الصَّلْيِ، وَهُوَ دُخُولُ النَّارِ، وَالْخَشَبَةُ إِذَا تَعَوَّجَتْ عُرِضَتْ عَلَى النَّارِ فَتُقَوَّمُ، وَفِي الْعَبْدِ اعْوِجَاجٌ لِوُجُودِ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَالْمُصَلِّي يُصِيبُهُ مِنْ وَهَجِ السَّطْوَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعَظَمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ مَا يَزُولُ بِهِ اعْوِجَاجُهُ، فَهُوَ كَالْمَصْلِيِّ بِالنَّارِ، وَمَنِ اصْطَلَى بِنَارِ الصَّلَاةِ وَزَالَ بِهَا اعْوِجَاجُهُ لَا يُعْرَضُ بِالنَّارِ ثَانِيَةً إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 564 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ") : أَيْ: بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ (وَالْجُمُعَةُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ أَيْ: صَلَاتُهَا (إِلَى الْجُمُعَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ: مُنْتَهِيَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالْأَظْهَرُ مُنْضَمَّةٌ، وَعَلَى هَذَا قَوْلِهِ: (وَرَمَضَانُ) : أَيْ: صَوْمُهُ (إِلَى رَمَضَانَ) : وَقَوْلِهِ (مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ) : خَبَرٌ عَنِ الْكُلِّ، وَمَا بَيْنَهُنَّ مَعْمُولٌ لِاسْمِ الْفَاعِلِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ بِالْإِضَافَةِ وَغَيْرِهَا، وَالتَّكْفِيرُ: التَّغْطِيَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَحْوُ، وَقَوْلُهُ: " إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ " عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي الْمَجْهُولِ شَرْطٌ، جَزَاؤُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، إِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الصَّلَاةِ مُكَفِّرَةٌ مَا بَيْنَهُمَا دُونَ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، لِمَا يَرِدُ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. يَعْنِي: إِذَا اجْتَنَبَ الْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ عَنِ الْكَبَائِرِ حَتَّى لَوْ أَتَاهَا لَمْ يُغْفَرْ شَيْءٌ مِمَّا بَيْنَهُنَّ. قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتَكُمْ} [النساء: 31] قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَإِنْ قَالَ بِهِ التُّورِبِشْتِيُّ وَالْحُمَيْدِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ، بَلْ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ، فَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا بَيْنَهُنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كُلَّهَا مُغْفَرَةٌ إِلَّا الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، أَوْ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ اهـ. وَمُنَازَعَةُ ابْنِ حَجَرٍ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِمَا قَدَّمْنَا. قَالَ الشَّيْخُ الْكِلَابَاذِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْ فِي الْآيَةِ: الشِّرْكُ وَجَمَعَهُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، أَوْ يُقَالُ: جَمَعَهُ لِيُوَافِقَ الْخِطَابَ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ وَرَدَ عَلَى الْجَمْعِ ; لِقَوْلِهِ: إِنْ تَجْتَنِبُوا فَكَبِيرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ إِذَا ضُمَّتْ إِلَى كَبِيرَةِ صَاحِبِهِ صَارَتْ كَبَائِرَ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى تَقْدِيرِ إِنْ شَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكَبَائِرَ عَلَى مَعْنَاهَا الْمُتَعَارَفِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا عَنْهَا نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ بِالطَّاعَاتِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ: إِنْ مَكَانَ إِذَا ; لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ الِاجْتِنَابُ عَنِ الْكَبَائِرِ. اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِذَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: " إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ " وَقْتَ اجْتِنَابِهَا وَخُرُوجِهَا عَمَّا بَيْنَهُنَّ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا لَا تُكَفَّرُ، قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ اجْتِنَابُهَا مُدَّةَ تِلْكَ السَّيِّئَةِ الْمَذْكُورَةِ مُطْلَقًا، لَكِنَّ ظَاهِرَ خَبَرِ مُسْلِمٍ مَا لَمْ يُؤْتَ كَبِيرَةً اشْتِرَاطُ أَنْ لَا يَأْتِيَ كَبِيرَةً مِنْ حِينِ فِعْلِ الْمُكَفِّرِ إِلَى مَوْتِهِ، ثُمَّ مَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ مِنْ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا يُكَفِّرُهَا الصَّلَوَاتُ وَالصَّوْمُ، وَكَذَا الْحَجُّ، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ الصَّحِيحَةُ لَا غَيْرُهَا. نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا حَكَى فِي تَمْهِيدِهِ عَنْ بَعْضِ حَاضِرِيهِ أَنَّ الْكَبَائِرَ يُكَفِّرُهَا غَيْرُ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا جَهْلٌ، وَمُوَافَقَةٌ لِلْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِالتَّوْبَةِ مَعْنًى، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهَا فَرْضٌ، وَالْفُرُوضُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بِالْقَصْدِ. اهـ.

وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ فَقَطْ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ فَهِيَ لَا تُكَفَّرُ بِعَمَلٍ، فَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ عَامٌّ، وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا غَيْرُ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمُكَفِّرَاتِ فَمَا يُكَفِّرُ غَيْرُهُ؟ قُلْتُ: أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ، فَإِنْ وَجَدَ صَغِيرَةً أَوْ صَغَائِرَ كَفَّرَهَا، وَإِلَّا كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَتْ بِهِ لَهُ دَرَجَاتٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ رَجَوْنَا أَنْ يُخَفِّفَ مِنْ كَبَائِرِهِ أَيْ: مِنْ عَذَابِهَا اهـ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَكْفِيرٌ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ رَفْعُ أَثَرِ الذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا تَخْفِيفُ عَذَابِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا لَفْظُهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ رَمَضَانَ.

565 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: " فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 565 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرَأَيْتُمْ ") : أَخْبِرُونِي (لَوْ) : ثَبَتَ (أَنَّ نَهْرًا) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتُسَكَّنُ أَيْ: جَارِيًا (بِبَابِ أَحَدِكُمْ) : أَيْ: مَثَلًا (يَغْتَسِلُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: ثُمَّ يَغْتَسِلُ أَيْ: أَحَدُكُمْ (فِيهِ) : أَيْ: فِي النَّهْرِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ لَفْظِ مِنْهُ (كُلَّ يَوْمٍ) : أَيْ: وَلَيْلَةٍ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّشْبِيهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ (خَمْسًا) : أَيْ: خَمْسَ مَرَّاتٍ (هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟) بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: وَسَخِهِ، وَمِنْ زَائِدَةٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بَيَانِيَّةٌ، وَلَا يَبْعُدُ كَوْنُهَا تَبْعِيضِيَّةً (قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ) : وَلَمْ يَكْتَفُوا بِلَا لِلتَّأْكِيدِ (قَالَ: " فَذَلِكَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ، أَيْ: إِذَا أَقْرَرْتُمْ بِذَلِكَ، وَصَحَّ عِنْدَكُمْ فَهُوَ اهـ. أَيِ: النَّهْرُ الْمَذْكُورُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْغُسْلِ فِي النَّهْرِ خَمْسُ مَرَّاتٍ (مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ) : وَتَطْهِيرُهُ مِثْلُ تَكْفِيرِهَا، وَعَكَسَ فِي التَّشْبِيهِ حَيْثُ إِنَّ الْأَصْلَ تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ مُبَالَغَةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] (يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ) : أَيْ: بِالصَّلَوَاتِ فَالنِّسْبَةُ فِي مُكَفِّرَاتٍ مَجَازِيَّةٌ (الْخَطَايَا) : أَيِ: الصَّغَائِرُ، وَالْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ، وَهُوَ أَنَّ الذُّنُوبَ كَالْوَسَخِ ; لِأَنَّهَا تُوَسِّخُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، وَالصَّلَاةُ تُزِيلُ تِلْكَ الْأَوْسَاخَ وَالْأَقْذَارَ الْحِسِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، كَمَا أَنَّ النَّهْرَ يُزِيلُ الْأَوْسَاخَ الْحِسِّيَّةَ، وَهَذَا مُقْتَبَسٌ مِنَ الْآيَةِ الْآتِيَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

566 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِي هَذَا؟ قَالَ: " لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 566 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ) : حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: (قُبْلَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو الْيَسَرِ بِفَتْحَتَيْنِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا، أَيْ: تَشْتَرِيهِ، فَقُلْتُ: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبُ مِنْهُ، فَدَخَلَتْ مَعِي فِي الْبَيْتِ فَأَهْوَيْتُ فَقَبَّلْتُهَا. اهـ. قُلْتُ: هَذَا شَأْمَةُ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالْأَجْنَبِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَقَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ، فَنَدِمَ (فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64] الْآيَةَ: (فَأَخْبَرَهُ) أَيْ: بِالْوَاقِعَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَانْتَظِرْ أَمْرَ رَبِّي، فَصَلَّى الْعَصْرَ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي " فَأَنْزَلَ " عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: فَأَخْبَرَهُ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى الرَّجُلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي - " {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] ": قِيلَ: صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ طَرَفٌ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ طَرَفٌ، وَجَعَلَ الْمَغْرِبَ فِيهِ تَغْلِيبٌ أَوْ مِنْ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ، وَكَذَا جَعَلَ الظَّاهِرَ طَرَفًا لَا يَخْلُو عَنْ مَجَازٍ " وَزُلَفًا ": أَيْ: سَاعَاتٍ " مِنَ اللَّيْلِ ": صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَقِيلَ: طَرَفَيِ النَّهَارِ الْغُدْوَةُ وَالْعَشِيُّ: فَالْفَجْرُ صَلَاةُ

الْغُدْوَةِ، وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ صَلَاةُ الْعَشِيِّ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ عِشَاءٌ " وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ " صَلَاةُ الْعِشَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَبِهِ فَسَّرُهُ الْأَكْثَرُونَ، وَالزُّلْفَةُ: قِطْعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، كَذَا قَالُوا يَعْنِي: قَرِيبَةً مِنَ النَّهَارِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 13] " {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} [هود: 114] " أَيْ: كَالصَّلَوَاتِ ; فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ " يُذْهِبْنَ ": أَيْ: يُكَفِّرْنَ " السَّيِّئَاتِ ": أَيِ: الصَّغَائِرَ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْخَلْوَةِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. (فَقَالَ الرَّجُلُ) : أَيِ: السَّائِلُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِي) : أَيْ: بِسُكُونِ الْيَاءِ وَتُفْتَحُ (هَذَا؟) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا: مُبْتَدَأٌ، وَلِي: خَبَرُهُ، وَالْهَمْزَةُ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ لِإِرَادَةِ التَّخْصِيصِ أَيْ: مُخْتَصٌّ لِي هَذَا الْحُكْمُ، أَوْ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؟ (قَالَ: " لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ ") : تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ ; لِيَشْمَلَ الْمَوْجُودِينَ وَالْمَعْدُومِينَ، أَيْ: هَذَا لَهُمْ وَأَنْتَ مِنْهُمْ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَالْمُبْهَمُ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، كَمَا أَفَادَهُ تَأْخِيرُ الْمُصَنِّفِ، قَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِلَى مَا بَعْدَهَا (لِمَنْ عَمِلَ بِهَا) : أَيْ: بِهَذِهِ الْآيَةِ، بِأَنْ فَعَلَ حَسَنَةً بَعْدَ سَيِّئَةٍ، وَهَذَا الْقَيْدُ مُرَادٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّ إِسْنَادَ الْإِذْهَابِ لِلْحَسَنَاتِ يَقْتَضِي وُجُودَهَا (مِنْ أُمَّتِي) : وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ بِبَرَكَةِ الرَّحْمَنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

567 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ. وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ، قَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ. قَالَ: " فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ ـ أَوْ حَدَّكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 567 - (وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) : يُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقَضِيَّةِ وَاتِّحَادُهَا (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا (أَصَبْتُ حَدًّا) : أَيْ: مُوجِبَةً، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَعَلْتُ شَيْئًا يُوجِبُ الْحَدَّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ (فَأَقِمْهُ) : أَيِ: الْحَدَّ، وَالْمُرَادُ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ (عَلَيَّ. قَالَ) : أَيِ: الرَّاوِي، وَهُوَ أَنَسٌ (وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ أَيْ: لَمْ يَسْأَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ عَنْ مُوجِبِ الْحَدِّ مَا هُوَ؟ قَالَهُ الطِّيبِيُّ قِيلَ: لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَفَ ذَنْبَهُ وَغُفْرَانَهُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ) : أَيْ: إِقَامَتُهَا (فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: إِحْدَى الصَّلَوَاتِ أَوِ الْعَصْرَ (فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ) : أَيْ: أَدَّاهَا وَانْصَرَفَ عَنْهَا (قَامَ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ) : أَيْ: فِي حَقِّي (كِتَابَ اللَّهِ) : أَيْ: حُكْمَ اللَّهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْمَعْنَى: اعْمَلْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِي شَأْنِي مِنْ حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي تَغْيِيرِهِ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ غَايَةُ الذَّكَاءِ وَالْبَلَاغَةِ مِنْهُ، فَلَمَّا عَلِمَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السُّكُوتَ عَنْهُ حِينَ قَالَ لَهُ: أَقِمْهُ، أَيْ: أَنَّ وَاجِبَهُ غَيْرُ الْحَدِّ، فَعَبَّرَ هُنَا بِمَا يَشْمَلُ الْحَدَّ وَغَيْرَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ (قَالَ: " أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ " قَالَ: نَعَمْ) : هَذَا يُنَافِي مَا اشْتُهِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] لَوْ قَالُوا: نَعَمْ، لَكَفَرُوا (قَالَ: " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أَوْ حَدَّكَ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي قَالَهُ مِيرَكُ. أَيْ: سَبَبَ حَدِّكَ، قَالَهُ السَّيِّدُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُهُ مُشْكِلٌ ; فَإِنَّ مُوجِبَ الْحَدِّ لَا يَكُونُ إِلَّا كَبِيرَةً، وَقَدْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُفْرَانِهِ بِوَاسِطَةِ صَلَاتِهِ مَعَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ الرَّجُلَ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ، فَأَرَادَ بِالْحَدِّ الْعُقُوبَةَ الشَّامِلَةَ لِلتَّعْزِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِّ حَقِيقَتُهُ، وَأَنَّ سَبَبَ مَغْفِرَةِ إِثْمِ مُوجِبِهِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ لَوَائِحِ التَّوْبَةِ، وَحِكْمَةُ كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلِمَ لَهُ نَوْعَ عُذْرٍ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ حَتَّى لَا يُقِيمَهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ أَعْلَمَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إِقَامَتُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ تَابَ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحُدُودَ إِلَّا حَدَّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ لِلْآيَةِ، وَكَذَا حَدُّ زِنَا الذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ. وَعَلَى كُلٍّ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الصَّلَاةَ كَفَّرَتْ كَبِيرَةً، بَلْ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ.

قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِالْحَسَنَاتِ، وَكَذَا مَا خَفِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» " وَأَمَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَتَحَقَّقَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَلَيْسَ يَسْقُطُ حَدُّهَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَفِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ، وَخَطِيئَةُ هَذَا الرَّجُلِ فِي حُكْمِ الْمَخْفِيِّ ; لِأَنَّهُ مَا بَيَّنَهَا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ حَدُّهَا بِالصَّلَاةِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ. وَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِجْمَاعِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا سِيَّمَا وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مَا أَشْعَرَ بِإِنَابَتِهِ عَنْهَا وَنَدَامَتِهِ عَلَيْهَا يَعْنِي: مِنِ اعْتِرَافِهِ بِالذَّنْبِ وَطَلَبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ يَكُونُ غُفْرَانُ الْكَبِيرَةِ مِنْهُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ حُكْمًا مُخْتَصًّا بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ " وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ ".

568 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَأَلَتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 568 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا ": اللَّامُ فِيهِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ: مُسْتَقْبِلَاتٍ لِعِدَّتِهِنَّ، وَقَوْلِهِمْ: لَقِيتُهُ لِثَلَاثٍ، أَيْ: مُسْتَقْبِلًا بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ وَلَيْسَتْ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَ " وَقَدَّمْتُ لِحَيَاتِي " بِمَعْنَى الْوَقْتِ ; لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ الْوَقْتُ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ وُقُوعُ الصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ قُبُلُ وَقْتِهَا بِضَمَّتَيْنِ أَيْ: أَوَّلُهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّامَ. بِمَعْنَى: " فِي " إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّ اللَّامَ تَرِدُ لِثَلَاثِينَ مَعْنًى. مِنْهَا: مُوَافَقَةُ " فِي " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الطِّيبِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْأَوَّلَيْنِ إِنَّمَا قُدِّرَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاللِّقَاءَ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَالثَّلَاثِ، فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مُسْتَقْبِلًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُفْسِدٌ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: " فِي " كَمَا قَرَّرْتُهُ فَتَأَمَّلْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَدَاؤُهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. أَقُولُ: هَذَا وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنَ الْحَدِيثِ يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِ مَا أَوْقَاتُهُنَّ الْمُخْتَارُ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَيُوَافِقُهَا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ: الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، أَيْ: خَيْرُ عَمَلٍ وَضَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِهِ. (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟) : أَيْ: أَيُّهَا أَحَبُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ لَا لِتَرَاخِي الزَّمَانِ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَيُّهَا أَفْضَلُ؟ (قَالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ") : أَيْ: أَوْ أَحَدِهِمَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] وَلِذَا قِيلَ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَدَعَا لِلْوَالِدَيْنِ بِالْمَغْفِرَةِ عَقِيبَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ وَالِدَيْهِ. (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ هَكَذَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «أَيُّ الْعَمَلِ خَيْرٌ؟ قَالَ: " إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» " وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " رَجُلٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَابَ لِكُلٍّ بِمَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ، وَمَا يُرَغِّبُهُ فِيهِ، أَوْ أَجَابَ بِحَسَبِ مَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ، أَوْ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَأَصْلَحُ لَهُ، تَوْفِيقًا عَلَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: خَيْرُ الْأَشْيَاءِ كَذَا وَلَا يُرِيدُ تَفْضِيلَهُ فِي نَفْسِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنْ يُرِيدُ أَنَّهُ خَيْرُهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَلِأَحَدٍ دُونَ آخَرَ، كَمَا يُقَالُ فِي مَوْضِعٍ يُحْمَدُ فِيهِ السُّكُوتُ لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ، وَحَيْثُ يُحْمَدُ الْكَلَامُ لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. (قَالَ) : أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (حَدَّثَنِي) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِهِنَّ) : أَيْ: بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ (وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ) : أَيِ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ السُّؤَالَ يَعْنِي: لَوْ سَأَلْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا (لَزَادَنِي) : فِي الْجَوَابِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا» " قَالَ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي خِلَافِيَّاتِهِ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا.

569 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 569 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَ الْعَبْدِ ") أَيِ: الْمُسْلِمِ (وَبَيْنَ الْكُفْرِ) : أَيْ: مُقَارَبَتِهِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ اتِّصَافُهُ بِهِ، غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يَكُونُ كَافِرًا، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ تَبَجَّحَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ، وَقَالَ: لَوْ فَهِمَ الشُّرَّاحُ مَا قُلْتُهُ لَمَا أَوَّلُوا وَمَا تَمَحَّلُوا (تَرْكُ الصَّلَاةِ) : مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مُتَعَلِّقُ " بَيْنَ " مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: تَرْكُهَا وَصْلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ يُقَالُ لِمَا يُوصِلُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ شَخْصٍ أَوْ هَدِيَّةٍ هُوَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَرْكُ الصَّلَاةِ مُبْتَدَأٌ وَالظَّرْفُ الْمُقَدَّمُ خَبَرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُئَوَّلَ تَرْكُ الصَّلَاةِ بِالْحَدِّ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ تَرَكَهَا دَخَلَ الْحَدَّ، وَحَامَ حَوْلَ الْكُفْرِ، وَدَنَا مِنْهُ، أَوْ يُقَالُ: الْمَعْنَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَصْلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَيْهِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، إِذْ ظَاهِرُهُ أَنْ يُقَالَ: بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، أَوْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَوَضَعَ الْعَبْدَ مَوْضِعَ الْمُؤْمِنِ ; لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ أَنْ يَخْشَعَ لِمَوْلَاهُ وَيَشْكُرَ نِعَمَهُ، وَوَضَعَ الْكُفْرَ مَوْضِعَ الْكَافِرِ وَجَعَلَهُ نَفْسَ الْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ تَرْكُ أَدَاءِ الشُّكْرِ، فَعَلَى هَذَا الْكُفْرُ بِمَعْنَى الْكُفْرَانِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ الْفَرْضِ عَمْدًا. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَرْكُهَا كُفْرٌ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى تَرْكِهَا جُحُودًا أَوْ عَلَى الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَمَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: تَارِكُ الصَّلَاةِ كَالْمُرْتَدِّ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ. وَقَالَ: صَاحِبُ الرَّأْيِ لَا يُقْتَلُ، بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ. اهـ. قُلْتُ: وَنِعْمَ الرَّأْيُ رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ ; إِذِ الْأَقْوَالُ بَاقِيهَا ضَعِيفَةٌ، ثُمَّ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لِتَرْكِهَا، أَوْ تَرْكُهَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ بَرِيدُ الْكُفْرِ، أَوْ يُخْشَى عَلَى تَارِكِهَا أَنْ يَمُوتَ كَافِرًا، أَوْ فِعْلُهُ شَابَهَ فِعْلَ الْكَافِرِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِ: «لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إِلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: «بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» .

الْفَصْلَ الثَّانِي 570 - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى ; مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ، كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 570 - (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ ") : مُبْتَدَأٌ (" افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى ") : صِفَةُ الْمُبْتَدَأِ، وَقِيلَ: خَبَرُهُ (مَنْ أَحْسَنَ) : هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ (وُضُوءَهُنَّ) : بِمُرَاعَاةِ فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِإِحْسَانِهِ الْإِتْيَانَ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِإِحْسَانِهِ تَصْحِيحَهُ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ (وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ) : أَيْ: وَقْتِهِنَّ، أَوْ فِي أَوْقَاتِهِنَّ الْمُخْتَارَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: قَبْلَ أَوْقَاتِهِنَّ وَأَوَّلَهَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، بَلِ الصَّوَابُ مَا أَفَادَتْهُ فِي الَّتِي اللَّامُ بِمَعْنَاهَا مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ الْأَدَاءُ فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوَّلَهُ. اهـ.

وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْطِئَةِ ; لِأَنَّ الطِّيبِيَّ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَهُوَ أَفْضَلُهُمَا فِي مَذْهَبِهِ، وَالشَّرْطِيَّةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ عَلَى الْفَرَائِضِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَخُشُوعَهُنَّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ) : بِشَرْطِهِ وَسُنَنِهِ الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ (وَخُشُوعَهُنَّ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْخُشُوعُ حُضُورُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ. قَالَ السَّيِّدُ: عَطَفَهُ عَلَى الرُّكُوعِ إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] الرُّكُوعُ: الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَأَتَمَّ خُضُوعَهُنَّ بَعْدَ خُضُوعٍ أَيْ: خُضُوعًا مُضَافًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] كَرَّرَهَا لِشَدَّةِ الْخَطْبِ النَّازِلِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ الْأَرْكَانُ. أَيْ: أَتَمَّ أَرْكَانَهَا، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ تَغْلِيبًا كَمَا سُمِّيَتِ الرَّكْعَةُ رَكْعَةً، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِنَا إِذْ صَلَاةُ مَنْ قَبْلَنَا لَا رُكُوعَ فِيهَا، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ ; وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَسَاهَلُونَ فِيهِ وَلِكَوْنِهِ كَالْمُقَدِّمَةِ وَالْوَسِيلَةِ لِغَيْرِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ وَاسِطَةً بَيْنَ الْأَرْكَانِ، فَفِيهِ تَنْبِيهُ نَبِيِّهِ عَلَى إِتْمَامِ مَا سِوَاهُ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ، وَالْمُرَادُ بِخُشُوعِهِنَّ سُكُونُ الْجَوَارِحِ عَنِ الْعَبَثِ، وَالْقَلْبِ عَنْ أَنْ يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ صَلَاتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُتَأَمِّلًا لِمَعَانِي قِرَاءَتِهِ وَأَذْكَارِهِ، وَلِلسَّبَبِ الَّذِي شُرِعَ كُلُّ رُكْنٍ لِأَجْلِهِ مِنَ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا، وَمِنَ الرُّكُوعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَمِنَ السُّجُودِ وَهُوَ غَايَةُ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ وَالِانْكِسَارِ ; بِجَعْلِ أَشْرَفِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ عَلَى مَوْطِئِ الْأَقْدَامِ وَالنِّعَالِ (كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ) : أَيْ: وَعْدٌ، وَالْعَهْدُ: حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ حَالًا فَحَالًا، سَمَّى مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الْمُجَازَاةِ لِعِبَادِهِ عَهْدًا عَلَى جِهَةِ مُقَابَلَةِ عَهْدِهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ وَعَدَ الْقَائِمِينَ بِحِفْظِ عَهْدِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ، وَوَعْدُهُ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا يُخْلِفَهُ، فَسُمِّيَ وَعْدُهُ عَهْدًا ; لِأَنَّهُ أَوْثَقُ مِنْ كُلِّ وَعْدٍ (أَنْ يَغْفِرَ لَهُ) : إِمَّا جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةُ الْمُبْتَدَأِ صِفَةُ عَهْدٍ، وَإِمَّا بَدَلٌ عَنْ عَهْدٍ، وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْأَمَانُ وَالْمِيثَاقُ، وَالْمُرَادُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ (وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ: أَيْ: مُطْلَقًا أَوْ تَرَكَ الْإِحْسَانَ (فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) : فَضْلًا (وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) : عَدْلًا، وَقَدَّمَ مَشِيئَةَ الْغُفْرَانِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَوَكَّلَ أَمْرَ التَّارِكِ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَجْوِيزًا لِعَفْوِهِ، وَمِنْ عَادَةِ الْكِرَامِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوَعْدِ وَالْمُسَامَحَةُ فِي الْوَعِيدِ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِقَابُ الْعَاصِي، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِثَابَةُ الْمُطِيعِ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ الْأَزْهَارِ، وَالْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِخَلْقِهِ شَيْءٌ، بَلْ لَهُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَإِيلَامُهُمْ، وَإِثَابَةُ الْفَاسِقِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى الْكَافِرَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَأَمَّا تَحْقِيقُ خُلْفِ الْوَعِيدِ، فَفِي رِسَالَةِ الْقَوْلِ السَّدِيدِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَاللَّفْظُ لَهُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ صَالِحٌ، قَالَهُ مِيرَكُ. (وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ (نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَاهُ.

571 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 571 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلُّوا خَمْسَكُمْ: أَضَافَ إِلَيْهِمْ لِيُقَابِلَ الْعَمَلَ بِالثَّوَابِ فِي قَوْلِهِ: جَنَّةَ رَبِّكُمْ، وَلِيَنْعَقِدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: حِكْمَةُ إِضَافَةِ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ إِلَيْهِمْ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّ ذَوَاتَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِكَيْفِيَّاتِهَا الْمَخْصُوصَةِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَحَثُّهُمْ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِلِامْتِثَالِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ الْعَمَلِيَّةَ يُقَابِلُهَا إِضَافَةُ فَضِيلَةٍ هِيَ أَعْلَى مِنْهَا وَأَتَمُّ، وَهِيَ الْجَنَّةُ الْمُضَافَةُ إِلَى وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ الْمُشْعِرِ بِمَزِيدِ تَرْبِيَتِهِمْ وَتَرْبِيَةِ نَعِيمِهِمْ، بِمَا فَارَقُوا بِهِ سَائِرَ الْأُمَمِ (وَصُومُوا شَهْرَكُمْ) : أَيِ: الْمُخْتَصَّ بِكُمْ وَهُوَ رَمَضَانُ، وَأَبْهَمَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ صَارَ مِنَ الظُّهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى حَدٍّ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَالتَّرَدُّدَ (وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ) : الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لَكُمْ، وَلَعَلَّ تَأْخِيرَ الزَّكَاةِ عَنِ الصَّوْمِ ; لِأَنَّهَا فُرِضَتْ بَعْدَهُ، وَأَمَّا اقْتِرَانُهُمَا فِي غَالِبِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ ; لِأَنَّ الْأُولَى مِنْهُمَا أُمُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْأُخْرَى أُمُّ

الطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَدُّوا زَكَاتَكُمْ ; إِيمَاءً إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُطْلَقٍ، بَلْ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ الْوَاصِلَةِ إِلَى نِصَابِهَا السَّائِمَةِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ ; لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَى مَحَبَّتِهَا مَحَبَّةً مُفْرِطَةً، رُبَّمَا أَفْضَتْ بِكَثِيرِينَ إِلَى إِيثَارِ بَقَائِهَا عَلَى بَقَاءِ النَّفْسِ، وَلِذَا مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: " {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] " عَلَى حَدِّ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ (وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرَكُمْ ") : أَيِ: الْخَلِيفَةَ وَالسُّلْطَانَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ، أَوِ الْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ، أَوْ أَعَمُّ أَيْ: كُلُّ مَنْ تَوَلَّى أَمْرًا مِنْ أُمُورِكُمْ، سَوَاءٌ كَانَ السُّلْطَانَ وَلَوْ جَائِرًا وَمُتَعَلِّيًا وَغَيْرَهُ مِنْ أُمَرَائِهِ أَوْ سَائِرَ نُوَّابِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَمِيرَكُمْ ; إِذْ هُوَ خَاصٌّ عُرْفًا بِبَعْضِ مَنْ ذُكِرَ؛ وَلِأَنَّهُ أَوْفَقُ بِقَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . (تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ) : جَوَابُ الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ أَيْ: مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عَذَابٍ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ مَنْ فَعَلَ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ فَهُوَ يَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَالْمُرَادُ: تَنَالُوا مِنْ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ مَا يَلِيقُ بِأَعْمَالِكُمْ ; لِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَالدَّرَجَاتِ عَلَى حَسَبِ الطَّاعَاتِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

572 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَكَذَا رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 572 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ: مُحَمَّدٍ (عَنْ جَدِّهِ) : أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُرُوا ") : أَمْرٌ مِنَ الْأَمْرِ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ لِلتَّخْفِيفِ، ثُمَّ اسْتُغْنِيَ عَنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ تَخْفِيفًا، ثُمَّ حُرِّكَتْ فَاؤُهُ ; لِتَعَذُّرِ النُّطْقِ بِالسَّاكِنِ (أَوْلَادَكُمْ) : يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ (بِالصَّلَاةِ) وَرُبَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الشُّرُوطِ (وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ) : لِيَعْتَادُوا وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ (وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ) : لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا، أَوْ قَارَبُوا الْبُلُوغَ (وَفَرِّقُوا) : أَمْرٌ مِنَ التَّفْرِيقِ (بَيْنَهُمْ) : أَيْ: بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلَيْنِ أَوِ الْمَرْأَتَيْنِ أَنْ يَنَامَا فِي مَضْجَعٍ وَاحِدٍ ; بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ عَوْرَتُهُمَا مَسْتُورَةً بِحَيْثُ يَأْمَنَانِ الْتِمَاسَ الْمُحَرَّمِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا فَقَالُوا: يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ تَمْكِينُ ابْنَيْنِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ فِي مَضْجَعٍ وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَا يَجُوزُ إِلَخْ، مِنْ كَلَامِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّتِهِ فَتَأَمَّلْ. (فِي الْمَضَاجِعِ) : أَيِ: الْمَرَاقِدِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ بُلُوغَ الْعَشْرِ مَظَنَّةُ الشَّهْوَةِ، وَإِنْ كُنَّ أَخَوَاتٍ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ فِي الطُّفُولِيَّةِ تَأْدِيبًا وَمُحَافَظَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلُ الْعِبَادَاتِ، وَتَعْلِيمًا لَهُمُ الْمُعَاشَرَةَ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَأَنْ لَا يَقِفُوا مَوَاقِفَ التُّهَمِ فَيَجْتَنِبُوا مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَكَذَا رَوَاهُ فِي: شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْهُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ، وَرَاوَيَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ: عَبْدِ الْمَلَكِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِدُونِ قَوْلِهِ: وَفَرِّقُوا إِلَخْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

573 - وَفِي الْمَصَابِيحِ عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 573 - (وَفِي الْمَصَابِيحِ، عَنْ سَبْرَةَ) : بِسُكُونِ الْبَاءِ (ابْنِ مَعْبَدٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَقُولُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ أَيْضًا، لَكِنْ بِلَفْظِ: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا» ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ التَّفْرِيقُ.

574 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 574 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " الْعَهْدُ ") : أَيْ: وَالْمِيثَاقُ الْمُؤَكَّدُ بِالْإِيمَانِ (الَّذِي بَيْنَنَا) : أَيْ: مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ (وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ) : قَالَ الْقَاضِي: الضَّمِيرُ الْغَائِبُ لِلْمُنَافِقِينَ شَبَّهَ الْمُوجِبَ لِإِبْقَائِهِمْ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ بِالْعَهْدِ الْمُقْتَضِي لِإِبْقَاءِ الْمُعَاهَدِ وَالْكَفِّ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ تَشَبُّهُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ فِي حُضُورِ صَلَاتِهِمْ وَلُزُومِ جَمَاعَتِهِمْ، وَانْقِيَادُهُمْ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، فَإِذَا تَرَكُوا ذَلِكَ كَانُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ سَوَاءً. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا اسْتُؤْذِنَ فِي قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ: " أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ (فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ) : أَيْ: أَظْهَرَ الْكُفْرَ، وَعَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ نِفَاقًا

اعْتِقَادِيًّا كَافِرٌ، فَلَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ كَفَرَ، قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْغَائِبِينَ عَامًّا فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ مِنْ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: «لَا تَتْرُكْ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا، فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» ، فَالْمُرَادُ بِالْمُتَكَلِّمِ فِي بَيْنَنَا هُوَ الْمُعَظِّمُ نَفْسَهُ، وَالْكُفْرُ مُئَوَّلٌ بِمَا سَبَقَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ (وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 575 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ عُمَرَ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: وَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ شَيْئًا. فَقَامَ الرَّجُلُ، فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَدَعَاهُ، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: " {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يَذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [الفاتحة: 114 - 30524] ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ : " فَقَالَ: بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 575 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً) : أَيْ: دَاعَبْتُهَا وَزَاوَلْتُ مِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ غَيْرَ أَنِّي مَا جَامَعْتُهَا. قَالَهُ الطِّيبِيُّ (فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ) : أَيْ: أَسْفَلَهَا وَأَبْعَدَهَا عَنِ الْمَسْجِدِ ; لِأَظْفَرَ مِنْهَا بِجِمَاعِهَا (إِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا) : مَا مَوْصُولَةٌ، أَيِ: الَّذِي تَجَاوَزَ الْمَسَّ أَيِ: الْجِمَاعَ (فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ) : الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيْ: أَنَا حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ وَمُنْقَادٌ لِحُكْمِكَ فَاقْضِ بِسَبَبِ ذَلِكَ (فِيَّ) : أَيْ: فِي حَقِّي (مَا شِئْتَ) : أَيْ: أَرَدْتَهُ بِمَا يَجِبُ عَلَىَّ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ التَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (فَقَالَ لَهُ عُمَرَ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ) : أَيْ: لَكَانَ حَسَنًا، لَوْ لِلتَّمَنِّي، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ " لَوْ " تَحْضِيضِيَّةٌ أَيْ: هَلَّا سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ (قَالَ) : أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (وَلَمْ يَرُدَّ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ أَوْ عَلَى عُمَرَ (شَيْئًا) : مِنَ الْكَلَامِ انْتِظَارًا لِقَضَاءِ اللَّهِ فِيهِ، رَجَاءً أَنْ يُخَفِّفَ مِنْ عُقُوبَتِهِ (فَقَامَ الرَّجُلُ، فَانْطَلَقَ) : أَيْ: فَذَهَبَ ظَنًّا مِنْهُ لِسُكُوتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهِ شَيْئًا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُبَلِّغَهُ، فَإِنْ كَانَ عَفْوًا شَكَرَ وَإِلَّا عَادَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ، هَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِحَالِهِ، وَإِلَّا فَانْطِلَاقُهُ قَبْلَ صَرِيحِ الْإِذْنِ مِنْهُ خِلَافُ الْأَدَبِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ هَرَبٌ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ; لِأَنَّهُ بِنَفْسِهِ اعْتَرَفَ، فَكَيْفَ يَهْرُبُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْدَرِئُ بِهِ الْحُدُودُ، (فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: أَرْسَلَ عَقِبَهُ (رَجُلًا) : لِيَدْعُوهُ (فَدَعَاهُ) : أَيِ الرَّجُلُ الرَّجُلَ (وَتَلَا) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ السَّائِلِ (هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [هود: 114] : بَدَلٌ مِنَ الْآيَةِ " {طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] ": أَيِ الصُّبْحَ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ أَوِ الْأَخِيرَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ " زُلَفًا ": أَيْ: فِي سَاعَاتٍ قَرِيبَةٍ مِنَ النَّهَارِ " مِنَ اللَّيْلِ ": مِنْ بَيَانٌ يَعْنِي: صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ " {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} [هود: 114] ": أَيِ: الصَّلَوَاتِ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ " {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ": أَيْ: يَمْحُونَ الصَّغَائِرَ وَيُخَفِّفْنَ الْكَبَائِرَ " ذَلِكَ ": أَيْ: مَا ذُكِرَ أَيْ:

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْمِنَّةِ الْجَسِيمَةِ " ذِكْرَى ": أَيْ: تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ " لِلذَّاكِرِينَ ": لِنِعْمَةِ اللَّهِ أَوْ لِلْمُتَّعِظِينَ (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) : قِيلَ: هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقِيلَ: هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ (يَا نَبِيَّ اللَّهِ) : وَاخْتِيرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ إِيمَاءً بِأَنَّ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا هُوَ مَا أَنْبَأَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى (هَذَا) : أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ (لَهُ) : أَيْ: لِلسَّائِلِ (خَاصَّةً؟) : أَيْ: يَخُصُّهُ خُصُوصًا أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً (فَقَالَ: " بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً ") أَيْ: يَعُمُّهُمْ جَمِيعًا وَهُوَ مِنْهُمْ، أَوْ هُوَ يَدْخُلُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا ; لِأَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسِيَاقُ هَذَا غَيْرُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَوَّلَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْوَاقِعَةَ تَكَرَّرَتْ لِرَجُلَيْنِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّ سُكُوتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِحُكْمِ الْأُولَى لِانْتِظَارِ شَيْءٍ جَدِيدٍ فِيهَا. اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ تَكْرَارُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِهَا ثَانِيًا، بَلْ إِنَّهُ قَرَأَهَا اسْتِشْهَادًا أَوِ اعْتِضَادًا، وَرُبَّمَا كَانَ سُكُوتُهُ لِأَمْرٍ آخَرَ، فَلَمَّا قَامَ الرَّجُلُ نَادَاهُ وَبَيَّنَ لَهُ مُدَّعَاهُ، وَيَخْطِرُ بِالْبَالِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ - أَنَّ سَبَبَ سُكُوتِهِ وَعَدَمَ مُبَادَرَتِهِ بِالْمَقَالِ أَنْ لَا تَجْتَرِئَ الْأُمَّةُ عَلَى سُوءِ الْفِعَالِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

576 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ زَمَنَ الشِّتَاءِ، وَالْوَرَقُ يَتَهَافَتُ، فَأَخَذَ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ. قَالَ: فَجَعَلَ ذَلِكَ الْوَرَقُ يَتَهَافَتُ. قَالَ: فَقَالَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ فَتَتَهَافَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ، كَمَا تَهَافَتَ هَذَا الْوَرَقُ عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 576 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ زَمَنَ الشِّتَاءِ) : أَيِ: الْبَرْدِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فَصْلِ الشِّتَاءِ وَهُوَ الْخَرِيفُ (وَالْوَرَقُ) : أَيْ: جِنْسُهُ (يَتَهَافَتُ) : أَيْ: يَتَسَاقَطُ مُتَوَالِيًا (فَأَخَذَ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ) : أَيْ: مُبَاحَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ لِمَنْ يَظُنُّ رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُمَا مُتَّصِلَيْنِ أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ (قَالَ) : أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (فَجَعَلَ ذَاكَ) : وَفِي أَصْلِ الْعَفِيفِ بِاللَّامِ (الْوَرَقُ يَتَهَافَتُ) : أَيْ: طَفِقَ الْوَرَقُ مِنَ الْغُصْنَيْنِ يَتَسَاقَطُ تَسَاقُطًا سَرِيعًا ; لِأَنَّهُمَا عِنْدَ الْقَبْضِ بِهِمَا أَوْ نَفْضِهِمَا أَسْرَعُ سُقُوطًا مِنْ تَرْكِهِمَا عَلَى حَالِهِمَا. (قَالَ) : كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ " قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقُلْتُ " لَبَّيْكَ " أَيْ: إِجَابَةٌ لَكَ بَعْدَ إِجَابَةٍ، أَوْ إِقَامَةٌ عَلَى طَاعَتِكَ بَعْدَ إِقَامَةٍ: مِنْ لَبَّ بِالْمَكَانِ أَقَامَ فِيهِ فَالتَّثْنِيَةُ لِلتَّكْثِيرِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ لِكَمَالِ الْقُرْبِ (قَالَ: " إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ ") : أَيْ: بِشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا (يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ) : أَيْ: ذَاتَهُ وَمَرْضَاتَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَالِيَةٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: خَالِصًا لَهُ أَوْ خَالِصَةً لَهُ تَعَالَى، بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا سُمْعَةٌ وَلَا رِيَاءٌ، أَوْ بِأَنْ لَا يَقْصُدَ بِهَا حَظًّا لِنَفْسِهِ لَا دُنْيَوِيًّا وَلَا أُخْرَوِيًّا، إِنَّمَا يَقْصُدُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ فَقَطْ (فَتَهَافَتْ) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (عَنْهُ ذُنُوبُهُ، كَمَا تَهَافَتَ) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: يَتَهَافَتُ بِالْمُضَارِعِ لِلْمُذَكَّرِ، وَفِي أُخْرَى وَهِيَ أَصْلُ الْعَفِيفِ لِلْمُؤَنَّثِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: (هَذَا الْوَرَقُ) : يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَيْ: هَذِهِ الْأَوْرَاقُ (عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) : أَيْ: عَنْ غُصْنَيْهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

577 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ لَا يَسْهُو فِيهِمَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 577 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) : هُوَ مِنْ جُهَيْنَةَ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا، رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: غُلِّبَتِ السَّجْدَةُ عَلَى سَائِرِ الْأَرْكَانِ كَمَا غُلِّبَتِ الرَّكْعَةُ عَلَيْهَا (لَا يَسْهُو) : أَيْ: لَا يَغْفَلُ (فِيهِمَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ يَكُونَ حَاضِرَ

الْقَلْبِ أَوْ يَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ (غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) : قُيِّدَ بِالصَّغَائِرِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ شُمُولَ الْكَبَائِرِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يَسْهُو بَيْنَهُمَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» " اهـ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَهُمَا أَيْ: فِيمَا بَيْنَ أَفْعَالِ الرَّكْعَتَيْنِ ; لِيُوَافِقَ قَوْلَهُ فِيهِمَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

578 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: " مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً، وَإِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 578 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) : الْجُمْهُورُ عَلَى كِتَابَتِهِ بِالْيَاءِ، وَهُوَ الْفَصِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ أَوْ أَكْثَرِهَا بِحَذْفِهَا، قَالَهُ الْكَرَمَانِيُّ، وَالصَّحِيحُ كِتَابَتُهُ بِلَا يَاءٍ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ الْيَاءِ لَفْظًا وَخَطًّا لِلتَّخْفِيفِ، كَمَا فِي نَحْوِ: الْمُتَعَالِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْعَوْصُ أَوِ الْعَيْصُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَامُوسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ) : أَيِ: النَّبِيَّ (ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ فَضْلَهَا وَشَرَفَهَا (فَقَالَ) : الْفَاءُ لِلتَّفْسِيرِ (مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا) : أَيْ: مِنْ أَنْ يَقَعَ زَيْغٌ فِي فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَأَدَّاهَا وَدَاوَمَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَفْتُرْ عَنْهَا (كَانَتْ) : أَيْ: صَلَاتُهُ أَوْ مُحَافَظَتُةُ عَلَيْهَا (لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا) : تَقَدَّمَ مَعْنَاهُمَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ نُورًا بَيْنَ يَدَيْهِ مُغْنِيًا عَنْ سُؤَالِهِ عَنْهَا، وَبُرْهَانًا أَيْ دَلِيلًا عَلَى مُحَافَظَتِهِ عَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ، فَالتَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ لِلتَّدَلِّي، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ زِيَادَةً فِي نُورِ إِيمَانِهِ وَحُجَّةً وَاضِحَةً عَلَى كَمَالِ عِرْفَانِهِ (وَنَجَاةً) : أَيْ: ذَاتُ نَجَاةٍ أَوْ جُعِلَتْ نَفْسُهَا نَجَاةً مُبَالَغَةً، كَرَجُلٍ عَدْلٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَكَذَلِكَ نُورٌ وَبُرْهَانٌ وَنَجَاةٌ لَهُ فِي الْقَبْرِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ (وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا، فَمَنْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَحْرُومِيَّةِ (لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : مَحْشُورًا أَوْ مَحْبُوسًا أَوْ مُعَذَّبًا فِي الْجُمْلَةِ (مَعَ قَارُونَ) : الَّذِي مَنَعَهُ مَالُهُ عَنِ الطَّاعَةِ (وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ) : وَزِيرُهُ اللَّذَيْنِ حَمَلَهُمَا جَاهُهُمَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ (وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ) : عَدُوُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ مُشْرِكٌ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ: وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ) : أَيْ: فِي مُسْنَدَيْهِمَا (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ. قَالَ مِيرَكُ، نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ، وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ جَيِّدٌ.

579 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 579 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ) : بَصْرِيٌّ مِنْ بَنِي عَقِيلِ بْنِ كَعْبٍ، مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ (قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ) : مِنَ الرَّأْيِ أَيْ: لَا يَعْتَقِدُونَ (شَيْئًا) : مَفْعُولُهُ (مِنَ الْأَعْمَالِ) : نَعْتُهُ (تَرْكُهُ كُفْرٌ) : الْجُمْلَةُ كَذَا نَعَتُهُ (غَيْرَ الصَّلَاةِ) : اسْتِثْنَاءٌ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَى " شَيْئًا " قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمُرَادُ ضَمِيرُ تَرِكِهِ، وَجَوَّزَ ابْنُ حَجَرٍ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لَشَيْئًا وَهُوَ بَعِيدٌ، بَلْ غَيْرُ مُفِيدٍ، ثُمَّ الْحَصْرُ يُفِيدُ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْوِزْرِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

580 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ، وَلَا تَتْرُكْ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا، فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَلَا تَشْرَبِ الْخَمْرَ؟ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 580 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْوَصِيَّةِ مُتَنَاهِيًا، وَالزَّجْرُ عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ جَامِعًا وَضَعَ خَلِيلِي مَكَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ تَعَطُّفِهِ وَشَفَقَتِهِ (أَنْ لَا تُشْرِكْ) : بِالْجَزْمِ فَإِنْ مُفَسِّرَةٌ؛ لِأَنَّ فِي أَوْصَى مَعْنَى الْقَوْلِ وَلَا: نَاهِيَةٌ.: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ قَالَ: أُوصِيكَ بِأَنْ لَا تُشْرِكْ فَإِنْ

مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي أَوْصَى مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَلَا نَافِيَةٌ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ، بَلْ خَلْطٌ وَخَبْطٌ (بِاللَّهِ شَيْئًا) : أَيْ: بِالْقَلْبِ أَوَّلًا وَبِاللِّسَانِ وَلَوْ كَرْهًا، فَيَكُونُ وَصِيَّةً بِالْأَفْضَلِ، فَانْدَفَعَ مَا قَالَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْقَتْلِ وَالتَّحْرِيقِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ دُخُولَ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ: إِنَّ التَّلَفُّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِلْإِكْرَاهِ يُسَمَّى شِرْكًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ اللَّفْظِ لَا يَقُولُونَ إِنَّهُ كُفْرٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] صَرِيحٌ فِي الْحِلِّ (وَإِنْ قُطِّعْتَ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (وَحُرِّقْتَ) : بِالتَّشْدِيدِ لَا غَيْرُ (وَلَا تَتْرُكُ صَلَاةً مَكْتُوبَةً) : فَإِنَّهَا أُمُّ الْعِبَادَاتِ وَنَاهِيَةُ السَّيِّئَاتِ (فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا) : احْتِرَازٌ عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالنَّوْمِ وَالضَّرُورَةِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ، (فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ) : كِنَايَةٌ عَنِ الْكُفْرِ تَغْلِيظًا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهَا الْأَمَانُ مِنَ التَّعَرُّضِ بِالْقَتْلِ أَوِ التَّعْزِيرِ (وَلَا تَشْرَبِ الْخَمْرَ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ (فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ) : وَمُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَبْنَى كُلِّ خَيْرٍ، وَلِذَا سُمِّيَتْ أُمُّ الْخَبَائِثِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، قَالَهُ مِيرَكُ.

[باب المواقيت]

[بَابُ الْمَوَاقِيتِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 581 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ، مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ. وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ. وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنِ الصَّلَاةِ؟ فَإِنَّهَا بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (1) - بَابُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَةِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ جَمْعُ مِيقَاتٍ وَهُوَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، قَالَهُ ابْنُ الْهُمَامِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 581 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ) : وَسُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ، أَوْ لِفِعْلِهَا وَقْتَ الظَّهِيرَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى أَوَّلُ وَقْتِهِ (إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ) : أَيْ: حِينَ مَالَتْ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ الْمُسَمَّى بُلُوغُهَا إِلَيْهِ بِحَالَةِ الِاسْتِوَاءِ إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِهِ لَنَا بِزِيَادَةِ ظَلِّ الِاسْتِوَاءِ إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ (وَكَانَ) : أَيْ: وَصَارَ (ظَلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ) : أَيْ: قَرِيبًا مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مَذْكُورٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْمَصَابِيحِ إِلَّا قَوْلُهُ: (مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ) : اهـ. فَعَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ لَا إِشْكَالَ، وَأَمَّا عَلَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ فَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: قَوْلُهُ مَا لَمْ يَحْضُرْ بَيَانٌ، وَتَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَكَانَ إِلَخْ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالظِّلِّ الظِّلُّ الْحَادِثُ أَوْ مُطْلَقُ الظِّلِّ، وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ أَيْ: وَقْتُهُ وَهُوَ الظِّلُّ الْحَادِثُ لِطُولِ الرَّجُلِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَجَعَلَ الْمُرَادَ بِالظِّلِّ نَفْسَ فَيْءِ الزَّوَالِ، وَادَّعَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي انْتِهَاءِ نَقْصِهِ وَابْتِدَائِهِ فِي الْأَخْذِ بِالزِّيَادَةِ، وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُفْقَدُ الظِّلُّ بِالْكُلِّيَّةِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ كَمَكَّةَ وَصَنْعَاءَ، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ ظِلِّ الِاسْتِوَاءِ بِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَالْفُصُولِ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَفَاصِيلِ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي طُولِ الْبِلَادِ وَعَرْضِهَا، وَكَذَا أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا فَاصِلَةَ بَيْنَ وَقْتَيْهِمَا، وَلَا تَشْتَرِكُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى أَنْ لَا كَرَاهَةَ فِي تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ مِنْ مَوْضِعِ زِيَادَةِ الظِّلِّ بِقَدْرِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَالظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ

ذَلِكَ بِانْطِبَاقِ آخِرِ الظُّهْرِ، وَأَوَّلُ الْعَصْرِ عَلَى الْحِينِ الَّذِي صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَادَى قَدْرَ مَا يَسَعُ أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ، فَلَابُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا الْمَبْحَثِ. (وَوَقْتُ الْعَصْرِ) : أَيْ: يَدْخُلُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ ظِلِّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ، وَيَسْتَمِرُّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ (مَا لَمْ تَصْفَرَّ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَتُكْسَرُ (الشَّمْسُ) : فَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» " أَيْ: مُؤَدَّاةً، وَلِحَدِيثِ غَيْرِهِمَا بِسَنَدٍ رِجَالُهُ فِي مُسْلِمٍ: " وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَغْرُبُ الشَّمْسُ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ وَسَقَطَ قَرْنُهَا الْأَوَّلُ " قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ إِلَى وَقْتِ الِاصْفِرَارِ، فَوَقْتُ جَوَازِهِ إِذَا غَرَبَتْ. (وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ) : ذَكَرَ الصَّلَاةَ فِي مَوَاضِعٍ، وَحَذَفَهَا فِي آخَرَ دَلَالَةً عَلَى جَوَازِ الْإِطْلَاقَيْنِ (مَا لَمْ يَغِبِ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: مَا لَمْ يَسْقُطْ (الشَّفَقُ) : وَهُوَ الْحُمْرَةُ الَّتِي تَلِي الشَّمْسَ بَعْدَ الْغُرُوبِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ يُفْتَى، وَالْبَيَاضُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْحُمْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِلَى سُقُوطِ الشَّفَقِ، فَلَوْ سَقَطَ بَعْضُهُ لَا يَدْخُلْ وَقْتُ الْعِشَاءِ، كَمَا لَا يَدْخُلْ وَقْتُ الْمَغْرِبِ بِغُرُوبِ بَعْضِ الْقُرْصِ، وَتَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ أَقَلُّ كَرَاهَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَأْخِيرِ الْعَصْرِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: مَا لَمْ يَسْقُطِ الشَّفَقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ قَدِيمًا وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ أَيِ: الثَّاقِبِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ جَدِيدًا إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ لَهَا وَقْتٌ وَاحِدٌ مُضَيَّقٌ ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهَا فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَدْرُ وُضُوءٍ وَأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَخَمْسِ رَكْعَاتٍ مُتَوَسِّطَاتٍ اهـ. وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِالْغُرُوبِ إِجْمَاعًا، وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَغْرِبِ وَلَا يُعْتَدَّ بِخِلَافِ الشِّيعَةِ، وَخَبَرُ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ عِنْدَ اشْتِبَاكِ النُّجُومِ بَاطِلٌ، بَلْ صَحَّ: " «لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ حَتَّى تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» "، وَتَأْخِيرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهَا كَمَا فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهِيَةَ تَأْخِيرِهَا عَنْ أَوَّلِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي اخْتِيَارِهِ الْقَوْلَ الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ وَتَصْحِيحِهِ لَهُ. (وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ) : أَيْ: مِنْ عَقِيبِ الشَّفَقِ إِجْمَاعًا (إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ) : وَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: إِنَّ وَقْتَهُ يَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الصُّبْحِ الصَّادِقِ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَيْسَ التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى» " خَصَّ الْحَدِيثَ فِي الصُّبْحِ، فَيَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ فِي الْبَاقِي قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: احْتَجَّ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ فَيَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ: وَالْأَوْسَطُ صِفَةُ اللَّيْلِ أَيِ: اللَّيْلِ الْمُعْتَدِلِ، لَا طَوِيلٌ وَلَا قَصِيرٌ، فَنِصْفُ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَيْلٍ قَصِيرٍ كَثِيرٌ مِنْ نِصْفِهِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى لَيْلٍ طَوِيلٍ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِهِ، وَقِيلَ: الْأَوْسَطُ صِفَةُ النِّصْفِ أَيْ: نِصْفٌ عَدْلٌ مِنَ اللَّيْلِ عُمُومًا يَعْنِي مِنْ كُلِّ نِصْفِهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ إِلَى سِتِّ سَاعَاتٍ فِي أَقْصَرِ اللَّيَالِي، وَهِيَ ثُلُثَا اللَّيْلِ، وَإِلَى سِتِّ سَاعَاتٍ فِي أَطْوَلِ اللَّيَالِي، وَهِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَالْعَكْسُ أَحْرَى وَأَلْيَقُ اهـ. يَعْنِي: احْتِرَازًا عَنِ الْمَشَقَّةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ» " وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ اهـ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: الْمُرَادُ ثُلُثُ اللَّيْلِ فِي الصَّيْفِ، وَنِصْفُهُ فِي الشِّتَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ) : أَيِ: الصُّبْحِ الصَّادِقِ (مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ) : أَيْ: شَيْءٌ مِنْهَا (فَإِذَا طَلَعَتْ) : أَيْ: أَرَادَتِ الطُّلُوعَ (فَأَمْسِكْ عَنِ الصَّلَاةِ) أَيْ: اتْرُكْهَا (فَإِنَّهَا) : أَيِ: الشَّمْسُ (تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ) : أَيْ: جَانِبَيْ رَأْسِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَرْصُدُ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَيَنْتَصِبُ قَائِمًا فِي وَجْهِ الشَّمْسِ مُسْتَقْبِلًا لِمَنْ سَجَدَ لِلشَّمْسِ، لِيَنْقَلِبَ سُجُودُ الْكُفَّارِ لِلشَّمْسِ عِبَادَةً لَهُ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ; لِتَكُونَ صَلَاةُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ فِي غَيْرِ وَقْتِ عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ شَبَّهَ تَسْوِيلَ الشَّيْطَانِ لِعَبَدَةِ الشَّمْسِ عِبَادَتَهَا، وَحَثَّهُ إِيَّاهُمْ عَلَى سُجُودِهَا بِحَمْلِهِ إِيَّاهَا بِرَأْسِهِ إِلَيْهِمْ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَرْنَيْهِ حِزْبَاهُ السَّابِقُونَ وَاللَّاحِقُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقِيلَ: جُنْدَاهُ اللَّذَانِ يَبْعَثُهُمَا حِينَئِذٍ لِإِغْرَاءِ النَّاسِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِذَوَاتِ الْقُرُونِ الَّتِي تُنَاطِحُ الْأَشْيَاءَ ; لِأَنَّ اللَّعِينَ مُنَاطِحٌ لِلْحَقِّ وَمُدَافِعٌ لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَمْ يَقُولَا: فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ. . . إِلَخْ.

582 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ: صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ - فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ. فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ: " فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ " فَأَبْرَدَ بِهَا - فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا - وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ - أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ ". فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 582 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : أَيْ: ابْنِ الْحَصِيبِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي أَسْلَمَ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَكَانَ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، خَرَجَ إِلَى خُرَاسَانَ غَازِيًا، وَمَاتَ بِمَرْوٍ، وَكَانَ لَهُ هُنَاكَ عَقِبٌ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ) : أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ أَيِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ أَوِ الْعَهْدُ (فَقَالَ لَهُ: صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ " - يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ -) : أَيِ: الْمَعْلُومِينَ لِتَعْلَمَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا أَوَائِلَهَا وَأَوَاخِرَهَا، وَوَقْتَ الْفَضِيلَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَغَيْرَهُمَا بِالْمُشَاهَدَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنَ السَّمَاعِ (فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ) : أَيْ: عَنْ حَدِّ الِاسْتِوَاءِ (أَمَرَ بِلَالًا) : أَيْ: بِالْأَذَانِ (فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَمَرَهُ) : أَيْ: بِالْإِقَامَةِ وَعَطَفَ بِثُمَّ ; لِأَنَّ فِيهِ قَلِيلَ مُهْلَةٍ بِانْتِظَارِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَفِعْلِهِمُ السُّنَنَ (فَأَقَامَ الظُّهْرَ) : بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: لِلظُّهْرِ (ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ) : أَيْ: تَلَفَّظَ بِكَلِمَاتِ الْإِقَامَةِ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَتَرَكَ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِظُهُورِهِ، وَكَذَا الْأَذَانِ فِيهِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ لِلْوُضُوحِ (وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ: صَلَّى فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ (بَيْضَاءُ) : بِالرَّفْعِ صِفَةٌ أَوْ خَبَرٌ آخَرٌ أَيْ: لَمْ تَخْتَلِطْ بِهَا صُفْرَةٌ (نَقِيَّةٌ) : أَيْ: طَاهِرَةٌ مِنَ الِاصْفِرَارِ وَصَافِيَةٌ مِنْهُ (ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ) : أَيْ: لِصَلَاتِهِ (حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ) : أَيْ: تَحَقُّقِ غَيْبُوبَتِهَا (ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ) : أَيْ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ) : أَيِ: الصُّبْحُ الصَّادِقُ (فَلَمَّا أَنْ) : أَنْ زَائِدَةٌ (كَانَ) : تَامَّةٌ أَيْ: وُجِدَ (الْيَوْمُ الثَّانِي) : أَيْ: أَكْثَرُهُ (أَمَرَهُ) : جَوَابُ لَمَّا أَيْ: أَمَرَهُ بِالْإِبْرَادِ (فَأَبْرِدْ بِالظُّهْرِ) : عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ أَيْ: فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ بِالظُّهْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَأَبْرَدَ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي أَيْ: فَأَمَرَهُ بِالْإِبْرَادِ ; فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِأَمْرِهِ وَتَأْكِيدًا (فَأَبْرَدَ) : أَيْ: بِلَالٌ (بِهَا) : أَيْ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ (فَأَنْعَمَ) : أَيْ: بَالَغَ (أَنْ يُبْرِدَ بِهَا) : يُقَالُ: أَحْسَنَ إِلَى فُلَانٍ وَأَنْعَمَ، أَيْ: زَادَ فِي الْإِحْسَانِ وَبَالَغَ؟ وَالْمَعْنَى: زَادَ الْإِبْرَادَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَبَالَغَ فِي الْإِبْرَادِ عَلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْإِبْرَادِ، حَتَّى تَمَّ انْكِسَارُ وَهَجِ الْحَرِّ أَيْ: شِدَّةُ حَرِّ الظُّهْرِ. فِي الْفَائِقِ: حَقِيقَةُ الْإِبْرَادِ الدُّخُولُ فِي الْبَرْدِ كَقَوْلِكَ: أَظْهَرْنَا، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَدْخَلَ الصَّلَاةَ فِي الْبَرْدِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْإِبْرَادُ أَنْ يَتَفَيَّأَ الْأَفْيَاءَ، وَيَنْكَسِرَ وَهَجُ الْحَرِّ، فَهُوَ بَرْدٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَرِّ الظَّهِيرَةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ - أَخَّرَهَا) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: صَلَاةَ الْعَصْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي (فَوْقَ الَّذِي) : أَيِ التَّأْخِيرِ الَّذِي (كَانَ) : أَيْ: وُجِدَ (فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ) : بِأَنْ أَوْقَعَهَا حِينَ صَارَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ، كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَاتُ الْأُخَرُ، أَوِ التَّقْدِيرُ: كَانَ أَخَّرَهَا بِالْأَمْسِ يُرِيدُ: أَنَّ صَلَاةَ

الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً عَنِ الظُّهْرِ، لَا أَنَّهَا كَانَتْ مُؤَخَّرَةً عَنْ وَقْتِهَا، (وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ) : يَعْنِي: صَلَّاهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي تَضْيِيقِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ (وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ) : وَلَعَلَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْهَا إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ وَقْتُ الْجَوَازِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلِحُصُولِ الْحَرَجِ بِسَهَرِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَكَرَاهَةُ النَّوْمِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، (وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا) : أَيْ: أَوْقَعَهَا فِي وَقْتِ الْإِسْفَارِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ مِنْ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا أَضَاءَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَخَّرَهَا إِلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَكَتَبَ تَحْتَهُ: وَفِيهِ يَعْنِي: وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الْفَجْرِ الْأَوَّلِ. (ثُمَّ قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ " فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا) : أَيِ: السَّائِلُ أَنَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ أَنَا السَّائِلُ، أَوْ أَنَا هَاهُنَا، إِذِ الْمُرَادُ فِي الْأَوَّلِ أَيْنَ السَّائِلُ، وَمَنْ هُوَ فَيُطَابِقُ الْجَوَابُ السُّؤَالَ وَهُوَ أَظْهَرُ، (يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " وَقْتُ صَلَاتِكُمْ ") : وَلَعَلَّهُ جَمَعَ الضَّمِيرَ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ (بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ) : أَيْ: هَذَا الْوَقْتُ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي لَا إِفْرَاطَ فِيهِ تَعْجِيلًا، وَلَا تَفْرِيطَ فِيهِ تَأْخِيرًا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ بَيَّنْتُ مِمَّا فَعَلْتُ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ، وَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِآخِرِهِ هُنَا آخِرُ الْوَقْتِ فِي الِاخْتِيَارِ لَا الْجَوَازِ ; إِذْ يَجُوزُ صَلَاةُ الظُّهْرِ بَعْدَ الْإِبْرَادِ التَّامِّ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَيَجُوزُ الْعَصْرُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّأْخِيرِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ، وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ فِي قَوْلٍ، وَيَجُوزُ صَلَاةُ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ بَعْدَ الْإِسْفَارِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْمَغْرِبِ نَظَرٌ إِذْ صَلَّاهَا فِي آخِرِ وَقْتِ الْجَوَازِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 583 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَتْ قَدْرَ الشِّرَاكِ، وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَصَلَّى بِيَ الْعَشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى بِيَ الْفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ ; صَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَيْهِ، وَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَصَلَّى بِيَ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَصَلَّى بِيَ الْفَجْرَ فَأَسَفَرَ " ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 583 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّنِي ") : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ (جِبْرِيلُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا مَعَ الْيَاءِ، وَجِبْرِئِيلُ بِالْهَمْزَةِ وَزِيَادَةِ الْبَاءِ أَيْ: صَارَ إِمَامًا لِي (عِنْدَ الْبَيْتِ) : أَيِ: الْكَعْبَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ: عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَفِي أُخْرَى فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ عِنْدَ بَابِ الْبَيْتِ (مَرَّتَيْنِ) : أَيْ: فِي يَوْمَيْنِ لِيُعَرِّفَنِي كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتِهَا. (فَصَلَّى بِيَ) : الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ وَالْمَعِيَّةِ أَيْ: صَلَّى مَعِي (الظُّهْرَ) : قِيلَ ابْتَدَأَ بِهَا مَعَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَانَ لَيْلًا، وَقِيَاسُهُ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ وَجَبَتِ الصُّبْحُ ; لِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصُّبْحِ فِيهِ خَفَاءٌ، فَلَوْ وَقَعَ فِيهِ الْبَيَانُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الظُّهُورِ مَا فِي وُقُوعِهِ وَقْتَ الظُّهْرِ، مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ دِينَهُ سَيَظْهَرُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، كَمَا أَنَّ الظُّهْرَ ظَاهِرَةٌ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، لَكِنَّ أَدَاءَ الْوُجُوبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى عِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَقَعْ إِلَّا فِي الظُّهْرِ فَهِيَ الَّتِي أَوَّلُ صَلَاةٍ وَجَبَتْ (حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ وَكَانَتْ) : الضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْفَيْءُ ; لِأَنَّهُ بِسَبَبِهَا، فَفِيهِ تَجَوُّزٌ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ، وَكَانَ الْفَيْءُ قَدْرَ الشِّرَاكِ، وَالْفَيْءُ هُوَ الظِّلُّ، وَلَا يُقَالُ: إِلَّا لِلرَّاجِعِ مِنْهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الظِّلُّ مَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، وَالْفَيْءُ مَا يَنْسَخُ الشَّمْسَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ نَقْلًا عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَقَالَ: إِنَّهُ كَلَامٌ نَفِيسٌ، الظِّلُّ غَيْرُ الْفَيْءِ إِذِ الظِّلُّ يَشْمَلُ مَا فِي الْغُدْوَةِ وَالْعَشِيِّ، وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ: فُلَانٌ فِي ظِلِّكَ وَالْفَيْءُ يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فَاءَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ أَيْ: رَجَعَ، وَالْفَيْءُ: الرُّجُوعُ، وَعُلِمَ مِنْ أَنَّ الظِّلَّ السَّتْرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدَمِيٍّ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَهُ نَفْعٌ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا، فَمَا أَلِفَهُ النَّاسُ مِنْ أَنَّهُ شَيْءٌ تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي أَذْهَانِهِمْ أَنَّهُ عَدَمٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْجَنَّةِ ظِلًّا كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا شَمْسَ فِيهَا أَيْ كَانَ فَيْؤُهَا (قَدْرَ الشِّرَاكِ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ وَكَانَ الْفَيْءُ أَيِ: الظِّلُّ الرَّاجِعُ مِنَ النُّقْصَانِ إِلَى

الزِّيَادَةِ، وَهُوَ بَعْدَ الزَّوَالِ مِثْلُ الشِّرَاكِ أَيْ: مِثْلُ شِرَاكِ النَّعْلِ، وَهُوَ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ الَّذِي عَلَى وَجْهِهَا، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ ; لِأَنَّ زَوَالَ الشَّمْسِ لَا يُتَبَيَّنُ إِلَّا بِأَقَلِّ مِمَّا يُرَى مِنَ الظِّلِّ فِي جَانِبِ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ حِينَئِذٍ بِمَكَّةَ هَذَا الْقَدْرُ، وَالظِّلُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، فَكُلُّ بَلَدٍ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَمُعَدَّلِ النَّهَارِ كَانَ الظِّلُّ فِيهِ أَقْصَرَ، وَكُلُّ بَلَدٍ كَانَ أَبْعَدَ عَنْهُمَا إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ كَانَ فِيهِ أَطْوَلَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَكَّةَ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا الظِّلُّ، فَإِذَا كَانَ أَطْوَلُ النَّهَارِ وَاسْتَوَتِ الشَّمْسُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُرَ لِشَيْءٍ مِنْ جَوَانِبِهَا الظِّلُّ. اهـ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ حِينَ يَأْخُذُ الظِّلُّ فِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ (وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ) : أَيْ: بَعْدَ ظِلِّ الزَّوَالِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَعْنَاهُ زَادَ ظَلُّ كُلِّ شَيْءٍ عَنْ مَثَلِهِ أَدْنَى زِيَادَةً وَفِيهِ بَحْثٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظِّلِّ الْحَادِثُ (وَصَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) : أَيْ: دَخَلَ وَقْتُ إِفْطَارِهِ بِأَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ وَدَخَلَ اللَّيْلُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَفِي رِوَايَةٍ: " حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ " وَهُوَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، إِذْ بِوُجُوبِهَا يَعْنِي سُقُوطَهَا وَغَيْبُوبَتَهَا يَدْخُلُ وَقْتُ إِفْطَارِ الصَّائِمِ مَعَ الْإِيمَاءِ بِأَنَّ (إِفْطَارَ الصَّائِمِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ (وَصَلَّى بِيَ الْعَشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ) : أَيِ: الْأَحْمَرُ عَلَى الْأَشْهَرِ (وَصَلَّى بِيَ الْفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُّ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ) : يَعْنِي: أَوَّلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] (فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ) : أَيْ: فِي الْيَوْمِ الثَّانِي (صَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ) : أَيْ: ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ (مِثْلَهُ) : أَيْ: قَرِيبًا مِنْهُ أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْفَيْءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بَعْدَ ظِلِّ الزَّوَالِ، فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَوَافَقَ هَذَا قَوْلَ الْمُظْهِرِ عَلَى سَبِيلِ تَوَارُدِ الْخَاطِرِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ تَأْوِيلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ. اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، كَوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ. أَيْ: فَرَغَ مِنَ الظُّهْرِ حِينَئِذٍ كَمَا شَرَعَ فِي الْعَصْرِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، حِينَئِذٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهِ يَنْدَفِعُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا زَعَمَهُ جَمَاعَةٌ، وَيَدُلُّ لَهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ السَّابِقُ: وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ عَدَمُ إِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَجَبَ تَقْدِيمُ خَبَرِ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّهُ أَصَحُّ مَعَ كَوْنِهِ مُتَأَخِّرًا (وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ) : أَيْ ظِلُّ الشَّيْءِ (مِثْلَيْهِ) : أَيْ: غَيْرُ ظِلِّ الِاسْتِوَاءِ (وَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَصَلَّى بِيَ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) : أَيْ: مَائِلًا أَوْ مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِلَى بِمَعْنَى " مَعَ " وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلْثُ اللَّيْلِ اهـ. أَوْ إِلَى بِمَعْنَى " فِي " نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87] (وَصَلَّى بِيَ الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ) : أَيْ: أَضَاءَ بِهِ، أَوْ دَخَلَ فِي وَقْتِ الْإِسْفَارِ (ثُمَّ الْتَفَتَ) : أَيْ: نَظَرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إِلَيَّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْإِسْفَارِ فَقَطْ (وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ) : إِذِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا الْمُرَاعُونَ لِلظِّلَالِ، الْمُنْتَظِرُونَ لِلصَّلَوَاتِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْعِشَاءِ، إِذْ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْخَمْسِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِنَا، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فَكَانَ مَا عَدَا الْعِشَاءُ مُفَرَّقًا فِيهِمْ.

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ لَيْلَةً، حَتَّى ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: " اعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَإِنَّكُمْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ» ". وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ آدَمَ لَمَّا تِيبَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفَجْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَارَتِ الصُّبْحَ، وَفُدِيَ إِسْحَاقُ عِنْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَصَارَتِ الظُّهْرَ، وَبُعِثَ عُزَيْرٌ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ: يَوْمًا فَرَأَى الشَّمْسَ فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَصَارَتِ الْعَصْرَ، وَغُفِرَ لِدَاوُدَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ فَقَامَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَجُهِدَ فِي الثَّالِثَةِ أَيْ: تَعِبَ فِيهَا عَنِ الْإِتْيَانِ بِالرَّابِعَةِ لِشِدَّةٍ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَى مَا اقْتَرَفَهُ، مِمَّا هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى بِهِ، فَصَارَتِ الْمَغْرِبُ ثَلَاثًا، وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخَرَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهَذَا وَمَا قَرَّرْتُهُ فِي (هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ) ، يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ تَوْفِيقًا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْعِشَاءِ: أَنَّ الْعِشَاءَ كَانَتِ الرُّسُلُ تُصَلِّيهَا نَافِلَةً لَهُمْ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَى أُمَمِهِمْ كَالتَّهَجُّدِ، فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَى نَبِيِّنَا وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا، أَوْ يُجْعَلْ هَذَا إِشَارَةً إِلَى وَقْتِ الْإِسْفَارِ، فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الدَّارِجَةِ اهـ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الْقَاضِي، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ لَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ نَفْيُهُ عَنِ الْأُمَمِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي دَالٌّ عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ مَعَ أُمَّتِهِ، فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَّوْهَا، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مَا ذُكِرَ فِيهِ أَوَّلُ مَنْ شَرَّعَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ شَرَّعَ صَلَاةً تَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّوْزِيعِ الَّذِي تَوَهَّمَهُ مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ الطَّحَاوِيِّ لَا تُقَاوِمُ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ الْمُصَرِّحِ فِي الْمَقْصُودِ (وَالْوَقْتُ) : أَيِ: السَّمْحُ الَّذِي لَا حَرَجَ فِيهِ (مَا بَيْنَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فِيمَا بَيْنَ (هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ) : فَيَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِهِ وَوَسَطِهِ وَآخِرِهِ، وَقَالَ مِيرَكُ: مَعْنَى زَوَالِ الشَّمْسِ هُوَ أَنْ يَكُونَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْمَغْرِبِ أَيْ: جِهَتِهِ كَثِيرًا، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى أَنْ وَقَفَ لَمْحَةً، فَإِذَا زَالَ الظِّلُّ بَعْدَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ، فَإِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ بَعْدَ ظِلِّ الزَّوَالِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَقَوْلُهُ: أَوَّلًا صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ يُرَادُ مِنْهُ بَعْدَ ظِلِّ الزَّوَالِ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا صَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَعْدَ ظِلِّ الزَّوَالِ، فَلَا يَكُونَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِلْعَهْدِ أَيْ: أَوَّلُ وَقْتٍ صَلَّيْتَ وَآخَرُ وَقْتٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا هُوَ الْوَقْتُ كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ اهـ. وَقَوْلُهُ: وَقَفَ لَمْحَةً لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَقْفَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَزَادَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَلْفَ جِبْرِيلَ وَالنَّاسُ أَيِ: الْمُسْلِمُونَ حِينَئِذٍ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ» ، يَعْنِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِمْ لِيُبَلِّغَهُمْ أَفْعَالَ جِبْرِيلَ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُقْتَدُونَ بِجِبْرِيلَ لَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَصَلَّى بِهِ جِبْرِيلُ، وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، وَظَاهِرُهُ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْمُقْتَدِي ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُشَاهِدُوا جِبْرِيلَ وَإِلَّا لَنُقِلَ ذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ دَفْعُهُ بِأَنَّ إِمَامَةَ جِبْرِيلَ لَمْ تَكُنْ عَلَى حَقِيقَتِهِ، بَلْ عَلَى النِّسْبَةِ الْمَجَازِيَّةِ مِنْ دَلَالَتِهِ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَكِمِّيَّتِهَا كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْمُعَلِّمِينَ، حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا فِي الصَّلَاةِ وَيُعَلِّمُونَ غَيْرَهُمْ بِالْإِشَارَةِ الْقَوْلِيَّةِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 584 - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: «أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ قَدْ نَزَلَ فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ. فَقَالَ: سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ " يَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 584 - (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) : أَيِ: الزُّهْرِيُّ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) : خَامِسَ الْخُلَفَاءِ، وَلَمْ يَحْسُبِ الْحَسَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ مِنْهُمْ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ مُدَّتَهُ لَمْ تَطُلْ وَمِلْكَهُ لَمْ يَتِمَّ (أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا) : أَيْ: تَأْخِيرًا يَسِيرًا، أَوْ شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الزَّمَانِ، وَلَعَلَّهُ أَخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ الْمُخْتَارِ لِيَكُونَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ بِرِفْقٍ عَلَى طَرِيقِ الْإِخْبَارِ (فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ) : أَيِ: ابْنُ الزُّبَيْرِ (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْمَالِكِيُّ: أَمَا حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ. بِمَنْزِلَةِ " أَلَا " وَيَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى " حَقًّا " وَلَا يُشَارِكُهَا أَلَا فِي ذَلِكَ (إِنَّ جِبْرِيلَ قَدْ نَزَلَ فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ ضُبِطَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ مُقَيَّدٌ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، فَبِالْفَتْحِ ظَرْفٌ، وَبِالْكَسْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ: أَعْنِي إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفُ يَعْنِي كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: " أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ " بِرَفْعِ أَوَّلُ وَنَصْبِ الْقَلَمَ، كَمَا قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ. قَالَ الْمَالِكِيُّ: هُوَ مِنَ الْمَعَارِفِ الْوَاقِعَةِ حَالًا كَأَرْسَلَهَا الْعِرَاكُ. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: سَيُوَضِّحُ مَعْنَى الْكَسْرِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " فَأَمَّنِي " (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اعْلَمْ: بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مِنَ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: مِنَ الْإِعْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمُ بِصِيغَةِ التَّكَلُّمِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ (مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةَ) : قِيلَ: هَذَا الْقَوْلُ تَنْبِيهٌ مِنْهُ عَلَى إِنْكَارِهِ إِيَّاهُ، ثُمَّ تَصَدُّرُهُ بَمَا الَّتِي هِيَ مِنْ طَلَائِعِ الْقَسَمِ، أَيْ: تَأَمَّلْ مَا تَقُولُ، وَعَلَامَ تَحْلِفُ، وَتُنْكِرُ. كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَكَأَنَّهَا اسْتِبْعَادٌ لِقَوْلِ عُرْوَةَ: (صَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، مَعَ أَنَّ الْأَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ هُوَ النَّبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِبْعَادٌ لِإِخْبَارِ عُرْوَةَ بِنُزُولِ جِبْرِيلَ بِدُونِ الْإِسْنَادِ، فَكَأَنَّهُ غَلَّظَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مَعَ عَظِيمِ جَلَالَتِهِ إِشَارَةً إِلَى مَزِيدِ الِاحْتِيَاطِ فِي الرِّوَايَةِ، لِئَلَّا يَقَعَ فِي مَحْذُورِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ عَنْ أَبِيهِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قِلَّةِ رِوَايَتِهِ لِلْحَدِيثِ مَعَ كَوْنِهِ مُلَازِمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا وَحَضَرًا فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ; فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ التَّحْدِيثَ مَعَ امْتِلَائِهِ حِفْظًا إِلَّا خَشْيَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي وَعِيدِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا قَيْدُ التَّعَمُّدِ، فَكَأَنَّهَا الَّتِي بَلَغَتْهُ أَوْ رَاعَاهَا احْتِيَاطًا، فَكَذَلِكَ عُمَرُ احْتَاطَ بِقَوْلِهِ لِعُرْوَةَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ سَيِّدَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَأَفْضَلَهُمْ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَقَالَ) : أَيْ: عُرْوَةُ (سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى إِيرَادُ عُرْوَةَ الْحَدِيثَ: إِنِّي كَيْفَ لَا أَدْرِي مَا أَقُولُ، وَأَنَا صَحِبْتُهُ، وَسَمِعْتُ مِمَّنْ صَحِبَ، وَسَمِعَ مِمَّنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَعَرِفْتُ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتَهَا وَأَرْكَانَهَا، يُقَالُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ. يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، فَأَبْهَمَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَبَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُنْكِرْ بَيَانَ الْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا اسْتَعْظَمَ إِمَامَةَ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. وَهُوَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَوْقَاتِ تَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَكَيْفَ تَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. (يَحْسُبُ) : بِضَمِّ السِّينِ مَعَ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَقِيلَ: بِالنُّونِ (بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ بِالنُّونِ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَقُولُ، أَيْ: يَقُولُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَنَحْنُ نَحْسُبُ بِعَقْدِ أَصَابِعِهِ، وَهَذَا مِمَّا يَشْهَدُ بِإِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ أَحْوَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ مِيرَكُ: لَكِنْ صَحَّ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالْمِشْكَاةِ: يَحْسُبُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَاعِلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: يَقُولُ ذَلِكَ حَالَ كَوْنِهِ يَحْسُبُ تِلْكَ الْمَرَّاتِ بِعَقْدِ أَصَابِعِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا أَظْهَرُ لَوْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

585 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: إِنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ ; مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ. ثُمَّ كَتَبَ: أَنْ صَلُّوا الظُّهْرَ إِنْ كَانَ الْفَيْءُ ذِرَاعًا، إِلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ أَحَدِكُمْ مِثْلَهُ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ فَرْسَخَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءَ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ، وَالصُّبْحَ وَالنُّجُومُ بَادِيَةٌ مُشْتَبِكَةٌ. رَوَاهُ مَالِكٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 585 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ) : جَمْعِ عَامِلٍ أَيْ: أُمَرَائِهِ (إِنَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا (أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي) : أَيْ: فِي اعْتِقَادِي الْمُطَابِقِ بِالصَّوَابِ (الصَّلَاةُ) : بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيِ: الْأَمْرُ بِهَا وَالسَّعْيُ فِي إِظْهَارِهَا، وَدُعَاءُ النَّاسِ إِلَيْهَا (مَنْ حَفِظَهَا) : بِأَنْ أَدَّى شَرَائِطَهَا وَأَرْكَانَهَا (وَحَافَظَ عَلَيْهَا) : أَيْ: دَاوَمَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُبْطِلْهَا بِالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَالْغُرُورِ وَالْعَجَبِ (حَفِظَ دِينَهُ) : أَيْ: بَقِيَّةَ أُمُورِ دِينِهِ ; لِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ؛ وَلِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ؛ وَلِأَنَّهَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْمُطِيعِ وَالْعَاصِي، وَلِأَنَّهَا نَجْوَى بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَهِيَ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْ لَا يَسْهُوَ عَنْهَا، وَيُؤَدِّيهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَيُتِمُّ أَرْكَانَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، وَيُؤَكِّدُ نَفْسَهُ بِالِاهْتِمَامِ بِهَا وَالتَّكْرِيرِ. بِمَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ وَالدَّوَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] (وَمَنْ ضَيَّعَهَا) : أَيِ: الصَّلَاةَ بِتَرْكِهَا رَأْسًا أَوْ بِتَرْكِ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِيهَا (فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا: أَيْ سِوَى الصَّلَاةِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ (أَضْيَعُ) : أَيْ: أَكْثَرُ تَضْيِيعًا ; لِأَنَّهَا أُمُّ الْعِبَادَاتِ وَرَأْسُ الطَّاعَاتِ وَمَاحِيَةُ السَّيِّئَاتِ (ثُمَّ كَتَبَ) : أَيْ عُمَرُ (أَنْ) : أَيْ: بِأَنْ (صَلُّوا الظُّهْرَ إِنْ كَانَ الْفَيْءُ ذِرَاعًا) : أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ أَيْ: وَقْتُ كَوْنِ الْفَيْءِ قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمَحَلٍّ يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مِقْدَارَ الْفَيْءِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ (إِلَى أَنْ يَكُونَ) : أَيْ: يَسْتَمِرُّ وَقْتُهَا إِلَى أَنْ يَصِيرَ (ظِلُّ أَحَدِكُمْ مِثْلَهُ) : أَيْ: سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ (وَالْعَصْرَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الظُّهْرِ (وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ (قَدْرُ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ) : ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: مُرْتَفِعَةٌ أَيْ: ارْتِفَاعُهَا مِقْدَارُ أَنْ يَسِيرَ الرَّاكِبُ (فَرْسَخَيْنِ) : إِلَى الْمَغْرِبِ (أَوْ ثَلَاثَةً) : أَيْ: ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ. وَالْفَرْسَخُ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ خُطْوَةً، وَثُلُثُهُ مِيلٌ (قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَالْمَغْرِبَ) : بِالنَّصْبِ (إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءَ) : بِالنَّصْبِ (إِذَا غَابَ الشَّفَقُ) : أَيِ: الْأَحْمَرُ وَيَسْتَمِرُّ (إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، فَمَنْ نَامَ) : أَيْ: قَبْلَ الْعِشَاءِ كَذَا فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَمَنْ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا سِيَّمَا الْعِشَاءَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا بِأَنْ سَهَا عَنْهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا (فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ) : دَعَا بِنَفْيِ الِاسْتِرَاحَةِ عَلَى مَنْ يَسْهُو عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَيَنَامُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (فَمَنْ نَامَ) : يَعْنِى: تَكَاسُلًا أَوْ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ) : التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّائِمِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي هَذَا تَحْرِيمُ النَّوْمِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى التَّفْصِيلِ هُوَ أَنَّهُ تَارَةً يَنَامُ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَتَارَةً بَعْدَ دُخُولِهِ، فَفِي الثَّانِي إِنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ نَوْمَهُ يَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّوْمُ إِلَّا إِنْ وَثِقَ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ يُوقِظُهُ بِحَيْثُ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ كَامِلَةً فِي الْوَقْتِ، وَكَذَا فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا حُرْمَةَ فِيهِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يُكَلَّفْ بِهَا بَعْدُ اهـ. وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الثَّانِي وَهُوَ الْمُقْتَضِي لِقَوَاعِدِنَا. (وَالصُّبْحَ) : بِالنُّصْبِ (وَالنُّجُومُ) : بِالرَّفْعِ (بَادِيَةٌ) : بِالْيَاءِ أَيْ: ظَاهِرَةٌ (مُشْتَبِكَةٌ) : أَيْ: مُخْتَلِطَةٌ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

586 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ قَدْرُ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ إِلَى خَمْسَةِ أَقْدَامٍ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ إِلَى سَبْعَةِ أَقْدَامٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 586 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ قَدْرُ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوْ بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي (فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ) : أَيْ: مِنَ الْفَيْءِ (إِلَى خَمْسَةِ أَقْدَامٍ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ إِلَى سَبْعَةِ أَقْدَامٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا أَمْرٌ مُخْتَلِفٌ فِي الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي طُولِ الظِّلِّ وَقِصَرِهِ هُوَ زِيَادَةُ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ فِي السَّمَاءِ وَانْحِطَاطِهَا، فَكُلَّمَا كَانَتْ أَعْلَى وَإِلَى مُحَاذَاةِ الرُّءُوسِ أَقْرَبَ كَانَ الظِّلُّ أَقْصَرَ، وَبِالْعَكْسِ. وَلِذَلِكَ ظِلَالُ الشِّتَاءِ أَبَدًا أَطْوَلُ مِنْ ظِلَالِ الصَّيْفِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَكَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَهُمَا مِنَ الْإِقْلِيمِ الثَّانِي، فَيَذْكُرُونَ أَنَّ الظِّلَّ فِي أَوَّلِ الصَّيْفِ فِي شَهْرِ آذَارَ ثَلَاثَةُ أَقْدَامٍ وَشَيْءٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْوَقْتِ الْمَعْهُودِ، فَيَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ، وَأَمَّا الظِّلُّ فِي الشِّتَاءِ فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي تِشْرِينَ الْأَوَّلِ خَمْسَةُ أَقْدَامٍ أَوْ خَمْسَةٌ وَشَيْءٌ، وَفِي الْكَانُونِ سَبْعَةُ أَقْدَامٍ أَوْ سَبْعَةٌ وَشَيْءٌ، فَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُنَزَّلٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ دُونَ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، وَالْبُلْدَانِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْإِقْلِيمِ الثَّانِي. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ: اضْطَرَبُوا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: وَكَانَ يُؤَخِّرُ فِي الصَّيْفِ إِلَى أَنْ يَبْقَى قَدْرُ الظِّلِّ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، وَلِلنَّسَائِيِّ: فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي الصَّيْفِ بَعْدَ نِصْفِ الْوَقْتِ، وَفِي الشِّتَاءِ أَوَّلَهُ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ حَدُّ الْإِبْرَادِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِلْإِبْرَادِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَعَدَّى فِي الْإِبْرَادِ عَنْ نِصْفِ الْوَقْتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[باب تعجيل الصلوات]

[بَابُ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 587 - عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: «كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْر َ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْفَيْءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ وَيَقْرَأُ بِالسِتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَلَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (2) بَابُ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ وَفَى نُسْخَةٍ: الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا جِنْسُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، يَعْنِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّلَاةِ تَعْجِيلُهَا وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيِّرَاتِ} [البقرة: 148] إِلَّا مَا خَصَّهُ الشَّارِعُ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 587 - (عَنْ سَيَّارِ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ (بْنِ سَلَامَةَ) : بَصْرِيٌّ تَمِيمِيٌّ، مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا الْعَالِيَةَ، وَسَمِعَ مِنْهُ عَوْفٌ، وَشُعْبَةُ (قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (الْأَسْلَمِيِّ) : هُوَ نَضْلَةُ بْنُ عُبِيدٍ (فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟) : أَيِ: الْمَفْرُوضَةَ بِاعْتِبَارِ أَوْقَاتِهَا (فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ) : فِي النِّهَايَةِ: الْهَجْرُ وَالْهَاجِرُ اشْتِدَادُ الْحَرِّ فِي نِصْفِ النَّهَارِ (الَّتِي تَدْعُونَهَا) : أَيْ: تُسَمُّونَهَا. فِي الْفَائِقِ: أَنَّثَ صِفَةَ الْهَجِيرِ أَعْنِي: الْمَوْصُولَ ; لِكَوْنِ الصَّلَاةِ مُرَادَةً، وَقِيلَ: أَنَّثَهَا؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْهَاجِرَةِ أَوِ التَّقْدِيرُ: صَلَاةُ الْهَجِيرِ، وَقِيلَ: الْهَجِيرُ هُوَ صَلَاةُ الظُّهْرِ فِي لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ، سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي الْهَاجِرَةِ (الْأُولَى) : فِي النِّهَايَةِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ وَصُلِّيَتْ. وَقَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةِ النَّهَارِ يَعْنِي الْعُرْفِيَّ (حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ مِنْ: دَحَضَتْ رَحْلُهُ إِذَا زَلِقَتْ، أَيْ تَزُولُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ إِلَى جِهَةِ

الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا انْحَطَّتْ لِلزَّوَالِ كَأَنَّهَا دَحَضَتْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: غَرَضُ الرَّاوِي أَنْ يِعْرِفَ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ الْهَجِيرَ وَالْأُولَى وَالظُّهْرَ وَاحِدٌ (وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ) : أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ (أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ) : أَيْ: مَنْزِلِهِ (فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ) : صِفَةٌ لِرَحْلِهِ، وَلَيْسَ بِظَرْفٍ لِلْفِعْلِ. أَيِ: الْكَائِنُ فِي أَبْعَدِ الْمَدِينَةِ وَآخِرِهَا (وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ: أَيْ: صَافِيَةُ اللَّوْنِ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالِاصْفِرَارِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، فَكَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ. قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: حَيَاةُ الشَّمْسِ مُسْتَعَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ لَوْنِهَا وَقُوَّةِ ضَوْئِهَا وَشِدَّةِ حَرِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْمَغِيبَ مَوْتَهَا (وَنَسِيتُ) : أَيْ: قَالَ سَيَّارُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: قَالَ عَوْفٌ، قِيلَ هُوَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ وَهُوَ سَهْوٌ، إِذْ هُوَ رَاوٍ عَنْ سَيَّارٍ (مَا قَالَ) : أَيْ: أَبُو بَرْزَةَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ، وَعَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ سَيَّارًا (فِي الْمَغْرِبِ) : أَيْ: فِي حَقِّ صَلَاتِهِ (وَكَانَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى كَانَ يُصَلِّي (يَسْتَحِبُّ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ (أَنْ يُؤَخِّرَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَجْهُولِ (الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ) : قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَتَمَةُ هِيَ الظُّلْمَةُ الَّتِي بَعُدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَائِدَةُ الْوَصْفِ هَنَا نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي الْأَوَّلِ، وَلِمَا يَأْتِي أَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهَا إِلَّا بِالْعَتَمَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْعِشَاءِ عَتَمَةً الَّتِي هِيَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، أَلَا إِنَّهَا الْعِشَاءُ، الْحَدِيثَ. وَتَسْمِيَتُهَا عَتَمَةً فِي خَبَرِ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْحِ وَالْعَتَمَةِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ النَّهْيَ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورِ لِلتَّنْزِيهِ، أَوْ أَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِشَاءَ، وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ لَهَا الْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ، وَإِنْكَارُ الْأَصْمَعِيِّ لَهُ غَلَطٌ فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِهِ اهـ. وَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. (وَكَانَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا) : لِخَوْفِ الْفَوْتِ (وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) : أَيِ: التَّحَدُّثَ بِكَلَامِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ خَتْمُ عَمَلِهِ عَلَى عِبَادَةٍ، وَآخِرُهُ ذِكْرُ اللَّهِ، فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ، أَكْثَرُهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا، وَبَعْضُهُمْ رَخَّصَ فِي رَمَضَانَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا غَلَبَهُ النَّوْمُ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ إِذَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَقَدْ كَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. قَالَ: لَأَنْ أَنَامَ عَنِ الْعِشَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ اللَّغْوِ بَعْدَهَا، وَرَخَّصَ بَعْضُهُمُ التَّحَدُّثَ فِي الْعِلْمِ، وَفِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْحَوَائِجِ وَمَعَ الْأَهْلِ وَالضَّيْفِ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَرَضَ بَيْتَ شِعْرٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ» " وَخُصَّ ذَلِكَ بِالشِّعْرِ الْمَذْمُومِ، وَفِي خَبَرِ أَحْمَدَ: «لَا سَمَرَ إِلَّا لِمُصَلٍّ وَمُسَافِرٍ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنَ الْمُحَرَّمِ قِرَاءَةُ نَحْوِ: سِيرَةِ الْبَطَّالِ، وَعَنْتَرَةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فِي خَيْرٍ أَوْ لِعُذْرٍ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ (وَكَانَ يَنْفَتِلُ) : أَيْ: يَنْصَرِفُ أَوْ يَلْتَفِتُ إِلَى الْمَأْمُومِينَ (مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ) : أَيِ: الصُّبْحِ (حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ) : أَيْ: مُجَالِسَهُ بِجَنْبِهِ (وَيَقْرَأُ) : أَيْ: فِي الصُّبْحِ (بِالسِتِّينَ) : أَيْ: آيَةً، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ كَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَرُبَّمَا يَزِيدُ (إِلَى الْمِائَةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا أَنْسَبُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ (وَلَا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) : بَلْ يَسْتَحِبُّهُ لِمَا تَقَدَّمَ (وَلَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

588 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: «سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ: إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ بِغَلَسٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 588 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ (قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ) : أَيْ: أَوْقَاتِ صَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (فَقَالَ) : أَيْ: جَابِرُ (كَانَ) : أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ) : أَيْ. شِدَّةِ الْحَرِّ يَعْنِي بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَقِيلَ أَيْ: فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ (وَالْعَصْرَ) : أَيْ: وَيُصَلِّي الْعَصْرَ (وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ) : أَيْ: بَاقِيَةٌ عَلَى ضَوْئِهَا (وَالْمَغْرِبَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ (إِذَا وَجَبَتْ) : أَيْ: سَقَطَتِ الشَّمْسُ فِي الْمَغِيبِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ مَعْلُومَةٌ مِنَ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] . وَهَذَا غَفْلَةٌ مِنْهُ عَنْ ذِكْرِهَا فِي قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ. قَالَ الْفَائِقُ: أَصْلُ الْوُجُوبِ السُّقُوطُ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] وَالْمُرَادُ بِسُقُوطِهَا غَيْبُوبَةُ جَمِيعِهَا (وَالْعِشَاءَ) : نُصِبَ لِمَا مَرَّ (إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَتَانِ الشُّرْطِيَّتَانِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ حَالَانِ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ: يُصَلِّي الْعِشَاءَ مُعَجَّلًا إِذَا كَثُرَ النَّاسُ، وَمُؤَخَّرًا إِذَا قَلُّوا، أَوْ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَا مِنَ الْمَفْعُولِ، وَالرَّاجِعُ مُقَدَّرٌ أَيْ عَجَّلَهَا أَوْ أَخَّرَهَا اهـ. وَالتَّقْدِيرُ مُعَجَّلَةٌ وَمُؤَخَّرَةٌ. (وَالصُّبْحَ) : بِالنَّصْبِ (بِغَلَسٍ) : الْغَلَسُ: بِفَتْحَتَيْنِ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِضَوْءِ الصَّبَاحِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

589 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «قَالَ: إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّهَائِرِ سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 589 - (وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّهَائِرِ) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَهِيَ جَمْعُ الظَّهِيرَةِ مِنَ النَّهَارِ، وَأَرَادَ بِهَا الظُّهْرَ وَجَمْعُهَا إِرَادَةُ الظُّهْرِ كُلَّ يَوْمٍ (سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا) : قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهَا الثِّيَابُ الْمَلْبُوسَةُ، وَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا الثِّيَابُ الْمُصَلَّى عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُجِزِ السُّجُودَ عَلَى ثَوْبٍ أَنْتَ لَابِسُهُ؛ لِحَدِيثِ خَبَّابٍ يَعْنِي ظَاهِرًا (اتِّقَاءَ الْحَرِّ) : مَفْعُولٌ لَهُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْإِبْرَادَ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالسَّجْدَةُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الثَّوْبِ الْمَلْبُوسِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ تَرْتَفِعُ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الشِّيعَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

590 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 590 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ ") : أَيْ: بِصَلَاةِ الظُّهْرِ.

591 - وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ فَمِنْ سَمُومِهَا وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ فَمِنْ زَمْهَرِيرِهَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 591 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ " بِالظُّهْرِ ") : أَيْ: أَدْخِلُوهَا فِي وَقْتِ الْبَرْدِ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ (فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) : بِفَاءٍ ثُمَّ يَاءٍ ثُمَّ حَاءٍ أَيْ: نَفْسِهَا أَوْ حَرَارَتِهَا أَوْ غَلَيَانِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ سُطُوعُ حَرِّهَا وَانْتِشَارُهَا اهـ. إِذِ الْفَيْحُ الْوُسْعُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْوَاوُ مِنْ فَاحَ يَفُوحُ، فَهُوَ فَيْحٌ كَهَانَ يَهُونُ فَهُوَ هَيِّنٌ فَخُفِّفَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، قِيلَ: مَنْدُوبٌ لِطَالِبِ الْجَمَاعَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: التَّعْجِيلُ أَوْلَى لِحَدِيثِ خَبَّابٍ أَنَّهُ قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا، وَلَمْ يُشْكِنَا أَيْ: لَمْ يُزِلْ شَكْوَانَا وَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا فِي التَّأْخِيرِ» اهـ. وَالْمُعَوَّلُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالتَّأْخِيرُ يُقَيَّدُ إِلَى آخِرِ

الْوَقْتِ لِئَلَّا يُعَارَضَ. (وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا) : جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْأُولَى، وَإِنْ دَخَلَتِ الْوَاوُ بَيْنَ الْمُبَيِّنِ وَالْمُبَيَّنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ} [البقرة: 74] (فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَأَنْ يَكُونَ مَجَازًا فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ (فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ) : أَيْ: فِيهَا (نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ) : أَنَّ الْمُرَادَ الْحَقِيقَةُ لَا غَيْرُ، ثُمَّ نَبَّهَ أَنَّ أَحَدَ النَّفَسَيْنِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَشَدُّ الْحَرِّ، وَالْآخَرُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَشَدُّ الْبَرْدِ بِقَوْلِهِ: (أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) : أَيِ: الْبَرْدِ، وَقَالَ الْقَاضِي: اشْتِكَاءُ النَّارِ مَجَازٌ عَنْ كَثْرَتِهَا وَغَلَيَانِهَا، وَازْدِحَامِ أَجْزَائِهَا بِحَيْثُ يَضِيقُ مَكَانُهَا عَنْهَا، فَيَسْعَى كُلُّ جُزْءٍ فِي إِفْنَاءِ الْجُزْءِ الْآخَرِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَكَانِهِ، وَنَفَسُهَا لَهَبُهَا، أَوْ خُرُوجُ مَا بَرَزَ مِنْهَا مَأْخُوذٌ مِنْ نَفَسِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ الْهَوَاءُ الدُّخَّانِيُّ الَّذِي تُخْرِجُهُ الْقُوَّةُ الْحَيَوَانِيَّةُ، وَيَبْقَى مِنْهُ حَوَالَيِ الْقَلْبِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّهُ كَمَا جَعَلَ مُسْتَطَابَاتِ الْأَشْيَاءِ وَمَا يَسْتَلِذُّ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا أَشْبَاهَ نَعِيمِ الْجِنَانِ، لِيَكُونُوا أَمْيَلَ إِلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} [البقرة: 25] الْآيَةَ. كَذَلِكَ جَعَلَ الشَّدَائِدَ الْمُؤْلِمَةَ وَالْأَشْيَاءَ الْمُؤْذِيَةَ أُنْمُوذَجًا لِأَحْوَالِ الْجَحِيمِ، وَمَا يُعَذَّبُ بِهِ الْكَفَرَةُ وَالْعُصَاةُ لِيَزِيدَ خَوْفُهُمْ وَانْزِجَارُهُمْ، فَمَا يُوجَدُ مِنَ السَّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، فَمِنْ حَرِّهَا، وَمَا يُوجَدُ مِنَ الصَّرْصَرِ الْمُجَمَّدَةِ فَهُوَ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا، وَهُوَ طَبَقَةٌ مِنْ طَبَقَاتِ الْجَحِيمِ، وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْكَلَامُ وُجُوهًا أُخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. ثُمَّ قَوْلُهُ: نَفَسٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: يَجُوزُ الرَّفْعُ، وَقَوْلُهُ: أَشَدُّ بِالرَّفْعِ عَلَى الصَّحِيحِ، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ: ذَلِكَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ بِقَرِينَةِ الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ السَّيِّدُ: وَيُرْوَى بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى الْبَدَلِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَرُوِيَ بِنَصْبِ أَشَدَّ صِفَةٌ لِنَفَسَيْنِ أَوْ بَدَلًا، وَفِيهِ: أَنَّ نَفَسَيْنِ مَجْرُورٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُوِيَ فِي أَشَدَّ النَّصْبُ أَيْضًا، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ أَعْنِي، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (فَمَا) إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَمِنَ الْحَرِّ وَمِنَ الزَّمْهَرِيرِ بَيَانٌ لَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ فَمِنْ سَمُومِهَا ") : بِفَتْحِ السِّينِ (وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ فَمِنْ زَمْهَرِيرِهَا) : قَالَ بَعْضُهُمْ: فَعُلِمَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ فِي النَّارِ شِدَّةَ الْحَرِّ وَشِدَّةَ الْبَرْدِ، وَقِيلَ: كُلٌّ مِنْهُمَا طَبَقَةٌ مِنْ طَبَقَاتِ الْجَحِيمِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ حَيْثُ أَظْهَرَ آثَارَ الْفَيْحِ فِي زَمَانِ الْحَرِّ، وَآثَارَ الزَّمْهَرِيرِ فِي الشِّتَاءِ لِتَعَوُّدِ الْأَمْزِجَةِ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَلَوِ انْعَكَسَ لَمْ تَحْتَمِلْهُ ; إِذِ الْبَاطِنُ فِي الصَّيْفِ بَارِدٌ فَيُقَاوِمُ حَرَّ الظَّاهِرِ، وَفِي الشِّتَاءِ حَارٌّ فَيُقَاوِمُ بَرْدَ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ حَرِّ الصَّيْفِ وَبَرْدِ الشِّتَاءِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِأَنْ يَحْفَظَ تِلْكَ الْحَرَارَةَ فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ يُرْسِلَهَا عَلَى التَّدْرِيجِ حِفْظًا لِأَبْدَانِهِمْ وَأَشْجَارِهِمْ، وَكَذَا الْبَرْدُ.

592 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي، فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 592 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ) : أَيْ: فَيَتَوَجَّهُ (الذَّاهِبُ) : أَيْ: بَعْدَ الْعَصْرِ (إِلَى الْعَوَالِي) : جَمْعُ عَالِيَةٍ، وَهِيَ أَمَاكِنُ مَعْرُوفَةٌ بِأَعَالِي أَرْضِ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَوْضِعٌ عَلَى نِصْفِ فَرْسَخٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: اسْمُ قُرَى مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ، وَبَيْنَ بَعْضِهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ (فَيَأْتِيهِمْ) : أَيْ: يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَيْ: إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ فَيَصِلُ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي (وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) : أَيْ: لَمْ تَصْفَرَّ (وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ) : ظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ، أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، بَيَّنَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْعَوَالِي فِي الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا اخْتِصَارٌ مُخِلٌّ مُوهِمٌ لِخِلَافِ الْمَقْصُودِ، وَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَبَعْضُ الْعَوَالِي إِلَخْ. كَذَا حَقَّقَهُ مِيرَكُ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ) : أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ وَأَمَّا بُعْدُ الْعَوَالِي مِنْ جِهَةِ نَجْدٍ، فَعَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ، وَهَذَا مَعْنَى مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: أَدْنَاهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَأَقْصَاهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ. وَالْمِيلُ: ثُلُثُ فَرْسَخٍ، وَالْفَرْسَخُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ خُطْوَةً، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْدَامٍ. (أَوْ نَحْوِهِ) : أَيْ: نَحْوِ الْمِقْدَارِ الْمَذْكُورِ أَيْ: قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَبَعْضُ الْعَوَالِي إِلَخْ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

593 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ: يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتْ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ ; قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 593 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِشَارَةٌ إِلَى مَذْكُورٍ حُكْمًا أَيْ: صَلَاةُ الْعَصْرِ الَّتِي أُخِّرَتْ إِلَى الِاصْفِرَارِ (يَجْلِسُ) : حَالٌ (يَرْقُبُ الشَّمْسَ) : أَيْ: يَنْتَظِرُ نُورَهَا (حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتْ) : أَيِ: الشَّمْسُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: حَتَّى زَائِدَةٌ أَيْ: يَرْقُبُ وَقْتَ اصْفِرَارِهَا (وَكَانَتِ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ) : أَيْ: قَرُبَتْ مِنَ الْغُرُوبِ (قَامَ) أَيْ: إِلَى الصَّلَاةِ (فَنَقَرَ أَرْبَعًا) : أَيْ: لَقَطَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ سَرِيعًا، فَالنَّقْرُ عِبَارَةٌ عَنِ السُّرْعَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: عَنْ سُرْعَةِ الْقِرَاءَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا) : أَيْ: ذِكْرًا يُعْتَدُّ بِهِ لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ أَوْ لِخُلُوِّ إِخْلَاصِهِ (إِلَّا قَلِيلًا) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ أَيْ: لَكِنَّهُ فِي زَمَنِ قَلِيلٍ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ بِلِسَانِهِ فَقَطْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَالْخَبَرُ بَيَانٌ لِمَا فِي الذِّهْنِ، وَيَجْلِسُ إِلَخْ. جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَإِذَا: لِلشَّرْطِ، وَقَامَ: جَزَاؤُهُ، وَالشَّرْطِيَّةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: فَنَقَرَ مَنْ نَقْرِ الطَّائِرِ الْحَبَّةِ نَقْرًا. أَيِ الْتَقَطَهَا، وَتَخْصِيصُ الْأَرْبَعِ بِالنَّقْرِ، وَفِي الْعَصْرِ ثَمَانِي سَجَدَاتٍ اعْتِبَارًا بِالرَّكَعَاتِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَصْرَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، وَقِيلَ: إِنَّمَا خَصَّهَا؛ لِأَنَّهَا تَأْتِي فِي وَقْتِ تَعَبِ النَّاسِ مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنْ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ إِلَى الِاصْفِرَارِ فَقَدْ شَبَّهَ نَفْسَهُ بِالْمُنَافِقِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، بَلْ إِنَّمَا يُصَلِّي لِدَفْعِ السَّيْفِ، وَيُبَالِي بِالتَّأْخِيرِ إِذْ لَا يَطْلُبُ فَضِيلَةً وَلَا ثَوَابًا، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُخَالِفَ الْمُنَافِقَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ.

594 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 594 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الَّذِي تَفُوتُهُ ") أَيْ: لِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ (صَلَاةُ الْعَصْرِ: أَيْ: عَنْ آخِرِ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: عَنِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ (فَكَأَنَّمَا وُتِرَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: سُلِبَ وَأُخِذَ (أَهْلَهُ وَمَالَهُ) : بِنَصْبِهِمَا وَرَفْعِهِمَا أَيْ: فَكَأَنَّمَا فَقَدَهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ نُقِصَهُمَا. قَالَ السَّيِّدُ: رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِوُتِرَ، وَأُضْمِرَ فِي وُتِرَ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي تَفُوتُهُ، فَالْمَعْنَى أُصِيبَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] أَوْ هُوَ بِمَعْنَى سُلِبَ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ وُتِرَ بِمَعْنَى أُخِذَ، فَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ هُوَ الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فِي الْفَائِقِ أَيْ: خُرِّبَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَسُلِبَ، مِنْ وَتَرْتُ فُلَانًا إِذَا قَتَلْتُ حَمِيمَهُ، أَوْ نُقِّصَ وَقُلِّلَ مِنَ الْوِتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّهُمُ الْمُصَابُونَ الْمَأْخُوذُونَ، فَمَنْ رَدَّ النَّقْصَ إِلَى الرَّجُلِ نَصَبَهُمَا، وَمَنْ رَدَّهُ إِلَى الْأَهْلِ رَفَعَهُمَا اهـ. أَيْ: نَقَصَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ فَبَقِيَ وِتْرًا فَرْدًا بِلَا أَهْلٍ وَمَالٍ، يُقَالُ: وَتَرَهُ حَقَّهُ أَيْ: نَقَصَهُ، قِيلَ مَعْنَاهُ، فَوْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَكْثَرُ خَسَارًا مَنْ فَوْتِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ فَلْيَكُنْ حَذَرُهُ مَنْ فَوْتِهَا كَحَذَرِهِ مِنْ ذَهَابِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْعَصْرِ بَاقِي الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ نَبَّهَ بِالْعَصْرِ عَلَى غَيْرِهَا، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا الْوُسْطَى فَتَرْكُهَا أَقْبَحُ مِنْ غَيْرِهَا، وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ خُصُوصِيَّةٍ لَمْ نُدْرِكْ وَجْهَهَا، وَقِيلَ: وَجْهُ تَخْصِيصِ الْعَصْرِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ وَقْتَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَيَكُونُ فِيهِمَا إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

595 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 595 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ ") : أَيْ: عَمْدًا، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ مَنْ فَاتَتْهُ (حَبِطَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَقَدْ حَبِطَ (عَمَلُهُ) : أَيْ: بَطُلَ كَمَالُ عَمَلِ يَوْمِهِ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يُثَبْ ثَوَابًا مُوَفَّرًا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَتَعْبِيرُهُ بِالْحُبُوطِ وَهُوَ الْبُطْلَانُ لِلتَّهْدِيدِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. يَعْنِي: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ مَا سَبَقَ مِنْ عَمَلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ مُرْتَدًّا لِقَوْلِهِ: " {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 217] " بَلْ يُحْمَلُ الْحُبُوطُ عَلَى نُقْصَانِ عَمَلِهِ فِي يَوْمِهِ، لَا سِيَّمَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقَرَّرَ أَنْ يُرْفَعَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَلِأَهْلِ السُّنَّةِ دَلَائِلُ مَشْهُورَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، يَعْنِي: مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَأَمَّا الِارْتِدَادُ فَمُجَرَّدُهُ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

596 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ نَبْلَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 596 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) : أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا الصُّغْرَى، وَشَهِدَ أُحُدًا وَأَصَابَهُ فِيهِ سَهْمٌ، وَانْتَقَضَتْ جِرَاحَتُهُ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلَكِ بْنِ مَرْوَانَ فَمَاتَ. (قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: جَمَاعَةً (فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا) : أَيْ: مِنَ الصَّلَاةِ (وَإِنَّهُ) : أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ أَحَدَنَا (لَيُبْصِرُ) : أَيْ: بَعْدَ الِانْصِرَافِ (مَوَاقِعَ نَبْلِهِ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مَسَاقِطَ سَهْمِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي يُصَلِّي الْمَغْرِبَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَوْ رُمِيَ سَهْمٌ يُرَى أَيْنَ سَقَطَ. قُلْتُ: وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، قَالَهُ مِيرَكُ.

597 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 597 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانُوا) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ (يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ) أَيْ: صَلَاةَ الْعِشَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ. وَلَعَلَّ قَوْلَهَا الْعَتَمَةَ لِلْعِشَاءِ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ اهـ. أَوْ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبِّرْ (فِيمَا بَيْنَ) : أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ (أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ) : أَيْ: وَمَا بَعْدَهُ، وَحُذِفَ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي صِحَّةِ (بَيْنَ) لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ (إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ) : بِالْجَرِّ صِفَةُ ثُلُثٍ، وَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ فِيمَا بَيْنَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَثُلُثِ اللَّيْلِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَدَّرَ لِمَغِيبِ الشَّفَقِ أَجْزَاءٌ لِيَخْتَصَّ (بَيْنَ) بِهَا، وَنَجْعَلُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ حَالًا مِنْ فَاعِلِ يُصَلُّونَ أَيْ: يُصَلُّونَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مُنْتَهِينَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ تَقَعَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي أَجْزَاءِ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ وَأَثْنَائِهَا، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَهَا بَعْدَ تَحَقُّقِ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا.

598 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 598 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اللَّامُ فِيهِ لِلِابْتِدَاءِ، وَقَدْ دَخَلَ الْخَبَرُ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيَّةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ عِنْدَ الْبَصْرِيَّةِ أَيْ: لَهُوَ يُصَلِّي (فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ) : أَيِ: اللَّاتِي يُصَلِّينَ مَعَهُ وَكُنُّ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ عَلَى أَعْلَى غَايَةِ الصِّيَانَةِ، فَمَا كَانَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِنَّ وَلَا بِهِنَّ فِتْنَةٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَمَّا حَدَثَتِ الْفِتَنُ لَهُنَّ وَبِهِنَّ مَنَعَهُنَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةَ: لَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحَدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (مُلْتَفِعَاتٍ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَيْ: مُسْتَتِرَاتٍ وُجُوهَهُنَّ وَأَبْدَانَهُنَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّلَفُّعُ شِدَّةُ اللِّفَاعِ وَهُوَ مَا يُغَطِّي الْوَجْهَ وَيُتَلَحَّفُ بِهِ (بِمُرُوطِهِنَّ) : الْمِرْطُ: بِالْكَسْرِ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ يُؤْتَزَرُ بِهِ، وَقِيلَ: الْجِلْبَابُ، وَقِيلَ: الْمِلْحَفَةُ (مَا يُعْرَفْنَ) : مَا: نَافِيَةٌ أَيْ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، وَلَا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا (مِنَ الْغَلَسِ) : مِنَ: ابْتِدَائِيَّةٌ بِمَعْنَى لِأَجَلٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْغَلَسُ: ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الِاتِّسَاعِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ الصَّبَاحِ، وَقِيلَ: مِنْ غَلَسِ الْمَسْجِدِ أَيْ: مِنْ أَجْلِ ظُلْمَتِهِ وَعَدَمِ إِسْفَارِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَظْهَرُ النُّورُ فِيهِ إِلَّا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا.

599 - وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى. قُلْنَا لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 599 - (وَعَنْ قَتَادَةَ) : بَصْرِيٌّ سُدُوسِيٌّ، يُعَدُّ فِي الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ تَابِعِي الْبَصْرَةِ، كَانَ أَعْمَى قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا) : أَيْ: أَكَلَا السَّحُورَ (فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا) : بِفَتْحِ السِّينِ اسْمٌ لِمَا يُتَسَحَّرُ بِهِ، وَقِيلَ بِضَمِّهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّحُورُ: بِفَتْحِ السِّينِ هُوَ الْمَحْفُوظُ أَيْ: مِنَ الرُّوَاةِ، وَلَوْ ضُمَّ جَازَ فِي اللُّغَةِ كَالْوَضُوءِ وَالْوُضُوءِ (قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَى الصَّلَاةِ) : أَيِ: الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ ذِهْنًا وَهِيَ هُنَا صَلَاةُ الصُّبْحِ (فَصَلَّى) : أَيْ: إِمَامًا وَهُوَ مَعَهُ (قُلْنَا لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ) : أَيِ: الْمِقْدَارُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اشْتُقَّ مِنْهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ أَيْ: أَيُّ زَمَانٍ كَانَ (بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: قَدْرَ) : بِالنَّصْبِ خَبَرٌ لَكَانَ الْمُقَدَّرِ، أَيْ: كَانَ مَا بَيْنَهُمَا قَدْرَ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: الْفَاصِلَةُ قَدْرُ (مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا تَقْدِيرٌ لَا يَجُوزُ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَخْذُ بِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ فِي الدِّينِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّ كَانَ رَجُلٌ عَارِفٌ حَاذِقٌ بِدُخُولِ الصُّبْحِ يَقِينًا بِعِلْمِ النُّجُومِ جَازَ لَهُ هَذَا التَّأْخِيرُ أَيْضًا إِلَى هَذَا الْمِقْدَارِ. قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لَهُ الْيَقِينُ مَعَ احْتِمَالِ خَطَئِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ. وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُوا لَهُ الصِّيَامَ وَالْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ بِنَاءً عَلَى عِلْمِهِ بِالْهِلَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، قَالَهُ مِيرَكُ.

600 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ - أَوْ قَالَ: يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا -؟ قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا. فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ ; فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 600 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيْفَ أَنْتَ ") : أَيْ: كَيْفَ الْحَالُ وَالْأَمْرُ بِكَ (إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ) : جَمْعُ أَمِيرٍ، وَمُنِعَ صَرْفُهُ لِأَلِفِ التَّأْنِيثِ أَيْ: كَانُوا أَئِمَّةً مُسْتَوْلِينَ عَلَيْكَ (يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ) : أَيْ: يُؤَخِّرُونَهَا (- أَوْ يُؤَخِّرُونَهَا ") : أَيِ: الصَّلَاةَ (عَنْ وَقْتِهَا) : أَيْ: عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: شَكُّ أَبُو ذَرٍّ مَحَلُّ بَحْثٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا حَالُكَ حِينَ تَرَى مَنْ هُوَ حَاكِمٌ عَلَيْكَ مُتَهَاوِنًا فِي الصَّلَاةِ يُؤَخِّرُهَا عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ إِنْ صَلَّيْتَ مَعَهُ فَاتَتْكَ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَإِنْ خَالَفْتَهُ خِفْتَ أَذَاهُ وَفَاتَتْكَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَعَلَيْكَ خَبَرُ كَانَ أَيْ: كَانَ الْأُمَرَاءُ مُسَلَّطِينَ عَلَيْكَ قَاهِرِينَ لَكَ، وَفِي الْحَدِيثِ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ فَكَانَ مُعْجِزَةً (قُلْتُ: فَمَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَمَاذَا (تَأْمُرُنِي؟) : أَيْ: فَمَا الَّذِي تَأْمُرُنِي بِهِ أَنْ أَفْعَلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ (قَالَ: " صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ") : أَيْ: لِوَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ، (فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا) : بِأَنْ حَضَرْتَهَا (مَعَهُمْ، فَصَلِّ) : كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِلَا هَاءٍ، وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَصَلِّهْ عَلَى أَنَّهَا هَاءُ السَّكْتِ، وَالثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فَصَلِّهَا أَيِ الصَّلَاةَ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ يُرْوَى: فَصَلِّ هَكَذَا، وَيُرْوَى: فَصَلِّهَا، وَيُرْوَى: فَصَلِّهِ أَيِ الْفَرْضَ، أَوْ مَا أَدْرَكْتَ أَوْ هُوَ هَاءُ السَّكْتِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ لَا نَفْلَ بَعْدَهُمَا، وَالْمَغْرِبُ لَا تُعَادُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ النَّفْلَ لَا يَكُونُ ثُلَاثِيًّا وَإِنْ ضُمَّ إِلَيْهَا رَكْعَةٌ، فَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْإِمَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ شَفْعًا فَإِنْ أَعَادَهَا يُكْرَهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْإِطْلَاقُ فَتُرْفَعُ الْكَرَاهَةُ لِلضَّرُورَةِ؛ إِذِ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَالْمَعْنَى فَصَلِّهَا مَعَهُمْ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَنْوِي الْإِعَادَةَ أَوِ النَّافِلَةَ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَفِيهِ أَنَّ إِعَادَةَ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ، وَمِنْ مَنَعَهَا مَحْجُوجٌ بِهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْوِي النَّافِلَةَ لَا الْقَضَاءَ وَلَا الْإِعَادَةَ قَوْلُهُ (فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ) : أَيْ: فَإِنَّهَا لَكَ زِيَادَةُ خَيْرٍ وَعَلَيْهِمْ نُقْصَانُ أَجْرٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَالْأَرْبَعَةُ قَالَهُ مِيرَكُ.

601 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ. وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؟ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 601 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً ") : قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَرَادَ رَكْعَةً بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا فَفِيهِ تَغْلِيبٌ (مِنَ الصُّبْحِ) : أَيْ: صَلَاتِهِ (قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَالَ مَعْنَاهُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَقْتَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ ثُمَّ صَارَ أَهْلًا، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ رَكْعَةٍ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَقَدْ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ (وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ; فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الصُّبْحِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ وَقْتُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْحَدِيثُ حَجَّةٌ عَلَيْهِ، وَجَوَابُهُ: مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْجُزْءَ الْمُقَارِنَ لِلْأَدَاءِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَآخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ وَقْتٌ نَاقِصٌ إِذْ هُوَ وَقْتُ عِبَادَةِ الشَّمْسِ، فَوَجَبَ نَاقِصًا فَإِذَا أَدَّاهُ أَدَّاهُ كَمَا وَجَبَ، فَإِذَا اعْتُرِضَ الْفَسَادُ بِالْغُرُوبِ لَا تَفْسُدُ، وَالْفَجْرُ كُلُّ وَقْتِهِ وَقْتٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ لَا تُعْبَدُ قَبْلَ طُلُوعِهَا فَوَجَبَ كَامِلًا، فَإِذَا اعْتُرِضَ الْفَسَادُ بِالطُّلُوعِ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهَا كَمَا وَجَبَ فَإِنَّ قِيلَ هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ! قُلْنَا: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ رَجَعْنَا إِلَى الْقِيَاسِ كَمَا هُوَ حُكْمُ التَّعَارُضِ، وَالْقِيَاسُ رَجَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَحَدِيثَ النَّهْيِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَلَا تَجُوزُ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمَكْرُوهَةِ لِحَدِيثِ النَّهْيِ الْوَارِدِ إِذْ لَا مُعَارِضَ لِحَدِيثِ النَّهْيِ فِيهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

602 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ; فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ. وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 602 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً ") : أَيْ: رَكْعَةً إِطْلَاقًا لِلْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ أَوْ سُمِّيَتِ الرَّكْعَةُ سَجْدَةً لِإِتْمَامِهَا بِهَا (مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؟ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ) : أَيْ: لِيُكْمِلَهَا بِالْبَاقِيَةِ (وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ) : أَيْ: بِالْقَضَاءِ عِنْدَنَا بِأَنْ يُعِيدَهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا قَبْلَهُ لِعُنْوَانِ الْبَابِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا اسْتِطْرَادًا، أَوْ يُقَالُ فِيهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ إِلَى آخِرِ أَجْزَاءِ وَقْتِهَا، فَلَا يَكُونُ مُقَصِّرًا، وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَجَّلَهَا فِي الْجُمْلَةِ حَيْثُ أَدَّاهَا قَبْلَ الْفَوْتِ.

603 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ: لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 603 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً ") : أَيْ: مَنْ تَرَكَهَا نِسْيَانًا (أَوْ نَامَ عَنْهَا) : ضَمَّنَ نَامَ مَعْنَى غَفَلَ أَيْ: غَفَلَ عَنْهَا فِي حَالِ نَوْمِهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ نَامَ غَافِلًا عَنْهَا (فَكَفَّارَتُهَا) : هِيَ فِي الْأَصْلِ فَعَّالَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ صَارَتِ اسْمًا لِلْفَعْلَةِ أَوِ الْخَصْلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكَفِّرَ الْخَطِيئَةَ أَيْ: تَسْتُرُ إِثْمَهَا وَتَمْحُوهُ (أَنْ يُصَلِّيهَا إِذَا ذَكَرَهَا) : أَيْ: بَعْدَ النِّسْيَانِ أَوِ النَّوْمِ، وَقِيلَ: فِيهِ تَغْلِيبٌ لِلنِّسْيَانِ، فَعَبَّرَ بِالذِّكْرِ وَأَرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الِاسْتِيقَاظَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّوْمَ لَمَّا كَانَ يُورِثُ النِّسْيَانَ غَالِبًا قَابَلَهُمَا بِالذِّكْرِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ لَا يُكَفِّرُهَا غَيْرُ قَضَائِهَا أَوْ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ نِسْيَانِهَا زِيَادَةُ تَضْعِيفٍ وَلَا كَفَّارَةٌ مِنْ صَدَقَةٍ، كَمَا يَلْزَمُ فِي تَرْكِ الصَّوْمِ أَيْ: مِنْ رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَكَمَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ إِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكٍ فَدِيَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَائِتَةَ الْمُتَذَكَّرَةَ لَا تَتَأَخَّرُ (وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُ زَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى هَذِهِ الْعِبَارَةَ، لَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَدَلٌ عَلَى الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَقْتَضِي مُشَارًا إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْ يُصَلِّيهَا إِذَا ذَكَرَهَا جِيءَ بِالثَّانِيَةِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ لَهَا كَفَّارَةً غَيْرَ الْقَضَاءِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، قُلْتُ: يَظْهَرُ وَجْهُهُ فِي مُرَاجَعَةِ الْأُصُولِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : أَيْ: بِرِوَايَتَيْهِ. قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ أَيْ: بَقِيَّتُهُمْ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْبَابِ صِحَاحِ السِّتِّ.

604 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ. فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا ; فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: " {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 604 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ فِي النَّوْمِ ") : أَيْ: فِي حَالِهِ (تَفْرِيطٌ) : أَيْ: تَقْصِيرٌ يُنْسَبُ إِلَى النَّائِمِ فِي تَأْخِيرِهِ الصَّلَاةَ (إِنَّمَا التَّفْرِيطُ) : أَيْ يُوجَدُ (فِي الْيَقَظَةِ) : أَيْ: فِي وَقْتِهَا بِأَنْ تَسَبَّبَ فِي النَّوْمِ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَهُ، أَوْ فِي النِّسْيَانِ بِأَنْ يَتَعَاطَى مَا يَعْلَمُ تَرَتُّبَهُ عَلَيْهِ غَالِبًا كَلَعِبِ الشَّطْرَنْجِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مُقَصِّرًا حِينَئِذٍ، وَيَكُونُ آثِمًا (فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا ; فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ") : أَيْ: بَعْدَ النِّسْيَانِ أَوِ النَّوْمِ (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] : اللَّامُ فِيهِ لِلْوَقْتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْآيَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ التَّأْوِيلِ، لَكِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُصَارَ إِلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَالْمَعْنَى أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِهَا يَعْنِي: وَقْتَ ذِكْرِهَا. قَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَهَا فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ يَعْنِي أَقِمِ الصَّلَاةَ إِذَا ذَكَرْتَنَا، قَالَ: أَوْ يُقَدَّرُ الْمُضَافُ أَيْ لِذِكْرِ صَلَاتِي، أَوْ وُضِعَ ضَمِيرُ اللَّهِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الصَّلَاةِ لِشَرَفِهَا وَخُصُوصِيَّتِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: لِلذِّكْرَى، وَرَوَاهَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، كَذَا رَوَى النَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَيْضًا مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَرَأَ: لِلذِّكْرَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْآيَةُ لَمْ تُذْكَرْ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا، بَلْ لِبَعْثِ الْمُكَلَّفِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: فَلْيُصَلِّهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا خُوطِبَ الْكَلِيمُ بِذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ عَنِ الذَّنْبِ وَنِسْبَةِ التَّفْرِيطِ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 605 - عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا عَلِيُّ! ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاةُ إِذَا أَتَتْ، وَالْجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفُؤًا.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 605 - (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا عَلِيُّ! ثَلَاثٌ ") : أَيْ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَهُوَ الْمُسَوِّغُ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى ثَلَاثَةُ أَشْيَاءٍ. وَهِيَ: الصَّلَاةُ وَالْجِنَازَةُ وَالْمَرْأَةُ، وَلِذَا ذَكَرَ الْعَدَدَ (لَا تُؤَخِّرْهَا) : فَإِنَّ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٍ، بَلْ تَعَجَّلْ فِيهَا، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» (" الصَّلَاةُ ") : بِالرَّفْعِ أَيْ: مِنْهَا أَوْ إِحْدَاهَا أَوْ هِيَ، فَالرَّبْطُ بَعْدَ الْعَطْفِ، وَقِيلَ: بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي (إِذَا أَتَتْ) : بِالتَّاءَيْنِ مَعَ الْقَصْرِ، أَيْ: جَاءَتْ يَعْنِي وَقْتَهَا الْمُخْتَارَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَدِّ وَالنُّونِ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ أَتَتْ بِالتَّاءَيْنِ، وَكَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ. وَالْمَحْفُوظُ مِنْ ذَوِي الْإِتْقَانِ آنَتْ عَلَى وَزْنِ حَانَتْ، يُقَالُ: أَنَى يَأْنِي آنًى إِذَا حَانَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ إِذِ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: مِنْ آنَ يَئِينُ أَيْنًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَلَى وَزْنِ حَانَتْ مِنْ آنَ يَئِينُ أَيْنًا إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ، وَقِيلَ: مِنْ أَنَى يَأْنِي بِمَعْنَى حَانَتْ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: إِذَا أَنَتْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَنَى يَأْنِي. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ} [الحديد: 16] وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْإِتْيَانِ قِيلَ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَالْمَحْفُوظُ آنَتْ عَلَى وَزْنِ حَانَتْ وَبِمَعْنَاهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَنَّهُ مِنْ أَنَى يَأْنِي أَيْنًا وَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى حَانَ (وَالْجِنَازَةُ) بِالْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مَعَ كَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ فِي النَّعْشِ وَالْمَيِّتِ، وَقِيلَ: الْكَسْرُ لِلْأَوَّلِ وَالْفَتْحُ لِلثَّانِي، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا لِلْمَيِّتِ فِي النَّعْشِ (إِذَا حَضَرَتْ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا تَكُونُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا أَيْضًا إِذَا حَضَرَتْ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مِنَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَالِاسْتِوَاءِ، وَأَمَّا إِذَا حَضَرَتْ قَبْلَهَا وَصُلِّيَ عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ فَمَكْرُوهَةٌ، وَكَذَا حُكْمُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الصُّبْحِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ فَلَا يُكْرَهَانِ مُطْلَقًا (وَالْأَيِّمُ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيِ: الْمَرْأَةُ الْعَزْبَةُ وَلَوْ بِكْرًا (إِذَا وَجَدْتَ) : أَنْتَ أَوْ وَجَدَتْ هِيَ (لَهَا كُفْؤًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَيِّمُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، ثَيِّبًا كَانَ أَوْ بِكْرًا، وَالْكُفْؤُ: الْمِثْلُ. وَفِي النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرْأَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالصَّلَاحِ وَالنَّسَبِ وَحُسْنِ الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ قَالَهُ مِيرَكُ.

606 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَالْوَقْتُ الْآخَرُ عَفْوُ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 606 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْوَقْتُ الْأَوَّلُ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيِ التَّعْجِيلُ فِيهِ اهـ. وَخُصَّ مِنْهُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ، أَوِ الْمُرَادُ أَوَّلُ وَقْتِ الْمُخْتَارِ (" مِنَ الصَّلَاةِ ") : بَيَانٌ لِلْوَقْتِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ (رِضْوَانُ اللَّهِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا أَيْ: سَبَبُ رِضَائِهِ كَامِلًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَهُوَ خَبَرٌ إِمَّا بِحَذْفِ مُضَافٍ أَيِ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ سَبَبُ رِضْوَانِ اللَّهِ لِأَنَّهُ عَجَّلَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَهُوَ مُؤَدٍّ إِلَى رِضَاهُ، أَوْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَيِ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ عَيْنُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ (وَالْوَقْتُ الْآخَرُ) : أَيْ: بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجًا عَنِ الْوَقْتِ. أَوِ الْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ الْكَرَاهِيَةِ نَحْوُ: الِاصْفِرَارِ فِي الْعَصْرِ، وَالتَّجَاوُزِ عَنْ نِصْفِ اللَّيْلِ فِي الْعِشَاءِ (عَفْوُ اللَّهِ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: رِضْوَانُ اللَّهِ لِأَنَّهُ عَجَّلَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَهُوَ مُؤَدٍّ إِلَى رِضَاهُ، أَوْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَيِ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ عَيْنُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَكُونُ لِلْمُحْسِنِينَ، وَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ.

قُلْتُ: وَلَعَلَّ الرَّحْمَةَ تَكُونُ لِلْمُتَوَسِّطِينَ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجْرٍ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ: وَوَسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ أَيْ: أَنَّ إِبَاحَةَ التَّأْخِيرِ إِلَى وَسَطِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ حَيْثُ أَبَاحَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمُ الْأَدَاءَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ التَّقْسِيمُ يُفِيدُ أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ هُوَ الثُلُثُ الْأَوَّلُ مِنْهُ، وَهَكَذَا قِيَاسُ الْبَاقِي فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مُفِيدٌ جِدًّا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَأْخِيرُ الصُّبْحِ إِلَى الْإِسْفَارِ، وَالْعَصْرِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءِ إِلَى مَا قَبْلَ ثُلُثِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهَا فَضِيلَةَ انْتِظَارٍ وَتَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ وَنَحْوَهُمَا، وَالْعَفْوُ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْفَضْلِ. قَالَ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] : يَعْنِي: أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِكُمْ وَقُوتِ عِيَالِكُمْ، فَالْمَعْنَى فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَضْلُ اللَّهِ كَثِيرٌ اهـ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ الْوَقْتُ الْمُخْتَارُ أَوْ مُطْلَقٌ، لَكِنَّهُ خُصَّ بِبَعْضِ الْأَخْبَارِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ اهـ. وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ الْآتِي فِي الْحَدِيثِ بَعْدُ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ ضَعِيفٌ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ، فَلْيُحْمَلْ تَحْسِينُ مَنْ حَسَّنَهُ عَلَى أَنَّهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

607 - وَعَنْ أُمِّ فَرْوَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُرْوَى الْحَدِيثُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، وَهُوَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 607 - (وَعَنْ أُمِّ فَرْوَةَ) : أَنْصَارِيَّةٌ: مِنَ الْمُبَايِعَاتِ، وَهِيَ غَيْرُ أُمِّ فَرْوَةَ، أُخْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدَةٌ فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ أَنْصَارِيَّةً، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟) : أَيْ: أَكْثَرُ ثَوَابًا (قَالَ: " الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اللَّامُ بِمَعْنَى " فِي " وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أَيْ وَقْتِ حَيَاتِي لِأَنَّ الْوَقْتَ مَذْكُورٌ، وَلَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ: قَبْلَ عِدَّتِهِمْ لِذِكْرِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُرْوَى الْحَدِيثُ) : أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ (إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ) : أَيْ: ابْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ بْنِ الْخَطَّابِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَهُوَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ) : وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ) : قَالَ مِيرَكُ: قَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَمُسْلِمٌ مَوْقُوفًا، وَتَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.

608 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً لِوَقْتِهَا الْآخِرِ مَرَّتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى» : رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 608 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً لِوَقْتِهَا الْآخِرِ مَرَّتَيْنِ) : لَعَلَّهَا مَا حَسَبَتْ صَلَاتَهُ مَعَ جِبْرِيلَ لِلتَّعَلُّمِ، وَصَلَاتَهُ مَعَ السَّائِلِ لِلتَّعْلِيمِ (حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى) : يَعْنِي أَنَّ أَوْقَاتَ صَلَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُلَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ، إِلَّا مَا وَقَعَ مِنَ التَّأْخِيرِ إِلَى آخِرِهِ نَادِرًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ، قَالَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ مَوْضِعُ تَأَمُّلٍ.

609 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ أَوْ قَالَ: عَلَى الْفِطْرَةِ ـ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 609 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ) : أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَزَالُ ") : بِالتَّحْتَانِيَّةِ، وَقِيلَ بِالْفَوْقِيَّةِ (أُمَّتِي بِخَيْرٍ - أَوْ قَالَ: عَلَى الْفِطْرَةِ -) : أَيِ: السُّنَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، أَوِ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ تَبْدِيلٌ فِي أَرْكَانِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ، شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ) : أَيْ: تَصِيرَ مُشْتَبِكَةً كَالشَّبَكَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. أَيْ: يَظْهَرُ جَمِيعُهَا وَيَخْتَلِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا كَرَاهَةَ بِمُجَرَّدِ الطُّلُوعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ تَخْتَلِطَ لِكَثْرَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اخْتَارَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ تَعْجِيلَ الْمَغْرِبِ

اهـ. وَمَا وَقَعَ مِنْ تَأْخِيرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ الْمَغَازِي، وَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فَحَدِيثُهُ صَحِيحٌ، قَالَهُ مِيرَكُ.

610 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 610 - (وَرَوَاهُ) ص: وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَرَوَى (الدَّارِمِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ) .

611 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 611 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي ") أَيْ: لَوْلَا كَرَاهَةُ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ (لَأَمَرْتُهُمْ) : أَيْ وُجُوبًا (أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) أَيْ فِي الصَّيْفِ (أَوْ نِصْفِهِ) : أَيْ: فِي الشِّتَاءِ. قَالَ مِيرَكُ: أَوْ يَحْتَمِلُ التَّنْوِيعَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيَحْتَمِلُ الشَّكَّ مِنَ الرَّاوِي (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَابْنُ مَاجَهْ) .

612 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ ; فَإِنَّكُمْ قَدْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 612 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْتِمُوا ") : مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ (بِهَذِهِ الصَّلَاةِ) : أَيِ: الْعِشَاءِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيِ: ادْخُلُوهَا فِي الْعَتَمَةِ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيِ: ادْخُلُوا فِي الْعَتَمَةِ مُلْتَبِسِينَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ أَعْتَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الْعَتَمَةِ وَهِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعَتَمَةُ مِنَ اللَّيْلِ مَا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ أَيْ صَلُّوهَا بَعْدَمَا دَخَلْتُمُ الظُّلْمَةَ، وَتَحَقَّقَ لَكُمْ سُقُوطُ الشَّفَقِ، وَلَا تَسْتَعْجِلُوا فِيهَا فَتُوقِعُوهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ، يَعْنِي: بَلْ يَكُونُ بَيَانًا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْتَمَ الرَّجُلُ أَيْ قَرَى ضَيْفَهُ فِي اللَّيْلِ إِذَا أَخَّرَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَتْمِ الَّذِي هُوَ الْإِبْطَاءُ. يَعْنِي: فَيَكُونُ دَالًّا عَلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ إِلَى الثُّلُثِ أَوِ النِّصْفِ لِمَا تَقَدَّمَ (فَإِنَّكُمْ قَدْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدِ النَّسْخُ (وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ) : التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ; إِنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ كَانَتْ تُصَلِّيهَا الرُّسُلُ نَافِلَةً لَهُمْ أَيْ: زَائِدَةً، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَى أُمَمِهِمْ كَالتَّهَجُّدِ، فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا، أَوْ نَجْعَلُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى وَقْتِ الْإِسْفَارِ فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ ; يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ تُصَلِّهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تُصَلُّونَهَا مِنَ التَّأْخِيرِ وَانْتِظَارِ الِاجْتِمَاعِ فِي وَقْتِ حُصُولِ الظَّلَامِ وَغَلَبَةِ الْمَنَامِ عَلَى الْأَنَامِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، قَالَهُ مِيرَكُ.

613 - «وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ; صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 613 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ النُّونِ (بْنِ بَشِيرٍ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ) : هَذَا مِنْ بَابِ التَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ الْعِلْمِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِمَادِ مَرْوِيِّهِ، وَلَعَلَّ وُقُوعَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِ غَالِبِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَحُفَّاظِهِمُ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُ. (صَلَاةِ الْعِشَاءِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ، وَقِيلَ: بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي (الْآخِرَةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: الْأَخِيرَةِ؛ صِفَةُ الصَّلَاةِ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ) : أَيْ: وَقْتَ غُرُوبِهِ، أَوْ سُقُوطِهِ إِلَى الْغُرُوبِ (لِثَالِثَةٍ) : أَيْ: فِي لَيْلَةٍ ثَالِثَةٍ مِنَ الشَّهْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِسُقُوطِ الْقَمَرِ أَيْ وَقْتَ غُرُوبِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِسُقُوطِ الْقَمَرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةِ: لَيْلَةَ الثَّالِثَةِ بِالنَّصْبِ. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: إِضَافَةُ اللَّيْلِ إِلَى الثَّالِثَةِ بِتَأْوِيلِ الْعَشِيَّةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَعَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْقَمَرُ غَالِبًا يَسْقُطُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قُرْبَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ، وَفِيهِ أَصْرَحُ دَلِيلٍ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا حَتَّى الْعِشَاءُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ، فَإِنَّ الْقَمَرَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ يَقْرُبُ غَيْبُوبَةَ الشَّفَقِ دُونَ الثَّالِثَةِ فَتَدَبَّرْ، فَإِنَّهَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَقَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ صَحِيحٌ.

614 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ ; وَلَيْسَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 614 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ ") : أَيْ: صَلُّوهَا فِي وَقْتِ الْإِسْفَارِ، أَوْ طَوِّلُوهَا إِلَى الْإِسْفَارِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا (فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ) : قَالَ مِيرَكُ: أَيْ صَلُّوهَا مُسْفِرِينَ، وَقِيلَ: طَوِّلُوهَا بِالْقِرَاءَةِ إِلَى الْإِسْفَارِ، وَهُوَ إِضَاءَةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَقْوَى جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي التَّغْلِيسِ وَالْإِسْفَارِ، قَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: هَكَذَا اخْتَارَ الشَّارِحُونَ وَلَيْسَ بِمُخْتَارٍ فِي الْمَذْهَبِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: حَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَيَقُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَزَوَالِ الشَّكِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: أَصْبِحُوا بَدَلَ أَسْفِرُوا، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّسْخِ لِحَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْفَرَ مَرَّةً ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْفَارِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى اللَّيَالِي الْمُعْتِمَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ الصُّبْحُ جِدًّا، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى اللَّيَالِي الْقَصِيرَةِ لِإِدْرَاكِ النُّوَّامِ الصَّلَاةَ. «قَالَ مُعَاذٌ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ فَغَلِّسْ بِالْفَجْرِ، وَأَطِلِ الْقِرَاءَةَ قَدْرَ مَا يَطِيقُ النَّاسُ وَلَا تُمِلَّهُمْ، وَإِذَا كَانَ فِي الصَّيْفِ فَأَسْفِرْ بِالْفَجْرِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ قَصِيرٌ وَالنَّاسَ نِيَامٌ، فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا» . ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ اهـ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ: تَأْوِيلُ الْإِسْفَارِ بِتَيَقُّنِ الْفَجْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ شَكٌّ فِي طُلُوعِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ إِذْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَضْلًا عَنْ إِثَابَةِ الْأَجْرِ عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ مَا يَنْفِيهِ وَهُوَ: أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَكُلَّمَا أَسَفَرْتُمْ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنَّهُ خِلَافُ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَلَيْسَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: " فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ ") .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 615 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تُنْحَرُ الْجَزُورُ فَتُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، ثُمَّ تُطْبَخُ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 615 - (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: غَالِبًا أَوْ أَحْيَانًا (ثُمَّ تُنْحَرُ) : بِالتَّأْنِيثِ، وَيَجُوزُ التَّذْكِيرُ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ بِهِ لِأَنَّهُ السُّنَّةُ فِي الْإِبِلِ وَنَحْوِهِ مِمَّا طَالَ عُنُقُهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ الذَّبْحُ (الْجَزُورُ) : وَهُوَ الْبَعِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُؤَنَّثَةٌ يُقَالُ: هَذِهِ الْجَزُورُ وَإِنْ أَرَدْتَ ذَكَرًا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ تَأْنِيثُ تُنْحَرُ (فَتُقْسَمُ) بِالتَّأْنِيثِ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا تَقَدَّمَ (عَشْرَ قِسَمٍ) : بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ (ثُمَّ تُطْبَخُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: ثُمَّ نَطْبُخُ بِالنُّونِ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَمَنَعَ (فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا) : أَيْ: مَشْوِيًّا (قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَخْصِيصِ الْقَسْمِ بِالْعَشْرِ وَالطَّبْخِ بِالنُّضْجِ وَعَطْفِ تُنْحَرُ عَلَى نُصَلِّي إِشْعَارٌ بِامْتِدَادِ الزَّمَانِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ وَاقِعَةٌ أَوَّلَ الْوَقْتِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي أَوْقَاتِ الصَّيْفِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَمْكَنَ فِي الْبَاقِي إِلَى الْغُرُوبِ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ، وَمَنْ شَاهَدَ الْمَهَرَةَ مِنَ الطَّبَّاخِينَ مَعَ الرُّؤَسَاءِ لَمْ يَسْتَبْعِدْ ذَلِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

616 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا نَدْرِي: أَشَيْءٌ شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ حِينَ خَرَجَ: إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونِ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ، وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 616 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: مَكَثْنَا) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ: لَبِثْنَا فِي الْمَسْجِدِ (ذَاتَ لَيْلَةٍ) : أَيْ: لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي (نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ) : ظَرْفٌ لِقَوْلِ: نَنْتَظِرُ أَيْ: نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ (الْآخِرَةِ) : بِالْجَرِّ عَلَى النَّعْتِ، وَلَعَلَّ تَأْنِيثَهَا بِاعْتِبَارِ مُرَادِفِ الْعِشَاءِ وَهُوَ الْعَتَمَةُ، وَجُوِّزَ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ الصَّلَاةِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي (فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ) : أَيْ مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ: عَطْفٌ عَلَى حِينِ ذَهَبَ وَ " أَوْ " شَكٌّ لِلرَّاوِي (فَلَا نَدْرِي: أَشَيْءٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَيُّ شَيْءٍ (شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ) : أَيْ: عَنْ تَقْدِيمِهَا الْمُعْتَادِ (أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ) : بِأَنْ قَصَدَ بِتَأْخِيرِهَا إِحْيَاءَ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ بِالسَّهَرِ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ، وَغَيْرُ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى شَيْءٍ، وَبِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى أَهْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ (فَقَالَ حِينَ خَرَجَ) : أَيْ: مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونِ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ، أَيِ: انْتِظَارُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِكُمُ الَّتِي خَصَّكُمُ اللَّهُ بِهَا، فَكُلَّمَا زِدْتُمْ يَكُونُ الْأَجْرُ أَكْمَلَ، مَعَ أَنَّ الْوَقْتَ زَمَانٌ يَقْتَضِي الِاسْتِرَاحَةَ، فَالْمَثُوبَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَلِأَنَّ الذَّاكِرَ فِي الْغَافِلِينَ كَالصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَفْضَلِيَّةِ تَأْخِيرِهَا لِأَنَّ ثَوَابَ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ يَعُمُّ كُلَّ صَلَاةٍ، وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ الْبَعْضُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الْعِشَاءِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْعَصْرِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَصْرُ مِنْهَا أَفْضَلَ لِكَوْنِهَا الْوُسْطَى اهـ. وَيَرُدُّهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: " وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ " أَيْ: (هَذِهِ السَّاعَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَزِمْتُ عَلَى صَلَاتِهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ (ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى) : أَيْ: بِالنَّاسِ. قَالَ النَّوَوِيُّ:، اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَفْضَلُ تَقْدِيمُ الْعِشَاءِ أَوْ تَأْخِيرُهَا؟ فَمَنْ فَضَّلَ التَّأْخِيرَ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَنْ فَضَّلَ التَّقْدِيمَ احْتَجَّ بِأَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْدِيمُهَا، وَأَخَّرَهَا فِي أَوْقَاتٍ يَسِيرَةٍ لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ عُذْرٍ. قُلْتُ: فِي الِاحْتِجَاجِ الثَّانِي نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَصَّ عَلَى الْعُذْرِ لِلْعَمَلِ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَلَا مَعْنَى لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ عُذْرٍ مَعَ تَحَقُّقِ أَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ قَصْدًا لَا لِعُذْرٍ، وَلَا يَصِيرُ تَرَدُّدُ الصَّاحِبِيِّ أَوَّلًا أَنَّهُ لِعُذْرٍ أَوْ لَا. فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِهَذَا التَّرَدُّدِ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَفْضَلِيَّةِ التَّأْخِيرِ مَعْلُولٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَمَقْبُولٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْخِيرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثُهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

617 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ نَحْوًا مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَتَمَةَ بَعْدَ صَلَاتِكُمْ شَيْئًا، وَكَانَ يُخَفِّفُ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 617 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ نَحْوًا) : أَيْ: قَرِيبًا (مِنْ صَلَاتِكُمْ) : أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُعْتَادَةِ لَكُمْ (وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَتَمَةَ) : أَيِ: الْعِشَاءَ، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وُصُولِ النَّهْيِ إِلَيْهِ، أَوْ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّهَا أَشْهَرُ عِنْدَهُمْ (بَعْدَ صَلَاتِكُمْ) : فِي وَقْتِكُمُ الْمُعْتَادِ (شَيْئًا) : أَيْ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا (وَكَانَ يُخَفِّفُ الصَّلَاةَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ إِذَا كَانَ إِمَامًا، وَذَلِكَ أَغْلَبِيٌّ أَيْضًا لِمَا يَأْتِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَوَّلَ بِهِمْ حَيْثُ قَرَأَ الْأَعْرَافَ فِي رَكْعَتَيِ الْمَغْرِبِ. قُلْتُ: وَمَعَ هَذَا كَانَ خَفِيفًا عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ صَلَاةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

618 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: " خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ "، فَأَخَذْنَا مَقَاعِدَنَا فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ وَسَقَمُ السَّقِيمِ، لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالنَّسَائِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 618 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: صَلَّيْنَا) : أَيْ: أَرَدْنَا أَنْ نُصْلِّيَ جَمَاعَةً (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ) : أَيِ: الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ (فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَضَى نَحْوٌ) : أَيْ: قَرِيبٌ (مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ) : أَيْ: نِصْفِهِ (فَقَالَ) : أَيْ: فَخَرَجَ فَقَالَ: (خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ) : أَيِ: الْزَمُوهَا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ اصْطَفُّوا لِلصَّلَاةِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا لِلْحَدِيثِ (فَأَخَذْنَا مَقَاعِدَنَا) : أَيْ مَا تَفَرَّقْنَا عَنْ أَمَاكِنِنَا (فَقَالَ " إِنَّ النَّاسَ ") : أَيْ: بَقِيَّةَ أَهْلِ الْأَرْضِ لِمَا فِي خَبَرٍ آخَرَ: لَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ غَيْرُكُمْ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.؟ وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى أَهْلِ دِينٍ غَيْرِكُمْ، وَالْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ غَيْرُ أَهْلِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَدْ صَلَّوْا) : بِفَتْحِ اللَّامِ (وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ) : أَيْ: مَفَارِشَهُمْ أَوْ مَكَانَهُمْ لِلنَّوْمِ يَعْنِي: وَنَامُوا (وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ) : أَيْ: حُكْمًا وَثَوَابًا (مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْتِظَارُ الْفَرَجِ عِبَادَةٌ (وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ) مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ أَوِ الْبَدَنِ (وَسَقَمُ السَّقِيمِ) : بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَبِفَتْحِهِمَا (لَأَخَّرْتُ) : أَيْ: دَائِمًا (هَذِهِ الصَّلَاةَ) : أَيِ: الْعِشَاءَ (إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ) : أَيْ نِصْفِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَهُوَ الثُّلُثُ كَمَا تَقَدَّمَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

619 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ أَشَدُّ تَعْجِيلًا لِلْعَصْرِ مِنْهُ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 619 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ أَشَدُّ تَعْجِيلًا لِلْعَصْرِ مِنْهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ هَذَا لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِالْمُخَالَفَةِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِغَيْرِ الْأَصْحَابِ، وَفِي الْجُمْلَةِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْعَصْرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .

620 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 620 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ) : أَيْ: بِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْجُمُعَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ) : أَيْ: بِهَا، وَبِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ الظَّاهِرُ فِي الظُّهْرِ أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُهَا وَأَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُهَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّعْجِيلِ حَتَّى عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

621 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّهَا سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصَلِّي مَعَهُمْ؟ قَالَ: " نَعَمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 621 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهَا ") : الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ وَيُفَسِّرُهَا مَا بَعْدَهَا (سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي أُمَرَاءُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَضَى شَرْحُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ (يَشْغَلُهُمْ) : بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ أَوِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ (أَشْيَاءُ) : أَيْ: أُمُورٌ (عَنِ الصَّلَاةِ) : أَيْ: جِنْسِ الصَّلَاةِ (لِوَقْتِهَا) : أَيْ: لِوَقْتِهَا الْمُخْتَارِ (حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا) : أَيْ: وَيَدْخُلَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ (فَصَلُّوا) : أَيْ: أَنْتُمُ (الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا) : أَيْ: وَلَوْ مُنْفَرِدِينَ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ وَمَفْسَدَةٌ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصَلِّي) : بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ (مَعَهُمْ؟) : أَيْ: إِذَا أَدْرَكْتُهَا مَعَهُمْ (قَالَ: نَعَمْ) : لِأَنَّهَا زِيَادَةُ خَيْرٍ وَدَفْعُ شَرٍّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

622 - وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ مِنْ بَعْدِي يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ فَهِيَ لَكُمْ، وَهِيَ عَلَيْهِمْ، فَصَلُّوا مَعَهُمْ مَا صَلَّوُا الْقِبْلَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 622 - (وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهَا ") : كَذَا فِي نُسْخَةٍ (يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ مِنْ بَعْدِي يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ) : أَيْ: عَنْ أَوْقَاتِهَا الْمُخْتَارَةِ (فَهِيَ لَكُمْ، وَهِيَ عَلَيْهِمْ) : أَيِ: الصَّلَاةُ الْمُؤَخَّرَةُ عَنِ الْوَقْتِ نَافِعَةٌ لَكُمْ، لِأَنَّ تَأْخِيرَكُمْ لِلضَّرُورَةِ تَبَعًا لَهُمْ وَمَضَرَّةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى عَدَمِ التَّأْخِيرِ، وَإِنَّمَا شَغَلَهُمْ أُمُورُ الدُّنْيَا عَنْ أَمْرِ الْعُقْبَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ إِذَا صَلَّيْتُمْ أَوَّلَ وَقْتِهَا ثُمَّ صَلَّيْتُمْ مَعَهُمْ تَكُونُ مَنْفَعَةُ صَلَاتِكُمْ لَكُمْ، وَمَضَرَّةُ الصَّلَاةِ وَوَبَالُهَا عَلَيْهِمْ لِمَا أَخَّرُوهَا، كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ عَشَرَ. (فَصَلُّوا) : بِضَمِّ اللَّامِ (مَعَهُمْ) أَيْ: مَعَ الْأُمَرَاءِ (مَا صَلَّوُا) : بِفَتْحِ اللَّامِ (الْقِبْلَةَ) : أَيْ: مَا دَامُوا مُصَلِّينَ إِلَى نَحْوِ الْقِبْلَةِ يَعْنِي قِبْلَةَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ الْكَعْبَةُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

623 - وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا تَرَى، وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ، وَنَتَحَرَّجُ فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 623 - (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ) : يُعَدُّ فِي التَّابِعِينَ، قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قُرَشِيٌّ زُهْرِيٌّ، وَقِيلَ ثَقَفِيٌّ (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ) : أَيْ عُثْمَانُ: (مَحْصُورٌ) أَيْ: مَحْبُوسٌ فِي دَارِهِ، حَصَرَهُ أَهْلُ الْفِتْنَةِ مِنْ قَبْلِ اخْتِلَاطِ فَسَقَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا لِإِرَادَةِ خَلْعِهِ أَوْ قَتْلِهِ، لِمَا زَعَمُوا مِنْ أَمْرِهِ بِقَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ (فَقَالَ) أَيْ: عُبَيْدُ اللَّهِ (إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ) : أَيْ: أَنْتَ خَلِيفَةُ وَإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الشُّورَى وَغَيْرِهِمْ عَلَى إِمَامَتِهِ (وَنَزَلَ بِكَ مَا تَرَى) : أَيْ: مِنَ الْبَلَاءِ (وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ) : أَيْ: وَيُصَلِّي بِنَا غَيْرُكَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَهُوَ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ (وَنَتَحَرَّجُ) : أَيْ: نَتَحَرَّزُ وَنَجْتَنِبُ أَنْ نُصَلِّيَ مَعَ إِمَامِ الْفِتْنَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّحَرُّجُ التَّأَثُّمُ (فَقَالَ) : أَيْ: عُثْمَانُ (الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ) : أَيْ: أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ (فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ) : أَيْ: لَا الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ مَعَهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ. يُرِيدُ إِمَامَ الْفِتْنَةِ مَنْ أَثَارَ الْفِتْنَةَ وَحَصَرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَيْتِهِ، وَالْمُرَادُ بِإِمَامَةِ الْعَامَّةِ الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى وَهِيَ الْخِلَافَةُ، وَبِإِمَامَةِ الْفِتْنَةِ الْإِمَامَةُ الصُّغْرَى وَهِيَ الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ فَحَسْبُ، وَفِي إِيقَاعِ إِمَامِ فِتْنَةٍ فِي مُقَابِلِ إِمَامِ عَامَّةٍ إِشَارَةٌ إِلَى حَقِّيَّةِ إِمَامَتِهِ وَإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهَا، وَبُطْلَانِ مَنْ يَنْأَوِيهِ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى إِنْصَافِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَجَابَ وَأَثْبَتَ لَهُمُ الْإِحْسَانَ، وَأَمَرَ بِمُتَابَعَةِ إِحْسَانِهِمْ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ إِسَاءَتِهِمْ، وَأَخْرَجَ الْجُمْلَةَ مَخْرَجَ الْعُمُومِ حَيْثُ وُضِعَ النَّاسُ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفِرْقَةِ الْبَاغِيَةِ وَكُلِّ فَاجِرٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

[باب فضيلة الصلوات]

[بَابُ فَضِيلَةِ الصَّلَوَاتِ]

(3) بَابُ فَضِيلَةِ الصَّلَوَاتِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 624 - عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» ) يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (3) بَابُ فَضِيلَةِ الصَّلَوَاتِ كَذَا فِي نُسْخَةٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّنْوِينَ وَالسُّكُونَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ فِي مُتَمِّمَاتِ فَضَائِلِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِهَا اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ: بَابُ فَضْلِ الصَّلَوَاتِ، أَوْ فَضِيلَةِ الصَّلَوَاتِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فِي فَضْلِ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا بِزِيَادَةِ (فِي) وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَصْلٌ لَا غَيْرَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا أَفْرَدَ هَذَا الْفَصْلَ عَمَّا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ أَحَادِيثَهُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 624 - (عَنْ عُمَارَةَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ (ابْنِ رُوَيْبَةَ) : قَالَ مِيرَكُ: غَيْرُ مَهْمُوزٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بِهَمْزَةٍ وَهُوَ ثَقَفِيٌّ عِدَادُهُ فِي الْكُوفِيِّينَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَنْ يَلِجَ) : أَيْ: لَنْ يَدْخُلَ (النَّارَ أَحَدٌ) : أَيْ: أَصْلًا لِلتَّعْذِيبِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( «إِنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ صَلَاةٌ وَصِيَامٌ وَغَيْرُهُمَا وَعَلَيْهِ ظُلَامَاتٌ لِلنَّاسِ، فَيَأْخُذُونَ أَعْمَالَهُ مَا عَدَا الصَّوْمَ لِاخْتِصَاصِ عَمَلِهِ بِهِ تَعَالَى، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ عَمَلٌ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ» ) . (صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ) : أَيْ: دَاوَمَ عَلَى أَدَائِهِمَا قَالَ الطِّيبِيُّ: لَنْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. قَالَ فِي الْمَعْنَى: هَذَا مَذْهَبُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْكَشَّافِ، كَمَا أَنَّهَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ مَذْهَبُهُ فِي الْأُنْمُوذَجِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] لَيْسَ بِمَعْنَى الدُّخُولِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ بَحْثٌ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوُرُودُ الْعَامُّ بِمَعْنَى الدُّخُولِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الْمُرُورُ، وَلِذَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ اسْتِثْنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَخَصَّ الصَّلَاتَيْنِ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ الصُّبْحَ لَذِيذُ الْكَرَى، أَيِ: النَّوْمِ، وَالْعَصْرَ وَقْتُ الِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِمَا مَعَ الْمَشَاكِلِ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الْمُحَافَظَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَأَيْضًا هَذَانِ الْوَقْتَانِ مَشْهُودَانِ يَشْهَدُهُمَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ وَيَرْفَعُونَ فِيهِمَا أَعْمَالَ الْعِبَادِ اهـ. فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَقَعَ مُكَفِّرًا فَيُغْفَرَ لَهُ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ.

625 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 625 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ) ": أَيِ: الْغَدْوَةَ وَالْعَشِيَّ لِبَرْدِ الْهَوَاءِ فِيهِمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَسَطِ النَّهَارِ. أَرَادَ الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ لِكَوْنِهِمَا فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، أَوِ الصُّبْحَ وَالْعِشَاءَ لِوُقُوعِهِمَا أَوَّلًا وَآخِرًا لِلصَّلَوَاتِ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ التَّخْصِيصِ بِهِمَا فَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الذُّنُوبِ مُحْرَزًا بِبَرَكَتِهِمَا أَوْ مُكَفَّرًا (دَخَلَ الْجَنَّةَ) : أَيْ: دُخُولًا أَوَّلِيًّا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

626 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 626 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ) ": أَيْ: يَجِيءُ أَحَدٌ عَقِبَ أَحَدٍ، وَطَائِفَةٌ غِبَّ طَائِفَةٍ، وَقِيَاسُهُ يَتَعَاقَبُ، لِأَنَّ فَاعِلَهُ مَذْكُورٌ بَعْدَهُ وَهُوَ (مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ) : فَهُوَ إِمَّا بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ يَتَعَاقَبُونَ أَوْ مُبْتَدَأٌ أَوْ فَاعِلٌ لَهُ، وَالْوَاوُ عَلَامَةٌ لَهُ " (وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ) ": وَهُمُ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَقِيلَ: غَيْرُهُمْ: قَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ الْوَاوُ عَلَامَةُ الْفَاعِلِ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي الْحَارِثِ وَحَكَوْا فِيهِ قَوْلَهُمْ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْأَخْفَشُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] وَقَالَ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ: الِاسْمُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَيْ: يَتَعَاقَبُونَ فِي نُزُولِهِمْ، فَتَنْزِلُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَتَصْعَدُ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَتَنْزِلُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ قَبْلَ الْعَصْرِ وَتَصْعَدُ بَعْدَ الْفَجْرِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: (وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ) : أَيْ: أَوَّلِهَا (وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) : أَيْ: آخِرِهَا وَاجْتِمَاعُهُمْ فِي الْوَقْتَيْنِ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ ; لِيَكُونُوا شَاهِدِينَ بِمَا شَهِدُوهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: خُصَّتَا لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِمَا مَعَ كَوْنِهِمَا وَقْتَ اشْتِغَالٍ وَغَفْلَةٍ أَدَلُّ عَلَى الْخُلُوصِ. قِيلَ: وَفِيهِ تَحْرِيضُ النَّاسِ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ. (ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ) : إِيذَانٌ بِأَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ لَا يَزَالُونَ يَحْفَظُونَ الْعِبَادَ إِلَى الصُّبْحِ، وَكَذَلِكَ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ إِلَى اللَّيْلِ (فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ) : أَيْ: مِنْهُمْ: وَسُؤَالُهُمْ تَعَبُّدٌ لِمَلَائِكَتِهِ كَمَا يَكْتُبُ الْأَعْمَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْجَمِيعِ، وَقِيلَ: سُؤَالُهُ تَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُ يَتَبَاهَى بِعِبَادِهِ الْعَامِلِينَ أَوْ لِلتَّوْبِيخِ عَلَى الْقَائِلِينَ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا (كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي) أَيْ: عَلَى أَيِّ حَالَةٍ تَرَكْتُمُوهُمْ عَلَيْهَا. قَالَ مِيرَكُ: اقْتَصَرَ عَلَى سُؤَالِ الَّذِينَ بَاتُوا دُونَ الَّذِينَ ظَلُّوا اكْتِفَاءً بِذِكْرِ أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، أَوْ لِأَنَّ حُكْمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ يَعْمَلُ مِنْ حُكْمِ طَرَفَيِ اللَّيْلِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ الْمَعْصِيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ عِصْيَانٌ كَانَ النَّهَارُ أَوْلَى بِذَلِكَ، أَوْ يُحْمَلُ بَاتُوا عَلَى مَعْنًى أَعَمَّ مِنَ الْمَبِيتِ بِاللَّيْلِ وَالْإِقَامَةِ بِالنَّهَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ كَانُوا فِيكُمْ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى اقْتِصَارِ الرَّاوِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، فَإِنَّ فِيهَا التَّصْرِيحَ بِسُؤَالِ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ (فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) : أَيِ: الصُّبْحَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (وَأَتَيْنَاهُمْ) ": أَيْ: وَجَدْنَاهُمْ وَنَزَلْنَا عَلَيْهِمْ " (وَهُمْ يُصَلُّونَ) : أَيِ: الْعَصْرَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ قَالَهُ مِيرَكُ.

627 - وَعَنْ جُنْدَبٍ الْقَسْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ ; فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ ; فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ، ثُمَّ يَكُبُّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ (الْمَصَابِيحِ) : الْقُشَرِيُّ بَدَلَ الْقَسْرِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 627 - (وَعَنْ جُنْدَبٍ) : بِضَمِّهِمَا وَتُفْتَحُ الدَّالُ (الْقَسْرِيِّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ كَذَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُصَحَّحَةِ الْحَاضِرَةِ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فِي سَائِرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ الْقُشُرِيُّ بِضَمِّ الْقَافِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ) : أَيْ: بِإِخْلَاصٍ (فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ) : أَيْ: فِي عَهْدِهِ وَأَمَانِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَمَانِ الَّذِي ثَبَتَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ (فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ) : أَيْ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ مِنْ بَابِ لَا أَرَيَنَّكَ، الْمُرَادُ نَهْيُهُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا يُوجِبُ مُطَالَبَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ (مِنْ ذِمَّتِهِ) : مِنْ: بِمَعْنَى لِأَجَلِ، وَالضَّمِيرُ فِي ذِمَّتِهِ إِمَّا لِلَّهِ، وَإِمَّا لِمَنْ، وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لِأَجْلِ تَرْكِ ذِمَّتِهِ (بِشَيْءٍ) : أَيْ: يَسِيرٍ أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ مِنْ شَيْءٍ وَفِي الْمَصَابِيحِ: بِشَيْءٍ مِنْ ذِمَّتِهِ قِيلَ: أَيْ يُنْقَضُ عَدُّهُ وَإِخْفَارُ ذِمَّتِهِ بِالتَّعَرُّضِ لِمَنْ لَهُ ذِمَّةٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ الصَّلَاةُ الْمُوجِبَةُ لِلْأَمَانِ أَيْ: لَا تَتْرُكُوا صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَيَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ فَيَطْلُبُكُمْ بِهِ (فَإِنَّهُ) : الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ وَالْفَاءُ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ (مَنْ يَطْلُبْهُ) : بِالْجَزْمِ أَيِ اللَّهُ تَعَالَى (مِنْ ذِمَّتِهِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِ ذِمَّتِهِ (بِشَيْءٍ) : وَلَوْ يَسِيرًا (يُدْرِكْهُ) : بِالْجَزْمِ

أَيِ: اللَّهُ إِذْ لَا يَفُوتُ مِنْهُ هَارِبٌ (ثُمَّ يَكُبُّهُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: هُوَ يَكُبُّهُ (عَلَى وَجْهِهِ) : وَبِالْفَتْحِ عَطْفًا عَلَى يُدْرِكْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالضَّمِّ مَجْزُومًا أَيْضًا (إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ) : وَالْمَعْنَى: لَا تَتَعَرَّضُوا لَهُ بِشَيْءٍ وَلَوْ يَسِيرًا، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَعَرَّضْتُمْ لَهُ يُدْرِكْكُمُ اللَّهُ وَيُحِيطُ بِكُمْ وَيَكُبُّكُمْ فِي النَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا خَصَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْكُلْفَةِ وَأَدَاؤُهَا مَظِنَّةُ خُلُوصِ الرَّجُلِ وَمُتْنَةُ إِيمَانِهِ أَيْ عَلَامَتُهُ، وَمَنْ كَانَ خَالِصًا كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ. (وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: الْقُشَرِيُّ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ وَيُخْفَضُ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: الْقُشَرِيُّ (بَدَلُ الْقَسْرِيِّ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُمَا.

628 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ، لَاسْتَهَمُوا ; وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ، لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ ; وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 628 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) : أَيْ: لَوْ عَلِمُوا فَفِي الْمُضَارِعِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى بَالِ (مَا فِي النِّدَاءِ) : أَيِ: التَّأْذِينِ وَالْإِقَامَةِ مِنَ الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ. أُطْلِقَ مَفْعُولُ يَعْلَمُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الْفَضِيلَةَ مَا هِيَ لِيُفِيدَ ضَرْبًا مِنَ الْمُبَالَغَةِ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعِبَارَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] وَكَذَا تَصْوِيرُهُ حَالَةَ الِاسْتِبَاقِ بِالِاسْتِهَامِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي أَمْرٍ يُتَنَافَسُ فِيهِ، لَا سِيَّمَا إِخْرَاجُهُ مَخْرَجَ الْحَصْرِ " (وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) : وَهُوَ الَّذِي غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِصَفٍّ آخَرَ، فَيَشْمَلُ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعَ خَلْفَ الْكَعْبَةِ، بَلْ رُبَّمَا تَتَرَجَّحُ الْجِهَةُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَوَّلُ عِنْدَنَا هُوَ الَّذِي يَلِي الْإِمَامَ، وَإِنْ تَخَلَّلَهُ أَوْ حَجَزَ بَيْنَهُمَا نَحْوَ سَارِيَةٍ أَوْ مِنْبَرٍ اهـ. وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ عَنِ النِّدَاءِ دَلَالَةً عَلَى تَهْيِيءِ الْمُقَدِّمَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْمُثُولُ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ (ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) : أَيْ: لِلتَّمَكُّنِ مِنَ النِّدَاءِ وَالصَّفِّ (إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) : أَيْ: بِأَنْ يَقْتَرِعُوا (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى السَّبْقِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِهَامُ: الِاقْتِرَاعُ. قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا سِهَامٌ يُكْتَبُ عَلَيْهَا الْأَسْمَاءُ، فَمَنْ وَقَعَ لَهُ مِنْهَا سَهْمٌ فَازَ بِالْحَظِّ الْمَقْسُومِ، وَالتَّقْدِيرُ: بِالِاسْتِهَامِ وَطَلَبِ السَّهْمَ بِالْقُرْعَةِ (لَاسْتَهَمُوا) : يَعْنِي لَتَنَازَعُوا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ، حَتَّى اخْتُصُّوا بِالنِّدَاءِ، وَأَخَذُوا الْمَوْضِعَ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ بِالْقُرْعَةِ، وَأَتَى بِثُمَّ الْمُؤْذِنَةِ بِتَرَاخِي رُتْبَةِ الِاسْتِبَاقِ عَنِ الْعِلْمِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنِّدَاءِ الْإِقَامَةَ، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَهُوَ أَوْفَقُ لِمَا بَعْدَهُ أَيْ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي حُضُورِ الْإِقَامَةِ وَتَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَالْوُقُوفِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَثُمَّ هُنَا لِلْإِشْعَارِ بِتَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَبُعْدِ النَّاسِ عَنْهُ (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) : أَيْ: فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى الطَّاعَةِ مِنَ الْفَضِيلَةِ وَالْكَرَامَةِ (لَاسْتَبَقُوا) : أَيْ: لَبَادَرُوا (إِلَيْهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ عَقِبَهُ بِالتَّرْغِيبِ فِي إِدْرَاكِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَكَذَا وَجَبَ أَنْ يُفَسَّرَ التَّهْجِيرُ بِالتَّبْكِيرِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَثِيرُونَ فِي النِّهَايَةِ، التَّهْجِيرُ: التَّبْكِيرُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، وَهِيَ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ أَرَادَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ اهـ. وَقِيلَ: التَّهْجِيرُ: السَّيْرُ فِي الْهَاجِرَةِ وَهِيَ نِصْفُ النَّهَارِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَإِلَى صَلَّاةِ الْجُمُعَةِ، وَفَسَّرَهُ الْأَكْثَرُونَ بِالتَّبْكِيرِ، أَيِ: الْمُضِيِّ إِلَى الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِلَى كُلِّ صَلَاةٍ، وَالْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَالَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً» ) قَالَ الْقَاضِي: لَا يُقَالُ: الْأَمْرُ بِالْإِبْرَادِ يُنَافِي الْأَمْرَ بِالتَّهْجِيرِ، وَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ بِالظَّهِيرِ، لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ سُنَّةٌ، وَالْإِبْرَادُ رُخْصَةٌ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَوِ الْإِبْرَادُ تَأْخِيرٌ قَلِيلٌ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ التَّهْجِيرِ، فَإِنَّ الْهَاجِرَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْوَقْتِ إِلَى أَنْ يَقْرُبَ الْعَصْرُ. (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ) : أَيْ: صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ (وَالصُّبْحِ) : أَيْ: صَلَاتِهَا، وَخُصَّتَا، لِأَنَّهُمَا وَقْتُ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ وَالْكَسَلِ عَنِ الْعِبَادَةِ، فَحَثَّ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا مَظِنَّةُ التَّفْوِيتِ (لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) : أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْإِتْيَانُ حَبْوًا أَيْ: زَحْفًا وَهُوَ مَشْيُ الصَّبِيِّ عَلَى أَرْبَعٍ، أَوْ دُبَيْبَةٌ عَلَى اسْتِهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ كَانُوا حَابِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَهُ مِيرَكُ.

629 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَيْسَ صَلَاةً أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 629 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ صَلَاةً أَثْقَلَ) : بِالنَّصْبِ خَبَرُ لَيْسَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَيْسَ إِمَّا حَرْفٌ بِمَعْنَى (لَا) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، وَإِمَّا فِعْلٌ نَاسِخٌ، وَحِينَئِذٍ فَمُسَوِّغُ كَوْنِ اسْمِهَا الَّذِي هُوَ مُبْتَدَأٌ فِي الْأَصْلِ نَكِرَةٌ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ نَفْيٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ اسْتِعْمَالِ لَيْسَ لِلنَّفْيِ الْعَامِ الْمُسْتَغْرِقِ لِلْجِنْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] اهـ. وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: الصَّوَابُ الثَّانِي بِدَلِيلِ لَسْتَ لَسْتُمَا وَلَيْسُوا وَلَيْسَتْ، وَتَلَازُمٌ وَرَفْعُ الِاسْمِ وَنَصْبُ الْخَبَرِ، وَقِيلَ: قَدْ تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ نَاصِبًا لِلْمُسْتَثْنَى بِمَنْزِلَةِ: (إِلَّا) نَحْوَ: أَتَوْنِي لَيْسَ زَيْدًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا النَّاسِخَةُ، وَأَنَّ اسْمَهَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ لِلْبَعْضِ الْمَفْهُومِ مِمَّا تَقَدَّمَ وَاسْتِتَارُهُ وَاجِبٌ، فَلَا يَلِيهَا فِي اللَّفْظِ إِلَّا الْمَنْصُوبُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَتْ سَبَبَ قِرَاءَةِ سِيبَوَيْهِ النَّحْوَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ لِكِتَابَةِ الْحَدِيثِ، فَاسْتَمْلَى مِنْهُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِي أَحَدٌ إِلَّا وَلَوْ شِئْتُ لَأَخَذْتُ عَلَيْهِ لَيْسَ أَبَا الدَّرْدَاءِ» ) ، فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَاحَ بِهِ حَمَّادٌ لَحَنْتَ يَا سِيبَوَيْهِ إِنَّمَا هَذَا اسْتِثْنَاءٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَطْلُبَنَّ عِلْمًا لَا تُلْحِنُنِي مَعَهُ ثُمَّ مَضَى وَلَزِمَ الْأَخْفَشَ وَغَيْرَهُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ اسْتِثْنَاءٌ يَعْنِي بِهِ مَعْنَى بِدَلِيلِ لُزُومِهِ النَّصْبَ " (عَلَى الْمُنَافِقِينَ) : وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُمْ طُبِعُوا عَلَى الْكَسَلِ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَفِي ذِكْرِهِمْ هُنَا غَايَةُ التَّحْذِيرِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُخْلِصِينَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ (مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ) : وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ الْعِشَاءَ وَقْتُ الِاسْتِرَاحَةِ، وَالصُّبْحَ فِي الصَّيْفِ وَقْتُ لَذَّةِ النَّوْمِ، وَفِي الشِّتَاءِ وَقْتُ شِدَّةِ الْبَرْدِ. (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا) : مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ (لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَهُ مِيرَكُ.

630 - وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ ; فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 630 - (وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ) : أَيِ: النِّصْفَ الْأَوَّلَ يَعْنِي كَإِحْيَائِهِ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ لِمَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ، سِيَّمَا مَعَ الْجَمَاعَةِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لِلسَّعْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى فِي الظُّلَمِ، أَوِ الْبَاعِثَةِ عَلَى انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فِيهِ مَعَ فَضِيلَةِ الِاعْتِكَافِ مِنْ عَظِيمِ الْمَشَقَّةِ النَّاشِئِ مِنْ تَحَمُّلِهَا عَنْ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ، وَظُهُورِ الْخَوْفِ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ وَالرَّجَاءِ إِلَى جَمَالِهِ تَعَالَى. (وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ) عَبَّرَ هُنَا بِصَلَّى، وَفِيمَا سَبَقَ بِقَامَ تَفَنُّنًا وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ تُسَمَّى قِيَامًا " (كُلَّهُ) : أَيْ: بِانْضِمَامِ ذَلِكَ النِّصْفِ، فَكَأَنَّهُ أَحْيَا نِصْفَ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، أَوْ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ قِيَامَ الصُّبْحِ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَإِنَّهُ أَشَقُّ وَأَصْعَبُ عَلَى النَّفْسِ وَأَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ تَرْكَ النَّوْمِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ أَشَقُّ مِنْ إِرَادَةِ الدُّخُولِ فِيهِ، إِذِ الْكَسَلُ يَسْتَوْلِي فِي الْأَوَّلِ أَكْثَرَ، فَتَكُونُ مُجَاهَدَتُهُ عَلَى الشَّيْطَانِ أَكْبَرَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ.

631 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ الْمَغْرِبِ) قَالَ: (تَقُولُ الْأَعْرَابُ: هِيَ الْعِشَاءُ) » . ـــــــــــــــــــــــــــــ 631 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَغْلِبَنَّكُمْ) : بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ " (الْأَعْرَابُ) : وَهُمْ سُكَّانُ الْبَوَادِي خَاصَّةً، وَالْمُرَادُ أَعْرَابُ الْجَاهِلِيَّةِ " (عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ) ": يُقَالُ: غَلَبْتُهُ عَلَى الشَّيْءِ أَخَذْتُهُ مِنْهُ (الْمَغْرِبِ) : يَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ أَيْ: هِيَ، وَنَصْبُهُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَجَرُّهُ عَلَى الصِّفَةِ أَوِ الْبَدَلِ وَهُوَ الْأَوْلَى (قَالَ: (وَيَقُولُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ (الْأَعْرَابُ: هِيَ) : أَيِ: الْمَغْرِبُ (الْعِشَاءُ) : أَيْ: لَا تُكْثِرُوا اسْتِعْمَالَ الْعِشَاءِ عَلَى الْمَغْرِبِ عَلَى وِفْقِ اسْتِعْمَالِهِمْ، فَتَغْلِبَ تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى تَسْمِيَتِكُمْ بَلْ سَمُّوهَا الْمَغْرِبَ، فَالنَّهْيُ ظَاهِرٌ لِلْأَعْرَابِ، وَحَقِيقَةٌ لِلْأَصْحَابِ.

632 - وَقَالَ: ( «لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعِشَاءُ. فَإِنَّهَا تَعْتِمُ بِحِلَابِ الْإِبِلِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 632 - (وَقَالَ: (لَا يَغْلِبَنَّكُمُ) : بِالْوَجْهَيْنِ (الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ الْعِشَاءِ) : بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَتَعَرَّضُوا لِمَا هُوَ مِنْ عَادَتِهِمْ مِنْ تَسْمِيَةِ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ فَتَغْصِبَ مِنْكُمُ اسْمُ الْعِشَاءِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَيْ: لَا يَلِيقُ الْعُدُولُ عَمَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ تَسْمِيَتِهَا عِشَاءً إِلَى مَا أَلِفَهُ الْأَعْرَابُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا عَتَمَةً، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ الْعُدُولِ عَنْهُ قُبْحُ لَفْظِهِ، إِذِ الْعَتَمَةُ شِدَّةُ الظَّلَامِ، وَالصَّلَاةُ هِيَ النُّورُ الْأَعْظَمُ، فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُوضَعَ لَهَا لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهَا، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ (فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعِشَاءُ) : عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ، وَفِي قَوْلِهِ (فَإِنَّهَا تُعْتِمُ) : عِلَّةٌ لِلتَّسْمِيَةِ يَعْنِي أَنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى - تُسَمَّى الْعِشَاءَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] وَهُمْ يُسَمُّونَهَا بِالْعَتَمَةِ ; لِأَنَّهَا تُعْتِمُ (بِحِلَابِ الْإِبِلِ) : فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَحْتَلِبُونَ الْإِبِلَ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ حِينَ يَمُدُّ الظَّلَامُ رَوَاقَهُ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الْعَتَمَةَ، وَقِيلَ: كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْحِلَابَ إِلَى الظُّلْمَةِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الْوَقْتَ الْعَتَمَةَ فَهُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بَاسْمِ وَقْتِهِ أَيْ: لَا تُطْلِقُوا هَذَا الِاسْمَ عَلَى الْعِشَاءِ لِئَلَّا يَغْلِبَ عَلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهَا تُعْتِمُ رُوِيَ مَجْهُولًا، فَالضَّمِيرَانِ لِلصَّلَاةِ وَمَعْلُومًا فَهُمَا لِلْأَعْرَابِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ السَّيِّدُ: تُعْتِمُ مَعْرُوفٌ لِرِوَايَةٍ، فَإِنَّهُمْ يُعْتِمُونَ وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مَجْهُولًا، وَالضَّمِيرُ لِلصَّلَاةِ اهـ. فَالْأَصَحُّ رِوَايَةً وَالْأَوْضَحُ دِرَايَةً صِيغَةُ الْمَعْلُومِ، وَالْبَاءُ فِي بِحِلَابِهَا سَبَبِيَّةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا فِي الْعَتَمَةِ قِيلَ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي التَّارِيخِ، وَالْوَجْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ جَائِزًا، فَلَمَّا كَثُرَ إِطْلَاقُهُمْ، وَجَرَتْ أَلْسِنَتُهُمْ نَهَاهُمْ ; لِئَلَّا يَغْلِبَ لِسَانُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْنِي: فَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى مَا جَمَعَهُ قَبْلَ النَّهْيِ، وَمُحْتَمَلٌ أَنَّهُ جَمَعَهُ بِلَفْظِ الْعِشَاءِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ فَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَتَمَةِ بَيَانٌ لِلْجَوَازِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِلتَّنْزِيهِ، الثَّانِي: أَنَّهُ خُوطِبَ بِالْعَتَمَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِشَاءَ ; لِأَنَّهَا أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْعِشَاءِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُطْلِقُونَ الْعِشَاءَ عَلَى الْمَغْرِبِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مَرْوِيَّةٌ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ صَاحِبُ التَّخْرِيجِ: وَلَمْ أَرَهُ فِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فَمِنْ إِفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَمَنْشَأُ تَوَهُّمِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ أَنَّ مُحْيِيَ السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْمَصَابِيحِ. أَحَدُهُمَا عُقَيْبَ الْآخَرِ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، فَظَنَّ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ.

633 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: ( «حَبَسُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى: صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 633 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ) : وَهُوَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، وَكَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَرَجَّحَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَعَلَيْهِ كَثِيرُونَ، سُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ بِالْخَنْدَقِ لِأَجْلِ الْخَنْدَقِ الَّذِي حُفِرَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ بِأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَشَارَ بِهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَإِنَّهُ مِنْ مَكَائِدِ الْفُرْسِ دُونَ الْعَرَبِ، وَعَمِلَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ كَثِيرًا تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ قَاسَوْا فِي حَفْرِهِ شَدَائِدَ مِنْهَا شِدَّةُ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ وَكَثْرَةُ الْحَفْرِ وَالتَّعَبِ، وَأَقَامُوا فِي مَحَلِّ حَفْرِهِ عِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا، أَقْوَالٌ. وَسُمِّيَتْ بِالْأَحْزَابِ لِاجْتِمَاعِ طَوَائِفَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَالْيَهُودِ. وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ. (حَبَسُونَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَنُسَخِ الْمَصَابِيحِ أَيْ: مَنَعَنَا الْكُفَّارُ بِاشْتِغَالِنَا بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، لِأَجْلِ دَفْعِهِمْ يَعْنِي شَغَلُونَا (عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى يَعْنِي: عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُقَدِّمُونَ مَحْذُوفًا أَيْ: عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَيْ عَنْ فِعْلِهَا (صَلَاةِ الْعَصْرِ) : بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهَا الْعَصْرُ وَهُوَ

الْمُخْتَارُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا الصُّبْحُ، وَصَحَّتِ الْأَحَادِيثُ أَنَّهَا الْعَصْرُ، فَكَانَ هَذَا هُوَ مَذْهَبَهُ لِقَوْلِهِ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَاضْرِبُوا بِمَذْهَبِي عُرْضَ الْحَائِطِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ، وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِيهِ، وَقِيلَ الصُّبْحُ وَعَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ الظُّهْرُ، وَقِيلَ الْمَغْرِبُ، وَقِيلَ الْعِشَاءُ، وَقِيلَ أَخْفَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّلَوَاتِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي الْجُمُعَةِ اهـ. وَقِيلَ: صَلَاةُ الضُّحَى أَوِ التَّهَجُّدِ أَوِ الْأَوَّابِينَ أَوِ الْجُمُعَةِ أَوِ الْعِيدِ أَوِ الْجَنَازَةِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: صَلَاةُ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ إِلَى احْمِرَارِ الشَّمْسِ أَوِ اصْفِرَارِهَا، لِأَنَّ الْحَبْسَ وَإِنِ انْتَهَى إِلَى هَذَا الْوَقْتِ لَكِنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَقَعْ إِلَّا بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِذْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُهَا مَعَ طُهْرِهَا وَنَحْوِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ جَاءَ بَعْدَمَا كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا) فَنَزَلَ بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ وَتَوَضَّئُوا فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفُتْهُ غَيْرُ الْعَصْرِ. وَفَى التِّرْمِذِيِّ: أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ وَلَا تَعَارُضَ ; لِأَنَّ الْوَقْعَةَ اسْتَمَرَّتْ أَيَّامًا، فَكَانَ كُلٌّ فِي يَوْمٍ، وَفِي إِسْنَادِ الْحَبْسِ إِلَيْهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ بِسَبَبِ الِاشْتِغَالِ بِقِتَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا مَانِعِينَ لِصَلَاتِهِمْ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَسِيَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاشْتِغَالِ، وَمُحْتَمَلٌ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَمِّدًا وَآثَرَ الِاشْتِغَالَ بِقِتَالِهِمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ (مَلَأَ اللَّهُ) : دَعَا عَلَيْهِمْ، وَأَخْرَجَهُ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ تَأْكِيدًا وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُ مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمُجَابَةِ سَرِيعًا، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي ثِقَةً بِالِاسْتِجَابَةِ، فَكَأَنَّهُ أُجِيبَ سُؤَالُهُ فَأَخْبَرَ عَنْ وُجُودِ إِجَابَتِهِ وَوُقُوعِهَا، وَلِذَا قَالُوا: غَفَرَ اللَّهُ لِفُلَانٍ أَبْلَغُ مِنَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ (بُيُوتَهُمْ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا (وَقُبُورَهُمْ نَارًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ جَعَلَ اللَّهُ النَّارَ مُلَازِمَةً لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ، وَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ عَذَابَ الدُّنْيَا مِنْ تَخْرِيبِ الْبُيُوتِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَسَبْيِ الْأَوْلَادِ، وَعَذَابَ الْآخِرَةِ بِاشْتِعَالِ قُبُورِهِمْ نَارًا، أَوِ الْأُسْلُوبُ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ لِذِكْرِ النَّارِ فِي الْبُيُوتِ، أَوْ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ اسْتُعِيرَتِ النَّارُ لِلْفِتْنَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ أَحْمَدُ، قَالَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 634 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 634 - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَتُفْتَحُ (قَالَا: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ) : لِأَنَّهَا وُسْطَى بَيْنَ صَلَاتَيِ النَّهَارِ، وَصَلَاتَيِ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ السُّوقَ كَانَتْ تَقُومُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَكَانَتْ مَظِنَّةَ الِاشْتِغَالِ بِهَا عَنْهَا، فَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

635 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] ، قَالَ: (تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ) » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 635 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] : أَيْ: صَلَاةَ الْفَجْرِ سُمِّيَتْ قُرْآنًا وَهُوَ الْقِرَاءَةُ، لِأَنَّهَا رُكْنٌ مِنْهَا كَمَا سُمِّيَتْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً وَهُوَ فِي آخِرِ دِيوَانِ اللَّيْلِ وَأَوَّلِ دِيوَانِ النَّهَارِ، وَفَائِدَةُ تَسْمِيَتِهِ بِالْقُرْآنِ الْحَثُّ عَلَى طُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: {كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] : أَيْ: مَحْضُورًا (قَالَ: (تَشْهَدُهُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ أَيْ: تَحْضُرُهُ (مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : كَانَ مُقْتَضَى دَأْبِهِ أَنْ يَقُولَ -: رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَابْنُ مَاجَهْ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 636 - عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَا: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ. رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ زَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُمَا تَعْلِيقًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 636 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَائِشَةَ) : أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَا: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ) : لِأَنَّهَا وَسَطَ طَرَفَيِ النَّهَارِ (رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ زَيْدٍ) : أَيْ: وَحْدَهُ (وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُمْ) : أَيْ: عَنْ زَيْدٍ وَعَائِشَةَ جَمِيعًا (تَعْلِيقًا) : التَّعْلِيقُ. يُسْتَعْمَلُ فِيمَا حُذِفَ مِنْ مَبْدَأِ إِسْنَادِهِ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، كَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَا وَاسْتَعْمَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي حَذْفِ كُلِّ إِسْنَادٍ كَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَا.

637 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا. فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] . وَقَالَ إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ، وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 637 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ: أَيْ: فِي شِدَّةِ الْحَرِّ عَقِبَ الزَّوَالِ (وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ) : أَيْ: أَشَقَّ وَأَصْعَبَ (عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا) : وَلِذَا كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى ثِيَابِهِمْ فِيهَا مَعَ أَنَّ عَادَتَهُمُ السُّجُودُ عَلَى الْأَرْضِ رِعَايَةً لِلْأَفْضَلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ فِي الْعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ فَتَنَزَّلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُضَيِّعُوهَا لِثِقَلِهَا عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهَا الْوُسْطَى أَيِ الْفُضْلَى اهـ. إِذِ الْأَوْسَطُ الْأَفْضَلُ، وَوَاسِطَةُ الْعَقْدِ أَشْرَفُ مَا فِيهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ وَصُلِّيَتْ، مَعَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَوَاتِ كَانَ لَيْلًا، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهَا. (وَقَالَ) : أَيِ الرَّاوِي وَهُوَ زَيْدٌ، أَوْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ قَالَهُ السَّيِّدُ (إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ) : أَيْ: إِحْدَاهُمَا نَهَارِيَّةٌ وَأُخْرَى لَيْلِيَّةٌ (وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ) : أَيْ: كَذَلِكَ أَوْ هِيَ وَاقِعَةٌ وَسَطَ النَّهَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنَ الصَّحَابِيِّ نَشَأَ مِنْ ظَنِّهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الظُّهْرِ، فَلَا يُعَارِضُ نَصَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهَا الْعَصْرُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

638 - وَعَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقُولَانِ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الصُّبْحِ. رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 638 - (وَعَنْ مَالِكٍ، بَلَغَهُ) : أَيْ: وَصَلَ إِلَيْهِ (أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقُولَانِ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الصُّبْحِ) : لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيِ اللَّيْلِ وَصَلَاتَيِ النَّهَارِ، أَوْ لِدُخُولِ وَقْتِهَا، وَالنَّاسُ فِي أَطْيَبِ نَوْمٍ فَخُصَّتْ بِالْمُحَافَظَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَيْضًا اجْتِهَادٌ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَبْلُغْهُمَا النَّصُّ الْمَذْكُورُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ قَالَا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاحْتِمَالِ (رَوَاهُ) : أَيْ: مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) : بِالْهَمْزِ، وَقِيلَ بِالْأَلِفِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْحَلُ الْكَلَامَ إِلَى أَنَّ مَالِكًا رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ بَلَغَهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْحَزَازَةِ، فَكَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ أَوَّلًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ إِلَخْ. ثُمَّ يَقُولَ: رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بَلَاغًا، فَإِنَّ مَالِكًا لَيْسَ مِنَ الرُّوَاةِ بَلْ مِنَ الْمُخَرِّجِينَ.

639 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ تَعْلِيقًا) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 639 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ تَعْلِيقًا) .

640 - وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «مَنْ غَدَا إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ غَدَا بِرَايَةِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ غَدَا إِلَى السُّوقِ غَدَا بِرَايَةِ إِبْلِيسَ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 640 - (وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ غَدَا) : أَيْ: ذَهَبَ فِي الْغُدْوَةِ (إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ غَدَا بِرَايَةِ الْإِيمَانِ) : أَيْ: بِعَلَمِهِ وَلِوَائِهِ وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (وَمَنْ غَدَا إِلَى السُّوقِ غَدَا بِرَايَةِ إِبْلِيسَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَمْثِيلٌ لِبَيَانِ حِزْبِ اللَّهِ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ أَصْبَحَ يَغْدُو إِلَى الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يَرْفَعُ أَعْلَامَ الْإِيمَانِ، وَيُظْهِرُ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ، وَيُوهِنُ أَمْرَ الْمُخَالِفِينَ، وَفِي ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ: (فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ) . وَمَنْ أَصْبَحَ يَغْدُو إِلَى السُّوقِ فَهُوَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ يَرْفَعُ أَعْلَامَهُ وَيُشِيدُ مِنْ شَوْكَتِهِ، وَهُوَ فِي تَوْهِينِ دِينِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: غَدَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّبْكِيرَ إِلَى السُّوقِ مَحْظُورٌ، فَمَنْ رَاجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَدَاءِ وَظَائِفِ طَاعَتِهِ لِطَلَبِ الْحَلَالِ، وَمَا يَتَقَوَّمُ بِهِ طَلَبُهُ لِلْعِبَادَةِ، وَيَتَعَفَّفُ عَنِ السُّؤَالِ كَانَ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ تَعَالَى (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

[باب الأذان]

[بَابُ الْأَذَانِ]

(4) بَابُ الْأَذَانِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 641 - «عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَذَكَرْتُهُ لِأَيُّوبَ فَقَالَ: إِلَّا الْإِقَامَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ [4] بَابُ الْأَذَانِ أَيْ: مَشْرُوعِيَّتِهِ كَيْفِيَّةً وَكَمِّيَّةً، وَالْأَذَانُ هُوَ الْإِعْلَامُ، أَمَّا الْأَذَانُ الْمُتَعَارَفُ مِنَ التَّأْذِينِ كَالسَّلَامِ كَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: 44] وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ لُغَةً الْإِعْلَامُ وَشَرْعًا قَوْلٌ مَخْصُوصٌ يُعْلَمُ بِهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَخَرَجَ بِهَا الْأَذَانُ الَّذِي يُسَنُّ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ كَالْأَذَانِ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى، وَالْإِقَامَةِ فِي الْيُسْرَى، وَيُسَنُّ أَيْضًا عَنِ الْهَمِّ وَسُوءِ الْخُلُقِ لِخَبَرِ الدَّيْلَمِيِّ، «عَنْ عَلِيٍّ: رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ: (يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ إِنِّي أَرَاكَ حَزِينًا فَمُرْ بَعْضَ أَهْلِكَ يُؤَذِّنْ فِي أُذُنِكَ، فَإِنَّهُ دَرَأُ الْهَمِّ) قَالَ: فَجَرَّبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ كَذَلِكَ» . وَقَالَ: كُلٌّ مِنْ رُوَاتِهِ إِلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ جَرَّبَهُ، فَوَجَدَهُ كَذَلِكَ. وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ دَابَّةٍ فَأَذِّنُوا فِي أُذُنِهِ» ) اهـ. وَالْأَذَانُ: سُنَّةُ الْفَرَائِضِ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا، وَلَوْ تَرَكَهَا وَاحِدٌ لَضَرَبْتُهُ وَحَبَسْتُهُ) ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: لَوْ تَرَكَ أَهْلُ بَلْدَةٍ سُنَّةً لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا، وَلَوْ تَرَكَهَا وَاحِدٌ لَضَرَبْتُهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 641 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ذَكَرُوا) : أَيِ: الصَّحَابَةُ لِإِعْلَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ (النَّارَ وَالنَّاقُوسَ) : أَيْ: ذَكَرَ جَمْعٌ مِنْهُمْ إِيقَادَ النَّارِ وَجَمْعٌ ضَرْبَ النَّاقُوسِ، وَهُوَ خَشَبَةٌ طَوِيلَةٌ يَضْرِبُهَا النَّصَارَى بِأُخْرَى أَقْصَرَ مِنْهَا لِإِعْلَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ (فَذَكَرُوا) : أَيِ: الصَّحَابَةُ (الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) : أَيِ: التَّشَبُّهَ بِهِمَا. قِيلَ: أَيْ ذَكَرُوا أَنَّ النَّارَ وَالنَّاقُوسَ لَهُمَا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَنْفُخُونَ فِي قَرْنٍ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَذَانِ، وَلَمْ تُذْكَرِ النَّارُ إِلَّا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، فَلَعَلَّهُمْ صَنَعُوا الْأَمْرَيْنِ، أَوْ كَانُوا فَرِيقَيْنِ، فَرِيقٌ يُوقِدُ النَّارَ، وَفَرِيقٌ يَنْفُخُ فِي الْقَرْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الْوَصْفِ، وَالْفَاءُ فِي الثَّانِي السَّبَبِيَّةُ يَعْنِي: وَصَفُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِعْلَامِ النَّاسِ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِيقَادَ النَّارِ لِظُهُورِهَا، وَضَرْبَ النَّاقُوسِ لِصَوْتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِذِكْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَالَ الْقَاضِي: لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَدِينَةَ، وَبَنَى الْمَسْجِدَ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِيمَا يُجْعَلُ عَلَمًا لِلْوَقْتِ، فَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، وَذَكَرَ آخَرُونَ مِنْهُمْ أَنَّ النَّارَ شِعَارُ الْيَهُودِ، وَالنَّاقُوسَ مِنْ شِعَارِ النَّصَارَى، فَلَوِ اتَّخَذْنَا أَحَدَهُمَا الْتَبَسَتْ أَوْقَاتُنَا بِأَوْقَاتِهِمْ فَتَفَرَّقُوا مِنْ غَيْرِ اتِّفَاقٍ عَلَى شَيْءٍ فَاهْتَمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَامَ فَرَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ قَائِلًا: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَخْ: فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا حَقٌّ قُمْ مَعَ بِلَالٍ، فَأَذِّنَا، فَإِنَّهُ أَنْدَى أَيْ أَرْفَعُ صَوْتًا مِنْكَ) فَلَمَّا أَذَّنَا وَسَمِعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) . رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى الْأَذَنَ فِي الْمَنَامِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأُمِرَ بِلَالٌ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ: أَيْ بِأَنْ يَأْتِيَ بِأَلْفَاظِهِ شَفْعًا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَقُولَ كُلَّ كَلِمَةٍ مَرَّتَيْنِ سِوَى آخِرِهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ) : أَيْ: وَيَقُولَ كَلِمَاتِ الْإِقَامَةِ مَرَّةً مَرَّةً سِوَى التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِقَامَةَ فُرَادَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ اهـ. وَسَيَأْتِي دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ (قَالَ إِسْمَاعِيلُ) : أَيِ: ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَهُ مِيرَكُ (فَذَكَرْتُهُ) : أَيِ: الْحَدِيثَ (لِأَيُّوبَ) : هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ، وَفِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ رَأَى أَنَسًا (فَقَالَ) : أَيْ: أَيُّوبُ (إِلَّا الْإِقَامَةَ) : أَيْ إِلَّا لَفْظَةَ الْإِقَامَةِ وَهِيَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، فَإِنَّ بِلَالًا يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ قَالَهُ مِيرَكُ.

642 - وَعَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «أَلْقَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ. فَقَالَ: " قُلِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ تَعُودَ فَتَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 642 - (وَعَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ) : اسْمُهُ: سَمُرَةُ أَوْ سَلَمَةُ بْنُ مُغِيرَةَ قَالَهُ مِيرَكُ (قَالَ: أَلْقَى) : أَيْ: أَمْلَى (عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَقَّنَنِي كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي أَبُو مَحْذُورٍ تَصْوِيرَ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تَعُودُ فَتَقُولُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الْأَمْرِ إِلَى الْمُضَارِعِ لِقَوْلِهِ (فَقَالَ: (قُلْ) : وَبَيَانُهُ أَنَّ (ثُمَّ تَعُودُ) عَطْفٌ عَلَى (قُلْ) لَا عَلَى (أَلْقَى) فَتَأَمَّلْ (اللَّهُ أَكْبَرْ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَتُرْفَعُ ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَالْغَرِيبَيْنِ: أَنَّ الرَّاءَ فِي أَكْبَرَ سَاكِنَةٌ فِي الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ كَذَا سُمِعَ مَوْقُوفًا غَيْرَ مُعْرَبٍ فِي مَقَاطِعِهِ كَقَوْلِهِمْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُسَنُّ لِلْمُؤَذِّنِ الْوَقْفُ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَكَذَا مَا بَعْدَ مَا لِأَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا وَإِنْ وُصِلَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ ضَمُّ الرَّاءِ وَاخْتَارَ الْمُبَرِّدُ فَتْحَهَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفَتْحَ أَخَفُّ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ تَفْخِيمَ لَامِ الْجَلَالَةِ كَمَا حَقَّقَ فِي: (الم اللَّهُ) وَإِلَّا فَالْقَاعِدَةُ الْمَشْهُورَةُ أَنَّ السَّاكِنَ إِذَا حُرِّكَ حُرِّكَ بِالْكَسْرِ كَمَا فِي لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ وَ (قُلِ اللَّهُمَّ) (اللَّهُ أَكْبَرُ) : أَيْ: أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُ كِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ، أَوْ مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، أَوْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي الْغَرِيبَيْنِ قِيلَ: مَعْنَاهُ اللَّهُ كَبِيرٌ، وَبَيَّنَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يُقْطَعُ عَنْ مُتَعَلِّقِهِ قَصْدًا إِلَى نَفْسِ الزِّيَادَةِ وَإِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ وَنَظِيرُهُ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ أَيْ: تُوجَدُ حَقِيقَتُهُمَا فِيهِ، وَإِفَادَةُ الْمُبَالِغَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَوْصُوفَ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَانْتَهَى أَمْرُهُ فِيهِ إِلَى أَنْ لَا يَتَصَوَّرَ لَهُ مَنْ يُشَارِكُهُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ أَوْصَافِ الْبَارِي - جَلَّ وَعَلَا - نَحْوَ: أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ أَفْعَلَ وَفَعِيلًا صِفَاتِهِ تَعَالَى سَوَاءٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِأَكْبَرَ إِثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي صِفَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الْمُشَارَكَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُسَاوِيهِ أَحَدٌ فِي أَصْلِ الْكِبْرِيَاءِ، فَكَانَ أَفْعَلُ بِمَعْنَى فَعِيلٍ، لَكِنْ فِي الْمَغْرِبِ: اللَّهُ أَكْبَرُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَفْسِيرُهُمْ إِيَّاهُ بِالْكَبِيرِ ضَعِيفٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ كَوْنِ كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ وَاحِدًا فِي صِفَاتِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَبِيرِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْكِبْرِيَاءَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِكَبِيرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ بِأَكْبَرَ فَتَدَبَّرْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَكْبَرَ أَظْهَرَ لَمْ يُجَوِّزْ بَعْضُهُمْ فِي التَّحْرِيمَةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ) : أَيْ: أَكْبَرُ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ، وَابْتُدِئَ بِهِ، لِأَنَّ فِي لَفْظَةِ اللَّهِ أَكْبَرَ مَعَ اخْتِصَارِهَا إِثْبَاتَ الذَّاتِ وَسَائِرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ، وَلِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ مِمَّا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ مَقَامٍ عَالٍ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْأَذَانَ يَكُونُ فِي مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَكْرِيرِهِ أَرْبَعًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ جَارٍ فِي الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَسَارٍ فِي تَطْهِيرِ شَهَوَاتِ النَّفْسِ النَّاشِئَةِ عَنْ طَبَائِعِهَا الْأَرْبَعِ، (أَشْهَدُ) : أَيْ: أَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ (أَنْ لَا إِلَهَ) : أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ (إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ تَعُودُ) : أَيْ: تَرْجِعُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ (فَتَقُولُ) : بِالْخِطَابِ فِيهِمَا وَهُمَا فِعْلَانِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْجِيعِ وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْخَفْضِ بِهِمَا، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ يَعْنِي فَإِنَّهُ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَعْلِيمًا فَظُنَّ تَرْجِيعًا أَيْ: قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَحَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى التَّرْجِيعَ مُؤَوَّلًا عَلَى أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ لَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ عَلَمُ الْإِيمَانِ وَمَنَارُ التَّوْحِيدِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) : حَيَّ: اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَفُتِحَتْ يَاؤُهُ لِسُكُونِ مَا قَبْلَهَا (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: هَلُمُّوا إِلَيْهَا وَأَقْبِلُوا عَلَيْهَا، وَتَعَالَوْا مُسْرِعِينَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّعَلَا لِعُمَرَ أَيِ: ابْدَأْ بِهِ وَاعْجَلْ بِذِكْرِهِ، وَهُمَا كَلِمَتَانِ جُعِلَتَا كَلِمَةً وَاحِدَةً. أَقُولُ: لَمَّا قِيلَ حَيَّ أَيْ أَقْبِلْ قِيلَ لَهُ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ أُجِيبَ: عَلَى الصَّلَاةِ. ذَكَرَ نَحْوَهُ الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]

(حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) : أَيِ: الْخَلَاصُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَالظَّفَرُ بِكُلِّ مُرَادٍ. وَقِيلَ: الْفَلَاحُ الْبَقَاءُ أَيْ أَسْرِعُوا إِلَى مَا هُوَ سَبَبُ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ وَالظَّفَرِ بِالثَّوَابِ وَالْبَقَاءِ فِي دَارِ الْمَآبِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِالْجَمَاعَةِ (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ) : كَرَّرَهُ بِمَا خَتَمَ بِهِ اقْتِصَارًا (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : خَتَمَ بِهِ إِشَارَةً إِلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ اخْتِصَارًا، وَلِيُوَافِقَ النِّهَايَةَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَالْأَرْبَعَةُ وَأَحْمَدُ قَالَهُ مِيرَكُ. اعْلَمْ أَنَّهُ فِي مَتْنِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ «عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ هَذَا الْأَذَانَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ، أَيْ بِالْغِيبَةِ فِيهِمَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ. حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ. حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ. زَادَ إِسْحَاقُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَكَذَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ فِي أَوَّلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ، وَوَقَعَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهِ أَرْبَعًا، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْفَارِسِيِّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبِالتَّرْبِيعِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَبِالتَّثْنِيَةِ قَالَ مَالِكٌ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِأَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ أَعْرَفُ بِالسُّنَنِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَبِأَنَّ التَّرْبِيعَ عَمَلُ أَهْلِ مَكَّةَ وَهِيَ مَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوَاسِمِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ يَقُولُ: أَلْقَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَانَ حَرْفًا حَرْفًا: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَخْ. وَلَمْ يَذْكُرْ تَرْجِيعًا فَتَعَارَضَا فَتَسَاقَطَا، وَيَبْقَى حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ سَلِمَا مِنَ الْمُعَارِضِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ عَدَمَ ذِكْرِهِ فِي حَدِيثٍ لَا يُعَدُّ مُعَارِضًا لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، نَعَمْ لَوْ صَرَّحَ بِالنَّفْيِ كَانَ مُعَارِضًا، مَعَ أَنَّ الْمُثْبَتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ النَّقْلَةَ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ تَعَارُضًا، وَلِذَا قَالَ: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ زَيْدٍ سَلِمَا مِنَ الْمُعَارَضَةِ، وَإِلَّا فَهُمَا لَا يَخْلُوَانِ مِنَ الْمُعَارِضِ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: التَّرْجِيعُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَذَا الْحَدِيثُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ لِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنْ لَا تَرْجِيعَ فِي أَذَانِ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَا، وَأَوَّلْنَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ تَعْلِيمَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبَا مَحْذُورَةَ الْأَذَانَ كَانَ عُقَيْبَ إِسْلَامِهِ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَكَرَّرَهَا، لِتَثْبُتَ فِي قَلْبِهِ، فَظَنَّ أَبُو مَحْذُورَةَ أَنَّهُ مِنَ الْأَذَانِ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّأْوِيلَ أَوْلَى مِنَ التَّسَاقُطِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ سَابِقًا عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 643 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 643 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ الْأَذَانُ) : أَيْ: أَلْفَاظُهُ مِنَ الْجُمَلِ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: فِي عَهْدِهِ عُدِّيَ بِعَلَى لِمَعْنَى الظُّهُورِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) : خُصَّ التَّكْبِيرُ عَنِ التَّكْرِيرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ، فَإِنَّهُ أَرْبَعُ خِلَافًا لِمَالِكٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَخُصَّ التَّهْلِيلُ عَنْهُ فِي آخِرِهِ عِنْدَ الْكُلِّ فَإِنَّهُ وَتْرٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرٍ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ التَّرْجِيعِ (وَالْإِقَامَةُ) : أَيْ: كَلِمَاتُهَا الْمُفِيدَةُ (مَرَّةً مَرَّةً، غَيْرَ أَنَّهُ) : أَيِ: الْمُؤَذِّنَ (كَانَ يَقُولُ) : أَيْ: فِي الْإِقَامَةِ (قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ) : أَيْ: مَرَّتَيْنِ، وَالْمَعْنَى قَارَبَتْ قِيَامَهَا، وَفِي النِّهَايَةِ: قَامَ أَهْلُهَا أَوْ حَانَ قِيَامُ أَهْلِهَا، وَقِيلَ عُبِّرَ بِالْمَاضِي إِعْلَامًا بِأَنَّ فِعْلَهَا الْقَرِيبَ الْوُقُوعِ كَالْمُحَقَّقِ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ وَيُبَادِرَ إِلَيْهِ، وَيَنْبَغِي اسْتِثْنَاءُ التَّكْبِيرِ أَيْضًا أَوَّلًا وَآخِرًا، فَإِنَّهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَالِحٌ عِنْدَهُ قَالَهُ مِيرَكُ. (وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

644 - وَعَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 644 - (وَعَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَتُكْسَرُ أَيْ: مَعَ التَّرْجِيعِ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ (كَلِمَةً) : الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ (وَالْإِقَامَةَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْأَذَانِ أَيْ: وَعَلَّمَهُ الْإِقَامَةَ (سَبْعَ عَشْرَةَ) : بِالْوَجْهَيْنِ (كَلِمَةً) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّهُ لَا تَرْجِيعَ فِيهَا فَانْحَذَفَ عَنْهَا كَلِمَتَانِ، وَزِيدَتِ الْإِقَامَةُ شَفْعًا تَفْصِيلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثٌ مِنْهَا تَوْكِيدٌ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّتَانِ. الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ، وَكَذَا أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَانِ. وَحَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَانِ. وَحَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَانِ. وَقَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَانِ. وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَلِمَتَانِ. وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَالْإِقَامَةُ عِنْدَ مَالِكٍ إِحْدَى عَشْرَةَ كَلِمَةً، لِأَنَّهُ يَقُولُ كُلَّ كَلِمَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَّا كَلِمَةَ التَّكْبِيرِ، وَالْإِقَامَةَ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

645 - وَعَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي سُنَّةَ الْأَذَانِ، قَالَ: فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ. قَالَ: (تَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، تَرْفَعُ بِهَا صَوْتَكَ. ثُمَّ تَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، تَخْفِضُ بِهَا صَوْتَكَ، ثُمَّ تَرْفَعُ صَوْتَكَ بِالشَّهَادَةِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، قُلْتَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 645 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: أَبِي مَحْذُورَةَ (قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي سُنَّةَ الْأَذَانِ) : أَيْ: طَرِيقَتَهُ فِي الشَّرْعِ (قَالَ) : أَيِ الرَّاوِي (فَمَسَحَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مُقَدَّمَ رَأْسِهِ) : أَيْ: رَأَسَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ عَلَى الرَّأْسِ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، إِذْ فِي الْعَادَةِ يُقَالُ: عَلَى الرَّأْسِ لَا أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الرَّأْسِ، وَأَيْضًا هَذَا يَصْدُرُ مِنَ الْأَصَاغِرِ لِلْأَكَابِرِ دُونَ الْعَكْسِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِعْلُ اتِّفَاقٍ ذَكَرَهُ الرَّاوِي اسْتِحْضَارًا لِلْقَضِيَّةِ بِكَمَالِهَا، أَوْ رَأْسُ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَمَسَحَ رَأْسِيَ، لِيَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ يَدِهِ الْمُوصَلَةِ إِلَى الدِّمَاغِ وَغَيْرِهِ، فَيَحْفَظُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ، وَيُمْلَى عَلَيْهِ (قَالَ: (تَقُولَ ") : بِتَقْدِيرٍ أَنْ؛ أَيِ الْأَذَانَ قَوْلَكَ، وَقِيلَ: أُطْلِقَ الْفِعْلُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْحَدَثُ عَلَى مَجَازِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ، أَوْ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَيْ قُلْ: " (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، تَرْفَعُ بِهَا صَوْتَكَ ") : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ " (ثُمَّ تَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، تَخْفِضُ بِهَا صَوْتَكَ، ثُمَّ تَرْفَعُ صَوْتَكَ بِالشَّهَادَةِ ") : هَذَا بِظَاهِرِهِ يُنَافِي التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ أَنْ يُقَالَ بِتَرْجِيحِ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ حَيْثُ لَا تَرْجِيحَ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي مَحْذُورَةَ وَقَعَ أَوَّلًا، وَسَائِرَ الْأَحَادِيثِ آخِرًا، فَيَكُونُ حَدِيثُهُ مَنْسُوخًا (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. فَإِنْ كَانَ) : أَيِ: الْوَقْتُ أَوْ مَا يُؤَذَّنُ لَهَا " (صَلَاةَ الصُّبْحِ ") : بِالنَّصْبِ أَيْ وَقْتَهُ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ فَكَانَ تَامَّةٌ (قُلْتَ) : أَيْ: فِي أَذَانِهَا " (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) : أَيْ: لَذَّتُهَا خَيْرٌ مِنْ لَذَّتِهِ عِنْدَ أَرْبَابِ الذَّوْقِ وَأَصْحَابِ الشَّوْقِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِنَدْبِ مَا ذُكِرَ فِي الصُّبْحِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا كَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ نَشَأَ عَنْ قِلَّةِ اطِّلَاعٍ عَلَى مَذْهَبِهِ. (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ قَالَ النَّوَوِيُّ: حَسَنٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

646 - وَعَنْ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُثَوِّبَنَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَبُو إِسْرَائِيلَ الرَّاوِي لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 646 - (وَعَنْ بِلَالٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُثَوِّبَنَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ) : التَّثْوِيبُ لُغَةً إِعْلَامٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أُخْرَى (إِلَّا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ) : فِي الْفَائِقِ: الْأَصْلُ فِي التَّثْوِيبِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا جَاءَ مُسْتَصْرِخًا لَوَّحَ بِثَوْبِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دُعَاءً وَإِنْذَارًا ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى سُمِّيَ الدُّعَاءُ تَثْوِيبًا، وَقِيلَ: هُوَ تَرْدِيدُ الدُّعَاءِ تَفْعِيلٌ مِنْ ثَابَ إِذَا رَجَعَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِصَوْتِ الْمُؤَذِّنِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ التَّثْوِيبُ وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ: الْمُؤَذِّنُ إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ دَعَاهُمْ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَقَدْ رَجَعَ إِلَى كَلَامٍ مَعْنَاهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: أَوْ يَرْجِعُ النَّاسُ عَنِ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَخَصُّوا بِهِ الْفَجْرَ فَكَرِهُوهُ فِي غَيْرِهِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ مُؤَذِّنًا يَثُوبُ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: قُمْ حَتَّى نَخْرُجَ مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنْكَارُهُ بِقَوْلِهِ: أَخْرِجُوا هَذَا الْمُبْتَدِعَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا التَّثْوِيبُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اهـ. وَاسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ التَّثْوِيبَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ ; أَبُو إِسْرَائِيلَ الرَّاوِي لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ) : وَقِيلَ: كَانَ رَافِضِيًّا يَشْتِمُ الصَّحَابَةَ، وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَرَكَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ الْأَزْهَارِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا يُكْرَهُ التَّثْوِيبُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ لَمْ يَأْخُذُوهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَهُوَ لَا يَحْتَجُّ فِي الْكَرَاهَةِ، بَلْ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ) .

647 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ: (إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ مَا بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ مَجْهُولٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 647 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ: (إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ) : أَيْ: تَمَهَّلْ، وَافْصِلِ الْكَلِمَاتِ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ بِسَكْتَةٍ خَفِيفَةٍ. فِي النِّهَايَةِ: أَيْ تَأَنَّ وَلَا تَعْجَلْ. يُقَالُ: تَرَسَّلَ فُلَانٌ فِي كَلَامِهِ وَمِشْيَتِهِ إِذَا لَمْ يَعْجَلْ وَهُوَ التَّرْسِيلُ سَوَاءٌ وَفِي الْفَائِقِ: حَقِيقَةُ التَّرَسُّلِ طَلَبُ الرَّسَلِ وَهُوَ الْهَيِّنَةُ وَالسُّكُونُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ تَأَنَّ فِي ذَلِكَ بِأَنْ تَأْتِيَ بِكَلِمَاتٍ مُبِينَةٍ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ مُجَاوِزٍ لِلْحَدِّ، وَمِنْ ثَمَّ تَأَكَّدَ عَلَى الْمُؤَذِّنِينَ أَنْ يَحْتَرِزُوا مِنْ أَغْلَاطٍ يَقَعُونَ فِيهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا كُفْرٌ لِمَنْ تَعَمَّدَهُ كَمَدِّ هَمْزَةِ أَشْهَدُ، فَيَصِيرُ اسْتِفْهَامًا وَمَدِّ بَاءِ أَكْبَرُ فَيَصِيرُ جَمْعَ كَبْرٍ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ، وَمِنَ الْوَقْفِ عَلَى إِلَهَ وَالِابْتِدَاءِ بِاللَّهِ، وَبَعْضُهَا لَحْنٌ خَفِيٌّ كَتَرْكِ إِدْغَامِ دَالِ مُحَمَّدٍ فِي رَاءِ رَسُولِ اللَّهِ وَمَدِّ أَلِفِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ، وَقَلْبِ الْأَلِفِ هَاءً مِنَ اللَّهِ، وَعَدَمِ النُّطْقِ بِهَاءِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ دُعَاءً إِلَى النَّارِ اهـ. وَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ مَدُّ هَمْزَةِ أَكْبَرَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ اسْتِفْهَامًا أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: وَالِابْتِدَاءُ بِاللَّهِ لَيْسَ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ، بَلِ الْوَقْفُ عَلَى إِلَهٍ فَقَطْ فَذِكْرُهُ لَغْوٌ، وَقَوْلُهُ إِدْغَامُ دَالِ مُحَمَّدٍ أَيْ تَنْوِينُ دَالِهِ وَإِلَّا فَإِدْغَامُ دَالِهِ مِنْ أَكْبَرِ اللُّحُونِ، وَإِطْلَاقُ مَدِّ أَلِفِ اللَّهِ وَمَا بَعْدَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَصْرُهُ وَتَوَسُّطُهُ وَمَدُّهُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَلِفَاتٍ حَالَةَ الْوَقْفِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: قَلْبِ الْأَلِفِ قَلْبَ الْهَمْزَةِ فَفِي عِبَارَتِهِ مُسَامَحَةٌ. (وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ ") : بِضَمِّ الدَّالِّ وَكَسْرِهَا أَيْ: أَسْرِعَ فِي التَّلَفُّظِ بِهَا وَصِلْ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ مِنْ غَيْرِ دَرْجٍ وَدَمْجٍ، وَلَا تَسْكُتْ بَيْنَهَا (وَاجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ) : أَيْ: زَمَانًا يَسِيرًا بِحَيْثُ يَكُونُ (قَدْرَ مَا يَفْرَغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ) : قِيلَ: كَأَنَّهُ فِي الْعِشَاءِ لِاتِّسَاعِ وَقْتِهِ (وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ) : بِتَثْلِيثِ الشِّينِ، وَالْمَشْهُورُ الضَّمُّ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ. كَأَنَّهُ فِي الْمَغْرِبِ لِضِيقِ وَقْتِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي تَضْيِيقِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي قَدْ بَاشَرَهَا مُرِيدُ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ بِصَلَاةٍ دُونَ صَلَاةٍ " (وَالْمُعْتَصِرُ) : أَيْ: وَيَفْرَغُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى الْغَائِطِ وَيَعْصُرُ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ، كَنَّى بِذَلِكَ حَذَرًا عَنِ التَّفَوُّهِ بِالتَّصْرِيحِ بِمَا

يَسْتَوْحِشُ بِذِكْرِهِ صَرِيحًا، وَهُوَ مِنَ الْعَصْرِ أَوِ الْمُعْصِرِ وَهُوَ الْمَلْجَأُ. وَقِيلَ: هُوَ الْحَاقِنُ أَيِ: الَّذِي يُؤْذِيهِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ (إِذَا دَخَلَ) : أَيِ: الْخَلَاءَ (لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ) : يَعْنِي: فَاصْبِرْ حَتَّى يَتَوَضَّأَ الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأَهُّبِ لِلصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَأَنَّهُ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِتَقَارُبِ أَوْقَاتِهَا (وَلَا تَقُومُوا) : أَيْ: لِلصَّلَاةِ إِذَا أَقَامَ الْمُؤَذِّنُ (حَتَّى تَرَوْنِي) : أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْقِيَامَ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِمَامِ تَعَبٌ بِلَا فَائِدَةٍ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْحُجْرَةِ بَعْدَ شُرُوعِ الْمُؤَذِّنِ فِي الْإِقَامَةِ، وَيَدْخُلُ فِي مِحْرَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ قَوْلِهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَلِذَا قَالَ أَئِمَّتُنَا: وَيَقُومُ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ عِنْدَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَيَشْرَعُ عِنْدَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ عِنْدَ فَرَاغِ الْمُقِيمِ مِنْ إِقَامَتِهِ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: السُّنَّةُ أَنْ لَا يَقُومَ الْمَأْمُومُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُقِيمُ مِنْ جَمِيعِ إِقَامَتِهِ اهـ. وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ رَفْعِهِ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلْمُؤَذِّنِينَ أَيْ: لَا تَقُومُوا لِلْإِقَامَةِ حَتَّى تَرَوْنِي أَخْرُجُ مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ) : أَيْ: إِسْنَادُهُ (إِسْنَادٌ مَجْهُولٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صَحَّحَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ الْأَمْرَ بِتَرَسُّلِ الْأَذَانِ وَإِدْرَاجِ الْإِقَامَةِ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ خَبَرَ: «لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» .

648 - وَعَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْ أَذِّنْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ) فَأَذَّنْتُ. فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 648 - (وَعَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ) : هُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَذَّنَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (الصُّدَائِيِّ) : بِضَمِّ الصَّادِ مَنْسُوبٌ إِلَى صُدَاءَ مَمْدُودًا، وَهُوَ حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْ أَذِّنْ) : أَنْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي أَمَرَ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ (فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَأَذَّنْتُ) : وَلَعَلَّهُ كَانَ بِلَالٌ غَائِبًا فَحَضَرَ (فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ) : عَلَى عَادَتِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَخَا صُدَاءَ قَدْ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ) : أَيِ: الْإِقَامَةَ فَيُكْرَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لَا يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ رُبَّمَا كَانَ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ بِلَالٌ، وَرُبَّمَا كَانَ عَكْسَهُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَحِقَهُ الْوَحْشَةُ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: ضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ لِأَجْلِ الْإِفْرِيقِيِّ، وَحَسَّنَهُ الْحَازِمِيُّ، وَقُوَّاهُ الْعُقَيْلِيُّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ إِلَّا أَنَّهُ أَوْلَى كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ خَبَرِ: «إِنَّ بِلَالًا أَذَّنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَرَى الرُّؤْيَا وَيُؤَذِّنُ بِلَالٌ. قَالَ: أَقِمْ أَنْتَ» . لِمَا فِي إِسْنَادِ هَذَا وَمَتْنِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَقْوَمُ إِسْنَادًا مَعَ تَأَخُّرِهِ. وَالْأَخْذُ بِآخِرِ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ الْحَازِمِيَّ وَغَيْرَهُ حَسَّنُوا إِسْنَادَ خَبَرِ الصُّدَائِيِّ هَذَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 649 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ لِلصَّلَاةِ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اتَّخِذُوا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا بِلَالُ! قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 649 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ) : أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ (فَيَتَحَيَّنُونَ) : أَيْ: يُقَدِّرُونَ حِينَ الصَّلَاةِ، وَيُعَيِّنُونَ وَقْتَهَا بِالتَّقْدِيرِ وَالتَّخْمِينِ، لِيَأْتُوا فِيهِ (لِلصَّلَاةِ) : أَيْ: لِتَحْصِيلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلَيْنِ عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ (وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا) : أَيْ: بِالصَّلَاةِ (أَحَدٌ فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ) : أَيْ: فِي إِشْكَالِهِ أَوْ مُعَالَجَتِهِ (فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اتَّخِذُوا) : بِصِيغَةِ الْأَمْرِ (مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا) : أَيْ:، بَلِ اتَّخِذُوا قَرْنًا (مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ) : وَكَانَ بَعْضُهُمْ قَالَ: اتَّخِذُوا نَارًا مِثْلَ نَارِ بَعْضِ الْيَهُودِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ (فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ) الْوَاوُ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: تَقُولُونَ. بِمُوَافَقَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا تَبْعَثُونَ وَالْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَمُقَرِّرَةٌ لِلثَّانِيَةِ حَثًّا وَبَعْثًا أَيْ: أَرْسِلُوا (رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) : أَيْ: بِالصَّلَاةِ جَامِعَةٌ لِمَا فِي مُرْسَلٍ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُنَادِي بِقَوْلِهِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، ثُمَّ شَرَعَ الْأَذَانَ» . وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِعْلَامٌ وَإِخْبَارٌ بِحُضُورِ وَقْتِهَا، وَلَيْسَ عَلَى صِفَةِ الْأَذَانِ الشَّرْعِيِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ لِمَا يُؤْذِنُ بِوَجْهِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُ رَأَى الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الْوَاقِعُ أَوَّلًا الْإِعْلَامَ، ثُمَّ رُؤْيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، فَشَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا بِوَحْيٍ أَوِ اجْتِهَادٍ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ عَلَيْهِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَلَيْسَ هُوَ عَمَلًا بِمُجَرَّدِ الْمَنَامِ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِذْ رُؤْيَةُ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - لَا يُبْتَنَى عَلَيْهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ بِالِاجْتِهَادِ أَوِ الْوَحْيِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّازِقِ وَأَبِي دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ طَرِيقِ بَعْضِ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ: «أَنَّ عُمَرَ لَمَّا رَأَى الْأَذَانَ جَاءَ لِيُخْبِرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ الْوَحْيَ قَدْ وَرَدَ بِذَلِكَ، فَمَا رَاعَهُ إِلَّا أَذَانُ بِلَالٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَذَلِكَ الْوَحْيُ) » وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا حَكَى الدَّاوُدِيُّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى بِهِ قَبْلَ هَذِهِ الرُّؤْيَا بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ. وَأَجَابَ السُّهَيْلِيُّ عَنْ حِكْمَةِ تَرَتُّبِ الْأَذَانِ دُونَ سَائِرِ الْأَحْكَامِ عَلَى رُؤْيَا بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهَا رُؤْيَا حَقٍّ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ: «لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الْأَذَانَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْبُرَاقِ، فَلَمَّا اخْتَرَقَ الْحُجُبَ خَرَجَ لَهُ مَلَكٌ، فَسَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ تَعَالَى: صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أَنَا أَكْبَرُ، وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْأَذَانِ» . قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهَذَا أَقْوَى مِنَ الْوَحْيِ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ الْأَذَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَرَادَ إِعْلَامَ النَّاسِ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، فَلَبِثَ الْوَحْيُ حَتَّى رَأَى عَبْدُ اللَّهِ الرُّؤْيَا، فَوَافَقَتْ مَا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ قَالَ: رُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا أَرَاهُ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً فِي الْأَرْضِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

650 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ ابْنِ عَبْدِ رَبِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ ; لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ، طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى. قَالَ: فَقَالَ: تَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، إِلَى آخِرِهِ، وَكَذَا الْإِقَامَةُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ. فَقَالَ: (إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ) . فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ، فَجَعَلْتُ أُسَمِّعُهُ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ. قَالَ فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا أَرَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ ; إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْإِقَامَةَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ قِصَّةَ النَّاقُوسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 650 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: ابْنِ ثَعْلَبَةَ (ابْنِ عَبْدِ رَبِّهِ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، الْأَنْصَارِيِّ، الْخَزْرَجِيِّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ مَعَ السَّبْعِينَ، وَبَدَرًا، وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ أَبَوَاهُ صَحَابِيَّيْنِ، قَالَهُ فِي التَّقْرِيبِ. (قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ) : لَعَلَّ مَعْنَاهُ أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ (يُعْمَلُ) : حَالٌ، وَهُوَ مَجْهُولٌ كَقَوْلِهِ (لِيُضْرَبَ بِهِ) : أَيْ: بِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ (لِلنَّاسِ) : أَيْ: لِحُضُورِهِمْ، وَفِي نُسْخَةٍ: لِيَضْرِبَ بِهِ النَّاسُ، أَيْ: أَحَدُهُمْ (لِجَمْعِ الصَّلَاةِ) : أَيْ: لِأَدَائِهَا جَمَاعَةً (طَافَ بِي) : جَوَابُ لَمَّا أَيْ مَرَّ بِي (وَأَنَا نَائِمٌ) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ طَيْفُ الْخَيَالِ مَجِيئُهُ فِي

النَّوْمِ يُقَالُ: مِنْهُ طَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ طَيْفًا وَمَطَافًا. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ (رَجُلٌ) : فِي الْحَدِيثِ فَاعِلٌ وَهُوَ الْخَيَالُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: جَاءَ رَجُلٌ فِي عَالَمِ الْخَيَالِ (يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ) : الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِرَجُلٍ (فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ (قُلْتُ: نَدْعُو) : أَيِ: النَّاسَ (بِهِ) : أَيْ: بِسَبَبِ ضَرْبِهِ وَحُصُولِ الصَّوْتِ بِهِ (إِلَى الصَّلَاةِ) : أَيْ: صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ أَوْ بَدَلٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ: (أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى. قَالَ) : أَيِ: الرَّاوِي، وَهُوَ الرَّائِي (فَقَالَ) : أَيِ: الْمَرْئِيُّ (تَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِهِ) : أَيْ: إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ بِالْكَيْفِيَّةِ السَّابِقَةِ (وَكَذَا) : أَيْ: وَمِثْلُ الْأَذَانِ (الْإِقَامَةُ) : وَظَاهِرُهُ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَيْ: أَعْلَمَهُ إِيَّاهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ غَيْرَ بَعِيدٍ أَيْ بَعْدَمَا عَلَّمَهُ الْأَذَانَ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ تَقُولَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِ الْإِقَامَةِ. (فَلَمَّا أَصْبَحْتُ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ) : أَيْ: مِنَ الرُّؤْيَا (فَقَالَ: " إِنَّهَا) : أَيْ: رُؤْيَاكَ (لَرُؤْيَا حَقٍّ) : أَيْ: ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْوَحْيِ، أَوْ مُوَافِقَةٌ لِلِاجْتِهَادِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) : تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِلتَّعْلِيقِ (فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ، فَأَلْقِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: أَمْلِ (عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَيُؤَذِّنَ (بِهِ) : أَيْ: بِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ (فَإِنَّهُ) : أَيْ: بِلَالًا (أَنْدَى) : أَيْ: أَرْفَعُ (صَوْتًا مِنْكَ) : قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ النِّدَاءِ مِنَ النَّدَى أَيِ الرُّطُوبَةِ يُقَالُ: صَوْتٌ نَدِيٌّ أَيْ رَفِيعٌ، وَاسْتِعَارَةُ النِّدَاءِ لِلصَّوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ تَكْثُرُ رُطُوبَةُ فَمِهِ حَسُنَ كَلَامُهُ، وَيُعَبَّرُ بِالنَّدَى عَنِ السَّخَاءِ. يُقَالُ: فُلَانٌ أَنْدَى كَفًّا مِنْ فُلَانٍ أَيْ: أَسْخَى اهـ. وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ يُؤْخَذُ اسْتِحْبَابُ كَوْنِ الْمُؤَذِّنِ رَفِيعَ الصَّوْتِ حَسَنَهُ (فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ، فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ) : أَيْ: أُلَقِّنُهُ لَهُ (وَيُؤَذِّنُ بِهِ، قَالَ: فَسَمِعَ بِذَلِكَ) : أَيْ: بِصَوْتِ الْأَذَانِ (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَخَرَجَ) : أَيْ: مُسْرِعًا. وَفِي رِوَايَةٍ: فَجَعَلَ (يَجُرُّ رِدَاءَهُ) : أَيْ: وَرَاءَهُ (يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا أَرَى) : وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْهُ بَعْدَمَا حَكَى لَهُ بِالرُّؤْيَا السَّابِقَةِ، أَوْ كَانَ مُكَاشَفَةً لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلِلَّهِ) : أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ " الْحَمْدُ ": حَيْثُ أَظْهَرَ الْحَقَّ ظُهُورًا، وَازْدَادَ فِي الْبَيَانِ نُورًا. (رَوَاهُ، أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّهُ) : أَيِ: ابْنَ مَاجَهْ (لَمْ يَذْكُرِ الْإِقَامَةَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ) : أَيِ: التِّرْمِذِيَّ (لَمْ يُصَرِّحْ قِصَّةَ النَّاقُوسِ) : وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وَلَوْ قُلْتَ إِنِّي لَمْ أَكُنْ نَائِمًا لَصَدَقْتَ. رَأَيْتُ شَخْصًا عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ رُؤْيَاهُ كَانَتْ لَيْلَةَ شِتَاءٍ، وَفِي أَوْسَطِ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَى أَيْضًا - وَفِي وَسِيطِ الْغَزَالِيِّ: رَآهُ بِضْعَةَ عَشَرَ، وَأَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ، ثُمَّ مَشْرُوعِيَّةُ الْأَذَانِ فِي ثَانِي سِنِيِّ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ فِي أَوَّلِهَا، وَالرِّوَايَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّهُ شُرِعَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ. وَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ «أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ جِبْرِيلُ أَذَّنَهُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَسَمِعَهُ بِلَالٌ وَعُمَرُ، فَسَبَقَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَبَقَكَ بِهَا عُمَرُ» ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا سَمِعَاهُ يَقَظَةً، وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ يَرُدُّ ذَلِكَ.

651 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِرَجُلٍ إِلَّا نَادَاهُ بِالصَّلَاةِ، أَوْ حَرَّكَهُ بِرِجْلِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 651 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : هُوَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ الثَّقَفِيُّ. (قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْوَاوِ (لَا يَمُرُّ بِرَجُلٍ إِلَّا نَادَاهُ بِالصَّلَاةِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أَعْلَمَهُ بِهَا لَفْظًا، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْأَذَانِ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا تَعَاطَى النِّدَاءَ لِلصَّلَاةِ بِنَفْسِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ حَثٍّ عَلَى الْأَذَانِ اهـ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ التَّثْوِيبِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ظَهَرَ لِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مُنَاسَبَتُهُ لِلْبَابِ مُجَرَّدُ النِّدَاءِ (أَوْ حَرَّكَهُ بِرِجْلِهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ إِذَا كَانَ مَشْغُولًا بِنَوْمٍ وَنَحْوِهُ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى إِيقَاظِ النَّائِمِ وَنَحْوِهُ لِلصَّلَاةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَحْرِيكِهِ بِرِجْلِهِ جَوَازُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلَا نَظَرٍ إِلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْحَمْقَى وَالْجَهَلَةِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ فِيهِ تَحْقِيرٌ أَوْ إِهَانَةٌ لِلنَّائِمِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

652 - وَعَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ عُمَرَ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا. فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 652 - (وَعَنْ مَالِكٍ بَلَغَهُ) وَفِي نُسْخَةٍ: بَلَغَنِي (أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ عُمَرَ يُؤْذِنُهُ) : بِهَمْزَةٍ وَيُبْدَلُ مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ: بِالتَّخْفِيفِ أَيْ يُعْلِمُهُ (لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا) : أَيْ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ (فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ: أَيْ: فِي أَذَانِ الصُّبْحِ فَقَطْ، وَلَا يَجْعَلَهَا لِإِيقَاظِ النَّائِمِ فِي غَيْرِ الْأَذَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ هَذَا إِنْشَاءَ أَمْرٍ ابْتَدَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ كَانَتْ سُنَّةً سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، كَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْكَرَ عَلَى الْمُؤَذِّنِ اسْتِعْمَالَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فِي غَيْرِ مَا شُرِعَ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضُرُوبِ الْمُوَافَقَةِ كَمَا مَرَّ آنِفًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «لَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ» ) . قُلْتُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي بَعِيدٌ جِدًّا ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَجِيءِ الْمُؤَذِّنِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ فِي أَيَّامِ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ يُنَافِي الْمُوَافَقَةَ، وَيُبْعِدُ عَدَمَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ سَابِقًا، لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَصْلُ التَّثْوِيبِ مُطْلَقًا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، أَوِ الْمَخْصُوصُ بِالصُّبْحِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ مِنَ النَّوْمِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَوْمَ الْقَيْلُولَةِ، أَوِ الْمَخْصُوصُ بِالْخَلِيفَةِ وَالْقَاضِي وَالْإِمَامِ عَلَى رَأْيِ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ تَحْرِيرُ الْمُوَافِقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهُ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ بِهِ أَوَّلًا، وَاسْتَحْسَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَمَرَ بِهِ صَارَ سَبَبًا لِأَمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ السَّابِقُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ اجْتِهَادًا فَوَافَقَ اجْتِهَادُهُ النَّصَّ عَلَى عَادَتِهِ، كَمَا وَقَعَ لَهُ فِي ذَاتِ عِرْقٍ وَغَيْرِهَا، وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ كَانَ بَلَغَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ، فَمَا جَمَعَهُ مِنَ الْمُؤَذِّنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَذَكَّرَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَمَرْدُودَانِ لِلُزُومِ أَنَّهُ كَانَ مَتْرُوكًا مِنَ الْأَذَانِ فِي الْمَدِينَةِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَعُولُ أَنَّهُ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ عَنْ بِلَالٍ «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَا أَحْسَنَ هَذَا اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ» ) (رَوَاهُ) : أَيْ: مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) : وَقَدْ سَبَقَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنَّفِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ.

653 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ، مُؤَذِّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ قَالَ: (إِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ) » رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 653 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ) : أَيْ: سَعْدٍ الْقُرَظِيِّ، وَكَانَ مُؤَذِّنَ قُبَاءٍ فِي عَهْدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَخَلِيفَةَ بِلَالٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ عَهْدِهِ (مُؤَذِّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنْ سَعْدٍ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ وَنَصْبُهُ (قَالَ) : أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) : أَيْ: جَدِّ أَبِي (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا، أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ) : أَيْ: أُنْمُلَتَيْ مِسْبَحَتَيْهِ، وَالْأُصْبُعُ مُثَلَّثُ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ (فِي أُذُنَيْهِ) : أَيْ: فِي صِمَاخَيْهِمَا (وَقَالَ: " إِنَّهُ ") : أَيْ: جَعْلَهُمَا فِي الْأُذُنَيْنِ (أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ) : أَيْ: مِنْ حَالَةِ عَدَمِ جَعْلِهِمَا فِيهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ أَنَّهُ إِذَا سَدَّ صِمَاخَيْهِ لَا يَسْمَعُ إِلَّا الصَّوْتَ الرَّفِيعَ، فَيَتَحَرَّى فِي اسْتِقْصَائِهِ كَالْأُطْرُوشِ، قِيلَ: وَبِهِ يَسْتَدِلُّ الْأَصَمُّ عَلَى كَوْنِهِ أَذَانًا، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي الْإِعْلَامِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُسَنُّ ذَلِكَ فِي الْإِقَامَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى أَبْلَغِيَّةِ الْإِعْلَامِ لِحُضُورِ السَّامِعِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ لَوْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ وَأَرَادَ إِسْمَاعَهَا فَقَطْ لَمْ يُسَنَّ لَهُ جَعْلُهُمَا فِي أُذُنَيْهِ اهـ. وَهُوَ مُحْتَمَلٌ اهـ. وَأَقْرَبُ الِاحْتِمَالَيْنِ أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ لِأَنَّ الرَّفْعَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ حَدِيثِ: ( «لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ أَنَّ بِلَالًا فَعَلَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[باب فضل الأذان وإجابة المؤذن]

[بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ]

(5) بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 654 - عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [5] بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ عَطْفٌ عَلَى الْأَذَانِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 654 - (عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ " (يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : أَيْ: أَكْثَرُهُمْ أَعْمَالًا يُقَالُ: لِفُلَانٍ عُنُقٌ مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ: قِطْعَةٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: أَكْثَرُهُمْ رَجَاءً، لِأَنَّ مَنْ يَرْجُو شَيْئًا طَالَ عُنُقُهُ إِلَيْهِ، فَالنَّاسُ يَكُونُونَ فِي الْكَرْبِ، وَهُمْ فِي الرُّوحِ يَشْرَئِبُّونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ طُولَ الْعُنُقِ يَدُلُّ غَالِبًا عَلَى طُولِ الْقَامَةِ، وَطُولُهَا لَا يُطْلَبُ لِذَاتِهِ، بَلْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَيُّزِهِمْ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ، وَارْتِفَاعِ شَأْنِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: طُولُ الْعُنُقِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّشَوُّقِ وَالْخَجَالَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُمْ لَا يُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ يَوْمَ يَبْلُغُ أَفْوَاهَ النَّاسِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَالْوَصْفُ بِطُولِ الْقَامَةِ لَيْسَ لِذَاتِهِ هُنَا أَيْضًا، بَلْ لِلنَّجَاةِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ رُؤَسَاءَ يَوْمَئِذٍ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ السَّادَةَ بِطُولِ الْعُنُقِ كَمَا قَالَ: الرُّءُوسُ وَالنَّوَاصِي وَالصُّدُورُ، وَقِيلَ: الْأَعْنَاقُ الْجَمَاعَاتُ يُقَالُ: جَاءَ عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ، أَيْ: جَمَاعَةٌ: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ جَمْعَ الْمُؤَذِّنِينَ يَكُونُ أَكْثَرَ، فَإِنَّ مَنْ أَجَابَ دَعْوَتَهُمْ يَكُونُ مَعَهُمْ، فَالطُّولُ مَجَازٌ عَنِ الْكَثْرَةِ ; لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا تَوَجَّهُوا لِمَقْصَدِهِمْ يَكُونُ لَهُمُ امْتِدَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: طُولُ الْعُنُقِ كِنَايَةٌ عَنِ الْفَرَحِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ، كَمَا أَنَّ خُضُوعَ الْعُنُقِ كِنَايَةٌ عَنِ الْهَمِّ وَالْهَوَانِ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَعِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِطُولِ الْأَعْنَاقِ اسْتِقَامَتَهُمْ طُمَأْنِينَةً لِقُلُوبِهِمْ وَإِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ وَاقِفِينَ مَوْقِفَ الْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ وَلَا نَاكِسِي رُءُوسِهِمْ كَالْمُجْرِمِينَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَدِّ أَعْنَاقِهِمْ فِي الْأَذَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَرَوَى بَعْضُهُمْ: (إِعْنَاقًا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ: إِسْرَاعًا مِنْ أَعْنَقَ إِذَا أَسْرَعَ اهـ. قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: وَقَدْ بَالَغَ مَنْ ضَبَطَ (إِعْنَاقًا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَيْ إِسْرَاعًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَخَالَفَ الرِّوَايَةَ وَحَرَّفَ الْمَعْنَى، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

655 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ ; يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 655 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أَيْ: بِالْأَذَانِ (أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) أَيْ: عَنْ مَوْضِعِ الْأَذَانِ (لَهُ ضُرَاطٌ) - بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ - كَغُرَابٍ وَهُوَ رِيحٌ مِنْ أَسْفَلِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا لِثِقَلِ الْأَذَانِ عَلَيْهِ، كَمَا لِلْحِمَارِ مِنْ ثِقَلِ الْحِمْلِ (حَتَى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ) : تَعْلِيلٌ لِإِدْبَارِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: شُبِّهَ شَغْلُ الشَّيْطَانِ نَفْسَهُ، وَإِغْفَالُهُ عَنْ سَمَاعِ الْأَذَانِ بِالصَّوْتِ الَّذِي يَمْلَأُ السَّمْعَ، وَيَمْنَعُهُ عَنْ سَمَاعِ غَيْرِهِ، ثُمَّ سَمَّاهُ ضُرَاطًا تَقْبِيحًا لَهُ اهـ.

وَقِيلَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ، فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَلِكَ مِنْهُمْ خَوْفًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أَوِ الْمُرَادُ اسْتِخْفَافُ اللَّعِينِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَطَ بِهِ فُلَانٌ إِذَا اسْتَخَفَّهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (فَإِذَا قَضَى) مَجْهُولٌ، وَقِيلَ: مَعْرُوفٌ، ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: (حَتَّى إِذَا قَضَى) (حَتَّى) هِيَ وَاللَّتَانِ بَعْدَهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَلَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ - خَطَآنِ ; إِذْ صَوَابُهُ: فَإِذَا قُضِيَ عَلَى مَا فِيهِ النُّسَخُ الْمُصَحَّحَةُ (النِّدَاءَ) أَيْ: فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْهُ (أَقْبَلَ) أَيِ: الشَّيْطَانُ (حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) : مِنَ التَّثْوِيبِ ; وَهُوَ الْإِعْلَامُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِقَامَةُ (أَدْبَرَ) حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْإِقَامَةَ (حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ، أَقْبَلَ) أَيِ: الشَّيْطَانُ (حَتَّى يَخْطِرَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَتُضَمُّ، وَحَتَّى تَعْلِيلِيَّةٌ (بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أَيْ: قَلْبِهِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى يَحُولَ وَيَحْجِزَ بَيْنَهُمَا بِوَسْوَسَةِ الْقَلْبِ، وَحَدِيثِ النَّفْسِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ فِي الْأَسَاسِ: خَطَرَ الرَّجُلُ بِرُمْحِهِ إِذَا مَشَى بِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَهُوَ يَخْطُرُ فِي مِشْيَتِهِ يَهْتَزُّ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: يَخْطُرُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْكَسْرِ يُوَسْوِسُ مِنْ خَطَرَ الْبَعِيرُ بِذَنَبِهِ إِذَا حَرَّكَهُ فَضَرَبَ بِهِ فَخِذَهُ، وَبِالضَّمِّ يَدْنُو مِنْهُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: وَبِالْكَسْرِ هُوَ الْوَجْهُ وَلَا يُنَافِي إِسْنَادُ الْحَيْلُولَةِ إِلَيْهِ إِسْنَادَهَا إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] لِأَنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَكَّنَهُ مِنْهَا حَتَّى يَتِمَّ ابْتِلَاءُ الْعَبْدِ بِهِ، وَأَيْضًا الْأَوَّلُ أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ مَقَامُ شَرٍّ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْ قَلْبِهِ بِنَفْسِهِ، وَالثَّانِي مَقَامُ الْإِطْلَاقِ كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُقَالُ: خَالِقُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ أَدَبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» ) مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَكُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. (يَقُولُ) : بِالرَّفْعِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مَنْ يَخْطُرُ (اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا) كِنَايَةٌ عَنْ أَشْيَاءَ غَيْرِ مُتَعَلِّقَةٍ بِالصَّلَاةِ (لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أَيْ: لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنِ الْمُصَلِّي يَذْكُرُهُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ ذِكْرِ مَالٍ وَحِسَابِهِ وَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ (حَتَّى) قَالَ الطِّيبِيُّ: كُرِّرَ (حَتَّى) فِي الْحَدِيثِ خَمْسَ مَرَّاتٍ الْأُولَى وَالْأَخِيرَتَانِ بِمَعْنَى (كَيْ) وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ دَخَلَتَا عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ، وَلَيْسَتَا لِلتَّعْلِيلِ، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى سَهْوِ ابْنِ حَجَرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ (يَظَلُّ الرَّجُلُ) بِفَتْحِ الظَّاءِ مِنَ الطُّولِ أَيْ: كَيْ يَصِيرَ مِنَ الْوَسْوَسَةِ بِحَيْثُ (لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى) أَيْ: يَقَعُ فِي الشَّكِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

656 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 656 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) أَيْ: غَايَتَهُ وَهُوَ صَوْتٌ مُجَرَّدٌ مِنْ غَيْرِ فَهْمِ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ (جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ) تَنْكِيرُهُمَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِتَعْمِيمِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَانَ سَبَبُ تَقْدِيمِ الْجِنِّ التَّرَقِّيَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (وَلَا شَيْءٌ) ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنِّ مَا يَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ، وَقُدِّمَ لِكَثْرَتِهِمْ، أَوْ لِفَضِيلَةِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى أَكْثَرِ الْإِنْسِ (وَلَا شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ النَّبَاتَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ لِلْجَمَادَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ عِلْمًا وَإِدْرَاكًا وَتَسْبِيحًا، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وَمِنْ حَدِيثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «يَقُولُ الْجَبَلُ لِلْجَبَلِ: هَلْ مَرَّ عَلَيْكَ أَحَدٌ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَإِذَا قَالَ: نَعَمِ، اسْتَبْشَرَ» ) . قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَضِيَّةُ كَلَامِ الذِّئْبِ وَالْبَقْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ. وَيَشْهَدُ لَهُ مُكَاشَفَةُ أَهْلِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْأَسْرَارِ الَّتِي هِيَ كَالْأَنْوَارِ ; فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ; بِأَنْ يَخْلُقَ تَعَالَى فِيهِمَا فَهْمًا وَسَمْعًا، حَتَّى تَسْمَعَ أَذَانَهُ وَتَعْقِلَهُ (إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ بِلِسَانِ الْحَالِ بِفَضْلِهِ وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى يَفْضَحُ أَقْوَامًا وَيُهِينُهُمْ بِشَهَادَةِ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ بِخَسَارِهِمْ وَبَوَارِهِمْ اهـ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمُعْتَقَدِ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَعْضَاءِ بِلِسَانِ الْمَقَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] سِيَّمَا وَالدَّارُ الْآخِرَةُ مَحَلُّ خَرْقِ الْعَادَاتِ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ ذَهَلَ وَغَفَلَ مِمَا كَرَّرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَا وَرَدَ عَنِ الشَّارِعِ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَلَا صَارِفَ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى - فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَنْسَى - وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى رَفْعِ الْمُؤَذِّنِ صَوْتَهُ لِتَكْثُرَ شُهَدَاؤُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا وَرَدَ الْبَيَانُ عَلَى الْغَايَةِ مَعَ حُصُولِ الْكِفَايَةِ بِقَوْلِهِ: " لَا يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ " تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ آخِرَ مَنْ يَنْتَهِي إِلَيْهِ صَوْتُ الْمُؤَذِّنِ يَشْهَدُ لَهُ الْأَوَّلُونَ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْ شَهَادَةِ الشَّاهِدِينَ لَهُ - وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا - اشْتِهَارُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْفَضْلِ وَالْعُلُوِّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُهِينُ قَوْمًا وَيَفْضَحُهُمْ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِينَ، فَكَذَلِكَ يُكْرِمُ قَوْمًا تَكْمِيلًا لِسُرُورِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: غَايَةُ الصَّوْتِ تَكُونُ أَخْفَى فَإِذَا شَهِدَ مَنْ سَمِعَ الْأَخْفَى كَانَ غَيْرُهُ بِالشَّهَادَةِ أَوْلَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ، قَالَهُ مِيرَكُ.

657 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ; فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ ; فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 657 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ) أَيْ: صَوْتَهُ أَوْ أَذَانَهُ (فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ) أَيْ: إِلَّا فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ لِمَا سَيَأْتِي، وَإِلَّا فِي قَوْلِهِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ وَبِالْحَقِّ نَطَقْتَ، وَبَرِرْتَ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: صِرْتَ ذَا بِرٍّ، أَيْ: خَيْرٍ كَثِيرٍ (ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ) " أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِكُمْ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً) أَيْ: وَاحِدَةً (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ: أَعْطَاهُ (بِهَا عَشْرًا) أَيْ: مِنَ الرَّحْمَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " صَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا " بَلْ أَكْثَرُ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَمَا يَفْعَلُهُ الْمُؤَذِّنُونَ الْآنَ عَقِبَ الْأَذَانِ مِنَ الْإِعْلَانِ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مِرَارًا أَصْلُهُ سُنَّةٌ، وَالْكَيْفِيَّةُ بِدْعَةٌ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ بِالذِّكْرِ فِيهِ كَرَاهَةٌ، سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِتَشْوِيشِهِ عَلَى الطَّائِفِينَ

وَالْمُصَلِّينَ وَالْمُعْتَكِفِينَ (ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ) أَمْرٌ مِنْ سَأَلَ بِالْهَمْزِ عَلَى النَّقْلِ وَالْحَذْفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ، أَوْ مِنْ سَالَ بِالْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ الْهَمْزِ أَوِ الْوَاوِ أَوِ الْيَاءِ (لِيَ الْوَسِيلَةَ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هِيَ فِي الْأَصْلِ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ وَجَمْعُهَا وَسَائِلُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ تِلْكَ الْمَنْزِلَةُ مِنَ الْجَنَّةِ بِهَا لِأَنَّ الْوَاصِلَ إِلَيْهَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَائِزًا بِلِقَائِهِ، مَخْصُوصًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الدَّرَجَاتِ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ قِيلَ: كَالْوَصْلَةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الزُّلْفَى، وَأَمَّا الْوَسِيلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الدُّعَاءِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فَقِيلَ: هِيَ الشَّفَاعَةُ يَشْهَدُ لَهُ فِي آخِرِ الدُّعَاءِ: " حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي "، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ بَحْثٌ. (فَإِنَّهَا) أَيِ: الْوَسِيلَةَ (مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ ") أَيْ: مِنْ مَنَازِلِهَا، وَهِيَ أَعْلَاهَا وَأَغْلَاهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ (لَا تَنْبَغِي) أَيْ: لَا تَتَسَيَّرُ وَلَا تَحْصُلُ وَلَا تَلِيقُ (إِلَّا لِعَبْدٍ) أَيْ: وَاحِدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا لِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ (مِنْ عِبَادِ اللَّهِ) أَيْ: جَمِيعِهِمْ (وَأَرْجُو) : قَالَهُ تَوَاضُعًا ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَفْضَلَ الْأَنَامِ، فَلِمَنْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَقَامُ غَيْرَ ذَلِكَ الْهُمَامِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ) قِيلَ: هُوَ خَبَرُ كَانَ وُضِعَ مَوْضِعَ إِيَّاهُ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ بَابِ وَضْعِ الضَّمِيرِ مَوْضِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَيْ: كَوْنُ ذَلِكَ الْعَبْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَا مُبْتَدَأً لَا تَأْكِيدًا وَهُوَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ أَكُونَ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ الضَّمِيرَ وَحْدَهُ وُضِعَ مَوْضِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ (فَمَنْ سَأَلَ لِيَ) أَيْ: لِأَجْلِي، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ لِي كَمَا فِي رِوَايَةٍ - غَفْلَةٌ عَنْ أَصْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِيهِ عَلَى النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (الْوَسِيلَةَ) سَيَأْتِي بَيَانُ كَيْفِيَّةِ سُؤَالِ ذَلِكَ (حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ) : أَيْ: صَارَتْ حَلَالًا لَهُ غَيْرَ حَرَامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ وَجَبَتْ، فَعَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَقِيلَ: مِنَ الْحُلُولِ بِمَعْنَى النُّزُولِ، يَعْنِي اسْتَحَقَّ أَنْ أَشْفَعَ لَهُ مُجَازَاةً لِدُعَائِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

658 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ ; فَقَالَ أَحَدُكُمُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ; قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ; قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ; قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ; قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ ; قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ; قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 658 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ) شَرْطِيَّةٌ جَزَاؤُهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ) عَطْفٌ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ) وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَرْبَعَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ اثْنَيْنِ مِنْهَا وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَ وَاحِدًا مِنَ الِاثْنَيْنِ فِيمَا بَعْدُ كَمَا قَالَ (ثُمَّ قَالَ) عَطْفٌ عَلَى قَالَ الْأَوَّلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْطُوفَاتُ بِثُمَّ مُقَدَّرَاتٌ بِحَرْفِ الشَّرْطِ، وَالْفَاءُ فِي فَقَالَ أَيْ: إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ) أَيْ فَقَالَ أَحَدُكُمْ، فَحُذِفَ اخْتِصَارًا (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ) أَيْ إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ (أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ: فَقَالَ السَّامِعُ (أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ) أَيْ: إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ) أَيْ: فَقَالَ الْمُجِيبُ (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أَيْ: لَا حِيلَةَ فِي الْخَلَاصِ عَنْ مَوَانِعِ الطَّاعَةِ وَلَا حَرَكَةَ عَلَى أَدَائِهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ تَعَالَى قَالَهُ الْمُظْهِرُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا حِيلَةَ وَلَا خَلَاصَ عَنِ الْمَكْرُوهِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْحَالُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَغَيِّرَةِ فِي نَفْسِهِ وَجِسْمِهِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ، وَالْحَوْلُ مَا لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي إِحْدَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَمِنْهُ قِيلَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ اهـ.

وَالْأَحْسَنُ فِي تَفْسِيرِهِ مَا وَرَدَ مَرْفُوعًا: «لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ» " (ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَعَا بِحَيْعَلَتَيْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَقْبِلْ بِوَجْهِكَ وَشَرَاشِرِكَ عَلَى الْهُدَى عَاجِلًا، وَالْفَلَاحِ آجِلًا، فَأَجَابَ: بِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَخَطْبٌ جَسِيمٌ، وَهِيَ الْأَمَانَةُ الْمَعْرُوضَةُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَحْمِلْنَهَا، فَكَيْفَ أَحْمِلُهَا مَعَ ضَعْفِي وَتَشَتُّتِ أَحْوَالِي ; وَلَكِنْ إِذَا وَفَّقَنِي اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ لَعَلِّي أَقُومُ بِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ بِالْمِثْلِ إِلَّا فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ مُتَطَهِّرٍ وَمُحْدِثٍ وَجُنُبٍ وَحَائِضٍ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا مَانِعَ لَهُ مِنَ الْإِجَابَةِ، فَمِنْ أَسْبَابِ الْمَنْعِ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَلَاءِ أَوْ جِمَاعِ أَهْلِهِ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي صَلَاةٍ فَلَا مُوَافَقَةَ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَتَى بِمِثْلِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا هَلْ يَقُولُ عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ مُؤَذِّنٍ أَمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ ; (ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ) قَيْدٌ لِلْأَخِيرِ أَوْ لِلْكُلِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (دَخَلَ الْجَنَّةَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا وُضِعَ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ الْمَوْعُودِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَالْمُرَادُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَ النَّاجِينَ وَإِلَّا فَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِهَا وَإِنْ سَبَقَهُ عَذَابٌ بِحَسَبِ جُرْمِهِ، إِذَا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ إِلَّا إِنْ قَالَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ بِقَلْبِهِ حَقِيقَةَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَإِخْلَاصِهِ فِيهِ. اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَانِعٌ مِنْ دُخُولِهَا، أَوْ مَعْنَاهُ: اسْتَحَقَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ أَوْ دَخَلَ مُوجِبَ دُخُولِهَا، وَسَبَبَ وُصُولِهَا وَحُصُولِهَا، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الشَّهَادَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْمُشَاهَدَةِ الْعُظْمَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَجَنَّةٌ فِي الْعُقْبَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ فِي الْجَنَّةِ لِلْعَهْدِ أَيْ: دَخَلَ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَةَ لِمُجِيبِ الْأَذَانِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا الْحَوْقَلَةُ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ، فَهُوَ وَإِنْ خَالَفَ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ "، لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مُفَسِّرٌ لِذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَحَمَلُوا ذَلِكَ الْعَامَّ عَلَى مَا سِوَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَتَعْلِيلُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ إِعَادَةَ الْمَوْعُودِ دُعَاءَ الدَّاعِي يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ، كَمَا يُفْهَمُ فِي الشَّاهِدِ بِخِلَافِ مَا سِوَى الْحَيْعَلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ ذِكْرٌ يُثَابُ عَلَيْهِ مَنْ قَالَهُ، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ صِحَّةِ اعْتِبَارِ الْمُجِيبِ بِهِمَا دَاعِيًا لِنَفْسِهِ مُحَرِّكًا مِنْهَا السَّوَاكِنَ مُخَاطِبًا لَهَا، فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ طَلَبًا صَرِيحًا فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: « (إِذَا نَادَى الْمُنَادِي لِلصَّلَاةِ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَاسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ) فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ فَلْيَتَحَيَّنِ الْمُنَادِيَ إِذَا كَبَّرَ كَبَّرَ، وَإِذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ وَإِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَإِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْحَقَّةِ الْمُسْتَجَابَةِ الْمُسْتَجَابِ لَهَا، دَعْوَةِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ التَّقْوَى أَحْيِنَا عَلَيْهَا وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا وَاجْعَلْنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا مَحْيَانَا وَمَمَاتَنَا ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَاجَتَهُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي يَعْلَى وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ لَكِنْ نُظِرَ فِيهِ بِضَعْفِ أَبِي عَائِدٍ وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ حَسَنٌ وَلَوْ ضَعُفَ، فَالْمَقَامُ يَكْفِي فِيهِ فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ عُمُومَ الْأَوَّلِ مُعْتَبَرٌ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ مَشَايِخِ السُّلُوكِ مَنْ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَيَدْعُو نَفْسَهُ، ثُمَّ يَتَبَرَّأُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ لِيَعْمَلَ بِالْحَدِيثَيْنِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ وَأَبِي أُمَامَةَ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنْ لَا يَسْبِقَ الْمُؤَذِّنَ، بَلْ يُعْقِبُ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهُ بِجُمْلَةٍ مِنْهُ.

659 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ - حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 659 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ» ) أَيِ الْأَذَانَ يَعْنِي وَيُجِيبُهُ ( «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ» ) أَيِ: الْكَامِلَةِ الْفَاضِلَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَصَفَ الدَّعْوَةَ بِالتَّامَّةِ لِأَنَّهَا ذِكْرُ اللَّهِ عِزَّ وَجَلَّ يُدْعَى بِهَا إِلَى عِبَادَتِهِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ، وَمَا وَالَاهَا هِيَ الَّتِي تَسْتَحِقُّ صِفَةَ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا يَعْرِضُ بِهِ النَّقْصُ وَالْفَسَادُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَصْفٌ بِالتَّمَامِ لِكَوْنِهَا مَحْمِيَّةً عَنِ النَّسْخِ، وَقِيلَ: التَّامَّةُ أَيْ فِي إِلْزَامِ الْحُجَّةِ وَإِيجَابِ الْإِجَابَةِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، وَسُمِّيَ الْأَذَانُ دَعْوَةً لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ (وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ ") أَيِ: الدَّائِمَةِ لَا تُغَيِّرُهَا مِلَّةٌ وَلَا تَنْسَخُهَا شَرِيعَةٌ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِقِيَامِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِقَامَتِهَا فَتَكُونُ هِيَ قَائِمَةً (آتِ) " أَيْ: أَعْطِ (" مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ ") أَيِ: الْمَنْزِلَةَ الرَّفِيعَةَ وَالْمَرْتَبَةَ الْمَنِيعَةَ (وَالْفَضِيلَةَ) أَيِ: الزِّيَادَةَ الْمُطْلَقَةَ وَالْمَزِيَّةَ الْغَيْرَ الْمُنْتَهِيَةِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ: " وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ " الْمُشْتَهَرَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَقَالَ السَّخَاوِيُّ: وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ (وَابْعَثْهُ) أَيْ: أَرْسِلْهُ ; وَأَوْصِلْهُ (مَقَامًا مَحْمُودًا) أَيْ: مَقَامَ الشَّفَاعَةِ (الَّذِي وَعَدْتَهُ) : الْمَوْصُولُ إِمَّا بَدَلٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَحَلِّ أَوْ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي، أَوْ رُفِعَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ هُوَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ النَّكِرَةِ، وَإِنَّمَا نَكْسِرُ الْمَقَامَ لِلتَّفْخِيمِ أَيْ: مَقَامًا يَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، مَحْمُودًا يَكِلُّ عَنْ أَوْصَافِهِ أَلْسِنَةُ الْحَامِدِينَ. قَالَ الْأَشْرَفُ: الْمُرَادُ بِوَعْدِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَقَامًا يَحْمَدُكَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَتُشْرِفُ فِيهِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، تَسْأَلُ فَتُعْطَى وَتَشْفَعُ فَتُشَفَّعُ، لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِكَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ: الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَةٍ: " «إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ» "، وَأَمَّا زِيَادَةُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ فَلَا وُجُودَ لَهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي سُؤَالِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُقُوعِ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَعَسَى فِي الْآيَةِ لِلتَّحْقِيقِ إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ وَتَلَذُّذًا بِحُصُولِ مَرْتَبَتِهِ وَرَجَاءً لِشَفَاعَتِهِ. (حَلَّتْ) أَيْ: وَجَبَتْ وَثَبَتَتْ لَهُ (شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَالْأَرْبَعَةُ. قَالَهُ مِيرَكُ.

660 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَكَانَ يَسْتَمِعُ الْأَذَانَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِلَّا أَغَارَ ; فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَى الْفِطْرَةِ) . ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ) . فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ رَاعِي مِعْزًى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 660 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغِيرُ) مِنَ الْإِغَارَةِ (إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ) لِيَعْلَمَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ أَوْ كُفَّارٌ، وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات: 3] صِيغَةُ الْمُضَارَعَةِ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ أَيْ: كَانَ عَادَتَهُ وَدَأْبَهُ، وَالْإِغَارَةُ: كَبْسُ الْقَوْمِ عَلَى غَفْلَةٍ وَهِيَ بِاللَّيْلِ أَوْلَى، وَلَعَلَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى الصُّبْحِ لِاسْتِمَاعِ الْأَذَانِ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَكَتَبَ تَحْتَهُ: وَفِيهِ وَلَا أَعْلَمُ مَا فِيهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الِاسْتِمْرَارُ مُسْتَفَادٌ مِنْ كَانَ، لَا مِنَ الْمُضَارَعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَكَانَ يَسْتَمِعُ الْأَذَانَ) أَيْ: يَطْلُبُ سَمَاعَهُ لِيَعْرِفَ حَالَهُمْ بِهِ (فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا) وَضَعَهُ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِ إِشْعَارًا بِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ وَكَوْنِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الدِّينَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَهْلِهِ (أَمْسَكَ) أَيْ: عَنِ الْإِغَارَةِ وَتَرَكَهَا (وَلَا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الْأَذَانَ (أَغَارَ) مِنَ الْإِغَارَةِ، وَهُوَ النَّهْبُ. قِيلَ: اسْتِمَاعُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْأَذَانِ وَانْتِظَارُهُ إِيَّاهُ كَانَ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ فَيُغِيرَ عَلَيْهِ غَافِلًا عَنْ حَالِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ، وَالْإِغَارَةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ وَالْإِنْذَارِ، إِلَّا أَنَّ الدَّعْوَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ قَبْلَهَا كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (فَسَمِعَ) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ أَيْ: لَمَّا كَانَ عَادَتُهُ ذَلِكَ اسْتَمَعَ فَسَمِعَ ( «رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَى الْفِطْرَةِ» ) أَيْ: أَنْتَ أَوْ هُوَ عَلَى الدِّينِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْأَذَانَ لَا يَكُونُ

إِلَّا لِلْمُسْلِمِينَ (ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَرَجْتَ) أَيْ: بِالتَّوْحِيدِ (مِنَ النَّارِ) عُنِيَ بِسَبَبِ أَنَّكَ تَرَكْتَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِ تِلْكَ الْقُوَّةِ وَعَدَمِ تَصَرُّفِ الْوَالِدَيْنِ فِيهِ بِالشِّرْكِ، وَأَمَّا خَرَجْتَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفَاؤُلًا وَأَنْ يَكُونَ قَطْعًا ; لِأَنَّ كَلَامَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقٌّ وَصِدْقٌ فَنَظَرُوا أَيِ: الصَّحَابَةُ (إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ (فَإِذَا هُوَ) أَيِ: الْمُؤَذِّنُ (رَاعِي مِعْزًى) بِكَسْرِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْمَعِزِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَوَاحِدُ الْمِعْزَى مَاعِزٌ وَهُوَ خِلَافُ الضَّأْنِ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ بِالتَّنْوِينِ، وَقِيلَ بِتَرْكِهِ، وَقِيلَ كَلٌّ يُنَوِّنُونَهَا فِي النَّكِرَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: مِعْزًى مُنَوَّنٌ مَصْرُوفٌ. وَقِيلَ: الْأَلِفُ الْمَحْذُوفُ لِلْإِلْحَاقِ لَا لِلتَّأْنِيثِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ السَّيِّدُ: وَرَوَى الْبُخَارِيُّ صَدْرَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: " إِلَّا أَغَارَ ".

661 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا - غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 661 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ» ) أَيْ صَوْتَهُ أَوْ أَذَانَهُ أَوْ قَوْلَهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ حِينَ يَسْمَعُ تَشَهُّدَهُ الْأَوَّلَ أَوِ الْأَخِيرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ آخِرَ الْأَذَانِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ أَنْسَبُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يَسْمَعُ: يُجِيبُ، فَيَكُونَ صَرِيحًا فِي الْمَقْصُودِ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْإِجَابَةِ بِكَمَالِهَا مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ كَهَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ رُبَّمَا يَفُوتُهُ الْإِجَابَةُ فِي بَعْضِ الْكَلِمَاتِ الْآتِيَةِ. (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) أَيْ: مُنْفَرِدًا بِوَحْدَانِيَّتِهِ (لَا شَرِيكَ لَهُ) فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ) قَدَّمَهُ إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ وَتَوَاضُعًا لِحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ (وَرَسُولُهُ) أَظْهَرَهُ تَحَدُّثًا بِالنِّعْمَةِ، وَفِيهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَالْإِضَافَةُ فِيهِمَا لِلِاخْتِصَاصِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْفَرْدُ الْكَامِلُ الْمَوْصُوفُ بِهِمَا (رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا) تَمْيِيزٌ أَيْ: بِرُبُوبِيَّتِهِ وَبِجَمِيعِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَإِنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَقِيلَ حَالٌ أَيْ مُرَبِّيًا وَمَالِكًا وَسَيِّدًا وَمُصْلِحًا (وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) " أَيْ: بِجَمِيعِ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَبَلَّغَهُ إِلَيْنَا مِنَ الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَغَيْرِهَا (وَبِالْإِسْلَامِ) أَيْ: بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي (دِينًا) أَيِ: اعْتِقَادًا أَوِ انْقِيَادًا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا سَبَبُ شَهَادَتِكَ ; فَقَالَ: رَضِيتُ بِاللَّهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ تَقَدُّمِ وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَتَأْخِيرِ وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا فَمُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ أَصْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ إِلَى مُطَابَقَةٍ لِلدِّرَايَةِ أَيْضًا فَإِنَّ حُصُولَ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الشَّهَادَتَيْنِ (غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ) أَيْ: مِنَ الصَّغَائِرِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا وَأَنْ يَكُونَ دُعَاءً قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَالْأَرْبَعَةُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُ الذَّهَبِيِّ لَهُ فِي اسْتِدْرَاكِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِهِ قَالَهُ مِيرَكُ. وَأَقُولُ: لَعَلَّ إِخْرَاجَ الْحَاكِمِ لَهُ بِغَيْرِ السَّنَدِ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ لِيُعْلَمَ مَا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: ( «مَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ فَقَالَ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبِيًّا، وَالْقُرْآنِ إِمَامًا، وَالْكَعْبَةِ قِبْلَةً. أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اكْتُبْ شَهَادَتِي هَذِهِ فِي عِلِّيِّينَ، وَأَشْهِدْ عَلَيْهَا مَلَائِكَتَكَ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنْبِيَاءَكَ الْمُرْسَلِينَ، وَعِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، وَاخْتِمْ عَلَيْهَا بِآمِينَ، وَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوفِنِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ - نُدِرَتْ إِلَيْهِ بِطَاقَةٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فِيهَا أَمَانَةٌ مِنَ النَّارِ» ) .

662 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ) ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ (لِمَنْ شَاءَ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 662 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ» ) أَيْ: أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فِيهِ تَغْلِيبٌ، أَوِ الْمَعْنَى بَيْنَ إِعْلَامَيْنِ (صَلَاةٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: غَلَّبَ الْأَذَانَ عَلَى الْإِقَامَةِ وَسَمَّاهَا بِاسْمِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَمْلُ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ شَائِعٌ كَمَا قَالُوا: سِيرَةُ الْعُمَرَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ حَقِيقَةً لِكُلٍّ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ الْأَذَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، فَالْأَذَانُ إِعْلَامٌ بِحُضُورِ الْوَقْتِ، وَالْإِقَامَةُ إِعْلَامٌ بِحُضُورِ فِعْلِ الصَّلَاةِ ( «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كُرِّرَ تَأْكِيدًا لِلْحَثِّ عَلَى النَّوَافِلِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنَّمَا حَرَّضَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَّتَهُ عَلَى صَلَاةِ النَّفْلِ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يُرَدُّ بَيْنَهُمَا ; لِشَرَفِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ أَشْرَفَ كَانَ ثَوَابُ الْعِبَادَةِ أَكْثَرَ. قُلْتُ: وَلِلْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَلِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْلِصِ وَالْمُنَافِقِ، وَلِيَتَهَيَّأَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُصَلَّى بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ النَّفْلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ ; لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «عِنْدَ كُلِّ أَذَانَيْنِ رَكْعَتَيْنِ خَلَا صَلَاةِ الْمَغْرِبِ» ) كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا (ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ) لِيُعْلَمَ أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْمُؤَذِّنِ بَلْ عَامٌّ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَالْأَظْهَرُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، غَيْرُ وَاجِبَةٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَالْأَرْبَعَةُ. قَالَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 663 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ ; اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَفِي أُخْرَى لَهُ بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْل ُ الثَّانِي 663 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْإِمَامُ ضَامِنٌ» ) أَيْ: مُتَكَفِّلٌ لِصَلَاةِ الْمُؤْتَمِّينَ بِالْإِتْمَامِ، وَمُتَحَمِّلٌ عَنْهُمُ الْقِرَاءَةَ وَالْقِيَامَ إِذَا أَدْرَكُوا رَاكِعِينَ، فَالضَّمَانُ هُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى الْغَرَامَةِ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَضَمَانُهُمْ إِمَّا لِنَحْوِ الْإِسْرَارِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْجَهْرِ بِهَا، أَوْ لِلدُّعَاءِ ; بِأَنْ يَعُمُّوا بِهِ وَلَا يَخُصُّوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا فِيمَا وَرَدَ ; كَرَبِّ اغْفِرْ لِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، أَوْ لِتَحَمُّلِهُمْ نَحْوَ الْقِرَاءَةِ عَنِ الْمَسْبُوقِ وَالسَّهْوِ عَنِ السَّاهِي، أَوْ بِسُقُوطِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَقْوَالٌ. (وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ) قَالَ الْقَاضِي: الْإِمَامُ مُتَكَفِّلٌ أُمُورَ صَلَاةِ الْجَمْعِ، يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْهُمْ إِمَّا مُطْلَقًا عِنْدَ مَنْ لَا يُوجِبُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ، أَوْ إِذَا كَانُوا مَسْبُوقِينَ وَيَحْفَظُ عَلَيْهِمُ الْأَرْكَانَ وَالسُّنَنَ وَأَعْدَادَ الرَّكَعَاتِ، وَيَتَوَلَّى السِّفَارَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ فِي الدُّعَاءِ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ إِذْ بِصَلَاحِ صَلَاتِهِ صَلَاحًا لِصَلَاتِهِمْ، وَبِالْعَكْسِ، وَالْمُؤَذِّنُ أَمِينٌ فِي الْأَوْقَاتِ يَعْتَمِدُ النَّاسُ عَلَى أَصْوَاتِهِمْ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْوَظَائِفِ الْمُؤَقَّتَةِ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّهُمْ يُرَاعُونَ وَيُحَافِظُونَ مِنَ الْقَوْمِ صَلَاتَهُمْ، لِأَنَّهَا فِي عُهْدَتِهِمْ كَالْمُتَكَلِّفِينَ لَهُمْ صِحَّةَ صَلَاتِهِمْ وَفَسَادَهَا وَكَمَالَهَا وَنُقْصَانَهَا بِحُكْمِ الْمَتْبُوعِيَّةِ وَالتَّابِعِيَّةِ، وَلِهَذَا الضَّمَانِ كَانَ ثَوَابُهُمْ أَوْفَرَ إِذَا رَاعَوْا حَقَّهَا، وَوِزْرُهُمْ أَكْثَرَ إِذَا خَلَوْا بِهَا، أَوِ الْمُرَادُ ضَمَانُ الدُّعَاءِ، وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَرْتَقُونَ فِي أَمْكِنَةٍ عَالِيَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْرِفُوا عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ لِكَوْنِهِمْ أُمَنَاءَ. ( «اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» ) وَلَفْظُ الْمَصَابِيحِ: ( «أَرْشَدَ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ» ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: دُعَاءٌ أَخْرَجَهُ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ مُبَالَغَةً، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي ثِقَةً بِالِاسْتِجَابَةِ كَأَنَّهُ اسْتُجِيبَ فِيهِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ مَوْجُودًا، وَالْمَعْنَى أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ لِلْعِلْمِ بِمَا تَكَفَّلُوهُ وَالْقِيَامِ بِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ مَا عَسَى يَكُونُ لَهُمْ تَفْرِيطٌ فِي الْأَمَانَةِ الَّتِي حَمَلُوهَا مِنْ جِهَةِ تَقْدِيمٍ عَلَى الْوَقْتِ، أَوْ تَأْخِيرٍ عَنْهُ سَهْوًا. قَالَ الْأَشْرَفُ: يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: " «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» عَلَى فَضْلِ الْأَذَانِ عَلَى الْإِمَامَةِ، لِأَنَّ حَالَ الْأَمِينِ أَفْضَلُ مِنْ حَالِ الضَّمِينِ تَمَّ كَلَامُهُ، وَرُدَّ: بِأَنَّ هَذَا الْأَمِينَ يَتَكَفَّلُ الْوَقْتَ فَحَسْبُ، وَهَذَا الضَّامِنَ يَتَكَفَّلُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَيَتَعَهَّدُ لِلسِّفَارَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ فِي الدُّعَاءِ، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ ; وَكَيْفَ لَا وَالْإِمَامُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُؤَذِّنُ خَلِيفَةُ بِلَالٍ، وَأَيْضًا الْإِرْشَادُ الدَّلَالَةُ الْمُوصِلَةُ إِلَى الْبُغْيَةِ وَالْغُفْرَانِ

مَسْبُوقٌ بِالذَّنْبِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَعَلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَذَكَرُهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، قَالَهُ مِيرَكُ. (وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَصَحُّ. وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَثْبُتُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي هَذَا. اهـ. نَقَلَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " مِنْ أَنَّ الْأَذَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَعِبَارَتُهُ: وَأُحِبُّ الْأَذَانَ لِحَدِيثِ: " «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» " وَأَكْرَهُ الْإِمَامَةَ لِلضَّمَانِ، وَمَا عَلَى الْإِمَامِ فِيهَا، وَإِنَّمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مَعَ ضَعْفِهِ لِأَنَّهُ اعْتَضَدَ بِرِوَايَةٍ صَحَّحَهَا ابْنُ حِبَّانَ وَالْعُقَيْلِيُّ، وَإِنْ أَعَلَّهَا ابْنُ الْمَدِينِيِّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ، «الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ، وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ، فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ» اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالْإِرْشَادِ أَعْلَى مِنَ الدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ ; لِأَنَّ الْغُفْرَانَ يَسْتَدْعِي سَبْقَ ذَنْبٍ، وَالْإِرْشَادَ يَسْتَدْعِي وُصُولَ الْبُغْيَةِ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " إِنَّهُ مَمْنُوعٌ فِيهِمَا كَمَا هُوَ جَلِيٌّ " - مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ خَفِيٍّ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ جَلِيٌّ، بَلْ إِنَّهُ بَدِيهِيٌّ لَا نَظَرِيٌّ، وَأَغْرَبَ الْمَاوَرْدِيُّ. فِي تَوْجِيهِهِ حَيْثُ قَالَ: دَعَا لِلْإِمَامِ بِالْإِرْشَادِ خَوْفَ تَقْصِيرِهِ، وَلِلْمُؤَذِّنِ بِالْمَغْفِرَةِ لِعِلْمِهِ بِسَلَامَةِ حَالِهِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي فَضِيلَةِ الْأَذَانِ مِمَّا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي، وَنَحْوَ خَبَرِ أَحْمَدَ: " «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا لَهُمْ فِي التَّأْذِينِ لَتَضَارَبُوا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ» "، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْأَذَانِ خِلَافًا لِمَا وَهَمَ ابْنُ حَجَرٍ، وَأَمَّا خَبَرُ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَابْنُ شَاهِينَ: " «إِنَّ خِيَارَكُمْ عِبَادُ اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَالْأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ» "، فَلَا خُصُوصِيَّةَ لَهُ بِالْمُؤَذِّنِ عَلَى مَا فَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ، وَأَمَّا مَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ: لَوْ كُنْتُ أُطِيقُ الْأَذَانَ مَعَ الْخَلِيفِيِّ لَأَذَّنْتُ، فَمُرَادُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْأَذَانِ كَمَا ذُكِرَ، بَلْ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْإِمَامِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ: ( «لِيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» ) . وَحَدِيثُ النَّسَائِيِّ: ( «لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قِرَاءَةً لِلْقُرْآنِ» ) وَحَدِيثُ ابْنِ عَدِيٍّ ( «لِيَؤُمَّكُمْ أَحْسَنُكُمْ وَجْهًا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَكُمْ خُلُقًا» ) . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ ( «يُؤَذِّنُ لَكُمْ خِيَارُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ قُرَّاؤُكُمْ» ) فَالْمُرَادُ بِالْخِيَارِ الصُّلَحَاءُ، وَبِالْقُرَّاءِ الْعُلَمَاءُ، وَالْعُلَمَاءُ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِحُقُوقِ الْإِمَامَةِ أَشَقُّ فَهُوَ أَفْضَلُ مَآبًا وَأَجْزَلُ ثَوَابًا، وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْقِيَامِ بِحَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ آخَرِينَ حَيْثُ قَالُوا: إِنْ قَامَ بِحُقُوقِ الْإِمَامَةِ فَهِيَ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَالْأَذَانُ أَفْضَلُ، إِذْ لَا يَصِحُّ هَذَا الْإِطْلَاقُ، وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ حَرَّرَهُ وَقَرَّرَهُ. (وَالشَّافِعِيُّ) وَلَعَلَّ تَأْخِيرَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الْمُخَرِّجِينَ الْمَذْكُورِينَ، مَعَ أَنَّهُ أَجَلُّ مِنْهُمْ رِوَايَةً وَدِرَايَةً بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ أَسَانِيدِ كُتُبِهِمْ وَاشْتِهَارِهَا وَقَبُولِ الْعَامَّةِ لَهَا. أَمَا تَرَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا يَتَقَدَّمَانِ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى أُسْتَاذِهِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِقُوَّةِ صِحَّةِ كِتَابَيْهِمَا، وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُمَا بِالْقَبُولِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّمَا أَخَّرَهُ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِذَتِهِ، أَوْ تَلَامِذَةِ تَلَامِذَتِهِ، لِيُفِيدَ أَنَّ لَهُ رِوَايَةً أُخْرَى، وَلِذَا قَالَ: (وَفِي أُخْرَى) أَيْ: رِوَايَةٍ (لَهُ) أَيْ لِلشَّافِعِيِّ (بِلَفْظِ: الْمَصَابِيحِ) وَهُوَ: " «الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ» " قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الضُّمَنَاءُ جَمْعُ الضَّمِينِ بِمَعْنَى الضَّامِنِ، وَالْأُمَنَاءُ جَمْعُ أَمِينٍ، وَتَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ لَفْظَ الْمَصَابِيحِ بِقَوْلِهِ: " وَهُوَ أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَخْ " تَقْصِيرٌ مِنْهُ.

664 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِبًا ; كُتِبَ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 664 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ» ) : وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ مَرَاتِبِ الْكَثْرَةِ (مُحْتَسِبًا) حَالٌ أَيْ: طَالِبًا لِلثَّوَابِ لَا لِلْأُجْرَةِ. فِي الْفَائِقِ: الِاحْتِسَابُ مِنَ الْحَسْبِ كَالِاعْتِدَادِ مِنَ الْعَدِّ، وَإِنَّمَا قِيلَ: احْتَسَبَ الْعَمَلَ لِمَنْ يَنْوِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَيِّدَ عَمَلَهُ، فَجُعِلَ فِي حَالِ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ مُقَيَّدٌ، وَالْحِسْبَةُ: اسْمٌ مِنَ الِاحْتِسَابِ كَالْعِدَّةِ مِنَ الِاعْتِدَادِ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ احْتَسِبُوا أَعْمَالَكُمْ، فَإِنَّهُ مَنِ

احْتَسَبَ عَمَلَهُ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ وَأَجْرُ حَسْبِهِ. (كُتِبَ لَهُ بَرَاءَةٌ) بِالْمَدِّ أَيْ: خَلَاصٌ (مِنَ النَّارِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَدْ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ كَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ لِقَوْلِ غَيْرِهِ: فِي سَنَدِهِ مَقَالٌ ; لِأَنَّهُ اعْتَضَدَ (وَابْنُ مَاجَهْ) وَفِي: نُسْخَةٍ (وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي هَذِهِ النُّسْخَةِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: «الْمُؤَذِّنُ الْمُحْتَسِبُ كَالشَّهِيدِ الْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ إِذَا مَاتَ لَمْ يُدَوِّدْ فِي قَبْرِهِ» .

665 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ لِلْجَبَلِ يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ -: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا، يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 665 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَعْجَبُ رَبُّكَ) (1) أَيْ: يَرْضَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: التَّعَجُّبُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْأَشْيَاءِ، وَالتَّعَجُّبُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّا خُفِيَ سَبَبُهُ، فَالْمَعْنَى عَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَكَبُرَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الرِّضَا، وَالْخِطَابُ إِمَّا لِلرَّاوِي، أَوْ لِوَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ السَّمَاعُ لِفَخَامَةِ الْأَمْرِ، فَيُؤَكِّدُ مَعَ التَّعَجُّبِ (مِنْ رَاعِي غَنَمٍ) اخْتَارَ الْعُزْلَةَ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ الِاسْتِئْنَاسَ بِالنَّاسِ مِنْ عَلَامَةِ الْإِفْلَاسِ (فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ لِلْجَبَلِ) - بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ: قِطْعَةٍ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ، وَقِيلَ: هِيَ الصَّخْرَةُ الْعَظِيمَةُ الْخَارِجَةُ مِنَ الْجَبَلِ كَأَنَّهَا أَنْفُ الْجَبِلِ. (يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ وَيُصَلِّي) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَائِدَةُ تَأْذِينِهِ إِعْلَامُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ لَهُمْ صَلَاةً أَيْضًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْإِقَامَةَ لِأَنَّهَا لِلْإِعْلَامِ بِقِيَامِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُصَلِّي خَلْفَهُ حَتَّى يُقِيمَ لِإِعْلَامِهِ. اهـ. وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ ; لِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْذِينِ الْإِعْلَامُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، أَوْ يُقَدِّرَ الْإِقَامَةَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَيُقِيمُ. وَفِي تَأْذِينِهِ فَوَائِدُ أُخَرُ مِنْ شَهَادَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَمُتَابَعَةِ سُنَّتِهِ، وَالتَّشَبُّهُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي جَمَاعَتِهِمْ، وَقِيلَ: إِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ تُصَلِّي الْمَلَائِكَةُ مَعَهُ، وَيَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) أَيْ: لِمَلَائِكَةِ وَأَرْوَاحِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ (انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا) تَعْجِيبٌ لِمَلَائِكَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بَعْدَ التَّعَجُّبِ لِمَزِيدِ التَّفْخِيمِ، وَكَذَا تَسْمِيَتُهُ بِالْعَبْدِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا تَعْظِيمٌ عَلَى تَعْظِيمٍ (يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ) نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: لِلصَّلَاةِ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يُحَافِظُ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهَا " (يَخَافُ مِنِّي) أَيْ: يَفْعَلُ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ عَذَابِي، لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَإِنِ احْتَمَلَ الْحَالَ فَهُوَ كَالْبَيَانِ لِعِلَّةِ عُبُودِيَّتِهِ وَاعْتِزَالِهِ التَّامِّ عَنِ النَّاسِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " وَلِذَا آثَرَ الشَّظِيَّةَ بِالرَّعْيِ فِيهَا، وَالْمَعِزِ بِرِعَايَتِهَا ; لِأَنَّ الْأَعْيُنَ لَا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهَا تَشَوُّفَهَا لِلضَّأْنِ " فَلَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْغَنَمَ أَعَمُّ مِنْهُمَا، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِلْمُنْفَرِدِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِمَا " (قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي) فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ) فَإِنَّهَا دَارُ الْمَثُوبَاتِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) ، وَأَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، قَالَهُ مِيرَكُ.

666 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَبَدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى -، وَحَقَّ مَوْلَاهُ وَرَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَرَجُلٌ يُنَادِي بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 666 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: أَشْخَاصٌ ( «عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ: ( «ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ» ) أَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: يَغْبِطُهُمُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. الْكُثْبَانُ - بِالضَّمِّ -: جَمْعُ كَثِيبٍ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الرَّمْلِ كَالتَّلِّ الصَّغِيرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُبِّرَ عَنِ الثَّوَابِ بِكُثْبَانِ الْمِسْكِ لِرِفْعَتِهِ، وَظُهُورِ فَوَحِهِ، وَرُوحِ النَّاسِ مِنْ رَائِحَتِهِ لِتُنَاسِبَ حَالَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ مُتَجَاوِزَةٌ إِلَى الْغَيْرِ. اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ إِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الدَّارُ الْآخِرَةُ (عَبْدٌ) أَيْ: قَنٌّ لِتَدْخُلَ فِيهِ الْأَمَةُ، عَلَى أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ نَقَلَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى أَوْ لَهُمْ مَمْلُوكٌ (أَدَّى حَقَّ اللَّهِ) أَيْ: مَوْلَاهُ الْحَقِيقِيِّ (وَحَقَّ مَوْلَاهُ) أَيِ: الْمَجَازِيِّ (وَرَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا) أَيْ: جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتِهِ وَإِمَامَتِهِ، وَقَوْمًا قَيْدٌ غَالِبِيُّ الْوُقُوعِ، وَإِلَّا فَيَكْفِي وَاحِدٌ، أَوِ الْمُرَادُ أَهْلُ الْمَحِلَّةِ، وَلِذَا قَالَ (وَهُمْ رَاضُونَ) فَبِرِضَاهُمْ يَكُونُ ثَوَابُ الْإِمَامِ أَكْثَرَ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى الرِّضَا بِهِ دَلِيلٌ عَلَى صَلَاحِ حَالِهِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ هُوَ بِالرِّضَا دُونَ الْمُؤَذِّنِ لِأَنَّ نَقْصَ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَسْرِي لِنَقْصِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، وَكَذَا كَمَالُهَا بِخِلَافِ الْمُؤَذِّنِ، ثُمَّ الْعِبْرَةُ بِرِضَا أَكْثَرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِهِمْ (وَرَجُلٌ يُنَادِي) أَيْ: يُؤَذِّنُ وَيُعْلِمُ (بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَفَهُ بِالْمُضَارِعِ تَقْرِيرًا لِفِعْلِهِ وَاسْتِحْضَارًا لَهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ اسْتِعْجَابًا مِنْهُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِيرَادَ الْمُضَارِعِ لِيُفِيدَ الِاسْتِمْرَارَ، وَلِذَا قَيَّدَهُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حَطِّ مَرْتَبَتِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْإِمَامِ كَمَا يُومِئُ إِلَيْهِ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، وَلَا يُنَافِي تَقَدُّمَ الْعَبْدِ ; لِأَنَّ مَقَامَ التَّعَجُّبِ يَقْتَضِيهِ، وَلِذَا خُصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ كُلٍّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ (كُلَّ يَوْمٍ) أَيْ: فِي كُلِّ يَوْمٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (وَلَيْلَةٍ) أَيْ: دَائِمًا لِجَمْعِهِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ، وَبَيْنَ نَفْعَيِ الْقَاصِرِ وَالْمُتَعَدِّي. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا أُثِيبُوا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ صَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى كُرَبِ الطَّاعَةِ، فَرَوَّحَهُمُ اللَّهُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِأَنْفَاسٍ عَطِرَةٍ عَلَى تِلَالٍ مُرْتَفِعَةٍ مِنَ الْمِسْكِ إِكْرَامًا لَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ لِعِظَمِ شَأْنِهِمْ وَشَرَفِ أَفْعَالِهِمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَفْظُهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «ثَلَاثَةٌ لَا يَهُولُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وَلَا يَنَالُهُمُ الْحِسَابُ، وَهُمْ عَلَى كُثُبٍ مِنْ مِسْكٍ حَتَّى يَفْرَغَ حِسَابُ الْخَلَائِقِ: رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَأَمَّ بِهِ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَدَاعٍ يَدْعُو إِلَى الصَّلَاةِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَبَدٌ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوَالِيهِ» ) . وَرَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ وَلَفْظُهُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ لَمَا حَدَّثْتُ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « (ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَهُولُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَلَا يَفْزَعُونَ حِينَ يَفْزَعُ النَّاسُ: رَجُلٌ عَلِمَ الْقُرْآنَ فَقَامَ بِهِ يَطْلُبُ وَجْهَ اللَّهِ، وَمَا عِنْدَهُ، وَرَجُلٌ يُنَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ ; يَطْلُبُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ، وَمَمْلُوكٌ لَمْ يَمْنَعْهُ رِقُّ الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ» ) .

667 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ. وَشَاهِدُ الصَّلَاةِ يُكْتَبُ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ صَلَاةً، وَيُكَفَّرُ عَنْهُ مَا بَيْنَهُمَا» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: (كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ) ، وَقَالَ: (وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى) ـــــــــــــــــــــــــــــ 667 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ» ) - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالدَّالِ - أَيْ: نِهَايَتَهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقِيلَ: أَيْ لَهُ مَغْفِرَةٌ طَوِيلَةٌ عَرِيضَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ: يَسْتَكْمِلُ مَغْفِرَةَ اللَّهِ إِذَا اسْتَوْفَى وُسْعَهُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، وَقِيلَ: يُغْفَرُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَتْ أَجْسَامًا لَمَلَأَتْ مَا بَيْنَ الْجَوَانِبِ الَّتِي يَبْلُغُهَا، وَالْمَدَى عَلَى الْأَوَّلِ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَعَلَى الثَّانِي رُفِعَ عَلَى أَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَدَى صَوْتِهِ أَيِ: الْمَكَانَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الصَّوْتُ، لَوٍ قُدِّرَ أَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَ أَقْصَاهُ وَبَيْنَ مَقَامِ الْمُؤَذِّنِ ذُنُوبٌ لَهُ تَمْلَأُ تِلْكَ الْمَسَافَةَ لَغَفَرَهَا اللَّهُ لَهُ، فَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ تَمْثِيلًا. قِيلَ: مَعْنَاهُ: يُغْفَرُ لِأَجْلِهِ كُلُّ مَنْ سَمِعَ صَوْتَهُ فَحَضَرَ لِلصَّلَاةِ الْمُسَبِّبَةِ لِنِدَائِهِ، فَكَأَنَّهُ غُفِرَ لِأَجْلِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُغْفَرُ ذُنُوبُهُ الَّتِي بَاشَرَهَا فِي تِلْكَ النَّوَاحِي إِلَى حَيْثُ يَبْلُغُ صَوْتُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُغْفَرُ بِشَفَاعَتِهِ ذُنُوبُ مَنْ كَانَ سَاكِنًا أَوْ مُقِيمًا إِلَى حَيْثُ يَبْلُغُ صَوْتُهُ، وَقِيلَ: يُغْفَرُ بِمَعْنَى يَسْتَغْفِرُ أَيْ: يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ صَوْتَهُ. (وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ) أَيْ: نَاهٍ (وَيَابِسٍ) أَيْ: جَمَادٍ مِمَّا يَبْلُغُهُ صَوْتُهُ، وَتُحْمَلُ شَهَادَتُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْطَاقِهِمَا أَوْ عَلَى الْمَجَازِ بِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. " (وَشَاهِدُ الصَّلَاةِ) أَيْ: حَاضِرُهَا مِمَّنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ وَقْتِهَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: حَاضِرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ الْمُسَبَّبَةِ عَنِ الْأَذَانِ. اهـ. فَيَكُونُ الْقَيْدُ غَالِبِيًّا وَإِلَّا فَحَاضِرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لَهُ الْفَضِيلَةُ الْآتِيَةُ، سَوَاءٌ وَحَّدَ سَبَبِيَّةَ الْأَذَانِ أَمْ لَا. وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: " «الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ» " أَيْ: وَالَّذِي يَحْضُرُ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ (يُكْتَبُ لَهُ) أَيْ: لِلشَّاهِدِ " (خَمْسٌ وَعِشْرُونَ) أَيْ: ثَوَابُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ (صَلَاةً) وَقِيلَ: بِعَطْفِ شَاهِدٍ عَلَى كُلِّ رَطْبٍ أَيْ: يَشْهَدُ لِلْمُؤَذِّنِ حَاضِرُهَا يُكْتَبُ لَهُ أَيْ: لِلْمُؤَذِّنِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ صَلَاةً، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي رِوَايَةٍ: " «تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: " بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً "، وَهِيَ لِلْمُطَابَقَةِ أَظْهَرُ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ بِاخْتِلَافِ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي مَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ: " «إِنَّ الْمُؤَذِّنَ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ صَلَّى بِأَذَانِهِ» " فَإِذَا كُتِبَ لِشَاهِدِ الْجَمَاعَةِ بِأَذَانِهِ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَتْبِ مِثْلِهِ لِلْمُؤَذِّنِ، وَمِنْ ثَمَّ عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الْمُؤَذِّنِ يُغْفَرُ لَهُ لِبَيَانِ أَنَّ لَهُ ثَوَابَيْنِ الْمَغْفِرَةَ وَكِتَابَةَ مِثْلِ تِلْكَ الْكِتَابَةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ شَاهِدَ الصَّلَاةِ عُطِفَ عَلَى كُلِّ رَطْبٍ عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ ; لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ كَمَا اخْتَارَهُ الطِّيبِيُّ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يَكْتُبُ لَهُ الشَّاهِدَ، وَهُوَ أَقْرَبُ لَفْظًا وَسِيَاقًا. أَوْ لِلْمُؤَذِّنِ وَهُوَ أَنْسَبُ مَعْنًى وَسِيَاقًا (وَيُكَفِّرُ عَنْهُ) أَيِ: الشَّاهِدُ أَوِ الْمُؤَذِّنُ (مَا بَيْنَهُمَا) أَيْ: مَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ شَهِدَهُمَا أَوْ مَا بَيْنَ أَذَانٍ إِلَى أَذَانٍ مِنَ الصَّغَائِرِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا: ( «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ لَتَضَارَبُوا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ» ) وَلَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ( «يُغْفَرُ لِلْمُؤَذِّنِ مُنْتَهَى أَذَانِهِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ» ) جَمَعَهُ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: (وَيُجِيبُهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ) . (وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَلَفْظُهُمَا: (يَشْهَدُ لَهُ) . وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ: (وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ) . وَالطَّبَرَانِيُّ مِثْلُ هَذَا، وَلَهُ فِي الْأَوْسَطِ: ( «يَدُ الرَّحْمَنِ فَوْقَ رَأْسِ الْمُؤَذِّنِ وَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ أَيْنَ بَلَغَ» ) وَلَهُ فِيهِ: ( «إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُلَبِّينَ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَيُلَبِّي الْمُلَبِّي» ) . (وَابْنُ مَاجَهْ) أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ. (وَرَوَى النَّسَائِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: (كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ) . وَقَالَ) أَيْ فَالنَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ (وَلَهُ) أَيْ: لِلْمُؤَذِّنِ (مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى) أَيْ: بِأَذَانِهِ.

668 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي. قَالَ: (أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 668 - ( «وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي. قَالَ: (أَنْتَ إِمَامُهُمْ» ) أَيْ: جَعَلْتُكَ إِمَامَهُمْ، فَيُفِيدُ الْحَدِيثُ: أَوْ أَنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَيَكُونُ لِلدَّوَامِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى إِثْبَاتِ إِمَامَتِهِ إِعْلَامًا بِتَأَهُّلِهِ فِي تَأْوِيلِ أَمَّ بِهِمْ، فَلِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ) أَيْ: تَابِعْ أَضْعَفَ الْمُقْتَدِينَ فِي تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْكَانِ، يُرِيدُ تَخْفِيفَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ حَتَّى لَا يَمَلَّ الْقَوْمُ، وَقِيلَ: لَا تُسْرِعْ حَتَّى يَبْلُغَكَ أَضْعَفُهُمْ، وَلَا تُطَوِّلْ حَتَّى لَا تُثْقِلَ عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اقْتَدِ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ عُطِفَ عَلَى: " أَنْتَ إِمَامُهُمْ " ; لِأَنَّهُ بِتَأْوِيلِ أُمَّهُمْ، وَإِنَّمَا عُدِلَ إِلَى الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ كَأَنَّ إِمَامَتَهُ ثَبَتَتْ وَيُخْبِرُ عَنْهَا يَعْنِي: كَمَا أَنَّ الضَّعِيفَ يَقْتَدِي بِصَلَاتِكَ فَاقْتَدِ أَنْتَ أَيْضًا بِضَعْفِهِ، وَاسْلُكْ سَبِيلَ التَّخْفِيفِ فِي الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ، وَفِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُقْتَدَى مُقْتَدِيًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذُكِرَ بِلَفْظِ الِاقْتِدَاءِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ الْمَحْثُوثِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُقْتَدِي أَنْ يُتَابِعَ الْمُقْتَدَى بِهِ وَيَجْتَنِبَ خِلَافَهُ، فَعَبَّرَ عَنْ مُرَاعَاةِ الْقَوْمِ بِالِاقْتِدَاءِ مُشَاكَلَةً لِمَا قَبْلَهُ (وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا) أَمْرُ نَدْبٍ ( «لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «وَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ وَيَؤُمَّكُمْ قُرَّاؤُكُمْ» ) ، فَعَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ كَوْنُ الْمُؤَذِّنِ عَالِمًا عَامِلًا أَنَّ الْعَالِمَ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنَ الْخِيَارِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ عَذَابًا مِنَ الْجَاهِلِ الْفَاسِقِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. كَمَا تَشْهَدُ لَهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي كَوْنِهِ خِيَارًا أَنْ لَا يَأْخُذَ أَجْرًا ; فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُؤَذِّنِ وَلَا لِلْإِمَامِ. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يُشَارِطْهُمْ عَلَى شَيْءٍ، لَكِنْ عَرَفُوا حَاجَتَهُ، فَجَمَعُوا لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ شَيْئًا كَانَ حَسَنًا وَيَطِيبُ لَهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يَهْدُوا لَهُ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: الْمُؤَذِّنُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ لَا يَسْتَحِقُّ ثَوَابَ الْمُؤَذِّنِينَ اهـ. فَفِي أَخْذِ الْأَجْرِ أَوْلَى تَمَّ كَلَامُهُ. لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ قَاضِي خَانَ عَلَى مُؤَذِّنٍ يُؤَذِّنُ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ ; لِأَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ أَعْمَى وَهُوَ مُؤَذِّنٌ، وَيَدْخُلُ فِي الْخِيَارِ أَيْضًا أَنْ لَا يُلَحِّنَ الْأَذَانَ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَتَحْسِينُ الصَّوْتِ مَطْلُوبٌ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا. قِيلَ: تُمْسِكُ بِهِ مِنْ مَنْعِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَذَانِ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ أَخْذًا لِلْأَفْضَلِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَخْذُ الْمُؤَذِّنِ عَلَى أَذَانِهِ مَكْرُوهٌ بِحَسَبِ مَذَاهِبِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَخْشَى أَنْ لَا تَكُونَ صَلَاتُهُ خَالِصَةً، وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: يُرْزَقُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ مُرْصَدٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ وُجِدَ عَدْلٌ تَبَرَّعَ بِأَذَانِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرْزُقَ أَحَدًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا عَلَى أَذَانِهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، يَعْنِي الْإِمَامَ الرَّاتِبَ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ التَّخْفِيفُ فِي الصَّلَاةِ رِعَايَةً لِلضَّعِيفِ، وَقَدْ وَرَدَ: «مَنْ أَمَّ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالْمَرِيضَ وَذَا الْحَاجَةِ» . (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْهُ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ، وَابْنُ مَاجَهْ الْفَصْلَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَالتِّرْمِذِيُّ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. وَفِي خَبَرٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: «آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنِ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» .

669 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُولَ عِنْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ: (اللَّهُمَّ هَذَا إِقْبَالُ لَيْلِكَ، وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ، وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ ; فَاغْفِرْ لِي» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 669 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُولَ عِنْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ» ) الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ هَذَا بَعْدَ جَوَابِ الْأَذَانِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهِ (اللَّهُمَّ هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ وَهُوَ مُبْهَمٌ مُفَسَّرٌ بِالْخَبَرِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَذَانِ، لِقَوْلِهِ: وَأَصْوَاتُ (إِقْبَالُ لَيْلِكَ) أَيْ: هَذَا الْأَذَانُ أَوْ أَنَّ إِقْبَالَ لَيْلِكَ

(وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ) أَيْ: فِي الْأُفُقِ " (وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ ") : أَيْ: فِي الْآفَاقِ جَمْعُ دَاعٍ، وَهُوَ الْمُؤَذِّنُ (فَاغْفِرْ لِي) : بِحَقِّ هَذَا الْوَقْتِ الشَّرِيفِ وَالصَّوْتِ الْمُنِيفِ، وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَفْرِيعِ الْمَغْفِرَةِ وَمُنَاسَبَةِ الْحَدِيثِ لِلْبَابِ ; فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَقْتُ الْأَذَانِ زَمَانَ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا تَكَلَّفَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ الْمَغْرِبِ أَنَّهُ بَيْنَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَهُوَ يَقْتَضِي طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْمُقَايَسَةِ عَلَيْهِ، وَيُقَالَ: عِنْدَ أَذَانِ الصُّبْحِ أَيْضًا لَكِنْ بِلَفْظِ: هَذَا إِدْبَارُ لَيْلِكَ وَإِقْبَالُ نَهَارِكَ إِلَخْ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ ذَكَرَ أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَكِنَّهُ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لِهَذَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْأَدْعِيَةِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ أَصْلِهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنَ الْأَلْفَاظِ النَّبَوِيَّةِ وَمَا ثَمَّ مِنَ الْمَحْذُورَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَحْظُورَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ خَارِجٌ عَنِ الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى صِحَّتِهِ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: " الدَّعَوَاتِ ") أَيْ: كِتَابِ الدَّعَوَاتِ (الْكَبِيرِ) صِفَةٌ لِلْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَفِي رِوَايَةٍ «بَعْدَ دُعَاتِكَ وَصَلَوَاتِ مَلَائِكَتِكَ أَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي» .

670 - وَعَنْ أَبَى أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَوْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا» ". وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 670 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَوْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ بِلَالًا أَخَذَ) أَيْ: شَرَعَ (فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا) شَرْطِيَّةٌ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا تَسْتَدْعِي فِعْلًا، فَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى أَنْ قَالَ، وَاخْتُلِفَ فِي قَالَ ; أَنَّهُ مُتَعَدٍّ أَوْ لَازِمٌ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَصْدَرًا اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَمَّا ظَرْفِيَّةٌ وَأَنْ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96] كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} [هود: 77] (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَقَامَهَا اللَّهُ) أَيِ: الصَّلَاةَ يَعْنِي ثَبَّتَهَا (وَأَدَامَهَا) وَاشْتُهِرَ زِيَادَةُ: وَجَعَلَنِي مِنْ صَالِحِي أَهْلِهَا (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ) أَيْ: فِي جَمِيعِ كَلِمَاتِ الْإِقَامَةِ غَيْرَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، أَوْ قَالَ فِي الْبَقِيَّةِ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُقِيمُ إِلَّا فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ) يُرِيدُ أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، لِمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ (فِي الْأَذَانِ) يَعْنِي: وَافَقَ الْمُؤَذِّنَ فِي غَيْرِ الْحَيْعَلَتَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ أَيْضًا لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَقَالَ مِيرَكُ: فِي سَنَدِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ اهـ. لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ جَهَالَةَ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ ; لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عُدُولٌ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ غَيْرَ الصَّحَابِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ، وَلَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ.

671 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 671 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ» ) أَيْ: فَادْعُوا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَذَلِكَ لِشَرَفِ الْوَقْتِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةٍ حَسَّنَهَا التِّرْمِذِيُّ ( «الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ» ) : قَالُوا: فَمَاذَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ; قَالَ: ( «سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ) .

672 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «ثِنْتَانِ لَا تُرَدَّانِ - أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ -: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ الْبَأْسِ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: (وَتَحْتَ الْمَطَرِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ ; إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: (وَتَحْتَ الْمَطَرِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 672 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى [عَنْهُمَا] ، فَإِنَّ أَبَاهُ صَاحَبَنِي عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثِنْتَانِ) أَيْ: دَعْوَتَانِ ثِنْتَانِ (لَا تُرَدَّانِ - أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ -) : قَالَ فِي الْمُغْنِي: (مَا) زَائِدَةٌ كَافَّةٌ عَنِ الْعَمَلِ (الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ) أَيْ: حِينَ الْأَذَانِ أَوْ بَعْدَهُ (وَعِنْدَ الْبَأْسِ) أَيِ: الشِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ مَعَ الْكُفَّارِ (حِينَ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَعِنْدَ الْبَأْسِ أَوْ بَيَانٌ (يَلْحَمُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ أَيْ: يَقْتُلُ (بَعْضُهُمْ بَعْضًا) كَأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَقْتُولَ لَحْمًا وَفِي نُسْخَةٍ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: يَخْتَلِطُ، وَسُمِّيَ اللَّحْمُ لَحْمًا لِاخْتِلَاطِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " وَفِي الْغَرِيبَيْنِ أَلْحَمَ الرَّجُلُ إِذَا نَشِبَ فِي الْحَرْبِ، فَلَمْ يَجِدْ مُخَلِّصًا، وَلَحَمَ إِذَا قَتَلَ ". وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَحَمَهُ إِذَا الْتَصَقَ بِهِ الْتِصَاقَ اللَّحْمِ بِالْعَظْمِ، أَيْ: حِينَ يَلْتَصِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، أَوْ يَهُمُّ بَعْضُهُمْ بِقَتْلِ بَعْضٍ، مِنْ لَحَمَ فُلَانٌ فَهُوَ مَلْحُومٌ إِذَا قُتِلَ كَأَنَّهُ جُعِلَ لَحْمًا. (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: بَدَلُ قَوْلِهِ. وَعِنْدَ الْبَأْسِ يَلْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ; فَإِنَّ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: " «سَاعَتَانِ يُفْتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَقَلَّمَا تُرَدُّ عَلَى دَاعٍ دَعْوَتُهُ: عِنْدَ حُضُورِ النِّدَاءِ، وَوَقْتَ الْمَطَرِ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَقَوْلُهُ (وَتَحْتَ الْمَطَرِ) أَيْ: عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَرُوِيَ فِي الْعَوَارِفِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْغَيْثَ وَيَتَبَرَّكُ بِهِ وَيَقُولُ: حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ: الدَّارِمِيَّ (لَمْ يَذْكُرْ: (وَتَحْتَ الْمَطَرِ) .

673 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ كَمَا يَقُولُونَ، فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 673 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ: الْمَرْوِيِّ عَنْهُ ( «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا» ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الضَّادِ أَيْ: يَحْصُلُ لَهُمْ فَضْلٌ وَمَزِيَّةٌ عَلَيْنَا فِي الثَّوَابِ بِسَبَبِ الْأَذَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ يَعْنِي فَمَا تَأْمُرُنَا بِهِ مِنْ عَمَلٍ نَلْحَقُهُمْ بِسَبَبِهِ ; (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ كَمَا يَقُولُونَ) أَيْ: إِلَّا عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، فَيَحْصُلُ لَكَ الثَّوَابُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. أَيْ: مِثْلُهُ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ، ثُمَّ أَفَادَ زِيَادَةً عَلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا انْتَهَيْتَ) أَيْ: فَرَغْتَ مِنَ الْإِجَابَةِ (فَسَلْ) بِالنَّقْلِ أَيِ: اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ حِينَئِذٍ مَا تُرِيدُ (تُعْطَ) أَيْ: يَقْبَلُ اللَّهُ دُعَاءَكَ وَيُعْطِيكَ سُؤَالَكَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: " «مَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَقَالَ مَا يَقُولُ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» "، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «مَنْ قَالَ حِينَ يُنَادِي الْمُنَادِي: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْضَ عَنِّي رِضًا لَا تَسْخَطُ بَعْدَهُ - اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَهُ» ) . وَلَهُ فِي الْكَبِيرِ: ( «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَبَلِّغْهُ دَرَجَةَ الْوَسِيلَةِ عِنْدَكَ، وَاجْعَلْنَا فِي شَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَبَتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ» ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 674 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ذَهَبَ حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ» ) . قَالَ الرَّاوِي: وَالرَّوْحَاءُ مِنَ الْمَدِينَةِ: عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 674 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ) الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الشَّيْطَانِ أَوْ رَئِيسُهُمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ذَهَبَ) لِكَرَاهَتِهِ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، أَوِ الْإِجْمَاعَ فِي الطَّاعَةِ (حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ) أَيْ: يَبْعُدَ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمُصَلَّى بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَكُونَ الشَّيْطَانُ مِثْلَ الرَّوْحَاءِ فِي الْبُعْدِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (قَالَ الرَّاوِي) الْمُرَادُ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ الْمَكِّيُّ الرَّاوِي، عَنْ جَابِرٍ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَالرَّوْحَاءُ مِنَ الْمَدِينَةِ) أَيْ: إِلَى مَكَّةَ (عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مَيْلًا) يَعْنِي اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

675 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، قَالَ: «إِنِّي لَعِنْدَ مُعَاوِيَةَ، إِذْ أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ كَمَا قَالَ مُؤَذِّنُهُ، حَتَّى إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَلَمَّا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ; قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 675 - (وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) هُوَ لَيْثِيٌّ، وَقَدْ وُلِدَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ كَانَ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَشَهِدَ الْخَنْدَقَ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ أَيَّامَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: إِنِّي لَعِنْدَ مُعَاوِيَةَ) أَيِ: ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ (إِذْ) بِسُكُونِ الذَّالِ (أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ) أَيِ: الْخَاصُّ لَهُ أَوْ لِمَسْجِدِهِ (فَقَالَ مُعَاوِيَةُ كَمَا قَالَ مُؤَذِّنُهُ. حَتَّى إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) بِالْهَاءِ عَلَى الْوَقْفِ (قَالَ) أَيْ: مُعَاوِيَةُ (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ (فَلَمَّا قَالَ) أَيْ: مُؤَذِّنُهُ (حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ) أَيْ: مُعَاوِيَةُ (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ) هَذِهِ الزِّيَادَةُ زِيَادَةٌ نَادِرَةٌ فِي الرِّوَايَاتِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ) أَيْ: مِثْلَ قَوْلِهِ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: مُعَاوِيَةُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ) أَيْ: بِالْفِعْلِ أَوِ الْأَمْرِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالنَّسَائِيُّ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

676 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ بِلَالٌ يُنَادِي، فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَالَ هَذَا يَقِينًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ) . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 676 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ بِلَالٌ يُنَادِي) أَيْ يُؤَذِّنُ (فَلَمَّا سَكَتَ) أَيْ: فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا) أَيِ: الْقَوْلِ مُجِيبًا أَوْ مُؤَذِّنًا أَوْ مُطْلِقًا (يَقِينًا) أَيْ: خَالِصًا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ (دَخَلَ الْجَنَّةَ) أَيِ: اسْتَحَقَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ أَوْ دَخَلَ مَعَ النَّاجِينَ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

677 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَتَشَهَّدُ قَالَ: (وَأَنَا وَأَنَا» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 677 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ» ) أَيْ: صَوْتَهُ (يَتَشَهَّدُ) حَالٌ (قَالَ: (وَأَنَا وَأَنَا) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ بِتَقْدِيرِ الْعَامِلِ، أَيْ: وَأَنَا شَاهِدٌ كَمَا تَشْهَدُ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَالتَّكْرِيرُ فِي أَنَا رَاجِعٌ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ وَأَشْهَدُ أَنَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ فِيهِمَا، وَفِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُكَلَّفًا بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى رِسَالَتِهِ كَسَائِرِ الْأُمَّةِ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الطِّيبِيِّ وَقَالَ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، لَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَشْهَدُ مِثْلَنَا أَوْ يَقُولُ: وَأَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ كَتَشَهُّدِنَا كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ، «عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ فِي إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ» ؟ . ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ، فَيَجْمَعُ بِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذَا تَارَةً وَذَاكَ أُخْرَى، فَلَوْ قَالَ الْمُجِيبُ مَا هُنَا هَلْ يَحْصُلُ لَهُ أَصْلُ سُنَّةِ الْإِجَابَةِ؟ مَحَلُّ نَظَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ لِقَوْلِهِ: مَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ، وَالْمِثْلُ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ. نَعَمْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ لَنَا وَاللَّفْظُ لَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

678 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( «مَنْ أَذَّنَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ; وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سِتُّونَ حَسَنَةً، وَلِكُلِّ إِقَامَةٍ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 678 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَذَّنَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ وَتُكْسَرُ (سَنَةً) وَلَعَلَّ هَذَا مِقْدَارُ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) أَيْ: يُصَادِقُ وَعْدَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ " (وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ) أَيْ: فَقَطْ دُونَ صَلَاتِهِ (فِي كُلِّ يَوْمٍ) أَيْ: لِكُلِّ أَذَانٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ الْآتِي: وَلِكُلِّ إِقَامَةٍ (سِتُّونَ حَسَنَةً) فِيهِ حَذْفٌ، أَوْ كُتِبَ لَهُ بِسَبَبِ تَأْذِينِهِ كُلَّ مَرَّةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَكَتَبَ تَحْتَهُ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا وَجْهُهُ (وَلِكُلِّ إِقَامَةٍ) أَيْ فِي كُلِّ يَوْمٍ (ثَلَاثُونَ حَسَنَةً) وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّصْنِيفِ فِي التَّضْعِيفِ أَنَّ الْإِقَامَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْحَاضِرِينَ، وَالْأَذَانَ عَامٌّ، أَوْ لِسُهُولَةِ الْإِقَامَةِ وَمَشَقَّةِ الْأَذَانِ بِالصُّعُودِ إِلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ وَالتُّؤَدَةِ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، أَوْ لِإِفْرَادِ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " وَظَاهِرُهُ أَنَّ كِتَابَةَ سِتِّينَ حَسَنَةً لِكُلِّ أَذَانٍ وَثَلَاثِينَ لِكُلِّ إِقَامَةٍ خَاصٌّ بِمَنْ أَذَّنَ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنْهَا لَا يُكْتَبُ لَهُ ذَلِكَ ". فَغَيْرُ ظَاهِرٍ إِذْ جَزَاءُ الشَّرْطِ تَمَّ بِقَوْلِهِ: وَجَبَتْ، وَقَوْلُهُ: (وَكُتِبَ) أَيْ أُثْبِتَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ بِتَأْذِينِهِ وَإِقَامَتِهِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُدَاوَمَةِ وَتَرْكِهَا فِي تَحْصِيلِ أَصْلِ الثَّوَابِ، ثُمَّ هَذِهِ الْكِتَابَةُ زِيَادَةٌ عَلَى ثَوَابِ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا مِنَ الْمُجِيبِ وَغَيْرِهِ فَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْمُؤَذِّنِ، وَأَيْضًا لَوِ اعْتُبِرَ ثَوَابُ الْكَلِمَاتِ لَزَادَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ.

679 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا نُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 679 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: «كُنَّا نُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ هَذَا الدُّعَاءَ مَا مَرَّ فِي حَدِيثِ أْمِّ سَلَمَةَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي: " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ") وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ. فَائِدَةٌ: جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَذَّنَ مَرَّةً فِي السَّفَرِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ، وَرُدَّ بِأَنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ: فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَبِهِ يُعْلَمُ اخْتِصَارُ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَنَّ مَعْنَى أَذَّنَ فِيهَا، أَمَرَ بِلَالًا بِالْأَذَانِ، كَبَنَى الْأَمِيرُ الْمَدِينَةَ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا بِلَفْظِ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَالْمُفَصَّلُ يُقْضَى عَلَى الْمُجْمَلِ الْمُحْتَمَلِ.

[باب تأخير الأذان]

[بَابُ تَأْخِيرِ الْأَذَانِ]

[6] بَابُ تَأْخِيرِ الْأَذَانِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 680 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» ) . قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى، لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [6] بَابُ تَأْخِيرِ الْأَذَانِ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هَذَا. وَقِيلَ: بِالسُّكُونِ عَلَى الْوَقْفِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: بَدَلَهُ فَصْلٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا أُفْرِدَ هَذَا الْفَصْلُ لِأَنَّ أَحَادِيثَهُ كُلَّهَا صِحَاحٌ، وَلَيْسَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ مُنَاسِبَةٌ لِصِحَاحِ الْبَابِ السَّابِقِ، فَكَانَتْ مَظِنَّةَ الْإِفْرَادِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا بَابٌ فِي تَتِمَّاتٍ لِمَا سَبَقَ فِي الْبَابَيْنِ قَبْلَهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 680 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي) أَيْ: يَذْكُرُ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُؤَذِّنُ (بِلَيْلٍ) أَيْ: فِيهِ يَعْنِي لِلتَّهَجُّدِ أَوْ لِلسُّحُورِ، لِمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ: " إِنَّهُ نُهِيَ عَنِ الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ " وَإِنْ قِيلَ بِضَعْفِهِ " (فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ يُنَادِي بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى، لَا يُنَادِي) أَيْ: لَا يُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ (حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ) التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ: دَخَلْتَ أَوْ قَارَبْتَ الدُّخُولَ فِي الصَّبَاحِ، يَعْنِي بَعْدَ تَحَقُّقِ الصُّبْحِ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَلَا يُنَافِي هَذَا خَبَرَ: " «إِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ بِلَالٌ» " ; لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا مُنَاوَبَةً، كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَعَلَّ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مِنْ تَقْسِيمِ الْوَقْتَيْنِ بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ " حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ " يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ أَذَانِهِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَقَوْلُهُ: " «كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» "، يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَوْ مَعَهُ. قُلْتُ: يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ هَذِهِ ; لِاحْتِمَالِهَا دُونَ تِلْكَ لِصَرَاحَتِهَا، فَلِذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسَنُّ فِي الْأَذَانِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَالْوَجْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ لِخَبَرِ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانَيْهِمَا إِلَّا قَدْرُ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَيَتَرَبَّصُ بَعْدَ أَذَانِهِ لِلدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ يَرْقُبُ الْفَجْرَ فَإِذَا قَارَبَ طُلُوعُهُ نَزَلَ فَأَخْبَرَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ فَتَأَهَّبَ ثُمَّ يَرْقَى وَيُسْرِعُ الْأَذَانَ مَعَ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَفِي الشُّمُنِّيِّ ; قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ وَحْدَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» " وَلَنَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَيَحْفَظُهُمَا» ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَكْتَفِي بِالْأَذَانِ الْأَوَّلِ. وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِالْفَجْرِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَحُرِمَ الطَّعَامَ، وَكَانَ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُصْبِحَ» . وَعَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ: ثِقَةٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَدَاوُدَ بْنِ شَبِيبٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «إِنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ» ، زَادَ مُوسَى فَرَجَعَ فَنَادَى، لَكِنْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ لِعُمَرَ مُؤَذِّنٌ يُقَالُ لَهُ مَسْعُودٌ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ مِنْ ذَاكَ. قُلْتُ: يُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَتَأْوِيلُ الطَّحَاوِيِّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مِنْهُ كَانَ عَلَى ظَنِّ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَمْ يُصِبْ فِي طُلُوعِهِ. قَالَ: لِمَا رَوَيْنَا عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ فَإِنَّ فِي بَصَرِهِ سُوءًا» . وَلِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» . قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِقْدَارُ مَا يَنْزِلُ هَذَا وَيَصْعَدُ هَذَا. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَيْنَ أَذَانَيْهِمَا مِنَ الْقُرْبِ مَا ذَكَرْنَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْصِدَانِ طُلُوعَ الْفَجْرِ، لَكِنْ بِلَالٌ يُخْطِئُهُ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يُصِيبُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ الْجَمَاعَةُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْإِمَامِ: وَالتَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فِي سَائِرِ الْعَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ فِي رَمَضَانَ اهـ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا.

681 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 681 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) : بِضَمِّهَا وَفَتْحِ الثَّانِي (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَمْنَعَنَّكُمْ) بِالتَّأْكِيدِ وَفِي أَصْلٍ صَحِيحٍ: لَا يَمْنَعُكُمْ عَلَى النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ (مِنْ سُحُورِكُمْ) بِضَمِّ السِّينِ مَصْدَرًا أَيْ: تَسَحُّرُكُمْ وَبِفَتْحِهَا اسْمٌ أَيْ: مِنْ أَكْلِ سَحُورِكُمْ وَهُوَ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ (أَذَانُ بِلَالٍ) أَيْ: فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ كَمَا سَبَقَ " (وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ) أَيْ: وَلَا يَمْنَعُكُمُ الصُّبْحُ الَّذِي يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ، وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ ذَنَبَ السِّرْحَانِ، وَبِطُلُوعِهِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الصُّبْحِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهُوَ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ يَطْلُعُ أَوَّلًا مُسْتَطِيلًا إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ يَغِيبُ وَبَعْدَ غَيْبُوبَتِهِ بِزَمَانٍ يَسِيرٍ يَظْهَرُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، قِيلَ: وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ بَيَانُ أَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَنَّ بِلَالًا رُبَّمَا أَذَّنَ بَعْدَهُ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وَهُوَ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسْتَطِيرُ لَا الْمُسْتَطِيلُ (وَلَكِنِ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (الْفَجْرُ) بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ (الْمُسْتَطِيرُ) " صِفَتُهُ أَيِ: الْمُنْتَشِرُ الْمُعْتَرِضُ (فِي الْأُفُقِ ") أَيْ: أَطْرَافِ السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ الَّذِي يَنْتَشِرُ ضَوْؤُهُ فِي الْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ، وَلَا يَزَالُ يَزْدَادُ ضِيَاؤُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ مَعَ أَنَّهَا لَا يَمْنَعَانِهَا أَيْضًا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ عَدَمُ تَأْخِيرِهَا إِلَيْهِمَا لِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا اهـ. أَوْ لِكَوْنِهِ يُعْلَمُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ مَعْنَاهُ، قَالَهُ مِيرَكُ، وَأَحْمَدُ. (وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ) وَقَالَ: حَسَنٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَنْسَبُ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. قُلْتُ: يُسْتَفَادُ هَذَا مِنْ كَلَامِهِ مَعَ الِاخْتِصَارِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَقُولُ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا عَكَسَهُ، لِأَنَّهُ أَنْسَبُ لِلْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَأَبْعَدُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُصَنَّفِ الْأَفْضَلِ.

682 - وَعَنْ مَالِكٍ بْنِ الْحُوَيْرِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي، فَقَالَ: (إِذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 682 - (وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ) قِيلَ: هُوَ مِنْ قَبِيلَةِ اللَّيْثِ، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَسَكَنَ الْبَصْرَةَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي) بِالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ (فَقَالَ) أَيْ: لَنَا ( «إِذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا فَأَقِيمَا» ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (وَأَقِيمَا) يَعْنِي: يُؤَذِّنُ أَحَدُكُمَا وَيُقِيمُ، وَالْخِيَارُ إِلَيْكُمَا عِنْدَ اسْتِوَائِكُمَا (وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) أَيْ: سِنًّا لِسَبْقِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ رُتْبَةً، إِذِ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ بِالْأَحْكَامِ أَيْ: أَفْضَلُكُمَا، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ تَفْضِيلٌ لِلْإِمَامَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَكْبَرِ وَالْأَفْضَلِ، بِخِلَافِ الْإِمَامَةِ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ فِيهَا إِمَامَةُ الْأَكْبَرِ سِنًّا أَوْ رُتْبَةً، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ أَنَّ دَاوُدَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا " عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ فَرْضَا عَيْنٍ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فَرْضَيْ عَيْنٍ لَأَتَى بِهِمَا كُلٌّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَلَوْ فُعِلَ لَنُقِلَ إِلَيْنَا. ثُمَّ قَالَ: وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ) عَلَى أَنَّهُمَا فَرْضَا كِفَايَةٍ، يَعْنِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ لِمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ الْإِغَارَةِ. قُلْتُ: ظَاهِرُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي الْفَرْضِيَّةَ لَا السُّنِّيَّةَ، إِذْ جُعِلَ شِعَارَ الْإِسْلَامِ وَبِتَرْكِهِ جُوِّزَ تَرَتُّبُ الِانْتِقَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ ( «إِذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ فَأَحْسِنِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرَ» ) وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَذَانِ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ مَعَ عَدَمِ اسْتِيعَابِهِ الشُّرُوطَ، كَتَرْكِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى أَبِي دَاوُدَ، فَضْلًا عَنْ أَحْمَدَ، إِذِ الْأَذَانُ لَيْسَ مِنَ الشَّرَائِطِ، وَلَا مِنَ الْأَرْكَانِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِإِسَاءَةٍ فِيهَا إِعَادَةُ

الْأَذَانِ، مَعَ أَنَّ أَذَانَ غَيْرِهِ كَافٍ لَهُ عِنْدَ غَيْرِ دَاوُدَ. ثُمَّ قَالَ: وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (إِذَا «كَانَ أَحَدُكُمْ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَإِنْ صَلَّى بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ صَلَّى وَحْدَهُ، إِنْ صَلَّى بِإِقَامَةٍ صَلَّى مَعَهُ مَلِكٌ، وَإِنْ صَلَّى بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ صَلَّى خَلْفَهُ صَفٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوَّلُهُمْ بِالْمَشْرِقِ وَآخِرُهُمْ بِالْمَغْرِبِ» ) أَوْرَدَهُ الْفُقَهَاءُ. قُلْتُ: وَلَوْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يَبْقَ مُجْمَلًا مَعَ أَنَّ لِأَحْمَدَ أَنْ يَخُصَّ الْحُكْمُ حَالَةَ الْجَمَاعَةِ لَا حَالَةَ الِانْفِرَادِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ الْحَدِيثُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ - عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ " الْأَذَانُ سُنَّةٌ " -: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَا الْإِقَامَةُ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: وَاجِبٌ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قَاتَلْنَاهُمْ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ: بِكَوْنِ الْقِتَالِ لَمَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِهِ اسْتِخْفَافُهُمْ بِالدِّينِ بِخَفْضِ إِعْلَامِهِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ مِنْ إِعْلَامِ الدِّينِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يُحْبَسُونَ وَيُضْرَبُونَ وَلَا يُقَاتَلُونَ بِالسِّلَاحِ، كَذَا نَقَلَهُ بَعْضُهُمْ بِصُورَةِ نَقْلِ الْخِلَافِ، وَلَا يَخْفَى أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بِوَجْهٍ، فَإِنَّ الْمُقَاتَلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ وَعَدَمِ الْقَهْرِ لَهُمْ، وَالضَّرْبَ وَالْحَبْسَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ قَهْرِهِمْ، فَجَازَ أَنْ يُقَاتَلُوا إِذَا امْتَنَعُوا عَنْ قَبُولِ الْأَمْرِ بِالْأَذَانِ، فَإِذَا قُوتِلُوا فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ ضُرِبُوا وَحُبِسُوا، وَقَدْ يُقَالُ: عَدَمُ التَّرْكِ مَرَّةً دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ، فَيَنْبَغِي وُجُوبُ الْأَذَانِ كَذَلِكَ وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِلَّا لَمْ يَأْثَمْ أَهْلُ بَلْدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِهِ إِذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُمْ وَلَمْ يُضْرَبُوا وَلَمْ يُحْبَسُوا. قُلْتُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِعَدَمِ ظُهُورِ كَوْنِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَإِلَّا لَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا أَذَّنَ أَحَدٌ فِي بَلَدٍ سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنِ الْبَاقِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي " الدِّرَايَةِ " عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبَى يُوسُفَ: لَوْ صَلَّوْا فِي الْحَضَرِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِلَا أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَأَثِمُوا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَهُ لِجَوَازِ كَوْنِ الْإِثْمِ لِتَرْكِهِمَا مَعًا فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَتْرُكَهَا مَعَهُمْ لَكِنْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجَابُ الْأَذَانُ لِظُهُورِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلِيلِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ مُتَقَارِبٌ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةً، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ.

683 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 683 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ) أَيْ: فِي مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ أَوْ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا (وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ: وَقْتُهَا " (فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ) - بِسُكُونِ اللَّامِ وَتُكْسَرُ - (أَكْبَرُكُمْ) عِلْمًا أَوْ سِنًّا، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ عِلْمُ الصَّلَاةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَبِالسِّنِّ: السِّنُّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ الْغَالِبِ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْإِمَامَةِ خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ الْمُنَازَعَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ السَّيِّدُ: لَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» "، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مَحَلُّ بَحْثٍ. قُلْتُ: يُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ أَوْ مَحَلِّ الشَّاهِدِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخِلَافُ مِنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

684 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، سَارَ لَيْلَةً، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى عَرَّسَ، وَقَالَ لِبِلَالٍ: (اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ. فَصَلَّى بِلَالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ. فَلَمَّا تَقَارَبَ الْفَجْرُ اسْتَنَدَ بِلَالٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ مُوَاجِهَ الْفَجْرِ، فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا بِلَالٌ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا، فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَيْ بِلَالُ!) . فَقَالَ بِلَالٌ: أَخَذَ بِنَفْسَيِ الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ. قَالَ (اقْتَادُوا) فَاقْتَادَوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ. فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ: (مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 684 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَفَلَ) أَيْ: رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْقَافِلَةِ لِلسَّيَّارَةِ مَرْجِعًا وَمَآلًا، أَوْ مُطْلَقًا تَفَاؤُلًا (مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ) فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ، أَقَامَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُحَاصِرُهَا بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْرَادٍ (سَارَ لَيْلَةً، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى) بِفَتْحَتَيْنِ هُوَ النُّعَاسُ، وَقِيلَ: النَّوْمُ (عَرَّسَ) مِنَ التَّعْرِيسِ أَيْ: نَزَلَ آخِرَ اللَّيْلِ لِلِاسْتِرَاحَةِ (وَقَالَ لِبِلَالٍ: اكْلَأْ) أَيِ: احْفَظْ وَاحْرُسْ (لَنَا اللَّيْلَ) أَيْ: آخِرَهُ لِإِدْرَاكِ الصُّبْحِ (فَصَلَّى بِلَالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ) مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ الصَّلَاةِ وَالْحِرَاسَةِ، أَوْ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ التَّهَجُّدِ (وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ

الْمُتَّصِلِ فِي " نَامَ "، وَفِي نُسْخَةٍ: نَامَ وَنَامَ أَصْحَابُهُ اهـ. وَهَذَا إِعْرَابُ لَفْظِ الْمَصَابِيحِ، إِذْ لَفْظُهُ: وَنَامَ أَصْحَابُهُ، وَأَمَّا عَلَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ (فَلَمَّا تَقَارَبَ الْفَجْرُ، اسْتَنَدَ بِلَالٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ) لِغَلَبَةِ ضَعْفِ السَّهَرِ وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ (مُوَاجِهَ الْفَجْرِ) أَيْ: لِيَرْقُبَهُ حَتَّى يُوقِظَهُمْ عَقِبَ طُلُوعِهِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مُتَوَجِّهَ الْفَجْرِ يَعْنِي مَوْضِعَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُتَعَدٍّ، وَالْمُوَجَّهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلِكُلِّ وُجْهَةٍ (فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا عِبَارَةٌ عَنِ النَّوْمِ، كَأَنَّ عَيْنَيْهِ غَالَبَتَاهُ فَغَلَّبَتَاهُ عَلَى النَّوْمِ تَمَّ كَلَامُهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ نَامَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ (وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تُفِيدُ عَدَمَ اضْطِجَاعِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ نَوْمِهِ ( «فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا بِلَالٌ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ» ) أَيْ: أَصَابَتْهُمْ، وَوَقَعَ عَلَيْهِمْ حَرُّهَا (فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي اسْتِيقَاظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النَّاسِ، إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النُّفُوسَ الزَّكِيَّةَ وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ شَيْءٌ مِنَ الْحُجُبِ الْبَشَرِيَّةِ، لَكِنَّهَا عَنْ قَرِيبٍ سَتَزُولُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ هُوَ أَزْكَى كَانَ زَوَالُ حُجُبِهِ أَسْرَعَ. (فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مِنَ اسْتِيقَاظِهِ وَقَدْ فَاتَتْهُ الصُّبْحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ هَبَّ وَانْتَبَهَ كَأَنَّهُ مِنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ ; لِأَنَّ مَنْ يَتَنَبَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ فَزَعٍ مَا (فَقَالَ: (أَيْ بِلَالٌ) وَالْعِتَابُ مَحْذُوفٌ وَمُقَدَّرٌ أَيْ: لِمَ نِمْتَ حَتَّى فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ ; (فَقَالَ بِلَالٌ) أَيْ: مُتَعَذِّرًا (أَخَذَ بِنَفْسَيِ الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ) أَيْ: كَمَا تَوَفَّاكَ فِي النَّوْمِ تَوَفَّانِي. نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الطِّيبِيِّ، وَقَالَ: وَفِيهِ أَيُّ تَأَمُّلٌ أَوْ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ غَلَبَ عَلَى نَفْسِي مَا غَلَبَ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ النَّوْمِ، أَيْ: كَانَ نَوْمِي بِطَرِيقِ الِاضْطِرَارِ دُونَ الِاخْتِيَارِ لِيَصِحَّ الِاعْتِذَارُ، وَلَيْسَ فِيهِ احْتِجَاجٌ بِالْقَدَرِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ، وَفِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] الْآيَةَ (قَالَ: (اقْتَادُوا) أَمْرٌ مِنَ الِاقْتِيَادِ. يُقَالُ: قَادَ الْبَعِيرَ وَاقْتَادَهُ إِذَا جَرَّ حَبْلَهُ أَيْ: سُوقُوا رَوَاحِلَكُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ. (فَاقْتَادَوْا) مَاضٍ أَيْ: سَاقَوْا (رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا) يَسِيرًا مِنَ الزَّمَانِ أَوِ اقْتِيَادًا قَلِيلًا مِنَ الْمَكَانِ يَعْنِي قَالَ: أَذْهِبُوا رَوَاحِلَكُمْ، فَذَهَبُوا بِهَا مِنْ ثَمَّةَ مَسَافَةٍ قَلِيلَةٍ، وَلَمْ يَقْضِ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ; لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، أَوْ لِأَنَّ بِهِ شَيْطَانًا كَمَا فِي رِوَايَةِ: " «تَحَوَّلُوا بِنَا عَنْ هَذَا الْوَادِي فَإِنَّ بِهِ شَيْطَانًا» "، وَقِيلَ: أَخَّرَ لِيَخْرُجَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنْ جَوَّزَ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ قَالُوا: أَرَادَ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَتْهُمْ فِيهِ هَذِهِ الْغَفْلَةُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «تَحَوَّلُوا عَنْ مَكَانِكُمُ الَّذِي أَصَابَتْكُمْ فِيهِ هَذِهِ الْغَفْلَةُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «لِيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ رَأْسَ رَاحِلَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ» "، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَهُوَ كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ ذُهِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَنَامَ عَنْهَا ; مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي جَوَابِ عَائِشَةَ، «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ : إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» . قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْقَلْبَ إِنَّمَا يُدْرِكُ الْأُمُورَ الْبَاطِنَةَ كَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يُدْرِكُ الْحِسِّيَّاتِ مِثْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُدْرَكُ ذَلِكَ بِالْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبُ يَقْظَانٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَالَانِ: يَنَامُ الْقَلْبُ تَارَةً وَهِيَ نَادِرَةٌ، وَأُخْرَى لَا يَنَامُ، فَصَادَفَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ حَالَةَ النَّوْمِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنِ انْتَصَرَ لَهُ الشَّارِحُ بِمَا لَا يُجْدِي. قَالَ السَّيِّدُ نَقْلًا عَنِ الطِّيبِيِّ، أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَوْلَى لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ فَآذَنَهُ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَعَلَّلُوهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( «تَنَامُ عَيْنِي وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» ) قُلْتُ: يُرِيدُ الطِّيبِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ

السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ تَوَضَّأَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَوْمَهُ تَارَةً يَكُونُ نَاقِضًا، وَأُخْرَى لَا بِحَسَبِ الْحَالَيْنِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ وَضَوْءَهُ كَانَ لِلتَّجْدِيدِ، أَوْ لِنَاقِضٍ غَيْرِ النَّوْمِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ يَنْدَفِعُ الِاسْتِدْلَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ نَسِيَ لِيَسُنَّ ; يَعْنِي الْحِكْمَةَ فِي نَوْمِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ ذُهُولُهُ بِالْحَضْرَةِ الْبَاطِنِيَّةِ عَنِ الطَّاعَةِ الظَّاهِرِيَّةِ، لِيُعْرَفَ حُكْمُ الْقَضَاءِ بِالدَّلِيلِ الْفِعْلِيِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ، عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُؤَيِّدَ لِلدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ عَلَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَلْبَهُ كَانَ يَقْظَانَ، وَعَلِمَ خُرُوجَ الْوَقْتِ وَسَكَتَ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ التَّشْرِيعِ - فَبَاطِلٌ مَرْدُودٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَمَا اخْتَلَفَ حَالُهُ مِنْ نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ فِي حَقٍّ وَتَحْقِيقٍ، وَمَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي كُلِّ طَرِيقٍ وَفَجٍّ عَمِيقٍ إِنْ نَسِيَ فَبِآكَدَ مِنَ الْمَنْسِيِّ اشْتَغَلَ، وَإِنْ نَامَ فَبِقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ عَلَى اللَّهِ أَقْبَلَ، وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَامَ لَا نُوقِظُهُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا هُوَ فِيهِ عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ نِسْيَانُهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا» لَمْ يَكُنْ عَنِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ بِالتَّصَرُّفِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ مِثْلِهَا لِيَكُونَ لَنَا سُنَّةً. (ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ) أَيْ لَهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَذِّنْ لِأَنَّ الْقَوْمَ حُضُورٌ. قُلْتُ: هُنَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ وَلَوْ كَانُوا حُضُورًا فَالْأَفْضَلُ إِتْيَانُ الْإِقَامَةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الْأَذَانِ، بَلْ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، أَنَّهُ جُمِعَ بَيْنَهُمَا، فَالْمَعْنَى: فَأَقَامَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْأَذَانِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْفَائِتَةَ لَا يُؤَذَّنُ لَهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ،. لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ هُوَ مَذْهَبُهُ الْقَدِيمُ أَنَّهُ يُؤَذَّنُ لَهَا لِمَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، «ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى صَلَاةَ الْغَدْوَةِ، فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ» ، وَلِقَوْلِهِ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَخْ. إِذِ الْإِقَامَةُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَرْضِ بِشَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: كَمَا كَانَ إِلَخْ. مَعَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ - يَدْفَعُ احْتِمَالَ أَنْ يُرَادَ الْأَذَانُ فِيهِ الْإِقَامَةُ، فَاقْتِصَارُ مُسْلِمٍ عَلَيْهَا وَخَبَرُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَمَّا حُبِسَ عَنِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِتِلْكَ الْفَوَائِتِ» ، لَا يُعَارِضُ مَا مَرَّ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْهُ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَضِيَّةِ الْخَنْدَقِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ» ، وَلَا يَضُرُّ انْقِطَاعُهَا لِأَنَّ الْمُنْقَطِعَ يَصْلُحُ لِلتَّقْوِيَةِ اهـ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي فَوَائِتِ الْخَنْدَقِ. أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَانَ فِي أُولَى الْفَوَائِتِ، وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي الْبَقِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا. (فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ) أَيْ: قَضَاءً (فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ) أَيْ: فَرَغَ مِنْهَا (قَالَ (مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ) وَفِي مَعْنَى النِّسْيَانِ النَّوْمُ، أَوْ مَنْ تَرَكَهَا بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَلِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ سَبَقَتْ، " أَوْ نَامَ عَنْهَا " وَهِيَ الْمُنَاسِبَةُ هُنَا، وَعَلَى حَذْفِهَا فَاكْتَفَى بِالنِّسْيَانِ عَنِ النَّوْمِ ; لِأَنَّهُ مِثْلُهُ بِجَامِعِ مَا فِي كُلٍّ مِنَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّقْصِيرِ (فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا) فَإِنَّ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٍ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَائِتَةِ وَالْأَدَائِيَّةِ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ أَيْ: إِذَا ذَكَرْتَ صَلَاتِي بَعْدَ النِّسْيَانِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

685 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 685 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ:، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ: نَادَى الْمُؤَذِّنُ بِالْإِقَامَةِ، إِقَامَةً لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ (فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ) أَيْ: مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هُنَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْإِقَامَةِ عَلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ. نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ وَابْنُ الْمَلَكِ، وَلَعَلَّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ عَلَامَةٌ عَلَى خُرُوجِهِ كَفَتْحِ بَابٍ أَوْ كَشْفِ سِتَارَةٍ أَوْ سَمَاعِ صَوْتِ نَعْلٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " كَوْنُ الْإِقَامَةِ بِنَظَرِ الْإِمَامِ لَا يَقْتَضِي حُضُورَهُ عِنْدَهَا، فَقَدْ يَأْمُرُ بِهَا وَهُوَ غَائِبٌ، ثُمَّ يَحْضُرُ عِنْدَ انْتِهَائِهَا أَوْ عَقِبَهُ " - فَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، وَقَدْ مَرَّ بَعْضُ الْكَلَامِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَقَامِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: " قَدْ خَرَجْتُ " مِنْ إِفْرَادِ مُسْلِمٍ. قُلْتُ: هَذَا مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ الَّذِي بِدُونِهُ تَحْصُلُ الْإِفَادَةُ، فَكَانَ اللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَالْمَعْنَى لِمُسْلِمٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

686 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رِضَى اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَائْتُوهَا - تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ. فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ( «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» ) . وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 686 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ» ) حَالٌ أَيْ: لَا تَأْتُوا إِلَى الصَّلَاةِ مُسْرِعِينَ فِي الْمَشْيِ، وَإِنْ خِفْتُمْ فَوْتَ الصَّلَاةِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يُقَالُ هَذَا مُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ فِي الْآيَةِ الْقَصْدُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] أَيِ: اشْتَغِلُوا بِأَمْرِ الْمَعَادِ، وَاتْرُكُوا أَمْرَ الْمَعَاشِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ السَّعْيُ مُنْحَصِرًا عَلَى الْأَقْدَامِ، لَكِنْ عَلَى النِّيَّاتِ وَالْقُلُوبِ. اهـ. يَعْنِي: لَيْسَ السَّعْيَ الْكَامِلَ، أَوْ لَيْسَ السَّعْيُ مُنْحَصِرًا عَلَى الْأَقْدَامِ ; بَلِ الْمَدَارُ عَلَى تَحْصِيلِ الْإِخْلَاصِ فِي وُصُولِ الْمَرَامِ، وَالنَّهْيُ (إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْإِسْرَاعِ الْمُفْضِي إِلَى تَشَتُّتِ الْبَالِ وَعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ، وَلِذَا قَالَ: (وَائْتُوهَا تَمْشُونَ) أَيْ: بِالسَّكِينَةِ وَالطَّمَأْنِينَةِ الَّتِي مَدَارُ الطَّاعَةِ عَلَيْهِمَا، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ الْحُضُورُ مَعَ الْمَعْبُودِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ مِنْ: لَا تَسْعَوْا لِتَصْوِيرِهِ حَالَةَ سُوءِ الْأَدَبِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، وَمِنْ ثَمَّ عَقِبَهُ بِمَا يُنَبِّهُ عَلَى حُسْنِ الْأَدَبِ فَقَالَ: وَائْتُوهَا حَالَ كَوْنِكُمْ تَمْشُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَسْعَوْا لِظُهُورِ إِعْطَاءِ ظَاهِرِ الْمُعَارَضَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَكْبَرُكُمْ ") : {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] وَلِإِبْهَامِ تَرْكِ الْإِتْيَانِ مُطْلَقًا، فَبَيَّنَ أَنَّ السَّعْيَ لَهُ مَعْنَيَانِ، أَحَدُهُمَا: الْإِتْيَانُ عَلَى طَرِيقَةِ الْهَرْوَلَةِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَثَانِيهُمَا: الْإِتْيَانُ عَلَى سَبِيلِ الْمَشْيِ وَالسَّكِينَةِ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ السَّعْيَ بِمَعْنَى الْجِدِّ وَالْجُهْدِ فِي الْأَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْعَوْا فِي آيَةِ الْجُمُعَةِ بِمَعْنَى: امْضُوا كَمَا قَرَأَ بِهِ، أَوْ بِمَعْنَى اقْصِدُوا كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: إِنْ قُلْتَ قَوْلُهُ: " «فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَائْتُوهَا تَمْشُونَ» "، مَا هَذَا إِلَّا كَمَا تَقُولُ: لَا تَأْكُلْ لَحْمَ الْفَرَسِ، وَلَكِنْ كُلْ لَحْمَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ كَلَامٌ ضَعِيفٌ قُلْتُ: لَا نُسَلِّمُ ضَعْفَهُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ لَحْمُ حَيَوَانٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ سَلِمَ فَالْقَيْدُ مَوْجُودٌ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) مَعَ أَنَّ السَّعْيَ قَدْ يَكُونُ مَشْيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَقَدْ يَكُونُ عَدْوًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] وَقَدْ يَكُونُ عَمَلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] ثُمَّ مَنْ خَافَ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى فَقِيلَ: إِنَّهُ يُسْرِعُ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ الْإِقَامَةَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُهَرْوِلُ، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى وَقَارٍ لِلْحَدِيثِ، لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ الصَّلَاةَ فَكَأَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ اهـ. وَالْأَظْهَرُ الْإِسْرَاعُ مَعَ السَّكِينَةِ دُونَ الْعَدْوِ إِحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا الْجُمُعَةُ فَإِذَا لَمْ تُدْرَكْ بِإِدْرَاكِ رُكُوعِهَا الثَّانِي إِلَّا بِالسَّعْيِ فَإِنَّهُ يَجِبُ السَّعْيُ ; لِأَنَّ لِلْوَسِيلَةِ حُكْمَ الْمَقْصِدِ، وَهُوَ هُنَا وَاجِبٌ عَلَيْنَا، فَوَجَبَتْ وَسِيلَتُهُ كَذَلِكَ. اهـ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا إِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَعَلَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاسْعَوْا لِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ السَّكِينَةُ نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهَا أَيِ: الْزَمُوا السَّكِينَةَ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ جَمَعَ بَيْنَ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَالْحَقُّ أَنَّ السَّكِينَةَ التَّأَنِّي فِي الْحَرَكَاتِ وَاجْتِنَابُ الْعَبَثِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْوَقَارَ فِي الْهَيْئَةِ وَغَضِّ الْبَصَرِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى طَرِيقِهِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّكِينَةِ سُكُونُ الْقَلْبِ وَحُضُورُهُ وَخُشُوعُهُ وَخُضُوعُهُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَبِالْوَقَارِ سُكُونُ الْقَالَبِ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْغَيْرِ الْمُنَاسِبَةِ لِلسَّالِكِ (فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مَا هُوَ أَوْلَى بِكُمْ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَيَحْصُلُ لَكُمُ الثَّوَابُ كَامِلًا، وَبِإِطْلَاقِهِ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُدْرَكُ بِأَيِّ جُزْءٍ أُدْرِكَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَيَحْصُلُ لِلْمَأْمُومِ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ السَّبْعُ وَالْعِشْرُونَ دَرَجَةً، لَكِنْ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنْ أَوَّلِهَا تَكُونُ دَرَجَتُهُ أَكْمَلَ. (وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ الْمَرْءُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْإِمَامِ يَقَعُ عَلَى بَاقِي شَيْءٍ تَقَدَّمَ أَوَّلُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. 50

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. قُلْتُ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَّا فِي الْقِرَاءَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مَذْهَبُ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ لِرِوَايَةِ: " «مَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» "، وَرُدَّ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ هُنَا غَيْرُ مُتَأَتِّيَةٍ، فَتُعُيِّنَ حَمْلُهَا عَلَى رِوَايَةِ الْإِمَامِ الصَّرِيحَةِ فِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ (إِذَا كَانَ يَعْمِدُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: يَقْصِدُ (إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ) : أَيْ: حُكْمًا وَثَوَابًا وَقَصْدًا وَمَآبًا، وَفِي نُسْخَةٍ: " فِي الصَّلَاةِ " كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حِينِ قَصْدِهَا ; لِأَنَّ الْمُشَارِفَ لِلشَّيْءِ كَأَنَّهُ فِيهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي التَّأْخِيرِ اهـ. قُلْتُ: وَلَوْ وَقَعَ تَقْصِيرٌ فِي التَّأْخِيرِ فَبِقَصْدِهِ يَرْتَفِعُ التَّقْصِيرُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ عَنِ الْمَعَائِبِ. (وَهَذَا الْبَابُ) أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَبْوِيبِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي الْمَصَابِيحِ: فَصْلٌ (خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي السُّنَنِ أَحَادِيثَ حِسَانًا مُنَاسِبَةً لِهَذَا الْفَصْلِ، - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 687 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَوَكَّلَ بِلَالًا أَنْ يُوقِظَهُمْ لِلصَّلَاةِ، فَرَقَدَ بِلَالٌ وَرَقَدُوا حَتَّى اسْتَيْقَظُوا وَقَدْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ، فَاسْتَيْقَظَ الْقَوْمُ، وَقَدْ فَزِعُوا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْكَبُوا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، وَقَالَ: (إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ) . فَرَكِبُوا حَتَّى خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، ثُمَّ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْزِلُوا، وَأَنْ يَتَوَضَّئُوا، وَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ لِلصَّلَاةِ - أَوْ يُقِيمَ -، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ رَأَى مِنْ فَزَعِهِمْ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا، وَلَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هَذَا ; فَإِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ نَسِيَهَا، ثُمَّ فَزِعَ إِلَيْهَا، فَلْيُصَلِّهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا) ، ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 687 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) تَابِعِيٌّ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً) فِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ، فَإِنَّ التَّعْرِيسَ نُزُولُ اللَّيْلِ أَوْ آخِرِهِ (بِطَرِيقِ مَكَّةَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ غَيْرُ الْأُولَى، لِأَنَّ تِلْكَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ، وَهَذِهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (وَوَكَّلَ بِلَالًا) أَيْ: أَمَرَهُ (أَنْ يُوقِظَهُمْ لِلصَّلَاةِ) أَيْ: لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَخَصَّ بِلَالًا بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ هُوَ الَّذِي يَرْقُبُ الْوَقْتَ وَيَحْرُسُهُ (فَرَقَدَ بِلَالٌ) أَيْ: بَعْدَمَا سَهِرَ مُدَّةً وَغَلَبَهُ النَّوْمُ (وَرَقَدُوا) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ اعْتِمَادًا عَلَى بِلَالٍ (حَتَّى اسْتَيْقَظُوا) أَيْ: كُلُّهُمْ جَمِيعًا، وَأَوَّلُهُمْ أَفْضَلُهُمْ (وَقَدْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَاسْتَيْقَظَ الْقَوْمُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كَرَّرَهُ لِيُنِيطَ بِهِ قَوْلَهُ (فَقَدْ فَزِعُوا) أَيْ: مِنْ فَوَاتِ الصُّبْحِ (فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْكَبُوا) أَيْ: أَنْ يَرْحَلُوا (حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، وَقَالَ: (إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ) أَيْ: مُسَلَّطٌ أَوْ شَيْطَانٌ عَظِيمٌ (فَرَكِبُوا) أَيْ: وَسَارُوا ( «حَتَّى خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، ثُمَّ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْزِلُوا، وَأَنْ يَتَوَضَّئُوا، وَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ» ) أَيْ: يُؤَذِّنَ أَوْ يُعْلِمَ لِلصَّلَاةِ (- أَوْ يُقِيمَ -) أَيْ: بَعْدَ الْأَذَانِ، فَأَوْ لِلشَّكِّ، أَوْ بِمَعْنَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ كَالْوَاوِ عَلَى مَا قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ وَالْأَخْفَشُ وَالْجَرْمِيُّ كَمَا نَقَلَهُ [فِي] الْمُغْنِي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ أَنَّ فِي أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِلَالًا بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. قُلْتُ: لَا قَالَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ فِي الْمِشْكَاةِ: أَنَّ الْجَمْعَ أَفْضَلُ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَأَكْمَلُ، وَلِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ) أَيْ: قَضَى صَلَاةَ الصُّبْحِ جَمَاعَةً (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ: عَنِ الصَّلَاةِ (وَقَدْ رَأَى مِنْ فَزَعِهِمْ) أَيْ: أَدْرَكَ بَعْضَ فَزَعِهِمْ، أَوْ رَأَى عَلَيْهِمْ بَعْضَ آثَارِ خَوْفِهِمْ وَهَيْبَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا حَسِبُوا أَنَّ فِي النَّوْمِ تَقْصِيرًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ شَيْئًا كَثِيرًا كَمَا: انْظُرْ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ ح عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ مِنَ السِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ (فَقَالَ) تَسْلِيَةً لَهُمْ وَتَسْكِينًا لِفَزَعِهِمْ ( «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا» ) كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]

قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْقَوْمِ مِمَّا فَزِعُوا مِنْهُ، وَأَنَّ تِلْكَ الْغَفْلَةَ كَانَتْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - قُلْتُ: هَذَا احْتِجَاجٌ بِالْقَدَرِ، وَحَسَنُهُ خَوْفُهُمْ مَعَ عَدَمِ تَقْصِيرِهِمْ فِي تَأْخِيرِهِمْ حَيْثُ لَا حَرَجَ فِي النَّوْمِ، سِيَّمَا مَعَ الِاحْتِرَاسِ بِأَمْرِ بِلَالٍ لِإِيقَاظِ النَّاسِ (وَلَوْ شَاءَ) أَيْ: أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ (لَرَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هَذَا) بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ، وَقِيلَ: بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ أَيْ: غَيْرِ هَذَا الْحِينِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ الْقَبْضُ وَالرَّدُّ كِلَاهُمَا مَجَازًا، وَيُحْتَمَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُنَبِّهُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا إِشَارَةً إِلَى الْمَوْتِ الْمَجَازِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} [الزمر: 42] أَيِ: الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا. (فَإِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ) أَيْ: غَافِلًا وَذَاهِلًا (عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ نَسِيَهَا) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَأَنْ يَكُونَ تَنْوِيعًا فِي الْحَدِيثِ أَيْ: غَفَلَ عَنْهَا بِسَبَبِ النَّوْمِ أَوْ نَسِيَهَا بِأَمْرٍ آخَرَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ التَّنْوِيعُ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَإِنْ لَوْ كَانَ لِلشَّكِّ لَقَالَ أَوْ نَسِيَ لِيَكُونَ بَدَلًا عَنْ رَقَدَ، أَوْ قَالَ: نَسِيَ أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ لِيَكُونَ بَدَلًا عَنِ الْكُلِّ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ: " «مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ أَوْ نَامَ عَنْهَا» "، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ خِلَافُ النَّوْمِ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا (ثُمَّ فَزِعَ إِلَيْهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمِنَ (فَزِعَ) مَعْنَى الْتَجَأَ فَعُدِّيَ بِ (إِلَى) أَيِ: الْتَجَأَ إِلَى الصَّلَاةِ فَزَعًا يَعْنِي الْتَجَأَ مِنْ تَرْكِهَا إِلَى فِعْلِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] أَيْ: مِمَّا سِوَى اللَّهِ (فَلْيُصَلِّهَا) أَيْ: حِينَ قَضَاهَا (كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا) وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجْهَرُ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَيُسِرُّ فِي السِّرِّيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِ عُلَمَائِنَا حَيْثُ قَالَ: وَخَافَتَ حَتْمًا إِنْ قَضَى (ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مِنَ الْقَوْمِ (إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) فَإِنَّهُ لَهُمْ رَئِيسٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِلنَّبِيِّ صِدِّيقٌ وَصَدِيقٌ، فَفِي الْتِفَاتِهِ غَايَةُ الْتِفَاتِ وَنِهَايَةُ نَوْعٍ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ (فَقَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ) أَيْ: شَيْطَانَ الْوَادِي، أَوْ شَيْطَانَ بِلَالٍ، أَوِ الشَّيْطَانَ الْكَبِيرَ (أَتَى بِلَالًا وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَضْجَعَهُ) أَيْ: أَسْنَدَهُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ اضْطَجَعَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَلَمْ يُدْرَ أَيُّهُمَا اللَّاحِقُ (ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُهْدِئُهُ) مِنَ الْإِهْدَاءِ أَيْ: يُسَكِّنُهُ وَيُنَوِّمُهُ. فِي النِّهَايَةِ: الْهُدُوءُ وَالسُّكُونُ عَنِ الْحَرَكَاتِ مِنَ الْمَشْيِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الطَّرِيقِ (كَمَا يُهْدَأُ الصَّبِيُّ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: أَهْدَأْتُ الصَّبِيَّ وَأَسْكَنْتُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَضْرِبَ كَفَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْكُنَ وَيَنَامَ (حَتَّى نَامَ) . فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَسْنَدَ تِلْكَ الْغَفْلَةَ ابْتِدَاءً إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا، وَفِي قَوْلِ بِلَالٍ: أَخَذَ بِنَفْسَيِ الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ. ثُمَّ أَسْنَدَهَا إِلَى الشَّيْطَانِ، أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَسْأَلَةُ خَلْقِ الْأَفْعَالِ. أَيْ: أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ فِيهِمْ، فَمَكَّنَ الشَّيْطَانَ مِنَ اكْتِسَابِ مَا هُوَ جَالِبٌ لِلْغَفْلَةِ أَوِ النَّوْمِ مِنَ الْهُدُوءِ وَغَيْرِهِ. ( «ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا، فَأَخْبَرَ بِلَالٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ إِظْهَارُ مُعْجِزَةٍ، وَلِذَا صَدَّقَهُ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالشَّهَادَةِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) أَيْ: فِي الْمُوَطَّأِ (مُرْسَلًا) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ زَيْدًا تَابِعِيٌّ.

688 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ: ( «خَصْلَتَانِ مُعَلَّقَتَانِ فِي أَعْنَاقِ الْمُؤَذِّنِينَ لِلْمُسْلِمِينَ: صِيَامُهُمْ وَصَلَاتُهُمْ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 688 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « (خَصْلَتَانِ مُعَلَّقَتَانِ فِي أَعْنَاقِ الْمُؤَذِّنِينَ» ) : أَيْ: ثَابِتَتَانِ فِي ذِمَّتِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مُعَلَّقَتَانِ صِفَةٌ لِخَصْلَتَانِ، وَقَوْلُهُ (لِلْمُسْلِمِينَ) : خَبَرٌ، وَقَوْلُهُ (صِيَامُهُمْ وَصَلَاتُهُمْ) : بَيَانٌ لِلْخَصْلَتَيْنِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمَا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا وَقَالَ: إِنَّهُ غَرِيبٌ، «أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ مُؤَذِّنُو الْبُيُوتِ، ثُمَّ مُؤَذِّنُو بَيْتِ الْقُدْسِ، ثُمَّ مُؤَذِّنُو مَسْجِدِي، ثُمَّ سَائِرُ الْمُؤَذِّنِينَ. قَالَ: وَمُؤَذِّنُ الْبَيْتِ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» اهـ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى مِنْوَالِهِمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ.

[باب المساجد ومواضع الصلاة]

[بَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ] ـــــــــــــــــــــــــــــ (7) بَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ أَوْ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَالْمَسْجِدُ لُغَةً مَحَلُّ السُّجُودِ، وَشَرْعًا: الْمَحَلُّ الْمَوْقُوفُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَقِيلَ: الْأَرْضُ كُلُّهَا لِخَبَرِ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» . وَرُدَّ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ فِيهِ، مَا تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ ; احْتِرَازًا مِنْ بَقِيَّةِ الْأَنَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا تَجُوزُ لَهُمُ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى عِنْدَ الْبَزَّارِ: وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُصَلِّي حَتَّى يَبْلُغَ مِحْرَابَهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبَى شَيْبَةَ: «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لِيَكُنِ الْمَسْجِدُ بَيْتَكَ ; فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ يَكُنِ الْمَسْجِدُ بَيْتَهُ ; تَضَمَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الرَّوْحَ وَالرَّحْمَةَ وَالْجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى الْجَنَّةِ» ) . وَعَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْقِلٍ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْمَسْجِدَ حِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُعَارِضُ خَبَرَ أَبِي دَاوُدَ. وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَقْرِ الْغُرَابِ، وَافْتِرَاشِ السَّبْعِ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمُقَامَ أَيِ: الْمَكَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: «وَأَنَّ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمُقَامَ لِلصَّلَاةِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرَ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَدَارُهُ عَلَى تَمِيمِ بْنِ مَحْمُودٍ، وَقَدْ نَظَرَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ، وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ حُبَابٍ عَلَى تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ بِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ اتِّخَاذِ مَحَلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «لَا يُوطِنُ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَإِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ غَائِبُهُمْ» ) . وَالتَّبَشْبُشُ مَعْنَاهُ هُنَا: أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ اهـ. وَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ اتِّخَاذِ مَكَانٍ خَاصٍّ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَجْلِسُ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّيَاءِ، وَالْفَضَائِلُ مَحْمُولَةٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَسْكَنًا لِلصَّلَاةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ، لَا لِغَرَضٍ آخَرَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْحُظُوظِ النَّفْسِيَّةِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 689 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ، دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: (هَذِهِ الْقِبْلَةُ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 690 - وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 689 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ) أَيِ: الْكَعْبَةَ، وَهُوَ بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ وَقِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ الْعِظَامِ، وَأَفْضَلُ مَسَاجِدِ الْأَنَامِ، وَقِيلَ: أَفْضَلُ مِنْ عَرْشِ اللَّهِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ. . (دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ النَّفْلِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ ; لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَاخْتُلِفَ فِي الْفَرْضِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ، وَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَحَكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَرْضُ وَالنَّفْلُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: فِي اسْتِدْلَالِهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الصَّلَاةِ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَأَمَّا مَنْعُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ الْفَرْضَ دُونَ النَّفْلِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أَيْ: قُبَالَتَهُ، وَمَنْ فِيهِ مُسْتَدْبِرٌ لِبَعْضِهِ، فَلَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ لِحُصُولِ التَّعَارُضِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى الْفَرْضَ دَاخِلَهُ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى النَّفْلَ ; إِذْ يُسَامَحُ فِي النَّافِلَةِ مَا لَا يُسَامَحُ فِي الْفَرِيضَةِ، وَأَمَّا تَعْلِيلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي تَصْوِيرِ اسْتِدْلَالِهِمَا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ قُبَالَتَهُ، ثُمَّ رَدُّهُ وَتَزْيِيفُهُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى خَارِجَهَا وَاسْتَقْبَلَ بَعْضَهَا فَقَطْ جَازَ - فَمُدْخَلٌ وَمَعْلُولٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ بِلَالٍ لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ أَيِ: الْمَعْهُودَةُ، يَعْنِي لَا اللُّغَوِيَّةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَمَا قِيلَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: نَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى. وَأَمَّا نَفْيُ أُسَامَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اشْتُغِلَ بِالدُّعَاءِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا بِلَالٌ فَقَدْ تَحَقَّقَهَا. (فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ) أَيْ: صَلَّى (رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ) : بِضَمِّهِمَا وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ: مُقَدَّمِهَا، وَالْقُبُلُ خِلَافُ الدُّبُرِ يَعْنِي: مُسْتَقْبِلٌ بَابَ الْكَعْبَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ مَعْنَاهُ مُقَابِلَهَا، وَقِيلَ مَا اسْتَقْبَلَكَ مِنْهَا، وَهُوَ وَجْهُهَا الَّذِي فِيهِ الْبَابُ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ خَرَجَ مِنَ الْكَعْبَةِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي وَجْهِهَا اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ لَا؟ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا صَلَّى لِيُبَيِّنَ انْحِصَارَ الْقِبْلَةِ فِي عَيْنِ الْكَعْبَةِ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُ الرَّاوِي: (وَقَالَ: (هَذِهِ) أَيِ: الْكَعْبَةُ وَهِيَ الْبُقْعَةُ الَّتِي فِيهَا الْبِنَاءُ (الْقِبْلَةُ) سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَابِلُهَا - يَعْنِي الْمُشَارَ إِلَيْهِ - الْقِبْلَةُ فَلَا يُنْسَخُ إِلَى غَيْرِهَا فَصَلُّوا إِلَى الْكَعْبَةِ أَبَدًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ هَذِهِ الْكَعْبَةُ هِيَ الْقِبْلَةُ لَا غَيْرُهَا كَمَا أَفَادَهُ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ، وَهِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِاسْتِقْبَالِهِ فِي الْآيَةِ، لَا الْمَسْجِدُ حَوْلَهَا وَلَا كُلُّ الْحَرَمِ، وَخَبَرُ الْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ: «الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ» ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ ضَعِيفٌ اهـ. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِنَا، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ مِنْ فِعْلِ الدَّاخِلِينَ أَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بَعْدَ دُخُولِهَا فَلَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِمْ إِذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ أَنْ يَطُوفُوا أَوَّلًا ثُمَّ يَدْخُلُوا ثَانِيًا، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَقَامِ الْإِمَامِ، وَاسْتِقْبَالُهُ الْكَعْبَةَ مِنْ وَجْهِ الْكَعْبَةِ دُونَ أَرْكَانِهَا وَجَوَانِبِهَا الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً قَالَهُ الطِّيبِيُّ. قُلْتُ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ فِي الْجُمْلَةِ لَوْ كَانَ صَلَّى صَلَاةَ فَرْضٍ جَمَاعَةً. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قِيلَ: فِي رِوَايَتِهِ تَوَهُّمُ إِرْسَالٍ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ فِي حِينِ دَخَلَ، وَلَعَلَّ الْعُذْرَ يُقَالُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَتَعَدُّدِ دُخُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ أَنَّ الْكَاتِبَ أَسْقَطَ مِنْهُ الَّذِي رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ يُقَالُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ مَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِالصَّلَاةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ نَظَرٌ يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدَّمُوا رِوَايَةَ بِلَالٍ ; لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَتِلْكَ نَافِيَةٌ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ لِزِيَادَةِ عِلْمِهِ، وَلِأَنَّ رُوَاتَهَا أَكْثَرُ، وَالْكَثْرَةُ تُفِيدُ التَّرْجِيحَ فِي الرِّوَايَةِ، وَلِاضْطِرَابِ تِلْكَ فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ» . وَالدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهُ وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» ، وَلِأَنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ، كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ فَهُوَ لَمْ يَرْوِ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ وَمُشَافَهَتِهِ، بَلْ عَنْ غَيْرِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: فِي كَوْنِ الْحَدِيثِ مُرْسَلًا بَحْثٌ. 690 - (وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) : قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

691 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجْبِيُّ، وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا، فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ: جَعَلَ عَمُودًا مِنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةِ، ثُمَّ صَلَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 691 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ» ) بِرَفْعِ أُسَامَةَ عَلَى الْعَطْفِ، وَهُوَ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجْبِيُّ) الْحَاجِبُ: الْبَوَّابُ، الْجَمْعُ حَجَبَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ فَاتِحُ بَيْتِ اللَّهِ (وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ ; مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَغْلَقَهَا) أَيِ: الْكَعْبَةَ يَعْنِي بَابَهَا، وَالْفَاعِلُ بِلَالٌ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ أَوْ عُثْمَانُ فَإِنَّهُ أَنْسَبُ، (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهِمْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَعْنَى الْآمِرِ، وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ (وَمَكُثَ فِيهَا) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا أَيْ: تَوَقَّفَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتُغِلَ بِالدُّعَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَابَ ; لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْأَبْهَرِيَّ قَالَ: ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي أَغْلَقَهَا عَائِدٌ إِلَى عُثْمَانَ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَغْلَقَاهَا، فَالضَّمِيرُ لِعُثْمَانَ وَبِلَالٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: فَأَغْلَقُوا وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ عُثْمَانَ هُوَ الْمُبَاشِرُ، فَأَمَّا ضَمُّ بِلَالٍ فَلَعَلَّهُ سَاعَدَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ غَيْرَهُمَا أُمِرَ بِذَلِكَ اهـ. وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ بِمُسَاعَدَةِ أُسَامَةَ وَبِأَمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ إِنَّمَا أَغْلَقَهُ ; خَوْفًا مِنَ الزَّحْمَةِ وَوُقُوعِ الضُّرِّ، وَلِيَكُونَ أَسْكَنَ لِقَلْبِهِ وَأَجْمَعَ لِخُشُوعِهِ. قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ النَّوَوِيَّ صَرَّحَ بِذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا أَغْلَقَهُ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إِلَى جِدَارٍ مِنْ جُدْرَانِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى إِلَى الْبَابِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ، وَلَمْ تَكُنْ عَتَبَتُهُ مُرْتَفِعَةً ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ تَعْلِيلٌ غَرِيبٌ وَتَفْرِيعٌ عَجِيبٌ. وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَغْلَقَهُ لِئَلَّا يَسْتَدْبِرَ شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ إِذَا أُغْلِقَ صَارَ كَأَنَّهُ جِدَارُ الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمَّا هَدَمَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وَضَعَ أَعْمِدَةً وَسَتَرَ عَلَيْهَا السُّتُورَ لِاسْتِقْبَالِ الْمُسْتَقْبِلِينَ وَطَوَافِ الطَّائِفِينَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ كُنْتَ هَادِمَهَا فَلَا تَدَعِ النَّاسَ لَا قِبْلَةَ لَهُمْ أَيْ: لَا عَلَامَةَ لِلْقِبْلَةِ، فَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّ بُقْعَةَ الْبَيْتِ لَيْسَتْ عِنْدَهُمَا كَالْبَيْتِ، كَمَا فَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى هَوَاءِ الْكَعْبَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَلِهَذَا قَالَ جَابِرٌ: صَلُّوا إِلَى مَوَاضِعِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي اعْتِبَارِ الْهَوَاءِ لِلْخَارِجِ دُونَ الدَّاخِلِ. (فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ: دَاخِلَ الْبَيْتِ (فَقَالَ) أَيْ: بِلَالٌ (جَعَلَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ) وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْجَمْعُ عَلَى تَعَدُّدِ الدُّخُولِ ظَاهِرٌ، وَعَلَى عَدَمِهِ يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى مَوْقِفِ الصَّلَاةِ وَالْآخَرُ عَلَى مَوْقِفِ الدُّعَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ) أَيْ: خَلْفَهُ، وَقِيلَ: قُدَّامَهُ (وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ) وَأَمَّا الْآنَ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَعْمِدَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ بَنَاهَا الْحَجَّاجُ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهَدْمِ الْكَعْبَةِ اهـ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْحَجَّاجَ إِنَّمَا غَيَّرَ جِدَارَ الْحَجَرِ فَقَطْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ثُمَّ صَلَّى) أَيْ: مُتَوَجِّهًا إِلَى الْجِدَارِ الْغَرْبِيِّ الْمُقَابِلِ لِلْجِدَارِ الشَّرْقِيِّ الَّذِي فِيهِ الْبَابُ تَقْرِيبًا، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ رِوَايَةِ بِلَالٍ الْمُثْبِتِ لِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ، وَبَيْنَ رِوَايَةِ أُسَامَةَ النَّافِي لِصَلَاتِهِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْأَخْذِ بِرَاوِيَةِ بِلَالٍ، لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ فَوَجَبَ تَرْجِيحُهُ، وَأَمَّا نَفْيُ أُسَامَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْكَعْبَةَ أَغْلَقُوا الْبَابَ وَاشْتُغِلُوا بِالدُّعَاءِ، فَرَأَى أُسَامَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو، فَاشْتُغِلَ هُوَ بِالدُّعَاءِ أَيْضًا فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَيْتِ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى وَبِلَالٌ قَرِيبٌ مِنْهُ، ثُمَّ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ بِلَالٌ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَلَمْ يَرَهُ أُسَامَةُ لِبُعْدِهِ مَعَ خِفَّةِ الصَّلَاةِ وَإِغْلَاقِ الْبَابِ وَاشْتِغَالِهِ بِالدُّعَاءِ، وَجَازَ لَهُ نَفْيُهَا عَمَلًا بِظَنِّهِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ مَرَّتَيْنِ فَمَرَّةً صَلَّى فِيهِ وَمَرَّةً دَعَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ، فَلَمْ تَتَضَادِ الْأَخْبَارُ، كَذَا فِي شَرْحِ الْكَرْمَانِيِّ. قَالَ مِيرَكُ: وَأَقُولُ احْتِمَالُ تَعَدُّدِ الدُّخُولِ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ دُخُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكَعْبَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً اهـ.

وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْأَشْبَهُ حَمْلُهُمَا عَلَى دُخُولَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، أَحَدِهِمَا: يَوْمَ الْفَتْحِ وَصَلَّى فِيهِ، وَالْآخَرِ: فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، دَخَلَهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَدَخَلَهَا مِنَ الْغَدِ وَصَلَّى فِيهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ نَفْيَ أُسَامَةَ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ - كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ - لِيَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فِي الدَّلْوِ، حَتَّى يَمْحُوَ بِهِ الصُّوَرَ الَّتِي فِي الْكَعْبَةِ، فَوَقَعَتِ الصَّلَاةُ فِي غَيْبَتِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوَقَعَ لِلْفَخْرِ الرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّهُ نَازَعَ فِي خَبَرِ بِلَالٍ بِمَا يُعْلَمُ رَدُّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ، وَلِلشَّارِحِ كَلَامٌ نَحْوَ كَلَامِهِ، وَزَعْمُهُ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارَضَا، - فَيُحْمَلُ عَلَى النَّسْخِ - فِي غَايَةِ التَّهَافُتِ لِمَا مَرَّ مِنْ خَبَرِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ هُوَ الصَّلَاةُ فَتَكُونُ هِيَ النَّاسِخَةَ لِلنَّفْيِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي الْأَخْبَارِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ النَّسْخَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الْجَوَازِ، وَعَلَى نَفْيِهِ عَلَى عَدَمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عَدَمَ صَلَاتِهِ بِالْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ جَوَازِهَا هَذَا وَيُسْتَفَادُ مِنْ دُخُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكَعْبَةَ وَصَلَاتِهِ بِهَا، أَنَّهُ يُسَنُّ دُخُولُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الْبَيْهَقِيِّ وَقَالَ: فِيهِ مَنْ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَجَعَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ: مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ وَخَرَجَ مَغْفُورًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فَإِنْ قُلْتَ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ كَرَاهَةَ دُخُولِهَا لِخَبَرِ: «صَنَعْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا لَوْ كُنْتُ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا كُنْتُ صَنَعْتُهُ» . «قَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ; قَالَ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ وَخَشِيتُ أَنْ يَأْتِيَ الْآتِي مِنْ بَعْدِي يَقُولُ: حَجَجْتُ وَلَمْ أَدْخُلِ الْبَيْتَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا دُخُولُهُ، وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَيْنَا طَوَافُهُ» . قُلْتُ: الْحَدِيثُ وَإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، فِي إِسْنَادِهِ ضَعِيفٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِمُطْلَقِ الْكَرَاهَةِ، بَلْ لِخُصُوصِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يَنْبَغِي دُخُولُهُ مَرَّاتٍ. مَرَّةً يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا، وَمَرَّةً رَكْعَتَيْنِ، وَمَرَّةً يَدْعُو لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ، وَحَمَلَهَا الْمُحَقِّقُونَ عَلَى دُخُولِهِ مَرَّاتٍ، وَلِيَجْتَنِبَ دَاخِلُهُ الزَّحْمَةَ وَالْمُزَاحَمَةَ مَا أَمْكَنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ دَاخِلِيهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ رِبْحُهُمْ أَقَلُّ مِنْ خُسْرَانِهِمْ، وَطَاعَتُهُمْ أَقَلُّ مِنْ عِصْيَانِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَغْنَانَا مِنْ مِنَّةِ الشَّيْبِيَّةِ بِإِخْرَاجِ الْحَجَرِ مِنَ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «قَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ سَأَلَتْ دُخُولَ الْكَعْبَةِ: صَلِّي فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْهَا» ، وَإِذَا دَخَلَهَا، فَلْيَدْخُلْ بِأَدَبٍ وَخُضُوعٍ وَخُشُوعٍ، وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي الدُّخُولِ، وَيَدْعُو بِدَعَوَاتِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَيُزِيدُ قَوْلَهُ: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] الْآيَةَ. وَلَا يَنْظُرُ إِلَى سَقْفِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ، فَعَنْ عَائِشَةَ: «عَجَبًا لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ كَيْفَ يَدَعُ بَصَرَهُ قِبَلَ السَّقْفِ إِجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِعْظَامًا ; دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ مَا خَلَفَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ، حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا» . صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، «أَنَّهُ جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ نِسْبَةَ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ لِلشَّيْخَيْنِ فِيهَا نَظَرٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «ثُمَّ صَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ مَرَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، حَتَّى يَدْخُلَ وَيَجْعَلَ الْبَابَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَيَمْشِيَ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي يَلِي وَجْهَهُ حِينَ يَدْخُلُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ، فَيُصَلِّيَ وَهُوَ يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الذَّكِيَّ. أَخْبَرَهُ بِلَالٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى فِيهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ بِلَالًا أَخْبَرَهُ، «قَالَ: صَلَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ مِنَ السَّطْرِ الْمُقَدَّمِ، وَجَعَلَ الْبَابَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَاسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ حِينَ يَلِجُ الْبَيْتَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ» . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عُثْمَانُ الْمَذْكُورُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَسَبَبُ وُصُولِ السِّدَانَةِ - بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ خِدْمَةُ الْبَيْتِ - لَهُمْ أَنَّ جُرْهُمَ لَمَّا اسْتَخَفَّتْ بِحُرْمَةِ الْبَيْتِ شَرَّدَهُمُ اللَّهُ، وَوَلِيَتْهُ خُزَاعَةُ، ثُمَّ بَعْدَهُمْ وُلِّيَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ الْحِجَابَةَ وَأَمْرَ مَكَّةَ، ثُمَّ أَعْطَى وَلَدَهُ عَبْدَ الدَّارِ الْحِجَابَةَ وَهِيَ: السِّدَانَةُ، وَاللِّوَاءُ، وَدَارُ النَّدْوَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِاجْتِمَاعِ النَّدَى فِيهَا وَهُمُ: الْأَشْرَافُ لِإِبْرَامِ أُمُورِهِمْ، وَأَعْطَى وَلَدَ عَبْدِ مُنَافٍ الرِّفَادَةَ وَالسِّقَايَةَ، ثُمَّ جَعَلَ عَبْدُ الدَّارِ الْحِجَابَةَ إِلَى

ابْنِهِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ فِي أَوْلَادِهِ حَتَّى وَلِيَ الْحَجَبَةَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: «كُنَّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَ النَّاسِ، فَنِلْتُ مِنْهُ وَحَلَمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا عُثْمَانُ: لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ. فَقُلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذَلَّتْ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلْ عَزَّتْ، وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، وَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنِّي مَوْقِعًا، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا قَالَ، وَأَرَدْتُ الْإِسْلَامَ، فَإِذَا قُومِي يَزْبُرُونِي زَبْرًا شَدِيدًا، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَامَ الْقَضَاءِ أَيْ: سَنَةَ سَبْعٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، غَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي، وَأَدْخَلَنِي الْإِسْلَامَ، وَلَمْ يَعْزِمْ لِي أَنْ آتِيَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ عَزَمَ لِيَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِ فَأَدْلَجْتُ، فَلَقِيتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَاصْطَحَبْنَا، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَبَايَعْتُهُ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ أَيْ: سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُثْمَانُ ; ائْتِ بِالْمِفْتَاحِ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَأَخَذَهُ مِنِّي ثَمَّ دَفَعَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: (خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ» ) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «لَمَّا طَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، فَهَمَّ أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي اجْمَعْهُ لِي مَعَ السِّقَايَةِ، فَكَفَّ عُثْمَانُ يَدَهُ مَخَافَةَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْعَبَّاسَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَرِنِي الْمِفْتَاحَ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، فَقَالَ: هَاكِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمِفْتَاحَ وَفَتَحَ الْبَيْتَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عُثْمَانُ يَلِي فَتْحَ الْبَيْتِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَدُفِعَ إِلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، فَبَقِيَتِ الْحِجَابَةُ فِي بَنِي شَيْبَةَ» .

692 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 692 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَلَاةٌ) : التَّنْكِيرُ لِلْوِحْدَةِ: أَيْ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ (فِي مَسْجِدِي هَذَا) : أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ لَا مَسْجِدِ قُبَاءٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعْنِي أَنْ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ فِيمَا كَانَ مَسْجِدًا فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا فِيمَا زِيدَ بَعْدَهُ، فَإِنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ. وَوَافَقَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَأَطَالَ فِيهِ، وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَأَوْرَدَا آثَارًا اسْتَدَلَّا بِهَا، وَبِأَنَّهُ سَلَّمَ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هِيَ لِإِخْرَاجِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِأَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَ بِعَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ وَقَالَ: لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَزُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ، فَعَلِمَ بِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ، وَلَوْلَا هَذَا مَا اسْتَجَازَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَنْ يَسْتَزِيدُوا فِيهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَبِمَا فِي تَارِيخِ الْمَدِينَةِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الزِّيَادَةِ قَالَ: لَوِ انْتَهَى إِلَى الْجَبَّانَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ لَكَانَ الْكُلُّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «لَوْ زِيدَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ مَا زِيدَ كَانَ الْكُلُّ مَسْجِدِي» ) وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْ بُنِيَ هَذَا الْمَسْجِدُ إِلَى صَنْعَاءَ كَانَ مَسْجِدِي» . هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْجَوْهَرِ الْمُنَظَّمِ فِي زِيَارَةِ الْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» ) : فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِي لَا تَفْضُلُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَلْفٍ بَلْ بِدُونِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ، وَيَحْتَمِلُ الْمُسَاوَاةَ أَيْضًا. قُلْتُ: لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْآتِيَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّانِي، يَدْفَعُ الِاحْتِمَالَيْنِ لِلطَّرَفَيْنِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: ( «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفَهِمَ مِنْهُ الْمَالِكِيَّةُ أَفْضَلِيَّةَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، قَالُوا: وَمَعْنَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ; فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْهَا بِمَسْجِدِ مَكَّةَ بِدُونِ الْأَلِفِ، وَهُوَ غَفْلَةٌ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ الْمُبْطِلَةِ لِمَا فَهِمُوهُ، بَلْ مَعْنَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ; فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ تَفْضُلُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي خَبَرِ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ. وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ حَبِيبِ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» ) . وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَلِمَا صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ: إِنَّهُ الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَّا الْمُتَعَسِّفَ لَا يُعْرَجُ عَلَى قَوْلِهِ فِي حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَمْدَحُهُ وَيُوَثِّقُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ وَغَيْرُهُمْ - يَرْوُونَ عَنْهُ، وَهُمْ أَئِمَّةٌ عُلَمَاءُ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِ إِسْنَادِهِ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَهُ بِالِاخْتِلَافِ عَلَى عَطَاءٍ ; لِأَنَّ قَوْمًا يَرْوُونَهُ عَنْهُ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَآخَرِينَ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَآخَرِينَ عَنْهُ عَنْ جَابِرٍ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَجْعَلُ مِثْلَ هَذَا عِلَّةً فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَطَاءٍ عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ، بَلْ هُوَ الْوَاقِعُ كَمَا يَأْتِي، وَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَدْفَعَ خَبَرَ نَقْلِهِ الْعُدُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ: إِنَّهُ يَزِيدُ عَلَيْهِ بِمِائَةٍ، إِلَّا ابْنَ الزُّبَيْرِ. وَقَدْ تَابَعَ حَبِيبًا الْمُعَلِّمَ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، فَرَوَاهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ اهـ. كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَا مَزِيدَ عَلَى حُسْنِهِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ صَالِحٌ، وَفِي ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ فِي بَعْضِ رِجَالِهِ لِينٌ: ( «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» ) . وَخَبَّرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ: رِجَالُ إِسْنَادِهِ عُلَمَاءُ أَجِلَّاءُ، وَلَفْظُهُ كَالَّذِي قَبْلَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ زَنْجُوَيْهِ بِلَفْظِ: (إِلَّا «الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ» ) . وَفِي حَدِيثِ الْبَزَّارِ: ( «فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ، وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ» ) . وَخَبَّرَ ابْنُ مَاجَهْ ( «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» ) . وَخَبَّرَ الطَّبَرَانِيُّ: ( «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِعَشَرَةِ آلَافِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ» ) . قُلْتُ: يُحْمَلُ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَوَّلًا عَلَى الْفَرْضِ، وَثَانِيًا عَلَى النَّفْلِ ; لِئَلَّا يَتَعَارَضَا أَوْ عَلَى الْعُذْرِ، وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ. - قَالَ ابْنُ حَزْمٍ بِسَنَدٍ كَالشَّمْسِ فِي الصِّحَّةِ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَفْضُلُ عَلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ بِمِائَةِ ضِعْفٍ» .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ حَزْمٍ: فَهَذَانِ صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ يَقُولَانِ بِفَضْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ. وَفِي رِسَالَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِلَى الرَّجُلِ الزَّاهِدِ الَّذِي أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ رَكْعَتَيْنِ فَكَأَنَّمَا صَلَّى فِي مَسْجِدِي أَلْفَ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْبُلْدَانِ» ) إِذَا تَأَمَّلْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ ضَعْفَ مَا قِيلَ عَلَى رِوَايَةِ «صَلَاةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» ، تَبْلُغُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فِيهِ عُمُرَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَصَلَاةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فِيهِ تَبْلُغُ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَسَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَعَشْرَ لَيَالٍ اهـ. وَضَعَّفَ مَا قِيلَ أَيْضًا: صَلَاةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ. كَمَا وَرَدَ: كُلُّ صَلَاةٍ فِيهِ جَمَاعَةً بِأَلْفَيْ أَلْفِ صَلَاةٍ وَسَبْعِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِيهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ صَلَاةٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ بِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كُلُّ مِائَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ، وَكُلُّ أَلْفِ سَنَةٍ بِأَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ. فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمَاعَةً، يَفْضُلُ ثَوَابُهَا عَلَى ثَوَابِ مَنْ صَلَّى فِي بَلَدِهِ فُرَادَى، حَتَّى بَلَغَ عُمُرَ نُوحٍ بِنَحْوِ الضِّعْفِ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ تُسَاوِي رِحْلَةً اهـ. وَهَذَا كُلُّهُ كَالَّذِي قَبْلَهُ غَفْلَةٌ عَنِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ: صَلَاةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ بِمَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا فَالْحَسَنَاتُ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، ثُمَّ لَا تَنَافِيَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي التَّضْعِيفِ ; لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدِيثَ الْأَقَلِّ قَبْلَ حَدِيثِ الْأَكْثَرِ، ثُمَّ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِالْأَكْثَرِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفَاوُتُ الْأَعْدَادِ لِتَفَاوُتِ الْأَحْوَالِ ; لِمَا جَاءَ أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِينَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ. وَوَرَدَ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَكَرَ الْفَاكِهَانِيُّ بِلَفْظِهِ: «فِكْرَةُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» ، مِنْ كَلَامِ السِّرِّيِّ السَّقْطِيِّ. قُلْتُ: ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «فِكْرَةُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» ، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، الْأَوَّلِ: أَنَّهُ الْحَرَمُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: التَّفْضِيلُ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ فَإِنَّهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، فَجَعَلُوا حُكْمَ الْبَيْتِ غَيْرَ حُكْمِ الْمَسْجِدِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيُمْكِنُ إِبْقَاءُ حَدِيثِ: أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ، عَلَى عُمُومِهِ، فَتَكُونُ النَّافِلَةُ فِي بَيْتِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ، تُضَاعَفُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلَ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ مَكَّةُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ: «صَلَاةٌ بِمَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ» . وَالرَّابِعِ: أَنَّهُ الْكَعْبَةُ وَهُوَ أَبْعَدُهَا. قِيلَ: وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ كُلَّهَا الْحَسَنَةُ بِمِائَةِ أَلْفٍ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ حَسَنَةَ الْحَرَمِ مُطْلَقًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، لَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِذَا قِيلَ: بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي، وَلَمْ يَقُلْ حَسَنَةً. وَصَلَاةٌ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، كُلُّ صَلَاةٍ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ، فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَشَرَةِ آلَافِ حَسَنَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَ بَعْضُ الْحَسَنَاتِ بِبَعْضٍ، أَوْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ لِمَعْنًى فِيهَا الْكَعْبَةُ وَحْدَهَا. الرِّوَايَةُ إِلَّا الْكَعْبَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: إِلَّا الْمَسْجِدَ وَالْكَعْبَةَ، وَفِي أُخْرَى لِمُسْلِمٍ إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ الْمُضَاعَفَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْفَرْضِ، بَلْ تَعُمُّ النَّفْلَ أَيْ تَعُمُّ النَّفْلَ أَيْضًا خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْفَرْضِ لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً، وَلَا يُنَافِي عُمُومَ التَّضْعِيفِ لِلنَّفْلِ كَوْنُهُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ حَتَّى فِي الْكَعْبَةِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: ( «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ) ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي فَضِيلَةِ الِاتِّبَاعِ مَا يَرْبُو عَلَى الْمُضَاعَفَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ: صَلَاةُ الظُّهْرِ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ مِنْهَا بِمَكَّةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنْ جَعَلْنَا الْمُضَاعَفَةَ مُخْتَصَّةً بِهِ لَمَا تَقَرَّرَ أَنَّ فِي فَضِيلَةِ الِاتِّبَاعِ مَا يَرْبُو عَلَى فَضِيلَةِ الْعَمَلِ. وَالْمُضَاعَفَةُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِزَمَنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمُخْتَارِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالتَّضْعِيفِ السَّابِقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَجْرِ دُونَ الْإِجْزَاءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَالصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ

الثَّلَاثَةِ لَا تُجْزِئُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ إِجْمَاعًا، وَمَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ أَنَّ مَنْ صَلَّى دَاخِلَ الْكَعْبَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَكُونُ قَضَاءَ الدَّهْرِ، بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. ثُمَّ الْمُضَاعَفَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ بَلْ تَعُمُّ سَائِرَ الطَّاعَاتِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: صَوْمُ يَوْمٍ بِمَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَصَدَقَةُ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَكُلُّ حَسَنَةٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ. وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ بِسَنَدٍ حَسَنٍ خِلَافًا لِمَنْ ضَعَّفَ: «إِنَّ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ كُلُّ حَسَنَةٍ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ خَبَرَ: «مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ وَقَامَ فِيهِ مَا تَيَسَّرَ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهُ، وَكُتِبَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ حِمْلُ فَرَسَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ خَبَرَ: «رَمَضَانُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ» ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ بِمَكَّةَ كَالْحَسَنَاتِ مِنْهُمُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ، ثُمَّ قِيلَ: تَضْعِيفُهَا كَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ بِالْحَرَمِ، وَقِيلَ: بَلْ كَخَارِجِهِ، وَأَخَذَ الْجُمْهُورُ بِالْعُمُومَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْلَ بِالْمُضَاعَفَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مُضَاعَفَةُ الْكَيْفِيَّةِ لَا الْكَمِّيَّةِ، فَإِنَّ السَّيِّئَةَ جَزَاؤُهَا سَيِّئَةٌ، لَكِنَّ السَّيِّئَاتِ مُتَفَاوِتَةٌ إِذْ لَيْسَ مَنْ عَصَى الْمَلِكَ عَلَى بِسَاطِ مُلْكِهِ كَمَنْ عَصَاهُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ بَلَدِهِ، قِيلَ: يَرْجِعُ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ الْحَمْلِ أَيْضًا إِذْ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ سَيِّئَةٍ مُعَظَّمَةٍ تُقَدَّرُ بِمِائَةِ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَبَيْنَ سَيِّئَةٍ بِمِائَةِ أَلْفِ سَيِّئَةٍ عَدَدًا ; وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَرَدَ: مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ دَخَلَ النَّارَ، وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْحَرَمِ الْمُقْتَضِي لِتَعْظِيمِ السَّيِّئَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ كَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الْهَمِّ فِيهِ بِالسَّيِّئَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا، وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ لِأَفْضَلِيَّةِ الْمَدِينَةِ بِخَبَرِ: «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ» وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ: مَوْضُوعٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَخَبَرِ: ( «اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إِلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَيْكَ» ) وَهُوَ مُرْسَلٌ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: بَلْ مَوْضُوعٌ، وَخَبَرِ: ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ» ) يَدُلُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ لَا الْأَفْضَلِيَّةِ، وَقَدْ صَحَّ فِي فَضِيلَةِ مَكَّةَ أَحَادِيثُ أَيْضًا مِنْهَا خَبَرُ: ( «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ» ) ، وَخَبَرُ: ( «مَا أَطْيَبَكِ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» ) . وَمِنْهَا خَبَرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: ( «أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً» ؟) قَالُوا: لَا إِلَّا بَلَدَنَا الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَجَابِرًا يَشْهَدَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ النَّاسَ: ( «أَيُّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً» ؟) فَأَجَابُوا بِأَنَّهُ مَكَّةُ. وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْبِلَادِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَفْضِيلِ مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ حَتَّى عَلَى الْكَعْبَةِ الْمُنِيفَةِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا عَدَاهُ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عُقَيْلٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْعَرْشِ، وَصَرَّحَ الْفَاكِهَانِيُّ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى السَّمَاوَاتِ قَالَ: بَلِ الظَّاهِرُ الْمُتَعَيِّنُ تَفْضِيلُ جَمِيعِ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَاءِ لِحُلُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ بِهَا، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَكْثَرِينَ لِخَلْقِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا وَدَفْنِهِمْ فِيهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ: مَا عَدَا مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا عَدَا الْكَعْبَةَ، فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا، مَا عَدَا مَوْضِعَ قَبْرِهِ الْمُقَدَّسِ وَمَحَلِّ نَفْسِهِ الْأَنْفَسِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا دَامَ الصُّبْحُ تَنَفَّسَ وَاللَّيْلُ إِذَا عَسْعَسَ.

693 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 693 - (وَعَنْ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ» قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ» ) : جَمْعُ رَحْلٍ، وَهُوَ كَوْرُ الْبَعِيرِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ فَضِيلَةِ شَدِّهَا وَرَبْطِهَا (إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ) : قِيلَ: نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ أَيْ: لَا تَشُدُّوا إِلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ مَا سِوَى الثَّلَاثَةِ مُتَسَاوٍ فِي الرُّتْبَةِ غَيْرُ مُتَفَاوِتٍ فِي الْفَضِيلَةِ، وَكَانَ التَّرَحُّلُ إِلَيْهِ ضَائِعًا وَعَبَثًا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَحْرُمُ شَدُّ الرَّحْلِ إِلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ غَلَطٌ، وَفِي الْإِحْيَاءِ: ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الرِّحْلَةِ لِزِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ وَقُبُورِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمَا تَبَيَّنَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، بَلِ الزِّيَارَةُ مَأْمُورٌ بِهَا لِخَبَرِ: ( «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» ) . وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا وَرَدَ نَهْيًا عَنِ الشَّدِّ لِغَيْرِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ لِتَمَاثُلِهَا، بَلْ لَا بَلَدَ إِلَّا وَفِيهَا مَسْجِدٌ، فَلَا مَعْنَى لِلرِّحْلَةِ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْمَشَاهِدُ فَلَا تُسَاوِي بَلْ بَرَكَةُ زِيَارَتِهَا عَلَى قَدْرِ دَرَجَاتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَمْنَعُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ شَدِّ الرَّحْلِ لِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَيَحْيَى، وَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْإِحَالَةِ، وَإِذَا جُوِّزَ ذَلِكَ لِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءُ فِي مَعْنَاهُمْ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِ الرِّحْلَةِ، كَمَا أَنَّ زِيَارَةَ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَيَاةِ مِنَ الْمَقَاصِدِ. (مَسْجِدِ الْحَرَامِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَوَجْهُهُمَا ظَاهِرٌ (وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) : وَصَفَهُ بِالْأَقْصَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَعَلَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِتَقَدُّمِهِ وُجُودًا (وَمَسْجِدِي هَذَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِهِ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَمَزِيَّةُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ لِكَوْنِهَا أَبْنِيَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَمَسَاجِدَهُمْ. قُلْتُ: وَلِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَرْجَحِيَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة: 108] هُوَ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، ثُمَّ مَسْجِدُ قُبَاءٍ تَابِعٌ لِمَسْجِدِهِ، أَوْ مُلْحَقٌ بِهِ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَأْتِي، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَهُ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَيْهِ غَالِبًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. قَالَهُ مِيرَكُ.

694 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 694 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي» ) : الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ بَيْتُ سُكْنَاهُ، وَقِيلَ: قَبْرُهُ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: ( «مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي» ) : وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ قَبْرَهُ فِي بَيْتِهِ، قِيلَ: أَرَادَ بِمَا بَيْنَهُمَا الْمِحْرَابَ لِأَنَّهُ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَبَيْنَ بَيْتِهِ، لِأَنَّ بَابَ حُجْرَتِهِ كَانَ مَفْتُوحًا إِلَى الْمَسْجِدِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: مَا بَيْنَ حُجْرَتِي وَمُصَلَّايَ. (رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) : قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالذِّكْرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَى رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ( «الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» ) وَفِي الْحَدِيثِ: ( «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ» ) أَيْ: بِرُّهَا وَصِلَتُهَا، وَالتَّحَمُّلُ عَنْهَا يُوَصِّلُ إِلَى دَارِ اللَّذَّاتِ. وَفِي حَدِيثٍ: ( «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا) قِيلَ: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ; قَالَ: (الْمَسَاجِدُ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: (حِلَقُ الذِّكْرِ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا سَمَّى تِلْكَ الْبُقْعَةَ الْمُبَارَكَةَ رَوْضَةً ; لِأَنَّ زُوَّارَ قَبْرِهِ وَعُمَّارَ مَسْجِدِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَمْ يَزَالُوا مُكَبِّينَ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَعِبَادَتِهِ إِذَا صَدَرَ عَنْهَا فَرِيقٌ وَرَدَ عَلَيْهَا آخَرُونَ، كَمَا جَعَلَ حِلَقَ الذِّكْرِ رِيَاضَ الْجَنَّةِ قَالَ: (وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) : أَيْ: عَلَى حَافَّتِهِ، فَمَنْ شَهِدَهُ مُسْتَمِعًا إِلَيَّ أَوْ مُتَبَرِّكًا بِذَلِكَ الْأَثَرِ شَهِدَ الْحَوْضَ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ الْمِنْبَرَ مَوْرِدُ الْقُلُوبِ الصَّادِئَةِ فِي بَيْدَاءِ الْجَهَالَةِ، كَمَا أَنَّ الْحَوْضَ مَوْرِدُ الْأَكْبَادِ الظَّامِئَةِ فِي حَرِّ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ هَذَا الْكَلَامُ مَا لَا تَهْتَدِي إِلَيْهِ عُقُولُنَا، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: الْحَدِيثُ بَاقٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالرَّوْضَةُ قِطْعَةٌ نُقِلَتْ

مِنَ الْجَنَّةِ وَسَتَعُودُ إِلَيْهَا وَلَيْسَتْ كَسَائِرِ الْأَرْضِ تَفْنَى وَتَذْهَبُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَهِيَ مِنَ الْجَنَّةِ الْآنَ حَقِيقَةً، وَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ نَحْوَ الْجُوعِ لِاتِّصَافِهَا بِصِفَةِ دَارِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: يُعِيدُ اللَّهُ مِنْبَرَهُ عَلَى حَالِهِ فَيَنْصِبُهُ عَلَى حَوْضِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ الْمُمْكِنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَرُوِيَ: وَمِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةِ حَوْضِي، وَالتُّرْعَةُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ: الرَّوْضَةُ عَلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هِيَ الدَّرَجَةُ، وَقِيلَ: الْبَابُ، وَقِيلَ: تُرْعَةُ الْحَوْضِ مَفْتَحُ الْمَاءِ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْآخِرَةِ مِنْبَرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْبَرُهُ فِي الدُّنْيَا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِمْدَادِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْحَوْضِ الزَّاخِرِ النَّبَوِيِّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِالْآخَرِ لَا مَطْمَعَ لِأَحَدٍ فِي الْآخَرِ دُونَ الِاتِّعَاظِ بِالْأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: ظَنَّ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ أَنَّ تِلْكَ الرَّوْضَةَ قِطْعَةٌ مُقْتَطَعَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْأَنْهَارَ سَيْحَانَ وَجَيْحَانَ وَالْفُرَاتَ وَالنِّيلَ مُهْبَطَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْجَنَّةِ: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تُجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 - 119] وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةَ الْأَنْهَارِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا الرَّوْضَةَ، فَصَحَّ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِفَضْلِهَا، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَنْهَارَ لِطِيبِهَا وَبَرَكَتِهَا أُضِيفَتْ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا تَقُولُ فِي الْيَوْمِ الطَّيِّبِ: هَذَا مِنْ أَيَّامِ الْجَنَّةِ، وَكَمَا قِيلَ فِي الضَّأْنِ: إِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ حِلَقَ الذِّكْرِ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ: بِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ لَهُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْقِطْعَةَ لَمَّا نَزَلَتْ إِلَى الْأَرْضِ أُعْطِيَتْ أَحْكَامَهَا، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ حَلَفَ دَاخِلُهَا أَنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ حَنِثَ وَاعْتَرَى مَنْ بِهَا الْجُوعُ وَنَحْوُهُ، وَمُجَرَّدُ سَلْبِ ذَلِكَ عَنْهَا لَا يَقْتَضِي سَلْبَ كَوْنِهَا مِنَ الْجَنَّةِ عَنْهَا، وَفَائِدَةُ كَوْنِهَا مِنْهَا - مَعَ نَفْيِ أَوْصَافِهَا عَنْهَا - غَايَةُ تَشْرِيفِ مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ فِيهِ قِطْعَةً مِنْ نَفْسِ أَرْضِ الْجَنَّةِ، كَمَا صَحَّ «فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْمَقَامِ: أَنَّهَا يَاقُوتَتَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْلَا مَا طُمِسَ مِنْ نُورِهِمَا لَأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ يَعْنِي فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ: «أَنَّ الْحَجَرَ نَزَلَ مِنَ الْجَنَّةِ يَاقُوتَةً بَيْضَاءَ، وَأَنَّ اللَّهَ غَيَّرَهُ بِالسَّوَادِ لِئَلَّا يَنْظُرَ أَهْلُ الدُّنْيَا إِلَى زِينَةِ الْجَنَّةِ» يَعْنِي: لِيَكُونَ الْإِيمَانُ غَيْبِيًّا لَا عَيْنِيًّا، وَأَنَّهُ أُنْزِلَ فِي مَحَلِّ الْكَعْبَةِ قَبْلَ وُجُودِهَا لِيَتَأَنَّسَ بِهِ آدُمُ، وَحَرَسَهُ بِصَفٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ; لِئَلَّا يَنْظُرَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْجَنَّةِ دَخَلَهَا، فَكَمَا أَنَّ هَذَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ حَقِيقَةً، وَلَا يُمْكِنُ لِابْنِ حَزْمٍ تَأْوِيلُهُمَا، فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا زَعَمَهُ فِي تِلْكَ الْأَنْهَارِ - وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ حَقِيقَةً، لَكِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ إِلَى الْأَرْضِ اكْتَسَبَتْ أَوْصَافَهَا أَيْضًا - وَقَوْلُهُ كَمَا تَقُولُ فِي الْيَوْمِ الطَّيِّبِ إِلَخْ. لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي تِلْكَ الْمُثُلِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ نَحْوِ: «الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» . مُسْتَحِيلَةٌ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَهُ مِيرَكُ.

695 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 695 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ» ) : مَمْدُودٌ يُصْرَفُ، وَقِيلَ: لَا، وَقِيلَ مَقْصُورٌ وَهِيَ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَقِيلَ: أَصْحَابُ الصُّفَّةِ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ (كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا) : حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَالْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) يَعْنِي: تَارَةً وَتَارَةً (فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ) : أَيْ: تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرَهَا يَقُومُ مَقَامَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ بِالْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصُّلَحَاءِ مُسْتَحَبٌّ، وَأَنَّ الزِّيَارَةَ يَوْمَ السَّبْتِ سُنَّةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ «صَلَاةً فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ وَجَاءَ مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ أَجْرُ عُمْرَةٍ» ، وَفِي أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَيْضًا: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ دَخَلَ مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَرَكَعَ فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَانَ ذَلِكَ عَدْلَ عُمْرَةٍ» ، وَيَجْمَعُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ ثَوَابَ الْعُمْرَةِ رُتِّبَ أَوَّلًا عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ سَهَّلَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ، فَرَتَّبَهُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. وَصَحَّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبَى وَقَّاصٍ: لَأَنْ أُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ رَكْعَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَرَّتَيْنِ، لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي قُبَاءٍ لَضَرَبُوا إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ.

وَمِنْ هُنَا قَالُوا: عَوَّضَ اللَّهُ تَعَالَى قَاصِدَ مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَمْرَيْنِ وَعُدَّ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ الثَّوَابُ، أَمَّا الْحَجُّ فَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ، وَابْنُ النَّجَّارِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: ( «مَنْ خَرَجَ عَلَى طُهْرٍ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِي حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ حَجَّةٍ» ) . وَأَمَّا الْعُمْرَةُ: فَزِيَارَةُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ» ) .

696 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 696 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ) : جَمْعُ الْبَلَدِ، وَالْمُرَادُ مَأْوَى الْإِنْسَانِ (مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا) : الْمُرَادُ بِحُبِّ اللَّهِ الْمَسَاجِدَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِأَهْلِهَا وَبِالْبُغْضِ خِلَافُهُ، وَهَذَا بِطَرِيقِ الْأَغْلَبِيَّةِ وَإِلَّا فَقَدْ يَقْصِدُ الْمَسْجِدَ بِقَصْدٍ نَحْوَ الْغِيبَةِ، وَقَدْ يَدْخُلُ السُّوقَ لِطَلَبِ الْحَلَالِ، وَلِذَا قِيلَ: كُنْ مِمَّنْ يَكُونُ فِي السُّوقِ وَقَلْبُهُ فِي الْمَسْجِدِ لَا بِالْعَكْسِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ فِي الْمَسْجِدِ أَكْمَلُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ تَسْمِيَةَ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ بِالْبِلَادِ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} [الأعراف: 58] الْآيَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مُضَافٌ أَيْ: بِقَاعُ الْبِلَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَسَاجِدَ مَحَلُّ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَسْوَاقَ مَحَلُّ أَفْعَالِ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَفْلَةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] الْآيَةَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْمَسَاجِدُ مَوَاطِنُ الْمُتَّقِينَ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَابْنُ حِبَّانَ، قَالَهُ مِيرَكُ.

697 - وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 697 - (وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا) : أَيْ مَعْبَدًا، فَيَتَنَاوَلُ مَعْبَدَ الْكَفَرَةِ فَيَكُونُ لِلَّهِ لِإِخْرَاجِ مَا بَنَى مَعْبَدًا لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ عَلَى بَابِهِ وَيَكُونَ لِلَّهِ لِإِخْرَاجِ مَا بُنِيَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ كَتَبَ اسْمَهُ عَلَى بِنَائِهِ دَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى عَدَمِ إِخْلَاصِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ ظَاهِرٌ مَا لَمْ يَقْصِدْ بِكِتَابَةِ اسْمِهِ نَحْوَ الدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ، وَفِيهِ: أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّرَحُّمَ يَحْصُلُ مُجْمَلًا وَمُبْهَمًا، فَلَا يُحْتَاجُ تَعْيِينٌ إِلَى الِاسْمِ (بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا) : وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: مِثْلَهُ (فِي الْجَنَّةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ فِي (مَسْجِدًا) لِلتَّقْلِيلِ، وَفِي (بَيْتًا) لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّعْظِيمِ لِيُوَافِقَ مَا وَرَدَ: (مَنْ بَنَى لِلَّهِ وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ) الْحَدِيثَ اهـ. قُلْتُ: وَلِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى زِيَادَةِ الْمَثُوبَةِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً ; لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] قَالَ صَاحِبُ الرَّوْضَةِ فِي فَتَاوِيهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيْتًا فَضْلُهُ عَلَى بُيُوتِ الْجَنَّةِ كَفَضْلِ الْمَسْجِدِ عَلَى بُيُوتِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مِثْلَهُ فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ، وَأَمَّا الصِّفَةُ فِي السَّعَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ الْأَزْهَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَفِي أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا) . قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: (يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ) . وَرَوَى أَحْمَدُ خَبَرَ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَمَفْحَصُ الْقَطَاةِ: بِفَتْحِ الْمِيمِ مَحَلٌّ تَبْحَثُهُ بِرِجْلِهَا وَتُصْلِحُهُ لِتَبِيضَ بِهِ بِالْأَرْضِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَحْصِ وَهُوَ الْبَحْثُ، وَلَوْ هُنَا لِلتَّقْلِيلِ كَمَا أَثْبَتَهُ مِنْ مَعَانِيهَا ابْنُ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيُّ، وَجَعَلَ مِنْهُ: ( «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» ) . قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْلِيلَ مُسْتَفَادٌ مِنْ بَعْدِ (لَوْلَا) مِنْ (لَوْ) قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِفَادَةَ مِنْ بَعْدِ لَوْ لَكِنْ بِإِعَانَةِ لَوْ، فَإِنَّ الْكَلَامَ بِدُونِهَا لَا يُفِيدُ الْإِفَادَةَ الَّتِي مَعَهَا، وَالتَّقْلِيلُ هُنَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى زِيَادَةٍ فِي مَسْجِدٍ تَنْزِيلًا لِتَتْمِيمِهِ مَنْزِلَةَ ابْتِدَائِهِ حَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (مِثْلَهُ) فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمِثْلِيَّةُ بِحَسَبِ الْكِمِّيَّةِ، وَالزِّيَادَةُ بِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ، فَكَمْ مِنْ بَيْتٍ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ بَيْتٍ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مِثْلُهُ فِي الِاسْمِ لَا فِي

الْمِقْدَارِ، أَيْ: بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ كَمَا بَنَى بَيْتًا، فَجَزَاءُ هَذِهِ الْحَسَنَةِ مِنْ جِنْسِ الْبِنَاءِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ التَّفَاوُتَ حَاصِلٌ قَطْعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ضِيقِ الدُّنْيَا وَسَعَةِ الْعُقْبَى، وَمِنْ ثَمَّ رَوَى أَحْمَدُ: (بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلَ مِنْهُ) ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ: (أَوْسَعَ) ، وَيَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ حَدِيثُ: ( «لَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ) . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . قُلْتُ: - يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ. قَالَ: (وَتِلْكَ) . وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَطَاةَ ; لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ مَحَلًّا لِبَيْضِهَا عَلَى بُسَيْطِ الْأَرْضِ عَلَى نَحْوِ شَجَرٍ أَوْ جَبَلٍ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الطُّيُورِ.

698 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 698 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ) : أَيْ: ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي الْغَدْوَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالزَّوَالِ (أَوْ رَاحَ) : ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي الرَّوَاحِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ (أَعَدَّ اللَّهُ) أَيْ: هَيَّأَ (لَهُ نُزُلَهُ) : بِضَمِّ النُّونِ وَالزَّايِ وَتُسَكَّنُ، وَهُوَ مَا يُقَدَّمُ إِلَى الضَّيْفِ مِنَ الطَّعَامِ (مِنَ الْجَنَّةِ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ: النُّزُلُ بِضَمَّتَيْنِ الْمَكَانُ الْمُهَيَّأُ لِلنُّزُولِ وَبِسُكُونِ الزَّايِ مَا يُهَيَّأُ لِلْقَادِمِ مِنْ نَحْوِ الضِّيَافَةِ، فَمِنْ عَلَى الْأَوَّلِ لِلتَّبْعِيضِ، وَعَلَى الثَّانِي لِلتَّبْيِينِ (كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ) ; قَالَ الطِّيبِيُّ: النُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ لِلنَّازِلِ، وَكُلَّمَا غَدَا ظَرْفٌ، وَجَوَابُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ عَامِلٌ فِيهِ، وَالْمَعْنَى كُلَّمَا اسْتَمَرَّ غُدُوُّهُ وَرَوَاحُهُ اسْتَمَرَّ إِعْدَادُ نُزُلِهُ فِي الْجَنَّةِ، فَالْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي الْحَدِيثِ كَالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] الْمُرَادُ بِهِمَا الدَّوَامُ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْحَرَكَةُ سَبَبَ الْبَرَكَةِ، وَالذَّهَابُ مُوجِبَ الثَّوَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الذَّهَابُ إِلَى الطَّاعَةِ عَلَامَةَ إِعْدَادِ اللَّهِ الْمَثُوبَةَ، فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ أَمَارَاتٌ لَا مُوجِبَاتٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

699 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ، أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى، وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 699 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيِّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَعْظَمُ النَّاسِ) : أَيْ: أَكْثَرُهُمْ (أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ) أَيْ: فِي الْإِتْيَانِ إِلَيْهَا (أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ) الْفَاءُ لِلِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ: (مَمْشَى) : مَصْدَرٌ أَوْ مَكَانٌ كَذَا قِيلَ، وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ ( «وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي يُصَلِّي» ) أَيْ: مُنْفَرِدًا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ مَعَ إِمَامٍ آخَرَ قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَوْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ. (ثُمَّ يَنَامُ) أَيْ: وَلَا يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ، لَأَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ وَلَمْ يَنْتَظِرِ الْإِمَامَ، وَيُحْتَمَلُ مَنِ انْتَظَرَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ، فَهُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَنَامُ غَرَابَةٌ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ نَوْمًا، وَالْمُنْتَظِرُ وَإِنْ نَامَ فَهُوَ يَقْظَانُ وَغَيْرُهُ نَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ يَقْظَانَ لِأَنَّهُ يُضَيِّعُ تِلْكَ الْأَوْقَاتَ كَالنَّائِمِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

700 - «وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمْ: (بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ) . قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ. فَقَالَ: (يَا بَنِي سَلِمَةَ! دِيَارَكُمْ، تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ، تُكْتَبُ آثَارُكُمْ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 700 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَضَبْطُ بَعْضِهِمْ بِالضَّمِّ سَهْوُ قَلَمٍ (حَوْلَ الْمَسْجِدِ) أَيْ: أَطْرَافَهُ قَرِيبًا مِنْهُ (فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ) كَسْرُ اللَّامِ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ (أَنْ يَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ) بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: إِلَى مَكَانٍ بِقُرْبِهِ (فَبَلَغَ ذَلِكَ) أَيِ: انْتِقَالُهُمُ الْمَفْهُومُ مِنْ أَنْ يَنْتَقِلُوا (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِالْإِخْبَارِ أَوِ الْوَحْيِ (فَقَالَ لَهُمْ: (بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ) . قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ. فَقَالَ: (يَا بَنِي سَلِمَةَ! دِيَارَكُمْ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيِ: الْزَمُوا دِيَارَكُمْ (تُكْتَبْ) يُرْوَى بِالْجَزْمِ عَلَى

جَوَابُ الْزَمُوا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوِ الْحَالُ لِبَيَانِ الْمُوجَبِ (آثَارُكُمْ) : جَمْعُ أَثَرٍ، وَأَثَرُ الشَّيْءِ حُصُولُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] أَيْ: أَجْرُ خُطَاكُمْ، وَثَوَابُ أَقْدَامِكُمْ، لِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةٌ، فَكُلَّمَا كَانَ الْخُطَا أَكْثَرَ يَكُونُ الْأَجْرُ أَكْثَرَ (دِيَارَكُمْ، تُكْتَبُ آثَارُكُمْ) : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَنُو سَلِمَةَ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ سَلِمَةٌ بِكَسْرِ اللَّامِ غَيْرَهُمْ، كَانَتْ دِيَارُهُمْ عَلَى بُعْدٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يُجْهِدُهُمْ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ وَعِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْطَارِ وَاشْتِدَادِ الْبَرْدِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُعَرَّى جَوَانِبُ الْمَدِينَةِ فَرَغَّبَهُمْ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى نَقْلِ الْخُطَا، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ أَنْ تُكْتَبَ فِي صُحُفِ الْأَعْمَالِ أَيْ كَثْرَةُ الْخُطَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْأَجْرِ، أَوْ أَنْ تُكْتَبَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ أَيْ: تُكْتَبَ قِصَّتُكُمْ وَمُجَاهَدَتُكُمْ فِي الْعِبَادَةِ فِي كُتُبِ سِيَرِ السَّلَفِ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِحِرْصِ النَّاسِ عَلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ ( «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) الْحَدِيثَ اهـ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِي الْحَدِيثِ مُعْجِزَةً لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ لِلتَّأْكِيدِ، بَلْ بِشَارَةٌ إِلَى الْكِتَابَتَيْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، لَا مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ، وَلَا يُنَافِي هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مَا وَرَدَ: مِنْ أَنَّ شُؤْمَ الدَّارِ عَدَمُ سَمَاعِهَا لِلْأَذَانِ، لِأَنَّ الشَّآمَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى فَوَاتِ الْوَقْتِ أَوِ الْجَمَاعَةِ، وَالْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ كَثْرَةُ الْخُطَا الْمُسْتَلْزِمَةِ لِكَثْرَةِ الْأَجْرِ، فَالْحَيْثِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْعِمَادِ بِأَنَّ الدَّارَ الْبَعِيدَةَ أَفْضَلُ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا هُنَا، وَبِخَبَرِ مُسْلِمٍ «عَنْ جَابِرٍ: كَانَتْ دِيَارُنَا بَائِنَةً عَنِ الْمَسْجِدِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا فَنَقْرُبَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً) » . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا: «أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَبْعَدَهُمْ دَارًا فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَرْكَبُ؟ قَالَ: مَا سَرَّنِي أَنَّ مَنْزِلِي بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ فِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ خَبَرَ: فَضْلُ الدَّارِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَرِيبَةِ كَفَضْلِ الْفَارِسِ عَلَى الْقَاعِدِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَفُتْهُ بِبُعْدِ دَارِهِ مُهِمٌّ دِينِيٌّ كَتَعْلِيمِ عِلْمٍ وَتَعَلُّمِهِ، وَنَحْوِهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَإِلَّا فَالْقَرِيبَةُ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ كَالضَّعِيفِ عَنِ الْمَشْيِ.

701 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 701 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَبْعَةٌ) : أَيْ: أَشْخَاصٌ، وَلَا مَفْهُومَ لَهُ، إِذْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ (يُظِلُّهُمُ اللَّهُ) : أَيْ: يُدْخِلُهُمْ (فِي ظِلِّهُ) أَيْ: رَحْمَتِهِ (يَوْمَ لَا ظِلَّ) " أَيْ: لَا قُدْرَةَ وَلَا رَحْمَةَ (إِلَّا ظِلُّهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَيْ يُدْخِلُهُمْ فِي حِرَاسَتِهِ وَرِعَايَتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ ظِلُّ الْعَرْشِ إِذْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ اهـ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِمَا وَرَدَ مِنْ دُنُوِّ الشَّمْسِ مِنَ الرُّءُوسِ الْمُسْتَلْزِمِ لِكَوْنِهَا تَحْتَ الْعَرْشِ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَدَمِ الظِّلِّ، إِذْ لَا يَظْهَرُهُ إِلَّا الشَّمْسُ. وَأَجَابَ ابْنُ حَجَرٍ بِمَنْعِ دَعْوَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُهُ إِلَّا هِيَ، وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَا شَمْسَ فِيهَا مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا كَذَا» ) فَكَمَا جَازَ لِلشَّجَرَةِ ظِلٌّ مَعَ عَدَمِ الشَّمْسِ، فَكَذَلِكَ الْعَرْشُ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الظِّلَّ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَا يَحْجُبُ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ، بَلْ عَامٌّ فِي كُلِّ نُورٍ كَنُورِ الْقَمَرِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْوَارِ الْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى، لَكِنْ لَا خَفَاءَ فِي عَدَمِ ظُهُورِ الْجَوَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ لِأَنْ يَرْتَفِعَ إِلَى ظِلِّ الْعَرْشِ مِنْ حَضِيضِ الْفَرْشِ، أَوْ ظِلِّ الْعَرْشِ يَغْلِبُ عَلَى الشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَلَا يَبْقَى لَهُ تَأْثِيرُ الْحَرَارَةِ، وَمِنْهُ خَبَرُ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ فَإِنَّ نُورَكَ أَطْفَأَ لَهِيبِي. قَالَ الرَّاغِبُ: الظِّلُّ ضِدُّ الضِّحِّ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْفَيْءِ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ يُقَالُ: أَظَلَّنِي أَيْ: حَرَسَنِي

جَعَلَنِي فِي ظِلِّهِ أَيْ فِي عِزِّهِ وَمَنَعَتِهِ، قِيلَ: فِي ظِلِّهِ تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يُظِلُّهُمْ لَا يَحْتَمِلُ ظِلَّ غَيْرِهِ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْرُسُهُمْ مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ وَيَكْنِفُهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. (إِمَامٌ عَادِلٌ) : مَنْ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي ظِلِّهِ فِي الدُّنْيَا، فَجُوزِيَ بِنَظِيرِهِ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا وَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ السَّبْعَةِ فَإِنَّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ ظِلِّهِ، (وَشَابٌّ نَشَأَ) أَيْ: نَمَا وَتَرَبَّى (فِي عِبَادَةِ اللَّهِ) أَيْ: لَا فِي مَعْصِيَتِهِ، فَجُوزِيَ بِظِلِّ الْعَرْشِ لِدَوَامِ حِرَاسَةِ نَفْسِهِ عَنْ مُخَالَفَةِ رَبِّهِ (وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ) وَفِي نُسْخَةٍ: فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ قَوْلُهُ: مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْجِدِ هَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِمِثْلِ الْقِنْدِيلِ إِشَارَةً إِلَى طُولِ الْمُلَازَمَةِ بِقَلْبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَلَاقَةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْحُبِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَحْمَدَ: مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ، فَجُوزِيَ لِدَوَامِ مَحَبَّةِ رَبِّهِ وَمُلَازَمَتِهِ بَيْتَهُ بِظِلِّ عَرْشِهِ. (إِذَا خَرَجَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْمَسْجِدِ (حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ) : لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي الْمَسْجِدِ كَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالْمُنَافِقَ فِي الْمَسْجِدِ كَالطَّيْرِ فِي الْقَفَصِ (وَرَجُلَانِ) : مَثَلًا (تَحَابَّا فِي اللَّهِ) أَيْ: لِلَّهِ أَوْ فِي مَرْضَاتِهِ (اجْتَمَعَا عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْحُبِّ فِي اللَّهِ إِنِ اجْتَمَعَا (" وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ) أَيْ: إِنْ تَفَرَّقَا يَعْنِي يَحْفَظَانِ الْحُبَّ فِي الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَفَرَّقَا عَلَيْهِ مِنْ مَجْلِسِهِمَا، وَقِيلَ: التَّفَرُّقُ بِالْمَوْتِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهُ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ يَحْرُسُ صَاحِبَهُ عَنْ مُخَالَفَةِ رَبِّهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ فَجُوزِيَا بِذَلِكَ (وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا) أَيْ: مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنَ الرِّيَاءِ، أَوْ مِمَّا سِوَى اللَّهِ (فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أَيْ: سَالَتْ وَجَرَتْ دُمُوعُ عَيْنَيْهِ. وَفِي الْإِسْنَادِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى، فَجَازَاهُ اللَّهُ عَلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، (وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ) : أَيْ: إِلَى الزِّنَا بِهَا (ذَاتُ حَسَبٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ، وَقِيلَ: الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ لَهُ وَلِآبَائِهِ (وَجَمَالٍ) أَيْ: فِي غَايَةِ كَمَالٍ (فَقَالَ) بِلِسَانِهِ أَوْ قَلْبِهِ (إِنِّي) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا (أَخَافُ اللَّهَ) أَيْ: مُخَالَفَتَهُ أَوْ عُقُوبَتَهُ أَوْ سُخْطَهُ، وَمَنْ خَافَ سَلِمَ (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّطَوُّعِ ; لِأَنَّ إِعْلَانَ الزِّيَادَةِ أَفْضَلُ (حَتَّى لَا تَعْلَمَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقِيلَ بِضَمِّهَا (شِمَالُهُ) قِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ أَيْ: لَا يَعْلَمُ مَنْ بِشَمَالِهِ، وَقِيلَ يُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي إِخْفَائِهَا وَأَنَّ شِمَالَهُ لَوْ تَعْلَمُ لَمَا عَلِمَتْهَا، وَلَمَّا بَالَغَ فِي إِخْفَاءِ عَمَلِهِ لِلَّهِ جَازَاهُ اللَّهُ بِإِظْهَارِ فَضْلِهُ (مَا تُنْفِقُ) : وَجُوِّزَ فِي الْفِعْلَيْنِ التَّذْكِيرُ (يَمِينُهُ) : وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ: لَا تَعْلَمُ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَهُوَ مَقْلُوبُ سَهْوٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالنَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

702 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا ; وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ ; فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: ( «إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ» ) . وَزَادَ فِي دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ ( «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ. مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 702 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَلَاةُ الرَّجُلِ) أَيْ: ثَوَابُ صَلَاتِهِ (فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ) بِالتَّشْدِيدِ، وَيَجُوزُ التَّخْفِيفُ، قَالَهُ فِي الْأَزْهَارِ، أَيْ: تُزَادُ (عَلَى صِلَاتِهِ) يُقَالُ: ضُعِّفَ الشَّيْءُ إِذَا زَادَ، وَضَعَّفْتُهُ وَأَضْعَفْتُهُ وَضَاعَفْتُهُ بِمَعْنًى، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِسْنَادُ الزِّيَادَةِ إِلَيْهَا مَجَازٌ عَنْ ثَوَابِهَا، أَوْ يُقَدَّرُ مُضَافٌ أَيْ: ثَوَابُ صَلَاةِ الرَّجُلِ عَلَى ثَوَابِ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ (فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ) : عَطَفَ بِإِعَادَةِ الْجَارِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَلْ وَفِي الْمَسْجِدِ أَيْضًا كَمَا عُلِمَ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى، وَخُصَّا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ إِذَا فَاتَ مَنْ بِهِمَا وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى مُلَازَمَتِهِمَا فَمَنْ بِغَيْرِهِمَا أَوْلَى بِأَنْ يَفُوتَهُ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِمَا كَوْنُ الْغَالِبِ أَنْ تُوجَدَ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ دُونَهُمَا ; وَلِذَا أُطْلِقَ تَعْلِيلُ التَّضْعِيفِ الْآتِي بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِجَمَاعَةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً تَزِيدُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ وَفِي السُّوقِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُقَابَلَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الصَّلَاةُ فِي

غَيْرِهِ مُنْفَرِدًا (خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا) أَيْ: مِثْلًا، وَفِي رِوَايَةٍ: سَبْعًا وَعِشْرِينَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي مَبْحَثِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ الْكَثْرَةُ لَا الْحَصْرُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَقَوْلُهُ: ضِعْفًا كَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَيُؤَوَّلُ الضِّعْفُ بِالدَّرَجَةِ أَوْ بِالصَّلَاةِ، (وَذَلِكَ) أَيِ: التَّضْعِيفُ الْبَعِيدُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ (أَنَّهُ) أَيْ: لِأَنَّهُ أَوْ بِأَنَّهُ يَعْنِي الرَّجُلَ أَوِ الشَّأْنَ (إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ) بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ (ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ) : أَيْ: مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ (إِلَّا الصَّلَاةُ) أَيْ: قَصَدَ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ لَا شُغْلٌ آخَرُ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُؤَسِّسَةٌ لَا مُؤَكِّدَةٌ كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ كَالتَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ، كَأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الصَّلَاةَ إِلَى الرَّجُلِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ، أَفَادَ صَلَاةَ الرَّجُلِ الْكَامِلِ الَّذِي لَا يُلْهِيهِ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي بَيْتِ اللَّهِ تُضَعَّفُ أَضْعَافًا ; لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَصِّرُ فِي شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا، فَإِذَا تَوَضَّأَ أَحْسَنَ الْوُضُوءَ، وَإِذَا خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِمَّا يُكَدِّرُهُ، وَإِذَا صَلَّى لَمْ يَتَعَجَّلْ لِلْخُرُوجِ، وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ فَجَدِيرٌ بِأَنْ يُضَاعَفَ ثَوَابُ صَلَاتِهِ. (لَمْ يَخْطُ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الطَّاءَ، وَقَوْلُهُ (خُطْوَةً) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ بِالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، وَجَزَمَ الْيَعْمُرِيُّ أَنَّهَا هُنَا بِالْفَتْحِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهَا فِي رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ بِالضَّمِّ (إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ) أَيْ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ذُنُوبٌ (وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ) أَيْ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْحَطِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالْفَضْلُ وَاسِعٌ. (فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ) بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ (الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ) أَيْ: تَدْعُو لَهُ بِالْخَيْرِ وَتَسْتَغْفِرُ مِنْ ذُنُوبِهِ (مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ) جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِقَوْلِهِ: تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ فَخَامَةٌ (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: طَلَبُ الرَّحْمَةِ بَعْدَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ لَهُمْ (وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ) أَيْ: حُكْمًا أُخْرَوِيًّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ (مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ) أَيْ: مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، بَلْ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: (إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ) أَيْ: لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ غَيْرُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ( «لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ» ) أَيْ: لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ. وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْحِكَايَاتِ: أَنَّ عَبْدًا اسْتَأْذَنَ سَيِّدَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَيُصَلِّيَ، فَأَذِنَ لَهُ وَوَقَفَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُهُ، فَأَبْطَأَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ، فَقَالَ: مَا يُخَلِّينِي أَخْرُجُ، فَقَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: الَّذِي لَا يُخَلِّيكَ تَدْخُلُ. (وَزَادَ) أَيْ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (فِي دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ) أَيْ: وَفِّقْهُ لِلتَّوْبَةِ أَوِ اقْبَلْهَا مِنْهُ أَوْ ثَبِّتْهُ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: لَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ دَاعِينَ لَهُ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ أَوْ مُنْتَظِرًا لِلصَّلَاةِ (مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ) : أَيْ: أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِلِسَانِهِ أَوْ يَدِهِ ; فَإِنَّهُ حَدَثٌ مَعْنَوِيٌّ، وَمِنْ ثَمَّةَ أَتْبَعَهُ بِالْحَدَثِ الظَّاهِرِيِّ فَقَالَ: (مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ) أَيْ: حَدَثًا حَقِيقِيًّا، وَهُوَ بِسُكُونِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِّ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ: مَا لَمْ يَبْطُلْ وُضُوؤُهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: وَمَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ; قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ. نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَلَعَلَّ سَبَبَ الِاسْتِفْسَارِ إِطْلَاقُ الْحَدَثِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَوْ ظَنُّوا أَنَّ الْإِحْدَاثَ بِمَعْنَى الِابْتِدَاعِ، وَتَشْدِيدُ الدَّالِ خَطَأٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: مَا لَمْ يُؤْذِ بِحَدَثٍ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْفِعْلِ الْمَجْزُومِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: بِحَدَثٍ فِيهِ بِلَفْظِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مُتَعَلِّقًا بِـ يُؤْذِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدَثِ النَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْمُهَلَّبِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَدَثَ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ يُحْرَمُ بِهَا الْمُحْدِثُ اسْتِغْفَارَ الْمَلَائِكَةِ وَدُعَاءَهُمُ الْمَرْجُوَّ بَرَكَتُهُ، وَقِيلَ: إِخْرَاجُ الرِّيحِ مِنَ الدُّبُرِ لَا يَحْرُمُ، لَكِنَّ الْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى بِمَا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ، كَمَا يَأْتِي فِي الْحَدِيثِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ، وَإِنْ مَنَعَ دُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ، لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ

وَادَّعَى بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ كَالْجُنُبِ يَمُرُّ فِيهِ وَلَا يَجْلِسُ، وَإِنْ جَلَسَ فِيهِ لِعِبَادَةٍ كَاعْتِكَافٍ أَوِ انْتِظَارِ صَلَاةٍ أَوْ ذِكْرٍ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَإِلَّا فَمُبَاحًا، وَقِيلَ: يُكْرَهُ لِخَبَرِ: إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَجُوزُ النَّوْمُ فِيهِ بِلَا كَرَاهَةٍ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ كَانُوا يُدِيمُونَ النَّوْمَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ لِلْمُقِيمِ دُونَ الْغَرِيبِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ بِكَرَاهَتِهِ مُطْلَقًا، وَخَبَرُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ عَلَى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ رُقُودٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: انْقَلِبُوا فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ لِلْمَرْءِ مَرْقَدًا. إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ مُنْقَطِعٌ، «وَخَبَّرَ أَبُو ذَرٍّ: رَآنِي عَلَيْهِ السَّلَامُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: لَا أَرَاكَ نَائِمًا فِيهِ» . فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ أَيْضًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ اهـ. وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُقَالَ: يُكْرَهُ لِمَنْ لَهُ مَسْكَنٌ دُونَ غَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ، بَلْ يُعْلَمُ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ مِنْ زِيَادَاتِ ابْنِ مَاجَهْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ إِلَخْ. مِنْ إِفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا تَأْمَّلْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

703 - وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 703 - (وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَأَسْمَاءُ الرِّجَالِ لِلْمُصَنِّفِ، وَقِيلَ: بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ لَا ضَمٍّ وَفَتَحٍ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَبُو أُسَيْدٍ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ أَنْصَارِيٌّ سَاعِدِيٌّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ السِّرَّ فِي تَخْصِيصِ الرَّحْمَةِ بِالدُّخُولِ، وَالْفَضْلِ بِالْخُرُوجِ أَنَّ مَنْ دَخَلَ اشْتُغِلَ بِمَا يُزْلِفُهُ إِلَى ثَوَابِهِ وَجَنَّتِهُ، فَيُنَاسِبُ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ، وَإِذَا خَرَجَ اشْتُغِلَ بِابْتِغَاءِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الْفَضْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَكِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ أَبِي أُسَيْدٍ عَلَى الشَّكِّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُمَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبَى حُمَيْدٍ وَحْدَهُ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الصَّحِيحِ، وَفِي خَبَرِ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ: ( «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» ) . وَعَنِ ابْنِ السُّنِّيِّ: ( «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ تَدَاعَتْ جُنُودُ إِبْلِيسَ - أَجَلَبَتْ وَاجْتَمَعَتْ - كَمَا يَجْتَمِعُ النَّحْلُ عَلَى يَعْسُوبِهَا، فَإِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَهَا لَا يَضُرُّهُ» ) .

704 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 704 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ) أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لَا وُجُوبٍ، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ (رَكْعَتَيْنِ) يَعْنِي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ صَلَاةِ فَرْضٍ أَوْ سُنَّةٍ فِي غَيْرِ وَقْتٍ مَكْرُوهٍ عِنْدَنَا، أَوْ طَوَافٍ (قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ) تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ، وَاسْتَثْنَى الْخَطِيبَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَوَقَعَ فِي الْمَشَارِقِ لِلصَّغَانِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَقَّمَ لَهُ بِعَلَامَةِ (خ) فَوَهِمَ فِي مَوْضِعَيْنِ. قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ نَسَبَ الْحَدِيثَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي قَتَادَةَ، وَبِالثَّانِي أَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْبُخَارِيِّ فَقَطْ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالْأَرْبَعَةُ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي رِوَايَةِ الْعُقَيْلِيِّ، وَابْنِ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: ( «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ بَيْتَهُ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهُ مِنْ رَكْعَتَيْهِ فِي بَيْتِهِ خَيْرًا» ) وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» ، وَفِي

رِوَايَةٍ: « (أَعْطُوا الْمَسَاجِدَ حَقَّهَا) . قَالُوا: وَمَا حَقُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (أَنْ تُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسُوا» ) . وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ مِنَ الْجُلُوسِ أَوَّلًا ثُمَّ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ ثَانِيًا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ اخْتِصَاصُ نَدْبِهَا بِمُرِيدِ الْجُلُوسِ، وَيُحْتَمَلُ التَّقْيِيدُ بِالْجُلُوسِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَمَنْ دَخَلَهُ وَقْتَ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ أَوْ وَهُوَ مُحْدِثٌ قَالَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. زَادَ بَعْضُهُمْ: وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ ذَلِكَ يَعْدِلُ رَكْعَتَيْنِ فِي الْفَضْلِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ - الْإِمَامِ الْكَبِيرِ التَّابِعِيِّ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تُصَلِّ فَاذْكُرِ اللَّهَ، فَكَأَنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَأَرَادَ الطَّوَافَ فَلْيَبْدَأْ بِهِ وَإِلَّا فَلْيُصَلِّ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ طَوَافُهُ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ «عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَصَحَّحَهُ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةٌ وَإِنَّ تَحِيَّتَهُ رَكْعَتَانِ، فَقُمْ فَارْكَعْهُمَا» ) . قَالَ: فَقُمْتُ فَرَكَعْتُهَمَا، وَبِهِ أُخِذَ أَنَّ الزَّائِرَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ يُصَلِّي أَوَّلًا، ثُمَّ يَزُورُهُ تَقْدِيمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ عَلَى حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْرِيمِهِ.

705 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ( «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا نَهَارًا فِي الضُّحَى، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 705 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْدَمُ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ أَيْ: لَا يَرْجِعُ (مِنْ سَفَرٍ إِلَّا نَهَارًا فِي الضُّحَى) : وَهُوَ وَقْتُ تَشْرُقُ الشَّمْسُ، قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وَقْتُ نَشَاطٍ فَلَا مَشَقَّةَ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الْمَجِيءِ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ نِصْفِ النَّهَارِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ نَوْمٍ وَرَاحَةٍ، وَبِخِلَافِ أَوَاخِرِهِ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ اشْتِغَالٍ بِأَسْبَابِ الْعَشَاءِ وَنَحْوِهُ، وَبِخِلَافِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ الْحَرَكَةُ فِيهِ. (فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ) : أَيْ: بِدُخُولِهِ (فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ) : تَعْظِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ (ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ) : قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ لِيَزُورَهُ الْمُسْلِمُونَ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ. وَرَوَى عَبْدُ الْحَقِّ وَضَعَّفَهُ خَبَرُ: «وَإِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ فَلْيُصَلِّ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» .

706 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ ; فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 706 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ) : بِوَزْنِ يَطْلُبُ وَمَعْنَاهُ (ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ) : مُتَعَلِّقٌ بِـ يَنْشُدُ. أَيْ: يَطْلُبُهَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: نَشَدْتُ الضَّالَّةَ أَنْشُدُهَا نَشْدَةً وَنِشْدَانًا طَلَبْتُهَا، وَأَنْشَدْتُهَا بِالْأَلِفِ إِذَا عَرَّفْتَهَا مِنَ النَّشْدِ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ أَمْرٍ لَمْ يُبْنَ لَهُ الْمَسْجِدُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا يَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى السَّائِلِ الْمُتَعَرِّضِ فِي الْمَسْجِدِ. (فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ) تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ (لَمْ تُبْنَ لِهَذَا) أَيْ: لِنِشْدَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِهِ، بَلْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالْوَعْظِ، حَتَّى كَرِهَ مَالِكٌ الْبَحْثَ الْعِلْمِيَّ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَجْمَعُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عَقْدُ النِّكَاحِ فِيهِ، فَإِنَّهُ سُنَّةٌ لِلْأَمْرِ بِهِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَهُ مِيرَكُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «سَمِعَ مَنْ يَنْشُدُ فِي الْمَسْجِدِ جَمَلًا أَحْمَرَ فَقَالَ: (لَا وَجَدْتَ إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» ) . وَحَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ خَبَرَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: (لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ» ) . قَالَ: وَكَذَا يَنْدُبُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ أَنْشَدَ شِعْرًا مَذْمُومًا: فَضَّ اللَّهُ فَاكَ ثَلَاثًا ; لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ، رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَلَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ السَّائِلِ فِيهِ شَيْئًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، ( «هَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ، فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَخَذْتُهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ» ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ سُلَيْكًا الْغَطَفَانِيَّ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ. قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَائِلًا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَحِلُّ إِعْطَاؤُهُ فِيهِ لِمَا فِي بَعْضِ الْآثَارِ: يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَقُمْ بَغِيضُ اللَّهِ، فَيَقُومُ سُؤَّالُ الْمَسْجِدِ. وَفَصَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَنْ يُؤْذِي النَّاسَ بِالْمُرُورِ وَنَحْوِهُ، فَيُكْرَهُ إِعْطَاؤُهُ ; لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى مَمْنُوعٍ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يُؤْذِي فَيُسَنُّ إِعْطَاؤُهُ ; لِأَنَّ السُّؤَّالَ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ، فَمَدَحَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ وَلَا الْآيَةِ أَنَّ إِعْطَاءَ عَلِيٍّ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ خِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ; لِاخْتِلَافِ السَّائِلِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

707 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 707 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) فِي الْقَامُوسِ: الشَّجَرُ مِنَ النَّبَاتِ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ أَوْ سَمَا بِنَفْسِهِ دَقَّ أَوْ جَلَّ، قَاوَمَ الشِّتَاءَ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ، الْوَاحِدَةُ بِهَاءٍ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَغْلِيبًا غَيْرَ ظَاهِرٍ، نَعَمْ لَوْ قَالَ مَجَازًا كَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَلِذَا قَالَ: إِذْ حَقِيقَتُهَا مَا لَهُ سَاقٌ وَأَغْصَانٌ وَخِلَافُهُ نَجْمٌ. قَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] يَعْنِي عَلَى أَحَدِ التَّفَاسِيرِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: النَّجْمُ الْكَوْكَبُ، وَسُجُودُهُ طُلُوعُهُ (الْمُنْتِنَةِ) أَيِ: الثَّوْمِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْبَصَلُ وَالْفُجْلُ، وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ كَالْكُرَّاثِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ بِهِ بَخْرٌ مُسْتَحْكِمٌ وَجُرْحٌ مُنْتِنٌ (فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) قِيلَ: النَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ الْمَسَاجِدِ، فَالْإِضَافَةُ لِلْمِلْكِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: مَسْجِدُ أَهْلِ مِلَّتِنَا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ (فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَأَذَّى) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (تَتَأَذَّى) أُرِيدَ بِهِمُ الْحَاضِرُونَ مَوْضِعَ الْعِبَادَاتِ عَامَّةً تُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فَيَعُمُّ الْحُكْمُ، وَيَدُلُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَإِنْ كَانَ خَالِيًا مِنَ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ مَلَائِكَةٍ، فَقَوْلُهُ: (مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ) : يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ( «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثَّوْمَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ

مَسْجِدَنَا» ) . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: (مَسَاجِدَنَا) . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: (فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ) ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ اخْتِصَاصَهُ بِمَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ قَالَهُ مِيرَكُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَقِيبَ حَدِيثِ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا وَجَدَ رِيحًا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ» ، هَذَا فِيهِ إِخْرَاجُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رِيحٌ نَحْوُ: الْبَصَلِ فِي الْمَسْجِدِ إِزَالَةً لِلْمُنْكَرِ بِالْيَدِ لِمَنْ أَمْكَنَهُ.

708 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 708 - (وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْبُزَاقُ) أَيْ: إِلْقَاؤُهُ، وَقَدْ يُقَالُ بِالسِّينِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ (إِلَى الْمَسْجِدِ) أَيْ: فِي أَرْضِهِ وَجُدْرَانِهِ (خَطِيئَةٌ) أَيْ: إِثْمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: سَيِّئَةٌ، وَكَالْبُزَاقِ الْمُخَاطِ بَلْ أَوْلَى (وَكَفَّارَتُهَا) : أَيْ: إِذَا فَعَلَهَا خَطَأً (دَفَنَهَا) : يَعْنِي: إِذَا أَزَالَ ذَلِكَ الْبُزَاقَ أَوْ سَتَرَهُ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ عَقِيبَ الْأَلْقَاءِ زَالَ مِنْهُ تِلْكَ الْخَطِيئَةُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ كَفَّارَتَهُ أَنَّ ذَلِكَ قَاطِعٌ لِلتَّحْرِيمِ الْوَاقِعِ لَا أَنَّهُ يَرْفَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِمُنَافَاتِهِ خَبَرَ الصَّحِيحَيْنِ الْمَذْكُورَ، وَخَبَرَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ يَفْعَلُهُ فِي الْمَسْجِدِ ضَعِيفٌ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إِيصَالَهُ بِهِ، وَحِكْمَةُ دَفْنِهِ بَيْنَهَا خَبَرُ: «إِذَا انْتَخَمَ أَحَدُكُمْ فَلْيُغَيِّبْ نُخَامَتَهُ أَنْ تُصِيبَ جِلْدَ مُؤْمِنٍ أَوْ ثَوْبَهُ فَيُؤْذِيَهُ» . قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ بَصَقَ بِالْمَسْجِدِ اسْتِهَانَةً بِهِ كَفَرَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

709 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنْ طَرِيقٍ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 709 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي) أَيْ: إِجْمَالًا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ عَامِلِيهَا، وَيَحْتَمِلُ تَفْصِيلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ (حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا) : بِالرَّفْعِ بَدَلٌ مِنْ أَعْمَالٍ (فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا) : جَمْعِ حُسْنٍ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ (الْأَذَى) : أَيِ: الْمُؤْذَى يَعْنِي إِزَالَتَهُ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَقِيلَ لِلْجِنْسِ (يُمَاطُ) أَيْ: يُزَالُ (عَنِ الطَّرِيقِ) : صِفَةُ الْأَذَى قَالَهُ الطِّيبِيُّ " (وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا) جَمْعِ سُوءٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْيَاءُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْهَمْزَةِ (النُّخَاعَةَ) : بِضَمِّ النُّونِ أَيِ: الْبُزَاقَةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِهَا إِلْقَاؤُهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْبُصَاقُ، وَالنُّخَامَةُ هِيَ الْبَلْغَمُ (تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ) صِفَةُ النُّخَاعَةِ (لَا تُدْفَنُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجُمْلَتَانِ صِفَتَانِ أَوْ حَالَانِ أَيْ مُتَدَاخِلَتَانِ أَوْ مُتَرَادِفَتَانِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَابْنُ حِبَّانَ قَالَهُ مِيرَكُ.

710 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ ; فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَدْفِنُهَا» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 710 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ (فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ) : نَهْيٌ، وَقِيلَ: نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ أَيْ: لَا يُسْقِطِ الْبُزَاقُ أَمَامَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَتَخْصِيصُ الْقِبْلَةِ اسْتِوَاءُ جَمِيعِ الْجِهَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِتَعْظِيمِهَا. (فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ) أَيْ: يُخَاطِبُهُ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَمَنْ يُنَاجِي أَحَدًا مَثَلًا لَا يَبْصُقُ نَحْوَهُ. (وَلَا عَنْ يَمِينِهِ) : تَعْظِيمًا لِلْيَمِينِ وَزِيَادَةً لِشَرَفِهَا (فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا) : يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ أَشْرَفُ وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ، وَقَدْ وَرَدَ: إِنَّهُ أَمِيرٌ عَلَى مَلَكِ الْيَسَارِ يَمْنَعُهُ مِنْ كِتَابَةِ السَّيِّئَاتِ إِلَى ثَلَاثِ سَاعَاتٍ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الطَّاعَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ مَلَكٌ آخَرُ غَيْرُ الْحَفَظَةِ يَحْضُرُ عِنْدَ الصَّلَاةِ لِلتَّأْيِيدِ وَالْإِلْهَامِ وَالتَّامَّيْنِ عَلَى دُعَائِهِ، فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الزَّائِرِ، فَيَجِبُ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ فَوْقَ مَنْ يَحْفَظُهُ مِنَ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَصَّ صَاحِبُ الْيَمِينِ بِالْكَرَامَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى مَا بَيْنَ الْمَلَكَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ، كَمَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ. أَيْ: مِنَ الْقُوَّةِ وَالْكَرَامَةِ، وَتَمْيِيزًا بَيْنَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ فَإِنَّ بُصَاقَهُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ يَسَارِهِ اهـ. وَهُوَ وَجِيهٌ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ جَمَاعَةٌ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ عَنِ الْيَمِينِ أَوْلَى، تَمَّ كَلَامُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا صَلَّى دَاخِلَ الْكَعْبَةِ أَوِ الْحِجْرِ، فَيَتَعَيَّنُ تَحْتَ قَدَمِهِ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ ثَوْبٌ أَوْ يَأْخُذُهُ بِكُمِّهِ أَوْ ذَيْلِهِ (لِيَبْصُقْ) وَفِي نُسْخَةٍ: بِوَاوِ الْعَطْفِ مَعَ كَسْرِ اللَّامِ وَتُسَكَّنُ (عَنْ يَسَارِهِ) أَيْ: عَلَى ثَوْبِهِ إِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ (أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ) إِذَا كَانَ تَحْتَهُ ثَوْبُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَتَحْتَ قَدَمِهِ بِالْوَاوِ، وَفِي أُخْرَى: بِلَا وَاوٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، أَوْ فِيهِ وَلَمْ يَصِلِ الْبُزَاقُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَيُلْحَقُ بِالصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ خَارِجُهَا وَلَوْ غَيْرُ الْمَسْجِدِ، خِلَافًا لِلْأَذْرُعِيِّ كَالسُّبْكِيِّ، ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ هُوَ خَارِجُهَا مُطْلَقًا، وَقِيلَ: كَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِكَرَاهَةِ إِمَامِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَبْصُقَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَيْسَ فِي صَلَاةٍ. وَعَنْ مُعَاذٍ: مَا بَصَقْتُ عَنْ يَمِينِي مُنْذُ أَسْلَمْتُ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَكَانَ الَّذِي خَصَّهُ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ أَخْذَهُ مِنْ تَعْلِيلِ النَّهْيِ بِأَنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ بِالْمَلَكِ غَيْرُ الْكَاتِبِ، وَإِلَّا فَقَدِ اسْتُشْكِلَ اخْتِصَاصُهُ يَعْنِي: بِالْمَنْعِ مَعَ أَنَّ عَلَى الْيَسَارِ مَلَكًا آخَرَ، وَأَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ: بِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِهِ بِمَلَكِ الْيَمِينِ تَشْرِيفًا لَهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: بِأَنَّ الصَّلَاةَ أُمُّ الْحَسَنَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، فَلَا دَخْلَ لِكَاتِبِ السَّيِّئَاتِ فِيهَا، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ: أَنَّهُ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَمَلَكٌ عَنْ يَمِينِهِ، وَقَرِينُهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَالْبُصَاقُ حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْقَرِينِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَلَعَلَّ مَلَكَ الْيَسَارِ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يُصِيبُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. (فَيَدْفِنُهَا) : - بِالرَّفْعِ وَيُجْزَمُ - لِدَفْعِ الْأَذَى.

711 - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: (تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 711 - (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: (تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّقَيُّدَ، وَيَحْتَمِلُ بَيَانَ الْأَفْضَلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

712 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: ( «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ; اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 712 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَرَفَ أَنَّهُ مُرْتَحِلٌ، وَخَافَ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُعَظِّمُوا قَبْرَهُ كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَعَرَّضَ بِلَعْنِهِمْ كَيْلَا يَعْمَلُوا مَعَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) : وَقَوْلُهُ: (اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) : سَبَبُ لَعْنِهِمْ إِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الشِّرْكُ الْجَلِيُّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي

مَدَافِنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالسُّجُودَ عَلَى مَقَابِرِهِمْ، وَالتَّوَجُّهَ إِلَى قُبُورِهِمْ حَالَةَ الصَّلَاةِ ; نَظَرًا مِنْهُمْ بِذَلِكَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ لِتَضَمُّنِهِ مَا يَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ مَخْلُوقٍ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ لِمُشَابَهَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ سُنَّةَ الْيَهُودِ، أَوْ لِتَضَّمُنِهِ الشِّرْكَ الْخَفِيَّ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ: (يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) ، وَقَالَ الْقَاضِي: كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَسْجُدُونَ لِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ وَيَجْعَلُونَهَا قِبْلَةً، وَيَتَوَجَّهُونَ فِي الصَّلَاةِ نَحْوَهَا، فَقَدِ اتَّخَذُوهَا أَوْثَانًا، فَلِذَلِكَ لَعَنَهُمْ، وَمَنَعَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثلِ ذَلِكَ، أَمَّا مَنِ اتَّخَذَ مَسْجِدًا فِي جِوَارِ صَالِحٍ، أَوْ صَلَّى فِي مَقْبَرَةٍ وَقَصَدَ الِاسْتِظْهَارَ بِرُوحِهِ، أَوْ وَصُولَ أَثَرٍ مَا مِنْ أَثَرِ عِبَادَتِهِ إِلَيْهِ، لَا لِلتَّعْظِيمِ لَهُ وَالتَّوَجُّهِ نَحْوَهُ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَرْقَدَ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْحَطِيمِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ أَفْضَلُ مَكَانٍ يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي لِصَلَاتِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ مُخْتَصُّ بِالْقُبُورِ الْمَنْبُوشَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ النَّجَاسَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَذِكْرَ غَيْرُهُ أَنَّ صُورَةَ قَبْرِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْحِجْرِ تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَأَنَّ فِي الْحَطِيمِ بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَزَمْزَمَ قَبْرُ سَبْعِينَ نَبِيًّا، وَفِيهِ أَنَّ صُورَةَ قَبْرِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَغَيْرِهِ مُنْدَرَسَةٌ فَلَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَقَالَ ابْنِ حَجَرٍ: أَشَارَ الشَّارِحُ إِلَى اسْتِشْكَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ قَبْرِ إِسْمَاعِيلَ، بِأَنَّهَا تُكْرَهُ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَأَجَابَ: بِأَنَّ مَحِلَّهَا فِي مَقْبَرَةٍ مَنْبُوشَةٍ لِنَجَاسَتِهَا، وَكُلُّهِ غَفْلَةٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: يُسْتَثْنَى مَقَابِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا يُكَرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَجَوَابُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِتَصْرِيحِهِمْ بِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي مَقْبَرَةِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ تُنْبَشْ لِأَنَّهُ مُحَاذٍ لِلنَّجَاسَةِ، وَمُحَاذَاتُهَا فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فَوْقَهُ أَوْ خَلْفَهُ أَوْ تَحْتَ مَا هُوَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ فَكَرِهَهَا جَمَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ التُّرْبَةُ طَاهِرَةً وَالْمَكَانُ طَيِّبًا، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي بَعْدَهُ، وَقِيلَ: بِجَوَازِهَا فِيهَا، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْغَالِبَ مَنْ حَالِ الْمَقْبَرَةِ اخْتِلَاطُ تُرْبَتِهَا بِصَدِيدِ الْمَوْتَى وَلُحُومِهَا، وَالنَّهْيُ لِنَجَاسَةِ الْمَكَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ طَاهِرًا فَلَا بَأْسَ، وَكَذَلِكَ الْمَزْبَلَةُ وَالْمَجْزَرَةُ وَقَارِعَةُ الطَّرِيقِ، وَفِي الْقَارِعَةِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَارَّةِ يَشْغَلُهُ عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بِالْمَقْبَرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ هُوَ لِلتَّنْزِيهِ أَوْ لِلتَّحْرِيمِ؟ وَمَذْهَبُنَا الْأَوَّلُ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ التَّحْرِيمُ، بَلْ وَعَدَمُ انْعِقَادِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عِنْدَهُ فِي الْأَمْكِنَةِ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ وَالْبُطْلَانَ كَالْأَزْمِنَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

713 - وَعَنْ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» ) ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 713 - (وَعَنْ جُنْدَبٍ) : بِضَمِّهِمَا وَفَتَحِ الدَّالِّ (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (وَإِنَّ) : بِالْكَسْرِ عَلَى تَقْدِيرِ أُنَبِّهُكُمْ وَأَقُولُ: إِنْ، وَرُوِيَ بِالْفَتْحِ فَالتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ (مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) ، أَيِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَوْ أَعَمُّ مِنْهُمْ (كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ) : مِنْ مَشَايِخِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ (مَسَاجِدَ) ، أَيْ: بِالْمَعْنَى السَّابِقِ (أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ) ، كَرَّرَ التَّنْبِيهَ بِإِقْحَامِ أَدَاتِهِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مُبَالَغَةً، وَكَرَّرَ النَّهْيَ أَيْضًا كَمَا كَرَّرَ التَّنْبِيهَ بِقَوْلِهِ: (إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ) ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

714 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» ) ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 714 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ) ، بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهِ (مِنْ صَلَاتِكُمْ) ، أَيْ: بَعْضَ صَلَاتِكُمُ الَّتِي هِيَ النَّوَافِلُ مُؤَدَّاةً فِي بُيُوتِكُمْ، وَقَوْلُهُ: مِنْ صَلَاتِكُمْ مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَفِي بُيُوتِكُمْ مَفْعُولٌ ثَانٍ، قُدِّمَ عَلَى الْأَوَّلِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْبُيُوتِ، وَإِنَّ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يَجْعَلَ لَهَا نَصِيبًا مِنَ الطَّاعَاتِ لِتَصِيرَ مُنَوَّرَةً ; لِأَنَّهَا مَأْوَاكُمْ وَمُنْقَلَبُكُمْ، وَلَيْسَتْ كَقُبُورِكُمُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِصَلَاتِكُمْ، وَلِذَا قَالَ: (وَلَا تَتَّخِذُوهَا) ، أَيْ: بُيُوتَكُمْ (قُبُورًا) : بِأَنْ تَتْرُكُوا الصَّلَاةَ فِيهَا كَمَا تَتْرُكُونَهَا فِي الْمَقَابِرِ، شَبَّهَ الْمَكَانَ الْخَالِيَ عَنِ الْعِبَادَةِ بِالْمَقْبَرَةِ وَالْغَافِلَ عَنْهَا بِالْمَيِّتِ، وَقِيلَ لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَوَاطِنَ النُّوَّمِ لَا تُصَلُّونَ فِيهَا، فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَثَلَ ذَاكِرِ اللَّهِ وَمَثَلَ غَيْرِ ذَاكِرِ اللَّهِ كَمَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ السَّاكِنِ فِي الْبُيُوتِ، وَالسَّاكِنِ فِي الْقُبُورِ، فَالَّذِي لَا يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْرِ، كَمَا جَعَلَ نَفْسَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَدْفِنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ ; لِئَلَّا يُكَدَّرَ عَلَيْكُمْ مَعَاشُكُمْ وَمَأْوَاكُمْ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ( «لَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ» ) ، ذِكْرَهُ مِيرَكُ، قِيلَ: الْأَفْضَلُ فِي النَّوَافِلِ فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: ( «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ) ، وَلِسَلَامَتِهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَلِعَوْدِ بِرْكَتِهَا إِلَى الْبَيْتِ وَأَهْلِهِ، وَقِيلَ: فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، وَقِيلَ: فِي النَّهَارِ، الْمَسْجِدُ أَفْضَلُ، وَفِي اللَّيْلِ، الْبَيْتُ أَفْضَلُ، وَقِيلَ: إِنْ كَسِلَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْبَيْتِ فَالْمَسْجِدُ أَفْضَلُ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَرَدَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى بَعْضَ النَّوَافِلِ فِي الْمَسْجِدِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ كَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَكَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ تَعْلِيقًا، وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ حُرْمَتَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ لِخَبَرِ: افْعَلُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ.

" الْفَصْلُ الثَّانِي " 715 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ " الْفَصْلُ الثَّانِي " 715 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» ) ، يُرِيدُ: مَا بَيْنَ مَشْرِقِ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ، وَهُوَ مَطْلَعُ قَلْبِ الْعَقْرَبِ، وَمَغْرِبِ الصَّيْفِ وَهُوَ مَغْرِبُ السِّمَاكِ الرَّامِحِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَهِيَ إِلَى طَرَفِ الْغَرْبِيِّ أَمِيلُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» ) ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُرِيدُ الْقَوْلَ بِالْجِهَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهِ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ، بَلْ بَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّ خِلَافَهُ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَاسْتَدَلَّ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، وَبِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ، وَهُوَ لَا يَقُولُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا: بِحَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ دَانَاهُمْ ; لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَيْسَ قِبْلَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ قَطْعًا فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ ذَكَرَهُ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ قِبْلَةَ مَنِ اشْتُبِهَ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، فَعَلَى أَيِّ جِهَةٍ صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ كَفَتْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُتَنَقِّلُ عَلَى الدَّابَّةِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ، وَفِي الْقَوْلَيْنِ نَظَرٌ، إِذْ لَا وَجْهَ فِيهِمَا لِلتَّقْيِيدِ بِمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنْ جَعَلَ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ أَوَّلَ الْمَغَارِبِ وَهُوَ مَغْرِبُ الصَّيْفِيِّ عَنْ يَمِينِهِ، وَآخِرَ الْمَشَارِقِ وَهُوَ مَشْرِقُ الشِّتَاءِ عَنْ يَسَارِهِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْمَشْرِقِ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ وَخُوزِسْتَانَ وَفَارِسَ وَعِرَاقَ وَخُرَاسَانَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : مَنْ طُرُقٍ وَصَحَّحَهَا، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

716 - «وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَايَعْنَاهُ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا بِيعَةً لَنَا، فَاسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ وَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَبَّهُ لَنَا فِي إِدَاوَةٍ. وَأَمَرَنَا، فَقَالَ: (اخْرُجُوا فَإِذَا أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ، فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ، وَانْضَحُوا مَكَانَهَا بِهَذَا الْمَاءِ، وَاتَّخِذُوهَا مَسْجِدًا) ، قُلْنَا: إِنَّ الْبَلَدَ بَعِيدٌ، وَالْحَرَّ شَدِيدٌ، وَالْمَاءَ يُنْشَفُ، فَقَالَ: (مُدُّوهُ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا طِيبًا» ) ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 716 - (وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا) : الْوَفْدُ: جَمَاعَةٌ قَاصِدَةٌ عَظِيمًا لِشَأْنٍ مِنَ الشُّئُونِ فَهُوَ حَالٌ، أَيْ: قَاصِدِينَ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْنَاهُ) ، أَيْ: عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ (وَصَلَّيْنَا مَعَهُ) ، أَيْ: صَلَاةً أَوْ صَلَوَاتٍ (وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا بِيعَةً) : بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَهِيَ مَعْبَدُ النَّصَارَى (لَنَا، فَاسْتَوْهَبْنَاهُ) : الْفَاءُ عَطَفَتْ مَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَجْمُوعِ، أَيْ: خَرَجْنَا وَفَعَلْنَا فَاسْتَوْهَبْنَاهُ (مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ، أَيْ: بَقِيَّةِ مَا يَتَطَهَّرُ بِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ وَهِيَ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَحَلِّ نَصْبِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ (فَدَعَا بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ وَتَمَضْمَضَ) ، أَيْ: مِنْهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ (ثُمَّ صَبَّهُ) ، أَيِ: الْمَاءَ الْمُتَمَضْمَضَ بِهِ زِيَادَةً عَلَى مَطْلُوبِهِمْ فَضْلًا (لَنَا فِي إِدَاوَةٍ) : وَيُمْكِنُ أَنْ

يَكُونُ الْمَصْبُوبُ هُوَ الْمَاءَ الْبَاقِي الْمَطْلُوبَ، وَالْإِدَاوَةُ ظَرْفٌ صَغِيرٌ مِنْ جِلْدٍ (وَأَمَرَنَا) ، أَيْ: بِالْخُرُوجِ (فَقَالَ) : بَيَانُ الْأَمْرِ، أَوْ أَمَرَنَا بِمَعْنَى أَرَادَ أَمْرَنَا فَقَالَ: (اخْرُجُوا) ، إِذْنًا بِالْخُرُوجِ (فَإِذَا أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ) ، أَيْ: دِيَارَكُمْ (فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ) ، أَيْ: غَيِّرُوا مِحْرَابَهَا، وَحَوِّلُوهُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقِيلَ: خَرِّبُوهَا (وَانْضَحُوا) : بِفَتْحِ الضَّادِ، أَيْ: رُشُّو (مَكَانَهَا بِهَذَا الْمَاءِ) : لِيَصِلَ إِلَيْهَا بَرَكَةُ فَضْلِ وُضُوئِهِ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى فَضْلِ الْوُضُوءِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الْمَاءِ، وَالْمُرَادُ تَطْهِيرُهَا وَغَسْلُهَا بِالْمَاءِ عَمَّا بَقِيَ فِيهِ (وَاتَّخِذُوهَا) ، أَيِ: الْبِيعَةَ يَعْنِي مَكَانَهُ (مَسْجِدًا) ، قُلْنَا: إِنَّ الْبَلَدَ بَعِيدٌ، وَالْحَرَّ) : بِالنُّصْبِ وَيُرْفَعُ (شَدِيدٌ، وَالْمَاءَ) : بِالْوَجْهَيْنِ (يُنْشَفُ) : بِالتَّخْفِيفِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، يُقَالُ: نَشِفَ الثَّوْبُ الْعَرَقَ بِالْكَسْرِ، وَنَشَّفَ الْحَوْضُ الْمَاءَ يُنَشِّفُهُ إِذَا شَرِبَهُ (فَقَالَ: (مُدُّوهُ مِنَ الْمَاءِ) ، أَيْ: زِيدُوا فَضْلَ مَاءِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَاءِ غَيْرَهُ، وَحَاصِلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ صُبُّوا عَلَيْهِ مَاءً آخَرَ (فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ إِمَّا لِلْمَاءِ الْوَارِدِ أَوِ الْمَوْرُودِ، أَيِ: الْوَارِدُ لَا يَزِيدُ الْمَوْرُودَ الطَّيِّبَ بِبَرَكَتِهِ (إِلَّا طِيبًا) : أَوِ الْمَوْرُودُ الطَّيِّبُ لَا يَزِيدُ بِالْوَارِدِ إِلَّا طِيبًا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَ بِالسِّيَاقِ أَقْرَبُ، وَبِنِسْبَةِ الزِّيَادَةِ أَنْسَبُ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ عَكْسَهُ أَوْلَى إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا أَصَابَ بَدَنَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَطْرُقُهُ تَغَيُّرٌ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى غَايَةِ كَمَالِهِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِوَاسِطَةِ مُلَامَسَتِهِ لِتِلْكَ الْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ، فَكُلُّ مَا مَسَّهُ أَكْسَبَهُ طِيبًا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِشَارَةَ مِمَّا اشْتَرَكَ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَضَبْطُ طِيبًا بِكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِفَضْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَنَقْلُهُ إِلَى الْبِلَادِ، وَنَظِيرُهُ: مَاءُ زَمْزَمَ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَسْتَهْدِيهِ مِنْ أَمِيرِ مَكَّةَ لِيَتَبَرَّكَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فَضْلَةَ وَارِثِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَذَلِكَ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) ، أَيْ: عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ مُلَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مُطَوَّلًا عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ، حَدَّثَنَا مُلَازِمٌ بِالسِّنْدِ قَالَ: «خَرَجْنَا سِتَّةً وَفْدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خَمْسَةً مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَسَادِسَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِأَنَّ بِأَرْضِنَا بِيعَةً لَنَا، وَاسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ وَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَبَّهُ لَنَا فِي إِدَاوَةٍ نَمَّ قَالَ: (اذْهَبُوا بِهَذَا الْمَاءِ، فَإِذَا قَدِمْتُمْ بَلَدَكُمْ فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ، ثُمَّ انْضَحُوا مَكَانَهَا مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَاتَّخِذُوا مَكَانَهَا مَسْجِدًا) ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَلَدُ بَعِيدٌ، وَالْمَاءُ يُنْشَفُ، قَالَ: (فَأَمِدُّوهُ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا طِيبًا) ، فَخَرَجْنَا فَتَشَاحَحْنَا عَلَى حَمْلِ الْإِدَاوَةِ أَيُّنَا يَحْمِلُهَا، فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَخَرَجْنَا بِهَا حَتَّى قَدِمْنَا بَلَدَنَا، فَعَمِلْنَا الَّذِي أَمَرَنَا، وَرَاهِبُ ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنْ طَيِّئٍ، فَنَادَيْنَا بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ الرَّاهِبُ: دَعْوَةُ حَقٍّ ثُمَّ هَرَبَ، فَلَمْ يُرَ بَعْدُ» ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ.

717 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ يُنَظَّفَ وَيَطَيَّبَ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 717 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَ) ، أَيْ: أَذِنَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فِي الدُّورِ) : جَمْعُ دَارٍ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْبِنَاءِ وَالْعَرْصَةِ وَالْمَحَلَّةِ، وَالْمُرَادُ الْمَحَلَّاتِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْمَحَلَّةَ الَّتِي اجْتَمَعَتْ فِيهَا قَبِيلَةٌ دَارًا، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى اتِّخَاذِ بَيْتٍ فِي الدَّارِ لِلصَّلَاةِ، كَالْمَسْجِدِ يُصَلِّي فِيهِ أَهْلُ الْبَيْتِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ ذَكَرَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْمَحَلَّاتُ وَالْقَبَائِلُ، وَحِكْمَةُ أَمْرِهِ لِأَهْلِ كُلِّ مَحَلَّةٍ بِبِنَاءِ مَسْجِدٍ فِيهَا أَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَشُقُّ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةٍ الذَّهَابُ لِلْأُخْرَى، فَيُحْرَمُونَ أَجْرَ الْمَسْجِدِ وَفَضْلَ إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، فَأُمِرُوا بِذَلِكَ لِيَتَيَسَّرَ لِأَهْلِ كُلِّ مَحَلَّةِ الْعِبَادَةُ فِي مَسْجِدِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُمْ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: قَالَ عَطَاءٌ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى

عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَمْصَارَ، أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ لَا يَبْنُوا مَسْجِدَيْنِ يُضَارُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَمِنَ الْمَضَارَّةِ فِعْلُ تَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَسْجِدٌ يَسَعُهُمْ، فَإِنْ ضَاقَ سُنَّ تَوْسِعَتُهُ أَوِ اتِّخَاذُ مَسْجِدٍ يَسَعُهُمْ (وَأَنْ يُنَظَّفَ) ، بِإِزَالَةِ النَّتْنِ وَالْعَذِرَاتِ وَالتُّرَابِ (وَيُطَيَّبَ) ، بِالرَّشِّ أَوِ الْعِطْرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ وَأَمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْضًا بِشَيْءٍ آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ، وَيَتَعَيَّنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يُطَيَّبَ وَيُنَظَّفَ اهـ. وَتَقْدِيمُ " يُطَيَّبَ " لَيْسَ بِطَيِّبٍ، لِمُخَالَفَتِهِ الرِّوَايَةَ وَالدِّرَايَةَ الْمُوَافَقَةَ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) ، قَالَ مِيرَكُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَجْمِيرُ الْمَسْجِدِ بِالْبَخُورِ خِلَافًا لِمَالِكٍ حَيْثُ كَرِهَهُ، فَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُجَمِّرُ الْمَسْجِدَ إِذَا قَعَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ السَّلَفِ تَخْلِيقَ الْمَسْجِدِ بِالزَّعْفَرَانِ وَالطِّيبِ، وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِعْلَهُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ سُنَّةٌ، وَأَخَرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ طَلَى حِيطَانَهَا بِالْمِسْكِ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَيْضًا كَنْسُ الْمَسْجِدِ وَتَنْظِيفُهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَانَ يَتَتَبَّعُ غُبَارَ الْمَسْجِدِ بِجَرِيدَةٍ» .

718 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا أَمَرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ» ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 718 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَمَرْتُ) ، مَا: نَافِيَةٌ (بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ) ، أَيْ: بِرَفْعِهَا وَإِعْلَاءِ بِنَائِهَا أَوْ تَجْصِيصِهَا ; لِأَنَّهُمَا زَائِدَانِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) : وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ (لَتُزَخْرِفُنَّهَا) : بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهِيَ لَامُ الْقَسَمِ، وَبِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَهِيَ نُونُ التَّأْكِيدِ، وَالزَّخْرَفَةُ: الزِّينَةُ وَأَصْلُ الزُّخْرُفِ الذَّهَبُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ، وَشَرَحَهُ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي لِتُزَخْرِفُنَّهَا لَامُ التَّعْلِيلِ لِلنَّفْيِ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: مَا أَمَرْتُ بِالتَّشْيِيدِ لِيُجْعَلَ ذَرِيعَةً إِلَى الزَّخْرَفَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ فَتْحُ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا جَوَابُ الْقَسَمِ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْأَوَّلُ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ الرِّوَايَةُ أَصْلًا، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ مَفْصُولٌ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ، (كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) : وَهَذَا بِدْعَةٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفِيهِ مُرَافَقَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي النِّهَايَةِ: الزُّخْرُفُ النُّقُوشُ وَالتَّصَاوِيرُ بِالذَّهَبِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى تُزَخْرِفُ الْمَسَاجِدَ عِنْدَمَا حَرَّفُوا أَمْرَ دِينِهِمْ، وَأَنْتُمْ تَصِيرُونَ إِلَى مِثْلِ حَالِهِمْ فِي الْمَرْآةِ بِالْمَسَاجِدِ وَتَزْيِينِهَا، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ بِالْجَرِيدِ وَعُمُدُهُ خَشَبَ النَّخْلِ، زَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ: فَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ وَعُمُدَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَبِالْجَصِّ وَالنَّوْرَةِ وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَعَلَّقَ أَوَّلَهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ: «ابْنُوا الْمَسَاجِدَ وَاتَّخِذُوهَا جُمًّا» ، وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ: الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ شُرَفٌ بِضَمٍّ فَفَتَحٍ جَمْعُ شُرْفَةٍ كَغُرْفَةٍ، وَخَبَرُ ابْنِ عُمَرَ: «نَهَانَا أَوْ نُهِينَا أَنْ نُصَلِّيَ فِي مَسْجِدٍ مُشْرِفٍ» ، وَخَبَرُ أَبِي نُعَيْمٍ «إِذَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ» ، وَخَبَرُ أَنَسٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» ، وَخَبَرُ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، وَمَرَّ ابْنُ مَسْعُودٍ بِمَسْجِدٍ مُزَخْرَفٍ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا.

719 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 719 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) : جَمْعِ شَرَطٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ، قُدِّمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَزِيَادَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى فَاعِلِهِ لَا لِلتَّخْصِيصِ وَلَا لِلْحَصْرِ، أَيْ: مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ (أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ) ، أَيْ: فِي شَأْنِهَا أَوْ بِنَائِهَا يَعْنِي: يَتَفَاخَرُ كُلُّ أَحَدٍ بِمَسْجِدِهِ وَيَقُولُ: مَسْجِدِي أَرْفَعُ أَوْ أَزْيَنُ أَوْ أَوْسَعُ أَوْ أَحْسَنُ ; رِيَاءً وَسُمْعَةً وَاجْتِلَابًا لِلْمِدْحَةِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

720 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ آيَةٍ أُوتِيهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا» ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دُوَادَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 720 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ ; عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عُرِضَتْ عَلِيَّ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ (أُجُورُ أُمَّتِي) ، أَيْ: ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ (حَتَّى الْقَذَاةُ) ، بِالرَّفْعِ أَوِ الْجَرِّ وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَذَاةُ هِيَ مَا يَقَعُ فِي الْعَيْنِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ تِبْنٍ أَوْ وَسَخٍ، وَلَا بُدَّ فِي الْكَلَامِ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: أُجُورُ أَعْمَالِ أُمَّتِي، وَأَجْرُ الْقَذَاةِ، أَيْ: أَجْرُ إِخْرَاجِ الْقَذَاةِ إِمَّا بِالْجَرِّ، وَحَتَّى بِمَعْنَى (إِلَى) ، وَالتَّقْدِيرُ إِلَى إِخْرَاجِ الْقَذَاةِ وَعَلَى هَذَا (يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيَانِ، وَإِمَّا بِالرَّفْعِ عَمَّا عَلَى أُجُورٍ، فَالْقَذَاةُ مُبْتَدَأٌ أَوْ يُخْرِجُهَا خَبَرُهُ (وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا) ، أَيْ: يَتَرَتَّبُ عَلَى نِسْيَانٍ (أَعْظَمُ مِنْ سُورَةٍ) ، مِنْ ذَنْبِ نِسْيَانِ سُورَةٍ كَائِنَةٍ (مِنَ الْقُرْآنِ) ، فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا مُنَافٍ لِمَا مَرَّ فِي بَابِ الْكَبَائِرِ، قُلْتُ: إِنْ سُلِّمَ أَنَّ أَعْظَمَ وَأَكْبَرَ مُتَرَادِفَانِ، فَالْوَعِيدُ عَلَى النِّسْيَانِ لِأَجْلِ أَنْ مَدَارَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، فَنِسْيَانُهُ كَالسَّعْيِ فِي الْإِخْلَالِ بِهَا، فَإِنْ قُلْتَ: النِّسْيَانُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، قُلْتُ: الْمُرَادُ تَرَكُهَا عَمْدًا إِلَى أَنْ يُفْضِيَ إِلَى النِّسْيَانِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَعْظَمُ مِنَ الذُّنُوبِ الصِّغَائِرِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ عَنِ اسْتِخْفَافٍ وَقِلَّةِ تَعْظِيمٍ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ، (أَوْ آيَةٍ أُوتِيهَا) ، أَيْ: تَعَلَّمَهَا (رَجُلٌ) ، وَفِي نُسْخَةِ الرَّجُلِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ (ثُمَّ نَسِيَهَا) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: شَطْرُ الْحَدِيثِ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126] يَعْنِي عَلَى قَوْلٍ فِي الْآيَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُشْرِكِ، وَالنِّسْيَانُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا قَالَ: أُوتِيهَا دُونَ حَفِظَهَا إِشْعَارًا بِأَنَّهَا كَانَتْ نِعْمَةً جَسِيمَةً أَوْلَاهَا اللَّهُ لِيَشْكُرَهَا، فَلَمَّا نَسِيَهَا فَقَدْ كَفَرَ تِلْكَ النِّعْمَةَ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى كَانَ أَعْظَمَ جُرْمًا، وَإِنْ لَمْ يُعَدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: قَوْلُ الشَّارِحِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ مِنَ الْكَبَائِرِ عَجِيبٌ، مَعَ تَصْرِيحِ أَئِمَّتِنَا بِأَنَّ نِسْيَانَ شَيْءٍ مِنْهُ وَلَوْ حَرْفًا بِلَا عُذْرٍ كَمَرَضٍ وَغَيْبَةِ عَقْلٍ كَبِيرَةٌ اهـ. وَالنِّسْيَانُ عِنْدَنَا أَنْ لَا يَقْدِرَ أَنْ يَقْرَأَ بِالنَّظَرِ، كَذَا فِي شَرْحِ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَلَمَّا عُدَّ إِخْرَاجُ الْقَذَاةِ الَّتِي لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِنَ الْجُحُورِ تَعْظِيمًا لِبَيْتِ اللَّهِ، عُدَّ أَيْضًا النِّسْيَانُ مِنْ أَعْظَمِ الْجُرْمِ ; تَعْظِيمًا لِكَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَكَأَنَ فَاعِلَ ذَلِكَ عَدَّ الْحَقِيرَ عَظِيمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَظِيمِ، فَأَزَالَهُ عَنْهُ، وَصَاحِبُ هَذَا عَدَّ الْعَظِيمَ حَقِيرًا فَأَزَالَهُ عَنْ قَلْبِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَقَالَ: غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ، (وَأَبُو دَاوُدَ) ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ» .

721 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 721 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ) : جَمْعَ الْمَشَّاءِ، وَهُوَ كَثِيرُ الْمَشْيِ (فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ) ، قِيلَ: لَوْ مَشَى فِي الظَّلَامِ بِضَوْءٍ لِدَفْعِ آفَاتِ الظَّلَامِ، فَالْجَزَاءُ بِحَالِهِ وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، (بِالنُّورِ) : مُتَعَلِّقٌ بِبَشِّرِ (التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي وَصْفِ النُّورِ بِالتَّامِّ وَتَقْيِيدِهِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ تَلْمِيحٌ إِلَى وَجْهِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] وَإِلَى وَجْهِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] اهـ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا طُفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] الْآيَةَ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ، (وَأَبُو دَاوُدَ) .

722 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَنَسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 722 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَنَسٍ) : قَالَ الْمُنْذِرُ: رِجَالُ إِسْنَادِ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِهِ: مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَيُضِيءُ لِلَّذِينِ يَتَحَلَّلُونَ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بِنُورٍ سَاطِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «مَنْ مَشَى فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِنُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَلَفْظُهُ: ( «مَنْ مَشَى فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ أَتَاهُ اللَّهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «بِشِّرِ الْمُدْلِجِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ» ) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْهُ: ( «لِيُبَشَّرَ الْمَشَّاءُونَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَهُ مِيرَكُ.

723 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] » ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 723 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ» ) ، أَيْ: يَخْدِمُهُ وَيُعَمِّرُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّرَدُّدُ إِلَيْهِ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَجَمَاعَتِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّعَهُّدُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ عِمَارَتُهُ صُورَةً وَمَعْنًى (فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ) ، أَيْ: بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ قَوْلُهُ: فَاشْهَدُوا لَهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِيهِ إِنْكَارُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قَوْلَهَا فِي طِفْلِ أَنْصَارِيٍّ مَاتَ: طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بِحَمْلِ مَا هُنَا عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالْإِيمَانِ ظَنًّا، وَمَا فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَطَعَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعَهُّدُ وَالتَّعَاهُدُ الْحِفْظُ بِالشَّيْءِ، وَفِي التَّعَاهُدِ الْمُبَالَغَةُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا أُخْرِجَ عَلَى زِنَةِ الْمُبَالَغَةِ دَلَّ عَلَى قُوَّتِهِ كَمَا فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَهِيَ رِوَايَةٌ لِلتِّرْمِذِيَ: يَعْتَادُ بَدَلَ يَتَعَاهَدُ، وَهُوَ أَقْوَى سَنَدًا وَأَوْفَقُ مَعْنًى لِشُمُولِهِ جَمِيعَ مَا يُنَاطُ بِهِ الْمَسْجِدُ مِنَ الْعِمَارَةِ، وَاعْتِيَادِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا أَشْهَدَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: فَاشْهَدُوا لَهُ، أَيِ: اقْطَعُوا لَهُ الْقَوْلَ بِالْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَوْلٌ صَدَرَ عَنْ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَلِ التَّعَهُّدُ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مَعَ شُمُولِهِ لِذَلِكَ يَشْمَلُ تَعَهُّدَ مَا بِالْحِفْظِ وَالْعِمَارَةِ وَالْكَنْسِ وَالتَّطَيُّبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِشْهَادُهُ عَلَيْهِ

السَّلَامُ بِالْآيَةِ الْآتِيَةِ (فَإِنَّ اللَّهَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 18] ، أَيْ: بِإِنْشَائِهَا أَوْ تَرْمِيمِهَا أَوْ إِحْيَائِهَا بِالْعِبَادَةِ وَالدُّرُوسِ {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 62] ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: عِمَارَتُهَا كَنْسُهَا وَتَنْظِيفُهَا وَتَنْوِيرُهَا بِالْمَصَابِيحِ، وَتَعْظِيمُهَا وَاعْتِيَادُهَا لِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ، وَصِيَانَتُهَا عَمَّا لَمْ تُبْنَ لَهُ الْمَسَاجِدُ مِنْ حَدِيثِ الدُّنْيَا، فَضْلًا عَنْ فُضُولِ الْحَدِيثِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: فِي إِسْنَادِهِ دَرَّاجٌ، وَهُوَ كَثِيرُ الْمَنَاكِيرِ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ.

724 - «وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَئْذَنُ لَنَا فِي الِاخْتِصَاءِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى وَلَا اخْتَصَى، إِنَّ خِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيَامُ) ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَنَا فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ: (إِنْ سِيَاحَةَ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَنَا فِي التَّرَهُّبِ، فَقَالَ: (إِنَّ تَرَهُّبَ أُمَّتَيَ الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ» ، رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 724 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ) : وَهُوَ أَخٌ رِضَاعِيٌّ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (قَالَ) : حِينَ أَرْسَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ لِيَسْتَأْذِنَ لَهُمْ فِي الِاخْتِصَاءِ ; لِأَنَّهُمْ يَشْتَهُونَ النِّسَاءَ وَلَا طُولَ لَهُمْ بِذَلِكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لَنَا فِي الِاخْتِصَاءِ) ، أَيْ: سَلِّ الْخُصْيَتَيْنِ لِتَزُولَ عَنَّا شَهْوَةُ النِّسَاءِ، إِذْ مِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا تُقْطَعُ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ وَتَجْلِبُ كُلَّ مِحْنَةٍ وَضَيْرٍ، وَلِذَا قِيلَ: ضَاعَ الْعِلْمُ فِي أَفْخَاذِ النِّسَاءِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (لَيْسَ مِنَّا) ، أَيْ: مِمَّنْ يَقْتَدِي بِسُنَّتِنَا وَيَهْتَدِي بِطَرِيقَتِنَا (مَنْ خَصَى) : بِفَتْحِ الصَّادِ، أَيْ: سَلَّ خُصْيَةَ غَيْرِهِ وَأَخْرَجَهَا (وَلَا اخْتَصَى) ، أَيْ: بِنَفْسِهِ بِحَذْفِ " مَنْ " لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ يَعْنِي: وَلَا مَنْ سَلَّ خُصْيَةَ نَفْسِهِ، قِيلَ: وَاحْتِيجَ لِتَقْدِيرِ " مَنْ " لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ لَا الْمُؤَكِّدَةَ لِلنَّفْيِ تَنْفِي ذَلِكَ الْوَهْمَ وَفِيهِ نَظَرٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ حَرَامٌ وَفِي مَعْنَاهُ إِطْعَامُ دَوَاءٍ لِغَيْرِهِ أَوْ أَكْلُهُ إِنْ كَانَ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ وَالنَّسْلَ دَائِمًا، وَكَذَا نَادِرًا إِنْ أَطْعَمَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ( «إِنَّ خِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيَامُ» ) : فَإِنَّهُ يَكْسِرُ الشَّهْوَةَ وَضَرَرَهَا كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (، أَيْ: قَاطِعٌ لِلشَّهْوَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ النَّفْسِ مِنَ التَّعْذِيبِ وَقَطْعِ النَّسْلِ، وَمِنْ حُصُولِ الثَّوَابِ بِالصِّيَامِ الْمُقْتَضِي لِرِيَاضَةِ النَّفْسِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى طَاعَتِهَا لِأَمْرِ مَوْلَاهَا، (فَقَالَ) : أَيْ: عُثْمَانُ (ائْذَنْ لَنَا فِي السِّيَاحَةِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: السِّيَاحَةُ مُفَارَقَةُ الْأَمْصَارِ، وَالذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ كَفِعْلِ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ اهـ، فَلَا يُنَافِي سِيَاحَةَ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ لِرُؤْيَةِ الْمَشَايِخِ وَتَحْصِيلِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَلِحُصُولِ الْخُمُولِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَرْضِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ، (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ ( «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ) : وَهُوَ أَفْضَلُ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ وَنَفْعُهُ مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْجِهَادَ الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ (قَالَ ائْذَنْ لَنَا فِي التَّرَهُّبِ) ، أَيْ: فِي التَّعَبُّدِ وَإِرَادَةِ الْعُزْلَةِ وَالْفِرَارِ مِنَ النَّاسِ إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ كَالرُّهْبَانِ، وَأَصْلُ التَّرَهُّبِ مِنَ الرَّهْبِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ كَانُوا يَتَرَهَّبُونَ بِالتَّخَلِّي مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَى نَفْسَهُ ; وَوَضَعَ السِّلْسِةَ فِي عُنُقِهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، (فَقَالَ: «إِنَّ تَرَهُّبَ أُمَّتَيِ الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ» ) بِالْإِضَافَةِ وَنَصْبُهُ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ لِلْجُلُوسِ) ، أَيْ: لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْجُلُوسَ فِي الْمَسْجِدِ يَتَضَمَّنُ فَوَائِدَ التَّرَهُّبِ مَعَ زِيَادَةِ الْفَضَائِلِ، (رَوَاهُ) ، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : بِسَنَدِهِ الْمُتَّصِلِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ الصَّحَابِيِّ، «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لَنَا فِي الِاخْتِصَاءِ» ، وَسَاقَهُ بِسَنَدٍ فِيهِ مُقَالٌ، قَالَهُ مِيرَكُ.

725 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (رَأَيْتُ رَبِّيَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ; قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ) ، قَالَ: فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفِيَّ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَتَلَا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] » رَوَاهُ الدِّرَامِيُّ مُرْسَلًا، وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 725 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ، وَفِي التَّقْرِيبِ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ الْحَضْرَمِيِّ، يُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ وَيَعْنِي بِهِ أَنَّ أَصْلَهُ يَاءٌ، وَفِي الْمُشْتَبِهِ لِلذَّهَبِيِّ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، لَهُ حَدِيثٌ فِي الرُّؤْيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَابِسٌ بِعَيْنٍ مُهْمِلَةٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ كَذَا فِي الْمُغْنِي: قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَرْوِيهِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ، عَنْ مُعَاذٍ، ( «قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (رَأَيْتُ رَبِّيَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ» ) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: «احْتُبِسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْغَدْوَةِ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَطَلُعُ، فَلَمَّا صَلَّى الْغَدْوَةَ قَالَ: (إِنِّي صَلَّيْتُ اللَّيْلَةَ مَا قَضَى رَبِّي وَوَضَعْتُ جَنَبِيَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ» ) ، وَعَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِشْكَالٌ إِذِ الرَّائِي قَدْ يَرَى غَيْرَ الْمُتَشَكِّلِ مُتَشَكِّلًا، وَالْمُتَشَكِّلَ بِغَيْرِ شَكْلِهِ، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ بِخَلَلٍ فِي الرُّؤْيَا وَلَا فِي خُلْدِ الرَّائِي، بَلْ لَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْمَنَامِ، أَيِ: التَّعْبِيرِ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْأَسْبَابُ لَمَا افْتَقَرَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَى تَعْبِيرٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ فِيهِ: ( «فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ» ) ، الْحَدِيثَ، فَذَهَبَ السَّلَفُ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا صَحَّ أَنْ يُؤْمَنَ بِظَاهِرِهِ، وَلَا يُفَسَّرَ بِمَا يُفَسَّرُ بِهِ صِفَاتُ الْخَلْقِ، بَلْ يُنْفَى عَنْهُ الْكَيْفِيَّةُ وَيُوكَلُ عِلْمُ بَاطِنِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يُرِي رَسُولَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ وَرَاءِ أَسْتَارِ الْغَيْبِ مِمَّا لَا سَبِيلَ لِعُقُولِنَا إِلَى إِدْرَاكِهِ، لَكِنَّ تَرْكَ التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَظِنَّةَ الْفِتْنَةِ فِي عَقَائِدِ النَّاسِ لِفُشُوِّ اعْتِقَادَاتِ الضَّلَالِ، وَإِنْ تَأَوَّلَ بِمَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِمَالِ لَا الْقَطْعِ حَتَّى لَا يُحْمَلَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا فَلَهُ وَجْهٌ، فَقَوْلُهُ: فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: رَأَيْتُ رَبِّيَ حَالَ كَوْنِي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَصْفَةٍ مِنْ غَايَةِ إِنْعَامِهِ وَلُطْفِهِ عَلَيَّ، أَوْ حَالَ كَوْنِ الرَّبِّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَصُورَةُ الشَّيْءِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَيْنَ ذَاتِهِ أَوْ جُزْئِهِ الْمُمَيِّزِ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ صِفَتِهِ الْمُمَيَّزَةِ، وَكَمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ فِي الْجُثَّةِ يُطْلَقْ فِي الْمَعَانِي يُقَالُ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ كَذَا، وَصُورَةُ الْحَالِ كَذَا، فَصُورَتُهُ تَعَالَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - ذَاتُهُ الْمَخْصُوصَةُ الْمُنَزَّهَةُ عَنْ مُمَاثَلَةِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْبَالِغَةِ إِلَى أَقْصَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ، أَوْ صِفَتُهُ الْمَخْصُوصَةُ بِهِ، أَيْ: كَانَ رَبِّي أَحْسَنَ إِكْرَامًا وَلُطْفًا مِنْ وَقْتٍ آخَرَ كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ وَالتُّورِبِشْتِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ: حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ تَصْحِيفٌ فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنَّفُ حَتَّى اسْتَثْقَلْتُ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ أَصَحُّ مِنْ هَذِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى رَأَيْتُ: عَلِمْتُهُ وَعَرَفْتُهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الشَّيْخَ عَطِيَّةَ السُّلَمِيَّ نَاقِلًا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تَجَلِّيَاتٍ صُورِيَّةً مَعَ تَنَزُّهِ ذَاتِهِ الْأَحَدِيَّةِ عَنِ الْمِثْلِيَّةِ، وَكَذَا يَنْدَفِعُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ) ، أَيْ: رَبِّي (فِيمَ) ، أَيْ: فِي أَيِّ شَيْءٍ (يَخْتَصِمُ) ، أَيْ: يَبْحَثُ (الْمَلَأُ) ، أَيِ: الْأَشْرَافُ الَّذِينَ يَمْلَئُونَ الْمَجَالِسَ وَالصُّدُورَ عَظَمَةً وَإِجْلَالَ (الْأَعْلَى؟) : يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ، وُصِفُوا بِذَلِكَ إِمَّا لِعُلُوِّ مَكَانِهِمْ وَإِمَّا لِعُلُوِّ مَكَانَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِصَامِهِمْ، عِبَارَةٌ عَنْ تُبَادُرِهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَالصُّعُودِ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَإِمَّا عَنْ تُقَاوُلِهِمْ فِي فَضْلِهَا وَشَرَفِهَا، وَإِمَّا عَنِ اغْتِبَاطِهِمُ النَّاسَ بِتِلْكَ الْفَضَائِلِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا وَشَبَّهَ تَقَاوُلَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِمَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ؛ إِيمَاءً إِلَى أَنْ {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] وَفِي الْمَصَابِيحِ زِيَادَةُ - يَا مُحَمَّدُ - وَهُوَ زِيَادَةُ شَرَفٍ (قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ) ، أَيْ: بِمَا ذُكِرَ وَغَيْرِهِ، وَزَادَ فِي الْمَصَابِيحِ: أَيْ رَبِّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا نَادَى بِـ (أَيْ) ، دُونَ (يَا) ، أَدَبًا ; لِأَنَّ (يَا) ، يُنَادَى بِهِ الْعَبِيدُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ النِّدَاءِ بِـ (يَا) : فِي الدَّعَوَاتِ فَلِهَضْمِ النَّفْسِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ عَنْ مَظَانِّ الْإِجَابَةِ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ الدُّعَاءِ، ثُمَّ فِي الْمَصَابِيحِ زِيَادَةُ - مَرَّتَيْنِ - قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فِيمَ يَخْتَصِمُ ; أَيْ جَرَى السُّؤَالُ مِنْ رَبِّهِ مَرَّتَيْنِ، وَالْجَوَابُ مِنْ مَرَّتَيْنِ (قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَوَضَعَ) ، أَيْ: رَبُّهُ (كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفِيَّ) : بِتَشْدِيدِ

الْيَاءِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَخْصِيصِهِ إِيَّاهُ بِمَزِيدِ الْفَضْلِ عَلَيْهِ وَإِيصَالِ الْفَيْضِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُتَلَطِّفِ بِمَنْ يَحْنُو عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ تَكْرِيمَهُ وَتَأْيِيدَهُ، (فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا) ، أَيْ: رَاحَةَ الْكَفِّ يَعْنِي: رَاحَةَ لُطْفِهِ (بَيْنَ ثَدْيَيَّ) : بِالتَّثْنِيَةِ، أَيْ: قَلْبِي أَوْ صَدْرِي، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ وُصُولِ ذَلِكَ الْفَيْضِ إِلَى قَلْبِهِ وَنُزُولِ الرَّحْمَةِ، وَانْصِبَابِ الْعُلُومِ عَلَيْهِ وَتَأَثُّرِهِ عَنْهُ، وَرُسُوخِهِ، فِيهِ وَإِتْقَانِهِ لَهُ يُقَالُ: ثَلَجَ صَدْرُهُ وَأَصَابَهُ بَرَدُ الْيَقِينِ لِمَنْ تَيَقَّنَ الشَّيْءَ وَتَحَقَّقَهُ (فَعَلِمْتُ) ، أَيْ: بِسَبَبِ وُصُولِ ذَلِكَ الْفَيْضِ (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) : يَعْنِي: مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا فِيهِمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ سَعَةِ عِلْمِهِ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ بَلْ وَمَا فَوْقَهَا، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ، " وَالْأَرْضِ " هِيَ بِمَعْنَى الْجِنْسِ، أَيْ: وَجَمِيعَ مَا فِي الْأَرَضِينَ السَّبْعِ، بَلْ وَمَا تَحْتَهَا، كَمَا أَفَادَهُ إِخْبَارُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنِ الثَّوْرِ وَالْحُوتِ اللَّذَيْنِ عَلَيْهِمَا الْأَرَضُونَ كُلُّهَا اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاوَاتِ الْجِهَةُ الْعُلْيَا، وَبِالْأَرْضِ الْجِهَةُ السُّفْلَى، فَيَشْمَلُ الْجَمِيعَ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّقْيِيدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِذْ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْجَمِيعِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، (وَتَلَا) : قِيلَ: التَّالِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (وَكَذَلِكَ) ، أَيْ: كَمَا نُرِيَكَ يَا مُحَمَّدُ أَحْكَامَ الدِّينِ وَعَجَائِبَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ نُرِي إِبْرَاهِيمَ: مُضَارِعٌ فِي اللَّفْظِ، وَعَنَاهُ الْمَاضِي، وَالْعُدُولُ لِإِرَادَةِ حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ اسْتِعْجَابًا وَاسْتِغْرَابًا، أَيْ: أَرَيْنَا إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: وَهُوَ فَعَلُوتَ مِنَ الْمُلْكِ وَهُوَ أَعْظَمُهُ، وَهُوَ عَالَمُ الْمَعْقُولَاتِ، أَيِ: الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ وَوَفَّقْنَاهُ لِمَعْرِفَتِهِمَا، وَقِيلَ التَّالِي هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الطِّيبِيِّ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِالْآيَةِ يَعْنِي: كَمَا أَنَّ اللَّهَ أَرَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكَشَفَ لَهُ ذَلِكَ فَتَحَ عَلِيَّ أَبْوَابَ الْغَيْبِ، قِيلَ: الْخَلِيلُ رَأَى الْمَلَكُوتَ أَوَّلًا، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ الْإِيقَانُ بِوُجُودِ مَنْشَئِهَا، وَالْحَبِيبُ رَأَى الْمُنْشِئَ ابْتِدَاءً ثُمَّ عَلِمَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَائِنٌ لِأَنَّهُ شَتَّانَ بَيْنَ مَنْ يُنْقَلُ مِنَ الْمُؤَثِّرِ إِلَى الْأَثَرِ وَعَكْسِهِ وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّهَ بَعْدَهُ عَارَضَهُ عَارِفٌ آخَرُ، بِمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّهَ قَبْلَهُ، {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] : عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) : مُرْسَلًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ، قَالَ مِيرَكُ: بَلْ مُعْضَلًا، فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ مِنْهُ، بَلْ رَوَاهُ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَهُوَ إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَيْسَ لَهُ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، (وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ) ، أَيْ: نَحْوُ هَذَا اللَّفْظِ، أَيْ: مَعْنَاهُ (عَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

726 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَزَادَ فِيهِ: (قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ! هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فِي الْكَفَّارَاتِ) ، وَالْكَفَّارَاتُ: الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَالْمَشْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِبْلَاغِ الْوَضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ، وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ) ، قَالَ: وَالدَّرَجَاتُ: إِفْشَاءُ السَّلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ، وَلَفْظُ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ لَمْ أَجِدْهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَّا فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 726 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : عُطِفَ عَلَى عَنْهُ (وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَزَادَ) ، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (فِيهِ) ، أَيْ: فِي نَحْوِهِ مِنَ الْحَدِيثِ (قَالَ) ، أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى سَائِلًا مَرَّةً أُخْرَى، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (يَا مُحَمَّدُ! هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: بِتَأْخِيرِ يَا مُحَمَّدُ (قُلْتُ: نَعَمْ، فِي الْكَفَّارَاتِ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: بِدُونِ نَعَمِ، الرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدُ بِهَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قُلْتُ: فِي الدَّرَجَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَسُمِّيَتِ الْخِصَالُ الْمَذْكُورَةُ كَفَارَّاتٍ ; لِأَنَّهَا تُكَفِّرُ مَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ (وَالْكَفَّارَاتِ) ، أَيِ: الَّتِي يَخْتَصِمُ فِيهِ الْمَلَأُ الْأَعْلَى مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ (الْمُكْثُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمُكْثُ مُثَلَّثًا وَيُحَرَّكُ، أَيِ: اللُّبْثُ (فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ) ، أَيْ: بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ انْتِظَارًا لِصَلَاةٍ أُخْرَى، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الِاعْتِكَافُ، أَوْ مُطْلَقُ التَّوَقُّفِ لِلِاعْتِزَالِ عَنِ الْخَلْقِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْحَقِّ (وَالْمَشْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ) : أَيْ تَوَاضُعًا (إِلَى الْجَمَاعَاتِ) ، أَيْ: وَلَوْ إِلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ (وَإِبْلَاغِ الْوَضُوءِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتُضَمُّ (فِي الْمَكَارِهِ) ، أَيْ: فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَفْظُ الْمَصَابِيحِ قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتِفْهَامٌ عَنْ تِلْكَ الْكَفَّارَاتِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِظْهَارُ عِلْمِهِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَأَنْ يُخْبِرَ بِهَا أُمَّتَهُ لِتَفْعَلَهَا. قُلْتُ: الْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَإِبْلَاغُ الْوُضُوءِ أَمَاكِنَهُ - جَمْعَ مَكَانٍ - وَالْوَضُوءُ - بِفَتْحِ الْوَاوِ - أَيْ: إِيصَالُ مَاءِ الْوُضُوءِ - بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ - مَوَاضِعَ الْفُرُوضِ وَالسُّنَنِ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِالذِّكْرِ حَثًّا عَلَى فِعْلِهَا لِأَنَّهَا دَائِمَةٌ فَكَانَتْ مَظِنَّةَ أَنْ تُمَلَّ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، (وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ، وَمَاتَ بِخَيْرٍ) : كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وَفُسِّرَتِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِحَلَاوَةِ الطَّاعَةِ وَتَوْفِيقِ الْعِبَادَةِ، وَفَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِالرِّزْقِ الْحَلَّالِ، وَفُسِّرَتْ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا بِالْقِسْمَةِ الْمُقَدَّرَةِ، وَهُوَ نِهَايَةُ النِّعْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَمَعْنَى إِجْزَاءِ الْأَجْرِ بِأَحْسَنِ الْعَمَلِ أَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ الْمَفْضُولَةِ بِمَنْزِلَةِ عَمَلِهِ الْفَاضِلِ، وَهُوَ غَايَةُ النِّعْمَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَمُقَدِّمَتُهَا الْمَوْتُ بِخَيْرٍ يَعْنِي: عَلَى الْإِسْلَامِ وَالتُّرْبَةِ وَحَالَةِ الْبِشَارَةِ بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَالْجَنَّةِ، (وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ) : وَلَفَظُ الْمَصَابِيحِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَعِشْ بِخَيْرٍ وَيَمُتْ بِخَيْرٍ، وَيَكُونُ مِنْ خَطِيئَتِهِ إِلَخْ، (كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ) : مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَاضِي، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمُضَارِعِ اخْتُلِفَ فِي بِنَائِهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَمِثَالُ الْمُضَارِعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] فَقَرَأَ نَافِعٌ بِالْفَتْحِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ كَانَ مُبَرَّأً كَمَا كَانَ مُبَرَّأً يَوْمَ وَلَدَتْهُ، (أُمُّهُ) ، أَيْ: وَلَدَتْهُ فِيهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَكَانَ خَارِجًا كَخُرُوجِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِهِ لِلْمُقَابَلَةِ لِاسْتِحَالَةِ حَقِيقَتِهِ هُنَا، إِذِ الْمَوْلُودُ لَا ذُنُوبَ لَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا، وَمِنْ ثَمَّ عَبَّرَ الشَّارِحُ بِمُبَرَّأٍ، وَآثَرْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبَّرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ( «مِنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ) ، أَيْ: بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ تَقْدِيرُهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ وَتَرْكُهُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، وَغَيْرُهُ: يَعْنِي مِنَ الصَّغَائِرِ (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ بَعْدَ صَلَاتِكَ كَمَا أَفَادَهُ النَّظْمُ اهـ، وَالنَّظْمُ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ فِي آخِرِ صَلَاتِكَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْخَيْرَاتِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: (فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا، وَقِيلَ الْأَوَّلُ اسْمٌ وَالثَّانِي مَصْدَرٌ، وَالْخَيْرَاتُ: مَا عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ، وَالْأَفْعَالِ السَّعِيدَةِ (وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ) : لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَمَا قَبْلَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى

الْمَفْعُولِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِدُخُولِهِ فِي الْخَيْرَاتِ الَّتِي قُوبِلَتْ بِالْمُنْكَرَاتِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْفَرْدِ مِنْهُ كَمَا خَصَّ الْفِتْنَةَ فِي جَانِبِ الْمُنْكَرَاتِ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً) ، أَيْ: ضَلَالَةً أَوْ عُقُوبَةً دُنْيَوِيَّةً (فَاقْبِضْنِي) : بِكَسْرِ الْبَاءِ، أَيْ: تَوَفَّنِي (إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ) ، أَيْ: غَيْرَ ضَالٍّ أَوْ غَيْرَ مُعَاقَبٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُضِلَّهُمْ فَقَدِّرْ مَوْتِيَ غَيْرَ مَفْتُونٍ (قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ (وَالدَّرَجَاتُ) : مُبْتَدَأٌ، أَيْ: مَا تُرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتُ هُوَ (إِفْشَاءُ السَّلَامِ) ، أَيْ: بَذْلُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ (وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ) ، أَيْ: إِعْطَاؤُهُ لِلْأَنَامِ مِنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ (وَالصَّلَاةُ ; بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ) : وَلَفَظُ الْمَصَابِيحِ: وَمِنَ الدَّرَجَاتِ - أَيْ مِمَّا يَرْفَعُهَا وَيُوَصِّلُ إِلَيْهَا، فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ - إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَبَذْلُ السَّلَامِ وَأَنْ يُقَامَ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا عُدَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْهَا لِأَنَّهَا فَضْلٌ مِنْهُ عَلَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقَّ بِهَا فَضْلًا وَهُوَ عُلُوُّ الدَّرَجَاتِ، قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ، أَيِ: الْأَقْوَالَ وَالْأَحْوَالَ الصَّالِحَةَ، وَفِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَتُوبَ عَلَيَّ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فِي يَوْمٍ فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ، (وَلَفْظُ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ) : كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ (لَمْ أَجِدْهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَّا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

727 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ: رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيَدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 727 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْهُ: (ثَلَاثَةٌ) ، أَيْ: أَشْخَاصٍ (كُلُّهُمْ) ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَالْأَفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْكُلِّ (ضَامِنٌ) ، أَيْ: ذُو ضَمَانٍ، أَيْ: حِفْظٍ وَرِعَايَةٍ [كَلَابِنٍ وَعَامِرٍ] (عَلَى اللَّهِ) : أَوْ مَضْمُونٌ كَمَا يُقَالُ: هُوَ عَامِرٌ أَيْ مَعْمُورٌ كَمَاءٍ دَافِقٍ أَيْ مَدْفُوقٍ، يَعْنِي: وَعْدَ اللَّهِ وَعْدًا لَا خُلْفَ فِيهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مُرَادَهُمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّامِنُ بِمَعْنَى ذِي الضَّمَانِ، فَيَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْوَاجِبِ، أَيْ: وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ أَنْ يَكْلَأَ مِنْ مُضَادِّ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، (رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُرِيدًا لِلْغَزْوِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ) ، أَيْ: وَاجِبُ الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى كَالشَّيْءِ الْمَضْمُونِ (حَتَّى يَتَوَفَّاهُ) ، أَيْ: يَقْبِضَ رُوحَهُ إِمَّا بِالْمَوْتِ أَوْ بِالْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (فَيُدْخِلَهُ اللَّهُ) ، أَيْ: مَعَ النَّاجِينَ (أَوْ يَرُدَّهُ) : عَطْفٌ عَلَى يَتَوَفَّاهُ (بِمَا نَالَ) ، أَيْ: مَعَ مَا وَجَدَهُ (مِنْ أَجْرٍ) يَعْنِي: ثَوَابًا فَقَطْ (أَوْ غَنِيمَةٍ) ، أَيْ: مَعَ الْأَجَرِ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَوْ هُمَا فَأَوْ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ غَنِيمَةٌ بِلَا أَجْرٍ، وَهُوَ مَرْفُوضٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَفْرُوضِ فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ زَلَلٍ وَخَطَلٍ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي فَأَنَا عَلَيْهِ ضَامِنٌ، أَوْ هُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ» ، شَكَّ الرَّاوِي، أَيْ: فَأَنَا عَلَيْهِ رَقِيبٌ وَحَفِيظٌ، أَوْ هُوَ عَلَيَّ وَاجِبُ الْحِفْظِ (وَرَجُلٌ رَاحَ) ، أَيْ: مَشَى (إِلَى الْمَسْجِدِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ) ، أَيْ: يُعْطِيهِ الْأَجْرَ وَأَنْ لَا يَضَيِّعَ سَعْيَهُ، أَوْ وَاجِبُ الْوِقَايَةِ وَالرِّعَايَةِ (وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ) ، أَيْ: مُسَلِّمًا عَلَى أَهْلِهِ، وَقِيلَ: دَخَلَ بَيْتَهُ لِلسَّلَامَةِ، وَكُلٌّ مَعْنَاهُ سَالِمًا مِنَ الْفِتَنِ، أَيْ: طَالِبًا لِلسَّلَامَةِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَأْمَنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] ، أَيْ: سَالِمِينَ مِنَ الْعَذَابِ وَرَدَ بِأَنَّ آمِنِينَ يُفِيدُ ذَلِكَ، فَمَعْنَى بِسَلَامٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

(فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يُعْطِيهِ الْبَرَكَةَ وَالثَّوَابَ الْكَثِيرَ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِأَنَسٍ: (إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» ) ، اهـ. أَوْ يُسَلِّمُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِهِ أَحَدٌ إِذِ السُّنَّةُ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَلَعَلَّ السِّرَّ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَعْضِ الْجِنِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرِ الْمَضْمُونُ بِهِ فِي الْأَخِيرَيْنِ اكْتِفَاءً، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ الْمُرَادُ الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ، وَالْمَضْمُونُ بِهِ أَنْ يُبَارِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ بَيْتَهُ طَالِبًا لِلسَّلَامَةِ وَهَرَبًا مِنَ الْفِتَنِ، وَهَذَا أَوْجَهُ ; لِأَنَّ الْمُجَاهَدَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَفَرًا، وَالرَّوَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ حَضَرًا، وَلُزُومَ الْبَيْتِ اتِّقَاءً مِنَ الْفِتَنِ أَخَذَ بَعْضُهَا بِحُجْزَةِ بَعْضٍ، فَعَلَى هَذَا فَالْمَضْمُونُ بِهِ هُوَ رِعَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَجِوَارُهُ عَنِ الْفِتَنِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

728 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ; فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لَا يُنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ ; فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ، وَصَلَاةٌ عَلَى إِثْرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ» ) ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 728 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ) : حَالٌ، أَيْ: قَاصِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ مَثَلًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ (مَكْتُوبَةٍ، فَأَجْرُهُ) : مُضَاعَفٌ (كَأَجْرِ الْحَاجِّ) : أَوْ مِثْلُ أَجْرِهِ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: أَيْ كَأَصْلِ أَجْرِهِ وَقِيلَ كَأَجْرِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرٌ كَالْحَاجِّ، وَإِنْ تَغَايَرَ الْأَجْرَانِ كَثْرَةً وَقِلَّةً أَوْ كَمِّيَّةً، وَكَيْفِيَّةً، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتَوْفِي أَجْرَ الْمُصَلِّينَ مِنْ وَقْتِ الْخُرُوجِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ إِلَّا فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ كَالْحَاجِّ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي أَجْرَ الْحَاجِّ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ إِلَّا فِي عَرَفَةَ (الْمُحْرِمِ) : شُبِّهَ بِالْحَاجِّ الْمُحْرِمِ لِكَوْنِ التَّطَهُّرِ مِنَ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْحَجِّ لِعَدَمِ جَوَازِهِمَا بِدُونِهِمَا، ثُمَّ إِنَّ الْحَاجَّ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا كَانَ ثَوَابُهُ أَتَمَّ، فَكَذَلِكَ الْخَارِجُ إِلَى الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ مُتَطَهِّرًا كَانَ ثَوَابُهُ أَفْضَلَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ أَيْ قَاصِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ لِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا الْقَصْدَ حَالًا لِيُطَابِقَ الْحَجَّ لِأَنَّهُ الْقَصْدُ الْخَاصُّ، فِي النِّيَّةِ مَعَ التَّطْهِيرِ مَنْزِلَةَ الْإِحْرَامِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَتْ لِلتَّسْوِيَةِ، كَيْفَ وَإِلْحَاقُ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ يَقْتَضِي فَضْلَ الثَّانِي وُجُوبًا لِيُفِيدَ الْمُبَالَغَةَ، وَإِلَّا كَانَ عَبَثًا فَشَّبَهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ الْمُصَلِّي الْقَاصِدِ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ بِحَالِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ فِي الْفَضْلِ مُبَالَغَةً وَتَرْغِيبًا، لِئَلَّا يَتَقَاعَدَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ. (وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى) ، أَيْ: صَلَاةِ الضُّحَى، وَكُلُّ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ تَسْبِيحَةٌ وَسُبْحَةٌ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْتُوبَةُ وَالنَّافِلَةُ وَإِنِ اتَّفَقَتَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُسَبَّحُ فِيهَا، إِلَّا أَنَّ النَّافِلَةَ جَاءَتْ بِهَذَا الِاسْمِ أَخَصَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّسْبِيحَاتِ فِي الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ سُنَّةٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لِلنَّافِلَةِ تَسْبِيحَةٌ عَلَى أَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْأَذْكَارِ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ وَاجِبَةٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ هَذَا أَخَذَ أَئِمَّتُنَا قَوْلَهُمُ: السُّنَّةُ فِي الضُّحَى فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ خَبَرِ: «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ حَدِيثِ الْمُدُنِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ لَا عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَكُونُ لَهُ مَسْكَنٌ، أَوْ فِي مَسْكَنِهِ شَاغِلٌ وَنَحْوُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَسْجِدِ ذِكْرٌ فِي الْحَدِيثِ أَصْلًا، فَالْمَعْنَى مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ سُوقِهِ أَوْ شُغْلِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى صَلَاةِ الضُّحَى تَارِكًا أَشْغَالَ الدُّنْيَا (لَا يُنْصِبُهُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِنْصَابِ، وَهُوَ الْإِتْعَابُ مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِبَ بِالْكَسْرِ إِذَا تَعِبَ، وَأَنْصَبَهُ غَيْرُهُ أَيْ أَتْعَبَهُ، وَيُرْوَى بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ نَصَبَهُ، أَيْ: أَقَامَهُ قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَالْفَتْحُ احْتِمَالٌ لُغَوِيٌّ لَا أُحَقِّقُهُ رِوَايَةً (إِلَّا إِيَّاهُ) ، أَيْ: لَا يُتْعِبُهُ الْخُرُوجُ إِلَّا تَسْبِيحَ الضُّحَى، وَوَضْعُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ مَوْضِعَ الْمَرْفُوعِ، أَيْ: لَا يُخْرِجُهُ وَلَا يُزْعِجُهُ إِلَّا هُوَ كَالْعَكْسِ فِي حَدِيثِ الْوَسِيلَةِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ بَابِ الْمَيْلِ إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَهُوَ بَابٌ جَلِيلٌ مِنْ

عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَجَعَلَ الْكَشَّافُ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] فِي الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ بِالرَّفْعِ إِذْ مَعْنَى ذَلِكَ فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَكَذَا هُنَا إِذْ مَعْنَى لَا يَنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ لَا يَقْصِدُ وَلَا يَطْلُبُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقَعَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ مَوْضِعَ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ يَعْنِي لَا يُتْعِبُهُ إِلَّا الْخُرُوجُ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى، (فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ، (وَصَلَاةٌ عَلَى إِثْرِ صَلَاةٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ ثُمَّ السُّكُونِ أَوْ بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ: عَقِيبَهُ (لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا) ، أَيْ: بِكَلَامِ الدُّنْيَا (كِتَابٌ) ، أَيْ: عَمَلٌ مَكْتُوبٌ (فِي عِلِّيِّينَ) : وَهُوَ عِلْمُ الدِّيوَانِ الْخَيْرِ الَّذِي دُوِّنَ فِيهِ أَعْمَالُ الْأَبْرَارِ قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ - كِتَابٌ مَرْقُومٌ - يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18 - 21] مَنْقُولٌ مِنْ جَمْعِ عِلِّيٍّ فِعِّيلٍ مِنَ الْعُلُوِّ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَكْرِيمًا، وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الِارْتِفَاعِ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَالْعَلِّيَّةُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْيَاءِ: الْغُرْفَةُ كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَعْلَى الْأَمْكِنَةِ وَأَشْرَفَ الْمَرَاتِبِ، أَيْ: مُدَاوَمَةُ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ مَا يُنَافِيهَا لَا شَيْءَ مِنَ الْأَعْمَالِ أَعْلَى مِنْهَا، فَكَنَى عَنْ ذَلِكَ بِعِلِّيِّينَ، وَقِيلَ: أَيْ عَمَلُ كِتَابٍ، أَوْ مَرْفُوعٌ فِيهِ، أَوْ سَبَبٌ كُتِبَ اسْمُ عَامِلِهِ فِي عِلِّيِّينَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ يُكْتَبُ فِيهِ أَعْمَالُ الصَّالِحِينَ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَفِي سَنَدِهِ الْقَاسِمُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفِيهِ مَقَالٌ، قَالَهُ مِيرَكُ.

729 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا) ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ; قَالَ: (الْمَسَاجِدُ) ، قِيلَ وَمَا الرَّتْعُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 729 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا» ) ، أَيْ: لَا تَكُونُوا سَاكِتِينَ، بَلْ كُونُوا ذَاكِرِينَ إِمَّا بِالْجَنَانِ أَوْ بِاللِّسَانِ، وَالْجَمْعُ لِأَهْلِ الْعِرْفَانِ، أَوِ اغْتَنِمُوا الرَّتْعَ الْحَاصِلَ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَأَصْنَافِ الذِّكْرِ، وَفُنُونِ الْعُلُومِ، وَالْمَعَارِفِ، وَلِذَا قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْجَنَّةِ لَاخْتَرْتُ الْمَسْجِدَ، وَلَعَلَّهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى كَمَالِ الرُّتْبَةِ فِي الْجَنَّةِ، أَوْ ; لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ، وَمُوَافَقَةَ الْقَلْبِ، وَرِضَا الرَّبِّ، (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) : السَّائِلُ فِي الْفَصْلَيْنِ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ الرَّاوِي، وَهُوَ صَرِيحٌ، فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ قَالَهُ مِيرَكُ، (وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: (الْمَسَاجِدُ) : لَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى: حِلَقُ الذِّكْرِ، لِأَنَّهَا تَصْدُقُ بِالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ أَعَمُّ، وَخُصَّتِ الْمَسَاجِدُ هُنَا لِأَنَّهَا أَفْضَلُ، وَجَعَلَ الْمَسَاجِدَ رِيَاضَ الْجَنَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهَا سَبَبٌ لِلْحُصُولِ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، ( «قِيلَ: وَمَا الرَّتْعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ) : وَلِرِعَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى وُضِعَ الرَّتْعُ مَوْضِعَ الْقَوْلِ ; لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ سَبَبٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالرَّتْعُ هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرْتَعُ} [يوسف: 12] وَهُوَ أَنْ يَتَّسِعَ فِي أَكْلِ الْفَوَاكِهِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ، وَالْخُرُوجُ إِلَى التَّنَزُّهِ فِي الْأَرْيَافِ وَالْمِيَاهِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ النَّاسِ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الرِّيَاضِ، ثُمَّ اتَّسَعَ وَاسْتُعْمِلَ فِي الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَتَلْخِيصُ مَعْنَى الْحَدِيثِ: إِذَا مَرَرْتُمْ بِالْمَسَاجِدِ فَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقْتَ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَإِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الرَّتْعَ لَيْسَ مُنْحَصِرًا فِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ، بَلِ الْمَقْصُودُ هَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ وُصُولِ الرَّوْضَاتِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَقَدْ قِيلَ: لَوْ لُمِحَ فِي الرَّتْعِ تَنَاوُلُ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ الَّتِي غَرَسَهَا الذَّاكِرُ فِي رِيَاضِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا وَرَدَ: ( «لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غَرْسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ) ، لَجَاءَ أُسْلُوبًا بَدِيعًا وَتَلْمِيحًا عَجِيبًا.

ثُمَّ فِي حِلَقِ الذِّكْرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ رَتْعٌ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْكَلِمَاتُ الْمَذْكُورَةُ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ فِي الْآيَةِ مُفَسَّرَةٌ بِهَا، وَلِحَدِيثِ: إِنَّهَا أَفْضَلُ الْكَلَامِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا حَدِيثُ: ( «إِذَا دَخَلْتُمُ الْمَسْجِدَ فَعَلَيْكُمْ بِالْإِرْتَاعِ» ) ، قَالُوا: وَمَا الْإِرْتَاعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ; قَالَ: (الدُّعَاءُ وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَفِي سَنَدِهِ حُمَيْدٌ الْمَكِّيُّ، وَفِيهِ مَقَالٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَوَرَدَ: ( «الْمَسَاجِدُ سُوقُ الْآخِرَةِ، فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَ ضَيْفًا لِلَّهِ، وَجَزَاؤُهُ الْمَغْفِرَةُ، وَتَحِيَّتُهُ الْكَرَامَةُ، وَعَلَيْكُمْ بِالْإِرْتَاعِ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْإِرْتَاعُ قَالَ: (الدُّعَاءُ وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى» ) .

730 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ( «مَنْ أَتَى الْمَسْجِدَ لِشَيْءٍ، فَهُوَ حَظُّهُ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 730 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ: (مَنْ أَتَى الْمَسْجِدَ لِشَيْءٍ) ، أَيْ: لِقَصْدِ حُصُولِ شَيْءٍ أُخْرَوِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ (فَهُوَ) ، أَيْ: ذَلِكَ الشَّيْءُ (حَظُّهُ) : وَنُصِيبُهُ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «إِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ) ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ فِي إِتْيَانِ الْمَسْجِدِ، لِئَلَّا يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كَالتَّمْشِيَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ مَعَ الْأَصْحَابِ، بَلْ يَنْوِي الِاعْتِكَافَ، وَالْعُزْلَةَ، وَالِانْفِرَادَ، وَالْعِبَادَةَ، وَزِيَارَةَ بَيْتِ اللَّهِ، وَاسْتِفَادَةَ عِلْمٍ، وَإِفَادَتَهُ وَنَحْوَهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: قَدْ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَوَرَدَ: ( «مَنْ أَلِفَ الْمَسْجِدَ أَلِفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» ) ، وَوَرَدَ أَيْضًا: ( «إِنَّ بُيُوتِي فِي أَرَاضِيَّ الْمَسَاجِدُ، وَإِنَّ زُوَّارِيَ مِنْهَا عُمَّارُهَا، فَطُوبَى لِعَبْدٍ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي، فَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ» ) ، وَوَرَدَ أَيْضًا: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَيْنَ جِيرَانِي أَيْنَ جِيرَانِي ; فَيَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا وَمَنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَاوِرَكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَيْنَ زُوَّارُ الْمَسَاجِدِ؟» ) .

731 - وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةَ الْكُبْرَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ) ، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَفِي رِوَايَتِهِمَا، قَالَتْ «إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَكَذَا إِذَا خَرَجَ، قَالَ (بِسْمِ اللَّهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ) ، بَدَلَ: صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ.» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ لَمْ تُدْرِكْ فَاطِمَةَ الْكُبْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 731 - (وَعَنْ فَاطِمَةَ) زَوْجِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ (بِنْتِ الْحُسَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةَ الْكُبْرَى) ، أَيِ: الْبَتُولِ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكِبَرِ فَضْلِهَا وَشَأْنِهَا (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْهُمْ (قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ» ) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، ثُمَّ حِكْمَتُهُ بَعْدَ تَعْلِيمِ أُمَّتِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِنَفْسِهِ، كَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَذَا طُلِبَ مِنْهُ تَعْظِيمُهَا بِالصَّلَاةِ مِنْهُ عَلَيْهَا، كَمَا طُلِبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ (وَقَالَ: (رَبِّ) : وَفِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ: اللَّهُمَّ فَالْكُلُّ سُنَّةٌ (اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ) : وَفِي تَقْدِيمِ الْغُفْرَانِ عَلَى الْفَتْحِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى (وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ: ( «رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» ) : وَتَقَدَّمَ عَنِ الطِّيبِيِّ نُكْتَةٌ فِي الْفَرْقِ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَخَطَرَ بِبَالِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ النُّكْتَةُ، هِيَ: أَنَّ الدَّاخِلَ لَمَّا كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْعِبَادَةِ فَطَلَبَ الرَّحْمَةَ النَّاشِئَةَ مِنْهَا، فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْخَارِجُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ، فَحِينَئِذٍ يُنَاسِبُ أَنْ يَطْلُبَ فَضْلَهُ تَعَالَى مِنْ عِنْدِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةِ عِبَادَةٍ وَسَبَبِ رَحْمَةٍ وَعِنَايَةٍ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَفِي رِوَايَتِهِمَا، قَالَتْ: «إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَكَذَا إِذَا خَرَجَ، قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ» ) ، بَدَلَ: صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ،

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ) : لِأَنَّ فَاطِمَةَ الصُّغْرَى بِنْتَ حُسَيْنِ بَنِ عَلِيٍّ تَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةَ الْكُبْرَى، وَهِيَ مَا أَدْرَكَتْهَا فَقَوْلُهُ: (فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ لَمْ تُدْرِكْ فَاطِمَةَ الْكُبْرَى) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِعَدَمِ الِاتِّصَالِ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا جَمَعَتْ مِنْ أَبِيهَا عَنْهَا، فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، فِي الدُّعَاءِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَأَحْسَبُ بَعْضَهُمْ وَصَلَهُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

732 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَنَاشُدِ الْأَشْعَارِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَنِ الْبَيْعِ وَالِاشْتِرَاءِ فِيهِ، وَأَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 732 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) ، أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَنَاشُدِ الْأَشْعَارِ) ، أَيِ: الْمَذْمُومَةِ (فِي الْمَسْجِدِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: التَّنَاشُدُ أَنْ يُنْشِدَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ نَشِيدًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ افْتِخَارًا وَمُبَاهَاةً، أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّفَكُّهِ بِمَا يُسْتَطَابُ مِنْهُ تَرْجِيَةً لِلْوَقْتِ بِمَا تَرْكَنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ فِي مَدْحِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَذَمِّ الْبَاطِلِ وَذَوِيهِ، أَوْ كَانَ مِنْهُ تَمْهِيدٌ لِقَوَاعِدِ الدِّينِ، أَوْ إِرْغَامٌ لِمُخَالِفِيهِ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الذَّمِّ وَإِنْ خَالَطَهُ التَّشْبِيبُ، وَقَدْ كَانَ يُفْعَلُ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَنْهَى عَنْهُ لِعِلْمِهِ بِالْغَرَضِ الصَّحِيحِ، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ خَاصٌّ بِغَيْرِ الشِّعْرِ الْحَسَنِ ; لِأَنَّ حَسَّانَ أَنْشَدَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَحْسِنًا لِمَا أَنْشَدَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ «أَنَّ حَسَّانَ وَكَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ كَانَا يُنْشِدَانِ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ» -، «وَمَرَّ عُمَرُ وَحَسَّانُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَحَظَهُ، فَقَالَ: كُنْتُ أَنْشُدُهُ وَفِيهِ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (أَجِبْ عَنِّي اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: ( «الشِّعْرُ كَالْكَلَامِ حَسَنُهُ كَحَسَنِهِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ» ) ، وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا أَيْضًا قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ) ، وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُنْشِدُ فِي الْمَسْجِدِ شِعْرًا فَقُولُوا فَضَّ اللَّهُ فَاكَ» ) ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: لَا يُفَضِّضُ اللَّهُ فَاكَ، أَيْ: لَا يُسْقِطُ أَسْنَانَكَ، وَالْفَضُّ: الْكَسْرُ، (وَعَنِ الْبَيْعِ وَالِاشْتِرَاءِ فِيهِ) : أَيْ فِي الْمَسْجِدِ، وَجَوَّزَ عُلَمَاؤُنَا لِلْمُعْتَكِفِ الشِّرَاءَ بِغَيْرِ إِحْضَارِ الْمَبِيعِ، وَمِنَ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ بَيْعُ ثِيَابِ الْكَعْبَةِ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَبَيْعُ الْكُتُبِ وَغَيْرِهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَشْنَعُ مِنْهُ وَضَعُ الْمُخَلَّفَاتِ وَالْقِرَبِ وَالدَّبْشِ فِيهِ، سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، وَوَقْتَ ازْدِحَامِ النَّاسِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ أَمْرِ دِينِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُكْرَهُ أَيْضًا الْجُلُوسُ فِيهِ لِحِرْفَةٍ إِلَّا نَسْخِ كُتُبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَآلَتِهِ، وَلَوْ خَاطَ فِيهِ أَحْيَانًا فَلَا بَأْسَ، «وَرَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَيَّاطًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّهُ يَكْنُسُ الْمَسْجِدَ وَيُغْلِقُ الْبَابَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (جَنِّبُوا صُنَّاعَكُمْ مَسَاجِدَكُمْ» ) ، رَوَاهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَضَعَّفَهُ، وَكَانَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِ مَنْ يَبِيعُ فِي مَسْجِدٍ قَالَ: عَلَيْكَ بِسُوقِ الدُّنْيَا فَإِنَّ هَذَا سَوَّقُ الْآخِرَةِ، وَسَمِعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَوْتَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ؟ (وَأَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ إِلَى الْمَسْجِدِ) ، أَيْ: فِي أَنْ يَجْلِسَ النَّاسُ عَلَى هَيْئَةِ الْحَلْقَةِ يُقَالُ: تَحَلَّقُ الْقَوْمُ إِذَا جَلَسُوا حَلْقَةً حَلْقَةً، وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا تَحَلَّقُوا، فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمُ التَّكَلُّمُ وَرَفْعُ الصَّوْتِ، وَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ لَا يَسْتَمِعُونَ الْخُطْبَةَ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِاسْتِمَاعِهَا كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: النَّهْيُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدَهُمَا: أَنَّ تِلْكَ الْهَيْئَةَ تُخَالِفُ اجْتِمَاعَ الْمُصَلِّينَ، وَالثَّانِيَ: أَنَّ

الِاجْتِمَاعَ لِلْجُمُعَةِ خَطْبٌ جَلِيلٌ لَا يَسَعُ مَنْ حَضَرَهَا أَنْ يَهْتَمَّ بِمَا سِوَاهَا حَتَّى يَفْرُغَ، وَتَحَلُّقُ النَّاسِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مُوهِمٌ لِلْغَفْلَةِ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي نُدِبُوا إِلَيْهِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَالْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ، وَلَا بَأْسَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي الْإِحْيَاءِ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ لِلْحِلَقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَرْوِي: نُهِيَ عَنِ الْحَلْقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِإِسْكَانِ اللَّامِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ بَقِيَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ الْحِلَقُ بِفَتْحِهَا جَمْعُ حَلْقَةٍ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

733 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً، فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ» ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 733 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ) ، أَيْ: يَشْتَرِي (فِي الْمَسْجِدِ) : وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ ثَوْبَ الْكَعْبَةِ وَالْمَصَاحِفَ وَالْكُتُبَ وَالسُّبَحَ (فَقَالُوا) ، أَيْ: لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِاللِّسَانِ جَهْرًا أَوْ بِالْقَلْبِ سِرًّا (لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ) : دُعَاءٌ عَلَيْهِ، أَيْ: لَا جَعَلَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ ذَاتَ رِبْحٍ وَنَفْعٍ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] ، وَلَوْ قَالَ لَهُمَا مَعًا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكُمَا جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، (وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ) ، أَيْ: يَطْلُبُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ (فِيهِ) ، أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ (ضَالَّةً) ، أَيْ: سَاقِطَةً (فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ لِقِلَّةِ أَدَبِكَ، حَيْثُ رَفَعْتَ صَوْتَكَ فِي الْمَسْجِدِ، وَشَوَّشْتَ عَلَى الْمُصَلِّينَ، أَوِ الْمُعْتَكِفِينَ ذِكْرَهُمْ، أَوْ حُضُورَهُمْ، أَوْ قَالَهُمْ، أَوْ حَالَهُمْ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَالدَّارِمِيُّ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَرَّ شَطْرُهُ الثَّانِي عَنْ مُسْلِمٍ.

734 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسْتَقَادَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ، وَأَنْ تُقَامَ فِيهِ الْحُدُودُ،» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي (سُنَنِهِ) ، وَصَاحِبُ (جَامِعِ الْأُصُولِ) ، فِيهِ عَنْ حَكِيمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 734 - (وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) : بِكَسْرِ حَاءٍ فَزَايٍ، هُوَ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ، (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسْتَقَادَ) ، أَيْ: يُطْلَبَ الْقَوَدُ، أَيِ: الْقِصَاصُ وَقَتْلُ الْقَاتِلِ بَدَلَ الْقَتِيلِ، أَيْ: يُقْتَصَّ (فِي الْمَسْجِدِ) : لِئَلَّا يَقْطُرَ الدَّمُ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَيُكْرَهُ الْقَوَدُ فِيهِ إِنْ لَمْ يُصِبْهُ نَجَسٌ وَإِلَّا حُرِّمَ (وَأَنْ يُنْشَدَ) : قِيلَ بِالتَّأْنِيثِ، أَيْ: يُقْرَأَ (فِيهِ الْأَشْعَارُ) ، أَيِ: الْمَذْمُومَةُ (وَأَنْ تُقَامَ) : كَذَلِكَ (فِيهِ الْحُدُودُ) ، أَيْ: سَائِرُهَا، أَيْ: تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، أَيِ: الْحُدُودُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّهِ أَوْ بِالْآدَمِيِّ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَوْعَ هَتْكٍ لِحُرْمَتِهِ، وَلِاحْتِمَالِ تَلَوُّثِهِ بِجُرْحٍ أَوْ حَدَثٍ، وَقَوْلُ ابْنِ لَيْلَى: تُقَامُ شَاذٌّ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِئَلَّا يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ لَزِمَهُ حَدٌّ فِي الْمَسْجِدِ: أَخْرِجُوهُ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِثْلُهُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ) : فِي آخِرِ كِتَابِ الْحُدُودِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُهَاجِرِ، وَالشَّعْبِيُّ الْبَصْرِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ: وَقَدْ رَوَى لَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، (وَصَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ فِيهِ) ، أَيِ: الْجَامِعِ (عَنْ حَكِيمٍ: مُتَعَلِّقٌ بِرَوَاهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيُّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا زُفَرُ بْنُ وَثِيمَةَ جَهَّلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَسَنٌ كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ.

735 - وَفِي (الْمَصَابِيحِ) ، عَنْ جَابِرٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 735 - (وَفِي الْمَصَابِيحِ، عَنْ جَابِرٍ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأُصُولِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَزْمٍ.

736 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ - يَعْنِي الْبَصَلَ وَالثُّومَ - وَقَالَ: (مَنْ أَكَلَهُمَا فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) ، وَقَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ آكِلِيهِمَا ; فَأَمِيتُوهَا طَبْخًا» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 736 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) : تَابِعِيٌّ بَصْرِيٌّ، سَمِعَ أَبَاهُ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ (- يَعْنِي الْبَصَلَ وَالثُّومَ -) : وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ فَالْإِشَارَةُ حِسِّيَّةٌ (وَقَالَ: (مَنْ أَكَلَهُمَا) : وَفِي مَعْنَاهُمَا الْكُرَّاثُ وَالْفُجْلُ (فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) ، أَيْ: مَسْجِدَ مِلَّتِنَا يَعْنِي: مَا دَامَ مَعَهُ الرَّائِحَةُ الْخَبِيثَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْعِلَّةُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا تَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إِنْ كَانَ خَالِيًا مِنَ النَّاسِ، فَلَا يَخْلُو مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْبَيَانِ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَيْ: أَفَادَ هَذَا الْبَيَانُ أَنَّ التَّقْدِيرَ نَهَى عَنْ أَكْلِهِمَا، وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّ شَرْطَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِهِمَا اقْتِرَانُهُ بِقَصْدِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مَثَلًا، مَعَ بَقَاءِ رِيحِهِمَا، وَأَمَّا أَكْلُهُمَا لَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، وَفِي النَّهْيِ عَنِ الْقُرْبَانِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الدُّخُولِ أَوْلَى، (وَقَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ) ، أَيْ: لَا فِرَاقَ وَلَا مَحَالَةَ وَلَا غِنًى بِكُمْ عَنْ أَكْلِهِمَا لِفَرْطِ حَاجَةٍ أَوْ شَهْوَةٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ كَانَ وَخَبَرِهَا وَهُوَ (آكِلِيهِمَا) : يَعْنِي: وَأَرَدْتُمْ دُخُولَ الْمَسْجِدِ (فَأَمِيتُوهُمُا طَبْخًا) : الْإِمَاتَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ قُوَّةِ رَائِحَتِهِمَا، أَيْ: أَزِيلُوا رَائِحَتَهُمَا بِالطَّبْخِ، وَفِي مَعْنَاهُ إِمَاتَتُهُ وَإِزَالَتُهُ بِغَيْرِ الطَّبْخِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

737 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 737 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ» ) ، أَيْ: يَجُوزُ السُّجُودُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ (إِلَّا الْمَقْبَرَةَ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِتَثْلِيثِهَا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَقْبَرَةُ مُثَلَّثَةَ الْبَاءِ وَكَمِكْنَسَةٍ مَوْضِعُ الْقُبُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا، (وَالْحَمَّامَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُكْرَهُ فِيهِمَا، وَقَالَ شَارِحُ الْمُنْيَةِ: وَفِي الْفَتَاوَى لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَوْضِعٌ أُعِدَّ لِلصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِيهِ قَبْرٌ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْإِرْسَالُ وَالْإِسْنَادُ، وَذَكَرَ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَرْسَلَهُ وَهُوَ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ اهـ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُسْنَدًا، وَالَّذِي وَصَلَهُ ثِقَةٌ أَيْضًا، فَلَا يَضُرُّهُ إِرْسَالُهُ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، (وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَابْنُ مَاجَهْ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

738 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَفِي الْحَمَّامِ، وَفِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 738 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلَّى) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَزْبَلَةِ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَقِيلَ بِضَمِّهَا، الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْإِبِلُ، وَهُوَ السِّرْجِينُ، وَمِثْلُهُ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ (وَالْمَجْزِرَةِ) : بِكَسْرِ الزَّايِ وَتُفْتَحُ: قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْمَجْزِرَةُ بِكَسْرِ الزَّايِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَاقْتَصَرَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى الْفَتْحِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَهِيَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُنْحَرُ فِيهِ الْإِبِلُ وَتُذْبَحُ الْبَقَرُ وَالشَّاءُ، نَهَى عَنْهَا لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَرْوَاثِ، (وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ) : فَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، أَيْ:

وَسَطِهِ، فَالْمُرَادُ بِهَا الطَّرِيقُ الَّذِي يَقْرَعُهُ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ بِأَرْجُلِهِمْ، لِاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِالْخَلْقِ عَنِ الْحَقِّ، وَلِذَا شَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْعُمْرَانِ لَا الْبَرِّيَّةُ، (وَفِي الْحَمَّامِ) : لِأَنَّهُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ وَمَأْوَى الشَّيْطَانِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَمِيمِ، وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، وَمِنْهُ مَسْلَخَةٌ، وَهُوَ مَحَلٌّ سَلْخِ الثِّيَابِ، أَيْ: نَزْعِهَا، وَالتَّعْلِيلُ بِأَنَّ دُخُولَ النَّاسِ يَشْغَلُهُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَلَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الِاعْتِبَارُ لِلْأَغْلَبِ، (وَفِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ) : جَمْعُ عَطَنٍ وَهُوَ مَبْرَكُ الْإِبِلِ حَوْلَ الْمَاءِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جَمْعُ مَعْطِنٍ بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَبْرُكُ فِيهِ الْإِبِلُ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الْمَاءِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْإِبِلُ بِاللَّيْلِ) ، أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ: نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ وَقَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مَحَالُّ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ صَلَّى فِيهَا بِغَيْرِ السَّجَّادَةِ بَطَلَتْ، وَمَعَ السَّجَّادَةِ تُكْرَهُ لِلرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ اهـ. وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْإِبِلُ فِيهَا، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فَسَيَأْتِي أَنَّ الصَّلَاةَ مَكْرُوهَةٌ حِينَئِذٍ مُطْلَقًا لِشِدَّةِ نِفَارِهَا، (وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ) : إِذْ نَفْسُ الِارْتِفَاعِ إِلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ مَكْرُوهٌ لِاسْتِعْلَائِهِ عَلَيْهِ الْمُنَافِي لِلْأَدَبِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا ذُكِرَ الظَّهْرُ مَعَ الْفَوْقِ إِذْ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى مَوْضِعٍ هُوَ فَوْقَ الْبَيْتِ كَجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، وَذِكْرُ " فَوْقَ " ; لِأَنَّ الْحِيطَانَ كُلَّهَا ظَهَرُ الْبَيْتِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اخْتُلِفَ فِي أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَوَاطِنِ السَّبْعَةِ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ التَّنْزِيهِ، وَالْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ اخْتَلَفُوا فِي الصِّحَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: يَدُلُّ مُطْلَقًا، لَا يَدُلُّ مُطْلَقًا، يَدُلُّ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ، يَدُلُّ إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقُ النَّهْيِ نَفْسَ الْفِعْلِ، أَوْ مَا يَكُونُ لَازِمًا كَصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَبَيْعِ الرِّبَا، وَلَا يَدُلُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْوَادِي وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، (وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدَهُ حَسَنٌ.

739 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ» ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 739 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ) ، أَيْ: فَوْقَ السَّجَّادَةِ إِذَا كَانَتْ ضَرُورَةً، وَهُوَ جَمْعُ مَرْبِضٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَهُوَ مَأْوَى الْغَنَمِ (وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ) : جَمْعُ عَطَنٍ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَعْطَنِ، وَالْفَارِقُ أَنَّ الْإِبِلَ كَثِيرَةُ الشِّرَادِ، شَدِيدَةُ النِّفَارِ، فَلَا يَأْمَنُ الْمُصَلِّي فِي أَعْطَانِهَا، أَيْ: مَعَاطِنِهَا مِنْ أَنْ تَنْفِرَ وَتَقْطَعَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، أَوْ تُشَوِّشُ قَلْبَهُ، فَتَمْنَعُهُ عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْغَنَمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: ( «لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ» ) ، وَأَوَّلَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِأَنَّهَا خُلِقَتْ مَعَهَا، قَالَ وَإِلَّا لَمْ يُصَلِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْوَتْرَ عَلَى بَعِيرِهِ، أَيْ: فَالْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ شِدَّةُ نِفَارِهَا الْمُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الصَّلَاةِ، أَوْ مَنْعِ الْخُشُوعِ، لَا خَلْقُهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ: مِنْ مَائِهِمْ وَخَرَجَ بِالْإِبِلِ الْغَنَمُ فَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا ; لِأَنَّ نِفَارَهَا لَا يُشَوِّشُ الْخُشُوعَ لِأَنَّهَا سَكِينَةٌ، وَلِذَا وَرَدَ فِيهَا: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ» ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ فَصَلُّوا فَإِنَّهَا سَكِينَةٌ وَبَرَكَةٌ، وَإِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَاخْرُجُوا مِنْهَا فَصَلُّوا فَإِنَّهَا جِنُّ، مِنْ جِنٍّ خُلِقَتْ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهَا إِذَا نَفَرَتْ كَيْفَ تَشْمَخُ بِأَنْفِهَا» ) ، وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي سَائِرِ مَحَالِّ الشَّيَاطِينِ، وَمِنْهَا الْوَادِي الَّذِي نَامَ فِيهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا مَرَّ، وَمِنْهَا كُلُّ مَحَلٍّ حَلَّ بِهِ غَضَبٌ كَأَرْضِ ثَمُودَ، وَبَابِلَ، وَدِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمُحَسِّرٍ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ نَزَلَ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَلَوْ صَلَّى وَالْمَكَانُ طَاهِرٌ يَصِحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَأَصْحَابُ الْغَنَمِ كَانُوا يُنَظِّفُونَ الْمَرَابِضَ فَأُبِيحَتِ الصَّلَاةُ فِيهَا لِذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

740 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 740 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قِيلَ: هَذَا كَانَ قَبْلَ التَّرَخُّصِ، فَلَمَّا رُخِّصَ دَخْلَ فِي الرُّخْصَةِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَقِيلَ: بَلْ نَهْيُ النِّسَاءِ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ بَاقٍ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ، وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ إِذَا رَأَيْنَ الْقُبُورَ اهـ، وَمُرَادُهُ بِالتَّرَخُّصِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا لِأَنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ» ) ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى عَجَائِزَ مُتَطَيِّبَاتٍ، وَمُتَزَيِّنَاتٍ، أَوْ عَلَى شَوَابَّ وَلَوْ فِي ثِيَابِ بِذْلَتِهِنَّ لِوُجُودِ الْفِتْنَةِ فِي خُرُوجِهِنَّ عَلَى قِيَاسِ كَرَاهَةِ خُرُوجِهِنَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ جَمْعَ زَوَّارَةٍ وَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ زَارَ مِنْهُنَّ عَلَى الْعَادَةِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْمَلْعُونَاتِ اهـ. وَيُسْتَثْنَى زِيَارَةُ قَبْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ هَذَا الْعُمُومِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، (وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا حُرِّمَ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ فِيهَا اسْتِنَانًا بِسُنَّةِ الْيَهُودِ اهـ. وَقَيْدُ " عَلَيْهَا " يُفِيدُ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ بِجَنْبِهَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ» ) ، (وَالسُّرُجَ) : جَمْعَ سِرَاجٍ، وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ السُّرُجِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ لِأَحَدٍ مِنَ السِّرَاجِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ أَثَارِ جَهَنَّمَ، وَإِمَّا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَعْظِيمِ الْقُبُورِ، كَالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَالنَّسَائِيُّ) .

741 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ حَبْرًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ، وَقَالَ: (أَسْكُتُ حَتَّى يَجِيءَ جِبْرِيلُ) ، فَسَكَتَ وَجَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَسَأَلَ فَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. وَلَكِنْ أَسْأَلُ رَبِّيَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي دَنَوْتُ مِنَ اللَّهِ دُنُوًّا مَا دَنَوْتُ مِنْهُ قَطُّ، قَالَ: (وَكَيْفَ كَانَ يَا جِبْرِيلُ؟) ، قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ، فَقَالَ: شَرُّ الْبِقَاعِ أَسْوَاقُهَا، وَخَيْرُ الْبِقَاعِ مَسَاجِدُهَا» ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 741 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةُ قَالَ: إِنَّ حَبْرًا) : بِفَتْحِ الْحَاءِ أَشْهَرُ مِنْ كَسْرِهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ) ، أَنَّ كَسْرَ الْحَاءِ أَصَحُّ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفَتْحُ لِيُفَرَّقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَبَيْنَ مَا يُكْتَبُ بِهِ، كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ، وَقِيلَ فِي الْكَسْرِ وَجْهُهُ أَنَّ الْعَالِمَ يُكْثِرُ اسْتِعْمَالَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ يُقَالُ لِابْنِ عَبَّاسٍ الْحِبْرُ وَالْبَحْرُ لِسَعَةِ عِلْمِهِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: عَالِمًا (مِنَ الْيَهُودِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْبِقَاعِ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ جَمْعِ الْبُقُعَةِ بِالضَّمِّ، وَهِيَ مَوْضِعٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ مُطْلَقًا (خَيْرٌ؟) ، أَيْ: أَفْضَلُ يَعْنِي كَثِيرَ الْخَيْرِ (فَسَكَتَ عَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ جَوَابِهِ (وَقَالَ) ، أَيْ: فِي نَفْسِهِ لَا أَنَّهُ نَطَقَ بِهِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّهُ نَطَقَ بِهِ، بَلْ هُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَرَامِ، وَأَدْفَعُ لِتَوَهُّمِ الْإِلْزَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الْآتِيَةُ (أَسْكُتْ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ (حَتَّى يَجِيءَ جِبْرِيلُ) ، فَسَكَتَ) ، أَيْ: إِلَى مَجِيءِ جِبْرِيلَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ مَنِ اسْتُفْتِيَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا يَعْلَمُهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَجِّلَ فِي الْإِفْتَاءِ، وَلَا يَسْتَنْكِفَ عَنْ الِاسْتِفْتَاءِ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَلَا يُبَادِرَ إِلَى الِاجْتِهَادِ مَا لَمْ يُضَطَرَّ إِلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسُنَّةُ جِبْرِيلَ، (وَجَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَسَأَلَ) ، أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، أَوْ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا (فَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ) : وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ مَا

يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ (وَلَكِنْ أَسْأَلُ رَبِّيَ تَبَارَكَ) ، أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُهُ وَتَوَالَى بِرُّهُ (وَتَعَالَى) ، أَيْ: تَرَفَّعَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكِبْرِيَائِهِ، فَالْأَوَّلُ إِثْبَاتٌ لِلنُّعُوتِ الثُّبُوتِيَّةِ، وَالثَّانِي نَفْيٌ لِلصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى لَكِنِّي أَرْجِعُ إِلَى حَضْرَةِ رَبِّي أَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ، (ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ) ، أَيْ: بَعْدَ رُجُوعِهِ (يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي دَنَوْتُ) ، أَيْ: قَرُبْتُ (مِنَ اللَّهِ دُنُوًّا) : فَعُوِّلَ مَصْدَرُ دَنَا (مَا دَنَوْتُ مِنْهُ قَطُّ) : يَعْنِي: أُذِنَ لِي أَنْ أَقْرَبَ مِنْهُ تَعَالَى أَكْثَرَ مِمَّا قَرُبْتُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَعَلَّ زِيَادَةَ تَقَرُّبِهِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ لِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ يَزِيدُ الْمُحِبُّ فِي احْتِرَامِ رَسُولِ الْحَبِيبِ لِأَجْلِ الْحَبِيبِ تَمَّ كَلَامُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَمِنْ وَعْدِهِ تَعَالَى أَيْ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ شِبْرًا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بَاعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَزْدَادُونَ الْعِلْمَ وَالْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ الْمَلَكَ تَرَقِّيهِ فِي الْعِلْمِ وَالْقُرْبِ نَادِرٌ بِخِلَافِ الْبَشَرِ، (قَالَ: (وَكَيْفَ كَانَ) ، أَيْ: دُنُوُّكَ (يَا جِبْرِيلُ!) ، قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) ، أَيْ: بَيْنَ عَرْشِهِ (سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ) : ظَاهِرُهُ التَّحْدِيدُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُجُبَ إِنَّمَا تُحِيطُ بِمُقَدَّرٍ مَحْسُوسٍ وَهُوَ الْخَلْقُ، فَهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْهُ تَعَالَى بِمَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَقْرَبُ الْمَلَائِكَةِ الْحَافُّونَ بِالْعَرْشِ، وَهُمْ مَحْجُوبُونَ بِنُورِ الْمَهَابَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ، وَأَمَّا الْآدَمِيُّونَ فَمِنْهُمْ مَنْ حُجِبَ بِرُؤْيَةِ النِّعَمِ عَنِ الْمُنْعِمِ، وَبِمُشَاهَدَةِ الْأَسْبَابِ عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حُجِبَ بِالشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ أَوِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوْ بِالْمَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْجَاهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ: الْعِلْمُ حِجَابٌ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَكِنَّهُ نُورَانِيٌّ، فَأَفَادَ أَنَّ الْحَجْبَ عَلَى نَوْعَيْنِ: ظُلْمَانِيٍّ وَضِدِّهِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: مِنْ نُورٍ (فَقَالَ) ، أَيِ: الرَّبُّ ( «شَرُّ الْبِقَاعِ أَسْوَاقُهَا» ) : لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْغَفْلَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ( «وَخَيْرُ الْبِقَاعِ مَسَاجِدُهَا» ) : لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْحُضُورِ وَالطَّاعَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَجَابَ عَنِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْخَيْرِ فَقَطْ تَنْبِيهًا عَلَى بَيْتِ الرَّحْمَنِ وَبَيْتِ الشَّيْطَانِ، قُلْتُ: وَالْأَشْيَاءُ تَتَبَيَّنُ بِأَضْدَادِهَا، (رَوَاهُ) : كَذَا فِي أَصْلِ الْمُصَنَّفِ هُنَا بَيَاضٌ، وَأَلْحَقَ بِهِ ابْنُ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ الرَّاوِي أَيِ الْمُخَرِّجِ مُلْحَقٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ لَمْ يُرِدْ تَكْثِيرَ الْحُجُبِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، كَرِوَايَةِ: «سَبْعِينَ حِجَابًا غِلَظُ كُلِّ حِجَابٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ حُمِلَتْ عَلَى رَفْرَفٍ أَخْضَرَ يَغْلِبُ ضَوْءُهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ، حَتَّى وَصَلَتْ لِلْعَرْشِ» ، وَكَرِوَايَةِ: ثُمَّ أَيُّ، بَعْدَ انْقِطَاعِ جِبْرِيلَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ هَذَا مَقَامِي إِنْ جَاوَزْتُهُ احْتَرَقْتُ، زُجَّ بِيَ فِي النُّورِ فَحَرَقَ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ، لَيْسَ فِيهَا حِجَابٌ يُشْبِهُ حِجَابًا، فَهَاتَانِ وَنَحْوُهُمَا هِيَ الَّتِي لَمْ تَثْبُتُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ اهـ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحِجَابَ الصُّورِيَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ النُّورِيِّ الْمَعْنَوِيِّ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي عَطَاءٍ: الْحَقُّ لَيْسَ بِمَحْجُوبٍ، وَإِنَّمَا الْمَحْجُوبُ أَنْتَ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ حَجَبَهُ شَيْءٌ لَسَتَرَهُ مَا حَجَبَهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ سَاتِرٌ لَكَانَ لِوُجُودِهِ حَاصِرًا وَكُلُّ حَاصَرٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ لَهُ قَاهِرٌ، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] ، وَمِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى وُجُودِ قَهْرِهِ سُبْحَانَهُ، أَنْ حَجَبَكَ عَنْهُ بِمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ مَعَهُ، وَمِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْجُبَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْجُبَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ قَبْلَ وُجُودِ كُلِّ شَيْءٍ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْجُبَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْجُبَهُ شَيْءٌ وَهُوَ أُقَرَبُ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؟ . وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ أَرَهُ مُخَرَّجًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمَصَابِيحِ لِلسُّلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ قَالَ: فِي (لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ) فَسَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ مِيكَائِيلَ، فَجَاءَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَشَرُّهَا الْأَسْوَاقُ» . قَالَ مِيرَك شَاهْ: ثُمَّ رَأَيْتُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ؟ وَأَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ قَالَ: (لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ) فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ مِيكَائِيلَ، فَجَاءَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ وَشَرُّ الْبِقَاعِ الْأَسْوَاقُ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجِبْرِيلَ: [أَيُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ) ، قَالَ: لَا أَدْرَى، قَالَ: (فَسَلْ عَنْ ذَلِكَ رَبَّكَ) قَالَ: فَبَكَى جِبْرِيلُ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! وَمَا لَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ، هُوَ الَّذِي يُخْبِرُنَا بِمَا يَشَاءُ، فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ قَالَ: (فَأَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟) فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: شَرُّ الْبِقَاعِ الْأَسْوَاقُ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْبُلْدَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْبُلْدَانِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ قَالَ: (لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ) فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَبْغَضَ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ الْأَسْوَاقُ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ اهـ. وَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحُجُبِ لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَتَصْحِيحُ ابْنِ حَجَرٍ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَتَدَبَّرْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ عَدَدَ السَّبْعِينَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لَا نَفْسَ الْحِجَابِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: ( «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» )

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 742 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا لَمْ يَأْتِ إِلَّا لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ ; فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ» ) ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبِيهَقِيُّ فِي [شُعَبِ الْإِيمَانِ] ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 742 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا» ) ، أَيِ: الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ فِي الْمَدِينَةِ الْمُعَطَّرَةِ (لَمْ يَأْتِ) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ آتٍ (إِلَّا لِخَيْرٍ) ، أَيْ: عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ (يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى جَوَازِ التَّدْرِيسِ فِي الْمَسْجِدِ خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَلَعَلَّهُ مَنَعَ رَفْعَ الصَّوْتِ الْمُشَوِّشِ (فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرِيدُ إِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ الْعُلْيَا، أَوْ لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالْجِهَادَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، أَوْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ نَفْعُهَا مُتَعَدٍّ إِلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ. (وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ) ، أَيْ: لِغَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الَّذِي يَشْمَلُ الصَّلَاةَ وَالِاعْتِكَافَ وَالزِّيَارَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُوهِمُ أَنَّ الصَّلَاةَ دَاخِلَةٌ فِي الْغَيْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَفْرُوغٌ عَنْهَا وَأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أَصْلِ الْكَلَامِ. ( «فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ» ) ، أَيْ: فَهُوَ مُتَحَسِّرٌ مَحْرُومٌ عَمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، وَفِي الْعُقْبَى مِنَ الدَّرَجَاتِ وَالْجَزَاءِ الْجَزِيلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ حَالَةَ مَنْ أَتَى الْمَسْجِدَ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ وَالتَّعْلِيمِ، بِحَالَةِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَهُ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ، وَكَذَلِكَ إِتْيَانُ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ مَا بُنِيَ مَحْظُورٌ، وَلَاسِيَّمَا مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. لَكِنَّ كَوْنَ النَّظَرِ الْمُجَرَّدِ إِلَى مَتَاعِ الْغَيْرِ مَحْظُورًا مَحَلُّ نَظَرٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمَحْظُورَ الْمُحَرَّمُ وَلَا حُرْمَةَ هُنَا، بَلْ يَجُوزُ النَّظَرُ لِمَتَاعِ الْغَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَهُ مَا لَمْ يَكُنْ بِإِشْرَافٍ، مِنْ كَوَّةٍ وَنَحْوِهَا، وَلِمَا نَقَلَ النَّوَوِيُّ قَوْلَ الْإِحْيَاءِ: لَوْ سُقِّفَ الْمَسْجِدُ، بِحَرَامٍ حُرِّمَ الْجُلُوسُ تَحْتَهُ، لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْحِرَامِ، قَالَ: فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْقُعُودُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِانْتِفَاعِ بِضَوْءِ سِرَاجِ غَيْرِهِ، وَالنَّظَرِ فِي مِرْآتِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَوْلِ عَلَيْهِمَا، وَهُمَا جَائِزَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ إِلَخْ، مَمْنُوعٌ أَيْضًا فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَمْ يُبْنَ لَهُ دُخُولُهُ لِنَحْوِ الْمُرُورِ وَالنَّوْمِ بِهِ، وَلَا حَظْرَ فِي ذَلِكَ اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْحَظْرِ الْحُرْمَةُ، وَإِلَّا فَالْمُرُورُ مَكْرُوهٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَالنَّوْمُ فِيهِ تَفْصِيلٌ كَمَا سَبَقَ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ، (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ ) .

743 - وَعَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ، فَلَا تُجَالِسُوهُمْ ; فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ» ) ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 743 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) ، أَيِ: الْبَصْرِيِّ (مُرْسَلًا) : إِذْ هُوَ تَابِعِيٌّ [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ» ) ، أَيْ: كَلَامُهُمْ وَمُحَادَثَتُهُمْ ( «فِي مَسَاجِدِهِمْ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ» ) : وَهِيَ: مَوْضُوعَةٌ لِأَمْرِ دِينِهِمْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: الْكَلَامُ الْمُبَاحُ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ (فَلَا تُجَالِسُوهُمْ) ، أَيْ: هَؤُلَاءِ النَّاسَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ بِالْمَسْجِدِ (فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ) ، أَيْ: فِي إِتْيَانِهِمْ إِلَى الْمَسْجِدِ وَعِبَادَتِهِمْ فِيهِ (حَاجَةٌ) : هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ طَاعَتِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ بَرَاءَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخُرُوجِهِمْ عَنْ ذِمَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَّا فَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَاجَةِ مُطْلَقًا، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ وَوَضْعِهِمُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ; لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يُبْنَ إِلَّا لِلْعِبَادَاتِ، قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَلَيْسَ لِأَهْلِ اللَّهِ فِي مُجَالَسَتِهِمْ حَاجَةٌ، (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ ) .

744 - وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ فَجِئْتُهُ بِهِمَا فَقَالَ مِمَّنْ أَنْتُمَا - أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا -؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَأَوْجَعْتُكُمَا ; تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 744 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: قَائِمًا، قَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ، كَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُولِ بِالْقَافِ، وَفِي رِوَايَةٍ: نَائِمًا، وَيُؤَيِّدُهَا رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: مُضْطَجِعًا (فَحَصَبَنِي رَجُلٌ) ، أَيْ: رَجَمَنِي بِالْحَصْبَاءِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ (فَنَظَرْتُ، فَإِذَا) وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ (هُوَ) ، أَيِ: الرَّجُلُ الْحَاصِبُ (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ) ، أَيِ: الرَّجُلَيْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا (فَجِئْتُهُ بِهِمَا فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟) أَيْ: مِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ وَجَمَاعَةٍ (أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟) ، أَيْ: مِنْ أَيِّ بَلَدٍ (قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ) : وَهُوَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِكُلٍّ مِنَ السُّؤَالَيْنِ (قَالَ: لَوْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَأَوْجَعْتُكُمَا) : إِذْ لَا عُذْرَ لَكُمَا حِينَئِذٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، يَعْنِي: أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَعْرِفُونَ حُرْمَةَ مَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَلَا يُسَامَحُونَ مُسَامَحَةَ الْغُرَبَاءِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، وَبِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، قَالَ مِيرَكُ: وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ جَلْدًا أَيْ ضَرْبًا بِالْجَلْدِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ تَبَيَّنَ كَوْنُ هَذَا الْحَدِيثِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَتَوَعَّدُهُمَا بِالْجَلْدِ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرٍ تَوْقِيفِيٍّ، (تَرْفَعَانِ) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيَانِ، وَقِيلَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُمَا قَالَا: لِمَ تُرَجِّعُنَا ; قَالَ: لِأَنَّكُمَا تَرْفَعَانِ، وَقَوْلُهُ: (أَصْوَاتَكُمْ) : قَالَ الْمَالِكِيُّ: الْمُضَافُ الْمُثَنَّى مَعْنًى إِذَا كَانَ جُزْءَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ نَحْوُ: أَكَلْتُ رَأْسَ شَاتَيْنِ، وَجَمْعُهُ أَجْوَدُ نَحْوُ: (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، وَالتَّثْنِيَةُ مَعَ أَصَالَتِهَا قَلِيلَةُ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُزْأَهُ، فَالْأَكْثَرُ مَجِيئُهُ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ نَحْوِ: سَلَّ الزَّيْدَانِ سَيْفَيْهِمَا، وَإِنْ أُمِنَ اللَّبْسُ جَازَ جَعْلُ الْمُضَافِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَمَا فِي: يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَصْوَاتِ هُنَا الْجَمْعُ حَقِيقَةً إِذْ لِكُلِّ حَرْفٍ صَوْتٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟) ، أَيْ: خُصُوصًا إِذْ مَعَ شَرَافَتِهِ لَهُ زِيَادَةُ مَزِيَّةٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَبْرِهِ حَيٌّ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يُكَرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْعِلْمِ ; فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ بِعَلَمٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْتُ النَّاسَ قَدِيمًا يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَكُونُ بِمَجْلِسِهِ، وَأَنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَا أَدْرِي فِيهِ خَيْرًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا رَافِعًا صَوْتَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ ; قَالَ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا كَرَاهِيَةَ فِيهِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» ) ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَسْجِدِ، بَلْ سِيَاقُهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، نَعَمْ صَحَّ «عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِيِ حَيْدَرٍ فِي دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ أَنَّهَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ الشَّطْرَ» ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَرَكَ الْإِنْكَارَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْكَرَاهِيَةِ اهـ، كَلَامُهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا نِسْبَةُ نَفْيِ مُطَلَّقِ الْكَرَاهِيَةِ إِلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ إِذْ مَذْهَبُهُ كَرَاهِيَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ بِالذِّكْرِ، نَعَمْ جَوَّزَ التَّدْرِيسَ فِي الْمَسْجِدِ وَالْبَحْثِ فِيهِ، حَيْثُ لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى الْمُصَلِّينَ أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُصَلُّونَ، وَمِنْهَا: إِسْنَادُ الِاحْتِجَاجِ إِلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنُهُ فِي الْمَسْجِدِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الْكَرَاهِيَةِ مُطْلَقًا إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ، وَعَلَى التَّسْلِيمِ فِي الْمُنْكَرِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ بِرَفْعِ الصَّوْتِ لَا يُكْرَهُ إِجْمَاعًا، وَمِنْهَا: جَوَابُهُ عَنْ حَدِيثِ كَعْبٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] الْآيَةَ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

745 - وَعَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَنَى عُمَرُ رَحَبَةً فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ تُسَمَّى الْبُطَيْحَاءَ، وَقَالَ: مَنْ كَانَ - يُرِيدُ أَنَّ يَلْغَطَ، أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ ; فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحَبَةِ، رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 745 - (وَعَنْ مَالِكٍ) : الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ (قَالَ: بَنَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَحَبَةً فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ) : أَيْ: فَضَاءً فِي خَارِجِ الْمَسْجِدِ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَحَبَةُ الْمَكَانِ - وَتُسْكَنُ - سَاحَتُهُ وَمُتَّسَعُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّحَبَةُ بِالْفَتْحِ الصَّحْرَاءُ بَيْنَ أَفَنِيَةِ الْقَوْمِ، وَرَحَبَةُ الْمَسْجِدِ سَاحَتُهُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: لَيْسَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَدْخُلَ رَحَبَةَ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً، وَتَحْرِيكُ الْحَاءِ أَحْسَنُ اهـ، وَفِيهِ وَأَمَّا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهَا دُكَّانٌ وَسَطَ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، كَانَ عَلِيٌّ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ يَقْعُدُ فِيهِ وَيَعِظُ (تُسَمَّى) ، أَيْ: تِلْكَ الرَّحَبَةُ (الْبُطَيْحَاءَ) : وَلَعَلَّهَا فُرِشَ فِيهَا الْبَطْحَاءُ (وَقَالَ) ، أَيْ: عُمَرُ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَلْغَطَ) : اللَّغَطُ: صَوْتٌ وَضَجَّةٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمُرَادُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ (أَوْ يُنْشِدُ شِعْرًا) ، أَيْ: لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: شِعْرًا مَذْمُومًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ مُطْلَقًا (أَوْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ) : وَلَوْ بِالذِّكْرِ (فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحَبَةِ) : فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا أَسْهَلُ وَأَهْوَنُ (رَوَاهُ) ، أَيْ: مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) : بِالْهَمْزِ وَالْأَلِفِ، وَقَدْ سَبَقَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى مِثْلِ صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ هَذَا، وَكَانَ حَقُّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَنَى رَحَبَةً، ثُمَّ يَقُولَ: رَوَاهُ مَالِكٌ.

746 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ، إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، وَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ; فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ) ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: (أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا» ) ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 746 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُخَامَةً) : بِالضَّمِّ (فِي الْقِبْلَةِ) ، أَيْ: جِدَارِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِي الْقِبْلَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْمِحْرَابَ الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّاسُ قِبْلَةً ; لِأَنَّ الْمَحَارِيبَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ اتِّخَاذَهَا وَالصَّلَاةَ فِيهَا قَالَ الْقُضَاعِيُّ: وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ - يَوْمَئِذٍ عَامِلٌ لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلَكِ عَلَى الْمَدِينَةِ لَمَّا أَسَّسَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَدَمَهُ، وَزَادَ فِيهِ: وَيُسَمَّى مَوْقِفُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ مِحْرَابًا لِأَنَّهُ أَشْرَفُ مَجَالِسِ الْمَسْجِدِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْقَمَرِ مِحْرَابٌ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَنَازِلِ، وَقِيلَ: الْمِحْرَابُ مَجْلِسُ الْمَلِكِ سُمِّي بِهِ لِانْفِرَادِهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ لِانْفِرَادِ الْإِمَامِ فِيهِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُحَارِبُ فِيهِ الشَّيْطَانَ قَالَ الطِّيبِيُّ: النُّخَامَةُ الْبُزَاقَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَمِنْ مَخْرَجِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ الْآتِي: فَلَا يَبْزُقَنَّ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ غَيْرُ صَحِيحٍ إِذِ الْخَاءُ الْمُعْجَمَةُ مَخْرَجُهَا أَدَقُّ الْحَلْقِ، وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: النُّخَاعَةُ وَالنُّخَامَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْخَيْشُومِ عِنْدَ التَّنَحْنُحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: النُّخَاعَةُ وَالنُّخَامَةُ أَوْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْخَيْشُومِ، (فَشَقَّ) ، أَيْ: صَعُبَ (ذَلِكَ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ رُؤْيَةِ النُّخَامَةِ (عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ) ، أَيْ: أَثَرُ الْمَشَقَّةِ إِلَى وَجْهِهِ) : وَهُوَ مَجْهُولُ رَأْيٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفِعْلِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ (فَقَامَ) ، بِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ (فَحَكَّهُ بِيَدِهِ) : اللَّطِيفَةِ عِوَضًا مِنْ أُمَّتِهِ الضَّعِيفَةِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ سَيِّدَ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ، وَتَوَاضُعًا لِرَبِّهِ جَلَّ حَقُّهُ، وَمَحَبَّةً لِبَيْتِهِ [فَقَالَ: ( «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ» ) ، أَيْ: دَخَلَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ (فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ) ، أَيْ: يُخَاطِبُهُ بِلِسَانِ الْقَائِلِ كَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَبِلِسَانِ الْحَالِ كَأَنْوَاعِ أَحْوَالِ الِانْتِقَالِ، وَلِذَا قِيلَ: الصَّلَاةُ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ ( «وَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ» ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَقْصِدَ رَبَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَيَصِيرُ بِالتَّقْدِيرِ كَانَ مَقْصُودٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَأَمَرَ أَنْ تُصَانَ تِلْكَ الْجِهَةُ عَنِ الْبَزَّارِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. (فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ) : أَيْ: جِهَةَ (قِبْلَتِهِ) : لِأَنَّهُمَا أَشْرَفُ الْجِهَاتِ، وَالْبُزَاقُ إِلَى الْقِبْلَةِ دَائِمًا مَمْنُوعٌ فَالشَّرْطِيَّةُ لِإِفَادَةِ زِيَادَةِ الْقُبْحِ (وَلَكِنْ) ، أَيْ: لِيَبْصُقْ (عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ) ، أَيِ: الْيَسَارِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَمْرُ بِالْبُصَاقِ عَنْ يَسَارِهِ وَتَحْتَ قَدَمِهِ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يَبْصُقُ إِلَّا فِي ثَوْبِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى شَيْءٍ لَهُ مَفْرُوشٍ فِيهِ، فَلَهُ الْبُزَاقُ عَلَيْهِ فِي جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنَّ الْبُزَاقَ إِنَّمَا يَنْزِلُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَلَا يُصِيبُ أَجْزَاءَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَمَا ذَكَرَهُ مَفْهُومٌ مِنِ انْطِلَاقِ قَوْلِهِ: إِلَّا فِي ثَوْبِهِ، فَلَيْسَ فِيهِ نَظَرٌ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ، فَتَأَمَّلْ، وَتَصْوِيرُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَخْذِ رِدَائِهِ وَالِاقْتِصَادِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَفْرِشُونَ تَحْتَهُمْ مِنْ ثِيَابِهِمْ شَيْئًا. (ثُمَّ أَخَذَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ) ، أَيْ: بَزَقَ فِيهِ (ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ) ، أَيْ: بَعْضَ رِدَائِهِ (عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا) ، أَيْ: مِثْلَ هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ، وَإِذَا فَعَلَ فَلْيَكُنْ فِي جِهَةِ الْيُسْرَى، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ) .

747 - وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، - وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -، فَقَالَ «إِنْ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا، فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمِهِ حِينَ فَرَغَ: (لَا يُصَلِّي لَكُمْ) ، فَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، فَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: نَعَمْ، وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّكَ قَدْ آذَيْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 747 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ - هُوَ: وَفِي نُسْخَةٍ: وَهُوَ (رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَلَعَلَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا) ، أَيْ: صَلَّى بِهِمْ إِمَامًا، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا وَفْدًا (فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ) ، أَيْ: فِي جِهَتِهَا (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ، أَيْ: يُطَالِعُ فِيهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمِهِ) : لَمَّا رَأَى مِنْهُ قِلَّةَ الْأَدَبِ [حِينَ فَرَغَ: لَا يُصَلِّي لَكُمْ) : بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَصْلُ الْكَلَامِ لَا تُصَلِّ لَهُمْ، فَعَدَلَ إِلَى النَّفْيِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مُنَافَاةً، وَأَيْضًا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ غَضَبٍ شَدِيدٍ، حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْهُ مَحَلًّا لِلْخِطَابِ، وَكَانَ هَذَا النَّهْيُ فِي غَيْبَتِهِ (فَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ ; فَمَنَعُوهُ) : فَسَأَلَ عَنْ سَبَبِ الْمَنْعِ (فَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ) ، أَيِ: الرَّجُلُ (ذَلِكَ) ، أَيْ: مَنَعَ الْقَوْمُ إِيَّاهُ عَنِ الْإِمَامَةِ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَقَالَ: ذَكَرُوا أَنَّكَ مَنَعْتَنِي عَنِ الْإِمَامَةِ بِهِمْ، أَكَذَلِكَ هُوَ؟ (فَقَالَ) ، أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نَعَمْ) : أَنَا أَمَرْتُهُمْ بِذَلِكَ (وَحَسِبْتُ) ، أَيْ: قَالَ الرَّاوِي وَظَنَنْتُ (أَنَّهُ) ، أَيِ: الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) ، أَيْ: لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى نَعَمْ (إِنَّكَ قَدْ آذَيْتَ) ، أَيْ: (خَالَفْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) : وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57] وَذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّ إِيذَاءَ رَسُولِهِ لِمُخَالَفَةِ نَهْيِهِ - لَاسِيَّمَا بِحَضْرَتِهِ - مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ إِيذَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهَذَا مِنْهُ مَبْنِيُّ عَلَى جَعْلِ الْإِيذَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ قَالَ مِيرَكُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْحَدِيثُ السَّائِبُ بْنُ خَلَّادٍ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، فَتَفَلَ بِالْقِبْلَةِ وَهُوَ يُصَلِّي لِلنَّاسِ، فَلَمَّا كَانَ صَلَاةُ الْعَصْرِ أَرْسَلَ إِلَى آخَرَ فَأَشْفَقَ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ: (لَا، وَلَكِنَّكَ تَفَلْتَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَأَنْتَ تَؤُمُّ النَّاسَ، فَآذَيْتَ اللَّهَ وَالْمَلَائِكَةَ» ) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.

748 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «احْتَبَسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَنِ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ سَرِيعًا فَثُوِّبَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَا بِصَوْتِهِ، فَقَالَ لَنَا: (عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ) ، ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَيْنَا ثُمَّ قَالَ: (أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمُ الْغَدَاةَ: إِنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَثْقَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْتُ لَبَّيْكَ رَبِّ! ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَهَا ثَلَاثًا) ، قَالَ: (فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ! قَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ; قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوَضُوءِ حِينَ الْكَرِيهَاتِ، قَالَ: ثُمَّ فِيمَ قُلْتُ: فِي الدَّرَجَاتِ، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، قَالَ: سَلْ، قَالَ: قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنَّهُ أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي. وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حَبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَحْبُكُ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ) فَـ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا» ) ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 748 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: احْتَبَسَ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ، وَرُوِيَ مَجْهُولًا (عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ) أَيْ يَوْمًا أَوْ صَاحِبَةِ غَدَاةٍ، وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الزَّاوَلِ، أَيْ: سَاعَةً مِنْ أَوَّلِهَا (عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (حَتَّى كِدْنَا) ، أَيْ: قَارَبْنَا (نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ) : وُضِعَ مَوْضِعَ نَرَى لِلْجَمْعِ قَالَ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الِاعْتِنَاءِ بِالْفِعْلِ، وَسَبَبُ تِلْكَ الْكَثْرَةِ خَوْفُ طُلُوعِهَا الْمُفَوِّتِ لِأَدَاءِ الصُّبْحِ (فَخَرَجَ سَرِيعًا) ، أَيْ: مُسْرِعًا أَوْ خُرُوجًا سَرِيعًا (فَثُوِّبَ) ، أَيْ: أُقِيمُ (بِالصَّلَاةِ) : وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: أَقَامَهَا مُوهِمٌ (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَجَوَّزَ) ، أَيْ: خَفَّفَ وَاقْتَصَرَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ - سِيَّمَا فِي الصُّبْحِ - لِمَا يَقْتَضِيهِ الْوَقْتُ (فِي صَلَاتِهِ) ، أَيْ: مَعَ أَدَاءِ الْأَرْكَانِ (فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَا) ، أَيْ: نَادَى (بِصَوْتِهِ فَقَالَ لَنَا) ، أَيْ: رَفَعَ صَوْتَهُ بِقَوْلِهِ لَنْا (عَلَى مَصَافِّكُمْ) ، أَيِ: اثْبُتُوا عَلَيْهَا جَمْعُ مَصَفٍّ، وَهُوَ مَوْضِعُ الصَّفِّ (كَمَا أَنْتُمْ) ، أَيْ: عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، أَوْ ثُبُوتًا مِثْلَ الثُّبُوتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ النِّدَاءِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ وَتَقَدُّمٍ وَتَأْخِيرٍ (ثُمَّ انْفَتَلَ) ، أَيِ: انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوْ أَقْبَلَ مِنَ الْقِبْلَةِ [إِلَيْنَا، ثُمَّ قَالَ: (أَمَا)

بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ) : السِّينُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ (مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ) مَا: مَوْصُولَةٌ (الْغَدَاةَ) : نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (إِنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ) ، أَيْ: بَعْضَهُ (فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ) ، أَيْ: مِقْدَارَ مَا قُدِّرَ أَوْ يُسِّرَ (لِي) : مِنْ صَلَاةٍ (" فَنَعَسْتُ ") ، بِالْفَتْحِ مِنَ النُّعَاسِ، وَهُوَ النَّوْمُ الْقَلِيلُ التَّهَجُّدِ (فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَثْقَلْتُ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: غَلَبَ عَلَيَّ النُّعَاسُ أَوْ بِرَجَاءِ الْوَحْيِ (فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي) : إِذْ لِلْمُفَاجَأَةِ، أَيْ: فَاجَأَ اسْتِثْقَالِي رُؤْيَتِي (تَبَارَكَ وَتَعَالِي) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّنْزِيهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ (فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ) ، أَيْ: صِفَةٍ، أَوْ كَانَ التَّجَلِّي ضَرُورِيًّا أَوْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ فِي النَّوْمِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْتُ لَبَّيْكَ) ، أَيْ: إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، وَإِطَاعَةً بَعْدَ إِطَاعَةٍ، إِيمَاءً إِلَى دَوَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ (رَبِّ) : بِحَذْفِ النِّدَاءِ وَيَاءِ الْإِضَافَةِ (قَالَ: فِيمَ) : مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ حُذِفَ أَلِفُهَا (يَخْتَصِمُ) ، أَيْ: يَبْحَثُ (الْمَلَأُ الْأَعْلَى) ، أَيِ: الْأَشْرَافُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ (قُلْتُ: لَا أَدْرِي قَالَهَا ثَلَاثًا) ، أَيْ: قَالَ تَعَالَى هَذِهِ الْمَقُولَةَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهَا جَوَابُهَا ثَلَاثًا، وَأَجَبْتُ عَنْهَا: بِلَا أَدْرَى تَأْكِيدًا لِلِاعْتِرَافِ بِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَفِي تَأْخِيرِ " قَالَهَا ثَلَاثًا " إِلَى مَا قَرَّرْنَاهُ (قَالَ: (فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ (حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ) ، أَيْ: لَذَّةَ آثَارِهِ (بَيْنَ ثَدْيَيَّ) ، أَيْ: فِي صَدْرِي أَوْ قَلْبِي (فَتَجَلَّى) ، أَيِ: انْكَشَفَ وَظَهَرَ (لِي كُلُّ شَيْءٍ) ، أَيْ: مِمَّا أَذِنَ اللَّهُ فِي ظُهُورِهِ لِيَ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ مُطْلَقًا، أَوْ مِمَّا يَخْتَصِمُ بِهِ الْمَلَأُ الْأَعْلَى خُصُوصًا (وَعَرَفْتُ) : حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: عَرَفْتُهُ عِيَانًا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ) ، أَيْ: أَوَّلًا وَآخِرًا ( «قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ» ) ، أَيْ: لِلسَّيِّئَاتِ (قَالَ: مَا هُنَّ؟) ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (وَمَا هُنَّ) ، بِزِيَادَةِ الْوَاوِ (قُلْتُ: مَشْيُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ) ، أَيْ: لِلصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ (وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ) أَيِ الَّتِي هِيَ رَوْضَاتُ الْجَنَّاتِ (بَعْدَ الصَّلَوَاتِ) ، أَيِ: الْمُقْتَضَيَاتُ (وَإِسْبَاغُ الْوَضُوءِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيُضَمُّ، أَيْ: إِكْمَالُهُ (حِينَ الْكَرِيهَاتِ) ، أَيْ: وَقْتَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنْ أَيَّامِ الْبُرُودَاتِ أَوْ أَزْمِنَةِ الْغَلَاءِ فِي ثَمَنِ الْمَاءِ (قَالَ: ثُمَّ فِيمَ؟) : أَيْ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى أَيْضًا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْدِيمِ الْكَفَّارَاتِ، (قُلْتُ:) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: قُلْتُ: (فِي الدَّرَجَاتِ) ، أَيْ: فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّاتِ الْعَالِيَاتِ (قَالَ: وَمَا هُنَّ؟) بِالْوَاوِ (قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ: قُلْتُ (إِطْعَامُ الطَّعَامِ) ، أَيْ: إِعْطَاؤُهُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ (وَلِينُ الْكَلَامِ) ، أَيْ: لِلَّهِ مَعَ الْأَنَامِ (وَالصَّلَاةُ) ، أَيْ: بِاللَّيْلِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَالنَّاسُ نِيَامٌ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَالنِّيَامُ جَمْعُ نَائِمٍ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: ثُمَّ قَالَ (سَلْ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الدَّعَوَاتُ بَعْدَ الطَّاعَاتِ. (قُلْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ، قَالَ: قُلْتُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيِ الْمَأْمُورَاتِ (وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيِ: الْمَنْهِيَّاتِ (وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ) : يَحْتَمِلُ الْإِضَافَتَيْنِ، وَالْأَنْسَبُ بِمَا قَبْلَهُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ (وَأَنْ تَغْفِرَ لِي) : مَا فَرَطَ مِنِّي مِنْ

السَّيِّئَاتِ (وَتَرْحَمَنِي) : بِقَبُولِ مَا صَدَرَ عَنِّي مِنَ الْعِبَادَاتِ (وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً) ، أَيْ: ضَلَالَةً أَوْ عُقُوبَةً (فِي قَوْمٍ) ، أَيْ: جَمْعٍ أَوْ قَبِيلَةٍ (فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ) ، أَيْ: وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى طَلَبِ الْعَافِيَةِ وَاسْتِدَامَةِ السَّلَامَةِ إِلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ (وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَسْأَلُكَ حُبَّكَ إِيَّايَ، أَوْ حُبِّيَ إِيَّاكَ، أَقُولُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ فَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: (وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ) : وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِضَافَةَ هُنَا إِلَى الْمَفْعُولِ أَنْسَبُ لِأَنَّهُ إِلَى التَّوَاضُعِ أَقْرَبُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ) : فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَالِبٌ لِمَحَبَّتِهِ لِيَعْمَلَ حَتَّى يَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنَ الْمَحَبَّةِ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي تَسْمِيَتِهِ بِحَبِيبِ اللَّهِ لَا يَخْلُو مِنْ هَذَا الْقَوْلِ اهـ. وَقَوْلُهُ: لَا يَخْلُو ظَاهِرٌ، وَلَا يَخْلُو مِنِ احْتِمَالٍ آخَرَ، [فَـ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّهَا) أَيْ: هَذِهِ الرُّؤْيَا (حَقٌّ) ، رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، فَادْرُسُوهَا، أَيْ فَاحْفَظُوا أَلْفَاظَهَا الَّتِي ذَكَرْتُهَا لَكُمْ فِي ضِمْنِهَا، أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حَقٌّ فَادْرُسُوهَا، أَيِ: اقْرَءُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا أَيْ مَعَانِيَهَا الدَّالَّةَ هِيَ عَلَيْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: لِتَعْلَمُوهَا فَحَذَفَ اللَّامَ أَيْ لَامَ الْأَمْرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَيْ لِذَاتِهِ، صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَوْ صَحِيحٌ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ التَّرْدِيدِ، أَيْ لِلتَّنْوِيعِ يَعْنِي هُوَ عِنْدَ قَوْمٌ حَسَنٌ، وَعِنْدَ آخَرِينَ صَحِيحٌ، وَيُؤَيِّدُهُ سُؤَالُهُ الْبُخَارِيَّ وَجَوَابُهُ الْآتِي. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَهُ إِسْنَادَانِ، هُوَ بِأَحَدِهِمَا حَسَنٌ وَبِالْآخَرِ صَحِيحٌ، أَوْ أَرَادَ بِالْحُسْنِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَا تَأْبَاهُ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ أَيِ الْبُخَارِيَّ صَاحِبَ الصَّحِيحِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ إِسْنَادِهِ فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

749 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ، قَالَ [فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ سَائِرَ الْيَوْمِ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 749 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ) أَيْ: أَرَادَ دُخُولَهُ عِنْدَ وُصُولِ بَابِهِ (أَعُوذُ) أَيْ: أَعْتَصِمُ وَأَلْتَجِئُ (بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) ، أَيْ: ذَاتًا وَصِفَةً (وَبِوَجْهِهِ) أَيْ: ذَاتِهِ (الْكَرِيمِ) ، أَيِ الْمُحْسِنِ إِلَى عِبَادِهِ فَضْلًا عَنْ عِبَادِهِ وَسُلْطَانِهِ؛ أَيْ غَلَبَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ (الْقَدِيمِ) أَيِ الْأَزَلِيِّ الْأَبَدِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ شَطَنَ أَيْ بَعُدَ يَعْنِي: الْمَبْعُودِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، الرَّجِيمِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ: الْمَطْرُودِ مِنْ بَابِ اللَّهِ أَوِ الْمَشْتُومِ بِلَعْنَةِ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ يَعْنِي: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ وَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ وَخَطَوَاتِهِ وَخَطَرَاتِهِ وَتَسْوِيلِهِ وَإِضْلَالِهِ، فَإِنَّهُ السَّبَبُ فِي الضَّلَالَةِ، وَالْبَاعِثُ عَلَى الْغَوَايَةِ وَالْجَهَالَةِ، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي الْمُضِلُّ - وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ لَمَا تَعَوَّذْتُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَحْقَرُ وَأَصْغَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّعَوُّذُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَخْلَاقِهِ مِنَ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَالْإِبَاءِ وَالْإِغْوَاءِ (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَإِذَا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ: وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا (قَالَ) أَيْ: قَائِلٌ (ذَلِكَ) ] أَيِ: الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَالَ الْمُؤْمِنُ ذَلِكَ (قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ) ، أَيْ: بَقِيَّتَهُ أَوْ جَمِيعَهُ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَوْ يُرَادُ بِالْيَوْمِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ وَيَشْمَلُهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ إِنَّ أُرِيدَ حَفِظُهُ مِنْ جِنْسِ الشَّيَاطِينِ تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى حِفْظِهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ كَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَوْ مِنْ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ فَقَطْ بَقِيَ الْحِفْظُ عَلَى عُمُومِهِ وَمَا يَقَعُ مِنْهُ مِنْ إِغْوَاءِ جُنُودِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَنَّا نَرَى وَنَعْلَمُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَيَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ وَإِنْ لَمْ أَرَهُ اهـ.

750 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِيَ وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ) ، رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 750 - (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) : تَابِعِيٍّ مَشْهُورٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» ) ، أَيْ: لَا تَجْعَلْ قَبْرِي مِثْلَ الْوَثَنِ فِي تَعْظِيمِ النَّاسِ، وَعَوْدِهِمْ لِلزِّيَارَةِ بَعْدَ بَدْئِهِمْ، وَاسْتِقْبَالِهِمْ نَحْوَهُ فِي السُّجُودِ، كَمَا نَسْمَعُ وَنُشَاهِدُ الْآنَ فِي بَعْضِ الْمَزَارَاتِ وَالْمَشَاهِدِ (اشْتَدَّ) : وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ لَامَ الشَّيْطَانِ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَرِينُهُ الْمُوَكَّلُ عَلَى إِغْوَائِهِ، وَأَنَّ الْقَائِلَ بِبَرَكَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الذِّكْرِ يُحْفَظُ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ يَعْنِي بَعْضَ الْمَعَاصِي، وَتَعْيِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِهِ يَرْتَفِعُ أَصْلُ الْإِشْكَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: اشْتَدَّ (غَضَبُ اللَّهِ) : تَرَحُّمًا عَلَى أُمَّتِهِ وَتَعَطُّفًا لَهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّا وَقَعَ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ (عَلَى قَوْمٍ) : وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ( «اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ) ، رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا] ، أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ.

751 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَحِبُّ الصَّلَاةَ فِي الْحِيطَانِ» . قَالَ بَعْضُ رُوَاتِهِ - يَعْنِي الْبَسَاتِينَ -: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، أَوِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَدْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ. 751 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْتَحَبُّ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (الصَّلَاةُ) ، أَيِ: النَّافِلَةُ أَوْ مُطْلَقًا (فِي الْحِيطَانِ) ، أَيْ: فِي جَنْبِ الْجُدْرَانِ لِئَلَّا يَمُرَّ عَلَيْهِ مَارٌّ، أَوْ لَا يَشْغَلَهُ شَيْءٌ (قَالَ بَعْضُ رُوَاتِهِ - يَعْنِي الْبَسَاتِينَ -) ، لَا شَكَّ أَنَّ الْحِيطَانَ تَجِئُ. بِمَعْنَى الْبَسَاتِينِ، أَمَّا كَوْنُهَا هُنَا مُرَادَّةً فَمَحَلُّ بَحْثٍ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ حِكْمَتَهُ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، قَدْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ) .

752 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَائِهِ أَلْفِ صَلَاةٍ» (، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 752 - (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةُ الرَّجُلِ) ، أَيْ: مُنْفَرِدًا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ (فِي بَيْتِهِ) : قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَغَيْرُهُ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ غَيْرُ النَّافِلَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ) ، نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَعُمُّ النَّافِلَةَ مَعَ كَوْنِهِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (بِصَلَاةٍ) أَيْ: تُحْسَبُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ لَهَا مُضَاعِفَةٌ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مُضَاعَفَةٌ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ مِنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَمِنْ حَيْثُ أَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، (وَصَلَاتُهُ) ، أَيِ: الْفَرْضَ جَمَاعَةً كَذَا قِيلَ، وَالْعُمُومُ أَظْهَرُ (فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِلِ) ، أَيْ: مَسْجِدِ الْحَيِّ (بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً) ، أَيْ: بِالْإِضَافَةِ إِلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ لَا مُطْلَقًا لِمَا تَقَدَّمَ (وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ فِيهِ) ، أَيْ: يُصَلِّي فِيهِ الْجُمُعَةِ (بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ) ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَسْجِدِ الْحَيِّ (وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) ، يَعْنِي: مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ: هُوَ أَقْصَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ مَكَّةَ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ أَبْعَدُ مِنْهُ: لِأَنَّهُ وَقِيلَ لَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَوْضِعُ عِبَادَةٍ يُرْحَلُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: لِبُعْدِهِ عَنِ الْأَقْذَارِ وَالْخَبَائِثِ، وَ (الْمَقْدِسِ) الْمُطَهَّرِ عَنْ ذَلِكَ (بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ) ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَهُ، وَفِي هَامِشِ أَصْلِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَعَلَيْهَا نُسْخَةٌ ظَاهِرَةٌ، ( «وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ» ) أَيْ: بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا يَلِيهِ (" «وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» ) ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ بَعْضِ الْأَعْدَادِ فِي بَعْضٍ، فَإِنَّهُ يَنْتُجُ مُضَاعَفَةٌ كَثِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ وَافَقَنِي كَمَا سَيَأْتِي كَلَامُهُ، (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)

وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا الْخَطَّابِ الدِّمَشْقِيَّ لَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ تَرْجَمَتُهُ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ، كَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: أَبُو الْخَطَّابِ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: مَجْهُولُ نَقَلَهَ مِيرَكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ إِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ، وَقَدْ يُقَالُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَوْهُ بِأَنَّ رِوَايَتَهُمْ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ بِخَمْسٍ، أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، تُحْمَلُ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ أَوَّلًا، ثُمَّ زِيدَ هَذَا الْمِقْدَارُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَا مَا جَاءَ أَنَّ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِأَلْفٍ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَصَلَاةً بِمَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَلْفِ صَلَاةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، كَانَ أَوَّلًا، ثُمَّ زِيدَ فِيهِمَا فَجَعَلَ الْأَوَّلَ بِخَمْسِينَ أَلْفًا فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَالثَّانِي بِخَمْسِينَ أَلْفًا فِي الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ مَكَّةَ، بِمِائَةِ أَلْفٍ فِي مَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَحِينَئِذٍ فَتَزْدَادُ الْمُضَاعَفَةُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، فَتَأَمَّلْهُ ضَارِبًا مِائَةَ أَلْفٍ فِي خَمْسِينَ أَلْفِ أَلْفٍ، ثُمَّ الْحَاصِلُ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا تَجِدْ صِحَّةَ مَا ذَكَرْتُهُ، وَإِيضَاحَ مَا حَرَّرْتُهُ.

753 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: (ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى) ، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ عَامًا) ؟ . ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 753 - - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ: جُعِلَ مُتَعَبَّدًا لَا أَنَّهُ مَبْنِيٌّ بِجُدْرَانٍ (أَوَّلُ؟) : بِضَمِّ اللَّامِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهِيَ ضَمَّةُ بِنَاءٍ لِقِطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ مِثْلُ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَالتَّقْدِيرُ أَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَحُوزُ الْفَتْحُ مَصْرُوفًا وَغَيْرَ مَصْرُوفٍ نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَقَوْلُهُ: مَصْرُوفًا أَيْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; لِأَنَّ الرَّسْمَ مَا يُسَاعِدُهُ هُنَا، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مَصْرُوفٍ أَيْ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَعَدَمِ انْصِرَافِهِ لِوَزْنِ الْفِعْلِ وَالْوَصْفِيَّةِ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 42] ، [قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) : فَإِنَّهُ حَدَّدَهُ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ ، قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ ، قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ رَفَعَا قَاعِدَةَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بَعْدَمَا انْهَدَمَ، وَزَادَا فِيهِ [قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ عَامًا) : قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى الْكَعْبَةَ، وَسُلَيْمَانَ بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ يَعْنِي، وَهُوَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ عَامٍ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّوَارِيخِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ هُوَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى خِلَالَ ثَلَاثَاهُ، وَالْأَوْجَهُ فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى أَوَّلِ الْبِنَاءِ، وَوَضْعِ أَسَاسِ الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنْ بَنَى الْكَعْبَةَ، وَلَا سُلَيْمَانُ أَوَّلَ مَنْ بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى الْكَعْبَةَ آدَمُ، ثُمَّ انْتَشَرَ وَلَدُهُ فِي الْأَرْضِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ وَضَعَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ بَنَى إِبْرَاهِيمُ الْكَعْبَةَ، قَالَ الشَّيْخُ: قَدْ وَجَدْتُ مَا يَشْهَدُ لَهُ فَذِكْرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي كِتَابِ التِّيجَانِ أَنَّ آدَمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ أَمْرَهُ اللَّهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) ، وَأَنْ يَبْنِيَهُ فَبَنَاهُ وَنَسَكَ فِيهِ، وَبِنَاءُ آدَمَ لِلْبَيْتِ مَشْهُورٌ اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَدَ عَلَى هَذَا الْمُسْتَشْكِلِ بِأَنَّهُ جَهِلَ التَّارِيخَ، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ مُجَدِّدٌ لَا مُؤَسِّسٌ، وَالَّذِي، أَسَّسَهُ هُوَ يَعْقُوبُ بَعْدَ بِنَاءِ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَاغْتَرَّ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِفَهْمِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَدَاوُدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَرَدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا أَلْفَ سَنَةٍ وَلَيْسَ كَمَا فَهِمَ، وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ: وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ بُنِيَا قَدِيمًا ثُمَّ خُرِّبَا ثُمَّ بُنِيَا، وَكُلٌّ اسْتُفِيدَ مِنَ الْحَدَثِ أَنَّ مَسْجِدَ مَكَّةَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ بِالْأَرْضِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ بِنَاءٍ وُضِعَ بِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لِلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]

وَسَبَبُ نُزُولِهَا قَوْلُ الْيَهُودِ: (بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَعْبَةِ) ، وَقَوْلُ الْمُسْلِمِينَ عَكْسَهُ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ فَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ مَا ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ، فَخَلَقَهُ قَبْلَهَا بِأَلْفَيْ عَامٍ وَدَحَاهَا مِنْ تَحْتِهَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى الْمَاءِ، عَلَيْهَا مَلَكَانِ يُسَبِّحَانِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُضِعَ الْبَيْتُ فِي الْمَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ غُثَاءً عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمِنْهَا دُحِيَتِ الْأَرْضُ، وَقِيلَ إِنَّ (آدَمَ حِينَ أُهْبِطَ اسْتَوْحَشَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ وَاصْنَعْ حَوْلَهُ نَحْوَ مَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي فَبَنَاهُ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَمَّا كَانَ الطُّوفَانُ رُفِعَ فَصَارَ سُورًا فِي السَّمَاءِ، وَبَنَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَثَرِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بَنَاهُ آدَمُ وَحَوَّاءُ لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَأَمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَبَنَاهُ آدَمُ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالطَّوَافِ بِهِ، وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ النَّاسِ، وَهَذَا أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ وَأَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ شِيثُ بْنُ آدَمَ، وَكَانَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَهُ يَاقُوتَةً حَمْرَاءَ يَطُوفُ بِهَا آدَمُ يَأْنَسُ بِهَا، لِأَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ دُثِرَ مِنَ الطُّوفَانِ إِلَى أَنْ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ: كَانَتْ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ بِالْأَرْضِ لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ " {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] " أَهُوَ بَيْتٌ بُنِيَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: لَا، كَانَ نُوحٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ الْبُيُوتُ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَبْلَهُ، وَكَانَ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِيهِ الْبَرَكَةُ وَالْهُدَى، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، فَتَبَيَّنَ عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ غَيْرُ الْبَنَّاءِ، وَصَحَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذَا الْقَوْلَ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ مِنَ الْآيَةِ إِذْ وَضْعُ اللَّهِ لَهُ هُوَ جَعْلُهُ مُتَعَبَّدًا، فَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْأَوَّلِيَّةِ بَيَانُ الْفَضِيلَةِ تَرْجِيحًا لَهُ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَا تَأَثُّرَ لِأَوْلَوِيَّتِهِ فِي الْبِنَاءِ فِي هَذَا الْفَضْلِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي الْإِسْلَامِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَلِكَ بِمَسْجِدِ قُبَاءٍ (ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ) : أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ (مَسْجِدٌ) مَوْضِعُ صَلَاةٍ (فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَصْلَةٌ بِهَاءِ السَّكْتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي سَأَلْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ عَنْ أَمَاكِنَ بُنِيَتْ مَسَاجِدَ وَاخْتُصَّتِ الْعِبَادَةُ بِهَا، وَأَيُّهَا أَقْدَمُ زَمَانًا؟ فَأَخْبَرْتُكَ بِوَضْعِ الْمَسْجِدَيْنِ وَتَقَدُّمِهِمَا عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، ثُمَّ أُخْبِرُكَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي مِنْ رَفْعِ الْجَنَاحِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ فِيهَا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ: فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِلَفْظِ: وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ، وَمَرَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُصَلِّي حَتَّى يَبْلُغَ مِحْرَابَهُ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ مَعْنَى حَدِيثِ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ، وَجُعِلَتْ لِغَيْرِي مَسْجِدًا لَا طَهُورًا ; لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَيُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ اهـ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لِعِيسَى مَوَاضِعَ مِحْرَابًا لَهُ، أَوْ خُصَّ عِيسَى بِالْعُمُومِ لِكَوْنِهِ تَابِعًا لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. أَيْ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَهُوَ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ سَتَرْتَهُ إِذَا غَطَّيْتَهُ، وَبِالْكَسْرِ وَاحِدُ السُّتُورِ، وَالْأَسْتَارِ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِطَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ.

[باب الستر]

[بَابُ السَّتْرِ]

[8] بَابُ السَّتْرِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 754 - عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلًا بِهِ، فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [8] بَابُ السَّتْرِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 754 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : هُوَ رَبِيبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ، وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ قُرَشِيٌّ مَخْزُومِيٌّ (قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلًا» ) : بِالنَّصْبِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ وَالْحَمَوِيِّ بِالْجَرِّ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ، أَوِ الرَّفْعِ عَلَى الْحَذْفِ، كَذَا قَالَ الْأَبْهَرِيُّ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَى الْحَذْفِ، أَيْ: حَذَفِ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: وَهُوَ مُشْتَمِلٌ (بِهِ) ، أَيْ: بِأَنْ لَفَّهُ بِبَدَنِهِ يَعْنِي اتَّزَرَ بِبَعْضِهِ، وَأَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ، وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ، وَرُوِيَ مُشْتَمِلًا بِالنَّصْبِ أَيْ فِي إِزَارٍ طَوِيلٍ مُشْتَمِلًا، مَالَ الطِّيبِيُّ: وَالِاشْتِمَالُ التَّوَشُّحُ وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ طَرَفَيِ الثَّوْبِ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُسْرَى، وَيَأْخُذُ طَرَفَهُ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَعْقِدُهَا عَلَى صَدْرِهِ يَعْنِي لِئَلَّا يَكُونَ سَدْلًا (فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ) : مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَاضِعًا طَرَفَيْهِ) : تَفْسِيرَ مُشْتَمِلًا (عَلَى عَاتِقَيْهِ) : الْعَاتِقُ: مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى أَصْلِ الْعُنُقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ مِيرَكُ.

755 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا يُصَلِّينَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 755 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ» ) : قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: لَا يُصَلِّي، بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، وَهُوَ خَبَرٌ، بِمَعْنَى النَّهْيِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ) ، الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ حَالٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: حِكْمَتُهُ أَنَّهُ إِذَا اتَّزَرَ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، يَأْمَنُ مِنْ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا جَعَلَ بَعْضَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى إِمْسَاكِهِ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدَيْهِ، فَيَشْتَغِلُ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَتَفُوتُ السُّنَّةُ وَالزِّينَةُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . قُلْتُ: فِي كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَتَأَمَّلْ، وَإِنَّمَا اضْطَرَّهُمْ إِلَى مَا ذَكَرُوا جَعْلُ ضَمِيرِ " مِنْهُ " إِلَى ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى مُطْلَقِ الثَّوْبِ، فَيُفِيدُ سُنِّيَّةَ وَضْعِ الرِّدَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ طَرَفِ الْإِزَارِ، وَغَيْرِهِ إِلَى الْكَتِفِ، وَكَرَاهِيَةَ تَرْكِهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَا زَادَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي رِوَايَةٍ عَلَى إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَطْرَحُهُ عَلَى عَاتِقِهِ طَرَحَ حَبْلًا حَتَّى لَا يَخْلُوَ مِنْ شَيْءٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: ارْتَدُوا وَلَوْ بِحَبْلٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ مُفَصَّلًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لَهُ: ( «إِذَا صَلَّيْتَ وَعَلَيْكَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ» ) ، وَلَفَظُ مُسْلِمٍ: ( «فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوَيْكَ» ) ، فَتَحْصُلُ مِنْهُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَخْلُوَ الْعَاتِقُ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْأَدَبِ، وَأَنْسَبُ إِلَى الْحَيَاءِ مِنَ الرَّبِّ، وَأَكْمَلُ فِي أَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ الْمَطْلَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْجُمْهُورُ: وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَلَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ سَاتِرٍ عَوْرَتَهُ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ، وَأَمَّا أَحْمَدُ وَبَعْضُ السَّلَفِ فَنَسَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُصَلِّيَنَّ لَيْسَ فِيهِمَا، بَلْ فِيهِمَا لَا يُصَلِّي، وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى عَاتِقَيْهِ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا فِيهِ عَلَى عَاتِقِهِ، وَالثَّالِثِ: أَنَّ قَوْلَهُ مِنْهُ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ، قَالَ: وَفِي غَرَائِبِ مَالِكٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ بِلَفْظِ: لَا يُصَلِّ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ بِلَفْظِ لَا يُصَلِّيَنَّ اهـ، أَيْ: بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ.

756 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ» ) ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 756 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [قَالَ: قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ» ) ، أَيْ: (وَاحِدٍ) ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ [فَلْيُخَالِفْ] : يَعْنِي: إِذَا كَانَ وَاسِعًا فَلْيُخَالِفْ (بَيْنَ طَرَفَيْهِ) : أَيْ: فَلْيَأْتَزِرْ بِأَحَدِ طَرَفَيْهِ، وَلِيَجْعَلِ الْآخَرَ عَلَى عَاتِقِهِ، وَقِيلَ: يَضَعُ طَرَفَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَالْعَكْسُ، وَقِيلَ: فَلْيَجْعَلْ كَالْمُضْطَبِعِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ضَيِّقًا عَلَى حَقْوَيْهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ )

757 - وَعَنْ عَائِشَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأَتُوْنِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي» ) ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ: ( «كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِيَ» ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 757 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَمِيصَةٍ) : فِي النِّهَايَةِ: الْخَمِيصَةُ ثَوْبٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ مُعَلَّمَةٌ سَوْدَاءُ، وَقِيلَ: لَا تُسَمَّى خَمِيصَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُعَلَّمَةً، وَكَانَتْ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ قَدِيمًا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَعَلَى هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ (لَهَا) ، أَيْ: لِلْخَمِيصَةِ (أَعْلَامٌ) : عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّجْرِيدِ (فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً) ، أَيْ: نَظَرَ عِبْرَةٍ (أَعْلَامٌ) : عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّجْرِيدِ (فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً) ، أَيْ: نَظَرَ عِبْرَةٍ (فَلَمَّا انْصَرَفَ) : أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ [قَالَ: ( «اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: ( «أَلْهَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ اذْهَبُوا بِهَا» ) . (إِلَى أَبِي جَهْمٍ) : قُرَشِيٌّ وَعَدَوِيٌّ كَانَ أَهْدَاهَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَأَتُوْنِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ) : وَإِنَّمَا طَلَبَ أَنْبِجَانِيَّتَهُ بَدَلَهَا لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِرَدِّ هَدِيَّتِهِ، وَهِيَ فَتْحُ الْهَمْزَةِ وَسُكُونُ النُّونِ وَكَسْرُ الْمُوَحَّدَةِ وَتُفْتَحُ وَتَشَدَّدُ التَّحْتِيَّةُ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، وَفِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَحْفُوظِ مِنَ الرِّوَايَةِ وَالِدِّرَايَةِ، فَفِي الْمَعْنَى: هِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، كِسَاءٌ لَا عَلَمَ لَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَنْبِجٌ كَمَجْلِسٍ مَوْضِعٌ، وَكِسَاءٌ مَنْبَجَانِيٌّ وَأَنْبَجَانِيٌّ بِفَتْحِ بَائِهِمَا نِسْبَةً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَحْفُوظُ فِي أَنْبِجَانِيَّةٍ كَسْرُ الْبَاءَ، وَهُوَ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى " مَنْبِجَ " بَلْدَةٍ مَعْرُوفَةٍ بِالشَّامِ وَهِيَ مَكْسُورَةُ الْبَاءِ فَفُتِحَتْ فِي النَّسَبِ وَأُبْدِلَتِ الْمِيمُ بِهَمْزَةٍ، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: أَنْبِجَانُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ تَعَسُّفٌ، وَهُوَ كِسَاءٌ يُتَّخَذُ مِنَ الصُّوفِ لَهُ خَمَلٌ، وَلَا عَلَمَ لَهُ، وَهُوَ مَنْ أَدْوَنِ الثِّيَابِ الْغَلِيظَةِ، وَالْهَمْزَةُ فِيهَا زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَقَدْ حُذِفَ بَعْضُ حُرُوفِهَا وَعُرِّبَ، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَهْدَاهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا أَلْهَاهُ عَلَمُهَا، أَيْ: شَغَلَهُ عَنِ الصَّلَاةِ بِوُقُوعِ نَظْرَةٍ إِلَى نُقُوشِ الْعَلَمِ وَأَلْوَانِهِ، أَيْ: تَفَكَّرَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا لِلرُّعُونَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهِ رَدَّهَا إِلَيْهِ، قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ لِلصُّوَرِ وَالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ تَأْثِيرًا مَا فِي النُّفُوسِ الطَّاهِرَةِ: قِيلَ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَرَاهِيَةِ الْأَعْلَامِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا النَّاسُ عَلَى أَرْدَائِهِمْ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا (فَإِنَّهَا) : أَيِ: الْخَمِيصَةَ (أَلْهَتْنِي) ، أَيْ: شَغَلَتْنِي (آنِفًا) : بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16] ، أَيْ: فِي هَذِهِ السَّاعَةِ (عَنْ صَلَاتِي) ، أَيْ: عَنْ كَمَالِ حُضُورِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي مُسْلِمٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ مِيرَكُ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي خَمِيصَةٍ ذَاتِ أَعْلَامٍ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ (اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْخَمِيصَةِ إِلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي فِي صَلَاتِي» ) فَانْظُرْ فِي اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ. [فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ ( «كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَمَلِهَا وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَأَخَافُ أَنْ يَفْتِنَنِيَ» ) : أَيْ: بِمَعْنَى مِنَ الصَّلَاةِ وَيَشْغَلَنِي عَنْ حُضُورِهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يُلْهِيَنِي عَنِ الصَّلَاةِ لَهْوًا أَتَمَّ مِمَّا وَقَعَ مِنْهَا، وَإِلَّا فَلَا تَنَافِي بَيْنَ جَزْمِهِ بِوُقُوعِ الْإِلْهَاءِ بِهَا ثَمَّ، وَخَشْيَةِ وُقُوعِهِ بِهَا هُنَا فَتَأَمَّلْهُ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ حِكْمَةُ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ حَيْثُ عَبَّرَ أَوَّلًا بِالْإِلْهَاءِ وَثَانِيًا بِالْفِتْنَةِ اهـ. وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، فَأَخَافُ أَنْ يُوقِعَنِيَ فِي الْعَذَابِ أَوْ فِي فِتْنَةٍ تُؤَدِّي إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى أَلْهَتْنِي أَرَادَتْ أَنْ تُلْهِيَنِي فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ: فَأَخَافُ أَنْ يَفْتَتْنِي بِمَعْنَى يُلْهِينِي، بَلْ يَكُونُ الثَّانِي تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ وَلِذَا قِيلَ: إِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهَا، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَشْرِيعًا لِأُمَّتِهِ وَخَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الْإِلْهَاءِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُخَطَّطَاتِ فِي صَلَاتِهِمْ، لَكِنَّ مِنْ زَعَمَ مِنَ الْأُمَّةِ أَنَّ قَلْبَهُ لَا يَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ، فَقَدْ جَهِلَ طَرِيقَ السُّلُوكِ لِأَنَّهُ لَا يُقَاسُ الْحَدَّادُونَ بِالْمُلُوكِ، وَأَمَّا جَزْمُ ابْنِ حَجَرٍ بِأَنَّ قَلْبَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَأَثَّرَ بِذَلِكَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَوْلُ الْأَشْرَفِ تَأْثِيرًا إِمَّا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: يُسَنُّ لِمَنْ صَلَّى فِي ذَلِكَ أَوْ إِلَيْهِ، أَوْ عَلَيْهِ أَنْ يُغْمِضَ بَصَرَهُ، حَتَّى لَا يَخْتَلَّ خُشُوعُهُ وَحُضُورُهُ، قُلْتُ: سَبَقَ مِنْهُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَوْ إِلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ، وَتَغْمِيضُ الْعَيْنِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، فَكَيْفَ يُسَنُّ مَكْرُوهٌ لِدَفْعِ مَكْرُوهٍ، مَعَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

758 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ «كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا ; فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 758 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ قِرَامٌ) : وَهُوَ بِالْكَسْرِ سِتْرٌ رَقِيقٌ فِيهِ نُقُوشٌ وَرَقْمٌ كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْقِرَامُ هُوَ السِّتْرُ الرَّقِيقُ، وَقِيلَ الصَّفِيقُ مِنْ صُوفٍ ذِي أَلْوَانٍ، وَقِيلَ مُطَلَّقُ السِّتْرِ، وَقِيلَ الْقِرَامُ السِّتْرُ الرَّقِيقُ وَرَاءَ السِّتْرِ الْغَلِيظِ وَلِذَا أَضَافَهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَقِيلَ: الْقِرَامُ سِتْرٌ، (لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ جَانِبَ الْبَابِ وَجَانِبَ الْجِدَارِ (فَقَالَ) : أَيْ لَهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ [النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَمِيطِي) : أَيْ: أَزِيلِي (عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ) : الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَوِ الْقِرَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَإِنَّهَا فَالضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ (لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ) : جَمْعُ تَصْوِيرٍ. بِمَعْنَى الصُّورَةِ، أَيْ: تَمَاثِيلُهُ أَوْ نُقُوشُهُ (تَعْرِضُ) ،] ، أَيْ: لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ يَعْنِي: تَظْهَرُ (فِي صَلَاتِي) : وَتَشْغَلَنِي عَنْهَا، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، أَيْ: مُنْفَرِدًا بِهِ قَالَ مِيرَكُ.

759 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُّوجَ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: (لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ» ) ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 759 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) : مِنْ قَبِيلَةِ جُهَيْنَةَ كَانَ وَالِيًا عَلَى مِصْرَ لِمُعَاوِيَةَ (قَالَ: أُهْدِيَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُّوجُ حَرِيرٍ) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ هُوَ الْقَبَاءُ الَّذِي شُقَّ مِنْ خَلْفِهِ (فَلَبِسَهُ) : قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَوَّلِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى فِي قَبَاءِ دِيبَاجٍ ثُمَّ نَزَعَةٍ، وَقَالَ (نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ) ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ (ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا لِشَرِّهِ لَهُ) : لِمَا فِيهِ مِنَ الرُّعُونَةِ أَوْ لِمَا جَاءَهُ الْوَحْيُ بِالنَّهْيِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَنَزَعَهُ نَزْعَ الْكَارِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الرُّعُونَةِ كَمَا بَدَا لَهُ فِي الْخَمِيصَةِ، وَقِيلَ: كَانَ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا لَبِسَهُ اسْتِمَالَةً لِقَلْبِ مَنْ أَهْدَاهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، أَوْ صَاحِبُ دُومَةَ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ اهـ، كَلَامُهُ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنَّ لُبْسَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا لِلِاسْتِمَالَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، سِيَّمَا صَلَاتُهُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ يُنَافِيهِ نَزْعُهُ الْكَارِهُ [ثُمَّ قَالَ: (لَا يَنْبَغِي) ، أَيْ: لَا يَلِيقُ (هَذَا لِمُتَّقِينَ) (أَيْ: لِلْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُتَّقِينَ عَنِ الشِّرْكِ، وَلَا يَنْبَغِي. بِمَعْنَى لَا يَجُوزُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَ مِيرَكُ.

الفصل الثاني 760 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أَصِيدُ؟ أَفَأُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَازْرُرْهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني 760 - (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) : هُوَ أَسْلَمِيٌّ، مَدَنِيٌّ، وَكَانَ مِنَ الْمُبَايِعِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ مِنْ أَشْجَعِ النَّاسِ رَاجِلًا (قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي رَجُلٌ أَصِيدُ» ) ، كَأَبِيعُ، أَيْ: أَصْطَادُ، وَفِي نُسْخَةٍ: كَأُكْرِمُ، فِي النِّهَايَةِ: رَوَى أَصِيدُ أَيْ لَهُ عِلَّةٌ فِي رَقَبَتِهِ لَا يُمْكِنُ الْتِفَاتٌ مَعَهَا، وَالْمَشْهُورُ أَصِيدُ مِنْ الِاصْطِيَادِ، وَالثَّانِي أَنْسَبُ ; لِأَنَّ الصَّيَّادَ يَطْلَبُ الْخِفَّةَ، وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ الْإِزَارُ مِنَ الْعَدْوِ خَلْفَ الصَّيْدِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ ذَكَرَ الْمَعْنَيَيْنِ وَمَا فَرَّقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ [أَفَأُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ (نَعَمْ) ، أَيْ: صَلِّ فِيهِ (وَازْرُرْهُ) : بِضَمِّ الرَّاءِ، أَيِ: اشْدُدْهُ (لَوْ بِشَوْكَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ جَيْبُ الْقَمِيصِ وَاسِعًا تَظْهَرُ مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَزُرَّهُ لِئَلَّا يَكْشِفَ الْعَوْرَةَ، قَالَ فِي شَرْحِ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ: وَمِنْ آدَابِ الصَّلَاةِ زَرَّ الْقَمِيصِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ سَتْرَ عَوْرَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَحْلُولَ الْجَيْبِ، فَنَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ أَفْتَى بَعْضُ الْمَشَايِخِ بِأَنَّهُ إِذَا رَأَى عَوْرَتَهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ، (وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) ، أَيْ: بِمَعْنَاهُ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، بَلْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

761 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يُصَلِّي مُسْبِلَ إِزَارِهِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ) فَذَهَبَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَكَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مُسْبِلٌ إِزَارَهُ (وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ رَجُلٍ مُسْبِلٍ إِزَارَهُ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 761 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُصَلِّي مُسْبِلَ إِزَارِهِ) : صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِرَجُلٍ أَيْ: مُرْسَلَةً أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبِ تَبَخْتُرًا وَخُيَلَاءَ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمُسْبِلُ الَّذِي يُطَوِّلُ ثَوْبَهُ وَيُرْسِلُهُ إِلَى الْأَرْضِ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَبَخْتُرًا وَاخْتِيَالًا اهـ، وَإِطَالَةُ الذَّيْلِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَمَالِكٌ يُجَوِّزُهَا فِي الصَّلَاةِ دُونَ الْمَشْيِ لِظُهُورِ الْخُيَلَاءِ فِيهِ، (قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: بَعْدَ صَلَاتِهِ لِكَوْنِ صَلَاتِهِ صَحِيحَةً، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَقَالَ: (اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ) : قِيلَ: لَعَلَّ السِّرَّ فِي أَمْرِهِ بِالتَّوَضُّؤِ، وَهُوَ طَاهِرٌ أَنْ يَتَفَكَّرَ الرَّجُلُ فِي سَبَبِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَيَقِفَ عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَأَنَّ اللَّهَ بِبَرَكَةِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِيَّاهُ بِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ يُطَهِّرُ بَاطِنَهُ مِنْ دَنَسِ الْكِبْرِ ; لِأَنَّ طَهَارَةَ الظَّاهِرِ مُؤَثِّرَةٌ فِي طَهَارَةِ الْبَاطِنِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ) : فَكَأَنَّهُ جَاءَ غَيْرَ مُسْبِلٍ إِزَارَهُ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ؟) ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ طَاهِرٌ [قَالَ: ( «إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مُسْبِلٌ إِزَارَهُ» ) : وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ، أَيْ: قَبُولًا كَامِلًا صَلَاةَ رُجُلٍ مُسْبِلٍ إِزَارَهُ، ظَاهِرُ جَوَابِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ إِنَّمَا أَعَادَهُ بِالْوُضُوءِ، وَالَّذِي أَعْلَمُ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُصَلِّي وَمَا تَعَلَّقَ الْقَبُولُ الْكَامِلُ بِصَلَاتِهِ، وَالطَّهَارَةُ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ وَأَجْزَائِهَا الْخَارِجَةِ فَسَرَى عَدَمُ الْقَبُولِ إِلَى الطَّهَارَةِ أَيْضًا، فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الطَّهَارَةِ حَثًّا عَلَى الْأَكْمَلِ وَالْأَفْضَلِ، فَقَوْلُهُ: يُصَلِّي، أَيْ: يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ الْمُسْبِلُ بِقَطْعِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ الْوُضُوءِ، فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي التَّقْرِيبِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ، مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ نَقَلَهُ مِيرَكُ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبْصَرَ رَجُلًا يُصَلِّي، وَقَدْ أَسْدَلَ ثَوْبَهُ فَدَنَا مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَعَطَفَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ» .

762 - وَعَنْ عَائِشَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 762 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُقْبَلُ) : بِالتَّأْنِيثِ أَصَحُّ، وَالْمَعْنَى لَا تَصِحُّ إِذِ الْأَصْلُ فِي نَفْيِ الْقَبُولِ نَفْيُ الصِّحَّةِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الثِّيَابَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ طَوَافُهُمْ عُرَاةً، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْفُرُوعِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ مَسَائِلِهِ، (صَلَاةُ حَائِضٍ) ، أَيْ: بَالِغَةٍ (إِلَّا بِخِمَارٍ) ، أَيْ: مَا يُتَخَمَّرُ بِهِ مِنْ سَتْرِ رَأْسٍ، وَهَذَا فِي الْحَرْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَأَرَادَ بِهَا بِهَا الْحُرَّةَ الَّتِي بَلَغَتْ سِنَّ الْحَيْضِ، وَقِيلَ: الْأَصْوَبُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَائِضِ مِنْ شَأْنِهَا الْحَيْضُ لِيَتَنَاوَلَ الصَّغِيرَ أَيْضًا، فَإِنَّ سَتْرَ رَأْسِهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ صَلَاتِهَا أَيْضًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَأْسَ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ بِخِلَافِ الْأَمَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، قَالَ: صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

763 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ عَلَيْهَا إِزَارٌ؟ قَالَ: (إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ وَقَفُوهُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 763 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ» ) ، أَيْ: قَمِيصٍ (وَخِمَارٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا) ، أَيْ: لَيْسَ تَحْتَ قَمِيصِهَا أَوْ فَوْقَهُ (إِزَارٌ) ؟ ، أَيْ: وَلَا سَرَاوِيلَ، أَيْ: (قَالَ) ، أَيْ: (إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا) ، أَيْ: كَامِلًا وَاسِعًا (يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا) : قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ ظَهْرَ قَدَمِهَا عَوْرَةٌ يَجِبُ سَتْرُهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوِ انْكَشَفَ شَيْءٌ مِمَّا سِوَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَعَلَيْهَا الْإِعَادَةُ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدَيْنِ الْكَفَّانِ، وَفِي مُخْتَلِفَاتِ قَاضِي خَانْ ظَاهِرُ الْكَفِّ وَبَاطِنُهُ لَيْسَا عَوْرَتَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ظَاهِرُهُ

عَوْرَةٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالذِّرَاعُ عَوْرَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ أَنَّ فِي الْمُقَدَّمَيْنِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ، وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ظَهْرِ الْكَفِّ وَبَطْنِهِ، خِلَافًا لِمَا قِيلَ: إِنَّ بَطْنَهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَظَهْرَهُ عَوْرَةٌ، قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ مَا قِيلَ: وَقَالَ فِي الْخَانِيَةِ: الصَّحِيحُ أَنَّ انْكِشَافَ رُبُعِ الْقَدَمِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ عَوْرَةٌ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ: مَرْفُوعًا مَالَ: وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مَوْقُوفًا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، (وَذَكَرَ) ، أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (جَمَاعَةً) ، أَيْ: مِنَ الرُّوَاةِ (وَقَفُوهُ) ، أَيِ: الْحَدِيثَ (عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ، أَوْ أَحَدُ الرُّوَاةِ جَمَاعَةً مِنَ الْمُحْدَثِينَ وَقَفُوا هَذَا الْحَدِيثَ وَقَصَرَهُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ اهـ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَلَعَلَّ الْمَوْقُوفَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَذَكَرَ هُوَ أَنَّ جَمَاعَةً وَقَفُوهُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَضُرُّ وَقْفُهُمْ لَهُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ مَنْ رَفَعَهُ مَعَهُ زِيَادَةُ عَلَمٍ فَيُقَدَّمُ، وَأَيْضًا هَذَا الْمَوْقُوفُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الرَّأْيِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ» ) ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمُؤْمِنِ لِلْغَالِبِ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رَجُلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ إِلَّا أَنَّ لَهُ شَوَاهِدَ تَجْبُرُهُ وَهِيَ أَحَادِيثُ أَرْبَعَةٌ بِمَعْنَاهُ، وَقِيلَ: (الْعَوْرَةُ السَّوْأَتَانِ فَقَطْ لِمَا فِي مُسْلِمٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كَانَ مَكْشُوفَ الْفَخِذِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَلَمْ يَسْتُرْهُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَسَتَرَهُ» ، وَرَدُّوهُ بِأَنَّ الْمَكْشُوفَ حَصَلَ الشَّكُّ فِيهِ فِي مُسْلِمٍ هَلْ هُوَ السَّاقُ أَوِ الْفَخِذُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ كَشْفِ الْفَخِذِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهِيَ وَاقِعَةُ حَالٍ احْتَمَلَتْ أَنَّ الْمَكْشُوفَ مِنْ نَاحِيَتِهِ لَا مِنْ نَاحِيَتِهِمَا. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ الْكَشْفُ لَهُ حَالَةَ الِاسْتِغْرَاقِ وَالسَّتْرِ بَعْدَمَا أَفَاقَ، وَأَمَّا فِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ، «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَجْرَى فَرَسَهُ فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، ثُمَّ حَسِرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ الشَّرِيفِ حَتَّى رَآهُ أَنَسٌ» ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ انْحَسَرَ بِنَفْسِهِ لِأَجْلِ الْإِجْرَاءِ لِرِوَايَتِهِمَا أَيْضًا، فَانْحَسَرَ الْإِزَارُ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْهَا: أَنَّهُ حَسَنٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قَالَ لِجَرْهَدٍ، بِجِيمٍ وَهَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ: غَطِّ فَخِذَكَ ; لِأَنَّ الْفَخِذَ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ سَتْرُ عَوْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: " «لَا تَمْشُوا عُرَاةً» "، وَلِخَبَرِ أَحْمَدَ وَالْأَرْبَعَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: ( «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: (اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» ) ، ثُمَّ الْعَارِي وَالْمُسْتِرُ وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِمَا، إِلَّا أَنَّهُ يَرَى الثَّانِي مُتَأَدِّبًا، وَالْأَوَّلَ تَارِكًا لِلْأَدَبِ اهـ. وَقَوْلُهُ: " يَجِبُ " لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَوْ يُقَالُ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْذُورَاتِ لِمَا جَاءَ: أَنَّ التَّسْمِيَةَ تَسَتُّرُ الْعَوْرَةَ عَنْ أَعْيُنِ الْجِنِّ، وَالْأَمْرُ اسْتِحْبَابُ التَّسَتُّرِ حَالَةَ الْخَلَاءِ لَا الْوُجُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

764 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ. وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 764 - (وَعَنْ أَبِيً هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ» ) ، قِيلَ: هُوَ إِرْسَالُ الْيَدِ، وَقِيلَ: إِرْسَالُ الثَّوْبِ يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنَ الْخُيَلَاءِ، وَفِي الْفَائِقِ: السَّدْلُ إِرْسَالُ الثَّوْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضُمَّ جَانِبَيْهِ، وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ بِثَوْبِهِ وَيُدْخِلَ يَدَيْهِ مِنْ دَاخِلٍ فَيَرْكَعَ وَيَسْجُدَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِمْ فَنَهَى عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، قَالَ الْقَاضِي: السَّدْلُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: السَّدْلُ أَنْ يَضَعَ الثَّوْبَ عَلَى كَتِفِهِ وَيُرْسِلَ أَطْرَافَهُ عَلَى عَضُدَيْهِ أَوْ صَدْرِهِ، وَقِيلَ: أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ كَتِفِهِ وَيُرْسِلَ أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: هُوَ أَنْ يَجْعَلَ الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى عَاتِقِهِ، وَيُرْسِلَ جَانِبَيْهِ أَمَامَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَالْكُلُّ سَدْلٌ فَإِنَّ السَّدْلَ فِي اللُّغَةِ: الْإِرْخَاءُ وَالْإِرْسَالُ، وَفِي الشَّرْعِ: الْإِرْسَالُ بِدُونِ الْمُعْتَادِ، وَكَرَاهَتُهُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ اهـ. وَحِكْمَتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اشْتِغَالُ الْقَلْبِ، بِمُحَافَظَتِهِ وَالِاحْتِيَاجِ بِمُعَالَجَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ مَغْرُوزًا أَوْ مَرْبُوطًا

بِطَرَفٍ آخَرَ بِحَيْثُ لَا يَخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْوُقُوعِ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا ( «وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ» ) ، أَيْ: فَمَهُ فِي الصَّلَاةِ، كَانَتِ الْعَرَبُ يَتَلَثَّمُونَ بِالْعَمَائِمِ، وَيَجْعَلُونَ أَطْرَافَهَا تَحْتَ أَعْنَاقِهِمْ، فَيُغَطُّونَ أَفْوَاهَهُمْ كَيْلَا يُصِيبَهُمُ الْهَوَاءُ الْمُخْتَلِطُ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، فَنُهُوا عَنْهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ حُسْنَ إِتْمَامِ الْقِرَاءَةِ وَكَمَالَ السُّجُودِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِنْ عَرَضَ لَهُ التَّثَاؤُبُ جَازَ أَنْ يُغَطِّيَ فَمَهُ بِثَوْبٍ أَوْ يَدِهِ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ ذِكْرُ الطِّيبِيِّ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّهْيِ اسْتِمْرَارُهُ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَمِنَ الْجَوَازِ عُرُوضُهُ سَاعَةً لِعَارِضٍ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُغَطِّيَ فَاهُ أَوْ أَنْفَهُ ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ، إِلَّا عِنْدَ التَّثَاؤُبِ، وَالْأَدَبُ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ أَنْ يَكْظِمَهُ، أَيْ: يُمْسِكَهُ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الِانْفِتَاحِ إِنْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: ( «فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ، عَلَى فَمِهِ فَإِنَّ الشَّطِّيَّانَ يَدْخُلُ فِيهِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، «وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ أَوْ كُمَّهُ عَلَى فِيهِ» ، كَذَا رَوَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ يَدَهُ الْيُسْرَى ; لِأَنَّهَا لِدَفْعِ الْأَذَى. قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الْقِيَامِ عِنْدَ وَضْعِ الْيَدَيْنِ، فَيَضَعُ ظَهْرَ يَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى فَمِهِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، التِّرْمِذِيُّ) : وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التِّرْمِذِيِّ: وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ التَّخْرِيجِ قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِسْلٍ، وَهُوَ ابْنُ سُفْيَانَ التَّيْمِيُّ الْيَرْبُوعِيُّ، كُنْيَتُهُ أَبُو قُرَّةَ، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِتَمَامِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ شَطْرَهُ الْأَوَّلَ، وَغَيْرُهُمَا، وَجُزْؤُهُ الْأَخِيرُ صَحِيحٌ كَمَا مَرَّ، وَأَمَّا جُزْؤُهُ الْأَوَّلُ، عَنِ النَّهْيِ عَنِ السَّدْلِ فَضَعَّفَهُ كَثِيرُونَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عُمُومُ النَّهْيِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ إِسْبَالِ الْإِزَارِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَئِمَّتُنَا: يُكْرَهُ إِطَالَةُ الثَّوْبِ عَنِ الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبِ الْأَرْضَ مَا لَمْ يَقْصِدْ خُيَلَاءَ، وَإِلَّا حُرِّمَ.

765 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «خَالِفُوا الْيَهُودَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 765 - (وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ) : هُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَانَ ذَا عِلْمٍ وَحِلْمٍ نَزَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَاتَ بِالشَّامِ، [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خَالِفُوا الْيَهُودَ) ، أَيْ: بِالصَّلَاةِ فِي نَحْوِ النُّعُولَ ( «فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي وَيَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا إِذَا كَانَا طَاهِرَيْنِ (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ يَرْفَعُهُ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَا الْمُنْذِرِيُّ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ، وَقَالَ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَضِيَّتُهُ نَدْبُ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ وَالْخِفَافِ، لَكِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، الْأَدَبُ خَلْعُ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْبَغِي الْجَمْعُ بِحَمْلِ مَا فِي الْخَبَرِ عَلَى مَا إِذَا تَيَقَّنَ طَهَارَتَهَا، وَيَتَمَكَّنُ مَعَهُمَا مِنْ تَمَامِ السُّجُودِ بِأَنْ يَسْجُدَ عَلَى جَمِيعِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، وَمَا فِي الْإِمَامِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ اهـ. وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْمَهَارَةَ، وَلَمْ يُمْكِنْ مَعَهُ إِتْمَامُ السُّجُودِ أَنْ يَكُونَ خَلْعُ النَّعْلِ أَدَبًا مَعَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْأَدَبَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَخِرَ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَلْعُ نَعْلَيْهِ، أَوِ الْأَدَبَ فِي زَمَنِنَا عِنْدَ عَدَمِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ عَدَمِ اعْتِيَادِهِمَا الْخَلْعَ، ثُمَّ سَنَحَ لِي أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: خَالِفُوا الْيَهُودَ فِي تَجْوِيزِ الصَّلَاةِ مَعَ النِّعَالِ وَالْخِفَافِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ أَيْ لَا يُجَوِّزُونَ الصَّلَاةَ فِيهِمَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْفِعْلُ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي تَأْكِيدًا لِلْمُخَالَفَةِ، وَتَأْيِيدًا لِلْجَوَازِ خُصُوصًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الدَّلِيلَ الْفِعْلِيَّ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ.

766 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ، أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ؟) ، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَكَ، فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنْ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا، إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا، فَلْيَمْسَحْهُ، وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 766 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ) : أَيْ: نَزَعَ (نَعْلَيْهِ) ، أَيْ: مِنْ رِجْلَيْهِ (فَوَضَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ) : صَحَّتْ رِوَايَتُهُ بِلَفْظِ (عَنْ) ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّجَاوُزِ، أَيْ:

وَضْعِهِمَا بَعِيدًا مُتَجَاوِزًا عَنْ يَسَارِهِ، وَكَذَلِكَ أَلْقَى الْأَصْحَابُ نِعَالَهُمْ تَأَسِّيًا بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ بِوَضْعِ النِّعَالِ عَلَى الْيَسَارِ دُونَ الْيَمِينِ، قُلْتُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَمِلٍ قَلِيلٍ، (فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ، أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ) : هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مُتَابَعَتِهِمْ [فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاتَهُ، قَالَ: ( «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ» ؟) : بِالنَّصْبِ ( «قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ، فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا» ) : قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ; لِأَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنِ الْحَامِلِ فَأَجَابُوهُ بِالْمُتَابَعَةِ، وَقَرَّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْمُخَصَّصُ [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي) ، أَيْ: لِشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ تَعَالَى بِهِ وَبِعِبَادَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: خُبْثًا، وَفِي أُخْرَى: قَذَرًا أَوْ أَذًى أَوْ دَمَ حَلَمَةٍ، وَهِيَ بِالتَّحْرِيكِ الْقُرَادُ الْكَبِيرُ، قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَصْحِبَ لِلنَّجَاسَةِ إِذَا جَهِلَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ خَلَعَ النَّعْلَ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ، قَالَ: وَمَنْ يَرَى فَسَادَ الصَّلَاةِ حَمَلَ الْقَذَرَ عَلَى مَا تَقَذَّرَ عُرْفًا كَالْمُخَاطِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فَإِخْبَارُهُ إِيَّاهُ بِذَلِكَ كَيْلَا تَتَلَوَّثَ ثِيَابُهُ بِشَيْءٍ مُسْتَقْذَرٍ عِنْدَ السُّجُودِ، قُلْتُ: وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَعْفُوِّ مِنَ النَّجَاسَةِ وَإِخْبَارُهُ إِيَّاهُ لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَأْخِيرِ الْإِخْبَارِ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا بِمَا يُعَلَّمُ، أَوْ لِيُعَلِّمَ الْأُمَّةَ هَذَا الْحُكْمَ مِنَ السُّنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: وَأَجَابَ أَئِمَّتُنَا عَنْ خَبَرِ الْبَابِ بِأَنَّ الْقَذَرَ الْمُسْتَقْذَرُ وَلَوْ طَاهِرًا، وَبِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَكُونُ يَسِيرًا، وَبِأَنَّ رِوَايَةَ خُبْثًا مُفَسَّرَةٌ بِرِوَايَةِ الدَّمِ، (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَنْظُرْ) : أَيْ: فِي نَعْلِهِ (فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ) : أَوْ أَحَدِهِمَا (قَذَرًا، فَلْيَمْسَحْهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: صِيَانَةً لِلْمَسْجِدِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْقَذِرَةِ (وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا) : قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَنَجَّسَ نَعْلُهُ إِذَا ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ طُهْرَ وَجَازَ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ يَرَى خِلَافَهُ أُوِّلَ بِمَا ذَكَرْنَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَحَاصِلُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْخُفَّ أَوْ نَحْوَهُ مِنَ النَّعْلِ نَجَاسَةٌ إِنْ كَانَ لَهَا جِرْمٌ خَفِيفٌ وَمَسَحَهُ بِالتُّرَابِ أَوْ بِالرَّمْلِ، مَسَحَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ يُطَهَّرُ، وَكَذَلِكَ بِالْحَكِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جِرْمٌ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْغَسْلِ بِالِاتِّفَاقِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، قَالَ مِيرَكُ (وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سَنَدُهُ حَسَنٌ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ يَكْفِي مَسْحُهَا مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي رِجَالِهِ، وَعَلَى تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ فَهُوَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فِي طِينِ الشَّارِعِ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَمَسْحُهُ إِنَّمَا هُوَ لِإِذْهَابِ قُبْحِ صُورَتِهِ وَتَقْدِيرُ الْمَسْجِدِ لَا لِكَوْنِهِ يُطَهِّرُهُ.

767 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعْ نَعْلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا عَنْ يَسَارِهِ، فَتَكُونَ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ، إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ يَسَارِهِ أَحَدٌ، وَلِيَضَعْهَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» ) ، وَفَّى رِوَايَةٍ: (أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 767 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ) : أَيْ: أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ (فَلَا يَضَعْ نَعْلَيْهِ) : بِالْجَزْمِ جَوَابٌ إِذَا (عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا عَنْ يَسَارِهِ) : أَيْ: مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (فَتَكُونَ) : بِالتَّأْنِيثِ عَلَى الصَّحِيحِ، أَيْ: فَتَقَعَ النَّعْلُ (عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ بِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلنَّهْيِ، أَيْ: وَضْعُهُ عَنْ يَسَارِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ سَبَبٌ لِأَنْ تَكُونَ عَنْ يَمِينِ صَاحِبِهِ، يَعْنِي: وَفِيهِ نَوْعُ إِهَانَةٍ لَهُ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحِبَّ لِصَاحِبِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ (إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ يَسَارِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: عَلَى يَسَارِهِ (أَحَدٌ) : أَيْ: فَيَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ (وَلْيَضَعْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ) : أَيْ: قُدَّامَهُ إِذَا كَانَ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: زِيَادَةً لَا بَدَلًا.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ أَيْ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلَا يُؤْذِ بِهِمَا أَحَدًا، لِيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» اهـ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ أَوْ خَلْفَهُ لِئَلَّا يَقَعَ قُدَّامَ غَيْرِهِ، أَوْ لِئَلَّا يَذْهَبَ خُشُوعُهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْرَقَ (" أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا ") ، أَيْ: إِنْ كَانَا طَاهِرَيْنِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ الْبَصْرِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ، (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 768 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 768 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (- «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ» ) : فِي الْفَائِقِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ نَبْتَ مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَا، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ أَفْضَلُ إِلَّا لِحَاجَةٍ، كَحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ نَجَاسَةٍ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: الصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ كَالْحَصِيرِ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَفِيهِ خُرُوجٌ عَنْ خِلَافِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، (يَسْجُدُ عَلَيْهِ) : بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنْ يُصَلِّي ( «قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ» ) ، أَيْ: وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

769 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 769 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حَافِيًا» ) : أَيْ: تَارَةً (وَمُتَنَعِّلًا) : أَيْ: أُخْرَى مِنْ الِانْتِعَالِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: مُتَنَعِّلًا مِنَ التَّنَعُّلِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

770 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: صَلَّى جَابِرٌ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِيَ أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 770 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) : مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ (قَالَ: صَلَّى) ، أَيْ: بِنَا كَمَا فِي نُسْخَةِ (جَابِرٍ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ وَثِيَابِهِ) : الْوَاوُ لِلْحَالِ (مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، عِيدَانٍ يُضَمُّ رُءُوسُهَا وَيُفَرَّجُ بَيْنَ قَوَائِمِهَا، وَتُوضَعُ عَلَيْهَا الثِّيَابُ لِتُنْجَرَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟) : هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ مَحْذُوفَةٌ أَنْكَرَهُ إِنْكَارًا بَلِيغًا كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ صَحِبْتَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا شَعَرْتَ بِسُنَّتِهِ فَتُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَثِيَابُكَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَلِذَلِكَ زَجَرَهُ وَسَمَّاهُ أَحْمَقَ (فَقَالَ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِيَ أَحْمَقُ مِثْلُكَ) : فَيَعْلَمُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْأَحْمَقِ الْجَاهِلُ، وَالْحُمْقُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ، (وَأَيُّنَا) ، أَيْ: كَيْفَ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَأَيُّنَا (كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ : فِي الْفَائِقِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبَيْنِ أَفْضَلُ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُ لَعَجَزَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا، وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ، وَأَمَّا صَلَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَفِي وَقْتٍ كَانَ لِعَدَمِ ثَوْبٍ آخَرَ، وَفِي وَقْتٍ كَانَ مَعَ وُجُودِهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ: قُلْتُ: وَفِي وَقْتٍ لِلْمُسَامَحَةِ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ (سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَوَ لِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ» ") قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَفْظُهُ اسْتِخْبَارٌ وَمَعْنَاهُ إِخْبَارٌ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قِلَّةِ الثِّيَابِ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ عَلِمْتُمُ اتِّحَادَ أَثْوَابِنَا وَوُجُوبَ التَّسَتُّرِ، فَلِمَ لَمْ تَعْلَمُوا جَوَازَ الصَّلَاةِ فِيهِ.

771 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ سُنَّةٌ، كُنَّا نَفْعَلُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُعَابُ عَلَيْنَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ إِذَ كَانْ فِي الثِّيَابِ قِلَّةٌ، فَأَمَّا إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ، فَالصَّلَاةُ فِي الثَّوْبَيْنِ أَزْكَى» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ 771 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ سُنَّةٌ) : أَيْ: جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الثَّوْبَيْنِ أَفْضَلَ كَمَا يَأْتِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا، أَيْ: (كُنَّا نَفْعَلُهُ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ) : أَيْ: مَعَ فِعْلِهِ أَوْ حَالِ كَوْنِنَا مَعَهُ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَيُؤَيَّدُ الثَّانِي قَوْلُهُ (وَلَا يُعَابُ عَلَيْنَا) : أَيْ: وَمَا نَهَانَا فَيَكُونُ تَقْرِيرًا نَبَوِيًّا، فَثَبَتَ جَوَازُهُ بِالسُّنَّةِ إِذْ عَدَمُ الْإِنْكَارِ دَلِيلُ الْجَوَازِ لَا دَلِيلَ النَّدْبِ (فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ) ، أَيِ: الْمَذْكُورُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ (إِذَا كَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ إِذْ كَانَ (فِي الثِّيَابِ قِلَّةٌ) ، أَيْ: فِي وَقْتِ كَوْنِ الثِّيَابِ قَلِيلَةً (فَأَمَّا إِذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِذْ (وَسَّعَ اللَّهُ) : بِتَكْثِيرِ الثِّيَابِ، شَرْطِيَّةٌ جَزَاؤُهَا (فَالصَّلَاةُ فِي الثَّوْبَيْنِ) ، أَيِ: الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ (أَزْكَى) ، أَيْ: أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْأَدَبِ فِي حُضُورِ الْمَوْلَى وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَطْهَرُ أَوْ أَفْضَلُ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ النُّمُوُّ الْحَاصِلُ عَنْ بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ طَهَارَةُ النَّفْسِ عَنِ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُحْتَمَلٌ فِي الْحَدِيثِ، أَمَّا الْفَضْلُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَأْمَنُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مِنْ كَشْفِ عَوْرَتِهِ بِهُبُوبِ رِيحٍ أَوْ حَلِّ الْعَقْدِ، أَوْ غَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الثَّوْبَيْنِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ قُلْتُ: وَفِي تَعْلِيلِهِ نَظَرٌ إِذْ لَا يَخْتَلِفُ مَا ذُكِرَ فِي الْإِزَارِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ رِدَاءٌ أَمْ لَا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ أَزْكَى، بِمَعْنَى أَنْمَى، أَيْ: " أَكْثَرُ ثَوَابًا "، أَوْ بِمَعْنَى " أَطْهَرُ " ; لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي هِيَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ، وَفِي خَبَرِ الْبَيْهَقِيِّ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ أَنْ يُتَزَيَّنَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ إِذَا صَلَّى» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «وَصَلَاةٌ بِعِمَامَةٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةٍ بِغَيْرِ عِمَامَةٍ» "، كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ الرِّفْعَةِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ: «صَلَاةٌ بِخَاتَمٍ تَعْدِلُ سَبْعِينَ بِغَيْرِ خَاتَمٍ» ، مَوْضُوعٌ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا عَنْ شَيْخِهِ، وَكَذَا مَا أَوْرَدَهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «صَلَاةٌ بِعِمَامَةٍ تُعْدَلُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَجُمُعَةٌ بِعِمَامَةٍ تَعْدِلُ سَبْعِينَ جُمُعَةٍ» "، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «الصَّلَاةُ فِي الْعِمَامَةِ بِعَشَرَةٍ» ") اهـ، قَالَ الْمُنُوفِيُّ: فَذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب السترة]

[بَابُ السُّتْرَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 772 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عِنْهُمَا قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُحْمَلُ، وَتُنْصَبُ بِالْمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [9]- بَابُ السُّتْرَةِ. هِيَ بِالضَّمِّ مَا يُسْتَتَرُ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَى مَا يَنْصِبُهُ الْمُصَلِّي قُدَّامَهُ مِنْ عَصًا أَوْ سَجَّادَةٍ أَوْ سَوْطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ شَجَرَةٍ أَوْ دَابَّةٍ مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ مَوْضِعُ سُجُودِ الْمُصَلِّي كَيْلَا يَمُرَّ مَارٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَيَكْفِي قَدْرُ ذِرَاعٍ فِي غِلَظِ أُصْبُعٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي السُّتْرَةِ كَفُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا، وَمَنْعُ مَنْ يَجْتَازُ بِقَبِّهِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَدْنُوَ مِنَ السُّتْرَةِ وَلَا يَزِيدَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَصًا وَنَحْوَهَا جَمَعَ حِجَارَةً أَوْ تُرَابًا، وَإِلَّا فَلْيَبْسُطْ مُصَلًّى وَإِلَّا فَلْيَخُطَّ خَطًّا، وَسُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةُ الْمَأْمُومِ إِلَّا أَنْ يَجِدَ الدَّاخِلُ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَلَهُ أَنْ يُمِرَّ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ الثَّانِي لِتَقْصِيرِ أَهْلِ الصَّفِّ الثَّالِثِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ يَجُوزُ تَرْكُ السُّتْرَةِ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُ الْمُرُورَ فِيهِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 772 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى) ، أَيْ: مُصَلَّى (الْعِيدِ وَالْعَنَزَةِ) وَهِيَ بِفَتْحَتَيْنِ، أَطْوَلُ مِنَ الْعَصَا وَأَقْصَرُ مِنَ الرُّمْحِ، وَفِيهَا سِنَانٌ كَسِنَانِ الرُّمْحِ، وَقِيلَ رُمْحٌ قَصِيرٌ، وَقِيلَ: هِيَ مِثْلُ نِصْفِ الرُّمْحِ (بَيْنَ يَدَيْهِ تُحْمَلُ، وَتُنْصَبُ) : أَيْ تُغْرَزُ (بِالْمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: قُدَّامَهُ، أَيْ: قُبَالَةَ أَحَدِ حَاجِبَيْهِ لَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ (فَيُصَلِّي إِلَيْهَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعَ صَلَاتِهِ بِسَجَّادَةٍ، أَوْ يَقِفَ قَرِيبًا مِنْ أُسْطُوَانَةِ الْمَسْجِدِ، أَوْ يَغْرِزَ عَصَا، أَوْ يَخُطَّ خَطًّا مِثْلَ شَكْلِ الْمِحْرَابِ اهـ، وَقِيلَ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ إِلَى الشِّمَالِ وَقِيلَ الْخَطُّ لَا يُجَزِّؤُهُ عَنِ السُّتْرَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَرَوَى: الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: ( «يُجْزِئُ مِنَ السُّتْرَةِ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» ) : وَقَالَ " «اسْتَتِرُوا فِي صَلَاتِكُمْ وَلَوْ بِسَهْمٍ» ".

773 - وَعَنِ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ فِي قُبَّهٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلَالًا أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بِلَالًا أَخَذَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ. مُشَمِّرًا صَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيِ الْعَنَزَةَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 773 - (عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) : هُوَ وَهَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيُّ بِضَمِّ السِّينِ وَالْمَدِّ (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، مَحَلٍّ أَعْلَى مِنَ الْمَعْلَى إِلَى جِهَةِ مِنًى، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَسِيلٌ وَاسِعٌ فِيهِ دِقَاقُ الْحَصَا، وَالْبَطِيحَةُ وَالْبَطْحَاءُ مِثْلُهُ صَارَ عَلَمًا لِلْمَسِيلِ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّيْلُ مِنْ وَادِي مِنًى، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسَمَّى مُحَصَّبًا أَيْضًا (فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ أَدِيمٍ أَيْ: جِلْدٍ (وَرَأَيْتُ بِلَالًا أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ: بَقِيَّةَ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ) ، أَوْ مَا فَضَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي الْوُضُوءِ (وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ) : أَيْ: يَتَسَابَقُونَ (ذَلِكَ الْوَضُوءَ) ، أَيْ: إِلَى أَخْذِ مَاءِ وُضُوئِهِ (فَمَنْ أَصَابَ) : أَيْ: أَخَذَ (مِنْهُ) : أَيْ: مِنْ بِلَالٍ (شَيْئًا) : مِنَ الْمَاءِ، أَوْ صَادَفَ وَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَيْئًا قَلِيلًا وَقَدْرًا يَسِيرًا (تَمَسَّحَ بِهِ) أَيْ مَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ وَأَعْضَاءَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ) : أَيْ: مِنْ بَلَلِ يَدِ بِلَالٍ (أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ) : قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ، وَلِذَا حَجَّمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَشَرِبَ دَمَهُ، نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قُلْتُ: يَحْتَمِلُ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَاءِ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ، أَوْ فَضْلَةَ مَاءِ الْوُضُوءِ، فَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالُ مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ طَهَارَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٍ: بِطَهُورِيَّتِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ فَسَّرَ الْوَضُوءَ بِبَقِيَّةِ الْمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا أَظْهَرُ دَلِيلٍ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ (ثُمَّ رَأَيْتُ بِلَالًا أَخَذَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا) ، أَيْ: غَرَزَهَا (وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُلَّةٍ) : هِيَ بِضَمِّ الْحَاءِ، إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، وَلَا يُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى يَكُونَ ثَوْبَيْنِ، فِي النِّهَايَةِ: جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ حُلَّةٌ قَدِ اتَّزَرَ بِأَحَدِهِمَا وَارْتَدَى بِالْآخَرِ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ (حَمْرَاءَ) ، أَيْ: فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ مِنَ الْبُرُودِ الْيَمَانِيَةِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: «قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ وَكَرِهَ لَهُمُ الْحُمْرَةَ فِي اللِّبَاسِ» ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنْصَرِفًا إِلَى مَا صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْحُلَّةُ حَمْرَاءَ جَمِيعُهَا، بَلْ كَانَ فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ ; لِأَنَّ الثَّوْبَ الْأَحْمَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ لَوْنٌ أَحْمَرُ مَكْرُوهٌ لِلرِّجَالِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُشَابَهَةِ بِالنِّسَاءِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ أَظْهَرُ دَلِيلٍ لِمَذْهَبِنَا أَنْ يَجُوزَ لُبْسُ الْأَحْمَرِ الصِّرْفِ، وَإِنْ كَانَ قَانِئًا، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِلْخِلَافِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ كَثِيرُونَ مِنْ أَئِمَّتِنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ حُرْمَةَ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذُكِرَ بَيْنَ مَا صُبِغَ قَبْلَ النَّسْجِ وَبَعْدَهُ خِلَافًا

لِمَنْ فَرَّقَ (مُشَمِّرًا) ، أَيْ: مُسْرِعًا، وَالتَّشْمِيرُ ضَمُّ الذَّيْلِ وَرَفْعُهُ لِلْعَدْوِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ شَمَّرَ عَنْ سَاقٍ وَتَشَمَّرَ فِي أَمْرِهِ، أَيْ: خَفَّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ رَافِعًا ثِيَابَهُ إِلَى نَحْوِ نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ ثِيَابَهُ مَا كَانَتْ طَوِيلَةً حَتَّى يَرْفَعَهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّمَائِلِ وَغَيْرِهَا أَنَّ إِزَارَهُ كَانَ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ (صَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ) : أَيْ: إِمَامًا بِهِمْ (رَكْعَتَيْنِ) : إِمَّا صَلَاةَ الصُّبُحِ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا (وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ) : فِي الْعَطْفِ مُنَاسَبَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ (يَمُرُّونَ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ لِلْعُقَلَاءِ (بَيْنَ يَدَيِ الْعَنَزَةِ) ، أَيْ: وَرَاءَهَا، وَالْحَالُ أَنَّهُ يُصَلِّي، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمُرُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَيُوَافِقُ مَا يَأْتِي أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُبْطِلُهَا مُرُورُ شَيْءٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمُرُّونَ أَمَامَهَا، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ إِذْ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ الرَّأْيُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ فَائِدَتَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمُرُورَ مِنْ وَرَاءِ السُّتْرَةِ جَائِزٌ، وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي غَرْزِ الْعَنَزَةِ إِذَا كَانَ النَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، بَلْ يَكُونُ عَبَثًا مَحْضًا، سِيَّمَا وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّاوِي مَنْعَهُمْ مِنَ الْمُرُورِ لَا بِالْيَدِ وَلَا بِالتَّسْبِيحِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْمَعْنَى فِي طَلَبِ السُّتْرَةِ، مَنْعُهَا لِمَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَشَغَلَهُ عَمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ، مِنَ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالْحُضُورِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَسَيَأْتِي حَدِيثُ: «إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً فَلْيُصَلِّ وَلَا يُبَالِ مِنْ مُرٍّ وَرَاءَ ذَلِكَ» ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.

774 - وَعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ، قُلْتُ: «أَفَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتِ الرِّكَابُ قَالَ: كَانَ يَأْخُذُ الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ، فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 774 - (وَعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ» ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ يُنِيخُهَا بِالْعَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، - أَيْ تَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، مِنْ عَرَضَ الْعُودَ عَلَى الْإِنَاءِ يَعْرُضُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَضْعُهُ عَرْضًا، وَقَالَ مِيرَكُ: هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَمَعْنَاهُ يَجْعَلُهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (فَيُصَلِّي إِلَيْهَا) ، أَيْ: إِلَى رَاحِلَتِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ) ، أَيْ: عَنْ نَافِعٍ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَابْنِ حَجَرٍ (قُلْتُ) لِابْنِ عُمَرَ (أَفَرَأَيْتَ) : أَيْ أَخْبِرْنِي ظَاهِرَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ، وَالْمَسْئُولُ ابْنُ عُمَرَ، لَكِنْ بَيْنَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ كَلَامُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْمَسْئُولُ نَافِعٌ، فَعَلَى هَذَا هُوَ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّ فَاعِلَ يَأْخُذُ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يُدْرِكْهُ نَافِعٌ، كَذَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَقَالَ نَجْلُهُ مِيرَك شَاهْ: فَعَلَى هَذَا إِيرَادُ مُحْيِي السُّنَّةِ وَصَاحِبِ الْمِشْكَاةِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُمَا ذَكَرَا فِي كِتَابَيْهِمَا كَلَامًا لَمْ يَذْكُرْ قَائِلَهُ فِيهِمَا، مَعَ أَنْ يُوهِمُ خِلَافَ الْوَاقِعِ اهـ. وَلِذَا وَقَعَ فِيهِمَا الشَّارِحَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ، (إِذَا هَبَّتْ) : أَيْ: قَامَتْ لِلسَّيْرِ (الرِّكَابُ) : أَيِ: الْإِبِلُ يَسِيرُ عَلَيْهَا الرَّاكِبُ، الْوَاحِدُ رَاحِلَةً لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، أَيْ: أَخْبَرَنِي كَيْفَ كَانَ يَفْعَلُ عِنْدَ ذَهَابِ الرَّوَاحِلِ إِلَى الْمَرْعِيِّ، وَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُصَلِّي ; وَفِي الْقَامُوسِ: الْهَبُّ وَالْهُبُوبُ ثَوَرَانُ الرِّيحِ وَالِانْتِبَاهُ مِنَ النَّوْمِ وَنَشَاطُ كُلِّ سَائِرٍ وَسُرْعَتُهُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: اسْتِعْمَالُ الْهُبُوبِ فِي الذَّهَابِ مَجَازٌ نَشَأَ عَنْ غَفْلَةٍ مِنَ الْحَقِيقَةِ (قَالَ: كَانَ يَأْخُذُ الرَّجُلَ فَيُعَدِّلُهُ) : بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ، قَالَ مِيرَكُ: بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ يُسَوِّيَهِ وَيُقَوِّمُهُ، كَذَا قَالَهُ شُرَّاحُ الْمَصَابِيحِ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْدِلُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ: يُقِيمُهُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَيَجُوزُ التَّشْدِيدُ اهـ. (فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ) : بِالْمَدِّ وَكَسَرِ الْخَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتَحَاتٍ بِلَا مَدٍّ، وَرَجَّحَهَا الْعَسْقَلَانِيُّ وَقَالَ: وَيَجُوزُ الْمَدُّ أَيْ خَلْفَ الرَّجُلِ وَهُوَ مَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الرَّاكِبُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُنَافِي هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَسْتَتِرُ بِامْرَأَةٍ وَلَا دَابَّةٍ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي التَّتِمَّةُ، لَكِنْ بِزِيَادَةٍ فَقَالَ: لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَتِرَ بِآدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ لِشُبَهِهِ بِعِبَادَةِ عَابِدِي الْأَصْنَامِ، لَكِنْ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى رَاحِلَتِهِ» اهـ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: مَا قَالَهُ فِي الْمَرْأَةِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهَا رُبَّمَا شَغَلَتْهُ، وَأَمَّا الدَّابَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ، وَيُصَلِّي إِلَيْهَا» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغِ الشَّافِعِيَّ، وَمَذْهَبُهُ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ فَتَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِهِ.

إِذْ لَا مَعَارِضَ لَهُ اهـ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ النَّهْيُ وَالتَّشَبُّهُ بِعَبَدَةِ الصَّنَمِ مَدْفُوعٌ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي صُورَةِ الْمُقَابَلَةِ بِالْوَجْهِ، وَلِذَا ضَرَبَ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَظْهَرُ تَعْلِيلُ مَا قَالَهُ فِي الْمَرْأَةِ أَنَّهَا رُبَّمَا شَغَلَتْهُ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُشْتَرَكَةٌ، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَتَخْصِيصُ الْكَرَاهَةِ بِالْمُسْتَيْقِظِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَتَقْيِيدِ إِطْلَاقِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، عَلَى غَيْرِ الْبَعِيرِ الْمَعْقُولِ فِي غَيْرِ الْمَعَاطِنِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ لَعَلَّ مُرَادَهُ إِذَا خَشِيَ بَوْلَ الدَّابَّةِ أَوْ نُفُورَهَا فَيَتَنَجَّسُ أَوْ يَتَشَوَّشُ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّ كُلَّ مَا كُرِهَ اسْتِقْبَالُهُ كَجِدَارٍ مُزَوَّقٍ أَوْ نَجِسٍ لَا يَحْصُلُ التَّسَتُّرُ بِهِ فَلَا يَحْرُمُ الْمُرُورُ، فَإِنَّ الرَّاحِلَةَ لَا تَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ كَمَا لَا يَخْفَى.

775 - وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 775 - (وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ ") : يَعْنِي سُتْرَةً (" «مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَتُفْتَحُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَتُكْسَرُ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: آخِرَةُ الرَّحْلِ بِالْمَدِّ الْخَشَبَةُ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا الرَّاكِبُ وَمُؤْخِرَتُهُ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ أَنْكَرَهَا بَعْضُهُمْ وَلَا تُشَدَّدُ اهـ وَقَوْلُهُ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ أَنْكَرَهَا بَعْضُهُمْ مُنْكَرٌ ; لِأَنَّهَا لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ وَقِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ فِيهَا، وَإِنَّمَا أَبْدَلَ فِي مَثَلِهَا وَرْشٌ وَالسُّوسِيُّ مُطْلَقًا وَحَمْزَةُ وَقْفًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُنْكَرُ مُؤْخِرَةٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ قَيْدِهَا، وَفِي الْقَامُوسِ مُؤْخِرَةٌ وَمُؤَخِّرَةٌ وَتُكْسَرُ خَاؤُهَا مُخَفَّفَةً وَمُشَدَّدَةً، وَفِي الْمُغْرِبِ هِيَ الْخَشَبَةُ الْعَرِيضَةُ الَّتِي تُحَاذِي رَأْسَ الرَّكْبِ (" فَلْيُصَلِّ ") : أَيْ: صَلَاةً كَامِلَةً (" وَلَا يُبَالِ ") ، أَيْ: فِي قَطْعِ خُشُوعِهِ (" مَنْ ") : أَيْ بِمَنْ أَوْ مِمَّنْ (" مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ ") : مِنَ الْمَرْأَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَدْفَعُهُ بِالْإِشَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَاعِلًا، أَيْ: وَلَا يَأْثَمُ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ أَوْ دَابَّةٍ، فَفِي مَنْ نَوْعُ تَغْلِيبٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

776 - عَنْ أَبِي جُهَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «وَلَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ "، قَالَ أَبُو النَّصْرِ: لَا أَدْرِي قَالَ " أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 776 - (وَعَنْ أَبِي جُهَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ، قِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُهَيْمٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَرْثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ ") ، أَيْ: قَاصِدُ الْمُرُورِ وَمُرِيدُهُ (" بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي ") : ظَرْفُ الْمَارِّ (" مَاذَا ") ، أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ (" علَيْهِ ") : مِنَ الْإِثْمِ بِسَبَبِ مُرُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ سَدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِيَعْلَمَ، وَقَدْ عُلِّقَ عَمَلُهُ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ إِبْهَامِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى عَظَمَةِ ذَلِكَ الْإِثْمِ، وَإِنَّهُ وَاصَلٌ إِلَى مَا لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ " " «لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» ") : قَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ: جَوَابُ " لَوْ " لَيْسَ هَذَا الْمَذْكُورَ، بِلَا لِتَقْدِيرِ لَوْ يَعْلَمُ مَاذَا عَلَيْهِ لَوَقَفَ أَرْبَعِينَ، وَلَوْ وَقَفَ أَرْبَعِينَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، قَالَ: وَأُبْهِمَ الْعَدَدُ تَفْخِيمًا لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعْنَاهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي خَيْرًا، لَكَانَ الْوُقُوفُ أَرْبَعِينَ سَنَةً خَيْرًا مِنَ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ اهـ. وَمَا أَبْعَدَهُ عَنِ الْمَرْمَى إِذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَقْدِيرِهِ لَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهِ أَصْلًا، وَتَفُوتُ الْمُبَالَغَةُ الْمَطْلُوبَةُ، بَلْ يَفْسُدُ الْمَعْنَى عَلَى مَذْهَبِهِ الَّذِي يَعْتَبِرُ فِيهِ الْمَفْهُومَ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ مَعَ هَذَا قَالَ: وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ حُرْمَةُ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، بَلْ أَقُولُ: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّقْدِيرُ مِنْ أَصْلِهِ إِذْ يَنْحَلُّ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ فَرْضُ كَوْنِ عِلْمِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ خَيْرًا لَكَانَ إِلَخْ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (قَالَ أَبُو النَّضِرِ: لَا أَدْرِي قَالَ) : أَيْ: أَبُو جُهَيْمٍ (" أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً ") : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْمُرَادُ أَرْبَعُونَ سَنَةً لَا يَوْمًا وَلَا شَهْرًا، نَقَلَهُ الطَّيبِيُّ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ عَيَّنَ الْمَعْدُودَ، لَكِنَّ الرَّاوِيَ تَرَدَّدَ فِيهِ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تَخْصِيصُ الْأَرْبَعِينَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ كَمَالِ طَوْرِ الْإِنْسَانِ بِأَرْبَعِينَ كَالنُّطْفَةِ وَالْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ، وَكَذَا بُلُوغُ الْأَشَدِّ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ مِائَةَ عَامٍ خَيْرًا لَهُ مِنَ الْخُطْوَةِ الَّتِي خَطَاهَا، مُشْعِرٌ بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْأَرْبَعِينَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ، لَا لِخُصُوصِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ نَقَلَهُ مِيرَك شَاهْ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَلَفَظُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ ; لَأَنَّ يَقُومَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا خَيْرًا لِي مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» " رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: " «لَأَنْ يَقِفَ أَحَدُكُمْ مِائَةَ عَامٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ وَهُوَ يُصَلِّي» ": كَذَا ذِكْرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، قَالَ الطَّحَّاوِيُّ فِي مُشَكَّلِ الْآثَارِ: إِنَّ الْمُرَادَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ مُعْتَرِضًا وَهُوَ يُنَاجِي رَبَّهُ وَحِينَئِذٍ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ مَكَانَهُ مِائَةَ عَامٍ خَيْرًا مِنَ الْخُطْوَةِ الَّتِي خَطَاهَا» "، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ أَبِي جُهَيْمٍ ; لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَمَا أَوْعَدَهُمْ بِالتَّخْفِيفِ كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: إِنَّمَا يُكْرَهُ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ حَائِلٌ نَحْوَ السُّتْرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْمُرُورُ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِلِ، وَأَيْضًا إِنَّمَا يَكْرَهُ الْمُرُورُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَائِلِ إِذَا مَرَّ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ مُخْتَارُ السَّرَخْسِيِّ، وَفِي النِّهَايَةِ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى صَلَاةَ الْخَاشِعِينَ بِأَنْ يَكُونَ بَصَرُهُ حَالَ قِيَامِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى الْمَارِّ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ مُخْتَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: هَذَا فِي الصَّحْرَاءِ، أَمَّا فِي الْمَسْجِدِ الصَّغِيرِ فَيُكْرَهُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْكَبِيرِ فَقِيلَ: هُوَ كَالصَّغِيرِ، وَقِيلَ كَالصَّحْرَاءِ، وَرَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

777 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» "، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 777 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ ") ، أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ (" يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ ") ، أَيْ: فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ يَسْتُرُ حَالَهُ وَنَظَرَهُ وَيُبْعِدُهُ مِنْهُمْ وَيُمَيِّزُهُ بِالصَّلَاةِ لَهُمْ (" فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ ") : مِنَ الْجَوَازِ، أَيْ: يَعْبُرَ وَيَمُرَّ وَيَتَجَاوَزَ (" بَيْنَ يَدَيْهِ ") ، أَيْ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ (" فَلْيَدْفَعْهُ ") ، أَيْ: نَدْبًا، وَقِيلَ وُجُوبًا بِالْإِشَارَةِ أَوْ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى نَحْرِهِ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَيُدْرَأُ الْمَارُّ إِذْ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ بِالْإِشَارَةِ أَوِ التَّسْبِيحِ لَا بِهِمَا مَعًا اهـ. وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ فِي مُدَافَعَتِهِ، ثُمَّ ظَاهَرُ الْحَدِيثِ دَفْعُ الْمَارِّ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ، وَلَوْ قِيلَ بِضَعْفِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُجْرَتِي فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ بِيَدِهِ، فَرَجَعَ، ثُمَّ مَرَّتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَمَضَتْ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: هِيَ أَغْلَبُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: هُنَّ أَغْلَبُ (" فَإِنْ أَبَى ") ، أَيِ: امْتَنَعَ (" فَلْيُقَاتِلْهُ ") ، أَيْ: فَلْيَدْفَعْهُ بِالْقَهْرِ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ: كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «فَإِنْ أَبَى إِلَّا بِقَتْلِهِ فَلْيُقَاتِلْ، وَإِنْ أُفْضِي إِلَى قَتْلِهِ إِيَّاهُ» ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ أَبِي فَلْيَقْتُلْهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنْ قَتَلَهُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَفِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ وَفِي الْخَطَأِ الدِّيَةُ، قَالَ: وَهَذَا أَرَادَ الْمُرُورَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ الدَّفْعُ ; لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهُ بِتَرْكِهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ لَا يُبْطَلُ الصَّلَاةَ اهـ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فَإِنْ دَفَعَهُ بِمَا يَجُورُ فَهَلَكَ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ أَوْ يَكُونُ هَدَرًا؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، (" فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ ") : مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ أَوْ فِعْلُهُ فِعْلُ شَيْطَانٍ ; لِأَنَّهُ يُشَوِّشُ الْمُصَلِّيَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ حَمَلَهُ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ شَيْطَانٌ ; لِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ مَارِدٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ (هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَهُ مِيرَك شَاهْ (وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ) : وَاخْتُلِفَ فِيمَا لَوْ لَمْ

يَجِدْ طَرِيقًا سِوَى مَا بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَالظَّاهِرُ جَوَازُ دَفْعِهِ لِدَفْعِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا، فَلَمَّا عُوتِبَ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَكِنَّ هَذَا الْخِلَافَ حَيْثُ لَمْ يُقَصِّرِ الْمُصَلِّي بِأَنْ صَلَّى بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ حَلَّ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِتَقْصِيرِهِ، حَتَّى جَوَّزُوا لَهُ الْمُرُورَ إِلَى الْفُرْجَةِ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ الثَّانِي لِتَقْصِيرِهِمْ بِتَرْكِهَا، وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ يَشْمَلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَدَاخِلَ الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَنَحْوَ الشَّارِعِ وَبَابِ الْمَسْجِدِ وَالدَّرْبِ الضَّيِّقِ الْمَحَلِّ الَّذِي يَغْلِبُ مُرُورُ النَّاسِ فِيهِ فِي وَقْتِ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ كَمَا لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَحَلُّ الْعِبَادَةِ، وَيَخْتَصُّ بِمَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ، وَأَمَّا الشَّارِعُ فَمَوْضُوعٌ لِمُرُورِ الْعَامَّةِ وَيَخْتَصُّ بِمَنْ يَمُرُّ، وَلَا يَجُوزُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ فِي مُرُورِهِ بِدَفْعِهِ وَمَنْعِهِ وَأَمْرِهِ بِالْوُقُوفِ وَنَحْوِهِ، وَلِذَا قِيلَ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ أُحْدِثَتِ الطَّرِيقَ الطَّرِيقَ، وَفِي مَعْنَاهُ ظَهَرَكَ وَحَاشَاكَ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ أَحَدٌ فَتَعَدَّى عَلَيْهِ بِمَنْعِ الْمُرُورِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ حِينَئِذٍ، فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ مُبْطِلٌ لِقِيَاسِهِ، ثُمَّ قَالَ: فَعَلِمَ أَنَّ الْكَعْبَةَ تَكُونُ سُتْرَةً لِمَنْ صَلَّى إِلَيْهَا فِي وَقْتٍ يَقِلُّ فِيهِ طَوَافُ النَّاسِ جِدًّا بِخِلَافِ مَا يَكْثُرُ فِيهِ ازْدِحَامُهُمْ كَالصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِجَوَازِ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ هَذَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ كَمَا ذَكَرَهُ فَهُوَ قِيَاسٌ بَاطِلٌ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُخَصِّصَةِ لِعُمُومِ أَحَادِيثِ الْبَابِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَرِهِ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ لِيَنْظُرَ فِيهَا إِسْنَادًا وَمَتْنًا وَلَفْظًا وَمَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

778 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 778 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَقْطَعُ ") : بِالتَّأْنِيثِ وَيَجُوزُ التَّذْكِيرُ (" الصَّلَاةَ ") ، أَيْ: حُضُورَهَا وَكَمَالَهَا، وَقَدْ يُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الصَّلَاةِ وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى نَصْبِ السُّتْرَةِ (" الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ ") : وَوَجْهُ تَخْصِيصِهَا مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الشَّارِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: الْمُرَادُ بِقَطْعِهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ شَغْلُهَا قَلْبَ الْمُصَلِّي عَنِ الْخُضُوعِ وَالْحُضُورِ وَلِسَانَهُ عَنِ التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَبَدَنَهُ عَنْ مُحَافَظَةِ مَا يَجِبُ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ لَا بُطْلَانُهَا، بِدَلِيلِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى قَطْعِهَا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْحَائِضِ وَالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ (" وَيَقِي ") ، أَيْ: يَحْفَظُ (" ذَلِكَ الْقَطْعَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ ") : وَفِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ تَقَدَّمَتْ، وَمَعْنَاهُ الْعُودُ الَّذِي فِي آخِرِ الرَّحْلِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مُقَيِّدٌ لِرِوَايَةِ إِطْلَاقِ قَطْعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَهَا، لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ لِلْكَلْبِ بِكَوْنِهِ أَسْوَدَ، وَفِيهَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ سَبَبِ اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ: لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا الْحَسَنُ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بِمُرُورِ شَيْءٍ أَمَامَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ سُتْرَةٌ وَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَمْ لَا، وَلَوِ امْرَأَةً وَحِمَارًا أَوْ كَلْبًا وَلَوْ أَسْوَدَ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ.

779 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ كَاعْتِرَاضِ الْجَنَازَةِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 779 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الِاعْتِرَاضُ صَيْرُورَةُ الشَّيْءِ حَائِلًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ، (كَاعْتِرَاضِ الْجَنَازَةِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ جَعَلَتْ نَفْسَهَا بِمَنْزِلَةِ الْجِنَازَةِ دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَمْنَعُ الْمُصَلِّيَ مِنْ حُضُورِ الْقَلْبِ وَمُنَاجَاةِ الرَّبِّ بِسَبَبِ اعْتِرَاضِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، بَلْ كَانَتْ كَالسُّتْرَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِدَفْعِ الْمَارِّ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ

مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ تَخْصِيصِ ذِكْرِ الْمَرْأَةِ وَقَطْعِهَا صَلَاةَ الرَّجُلِ، لِمَا فِيهِ مَا يَقْتَضِي مَيْلَ الرِّجَالِ إِلَى النِّسَاءِ. اهـ. وَقَوْلُهُ: مُوَافِقٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ بَلْ مُنَاقِضٌ لَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْمَرْأَةِ الْقَاطِعَةِ إِنَّمَا هِيَ الْأَجْنَبِيَّةُ أَوِ الْمَوْصُوفَةُ بِالْمُرُورِ، أَوْ فِي حَالَةِ النُّورِ وَالظُّهُورِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرُورَ الْمَرْأَةِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ إِذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اعْتِرَاضِهَا الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِشْغَالُهَا وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَخَبَرُ: «لَا تُصَّلُوا خَلْفَ النَّائِمِ وَالْمُحْدِثِ» ، ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا.

780 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 780 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَشَذَّ كَسْرُهَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: (يَعْنِي الْحِمَارَ الْأُنْثَى (وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ) ، أَيْ: قَارَبْتُ (الِاحْتِلَامَ) ، أَيِ: الْبُلُوغَ (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ) ، أَيْ: إِمَامًا (بِمِنًى) : قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: فِيهِ لُغَتَانِ الصَّرْفُ وَالْمَنْعُ، وَلِهَذَا يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ، وَالْأَجْوَدُ صَرْفُهَا وَكِتَابَتُهَا بِالْأَلِفِ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِمَا يَعْنِي مِنَ الدِّمَاءِ، أَيْ: يُرَاقُ وَيُصَبُّ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ) : قَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبَزَّارِ بِلَفْظِ: وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ لَيْسَ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ» ، لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ سُتْرَةِ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ سُتْرَةٌ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: كَانَ الْبُخَارِيُّ حَمَلَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَأْلُوفِ الْمَعْرُوفِ مِنْ عَادَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ لَا يُصَلِّيَ فِي الْفَضَاءِ إِلَّا وَالْعَنَزَةُ أَمَامَهُ، ثُمَّ أَيَّدَ بِحَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي جُحَيْفَةَ الْمَذْكُورِينَ أَوَّلُ الْبَابِ، وَأَوْرَدَهُمَا عَقِيبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي شَرْحِ الطَّيِّبِي قَالَ الْمُظْهِرُ: قَوْلُهُ إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ أَيْ إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، اهـ، كَلَامُهُ. فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ لَا يَنْفِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ فَسَّرَهُ بِالسُّتْرَةِ قُلْتُ: إِخْبَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُرُورِهِ بِالْقَوْمِ، وَعَنْ عَدَمِ جِدَارِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَظِنَّةُ إِنْكَارٍ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ أَمْرٍ لَمْ يُعْهَدْ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الْمُرُورِ مَعَ عَدَمِ السُّتْرَةِ غَيْرَ مُنْكَرٍ، فَلَوْ فَرَضَ سُتْرَةً أُخْرَى لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِخْبَارِ فَائِدَةٌ، اهـ. قُلْتُ: يُمْكِنُ إِفَادَتُهُ أَنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةُ الْقَوْمِ كَمَا فَهِمَ الْبُخَارِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (فَمَرَرْتُ) ، أَيْ: رَاكِبًا (بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ) ، أَيِ: الْأَوَّلِ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ ذِكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ (فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ) ، أَيْ: تَأْكُلُ الْحَشِيشَ وَتَتَوَسَّعُ فِي الْمَرْعَى، (وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ) ، أَيْ: مَشْيَهُ بِأَتَانِهِ وَبِنَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ (عَلِيَّ أَحَدٌ) : مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَهَا، وَهُوَ إِمَّا لِكَوْنِهِ صَغِيرًا، أَوْ لِوُجُودِ سُتْرَةِ الْإِمَامِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُرُورِ مُطْلَقًا غَيْرَ قَاطِعٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ مُرُورَ الْحِمَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

الفصل الثاني 781 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ قَالَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيَنْصِبْ عَصَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصَى فَلْيَخْطُطْ خَطًّا، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ أَمَامَهُ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني 781 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ) ، أَيْ: أَرَادَ الصَّلَاةَ (" فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ") ، أَيْ: حِذَاءَهُ لَكِنْ إِلَى أَحَدِ حَاجِبَيْهِ لَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ (" شَيْئًا ") ، أَيْ: بِنَاءً أَوْ شَجَرًا أَوْ عُودًا أَوْ عَمُودًا (" فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ") ، أَيْ: شَيْئًا مَنْصُوبًا (فَلْيَنْصِبْ عَصَاهُ ") ، فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، وَلَوْ أَلْقَى عَصَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَمْ يَغْرِزْهَا قِيلَ: يُجَزِئُهُ عَنِ السُّتْرَةِ، وَقِيلَ: لَا، وَفِي الْكِفَايَةِ يَضَعُ طُولًا لَا عَرْضًا لِيَكُونَ عَلَى مِثَالِ الْغَرْزِ (" «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًى، فَلْيَخْطُطْ» ") : بِضَمِّ الطَّاءِ (" خَطًّا ") : حَتَّى يُبَيِّنَ فَصْلًا، فَلَا يَتَخَطَّى الْمَارُّ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدِنَا فَقِيلَ: الْمُخْتَارُ يَخُطُّ خَطًّا كَالْمِحْرَابِ، وَقِيلَ: مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ إِلَى شِمَالِهِ كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، أَنْ يَكُونَ طُولًا فِي قُدَّامِهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: رَأَيْتُ شَرِيكًا صَلَّى بِنَا فَوَضَعَ قَلَنْسُوَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ (" ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ ") ، أَيْ: بَعْدَ اسْتِتَارِهِ (" مَا مَرَّ أَمَامَهُ ") : أَيْ أَمَامَ سُتْرَتِهِ، (رَوَاهُ، أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَمْ نَجِدْ شَيْئًا نَشُدُّ بِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَجِئْ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى ضَعْفِهِ وَاضْطِرَابِهِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، سُئِلَ عَنْ وَصْفِ الْخَطِّ غَيْرَ مَرَّةٍ فَقَالَ: هَكَذَا عَرْضًا مِثْلَ الْهِلَالِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَسَمِعْتُ مُسَدَّدًا قَالَ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: الْخَطُّ بِالطُّولِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْخَطِّ فَقِيلَ: يَكُونُ مُقَوَّسًا كَهَيْئَةِ الْمِحْرَابِ، وَقِيلَ قَائِمًا مَمْدُودًا بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ إِلَى شِمَالِهِ، قَالَ: وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ الْخَطَّ اهـ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا بِاسْتِحْبَابِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا بَأْسَ بِالْعَمَلِ بِهِ وَإِنِ اضْطَرَبَ إِسْنَادُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَزَمَ بِضَعْفِهِ النَّوَوِيُّ، وَقَاسَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْخَطِّ الْمُصَلِّي كَسَجَّادَةٍ مَفْرُوشَةٍ، وَهُوَ قِيَاسٌ أَوْلَوِيٌّ ; لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ أَبْلَغُ فِي دَفْعِ الْمَارِّ مِنَ الْخَطِّ السَّابِقِ، وَاخْتُلِفَ أَنَّ التَّرْتِيبَ لِلْأَكْمَلِيَّةِ أَوِ الْأَحَقِّيَّةِ.

782 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ، فَلْيَدْنُ مِنْهَا، لَا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 782 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) : أَنْصَارِيٍّ، أَوْسِيٍّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ، فَلْيَدْنُ» ) ، أَيْ: فَلْيَقْرَبْ بِقَدْرِ إِمْكَانِ السُّجُودِ، وَهَكَذَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ (" مِنْهَا ") ، أَيْ: مِنَ السُّتْرَةِ عَلَى قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ أَوْ أَقَلِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ (" لَا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ ") : بِالْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ، ثُمَّ حُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ (" عَلَيْهِ ") : أَيْ: عَلَى أَحَدِكُمْ (" صَلَاتَهُ ") ، أَيْ: لَا يُفَوِّتُ عَلَيْهِ حُضُورَهَا بِالْوَسْوَسَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهَا، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ السُّتْرَةَ تَمْنَعُ اسْتِيلَاءَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْمُصَلِّي، وَتُمَكِّنَهُ مِنْ قَلْبِهِ بِالْوَسْوَسَةِ إِمَّا كُلًّا أَوْ بَعْضًا بِحَسَبِ صِدْقِ الْمُصَلِّي وَإِقْبَالِهِ فِي صَلَاتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ عَدَمَهَا يُمَكِّنُ الشَّيْطَانَ مِنْ إِزْلَالِهِ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَتَدَبُّرِهِ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ. قُلْتُ: فَانْظُرْ إِلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ.

783 - وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي إِلَى عُودٍ، وَلَا عَمُودٍ وَلَا شَجَرَةٍ إِلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمْدًا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 783 - (وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إِلَى عُودٍ» ) : كَالْعَصَا (وَلَا عَمُودٍ) : كَالْأُسْطُوَانَةِ ( «وَلَا شَجَرَةٍ إِلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ» ) ، أَيْ: جَانِبِهِ (الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ: لَا يَقْصِدُ (صَمْدًا) ، أَيْ: قَصْدًا مُسْتَوِيًا بِحَيْثُ يَسْتَقْبِلُهُ بِمَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ حَذَرًا عَنِ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَحْمَدُ، لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ ضُعِّفَ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ حُجَّةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى عَمُودٍ أَوْ سَارِيَةٍ أَوْ إِلَى شَيْءٍ فَلَا يَجْعَلْهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلْيَجْعَلْهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ» ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْأَيْسَرَ أَوْلَى مِنَ الْأَيْمَنِ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّهُ مَانِعٌ لِلشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْأَيْسَرِ كَمَا مَرَّ فِي بَحْثِ الْبُصَاقِ عَلَى الْأَيْسَرِ.

784 - وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي بَادِيَةٍ لَنَا، وَمَعَهُ عَبَّاسٌ، فَصَلَّى فِي صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ، وَحِمَارَةٌ لَنَا وَكَلْبَةٌ تَعْبَثَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا بَالَى بِذَلِكَ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلِلنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 784 - (وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي بَادِيَةٍ لَنَا) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (وَمَعَهُ عَبَّاسٌ) : حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ (فَصَلَّى فِي صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ) : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَظِنَّةُ الْمُرُورِ (وَحَمَّارَةٌ لَنَا وَكَلْبَةٌ) : التَّاءُ فِيهِمَا إِمَّا لِلْوَحْدَةِ أَوْ لِلتَّأْنِيثِ تَعْبَثَانِ) : أَيْ تَلْعَبَانِ (بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: قُدَّامَهُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَا وَرَاءَ الْمَسْجِدِ أَوْ مَوْضِعَ بَصَرِهِ، (فَمَا بَالَى بِذَلِكَ) : أَيْ: مَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَمَا اعْتَدَّهُ قَاطِعًا، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ (وَلِلنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ) ، أَيْ: مَعْنَاهُ.

785 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ، وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ 785 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ» ") ، أَيْ: لَا يُبْطِلُهَا شَيْءٌ مَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي (" وَادْرَءُوا ") ، أَيِ: ارْفَعُوا الْمَارَّ (" مَا اسْتَطَعْتُمْ ") ، قِيلَ حَدِيثُ الْقَطْعِ، بِمُرُورِ الْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا مَنْسُوخٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، لَكِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ (" فَإِنَّمَا هُوَ ") ، أَيِ: الْمَارُّ (" شَيْطَانٌ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ بِشَيْءٍ الدَّفْعُ، أَيْ: لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ مِنَ الدَّفْعِ، فَادْفَعُوا الْمَارَّ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِكُمْ، وَحُذِفَ الْمَارُّ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ أَيْ بِشَيْءٍ الْمَارُّ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ الْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، قَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْكَلْبَ وَالْحِمَارَ لَا تَقْطَعُ، وَقِيلَ تَقْطَعُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَقِيلَ تَقْطَعُهَا الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الفصل الثالث 786 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِيهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلِيَ، وَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث 786 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ) ، أَيْ: أَضْطَجِعُ عَلَى هَيْئَةِ النَّائِمِ ( «بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ» ) : أَيْ: أَرَادَ السُّجُودَ (غَمَزَنِي) : قِيلَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَسَّ غَيْرُ نَاقِضٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْحَائِلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْغَمْزُ هُوَ الْعَصْرُ، وَالْكَبْسُ بِالْيَدِ، وَغَمَزَنِي جَوَابُ إِذَا، وَقَوْلُهُ (فَقَبَضْتُ) : عُطِفَ عَلَيْهِ (رِجْلِي) : قَالَ الشَّيْخُ: كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَكَذَا قَوْلُهَا (وَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُ) : وَلِلْمُسْتَمْلِيِّ وَالْحَمَوِيِّ، رِجْلِي بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا بَسَطْتُهَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ (قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ) : بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ (يَوْمَئِذٍ) ، أَيْ: حِينَئِذٍ (لَيْسَ فِيهَا الْمَصَابِيحُ) : فِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفَائِدَةُ نَفْىِ الْمَصَابِيحِ اعْتِذَارٌ مِنْ جَعْلِهَا رِجْلَهَا فِي مَوْضِعِ سُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا قَوْلُهُمَا: فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا فَلِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللَّهِ لَهُ إِيَّاهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ اهـ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ عُذْرَهَا فِي تِلْكَ الْهَيْئَةِ مِنْ الِاضْطِجَاعِ ضِيقُ الْمَكَانِ، أَوِ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِ الْمَقَامِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْمَصَابِيحِ فَعُذْرٌ لِعَدَمِ حَيَائِهَا وَلِلِاسْتِمْرَارِ عَلَى بَقَائِهَا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

787 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ مَا لَهُ فِي أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ مُعْتَرِضًا فِي الصَّلَاةِ، كَانَ لَأَنْ يُقِيمَ مِائَةَ عَامٍ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْخُطْوَةِ الَّتِي خَطَا» "، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 787 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ ") : قِيلَ: آثَرَ دُخُولَ لَوْ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ قِلَّتِهِ لِيُفِيدَ تَجَدُّدِ الْعِلْمَ، (" مَا لَهُ ") : أَيْ مِنَ الْإِثْمِ فَحَذَفَ الْبَيَانَ لِيَدُلَّ الْإِبْهَامُ عَلَى مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ مِنَ الْإِثْمِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ ( «فِي أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ» ") : ذُكِرَ لِمَزِيدِ التَّلَطُّفِ بِالْمَارِّ حَتَّى يَنْكَفَّ عَنْ مُرُورِهِ، إِذْ مِنْ شَأْنِ الْأَخِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ أَخَاهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى وَإِنْ قَلَّ) ، " مُعْتَرِضًا ") ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ الْمَارِّ مُعْتَرِضًا مَحَلَّ سُجُودِهِ (" فِي الصَّلَاةِ ") : حَالٌ مِنْ أَخِيهِ (" كَانَ لَأَنْ ") : بِفَتْحِ اللَّامِ (" يُقِيمَ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: يَقُومَ (" مِائَةَ عَامٍ ") ، ظَرْفُ يُقِيمَ (" خَيْرٌ لَهُ ") : بِالرَّفْعِ (" مِنَ الْخَطْوَةِ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتُضَمُّ (" الَّتِي خَطَا ") : الْخُطْوَةُ بِالضَّمِّ وَتَفْتَحُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى أَحَدِكُمْ، أَوْ ضَمِيِرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ، وَاللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ الْمُقَارَنَةُ بِالْمُبْتَدَأِ الْمُؤَكِّدَةُ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ أَوِ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ، وَهُوَ أَقْرَبُ، وَقِيلَ: اللَّامُ هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى جَوَابِ لَوْ، أُخِّرَتْ عَنْ مَحَلِّهَا، وَهُوَ كَأَنَّ إِلَى خَبَرِهَا، وَهُوَ إِقَامَةُ مِائَةِ عَامٍ، وَلِهَذَا التَّقْدِيرِ الْمُقْتَضِي لِكَوْنِهِ أَوْغَلَ فِي التَّعْرِيفِ كَانَ الْأَصْلُ أَنَّ الِاسْمَ، وَخَيْرٌ: هُوَ الْخَبَرُ، لَكِنَّهُمَا عَكَسَا إِبْهَامًا عَلَى السَّامِعِ لِيُظْهِرَ جَوْدَةَ فَهْمِهِ وَذَكَائِهِ، وَقَدْ جُرِيَ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْأَمْرَيْنِ فِي الْخَبَرِ الَّذِي عَقِبَ هَذَا، فَأَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى كَانَ وَجَعْلَ الْمَصْدَرَ الْمَسْبُوكَ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ هُوَ الِاسْمُ، وَخَيْرًا هُوَ الْخَبَرُ وَتَجُوزُ زِيَادَةُ كَانَ هُنَا، (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، أَيْ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا قَالَهُ مِيرَكُ.

788 - وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يُخْسَفَ بِهِ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَهْوَنَ عَلَيْهِ) ، رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 788 - (عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ) : بِالْإِضَافَةِ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يُخْسَفَ بِهِ خَيْرًا لَهُ» ) : بِالنَّصْبِ (مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) : وَضَبَطَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ خَيْرًا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِالنَّصْبِ، وَفِي الثَّانِي بِالرَّفْعِ، وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُهُمَا مَعَ مُخَالَفَتِهَا لِلنُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَ جَوَابَ: " لَوْ " بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى مَا هُوَ جَوَابُهَا، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ لَأَقَامَ مِائَةَ عَامٍ وَكَانَتِ الْإِقَامَةُ خَيْرًا لَهُ، وَفِي الثَّانِي: لَوْ يَعْلَمُ مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ لَتَمَنَّى الْخَسْفَ وَكَانَ الْخَسْفُ خَيْرًا لَهُ، (وَفِي رِوَايَةٍ أَهْوَنَ عَلَيْهِ) ، أَيْ: بَدَلُ " خَيْرًا لَهُ " (رَوَاهُ مَالِكٌ) : قَالَ مِيرَكُ: مَقْطُوعًا.

789 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى غَيْرِ السُّتْرَةِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَالْيَهُودِيُّ، وَالْمَجُوسِيُّ، وَالْمَرْأَةُ، وَتُجْزِئُ عَنْهُ إِذَا مَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى قَذْفَةٍ بِحَجَرٍ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 789 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى غَيْرِ السُّتْرَةِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ» ") ، أَيْ: حُضُورَهَا (" الْحِمَارُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَالْيَهُودِيُّ، وَالْمَجُوسِيُّ، وَالْمَرْأَةُ، وَيُجْزِئُ عَنْهُ ") : بِالْهَمْزَةِ مِنَ الْإِجْزَاءِ، أَيْ: وَيَكْفِي عَنْ عَدَمِ سُتْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِتَوَفُّرِ خُشُوعِهِ وَخُضُوعِهِ، وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ: تُجَزِئُ بِالتَّأْنِيثِ، أَيْ: تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِلَا سُتْرَةٍ عَلَى الْمُصَلِّي، (" إِذَا مَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى قَذْفَةٍ ") ، أَيْ: رَمْيَةٍ (" بِحَجَرٍ ") ، أَيْ: بِأَنْ يَبْعُدُوا عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ فَأَكْثَرَ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْهُمَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ: وَيَكْفِيكَ إِذَا كَانُوا مِنْكَ قَدْرَ رَمْيَةٍ وَلَمْ يَقْطَعُوا عَنْكَ صَلَاتَكَ، أَيْ: يَكْفِيكَ عَنِ السُّتْرَةِ إِذَا كَانُوا بَعِيدِينَ عَنْكَ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ، وَلَمْ يَقْطَعُوا عَنْكَ حِينَئِذٍ صَلَاتَكَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

[باب صفة الصلاة]

[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 790 - «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ، فَقَالَ: " وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ "، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ - أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا -: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: " إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِّيَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا وَفِي رِوَايَةٍ: " ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (10) بَابُ صِفَةَ الصَّلَاةَ. الْمُرَادُ بِهَا جِنْسُ صِفَتِهَا الشَّامِلَةِ لِلْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قِيلَ الصِّفَةُ وَالْوَصْفُ فِي اللُّغَةِ وَاحِدٌ، وَفِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِخِلَافِهِ، وَالتَّحْرِيرُ، الْوَصْفُ ذِكْرُ مَا فِي الْمَوْصُوفِ مِنَ الصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ هِيَ مَا فِيهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ هُنَا بِصِفَةِ الصَّلَاةِ الْأَوْصَافُ النَّفْسِيَّةُ لَهَا، وَهِيَ الْأَجْزَاءُ الْفِعْلِيَّةُ الصَّادِقَةُ عَلَى الْخَارِجِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ الْهُوَيَّةِ مِنَ الْقِيَامِ الْجُزْئِيِّ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.

790 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا) : قَالَ مِيرَكُ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ خَلَّادُ بْنُ رَافِعٍ، كَمَا بَيَّنَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى رَاوِي الْخَبَرِ قَالَهُ الشَّيْخُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ خَلَّادُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَجَاءَ أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ بِبَدْرٍ، فَعَلَيْهِ تَكُونُ الْقِصَّةُ قَبْلَهَا، وَلَا تُشْكِلُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلْقَضِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَوَقْعَةُ بَدْرٍ كَانَتْ فِي الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَاهَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا، وَمَا قِيلَ إِنِ الْمُسِيءَ صَلَاتَهُ رِفَاعَةُ أَخُو خَالِدٍ فَهُوَ اشْتِبَاهٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدْرِيٌّ أَيْضًا فَمَرْدُودٌ، بِأَنَّهُ هُوَ رَاوِيهَا عَنْ أَخِيهِ خَالِدٍ لَا عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، (دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: جَالَسٌ فِي الْمَسْجِدِ، أَيْ: فِي جَانِبٍ مِنْهُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، (فَصَلَّى) : وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ (ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ) : مُقَدِّمًا حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَمَا هُوَ أَدَبُ الزِّيَارَةِ، لِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ لِمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ قَبْلَ صَلَاةِ التَّحِيَّةِ فَقَالَ لَهُ: (" ارْجِعْ فَصَلِّ ثُمَّ ائْتِ فَسَلِّمْ عَلَيَّ " (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَعْلَيْكَ السَّلَامُ ") : قِيلَ: عَلَيْكَ بِلَا وَاوٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ بِعَيْنِهِ مَرْدُودٌ إِلَيْهِ خَاصَّةً، أَيْ: وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، وَإِذَا أَثْبَتَ الْوَاوَ وَمَعَ الِاشْتِرَاكِ مَعَهُ وَالدُّخُولِ فِيمَا قَالَهُ ; لِأَنَّ الْوَاوَ لِجَمْعِ الشَّيْئَيْنِ، (" ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ") ، أَيْ: صَلَاةً كَامِلَةً أَوْ صَحِيحَةً (فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ) ، أَيْ: عَلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَكْرَارِهِ السَّلَامَ بِالْفَصْلِ، أَوْ لِأَنَّ السَّلَامَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْكَامِلَةِ أَوِ الصَّحِيحَةِ (قَالَ " وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تُصَلِّ نَفْيٌ لِكَمَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَنَفْيٌ لِجَوَازِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَكِنَّ تَقْرِيرَهُ عَلَى صَلَاتِهِ كَرَّاتٍ يُؤَيِّدُ كَوْنَهُ نَفْيَ الْكَمَالِ لَا الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا الْأَمْرُ بِعِبَادَةٍ فَاسِدَةٍ مَرَّاتٍ (فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: - أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا -) : أَيْ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ (عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَعْلِيمِهِ أَوَّلًا حَتَّى افْتَقَرَ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا لَمْ يَسْتَكْشِفِ الْحَالَ مُغْتَرًّا بِمَا عِنْدَهُ سَكَتَ عَنْ تَعْلِيمِهِ زَجْرًا لَهُ، وَإِرْشَادًا إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَكْشِفَ مَا اسْتُبْهِمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا طَلَبَ كَشْفَ الْحَالِ بَيَّنَهُ بِحُسْنِ الْمَقَالِ اهـ. وَاسْتَشْكَلَ تَقْرِيرُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى صَلَاتِهِ، وَهِيَ فَاسِدَةٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّفْيَ لِلصِّحَّةِ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ أَرَادَ اسْتِدْرَاجَهُ بِفِعْلِ مَا جَعَلَهُ مَرَّاتٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ غَافِلًا، فَيَتَذَكَّرُ فَيَفْعَلُ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّقْرِيرِ عَلَى الْخَطَأِ، بَلْ مِنْ بَابِ تَحَقُّقِ الْخَطَأِ، أَوْ بِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُ أَوَّلًا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَعْرِيفِهِ وَتَعْرِيفِ غَيْرِهِ وَلِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَتَعْظِيمِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا شَكَّ فِي زِيَادَةِ قَبُولِ الْمُتَعَلِّمِ لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ بَعْدَ تَكْرَارِ فِعْلِهِ، وَاسْتِجْمَاعِ نَفْسِهِ، وَتَوَجُّهُ سُؤَالِهِ مَصْلَحَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّعْلِيمِ، لَاسِيَّمَا مَعَ عَدَمِ خَوْفٍ، (فَقَالَ: " إِذَا قُمْتَ ") ، أَيْ: أَرَدْتَ الْقِيَامَ (" إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ") : بِضَمِّ الْوَاوِ وَبِفَتْحٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أَتْمِمْهُ يَعْنِي تَوَضَّأْ وُضُوءًا تَامًّا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مُشْتَمِلًا عَلَى فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ (" ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ ") : فَإِنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْجِهَةَ كَافِيَةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: " «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» " وَمَا أَبْعَدَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: عَيَّنَ الْكَعْبَةَ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي وَجْهِهَا وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ اهـ.

وَلَعَلَّ تَرْكَ سَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ طَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ اكْتِفَاءٌ بِالشُّهْرَةِ (" فَكَبِّرْ ") ، أَيْ: تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، وَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ، وَرُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَتَرَكَ ذِكْرَ النِّيَّةِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الشُّرُوطِ لِوُضُوحِهَا وَلِعَدَمِ خُصُوصِيَّتِهَا بِالصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَانَ حِكْمَةُ الْفَاءِ هَاهُنَا دُونَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا أَنَّ التَّكْبِيرَ يَعْقُبُ الِاسْتِقْبَالَ غَالِبًا بِخِلَافِهِ مَعَ الْوُضُوءِ، وَبِخِلَافِ التَّكْبِيرِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِافْتِتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] فَيَتَضَمَّنُ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَفْعُولِ الْمُقَدَّرِ، وَالتَّكْبِيرُ مَعْنَاهُ التَّعْظِيمُ، فَيَجُوزُ بِلَفْظِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَبِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى تَعْظِيمِهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] وَحَدِيثُ تَحْرِيمِهَا التَّكْبِيرُ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَوَائِلِ صَلَاتِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " مَعَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبًا لَا عَلَى كَوْنِهِ رُكْنًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَيُحْتَرَزُ مِنْ مَدِّ هَمْزَةِ الْجَلَالَةِ، وَمِنْ إِشْبَاعِ بَاءِ أَكْبَرَ، فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ مُتَعَمِّدُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَخَبَرُ التَّكْبِيرِ جَزْمٌ لَمْ يَصِحَّ اهـ، وَمَحَلُّهُ غَيْرُ هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ حَالَةُ الْوَقْفِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَجْزُومًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُعَلَّقُ بِمَعْنَى أَكْبَرَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ مُقَارَنَةُ النِّيَّةِ لِلتَّكْبِيرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَبَحْثُ النِّيَّةِ وَالتَّلَفُّظِ بِهَا قَدْ مَرَّ مُسْتَوْعَبًا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، (" ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ ") ، أَيْ: لَكَ حَالَ كَوْنِهِ (" مَعَكَ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مَا تَعْلَمُهُ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، أَيْ: أَوْجِدِ الْقِرَاءَةَ مُسْتَعِينًا بِمَا تَيَسَّرَ أَوْ زَائِدَةٍ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مَا تَيَسَّرَ بِدُونِ الْبَاءِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ، أُتِيَ بِالْبَاءِ فِي التَّنْزِيلِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ " اقْرَأْ " يُرَادُ بِهِ الْإِطْلَاقُ، أَيْ: أَوْجِدِ الْقِرَاءَةَ بِاسْتِعَانَةِ مَا تَيَسَّرَ لَكَ (" مِنَ الْقُرْآنِ ") ، وَفِي الْحَدِيثِ كَمَا فِي آيَةِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ، وَمَا دُونَ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ إِجْمَاعًا فَتَبْقَى الْآيَةُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَرَادَ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْفَاتِحَةِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُهَا بِبَيَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَالْمُرَادُ الشَّاةُ بِبَيَانِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا كَمَا يَجِبُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ مَحَلُّهَا كُتُبُ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَدْيِ الشَّاةُ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ بِمَا تَيَسَّرَ هُوَ الْفَاتِحَةُ، وَمَنِ ادَّعَى فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ " إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِهِ نَقُولُ مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَةَ لَمْ تَتَكَرَّرْ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَتُحْمَلُ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنَّهَا رُوِيَتْ بِاللَّفْظِ، وَالْأُخْرَى عَلَى أَنَّهَا رُوِيَتْ بِالْمَعْنَى وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَعْنَى، فَفِي تَصْحِيحِ الرِّوَايَةِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ مُطْلَقًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَعِنْدَنَا فَرْضٌ فِي رَكْعَتَيْنِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الْأُولَيَيْنِ فَبِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْقِرَاءَةُ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَعِنْدَ بَعْضٍ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، (" ثُمَّ ارْكَعْ ") : الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَرْضَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالِاطْمِئْنَانُ فِيهِمَا فَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: وَاجِبٌ عِنْدَهُمَا (" حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ") : حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ، نَعَمِ التَّأْكِيدُ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِ: (" ثُمَّ ارْفَعْ ") ، أَيْ: رَأْسَكَ (حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا) : الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَاجَبَتَانِ عِنْدَهُمَا، وَفَرْضَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَعَ جَلَالَتِهِ: أَنَّهُ

عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَذْكُرِ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الِاعْتِدَالِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَفِيهِ أَنَّ الِاطْمِئْنَانَ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ هَذَا سَهْوٌ مِنْهُ إِذْ فِي قَوْلِهِ: " حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا " التَّصْرِيحُ بِوُجُوبِ الْقِيَامِ مِنَ الرُّكُوعِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِدَالُ وَالطُّمَأْنِينَةُ اللَّذَانِ قُلْنَا بِوُجُوبِهِمَا، فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الِاعْتِدَالِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فَتَأَمَّلَ فِيهِمَا، (" ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ") : حَالٌ مُؤَسِّسَةٌ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (" ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ") ، أَيْ: لِلِاسْتِرَاحَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَلِمَةُ " حَتَّى " فِي هَذِهِ الْقَرَائِنِ لِغَايَةِ مَا يَتِمُّ بِهِ الرُّكْنُ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ دَاخِلَةٌ فِيهِ، وَالْمَنْصُوبُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الْهَيْئَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَرِيضَةٌ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ فَإِنَّهُ يُؤَوِّلُهُ بِنَفْيِ الْكَمَالِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعَادَةِ إِنَّمَا كَانَ لِتَرْكِهِ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِهَا. قُلْتُ: قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: بِتَرْكِ الْفَرْضِ تُفْرَضُ الْإِعَادَةُ، وَبِتَرْكِ الْوَاجِبِ تَجِبُ وَبِتَرْكِ السُّنَّةِ تُسْتَحَبُّ، ثُمَّ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَلَمَّا قَالَ: " عَلَّمَنِي " وَصَفَ لَهُ كَيْفِيَّةَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى نَعْتِ الْكَمَالِ، وَلِذَلِكَ بَدَأَ فِي تَعْلِيمِهِ بِالْأَمْرِ فِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طُهْرٍ لَقَالَ: ارْجِعْ فَتَوَضَّأَ. قَالَ النَّوَوِّيُ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْوَاجِبَاتِ دُونَ السُّنَنِ، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كُلَّ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا كَالنِّيَّةِ وَالْقُعُودِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَتَرْتِيبِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوَاجِبَاتِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَ السَّائِلِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيَانِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِدَالِ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَلَمْ يُوجِبْهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ عَنْهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ: كَانَتِ الْوَاجِبَاتُ مَعْلُومَةً عِنْدَ السَّائِلِ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ، بَلْ بَعِيدٌ جِدًّا ; لِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْعِبَادَاتِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَغَالِبُهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ فَرْضًا عَنِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَعَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ. . . فَلِمَ ذَكَرَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ أَوْ تَرَكَ بَعْضَهَا، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْمَذْكُورَاتِ أَظْهَرُ مِنَ الْمَحْذُوفَاتِ، ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ وُجُوبُ الِاعْتِدَالِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ كَانَ تَارِكًا لِبَعْضِ السُّنَنِ وَأَمَّا وَجْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ بَعْضَ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ وَتَرَكَ بَعْضَهَا، فَمُفَوَّضٌ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمَّا الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، فَتَقَدَّمُ عَنِ الْإِمَامِ التُّورِبِشْتِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّعْدِيلُ فَرْضًا لَمَا أَقَرَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِمَا تَرَكَهُ، وَلَا أَنَّهُ وَاجِبٌ، أَوْ سُنَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. يَعْنِي: فَإِذَا كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُصَرِّحْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْإِعَادَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَنَا وَلَا عَلَيْنَا، (وَفِي رِوَايَةٍ) ، أَيْ: بَدَلَ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا (" ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ ") ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِمَّا يُمْكِنُ تَكْرِيرُهُ فَخَرَجَ نَحْوُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ (" فِي صَلَاتِكِ ") ، أَيْ: رَكَعَاتِكَ (" كُلِّهَا " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

791 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا، وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 791 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ) : قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَبْدَؤُهَا وَيَجْعَلُ التَّكْبِيرَ فَاتِحَهَا (وَالْقِرَاءَةَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الصَّلَاةِ، أَيْ: يَبْتَدِئُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ بِـ (الْحَمْدُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ وَإِظْهَارِ أَلِفِ الْوَصْلِ، وَيَجُوزُ حَذْفُ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَكَذَا جَرُّ الدَّالِ عَلَى الْإِعْرَابِ (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) : وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ يُسِرُّ بِالْبَسْمَلَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، أَوْ لَا يَأْتِي بِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَجْهَرُ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَإِنْ رَوَاهُ عِشْرُونَ صَحَابِيًّا، فَمَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ لِلتَّعْلِيمِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ كَانَ يَسْمَعُهُ مَنْ يَلِيَهُ مِنْ قُربِهِ، نَعَمْ لَوْ صَحَّ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُرَجِّحٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَبْتَدِئُ الْقِرَاءَةَ بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ يَقْرَأُ السُّورَةَ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَقْدِيمَ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، أَيْ: كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ قِرَاءَةً، وَلَا يَدُلُ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا أَنَّهُ يَبْدَأُ فِي الْقِرَاءَةِ بِلَفْظِ الْحَمْدِ لِلَّهِ اهـ. قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ، فَدَعْوَاهُ لَا تَدْفَعُ الْإِيرَادَ، (وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشَخِصْ) : مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ أَوِ التَّفْعِيلِ أَيْ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، أَيْ: عُنُقَهُ (وَلَمْ يُصَوِّبْهُ) : بِالتَّشْدِيدِ لَا غَيْرَ، وَالتَّصْوِيبُ النُّزُولُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلُ، أَيْ: وَلَمْ يَنْزِلْهُ (وَلَكِنَّ) : قِيلَ كَانَ وَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ بِهَا أَنَّ نَفْيَ ذَيْنِكَ لَا يَقْتَضِي الْبَيْنِيَّةَ الْآتِيَةَ، بَلْ رُبَّمَا اقْتَضَى خِلَافَهَا، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ يَكُونُ رُكُوعُهُ بَيْنَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ مُسْتَحَبَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ (بَيْنَ ذَلِكَ) ، أَيِ: التَّشْخِيصُ وَالتَّصْوِيبُ بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ وَعُنُقُهُ كَالصَّفْحَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِتَعَدُّدِ ذَا كَمَا تَقَرَّرَ صَحَّ إِضَافَةُ " بَيْنَ " إِلَيْهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ تِلْكَ الْبَيْنِيَّةِ اسْتِوَاءُ ظَهْرِهِ وَعُنُقِهِ كَالصَّفْحَةِ (وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِدَالِ. قُلْتُ: يَحْتَمِلُ الْحَمْلُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَلَا يَتِمُّ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ، وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ: " وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " لَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِهِ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ; لِأَنَّ بَعْضَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ سُنَنٌ إِجْمَاعًا (وَكَانَ يَقُولُ) ، أَيْ: يَقْرَأُ (فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: بَعْدَهُمَا (التَّحِيَّةَ) : بِالنَّصْبِ وَقِيلَ بِالرَّفْعِ، أَيِ: التَّحِيَّاتُ إِلَخْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ التَّحِيَّةُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَسُمِّي الذِّكْرُ الْمُعِيَّنُ تَحِيَّةً وَتَشَهُّدًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِمَا، أَيْ: عَلَى التَّحِيَّةِ، وَهُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَعَلَى التَّشَهُّدِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ التَّشَهُّدُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: سُنَّةٌ فِي الْأُولَى، وَأَمَّا الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَوَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرْضٌ (وَكَانَ يَفْرِشُ) ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا (رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ (رِجْلَهُ الْيُمْنَى) ، أَيْ: يَضَعُ أَصَابِعَهَا عَلَى الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ عَقِبَهَا، سَيَأْتِي بَيَانُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْهَيْئَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ سُنَّةٌ (وَكَانَ يَنْهَى) ، أَيْ: تَنْزِيهًا، وَقِيلَ تَحْرِيمًا (عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ، أَيِ: الْإِقْعَاءِ فِي الْجَلَسَاتِ وَهُوَ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَفْسِيرُ الْمَكْرُوهِ بِهَذَا غَلَطٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: الْإِقْعَاءُ سُنَّةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَا صَحَّ مِنْ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا فِي الْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَلَا يُنَافِي مَا صَحَّ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ اهـ.

وَاسْتَحْسَنَهُ النَّوَوِيُّ وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِقْعَاءِ فِي الْجِلْسَتَيْنِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ فِيهِمَا، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: رِوَايَاتُ الْإِقْعَاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَيْسَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ: أَحَادِيثُهُ مَعَ كَثْرَتِهَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ثَابِتٌ، لَكِنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيُكَرَهُ الْجُلُوسُ فِي الصَّلَاةِ مَادًّا رِجْلَهُ وَمُتَرَبِّعًا، وَتَرَبُّعُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقِيلَ: التَّرَبُّعُ أَفْضَلُ فِي الْجُلُوسِ الْبَدَلِ عَنِ الْقِيَامِ، وَنُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ كَانَ يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا، وَقِيلَ: أَفْضَلُهَا التَّوَرُّكُ ; لِأَنَّهُ أَهْوَنُ، وَقِيلَ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا، أَفْضَلُهَا أَنْ يَنْصِبَ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى وَيَجْلِسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْأَدَبِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَأَغْرَبَ مِنْ عَدَّهُ أَبْلَغَ فِي الْأَدَبِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الِافْتِرَاشُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هَيْئَةً أَحْسَنَ وَأَفْضَلَ وَأَبْلَغَ فِي الْأَدَبِ وَأَكْمَلَ لِدَوَامِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهَا، وَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُهَا إِلَّا التَّرَبُّعُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ عُذْرٍ، فَالْعُدُولُ عَنْ هَيْئَةِ جُلُوسِهِ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ فِي غَايَةٍ مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ، وَقِيلَ: الْإِقْعَاءُ أَنْ يَضَعَ وَرِكَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبَ رُكْبَتَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَدَمَاهُ عَلَيْهَا، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ عَنْهُ مَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْكِلَابِ وَالْقِرَدَةِ، وَقِيلَ: عُقْبَةُ الشَّيْطَانِ تَقْدِيمُ رِجْلٍ عَلَى أُخْرَى فِي الْقِيَامِ وَقِيلَ: هِيَ تَرْكُ عَقِبَيْهِ غَيْرَ مَغْسُولَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، (وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ) : أَيْ: فِي السُّجُودِ (الرَّجُلُ) ، أَيْ: لَا الْمَرْأَةُ ; لِأَنَّ مَبْنَى أَمْرِهَا عَلَى التَّسَتُّرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّقْيِيدُ بِالرَّجُلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْتَرِشُ (ذِرَاعَيْهِ) ، أَيْ: نَهَى عَنِ انْضِمَامِهِمَا بِالْأَرْضِ فِي السُّجُودِ (افْتِرَاشَ السَّبُعِ) ، أَيْ: كَافْتِرَاشِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ كَفَّهُ وَيَرْفَعَ مِرْفَقَهُ عَنِ الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْهُ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ يُسَنُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرْفَعَ ذِرَاعَهُ عَنِ الْأَرْضِ، وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى رَاحَتَيْهِ، وَجَاءَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَنَّهُ يُكْرَهُ بَسْطُهُمَا، وَيُوَافِقُهُ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ: وَلَا يَبْسُطُ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ، نَعَمْ إِنْ طَوَّلَ السُّجُودَ فَشَقَّ عَلَيْهِ اعْتِمَادُ كَفَّيْهِ، فَلَهُ بِلَا كَرَاهَةٍ وَضْعُ سَاعِدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِخَبَرِ: «شَكَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشَقَّةَ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ قَالَ: " اسْتَعِينُوا بِالرُّكَبِ» " رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مَوْصُولًا وَرُوِيَ مُرْسَلًا وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَمَعَ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ فِي الْفَضَائِلِ، (وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ) ، أَيْ: أَفْعَالَهَا (بِالتَّسْلِيمِ) : أَيْ: تَسْلِيمِ الْخُرُوجِ، وَالْخُرُوجُ بِفِعْلِ الْمُصَلِّي فَرَضٌ عِنْدَنَا، وَبِلَفْظِ السَّلَامِ وَاجِبٌ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

792 - وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَحْفَظُكُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 792 - (وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ) : وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ (قَالَ فِي نَفَرٍ) ، أَيْ: وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ فِي بِمَعْنَى " مَعَ " عَلَى حَدِّ: " ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ " (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَا أَحْفَظُكُمْ) أَيْ: أَكْثَرُكُمْ حِفْظًا (لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : كَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ طُولِ مُلَازَمَتِهِ وَقُوَّةِ ضَبْطِهِ وَجَوْدَةِ حِفْظِهِ دُونَهُمْ (رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ) : أَرَادَ أَنْ يُكَبِّرَ، أَوْ حِينَ التَّكْبِيرِ، أَوْ إِذَا شَرَعَ فِي التَّكْبِيرِ لِرِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ الْآتِيَةِ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ (جَعَلَ يَدَيْهِ) : أَيْ: رَفَعَ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ، أَيْ: شَرَعَ فِي رَفْعِ يَدَيْهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الشُّرُوعِ الْفِعْلِيِّ وَالْقَوْلِيِّ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْمِيَةِ وَيَغْسِلُ الْيَدَيْنِ مَعًا (حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ: مُقَابِلَهُمَا، وَالْمَنْكِبُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ مَجْمَعُ عَظْمِ الْعَضُدِ وَالْكَتِفِ، قَالَ الْقَاضِي: اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الْيَدِ عِنْدَ التَّحْرِيمِ مَسْنُونٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ حِيَالَ مَنْكِبَيْهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ أُذُنَيْهِ، أَيْ: لِلْحَدِيثِ الْآتِي، وَذَكَرَ الطَّيِّبِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حِينَ دَخَلَ مِصْرَ سُئِلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ؟ قَالَ: يَرْفَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَفَّاهُ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِبْهَامُهُ حِذَاءَ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ، وَأَطْرَافُ أَصَابِعِهِ حِذَاءَ فَرْعِ أُذُنَيْهِ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةِ: يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى الْأُذُنَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى فُرُوعِ الْأُذُنَيْنِ، فَعَمِلَ الشَّافِعِيُّ بِمَا ذَكَرْنَا فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ. قُلْتُ: هُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَصْنِيفِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الرَّفْعِ، رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافُهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ ثَمَّ حَكَى فِيهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ، وَخَالَفَ

فِيهِ الزَّيْدِيَّةُ وَهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ، وَفِي الْأُمِّ يُكْرَهُ تَرْكُهُ، بَلْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَحْرُمُ تَرْكُهُ لَكِنْ رُدَّ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعٍ مِنْ قَبْلِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ وَغَيْرَهُ مِنَ السَّلَفِ قَالُوا بِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَاخْتُلِفَ هَلْ شُرِعَ الرَّفْعُ تَعَبُّدًا أَوْ لِحِكْمَةٍ فَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: أَنْ يَرَاهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ فَيَقْتَدِي بِهِ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى طَرْحِ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى عِبَادَةِ الْمَوْلَى وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ قِيلَ: يَرْفَعُهُمَا ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيُرْسِلُهُمَا مَعَ آخَرِ التَّكْبِيرِ، رَوَاهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَقِيلَ: يَرْفَعُهُمَا ثُمَّ يُكَبِّرُ وَهُمَا مَرْفُوعَتَانِ، ثُمَّ يُرْسِلُهُمَا لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَفْعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ، وَهُمَا كَذَلِكَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَكْمَلِ، وَأَمَّا أَصْلُ السُّنَّةِ: فَيَحْصُلُ بِكُلِّ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ تَرْجِيحُ إِحْدَاهَا عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُبَاحِ. أَقُولُ: وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا خِلَافَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ بِلَا شَكٍّ لِصِحَّةِ الرِّوَايَاتِ رَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَتَخْصِيصُ كُلٍّ بِوَقْتٍ لِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَلَمْ يُعْرَفْ مَا دَامَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ وَلَا آخِرُ مَا فَعَلَهُ، فَرَجَّحَ كُلٌّ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِمَا قَامَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِيمَ أَمْكَنَ كَقِرَاءَةِ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ، وَسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ كَبِيرًا وَكَثِيرًا كَمَا قَالَ بِهِ النَّوَوِيُّ يَخْرُجُ عَنْ ظَاهِرِ السُّنَّةِ، وَالْأَظْهَرُ الْجَمْعُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً وَتَارَةً، أَوْ يُخَصَّ الْأَرْجَحُ بِالْفَرْضِ وَغَيْرُهُ بِالنَّفْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ) : فِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ: مَكَّنَهُ مِنَ الشَّيْءِ وَأَمْكَنَهُ فِيهِ أَقْدَرَهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى مَكَّنَهُمَا مِنْ أَخْذِهِمَا وَالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ لِلْقِبْلَةِ لِثُبُوتِهِ فِي السُّجُودِ فَأُلْحِقَ بِهِ، وَلِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْجِهَاتِ، وَأَنْ يَبْسُطَهَا وَيُفَرِّقَهَا عَلَى سَاقَيْهِ لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ، (ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ) ، أَيْ: ثَنَاهُ وَخَفَضَهُ حَتَّى صَارَ كَالْغُصْنِ الْمُنْهَصِرِ وَهُوَ الْمُنْكَسِرُ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، وَالْأَصْلُ فِي الْهَصْرِ الْكَسْرُ، وَقِيلَ، أَيْ: ثَنَاهُ وَعَوَجَهُ ثَنْيًا شَدِيدًا فِي اسْتِوَاءِ رَقَبَتِهِ وَظَهْرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ ثَنَاهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَصْلُ الْهَصْرِ أَنْ تَأْخُذَ بِرَأْسِ الْعُودِ فَتَثْنِيَهُ إِلَيْكَ (فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ) ، أَيْ: مِنَ الرُّكُوعِ (وَاسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ) ، أَيْ: يَرْجِعَ (كُلُّ فَقَارٍ) : وَهِيَ مَفَاصِلُ الصُّلْبِ وَاحِدَتُهَا فَقَارَةٌ بِالْفَتْحِ (مَكَانَهُ) ، أَيْ: مَوْضِعَهُ وَيَسْتَقِرَّ كُلُّ عُضْوٍ فِي مَقَرِّهِ (فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: بَعْدَ وَضْعِ رُكْبَتَيْهِ لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي حَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ آخَرُونَ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ، فَهَذَا مُفَصَّلٌ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَمْ يُبَيِّنْ مَتَى وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهَذَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدِيثُ تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: «كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ فَأُمِرْنَا بِوَضْعِ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ» (غَيْرَ مُفْتَرِشٍ) ، أَيْ: لِذِرَاعَيْهِ، أَيِ: افْتِرَاشَ السَّبْعِ وَهُوَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: غَيْرَ وَاضِعٍ مِرْفَقِهِ عَلَى الْأَرْضِ (وَلَا قَابِضِهِمَا) : بِالْجَرِّ، أَيْ: وَغَيْرَ قَابِضِ أَصَابِعِ يَدَيْهِ بَلْ يَبْسُطُهُمَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: أَيْ لَا يَضُمُّ أَصَابِعَهُمَا، أَوْ أَرَادَ لَا يَضُمُّ الذِّرَاعَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ إِلَى الْجَنْبَيْنِ بَلْ يُجَافِيهِمَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُسَنُّ أَنْ يَنْشُرَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ، وَيُسَنُّ أَيْضًا كَوْنُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، " وَمَضْمُومَةً " لِلِاتِّبَاعِ أَيْضًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ إِيمَاءً، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ صَرِيحًا، " وَمَكْشُوفَةً " لِخَبَرِ خَبَّابٍ الْآتِي، وَمُعْتَمِدًا عَلَى رَاحَتَيْهِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ (وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يَحْصُلُ تَوْجِيهُهَا لِلْقِبْلَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِدًا عَلَى بُطُونِهِمَا، وَنَقْلُ الْإِمَامِ عَنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَضَعُهَا مِنْ غَيْرِ تَحَامُلٍ عَلَيْهَا شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ وَالْمَذْهَبِ (فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ) : أَيْ عَقِبَ الْأُولَيَيْنِ (جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: الْأَخِيرَةِ (قَدَّمَ) ، أَيْ: أَخْرَجَ (رِجْلَهُ الْيُسْرَى) : مِنْ تَحْتِ وَرِكِهِ إِلَى جَانِبِ الْأَيْمَنِ (وَنَصَبَ الْأُخْرَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: الْيُمْنَى (وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ) : قَالَ الْقَاضِي: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَلَسَاتِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجْلِسُ فِيهِمَا مُفْتَرِشًا، وَقَالَ مَالِكٌ: بَلْ مُتَوَرِّكًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَوَرَّكُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ وَيَفْتَرِشُ فِي الْأَوَّلِ، كَمَا رَوَاهُ السَّاعِدِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَلْحَقَ بِالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ الْجَلَسَاتِ الْفَاصِلَةَ بَيْنَ السُّجُودَاتِ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهَا انْتِقَالَاتٌ، وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْمُفْتَرِشِ أَيْسَرُ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَرْبَعَةُ.

793 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ، وَقَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ "، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 793 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا) ، أَيْ: يَدَيْهِ (كَذَلِكَ) ، أَيْ: حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ يُسَنُّ لِكُلِّ مُصَلٍّ أَنْ يُكَبِّرَ وَيَرْفَعَ لِسَائِرِ الِانْتِقَالَاتِ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِ التَّحْرِيمَةِ رَفْعُ يَدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسِ» " وَهُوَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ شُمُوسٍ، كَصَبُورٍ، أَيْ: صَعُبَ " اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ " وَأُجِيبَ عَنِ اعْتِرَاضِ الْبُخَارِيِّ: بِأَنَّ هَذَا الرَّفْعَ كَانَ فِي التَّشَهُّدِ ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقِبْطِيَّةِ قَالَ: «سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ فَقَالَ: " مَا لِهَؤُلَاءِ يُومِئُونَ بِأَيْدِيَهُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسِ إِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ عَنْ شِمَالِهِ» "، بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ ; لِأَنَّ الَّذِي يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَالَ التَّسْلِيمِ لَا يُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ فِي الصَّلَاةِ، وَبِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ: " اسْكُنُوا " لَا لِسَبَبِهِ وَهُوَ الْإِيمَاءُ حَالَ التَّسْلِيمِ. وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ: اجْتَمَعَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ الْأَوْزَاعِيِّ بِمَكَّةَ فِي دَارِ الْحَنَّاطِينَ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَا لَكُمْ لَا تَرْفَعُونَ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ شَيْءٌ، أَيْ: لَمْ يَصِحَّ مَعْنًى، إِذَا هُوَ مُعَارِضٌ وَإِلَّا فَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَيْفَ لَمْ يَصِحَّ وَقَدْ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَعِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ» فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ» فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أُحَدِّثُكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَتَقُولُ: حَدَّثَنِي حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كَانَ حَمَّادٌ أَفْقَهَ مِنَ الزُّهْرِيِّ، كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَفْقَهَ مِنْ سَالَمٍ، وَعَلْقَمَةُ لَيْسَ بِدُونِ ابْنِ عُمَرَ، أَيْ: فِي الْفِقْهِ وَإِنْ كَانَ لِابْنِ عُمَرَ صُحْبَةٌ فَلَهُ فَضْلُ صُحْبَتِهِ، فَالْأَسْوَدُ لَهُ فَضْلٌ كَثِيرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ فَرُجِّحَ بِفِقْهِ الرُّوَاةِ، كَمَا رُجِّحَ الْأَوْزَاعِيُّ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ أَيِ التَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُورُ عِنْدَنَا، كَلَامُ ابْنِ الْهُمَامِ، وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَلَا يَفْعَلُ عَلَيٌّ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافَهُ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ عَلَى نَسْخِ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ، وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ أَيِ النَّخَعِيِّ، عَنْ حَدِيثِ وَائِلٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ وَائِلٌ رَآهُ مَرَّةً يَفْعَلُ ذَلِكَ، قَدْ رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ خَمْسِينَ مَرَّةً لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ، فَلَمْ يَكُنْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ قَدْ يَفْعَلُهُ إِلَّا لِمَا يُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ نَسْخٍ وَقَدْ رُوِيَ.

794 - وَعَنْ نَافِعٍ، «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 795 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

796 - وَعَنْهُ، «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 796 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ مَالِكٍ الْمَذْكُورِ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ) ، أَيْ: فَرْدٍ (مِنْ صَلَاتِهِ) ، أَيْ: عَدَدِهَا، قَالَ الْقَاضِيَ: الْمُرَادُ بِالْوِتْرِ الرَّكْعَةُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ مِنَ الرُّبَاعِيَّاتِ (لَمْ يَنْهَضْ) ، أَيْ: لَمْ يَقُمْ (حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا) ، أَيْ: حَتَّى يَقْرُبَ إِلَى الْقُعُودِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ: أَيْ يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ ثُمَّ يَقُومُ، وَلَعَلَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَدَعْوَى الطَّحَاوِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي حَدِيثٍ وَهْمٌ عَجِيبٌ مِنْهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ اسْتَوَى قَائِمًا فَغَرِيبٌ، وَبِفَرْضِ عَدَمِ غَرَابَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَا يُؤَثِّرُ بَعْدَ صِحَّةِ التَّعَرُّضِ لَهَا إِثْبَاتًا كَمَا عَلِمْتَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا نَفْيٌ لِبَيَانِ جَلْسَتِهِ كَمَا عَلِمْتَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: عَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ عَلَيٍّ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَذَا عَنْ عُمَرَ وَأَخْرَجَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَضُونَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ، وَأَخْرَجَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ: أَدْرَكْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ إِذَا رَفَعَ أَحَدُهُمْ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشَدَّ اقْتِفَاءً لِأَثَرِهِ، وَأَلْزَمَ لِصُحْبَتِهِ مِنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

797 - وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفْعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا وَكَبَّرَ فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ، سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 797 - (وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ يَعَمَرَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْمِيمِ، أَبُو هُنَيْدَةَ الْحَضْرَمِيُّ، كَانَ قَيْلًا مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَالُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِقُدُومِهِ، وَقَالَ: «يَأْتِيكُمْ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ مِنْ حَضْرَمَوْتَ طَائِعًا رَاغِبًا فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ، وَهُوَ بَقِيَّةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِهِ وَأَدْنَاهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَبَسَطَ لَهُ رِدَاءَهُ فَأَجْلَسَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي وَائِلٍ وَوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ» ) رَوَى عَنْهُ وَلَدَاهُ عَلْقَمَةُ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ وَجَمَاعَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ يَدَيْهِ) : حَالٌ، أَيْ: نَظَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَافِعًا يَدَيْهِ (حِينَ دَخَلَ) : أَيْ أَرَادَ الدُّخُولَ (فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَبَّرَ بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِ نَسْخِ الْمَصَابِيحِ عَطْفًا عَلَى يُدْخِلُ، وَفِي بَعْضِهَا وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ بِغَيْرِ وَاوٍ مُقَيَّدًا بِلَفْظٍ كَذَا فَوْقَهُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا " وَقَدْ " مُقَدَّرَةٌ وَأَنْ يُرَادَ بِالدُّخُولِ الشُّرُوعُ فِيهَا وَالْعَزْمُ عَلَيْهَا بِالْقَلْبِ، فَيُوَافِقَ مَعْنَى الْعَطْفِ، وَيَلْزَمَ مِنْهُ الْمُوَاطَأَةُ يَعْنِي عَمَلَ الْجَارِحَةِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ كَبَّرَ بَيَانًا لِدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَيُرَادَ بِالدُّخُولِ افْتِتَاحُهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِالتَّكْبِيرِ (ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ) ، أَيْ: تَسَتَّرَ بِهِ يَعْنِي: أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُمِّ حِينَ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرِ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَعَلَّ الْتِحَافَ يَدَيْهِ بِكُمَّيْهِ لِبَرْدٍ شَدِيدٍ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّ كَشْفَ الْيَدَيْنِ فِي غَيْرِ التَّكْبِيرِ غَيْرُ وَاجِبٍ. قُلْتُ: فِيهِ أَنَّهُ عِنْدَ التَّكْبِيرِ أَيْضًا غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ سَقَطَ ثَوْبُهُ عَنْ كَتِفِهِ فَأَعَادَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ نَسِيَهُ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ فَأَخَذَهُ وَالْتَحَفَ بِهِ، قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الثَّانِي بَعِيدٌ جِدًّا مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَى مُعَالَجَةٍ كَثِيرَةٍ، قَالَ وَيُؤْخَذُ مِنْ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ فَاتَتْهُ سُنَّةٌ فِي صَلَاتِهِ تَدَارُكُهَا إِذَا أَمْكَنَهُ بِفِعْلٍ قَلِيلٍ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ أَيِ الرِّدَاءِ سُنَّةٌ، وَمِنَ الثَّانِي أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ تَرَكَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهَا تَدَارُكُهَا، وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ إِنْ أَمْكَنَ بِفِعْلٍ قَلِيلٍ أَيْضًا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الَّذِي يَتَّجِهُ فِيمَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِلَا سِوَاكٍ أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ تَدَارُكُهُ فِيهَا بِفِعْلٍ قَلِيلٍ اهـ.

وَهُوَ تَفْرِيغٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ سَتْرَ الْكَتِفِ إِنَّمَا اسْتُحِبَّ خَارِجَ الصَّلَاةِ لِيَتَحَقَّقَ وُقُوعُهُ فِيهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمِسْوَاكُ مَعَ أَنَّ السِّوَاكَ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إِجْمَاعًا، وَهُوَ عَمَلُ كَثِيرٍ عِنْدَ الْبَعْضِ، فَإِنَّ مَنْ رَآهُ يَتَسَوَّكُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَأَيْضًا يُنَافِي مُقْتَضَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الِاسْتِفْتَاحَ أَوِ التَّعَوُّذَ عَنْ مَحَلِّهِ لَا يَتَدَارَكُ بَعْدَهُ هَذَا، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ احْتِمَالَيْهِ قَوْلُهُ (ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى) : أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَحِفًا بِثَوْبِهِ لِقَوْلِهِ: (فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَضْعٌ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ وَقِيلَ: إِنَّهُ يُرْسِلُ ثُمَّ يَضَعُ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَخُرُوجًا عَنْ خِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ، وَعَلَى كُلٍّ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ الْوَضْعِ، أَوْ بِتَرْكِ سُنِّيَّتِهِ الْمُؤَكَّدَةِ، فَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَبِأَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْإِرْسَالِ، خِلَافَ الْأَوْلَى لِقَوْلِ الْبَغَوِيِّ: وَيُكْرَهُ إِرْسَالُهُمَا، وَلِعَدَمِ ثُبُوتِ الْإِرْسَالِ فِي فِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَوْلُهُ أَصْلًا: وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الضَّرُورَةِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَسَيَأْتِي مَحَلُّ الْوَضْعِ (ثُمَّ رَفَعَهُمَا وَكَبَّرَ فَرَكَعَ) : أَيِ: انْتَهَى رَفْعُهُ وَتَكْبِيرُهُ بِانْتِهَاءِ رُكُوعِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ السَّابِقَةُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنْ يَتَعَقَّبُ عَلَيْهِ الْفَاءُ التَّعْقِيبِيَّةُ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ (فَلَمَّا قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " رَفَعَ يَدَيْهِ) : أَيْ: لَمَّا شَرَعَ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ شَرَعَ فِي رَفْعِهِمَا كَمَا عُلِمَ مِنَ الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ أَيْضًا، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ذِكْرُ الرَّفْعِ وَالِانْتِقَالِ مِنَ الرُّكُوعِ إِلَى الِاعْتِدَالِ، وَأَنَّهُ يُسَنُّ الْجَهْرُ بِهِ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِلْإِمَامِ وَالْمُبَلِّغِ (فَلَمَّا سَجَدَ، سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ) : أَيْ: مُحَاذِيَيْنِ لِرَأْسِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ وَضَعَ كَفَّيْهِ بِإِزَاءِ مَنْكِبَيْهِ فِي السُّجُودِ، وَفِيهِ أَنَّ إِزَاءَ الْمَنْكِبَيْنِ لَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلْمَذْهَبِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي وَضْعُ كَفَّيْهِ عَلَى الْأَرْضِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. قُلْتُ: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ سَنَدِهِ، فَمُسْلِمٌ مُقَدَّمٌ لِأَنَّهُ فِي الصِّحَّةِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ، فَيَحْمِلُ رِوَايَةَ غَيْرِهِ عَلَى الْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَمَوْلًى لَهُمْ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَهُوَ إِسْنَادٌ مُسْتَقِيمٌ، وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلٌ، مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ حَامِلٌ بِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلْقَمَةَ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، وَأَنَّ الَّذِي لَمْ يَسْمَعُ مِنْ أَبِيهِ هُوَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَذَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

798 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 798 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدِ) : أَنْصَارِيٌّ، خَزْرَجَيٌّ، مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ) ، أَيْ: وَالْمَرْأَةُ تَابِعَةٌ لَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الرَّجُلُ إِنَّمَا هُوَ إِذَا احْتَلَمَ وَشَبَّ، أَوْ هُوَ رَجُلٌ سَاعَةَ يُولَدُ اهـ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ وَضْعِ الرَّجُلِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ النَّاسِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِي وَضْعِ الرَّجُلِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ النَّاسِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْقَائِمَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْمِلَ شَرِيطَةَ الْأَدَبِ، بَلْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى يَدِهِ وَيُطَأْطِئَ رَأْسَهُ كَمَا يَصْنَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَكَتَبَ تَحْتَهُ: وَفِيهِ مَا أَنَّ هَذِهِ النُّكْتَةَ لِمُطْلَقِ الْوَضْعِ لَا لِذِكْرِ الرَّجُلِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ النَّاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهَذَا الْأَدَبِ إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ صِفَاتُ الرُّجُولِيَّةِ الْكَامِلَةِ لَا لِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَعُمُّهُ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ خُرُوجِهِ. (الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ) ، أَيْ: قُرْبَ ذِرَاعِهِ (الْيُسْرَى) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعَنْ عَلَيٍّ: وَمِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَضْعُ الْأَكُفِّ عَلَى الْأَكُفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْوَاسِطِيِّ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَفِي وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَقَطْ أَحَادِيثُ

فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ عَلَى مَالِكٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ طَلَبُ النَّحْرِ نَفْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ طَلَبِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ النَّحْرِ، فَالْمُرَادُ نَحْرُ الْأُضْحِيَةِ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الصَّدْرِ لَيْسَ هُوَ حَقِيقَةَ وَضْعِهَا عَلَى النَّحْرِ، فَصَارَ الثَّابِتُ هُوَ وَضْعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَكَوْنُهُ تَحْتَ السُّرَّةِ أَوِ الصَّدْرِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَدِيثٌ يُوجِبُ الْعَمَلَ، فَيُحَالُ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْ وَضْعِهِمَا حَالَ قَصْدِ التَّعْظِيمِ فِي الْقِيَامِ، وَالْمَعْهُودُ فِي الشَّاهِدِ تَحْتَ السُّرَّةِ، ثُمَّ قِيلَ كَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَضَعَ الْكَفَّ عَلَى الْكَفِّ، وَقِيلَ: عَلَى الْمِفْصَلِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَقْبِضُ بِالْيُمْنَى رُسْغَ الْيُسْرَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضَعُهَا كَذَلِكَ وَيَكُونُ الرُّسْغُ وَسَطَ الْكَفِّ، وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِالْإِبْهَامِ وَالْخِنْصَرِ يَعْنِي: وَيَضَعُ الْبَاقِي فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْآخِذِ وَالْوَضْعِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ اهـ. فَمَا ادَّعَاهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ سُنَّةَ الْوَضْعِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ سُرَّتِهِ وَصَدْرِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ» ، أَيْ: آخِرَهُ فَيُكُونَانِ تَحْتَهُ بِقَرِينَةِ رِوَايَةِ تَحْتَ صَدْرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِلَّا فَيَحْتَاجُ إِلَى تَصْرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، أَيْ: وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى تَحْتَ النَّحْرِ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْبِضَ بِكَفِّ الْيُمْنَى كُوعَ الْيُسْرَى، وَهُوَ الْعَظَمُ الَّذِي يَلِي الْإِبْهَامَ وَبَعْضَ رُسْغِهَا، وَهُوَ الْمِفْصَلُ بَيْنَ الْكَفِّ وَالسَّاعِدِ، وَسَاعِدَهَا وَبِأَصَابِعِهَا مِفْصَلَ الْيُسْرَى، لِأَنَّهُ صَحَّ «عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ» ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ «أَنَّهُ أَخَذَ بِيَمِينِهِ يَسَارَهُ» (فِي الصَّلَاةِ) : وَمَحَلُّ الْوَضْعِ مِنْهَا كُلُّ قِيَامٍ فِيهِ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

799 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ " رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 799 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِي نُسْخَةٍ " النَّبِيُّ " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ) : أَيْ لِلْإِحْرَامِ، وَهُوَ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] (حِينَ يَقُومُ) : وَفِيهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّ الْقِيَامَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ) : التَّكْبِيرَاتُ الَّتِي لِلِانْتِقَالِ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ (ثُمَّ يَقُولُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ) ، أَيْ: حِينَ يَشْرَعُ رَفْعَهُ (مِنَ الرَّكْعَةِ) ، أَيْ: مِنَ الرُّكُوعِ، وَبِهِ تَتِمُّ الرَّكْعَةُ لِلْمُقْتَدِي (ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: " رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ") : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُؤْتَمَّ لَا يَذْكُرُ التَّسْمِيعَ، وَفِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ اهـ. فَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُنْفَرِدِ، فَإِنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِجْمَاعًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ذِكْرُ الِانْتِقَالِ، وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ذِكْرُ الْقِيَامِ، فَمَدْفُوعٌ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: ثُمَّ يَشْرَعُ فِي قَوْلِ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَهُوَ قَائِمٌ (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي) : بِكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ: يَهْبِطُ وَيَنْزِلُ إِلَى السُّجُودِ (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) ، أَيْ: مِنَ السُّجُودِ (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ) ، أَيْ: حِينَ يُرِيدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِيهِ تَرْجِيحُ مُقَارَنَةِ الِانْتِقَالِ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا هُوَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَأَنَّ التَّسْمِيعَ يُذْكَرُ حَالَةَ الِانْتِقَالِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالتَّحْمِيدُ حَالَةَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْقِيَامِ، وَعَلَى وَفْقِهِ ذِكْرُ فِي جَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ وَقَالَ فِيهِ: فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالتَّسْمِيعِ حَالَةَ الرَّفْعِ لَا يَأْتِ بِهِ حَالَةَ الِاسْتِوَاءِ، وَقِيلَ: يَأْتِي بِهِمَا (ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ) ، أَيْ: جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مَا عَدَا التَّحْرِيمَةَ (فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا) ، أَيْ: جَمِيعِ رَكَعَاتِهَا (حَتَّى يَقْضِيَهَا) ، أَيْ: يُتِمُّهَا وَيُؤَدِّيَهَا (وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ) ، أَيِ: الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ (بَعْدَ الْجُلُوسِ) ، أَيِ: الْقَعْدَةِ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى سُنِّيَّةِ التَّكْبِيرَاتِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَحْمَدُ بِوُجُوبِهَا، وَكَذَا قَالَ أَيْضًا؟ بِوُجُوبِ التَّسْبِيحَاتِ وَنَحْوِهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا تُسَنُّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَحَادِيثَ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ.

800 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 800 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» ") ، أَيْ: وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْقِيَامِ، وَالسُّكُوتِ، فَيَنْصَرِفُ لَفْظُ الْحَدِيثِ إِلَى مَا يَحْتَمِلُ، قَالَ الْمُظْهِرُ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ: " «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةٌ فِيهَا طُولُ الْقُنُوتِ» " أَيْ طُولُ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: الْمُرَادُ بِالْقُنُوتِ الْقِيَامُ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ أَيْ ذَاتُ طُولِ قِيَامٍ، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ طُولَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ، لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي النَّهَارِ كَثْرَةُ السُّجُودِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْهُ وَمِنْ كَوْنِهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُطَوِّلُ الْقِيَامَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمِنْ كَوْنِ ذِكْرِهِ الْقُرْآنَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ ذَكَرِهِمَا أَخَذَ أَئِمَّتُنَا إِطَالَةَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ، قَالُوا: وَالْأَفْضَلُ بَعْدَهُ إِطَالَةُ السُّجُودِ ثُمَّ الرُّكُوعِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَيْضًا خَرَجَ مِنْهُ تَطْوِيلُ الْقِيَامِ لِلْخَبَرِ وَالْمَعْنَى السَّابِقَيْنِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا لَوْ طَوَّلَ أَحَدٌ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَوْ نَحْوَهَا، كَوُقُوفِ عَرَفَةَ، وَمَبِيتِ مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى، عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ، هَلْ يُثَابُ عَلَى الْكُلِّ ثَوَابَ الْفَرْضِ أَوِ النَّفْلِ؟ فَقَالَ كَثِيرُونَ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ لِسَعَةِ الْفَضْلِ، وَقَالَ كَثِيرُونَ بِالثَّانِي، وَهُوَ الْأَرْجَحُ حَيْثُ أَمْكَنَ تَمْيِيزُ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ بَعِيرٍ مُخْرَجٍ عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 801 - عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالُوا: فَاعْرِضْ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ، ثُمَّ يَقْرَأُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَعْتَدِلُ فَلَا يُصَبِّي رَأْسَهُ وَلَا يُقْنِعُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَقُولُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا، ثُمَّ يَقُولُ " اللَّهُ أَكْبَرُ "، ثُمَّ يَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ سَاجِدًا، فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيَفْتَخُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَعْتَدِلُ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا، ثُمَّ يَسْجُدُ، ثُمَّ يَقُولُ " اللَّهُ أَكْبَرُ "، وَيَرْفَعُ وَيَثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَعْتَدِلُ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يَنْهَضُ، ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كَمَا كَبَّرَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ سَلَّمَ، قَالُوا: صَدَقْتَ هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: «ثُمَّ رَكَعَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا، وَوَتَّرَ يَدَيْهِ فَنَحَّاهُمَا عَنْ جَنْبَيْهِ، وَقَالَ: ثُمَّ سَجَدَ فَأَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ الْأَرْضَ، وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَفَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَأَقْبَلَ بِصَدْرِ الْيُمْنَى عَلَى قِبْلَتِهِ، وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَكَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ - يَعْنِي السَّبَّابَةَ» - وَفِي أُخْرَى لَهُ: «وَإِذَا قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَعَدَ عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَفْضَى بِوَرِكِهِ الْيُسْرَى إِلَى الْأَرْضِ وَأَخْرَجَ قَدَمَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني 801 - (عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ) : مُصَغَّرًا (قَالَ) : أَيْ: أَوْقَعَ قَوْلَهُ الْآتِي أَنَا أَعْلَمُكُمْ (فِي عَشَرَةٍ) : أَيْ فِي مَحْضَرِ عَشَرَةٍ يَعْنِي بَيْنَ عَشَرَةِ أَنْفُسٍ وَحَضْرَتِهِمْ (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: بِصَلَاةِ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: فَاعْرِضْ) : بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ، أَيْ: إِذَا كُنْتَ أَعْلَمَ فَاعْرِضْ، فِي النِّهَايَةِ، يُقَالُ: عَرَضْتُ عَلَيْهِ أَمْرَ كَذَا، أَوْ عَرَضْتُ لَهُ الشَّيْءَ أَظْهَرْتُهُ وَأَبْرَزْتُهُ إِلَيْهِ أَعَرِضُ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ، أَيْ: بَيِّنْ عِلْمَكَ بِصَلَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَمَا تَدَّعِيهِ لِنُوَافِقَكَ إِنْ حَفِظْنَاهُ وَإِلَّا اسْتَفَدْنَاهُ (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا) ، أَيْ: بِكَفَّيْهِ (مَنْكِبَيْهِ) : وَيَكُونُ رُءُوسُ الْأَصَابِعِ بِحِذَاءِ أُذُنَيْهِ (ثُمَّ يُكَبِّرُ) ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ السَّابِقَةِ حِينَ يُكَبِّرُ، وَقُدِّمَتْ لِأَنَّهَا أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ وُقُوعِ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الْقِيَامِ كَمَا مَرَّ (ثُمَّ يَقْرَأُ) : وَلَعَلَّ الْقِرَاءَةَ هُنَا تَعُمُّ التَّسْبِيحَ وَدُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: ثُمَّ يَأْتِي الِافْتِتَاحُ وَالتَّعَوُّذُ كَمَا ثَبَتَ مِنْ رِوَايَاتٍ أُخَرَ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ السُّورَةَ كَمَا ثَبَتَ مِنْ رِوَايَاتٍ أُخَرَ أَيْضًا (ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ) ، أَيْ: كَفَّيْهِ (عَلَى رُكْبَتَيْهِ) ، وَيُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ كُلَّ التَّفْرِيجِ، وَلَا يُنْدَبُ التَّفْرِيجُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا الضَّمُّ إِلَّا حَالَ السُّجُودِ وَفِيمَا سِوَاهُمَا، وَهُوَ حَالُ الرَّفْعِ عِنْدَ التحْرِيمَةِ وَالْوَضْعِ فِي التَّشَهُّدِ يُتْرَكُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ ضَمٍّ وَلَا تَفْرِيجٍ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، (ثُمَّ يَعْتَدِلُ) ، أَيْ: فِي الرُّكُوعِ بِأَنْ يُسَوِّيَ رَأْسَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى يَصِيرَا كَالصَّفْحَةِ وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ، (فَلَا يُصَبِّي) : بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: لَا يُنْزِلُ (رَأْسَهُ) ، أَيْ: عَنْ ظَهْرِهِ، فِي الْغَرِيبَيْنِ: صَبَّى الرَّجُلُ رَأْسَهُ يُصَبِّيهِ إِذَا خَفَضَهُ جِدًّا، مِنْ صَبَا الرَّجُلُ إِذَا مَالَ إِلَى النِّسَاءِ، فِي نُسْخَةٍ إِلَى الصِّبَا، فِي

النِّهَايَةِ: وَشَدَّدَهُ لِلتَّكْثِيرِ قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الصَّوَابُ يُصَوِّبُ، قُلْتُ: إِذَا صَحَّ صَبَّى لُغَةً وَرِوَايَةً، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَالصَّوَابُ (وَلَا يُقْنِعُ) : مِنْ أَقْنَعَ رَأْسَهُ إِذَا رَفَعَ، أَيْ: لَا يَرْفَعُهُ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى مِنْ ظَهْرِهِ (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) ، أَيْ: إِلَى الْقَامَةِ بِالِاعْتِدَالِ فَيَقُولُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَرْفَعُ (ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " ثُمَّ يَهْوِي) ، أَيْ: بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي التَّكْبِيرِ، أَيْ: يَنْزِلُ (إِلَى الْأَرْضِ سَاجِدًا) ، أَيْ: قَاصِدًا لِلسُّجُودِ (فَيُجَافِي) ، أَيْ: يُبَاعِدُ فِي سُجُودِهِ (يَدَيْهِ) ، أَيْ: مِرْفَقَيْهِ (عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيَفْتَخُ) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ) ، أَيْ: يُثْنِيَهَا وَيُلَيِّنُهَا فَيُوَجِّهُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ، أَيْ: يُلَيِّنُهَا فَيَنْصِبُهَا، وَيَغْمِزُ مَوْضِعَ الْمَفَاصِلِ وَيُثْنِيهَا إِلَى بَاطِنِ الرِّجْلِ يَعْنِي حِينَئِذٍ، قَالَ: وَأَصْلُ الْفَتْخِ الْكَسْرُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعُقَابِ فَتْخٌ لِأَنَّهَا إِذَا انْحَطَّتْ كُسِرَتْ جَنَاحُهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمُرَادُ هُنَا نَصْبُهَا مَعَ الِاعْتِمَادِ عَلَى بُطُونِهَا، وَجَعْلُ رُءُوسِهَا لِلْقِبْلَةِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ ; عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» ، وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ السَّابِقِ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَجَدَ وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ» ، وَمِنْ لَازَمِهَا الِاسْتِقْبَالُ بِبُطُونِهَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا، (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) ، أَيْ: مُكَبِّرًا (وَيَثْنِي) : بِفَتْحِ الْيَاءِ الْأُولَى، أَيْ: يَعْطِفُ (رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَعْتَدِلُ) ، أَيْ: جَالِسًا (حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ) ، أَيْ: يَسْتَقِرَّ فِيهِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِلَى مَوْضِعِهِ، أَيْ: يَعُودُ إِلَيْهِ (مُعْتَدِلًا) ، أَيْ: فِي الْجُلُوسِ، وَهُوَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ وُجُوبُ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الْوُجُوبِ فِيهِ (ثُمَّ يَسْجُدُ) ، أَيْ: بَعْدَ التَّكْبِيرِ (ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَيَرْفَعُ) ، أَيْ: رَأَسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ (وَيَثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى) ، أَيْ: يُعَوِّجُهَا إِلَى بَاطِنِ الرِّجْلِ (فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَعْتَدِلُ) : عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (حَتَّى يَرْجِعَ) : أَيْ يَعُودَ (كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ نَدِبُّ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لَا تَشَهُّدَ فِيهَا اهـ. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُذْرِ أَوْ بَيَانِ الْجَوَازِ، لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، (ثُمَّ يَنْهَضُ) ، أَيْ: يَقُومُ (ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ) ، أَيْ: مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ (ثُمَّ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كَمَا كَبَّرَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ) : قَالَ الْقَاضِي: لَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيُّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى، لِأَنَّهُ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، لَكِنَّ مَذْهَبَهُ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ لَزِمَ الْقَوْلُ بِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (ثُمَّ يَصْنَعُ ذَلِكَ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ (فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ) : ثُنَائِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا (حَتَّى إِذَا كَانَتِ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا) ، أَيْ: فِي عَقِبَهَا (التَّسْلِيمُ أَخَّرَ) ، أَيْ: أَخْرَجَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (رِجْلَهُ الْيُسْرَى) : أَيْ مِنْ تَحْتِ مَقْعَدَتِهِ إِلَى الْأَيْمَنِ (وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ) ، أَيْ: مُفْضِيًا بِوَرِكِهِ الْيُسْرَى إِلَى الْأَرْضِ غَيْرَ قَاعِدٍ عَلَى رِجْلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّوَرُّكُ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ عَلَى وَرِكِهِ، أَيْ: جَانِبِ أَلْيَتِهِ وَيُخْرِجُ رِجْلَهُ مِنْ تَحْتِهِ، (ثُمَّ سَلَّمَ، قَالُوا) : أَيِ الْعَشَرَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ (صَدَقْتَ) : أَيْ

فِيمَا قُلْتُ (هَكَذَا كَانَ) ، أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يُصَلِّي، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَالدَّارِمِيُّ) ، أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) ، أَيْ: حَسَنٌ لِذَاتِهِ، صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ، أَيْ: أُخْرَى (لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ) : أَيْضًا (ثُمَّ رَكَعَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا، وَوَتَّرَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: عَوَّجَهُمَا مِنَ التَّوْتِيرِ، وَهُوَ جَعْلُ الْوَتَرِ عَلَى الْقَوْسِ (فَنَحَّاهُمَا عَنْ جَنْبَيْهِ) : مِنْ نَحَّى تَنْحِيَةً إِذَا أَبْعَدَ يَعْنِي: مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، حَتَّى كَأَنَّ يَدَهُ كَالْوَتَرِ وَجَنْبَيْهِ كَالْقَوْسِ، وَفِي النِّهَايَةِ، أَيْ: جَعَلَهُمَا كَالْوَتَرِ مِنْ قَوْلِكَ: وَتَّرْتُ الْقَوْسَ وَأَوْتَرْتُهُ، شَبَّهَ يَدَ الرَّاكِعِ إِذَا مَدَّهَا قَابِضًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ بِالْقَوْسِ إِذَا أُوتِرَتْ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ نَاصِبًا سَاقَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِحْنَاؤُهُمَا شَبَهَ الْقَوْسِ كَمَا يَفْعَلُهُ عَامَّةُ النَّاسِ مَكْرُوهٌ، ذَكَرَهُ فِي رَوْضَةِ الْعُلَمَاءِ، (وَقَالَ: ثُمَّ سَجَدَ فَأَمْكَنَ) ، أَيْ: أَقْدَرَ (أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ الْأَرْضَ) : بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ: وَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَفِي الْهِدَايَةِ: إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَيْ: مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَنْفِ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْمُعْتَبَرُ وَضْعُ مَا صَلُبَ مِنَ الْأَنْفِ لَا مَا لَانَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ وُجُوبُ وَضْعِ الْجَبْهَةِ وَكَوْنِهَا عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ: مَكْشُوفَةً إِنْ أَمْكَنَ وَوُجُوبُ التَّحَامُلِ عَلَيْهَا لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «إِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَلَا تَنْقُرْ نَقْرًا» ، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى كَشْفِ الْوَجْهِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَصَحَّ أَيْضًا أَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ شَكْوَاهُمْ أَيْ فِي الْمَجْمُوعِ، مِنْ ثَمَّ لَمْ يَجِبْ كَشْفُ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلَّى فِي مَسْجِدِ بَنِي الْأَشْهَلِ، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُلَفَّعٌ بِهِ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ يَقِيهِ الْحَصَا» اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مُدَّعَاهُ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّجْدَةُ عَلَى السَّجَّادَةِ، فَيُحْمَلُ عَدَمُ إِزَالَةِ الشَّكْوَى عَلَى عَدَمِ إِجَازَةِ تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى آخَرِ الْوَقْتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحِكْمَةُ وُجُوبِ كَشْفِ الْجَبْهَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ لِسُهُولَتِهِ فِيهَا دُونَ الْبَقِيَّةِ، وَحُصُولِ مَقْصُودِ السُّجُودِ بِهِ، وَهُوَ غَايَةُ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ لِمُبَاشَرَةِ أَشْرَفِ مَا فِي الْإِنْسَانِ لِمَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ وَالنِّعَالِ، فَهُوَ مُشْتَرِكُ الدَّلَالَةِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالسُّنِّيَّةِ الَّتِي قُلْنَا بِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَاكْتُفِيَ بِبَعْضِهَا لِمَشَقَّةِ وَجُوبِهَا عَلَى كُلِّهَا، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَجَدَ عَلَى بَعْضِهَا، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ هُوَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَلَا يُنَافِي قَوْلَ الشَّافِعِيِّ بِكَرَاهَتِهِ، وَفَّى الْحَدِيثِ أَيْضًا وُجُوبُ وَضْعِ أَنْفِهِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ كَأَصْحَابِنَا بِحَمْلِ أَخْبَارِ الْأَنْفِ عَلَى النَّدْبِ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ ثِقَةٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا (وَنَحَّى) : بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: بَعَّدَ (يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّهُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ، «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَجَدَ وَوَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ» اهـ. وَمَنْ يَضَعُ كَذَلِكَ يَكُونُ يَدَاهُ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ، فَيُعَارِضُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَمَّا سَجَدَ وَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ بِأَنْ فُلَيْحَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْوَاقِعَ فِي سَنَدِ الْبُخَارِيِّ، وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ تَثْبِيتُهُ، لَكِنَّهُ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ، فَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَيَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ، وَالسَّاجِيُّ وَقَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّهُمَا تَيَسَّرَ جَمْعًا

لِلْمَرْوِيَّاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَفْعَلُ هَذَا أَحْيَانًا، إِلَّا أَنَّ بَيْنَ الْكَفَّيْنِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنْ تَخْلِيصِ الْمُجَافَاةِ الْمَسْنُونَةِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ كَانَ حَسَنًا، (وَفَرَّجَ) ، أَيْ: فَرَّقَ الرَّجُلُ (بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ) ، أَيْ: غَيْرَ وَاضِعٍ (بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ حَتَّى فَرَغَ) ، أَيْ: مِنْ سُجُودِهِ (ثُمَّ جَلَسَ) ، أَيْ: مُطْلَقًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ (فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى) ، أَيْ: جَلَسَ عَلَى بَطْنِهَا (وَأَقْبَلَ بِصَدْرِ الْيُمْنَى عَلَى قِبْلَتِهِ) ، أَيْ: وَجَّهَ أَطْرَافَ أَصَابِعِ رِجْلِهِ الْيُمْنَى إِلَى الْقِبْلَةِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ، أَيْ: جَعَلَ صَدْرَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى مُقَابِلًا لِلْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ بِوَضْعِ بَاطِنِ الْأَصَابِعِ عَلَى الْأَرْضِ مُقَابِلَ الْقِبْلَةِ مَعَ تَحَامُلٍ قَلِيلٍ فِي نَصْبِ الرِّجْلِ (وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَكَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ يَعْنِي السَّبَّابَةَ) : فَعَّالَةٌ مِنَ السَّبِّ، فَإِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ كَانَتْ عِنْدَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ الْإِشَارَةُ بِالْأُصْبُعِ الَّذِي يَلِي الْإِبْهَامَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي مُسْلِمٍ «كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَوَضْعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وَضْعَ الْكَفِّ مَعَ قَبْضِ الْأَصَابِعِ لَا يَتَحَقَّقُ حَقِيقَةً، فَالْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَضْعُ الْكَفِّ ثُمَّ قَبْضُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِشَارَةِ، قَالَ: يَقْبِضُ خِنْصَرَهُ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَيُحَلِّقُ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامَ، وَيُقِيمُ الْمُسَبِّحَةَ، وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي، وَهَذَا فَرْعُ تَصْحِيحِ الْإِشَارَةِ، وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَشَايِخِ لَا يُشِيرُ أَصْلًا، وَهُوَ خِلَافُ الدِّرَايَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَعَنِ الْحُلْوَانِيِّ: يُقِيمُ الْأُصْبُعَ عِنْدَ: لَا إِلَهَ، وَيَضَعُهَا عِنْدَ: إِلَّا اللَّهُ؛ لِيَكُونَ الرَّفْعُ لِلنَّفْيِ، وَالْوَضْعُ لِلْإِثْبَاتِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ عَلَى حَرْفِ الرُّكْبَةِ لَا مُبَاعَدَةً عَنْهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيَّنَهُ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ، وَجَرَى عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا حَيْثُ قَالُوا: يُسَنُّ وَضْعُ بَطْنِ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ قَرِيبًا مِنْ رُكْبَتَيْهِ لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّهُ يُسَنُّ رَفْعُ مُسَبِّحَتِهِ الْيُمْنَى، لَكِنْ مَعَ انْحِنَائِهَا قَلِيلًا لِخَبَرٍ صَحِيحٍ فِيهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ لِحَدِيثٍ فِيهِ أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ يَخُصُّ عُمُومَ خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ: كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِذَا دَعَا أَوْ تَشَهَّدَ عَلَى أَنَّ التَّشَهُّدَ حَقِيقَةُ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَنْوِيَ بِإِشَارَتِهِ حِينَئِذٍ التَّوْحِيدَ وَالْإِخْلَاصَ فِيهِ لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ، وَيُسَنُّ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ لِلِاتِّبَاعِ أَيْضًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَيُكْرَهُ عِنْدَنَا تَحْرِيكُ الْمُسَبِّحَةِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتْرُكُهُ، وَقِيلَ: يُسَنُّ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَفْعَلُهُ، رَوَى الْخَبَرَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَحْرِيكِهَا فِي خَبَرِهِ رَفْعُهَا لَا تَكْرِيرُ تَحْرِكِيهَا، وَهُوَ احْتِمَالٌ ظَاهِرٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَأَمَّا خَبَرُ " تَحْرِيكُ الْأَصَابِعِ مُذْعِرَةٌ لِلشَّيْطَانِ " أَيْ: مُنَفِّرَةٌ لَهُ، فَضَعِيفٌ. (وَفِي أُخْرَى لَهُ) ، أَيْ: فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَفِيهِ مَقَالٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ (وَإِذَا قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ) ، أَيِ: الْأُولَيَيْنِ (قَعَدَ عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَفْضَى) ، أَيْ: أَوْصَلَهَا (بِوَرِكِهِ الْيُسْرَى إِلَى الْأَرْضِ) : أَيْ: مَسَّ بِمَا لَانَ مِنَ الْوَرِكِ الْأَرْضَ، الْجَوْهَرِيُّ: أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ إِذَا مَسَّهَا بِبَطْنِ رَاحَتِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، (أَخْرَجَ قَدَمَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ) : وَهِيَ نَاحِيَةُ الْيُمْنَى، وَإِطْلَاقُ الْإِخْرَاجِ عَلَى الْيُمْنَى تَغْلِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ حَقِيقَةً هُوَ الْيُسْرَى لَا غَيْرُ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِلشَّافِعِيِّ عَلَى سُنِّيَّةِ التَّوَرُّكِ فِي الْقَعْدَةِ الثَّانِيَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَعِنْدَنَا يُحْمَلُ عَلَى وُقُوعِهِ لِعُذْرٍ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ مَعَ احْتِمَالِ وُقُوعِهِ بَعْدَ السَّلَامِ.

802 - «وَعَنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَبْصَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ، وَحَاذَى إِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ كَبَّرَ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: يَرْفَعُ إِبْهَامَيْهِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 802 - (وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: أَنَّهُ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ) : ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ (رَفَعَ يَدَيْهِ) : حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ، أَيْ: رَآهُ حَالَ كَوْنِهِ رَافِعًا يَدَيْهِ حِينَ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ (حَتَّى كَانَتَا) : أَيْ كَفَّاهُ (بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ) ، أَيْ: بِحِذَائِهِمَا (وَحَاذَى) : عَطْفٌ عَلَى كَانَتَا، أَيْ: قَابَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ) ، أَيْ: جَعَلَ إِبْهَامَيْهِ مُحَاذِيَيْنِ لِأُذُنَيْهِ، وَالْمُرَادُ شَحَمَتَيْهِمَا لِمَا سَيَأْتِي مُصَرَّحًا (ثُمَّ كَبَّرَ) : ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ مَعْنَى كَبَّرَ انْتَهَى التَّكْبِيرُ، فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الرَّفْعِ وَالتَّكْبِيرِ مُتَقَارِبَيْنِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: عَبْدُ الْجَبَّارِ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ؟ قَالَ: لَا، وُلِدَ بَعْدَ أَبِيهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَذَا فِي التَّخْرِيجِ، وَقَالَ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا لَا أَعْقِلُ صَلَاةَ أَبِي، وَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ حَمْلٌ لَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ: ذَكَرَهُ مِيرَكُ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) : أَيْ لِأَبِي دَاوُدَ، قَالَ مِيرَكُ: وَلِلنَّسَائِيِّ كَذَا يُفْهَمُ مِنَ التَّخْرِيجِ (يَرْفَعُ إِبْهَامَيْهِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ) ، أَيْ: شَحْمَتَيْهِمَا وَهِيَ مَا لَانَ مِنْ أَسْفَلِهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُخْتَارُ الشَّافِعِيِّ.

803 - «وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 803 - (وَعَنْ قَبِيصَةَ) : بِفَتْحِ الْقَافِ (ابْنِ هُلْبٍ) : بِسُكُونِ اللَّامِ مَعَ ضَمِّ الْهَاءِ كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَبِيهِ صُحْبَةٌ (عَنْ أَبِيهِ) : قَالَ الْبُخَارِيُّ: اسْمُ هُلْبٍ يَزِيدُ، وَقِيلَ سَلَامَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ هُلْبٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَعَ، فَمَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ، فَنَبَتَ شَعْرٌ كَثِيرٌ، فَسُمِّيَ هُلْبًا، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّنَا) ، أَيْ: يَصِيرُ إِمَامًا لَنَا (فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ) ، أَيْ: كُوعَهُ الْأَيْسَرَ (بِيَمِينِهِ) ، أَيْ: بِكَفِّهِ الْيُمْنَى، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْأَظْهَرُ بِأُصْبُعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالْخِنْصَرِ، وَيَكُونُ الْكَفُّ عَلَى الْكَفِّ، وَبَقِيَّةُ الْأَصَابِعِ عَلَى الذِّرَاعِ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَالرِّوَايَاتِ، وَهَذَا الْوَضْعُ عِنْدَ الْقِيَامِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عِنْدَ الْقِرَاءَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَابْنُ مَاجَهْ) .

804 - وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعِدْ صَلَاتَكَ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " فَقَالَ عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُصَلِّي؟ قَالَ: " إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ، فَإِذَا رَكَعَتْ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَمَكِّنْ رُكُوعَكَ وَامْدُدْ ظَهْرَكَ، فَإِذَا رَفَعْتَ فَأَقِمْ صُلْبَكَ، وَارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ إِلَى مَفَاصِلِهَا فَإِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنِ السُّجُودَ، فَإِذَا رَفَعْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى، ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَسَجْدَةٍ حَتَّى تَطْمَئِنَّ» هَذَا لَفَظُ الْمَصَابِيحِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدُ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ، قَالَ: ( «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ تَشَهَّدْ، فَأَقِمْ، فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ، وَإِلَّا فَاحْمَدِ اللَّهَ وَكَبِّرْهُ، وَهَلِّلْهُ، ثُمَّ ارْكَعْ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 804 - (وَعَنْ رِفَاعَةَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ (ابْنِ رَافِعٍ) : الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ أَخُوهُ خَلَّادُ بْنُ رَافِعٍ كَمَا مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَوَّلَ الْبَابِ، (فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ) ، أَيْ: صَلَاةً نَاقِصَةً أَوْ فَاسِدَةً (ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : تَقْدِيمٌ لِحَقِّ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ (قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعِدْ صَلَاتَكَ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَذَلِكَ لِعَدَمِ كَمَالِهَا وَتَفَاحُشِ نُقْصَانِهَا (فَقَالَ) ، أَيِ الرَّجُلُ (عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُصَلِّي؟) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ تَعَدُّدَ الْقِصَّةِ وَاتِّحَادَهَا (قَالَ: إِذَا تَوَجَّهْتَ إِلَى الْقِبْلَةِ) : وَهُوَ شَرْطٌ بِلَا خِلَافٍ (فَكَبِّرْ) : فَإِنَّهُ فَرَضٌ بِلَا خِلَافٍ، عَلَى خِلَافٍ فِي كَوْنِهِ شَرْطًا أَوْ رُكْنًا (ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ) ، أَيِ: الْفَاتِحَةِ (وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ) ، أَيْ: مَا رَزَقَكَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، فَقِرَاءَةُ آيَةٍ فَرْضٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ، وَعِنْدَنَا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَأَمَّا ضَمُّ السُّورَةِ وَمَا قَامَ مَقَامَهَا فَعِنْدَنَا وَاجِبٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ سُنَّةٌ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِقَدْرِ الْمَقْرُوءِ لَا لِأَصْلِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَأَوْجَبُوا قِرَاءَةَ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: وَدَلِيلُهُ قَوِيٌّ إِذْ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّقْصُ عَنْهَا، قَالَ: وَيُجَابُ بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى التَّأْكِيدِ لَا الْوُجُوبِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أُمُّ الْقُرْآنِ عِوَضٌ عَنْ غَيْرِهَا وَلَيْسَ غَيْرُهَا عِوَضًا عَنْهَا» اهـ.

وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْفَاتِحَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ غَيْرُهَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا يُؤَدَّى بِهِ الْفَرْضُ فَقَطْ دُونَ الْوَاجِبِ، فَهُوَ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا وَاصْطِلَاحَ أَئِمَّتِنَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَضَعَ مَا شَاءَ اللَّهُ مَوْضِعَ مَا شِئْتَ؛ لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ مَسْبُوقَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ، (فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ) ، أَيْ: كَفَّيْكَ (عَلَى رُكْبَتَيْكَ) : وَهَذَا الْجَعْلُ سُنَّةٌ اتِّفَاقًا (وَمَكِّنْ رُكُوعَكَ) ، أَيْ: مِنْ أَعْضَائِكَ يَعْنِي: تَمِّمْ بِجَمْعِ أَعْضَائِكَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ ارْكَعْ رُكُوعًا تَامًّا مَعَ الطَّمَأْنِينَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ تَمِّمْهُ بِفِعْلِ مَا مَرَّ فِي الْأَعْضَاءِ (وَامْدُدْ) ، أَيِ: ابْسُطْ (ظَهْرَكَ) : وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ مُسْتَحَبَّةٌ أَيْضًا (فَإِذَا رَفَعْتَ) ، أَيْ: رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ (فَأَقِمْ صُلْبَكَ) : وَمَرَّ تَفْسِيرُهُ (وَارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ) : بِرَفْعِهَا وَتُنْصَبُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، أَيْ: تَعُودُ أَوْ تَرُدُّ أَنْتَ (إِلَى مَفَاصِلِهَا) : وَتَقَدَّمَ حُكْمُهُ أَيْضًا (فَإِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ) ، أَيْ: يَدَيْكَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، (لِلسُّجُودِ) : أَيِ اسْجُدْ سُجُودًا تَامًّا مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ فِي السُّجُودِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا، وَفَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعْنَاهُ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنْ مَسْجِدِكَ، فَيَجِبُ تَمْكِينُهَا بِأَنْ يَتَحَامَلَ عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَ تَحْتَهَا قُطْنٌ انْكَبَسَ (فَإِذَا رَفَعْتَ) ، رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ (فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى) ، أَيْ نَاصِبًا قَدَمَكَ الْيُمْنَى، وَهُوَ الِافْتِرَاشُ الْمَسْنُونُ عِنْدَنَا فِي مُطْلَقِ الْقَعَدَاتِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ تَنْصِبُ رِجْلَكَ الْيُمْنَى كَمَا بَيَّنَهُ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الِافْتِرَاشُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِقْعَاءِ الْمُسْنُونِ بَيْنَهُمَا كَمَا مَرَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ أَحْوَالِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ الْمَسْنُونُ، وَغَيْرُهُ إِمَّا لِعُذْرٍ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ (ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ) ، أَيْ: جَمِيعَ مَا ذُكِرَ (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَسَجْدَةٍ) : أَيْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ إِبْقَاءُ الرَّكْعَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّجْدَةِ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ؛ إِذْ يَجِبُ فِيهِمَا مَا يَجِبُ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ (حَتَّى تَطْمَئِنَّ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِهِ الْجُلُوسَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الِاسْتِقْرَارِ يَعْنِي: حَتَّى تَفْرُغَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ مَا مَرَّ، فَيُفِيدُ وُجُوبَ الطَّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ، وَالِاعْتِدَالِ، وَالسُّجُودِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا كَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ (هَذَا لَفْظُ الْمَصَابِيحِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ (مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ) ، أَيْ: قَلِيلٍ فِي لَفْظِهِ (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ (وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ) : قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ؟ فَإِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِالتِّرْمِذِيِّ، بَلْ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا قَالَ: (إِذَا قُمْتَ) ، أَيْ: أَرَدْتَ الْقِيَامَ (إِلَى الصَّلَاةِ) : فَوَضَعَ الْمُسَبَّبَ مَوْضِعَ السَّبَبِ (فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ) ، أَيْ: فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (ثُمَّ تَشَهَّدْ) ، أَيْ: قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، بَعْدَ الْوُضُوءِ (فَأَقِمْ) ، أَيِ: الصَّلَاةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَقِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى تَشَهَّدْ أَذِّنْ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، (فَأَقِمْ) ، عَلَى هَذَا يُرَادُ بِهِ الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:

وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقِيلَ: أَيْ أَحْضِرْ قَلْبَكَ وَانْوِ وَكَبِّرْ فَأَقِمِ الصَّلَاةَ أَوْ أَحْضِرْ قَلْبَكَ وَاسْتَقِمْ، (فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ) : سَوَاءٌ كَانَ أُمَّ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرَهَا (فَاقْرَأْ) ، أَيْ: مَا تَيَسَّرَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَاقْرَأْ أَيْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ إِنْ حَفِظْتَهَا، وَإِلَّا فَسَبْعِ آيَاتٍ بَدَلَهَا بِقَدْرِ حُرُوفِهَا مُتَفَرِّقَةً كَانَتْ أَوْ مُتَوَالِيَةً، ثُمَّ أَغْرَبَ وَقَالَ: وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ: " «أُمُّ الْقُرْآنِ عِوَضٌ عَنْ غَيْرِهَا " وَقَالَ: وَلَيْسَ غَيْرُهَا عِوَضًا عَنْهَا» اهـ، فَإِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ بِظَاهِرِهِ فَتَأَمَّلْ، (وَإِلَّا) ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَكَ قُرْآنٌ (فَاحْمَدِ اللَّهَ) ، أَيْ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ (وَكَبِّرْهُ) : أَيْ قُلْ (اللَّهُ أَكْبَرُ) (وَهَلِّلْهُ) ، أَيْ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْهُ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ يَلْزَمُهُ الذِّكْرُ اتِّفَاقًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الذِّكْرِ بِقَدْرِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؟ وَالْأَصَحُّ نَعَمْ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَلِيَكُونَ كُلُّ نَوْعٍ مَكَانَ آيَةٍ، وَقَالَ جَمْعٌ: لَا لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ كَالنَّصِّ فِي عَدَمِ وُجُوبِ سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ؛ وَيُرَدُّ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وُجُوبُ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أُولَئِكَ فَالْحَدِيثُ إِذَا لَيْسَ فِيهِ تَمَسُّكٌ لِإِحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ اهـ. وَهُوَ تَقْرِيرٌ عَجِيبٌ وَتَحْرِيرٌ غَرِيبٌ، مُشْتَمِلٌ عَلَى تَدَافُعٍ وَتَنَاقُضٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ صَحَّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ - لَكِنْ بَيَّنَ النَّوَوِيُّ ضَعْفَهُ - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُ مِنْهُ فِي صَلَاتِي، فَقَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ» "، وَهَذَا مُشْتَمِلٌ عَلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ، بَلْ سَبْعَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْبَسْمَلَةَ، فَهُوَ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ دَلِيلٌ لِلرَّاجِحِ الْمَذْكُورِ قُلْتُ: وَبِتَقْدِيرِ وُجُودِ السَّادِسِ أَيْضًا، (ثُمَّ ارْكَعْ) .

805 - وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى، تَشَهُّدٌ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَتَخَشُّعٌ وَتَضَرُّعٌ وَتَمَسْكُنٌ، ثُمَّ تُقْنِعُ يَدَيْكَ - يَقُولُ: تَرْفَعُهُمَا - إِلَى رَبِّكَ مُسْتَقْبِلًا بِبُطُونِهِمَا وَجْهَكَ، وَتَقُولُ يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ كَذَا وَكَذَا» ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: " فَهُوَ خِدَاجٌ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 805 - (وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى) : قِيلَ: الصَّلَاةُ مُبْتَدَأٌ، وَمَثْنَى مَثْنَى خَبَرُهُ، وَالْأَوَّلُ تَكْرِيرٌ، وَالثَّانِي تَوْكِيدٌ وَقَوْلُهُ: (تَشَهُّدٌ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ) : خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ كَالْبَيَانِ لِمَثْنَى مَثْنَى أَيْ: ذَاتُ تَشَهُّدٍ، وَكَذَا الْمَعْطُوفَاتِ، وَلَوْ جُعِلَتْ أَوَامِرَ اخْتَلَّ النَّظْمُ، وَذَهَبَ الطَّرَاوَةُ وَالطَّلَاوَةُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجَدْنَا الرِّوَايَةَ فِيهِنَّ بِالتَّنْوِينِ لَا غَيْرُ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالرِّوَايَةِ يَسْرُدُونَهَا عَلَى الْأَمْرِ، وَنَرَاهَا تَصْحِيفًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا فِي النَّوَافِلِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، إِذِ الْأَفْضَلُ عِنْدَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا اهـ، وَصَاحِبَاهُ مَعَهُ فِي النَّهَارِ، وَمَعَ الشَّافِعِيِّ فِي اللَّيْلِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثُ أَنَّ أَقَلَّ الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ، فَيُفِيدُ نَهْيَ الْبُتَيْرَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَتَشَهُّدٌ بَعْدَهُمَا وَاجِبٌ، وَلَا مَنْعَ لِلزِّيَادَةِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى سَلَامٍ بَعْدَهُمَا لِيَصْلُحَ مَوْضِعًا لِلْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَإِبْقَاءُ الْجِنْسِ عَلَى أَصْلِهِ أَوْلَى مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالنَّافِلَةِ الْمُوهِمِ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ الْآتِيَةُ مِنْ مُخْتَصَّاتِهَا، (وَتَخَشُّعٌ) : التَّخَشُّعُ: السُّكُونُ وَالتَّذَلُّلُ، وَقِيلَ الْخُشُوعُ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنَ الْخُضُوعِ إِلَّا أَنَّ الْخُضُوعَ فِي الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعَ فِي الْبَصَرِ وَالْبَدَنِ وَالصَّوْتِ، وَقِيلَ: الْخُضُوعُ فِي الظَّاهِرِ، وَالْخُشُوعُ فِي الْبَاطِنِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» "، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهُوَ أَيِ: الْخُشُوعُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ طُمَأْنِينَةُ الرَّجُلِ، بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا اهـ.

وَالْخُشُوعُ مِنْ كَمَالِ الصَّلَاةِ، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] وَفِي قَوْلِهِ: " تَخَشُّعٌ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خُشُوعٌ، فَيَتَكَلَّفُ وَيَطْلُبُ مِنْ نَفْسِهِ الْخُشُوعَ وَيَتَشَبَّهُ بِالْخَاشِعِينَ، (وَتَضَرُّعٌ) : أَيْ إِلَى اللَّهِ، فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: التَّضَرُّعُ التَّذَلُّلُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي السُّؤَالِ (وَتَمَسْكُنٌ) : وَهُوَ إِظْهَارُ الرَّجُلِ الْمَسْكَنَةَ مِنْ نَفْسِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ مَعْنَاهُ طَلَبُ السُّكُونِ إِلَى اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوِ اطْمِئْنَانُهُ بِذِكْرِهِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: قَوْلُهُ: " تَمَسْكُنٌ " مِنَ الْمِسْكِينِ مِفْعِيلٍ مِنَ السُّكُونِ؛ لِأَنَّهُ يَسْكُنُ إِلَى النَّاسِ، وَزِيَادَةُ الْمِيمِ، فِي الْفِعْلِ شَاذٌّ، وَلَمْ يَرْوِهَا سِيبَوَيْهِ إِلَّا فِي هَذَا، وَفِي تَمَدْرَعَ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ تَمَسْكَنَ مِنَ السَّكِينَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ السُّكُونُ وَالْوَقَارُ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ فِيهِمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ (ثُمَّ تُقْنِعُ يَدَيْكَ) : مِنْ إِقْنَاعِ الْيَدَيْنِ رَفْعُهُمَا فِي الدُّعَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43] ، أَيْ: تَرْفَعُ بَعْدَ الصَّلَاةِ يَدَيْكَ لِلدُّعَاءِ فَعُطِفَ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْهَا فَسَلِّمْ، ثُمَّ ارْفَعْ يَدَيْكَ سَائِلًا حَاجَتَكَ، فَوُضِعَ الْخَبَرُ مَوْضِعَ الطَّلَبِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ جَعَلْتَهَا أَوَامِرَ وَعَطَفْتَ أَمْرًا عَلَى أَمْرٍ، وَقَطَعْتَ تَشَهُّدٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِاخْتِلَافِ الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ، لَكَانَ لَكَ مَنْدُوحَةٌ عَنْ هَذَا التَّقْدِيرِ، قُلْتُ: حِينَئِذٍ خَرَجَ الْكَلَامُ الْفَصِيحُ إِلَى التَّعَاظُلِ فِي التَّرْكِيبِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ، وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ تَوَارُدَ الْأَفْعَالِ تَعَاظُلٌ، وَنَقَلْنَا عَنْهُ فِي التِّبْيَانِ شَوَاهِدَ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَوْلُهُ: تَعَاظُلٌ بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ: تَعَظَّلُوا عَلَيْهِ اجْتَمَعُوا، وَيَوْمُ الْعُظَالَى كَحُبَارَى مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ رَكِبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ رَكِبَ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ دَابَّةً، (يَقُولُ) : أَيِ الرَّاوِي مَعْنَاهُ (تَرْفَعُهُمَا) ، أَيْ: لِطَلَبِ الْحَاجَةِ. وَقَوْلُهُ (إِلَى رَبِّكَ) : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تُقْنِعُ، وَقِيلَ: (يَقُولُ) فَاعِلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرْفَعُهُمَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: ثُمَّ تُقْنِعُ يَدَيْكَ (مُسْتَقْبَلًا بِبُطُونِهِمَا وَجْهَكَ) ، أَيْ: وَلَوْ كَانَ الدُّعَاءُ اسْتِعَاذَةً (وَتَقُولُ: يَا رَبِّ! يَا رَبِّ!) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكْرِيرِ التَّكْثِيرُ (وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي الصَّلَاةِ (فَهُوَ) ، أَيْ: فَعَلَ صَلَاتَهُ (كَذَا وَكَذَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ صَلَاتَهُ نَاقِصَةٌ غَيْرُ تَامَّةٍ، بَيَّنَ ذَلِكَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَعْنِي قَوْلَهُ: فَهُوَ خِدَاجٌ، (وَفِي رِوَايَةٍ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعِ بْنِ أَبِي الْعَمْيَاءِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمْ يَصِحَّ حَدِيثُهُ، كَذَا فِي التَّخْرِيجِ (فَهُوَ خِدَاجٌ) : بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: نَاقِصٌ فِي الْأَجْرِ وَالْفَضِيلَةِ، قِيلَ: تَقْدِيرُهُ فَهُوَ ذَاتُ خِدَاجٍ، أَيْ: صَلَاتُهُ ذَاتُ خِدَاجٍ، أَوْ وَصَفَهَا بِالْمَصْدَرِ نَفْسِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا نَاقِصَةٌ، وَفِي الْفَائِقِ: الْخِدَاجُ مَصْدَرُ خَدَجَتِ الْحَامِلُ إِذَا أَلْقَتْ وَلَدَهَا قَبْلَ وَقْتِ النِّتَاجِ فَاسْتُعِيرَ، وَالْمَعْنَى ذَاتُ نُقْصَانٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَصَفَهَا بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً كَقَوْلِهِ: فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدَهُ حَسَنٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 806 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ «صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَحِينَ سَجَدَ، وَحِينَ رَفَعَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 806 - (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُعَلَّى) : اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّعْلِيَةِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، يُقَالُ: إِنَّ ابْنَ الْمُعَلَّى قَاضِي الْمَدِينَةِ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ (قَالَ: صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ) : لِكَوْنِهِ إِمَامًا (وَحِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ) : لِيُعْلِمَ وَيُتَابَعَ عَلَيْهِ (حِينَ سَجَدَ) ، أَيْ: ثَانِيًا (وَحِينَ رَفَعَ) ، أَيْ: رَأَسَهُ، وَفِي الْبُخَارِيِّ: حِينَ قَامَ (مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ) ، أَيِ: الْأُولَيَيْنِ (وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

807 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ، فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَحْمَقُ، فَقَالَ: ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 807 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ) : قَالَ مِيرَكُ: هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَمَا جَاءَ مُسَمًّى فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ (فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْعَدَدُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي صَلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ بِإِضَافَةِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَتَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ (فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَحْمَقُ) ، أَيْ: جَاهِلٌ (فَقَالَ: ثَكَلَتْكَ) ، أَيْ: فَقَدَتْكَ (أُمُّكَ) : قَدْ سَبَقَ أَنَّهَا كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، وَظَاهِرُهَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَهَاهُنَا مَحْمُولٌ عَلَى هَلَاكِهِ رَدًّا لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ أَحْمَقُ، أَيْ: أَتَقُولُ فِي حَقِّ مَنِ اقْتَفَى سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحْمَقُ؟ (سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْخَصْلَةُ الَّتِي أَنْكَرْتَهَا مِنْهُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَدْ طَبَّقَ ذِكْرَ الْكُنْيَةِ هُنَا مُفَصِّلُ الْبَلَاغَةِ وَمُحَرِّرُهَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ الْكُنْيَةَ إِلَى عَظِيمِ التَّسْجِيلِ عَلَى عِكْرِمَةَ، وَأَنَّ مَا حَصَلَ لِوَرَثَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِلْمًا وَمَعْرِفَةً إِنَّمَا هُوَ لِقِسْمَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخَبَرِ: " «إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي» "، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

808 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، مُرْسَلًا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي الصَّلَاةِ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَلَمْ يَزَلْ تِلْكَ صَلَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى» ، رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 808 - (وَعَنْ عَلِيِّ) ، أَيْ: زَيْنِ الْعَابِدِينَ (ابْنِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُرْسَلًا) : لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مُرْسَلًا. حَالٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا اهـ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَضْبُوطَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرْسِلًا بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ حَالًا مُتَأَخِّرَةً عَنْ صَاحِبِهَا، (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي الصَّلَاةِ كُلَّمَا خَفَضَ) ، أَيْ: أَرَادَ الْخَفْضَ إِلَى الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ (وَرَفَعَ) ، أَيْ: وَكُلَّمَا رَفَعَ إِلَى الْقَوْمَةِ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنَّهُ يُسَمِّعُ وَيَحْمَدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلْخَفْضِ (فَلَمْ يَزَلْ) : بِالتَّذْكِيرِ وَقِيلَ بِالتَّأْنِيثِ (تِلْكَ) ، أَيْ: تِلْكَ الصَّلَاةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِذَلِكَ التَّكْبِيرِ (صَلَاتُهُ) : بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ (لَمْ يَزَلْ) مُسْتَكِنًّا عَائِدًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ خَبَرُهَا، وَأَنْ يَكُونَ (تِلْكَ) اسْمَهَا، وَ (صَلَاتَهُ) خَبَرَهَا إِذَا رُوِيَتْ مَنْصُوبَةً، وَبِالْعَكْسِ إِذَا رُوِيَتْ مَرْفُوعَةً (حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى، رَوَاهُ مَالِكٌ) .

809 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قَالَ لَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَلَا أُصَلِّي بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَصَلَّى وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 809 - (عَنْ عَلْقَمَةَ) : تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: «قَالَ لَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: أَلَا أُصَلِّيَ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَصَلَّى، وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ وَفَى الْبَابِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَحَدِيثُ ابْنُ مَسْعُودٍ حَسَنٌ، وَبِهِ يَقُولُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَهْلِ

الْكُوفَةِ (وَأَبُو دُوَادَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَّا عِنْدَ اسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَيَّاشٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَفْعَ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُ، (وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى) : يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ غَيْرَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرَّفْعَ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَالِاعْتِدَالِ، وَالْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نَسِيَ الرَّفْعَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَا قِيلَ إِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَصِيرًا؛ إِذْ طُولُهُ قَدْرُ ذِرَاعٍ، وَإِنَّهُ لِكَمَالِهِ كَانَ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي صَلَاةٍ، فَلَمْ يَعْلَمِ الرَّفْعَ إِلَّا عِنْدَ التَّحْرِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا فِيهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَقَطِ اهـ. وَقَدِ اسْتَوْعَبَ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَعَلَيْكَ بِشَرْحِهِ لِلْهِدَايَةِ إِنْ كَانَ لَكَ عِنَايَةٌ إِلَى النِّهَايَةِ.

810 - وَعَنْ أَبِي حُمَيْدِ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 810 - (وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِبَارِ الْجِهَةِ، حَيْثُ لَمْ يَقُلِ اسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ (وَرَفَعَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: إِلَى حِذَاءِ أُذُنَيْهِ (قَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ "، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

811 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ، وَفِي مُؤَخَّرِ الصُّفُوفِ رَجُلٌ، فَأَسَاءَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا فُلَانُ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ أَلَا تَرَى كَيْفَ تُصَلِّي؟ إِنَّكُمْ تُرَوْنَ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِمَّا تَصْنَعُونَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى مِنْ خَلْفِي كَمَا أَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 811 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَفِي مُؤَخِّرِ الصُّفُوفِ رَجُلٌ، فَأَسَاءَ الصَّلَاةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ يَعْنِي: أَنَّ تَأَخُّرَهُ كَانَ سَبَبًا لِإِسَاءَةِ الصَّلَاةِ؛ وَلِذَا عَنَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي لَأَرَى اهـ، وَفِيهِ بَحْثٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ قَوْلُهُ: فَأَسَاءَ الصَّلَاةَ، أَيْ: أَتَى فِيهَا بِمَا يُبْطِلُهَا، كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ، وَالْفَاءُ هُنَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا زَائِدَةٌ لِتَزْيِينِ اللَّفْظِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَفِي مُؤَخِّرِ الصُّفُوفِ رَجُلٌ صَلَّى مَعَنَا فَأَسَاءَ الصَّلَاةَ (فَلَمَّا سَلَّمَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الرَّجُلُ (نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا فُلَانُ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟) ، أَيْ: مُخَالَفَتَهُ أَوْ مُعَاقَبَتَهُ، وَهُوَ إِبْهَامٌ وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ: " أَلَا تَرَى "، أَيْ: تَنْظُرُ وَتَتَأَمَّلُ (كَيْفَ تُصَلِّي؟) : بِالْخِطَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ (إِنَّكُمْ تُرَوْنَ) : بِضَمِّ التَّاءِ، أَيْ: تَظُنُّونَ (أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِمَّا تَصْنَعُونَ) ، أَيْ: فِي صَلَاتِكُمْ، أَوْ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ (وَاللَّهِ) : قَسَمٌ (إِنِّي لَأَرَى) ، أَيْ: أُبْصِرُ أَوْ أَعْلَمُ (مِنْ خَلْفِي) : بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِمَنِ الْمَوْصُولَةِ (كَمَا أَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ) : بِكَسْرِ (مِنْ) ، وَجَرِّ (بَيْنِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ مَنْ وَنَصْبِ بَيْنَ يَدَيَّ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ فِي حَالِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا قُرَّةَ الْعَيْنِ

بِمَا يُفَاضُ عَلَيْهِ فِيهَا مِنْ غَايَاتِ الْقُرْبِ، وَخَوَارِقِ التَّجَلِّيَاتِ، فَتَنْكَشِفُ لَهُ حَقَائِقُ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَيُدْرِكُ مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يُدْرِكُ مِنْ أَمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لِبَاهِرِ كَمَالِهِ لَا يَشْغَلُهُ جَمْعُهُ عَنْ فَرْقِهِ، فَهُوَ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا هُنَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنِّي لَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ جِدَارِي» " عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَارِجِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ لَهُ عَيْنَانَ بَيْنَ كَتِفِهِ كَسَمِّ الْخِيَاطِ يَرَى بِهِمَا كَمَا يَرَى بِعَيْنَيْهِ الْأَصْلِيَّتَيْنِ، مَعَ أَنَّ فِي الْحَقِيقَةِ لَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ هُنَا الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ، وَالْمَنْفِيَّ ثَمَّةَ الْعِلْمُ أَيْ بِالْمُغَيَّبَاتِ، فَلَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَفِي مَعْنَى هَذَا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، " «هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا؟ فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلَا سُجُودُكُمْ إِنِّي لَأَرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» " وَفِيهِ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: " «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي إِمَامُكُمْ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي» " وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَوَقُّفَ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ عَلَى حَاسَّةٍ وَشُعَاعٍ وَمُقَابَلَةٍ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ فِي غَيْرِ الْمُعْجِزَةِ، وَخَالِقُ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ فِي غَيْرِهَا، قِيلَ سَبَبُ رُؤْيَتِهِ لِمَنْ وَرَاءَهُ أَنَّ صُوَرَهُمْ كَانَتْ مُنْطَبِعَةً فِي قِبْلَتِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُتَجَاسَرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِنَقْلٍ صَحِيحٍ، وَقِيلَ: هِيَ رُؤْيَةُ قَلْبٍ، قِيلَ: وَحْيٌ أَوْ إِلْهَامٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهَا رُؤْيَةُ مُشَاهَدَةٍ بِبَصَرٍ كَمَا مَرَّ، وَخَبَرُ ( «لَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ جِدَارِي» ) ، لَا يُنَافِي بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ إِخْبَارُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمُغَيَّبَاتٍ لَا تُحْصَى؛ لِأَنَّ ذَاكَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ. قُلْتُ: هَذَا مُنَاقَضَةٌ بَلْ مُضَادَّةٌ فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا ضَلَّتْ نَاقَتُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي رَبِّي، وَقَدْ دَلَّنِي رَبِّي عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِخِطَامِهَا» " فَذَهَبُوا فَوَجَدُوهَا كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مُخْتَلِفَةٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَرَ يَعْقُوبُ وَلَدَهُ يُوسُفَ فِي الْبِئْرِ مَعَ قُرْبِهَا إِلَى بَلَدِهِ، وَوَجَدَ رِيحَ قَمِيصِ يُوسُفَ مِنْ حِينِ فَصَلَتِ الْعِيرُ مِنْ مِصْرَ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب ما يقرأ بعد التكبير]

[بَابُ مَا يُقْرَأُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 812 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: " أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (11) بَابُ مَا يُقْرَأُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ. الْأَوْلَى بَابُ مَا يُقَالُ بَعْدَهُ، لِيَشْمَلَ دُعَاءَ الِافْتِتَاحِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّغْلِيبَ، وَالْمُرَادُ التَّكْبِيرُ الَّذِي لِلْإِحْرَامِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 812 -: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ) : مِنَ الْإِسْكَاتِ وَهُوَ لَازِمٌ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَالِثِهِ مِنَ السُّكُوتِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مِنَ الْإِسْكَاتِ، قُلْتُ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّسَخِ وَجُمْهُورُ الشُّرَّاحِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلْمَصْدَرِ الْآتِي، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: تَكَلَّمَ الرَّجُلُ ثُمَّ سَكَتَ بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ كَلَامُهُ، قُلْتُ: أَسْكَتَ، نَقَلَهُ الْقَسْطَلَانِيُّ (بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةٌ) : إِفْعَالَةٌ، السُّكُوتُ، وَلَا يُرَادُ بِهِ تَرْكُ الْكَلَامِ بَلْ تَرْكُ رَفْعِ الصَّوْتِ لِقَوْلِهِ: مَا تَقُولُ فِي إِسْكَاتِكَ؟ قَالَهُ الطِّيبِيُّ: أَوِ الْمُرَادُ بِهِ السُّكُوتُ عَنِ الْقِرَاءَةِ لَا عَنِ الذِّكْرِ قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، (قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، قِيلَ: هُوَ اسْمٌ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مَرْفُوعًا تَقْدِيرُهُ أَنْتَ مُفْدًى بِأَبِي وَأُمِّي، وَقِيلَ: هُوَ فِعْلٌ أَيْ فَدَيْتُكَ وَمَا بَعْدَهُ مَنْصُوبٌ، وَحُذِفَ هَذَا الْمُقَدَّرُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، (إِسْكَاتَكَ) :

بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ، وَ (بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَيْنَ هَذَا زَائِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُتَعَدِّدٍ (مَا تَقُولُ؟) ، أَيْ: فِي وَقْتِ سُكُوتِكَ مِنَ الْجَهْرِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: بِالنَّصْبِ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَسْأَلُكَ إِسْكَاتَكَ مَا تَقُولُ فِيهِ، أَوْ فِي إِسْكَاتِكَ مَا تَقُولُ؟ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ بِالرَّفْعِ فِي رِوَايَتِنَا عَلَى الِابْتِدَاءِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَضَمِّ السِّينِ (قَالَ " أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) : أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُغَالَبَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ بِكَ تُفِيدُ الْبُعْدَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، وَبَاعِدْ بَيْنَ خَطَايَايَ وَبَيْنِي، وَالْخَطَايَا إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا اللَّاحِقَةُ، فَمَعْنَاهُ إِذَا قُدِّرَ لِي ذَنْبٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَالْمَقْصُودُ مَا سَيَأْتِي، أَوِ السَّابِقَةُ فَمَعْنَاهُ الْمَحْوُ وَالْغُفْرَانُ لِمَا حَصَلَ لِي مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمُبَاعَدَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَوْقِعُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْتِقَاءَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُسْتَحِيلٌ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَبْقَى لَهَا مِنْهُ اقْتِرَابٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَرَّرَ لَفْظَ بَيْنَ هُنَا، وَلَمْ يُكَرِّرْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ يُعَادُ فِيهِ الْجَارُّ، بِهَذَا قَالَهُ مِيرَكُ، (اللَّهُمَّ نَقِّنِي) ، أَيْ: طَهِّرْنِي (مِنَ الْخَطَايَا) ، أَيِ: الَّتِي تُدَنِّسُ الْقُلُوبَ وَتُسَوِّدُهَا (كَمَا يُنَقَّى) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ) ، أَيِ: الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ، وَفِي تَقْيِيدِ الثَّوْبِ بِالْأَبْيَضِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى (اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ) : بِالسُّكُونِ (وَالْبَرَدِ) : بِفَتْحَتَيْنِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَكَرَ أَنْوَاعَ الْمُطَهِّرَاتِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ إِلَّا بِأَحَدِهَا تِبْيَانًا لِأَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ الَّتِي لَا مَخْلَصَ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَّا بِهَا، أَيْ: طَهِّرْنِي مِنَ الْخَطَايَا بِأَنْوَاعِ مَغْفِرَتِكَ الَّتِي هِيَ فِي تَمْحِيصِ الذُّنُوبِ بِمَثَابَةِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي إِزَالَةِ الْأَرْجَاسِ، وَالْأَوْزَارِ، وَرَفْعِ الْجَنَابَةِ، وَالْأَحْدَاثِ، قِيلَ: خَصَّ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مَاءَانِ مَقْطُورَانِ عَلَى خِلْقَتِهِمَا لَمْ يُسْتَعْمَلَا، وَلَمْ تَنَلْهُمَا الْأَيْدِي، وَلَمْ تَخُضْهُمَا الْأَرْجُلُ، كَسَائِرِ الْمِيَاهِ الَّتِي خَالَطَتِ التُّرَابَ، وَجَرَتْ فِي الْأَنْهَارِ، وَجُمِعَتْ فِي الْحِيَاضِ، فَهُمَا أَحَقُّ بِكَمَالِ الطَّهَارَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْغُسْلُ الْمُبَالَغُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَلِمَ ذَكَرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ، وَذَكَرَهَا مُبَالَغَةً فِي التَّطْهِيرِ، لَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ أَمْثَالٌ وَلَمْ يُرِدْ أَعْيَانَ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا التَّأْكِيدَ فِي التَّطْهِيرِ وَالْمُبَالَغَةَ فِي مَحْوِهَا عَنْهُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عَبَّرَ بِهَا عَنْ غَايَةِ الْمَحْوِ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ مُنَقِّيَةٍ يَكُونُ فِي غَايَةِ النَّقَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَجَازٌ عَنْ صِفَةٍ يَقَعُ الْمَحْوُ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286] قَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمَطْلُوبُ مِنْ ذِكْرِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَاءِ لِطَلَبِ شُمُولِ الرَّحْمَةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ الْعَفْوِ لِإِطْفَاءِ حَرَارَةِ عَذَابِ النَّارِ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَّدَ اللَّهُ مَضْجَعَهُ، أَيْ: رَحِمَهُ وَوَقَاهُ عَذَابَ النَّارِ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَقُولُ: الْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: جَعَلَ الْخَطَايَا بِمَنْزِلَةِ نَارِ جَهَنَّمَ، فَعَبَّرَ عَنْ إِطْفَاءِ حَرَارَتِهَا بِالْغَسْلِ تَأْكِيدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعَوَاتِ الثَّلَاثِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، فَالْمُبَاعَدَةُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالْغَسْلُ لِلْمَاضِي، وَالتَّنْقِيَةُ لِلْحَالِ، وَكَانَ تَقْدِيمُ الْمُسْتَقْبَلِ لِلِاهْتِمَامِ بِدَفْعِ مَا سَيَأْتِي قَبْلَ دَفْعِ مَا حَصَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمُبَاعَدَةُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ مُطْلَقًا وَالتَّنْقِيَةُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالْغَسْلُ فِيمَا وَقَعَ مُطْلَقًا، وَتَعَدُّدُ آلَةِ الْغَسْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذُّنُوبِ وَمَرَاتِبِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا كُلُّهُ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ، أَوْ دُعَاءٌ لَهُمْ، أَوْ بِاعْتِبَارِ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

813 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ - وَفِي رِوَايَةً: كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ - كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أَمَرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي "، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصُوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ: " «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، وَلَا مَنْجَى مِنْكَ وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 813 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ) : قِيلَ أَيِ النَّافِلَةِ لِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: " إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا " الْآتِيَةِ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ كَانَ إِذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ الْفَرِيضَةَ، إِطْلَاقُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ؛ وَلِذَا أَجَابَ الْبَعْضُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ لِابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ، (وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: " وَجَّهْتُ) : وَفِي حَذْفِ إِنِّي إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْقِرَاءَةَ (وَجْهِي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْ تَوَجَّهْتُ بِالْعِبَادَةِ بِمَعْنَى أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي لِلَّهِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: صَرَفْتُ وَجْهِي وَعَمَلِي وَنِيَّتِي، أَوْ أَخْلَصْتُ قَصْدِي وَوُجْهَتِي، وَيَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْحُضُورِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا، وَأَقْبَحُ الْكَذِبِ مَا يَكُونُ وَالْإِنْسَانُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، (لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) : أَيْ إِلَى الَّذِي خَلَقَهُمَا وَعَمِلَهُمَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، وَأَعْرَضْتُ عَمَّا سِوَاهُ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَدَ مِثْلَ هَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي هِيَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ حَقِيقٌ بِأَنْ تَتَوَجَّهَ الْوُجُوهُ إِلَيْهِ، وَأَنْ تُعَوِّلَ الْقُلُوبُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهَا عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَرْجُو إِلَّا دَوَامَ رِضَاهُ وَخَيْرَهُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ السَّمَاوَاتِ لِسَعَتِهَا، أَوْ لِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِهَا، أَوْ لِتَقَدُّمِ وَجُودِهَا، أَوْ لِشَرَفِ جِهَتِهَا، أَوْ لِفَضِيلَةِ جُمْلَةِ سُكَّانِهَا، أَوْ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَإِلَّا فَالْأَرْضُ سَبْعٌ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وَلِمَا وَرَدَ: وَرَبُّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ (حَنِيفًا) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَجَّهْتُ، أَيْ: مَائِلًا عَنْ كُلِّ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ ثَابِتًا عَلَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ غَلَبَ عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ هُوَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَقِيمُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَالْآرَاءِ الزَّائِغَةِ مِنَ الْحَنَفِ، وَهُوَ الْمَيْلُ يَعْنِي أَصْلُهُ الْمَيْلُ الْمُطْلَقُ، ثُمَّ نُقِلَ فِي الْعُرْفِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ، عَكْسُ الْإِلْحَادِ، فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ لِمُطْلَقِ الْمَيْلِ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ، وَفِي الْعُرْفِ الْمَيْلُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، أَوْ مَائِلًا عَنْ كُلِّ جِهَةٍ وَقَصْدٍ إِلَى الْحُضُورِ وَالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَةِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَهُوَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ، وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَتِهِ مُسْلِمًا بَعْدَ حَنِيفًا، أَيْ: مُنْقَادًا مُطِيعًا لِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : فِيهِ تَأْكِيدٌ وَتَعْرِيضٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوْ تَأْسِيسٌ بِجَعْلِ النَّفْيِ عَائِدًا إِلَى سَائِرِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ، لَكِنْ لَا يَسُوغُ هَذَا إِلَّا لِلْخَوَاصِّ فِي بَعْضِ الْمُنَازَلَاتِ (إِنَّ صَلَاتِي) ، أَيْ: عِبَادَتِي وَصَلَاتِي، وَفِيهِ شَائِبَةُ تَعْلِيلٍ لِمَا قَبْلَهُ (وَنُسُكِي) ، أَيْ: دِينِي، وَقِيلَ: عِبَادَتِي، أَوْ تَقَرُّبِي، أَوْ حَجِّي، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] (وَمَحْيَايَ) : بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ، أَيْ: حَيَاتِي (وَمَمَاتِي) : بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ، أَيْ: مُوتِي (لِلَّهِ) ، أَيْ: هُوَ خَالِقُهُمَا وَمُقَدِّرُهُمَا، وَقِيلَ: طَاعَاتِ الْحَيَاةِ وَالْخَيْرَاتِ الْمُضَافَةَ إِلَى الْمَمَاتِ كَالْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ أَوْ حَيَاتِي وَمَوْتِي لِلَّهِ لَا تَصَرُّفَ لِغَيْرِهِ فِيهِمَا، أَوْ مَا أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ فِي حَيَاتِي، وَمَا أَمُوتُ خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ أَوْ إِرَادَتِي مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ خَالِصَةٌ لِذِكْرِهِ وَحُضُورِهِ وَقُرْبِهِ، وَلِلرِّضَا بِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوْ جَمِيعَ أَحْوَالِي حَيَاتِي وَمَمَاتِي وَمَا بَعْدَهُ لِلَّهِ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَيْ: مَالِكِهِمْ وَمُرَبِّيهِمْ وَهُمْ مَا سِوَى اللَّهِ عَلَى الْأَصَحِّ (لَا شَرِيكَ لَهُ) : فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ (وَبِذَلِكَ) ، أَيْ: بِالتَّوْحِيدِ الْكَامِلِ وَالشَّامِلِ لِلْإِخْلَاصِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا (أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، أَيِ: الْمُنْقَادِينَ وَالْمُطِيعِينَ لِلَّهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَيَأْتِي رِوَايَةُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تِلْكَ تَارَةً وَهَذِهِ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مُسْلِمِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ جَاءَ أَنَّ النُّورَ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ سَبَقَ إِيجَادُهُ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلْقِ بِأَزْمِنَةٍ طَوِيلَةٍ وَالسُّنَةُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ الْأُولَى لَا غَيْرُ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْآيَةَ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ لِحَمْلِهِ عَلَى التَّغْلِيبِ أَوْ إِرَادَةِ الْأَشْخَاصِ (اللَّهُمَّ) ، أَيْ: يَا اللَّهُ، وَالْمِيمُ

بَدَلٌ عَنْ حَرْفِ النِّدَاءِ؛ وَلِذَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ (أَنْتَ الْمَلِكُ) : لَا مُلْكَ وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) ، أَيْ: أَنْتَ الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ (أَنْتَ رَبِّي) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وَقَالَ مِيرَكُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْمُلْكِ لَهُ كَذَلِكَ فِي أَنْتَ الْمَلِكُ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ تَرَقِّيًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى طِبْقَ قَوْلِهِ: {مَلِكِ النَّاسِ - إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: 2 - 3] ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ الرُّبُوبِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ رَبِّي لِتَخْصِيصِ الصِّفَةِ وَتَقْيِيدِهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ وَإِخْرَاجِهَا عَنِ الْإِطْلَاقِ (وَأَنَا عَبْدُكَ) : اعْتِرَافٌ لَهُ تَعَالَى بِالرُّبُوبِيَّةِ وَلِنَفْسِهِ، بِالْعُبُودِيَّةِ (ظَلَمْتُ نَفْسِي) ، أَيْ: بِالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أَوْ بِوَضْعِ مَحَبَّةِ الْغَيْرِ فِي قَلْبِي (وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي) : أَيْ بِعَمَلِي خِلَافَ الْأَوْلَى أَوْ بِوُجُودِي الَّذِي مَنْشَأُ ذَنْبِي، كَمَا قِيلَ: وَجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبٌ (فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي) ، أَيْ: تَقْصِيرَاتِي (جَمِيعًا إِنَّهُ) : بِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) ، أَيْ: جَمِيعَهَا (إِلَّا أَنْتَ) : فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفَّارُ الْغَفُورُ (وَاهْدِنِي) ، أَيْ: دُلَّنِي وَوَفِّقْنِي وَثَبِّتْنِي وَأَوْصِلْنِي (لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ) : فِي عِبَادَتِكَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ (لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ) : فَإِنَّكَ أَنْتَ الْهَادِي الْمُطْلَقُ وَعَجْزُ الْخَلْقِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ (وَاصْرِفْ عَنِّي) ، أَيْ: أَبْعِدْنِي وَامْنَعْنِي وَاحْفَظْنِي (سَيِّئَهَا) : أَيْ: سَيِّئَ الْأَخْلَاقِ (لَا يَصْرِفُ عَنِّي) : لَا عَنْ غَيْرِي (سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ) : فَإِنَّ غَيْرَكَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى شَيْءٍ (لَبَّيْكَ) ، أَيْ: أَدُومُ عَلَى طَاعَتِكَ دَوَامًا بَعْدَ دَوَامٍ، وَقِيلَ أُقِيمُ عَلَى طَاعَتِكَ إِقَامَةً بَعْدَ إِقَامَةٍ، مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اتِّجَاهِي إِلَيْكَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَارِي تُلِبُّ دَارَكَ، أَيْ: تُوَاجِهُهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُثَنًّى مِنْ لَبَّ أَوْ أَلَبَّ بَعْدَ حَذْفِ الزَّوَائِدِ، مُضَافٌ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَحُذِفَ النُّونُ بِالْإِضَافَةِ، وَأُرِيدَ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْرِيرُ مِنْ غَيْرِ نِهَايَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] ، أَيْ: كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ وَمَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ (وَسَعْدَيْكَ) ، أَيْ: سَاعَدْتُ طَاعَتَكَ يَا رَبِّ مُسَاعَدَةً بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ، وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُسَارَعَةُ، أَوْ أَسْعَدُ بِإِقَامَتِي عَلَى طَاعَتِكَ وَإِجَابَتِي لِدَعْوَتِكَ سَعَادَةً بَعْدَ سَعَادَةٍ (وَالْخَيْرُ كُلُّهُ) ، اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا (لَيْسَ إِلَيْكَ) ، أَيْ: فِي تَصَرُّفِكَ، وَقِيلَ: هُمَا كِنَايَةٌ عَنْ سَعَةِ طُولِهِ وَكَثْرَةِ فَضْلِهِ، أَوْ عَنْ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْدُرُ شَيْءٌ إِلَّا عَنْهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ: الْكُلُّ عِنْدَكَ كَالشَّيْءِ، وَالْمَوْثُوقُ بِهِ الْمَقْبُوضُ عَلَيْهِ يَجْرِي بِقَضَائِكَ لَا يُدْرَكُ مِنْ غَيْرِكَ مَا لَمْ تَسْبِقْ بِهِ كَلِمَتُكَ (وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) ، أَيْ: لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ، أَوْ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ، بَلْ إِلَى مَا اقْتَرَفَتْهُ أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الْمَعَاصِي، أَوْ لَيْسَ إِلَيْكَ قَضَاؤُهُ فَإِنَّكَ لَا تَقْضِي الشَّرَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَرٌّ، بَلْ لِمَا يَصْحَبُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ الرَّاجِحَةِ، فَالْمَقْضِيُّ بِالذَّاتِ هُوَ الْخَيْرُ، وَالشَّرُّ دَاخِلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْعَرَضِ، قَالَ الطِّيبِيُّ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ، وَقِيلَ: الشَّرُّ لَا يَصْعَدُ إِلَيْكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وَقِيلَ: الشَّرُّ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ بِحُسْنِ التَّأَدُّبِ؛ وَلِذَا لَا

يُقَالُ: يَا خَالِقَ الْخَنَازِيرِ وَإِنْ خَلَقَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ مُضِيفًا الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَالشِّفَاءَ إِلَى رَبِّهِ، وَالْخَضِرُ أَضَافَ إِرَادَةَ الْغَيْبِ، وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا، وَفِي هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى تَعْلِيمِ الْأَدَبِ كَذَا قَالُوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ دَقِيقٌ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ فِي نِسْبَةِ الشَّرِّ لِلْعَبْدِ لِتَقْدِيرِهِمْ مُتَعَلِّقَ الْجَارِ مَنْسُوبًا وَهُوَ تَحَكُّمٌ؛ إِذْ هُوَ كَمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ تَقْدِيرَهُ مُقَرَّبًا أَوْ مُضَافًا أَوْ صَاعِدًا أَوْ مَنْسُوبًا، وَالْمُرَادُ غَيْرُ مَا فَهِمُوهُ، أَيْ: لَيْسَ الشَّرُّ مَنْسُوبًا إِلَيْكَ عَلَى انْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّ قَضِيَّةَ الْأَدَبِ أَنْ لَا تُضَافَ الْمُحَقَّرَاتُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْتِقْلَالًا بَلْ تَبَعًا (أَنَا بِكَ) : أَيْ أَعُوذُ وَأَعْتَمِدُ وَأَلُوذُ وَأَقُومُ بِكَ (وَإِلَيْكَ) : أَتَوَجَّهُ وَأَلْتَجِئُ وَأَرْجِعُ وَأَنُوبُ أَوْ بِكَ وَحَّدْتُ وَإِلَيْكَ انْتَهَى أَمْرِي، فَأَنْتَ الْمَبْدَأُ وَالْمُنْتَهَى، وَقِيلَ: أَسْتَعِينُ بِكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ، وَقِيلَ: أَنَا مُوقِنٌ بِكَ وَبِتَوْفِيقِكَ عَلِمْتُ، وَالْتِجَائِي وَانْتِمَائِي إِلَيْكَ، أَوْ بِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، أَوْ أَنَا بِكَ إِيجَادًا وَتَوْفِيقًا وَعَلَيْكَ أَلْتَجِئُ وَأَعْتَصِمُ (تَبَارَكْتَ) ، أَيْ: تَعَظَّمْتَ وَتَمَجَّدْتَ أَوْ جِئْتَ بِالْبَرَكَةِ أَوْ تَكَاثَرَ خَيْرُكَ وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ لِلدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ (وَتَعَالَيْتَ) : عَمَّا أَوْهَمَهُ الْأَوْهَامُ وَيَتَصَوَّرُ عُقُولُ الْأَنَامِ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى قَالَهُ مِيرَكُ، وَكَذَا ابْنُ حَجَرٍ (أَسْتَغْفِرُكَ) ، أَيْ: أَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ لِمَا مَضَى (وَأَتُوبُ) ، أَيْ: أَرْجِعُ عَنْ فِعْلِ الذَّنْبِ فِيمَا بَقِيَ مُتَوَجِّهًا (إِلَيْكَ) : بِالتَّوْفِيقِ وَالثَّبَاتِ إِلَى الْمَمَاتِ. (وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ) : وَفِي تَقَدُّمِ الْجَارِّ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْصِيصِ (وَلَكَ أَسْلَمْتُ) ، أَيْ: لَكَ ذَلَلْتُ وَانْقَدْتُ، أَوْ لَكَ أَخْلَصْتُ وَجْهِي، أَوْ لَكَ خَذَلْتُ نَفْسِي وَتَرَكْتُ أَهْوَاءَهَا (خَشَعَ) ، أَيْ: خَضَعَ وَتَوَاضَعَ أَوْ سَكَنَ (لَكَ سَمْعِي) : فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مِنْكَ (وَبَصَرِي) : فَلَا يَنْظُرُ إِلَّا بِكَ وَإِلَيْكَ تَخْصِيصُهُمَا مِنْ بَيْنِ الْحَوَاسِّ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْآفَاتِ بِهِمَا، فَإِذَا خَشَعَتَا قَلَّتِ الْوَسَاوِسُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ النَّقْلِيِّ وَالْعَقْلِيِّ بِهِمَا، وَقَدَّمَ السَّمْعَ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الشَّرْعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ فَضَّلَ السَّمْعَ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَبَعْضُهُمْ فَضَّلَ الْبَصَرَ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْقُولٌ عَنْ قُتَيْبَةَ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَتَوَقَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ النَّيْسَابُورِيُّ: الِاشْتِغَالُ بِالتَّفْضِيلِ مِمَّا لَا طَائِلَ فِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ، (وَمُخِّي) : فَلَا يَعِي إِلَّا عَنْكَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ (وَعَظْمِي وَعَصَبِي) : فَلَا يَقُومَانِ وَلَا يَتَحَرَّكَانِ إِلَّا بِكَ فِي طَاعَتِكَ، وَهُنَّ عَمَدُ الْحَيَوَانِ وَأَطْنَابُهُ، وَاللَّحْمُ وَالشَّحْمُ غَادٍ وَرَائِحٌ (فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ) ، أَيْ: مِنَ الرُّكُوعِ (قَالَ) ، أَيْ: حَالَ الرَّفْعِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ كَمَا فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي الِاعْتِدَالِ قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) : وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: وَلَكَ الْحَمْدُ، وَسَبَقَ أَنَّهَا الْأَفْضَلُ لِدَلَالَتِهَا عَلَى زِيَادَةٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا حَذْفُهَا (مِلْءَ السَّمَاوَاتِ) : بِالنَّصْبِ هُوَ أَشْهَرُ كَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَقِيلَ: حَالٌ، أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مَالِئًا لِتِلْكَ الْأَجْرَامِ عَلَى تَقْدِيرِ تَجَسُّمِهِ وَبِالرَّفْعِ صِفَةُ الْحَمْدِ (وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ) ، أَيْ: بَعْدَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ صِفَةٌ لِشَيْءٍ كَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ وَمَا فَوْقَهُ، وَمَا تَحْتَ أَسْفَلِ الْأَرَضِينَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ إِلَّا خَالِقُهُ وَمُوجِدُهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا

الْجُسْمَانِيَّاتُ الْعُلْوِيَّاتُ وَالسُّفْلِيَّاتُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا غَايَةُ الْحَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى حَيْثُ حَمِدَهُ مِلْءَ كُلِّ مَخْلُوقَاتِهِ الْمَوْجُودَةِ، وَمِلْءَ مَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَةِ الْمُغَيَّبَةِ، وَقَالَ مِيرَكُ: هَذَا يُشِيرُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ حَقِّ الْحَمْدِ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ، فَإِنَّهُ حَمِدَهُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ ارْتَفَعَ فَأَحَالَ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ لِلْحَمْدِ مُنْتَهًى؛ وَلِهَذِهِ الرُّتْبَةِ الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى أَحْمَدَ. (وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي) : بِالْوَجْهَيْنِ أَيْ: خَضَعَ وَذَلَّ وَانْقَادَ (لِلَّذِي خَلَقَهُ) أَيْ أَوْجَدَهُ مِنَ الْعَدَمِ (وَصَوَّرَهُ) أَحْسَنَ صُورَةٍ (وَشَقَّ سَمْعَهُ) أَيْ طَرِيقَ سَمْعِهِ إِذِ السِّمْعُ لَيْسَ فِي الْأُذُنَيْنِ، بَلْ فِي مَقْعَرِ الصِّمَاخِ (وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ) : أَيْ: تَعَالَى وَتَعَظَّمَ، وَالرِّوَايَةُ بِحَذْفِ الْفَاءِ (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) : أَيِ: الْمُصَوِّرِينَ وَالْمُقَدِّرِينَ، فَإِنَّهُ الْخَالِقُ الْحَقِيقِيُّ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يُوجِدُ صُوَرًا مُمَوَّهَةً لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْخَلْقِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. (ثُمَّ يَكُونُ) : أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ (مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ) : مِنْ سَيِّئَةٍ (وَمَا أَخَّرْتُ) : مِنْ عَمَلٍ أَيْ جَمِيعَ مَا فَرَطَ مِنِّي قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: مَا قَدَّمْتُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَمَا أَخَّرْتُ بَعْدَهَا، وَقِيلَ: مَا أَخَّرْتُهُ فِي عِلْمِكَ مِمَّا قَضَيْتَهُ عَلَيَّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ وَقَعَ مِنِّي فِي الْمُسْتَقْبَلِ ذَنْبٌ فَاجْعَلْهُ مَقْرُونًا بِمَغْفِرَتِكَ (وَمَا أَسْرَرْتُ) : أَيْ: أَخْفَيْتُ (وَمَا أَعْلَنْتُ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ كَعَكْسِهِ فِي قَوْلِهِ (وَمَا أَسْرَفْتُ) : أَيْ: جَاوَزْتُ الْحَدَّ مُبَالَغَةً فِي طَلَبِ الْغُفْرَانِ بِذِكْرِ أَنْوَاعِ الْعِصْيَانِ (وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) : أَيْ: مِنْ ذُنُوبِي الَّتِي لَا أَعْلَمُهَا عَدَدًا وَحُكْمًا (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ) : أَيْ: بَعْضَ الْعِبَادِ إِلَيْكَ بِتَوْفِيقِ الطَّاعَاتِ (وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ) : أَيْ بَعْضَهُمْ بِالْخِذْلَانِ عَنِ النُّصْرَةِ، أَوْ أَنْتَ لِمَنْ شِئْتَ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ وَغَايَاتِ الْجَلَالِ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لِمَنْ شِئْتَ عَنْ مَعَالِي الْأُمُورِ إِلَى سَفَاسِفِهَا، فَنَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنَا مِمَّنْ قَدَّمْتَهُ فِي مَعَالِمِ الدِّينِ، وَنَعُوذُ بِكَ أَنْ تُؤَخِّرَنَا عَنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، أَوْ أَنْتَ الرَّافِعُ وَالْخَافِضُ وَالْمُعِزُّ وَالْمُذِلُّ (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) : فَلَا مَطْلُوبَ سِوَاكَ وَلَا مَحْبُوبَ إِلَّا إِيَّاكَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " حَنِيفًا " " مُسْلِمًا ". (وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ: " وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) : هَذَا الْكَلَامُ إِرْشَادٌ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْأَدَبِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ فِي مَحَاسِنِ الْأَشْيَاءِ دُونَ مَسَاوِيهَا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ شَيْءٍ عَنْ قُدْرَتِهِ، يَعْنِي أَوْ إِثْبَاتَ شَيْءٍ لِغَيْرِهِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ عَنِ الْقَاضِي، قَالَ مِيرَكُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ، (وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ) : أَيْ لَا مَهْدِيَّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتَهُ وَتَرَكَ مُقَابِلَهُ، وَهُوَ لَا ضَالَّ إِلَّا مَنْ أَضْلَلْتَهُ، لِمَا تَقَدَّمَ، مُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِمُقَابِلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] فَلَا مُتَمَسَّكَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] ، (أَنَا بِكَ) : أَيْ: وُجِدْتُ (وَإِلَيْكَ) : أَنْتَهِي أَيْ أَنْتَ الْمَبْدَأُ وَالْمُنْتَهَى قَالَهُ الطِّيبِيُّ (لَا مَنْجَى) بِالْقَصْرِ لَا غَيْرُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: (لَا مَنْجَى) مَقْصُورٌ لَا يَجُوزُ مَدُّهُ وَلَا قَصْرُهُ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: لَا يَجُوزُ هَمْزُهُ لَا مَدًّا وَلَا قَصْرًا وَهُوَ مَصْدَرٌ

مِيمِيٌّ أَوِ اسْمُ مَكَانٍ، أَيْ: لَا مَوْضِعَ يَنْجُو بِهِ اللَّائِذُ (مِنْكَ) ، أَيْ: مِنْ عَذَابِكَ (وَلَا مَلْجَأَ) : الْأَصْلُ فِيهِ الْهَمْزُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلَيِّنُ هَمْزَتَهُ لِيَزْدَوِجَ مَعَ مِنْ مَنْجًى، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ عَنِ الْقَاضِي، أَيْ: لَا مَلَاذَ عِنْدَ نُزُولِ النَّوَائِبِ وَحُصُولِ الْمَصَائِبِ (إِلَّا إِلَيْكَ) : فَإِنَّ الْمُفَرِّجَ عَنِ الْمَهْمُومِينَ الْمُعِيذَ لِلْمُسْتَعِيذِينَ، أَوِ الْمُرَادُ لَا مَهْرَبَ وَلَا مَخْلَصَ وَلَا مَلَاذَ لِمَنْ طَالَبْتَهُ إِلَّا إِلَيْكَ، وَفِيهِ مَعْنًى مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] ، وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (تَبَارَكْتَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: (وَتَعَالَيْتَ) ، أَيْ: تَعَاظَمْتَ عَنْ أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى أَحَدٍ، أَيْ: عَنْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي كُلِّ شُئُونِهِ إِلَيْكَ.

814 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ، وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاتَهُ قَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟ " فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفْسُ فَقَلْتُهَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 814 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ، وَقَدْ حَفَزَهُ) : بِالْفَاءِ وَالزَّايِ أَيْ جَهَدَهُ وَضَاقَ بِهِ (النَّفَسُ) : يَعْنِي: حَرَكَةَ النَّفَسِ مِنْ كَثْرَةِ السُّرْعَةِ فِي الطَّرِيقِ إِلَى الصَّلَاةِ لِإِدْرَاكِهِ كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيِ اشْتَدَّ بِهِ، وَالْحَفَزُ: تَحْرِيكُ الشَّيْءِ مِنْ خَلْفِهِ يُرِيدُ النَّفَسَ الشَّدِيدَ الْمُتَتَابِعَ كَأَنَّهُ يَحْفِزُهُ، أَيْ: يَدْفَعُهُ مِنَ السِّبَاقِ إِلَى الصَّلَاةِ اهـ، فَفِي كَلَامِ التُّورِبِشْتِيِّ لَا إِشْكَالَ. وَأَمَّا كَلَامُ الطِّيبِيِّ أَنَّ سَبَبَهُ شِدَّةُ عَدْوِهِ حَذَرًا مِنْ أَنْ تُفُوتَهُ الْجَمَاعَةُ فَيُنَافِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، بَلِ ائْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَأَتِمُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» " فَأَجَابَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ لَوْ لَمْ يَسْعَ، أَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا أَنْ يَسْعَى فَلَا يُكْرَهُ لَهُ السَّعْيُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَرْجَحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ بِالْعَدْوِ، إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى نَفْيِ الْكَرَاهَةِ، وَالْكَلَامُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، أَمَّا هِيَ فَيَجِبُ السَّعْيُ إِذَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ إِدْرَاكُهَا، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِإِدْرَاكِ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اهـ. (فَقَالَ) ، أَيِ: الرَّجُلُ (اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا) ، أَيْ: يَتَرَادَفُ مَدَدُهُ وَلَا تَنْتَهِي مُدَدُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ يَدَلُّ عَلَيْهِ الْحَمْدُ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ جَارِيًا عَلَى مَحَلِّهِ، وَقَوْلُهُ " طَيِّبًا ": وَصْفٌ لَهُ، أَيْ: خَالِصًا عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَقَوْلُهُ " مُبَارَكًا فِيهِ ": يَقْتَضِي بَرَكَةً وَخَيْرًا كَثِيرًا يَتَرَادَفُ إِرْفَادُهُ وَيَتَضَاعَفُ إِمْدَادُهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ حَمْدًا جُعِلَتِ الْبَرَكَةُ فِيهِ يَعْنِي حَمْدًا كَثِيرًا غَايَةَ الْكَثْرَةِ، وَقِيلَ: مُبَارَكًا بِدَوَامِ ذَاتِهِ وَكَمَالِ غَايَاتِهِ (فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ أَدَّى (صَلَاتَهُ قَالَ: " أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ) ، أَيِ: الْمَذْكُورَاتِ الْمَسْمُوعَةِ آنِفًا (فَأَرَمَّ الْقَوْمُ) : قَالَ مُحْيِيِ السُّنَّةِ: هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: سَكَتُوا، وَفِي النِّهَايَةِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِالزَّايِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنَ الْأَزْمِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى اهـ، وَهُوَ كَذَا فِي نُسْخَةٍ وَأَخْطَأَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ بِالرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنَ الْأَرْمِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ اهـ، (قَالَ: " أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَقَالَ: " أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ (فَأَرَمَّ الْقَوْمُ قَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا) : اعْلَمْ أَنَّ فِي نُسْخَةِ الشَّيْخِ عَفِيفِ الدِّينِ الْكَازَرُونِيِّ بِلَفْظِ: فَأَرَمَّ الْقَوْمُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَفْظُ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا، وَفِي نُسْخَةِ الشَّيْخِ نُورِ الدِّينِ الْإِيجِيِّ " بِالْكَلِمَاتِ " بَدَلَ " بِهَا "، وَفِي نُسْخَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ مَذْكُورٌ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ

فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا (فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ: لَمْ يَتَفَوَّهْ بِمَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، أَيْ: مَا قَالَ قَوْلًا يُشَدَّدُ عَلَيْهِ (فَقَالَ رَجُلٌ) : الظَّاهِرُ فَقَالَ الرَّجُلُ: (جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا) ، أَيِ: الْكَلِمَاتِ (فَقَالَ: " لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا) ، أَيْ: ثَوَابَ هَذَا الْكَلِمَاتِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي يَسْبِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي كَتْبِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَرَفْعِهَا إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ لِعِظَمِهَا وَعِظَمِ قَدْرِهَا، وَتَخْصِيصُ الْمِقْدَارِ يُؤْمَنُ بِهِ، وَيُفَوَّضُ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى عَدَدِ الْكَلِمَاتِ فَإِنَّهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: يَبْتَدِرُونَهَا وَيَسْتَعْجِلُونَ أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] أَيُّهُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: يَقْتَرِعُونَ أَيُّهُمْ، فَالْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ يُلْقُونَ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا أَوَّلُ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 815 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 815 - (عَنْ عَائِشَةَ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ) ، أَيْ: بِالتَّكْبِيرِ (قَالَ: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ) ، أَيْ: وَفِّقْنِي، قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ: وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: سُبْحَانَ اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ التَّسْبِيحُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: أُسَبِّحُكَ تَسْبِيحًا، أَيْ: أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا مِنْ كُلِّ السُّوءِ وَالنَّقَائِصِ، وَأُبْعِدُكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِحَضْرَتِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَالْمَعْنَى اعْتَقَدْتُ بَرَاءَتَكَ مِنَ السُّوءِ وَنَزَاهَتَكَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ ذَاتِكَ وَكَمَالِ صِفَاتِكَ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ أُسَبِّحُكَ تَسْبِيحًا مُتَلَبِّسًا وَمُقْتَرِنًا بِحَمْدِكَ، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ الْوَاوُ بِمَعْنَى " مَعَ "، أَيْ: أُسَبِّحُكَ مَعَ التَّلَبُّسِ بِحَمْدِكَ، وَحَالُهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَإِثْبَاتُ النُّعُوتِ الثُّبُوتِيَّةِ أَوْ بِحَمْدِكَ سَبَّحْتُكَ أَيِ اعْتَقَدْتُ نَزَاهَتَكَ حَالَ كَوْنِي مُتَلَبِّسًا بِالثَّنَاءِ عَلَيْكَ، أَوْ بِسَبَبِ ثَنَاءِ الْجَمِيلِ عَلَيْكَ اعْتَقَدْتُ نَزَاهَتَكَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أُسَبِّحُكَ تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِشُكْرِكَ؛ إِذْ كُلُّ حَمَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِ يَسْتَجْلِبُ نِعْمَةً مُتَجَدِّدَةً وَيَسْتَصْحِبُ تَوْفِيقًا إِلَهِيًّا، وَمِنْ ثَمَّ رُوِيَ عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَقْدِرُ أَنْ أَشْكُرَكَ وَأَنَا لَا أَقُومُ بِشُكْرِ نِعْمَتِكَ إِلَّا بِنِعْمَتِكَ؛ وَلِذَا قِيلَ: الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ شُكْرٌ، أَوْ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى تَوْفِيقِكَ إِيَّايَ عَلَى تَسْبِيحِكَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْخَلَّادِ، قَالَ: سَأَلْتُ الزَّجَّاجَ عَنِ الْوَاوِ فِي وَبِحَمْدِكَ؟ قَالَ: مَعْنَاهُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، قِيلَ: قَوْلُ الزَّجَّاجِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ عَلَى مِثْلِهَا إِذِ التَّقْدِيرُ أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا وَأُسَبِّحُكَ تَسْبِيحًا مُقَيَّدًا بِشُكْرِكَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ " اللَّهُمَّ " مُقْتَرِضَةٌ، وَالْبَاءُ فِي وَبِحَمْدِكَ إِمَّا سَبَبِيَّةٌ، وَالْجَارُّ مُتَّصِلٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَوْ إِلْصَاقِيَّةٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (وَتَبَارَكَ اسْمُكَ) ، أَيْ: كَثُرَتْ بَرَكَةُ اسْمِكَ إِذْ وُجِدَ كُلُّ خَيْرٍ مِنْ ذِكْرِ اسْمِكَ، وَقِيلَ: تَعَاظَمَ ذَاتُكَ أَوْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّعَاظُمَ إِذَا ثَبَتَ لِأَسْمَائِهِ تَعَالَى، فَأَوْلَى لِذَاتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] (وَتَعَالَى جَدُّكَ) ، أَيْ: عَظَمَتُكَ أَيْ مَا عَرَفُوكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ، وَلَا عَظَّمُوكَ حَقَّ عَظَمَتِكَ، وَلَا عَبَدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَقَالَ مِيرَكُ: تَعَالَى تَفَاعُلٌ مِنَ الْعُلُوِّ، أَيْ: عَلَا وَرُفِعَتْ عَظَمَتُكَ عَلَى عَظَمَةِ غَيْرِكَ، الْعُلُوُّ الرِّفْعَةُ اهـ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ تَعَالَى غِنَاؤُكَ عَنْ أَنْ يَنْقُصَهُ إِنْفَاقٌ أَوْ يَحْتَاجَ إِلَى مُعِينٍ وَنَصِيرٍ (وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

816 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ [حَدِيثِ] حَارِثَةَ، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 816 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) . (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَارِثَةَ) ، أَيِ: ابْنِ أَبِي الرِّجَالِ (وَقَدْ تُكُلِّمَ) ، أَيْ: طَعَنَ (فِيهِ) ، أَيْ: فِي حَارِثَةَ (مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ) ، أَيْ: لَا مِنْ قِبَلِ عَدَالَتِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا حَدِيثُ حَسَنٌ مَشْهُورٌ، وَأَخَذَ بِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ أَخَذَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَى الضَّعْفِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُلَّةُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ؟ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَهُوَ كَلَامٌ فِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ إِسْنَادَهُ مَدْخُولٌ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ، مَعَ أَنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ يَقَعُ فِي حَقِّ أَقْوَامٍ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافِ، فَرُبَّمَا ضُعِّفَ الرَّاوِي مِنْ قِبَلِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ وَوُثِّقَ مِنْ قِبَلِ آخَرِينَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْأَعْلَامُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَأَخَذُوا بِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي جَامِعِهِ بِإِسْنَادٍ ذَكَرَهُ فِيهِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ رِجَالُهُ مَرْضِيُّونَ، فَعُلِمَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ، كَذَا فِي شَرْحِ الطِّيبِيُّ، وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ كَالَّذِي بَعْدَهُ وَغَيْرِهِ أَنَّ دُعَاءَ الِافْتِتَاحِ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَنَفَى مَالِكٌ نَدْبَهُ لِعَدَمِ ذِكْرِهِ فِي خَبَرِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَلِخَبَرِ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) عَجِيبٌ؛ إِذْ لَا جَوَابَ لَهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، وَخَبَرُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا بَعْضَ الْفَرَائِضِ وَبَعْضَ النَّوَافِلِ، وَمَعْنَى الْخَبَرِ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ السَّابِقَةُ، بَلْ لَوْ صَرَّحَ صَحَابِيٌّ بِنَفْيِهِ لَكَانَ مَحْجُوجًا بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَنْبَغِي الْجَمْعُ بَيْنَ أَدْعِيَةِ الِافْتِتَاحِ بِأَنْ يَخُصَّ الْفَرَائِضَ بِمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيَقْرَأُ فِي النَّفْلِ بِمَا شَاءَ كَمَا هُوَ مُخْتَارُ مَذْهَبِنَا، أَوِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ، وَاخْتُلِفَ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ، وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِجَمْعٍ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ إِلَخْ، لِحَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» " إِلَخْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَرُدَّ بِأَنَّ طُرُقَهُ كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، قَلْتُ: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ ضَعْفِهِ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّهُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَرَدُّهُ مَرْدُودٌ وَجَمْعُنَا مَحْمُودٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

817 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي صَلَاةً قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ". أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثَهِ وَهَمْزَهِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَذَكَرَ فِي آخِرِهِ: " مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَفْخُهُ الْكِبْرُ، وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ، وَهَمْزُهُ الْمُوتَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 817 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ) : بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ (أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةً قَالَ) ، أَيْ: عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ عَيْنُ التَّحْرِيمَةِ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (اللَّهُ أَكْبَرُ) : بِالسُّكُونِ وَيُضَمُّ (كَبِيرًا) : حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَقِيلَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَقِيلَ بِإِضْمَارِ " أُكَبِّرُ "، وَقِيلَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ تَكْبِيرًا كَبِيرًا (اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا) : لَعَلَّ التِّكْرَارَ لِلتَّأْكِيدِ، أَوِ الْأَوَّلُ لِلذَّاتِ، وَالثَّانِي لِلصِّفَاتِ، وَالثَّالِثُ لِلْأَفْعَالِ، وَأَفْعَلُ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ أَوْ مَعْنَاهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعْرَف عَظَمَتُهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ أَفْعَلَ وَفَعِيلًا فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِأَكْبَرَ إِثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي صِفَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الْمُشَارَكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَاوِيهِ أَحَدٌ فِي أَصْلِ الْكِبْرِيَاءِ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا) : صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: حَمْدًا كَثِيرًا (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا) : عَلَى النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَمَا بَيْنَهُمَا (وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) : أَيْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَآخِرِهِ مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ سُبْحَانَ، وَخَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِاجْتِمَاعِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِيهِمَا، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَصَاحِبُ الْمَفَاتِيحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ التَّخْصِيصِ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ التَّغَيُّرِ فِي أَوْقَاتِ تَغَيُّرِ الْكَوْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الدَّوَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] (ثَلَاثًا) : قَيْدًا لِكُلٍّ، كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلْأَخِيرِ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِاسْتِغْنَاءِ الْأَوَّلِينَ عَنِ التَّقْيِيدِ لَهُمَا بِتَلَفُّظِهِ ثَلَاثًا وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثَلَاثًا كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَقِبَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: " عَجِبْتُ لَهَا فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ " اهـ.

وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَفْلَاكُ التِّسْعَةُ عَلَى وَفْقِ عَدَدِ الْمَرَّاتِ الْمَذْكُورَةِ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ نَفْخِهِ) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْ: مِنْ كِبْرِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى كُفْرِهِ (وَنَفْثِهِ) ، أَيْ: سِحْرِهِ (وَهَمْزِهِ) ، أَيْ: وَسْوَسَتِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: النَّفْخُ كِنَايَةٌ عَنِ الْكِبْرِ، كَانَ الشَّيْطَانُ يَنْفُخُ فِيهِ بِالْوَسْوَسَةِ فَيُعَظِّمُهُ فِي عَيْنِهِ وَيُحَقِّرُ النَّاسَ عِنْدَهُ، وَالنَّفْثُ عِبَارَةٌ عَنِ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفُثُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ فِيهِ كَالرُّقْيَةِ اهـ، وَقِيلَ: " مِنْ نَفْخِهِ "، أَيْ: تَكَبُّرِهِ يَعْنِي: مِمَّا يَأْمُرُ النَّاسَ بِهِ مِنَ التَّكَبُّرِ، " وَنَفْثِهِ " مِمَّا يَأْمُرُ النَّاسَ بِإِنْشَاءِ الشِّعْرِ الْمَذْمُومِ مِمَّا فِيهِ هَجْرُ مُسْلِمٍ أَوْ كُفْرٌ أَوْ فِسْقٌ، " وَهَمْزِهِ "، أَيْ: مِنْ جَعْلِهِ أَحَدًا مَجْنُونًا بِنَخْسِهِ وَغَمْزِهِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ (وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّهُ) ، أَيِ: ابْنُ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرْ: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا) : وَلَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ لَا تُعَارِضُ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ فَتُقْبَلَ (وَذَكَرَ فِي آخِرِهِ: " مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) : وَهِيَ زِيَادَةٌ يُعْمَلُ بِهَا كَذَلِكَ بِأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِلُحُوقِ الزِّيَادَاتِ أَوْ بِاعْتِبَارِ التَّارَاتِ، (وَقَالَ عُمَرُ) : قَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ عَمْرٌو بِالْوَاوِ (نَفْخُهُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْإِعْرَابِ وَبِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَاتِ (الْكِبْرُ، وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ) ، أَيِ: الْمَذْمُومُ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً، أَيْ: مَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا، وَفِي الْبُخَارِيِّ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً، أَيْ: قَوْلًا صَادِقًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَنْشَدَ مِنَ الشَّرِيدِيِّ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، فَأَنْشَدَهُ مِائَةَ قَافِيَةٍ» وَرَدُّوا بِهَذَا عَلَى مَنْ كَرِهَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا، وَاحْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الشِّعْرُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ، وَالْخَبَرِ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي قُرْآنًا، قَالَ: قُرْآنُكَ الشِّعْرُ، مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ تُحْمَلُ اللَّامُ عَلَى الْعَهْدِ وَهُوَ الشِّعْرُ الْمَذْمُومُ، أَوْ عَلَى الْجِنْسِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْمُودُ جَمْعًا بَيْنَ الْوَارِدِ وَالْمَوْرُودِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (وَهَمْزُهُ الْمُوتَةُ) : بِالضَّمِّ وَفَتْحِ التَّاءِ، نَوْعٌ مِنَ الْجُنُونِ وَالصَّرَعِ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ، فَإِذَا أَفَاقَ عَادَ عَلَيْهِ كَمَالُ عَقْلِهِ كَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ قَالَ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْجُنُونُ سَمَّاهُ هَمْزًا؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنَ الْهَمْزِ وَالنَّخْسِ، وَكُلُّ شَيْءٍ دَفَعْتَهُ فَقَدْ هَمَزْتَهُ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَالْأَنْسَبُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّفْثِ السِّحْرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} [الفلق: 4] وَأَنْ يُرَادَ بِالْهَمْزِ الْوَسْوَسَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97] وَهِيَ خَطَرَاتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُغْرُونَ النَّاسَ عَلَى الْمَعَاصِي كَمَا تُهْمَزُ الرَّكْضَةُ وَالدَّوَابُّ بِالْمِهْمَازِ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذِ السِّحْرُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَوْلٍ، وَإِنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا شَاهِدَ لَهُ فِي الْآيَةِ لِابْنِ حَجَرٍ، وَهُوَ ظُلْمٌ فِي حَقِّ الطِّيبِيِّ، فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ أَنَّ النَّفْثَ جَاءَ بِمَعْنَى السِّحْرِ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمُرَادِ مِنَ الْقَوْلِ بِالشِّعْرِ، فَإِنَّهُ مَا جَاءَ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الشِّعْرِ لَا فِي الْآيَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَلَمْ يَدَّعِ الطِّيبِيُّ أَنَّ السِّحْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنَّفْثِ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَظَرِهِ، هَذَا وَأَصْلُ النَّفْثِ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ بِالْفَمِ شَبِيهَ النَّفْخِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التَّفْلِ، وَهَذَا بِمَعْنَى السِّحْرِ أَظْهَرُ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْقَامُوسِ: وَنَفْثُ الشَّيْطَانِ الشِّعْرُ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ؛ وَلِذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فُسِّرَ النَّفْثُ فِي الْحَدِيثِ بِالشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ يُنْفَثُ مِنَ الْفَمِ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى السِّحْرِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِسِحْرِهِ يَلْقَى الشَّاعِرَ فِي شِعْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ إِسْنَادَ الشِّعْرِ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازِيٌّ بِخِلَافِ إِسْنَادِ السِّحْرِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

818 - «وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ حَفِظَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكْتَتَيْنِ: سَكْتَةً إِذَا كَبَّرَ، وَسَكْتَةً إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] » ، فَصَدَّقَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 818 - (وَعَنْ سَمُرَةَ) ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَانِيهِ (ابْنِ جُنْدُبٍ) ، بِضَمِّهِمَا وَبِفَتْحِ الدَّالِ (أَنَّهُ حَفِظَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكْتَتَيْنِ: سَكْتَةً إِذَا كَبَّرَ) ، أَيْ: لِلْإِحْرَامِ (وَسَكْتَةً إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، السَّكْتَةُ الثَّانِيَةُ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ كَالسَّكْتَةِ الْأُولَى، وَمَكْرُوهَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السَّكْتَةَ الْأُولَى لِلثَّنَاءِ، وَالثَّانِيَةَ لِلتَّأْمِينِ قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: سُكُوتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَكْتَتَيْنِ: إِحْدَاهَا كَانَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَفْرُغَ الْمَأْمُومُ مِنَ النِّيَّةِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، لِئَلَّا يَفُوتَهُ سَمَاعُ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ وَثَانِيَتُهُمَا بَعْدَ تَمَامِ الْفَاتِحَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ وَيَرْجِعَ الْإِمَامُ إِلَى التَّنَفُّسِ وَالِاسْتِرَاحَةِ اهـ. وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ إِذِ السَّكْتَةُ الْأُولَى لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَةً خَالِيَةً عَنِ الذِّكْرِ غَايَتُهُ أَنَّهُ كَانَ سُكُوتًا عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ، وَكَوْنُ السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّنَفُّسِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ كَوْنُهَا لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ قَلْبٌ لِلْمَوْضُوعِ وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، (فَصَدَّقَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) ، أَيْ: وَافَقَهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ، قَالَ مِيرَكُ: مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ سَمُرَةَ وَسَاقَهُ قَالَ: فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، قَالَ: فَكَتَبُوا ذَلِكَ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى أُبَيٍّ فَصَدَّقَ سَمُرَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ، وَالْأَصَحُّ صِحَّةُ سَمَاعِهِ مِنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ سَمُرَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعُمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ بَلْ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَّتَتَانِ إِذْ قَرَأَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، أَيْ: أَرَادَ قِرَاءَتَهَا بِدَلِيلِ: سَكْتَةً إِذَا كَبَّرَ، وَسَكْتَةً إِذَا فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ كُلِّهَا، وَفِي أُخْرَى إِذَا فَرَغَ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا، بَلْ يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا إِثْبَاتُ ثَلَاثِ سَكَتَاتٍ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَبَعْدَ السُّورَةِ اهـ. وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّكَتَاتِ الزِّيَادَةُ عَلَى حَدِّ التَّنَفُّسِ فِي أَوَاخِرِ الْآيَاتِ إِذْ ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فَيَقِفُ، وَهَكَذَا عَلَى رُءُوسِ الْآيِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْقُرَّاءِ السَّكْتَةَ عَلَى الْوَقْفِ بِلَا تَنَفُّسٍ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى إِصْلَاحِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاسْتَحَبَّ أَئِمَّتُنَا أَيْضًا السَّكْتَةَ بَيْنَ الِافْتِتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ، وَبَيْنَ التَّعَوُّذِ وَالْفَاتِحَةِ، وَبَيْنَ آمِينَ وَالسُّورَةِ، وَبَيْنَ السُّورَةِ وَتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، وَكُلُّهَا سَكَتَاتٌ خَفِيفَةٌ بِقَدْرِ سُبْحَانَ اللَّهِ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِهَا، وَقِيَاسُهُ الْبَاقِي إِلَّا الَّتِي بَيْنَ آمِينَ وَالسُّورَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَشْتَغِلَ فِيهَا بِذِكْرٍ أَوْ قُرْآنٍ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ لِيَسْمَعَ الْإِمَامَ اهـ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ فِي الْحَدِيثِ عَلَى سُنِّيَّةِ هَذِهِ السَّكْتَةِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي هَذِهِ السَّكْتَةِ شَيْئًا مَعَ مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ السَّكْتَةِ لِلْقِرَاءَةِ، وَأَيْضًا سَمَاعُ الْإِمَامِ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ لَمْ يَرِدْ فِي أَصْلٍ صَحِيحٍ، وَلَا ضَعِيفٍ، بَلْ وَرَدَ نَهْيُ الْمَأْمُومِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ، بَلْ عَنْ نَفْسِ الْقِرَاءَةِ فِي مَحَلِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْ مَعْنَاهُ.

819 - وَعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، وَلَمْ يَسْكُتْ، هَكَذَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي أَفْرَادِهِ، وَكَذَا صَاحِبُ " الْجَامِعِ " عَنْ مُسْلِمٍ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 819 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَهَضَ) ، أَيْ: قَامَ (مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ) ، أَيْ مِنْ أَجْلِهَا (اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ) : الْمُرَادُ السُّورَةُ الْمُخْتَصَّةُ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنْهَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يُسِرُّهَا (وَلَمْ يَسْكُتْ) ، أَيْ: لِلثَّنَاءِ هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي أَفْرَادِهِ، أَيْ: فِي مُفْرَدَاتِ مُسْلِمٍ وَمُخْتَصَّاتِهِ، (وَكَذَا صَاحِبُ الْجَامِعِ) ، أَيْ لِلْأُصُولِ هُوَ ابْنُ الْأَثِيرِ (عَنْ مُسْلِمٍ وَحْدَهُ) : فَإِيرَادُ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي دُونَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِقَاعِدَتِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ فَلَمْ يَسْتَدْرِكْهُ، قُلْتُ: لَعَلَّ الْحَاكِمَ رَوَاهُ بِسَنَدٍ غَيْرِ سَنَدِ مُسْلِمٍ وَكَانَ رِجَالُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 820 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: " «إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَقِنِي سَيِّئَ الْأَعْمَالِ، وَسَيِّئَ الْأَخْلَاقِ، لَا يَقِي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 820 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ) ، أَيْ: بِالِاسْتِقْبَالِ وَالنِّيَّةِ (كَبَّرَ) : لِلتَّحْرِيمَةِ (ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) ، أَيْ: بَقِيَّةَ عِبَادَتِي (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) ، أَيْ: أَحْوَالِي فِيهِمَا (لِلَّهِ) : أَيْ خَالِصَةٌ لِلَّهِ (رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ) : أَيِ الْإِخْلَاصِ (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَفْظُ التَّنْزِيلِ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ كُلِّ نَبِيٍّ مُقَدَّمٌ عَلَى إِسْلَامِ أُمَّتِهِ اهـ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَأْمُورٌ بِهَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162] الْآيَةَ لَكِنْ كَانَ يَقُولُ هَذَا تَارَةً، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُخْرَى، كَمَا تَقَدَّمَ تَوَاضُعًا حَيْثُ عَدَّ نَفْسَهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَمَا قَالَ: " «وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» " وَفِي الْأَزْهَارِ قَوْلُهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَقْرَأُ كَذَلِكَ، بَلْ يَقُولُ: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، قُلْتُ: وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا مَا لَمْ يُرِدْ لَفْظَ الْآيَةِ، يَعْنِي: لَا يَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ، بَلْ تَالِيًا لِلْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قِيلَ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِلْكَذِبِ، وَقِيلَ: لَا، وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَالٍ لَا مُخْبِرٌ ( «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ» ) ، أَيِ الظَّاهِرَةِ ( «وَأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ» ) ، أَيِ الْبَاطِنَةِ ( «لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا» ) : أَيِ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ( «إِلَّا أَنْتَ وَقِنِي سَيِّئَ الْأَعْمَالِ، وَسَيِّئَ الْأَخْلَاقِ، لَا يَقِي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» ) : وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْأَسْوَأِ الْمُقَابِلِ لِلْأَحْسَنِ إِلَى السَّيِّئِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

821 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا قَالَ: " «اللَّهُ أَكْبَرُ، وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» "، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِثْلَ حَدِيثِ جَابِرٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: " «وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» "، ثُمَّ قَالَ: " «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ» "، ثُمَّ يَقْرَأُ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 821 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ) : أَنْصَارِيٌّ، أَوْسِيٌّ، شَهِدَ الْمُشَاهِدَ كُلَّهَا إِلَّا تَبُوكَ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى يَدِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا) : ظَاهِرُهُ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا الْمُخْتَارَ أَنَّهُ يَقْرَأُ بِوَجَّهْتُ وَجْهِي فِي النَّوَافِلِ أَوِ السُّنَنِ (قَالَ: " اللَّهُ أَكَبَرُ، وَجَّهْتُ وَجْهِي) : بِالْوَجْهَيْنِ، أَيْ: وَجَّهْتُ قَصْدِي أَوْ ذَاتِي (لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) ، أَيْ: أَبْدَعَهُمَا (حَنِيفًا) : مَائِلًا عَمَّا سِوَاهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ لَفْظُ " مُسْلِمًا " بَعْدَ " حَنِيفًا "، وَهُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : تَأْكِيدٌ وَتَعْرِيفٌ وَإِظْهَارٌ لِلتَّلَذُّذِ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ، وَتَحَدُّثٌ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، (وَذَكَرَ) ، أَيْ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ (الْحَدِيثَ مِثْلَ جَابِرٍ، إِلَّا أَنَّهُ) ، أَيْ: مُحَمَّدًا (قَالَ: " وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : بَدَلَ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ» "، ثُمَّ يَقْرَأُ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

[باب القراءة في الصلاة]

[بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ]

(12) بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 822 - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَصَاعِدًا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ (12) بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 822 - (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (لَا صَلَاةَ) ، أَيْ: كَامِلَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَوْ صَحِيحَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ (لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَمْ يَبْدَأِ الْقِرَاءَةَ بِهَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْنِي عَدَّى يَقْرَأُ بِالْبَاءِ مَعَ تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يَبْدَأُ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ فَسَادٌ عَلَى مَذْهَبِهِ لِانْحِلَالِهِ إِلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ عَمَّنِ ابْتَدَأَ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ خَتَمَ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا نَعْلَمُ، فَالصَّوَابُ أَنَّهَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَسُمِّيَتْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ لِافْتِتَاحِهِ بِهَا، وَالْفَاتِحَةُ لِذَلِكَ وَلِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِهَا اهـ، أَوْ يُقَالُ: لِأَنَّهَا تَفْتَحُ عَلَى قَارِئِهَا أَبْوَابَ الْخَيْرِ فِي أَعْضَائِهِ السَّبْعَةِ، وَتُغْلِقُ عَلَيْهِ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، وَيَنْفَتِحُ بِهَا آخِرُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَوِ السَّبْعَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهَا، كَمَا اخْتُلِفَ فِي آيِ الْفَاتِحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» ) : سُمِّيَتْ بِهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَقَاصِدِهِ مِنْ إِثْبَاتِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَمَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ وَلِأَنْبِيَائِهِ كَذَلِكَ، وَعَلَى أَحْوَالِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَعَلَى الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ، وَعَلَى الْقَصَصِ، وَعَلَى مَدْحِ الْمُهْتَدِينَ وَذَمِّ ضِدِّهِمْ وَانْقِسَامِهِمْ إِلَى مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَضَالِّينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَمِيعُ الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ فِي الْفَاتِحَةِ، وَجَمِيعُ الْفَاتِحَةِ فِي الْبَسْمَلَةِ، وَجَمِيعُ الْبَسْمَلَةِ فِي بَائِهَا، وَجَمِيعُ بَائِهَا فِي نُقْطَتِهَا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالنُّقْطَةِ الْمَعْنَى التَّوْحِيدِيَّ؛ وَلِذَا قِيلَ: الْعِلْمُ نُقْطَةٌ كَثَّرَهَا الْجَاهِلُونَ، أَيْ: صَارُوا سَبَبًا لِلْكَثْرَةِ حَيْثُ مَا فَهِمُوا إِجْمَالًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَصَاعِدًا) ، أَيْ: فَمَا زَادَ عَلَيْهَا مِنَ الصُّعُودِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ زَائِدًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، أَوْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ حَالَ كَوْنِ قِرَاءَتِهِ زَائِدًا عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَا مَفْهُومَانِ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ: قِيلَ: فِي الْحَدِيثَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَوْلَهُ: فَصَاعِدًا يَدْفَعُهُ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْفَاتِحَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. قُلْتُ: بَلْ قَوْلُهُ فَصَاعِدًا يَدُلُّ عَلَى تَأْوِيلِنَا أَنَّ الْمُرَادَ نَفِيُ الْكَمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْفَاتِحَةَ مُتَعَيِّنَةٌ أَمْ لَا لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ الْفَاتِحَةَ مَعَ غَيْرِهَا وَاجِبَةٌ، قَالَ: فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ لَا عَلَى الزَّائِدِ عَلَيْهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْفَاتِحَةُ وَاحِدَةُ حَالٍ كَوْنِهَا مَقْرُونَةً بِشَيْءٍ مِمَّا هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ اهـ، وَهُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَصْحِيحِ جُلِّ كَلَامِهِ مَحْمُولٌ عَلَى زَعْمِهِ الْفَاسِدِ؟ فَإِنَّ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ وَاجَبَتَانِ عَلَى مَذْهَبِ سَادَاتِنَا الْحَنَفِيَّةِ، غَايَتُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُمْ دُونَ الْمَرْتَبَةِ الْفَرْضِيَّةِ لِتَخْصِيصِ الْفَرَائِضِ بِوُرُودِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ دُونَ الظَّنِّيَّةِ.

823 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ " ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَامٍ "، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ، قَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7] ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 823 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى صَلَاةً) : قَالَ مِيرَكُ: التَّنْكِيرُ فِيهِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَعْضِيَّةُ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَغَيْرِهِمَا كَانَ مَفْعُولًا بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ اسْمًا لِتِلْكَ الْهَيْئَاتِ الْمَخْصُوصَةِ، وَالْفِعْلُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُرِيدَ الْجِنْسُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا ( «لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» ) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْمٍ كَرِهُوا تَسْمِيَتَهَا بِذَلِكَ (فَهِيَ) : أَيْ: صَلَاتُهُ (خِدَاجٌ) : أَيْ نَاقِصَةٌ أَوْ مَنْقُوصَةٌ أَوْ ذَاتُ نُقْصَانٍ، مِنْ

خَدَّجَتِ النَّاقَةُ وَلَدَهَا قَبْلَ أَوَانِ خُرُوجِهِ وَإِنْ كَمُلَ خَلْقُهُ فَهِيَ مُخَدِّجَةٌ أَوْ ذَاتُ خِدَاجٍ (ثَلَاثًا) ، أَيْ: قَالَهَا ثَلَاثًا (غَيْرُ تَمَامٍ) : بَيَانُ خِدَاجٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَفِي نُسْخَةٍ غَيْرُ تَامٍّ، أَيْ: غَيْرُ كَامِلٍ، قِيلَ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ تَفْسِيرٌ لِلْخِدَاجِ، ذِكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، بَلْ مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا مِنْ نُقْصَانِ صَلَاتِهِ، فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا صَلَاةَ " أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَفْيُ الْكَمَالِ لَا الصِّحَّةِ، فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَبِنَفْيِ لَا صَلَاةَ نَفْيُ صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تُقْبَلُ تَأْوِيلًا مِنْهَا مَا صَحَّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَمَرَنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّهُمْ مَا يَقُولُونَ بِوُجُوبِ السُّورَةِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى: " مَعَ " أَوْ بِمَعْنَى: " أَوْ " وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْفَاتِحَةِ إِجْمَاعًا، وَمُجْزِئٌ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فِي مَذْهَبِنَا، قَالَ: وَمِنْهَا خَبَرُ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ فِي صِحَاحِهِمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِجْزَاءِ الْكَامِلِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهَا مَا صَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقَالَ لَهُ: ثُمَّ افْعَلْ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْحَدِيثَ السَّابِقَ لَفْظُهُ: ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِهِ، مَعَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ وَرَدَ بَعْضُ الْأَوَامِرِ لَا يَصِحُّ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْوُجُوبِ إِجْمَاعًا، قَالَ: وَمِنْهَا مُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِرَاءَتَهَا فِي صَلَاتِهِ، كَمَا فِي مُسْلِمٍ مَعَ خَبَرِ الْبُخَارِيِّ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» "، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْلَا مُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قِرَاءَتِهَا لَقُلْنَا بِسُنِّيَّتِهَا لَا بِوُجُوبِهَا وَبِعِصْيَانِ تَارِكِهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ، فَمَخْصُوصُ الْبَعْضِ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُنَنٌ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ: وَأَمَّا خَبَرُ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقُرْآنٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَضَعِيفٌ، عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَقَلُّ مُجْزِئٍ الْفَاتِحَةُ كَصُمْ وَلَوْ يَوْمًا. قُلْتُ: لَوْ صَحَّ ضَعْفُهُ فَهُوَ يُقَوِّي الْمَعْنَى الْمُرَادَ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عِنْدَنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ، وَجَعْلُهُ الْحَدِيثَ نَظِيرَ مَا ذَكَرْنَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، بَلْ نَظِيرُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ: " «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» " فَيُفِيدُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَحْدَهَا مُجْزِئَةٌ، مَعَ أَنَّ الْوَاجِبَ ضَمُّ سُورَةٍ مَعَهَا، قَالَ: وَمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِمَّا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ مِنْ أَصْلِهَا ضَعِيفٌ أَيْضًا. قُلْتُ: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُحْمَلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْفَاتِحَةِ دُونَ وُجُوبِهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، قَالَ: وَقَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ أَيْ طَرِيقَةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَإِنْ خَالَفَتْ مَقَايِيسَ الْعَرَبِيَّةِ، قُلْنَا: وَالْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ فَرْضِيَّتُهَا بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] بِظَاهِرٍ مُطْلَقٍ، قَالَ: وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي الْعَصْرَيْنِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ، عَلَى أَنَّ رُوَاةَ الْأَوَّلِ وَمَا بِمَعْنَاهُ أَكْبَرُ سِنًّا وَأَقْدَمُ صُحْبَةً، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي أَكَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَمْ لَا، وَغَيْرُهُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ جَزَمُوا بِالْقِرَاءَةِ، فَكَانُوا أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهُ عَلَى مَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، أَوْ عَلَى إِخْفَائِهِ الْقِرَاءَةَ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ أَمْ لَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْيِيدُهُ بِالْعَصْرَيْنِ، قَالَ: وَخَبَرُ: أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَسَبَّحَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ ضَعِيفٌ، قُلْتُ: عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا، لَكِنْ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَصَاحِبُهُ مُسِيءٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ) ، أَيْ: فَهَلْ نَقْرَأُ أَمْ لَا؟ قَالَ: اقْرَأْ بِهَا) ، أَيْ: بِأُمِّ الْقُرْآنِ (فِي نَفْسِكَ) : سِرًّا غَيْرَ جَهْرٍ، وَبِهِ أَخْذَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدٍ مَعَ احْتِمَالِ التَّقْيِيدِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ كَمَا قَالَ بِهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَوْ فِي السَّكَتَاتِ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ كَمَا قِيلَ لِلْمَسْبُوقِ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، أَوْ مَعْنَاهُ فِي قَلْبِكَ بِاسْتِحْضَارِ أَلْفَاظِهَا أَوْ مَعْنَاهُ أَوْ مَعَانِيهَا دُونَ مَبَانِيهَا، (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

يَقُولُ) : وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ) ، أَيِ: الْفَاتِحَةَ وَسُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ وَكَوْنُهَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: أَيِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِهَا، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ: ( «بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» ) : وَالصَّلَاةُ خَالِصَةٌ لِلَّهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْقُرْآنُ اهـ. وَتَتِمَّةُ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَالتَّنْصِيفُ يَنْصَرِفُ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، ثَلَاثٌ ثَنَاءٌ، وَثَلَاثٌ سُؤَالٌ، وَالْآيَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ نِصْفُهَا ثَنَاءٌ وَنِصْفُهَا دُعَاءٌ، فَإِذَنْ لَيْسَتِ الْبَسْمَلَةُ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّنْصِيفَ رَاجِعٌ إِلَى جُمْلَةِ الصَّلَاةِ لَا إِلَى الْفَاتِحَةِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَبِأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا يُخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَامِلَةِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُتَابِعُوهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ التَّسْمِيَةَ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: " «فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ذَكَرَنِي عَبْدِي» " كَذَا ذِكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ضَعِيفَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ قَالَ: فَلَعَلَّهَا لَمْ تَنْزِلْ إِذْ ذَاكَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَا بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِهَا تُذْكَرُ أَوَّلَ سُورَةِ: اقْرَأْ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِ الرَّاوِي أَبَا هُرَيْرَةَ، وَهُوَ إِنَّمَا أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ: «أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَدَمَ ذِكْرِهَا لِعَدَمِ اخْتِصَاصِهَا بِالْفَاتِحَةِ مَعَ اسْتِقْلَالِهَا، قُلْتُ: الِاسْتِقْلَالُ مَمْنُوعٌ مُحْتَاجٌ بِمَا بِهِ الِاسْتِدْلَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَقِيلَ: التَّنْصِيفُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ الدُّعَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، يَزِيدُ عَلَى نِصْفِ الثَّنَاءِ وَهُوَ إِلَى قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ (نِصْفَيْنِ) أَيْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَ آيَاتِهَا يُعُودُ عَلَيْهِ أَظْهَرُ فَائِدَةٍ وَنَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ، كَالِامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِمَسْئُولَةٍ وَمَرْغُوبَةٍ، وَبَعْضُهَا لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ غَيْرُ مَحْضِ التَّعَبُّدِ وَالِامْتِثَالِ، فَجُعِلَ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا أَنَّ ذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ التَّعَبُّدِ، وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ الْإِعْظَامِ وَالْإِجْلَالِ، (وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) ، أَيْ: أَحَدُ النِّصْفَيْنِ دَعَاهُ عَبْدِي إِيَّايَ وَلَهُ مَا سَأَلَ أَيْ بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ وُقُوعُهُ مُعَلَّقًا عَلَى السُّؤَالِ، وَإِلَّا فَمِثْلُهُ مِنْ رَفْعِ دَرَجَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ وَنَحْوِهَا بِهَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لِذَاتِي مَا وَصَفَ مِنَ الثَّنَاءِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ مِنَ الدُّعَاءِ؛ وَلِذَا قَالَ: (فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ) ، أَيِ: الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مَعَ التَّشْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى رَبِّهِ لِتَحَقُّقِهِ بِصِفَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَقِيَامِهِ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ وَشُهُودِهِ لِآثَارِهِمَا وَأَسْرَارِهِمَا فِي صَلَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِعْرَاجُ الْأَرْوَاحِ وَرُوحُ الْأَشْبَاحِ، وَغَرْسُ تَجَلِّيَاتِ الْأَسْرَارِ الَّتِي يَنْجَلِي بِهَا الْأَحْرَارُ عَنِ الْأَغْيَارِ؛ وَلِذَا زِيدَ فِي تَشْرِيفِهِ بِتَكْرِيرِ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْأَوْصَافِ الَّذِي خَلَقَ لَهُ الْأَوْضَاعَ وَالْأَشْرَافَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَهَذَا هُوَ غَايَةُ كَمَالِ الْإِنْسَانِ، وَنِهَايَةُ جَمَالِ الْإِحْسَانِ؛ وَلِذَا وُصِفَ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِ فِي مَقَامِ الْفَخَامَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْكَرَامَةِ، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] ، {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] ، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] ، وَفِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ لَا مَقَامَ أَشْرَفُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ إِذْ بِهَا يَنْصَرِفُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] : بِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ (قَالَ اللَّهُ) : قِيلَ لَعَلَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ مُبَاهَاةً (أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي) : ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ الثَّنَاءُ

بِجَلَائِلِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَدَقَائِقِ الْعَوَاطِفِ الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِي أَخْرَجَتِ الْخَلْقَ مِنْ ظُلْمَةِ الْعَدَمِ إِلَى نُورِ الْوُجُودِ؛ لِيَتَسَارَعُوا إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَلِيَتَزَوَّدُوا فِي الْمَسِيرِ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَدَرَجَاتِ جَنَّاتِهِ (وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، أَيِ: الْجَزَاءِ (قَالَ: مَجَّدَنِي) ، أَيْ: عَظَّمَنِي (عَبْدِي) : وَالتَّمْجِيدُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْمَجْدِ وَهُوَ الْكَرَمُ أَوِ الْعَظَمَةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: التَّمْجِيدُ الثَّنَاءُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ، وَوَجْهُ مُطَابَقَتِهِ لِقَوْلِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، هُوَ أَنَّهُ تَضَمَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْمُلْكِ فِيهِ كَمَا فِي الدُّنْيَا، وَفِي هَذَا الِاعْتِرَافِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْوِيضِ لِلْأَمْرِ مَا لَا يَخْفَى (وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ، أَيْ: نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، أَيْ: نَخُصُّكَ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا (قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي) : لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِعَانَةَ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] لِلْعَبْدِ (وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) ، أَيْ: بَعْدَ هَذَا (فَإِذَا قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ، أَيْ: ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ طَرِيقِ مُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] : مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فِي الْوُقُوفِ، مِنْ أَنَّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيَةٌ، بِخِلَافِ الْكُوفِيِّينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَسْمَلَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ، أَيِ: الْيَهُودِ {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، أَيِ: النَّصَارَى ( «قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» ) ، أَيْ: غَيْرُ هَذَا أَوِ الْمَعْنَى هَذَا وَنَحْوُ هَذَا، فَانْدَفَعَ مَا قَالَهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَدْعُوَّ إِنْ قَدَّرَ وُقُوعَهُ، فَهُوَ وَاقِعٌ، وَإِنْ فُقِدَ الدُّعَاءُ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَإِنْ وَقَعَ الدُّعَاءُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يُرْشِدُ إِلَى سُرْعَةِ إِجَابَتِهِ قُلْتُ: وَإِلَى الرَّجَاءِ إِلَى إِجَابَةِ سَائِرِ حَاجَتِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: اللَّفْظُ لَهُ وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

824 - «وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 824 - ( «وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » ) : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُسِرُّونَ بِالْبَسْمَلَةِ كَمَا يُسِرُّونَ بِالتَّعَوُّذِ، ثُمَّ يَجْهَرُونَ بِـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ "، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَوَّلَ الشَّافِعِيُّ الْحَدِيثَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ كَانُوا يَبْتَدِئُونَ الصَّلَاةَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَبْلَ السُّورَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] كَمَا يُقَالُ: قَرَأَتُ الْبَقَرَةَ، وَفِي أُخْرَى لَهُ: فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] " لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمَ} [الفاتحة: 1] فِي أَوَّلِ قِرَاءَتِهِ، وَلَا فِي آخِرِهَا، وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ بَيْنَهُ مَا صَحَّ عَنْ أَنَسٍ نَفْسِهِ كَمَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ، وَيَقُولُ: لَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: هُوَ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَصَحُّ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى تَلَوُّنِهِ وَاضْطِرَابِهِ، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ قَالَ: كَبِرْتُ وَنَسِيتُ، وَأَنَّهُ سُئِلَ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] أَوْ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَتَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا أَحْفَظُهُ وَمَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْجَهْرِ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ عَلَى الْإِعْلَامِ تَعْلِيمًا كَمَا فِي سَمَاعِ الْقِرَاءَةِ أَحْيَانًا فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِهِ أَيْضًا: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] » ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْقِرَاءَةِ، بَلِ السَّمَاعَ لِلْإِخْفَاءِ بِدَلِيلِ مَا صُرِّحَ بِهِ عَنْهُ، فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ {بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: أَنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» اهـ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعَارِضٍ لَهُ إِذِ الْمُرَادُ بِالْإِثْبَاتِ إِخْفَاؤُهَا، وَبِالنَّفْيِ جَهْرُهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّنْزِيلِ فِي إِقَامَةِ الْمُعَارَضَةِ كَيْفَ تُعَارِضُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ صِحَّتُهَا حَدِيثَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَهْرِ شَيْءٌ، وَأَمَّا مَا أَجَابَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ رِوَايَتَيْ مُسْلِمٍ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رِوَايَةٌ لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ

بِالْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِمَا ذَكَرَ بِحَسْبِ فَهْمِهِ، وَلَوْ بَلَّغَ الْغَيْرَ بِلَفْظِهِ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ لَأَصَابَ فَهُوَ طَعْنٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَإِنَّهُ لَوِ انْفَتَحَ هَذَا الْبَابُ انْسَدَّ بَابُ الْخِطَابِ، ثُمَّ يُقَالُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ رُوَاةَ الْبُخَارِيِّ نَقَلُوا بِاللَّفْظِ، وَرُوَاةَ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَقَلُوا بِالْمَعْنَى، مَعَ أَنَّ الْإِسْنَادَيْنِ أَقْوَى مِنْ إِسْنَادٍ وَاحِدٍ، وَزِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ إِجْمَاعًا فَتَأَمَّلَ فَإِنَّهُ مَحَلُّ زَلَلٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثٌ أَنَسٍ هُنَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ: مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِلَا تَفَاوُتِ حَرْفٍ، فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ فِي آخِرِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ تَأَمَّلْ اهـ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَلَفْظُهُ عَنْهُ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » ) اهـ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ، بَلْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَفَظُهُ لِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِلَافِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَيِّزِ الِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ اللَّفْظِيَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ اخْتِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ فِي الْجُمْلَةِ.

825 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: " «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ. وَفِي أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ: " «إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 825 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: قَالَ: آمِينَ (فَأَمِّنُوا) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ قُولُوا آمِينَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْخِيرِ كَمَا فِي قَوْلِكَ: إِذَا رَحَلَ الْأَمِيرُ فَارْحَلُوا، يَعْنِي: إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ فَأَمِّنُوا مَعَهُ لِلرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَيِّنٌ عَلَى مَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّهُ يُسِرُّ فِي آمِينَ (فَإِنَّهُ) ، أَيِ: الشَّأْنُ (مَنْ وَافَقَ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ: فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ عُطِفَ عَلَى مُضْمَرٍ وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ تَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ. الْحَدِيثَ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: مَنْ طَابَقَ (تَأْمِينُهُ) ، أَيْ: فِي الْإِخْلَاصِ وَالْخُشُوعِ، وَقِيلَ: فِي الْإِجَابَةِ، وَقِيلَ فِي الْوَقْتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ (تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ) : قِيلَ: الْمُرَادُ الْحَفَظَةُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقِيلَ: غَيْرُهُمْ؛ لِخَبَرِ " مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ " وَنَقَلَ الْعَسْقَلَانِيُّ اخْتِيَارَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ، لَكِنَّهُ قَالَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَنْ يَشْهَدُ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ، وَتَأْمِينُهُمُ اسْتِغْفَارُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ اخْتِلَافٌ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ هُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَلَوْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ حَفَظَةً أَوْ غَيْرَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَأْمِينَهُمْ عَلَى قَوْلِ الْمُصَلِّي: اهْدِنَا إِلَخْ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى اسْتَجِبْ، أَوِ اللَّهُمَّ افْعَلْ (غُفِرَ) : مَجْهُولٌ، وَقِيلَ: مَعْلُومٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: غَفَرَ اللَّهُ (لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) ، أَيْ: مِنَ الصَّغَائِرِ، وَيَحْتَمِلُ الْكَبَائِرَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ زِيَادَةٌ: وَمَا تَأَخَّرَ، وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ لَهَا طُرُقٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ، قَالَ مِيرَكُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ) ، أَيْ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، (قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ» ) : مَدًّا، وَيَجُوزُ قَصْرُهُ، وَفِي شَرْحِ الْأَبْهَرِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ: هِيَ بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَعَنْ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ اهـ، وَهُوَ اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهُ اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ أَوْ مَعْنَاهُ كَذَلِكَ، فَلْيَكُنْ، أَوِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الْأَبْهَرَيُ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ أَمِّنَا بِخَيْرٍ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَأَمَّا آمِّينَ بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ فَهُوَ خَطَأٌ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَاخْتُلِفَ فِي فَسَادِ صَلَاةِ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ فَسَادِهَا لِمَجِيئِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] ، أَيْ: قَاصِدِينَ، أَوْ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَمَّنَا بِخَيْرٍ أَيْ قَصَدَنَا بِخَيْرٍ، حَالَ كَوْنِنَا قَاصِدِينَ طَاعَتَكَ أَوْ رِضَاكَ أَوْ بَابَكَ أَوْ سُؤَالَكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَقُولَ: " {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فَقُولُوا: آمِينَ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، ( «فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ) : بِمَعْنَاهُ. (وَفِي أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا «أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ) : وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: " «وَكَانَ إِذَا قَالَ آمِينَ يَسْمَعُ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ» "، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ: " «فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ» "، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: " {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] " قَالَ: " «رَبِّ اغْفِرْ لِي آمِينَ» "، وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَّنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُؤَمِّنُ سِرًّا.

826 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، يُجِبْكُمُ اللَّهُ، فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ، فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ "، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَتِلْكَ بِتِلْكَ "، قَالَ: وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، يَسْمَعِ اللَّهُ لَكُمْ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 827 - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَتَادَةَ: " «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 826 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا صَلَّيْتُمْ) ، أَيْ: أَرَدْتُمُ الصَّلَاةَ (فَأَقِيمُوا) ، أَيْ: سَوُّوا (صُفُوفَكُمْ) : فَيُسَنُّ تَسْوِيَتُهَا بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا اعْوِجَاجٌ وَلَا فُرَجٌ (ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَسُكَّنُ (أَحَدُكُمْ) : وَالْأَفْضَلُ أَفْضَلُ، فَلَا يُنَافِيهِ رِوَايَةُ: أَكْبَرُكُمْ؛ لِأَنَّهَا لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ، وَتِلْكَ لِبَيَانِ حُصُولِ أَصْلِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ مَحْمُولَةٌ عَلَى اسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي السِّنِّ وَالْفَضِيلَةِ (فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا) : يُرِيدُ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْمَأْمُومِ عَنْ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ، فَمَتَى تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ بِهَا عَلَى الْإِمَامِ أَوْ قَارَنَهُ فِيهَا أَوْشَكَّ فِي ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ (وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى السُّكُوتِ وَالِاسْتِمَاعِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُفِيدَ مِنْهُ نَدْبُ مُقَارَنَةِ تَأْمِينِ الْمَأْمُومِ تَأْمِينَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ يُنْدَبُ لَهُ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْفَاتِحَةِ التَّأْمِينُ، وَالْمَأْمُومُ أُمِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنْ يُؤَمِّنَ عَقِبَ فَرَاغِ الْإِمَامِ أَيْضًا، فَوَقَعَ تَأْمِينُهُمَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، فَتَعِيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ السَّابِقِ: إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، أَيْ: أَرَادَ مُقَارَنَةَ التَّأْمِينِ لِيَجْتَمِعَ الْحَدِيثَانِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ السَّابِقَةِ، حَيْثُ أَنَّ الْأُولَى أَفَادَتِ الْوُجُوبَ، وَالثَّانِيَةَ النَّدْبَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَتَدَبَّرْ (يُجِبْكُمُ اللَّهُ) : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ (فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا، وَارْكَعُوا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا جُعِلَ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْلِيلٌ لِتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مُسَبَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ وَالسَّبَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسَبَّبِ (فَقَالَ) : أَيْ بَعْدَ مَا قَالَ مِنَ التَّعْلِيلِ قَالَ: (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَضْبُوطَةِ بِالتَّصْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ الْقَائِلَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّاوِيَ أَبُو مُوسَى: (فَتِلْكَ بِتِلْكَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّحْظَةَ الَّتِي سَبَقَكُمُ الْإِمَامُ بِهَا فِي تَقَدُّمِهِ إِلَى الرُّكُوعِ تَنْجَبِرُ بِتَأَخُّرِكُمْ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَ رَفْعِهِ لَحْظَةً فَتِلْكَ اللَّحْظَةُ بِتِلْكَ اللَّحْظَةِ، وَصَارَ قَدْرُ رُكُوعِكُمْ كَقَدْرِ رُكُوعِهِ (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِذَا قَالَ) : أَيِ الْإِمَامُ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) : بِالضَّمِّ وَيُسَكَّنُ (فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَزِيدُ الْمَأْمُومُ عَلَى قَوْلِهِ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ؛ وَلِأَنَّهُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ، وَالْمُنْفَرِدُ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» " اهـ، وَفِيهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَوْلِيَّ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الْفِعْلِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَشْرِيعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ بِخِلَافِ فِعْلِهِ، وَأَيْضًا يُحْمَلُ جَمْعُهُ عَلَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَإِفْرَادُهُ عَلَى حَالَةِ الْجَمْعِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ وَيُوَافِقُ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» " وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ لَكَ الْحَمْدُ بِلَا وَاوٍ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْوَاوِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَائِزَانِ وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ اهـ. وَقَالَ مَوْلَانَا أَبُو الْمَكَارِمِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ: جَاءَ فِي التَّحْمِيدِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فِي الْقِنْيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ هُوَ الْأَصَحُّ، وَفِي الْقِنْيَةِ الْأَظْهَرُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَاللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فِي الْمُحِيطِ هُوَ الْأَفْضَلُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَهُوَ الْأَحْسَنُ، وَالْكُلُّ مَنْقُولٌ عَنِ النَّبِيِّ كَذَا فِي الْكَافِي اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي هَدْيِهِ: صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّهُمَّ وَالْوَاوِ فَلَمْ يَصِحَّ اهـ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هُنَا بَعْدَ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَوْ وَلَكَ الْحَمْدُ وَهُوَ الْأَفْضَلُ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ الْقَاضِيَ عِيَاضٌ: عَلَى إِثْبَاتِ الْوَاوِ يَكُونُ قَوْلُهُ: رَبَّنَا مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَا رَبَّنَا فَاسْتَجِبْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا وَلَكَ الْحَمْدُ اهـ. وَتَقَدَّمَ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ (يَسْمَعِ اللَّهُ لَكُمْ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ يَقْبَلْهُ، وَكَانَ مَجْزُومًا لِجَوَابِ الْأَمْرِ فَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ: يَكْتَفِي الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ

827 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) ، أَيْ: لِمُسْلِمٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَلِابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَتَادَةَ) ، أَيْ: وَعَنْ قَتَادَةَ فَيَكُونُ أَثَرًا لَا حَدِيثًا، قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا أَصْلًا، فَإِنَّ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قِيلَ لِمُسْلِمٍ، فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا أَصَحِيحٌ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: فَلِمَ لَمْ تَضَعْهُ هَاهُنَا؟ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْتُهُ هُنَا إِنَّمَا وَضَعْتُ هُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ، قَالَ الْحُفَّاظُ: جُمْلَةُ فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا لَيْسَتْ صَحِيحَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَطْنَبَ الْبَيْهَقِيُّ فِي بُطْلَانِهَا، وَذَكَرَ عِلَلَهَا، وَنَقَلَ بُطْلَانَهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَأَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ وَغَيْرِهِمْ، (وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا) ، أَيِ: اسْكُتُوا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي عِنْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى السُّورَةِ اهـ، وَهُوَ حَمْلٌ بَعِيدٌ مَعَ عَدَمِ بَيَانِ مُرَادِهِ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ السُّورَةَ فَأَنْصِتُوا أَوْ إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا عَنِ السُّورَةِ، وَفِيهِ مِنَ الْمَفَاهِيمِ مَا لَا يَصِحُّ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ فَتَدَبَّرْ وَأَنْصِفْ وَلَا تَتَكَدَّرْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ قَوْلُهُ: وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ زِيَادَةً فِي حَدِيثِ: إِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ فَكَبِّرُوا، وَقَدْ ضَعَّفَهَا أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ صِحَّةِ طَرِيقِهَا وَثِقَةِ رُوَاتِهَا، وَهَذَا هُوَ الشَّاذُّ الْمَقْبُولُ وَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي حَدِيثِ مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ اهـ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ، فَعَلَيْكَ بِهِ إِنْ أَرَدْتَ الْبَسْطَ، وَسَتَجِيءُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ حَدِيثًا مُسْتَقِلًّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

828 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 828 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ) ، يَعْنِي فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُورَةٌ (وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ) ، أَيْ: فَقَطْ، فَلَا تُسَنُّ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الْمَغْرِبِ، وَالنَّسَائِيُّ فِيهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيلَ يُسَنُّ ذَلِكَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أَيْضًا لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَمَالِكٌ فِي الْمَغْرِبِ، وَيُقَاسُ بِهِ الْعِشَاءُ (وَيُسْمِعُنَا) ، مِنَ الْإِسْمَاعِ (الْآيَةَ) ، أَيْ: مِنَ الْفَاتِحَةِ مُطْلَقًا أَوِ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ (أَحْيَانًا) ، يَعْنِي نَادِرًا مِنَ الْأَوْقَاتِ مَعَ كَوْنِ الظُّهْرِ صَلَاةً سِرِّيَّةً قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِبَعْضِ الْكَلِمَاتِ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، بِحَيْثُ يُسْمِعُ حَتَّى يُعْلَمُ مَا يَقْرَأُ مِنَ السُّورَةِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَيَقْرَأُ نَحْوَهَا مِنَ السُّورَةِ فِي نَحْوِهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لِغَلَبَةِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي التَّدَبُّرِ يَحْصُلُ الْجَهْرُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ لِبَيَانِ جَوَازِهِ، أَوْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ يَقْرَأُ أَوْ يَقْرَأُ سُورَةً بِهَذَا لِيَتَأَسَّوْا بِهِ اهـ. وَقَوْلُهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِخْفَاءَ وَاجِبَانِ عَلَى الْإِمَامِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِبَيَانِ الْجَوَازِ أَنَّ سَمَاعَ الْآيَةِ، أَوِ الْآيَتَيْنِ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ السِّرِّ (وَيُطَوِّلُ) : بِالتَّشْدِيدِ (فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ) ، نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، أَيْ: إِطَالَةً لَا يُطِيلُهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ) ، أَوْ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: غَيْرَ إِطَالَتِهِ فِي الثَّانِيَةِ، فَتَكُونُ هِيَ مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحِكْمَتُهُ أَنَّ النَّشَاطَ فِي الْأُولَى أَكْثَرُ، فَيَكُونُ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ فِيهَا كَذَلِكَ، فَطَوَّلَ فِيهَا لِذَلِكَ وَخَفَّفَ فِي غَيْرِهَا حَذَرًا مِنَ الْمَلَلِ، وَأَيْضًا لِيُدْرِكَهَا النَّاسُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ رَاوِي الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَاخْتُلِفَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ هَلْ يُسَنُّ إِطَالَةُ الْأُولَى أَمْ لَا (وَهَكَذَا) ، أَيِ: الْمَذْكُورُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ وَتَطْوِيلِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ (فِي الْعَصْرِ وَهَكَذَا) ، أَيِ الْمَسْطُورُ مِنْ إِطَالَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِطَالَةَ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الثَّنَاءِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ، وَسَيَجِيءُ مَا يَرُدُّهُ (فِي الصُّبْحِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْجَزْرِيِّ: أَنَّ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ هَذَا مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ فَتَأَمَّلْ.

829 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ قِرَاءَةِ: الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ -: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَزَرْنَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 829 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نَحْزُرُ) : بِضَمِّ الزَّايِ بَعْدَهَا رَاءٌ مِنَ الْحَزْرِ، هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْخَرْصُ، أَيْ: نَقِيسُ وَنُخَمِّنُ (قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، أَيْ: مِقْدَارَ طُولِ قِيَامِهِ فِي الصَّلَاتَيْنِ (فَحَزَرْنَا) ، أَيْ: قَدَّرْنَا (قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ قِرَاءَةِ: الم تَنْزِيلُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ عَلَى الْبَدَلِ وَنَصْبُهُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي (السَّجْدَةَ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ يَجُوزُ جَرُّ السَّجْدَةِ عَلَى الْبَدَلِ وَنَصْبُهَا بِأَعْنِي، وَرَفْعُهَا عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى رَفْعِ (تَنْزِيلُ) حِكَايَةً، وَأَمَّا عَلَى إِعْرَابِهِ فَيَتَعَيَّنُ جَرُّ السَّجْدَةِ بِالْإِضَافَةِ، (- وَفِي رِوَايَةٍ - فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) ، أَيْ: فَحَرَزْنَا قِيَامَهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ (قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ) ، أَيْ: مِنَ الظُّهْرِ قَدَرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَمَّ السُّورَةَ بِالْفَاتِحَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أَيْضًا، وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ، لَكِنَّ الْفَتْوَى عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى السُّنَّةِ (وَحَزَرْنَا) ، أَيْ: قِيَامَهُ (فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

830 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 830 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]- وَفِي رِوَايَةٍ - بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ) ، أَيْ: يَقْرَأُ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَ مِنَ السُّورَتَيْنِ (وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ) ، أَيْ: مِنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، قَالَ الْعُلَمَاءُ وَاخْتِلَافُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا كَانَ بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِمْ إِيثَارَ التَّطْوِيلِ طَوَّلَ، وَإِلَّا خَفَّفَ، وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ الْمُؤْمِنُونَ، وَالرُّومَ وَيس، وَالْوَاقِعَةَ، وَق، وَإِذَا زُلْزِلَتْ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَفِي الظُّهْرِ لُقْمَانَ، وَتَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وَالذَّارِيَاتِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، لَكِنْ مَعَ الْجَهْرِ بِبَعْضِهَا لِلتَّعْلِيمِ، وَفِي الْعَصْرِ السَّمَاءَانِ، وَالْأَعْلَى، وَالْغَاشِيَةُ.

831 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ الطُّورِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 831 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ بَاقٍ إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى التَّأَنِّي، وَسُورَةُ الطُّورِ إِذَا قُرِئَتْ عَلَى التَّأَنِّي يَقْرُبُ الْفَرَاغُ مِنْهَا مِنْ غُرُوبِ الشَّفَقِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ غَرِيبٌ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَرَأَ بِبَعْضِهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ قَرَأَ بَعْضَهَا فِي رَكْعَةٍ، وَبَعْضَهَا فِي أُخْرَى، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ قَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ السُّورَةَ بِكَمَالِهَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهَا ثُمُنُ الْجُزْءِ، وَنَحْنُ نَتَدَارَسُ جُزْأَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إِلَى أَذَانِ الْعِشَاءِ، مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَوَّزَ إِطَالَةَ الصَّلَاةِ إِلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ الْأَعْرَافَ فِي الْمَغْرِبِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا الْأَنْفَالَ وَالدُّخَانَ وَالْقِتَالَ وَالْأَعْلَى وَالْكَافِرُونَ وَالتِّينَ وَالْقَارِعَةَ، وَفِي الْعِشَاءِ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَالسَّمَاءَانِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالتِّينُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

832 - «وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] » ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 832 - (وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] ، أَيْ: أَحْيَانًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَإِلَّا فَالْمُسْتَحَبُّ فِيهَا قِرَاءَةُ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

833 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقَتْ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتَيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ، نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ، فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ! أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأْ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] ، {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] ، وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] » ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 833 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ) ، أَيْ: فِي مَسْجِدِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيِ: الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ يُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، كَذَا فِي الشُّمُنِّيِّ شَرْحِ النُّقَايَةِ، (ثُمَّ يَأْتِي) ، أَيْ: مَسْجِدَ الْحَيِّ (فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ) ، قَالَ الْقَاضِي الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فَإِنَّ مَنْ أَدَّى فَرْضًا ثُمَّ أَعَادَ يَقَعُ الْمُعَادُ نَفْلًا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ النِّيَّةَ أَمْرٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِخْبَارِ النَّاوِي، فَجَازَ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ سُنَّةَ الصَّلَاةِ وَيَتَبَارَكَ بِهَا، وَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تُهْمَةَ النِّفَاقِ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْفَرْضَ لِحِيَازَةِ الْفَضِيلَتَيْنِ، مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ أَفَضَلُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْمُتَّفَقُ عَلَى جَوَازِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، قَالَ الْقَاضِيَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدَّى الْفَرِيضَةَ بِجَمَاعَةٍ جَازَ إِعَادَتُهَا، قُلْتُ: ثَبِّتِ الْعَرْشَ ثُمَّ انْقُشْ (فَصَلَّى) ، أَيْ: مُعَاذٌ (لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ) ، أَيْ: بَعْدَ الْفَاتِحَةِ أَوْ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفَاتِحَتِهَا (فَانْحَرَفَ رَجُلٌ) ، أَيْ: مَالَ عَنِ الصَّفِّ فَخَرَجَ مِنْهُ، أَوِ انْحَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ عَنِ الْقِبْلَةِ وَالرَّجُلُ حِزَامُ بْنُ أَبِي كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَوْ أَرَادَ الِانْحِرَافَ (فَسَلَّمَ) ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ قَطَعَ صَلَاتَهُ لَا أَنَّهُ قَصَدَ قَطْعَهَا بِالسَّلَامِ، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السَّلَامِ إِنَّمَا هُوَ آخِرُهَا فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى مَحَلِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَعَلَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ هَذَا مَحَلُّهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ظَنِّهِ وَاجْتِهَادِهِ الَّذِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ، قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَاصُّ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَبَعًا لِمَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مُرِيدَ الْقَطْعِ هَلْ يُسَلِّمُ قَائِمًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، أَوْ يَعُودُ إِلَى الْقَعْدَةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ، فَالتَّسْلِيمُ بِمَا وَرَدَ أَسْلَمُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ) ، أَيِ: اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ فَارَقَ بِالنِّيَّةِ وَانْفَرَدَ وَأَتَمَّ بِلَا اسْتِئْنَافٍ لَجَازَ فِيهِ ذَلِكَ، ذَمَّهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ تَوَهُّمُ جَوَازِ نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ (وَانْحَرَفَ) ، أَيْ: خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ (فَقَالُوا) : أَيْ قَوْمُهُ لَهُ: (أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟) ، أَيْ: أَفَعَلْتَ مَا فَعَلَهُ الْمُنَافِقُ مِنَ الْمَيْلِ وَالِانْحِرَافِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الصَّلَاةِ قَالُوهُ تَشْدِيدًا لَهُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَآتِيَنَّ) : إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَوَازِ، أَيْ: وَاللَّهِ لَا أُنَافِقُ وَلَآتِيَنَّ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَإِمَّا إِنْشَاءُ قَسَمٍ آخَرَ وَالْمُقْسَمُ بِهِ مُقَدَّرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ لَآتِيَنَّ، فَخَطَأٌ نَشَأَ مِنْ عَدَمِ تَصْحِيحِ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَلَآتِيَنَّ بِالْوَاوِ (فَلْأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحُ) : جَمْعُ نَاضِحَةٍ أُنْثَى نَاضِحٍ، وَهِيَ الْإِبِلُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ (نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ) ، أَيْ: نَكُدُّ فِيهِ بِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ لِأَجْلِ أَمْرِ الْمَعَايِشِ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى أَمْرِ الْمَعَادِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَذَلِكَ عَمَلٌ مُشِقٌّ جِدًّا وَلَوْ بَعْضَ النَّهَارِ، فَكَيْفَ وَنَحْنُ نَعْمَلُ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ جَمِيعِهِ، فَغَيْرُ مَقْبُولٍ لِعَدَمِ دَلَالَةٍ فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهِ (وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى) ، أَيْ: قَوْمَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ) : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ مُعَاذٌ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَهَا وَيَرْكَعَ، فَتَوَّهَمَ الْمُقْتَدِي أَنَّهُ أَرَادَ إِتْمَامَهَا فَقَطَعَ صَلَاتَهُ، فَعَاتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِيهَامِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّنْفِيرِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ وَقَعَ لِخَوَاجَهْ كَلَهْ كَوَى، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ وَكَانَ مُتَرَافِقًا مَعَ مَوْلَانَا جَامِي فِي سَفَرِ الْحَجِّ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ إِطَالَةُ الْقِرَاءَةِ خُصُوصًا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَيَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ وَهُمَا فِي بَرِّيَّةٍ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ دَخَلَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَابْتَدَأَ بِسُورَةِ الْفَتْحِ فَاضْطَرَبَ الْمُقْتَدِي اضْطِرَابًا قَوِيًّا، فَلَمَّا قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ رَكَعَ وَعُدَّ

هَذَا مِنْ مُلَاطَفَاتِهِ وَمُطَايَبَاتِهِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: أَنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ، أَيِ: اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ أَيْ مِنْ صَلَاتِي يَعْنِي اخْتَصَرْتُهَا وَخَفَّفْتُهَا، وَقِيلَ: تَرَخَّصْتُ بِتَرْكِ الْمُتَابَعَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الْجَوْزِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِمَامَةِ الْإِمَامِ وَيُتِمَّهَا لِنَفْسِهِ بِالِاسْتِئْنَافِ، فَزُعِمَ: عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: زَعَمَ النَّاسُ أَنِّي مُنَافِقٌ، (فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ) : إِقْبَالَ إِعْرَاضٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَيِ الرَّجُلَ ذَهَبَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَتَبِعَهُ مُعَاذٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ غُدْوَةً وَمُعَاذٌ حَاضِرٌ، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَذَكَرَ لَهُ، وَلَمَّا حَضَرَ مُعَاذٌ أَقْبَلَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ) : خِطَابُ عِتَابٍ (أَفَتَّانٌ) ، أَيْ: أَمُنَفِّرٌ (أَنْتَ؟) : وَمَوْقِعٌ لِلنَّاسِ فِي الْفِتْنَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى كَرَاهَةِ صُنْعِهِ لِأَدَائِهِ إِلَى مُفَارَقَةِ الرَّجُلِ الْجَمَاعَةَ فَافْتَتَنَ بِهِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، الْفِتْنَةُ: صَرْفُ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ وَحَمْلُهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] ، أَيْ: بِمُضِلِّينَ (اقْرَأْ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] ، أَيْ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] ، أَيْ: فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] : وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] : الْوَاوُ فِيهِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا إِشْكَالَ أَوْ بِمَعْنَى اقْرَأْ هَذِهِ السُّورَةَ وَأَمْثَالَهَا مِنْ أَوْسَاطِ أَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى سُنِّيَّةِ تَخْفِيفِ الْإِمَامِ لِلصَّلَاةِ وَأَنْ يَقْتَدِيَ بِأَضْعَفِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ مَعَ كُلٍّ أَنَّ الْأُولَى لِلرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةَ لِلثَّانِيَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَنَا كَوْنُ السُّورَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، وَالْقِرَاءَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ، وَخِلَافُهُ قِيلَ: مَفْضُولٌ، وَقِيلَ: خِلَافُ الْأَوْلَى قَالَ أَئِمَّتُنَا: فَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: قُلْ أُعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ أَوَائِلَ الْبَقَرَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا فِي الْحَدِيثِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَيُنَافِيهِ، قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ، بَلْ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مُطْلَقِ بَيَانِ أَنَّ الْمُتَأَكَّدَ عَلَى الْإِمَامِ لِغَيْرِ مَحْصُورِينَ رَاضِينَ بِالتَّطْوِيلِ أَنْ يُخَفِّفَ فَمَثَّلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتِلْكَ السُّوَرِ وَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنْ عَدَمِ نَدْبِ التَّرْتِيبِ وَالْمُوَالَاةِ غَيْرُ مُرَادٍ، كَمَا عُلِمَ مِنْ فِعْلِهِ الَّذِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ بِقَوْلِهِ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ". فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ قَرَأَ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ الْآيِ أَثِمَ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْتُ: فَرَّقُوا بِأَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ، قِيلَ: ظَنِّيٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنِ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِخِلَافِ تَرْتِيبِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ قَطْعِيٌّ، فَمُيِّزَ الْقَطْعِيُّ بِحُرْمَةِ مُخَالَفَتِهِ بِخِلَافِ الظَّنِّيِّ، وَيُفَرَّقُ أَيْضًا بِأَنَّ عَكْسَ الْآيِ مُخِلٌّ بِالْإِعْجَازِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ عَكْسِ السُّوَرِ اهـ، وَيُفَرَّقُ أَيْضًا بِأَنَّ عَكْسَ الْآيِ مُخِلٌّ بِالْمَعْنَى غَالِبًا، فَلَا يَحِلُّ بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

834 - «وَعَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] ، وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 834 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] ) : وَهِيَ مِنْ قِصَارِ الْأَوْسَاطِ (وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَسَاكِرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ، إِلَّا بَعَثَهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ حَتَّى بَعْثَ اللَّهُ نَبِيَّكُمْ، فَبَعَثَهُ حَسَنَ الْوَجْهِ وَحَسَنَ الصَّوْتِ» "، وَجَاءَ فِي أَحَادِيثَ، أَنَّ صَوْتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَبْلُغُ مَا لَا يَبْلُغُ صَوْتُ غَيْرِهِ، فَفِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ خَطَبَ فَأَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي خُدُورِهِنَّ وَفِي حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ رَوَاحَةَ: كَانَ فِي بَنِي تَمِيمٍ، فَسَمِعَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اجْلِسُوا فَجَلَسَ مَكَانَهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ: إِنَّ أُمَّ هَانِئٍ كَانَتْ تَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ عَلَى عَرِيشِهَا.

835 - «وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَنَحْوِهَا، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 835 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) : ابْنِ أُخْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَنَحْوِهَا) : بِالْجَرِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ (وَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَكَانَتْ (صَلَاتُهُ بَعْدُ) ، أَيْ: بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ (تَخْفِيفًا) : فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ: أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُطَوِّلُ أَوَّلَ الْهِجْرَةِ لِقِلَّةِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَشَقَّ عَلَيْهِمُ التَّطْوِيلُ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ أَعْمَالٍ مِنْ تِجَارَةٍ وَزِرَاعَةٍ رِفْقًا بِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ: كَانَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تُفِيدُ الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: كَانَ حَاتِمٌ يُكْرِمُ الضَّيْفَ، وَقِيلَ: لَا تُفِيدُهُ، وَتَوَسَّطَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فَقَالَ تُفِيدُهُ عُرْفًا لَا وَضْعًا، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: كَانَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَتْ لِلِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] بَلْ لِلْحَالَةِ الْمُتَجَدِّدَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

836 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 836 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) : مُصَغَّرًا مَخْزُومِيٌّ، رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَ مِنْهُ، وَمَسَحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِرَأْسِهِ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] ، أَيْ: أَدْبَرَ، وَقِيلَ: أَيْ أَقْبَلَ ظَلَامُهُ، وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتَفَى بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اكْتَفَى بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فَيُفِيدُ التَّخْفِيفَ فِي الصُّبْحِ اهـ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ إِذْ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ أَنَّهُ قَطُّ اكْتَفَى بِمَا دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ لَهُ فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا؛ إِذْ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: يَعْنِي بِهِ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] بِنَاءً عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ بِتَمَامِهَا وَإِنْ قَصُرَتْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِهَا وَإِنْ طَالَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، فَالْمَعْنَى قَرَأَ سُورَةً، هَذِهِ الْآيَةِ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ كَثِيرُونَ: السُّورَةُ الْكَامِلَةُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ سُورَةٍ وَإِنْ طَالَ، كَمَا أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِشَاةٍ أَفْضَلُ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي بَعِيرٍ، وَإِنْ كَانَ الشِّرْكُ أَكْثَرَ لَحْمًا؛ وَلِأَنَّ السُّورَةَ لَهَا مَقْطَعٌ وَمَفْصِلٌ تَامٌّ عَنْ غَيْرِهَا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، بِخِلَافِ بَعْضِ السُّورَةِ، وَلَا بُعْدَ فِي أَنَّ قِرَاءَةَ الْكَوْثَرِ مَثَلًا أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ بِخُصُوصِهَا مِنْ مُعْظَمِ الْبَقَرَةِ لِكَوْنِ الثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ الْكَامِلَةِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّأَسِّي وَالِاتِّبَاعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَزِيَّةِ مَا يُعَادِلُ الثَّوَابَ الْكَثِيرَ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، كَمَا نَظَرُوا لِذَلِكَ فِي تَفْضِيلِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ عَلَيْهَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُضَاعَفَةِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ بِالْبَيْتِ عَلَيْهَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا لِذَلِكَ أَيْضًا، وَالْغَالِبُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ السُّورَةُ التَّامَّةُ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِرَاءَتُهُ السُّورَةَ إِلَّا كَامِلَةً، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ التَّفْرِيقُ إِلَّا فِي الْمَغْرِبِ قَرَأَ فِيهَا الْأَعْرَافَ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قَرَأَ بِآيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هِيَ أَفْضَلُ مِنْ قَدْرِهَا فَقَطْ، قَالُوا عَمَلًا بِالْقِيَاسِ: إِنَّ كُلَّ حَرْفٍ بِعِشَرَةٍ، وَتَوَسَّعَ بَعْضُهُمْ فَقَالُوا: الْأَطْوَلُ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ الطُّولُ، وَالسُّورَةُ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا سُورَةٌ كَامِلَةٌ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا تَرْجِيحٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ التَّرَاوِيحِ، فَتَجْزِئَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا بِحَيْثُ يُخْتَمُ جَمِيعُهُ فِي الشَّهْرِ أَفْضَلُ مِنَ السُّوَرِ الْقِصَارِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْقِيَامُ فِيهَا بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَأَفْتَى بَعْضُ أَئِمَّتِنَا بِأَنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةً فِي رَكْعَتَيْنِ إِنْ فَرَّقَهَا لِعُذْرٍ كَمُرْضٍ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ السُّورَةِ الْكَامِلَةِ، وَالْكَلَامُ فِي سُورَةٍ طَوِيلَةٍ كَالْأَعْرَافِ بِخِلَافِ سُورَةٍ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعٍ فَتَفْرِيقُهَا خِلَافُ السُّنَّةِ اهـ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: قَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ اهـ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " لَا تَقْرَأْ فِي الصُّبْحِ بِدُونَ عِشْرِينَ آيَةً، وَلَا تَقْرَأْ فِي الْعِشَاءِ بِدُونَ عَشْرِ آيَاتٍ " اهـ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِشْرِينَ وَالْعَشْرِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي أَحَدِ الْأَسْفَارِ: إِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَرْتِيلُ أَرْبَعِينَ آيَةً فِي الْإِعَادَةِ لَوْ وَقَعَ فَسَادٌ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ.

837 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ (الْمُؤْمِنِينَ) ، حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 837 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، أَيْ: فِي فَتْحِهَا كَمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَالصَّحَابَةُ مَحْصُورُونَ وَهُمْ قَطْعًا يَرْضَوْنَ بِتَطْوِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ أَذِنُوا لَهُ فِيهِ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرُوا بِالْمَدِينَةِ خَفَّفَ اهـ، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَهُ: أَوْ أَذِنُوا لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْبُعْدِ. (فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ) : أَرَادَ بِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] (حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِالنَّصْبِ، أَيْ: حَتَّى وَصَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهَارُونَ) ، أَيْ: قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ} [المؤمنون: 45] (- أَوْ ذِكْرُ عِيسَى -) : وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] (أَخَذَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : لَمْ يُضْمِرْ حَذَرًا مِنْ إِيهَامِ مَا وَإِنَّ بَعُدَ (سَعْلَةٌ) : بِالْفَتْحِ وَيَجُوزُ الضَّمُّ قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ: سُعَالٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهُوَ صَوْتٌ يَكُونُ مِنْ وَجَعِ الْحَلْقِ وَالْيُبُوسَةِ فِيهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السَّعْلَةُ فِعْلَةٌ مِنَ السُّعَالِ، وَإِنَّمَا أَخَذَتْهُ مِنَ الْبُكَاءِ يَعْنِي عِنْدَ تَدَبُّرِ تِلْكَ الْقَصَصِ بَكَى حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ السُّعَالُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِتْمَامِ السُّورَةِ (فَرَكَعَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

838 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: الم تَنْزِيلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] » ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 838 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ لِلِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] بَلْ هُوَ لِلْحَالِ الْمُتَجَدِّدَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] (وَيَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ) ، أَيْ: فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ، وَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ ذِكْرُ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَخَلْقُ آدَمَ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهْلِهَا، وَأَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَائِنٌ وَيَقَعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (بِـ الم: الْبَاءُ زَائِدَةٌ (تَنْزِيلُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ (فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] : وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي مُدَاوَمَةَ ذَلِكَ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ تَرْكُ تِينِكَ السُّورَتَيْنِ، أَوِ السُّجُودِ عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ صَارُوا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ، أَقُولُ: بَلْ بَعْضُ الْعَامَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ، فَإِنَّ عِنْدَ نُزُولِ النَّاسِ إِلَى السَّجْدَةِ يَحْسَبُ الْجَاهِلُ أَنَّهُمْ سَبَقُوهُ مِنَ الرُّكُوعِ إِلَى السُّجُودِ، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقُومُ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي زَمَانِنَا بِخُصُوصِهِ لِبَعْضِ الْعَوَامِّ، بَلْ مِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ بَعْضَ الْعَجَمِ رَاحُوا إِلَى بُخَارَى فَقَالَ وَاحِدٌ: رَأَيْتُ مِنَ الْعَجَائِبِ فِي مَكَّةَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، فَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّمَا يُصَلُّونَ بِهَذَا صُبْحَ الْجُمُعَةِ لَا مُطْلَقًا، وَسَبَبُ هَذَا كُلُّهُ مُدَاوَمَةُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا، وَتَرَكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْعَمَلَ مُطْلَقًا، فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ أَيْضًا كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلَعَلَّ مُلَاحَظَتَهُمْ أَنَّ فِي مُحَافَظَةِ الْعَوَامِّ فِي تَرْكِهِ أَظْهَرَ مَنْ فِعْلِهِ؛ وَلِذَا جُوَّزُوا تَرْكَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ قَالَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُدِيمُ قِرَاءَةَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَتَصْوِيبُ أَبِي حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ لَا يُنَافِي الِاحْتِجَاجَ بِهِ، فَإِنَّ الْمُرْسَلَ يُعْمَلُ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عَلَى أَنَّ لَهُ شَاهِدًا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فِي الْكَبِيرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ " كُلَّ جُمُعَةٍ " نَعَمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ بِغَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَبَرُ " أَنَّهُ قَرَأَ فِيهَا بِسَجْدَةٍ غَيْرِ الم تَنْزِيلُ " فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ هُوَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَصَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَسَجَدَ بِهِمْ فِيهَا، وَزُعِمَ: احْتِمَالُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ " الم تَنْزِيلُ " وَلَمْ يَسْجُدْ بَاطِلٌ، فَقَدْ صَحَّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَجَدَ فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ فِي " الم تَنْزِيلُ ".

839 - وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، «فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ، فَقَرَأَ سُورَةَ (الْجُمُعَةِ) ، فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى، وَفِي الْآخِرَةِ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 839 - (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) : تَابِعِيٌّ، سَمِعَ عَلِيًّا وَأَبَاهُ وَأَبَا هُرَيْرَةَ، كَذَا فِي التَّهْذِيبِ (ابْنِ أَبِي رَافِعٍ) : الْمَدَنِيِّ، مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ كَاتِبَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ، ذَكَرَهُ فِي التَّقْرِيبِ (قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ) ، أَيْ: جَعَلَهُ خَلِيفَتَهُ وَنَائِبَهُ (عَلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ) ، أَيْ: مَرْوَانُ (إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ) ، أَيْ: صَلَاتَهَا (فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي السَّجْدَةِ) ، أَيِ: الرَّكْعَةِ (الْأُولَى، وَفِي الْآخِرَةِ: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) ، أَيْ: سُورَتَهَا أَوْ إِلَى آخِرِهَا (فَقَالَ) ، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ) ، أَيْ: بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ (يَقْرَأُ بِهِمَا) ، أَيْ: تَيْنَكَ السُّورَتَيْنِ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) ، أَيْ: فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَرْبَعَةُ.

840 - «وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ: بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] ، قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاتَيْنِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 840 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ النُّونِ (ابْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] قَالَ) ، أَيِ: النُّعْمَانُ (وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَرَأَ بِهِمَا) ، أَيْ: بِالسُّورَتَيْنِ (فِي الصَّلَاتَيْنِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

841 - وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا: بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 841 - (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) ، أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيِّ، الْمَدَنِيِّ، الْإِمَامِ التَّابِعِيِّ، أَحَدِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، سَمِعَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، كَذَا فِي التَّهْذِيبِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ) : لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ وَلَا اسْمُ أَبِيهِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي التَّقْرِيبِ أَبُو وَاقِدٍ صَحَابِيٌّ، قِيلَ: اسْمُهُ حَارِثُ بْنُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: ابْنُ عَوْنٍ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَوْنُ بْنُ الْحَارِثِ (مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟) ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا؟ ، فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا: بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ، فَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ بِلَا شَكٍّ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ قَالَ: سَأَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ اهـ، وَلَعَلَّ سُؤَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّمَكُّنِ فِي ذِهْنِ الْحَاضِرِينَ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنَ الْمُلَازِمِينَ لَهُ وَالْعَالِمِينَ بِأَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

842 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 842 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) ، أَيْ: سُنَّةَ الصُّبْحِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، أَيْ: كُلَّ سُورَةٍ فِي رَكْعَةٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

843 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] ، وَالَّتِي فِي (آلِ عِمْرَانَ) : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 843 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتِيِ الْفَجْرِ) ، أَيْ: سُنَّتِهِ فَفِي الْأُولَى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] : تَمَامُهُ {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] (وَالَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ) : فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] : بَقِيَّتُهُ: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] فَفِي قِرَاءَتِهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ ضَمُّ السُّورَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا إِلَى الْفَاتِحَةِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 844 - (23) «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ. الْفَصْلُ الثَّانِي 844 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] : أَيْ سِرًّا لِئَلَّا يُنَافِيَ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ مَا كَانَ يُبَسْمِلُ، بَلْ كَانَ يَفْتَتِحُ بِـ " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] "، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: افْتِتَاحُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْبَسْمَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِجَوَازِ افْتِتَاحِهِ بِهَا اسْتِحْبَابًا، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: أَنَّهُ افْتَتَحَ مَخَافَةَ خِلَافِ الظَّاهِرِ، قُلْتُ: وَإِنَّمَا ارْتَكَبَ خِلَافَ الظَّاهِرِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ) : أَيْ، بِذَاكَ الْقَوِيِّ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَاكَ مَا فِي ذِهْنِ مَنْ يَعْتَنِي بِعِلْمِ الْحَدِيثِ، وَيَعْتَدُّ بِالْإِسْنَادِ الْقَوِيِّ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَهْمٌ لِمَا تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو عِيسَى بِإِخْرَاجِهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ هُوَ حَدِيثٌ لَا جَرَمَ أَنَّ الْحَاكِمَ رَوَاهُ وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَيْسَ فِي إِسْنَادِهِ مَجْرُوحٌ قَالَهُ فِي التَّخْرِيجِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُؤَثِّرُ تَضْعِيفُ التِّرْمِذِيِّ لِلْحَدِيثِ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ عَمَلًا وَظَنًّا لَا قَطْعًا لِصِحَّةِ أَحَادِيثَ أُخَرَ فِيهَا، مِنْهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَهَا ثُمَّ الْفَاتِحَةَ وَعَدَّهَا آيَةً مِنْهَا، صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِذَا قَرَأْتُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَاقْرَءُوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فَإِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِحْدَى آيَاتِهَا» "، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَنَازَعَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِمَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهَا مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] فَقِيلَ: أَيْنَ السَّابِعَةُ؟ فَقَالَ: الْبَسْمَلَةُ، قَالَ: وَمَذْهَبُنَا أَيْضًا أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْفَاتِحَةِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعِشْرُونَ صَحَابِيًّا بِطُرُقٍ ثَابِتَةٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. قُلْتُ: يُعَارِضُهُ «حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا جَهَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ» ، وَقَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْجَهْرَ مَنْسُوخٌ، وَسَيَأْتِي «حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، أَيْ بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالْحَدَثَ فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ الْجَهْرُ بِدْعَةٌ.

845 - «وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فَقَالَ: آمِينَ، مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 845 - (وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) : بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ الْمَضْمُومَةِ عَلَى الْجِيمِ السَّاكِنَةِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، قَالَ: آمِينَ يَمُدُّ بِهَا) ، أَيْ: بِالْكَلِمَةِ يَعْنِي فِي آخِرِهَا، وَهُوَ مَدٌّ عَارِضٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ الطُّولُ وَالتَّوَسُّطُ وَالْقَصْرُ، أَوْ مَدٌّ بِأَلْفِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَصْرُهَا وَمَدُّهَا، وَهُوَ مَدُّ الْبَدَلِ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا (صَوْتَهُ) : وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سَمَاعِ صَوْتِهِ الْجَهْرُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالْجَوَازِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ وَقَالَ: خَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى غَلَطِهِ فِيهَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ الْمَعْرُوفَ مَدَّ وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ. قَالَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ مَا فِيهِ، (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: رِوَايَةُ مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَرِوَايَةُ رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ اهـ، وَكَأَنَّهُ نُقِلَ بِالْمَعْنَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: «أَمَّنَ حَتَّى سَمِعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَيَرْتَجَّ بِهَا الْمَسْجِدُ» ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ مِائَتَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِآمِينَ اهـ. وَحَمَلَ أَئِمَّتُنَا مَا وَرَدَ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ لِلتَّعْلِيمِ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَمَلَ بِالْإِخْفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا: «حَسَدَنَا الْيَهُودُ عَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هُدِينَا إِلَيْهَا وَضَلُّوا عَنْهَا وَعَلَى الْجَمَاعَةِ، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ: «إِنَّهُمْ لَمْ يَحْسُدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَفْضَلَ مِنْ ثَلَاثٍ: رَدُّ السَّلَامِ وَإِقَامَةُ الصُّفُوفِ، وَقَوْلُهُمْ خَلْفَ إِمَامِهِمْ فِي الْمَكْتُوبَةِ آمِينَ» ، وَفِي أُخْرَى لِابْنِ عَدِيٍّ: «حَسَدُوكُمْ عَلَى إِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِقَامَةِ الصَّفِّ، وَآمَيَنَ» . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو يُعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، «عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، قَالَ: " آمِينَ " وَأَخْفَى بِهَا صَوْتَهُ» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، فَقَدْ خَالَفَ سُفْيَانُ شُعْبَةَ فِي الرَّفْعِ، وَلَمَّا اخْتُلِفَ فِي الْحَدِيثِ عَدَلَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إِلَى مَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُخْفِي، فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِخْفَاءُ، قُلْتُ: مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ الْإِخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] شَكَّ أَنَّ آمِينَ دُعَاءٌ، فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُرَجَّحُ الْإِخْفَاءُ بِذَلِكَ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ؛ وَلِأَنَّ آمِينَ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ إِجْمَاعًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى صَوْتِ الْقُرْآنِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِتَابَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ؛ وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى إِخْفَاءِ التَّعَوُّذِ لِكَوْنِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْخِلَافُ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْ لَا.

846 - «وَعَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتِ يَوْمٍ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ "، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ؟ قَالَ: " بِآمِينَ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 846 - (وَعَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا (فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ) ، أَيْ: سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ لَيْلَةٍ (فَأَتَيْنَا) ، أَيْ: مَرَرْنَا (عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ) ، أَيْ: بَالَغَ فِي السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ مِنَ اللَّهِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوْجَبَ) ، أَيِ: الْجَنَّةَ لِنَفْسِهِ، يُقَالُ: أَوْجَبَ الرَّجُلُ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُ بِهِ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ أَوِ الْمَغْفِرَةُ لِذَنْبِهِ، أَوِ الْإِجَابَةُ لِدُعَائِهِ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْعَقَائِدِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، فَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ الْفَضْلِ وَالْوَعْدِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى بِهِ، وَإِنْ جَازَ لَهُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَإِثَابَةُ الْعَاصِي (إِنْ خَتَمَ) ، أَيِ: الْمَسْأَلَةَ (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ؟ قَالَ: " بِآمِينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: آمِينَ بَعْدَ دُعَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَدْعُو وَالْقَوْمُ يُؤَمِّنُونَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْمِينِ الْإِمَامِ اكْتِفَاءً بِتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ إِذِ الْقِيَاسُ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْ يُؤَمِّنَ الْإِمَامُ أَيْضًا، وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ كُلٌّ بَيْنِ الدُّعَاءِ وَالتَّأْمِينِ، قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ لَهُ مُنَاسَبَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ، قُلْتُ: الْمُنَاسِبَةُ هِيَ التَّبَعِيَّةُ فِيهِ، أَوِ الدُّعَاءُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَائِمِ.

847 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِسُورَةِ (الْأَعْرَافِ) ، فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 847 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَزَلْ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَعَالِمَ دِينِهِمْ بَيَانًا يُعْرَفُ بِهِ الْأَتَمُّ الْأَكْمَلُ وَالْأَوْلَى، وَيَفْصِلُ تَارَةً بِقَوْلِهِ، وَتَارَةً بِفِعْلِهِ مَا يَجُوزُ عَمَّا لَا يَجُوزُ، وَلَمَّا كَانَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ أَضْيَقَ الصَّلَوَاتِ وَقْتًا اخْتَارَ فِيهَا التَّجَوُّزَ وَالتَّخْفِيفَ، ثُمَّ رَأَى أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي النُّدْرَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ لِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ أَدَاءَ تِلْكَ الصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الْفَضْلُ فِي التَّجَوُّزِ فِيهَا، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَتَّسِعُ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْأَعْرَافَ عَلَى التَّأَنِّي يَدْخُلُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَلِيلًا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِيُدْرِكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ قَرَأَ بَاقِيهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَلَا بَأْسَ بِوُقُوعِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّورَةِ بَعْضُهَا اهـ. قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يُلَائِمُ قَوْلَ الرَّاوِي (فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فِي الرَّكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ بَعِيدٌ يَعْنِي لِتَطْوِيلِ الْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ دَعَتْهُ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ، قُلْتُ: لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الضَّرُورَةِ، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَضِيقُ كَمَا قَالَ بِهِ قَوْمٌ مَعَ عَدَمِ مُلَائَمَةِ حُمِلَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مَرْجُوحٌ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِتَمَامِهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي الْوَقْتِ عَلَى طَرِيقِ طَيِّ اللِّسَانِ وَالْمُعْجِزَةِ. قُلْتُ: قِرَاءَةُ تَمَامِهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا فِي رَكْعَةٍ، وَبَعْضُهَا فِي أُخْرَى لَيْسَ خَارِقَةً لِلْعَادَةِ إِذِ الْوَقْتُ يَسَعُ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنَّهَا بِكَمَالِهَا جُزْءٌ وَرُبْعٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَنَحْنُ نَتَدَارَسُ جُزْأَيْنِ فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَقْتُ الْمُضَيَّقُ، وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الصُّبْحُ فَقَرَأَ فِيهَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا وَهِيَ جُزْءَانِ وَقَرِيبُ نِصْفِ جُزْءٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ بِنَاءً عَلَى ضِيقِ وَقْتِهَا وَهُوَ وَاضِحٌ، وَكَذَا عَلَى امْتِدَادِهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُكْثِرُ التَّدَبُّرَ فِي قِرَاءَتِهِ، وَقِرَاءَةُ الْأَعْرَافِ كَذَلِكَ تَسْتَغْرِقُ وَقْتَ الْمَغْرِبِ غَالِبًا، أَوْضَحُ دَلِيلٍ لِمَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ أَوَّلَ وَقْتِهَا مَثَلًا أَنْ يَمُدَّهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَكَذَا غَيْرُهَا قِيَاسًا عَلَيْهَا بِجَامِعِ أَنَّهُ مَا دَامَ فِي الصَّلَاةِ هُوَ فِي عِبَادَةٍ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْتُ، وَإِنْ لَمْ يُوقِعْ فِيهَا رَكْعَةً مِنْهَا فَهِيَ قَضَاءٌ لَا إِثْمَ فِيهِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا فَعَلَهُ فِي الصُّبْحِ فَقِيلَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَطْلُعَ، فَقَالَ: إِنَّهَا إِنْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ اهـ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَالَغَ فِي الْإِسْفَارِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَصِحَّتِهَا، وَالْقِيَاسُ السَّابِقُ إِنَّمَا هُوَ الْفَارِقُ، فَإِنَّ خُرُوجَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مُسْتَلْزَمٌ لِدُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَقْتٌ لِلصَّلَاتَيْنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ وَقْتِ الصُّبْحِ، نَعَمِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحِ خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِمَا قَرَّرْتُهُ فِي الْحَدِيثِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ، وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَدَّ لِبَيَانِ جَوَازِ الْمَدِّ، وَلِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْمَدِّ وُقُوعُ رَكْعَةٍ فِي الْوَقْتِ، أَقُولُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْوُقُوعِ، وَلَا عَلَى اللَّاوُقُوعِ، وَكَانَ الْبَيْهَقِيُّ أَخَذَ التَّقْيِيدَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ، وَهُوَ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ فَقَدْ أَدْرَكَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ» ، غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ عُلَمَاءَنَا فَرَّقُوا بَيْنَ الصُّبْحِ وَالْعَمَلِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : قَالَ: مِيرَكُ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

848 - «وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَتَهُ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ لِي: " يَا عُقْبَةُ أَلَا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا؟ "، فَعَلَّمَنِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ، قَالَ: فَلَمْ يَرَنِي سَرَرْتُ بِهِمَا جَدًّا، فَلَمَّا نَزَلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى بِهِمَا صَلَاةَ الصُّبْحِ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ، الْتَفَتَ إِلَيَّ، فَقَالَ: " يَا عُقْبَةَ! كَيْفَ رَأَيْتَ؟» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 848 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَتَهُ) ، أَيْ: أَجُرُّهَا مِنْ قُدَّامِهَا لِصُعُوبَةِ تِلْكَ الطَّرِيقِ، أَوْ صُعُوبَةِ رَأْسِهَا، أَوْ شَدَّةِ الظَّلَامِ، (فِي السَّفَرِ فَقَالَ لِي: " يَا عُقْبَةُ أَلَا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا؟) ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا أَوْ فِي بَابِ التَّعَوُّذِ مَعَ سُهُولَةِ حِفْظِهِمَا فِي التَّعَوُّذِ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ خَاصَّةً

فِي السَّفَرِ، وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ خَيْرٌ، (فَعَلَّمَنِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ إِذَا تَقَصَّيْتَ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ إِلَى آخِرِهِ سُورَتَيْنِ سُورَتَيْنِ مَا وَجَدْتَ فِي بَابِ الِاسْتِعَاذَةِ خَيْرًا مِنْهُمَا (قَالَ) ، أَيْ: عُقْبَةُ (فَلَمْ يَرَنِي) : أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سُرِرْتُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ جُعِلْتُ مَسْرُورًا وَفَرِحًا (بِهِمَا جِدًّا) ، أَيْ: سُرُورًا كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ مَا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَنَّهُ اعْتَنَى بِهِمَا وَصَلَّى بِهِمَا فِي صَلَاةٍ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَصْلًا فِي مَعْنَى جِدًّا لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا (فَلَمَّا نَزَلَ) : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِصَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى بِهِمَا صَلَاةَ الصُّبْحِ لِلنَّاسِ) : بِحُكْمِ عَجَلَةِ السَّفَرِ أَوْ مُقْتَضَى الْمَقَامِ مِنَ الْحَذَرِ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا كَانُوا يَقُولُونَ: نَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي، هَذَا مِمَّا خَطَرَ بِبَالِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَلَمَّا فَرَغَ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: " يَا عُقْبَةُ كَيْفَ رَأَيْتَ؟) ، أَيْ: عَلِمْتَ وَوَجَدْتَ عِدَّةَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ حَيْثُ أُقِيمَتَا مَقَامَ الطَّوِيلَتَيْنِ، يَعْنِي لَوْ لَمْ تَكُونَا عَظِيمَتَيِ الْقَدْرِ لَمَا قَرَأْتُهُمَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ تَسُدَّا مَسَدَّ الطِّوَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُقْبَةَ مَا سُرُّ ابْتِدَاءً لَمَّا لَمْ يَكْشِفْ لَهُ خَيْرِيَّتَهُمَا، وَمَا زَالَ مِنْهُ مَا كَانَ هُوَ فِيهِ مِنَ الْفَزَعِ، وَلَمَّا صَلَّى بِهِمَا كُشِفَ لَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ، وَأُزِيلَ ذَلِكَ الْخَوْفُ، فَمَعْنَى كَيْفَ رَأَيْتَ، كَيْفَ وَجَدْتَ مِصْدَاقَ قَوْلِي خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا فِي بَابِ التَّعَوُّذِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قُرِئَتَا صِفَةً مُمَيِّزَةً، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْخَيْرِيَّةِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عُقْبَةُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرِهِ، وَقَدْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَرَآهُ مُفْتَقِرًا إِلَى تَعَلُّمِ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْوَيْلَ، وَشَرَّ مَا أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، فَعَيَّنَ السُّورَتَيْنِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ وَجَازَةِ اللَّفْظِ وَالِاشْتِمَالِ عَلَى الْمَعْنَى الْجَامِعِ، وَلَمْ يَفْهَمْ عُقْبَةُ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّخْصِيصِ، فَظَنَّ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى مِقْدَارِ السُّورَةِ وَقِصَرِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَلَمْ يَرَنِي سُرِرْتُ بِهِمَا جَدًّا، وَإِنَّمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا لِيُعَرِّفَهُ أَنَّ قِرَاءَتَهُمَا فِي الْحَالِ الْمُتَّصِفِ عَلَيْهَا أَمْثَلُ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِمَا، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمَا يَسُدَّانِ مَسَدَّ الطَّوِيلَتَيْنِ اهـ. وَفِي جَوَاهِرِ الْفِقْهِ: يَكْفُرُ مَنْ أَنْكَرَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَ مُؤَوِّلٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَفَرَ مُطْلَقًا أَوَّلَ أَوْ لَمْ يُؤَوِّلْ، وَفِي بَعْضِ الْفَتَاوَى فِي إِنْكَارِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَفَرَ، كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِكَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْقُرْآنِ ظَنِّيَّةً لَمْ يَكْفُرْ إِجْمَاعًا جَاحِدُهَا وَلَا مُثْبِتُهَا، إِذِ التَّكْفِيرُ لَا يَكُونُ بِالظَّنِيَّاتِ، بَلْ وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَطْعِ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ، كَمَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ بِإِنْكَارِ قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَمَا جَاءَ عَنْهُ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: إِنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ رُدَّ بِأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ، لَكِنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ أَصْلَ الْقُرْآنِيَّةِ، بَلْ إِثْبَاتُهُمَا بِالْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ أَمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِثْبَاتِهِ فِيهِ، وَذَلِكَ يَجْرِي فِيمَا صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ إِسْقَاطِ الْفَاتِحَةِ مِنْ مُصْحَفِهِ. قُلْتُ: يُحْمَلُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ عَلَى إِنْكَارِ أَصْلِ الْقُرْآنِيَّةِ، فَيَكُونُ مَقْبُولًا لَا مَرْدُودًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ، مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُقْبَةَ، وَالْقَاسِمُ هَذَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَهُ مِيرَكُ.

849 - «وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » ، رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". 850 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ " لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 849 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ) ، أَيْ: فِي فَرْضِهِ وَيَحْتَمِلُ سُنَّتَهُ (لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] : عَلَى التَّوْزِيعِ (رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوِيُّ: (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَتَمَامُهُ: " «وَفِي الْعِشَاءِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقُونَ» يَعْنِي لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، قَالَ مِيرَكُ، نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِي إِسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ سِمَاكٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْمَحْفُوظُ أَنَّهُ قَرَأَ بِهِمَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ.

850 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَظَاهِرُ إِسْنَادِهِ الصِّحَّةُ إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَخْطَأَ بَعْضُ رُوَاتِهِ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: (إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ " لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ لَيْسَ عَلَى الدَّوَامِ، بَلْ يَقْرَأُ فِي كُلِّ وَقْتٍ شَيْئًا لِيُعْلِمَ النَّاسَ جَوَازَ مَا يَقْرَأُ.

851 - «وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 852 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: " بَعْدَ الْمَغْرِبِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 851 - (وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا أُحْصِي) : " مَا " نَافِيَةٌ، أَيْ: مَا أُطِيقُ أَنْ أَعُدَّ (مَا سَمِعْتُ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: سَمَاعِي (رَسُولَ اللَّهِ يَقْرَأُ) : أَيْ لَا أَقْدِرُ أَنْ أَعُدَّ الْمَرَّاتِ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهُمَا فِيهَا، أَوْ مُدَّةَ سَمِعْتُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنَ الْعَائِدِ إِلَى " مَا " وَكَانَ الْأَصْلُ مَا سَمِعْتُ قِرَاءَتَهُ فَأُزِيلَ الْمَفْعُولُ بِهِ عَنْ مَقَرِّهِ وَجُعِلَ حَالًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي} [آل عمران: 193] ، أَيْ: نِدَاءَ الْمُنَادِي اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ مُنَادِيًا مَفْعُولٌ لِسَمِعْنَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي نَادَى هَلْ هُوَ صِفَةٌ لِمُنَادِيًا، أَوْ حَالٌ مِنْهُ عَلَى مَا فِي إِعْرَابِ أَبِي الْبَقَاءِ، وَقِيلَ: سَمِعْتُ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] إِلَخْ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إِلَخْ: فِي الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَاصِمٍ اهـ، وَعَاصِمٌ هَذَا قَالَ الذَّهَبِيُّ: ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. 852 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا أَنَّهُ) : أَيِ ابْنَ مَاجَهْ أَوْ أَبَا هُرَيْرَةَ (لَمْ يَذْكُرْ: " بَعْدَ الْمَغْرِبِ) ، أَيْ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ.

853 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ سَلْمَانُ: " صَلَّيْتُ خَلْفَهُ فَكَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُخِفِّفُ الْعَصْرَ وَيَقْرَأُ الْمَغْرِبَ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 853 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ) ، أَيْ: بِصَلَاتِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فُلَانٍ) : قِيلَ: هُوَ عَلِيٌّ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْعٍ، وَقِيلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا اعْتِمَادَ عَلَيْهَا، قِيلَ: لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ أَوْ ثَمَانٍ، وَقِيلَ: تَسْعٍ، وَأَمَّا أَنَسٌ فَرَوَى نَحْوَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الرُّكُوعِ مَعَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَنَصَّ أَنَّ فُلَانًا هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ أَنَسًا تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: كَانَ رَجُلًا أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُخْتَارُ الطِّيبِيِّ (قَالَ سُلَيْمَانُ: صَلَّيْتُ خَلْفَهُ) ، أَيْ: خَلْفَ ذَلِكَ الْفُلَانِ فَكَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَيُخَفِّفُ

الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ) ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظُّهْرِ (وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ) : وَيَلْحَقُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ بِالْعِشَاءِ فِي مَذْهَبِنَا (وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِضَمِّ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا فَسَهْوٌ مِنْهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: طَالَ امْتَدَّ فَهُوَ طَوِيلٌ وَطُوَالٌ كَغُرَابٍ (ج) ، طِوَالٌ وَطِيَالٌ بِكَسْرِهِمَا، قَالَ الْمُظْهِرُ: السَّبْعُ الْمُفَصَّلُ أَوَّلُهُ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ سُمِّيَ مُفَصَّلًا؛ لِأَنَّ سُوَرَهَا قِصَارٌ، كُلُّ سُورَةٍ كَفَصْلٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَقِيلَ طِوَالُهُ إِلَى سُورَةِ عَمَّ، وَأَوْسَاطُهُ إِلَى وَالضُّحَى، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ قِيلَ: سُورَةُ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ سُورَةُ الْفَتْحِ، وَقِيلَ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ اهـ. وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: أَمَّا الطِّوَالُ فَمِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ إِلَى الْبُرُوجِ، وَأَمَّا الْأَوْسَاطُ فَمِنَ الْبُرُوجِ إِلَى سُورَةِ (لَمْ يَكُنْ) : وَأَمَّا الْقِصَارُ فَمِنْ سُورَةِ (لَمْ يَكُنْ) : إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا لَفْظُهُ، (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ) .

854 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَرَأَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: " «لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلِلنِّسَائِيِّ مَعْنَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، قَالَ: " «وَأَنَا أَقُولُ: مَا لِي يُنَازِعُنِي الْقُرْآنُ فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا جَهَرْتُ إِلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 854 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كُنَّا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ، فَثَقُلَتْ) ، أَيْ: عَسُرَتْ (عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " «لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ» "، قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: سُؤَالٌ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ يُقَرِّرُ فِعْلَهُمْ؛ وَلِذَلِكَ أَجَابُوا بِنِعَمْ، كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَسُرَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ وَلَمْ يَدْرِ السَّبَبَ فَيَسْأَلُ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا لِي يُنَازِعُنِي الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا قَالَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ، وَحَقُّ الظَّاهِرِ خَلْفِي لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ تِلْكَ الْفِعْلَةَ غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ لِمَنْ يَقْتَدِي بِالْإِمَامِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مُحْتَمَلٌ أَنَّ سَبَبَ الثِّقَلِ النَّقْصُ النَّاشِئُ عَنْ عَدَمِ اكْتِفَائِهِمْ بِقِرَاءَتِهِ، وَالْكَامِلُ رُبَّمَا يَتَأَثَّرُ بِنَقْصِ مَنْ وَرَاءَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ افْتَتَحَ مَرَّةً فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِسُورَةِ الرُّومِ فَغَلِطَ فِيهَا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْمٍ وَرَاءَهُ لَا يُحْسِنُونَ الطَّهُورَ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: عَسُرَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَى النَّبِيِّ لِكَثْرَةِ أَصْوَاتِ الْمَأْمُومِينَ بِالْقِرَاءَةِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ الْمَأْمُومُ سِرًّا بِحَيْثُ يَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ، فَأَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي السِّرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ اسْتِمَاعَهُ فِي الْجَهْرِيَّةِ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ يَكْفِيهِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَقْرَأُ فِي السِّرِّيَّةِ وَلَا الْجَهْرِيَّةِ، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ فِي الْقِرَاءَةِ فِي السِّرِّيَّةِ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْحَدِيثَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَيْضًا، (قَالَ: " لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) : النَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ فَيُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ وَقْتَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ لِلْوَسْوَسَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مِنَ الْجَهْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، قَالَ مِيرَكُ: أَقُولُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِيَ أَظْهَرُ، بَلِ الصَّوَابُ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْجَهْرَ لَمْ يَسْتَقِمِ اسْتِثْنَاءُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قُلْتُ: يُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الْآتِيَةُ وَيَنْصُرُهُ سُؤَالُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ جَهْرًا لَمَا قَالَ: " «لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ» "، لَكِنْ لَا يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالسِّرِّ فِي الْقِرَاءَةِ لِلْمَأْمُومِ، مَعَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي الْمَقَامِ لِئَلَّا يَتَشَوَّشَ الْإِمَامُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخَذَ مِنْهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ لَا سُورَةَ لِلْمَأْمُومِ فِي الْجَهْرِيَّةِ، بَلْ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ إِمَامِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهَا إِسْمَاعُ الْمَأْمُومِينَ لِيَتَدَبَّرُوا وَيَتَّعِظُوا، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ لَمْ يَسْمَعِ الْمَأْمُومُ قِرَاءَةَ إِمَامِهِ أَوَسَمِعَ صَوْتًا لَا يَفْهَمُهُ سُنَّتِ السُّورَةُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لَهُ؛ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ حِينَئِذٍ، بِمَنْزِلَةِ السِّرِّيَّةِ، (فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ، قُلْنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، قُلْتُ: تَمَامُهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَارِيخٍ بَعْدَ مَنْعٍ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بِخُصُوصِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ: هَذَا اللَّفْظُ (وَالنَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ) : قَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْمُلَقِّنِ: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ فَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ لَا يُطْعَنُ فِيهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: إِسْنَادُهُ مُسْتَقِيمٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: صَحِيحٌ اهـ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمْ، غَيْرُ صَحِيحٍ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ.

(وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مَوْضِعَ لَا تَفْعَلُوا (وَأَنَا أَقُولُ) : أَيْ فِي نَفْسِي (مَا لِي يُنَازِعُنِي) ، أَيْ: يُعَالِجُنِي وَلَا يَتَيَسَّرُ (الْقُرْآنُ) : بِالرَّفْعِ، أَيْ: لَا يَتَأَتَّى لِي، فَكَأَنِّي أُجَاذِبُهُ فَيُعْصَى وَيُثْقَلُ عَلَيَّ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَبِالنَّصْبِ، أَيْ: يُنَازِعُنِي مَنْ وَرَائِي فِيهِ بِقِرَاءَتِهِمْ عَلَى التَّغَالُبِ يَعْنِي: تُشَوِّشُ قِرَاءَتُهُمْ عَلَى قِرَاءَتِي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةِ يُنَازِعُنِّي بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى حَذْفِ الْوَاوِ وَنَصْبِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ فِي صِحَّتِهَا نَظَرٌ إِذْ لَا يَجُوزُ التَّأْكِيدُ إِلَّا فِي الِاسْتِقْبَالِ بِشَرْطِ الطَّلَبِ، (فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ) ، أَيْ: سِرًّا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجْهَرْ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ أَيْضًا سِرًّا، وَالسِّرُّ أَنَّ فِي الْجَهْرِيَّةِ اسْتِمَاعُ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ بِخِلَافِ السِّرِّيَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ سُكُوتًا مُجَرَّدًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ» "، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

855 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: " هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " إِنِّي أَقُولُ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟» قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 855 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ) ، أَيْ: فَرَغَ (مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: " هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟) : بِالْمَدِّ، وَيَجُوزُ قَصْرُهُ يَعْنِي الْآنَ، وَأَرَادَ بِهِ قَرِيبًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُؤَالَهُ عَنِ الْقِرَاءَةِ سِرًّا، وَإِلَّا فَالْجَهْرُ لَا يَخْفَى (فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " إِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ) ، بِفَتْحِ الزَّايِ وَنَصْبِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ: فِيهِ كَذَا، فِي الْأَزْهَارِ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ لِابْنِ الْمَلَكِ قِيلَ: عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: أُدَاخَلُ فِي الْقِرَاءَةِ وَأُشَارَكُ فِيهَا وَأُغَالَبُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ جَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ أَوِ اشْتَغَلُوا عَنْ سَمَاعِ قِرَاءَتِهِ الْأَفْضَلِ بِقِرَاءَتِهِمْ سِرًّا فَشَغَلُوهُ، فَكَأَنَّهُمْ نَازَعُوهُ، وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ سِرًّا قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مَا عَدَا الْفَاتِحَةَ سِرًّا، فَيُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ (قَالَ) ، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنْ نَقْلَ مِيرَكُ عَنِ ابْنِ الْمُلَقِّنِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَانْتَهَى النَّاسُ إِلَخْ، هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ لَا مَرْفُوعًا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالذَّهَبِيُّ، وَابْنُ فَارِسٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمُ اهـ. وَقَوْلُهُ: (فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ) ، أَيْ: تَرَكُوهَا (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ شَامِلٌ لِلْجَهْرِ وَالسِّرِّ وَالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ النَّاسِخُ لِمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ (فِيمَا جَهَرَ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ) : وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ بِالْقِرَاءَةِ فِيمَا كَانَ يُخْفِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ، وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا (حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَمَنْ قَالَ بِقِرَاءَتِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِيَّةِ حُمِلَ عَلَى تَرْكِ رَفْعِ الصَّوْتِ خَلْفَهُ اهـ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ) ، (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى التِّرْمِذِيِّ تَحْسِينَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ضِعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ ابْنَ أَكْيَمَةَ مَجْهُولٌ، وَعَلَى أَنَّ جُمْلَةَ " فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ " لَيْسَتْ مِنَ الْحَدِيثِ، بَلْ هِيَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ مُدْرَجَةً فِيهِ) ، هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحُفَّاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أُكَيْمَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً أَظُنُّ أَنَّهَا الصُّبْحُ بِمَعْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ: " وَمَا لِي أُنَازَعُ فِيهَا؟ " قَالَ مَعْمَرٌ: فَانْتَهَى النَّاسُ إِلَخْ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَانْتَهَى النَّاسُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَالرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ الظَّاهِرَةُ مِنَ الْمِشْكَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ: نَحْوَهُ) ، أَيْ: مَعْنَاهُ، قَالَ مِيرَكُ، نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْمُلَقِّنِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ اهـ، وَكَذَا يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ النَّوَوِيِّ اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَخَبَرُ " مَنْ صَلَّى خَلَفَ إِمَامٍ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ " ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَكَذَا خَبَرُ النَّهْيِ عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ كَمَا بَيَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُمَا عَلَى الْمَسْبُوقِ، أَوْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ.

856 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْبَيَاضِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلْيَنْظُرْ مَا يُنَاجِيهِ بِهِ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 856 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْبَيَاضِيِّ) : الْوَاوُ عَاطِفَةٌ، وَالْبَيَاضِيُّ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْغَنَّامِ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَنْسَابِ: إِنَّهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِوَاحِدَةٍ، وَالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، وَفِي آخِرِهَا الضَّادُ الْمُعْجَمَةُ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْهَا بَيَاضَةُ الْأَنْصَارِ وَهُوَ بَطْنٌ مِنْهُمْ اهـ، وَفِي التَّقْرِيبِ أَبُو حَاتِمٍ الْأَنْصَارِيُّ مَوْلَاهُمْ صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثٌ، وَقِيلَ: لَا صُحْبَةَ لَهُ.، (قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ) ، أَيْ: يُحَادِثُهُ وَيُكَالِمُهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ قُرْبِهِ الْمَعْنَوِيِّ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ (فَلْيَنْظُرْ مَا يُنَاجِيهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مَا يُنَاجِي بِهِ، " مَا " اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، أَيْ: مَا يُنَاجِي الرَّبَّ تَعَالَى مِنَ الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَالْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْمَرْءِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، فَلْيَتَفَكَّرْ فِي مَعَانِيهِ، أَوْ فَلْيَتَأَمَّلْ مَا يُنَاجِيهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي يُنَاجِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الرَّبِّ، وَفِي بِهِ إِلَى " مَا " وَمَا مَفْعُولٌ فَلْيَنْظُرْ بِمَعْنَى فَلْيَتَأَمَّلْ فِي حَوَابِ مَا يُنَاجِيهِ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَمُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ اللِّسَانَ وَالْإِقْبَالِ إِلَى اللَّهِ بِشَرَاشِرِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا لَمْ يُنَازِعْهُ صَاحِبُهُ بِالْقِرَاءَةِ، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ( «وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» ) : وَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُدِّيَ بِعَلَى لِإِرَادَةِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ، أَيْ: لَا يَغْلِبُ وَلَا يُشَوِّشُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ جَاهِرًا بِالْقِرَاءَةِ اهـ، وَالْبَعْضُ أَعَمُّ مِنْ مُصَلٍّ أَوْ نَائِمٍ أَوْ قَارِئٍ، وَقَوْلُهُ: بِالْقُرْآنِ أَيْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي، وَالْإِيذَاءُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنِ الْمُصَلِّينَ، فَضْلًا عَنِ الْمُقْرِئِينَ، فَعُلِمَ إِيضَاحُ وَجْهِ ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ الْجَهْرُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ إِمَامِهِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَلِلنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

857 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 857 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» ) ، أَيْ: لِيُقْتَدَى بِهِ ( «فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا» ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: عَقِبَهُ لَا مَعَهُ وَلَا قَبْلَهُ وُجُوبًا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْعِقَادُ لِلتَّابِعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَابِعٌ قَبْلَ مَتْبُوعِهِ، وَنَدْبًا فِي بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِيهَا مَا يُخِلُّ بِنُظُمِ التَّبَعِيَّةِ مِنْ أَصْلِهَا (وَإِذَا قَرَأَ) : ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ؛ وَلِذَا قَالَ (فَأَنْصِتُوا) ، أَيِ: اسْكُتُوا وَلَمْ يَقُلْ فَاسْتَمِعُوا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] ، أَيْ: حَالَ الْجَهْرِ وَأَنْصِتُوا حَالَ السِّرِّ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَدِلَّةِ أَئِمَّتِنَا، وَحَمَلُوا الْقِرَاءَةَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ اهـ، وَيُحْتَمَلُ التَّقْيِيدُ بِالْجَهْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَعَلَى كُلٍّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ ظَاهِرًا، وَلَعَلَّهُ مُعَلَّلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ إِذَا قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَوِ السُّورَةَ وَسَمِعْتُمْ قِرَاءَتَهُ، فَاسْكُتُوا عَنْ قِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَكُمْ مَعَهُ تُفَوِّتُ سَمَاعَهُ الْمَقْصُودَ مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَيَجِبُ قِرَاءَتُهَا، وَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ إِمَامِهِ لَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ ) .

858 - «وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي، قَالَ: " قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا لِلَّهِ؟ فَمَاذَا لِي؟ قَالَ: " قُلْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي، وَعَافِنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي " فَقَالَ هَكَذَا بِيَدَيْهِ وَقَبَضَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَانْتَهَتْ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: " إِلَّا بِاللَّهِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 858 - (وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ) ، أَيْ: وِرْدًا أَوْ أَتَعَلَّمَ وَأَحْفَظَ (مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي) ، أَيْ: عَنْ وِرْدِ الْقُرْآنِ، أَوْ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ: ( «قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ) : فَإِنَّهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَخُلَاصَةُ الْأَذْكَارِ الطَّيِّبَاتِ، وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْكَلِمَاتِ الْوَارِدَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ الْجَامِعَاتِ لِلصَّفَاتِ التَّنْزِيهِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِنُعُوتِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَلِمَاتِ ذِكْرٌ لِلَّهِ مُخْتَصٌّ لَهُ أَذْكُرُهُ بِهِ (فَمَاذَا لِي) : أَيْ: عَلِّمْنِي شَيْئًا يَكُونُ لِي فِيهِ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ وَأَذْكُرُهُ لِي عِنْدَ رَبِّي، قَالَ: (قُلْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي) ، أَيْ: بِتَرْكِ الْمَعَاصِي أَبَدًا أَوْ بِغُفْرَانِهَا (وَعَافِنِي) : مِنْ آفَاتِ الدَّارَيْنِ (وَاهْدِنِي) ، أَيْ: ثَبِّتْنِي عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دُلَّنِي عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَحْكَامِ (وَارْزُقْنِي) ، أَيْ: رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا كَافِيًا مُغْنِيًا عَنِ الْأَنَامِ، أَوِ التَّوْفِيقَ وَالْقَبُولَ وَحُسْنَ الِاخْتِتَامِ (فَقَالَ) ، أَيْ: فَعَلَ الرَّجُلُ (هَكَذَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَشَارَ إِشَارَةً مِثْلَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْمَحْسُوسَةِ (بِيَدَيْهِ) : تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ (وَقَبَضَهُمَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَبَضَهُمَا فَقِيلَ، أَيْ: عِنْدَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِأَنَامِلِهِ وَقَبَضَ كُلَّ أُنْمُلَةٍ بِعَدَدِ كُلِّ كَلِمَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ بَيَّنَ الرَّاوِي الْمُرَادَ بِالْإِشَارَةِ بِهِمَا فَقَالَ: وَقَبَضَهُمَا أَيْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يَحْفَظُ مَا أَمَرَهُ بِهِ كَمَا يَحْفَظُ الشَّيْءَ النَّفِيسَ بِقَبْضِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُشِيرَ هُوَ الْمَأْمُورُ، أَيْ: حَفِظْتُ مَا قُلْتَ لِي وَقَبَضْتُ عَلَيْهِ، فَلَا أُضَيِّعُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الرَّاوِي، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا هَذَا) : أَيِ: الرَّجُلُ (فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كِنَايَةٌ عَنْ أَخْذِهِ مَجَامِعَ الْخَيْرِ بِامْتِثَالِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُشِيرُ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمْلًا لَهُ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالْحِفْظِ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الِامْتِثَالَ فَبَشَّرَهُ وَمَدَحَهُ بِأَنَّهُ ظَفَرَ بِمَا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ غَيْرُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْفَظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَاتَّخِذَهُ وِرْدًا لِي فَعَلِّمْنِي مَا أَجْعَلُهُ وِرْدًا لِي فَأَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، فَلَمَّا عَلَّمَهُ مَا فِيهِ تَعْظِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى طَلَبَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالرِّزْقِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَطْلُوبَهُ مَا يَجْعَلُهُ وِرْدًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ أَبَدًا قَبْضُهُ بِيَدَيْهِ، أَيْ: إِنِّي لَا أُفَارِقُهُ مَا دُمْتُ حَيًّا وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا مَحَالَةَ، بَلْ تَأْوِيلُهُ إِنِّي لَا أَسْتَطِعُ أَنْ أَتَعَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ " إِلَخْ، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ وَلَمْ يَعْلَمِ الْفَاتِحَةَ، وَعَلِمَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ عَدَدَ آيَاتٍ وَحُرُوفٍ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْهُ يَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ عَجْزَ الْعَرَبِيِّ الْمُتَكَلِّمِ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ تَعَلُّمِ مَا تَصِحُّ بِهِ صَلَاتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالتَّسْبِيحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ اهـ. وَنَقْلَ مِيرَكُ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، بَلْ قَوْلُهُ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مَعَ إِيرَادِ الْمُحَدِّثِينَ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَّا لَكَانَ إِيرَادُهُ فِي بَابِ التَّسْبِيحِ أَلْيَقَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْجَلَافَةِ وَالْبَلَادَةِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ السَّائِلَ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ بِلَا شُبْهَةٍ، فَالِاسْتِبْعَادُ فِي مَحَلِّهِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّلَاةِ إِذْ لَوْ كَانَ فِيهَا لَبَيَّنَهُ الرَّاوِي، وَلَنَقَلَهُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ زَعَمَ أَحَدٌ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، قُلْتُ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْفَرِيضَةِ اهـ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا يُقَالُ لِمَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ لِلتِّرْمِذِيِّ

فِي كِتَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ، وَإِلَّا فَاحْمَدِ اللَّهَ وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ ثُمَّ ارْكَعْ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بِنَاؤُهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالتَّيْسِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَابْنُ السَّكَنِ وَصَحَّحَهُ نَقَلَهُ مِيرَكُ، عَنِ ابْنِ الْمُلَقِّنِ، وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ قَوْلِهِ (وَانْتَهَتْ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: " إِلَّا بِاللَّهِ ": قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، لَكِنَّهُ اعْتَرَضَهُ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ وَبَيَّنَ ضَعْفَهُ، وَيُجْمَعُ بِحَمْلِ التَّصْحِيحِ فِيهِ عَلَى التَّحْسِينِ لِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي حَسَّنَهُ فِيمَا مَرَّ.

859 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 859 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إِذَا قَرَأَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» . وَقَالَ الْمُظْهِرُ: عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي غَيْرِهَا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ يَجُوزُ فِي النَّوَافِلِ اهـ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، «عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ: إِنَّهُ رُوِيَ مَرْفُوعًا أَيْضًا نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَمَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ تَقْدِيمِ أَبِي دَاوُدَ عَلَى أَحْمَدَ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ.

860 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] ، فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] ، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ (وَالْمُرْسَلَاتِ) ، فَبَلَغَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185] فَلْيَقُلْ: " آمَنَّا بِاللَّهِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: «وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 860 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِـ " التِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ، أَيْ: بِهَذِهِ السُّورَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا (فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] ، أَيْ: أَقْضَى الْقَاضِينَ يَحْكُمُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَهْلِ التَّكْذِيبِ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، (فَلْيَقُلْ: بَلَى) ، أَيْ: نَعَمْ (وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ) ، أَيْ: كَوْنِكَ أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ (مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، أَيِ: أَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ مَنْ لَهُ مُشَافَهَةٌ فِي الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنَا شَاهِدٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا فِي: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] وَفِي: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] أَبْلَغُ مِنْ: وَكَانَتْ قَانِتَةً، وَمِنْ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ صَالِحٌ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي عِدَادِ الْكَمَالِ وَسَاهَمَ مَعَهُمُ بِالْفَضَائِلِ لَيْسَ كَمَنِ انْفَرَدَ عَنْهُمْ اهـ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، (وَمَنْ قَرَأَ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ} [القيامة: 40] ، أَيِ: الَّذِي جَعَلَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ تُمْنَى فِي الرَّحِمِ {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33] ، فَلْيَقُلْ: " بَلَى) : وَفِي رِوَايَةٍ: بَلَى، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَكَأَنَّهُ حُذِفَ لِفَهْمِهِ مِنَ الْأَوَّلِ فَبَعِيدٌ (وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسِلَاتِ، فَبَلَغَ لِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) ، أَيْ: بَعْدَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ آيَةٌ مُبْصِرَةٌ وَمُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ، فَحِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَبِأَيِّ كِتَابٍ بَعْدَهُ (يُؤْمِنُونَ، فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ) : أَيْ بِهِ، وَبِكَلَامِهِ، وَلِعُمُومِ هَذَا لَمْ يَقُلْ آمَنَّا بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ قُلْ أُخَالِفُ أَعْدَاءَ اللَّهِ الْمُعَانِدِينَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيِ: الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَجْهُولًا، لَكِنْ مَا هُنَا مِنَ الْفَضَائِلِ، (وَالتِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (إِلَى قَوْلِهِ: " وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ.

861 - «وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ سُورَةَ (الرَّحْمَنِ) ، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَسَكَتُوا، فَقَالَ: " لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] ، قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 861 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِسُورَةِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا: تَأْكِيدٌ (فَسَكَتُوا) ، أَيْ: مُسْتَمِعِينَ (قَالَ: " لَقَدْ قَرَأَتُهَا عَلَى الْجِنِّ، لَيْلَةَ الْجِنِّ) ، أَيْ: لَيْلَةَ اجْتِمَاعِهِمْ بِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَكَانُوا) ، أَيِ: الْجِنُّ (أَحْسَنَ مَرْدُودًا) ، أَيْ: جَوَابًا وَرَدًّا لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ الْمُتَكَرِّرُ فِيهَا بِـ " أَيِّ " (مِنْكُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَرْدُودُ بِمَعْنَى الرَّدِّ كَالْمَخْلُوقِ وَالْمَعْقُولِ نَزَّلَ سُكُوتَهُمْ وَإِنْصَاتَهُمْ لِلِاسْتِمَاعِ مَنْزِلَةَ حُسْنِ الرَّدِّ، فَجَاءَ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَيُوَضِّحُهُ كَلَامُ ابْنِ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: نَزَّلَ سُكُوتَهُمْ مِنْ حَيْثُ اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّ فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَنْ هُوَ مُكَذِّبٌ بِآلَاءِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْجِنِّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنَّ نَفْيَهُمُ التَّكْذِيبَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِاللَّفْظِ أَيْضًا أَدَلُّ عَلَى الْإِجَابَةِ وَقَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ سُكُوتِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ. (كُنْتُ) ، أَيْ: تِلْكَ اللَّيْلَةَ (كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ) ، أَيْ: عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْخِطَابُ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، أَيْ: أَيِّ نِعْمَةٍ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ تُكَذِّبُونَ وَتَجْحَدُونَ نِعَمَهُ بِتَرْكِ شُكْرِهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَعِصْيَانِ أَمْرِهِ (قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِـ " نُكَذِّبُ " الْآتِي (مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا) : بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ النِّدَاءِ (نُكَذِّبُ) : أَيْ لَا نُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا (فَلَكَ الْحَمْدُ) ، أَيْ: عَلَى نِعَمِكَ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، الْمُخَلِّصَتَيْنِ مِنَ النِّيرَانِ، الْمُوجِبَتَيْنِ لِدَرَجَاتِ الْجِنَانِ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ أَنَّهَا عَرُوسُ الْقُرْآنِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنَّهُ صَحِيحٌ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ، قِيلَ: وَمِنَ الْغَرِيبِ إِيرَادُهُ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ لِعَدَمِ ظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ، قُلْتُ: لَعَلَّ الْأُولَيَيْنِ لِاحْتِمَالِهِمَا دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، وَذَكَرَ الْأَخِيرَ تَبَعًا لَهُمَا وَاطِّرَادًا فِي حُكْمِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 862 - «عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا» ، فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ 862 - (عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ) : تَابِعِيٌّ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَخْبَرَهُ) : الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ رَاجِعٌ إِلَى الرَّجُلِ، وَالْبَارِزُ إِلَى مُعَاذٍ، لَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ (أَنَّهُ) ، أَيِ: الرَّجُلُ (سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا) : تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ التَّبْعِيضِ، فَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ قَرَأَ فِي كُلٍّ مِنْ رَكْعَتَيْهَا {إِذَا زُلْزِلَتْ} [الزلزلة: 1] بِكَمَالِهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي كُلٍّ مِنْ رَكْعَتَيْهَا (فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ) : أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأُولَى إِذَا زُلْزِلَتْ (أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا) : وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ إِذَا ضَمَّ السُّورَةَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ إِلَى الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ فِي مَذْهَبِنَا وَسُنَّةٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَفْضَلُ عَدَمُ تَكْرَارِ سُورَةٍ، سِيَّمَا فِي الْفَرَائِضِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ فَعَلَ عَمْدًا لِيُبَيِّنَ بِهِ حُصُولَ أَصْلِ السُّنَّةِ بِتَكْرِيرِ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اهـ. وَالْحَمْلُ عَلَى الْكَمَالِ أَوْلَى، سِيَّمَا فِي وَقْتِ الصُّبْحِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ مَعَ قِصَرِ السُّورَةِ الْمُتَعَلِّقِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مَعْنًى، وَأَيْضًا يَأْبَى عَنِ التَّبْعِيضِ قَوْلُهُ: (أَنَسِيَ) فَإِنَّهُ يَبْعُدُ جِدًّا حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ نَسِيَ الْحُكْمَ أَوْ نَسِيَ بَعْضَ السُّورَةِ، هَذَا وَقَدْ وَقَعَ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ قَرَأَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فِي رَكْعَةٍ وَأَعَادَهُ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ: لَعَلَّكُمْ قَرَأْتُمْ مَرَّةً لَكُمْ وَمَرَّةً لَنَا، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

863 - وَعَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صَلَّى الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهِمَا بِـ (سُورَةِ الْبَقَرَةِ) ، فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 863 - (وَعَنْ عُرْوَةَ) ، أَيِ: ابْنِ الزُّبَيْرِ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: إِنْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صَلَّى الصُّبْحَ فَقَرَأَ فِيهِمَا) : أَيْ فِي رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا أَيْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ (بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا) : يَعْنِي: عَلَى تَوْزِيعِ السُّورَةِ وَتَبْعِيضِهَا فِيهِمَا لَا أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَسَعُ لِذَلِكَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِهِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ نَظِيرُ قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَعْرَافَ فِي رَكْعَتَيِ الْمَغْرِبِ كَمَا مَرَّ، وَذَلِكَ لِبَيَانِ جَوَازِ تَفْرِيقِ السُّورَةِ، وَأَنَّهُ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِي نَادِرٍ مِنْ أَحْوَالِهِ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةٍ كَامِلَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

864 - وَعَنِ الْفَرَافِصَةِ بْنِ عَصْرٍ الْحَنَفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ مَا أَخَذْتُ سُورَةَ (يُوسُفَ) إِلَّا مِنْ قِرَاءَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ إِيَّاهَا فِي الصُّبْحِ، مِنْ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُرَدِّدُهَا، رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 864 - (وَعَنِ الْفَرَافِصَةِ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ الْأُولَى وَتُضَمُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ تَابِعِيِّ الْمَدِينَةِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى، وَالْفَاءُ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هُوَ فِي غَيْرِ الْفَرَافِصَةِ: بْنِ الْأَحْوَصِ، وَأَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَلَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الضَّمَّ اهـ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفُرَافِصُ: بِالضَّمِّ الْأَسَدُ الشَّدِيدُ الْغَلِيظُ كَالْفَرَافِصَةِ وَبِالْفَتْحِ رَجُلٌ (ابْنُ عُمَيْرٍ الْحَنَفِيُّ) : نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ بَنِي حَنِيفَةَ (قَالَ: مَا أَخَذْتُ) ، أَيْ: مَا تَعَلَّمْتُ (سُورَةَ يُوسُفَ إِلَّا مِنْ قِرَاءَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) : لَا يَنْصَرِفُ وَقَدْ يَنْصَرِفُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِيَّاهَا) ، أَيْ: تِلْكَ السُّورَةَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا (فِي الصُّبْحِ) ، أَيْ: فِي صَلَاتِهِ (مِنْ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُرَدِّدُهَا) ، أَيْ: يُكَرِّرُهَا فِي صَلَوَاتِ الصُّبْحِ وَ " مِنْ " تَعْلِيلٌ لَأَخَذْتُ، قِيلَ: مُدَاوَمَةُ قِرَاءَةِ سُورَةِ يُوسُفَ مُوَرِّثَةٌ لِسَعَادَةِ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ مُجَرَّبَةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا يُنَافِي قَوْلَ سُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَاضِلٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، إِذَا هُوَ كَلَامُهُ تَعَالَى فِيهِ وَمَفْضُولٍ كَـ (تَبَّتْ) إِذْ هُوَ كَلَامُهُ فِي عَدُوِّهِ، وَلَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاضِلِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْهُ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نِسْيَانِهِ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: كَرِهُوا الْمُدَاوَمَةَ عَلَى سُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ هَجْرِ بَاقِي الْقُرْآنِ اهـ. قُلْتُ: لَا يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِدَلِيلِ عِلَّتِهِمُ الْمُدَاوَمَةُ الِاسْتِغْرَاقِيَّةُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَمَا وَقَعَ عَنْ عُثْمَانَ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ، بَلْ كَثْرَةُ تِلْكَ فِي خُصُوصِ الصُّبْحِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

865 - وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: صَلَّيْنَا وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا بِسُورَةِ (يُوسُفَ) ، وَسُورَةِ (الْحَجِّ) ، قِرَاءَةً بَطِيئَةً، قِيلَ لَهُ: إِذًا لَقَدْ كَانَ يَقُومُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، قَالَ: أَجَلْ رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 865 - (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) : يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْعَنَزِيَّ هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَدِيمًا (قَالَ: صَلَّيْنَا وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا) ، أَيْ: فِي رَكْعَتَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا، أَيْ: فِي صَلَاتِهِ (بِسُورَةِ يُوسُفَ) ، أَيْ: كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا فِي رَكْعَةٍ (وَسُورَةِ الْحَجِّ) : كَذَلِكَ فِي أُخْرَى (قِرَاءَةً بَطِيئَةً) : بِالْهَمْزِ وَيُشَدَّدُ، أَيْ: قِرَاءَةً مُجَوَّدَةً مُرَتَّلَةً مُبَيَّنَةً (قِيلَ لَهُ) ، أَيْ: لِعَامِرٍ (إِذًا لَقَدْ كَانَ يَقُومُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ) : بِضَمِّ اللَّامِ، أَيْ: أَوَّلَ مَا يَظْهَرُ الصُّبْحُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ يَعْنِي: قَالَ رَجُلٌ لِعَامِرٍ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ إِذًا، وَاللَّهِ لَقَامَ فِي الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ حِينَ الْغَلَسِ: (قَالَ: أَجَلْ) ، أَيْ: نَعَمْ، قُلْتُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى الْمُخْتَارِ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى مُوَاظَبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

866 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: مَا مِنَ الْمُفَصَّلِ سُورَةٌ صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ إِلَّا قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّ بِهَا النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ» ، رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 866 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ) ، أَيْ: جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُحْتَمَلُ هُنَا عَوْدُ الضَّمِيرِ لِجَدِّ شُعَيْبٍ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ عَنْ عَمْرٍو؛ لِأَنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ الْأَوَّلُ (مَا مِنَ الْمُفَصَّلِ سُورَةٌ صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ إِلَّا قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّ بِهَا النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ) ، أَيِ: الْمَفْرُوضَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ وَهِيَ الْخَمْسُ، ثُمَّ هُوَ إِمَّا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ وَالْبَيَانِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمُفَصَّلُ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ: وَأُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كُنُوزِ الْعَرْشِ، وَخُصِّصْتُ بِهِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُعْطِيتُ الْمَثَانِي مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَالْمَئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَالْخَوَاتِيمَ مَكَانَ الزَّبُورِ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَثَانِي الْفَاتِحَةُ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: «أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي» ، أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِي السَّبْعُ الطِّوَالُ أَوَّلُهَا الْبَقَرَةُ وَآخِرُهَا الْأَنْفَالُ مَعَ التَّوْبَةِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ سُورَةَ يُونُسَ بَدَلَ الْأَنْفَالِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : كَانَ مُقْتَضَى دَأْبِهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ وَيَقُولَ: رَوَاهَا مَالِكٌ.

867 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِـ حم الدُّخَانِ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 867 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) : الْهُذَلِيِّ ابْنِ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، مَدَنِيُّ الْأَصْلِ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِالْكُوفَةِ، سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَغَيْرَهُ، كَذَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُؤَلِّفِ، (قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِـ حم الدُّخَانِ) ، أَيْ: كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَفِي أَصْلِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ ضُبِطَ بِكَسْرِ مِيمِ حَمِ وَجَرِّ الدُّخَانِ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ تَحْرِيكُهُ بِالْكَسْرِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، أَوْ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ؛ لِأَنَّ الْفُتْحَةَ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ، وَفِي أُخْرَى بِنَصْبِ الدُّخَانِ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مُرْسَلًا) : لِأَنَّ الرَّاوِيَ تَابِعِيٌّ وَحُذِفَ الصَّحَابِيُّ.

[باب الركوع]

[بَابُ الرُّكُوعِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 868 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (13) بَابُ الرُّكُوعِ. هُوَ رَكْنٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ لُغَةً الِانْحِنَاءُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْخُضُوعُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ خَصَائِصِنَا لِقَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] إِنَّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ لَا رُكُوعَ فِيهَا، وَالرَّاكِعُونَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] صَلِّي مَعَ الْمُصَلِّينَ، وَقِيلَ: حِكْمَةُ تَكْرِيرِ السُّجُودِ دُونَهُ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِلسُّجُودِ الَّذِي هُوَ الْخُضُوعُ الْأَعْظَمُ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُبَاشَرَةِ أَشْرَفِ مَا فِي الْإِنْسَانِ لِمَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ وَالنِّعَالِ، فَنَاسَبَ تَكْرِيرَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَكَفِّلُ بِالْمَقْصُودِ، حَيْثُ وَرَدَ، أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كُرِّرَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ وَإِلَيْهَا يَعُودُ وَمِنْهَا يَخْرُجُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى: مِنْهَا خَلَقْتَنِي، وَفِي الثَّانِيَةِ: وَفِيهَا تُعِيدُنِي، وَفِي الرَّفْعِ الثَّانِي: وَمِنْهَا تُخْرِجُنِي تَارَةً أُخْرَى، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ وَسَجَدُوا رَأَوْا بَعْدَ السُّجُودِ أَنَّ اللَّعِينَ لَمْ يَسْجُدْ فَسَجَدُوا سَجْدَةً ثَانِيَةً شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى تَوْفِيقِ سَجْدَتِهِمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 868 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " «أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أَتَمُّوهُمَا، مِنْ أَقَامَ الْعُودَ إِذَا قَوَّمَهُ " «فَوَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي» ) ، أَيْ: أَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ خَلْفَ ظَهْرِي مِنْ نُقْصَانِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهِيَ مِنَ الْخَوَارِقِ الَّتِي أُعْطِيهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْكُشُوفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ الْمُنْجَلِيَةِ لِعُلُومِ الْغُيُوبِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى الْإِقَامَةِ وَمَنْعٌ عَنِ التَّقْصِيرِ، فَإِنَّ تَقْصِيرَهُمْ إِذَا لَمْ يَخْفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا عَلِمَهُ بِاطِّلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَكَشْفِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْإِبْصَارَ إِدْرَاكٌ حَقِيقِيٌّ بِحَاسَّةِ الْعَيْنِ خَاصٌّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ، فَكَانَ يَرَى بِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُقَابِلَةٍ وَقُرْبٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُ عَيْنٌ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَقِيلَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَيْنَانِ مِثْلُ سَمِّ الْخِيَاطِ لَا يَحْجِبُهُمَا شَيْءٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

869 - «وَعَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ - مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ - قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 869 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) ، أَيْ: وَجُلُوسُهُ بَيْنَهُمَا (وَإِذَا رَفَعَ) ، أَيْ: وَقِيَامُهُ حِينَ رَفْعَ رَأْسَهُ؛ لِأَنَّ (إِذَا) ، إِذَا انْسَلَخَتْ عَنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ تَكُونُ لِلْوَقْتِ الْمُجَرَّدِ (مِنَ الرُّكُوعِ: مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ) : بِنَصْبِهِمَا لَا غَيْرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (مَا خَلَا الْقِيَامَ) ، أَيْ: لِلْقِرَاءَةِ، (وَالْقُعُودِ) أَيْ: لِلتَّشَهُّدِ (قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ) ، أَيْ: كَانَ قَرِيبًا مِنَ التَّسَاوِي وَالتَّمَاثُلِ لَا طَوِيلًا وَلَا قَصِيرًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: (وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) ، (وَإِذَا رَفَعَ) مَعْطُوفَانِ عَلَى اسْمِ كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ، أَيْ: زَمَانُ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَوَقْتُ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ سَوَاءً (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، قَالَ مِيرَكُ، فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ.

870 - «وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ، ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 870 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ: ( «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ) : تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى (قَامَ حَتَّى نَقُولَ) : بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: نَصَبَ (نَقُولَ) بِحَتَّى، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُعْمِلُ حَتَّى إِذَا حَسُنَ فَعَلَ مَوْضِعَ يَفْعَلُ كَمَا يُحْسِنُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، حَتَّى قُلْنَا قَدْ أَوْهَمَ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَلَى مَا عَلِمْنَا عَلَى النَّصْبِ، وَكَانَ تَرْكُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَتَمَّ وَأَبْلَغَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُضَارِعَ إِذَا كَانَ حِكَايَةً عَنِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ لَا يَحْسُنُ فِيهِ الْإِعْمَالُ وَإِلَّا فَيَحْسُنُ، وَهُنَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَامَ، وَفِيهِ بَحْثٌ إِذْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] بِالنَّصْبِ عَلَى قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ بِالرَّفْعِ مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى وَقَعَ الزِّلْزَالُ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ قَالَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] وَمَعْنَى الْحَدِيثِ يُطِيلُ الْقِيَامَ أَوْ أَطَالَهُ حَتَّى نَظُنَّ؛ إِذِ الْقَوْلُ قَدْ جَاءَ بِمَعْنَاهُ، (قَدْ أَوْهَمَ) : عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي الْمَعْلُومِ، وَقِيلَ مَجْهُولٌ، فِي الْفَائِقِ: أَوْهَمْتُ الشَّيْءَ، إِذَا تَرَكْتُهُ، وَأَوْهَمْتُ فِي الْكَلَامِ وَالْكِتَابِ إِذَا أَسْقَطْتُ مِنْهُ شَيْئًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ يَعْنِي: كَانَ يَلْبَثُ فِي حَالِ الِاسْتِوَاءِ مِنَ الرُّكُوعِ زَمَانًا نَظُنُّ أَنَّهُ أَسْقَطَ الرَّكْعَةَ الَّتِي رَكَعَهَا وَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُقَالُ أَوْهَمْتُهُ إِذَا أَوْقَعْتُهُ فِي الْغَلَطِ، وَعَلَى هُنَا يَكُونُ أَوْهَمَ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي الْمَجْهُولِ، أَيْ: أَوْقَعَ عَلَيْهِ الْغَلَطَ، وَوَقَفَ سَهَوًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: وَقَعَ فِي وَهْمِ النَّاسِ، أَيْ: ذِهْنِهِمْ أَنَّهُ تَرَكَهَا، (ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) ، أَيْ: يُطِيلُ الْقُعُودَ

بَيْنَهُمَا (حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ) ، أَيْ: نَظُنُّ أَنَّهُ أَسْقَطَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْإِطَالَةَ كَانَتْ فِي النَّوَافِلِ، أَوْ فِي الْفَرَائِضِ أَحْيَانًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَلَفْظَةُ كَانَ لِلرَّابِطَةِ لَا لِبَيَانِ الْمُوَاظَبَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

871 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 871 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ) : مِنَ الْإِكْثَارِ (أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: " «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ» ) ، أَيْ: سَبَّحْتُكَ إِجَابَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، فَالْمَعْنَى حِينَ تَقُومُ لِلْعِبَادَةِ، وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ حِينَ تَقُومُ مِنْ مَجْلِسِكَ، أَوْ مِنَ النَّوْمِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) ، أَيْ: إِجَابَةً لِقَوْلِهِ: {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} [المؤمنون: 118] ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَأَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} [المؤمنون: 118] (2) ، وَهُوَ لَا يُلَائِمُ تَبْدِيلَ رَبِّ بِـ (اللَّهُمَّ) ، وَالِاقْتِصَارَ عَلَى قَوْلِهِ: اغْفِرْ، فَالْأَظْهَرُ إِجَابَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] فَالْمَعْنَى لِي وَلِأُمَّتِي، وَفِي الْحَقِيقَةِ لِأُمَّتِي؛ فَإِنَّهُ مَغْفُورٌ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ طَلَبَ تَثْبِيتَ الْمَغْفِرَةِ أَوْ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، (يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ يَعْمَلُ مَا أُمِرَ بِهِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: يُفَسِّرُهُ وَيَقُولُ وَيَنْظُرُ إِلَى مَا تَئُولُ إِلَيْهِ كَلِمَاتُ الْقُرْآنِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ وَالِاسْتِغْفَارِ قَالَ الْقَاضِي: جُمْلَةٌ وَقَعَتْ حَالًا عَنْ ضَمِيرِ يَقُولُ أَيْ يَقُولُ مُتَأَوِّلًا لِلْقُرْآنِ، أَيْ: مُبَيِّنًا مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] آتِيًا بِمُقْتَضَاهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ أَظْهَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُقَيَّدْ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، لَكِنْ جَعْلُهُ فِي أَفْضَلِ الْأَحْوَالِ - وَهُوَ الصَّلَاةُ - أَبْلَغُ فِي الِامْتِثَالِ وَأَظْهَرُ فِي التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» "، فَيُسَنُّ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَصَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهِمَا: " «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» "، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] كَانَ يُكْثِرُ إِذَا قَرَأَهَا وَرَكَعَ أَنْ يَقُولَ: " «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ".

872 - وَعَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: " سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 872 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ) ، أَيْ: أَحْيَانًا ( «يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: " سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ» ) ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: يُرْوَيَانِ بِالضَّمِّ، وَالْفَتْحُ قِيَاسٌ، وَالضَّمُّ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمُرَادُ التَّنْزِيهُ اهـ، وَلَعَلَّ التَّكْرِيرَ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ أَحَدَهُمَا لِتَنْزِيهِ الذَّاتِ وَالْآخَرَ لِتَنْزِيهِ الصِّفَاتِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: هُمَا خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: رُكُوعِي وَسُجُودِي لِمَنْ هُوَ سُبُّوحٌ وَقُدُّوسٌ، أَيْ: مُنَزَّهٌ عَنْ أَوْصَافِ الْمَخْلُوقَاتِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: أَنْتَ سُبُّوحٌ أَوْ هُوَ سُبُّوحٌ، أَيْ: مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ مِنْ سَبَّحْتُ اللَّهَ، أَيْ: نَزَّهْتُهُ، وَقُدُّوسٌ أَيْ طَاهِرٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَمُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ مَا يُسْتَقْبَحُ، فَعُولٌ لِمُبَالِغَةِ الْمَفْعُولِ، (رَبُّ الْمَلَائِكَةِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ الْعَوَالِمِ وَأَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ، وَأَدْوَمُهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أُضِيفَتِ التَّرْبِيَةُ إِلَيْهِمْ بِخُصُوصِهِمْ، وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ: " لَيْسَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، مَا مِنْ شَيْءٍ يَنْبُتُ إِلَّا وَمَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ "، وَفِي أَثَرٍ: يَنْزِلُ مَعَ الْمَطَرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ مِنْ وَلَدِ آدَمَ وَوَلَدِ إِبْلِيسَ يُحْصُونَ كُلَّ قَطْرَةٍ، وَأَيْنَ تَقَعُ، وَمَنْ يُرْزَقُ ذَلِكَ النَّبَاتُ.

وَأَخْرَجَ جَمْعٌ حُفَّاظٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَتِهِ، مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ يَقْطُرُ مِنْ عَيْنِهِ دَمْعَةٌ إِلَّا وَقَعَتْ مَلَكًا يُسَبِّحُ وَمَلَائِكَةً سُجُودًا، مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَلَائِكَةً رُكُوعًا لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصُفُوفًا لَمْ يَنْصَرِفُوا عَنْ مَصَافِّهِمْ وَلَا يَنْصَرِفُونَ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا: " سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ كَمَا يَنْبَغِي لَكَ» "، وَفِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ " «مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ وَلَا شِبْرٍ وَلَا كَفٍّ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ وَمَلَكٌ سَاجِدٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا جَمِيعًا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ إِلَّا أَنَّا لَمْ نُشْرِكْ بِكَ شَيْئًا» "، وَفِي أَثَرٍ: إِنَّ لِجِبْرِيلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ انْغِمَاسَةً فِي الْكَوْثَرِ ثُمَّ يَنْتَفِضُ، فَكُلُّ قَطْرَةٍ يُخْلَقُ مِنْهَا مَلَكٌ، وَعَنْ كَعْبٍ: مَا مِنْ مَوْضِعِ خُرْمِ إِبْرَةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَمَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا يَرْفَعُ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ بْنِ الْمُنْذِرِ: يُصَلِّي فِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَهُوَ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْكَرُوبِيِّينَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتَرُونَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْعُشْرُ الْبَاقِي قَدْ وُكِّلُوا بِحِرَاسَةِ كُلِّ شَيْءٍ (وَالرُّوحِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الرُّوحُ الَّذِي بِهِ قِوَامُ كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا النَّظَائِرَ مِنَ التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] وَغَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ جِبْرِيلُ خُصَّ بِالذِّكْرِ تَفْضِيلًا، وَقِيلَ: الرُّوحُ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اهـ. وَقِيلَ: مَلَكٌ يَكُونُ صَفًّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ جِبْرِيلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] أَوْ مَلَكٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خَلْقًا، كَمَا أَخْرَجَهُ جَمْعٌ حُفَّاظٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ حَاجِبُ اللَّهِ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَلَائِكَةِ، لَوْ فَتَحَ فَاهُ لَوَسِعَ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ، فَالْخَلْقُ إِلَيْهِ يَنْظُرُونَ، فَمِنْ مَخَافَتِهِ لَا يَرْفَعُونَ طَرْفَهُمْ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ، أَوْ مَلَكٌ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ وَجْهٍ، لِكُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لِسَانٍ، لِكُلِّ لِسَانٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لُغَةٍ، يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِتِلْكَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَهُ جَمْعٌ أَئِمَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، أَوْ مَلَكٌ وَاحِدٌ لَهُ عَشَرَةُ آلَافِ جَنَاحٍ جَنَاحَانِ مِنْهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لَهُ أَلْفُ وَجْهٍ فِي كُلِّ وَجْهٍ أَلْفُ لِسَانٍ وَعَيْنَانِ وَشَفَتَانِ يُسَبِّحَانِ اللَّهَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَهُ جَمْعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوْ مَلَكٌ أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ الرَّبِّ وَهُوَ صَاحِبُ الْوَحْيِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: أَوْ مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْجِبَالِ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَجِيءُ صَفًّا وَاحِدًا، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَوْ خَلْقٌ عَلَى صُوَرِ بَنِي آدَمَ أَخْرَجَهُ جَمْعٌ أَئِمَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَخْرَجَ جَمْعٌ عَنْهُ: الرُّوحُ يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ وَرُءُوسٌ، وَلَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ. وَجَمْعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنَ الرُّوحِ، وَأَخْرَجَ بَعْضُ حُفَّاظٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرُّوحُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ لَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ لَهُمْ رُءُوسٌ وَأَيْدٍ وَأَرْجُلٌ ثُمَّ قَرَأَ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] قَالَ: " هَؤُلَاءِ جُنْدٌ وَهَؤُلَاءِ جُنْدٌ» ، وَأَخْرَجَ جَمْعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: مَا يَبْلُغُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ عُشْرَ الرُّوحِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ الْإِنْسَ عُشْرُ الْجِنِّ، وَالْجِنَّ عُشْرُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ عُشْرُ الرُّوحِ، وَهُمْ عُشْرُ الْكَرُوبِيِّينَ، وَعَنْ أَبِي نَجِيحٍ: الرُّوحُ حَفَظَةٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ مِنْهُمْ لَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُمْ، هَذَا وَلَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ فَضْلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ، لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَبَبَ الْإِضَافَةِ كَوْنُهُمْ أَعْظَمَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ.

873 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 873 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَلَا) : كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ (إِنِّي نُهِيتُ) ، أَيْ: فِي كَرَاهَةِ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ تَحْرِيمًا وَهُوَ الْقِيَاسُ، (أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ) ، أَيْ: عَنْ قِرَاءَتِهِ (رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا) ، أَيْ: فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمَّا كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَهُمَا غَايَةُ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ مَخْصُوصَيْنِ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ، نَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامِ الْخَلْقِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيَكُونَانِ سَوَاءً، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ الْقِيَامِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَأَنَّ حِكْمَتَهُ أَنَّ أَفْضَلَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقِيَامُ، وَأَفْضَلَ الْأَذْكَارِ الْقُرْآنُ، فَجُعِلَ الْأَفْضَلُ لِلْأَفْضَلِ، وَنُهِيَ عَنْ جَعْلِهِ فِي غَيْرِهِ لِئَلَّا يُوهِمَ اسْتِوَاءَهُ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَذْكَارِ، وَقِيلَ خُصَّتِ الْقِرَاءَةُ بِالْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ، وَيَتَمَحَّضَانِ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُمَا بِذَوَاتِهِمَا يُخَالِفَانِ الْعَادَةَ وَيَدُلَّانِ عَلَى الْخُضُوعِ وَالْعِبَادَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ حَالَانِ دَالَّانِ عَلَى الذُّلِّ وَيُنَاسِبُهُمَا الدُّعَاءُ وَالتَّسْبِيحُ، فَنُهِيَ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَتَكْرِيمًا لِقَارِئِهِ الْقَائِمِ مُقَامَ الْكَلِيمِ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قَالَ الْقَاضِيَ: نَهْيُ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لَكِنْ لَوْ قَرَأَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَقْرُوءُ الْفَاتِحَةَ، فَإِنَّ فِيهَا خِلَافًا يَعْنِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ رُكْنًا، لَكِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ نَظْمُ صَلَاتِهِ، ( «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ» ) ، أَيْ: فَقُولُوا سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ( «وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا» ) ، أَيْ: بَالِغُوا (فِي الدُّعَاءِ) ، أَيْ: حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ حُكْمًا كَمَا فِي: " «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» " وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ادْعُوا بَعْدَ قَوْلِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالتَّعْظِيمِ لِلرَّبِّ فِي الرُّكُوعِ وَبِالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْقِرَاءَةِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلِ الْأُمَّةُ دَاخِلُونَ مَعَهُ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَمْرُ فِيهِ لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ (فَقَمِنٌ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتُكْسَرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَمَنْ فَتَحَ الْمِيمَ لَمْ يُثَنِّ وَلَمْ يُؤَنِّثْ وَلَمْ يَجْمَعْ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَيْ: نَعْتٌ بِهِ، وَمَنْ كَسَرَ ثَنَّى وَجَمَعَ وَأَنَّثَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفٌ، أَيْ: فِي أَصْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَمِينُ، أَيْ: مِثْلُ الْقَمِنِ بِالْكَسْرِ الْقَمِينُ بِالْيَاءِ فِي كَوْنِهِ وَصْفًا، وَالْمَعْنَى: جَدِيرٌ وَخَلِيقٌ وَلَائِقٌ وَحَقِيقٌ (أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ) : لِأَنَّ السُّجُودَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ إِلَى رَبِّهِ، فَيَكُونُ الدُّعَاءُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

874 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 874 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ) : بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهُ ضَمِيرٌ، وَبِالسُّكُونِ عَلَى أَنَّهُ هَاءُ السَّكْتِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: نَقَلَ الْقُرَّاءُ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسَكِّنُ هَاءَ الضَّمِيرِ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا، فَيَقُولُ: ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا حَمْلًا عَلَى مِيمِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: حُمِلَتْ عَلَى الْوَقْفِ، أَيْ: نَزَلَ الْوَصْلُ مَنْزِلَةَ الْوَقْفَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْوَجْهَانِ الضَّمُّ وَالسُّكُونُ وَصْلًا مَعَ اعْتِبَارِ هَاءِ الضَّمِيرِ أَمْرًا عِنْدَ الْقُرَّاءِ، وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ هَاءِ السَّكْتِ، فَيَجُوزُ الْوَجْهَانِ إِبْقَاءُ الْهَاءِ وَحَذْفُهَا وَصْلًا عِنْدَ الْكُلِّ، وَمَعْنَاهُ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ حَمْدَهُ وَأَجَابَهُ، تَقُولُ: اسْمَعَ دُعَائِي، أَيْ: أَجِبْ ( «فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ» ) ، أَيِ: الشَّأْنَ (مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ) : وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ بَعْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ (قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ) ، أَيْ: فِي الزَّمَانِ، أَوْ فِي الْقَبُولِ ( «غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ) ، أَيْ: مِنَ الصَّغَائِرِ عَدْلًا، وَمِنَ الْكَبَائِرِ فَضْلًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

875 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 875 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ ظَهْرَهُ» ) ، أَيْ: حِينَ شَرَعَ فِي رَفْعِهِ ( «مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ) ، أَيْ: وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الِاعْتِدَالِ قَالَ حِينَ مَالَ إِلَى السُّجُودِ ( «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» ) ، أَيْ: وَيُزَادُ فِي النَّوَافِلِ (مِلْءَ السَّمَاوَاتِ) : بِالنَّصْبِ وَهُوَ أَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَقِيلَ: عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِمِلْءِ السَّمَاوَاتِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الْحَمْدِ، وَالْمِلْءُ بِالْكَسْرِ اسْمُ مَا يَأْخُذُهُ الْإِنَاءُ إِذَا امْتَلَأَ، وَهُوَ مَجَازٌ عَنِ الْكَثْرَةِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: هُنَا تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ، إِذِ الْكَلَامُ لَا يُقَدَّرُ بِالْمَكَايِيلِ وَلَا تَسَعُهُ الْأَوْعِيَةُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ تَكْثِيرُ الْعَدَدِ، حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ تَكُونُ أَجْسَامًا تَمْلَأُ الْأَمَاكِنَ لَبَلَغَتْ مِنْ كَثْرَتِهَا مَا تَمْلَأُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ ( «وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» ) ، أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ أَيْ مَا بَيْنَهُمَا، أَوْ غَيْرُ مَا ذُكِرَ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جِهَتَا الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ، وَالْمُرَادُ بِمِلْءِ مَا شَاءَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ مَا تَعَلَّقُ بِهِ مَشِيئَتُهُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُنَا، أَيْ: مِلْءُ مَا شِئْتَ يُشِيرُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ حَتَّى الْحَمْدِ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْمَجْهُودِ، فَإِنَّهُ حَمِدَهُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا نِهَايَةُ أَقْدَامِ السَّابِقِينَ، ثُمَّ ارْتَفَعَ وَتَرَقَّى فَأَحَالَ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى الْمَشِيئَةِ؛ إِذْ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ لِلْحَمْدِ مُنْتَهًى، وَلِهَذِهِ الرُّتْبَةِ الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُسَمَّى أَحْمَدَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

876 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ: اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 876 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ) ، أَيْ: حِينَ انْفِرَادِهِ ( «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلُ الثَّنَاءِ» ) : بِالرَّفْعِ بِتَقْدِيرِ أَنْتَ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ لِلسِّيَاقِ وَاللِّحَاقِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ هُوَ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ يَا أَهْلَ الثَّنَاءِ (وَالْمَجْدِ) ، أَيِ: الْعَظَمَةِ أَوِ الْكَرَمِ (أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ) : بِالرَّفْعِ، (وَمَا) ، مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَأَلْ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ وَالْمَعْهُودُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: أَنْتَ أَحَقُّ بِمَا قَالَ الْعَبْدُ لَكَ مِنَ الْمَدْحِ مِنْ غَيْرِكَ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ، مِنَ الْحَمْدِ الْكَثِيرِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ (أَحَقُّ) مُبْتَدَأً، وَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ إِلَخْ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: قُلْتُ أَحَقَّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، أَيْ: أَصْدَقَهُ وَأَثْبَتَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَيَجُوزُ كَوْنُهُ فِعْلًا مَاضِيًا مِنْ أَحَقَّ، أَيْ: أَصَابَ الْعَبْدُ الْحَقَّ فِيمَا قَالَ بِأَنَّكَ أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ حَقٌّ مَا قَالَ الْعَبْدُ فَعَلَى هَذَا هُوَ كَلَامٌ تَامٌّ وُضِعَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، وَقَوْلُهُ: ( «وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ» ) : تَذْيِيلٌ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اهـ. وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَقَّ مَاضِيًا أَوْ وَصْفًا، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَيُرْوَى حَقٌّ بِلَا أَلْفٍ، فَهُوَ خَبَرٌ، وَمَا مُبْتَدَأٌ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا مَجْرُورَةٌ بِالْإِضَافَةِ (اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ) ، أَيْ: مِنْ أَحَدٍ (لِمَا أَعْطَيْتَ) ، أَيِ: الْعَبْدَ شَيْئًا مِنَ الْعَطَاءِ ابْتِدَاءً، أَوْ بِسَابِقَةِ عَمَلٍ (وَلَا مُعْطِيَ) : مِنْ أَحَدٍ (لِمَا مَنَعْتَ) ، أَيْ: لِلشَّيْءِ الَّذِي مَنَعْتَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ مِنَ الْإِعْطَاءِ أَحَدٌ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْجُبَكَ الْمَنْعُ وَالْعَطَاءُ عَنْ مَوْلَاكَ، لِقَوْلِ ابْنِ عَطَاءٍ: رُبَّمَا أَعْطَاكَ فَمَنَعَكَ، وَرُبَّمَا مَنَعَكَ فَأَعْطَاكَ، ( «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» ) : الْمَشْهُورُ فَتَحُ الْجِيمِ، بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ أَوِ الْحَظِّ أَوِ الْغِنَى أَوِ النَّسَبِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى مِنْكَ غِنَاهُ، وَرُبَّمَا يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ بِطَاعَتِكَ، فَمَعْنَى مِنْكَ: عِنْدَكَ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ: أَيْ لَا يُسْلِمُهُ مِنْ عَذَابِكَ غِنَاهُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ لَا يَمْنَعُ عَظَمَةُ الرَّجُلِ وَغِنَاهُ عَذَابَكَ عَنْهُ إِنْ شِئْتَ عَذَابَهُ، وَقِيلَ: لَا يَنْفَعُ ذَا الْحَظِّ، وَالْإِقْبَالِ بِذَلِكَ، أَيْ: بَدَلَ طَاعَتِكَ، وَقِيلَ: (لَا يَنْفَعُ) مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَلَا يَنْفَعُ عَطَاؤُهُ كَمَا لَا يَضُرُّ مَنْعُهُ وَذَا الْجَدِّ مُنَادَى، أَيْ: يَا ذَا الْجَدِّ يَعْنِي يَا ذَا الْغِنَى وَالْعَظَمَةِ وَالْحَظِّ، مِنْكَ الْجَدُّ لَا مِنْ غَيْرِكَ، وَقِيلَ: الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَأَبُو الْأُمِّ، أَيْ: لَا يَنْفَعُ ذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ نَسَبُهُ مِنْكَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْمَعْنَى لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ بِالْجَدِّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالْجِدِّ بِالطَّاعَةِ اهـ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَقَلِيلٍ مِنَ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْجِيمِ، فَالْمَعْنَى لَا يَنْفَعُهُ مُجَرَّدُ جِدِّهِ وَجُهْدِهِ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُ التَّوْفِيقُ وَالْقَبُولُ مِنْكَ بِعَمَلِهِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَقَالَ مِيرَكُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

877 - وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ": فَقَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " مَنِ الْمُتَكَلِّمُ آنِفًا "، قَالَ: أَنَا قَالَ: " رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلَ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 877 - (وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ) ، أَيِ: الرُّكُوعِ وَلَعَلَّهُ عَنَى رَكْعَةً؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ بِإِدْرَاكِهِ يُدْرِكُ رَكْعَةً (قَالَ: " «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» " فَقَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) ، أَيْ: لَكَ النِّعْمَةُ وَلَكَ الْحَمْدُ (حَمَدًا كَثِيرًا) : كَثْرَةَ الْكَائِنَاتِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَهَا (طَيِّبًا) ، أَيْ: خَالِصًا مُنَزَّهًا عَنِ النُّقْصَانِ (مُبَارَكًا فِيهِ) ، أَيْ: شَامِلًا لِجَمِيعِ النِّعَمِ (فَلَمَّا انْصَرَفَ) : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ: " «مَنِ الْمُتَكَلِّمُ آنِفًا؟» ) : بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ أَيِ الْآنَ (قَالَ) : أَيِ الرَّجُلُ (أَنَا) ، أَيْ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ (قَالَ: " رَأَيْتُ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ، (بِضْعَةً) : وَهِيَ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ (وَثَلَاثِينَ مَلَكًا) : الظَّاهِرُ أَنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مَلَكًا فَإِنَّ حُرُوفَ الْكَلِمَاتِ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ (يَبْتَدِرُونَهَا) ، أَيْ: يُسَارِعُونَ فِي كِتَابَةِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ (أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلَ) ، أَيْ: سَابِقًا عَنِ الْآخَرِينَ لِعِظَمِ قَدْرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ قَوْلُهُ: أَوَّلَ بِالنَّصْبِ هُوَ الْأَوْجَهُ، أَيْ: أَوَّلَ مَرَّةٍ: قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، أَوِ الظَّرْفِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: رُوِيَ (أَوَّلُ) بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَأَمَّا أَيُّهُمْ فَرَوَيْنَاهُ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ يَكْتُبُهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَوَّلُ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: يُسْرِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَكْتُبَهَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَيُصْعِدُهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ: أَوَّلًا، وَلِكُلِّ وَجْهٍ إِذِ الْأَوَّلُ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا لَا مَعْنًى أَيْ: أَوَّلُهُمْ، وَقَالَ الدَّمَامِينِيُّ: أَيُّهُمْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ يَكْتُبُهَا. فَإِنْ قُلْتَ: بِمَاذَا تَتَعَلَّقُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ؟ قُلْتُ: بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ يَبْتَدِرُونَهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: يَبْتَدِرُونَهَا لِيَعْلَمُوا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِيَبْتَدِرُونَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ، وَاقْتَصَرَ الزَّرْكَشِيُّ حَيْثُ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً، عَلَى أَنَّ الْمُعَلِّقَ هُوَ يَبْتَدِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَلْبِيًّا، وَهَذَا مَذْهَبٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ يَعْنِي: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُوِّزَ كَوْنُ أَيِ الْمَوْصُولَةِ بَدَلًا مِنْ فَاعِلِ يَبْتَدِرُونَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، قَالَ مِيرَكُ: الْعَجَبُ أَنَّ الْحَاكِمَ رَوَى حَدِيثَ رِفَاعَةَ بْنَ رَافِعٍ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَرِجَالُ الْحَاكِمِ رِجَالُهُ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ اهـ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَكْفِي هَذِهِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ حَتَّى يَرْضَى رَبُّنَا بَعْدَ الرِّضَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَاحِبُ الْكَلِمَاتِ» قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " «لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا» " وَلَعَلَّ هَذَا الْعَدَدَ بِاعْتِبَارِ الْكَلِمَاتِ، وَيَكُونُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّذْيِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِجْمَالِ بَعْدَ التَّفْصِيلِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 878 - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 878 - (عَنْ أَبِي مَسْعُودِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ» ) ، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ لَا يُسَوِّي ظَهْرَهُ (فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) : وَالْمُرَادُ مِنْهَا الطُّمَأْنِينَةُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ أَمْرٌ وَالِاعْتِدَالَ أَمْرٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي شَرْحِ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي، تَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ، وَهُوَ الطُّمَأْنِينَةُ وَزَوَالُ اضْطِرَابِ الْأَعْضَاءِ،

وَأَقَلُّهُ قَدْرُ تَسْبِيحَةٍ فَرْضٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْفَرْضِيَّةُ إِذِ الْفَرْضُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، فَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ وَقِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ، ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَكَذَا الْقَوْمَةُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالْجِلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالطُّمَأْنِينَةُ كُلُّهَا فَرَائِضُ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَهُمَا سُنَنٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِهَا: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْقَوْمَةَ وَالْجِلْسَةَ وَاجِبَتَيْنِ لِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ فِيمَا يُوجِبُ سَهْوَ الْمُصَلِّي إِذَا رَكَعَ، وَلَمْ يَرْفَعْ رَأَسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا سَاهِيًا، تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ السَّهْوُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: " فِي "، بِمَعْنَى " مِنْ "، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

879 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ "، فَلَمَّا نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 879 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجْعَلُوهَا» ) ، أَيْ: مَضْمُونُهَا وَمَحْصُولُهَا (فِي رُكُوعِكُمْ) : يَعْنِي: قُولُوا: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: مَعْنَى الْعَظِيمِ الْكَامِلُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَعْنَى الْجَلِيلِ الْكَامِلُ فِي صِفَاتِهِ، وَمَعْنَى الْكَبِيرِ الْكَامِلُ فِي ذَاتِهِ ( «فَلَمَّا نَزَلَتْ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، قَالَ: " اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» :) ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّ الْأَعْلَى أَبْلَغُ مِنَ الْعَظِيمِ، فَجُعِلَ لِلْأَبْلَغِ فِي التَّوَاضُعِ وَهُوَ السُّجُودُ الْأَفْضَلُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَصَحَّ: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ قُرْبُ مَسَافَةٍ فَنُدِبَ فِيهِ التَّسْبِيحُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الِاسْمُ هُنَا صِلَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «سُبْحَانَ رُبِّيَ الْأَعْلَى» ، فَحُذِفَ الِاسْمُ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى، وَقِيلَ: الِاسْمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ صِلَةٍ، وَالْمَعْنَى تَنْزِيهُ اسْمِهِ عَنْ أَنْ يُبْتَذَلَ، وَأَنْ لَا يُذْكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: كَمَا يَجِبُ تَنْزِيهُ ذَاتِهِ عَنِ النَّقَائِصِ يَجِبُ تَنْزِيهُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لَهَا عَنِ الرَّفَثِ وَسُوءِ الْأَدَبِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ الْمُنْذِرِيُّ: وَقَالَ النَّوَوِيُّ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحٌ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: فِي إِسْنَادِهِ إِيَاسُ بْنُ عَامِرٍ، وَلَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ، لَكِنْ قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: إِنَّهُ صَدُوقٌ (وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

880 - وَعَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَقَالَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَإِذَا سَجَدَ، فَقَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ؛ لِأَنَّ عَوْنًا لَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 880 - (وَعَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) ، أَيِ: ابْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) : يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ ( «قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ، فَقَالَ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» ) : بِفَتْحِ يَاءِ رَبِّيَ وَيُسَكَّنُ ( «ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ» ) ، أَيْ: كَمُلَ وَإِلَّا فَأَصْلُ

الْكَمَالِ يَحْصُلُ بِوَاحِدَةٍ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ (وَذَلِكَ أَدْنَاهُ) ، أَيْ: أَدْنَى تَمَامِ رُكُوعِهِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَدْنَى الْكَمَالِ فِي الْعَدَدِ، وَأَكْمَلُهُ سَبْعُ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَالْأَوْسَطُ خَمْسُ مَرَّاتٍ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَرُكْنِيَّةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُهُمَا، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ الْأَسْبِيجَابِيِّ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقُلْ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ أَوْ لَمْ يَمْكُثْ مِقْدَارَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ رُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، كَقَوْلِ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيِّ بِفَرْضِيَّةِ التَّسْبِيحَاتِ الثَّلَاثِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى لَوْ نَقَصَ وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ رُكُوعُهُ وَلَا سُجُودُهُ، ( «وَإِذَا سَجَدَ قَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : مِنْ طَرِيقِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَهُ مِيرَكُ (وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ) ، أَيْ: إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ (بِمُتَّصِلٍ؛ لِأَنَّ عَوْنًا لَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُنْقَطِعَ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ إِجْمَاعًا.

881 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ "، وَفِي سُجُودِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى " وَمَا أَتَى عَلَى آيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ، وَمَا أَتَى عَلَى آيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ " الْأَعْلَى " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 881 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَقُولُ، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا أَوْ فِي النَّفْلِ ( «فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ "، وَفِي سُجُودِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى "، وَمَا أَتَى عَلَى آيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ» ) : أَيْ رَحْمَتَهُ ( «وَمَا أَتَى عَلَى آيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ» ) ، أَيْ: بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِهِ حَمَلَهُ أَصْحَابُنَا وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ نَافِلَةً لِعَدَمِ تَجْوِيزِهِمُ التَّعَوُّذَ وَالسُّؤَالَ أَثْنَاءَ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مَعَهُ الصَّلَاةُ إِجْمَاعًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نُدْرَةَ وُقُوعِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) ، أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ: " الْأَعْلَى " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) : قَالَ الشَّيْخُ الْجَزْرِيُّ: حَدِيثُ حُذَيْفَةَ هَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ، وَإِيرَادُ مُحْيِيِ السُّنَّةِ لَهُ فِي الْحِسَانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ: صَحِيحٌ كَعَادَتِهِ فِي تَصْحِيحِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهُ فِي الصِّحَاحِ؛ لِأَنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 882 - عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَكَعَ مَكَثَ قَدْرَ سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) : وَيَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» "، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 882 - (عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قُمْتُ) ، أَيْ: مُصَلِّيًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ صَلَّيْتُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلَ الْمَعْنَى، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْقِيَامَ، وَأَرَادَ الصَّلَاةَ، فَيَكُونُ كَإِطْلَاقِ الرَّكْعَةِ وَالسُّجُودِ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا لِوُرُودِ سُبْحَةَ الضُّحَى بِمَعْنَى صَلَاتِهَا ( «مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَكَعَ مَكَثَ» ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا، أَيْ: لَبِثَ فِي رُكُوعِهِ ( «قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» ) : فِي الْقَامُوسِ: الْمُكْثُ مُثَلَّثًا وَيُحَرَّكُ اللَّبْثُ وَالْفِعْلُ كَنَصَرَ وَكَرُمَ ( «وَيَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ» ) : فَعَلُوتٌ مِنَ الْجَبْرِ، بِمَعْنَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ كَذَا فِي.

النِّهَايَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَجَبَرُوتٌ أَيْ: عُتُوٌّ وَقَهْرٌ (وَالْمَلَكُوتِ) : فَعَلُوتٌ مِنَ الْمُلْكِ، أَيِ: الْمُلْكُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (وَالْكِبْرِيَاءِ) : ذَاتًا (وَالْعَظْمَةِ) : صِفَةً (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

883 - وَعَنِ ابْنً جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - قَالَ: قَالَ: فَحَزَرْنَا رُكُوعَهُ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ، وَسُجُودَهُ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 883 - (وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى يَعْنِي: عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَعُمَرُ أَدْرَكَ أَنَسًا وَأَخَذَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَأَنَسٌ تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ (قَالَ) : أَيِ ابْنُ جُبَيْرٍ، يَعْنِي قَالَ الرَّاوِي: عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ (قَالَ) ، أَيْ أَنَسٌ (فَحَزَرْنَا) ، بِتَقْدِيمِ الزَّايِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيْ: قَدَّرْنَا (رُكُوعَهُ) ، أَيْ: رُكُوعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رُكُوعَ عُمَرَ (عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ، وَسُجُودَهُ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَبِهِ كَخَبَرِ: إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ يُسْتَدَلُّ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّتُنَا أَنَّ أَعْلَى الْكَمَالِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

884 - وَعَنْ شَقِيقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ حُذَيْفَةَ رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ، قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 884 - (وَعَنْ شَقِيقٍ) ، أَيِ: ابْنِ سَلَمَةَ التَّابِعِيِّ، أَبُو وَائِلٍ الْكُوفِيُّ مُخَضْرَمٌ، رَوَى عَنِ الْخُلَفَاءِ وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمْ، اتَّفَقُوا عَلَى تَوْثِيقِهِ وَجَلَالَتِهِ، كَذَا فِي التَّهْذِيبِ (قَالَ: إِنَّ حُذَيْفَةَ رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ) : لِتَرْكِهِ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهِمَا (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ) ، أَيْ: صَلَاةً صَحِيحَةً أَوْ كَامِلَةً وَمَا نَافِيَةٌ (قَالَ) ، أَيْ: شَقِيقٌ (وَأَحْسَبُهُ) ، أَيْ: أَظُنُّهُ (قَالَ) ، أَيْ: حُذَيْفَةُ (وَلَوْ مِتَّ) : بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ أَيْ عَلَى هَذَا (مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ) ، أَيِ: الطَّرِيقَةِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْمِلَّةِ (الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ) ، أَيْ: خَلَقَ عَلَيْهَا (مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: بِتَرْكِكَ لِلصَّلَاةِ وَتَرْكِهَا تَعَمُّدًا كُفْرًا مُطْلَقًا عِنْدَ كَثِيرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَبِشَرْطِ الِاسْتِحْلَالِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ فَعَلَيْهِ الْفِطْرَةُ فِي كَلَامِهِ بِمَعْنَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ وَاجِبَةٌ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ يَعْنِي: أَنَّكَ غَيَّرْتَ مَا وُلِدْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَدَخَلْتَ فِي زُمْرَةِ الْمُبَدِّلِينَ لِدِينِ اللَّهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ دَلَّ قَوْلُهُ لَا يُتِمُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ إِتْمَامَهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ؟ قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» اهـ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ إِذْ تَحَقَّقَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْمُرَادَ أَدْنَى كَمَالِهِ لَا أَدْنَى أَصْلِهِ، وَأَيْضًا هَذَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ مُحْتَمِلٌ لِلِاجْتِهَادِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَلَكَ أَنْ تَقُولَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ بِفَرْضِ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّهْدِيدِ لَا يَقُولُهُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَمِنْ ثَمَّ قُلْتُ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى فِي حَدِيثِ: " «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» " أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ، وَهُوَ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، فَصِحَّتُهُ عَنْ عُمَرَ تَسْتَلْزِمُ صِحَّتَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَمَّا خُصُوصُ تَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلًا اهـ. وَوَجْهُ الْإِبْعَادِ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ وَالضَّعْفِ، إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْإِسْنَادِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ وَلِذَا يُحْكَمُ عَلَى حَدِيثٍ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ مُطَابِقًا لِمَا فِي الْقُرْآنِ

بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضُوعُ صَحِيحًا وَالصَّحِيحُ مَوْضُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ الْمَالِكِيُّ فِي قَوْلِهِ: " لَوْ مِتَّ مِتَّ " شَاهِدٌ عَلَى وُقُوعِ الْجَزَاءِ مُوَافِقًا لِلشَّرْطِ فِي اللَّفْظِ لَا الْمَعْنَى لَتَعَلُّقِ مَا بَعْدَهُ بِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَعَرَّضُ فِيهَا لِلْفَضِيلَةِ لِتَوَقُّفِ الْفَائِدَةِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ لَهَا مِنْ لُزُومِ الذِّكْرِ مَا لِلْعُمْدَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] فَلَوْلَا قَوْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ، وَقَوْلُهُ: لِأَنْفُسِكُمْ لَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ فَائِدَةٌ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

885 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ؟ وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 885 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسْوَأُ النَّاسِ» ) ، أَيْ: أَقْبَحُهُمْ (سَرِقَةً) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتُفْتَحُ أَيْضًا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَهُوَ مَصْدَرٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ تَمْيِيزٌ، قَالَ الرَّاغِبُ: السَّرِقَةُ أَخْذُ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ فِي خَفَاءٍ، وَصَارَ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ لِتَنَاوُلِ الشَّيْءِ مِنْ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ وَقَدْرٍ مَخْصُوصٍ (الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ) : خَبَرُ (أَسْوَأُ) وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: أَسْوَأُ مُبْتَدَأٌ وَالَّذِي خَبَرُهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: سَرِقَتُهُ اهـ. وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّ الْحَمْلَ بِلَوْنِ التَّقْدِيرِ صَحِيحٌ، وَبِوُجُودِهِ يُعْدَمُ، نَعَمْ هُنَا الْحَذْفُ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي كَمَا سَيَأْتِي (قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: " لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا» ) : قِيلَ: جُعِلَ جِنْسُ السَّرِقَةِ نَوْعَيْنِ: مُتَعَارَفًا وَغَيْرَ مُتَعَارَفٍ، وَجُعِلَ غَيْرَ مُتَعَارَفٍ أَسْوَأَ؛ لِأَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ رُبَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَسْتَحِلُّ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ تُقْطَعُ يَدُهُ، فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ هَذَا السَّارِقِ فَإِنَّهُ سَرَقَ حَقَّ نَفْسِهِ مِنَ الْجَوَابِ، وَأُبْدِلَ مِنْهُ الْعِقَابُ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ إِلَّا الضَّرَرُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

886 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا تَرَوْنَ فِي الشَّارِبِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ؟ " - وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ فِيهِمُ الْحُدُودُ - قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ، وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ "، قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا» "، رَوَاهُ مَالِكٌ، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 886 - (وَعَنْ نُعْمَانَ بْنِ مُرَّةَ) ، أَيِ: الرُّومِيُّ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدِينِيُّ تَابِعِيٌّ، وَقَدْ أَخْرَجَ فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا تَرَوْنَ) ، أَيْ: تَعْتَقِدُونَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ التَّاءِ، أَيْ: تَظُنُّونَ (فِي الشَّارِبِ) ، أَيْ: لِلْخَمْرِ وَنَحْوِهَا (وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ؟ وَذَلِكَ) ، أَيْ: هَذَا السُّؤَالُ (قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَقِيلَ: مَعْلُومٌ (فِيهِمُ الْحُدُودُ) ، أَيْ: آيَاتُهَا ( «قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " هُنَّ فَوَاحِشُ» ) ، أَيْ: ذُنُوبٌ كَبَائِرٌ (وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ) ، أَيْ: أُخْرَوِيَّةٌ، أَوْ سَتَنْزِلُ أَوِ التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ ( «وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ» ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا ( «الَّذِي يَسْرِقُ صَلَوَاتِهِ» ) : بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " مِنْ صَلَاتِهِ " بِالْإِفْرَادِ، قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: أَسْوَأُ السَّرِقَةِ مُبْتَدَأٌ، وَالَّذِي يَسْرِقُ خَبَرُهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: سَرِقَةُ الَّذِي يَسْرِقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّرَقَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعَ سَارِقٍ كَفَاجِرٍ وَفَجَرَةٍ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبُو قَتَادَةَ: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرَقَةً» اهـ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نُسْخَةِ الشَّيْخِ نُورِ الدِّينِ الْإِيجِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ، السَّرِقَةُ هُنَا أَيْضًا بِكَسْرِ الرَّاءِ، لَكِنْ يَقْتَضِي تَقْرِيرُ الطِّيبِيِّ فَتْحَهَا؛ إِذْ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرُ جَمْعٌ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَهُوَ بِالْكَسْرِ، وَقَدْ تُفْتَحُ ( «قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَوَاتِهِ؟» ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: صَلَاتَهُ بِالْإِفْرَادِ ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا» "، رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ) ، عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، (وَرَوَى الدَّارِمِيُّ نَحْوَهُ) ، أَيْ: مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ.

[باب السجود وفضله]

[بَابُ السُّجُودِ وَفَضْلِهِ]

(14) بَابُ السُّجُودِ وَفَضْلِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 887 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَلَا الشَّعْرَ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [14]- بَابُ السُّجُودِ وَفَضْلِهِ. أَيْ: كَيْفِيَّتِهِ، (وَفَضْلِهِ) ، أَيْ: مَا وَرَدَ فِي فَضِيلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِانْفِرَادِهِ عِبَادَةٌ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 887 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» ) : جَمْعُ عَظْمٍ، أَيْ: أُمِرْتُ بِأَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ السَّبْعَةَ عَلَى الْأَرْضِ إِذَا سَجَدْتُ (عَلَى الْجَبْهَةِ) : بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِ وَيَتْبَعُهَا الْأَنْفُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْجَبْهَةُ مَا بَيْنَ الْجَبِينَيْنِ، وَهُمَا جَانِبَا الرَّأْسِ، وَقَدَّمَهَا لِشَرَفِهَا وَلِحُصُولِ مَقْصُودِ السُّجُودِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْخُضُوعِ بِهِمَا (وَالْيَدَيْنِ) ، أَيِ: الْكَفَّيْنِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ بُطُونِهِمَا لِخَبَرِ الْبَيْهَقِيِّ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ، وَجَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَرْفَعُ مِرْفِقَيْهِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَى رَاحَتَيْهِ» ( «وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» ) : اعْلَمْ أَنَّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ دُونَ أَنْفِهِ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ وَضَعَ أَنْفَهُ وَحْدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، " وَقَالَا ": لَا يَجُوزُ السُّجُودُ بِالْأَنْفِ وَحْدَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ بِجَبْهَتِهِ عُذْرٌ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَرَفِ أَحَدِ الْقَدَمَيْنِ، وَأَمَّا وَضْعُ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ فَسُنَّةٌ فِي السُّجُودِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَخَذَ أَئِمَّتُنَا مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ السَّبْعَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَضْعُ الْأَنْفِ، وَأَجَابُوا عَنِ الْأَحَادِيثِ الظَّاهِرَةِ فِي وُجُوبِ وَضْعِهِ الَّذِي قَالَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، كَخَبَرِ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ» إِلَخْ، وَكَالْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ مَكَّنَ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ مِنَ الْأَرْضِ» ، وَكَرِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: ( «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» ) ، عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ، وَالْيَدَيْنِ إِلَخْ، بِحَمْلِهَا عَلَى النَّدْبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا، نَعَمْ خَبَرُ " «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُصِيبُ أَنْفَهُ مِنَ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ» " مُرْسَلٌ، وَرَفْعُهُ لَا يَثْبُتُ اهـ. وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِثْلُ هَذَا بِالرَّأْيِ " وَلَا نَكْفِتُ " بِكَسْرِ الْفَاءِ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِالنَّصْبِ، أَيْ: نُهِينَا أَنْ نَضُمَّ وَنَجْمَعَ (الثِّيَابَ) ، وِقَايَةً مِنَ التُّرَابِ (وَلَا الشَّعْرَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ، (وَلَا) مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَقِيلَ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَأُمِرْتُ أَنْ لَا نَكْفِتَهُمَا بَلْ نَتْرُكُهُمَا حَتَّى يَقَعَا عَلَى الْأَرْضِ لِيَسْجُدَ بِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَالثِّيَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَبِهَذَا الْحَدِيثِ قَالُوا: يُكْرَهُ عَقْصُ الشَّعْرِ وَعَقْدُهُ خَلْفَ الْقَفَا وَرَفْعُ الثِّيَابِ عِنْدَ السُّجُودِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُكْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ تَنْزِيهًا ضَمُّ شَعْرِهِ وَثِيَابِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِشُغْلٍ، وَصَلَّى عَلَى حَالِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَمِنْ كَفْتِهِمَا أَنْ يَعْقِصَ الشَّعْرَ أَوْ يَضُمَّهُ تَحْتَ عِمَامَتِهِ، وَأَنْ يُشَمِّرَ ثَوْبَهُ أَوْ يَشُدَّ وَسَطَهُ، أَوْ يَغْرِزَ عَذْبَتَهُ، وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ مَنْعُهُ مِنْ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهُ، بِهَذَا قَالُوا، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَيْضًا مُنَافَاةُ ذَلِكَ لِلْخُشُوعِ إِنْ فَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لِهَيْئَةِ الْخَاشِعِ إِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِيهَا. قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ: أُمِرْتُ يَدُلُّ عُرْفًا عَلَى أَنَّ الْآمِرَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ وَضْعِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فِي السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ، فَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ وَضْعُ جَمِيعِهَا أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّ الْوَاجِبَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي قِصَّةِ رِفَاعَةَ قَالَ:

فَلْيُمَكِّنْ جَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَوَضْعُ الْأَعْظُمِ السِّتَّةِ الْبَاقِيَةِ سُنَّةٌ، وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْرِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالنَّدَبِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى " أَسْجُدَ " وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَلَا نَكْفِتَ " لَيْسَ بِوَاجِبٍ وِفَاقًا، وَمَعْنَاهُ: أَنْ يُرْسِلَ الشَّعْرَ وَالثَّوْبَ وَلَا يَضُمَّهُمَا إِلَى نَفْسِهِ وِقَايَةً لَهُمَا مِنَ التُّرَابِ وَالْكَفْتُ: الضَّمُّ. قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَوُجُوبُ مَا يَجِبُ عُلِمَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ وَضْعُ أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ مِنَ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ لِوُقُوعِ اسْمِ السُّجُودِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ عَظْمَ الْأَنْفِ مُتَّصِلٌ بِعَظْمِ الْجَبْهَةِ مُتَّحِدٌ بِهِ، فَوَضْعُهُ كَوَضْعِ جُزْءٍ مِنَ الْجَبْهَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وُجُوبُ وَضْعِهِمَا مَعًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا مَا يُصِيبُ أَنْفَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُصِيبُ أَنْفَهُ مِنَ الْأَرْضِ مَا يُصِيبُ الْجَبِينَ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

888 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 888 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ» ) : قَالَ الْمُظْهِرُ الِاعْتِدَالُ فِي السُّجُودِ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ، وَيَضَعَ كَفَّهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَرْفَعَ الْمِرْفَقَيْنِ عَنِ الْأَرْضِ، وَبَطْنَهُ عَنِ الْفَخِذَيْنِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ وَيَضَعَ كَفَّهُ إِلَخْ، لَيْسَ تَفْسِيرًا لِلِاعْتِدَالِ، بَلْ تَفْسِيرًا لِعَدَمِ الِانْبِسَاطِ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا يَبْسُطْ) : وَهِيَ نَهْيٌ، وَقِيلَ: نَفْيٌ أَيْ: لَا يَفْتَرِشْ فِي الصَّلَاةِ ( «أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ» ) ، أَيْ: كَافْتِرَاشِهِ، وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ (ابْتِسَاطَ) مِنَ الِافْتِعَالِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: صَحَّ (انْبِسَاطَ) عَلَى وَزْنِ الِانْفِعَالِ خَرَجَ بِالْمَصْدَرِ إِلَى غَيْرِ لَفْظِهِ اهـ. وَالظَّاهِرُ إِلَى غَيْرِ بَابِهِ فِي النِّهَايَةِ، أَيْ: لَا يَبْسُطْهُمَا فَيَنْبَسِطَ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَا يَنْبَسِطْ بِهَذَا لِلْأَكْثَرِ بِنُونٍ سَاكِنَةٍ قَبْلَ الْمُوَحَّدَةِ، وَلِلْحَمَوِيِّ يَبْتَسِطْ بِمُثَنَّاةٍ بَعْدَ مُوَحَّدَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ بِمُوَحِّدَةٍ سَاكِنَةٍ فَقَطْ، وَعَلَيْهَا اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ وَقَوْلُهُ: انْبِسَاطَ بِالنُّونِ فِي الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ، وَبِالْمُثَنَّاةِ فِي الثَّانِيَةِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ، وَالثَّالِثَةُ تَقْدِيرُهَا: وَلَا يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ فَيَنْبَسِطَ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةِ لَا يَظْهَرُ لِوُجُودِ ذِرَاعَيْهِ وَجْهٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هُوَ ذِكْرُ الْحُكْمِ مَقْرُونًا بِعِلَّتِهِ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ يُنَاسِبُ تَرْكَهُ فِي الصَّلَاةِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِقُبْحِ الْهَيْئَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْخُشُوعِ إِلَّا لِمَنْ أَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ اعْتِمَادُ كَفَّيْهِ، فَلَهُ وَضْعُ سَاعِدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِخَبَرِ: شَكَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشَقَّةَ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: " «اسْتَعِينُوا بِالرُّكَبِ» "، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مَوْصُولًا، وَرُوِيَ مُرْسَلًا وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

889 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 889 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا سَجَدْتَ» ) ، أَيْ: أَرَدْتَ السُّجُودَ (فَضَعْ) ، أَيْ: عَلَى الْأَرْضِ (كَفَّيْكَ) ، أَيْ: مَضْمُومَتَيِ الْأَصَابِعِ مَكْشُوفَتَيْنِ حِيَالَ الْأُذُنَيْنِ، وَقِيلَ: حِذَاءَ الْمَنْكِبَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَجِبُ كَشْفُهُمَا لِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى فِي مَسْجِدِ بَنِيَ الْأَشْهَلِ، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُلَفَّعٌ بِهِ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ تِقْيَةَ الْحَصَاءِ» ، نَعَمْ يُكْرَهُ سَتْرُ ذَلِكَ، (وَارْفَعْ) ، أَيْ: مِنَ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ جَنْبَيْكَ (مِرْفَقَيْكَ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَيُعْكَسُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

890 - وَعَنْ مَيْمُونَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ جَافَى بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَنَّ بَهْمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ تَحْتَ يَدَيْهِ مَرَّتْ» "، هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، صَرَّحَ فِي: شَرْحِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادِهِ. وَلِمُسْلِمٍ بِمَعْنَاهُ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَرَّتْ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 890 - (وَعَنْ مَيْمُونَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ( «قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ جَافَى» ) ، أَيْ: أَبْعَدَ وَفَرَّقَ (بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: وَمَا يُحَاذِيهِمَا ( «حَتَّى لَوْ أَنَّ بَهْمَةً» ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَلَدُ الضَّأْنِ أَكْبَرُ مِنَ السَّخْلَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْبَهْمَةُ أَوْلَادُ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ ( «أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ تَحْتَ يَدَيْهِ» ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بَيْنَ يَدَيْهِ (مَرَّتْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَهْمَةُ بِالْفَتْحِ، وَلَدُ الضَّأْنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، قَالَ الْأَشْرَفُ: الْبَهْمَةُ فِي الْحَدِيثِ كَانَتْ أُنْثَى بِدَلِيلِ أَرَادَتْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي نَمْلَةِ سُلَيْمَانَ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: جَازَ أَنْ يَكُونَ التَّأْنِيثُ لِأَجْلِ التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيِّ، وَالْقَوْلُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ نَظِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَمْلَةَ سُلَيْمَانَ كَانِتْ أُنْثَى لِقَوْلِهِ: قَالَتْ، وَلَا بُدُّ مِنَ التَّمْيِيزِ بِعَلَامَةٍ كَقَوْلِهِمْ حَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ أُنْثَى، وَهُوَ وَهِيَ وَرَدَّ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: جَازَ أَنَّ التَّأْنِيثَ لِأَجْلِ التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيِّ كَقَوْلِكَ: جَاءَتِ الظُّلْمَةُ لَيْسَ بِشَيْءٍ إِذْ لَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى تَمْيِيزٍ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا بَطَّةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَهَذَا شَاةٌ ذَكَرٌ إِذَا عَنَيْتَ كَبْشًا، وَهَذَا بَقَرَةٌ إِذَا عَنَيْتَ ثَوْرًا فَإِنْ عَنَيْتَ أَنَّهَا أُنْثَى قُلْتَ هَذِهِ بَقَرَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ اهـ، نَعَمْ لَوْ جُوِّزَ أَنْ يُقَالَ: قَالَتْ طَلْحَةُ لَكَانَ لِلرَّدِّ وَجْهٌ، وَالْأَوْجَهُ أَنْ لَا يُقَالَ فَالْقَوْلُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا ... فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ، (هَذَا) ، أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ أَوْ هَذَا اللَّفْظُ (لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، كَمَا صَرَّحَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: كَمَا صَرَّحَهُ، أَيِ: الْبَغْوِيُّ (فِي: شَرْحِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادِهِ) . (وَلِمُسْلِمٍ) ، أَيْ: لَفْظُ هَذَا الْحَدِيثِ لِمُسْلِمٍ (بِمَعْنَاهُ) ، أَيْ: بِمَعْنَى لَفْظِ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ (قَالَتْ) ، أَيْ: مَيْمُونَةُ ( «كَانَ النَّبِيُّ إِذَا سَجَدَ لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَمَرَّتْ» ) : فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ وَاقِعٌ فِي الْجُمْلَةِ.

891 - وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 891 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ) : بِالتَّنْوِينِ (ابْنِ بُحَيْنَةَ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ يَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ نُونٍ وَتَاءِ تَأْنِيثٍ، اسْمُ امْرَأَةِ مَالِكٍ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنْ يُنَوَّنَ مَالِكٌ، وَيُكْتَبَ (ابْنِ) بِالْأَلِفِ؛ لِأَنَّ (ابْنِ بُحَيْنَةَ) لَيْسَ صِفَةً لِمَالِكٍ، بَلْ " صِفَةً " لِعَبْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ أَبِيهِ مَالِكٌ، وَاسْمَ أُمِّهِ بُحَيْنَةُ امْرَأَةُ مَالِكٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، (قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ» ) ، أَيْ: وَسَّعَ وَفَرَّقَ (بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ) ، أَيْ: يَظْهَرُ (بَيَاضُ إِبِطَيْهِ) : بِسُكُونِ الْبَاءِ قَالَهُ الْمُغْرِبُ، وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَتُكْسَرُ الْبَاءُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخَذَ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَيْضًا " «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ» " أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَاضَ إِبِطِهِ حَقِيقَةً، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَانَ لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، وَاعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ تَقْرِيبِ الْأَسَانِيدِ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، بَلْ لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ مُعْتَمَدٍ، وَالْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ بَيَاضَ إِبِطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَعْرٌ، فَإِنَّهُ إِذَا نُتِفَ بَقِيَ الْمَكَانُ أَبْيَضَ، وَإِنْ بَقِيَ فِي آثَارِ الشَّعْرِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ جَمْعٌ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ: «كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَفْرَةِ إِبِطِهِ إِذَا سَجَدَ» ، وَالْعَفْرَةُ: بَيَاضٌ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ كَلَوْنِ عَفْرَةِ الْأَرْضِ، أَيْ: وَجْهِهَا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَثَارَ الشَّعْرِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَحَلَّ أَعْفَرَ إِذْ لَوْ خَلَا عَنْهُ جُمْلَةً لَمْ يَكُنْ أَعْفَرَ، نَعَمِ الَّذِي نَعْتَقِدُ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِإِبِطِهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، بَلْ كَانَ نَظِيفًا طَيِّبَ الرَّائِحَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الصَّحِيحِ اهـ، وَوُجُودُ الشَّعْرِ مَعَ عَدَمِ الرَّائِحَةِ أَبْلَغُ فِي الْكَرَامَةِ كَمَا لَا يَخْفَى، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

892 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 892 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ) ، أَيْ: أَحْيَانًا (فِي سُجُودِهِ) : يَحْتَمِلُ مَعَ التَّسْبِيحِ وَبِدُونِهِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ) : لِلتَّأْكِيدِ وَمَا بَعْدَهُ تَفْصِيلٌ لِأَنْوَاعِهِ أَوْ بَيَانُهُ، وَيُمْكِنُ نَصْبُهُ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي (دِقَّهُ) : بِالْكَسْرِ أَيْ دَقِيقَهُ وَصَغِيرَهُ (وَجِلَّهُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَقَدْ تُضَمُّ أَيْ جَلِيلَهُ وَكَبِيرَهُ، قِيلَ: إِنَّمَا قُدِّمَ الدِّقُّ عَلَى الْجِلِّ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ يَتَصَاعَدُ فِي مَسْأَلَتِهِ، أَيْ: يَتَرَقَّى؛ وَلِأَنَّ الْكَبَائِرَ تَنْشَأُ غَالِبًا مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا، فَكَأَنَّهَا وَسَائِلُ إِلَى الْكَبَائِرِ، وَمِنْ حَقِّ الْوَسِيلَةِ أَنْ تُقَدَّمَ إِثْبَاتًا وَرَفْعًا (وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ) : الْمَقْصُودُ الْإِحَاطَةُ (وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ) ، أَيْ: عِنْدَ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَإِلَّا فَهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

893 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخْطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 893 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ) : ضِدُّ صَادَفْتُ، أَيْ: طَلَبْتُ فَمَا وَجَدْتُ ( «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ» ) : مُتَعَلِّقٌ بِفَقَدْتُ، وَالْمَعْنَى اسْتَيْقَظْتُ فَلَمْ أَجِدْهُ بِجَنْبِي عَلَى فِرَاشِهِ (فَالْتَمَسْتُهُ) ، أَيْ: طَلَبْتُهُ بِالْيَدِ قِيلَ: فَمَدَدْتُ يَدِي مِنَ الْحُجْرَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ (فَوَقَعَتْ يَدِي) : بِالْإِفْرَادِ ( «عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ» ) : قَالَ الْقَاضِي: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلْمُوسَ لَا يُفْسَدُ وُضُوءُهُ، إِذِ اللَّمْسُ الِاتِّفَاقِيُّ لَا أَثَرَ لَهُ؛ إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اسْتَمَرَّ عَلَى السُّجُودِ، قَالَ الْأَشْرَفُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ بَيْنَ اللَّامِسِ وَالْمَلْمُوسِ حَائِلٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُوَافِقُ مَذْهَبَنَا (وَهُوَ فِي الْمَسْجَدِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ: فِي السُّجُودِ فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَوْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ فِي حُجْرَتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَسْجِدَ الْبَيْتِ بِمَعْنَى مَعْبَدِهِ، وَالْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: فِي الْمَسْجِدِ هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا فِي السَّجْدَةِ، وَفِي بَعْضِهَا فِي السُّجُودِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَ أَصْلَ الْمِشْكَاةِ وَهُوَ " فِي السَّجْدَةِ "، ثُمَّ قَالَ: وَفِي نُسْخَةٍ (الْمَسْجِدِ) وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَالْأَوْلَى فِي بَعْضِ نَسْخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا " السُّجُودِ "، وَالَّذِي فِي أَكْثَرِهَا مَا فِي مُسْلِمٍ اهـ. وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّ النُّسْخَةَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْمِشْكَاةِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُطَابِقَةِ لِمَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ جَعَلَهَا نُسْخَةً، وَالنُّسْخَةَ الَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ جَعَلَهَا أَصْلًا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فِي مُسْلِمٍ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَ فِي نُسْخَةِ الْمِشْكَاةِ أَصْلًا (وَهُمَا) ، أَيْ: قَدَمَاهُ (مَنْصُوبَتَانِ) ، أَيْ: قَائِمَتَانِ ثَابِتَتَانِ (وَهُوَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَيُفْتَحُ ( «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ» ) ، أَيْ: مِنْ فِعْلٍ يُوجِبُ سَخَطَكَ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أُمَّتِي (وَبِمُعَافَاتِكَ) ، أَيْ: بِعَفْوِكَ وَأَتَى بِالْمُغَالَبَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: بِعَفْوِكَ الْكَثِيرِ (مِنْ عُقُوبَتِكَ) : وَهِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ السَّخَطِ، وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ بِصِفَاتِ الرَّحْمَةِ لِسَبْقِهَا وَظُهُورِهَا " مِنْ " صِفَاتِ الْغَضَبِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ) : إِذْ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَعَكَ شَيْئًا، فَلَا يُعِيذُهُ مِنْكَ إِلَّا أَنْتَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بَدَأَ بِالْمُعَافَاةِ ثُمَّ بِالرِّضَا، فَيَكُونُ الِابْتِدَاءُ بِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ، ثُمَّ بِصِفَاتِ الذَّاتِ، ثُمَّ بِالذَّاتِ مُتَرَقِّيًا اهـ. وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّدَلِّي مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَكَسَهُ لِيَكُونَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي إِذْ صِفَاتُ الذَّاتِ أَجَلُّ وَأَفْخَمُ اهـ، فَغَفْلَةٌ عَنِ الْخَتْمِ بِالذَّاتِ، إِذَا لَا يَصِحُّ مَعَهُ التَّدَلِّي، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّهُ بَيَّنَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ، ( «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَصْلُ فِي الْإِحْصَاءِ الْعَدُّ بِالْحَصَى، أَيْ: لَا أُطِيقُ أَنْ أُثْنِيَ عَلَيْكَ كَمَا تَسْتَحِقُّهُ (أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ

أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَالْكَافُ بِمَعْنَى " مِثْلَ "، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لَا أُطِيقُ أَنْ أَعُدَّ وَأُحْصِرَ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الثَّنَاءِ الْوَاجِبِ لَكَ عَلَيَّ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَذَرَّةٍ إِذْ لَا تَخْلُو لَمْحَةٌ قَطُّ مِنْ وُصُولِ إِحْسَانٍ مِنْكَ إِلَيَّ، وَكُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُحْصِيَ مَا فِي طَيِّهَا مِنَ النِّعَمِ لَعَجَزْتُ لِكَثْرَتِهَا جِدًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] فَأَنَا الْعَاجِزُ عَنْ قِيَامِ شُكْرِكَ فَأَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَعَفْوَكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِي جَعْلِ الشَّارِحِ الْكَافَ بِمَعْنَى " مِثْلَ " وَأَنَّهُ زَائِدٌ بَعُدَ أَيُّ بُعْدٍ - فَبَعِيدٌ، أَيْ: بَعِيدٌ وَلَمْ يَقُلِ الشَّارِحُ بِزِيَادَتِهِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ (عَلَى نَفْسِكَ) : أَيْ: ذَاتِكَ بِقَوْلِكَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

894 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 894 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ) : أَسْنَدَ الْقُرْبَ إِلَى الْوَقْتِ، وَهُوَ لِلْعَبْدِ مَجَازًا، أَيْ: هُوَ فِي السُّجُودِ أَقْرَبُ مِنْ رَبِّهِ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَقْرَبُ أَكْوَانِ الْعَبْدِ وَأَحْوَالِهِ مِنْ رِضَا رَبِّهِ وَعَطَائِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَقِيلَ: أَقْرَبُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ لِسَدِّ الْحَالِ مَسَدَّهُ، " وَهِيَ (وَهُوَ سَاجِدٌ) ، أَيْ: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ حَاصِلٌ فِي حَالِ كَوْنِهِ سَاجِدًا ( «فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَالَةَ السُّجُودِ تَدُلُّ عَلَى غَايَةِ تَذَلُّلٍ، وَاعْتِرَافٍ بِعُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ وَرُبُوبِيَّةِ رَبِّهِ، فَكَانَ مَظِنَّةَ الْإِجَابَةِ فَأَمَرَهُمْ بِإِكْثَارِ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، قَالَ: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ كَثْرَةِ السُّجُودِ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَأَحْمَدُ.

895 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَتِي أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ، فَلِيَ النَّارُ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 895 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ» ) : ذُكِرَ تَلْمِيحًا لِقِصَّةِ أَبِيهِ آدَمَ مَعَ الشَّيْطَانِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا (السَّجْدَةَ) ، أَيْ: آيَتَهَا (فَسَجَدَ) ، أَيِ: ابْنُ آدَمَ التَّالِي وَالْمُسْتَمِعُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَرَغْبَةً فِي طَاعَتِهِ ( «اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ» ) ، أَيِ: انْصَرَفَ وَانْحَرَفَ مِنْ عِنْدِ الْقَارِئِ الَّذِي يُرِيدُ وَسْوَسَتَهُ إِلَى جَانِبٍ آخَرٍ، لِتَحَلِّيهِ بِذَلِكَ الْقُرْبِ، وَتَخَلِّي الشَّيْطَانِ بِأَقْبَحِ الْبُعْدِ، وَكُلُّ مَنْ عَدْلَ لِجَانِبٍ فَهُوَ مُعْتَزِلٌ، وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتِ الْمُعْتَزِلَةُ مُعْتَزِلَةً لِاعْتِزَالِ أَوَائِلِهِمُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، لَمَّا سَمِعُوهُ يُقَرِّرُ خِلَافَ مُعْتَقَدِهِمُ الْفَاسِدِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ يُقَرِّرُونَ عَقِيدَتَهُمْ فَقَالَ: مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ اعْتَزَلُوا عَنَّا فَسُمُّوا بِذَلِكَ، (يَبْكِي، يَقُولُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا حَالَانِ مِنْ فَاعِلِ اعْتَزَلَ مُتَرَادِفَتَانِ، أَيْ: بَاكِيًا وَقَائِلًا أَوْ مُتَدَاخِلَتَانِ، أَيْ: بَاكِيًا قَائِلًا (يَا وَيْلَتَى) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَصْلُهُ: يَا وَيْلِي، فَقُلِبَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَاءً، وَزِيدَتْ بَعْدَهَا أَلْفٌ لِلنُّدْبَةِ، وَالْوَيْلُ: الْحُزْنُ وَالْهَلَاكُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا حُزْنِي وَيَا هَلَاكِي احْضُرْ، فَهَذَا وَقْتُكَ وَأَوَانُكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: نِدَاءُ الْوَيْلِ لِلتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَحُصُولِ اللَّعْنِ وَالْخَيْبَةِ لِلْحَسَدِ عَلَى مَا حَصَلَ لِابْنِ آدَمَ بَيَانُهُ، ( «أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ» ) ، أَيِ: امْتَنَعْتُ تَكَبُّرًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَاسْتِحْقَارًا لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يَسْجُدَ إِلَيْهِ، أَيْ: يُجْعَلَ قِبْلَةً لِلسُّجُودِ إِذْ هُوَ لَمْ يَكُنْ بِوَضْعِ جَبْهَةٍ، بَلْ

انْحِنَاءٍ، أَوْ وَضْعِ جَبْهَةٍ لَكِنْ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا آدَمُ فَإِنَّمَا جُعِلَ قِبْلَةً فَقَطْ كَالْكَعْبَةِ (فَلِيَ النَّارُ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ وَاجِبٌ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَظَاهِرُ الْمُقَابَلَةِ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ آدَمُ قِبْلَةً فَأَبَى جَوَازَ كَوْنِهِ قِبْلَةً لَهُ لِقِيَاسٍ فَاسِدٍ أَظْهَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

896 - وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: " سَلْ "، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: " أَوَغَيْرَ ذَلِكَ؟ "، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 896 - (وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ) ، أَيِ: الْأَسْلَمِيِّ (قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ) : مِنَ الْبَيْتُوتَةِ، أَيْ: أَكُونُ فِي اللَّيْلِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَلَعَلَّ هَذَا وَقَعَ لَهُ فِي سَفَرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: إِمَّا فِي السِّفْرِ أَوِ الْحَضَرِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ: الْقُرْبُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ نِدَاءَهُ إِذَا نَادَاهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ (فَأَتَاهُ) : أَيْ: فَأَجَاءَهُ (بِوَضُوئِهِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ: مَاءِ وَضُوئِهِ وَطَهَارَتِهِ (وَحَاجَتِهِ) ، أَيْ: سَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نَحْوِ: سِوَاكٍ وَسِجَّادَةٍ (فَقَالَ لِي) ، أَيْ: فِي مَقَامِ الِانْبِسَاطِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ فِي مَقَامِ الْمُكَافَأَةِ لِلْخِدْمَةِ (سَلْ) ، أَيِ: اطْلُبْ مِنِّي حَاجَةً، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أُتْحِفُكَ بِهَا فِي مُقَابَلَةِ خِدْمَتِكَ لِي؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ شَأْنُ الْكِرَامِ، وَلَا أَكْرَمَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَمْرَ بِالسُّؤَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَكَّنَهُ مِنْ إِعْطَاءِ كُلِّ مَا أَرَادَ مِنْ خَزَائِنِ الْحَقِّ، وَمِنْ ثَمَّ عَدَّ أَئِمَّتُنَا مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَخُصُّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، كَجَعْلِهِ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ بِشَهَادَتَيْنِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَكَتَرْخِيصِهِ فِي النِّيَاحَةِ لِأُمِّ عَطِيَّةَ فِي آلِ فُلَانٍ خَاصَّةً، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لِلشَّارِعِ أَنْ يَخُصَّ مِنَ الْعُمُومِ مَا شَاءَ، وَبِالتَّضْحِيَةِ بِالْعِنَاقِ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ وَغَيْرِهِ وَذَكَرَ ابْنُ سَبْعٍ فِي خَصَائِصِهِ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْطَعَهُ أَرْضَ الْجَنَّةِ يُعْطِي مِنْهَا مَا شَاءَ لِمَنْ يَشَاءُ، قُلْتُ: أَسْأَلُكَ ( «فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ» ) ، أَيْ: كَوْنِي رَفِيقًا لَكَ إِلَى الْجَنَّةِ: بِأَنْ أَكُونَ قَرِيبًا مِنْكَ مُتَمَتِّعًا بِنَظَرِكَ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ (أَوَ) : بِسُكُونِ الْوَاوِ وَتُفْتَحُ (غَيْرَ ذَلِكَ) : بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 98] يَعْنِي: عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي " أَوَ " وَأَمَّا " أَهْلُ " فَمَرْفُوعٌ لَا غَيْرُ، وَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ، أَيْ: تَسْأَلُ ذَلِكَ، أَوَغَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ، أَوْ مَسْئُولُكَ ذَلِكَ، أَوَغَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، فَأَوْ عَطْفٌ عَلَى مُقَرَّرٍ، فَيَجُوزُ فِي (غَيْرَ) النَّصْبُ وَالرَّفْعُ بِحَسَبِ التَّقْدِيرَيْنِ، وَقِيلَ: الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَ (غَيْرَ) نُصِبَ، فَالْمَعْنَى: أَثَابِتٌ أَنْتَ فِي طَلَبِكَ أَمْ لَا؟ ، وَتَسْأَلُ غَيْرَهُ وَهَذَا ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ لِيَنْظُرَ هَلْ يَثْبُتُ عَلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ فَإِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى طَلَبٍ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ مِنْ أَتَمِّ الْكَمَالَاتِ، (قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ) ، أَيْ: سُؤَالِي مُرَافَقَتَكَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنٍ أَوْ عَاطِفَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ: مَسْئُولِي ذَلِكَ لَا أَتَجَاوَزُ عَنْهُ، قُلْتُ: سُبْحَانَ مَنْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ حُسْنِ الْخِدْمَةِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، (قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ) ، أَيْ: كُنْ لِي عَوْنًا فِي إِصْلَاحِ نَفْسِكَ لِمَا تَطْلُبُ (بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) : فِي الدُّنْيَا حَتَّى تُرَافِقَنِي فِي الْعُقْبَى قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ الْعَالِيَةَ لَا تَحْصُلُ، بِمُجَرَّدِ السُّجُودِ، بَلْ بِهِ مَعَ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ وَلَّاهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِهِ " عَلَى نَفْسِكَ " إِيذَانٌ بِأَنَّ نَيْلَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ الدَّنِيَّةِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَوْ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَقَالَ مُحْيِيِ الدِّينِ: بِفَتْحِهَا، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ تَقْتَضِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ " تَدَّعِي " فِعْلًا، وَالْمَعْنَى عَلَيَّ: الْأَوَّلُ سَلْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَأَجَابَ: هُوَ ذَاكَ أَيْ مَسْئُولِي ذَلِكَ " لَا أَنْتَهِي " عَنْهُ، وَعَلَى الثَّانِي: أَتَسْأَلُ هَذَا وَهُوَ شَاقٌّ وَتَتْرُكُ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْهُ؟ فَأَجَابَ سُؤَالِي ذَلِكَ لَا أَتَجَاوَزُ عَنْهُ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِهِ لِيَنْتَهِيَ السَّائِلُ عَنْهُ امْتِحَانًا مِنْهُ، فَلَمَّا عَلِمَ تَصْمِيمَهُ عَلَى عَزْمِهِ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ: " أَعْنِي "، وَفِيهِ أَنَّ مُرَافَقَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِقُرْبٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

897 - وَعَنْ مَعْدَانَ بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: «لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً، قَالَ مَعْدَانُ: " ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 897 - (وَعَنْ مَعْدَانَ بْنِ طَلْحَةَ) : وَيُقَالُ: ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ شَامِيٌّ ثِقَةٌ قَالَهُ فِي التَّقْرِيبِ، ( «قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ» ) ، " بِالرَّفْعِ عَلَى صِفَةِ الْعَمَلِ وَكَذَلِكَ ( «يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَلُهُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَيُدْخِلُنِي بَدَلًا مِنْهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْدَانَ لَمَّا كَانَ مُعْتَقِدًا لِكَوْنِ الْأَخْبَارِ سَبَبًا لِعَمَلِهِ صَحَّ ذَلِكَ (فَسَكَتَ) ، أَيْ: ثَوْبَانُ (ثُمَّ سَأَلْتُهُ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانٍ آخَرَ، وَأَنْ تَكُونَ ثُمَّ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ (فَسَكَتَ) : كَأَنَّهُ يَسْتَبِينُ رَغْبَتَهُ لِخَطَرِ هَذَا الْمَسْئُولِ (ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ) ، أَيْ: ثَوْبَانُ (سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ التَّثْلِيثُ فِي السُّؤَالِ أَيْضًا (فَقَالَ) : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» ) ، أَيِ: الْزَمْ كَثْرَتَهُ (لِلَّهِ تَعَالَى) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِهِ السُّجُودَ لِلصَّلَاةِ أَوْ لِلتِّلَاوَةِ أَوْ لِلشُّكْرِ ( «فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» " قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 898 - عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي. 898 - (عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ) ، أَيْ: أَرَادَ السُّجُودَ ( «وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ» ) وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ (وَإِذَا نَهَضَ) ، أَيْ: أَرَادَ النُّهُوضَ وَهُوَ الْقِيَامُ ( «رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» ) : وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ الشَّافِعِيُّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَضَعَّفَ النَّوَوِيُّ الشَّطْرَ الثَّانِيَ؛ وَلِهَذَا مَذْهَبُنَا الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي قِيَامِهِ عَلَى بَطْنِ رَاحَتَيْهِ، وَأَصَابِعُهُ مَبْسُوطَةٌ عَلَى الْأَرْضِ لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْقِيَامِ مِنَ السُّجُودِ، وَيُقَاسُ بِهِ الْقِيَامُ مِنَ الْقُعُودِ وَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ ضَعِيفٌ، وَكَذَا خَبَرُ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» ، وَكَذَا خَبَرُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ إِلَّا الشَّيْخُ الْعَاجِزُ الَّذِي لَا يَسْتَطِعُ، وَكَذَا قَوْلُ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ: رَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ - وَعَدَّهُمْ - يَقُومُونَ عَلَى صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ عَطِيَّةَ هَذَا ضَعِيفٌ. قُلْتُ لَا شَكَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ إِذَا كَثُرَتْ تَنْتَقِلُ مِنَ الضَّعْفِ إِلَى الْقُوَّةِ، كَيْفَ وَقَدْ حَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الْأَصْلِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَجَلُّ مَنِ النَّوَوِيِّ، فَمَنَعَ وُجُودَ هَذَا النَّصِّ كَيْفَ يَصِحُّ الْقِيَامُ الْمَذْكُورُ الَّذِي ظَاهِرُ الْفَرْقِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي وَسِيطِ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ، «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ وَضَعَ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ كَمَا يَضَعُ الْعَاجِزُ» ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ وَلَا يَصِحُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ أَيْضًا: «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَهَضَ نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخِذَيْهِ» ، قَالَ الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ هَذِهِ مُوَافِقَةٌ لِمَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا رَفْعَ يَدَيْهِ تَعَيَّنَ نُهُوضُهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ؛ إِذْ لَمْ يَبْقَ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمَا، وَقَوْلُهُ: وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخِذِهِ أَيِ اعْتَمَدَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِهِ يَسْتَعِينُ بِذَلِكَ عَلَى النُّهُوضِ.

899 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَرْفَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: " حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا "، وَقِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 899 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ» ) : نَهْيٌ، وَقِيلَ: نَفْيٌ ( «كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ» ) ، أَيْ: لَا يَضَعْ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ شُبِّهَ ذَلِكَ بِبُرُوكِ الْبَعِيرِ، مَعَ أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّ رُكْبَةَ الْإِنْسَانِ فِي الرِّجْلِ، وَرُكْبَةَ الدَّوَابِّ فِي الْيَدِ، وَإِذَا وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ أَوَّلًا فَقَدْ شَابَهَ الْإِبِلَ فِي الْبُرُوكِ (وَلْيَضَعَ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَتُكْسَرُ ( «يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَيْفَ هِيَ عَنْ بُرُوكِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ، وَالْبَعِيرُ يَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرِّجْلَيْنِ؛ وَالْجَوَابُ: الرُّكْبَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَمِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الْيَدَيْنِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا لَفْظُهُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ (وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سَنَدُهُ جَيِّدٌ (قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ) : مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ (حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْأَحَبَّ لِلسَّاجِدِ أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ، لِمَا رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ بِعَكْسِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ عِنْدَ أَرْبَابِ النَّقْلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوَجْهُ كَوْنِهِ أَثْبَتَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحُفَّاظِ صَحَّحُوهُ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ أَنَّ فِي سَنَدِهِ شَرِيكًا الْقَاضِيَ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى لَهُ فَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ عَلَى أَنَّ لَهُ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ فَيَجْبُرُهُمَا، (وَقِيلَ: هَذَا) ، أَيْ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ (مَنْسُوخٌ) . قَالَ مِيرَكُ: نَاقِلًا عَنِ التَّصْحِيحِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ، فَأَمَرَنَا بِوَضْعِ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ» ، رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، فَلَوْلَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ سَابِقًا عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ النَّسْخُ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ آخِرُهُ انْقَلَبَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهُ يُخَالِفُ آخِرَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا وَضَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ فَقَدْ بَرَكَ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، فَإِنَّ الْبَعِيرَ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذَا لَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَمْ يَبْقَ اعْتِمَادٌ عَلَى رِوَايَةِ رَاوٍ مَعَ كَوْنِهَا صَحِيحَةً، ثُمَّ قَالَ، فَإِنْ قِيلَ: رُكْبَتَا الْبَعِيرِ فِي يَدَيْهِ لَا فِي رِجْلَيْهِ، فَهُوَ إِذَا بَرَكَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ أَوَّلًا، فَهَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، قُلْتُ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَعِيرَ إِذْ بَرَكَ فَإِنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا، وَتَبْقَى رِجْلَاهُ قَائِمَتَيْنِ، وَإِذَا نَهَضَ فَإِنَّهُ يَنْهَضُ بِرِجْلَيْهِ أَوَّلًا، وَتَبْقَى يَدَاهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَعَلَ خِلَافَهُ اهـ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ، ثُمَّ قَالَ: فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَيْهَا، وَأَوَّلُ مَا يُرْفَعُ عَنِ الْأَرْضِ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى مِنْهَا، فَكَانَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَبْهَتَهُ، وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَ رَأْسَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ، قُلْتُ: هَذَا مَذْهَبُنَا وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ التَّأْوِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا عَكْسُ فِعْلِ الْبَعِيرِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى فِي الصَّلَاةِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْحَيَوَانَاتِ، فَنَهَى عَنْ بُرُوكٍ كَبَرُوكِ الْبَعِيرِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ، وَافْتِرَاشٍ كَافْتِرَاشِ السَّبْعِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ

الْكَلْبِ، وَنَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الْغُرَابِ، وَرَفْعِ الْأَيْدِي حَالَ السَّلَامِ كَأَذْنَابِ الْخَيْلِ الشُّمْسِ بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، جَمْعُ شَمُوسٍ، أَيْ: صَعْبٍ قُلْتُ: قَيْدُ حَالِ السَّلَامِ تَأْوِيلٌ فِي مَذْهَبِ الْقَائِلِ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَمُطْلَقٌ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ دُونَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ قَالَ: فَحَالُ الْمُصَلِّي مُخَالِفٌ لِحَالِ الْحَيَوَانَاتِ، الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: رُكْبَتَا الْبَعِيرِ فِي يَدَيْهِ كَلَامٌ لَا يُعْقَلُ وَلَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الرُّكْبَةُ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الَّتِي فِي الْيَدَيْنِ رُكْبَةٌ، فَتَجَوُّزٌ أَوْ تَغْلِيبٌ، قُلْتُ: فَيَجُوزُ التَّجْوِيزُ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ حِينَ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ قَالَ: الرُّكْبَةُ بِالضَّمِّ مَوْصِلُ مَا بَيْنَ أَسْفَلِ أَطْرَافِ الْفَخِذِ وَأَعَالِي السَّاقِ، أَوْ مِرْفَقُ الذِّرَاعِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ: الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: فَلْيَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَمَسُّ الْأَرْضَ مِنْهُ، قُلْتُ: هَذَا حُكْمٌ غَرِيبٌ وَأَمْرٌ عَجِيبٌ، وَمَنْ تَأَمَّلَ بُرُوكَ الْبَعِيرِ، وَعَلِمَ نَهْيَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ بُرُوكٍ كَبُرُوكِ الْبَعِيرِ، عَلِمَ أَنَّ حَدِيثَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ هُوَ الصَّوَابُ اهـ، وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَنَا الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَمَذْهَبَ مَالِكٍ الْعَمَلُ بِالثَّانِي، وَلِكُلٍّ وَجْهٌ وَلَمَّا تَكَافَأَ الْحَدِيثَانِ فِي أَصْلِ الصِّحَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَمْ يَظْهَرْ لِي تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ حَيْثُ السُّنَّةُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِالنَّسْخِ؛ لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَيْهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ الْأَوَّلُ أَصَحُّ فَقُدِّمَ عَلَى أَنَّهُ الَّذِي قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَأَيْضًا فَهُوَ أَرْفَقُ بِالْمُصَلِّي وَأَحْسَنُ فِي الشَّكْلِ وَرَأْيِ الْعَيْنِ.

900 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 900 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» ) : وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّطَوُّعِ عِنْدَنَا (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) ، أَيْ: ذُنُوبِي أَوْ تَقْصِيرِي فِي طَاعَتِي (وَارْحَمْنِي) ، أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ لَا بِعَمَلِي: أَوِ ارْحَمْنِي بِقَبُولِ عِبَادَتِي (وَاهْدِنِي) : لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ أَوْ ثَبِّتْنِي عَلَى دِينِ الْحَقِّ (وَعَافِنِي) : مِنَ الْبَلَاءِ فِي الدَّارَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَمْرَاضِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ (وَارْزُقْنِي) : رِزْقًا حَسَنًا أَوْ تَوْفِيقًا فِي الطَّاعَةِ، أَوْ دَرَجَةً عَالِيَةً فِي الْآخِرَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ فِيهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ: " وَاجْبُرْنِي "، أَيِ: اجْبُرْ كَسْرِي، وَأَزِلْ فَقْرِي، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ: " وَارْفَعْنِي، أَيْ: فِي الدَّارَيْنِ.

901 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 901 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : مِنْ حَدِيثٍ أَطْوَلَ مِنْهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُمَا: " «رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي» " مُكَرَّرًا ثَلَاثًا، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ، (وَالدَّارِمِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 902 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 902 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، ابْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، الْأَوْسِيِّ، الْمَدَنِيِّ، أَحَدِ النُّقَبَاءِ، نَزِيلِ حِمْصٍ، مَاتَ أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ» ) : بِفَتْحِ النُّونِ يُرِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي تَخْفِيفِ السُّجُودِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْكُثُ فِيهِ إِلَّا قَدْرَ

وَضَعَ الْغُرَابُ مِنْقَارَهُ فِيمَا يُرِيدُ أَكْلَهُ ( «وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ» ) : وَهُوَ أَنْ يَضَعَ سَاعِدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ (وَأَنْ يُوَطِّنَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا ( «الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ» ) : يُقَالُ: أَوْطَنَ الْأَرْضَ وَوَطَّنَهَا وَاسْتَوْطَنَهَا إِذَا اتَّخَذَهَا وَطَنًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي النِّهَايَةِ، عَنِ الْحُلْوَانِيِّ: أَنَّهُ ذُكِرَ فِي الصَّوْمِ عَنْ أَصْحَابِنَا، يُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِي الْمَسْجِدِ مَكَانًا مُعَيَّنًا يُصَلِّي فِيهِ ; لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَصِيرُ لَهُ طَبْعًا فِيهِ، وَتَثْقُلُ فِي غَيْرِهِ، وَالْعِبَادَةُ إِذَا صَارَتْ طَبْعًا فَسَبِيلُهَا التَّرْكُ، وَلِذَا كُرِهَ صَوْمُ الْأَبَدِ اهـ، فَكَيْفَ مَنِ اتَّخَذَهُ لِغَرَضٍ آخَرَ فَاسِدٍ؟ اهـ. وَفِي النِّهَايَةِ: قِيلَ مَعْنَاهُ أَنْ يَأْلَفَ الرَّجُلُ مَكَانًا مَعْلُومًا مِنَ الْمَسْجِدِ مَخْصُوصًا بِهِ يُصَلِّي فِيهِ، كَالْبَعِيرِ لَا يَأْوِي عَنْ عَطَنٍ إِلَّا إِلَى مَبْرَكٍ دَمِثٍ قَدْ أَوْطَنَهُ وَاتَّخَذَهُ مُنَاخًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَبْرُكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ إِذَا أَرَادَ السُّجُودَ مِثْلَ بُرُوكِ الْبَعِيرِ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي: لَا يَصِحُّ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِهِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَمَا اخْتُصَّ النَّهْيُ بِالْمَكَانِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا ذُكِرَ قَالَ: عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوَّلُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحِكْمَتُهُ أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الشُّهْرَةِ، وَالرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، وَالتَّقَيُّدِ بِالْعَادَاتِ، وَالْحُظُوظِ، وَالشَّهَوَاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ آفَاتٌ، أَيْ آفَاتٌ فَتَعَيَّنَ الْبُعْدُ عَمَّا أَدَّى إِلَيْهَا مَا أَمْكَنَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحَيْهِمَا، قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ. وَعَنْ أَبِي عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا تَنْقُرْ نَقْرًا» " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ لَفْظَ: " مِنَ الْأَرْضِ " وَمِنَ الْعَجَبِ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَنَّهُ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، نَعَمْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ.

903 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَلِيُّ إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ، وَأَكْرَهُ لَكَ مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي، لَا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 903 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَلِيُّ إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، وَأَكْرَهُ لَكَ مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي» ) : الْمَقْصُودُ إِظْهَارُ الْمَحَبَّةِ لِوُقُوعِ النَّصِيحَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعَ كُلِّ مُؤْمِنٍ كَذَلِكَ (لَا تُقْعِ) : بِضَمِّ التَّاءِ (بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) : قِيلَ: الْإِقْعَاءُ أَنْ يُلْصِقَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ كَالْكَلْبِ، وَقِيلَ: أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَقِيلَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ نَاصِبًا قَدَمَيْهِ وَفَخِذَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، قَالَ: إِقْعَاءُ الْكَلْبِ فِي نَصْبِ الْيَدَيْنِ، وَإِقْعَاءُ الْآدَمِيِّ فِي نَصْبِ الرُّكْبَتَيْنِ إِلَى صَدْرِهِ، وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: لَا تَجْلِسْ عَلَى أَلْيَتَيْكَ نَاصِبًا فَخِذَيْكَ ; لِأَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ لَا تَجْلِسْ عَلَى عَقِبَيْكَ ; لِأَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ، لَكِنْ وَرَدَ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ: الْإِقْعَاءُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ سُنَّةٌ، وَزَعَمَ الْخَطَّابِيُّ حُرْمَتَهُ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ - ضَعِيفٌ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

904 - وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 904 - (وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ) : مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ قَبِيلَةٍ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» ) ، أَيْ: نَظَرَ قَبُولٍ (" «إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا صُلْبَهُ» ") : أَيْ: فِي الْقَوْمَةِ بَيَانُهَا. (" بَيْنَ خُشُوعِهَا ") ، أَيْ: رُكُوعُهَا (" وَسُجُودِهَا ") : سُمِّيَ الرُّكُوعُ خُشُوعًا، لِأَنَّهُ مِنْ هَيْئَةِ الْخَاشِعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ الْأَوَّلِيَّ مِنْ تِلْكَ الْهَيْئَةِ الْخُشُوعُ وَالِانْقِيَادُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَلَفْظُهُ: ( «بَيْنَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا» ") ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.

905 - وَعَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ " مَنْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ فَلْيَضَعْ كَفَّيْهِ عَلَى الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ إِذَا رَفَعَ فَلْيَرْفَعْهُمَا، فَإِنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ "، رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 905 - (وَعَنْ نَافِعٍ) : مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ وَضَعُ جَبْهَتَهُ) ، أَيْ: أَرَادَ الْوَضْعَ (بِالْأَرْضِ فَلْيَضَعْ كَفَّيْهِ عَلَى الَّذِي) : أَيْ: عَلَى مُحَاذِي الْمَوْضِعِ الَّذِي (وَضَعَ عَلَيْهِ جَبْهَتَهُ) : كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا يَعْنِي: لَا عَلَى مُحَاذِي الْمَنْكِبَيْنِ كَمَا هُوَ مُخْتَارُ الشَّافِعِيِّ (ثُمَّ إِذَا رَفَعَ) ، أَيْ: جَبْهَتَهُ (فَلْيَرْفَعْهُمَا) ، أَيِ: الْكَفَّيْنِ (فَإِنَّ الْيَدَيْنِ) : تَعْلِيلٌ لِوَضْعِ الْكَفَّيْنِ (تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ) ، أَيِ: الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِأَصَابِعِهِ الْقِبْلَةَ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ» ": قَالَ: إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ، فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ فَلْيَرْفَعْهُمَا.

[باب التشهد]

[بَابُ التَّشَهُّدِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 906 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَعَدَ فِي التَّشَهُّدِ، وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [15]- بَابُ التَّشَهُّدِ قَالَ الْقَاضِيَ: سُمِّيَ الذِّكْرُ الْمَخْصُوصُ تَشَهُّدًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 906 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَعَدَ فِي التَّشَهُّدِ» ) ، أَيْ: فِي زَمَانِهِ أَوْ لِأَجَلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي (وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى) ، أَيْ: بَطْنَ كَفِّهَا بَاسِطًا لِأَصَابِعِهَا مُسْتَقْبِلًا بِهَا الْقِبْلَةَ لِلِاتِّبَاعِ كَمَا يَأْتِي (عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى) : عَلَى قُرْبِهَا فَوْقَ فَخِذِهِ الْيُسْرَى جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَلَعَلَّ تَقْدِيمَ وَضْعِ الْيُسْرَى لِتَبْقَى الْيُمْنَى فِي مَوْضِعِ السَّجْدَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ مِنَ الْقَعْدَةِ كَتَقْدِيمِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ لِعَطْفِ حُكْمِ الْآتِي عَلَى قَوْلِهِ ( «وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى» ) : وَلَعَلَّ حِكْمَةَ وَضْعِهِمَا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ الْمُحَافَظَةُ مِنَ الْعَبَثِ وَالْمُرَاعَاةُ لِلْأَدَبِ

(وَعَقَدَ) : أَيِ: الْيُمْنَى، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَيَحْتَمِلُ الْمَعِيَّةَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ الْبُعْدِيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُخْتَارِ ابْنِ الْهُمَامِ (ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ) : وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَالْوُسْطَى، وَيُرْسِلَ الْمُسَبِّحَةَ، وَيَضُمَّ الْإِبْهَامَ إِلَى أَصْلِ الْمُسَبِّحَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلِلْفُقَهَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ عَقْدِهَا وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِي: أَنْ يَضُمَّ الْإِبْهَامَ إِلَى الْوُسْطَى الْمَقْبُوضَةِ كَالْقَابِضِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ، فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَوَاهُ كَذَلِكَ. قَالَ الْأَشْرَفُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يَعْرِفُ هَذَا الْعَقْدَ وَالْحِسَابَ الْمَخْصُوصَ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْبِضَ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ، وَيُرْسِلَ الْمُسَبِّحَةَ، وَيُحَلِّقَ الْإِبْهَامَ وَالْوُسْطَى، كَمَا رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ اهـ، وَالْأَخِيرُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: الْأَخْبَارُ وَرَدَتْ بِهَا جَمِيعًا، وَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَضَعُ مَرَّةً هَكَذَا وَمَرَّةً هَكَذَا، (وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ رَفَعَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ لِيُطَابِقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ عَلَى التَّوْحِيدِ اهـ. وَعِنْدَنَا: يَرْفَعُهَا عِنْدَ لَا إِلَهَ، وَيَضَعُهَا عِنْدَ إِلَّا اللَّهُ لِمُنَاسَبَةِ الرَّفْعِ لِلنَّفْيِ، " وَمُلَاءَمَةِ " الْوَضْعِ لِلْإِثْبَاتِ، وَمُطَابَقَةً بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ حَقِيقَةً، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سُمِّيَتْ بِالسَّبَّابَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يُشَارُ بِهَا عِنْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَالسَّبِّ، وَسُمِّيَتْ أَيْضًا مُسَبِّحَةً لِأَنَّهُ يُشَارُ بِهَا إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، فَانْدَفَعَ النَّظَرُ فِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ آلَةَ التَّسْبِيحِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا تُنَافِي مَعْرِفَةُ ابْنِ عُمَرَ لِهَذَا الْعَقْدِ وَالْحِسَابِ الْمَخْصُوصِ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ وَالْخَفَاءِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ: " «إِنَّا أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ» "، حَمْلًا لِهَذَا عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى نَفْيِ الْحِسَابِ الْمَذْمُومِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى التَّنْجِيمِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ خُصَّتِ الْمُسَبِّحَةُ ; لِأَنَّهَا لَهَا اتِّصَالٌ بِنِيَاطِ الْقَلْبِ، فَكَانَ سَبَبًا لِحُضُورِهِ، وَالْيُمْنَى مِنَ الْيُمْنِ بِمَعْنَى الْبَرَكَةِ، فَأُشِيرَ بِقَبْضِ الْيَمِينِ إِلَى التَّفَاؤُلِ بِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ لِلْمُصَلِّي، وَأَنَّهُ يَحْفَظُهَا عَنِ الضَّيَاعِ وَاطِّلَاعِ الْأَغْيَارِ.

907 - وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَرَفَعَ أُصْبُعَهُ الْيُمْنَى الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ فَيَدْعُو بِهَا، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ، بَاسِطَهَا عَلَيْهَا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 907 - (وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ» ) : أَيْ: لِلتَّشَهُّدِ كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى ( «وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ» ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنْ مَعَ اخْتِلَافِ الْهَيْئَةِ كَمَا عُلِمَ مِنَ الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ وَالْآتِيَةِ (وَرَفَعَ أُصْبُعَهُ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ رَفَعَهَا إِلَى الْقِبْلَةِ لِحَدِيثٍ فِيهِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَنْ يَنْوِيَ بِرَفْعِهَا حِينَئِذٍ التَّوْحِيدَ وَالْإِخْلَاصَ لِحَدِيثٍ فِيهِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ لِلْإِتْبَاعِ الْآتِي، وَأَنْ يُخَصِّصَ الرَّفْعَ بِكَوْنِهِ مَعَ إِلَّا اللَّهُ لِمَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَبِهَا يَخُصُّ عُمُومَ خَبَرِ أَبِي دُوَادَ الْآتِي يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِذَا دَعَا، فَالْمُرَادُ إِذَا تَشَهَّدَ، وَالتَّشَهُّدُ حَقِيقَةُ النُّطْقِ بِالشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ التَّشَهُّدُ دُعَاءً لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: وَيَدْعُو بِهَا أَيْ يَتَشَهَّدُ بِهَا، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الرَّفْعِ إِلَى آخِرِ التَّشَهُّدِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا، وَإِنِ اعْتَرَضَهُ جَمْعٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى عِنْدَ الْفَرَاغِ إِعَادَتُهَا اهـ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ لِأَنَّ

الْإِعَادَةَ تَحْتَاجُ إِلَى رِوَايَةِ (الْيُمْنَى الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ) : ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَدَمُ عَقْدِ الْأَصَابِعِ، مَعَ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ مُخْتَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، (يَدْعُو) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَيَدْعُو، أَيْ: يُهَلِّلُ سُمِّيَ التَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ دُعَاءً ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِجْلَابِ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَا قِيلَ: إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ» " إِلَخْ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: سُمِّيَ التَّشَهُّدُ دُعَاءً لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ، إِذْ مِنْ جُمْلَتِهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِلَى الصَّالِحِينَ، وَهَذَا كُلُّهُ دُعَاءٌ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ لِمَزِيدِ التَّوْكِيدِ، وَلِذَا قَالَ أَئِمَّةُ الْبَيَانِ: إِنَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أَعْظَمُ مِنَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، " لِأَنَّهُ " الْأَوَّلُ يَسْتَدْعِي قُوَّةَ الرَّجَاءِ بِوُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ، وَإِنَّهَا صَارَتْ كَالْأَمْرِ الْوَاقِعِ الْمُحَقَّقِ حَتَّى أُخْبِرَ عَنْهَا بِلَفْظِ الْمَاضِي، بِخِلَافِ الثَّانِي (بِهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا أَنْ يُضَمَّنَ يَدْعُو مَعْنَى يُشِيرُ، أَيْ: يُشِيرُ بِهَا دَاعِيًا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ: يَدْعُو مُشِيرًا بِهَا، (وَيَدَهُ الْيُسْرَى) : بِالنَّصْبِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ (عَلَى رُكْبَتِهِ، بَاسِطَهَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِفَتْحِ الطَّاءِ وَضَمِّهَا أَيْ: نَاشِرَهَا، أَيِ: السَّيِّدُ (عَلَيْهَا) ، أَيْ: عَلَى الرُّكْبَةِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ أُصْبُعٍ بِهَا، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ: مِيرَكُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

908 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَعَدَ يَدْعُو وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى أُصْبُعِهِ الْوُسْطَى، وَيُلْقِمُ كَفَّهُ الْيُسْرَى رُكْبَتَهُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 908 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَعَدَ يَدْعُو» ) ، أَيْ: يَقْرَأُ التَّشَهُّدَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: سُمِّيَ دُعَاءً لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، وَسَلَامٌ عَلَيْنَا دُعَاءٌ ( «وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ» ) ، أَيِ: الْمُسَبِّحَةِ (وَوَضَعَ) : حَالٌ، أَيْ: وَقَدْ وَضَعَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مِنْ أَوَّلِ جُلُوسِهِ لِلتَّشَهُّدِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الْأُخَرُ اهـ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا، أَنَّهُ إِنَّمَا يَضَعُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِشَارَةِ ( «إِبْهَامَهُ عَلَى أُصْبُعِهِ الْوُسْطَى، وَيُلْقِمُ» ) ، أَيْ: أَحْيَانًا (كَفَّهُ الْيُسْرَى رُكْبَتَهُ) ، أَيِ: الْيُسْرَى، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: جَعَلَهُ الْمُظْهِرُ مِنَ التَّلْقِيمِ، وَجُمْهُورُ الشُّرَّاحِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْإِلْقَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: لَقَمْتُ الطَّعَامَ إِذَا أَدْخَلْتَهُ فِي فِيكَ، أَيْ: يُدْخِلُ رُكْبَتَيْهِ فِي رَاحَةِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ حَتَّى صَارَتْ رُكْبَتُهُ كَاللُّقْمَةِ فِي كَفِّهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ وَضْعُ بَطْنِ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ قَرِيبًا مِنْ رُكْبَتَيْهِ بِحَيْثُ تَسَامَتْهَا رُءُوسُ الْأَصَابِعِ ; لِأَنَّ ذَاكَ لِبَيَانِ كَمَالِ السُّنَّةِ، وَهَذَا الْبَيَانُ أَصْلُ السُّنَّةِ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَنْبَغِي تَرْكُهُ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِتَوْجِيهِهَا لِلْقِبْلَةِ فَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعُوا عَلَى نَدْبِ وَضْعِهَا عِنْدَ الرُّكْبَةِ أَوْ عَلَيْهَا، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

909 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: " لَا تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ - فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ - أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُوهُ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 909 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا) أَيْ: فِي قُعُودِ التَّشَهُّدِ قَبْلَ مَشْرُوعِيَّتِهِ ( «السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ» ) ، أَيْ: قَبْلَ السَّلَامِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَهُوَ ظَرْفٌ، قُلْنَا: وَالسَّلَامُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، وَاسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ، وُصِفَ بِهِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهِ سَلِيمًا مِنَ النَّقَائِصِ، أَوْ إِعْطَائِهِ السَّلَامَةَ، كَذَا قَالَهُ الْخَلْخَالِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا فِي الْمِشْكَاةِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْهُمَا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ اهـ، وَالسَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، بِمَعْنَى الِاعْتِرَافِ بِسَلَامَتِهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ نَقْصٍ فِعْلِيٍّ فِيهِ، بِمَعْنَى (اللَّامِ) . (السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ) : فِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ مَشْهُورَةٌ، (السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ) : فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، لَكِنْ أَحَدُهَا وَهُوَ مِيكَالُ لَا يُسَاعِدُهُ الرَّسْمُ هُنَا (السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ) ، أَيْ: عَلَى مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، يَعْنِي: كَانُوا يَقُولُونَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عِوَضًا عَنِ التَّحِيَّاتِ (فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقِيلَ: مِنَ الْمِعْرَاجِ (أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ) : يَعْنِي: لَا بِمُجَرَّدِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ، وَالْجُمْلَةُ بَدَلٌ مَنِ انْصَرَفَ وَجَوَابٌ لِمَا " قَوْلُهُ " (قَالَ: " «لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ» ") : لِأَنَّ مَعْنَى السَّلَامِ عَلَيْكَ هُوَ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ، أَيْ: سَلِمْتَ مِنَ الْمَكَارِهِ أَوْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، أَيْ: هُوَ الَّذِي يُعْطِي السَّلَامَ لِعِبَادِهِ، فَأَنَّى يُدْعَى لَهُ وَهُوَ الْمَدْعُوُّ عَلَى الْحَالَاتِ؟ وَوَرَدَ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ أَيِ الْمُخْتَصُّ بِهِ لَا غَيْرُكَ لِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ الدَّالِّ عَلَى الْحَصْرِ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، أَيْ: حُصُولُهُ لَا مِنْ غَيْرِكَ، وَإِلَيْكَ يَعُودُ السَّلَامُ، أَيْ: مَا صَدَرَ مِنْ غَيْرِكَ مِنَ السَّلَامِ، فَإِنَّمَا لَهُمْ صُورَةٌ، وَأَمَّا حَقَائِقُهُ فَرَاجِعَةٌ إِلَيْكِ، (فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ) : الْأَمْرُ فِيهِ لِلْوُجُوبِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فَيَنْجَبِرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَكَذَا قُعُودُهُ الْأَوَّلُ وَاجِبٌ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَجَدَ لِتَرْكِهِ، وَأَمَّا قُعُودُهُ الْأَخَيْرُ، فَإِنَّهُ فَرْضٌ عِنْدَنَا لِخَبَرِ إِذَا قَعَدَ الْإِمَامُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يَتَشَهَّدَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا: إِذَا جَلَسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنْ كُلًّا مِنْهُمَا ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، فَضَعِيفٌ بِاخْتِلَافِهِمْ، (" التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ") ، أَيْ: دُونَ غَيْرِهِ، قِيلَ: التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنَ الْحَيَاةِ بِمَعْنَى الْإِحْيَاءِ وَالتَّبْقِيَةِ، وَقِيلَ: التَّحِيَّةُ: الْمَلِكُ سُمِّيَ بِهَا ; لِأَنَّ الْمَلِكَ سَبَبُ تَحِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ كَقَوْلِهِمْ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، وَأَسْلِمْ، وَأَنْعِمْ، وَقِيلَ: التَّحِيَّةُ الْبَقَاءُ، وَقِيلَ: السَّلَامُ وَجُمِعَتْ لِإِرَادَةِ اسْتِغْرَاقِ الْأَنْوَاعِ (" وَالصَّلَوَاتُ ") ، أَيِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَقِيلَ: الْعِبَادَاتُ أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَقِيلَ الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: الصَّلَوَاتُ الْمَرْفُوعَةُ، أَوْ أَنْوَاعُ الرَّحْمَةِ، أَوِ الْأَدْعِيَةُ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، (" وَالطَّيِّبَاتُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا يُلَائَمُ وَيُسْتَلَذُّ بِهِ، وَقِيلَ: الْكَلِمَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْخَيْرِ: كَسَقَاهُ اللَّهُ وَرَعَاهُ اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الطَّيِّبَاتُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، وَقِيلَ: التَّحِيَّاتُ الْعِبَادَاتُ الْقَوْلِيَّةُ، وَالصَّلَوَاتُ الطَّاعَاتُ الْبَدَنِيَّةُ، وَالطَّيِّبَاتُ الْخَيْرَاتُ الْمَالِيَّةُ، نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ، وَهُوَ أَجْمَعُ الْأَقْوَالِ، قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ مَعْطُوفَتَيْنِ عَلَى التَّحِيَّاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّلَوَاتُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهَا مَحْذُوفًا، وَالطَّيِّبَاتُ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا، وَالْوَاوُ الْأُولَى لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالثَّانِيَةُ لِعِطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْجُمْلَةِ اهـ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَيْنِ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، الْخَبَرُ فِيهِمَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ السَّابِقُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عُمَرَ اللَّاحِقُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَحُذِفَتِ الْوَاوُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ اخْتِصَارًا، وَهُوَ جَائِزٌ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاخْتَارَ مَالِكٌ رِوَايَةَ عُمَرَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّلَاةُ بِأَيِّهَا شَاءَ الْمُصَلِّي، إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَفْضَلِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ الْخِلَافِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْضَ مَنْ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفِظَ الْكَلِمَةَ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَبَعْضُهُمْ حَفِظَ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى، وَسَاغَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الذِّكْرُ، وَكُلُّهُ ذِكْرٌ، وَالْمَعْنَى غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَانَ فِي الذِّكْرِ أَجْدَرَ اهـ. وَفِيهِ إِيهَامٌ أَنَّهُ يَجُوزُ نَقْلُ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ إِجْمَاعًا بِخِلَافِ نَقْلِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي الْمِنْبَرِ، وَيَعْلَمُهُ النَّاسُ، وَهُوَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ،

الطَّيِّبَاتُ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ قَدِيمًا (" السَّلَامُ عَلَيْكَ ") : قِيلَ: مَعْنَاهُ اسْمُ السَّلَامِ، أَيِ: اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ مَنْ أَعَانَهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمُسَلِّمُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْآفَاتِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: السَّلَامُ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَمَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ كُلِّهَا وَقِيلَ: السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ كُلِّهَا عَلَيْكَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَاءَ فِي فَضْلِ السَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ، مِنْهَا: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ بُعِثْتُ مَا مَرَرْتُ بِشَجَرٍ وَلَا حَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْهَا إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ وَإِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ، وَفِي لَفْظِهِ: إِنَّ بِمَكَّةَ لَحَجَرًا يُسَلِّمُ عَلَيَّ لَيَالِيَ بُعِثْتُ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ إِذَا مَرَرْتُ عَلَيْهِ، قِيلَ: وَهُوَ الْحَجَرُ الْبَارِزُ الْآنَ بِزُقَاقِ الْمَوْقَفِ الْمُقَابِلِ لِبَابِ الْجَائِزِ، (" أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ") : وَهِيَ لُغَةُ عَطْفٍ وَمَيْلٍ نَفْسَانِيٍّ، وَغَايَتُهَا التَّفَضُّلُ وَالْإِحْسَانُ وَالْإِنْعَامُ، أَوْ إِرَادَةُ ذَلِكَ، وَلِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أُرِيدَ بِهَا غَايَتُهَا الَّتِي هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ أَوْ صِفَةُ ذَاتٍ (" وَبَرَكَاتُهُ ") : وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ خَيْرٍ فَائِضٍ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الدَّوَامِ، وَقِيلَ: الْبَرَكَةُ الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا جُمِعَتِ الْبَرَكَةُ دُونَ السَّلَامِ وَالرَّحْمَةِ لِأَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ (" السَّلَامُ عَلَيْنَا ") ، أَيْ: مَعْشَرَ الْحَاضِرِينَ مِنَ الْمُصَلَّى، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمُؤْمِنِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقُدِّمَ أَنْفُسُهُمْ لِأَنَّهُ أَدَبُ الدُّعَاءِ، وَقُدِّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الْوَسِيلَةُ، (" وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ - فَإِنَّهُ ") ، أَيِ الشَّأْنَ أَوِ الْمَصْلَحَةَ (" إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ ") : فَاعِلُهُ ضَمِيرُ ذَلِكَ، أَيْ: أَصَابَ ثَوَابَ هَذَا الدُّعَاءِ أَوْ بَرَكَاتِهِ (" كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ ") : قُيِّدَ بِهِ ; لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَا يَصْلُحُ لِلْمُفْسِدِ، وَالصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، عَلَى مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ عَنِ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ (فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لَهُمْ وَعَمَّهُمْ مَا يَعُمُّهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِإِفْرَادِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ وَمَزِيدِ جَبْهَتِهِ وَتَخْصِيصِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ الِاهْتِمَامَ بِهَا أَهَمُّ (" أَشْهَدُ ") ، أَيْ: أَعْلَمُ بِالْجِنَانِ وَأُبَيِّنُ بِاللِّسَانِ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ (" وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ") ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: رُوِيَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عُرِجَ بِهِ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» اهـ، وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ الْخِطَابِ، وَأَنَّهُ عَلَى حِكَايَةِ مِعْرَاجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِينَ (" ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ ") ، "، أَيْ: لِيَخْتَرْ (" مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ ") ، أَيْ: أَحَبَّ الدُّعَاءِ وَأَرْضَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (" فَيَدْعُوهُ ") ، أَيْ: فَيَقْرَأُ الدُّعَاءَ الْأَعْجَبَ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَيَدْعُو بِهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَيَدْعُو اللَّهَ بِهِ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْعِلْمِ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ الْأَعْجَبَ هُوَ مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مُعَلِّمُ الْأَدَبِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا أَنَّ النَّسَائِيَّ قَالَ فِي رِوَايَةٍ: سَلَامٌ عَلَيْنَا مُنَكِّرًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ اهـ، وَنَقَلَ مُلَّا حَنَفِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْحِصْنِ عَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ: أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِحَذْفِ اللَّامِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ. تَمَّ كَلَامُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ، فَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى وَأَتَمُّ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ السِّمْنَانِيُّ.

910 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ أَجِدْ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَلَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ: " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " وَسَلَامٌ عَلَيْنَا " بِغَيْرِ أَلْفٍ وَلَامٍ، وَلَكِنْ رَوَاهُ صَاحِبُ " الْجَامِعِ " عَنِ التِّرْمِذِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 910 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ» ) : سُمِّيَ بِاسْمِ جُزْئِهِ الْأَشْرَفِ كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ فِي تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْبَعْضِ (أَيْ يُعَلِّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اهْتِمَامِهِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِهِ (فَكَانَ يَقُولُ: " التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ ") ، أَيِ: النَّامِيَاتُ (" الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ ") : قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُرَجِّحُ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَتَكُونُ كُلُّ جُمْلَةٍ ثَنَاءً مُسْتَقِلًّا، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَقَطَتْ فَإِنَّ مَا عَدَا اللَّفْظَ الْأَوَّلَ يَكُونُ صِفَةً لَهُ، فَيَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي الثَّنَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ، وَحَذْفُ وَاوِ الْعَاطِفِ، وَلَوْ كَانَ جَائِزًا، لَكِنَّ التَّقْدِيرَ خِلَافُ الظَّاهِرِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ بِدُونِ تَقْدِيرِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَشَدَّ صِحَّةً لِأَنَّهُ أَفْقَهُ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِلَّا فَعِنْدَ إِمَامِنَا هُوَ أَفْقَهُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ لِكِبَرِ سِنِّهِ فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ وَمُوَاظَبَةِ خِدْمَتِهِ مِنْ مُحَافَظَةِ النَّعْلِ وَالْمِخَدَّةِ وَالْمِطْهَرَةِ وَالسَّجَّادَةِ، قَالَ: وَلِاشْتِمَالِ مَا رَوَاهُ عَلَى زِيَادَةٍ، قُلْتُ: زِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، لَكِنْ لَا تُوجِبُ التَّرْجِيحَ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] قُلْتُ: الْمُوَافَقَةُ إِنَّمَا هِيَ لَفْظِيَّةٌ وَإِلَّا فَهِيَ وَارِدَةٌ فِي السَّلَامِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْبُيُوتِ قَالَ: وَلِأَنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ ضَبْطِهِ لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «كَانَ يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ» ، وَفِيهِ أَنَّ التَّعْلِيمَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَنَقْلُهُ هَذَا غَيْرُ دَالٍّ عَلَى زِيَادَةِ ضَبْطِهِ، بَلْ يَرُدُّ عَلَيْكُمْ مَا صَحَّ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ: عَلَّمَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إِلَخْ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُنَا كَمَا يُعَلِّمُ السُّورَةَ، فَإِنَّ رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ، وَلِهَذَا اخْتَارَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَاخْتَارَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ تَشَهُّدَ عُمَرَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ إِلَخْ، وَيُجَابُ بِأَنَّا لَا نُنَازِعُ فِي أَصْلِ الثُّبُوتِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ فِيمَا كَانَ يَعْتَنِي بِهِ أَكْثَرَ، أَوْ فِيمَا وَصَلَ إِلَيْنَا بِرِوَايَةٍ أَصَحَّ، وَهُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَفْضَلِ، وَالْجَوَازُ بِالْكُلِّ كَخِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي التَّشَهُّدَاتِ إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ عَبَّرَ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَأَقَرَّهُمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الذِّكْرُ اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ، بِمَا هُوَ عَجِيبٌ وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ، بَلِ الْمَقْصُودُ هُنَا اللَّفْظُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْدَالُ كَلِمَةٍ مِنَ التَّشَهُّدِ الْوَاجِبِ بِرَدِيفِهَا، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟ (" «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ أَعْنِي (" «السَّلَامُ عَلَيْكَ وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» ") : حَذْفُ اللَّامِ وَإِثْبَاتُهُ وَالْإِثْبَاتُ أَفْضَلُ وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ قُلْتُ: بَلْ فِي الصِّحَاحِ السِّتِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي ( «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ") : انْفَرَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، إِذْ فِي سَائِرِ التَّشَهُّدَاتِ الْوَارِدَةِ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ كُلِّهَا بِلَفْظِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمَنْقُولُ أَنَّ تَشَهُّدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَشَهُّدِنَا، وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِعِيِّ: وَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي تَشَهُّدِهِ: وَأَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي

الْإِحْيَاءِ: وَقِيلَ قَوْلُكَ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَحْضَرْ شَخْصَهُ الْكَرِيمَ فِي قَلْبِكَ وَلِيَصْدُقْ أَمَلُكَ فِي أَنَّهُ يَبْلُغُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْكَ مَا هُوَ أَوْفَى مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَقُولُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ فَلَمَّا قُبِضَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ، فَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي عِوَانَةَ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ الْأَصَحُّ مِنْهَا بَيَّنَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بَلْ مِنْ فَهْمِ الرَّاوِي عَنْهُ، وَلَفْظُهَا: فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: سَلَامٌ يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ، فَقَوْلُهُ قُلْنَا: سَلَامٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْتَمْرَرْنَا بِهِ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ عَرْضَنَا عَنِ الْخِطَابِ، وَإِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ دَلَالَةٌ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، (وَلَمْ أَجِدْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي الْجَمْعِ) ، أَيْ: لِلْحُمَيْدِيِّ (بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ) : وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ عِلْمٌ، وَالْعِلْمُ لَا يَتَغَيَّرُ (سَلَامٌ عَلَيْكَ وَسَلَامٌ عَلَيْنَا) بِغَيْرِ أَلْفٍ وَلَامٍ، وَلَكِنْ رَوَاهُ) ، أَيِ: ابْنُ الْأَثِيرِ (صَاحِبُ الْجَامِعِ) ، أَيْ: لِلْأُصُولِ السِّتِّ (عَنِ التِّرْمِذِيِّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَذَكَرَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا عَنْ مُسْلِمٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي بَعْضِ نُسَخِهِ اهـ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ اهـ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصِّحَاحِ، ثُمَّ أَصْلُ سَلَامٌ عَلَيْكِ سَلَّمْتُ سَلَامًا عَلَيْكَ، ثُمَّ حُذِفَ الْفِعْلُ، وَأُقِيمَ الْمَصْدَرُ مَقَامَهُ، وَعُدِلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَإِنَّهُ الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، ثُمَّ زِيدَتْ أَلْ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيِ: السَّلَامُ الَّذِي وُجِّهَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَالسَّلَامُ الَّذِي وُجِّهَ لِصَالِحِي الْأُمَمِ عَلَيْنَا وَعَلَى إِخْوَانِنَا، قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا أَنْكَرَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيِّ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 911 - عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، قَالَ: «ثُمَّ جَلَسَ، فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَحَدَّ مِرْفَقَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ ثِنْتَيْنِ، وَحَلَّقَ حَلْقَةً، ثُمَّ رَفَعَ أُصْبُعَهُ، فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا يَدْعُو بِهَا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي. 911 - (عَنْ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ) ، أَيِ: الرَّاوِي (ثُمَّ جَلَسَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا تُرِكَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ صَدْرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ: لَأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَيْفَ يُصَلِّي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقَبْلَ الْقِبْلَةَ، فَكَبَّرَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَتَا أُذُنَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَ رَأْسَهُ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَ رَأْسَهُ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ، بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ فِي أَوَّلِ حِسَانِ بَابِ السُّجُودِ، ( «فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى» ) ، أَيْ: وَجَلَسَ عَلَى بَاطِنِهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى ( «وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَحَدَّ» ) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي مُشَدَّدَةَ الدَّالِ بَعْدَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ (مِرْفَقَهُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَيَعْكِسُ ( «الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى» ) : قِيلَ: أَصْلُ الْحَدِّ الْمَنْعُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَنَاهِي حُدُودَ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى فَصَلَ بَيْنَ مِرْفَقِهِ وَجَنْبِهِ، وَمَنَعَ أَنْ يَلْتَصِقَا فِي حَالَةِ اسْتِعْلَائِهِمَا عَلَى الْفَخِذِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ رَفَعَ مِرْفَقَهُ عَنْ فَخِذِهِ وَجَعَلَ عَظْمَ مِرْفَقِهِ كَأَنَّهُ رَأَسُ وَتِدٍ، فَجَعَلَهُ مُشَدَّدَ الدَّالِ مِنَ الْحِدَّةِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَحَدَّ مَرْفُوعًا

مُضَافًا إِلَى الْمِرْفَقِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى فَخِذِهِ، الْخَبَرَ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى مَفْعُولِ وَضَعَ، أَيْ: وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَكَتَبَ تَحْتَهُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَعَلَّ وَجْهَ النَّظَرِ أَنَّ وَضْعَ حَدِّ الْمِرْفَقِ لَا يَثْبُتُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى مَا قَالَهُ عَلَى مَا قِيلَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ مِرْفَقَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى» ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: «وَحَدَّ مِرْفَقَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ» أَيْ جَعَلَهُ مُنْفَرِدًا عَنْ فَخِدِهِ، (قَبَضَ) : أَيْ مِنْ أَصَابِعِ يُمْنَاهُ (ثِنْتَيْنِ) ، أَيِ: الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ (وَحَلَّقَ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ (حَلْقَةً) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَتُفْتَحُ، أَيْ: أَخَذَ إِبْهَامَهُ بِأُصْبُعِهِ الْوُسْطَى كَالْحَلْقَةِ ( «ثُمَّ رَفَعَ أُصْبُعَهُ» ) ، أَيِ: الْمُسَبِّحَةَ كَمَا تَقَدَّمَ (فَرَأَيْتُهُ) : كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، أَيْ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُحَرِّكُهَا) : ظَاهِرُهُ يُوَافِقُ مَذْهَبَ الْإِمَامِ مَالِكٍ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ لَا يُحَرِّكُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يُحَرِّكُهَا يَرْفَعُهَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهَا بِدُونِ تَحْرِيكِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيكِ الْأُصْبُعِ إِذَا رَفَعَهَا لِلْإِشَارَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَضَعُهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكٍ (يَدْعُو بِهَا) : أَيْ: يُشِيرُ بِهَا، أَيْ: يَرْفَعُ أُصْبُعَهَا الْوَاحِدَةَ إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى فِي دُعَائِهِ، أَيْ: تَشَهُّدِهِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَسُمِّيَ التَّشَهُّدُ دُعَاءً لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ: أَحِّدْ أَحِّدْ كَمَا سَيَأْتِي (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ يُضَعِّفْهُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ الْمُنْذِرِيُّ (وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا.

912 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِذَا دَعَا، وَلَا يُحَرِّكُهَا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: وَلَا يُجَاوِزُهُ إِشَارَتَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 912 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِذَا دَعَا» ) ، أَيْ: إِذَا دَعَا اللَّهَ بِالتَّوْحِيدِ (وَلَا يُحَرِّكُهَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحَرِّكُ الْأُصْبُعَ إِذَا رَفَعَهَا لِلْإِشَارَةِ، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ يُفِيدُ التَّرْجِيحَ عِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، (وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ( «وَلَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ» ) ، أَيْ: بَلْ كَانَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ، لِأَنَّهُ الْأَدَبُ الْمُوَافِقُ لِلْخُضُوعِ، وَالْمَعْنَى لَا يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ حِينَ الْإِشَارَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى أُصْبُعِهِ، وَلَا يُجَاوِزُ بَصَرَهُ عَنْهَا لِئَلَّا يُوهِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي السَّمَاءِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَخَبَرُ تَحْرِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الصَّلَاةِ مَذْعَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ ضَعِيفٌ.

913 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا كَانَ يَدْعُو بِأُصْبُعَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحِّدْ أَحِّدْ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 913 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا) : قَالَ مِيرَكُ " هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ (كَانَ يَدْعُو) ، أَيْ: يُشِيرُ (بِأُصْبُعَيْهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا الْمُسَبِّحَتَانِ ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحِّدْ أَحِّدْ» ) : كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ فِي التَّوْحِيدِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: أَشِرْ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّ الَّذِي تَدْعُوهُ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ، وَأَصْلُهُ: وَحِّدْ ; أَمْرُ مُخَاطَبٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً، كَمَا قِيلَ: أَحَدٌ وَإِحْدَى وَأُحَادُ، فَقَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْقَلْبَ مَضْمُومَةً وَمَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، لَكِنَّ قَلْبَ الْمَضْمُومَةِ قِيَاسٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى " {أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] " وَأَمَّا إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ مِنَ الْوَاوِ الْغَيْرِ الْمَضْمُومَةِ فَسَمَاعِيٌّ، وَالْمَعْنَى ارْفَعْ أُصْبُعًا وَاحِدَةً لِأَنَّكَ تُشِيرُ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ مَنْ هُوَ وَاحِدٌ، لَا ثَانِيَ لَهُ لَا فِي الذَّاتِ وَلَا فِي الصِّفَاتِ، وَلَعَلَّ التَّكْرَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ) : أَيْ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ (الْكَبِيرِ) ، أَيِ: الْبَيْهَقِيُّ.

914 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، فِي رِوَايَةٍ لَهُ: «نَهَى أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا نَهَضَ فِي الصَّلَاةِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 914 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُعْتَمِدٌ» ) ، أَيْ: مُتَّكِئٌ عَلَى يَدِهِ: وَفِي نُسْخَةٍ: عَلَى يَدَيْهِ ; يَعْنِي بَلْ يَضَعُهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، فِي رِوَايَةٍ لَهُ) ، أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ (نَهَى أَنْ يَعْتَمِدَ) ، أَيْ: يَتَّكِئَ (الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا نَهَضَ) ، أَيْ: قَامَ (فِي الصَّلَاةِ) : بَلْ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى الْأَرْضِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ مِيرَكُ، نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ فِي التَّشَهُّدِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَتَّكِئُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ، وَيُرْسِلَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ فَخِذَيْهِ، وَقِيلَ أَنْ تُوضَعَ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ فِي الْهَوَى، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ الْقِيَامِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ، يَعْنِي وَالْأَخِيرُ هُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، إِذْ مَعْنَاهُ لَا يُلَائِمُ النَّهْيَ عَنِ الْجُلُوسِ، وَأَيْضًا لَوْ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَخِيرِ لَتَنَاقَضَتِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ رَاوٍ وَاحِدٍ، وَمَعَ هَذَا قَالَ: وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَتَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ عِنْدَ قِيَامِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ عِنْدَ الْقِيَامِ لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ اهـ. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ عَلَى حَالَةِ الْكِبَرِ، وَهُوَ أَوْفَى بِالتَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ أَصَحَّ رِوَايَةً لِاقْتِرَانِ رِوَايَةِ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: " كَانَ ": الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ الْمُؤَيَّدِ بِالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ الْبُخَارِيِّ لَمْ يُبَيَّنْ فِيهِ مَوْضِعُ الِاعْتِمَادِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالَ السُّجُودِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَرَاهَةُ ذَلِكَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَبِهِ يَزُولُ اسْتِوَاءُ الْجُلُوسِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَّكِئًا عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ مَائِلًا عَلَى جَنْبِهِ فَغَيْرُ مُوَجَّهٍ، فَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَمَّا ذَكَرَهُ أَئِمَّتُهُ، وَأَمَّا تَضْعِيفُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِضَعْفِهِ فَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ، سِيَّمَا وَقَدْ أَخَذَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ.

915 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ حَتَّى يَقُومَ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 915 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ» ) ، أَيْ: فِيمَا بَعْدَهُمَا، وَهُوَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ مِنْ صَلَاةٍ ذَاتِ أَرْبَعٍ، أَوْ ثَلَاثٍ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، (كَأَنَّهُ) : أَيْ جَالِسٌ ( «عَلَى الرَّضْفِ حَتَّى يَقُومَ» ) : بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَتُفْتَحُ وَبَعْدَهَا فَاءٌ: جَمْعُ رَضْفَةٍ وَهِيَ حِجَارَةٌ مُحْمَاةٌ عَلَى النَّارِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الرَّضْفُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ جَمْعُ رَضْفَةٍ، وَرُوِيَ بِسُكُونِ الضَّادِ - فَمُخَالِفٌ لِمَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَمُضَادٌّ لِمَا فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ تَخْفِيفَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَسُرْعَةَ الْقِيَامِ فِي الثُّلَاثِيَّةِ وَالرُّبَاعِيَّةِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي: لَا يَلْبَثُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ كَثِيرًا، بَلْ يُخَفِّفُهُ وَيَقُومُ مُسْرِعًا كَمَا هُوَ قَاعِدٌ عَلَى حَجَرٍ حَارٍّ، فَيَكُونُ مُكْتَفِيًا بِالتَّشَهُّدِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَالدُّعَاءِ عَلَى مَذْهَبِنَا، أَوْ مُكْتَفِيًا بِالتَّشَهُّدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى الدُّعَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْهُ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ لَا يُسَنُّ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا قَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَعْنِي: الْأُولَى وَالثَّالِثَةَ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ، فَهُمَا الْأُولَيَانِ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَقَعُ الْفَاصِلَةُ بَيْنَهُمَا بِالتَّشَهُّدِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الثَّالِثَةَ هِيَ الْأُولَى مِنَ الشَّفْعِ الثَّانِي، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ دُونَ بَعْدِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: أَرَادَ بِالرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةَ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ أَيْ: لَمْ يَكُنْ يَلْبَثُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى يَنْهَضَ قَائِمًا، قِيلَ: التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ، وَعُذْرُهُ فِي الثُّنَائِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا ذِكْرُ الصَّحَابِيِّ الرُّبَاعِيَّةَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ الْأُولَى مِنْ كُلِّ الرَّكْعَتَيْنِ - تَعَسُّفٌ، وَأَيْضًا هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يُوَافِقُ إِيرَادَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ التَّشَهُّدِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيَدْفَعُ الضَّعْفُ، بِمَا قَوَّيْنَاهُ، وَهُوَ عُذْرٌ فِيمَا أَوَّلْنَاهُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا الْإِيرَادُ فَلَا يَدْفَعُ الْإِيرَادَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ: قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنْ رَدَّهُ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ فَقَالَ: لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ مُنْقَطِعٌ اهـ، وَوَافَقَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا نَدْبَ الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ فِيهِ اهـ. وَلَعَلَّ رَدَّ النَّوَوِيِّ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التِّرْمِذِيِّ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَخْفَى الِانْقِطَاعُ عَلَى مِثْلِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُ قَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ سَنَدَيْنِ عِنْدَهُ، وَالْمُنْقَطِعُ يَكُونُ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ حَسَنًا فَمُرَادُهُ بِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ السَّنَدُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ غَيْرِهِ أَجَلُّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 916 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ: " بِسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، التَّحِيَّاتُ لَهُ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 916 - (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ» ) : أَيْ فِي اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ كَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا (" بِسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ ") : تَفَرَّدَ جَابِرٌ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ (" التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ ") : بِحَذْفِ الْعَاطِفِ، وَفِي قَوْلِهِ لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ (" السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ") : وَجَوَازُ الْخِطَابِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ لَوْ قِيلَ لِغَيْرِهِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا السَّلَامُ عَلَيْكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ (" «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» ") : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّينَ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ

(" «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» ") : وَفِي هَذَا تَجْدِيدٌ لِلْإِيمَانِ، وَتَأْكِيدٌ لِلْإِتْقَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ» " (" «أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ» ) : لِأَنَّهَا دَارُ الرِّضَا وَاللِّقَاءِ، (" «وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» ") : لِأَنَّهَا دَارُ السُّخْطِ وَالشَّقَاءِ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

917 - وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: «كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ وَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَهِيَ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنَ الْحَدِيدِ " يَعْنِي السَّبَّابَةَ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 917 - (وَعَنْ نَافِعٍ) ، أَيْ: مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ) : أَيْ لِلتَّشَهُّدِ: (وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّشْرَ فِي الْيَدَيْنِ وَقَبَضَ الْيُمْنَى (وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ) ، أَيِ: الْمُسَبِّحَةِ (وَأَتْبَعَهَا) ، أَيِ: الْإِشَارَةَ أَوِ الْأُصْبُعَ (بَصَرَهُ) : حِينَ الْإِشَارَةِ (ثُمَّ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَهِيَ» ) : أَيِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ (" «أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنَ الْحَدِيدِ» ") : إِذْ لَا يَتَأَثَّرُ مِنَ الْحَدِيدِ كَمَا يَتَأَثَّرُ مِنَ التَّوْحِيدِ (يَعْنِي) : هَذَا كَلَامُ الرَّاوِي، أَيْ يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالضَّمِيرِ فِي " لَهِيَ " (السَّبَّابَةَ) ، أَيِ: الْإِشَارَةَ بِهَا فَعَّالَةٌ مِنَ السَّبِّ، وَهُوَ الشَّتْمُ وَسَبُّهُ أَيْضًا قَطْعُهُ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي أَنْسَبُ لِذِكْرِ الْحَدِيدِ، كَأَنَّهُ بِالْإِشَارَةِ بِهَا يَقْطَعُ طَمَعَ الشَّيْطَانِ مِنْ إِضْلَالِهِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قُلْتُ: الْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْهَرُ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ لِذِكْرِ الْحَدِيدِ أَظْهَرُ، فَكَأَنَّهُ بِالْإِشَارَةِ يَحْمَدُ اللَّهَ بِالتَّوْحِيدِ وَيَذُمُّ الشَّيْطَانَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَالْإِغْوَاءِ الْبَعِيدِ، وَيَتَأَثَّرُ هَذَا الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى الصَّلَاحِ، مَا لَا يَتَأَثَّرُ بِآلَاتِ الْحَدِيدِ مِنَ السِّلَاحِ، وَنِعْمَ مَا قَالَ مَنْ قَالَ: جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامُ ... وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

918 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يَقُولُ مِنَ السُّنَّةِ إِخْفَاءُ التَّشَهُّدِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 918 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: مِنَ السُّنَّةِ إِخْفَاءُ التَّشَهُّدِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، أَوِ السُّنَّةُ كَذَا فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَوْقُوفًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى سَنَّ كَذَا شَامِلٌ لِمَعْنَى قَالَ، وَفَعَلَ، وَقَرَّرَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

[باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها]

[بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلِهَا]

بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلِهَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 919 - «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ [16] بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلِهَا. أَيْ: بَابُ حُكْمِ الصَّلَاةِ وَثَوَابِهَا، اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] ، هَلْ هُوَ لِلنَّدْبِ أَوْ لِلْوُجُوبِ؟ ثُمَّ هَلِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ، أَوْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، ثُمَّ هَلْ تَتَكَرَّرُ كُلَّمَا جُمِعَ ذِكْرُهُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا تَكَرَّرَ هَلْ تَتَدَاخَلُ فِي الْمَجْلِسِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَرْضٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَبُسِطَ هَذَا الْمَبْحَثُ فِي الْقَوْلِ الْبَدِيعِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الشَّفِيعِ لِلسَّخَاوِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا الْوُجُوبُ وَالتَّدَاخُلُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 919 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) : صَحَابِيٍّ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا كَذَا فِي التَّهْذِيبِ، وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ: أَنْصَارِيٌّ مَدَنِيٌّ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ، اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْ عُمَرَ (قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ (فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً) : الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ لِقَوْلِهِ: بَلَى (سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : الْفَاءُ، لِلتَّفْسِيرِ إِذِ التَّقْدِيرُ: أَرَدْنَا السُّؤَالَ ( «فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ» ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ (أَهْلَ الْبَيْتِ؟) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ وَالِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ بِكَوْنِهِ عَطْفَ بَيَانٍ لِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، أَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْكُمْ، فَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُبْدَلُ ظَاهِرٌ مِنْ مُضْمَرٍ بَدَلَ الْكُلِّ إِلَّا مِنَ الْغَائِبِ مِثْلَ: ضَرَبْتُهُ زَيْدًا كَمَا فِي الْكَافِيَةِ لِابْنِ الْحَاجِبِ، وَهَذَا مِنَ الْفُرُوقِ اللَّفْظَيَّةِ بَيْنَ عَطْفِ الْبَيَانِ وَبَدَلِ الْكُلِّ (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا) ، أَيْ: فِي التَّحِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ لِسَانِكَ (كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ) ، أَيْ: بِأَنْ نَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِلَخْ، كَذَا قِيلَ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ قَالَ: بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّتَهَا سَأَلُوهُ عَنْهَا مَقْرُونًا بِالْإِيمَاءِ، إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلسَّلَامِ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِلِسَانِهِ، فَأَرَادُوا [تَعْلِيمَ] الصَّلَاةِ أَيْضًا عَلَى لِسَانِهِ [بِأَنَّ] ثَوَابَ الْوَارِدِ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى عَجْزِهِمْ عَنْ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَقِّ الْبَارِي: " «سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ". قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ عَلَّمَنَا اللَّهُ كَيْفَ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ فِي قَوْلِهِ: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ؟ وَفِيهِ أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ غَيْرُ مُسْتَفَادَةٍ مِنَ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَفَادُ مِنْهَا الْأَمْرُ بِهِمَا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، ( «قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ» ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ لِلشَّيْخَيْنِ: «أَلَا أُهْدِيَ لَكَ هَدِيَّةً؟ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ» ؟ وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا جَيِّدٌ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ» " الْحَدِيثَ، وَفِي أُخْرَى لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَسَكَتَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يُسْأَلْ، ثُمَّ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ» " إِلَخْ، وَفِي آخِرِهِ: " وَالسَّلَامُ كَمَا عَلِمْتُمْ "، أَيْ: بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَوْ بِضَمٍّ فَكَسْرٍ مَعَ تَشْدِيدِ اللَّامِ، أَيِ النِّهَايَةُ: أَيْ عَظِّمْهُ فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَاءِ ذِكْرِهِ وَإِظْهَارِ دَعَوْتِهِ وَإِبْقَاءِ شَرِيعَتِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَشْفِيعِهِ فِي أُمَّتِهِ وَتَضْعِيفِ أَجْرِهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَقِيلَ: لَمَّا أَمَرَنَا اللَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَلِّمْنَا كَيْفِيَّتَهَا أُحِلْنَا عَلَى اللَّهِ فَقُلْنَا: اللَّهُمَّ صَلِّ أَنْتَ عَلَى مُحَمَّدٍ لِأَنَّكَ أَعْلَمُ، بِمَا يَلِيقُ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، (وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ") : قِيلَ: الْآلُ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ كَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: كُلُّ تَقِيٍّ آلُهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآلِ جَمِيعُ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآلِ الْأَزْوَاجُ وَمَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الذَّرِّيَّةُ، وَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُمْ مُؤْمِنُو بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ: أَوْلَادُ فَاطِمَةَ وَنَسْلُهُمْ، وَقِيلَ: أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ لِأَنَّهُمْ ذُكِرُوا جُمْلَةً فِي رِوَايَةٍ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ مَالِكٌ، وَاخْتَارَهُ الزُّهْرِيُّ وَآخَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَيَّدَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِالْأَتْقِيَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى تَمَّامٌ فِي مَوَائِدِهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: " كُلُّ تَقِيٍّ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ» " زَادَ الدَّيْلَمِيُّ: «ثُمَّ قَرَأَ: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] (كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» ) : ذُكِرَ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِهِ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ «اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ: " عَلَى إِبْرَاهِيمَ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ. - وُجُوهٌ، أَظْهَرُهَا كَوْنُهُ جَدَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أُمِرْنَا، بِمُتَابَعَتِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، أَوْ فِي التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ وَالِانْقِيَادِ الْمُحَقَّقِ (" وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ") : وَهُمْ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَأَوْلَادُهُمَا. فِي التَّشْبِيهِ إِشْكَالٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ كَوْنُ الْمُشَبَّهِ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَالْوَاقِعُ هُنَا عَكْسُهُ ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَحْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ، وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا: أَنَّ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَالَ تَوَاضُعًا، وَمِنْهَا: أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْأَصْلِ لَا فِي الْقَدْرِ كَمَا قِيلَ فِي: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] وَكَمَا فِي {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء: 163] ، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] وَمِنْهَا أَنَّ الْكَافَ لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] وَمِنْهَا: أَنَّ التَّشْبِيهَ مُعَلَّقٌ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْهَا: أَنَّ التَّشْبِيهَ بِهَا هُوَ لِلْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ كَثِيرَةٌ وَهُوَ أَيْضًا مِنْهُمْ، وَمِنْهَا: أَنَّ التَّشْبِيهَ مِنْ بَابِ إِلْحَاقِ مَا يُشْتَهَرُ، بِمَا اشْتُهِرَ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ مَدْفُوعَةٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِالْمِثْلِ وَبِمَا دُونَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] (" إِنَّكَ حُمَيْدٌ ") : فَعِيلٌ، بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ: مَحْمُودٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِأَلْسِنَةِ خَلْقِهِ، أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَإِنَّهُ يَحْمَدُ ذَاتَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْحَامِدُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ، (" مَجِيدٌ ") ، أَيْ: عَظِيمٌ كَرِيمٌ، (" «اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ» ") ، أَيْ: أَثْبِتْ وَأَدُمْ مَا أَعْطَيْتَهُ مِنَ التَّشْرِيفِ وَالْكَرَامَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ (بَرَكَ الْبَعِيرُ) إِذَا أَنَاخَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَزِمَهُ، وَتُطْلَقُ الْبَرَكَةُ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْأَوَّلُ (" «وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ» ) : وَصَحَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ زِيَادَةُ: " فِي الْعَالَمِينَ " هُنَا وَثَمَّةَ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ، بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ: أَظْهِرِ الصَّلَاةَ وَالْبَرَكَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ فِي الْعَالَمِينَ، كَمَا أَظْهَرْتَهُمَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ فِي الْعَالَمِينَ (" إِنَّكَ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ ") : وَهُنَا زِيَادَةٌ عَلَى أَصْلِ السُّؤَالِ وَوَقَعَ تَتْمِيمًا لِلْكَمَالِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، (إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ " عَلَى إِبْرَاهِيمَ " فِي الْوَضْعَيْنِ) : وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الثَّانِي، وَقَالَ: وَبَارِكْ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ اهـ. فَالْآلُ مُقْحَمَةٌ أَوْ فِيهِ تَغْلِيبٌ، أَيْ: آلِ إِبْرَاهِيمَ مَعَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَهِيَ مِنْ زِيَادَاتِ الْبُخَارِيِّ هُنَا، وَسَيَأْتِي أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ كَعْبٍ، إِلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا: كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، فَعَجِيبٌ إِدْرَاجُ الْمُؤَلِّفِ وَأَصْلُهُ لَهَا فِي رِوَايَتَيْهِمَا.

920 - وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 920 - (وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ (السَّاعِدِيِّ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟» ") : جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ سَبَبُ هَذَا السُّؤَالِ وَلَفْظُهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَلِمْنَا مَا هُوَ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ» ") ، أَيْ: يَا أَلَلَّهُ فَالْمِيمُ عِوَضٌ عَنْ يَاءٍ، وَمِنْ ثَمَّ شَذَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: الْمِيمُ مُقْتَطَعَةٌ مِنْ جُمْلَةٍ أُخْرَى، أَيْ: يَا أَلَلَّهُ أُمَّنَا بِخَيْرٍ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ لِلتَّفْخِيمِ، وَقِيلَ: دَالَّةٌ عَلَى الْجَمْعِ كَالْوَاوِ، أَيْ: يَا مَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: اللَّهُمَّ مُجْتَمَعُ الدُّعَاءِ، وَقَوْلُ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ: مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ فَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ، وَقَوْلُ أَبِي رَجَاءٍ: الْمِيمُ هَاهُنَا فِيهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى (" صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ ") : هُوَ عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنِ اسْمِ مَفْعُولٍ الْمُضَعَّفِ سُمِّيَ بِهِ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ لِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لِيَحْمَدَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ يَقُولُ: كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ. وَهُوَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ لَهُ مِنَ الْمَحَامِدِ وَصِفَاتِ الْحَمْدِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ لِغَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ بِيَدِهِ لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَكَانَ صَاحِبَ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَحْمَدُهُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَأُلْهِمَ مِنْ مَجَامِعِ الْحَمْدِ حِينَ يَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ لِلشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ الَّتِي هِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، مَا لَمْ يُفْتَحْ بِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَسُمِّيَتْ أُمَّتُهُ الْحَمَّادِينَ لِحَمْدِهِمْ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأَمَّا أَحْمَدُ فَلَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ قَطُّ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَكَذَلِكَ قَبْلَ أَوَانِ ظُهُورِهِ، وَبَعْدَهُ مَدَّ أُنَاسٌ أَعْنَاقَهُمْ إِلَى رَجَائِهِمْ، غَفْلَةً عَنْ أَنَّ {اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ، فَسَمَّوْا أَبْنَاءَهُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى بَلَغُوا خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا، هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ زِيَادَةَ: " «وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ كَمَا رَحِمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» " كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَرُبَّمَا يَقُولُونَ: تَرَحَّمْتَ بِالتَّاءِ، لَمْ يَرِدْ، بَلْ غَيْرُ صَحِيحٍ إِذْ لَا يُقَالُ: رَحِمْتَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ التَّرَحُّمَ فِيهِ مَعْنَى التَّكَلُّفِ وَالتَّصَنُّعِ، فَلَا يَحْسُنُ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ بِدْعَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا، بَلْ نَقَلَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّهُ لَا مُجَوِّزَ؛ حَيْثُ قَالَ: قَالُوا: يَنْبَغِي لِمَنْ ذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ لِآيَةِ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} [النور: 63] ، وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ، فَكَأَنَّهُ خَصَّ هَذَا اللَّفْظَ تَعْظِيمًا اهـ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِأَنَّ الرَّحْمَةَ إِنَّمَا تَكُونُ غَالِبًا مِنْ فِعْلِ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَعْظِيمِهِ اهـ. وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ قَالُوا رِوَايَةَ زِيَادَةِ: " «وَتَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا تَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ» " حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ عَمَدَ بَعْضُ حُفَّاظِ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى جَمْعِ مَا تَفَرَّقَ فِي الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ مُدَّعِيًا أَنَّهُ هُوَ أَفْضَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ التَّلْفِيقَ يَسْتَلْزِمُ إِحْدَاثَ صِفَةٍ لَمْ تَرِدْ مَجْمُوعَةً فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، فَالْأَوْلَى الْإِتْيَانُ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، وَهَكَذَا، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، (وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ") : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَجُوزُ كَسْرُهَا مِنَ الذَّرْءِ، أَيِ: الْخَلْقِ وَسَقَطَتِ الْهَمْزَةُ أَوْ مِنْ ذَرٍّ، أَيْ: فَرَقٍ، أَوْ مِنَ الذَّرِّ وَهُوَ النَّمْلُ الصَّغِيرُ لِخَلْقِهِمْ أَوَّلًا عَلَى صُورَتِهِ، أَيْ: أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ نَسْلُ الْإِنْسَانِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ: لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ إِلَّا أَوْلَادَ بَنَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ فِي الْكَفَاءَةِ وَغَيْرِهَا، فَهُمْ هُنَا أَوْلَادُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَذَا غَيْرُهَا مِنْ بَنَاتِهِ، لَكِنَّ بَعْضَهُنَّ لَمْ يُعَقِّبْ وَبَعْضَهُنَّ انْقَطَعَ عَقِبُهُ، (كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) : كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: (كمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ) ، كَيْفَ يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ حَيْثُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ، كَمَا ذُكِرَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّ الْآلَ مُقْحَمٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِي مُوسَى: " «أَنَّهُ أُعْطِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ آلٌ مَشْهُورٌ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، وَفِيهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَهُ آلٌ مَشْهُورٌ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ يُسَاعِدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَهْلِ، فَيَكُونَ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ تَمْهِيدًا لِذِكْرِ الْأَهْلِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَكْرِيمًا، وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ الْمَقْصُودُ بِالصَّلَاةِ هُوَ الْأَهْلَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ فِي الصَّلَاةِ، وَآلُهُ تَبَعٌ لَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ مَا قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ابْتِدَاءً مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، لِأَنَّهُ شِعَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: السَّلَامُ كَالصَّلَاةِ، يَعْنِي: لَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ إِلَّا تَبَعًا، (" وَبَارِكْ ") ، أَيْ: زِدِ الْبَرَكَةَ وَهُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ (" «عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ» ") : وَفِي نُسْخَةٍ: عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ ذُكِرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الصَّلَاةِ وَذُكِرَ آلُهُ فِي الْبَرَكَةِ، وَفِيهَا مُنَاسَبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] (" إِنَّكَ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ") : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

921 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً ; صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 921 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً) ، أَيْ: صَلَاةً وَاحِدَةً (" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ") ، أَيْ: عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَالْمَعْنَى رَحِمَهُ وَضَاعَفَ أَجْرَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا أَقَلُّ الْمُضَاعَفَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى ظَاهِرِهَا كَلَامًا يَسْمَعُهُ الْمَلَائِكَةُ تَشْرِيفًا لِلْمُصَلِّي وَتَكْرِيمًا لَهُ، كَمَا جَاءَ: " «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» "، قُلْتُ: لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْيِيدِ بِسَمَاعِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ جَاءَ: " «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي» "، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي. 922 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً ; صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي. 922 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ (" «وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ» ") ، بِمَعْنَى كُفِّرَتْ وَسُتِرَتْ وَوُضِعَتْ، وَلَعَلَّهُ اخْتِيرَ لَفْظُ حُطَّتْ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: (" وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ ") : وَلَعَلَّ حِكْمَةَ إِيرَادِ الْمَجْهُولِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ فَاعِلَهُ عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ وَإِيجَازِ الْكَلَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّلَاةُ مِنَ الْعَبْدِ طَلَبُ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِجَنَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: فِي الْجَزَاءِ إِنْ كَانَتْ، بِمَعْنَى الْغُفْرَانِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَتْ، بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، فَيَكُونُ مِنَ الْمُوَافَقَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ مَعْنَى الْغُفْرَانِ، أَيْ: مَعَ الْحَطِّ وَمَعْنَى الْأَعْدَادِ الْمَخْصُوصَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَزِيدِ، وَالْفَضْلِ فِي الْمَوْتِ الْمَطْلُوبِ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِيهِمَا اهـ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ بِلَفْظِ: " «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَذْكُرُنِي فَيُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ» "، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَالْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا صَحِيحٌ، وَبَعْضُهَا حَسَنٌ.

923 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " «أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 923 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَوْلَى النَّاسِ ") ، أَيْ: أَقْرَبُهُمْ (" بِي ") : أَوْ أَحَقُّهُمْ بِشَفَاعَتِي (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً ") : لِأَنَّ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ مُنْبِئَةٌ عَنِ التَّعْظِيمِ الْمُقْتَضِي لِلْمُتَابِعَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْكَامِلَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَيْهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ، عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ: فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِيَامَةِ يَكُونُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، إِذْ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ أَكْثَرَ صَلَاةً عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَفِعْلًا.

924 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِيَ السَّلَامَ» "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 924 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً» ") ، أَيْ: جَمَاعَةً مِنْهُمْ (" سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ ") ، أَيْ: سَيَّارِينَ بِكَثْرَةٍ فِي سَاحَةِ الْأَرْضِ مِنْ سَاحَ: ذَهَبَ، فِي الْقَامُوسِ: سَاحَ الْمَاءُ جَرَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، (" يُبَلِّغُونِي ") : مِنَ التَّبْلِيغِ، وَقِيلَ: مِنَ الْإِبْلَاغِ، وَرُوِيَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى النُّونَيْنِ، وَقِيلَ: بِتَشْدِيدِهَا عَلَى الْإِدْغَامِ، أَيْ: يُوَصِّلُونَ (" مِنْ أُمَّتِيَ السَّلَامَ ") : إِذَا سَلَّمُوا عَلَيَّ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِمَنْ بَعُدَ عَنْ حَضْرَةِ مَرْقَدِهِ الْمُنَوَّرِ وَمَضْجَعِهِ الْمُطَهَّرِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حَيَاتِهِ الدَّائِمَةِ وَفَرَحِهِ بِبُلُوغِ سَلَامِ أُمَّتِهِ الْكَامِلَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى قَبُولِ السَّلَامِ حَيْثُ قَبِلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَحَمَلَتْهُ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمَا " فِي الْأَرْضِ "، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَتَأَمَّلْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ طُرُقًا مُتَعَدِّدَةً وَحَسَّنَ بَعْضَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَّا أَنَّ فِيهِ مَجْهُولًا، " «حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» ".

925 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي، حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 925 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي» ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ نُطْقِي (" حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ") ، أَيْ: أَقُولُ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّ مَعْنَاهُ أَنَّ رُوحَهُ الْمُقَدَّسَةَ فِي شَأْنِ مَا فِي الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِذَا بَلَغَهُ سَلَامُ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ الْمُطَهَّرَةَ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ إِلَى رَدِّ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عَادَتْهُ فِي الدُّنْيَا يَفِيضُ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ سَبَحَاتِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، مَا أَفَاضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ فِي شَأْنِ أُمَّتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: رَدُّ الرُّوحِ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْلَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّ فُلَانًا صَلَّى عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجَابَ السُّيُوطِيُّ عَنِ الْإِشْكَالِ بِأَجْوِبَةٍ أُخْرَى فِي رِسَالَةٍ لَهُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، بَلْ صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ وَغَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ تَقْيِيدِ السَّلَامِ بِكَوْنِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِيمَا رَأَيْتُهُ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ.

926 - وَعَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 926 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ ") : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا (قُبُورًا) ، أَيْ: كَالْقُبُورِ الْخَالِيَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، بَلِ اجْعَلُوا لَهَا نَصِيبًا مِنَ الْعِبَادَةِ النَّافِلَةِ لِحُصُولِ الْبَرَكَةِ النَّازِلَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَرَدَّ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دُفِنَ فِي بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ لِحَدِيثِ: " «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا وَدُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ» "، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا الْقُبُورَ مَسَاكِنَكُمْ لِئَلَّا تَزُولَ الرِّقَّةُ وَالْمَوْعِظَةُ وَالرَّحْمَةُ، بَلْ زُورُوهَا وَارْجِعُوا إِلَى بُيُوتِكُمْ، أَوْ لِئَلَّا تَحْصُلَ لَكُمُ الْجَذْبَةُ الْكَامِلَةُ وَيَنْقَطِعَ عَنْكُمْ نِظَامُ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ، وَلِذَا قِيلَ: لَوْلَا الْحَمْقَى لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى نِهُيَتِ النِّسَاءُ عَنْ كَثْرَةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَجْعَلُوهَا قُبُورًا ; لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا مَاتَ وَصَارَ فِي قَبْرِهِ لَمْ يُصَلِّ، وَقِيلَ: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ وَطَنًا لِلنَّوْمِ فَقَطْ لَا تُصَلُّونَ فِيهَا، فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَا يُصَلِّي، وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي بَيْتِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ كَالْمَيِّتِ، وَبَيَتَهُ كَالْقَبْرِ، اهـ. وَقَدْ وَرَدَ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، كَمَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» "، فَالْمَعْنَى لَا تَكُونُوا كَالْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَهِيَ الْقُبُورُ، أَوْ لَا تَتْرُكُوا الصَّلَاةَ فِيهَا حَتَّى تَصِيرُوا كَالْمَوْتَى وَتَصِيرَ هِيَ كَالْقُبُورِ، وَبِمَا يُؤَيِّدُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: " «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» "، وَقَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ اللَّطَائِفِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ كَالْقُبُورِ خَالِيَةً عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلزَّائِرِينَ، (" «وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا» ") : هُوَ وَاحِدُ الْأَعْيَادِ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا زِيَارَةَ قَبْرِي عِيدًا، أَوْ لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي مَظْهَرَ عِيدٍ، فَإِنَّهُ يَوْمُ لَهْوٍ وَسُرُورٍ، وَحَالُ الزِّيَارَةِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْحَثَّ عَلَى كَثْرَةِ زِيَارَتِهِ، وَلَا يُجْعَلُ كَالْعِيدِ الَّذِي لَا يَأْتِي فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: نَهَاهُمْ عَنِ الِاجْتِمَاعِ لَهَا اجْتِمَاعَهُمْ لِلْعِيدِ نُزْهَةً وَزِينَةً، وَكَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى تَفْعَلُ ذَلِكَ بِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ، فَأَوْرَثَهُمُ الْغَفْلَةَ وَالْقَسْوَةَ، وَمِنْ عَادَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يُعَظِّمُونَ أَمْوَاتَهُمْ حَتَّى اتَّخَذُوهَا أَصْنَامًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ لِقَوْلِهِ: " «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» " فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَجَاوَزُوا فِي قَبْرِهِ غَايَةَ التَّجَاوُزِ، وَلِهَذَا وَرَدَ: " «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» "، وَقِيلَ: الْعِيدُ اسْمٌ مِنَ الِاعْتِيَادِ يُقَالُ: عَادَهُ وَاعْتَادَهُ وَتَعَوَّدَهُ، أَيْ: صَارَ عَادَةً لَهُ، وَالْعِيدُ مَا اعْتَادَكَ مِنْ هَمٍّ أَوْ غَيْرِهِ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي مَحَلَّ اعْتِيَادٍ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى سُوءِ الْأَدَبِ وَارْتِفَاعِ الْحِشْمَةِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ دُعَاءَ الْغَائِبِ لَا يَصِلُ إِلَيَّ، وَلِذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ( «وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ النُّفُوسَ الزَّكِيَّةَ الْقُدُسِيَّةَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ عَرَجَتْ وَوَصَلَتْ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا حِجَابٌ، فَتَرَى الْكُلَّ كَالْمُشَاهَدِ بِنَفْسِهَا، أَوْ بِإِخْبَارِ الْمَلِكِ لَهَا، وَفِيهِ سِرٌّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَنْ تَيَسَّرَ لَهُ اهـ. فَيَكُونُ نَهْيُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنْ أُمَّتِهِ رَحْمَةً [عَلَيْهِمْ] ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي الْأَذْكَارِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ، وَفِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.

927 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ أَوْ أَحَدُهَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 927 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَغِمَ ") : مُثَلَّثُ الْغَيْنِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ بِالْكَسْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ لُصِقَ بِالرِّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ، أَيْ: ذُلَّ وَهَانَ ( «أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» ) : وَهُوَ إِمَّا خَبَرٌ أَوْ دُعَاءٌ، أَيْ لَحِقَهُ ذُلٌّ مُجَازَاةً بِتَرْكِ تَعْظِيمِي، وَقِيلَ: خَابَ وَخَسِرَ مَنْ قَدَرَ بِأَنْ يَتَفَوَّهَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُوجِبُ لِنَفْسِهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ مِنَ اللَّهِ، وَيُرْفَعُ بِهَا عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَيُحَطُّ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ، ( «أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» ) : وَهُوَ إِمَّا خَبَرٌ أَوْ دُعَاءٌ، أَيْ لَحِقَهُ ذُلٌّ مُجَازَاةً بِتَرْكِ

تَعْظِيمِي، وَقِيلَ: خَابَ وَخَسِرَ مَنْ قَدَرَ بِأَنْ يَتَفَوَّهَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُوجِبَ لِنَفْسِهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ مِنَ اللَّهِ، وَيُرْفَعَ بِهَا عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَيُحَطَّ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ، (" «وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ» ") ، أَيِ: انْتَهَى أَوِ انْقَضَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَانَ وَجْهُ الْإِتْيَانِ (بِثُمَّ) ، هُنَا أَنَّ بَيْنَ ابْتِدَاءِ رَمَضَانَ وَبَيْنَ انْقِضَائِهِ مُهْلَةً طَوِيلَةً، بِخِلَافِ سَمَاعِ ذِكْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا تُطْلَبُ عَقِبَ السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، وَكَذَا بِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّهُ يَتَأَكَّدُ عَقِبَ احْتِيَاجِهِمَا الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالْكِبَرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (ثُمَّ) ، هَذِهِ اسْتِبْعَادِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِكَ لِصَاحِبِكَ: بِئْسَ مَا فَعَلْتَ وَجَدْتَ مِثْلَ تِلْكَ الْفُرْصَةِ ثُمَّ لَمْ تَنْتَهِزْهَا، وَكَذَا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ وَيُدْخِلَاهُ، وَيُؤَيِّدُهُ، وُرُودُ الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: ثُمَّ بَدَلَ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: (فَلَمْ يُدْخِلَاهُ) ، وَنَظِيرُ وُقُوعِ الْفَاءِ مَوْقِعَ ثُمَّ فِي الِاسْتِبْعَادِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف: 57] فِي الْكَهْفِ، {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22] فِي السَّجْدَةِ اهـ. فَجَاءَتْ ثُمَّ بَعْدَ الْفَاءِ فِي الْقُرْآنِ لِإِفَادَةِ التِّبْيَانِ (" قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ") ، أَيْ: بِأَنَّ لَمْ يَتُبْ فِيهِ أَوْ لَمْ يُعَظِّمْهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الطَّاعَةِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ، أَوْ لِسُوءِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنْ رِيَاءٍ وَنَحْوِهِ أَبْطَلَ عَمَلَهُ الْمُقْتَضِيَ لِلْمَغْفِرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ (وَلَمْ يُغْفَرْ) ، وَإِنَّمَا عَدَلَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَرَاخِيَ الْغُفْرَانِ مِنْ تَقْصِيرِهِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ قَبْلَ انْسِلَاخِهِ، (" «وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ» ") ، أَيْ: أَوْ لَمْ يُدْخِلْهُ (" الْجَنَّةَ ") : الْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، فَإِنَّ الْمُدْخِلَ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ يَعْنِي لَمْ يَخْدِمْهُمَا حَتَّى يَدْخُلَ بِسَبَبِهِمَا الْجَنَّةَ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا صَحِيحٌ، وَبَعْضُهَا حَسَنٌ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ.

928 - وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: " إِنَّهُ جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا يُرْضِيكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا» ؟ "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 928 - (وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ) ، أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ) ، أَيْ: سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ (وَالْبِشْرُ) : أَيْ: آثَارُ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ (فِي وَجْهِهِ) ، أَيْ: لَائِحٌ فِي بَشْرَتِهِ وَجُعِلَ ظَرْفًا وَمَكَانًا لَهُ إِعْلَامًا بِتَمَكُّنِهِ وَعَظَمَةِ وَقْعِهِ (فَقَالَ) : قَبْلَ السُّؤَالِ أَوْ بَعْدَهُ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ: إِذْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ رَأَى عِنْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طِيبِ النَّفْسِ وَظُهُورِ السُّرُورِ الْبِشْرَ وَبَرْقَ الْأَسَارِيرِ، مَا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (" إِنَّهُ ") ، أَيِ: الشَّأْنَ (" «جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا يُرْضِيكَ يَا مُحَمَّدُ» ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا بَعْضُ مَا أُعْطِيَ مِنَ الرِّضَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ رَاجِعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْأُمَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ تَمَكَّنَ الْبِشْرُ فِي أَسَارِيرِ وَجْهِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اهـ. وَيُؤَيِّدُ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ جَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: [" «بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَاةً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَكَفَّرَ بِهَا عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَرَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ» "] ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ - يَعْنِي الْمُوَكَّلَ -: " وَأَنْتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ " ( «أَنْ لَا يُصَلِّيَ عَلَيْكَ أَحَدٌ

مِنْ أُمَّتِكَ ") : أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ (" إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا» ") ، أَيْ: أَمَا يُرْضِيكَ عَدَمُ صَلَاةِ أَحَدٍ إِلَّا مَقْرُونَةً بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ مِنِّي؟ (" «وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ» ") : عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ (" إِلَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَزَادَ الْحَاكِمُ فِي آخِرِهِ: [" فَسَجَدْتُ لِلَّهِ شُكْرًا "] وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ.

929 - «وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: " مَا شِئْتَ "، قُلْتُ: الرُّبُعَ؟ قَالَ: " مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: " مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ "، قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: " مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ "، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: " إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُكَفَّرُ لَكَ ذَنْبُكَ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 929 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ، بِمَا فِيهِ» (إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ) ، أَيْ: أُرِيدُ إِكْثَارَهَا (فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟) ، أَيْ: بَدَلَ دُعَائِي الَّذِي أَدْعُو بِهِ لِنَفْسِي (فَقَالَ: مَا شِئْتَ) ، أَيِ: اجْعَلْ مِقْدَارَ مَشِيئَتِكَ (قُلْتُ: الرُّبُعَ؟) : بِضَمِّ الْبَاءِ وَتُسَكَّنُ، أَيْ: أَجْعَلَ رُبُعَ أَوْقَاتِ دُعَائِي لِنَفْسِي مَصْرُوفًا لِلصَّلَاةِ عَلَيْكَ؟ ( «قَالَ: " مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " قُلْتُ: النِّصْفَ؟ قَالَ: " مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ؟» ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَتُسَكَّنُ ( «قَالَ: مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا» ؟) ، أَيْ: أَصْرِفُ بِصَلَاتِي عَلَيْكَ جَمِيعَ الزَّمَنِ الَّذِي كُنْتُ أَدْعُو فِيهِ لِنَفْسِي (قَالَ: " إِذَنْ ") : بِالنُّونِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْأَلْفِ: مُنَوَّنًا (" تُكْفَى ") : مُخَاطَبٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ (" هَمَّكَ ") : مَصْدَرٌ، بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ ثَانٍ لِتُكْفَى، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ الْمَرْفُوعُ، بِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهُوَ أَنْتَ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ عَنِ الْأَزْهَارِ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ، أَيْ: إِذَا صَرَفْتَ جَمِيعَ زَمَانِ دُعَائِكَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيَّ كُفِيتَ مَا يَهُمُّكَ اهـ. وَفِي صَحِيحِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ يَكْفِي بِالْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ، وَهَمُّكَ بِرَفْعِ الْمِيمِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ: كَفَاهُ الشَّيْءُ كَمَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيُقَالُ: كَفَاهُ الشَّيْءُ، كَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ (" وَيُكَفَّرَ ") : بِالنَّصْبِ (" لَكَ ذَنْبُكَ ") : وَلَفْظُ الْحِصْنِ: وَيُغْفَرَ لَكَ ذَنْبُكَ، قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ كَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ دُعَائِي الَّذِي أَدْعُو بِهِ لِنَفْسِي؟ وَلَمْ يَزَلْ يُفَاوِضُهُ لِيُوقِفَهُ عَلَى حَدٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحُدَّ لَهُ ذَلِكَ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ الْفَضِيلَةُ بِالْفَرِيضَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ لَا يُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابَ الْمَزِيدِ ثَانِيًا، فَلَمْ يَزَلْ يَجْعَلُ الْأَمْرَ إِلَيْهِ دَاعِيًا لِقَرِينَةِ التَّرْغِيبِ وَالْحَثِّ عَلَى الْمَزِيدِ، حَتَّى قَالَ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا، أَيْ: أُصَلِّي عَلَيْكَ بَدَلَ مَا أَدْعُو بِهِ لِنَفْسِي، فَقَالَ: " إِذًا يُكْفَى هَمُّكَ "، أَيْ: أَهَمَّكَ مِنْ أَمْرِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَتَعْظِيمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاشْتِغَالِ بِأَدَاءِ حَقِّهِ عَنْ أَدَاءِ مَقَاصِدِ نَفْسِهِ، وَإِيثَارِهِ بِالدُّعَاءِ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَعْظَمَهُ مِنْ خِلَالٍ جَلِيلَةِ الْأَخْطَارِ وَأَعْمَالٍ كَرِيمَةِ الْآثَارِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ نَقَلَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ عِنْدُ ابْنِ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَالرُّويَانِيِّ اهـ، وَلِلْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إِنِّي أُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ بَدَلَ أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟) ، أَيْ: بَدَلَ (صَلَاتِي مِنَ اللَّيْلِ) .

930 - وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ، فَاحْمَدِ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادْعُهُ "، قَالَ: ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّهَا الْمُصَلِّي، ادْعُ تُجَبْ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 930 - (وَعَنْ فَضَالَةَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ (ابْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ) ، أَيْ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ أَوْ بَعْدَهَا: ( «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَجِلْتَ» ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ الْفَتْحُ، وَالتَّشْدِيدُ، قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، أَيْ حِينَ تَرَكْتَ التَّرْتِيبَ فِي الدُّعَاءِ، وَعَرَضْتَ السُّؤَالَ قَبْلَ الْوَسِيلَةِ، قَالَ الْإِمَامُ الزَّاهِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَارَعَةِ وَالْعَجَلَةِ، أَنَّ الْمُسَارَعَةَ تُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ، أَيْ: غَالِبًا وَفِي الشَّرِّ أَيْ أَحْيَانًا وَالْعَجَلَةُ لَا تُطْلَقُ إِلَّا فِي الشَّرِّ، وَقِيلَ: الْمُسَارَعَةُ الْمُبَادَرَةُ فِي وَقْتِهِ وَأَوَانِهِ، وَالْعَجَلَةُ الْمُبَادَرَةُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَأَوَانِهِ، (" أَيُّهَا الْمُصَلِّي ") : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ السَّائِلِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْمَسْئُولِ مِنْهُ بِالْوَسَائِلِ قَبْلَ طَلَبِ الْحَاجَةِ، بِمَا يُوجِبُ الزُّلْفَى عِنْدَهُ، وَيَتَوَسَّلَ بِشَفِيعٍ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَكُونَ أَطْمَعَ فِي الْإِسْعَافِ، وَأَرْجَى بِالْإِجَابَةِ، فَمَنْ عَرَضَ السُّؤَالَ قَبْلَ الْوَسِيلَةِ فَقَدِ اسْتَعْجَلَ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَدِّبًا لِأُمَّتِهِ: (" إِذَا صَلَّيْتَ ") : بِالْخِطَابِ الْخَاصِّ الْمُرَادِ بِهِ الْعَامُّ (" فَقَعَدْتَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا عَطَفَ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِذَا صَلَّيْتَ وَفَرَغْتَ فَقَعَدْتَ لِلدُّعَاءِ فَاحْمَدِ اللَّهَ، وَإِمَّا عَطْفٌ عَلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ: إِذَا كُنْتَ مُصَلِّيًا فَقَعَدْتَ لِلتَّشَهُّدِ فَاحْمَدِ اللَّهَ، أَيْ: أَثْنِ عَلَيْهِ بِقَوْلِكَ التَّحِيَّاتُ اهـ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ: (" فَاحْمَدِ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ") : مِنْ كُلِّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ، وَاشْكُرْهُ عَلَى كُلِّ عَطَاءٍ جَزِيلٍ (" وَصَلِّ عَلَيَّ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: " ثُمَّ صَلِّ عَلَيَّ "، فَإِنِّي وَاسِطَةُ عِقْدِ الْمَحَبَّةِ، وَوَسِيلَةُ الْعِيَادَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ (" ثُمَّ ادْعُهُ ") : بَهَاءِ الضَّمِيرِ، وَقِيلَ: هَاءِ السَّكْتِ (قَالَ) ، أَيِ: الرَّاوِي (ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ) : قِيلَ: لَعَلَّهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لِلْحَدِيثِ الْآتِي عَقِبَ هَذَا (بَعْدَ ذَلِكَ) : فِي ذَلِكَ الْمُحَلَّى أَوْ بَعْدَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ (فَحَمِدَ اللَّهَ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: وَلَمْ يَدْعُ ( «فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ» ") : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مَجْزُومًا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، دَلَّهُمَا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْكَمَالِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَاهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ فَضَالَةَ أَيْضًا. [وَهُوَ] «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمَعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " عَجِلَ هَذَا " ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو بَعْدُ، بِمَا شَاءَ» ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ.

931 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنْتُ أُصَلِّي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرَ وَعُمَرُ مَعَهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَدَأْتُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَعَوْتُ لِنَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَلْ تُعْطَهُ، سَلْ تُعْطَهُ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 931 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي) ، أَيِ: الصَّلَاةَ ذَاتَ الْأَرْكَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي: فَلَمَّا جَلَسْتُ (وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : حَاضِرٌ، أَوْ جَالِسٌ، وَنَحْوَهُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ حَاضِرٌ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَحُذِفَ مِنْ نُسْخَةِ الشَّارِحِ فَقَدَّرَهُ خَبَرًا اهـ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نُسْخَةٍ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ فَضْلًا عَنْ صَحِيحِهِ (وَأَبُو بَكْرَ وَعُمَرُ مَعَهُ) : جُمْلَةٌ أُخْرَى مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى وَهِيَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أُصَلِّي ( «فَلَمَّا جَلَسْتُ بَدَأْتُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ [تَعَالَى] ثُمَّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَعَوْتُ لِنَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَلْ تُعْطَهُ» ": قَالَ الْمُظْهِرُ: الْهَاءُ إِمَّا لِلسَّكْتِ كَقَوْلِهِ: حِسَابِيَهْ وَإِمَّا ضَمِيرٌ لِلْمَسْئُولِ عَنْهُ لِدَلَالَةِ (سَلْ) عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَلَى حَدِّ: {وَأَنْ تَعْفُوا} [البقرة: 237] هُوَ، أَيِ: الْعَفْوُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى اهـ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ أَنْ فِي: {وَأَنْ تَعْفُوا} [البقرة: 237] مَصْدَرِيَّةٌ فَلَا يَكُونُ

نَظِيرَ مَا نَحْنُ فِيهِ، بَلْ نَظِيرُهُ {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وَفِي كَلَامِهِ سَهْوٌ آخَرُ وَهُوَ زِيَادَةُ لَفْظِ (هُوَ) الْمُوهِمِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ حَيْثُ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَيِ الْعَفْوُ، وَلَفْظُ التَّنْزِيلِ {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وَالتَّقْدِيرُ فِيهِمَا: وَعَفْوُكُمْ أَقْرَبُ، وَصِيَامُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي (أَقْرَبُ) وَ (خَيْرٌ) إِلَى مَجْمُوعِ أَنْ وَالْفِعْلِ الْمُؤَوَّلِ بِالْمَصْدَرِ لَا إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعِلْمِ بِالْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْجَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ، أَيْ: سَلْ لِتَصِيرَ مَقْضِيَّ الْحَاجَةِ، (سَلْ تُعْطَهُ) : التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّكْثِيرِ أَوْ سَلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ فَإِنَّهُ مُعْطِيهِمَا، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 932 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إِذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ ; فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذُرِّيَّتِهِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 932 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَرَّهُ ") ، أَيْ: أَعْجَبُهُ وَأَحَبَّ (" أَنْ يُكْتَالَ ") : بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ: يُعْطَى الثَّوَابَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ، أَيْ: يَأْخُذُ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ، فَحُذِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ (" بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى ") : عِبَارَةٌ عَنْ نَيْلِ الثَّوَابِ الْوَافِي عَلَى نَحْوِ: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 41] ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْمِكْيَالِ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِلْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ، وَالتَّقْدِيرَ بِالْمِيزَانِ يَكُونُ غَالِبًا لِلْأَشْيَاءِ الْقَلِيلَةِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الْأَوْفَى (" إِذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ ") : بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لِلضَّمِيرِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي (" فَلْيَقُلْ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: إِذَا صَلَّى شَرْطٌ جَزَاؤُهُ فَلْيَقُلْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا ظَرْفًا وَالْعَامِلُ فَلْيَقُلْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ الْجَزَائِيَّةِ يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] فَإِنَّهُ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: فَلْيَعْبُدُوا (" اللَّهُمَّ صَلِّ ") ، أَيْ: أَنْزِلِ الرَّحْمَةَ وَالْبَرَكَةَ، أَوْ أَثْنِ ثَنَاءً جَمِيلًا (" عَلَى مُحَمَّدٍ ") : وَبِمَا قَدَّرْنَا انْدَفَعَ مَا قِيلَ إِنَّ عَلَى لِلضَّرَرِ كَمَا يُقَالُ: دَعَا لَهُ وَدَعَا عَلَيْهِ، وَالصَّلَاةُ. بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فَهِيَ لَا تُنَاسِبُ الْمَقَامَ الْمَوْضُوعَ لِلْإِكْرَامِ (" النَّبِيِّ ") : يَجُوزُ فِيهِ الْهَمْزُ وَالْإِدْغَامُ، وَبِهِمَا قُرِئَ فِي السَّبْعَةِ، وَالْإِدْغَامُ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْهَمْزِ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ لِإِيهَامِهِ فِي عُرْفِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ دِينِهِ، وَطُرِدَ عَنْ وَطَنِهِ، وَهُوَ فَعِيلٌ، بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْبِنَاءِ، بِمَعْنَى الْخَبَرِ، أَوْ مِنَ النُّبُوَّةِ، بِمَعْنَى الرِّفْعَةِ، وَهُوَ إِنْسَانٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ سَوَاءٌ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ أَمْ لَا، وَالرَّسُولُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَاللَّامُ هُنَا لِلْعَهْدِ، وَاخْتِيرَ النُّبُوَّةُ لِعُمُومِ أَحْوَالِهِ وَلِلْمُبَالَغَةِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ بِصِفَةِ النُّبُوَّةِ، فَبِالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ، أَوْ لِأَنَّ وَصْفَ النُّبُوَّةِ شَامِلَةٌ لِوِلَايَتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي هِيَ خَالِصَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، (" الْأُمِّيِّ ") ، مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ الْمَكْتُوبَ، كَأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ وِلَادَةِ أُمِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكِتَابَةِ أَوْ نُسِبَ إِلَى أُمِّهِ لِأَنَّهُ بِمِثْلِ حَالِهَا، إِذِ الْغَالِبُ مِنْ حَالِ النِّسَاءِ عَدَمُ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ كَانَ عَدَمُ الْكِتَابَةِ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَعَ مَا أُوتِيَهُ مِنَ الْعُلُومِ الْبَاهِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى أُمِّ الْقُرَى وَهِيَ مَكَّةُ، لِأَنَّهَا أَصْلُ الْأَرْضِ خِلْقَةً، فَإِنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ وَبُسِطَتْ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا بَلَدُهُ وَخُلِقَتْ مِنْ طِينَتِهِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهَا قِبْلَةَ الْوَرَى فِي جَمِيعِ الْقُرَى، أَوْ لِأَنَّهَا وَسَطُ الدُّنْيَا، وَالْعَوَالِمُ كُلُّهَا حَوَالَيْهَا كَالْأَوْلَادِ حَوَالَيِ الْأُمِّ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْفَيْضَ وَالرَّحْمَةَ مِنْهَا ; لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ أَوَّلًا عَلَيْهَا ثُمَّ تَفِيضُ مِنْهَا فِي

الْآفَاقِ، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ الَّتِي لَا تَقْرَأُ، وَلَا تَكْتُبُ فِي الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، وَهُمُ الْعَرَبُ، وَقِيلَ: إِلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ لِكَثْرَةِ اهْتِمَامِهِ بِأَمْرِهَا، وَقِيلَ: إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أُصُولِهِ، وَهِيَ الْفَاتِحَةُ إِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ صَدَّقَ بِهَا وَدَعَا إِلَى التَّصْدِيقِ بِهَا، وَقِيلَ: إِلَى الْأُمَّةِ، وَهِيَ الْعَامَّةُ ; لِأَنَّهُ بُعِثَ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ، (" وَأَزْوَاجِهِ ") ، أَيْ: نِسَائِهِ الطَّاهِرَاتِ (" أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ") ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ التَّعْظِيمِ، وَالتَّكْرِيمِ (" وَذُرِّيَّتِهِ ") ، أَيْ: أَوْلَادِهِ، وَأَحْفَادِهِ (" وَأَهْلِ بَيْتِهِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَاخِلٌ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا إِشْكَالَ فِي التَّشْبِيهِ، تَحْصُلُ لَهُ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِانْفِرَادِهِ، وَمَرَّةً تَحْتَ الْعُمُومِ، (" إِنَّكَ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ ") : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ: فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ: وَهُوَ أَصَحُّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] » .

933 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 933 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْبَخِيلُ الَّذِي ") : وَفِي نُسْخَةٍ: الدَّنِيءُ: فَعِيلٌ مِنَ الدَّنَاءَةِ، بِمَعْنَى الرَّذَالَةِ (" مِنْ ") : كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُصَحَّحَةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَوْصُولَيْنِ، وَخَالَفَ ابْنُ حَجَرٍ وَجَعَلَ لَفْظَ " مِنْ " أَصْلًا، ثُمَّ قَالَ: وَفِي نُسْخَةٍ: الَّذِي (" «وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَوْصُولُ الثَّانِي مُقْحَمٌ بَيْنَ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ وَصِلَتِهِ تَأْكِيدًا كَمَا فِي قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أَيْ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَنْ شَرْطِيَّةً، وَالْجُمْلَةُ صِلَةً وَالْجَزَاءُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ اهـ. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْبَخِيلُ) لِلْجِنْسِ الْمَحْمُولِ عَلَى الْكَمَالِ، فَمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَخِلَ، وَمَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يُكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى، فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَبْخَلَ مِنْهُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ: " الْبَخِيلُ كُلُّ الْبَخِيلِ "، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ، (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) : كَذَا فِي أُصُولِ الْمِشْكَاةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ جَامِعِهِ زِيَادَةُ: غَرِيبٌ مُوهِمٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَأَطْنَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي تَخْرِيجِ طُرُقِهِ، وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِهِ الْحُسَيْنِ، وَلَا يَقْصُرُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ.

934 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا أُبْلِغْتُهُ» "، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: فِي: " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 934 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ» ) : أَيْ [سَمْعًا] حَقِيقِيًّا بِلَا وَاسِطَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاعْتِيَادِ الدَّافِعِ عَنِ الْحِشْمَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحُضُورِ أَفْضَلُ مِنَ الْغَيْبَةِ. انْتَهَى، لِأَنَّ الْغَالِبَ حُضُورُ الْقَلْبِ عِنْدَ الْحَضْرَةِ وَالْغَفْلَةُ عِنْدَ الْغَيْبَةِ، (" وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا ") ، أَيْ: مِنْ بَعِيدٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ: أَيْ بَعِيدًا عَنْ قَبْرِي (" أُبْلِغْتُهُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: بُلِّغْتُهُ مِنَ التَّبْلِيغِ، أَيْ: أُعْلِمْتُهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَصْدَرِ صَلَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ: وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ: ثَوَابِ الْأَعْمَالِ، بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.

935 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ سَبْعِينَ صَلَاةً، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 935 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً) ، أَيْ: صَلَاةً وَاحِدَةً (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ سَبْعِينَ صَلَاةً) : وَلَعَلَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ [إِذْ] وَرَدَ: أَنَّ الْأَعْمَالَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَلِهَذَا يَكُونُ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ عَنْ سَبْعِينَ حَجَّةً، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَرَوَاهُ ابْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي تَرْغِيبِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ، إِذْ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ.

936 - وَعَنْ رُوَيْفِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْهُ الْمَقْعَدَ الْمُقَرَّبَ عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 936 - (وَعَنْ رُوَيْفِعٍ) : بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَقَالَ ") : عَطْفٌ عَلَى صَلَّى، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ بِمَا هُوَ التَّعْظِيمُ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَقَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ: (" اللَّهُمَّ أَنْزِلْهُ ") : وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَا فِي رِوَايَةٍ: مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَنْزِلْهُ (" الْمَقْعَدَ الْمُقَرَّبَ عِنْدَكَ ") : هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ لِقَوْلِهِ: (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: " «الْمُقَرَّبَ عِنْدَكَ فِي الْجَنَّةِ» "، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا تَكُونُ إِلَّا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قِيلَ: لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا مَقَامُ حُلُولِ الشَّفَاعَةِ عَنْ يَمِينِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَالثَّانِي: مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَنْزِلُهُ الَّذِي لَا مَنْزِلَةَ بَعْدَهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ، وَأُرِيدَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الدَّارُ الْآخِرَةُ (" وَجَبَتْ ") ، أَيْ: ثَبَتَتْ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَلَّتْ وَهِيَ بِمَعْنَاهَا، أَيْ: وَقَعَتْ وَتَحَتَّمَتْ بِمُقْتَضَى وَعْدِ اللَّهِ الصَّادِقِ (" لَهُ شَفَاعَتِي ") ، أَيْ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ شَفَاعَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْخَاصَّةِ بِبَعْضِ أُمَّتِهِ مِنْ رَفْعِ دَرَجَتِهِ أَوْ نَحْوِهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَبَعْضُ أَسَانِيدِهِمْ حَسَنٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَابْنُ بَشْكُوَالَ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَبَعْضُ أَسَانِيدِهِمْ حَسَنٌ.

937 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ نَخْلًا، فَسَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَوَفَّاهُ، قَالَ: فَجِئْتُ أَنْظُرُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: " مَا لَكَ؟ " فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَقَالَ: " إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي: أَلَا أُبَشِّرَكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَاةً، صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ، سَلَّمْتُ عَلَيْهِ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 937 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ نَخْلًا» ) ، أَيْ: بُسْتَانَ نَخْلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَتَوَجَّهَ نَحْوَ صَدَقَتِهِ فَدَخَلَ فَاسْتَقَبْلَ الْقِبْلَةَ فَخَرَّ سَاجِدًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَوَجَدْتُهُ قَدْ دَخَلَ حَائِطًا مِنَ الْأَسْوَاقِ» ، وَهُوَ بِالْفَاءِ، مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ، خَوْضًا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ (فَسَجَدَ) : أَيْ: سَجْدَةً كَمَا فِي رِوَايَةٍ ( «فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَوَفَّاهُ» ) ، أَيْ: قَبَضَ نَفْسَهُ فِيهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، قَالَ، أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (فَجِئْتُ أَنْظُرُ) : هَلْ هُوَ حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَطَالَ السَّجْدَةَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ قَبَضَ نَفْسَهُ فِيهَا، فَدَنَوْتُ مِنْهُ» (فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" مَا لَكَ؟ ") ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ عَرَضَ لَكَ حَتَّى ظَهَرَتْ أَمَارَةُ الْحُزْنِ وَالْفَزَعِ عَلَيْكَ؟ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " مَنْ هَذَا " قُلْتُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: " مَا شَأْنُكَ؟ (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) ، أَيِ: الْخَوْفَ الْمُرَادِفَ لِلْخَشْيَةِ الَّتِي مُسْتَفَادَةٌ مَنْ خَشِيتُ (لَهُ) : عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَجَدْتَ سَجْدَةً حَتَّى ظَنَنْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَبَضَ نَفْسَكَ فِيهَا، (قَالَ: فَقَالَ: " إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي: أَلَا أُبَشِّرُكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» ) : بِفَتْحِ أَنَّ، وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا ; لِأَنَّ فِي الْبِشَارَةِ مَعْنَى الْقَوْلِ (" يَقُولُ لَكَ ") : وَفِي (لَكَ) ، إِيمَاءٌ لَكَ (" مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ ") ، أَيْ: صَلَاةً كَمَا فِي نُسْخَةٍ (" «صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا نَحْوَهُ، وَزَادَ أَحْمَدُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: " لَسَجَدْتُ شُكْرًا لِلَّهِ " انْتَهَى، قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ عَنِ الْحَاكِمِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَا أَعْلَمُ فِي سَجْدَةِ الشُّكْرِ أَصَحَّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. انْتَهَى، وَلَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ ذَكَرَهَا السَّخَاوِيُّ فِي الْقَوْلِ الْبَدِيعِ.

938 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 938 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ) ، أَيْ: مَوْقُوفًا (إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَصْعَدُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ: وَقِيلَ: بِضَمِّهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْفَتْحِ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِالضَّمِّ، (مِنْهَا) ، أَيْ: مِنَ الدَّعَوَاتِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " مِنْهُ "، أَيْ: مِنَ الدُّعَاءِ جِنْسِهِ (شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ، فَيَكُونَ مَوْقُوفًا، وَأَنْ يَكُونَ نَاقِلًا كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحِينَئِذٍ فِيهِ تَجْرِيدٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْخِطَابُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِمُخَاطَبٍ دُونَ مُخَاطَبٍ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: مِنْ طَرِيقِ أَبِي قُرَّةَ الْأَسَدِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ، لَكِنْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قَبْلِ الرَّأْيِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ حُكْمًا اهـ. وَفِي الْحِصْنِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِذَا سَأَلْتَ اللَّهَ حَاجَةً فَابْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ادْعُ بِمَا شِئْتَ، ثُمَّ اخْتِمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِكَرَمِهِ يَقْبَلُ الصَّلَاتَيْنِ، وَهُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَدَعَ مَا بَيْنَهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَنْسَبُ أَنْ يُقَالَ: النَّبِيُّ مُشْتَقٌّ مِنَ النُّبُوَّةِ بِمَعْنَى الرِّفْعَةِ، أَيْ: لَا يُرْفَعُ الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَسْتَصْحِبَ الرَّافِعَ مَعَهُ، يَعْنِي: أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْإِجَابَةِ.

[باب الدعاء في التشهد]

[بَابُ الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 939 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ، - يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَمِنَ الْمَغْرَمِ "، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ! فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ: حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [17]- بَابُ الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ. أَيْ: فِي آخِرِهِ أَوْ عَقِبَهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ الِانْصِرَافِ عَنْهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 939 - (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ) ، أَيْ: آخِرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ لِلْحَدِيثِ الْآتِي عَقِبَ هَذَا، (يَقُولُ) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (" اللَّهُمَّ إِنِّي ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا (" أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ") : وَمِنْهُ شِدَّةُ الضَّغْطَةِ وَوَحْشَةُ الْوَحْدَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ أَبْلَغُ الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِنْكَارِهِمْ لَهُ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي الْحَطِّ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِهِمْ لَهُ، حَتَّى وَقَعَ لِسُنِّيٍّ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مُعْتَزِلِيٍّ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ أَذِقْهُ عَذَابَ الْقَبْرِ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَيُبَالِغُ فِي نَفْيِهِ وَيُخَطِّئُ مُثْبِتَهُ اهـ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعَامَلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بِمُقْتَضَى مُعْتَقَدِهِ، بِخِلَافِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَحْرُومًا مِنْهَا، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ مُعَذَّبٌ فِي الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، (" «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ» ") ، أَيِ: ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ (" الدَّجَّالِ ") ، أَيِ: الْخَدَّاعِ، وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مُفْسِدٍ مُضِلٍّ، وَقِيلَ: سُمِّيَ مَسِيحًا ; لِأَنَّ إِحْدَى عَيْنَيْهِ مَمْسُوحَةٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ: عَيْنُهُ ذَاهِبَةٌ، أَوْ هُوَ مَمْسُوحٌ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، أَيْ: مُبْعَدٌ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّ أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ خُلِقَ مَمْسُوحًا لَا عَيْنَ فِيهِ وَلَا حَاجِبَ، وَقِيلَ: فَعِيلٌ، بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنَ الْمَسَاحَةِ ; لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ، أَيْ: يَقْطَعُهَا بِتَرَدُّدِهِ فِيهَا فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَمَاهُمَا مِنْهُ بِفَضْلِهِ، أَوْ يُقَدِّرُهَا بِالذِّرَاعِ وَالشِّبْرِ،

وَيَقْطَعُهَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَلَدٌ إِلَّا دَخَلَهُ غَيْرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَآخِرُ الْأَمْرِ يَقْتُلُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ فِي مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ، وَأَمَّا الْمَسِيحُ الَّذِي هُوَ لَقَبُ عِيسَى فَأَصْلُهُ الْمَسِيحَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَهُوَ الْمُبَارَكُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ الْمَسْحَ يَمْسَحُ ذَا آفَةٍ فَيَبْرَأُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ سَيَّاحًا كَثِيرَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، أَوْ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ زَكَرِيَّا مَسَحَهُ، وَقِيلَ: إِذَا أُرِيدَ بِهِ الدَّجَّالُ قُيِّدَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ: الْمِسِّيحُ بِالتَّثْقِيلِ الدَّجَّالُ، وَبِالتَّخْفِيفِ عِيسَى، قَالَ الشَّيْخُ: الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَحُكِيَ عَنِ الْبَعْضِ أَنَّهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِي الدَّالِ، وَنُسِبَ قَائِلُهُ إِلَى التَّصْحِيفِ، قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ هُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَقَطْ، (" «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» ") : مَفْعَلٌ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِتْنَةُ الْمَحْيَا الِابْتِلَاءُ مَعَ زَوَالِ الصَّبْرِ، وَالرِّضَا وَالْوُقُوعِ فِي الْآفَاتِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَفِتْنَةُ الْمَمَاتِ سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ مَعَ الْحَيْرَةِ، وَالْخَوْفِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِفِتْنَةِ الْمَمَاتِ الِابْتِلَاءَ عِنْدَ النَّزْعِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْفِتْنَتَيْنِ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعِقَابَ الْعُقْبَى، وَالْأَشَدُّ مِنْهُمَا حِجَابُ الْمَوْلَى، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَقُدِّمَ عَذَابُ الْقَبْرِ عَلَى فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، لِأَنَّهُ أَطْوَلُ زَمَانًا وَأَعْظَمُ شَأْنًا وَأَعَمُّ امْتِحَانًا، (" «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ» ") : إِمَّا مَصْدَرُ أَثِمَ الرَّجُلُ، أَوْ مَا فِيهِ الْإِثْمُ، أَوْ مَا يُوجِبُ الْإِثْمَ (" وَالْمَغْرَمِ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: " مِنَ الْمَغْرَمِ " وَهُوَ كُلُّ مَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ أَدَاؤُهُ؛ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْغَرَامَةِ، وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ، قِيلَ: إِنَّهُ كَالْغُرْمِ، بِمَعْنَى الدَّيْنِ، وَيُرِيدُ بِهِ مَا اسْتُدِينَ فِيمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، أَوْ فِيمَا يَجُوزُ، ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ، وَإِمَّا دَيْنٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ فَلَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالظَّاهِرُ الْإِطْلَاقُ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ الدَّيْنَ شَيْنِ الدِّينِ ; لِأَنَّ فِيهِ الذُّلَّ حَالًا، وَخَطَرَ عَدَمِ الْوَفَاءِ اسْتِقْبَالًا، وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، (فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ) ، أَيْ: عَائِشَةُ كَمَا فِي النَّسَائِيِّ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ (مَا أَكْثَرَ) : بِالنَّصْبِ وَمَا تَعَجُّبِيَّةٌ (مَا تَسْتَعِيذُ) : مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيِ: اسْتِعَاذَتُكَ (مِنَ الْمَغْرَمِ! فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ ") : الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ وَغَالِبُ حَالِهِ إِذَا أُغْرِمَ، أَيْ: لَزِمَهُ دَيْنٌ، وَالْمُرَادُ اسْتَدَانَ وَاتَّخَذَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَعَادَتَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ (حَدَّثَ) أَيْ: أَخْبَرَ عَنْ مَاضِي الْأَحْوَالِ لِتَمْهِيدِ عُذْرٍ فِي التَّقْصِيرِ (" فَكَذَبَ ") : لِأَنَّهُ إِذَا تَقَاضَاهُ رَبُّ الدَّيْنِ وَلَمْ يَحْضُرْهُ مَا يُؤَدِّي بِهِ دَيْنُهُ يَكْذِبُ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ يَدِهِ، وَيَقُولَ: لِي مَالٌ غَائِبٌ إِذَا حَضَرَ أُؤَدِّي دَيْنَكَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ حَدَّثَ النَّاسَ عَنْ حَالِهِ وَمُعَامَلَتِهِ، فَكَذَبَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَحْمِلَهُمْ عَلَى إِدَانَتِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْدِمًا، أَوِ الصَّبْرِ عَلَيْهِ لِيَرْبَحَ فِيهِ شَيْئًا يَبْقَى لَهُ قَبْلَ وَفَائِهِ (" وَوَعَدَ ") ، أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ يَقُولَ: أُعْطِيكَ غَدًا أَوْ فِي الْمُدَّةِ الْفُلَانِيَّةِ (" فَأَخْلَفَ ") ، أَيْ: فِي وَعْدِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوَعَدَ بِالْوَفَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا أَوْ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَأَخْلَفَ طَمَعًا فِي بَقَاءِ الْمَالِ فِي يَدِهِ، أَوْ لِسُوءِ تَدْبِيرِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ (غَرِمَ) ، شَرْطٌ وَ (حَدَّثَ) جَزَاءٌ وَ (كَذَبَ) مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْجَزَاءِ (وَوَعَدَ) ، عَطْفٌ عَلَى حَدَّثَ (وَحَدَّثَ) لَا عَلَى (غَرِمَ) خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ لِفَسَادِ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَ (أَخْلَفَ) مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

940 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 940 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَإِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ» ") أَيْ: آخِرِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ أَوَّلًا قَالَ الطِّيبِيُّ: تَصْرِيحٌ بِاسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ فِي التَّشَهُّدِ الْآخِرِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْفِيفِ اهـ ; وَلِأَنَّ مَحَلَّ الدُّعَاءِ هُوَ وَقْتُ الِانْتِهَاءِ، لِمَنْ طَلَبَ الْأَمَلَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ، (" فَلْيَتَعَوَّذْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: فَلْيَسْتَعِذْ (بِاللَّهِ) : وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: لِلْوُجُوبِ (" وَمِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ") : قُدِّمَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ وَأَبْقَى، بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِ (" «وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» ") ، أَيْ: عِنْدَ النَّزْعِ (" وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ") : مِنَ الدَّجَلِ، وَهُوَ الْحِيلَةُ أُخِّرَ هُنَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ آخِرَ الزَّمَانِ قُرْبَ السَّاعَةِ قِيلَ: لَهُ شَرٌّ وَخَيْرٌ، فَخَيْرُهُ: أَنْ يَزْدَادَ الْمُؤْمِنُ إِيمَانًا، وَيَقْرَأَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مِنْ أَنَّهُ كَافِرٌ فَيَزِيدَ إِيقَانًا، وَشَرُّهُ: أَنْ لَا يَقْرَأَهُ الْكَافِرُ وَلَا يَعْلَمَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَاصِلُ أَحَادِيثِ الْبَابِ اسْتِحْبَابُ التَّعَوُّذِ بَيْنَ التَّشَهُّدِ، وَالتَّسْلِيمِ، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَالتَّسْلِيمِ، قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

941 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 941 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ) ، أَيْ: أَصْحَابَهُ أَوْ أَهْلَ بَيْتِهِ (هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: " قُولُوا ") : قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَهَبَ طَاوُسٌ إِلَى وُجُوبِهِ، وَأَمَرَ ابْنَهُ لِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ حِينَ لَمْ يَدْعُ هَذَا الدُّعَاءَ فِيهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، (" «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ» ") : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا تَخَلُّصَ مِنْ عَذَابِهَا إِلَّا بِالِالْتِجَاءِ إِلَى بَارِئِهَا، (" «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ") : فِيهِ اسْتِعَاذَةٌ لِلْأُمَّةِ أَوْ تَعْلِيمٌ لَهُمْ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُعَذَّبُونَ (" «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» ") ، أَيْ: عَلَى تَقْدِيرِ لُقِيِّهِ (" «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» ") : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَكَرَّرَ أَعُوذُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ إِظْهَارًا لِعِظَمِ مَوْقِعِهَا، وَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ بِإِعَاذَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ خَطَأٌ عَظِيمٌ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ مِنْ تَكْرَارِ: " «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» "، وَسُقُوطِ: " «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» "، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ جَمِيعًا، ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِهِ وَقَالَ: اقْتَصَرَ عَلَيْهَا، أَيْ: عَلَى فِتْنَةِ الْمَسِيحِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بِخِلَافِ مَا مَرَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ; لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِتَنِ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ جَهَنَّمَ، وَلِذَا كَرَّرَهَا إِعْلَامًا بِعِظَمِ شَأْنِهَا حَتَّى يُكَرِّرَ النَّاسُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْهَا، فَاسْتُغْنِيَ بِهَا عَنْ بَقِيَّةِ فِتَنِ الدُّنْيَا لِسُهُولَتِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، كَمَا اسْتُغْنِيَ بِالْأَوَّلَيْنِ عَنْ بَقِيَّةِ فِتَنِ الْآخِرَةِ لِسُهُولَتِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

942 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: " قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 942 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي» ) ، أَيْ: عَقِبَ التَّشَهُّدِ كَمَا قَيَّدَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا ( «قَالَ: " قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا» ") : فِي الْأَذْكَارِ: فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالْمُثَلَّثَةِ، وَهَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالَ: كَثِيرًا كَبِيرًا "، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ بَيْنَ سُبْحَانَكَ وَبَيْنَ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ، وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ أَنْ يَقُولَ مَرَّةً كَذَا وَمَرَّةً كَذَا، أَوْ يَأْتِي فِي الْفَرَائِضِ بِالْمُخْتَارِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَبِلَفْظِ: " كَثِيرًا " عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي النَّوَافِلِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى النَّوَوِيِّ ابْنُ جَمَاعَةَ، وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْطِقْ بِهِمَا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يُقَالَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، وَالِاتِّبَاعُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ لَا بِالْجَمْعِ، وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يَصْلُحُ جَوَابًا، (" «وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ") : لِأَنَّ غُفْرَانَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا يُتَصَوَّرُ، إِلَّا مِنْهُ تَعَالَى، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، (" فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً ") : التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: غُفْرَانًا لَا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ: (" مِنْ عِنْدِكَ ") ، مُبَالَغَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِالتَّنْكِيرِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّعْظِيمَ ; لِأَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مِنْ مَحْضِ فَضْلِكَ لَا بِاسْتِحْقَاقٍ مِنِّي، (" «وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» ") : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْجَوَامِعِ ; لِأَنَّ فِيهِ الِاعْتِرَافَ بِغَايَةِ التَّقْصِيرِ وَطَلَبَ غَايَةِ الْأَنْعَامِ، فَالْمَغْفِرَةُ سَتْرُ الذُّنُوبِ وَمَحْوُهَا، وَالرَّحْمَةُ إِيصَالُ الْخَيْرَاتِ، فَفِي الْأَوَّلِ طَلَبُ الزَّحْزَحَةِ عَنِ النَّارِ، وَفِي الثَّانِي: طَلَبُ إِدْخَالِ الْجَنَّةِ مَعَ الْأَبْرَارِ، وَهَذَا هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ، رَزَقَنَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ الْكَرِيمِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

943 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 943 - (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كُنْتُ أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ» ) ، أَيْ: أَوَّلًا (وَعَنْ يَسَارِهِ) ، أَيْ: ثَانِيًا (حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ) ، أَيْ: صَفْحَةَ وَجْهِهِ، وَهُوَ كَذَا بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَجَعَلَ ابْنُ حَجَرٍ خَدَّيْهِ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ أَصْلًا، ثُمَّ قَالَ: وَفِي نُسْخَةٍ: " خَدَّهُ "، وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ فِي الْأُولَى، وَالْأَيْسَرِ فِي الثَّانِيَةِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي: «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَتَّى يُرَى خَدُّهُ الْأَيْمَنَ، وَعَنْ يَسَارِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ» اهـ. وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمُطَابَقَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ ظَاهِرَةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، بِخِلَافِ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ مَعَ إِيهَامِ التَّثْنِيَةِ فَإِنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُرَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا خَدُّهُ لَا خَدَّاهُ، ثُمَّ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ: " «إِذَا قُلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ هُوَ الْقَائِلُ إِنْ شِئْتَ. . .، إِلَخْ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ. قُلْتُ: عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَمَا قَبْلَهُ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ مِنَ الْحَدِيثِ فَمَعْنَى قَضَيْتَ قَارَبْتَ أَوْ قَضَيْتَ مُعْظَمَهَا - فَمُنَاقِضٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ، لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ مَا قِيلَ إِنْ شِئْتَ مَرْفُوعٌ بِلَا خِلَافٍ، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعِيدٌ مَعَ عَدَمِ الْمُوجِبِ لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا خَبَرُ: " «إِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأَسَهُ مِنْ آخِرِ رَكْعَةٍ وَقَعَدَ، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» " فَضَعِيفٌ، وَإِنْ صَحَّ فَحُمِلَ عَلَى مَا بَعْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى. قُلْتُ: هُوَ صَحِيحٌ وَيَأْبَى قَوْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْبُعْدِ، عَلَى أَنَّهُ جَاءَ صَرِيحًا فِي خَبَرِ: «إِذَا أَحْدَثَ وَقَدْ قَعَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جَازَتْ صَلَاتُهُ» ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: «إِذَا جَلَسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ تَرْتَقِي إِلَى حَدِّ الْحَسَنِ، وَيَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ أَصْلِهِ تَعَلُّقُ الْمُجْتَهِدِ بِهِ، وَلَا يَضُرُّ حُصُولُ الضَّعْفِ الطَّارِئِ بَعْدَهُ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهُمَا ضَعِيفَانِ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ مُجَرَّدُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ، هَذَا وَرُوِيَ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ طُرُقٍ، وَكَذَا، الْإِتْيَانُ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَحُمِلَ الْأَوَّلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ عَلَى اقْتِصَارِ الرَّاوِي، وَفِي خَبَرِ عَائِشَةَ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ، وَيُرْوَى: (حَتَّى يُرَى) ، مَجْهُولًا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: أَيْ وَجْنَتَهُ الْخَالِيَةَ عَنِ الشَّعَرِ، وَكَانَ مُشْرَبًا بِالْحُمْرَةِ، رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِقَاءَهُ، كَذَا فِي الْأَصْلِ مُكَرَّرًا وَلَعَلَّهُ قَصَدَ لِقَاءَ الصَّحَابِيِّ وَلِقَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِقَاءَهُ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

944 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً، أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 944 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الدَّالِّ وَيُفْتَحُ (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقَبْلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يَصْرِفُ وَجْهَهُ يَمِينًا وَيَسَارًا عِنْدَ التَّسْلِيمِ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَقَبْلَ الْمَأْمُومِينَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَوْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لِمَا يَأْتِي أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّسْلِيمِ جَعَلَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَمِينَهُ إِلَيْهِمْ، وَيَسَارَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ مُطَوَّلًا وَمُقَطَّعًا، مِنْهَا فِي الصَّلَاةِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، كُلُّهُمْ فِي الرُّؤْيَا مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

945 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 945 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: أَحْيَانًا (يَنْصَرِفُ) ، أَيْ: عَنْ مُصَلَّاهُ (عَنْ يَمِينِهِ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَتْ حَاجَتُهُ عَنْ يَمِينِهِ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ يَسَارِهِ أَخَذَ عَنْ يَسَارِهِ» ، فَقُلْتُ: إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي لَهُ حَاجَةٌ يَنْصَرِفُ إِلَى جَانِبِ حَاجَتِهِ، فَإِنِ اسْتَوَى الْجَانِبَانِ فَيَنْصَرِفُ إِلَى أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ، وَالْيَمِينُ أَوْلَى ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ إِذَا لَمْ يُرِدِ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ بِوَجْهِهِ مِنْ جَانِبِ يَمِينِهِ، وَالْأَحَادِيثُ الْأَرْبَعَةُ - أَعْنِي: حَدِيثَ عَامِرٍ، وَسَمُرَةَ، وَأَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ - دَخِيلَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْبَابِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

946 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 946 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَجْعَلْ) : قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا " يَجْعَلَنَّ "، ( «أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ يَرَى» ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، أَيْ: يَظُنَّ أَحَدُكُمْ أَوْ يَعْتَقِدْ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: كَيْفَ يَجْعَلُ أَحَدُنَا حَظًّا لِلشَّيْطَانِ مِنْ صَلَاتِهِ؟ فَقَالَ: يَرَى (أَنَّ حَقًّا) ، أَيْ: وَاجِبًا (عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ) ، أَيْ: يَذْهَبَ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ (إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ) ، أَيْ: جَانِبِ يَمِينِهِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ تَابَعَ الشَّيْطَانَ فِي اعْتِقَادِهِ أَحَقِّيَّةَ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ كَمَالُ صَلَاتِهِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: " أَنْ لَا يَنْصَرِفَ " مَعْرِفَةٌ إِذْ تَقْدِيرُهُ عَدَمُ الِانْصِرَافِ، وَقَدْ صَرَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِتَعْرِيفِ مِثْلِهِ، فَكَيْفَ وَقَعَ خَبَرًا لِأَنَّ، وَاسْمُهُ نَكِرَةٌ؟ قُلْتُ: إِمَّا لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَخْصُوصَةَ كَالْمُعَرَّفِ، أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، أَيْ: يَرَى أَنَّ عَدَمَ الِانْصِرَافِ حَقٌّ عَلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنْ بِغَيْرِ التَّشْدِيدِ، فَهِيَ إِمَّا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَحَقًّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَفِعْلُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: قَدْ حَقَّ حَقًّا، وَ " أَنْ لَا يَنْصَرِفَ " فَاعِلُ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَإِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ، ( «لقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِه» : هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ اطِّلَاعِ الرَّاوِي عَلَى أَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَصَرَّ عَلَى أَمْرٍ مَنْدُوبٍ، وَجَعَلَهُ عَزْمًا، وَلَمْ يَعْمَلْ بِالرُّخْصَةِ فَقَدْ أَصَابَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْإِضْلَالِ فَكَيْفَ مَنْ أَصَرَّ عَلَى بِدْعَةٍ أَوْ مُنْكَرٍ؟ وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» اهـ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ ; وَإِنْ كَرِهَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127] ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

947 - وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ ; يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ - أَوْ تَجْمَعُ - عِبَادَكَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 947 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ» ) : لِكَوْنِ يَمِينِ الصَّفِّ أَفْضَلَ، وَلِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ) : أَيْ عِنْدَ السَّلَامِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُقْبِلُ عَلَيْنَا عِنْدَ الِانْصِرَافِ (قَالَ) ، أَيِ: الْبَرَاءُ (فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ) ، أَيْ: بَعْدَ التَّسْلِيمِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَهُ فِي الصَّلَاةِ (" رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ ") ، أَيِ: احْفَظْنِي مِنْهُ بِفَضْلِكَ وَكَرَمِكَ، وَهُوَ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ، أَوْ تَوَاضُعٌ مَعَ رَبِّهِ (" يَوْمَ تَبْعَثُ - أَوْ تَجْمَعُ - عِبَادَكَ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

948 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إِنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ الرِّجَالُ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فِي بَابِ الضَّحِكِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 948 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: إِنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ) ، أَيْ: زَمَانِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ قُمْنَ) : لِلرُّجُوعِ إِلَى بُيُوتِهِنَّ (وَثَبَتَ) ، أَيْ: عَلَى الْقُعُودِ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : لِيَنْصَرِفَ النِّسَاءُ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الرِّجَالُ بِهِنَّ (وَمَنْ صَلَّى) : عُطِفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: وَثَبَتَ مَنْ صَلَّى (مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ) ، أَيْ: زَمَانًا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثُوا فِيهِ ( «فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ الرِّجَالُ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُعْلَمُ مِنْ هَذَا ثَبَاتُ الْإِمَامِ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَاسْتِحْبَابُ عَدَمِ الْقِيَامِ لِلْمَأْمُومِينَ قَبْلَ قِيَامِ الْإِمَامِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) : يَعْنِي: الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ هُنَا بِلَفْظِ: " وَكَانَ - يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ: يَتَحَدَّثُونَ بِمَا جَرَى فِي الْإِسْلَامِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» " قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِمَاعِ كَلَامٍ مُبَاحٍ يَعْنِي فِي الْمَسْجِدِ، وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: كَلَامُهُمْ لَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنِ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُبَاحِ الْمُجَرَّدِ، (فِي بَابِ الضَّحِكِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) ، لَا يَخْفَى أَنَّ إِبْقَاءَهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى مِنْ تَغْيِيرِ الْمُصَنِّفِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الِاعْتِذَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِاعْتِرَاضِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى أُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ يَصْلُحُ لِكُلِّ بَابٍ إِيرَادُهُ فِيهِ لِمُنَاسَبَةِ أَمْرٍ مَا، وَلِهَذَا أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثًا وَاحِدًا فِي أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِهِ، مَعَ أَنَّ أَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثِ أَوْلَى بِهَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ، وَهُوَ الْهَادِي بِالْإِلْهَامِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 949 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " «إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ " فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ ; إِلَّا أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَذْكُرْ: قَالَ مُعَاذُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 949 - (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : كَأَنَّهُ عَقْدُ مَحَبَّةٍ وَبَيْعَةُ مَوَدَّةٍ، (فَقَالَ: " إِنِّي لَأُحِبُّكَ ") : لَامُهُ لِلِابْتِدَاءِ، وَقِيلَ: لِلْقَسَمِ (" يَا مُعَاذُ ") : وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِظْهَارُ الْمَحَبَّةِ لَهُ (فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: مُخَاطَبَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَحَبَّةِ لِمُعَاذٍ أَشَدُّ تَأْكِيدًا مِنْ مُخَاطَبَةِ مُعَاذٍ لَهُ بِهَا، قُلْتُ: لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ التَّأْكِيدُ مِنْ جَانِبِ مُعَاذٍ إِذْ لَا يُمْكِنُ عَدَمُ مَحَبَّتِهِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَعَلَّ مُعَاذًا مَا كَانَ بَلَغَهُ مَا وَرَدَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْجَوَابِ: " أَحَبَّكَ اللَّهُ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ " أَوِ اخْتَصَرَ الرَّاوِي، (قَالَ: " فَلَا تَدَعْ ") ، أَيْ: إِذَا كُنْتَ تُحِبُّنِي، أَوْ إِذَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ تَحَابُبٌ، أَوْ إِذَا أَرَدْتَ ثَبَاتَ هَذِهِ الْمُحَابَبَةِ فَلَا تَتْرُكْ (" أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ") ، أَيْ: عَقِبَهَا وَخَلْفَهَا، أَوْ فِي آخِرِهَا (" رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ ") : مِنْ طَاعَةِ اللِّسَانِ (" وَشُكْرِكَ ") : مِنْ طَاعَةِ الْجَنَانِ (" وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ") : مِنْ طَاعَةِ الْأَرْكَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ اللَّهِ مُقَدِّمَةُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، وَشُكْرُهُ وَسِيلَةُ النِّعَمِ الْمُسْتَجْلَبَةِ وَحُسْنُ الْعِبَادَةِ الْمُطْلُوبُ مِنْهُ التَّجَرُّدُ عَمَّا يَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، (إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ لَمْ يَذْكُرْ: قَالَ مُعَاذٌ) : فِيهِ نَقْلٌ بِالْمَعْنَى (وَأَنَا أُحِبُّكَ) : قَالَ السَّخَاوِيُّ: فِي بَحْثِ الْمُسَلْسَلِ مِنْ أُصُولِ الْحَدِيثِ كَحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمُعَاذٍ: " «إِنِّي أُحِبُّكَ، فَقُلْ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» "، فَقَدْ تَسَلْسَلَ لَنَا بِقَوْلِ كُلٍّ مِنْ رُوَاتِهِ: وَإِنِّي أُحِبُّكَ فَقُلْ، إِلَخْ.

950 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ "، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ التِّرْمِذِيُّ: حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 950 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ، قَالَ: إِنَّ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ) ، أَيْ: مِنْ صَلَاتِهِ حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَفِتًا بِخَدِّهِ (عَنْ يَمِينِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: مُجَاوِزًا نَظَرُهُ عَنْ يَمِينِهِ كَمَا يُسَلِّمُ أَحَدٌ عَلَى مَنْ فِي يَمِينِهِ، وَقَوْلُهُ: (" وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ") : إِمَّا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، أَيْ: يُسَلِّمُ قَائِلًا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ: مَاذَا كَانَ يَقُولُ؟ اهـ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يَزَالُ مُلْتَفِتًا بِخَدِّهِ مَعَ سَلَامِهِ كَذَلِكَ (حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ) ، أَيْ: وَكَانَ يُسَلِّمُ مُلْتَفِتًا بِخَدِّهِ عَنْ يَسَارِهِ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ") : قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ زِيَادَةُ: " وَبَرَكَاتُهُ "، وَرَدَّ عَلَيْهِمُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ مَا قَالُوهُ شَاذٌّ نَقْلًا وَدَلِيلًا (حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، (وَالنَّسَائِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ التِّرْمِذِيُّ: حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ) ، أَيْ: فِي الْوَجْهَيْنِ.

951 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 951 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ) ، أَيْ: لَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، الظَّاهِرُ أَنَّ مَرْوِيَّهُ تَمَامُ الْحَدِيثِ لَا بَعْضُهُ، كَالتِّرْمِذِيِّ لِإِطْلَاقِهِ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

952 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ أَكْثَرُ انْصِرَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ إِلَى حُجْرَتِهِ» ، رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 952 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ انْصِرَافُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ إِلَى حُجْرَتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ بَابُ حُجْرَتِهِ مَفْتُوحًا إِلَى الْمَسْجِدِ عَنْ يَسَارِ الْمِحْرَابِ، فَهُوَ يَنْصَرِفُ إِلَى جَانِبِ يَسَارِهِ وَيَدْخُلُ حُجْرَتَهُ، (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ، وَرَوَاهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

953 - وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ حَتَّى يَتَحَوَّلَ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ لَمْ يُدْرِكِ الْمُغِيرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 953 - (وَفِي عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى ") ، أَيِ: الْفَرْضَ (" فِيهِ ") : قِيلَ: هَذَا فِي صَلَاةٍ بَعْدَهَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لَا رَاتِبَةَ بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ فَلَا، وَقِيلَ: ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْأَزْهَارِ: لَيْسَ التَّقْيِيدُ بِالْإِمَامِ لِتَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ، بَلْ يَعُمُّ الْمَأْمُومَ، وَقَالَ الْقَاضِي: نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ بَعْدُ فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَقَوْلُهُ: (" حَتَّى يَتَحَوَّلَ ") ، أَيْ: يَنْتَقِلَ إِلَى مَوْضِعٍ، جَاءَ لِلتَّأْكِيدِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ صَلَّى - فِيهِ أَفَادَ مَا أَفَادَهُ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: وَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِيَشْهَدَ لَهُ الْمَوْضِعَانِ بِالطَّاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ تَكْثِيرُ الْعِبَادَةِ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ) ، أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (لَمْ يُدْرِكِ الْمُغِيرَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا بَيَانُ وَجْهِ تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ ضَعَّفَ غَيْرُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفْعَهُ: لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ " وَلَمْ يَصِحَّ، " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ وَفَعَلَهُ الْقَاسِمُ، وَقَالَ

954 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَّهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا قَبْلَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 954 - (وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَّهُمْ) ، أَيْ: حَثَّهُمْ وَرَغَّبَهُمْ، يُقَالُ: حَضَّهُ وَحَضَضَهُ، (عَلَى الصَّلَاةِ) ، أَيْ: عَلَى مُلَازَمَةِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا، (وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا قَبْلَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: عِلَّةُ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصْحَابَهُ عَنِ انْصِرَافِهِمْ قَبْلَهُ أَنْ تَذْهَبَ النِّسَاءُ اللَّاتِي يُصَلِّينَ خَلْفَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثْبُتُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ، ثُمَّ يَقُومُ وَيَقُومُ الرِّجَالُ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِانْصِرَافِ هُوَ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ بِالسَّلَامِ، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِانْصِرَافِ قِيَامَ الْمَسْبُوقِ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا حَرَامٌ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 955 - عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 955 - (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ) ، أَيْ: بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ فِي آخِرِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: فِيهَا أَوْ دُبُرَهَا، (" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ ") ، أَيْ: فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَمْرِ الدِّينِ، (" وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ ") : وَهِيَ كَالْعَزْمِ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، وَقَدَّمَ الثَّبَاتَ عَلَى الْعَزِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الْقَلْبِ مُقَدَّمًا عَلَى الْفِعْلِ، وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ الْغَايَاتِ مُقَدَّمَةٌ فِي الرُّتْبَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فِي الْوُجُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ - عَلَّمَ الْقُرْآنَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: 1 - 3] كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الصِّحَاحِ: عَزَمْتُ عَلَى الْأَمْرِ عَزْمًا وَعَزِيمَةً إِذَا أَرَدْتَ فِعْلَهُ وَقَطَعْتَ عَلَيْهِ اهـ. وَالرُّشْدُ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِهِمَا، بِمَعْنَى الْهِدَايَةِ، وَالْمُرَادُ لُزُومُهَا وَدَوَامُهَا، (" وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ ") ، أَيِ: التَّوْفِيقَ عَلَى شُكْرِهَا بِصَرْفِ النِّعْمَةِ فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِالْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الزَّوَاجِرِ، (" وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ") : بِأَدَاءِ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَالْقِيَامِ بِإِخْلَاصِهَا (" وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الشَّهَوَاتِ ; فَإِنَّهَا مَرَضُ الْقَلْبِ، وَصِحَّتُهُ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ اهـ، أَوِ الْمُرَادُ سَلِيمًا مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ، وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الرَّدِيئَةِ، وَالْأَحْوَالِ الدَّنِيَّةِ، أَوْ قَلْبًا مُنْقَادًا لِأَمْرِ مَوْلَاهُ، أَوْ خَالِيًا عَمَّا سِوَاهُ، (" وَلِسَانًا صَادِقًا ") : نِسْبَةُ الصِّدْقِ إِلَى اللِّسَانِ مَجَازٌ بِأَنَّهُ لَا يَبْرُزُ عَنْهُ إِلَّا الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، (" وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَمَنْ يُجَوِّزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَزِيدُهَا فِي الْإِثْبَاتِ، أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَالْمُبَيَّنُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَسْأَلُكَ شَيْئًا هُوَ خَيْرُ مَا تَعْلَمُ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ - سَأَلَهُ إِظْهَارًا لِهَضْمِ النَّفْسِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا يَسِيرًا مِنَ الْخَيْرِ، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (اهْدِنَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) ، عَلَى أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّقْلِيلِ، ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ ") ، أَيِ: أَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ لِأَجْلِ مَا تَعْلَمُهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالتَّقْصِيرَاتِ، وَالْمُشْغِلَاتِ، وَفِي الْحِصْنِ: بِمَا تَعْلَمُ وَزَادَ: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ نَحْوَهُ) : وَفِي الْحِصْنِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ مِيرَكُ: كُلُّهُمْ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَزَادَ الْحَاكِمُ: " وَخُلُقًا مُسْتَقِيمًا "، أَيْ: بَعْدَ قَوْلِهِ: " وَقَلْبًا سَلِيمًا "، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

956 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ: " أَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ» "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 956 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ) ، أَيْ: أَحْيَانًا (فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ: " أَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ ") ، أَيِ: السِّيرَةِ وَالطَّرِيقَةِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا وَيُقْتَدَى بِصَاحِبِهَا، (" هَدْيُ مُحَمَّدٍ ") : مَدْحُ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَدْحٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ، فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ هُوَ مُشْكِلٌ عَلَى مَنْ يَرَى بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِالنُّطْقِ بِغَيْرِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ ; لِأَنَّا نَقُولُ: الْعِبْرَةُ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، وَلِذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ قِيلَ لِأَحَدٍ فِي الصَّلَاةِ: مَاتَ فُلَانٌ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى جَوَابٌ لِكَلَامِ الْقَائِلِ مَعَ كَوْنِهِ لَفْظَ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: لَا يَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ، بِمَا يُطْلَبُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، فَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي مَالًا أَوْ جَارِيَةً تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَغْنِنِي وَزَوِّجْنِي الْحُورَ الْعِينَ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

957 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ تَسْلِيمَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، ثُمَّ يَمِيلُ إِلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ شَيْئًا،» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 957 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : كَذَا فِي أُصُولِ الْمِشْكَاةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَعَنْهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَعَنْ عَائِشَةَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ نُسْخَتَهُ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً، (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ تَسْلِيمَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ) ، أَيْ: يَبْدَأُ بِالتَّسْلِيمِ مُحَاذَاةَ وَجْهِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: يَبْتَدِئُ بِهَا وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ، (ثُمَّ يَمِيلُ إِلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ شَيْئًا) ، أَيْ: يَسِيرًا حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ، يَعْنِي ثُمَّ يَمِيلُ إِلَى الشِّقِّ الْأَيْسَرِ شَيْئًا يَسِيرًا حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

958 - وَعَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَنَتَحَابَّ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 958 - (وَعَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ) ، أَيْ: نَنْوِيَ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ، وَبِالْأُولَى مِنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَهُمَا مِنْ عَلَى مُحَاذَاتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: رَدُّ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ سَلَامُهُ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: يُسَلِّمُ الْمَأْمُومُ ثَلَاثَ تَسْلِيمَاتٍ: تَسْلِيمَةٌ يَخْرُجُ بِهَا مِنَ الصَّلَاةِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَيَتَيَامَنُ يَسِيرًا، وَتَسْلِيمَةٌ عَلَى الْإِمَامِ، وَتَسْلِيمَةٌ عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ، (وَنَتَحَابَّ) : تَفَاعُلٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، أَيْ: وَأَنْ نَتَحَابَّ مَعَ الْمُصَلِّينَ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَفْعَلَ كُلٌّ مِنَّا مِنَ الْخَلَاقِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَفْعَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَقْوَالِ الصَّادِقَةِ، وَالنَّصَائِحِ الْخَالِصَةِ، مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، (وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) ، أَيْ: فِي الصَّلَاةِ وَمَا قَبْلَهُ مُعْتَرِضَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَلَفْظُهُ: وَأَنْ نُسَلِّمَ عَلَى أَئِمَّتِنَا، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ، أَيْ: يَنْوِيَ الْمُصَلِّي مِنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَذَا مِنَ الْمَلَكِ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّسْلِيمِ الْمُشْعِرِ بِالتَّعْظِيمِ، قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: هَذِهِ سُنَّةٌ تَرَكَهَا النَّاسُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي خَارِجِ الصَّلَاةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ; لِأَنَّ التَّحَابَّ أَشْمَلُ مَعْنًى مِنَ التَّسْلِيمِ لِيُؤْذَنَ بِأَنَّهُ فَتَحَ بَابَ الْمَحَبَّةِ وَمُقَدِّمَتَهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا، وَقَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ، وَمِنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اهـ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى تَسْلِيمِ التَّشَهُّدِ حَيْثُ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّ عِنْدَ التَّسْلِيمِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الصَّلَاةِ لَا يَنْوِي الْأَنْبِيَاءَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

[باب الذكر بعد الصلاة]

[بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ]

بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 959 - «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [18]- بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ أَعَمُّ مِنَ الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 959 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيِ: انْتِهَاءَهَا (بِالتَّكْبِيرِ) : مُتَعَلِّقٌ بِ (أَعْرِفُ) يَعْنِي: إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ الْأَشْرَفُ: يَعْنِي كَانَ يُكَبِّرُ اللَّهَ فِي الذِّكْرِ الْمُعْتَادِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعِيدًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَخْفِضُ صَوْتَهُ إِلَّا فِي التَّكْبِيرِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ بَدْؤُهُ بِالتَّكْبِيرِ لِمَا وَرَدَ: " لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ "، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّكْبِيرِ قَوْلُهُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ مَرَّةً، وَقِيلَ: مُكَرَّرًا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي وَرَدَ مَعَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ عَشْرًا أَوْ أَكْثَرَ قَالَهُ فِي الْأَزْهَارِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ كُلِّ هَيْئَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى أُخْرَى بِتَكْبِيرَةٍ أَسْمَعُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَكِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يُخَالِفُ الْبَابَ، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ الصَّلَاةِ بِانْقِضَاءِ التَّكْبِيرِ، أَيْ: لِأَنَّهُ آلَةُ الْإِعْلَامِ بِأَفْعَالِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكُنْ آلَةَ الْإِعْلَامِ بِفَرَاغِهِ مِنْهَا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ بِمَعْنَى رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْأَوَّلِ مُطْلَقَ الذِّكْرِ، وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ جَهْرَهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِأَجْلِ تَعَلُّمِ الْمَأْمُومِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} [الإسراء: 110] الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ لِطَلَبِ الْإِسْرَارِ بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ، وَقَالَ: " «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» " اهـ. وَيُسَنُّ الْإِسْرَارُ فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ أَيْضًا، إِلَّا فِي التَّلْبِيَةِ وَالْقُنُوتِ لِلْإِمَامِ، وَتَكْبِيرِ لَيْلَتَيِ الْعِيدِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَنْعَامِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَبَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ مِنَ الضُّحَى إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ السُّوقِ الْوَارِدِ وَعِنْدَ صُعُودِ الْهَضْبَاتِ وَالنُّزُولِ مِنَ الشُّرُفَاتِ.

960 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 960 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ) : أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الَّتِي بَعْدَهَا سُنَّةٌ (لَمْ يَقْعُدْ) ، أَيْ: بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالسُّنَّةُ (إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ) : لِأَنَّهُ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَقْعُدُ بَعْدَ أَدَاءِ الصُّبْحِ عَلَى مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، قَالَ الْقَاضِي: وَدَلَّ حَدِيثُ أَنَسٍ أَيِ الْآتِي عَلَى اسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ وَفَضْلِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَفِي بَعْضِهَا كَانَ يَقُومُ عَقِبَ سَلَامِهِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا قَدْرَ زَمَانٍ يَقُولُ هُوَ أَوِ الْقَائِلُ (" اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ") : أَيْ مِنَ الْمَعَائِبِ

وَالْحَوَادِثِ وَالتَّغَيُّرِ وَالْآفَاتِ: (" وَمِنْكَ السَّلَامُ ") ، أَيْ: مِنْكَ يُرْجَى وَيُسْتَوْهَبُ وَيُسْتَفَادُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ السَّلَامُ، أَنْتَ: السَّلَامُ مِنْكَ بَدْؤُهُ وَإِلَيْكَ عَوْدُهُ فِي حَالَتَيِ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ، وَأَرَادَ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْكَ السَّلَامُ وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ السَّلَامُ وَارِدٌ مَوْرِدَ الْبَيَانِ ; لِقَوْلِهِ: أَنْتَ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالسَّلَامَةِ فِيمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ لِمَا كَانَ هُوَ الذِّكْرَ تَعْرِضُهُ الْآفَةُ، وَهَذَا لِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى، فَهُوَ السَّلَامُ، بِمَعْنَى الَّذِي يُعْطِي السَّلَامَةَ وَيَمْنَعُهَا، وَقِيلَ: الْقَرِينَةُ الْأَخِيرَةُ أَعْنِي: وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ السَّلَامُ مَا وَجَدْنَاهَا فِي الرِّوَايَاتِ اهـ. قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: وَأَمَّا مَا يُزَادُ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْكَ السَّلَامُ مِنْ نَحْوِ وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ وَأَدْخِلْنَا دَارَكَ دَارَ السَّلَامِ - فَلَا أَصْلَ لَهُ بَلْ مُخْتَلَقُ بَعْضِ الْقُصَّاصِ، (" تَبَارَكْتَ ") ، أَيْ: تَعَالَيْتَ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، أَوْ تَعَالَتْ صِفَاتُكَ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، (" يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ") ، أَيْ: يَا مُسْتَحَقَّ الْجَلَالِ وَهُوَ الْعَظَمَةُ، وَقِيلَ: الْجَلَالُ التَّنَزُّهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ، وَقِيلَ: الْجَلَالُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ، وَالْإِكْرَامُ: الْإِحْسَانُ، وَقِيلَ: الْمُكْرِمُ لِأَوْلِيَائِهِ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

961 - وَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 961 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْصَرَفَ) ، أَيْ: فَرَغَ (مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا) ، أَيْ: قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كَمَا فِي الْحِصْنِ، وَلَعَلَّ اسْتِغْفَارَهُ لِرُؤْيَةِ تَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ ; فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَلِذَا قَالَتْ رَابِعَةُ: اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ كَثِيرٍ، (وَقَالَ) ، أَيْ: بَعْدَ الِاسْتِغْفَارِ (" اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ") : فَطَاعَتُنَا لَا تَسْلَمُ مِنَ الْعُيُوبِ (" وَمِنْكَ السَّلَامُ ") : بِأَنْ تَقْبَلَهَا وَتَجْعَلَهَا سَالِمَةً وَتَغْفِرَ تَقْصِيرَنَا الْمُعَدَّ مِنَ الذُّنُوبِ (" تَبَارَكْتَ ") ، أَيْ: تَعَالَيْتَ أَنْ تُعْبَدَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَأَنْ تُطَاعَ حَقَّ طَاعَتِكَ، (" يَا ذَا الْجَلَالِ ") ، أَيْ: صَاحِبَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْفُجَّارِ (" وَالْإِكْرَامِ ") ، أَيْ: صَاحِبَ الْإِنْعَامِ عَلَى الْأَبْرَارِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

962 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 962 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ) ، أَيْ: عَقِبَ كُلِّ فَرِيضَةٍ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ: (" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ") ، أَيْ: مُنْفَرِدًا فِي ذَاتِهِ (" لَا شَرِيكَ لَهُ ") ، أَيْ: فِي أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ لِمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ، بِمَقَامِ التَّوْحِيدِ (" لَهُ الْمُلْكُ ") ، أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ (" وَلَهُ الْحَمْدُ ") : فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، (" وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ") : بَالِغٌ فِي الْقُدْرَةِ، كَامِلٌ فِي الْإِرَادَةِ، (" اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ") : مِنَ التَّوْفِيقِ عَلَى الطَّاعَةِ (" وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ") : مِنَ الْعِصْمَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ (" وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ ") : بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: صَاحِبَ الْحَظِّ فِي الْعِبَادَةِ، أَوْ صَاحِبَ الْجَدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَضْلًا عَنِ الْجَاهِ وَالْمَالِ، (" مِنْكَ ") ، أَيْ: مِنْ عَذَابِكَ أَوْ عِنْدَكَ أَوْ بَدَلَ لُطْفِكَ (" الْجَدُّ ") ، أَيْ: جَدُّهُ أَوْ جَدُّهُ، بَلْ لَا يَنْفَعُهُ إِلَّا فَضْلُكَ وَكَرَمُكَ، وَلَا يُنْجِيهِ مِنْكَ إِلَّا رَحْمَتُكَ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ، نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَا فِيهِ: " يُحْيِي وَيُمِيتُ " بَعْدَ قَوْلِهِ: " وَلَهُ الْحَمْدُ "، وَزَادَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: " لِمَا أَعْطَيْتَ: وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ "، أَيْ: لِمَا حَكَمْتَ وَأَمَرْتَ أَوْ كَتَبْتَ، وَقَدَّرْتَ، وَأَسْقَطَ: " وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ".

963 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ يَقُولُ بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 963 - (وَعَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ يَقُولُ بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى) : تَعْلِيمًا لِمَنْ حَضَرَ مَعَهُ مِنَ الْمَلَأِ (" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ") : فِي الْأُلُوهِيَّةِ (" لَا شَرِيكَ لَهُ ") : فِي الرُّبُوبِيَّةِ (" لَهُ الْمُلْكُ ") : ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (" وَلَهُ الْحَمْدُ ") : أَوَّلًا وَآخِرًا (" وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ") : مِنَ الْإِيجَادِ، وَالْإِعْدَامِ، وَالْإِنْعَامِ، وَالْإِيلَامِ، (" لَا حَوْلَ ") ، أَيْ: لَا تَحَوُّلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، (" وَلَا قُوَّةَ ") : عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ (" إِلَّا بِاللَّهِ ") ، أَيْ: بِعِصْمَتِهِ وَإِعَانَتِهِ (" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") : لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِي الْكَوْنِ قَدْ أَبْدَاهُ وَأَبْقَاهُ (" وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ ") : إِذْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ (" لَهُ النِّعْمَةُ ") : أَيْ: جِنْسُهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] أَوَّلُهُ نِعْمَةُ التَّوْفِيقِ، (" وَلَهُ الْفَضْلُ ") : بِالْقَوْلِ أَوِ التَّفَضُّلِ عَلَى عِبَادِهِ، (" وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ ") : عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَنِعَمِهِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ (" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") : رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ (" مُخْلِصِينَ ") : رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ (" لَهُ الدِّينَ ") ، أَيِ: الطَّاعَةَ (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ، أَيْ: وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ جَمِيعُهُمْ، حَالَ كَوْنِنَا مُخْلِصِينَ دِينَ اللَّهِ، وَكَوْنِنَا عَابِدِينَ وَمُوَحِّدِينَ اللَّهَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ مُخْلِصِينَ حَالٌ عَامِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى مَفْعُولِ كَرِهَ؛ أَيْ: نَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَالَ كَوْنِنَا مُخْلِصِينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ قَوْلَنَا (الدِّينَ) : مَفْعُولٌ بِهِ لِمُخْلِصِينَ، وَلَهُ: ظَرْفٌ قُدِّمَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ تَكَلُّفٌ وَالْأَوْلَى جَعْلُهُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ نَعْبُدُ الْمَذْكُورِ اهـ، وَفِيهِ بُعْدٌ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

964 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَيَقُولُ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجِنِّ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ» "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 964 - (وَعَنْ سَعْدٍ) ، أَيِ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، (أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ) ، أَيْ: أَوْلَادَهُ، وَفِيهِ تَغْلِيبٌ (هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) ، أَيِ: الْآتِيَةَ (وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ) : تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ أَوْ تَذَلُّلًا، لِلرَّبِّ لِلزِّيَادَةِ فِي الْقُرْبِ، (" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ ") : بِضَمٍّ وَبِضَمَّتَيْنِ، أَيِ: الْبُخْلُ فِي النَّفْسِ، وَعَدَمُ الْجَرَاءَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ ") : بِضَمِّ الْبَاءِ، وَسُكُونِ الْخَاءِ، وَبِفَتْحِهِمَا، أَيْ: مِنْ عَدَمِ النَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ بِالْمَالِ أَوِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَوْ بِالنَّصِيحَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُودُ إِمَّا بِالنَّفْسِ، وَهُوَ الشَّجَاعَةُ وَيُقَابِلُهُ الْجُبْنُ، وَإِمَّا بِالْمَالِ وَهُوَ السَّخَاوَةُ وَيُقَابِلُهُ الْبُخْلُ، وَلَا تَجْتَمِعُ الشَّجَاعَةُ وَالسَّخَاوَةُ إِلَّا فِي نَفْسٍ كَامِلَةٍ، وَلَا يَنْعَدِمَانِ إِلَّا مِنْ مُتَنَاهٍ فِي النَّقْصِ، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِهَا لُغَتَانِ، وَأَرَادَ بِهِ الْهَرَمَ بِحَيْثُ يَنْقُصُ عَقْلُهُ وَتَضْعُفُ قُوَّتُهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُمُرِ التَّفَكُّرُ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَالْقِيَامُ بِمُوجِبِ شُكْرِهِ، وَهُوَ يَفُوتُ فِي أَرْذَلِ الْعُمُرِ، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا ") : بِأَنْ تَتَزَيَّنَ لِلسَّالِكِ وَتَغُرَّهُ وَتُنْسِيَهُ الْآخِرَةَ، وَيَأْخُذَ مِنْهَا زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، (" وَعَذَابِ الْقَبْرِ ") ، أَيْ: مِنْ مُوجِبَاتِ عَذَابِهِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

965 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: " وَمَا ذَاكَ؟ " قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ ". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً "، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ إِلَى آخِرِهِ إِلَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا» " بَدَلَ: " ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 965 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ) : مِنْ أَرْبَابِ الصِّفَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَفْظُ الْأَرْبَعِينَ: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ (أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ) : بِضَمِّ الدَّالِ، جَمْعُ دَثْرٍ بِفَتْحِ الدَّالِّ، وَسُكُونِ الثَّاءِ: وَهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ، (بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى) ، أَيِ: الْعَالِيَةِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ: ذَهَبَ أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَاسْتَصْحَبُوهَا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى، وَلَمْ يَذْرُوَا لَنَا شَيْئًا فَمَا حَالُنَا؟ (وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ) ، أَيْ: وَبِالْعَيْشِ الدَّائِمِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ زِيَادَةُ النِّعْمَةِ فِي مُقَابَلَةِ زِيَادَةِ الطَّاعَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالنَّعِيمِ الْعَاجِلِ فَإِنَّهُ عَلَى وَشْكِ الزَّوَالِ، (" قَالَ: " وَمَا ذَاكَ؟ ") ، أَيْ: مَا سَبَبُهُ (" قَالُوا: ") ، لِأَنَّهُمْ (" يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي ") ، أَيْ: فَرْضًا وَنَفْلًا (وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ) : وَلَفْظُ " مَا " كَافَّةٌ تُصَحِّحُ دُخُولَ الْجَارِّ عَلَى الْفِعْلِ، وَتُفِيدُ تَشْبِيهَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِكَ: يَكْتُبُ زَيْدٌ كَمَا يَكْتُبُ عَمْرٌو، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 25] ، أَيْ: صَلَاتُهُمْ مِثْلُ صَلَاتِنَا وَصَوْمُهُمْ مِثْلُ صَوْمِنَا، (وَيَتَصَدَّقُونَ) : وَفِي الْأَرْبَعِينَ: بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، أَيْ: بِزَوَائِدِهَا، وَيَتَرَجَّحُونَ عَلَيْنَا فِي الثَّوَابِ وَلَيْسَ لَنَا مَالٌ، (وَلَا نَتَصَدَّقُ) : وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيُجَاهِدُونَ كَمَا نُجَاهِدُ، وَيَزِيدُونَ عَلَيْنَا بِأَنَّهُمْ يَتَصَدَّقُونَ وَنَحْنُ لَا نَتَصَدَّقُ مُوهِمٌ أَنَّ جُمْلَةَ: وَيُجَاهِدُونَ كَمَا نُجَاهِدُ لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، (وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ) : لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْمَالِ، وَلَا مَالَ لَنَا، فَلَهُمْ فَضْلٌ عَلَيْنَا بِزِيَادَةِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ ") : قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِلصَّدَارَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا أُسَلِّيكُمْ أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ، (" شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ ") ، أَيْ: مِنْ مُتَقَدِّمِي الْإِسْلَامِ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَوْ تُدْرِكُونَ بِهِ كَمَالَ مَنْ سَبَقَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِ: " مَنْ قَبْلَكُمْ "، أَيْ: فِي الثَّوَابِ (" وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ ") ، أَيْ: تَسْبِقُونَ بِهِ أَمْثَالَكُمُ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ هَذِهِ الْأَذْكَارَ، فَتَكُونُ الْبُعْدِيَّةُ بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ يَعْنِي: يُقَيَّدُ الْكَلَامُ بِالْوَصْفِ الْمُقَدَّرِ، بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالسِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُهُمْ مَنْ سَبَقَهُمْ، وَسَبْقُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ يَكُونُ بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَوْنِهِمْ مِنْ قَرْنِهِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْإِسْلَامِ عَنْكُمْ، أَوِ الْوُجُودِ عَنْ عَصْرِكُمْ، قَالَ مِيرَكُ: إِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَحْصُلُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ ثَوَابُ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمُ اسْتِثْنَاءً مِنْهُ أَيْضًا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَعَقِّبَ لِلْجُمَلِ عَائِدٌ إِلَى كُلِّهَا، فَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ صَنَعَ أَيْ: إِلَّا الْغَنِيَّ الَّذِي يُسَبِّحُ، فَإِنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ أَوْ مِثْلُكُمْ، نَعَمْ إِذَا قُلْنَا الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى أَيْضًا يَلْزَمُ قَطْعًا كَوْنُ الْأَغْنِيَاءِ أَفْضَلَ، إِذْ مَعْنَاهُ إِنْ عَمِلْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تُدْرِكُونَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَالْأَغْنِيَاءُ إِذْ سَبَّحُوا يَتَرَجَّحُونَ فَيَبْقَى مَجَالُهُ مَا شَكَا الْفُقَرَاءُ مِنْهُ، وَهُوَ رُجْحَانُهُمْ مِنْ جِهَةِ التَّصَدُّقِ وَالْإِعْتَاقِ، وَسَائِرِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِسَبَبِ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ، قُلْتُ: مَقْصُودُ الْفُقَرَاءِ تَحْصِيلُ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ لَهُمْ، لَا نَفْيُ زِيَادَتِهِمْ مُطْلَقًا، وَفِيهِ أَنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، كَذَا أَفَادَهُ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: " فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْفُقَرَاءِ نَفْيُ رُجْحَانِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا، وَعَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِمْ صُورَةُ تَأَمُّلٍ، (" وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ ") ، أَيْ: مِنَ الْأَغْنِيَاءِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ، (" أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ ") .

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الْأَفْضَلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: " لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ "، مَعَ قَوْلِهِ: " إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ " ; فَإِنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ تَقْتَضِي الزِّيَادَةَ، وَالْمِثْلِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ؟ قُلْتُ: هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ يَعْنِي: إِنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ، فَتَحْصُلُ الْأَفْضَلِيَّةُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيهَا، فَإِذَنْ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ التَّمِيمِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُسَاوُونَكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِأَحَدِ الْأَغْنِيَاءِ، أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ، (قَالُوا: بَلَى) ، أَيْ: عَلِّمْنَا ذَلِكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ ") : إِخْبَارٌ بِمَعْنَى الْأَوَامِرِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ: " تَسْمَعُ بِالْمُعِيدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ "، (" دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ") ، أَيْ: مَكْتُوبَةٍ (" ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَبْلُغُ هَذَا الْعَدَدَ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ عَشْرٌ اهـ، الْأَنْسَبُ التَّأْيِيدُ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، إِحْدَى عَشْرَةَ، إِحْدَى عَشْرَةَ، فَذَلِكَ كُلُّهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ. (قَالَ أَبُو صَالِحٍ) ، أَيْ: رَاوِي أَبِي هُرَيْرَةَ (فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ) : بَدَلٌ، وَفَائِدَةُ الْبَدَلِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ غِبْطَةٌ لَا حَسَدٌ (بِمَا فَعَلْنَا) : ضَمَّنَ سَمِعَ مَعْنَى الْإِخْبَارِ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ (فَفَعَلُوا مِثْلَهُ) ، أَيْ: مِثْلَ مَا فَعَلْنَا وَإِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى الْقَوْلِ شَائِعٌ سَائِغٌ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَلِكَ ") ، أَيِ: الزَّائِدُ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ عَلَى الْجُودِ بِأَمْوَالِهِمْ مُنْضَمًّا إِلَى فِعْلِهِمْ مَا فَعَلَهُ الْفُقَرَاءُ، (" فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، نَعَمْ لَا يَخْلُو الْغَنِيُّ مِنْ أَنْوَاعٍ مِنَ الْخَطَرِ، وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ آمَنُ اهـ. قَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي إِحْيَاءِ الْعُلُومِ: " وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ الْجُنَيْدُ وَالْخَوَّاصُ وَالْأَكْثَرُونَ إِلَى فَضْلِ الْفَقْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ الْقَائِمُ بِحَقِّهِ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْجُنَيْدَ دَعَا عَلَى ابْنِ عَطَاءٍ لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ فِي هَذَا، فَأَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ "، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى إِذَا أُخِذَا مُطْلَقًا لَمْ يَسْتَرِبْ مَنْ قَرَأَ الْأَخْبَارَ وَالْآثَارَ فِي تَفْضِيلِ الْفَقْرِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ فَنَقُولُ: إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الشَّكُّ فِي مَقَامَيْنِ، أَحَدِهِمَا: فَقِيرٌ صَابِرٌ لَيْسَ بِحَرِيصٍ عَلَى الطَّلَبِ، بَلْ هُوَ قَانِعٌ وَرَاضٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَنِيٍّ مُنْفِقٍ مَالَهُ فِي الْخَيْرَاتِ، لَيْسَ حَرِيصًا عَلَى إِمْسَاكِ الْمَالِ. الثَّانِي: فَقِيرٌ حَرِيصٌ مَعَ غَنِيٍّ حَرِيصٍ ; إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْفَقِيرَ الْقَانِعَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الْحَرِيصِ الْمُمْسِكِ، وَأَنَّ الْغَنِيَّ الْمُنْفِقَ مَالَهُ فِي الْخَيْرَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ الْحَرِيصِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَرُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّ الْغِنَى أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ، لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي ضَعْفِ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ، وَالْغَنِيُّ مُتَقَرِّبٌ بِالصَّدَقَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْفَقِيرُ عَاجِزٌ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ظَنَّهُ ابْنُ عَطَاءٍ فِيمَا نَحْسَبُهُ، فَأَمَّا الْغَنِيُّ الْمُتَمَتِّعُ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاحٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَى الْفَقِيرِ الْقَانِعِ، وَقَدْ يَشْهَدُ لَهُ مَا رُوِيَ

" فِي الْخَبَرِ: إِنَّ الْفُقَرَاءَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْقَ الْأَغْنِيَاءِ بِالْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، فَعَلَّمَهُمْ كَلِمَاتٍ فِي التَّسْبِيحِ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَنَالُونَ بِهَا مَا فَوْقَ مَا نَالَهُ الْأَغْنِيَاءُ، فَعَلِمَ الْأَغْنِيَاءُ بِذَلِكَ، فَكَانُوا يَقُولُونَهُ فَعَادُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ " قَالَ: " وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ وَرَدَ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ ثَوَابَ الْفَقِيرِ فِي التَّسْبِيحِ يَزِيدُ عَلَى ثَوَابِ الْغَنِيِّ، وَأَنَّ فَوْزَهُمْ بِذَلِكَ الثَّوَابِ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. فَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَعَثَ الْفُقَرَاءُ [رَسُولًا] إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَسُولُ الْفُقَرَاءِ إِلَيْكَ، فَقَالَ: " «مَرْحَبًا بِكَ وَبِمَنْ جِئْتَ مِنْ عِنْدَهُمْ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ أَحَبَّهُمُ اللَّهُ "، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْأَغْنِيَاءَ ذَهَبُوا بِالْجَنَّةِ، يَحُجُّونَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيَعْتَمِرُونَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَرِضُوا بَعَثُوا بِفَضْلِ أَمْوَالِهِمْ ذَخِيرَةً لَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَلِّغْ عَنِ الْفُقَرَاءِ أَنَّ لِمَنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ خِصَالٍ لَيْسَتْ لِلْأَغْنِيَاءِ، أَمَّا خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ، كَمَا يَنْظُرُ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى نُجُومِ السَّمَاءِ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَبِيٌّ فَقِيرٌ، أَوْ شَهِيدٌ فَقِيرٌ، أَوْ مُؤْمِنٌ فَقِيرٌ. وَالثَّانِيَةُ: يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَالثَّالِثَةُ: إِذَا قَالَ الْغَنِيُّ: [سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ] ، وَقَالَ الْفَقِيرُ مِثْلَ ذَلِكَ لَمْ يَلْحَقِ الْغَنِيُّ بِالْفَقِيرِ، وَلَوْ أَنْفَقَ فِيهَا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا "، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: رَضِينَا رَضِينَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: " ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» "، أَيْ: مَزِيدُ ثَوَابِ الْفُقَرَاءِ عَلَى ذِكْرِهِمْ اهـ، كَلَامُهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، مِنْهَا: أَنَّ الْكَفَافَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَقِيرَ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَمِنْهَا: أَنَّ التَّسْلِيمَ وَالرِّضَا تَحْتَ الْقَضَاءِ بِحُكْمِ الْمُولَى فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى هُوَ الْأَفْضَلُ، وَلِذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْغِنَى وَالْفَقْرُ مَطِيَّتَانِ لَا أُبَالِي أَيَّهُمَا أَرْكَبُ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30] نَعَمِ اخْتَارَ اللَّهُ الْفَقْرَ لِأَكْثَرِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ، وَاخْتَارَ الْغِنَى لِأَكْثَرِ أَعْدَائِهِ، وَقَلِيلٍ مِنْ أَحِبَّائِهِ، فَاخْتَرْ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، أَوِ اخْتَرْ أَنْ لَا تَخْتَارَ، فَإِنَّ رَبَّكَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ " مِنْ إِفْرَادِ مُسْلِمٍ. (وَلَيْسَ قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ إِلَى آخِرِهِ إِلَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ) : قَالَ مِيرَكُ: الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ قَوْلِهِ: " «وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: قَالَ أَبُو صَالِحٍ إِلَخْ، (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ (" «تُسَبِّحُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا " بَدَلَ: ثَلَاثًا» ") : نُصِبَ عَلَى الْحِكَايَةِ (" وَثَلَاثِينَ ") .

966 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 966 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُعَقِّبَاتٌ ") ، أَيْ: كَلِمَاتٌ يَأْتِي بَعْضُهَا عَقِبَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: كَلِمَاتٌ يُعَقِّبْنَ الثَّوَابَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِهَا ; لِأَنَّهُنَّ يُعَقِّبْنَ الصَّلَاةَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا عَادَتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقِيلَ: نَاسِخَاتٌ لِلذُّنُوبِ، وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] ، أَيْ: لَا نَاسِخَ لَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُعَقِّبَاتُ اللَّوَاتِي يَقُمْنَ عِنْدَ أَعْجَازِ الْإِبِلِ، الْمُعْتَرِكَاتُ عَلَى الْحَوْضِ، فَإِذَا انْصَرَفَتْ نَاقَةٌ دَخَلَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَهِيَ النَّاظِرَاتُ لِلْعَقِبِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ التَّسْبِيحَاتُ كُلَّمَا مَرَّتْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ نَابَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى اهـ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ، أَوْ قَوْلُهُ: (" لَا يَخِيبُ ") ، أَيْ: لَا يَخْسَرُ (" قَائِلُهُنَّ ") : مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ الْجَزَاءِ (" - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْقَوْلُ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ (" دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ") : ظَرْفُ الْقَوْلِ (" مَكْتُوبَةٍ ") ، أَيْ: مَفْرُوضَةٍ (" ثَلَاثٌ ") : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُنَّ ثَلَاثٌ (" وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: (" مُعَقِّبَاتٌ ") : إِمَّا صِفَةُ مُبْتَدَأٍ أُقِيمَتْ، أَيْ: فِي الِابْتِدَائِيَّةِ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، أَيْ: كَلِمَاتٌ مُعَقِّبَاتٌ، وَ " لَا يَخِيبُ ": خَبَرُهُ، وَ " دُبُرَ ": ظَرْفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَائِلِهِنَّ، وَإِمَّا مُبْتَدَأٌ، وَ " لَا يَخِيبُ ": صِفَتُهُ، وَالدُّبُرُ: صِفَةٌ أُخْرَى، وَثَلَاثٌ وَ " ثَلَاثُونَ خَبَرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُنَّ أَوْ هِيَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ، (" وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً " رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدِ اسْتَدْرَكَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ، وَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ; لِأَنَّ مَنْ رَفَعَهُ لَا يُقَاوِمُونَ مَنْ وَقَفَهُ فِي الْحِفْظِ اهـ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَمَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ كُلُّهَا مَرْفُوعَةٌ، وَذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مَنْ طُرُقٍ أُخْرَى مَرْفُوعَةٍ مِنْ جِهَةِ مَنْصُورٍ وَشُعْبَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِمَا فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَبَيَّنَ الدَّارَقُطْنِيُّ ذَلِكَ، إِذَا رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَمَوْقُوفًا يَحْكُمُ بِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مِنْهُمُ: الْبُخَارِيُّ وَالْآخَرُونَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْوَاقِفُونَ أَكْثَرَ مِنَ الرَّافِعِينَ حُكِمَ بِالرَّفْعِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ، فَوَجَبَ قَبُولُهَا وَلَا تُرَدُّ بِتَقْصِيرٍ أَوْ نِسْيَانٍ حَصَلَ مِنْ وَاقِفِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

967 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمَدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ: تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 967 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ") ، أَيْ: فَرِيضَةٍ (" ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ (" ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ") ، أَيْ: فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَحَذْفُهُ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْأَوَّلِ. (" فَتِلْكَ ") ، أَيِ: التَّسْبِيحَاتُ وَالتَّحْمِيدَاتُ وَالتَّكْبِيرَاتُ (" تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ") : عِلْمُ الْجُمْلَةِ بَعْدَ التَّفْصِيلِ، وَيُسَمَّى فَذْلَكَةً لِيُحَاطَ بِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَيَتَأَكَّدَ الْعِلْمُ، إِذْ عِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] وَلِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَقَالَ) : وَفِي الْحِصْنِ: ثُمَّ قَالَ أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: ذَلِكَ الْقَائِلُ يَعْنِي ذِكْرَ (تَمَامَ الْمِائَةِ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقِيلَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (" وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") : وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ

أَنَّ لَفْظَ: " تَمَامَ " إِمَّا مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِقَالَ، لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى جُمْلَةٌ، إِذْ مَا بَعْدَهُ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ بَدَلٌ أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفٌ، فَصَحَّ كَوْنُهُ مَقُولَ الْقَوْلِ، وَالْمُرَادُ مِنْ " تَمَامَ الْمِائَةِ " مَا تُتِمُّ بِهِ الْمِائَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بِالظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: فِي وَقْتِ تَمَامِ الْمِائَةِ، أَيْ: عِنْدَ إِرَادَةِ تَمَامِهَا، وَالْعَامِلُ فِيهِ لَفْظُ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَلَفْظَةُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَلٌ مِنْ سَبَّحَ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ وَالْأَبْهَرِيُّ: فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مَنْ سَبَّحَ، أَوْ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَخْ، فَيَكُونُ تَمَامُ مَعَ خَبَرِهِ حَالًا مِنْ ضَمِيرٍ سَبَّحَ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ تَمَامِ مِائَةٍ عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهِ، فَلَفْظَةُ قَالَ عَلَى هَذَا تَكُونُ لِلرَّاوِي، وَضَمِيرُهُ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَعَلَيْهِمَا الْجَزَاءُ، إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ إِذَا وَقَعَ تَمَامُ الْمِائَةِ التَّهْلِيلُ الْمَذْكُورُ، (" وَحْدَهُ ") : جَوَّزَ الْكُوفِيَّةُ كَوْنَ الْحَالِ مَعْرِفَةً، وَالْبَصْرِيَّةُ أَوَّلُوهَا بِالنَّكِرَةِ وَقَالُوا: مَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا أَيْ بِالْأُلُوهِيَّةِ، (" لَا شَرِيكَ لَهُ ") : فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ (" لَهُ الْمُلْكُ ") : جِنْسُ الْمُلْكِ، يُعْطَى مِنْهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ (" وَلَهُ الْحَمْدُ ") : الْمَصْدَرِيَّةُ الشَّامِلَةُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ فَهُوَ الْحَامِدُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ، وَتَقْدِيمُ لَامِ الِاخْتِصَاصِ فِي الْمَقَامَيْنِ لِمُرِيدِ مُقَامِ الْخَوَاصِّ (" وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ") : مِنَ الْمُمْكِنَاتِ (" قَدِيرٌ ") : لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ تَعَلَّقَتْ بِهِ قُدْرَتُهُ (" غُفِرَتْ خَطَايَاهُ ") : هَذَا جَزَاءُ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ، وَالْمُرَادُ بِالْخَطَايَا الذُّنُوبُ الصَّغَائِرُ، وَيُحْتَمَلُ الْكَبَائِرُ، (" وَإِنْ كَانَتْ ") : أَيْ فِي الْكَثْرَةِ أَوْ فِي الْعَظَمَةِ (مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ") : وَهُوَ مَا يَعْلُو عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ وَتَمَوُّجِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةً ذُكِرَ بَعْضُهَا وَنَذْكُرُ بَاقِيهَا، فَنَقُولُ: وَرَدَ التَّسْبِيحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَعَشَرَةً، وَثَلَاثًا، وَمَرَّةً وَاحِدَةً، وَسَبْعِينَ وَمِائَةً، وَوَرَدَ التَّحْمِيدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَعَشَرَةً، وَمِائَةً وَوَرَدَ التَّهْلِيلُ عَشَرَةً، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَمِائَةً، قَالَ الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَمَا زَادَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَجَمَعَ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ صُدُورَ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، أَوْ يَفْتَرِقُ بِافْتِرَاقِ الْأَحْوَالِ اهـ.

وَصَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ بِيَمِينِهِ، وَوَرَدَ: أَنَّهُ قَالَ " «وَاعْقِدُوهُ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ» " وَجَاءَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «نِعْمَ الْمُذَكِّرُ الْمِسْبَحَةَ» ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَيْطٌ فِيهِ أَلْفُ عُقْدَةٍ فَلَا يَنَامُ حَتَّى يُسَبِّحَ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يُسَبِّحُ بِالنَّوَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالرِّوَايَاتُ فِي التَّسْبِيحِ بِالنَّوَى وَالْحَصَى كَثِيرَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَبَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ رَآهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَقَرَّ عَلَيْهَا، قِيلَ: وَعَقْدُ التَّسْبِيحِ بِالْأَنَامِلِ أَفْضَلُ مِنَ الْمِسْبَحَةِ، وَقِيلَ: إِنْ أَمِنَ الْغَلَطَ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِلَّا فَهِيَ أَوْلَى.

الْفَصْلُ الثَّانِي 968 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قِيلَ: «يَا رَسُولُ! أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 968 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟) ، أَيْ: أَوْفَقُ إِلَى السَّمَاعِ أَوْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ (قَالَ: " جَوْفُ اللَّيْلِ ") : رُوِيَ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ مَرْفُوعًا، أَيْ: دُعَاءُ جَوْفِ اللَّيْلِ أَسْمَعُ، وَرُوِيَ بِنَصْبِ جَوْفٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: فِي جَوْفِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ جَرُّهُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى حَذْفَ الْمُضَافِ وَتَرْكَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى إِعْرَابِهِ اهـ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النُّسَخِ، وَلَمْ تَرِدْ بِهِ الرِّوَايَةُ، ثُمَّ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ فِي السُّؤَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ السَّاعَاتِ أَسْمَعُ مِنْ بَابِ نَهَارَهُ صَائِمٌ، يَعْنِي أَسْمَعُ فِيهَا الدُّعَاءُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، فَالرَّفْعُ حِينَئِذٍ فِي الْجَوَابِ بِتَقْدِيرِ هُوَ وَالنَّصْبُ بِتَقْدِيرِ الْإِعْرَابِ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ يَرَى تَقْدِيرَ مُضَافٍ فِي الْجَوَابِ كُلِّهِ قِيلَ دُعَاءُ حَرْفِ اللَّيْلِ، (وَالْآخِرِ ") : صِفَةُ جَوْفٍ، فَيَتْبَعُهُ فِي الْإِعْرَابِ، قِيلَ: وَالْجَوْفُ الْآخِرُ مِنَ اللَّيْلِ هُوَ وَسْطُ النِّصْفِ الْآخِرِ مِنَ اللَّيْلِ بِسُكُونِ السِّينِ لَا بِالتَّحْرِيكِ. (" وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ") : عَطْفٌ عَلَى (جَوْفُ) ، تَابِعٌ لَهُ فِي الْإِعْرَابِ الْأَكْثَرُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: السُّكُوتُ عَنِ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ رِضَاءً بِمَا سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ، وَقِيلَ: يَدْعُو بِلِسَانِهِ وَيَرْضَى بِجَنَانِهِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْأَوْقَاتُ مُخْتَلِفَةٌ، فَفِي بَعْضِ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ بِأَنْ يَجِدَ فِي قَلْبِهِ إِشَارَةً إِلَيْهِ وَهُوَ الْأَدَبُ، وَفِي بَعْضِ السُّكُوتِ أَفْضَلُ بِأَنْ يَجِدَ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَدَبُ أَيْضًا، قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ نَصِيبٌ، أَوْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَالدُّعَاءُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ عِبَادَةً وَإِنْ كَانَ لِنَفْسِ الدَّاعِي فِيهِ حَظٌّ، فَالسُّكُوتُ أَتَمُّ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ - غَيْرُ صَحِيحٍ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

969 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ» ، رَوَاهُ احْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 969 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ وَتُفْتَحُ (فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) : وَفِي الْحِصْنِ: " دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ "، قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: " أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ "، قَالَ الطِّيبِيُّ: " فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ: " بِالْمُعَوِّذَاتِ "، وَفِي رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ، " بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ "، فَعَلَى الْأَوَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ وَالْكَافِرُونَ إِمَّا تَغْلِيبًا " يَعْنِي: لِأَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ أَكْثَرُ " أَوْ ; لِأَنَّ فِي كِلْتَيْهِمَا " - يَعْنِي الْإِخْلَاصَ وَالْكَافِرُونَ " بَرَاءَةً مِنَ الشِّرْكِ، وَالْتِجَاءً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى " يَعْنِي: فَفِيهِمَا مَعْنَى التَّعَوُّذِ أَيْضًا، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

970 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ: اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 970 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَأَنْ أَقْعُدَ ") ، أَيْ: لَقُعُودِي وَاللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ لِلْقَسَمِ، (" مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ") : وَهُوَ يَعُمُّ الدُّعَاءَ وَالتِّلَاوَةَ وَمُذَاكَرَةَ الْعِلْمِ وَذِكْرَ الصَّالِحِينَ (" مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ ") ، أَيِ: الصُّبْحِ (" حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَحَبُّ ") ، أَيْ: أَفْضَلُ: (" إِلَيَّ ") ، أَيْ: عِنْدِي (" مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ") : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ وَبِضَمِّ الْأَوَّلِ وَسُكُونٍ الثَّانِي، خَصَّصَ بَنِي إِسْمَاعِيلَ لِشَرَفِهِمْ وَإِنَافَتَهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ أَفْضَلُ الْأُمَمِ، وَلِقُرْبِهِمْ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَزِيدِ اهْتِمَامِهِ بِهِمْ، (" «وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً» ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِطْلَاقُ الْأَرِقَّا وَالْعِتْقِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، يَعْنِي فَلَا يَصْلُحُ كَوْنُهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ضَرْبُ الرِّقِّ عَلَى الْعَرَبِ ; إِذْ لَوِ امْتَنَعَ رِقُّهُمْ لَمْ يَقُلْ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ هَذَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ عِتْقِهِمْ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: فِيهِ أَوْضَحُ دَلِيلٍ لِلشَّافِعِيِّ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاضِحٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْضَحَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَخْصِيصُ الْأَرْبَعَةِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَجِبُ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِانْقِسَامِ الْعَمَلِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ أَرْبَعَةً، وَقِيلَ فِي بَيَانِهِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ أَرْبَعَةٍ لِأَنَّ الْمُفَضَّلَ مَجْمُوعُ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: ذِكْرُ اللَّهِ، وَالْقُعُودُ لَهُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِمْرَارُ بِهِ إِلَى الطُّلُوعِ أَوِ الْغُرُوبِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْقُعُودُ أَيْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَكَوْنِهِ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَكَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْغَدْوَةِ أَوِ الْعَصْرِ وَاسْتِمْرَارُهُ إِلَى الطُّلُوعِ أَوِ الْغُرُوبِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُعُودِ مَعَهُمُ اسْتِمْرَارُهُ مَعَهُمْ فَلَا يُنَافِي قِيَامَهُ تَعْظِيمًا لِبَعْضِهِمْ حَيًّا أَوْ لِجِنَازَتِهِمْ مَيِّتًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: أَرْبَعَةٌ أَوَّلًا مَعْرِفَةٌ وَفِي الثَّانِي نَكِرَةٌ ; لِتُفِيدَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ هُنَا غَيْرُ الْأَرْبَعَةِ ثَمَّةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَشْهَرَ أَنَّ إِعَادَةَ النَّكِرَةِ بِعَيْنِهَا تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بِخِلَافِ الْمَعْرِفَةِ اهـ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ مَبْنًى وَمَعْنًى مَعَ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى أَيْضًا، وَقَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: " أَرْبَعَةٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ دِيَةُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، فَانْدَفَعَ تَرْدِيدُ ابْنِ حَجَرٍ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ حَيْثُ قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ هُنَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُرَادٌ، وَحُذِفَ مِنَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَالْفَرْقُ أَنَّ أَوَائِلَ النَّهَارِ أَحَقُّ بِأَنْ تُسْتَغْرَقَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ النَّشَاطَ فِيهَا أَكْثَرُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ صَحَّ فِيهِ أَنَّ إِحْيَاءَهُ بِالذِّكْرِ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَلَمْ يَرِدْ نَظِيرُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَ الْعَصْرِ اهـ، وَقَدْ يُقَالُ آخِرُ النَّهَارِ أَوْلَى بِأَنْ يُسْتَغْرَقَ بِالذِّكْرِ تَدَارُكًا لِمَا فَاتَهُ أَوْ وَقَعَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ نَفْيُ مَا عَدَاهُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ.

971 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ - كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ "، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 971 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ» ) ، أَيِ: اسْتَمَرَّ فِي مَكَانِهِ وَمَسْجِدِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، فَلَا يُنَافِيهِ الْقِيَامُ لِطَوَافٍ أَوْ لِطَلَبِ عِلْمٍ أَوْ مَجْلِسِ وَعْظٍ فِي الْمَسْجِدِ، بَلْ وَكَذَا لَوْ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الذِّكْرِ، ( «وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قَدْرَ رُمْحٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ تُسَمَّى صَلَاةَ الْإِشْرَاقِ وَهِيَ أَوَّلُ الضُّحَى (" كَانَتْ ") ، أَيِ: الْمَثُوبَةُ، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَيْ هَذِهِ الْحَالَةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ كُلِّهَا (" لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ " قَالَ) : أَيْ: أَنَسٌ ( «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ» ) : صِفَةٌ لِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ كَرَّرَهَا ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: أَعَادَ الْقَوْلَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالتَّمَامِ وَتَكْرَارِهِ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا التَّشْبِيهُ مِنْ بَابِ إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ تَرْغِيبًا، أَوْ شَبَّهَ اسْتِيفَاءَ أَجْرِ الْمُصَلِّي تَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ أَجْرِ الْحَاجِّ تَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا وَصْفُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِالتَّمَامِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 972 - وَعَنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: «صَلَّى بِنَا إِمَامٌ لَنَا يُكْنَى أَبَا رِمْثَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ، أَوْ مِثْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُومَانِ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ رَجُلٌ قَدْ شَهِدَ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى مِنَ الصَّلَاةِ، فَصَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، حَتَّى رَأَيْنَا بَيَاضَ خَدَّيْهِ، ثُمَّ انْفَتَلَ كَانْفِتَالِ أَبِي رِمْثَةَ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَقَامَ الَّذِي أَدْرَكَ مَعَهُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى مِنَ الصَّلَاةِ يَشْفَعُ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ، فَأَخَذَ بِمَنْكِبَيْهِ، فَهَزَّهُ، ثُمَّ قَالَ: اجْلِسْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ صَلَاتِهِمْ فَصْلٌ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ، فَقَالَ: " أَصَابَ اللَّهُ بِكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 972 - (عَنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا إِمَامٌ لَنَا يُكْنَى) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدِّدُ (أَبَا رِمْثَةَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ (قَالَ) ، أَيْ: أَبُو رِمْثَةَ (صَلَّيْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ) : الْإِشَارَةُ هُنَا لَيْسَتْ لِلْخَارِجِ ; لِأَنَّ عَيْنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ الْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ لَمْ يُصَلِّهِ مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا الَّذِي صَلَّاهُ مَعَهُ نَظِيرُهُ، فَتَعَيَّنَتِ الْإِشَارَةُ لِلْحَقِيقَةِ الذِّهْنِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي ضِمْنِ هَذِهِ الْخَارِجِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَلِذَا قَالَ (أَوْ) : عَلَى الشَّكِّ (مِثْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ) ، أَيْ: أَبُو رِمْثَةَ (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَقُومَانِ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ عَنْ يَمِينِهِ) : لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ» "، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَ ذَلِكَ اسْتِطْرَادًا إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْقِصَّةُ، وَفِيهِ إِفَادَةُ الْحَثِّ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَحَرِّي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ تَحَرِّي يَمِينِ الْإِمَامِ ; لِأَنَّهُ أَفْضَلُ (وَكَانَ رَجُلٌ قَدْ شَهِدَ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى) ، أَيْ: تَكْبِيرَةَ التَّحْرِيمَةِ فَإِنَّهَا الْأُولَى حَقِيقَةً أَوْ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ، فَإِنَّهَا تَكْبِيرَةُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى (مِنَ الصَّلَاةِ) : احْتِرَازٌ مِنَ التَّكْبِيرِ الْمُعْتَادِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، أَيْ: تَكْبِيرَةُ التَّحْرِيمَةِ، وَوَجْهُ ذِكْرِهَا مَزِيدُ بَيَانِ أَنَّ مُدْرِكَهَا إِنَّمَا قَامَ عَقِبَ صَلَاتِهِ لِصَلَاةِ السُّنَّةِ لَا لِكَوْنِهِ مَسْبُوقًا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَقُومُ لِإِكْمَالِهِ، ( «فَصَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ) ، أَيْ: صَلَاتَهُ (ثُمَّ سَلَّمَ) ، أَيْ: مَائِلًا وَمُنْصَرِفًا (عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ) : وَلَيْسَ فِيهِ سَلَامٌ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ (حَتَّى رَأَيْنَا) : مُتَعَلِّقٌ بِالْمُقَدَّرِ الْمَذْكُورِ (بَيَاضَ خَدَّيْهِ) ، أَيْ: مِنْ طَرَفَيْ وَجْهِهِ، أَيْ: خَدَّهُ الْأَيْمَنَ فِي الْأُولَى وَالْأَيْسَرَ فِي الثَّانِيَةِ (ثُمَّ انْفَتَلَ) : أَيِ انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانْفِتَالِ أَبِي رِمْثَةَ) ، أَيْ: كَانْفِتَالِي جَرَّدَ عَنْ نَفْسِهِ أَبَا رِمْثَةَ وَوَضَعَهُ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِ مَزِيدًا لِلْبَيَانِ كَمَا بَيَّنَهُ الطِّيبِيُّ، وَلِذَا قَالَ الرَّاوِي، (- يَعْنِي) ، أَيْ: يُرِيدُ أَبُو رِمْثَةَ بِقَوْلِهِ أَبِي رِمْثَةَ (نَفْسَهُ -) ، أَيْ: ذَاتَهُ لَا غَيْرَهُ ( «فَقَامَ الرَّجُلُ الَّذِي أَدْرَكَ مَعَهُ التَّكْبِيرَةَ

الْأُولَى مِنَ الصَّلَاةِ يَشْفَعُ» ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ، أَيْ: يُرِيدُ يُصَلِّي شَفْعًا مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّفْعُ ضَمَّ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ يَعْنِي: قَامَ الرَّجُلُ يَشْفَعُ الصَّلَاةَ بِصَلَاةٍ أُخْرَى (فَوَثَبَ [إِلَيْهِ] عُمَرُ) ، أَيْ: قَامَ بِسُرْعَةٍ (فَأَخَذَ بِمَنْكِبَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: بِمَنْكِبِهِ عَلَى الْإِفْرَادِ (فَهَزَّهُ) : بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: حَرَّكَهُ بِعُنْفٍ (ثُمَّ قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ (اجْلِسْ، فَإِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنَ ( [لَمْ] يُهْلِكْ) : بِضَمِّ الْيَاءِ يَجُوزُ فَتْحُهَا (أَهْلَ الْكِتَابِ) : بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَرَفْعِ أَهْلِ (إِلَّا أَنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنَ (لَمْ يَكُنْ بَيْنَ صَلَاتِهِمْ) ، أَيْ: (بَيْنَ) ، صَلَوَاتِهِمْ، إِذْ بَيْنَ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُتَعَدِّدٍ (فَصْلٌ) ، أَيْ: فَرْقٌ بِالتَّسْلِيمِ أَوِ التَّحْوِيلِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمِرُوا بِالْفَصْلِ فَلَمْ يَمْتَثِلُوا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ فَاعْتَقَدُوا اتِّصَالَ الصَّلَوَاتِ، وَأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَصَلَّوْا، أَوْ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤَهِّلُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ عَقِبَ صَلَاتِهِمْ، فَأَدَّى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى قَسْوَةِ الْقَلْبِ الْمُودِيَةِ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ، قَالَ الطَّيْبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الْفَصْلِ تَرْكُ الذِّكْرِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ لَنْ يُهْلِكَهُمْ شَيْءٌ إِلَّا عَدَمُ الْفَصْلِ، وَاسْتِعْمَالُ لَنْ فِي الْمَاضِي مَعْنًى دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَلَاكِهِمْ. الْجَوْهَرِيُّ: هَلَكَهُ يُهْلِكُهُ وَهَلَكَ بِنَفْسِهِ هَلَاكًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ: هَلَكَ كَضَرَبَ وَمَنَعَ وَعَلِمَ هُلْكًا بِالضَّمِّ، وَمَهْلَكَةً وَتَهْلُكَةً مُثَلَّثَيْ اللَّامِ: مَاتَ وَأَهْلَكَهُ وَاسْتَهْلَكَهُ وَهَلَكَهُ يُهْلِكُهُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ. انْتَهَى، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ لَازِمًا فِي الْحَدِيثِ، فَالتَّقْدِيرُ مَا هَلَكُوا إِلَّا لِعَدَمِ كَوْنِ الْفَصْلِ بَيْنَ صَلَاتِهِمْ يَعْنِي فَأَدَّى إِلَى الشُّبْهَةِ فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِشَيْءٍ فَعَلُوهُ عَقِبَ صَلَاتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ هَلَكُوا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ (غَيْرِهِ) ، هَذَا، فَتَعَيَّنَ رِعَايَةُ خُصُوصِ مَا قَدَّرْتَ خِلَافًا لِمَنْ قَدَّرَهُ عَامًّا بِسَائِرِ أَحْوَالِهِ. انْتَهَى، وَيُرِيدُ بِهِ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الطِّيبِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْهَلَاكَ مُخْتَصٌّ بِمُصِلِّيهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ، أَوِ الْحَصْرُ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( «فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ» ) : أَيْ إِلَيْهِمَا ( «فَقَالَ: " أَصَابَ اللَّهُ بِكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ» ") : قِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَصَابَ اللَّهُ بِكَ الرُّشْدَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، أَيْ: أَصَبْتَ الرُّشْدَ فِيمَا فَعَلْتَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرْوَى أَصَابَ اللَّهُ رَأْيَكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرِّوَايَةُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَنَظِيرُهُ عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّقْدِيرُ أَصَابَكَ اللَّهُ الْحَقَّ، أَيْ: جَعَلَكَ مُصِيبًا لَهُ فِي سَائِرِ أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

973 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُمِرْنَا أَنْ نُسَبِّحَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَأُتِيَ رَجُلٌ فِي الْمَنَامِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسَبِّحُوا فِي كُلِّ صَلَاةٍ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ فِي مَنَامِهِ: نَعَمْ، قَالَ: فَاجْعَلُوهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَاجْعَلُوا فِيهَا التَّهْلِيلَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ فَافْعَلُوا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 973 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أُمِرْنَا) ، أَيْ: أَمْرَ نَدْبٍ ( «أَنْ نُسَبِّحَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ» ) ، أَيْ: فَرِيضَةٍ، وَالدُّبُرُ بِضَمِّ الدَّالِّ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيْ آخِرِ أَوْقَاتِهَا. (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) ، أَيْ: فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ (وَنُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ) ، أَيْ: تَكْمِلَةً لِلْمِائَةِ (فَأُتِيَ رَجُلٌ فِي الْمَنَامِ مِنَ الْأَنْصَارِ) ، أَيْ: أَتَاهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا أَوْ غَيْرُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ هَذَا الْآتِيَ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْهَامِ بِنَحْوِ مَا كَانَ يَأْتِي لِتَعْلِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، وَلِذَلِكَ قَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ أَيِ الْآتِي (فَافْعَلُوهُ) ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَجْمَعُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّهْلِيلِ أَيْضًا، وَالْعَدَدِ (الْعَدَدِ) . انْتَهَى، وَالْإِلْهَامُ يُغَايِرُ الْمَنَامَ كَمَا لَا يَخْفَى، (فَقِيلَ لَهُ) : أَيْ قَالَ الْآتِي فِي الْمَنَامِ لِلرَّجُلِ النَّائِمِ (أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ (أَنْ تُسَبِّحُوا لِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ كَذَا وَكَذَا؟) ، أَيْ: مِنَ

الْعَدَدِ (قَالَ الْأَنْصَارِيُّ فِي مَنَامِهِ، نَعَمْ قَالَ) : أَيِ الْآتِي: إِذَا كُنْتُمْ تَأْتُونَ بِمِائَةٍ وَلَا بُدَّ (فَاجْعَلُوهَا) ، أَيِ: الْأَذْكَارَ الثَّلَاثَةَ (خَمْسًا وَعِشْرِينَ) : أَيْضًا لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ وَأَوْلَاهَا بِالِاعْتِبَارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ (لِلتَّسَبُّبِ) ، مُقَرِّرَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَمُغَيِّرَةٌ مِنْ وَجْهٍ أَيْ: إِذَا كَانَتِ التَّسْبِيحَاتُ هَذِهِ وَالْعَدَدُ مِائَةً فَقَرِّرُوا الْعَدَدَ وَأَدْخِلُوا فِيهَا التَّهْلِيلَ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا، قُلْتُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقَبْلِيَّةِ، وَالْأَظْهَرُ مَعَ مُبَادَرَةِ امْتِثَالِهِمُ الْبُعْدِيَّةَ، نَعَمِ الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ التَّهْلِيلُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ الْمَشْهُورِ الْوَارِدِ فِي: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظَةُ " فِيهَا ". (فَلَمَّا أَصْبَحَ) ، أَيِ: الْأَنْصَارِيُّ (غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي الْغُدُوِّ، أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ (فَأَخْبَرَهُ) : مِمَّا رَآهُ فِي النَّوْمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَافْعَلُوا ") : لَعَلَّ الْمُرَادَ فَاعْمَلُوا بِهِ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنْ رَأَيْتُمْ ذَلِكَ وَلَا بُدَّ فَافْعَلُوا، وَمَرَّ أَنَّ ذَلِكَ - أَعْنِي الْخَمْسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ - سُنَّةٌ، وَالْحُجَّةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " فَافْعَلُوا "، لَا مُجَرَّدَ ذَلِكَ الْمَنَامِ، لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِخَوَاطِرِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ لَا فِي الْيَقَظَةِ وَلَا فِي النَّوْمِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لَهُ (وَالدَّارِمِيُّ) : وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

974 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَعْوَادِ هَذَا الْمِنْبَرِ يَقُولُ: " «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ، وَمَنْ قَرَأَهَا حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ، آمَنَهُ اللَّهُ عَلَى دَارِهِ وَدَارِ جَارِهِ، وَأَهْلِ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ» "، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ "، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 974 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : حَالَ كَوْنِهِ (عَلَى أَعْوَادِ هَذَا الْمِنْبَرِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: " كَانَ حِكْمَتُهُ بَعْدَ الدَّلَالَةِ بِهِ عَلَى مَزِيدِ الْبَيَانِ " وَالِاسْتِحْضَارُ لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَأَخُّرِ هَذَا الْأَمْرِ عَنْ وَضْعِ الْمِنْبَرِ الْخَشَبِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَوَّلًا يَخْطُبُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى عُمِلَ لَهُ مِنْبَرٌ مِنْ خَشَبِ الطُّرَفَاءِ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ لِيَخْطُبَ عَلَيْهِ وَيُسْمِعَهُمْ كُلَّهُمْ، وَكَانَ عَمَلُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عِنْدَ جَمْعٍ، وَقِيلَ فِي السَّابِعَةِ (يَقُولُ: " مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ") ، أَيْ: مَكْتُوبَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْحِصْنِ (" لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ ") ، أَيْ: مَانِعٌ (" إِلَّا الْمَوْتُ ") ، أَيْ: عَلَى الشَّقَاوَةِ أَوْ إِلَّا عَدَمُ الْمَوْتِ، قَالَ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ: أَيِ الْمَوْتُ حَاجِزٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ وَانْقَضَى حَصَلَ دُخُولُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَالْمَوْتُ قَبْلَ لِقَاءِ اللَّهِ " وَقَالَ الْمُحَقِّقُ الصَّمَدَانِيُّ الْمَوْلَى سَعْدُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ شَرَائِطِ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ، فَكَأَنَّ الْمَوْتَ يَمْنَعُ وَيَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِي أَوَّلًا لِيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ (الْمَقْصُودُ) ، أَنَّهُ (لَا يَمْنَعُ مِنْ) دُخُولِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُوجِبًا لِدُخُولِهَا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ: " وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ". الْبَيْتَ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ فَلَا عَيْبَ فِيهِمْ أَصْلًا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8] أَيْ: مَا كَرِهُوا وَعَابُوا {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [البروج: 8] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ

إِلَّا أَنْ يَمُوتَ كَافِرًا، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَائِرَ الْمَعَاصِي لَمْ يَمْنَعْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (" وَمَنْ قَرَأَهَا حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ ") ، أَيْ: مَكَانَهُ لِلنَّوْمِ (" آمَنَهُ اللَّهُ ") ، أَيْ: جَعَلَهُ آمِنًا، أَيْ: أَمِنَ خَوْفُهُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ (وَعَلَى دَارِهِ ") ، أَيْ: عَلَى مَا فِي دَارِهِ (" وَدَارِ جَارِهِ ") ، أَيْ: مَالًا وَنَفْسًا وَغَيْرَهَا (" وَأَهْلِ دُوَيْرَاتٍ ") : جَمْعُ دُوَيْرَةٍ تَصْغِيرُ دَارٍ (" حَوْلَهُ ") : بِالنَّصْبِ ظَرْفٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ وَإِنْ لَمْ يُلَاصِقْ دَارَهُ فَأُرِيدَ بِالْجَارِ هُنَا حَقِيقَتُهُ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ، وَإِنْ كَانَ عُرْفًا يَشْمَلُهُ وَغَيْرَهُ إِلَى أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ الْخَوْفِ بِالْأَمْنِ وَعَدَّاهُ بِعَلَى، أَيْ: لَمْ يُخَوِّفْهُ عَلَى أَهْلِ دَارِهِ (وَأَهْلِ دُوَيْرَاتِ جَارِهِ) ، حَوْلَهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَكْرُوهٌ أَوْ سُوءٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] الْكَشَّافِ: لِمَ تَخَافُنَا عَلَيْهِ، (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ) . اعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ مَعَ أَنَّ صَدْرَ الْحَدِيثِ ذَكَرَهُ فِي الْحِصْنِ، وَرَمَزَ لِلنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ السُّنِّيِّ، وَقَالَ مِيرَكُ: كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِأَسَانِيدَ أَحَدُهَا صَحِيحَةٌ، وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: " وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَإِسْنَادُهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَيِّدٌ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَحَادِيثَ أُخَرَ فِي فَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ اهـ، وَتَعَدُّدُ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا صَحِيحًا.

975 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «مَنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ وَيَثْنِيَ رِجْلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَحِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ إِلَّا الشِّرْكُ وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ عَمَلًا، إِلَّا رَجُلًا يَفْضُلُهُ، يَقُولُ أَفْضَلَ مِمَّا قَالَ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 975 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ ") ، أَيْ: مِنْ مَكَانِ صَلَاتِهِ (" وَيَثْنِيَ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: وَقَبْلَ أَنْ يَثْنِيَ (" رِجْلَيْهِ ") ، أَيْ: يَعْطِفَهُمَا وَيُغَيِّرَهُمَا عَنْ هَيْئَةِ التَّشَهُّدِ (وَمِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ ") : تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ وَفِي رِوَايَةٍ: " مَنْ قَالَ دُبُرَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ "، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: مَنْ قَالَ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَهُ أَيْ عَاطِفَهُ فِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ، وَمَنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَيْهِ هَذَا ضِدُّ الْأَوَّلِ فِي اللَّفْظِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ أَرَادَ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَ رِجْلَهُ عَنْ حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا فِي التَّشَهُّدِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيَثْنِي بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ (" «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ» ) ، أَيْ: فِي قُدْرَتِهِ أَوْ بِسَبَبِهَا كُلُّ خَيْرٍ وَمُلَائِمٍ لِلنَّفْسِ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ وَحُذِفَ تَأَدُّبًا نَظِيرَ مَا مَرَّ فِي: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ (" يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ ") ، أَيْ: مِنَ الْمَرَّاتِ (" عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ ") : وَالْمَحْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْغُفْرَانِ (" وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ ") : وَالتَّأْنِيثُ لِاكْتِسَابِ الْعَشْرِ مِنَ الْإِضَافَةِ (" وَكَانَتْ ") ، أَيِ: الْكَلِمَاتُ (" لَهُ ") : كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (" حِرْزًا ") ، أَيْ: حِفْظًا لَهُ (" مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ ") : مِنَ الْآفَاتِ (" وَحِرْزًا ") ، أَيْ: تَعْوِيذًا (" مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ") : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِكَمَالِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ (" وَلَمْ يَحِلَّ ") : أَيْ لَمْ يَجُزْ، وَفِي رِوَايَةٍ، " لَمْ يَنْبَغِ " (" لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ ") ، أَيْ: يُهْلِكَهُ وَيُبْطِلَ عَمَلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (" إِلَّا الشِّرْكُ ") ، أَيْ: إِنْ وَقَعَ مِنْهُ وَهُوَ بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهُ فِي حِصْنِ التَّوْحِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ " «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حِصْنِي، وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي فَقَدْ أَمِنَ مِنْ عَذَابِي» ". وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَا أَحْسَنَ مَوْقِعَهَا، فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِذَا دَعَا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، فَقَدْ أَدْخَلَ نَفْسَهُ حَرَمًا آمِنًا، فَلَا يَسْتَقِيمُ لِلذَّنْبِ أَنْ يَحِلَّ وَيَهْتِكَ حُرْمَةَ اللَّهِ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ حَرَمِ التَّوْحِيدِ أَدْرَكَهُ الشِّرْكُ لَا مَحَالَةَ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِذَنْبٍ يُذْنَبُ أَنْ يُدْرِكَ

الْقَائِلَ وَيُحِيطَ بِهِ وَيَسْتَأْصِلَهُ، سِوَى الشِّرْكِ، (" وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ عَمَلًا، إِلَّا رَجُلًا يَفْضُلُهُ، يَقُولُ ") : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يَفْضُلُهُ وَقَوْلُهُ: (" أَفْضَلَ مِمَّا قَالَ ") : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَدْعُو بِهِ أَكْثَرَ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بِدُعَاءٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَكْثَرَ مِنْهُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

976 - وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ: " إِلَّا الشِّرْكَ " وَلَمْ يَذْكُرْ: " صَلَاةَ الْمَغْرِبِ "، وَلَا " بِيَدِهِ الْخَيْرُ "، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 976 - (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِثْلَهُ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ " إِلَّا الشِّرْكَ " وَلَمْ يَذْكُرْ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَلَا " بِيَدِهِ الْخَيْرُ "، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) . 977 -

- وَعَنْ عُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَأَسْرَعُوا الرَّجْعَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا لَمْ يَخْرُجْ: مَا رَأَيْنَا بَعْثًا أَسْرَعَ رَجْعَةً، وَلَا أَفْضَلَ غَنِيمَةً مِنْ هَذَا الْبَعْثِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى قَوْمٍ أَفْضَلَ غَنِيمَةً، وَأَفْضَلَ رَجْعَةً؟ قَوْمًا شَهِدُوا صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأُولَئِكَ أَسْرَعُ رَجْعَةً، وَأَفْضَلُ غَنِيمَةً» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الرَّاوِي ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 977 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ) ، أَيْ: أَرْسَلَ (بَعْثًا) ، أَيْ: جَمَاعَةً، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَعْثُ بِمَعْنَى السَّرِيَّةِ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ، (قِبَلَ نَجْدٍ) ، أَيْ: إِلَى جِهَتِهِ (فَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَأَسْرَعُوا الرَّجْعَةَ) ، أَيِ: الرُّجُوعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِلَى أَوْطَانِهِمُ. انْتَهَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا لَا يَخْفَى، (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا) ، أَيْ: مِنَ الْمُجَاوِرِينَ بِطَرِيقِ الْغِبْطَةِ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مَعْشَرِ الصَّحَابَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ الْكُلَّ صَحَابَةٌ (لَمْ يَخْرُجْ) : صِفَةُ رَجُلٍ (مَا رَأَيْنَا بَعْثًا أَسْرَعَ رَجْعَةً، وَلَا أَفْضَلَ) ، أَيْ: أَكْثَرَ أَوْ أَنْفَسَ (غَنِيمَةً مِنْ هَذَا الْبَعْثِ) : وَلَا لِلتَّأْكِيدِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مُزَهِّدًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُرَغِّبًا لَهُمْ فِي الْعُقْبَى، مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ عِنْدَ الْمَوْلَى (" أَلَا أَدُلُّكُمْ ") : وَفِي بَعْضِ الْأُصُولِ: " هَلْ أَدُلُّكُمْ "، (" عَلَى قَوْمٍ أَفْضَلَ غَنِيمَةً ") ، أَيْ: لِبَقَاءِ هَذِهِ وَدَوَامِهَا وَفَنَاءِ تِلْكَ وَسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا (" وَأَفْضَلَ رَجْعَةً ") : لِأَنَّ أُولَئِكَ رَجَعُوا بِحِيَازَةِ دَارِ الْمَتَاعِبِ وَالْمِحَنِ وَالْمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ، وَهَؤُلَاءِ يَرْجِعُونَ بِحِيَازَةِ دَارِ الثَّوَابِ وَالرَّاحَةِ وَذَهَابِ الْحُزْنِ (" قَوْمًا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أَعْنِي أَوْ أَذْكُرُ قَوْمًا عَلَى الْمَدْحِ (" شَهِدُوا صَلَاةَ الصُّبْحِ ") : يُحْتَمَلُ حَضَرُوا جَمَاعَتَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَدْرَكُوا وَقْتَ أَدَائِهَا (" ثُمَّ جَلَسُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ (" فَأُولَئِكَ أَسْرَعُ رَجْعَةً ") ، أَيْ: إِلَى أَهْلِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ لِانْتِهَاءِ عَمَلِهِمُ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بَعْدَ مُضِيِّ نَحْوِ سَاعَةٍ زَمَانِيَّةٍ، وَأَهْلُ الْجِهَادِ لَا يَنْتَهِي عَمَلُهُمْ غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: " وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْتُهُ يَتَبَيَّنُ بُعْدُ قَوْلِ الشَّارِحِ سَمَّى الْفَرَاغَ رَجْعَةً عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، وَيَكُونُ اسْتِعَارَةً؛ شَبَّهَ الْمُصَلِّيَ الذَّاكِرَ أَوْ فَرَاغَهُ بِالْمُسَافِرِ الَّذِي رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، كَمَا قِيلَ: " «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» " اهـ. وَوَجْهُ بُعْدِهِ أَنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ لَمْ يَحْسُنْ إِخْرَاجُهُ عَنْهَا إِلَى مَجَازِهِ، سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِيهِ تَكَلُّفٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ لِذَلِكَ، قُلْتُ: يَكْفِيهِ الدَّاعِي وَالْبَاعِثُ لِهَذَا الْمَجَازِ أَنْ يَصِحَّ عُمُومُ الْمُصَلِّي فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، فَتَدَبَّرْ (" وَأَفْضَلَ غَنِيمَةً ") ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : يَحْتَمِلُ مَتْنًا وَإِسْنَادًا (وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الرَّاوِي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ، فَرَّعَ هَذَا مَعَ عِلْمِهِ مِمَّا سَبَقَ لِمَزِيدِ الْإِيضَاحِ وَالْبَيَانِ (هُوَ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ) ، أَيْ: فِي عُرْفِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، أَوْ ضَعِيفٌ فِي حَدِيثِهِ لِنَحْوِ سُوءِ حِفْظِهِ، أَوِ اخْتِلَاطِهِ لَا فِي دِينِهِ.

[باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه]

[بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ]

بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 978 - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: " إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ "، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: " فَلَا تَأْتِهِمْ "، قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: " ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ "، قَالَ: قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قَالَ: " كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَوْلُهُ: لَكِنِّي سَكَتُّ، هَكَذَا وُجِدَتْ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَكِتَابِ " الْحُمَيْدِيِّ، وَصُحِّحَ فِي " جَامِعِ الْأُصُولِ " بِلَفْظَةِ: كَذَا، فَوْقَ: لَكِنِّي. ـــــــــــــــــــــــــــــ [19] بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ. وَهُوَ يَعُمُّ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ وَغَيْرَهَا، (وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ) ، أَيْ: مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 978 - (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ) : هُوَ مِنْ أَبِي سُلَيْمٍ، كَانَ يَسْكُنُ فِيهِمْ وَنَزَلَ الْمَدِينَةَ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْمَفَاتِيحِ قِيلَ: " لَا يَرْوِي غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ "، (قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِذْ عَطَسَ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ وَضَبَطَهُ السُّيُوطِيُّ بِكَسْرِهَا فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: إِذَا عَطَسَ (رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ) ، أَيْ: وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ (يَرْحَمُكَ اللَّهُ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا قَالَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ خَاطَبَهُ، وَلَوْ قَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ فَلَا، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَوْ قَالَ لِنَفْسِهِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ لَا تَفْسُدُ كَقَوْلِهِ: يَرْحَمُنِي اللَّهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلَهُمَا هَذَا الْحَدِيثُ اهـ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي يَرُدُّ عَلَى أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا (فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ) : أَيْ أَسْرَعُوا فِي الِالْتِفَاتِ إِلَيَّ وَنُفُوذِ الْبَصَرِ فِيَّ، اسْتُعِيرَتْ مِنْ رَمْيِ السَّهْمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَعْنَى أَشَارُوا إِلَيَّ بِأَعْيُنِهِمْ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ، وَنَظَرُوا إِلَيَّ نَظَرَ زَجْرٍ كَيْلَا أَتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ (فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالثُّكْلُ بِضَمٍّ وَسُكُونٍ وَبِفَتْحِهِمَا فِقْدَانُ الْمَرْأَةِ وَلَدَهَا، وَالْمَعْنَى وَافَقْدَهَا لِي فَإِنِّي هَلَكْتُ (مَا شَأْنُكُمْ) : بِالْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ، أَيْ: مَا حَالُكُمْ وَأَمْرُكُمْ (تَنْظُرُونَ إِلَيَّ) : نَظَرَ الْغَضَبِ (فَجَعَلُوا) ، أَيْ: شَرَعُوا (يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ) ، أَيْ: زِيَادَةً فِي الْإِنْكَارِ عَلَيَّ (عَلَى أَفْخَاذِهِمْ) : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْقَلِيلَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، (فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ) ، أَيْ: عَلِمْتُهُمْ (يُصَمِّتُونَنِي) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: يُسَكِّتُونِي غَضِبْتُ وَتَغَيَّرْتُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ يَأْمُرُونِي بِالصَّمْتِ عَجِبْتُ لِجَهْلِي بِقُبْحِ مَا ارْتَكَبْتُ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيَّ (لَكِنِّي سَكَتُّ) ، أَيْ: سَكَتُّ وَلَمْ أَعْمَلْ بِمُقْتَضَى الْغَضَبِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ سَكَتُّ امْتِثَالًا لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنِّي، وَلَمْ أَعْمَلْ بِمُقْتَضَى غَضَبِي، وَلَمْ أَسْأَلْ عَنِ السَّبَبِ، (فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : جَوَابُهُ قَالَ: " إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ " وَقَوْلُهُ: فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي إِلَى قَوْلِهِ قَالَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ لَمَّا وَجَوَابِهِ، وَالْفَاءُ فِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23] فَإِنَّهُ عَطَفَ " وَجَعَلْنَاهُ " عَلَى " آتَيْنَا "، وَأَوْقَعَهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: وَاعْتُرِضَ بَيْنَهُمَا بِمَا فِيهِ غَايَةُ الِالْتِئَامِ وَالْمُنَاسَبَةُ لَهُمَا، وَفِي كَوْنِ الْآيَةِ نَظِيرًا لِلْحَدِيثِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ جَوَابُ قَوْلِهِ: فَلَمَّا صَلَّى مَحْذُوفٌ وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ (- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي - مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ) ، أَيِ: اشْتَغَلَ بِتَعْلِيمِي بِالرِّفْقِ وَحَسَنِ الْكَلَامِ. تَمَّ كَلَامُهُ، وَضَمِيرُهُ هُوَ يَعُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: مُفَدًّى بِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: " فَلَمَّا صَلَّى دَعَانِي (" فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي) ، أَيْ: مَا قَهَرَنِي وَزَجَرَنِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَهْرُ وَالْقَهْرُ وَالنَّهْرُ أَخَوَاتٌ، وَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: كَهَرَهُ إِذَا زَبَرَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ (وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي) : أَرَادَ نَفْيَ أَنْوَاعِ الزَّجْرِ وَالْعُنْفِ

وَإِثْبَاتَ كَمَالِ الْإِحْسَانِ وَاللُّطْفِ، (قَالَ) : جَوَابُ لَمَّا عَلَى مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَاسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِحُسْنِ التَّعْلِيمِ عَلَى مُخْتَارِ غَيْرِهِ (" إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ ") : إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ (" لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ") . قَالَ الْقَاضِي: أَضَافَ الْكَلَامَ إِلَى النَّاسِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الدُّعَاءُ وَالتَّسْبِيحُ وَالذِّكْرُ، فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَا خِطَابُ النَّاسِ وَإِفْهَامُهُمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فَسَبَّحَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ - لَا يَحْنَثُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ، لَا يَجُوزُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فِي الصَّلَاةِ، فَمَنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الْجَاهِلِ بِالْحُكْمِ لَا يُبْطِلُهَا إِذْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَزَادَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ: إِذَا تَكَلَّمَ عَامِدًا بِشَيْءٍ مِنْ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ مِثْلَ: إِنْ قَامَ الْإِمَامُ فِي مَحَلِّ الْقُعُودِ فَقَالَ: اقْعُدْ، أَوْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ السِّرِّ فَأَخْبَرَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ اهـ. وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لَنَا فِي أَنَّ الْكَلَامَ مُطْلَقًا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقَدْ أَجَابُوا بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْبُطْلَانِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ مَحْظُورٌ وَالْحَظْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِبْطَالَ، وَلِذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَإِنَّمَا عَلَّمَهُ أَحْكَامَ الصَّلَاةِ، قُلْنَا: إِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا بَيَّنَ الْحَظْرَ حَالَةَ الْعَمْدِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ حَظْرٌ يَرْتَفِعُ إِلَى الْإِفْسَادِ، وَمَا كَانَ مُفْسِدًا حَالَةَ الْعَمْدِ كَانَ كَذَلِكَ حَالَةَ السَّهْوِ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ شَرْعًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» "، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ رُفِعَ الْإِثْمُ فَلَا يُرَادُ غَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَانِهَا بِالْكَلَامِ الْعَمْدِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، وَاعْتُرِضَ الْإِجْمَاعُ بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ: مَنْ قَالَ وَقَدْ مُطِرُوا فِي الصَّلَاةِ: يَا هَذَا خَفِّفْ فَقَدْ مُطِرْنَا، لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ التَّخْفِيضَ حِينَئِذٍ مِنْ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، وَجَاءَ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ، «عَنْ زَيْدِ بْنِ الْأَرْقَمِ الْأَنْصَارِيِّ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ» ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ نَسْخَ الْكَلَامِ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فِي أَوَاخِرِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ إِنَّمَا نَزَلَتْ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ صَبِيًّا، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ رَدُّ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بِمَكَّةَ (" إِنَّمَا هِيَ ") ، أَيِ: الصَّلَاةُ (" التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ جُزْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ، قُلْنَا: " إِنَّمَا هِيَ ذَاتُ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ " اهـ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى كَوْنِ التَّحْرِيمَةِ شَرْطًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] فَإِنَّ الْعَطْفَ يُفِيدُ التَّغَايُرَ، (أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، أَيْ: مِثْلَ مَا قَالَهُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ) ، أَيْ: جَدِيدُهُ (بِجَاهِلِيَّةٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِعَهْدٍ، وَمَا قَبْلَ وُرُودِ

الشَّرْعِ يُسَمَّى جَاهِلِيَّةً لِكَثْرَةِ جَهَالَتِهِمْ، يَعْنِي انْتَقَلْتُ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ أَعْرِفْ بَعْدُ أَحْكَامِ الدِّينِ (وَقَدْ جَاءَنَا اللَّهُ) ، أَيْ: مَعْشَرَ الْإِسْلَامِ (بِالْإِسْلَامِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ، بَلْ شُرُوعٌ فِي ابْتِدَاءِ سُؤَالٍ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اهـ، وَالْأَظْهَرُ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ اعْتِذَارًا عَمَّا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْخَطَأِ، وَابْتِدَاءُ السُّؤَالِ قَوْلُهُ: (وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ) : بِضَمِّ الْكَافِ جَمْعُ كَاهِنٍ، وَهُوَ مَنْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الضَّمَائِرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَاهِنِ وَالْعَرَّافِ: أَنَّ الْكَاهِنَ يَتَعَاطَى الْأَخْبَارَ عَنِ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْعَرَّافَ يَتَعَاطَى مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ وَمَكَانَ الضَّالَّةِ وَنَحْوَهُمَا، وَمِنَ الْكَهَنَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ جِنِّيًّا يُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي إِدْرَاكَ الْغَيْبِ بِفَهْمٍ أُعْطِيَهُ وَأَمَارَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ، (قَالَ: " فَلَا تَأْتِهِمْ ") : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» "، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ، (قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ) : فِي النِّهَايَةِ: الطِّيَرَةُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَقَدْ تُسَكَّنُ، هِيَ التَّشَاؤُمُ بِالشَّيْءِ وَهِيَ مَصْدَرُ تَطَيَّرَ طِيَرَةً، كَمَا تَقُولُ: تَخَيَّرَ خِيَرَةً وَلَمْ يَجِئْ مِنَ الْمَصَادِرِ غَيْرُهُمَا هَكَذَا قِيلَ، وَأَصْلُ التَّطَيُّرِ التَّفَاؤُلُ بِالطَّيْرِ، وَاسْتُعْمِلَ لِكُلِّ مَا يُتَفَاءَلُ بِهِ وَيُتَشَاءَمُ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَطَيَّرُونَ بِالصَّيْدِ كَالطَّيْرِ وَالظَّبْيِ، فَيَتَيَمَّنُونَ بِالسَّوَانِحِ وَيَتَشَاءَمُونَ بِالْبَوَارِحِ، وَالْبَوَارِحُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ مِنَ الصَّيْدِ مَا مَرَّ مِنْ مَيَامِنِكَ إِلَى مَيَاسِرِكَ وَالسَّوَانِحُ ضِدُّهَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ مَقَاصِدِهِمْ وَيَمْنَعُهُمْ عَنِ السَّيْرِ إِلَى مَطَالِبِهِمْ فَنَفَاهُ الشَّرْعُ وَأَبْطَلَهُ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ حَيْثُ قَالَ: " «اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ،» " «اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ» (" قَالَ: " ذَاكَ ") ، أَيِ: التَّطَيُّرُ (بِشَيْءٍ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ ") : يَعْنِي: هَذَا وَهْمٌ يَنْشَأُ مِنْ نُفُوسِهِمْ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُسَوِّلُهُ الشَّيْطَانُ وَيُزَيِّنُهُ حَتَّى يَعْمَلُوا بِقَضِيَّتِهِ لِيَجُرَّهُمْ بِذَلِكَ إِلَى اعْتِقَادِ مُؤَثِّرٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، (" فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ ") ، أَيْ: لَا يَمْنَعُهُمُ التَّطَيُّرُ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا يَمْنَعَنَّهُمْ عَمَّا يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ، أَوْ مِنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ مَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الْوَهْمِ، فَالنَّهْيُ وَارِدٌ عَلَى مَا يَتَوَهَّمُونَهُ ظَاهِرًا وَهُمْ مَنْهِيُّونَ فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ مُزَاوَلَةِ مَا يُوقِعُهُمْ مِنَ

الْوَهْمِ فِي [الصَّدْرِ] ، (قَالَ) ، أَيْ: مُعَاوِيَةُ ( «قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قَالَ: كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ» ") ، أَيْ: فَيُعْرَفُ بِالْفِرَاسَةِ بِتَوَسُّطِ تِلْكَ الْخُطُوطِ، قِيلَ: هُوَ إِدْرِيسُ أَوْ دَانْيَالُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، (" فَمَنْ وَافَقَ ") : ضَمِيرُ الْفَاعِلِ رَاجِعٌ إِلَى " مِنْ "، أَيْ: فَمَنْ وَافَقَ فِيمَا يَخُطُّهُ (" خَطَّهُ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَنَقَلَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ عَنِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّ الْمَشْهُورَ خَطَّهُ بِالنَّصْبِ، فَيَكُونُ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا وَرُوِيَ مَرْفُوعًا، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا اهـ. أَيْ: مَنْ وَافَقَ خَطُّهُ خَطَّهُ أَيْ خَطَّ ذَلِكَ النَّبِيِّ فِي الصُّورَةِ وَالْحَالَةِ، وَهِيَ قُوَّةُ الْخَاطِّ فِي الْفِرَاسَةِ وَكَمَالُهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ فِي الصُّورَةِ وَقُوَّةِ الْفِرَاسَةِ الَّتِي هِيَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُلْقِيهِ اللَّهُ فِيهِ حَتَّى يَنْكَشِفَ بَعْضُ الْمُغَيَّبَاتِ عِيَانًا، وَإِنَّمَا نَشَأَ ذَلِكَ عَنِ التَّحَلِّي بِكَمَالِ مَرْتَبَتَيِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " «إِنَّ فِي أُمَّتِي مُلْهَمُونَ» " وَقَوْلُهُ: " «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» "، (" فَذَاكَ ") ، أَيْ: فَذَاكَ مُصِيبٌ أَوْ يُصِيبُ أَوْ يَعْرِفُ الْحَالَ بِالْفِرَاسَةِ كَذَاكَ النَّبِيِّ، وَهُوَ كَالتَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ، قَالَ الْخَطَّابُ: إِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ " عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ، وَمَعْنَاهُ لَا يُوَافِقُ خَطُّ أَحَدٍ خَطَّ ذَلِكَ النَّبِيِّ ; لِأَنَّ خَطَّهُ كَانَ مُعْجِزَةً، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا صَادَفُوا خَطَّ ذَلِكَ النَّبِيِّ حَتَّى يُعْرَفَ الْمُوَافَقَةُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِأَنَّ خَطَّهُ كَانَ عَلَمًا لِنُبُوَّتِهِ، وَقَدِ انْقَضَتْ وَالشَّيْءُ إِذَا عُلِّقَ بِأَمْرٍ مُمْتَنِعٍ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْخَطِّ لِنِسْبَتِهِ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ الْوَهْمُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ فُرُوعُ الْأَحْكَامِ مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمُحَرِّمُونَ لِعِلْمِ الرَّمْلِ - وَهُمْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ -: لَا يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِذْنَ فِيهِ عَلَى مُوَافَقَةِ خَطِّ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وَمُوَافَقَتُهُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، إِذْ لَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ تَوَاتُرٍ أَوْ نَصٍّ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْأَشْكَالَ الَّتِي لِأَهْلِ عِلْمِ الرَّمْلِ كَانَتْ لِذَلِكَ النَّبِيِّ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَاتَّضَحَ تَحْرِيمُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَطُّ مَا يَخُطُّهُ الْحَازِي، وَهُوَ عِلْمٌ قَدْ تَرَكَهُ النَّاسُ يَعْنِي لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ يَأْتِي صَاحِبُ الْحَاجَةِ الْحَازِيَ فَيُعْطِيهِ حَلْوَانًا أَوْ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ، وَبَيْنَ يَدَيِ الْحَازِي غُلَامٌ مَعَهُ مَيْلٌ، فَيَأْتِي إِلَى أَرْضٍ رَخْوَةٍ أَوْ خَشَبٍ فَيَخُطُّ خُطُوطًا بِالْعَجَلَةِ كَيْلَا يَلْحَقَهَا الْعَدَدُ، ثُمَّ يَمْحُو مِنْهَا خَطَّيْنِ خَطَّيْنِ عَلَى مُهْلَةٍ، فَإِنْ بَقِيَ خَطَّانِ فَهُوَ عَلَّامَةُ النَّجْحِ، وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ فَهُوَ عَلَّامَةُ الْخَيْبَةِ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، الْمُشَارُ إِلَيْهِ عِلْمٌ مَعْرُوفٌ، وَلِلنَّاسِ فِيهِ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ إِلَى الْآنِ، وَلَهُمْ فِيهِ أَوْضَاعٌ وَعَلَامَاتٌ وَاصْطِلَاحَاتٌ وَأَسْهَامٌ وَأَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ، وَيَسْتَخْرِجُونَ بِهِ الضَّمِيرَ وَغَيْرَهُ، وَكَثِيرًا مَا يُصِيبُونَ فِيهِ أَيْ بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مَا يُخْطِئُونَ فِيهِ، بَلِ الْخَطَأُ أَكْثَرُ ; لِأَنَّ كَذِبَهُمْ أَظْهَرُ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْحَازِي بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ الَّذِي يَحْزِرُ الْأَشْيَاءَ وَيُقَدِّرُهَا بِظَنِّهِ، وَيُقَالُ لِلْمُنَجِّمِ: الْحَازِي لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ وَأَحْكَامِهَا بِظَنِّهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَالْحَازِي أَيْضًا الْكَاهِنُ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، (قَوْلُهُ: لَكِنِّي سَكَتُّ، هَكَذَا وُجِدَتْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَصُحِّحَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ بِلَفْظَةِ: كَذَا، فَوْقَ: لَكِنِّي) ، أَيْ: كَذَا فِي الرِّوَايَةِ لَفْظُ لَكِنِّي مَسْطُورٌ دَفْعًا لِوَهْمِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بِمَذْكُورٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ " لَكِنِّي " ثَابِتٌ فِي الْأُصُولِ، لَكِنَّهُ سَاقِطٌ فِي الْمَصَابِيحِ.

979 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ، فَتَرُدُّ عَلَيْنَا، فَقَالَ: " إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 979 - ( «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا» "، أَيِ: السَّلَامَ بِاللَّفْظِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الرَّدِّ هُوَ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ قَبْلَ الرَّوَاحِ إِلَى النَّجَاشِيِّ، (فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَتُكْسَرُ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتُشَدَّدُ فِي الْقَامُوسِ: النَّجَاشِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفُهَا أَفْصَحُ وَبِكَسْرِ النُّونِ، وَقِيلَ: هُوَ أَفْصَحُ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْيَاءُ مُشَدَّدَةٌ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ تَخْفِيفُهَا اهـ. وَأَفَادَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ بِسُكُونِ الْيَاءِ يَعْنِي أَنَّهَا أَصْلِيَّةٌ لَا يَاءُ النِّسْبَةِ، وَحَكَى غَيْرُهُ تَشْدِيدَ الْيَاءِ أَيْضًا، وَحَكَى ابْنُ دِحْيَةَ كَسْرَ نُونِهِ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، لَقَبُ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، وَالَّذِي أَسْلَمَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ: أَصْحَمَةُ، آمَنَ وَمَاتَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَرُفِعَ نَعْشُهُ لَهُ حَتَّى عَلَيْهِ عِيَانًا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (سَلَّمْنَا عَلَيْهِ) ، أَيْ: وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ (فَلَمْ يَرُدَّ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا (عَلَيْنَا) ، أَيِ: السَّلَامَ فِيهَا، بَلْ بَعْدَ فَرَاغِهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَانَ هَاجَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَارِّينَ مِنْهَا لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ إِيذَاءِ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسَمِعَ أُولَئِكَ بِمُهَاجَرَتِهِ هَاجَرُوا مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَجَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، (فَقُلْنَا) ، أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا، فَقَالَ: " إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» ") : بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَبِضَمِّهِمَا، أَيْ: مَانِعًا مِنَ السَّلَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ يَحْتَمِلُ التَّنْوِيعَ يَعْنِي: إِنَّ شُغْلَ الصَّلَاةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ لَا الْكَلَامُ، وَيُحْتَمَلُ التَّعْظِيمُ، أَيْ: شُغْلًا أَيَّ شُغْلٍ لِأَنَّهَا مُنَاجَاةٌ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاسْتِغْرَاقٌ فِي خِدْمَتِهِ فَلَا تَصْلُحُ لِلِاشْتِغَالِ بِالْغَيْرِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: كَانَ الْكَلَامُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ جَائِزًا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ حُرِّمَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ بِلِسَانِهِ، وَلَوْ رَدَّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ أَوْ إِصْبَعِهِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشَارَ بِيَدِهِ كَمَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَمَّا خَبَرُ: " «مَنْ أَشَارَ فِي صَلَاتِهِ إِشَارَةً تُفْهَمُ عَنْهُ فَلْيُعِدْ صَلَاتَهُ» "، فَفِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ، فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: لَوْ رَدَّ السَّلَامَ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ أَوْ طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ أَيْ قَالَ: نَعَمْ أَوْ لَا - لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: رَدُّ السَّلَامِ بَعْدَ الْخُرُوجِ سُنَّةٌ، وَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ؟ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

980 - «وَعَنْ مُعَيْقِيبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 980 - (وَعَنْ مُعَيْقِيبٍ) : ابْنِ أَبِي فَاطِمَةَ، دُوسِيٌّ، مَوْلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الرَّجُلِ) ، أَيْ: فِي شَأْنِ الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ (يُسَوِّي التُّرَابَ) ، أَيْ: فِي الصَّلَاةِ (حَيْثُ يَسْجُدُ؟) ، أَيْ: فِي مَكَانِ سُجُودِهِ أَوْ لِأَجْلِ سُجُودِهِ عَلَيْهِ (قَالَ) ، أَيْ: أَنَّهُ قَالَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَوْ جَوَابِهِ، وَلَفْظُ قَالَ مَوْجُودٌ فِي أُصُولِ الْمِشْكَاةِ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْ نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ، وَلِذَا قَالَ وَمَقُولُ قَالَ الَّذِي قَدَّرْتُهُ هُوَ قَوْلُهُ: (" إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا ") ، أَيْ: لِذَلِكَ وَلَا بُدَّ (" فَوَاحِدَةً ") : بِالنَّصْبِ، أَيْ: فَافْعَلْ فَعْلَةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا أَزْيَدَ مِنْهَا، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فَالْجَائِزُ وَاحِدَةٌ، أَوْ فَيَجُوزُ وَاحِدَةٌ أَوْ فَمَرَّةٌ وَاحِدَةٌ تَكْفِي أَوْ تَجُوزُ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَلِّصَ الْحَصَى إِلَّا أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ الْحَصَى مِنَ السُّجُودِ بِأَنِ اخْتَلَفَ ارْتِفَاعُهُ وَانْخِفَاضُهُ كَثِيرًا، فَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ قَدْرَ الْفَرْضِ مِنَ الْجَبْهَةِ فَيُسَوِّيهِ حِينَئِذٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ; لِأَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، فِي رِوَايَةٍ " تُسَوِّيهِ مَرَّةً "، وَفِي رِوَايَةٍ تُسَوِّيهِ مَرَّتَيْنِ، وَفِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يُسَوِّيهِ مَرَّةً وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا تَمْسَحِ الْحَصَى وَأَنْتَ تُصَلِّي فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً تَسْوِيَةً لِلْحَصَى» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يُسَوِّ الْحَصَى فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ» "، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

981 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 981 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ) : قِيلَ: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ عَصًا تُسَمَّى الْمُخَصِّرَةَ يَتَّكِئُ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَكْرُوهٌ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ كَالِاتِّكَاءِ عَلَى حَائِطٍ، كَذَا فِي الْمُنْيَةِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ لَا يَقْرَأَ سُورَةً تَامَّةً وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ تَكْمِيلَ السُّورَةِ أَوْلَى، وَلَا يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا، وَقِيلَ: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الِاخْتِصَارِ، وَقَالَ: " «الِاخْتِصَارُ رَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ» " قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: فُسِّرَ الْخَصْرُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ، وَهُوَ صُنْعُ الْيَهُودِ، وَالْخَصْرُ لَمْ يُفَسَّرْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي شَيْءٍ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَمْ أَطَّلِعْ عَلَيْهِ إِلَى الْآنِ، وَالْحَدِيثُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ظَنَّ أَنَّ الْخَصْرَ يَرِدُ بِمَعْنَى الِاخْتِصَارِ وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ: «قَدْ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا» " وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: نَهَى عَنِ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الِاخْتِصَارُ لَا الْخَصْرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَدُّهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَئِمَّةِ الْمُحَدِّثِينَ بِقَوْلِهِ: لَمْ يُفَسَّرِ الْخَصْرُ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ " - لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ ارْتِكَابَ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى السَّمَاعِ، بَلْ عَلَى الْعَلَاقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخَصْرَ: وَسَطُ الْإِنْسَانِ، وَالنَّهْيُ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَمَّا اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنَ الْكِنَايَةِ، فَإِنَّ نَفْيَ الذَّاتِ أَقْوَى مِنْ نَفْيِ الصِّفَةِ ابْتِدَاءً، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مَلْعُونًا نَزَلَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مِنْ أَفْرَادِهِ عَنْ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، قُلْتُ: لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مُوَافِقَةً لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَعْنًى كَمَا تَقَدَّمَ صَحَّ إِسْنَادُ الْحَدِيثِ إِلَيْهِمَا، وَأَشَارَ مِيرَكُ إِلَيْهِ بِالْأَوْلَى.

982 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: " هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 982 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ) ، أَيْ: بِطَرَفِ الْوَجْهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا الِالْتِفَاتُ بِطَرَفِ الْعَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَأَمَّا إِذَا الْتَفَتَ بِحَيْثُ تَحَوَّلَ صَدْرُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقِيلَ: مَنِ الْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا ذَهَبَ عَنْهُ الْخُشُوعُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ كَمَالُ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَوْ صِحَّتُهَا عِنْدَ بَعْضٍ، وَفِي خَبَرٍ: " «لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» "، (فَقَالَ: " هُوَ ") ، أَيِ: الِالْتِفَاتُ (" اخْتِلَاسٌ ") : افْتِعَالٌ مِنَ الْخَلْسِ وَهُوَ السَّلْبُ، أَيِ: اسْتِلَابٌ وَأَخْذٌ بِسُرْعَةٍ وَقِيلَ: شَيْءٌ يُخْتَلَسُ بِهِ (" يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ ") ، أَيْ: يَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ (" مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ ") ، أَيْ: يَخْتَلِسُهُ مِنْ كَمَالِ صَلَاةِ الْعَبْدِ، أَوْ لِأَجْلِ نُقْصَانِ صَلَاتِهِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: مَنِ الْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَمْ يُحَوِّلْ صَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْلُبُ كَمَالَ صَلَاتِهِ وَإِنْ حَوَّلَهُ بَطَلَتْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَنَصَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، " «لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» "، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ مُوَاجَهَةِ الرَّحْمَةِ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ إِنْ تَعَمَّدَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِالْخَبَرِ، وَقَدْ جَاءَ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اشْتَكَى وَصَلَّوْا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَرَآهُمْ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ» .، الْحَدِيثَ، وَصَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ يَلْتَفِتُ وَهُوَ يُصَلِّي الصُّبْحَ إِلَى الشِّعْبِ لِإِرْسَالِهِ فَارِسًا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْحَرَسِ، وَلَا بَأْسَ بِلَمْحِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، نَعَمِ الْأَوْلَى تَرْكُ ذَلِكَ وَفِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

983 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 983 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ ") : اللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَقِيلَ: لِلتَّأْكِيدِ وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ (" عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ ") ، أَيْ: خُصُوصًا وَقْتَ الدُّعَاءِ لِإِيهَامِ أَنَّ الْمَدْعُوَّ فِي الْجِهَةِ الْعُلْيَا مَعَ تَعَالِيهِ عَنِ الْجِهَاتِ كُلِّهَا، وَإِلَّا فَرَفْعُ الْأَبْصَارِ مُطْلَقًا فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، (" أَوْ لَتُخْطَفَنَّ ") :

أَيْ: لَتُسْلَبَنَّ (" أَبْصَارُهُمْ ") : إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ، قِيلَ: أَوْ " لَتُخْطَفَنَّ " عُطِفَ عَلَى " لَيَنْتَهِيَنَّ " تَرَدَّدَ بَيْنَ الِانْتِهَاءِ عَنِ الرَّفْعِ وَمَا هُوَ كَاللَّازِمِ لِنَقِيضِهِ، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهِ لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنِ الرَّفْعِ أَوْ لَتُسْلَبَنَّ أَبْصَارُهُمْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ نِسْبَةَ الْعُلُوِّ الْمَكَانِيِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ هُنَا لِلتَّخْيِيرِ قَدِيدًا، أَيْ: لَيَكُونَنَّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] ، أَيْ: يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، إِمَّا الْمُقَاتَلَةُ أَوِ الْإِسْلَامُ، وَإِمَّا إِخْرَاجُكُمْ وَإِمَّا عَوْدَتُكُمْ فِي الْكُفْرِ، فَهُوَ خَبَرٌ. بِمَعْنَى الْأَمْرِ فِي هَذَيْنِ وَالْحَدِيثِ، قَالَ الْقَاضِيَ عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الدُّعَاءِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَكَرِهَهُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ وَآخَرُونِ، وَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ ; لِأَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ، كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةُ الصَّلَاةِ فَلَا يُنْكَرُ رَفْعُ الْبَصَرِ إِلَيْهَا، كَمَا لَا يُنْكَرُ رَفْعُ الْيَدِ فِي الدُّعَاءِ، قُلْتُ: فِيهِ أَنَّ رَفْعَ الْيَدِ فِي الدُّعَاءِ مَأْثُورٌ مَأْمُورٌ، وَرَفْعَ الْبَصَرِ فِيهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي آدَابِ الدُّعَاءِ فِي الْحِصْنِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى الْبُخَارِيُّ " «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ " فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: " لَيَنْتَهِيَنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» "، وَصَحَّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا نَزَلَ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] طَأْطَأَ رَأْسَهُ» .

984 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 984 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّ النَّاسَ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ ; لِأَنَّ رَأَيْتَ بِمَعْنَى النَّظَرِ لَا الْعِلْمِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، زَادَ فِي الْمَوَاهِبِ: فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، (وَأُمَامَةُ) : هِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ) : تَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ بَعْدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (عَلَى عَاتِقِهِ) : بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ (فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا) : بِأَنْ يَحُطَّهَا بِعَمَلٍ قَلِيلٍ، أَوْ يُرْسِلَهَا إِلَى الْأَرْضِ (وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُرْوَى رَفَعَهَا، وَصَنِيعُ ابْنُ حَجَرٍ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْمِشْكَاةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِسْنَادُ الْإِعَادَةِ وَالرَّفْعِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَازٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ لِحَمْلِهَا لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، لَكِنَّهَا لِطُولِ مَا أَلِفَتْهُ بِهِ عَلَى عَادَتِهَا تَتَعَلَّقُ بِهِ وَتَجْلِسُ عَلَى عَاتِقِهِ وَهُوَ لَا يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ. قُلْتُ: فِيهِ أَنَّهُ لَوْ شَغَلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ لَدَفَعَهَا عَنْ ذَاتِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ وَقَعَ قَبْلَ وُرُودِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» " أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُنْيَةِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَمْسَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ. قُلْتُ: فِيهِ أَنَّ اللَّمْسَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ مَعَ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ غَيْرُ مُشْتَهَاةٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: وَهُوَ عَجِيبٌ مَعَ جَعْلِهَا طِفْلَةً، بَلْ لَوْ خَرَجَتْ عَنْ حَدِّ الطُّفُولِيَّةِ وَلَمْ تَبْلُغْ حَدًّا تُشْتَهَى فِيهِ لِذَوِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ لَا تُنْقَضُ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً، هَذَا وَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِفُ مِنْ عَادَتِهَا وَلَوْ ظَنًّا وَقْتَ تَبَرُّزِهَا وَامْتِدَادِ عَادَتِهَا بَعْدَهُ بِقَدْرِ مَا يَسَعُ دُخُولَهَا الْمَسْجِدَ إِلَى خُرُوجِهَا مِنْهُ قَالَ: وَعَلَى أَنَّ ثِيَابَ الْأَطْفَالِ وَأَبْدَانَهُمْ مَحْمُولَةٌ عَلَى الطَّهَارَةِ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهَا نَجَاسَةٌ، وَعَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَعَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَعَدِّدَةَ إِذَا تَفَاصَلَتْ لَمْ تُبْطِلِ الصَّلَاةَ، قَالَ الْبَغْوِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي الْفَاصِلِ بَيْنَ كُلٍّ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَدْرَ رَكْعَةٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَعِيفٌ غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ مَا يُعَدُّ انْفِصَالًا عُرْفًا، وَعِنْدَنَا الْفَصْلُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدَّى فِيهِ رُكْنٌ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ: " يَؤُمُّ النَّاسَ ".

985 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 985 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ [الْخُدْرِيِّ] ) : أَيِ: الْخُدْرِيِّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا تَثَاءَبَ ") : بِالْهَمْزِ، وَقِيلَ بِالْوَاوِ، وَنُسِبَ إِلَى الْغَلَطِ (" أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ ") ، أَيْ: فَتَحَ فَاهُ لِكَسَلٍ أَوْ فَتَرٍ أَوِ امْتِلَاءٍ أَوْ غَلَبَةِ نَوْمٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِلْكَسَلِ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْحُضُورِ فِيهَا، (" فَلْيَكْظِمْ ") ، أَيْ: يُمْسِكْ وَيَمْنَعْ وَيَدْفَعْ ذَلِكَ، أَيِ: انْفِتَاحَ فَمِهِ (" مَا اسْتَطَاعَ ") : بِضَمِّ الشَّفَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ أَوْ كُمَّهُ عَلَى فِيهِ، كَمَا فِي الْمُنْيَةِ، (" فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ ") ، أَيْ: يَدْخُلُ فِي فِيهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَخَصَّ دُخُولَهُ فِي الْفَمِ ; لِأَنَّ الْفَمَ إِذَا انْفَتَحَ لِشَيْءٍ مَكْرُوهٍ فِي الشَّرْعِ صَارَ طَرِيقًا لِلشَّيْطَانِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: التَّثَاؤُبُ تَفَاعُلٌ مِنَ الثَّوْبَاءِ بِالْمَدِّ، وَهُوَ فَتْحُ الْحَيَوَانِ فَمَهُ لِمَا عَرَاهُ مَنْ تَمَطٍّ أَوْ تَمَدُّدٍ لِكَسَلٍ وَامْتِلَاءٍ، وَهِيَ جَالِبَةٌ لِلنَّوْمِ الَّذِي هُوَ مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ بِهِ يَدْخُلُ عَلَى الْمُصَلِّي وَيُخْرِجُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ سَبَبًا لِدُخُولِ الشَّيْطَانِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا هُوَ سَبَبُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ» " لِأَنَّ الْعُطَاسَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُنْبِئُ عَنْ ضِدِّ مَا أَنْبَأَ عَنْهُ التَّثَاؤُبُ مِنْ رِقَّةِ الْحِجَابِ وَالْقَلْبِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ خِفَّةِ الْبَدَنِ وَنَشَاطِهِ وَإِيثَارِهِ لِلْعِبَادَةِ عَلَى الْبَطَالَةِ، قُلْتُ: وَلِذَا يُسَنُّ الْحَمْدُ لِلَّهِ عِنْدَ حُصُولِهِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

986 - وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَقُلْ: هَا، فَإِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ يَضْحَكُ مِنْهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 986 - (وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ) : بِالْإِضَافَةِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ ") ، أَيْ: إِذَا أَحَسَّ بِهِ (" فَلْيَكْظِمْ ") ، أَيْ: فَمَهُ (" مَا اسْتَطَاعَ ") : بِالضَّمِّ أَوِ الْوَضْعِ (" وَلَا يَقُلْ: هَا ") : بَلْ يَدْفَعُهُ بِالْفِعْلِ (" فَإِنَّمَا ذَلِكُمْ ") ، أَيْ: قَوْلُكُمْ " هَا "، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَيِ التَّثَاؤُبُ، (" مِنَ الشَّيْطَانِ ") ، أَيْ: مِنْ حَمْلِهِ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ حَظِّهِ مِنْهُ (" يَضْحَكُ ") : أَيِ: الشَّيْطَانُ (" مِنْهُ ") ، أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، أَوْ مِنْ صَاحِبِهِ حَيْثُ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَرْضَى بِتِلْكَ الْفِعْلَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي " مِنْهُ " رَاجِعٌ إِلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِ " ذَا "، وَ " كَمْ " بَيَانٌ لِخِطَابِ الْجَمَاعَةِ وَلَيْسَ بِضَمِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَضْحَكُ حَالٌ اهـ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ بَيَانٍ.

987 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: " رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 987 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ عِفْرِيتًا ") : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، أَيْ: خَبِيثًا مُنْكَرًا مُبَالِغًا فِي الْمُرُودَةِ مَعَ دَهَاءٍ وَخُبْثٍ، فِعْلِيتٌ مِنَ الْعِفْرِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ الْخُبْثُ، (" مِنَ الْجِنِّ ") : إِيضَاحٌ، وَإِلَّا فَالْعِفْرِيتُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُمْ، وَهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ رُوحَانِيَّةٌ نَارِيَّةٌ، أَيْ: مَحْضَةٌ أَوِ الْغَالِبَةُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ قَوْلَانِ. وَيَجْرِيَانِ فِي الْمَلَائِكَةِ هَلْ هُمْ مُتَمَحِّضُونَ مِنَ النُّورِ، أَوْ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ؟ وَلِمَزِيدِ لَطَافَةِ الْجِسْمِيَّةِ أَمْكَنَهُمَا التَّشَكُّلُ فِي كُلِّ صُورَةٍ، لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْجِنِّ تَشَكُّلُهُمْ فِي الصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ قُبْحُ التَّمَرُّدِ وَالْعُنْفِ وَالْخُبْثِ، (" تَفَلَّتَ ") ، أَيْ: تَخَلَّصَ فَجْأَةً، وَقِيلَ: خَرَجَ فَلْتَةً أَيْ بَغْتَةً، وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى أُصُولِ الْمِشْكَاةِ لَفْظَ " عَلَيَّ " ثُمَّ قَالَ، أَيْ: مِنْ أَسْرِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي خَرَقَ اللَّهُ لَهُ بِهِ عَادَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ حَتَّى مَكَّنَهُ مِمَّا أَرَادَ بِهِمُ (" الْبَارِحَةَ ") : يَعْنِي: تَعَرَّضَ فِي صَلَاتِهِمُ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ (لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي) ، أَيْ: لِيَغْلِبَنِي فِي كَمَالِ صَلَاتِي، وَأَرَادَ أَنْ يَشْغَلَنِي بِالْوَسْوَسَةِ فِيهَا، (" فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ ") ، أَيْ: أَعْطَانِي مُكْنَةً مِنْ أَخْذِهِ وَقُدْرَةً عَلَيْهِ أَنْ أُعَاقِبَهُ بِمَا شِئْتُ يَعْنِي جَعَلَنِي غَالِبًا عَلَيْهِ بِإِمْكَانِهِ، وَإِقْدَارِهِ إِشَارَةً إِلَى مَعْنَى لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (فَأَخَذْتُهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى

أَنَّ الشَّيْطَانَ عَيْنَهُ غَيْرُ نَجِسٍ وَأَنَّ لَمْسَهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ لَا تَرَوْنَ صُوَرَهُمُ الْأَصْلِيَّةَ الَّتِي خَلَقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا لِمَزِيدِ لُطْفِهَا الْخَارِجِ عَنْ قُدْرَةِ أَبْصَارِنَا لِمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مِنْ كَثَافَةِ عُنْصُرِنَا الْغَالِبِ عَلَيْنَا، وَهُوَ التُّرَابُ (" فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ ") : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَامُوسِ، أَيْ: أَشُدُّهُ (" عَلَى سَارِيَةٍ ") ، أَيْ: أُسْطُوَانَةٍ (مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ") : الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ (" حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ ") : أَيْ: إِلَى الشَّيْطَانِ فِي حَالَةِ الْمَذَلَّةِ نَظَرَ عِبْرَةٍ، وَتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي مَا أَعْطَى سُلَيْمَانَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ قُوَّتُهُ عَلَى التَّشَكُّلِ الْمُقْتَضِيَةُ لِكَوْنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِهِ لِجَوَازِ أَنَّ اللَّهَ سَلَبَهُ تِلْكَ الْقُوَّةَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ سَلَبَهُ إِيَّاهَا لَمَّا أَمْسَكَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَ كَانَ حَارِسًا لِتَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ لِيَسْرِقَ مِنْهُ فَأَمْسَكَهُ فَاحْتَالَ فِي خَلَاصِهِ مِنْهُ بِتَعْلِيمِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَأَنَّهَا تَحْفَظُ قَارِئَهَا، فَظَنَّ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُحْتَاجٌ فَرَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَكَى ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ وَأَنَّهُ صَدَقَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذُوبًا، فَلَوْ قَدَرَ عَلَى الِانْفِلَاتِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِتَشَكُّلِهِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لَفَعَلَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ تَمَيُّزُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِهِ حَكَمَ فِي الْجِنِّ، بِمَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ أَتْبَاعُ سُلَيْمَانَ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حِينَ التَّشَكُّلِ بِأَصْلِ خِلْقَتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَلُّتِ بِخِلَافِ تَشَكُّلِهِ بِالْأَشْكَالِ الْعَارِضِيَّةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، (" كُلُّكُمْ ") ، أَيْ: صِغَارُكُمْ وَكِبَارُكُمْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِخُطُورِ مَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِهَا بِبَالِهِ، (" فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ ") ، أَيِ: الَّتِي اسْتَجَابَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ طَلَبًا لِأَنْ يُمَيَّزَ بِخُصُوصِيَّةٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا لِيَفْضُلَ جَمِيعَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ أَوْ غَيْرَةً عَلَى مِلْكِهِ، وَنُفُوذِ حُكْمِهِ فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَاءِ أَنْ يَنَالَهُ غَيْرُ نَبِيٍّ، (رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا) : فِي التَّنْزِيلِ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35] وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ نُقِلَ بِالْمَعْنَى {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] ، فَرَدَدْتُهُ ") ، أَيْ: دَفَعْتُهُ (" خَاسِئًا ") ، أَيْ: خَائِبًا خَاسِرًا مَهِينًا صَاغِرًا، مِنْ خَسَأْتُ الْكَلْبَ فَخَسَأَ، أَيْ: زَجَرْتُهُ مُسْتَهِينًا بِهِ فَانْزَجَرَ وَخَسَأَ: مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ مُبْعَدًا يُقَالُ: خَسَأْتُهُ فَخَسَأَ، أَوْ يَكُونُ الْخَاسِئُ، بِمَعْنَى الصَّاغِرِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: يُرِيدُ أَنْ لَوْ رَبَطَهُ لَمْ تُسْتَجَبْ دَعْوَتُهُ، وَالْأَظْهَرُ لَوْلَا اسْتِجَابَةُ دَعْوَتِهِ لَرَبَطَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قُلْتَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَذَكَّرَ دَعْوَةَ سُلَيْمَانَ بَعْدَ أَخْذِهِ، وَمِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي فِي آخِرِ الْبَابِ أَنَّهُ تَذَكَّرَ قَبْلَهُ فَيَتَنَافَيَانِ، قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ صَدَرَا فِي وَقْتَيْنِ، قُلْتُ: أَوْ يَكُونُ الْأَخْذُ الْآتِي بِمَعْنَى الْأَخْذِ لِلرَّبْطِ، فَإِنَّهُ الْمُنَافِي لِلدَّعْوَةِ فَلَا مُنَافَاةَ، وَإِنْ قُلْنَا بِوَحْدَةِ الْقَضِيَّةِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

988 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: " «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 988 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نَابَهُ ") ، أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: النَّوْبُ رُجُوعُ الشَّيْءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَنَابَتْهُ نَائِبَةٌ أَيْ حَادِثَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنُوبَ دَائِمًا، ثُمَّ كَثُرَتْ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ إِصَابَةٍ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ، أَيْ: مَنْ أَصَابَهُ (" شَيْءٌ ") ، أَيْ: أَمْرٌ بِأَنْ يَدْعُوَهُ أَحَدٌ أَوْ يَسْتَأْذِنَهُ (" فِي صَلَاتِهِ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: " فِي الصَّلَاةِ "، أَيْ: وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، (" فَلْيُسَبِّحْ ") ، أَيْ: فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ يَعْنِي فَلَا يُصَفِّقْ (" فَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ ") : وَهُوَ ضَرْبُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى (" لِلنِّسَاءِ ") : لِأَنَّ صَوْتَهُنَّ عَوْرَةٌ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَا لِلرِّجَالِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ غَلَبَ فِي النِّسَاءِ صَارَ لَا يَلِيقُ بِشَهَامَةِ الرِّجَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتَفَتَ إِلَيْهِ، وَفِي أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: " فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ "، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَالْمَرْأَةُ تَضْرِبُ فِي الصَّلَاةِ إِنْ أَصَابَهَا شَيْءٌ بَطْنَ كَفِّهَا الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهَا الْيُسْرَى، (وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: " «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» ") : قَالَ فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ: التَّصْفِيقُ فِي الْحَدِيثِ مَأْخُوذٌ مِنْ صَفَّقَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، لَا بِبُطُونِهِمَا، وَلَكِنْ بِظُهُورِ أَصَابِعِ الْيُمْنَى عَلَى الرَّاحَةِ مِنَ الْيَدِ الْيُسْرَى، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي. 989 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، قَبْلَ أَنْ نَأْتِيَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ.» ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 989 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: «كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ وَنَأْمُرُ بِالْحَاجَةِ» ، (قَبْلَ أَنْ نَأْتِيَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ) ، أَيْ: نُهَاجِرَ إِلَيْهَا مِنْ مَكَّةَ (فَيَرُدُّ عَلَيْهَا) ، أَيِ: السَّلَامَ، (فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ) ، أَيْ: إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْهِجْرَةُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ وَتَفْصِيلُهُمَا فِي كُتُبِ السِّيَرِ، (أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي) : نَفْلًا أَوْ فَرْضًا (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ) : اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ مِنْ حِلَّ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ (فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ) ، أَيْ: أَدَّاهَا وَكَمَّلَهَا (قَالَ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ، قَالَ: " لَا "، (" إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ ") ، أَيْ: يُظْهِرُ (" مِنْ أَمْرِهِ ") ، أَيْ: شَأْنِهِ أَوْ أَمْرِهِ (مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ ") ، أَيْ: حَدَّدَ مِنَ الْأَحْكَامِ بِأَنْ نَسَخَ حِلَّ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ نَاهِيًا عَنْهُ (" أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ ") : وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ الْأَحْدَاثِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَهَا (فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَدِّ جَوَابِ السَّلَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ.

990 - وَقَالَ: " «إِنَّمَا الصَّلَاةُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ، فَإِذَا كُنْتَ فِيهَا. فَلْيَكُنْ ذَلِكَ شَأْنَكَ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 990 - (وَقَالَ: " إِنَّمَا الصَّلَاةُ ") ، أَيْ: مَوْضُوعَةٌ (" لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ ") ، أَيِ: الشَّامِلِ لِلدُّعَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَرَفْعِ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ " «إِنَّمَا الصَّلَاةُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَذِكْرُ اللَّهِ» "، (" فَإِذَا كُنْتَ فِيهَا ") :

أَيْ: فِي الصَّلَاةِ (" فَلْيَكُنْ ذَلِكَ ") : إِشَارَةً إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَذِكْرِ اللَّهِ، وَهُوَ اسْمٌ فَلْيَكُنْ وَخَبَرُهُ (" شَأْنَكَ ") : بِالنَّصْبِ، أَيْ: حَالَكَ الْمُهِمَّ لَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّمِ وَغَيْرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّأْنُ الْحَالُ وَالْأَمْرُ وَالْخَطْبُ وَالْجَمْعُ شُئُونٌ، وَلَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا يُعَظَّمُ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأُمُورِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالنَّسَائِيُّ وَسَنَدُهُمَا صَحِيحٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ لَمْ يُخَرِّجْ قَوْلَهُ: " «إِنَّمَا الصَّلَاةُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» .، " إِلَخْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، بَلْ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَالَّذِي أَوْقَعَ صَاحِبَ الْمِشْكَاةِ فِي هَذَا الْخَبْطِ إِيرَادُ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ بَعْدَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ وَقَالَ: إِنَّمَا الصَّلَاةُ، إِلَخْ، فَطِنَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: فَرَدَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَمَقْصُودُ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ إِيرَادُ حَدِيثٍ آخَرَ كَعَادَتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

991 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قُلْتُ لِبِلَالٍ: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: كَانَ يُشِيرُ بِيَدِهِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ نَحْوُهُ، وَعِوَضُ: بِلَالٍ صُهَيْبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 991 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قُلْتُ لِبِلَالٍ: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ) ، أَيْ: عَلَى الصَّحَابَةِ (حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ قَبْلَ نَسْخِ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ، وَيَبْعُدُ (وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: كَانَ يُشِيرُ بِيَدِهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَذَا لَوْ أَشَارَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ جَازَ، وَفِي الظَّهِيرَةِ: لَوْ أَشَارَ إِلَى رَدِّ السَّلَامِ بِرَأْسِهِ أَوْ يَدِهِ أَوْ إِصْبَعِهِ لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ، وَفِي الْخُلَاصَةِ: إِنَّ فِي الرَّدِّ بِالرَّأْسِ أَوِ الْيَدِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَذَا نَقَلَهُ الْبَرْجَنْدِيُّ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: يُكْرَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمُصَلِّي السَّلَامَ بِالْإِشَارَةِ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَبْلَ نَسْخِ الْكَلَامِ فَإِنَّ الْإِشَارَةَ فِي مَعْنَاهُ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، (وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ نَحْوَهُ) ، أَيْ: يَعْنِي حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ (وَعِوَضُ بِلَالٍ صُهَيْبٌ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ عِوَضٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ كُلًّا مِنْهُمَا وَأَجَابَهُ بِذَلِكَ.

992 - (وَعَنْ رَفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَطَسْتُ فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مُبَارَكًا عَلَيْهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، انْصَرَفَ فَقَالَ: " مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ؟ "، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقَالَ رِفَاعَةُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدِ ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَلَكًا، أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 992 - (وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَطَسْتُ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتُكْسَرُ (فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا) ، أَيْ: خَالِصًا (مُبَارَكًا فِيهِ، مُبَارَكًا عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كِلَاهُمَا وَاحِدٌ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْوَاعُ الْبِرْكَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرَانِ فِي " فِيهِ " وَ " عَلَيْهِ " لِلْحَمْدِ، فَفِي الْأَوَّلِ الْبَرَكَةُ، بِمَعْنَى الزَّائِدِ مِنْ نَفْسِ الْحَمْدِ، أَيِ: الْمُسْتَلْزِمُ لِزِيَادَةِ ثَوَابِهِ، وَفِي الثَّانِي مِنَ الْخَارِجِ لِتَعْدِيَتِهَا بِعَلَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْإِفَاضَةِ، أَيْ: عَلَى الْحَمْدِ ثُمَّ عَلَى قَائِلِهِ مِنْ حَضْرَةِ الْحَقِّ، (كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى) ، أَيْ: حَمَدًا مَوْصُوفًا، مِمَّا ذُكِرَ، وَبِأَنَّهُ مُمَاثِلٌ لِلْحَمْدِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُثِيبُ عَلَيْهِ ثَوَابًا جَمِيلًا وَأَجْرًا جَزِيلًا، (فَقَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ) ، أَيْ: سَلَّمَ وَانْصَرَفَ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْ مَحَلِّهِ (فَقَالَ: " مَنِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّلَاةِ؟ " فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ) : بِالْجَوَابِ خَوْفًا عَلَيَّ لِظَنِّهِمْ أَنِّي أَتَيْتُ، بِمَا لَا

يَنْبَغِي وَأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلْإِنْكَارِ، (ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ) ، أَيِ: الْقَوْلَةَ الثَّانِيَةَ، أَوِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ (فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ) : لِمَا سَبَقَ أَوْ لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَابِ لِلْمُتَكَلِّمِ، (ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقَالَ) : لَمَّا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِغَيْرِ الْإِنْكَارِ، أَوْ مَعَ كَوْنِهِ لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيمَا قَالَهُ (رِفَاعَةُ) : فِيهِ تَجْرِيدٌ وَأَصْلُهُ فَقُلْتُ (أَنَا) : أَيِ الْمُتَكَلِّمُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ") ، أَيْ: إِيجَادُهَا وَإِمْدَادُهَا بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ (" لَقَدِ ابْتَدَرَهَا ") ، أَيِ: اسْتَبَقَ إِلَيْهَا (" بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَلَكٌ ") : حُرُوفُ الْكَلِمَاتِ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ مَا عَدَا التَّنْوِينَاتِ (" أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا ") ، أَيْ: يَسْبِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ; لِأَنْ يَصْعَدَ بِهَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ سَدَّتْ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ " يَنْظُرُونَ " الْمَحْذُوفِ عَلَى التَّعْلِيقِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ فِي الصَّلَاةِ، يَعْنِي: عَلَى الصَّحِيحِ الْمُعْتَمَدِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّهَا شَاذَّةٌ، لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَحْمَدَ فِي نَفْسِهِ أَوْ يَسْكُتَ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، وَالْحَدِيثُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا قَبْلَ نَسْخِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي إِذَا عَطَسَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، وَإِنِ اقْتَصَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَحْمَدَ وَيُسْمِعَ نَفْسَهُ، وَوَقَعَ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ يَحْمَدُ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَبْلَغُ شَاهِدٍ لِرَدِّ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ؟ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ مَنِ الْحَامِدُ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مُخَالَفَةُ الْعُلَمَاءِ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

993 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ " وَفِي أُخْرَى لَهُ وَلِابْنِ مَاجَهْ: فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 993 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " التَّثَاؤُبُ ") : بِالْهَمْزِ، وَقِيلَ بِالْوَاوِ (" فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ ") : لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنَ الْغَفْلَةِ أَوِ الْكَسَلِ أَوْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ أَوْ غَلَبَةِ النَّوْمِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: التَّقْيِيدُ بِالصَّلَاةِ لَيْسَ لِلتَّخْصِيصِ، بَلْ ; لِأَنَّ الْقُبْحَ فِيهَا أَكْثَرُ ; لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ أَنَّ أَسْبَابَهُ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَالثِّقَلِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ هِيَ الَّتِي مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا مَرَّ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: يُكْرَهُ التَّثَاؤُبُ بِالْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا اهـ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ وَقَوْلِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ التَّثَاؤُبَ مِنَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَالِ الْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ تِلَاوَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ، لَا فِي مُطْلَقِ الْحَالَاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، (" فَإِذَا تَثَاءَبَ ") ، أَيْ: شَرَعَ فِي التَّثَاؤُبِ (" أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ ") ، أَيْ: يَدْفَعْهُ (" مَا اسْتَطَاعَ ") ، أَيْ: بِضَمِّ الشَّفَتَيْنِ، أَوْ بِوَضْعِ الْيَدِ أَوِ الْكُمِّ عَلَى الْفَمِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَفِي أُخْرَى لَهُ) ، أَيْ: فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلتِّرْمِذِيِّ (وَلِابْنِ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ (" فَلْيَضَعْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَلْيَضَعْ (" يَدَهُ ") : الظَّاهِرُ الْيُمْنَى (عَلَى فِيهِ) ، أَيْ: بَدَلَ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ، قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ: " «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ» "، أَيْ: إِذَا لَمْ يَدْفَعْهُ بِضَمِّ شَفَتَيْهِ.

994 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَإِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 994 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَا: " وَإِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ") : بِمُرَاعَاةِ السُّنَنِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَتَصْحِيحِ النِّيَّةِ (" ثُمَّ خَرَجَ ") ، أَيْ: مِنْ بَيْتِهِ (" عَامِدًا ") ، أَيْ: قَاصِدًا (" إِلَى الْمَسْجِدِ ") ، نَفْسِهِ لَا يَكُونُ لَهُ قَصْدٌ فَاسِدٌ مَأْتَاهُ، وَهَذِهِ الْقُيُودُ لِبَيَانِ الْكَمَالِ وَحُسْنِ الْحَالِ (" فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَإِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ ") ، أَيْ: حُكْمًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ إِدْخَالُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ يُنَافِي الْخُشُوعَ وَمَنْ قَصَدَهَا، فَكَأَنَّهُ فِيهَا فِي حُصُولِ الثَّوَابِ، قَالَ مِيرَكُ: لَعَلَّ النَّهْيَ عَنْ إِدْخَالِ الْأَصَابِعِ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى مُلَابَسَةِ الْخُصُوصِيَّاتِ وَالْخَوْضِ فِيهَا، وَحِينَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِتَنَ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَقَالَ: " وَاخْتَلَفُوا وَكَانُوا هَكَذَا "، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ كَالنَّهْيِ عَنْ كَفِّ الشَّعَرِ وَالتَّثَاؤُبِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ يَرْفَعُهُ: " «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ، فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي الصَّلَاةِ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ» "، وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ عَدَمَ التَّحْرِيمِ، وَلَا يَمْنَعُ الْكَرَاهَةَ أَيْ لِغَيْرِهِ لِكَوْنِ فِعْلِهِ نَادِرًا، أَيْ: لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِمَعْنَى كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِخْبَارِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا قَبْلَ النَّهْيِ، فَإِنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ قَبْلَ نَسْخِ الْكَلَامِ، مَعَ أَنَّ تَشْبِيكَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُ أَنَّهُ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّشْبِيكَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى فَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً، فَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى رَجُلًا قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَفَرَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا (وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ غَيْرِ مُسَمًّى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، لَمْ يَذْكُرِ الرَّجُلَ، لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

995 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَزَالُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 995 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَزَالُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ "، أَيْ: نَاظِرًا إِلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ وَإِعْطَاءِ الْمَثُوبَةِ (" وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ ") : وَالْمَعْنَى لَمْ يَنْقَطِعْ أَثَرُ الرَّحْمَةِ عَنْهُ (" مَا لَمْ يَلْتَفِتْ ") ، أَيْ: بِالْعُنُقِ (" فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ ") ، أَيِ: أَعْرَضَ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ مِنْهُ قِلَّةُ الثَّوَابِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ يُضَعِّفْهُ فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَهُ (وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

996 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَا أَنَسُ! اجْعَلْ بَصَرَكَ حَيْثُ تَسْجُدُ» " رَوَاهُ [الْبَيْهَقِيُّ فِي " سُنَنِهِ الْكَبِيرِ "، مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ] ـــــــــــــــــــــــــــــ 996 - ( «وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَنَسُ اجْعَلْ بَصَرَكَ حَيْثُ تَسْجُدُ» ") ، أَيْ: فِي سَائِرِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَنْظُرَ فِي الْقِيَامِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَفِي الرُّكُوعِ إِلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ، وَفِي السُّجُودِ إِلَى أَنْفِهِ، وَفِي التَّشَهُّدِ إِلَى حِجْرِهِ اهـ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَعَلَّهُ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٌ: جَزْمُ الشَّارِحِ بِهَذَا غَلَطٌ فَاحْشٌ، ثُمَّ قَالَ: قِيلَ: يُسَنُّ لِمَنْ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ إِلَّا حَالَةَ الْقَوْلِ فِي التَّشَهُّدِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ سَبَّابَتَهُ مَا دَامَتْ مُرْتَفِعَةً، وَعَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ: وَيَجُوزُ فِي النَّفْلِ دُونَ الْمَرَضِ، وَرَدَّهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ لَمْ يُنْقَلْ، فَكَانَ فِي حَيِّزِ الطَّرْحِ لِمُخَالَفَتِهِ الْحَدِيثَ وَكَلَامَ الْعُلَمَاءِ، وَبِأَنَّهُ يُلْهِي عَنِ الْخُشُوعِ، وَبِمَا صَحَّ «عَنْ عَائِشَةَ: عَجَبًا لِلْمُسْلِمِ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ كَيْفَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ قِبَلَ السَّقْفِ يَدَعُ ذَلِكَ إِجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى دَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَلَّفَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ» ، وَبِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [نَظَرَ] فِي صَلَاتِهِ فِيهَا لِمَحَلِّ سُجُودِهِ، هَكَذَا خَارِجَهَا إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَلِذَا سُنَّ لِلطَّائِفِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مَحَلَّ مَشْيِهِ، لِأَنَّهُ الْأَدَبُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ اجْتِمَاعُ الْقَلْبِ اهـ. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ التَّغْمِيضِ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الطَّبَرَانِيِّ: " «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُغْمِضْ عَيْنَهُ» "، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ حُذَيْفَةُ، وَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَنْظُرُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْقِبْلَةِ ; لِأَنَّهُ بِأَدْنَى انْحِرَافٍ يَمِيلُ عَنِ الْكَعْبَةِ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْمُلَاحَظَةِ، (رَوَاهُ) : هُنَا بَيَاضٌ، وَأَلْحَقَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: يَرْفَعُهُ، قِيلَ: أَنَّهُ مِنْ مُلْحَقَاتِ الْجَزَرِيِّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَهُ طُرُقٌ تَقْتَضِي حُسْنَهُ.

997 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ هَلَكَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرِيضَةِ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 997 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ: قَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا بُنَيُّ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَكَسْرِهَا خَاطَبَهُ بِهِ لِصِغَرِ سِنِّهِ، وَصِدْقِهِ فِي خِدْمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ (" «إِيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ» ") ، أَيْ: بِتَحْوِيلِ الْوَجْهِ (" فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ ") : أَظْهَرُ فِي مَوْضِعِ الضَّمِيرِ لِمَزِيدِ الْإِيضَاحِ وَالْبَيَانِ فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ (" هَلَكَةٌ ") : بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ: هَلَاكٌ لِأَنَّهُ طَاعَةُ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ، قَالَ مِيرَكُ: الْهَلَاكُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: افْتِقَادُ الشَّيْءِ عِنْدَكَ وَهُوَ عِنْدُ غَيْرِكَ مَوْجُودٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29] وَهَلَاكُ الشَّيْءِ بِاسْتِحَالَتِهِ، وَالثَّالِثُ الْمَوْتُ، كَقَوْلِهِ

تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَلَكَةُ الْهَلَاكُ وَهُوَ اسْتِحَالَةُ الشَّيْءِ وَفَسَادُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ - وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205] وَالصَّلَاةُ بِالِالْتِفَاتِ تَسْتَحِيلُ مِنَ الْكَمَالِ إِلَى الِاخْتِلَاسِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، (" فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ ") : لَكَ أَيْ: مِنَ الِالْتِفَاتِ وَتَفْوِيتِ الْكَمَالِ (" فَفِي التَّطَوُّعِ ") ، أَيْ: فَلْيَكُنْ فِي النَّفْلِ لِأَنَّهُ جَوَّزَ فِيهِ التَّوَسُّعَ (" لَا فِي الْفَرِيضَةِ ") : فَإِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَزِيمَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ مَبْنَى التَّطَوُّعِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ لَهَا لِمَزِيدِ ثَوَابِهَا وَثَمَرَاتِهَا وَفَوَائِدِهَا مَا لَا يُحْتَاطُ لِلنَّفْلِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِذْنًا مُقْتَضِيًا لِعَدَمِ كَرَاهَتِهِ فِي النَّفْلِ، بَلْ حَثًّا عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ فِي الْفَرْضِ، وَبَيَانًا لِكَوْنِ الِاحْتِيَاطِ بِهِ أَلْيَقَ، وَتَنَزُّلًا مَعَ مَزِيدِ تَفْوِيتِ الْكَمَالِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ وَإِنْ رَضِيَ بِتَفْوِيتِهِ فِي النَّفْلِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْضَى بِتَفْوِيتِهِ فِي الْفَرْضِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الْحَدِيثِ هُوَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي النَّفْلِ دُونَ الْكَرَاهَةِ فِي الْفَرْضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

998 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْحَظُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 998 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ) ، أَيْ: أَحْيَانًا (يَلْحَظُ) ، أَيْ: يَنْظُرُ بِمُؤَخَّرَةِ عَيْنَيْهِ (فِي الصَّلَاةِ) ، أَيِ: التَّطَوُّعِ أَوِ الْفَرْضِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُ الْجَوَازِ سِيَّمَا بَعْدَ إِطْلَاقِ النَّهْيِ (يَمِينًا وَشِمَالًا) ، أَيْ: تَارَةً إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ وَأُخْرَى إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ (وَلَا يَلْوِي) ، أَيْ: لَا يَصْرِفُ وَلَا يُمِيلُ (عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ) ، أَيْ: إِلَى جِهَتِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّيُّ: فَتْلُ الْحَبْلِ، يُقَالُ: لَوَيْتُهُ أَلْوِيهِ لَيًّا، وَلَوَى رَأْسَهُ وَبِرَأْسِهِ أَمَالَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا الِالْتِفَاتَ كَانَ مِنْهُ فِي التَّطَوُّعِ، فَإِنَّهُ أَسْهَلُ لِمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ الْتِفَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا قَلِيلَةً لِبَيَانِ أَنَّهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ، أَوْ كَانَ لِشَيْءٍ ضَرُورِيٍّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى أُمَّتَهُ عَنْ شَيْءٍ وَيَفْعَلَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ كَانَ أَيُّ أَحَدٍ يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، أَيْ: وَيُحَوِّلُ صَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ فَهُوَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ السَّيِّدُ: وَقَدْ ضَعَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذَا الْحَدِيثَ، (وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرُوِيَ مُرْسَلًا.

999 - وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ قَالَ: " «الْعُطَاسُ وَالنُّعَاسُ، وَالتَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَيْضُ وَالْقَيْءُ وَالرُّعَافُ مِنَ الشَّيْطَانِ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 999 - (وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ) ، أَيْ: رَفَعَ جَدُّهُ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلَا هَذَا الْقَيْدُ لَأَوْهَمَ قَوْلُهُ: (قَالَ: " الْعُطَاسُ ") : أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، فَيَكُونَ مَوْقُوفًا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (" وَالنُّعَاسُ ") : وَهُوَ النَّوْمُ الْخَفِيفُ أَوْ مُقَدِّمَةُ النَّوْمِ وَهُوَ السِّنَةُ، (" وَالتَّثَاؤُبُ ") ، أَيِ: التَّكَاسُلُ (" فِي الصَّلَاةِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ بِقَوْلِهِ: " فِي الصَّلَاةِ " ; لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِخِلَافِ الْأُولَى

" (" وَالْحَيْضُ وَالْقَيْءُ وَالرُّعَافُ ") : بِضَمِّ الرَّاءِ دَمُ الْأَنْفِ (" مِنَ الشَّيْطَانِ ") : قَالَ الْقَاضِي: أَضَافَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَى الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّهُ يُحِبُّهَا وَيَتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى مَا يَبْتَغِيهِ مِنْ قَطْعِ الصَّلَاةِ، وَالْمَنْعِ عَنِ الْعِبَادَةِ ; وَلِأَنَّهَا تَغْلِبُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ مِنْ شَرَهِ الطَّعَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ، وَزَادَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَمِنَ ابْتِغَاءِ الشَّيْطَانِ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْحُضُورِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي لَذَّةِ الْمُنَاجَاةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ مِنَ الْعُطَاسِ كَثْرَتُهُ، فَلَا يُنَافِيهِ الْخَبَرُ السَّابِقُ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ» " ; لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِي الْعُطَاسِ الْمُعْتَدِلِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الثَّلَاثَ عَلَى التَّوَالِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسَنُّ تَشْمِيتُهُ حِينَئِذٍ بِعَافَاكَ اللَّهُ وَشَفَاكَ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَرَضٌ؛ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنْ يَحْمِلَ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى الْعُطَاسَ مُطْلَقًا عَلَى خَارِجِ الصَّلَاةِ، وَكَرَاهَتُهُ مُطْلَقًا فِي دَاخِلِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَخْلُو عَنِ اشْتِغَالِ بَالٍ بِهِ، وَهَذَا الْجَمْعُ كَانَ مُتَعَيِّنًا لَوْ كَانَ الْحَدِيثَانِ مُطْلَقَيْنِ، فَكَيْفَ مَعَ التَّقْيِيدِ بِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1000 - وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ» ، يَعْنِي: يَبْكِي. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَا مِنَ الْبُكَاءِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى، وَأَبُو دَاوُدَ الثَّانِيَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1000 - (وَعَنْ مُطَرِّفٍ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) : بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ (بْنِ الشِّخِّيرِ) بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْخَاءِ الْمُشَدَّدَةِ (عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ) ، أَيْ: صَوْتٌ (كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ: أَيِ الْقِدْرِ إِذَا غَلَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَزِيزُ الْمِرْجَلِ صَوْتُ غَلَيَانِهِ، وَمِنْهُ الْأَزُّ وَهُوَ الْإِزْعَاجُ، قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] وَقِيلَ: الْمِرْجَلُ الْقِدْرُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ خَزَفٍ ; لِأَنَّهُ إِذَا نُصِبَ كَأَنَّهُ أُقِيمَ عَلَى الرَّجُلِ (يَعْنِي: يَبْكِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الصَّوْتَ إِنَّمَا سُمِعَ لِلْجَوْفِ أَوِ الصَّدْرِ لَا اللِّسَانِ، وَالْمُخْتَلَفُ فِي إِبْطَالِهِ إِنَّمَا هُوَ الْبُكَاءُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحَرْفِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُبْطِلُ وَإِنْ كَانَ لِلْآخِرَةِ إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ، هَذَا إِنْ لَمْ يَغْلِبْهُ، وَإِلَّا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَبْطُلُ كَثِيرُهُ لَا قَلِيلُهُ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْبُكَاءِ وُجُودُ الْحُرُوفِ، لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ خَوْفٍ يُزْعِجُ الْقَلْبَ وَيُقْلِقُهُ، وَبِهِ يَتَوَلَّدُ فِي الْجَوْفِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ صَوْتٌ يُسْمَعُ مِنْ دَاخِلِهِ لِشِدَّةِ مَا حَصَلَ لِلْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالْقَلْقِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا مِنْ نَارِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَعَلَّهُ غَالِبٌ عَلَيْهِ. وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: إِذَا بَكَى فِيهَا وَحَصَلَ مِنْهُ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ أَوْ نَحْوِهِمَا لَمْ يَقْطَعْهُمَا ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعَفْوِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ يَقْطَعُهَا ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشِّكَايَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِي وَجَعٌ، أَوْ أَصَابَتْنِي مُصِيبَةٌ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَيَفْسَدُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ شَدِيدَ الْوَجَعِ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ لَا تَفْسُدُ. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: رَأَيْتُهُ) ، أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، ( «يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَا مِنَ الْبُكَاءِ» ) ، أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: هُوَ بِالْقَصْرِ: خُرُوجُ الدَّمْعِ مَعَ الْحُزْنِ، وَبِالْمَدِّ خُرُوجُهُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) ، أَيِ: الرِّوَايَتَيْنِ (وَرَوَى النَّسَائِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى) : قَالَ مِيرُوكُ: وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَلَعَلَّهُ فِي الدَّمْعِ وَإِلَّا فَفِي الشَّمَائِلِ رَوَى الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ (وَأَبُو دَاوُدَ الثَّانِيَةَ) .

1001 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَمْسَحِ الْحَصَى، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ» "، رَوَاهُ أَحَمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1001 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ") ، أَيْ: شَرَعَ فِيهَا (" فَلَا يَمْسَحْ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يُسَوِّ (" الْحَصَى ") : وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصَّغِيرَةُ (" فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ ") ، أَيْ: تَنْزِلُ عَلَيْهِ وَتُقْبِلُ إِلَيْهِ، فَلَا يَلِيقُ لِعَاقِلٍ تَلَقِّي شُكْرَ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْخَطِيرَةِ بِهَذِهِ الْفِعْلَةِ الْحَقِيرَةِ، أَوْ لَا يَنْبَغِي فَوْتُ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ. بِمُزَاوَلَةِ هَذِهِ الْفِعْلَةِ وَالزَّلَّةِ إِلَّا حَالَةَ الضَّرُورَةِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا بِسَنَدِهِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ: " «لَا تَمْسَحِ الْحَصَى وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَوَاحِدَةٌ تَسْوِيَةً لِلْحَصَى» ".

1002 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامًا لَنَا يُقَالُ لَهُ: أَفْلَحُ، إِذَا سَجَدَ نَفَخَ، فَقَالَ: " يَا أَفْلَحُ! تَرِّبْ وَجْهَكَ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1002 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامًا لَنَا يُقَالُ لَهُ: أَفْلَحُ، إِذَا سَجَدَ) ، أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ (نَفَخَ) : أَيْ: فِي الْأَرْضِ لِيَزُولَ عَنْهَا التُّرَابُ فَيَسْجُدُ، (فَقَالَ: " يَا أَفْلَحُ! تَرِّبْ وَجْهَكَ ") ، أَيْ: أَوْصِلْهُ إِلَى التُّرَابِ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّضَرُّعِ وَأَعْظَمُ لِلثَّوَابِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ النَّفْخِ ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عُلُوقَ التُّرَابِ بِالْوَجْهِ، أَيْ: أَفْضَلَهُ وَهُوَ الْجَبْهَةُ وَذَلِكَ غَايَةُ التَّوَاضُعِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ، وَفِي سَنَدِهِ مَيْمُونُ أَبُو حَمْزَةَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1003 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الِاخْتِصَارُ فِي الصَّلَاةِ رَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ» "، رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1003 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الِاخْتِصَارُ ") ، أَيْ: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ، وَهِيَ: الْجَنْبُ (" فِي الصَّلَاةِ رَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ ") : قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَتْعَبُ أَهْلُ النَّارِ مِنْ طُولِ قِيَامِهِمْ، أَيْ: فِي الْمَوْقِفِ فَيَسْتَرِيحُونَ بِالِاخْتِصَارِ، وَقِيلَ: مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي صَلَاتِهِمْ، وَهُمْ: أَهْلُ النَّارِ، أَيْ: مَآلًا وَعَاقِبَةً ; لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا رَاحَةَ لَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف: 75] (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ: أَيْ بِغَيْرِ سَنَدٍ فَقَالَ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: " «الِاخْتِصَارُ رَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ» " اهـ، وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ، وَيُرْوَى أَنَّ إِبْلِيسَ بَعْدَ لَعْنِهِ وَنُزُولِهِ فِي الْأَرْضِ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ، وَقِيلَ: إِذَا مَشَى مَشَى كَذَلِكَ. ذَكَرَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «الِاخْتِصَارُ فِي الصَّلَاةِ رَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ» ".

1004 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «اقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلِلنَّسَائِيِّ مَعْنَاهُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1004 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ» ] : أَيْ: وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ (الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ) ، بَيَانُ الْأَسْوَدَيْنِ وَفِيهِ تَغْلِيبٌ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ يَجُوزُ قَتْلُهَا بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ اهـ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ قَالُوا، أَيْ: بَعْضُ الْمَشَايِخِ هَذَا إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى

الْمَشْيِ الْكَثِيرِ كَثَلَاثِ خُطُوَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَلَا إِلَى الْمُعَالَجَةِ الْكَثِيرَةِ كَثَلَاثِ ضَرَبَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ فَأَمَّا إِذَا احْتَاجَ فَمَشَى وَعَالَجَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ قَاتَلَ فِي صَلَاتِهِ ; لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ ذَكَرَهُ السُّرُوجِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ كَالْمَشْيِ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ وَيُؤَيِّدُهُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ، وَالْأَصَحُّ: هُوَ الْفَسَادُ إِلَّا أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ إِفْسَادُهَا لِقَتْلِهِمَا كَمَا يُبَاحَ لِإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ أَوْ تَخْلِيصِ أَحَدٍ مِنْ هَلَاكٍ كَسُقُوطٍ مِنْ سَطْحٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ وَكَذَا إِذَا خَافَ ضَيَاعَ مَا قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) ، وَقَالَ: حَسَنٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ وَنَقَلَ ابْنُ الْهَمَّامِ أَنَّهُ قَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ مَا إِذَا احْتَاجَ إِلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ وَقِيلَ: بَلْ إِذَا كَانَ قَلِيلًا وَفِي الْهِدَايَةِ يَجُوزُ قَتْلُ الْحَيَّاتِ مُطْلَقًا هُوَ الصَّحِيحُ قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ: لَا تَقْتُلِ الْحَيَّةَ الْبَيْضَاءَ ; فَإِنَّهَا مِنَ الْجِنِّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَاهَدَ الْجِنَّ أَنْ لَا يَدْخُلُوا بُيُوتَ أُمَّتِهِ وَلَا يُظْهِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَإِذَا خَالَفُوا فَقَدْ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ فَلَا حُرْمَةَ لَهُمْ وَقَدْ حَصَلَ فِي عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِيمَنْ بَعْدَهُ الضَّرَرُ بِقَتْلِ بَعْضِ الْحَيَّاتِ مِنَ الْجِنِّ فَالْحَقُّ أَنَّ الْحِلَّ ثَابِتٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى: الْإِمْسَاكُ عَمَّا فِيهِ عَلَامَةُ الْجَانِّ لَا لِلْحُرْمَةِ بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ جِهَتِهِمْ وَقِيلَ يُنْذِرُهَا فَيَقُولُ خَلِّي طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ ارْجِعِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِنْ أَبَتْ قَتَلَهَا وَهَذَا أَيِ: الْإِنْذَارُ؛ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ (وَلِلنَّسَائِيِّ مَعْنَاهُ) .

1005 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي تَطَوُّعًا وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ فَجِئْتُ فَاسْتَفْتَحْتُ فَمَشَى فَفَتَحَ لِي ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُصَلَّاهُ وَذَكَرْتُ أَنَّ الْبَابَ كَانَ فِي الْقِبْلَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1005 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي تَطَوُّعًا) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي هَذَا الْقَيْدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَمْرَ التَّطَوُّعِ سَهْلٌ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِافْتِرَانِهِمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَهُوَ بَيَانُ الْوَاقِعِ فَحَسْبُ [وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ فَجِئْتُ فَاسْتَفْتَحْتُ] أَيْ: طَلَبْتُ فَتْحَ الْبَابِ وَالظَّاهِرُ: أَنَّهَا ظَنَّتْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ وَإِلَّا لَمْ تَطْلُبْهُ مِنْهُ كَمَا هُوَ اللَّائِقُ بِأَدَبِهَا وَعِلْمِهَا [فَمَشِيَ فَفَتَحَ لِي ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُصَلَّاهُ] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَشْيُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفَتْحُهُ الْبَابَ ثُمَّ رُجُوعُهُ إِلَى مُصَلَّاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الْكَثِيرَةَ إِذَا تَتَوَالَى لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ. اهـ، وَهُوَ لَيْسَ. بِمُعْتَمَدٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ إِنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ الْفِعْلِيَّةِ إِذَا تَطَرَّقَ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ وَهُنَا تَطَرَّقَ إِلَيْهَا احْتِمَالُ أَنَّهُ: غَيْرُ مُتَوَالٍ عَلَى أَنَّ فِي سَنَدِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ (وَذَكَرْتُ) ، أَيْ: عَائِشَةُ (أَنَّ الْبَابَ كَانَ فِي الْقِبْلَةِ) ، أَيْ: فَلَمْ يَتَحَوَّلْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا عِنْدَ مَجِيئِهِ إِلَيْهِ وَيَكُونُ رُجُوعُهُ إِلَى مُصَلَّاهُ عَلَى عَقِبَيِهِ إِلَى خَلْفٍ قَالَ الْأَشْرَفُ: هَذَا قَطَعَ وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَلَعَلَّ تِلْكَ الْخُطُوَاتِ لَمْ تَكُنْ مُتَوَالِيَةً ; لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْكَثِيرَةَ إِذَا تَفَاصَلَتْ وَلَمْ تَكُنْ عَلَى الْوَلَاءِ لَمْ تُبْطِلِ الصَّلَاةَ قَالَ الْمُظْهِرُ: وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمِشْيَةُ لَمْ تَزِدْ عَلَى خُطْوَتَيْنِ. قُلْتُ: الْإِشْكَالُ بَاقٍ ; لِأَنَّ الْخُطْوَتَيْنِ مَعَ الْفَتْحِ وَالرُّجُوعِ عَمَلٌ كَثِيرٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ تِلْكَ الْفِعْلَاتُ لَمْ تَكُنْ مُتَوَالِيَاتٍ (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) ، وَحَسَّنَهُ (وَرَوَى النَّسَائِيُّ) ، قَالَ مِيرَكُ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

1006 - وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مَعَ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1006 - (وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عَلِيٍّ الْحَنَفِيَّ الْيَمَانِيَّ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: طَلْقُ بْنُ يَمَامَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ قَيْسٍ، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ الْيَمَامِيُّ، بِالْمِيمِ، فَرَوَى عَنْهُ مُسْلِمُ بْنُ سَلَّامِ وَهُوَ فِي أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ ") ، أَيْ: خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ بِلَا صَوْتٍ (" فِي الصَّلَاةِ ") ، أَيْ: فِي أَثْنَائِهَا فَلَا يُنَافِي الْحَدِيثَ الْآتِي (" فَلْيَنْصَرِفْ ") : عَنْ صَلَاتِهِ وَلْيَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ (" فَلْيَتَوَضَّأْ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: وَلْيَتَوَضَّأْ (" وَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ ") : الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ لِلْوُجُوبِ إِذَا كَانَ الْحَدَثُ عَمْدًا، أَمَّا إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَالْأَمْرُ

لِلِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ، فَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، مَنْ سَبَقَهُ حَدَثٌ سَمَاوِيٌّ مِنْ بَدَنِهِ مُوجِبٌ لِلْوُضُوءِ فِي الصَّلَاةِ انْصَرَفَ مِنْ فَوْرِهِ وَتَوَضَّأَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ فِي وُضُوئِهِ، وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ عِنْدَنَا إِنْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مَا يُنَافِيهَا خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ "] ، وَفِي رِوَايَةٍ: " ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» " وَالِاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ لِلْبُعْدِ عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ، وَقِيلَ: الْبِنَاءُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي أَفْضَلُ إِحْرَازًا لِلْفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَنْ يُمْكِنَهُمَا الِاسْتِئْنَافُ بِجَمَاعَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ اسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ غَيْرَهُ إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ قَالَ: لَمَّا دَخَلْتُ فِي الصَّلَاةِ وَكَبَّرْتُ رَابَنِي شَيْءٌ، فَلَمَسْتُ بِيَدِي فَوَجَدْتُ بِلَّةً؛ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: أَمَّا حَدِيثُ الْبِنَاءِ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُرْسَلٌ، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَطَاوُسٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً عَلَى أَنَّ صِحَّةَ رَفْعِ الْحَدِيثِ مُرْسَلًا لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَذَلِكَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الِاسْتِخْلَافِ فَقِيلَ فِيهِ إِجْمَاعٌ لِلصَّحَابَةِ، وَحَكَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَرَوَى ابْنُ الْأَثْرَمِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «خَرَجَ عَلَيْنَا عُمَرُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ كَانَ عَلَى يَمِينِهِ» . " الْحَدِيثَ، قَالَ: وَلِلْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ عُمَرَ غَدَاةَ أُصِيبَ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ حِينَ طَعَنَهُ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَصَلَّى بِهِمْ، قُلْتُ: الْوَاوُ فِي: " وَتَنَاوَلَ " لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَلَا يَرِدُ فِيهِ إِشْكَالٌ، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَلِيٌّ ذَاتَ يَوْمٍ فَرَعَفَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ فَقَدَّمَهُ وَانْصَرَفَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ، لَا مِنْ حَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ لِعَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ السُّحَيْمِيِّ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ هَذَا رَجُلٌ آخَرُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ: نَحْوَهُ وَحَسَّنَهُ لَكِنْ (مَعَ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ فَقَالَ: إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَأَمَّا خَبَرُ: " «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمْذَى فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» " فَهُوَ مُرْسَلٌ اتِّفَاقًا، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْقِدِيمِ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ شُرُوطٌ

مَذْكُورَةٌ فِي الْفُرُوعِ، قُلْتُ: الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ حُجَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَوَّلًا، أَوْ رَأَى مَا اعْتَضَدَ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

1007 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ، ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1007 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ ") : وَفِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ: فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ (" فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ ") : أَمْرُ إِبَاحَةٍ أَوْ نَدْبٍ (" ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ ") : بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَرَ بِالْأَخْذِ لِيُخَيَّلَ أَنَّهُ مَرْعُوفٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ، بَلْ مِنَ الْمَعَارِيضِ بِالْفِعْلِ، وَرُخِّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُسَوِّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ عَدَمَ الْمُضِيِّ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ نَوْعُ أَخْذٍ بِالْأَدَبِ وَإِخْفَاءِ الْقُبْحِ، أَيْ: صُورَةٌ وَالتَّوْرِيَةُ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الرِّيَاءِ أَوِ الْكَذِبِ، قُلْتُ: لِقَوْلِهِ صَحَّ: " «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضَ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ» "، وَرُوِيَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» "، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

1008 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ وَقَدْ جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَقَدْ جَازَتْ صَلَاتُهُ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَدِ اضْطَرَبُوا فِي إِسْنَادِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1008 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ ") ، أَيْ: عَمْدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُطْلَقًا عِنْدَ صَاحِبَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ بِصُنْعِهِ فَرْضٌ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، (" وَقَدْ جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ ") ، أَيْ: قَدْرَ التَّشَهُّدِ (" قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَقَدْ جَازَتْ صَلَاتُهُ ") : عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ فَرْضٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَدِ اضْطَرَبُوا فِي إِسْنَادِهِ) : قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الْمُضْطَرِبُ: هُوَ الَّذِي يُرْوَى عَلَى أَوْجُهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَاوِتَةٍ، وَالِاضْطِرَابُ: قَدْ يَقَعُ فِي السَّنَدِ أَوِ الْمَتْنِ، أَوْ مِنْ رَاوٍ، أَوْ مِنْ رُوَاةٍ، وَالْمُضْطَرِبُ: ضَعِيفٌ، لِإِشِعَارِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُضْبَطْ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قُلْتُ: لِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ ذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ، وَتَعَدُّدُ الطُّرُقِ يُبْلِغُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ إِلَى حَدِّ الْحَسَنِ، وَقَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِنْ سَلِمَ لَمْ يُقْدَحْ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الصِّحَّةِ، بَلِ الْحَسَنُ كَافٍ، فَأَمَّا مُجْتَهِدٌ عَلِمَ بِالِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَغَلَبَ عَلَى رَأْيِهِ صِحَّتُهُ، فَهُوَ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِذْ مُجَرَّدُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّرْجِيحِ وَثُبُوتِ الصِّحَّةِ اهـ، فَاحْفَظْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ كَثِيرًا، وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلْبَابِ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ حَدَثٌ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُبْطِلْهَا مَعَ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ إِبْطَالَهَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1009 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَبَّرَ انْصَرَفَ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ أَنْ كَمَا كُنْتُمْ، ثُمَّ خَرَجَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ وَرَأَسُهُ يَقْطُرُ، فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: " إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا، فَنَسِيتُ أَنْ أَغْتَسِلَ» "، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1009 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ) ، أَيْ: قَاصِدًا إِلَيْهَا) (فَلَمَّا كَبَّرَ) ، أَيْ: أَرَادَ أَنْ يُكَبِّرَ لِلْإِحْرَامِ (انْصَرَفَ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَلَمَّا كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ انْصَرَفَ، أَيْ: خَرَجَ مِنْ صَلَاتِهِ اهـ وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا كَمَا لَا يَخْفَى (وَأَوْمَأَ) : بِالْهَمْزِ، وَيُبْدَلُ فَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ، أَيْ: أَشَارَ (إِلَيْهِمْ أَنْ) ، أَيْ: وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الْمُؤَلِّفِ أَيْ (كَمَا كُنْتُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: كَمَا أَنْتُمْ أَيْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ لَا حَالِ الْقِيَامِ كَمَا تُوُهِّمَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ كُونُوا كَمَا كُنْتُمْ، " وَأَنْ " مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْإِيمَاءِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَالْجَارَّةُ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِالْكَوْنِ عَلَى حَالِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: كُونُوا بَعْدَ ذَهَابِي فِي صَلَاتِكُمْ لَا تَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَلَا تَتَمَنَّوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ كَمَا كُنْتُمْ كَذَلِكَ قَبْلَ ذَهَابِي اهـ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ لَا تَبْطُلُ بِتَبَيُّنِ بُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، ثُمَّ إِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَمَا نَسِيَ لِيَسُنَّ فَانْدَفَعَ مَا قَدْ يُقَالُ لِمَ نَسِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوْنَهُ جُنُبًا؟ وَبَعْضُ الْعَارِفِينَ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى جَنَابَةِ غَيْرِهِ، قَدْ حَكَى الْيَافِعِيُّ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ أَبَا الْمَعَالِيَ بْنَ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ جَلَسَ يَوْمًا يَدْرِسُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَمَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ إِلَى دَعْوَةٍ فَقَالَ الْإِمَامُ فِي نَفْسِهِ: مَا شَغَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا الْأَكْلُ وَالرَّقْصُ، فَلَمَّا رَجَعَ الشَّيْخُ مِنَ الدَّعْوَةِ مَرَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا فَقِيهُ مَا تَقُولُ فِيمَنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ وَهُوَ جُنُبٌ، وَيَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَدْرِسُ الْعُلُومَ، وَيَغْتَابُ النَّاسَ؟ فَتَذَكَّرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ غُسْلٌ، ثُمَّ حَسُنَ اعْتِقَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصُّوفِيَّةِ اهـ. وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَيِّنٌ كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَرَجَ قَبْلَ إِحْرَامِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ بَلْ مَدْفُوعٌ بِمَا جَاءَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ إِحْرَامِهِمْ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْمَجِيءَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَجْهُولٌ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ: حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ وَانْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ وَقَالَ: " عَلَى مَكَانِكُمْ " اهـ. وَلَكِنَّ " حُبَّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ "، وَيَجْعَلُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا، هَدَانَا اللَّهُ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، حَتَّى نَحْمِلَ أَحْوَالَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَهْمَا أَمْكَنَ عَلَى الْأَمْرِ الْجَمِيلِ، (ثُمَّ خَرَجَ) ، أَيْ: مِنَ الْمَسْجِدِ (فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ وَرَأَسُهُ يَقْطُرُ) ، أَيْ: شَعْرُ رَأْسِهِ يَقْطُرُ مَاءً يَعْنِي: لَمْ يُنَشِّفْ إِمَّا لِلْعَجَلَةِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَفْضَلُ، أَوْ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّنَشُّفِ لِاعْتِدَالِ الْهَوَاءِ، (فَصَلَّى بِهِمْ فَلَمَّا صَلَّى) : أَيْ: فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ (قَالَ) : مُشِيرًا إِلَى السَّبَبِ فِيمَا وَقَعَ لَهُ (" إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا فَنَسِيتُ ") : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُخَفَّفَةِ، كَذَا فِي النُّسَخِ، وَلَعَلَّ الْأُولَى بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ (" أَنْ أَغْتَسِلَ) ، أَيْ: الِاغْتِسَالَ، وَإِنَّمَا نَسِيَ لِيَسُنَّ وَلِئَلَّا يَسْتَحْيِيَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ إِذَا وَقَعَ لَهُ مِثْلُ هَذَا، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) ، أَيْ: مُتَّصِلًا.

1010 - وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1010 - (وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا) : قَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ، وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وُعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ، وَقَالَ: " عَلَى مَكَانِكُمْ " فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَقَدِ اغْتَسَلَ، وَمِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ قَالَ: «أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ قَالَ: " عَلَى مَكَانِكُمْ " فَرَجَعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأَسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ» ، فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ إِيرَادُ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى حَدِيثِ الْمُرْسَلِ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِبَابِ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ فَتَأَمَّلْ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ وَهِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا كَبَّرَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْبِنَاءِ مُطَابِقًا لِمَذْهَبِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

1011 - «وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي الظُّهْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَآخُذُ قَبْضَةً مِنَ الْحَصَى لِتَبْرُدَ فِي كَفِّي، أَضَعُهَا لِجَبْهَتِي، أَسْجُدُ عَلَيْهَا لِشِدَّةِ الْحَرِّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1011 - وَعَنْ جَابِرِ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي الظُّهْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَآخُذُ) ، أَيْ: فَأَخَذْتُ فَجَاءَ بِالْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَهَذَا مَبْنِيٌّ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى كُنْتُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى أُصَلِّي (قَبْضَةً) : بِالْفَتْحِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِّ فِي الْقَامُوسِ: ضَمُّهُ أَكْثَرُ مَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ اهـ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلْأَخْذِ بِمَعْنَى الْقَبْضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96] فَيَكُونُ (مِنَ الْحَصَى) : مُتَعَلِّقًا بِآخُذُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ صِفَةً لِقَبْضَةٍ مُبَيِّنَةً (لِتَبْرُدَ فِي كَفِّي، أَضَعُهَا لِجَبْهَتِي) ، أَيْ: لِمَوْضِعِهَا (أَسْجُدُ عَلَيْهَا) ، أَيْ: عَلَى الْحَصَى الْبَارِدِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَدَلٌ مِنْ أَضَعُهَا الَّذِي هُوَ نَعْتٌ لِقَبْضَةٍ أَوْ حَالٌ مِنْهَا لِتَخْصِيصِهَا اهـ، وَالْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِوُجُودِ الْفَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَهُمَا، (لِشِدَّةِ الْحَرِّ) : عِلَّةٌ لِلْأَخْذِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) ، أَيْ: بِمَعْنَاهُ.

1012 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثُمَّ قَالَ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ ثَلَاثًا وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ، قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي فَقُلْتُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قُلْتُ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1012 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: " أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ") : إِظْهَارًا لِغَايَةِ الْخَوْفِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى دَوَامِ فَضْلِهِ وَعِصْمَتِهِ، (ثُمَّ قَالَ: " أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ ") ، أَيْ: إِيَّاكَ، وَالْمَعْنَى: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَلْعَنَكَ بِلَعْنَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ لَكَ الَّتِي لَا تُوَازِيهَا لَعْنَةٌ، أَوْ أُبْعِدُكَ عَنِّي بِإِبْعَادِ اللَّهِ لَكَ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوْ لِلْآلَةِ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ، (ثَلَاثًا) : قَيْدٌ لَهُمَا لِمَا سَيَأْتِي، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالدُّعَاءِ لِغَيْرِهِ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنْ قُلْتَ: تَحْرِيمُهُ كَانَ بِمَكَّةَ وَهَذَا بِالْمَدِينَةِ كَمَا سَيَأْتِي، قُلْنَا: أَرَادَ بِالْمَدِينَةِ الْمَفْهُومَ اللُّغَوِيَّ لَا مَدِينَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، أَوْ يُقَالُ: دَلِيلُ الْجَوَازِ عَمَلُ النَّبِيِّ، وَدَلِيلُ الْمَنْعِ قَوْلُهُ: وَهُوَ الْحَدِيثُ السَّابِقُ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَالدَّلِيلُ الْقَوْلِيُّ أَقْوَى مِنَ الْعَمَلِيِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ اهـ. وَقِيلَ: عُمُومُ عَدَمِ جَوَازِ الْخِطَابِ لِلْغَيْرِ مَخْصُوصٌ بِإِبْلِيسَ عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِلْمُصَلِّي بِالْوَسْوَسَةِ، لِأَنَّهُ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ وَيُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الشَّيْطَانِ فَلَيْسَ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ لِخِطَابِهِ، قُلْتُ: هَذَا بِمَا يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ الْكَلَامَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَبَسَطَ) ، أَيْ: مَدَّ (يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا) ، أَيْ: يَأْخُذُهُ مِنْ بَعِيدٍ (فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا) : مِنَ التَّعَوُّذِ وَاللَّعْنِ بِالْخِطَابِ (لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ) ، أَيْ: كَأَنَّكَ تَتَنَاوَلُ شَيْئًا قَالَ: " إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ ") : أَكْبَرُ الْأَعْدَاءِ (" جَاءَ ") : لِأَفْضَلِ الْأَحِبَّاءِ (" بِشِهَابٍ ") ، أَيْ: شُعْلَةٍ (" مِنْ نَارٍ يَجْعَلُهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ) ، أَيْ: عَلَيْكَ أَبَدَ الْآبِدِينَ الْمَخْصُوصَةُ بِكَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمُعَذَّبِينَ، (" فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ") : الظَّاهِرُ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِقُلْتُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِـ (لَمْ يَسْتَأْخِرْ) أَيْ: فَلَمْ يَتَأَخَّرْ فِي ثَلَاثِ مَرَّاتٍ مِنَ التَّعَوُّذَاتِ وَاللَّعَنَاتِ: (" ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ ") : عَلَى صِيغَةِ الْمَصْدَرِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ: أَنْ (" وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا ") ، أَيْ: مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ (" سُلَيْمَانَ ") : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لِأَخِينَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِتَقْدِيرِ أَعْنِي (" لَأَصْبَحَ ") ، أَيْ: لَدَخَلَ إِبْلِيسُ فِي الصَّبَاحِ (" مُوثَقًا ") : حَالٌ، أَوْ لَصَارَ مُوثَقًا، أَيْ: مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، (يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ") : وَفِيهِ دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ لَيْسَ مِنَ الْجِنِّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ.

-

1013 - وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ الرَّجُلُ كَلَامًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: إِذَا سُلِّمَ عَلَى أَحَدِكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَا يَتَكَلَّمْ، وَلْيُشِرْ بِيَدِهِ، رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1013 - (وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ) ، أَيِ: الرَّجُلُ (يُصَلِّي فَسَلَّمَ) ، أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (عَلَيْهِ، فَرَدَّ الرَّجُلُ) ، أَيْ: عَلَيْهِ السَّلَامَ (كَلَامًا) ، أَيْ: رَدًّا ذَا كَلَامٍ، وَالْمَعْنَى رَدُّ كَلَامٍ لَا رَدُّ إِشَارَةٍ (فَرَجَعَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: إِذَا سُلِّمَ عَلَى أَحَدِكُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَلَى أَحَدٍ (وَهُوَ يُصَلِّي فَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلْيُشِرْ بِيَدِهِ) : وَلَعَلَّهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ كَانَ قَبْلَ نَسْخِ الْكَلَامِ الْحَقِيقِيِّ بِالْحُكْمِيِّ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْإِشَارَةِ إِيمَاءٌ إِلَى اعْتِذَارِهِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا يُشَارُ لِلْمَارِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ رَدِّ السَّلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

[باب السهو]

[بَابُ السَّهْوِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1014 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (20) بَابُ السَّهْوِ أَيْ: حُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ ضِدُّ الْعَمْدِ هُنَا، فَيَشْمَلُ: الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لُغَةً: الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ، وَذَهَابُ الْقَلْبِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ مُتَرَادِفَانِ، أَوِ الْمُرَادُ: سُجُودُ السَّهْوِ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا بِتَرْكِ وَاجِبٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1014 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ ") ، أَيْ: شَرَعَ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَ الْقِيَامَ لِلْغَالِبِ (" يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ ") : " أَلْـ " فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِلْجِنْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ وَهُوَ إِبْلِيسُ أَوِ الشَّيْطَانُ الْمُسَلَّطُ عَلَى الْمُصَلِّينَ مِنْ مَرَدَتِهِ وَأَعْوَانِهِ (" فَلَبَسَ ") : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ، أَيْ: خَلَطَ (" عَلَيْهِ ") : وَشَوَّشَ خَاطِرَهُ، فِي النِّهَايَةِ: لَبَسْتُ الْأَمْرَ، بِالْفَتْحِ، أَلْبَسُهُ إِذَا خَلَطْتُ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] وَرُبَّمَا شُدِّدَ لِلتَّكْثِيرِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا: هُوَ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: خَلَطَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ وَشَبَّهَهَا عَلَيْهِ وَشَكَّكَهُ فِيهَا، نَقَلَهُ مِيرَكُ (" حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟ ") ، أَيْ: رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ غَيْرَهُمَا لِاشْتِغَالِ قَلْبِهِ وَتَشَتُّتِ سِرِّهِ، (" فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ ") ، أَيِ: التَّرَدُّدَ وَعَدَمَ الْعِلْمِ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ (" أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ ") ، أَيْ: وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَنَدْبًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (" سَجْدَتَيْنِ ") ، أَيْ: لِلسَّهْوِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ سَهَا بِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، (" وَهُوَ جَالِسٌ ") : بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا وَقَبْلَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِيهِ تَفْصِيلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى الْخَاقَانِيَّةِ رَجُلٌ صَلَّى وَلَمْ يَدْرِ مَثَلًا أَصَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ قَالَ: إِنْ كَانَ أَوَّلَ مَا سَهَا اسْتَأْنَفَ فَقِيلَ: أَوَّلُ مَا سَهَا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ فِي سُنَّتِهِ، وَقِيلَ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَقِيلَ أَوَّلُ مَا سَهَا فِي عُمْرِهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَلَا يَتَحَرَّى مَا هُوَ الْأَحْرَى، فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ ثُنَائِيَّةٍ يُضِيفُ إِلَيْهَا أُخْرَى وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَقْعُدُ وَيَتَشَهَّدُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مَثَلًا يَجْعَلُ كَأَنَّهُ صَلَّى رَكْعَةً فَيَقْعُدُ مَعَ ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالْقَعْدَةُ عَلَيْهِ فَرْضٌ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

1015 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا، وَفِي رِوَايَتِهِ: " شَفَعَهَا بِهَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1015 - (وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) : هُوَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ ") ، أَيْ: تَرَدَّدَ بِلَا رُجْحَانٍ فَإِنَّهُ مَعَ الظَّنِّ يَبْنِي عَلَيْهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، (" فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا ") : تَمْيِيزٌ رَافِعٌ لِإِبْهَامِ الْعَدَدِ فِي كَمْ (" أَوْ أَرْبَعًا ") ، أَيْ: مَثَلًا (" فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ ") ، أَيْ: مَا يَشُكُّ فِيهِ وَهُوَ الرَّكْعَةُ الرَّابِعَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (" وَلْيَبْنِ ") : بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهِ (" عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ") ، أَيْ: عَلِمَ يَقِينًا وَهُوَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ (" ثُمَّ يَسْجُدْ ") : بِالْجَزْمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (" سَجْدَتَيْنِ ") : فِي الْأَزْهَارِ: وَيَجُوزُ فِيهِ الْجَزْمُ عَطْفًا عَلَى لِيَبْنِ، وَالرَّفْعُ خَبَرٌ أَوْ بِمَعْنَى الْأَمْرِ إِشَارَةً إِلَى الْمُغَايَرَةِ فِي الْحُكْمِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا (" قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: مَوْضِعُهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَتَمَسُّكًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، قُلْتُ: الْحَدِيثَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَالثَّانِي وَافَقَهُمَا الْأَرْبَعَةُ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ فَالْعِلْمُ بِالْأَصَحِّ وَالْأَكْثَرِ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ مَالِكٌ - وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيِمٌ لِلشَّافِعِيِّ - إِنْ كَانَ السُّجُودُ لِنُقْصَانٍ قَدَّمَ وَإِنْ كَانَ لِزِيَادَةٍ أَخَّرَ، وَحَمَلُوا الْأَحَادِيثَ عَلَى الصُّورَتَيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا، قُلْتُ: لَكِنْ أَبُو يُوسُفَ أَلْزَمَ مَالِكًا بِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا وَقَعَ نُقْصَانٌ وَزِيَادَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاقْتَفَى أَحْمَدُ مَوَارِدَ الْحَدِيثِ وَفَصَلَ بِحَسْبِهَا فَقَالَ: إِنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ قَدَّمَ وَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا ثُمَّ تَدَارَكَهُ أَخَّرَ، وَكَذَا إِنْ فَعَلَ مَا لَا نَقْلَ فِيهِ، قُلْتُ: هُوَ أَيْضًا فِيمَا لَا نَقْلَ فِيهِ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ، وَقِيلَ: الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ لَا فِي الْجَوَازِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" فَانْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا ") : تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالسُّجُودِ، أَيْ: فَإِنْ كَانَ مَا صَلَّاهُ فِي الْوَاقِعِ أَرْبَعًا فَصَارَ خَمْسًا بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ رَكْعَةً أُخْرَى (" شَفَعْنَ ") : بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِهَا (" لَهُ صَلَاتَهُ ") : وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْخَمْسِ مَجَازِيٌّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي " شَفَعْنَ " لِلرَّكَعَاتِ الْخَمْسِ، وَفِي " لَهُ " لِلْمُصَلِّي يَعْنِي: شَفَعَتِ الرَّكَعَاتُ الْخَمْسُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ بِالسَّجْدَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: شَفَعَهَا هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ، أَيْ: شَفَعَ الْمُصَلِّي الرَّكَعَاتِ الْخَمْسَ بِالسَّجْدَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ الرَّكْعَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّجْدَتَانِ لِلرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ، كَانَتِ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً لَهُ، أَيْ: وَصَارَتْ صَلَاتُهُ شَفْعًا بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ، وَفِيهِ أَوْضَحُ رَدٍّ عَلَى مَنْ قَالَ: يَأْتِي بِرَكْعَةٍ سَادِسَةٍ حَتَّى تَصِيرَ صَلَاتُهُ شَفْعًا؛ انْتَهَى، وَفِيهِ أَنَّ الشَّفْعَ الْحُكْمِيَّ مَا يُنَافِي الشَّفْعَ الْحَقِيقِيَّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، وَجَعَلَ كَلَامَ الطِّيبِيِّ بِالْمُحَالِ أَشْبَهَ، وَيُشْبِهُ أَنَّهُ مَا فَهِمَ كَلَامَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهُوَ قَدْ أَرَادَ بِهِ الْمَجَازَ، (" وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ ") : قِيلَ نَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ يَعْنِي: إِنْ كَانَ صَلَّى مَا يَشُكُّ فِيهِ لِإِتْمَامِ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ: أَنَّهُ حَالٌ، أَيْ: إِنْ صَلَّى مَا شَكَّ فِيهِ حَالَ كَوْنِهِ مُتَمِّمًا لِلْأَرْبَعِ، فَيَكُونُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، (" كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ ") ، أَيْ: وَإِنْ صَارَتْ صَلَاتُهُ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ أَرْبَعًا كَانَتَا، أَيِ: السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا، أَيْ: إِذْلَالًا لِلشَّيْطَانِ حَيْثُ أَتَى مَا أَبَى عَنْهُ لِلْعَيْنِ، قَالَ الْقَاضِي: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْجُدَ إِذِ الْأَصْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ شَيْئًا، لَكِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَخْلُو عَنْ أَحَدِ خَلَلَيْنِ: إِمَّا الزِّيَادَةُ وَإِمَّا أَدَاءُ الرَّابِعَةِ عَلَى التَّرَدُّدِ، فَيَسْجُدُ جَبْرًا لِلْخَلَلِ، وَالتَّرَدُّدُ لَمَّا كَانَ مِنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَتَلْبِيسِهِ سُمِّيَ جَبْرُهُ تَرْغِيمًا لَهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا) : قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَلَا يَضُرُّ تَقْصِيرُ مَنْ أَرْسَلَهُ ; لِأَنَّ الَّذِينَ وَصَلُوهُ حُفَّاظٌ مَقْبُولَةٌ زِيَادَتُهُمْ، (وَفِي رِوَايَتِهِ) ، أَيْ: رِوَايَةِ مَالِكٍ بَدَلَ: " شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ "، (" شَفَعَهَا بِهَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ ") ، أَيْ: لَمَّا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَصَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى، فَإِذَا صَارَتْ صَلَاتُهُ خَمْسًا شَفَعَهَا، أَيْ: جَعَلَ الْخَمْسَ شَفْعًا بِهَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ سِتًّا بِهِمَا حَيْتُ أَتَى بِمُعْظَمِ أَرْكَانِ الرَّكْعَةِ وَهُوَ السُّجُودُ، فَكَأَنَّهُ أَتَى بِالرَّكْعَةِ السَّادِسَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ هُنَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُصَلِّي رَكْعَةً سَادِسَةً سَهْوٌ ظَاهِرٌ وَخَطَأٌ بَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي الْمُقَدَّرِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُحَقَّقِ، نَعَمْ كَلَامُهُ يُلَائِمُ الْحَدِيثَ الْآتِي، مَعَ أَنَّ ضَمَّ رَكْعَةٍ أُخْرَى مَنْدُوبٌ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: " «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيُلْقِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَةُ نَافِلَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ إِتْمَامًا لِلصَّلَاةِ، وَالسَّجْدَتَانِ مُرْغِمَتَانِ أَنْفَ الشَّيْطَانِ» "، وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِعَدَمِ وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا؛ انْتَهَى، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي النَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1016 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: " وَمَا ذَاكَ؟ " قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1016 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا» ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ: " زَادَ أَوْ نَقَصَ " عَلَى الشَّكِّ (فَقِيلَ لَهُ) ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ (أَزِيدَ) : بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ (فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: " وَمَا ذَاكَ؟ ") : أَوْ مَا ذَاكَ الْقَوْلُ أَوْ مَا سَبَبُ قَوْلِكَ هَذَا؟ يَعْنِي لِمَ تَقُولُونَ أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ وَقِيلَ: " مَا " نَافِيَةٌ، وَذَاكَ إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ وَالتَّذْكِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَصْدَرِ، أَوْ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، (قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا) : وَهُوَ مَحْمُودٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ وَإِلَّا يَتَحَوَّلُ الْفَرْضُ نَفْلًا، (فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَذْهَبَنَا أَنَّ السُّجُودَ قَبْلَ السَّلَامِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بِزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ إِلَّا بَعْدَ السَّلَامِ حِينَ سَأَلُوهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ لِتَعَذُّرِهِ قَبْلَهُ. قُلْتُ: مَا كَانَ السَّلَامُ مُتَعَذِّرًا بَعْدَ السُّجُودِ لِيَقَعَ السَّلَامُ آخِرًا قَصْدًا لِكَوْنِهِ رُكْنًا عِنْدَكُمْ، فَإِنَّ السَّلَامَ الْأَوَّلَ لَا يُعْبَأُ بِهِ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي مَحَلِّهِ، مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ أَعَادَ السَّلَامَ وَلَمْ يَكْتَفِ بِالسَّلَامِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ السَّهْوَ بَعْدَهُ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ يَرُدُّهُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: " ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدْ "، وَالْكَلَامُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَانَ جَائِزًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتَابَعُوهُ لِتَجْوِيزِهِمُ الزِّيَادَةَ ; لِأَنَّ الزَّمَانَ كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ كَذَا قِيلَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا جَاهِلِينَ بِأَنَّ عَلَيْهِمْ سَهْوًا وَتَكَلَّمُوا مُعْتَقِدِينَ فَرَاغَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا عَادَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَادُوا مَعَهُ، وَاغْتُفِرَ لَهُمْ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ لِعُذْرِهِمْ؛ انْتَهَى، وَعَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمُتَابَعَةَ وَاجِبَةٌ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلَا إِشْكَالَ. (وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ) ، أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ (" إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ") ، أَيْ: فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ يُوحَى إِلَيَّ (" أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي ") : فَكَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يُذَكِّرُوهُ بِالْإِشَارَةِ عِنْدَ إِرَادَةِ قِيَامِهِ إِلَى الْخَامِسَةِ، (" وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ ") : التَّحَرِّي: طَلَبُ الْحَرِيِّ: وَهُوَ اللَّائِقُ وَالْحَقِيقُ وَالْجَدِيرُ، أَيْ: فَلْيَطْلُبْ بِغَلَبَةِ ظَنِّهِ وَاجْتِهَادِهِ، أَيِ: (" الصَّوَابَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّحَرِّي: الْقَصْدُ، وَالِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ، وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي (" فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ ") : رَاجِعٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ فَلْيَتَحَرَّ، وَالْمَعْنَى فَلْيُتِمَّ عَلَى ذَلِكَ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ بِأَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَلْيَقْعُدْ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَمِلُ الْقَعْدَةَ الْأُولَى وُجُوبًا، وَفِي مَكَانٍ يَحْتَمِلُ الْقَعْدَةَ الْأُخْرَى فَرْضًا، وَبَقِيَ حُكْمٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ اجْتِهَادٌ وَغَلَبَةُ ظَنٍّ فَلْيَبْنِ عَلَى الْأَقَلِّ الْمُسْتَيْقَنِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، (" ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ ") : بِالْجَزْمِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ (" سَجْدَتَيْنِ ") : وَ " ثُمَّ " لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَلَوْ وَقَعَ تَرَاخٍ يَجُوزُ مَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مُنَافٍ، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ " ثُمَّ " بِمَعْنَى الْوَاوِ هُنَا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَرِيحُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ قَوْلَهُ: " بَعْدَمَا سَلَّمَ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ لَمْ يَرْوِهِ مُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْمُصَنِّفُ كَأَصْلِهِ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا لَكِنَّ عُذْرَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ اتِّفَاقَ الشَّيْخَيْنِ عَلَى أَصْلِ إِخْرَاجِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي كُلِّ أَلْفَاظِهِ، فَاسْتَحْضِرْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.

قُلْتُ: هَذَا التَّقْدِيرُ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيرٍ، إِذْ الِاعْتِرَاضُ أَنَّ قَوْلَهُ: بَعْدَ مَا سَلَّمَ، لَيْسَ إِلَّا مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى، وَإِلَّا فَأَيُّ لَفْظٍ يَكُونُ لِمُسْلِمٍ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى، وَيَبْعُدُ غَايَةَ الْبُعْدِ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ مُسْلِمٍ بَعْدَ السَّلَامِ مَثَلًا، وَيَتَوَجَّهُ الِاعْتِرَاضُ بِجَعْلِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ الِاتِّحَادَ فِي اللَّفْظِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ الْعِبَارَةُ، بَلْ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ اللَّفْظَانِ فِي الصَّوْغِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ، وَالِاتِّحَادُ فِي الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَسُوقًا بِمَعْنًى، وَيَلْزَمُ مَا سَبَقَ لَهُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْمُحَدِّثِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالتَّابِعِ، وَذَكَرُوا أَنَّ الشَّاهِدَ: حَدِيثٌ بِمَعْنَى حَدِيثٍ، وَالتَّابِعَ: مَا يَكُونُ بِلَفْظِهِ، وَذَكَرُوا فِي مِثَالِ الْمُتَابَعَةِ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «أَلَا نَزَعْتُمْ جِلْدَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ» " وَجَعَلُوهُ مُتَابِعًا لِقَوْلِهِ: " «لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَاسْتَمْتَعُوا بِهِ» " وَذَكَرُوا شَاهِدًا لَهُ قَوْلَهُ: " «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» " فَأَحْسِنِ التَّأَمُّلَ؛ لَوْ بَلَغْتَ حَقِيقَةَ التَّحْقِيقِ بِمَعُونَةِ التَّوْفِيقِ.

1017 - وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَدْ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا - قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتْ سَرَعَانُ الْقَوْمِ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ ! وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: " لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ "، فَقَالَ: " أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَيَقُولُ: نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِي أُخْرَى لَهُمَا: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَلَ " لَمْ أَنْسَ "، وَلَمْ تُقْصَرْ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! .» ـــــــــــــــــــــــــــــ 1017 - (وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، قَالَ مَوْلَانَا عِصَامُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَغِسْلِينَ، وَأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْعَلَمِيَّةُ، لَكِنْ قُيِّدَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ بِالْفَتْحِ، وَوَجْهُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالْعُجْمَةُ فِيهِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، لِأَنَّهُ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، قُلْتُ: إِنَّهُ مَضْبُوطٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْحَاضِرَةِ بِالْفَتْحِ، وَيُوَجَّهُ مَنْعُ صَرْفِهِ عَلَى رَأْيِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي اعْتِبَارِ مُطْلَقِ الزَّائِدَيْنِ كَحَمْدُونَ وَعِلِّيُّونَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، مَوْلَى أَنَسٍ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَأَدْرَكَ ثَلَاثِينَ صَحَابِيًّا، أُمَّةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، لَمَّا رَأَى أَنَّ الْجَوْزَاءَ تَقَدَّمَتِ الثُّرَيَّا أَوْصَى وَقَالَ: يَمُوتُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، ثُمَّ أَنَا لِأَنَّهُ أَشْرَفُ مِنِّي فَمَاتَ قَبْلَهُ بِمِائَةِ يَوْمٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: أَمَّنَا، يَدْخُلُ فِيهِ حَرْفُ التَّعْدِيَةِ، فَيُفِيدُ مَعْنَى قَوْلِنَا: أَمَّنَا فَجَعَلَنَا مِنَ الْمُؤْتَمِّينَ بِصَلَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: صَلَّى لَنَا؛ اللَّامُ فِيهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَاءِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ صَلَّى مِنْ أَجْلِنَا لِمَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ مِنْ فَائِدَةِ الْجَمَاعَةِ، وَيُصِيبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَرَكَةِ بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ، قُلْتُ: وَالْبَاءُ تُحْتَمَلُ أَيْضًا لِلسَّبَبِيَّةِ، فَتَكُونُ فِي مَعْنَى اللَّامِ التَّعْلِيلِيَّةِ، (إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا الظُّهْرُ أَوِ الْعَصْرُ عَلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، يَأْتِ فِي رِوَايَةٍ: جَزَمَ بِالظُّهْرِ، وَفِي أُخْرَى بِالْعَصْرِ، قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ. وَالْعَشِيُّ: مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغِيبَ اهـ. فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِمَّا الْمَغْرِبُ وَإِمَّا الْعِشَاءُ غَيْرُ صَحِيحٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَالْعَشِيُّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا وَقَالَ: بِضَمٍّ فَكَسْرٍ مِنَ الْعُشَاءِ، وَهُوَ الظُّلْمَةُ، وَمِنْهُ عَشَا الْبَصَرُ وَأَظْلَمُ اهـ، وَقَدْ خَبَطَ خَبْطَ عُشْوَاءٍ، أَيْ: رَكَّبَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: عَشَا النَّارَ رَآهَا لَيْلًا مِنْ بُعْدٍ فَقَصَدَهَا مُسْتَضِيئًا، وَالْعُشْوَةُ، بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ: تِلْكَ النَّارُ، وَرُكُوبُ الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِ بَيَانٍ وَيُثَلَّثُ، وَبِالْفَتْحِ: الظُّلْمَةُ كَالْعُشْوَاءِ أَوْ مَا بَيْنَ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى رُبُعِهِ، وَالْعِشَاءُ: أَوَّلُ الظَّلَامِ أَوْ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَتَمَةِ، أَوْ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْعَشِيُّ وَالْعَشِيَّةُ: آخِرُ النَّهَارِ، وَصَلَاةُ الْعَشِيِّ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ اهـ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ.

(- قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَدْ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ) ، أَيْ: تِلْكَ الصَّلَاةُ بِالْخُصُوصِ، (وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا -) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَظَنِّي أَنَّهَا الْعَصْرُ أَوِ الْعِشَاءُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِحْدَى صَلَاتَيْهِ هُنَا الظُّهْرُ أَوِ الْعَصْرُ، كَمَا أَفْصَحَتْ بِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ أَيْضًا: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَلِصِحَّةِ الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ وَاقِعَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ مُتَعَدِّدَةٌ، فَكَانَتْ مَرَّةً فِي الظُّهْرِ وَمَرَّةً فِي الْعَصْرِ، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ مُتَّحِدَةٌ وَالصَّلَاةَ هِيَ الْعَصْرُ، فَإِنَّهَا مَجْزُومَةٌ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَإِنَّمَا التَّرَدُّدُ فِي غَيْرِهَا فَيُتْرَكُ الشَّكُّ وَيُعْمَلُ بِالْمُتَيَقَّنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ) ، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ) ، أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَأَتَى (إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ) ، أَيْ: مَطْرُوحَةٍ وَمَوْضُوعَةٍ بِالْعَرْضِ، كَقَوْلِهِمْ: عَرَّضْتُ الْعُودَ عَلَى الْإِنَاءِ، (فِي الْمَسْجِدِ) ، أَيْ، بِمُقَدَّمِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا الْجِذْعُ الَّذِي كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَخْطُبُ مُسْتَنِدًا إِلَيْهِ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْمِنْبَرِ اهـ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: جِذْعًا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، لَكِنْ يَبْعُدُ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِنَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، (فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ) : وَلَعَلَّ غَضَبَهُ لِتَأْثِيرِ التَّرَدُّدِ وَالشَّكِّ فِي فِعْلِهِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ غَضْبَانَ فَوَقَعَ لَهُ الشَّكُّ لِأَجْلِ غَضَبِهِ (وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) ، أَيْ: أَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ مِنْ فَوْقِ الْكَفِّ (وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: الْأَيْسَرِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ مِنْهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِتَّشْبِيكِ فِي الْمُتَوَجِّهِ إِلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ حُكْمًا وَثَوَابًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ إِنْ كَانَ لِمَدِّ الْأَصَابِعِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، أَوْ لِأَخْذِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْجُلُوسِ، أَوْ لِوَضْعِ الْوَجْهِ أَوِ الرَّأْسِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَإِنْ كَانَ لِلَعِبٍ فَمَكْرُوهٌ اهـ. وَهُوَ عَجِيبٌ ; لِأَنَّ التَّشْبِيكَ مُطْلَقٌ فِي الصَّلَاةِ وَحَالِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَوْ كَانَ لِلَعِبٍ فَمُبَاحٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَسَيَأْتِي مَعَ بَيَانِ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ أُخْرَى، (وَخَرَجَتْ سَرَعَانُ النَّاسِ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ وَيُسَكَّنُ جَمْعُ: سَرِيعٍ، وَرُوِيَ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَرُدَّ بِأَنَّهُ خَطَأٌ، وَفِي نُسْخَةٍ " الْقَوْمِ " بَدَلَ " النَّاسِ "، (مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: سَرَعَانُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ خَرَجَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ " خَرَجَ سَرَعَانُ "، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْفَاعِلِيَّةِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ، وَفِي النِّهَايَةِ: السَّرَعَانُ، بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ: أَوَائِلُ النَّاسِ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ إِلَى الشَّيْءِ، وَيَجُوزُ تَسْكِينُ الرَّاءِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ الْأَصِيلِيَّ ضَبَطَ بِضَمٍّ ثُمَّ إِسْكَانٍ كَأَنَّهُ جَمْعُ سَرِيعٍ، (فَقَالُوا: قَصُرَتْ) : بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، أَيْ: صَارَتْ قَصِيرَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا أَرْجَحُ وَأَكْثَرُ نَقَلَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقِيلَ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ قَصَرَهَا (الصَّلَاةُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ أَوِ النِّيَابَةِ (وَفِي الْقَوْمِ) : أَيِ الْبَاقِي فِي الْمَسْجِدِ (أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَاهُ) ، أَيْ: عَظَّمَاهُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا (أَنْ يُكَلِّمَاهُ) ، مِمَّا وَقَعَ لَهُ أَنَّهُ سَهْوٌ أَوْ عَمْدٌ، فَـ " أَنْ يُكَلِّمَاهُ ": بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ضَمِيرِ " هَابَاهُ " لِبَيَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ هَيْبَةُ تَكْلِيمِهِ، لَا نَحْوَ نَظَرِهِ وَاتِّبَاعِهِ، فَلَا يُنَافِي الْحَدِيثَ الْحَسَنَ: " «كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَخْرُجُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ سِوَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنَّهُمَا كَانَا يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا وَيَتَبَسَّمَانِ إِلَيْهِ وَيَتَبَسَّمُ إِلَيْهِمَا» "، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: فَخَشِيَا أَنْ يُكَلِّمَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نُقْصَانِ الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِعْظَامًا لِمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَثَرِ الْغَضَبِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ عَنْ ذِي الْيَدَيْنِ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَبِعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، (وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ) ، أَيْ: كَانَتْ يَدَاهُ أَطْوَلُ مِنْ يَدَيِ الْقَوْمِ (يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: يَدْعُوهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَا الْيَدَيْنِ إِمَّا لِطُولِ يَدِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا كِنَايَةً عَنِ الْبَذْلِ وَالْعَمَلِ، قِيلَ: اسْمُهُ: خِرْبَاقٌ السُّلَمِيُّ الْحِجَازِيُّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: خِرْبَاقٌ لَقَبٌ لَهُ وَاسْمُهُ: عُمَيْرٌ وَيُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: إِنَّ ذَا الْيَدَيْنِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ، صَحَابِيٌّ حِجَازِيٌّ، شَهِدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ، وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا ذُو الشِّمَالَيْنِ، فِيمَا رَوَاهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذُو الْيَدَيْنِ غَيْرُ ذِي الشِّمَالَيْنِ، وَإِنَّ ذَا الْيَدَيْنِ هُوَ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَأَنَّهُ الْخِرْبَاقُ، وَأَمَّا ذُو الشِّمَالَيْنِ فَإِنَّهُ: عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ خُزَاعِيٌّ قَدِمَ مَكَّةَ، أَبُوهُ شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ بِهَا، قَالَ: وَذُو الْيَدَيْنِ عَاشَ حَتَّى رَوَى عَنْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَحَدِيثُ سُجُودِ السَّهْوِ قَدْ شَهِدَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ بَعْدَ بَدْرٍ بِأَعْوَامٍ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ غَيْرُ ذِي الشِّمَالَيْنِ. وَكَانَ الزُّهْرِيُّ مَعَ عِلْمِهِ بِالْمَغَازِي وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ يَقُولُ: إِنَّ ذَا الْيَدَيْنِ هُوَ ذُو الشِّمَالَيْنِ الْمَقْتُولُ بِبَدْرٍ، وَإِنَّ قِصَّةَ السَّهْوِ كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ ثُمَّ أُحْكِمَتِ الْأُمُورُ، قَالَ: وَذَلِكَ وَهْمٌ مِنْهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَدِ اضْطَرَبَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ اضْطِرَابًا يُوجِبُ رَدَّ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَتِهِ خَاصَّةً، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ تَرَكُوهُ لِاضْطِرَابِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ لَهُ إِسْنَادًا وَلَا مَتْنًا وَإِنْ كَانَ إِمَامًا عَظِيمًا، فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ بَشَرٌ، وَالْكَمَالُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ) : بِالْخِطَابِ (أَمْ قَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟) : بِالْوَجْهَيْنِ وَأَمَّا بِفَتْحَتَيْنِ فَمُتَعَدٍّ فَـ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] إِمَّا زَائِدَةٌ أَوْ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: شَيْئًا مِنَ الصَّلَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِضَمٍّ فَكَسْرٍ، وَقِرَاءَةُ الزُّهْرِيِّ بِذَلِكَ مَعَ تَشْدِيدِ الصَّادِ مِنْ " قَصَّرَ " الْمُضَعَّفِ، فَهَذَانَ مُتَعَدِّيَانِ اتِّفَاقًا وَدَخَلَتْ مِنْ فِي حَيِّزِهِمَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ الْفَتْحَتَيْنِ أَيْضًا نُسْخَةٌ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِنَا وَيَأْبَى عَنْهَا أَيْضًا قَوْلُهُ: (فَقَالَ: " لَمْ أَنْسَ، وَلَمْ تُقْتَصَرْ ") : بِالْوَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ (فَقَالَ) ، أَيْ: بَعْدَ تَرَدُّدِهِ بِقَوْلِ السَّائِلِ (" أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ ! ") ، أَيْ: أَتَقُولُونَ كَقَوْلِهِ، أَوْ أَكَانَ كَمَا يَقُولُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: " فَلَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ "، فَقَالَ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اهـ. فَلَمَّا جَزَمَ بِالنِّسْيَانِ اسْتَثْبَتَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: أَوَقَعَ مِنِّي أَنِّي تَرَكْتُ نِصْفَ الصَّلَاةِ كَمَا يَقُولُ؟ وَعَدَلَ عَنْ قَالَ لِتَصْوِيرِ صُورَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ حَتَّى يَسْتَحْضِرَ وَيَتَأَمَّلَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَا الْيَدَيْنِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّلْقِيبِ لِلتَّعْرِيفِ دُونَ التَّهْجِينِ، (فَقَالُوا: نَعَمْ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: صَدَقَ، لَمْ تُصَلِّ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَحِينَئِذٍ تَيَقَّنَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ تَرَكَ رَكْعَتَيْنِ إِمَّا لِتَذَكُّرِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، أَوْ لِإِخْبَارِ اللَّهِ لَهُ بِالْحَالِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِقَوْلِهِمْ: نَعَمْ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَا لِمَا مَرَّ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُصَحَّحَةُ، أَنَّهُ يَجِبُ إِجَابَتُهُ فِي الصَّلَاةِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَإِنْ كَثُرَ، وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَحِينَئِذٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا نَعَمْ، بَلْ أَوْمَئُوا بِالْإِشَارَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ رِوَايَةً صَحِيحَةً أَنَّهُمْ أَوْمَئُوا، أَيْ: نَعَمْ، (فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَحَوَّلَ عَنِ الْقِبْلَةِ سَهْوًا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ قُلْتُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحَوُّلِ الْقِبْلَةِ: نَعَمْ هَذَا يَرِدُ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنْسُوخَاتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَتَقَدَّمَ أَيْ: مَشَى إِلَى مَحَلِّ صَلَاتِهِ إِمَّا لِقُرْبِهِ فَلَمْ يَمْشِ إِلَّا خُطْوَتَيْنِ، وَإِمَّا لِبُعْدِهِ لِكَوْنِهِ لَمْ تَتَوَالَ خُطُوَاتُهُ فَهِيَ وَاقِعَةُ حَالٍ فِعْلِيَّةٌ مُحْتَمَلَةٌ، فَلَا دَلِيلَ فِيهَا لِجَوَازِ الْفِعْلِ الْكَثِيرِ الْمُتَوَالِي فِي الصَّلَاةِ، قُلْتُ: مَعْنَاهُ تَقَدَّمَ

لِلْإِمَامَةِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّكَلُّفَاتِ الْعَجِيبَةِ وَالتَّفْرِيعَاتِ الْغَرِيبَةِ وَفِي قَوْلِهِ: فَصَلَّى مَا تَرَكَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ أَوْضَحُ حُجَّةٍ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ سَلَامَ التَّحَلُّلِ سَهْوًا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَمَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْنِ، مُنْقَطِعٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، قُلْتُ: وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي الْمَذْهَبِ (ثُمَّ سَلَّمَ) : قَالَ الْقَاضِي: دَلَّ حَدِيثُ عَطَاءٍ عَلَى تَقْدِيمِ السُّجُودِ عَلَى السَّلَامِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى تَأْخِيرِهِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: كُلٌّ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ السُّجُودِ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَالَ: قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يُحْكَمْ أَمْرُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَزَلْ نَسْخُ الْكَلَامِ اهـ. وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ الْكَلَامِ نَسْخُ جَمِيعِ مَا وَقَعَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُرَجَّحُ الْأَصَحُّ وَالْأَبْيَنُ وَالْأَقْيَسُ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الصَّلَاةِ خَارِجٌ عَنْهَا تَتِمُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ إِجْمَاعًا، مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ، حَتَّى لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ عِنْدَنَا يَجُوزُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهَمَّامِ، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ " ثُمَّ "، بِمَعْنَى " الْوَاوِ " وَقَعَ سَهْوًا أَيْضًا اهـ، وَفِيهِ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ كَمَا لَا يَخْفَى. (ثُمَّ كَبَّرَ) ، أَيْ: بَعْدَ السَّلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: فَكَبَّرَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ "، وَبِهَا أَخَذَ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ فِي سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالْجُمْهُورُ اكْتَفَوْا بِتَكْبِيرَةِ السُّجُودِ أَخْذًا بِمَا فِي غَالِبِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَبِأَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ فَلَا يُعْمَلُ بِهَا، (وَسَجَدَ) ، أَيْ: لِلسَّهْوِ (مِثْلَ سُجُودِهِ) ، أَيْ: لِلْفَرْضِ مِنَ الصَّلَاةِ، يَعْنِي: لَبِثَ فِيهِ مَا لَبِثَ فِي سَجْدَةِ الْفَرْضِ، وَغَلَطَ مَنْ قَالَ: أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ لِقَوْلِهِ: (أَوْ أَطْوَلَ) : أَيْ: أَكْثَرَ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ) : أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الْجُلُوسَ حَالَةٌ غَيْرُ الرَّفْعِ، (وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ) : أَيْ لِلْهُوِيِّ (وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ) : لِلْفَرْضِ (أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ) : الضَّمِيرُ الْمَفْعُولُ إِلَى ابْنِ سِيرِينَ وَالْمَسْئُولُ عَنْهُ قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَلَّمَ؟) : وَقَوْلُهُ (فَيَقُولُ: نُبِّئْتُ) : جَوَابُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ سُؤَالِهِمْ (أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ) ، أَيْ: بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يُقَالُ هَذَا مُنْقَطِعٌ لَا يَحْتَجُّ بِهِ ; لِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يُدْرِكْ عِمْرَانَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُتَّصِلٌ كَمَا يَأْتِي عَنْ مُسْلِمٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَشْهَدُ لِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ إِنْ سَجَدَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ. قُلْتُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّشَهُّدِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثٍ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّانِي، وَقَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ، عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: ثُمَّ يَتَشَهَّدُ -: أَشَارَ إِلَى أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ، وَأَمَّا رَفْعُ الْقَعْدَةِ فَلَا، ثُمَّ قِيلَ: حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، فَلِذَا لَمْ يَسْتَأْنِفُوا، وَقِيلَ: أَحْكَامُ هَذَا الْحَدِيثِ خُصَّتْ بِمَنْ شَهِدَ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعُذِرُوا فِي مَبْدَأِ أَمْرِ السَّهْوِ فِيمَا فَعَلُوا، وَقَالُوا: وَكَانَ الْحُكْمُ فِيمَا امْتُحِنُوا بِهِ يَوْمَئِذٍ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَغَيَّرَتْ أَحْكَامُ تِلْكَ الْحَادِثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ اتَّفَقَا عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ، فَلَا يُنَافِيهِ خُلُوُّ حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ ذِكْرِ وَضْعِ الْيَدِ وَالتَّشْبِيكِ، وَطُرُقُ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ أَكْثَرَ مِنْهُ طُرُقًا إِلَّا قَلِيلًا اهـ، فَهُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُسَمَّى بِالْمَشْهُورِ، (وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ سَهَا بِأَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى سَجْدَتَيْنِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَشَذَّ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: يَلْزَمُهُ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي

خَبَرِ: " «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ» " لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ مُنْقَطِعٌ، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ وَوَصَلِهِ هُوَ مُئَوَّلٌ وَمُعَارَضٌ بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ الَّذِي هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، (وَفِي أُخْرَى) ، أَيْ: رِوَايَةٌ أُخْرَى (لَهُمَا) : أَيْ لِلشَّيْخَيْنِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَلَ: " لَمْ أَنْسَ ") ، أَيْ: مَكَانَ " لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ ": " كُلُّ ذَلِكَ ") ، أَيْ: كُلٌّ مِنَ النِّسْيَانِ وَالْقَصْرِ (" لَمْ يَكُنْ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا فَقَالَ فَعَلْتُهُ، أَوْ قَالَ مَا فَعَلْتُهُ، وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُ مَا ظَنَّ لَمْ يَأْثَمْ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ كَانَ السَّهْوُ، (فَقَالَ) ، أَيْ: ذُو الْيَدَيْنِ (قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) : يَعْنِي: قَصُرَتِ الصَّلَاةُ، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي قَصْرُهَا سَهْوًا أَوْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَصْرِهَا، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: احْتَجَّ الْأَوْزَاعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْعَمْدَ إِذَا كَانَ مِنْ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ; لِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ تَكَلَّمَ عَامِدًا، وَالْقَوْمُ أَجَابُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَعَمْ عَامِدِينَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ زَعَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ، بِمَكَّةَ وَحُدُوثُ هَذَا الْأَمْرِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ ; لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، أَمَّا كَلَامُ الْقَوْمِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمْ أَوْمَئُوا بِنَعَمْ، وَلَوْ صَحَّ أَنَّهُمْ قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجَابَةُ الرَّسُولِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ، لِمَا رُوِيَ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَرَّ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَدَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] » وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّكَ تُخَاطِبُهُ فِي الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ، فَتَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْخِطَابُ مَعَ غَيْرِهِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا ذُو الْيَدَيْنِ فَكَانَ كَلَامُهُ عَلَى تَقْدِيرِ النَّسْخِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ نَسْخٍ، فَكَانَ كَلَامُهُ عَلَى هَذَا التَّوَهُّمِ فِي حُكْمِ النَّاسِي. وَأَمَّا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا جَرَى عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَمَّلَ الصَّلَاةَ، فَكَانَ فِي حُكْمِ النَّاسِي، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّمَا أَنْسَى " كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَقَدْ زَعَمَ الْقَائِلُ بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَجِبُ بِهِ الْعَمَلُ، فَقَدْ أَخْبَرَ ذُو الْيَدَيْنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَأْمُونٌ، فَالْتَفَتَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ؟ فَكَانَ مُتَكَلِّمًا بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَذْهَبِ هَذَا الْمُخَالِفِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخْرِجًا مِنَ الصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نَسْخِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا مَنْسُوخًا وَأَبُو هُرَيْرَةَ قَدْ كَانَ حَاضِرًا ذَلِكَ، وَإِسْلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَنَسْخُ الْكَلَامِ كَانَ بِمَكَّةَ، قِيلَ لَهُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ عَنْ وَقْتِ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ كَمَا ذَكَرْتَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّ نَسْخَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ بِمَكَّةَ فَمَنْ رَوَى لَكَ هَذَا؟ وَأَنْتَ لَا تَحْتَجُّ إِلَّا بِسَنَدٍ وَلَا تُسَوِّغُ خَصْمَكَ الْحُجَّةَ عَلَيْكَ إِلَّا بِمِثْلِهِ، فَمَنْ أَسْنَدَ لَكَ هَذَا وَعَمَّنْ رَوَيْتَهُ؟ وَهَذَا «زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ الْأَنْصَارِيُّ يَقُولُ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَأُمِرَ بِالسُّكُوتِ» ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي كِتَابِنَا، وَصُحْبَةُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِحَدِيثِهِ هَذَا أَنَّ نَسْخَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، مَعَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَحْضُرْ تِلْكَ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْلًا ; لِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَحَدُ الشُّهَدَاءِ، قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ فَقَالَ: كَانَ إِسْلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَمَا قُتِلَ ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي بِالْمُسْلِمِينَ - وَهَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّا وَإِيَّاكُمْ كُنَّا نُدْعَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ» "، فَهَذَا النَّزَّالُ يَقُولُ: " قَالَ لَنَا "، وَهُوَ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ قَالَ لِقَوْمِنَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: " «كُنَّا نَرُدُّ السَّلَامَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ» "، وَأَبُو سَعِيدٍ فِي السِّنِّ أَيْضًا لَعَلَّهُ دُونَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ بَلْ هُوَ كَذَلِكَ اهـ، مُخْتَصَرًا.

-

1018 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1018 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ) : ابْنِ مَالِكٍ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَأُمُّهُ (ابْنُ بُحَيْنَةَ) : مُصَغَّرًا بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، لَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ، قَالَ: وَأَبُوهُ مَالِكٌ لَهُ صُحْبَةٌ أَيْضًا، وَقَدْ قِيلَ فِي أَبِيهِ: مَالِكُ ابْنُ بُحَيْنَةَ، وَهُوَ وَهْمٌ وَغَلَطٌ، وَإِنَّمَا بُحَيْنَةُ امْرَأَتُهُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ بُحَيْنَةَ نَاسِكًا فَاضِلًا صَائِمَ الدَّهْرِ اهـ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَوْ كُتِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ بُحَيْنَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ أَلِفُ " ابْنٍ " وَيُنَوَّنَ مَالِكٌ لِيَنْدَفِعَ الْوَهْمُ، وَيُعْرَفَ أَنَّ ابْنَ بُحَيْنَةَ نَعْتٌ لِعَبْدِ اللَّهِ لَا لِمَالِكٍ، فَتَأَمَّلْ فِي ذَلِكَ، ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ» ) ، أَيْ: فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ (فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ حَيْثُ تَرَكُوا الْقُعُودَ الْأَوَّلَ وَتَشَهُّدَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: أَنَّهُ لَمَّا قَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ لِلتَّشَهُّدِ سَبَّحُوا لَهُ، فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ، (حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ) ، أَيْ: بَقِيَّتَهَا (وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) ، أَيْ: لِلسَّهْوِ (قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ) : وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَكِنْ جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَثَبَتَ سُجُودُ عُمَرَ بَعْدَ السَّلَامِ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ سُجُودَ عُمَرَ بَعْدَ السَّلَامِ اجْتِهَادٌ فِي غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ السُّجُودِ بِأَنَّهُ سُجُودُ الصَّلَاةِ لَا السَّهْوِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَلَكِنَّهُ بِعِيدٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَنْ قَالَ: وَقَعَ بَعْدَ السُّجُودِ سَهْوًا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا أَيْضًا: وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ، أَيْ: لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ سُجُودَ السَّهْوِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ الْمَأْمُومُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَآخَرُونَ، خِلَافًا ; لِأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ مَذْهَبُنَا إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمُخَالَفَةِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1019 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1019 - (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : أَسْلَمَ هُوَ وَابْنُهُ عَامَ خَيْبَرَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ، النَّبِيَّ (صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) ، أَيْ: بَعْدَمَا سَلَّمَ، كَمَا يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُهُ الْآتِي (ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِتَفَرُّدِ رُوَاتِهِ بِزِيَادَةِ التَّشَهُّدِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِبَقِيَّةِ الرُّوَاةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَحِفْظِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ وَعَدَمِ لُحُوقِهِ بِمَرْتَبَتِهِمْ، قُلْتُ: مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَلَيْسَ فِي رِوَايَاتِ غَيْرِهِ تَعَرُّضٌ لِلتَّشَهُّدِ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ غَيْرُ مُضِرٍّ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ أَخَذُوا مِنْ ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ التَّشَهُّدَ بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ مَنْدُوبٌ، بَلِ ادَّعَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إِمَامُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: وَدَعْوَى التِّرْمِذِيِّ غَرَابَتَهُ لَا تُؤَثِّرُ ; لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ كَالضَّعِيفِ، وَهُوَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ اتِّفَاقًا. قُلْتُ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْغَرَابَةَ لَا تُنَافِي الصِّحَّةَ وَالْحُسْنَ. وَلِذَا قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ فَإِطْلَاقُ الضَّعْفِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا ابْنُ حَجَرٍ، فَرَدَّ كَلَامَ أَصْحَابِهِ بِأَنَّ مَحَلَّ الْعَمَلِ بِالضَّعِيفِ فِي الْفَضَائِلِ مَا إِذَا لَمْ يُعَارِضْهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ يُعَارِضُهُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا بَيَّنَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّشَهُّدِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ أَنَّ مَحَلَّ السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ.

-

1020 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا قَامَ الْإِمَامُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ، وَإِنِ اسْتَوَى قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1020 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ الْإِمَامُ ") ، أَيْ: شَرَعَ فِي الْقِيَامِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُنْفَرِدُ (" فِي الرَّكْعَتَيْنِ ") ، أَيْ: بَعْدَهُمَا مِنَ الثُّلَاثِيَّةِ أَوِ الرُّبَاعِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ وَيَتَشَهَّدَ (" فَإِنْ ذَكَرَ ") ، أَيْ: تَذَكَّرَ أَنَّ عَلَيْهِ بَقِيَّةً مِنَ الصَّلَاةِ (قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا ") : سَوَاءٌ يَكُونُ إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ، أَوْ إِلَى الْقُعُودِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْهَمَّامِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ، (" فَلْيَجْلِسْ ") : وَفِي وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْوُجُوبِ ; لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يُعَدَّ قِيَامًا، فَكَانَ قُعُودًا، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَهُ الْآتِيَ: " وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ " خَاصٌّ بِالْقِسْمِ الثَّانِي، فَلَا يَسْجُدْ هُنَا لِلسَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي عِدَّةٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «لَا سَهْوَ فِي وَثْبَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا قِيَامٌ عَنْ جُلُوسٍ، أَوْ جُلُوسٌ عَنْ قِيَامٍ» " وَإِنِ اسْتَوَى قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ " لِتَلَبُّسِهِ بِغَرَضٍ فَلَا يَقْطَعْهُ (" وَيَسْجُدُ ") : بِالرَّفْعِ (" سَجْدَتَيِ السَّهْوِ ") : لِتَرْكِهِ وَاجِبًا وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأُولَى، ثُمَّ لَوْ عَادَ بَعْدَمَا اسْتَوَى قَائِمًا فَسَدَتْ فِي الْأَصَحِّ لَتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِرَفْضِ الْفَرْضِ بَعْدَ مَا شَرَعَ فِيهِ لِأَجْلِ مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَوْ قَامَ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ إِلَى الْخَامِسَةِ، أَوْ قَعَدَ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ السُّجُودِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَامَ إِلَى الرَّابِعَةِ فِي الْمَغْرِبِ، أَوِ الثَّالِثَةِ فِيهِ، أَوْ فِي الْفَجْرِ، أَوْ قَعَدَ بَعْدَ رَفْعِهِ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ فِي صُورَةٍ، وَبِمُجَرَّدِ الْقُعُودِ فِي صُورَةٍ لِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ التَّشَهُّدُ وَالسَّلَامُ فِي صُورَةِ الْقِيَامِ، وَلِتَأْخِيرِ الرُّكْنِ وَهُوَ الْقِيَامُ فِي صُورَةِ الْقُعُودِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَهُ شَوَاهِدُ صَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ بَعْضَهَا وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ بَاقِيهَا وَبِهِ يُرَدُّ قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، لَكِنْ قَالَ غَيْرُهُ: أَنَّهُ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَعَلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَيْ: عَلَى انْفِرَادِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1021 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعَصْرَ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَصَدَقَ هَذَا؟ قَالُوا نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1021 - (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعَصْرَ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: " حُجْرَتَهُ " وَفِيهِ تَرْكُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالْمَشْيُ الْكَثِيرُ سَهْوًا وَهُوَ مُبْطِلٌ عِنْدَنَا، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ كَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، (فَقَامَ إِلَيْهِ) : أَيْ: فِي أَثْنَاءِ دُخُولِ مُنْزِلِهِ (رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَفِي آخِرِهِ قَافٌ، لَقَبُهُ أَوِ اسْمُهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَسْلَمَ فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَاشَ حَتَّى رَوَى عَنْهُ مُتَأَخِّرُو التَّابِعِينَ، وَهُوَ ذُو الْيَدَيْنِ السَّابِقُ كَمَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَغَيْرُ ذِي الشِّمَالَيْنِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ كَالزُّهْرِيِّ وَالشَّارِحِ هُنَا، ثُمَّ رَأَيْتُ الْعَلَائِيَّ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْتُهُ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي اسْمِ ذِي الْيَدَيْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ فَضْلَةَ السُّلَمِيُّ، ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: خِرْبَاقٌ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، قُلْتُ: وَعُمَيْرُ بْنُ عَمْرٍو بْنِ فَضْلَةَ هُوَ ذُو الشِّمَالَيْنِ لَا ذُو الْيَدَيْنِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهِمَ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ اهـ. وَذَهَبَ أَبُو حَاتِمِ، وَابْنُ حِبَّانَ إِلَى أَنَّ الْخِرْبَاقَ غَيْرُ ذِي الْيَدَيْنِ وَذِي الشِّمَالَيْنِ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقُرْطُبِيُّ فَقَالَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِرْبَاقُ ذَا الْيَدَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، (وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ) : أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلِذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ) : أَيْ: مِنْ تَسْلِيمِهِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ لِنِسْيَانٍ أَوْ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ؟ (فَخَرَجَ) : أَيْ: مِنْ مَنْزِلِهِ (غَضْبَانَ) : لِأَمْرٍ مَا (يَجُرُّ رِدَاءَهُ) : أَيْ: مُسْتَعْجِلًا (حَتَّى؛ انْتَهَى إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: " أَصَدَقَ هَذَا؟ " قَالُوا: نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؟ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1022 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ صَلَّى صَلَاةً يَشُكُّ فِي النُّقْصَانِ، فَلْيُصَلِّ حَتَّى يَشُكَّ فِي الزِّيَادَةِ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1022 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ صَلَّى صَلَاةً يَشُكُّ فِي النُّقْصَانِ ") : أَيْ: وَلَيْسَ عِنْدَهُ غَلَبَةُ ظَنٍّ وَطَرَفٌ رَاجِحٌ (" فَلْيُصَلِّ ") : أَيْ: فَلْيَبْنِ عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ (" حَتَّى يَشُكَّ فِي الزِّيَادَةِ ") : فَإِنَّ زِيَادَةَ الطَّاعَةِ خَيْرٌ مِنْ نُقْصَانِهَا قَالَ الطِّيبِيُّ: كَمَنْ صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ مَثَلًا وَشَكَّ هَلْ هِيَ ثَالِثَةٌ أَوْ رَابِعَةٌ؟ فَيُصَلِّي الرَّابِعَةَ فَهُوَ فِي هَذَا شَاكٌّ أَهِيَ رَابِعَةٌ أَمْ خَامِسَةٌ؟ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب سجود القرآن]

[بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ]

(21) بَابُ سُجُودِ الْقُرْآنِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1023 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ (بِالنَّجْمِ) وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» ؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [21]- بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ أَيْ: سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَهِيَ سَجْدَةٌ مُفْرَدَةٌ مَنْوِيَّةٌ مَخْفُوفَةٌ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ، مَشْرُوطٌ فِيهَا مَا شُرِطَ لِلصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ يَدٍ وَقِيَامٍ وَتَشَهُّدٍ وَتَسْلِيمٍ، وَتَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سُنَّةٌ عَلَى الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا لِلْقِرَاءَةِ بَلْ حَصَلَ لَهُ سَمَاعٌ، عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَصَحُّهُمَا فِي الرَّوْضَةِ الِاسْتِحْبَابُ أَيْضًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ إِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ، فَقِيلَ: عَلَيْهِمَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقِيلَ: لَا سَجْدَةَ لَهُمَا اهـ، وَعِنْدَنَا تَتَدَاخَلُ السَّجَدَاتُ إِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ سَجَدَ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1023 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّجْمِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ سُورَةُ النَّجْمِ، قُلْتُ: الْمُرَادُ آيَةُ السَّجْدَةِ مِنْهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ خِلَافًا لِمَالِكٍ، (وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ، وَالْإِنْسُ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ اللَّامَاتُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لِلْعَهْدِ، أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَهُ، وَهَذَا كَانَ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَبَبُ تَقْدِيمِ الْجِنِّ لِمَا فِي سُجُودِهِمْ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَسَبَبُ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا وَصَلَ فِيهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ قَرَأَ الشَّيْطَانُ مُحَاكِيًا لِصَوْتِهِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى وَأَدْخَلَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ قَدْ أَثْنَى عَلَى آلِهَتِهِمْ فَفَرِحُوا، فَلَمَّا سَجَدَ سَجَدُوا، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52] ، أَيْ: قَرَأَ {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] ، أَيْ: قِرَاءَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَرَى عَلَى لِسَانِهِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَحَاشَا مَقَامِهِ عَنْ ذَلِكَ، كَذَا نَقَلَهُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَالْغَرَانِيقُ: بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ، طُيُورُ الْمَاءِ شُبِّهَتِ الْأَصْنَامُ الْمُعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ بِالطُّيُورِ، وَتَعْلُو فِي السَّمَاءِ وَتَرْتَفِعُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: وَقِيلَ: أَنَّهُ شَقَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَلِّي قَوْمِهِ عَنْهُ وَمُبَاعَدَتُهُمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ، فَجَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَادِيَةٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ، وَتَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُ اللَّهُ بِمَا يُقَارِبُ بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَأَنْ لَا يَأْتِيَهُ بِمَا يَنْفِرُونَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ النَّجْمِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَلَغَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقَ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى، فَفَرِحَتْ قُرَيْشٌ، وَمَضَى كُلٌّ عَلَى قِرَاءَتِهِ وَسَجَدَ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ لِسُجُودِهِ، وَسَجَدَ جَمِيعُ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَفَرَّقُوا مَسْرُورِينَ بِمَا سَمِعُوا مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا رَأَوْهُ مِنَ السَّجْدَةِ، وَقَالُوا: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا فَأَحْسَنَ الذِّكْرَ، فَنَحْنُ نُوَافِقُهُ كَمَا وَافَقَنَا فِي مَدْحِ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا انْتَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ! تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فَحَزِنَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُزْنًا شَدِيدًا، فَخَافَ مِنْهُ تَعَالَى خَوْفًا بَلِيغًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ مَدْحِ آلِهَتِنَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَازْدَادُوا شَرًّا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا سُجُودُ الْجِنِّ، فَكَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمُونَ وَمُشْرِكُونَ فَوَافَقُوا الرَّسُولَ كَمَا وَافَقَ الْإِنْسُ اهـ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ عَلَى مِنْوَالِ لِسَانِهِ وَحِكَايَةِ صَوْتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْإِلْقَاءِ، وَلَا قُدْرَةُ الْإِغْوَاءِ عَلَى سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَنَدِ الْأَصْفِيَاءِ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَجَدَ هَذِهِ السَّجْدَةَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُفْتَتَحِ السُّورَةِ مِنْ أَنَّهُ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وَذَكَرَ شَأْنَ قُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، وَأَنَّهُ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا سَمِعُوا أَسْمَاءَ طَوَاغِيتِهِمُ اللَّاتِ وَالْعُزَّى سَجَدُوا مَعَهُ، وَأَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّهُمْ سَجَدُوا لَمَّا مَدَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاطِيلَهُمْ فَقَوْلٌ بَاطِلٌ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الزَّنَادِقَةِ اهـ. لَكِنَّ تَعْلِيلَهُ السَّجْدَةَ، بِمَا ذَكَرَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ سَجْدَتَهُ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ لَا سَجْدَةُ شُكْرٍ بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: سَبَبُ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ فِي مَحَالِّهَا الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ، أَنَّ آيَاتِهَا مَسُوقَةٌ لِمَدْحِ السَّاجِدِينَ أَوْ ذَمِّ مَنْ أَبَى السُّجُودَ أَوِ الْأَمْرَ بِهِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ لَا سَجْدَةُ شُكْرٍ اهـ. فَشَكَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى حُسْنِ التَّوَارُدِ، وَيُؤَيِّدُهُ عُنْوَانُ الْبَابِ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ رَدَّهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ الطِّيبِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ لَكِنَّ الشَّيْخَ ابْنَ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَطَالَ فِي ثُبُوتِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى ذَلِكَ فِي سَكْتَةٍ مِنْ سَكَتَاتِهِ، وَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسَمِعَهَا غَيْرُهُ فَأَشَاعَهَا، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ السَّامِعُونَ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا جَرَتْ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا وَنَبَّهَ عَلَيْهِ، قَالَ شَيْخُنَا عُمْدَةُ الْمُفَسِّرِينَ الشَّيْخُ عَطِيَّةُ نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْعِصْمَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ اهـ. لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: إِجْرَاءُ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَبْرًا بِحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فَفِي حَقِّهِ بِالْأَوْلَى؛ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا أَوْ غَفْلَةً مَرْدُودٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِ، سِيَّمَا فِي حَالِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَلَوْ جَازَ لَبَطَلَ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِ، ثُمَّ اخْتَارَ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَتَكَلَّمُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُسْمَعُ كَلَامُهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَادَى يَوْمَ أُحُدٍ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وَقَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال: 48] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

1024 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] ، وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1024 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] » ، أَيْ: عَقِبَ: لَا يَسْجُدُونَ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، أَيْ: آخِرِهَا، وَهُمَا مِنَ الْمُفَصَّلِ، فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.

1025 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ (السَّجْدَةَ) وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ، فَنَزْدَحِمُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1025 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ السَّجْدَةَ) ، أَيْ: آيَةَ سَجْدَةٍ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا، أَوْ بِمَا بَعْدَهَا لَا مُنْفَرِدَةً، أَوِ التَّقْدِيرُ يَقْرَأُ سُورَةَ السَّجْدَةِ، أَيْ: سُورَةً فِيهَا آيَةُ سَجْدَةٍ، (وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ، فَنَزْدَحِمُ) ، أَيْ: نَجْتَمِعُ حَيْثُ ضَاقَ الْمَكَانُ عَلَيْنَا (حَتَّى مَا يَجِدُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ (أَحَدُنَا) : قَالَ مِيرَكُ: أَيْ " بَعْضُنَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ وَلَا وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ (لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ) ، أَيْ: مَعَهُمْ فَيُؤَخِّرُ السَّجْدَةَ عَنْهُمْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: «كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ» ، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: رُوِيَ «عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ تَلَا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ» ، وَالسُّنَّةُ فِي أَدَائِهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ التَّالِي وَيُصَفَّ السَّامِعُونَ خَلْفَهُ، وَلَيْسَ هَذَا اقْتِدَاءٌ حَقِيقَةً بَلْ صُورَةً، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَسْبِقُوهُ بِالْوَضْعِ وَلَا بِالرَّفْعِ، فَلَوْ كَانَ حَقِيقَةُ الِائْتِمَامِ لَوَجَبَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَشْرُوعِيَّةُ السُّجُودِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِهِ، فَعِنْدَنَا هُوَ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أُمِرْنَا بِالسُّجُودِ يَعْنِي لِلتِّلَاوَةِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْلِ، فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى قَرَأَهَا فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ. قُلْتُ: الْحَدِيثَانِ مَوْقُوفَانِ، وَمَعَ هَذَا فَإِمَّا مَحْمُولَانِ عَلَى اجْتِهَادِهِمَا، أَوْ عَلَى بَيَانِ نَفْيِ وُجُوبِ الْفَوْرِيَّةِ، قَالَ: وَيَتَأَكَّدُ لِلْمُسْتَمِعِ أَكْثَرَ لِمَا صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ فَوْرِيَّتُهُ عَلَيْهِ لِمَا فِي تَأْخِيرِهِ مِنْ ظُهُورِ الْمُخَالَفَةِ الْمَذْمُومَةِ، سِيَّمَا إِذَا سَجَدَ الْقَارِئُ، أَوْ سَجَدَ، مَعَهُ الْحَاضِرُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1026 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَالنَّجْمِ) ، فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1026 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّجْمِ) ، أَيْ: سُورَتَهَا إِلَى آخِرِهَا (فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سُجُودٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَنَّ زَيْدًا لَمْ يَسْجُدْ ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى طُهْرٍ، أَوْ مَنَعَهُ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، أَوْ سَجَدَ فِي وَقْتٍ وَتُرِكَتْ فِي آخَرَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الْفَرْضِ، وَأَيْضًا فَالْوُجُوبُ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ: إِنَّمَا تَرَكَهُ ; لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ هُوَ الْإِمَامُ أَيِ: الْقَارِئُ؛ وَلَمْ يَسْجُدْ فَتَرَكَهُ تَبَعًا لَهُ أَيْ: بِنَاءً عَلَى تَوَقُّفِ سُجُودِ السَّامِعِ عَلَى الْقَارِئِ كَمَا قِيلَ بِهِ عَجِيبٌ مِنْهُ، فَإِنَّ كَوْنَ التَّرْكِ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، وَالتَّرْكُ مَعَ ثُبُوتِ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي النَّسْخَ وَإِنْ عَلِمَ تَأْخِيرَهُ، وَبِهَذَا يُرَدُّ اتِّفَاقُ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّ التِّلْمِيذَ إِذَا قَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ لَمْ يَسْجُدِ الشَّيْخُ إِنْ لَمْ يَسْجُدِ التِّلْمِيذُ. قُلْتُ: هَذَا نَقْلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلِذَا قَالَ السُّبْكِيُّ: إِنْ صَحَّ مَا قَالُوهُ، فَحَدِيثُ زَيْدٍ حُجَّةٌ لَهُمْ، وَأَمَّا تَصْرِيحُ النَّوَوِيِّ: بِأَنَّهَا لَا تُسَنُّ لِلْمُفَسِّرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْقِرَاءَةَ؛ وَهُوَ يَبْعُدُ جِدًّا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْرَأِ اللَّفْظَ وَيُعَبِّرْ عَنْهُ بِغَيْرِهِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1027 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «سَجْدَةُ (ص) ، لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ فِيهَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1027 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَجْدَةُ " ص ") : بِسُكُونٍ أَوْ فَتْحٍ أَوْ كَسْرٍ بِتَنْوِينٍ وَبِدُونِهِ، وَقَدْ تُكْتَبُ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ بِاعْتِبَارِ اسْمِهَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْلَى لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ (لَيْسَ) : تَذْكِيرُهُ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى السُّجُودِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَيْسَ فِعْلُهَا (مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ) : الْعَزِيمَةُ: عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الشَّيْءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْأَصَالَةِ كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا، وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْفَرِيضَةِ أَكْثَرُ مِنَ السُّنَّةِ، فَمَعْنَاهُ لَيْسَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ سُنَّةٌ، فَمَعْنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ لَيْسَتْ مِنْ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ، بَلْ سَجْدَةُ شُكْرٍ، (وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ فِيهَا) : أَيْ: فِي سَجْدَةِ (ص) فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.

1028 - وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَأَسْجُدُ فِي (ص) ؟ فَقَرَأَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] حَتَّى أَتَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، فَقَالَ: نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1028 - (وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَأَسْجُدُ فِي (ص) فَقَرَأَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) : أَيْ: ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَيْ: ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّ لُوطًا مِنْ جُمْلَةِ الْمَذْكُورِينَ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ إِجْمَاعًا، دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ حَتَّى أَتَى) : أَيْ: وَصَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى، أَوْ حَتَّى أَتَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، (فَقَالَ) : أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْآيَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِتْيَانِ السَّجْدَةِ (نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ (بِهِمْ) : أَيْ: بِهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ لِتَجْتَمِعَ فِيهِ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي وُجِدَتْ فِيهِمْ مُتَفَرِّقَةً، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ دَاوُدُ، وَهُوَ قَدْ سَجَدَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَنْتَ أَوْلَى بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، أَوْ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ اقْتَدَى بِدَاوُدَ وَسَجَدَ فِيهَا، وَهَذَا بِإِطْلَاقِهِ أَيْضًا يَشْمَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلِلنَّسَائِيِّ مَعْنَاهُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1029 - عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ (الْحَجِّ) ، سَجْدَتَيْنِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1029 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَقْرَأَ) : أَيْ: عَمْرًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَقْرَأَنِي، أَيْ: أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ (خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ حَمَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي قِرَاءَتِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً (فِي الْقُرْآنِ) : فِي النِّهَايَةِ: إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ، أَوِ الْحَدِيثَ عَلَى الشَّيْخِ يَقُولُ: أَقْرَأَنِي فُلَانٌ، أَيْ: حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ، (مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ) : وَهِيَ: (النَّجْمُ) ، (وَانْشَقَّتْ) ، وَ (اقْرَأْ) ، وَقَدْ عَلِمَ مَحَالَّهَا، (وَفِي سُورَةِ (الْحَجِّ) : أَيْ: وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ (سَجْدَتَيْنِ) : أَيْ: عَقِبَ مَا يَشَاءُ، وَ (تُفْلِحُونَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَبِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ أَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ سَجْدَةَ (ص) ، وَأَبُو حَنِيفَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْحَجِّ، قُلْتُ:

وَأَخْرَجَ مَالِكٌ الْمُفَصَّلَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ، بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: «وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً» وَإِسْنَادَهُ وَاهٍ اهـ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنَيْنٍ، بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَبِنُونَيْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: وَابْنُ مُنَيْنٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَذَلِكَ لِجَهَالَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ حَالٌ اهـ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ نَقْلًا عَنِ السَّبِيعِيِّ التَّابِعِيِّ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ سَبْعِينَ سَنَةً يَسْجُدُونَهَا، فَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ الْعَشَرَةُ الْبَاقِيَةُ فِي الْأَعْرَافِ عَقِبَ آخِرِهَا، وَالرَّعْدِ عُقَيْبِ (الْآصَالِ) ، وَالنَّحْلِ عَقِبَ (يُؤْمَرُونَ) ، وَقِيلَ: (يَسْتَكْبِرُونَ) ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ، وَ (سُبْحَانَ) عَقِبَ (خُشُوعًا) وَ (مَرْيَمَ) عَقِبَ (وَبُكِيًّا) ، (وَالْفُرْقَانِ) عَقِبَ (نُفُورًا) ، وَ (النَّمْلِ) عَقِبَ (الْعَظِيمِ) ، وَقِيلَ: (يُعْلِنُونَ) وَرُدَّ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ لَا تَوْقِيفَ يُعْلَمُ هُنَا، وَ (الم السَّجْدَةَ) عَقِبَ (يَسْتَكْبِرُونَ) وَفُصِّلَتْ عَقِبَ (يَسْأَمُونَ) ، وَقِيلَ: (يَعْبُدُونَ) ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ سَجَدَاتِ الْقُرْآنِ فَقَالَ أَحْمَدُ: خَمْسَ عَشْرَةَ أَخْذًا بِظَاهِرِ حَدِيثِ عَمْرٍو هَذَا فَأَدْخَلَ سَجْدَةَ (ص) فِيهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، مِنْهَا ثِنْتَانِ فِي الْحَجِّ، وَثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَلَيْسَتْ سَجْدَةَ (ص) مِنْهُنَّ، بَلْ هِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا» "، أَيْ: عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ تَعَالَى دَاوُدَ، وَهِيَ قَبُولُ التَّوْبَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَأَسْقَطَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْحَجِّ، وَأَثْبَتَ سَجْدَةَ (ص) ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِحْدَى عَشْرَةَ، فَأَسْقَطَ سَجْدَةَ (ص) وَسَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، «لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَسْجُدُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ» ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا فِي آخِرِ سُورَةٍ، فَالرُّكُوعُ يَكْفِي عَنِ السَّجْدَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ اهـ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَفْصِيلُهُ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: كُلُّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ فَرَكَعَ وَنَوَاهَا فِيهِ، أَوْ لَمْ يَنْوِ فَسَجَدَ لِلصَّلَاةِ سَقَطَتْ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْرَأْ بَعْدَهَا ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَفِيمَا إِذَا قَرَأَ ثَلَاثًا خِلَافٌ، فَإِنْ قَرَأَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ فَلَا بُدَّ مِنَ السُّجُودِ لَهَا قَصْدًا، وَلَا يَتَأَدَّى بِالرُّكُوعِ وَلَا بِسُجُودِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَقْضِي خَارِجَهَا.

1030 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلَتْ سُورَةُ (الْحَجِّ) بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": " فَلَا يَقْرَأْهَا "، كَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1030 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلَتْ) : بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا قُصِدَ بِهِ طَلَبُ التَّقْرِيرِ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ (سُورَةُ الْحَجِّ بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ؟) : وَفِي غَيْرِهَا سَجْدَةٌ؟ (قَالَ: " نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا ") ، أَيِ: السَّجْدَتَيْنِ (" فَلَا يَقْرَأْهُمَا ") ، أَيْ: آيَتَيِ السَّجْدَةِ حَتَّى لَا يَأْثَمَ بِتَرْكِ السَّجْدَةِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ وُجُوبَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَلَمْ يَقْرَأْهُمَا، أَيْ: فَكَأَنَّهُ مَا قَرَأَهُمَا حَيْثُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِمَا، وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَلَا يَقْرَأْهَا بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى السُّورَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ السُّورَةُ كَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأْهَا بِكَمَالِهَا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَذَا وَجَدْنَاهَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ فَلَا يَقْرَأْهُمَا بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى السَّجْدَتَيْنِ، وَكَذَا وَجَدْنَا فِي كِتَابَيْ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَوَجْهُ النَّهْيِ أَنَّ السَّجْدَةَ شُرِعَتْ فِي حَقِّ التَّالِي بِتِلَاوَتِهِ، وَالْإِتْيَانُ بِهَا مِنْ حَقِّ التِّلَاوَةِ، فَإِذَا كَانَ بِصَدَدِ التَّضْيِيعِ، فَالْأَوْلَى بِهِ تَرْكُهَا، لِأَنَّهَا إِمَّا وَاجِبَةٌ فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهَا، أَوْ سُنَّةٌ فَيَتَضَرَّرُ بِالتَّهَاوُنِ بِهَا، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَجِّ لِلصَّلَاةِ عِنْدَنَا؟ لِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالْأَمْرِ بِالرُّكُوعِ، وَالْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْقُرْآنِ كَوْنُهُ مِنْ أَوَامِرِ مَا هُوَ رُكْنُ الصَّلَاةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ نَحْوَ: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ:) ، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) : قَالَ مِيرَكُ: يُرِيدُ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ لَهِيعَةَ، وَمِشْرَحَ بْنَ هَاعَانَ وَفِيهِمَا كَلَامٌ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِمَا، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ كَأَنَّهُ لِأَجْلِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَقَالَ: أَيْ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا وَلَا يَصِحُّ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا نُقِمَ أَيْ: كُرِهَ اخْتِلَاطُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا وَجْهُ ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سُجُودِ الْحَجِّ: الْأُولَى عَزْمَةٌ، وَالْأُخْرَى تَعْلِيمٌ، فَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا نَأْخُذُ. (وَفِي الْمَصَابِيحِ: " فَلَا يَقْرَأْهَا ") ، أَيِ: السُّورَةَ، أَوْ آيَةَ السَّجْدَةِ، (كَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: كَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَلَا يَقْرَأْهَا بِغَيْرِ مِيمٍ وَهُوَ غَلَطٌ، وَالَّذِي ثَبَتَ فِي أُصُولِ رِوَايَاتِنَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ.

-

1031 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ، فَرَأَوْا أَنَّهُ قَرَأَ (تَنْزِيلَ السَّجْدَةَ) » ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1031 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ) ، أَيْ: سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ (ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَمَّا قَامَ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ رَكَعَ وَلَمْ يَقْرَأْ بَعْدَ السَّجْدَةِ شَيْئًا مِنْ بَاقِي السُّورَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ جَائِزَةً، قُلْتُ: بَلِ الْقِرَاءَةُ بَعْدَهَا أَفْضَلُ، وَلَعَلَّهَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تَطُولُ أَوْ تَرَكَهَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، مَعَ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي عَدَمِ قِرَاءَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آخِرَ السُّورَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِالرُّكُوعِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَيْضًا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا اخْتِيَارًا لِلْعَمَلِ بِالْأَفْضَلِ، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: ثُمَّ النَّصُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ السُّجُودَ بِهَا أَفْضَلُ هَكَذَا مُطْلَقًا فِي الْبَدَائِعِ، وَوَجْهَهُ أَنَّهُ إِذَا سَجَدَ ثُمَّ قَامَ وَرَكَعَ حَصَلَ قُرْبَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا رَكَعَ، وَلِأَنَّهُ بِالسُّجُودِ مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ فَمَعْنَاهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَفْضَلُ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ تَأَدِّيَهَا فِي ضِمْنِ الرُّكُوعِ هُوَ الْقِيَاسُ، وَالِاسْتِحْسَانُ عَدَمُهُ. وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِيهِمَا وَاحِدٌ، فَكَانَا فِي حُصُولِ التَّعْظِيمِ بِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَالْحَاجَةُ إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ إِمَّا اقْتِدَاءٌ بِمَنْ عَظُمَ، وَإِمَّا مُخَالَفَةٌ لِمَنِ اسْتَكْبَرَ، فَكَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الْجَوَازُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّعْظِيمُ بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ السُّجُودُ، ثُمَّ أَخَذُوا بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَوْا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا أَجَازَا أَنْ يَرْكَعَ عَنِ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُهُ، (فَرَأَوْا) ، أَيْ: عَلِمُوا (أَنَّهُ قَرَأَ تَنْزِيلَ السَّجْدَةَ) : بِنَصْبِ (تَنْزِيلَ) عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَبِرَفْعِهِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَ (السَّجْدَةَ) مَجْرُورَةٌ، وَيَجُوزُ نَصْبُهَا بِتَقْدِيرِ (أَعْنِي) وَرَفْعُهَا بِتَقْدِيرِ (هُوَ) ، وَالْمَعْنَى: سَمِعُوا بَعْضَ قِرَاءَتِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِبَعْضِ مَا يَقْرَأُ بِهِ فِي الصَّلَوَاتِ السِّرِّيَّةِ، لِيَعْلَمُوا سُنِّيَّةَ قِرَاءَةِ تِلْكَ السُّورَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّامِعِينَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يَلُونَهُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَزَادَ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنَ الظُّهْرِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْتُرِضَ بِمَا لَا يُجْدِي، وَمِنْ ثَمَّ اعْتَرَضَ الْقُرْطُبِيُّ، مِنْ أَكَابِرِ الْمَالِكِيَّةِ، بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْعَ مَالِكٍ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرٌ فِي نَدْبِهِ، فَضْلًا عَمَّا صَرَّحَ بِهِ مِنْ جَوَازِهِ إِذْ لَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَحْمِلَهُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ.

1032 - وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ، كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1032 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ، كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ إِلَّا لِلسُّجُودِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيُكَبِّرُ لِلْإِحْرَامِ ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلسُّجُودِ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَتَيْنِ مَنْدُوبَتَانِ لَا وَاجَبَتَانِ، فَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ أَيِ: الرَّفْعُ، لِلْتَحْرِيمَةِ، وَلَا تُحَرَّمُ وَإِنِ اشْتُرِطَ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُكَبَّرُ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ، وَعَنْهُ يُكَبَّرُ عِنْدَهُ لَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَقِيلَ: يُكَبَّرُ فِي الِابْتِدَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الِانْتِهَاءِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ نَعَمْ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ أَيْ: قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِلِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ فَيَسْجُدَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، وَلِأَنَّ الْخُرُورَ الَّذِي مُدِحَ بِهِ أُولَئِكَ فِيهِ أَكْمَلُ اهـ، وَقِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي إِسْنَادِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْعُمَرِيُّ، وَفِيهِ كَلَامٌ، لَكِنْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

-

1033 - وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ سَجْدَةً، فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمُ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى إِنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1033 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ) ، أَيْ: فَتْحِ مَكَّةَ (سَجْدَةً) ، أَيْ: آيَةَ سَجْدَةٍ بِانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، أَوْ مُفْرَدَةٌ لِبَيَانِ الْجَوَازِ ; لِأَنَّ الِانْفِرَادَ بِهَا خِلَافُ الِاسْتِحْبَابِ عِنْدَنَا لِإِيهَامِ تَفْضِيلِ آيِ السَّجْدَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَالْكُلُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فِي رُتْبَةٍ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا بِسَبَبِ اشْتِمَالِهِ عَلَى ذِكْرِ صِفَاتِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ زِيَادَةَ فَضِيلَةٍ، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى مُرَادِ الْآيَةِ، وَلِيَحْصُلَ بِحَقِّ الْقِرَاءَةِ لَا بِحَقِّ إِيجَابِ السَّجْدَةِ، إِذِ الْقِرَاءَةُ لِلسُّجُودِ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَبَّةٍ، فَيَقْرَأُ مَعَهَا آيَاتٍ لِيَكُونَ قَصْدُهُ إِلَى التِّلَاوَةِ لَا إِلَى إِيجَابِ السُّجُودِ (فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمُ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ عَلَى الْأَرْضِ) : مُتَعَلِّقٌ بِالسَّاجِدِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَمَّا كَانَ الرَّاكِبُ لَا يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ جَعَلَ غَيْرَ السَّاجِدِ عَلَيْهَا قَسِيمًا لَهُ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الرَّاكِبَ لَا يَلْزَمُهُ النُّزُولُ لِلسُّجُودِ بِالْأَرْضِ (حَتَّى إِنَّ الرَّاكِبَ) : بِكَسْرِ إِنَّ وَتُفْتَحُ (لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ) ، أَيِ: الْمَوْضُوعَةِ عَلَى السَّرْجِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَجِدَ الْحَجْمَ حَالَةَ السَّجْدَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ يَصِحُّ إِذَا انْحَنَى عُنُقُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: لَوْ سَجَدَ بِسَبَبِ الزِّحَامِ عَلَى فَخِذِهِ جَازَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بِهِ عُذْرٌ مَنَعَهُ عَنِ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ الْفَخِذِ فِي الْمُخْتَارِ، وَلَا يَجُوزُ بِلَا عُذْرٍ عَلَى الْمُخْتَارِ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَوْ وَضَعَ كَفَّهُ بِالْأَرْضِ وَسَجَدَ عَلَيْهَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: إِذَا تَلَا رَاكِبًا أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ أَجْزَأَهُ الْإِيمَاءُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ.

1034 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رِضَى اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1034 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ» ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ إِنْ صَحَّ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ حُجَّةٌ لِمَا صَحَّ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وَفِي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ يَرْوُونَهَا فِيهِ فَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَرْوِي فِي الصِّحَاحِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَجَدَ بِالنَّجْمِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي الصِّحَاحِ أَقْوَى مِنَ الْمَرْوِيِّ فِي الْحِسَانِ. قُلْتُ: عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ حَسَنٌ، وَإِلَّا فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ بِهِ الِاحْتِجَاجُ، لَكِنْ وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَحْمِلَ سُجُودَهُ فِي النَّجْمِ عَلَى مَا قَبْلَ تَحَوُّلِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَالْمُعْتَمَدُ قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ أَبُو قُدَامَةَ الْبَصْرِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ لَا جَرَمَ! . قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، قُلْتُ: مَعَ كَوْنِهِ ضَعِيفًا مُنَافٍ لِلْمُثَبَتِ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ إِسْلَامَ أَبِي هُرَيْرَةَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ سَجَدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِانْشِقَاقِ، وَ (اقْرَأْ) ، وَهُمَا مِنَ الْمُفَصَّلِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا.

1035 - وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ: " سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1035 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ) : حِكَايَةً لِلْوَاقِعِ لَا لِلتَّقْيِيدِ بِهِ (" سَجَدَ وَجْهِي ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا، وَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ (" لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ ") : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَيْ: فَتَحَهُمَا وَأَعْطَاهُمَا الْإِدْرَاكَ، وَأَثْبَتَ لَهُمَا الْإِمْدَادَ بَعْدَ الْإِيجَادِ (" بِحَوْلِهِ ") : أَيْ: بِصَرْفِهِ الْآفَاتِ عَنْهُمَا (" وَقُوَّتِهِ ") : أَيْ: وَقُدْرَتِهُ بِالثَّبَاتِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِمَا، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: وَيَقُولُ فِي السَّجْدَةِ مَا يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 108] لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَقَالَ: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107 - 108] وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مَا صُحِّحَ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنْ كَانَتِ السَّجْدَةُ فِي الصَّلَاةِ فَيَقُولُ فِيهَا مَا يُقَالُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةً قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، أَوْ نَفْلًا قَالَ: مَا شَاءَ مِمَّا وَرَدَ، كَسَجَدَ وَجْهِي، وَقَوْلِ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي إِلَخْ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ قَالَ كُلَّ مَا أُثِرَ مِنْ ذَلِكَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: زَادَ الْبَيْهَقِيُّ: بَعْدَ " خَلَقَهُ " وَ " صَوَّرَهُ "، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ بَعْدَ: " وَقُوَّتِهِ " فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ") .

1036 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ» ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1036 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) : قَالَ مِيرَكُ: هُوَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ، (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ) : أَيْ: أَبْصَرْتُ ذَاتِي الْبَارِحَةَ (وَأَنَا نَائِمٌ) : حَالٌ فَاعِلٌ أَوْ مَفْعُولٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَأَى هُنَا قَلْبِيَّةٌ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّحَدَ فَاعِلُهَا وَمَفْعُولُهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُنَاسِبُ الرُّؤْيَا، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ السَّجْدَةُ صَلَاتِيَّةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ، وَأَنَّ الْآيَةَ آيَةُ (ص) ، (فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا) : أَيِ: الشَّجَرَةَ (تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي) : أَيِ: أَثْبِتْ لِأَجْلِي (بِهَا) : أَيْ: بِسَبَبِ هَذِهِ السَّجْدَةِ أَوْ بِمُقَابَلَتِهَا، وَالضَّمِيرُ لِلسَّجْدَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ سَجَدْتُ (عِنْدَكَ) : ظَرْفٌ لِـ " اكْتُبْ " أَيْ: حَيْثُ لَا يَتَبَدَّلُ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ فَضْلِكَ (أَجْرًا) : أَيْ: عَظِيمًا (وَضَعْ) : أَيْ: حُطَّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (عَنِّي بِهَا وِزْرًا) ، أَيْ: ذَنْبًا ثَقِيلًا جَسِيمًا (وَاجْعَلْهَا لِي) : أَيْ: بِاعْتِبَارِ ثَوَابِهَا (عِنْدَكَ ذُخْرًا) : أَيْ: كَنْزًا ضَخِيمًا، قِيلَ: ذُخْرًا بِمَعْنَى: أَجْرًا، وَكُرِّرَ لِأَنَّ مَقَامَ الدُّعَاءِ يُنَاسِبُ الْإِطْنَابَ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ طَلَبُ كِتَابَةِ الْأَجْرِ، وَهَذَا طَلَبُ بَقَائِهِ سَالِمًا مِنْ مُحْبِطٍ أَوْ مُبْطِلٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، (وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ) : عَبْدًا كَرِيمًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ سَجْدَةَ (ص) لِلتِّلَاوَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هُوَ مُسَلَّمٌ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ مَدْفُوعٍ بِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَ كَوْنِهَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ وَسَجْدَةَ شُكْرٍ؛ لِمَا قَرَّرْنَا فِيمَا سَبَقَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ كَوْنُ الْقَائِلِ مَلَكًا، وَيَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا نُطْقًا، كَمَا فِي شَجَرَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قُلْتُ: حَالَةُ الرُّؤْيَا خَيَالِيَّةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّعْبِيرِ، وَلَيْسَتْ مُحَقَّقَةً لِتَحْتَاجَ إِلَى التَّأْوِيلِ.

(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجْدَةً) ، أَيْ: آيَةَ سَجْدَةٍ مَعَ مَا قَبْلَهَا أَوْ مَا بَعْدَهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا آيَةُ (ص) ، أَوْ سُورَةُ سَجْدَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَهَا لِيُبَيِّنَ مَشْرُوعِيَّةَ مَا سَمِعَهُ أَبُو سَعِيدٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ، وَأَنْ يَكُونَ وَقَعَتْ قِرَاءَتُهُ اتِّفَاقًا، فَبَيَّنَ مَشْرُوعِيَّةَ ذَلِكَ فِيهَا، قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الثَّانِي بَعِيدٌ، وَيُعَارِضُ الْأَوَّلَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُنْدَبُ وَلَا يُكْرَهُ قِرَاءَةُ آيَةِ سَجْدَةٍ لِيَسْجُدَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، (ثُمَّ سَجَدَ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: (مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا الدُّعَاءُ مَسْنُونٌ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ لِقِرَاءَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قُلْتُ: لَا سِيَّمَا فِي سَجْدَةِ (ص) ، وَلَعَلَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلَ الشَّجَرَةَ بِذَاتِهِ الْأَقْدَسِ، وَالصَّحَابِيُّ مُقْتَدٍ بِهِ، وَأَنَّ الْمُقْتَدَى بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَلَمَّا كَانَ نَقْلُ الصَّحَابِيِّ رُؤْيَاهُ إِلَيْهِ سَبَبًا لِسُجُودِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَأَى أَنَّهُ سَجَدَ فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ، هَذَا مِمَّا خَطَرَ بِالْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ: " اللَّهُمَّ احْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا "، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ، (إِلَّا أَنَّهُ) ، أَيِ: ابْنُ مَاجَهْ (لَمْ يَذْكُرْ: وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ، وَبِفَرْضِ ضَعْفِهِ يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْفَضَائِلِ، قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْغَرَابَةَ لَا تُنَافِي الصِّحَّةَ وَالْحُسْنَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ غَرِيبًا كَوْنُهُ ضَعِيفًا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1037 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ: وَالنَّجْمِ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ، غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا مِنْ قُرَيْشٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى - أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1037 - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ وَالنَّجْمِ) ، أَيْ: سُورَةَ (وَالنَّجْمِ) ، إِلَى آخِرِهَا (فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ: مَنْ كَانَ حَاضِرًا قِرَاءَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، حَتَّى شَاعَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَسْلَمُوا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ الْإِخْبَارِيُّونَ وَالْمُفَسِّرُونَ، أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى آلِهَتِهِمْ فِي سُورَةِ النَّجْمِ فَبَاطِلٌ، لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ; لِأَنَّ مَدْحَ إِلَاهٍ غَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ، فَلَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَقُولُهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيطُ الشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنَّ الْعَسْقَلَانِيَّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَطَالَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَأَنَّ لَهَا طُرُقًا صَحِيحَةً وَطُرُقًا أُخَرَ كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، قَالَ: وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا تَأْوِيلُهَا، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَتِّلُ تِلَاوَتَهُ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ ذَلِكَ فِي سَكْتَةٍ مِنْ سَكَتَاتِهِ، وَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا وَسَمِعَهَا غَيْرُهُ فَأَشَاعَهَا، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَهُوَ - أَيْ نَقْلُ الْقِصَّةِ وَسَبْقُ لِسَانِهِ سَهْوًا - مَرْدُودٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنْ صَحَّ فَابْتِلَاءٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ الثَّابِتُ عَلَى الْإِيمَانِ عَنِ الْمُتَزَلْزِلِ فِيهِ.

وَقَالَ فِي التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ قَدْ رُدَّ بِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْوُثُوقِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَا يُدْفَعُ بِقَوْلِهِ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] ; لِأَنَّهُ أَيْضًا يَحْتَمِلُهُ أَيْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ، قُلْتُ: مَا يَكُونُ الِابْتِلَاءُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، (غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا) : أَيْ: كَبِيرَ السِّنِّ (مِنْ قُرَيْشٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصَى) ، أَيْ: حِجَارَةٍ صِغَارٍ (- أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ) : أَيْ: كَفَّهُ (إِلَى جَبْهَتِهِ) : وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَرَجَعَهُ أَيْ: رَفَعَهُ؛ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ، (وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا) : فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّجُودِ التَّوَاضُعُ وَالِانْقِيَادُ وَالْمَذَلَّةُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِبَادِ، وَوَضْعُ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ فِي أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ رُجُوعًا إِلَى أَصْلِهِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَهَذَا لِمَا فِي رَأْسِهِ مِنْ تَوَهُّمِ الْكِبْرِيَاءِ وَعَدَمِ وُصُولِهِ إِلَى مَقَامِ الْأَصْفِيَاءِ، (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) : أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ) : أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ (قُتِلَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يَوْمَ بَدْرٍ (كَافِرًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ مَنْ سَجَدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَسْلَمُوا، قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ) ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؟ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَقِيلَ: أَبُو لَهَبٍ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ: وَلَعَلَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَرَهُ أَوْ خَصَّ وَاحِدًا بِذِكْرِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِأَخْذِ الْكَفِّ مِنَ التُّرَابِ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: إِنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُشْرِكًا، قَتَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، وَأَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا، وَهُمَا ابْنَا خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ الْجُمْحَانِ ".

1038 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِي (ص) ، وَقَالَ: " سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً، وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا» "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1038 - ( «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِي (ص) » : أَيْ: فِي سُورَتِهَا مَكَانَ سَجْدَتِهَا وَهُوَ (حُسْنُ مَآبٍ) عَلَى الصَّوَابِ، (وَقَالَ: " «سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا» ") : لِلِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ شُكْرًا مِنَّا عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَالنِّعْمَةُ عَلَى أَحَدِهِمْ نِعْمَةٌ عَلَى الْكُلِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَأْمُورًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفَةِ لِيَسْتَكْمِلَ بِجَمِيعِ فَضَائِلِهِمْ، وَهِيَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ بِذَلِكَ، قُلْتُ: لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ شُكْرًا أَنْ لَا يَكُونَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ، لِأَنَّهَا لَا شَكَّ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقِرَاءَةِ تِلْكَ الْآيَةِ أَوْ سَمَاعِهَا، وَتَقَعُ السَّجْدَةُ عِنْدَ ثُبُوتِهِمَا، وَهَذَا مَعْنَى: سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، سَوَاءٌ يَكُونُ السَّبَبُ فِيهَا أَمْرًا أَوْ شُكْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهَمَّامِ: غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي حَقِّ دَاوُدَ، وَالسَّبَبَ فِي حَقِّنَا، وَكَوْنُهُ لِلشُّكْرِ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ، فَكُلُّ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ إِنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِتَوَالِي النِّعَمِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: " أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» " (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ بَلْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ رِجَالَهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَضَحَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَرَأَ (ص) عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ، فَلَمَّا رَآهُمْ تَهَيَّئُوا لِلسُّجُودِ قَالَ: " إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَهَيَّأْتُمْ لِلسُّجُودِ " فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ» ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تُطْلَبُ لِلشُّكْرِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ دَاوُدَ لَا لِلتِّلَاوَةِ، وَإِنَّمَا التِّلَاوَةُ سَبَبٌ لِتَذَكُّرِ قَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ سَجْدَةَ الشُّكْرِ تَخْتَصُّ عِنْدَهُ بِهُجُومِ نِعْمَةٍ أَوِ انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ. قُلْتُ: حَدِيثُ قِرَاءَتِهِ (ص) عَلَى الْمِنْبَرِ يُوَافِقُ حَدِيثَ قِرَاءَتِهِ (النَّحْلَ) ، بَلْ آكَدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِي النَّحْلِ ثَانِيًا، وَقَوْلُهُ: " إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ " بَيَانٌ لِسَبَبِ السُّجُودِ، فَإِنَّ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ إِمَّا أَمْرٌ بِهَا، أَوْ ذَمٌّ عَنْ إِبَائِهَا، أَوْ مَدْحٌ لِفَاعِلِيهَا، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ، يَعْنِي: أَنَّهُ مَمْدُوحٌ بِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ نَتْبَعَهُ فِيهَا، بَلْ هِيَ آكَدُ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ حَيْثِيَّةِ الْمُتَابَعَةِ الْوَارِدَةِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِسِيَرِ الْأَنْبِيَاءِ.

[باب أوقات النهي]

[بَابُ أَوْقَاتِ النَّهْيِ]

[22]- بَابُ أَوْقَاتِ النَّهْيِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1039 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا ". وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: " إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ وَلَا تَحَيَّنُوا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ أَوْقَاتِ النَّهْيِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَنْهِيِّ، أَيِ: الْأَوْقَاتُ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا نَهْيَ حُرْمَةٍ أَوْ كَرَاهَةٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1039 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَتَحَرَّى ") : نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ أَيْ: لَا يَقْصِدُ (" أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّي ") : بِالنَّصْبِ جَوَابًا (" عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ") ، أَيْ: لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ فِعْلًا لِيَكُونَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الصَّلَاةِ فِي زَمَانِ الْكَرَاهَةِ، فَالْفِعْلُ الْمُعَلَّلُ مَنْهِيٌّ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ، أَيْ: فَهُوَ يُصَلِّي، قُلْتُ: وَهُوَ بِالرَّفْعِ فِي نُسْخَةٍ، (" وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا ") : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُقَالُ فُلَانٌ يَتَحَرَّى الْأَمْرَ، أَيْ: يَتَوَخَّاهُ وَيَقْصِدُهُ، وَيَتَحَرَّى فُلَانٌ إِذَا طَلَبَ مَا هُوَ الْأَحْرَى، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، أَيْ: لَا يَقْصِدُ الْوَقْتَ الَّذِي تَطْلُعُ الشَّمْسُ فِيهِ أَوْ تَغْرُبْ، فَيُصَلِّي فِيهِ أَوْ لَا يُصَلِّي فِي هَذَا الْوَقْتِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِالْأَحْرَى، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَأَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ. (وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: " إِذَا طَلَعَ ") ، أَيْ: ظَهَرَ (" حَاجِبُ الشَّمْسِ ") ، أَيْ: طَرْفُهَا أَوْ قُرْصُهَا الَّذِي يَبْدُو أَوَّلًا مُسْتَعَارٌ مِنْ حَاجِبِ الْوَجْهِ، وَقِيلَ: النَّيَازِكُ الَّتِي تَبْدُو إِذَا حَانَ طُلُوعُهَا، (" فَدَعُوا ") ، أَيِ: اتْرُكُوا (" الصَّلَاةَ ") ، أَيْ: مُطْلَقًا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، سَوَاءٌ يَكُونُ لَهَا سَبَبٌ أَوْ لَا (" حَتَّى تَبْرُزَ ") ، أَيْ: تَخْرُجَ وَتَظْهَرَ كُلُّهَا أَوْ تَرْتَفِعُ قَدْرَ رُمْحٍ (" «وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلَاةَ» ") ، أَيِ: الشُّرُوعَ فِيهَا إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ (" حَتَّى تَغِيبَ ") ، أَيْ: تَغْرُبَ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُنْهَى فِيهِ عَنِ الْفَرْضِ، لَكِنْ يُكْرَهُ النَّفْلُ قَبْلَ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ عِنْدَنَا، (" وَلَا تَحَيَّنُوا ") : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ: أَيْ: لَا تَتَقَرَّبُوا (" بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا ") : مِنْ حَانَ إِذَا قَرُبَ، أَوْ لَا تَجْعَلُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ حِينًا لِلصَّلَاةِ بِصَلَاتِكُمْ فِيهِ، مِنْ تَحَيَّنَ بِمَعْنَى حَيَّنَ الشَّيْءَ: إِذَا جَعَلَ لَهُ حِينًا، وَيُقَالُ: تَحَيُّنَ الْوَارِشِ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْتَ النَّاسِ بِغَيْرِ عَزِيمَةٍ إِذَا انْتَظَرَ وَقْتَ الْأَكْلِ لِيَدْخُلَ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: لَا تَنْتَظِرُوا بِصَلَاتِكُمْ حِينَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا حِينَ غُرُوبِهَا (" فَإِنَّهَا تَطْلُعُ ") : بِضَمِّ اللَّامِ (" بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ ") ، أَيْ: جَانِبَيْ رَأْسِهِ لِأَنَّهُ يَنْتَصِبُ قَائِمًا فِي وَجْهِ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا لِيَكُونَ شُرُوقُهَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ، فَيَكُونُ قِبْلَةً لِمَنْ سَجَدَ لِلشَّمْسِ، فَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِئَلَّا يُتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيَيْنِ، وَقَوْلُهُ: تَطْلُعُ أَيْ وَتَغْرُبْ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1040 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1040 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ) ، أَيْ: أَوْقَاتٍ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ) : وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا (أَوْ نَقْبُرُ) : عَلَى وَزْنِ نَنْصُرُ، أَيْ: نَدْفِنُ (فِيهِنَّ مَوْتَانَا) : يُقَالُ: قَبَرْتُهُ إِذَا دَفَنْتُهُ، وَأَقْبَرْتُهُ إِذَا جَعَلْتُ لَهُ قَبْرًا يُوَارَى فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَقْبَرَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ،

فَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، مَعْنَى أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا، الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ مِنْهُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ ; لِأَنَّ الدَّفْنَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى كَرَاهَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى جَوَازَهَا أَيَّ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ اهـ. وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ، أَنَّهُ يَكْرَهُ الدَّفْنَ فِي أَوْقَاتِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَتَحَرَّهُ فِيهَا وَإِلَّا حَرُمَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ يَحْرُمُ فِيهَا الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ إِلَّا إِذَا حَضَرَتِ الْجِنَازَةَ أَوْ تُلِيَتْ آيَةُ السَّجْدَةِ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُمَا لَا يُكْرَهَانِ لَكِنَّ الْأَوْلَى تَأْخِيرُهُمَا إِلَى خُرُوجِ الْأَوْقَاتِ، (حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً) : أَيْ: طَالِعَةً ظَاهِرَةً وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَوْ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، (حَتَّى تَرْتَفِعَ) : بَدَلٌ وَبَيَانٌ، وَالْمُرَادُ: تَرْتَفِعُ كَرُمْحٍ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، لِمَا سَيَأْتِي، كَذَا قِيلَ، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى نُسْخَةِ: حِينَ تَرْتَفِعُ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَايَةٌ (وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ) : وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ نِصْفَ النَّهَارِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قِيَامُ الشَّمْسِ: وَقْتُ الزَّوَالِ؛ مِنْ " قَامَ " إِذَا وَقَفَ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: حِينَ تَسْتَوِي الشَّمْسُ وَتَصِلُ إِلَى خَطِّ نِصْفِ النَّهَارِ، مِنْ " قَامَ " إِذَا اعْتَدَلَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقْتُ الظُّهْرِ تَكُونُ الشَّمْسُ وَاقِفَةً عَنِ السَّيْرِ، وَتَثْبُتُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ لَحْظَةً ثُمَّ تَسِيرُ، وَقِيلَ: يُظَنُّ أَنَّهَا وَاقِفَةٌ، قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّمْسُ إِذَا بَلَغَتْ وَسَطَ السَّمَاءِ أَبْطَأَتْ حَرَكَةُ الظِّلِّ إِلَى أَنْ تَزُولَ، فَيُتَخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ الْمُتَأَمِّلِ أَنَّهَا وَقَفَتْ وَهِيَ سَائِرَةٌ، قُلْتُ: قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ: حِينَ لَا يَبْقَى لِلْقَائِمِ فِي الظَّهِيرَةِ ظِلٌّ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّهِيرَةُ: هِيَ نِصْفُ النَّهَارِ، وَقَائِمُهَا إِمَّا الظِّلُّ، وَقِيَامُهُ وُقُوفُهُ؛ مِنْ " قَامَتْ بِهِ دَابَّتُهُ ": وَقَفَتْ، وَالْمُرَادُ بِوُقُوفِهِ بُطْءُ حَرَكَتِهِ النَّاشِئُ عَنْ بُطْءِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ حِينَئِذٍ بِاعْتِبَارِ مَا يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ بِبَادِئِ الرَّأْيِ، وَإِلَّا فَهِيَ سَائِرَةٌ عَلَى حَالِهَا، وَإِمَّا لِلْقَائِمِ فِيهَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَمِيلُ لَهُ ظِلٌّ إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَلَا إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كِنَايَةٌ عَنْ وَقْتِ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ، (حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ) ، أَيْ: مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَتَزُولُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَمَيْلُهَا هَذَا: هُوَ الزَّوَالُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوَقْتُ الِاسْتِوَاءِ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ وَقْتًا ضَيِّقًا لَا يَسَعُ صَلَاةً إِلَّا أَنَّهُ يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ، فَيُحَرَّمُ تَعَمُّدُ التَّحْرِيمِ فِيهِ، (وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ) : أَيْ: تُضَيَّفُ بِمَعْنَى تَمِيلُ (لِلْغُرُوبِ) : وَتَشْرَعُ فِيهِ (حَتَّى تَغْرُبَ) : وَأَصْلُ الضَّيْفِ: الْمَيْلُ، سُمِّيَ الضَّيْفُ بِهِ لِمَيْلِهِ إِلَى مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْحَدِيثُ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَخْصِيصِ الْفَرَائِضِ اهـ. وَفِيهِ كَلَامٌ سَيَأْتِي، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

1041 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1041 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ ") : أَيْ: بَعْدَ صَلَاتِهِ (" حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: كَرُمْحٍ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَدْرُ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ تَقْرِيبًا، وَإِلَّا فَالْمَسَافَةُ طَوِيلَةٌ لِمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ: حَتَّى تَرْتَفِعَ كَرُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ، (" وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ ") : أَيْ: بَعْدَ صَلَاتِهِ (" حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ ") ، أَيْ: بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا النَّهْيُ لِمَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

-

1042 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: " صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلَعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ ; فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ ; فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ; فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ " قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَالْوُضُوءُ حَدِّثْنِي عَنْهُ قَالَ: " مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيُمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَسْتَنْثِرُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ; إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيِهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1042 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ) : بِالتَّحْرِيكِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، قِيلَ: كَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إِذَا سَمِعْتَ أَنِّي قَدْ خَرَجْتَ فَاتْبَعْنِي " فَجَاءَ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَمِنْ قِصَّتِهِ أَنَّهُ أَقْبَلَ إِلَى مَكَّةَ وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُسْتَخْفٍ إِيمَانَهُ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى قَوْمِهِ مُتَرَصِّدًا حَتَّى سَمِعَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَارْتَحَلَ إِلَيْهَا، (قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ) ، أَيْ: عَلَى قَصْدِ اللُّحُوقِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، (فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ) ، أَيْ: عَنْ وَقْتِهَا الْجَائِزَةِ فِيهِ بِدَلِيلِ الْجَوَابِ، (فَقَالَ: " صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ") ، أَيْ: سُنَّتَهُ وَفَرْضَهُ (" ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ ") : مِنَ الْإِقْصَارِ، وَهُوَ: الْكَفُّ عَنِ الشَّيْءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. (" حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ") : قِيلَ: تَنْكِيرُهُ لِلتَّحْقِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ "، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا فِي الْأُصُولِ بِلَا أَلِفٍ وَلَامٍ، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَرْنَيِ الشَّيْطَانِ: أَحْزَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ، وَقِيلَ: قُوَّتُهُ وَغَلَبَتُهُ وَانْتِشَارُ الْفَسَادِ، وَقِيلَ: الْقَرْنَانِ نَاصِيَتَا الرَّأْسِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْوَى يَعْنِي: أَنَّهُ يُدْنِي رَأْسَهُ إِلَى الشَّمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَيَكُونُ السَّاجِدُ لَهَا مِنَ الْكُفَّارِ كَالسَّاجِدِينَ لَهُ فِي الصُّورَةِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، (" وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ") ، أَيِ: الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا (" ثُمَّ صَلِّ ") ، أَيْ: صَلَاةَ الْإِشْرَاقِ فَإِنَّهَا مَبْدَأُ الضُّحَى، أَوْ صَلَاةُ الضُّحَى فَإِنَّهَا مُنْتَهِيَةٌ إِلَى قُرْبِ الِاسْتِوَاءِ أَوْ صَلِّ مَا شِئْتَ، (" فَإِنَّ الصَّلَاةَ ") ، أَيْ: بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، أَوْ إِنَّ الصَّلَاةَ الْمَشْرُوعَةَ (" مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ ") ، أَيْ: يَحْضُرُهَا الْمَلَائِكَةُ لِيَكْتُبُوا أَجْرَهَا وَيَشْهَدُوا بِهَا لِمَنْ صَلَّاهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ: " مَشْهُودَةٌ مَكْتُوبَةٌ "، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: يَحْضُرُهَا أَهْلُ الطَّاعَةِ مِنْ سُكَّانِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ؛ فَمَحْضُورَةٌ: تَفْسِيرُ مَشْهُودَةٌ وَتَأْكِيدٌ لَهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ مَشْهُودَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَمَحْضُورَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، أَوِ الْأُولَى بِمَعْنَى الشَّهَادَةِ، وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى الْحُضُورِ لِلتَّبَرُّكِ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ وَفِيهِ بَيَانٌ لِفَضِيلَةِ صَلَاةِ الضُّحَى، (" حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ") ، أَيْ: حَتَّى يَرْتَفِعَ الظِّلُّ مَعَ الرُّمْحِ، أَوْ فِي الرُّمْحِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَرْتَفِعُ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، أَيْ: بِارْتِفَاعِ الرُّمْحِ مِنَ الِاسْتِقْلَالِ بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَمْ يَبْقَ ظِلُّ الرُّمْحِ، وَهَذَا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَحَوَالَيْهِمَا فِي أَطْوَلِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى عِنْدَ الزَّوَالِ ظِلٌّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، بَلْ يَرْتَفِعُ عَنْهَا، ثُمَّ إِذَا مَالَتِ الشَّمْسُ مِنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ يَقَعُ الظِّلُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ: مِنَ الْقِلَّةِ يُقَالُ: اسْتَقَلَّهُ إِذَا رَآهُ قَلِيلًا، أَيْ: حَتَّى يَقِلَّ الظِّلُّ الْكَائِنُ بِالرُّمْحِ أَدْنَى غَايَةِ الْقِلَّةِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِظِلِّ الزَّوَالِ اهـ. وَرُوِيَ: حَتَّى يَسْتَقِلَّ الرُّمْحُ بِالظِّلِّ، أَيْ: يَرْفَعُ الرُّمْحَ ظِلَّهُ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ هُوَ مَجَازٌ عَنْ عَدَمِ بَقَاءِ ظِلِّ الرُّمْحِ عَلَى الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ، وَتَخْصِيصُ الرُّمْحِ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا مَعْرِفَةَ الْوَقْتِ رَكَزُوا رِمَاحَهُمْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى ظِلِّهَا. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: " حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ "، أَيْ: يَقُومَ مُقَابِلَهُ فِي جِهَةِ الشَّمَالِ لَيْسَ مَائِلًا إِلَى الْمَغْرِبِ، وَلَا إِلَى الْمَشْرِقِ وَهُوَ حَالَةُ الِاسْتِوَاءِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَذَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِيهِ تَحْرِيفٌ وَصَوَابُهُ: " حَتَّى يَسْتَقِلَّ الرُّمْحُ بِالظِّلِّ "، وَوَافَقَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ: يَسْتَقِلُّ الرُّمْحُ بِالظِّلِّ: يَبْلُغُ ظِلُّ الرُّمْحِ الْمَغْرُوزِ فِي الْأَرْضِ أَدْنَى غَايَةِ الْقِلَّةِ وَالنَّقْصِ، فَقَوْلُهُ: يَسْتَقِلُّ مِنَ الْقِلَّةِ لَا مِنَ الْإِقْلَالِ وَالِاسْتِقْلَالِ الَّذِي بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ وَالِاسْتِبْدَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَيْفَ تَرُدُّ نُسَخَ الْمَصَابِيحِ مَعَ مُوَافَقَتِهَا بَعْضَ نُسَخِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابَ الْحُمَيْدِيِّ؟ ! وَلَهَا مَحَامِلُ مِنْهَا: أَنْ يَرْتَفِعَ الظِّلُّ مَعَهُ وَلَا يَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَقَلَّتِ السَّمَاءُ: ارْتَفَعَتْ، وَمِنْهَا: أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ أَيْ يُعْلَمُ قِلَّةُ الظِّلِّ بِوَاسِطَةِ ظِلِّ الرُّمْحِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ: عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ اهـ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ مُطْلَقًا مُسْتَدِلًّا بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَرَى النَّاسَ يُصَلُّونَ حِينَئِذٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قُلْتُ: تَحَقُّقُ صَلَاتِهِمْ فِي خُصُوصِ تِلْكَ السَّاعَةِ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقٍ وَتَدْقِيقٍ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ لَا يَنْهَضُ لَهُ ; لِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُسْتَثْنَى كَمَا يَأْتِي اهـ. وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (" ثُمَّ أَقْصِرْ ") : بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَبِكَسْرِ الصَّادِ، أَيْ: كُفَّ وَامْتَنِعْ (" عَنِ الصَّلَاةِ ") : مُطْلَقًا (" فَإِنَّ حِينَئِذٍ ") ، أَيْ: حِينَ يَسْتَقِلُّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ (" تُسَجَّرُ ") : بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ مَجْهُولًا، أَيْ: تُعْقَدُ (" جَهَنَّمُ ") : مِنْ تَسَجَّرَ التَّنُّورَ: إِذَا أَوْقَدَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: تُمْلَأُ نِيرَانُ جَهَنَّمَ وَتُوقَدُ، وَلَعَلَّ تَسَجُّرَهَا حِينَئِذٍ لِمُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ الشَّمْسَ وَتَهْيِئَةِ عُبَّادِ الشَّمْسِ أَنْ يَسْجُدُوا لَهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاسْمُ " إِنَّ " أَنِ الْمَصْدَرِيَّةُ الْمُقَدَّرَةُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] أَوْ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَمَا قِيلَ أَنَّهُ لَا يُحْذَفُ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ التَّعْظِيمُ، وَهُوَ يَفُوتُ بِحَذْفِهِ مَرْدُودٌ بِأَنَّ سَبَبَ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّعْظِيمِ إِبْهَامُهُ، وَحَذْفُهُ أَدَلُّ عَلَى الْإِبْهَامِ، وَمِنْ ثَمَّ حُذِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117] (" فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ ") ، أَيْ: رَجَعَ بَعْدَ ذَهَابِهِ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَهَذَا وَقْتُ الظُّهْرِ، وَالْفَيْءُ: مَا نَسَخَ الشَّمْسَ وَذَلِكَ بِالْعَشِيِّ، وَالظِّلُّ مَا نَسَخَتْهُ الشَّمْسُ وَذَلِكَ بِالْغُدْوَةِ، (" فَصَلِّ ") : أَيْ: أَيُّ صَلَاةٍ تُرِيدُهَا (" فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ ") : صِفَةٌ كَاشِفَةٌ أَوْ ثَانِيَةٌ (" حَتَّى تُصَلِّيَ ") : أَيْ: أَنْتَ (" الْعَصْرَ ") ، أَيْ: فَرْضَهُ (" ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ") : أَيْ: يَقْرُبَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى حِينَ تَغْرُبُ، فَيُنَاسِبُ قَرِينَهُ الْمُتَقَدِّمَ حِينَ تَطْلُعُ وَيُلَائِمُ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِ ": فَإِنَّهَا تَغْرُبُ. . " إِلَخْ. وَلَعَلَّ الْعُدُولَ لَيُفْهَمُ مِنْ أَحَدِ الْعِبَارَتَيْنِ وَقْتَ الطُّلُوعِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ وَقْتُ الْغُرُوبِ، وَمِنَ الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى مَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْغُرُوبِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالطُّلُوعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (" فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ") : وَتَنْكِيرُهُ لِمَا مَرَّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّعْرِيفِ (" وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ") : فَلَا يُشَابِهُ أَهْلَ النَّارِ فِي عِبَادَتِهِمْ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَأَمَّا مَا بَيْنَ فَرْضِ الصُّبْحِ وَحِينَ الطُّلُوعِ، وَبَيْنَ فَرْضِ الْعَصْرِ وَزَمَانِ الْغُرُوبِ، فَوَقْتٌ مَكْرُوهٌ لِلنَّوَافِلِ فَقَطْ عِنْدَنَا، قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ وُرُودِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ أُعْطِيَ حُكْمَهُ، كَتَحْرِيمِ فَرْجِ الْحَائِضِ، وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَأَيْضًا فَعُبَّادُ الشَّمْسِ رُبَّمَا تَهَيَّئُوا لِتَعْظِيمِهَا مِنْ أَوَّلِ ذَيْنِكَ الْوَقْتَيْنِ، فَيَرْصُدُونَهَا مُرَاقِبِينَ لَهَا إِلَى أَنْ تَظْهَرَ فَيَخِرُّوا لَهَا سُجَّدًا، فَلَوْ أُبِيحَ التَّنَفُّلَ فِي ذَيْنِكَ الْوَقْتَيْنِ لَكَانَ فِيهِ أَيْضًا تَشَبُّهٌ بِهِمْ أَوْ إِيهَامُهُ أَوِ التَّسَبُّبُ إِلَيْهِ، وَكَذَا بَيْنَ طُلُوعِ الصُّبْحِ وَأَدَاءِ فَرْضِهِ مَا عَدَا سُنَّتِهِ. (قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَالْوُضُوءُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ (حَدِّثْنِي عَنْهُ) ، أَيْ: أَخْبِرْنِي عَنْ فَضْلِهِ، (قَالَ: " مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ ") : بِالتَّشْدِيدِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَقِيلَ: عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (" وَضُوءَهُ ") : بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيِ: الْمَاءَ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ، (" فَيُمَضْمَضُ ") ، أَيْ: بَعْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ، وَالتَّسْمِيَةِ، وَالنِّيَّةِ، (" وَيَسْتَنْشِقُ ") ، أَيْ: يُدْخِلُ الْمَاءَ فِي الْأَنْفِ (" فَيَسْتَنْثِرُ ") ، أَيْ: يُخْرِجُ مَا فِي الْخَيْشُومِ مِنَ الْأَوْسَاخِ (" إِلَّا خَرَّتْ ") : اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: إِلَّا خَرَّتْ خَبَرُ " مَا " وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ كَائِنٌ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يُنَزَّلُ سَائِرُ الِاسْتِثْنَاءَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّفْيِ فِيهَا لِكَوْنِهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِوَاسِطَةِ ثُمَّ الْعَاطِفَةِ،

أَيْ: سَقَطَتْ، (" خَطَايَا وَجْهِهِ ") : مِنَ الصَّغَائِرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جَمِيعِ الرُّوَاةِ إِلَّا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ فَإِنَّهُ رَوَاهُ بِالْجِيمِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: جَرَتْ مَعَ مَاءِ الْوُضُوءِ، وَذَهَبَتْ ذُنُوبُ وَجْهِهِ، (" وَفِيهِ ") ، أَيْ: خَطَايَا فَمِهِ مِنْ جِهَةِ الْكَلَامِ، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّعَامِ، (" وَخَيَاشِيمِهِ ") ، أَيْ: أَنْفِهِ جَمْعُ خَيْشُومٍ، وَهُوَ بَاطِنُ الْأَنْفِ مِنْ جِهَةِ رَائِحَةِ طِيبٍ مُحَرَّمٍ عَلَى جِهَةِ الْقَصْدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَطْفَ " فِيهِ " وَمَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَفْسِيرِيٌّ لِقَوْلِهِ: (" ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ ") ، أَيْ: كُلَّهُ أَوْ بَاقِيَهُ (" كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ ") : إِشَارَةً إِلَى أَنَّ غَسْلَهُ فَرْضٌ بِأَمْرِهِ تَعَالَى عَزَّ قَائِلًا: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّهُمَا سُنَّتَانِ بِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ بِمَعْنَى كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَبْدَأَ بِغَسْلِهِ وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ إِرَادَةِ السَّعْيِ " ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ "، (" إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ ") : مِنْ ذُنُوبِ عَيْنَيْهِ (" مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ ") ، أَيْ: مَوْضِعُهَا (" مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ") ، أَيْ: مُنْضَمَّتَيْنِ إِلَيْهِمَا، أَوْ إِلَى مَعْنَى " مَعَ " خِلَافًا لِزُفَرَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُ، وَفِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى الشِّيعَةِ حَيْثُ انْعَكَسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَانْقَلَبَ الرَّأْيُ لَدَيْهِمْ، فَيَغْسِلُونَ الْيَدَيْنِ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ إِلَى الْأَصَابِعِ (" إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ ") : وَهِيَ كَثِيرَةٌ (" مِنْ أَنَامِلِهِ ") : وَهِيَ رُءُوسُ أَصَابِعِهِ (" مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ ") : ظَاهِرُهُ الِاسْتِيعَابُ إِمَّا بِطْرِيقِ الْفَرْضِيَّةِ وَإِمَّا عَلَى طَرِيقِ السُّنِّيَّةِ، (" إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ ") : وَمِنْهَا خَطَايَا الْأُذُنَيْنِ، وَلِذَا يُمْسَحَانِ بِمَائِهِ عِنْدَنَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (" مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا نَظَرًا إِلَى الْأَصْلِ، أَوِ التَّغْلِيبِ، (" مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ") : كَمَا مَرَّ (" إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ ") : شَرْطِيَّةٌ (" هُوَ ") ، أَيِ: الرَّجُلُ وَرَافِعُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ (" قَامَ ") : وَلِحَذْفِهِ بَرَزَ ضَمِيرُهُ الْمَسْتَكِنُّ فِيهِ، أَيْ: فَإِنْ قَامَ بَعْدَ فَرَاغِ الْوُضُوءِ (" فَصَلَّى فَحَمِدَ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: وَحَمِدَ، أَيْ: وَشَكَرَ (" اللَّهَ ") ، أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ (" وَأَثْنَى عَلَيْهِ ") ، أَيْ: ذَكَرَ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَقِيلَ: فَائِدَتُهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ لَفْظَ الْحَمْدِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ (" وَمَجَّدَهُ ") ، أَيْ: عَظَّمَهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوْ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَجَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ وَالْإِطْنَابِ (" بِالَّذِي ") ، أَيْ: بِالتَّحْمِيدِ الَّذِي (" هُوَ لَهُ أَهْلٌ ") ، أَيْ: مِمَّا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ جَمَالِهِ وَجَلَالَةِ جَلَالِهِ وَبَهَاءِ كَمَالِهِ، وَقُدِّمَ الْجَارُّ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ وَالِاهْتِمَامِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ضَمِيرُ " هُوَ " عَائِدٌ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَضَمِيرُ " لَهُ " إِلَى اللَّهِ، (" وَفَرَّغَ قَلْبَهُ ") ، أَيْ: جَعَلَهُ حَاضِرًا لِلَّهِ وَغَائِبًا عَمَّا سِوَاهُ، أَيْ: فِي صَلَاتِهِ وَحَالَةِ مُنَاجَاتِهِ (" لِلَّهِ ") ، أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ حَتَّى الثَّوَابِ ; لِأَنَّ رَبْطَ الْقَصْدِ بِهِ يُنَافِي مَقَامَ الْكَمَالِ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] (" إِلَّا انْصَرَفَ ") : قِيلَ: " هُوَ " فِي قَوْلِهِ " فَإِنْ هُوَ " فَاعِلٌ مَحْذُوفٌ وَعَائِدٌ إِلَى الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ تَقْدِيرُهُ: إِنْ قَامَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَلَيْسَ إِلَّا انْصَرَفَ، (" مِنْ خَطِيئَتِهِ ") : وَقِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ " إِنْ " فِيهِ نَافِيَةٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَوَابُ " إِنْ " فَلَا يَنْصَرِفْ خَارِجًا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا انْصَرَفَ خَارِجًا مِنْ خَطِيئَتِهِ، أَيْ: صَغَائِرِهِ فَيَصِيرُ مُتَطَهِّرًا مِنْهَا (" كَهَيْئَتِهِ ") ، أَيْ: كَصِفَتِهِ (" يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ: " كَهَيْئَةِ يَوْمَ " بِالْإِضَافَةِ مَعَ تَنْوِينِ " يَوْمَ " وَفَتْحِهِ عَلَى الْبِنَاءِ، وَظَاهِرُهُ غُفْرَانُ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ إِلَّا أَنَّ الصَّغَائِرَ مُحَقَّقَةٌ وَالْكَبَائِرَ بِالْمَشِيئَةِ مُقَيَّدَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " فَإِنْ هُوَ قَامَ " إِنْ شَرْطِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بَعْدَهَا فَاعِلُ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَيْ: لَا يَنْصَرِفُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مِنْ خَطِيئَتِهِ. . . . إِلَخْ، وَجَازَ تَقْدِيرُ النَّفْيِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَأَمَّا مَذْهَبُ ابْنِ الْحَاجِبِ، فَيَجُوزُ فِي الْإِثْبَاتِ نَحْوَ: قَرَأْتُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

-

1043 - وَعَنْ كُرَيْبٍ «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالُوا اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي، فَقَالَتْ سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْهُمَا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، ثُمَّ دَخَلَ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَقُلْتُ: قُولِي لَهُ: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ [الرَّكْعَتَيْنِ] وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا؟ قَالَ: " يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1043 - (وَعَنْ كُرَيْبٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كُرَيْبُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) : يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (وَالْمِسْوَرَ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (" بْنِ مَخْرَمَةَ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ بَيْنَهُمَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ (وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ) ، أَيِ: ابْنَ عَوْفٍ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، (أَرْسَلُوهُ) ، أَيْ: كُرَيْبًا (إِلَى عَائِشَةَ فَقَالُوا: اقْرَأْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَقْرِئْ: مِنَ الْإِقْرَاءِ (عَلَيْهَا السَّلَامَ) : فِي الْقَامُوسِ، قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامَ: أَبْلَغَهُ كَأَقْرَأَهُ، أَوْ لَا يُقَالُ أَقْرَأَ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّلَامُ مَكْتُوبًا (وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ) ، أَيِ: اللَّتَيْنِ كَانَ يُصَلِّيهِمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَدْ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْنِي: الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُصَلِّيهِمَا، وَيَنْهَى عَنْهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ مَا الَّذِي اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَيْهِمَا فِيهِ؟ (قَالَ) ، أَيْ: كُرَيْبٌ (فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي) ، أَيْ: بِتَبْلِيغِهِ مِنَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ إِلَيْهَا، قَالَتْ: (سَلْ أُمُّ سَلَمَةَ) ، أَيْ: لِأَنَّهَا صَاحِبَةُ الْوَاقِعَةِ فَهِيَ أَعْلَمُ بِهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَفِي هَذَا عَظِيمُ النُّصْحِ وَالْإِنْصَافِ وَالتَّوَاضُعِ مِنْ عَائِشَةَ، لِأَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا أَفْضَلَ وَأَعْلَمَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَلَتِ الْأَمْرَ إِلَيْهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ عَنِ الْإِفْتَاءِ إِلَّا إِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ، (فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ) : وَهَذَا مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِ (فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ) ، أَيْ: عَلَى الْمِنْوَالِ السَّابِقِ فَجِئْتُ إِلَيْهَا فَسَأَلْتُهَا؟ (فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْهُمَا) ، أَيْ: عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، تَعْنِي فِي ضِمْنِ نَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ، أَوْ وَقَعَ النَّهْيُ بِالْخُصُوصِ عَنْهُمَا، (ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا ثُمَّ دَخَلَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْتَ أَوْ بَيْتَهُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا رَأَتْهُ صَلَّاهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، أَوْ فِي صُفَّةِ الدَّارِ ثُمَّ دَخَلْتُ الْبَيْتَ، (فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَقُلْتُ) ، أَيْ: لَهَا (قُولِي لَهُ: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ) ، أَيِ: الرَّكْعَتَيْنِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، (وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا) ، أَيْ: فَمَا السِّرُّ فِيهِمَا؟ (قَالَ) : أَيْ لِلْجَارِيَةِ بِأَنْ تَقُولَ لَهَا فِي جَوَابِهَا أَوْ مُخَاطِبًا لَهَا: (" يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ أَنَّ تَعْلِيمَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّوَافِلِ حَتَّى رَوَاتِبِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّوَافِلَ الْمُؤَقَّتَةَ تُقْضَى كَمَا تُقْضَى الْفَرَائِضُ، وَعَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ لَا تُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، (" فَهُمَا هَاتَانِ ") ، أَيِ: الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ صَلَّيْتُهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ هُمَا رَكْعَتَا الظُّهْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ السُّنَّةِ سُنَّةٌ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ، أَنَّ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعُمُومِ النَّهْيِ لِلْغَيْرِ، وَلِأَنَّهُ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا دَائِمًا وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ وَزَادَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَنَقْضِيهَا إِذَا فَاتَتْنَا؟ قَالَ: " لَا "، اهـ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: وَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِي أَنِّي إِذَا عَمِلْتُ عَمَلًا دَاوَمْتُ عَلَيْهِ، فَمِنْ ثَمَّ فَعَلْتُهُمَا وَنَهَيْتُ غَيْرِي عَنْهُمَا اهـ، لَكِنْ خَالَفَ كَلَامَهُ حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ هَذَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ ذَاتَ السَّبَبِ لَا تُكْرَهُ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ حَيْثُ لَا تَحَرِّيَ اهـ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، فَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

قَالَ الْقَاضِي: اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى الطُّلُوعِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، فَذَهَبَ دَاوُدُ إِلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهَا مُطْلَقًا، رُوِيَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا نَهْيَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ حَمَلُوهُ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَخَالَفَهُمُ الْأَكْثَرُونَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ فِيهَا فِعْلُ صَلَاةٍ لَا سَبَبَ لَهَا، أَمَّا الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَالْمَنْذُورَةِ وَقَضَاءِ الْفَائِتَةِ فَجَائِزٌ لِحَدِيثِ كُرَيْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاسْتَثْنَى أَيْضًا مَكَّةَ، وَاسْتِوَاءَ الْجُمُعَةِ، لِحَدِيثَيْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ فِعْلُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، سِوَى عَصْرِ يَوْمِهِ عِنْدَ الِاصْفِرَارِ، وَيَحْرُمُ الْمَنْذُورَةُ، وَالنَّافِلَةُ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ دُونَ الْمَكْتُوبَةِ الْفَائِتَةِ، وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْرُمُ فِيهَا النَّوَافِلُ دُونَ الْفَرَائِضِ، وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ، غَيْرَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِيهَا رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَزَادَ مُسْلِمٌ: وَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّيهِمَا حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1044 - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يُصَلِّي بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَلَاةَ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ "، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، فَصَلَّيْتُهُمَا الْآنَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ، وَقَالَ: إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ ; لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو، وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " " وَنُسَخِ الْمَصَابِيحِ " عَنْ قَيْسِ بْنِ قَهْدٍ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1044 - (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) : مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، كَذَا فِي مُقَدِّمَةِ فَتْحِ الْبَارِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ تَمِيمِيٌّ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، (عَنْ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو) : وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا) : سَيَأْتِي فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ قَيْسٌ (يُصَلِّي بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ) ، أَيْ: بَعْدَ فَرْضِ الصُّبْحِ (رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَلَاةَ الصُّبْحِ ") : بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيِ: افْعَلُوا أَوِ الْزَمُوا أَوِ اجْعَلُوا أَوْ صَلُّوا صَلَاةَ الصُّبْحِ (" رَكْعَتَيْنِ ") : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ " لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الزِّيَادَةِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: رَكْعَتَيْنِ سُنَّةً، وَرَكْعَتَيْنِ فَرِيضَةً، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: " رَكْعَتَيْنِ " مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: أَتُصَلِّي بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ وَلَيْسَ بَعْدَهَا صَلَاةٌ؟ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَيْ أَتُصَلِّي صَلَاةَ الصُّبْحِ وَتُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ بَعْدَهَا؟ فَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّمُ لِلْإِنْكَارِ، وَرَكْعَتَيْنِ الثَّانِي تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ، أَيْ: هَذِهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ صَلَّيْتَهَا، فَكَيْفَ تُصَلِّي بَعْدَهَا اهـ؟ . وَلَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِهِمَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ، (فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) ، أَيْ: قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: قَبْلَهُمَا، أَيْ: قَبْلَ رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، (فَصَلَّيْتُهُمَا الْآنَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فَاعْتَذَرَ الرَّجُلُ بِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْفَرْضِ وَتَرَكَ النَّافِلَةَ، وَحِينَئِذٍ أَتَى بِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدٍ، قُلْتُ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْضَى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، قَالَ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ: لَا قَضَاءَ بَعْدَ الْفَوْتِ، يَعْنِي انْفِرَادًا، وَأَمَّا إِذَا فَاتَ فَرْضُ الصُّبْحِ فَإِنَّ السُّنَّةَ تُقْضَى تَبَعًا لَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالسُّنَّةُ الْقَبْلِيَّةُ فِي الظُّهْرِ أَيْضًا تُقْضَى بَعْدَهُ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ قَبْلَهُمَا عَلَى خِلَافٍ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ، مَعَ أَنَّ تَقْدِيمَ الرَّكْعَتَيْنِ أَصَحُّ لِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ مُخْتَارُ ابْنِ الْهَمَّامِ، (فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: سُكُوتُهُ يَدُلُّ عَلَى قَضَاءِ سُنَّةِ الصُّبْحِ بَعْدَ فَرْضِهِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا قَبْلَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، قُلْتُ؟ وَسَيَأْتِي أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، وَيُقَالُ: قَيْسُ بْنُ قَهْدٍ الْأَنْصَارِيُّ رَفَعَهُ.

(وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ، وَقَالَ: إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ ; لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو) : قَالَ: وَرَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فَرَأَى قَيْسًا فَهُوَ مُرْسَلٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَنُسَخِ الْمَصَابِيحِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ قَهْدٍ) : بِالْقَافِ وَالدَّالِ، قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: بِفَتْحِ الْقَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاءِ، قَالَ فِي الْمُغْنِي: قَيْسُ بْنُ قَهْدٍ بِفَتْحِ قَافٍ وَسُكُونِ هَاءٍ فَدَالٌ مُهْمَلَةٌ، وَقِيلَ قَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَهْدٍ، وَقِيلَ: بِفَاءٍ إِذْ لَا يُعْرَفُ بِقَافٍ إِلَّا قَيْسُ بْنُ قَهْدٍ، (نَحْوَهُ) : بِالنَّصْبِ، أَيْ: رَوَى نَحْوَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَشَارَ الْمُؤَلِّفُ إِلَى الِاخْتِلَافِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةِ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَقِيلَ: هُوَ قَيْسُ بْنُ قَهْدٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ أَيْضًا اهـ. وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، أَنَّ قَيْسَ بْنَ قَهْدٍ بِالْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَقَيْسَ بْنَ عَمْرٍو كِلَاهُمَا مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَيُغْنِي عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (" «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَّا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ» ") ، فَإِنَّهُ صَادِقٌ بِصَلَاتِهِمَا بَعْدَ الصُّبْحِ وَقَبْلَهُ "، اهـ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ مِنَ السُّنَنِ الْقَبْلِيَّةِ، قَالَ: وَأَمَّا أَخْذُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ دُخُولَ الْكَرَاهَةِ بِأَوَّلِ وَقْتِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَيُعَارِضُهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ السَّابِقُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ لِتَصْرِيحِهِ فِيهِ بِتَقْيِيدِ النَّهْيِ بِمَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، بَلْ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ فِعْلِ الْعَصْرِ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ، بَلْ سَهْوٌ، وَالْمُعْظَمُ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ عَلَى التَّقْيِيدِ بِمَا فِي الْحَدِيثِ، وَمَيْلُ جَمْعٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا إِلَى تَرْجِيحِ الْإِطْلَاقِ - ضَعِيفٌ اهـ، وَنِسْبَةُ الْمَسْأَلَةِ إِلَى الثَّلَاثَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ فِي مَذْهَبِنَا تُكْرَهُ النَّوَافِلُ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ لَا سُنَّتُهُ، وَتُكْرَهُ بَعْدَهُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْعَصْرُ فَلَا تُكْرَهُ النَّوَافِلُ إِلَّا بَعْدَ صَلَاتِهِ لَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ.

1045 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَا بَنِي عَبْدَ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَصَلَّى آيَةً سَاعَةَ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1045 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ ابْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: خَصَّهُمْ بِالْخِطَابِ دُونَ سَائِرِ قُرَيْشٍ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَمْرِ وَالْخِلَافَةَ سَتَئُولُ إِلَيْهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ رُؤَسَاءُ مَكَّةَ، وَفِيهِمْ كَانَتِ السِّدَانَةُ، وَالْحِجَابَةُ، وَاللِّوَاءُ، وَالسِّقَايَةُ، وَالرِّفَادَةُ، (" لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ ") : لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الطَّوَافِ أَحْيَانًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّقْيِيدُ بِالطَّوَافِ لَيْسَ بِتَقْيِيدٍ مَانِعٍ، بَلْ أَحَدًا طَافَ بِمَنْزِلَةِ أَحَدٍ أُدْخِلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ دَخْلَهُ فَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ غَالِبًا فَهُوَ كِنَايَةٌ، (" وَصَلَّى ") ، أَيْ: صَلَاةَ الطَّوَافِ أَوْ مُطْلَقًا وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّقْيِيدِ بِغَيْرِ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ إِذْ سَبَقَ النَّهْيُ؛ أَوِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، (" أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ") : قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ بِمَكَّةَ لِشَرَفِهَا، لِيَنَالَ النَّاسُ مِنْ فَضْلِهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْكَرَاهَةِ يَعْنِي لِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَشُمُولِهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: " وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ "

فِي الْأَوْقَاتِ الْغَيْرِ الْمَكْرُوهَةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ النُّصُوصِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالَ الْمُؤَلِّفُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَصَابِيحِ بَعْدَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مِنْ قَوْلِهِ " مَنْ وُلِّيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا " لَمْ أَجِدْهُ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَلَا فِي أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ.

1046 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1046 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ظَرْفٌ لِلصَّلَاةِ عَلَى تَأْوِيلِ أَنْ يُصَلِّيَ (حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ) : مُسْتَثْنًى مِنَ الْكَرَاهَةِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّفْلِ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَكْرُوهَةٌ، قُلْتُ: وَقَدْ وَافَقَ أَبُو يُوسُفَ الشَّافِعِيَّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَا ثَبَتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ عِنْدَ الْخَصْمِ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ ; أَوْ ثَبَتَ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَاوِمَ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّهْيِ الْمُطْلَقِ فَيُخَصِّصُهَا وَيُقَيِّدُهَا، (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) : عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ، رَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيهِ، وَرَوَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

1047 - وَعَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ الصَّلَاةَ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: " إِنَّ جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: أَبُو الْخَلِيلِ لَمْ يَلْقَ أَبَا قَتَادَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1047 - (وَعَنْ أَبِي الْخَلِيلِ) : اسْمُهُ: صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ الصَّلَاةَ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ) : قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَوْلُهُ: حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، كَذَا فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا، وَلَيْسَ فِي أَبِي دَاوُدَ، وَلَا فِي الْمَصَابِيحِ، (إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: إِنَّ جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ ") : مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا، أَيْ: تُوقَدُ (" إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ أَرَادَ الْإِبْرَادَ بِالظُّهْرِ؟ لِقَوْلِهِ: " أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ "، وَلَعَلَّ تَسَجُّرَ جَهَنَّمَ حِينَئِذٍ لِمُقَارَنَةِ الشَّمْسِ وَتَهْيِئَتِهَا ; لِأَنْ تَسْجُدَ لَهَا عَبَدَةُ الشَّمْسِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ: " تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ "، وَقَوْلُهُ: " بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ " وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ، أَكْثَرُهُمَا تَفَرَّدَ الشَّارِعُ بِمَعْنَاهَا وَيَجِبُ عَلَيْنَا التَّصْدِيقُ بِهَا، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَهُ مِيرَكُ، (وَقَالَ) : أَيْ أَبُو دَاوُدَ (أَبُو الْخَلِيلِ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (لَمْ يَلْقَ أَبَا قَتَادَةَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَمُجَاهِدٌ أَكْبَرُ مِنْ أَبِي الْخَلِيلِ؛ انْتَهَى كَلَامُ أَبِي دَاوُدَ. قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ بِطْرِيقٍ مُنْقَطِعٍ، فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى هَذِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْمَصَابِيحِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: (لَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِمَجِيئِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَوْصُولًا) ، غَيْرُ مَعْقُولٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ مَوْصُولٍ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1048 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا» ". وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1048 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ) : بِمَضْمُومَةٍ وَخِفَّةِ نُونٍ وَبِمُوَحَّدَةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ نِسْبَةً إِلَى صُنَابِحِ بْنِ زَاهِرٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الصَّوَابُ عِنْدِي، أَنَّ الصُّنَابِحِيَّ هَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّابِعِيُّ، لَا عَبْدُ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا) : هَذَا زَائِدٌ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ فِي الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَبِهِ يَظْهَرُ النَّهْيُ عَنْ حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنْ إِلْحَاقِ هَذَا بِهِمَا. (فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ) : بِأَنِ اصْفَرَّتْ وَقَرُبَتْ مِنْ سُقُوطِ طَرَفِهَا بِالْأَرْضِ (قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا "، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ) : حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ: (فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ) : نَهْيَ تَحْرِيمٍ. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ) .

1049 - وَعَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُخَمَّصِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: " إِنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ» ". وَالشَّاهِدُ: النَّجْمُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1049 - (وَعَنْ أَبِي بَصْرَةَ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (الْغِفَارِيُّ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ أَبِي ذَرٍّ (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُخَمَّصِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ جَمِيعًا، وَقِيلَ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا فِي آخِرِهَا صَادٌ مُهْمَلَةٌ، اسْمُ طَرِيقٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ. (صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَقَالَ) أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا (إِنَّ هَذِهِ) أَيْ: صَلَاةُ الْعَصْرِ (صَلَاةٌ عُرِضَتْ) أَيْ: بِالْمُحَافَظَةِ (عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أَيْ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (فَضَيَّعُوهَا) أَيْ: مَا قَامُوا بِحَقِّهَا، وَمَا حَافَظُوا عَلَى مُرَاعَاتِهَا، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] أَيْ: الْعَصْرُ عَلَى الصَّحِيحُ خُصَّتْ بِالْمُحَافَظَةِ، (فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ) : إِحْدَاهُمَا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا خِلَافًا لِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَثَانِيَتُهُمَا: أَجْرُ عَمَلِهِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ أَجْرٌ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَأَجْرٌ لِتَرْكِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالزَّهَادَةِ، فَإِنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ كَانَ زَمَانَ سُوقِهِمْ وَأَوَانَ شُغْلِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَرَّةٌ لِفَضْلِهَا لِأَنَّهَا الْوُسْطَى، وَمَرَّةٌ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَمُشَارَكَةُ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ لَهَا فِي هَذَا لَا تُؤَثِّرُ فِي تَخْصِيصِهَا بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ (وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا) أَيْ: بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا بِذَاتِهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ، وَلَوْ كَانَ حِينَ الْغُرُوبِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. (حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ) أَيْ: يَدُلُّ الدَّلِيلُ عَلَى دُخُولِ اللَّيْلِ (وَالشَّاهِدُ: النَّجْمُ) أَيْ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ ظُهُورُهُ ; إِذْ بِغَيْبَةِ الشَّمْسِ يَظْهَرُ نُورُهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

3 -

1050 - «وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً، لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهِمَا، وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا. يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1050 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً) أَيْ: رَكْعَتَيْنِ ; فَإِنَّهُمَا أَقَلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. (لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهِمَا) أَيْ: مُطْلَقًا ; أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا فِي الْبَيْتِ لِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِهِ. (وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا) أَيْ: نَهْيًا عَامًّا (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ مُعَاوِيَةُ بِهِمَا (الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ) : قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرَةً بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَمِلَ بِذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى يَنْصَرِفَ مِنْ صِلَاتِهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَانَ ضَرْبُهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَى أَنَّ الْمُتَقَرِّرَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدَمُ جَوَازِهِمَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْعُذْرُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَهُمَا جَبْرًا لِمَا فَاتَهُ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، أَوْ قَبْلَ الْعَصْرِ حِينَ شُغِلَ عَنْهُمَا، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ ; فَدَاوَمَ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهُمَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1051 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَقَدْ صَعِدَ عَلَى دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ: مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدُبٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَزِينٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1051 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ) أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (وَقَدْ صَعِدَ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (قَالَ) أَيْ طَلَعَ أَبُو ذَرٍّ (عَلَى دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ) : الدَّرَجَةُ بِفَتْحَتَيْنِ هِيَ الْآنَ خَشَبٌ يُلْصَقُ لِبَابِ الْكَعْبَةِ لِيَرْقَى فِيهِ إِلَيْهَا مَنْ يُرِيدُ دُخُولَهَا، فَإِذَا قُفِلَتْ حُوِّلَ لِمَحَلٍّ آخَرَ قَرِيبٍ مِنَ الطَّوَافِ بِجَنْبِ زَمْزَمَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ كَذَلِكَ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ بِكَيْفِيَّةٍ أُخْرَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالدَّرَجَةِ عَتَبَةَ الْكَعْبَةِ. (مَنْ عَرَفَنِي) أَيْ: بِاسْمِي (فَقَدْ عَرَفَنِي) : بِوَصْفِي أَيْ صَدَّقَ لَهْجَتِي، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَقِّهِ: " «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ» ". (وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدُبٌ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَيُفْتَحُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اتِّحَادُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِلْإِشْعَارِ بِشُهْرَةِ صِدْقِ لَهْجَتِهِ، وَالشَّرْطِيَّةُ الثَّانِيَةُ تَسْتَدْعِي مُقَدَّرًا أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَلْيَعْلَمْ أَنِّي جُنْدُبٌ. (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ) أَيْ: بَعْدَ فَرْضِ الصُّبْحِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ) أَيْ: فَرْضُهُ (حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ) : ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمَرَّتَانِ الْأَخِيرَتَانِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَزِينٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: انْقِطَاعِ مَا بَيْنَ مُجَاهِدٍ وَأَبِي ذَرٍّ، فَإِنَّهُ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْهُ ; وَضَعْفِ ابْنِ الْمُؤَمَّلِ، وَضَعْفِ حُمَيْدٍ مَوْلَى عَفْرَاءَ، وَاضْطِرَابِ سَنَدِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأُدْخِلَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ بَيْنَ حُمَيْدٍ هَذَا وَبَيْنَ مُجَاهِدٍ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ فَأَسْقَطَهُ مِنَ الْبَيْنِ، انْتَهَى. وَاعْتَرَفَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، لَكِنْ قَالَ: إِنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِحَدِيثِ: (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ) وَفِيهِ أَنَّ حَدِيثَهُمْ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنِ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى حَسَبِ أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ ; فَسَدَّ هَذَا الْبَابَ عَلَيْهِمْ، وَأَطْلَقَ الْحُكْمَ مِنْ جِهَتِهِمْ وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةً لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهَا، وَلِذَا أَضَافَ الْحُكْمَ إِلَيْهِمْ، وَخَصَّهُمْ بِالْخِطَابِ عَلَى وَجْهِ الْعِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[باب الجماعة وفضلها]

[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

[23] بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1052 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [23] بَابُ الْجَمَاعَةِ أَيْ: أَحْكَامُهَا وَآدَابُهَا. (وَفَضْلُهَا) أَيْ: زِيَادَةُ ثَوَابِهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1052 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ) أَيْ: تَزِيدُ فِي الثَّوَابِ (صَلَاةَ الْفَذِّ) : بِتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: الْفَرْدِ، بِمَعْنَى الْمُنْفَرِدِ، أَيْ: عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَرَكَ الْجَمَاعَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ فَذَّ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَيْ: انْفَرَدَ وَشَذَّ عَنْهُمْ، انْتَهَى. فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا بِعُذْرٍ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ. (بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " «أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» "، انْتَهَى. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ شَرْطَا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَا فَرْضَ عَيْنٍ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِمَنْ صَلَّى فَذًّا دَرَجَةٌ كَذَا قَالُوا، وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا عَلَى الْمَعْذُورِ، أَوْ يَقُولَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّرْغِيبُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفَرْضِيَّةِ ; أَوِ الشَّرْطِيَّةُ لَهَا دَلِيلٌ آخَرُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَكَرَ هَاهُنَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنْ نَقُولَ: عَرَفْنَا مِنْ تَفَاوُتِ الْفَضْلِ أَنَّ الزَّائِدَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ النَّاقِصِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَزِيدُ عِبَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يُنْقِصُهُمْ مِنَ الْمَوْعِدِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بِمِقْدَارٍ مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَمُنُّ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ، فَبَشَّرَهُمْ بِهِ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا وَجْهُ قَصْرِ الْفَضِيلَةِ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ تَارَةً وَعَلَى سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أُخْرَى، فَمَرْجِعُهُ إِلَى الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الْعُقَلَاءُ إِجْمَالًا، فَضْلًا عَنِ التَّفْصِيلِ، وَلَعَلَّ الْفَائِدَةَ فِيمَا كَشَفَ بِهِ حَضْرَةُ النُّبُوَّةِ هِيَ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِظْهَارِ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: أَنْ ذِكْرَ الْقَلِيلِ لَا يَنْفِي الْكَثِيرَ وَمَفْهُومَ اللَّقَبِ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُصَلِّي وَالصَّلَاةِ، فَلِبَعْضِهِمْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَلِبَعْضِهِمْ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ، بِحَسَبِ كَمَالِ الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى قِيَامِهَا، وَالْخُشُوعِ فِيهَا، وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ، وَالْإِمَامِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ بِمُجَرَّدِ الْجَمَاعَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا ذُكِرَ، فَإِنَّ بَعْضَ الْبُقَعِ يَزِيدُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَالدَّرَجَاتُ بَيْنَ الْمُصَلِّينَ وَالصَّلَوَاتِ مُتَبَايِنَةٌ بَعِيدَةٌ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ ; وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ عَلَى سُنِّيَّةِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَنَا، وَرَجَّحَهُ كَثِيرُونَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ لِلْخَبَرِ الْآتِي: مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَخْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَا يَقْنَعُ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَتْرُكُ دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً إِلَّا غَيْرُ مُصَدِّقٍ لَهُ بِذَلِكَ، أَوْ سَفِيهٌ لَا يَهْتَدِي لِطَرِيقِ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ السَّبْعَةَ وَالْعِشْرِينَ تَحْصُلُ فِي جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُضَاعَفَةً فِي مِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ الْحَاصِلَةِ لِلْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا، وَصَحَّ حَدِيثُ: " «الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً، فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً» "، وَصَحَّ أَيْضًا: " «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِذَا صَلَّاهَا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَأَتَمَّ وُضُوءَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ صِلَاتُهُ خَمْسِينَ دَرَجَةً» "، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: " «أَنَّ مَنْ بِالْفَلَاةِ إِنْ أَقَامَ صَلَّى مَعَهُ مَلَكَاهُ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ مَا لَا يُرَى طَرَفَاهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " «صَلَّتْ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ مَلَكٍ، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ» "، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: صَلَّى وَرَاءَهُ أَمْثَالُ الْجِبَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.

1053 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1053 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي) أَيْ: ذَاتِي أَوْ رُوحِي، يَعْنِي إِيجَادَهَا وَإِمْدَادَهَا (بِيَدِهِ) أَيْ: بِقَبْضَةِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ (لَقَدْ هَمَمْتُ) أَيْ: قَصَدْتُ وَأَرَدْتُ (أَنْ آمُرَ) أَيْ: بَعْضَ الْخَدَمِ لِمَا فِي رِوَايَةِ " فِتْيَتِي " (بِحَطَبٍ) أَيْ: يُجْمَعُ حَطَبٌ عَظِيمٌ (فَيُحْطَبُ) : بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ، وَفِي الْمَصَابِيحِ، فَيُحْتَطَبُ، أَيْ: فَيُجْمَعُ الْحَطَبُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: حَطَبْتُ الْحَطَبَ وَاحْتَطَبْتُهُ أَيْ: جَمَعْتُهُ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: فَيُحْطَبُ كَذَا وَجَدْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَالْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَشُعَبِ الْإِيمَانِ (ثُمَّ آمُرَ) : بِالنَّصْبِ (بِالصَّلَاةِ) أَيِ الْعِشَاءِ لِمَا يَقْتَضِيهِ آخِرُ الْحَدِيثِ، وَالتَّصْرِيحُ بِهِ الْآتِي فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ، وَيَحْتَمِلُ بَقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ إِنْ تَعَدَّدَتِ الْقِصَّةُ، (فَيُؤَذَّنَ) : بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ (لَهَا، ثُمَّ آمُرَ) : بِالنَّصْبِ (رَجُلًا) : فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ وَانْصِرَافِهِ لِعُذْرٍ (فَيَؤُمَّ) : بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (النَّاسَ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي الْجَمَاعَةِ لَا فِي الْجُمُعَةِ، وَإِنْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِهِمَا وَهُمَا صَحِيحَتَانِ. (ثُمَّ أُخَالِفَ) : بِالنَّصْبِ، أَيْ: أَذْهَبَ (إِلَى رِجَالٍ) أَيْ آتِيهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أُخَالِفُ مَا أَظْهَرْتُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَاشْتِغَالِ بَعْضِ النَّاسِ، وَأَقْصِدُ إِلَى بُيُوتِ مَنْ أَمَرْتُهُمْ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا لِلصَّلَاةِ، فَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْهَا فَأُحَرِّقُهَا عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ خَالَفْتُ إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدْتَهُ وَأَنْتَ مُوَلِّ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] . (وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَشْهَدُونَ) أَيْ: لَا يَحْضُرُونَ (الصَّلَاةَ) : مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: " لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ " بَلْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَفِي رِوَايَةٍ: " «يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ» "، فَيَكُونُ الْوَعِيدُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ (فَأُحَرِّقَ) : بِالتَّشْدِيدِ (عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ) : بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا. قِيلَ: هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُ عَامًّا فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ فِي زَمَانِهِ، نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي إِذْ مَا كَانَ أَحَدٌ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مُنَافِقٌ ظَاهِرُ النِّفَاقِ، أَوِ الشَّاكُّ فِي دِينِهِ، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ بِإِحْرَاقِ الْمَالِ، وَقِيلَ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ الْعُقُوبَةِ بِالتَّحْرِيقِ فِي غَيْرِ الْمُتَخَلِّفَةِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالْغَالِّ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ تَحْرِيقِ مَتَاعِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا دَلِيلَ فِيهِ لِوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ عَيْنًا، الَّذِي قَالَ بِهِ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ ; لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي قَوْمٍ مُنَافِقِينَ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَيُؤَيِّدُ التَّعْمِيمَ قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) : تَأْكِيدٌ لِقَسَمٍ سَابِقٍ، أَوِ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَاحِقٍ (لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ) أَيِ: الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ مَعَ فَضِيلَتِهَا فِي الدُّنْيَا وَثَوَابِهَا فِي الْعُقْبَى (أَنَّهُ يَجِدُ) أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ (عَرْقًا) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، أَيْ: عَظْمًا عَلَيْهِ لَحْمٌ (سَمِينًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَرْقُ بِالسُّكُونِ الْعَظْمُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ اللَّحْمُ، أَيْ: مُعْظَمُهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَصْدَرُ عَرَقْتُ الْعَظْمَ إِذَا أَكَلْتَهُ، أَوْ أَخَذْتَ أَكْثَرَ مَا عَلَيْهِ مِنَ اللَّحْمِ، وَوَصَفَهُ بِالسَّمِينِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُ أَكْثَرُ اللَّحْمِ، وَهُوَ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ سَمِينًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قُيِّدَ بِهِ لِأَنَّ الْعَظْمَ السَّمِينَ فِيهِ دُسُومَةٌ قَدْ يُرْغَبُ فِي مَضْغِهِ لِأَجْلِهَا. (أَوْ مِرْمَاتَيْنِ) : بِكَسْرِ مِيمِهِ وَتُفْتَحُ: ظِلْفُ الشَّاةِ، وَ " أَوْ " بِمَعْنَى " بَلْ ". وَقِيلَ: لَحْمُ مَا بَيْنَ ظِلْفَيْهَا لِأَنَّهُ مِمَّا يُرْمَى، وَقِيلَ: هِيَ الْعَظْمُ الَّذِي لَا لَحْمَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: بِكَسْرِ الْمِيمِ: السَّهْمُ الصَّغِيرُ الَّذِي يُتَعَلَّمُ الرَّمْيُ بِهِ، أَوْ يُرْمَى بِهِ فِي السَّبْقِ، وَهُوَ أَحْقَرُ السِّهَامِ وَأَرْذَلُهَا. (حَسَنَتَيْنِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ جَيِّدَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا وَصَفَهُمَا بِالْحَسَنَتَيْنِ لِيَكُونَ مُشْعِرًا بِبَقَاءِ الرَّغْبَةِ فِيهِمَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْحُسْنُ وَالْحَسَنُ: الْعَظْمُ الَّذِي فِي الْمِرْفَقِ مِمَّا يَلِي الْبَطْنَ، وَالْقُبْحُ وَالْقَبِيحُ: الْعَظْمُ الَّذِي فِي

الْمِرْفَقِ مِمَّا يَلِي الْكَتِفَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَسَنَتَيْنِ بَدَلٌ مِنْ: الْمِرْمَاتَيْنِ إِذَا أُرِيدَ بِهِمَا الْعَظْمُ الَّذِي لَا لَحْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِمَا السَّهْمَانِ الصَّغِيرَانِ، فَالْحَسَنَتَيْنِ بِمَعْنَى الْجَيِّدَتَيْنِ صِفَةٌ لِمِرْمَاتَيْنِ. (لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَالْمُرَادُ التَّوْبِيخُ، أَيْ: لَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنْ لَوْ حَضَرَ وَقْتَ الْعِشَاءِ أَوْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِشَاءِ الصَّلَاةُ لَحَصَلَ لَهُ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ لَحَضَرَهَا، وَإِنْ كَانَ خَسِيسًا صَغِيرًا، وَمَا يَحْضُرُ الصَّلَاةَ وَمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ. قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ، وَظَاهِرُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كِفَايَةً لَمَا اسْتَحَقَّ بَعْضُ التَّارِكِينَ التَّعْذِيبَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَانَ الْقَائِلُ بِالْكِفَايَةِ يَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الِافْتِرَاضِ إِظْهَارُ الشِّعَارِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ تُقَامُ عَلَى عَهْدِهِ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ مَا قَالَ، وَهَمَّ بِتَحْرِيقِهِمْ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِثْلُهُ عَنْهُ فِيمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَنَائِزِ مَعَ إِقَامَتِهَا بِغَيْرِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ، قَالَ: وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا وَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» "، أَيْ: الشَّاةَ الْبَعِيدَةَ مِنَ الرَّاعِي. وَاسْتِحْوَاذُ الشَّيْطَانِ وَهُوَ غَلَبَتُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا يَكُونُ مَعْصِيَةً، كَتَرْكِ الْوَاجِبِ دُونَ السُّنَّةِ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ، أَوْ وَاجِبٌ عَلَى مُخْتَارِ مَذْهَبِنَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالثَّلَاثَةِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ كَمَالِ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، قَالَ: وَذَهَبَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ ; وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَتَمَسَّكُوا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ، أَيْ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنَ الْبَابِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَكْثَرَ مِنْ ثُبُوتِ صِحَّةِ مَا فِي الْبَيْتِ وَالسُّوقِ فِي الْجُمْلَةِ بِلَا جَمَاعَةٍ، وَلَا شَكَّ فِيهِ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، فَالْمَعْنَى: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مُقْتَضَاهُ الصِّحَّةَ مُطْلَقًا بِلَا جَمَاعَةٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى سُنِّيَّتِهَا، لِجَوَازِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ تَرْكُهَا مُؤَثِّمًا لَا مُفْسِدًا، قَالَ: وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ التَّحْرِيقَ لِاسْتِهَانَتِهِمْ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِهَا إِلَّا بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ، قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّرْكِ، وَلِمُشَابَهَتِهِمْ بِالْمُنَافِقِينَ وَالشَّاكِّينَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ، وَدَاوُدُ: إِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ: بِوُجُوبِهَا وَاشْتِرَاطِهَا فِي الصِّحَّةِ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَدَاوُدَ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَقِيلَ: عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفِي الْغَايَةِ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَفِي الْمُفِيدِ: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ; وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةٌ لِوُجُوبِهَا بِالسُّنَّةِ، وَفِي الْبَدَائِعِ: تَجِبُ عَلَى الْعُقَلَاءِ، الْبَالِغِينَ، الْأَحْرَارِ، الْقَادِرِينَ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَإِذَا فَاتَتْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ فِي الْمَسَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ أَصْحَابِنَا، بَلْ إِنْ أَتَى مَسْجِدًا آخَرَ لِلْجَمَاعَةِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ مُنْفَرِدًا فَحَسَنٌ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ يَجْمَعُ بِأَهْلِهِ أَحْيَانًا هَلْ يَنَالُ ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ؟ فَقَالَ: لَا، وَيَكُونُ بِدْعَةً وَمَكْرُوهًا بِلَا عُذْرٍ، فَمِنَ الْأَعْذَارِ: الْمَرَضُ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، وَكَوْنُهُ مَقْطُوعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ مَفْلُوجًا، أَوْ مُسْتَخْفِيًا مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ مِنْ غَرِيمٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ كَالشَّيْخِ الْعَاجِزِ وَغَيْرِهِ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَالْأَعْمَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اتِّفَاقٌ، وَالْخِلَافُ فِي الْجُمُعَةِ لَا الْجَمَاعَةِ، فَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى، وَبِالْمَطَرِ، وَالطِّينِ، وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَالظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الصُّبْحِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ) .

1054 - وَعَنْهُ، قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: " هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَأَجِبْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1054 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى) : هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ) أَيْ: عَبْدٌ أَوْ خَادِمٌ (يَقُودُنِي) أَيْ: يُمْسِكُنِي وَيَأْتِي مَعِي (إِلَى الْمَسْجِدِ) : لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ (فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: طَلَبَ مِنْهُ (أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ) أَيْ: فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ (فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ) : إِمَّا جَمَاعَةً أَوْ مُنْفَرِدًا (فَرَخَّصَ لَهُ) أَيْ: رَخَّصَ أَوَّلًا (فَلَمَّا وَلَّى) أَيْ: رَجَعَ وَأَدْبَرَ (دَعَاهُ، فَقَالَ: " هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ) أَيِ: الْإِعْلَامَ وَالتَّأْذِينَ (بِالصَّلَاةِ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَأَجِبْ) أَيْ: فَأْتِ الْجَمَاعَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ: حَثٌّ وَمُبَالَغَةٌ فِي الْأَفْضَلِ الْأَلْيَقِ بِحَالِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ فُضَلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، رَخَّصَ أَوَّلًا ; ثُمَّ رَدَّهُ ; إِمَّا بِوَحْيٍ أَوْ بِتَغْيِيرِ اجْتِهَادٍ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَطْلَقَ لَهُ الْجَوَابَ، ثُمَّ قَيَّدَهُ بِقَيْدِ عَدَمِ السَّمَاعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ مَعَ عَدَمِ وُجْدَانِهِ قَائِدًا لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْحُضُورِ بِلَا قَائِدٍ ; أَوْ لِلتَّأْكِيدِ فِي الْجَمَاعَةِ، قَالَ: وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ عَلَى وُجُوبِ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا رُوِيَ «عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ أَيْ بَعِيدُهَا، وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي، فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ: " أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " مَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَغَيْرُهُمْ، وَمَعْنَاهُ لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً تُحَصِّلُ لَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِهَا، لَا الْإِيجَابُ عَلَى الْأَعْمَى، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَخَّصَ لِعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فِي تَرْكِهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعَيْنِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، وَلِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَخَّصَ لِعِتْبَانِ حَيْثُ شَكَا بَصَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَا ادَّعَى أَحَدٌ أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ أَيْضًا فَتَدَبَّرْ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا " «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» "، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثَانِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمَا ضَعِيفَانِ " «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ، " «وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ» "، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ أَئِمَّتُنَا بِفَرْضِيَّتِهِ بَلْ بِوُجُوبِهِ ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ ظَنِّيٌّ.

1055 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُولُ: " أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1055 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَذَّنَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، قِيلَ عِبَارَةُ الْبُخَارِيِّ هُنَا عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ (بِالصَّلَاةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: لِلصَّلَاةِ (فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ) : وَفِي بَابِ الْأَذَانِ: (أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ) يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَذَّنَ صِيغَةُ الْمَعْرُوفِ اهـ. وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذَّنَ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ بِالتَّأْذِينِ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِ الْأَذَانِ (أَلَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) أَيْ فِي الْبُيُوتِ وَالْمَنَازِلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيِ: الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ، رَحْلُ الرَّجُلِ مَنْزِلُهُ وَمَسْكَنُهُ. (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ) أَيْ: وَقَعَتْ (لَيْلَةٌ) : بِالرَّفْعِ (ذَاتُ بَرْدٍ) : صِفَتُهَا أَيْ: صَاحِبَةُ بَرْدٍ شَدِيدٍ (وَمَطَرٍ) أَيْ كَثِيرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ زِيَادَةُ وَرِيحٍ (يَقُولُ: " أَلَا صَلُّوا) : أَمْرُ إِبَاحَةٍ (فِي الرِّحَالِ) : لِلْعُذْرِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ، أَيْ: وَحْلٍ كَثِيرٍ؟ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ تَرْكَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ: الْحَدِيثُ رُخْصَةٌ يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِذَا ابْتَلَّتِ النِّعَالُ فَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ» ". (مُتَّفَقٌ عَلْيِهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُوَافِقُهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمُطِرْنَا، فَقَالَ: " لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ فِي رَحْلِهِ» "، وَصَحَّ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَصَابَنَا مَطَرٌ قَلِيلٌ لَمْ يَبُلَّ أَسْفَلَ نِعَالِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» .

1056 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَابْدَأُوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ» ". وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلَاةُ، فَلَا يَأْتِيهَا حِينَ يَفْرُغُ مِنْهُ، وَإِنَّهُ لِيَسْمَعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1056 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مَا يُؤْكَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: مَا يُؤْكَلُ بَعْدَ الزَّوَالِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مِثَالٌ، وَالْمُرَادُ طَعَامٌ تَتُوقُ نَفْسُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَشَاءً (وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَأُوا بِالْعَشَاءِ) أَيْ: بِأَكْلِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (وَلَا يَعْجَلْ) أَيْ: أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ (حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ) : عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، أَيْ: مِنَ الْعَشَاءِ بِالْفَتْحِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ ; حَيْثُ قَالُوا: إِنَّمَا يَأْكُلُ لُقَيْمَاتٍ تَكْسِرُ سَوْرَتَهُ، وَالَّذِي صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنْ يُكْمِلَ حَاجَتَهُ مِنَ الْأَكْلِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ فَابْدَأُوا أَنْتُمْ بِالْعَشَاءِ. وَلَا يَعْجَلْ هُوَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَالْأَمْرُ بِالْجَمْعِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وَبِالْأَفْرَادِ إِلَى الْأَحَدِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. قُلْتُ: هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ فَابْدَأُوا بِالْعِشَاءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ ; وَالنُّسَخُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى الْفَتْحِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِإِفَادَةِ عُمُومِ الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْمُوَافَقَةُ مَعَهُ، ثُمَّ أَدَاءُ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً لِيَنَالَ الْفَضِيلَةَ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَهَذَا إِذَا كَانَ جَائِعًا وَنَفْسُهُ تَتُوقُ إِلَى الْأَكْلِ وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ، وَمَا أَحْسَنَ مَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لِأَنْ يَكُونَ أَكْلِي كُلُّهُ صَلَاةً أَحَبُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَلَاتِي كُلُّهَا أَكْلًا. (وَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَكَانَ (ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ) أَيْ طَعَامُ أَحَدِ الْعَشَاءَيْنِ بِقَرِينَةِ سَمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ (وَتُقَامُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَيَذْكُرُ (الصَّلَاةَ) أَيْ: جَمَاعَةً (فَلَا يَأْتِيهَا) أَيِ: الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ (حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَكْلِهِ (وَإِنَّهُ) أَيْ: مِنْ قُرْبِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ) : وَالْجُمْلَةُ حَالِيَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1057 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1057 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا صَلَاةَ) أَيْ: كَامِلَةً (بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، أَيْ: بِحُضُورِ طَعَامٍ يُرِيدُ أَكْلَهُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَيَسِّرَ حُضُورُهُ عَنْ قُرْبٍ كَالْحَاضِرِ. (وَلَا هُوَ) أَيْ: مُرِيدُ الصَّلَاةِ (يُدَافِعُهُ) أَيْ: يُطَالِبُهُ وَيَدْفَعُ حُضُورَ صَلَاتِهِ (الْأَخْبَثَانِ) أَيِ: الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، وَفِي مَعْنَاهُ الرِّيحُ وَالْقَيْءُ وَالْمَذْيُ، وَقِيلَ: (هُوَ) عَائِدٌ إِلَى الشَّخْصِ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، وَيُدَافِعُهُ حَالٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَا الشَّخْصُ مُصَلٍّ صَلَاةً كَامِلَةً حَالَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: " وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ " فَالْوَاوُ: لِلْحَالِ مِنْ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَا صَلَاةَ كَامِلَةٌ حَاصِلَةٌ، وَالشَّخْصُ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ، أَيْ: مُقَارِنَةٌ لِمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ (وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْجُمْلَةُ وَقَعَتْ حَالًا بِلَا " وَاوٍ " وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: وَلَا صَلَاةَ حَاصِلَةٌ لِلْمُصَلِّي فِي حَالٍ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ عَنْهَا، فَاسْمُ لَا الثَّانِيَةِ وَخَبَرُهَا مَحْذُوفَانِ، وَقَوْلُهُ: (هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ) حَالٌ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ النِّهَايَةِ: " «لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ» "، إِذْ لَا صَلَاةَ حِينَ هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ، وَالْمُدَافَعَةُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهَا، أَيْ: يَدْفَعُهُ الْأَخْبَثَانِ عَنْهَا وَهُوَ يَدْفَعُهُمَا، وَإِمَّا بِمَعْنَى الدَّفْعِ مُبَالَغَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ: كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ الَّذِي يُرِيدُ أَكْلَهُ لِمَا فِيهِ مِنِ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ وَذَهَابِ كَمَالِ الْخُشُوعِ، وَكَذَلِكَ كَرَاهَتُهَا مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ، فَلَوْ تَضَيَّقَ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ عَلَى حَالِهِ حُرْمَةً لِلْوَقْتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْهُ أَخَذَ أَكْثَرُ أَئِمَّتِنَا كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ جَمْعٌ مِنْهُمْ: وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ وَفَسَادِ الصَّلَاةِ إِنْ أَدَّى إِلَى ذَهَابِ خُشُوعِهِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: " «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ حَاقِنٌ حَتَّى يَتَخَفَّفَ» "، وَحَمَلَهُ الْأَوَّلُونَ عَلَى مَا إِذَا اشْتَدَّ بِهِ الْحَالُ، وَظَنَّ أَنْ يَضُرَّهُ فَحَبْسُهُ حِينَئِذٍ حَرَامٌ.

1058 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1058 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ: نَادَى الْمُؤَذِّنُ بِالْإِقَامَةِ، وَفِيهِ إِقَامَةُ الْمُسَبَّبِ مَقَامَ السَّبَبِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (فَلَا صَلَاةَ) أَيْ: كَامِلَةٌ (إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، أَيْ تِلْكَ الْمَكْتُوبَةُ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِطْلَاقِهَا لِيَشْمَلَ الْفَائِتَةَ لِصَاحِبِ التَّرْتِيبِ، قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيْ: إِذَا أَقَامَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ سُنَّةَ الْفَجْرِ، بَلْ يُوَافِقُ الْإِمَامَ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِسُنَّةِ الْفَجْرِ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ صَلَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: سُنَّةُ الْفَجْرِ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «صَلُّوهَا وَإِنْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْلُ» ". فَقُلْنَا: يُصَلِّي سُنَّةَ الْفَجْرِ مَا لَمْ يَخْشَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَتْرُكُهَا حِينَ خَشِيَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ اهـ. وَحَدِيثُهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: " «لَا تَدَعُوهَا وَإِنْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْلُ» ". قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: سُنَّةُ الْفَجْرِ أَقْوَى السُّنَنِ، حَتَّى رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ صَلَّاهَا قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ، وَقَالُوا: الْعَالِمُ إِذَا صَارَ مَرْجِعًا لِلْفَتْوَى جَازَ لَهُ تَرْكُ سَائِرِ السُّنَنِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَّا سُنَّةَ الْفَجْرِ ; لِأَنَّهَا أَقْوَى السُّنَنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ ارْتَكَبَ، وَالْأَرْجَحُ فَضِيلَةُ الْفَرْضِ بِجَمَاعَةٍ أَعْظَمُ مِنْ فَضِيلَةِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ; لِأَنَّهَا تَفْضُلُ الْفَرْضَ مُنْفَرِدًا بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، لَا تَبْلُغُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ ضِعْفًا وَاحِدًا مِنْهَا ; لِأَنَّهَا أَضْعَافُ الْفَرْضِ، وَالْوَعِيدُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ أَلْزَمُ مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ يَرْجُو إِدْرَاكَهُ فِي التَّشَهُّدِ، قِيلَ: هُوَ كَإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ عِنْدَهَا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَا اعْتِبَارَ بِهِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَالْوَجْهُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ هُنَا، وَمَا رُوِيَ عَنِ الْفَقِيهِ إِسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَقْطَعَهُمَا، فَيَجِبُ الْقَضَاءُ فَيَتَمَكَّنُ مِنَ الْقَضَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، دَفَعَهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالشُّرُوعِ لَيْسَ أَقْوَى مِمَّا وَجَبَ بِالنَّذْرِ، وَنَصُّ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَنْذُورَ لَا يُؤَدَّى بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ الطُّلُوعِ، وَأَيْضًا هُوَ شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ بِقَصْدِ الْإِفْسَادِ، فَإِنْ قِيلَ: لِيُؤَدِّيَهَا مَرَّةً أُخْرَى. قُلْنَا: إِبْطَالُ الْعَمَلِ قَصْدًا مَنْهِيٌّ، وَدَرْءُ الْمَفْسَدَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1059 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعَنَّهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1059 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ) أَيْ: زَوْجَهَا فِي الذَّهَابِ (إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعَنَّهَا) : بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ الْمُؤَكِّدَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهِنَّ عَنِ الْخُرُوجِ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَضِيَّةُ كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي تَحْقِيقِهِ، وَالزَّرْكَشِيِّ فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ، أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ فِي خُرُوجِهِنَّ اخْتِلَاطٌ بِالرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ طَرِيقِهِ، أَوْ قَوِيَتْ خَشْيَةُ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِنَّ لِتَزَيُّنِهِنَّ وَتَبَرُّجِهِنَّ حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ الْخُرُوجُ، وَعَلَى الْحَلِيلِ الْإِذْنُ لَهُنَّ، وَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ مَنْعُهُنَّ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِهِنَّ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ، لَكِنْ فِي زَمَانِنَا مَكْرُوهٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِلْفِتْنَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الشَّيْخَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَخَبَرُ الْبَيْهَقِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: نَهَى النِّسَاءَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَّا عَجُوزًا فِي مَنْقَلِهَا، أَيْ: ثِيَابِ بَذْلَتِهَا، وَأَصْلُ الْمَنْقَلِ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي الْأَشْهَرِ الْخُفُّ، وَقِيلَ: الْخُفُّ الْخَلَقُ ; وَهَذَا مِنَ الصَّحَابِيِّ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ فَيُخَصُّ بِهِ عُمُومُ النَّفْيِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ: " «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» " عَلَى أَنَّ أَبَا دَاوُدَ عَقَّبَهُ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ( «وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ ثَفِلَاتٌ غَيْرُ عَطِرَاتٍ» ) وَثَفِلَاتٌ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ تَارِكَاتٌ لِلطِّيبِ، وَخَبَرُ مُسْلِمٍ: " «إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1060 - وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ ; فَلَا تَمَسَّ طِيبًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1060 - (وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ» "، أَيْ أَرَادَتْ حُضُورَ الْمَسْجِدِ (فَلَا تَمَسَّ) : بِالْفَتْحِ (طِيبًا) : لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْفِتْنَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1061 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا ; فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1061 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "، أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا) : بِالْفَتْحِ مَا يُتَبَخَّرُ بِهِ وَيُتَعَطَّرُ كَالسَّحُورِ وَالْفَطُورِ، (فَلَا تَشْهَدْ) أَيْ: لَا تَحْضُرْ (مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ) : احْتِرَازٌ مِنَ الْمَغْرِبِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا خُصَّتْ بِالنَّهْيِ لِأَنَّهَا وَقْتُ الظُّلْمَةِ وَخُلُوُّ الطَّرِيقِ، وَالْعِطْرُ يُهَيِّجُ الشَّهْوَةَ، فَلَا تَأْمَنُ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ كَمَالِ الْفِتْنَةِ، بِخِلَافِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُمَا وَقْتٌ فَاضِحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَسَّ الطِّيبِ يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنْ حُضُورِ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1062 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1062 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ (وَبُيُوتُهُنَّ) أَيْ: عِبَادَتُهُنَّ فِيهَا (خَيْرٌ لَهُنَّ) : مُطْلَقًا، وَيُسْتَثْنَى طَوَافُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَوْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ يُضَعِّفْهُ هُوَ وَلَا الْمُنْذِرِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

1063 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1063 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا) أَيِ الدَّاخِلَانِيُّ لِكَمَالِ سَتْرِهَا (أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا) أَيْ: صَحْنِ الدَّارِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِالْحُجْرَةِ مَا تَكُونُ أَبْوَابُ الْبُيُوتِ إِلَيْهَا، وَهِيَ أَدْنَى حَالًا مِنَ الْبَيْتِ، (وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُفْتَحُ وَتُكْسَرُ مَعَ فَتْحِ الدَّالِ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَكُونُ دَاخِلَ الْبَيْتِ الْكَبِيرِ يُحْفَظُ فِيهِ الْأَمْتِعَةُ النَّفِيسَةُ، مِنَ الْخُدَعِ، وَهُوَ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ، أَيْ: فِي خِزَانَتِهَا (أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا) : لِأَنَّ مَبْنَى أَمْرِهَا عَلَى التَّسَتُّرِ، وَلِذَا قِيلَ: نِعْمَ الصِّهْرُ الْقَبْرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

1064 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ حِبِّي أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لِلْمَسْجِدِ حَتَّى تَغْتَسِلَ غُسْلَهَا مِنَ الْجَنَابَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1064 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ حِبِّي) : بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ مَحْبُوبِي (أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تُقْبَلُ) أَيْ: قَبُولًا كَامِلًا (صَلَاةُ امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لِلْمَسْجِدِ) أَيْ: لِلْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: لِهَذَا الْمَسْجِدِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الْمَسْجِدِ لَا إِلَى مَسْجِدٍ مَخْصُوصٍ (حَتَّى تَغْتَسِلَ غُسْلَهَا) أَيْ: مِثْلَ غُسْلِهَا (مِنَ الْجَنَابَةِ) : بِأَنْ تَعُمَّ جَمِيعَ بَدَنِهَا بِالْمَاءِ إِنْ كَانَتْ طَيَّبَتْ جَمِيعَ بَدَنِهَا لِيَزُولَ عَنْهَا الطِّيبُ، وَأَمَّا إِذَا أَصَابَ مَوْضِعًا مَخْصُوصًا فَتَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَإِنْ طَيَّبَتْ ثِيَابَهَا تُبَدِّلُ تِلْكَ الثِّيَابَ أَوْ تُزِيلُهُ، وَهَذَا إِذَا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ وَإِلَّا فَلَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الزَّجْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُهَيِّجُ الرَّغَبَاتِ وَيَفْتَحُ بَابَ الْفِتَنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي إِسْنَادِهِ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ: وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ (وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) .

1065 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ ; «وَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ، فَهِيَ كَذَا وَكَذَا " يَعْنِي زَانِيَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1065 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ عَيْنٍ) أَيْ: نَظَرَتْ إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ شَهْوَةٍ (زَانِيَةٌ) : لِأَنَّ زِنَاهَا النَّظَرُ، أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ كُلُّ عَيْنٍ مَرْكُوزٌ فِيهَا قُوَّةُ التَّطَلُّعِ إِلَى الصُّوَرِ الْحَسَنَةِ، لَا سِيَّمَا إِنْ صَحِبَهَا مِنَ الطِّيبِ وَنَحْوِهِ مَا يَزِيدُ هَيَجَانَهَا مِمَّا يُفْضِي إِلَى الزِّنَا غَالِبًا مَا لَمْ تُسْتَأْصَلْ تِلْكَ الْقُوَّةُ مِنْ أَصْلِهَا مِنَ النَّفْسِ بِرِيَاضَةٍ، أَوْ مُجَاهَدَةٍ أَوْ بِجَذْبَةٍ وَعِنَايَةٍ، (وَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ) أَيْ: تَطَيَّبَتْ أَوْ تَبَخَّرَتْ (فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ) أَيْ: الَّذِي فِيهِ الرِّجَالُ الْمُسْتَلْزِمِ عَادَةً بُرُوزَهَا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَسْجِدِ، فِي نُسْخَةٍ: بِالْمَسْجِدِ (فَهِيَ كَذَا وَكَذَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدَدِ يَعْنِي عَدَّ عَلَيْهَا خِصَالًا ذَمِيمَةً تَسْتَلْزِمُ الزِّنَا. (يَعْنِي زَانِيَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَعْنِي، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ يَعْنِي هِيَ زَانِيَةٌ ; لِأَنَّهَا قَدْ هَيَّجَتْ شَهْوَةَ الرِّجَالِ بِعِطْرِهَا وَحَمَلَتْهُمْ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا فَقَدْ زَنَى بِعَيْنِهِ، وَيَحْصُلُ لَهَا إِثْمٌ بِأَنْ حَمَلَتْهُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا وَشَوَّشَتْ قَلْبَهُ، فَإِذَا هِيَ سَبَبُ زِنَاهُ بِالْعَيْنِ، فَتَكُونُ هِيَ أَيْضًا زَانِيَةً أَوْ كَأَنَّهَا هِيَ زَانِيَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ تَشْدِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي مَنْعِ النِّسْوَةِ عَنْ خُرُوجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِذَا تَعَطَّرْنَ، وَإِلَّا فَبَعْضُ الْأَعْيُنِ قَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الزِّنَا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِنَّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ) .

1066 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا الصُّبْحَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: " أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: " أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: " إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ، وَإِنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ، وَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا فَضِيلَتُهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ، وَإِنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتَهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1066 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: مُلْتَبِسًا بِنَا أَوْ أَمَّنَا فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَوْ جَعَلَنَا مُصَلِّينَ خَلْفَهُ (يَوْمًا، أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ (الصُّبْحَ) أَيْ: صَلَاتَهُ (فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: " أَشَاهِدٌ) أَيْ: أَحَاضِرٌ صَلَاتَنَا هَذِهِ (فُلَانٌ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: " أَشَاهِدٌ فُلَانٌ "؟) أَيْ: آخَرُ (قَالُوا: لَا، قَالَ: " إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ) أَيْ: صَلَاةَ الصُّبْحِ وَمُقَابِلَتَهَا بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، يَعْنِي الصُّبْحَ وَالْعِشَاءَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَشَارَ إِلَى الْعِشَاءِ لِحُضُورِهَا بِالْقُوَّةِ ; لِأَنَّ الصُّبْحَ مُذَكِّرَةٌ بِهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذِهِ مُبْتَدَأُ النَّوْمِ وَتِلْكَ مُنْتَهَاهُ اهـ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَرْضُ الصُّبْحِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ صَلَاتَيِ الصُّبْحِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْفَجْرِ (أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ) : لِغَلَبَةِ الْكَسَلِ فِيهِمَا، وَلِقِلَّةِ تَحْصِيلِ الرِّيَاءِ لَهُمَا (وَلَوْ تَعْلَمُونَ) : أَنْتُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ (مَا فِيهِمَا) : مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الزَّائِدِ ; لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْغَيْبَةِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَغْلِيبًا (لَأَتَيْتُمُوهَا وَلَوْ حَبْوًا) أَيْ: زَحْفًا وَمَشْيًا (عَلَى الرُّكَبِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: حَبْوًا خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ، أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْإِتْيَانُ حَبْوًا وَهُوَ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ أَوْ إِسْتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَتَيْتُمُوهُمَا حَبْوًا، أَيْ حَابِينَ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً (وَإِنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ) أَيْ: فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبُعْدِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ) : وَقَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ فِي قُرْبِهِمْ مِنَ الْإِمَامِ بِصَفِّ الْمَلَائِكَةِ فِي قُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُ إِنَّ، وَالْمُتَعَلِّقُ كَائِنٌ أَوْ مُقَاسٌ، (وَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا فَضِيلَتُهُ) أَيْ: الصَّفُّ الْأَوَّلُ (لَابْتَدَرْتُمُوهُ) أَيْ: سَبَقْتُمْ إِلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: " وَلَوْ تَعْلَمُونَ " فِيهِمَا مُبَالَغَةٌ مِنْ حَيْثُ عَدَلَ مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ إِشْعَارًا بِالِاسْتِمْرَارِ، ذَكَرَ أَوَّلًا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ تَنَزَّلَ مِنْهُ إِلَى بَيَانِ فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِلَى بَيَانِ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ) : إِلَخْ. لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا تَرَقٍّ لَا تَنَزُّلٌ (أَزْكَى) أَيْ: أَكْثَرُ ثَوَابًا (مِنْ صِلَاتِهِ وَحْدَهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنَ الزَّكَاةِ بِمَعْنَى النُّمُوِّ، أَوِ الشَّخْصُ آمِنٌ مِنْ رِجْسِ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلِهِ مِنَ الزَّكَاةِ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ. (وَصَلَاتَهُ) : بِالنَّصْبِ أَوْ بِالرَّفْعِ (مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى) أَيْ: أَفْضَلُ (مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ) أَيِ: الْوَاحِدِ (وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " مَا " هَذِهِ مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهَا وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، أَيْ: الصَّلَاةُ الَّتِي كَثُرَ الْمُصَلُّونَ فِيهَا فَهُوَ أَحَبُّ، وَتَذْكِيرُ (هُوَ) بِاعْتِبَارِ لَفْظِ مَا، انْتَهَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ كَثُرَ فِيهِ الْمُصَلُّونَ، فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَفْضَلُ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الصَّلَاةُ فِي الْجَامِعِ أَفْضَلُ، ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْحَيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حِينَ يُنَادَى بِهِنَّ» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، أَيْضًا.

1067 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ، إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ. فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1067 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ) أَيْ: رِجَالٍ ; لِأَنَّ جَمَاعَةَ النِّسَاءِ وَإِمَامُهُنَّ مِنْهُنَّ مَكْرُوهَةٌ وَتَقْيِيدُهُ بِالثَّلَاثَةِ الْمُفِيدُ مَا فَوْقَهُمْ بِالْأَوْلَى نَظَرًا إِلَى أَقَلِّ أَهْلِ الْقَرْيَةِ غَالِبًا، وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَأَنَّهُ أَكْمَلُ صُوَرِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ بِاثْنَيْنِ. (فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ) أَيْ: بَادِيَةٍ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ لِلْمُسَافِرِينَ، أَيْضًا، لَكِنَّ حَالَ نُزُولِهِمْ لِلْحَرَجِ فِي حَالِ سَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ بِشَرْطِ سُكْنَاهُمْ بِهَا وَإِلَّا لَمْ تَلْزَمْهُمُ الْجَمَاعَةُ عِنْدَنَا. (لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ) أَيْ: الْجَمَاعَةُ كَمَا فِي رِوَايَةِ (إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ) أَيْ: اسْتَوْلَى وَغَلَبَ (عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) : فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ تَرْكَ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مُتَابَعَةٌ لِلشَّيْطَانِ، (فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ) أَيْ: الْزَمْهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بَعِيدٌ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَيَسْتَوْلِي عَلَى مَنْ فَارَقَهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَقَوْلُهُ: فَعَلَيْكَ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ تَفْخِيمًا لِلْأَمْرِ وَالْفَاءُ مُسَبَّبَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: قَدِ اسْتَحْوَذَ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنَّمَا) : مُسَبَّبَةٌ عَنِ الْجَمِيعِ يَعْنِي: إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ فَاعْرِفْ مِثَالَهُ فِي الشَّاهِدِ فَإِنَّمَا (يَأْكُلُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ (الذِّئْبُ) : بِالْهَمْزِ وَالْيَاءِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيِ: الشَّيْطَانُ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ كَمَا لَا يَخْفَى (الْقَاصِيَةَ) أَيِ: الشَّاةَ الْبَعِيدَةَ عَنِ الْأَغْنَامِ لِبُعْدِهَا عَنْ رَاعِيهَا، فَإِنَّ عَيْنَ الرَّاعِي تَحْمِي الْغَنَمَ الْمُجْتَمِعَةَ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ» "، أَيْ: نُصْرَتُهُ، وَنَظَرُ عِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ (وَالنَّسَائِيُّ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَمَّا إِفْتَاءُ الْغَزَالِيِّ فِيمَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَخْشَعُ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا دُونَ مَا إِذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ لِتَشَتُّتِ هَمِّهِ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْجَمْعُ يَمْنَعُهُ الْخُشُوعَ فِي أَكْثَرِ صَلَاتِهِ فَالِانْفِرَادُ لَهُ أَوْلَى فَرَدُّوهُ، وَإِنْ تَبِعَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ الْمُخْتَارَ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ أَوْلَى كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السُّنَّةِ وَبِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَتْحُ بَابٍ عَظِيمٍ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِي بَرَكَةِ الْجَمَاعَةِ مَا يُلِمُّ شَعَثَ التَّفْرِقَةِ.

1068 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِي فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنِ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ ". قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: " خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1068 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ) أَيْ: نِدَاءَ الْمُؤَذِّنِ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ (فَلَمْ يَمْنَعْهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ حَذْفٌ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: فَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَمْ يَمْنَعْهُ (مِنِ اتِّبَاعِهِ) : بِحُضُورِ الْمَسْجِدِ لِلْجَمَاعَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مِنْ إِتْيَانِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ الَّتِي دُعِيَ إِلَيْهَا، وَالتَّقْيِيدُ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ وَبِالْجَمَاعَةِ الَّتِي يَسْمَعُ مُؤَذِّنَهَا جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى الْجَمَاعَةِ الَّتِي يَسْمَعُ مُؤَذِّنَهَا، وَإِلَّا فَلَوْ ذَهَبَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَسْمَعْ مُؤَذِّنَهَا فَقَدْ أَتَى بِالْفَرْضِ، وَلَوْ لَمْ يَسْمَعِ الْمُؤَذِّنَ وَلَا عُذْرَ لَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ ; إِذْ عَدَمُ سَمَاعِهِ الْمُؤَذِّنَ لَيْسَ مِنَ الْأَعْذَارِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْمَجِيءِ إِلَيْهَا (عُذْرٌ) أَيْ: نَوْعٌ مِنَ الْأَعْذَارِ. (قَالُوا) أَيْ: لِابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ ذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ (وَمَا الْعُذْرُ؟) أَيِ: الَّذِي عَنَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (قَالَ) أَيْ: ابْنُ عَبَّاسٍ (خَوْفٌ) أَيْ: هُوَ خَشْيَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ خَوْفُ ظُلْمَةٍ، أَوْ غَرِيمٍ وَكَانَ مُفْلِسًا، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمَطَرُ، وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ، وَحُضُورُ الطَّعَامِ، وَمُدَافَعَةُ الْخَبَثِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ السِّمَنَ الْمُفْرِطَ عُذْرٌ (أَوْ مَرَضٌ) أَيْ: يُبِيحُ لَهُ التَّيَمُّمَ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ (لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ) أَيْ: قَبُولًا

كَامِلًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَنْ سَمِعَ " مُبْتَدَأٌ، وَ " لَمْ تُقْبَلْ " خَبَرُهُ، يَعْنِي وَقَعَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مُعْتَرِضَيْنِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ (الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى) قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَكِتَابِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: صَلَّاهَا، وَكَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِأَحَدٍ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ الَّذِي سَبَقَ. وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ: (فَأَجِبْ) قَالَ الْحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً عَلَيْهِ لَمْ يُطِعْهَا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا طَاعَةَ لِلْوَالِدِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ ; سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي حَدِيثِ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِ: مَعْنَى عَدَمِ قَبُولِ الصَّلَاةِ أَنْ لَا ثَوَابَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تُسْقِطُ الْفَرْضَ وَلَا ثَوَابَ فِيهَا اهـ. وَكَذَا الْحَجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو خَبَّابٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ الْكَلْبِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ أَيْضًا لَكِنْ بِلَفْظِ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذِرَ» ، قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

1069 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَوَجَدَ أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1069 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَوَجَدَ أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ) أَيِ: احْتِيَاجُهُ (فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلَاءِ) : وَجَازَ لَهُ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ لِهَذَا الْعُذْرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. (وَرَوَى مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ.

1070 - وَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثٌ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ: لَا يَؤُمَّنَّ رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَانَهُمْ، وَلَا يَنْظُرْ فِي قَعْرِ بَيْتٍ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَانَهُمْ. وَلَا يُصَلِّ وَهُوَ حَقِنٌ حَتَّى يَتَخَفَّفَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1070 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ) : هُوَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثٌ) أَيْ: خِصَالٌ (لَا يَحِلُّ) أَيْ: لَا يَجُوزُ (لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ) : جَمْعًا وَفَرْدًا (لَا يَؤُمَّنَّ رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصَّ) : بِالنَّصْبِ (نَفْسَهُ) : مَفْعُولُهُ (بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ) أَيْ: دُونَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي دُعَائِهِ وَلَوْ مَرَّةً (فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَانَهُمْ، وَلَا يَنْظُرْ) : بِالْجَزْمِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ (فِي قَعْرِ بَيْتٍ) أَيْ: دَاخِلَ مَكَانٍ مَسْتُورٍ لِلْغَيْرِ (قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: أَهْلَهُ، وَقِيلَ: لِلْمَفْعُولِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يُقَدَّرُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: احْتِرَازًا عَنْ أَنْ يَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى الْعَوْرَةِ (فَإِنْ فَعَلَ) أَيْ: ذَلِكَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَقَدْ خَانَهُمْ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَقَدْ دَخَلَ، أَيْ: فَكَأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ حَتَّى أَثِمَ. (وَلَا يُصَلِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَا يُصَلِّي بِالنَّفْيِ (وَهُوَ حَقِنٌ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَيْ: وَهُوَ يُؤْذِيهِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَاقِنُ الَّذِي حَبَسَ بَوْلَهُ، وَالْحَاقِبُ هُوَ الْحَابِسُ لِلْغَائِطِ، وَقِيلَ: الْحَازِقُ هُوَ الْحَابِسُ لِلرِّيحِ (حَتَّى يَتَخَفَّفَ) أَيْ: يُزِيلَ مَا يُؤْذِيهِ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَانَ نَفْسَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ خَانَهُمْ أَوَّلًا نَسَبَ الْخِيَانَةَ إِلَى الْإِمَامِ ; لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْجَمَاعَةِ لِيُفِيضَ كُلٌّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ الْخَيْرَ عَلَى صَاحِبِهِ بِبَرَكَةِ قُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ خَصَّ نَفْسَهُ فَقَدْ خَانَ صَاحِبَهُ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا خُصَّ الْإِمَامُ بِالْخِيَانَةِ، فَإِنَّهُ صَاحِبُ الدُّعَاءِ وَإِلَّا فَقَدَ تَكُونُ الْخِيَانَةُ مِنْ جَانِبِ الْمَأْمُومِ، قَالَ: وَشَرْعِيَّةُ الِاسْتِئْذَانِ لِئَلَّا يَهْجُمَ قَاصِدٌ عَلَى عَوْرَاتِ الْبَيْتِ، فَالنَّظَرُ فِي قَعْرِ الْبَيْتِ خِيَانَةٌ، وَالصَّلَاةُ مُنَاجَاةٌ وَتَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاشْتِغَالٌ عَنِ الْغَيْرِ، وَالْحَاقِنُ كَأَنَّهُ يَخُونُ نَفْسَهُ فِي حَقِّهَا، وَلَعَلَّ تَوْسِيطَ الِاسْتِئْذَانِ بَيْنَ حَالَتَيِ الصَّلَاةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعِبَادِ، وَخَصَّ الِاسْتِئْذَانَ، أَيْ: مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ مَنْ رَاعَى هَذِهِ الدَّقِيقَةَ فَهُوَ بِمُرَاعَاةِ مَا فَوْقَهَا أَحْرَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ (وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فَقَطْ.

1071 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ لِطَعَامٍ وَلَا لِغَيْرِهِ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1071 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ) أَيْ: عَنْ وَقْتِهَا (لِطَعَامٍ وَلَا لِغَيْرِهِ) : كَالْحَقِنِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ، أَيْ لَا تُؤَخِّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ " الْحَدِيثَ، فَلَا مُنَافَاةَ. قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، لَا تُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ لِغَرَضِ الطَّعَامِ، لَكِنْ إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ أَخِّرُوهَا لِلطَّعَامِ، قُدِّمَتْ لِلِاشْتِغَالِ بِهَا تَبْجِيلًا لَهَا، وَأُخِّرَتْ تَفْرِيغًا لِلْقَلْبِ عَنِ الْغَيْرِ تَعْظِيمًا لَهَا، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ بِالذَّاتِ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ بَعْضَ الْأُمُورِ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا لِتَحْصِيلِ كَمَالِهَا إِذَا وَسِعَ الْوَقْتُ، وَأَمَّا عِنْدُ ضِيقِ الزَّمَانِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهَا، فَيَكُونُ فِي تَقْدِيمِ الْأُمُورِ وَتَأْخِيرِهَا تَقْدِيمٌ لِأَمْرِ الصَّلَاةِ تَبْجِيلًا لَهَا، قَالَ: وَالْأَوْجَهُ أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ عَلَى إِحْضَارِ الطَّعَامِ وَالْمُلَابَسَةِ بِغَيْرِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، أَيْ: لَا تَتَعَرَّضُوا لِمَا إِنْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ تُؤَخِّرُوهَا لِأَجْلِهِ ; مِنْ إِحْضَارِ الطَّعَامِ وَالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْإِحْضَارِ، بَلْ تَوَقَانُ النَّفْسِ وَاضْطِرَابُهَا إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهُوَ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، كَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ، عَلَى مَا إِذَا كَانَ مُتَمَاسِكًا فِي نَفْسِهِ لَا يُزْعِجُهُ الْجُوعُ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا يَخَافُ فَوْتَهُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. (رَوَاهُ) أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1072 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ، أَوْ مَرِيضٌ ; إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ. حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلَاةَ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى غَدًا مُسْلِمًا ; فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ ; إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1072 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا) أَيْ: مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ اتِّحَادَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِنَّمَا يَسُوغُ فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَأَنَّهَا مِنْ دَاخِلِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ هَاهُنَا وَسَدَّ قَوْلُهُ: (وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ) أَيْ: بِالْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَوْ لِوَصْفِ الدَّوَامِ، وَهُوَ حَالٌّ مَسَدَّهُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَكِنْ فِي كَوْنِ اتِّحَادِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ هُنَا بَحْثٌ ; إِذِ الْمُرَادُ بِالْفَاعِلِ الْمُتَكَلِّمُ وَحْدَهُ، وَبِالْمَفْعُولِ هُوَ وَغَيْرُهُ. (إِلَّا مُنَافِقٌ) : قَالَ الشَّمَنِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِ هَاهُنَا مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَإِلَّا لَكَانَتِ الْجَمَاعَةُ فَرِيضَةً ; لِأَنَّ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ كَافِرٌ، وَلَكَانَ آخِرُ الْكَلَامِ مُنَاقِضًا لِأَوَّلِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ النِّفَاقَ سَبَبُ التَّخَلُّفِ لَا عَكْسُهُ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ لَا فَرِيضَةٌ لِلدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، وَأَنَّ الْمُنَاقَضَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ. (قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنْ قُلْتَ: كَيْفَ مَعَ عِلْمِ نِفَاقِهِ يُقِرُّ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: لِمَصْلَحَةِ أَنْ لَا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَرُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ النِّفَاقَ فِي أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الظَّنِّ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي أَنَّ وَصْفَ النِّفَاقِ يَتَسَبَّبُ عَنِ التَّخَلُّفِ لَا إِخْبَارِ أَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ التَّخَلُّفُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَخَلَّفُ كَسَلًا مَعَ صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيَقِينِ التَّوْحِيدِ، وَعَدَمِ النِّفَاقِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الْوَاقِعَ إِذْ ذَاكَ أَنْ لَا يَقَعَ التَّخَلُّفُ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى صِحَّةِ مَا سَبَقَ تَأْوِيلُهُ فِي الَّذِينَ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيقِ بُيُوتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ. (أَوْ مَرِيضٌ) أَيْ: مَرِيضٌ كَامِلٌ فِي مَرَضِهِ (إِنْ كَانَ) : إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ (الْمَرِيضُ) أَيْ: خَفِيفُ الْمَرَضِ أَوْ قَوِيُّهُ، لَكِنْ لِحِرْصِهِ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ) أَيْ: يَتَوَكَّأُ عَلَيْهِمَا لِشِدَّةِ مَا بِهِ

قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِ الْبَدَنِ (حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ) أَيْ: ابْنُ مَسْعُودٍ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى) : بِضَمِّ السِّينِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِهَا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، أَيْ: طَرِيقُ الْهُدَى وَالصَّوَابِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلَاةَ) أَيْ: بِالْجَمَاعَةِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ السِّيَاقِ (فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ) : لِأَنَّهُ لَا يُؤَذَّنُ إِلَّا لِإِمَامٍ فِيهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كِلَاهُمَا قَيْدٌ غَالِبِيٌّ، أَوْ شَرْطٌ لِلْأَكْمَلِ لِسُقُوطِ طَلَبِ الْجَمَاعَةِ يَفْعَلُهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ مِنَ الْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا، وَفِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ اهـ. وَقَوْلُهُ: فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ مِنَ الْمَدَارِسِ فِيهِ نَظَرٌ، حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِالْكِفَايَةِ فِي مَذْهَبِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ) أَيْ: ابْنُ مَسْعُودٍ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا ;) أَيْ: كَامِلًا (فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ) أَيْ: مَعَ الْجَمَاعَةِ (حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ) : مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَيُوجَدُ لَهُنَّ إِمَامٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، (وَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ) أَيِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِالْجَمَاعَةِ (مِنْ سُنَنِ الْهُدَى) : بَلْ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: " «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ» ". (وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) : يَعْنِي: وَلَوْ جَمَاعَةً (كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَحْقِيرٌ لِلْمُتَخَلِّفِ وَتَبْعِيدٌ مِنْ مَظَانِّ الزُّلْفَى (فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ: سُنَنَ نَبِيِّكُمْ (وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ الْعَزِيمَةُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةٌ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَائِلِينَ بِالسُّنِّيَّةِ ; إِذْ لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ سُنَنَ الْهُدَى أَعَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ لُغَةً كَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَقَوْلُهُ: لَضَلَلْتُمْ يُعْطِي الْوُجُوبَ ظَاهِرًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ: لَكَفَرْتُمْ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «الْجَفَاءُ كُلُّ الْجَفَاءِ الْكُفْرُ، وَالنِّفَاقُ مَنْ سَمِعَ مُنَادِيَ اللَّهِ يُنَادِي إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يُجِيبُهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، فَيُفِيدُ الْوَعِيدُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لِهَذَا الْوَاجِبِ سُنَّةٌ لِكَوْنِهِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَيِ الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُفِيدُ تَعْلِيقَ الْوُجُوبِ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ، وَيَتَوَقَّفُ الْوَعِيدُ فِي حَدِيثِ التَّحْرِيقِ عَلَى كَوْنِهِ لِتَرْكِ الْحُضُورِ دَائِمًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ " لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ " وَقَوْلِهِ الْآخَرِ: يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ، كَمَا يُعْطِهِ ظَاهِرُ إِسْنَادِهِ بِالْمُضَارِعِ فِي مِثْلِهِ نَحْوَ: بَنُو فُلَانٍ يَأْكُلُونَ الْبُرَّ، أَيْ: عَادَتُهُمْ. (وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ) : بِوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ (فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ) : بِضَمِّ الطَّاءِ، أَيْ: يَأْتِي بِوَاجِبَاتِهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ. (ثُمَّ يَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ يَتَوَجَّهُ وَيَقْصِدُ (إِلَى مَسْجِدٍ) وَفِي نُسْخَةٍ: الْمَسْجِدِ (مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ) أَيْ: مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ (إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ أَوْ ضَمِّهَا (يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَرَفَعَهُ، وَهُوَ أَنْسَبُ بِالسَّابِقِ وَاللَّاحِقِ (وَحَطَّ) أَيْ: وَضَعَ وَمَحَا (عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا) أَيْ: نَحْنُ مُعَاشِرَ الصَّحَابَةِ أَوْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ (وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا) أَيْ: عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ (إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ) أَيْ: ظَاهِرُهُ (وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ) أَيِ: الْمَرِيضُ (يُؤْتَى بِهِ) : إِلَى الصَّلَاةِ (يُهَادَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يَمْشِي وَيَتَمَايَلُ (بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ) : مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا مِنْ ضَعْفِهِ وَتَمَايُلِهِ، مِنْ تَهَادَتِ الْمَرْأَةُ فِي مِشْيَتِهَا: إِذَا تَمَايَلَتْ (حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1073 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، أَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ، وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحْرِقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1073 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ) أَيِ: الصِّغَارِ، وَفِي مَعْنَاهَا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: (مِنْ) بَيَانُ " مَا " إِمَّا لِإِرَادَةِ الْوَصْفِيَّةِ وَبَيَانِ أَنَّ النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَعْقِلُ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْبُيُوتَ مُحْتَوِيَةٌ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْأَمْتِعَةِ وَالْأَثَاثِ، فَخُصَّتَا بِالذِّكْرِ لِلِاعْتِنَاءِ اهـ. وَيَرُدُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ آخِرُ الْحَدِيثِ: يُحْرِقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مَا فِي الْبُيُوتِ. بِمَعْنَى " مَنْ " وَالْمُرَادُ الْمُتَخَلِّفُ. (أَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ "، أَيْ: أَمَرْتُ بِإِقَامَةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لِلْجَمَاعَةِ، وَتَخْصِيصُهَا لِكَثْرَةِ تَخَلُّفِ الْمُتَخَلِّفِينَ فِيهَا. (وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي) : وَفِي رِوَايَةٍ: فِتْيَتِي، أَيْ: غِلْمَانِي وَخَدَمِي، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَقْوِيَاءُ أَصْحَابِي (يُحَرِّقُونَ) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ (مَا فِي الْبُيُوتِ) : فِيهِ تَغْلِيبُ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ، أَوْ تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ لَمَا تَخَلَّفُوا (بِالنَّارِ) : فِيهِ تَأْكِيدٌ وَوَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1074 - وَعَنْهُ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1074 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: بِأَمْرٍ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (إِذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ) أَيْ: أُذِّنَ أَوْ أُقِيمَ (بِالصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَأْمُورُ بِهِ مَحْذُوفٌ، وَقَوْلُهُ: إِذَا كُنْتُمْ إِلَخْ. مَقُولٌ لِلْقَوْلِ، وَهُوَ حَالٌ بَيَانٌ لِلْمَحْذُوفِ، وَالْمَعْنَى أُمِرْنَا أَنْ لَا نَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِذَا كُنَّا فِيهِ وَسَمِعْنَا الْأَذَانَ حَتَّى نُصَلِّيَ " قَائِلًا إِذَا كُنْتُمْ " اهـ. وَفِيهِ تَكَلُّفٌ بَلْ تَعَسُّفٌ، لَكِنْ يُوَضِّحُهُ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ سَمَاعِ أَذَانِهِ، لَكِنْ لَيْسَ بِصِيغَةِ أَمْرٍ بَلْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذَا كُنْتُمْ إِلَخْ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: يُكْرَهُ لَهُ الْخُرُوجُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ صَلَّى وَلَيْسَ مِمَّنْ يَنْتَظِمُ بِهِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، مِمَّنْ كَانَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ قَيْدٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدَ حَيِّهِ، أَوْ قَدْ صَلَّوْا فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ، فَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَخْرُجَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1075 - وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَمَا أُذِّنَ فِيهِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1075 - (وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَمَا أُذِّنَ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: وَأَمَّا مَنْ ثَبَتَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ فِيهِ فَقَدْ أَطَاعَ أَبَا الْقَاسِمِ، يَعْنِي: أَمَّا التَّفْصِيلِيَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِشَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ وَزَادَ: ثُمَّ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ» " وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِلْعَصْرِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ، وَمِثْلُ هَذَا مَوْقُوفٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ فِيهِ، وَفِي نَظَائِرِهِ: مُسْنَدٌ، كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ وَقَالَ: لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ.

1076 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ، فَهُوَ مُنَافِقٌ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1076 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) : غَيْرُ مُنْصَرِفٍ مِنَ الْعِفَّةِ وَقِيلَ: مُنْصَرِفٌ مِنَ الْعُفُونَةِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ، لَمْ يَخْرُجْ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ (لِحَاجَةٍ، وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، أَيِ: الرُّجُوعَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَهُوَ مُنَافِقٌ) أَيْ: عَاصٍ، أَوْ فَهُوَ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ كَالْمُنَافِقِ فَهُوَ جَوَابٌ أَوْ خَبَرُ " مَنْ ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1077 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1077 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ) أَيِ: الْأَذَانَ لِلْمَكْتُوبَةِ (فَلَمْ يُجِبْهُ) : بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الثَّانِي (فَلَا صَلَاةَ) : كَامِلَةٌ أَوْ مَقْبُولَةٌ (لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ) : اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عَدَمِ الْإِجَابَةِ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي كِتَابِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا.

1078 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ، وَأَنَا ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ؟ قَالَ: " هَلْ تَسْمَعُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَحَيَّهَلَا ". وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1078 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) : مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ) : أَيِ: الْمُؤْذِيَاتِ مِنَ الْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ (وَالسِّبَاعِ) : كَالذِّئَابِ أَوِ الْكِلَابِ، (وَأَنَا ضَرِيرُ الْبَصَرِ) أَيْ أَعْمَى (فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ؟) أَيْ: فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ. (قَالَ: " هَلْ تَسْمَعُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: هَلْ تَسْمَعُ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ؟) أَيِ: الْأَذَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّفْظَانِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَحَيَّهَلَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَلِمَةُ حَثٍّ وَاسْتِعْجَالٍ وُضِعَتْ مَوْضِعَ أَجِبْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَآثَرَهَا لِأَنَّ أَحْسَنَ الْجَوَابِ مَا كَانَ مُشْتَقًّا مِنَ السُّؤَالِ وَمُنْتَزَعًا مِنْهُ. (وَلَمْ يُرَخِّصْ) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقِيلَ لِلْمَفْعُولِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

1079 - وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَقُلْتُ: مَا أَغْضَبَكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1079 - (وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ) : هِيَ زَوْجَةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَاسْمُهَا خَيْرَةُ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُغْضَبٌ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَقُلْتُ: مَا أَغْضَبَكَ؟) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ (قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ (إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَعَ جَوَابًا لِقَوْلِهَا: مَا أَغْضَبَكَ، عَلَى مَعْنَى رَأَيْتُ مَا أَغْضَبَنِي مِنَ الْأَمْرِ الْمُنْكَرِ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ مُتَكَلِّفًا، أَيْ: شَيْئًا فِي نِهَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالْعَظَمَةِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا، أَيْ وَالْآنَ قَدْ تَهَاوَنُوا فِي ذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَغْضَبَتْنِي الْأُمُورُ الْمُنْكَرَةُ الْمُحْدَثَةُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ; لِأَنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِمُ الْبَاقِي عَلَى الْجَادَّةِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا، فَيَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا وَالْمَذْكُورُ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، كَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاتِهِ: مَا أَعْرِفُ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ حَيْثُ قَالَ: مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَكَرِيمَةَ: مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي الْوَقْتِ: مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُسْتَخْرَجَيِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ، هَكَذَا سَاقَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ، هَكَذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ: مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ، أَيْ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ، وَكَانَ لَفْظُ فِيهِمْ لِمَا حُذِفَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ صَحَّفَ بَعْضُ النَّقَلَةِ أَمْرَ بِأُمَّةٍ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمْ إِلَى الْأُمَّةِ اهـ كَلَامُ الشَّيْخِ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي الْبُخَارِيِّ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1080 - وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدَ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَإِنَّ عُمَرَ غَدَا إِلَى السُّوقِ، وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ، فَمَرَّ عَلَى الشِّفَاءِ أُمِّ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ لَهَا: لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ فِي الصُّبْحِ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَأَنْ أَشْهَدَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1080 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَدَ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ) أَيْ: مَا وَجَدَهُ (فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَإِنَّ عُمَرَ غَدَا) أَيْ: ذَهَبَ (إِلَى السُّوقِ، وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ) : وَالْجُمْلَةُ حَالِيَةٌ مُعْتَرِضَةٌ (فَمَرَّ) أَيْ: عُمَرُ (عَلَى الشِّفَاءِ) : مَمْدُودًا لَقَبٌ أَوِ اسْمٌ (أُمِّ سُلَيْمَانَ) : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (فَقَالَ لَهَا: لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ فِي الصُّبْحِ) أَيْ: فِي صَلَاتِهِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ (فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَاتَ) أَيْ: سَهِرَ (يُصَلِّي) : فِي اللَّيْلِ (فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) أَيْ: بِالنَّوْمِ آخِرَ اللَّيْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَصْلُ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ فَأُسْنِدَ إِلَى مَكَانِهِ مَجَازًا. (فَقَالَ عُمَرُ: لَأَنْ أَشْهَدَ) أَيْ: أَحْضُرَ (صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً) أَيْ: مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ بِالنَّوَافِلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ جَمَاعَةَ الصُّبْحِ آكَدُ مِنْ جَمَاعَةِ غَيْرِهَا، وَكَانَ عُمَرُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ: " «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ كَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ» ". ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: " «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ» "، وَأَوْقَعَ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ تَفْسِيرٌ، وَبَيَانٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، أَوِ الْأَوَّلُ لِلْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ الْقِيَامَ مِنَ النَّوْمِ أَصْعَبُ مِنْ دَفْعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي نُسْخَةٍ: لَيْلَتَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الصُّبْحِ، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: كَذَا فِي نُسْخَةِ الطِّيبِيِّ، وَعَلَيْهَا شَرْحُهُ حَيْثُ قَالَ: أَضَافَ اللَّيْلَ إِلَى الصُّبْحِ ; لِأَنَّ الْمُوَازَنَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ ذَلِكَ الصُّبْحِ وَلَيْلِهِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

1081 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللِّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1081 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: اثْنَانِ مُبْتَدَأٌ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَخَصَّصَ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلٍ، فَإِنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَالْمَعْنَى اثْنَانِ وَمَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ يُعَدُّ جَمَاعَةً نَحْوَ قَوْلِكَ: الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ: " «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا فَلْيَؤُمُّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» ".

1082 - وَعَنْ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ» ". فَقَالَ بِلَالٌ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَتَقُولُ أَنْتَ: لَنَمْنَعُهُنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1082 - (وَعَنْ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ) أَيْ: ثَوَابَهُنَّ الْحَاصِلَ لَهُنَّ بِحُضُورِهِنَّ لِلصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا (مِنَ الْمَسَاجِدِ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (فَقَالَ بِلَالٌ) : فِيهِ تَجْرِيدٌ أَوِ الْتِفَاتٌ ; إِذْ أَصْلُهُ فَقُلْتُ: (وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ) أَيْ: لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْفِتَنِ وَحَدَثَ مِنَ الْفَسَادِ فِي الزَّمَنِ، (فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ) أَيْ: أَبُوهُ (أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: فَتُعَارِضُ هَذَا النَّصَّ بِرَأْيِكَ (وَتَقُولُ أَنْتَ: لَنَمْنَعُهُنَّ! !) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعَاتَبَةَ لِمَا فِي ظَاهِرِ الْمُقَابَلَةِ بِالْمُعَارَضَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُكَافَحَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَلِهَذَا تَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْعِ خُرُوجِ النِّسَاءِ، فَفِي الْهِدَايَةِ: وَلَا يَنْوِي الْإِمَامُ النِّسَاءَ فِي زَمَانِنَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِأَنَّهُنَّ مَمْنُوعَاتٌ مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْمُظْهِرِ أَنَّ خُرُوجَهُنَّ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ فِي زَمَانِنَا مَكْرُوهٌ.

1083 - وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا مَا سَمِعْتُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ! رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1083 - (وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَيْ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ) أَيْ سَالِمٌ (فَأَقْبَلَ) أَيْ: أَبُوهُ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى بِلَالٍ (يَسُبُّهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَسَبَّهُ (سَبًّا مَا سَمِعْتُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ) : وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ لِأَبِي يُوسُفَ حِينَ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ الدُّبَّاءَ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا مَا أُحِبُّهُ فَسَلَّ السَّيْفَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ: جَدِّدِ الْإِيمَانَ وَإِلَّا لَأَقْتُلَنَّكَ. (وَقَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ لِبِلَالٍ (أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ بِعَدَمِ مَنْعِهِنَّ (وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ!) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَا آتِيكَ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ، وَأَنْتَ تَتَلَقَّاهُ بِالرَّأْيِ، كَأَنَّ بِلَالًا لَمَّا اجْتَهَدَ وَرَأَى مِنَ النِّسَاءِ وَمَا فِي خُرُوجِهِنَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ مِنَ الْمُنْكَرِ أَقْسَمَ عَلَى مَنْعِهِنَّ، فَرَدَّهُ أَبُوهُ بِأَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارَضُ بِالرَّأْيِ، وَالرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ أَبْلَغُ لِسَبِّهِ إِيَّاهُ سَبًّا بَلِيغًا، وَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1084 - وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلٌ أَهْلَهُ أَنْ يَأْتُوا الْمَسَاجِدَ» ". فَقَالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: فَإِنَّا نَمْنَعُهُنَّ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ هَذَا؟ ! قَالَ: فَمَا كَلَّمَهُ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1084 - (وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلٌ أَهْلَهُ) أَيْ: نِسَاءَهُ (أَنْ يَأْتُوا الْمَسَاجِدَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ ضَمِيرَ النِّسَاءِ تَعْظِيمًا لَهُنَّ حَيْثُ قَصَدْنَ السُّلُوكَ مَسْلَكَ الرِّجَالِ الرُّكَّعِ وَالسُّجُودِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] . وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ (فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) : وَهُوَ بِلَالٌ (فَإِنَّا نَمْنَعُهُنَّ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ هَذَا؟ قَالَ) أَيْ: مُجَاهِدٌ (فَمَا كَلَّمَهُ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ) أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَجِبْتُ مِمَّنْ يَتَسَمَّى بِالسُّنِّيِّ إِذَا سَمِعَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُ رَأْيٌ رَجَّحَ رَأْيَهُ عَلَيْهَا، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُبْتَدِعِ، أَمَا سَمِعَ: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» "، وَهَا هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهَا كَيْفَ غَضِبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَجَرَ فَلْذَةَ كَبِدِهِ لِتِلْكَ الْهَنَةِ عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ. قُلْتُ: يُشَمُّ مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ رَائِحَةُ الْكِنَايَةِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الرَّأْيَ عَلَى الْحَدِيثِ، وَلِذَا يُسَمَّوْنَ أَصْحَابَ الرَّأْيِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ لِدِقَّةِ رَأْيِهِمْ وَحَذَاقَةِ عَقْلِهِمْ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ النَّاسِ عِيَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّ جَمِيعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ إِمَامِهِمْ أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ

ذَكَرَهُ السَّخَاوِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْمَنَاقِبِ الْحِسَانِ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَفْهَمَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ تَنْقِيصُهُمْ وَلَا نِسْبَتُهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ رَأْيَهُمْ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِهِ ; لِأَنَّهُمْ بُرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَوَّلًا يَأْخُذُ بِمَا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِالسُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِقَوْلِ الصَّحَابَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَخَذَ بِمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَوْلًا لَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، بَلْ يَجْتَهِدُ كَمَا اجْتَهَدُوا. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْهُ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَإِذَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ اخْتَرْنَا، وَإِذَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا: وَاعَجَبًا لِلنَّاسِ، يَقُولُونَ: أُفْتِي بِالرَّأْيِ، مَا أُفْتِي إِلَّا بِالْأَثَرِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِرَأْيِهِ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا مَعَ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا مَعَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَنَتَخَيَّرُ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ أَقْرَبَهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى السُّنَّةِ وَنَجْتَهِدُ، وَمَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَالِاجْتِهَادُ بِالرَّأْيِ لِمَنْ عَرَفَ الِاخْتِلَافَ، وَلِدِقَّةِ قِيَاسَاتِ مَذْهَبِهِ كَانَ الْمُزَنِيُّ يُكْثِرُ النَّظَرَ فِي كَلَامِهِمْ، حَتَّى حَمَلَ ابْنَ أُخْتِهِ الْإِمَامَ الطَّحَاوِيَّ عَلَى أَنِ انْتَقَلَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ نَفْسُهُ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اعْلَمْ أَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» "، وَقَوْلُهُ: " «إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعَنَّهَا» ". وَالْعُلَمَاءُ خَصُّوهُ بِأُمُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا وَمَقِيسَةٍ، فَمِنَ الْأَوَّلِ مَا صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "، «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ» " وَكَوْنُهُ لَيْلًا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ فِي مُسْلِمٍ " «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ إِلَّا بِاللَّيْلِ» " وَمِنَ الثَّانِي، حُسْنُ الْمَلَابِسِ، وَمُزَاحَمَةُ الرِّجَالِ ; لِأَنَّ إِخْرَاجَ الطِّيبِ لِتَحْرِيكِ الدَّاعِيَةِ، فَلَمَّا فُقِدَ الْآنَ مِنْهُنَّ هَذَا ; لِأَنَّهُنَّ يَتَكَلَّفْنَ لِلْخُرُوجِ مَا لَمْ يَكُنَّ عَلَيْهِ فِي الْمَنْزِلِ مُنِعْنَ مُطْلَقًا، لَا يُقَالُ هَذَا حِينَئِذٍ نَسْخٌ بِالتَّعْلِيلِ ; لِأَنَّا نَقُولُ الْمَنْعُ حِينَئِذٍ ثَبَتَ بِالْعُمُومَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْفِتَنِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ بِشَرْطٍ، فَيَزُولُ بِزَوَالِهِ كَانْتِهَاءِ الْحَاكِمِ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَتِ النِّسَاءُ بَعْدَهُ، لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى أَنَّ فِيهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدِهِ فِي التَّمْهِيدِ، عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ: " «أَيُّهَا النَّاسُ انْهُوا نِسَاءَكُمْ عَنْ لُبْسِ الزِّينَةِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى لَبِسَ نِسَاؤُهُمُ الزِّينَةَ وَتَبَخْتَرْنَ فِي الْمَسَاجِدِ» "، وَبِالنَّظَرِ إِلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ مُنِعَتْ غَيْرُ الْمُتَزَيِّنَةِ، أَيْضًا لِغَلَبَةِ الْفُسَّاقِ لَيْلًا، وَإِنْ كَانَ النَّصُّ يُبِيحُهُ ; لِأَنَّ الْفُسَّاقَ فِي زَمَانِنَا كَثُرَ انْتِشَارُهُمْ وَتَعَرُّضُهُمْ بِاللَّيْلِ، بِخِلَافِ الصُّبْحِ فَإِنَّ الْغَالِبَ نَوْمُهُمْ فِي وَقْتِهِ، بَلْ عَمَّمَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمَنْعَ لِلْعَجَائِزِ وَالشَّوَابِّ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب تسوية الصف]

[بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ]

[24] بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1085 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ، فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: " عِبَادَ اللَّهِ! لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [24] بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ أَيْ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: الصُّفُوفِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْجِنْسُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1085 - (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) : أَسْلَمَ صَغِيرًا، وَلِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ، مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُ ثَمَانِ سِنِينَ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا) أَيْ: بِيَدِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ (حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا) أَيْ: بِالصُّفُوفِ أَوْ بِالتَّسْوِيَةِ (الْقِدَاحَ) : جَمْعُ الْقِدْحِ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ السَّهْمُ قَبْلَ أَنْ يُرَاشَ وَيُرَكَّبَ نَصْلُهُ، وَضُرِبَ الْمَثَلُ لَهُ لِلْمُتَسَاوِيَيْنِ أَبْلَغَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْقِدْحَ لَا يَصْلُحُ لِمَا يُرَادُ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ الِانْتِهَاءِ فِي الِاسْتِوَاءِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ مَعَ الْغُنْيَةِ عَنْهُ بِالْمُفْرَدِ لِمَكَانِ الصُّفُوفِ، أَيْ: يُسَوِّي كُلَّ صَفٍّ عَلَى حِدَةٍ كَمَا يُسَوِّي الصَّانِعُ كُلَّ قِدْحٍ عَلَى حِدَتِهِ، هَذَا كَلَامُ الطِّيبِيِّ، وَابْنِ الْمَلَكِ، وَابْنِ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجَمْعَ مُتَعَيِّنٌ لِمَكَانِ إِفْرَادِ الصَّفِّ لَا الصُّفُوفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قِيلَ رُوعِيَ قَوْلُهُ يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ نُكْتَةً ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَأَنَّمَا يُسَوِّيهَا بِالْقِدَاحِ، وَالْبَاءُ لِلْآلَةِ كَمَا فِي: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، فَعَكَسَ وَجَعَلَ الصُّفُوفَ هِيَ الَّتِي يُسَوَّى بِهَا الْقِدَاحُ مُبَالَغَةً فِي الِاسْتِوَاءِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَا يَظْهَرُ مَعْنَى كَوْنِ الْبَاءِ لِلْآلَةِ عَلَى جَعْلِ الضَّمِيرِ إِلَى الصُّفُوفِ كَمَا فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ (بِهَا) رَاجِعٌ إِلَى التَّسْوِيَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْفِعْلِ، أَوِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الصُّفُوفِ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ: مُشَبَّهًا بِهَا، وَالْعَكْسُ لِلْمُبَالَغَةِ. (حَتَّى رَأَى) أَيْ: عَلِمَ (أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا) أَيْ: فَهِمْنَا التَّسْوِيَةَ (عَنْهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ لَمْ يَبْرَحْ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى اسْتَوَيْنَا اسْتِوَاءً إِرَادَةً مِنَّا وَتَعَلَّقْنَاهُ مِنْ فِعْلِهِ (ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا) أَيْ إِلَى الْمَسْجِدِ (فَقَامَ) أَيْ: فِي مَقَامِ الْإِمَامَةِ (حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ) أَيْ: قَارَبَ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ (فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا) : بِالْيَاءِ، أَيْ: ظَاهِرًا خَارِجًا (صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ) أَيْ: مِنْ صُدُورِ أَهْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ (فَقَالَ: " عِبَادَ اللَّهِ!) : بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ لِكَمَالِ قُرْبِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَمْ يَنْهَهُ بِخُصُوصِهِ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ مُبَالَغَةً فِي السَّتْرِ، (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ) : قَالَ الْقَاضِي: اللَّامُ هِيَ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ، وَلِكَوْنِهِ فِي مَعْرِضِ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ أَكَّدَهُ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ. (أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ) . قَالَ الْقَاضِي: أَوْ لِلْعَطْفِ رَدَّدَ بَيْنَ تَسْوِيَتِهِمُ الصُّفُوفَ وَمَا هُوَ كَاللَّازِمِ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الْوُجُوهِ لِنَقِيضِهَا، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْخَارِجُ صَدْرُهُ عَنِ الصَّفِّ تَفَرَّقَ عَلَى الدَّاخِلِ، وَذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى وُقُوعِ الضَّغِينَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِيقَاعُ الْمُخَالَفَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَهَارَةِ وَالْمُعَادَاةِ، يَعْنِي: فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُهُمْ، وَاخْتِلَافُ الْقُلُوبِ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَافِ الْوُجُودِ بِإِعْرَاضِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: بَيَّنَ وُجُوهَ قُلُوبِكُمْ بِأَنْ يَرْفَعَ التَّأَلُّفَ وَالتَّحَابَّ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي: أَدَبُ الظَّاهِرِ عَلَامَةُ أَدَبِ الْبَاطِنِ، فَإِنْ لَمْ تُطِيعُوا أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الظَّاهِرِ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلِ، فَيُورِثُ كُدُورَةً، فَيَسْرِي ذَلِكَ إِلَى ظَاهِرِكُمْ، فَيَقَعُ بَيْنَكُمْ عَدَاوَةٌ بِحَيْثُ يُعْرِضُ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى مُخَالَفَةِ الْوُجُوهِ تَحَوُّلُهَا إِلَى الْإِدْبَارِ، أَوْ تَغَيُّرُ صُوَرِهَا إِلَى صُوَرٍ أُخْرَى، فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى التَّهْدِيدِ، أَوْ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1086 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: " أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا ; فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ: " «أَتِمُّوا الصُّفُوفَ ; فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1086 - (وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ فُعِلَتْ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَوَقَعَ خَطَأٌ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ بِوَضْعِ الصُّفُوفِ مَقَامَ الصَّلَاةِ، فَتَكَلَّفَ فِي تَوْجِيهِ الْحَدِيثِ إِلَى آخِرِهِ بِمَا لَا وَجْهَ لَهُ. (فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ) : قِيلَ: إِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ وَلَيْسَ بِالسَّدِيدِ، أَيِ: الْتَفَتَ إِلَيْنَا (فَقَالَ: " أَقِيمُوا) أَيْ: عَدِّلُوا وَأَتِمُّوا (صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا) أَيْ: تَضَامُّوا وَتَلَاصَقُوا حَتَّى تَتَّصِلَ مَنَاكِبُكُمْ، وَلَا يَكُونَ بَيْنَكُمْ فُرَجٌ، مِنْ رَصَّ الْبِنَاءَ: أَلْصَقَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] فَالْمُشَابَهَةُ مَطْلُوبَةٌ، وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي الْغُزَاةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ الْإِمَامَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ فَيَأْمُرُهُمْ بِتَسْوِيَةِ النَّاسِ. اهـ. يَعْنِي إِذَا رَأَى خَلَلًا فِي الصَّفِّ ; وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَمْرِ. (فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي) أَيْ: بِالْمُكَاشَفَةِ، وَلَا يَلْزَمُ دَوَامُهَا لِيُنَافِيَهُ خَبَرُ: لَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ جِدَارِي، فَيُخَصُّ هَذَا بِحَالَةِ الصَّلَاةِ وَعِلْمِهِ بِالْمُصَلِّينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ: " أَتِمُّوا الصُّفُوفَ) أَيِ: الْأَوَّلَ (فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي) .

1087 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1087 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ» "، أَيْ: مِنْ إِتْمَامِهَا وَإِكْمَالِهَا، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] وَهِيَ تَعْدِيلُ أَرْكَانِهَا، وَحِفْظُهَا مِنْ أَنْ يَقَعَ زَيْغٌ فِي فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَآدَابِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) إِلَّا أَنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: (مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ) أَيْ: كَمَالِهَا.

1088 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ " اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» "، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1088 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا) أَيْ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى أَعْطَافِنَا حَتَّى لَا نَتَقَدَّمَ وَلَا نَتَأَخَّرَ (فِي الصَّلَاةِ) أَيْ: فِي حَالِ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ (وَيَقُولُ) أَيْ: حَالَ تَسْوِيَةِ الْمَنَاكِبِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ (اسْتَوُوا) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (وَلَا تَخْتَلِفُوا) أَيْ: بِالْأَبْدَانِ (فَتَخْتَلِفَ) : بِالتَّأْنِيثِ، وَقِيلَ: بِالتَّذْكِيرِ (قُلُوبُكُمْ) أَيْ: أَهْوِيَتُهَا وَإِرَادَتُهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَيَخْتَلِفَ بِالنَّصْبِ، أَيْ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الْقَلْبَ تَابِعٌ لِلْأَعْضَاءِ، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ اخْتَلَفَ، وَإِذَا اخْتَلَفَ فَسَدَ فَفَسَدَتِ الْأَعْضَاءُ لِأَنَّهُ رَئِيسُهَا. قُلْتُ: الْقَلْبُ مَلَكٌ مُطَاعٌ وَرَئِيسٌ مُتَّبَعٌ، وَالْأَعْضَاءُ كُلُّهَا تَبَعٌ لَهُ، فَإِذَا صَلَحَ الْمَتْبُوعُ صَلَحَ التَّبَعُ، وَإِذَا اسْتَقَامَ الْمَلِكُ اسْتَقَامَتِ الرَّعِيَّةُ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: " «أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» ". فَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْأَعْضَاءِ تَعَلُّقًا عَجِيبًا، وَتَأْثِيرًا غَرِيبًا بِحَيْثُ أَنَّهُ يَسْرِي مُخَالَفَةُ كُلٍّ إِلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ مَدَارَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَبْرِيدَ الظَّاهِرِ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ، وَكَذَا: بِالْعَكْسِ، وَهُوَ أَقْوَى. (لِيَلِنِي مِنْكُمْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ قَبْلَ النُّونِ، وَيَجُوزُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ مَعَ تَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى التَّأْكِيدِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: " لِيَلِيَنِي " قَالَ شَارِحُهُ: الرِّوَايَةُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَهُوَ شَاذٌّ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ، وَاللَّامُ لِلْأَمْرِ فَيَجِبُ حَذْفُ الْيَاءِ لِلْجَزْمِ. قِيلَ: لَعَلَّهُ سَهْوٌ مِنَ الْكَاتِبِ، أَوْ كُتِبَ بِالْيَاءِ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، ثُمَّ قُرِئَ كَذَا. أَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مِنْ إِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ، كَمَا قِيلَ فِي: لَمْ تَهْجُو وَلَمْ تَدَّعِي، أَوْ تَنْبِيهٌ عَلَى

الْأَصْلِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ) أَوْ أَنَّهُ لُغَةٌ فِي أَنَّ سُكُونَهُ تَقْدِيرِيٌّ (أُولُو الْأَحْلَامِ) : جَمْعُ حِلْمٍ بِالْكَسْرِ كَأَنَّهُ مِنَ الْحِلْمِ وَالسُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَالْأَنَاةِ وَالتَّثَبُّتِ فِي الْأُمُورِ، وَضَبْطِ النَّفْسِ عَنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ، وَيُرَادُ بِهِ الْعَقْلُ ; لِأَنَّهَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْلِ وَشِعَارِ الْعُقَلَاءِ، وَقِيلَ: أُولُو الْأَحْلَامِ: الْبَالِغُونَ، وَالْحُلْمُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْبُلُوغُ وَأَصْلُهُ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ. (وَالنُّهَى) : بِضَمِّ النُّونِ جَمْعُ نُهْيَةٍ، وَهُوَ الْعَقْلُ النَّاهِي عَنِ الْقَبَائِحِ، أَيْ: لِيَدْنُ مِنِّي الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ لِشَرَفِهِمْ وَمَزِيدِ تَفَطُّنِهِمْ وَتَيَقُّظِهِمْ وَضَبْطِهِمْ لِصَلَاتِهِ، وَإِنْ حَدَثَ بِهِ عَارِضٌ يَخْلُفُوهُ فِي الْإِمَامَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَرَ بِتَقَدُّمِ الْعُقَلَاءِ ذَوِي الْأَخْطَارِ وَالْعِرْفَانِ لِيَحْفَظُوا صَلَاتَهُ، وَيَضْبِطُوا الْأَحْكَامَ وَالسُّنَنَ، فَيُبَلِّغُوا مَنْ بَعْدَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ مَعَ الْإِفْصَاحِ عَنْ جَلَالَةِ شَأْنِهِ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْفَضِيلَةِ، وَإِرْشَادٌ لِمَنْ قَصَرَ حَالُهُمْ عَنِ الْمُسَاهَمَةِ مَعَهُمْ فِي الْمَنْزِلَةِ إِلَى تَحَرِّي مَا يُزَاحِمُهُمْ فِيهَا. (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) : كَالْمُرَاهِقِينَ، أَوِ الَّذِينَ يَقْرَبُونَ الْأَوَّلِينَ فِي النُّهَى وَالْحِلْمِ، (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) : كَالصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ، أَوِ الَّذِينَ هُمْ أَنْزَلُ مَرْتَبَةً مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ حِلْمًا وَعَقْلًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ هَلُمَّ جَرًّا، فَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَالنِّسَاءِ، فَإِنَّ نَوْعَ الذَّكَرِ أَشْرَفُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْخَنَاثَى، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْتِيبِ الصُّفُوفِ. (قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ) : أَيِ الْمَذْكُورُ (فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا خِطَابٌ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ هَيَّجُوا الْفِتَنَ، وَأَرَادَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ عَدَمُ تَسْوِيَةِ صُفُوفِكُمْ اهـ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَشَدَّ أَصْلُ الْفِعْلِ وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1089 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " ثَلَاثًا " وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1089 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِيَلِنِي) : بِحَذْفِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ بِلَا خِلَافٍ (مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى) : رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَلِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ لِيَحْفَظُوا عَنْهُ، (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، " ثَلَاثًا) أَيْ: كَرَّرَ ثُمَّ وَمَا بَعْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ (وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ) : جَمْعُ هَيْشَةٍ، وَهِيَ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ، نَهَاهُمْ عَنْهَا ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ حُضُورٌ بَيْنَ يَدَيِ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا فِيهَا عَلَى السُّكُوتِ وَآدَابِ الْعُبُودِيَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ الِاخْتِلَاطُ، وَالْمَعْنَى لَا تَكُونُوا مُخْتَلِطِينَ اخْتِلَاطَ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ فَلَا يَتَمَيَّزُ أَصْحَابُ الْأَحْلَامِ وَالْعُقُولِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا يَتَمَيَّزُ الصِّبْيَانُ وَالْإِنَاثُ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْأَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ الْأَسْوَاقِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُكُمْ عَنْ أَنْ تَلُونِي. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1090 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: " تَقَدَّمُوا وَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1090 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا) أَيْ: فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: فِي أَخْذِ الْعِلْمِ (فَقَالَ لَهُمْ: " تَقَدَّمُوا وَأْتَمُّوا بِي) أَيِ: اصْنَعُوا كَمَا أَصْنَعُ (وَلْيَأْتَمَّ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَتُكْسَرُ (بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ) أَيْ: مِنَ الْمُصَلِّينَ أَوْ مِنَ التَّابِعِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ التَّأَخُّرَ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ، أَوِ التَّأَخُّرَ عَنِ الْعِلْمِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ: لِيَقِفْ الْأَلِبَّاءُ وَالْعُلَمَاءُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَلْيَقِفَ مَنْ دُونَهُمْ فِي الصَّفِّ الثَّانِي، فَإِنَّ الصَّفَّ الثَّانِيَ يَقْتَدُونَ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ ظَاهِرًا لَا حُكْمًا، وَعَلَى الثَّانِي الْمَعْنَى لِيَتَعَلَّمْ كُلُّكُمْ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَلْيَتَعَلَّمْ التَّابِعُونَ مِنْكُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَلُونَكُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ. (لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ) أَيْ: عَنِ الصَّفِّ، أَوْ عَنِ الْخَيْرَاتِ، أَوْ عَنِ الْعِلْمِ، أَوْ عَنِ اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ (حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ) أَيْ: فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ، أَيْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَعِظَمِ فَضْلِهِ، وَرَفِيعِ الْمَنْزِلَةِ، وَعَنِ الْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1091 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآنَا حَلَقًا، فَقَالَ: " مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ ! ". ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: " أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: " يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُولَى، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1091 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآنَا حَلَقًا) : بِفَتْحِ الْحَاءِ مَعَ فَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ حَلْقَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ كَقَصْعَةٍ وَقِصَعٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ جُلُوسًا حَلْقَةً حَلْقَةً كُلُّ صَفِّ مِنَّا قَدْ تَحَلَّقَ، انْتَهَى. أَوْ كُلُّ إِنْسَانٍ انْضَمَّ إِلَى قَرِيبِهِ أَوْ صَاحِبِهِ. (فَقَالَ: " مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟) : جَمْعُ عِزَةٍ، أَيْ: جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقِينَ، نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْكَارُهُ عَلَى رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَالْمَقْصُودُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ كَائِنِينَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، لَمْ يَقُلْ مَا لَكُمْ ; لِأَنَّ مَا لِي أَرَاكُمْ أَبْلَغُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] (ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ هَذَا (فَقَالَ: " أَلَا تَصُفُّونَ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ (كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ، أَيْ: عِنْدَ قِيَامِهَا لِطَاعَةِ رَبِّهَا، أَوْ عِنْدَ عَرْشِ رَبِّهَا (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: " يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُولَى) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَعْنَى لَا يَشْرَعُونَ فِي صَفٍّ حَتَّى يَكْمُلَ الَّذِي قَبْلَهُ. (وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1092 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا. وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1092 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا) : لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْإِمَامِ وَبُعْدِهِمْ مِنَ النِّسَاءِ (وَشَرُّهَا آخِرُهَا) : لِقُرْبِهِمْ مِنَ النِّسَاءِ وَبُعْدِهِمْ مِنَ الْإِمَامِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ كَثْرَةُ الثَّوَابِ، فَإِنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ أَعْلَمُ بِحَالِ الْإِمَامِ فَتَكُونُ مُتَابَعَتُهُ أَكْثَرَ وَثَوَابُهُ أَوْفَرَ. (وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا) : لِبُعْدِهِنَّ مِنَ الرِّجَالِ (وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا) : لِقُرْبِهِنَّ مِنَ الرِّجَالِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ مَرْتَبَةَ النِّسَاءِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الذُّكُورِ، فَيَكُونُ آخِرُ الصُّفُوفِ أَلْيَقَ بِمَرْتَبَتِهِنَّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّجَالُ مَأْمُورُونَ بِالتَّقَدُّمِ، فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَدُّمًا فَهُوَ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الشَّرْعِ، فَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَمَأْمُورَاتٌ بِالِاحْتِجَابِ. قُلْتُ: بَلْ بِالتَّأَخُّرِ، أَيْضًا لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ: أَخِّرُوهُنَّ كَمَا أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ، فَهِيَ لِذَلِكَ شَرٌّ مِنَ اللَّاتِي يَكُنَّ فِي الصَّفِّ الْأَخِيرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ مَا لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِصَفٍّ آخَرَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الصَّفُّ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَلِي الْإِمَامَ وَإِنْ تَخَلَّلَهُ نَحْوُ مِنْبَرٍ وَإِنْ تَأَخَّرَ أَصْحَابُهُ فِي الْمَجِيءِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَتَخَلَّلْهُ شَيْءٌ وَإِنْ تَأَخَّرَ أَصْحَابُهُ، وَعَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْ جَاءَ أَوَّلًا وَإِنْ صَلَّى فِي صَفٍّ مُتَأَخِّرٍ، ثُمَّ قِيلَ: مَحَلُّ أَفْضَلِيَّةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنْكَرٌ كَلُبْسِ حَرِيرٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ شَاغِلٍ، وَإِلَّا فَالتَّأَخُّرُ عَنْهُ أَسْلَمَ فَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : كَانَ يُمْكِنُ لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُجْمِلَ وَيَقُولَ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ مُسْلِمٌ، كَمَا هُوَ دَأْبُهُ، وَلَعَلَّ عَادَتَهُ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلْأَحَادِيثِ سَنَدٌ وَاحِدٌ بِاتِّفَاقِ رِجَالِهِ وَخِلَافِهَا فِي خِلَافِهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1093 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ ; فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1093 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رُصُّوا) : بِضَمِّ الرَّاءِ (صُفُوفَكُمْ) أَيْ: سَوُّوهَا وَضُمُّوا بَعْضَكُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَكُمْ فُرْجَةٌ (وَقَارِبُوا بَيْنَهَا) أَيْ: بَيْنَ الصُّفُوفِ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ بَيْنَ صَفَّيْنِ

صَفٌّ آخَرُ، فَيَصِيرُ تَقَارُبُ أَشْبَاحِكُمْ سَبَبًا لِتَعَاضُدِ أَرْوَاحِكُمْ، وَلَا يَقْدِرُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّهُ حَيْثُ لَا عُذْرَ كَحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ (وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ) أَيْ: بِأَنْ لَا يَتَرَفَّعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِأَنْ يَقِفَ فِي مَكَانٍ أَرْفَعَ مِنْ مَكَانِ الْآخَرِ قَالَهُ الْقَاضِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَعْنَاقِ إِذْ لَيْسَ عَلَى الطَّوِيلِ أَنْ يَجْعَلَ عُنُقَهُ مُحَاذِيًا لِلْقَصِيرِ، انْتَهَى. وَأَمَّا تَفْسِيرُ مُحَاذَاةِ الْأَعْنَاقِ بِالْمُحَاذَاةِ بِالْمَنَاكِبِ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ هَذَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: " «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ» " (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لِأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مَنْ خَلَلِ الصَّفِّ) : بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ: فُرْجَتِهِ، أَوْ كَثْرَةِ تَبَاعُدِهَا عَنْ بَعْضٍ. (كَأَنَّهَا الْحَذَفُ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ الْغَنَمُ السُّودُ الصِّغَارُ مِنْ غَنَمِ الْحِجَازِ، وَقِيلَ: صِغَارٌ جُرْدٌ لَيْسَ لَهَا آذَانٌ وَلَا أَذْنَابٌ، يُجَاءُ بِهَا مِنَ الْيَمَنِ، أَيْ: كَأَنَّ الشَّيْطَانَ وَأُنِّثَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أُنِّثَ لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْخَبَرِ لِلْجِنْسِ، يَكُونُ فِي الْمَعْنَى جَمْعًا، وَفِي نُسْخَةٍ (كَأَنَّهُ) وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قَالَ الْمُظْهِرُ: الضَّمِيرُ فِي (كَأَنَّهَا) رَاجِعٌ إِلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: جَعَلَ نَفْسَهُ شَاةً أَوْ مَاعِزَةً كَأَنَّهَا الْحَذَفُ، وَقِيلَ: وَيَجُوزُ التَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الشَّيْطَانِ، وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ الْحَذَفِ لِوُقُوعِهِ بَيْنَهُمَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى مُقَدَّرٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ وَقَالَ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا.

1094 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ. فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1094 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ) أَيِ: الْأَوَّلَ (ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ. فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ.

1095 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَلُونَ الصُّفُوفَ الْأُولَى، وَمَا مِنْ خُطْوَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا يَصِلُ بِهَا صَفًّا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1095 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَلُونَ) أَيْ: يَقُومُونَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ يُبَاشِرُونَ وَيَتَوَلَّوْنَ (الصُّفُوفَ الْأُولَى) : فَالْأَفْضَلُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ (وَمَا مِنْ خُطْوَةٍ) : بِالْفَتْحِ وَيُضَمُّ، وَمِنْ زَائِدَةٌ. وَخُطْوَةٌ اسْمُ " مَا " وَقَوْلُهُ: (أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ) : بِالنَّصْبِ خَبَرُهُ، وَالْأَصَحُّ رَفْعُهُ فَهُوَ اسْمُهُ، وَمِنْ خُطْوَةٍ خَبَرُهُ (مِنْ خُطْوَةٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَحَبَّ (يَمْشِيهَا) : بِالْغَيْبَةِ صِفَةُ خُطْوَةٍ، أَيْ: يَمْشِيهَا الرَّجُلُ، وَكَذَا (يَصِلُ بِهَا صَفًّا) : وَقِيلَ: بِالْخِطَابِ فِيهِمَا، وَالضَّمِيرَانِ لِلْخُطْوَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

1096 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1096 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ) : جَمْعُ مَيْمَنَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: مَيَامِينِ الصُّفُوفِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى شَرَفِ يَمِينِ الصُّفُوفِ كَمَا ذُكِرَ فِي التَّفْسِيرِ: إِنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ الرَّحْمَةَ أَوَّلًا عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ إِلَى آخِرِ الْيَمِينِ، ثُمَّ عَلَى الْيَسَارِ إِلَى آخِرِهِ، قِيلَ: وَإِذَا خَلَا الْيَسَارُ عَنِ الْمُصَلِّينِ يَصِيرُ أَفْضَلَ مِنَ الْيَمِينِ مُرَاعَاةً لِلطَّرَفَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ الْبَرَاءِ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، أَيْ: أَوَّلًا عِنْدَ السَّلَامِ، أَوْ مُطْلَقًا عِنْدَ الِانْصِرَافِ.

1097 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا إِذَا قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، فَإِذَا اسَتْوَيْنَا كَبَّرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1097 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا) : بِالْيَدِ، أَوِ الْإِشَارَةِ، أَوِ الْقَوْلِ (إِذَا قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ: لِلْجَمَاعَةِ (فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ) أَيْ: لِلْإِحْرَامِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَوِّيَ الصُّفُوفَ ثُمَّ يُكَبِّرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1098 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَنْ يَمِينِهِ: " اعْتَدِلُوا، سَوُّوا صُفُوفَكُمْ ". وَعَنْ يَسَارِهِ: " اعْتَدِلُوا، سَوُّوا صُفُوفَكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1098 - (وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: فِي إِبْدَاءِ الْأَمْرِ (يَقُولُ عَنْ يَمِينِهِ) أَيْ: مُنْصَرِفًا بِوَجْهِهِ عَنْ جِهَةِ يَمِينِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى يَمِينِ الصَّفِّ (اعْتَدِلُوا) أَيِ: اسْتَقِيمُوا (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ ". وَعَنْ يَسَارِهِ " اعْتَدِلُوا) أَيْ: فِي الْقِيَامِ (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ) : بِعَدَمِ تَخْلِيَةِ الْفُرْجَةِ، أَوِ الثَّانِي تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ أَوْ تَأْكِيدٌ لَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1099 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خِيَارُكُمْ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ فِي الصَّلَاةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1099 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خِيَارُكُمْ) أَيْ: فِي الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، (أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ) : نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ (فِي الصَّلَاةِ) : قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الصَّفِّ وَأَمَرَهُ أَحَدٌ بِالِاسْتِوَاءِ، أَوْ بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَى مَنْكِبِهِ يَنْقَادُ وَلَا يَتَكَبَّرُ، فَالْمَعْنَى أَسْرَعُكُمُ انْقِيَادًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لُزُومُ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَلْتَفِتُ وَلَا يُحَاكُّ بِمَنْكِبِهِ مَنْكِبَ صَاحِبِهِ، فَالْمَعْنَى أَكْثَرُكُمْ سَكِينَةً وَوَقَارًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَمْتَنِعُ أَحَدُكُمْ لِضِيقِ الْمَكَانِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ بَيْنَ الصَّفِّ لِسَدِّ الْخَلَلِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَقَالَ مِيرَكُ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِالْبَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ: " «وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَ الْأَخْصَرُ أَنْ يَقُولَ: رَوَى جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَبُو دَاوُدَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1100 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اسْتَوُوا، اسْتَوُوا ; فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي كَمَا أَرَاكُمْ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1100 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اسْتَوُوا، اسْتَوُوا، اسْتَوُوا) : ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَقَعَ إِجْمَالًا، وَالثَّانِي لِأَهْلِ الْيَمِينِ، وَالثَّالِثُ لِأَهْلِ الْيَسَارِ، (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي كَمَا أَرَاكُمْ مِنْ بَيْنَ يَدَيَّ) : بِالْمُشَاهَدَةِ أَوِ الْمُكَاشَفَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1101 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَعَلَى الثَّانِي؟ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَعَلَى الثَّانِي؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَعَلَى الثَّانِي؟ قَالَ: " وَعَلَى الثَّانِي " وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، وَحَاذُوا بَيْنَ مَنَاكِبِكُمْ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْحَذَفِ» " يَعْنِي أَوْلَادَ الضَّأْنِ الصِّغَارِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1101 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) : بِإِنْزَالِ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالدُّعَاءِ بِالتَّوْفِيقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. (عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا وَدُعَاءً، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَعَلَى الثَّانِي؟) أَيْ: قُلْ وَعَلَى الثَّانِي، وَيُسَمَّى هَذَا الْعَطْفُ عَطْفَ تَلْقِينٍ وَالْتِمَاسٍ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَقِّقِينَ» " الْحَدِيثَ. (قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ) أَيْ: ثَانِيًا، (قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَعَلَى الثَّانِي؟ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ) أَيْ ثَالِثًا (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَعَلَى الثَّانِي؟ قَالَ: " وَعَلَى الثَّانِي) : فَالتَّكْرَارُ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَحُصُولَ الْكَمَالِ لِلْأَوَّلِ، وَتَثْلِيثَ الرَّحْمَةِ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ. (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَوُّوا صُفُوفَكُمْ) أَيْ: بِالِاعْتِدَالِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَالِ. (وَحَاذُوا بَيْنَ مَنَاكِبِكُمْ) أَيْ: بِالْوُقُوفِ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ (وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ) : بِالِانْقِيَادِ وَالِانْضِمَامِ (وَسُدُّوا الْخَلَلَ) أَيْ: مِنَ الصُّفُوفِ، أَوْ مِمَّا بَيْنَهُنَّ، (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَكُمْ) : لِيُشَوِّشَ عَلَيْكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِشْغَالِ (بِمَنْزِلَةِ الْحَذَفِ) أَيْ: فِي صُورَتِهَا (يَعْنِي: أَوْلَادَ الضَّأْنِ الصِّغَارِ) : تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1102 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتِ الشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَهُ قَطَعَهُ اللَّهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ: " وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا " إِلَى آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1102 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقِيمُوا الصُّفُوفَ) أَيْ: عَدِّلُوهَا وَسَوُّوهَا (وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ) بِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَوَاقِفِ أَوْ بِالتَّقَارُبِ (وَسُدُّوا الْخَلَلَ) أَيِ: الْفُرْجَةَ فِي الصُّفُوفِ (وَلِينُوا) أَيْ: كُونُوا لَيِّنِينَ هَيِّنِينَ مُنْقَادِينَ (بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ) أَيْ: إِذَا أَخَذُوا بِهَا لِيُقَدِّمُوكُمْ أَوْ يُؤَخِّرُوكُمْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ الصَّفُّ لِتَنَالُوا فَضْلَ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لِينُوا بِيَدِ مَنْ يَجُرُّكُمْ مِنَ الصَّفِّ، أَيْ: وَافِقُوهُ وَتَأَخَّرُوا مَعَهُ لِتُزِيلُوا عَنْهُ وَصْمَةَ الِانْفِرَادِ الَّتِي أَبْطَلَ بِهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَجَاءَ فِي مُرْسَلٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: " «إِنْ جَاءَ فَلَمْ يَجِدْ خَلَلًا أَوْ أَحَدًا فَلْيَخْتَلِجْ إِلَيْهِ رَجُلًا مِنَ الصَّفِّ، فَلْيَقُمْ مَعَهُ، فَمَا أَعْظَمَ أَجْرَ الْمُخْتَلَجِ» "، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِنِيَّتِهِ مُحَصِّلٌ لَهُ فَضِيلَةَ مَا فَاتَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّفِّ مَعَ زِيَادَةٍ مِنَ الْأَجْرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ تَحْصِيلِ فَضِيلَةٍ لِلْغَيْرِ. (وَلَا تَذَرُوا) أَيْ: لَا تَتْرُكُوا (فُرُجَاتِ الشَّيْطَانِ) أَيِ: الْجِنِّيِّ وَالْإِنْسِيِّ، وَالْفُرُجَاتُ: بِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ جَمْعُ فُرْجَةٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ. (وَمَنْ) . وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَمَنْ (وَصَلَ صَفًّا) : بِالْحُضُورِ فِيهِ وَسَدِّ الْخَلَلِ مِنْهُ (وَصَلَهُ اللَّهُ) أَيْ: بِرَحْمَتِهِ (وَمَنْ قَطَعَهُ) أَيْ: بِالْغَيْبَةِ، أَوْ بِعَدَمِ السَّدِّ، أَوْ بِوَضْعِ شَيْءٍ مَانِعٍ. (قَطَعَهُ اللَّهُ) أَيْ: مِنْ رَحْمَتِهِ الشَّامِلَةِ وَعِنَايَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدُ بَلِيغٌ، وَلِذَا عَدَّهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ الْكَبَائِرِ فِي كِتَابِهِ الزَّوَاجِرِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ. (وَرَوَى النَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَابْنُ خُزَيْمَةَ كَذَلِكَ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْحَدِيثِ (قَوْلَهُ) : عَلَيْهِ السَّلَامُ مَفْعُولُ رَوَى (وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا " إِلَى آخِرِهِ) : بَيَانُ الْمَقُولِ، أَيْ: لَا صَدْرُ الْحَدِيثِ.

1103 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَوَسَّطُوا الْإِمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَلَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1103 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَوَسَّطُوا الْإِمَامَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اجْعَلُوا إِمَامَكُمْ مُتَوَسِّطًا بِأَنْ تَقِفُوا فِي الصُّفُوفِ خَلْفَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: وَسَّطَهُمْ: جَلَسَ وَسَطَهُمْ كَتَوَسَّطَهُمْ، وَوَسَّطَهُ تَوْسِيطًا: جَعَلَهُ فِي الْوَسَطِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ تَوَسَّطُوا بِالْإِمَامِ، فَيَكُونَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ. (وَسُدُّوا الْخَلَلَ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1104 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1104 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ) : وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُسَابَقَةِ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَبَرَّاتِ (حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ) أَيْ: يَجْعَلَهُمْ آخِرَ الْأَمْرِ (فِي النَّارِ) : أَوْ يَجْعَلَهُمْ مُتَأَخِّرِينَ فِي أَهْلِ النَّارِ {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] لِأَعْمَالِهِمْ وَطِبَاقًا لِأَحْوَالِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ عَنِ الْخَيْرَاتِ وَيُدْخِلَهُمُ النَّارَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا.

1105 - وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1105 - (وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ) أَيْ: مُنْفَرِدًا عَنِ الصَّفِّ مَعَ سَعَةِ الْمَكَانِ (فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ) : اسْتِحْبَابًا لِارْتِكَابِهِ الْكَرَاهَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا. يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ الْمَوْقِفِ. قُلْتُ: لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا خُصُوصًا عَلَى رِوَايَةِ: (لَا تُعِدْ) مِنَ الْإِعَادَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَاقَضَةٌ، وَيُدْفَعُ بِأَنَّ النَّهْيَ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ، أَوْ لِكَوْنِهِ فِي وَقْتِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِانْفِرَادُ خَلْفَ الصَّفِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَاسْتَدَلَّ لِلْجَوَازِ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ الْحَدِيثَ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِعَادَةِ كَانَ اسْتِحْبَابًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَيُوَافِقُهُ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ، أَيْضًا: " «لَا صَلَاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ» ". وَمِنْهَا: أَخَذَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ عَنِ الصَّفِّ مَعَ إِمْكَانِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَحَمَلَ أَئِمَّتُنَا الْأَوَّلَ عَلَى النَّدْبِ، وَالثَّانِيَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ لِيُوَافِقَا خَبَرَ الْبُخَارِيِّ، «عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهَا ابْنُ حِبَّانَ: فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى ; إِذْ ظَاهِرُهُ عَدَمُ لُزُومِ الْإِعَادَةِ لِعَدَمِ أَمْرِهِ بِهَا، وَأَيْضًا فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَهُ حَتَّى فَرَغَ، وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَمَا أَقَرَّهُ عَلَى الْمُضِيِّ فِيهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَإِنْ صَحَّحَهُ وَحَسَّنَهُ مَنْ ذُكِرَ أَعَلَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، ثُمَّ قِيلَ: مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ: لَا تَعُدْ إِلَى الْإِحْرَامِ خَارِجَ الصَّفِّ، وَقِيلَ: لَا تَعُدْ إِلَى التَّأَخُّرِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، وَقِيلَ: لَا تَعُدْ إِلَى إِتْيَانِ الصَّلَاةِ مُسْرِعًا.

[باب الموقف]

[بَابُ الْمَوْقِفِ]

(25) بَابُ الْمَوْقِفِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1106 - «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ فَعَدَلَنِي كَذَلِكَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ إِلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [25] بَابُ الْمَوْقِفِ أَيْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1106 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ) أَيْ: رَقَدْتُ أَوْ كُنْتُ لَيْلًا (فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ) : مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي) أَيْ: مِنَ اللَّيْلِ، وَظَاهِرُهُ التَّهَجُّدُ (فَقُمْتُ) أَيْ:، وَقَفْتُ (عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ) أَيْ: وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ قَامَ يُصَلِّي (فَعَدَلَنِي) : بِالتَّخْفِيفِ، وَقِيلَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: أَمَالَنِي، وَصَرَفَنِي (كَذَلِكَ) أَيْ: آخِذًا بِيَدِي (مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ) : بَيَانٌ لِذَلِكَ: (إِلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ) : مُتَعَلِّقٌ بِعَدَلَنِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: عَدَلَنِي عَدْلًا مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هِيَ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِهَا الَّتِي صَوَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِيَدِهِ عِنْدَ التَّحَدُّثِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ: فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا: جَوَازُ الصَّلَاةِ نَافِلَةً بِالْجَمَاعَةِ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَأْمُومَ الْوَاحِدَ يَقِفُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ. وَمِنْهَا: جَوَازُ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا: عَدَمُ جَوَازِ تَقَدُّمِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَارَهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَكَانَتْ إِدَارَتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَيْسَرَ. وَمِنْهَا: جَوَازُ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَعَ فِي صَلَاتِهِ مُنْفَرِدَا، ثُمَّ ائْتَمَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي الْهِدَايَةِ: وَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ أَوْ يَسَارَهُ جَازَ وَهُوَ مُسِيءٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عَدَمِ الْإِسَاءَةِ إِذَا كَانَ خَلْفَهُ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَعَلَهُ وَسَأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِيَكَ فِي الْمَوْقِفِ، فَدَعَا لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ غَلَطٍ ; لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمُحَاذَاةِ الْيَمِينِ، وَدُعَاؤُهُ لَهُ لِحُسْنِ تَأْدِيبِهِ، لَا لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ هَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنْ صَحَّتْ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِقَامَةَ عَنْ يَمِينِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ بِمُحَاذَاةِ الْيَمِينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: أُورِدَ كَيْفَ جَازَ النَّفْلُ بِجَمَاعَةٍ وَهُوَ بِدْعَةٌ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّ أَدَاءَهُ بِلَا آذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ بِوَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ، يَجُوزُ عَلَى أَنْ نَقُولُ: كَانَ التَّهَجُّدُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرْضًا فَهُوَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرُوِيَ مُطَوَّلًا، وَقَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. قُلْتُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ مُطَوَّلًا.

1107 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ، فَجِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَابِرُ بْنُ صَخْرٍ، فَقَامَ عَنْ يَسَارِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِيَدَيْنَا جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1107 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ (فَجِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ لَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِي) : تَعْلِيمًا لِلْأَدَبِ (ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِيَدَيْنَا جَمِيعًا فَدَفَعْنَا) تَعْلِيمًا لِلْأَدَبِ (ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِيَدَيْنَا جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا) أَيْ: أَخَّرَنَا (حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ بِيَمِينِهِ شِمَالَ أَحَدِهِمَا وَبِشَمَالِهِ يَمِينَ الْآخَرِ فَدَفَعَهُمَا: قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَيَصْطَفَّ اثْنَانِ فَصَاعِدًا خَلْفَهُ، وَأَنَّ الْحَرَكَةَ الْوَاحِدَةَ وَالْحَرَكَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ لَا تُبْطِلُ، وَكَذَا مَا زَادَ إِذَا تَفَاصَلَتْ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: أُصَلِّي مِنْ خَلْفِكُمَا؟ قَالَا: نَعَمْ، فَقَامَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ رَكَعْنَا، فَوَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا، ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَهُمَا بَيْنَ فَخْذَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمُ الْوَقْفُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ: (هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ) . قِيلَ: كَأَنَّهُمَا ذُهِلَا، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ لَمْ يَرْفَعْهُ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَرَفَعَهُ فِي الثَّالِثَةِ، وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ إِلَخْ. وَإِذَا صَحَّ الرَّفْعُ، فَالْجَوَابُ إِمَّا بِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِضِيقِ الْمَكَانِ، أَوْ مَا قَالَ الْحَازِمِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَعَلَّمَ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ إِذْ فِيهَا التَّطْبِيقُ وَأَحْكَامٌ أُخْرَى هِيَ الْآنَ مَتْرُوكَةٌ، وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَدِينَةَ تَرَكَهُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ جَابِرٍ، فَإِنَّهُ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ الَّتِي بَعْدَ بَدْرٍ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَغَايَةُ مَا فِيهِ خَفَاءُ النَّاسِخِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا إِمَامَةَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ دُونَ الِاثْنَيْنِ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ كَهَذِهِ الْقِصَّةِ وَحَدِيثِ الْيَتِيمِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ فَلَمْ يَطَّلِعْ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: مِنْ جُمْلَةِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ.

1108 - «وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1108 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا) : مُتَعَلِّقٌ بِصَلَّيْتُ، قِيلَ قَوْلُهُ: يَتِيمٌ اسْمُ عَلَمٍ لِأَخِي أَنَسٍ، وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ اسْمُ الْيَتِيمِ ضُمَيْرَةُ، وَهُوَ جَدُّ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، وَقَالَ ابْنُ الْحَذَّاءِ: كَذَا سَمَّاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَأَظُنُّهُ سَمِعَهَا مِنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَضُمَيْرَةُ هُوَ ضَمْرَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْيَتِيمُ هُوَ ضُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ الْحِمْيَرِيُّ قَالَهَا النَّوَوِيُّ. (خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ) أَيْ: أُمُّ أَنَسٍ (خَلْفَنَا) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَأَنَّ الصَّبِيَّ يَقِفُ مَعَ الرِّجَالِ، قُلْتُ: هَذَا إِنْ ثَبَتَ أَنَّ أَنَسًا حِينَئِذٍ كَانَ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ ; لِأَنَّهُ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ، وَخَدَمُهُ عَشْرَ سِنِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: أَقُولُ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا، مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا» ، فَالْعَجَبُ مِنَ الْمُصَنِّفِ فِي عَزْوِهِ الْحَدِيثَ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَطْ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّ الشَّيْخَ الْجَزَرِيَّ أَيْضًا عَزَاهُ إِلَى مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ، وَاللَّهُ الْهَادِي. قُلْتُ: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَغْفَلُ وَلَا يَنْسَى.

1109 - (وَعَنْهُ) «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ أَوْ خَالَتِهِ، قَالَ: فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1109 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِ) أَيْ: بِأَنَسٍ (وَبِأُمِّهِ أَوْ خَالَتِهِ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (فَأَقَامَنِي) أَيْ: أَمَرَنِي بِالْقِيَامِ (عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

1110 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ: «أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّفِّ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلَا تَعُدْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1110 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ (رَاكِعٌ، فَرَكَعَ، أَيْ: نَوَى وَكَبَّرَ قَائِمًا. وَرَكَعَ (قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ) : لِيُدْرِكَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ، فَقَدْ أَدْرَكَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ (ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّفِّ) أَيْ: بِخُطْوَتَيْنِ أَوْ بِأَكْثَرَ غَيْرِ مُتَوَالِيَةٍ (فَذُكِرَ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقِيلَ مَعْلُومٌ (ذَلِكَ) أَيْ: مَا فَعَلَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا) : عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ (وَلَا تَعُدْ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الْعَوْدِ، أَيْ: لَا تَفْعَلْهُ مِثْلَ مَا فَعَلْتَهُ ثَانِيًا. وَرُوِيَ وَلَا تَعْدُ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الدَّالِ مِنَ الْعَدْوِ، أَيْ: لَا تُسْرِعْ فِي الْمَشْيِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاصْبِرْ حَتَّى تَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، ثُمَّ اشْرَعْ فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ الْإِعَادَةِ، أَيْ: لَا تُعِدِ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّيْتَهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فِيهِ أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: لَا تَعْدُ مِنَ الْعَدْوِ، كَقَوْلِهِ: " «لَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ» "، وَالثَّانِي: لَا تَعُدْ إِلَى التَّأَخُّرِ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَفُوتَكَ الرَّكْعَةُ مَعَ الْإِمَامِ، وَالثَّالِثُ: لَا تَعُدْ إِلَى الْإِحْرَامِ خَلْفَ الصَّفِّ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْمَعْنَى الثَّالِثَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، وَالْأَجْمَعُ مَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ ضَبَطْنَاهُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الْعَوْدِ، أَيْ: لَا تَعُدْ إِلَى مَا صَنَعْتَ مِنَ السَّعْيِ الشَّدِيدِ، ثُمَّ مِنَ الرُّكُوعِ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مِنَ الْمَشْيِ إِلَى الصَّفِّ.

وَقَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: " لَا تَعُدْ " بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ مِنَ الْعَوْدِ، أَيْ: لَا تَعُدْ ثَانِيًا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْمَشْيُ إِلَى الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخُطْوَةُ وَالْخُطْوَتَانِ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ، فَالْأَوْلَى التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَهَاهُ عَنِ اقْتِدَائِهِ مُنْفَرِدًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ رُكُوعِهِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الصَّفِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: وَلَا تُعِدْ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ الْإِعَادَةِ، أَيْ: لَا تُعِدْ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، وَضَمِّ الدَّالِ مِنَ الْعَدْوِ، أَيْ: لَا تُسْرِعْ، وَكِلَاهُمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ رِوَايَةٌ، وَإِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ أَلْفَاظَ النُّبُوَّةِ وَتَغْيِيرِهَا كَوْنُهُمْ لَمْ يَحْفَظُوهَا أَوْ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ بِالرِّوَايَةِ، فَيَذْكُرُونَ مَا يَحْتَمِلُهُ الْخَطُّ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. قَالَ الْقَاضِي: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الِانْفِرَادَ خَلْفَ الصَّفِّ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُبْطِلٍ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَوَكِيعٌ، وَأَحْمَدُ: مُبْطِلٌ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَوْ كَانَ الِانْفِرَادُ مُفْسِدًا لَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُ مُنْعَقِدَةً لِاقْتِرَانِ الْمُفْسِدِ بِتَحْرِيمِهَا، وَمَعْنَى لَا تَعُدْ لَا تَفْعَلْ ثَانِيًا مِثْلَ مَا فَعَلْتَ إِنْ جُعِلَ نَهْيًا عَنِ اقْتِدَائِهِ مُنْفَرِدًا، أَوْ رُكُوعُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الصَّلَاةِ ; إِذْ لَيْسَ كُلُّ مُحَرَّمٍ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَشْيِ إِلَى الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْخُطْوَةَ وَالْخُطْوَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ تُفْسِدِ الصَّلَاةَ لَكِنَّ الْأَوْلَى التَّحَرُّزُ عَنْهَا. قِيلَ: فَعَلَى هَذَا النَّهْيِ عَنِ الْعَوْدِ أُمِرَ بَأَنْ يَقِفَ حَيْثُ أَحْرَمَ وَيُتِمَّ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَمُحْيِي السُّنَّةِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِانْفِرَادَ خَلْفَ الصَّفِّ لَا يُبْطِلُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَأَرْشَدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَعُدْ، فَإِنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ ; إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّحْرِيمِ لِأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ وُجُوبًا لِأَدَاءِ صَلَاتِهِ عَلَى وَجْهِ الْحُرْمَةِ لَا لِأَجْلِ فَسَادِهَا، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ لِمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1111 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنَّا ثَلَاثَةً أَنْ يَتَقَدَّمَنَا أَحَدُنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1111 - (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَتُفْتَحُ (قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنَّا ثَلَاثَةً) : وَهُوَ أَقَلُّ كَمَالِ الْجَمَاعَةِ (أَنْ يَتَقَدَّمَنَا أَحَدُنَا) : مَعْمُولُ أَمَرَنَا عَلَى حَذْفِ الْبَاءِ، أَيْ: بِأَنْ يَتَقَدَّمَنَا أَحَدُنَا، وَ (إِذَا كُنَّا) ظَرْفٌ (يَتَقَدَّمُنَا) وَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ لِلِاتِّسَاعِ فِي الظُّرُوفِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يَكُونُ أَحَدُنَا إِمَامًا، وَكَذَا اثْنَيْنِ فَيَؤُمُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، قُلْتُ: لَكِنْ إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ يَكُونُ التَّقَدُّمُ حِسًّا وَمَعْنًى، وَإِذَا كَانَ اثْنَانِ فَالتَّقَدُّمُ مَعْنَوِيٌّ ; لِأَنَّ الْمَأْمُومَ الْمُنْفَرِدَ يَقِفُ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِسْمَاعِيلَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ اهـ. وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

1112 - وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ، وَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ، فَاتَّبَعَهُ عَمَّارٌ حَتَّى أَنْزَلَهُ حُذَيْفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَمَّارٌ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَلَا يَقُمْ فِي مَقَامٍ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ» "؟ فَقَالَ عَمَّارٌ: لِذَلِكَ اتَّبَعْتُكَ حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدِي. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1112 - وَعَنْ عَمَّارٍ: أَنَّهُ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ) : بِالْهَمْزِ بَلَدُ كِسْرَى قُرَيْبَ الْكُوفَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَدِينَةٌ قَدِيمَةٌ عَلَى دِجْلَةَ قَرِيبَةٌ مِنْ بَغْدَادَ (وَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ) أَيْ: وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَامَ الْإِمَامُ مَعَ بَعْضِ الْقَوْمِ فِي الْمَكَانِ الْأَعْلَى لَا يُكْرَهُ، وَفِي الِانْفِرَادِ بِالْمَكَانِ أَسْفَلَ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا يُكْرَهُ لِعَدَمِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَخُصُّونَ إِمَامَهُمْ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْكَرَاهَةُ ; لِأَنَّ فِيهِ ازْدِرَاءً بِالْإِمَامِ، وَمِقْدَارُ الِارْتِفَاعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ

كَرَاهَةُ الِانْفِرَادِ، قِيلَ: مِقْدَارُ قَامَةٍ، وَقِيلَ: مَا يَقَعُ بِهِ الِامْتِيَازُ، وَقِيلَ: مِقْدَارُ ذِرَاعٍ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ، وَفِي قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (يُصَلِّي) : حَقِيقَةً أَوْ يُرِيدُ الصَّلَاةَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، (وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ) أَيْ: قَائِمُونَ فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِهِ (فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ) أَيْ: مِنَ الصَّفِّ (فَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ) أَيْ: أَمْسَكَهُمَا وَجَرَّ عَمَّارًا مِنْ خَلْفِهِ لِيَنْزِلَ إِلَى أَسْفَلَ وَيَسْتَوِيَ مَعَ الْمَأْمُومِينَ (فَاتَّبَعَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ (عَمَّارٌ) أَيْ: طَاوَعَهُ (حَتَّى أَنْزَلَهُ) أَيْ: مِنَ الدُّكَّانِ (حُذَيْفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَمَّارٌ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ (يَقُولُ: " إِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَلَا يَقُمْ فِي مَقَامٍ أَرْفَعَ) أَيْ: أَعْلَى (مِنْ مَقَامِهِمْ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ) : عَطْفٌ عَلَى مَفْعُولِ يَقُولُ (فَقَالَ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (عَمَّارٌ: لِذَلِكَ) أَيْ: لِأَجْلِ سَمَاعِي هَذَا النَّهْيَ مِنْهُ أَوَّلًا وَتَذَكُّرِي بِفِعْلِكَ ثَانِيًا (اتَّبَعْتُكَ) أَيْ: فِي النُّزُولِ (حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدِي) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ كَوْنِ مَوْضِعِ الْإِمَامِ أَعْلَى مِنْ مَوْضِعِ الْمَأْمُومِينَ، لَكِنْ إِنَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ لَوْ كَانَ مَوْضِعُهُ أَعْلَى مِنْ أَهْلِ الصَّفِّ الَّذِي خَلْفَهُ، لَا مِنْ مَوْضِعِ جَمِيعِ الصُّفُوفِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِالْمَدَائِنِ. فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمَ عَمَّارٌ فَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي وَذَكَرَهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ كَمَا تَرَى رَجُلٌ مَجْهُولٌ، لَكِنْ رَوَى هَمَّامٌ قَالَ: أَمَّ حُذَيْفَةُ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَذَبَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: ذَكَرْتُ حِينَ مَدَدْتَنِي، وَفِي رِوَايَةٍ: جَذَبْتَنِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، أَيْضًا، وَقَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ: إِنَّ حُذَيْفَةَ هُوَ الْإِمَامُ وَابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الَّذِي أَخَذَ بِقَمِيصِهِ فَجَذَبَهُ، الْحَدِيثَ. وَلَا تَخَالُفَ لِأَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَلَا بَعُدَ أَنْ حُذَيْفَةَ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ وَاقِعَتِهِ مَعَ عَمَّارٍ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَالَ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ وَيَبْقَى النَّاسُ خَلْفَهُ؟ اهـ. نَقَلُهُ مَيْرَكٌ عَنِ التَّصْحِيحِ.

1113 - «وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّهُ سُئِلَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ الْمِنْبَرُ؟ فَقَالَ: هُوَ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ، عَمِلَهُ فُلَانٌ مَوْلَى فُلَانَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عُمِلَ وَوُضِعَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَكَبَّرَ، وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ، وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، فَسَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ بِالْأَرْضِ» . هَذَا لَفَظُ الْبُخَارِيِّ، وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ نَحْوُهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1113 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ) : كَانَ اسْمُهُ حَزْنًا، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلًا. (أَنَّهُ سُئِلَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ الْمِنْبَرُ؟) : اللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ ; إِذِ السُّؤَالُ عَنْ مِنْبَرِهِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (فَقَالَ: هُوَ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ الطَّرْفَاءِ، وَالْغَابَةُ غَيْضَةٌ ذَاتُ شَجَرٍ كَثِيرٍ، وَهِيَ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْأَثْلُ هُوَ الطَّرْفَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ شَجَرَةٌ شَبِيهٌ بِالطَّرْفَاءِ إِلَّا أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْهُ (عَمِلَهُ فُلَانٌ) قِيلَ: اسْمُهُ بَاقُومُ الرُّومِيُّ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذُكِرَ أَنَّهُ صَنَعَهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ. (مَوْلَى فُلَانَةَ) : قِيلَ: اسْمُهَا عَائِشَةُ أَنْصَارِيَّةٌ، وَقِيلَ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَعْرِفْ نَسَبَهَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. (لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مُتَعَلِّقٌ بِعَمَلِهِ (وَقَامَ عَلَيْهِ) أَيْ: لِلتَّعْلِيمِ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَمِلَ) أَيْ: صَنَعَ (وَوُضِعَ) أَيْ: فِي مَكَانِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَسْجِدِ (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ) أَيْ: لِلتَّحْرِيمَةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي الدَّرَجَةِ الْأَخِيرَةِ فَلَمْ تَكْثُرْ أَفْعَالُهُ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ (وَقَامَ النَّاسُ ". خَلْفَهُ) : اقْتِدَاءً بِهِ (فَقَرَأَ وَرَكَعَ، وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ، أَيْ: بِخُطْوَتَيْنِ (الْقَهْقَرَى) أَيِ: الرُّجُوعَ الْقَهْقَرَى مَصْدَرٌ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى خَلْفٍ، أَيْ

الرُّجُوعُ الْمَعْرُوفُ بِهَذَا الِاسْمِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مَشَى إِلَى خَلْفِ ظَهْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إِلَى جِهَةِ مَشْيِهِ، (فَسَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا الْمِنْبَرُ كَانَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ، فَالنُّزُولُ يَتَيَسَّرُ بِخُطْوَةٍ أَوْ خُطْوَتَيْنِ، وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَرَادَ تَعْلِيمَ الْقَوْمِ، أَيِ: الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ الصَّلَاةَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ أَعْلَى، قِيلَ: قَوْلُهُ: عَمِلَ إِلَخْ. زِيَادَةٌ فِي الْجَوَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْمُهِمُّ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْغَرِيبَةَ، إِنَّمَا ذَكَرَ حِكَايَةَ صُنْعِ الصَّانِعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ عَارِفٌ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْفَوَائِدِ، (ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَرَكَعَ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ بِالْأَرْضِ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ) : أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ هُنَا تَأَسِّيًا بِالْمَصَابِيحِ، حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي الْحِسَانِ لِيُبَيِّنَ بِهِ أَنَّهُ مُقَيِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ. (وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ نَحْوُهُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ (وَفِي آخِرِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَقَالَ، أَيِ الرَّاوِي فِي آخِرِهِ، أَيْ آخِرِ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، (فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ (إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ (لِتَأْتَمُّوا بِي) أَيْ: لِتَقْتَدُوا بِي فِي الصَّلَاةِ أَوَّلًا (وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي) أَيْ: كَيْفِيَّتَهَا ثَانِيًا، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ مِنَ الْمِشْكَاةِ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مِنَ الْبُخَارِيِّ: وَلِتَعَلَّمُوا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَصَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ، وَكَذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، قُلْتُ: وَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ.

1114 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهِ وَالنَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِهِ مِنْ وَرَاءِ الْحُجْرَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1114 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى) أَيِ: التَّرَاوِيحَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهِ) : وَهِيَ مَوْضِعٌ صَنَعَهُ مِنَ الْحَصِيرِ فِي الْمَسْجِدِ لِلِاعْتِكَافِ، (وَالنَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِهِ) أَيْ: يَقْتَدُونَ بِهِ (مِنْ وَرَاءِ الْحُجْرَةِ) أَيْ: خَلْفَهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا بَأْسَ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِمْ، قُلْتُ: سِيَّمَا فِي النَّفْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالُوا: الْحُجْرَةُ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي اتَّخَذَهُ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ صَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، وَقِيلَ: هِيَ حُجْرَةُ عَائِشَةَ وَلَيْسَ بِذَاكَ، وَإِلَّا قَالَتْ حُجْرَتِي، وَأَيْضًا صَلَاتُهُ لَا تَصِحُّ فِي حُجْرَتِهَا مَعَ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بِشَرَائِطَ وَهِيَ مَفْقُودَةٌ، وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ بَابَهَا كَانَ حِذَاءَ الْقِبْلَةِ، فَإِذًا لَا يُتَصَوَّرُ اقْتِدَاءُ مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَكَلَّفْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِأَنْ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ. قُلْتُ: فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ وَالَّتِي تَلِيهَا نَظَرُ تَأَمُّلٍ: وَعِبَارَتُهُ: وَأَيْضًا صَلَاتُهُ لَا تَصِحُّ إِلَخْ. لَا يَصِحُّ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: وَاقْتِدَاءُ النَّاسِ بِهِ وَهُوَ فِي حُجْرَتِهَا لَا يَصِحُّ إِلَخْ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي صِحَّةِ الْقُدْوَةِ بِشَخْصٍ عِلْمُهُ بِانْتِقَالَاتِهِ لَا غَيْرُ، أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّهُ لَوِ اكْتَفَى بِذَلِكَ لَبَطَلَ السَّعْيُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالدُّعَاءُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَاشْتِرَاطُ اتِّحَادِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى مَا فُصِّلَ فِي الْفُرُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ مَقَاصِدِ الِاقْتِدَاءِ اجْتِمَاعُ جَمْعٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ عُرْفًا، كَمَا عُهِدَ عَلَيْهِ الْجَمَاعَاتُ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ، وَمَبْنَى الْعِبَادَاتِ عَلَى رِعَايَةِ الِاتِّبَاعِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُجْرَةِ كَمَا قَالُوهُ الْمَحَلُّ الَّذِي اتَّخَذَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ، حِينَ أَرَادَ الِاعْتِكَافَ، وَيُؤَيِّدُهُ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّخَذَ حُجْرَةً مِنْ حَصِيرٍ صَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ» ، قِيلَ: وَيُؤَيِّدُهُ، أَيْضًا مَا ثَبَتَ أَنَّ بَابَهَا كَانَ حِذَاءَ الْقِبْلَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ اقْتِدَاءُ مَنْ بِالْمَسْجِدِ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَكَلَّفْ إِلَخْ. وَفِي الْأَوَّلِ نَظَرٌ، بَلْ يُتَصَوَّرُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي الثَّانِي لِاحْتِمَالِ أَنَّ خُرُوجَهُ كَانَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى، لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إِلَّا إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِخُرُوجِهِ إِلَيْهِمْ لَكَفَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِنَحْوِهِ أَيْضًا

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1115 - «عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَفَّ الرِّجَالَ، وَصَفَّ خَلْفَهُمُ الْغِلْمَانَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ، فَذَكَرَ صَلَاتَهُ ثُمَّ قَالَ " هَكَذَا صَلَاةُ " قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى: لَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَالَ: " أُمَّتِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1115 - (عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) : يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَلَا لِلتَّنْبِيهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالُوا: نَعَمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ مَحَبَّتُهُمْ لِلْعِلْمِ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقِيلَ قَوْلُهُمْ قَالُوا: نَعَمْ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو مَالِكٍ (أَقَامَ الصَّلَاةَ) أَيْ: أَمَرَ بِإِقَامَتِهَا، أَوْ أَقَامَهَا بِنَفْسِهِ (وَصَفَّ ثُمَّ قَالَ: الرِّجَالَ) : بِالنَّصْبِ، أَيْ: صَفَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ: صَفَفْتُ الْقَوْمَ فَاصْطَفُّوا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. (وَصَفَّ خَلْفَهُمُ الْغِلْمَانَ) أَيِ: الصِّبْيَانَ (ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ، فَذَكَرَ صَلَاتَهُ) أَيْ: وَصَفَ الرَّاوِي، أَيْ أَبُو مَالِكٍ صَلَاةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ كَيْفِيَّتَهَا، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيْتَ وَكَيْتَ "، فَحَذَفَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ ثِقَةً بِفَهْمِ السَّامِعِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ (هَكَذَا صَلَاةُ " قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى) أَيِ: الرَّاوِي عَنْ أَبِي مَالِكٍ (لَا أَحْسَبُهُ) أَيْ: لَا أَظُنُّ أَبَا مَالِكٍ (إِلَّا قَالَ) أَيْ: نَاقِلًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُمَّتِي) أَيْ: هَكَذَا صَلَاةُ أُمَّتِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا هَكَذَا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُصَلِّي هَكَذَا لَيْسَ مِنْ أُمَّتِهِ التَّابِعِينَ لَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1116 - «وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ، فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، فَجَبَذَنِي رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي جَبْذَةً، فَنَحَّانِي، وَقَامَ مَقَامِي، فَوَاللَّهِ مَا عَقَلْتُ صَلَاتِي، فَلَمَّا انْصَرَفَ، إِذَا هُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ: يَا فَتَى لَا يَسُوءُكَ اللَّهُ، إِنَّ هَذَا عُهِدَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا أَنْ نَلِيَهُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: هَلَكَ أَهْلُ الْعُقَدِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلَيْهِمْ آسَى وَلَكِنْ آسَى عَلَى مَنْ أَضَلُّوا. قُلْتُ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ مَا تَعْنِي بِأَهْلِ الْعَقْدِ؟ قَالَ: الْأُمَرَاءُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1116 - (وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي التَّقْرِيبِ: بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ مُخَضْرَمٌ مَاتَ بَعْدَ الثَّمَانِينَ، وَوَهَمَ مَنْ عَدَّهُ فِي الصَّحَابَةِ. (قَالَ: بَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ فَجَبَذَنِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَقْلُوبُ جَذَبَنِي (رَجُلٌ مِنْ خَلَفِي جَبْذَةً) أَيْ: وَاحِدَةً أَوْ شَدِيدَةً (فَنَحَّانِي) : بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: بَعَّدَنِي وَأَخَّرَنِي (وَقَامَ مَقَامِي، فَوَاللَّهِ مَا عَقَلْتُ صَلَاتِي) أَيْ: مَا دَرَيْتُ كَيْفَ أُصَلِّي وَكَمْ صَلَّيْتُ لِمَا فَعَلَ بِي مَا فَعَلَ، وَلِمَا حَصَلَ عِنْدِي بِسَبَبِ تَأَخُّرِي عَنِ الْمَكَانِ الْفَاضِلِ مَعَ سَبْقِي إِلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِي لَهُ، فَانْتِفَاءُ الْعَقْلِ مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَالْقَسَمُ مُعْتَرِضٌ، (فَلَمَّا انْصَرَفَ) أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي جَبَذَنِي (إِذَا هُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) : مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ (فَقَالَ) أَيْ: لِي إِذْ فَهِمَ مِنِّي التَّغَيُّرَ بِسَبَبِ مَا فَعَلَهُ مَعِي تَطْيِيبًا لِخَاطِرِي (يَا فَتَى لَا يَسُوءُكَ اللَّهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ الظَّاهِرُ لَا يَسُوءُكَ مَا فَعَلَ بِكَ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ أَسْنَدَهُ إِلَى اللَّهِ مَزِيدًا لِلتَّسْلِيَةِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُحْزِنْكَ اللَّهُ بِي وَبِسَبَبِ فِعْلِي، ثُمَّ ذَكَرَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً مُبَيِّنَةً لِعِلَّةِ مَا فَعَلَ اعْتِذَارًا إِلَيْهِ (إِنَّ هَذَا) أَيْ: مَا فَعَلْتُ (عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: وَصِيَّةٌ أَوْ أَمْرٌ مِنْهُ يُرِيدُ قَوْلَهُ: " «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» " وَفِيهِ: أَنَّ قَيْسًا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ نَحَّاهُ. (إِلَيْنَا أَنْ نَلِيَهُ) أَيْ: وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ (ثُمَّ اسْتَقْبَلَ) أَيْ: أَبِي (الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: هَلَكَ أَهْلُ الْعُقَدِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَهْلُ الْوِلَايَاتِ عَلَى الْأَمْصَارِ مِنْ عَقْدِ الْأَلْوِيَةِ لِلْأُمَرَاءِ، وَمِنْهُ هَلَكَ أَهْلُ الْعُقْدَةِ، أَيِ: الْبَيْعَةِ الْمَعْقُودَةِ لِلْوُلَاةِ (وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثَلَاثًا) أَيْ: قَالَ مَقُولَهُ أَوْ أَقْسَمَ ثَلَاثًا (ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى أَهْلِ الْعُقَدِ (آسَى) أَيْ: أَحْزَنُ وَهُوَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلُ صِيغَةُ مُتَكَلِّمٍ أُبْدِلَتْ هَمْزَتُهُ الثَّانِيَةُ أَلِفًا مِنَ الْأَسَى، وَهُوَ الْحُزْنُ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مِنَ الْإِسَاءَةِ مَقْصُورًا مَفْتُوحًا غَيْرُ صَحِيحٍ وَمُوهِمٌ صَرِيحٌ، وَتَحْقِيقُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً: فَكَيْفَ آسَى؟ (وَلَكِنْ آسَى عَلَى مَنْ أَضَلُّوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا أَحْزَنُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْجَوَرَةِ، بَلْ أَحْزَنُ عَلَى أَتْبَاعِهِمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ، لَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِأُمَرَاءِ عَهْدِهِ. (قُلْتُ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ) : وَفِي نُسْخَةٍ الْهَمْزَةُ مَكْتُوبَةٌ (مَا تَعْنِي) أَيْ: تُرِيدُ (بِأَهْلِ الْعُقَدِ؟ قَالَ: الْأُمَرَاءَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي: وَبِالرَّفْعِ بِتَقْدِيرِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ الْأُمَرَاءُ عَلَى النَّاسِ، لَا سِيَّمَا أَهْلِ الْأَمْصَارِ سُمُّوا بِذَلِكَ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِعَقْدِ الْأَلْوِيَةِ لَهُمْ عِنْدَ التَّوْلِيَةِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

[باب الإمامة]

[بَابُ الْإِمَامَةِ]

[26] بَابُ الْإِمَامَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1117 - «عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ; فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ; فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ; فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ. وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ» ". [26] بَابُ الْإِمَامَةِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَصْدَرُ أَمَّ الْقَوْمَ فِي صَلَاتِهِمْ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1117 - (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: الْبَدْرِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَؤُمُّ الْقَوْمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ: لِيَؤُمَّهُمْ (أَقْرَؤُهُمْ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ أَحْسَنُهُمْ قِرَاءَةً (لِكِتَابِ اللَّهِ) اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَكْثَرُهُمْ قِرَاءَةً. بِمَعْنَى أَحْفَظُهُمْ لِلْقُرْآنِ، كَمَا وَرَدَ: أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، قِيلَ: إِنَّمَا قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَقْرَأَ ; لِأَنَّ الْأَقْرَأَ فِي زَمَانِهِ كَانَ أَفْقَهَ ; إِذْ لَوْ تَعَارَضَ فَضْلُ الْقِرَاءَةِ فَضْلَ الْفِقْهِ قُدِّمَ الْأَفْقَهُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا تَصِحُّ لَهُ الصَّلَاةُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، فَيَئُولُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى تَقَدُّمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْفِقْهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالْفِقْهَ مُقَدَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْفِقْهِ مَعَ الْقِرَاءَةِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى تَقَدُّمِهَا عَلَى الْفِقْهِ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ بَعْضُهُمْ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْفِقْهَ أَوْلَى إِذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّ الْفَقِيهَ يَعْلَمُ مَا يَجِبُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مَحْصُورٌ وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْحَوَادِثِ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّي مَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا، (فَإِنْ كَانُوا) أَيِ: الْقَوْمُ (فِي الْقِرَاءَةِ) أَيْ: فِي مِقْدَارِهَا، أَوْ حُسْنِهَا، أَوْ عَمَلِهَا، أَوْ فِي الْعِلْمِ بِهَا (سَوَاءً) أَيْ: مُسْتَوِينَ (فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ بِهَا الْأَحَادِيثَ فَالْأَعْلَمُ بِهَا كَانَ هُوَ الْأَفْقَهَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْفِقْهِ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَبِهِ عَمِلَ أَبُو يُوسُفَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَقَالَا: الْفَقِيهُ أَوْلَى إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْقُرْآنِ قَدْرَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْفِقْهِ أَكْثَرُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ: بِأَنَّ الْأَقْرَأَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ أَعْلَمَ بِأَحْوَالِ الصَّلَاةِ وَلَا كَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يُقَدِّمُ الْأَقْرَأَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يُقَدَّمُ الْأَفْقَهُ لِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَصَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَقْرَأُ مِنْهُ، بَلْ لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أُبَيٌّ، وَمُعَاذٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَكِنْ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ مُطْلَقًا. وَأَجَابَ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ; بِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَأِ فِي الْخَبَرِ الْأَفْقَهُ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقُرْآنِ فَقَدِ اسْتَوَوْا فِي فِقْهِهِ، فَإِذَا زَادَ أَحَدُهُمْ بِفِقْهِ السُّنَّةِ فَهُوَ أَحَقُّ، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْخَبَرِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ مُطْلَقًا، بَلْ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ الْأَفْقَهِ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ. وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَجَرَى عَلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَأِ الْأَكْثَرُ حِفْظًا لَا قُرْآنًا، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ "، " وَأَكْثَرُهُمْ قِرَاءَةً "، فَقَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ قِرَاءَةً يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْثَرُ قُرْآنًا، وَفِي خَبَرِ الْبُخَارِيِّ: " «وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا» " اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ لِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، وَالسَّبْقِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالسِّنِّ، وَالْوَرَعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهَذَا صَارَ أَفْضَلَهُمْ، وَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمَفْضُولِ مَزِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْأَفْضَلِ فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ وَمَحَلُّ خَطَلٍ. (فَإِنْ كَانُوا) أَيْ: بَعْدَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ (فِي السُّنَّةِ) أَيْ: فِي الْعِلْمِ بِهَا ; لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالرِّوَايَةِ دُونَ الدِّرَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ (سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً) أَيْ: انْتِقَالًا مِنْ مَكَّةَ

إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَمَنْ هَاجَرَ أَوَّلًا فَشَرَفُهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ هَاجَرَ بَعْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] الْآيَةَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْهِجْرَةُ الْيَوْمَ مُنْقَطِعَةٌ وَفَضِيلَتُهَا مَوْرُوثَةٌ، فَأَوْلَادُ الْمُهَاجِرِينَ مُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ اهـ. وَهُوَ مَوْضِعُ بَحْثٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمُعْتَبَرُ الْيَوْمَ الْهِجْرَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ مِنَ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ الْأَوْرَعُ أَوْلَى. (فَإِنْ كَانُوا) أَيْ: بَعْدَ اسْتِوَائِهِمْ فِيمَا سَبَقَ (فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا) أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَقْدَمِ فِي الْهِجْرَةِ وَالْأَسْبَقِ فِي الْإِيمَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَأَقْدَمُهُمْ مُسْلِمًا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَسَنُّ أَقْدَمَ ; لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ الْمُخْتَارُ الْجُمْهُورُ حَدِيثُ: " «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ» " وَكَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ لَا أَعْلَمُ دَلِيلَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ» "، وَدَلِيلَ الثَّانِي قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، وَهَذَا آخِرُ الْأَمْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ. أَقُولُ: وَلِزِيَادَةِ سَبْقِهِ بِالْإِيمَانِ وَتَقَدُّمِهِ فِي الْهِجْرَةِ وَكِبَرِ سِنِّهِ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ: وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُقْبَلَ صَلَاتُكُمْ فَلْيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ» " فَإِنْ صَحَّ وَإِلَّا فَالضَّعِيفُ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ مَحَلُّ مَا بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ، وَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بَعْدَهُمَا التَّقْدِيمُ بِالْهِجْرَةِ، وَقَدِ انْتَسَخَ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ فَوَضَعُوا مَكَانَهَا الْهِجْرَةَ عَنِ الْخَطَايَا. وَفِي حَدِيثِ: الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا هَاجَرَ فَالَّذِي نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْهُ إِذَا اسْتَوَيَا فِيمَا قَبْلَهَا وَكَذَا إِذَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الْفَضَائِلِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْدَمُ وَرَعًا قُدِّمَ، وَحَدِيثُ: " «وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» " تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَذَانِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السِّنِّ سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَحْسَبُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَصْبَحُهُمْ وَجْهًا، ثُمَّ إِنِ اسْتَوَوْا فِي الْحُسْنِ فَأَشْرَفُهُمْ نَسَبًا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فِي هَذِهِ كُلِّهَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَوِ الْخِيَارُ إِلَى الْقَوْمِ. ( «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ» ) أَيْ: فِي مَظْهَرِ سَلْطَنَتِهِ وَمَحَلِّ وِلَايَتِهِ، أَوْ فِيمَا يَمْلِكُهُ، أَوْ فِي مَحَلٍّ يَكُونُ فِي حُكْمِهِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي أَهْلِهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ فِي بَيْتِهِ وَلَا سُلْطَانِهِ، وَلِذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ إِمَامَ الْمَسْجِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِ السُّلْطَانِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ شُرِعَتْ لِاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الطَّاعَةِ وَتَآلُفِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ، فَإِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَوْهِينِ أَمْرِ السَّلْطَنَةِ، وَخَلْعِ رِبْقَةِ الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَّهُ فِي قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى التَّبَاغُضِ وَالتَّقَاطُعِ، وَظُهُورِ الْخِلَافِ الَّذِي شُرِعَ لِدَفْعِهِ الِاجْتِمَاعُ، فَلَا يَتَقَدَّمُ رَجُلٌ عَلَى ذِي السَّلْطَنَةِ، لَا سِيَّمَا فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمُعَاتِ، وَلَا عَلَى إِمَامِ الْحَيِّ وَرَبِّ الْبَيْتِ إِلَّا بِالْإِذْنِ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ (وَلَا يَقْعُدْ) : بِالْجَزْمِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ، أَيِ الرَّجُلُ (فِي بَيْتِهِ) أَيْ: بَيْتِ الرَّجُلِ الْآخَرِ (عَلَى تَكْرِمَتِهِ) : كَسَجَّادَتِهِ أَوْ سَرِيرِهِ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ كَرَّمَ تَكْرِيمًا أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى مَا يُعَدُّ لِلرَّجُلِ إِكْرَامًا لَهُ فِي مَنْزِلِهِ (إِلَّا بِإِذْنِهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ» ) أَيْ: وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ لِمَا تَقَدَّمَ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

1118 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَيَؤُمُّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذَكَرَ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي بَابٍ بَعْدَ بَابِ " فَضْلِ الْأَذَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1118 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانُوا) أَيِ: الْقَوْمُ (ثَلَاثَةً) أَيْ: وَاثْنَيْنِ كَمَا أَفَادَهُ الْخَبَرُ السَّابِقُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ تَحْصُلُ بِهِمَا (فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ) إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ (وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ) : فَإِنَّ إِمَامَتَهُ أَفْضَلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْلِمُونَ كِبَارًا، أَيْ غَالِبًا فَيَتَفَقَّهُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأُوا وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ الْقِرَاءَةَ صِغَارًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهُوا، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ قَارِئٌ إِلَّا وَهُوَ فَقِيهٌ اهـ. فَالْعِبْرَةُ بِالْفِقْهِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ فَالْأَفْقَهُ بِالْمُعَامَلَاتِ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنَ الْأَقْرَأِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

(وَذَكَرَ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي بَابٍ بَعْدَ " فَضْلِ الْأَذَانِ) : وَالْحَدِيثُ هُوَ: قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي فَقَالَ: " إِذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» " فَفِيهِ تَفْضِيلُ الْإِمَامَةِ فَهُوَ بِبَابِ الْإِمَامَةِ أَوْلَى، فَلَا مَعْنَى لِتَغْيِيرِ التَّصْنِيفِ مَعَ وُجُودِ الْوَجْهِ الْأَدْنَى فَضْلًا عَنِ الْأَعْلَى، ثُمَّ يُحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِذَارِ الْمُشِيرِ إِلَى الِاعْتِرَاضِ، لَا يُقَالُ صَدَرَ الْحَدِيثُ فِي الْأَذَانِ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَهُ لِتَقَدُّمِهِ فِي الْوُجُودِ، وَمِنْهُ تَقَدُّمُ بِلَالٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ تَقَدُّمَ الْخَادِمِ عَلَى الْمَخْدُومِ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى فَضِيلَةِ الْإِمَامَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآتِي قَرِيبًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ كَانَ فِي الْمَصَابِيحِ هُنَا فِي آخِرِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ، فَذَكَرَهُ فِي بَابٍ بَعْدَ بَابِ فَضْلِ الْأَذَانِ، وَوَهَمَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَذَكَرَ فِي الْمَصَابِيحِ حَدِيثَ مَالِكٍ فِي بَابٍ بَعْدَ بَابِ فَضْلِ الْأَذَانِ فَرَاجِعْهُ اهـ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1119 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِيُؤَذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ قُرَّاؤُكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1119 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِيُؤَذِّنْ لَكُمْ) : أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ (خِيَارُكُمْ) أَيْ: مَنْ هُوَ أَكْثَرُ صَلَاحًا لِيَحْفَظَ نَظَرَهُ عَنِ الْعَوْرَاتِ، وَيُبَالِغَ فِي مُحَافَظَةِ الْأَوْقَاتِ. الْجَوْهَرِيُّ: الْخِيَارُ خِلَافُ الْأَشْرَارِ، وَالْخِيَارُ الِاسْمُ مِنَ الِاخْتِيَارِ، وَإِنَّمَا كَانُوا خِيَارًا لِمَا وَرَدَ أَنَّهُمْ أُمَنَاءُ ; لِأَنَّ أَمْرَ الصَّائِمِ مِنَ الْإِفْطَارِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ مَنُوطٌ إِلَيْهِمْ، وَكَذَا أَمْرُ الْمُصَلِّي لِحِفْظِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ يَتَعَلَّقُ بِهُمْ، فَهُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مُخْتَارُونَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (وَلْيَؤُمَّكُمْ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَتُكْسَرُ (قُرَّاؤُكُمْ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِ: أَقْرَأُكُمْ فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ، وَكُلَّمَا يَكُونُ أَقْرَأَ فَهُوَ أَفْضَلُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَسَائِلِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الْأَذْكَارِ وَأَطْوَلَهَا وَأَصْعَبَهَا فِي الصَّلَاةِ إِنَّمَا هُوَ الْقِرَاءَةُ، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَتَقْدِيمُ قَارِئِهِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ فِي الدَّارَيْنِ كَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِتَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ فِي الدَّفْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَابْنُ مَاجَهْ، أَيْضًا. وَفِي خَبَرٍ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْحَاكِمِ " «إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُقْبَلَ صَلَاتُكُمْ فَلْيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ» ".

1120 - وَعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ الْعُقَيْلِيِّ، قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْتِينَا إِلَى مُصَلَّانَا يَتَحَدَّثُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ يَوْمًا، قَالَ أَبُو عَطِيَّةَ: فَقُلْنَا لَهُ: تَقَدَّمَ فَصْلُهُ، قَالَ لَنَا: قَدِّمُوا رَجُلًا مِنْكُمْ يُصَلِّي بِكُمْ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ لِمَ لَا أُصَلِّي بِكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1120 - (وَعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ الْعُقَيْلِيِّ) : بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَنْسُوبٌ لِعُقَيْلِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ مِيرَكُ: سُئِلَ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا يُعْرَفُ وَلَا يُسَمَّى. كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ. اهـ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ فِي التَّابِعِينَ. (قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ) أَيِ: اللَّيْثِيُّ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَسَكَنَ الْبَصْرَةَ قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ. (يَأْتِينَا) أَيْ: لِزِيَارَتِنَا (إِلَى مُصَلَّانَا) أَيْ: مَسْجِدِنَا (يَتَحَدَّثُ) أَيْ: مَالِكٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: نَتَحَدَّثُ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ: مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ، (فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ يَوْمًا) أَيْ: وَقْتُهَا (قَالَ أَبُو عَطِيَّةَ: قُلْنَا لَهُ: تَقَدَّمْ فَصَلِّهْ) : بِهَاءِ السَّكْتِ (قَالَ لَنَا: قَدِّمُوا رَجُلًا مِنْكُمْ يُصَلِّي بِكُمْ) أَيْ: إِمَامًا (وَسَأُحَدِّثُكُمْ لِمَ لَا أُصَلِّي بِكُمْ؟) أَيْ: وَلَوْ أَنِّي أَفْضَلُ مِنْ رِجَالِكُمْ لِكَوْنِهِ صَحَابِيًّا وَعَالِمًا. (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ، وَلْيَؤُمُّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ» ) : فَإِنَّهُ أَحَقُّ مِنَ الضَّيْفِ، وَكَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الْإِمَامَةِ مَعَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُمْ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ إِنْ حَدَّثَهُمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَالسِّينُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَإِلَّا فَلِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحَسَّنَهُ (وَالنَّسَائِيُّ إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ: النَّسَائِيَّ (اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ النَّبِيِّ) أَيْ قَوْلِهِ: (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَهُوَ: مِنْ زَارَ إِلَخْ. وَلَمْ يَذْكُرْ صَدْرَ الْحَدِيثِ.

1121 - «وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1121 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أَقَامَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ (ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ) : اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ (يَؤُمُّ النَّاسَ) : بَيَانُ الِاسْتِخْلَافِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ اسْتِخْلَافًا عَامًّا عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ عَلَى مَا رُوِيَ، وَخَاصًّا بِكَوْنِهِ يَؤُمُّ النَّاسَ، (وَهُوَ أَعْمَى) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَرَاهَةُ إِمَامَةِ الْأَعْمَى إِنَّمَا هِيَ إِذَا كَانَ فِي الْقَوْمِ سَلِيمٌ أَعْلَمُ مِنْهُ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ عِلْمًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ جَوَازُ إِمَامَةِ الْأَعْمَى، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْبَصِيرِ أَوْ عَكْسُهُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْإِمَامَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ مَعَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا لِئَلَّا يَشْغَلَهُ شَاغِلٌ عَنِ الْقِيَامِ بِحِفْظِ مَنْ يَسْتَحْفِظُهُ مِنَ الْأَهْلِ حَذَرًا أَنْ يَنَالَهُمْ عَدُوٌّ بِمَكْرُوهٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّهُ لَوِ اسْتَخْلَفَهُ فِي ذَلِكَ، أَيْضًا لَوَجَدَ الطَّاعِنُ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ سَبِيلًا وَإِنْ ضَعُفَ. قُلْتُ: وَنَظِيرُهُ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أُمِّيًا غَيْرَ كَاتِبٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ وَكَتَبَ مَا كَانَ يَرْتَابُ فِيهِ الْمُحِقُّونَ، قَالَ الْأَشْرَفُ: وَرُوِيَ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ مَرَّتَيْنِ، أَيِ اسْتِخْلَافًا عَامًّا، وَقِيلَ: اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْإِمَامَةِ فِي الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ غَزْوَةً اهـ. وَلَعَلَّ هَذَا كُلَّهُ خَبَرٌ لِمَا وَقَعَ لَهُ فِي سُورَةِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

1122 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1122 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثَلَاثَةٌ) أَيْ أَشْخَاصٌ (لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ) : جَمْعُ الْأُذُنِ الْجَارِحَةِ، أَيْ: لَا تُقْبَلُ قَبُولًا كَامِلًا أَوْ لَا تُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ رَفْعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: بَلْ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الرَّفْعِ، وَخَصَّ الْآذَانَ بِالذِّكْرِ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ التِّلَاوَةِ وَالدُّعَاءِ، وَلَا تَصِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَبُولًا وَإِجَابَةً، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَارِقَةِ: " «يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ» " عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ بِعَدَمِ مُجَاوَزَةِ الْآذَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ لَا يُرْفَعُ عَنْ آذَانِهِمْ فَيُظِلُّهُمْ كَمَا يُظِلُّ الْعَمَلُ الصَّالِحُ صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قِيلَ: هَؤُلَاءِ اسْتُوْصُوا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ وَالصَّلَاةِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُومُوا بِمَا اسْتُوْصُوا لَمْ تَتَجَاوَزْ طَاعَتُهُمْ عَنْ مَسَامِعِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْقَارِئَ الْكَامِلَ هُوَ أَنْ يَتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ بِقَلْبِهِ وَيَتَلَقَّاهُ بِالْعَمَلِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْ مِنْ صَدْرِهِ إِلَى تُرْقُوَتِهِ. (الْعَبْدُ الْآبِقُ) أَيْ: أَوَّلُهُمْ أَوْ مِنْهُمْ أَوْ أَحَدُهُمْ (حَتَّى يَرْجِعَ) أَيْ: إِلَى أَمْرِ سَيِّدِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْجَارِيَةُ الْآبِقَةُ، (وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ) : وَفِي اخْتِيَارِهِ عَلَى ظَلَّتْ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى (وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ) : هَذَا إِذَا كَانَ السُّخْطُ لِسُوءِ خُلُقِهَا أَوْ سُوءِ أَدَبِهَا أَوْ قِلَّةِ طَاعَتِهَا، أَمَّا إِنْ كَانَ سُخْطُ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا إِذَا كَانَ السُّخْطُ لِسُوءِ خُلُقِهَا وَإِلَّا فَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. (وَإِمَامُ قَوْمٍ) أَيِ: الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى، أَوْ إِمَامَةُ الصَّلَاةِ (وَهُمْ لَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: لَهَا، أَيِ الْإِمَامَةِ (كَارِهُونَ) أَيْ: لِمَعْنًى مَذْمُومٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ كَرِهُوا لِخِلَافِ ذَلِكَ، فَالْعَيْبُ عَلَيْهِمْ وَلَا كَرَاهَةَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ كَارِهُونَ لِبِدْعَتِهِ أَوْ فِسْقِهِ أَوْ جَهْلِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَرَاهَةٌ وَعَدَاوَةٌ بِسَبَبِ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، فَلَا يَكُونُ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قِيلَ: الْمُرَادُ إِمَامٌ ظَالِمٌ، وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ السُّنَّةَ فَاللَّوْمُ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ، وَقِيلَ: هُوَ إِمَامُ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَيَتَغَلَّبُ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهَا فَاللَّوْمُ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ، قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا كَرِهَهُ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ حَتَّى يَكْرَهَهُ أَكْثَرُ الْجَمَاعَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، قَالَ مِيرَكُ، أَيْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، قُلْتُ: أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ.

1123 - وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ صَلَاتُهُمْ: مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَرَجُلٌ أَتَى الصَّلَاةَ دِبَارًا وَالدِّبَارُ: أَنْ يَأْتِيَهَا بَعْدَ أَنْ تَفُوتَهُ وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرَةً» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1123 - (وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ صَلَاتُهُمْ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ نَفْيَ كَمَالِ الصَّلَاةِ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْقَبُولِ نُقْصَانُ أَصْلِ الصَّلَاةِ ; إِذِ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْقَبُولِ نَفْيُ الثَّوَابِ، وَلَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. (مَنْ تَقَدَّمَ) أَيْ لِلْإِمَامَةِ الصُّغْرَى أَوِ الْكُبْرَى (قَوْمًا) : وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ قَامَ فَوُصِفَ بِهِ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الرِّجَالِ (وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ) أَيْ لِمَذْمُومٍ شَرْعِيٍّ، أَمَّا إِذَا كَرِهَهُ الْبَعْضُ فَالْعِبْرَةُ بِالْعَالِمِ وَلَوِ انْفَرَدَ، وَقِيلَ: الْعِبْرَةُ بِالْأَكْثَرِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ إِذَا وُجِدُوا، وَإِلَّا فَلَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْجَاهِلِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37] . (وَرَجُلٌ أَتَى الصَّلَاةَ) أَيْ حَضَرَهَا (دِبَارًا) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: إِتْيَانُ دِبَارٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى آخَرِ الشَّيْءِ، وَقِيلَ: جَمْعُ دُبُرٍ وَهُوَ آخِرُ أَوْقَاتِ الشَّيْءِ (وَالدِّبَارُ: أَنْ يَأْتِيَهَا) أَيْ: مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (بَعْدَ أَنْ تَفُوتَهُ) أَيِ: الصَّلَاةُ جَمَاعَةً أَوْ أَدَاءً قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا إِذَا اتَّخَذَهُ عَادَةً، قَالَ الطِّيبِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ، عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، الدِّبَارُ: جَمْعُ الدُّبُرِ، وَالدُّبُرُ آخَرُ أَوْقَاتِ الشَّيْءِ، أَيْ: يَأْتِي الصَّلَاةَ بَعْدَمَا يَفُوتُ الْوَقْتُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِأَنْ لَا يُدْرِكَهَا كَامِلَةً فِيهِ، وَفِي الْفَائِقِ: قُبَالُ الشَّيْءِ وَدِبَارُهُ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ مِنَ الرَّاوِي. (وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرَةً) أَيِ: اتَّخَذَ نَفْسًا مُعْتَقَةً عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَأْنِيثُ مُحَرَّرَةٍ بِالْحَمْلِ عَلَى النَّسَمَةِ لِتَنَاوُلِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ أَعْبَدْتُهُ وَاعْتَبَدْتُهُ إِذَا اتَّخَذْتُهُ عَبْدًا وَهُوَ حُرٌّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْخُذَ حُرًّا فَيَدَّعِيَهُ عَبْدًا وَيَتَمَلَّكَهُ، أَوْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ ثُمَّ يَسْتَخْدِمَهُ كَرْهًا. أَوْ يَكْتُمَ عِتْقَهُ اسْتِدَامَةً لِخِدْمَتِهِ وَمَنَافِعِهِ، قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: مُحَرَّرِهِ بِالضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ مُحَرَّرَةً، يَعْنِي: نَفْسًا أَوْ نَسَمَةً، وَقِيلَ: خَصَّ الْمُحَرَّرَةَ لِضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا، بِخِلَافِ الْمُحَرَّرِ لِقُوَّتِهِ بِدَفْعِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

1124 - وَعَنْ سَلَامَةَ بِنْتِ الْحُرِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَتَدَافَعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ لَا يَجِدُونَ إِمَامًا يُصَلِّي بِهِمْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1124 - (وَعَنْ سَلَامَةَ) : قَالَ مِيرَكُ: صَحَابِيَّةٌ. (بِنْتِ الْحُرِّ) : ضِدُّ الْعَبْدِ، حَدِيثُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) أَيْ: عَلَامَاتِهَا الْمَذْمُومَةِ، وَأَحَدُهَا شَرَطٌ بِالتَّحْرِيكِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَقِيلَ: هِيَ مَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مِنْ صِغَارِ أُمُورِ السَّاعَةِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ. (أَنْ يَتَدَافَعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ) أَيْ: يَدْرَأُ كُلٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْإِمَامَةَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَقُولُ: لَسْتُ أَهْلًا لَهَا لَمَّا تَرَكَ تَعَلُّمَ مَا تَصِحُّ بِهِ الْإِمَامَةُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. أَوْ يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوِ الْمِحْرَابِ لِيَؤُمَّ الْجَمَاعَةَ، فَيَأْبَى عَنْهَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لَهَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (لَا يَجِدُونَ إِمَامًا) أَيْ: قَابِلًا لِلْإِمَامَةِ (يُصَلِّي بِهِمْ) أَيْ: لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَا أَجَازَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ، وَنَحْوِهَا مِنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، بِخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْأُجْرَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى ضَعْفِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْإِحْيَاءِ: يُكْرَهُ تَدَافُعُ الْإِمَامَةِ لِمَا قِيلَ: إِنَّ قَوْمًا تَدَافَعُوهَا فَخُسِفَ بِهِمْ، وَلَوِ اسْتَدَلَّ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ لَكَانَ أَوْلَى عَلَى أَنَّ مَا حَكَاهُ بِصِيغَةِ قِيلَ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُسْنَدِهِ حَدِيثًا بِلَفْظِ: «تَنَازَعَ ثَلَاثَةٌ فِي الْإِمَامَةِ فَخُسِفَ بِهِمْ» ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ مَا إِذَا تَدَافَعُوهَا لَا لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ، وَإِلَّا كَأَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا غَيْرُ الْأَفْقَهِ مَثَلًا رَجَاءَ تَقَدُّمِ الْأَفْقَهِ، فَلَا يُكْرَهُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْإِحْيَاءِ، أَيْضًا: إِنَّ التَّقَدُّمَ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ، أَوْ أَقْرَأُ مِنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى مَا إِذَا عُلِمَ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ، أَمَّا مَا دَامَ يَرْجُو تَقَدُّمَهُ فَالِامْتِنَاعُ أَوْلَى.

1125 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ، وَالصَّلَاةٌ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ، وَالصَّلَاةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1125 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْجِهَادٌ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ) أَيْ: فَرْضُ عَيْنٍ فِي حَالٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي أُخْرَى (مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ) أَيْ سُلْطَانٍ، أَوْ وَلِيِّ أَمْرِهِ (بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ) : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ جَوَازُ كَوْنِ الْأَمِيرِ فَاسِقًا جَائِرًا، وَأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَالْجَوْرِ، وَأَنَّهُ تَجِبُ طَاعَتُهُ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةِ، وَخُرُوجُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ عَلَى الْجَوَرَةِ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَلَى الْجَائِرِ اهـ. وَيُشْكِلُ بِظُهُورِ الْمَهْدِيِّ وَدَعْوَتِهِ الْخِلَافَةَ مَعَ وُجُودِ السَّلَاطِينِ فِي زَمَانِهِ. (وَالصَّلَاةُ) أَيْ: بِالْجَمَاعَةِ (وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ) أَيْ: بِالْجَمَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ لِثُبُوتِهِ بِالسُّنَّةِ، وَهِي آحَادٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا الْأَعْيَانِ اهـ. وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ عَنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ وَطَرِيقِ السَّلَفِ الْعِظَامِ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى شَخْصٌ وَاحِدٌ مَعَ الْإِمَامِ فِي مِصْرٍ لَسَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. (خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ) : إِذَا كَانَ إِمَامًا (بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: جَازَ اقْتِدَاؤُكُمْ خَلْفَهُ لِوُرُودِ الْوُجُوبِ بِمَعْنَى الْجَوَازِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي جَانِبِ الْإِتْيَانِ بِهِمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ، وَكَذَا الْمُبْتَدِعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا يَقُولُ كُفْرًا، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي عَدَمِ إِجَازَتِهِ إِمَامَةَ الْفَاسِقِ، قُلْتُ: فِي أَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاجِرِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ فَتَأَمَّلْ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقَرِينَتَانِ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ. (وَالصَّلَاةُ) أَيْ: صَلَاةُ الْجِنَازَةِ (وَاجِبَةٌ) أَيْ: فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَيْكُمْ أَنْ تُصَلُّوا (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) أَيْ: مَيِّتٍ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ (بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى الْكَبَائِرَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهَا لَا تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ يَعْنِي خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ فِيهِمَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ، أَيْ: مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: مَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ أَبَا هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: فَالْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ مَكْحُولًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَنْ دُونَهُ ثِقَاتٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ مُسَمَّى الْإِرْسَالِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَنَا، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَالْعُقَيْلِيِّ، وَكُلُّهَا مُضَعَّفَةٌ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَبِذَلِكَ يَرْتَقِي إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُوَافِقُهُ خَبَرُ الدَّارَقُطْنِيِّ: " «اقْتَدُوا بِكُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» "، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا، لَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِفِعْلِ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَرَاءَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَكَذَا كَانَ أَنَسٌ يُصَلِّي خَلْفَهُ أَيْضًا، وَاحْتِمَالُ الْخَوْفِ يَمْنَعُهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَخَافُهُ ; لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ كَانَ مُمْتَثِلًا لِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ ابْنُ عُمَرَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ يَجْعَلُ أَمْرَ الْحَجِّ لَهُ وَيَأْمُرُ الْحَجَّاجَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1126 - «عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنَّا بِمَاءِ مَمَرِّ النَّاسِ، يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ نَسْأَلُهُمْ: مَا لِلنَّاسِ؟ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا. فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ، فَكَأَنَّمَا يُغْرَى فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمُ الْفَتْحَ. فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ ; فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ الْفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ حَقًّا، فَقَالَ: " صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا ". فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، لَمَّا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّونَ عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ ! فَاشْتَرَوْا، فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا. فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1126 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَفِي الْأَنْسَابِ لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَاهُ وَفَدَ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَفِدْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَفَدَ، أَيْضًا، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ، قَالُوا: وَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: رَآهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُ مُسْلِمٌ شَيْئًا. كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي قُدُومِ أَبِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلَا صِحَّةُ قُدُومِهِ، أَيْضًا لَمَا أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَهُ. كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ (قَالَ: كُنَّا بِمَاءِ) أَيْ: سَاكِنِينَ بِمَحَلِّ مَاءٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: بِمَاءٍ خَبَرُ كَانَ، وَقَوْلُهُ: (مَمَرِّ النَّاسِ) أَيْ: عَلَيْهِ صِفَةٌ لِمَاءٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، أَيْ: نَازِلِينَ بِمَكَانٍ فِيهِ مَاءٌ فِيهِ يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: يَجُوزُ فِي مَمَرِّ الْحَرَكَاتِ اهـ. وَوَجْهُهَا ظَاهِرٌ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ هُوَ الْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُهُ: (يَمُرُّ بِنَا) : اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْخَبَرِ (الرُّكْبَانُ) : بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ الرَّاكِبِ لِلْبَعِيرِ خَاصَّةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، (نَسْأَلُهُمْ) أَيْ: نَقُولُ لَهُمْ (مَا لِلنَّاسِ) أَيْ: بِالنَّاسِ، وَقِيلَ، أَيْ مَاءٌ طَرَأَ لِلنَّاسِ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْقَلَقُ وَالْفَزَعُ (مَا لِلنَّاسِ؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: سُؤَالُهُمْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ أَمْرٍ غَرِيبٍ، وَلِذَا كَرَّرُوهُ وَقَالُوا: (مَا هَذَا الرَّجُلُ؟) : يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِمْ مِنْهُ نَبَأً عَجِيبًا، فَيَكُونُ سُؤَالُهُمْ عَنْ وَصْفِهِ بِالنُّبُوَّةِ وَلِذَلِكَ وَصَفُوهُ بِالنُّبُوَّةِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي نَسْمَعُ عَنْهُ نَبَأً عَجِيبًا، أَيْ: مَا وَصْفُهُ. (فَيَقُولُونَ) أَيِ: الرُّكْبَانُ فِي جَوَابِ أَهْلِ الْمَاءِ (يَزْعُمُ) أَيِ: الرَّجُلُ يَعْنِي: يَظُنُّ. وَكَانَ مَنْ عَبَّرَ بِهَا إِذْ ذَاكَ شَاكًّا فِي صِدْقِهِ عَلَى أَنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى قَالَ مُجَرَّدَةً عَنْ إِشْعَارٍ بِكَذِبٍ، فَالْمَعْنَى يَقُولُ وَيَدَّعِي. (أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ) : إِلَى النَّاسِ كَافَّةً (أَوْحَى) أَيِ: اللَّهُ (إِلَيْهِ) : بِتَبْلِيغِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ (أَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا) أَيْ آيَةَ كَذَا أَوْ سُورَةَ كَذَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ. (فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ) أَيْ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ: رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ ذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي يَنْقُلُونَهُ عَنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَغَيْرِهِ، (فَكَأَنَّمَا يُغْرَى) : بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ مُضَارِعٌ مَجْهُولٌ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَقِيلَ: مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ يُلْصَقُ مِثْلَ الْغِرَاءِ، وَهُوَ الصَّمْغُ (فِي صَدْرِي) : وَلِذَا قِيلَ: الْحِفْظُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ، وَفِي نُسْخَةٍ: يُقْرَأُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مُخَفَّفًا، وَفِي نُسْخَةٍ: يُقَرِّي بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّقْرِيَةِ، أَيْ يَجْمَعُ، قَالَ مِيرَكُ: وَهَاتَانِ رِوَايَتَا الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَرِوَايَةُ الْأَكْثَرِ فِيهِ يُقْرَأُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَجْهُولًا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْحَاضِرَةِ فَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، كَذَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ: يُقَرُّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْقَافَ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ الْقَرَارِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ مَقْصُورَةٍ مِنَ التَّقْرِيَةِ، أَيْ: يُجْمَعُ وَلِلْأَكْثَرِ بِهَمْزَةٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ يُغَرَّى بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ ثَقِيلَةٍ، أَيْ: يُلْصَقُ بِالْغِرَاءِ، وَرَجَّحَهَا عِيَاضٌ وَنَقَلَهُ مِيرَكُ، وَوُجِدَ بِخَطِّ الشَّيْخِ عَفِيفِ الدِّينِ يَغَرَّى بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الطِّيبِيِّ، أَيْضًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَلْصَقُ بِهِ، يُقَالُ: غُرِّيَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي صَدْرِي بِالْكَسْرِ يُغَرَّى بِالْفَتْحِ كَأَنَّهُ أُلْصِقَ بِالْغِرَاءِ، وَالْغِرَاءُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، أَيْ مَا يُلْصَقُ بِهِ الْأَشْيَاءُ يُتَّخَذُ مِنْ أَطْرَافِ الْجُلُودِ وَالسَّمَكِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْغِرَاءُ إِذَا فُتِحَتِ الْغَيْنُ قَصَرْتَ، وَإِذَا كُسِرَتْ مَدَدْتَ. قُلْتُ: لَيْسَ فِي الطِّيبِيِّ إِلَّا بَيَانُ أَصْلِ اللُّغَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدٌ أَوْ مَزِيدٌ مَعْلُومٌ أَوْ مَجْهُولٌ مِنَ التَّفْحِيلِ أَوِ الْأَفْعَالِ إِرَادَةً لِلْمُبَالَغَةِ، وَمَعَ هَذَا

الِاحْتِمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ خُصُوصًا فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشَّيْخِ عَفِيفٍ: يَقْرِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيِ: التَّحْتَانِيَّةِ وَبِالْقَافِ وَالرَّاءِ، أَيْ بَعْدَهُ أَلِفٌ مُبْدَلَةٌ، وَهُوَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، أَيْ مَعْلُومِيَّتُهُ ; لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي الصِّحَاحِ: قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، أَيْ: جَمَعْتُهُ، وَالْبَعِيرُ يَقْرِي الْعَلَفَ فِي شِدْقِهِ، أَيْ: يَجْمَعُهُ، فَالظَّاهِرُ ضَمُّ أَوَّلِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. (وَكَانَتِ الْعَرَبُ) أَيْ: مَا عَدَا قَوْمَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُرَادُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ (تَلَوَّمُ) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ بِمَعْنَى تَنْتَظِرُ (بِإِسْلَامِهِمُ الْفَتْحَ) أَيْ: فَتْحَ مَكَّةَ يَعْنِي النُّصْرَةَ وَالظَّفَرَ عَلَى قَوْمِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا قَهَرَهُمْ وَهُمْ أَشَدُّ الْعَرَبِ شَكِيمَةً وَأَكْثَرُهُمْ عُدَّةً وَأَقْوَاهُمْ شَجَاعَةً فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى. (فَيَقُولُونَ) : تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَلَوَّمُ أَنَّثَ الضَّمِيرَ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ، وَجَمَعَ ثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى (اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ) : الْوَاوُ لِلْمَعِيَّةِ (فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ) أَيْ: غَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى قَوْمِهِ (فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ) : إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ غَلَبَتُهُ عَلَيْهِمْ كَذَلِكَ إِلَّا بِمَحْضِ الْمُعْجِزَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ لِضَعْفِهِ وَقُوَّتِهِمْ، (فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ الْفَتْحِ) أَيْ: فَتْحِ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (بَادَرَ) أَيْ: سَارَعَ وَسَابَقَ (كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي) أَيْ: غَلَبَهُمْ وَسَبَقَهُمْ (بِإِسْلَامِهِمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ بَدَرَ مِنْ بَابِ الْمُغَالَبَةِ، أَيْ: بَادَرَ أَبِي الْقَوْمَ فَبَدَرَهُمْ، أَيْ: غَلَبَهُمْ فِي الْبِدَارِ بِالْكَسْرِ، أَيْ بِالْمُبَادَرَةِ (فَلَمَّا قَدِمَ) أَيْ: أَبِي مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وَفْدِهِ مَعَ أَبِيهِ (قَالَ) أَيْ: لَهُمْ (جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ حَقًّا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَى الْمَوْصُولِ أَعْنِي: الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي النَّبِيِّ عَلَى تَأْوِيلِ الَّذِي نُبِّئَ حَقًّا اهـ. أَوْ حَالَ كَوْنِهِ مُحِقًّا، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَوْ حُقَّ هَذَا الْقَوْلُ حَقًّا (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا مِنْ جُمْلَتِهِ (صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ: وَقْتُهَا (فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ) أَيْ: وَخِيَارُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ فَلَا يُنَافِي الْخَبَرَ الْآخَرَ: " «فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ» " لِأَنَّ هَذَا لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ وَذَلِكَ لِبَيَانِ الْأَجْزَاءِ (فَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا) . (فَنَظَرُوا) أَيْ: تَأَمَّلُوا فِي تَعْيِينِ إِمَامٍ (فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ) : بِنَصْبِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ، أَيْ: فَلَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ أَكْثَرَ (قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى) أَيْ: أَتَلَقَّنُ وَآخُذُ وَأَتَعَلَّمُ (مَنِ الرُّكْبَانِ) : كَمَا تَقَدَّمَ (فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أَيْ: لِلْإِمَامَةِ (وَأَنَا ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَةٌ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَقَلَّ سَنِّ التَّحَمُّلِ خَمْسُ سِنِينَ، وَهُوَ سِنُّ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الَّذِي تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ بَابَ: مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ «عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ أَنَّهُ قَالَ: عَقَلْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي، وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ كُلُّ صَغِيرٍ بِحَالِهِ وَإِنْ كَانَ دُونَ خَمْسِ سِنِينَ، وَنُقِلَ أَنَّ ابْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ حُمِلَ إِلَى الْمَأْمُونِ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ يَبْكِي، لَكِنْ قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ نَظَرٌ، نَظَرٌ، نَعَمْ صَحَّ لِي أَنَّ الْمُحِبَّ ابْنَ الْهَاشِمِ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَالْعُمْدَةَ وَجُمْلَةً مِنَ الْكَافِيَةِ وَالشَّافِيَةِ، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ خَمْسًا، وَكَانَ يُسْأَلُ عَمَّا قَبْلَ الْآيَةِ فَيُجِيبُ بِدُونِ تَوَقُّفٍ. (وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ) أَيْ: يَمَانِيَةٌ (كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ) أَيْ: اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ وَارْتَفَعَتْ إِلَى أَعَالِي الْبَدَنِ (عَنِّي) : لِقِصَرِهَا وَضِيقِهَا حَتَّى يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِي (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ) أَيِ: الْقَبِيلَةِ (أَلَا تُغَطُّونَ) : بِتَخْفِيفِ اللَّامِ فَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِهَا عَلَى التَّحْضِيضِ (عَنَّا) أَيْ: عَنْ قِبَلِنَا أَوْ عَنْ جِهَتِنَا (اسْتَ قَارِئِكُمْ) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، أَيْ دُبُرَهُ، أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الْعَوْرَةِ مِنْ أَسْفَلِ الْبَدَنِ لَا يَضُرُّ ; لِأَنَّ سَتْرَ ذَلِكَ هُوَ اللَّائِقُ بِتَقَدُّمِهِ وَإِمَامَتِهِ (فَاشْتَرَوْا) أَيْ: ثَوْبًا (فَقَطَعُوا) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ، أَيْ: فَصَّلُوا

(لِي قَمِيصًا) : سَبَلًا (فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي) أَيْ: مِثْلَ فَرَحِي (بِذَلِكَ الْقَمِيصِ) : إِمَّا لِأَجْلِ حُصُولِ التَّسَتُّرِ وَعَدَمِ تَكَلُّفِ الضَّبْطِ وَخَوْفِ الْكَشْفِ، وَإِمَّا فَرِحَ بِهِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الصِّغَارِ بِالثَّوْبِ الْجَدِيدِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الصَّبِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَعَنْهُ فِي الْجُمُعَةِ قَوْلَانِ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي النَّفْلِ فَجَوَّزَهُ مَشَايِخُ بَلْخ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَهُمْ وَبِمِصْرَ وَالشَّامِ وَمَنَعَهُ غَيْرُهُمْ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، انْتَهَى. قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْكَنْزِ: اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالصَّبِيِّ جَائِزٌ بِقَوْلِ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ: فَقَدَّمُونِي إِلَخْ. وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ; لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَلِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْمُفْتَرِضُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا إِمَامَةُ عَمْرٍو فَلَيْسَ بِمَسْمُوعٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَدَّمُوهُ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ لِمَا كَانَ يَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَدْ قَالَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ إِلَخْ. وَالْعَجَبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ الْفَارُوقِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ حُجَّةً، وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِ صَبِيٍّ مِثْلُ هَذَا حَالُهُ.

1127 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ الْمَدِينَةَ، كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَفِيهِمْ عُمَرُ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1127 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ) أَيِ: السَّابِقُونَ (الْمَدِينَةَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: الْعُصْبَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَبِسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ قَالَهُ عَفِيفٌ، مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَفِيهِمْ عُمَرُ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ) : هُوَ زَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَالِمًا مَعَ كَوْنِهِ مَفْضُولًا كَانَ أَقْرَأَ، أَوْ هُوَ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، كَانَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الْمَوَالِي، وَمِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْقُرَّاءِ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ مِنْهُ كَثِيرًا، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَهُوَ أَحَدُهُمْ "، انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: " «خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ» " كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ، وَفِي إِمَامَةِ سَالِمٍ مَعَ وُجُودِ عُمَرَ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُقَدِّمُ الْأَقْرَأَ عَلَى الْفَقِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1128 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثَةٌ لَا تُرْفَعُ لَهُمْ صَلَاتُهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ شِبْرًا: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَأَخَوَانِ مُتَصَارِمَانِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1128 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثَةٌ لَا تُرْفَعُ لَهُمْ صَلَاتُهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ شِبْرًا) أَيْ: قَدْرَ شِبْرٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ (رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ) أَيْ: لِإِمَامَتِهِ (كَارِهُونَ) : لِعَدَمِ قِيَامِهِ بِحَقِّ الْإِمَامَةِ (وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ) : وَمَا أَرْضَتْهُ لِعَدَمِ قِيَامِهَا بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ (وَأَخَوَانِ) : بِفَتْحَتَيْنِ (مُتَصَارِمَانِ) أَيْ: مُتَقَاطِعَانِ لِعَدَمِ قِيَامِهِمَا بِحَقِّ الْأُخُوَّةِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ وَجْهُ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ الْفِقَرِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأُخُوَّةُ إِمَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ لِمَا وَرَدَ: " «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُصَارِمَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلَاثٍ» "، أَيْ: يَهْجُرَهُ وَيَقْطَعَ مُكَالَمَتَهُ، انْتَهَى. يَعْنِي: عَلَى خِلَافِ دَأْبِهِ وَعَادَتِهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

[باب ما على الإمام]

[بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ]

[27] بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1129 - «عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [27] بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ أَيْ: مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَأْمُومِينَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الصَّلَاةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1129 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ) أَيْ: مَعَ طُولِ عُمُرِهِ فَإِنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ. (أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الْقَاضِي: خِفَّةُ الصَّلَاةِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ تَطْوِيلِ قِرَاءَتِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى قِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَكَذَا قَصْرِ الْمُنْفَصِلِ، وَعَنْ تَرْكِ الدَّعَوَاتِ الطَّوِيلَةِ فِي الِانْتِقَالَاتِ، وَتَمَامُهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ وَاللُّبْثِ رَاكِعًا وَسَاجِدًا بِقَدْرِ مَا يُسَبِّحُ ثَلَاثًا، انْتَهَى. وَفِيهِ، إِيهَامٌ أَنَّهُ مَا كَانَ يَقْرَأُ أَوْسَاطَ الْمُفَصَّلِ وَطُوَالَهَا، وَقَدْ ثَبَتَ قِرَاءَتُهُ إِيَّاهَا، فَالْمَعْنَى بِالْخِفَّةِ أَنَّهُ مَا كَانَ يَمْطُطُهَا وَيَمْدُدُهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ الْأَئِمَّةُ الْمُعَظَّمَةُ حَتَّى فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّهُمْ يَمُدُّونَ فِي الْمَدَّاتِ الطَّبِيعِيَّةِ قَدْرَ ثَلَاثِ أَلِفَاتٍ، وَيُطَوِّلُونَ السَّكَتَاتِ فِي مَوَاضِعِ الْوُقُوفَاتِ، وَيَزِيدُونَ فِي عَدَدِ التَّسْبِيحَاتِ انْتِظَارًا لِفَرَاغِ الْمُكَبِّرِينَ الْمُطَوِّلِينَ فِي النَّغَمَاتِ، بَلْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُجَوَّدَةً مُحَسَّنَةً مُرَتَّلَةً مُبَيَّنَةً، وَمِنْ خَاصِّيَّةِ قِرَاءَتِهِ اللَّطِيفَةِ أَنَّهَا كَانَتْ خَفِيفَةً عَلَى النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ، وَلَوْ كَانَتْ طَوِيلَةً ; لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَشْبَعُ مِنْهَا وَالْأَشْبَاحَ لَا تَقْنَعُ بِهَا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُطِيلَ التَّسْبِيحَ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى وَجْهٍ يَمَلُّ بِهِ الْقَوْمُ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِقَدْرِ السُّنَّةِ ; لِأَنَّ التَّطْوِيلَ سَبَبُ التَّنْفِيرِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَإِنْ رَضِيَ الْقَوْمُ بِالزِّيَادَةِ لَا يُكْرَهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُصَ عَنْ قَدْرِ أَقَلِّ السُّنَّةِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ لِمَلَلِهِمْ. (وَإِنْ كَانَ) أَيْ: وَإِنَّهُ كَانَ (لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ هَذِهِ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ الْمُبْتَدَأِ وَلَزِمَتْهَا اللَّامُ فَارِقَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ وَالشَّرْطِيَّةِ (فَيُخَفِّفُ) أَيْ: صَلَاتَهُ بَعْدَ إِرَادَةِ إِطَالَتِهَا كَمَا سَيَجِيءُ مُصَرَّحًا (مَخَافَةَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ، أَيْ خَوْفًا (أَنْ تُفْتَنَ) : مِنَ الْفِتْنَةِ أَوِ الِافْتِتَانِ، أَيْ: مِنْ أَنْ تَتَشَوَّشَ وَتَحْزَنَ (أُمُّهُ) : وَقِيلَ: يُشَوَّشُ قَلْبُهَا وَيَزُولُ ذَوْقُهَا وَحُضُورُهَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ فُتِنَ الرَّجُلُ، أَيْ: أَصَابَهُ فِتْنَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ رَحْمَةً عَلَى الْأُمِّ وَالطِّفْلِ أَيْضًا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَحَسَّ بِرَجُلٍ يُرِيدُ مَعَهُ الصَّلَاةَ وَهُوَ رَاكِعٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ رَاكِعًا لِيُدْرِكَ الرَّكْعَةَ ; لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ لِحَاجَةِ إِنْسَانٍ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ كَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي أَمْرٍ أُخْرَوِيٍّ، وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ شِرْكًا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، انْتَهَى. وَجَعَلَ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ غَيْرِ مَرَضِيٍّ، وَفِي اسْتِدْلَالِهِ نَظَرٌ ; إِذْ فَرَّقَ بَيْنَ تَخْفِيفِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْإِطَالَةِ لِغَرَضٍ، وَبَيْنَ إِطَالَةِ الْعِبَادَةِ بِسَبَبِ شَخْصٍ، فَإِنَّهُ مِنَ الرِّيَاءِ الْمُتَعَارَفِ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ مُبَالِغًا: الْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ، وَتَرْكُهَا لِغَيْرِهِ تَعَالَى رِيَاءٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُخَلِّصَكَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَأَيْضًا الْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِالتَّخْفِيفِ وَمَنْهِيٌّ عَنِ الْإِطَالَةِ، وَأَيْضًا تَرْكُ التَّخْفِيفِ مُضِرٌّ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِخِلَافِ تَرْكِ الْإِطَالَةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلِيٌّ أَصْلًا. نَعَمْ لَوْ صُوِّرَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ، لَكِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَطَالَ الرُّكُوعَ لِإِدْرَاكِ الْجَائِي لَا تَقَرُّبًا بِالرُّكُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنْ لَا يَكْفُرُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِهِ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْجَائِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يُطِيلَ وَإِلَّا صَحَّ أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى، وَأَمَّا لَوْ أَطَالَ الرُّكُوعَ تَقَرُّبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَالَجَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ سِوَى التَّقَرُّبِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا بَأْسَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُلَقَّبُ بِمَسْأَلَةِ الرِّيَاءِ، فَالِاحْتِرَازُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهَا أَوْلَى، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ مُلَخَّصًا. وَأَمَّا مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنْتَظِرُ فِي صَلَاتِهِ مَادَامَ يَسْمَعُ وَقْعَ نَعْلٍ فَضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي إِقَامَةِ صَلَاتِهِ، أَوْ تُحْمَلُ الْكَرَاهَةُ عَلَى مَا إِذَا عَرَفَ الْجَائِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُطِيلُ الْأُولَى مِنَ الظُّهْرِ كَيْ يُدْرِكَهَا النَّاسُ، لَكِنَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ ظَنِّ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1130 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي، مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1130 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا) أَيْ إِطَالَةً نِسْبِيَّةً أَوْ عَلَى خِلَافِ عَادَتِي، (فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ) أَيْ: أَخْتَصِرُ (فِي صَلَاتِي) : وَأَتَرَخَّصُ بِمَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الِاقْتِصَارِ وَتَرْكِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أُخَفِّفُ، كَأَنَّهُ تَجَاوَزَ مَا قَصَدَهُ، أَيْ مَا قَصَدَ فِعْلَهُ لَوْلَا بُكَاءُ الصَّبِيِّ، قَالَ: وَمَعْنَى التَّجَوُّزِ: أَنَّهُ قَطَعَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ وَأَسْرَعَ فِي أَفْعَالِهِ، انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ شَرَعَ فِي سُورَةٍ قَصِيرَةٍ بَعْدَمَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَازَ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَهُمَا قَصْدُ الْإِطَالَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَتَرْكِ الْمَلَالَةِ، وَلِذَا وَرَدَ: نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ ". (مِمَّا أَعْلَمُ) : مِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ لِلِاخْتِصَارِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ مَا أَعْلَمُ (مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ) أَيْ: حُزْنِهَا، وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ لِمَا (مِنْ بُكَائِهِ) : تَعْلِيلِيَّةٌ لِلْوَجْدِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1131 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1131 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ) أَيْ: إِمَامًا لَهُمْ، أَوِ اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ (فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ) أَيِ: الْمَرِيضَ (وَالضَّعِيفَ) أَيْ: فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، أَوْ فِي الْعِبَادَةِ لِأَجْلِ الْكَسَالَةِ، فَبِالْإِطَالَةِ تَحْصُلُ لَهُ الْمَلَالَةُ (وَالْكَبِيرَ) أَيْ: فِي السِّنِّ (وَإِذَا «صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ» ) : وَكَذَا إِذَا كَانَ الْقَوْمُ مَحْصُورِينَ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي قَوْلَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ تَطْوِيلَ الِاعْتِدَالِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1132 - «وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1132 - (وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ) أَيْ: صَلَاةِ الصُّبْحِ بِالْجَمَاعَةِ (مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ) : يَعْنِي: إِمَامَ مَسْجِدِ حَيِّهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ (مِمَّا يُطِيلُ بِنَا) أَيْ: مِنْ أَجْلِ إِطَالَتِهِ بِنَا، فَمِنْ الْأُولَى تَعْلِيلِيَّةٌ لِلتَّأَخُّرِ، وَالثَّانِيَةُ بَدَلٌ مِنْهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (أَتَأَخَّرُ) وَالثَّانِيَةُ مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا بَدَلٌ مِنْهَا، وَمَعْنَى تَأَخُّرِهِ عَنِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا مَعَ الْإِمَامِ. (فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَةِ إِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، وَعَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ إِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً (غَضَبًا مِنْهُ) أَيْ: مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَوْمَئِذٍ) ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَبْعُوثٌ لِلْوَصْلِ، وَهَذَا بَاعِثٌ لِلْفَصْلِ، وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ فِي مَوْعِظَةٍ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَانَ الْيَوْمَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ فِي الْأَيَّامِ الْأُخَرِ، وَفِيهِ وَعِيدٌ عَلَى مَنْ يَسْعَى فِي تَخَلُّفِ الْغَيْرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ. قُلْتُ: وَلَوْ بِإِطَالَةِ الطَّاعَةِ. (ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ مِنْكُمْ) أَيْ: بَعْضُكُمْ (مُنَفِّرِينَ) أَيْ: لِلنَّاسِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ لِتَطْوِيلِكُمُ الصَّلَاةَ (فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى) : قِيلَ: " مَا " زَائِدَةٌ، وَقِيلَ مَنْصُوبَةُ الْمَحَلِّ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ: أَيُّكُم أَيَّ صَلَاةٍ صَلَّى (بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ) أَيْ: لِيَقْتَصِرْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُنَاسِبِ لِلْوَقْتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَا " زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى الْإِبْهَامِ فِي أَيْ، وَصَلَّى فِعْلُ شَرْطٍ، وَلْيَتَجَوَّزْ جَوَابُهُ (فَإِنَّ فِيهِمْ) أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ (الضَّعِيفَ) : بِالْعِلَّةِ أَوِ الْهِمَّةِ (وَالْكَبِيرَ) : بِالسِّنِّ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (وَذَا الْحَاجَةِ) أَيْ: وَلَوْ كَانَ قَوِيًّا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1133 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1133 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُصَلُّونَ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَئِمَّتُكُمْ يُصَلُّونَ (لَكُمْ) : وَأَنْتُمْ تَقْتَدُونَ بِهِمْ وَتَتْبَعُونَ لَهُمْ لِيَحْصُلَ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ لَهُمْ وَلَكُمْ، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ لِلْخِطَابِ، قَالَ الْقَاضِي: الضَّمِيرُ الْغَائِبُ لِلْأَئِمَّةِ، وَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ ضُمَنَاءُ لِصَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ فَكَأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ لَهُمْ (فَإِنْ أَصَابُوا) أَيْ: أَتَوْا بِجَمِيعِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ (فَلَكُمْ) أَيْ: لَكُمْ وَلَهُمْ عَلَى التَّغْلِيبِ ; لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ بِالْأَوْلَى، وَالْمَعْنَى فَقَدْ حَصَلَ الْأَجْرُ لَكُمْ وَلَهُمْ، أَوْ حَصَلَتِ الصَّلَاةُ تَامَّةً كَامِلَةً، (وَإِنْ أَخْطَئُوا) : بِأَنْ أَخَلُّوا بِبَعْضِ ذَلِكَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (فَلَكُمْ) أَيِ الْأَجْرُ (وَعَلَيْهِمْ) أَيِ: الْوِزْرُ ; لِأَنَّهُمْ ضُمَنَاءُ، أَوْ فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ لَكُمْ وَالتَّبِعَةُ مِنَ الْوَبَالِ وَالنُّقْصَانِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمَأْمُومُ بِحَالِهِ فِيمَا أَخْطَأَهُ، وَإِنْ عَلِمَ فَعَلَيْهِ الْوَبَالُ وَالْإِعَادَةُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى " لَكُمْ " إِذْ يُفْهَمُ مِنْ تَجَاوُزِ ثَوَابِ الْإِصَابَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ ثُبُوتُهُ لَهُمْ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا صَلَّى جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَصَلَاةُ الْقَوْمِ صَحِيحَةٌ، سَوَاءً كَانَ الْإِمَامُ عَالِمًا بِحَدَثِهِ مُتَعَمِّدًا لِلْإِمَامَةِ أَوْ جَاهِلًا اهـ. وَعِنْدَنَا إِذَا عَلِمَ الْمَأْمُومُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي بِالْقَوْمِ جُنُبًا قَالَ: يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، عَنْ جَعْفَرٍ، أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ جُنُبٌ، أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَعَادَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: صَلَّى عُمَرُ بِالنَّاسِ جُنُبًا فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِدِ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ صَلَّى مَعَكَ أَنْ يُعِيدَ، قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ، قَالَ الْقَاسِمُ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِثْلَ قَوْلِ عَلِيٍّ. وَيَثْبُتُ الْمَطْلُوبُ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ بَانَ أَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ إِجْمَاعًا وَالْمُصَلِّي بِلَا طَهَارَةٍ لَا إِحْرَامَ لَهُ. فَرْعٌ: أَمَّهُمْ زَمَانًا ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ كَافِرٌ، أَوْ صَلَّيْتُ مَعَ الْعِلْمِ بِالنَّجَاسَةِ الْمَانِعَةِ، أَوْ بِلَا طَهَارَةٍ، لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِعَادَةٌ ; لِأَنَّ خَبَرَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ لِفِسْقِهِ بِاعْتِرَافِهِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . (وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ) أَيْ: فِي الْمَصَابِيحِ (عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) أَيْ: عَنِ الْحِسَانِ، وَهُوَ دَفْعٌ لِوَهْمِ الْإِسْقَاطِ، وَرَفْعٌ لِوُرُودِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى قَوْلِهِ: الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ غَيْرِ الثَّانِي.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1134 - «عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا فَأَخِفَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: " «أُمَّ قَوْمَكَ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا. قَالَ: " ادْنُهْ "، فَأَجْلَسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ، ثُمَّ قَالَ: " تَحَوَّلْ "، فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، ثُمَّ قَالَ: " أُمَّ قَوْمَكَ، فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1134 - (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ) أَيْ: أَوْصَى (إِلَيَّ) : وَأَمَرَنِي بِهِ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَمَمْتَ) : بِالتَّخْفِيفِ (قَوْمًا) أَيْ: صِرْتَ إِمَامَ قَوْمٍ (فَأَخِفَّ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهُ (بِهِمُ الصَّلَاةَ) : فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ نَاشِئَةٌ مِنَ التَّرْكِيبِ ذَكَرْنَاهَا سَابِقًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ لِمُسْلِمٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِفَتْحِ أَنْ، وَقِيلَ بِكَسْرِهَا (قَالَ لَهُ) أَيْ: لِعُثْمَانَ (أُمَّ) : أَمْرٌ عَلَى زِنَةِ مُدَّ (قَوْمَكَ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَرَى فِي نَفْسِي مَا لَا أَسْتَطِيعُ عَلَى شَرَائِطِ الْإِمَامَةِ وَإِيفَاءِ حَقِّهَا لِمَا فِي صَدْرِي مِنَ الْوَسَاوِسِ، وَقِلَّةِ تَحَمُّلِي الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ، فَيَكُونُ وَضْعُ

الْيَدِ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ لِإِزَالَةِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا، وَإِثْبَاتِ مَا يُقَوِّيهِ عَلَى احْتِمَالِ مَا يَصْلُحُ لَهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْخَوْفَ مِنْ حُصُولِ شَيْءٍ مِنَ الْكِبْرِ وَالْإِعْجَابِ لَهُ مُقَدَّمًا عَلَى النَّاسِ، فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ بِبَرَكَةِ كَفِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (قَالَ: " ادْنُهْ) : أَمْرٌ مِنَ الدُّنُوِّ، وَهُوَ بِهَاءِ السَّكْتِ لِبَيَانِ ضَمِّ النُّونِ، أَيْ اقْرُبْ مِنِّي، (فَأَجْلَسَنِي بَيْنَ يَدْيِهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، (ثُمَّ قَالَ: " تَحَوَّلْ) أَيِ انْقَلِبْ (فَوَضَعَهَا) أَيْ: كَفَّهُ (فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ) : بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّثْنِيَةِ (ثُمَّ قَالَ: " أُمَّ قَوْمَكَ، فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ) : أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ (فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيِضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ) : كَالصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ أَوْ ضَعِيفِي الْأَبْدَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا أَوْ كَبِيرًا (وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ) أَيِ: الْمُسْتَعْجِلَةَ، وَفِي تَكْرِيرِ إِنَّ إِشَارَةٌ إِلَى صَلَاحِيَةِ كُلٍّ لِلْعِلَّةِ (فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ) أَيْ: مُنْفَرِدًا (فَلْيُصَلِّ كِيَفَ شَاءَ) : وَالتَّطْوِيلُ أَفْضَلُ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَأَئِمَّتُنَا إِذَا صَلَّوْا بِالنَّاسِ فَيُطِيلُونَ غَايَةَ الْإِطَالَةِ، وَيُرَاعُونَ جَمِيعَ الْآدَابِ الظَّاهِرَاتِ، وَإِذَا صَلَّوْا فُرَادَى فَيَقْتَصِرُونَ عَلَى أَدْنَى مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَلَوْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ، وَمَعَ هَذَا فَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ الْأَلْفِ مِنْ مُتَابَعَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُفَ وَكَرُمَ.

1135 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالتَّخْفِيفِ، وَيَؤُمُّنَا بِـ (الصَّافَّاتِ» ) . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1135 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالتَّخْفِيفِ) أَيْ: بِتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ إِذَا كُنَّا أُمَّامًا (وَيَؤُمُّنَا بِالصَّافَّاتِ) : قِيلَ: بَيْنَهُمَا تَنَافٍ، وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا، وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْيَسِيرَةِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ إِذَا لَمْ يُكَاشَفْ لَهُ بِحَالِ الْقَوْمِ الْمُنَاسِبِ لِلتَّطْوِيلِ أَوِ التَّخْفِيفِ، أَوْ يُقَالُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي بَحْرِ الْمُنَاجَاةِ، أَوْ كَانَ تَطْوِيلُهُ غَيْرَ مُمِلٍّ لِلْقَوْمِ لِلْقِيَامِ بِمُتَابَعَتِهِ وَالتَّلَذُّذِ بِتِلَاوَتِهِ، وَظُهُورِ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ فِي إِطَالَتِهِ بِحَيْثُ يَنْسَى السَّامِعُ جَمِيعَ حَاجَاتِهِ، وَيَتَقَوَّى الضَّعِيفُ فِي أَضْعَفِ حَالَاتِهِ، وَيَوَدُّ كُلٌّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عُمُرِهِ مَصْرُوفًا فِي رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَنِيئًا لِمَنْ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَالْحُضُورِ لَدَيْهِ، وَمِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ: سَنَةُ الْوِصَالِ سِنَةٌ، وَسِنَةُ الْفِرَاقِ سَنَةٌ، أَذَاقَنَا اللَّهُ حَلَاوَةَ الصَّلَاةِ، وَلَذَّةَ الْمُنَاجَاةِ الْمُنْتِجَةِ لِلصِّلَاتِ الْمُتَّصِلَاتِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

[باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق]

[بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1136 - «عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [28] بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ. لِلْإِمَامِ (وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ) : بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى " مَا ". الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1136 - (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) : بِالضَّمِّ، وَقِيلَ بِهَاءِ السَّكْتِ، أَيْ: أَجَابَ لَهُ وَقَبِلَ حَمْدَهُ (لَمْ يَحْنِ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا، أَيْ: لَمْ يَعْوَجْ (أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ) : أَوْ لَمْ يَثْنِهِ مِنَ الْقَوْمَةِ قَاصِدًا لِلسُّجُودِ (حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ (جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْإِمَامِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِقْدَارَ هَذَا التَّخَلُّفِ، وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّفْ جَازَ إِلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ; إِذْ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفْرَغَ الْإِمَامُ مِنَ التَّكْبِيرِ اهـ.

وَمَذْهَبُنَا أَنَّ الْمُتَابَعَةَ بِطَرِيقِ الْمُوَاصَلَةِ وَاجِبَةٌ، حَتَّى لَوْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْلَ تَسْبِيحِ الْمُقْتَدِي ثَلَاثًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُوَافِقُ الْإِمَامَ، وَلَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ، وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ رُكُوعَيْنِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ قَامُوا قِيَامًا حَتَّى يَرَوْنَهُ قَدْ سَجَدَ، وَإِلْحَاقُ النُّونِ بَعْدَ حَتَّى مَعَ كَوْنِهَا بِمَعْنَى إِلَى أَنْ ; إِذِ الْفِعْلُ مُسْتَقْبَلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْقِيَامِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُهْمِلُ أَنْ حَمْلًا عَلَى أُخْتِهَا مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَمِنْهُ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] بِضَمِّ الْمِيمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1137 - «وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. فَقَالَ: "، أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي إِمَامُكُمْ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ ; فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1137 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ) أَيْ: أَدَّاهَا وَفَرَغَ مِنْهَا (أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ) : تَأْكِيدٌ (فَقَالَ: "، أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي إِمَامُكُمْ) : يَعْنِي وَسُمِّيَ الْإِمَامُ إِمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَيُقْتَدَى بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ، (فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ) أَيْ: بِالتَّسْلِيمِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْأَرْكَانِ الْفِعْلِيَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالِانْصِرَافِ الْفَرَاغُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُرَادَ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ. قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الثَّانِي فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ بِالسَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، وَأَيْضًا لَمْ يُعْرَفِ النَّهْيُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ قَبْلَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ أَمَامِي) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: قُدَّامِي، أَيْ: خَارِجَ الصَّلَاةِ، (وَمِنْ خَلْفِي) أَيْ: دَاخِلَهَا بِالْمُكَاشَفَةِ أَوِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ كَمَا أَرَاكُمْ مِنْ أَمَامِي أَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَكُونُ حَاصِلَةً لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِ جِهَةُ مَلَكِيَّتِهِ. قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ جِهَةَ مَلَكِيَّتِهِ عَلَى نِسْبَةِ بَشَرِيَّتِهِ غَالِبَةٌ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، لَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْمُنَاجَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ الْمَلَكَ دَائِمًا يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ قُدَّامِهِ، فَالْأَحْسَنُ تَقْيِيدُهُ بِحَالِ الصَّلَاةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا لَفْظُهُ، وَكَانَ لَفْظُ الْمِشْكَاةِ وَقَعَ مُخَالِفًا لِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ: " «لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ فَمَهْمَا أَسْبِقْكُمْ بِهِ إِذَا رَكَعْتُ تُدْرِكُونِي بِهِ إِذَا رَفَعْتُ» ".

1138 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُبَادِرُوا الْإِمَامَ: إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ; إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ: " وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1138 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُبَادِرُوا الْإِمَامَ» ) أَيْ: لَا تَسْبِقُوهُ فَالْمُغَالَبَةُ لِلْمُبَالَغَةِ (إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِمَاعِ كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ " «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» "، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِمَا مَرَّ فِي بَحْثِ التَّأْمِينِ أَنَّهُ يُسَنُّ مُقَارَنَةُ تَأْمِينِهِ لِتَأْمِينِ إِمَامِهِ. قُلْتُ: هَذَا التَّقْدِيرُ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْمَطْلُوبِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ تَأْمِينُ الْمَأْمُومِينَ عِنْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَيَصِيرُ مُقَدَّمًا عَلَى تَأْمِينِ الْإِمَامِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. (وَإِذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَإِذَا (رَكَعَ فَارْكَعُوا) : الْفَاءُ التَّعْقِيبِيَّةُ تُشِيرُ إِلَى مَذْهَبِنَا الَّذِي قَدَّمْنَا (وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) : وَظَاهِرُهُ التَّقْسِيمُ وَالتَّوْزِيعُ كَمَا عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ: " وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] : يَعْنِي مَعَ قَوْلِهِ فَقُولُوا: آمِينَ.

1139 - «وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهِ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَصَلَّى صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» ". قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَوْلُهُ: " «إِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا» " هُوَ فِي مَرَضِهِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامٌ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُعُودِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَاتَّفَقَ مُسْلِمٌ إِلَى " أَجْمَعُونَ ". وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ. " «فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1139 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: سَقَطَ (عَنْهُ، فَجُحِشَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ انْخَدَشَ وَجُحِشَ مُتَعَدٍّ (شِقُّهُ الْأَيْمَنُ) أَيْ: تَأَثَّرَ تَأَثُّرًا مَنَعَهُ اسْتِطَاعَةُ الْقِيَامِ (فَصَلَّى صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ) أَيِ: الْمَكْتُوبَةِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ (وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَاعِدٌ) . جُمْلَةٌ حَالِيَةٌ (فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ) أَيْ: بِالسَّلَامِ مِنْ صَلَاتِهِ (قَالَ: " «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» ) أَيْ: لِيُقْتَدَى بِهِ، وَزَادَ فِي الْمَصَابِيحِ: فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّقْدِيمِ عَلَيْهِ وَالتَّأَخُّرِ عَنْهُ بِحَيْثُ يُوهِمُ قَطْعَ الْقُدْوَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَظَاهِرُهُ شُمُولُ النَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ (فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا) : مَصْدَرٌ، أَيْ: ذَوِي قِيَامٍ، أَوْ جَمْعٍ، أَيْ: قَائِمِينَ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِيَةِ، (وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ) أَيْ: رَأْسَهُ (فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) : وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ زِيَادَةُ: " وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ". (وَإِذَا صَلَّى) أَيِ: الْإِمَامُ (جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) : جَمْعُ جَالِسٍ وَهُوَ حَالٌ بِمَعْنَى جَالِسِينَ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (أَجْمَعُونَ) : تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي فَصَلُّوا. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَرُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: إِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ فَاجْلِسُوا وَالْمُتَشَهِّدُ مُصَلٍّ وَهُوَ جَالِسٌ، كَذَا أَوَّلَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا، وَلَكِنْ يَأْبَاهُ ظَاهِرُ صَدْرِ الْحَدِيثِ، فَالْمَعْنَى إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ لِعُذْرٍ وَافَقَهُ الْمُقْتَدُونَ، فَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ جَالِسًا، وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا، وَزَعْمُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ غَلَطٌ، وَقِيلَ: حُكْمُهُ ثَابِتٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: خُصَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِمَامَةِ جَالِسًا فِيمَا ذَكَرَهُ قَوْمٌ. (قَالَ الْحُمَيْدِيُّ) : هُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ بِصَاحِبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (قَوْلُهُ: " إِذَا صَلَّى جَالِسًا) أَيْ: بِعُذْرٍ (فَصَلُّوا جُلُوسًا " هُوَ فِي مَرَضِهِ الْقَدِيمِ) أَيْ: حِينَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ (ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ: ذَلِكَ الْمَرَضِ (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ (جَالِسًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: عِنْدَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا صَلَّى جَالِسًا، أَيْ: بِعُذْرٍ وَافَقَهُ الْمَأْمُومُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ قَاعِدًا، وَدَلِيلُ مَالِكٍ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَؤُمُّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» " وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَمَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا. (لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُعُودِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ) أَيْ: يُعْمَلُ (بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَاتَّفَقَ مُسْلِمٌ) أَيْ: مَعَهُ (إِلَى " أَجْمَعُونَ " وَزَادَ) أَيْ: مُسْلِمٌ (فِي رِوَايَةٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فِي رِوَايَتِهِ (فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا) : بِالْوَاوِ عَلَى الصَّحِيحِ (سَجَدَ فَاسْجُدُوا) : وَمَحَلُّهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ لِابْنِ الْمَلَكِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ قَوْلُهُ: فَصَلُّوا جُلُوسًا مَنْسُوخٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ إِلَخْ اهـ. قِيلَ: وَزَعْمُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ غَلَطٌ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ قَوْلُهُ: إِذَا صَلَّى إِلَخْ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْجُلُوسِ، بَلْ عَلَى نَسْخِ وُجُوبِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ بَقِيَ الْجَوَازُ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مَا كَانَ مُمْتَنِعًا إِذَا جَازَ وَجَبَ، فَحَيْثُ انْتَفَى وُجُوبُهُ انْتَفَى جَوَازُهُ رُجُوعًا بِهِ إِلَى أَصْلِهِ مِنَ الِامْتِنَاعِ، وَقَوْلُهُمْ: إِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ بَقِيَ الْجَوَازُ يُحْمَلُ بِقَرِينَةِ كَلَامِهِمْ هُنَا عَلَى مَا لَمْ تُعْلَمْ حُرْمَتُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَاعِدَ إِنْ شَرَعَ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ صَحَّ اقْتِدَاءُ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ شَرَعَ جَالِسًا فَلَا. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ إِلَى مَحَلِّ الصَّلَاةِ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَبْلَ الْجُلُوسِ، وَصَرَّحُوا فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ أَنَّهُ إِذَا قَدَرَ عَلَى بَعْضِهَا وَلَوِ التَّحْرِيمَةُ وَجَبَ الْقِيَامُ فِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَحَقِّقًا فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ مُبْتَدَأُ حُلُولِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ قَائِمًا، فَالتَّكْبِيرُ قَائِمًا مَقْدُورُهُ حِينَئِذٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَوْرِدُ النَّصِّ حِينَئِذٍ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِينَ بِجَالِسٍ شَرَعَ قَائِمًا.

1140 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ "، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ، ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: يُسْمِعُ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ التَّكْبِيرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1140 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِفَتْحِ الثَّاءِ وَضَمِّ الْقَافِ، أَيْ: اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَتَنَاهَى ضَعْفُهُ (جَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ، أَيْ: يُعْلِمُهُ وَيُخْبِرُهُ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ يَدْعُوهُ، أَيْ: رَافِعًا صَوْتَهُ، وَالتَّأْذِينُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي دُعَاءِ أَحَدٍ وَمِنْهُ الْأَذَانُ اهـ. وَيَجُوزُ إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا وَاوًا (بِالصَّلَاةِ) أَيْ: يُعْلِمُهُ بِقُرْبِهَا أَوْ يَدْعُوهُ إِلَيْهَا، لِيَؤُمَّهُمْ أَوْ يُقَدِّمَ مَنْ يَؤُمُّهُمْ، (فَقَالَ: " «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ» ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلَاهُمْ بِخِلَافَتِهِ، كَمَا قَالَتِ الصَّحَابَةُ: رَضِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا؟ قُلْتُ: وَقَدْ أُكِّدَ الْأَمْرُ بِمَجِيئِهِ وَاقْتِدَائِهِ بِهِ فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ عَلَى مَا سَيَأْتِي مِنَ الرِّوَايَاتِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، أَعْنِي الْقَوْلِيَّ وَالْفِعْلِيَّ وَالْأَمْرِيَّ وَالتَّقْرِيرِيَّ، حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ اتِّفَاقِيٌّ لَا قَصْدِيٌّ، (فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ) أَيْ سَبْعَ عَشْرَةَ صَلَاةً كَمَا نَقَلَهُ الدِّمْيَاطِيُّ مُدَّةَ شِدَّةِ مَرَضِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً) أَيْ: قُوَّةً وَزَالَ بَعْضُ الْمَرَضِ (فَقَامَ يُهَادَى) : بِفَتْحِ الدَّالِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (بَيْنَ رَجُلَيْنِ) أَيْ: يَمْشِي مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا مِنْ ضَعْفِهِ وَتَمَايُلِهِ، وَإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى عَاتِقِ أَحَدِهِمَا وَالْأُخْرَى عَلَى عَاتِقِ الْآخَرِ، وَالرَّجُلَانِ عَبَّاسٌ وَعَلِيٌّ، وَقِيلَ: عَبَّاسٌ وَأُسَامَةُ، وَقِيلَ: عَبَّاسٌ وَالْفَضْلُ، (وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ) أَيْ: تُمَدَّانِ فِيهَا إِذْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا عَنْهَا مِنَ الضَّعْفِ (حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ) أَيْ حَرَكَتَهُ أَوْ صَوْتَهُ (ذَهَبَ) أَيْ: قَصَدَ أَوْ طَفِقَ أَوْ شَرَعَ (يَتَأَخَّرُ) : عَنْ مَوْضِعِهِ لِيَقُومَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَقَامَهُ، (فَأَوْمَأَ) : بِالْهَمْزِ، وَفِي نُسْخَةِ عَفِيفِ الدِّينِ: فَأَوْمَأَ بِالْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ عَنِ الْيَاءِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: أَوْمَأَ كَوَضَعَ، وَأَوْمَأَ وَوَمَأَ أَشَارَ كَذَا فِي بَابِ الْهَمْزِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَادَّةَ وم ي أَصْلًا، نَعَمْ لَهُ وَجْهٌ أَنْ يُبْدِلَ الْهَمْزَ أَلِفًا عَلَى لُغَةٍ، أَيْ أَشَارَ (إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ) أَيْ: بِعَدَمِ تَأَخُّرِهِ لِعَدَمِ خَرْمِ الصَّفِّ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِشُرُوعِ أَبِي بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ، لَكِنْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّلَاةُ بِإِمَامَيْنِ عَلَى التَّعَاقُبِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالثَّانِي، يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ حَذْفِ الْأَوَّلِ مِثْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِإِمَامٍ فَيُفَارِقَهُ، وَيَقْتَدِيَ بِإِمَامٍ آخَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِإِمَامٍ وَالْمَأْمُومُ سَابِقٌ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ، وَيَجُوزُ إِنْشَاءُ الْقُدْوَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِأَبِي بَكْرٍ، وَصَارُوا مُقْتَدِينَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ تَجْدِيدُ نِيَّةٍ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْإِمَامُ بَعْدَمَا دَخَلَ نَائِبُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَؤُمَّ، وَيَصِيرُ النَّائِبُ مَأْمُومًا، وَلَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ، وَادَّعَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَنُوقِضَ بِأَنَّ الْخِلَافَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ اهـ. قُلْتُ: كَأَنَّهُ مَا عَدَّ خِلَافَهُمْ مُعْتَدًّا بِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ إِمَامًا لِأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِمَامًا فِي أَوَّلِهَا، لَكِنِ اقْتُدِيَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ مَجِيئِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَى نَقْلِ الِاقْتِدَاءِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَأَيْضًا الْمُقَرَّرُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي فَرْضٍ مُنْفَرِدًا يَجُوزُ لَهُ الْقَطْعُ لِلْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا مَنْ شَرَعَ بِجَمَاعَةٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِبْطَالُ، فَيُرْجَعُ إِلَى الْقَوْلِ بِالْخُصُوصِيَّةِ فِي الْمَآلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: خُصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَازِ اسْتِخْلَافِهِ فِي الْإِمَامَةِ، كَمَا وَقَعَ لِأَبِي بَكْرٍ حِينَ تَأَخَّرَ وَقَدَّمَهُ فِيمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ (فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْإِمَامُ بِجَعْلِهِ أَبَا بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ كَمَا هُوَ الْأَفْضَلُ، وَلَوْ كَانَ مُقْتَدِيًا بِأَبِي بَكْرٍ لَكَانَ قِيَامُهُ عَمَلًا بِالْجَوَازِ أَوْ بِالضَّرُورَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الطَّحَاوِيَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا قُعُودُ الْإِمَامِ لَا قُعُودُ الْمَأْمُومِ، وَأُخْرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ فِيمَا يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْإِمَامُ إِذْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَقْرَأُ فِي حَالِ الْجَهْرِ مَعَ الْإِمَامِ اهـ.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ كَمَا لَا يَخْفَى، (فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا) : وَانْفِرَادُهُ لِكَوْنِهِ ضَرُورَةً غَيْرُ مَكْرُوهٍ، (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا) : بِسَبَبِ الْعُذْرِ (يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قِيلَ: يَصْنَعُ صُنْعَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ أَوْضَحُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُقْتَدِيًا بِأَبِي بَكْرٍ وَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ التَّقَدُّمَ عِنْدَهُمْ جَائِزٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا تَقَدُّمَ حَيْثُ جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا بِثَبْتٍ، وَلَعَلَّ الْمَالِكِيَّةَ لَهُمْ دَلِيلٌ غَيْرُ هَذَا التَّعْلِيلِ، (وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ: يَصْنَعُونَ مِثْلَ مَا صَنَعَ أَبُو بَكْرٍ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ بِجَنْبِهِ قَائِمًا ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِمَامَ الْقَوْمِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِمَامَهُ ; إِذِ الِاقْتِدَاءُ بِالْمَأْمُومِ لَا يَجُوزُ، بَلِ الْإِمَامُ كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِ، كَذَا حَرَّرَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: يُسْمِعُ) : مِنَ الْإِسْمَاعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: يُبَلِّغُ (أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ التَّكْبِيرَ) أَيْ: تَكْبِيرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي: كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُكَبِّرًا لَا إِمَامًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَفِي أُخْرَى لَهُ، أَيْضًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُهُمُ التَّكْبِيرَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الدِّرَايَةِ وَبِهِ يُعْرَفُ جَوَازُ رَفْعِ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْوَاتَهُمْ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهَا اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ مَقْصُودًا خُصُوصُ الرَّفْعِ الْكَائِنِ فِي زَمَانِنَا بَلْ أَصْلُ الرَّفْعِ لِإِبْلَاغِ الِانْتِقَالَاتِ، أَمَّا خُصُوصُ هَذَا الَّذِي تَعَارَفُوهُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ مُفْسِدٌ، فَإِنَّهُ غَالِبًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَدِّ هَمْزَةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ أَكْبَرُ أَوْ بَائِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ فَلِأَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي الصِّيَاحِ زِيَادَةً عَلَى حَاجَةِ الْإِبْلَاغِ وَالِاشْتِغَالِ بِتَحْرِيرَاتِ النَّغَمِ إِظْهَارًا لِلصِّنَاعَةِ النَّغَمِيَّةِ لَا إِقَامَةً لِلْعِبَادَةِ، وَالصِّيَاحُ مُلْحَقٌ بِالْكَلَامِ الَّذِي سَاقَهُ ذَلِكَ الصِّيَاحُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا تَفْسُدُ، وَلِمُصِيبَةٍ بَلَغَتْهُ تَفْسُدُ ; لِأَنَّهُ فِي التَّعَرُّضِ الْأَوَّلِ تَعَرَّضٌ لِسُؤَالِ الْجَنَّةِ وَالتَّعَوُّذِ، وَإِنْ كَانَ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ إِذَا حَصَلَ بِهِ الْحُرُوفُ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَا تَفْسُدُ، وَفِي الثَّانِي لِإِظْهَارِهَا وَلَوْ صَرَّحَ بِهَا فَقَالَ: وَامُصِيبَتَاهُ؟ أَوْ أَدْرِكُونِي فَهُوَ مُفْسِدٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَهُنَا مَعْلُومٌ أَنَّ قَصْدَهُ إِعْجَابُ النَّاسِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: اعْجَبُوا مِنْ حُسْنِ صَوْتِي وَتَحْرِيرِي فِيهِ أَفْسَدَ، وَحُصُولُ الْحُرُوفِ لَازِمٌ مِنَ التَّلْحِينِ، وَلَا أَرَى ذَلِكَ يَصْدُرُ مِمَّنْ فَهِمَ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، كَمَا لَا أَرَى تَحْرِيرَ النَّغَمِ فِي الدُّعَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْقُرَّاءُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَصْدُرُ مِمَّنْ فَهِمَ مَعْنَى الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا نَوْعُ لَعِبٍ فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ فِي الشَّاهِدِ سَائِلُ حَاجَةٍ مِنْ مَلِكٍ أَدَّى سُؤَالَهُ وَطَلَبَهُ بِتَحْرِيرِ النَّغَمِ فِيهِ مِنَ الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ، وَالتَّغْرِيبِ فِي الرُّجُوعِ كَالتَّغَنِّي نُسِبَ أَلْبَتَّةَ إِلَى قَصْدِ السُّخْرِيَةِ وَاللَّعِبِ ; إِذْ مَقَامُ طَلَبِ الْحَاجَةِ التَّضَرُّعُ لَا التَّغَنِّي. قُلْتُ: وَأَغْرَبُ مِنْهُ أَنَّهُ تَفَرَّعَ عَلَى تَطْوِيلِ الْمُكَبِّرِينَ حَتَّى فِي مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ أَنَّهُ يَزِيدُ الْإِمَامُ فِي تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَقِفُ فِي حَالَاتِ الِانْتِقَالَاتِ انْتِظَارًا لِفَرَاغِهِمْ مِنَ التَّمْطِيطَاتِ، فَانْقَلَبَ الْأَمْرُ وَانْعَكَسَ الْمَوْضُوعُ، وَبَقِيَ الْإِمَامُ تَابِعًا وَالْمُكَبِّرُ هُوَ الْمَتْبُوعُ. وَفِي الْهِدَايَةِ: وَيُصَلِّي الْقَائِمُ خَلْفَ الْقَاعِدِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَالْقَاعِدُ خَلْفَ قَائِمٍ جَائِزٌ اتِّفَاقًا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَجُوزُ لِصَحِيحٍ أَنْ يَأْتَمَّ بِمَرِيضٍ يُصَلِّي قَاعِدًا وَإِنْ كَانَ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَيَذْهَبُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ كَانَ مَخْصُوصًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ صُلِّيَ بَعْضُهُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، وَبَعْضُهُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَجُوزُ الْيَوْمَ هَذَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَلَا يُنَافِيهِ تَجْوِيزُ الشَّافِعِيَّةِ بَعْضَ الصُّوَرِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الصِّدِّيقَ نَوَى الِانْتِقَالَ مِنَ الْإِمَامَةِ إِلَى الْمَأْمُومِيَّةِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ.

1141 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1141 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا يَخْشَى) : الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَ " مَا " نَافِيَةٌ (الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ) أَيْ: مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ مَثَلًا (أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ) أَيْ: مِنْ أَنْ يُبَدِّلَ وَيُغَيِّرَ (رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ) : يَعْنِي يَجْعَلُهُ بَلِيدًا كَالْحِمَارِ الَّذِي هُوَ أَبْلَدُ الْحَيَوَانَاتِ، فَيَكُونُ مَسْخًا مَعْنَوِيًّا مَجَازِيًّا، لَكِنْ يَأْبَاهُ التَّخْصِيصُ بِالرَّأْسِ، وَيَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْمَسْخَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ جَائِزٌ كَمَا ذُكِرَ فِي بَابِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ يَجْعَلُهُ بَلِيدًا وَإِلَّا فَالْمَسْخُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ عَنِ الْخَطَّابِيِّ جَوَازُ الْمَسْخِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَسْخًا خَاصًّا، وَالْمُمْتَنِعُ الْمَسْخُ الْعَامُّ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَأَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنِ الْبَلَادَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ رَحَلَ إِلَى دِمَشْقَ لِأَخْذِ الْحَدِيثِ عَنْ شَيْخٍ مَشْهُورٍ بِهَا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ جُمْلَةً، لَكِنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابًا وَلَمْ يَرَ وَجْهَهُ، فَلَمَّا طَالَتْ مُلَازَمَتُهُ لَهُ رَأَى حِرْصَهُ عَلَى الْحَدِيثِ كَشَفَ لَهُ السِّتْرَ، فَرَأَى وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ فَقَالَ لَهُ: احْذَرْ يَا بُنَيَّ أَنْ تَسْبِقَ الْإِمَامَ، فَإِنِّي لَمَّا مَرَّ بِي فِي الْحَدِيثِ اسْتَبْعَدْتُ وُقُوعَهُ فَسَبَقْتُ الْإِمَامَ فَصَارَ وَجْهِي كَمَا تَرَى اهـ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ الْمَسْخِ اسْتِبْعَادُ وُقُوعِهِ، وَإِلَّا فَالْوَاقِعُ بِخِلَافِهِ فِي مُخَالَفَةِ النَّاسِ إِمَامَهُمْ فِي الْمُسَابَقَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، وَيَكُونُ حَقِيقَتُهُ فِي الْبَرْزَخِ أَوْ فِي النَّارِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمَسْخُ مُعَلَّقٌ عَلَى عَدَمِ الْخَشْيَةِ الْمُقَارِنَةِ مَعَ الْمُخَالَفَةِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ عَدَمِ الْمُتَابَعَةِ، فَيَنْدَفِعُ بِهِ قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يُرَجِّحُ التَّجَوُّزَ أَنَّ التَّحْوِيلَ الظَّاهِرَ لَمْ يَقَعْ مَعَ كَثْرَةِ رَفْعِ الْمَأْمُومِينَ قَبْلَ الْإِمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1142 - عَنْ عَلِيٍّ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ، فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1142 - (عَنْ عَلِيٍّ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ إِذَا نَوَى وَكَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ (وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ) أَيْ: مِنْ قِيَامٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ قُعُودٍ، (فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ) أَيْ: فَلْيَقْتَدِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَلَا يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَخَّرْ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: فَلْيُوَافِقِ الْإِمَامَ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْقِيَامِ أَوِ الرُّكُوعِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَعْنِي: فَلَا يَنْتَظِرْ رُجُوعَ الْإِمَامِ إِلَى الْقِيَامِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ. (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : لَا نَعْرِفُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ، فَكَانَ التِّرْمِذِيُّ يُرِيدُ تَقْوِيَةَ الْحَدِيثِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّهُ بَلَغَنِي «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفًا غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ قِيلَ لَهُ غُفِرَ لَهُ أَيْضًا» ، فَكُنْتُ ذَكَرْتُ التَّهْلِيلَةَ بِالْعَدَدِ الْمَرْوِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَنْوِيَ لِأَحَدٍ بِالْخُصُوصِ، بَلْ عَلَى الْوَجْهِ الْإِجْمَالِيِّ، فَحَضَرْتُ طَعَامًا مَعَ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَفِيهِمْ شَابٌّ مَشْهُورٌ بِالْكَشْفِ، فَإِذَا هُوَ فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ أَظْهَرَ الْبُكَاءَ فَسَأَلْتُهُ عَنِ السَّبَبِ فَقَالَ: أَرَى أُمِّي فِي الْعَذَابِ فَوَهَبْتُ فِي بَاطِنِي ثَوَابَ التَّهْلِيلَةِ الْمَذْكُورَةِ لَهَا فَضَحِكَ وَقَالَ: إِنِّي أَرَاهَا الْآنَ فِي حُسْنِ الْمَآبِ، قَالَ الشَّيْخُ: فَعَرَفْتُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ بِصِحَّةِ كَشْفِهِ، وَصِحَّةَ كَشْفِهِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ.

1143 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، وَنَحْنُ سُجُودٌ، فَاسْجُدُوا وَلَا تَعُدُّوهُ شَيْئًا، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1143 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، وَنَحْنُ سُجُودٌ) : جَمْعُ سَاجِدٍ، وَحَمَلَ ابْنُ حَجَرٍ السُّجُودَ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ حَيْثُ قَالَ: عَدَلَ إِلَيْهِ عَنْ سَاجِدُونَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَعَ صِحَّةِ الْحَقِيقَةِ لَا يُعْدَلُ إِلَى الْمَجَازِ وَلَوْ كَانَ أَبْلَغَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] (فَاسْجُدُوا وَلَا تَعُدُّوهُ) أَيْ لَا تَحْسِبُوا ذَلِكَ السُّجُودَ (شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكْتُمْ (وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً) أَيْ: رُكُوعًا مَعَ الْإِمَامِ (فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ) أَيِ: الرَّكْعَةَ، وَقِيلَ: ثَوَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، قَالَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَإِلَّا فَغَيْرُهَا يَحْصُلُ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ تَامَّةٍ، سَوَاءٌ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْمَدِينِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مُضْطَرِبٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَيَحْيَى وَثَّقَهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ بِلَفْظِ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْإِمَامُ صُلْبَهُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» ، وَقَالَ جَمْعٌ مُحَدِّثُونَ فُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا تُدْرَكُ الرَّكْعَةُ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ مُطْلَقًا لِخَبَرِ: «مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَلْيَرْكَعْ مَعَهُ وَلْيُعِدِ الرَّكْعَةَ» ، وَرُدَّ بِأَنَّ هَذِهِ مَقَالَةٌ خَارِقَةٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَبِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَعْصَارِ عَلَى رَدِّهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ إِنَّمَا أَجَازَ إِدْرَاكَ الرُّكُوعِ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا مَنْ يَرَاهَا كَأَبِي هُرَيْرَةَ جَوَابُهُ: أَنَّ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ أَجْمَعُوا عَلَى الْإِدْرَاكِ بِنَاءً عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِمَنْ قَبْلَهُمْ.

1144 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى، كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1144 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى لِلَّهِ) أَيْ: خَالِصًا (أَرْبَعِينَ يَوْمًا) أَيْ: وَلَيْلَةً (فِي جَمَاعَةٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِصَلَّى (يُدْرِكُ) : حَالٌ (التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى) : ظَاهِرُهَا التَّكْبِيرَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ مَعَ الْإِمَامِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَشْمَلَ التَّكْبِيرَةَ التَّحْرِيمِيَّةَ لِلْمُقْتَدِي عِنْدَ لُحُوقِ الرُّكُوعِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ إِدْرَاكَ الصَّلَاةِ بِكَمَالِهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ يَتِمُّ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى. (كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ) أَيْ: خَلَاصٌ وَنَجَاةٌ مِنْهَا يُقَالُ: بَرِئَ مِنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْبِ: خَلُصَ (وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يُؤَمِّنُهُ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ الْمُنَافِقِ وَيُوَفِّقُهُ لِعِلْمِ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ، وَفِي الْآخِرَةِ يُؤَمِّنُهُ مِمَّا يُعَذَّبُ بِهِ الْمُنَافِقُ وَيَشْهَدُ لَهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَافِقٍ يَعْنِي: بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى، وَحَالُ هَذَا بِخِلَافِهِمْ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي عَدَدِ الْأَرْبَعِينَ سِرٌّ مَكِينٌ لِلسَّالِكِينَ نَطَقَ بِهِ كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» " فَكَأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْمِقْدَارَ مِنَ الزَّمَانِ مِعْيَارًا لِكَمَالِهِ فِي كُلِّ شَأْنٍ كَمَا كَمُلَتْ لَهُ الْأَطْوَارُ كُلُّ طَوْرٍ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأَسْرَارِ وَدَقَائِقِ الْآثَارِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مَوْقُوفًا نَقَلَهُ مِيرَكُ. قُلْتُ: وَمِثْلُ هَذَا مَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَمَوْقُوفُهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ وَمَعَ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَرَوَى الْبَزَّارُ، وَأَبُو دَاوُدَ، خَبَرَ: «لِكُلِّ شَيْءٍ صَفْوَةٌ وَصَفْوَةُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى، فَحَافِظُوا عَلَيْهَا» ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ إِدْرَاكُهَا سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَكَانَ السَّلَفُ إِذَا فَاتَتْهُمْ عَزَّوْا أَنْفُسَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِذَا فَاتَتْهُمُ الْجَمَاعَةُ عَزَّوْا أَنْفُسَهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ اهـ. وَكَأَنَّهُمْ مَا فَاتَتْهُمُ الْجُمُعَةُ وَإِلَّا فَعَزَّوْا أَنْفُسَهُمْ سَبْعِينَ يَوْمًا.

1145 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ رَاحَ، فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا ; أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا، وَحَضَرَهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1145 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ رَاحَ) أَيْ: ذَهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ، أَيَّ وَقْتٍ كَانَ، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ غَدَا إِلَى رَاحَ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى، (فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّينَ هُمُ النَّاسُ، وَالْبَاقُونَ كَالنِّسْنَاسِ (أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا) أَيْ: مِنْ أَفْرَادِهِمْ (وَحَضَرَهَا) : مِنْ أَوَّلِهَا، وَنُقِلَ عَنْ خَطِّ السَّيِّدِ السِّنْد مَيْر بَادْشَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ فِي نُسْخَةِ شَيْخِ الْمُحَدِّثِينَ جَمَالِ الدِّينِ فَحَضَرَهَا بِالْفَاءِ اهـ. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ صِحَّةِ الْفَاءِ فِي الْمَعْنَى، مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى مَشَايِخِ السُّنَّةِ. (لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا) : مِنَ الْأَجْرِ أَوِ النَّقْصُ لِكَمَالِ فَضْلِ اللَّهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ التَّأْخِيرُ نَاشِئًا عَنِ التَّقْصِيرِ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ يُعْطَى الثَّوَابَ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِيَّةَ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَالْآخَرُ جَبْرًا لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّحَسُّرِ لِفَوَاتِهَا اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يُعْطَى لَهُ بِالنِّيَّةِ أَصْلُ الثَّوَابِ وَبِالتَّحَسُّرِ مَا فَاتَهُ مِنَ الْمُضَاعَفَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ. (وَالنَّسَائِيُّ) .

1146 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ، مَعَهُ؟ " فَقَامَ رَجُلٌ فَصَلَّى مَعَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1146 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: الْعَصْرَ اهـ. وَلَا أَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا فَلَا يُنَافِي مَذْهَبَنَا أَنَّ النَّافِلَةَ مَكْرُوهَةٌ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِهَا وَعَلَى غَيْرِ الْمَغْرِبِ ; إِذْ لَا يُتَنَفَّلُ بِالثَّلَاثِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْإِعَادَةِ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. (فَقَالَ: " أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ) أَيْ: يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ (فَيُصَلِّيَ) : بِالنَّصْبِ (مَعَهُ؟) : لِيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ، فَيَكُونَ كَأَنَّهُ قَدْ أَعْطَاهُ صَدَقَةً، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ أَحَدٍ عَلَى الْخَيْرِ وَتَحْرِيضَهُ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، قَالَ الْمُظْهِرُ: سَمَّاهُ صَدَقَةً ; لِأَنَّهُ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِثَوَابِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ; إِذْ لَوْ صَلَّى مُنْفَرِدًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إِلَّا ثَوَابُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: فَيُصَلِّيَ مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ جَوَابَ قَوْلِهِ: أَلَا رَجُلٌ، كَقَوْلِكَ، أَلَا تَنْزِلُ فَتُصِيبَ خَيْرًا، وَقِيلَ: الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَلَا بِمَعْنَى لَيْسَ، فَعَلَى هَذَا فَيُصَلِّي مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ، وَهَذَا أَوْلَى اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوَ: هَلْ عِنْدَكَ مَاءٌ فَأَشْرَبَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِالنَّصْبِ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ، وَيَصِحُّ الرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى " يَتَصَدَّقُ " الْوَاقِعُ خَبَرًا لِـ " لَا " الَّتِي بِمَعْنَى " لَيْسَ " (فَقَامَ رَجُلٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ. (فَصَلَّى مَعَهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى جَمَاعَةً يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ مَرَّةً أُخْرَى جَمَاعَةً إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، قُلْتُ: الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِ الْمُعِيدِ إِمَامًا مَمْنُوعَةٌ، وَأَيْضًا حُمِلَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ فِي حَضْرَةِ النُّبُوَّةِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُخْتَلَفِ إِلَيْهِ، وَهُوَ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، قَالَ مِيرَكُ: قُلْتُ: الْأَنْسَبُ إِيرَادُ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ فِي بَابِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1147 - «عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أَصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ. فَقَالَ: " ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ "، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: " أَصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ ". قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: " أَصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ ". فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: " أَصَلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا -: يَا عُمَرُ! صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ. ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، وَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، قَالَ: " أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ "، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي بِهِ عَائِشَةُ مِنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هَاتِ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَدِيثَهَا فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1147 - (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ: ابْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَهُ مِيرَكُ: وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: ابْنُ عَمْرٍو غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفَ: هُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) أَيْ: مَرِضِ مَوْتِهِ (قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِضَمِّ الْقَافِ، أَيِ اشْتَدَّ

مَرَضُهُ (فَقَالَ: " أَصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: قُلْتُ: (لَا) أَيْ: مَا صَلَّوْا (يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ) أَيْ: خُرُوجَكَ أَوْ أَمْرَكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنَ الْمُقَدَّرِ، أَيْ: لَمْ يُصَلُّوا، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ (فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةِ عَفِيفٍ قَالَ: (ضَعُوا) : أَمْرٌ مِنَ الْوَضْعِ (لِي) أَيْ: لِأَجْلِي (مَاءً فِي الْمِخْضَبِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ شِبْهُ الْمِرْكَنِ وَهِيَ إِجَانَةٌ يُغْسَلُ فِيهَا الثِّيَابُ. (قَالَتْ: فَفَعَلْنَا) أَيْ: نَحْنُ مَعَ الْخَدَمِ (فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ) أَيْ: شَرَعَ (لِيَنُوءَ) أَيْ: يَقُومُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: النَّوْءُ النُّهُوضُ وَالطُّلُوعُ. (فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ) أَيْ: لِشِدَّةِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ تَنَاهِي الضَّعْفِ وَفُتُورِ الْأَعْضَاءِ عَنْ تَمَامِ الْحَرَكَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَحِكْمَةُ مَا يَعْتَرِيهِمْ مِنَ الْمَرَضِ وَمَصَائِبِ الدُّنْيَا تَكْثِيرُ أُجُورِهِمْ وَتَسْلِيَةُ النَّاسِ بِأَحْوَالِهِمْ وَأُمُورِهِمْ، وَلِئَلَّا يُفْتَنُوا بِهِمْ لِمَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِمْ مِنْ خَوَارِقِ الْمُعْجِزَاتِ. (ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: " أَصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا) : بِلَا فَاءٍ (لَا، هُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَهُمْ (يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ ". قَالَتْ) : كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ مِنَ الْإِغْمَاءِ، وَإِذَا تَكَرَّرَ الْإِغْمَاءُ اسْتُحِبَّ تَكْرَارُ الْغُسْلِ، وَلَوِ اغْتَسَلَ مَرَّةً لِتَعَدُّدِ الْإِغْمَاءِ جَازَ اهـ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الِاغْتِسَالُ لِأَجْلِ التَّبْرِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ عَلَى الِاغْتِسَالِ (ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: " أَصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا ; هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ "، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ) : مِنْ وَقْعِ الْإِغْمَاءِ وَالْإِفَاقَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ الْأَسَنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ: نَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ، فَأَمَّا الشَّهْرُ أَوِ الشَّهْرَيْنِ فَلَا يَجُوزُ كَالْجُنُونِ، (فَقَالَ: " أَصَلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لَا. هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكُلِّيَّةِ بَاطِنِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيَّ أَدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ أُمَّتِهِ، (وَالنَّاسُ عُكُوفٌ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ جَمْعٌ، أَيْ: عَاكِفُونَ مُقِيمُونَ (فِي الْمَسْجِدِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعُكُوفُ: الْإِقَامَةُ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ بِالْمَكَانِ وَلُزُومُهُمَا، (يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: خُرُوجَهُ (لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ) : قَالَ الشَّيْخُ: كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَامِ التَّعْلِيلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَالسَّرْخَسِيِّ: الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ كَأَنَّهُ فَسَّرَ الصَّلَاةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَصَلَّى النَّاسُ " فَذَكَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا هِيَ الْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ. (فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: بِأَنْ) : وَفِي نُسْخَةٍ لِأَنْ (يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ) أَيْ: رَسُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ، قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - وَكَانَ رَجُلًا) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مَقُولُ عَائِشَةَ (رَقِيقًا -) أَيْ: رَقِيقَ الْقَلْبِ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كَانَ رَحِيمًا لَطِيفًا مُتَوَاضِعًا خَلِيقًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ هَيِّنًا لَيِّنًا ضَعِيفًا، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ رَجُلٌ أَسِيفٌ مِنَ الْأَسَفِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ رَقِيقُ الْقَلْبِ، وَفَسَّرَهُ أَحَدُ رُوَاتِهِ بِأَنَّهُ رَقِيقٌ رَحِيمٌ (يَا عُمَرُ! صَلِّ بِالنَّاسِ) : كَأَنَّهُ عُلِمَ بِالْقَرَائِنِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُعَيِّنْهُ عَلَى جِهَةِ الْإِلْزَامِ لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَوْ بِنَاءً عَلَى تَوَاضُعِهِ وَجَوَازِ الْإِذْنِ لِغَيْرِهِ، سِيَّمَا مَعَ ظُهُورِ عُذْرِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْبُكَاءَ فِي قِيَامِهِ مَقَامَهُ مَعَ كَمَالِ رِقَّةِ قَلْبِهِ، وَرَأَى أَنَّ عُمَرَ أَقْوَى قَلْبًا مِنْهُ (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ) أَيْ: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوْ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ (فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ) أَيْ: أَيَّامَ الْمَرَضِ كُلَّهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ السَّبْعَةَ عَشَرَ.

(ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فِي نَفْسِهِ (خِفَّةً) أَيْ: مِنَ الْمَرَضِ وَقُوَّةً عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْجَمَاعَةِ (وَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْعَبَّاسُ) : وَالْآخَرُ: عَلِيٌّ، كَمَا سَيَأْتِي (لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ) أَيْ: شَرَعَ (لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ) أَيْ: أَشَارَ (إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، قَالَ: " أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ "، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) أَيِ الرَّاوِي: (فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) أَيْ: وَعَنْ صَلَاتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالسُّؤَالِ (قَالَ: هَاتِ) : مُفْرَدُ هَاتُوا بِمَعْنَى أَحْضِرْ (فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (حَدِيثَهَا فَمَا أَنْكَرَ) أَيْ: عَلَيْهِ (مِنْهُ) أَيْ: مِمَّا ذَكَرَهُ (شَيْئًا) : مَصْدَرٌ، أَيْ: مَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنَ الْإِنْكَارِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ: مَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ) أَيْ: إِلَّا هَذَا الْإِنْكَارَ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنَّهُ أَنْكَرَ عَدَمَ تَسْمِيَتِهَا لِمَنْ مَعَ الْعَبَّاسِ ; حَيْثُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ (الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟) : قِيلَ: كَأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمْ تُسَمِّ عَلِيًّا مَعَ الْعَبَّاسِ لَمَّا كَانَ عِنْدَهَا شَيْءٌ مِنْ عَلِيٍّ. قُلْتُ: إِنَّمَا هَجَرَتِ اسْمَهُ لَا أَنَّهَا أَبْغَضَتْهُ بِقَلْبِهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا: " «إِنِّي أَعْرِفُ رِضَاكِ وَعَدَمَ رِضَاكِ عَنِّي " فَقَالَتْ: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " تَقُولِينَ عِنْدَ الرِّضَا، لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ". فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَكِنِّي مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ» مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا مَا سَمَّتْهُ لِنِسْيَانِهَا، أَوْ ذُهُولِهَا، أَوْ لِوُقُوعِ الشَّكِّ أَنَّهُ الثَّانِي أَوْ أُسَامَةُ كَمَا قِيلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: وَوَجْهُ عَدَمِ تَسْمِيَتِهَا لَهُ قِيلَ: مَا كَانَ فِي نَفْسِهَا مِنْهُ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ قَبْلَ نُزُولِ بَرَاءَتِهَا: «النِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ» ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهَا سَمَّتْهُ فِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّمَا أَبْهَمَتْهُ فِي هَذِهِ ; لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ أَنَّ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ وَلَدُهُ الْفَضْلُ تَارَةً أُخْرَى وَعَلِيٌّ أُخْرَى، فَإِبْهَامُهُ لِأَنَّهُ تَعَدَّدَ لَا لِمَا ذُكِرَ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْهُ لَكَ أَوْ مَا سَمَّتْهُ لَكَ؟ (قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا» ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ: «آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْقَوْمِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ» ، فَأَوَّلًا: لَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحِ، وَثَانِيًا: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا تَعَارُضَ، فَالصَّلَاةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا إِمَامًا صَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ السَّبْتِ أَوِ الْأَحَدِ، وَالَّتِي كَانَ فِيهَا مَأْمُومًا الصُّبْحُ مِنَ الِاثْنَيْنِ وَهَى آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا حَتَّى خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا ثَبَتَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فِي صَلَاتِهِمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَكَشْفِ السِّتْرِ ثُمَّ إِرْخَائِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ وَأَدْرَكَ مَعَهُ الثَّانِيَةَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْلَعَ عَنْهُ الْوَعْكُ، أَيِ: الْحُمَّى لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ، فَغَدَا إِلَى الصُّبْحِ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغُلَامٍ لَهُ، وَقَدْ سَجَدَ النَّاسُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِثَوْبِهِ فَقَدَّمَهُ فِي مُصَلَّاةٍ فَصُفَّا جَمِيعًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَأَبُو بَكْرٍ يَقْرَأُ، فَرَكَعَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأُخْرَى، ثُمَّ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قَضَى سُجُودَهُ فَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ، وَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّكْعَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي عَهْدِهِ إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِيمَا بَعَثَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ فِي وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَئِذٍ أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ عَنْ عُرْوَةَ فَذَكَرَهُ، فَالصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا أَبُو بَكْرٍ مَأْمُومًا صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَهِيَ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ وَالَّتِي كَانَ فِيهَا إِمَامًا الصُّبْحُ وَهِيَ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا بَيْنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغُلَامٍ لَهُ فَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ الْجَمْعُ اهـ. وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ كَشْفِ السِّتَارَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّ كَشْفَهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَبَسَّمَ ضَاحِكًا، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبِهِ ظَنًّا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَارِجٌ لِلصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ صَلَاةَ الْفَجْرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَمَا أَسْنَدَ عَنْ جَابِرٍ، وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ اقْتِدَاءَ الْجَالِسِينَ بِهِمَا وَهُمَا جَالِسَانِ لِلْمَرَضِ، وَإِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْلَمَا بِالنَّاسِخِ، وَكَذَا مَا حُكِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَمُّوا جَالِسِينَ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَعِلْمُ الْخَاصَّةِ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضٍ وَيَعْزُبُ عَنْ بَعْضٍ اهـ كَلَامُ الْمُحَقِّقِ.

1148 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ، وَمَنْ فَاتَتْهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1148 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَوْقُوفًا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَاحْتِمَالُ الْمَرْفُوعِ بَعِيدٌ، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. (مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ) أَيِ: الرُّكُوعَ (فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ) أَيِ: الرَّكْعَةَ أَوِ الصَّلَاةَ، أَيْ: فَضِيلَةُ جَمَاعَتِهَا بِكَمَالِهَا، (وَمَنْ فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ) أَيْ: بِأَنْ لَمْ يَقْرَأْهَا فِي صَلَاتِهِ وَقَرَأَ غَيْرَهَا، (فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ) ; لِأَنَّهَا أَصْلُ الْقُرْآنِ فَثَوَابُ صَلَاتِهِ نَاقِصٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» "، أَيْ: صَلَاتُهُ نَاقِصَةٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ وَفَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْكِتَابِ، وَإِنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ فَاتَهُ ثَوَابُ كَثِيرٌ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا لَوْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِنَوْعٍ مِنَ التَّقْصِيرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا خُصُوصِيَّةَ بِفَوْتِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ إِذِ الْحُكْمُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَفُوتُ الْمُقْتَدِيَ (رَوَاهُ مَالِكٌ ) .

1149 - وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَخْفِضُهُ قَبْلَ الْإِمَامِ، فَإِنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ الشَّيْطَانِ. رَوَاهُ مَالِكٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1149 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَخْفِضُهُ) أَيِ: الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ (قَبْلَ الْإِمَامِ) أَيْ: قَبْلَ رَفْعِهِ وَخَفْضِهِ، (فَإِنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ الشَّيْطَانِ) : حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا يَعْنِي فِي تَصَرُّفِهِ وَقَبُولِ أَمْرِهِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) : كَانَ الْأَخْصَرُ أَنْ يَقُولَ: رَوَاهُمَا مَالِكٌ.

[باب من صلى صلاة مرتين]

[بَابُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مَرَّتَيْنِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1150 - «عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [29] بَابُ مَنْ صَلَّى أَيْ: فِيمَنْ صَلَّى (صَلَاةً مَرَّتَيْنِ) أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ صُورَةً. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1150 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي) أَيْ: سُنَّةَ الْعَشَاءِ أَوْ نَفْلًا (مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : لِإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ مَعَهُ، وَفِي مَسْجِدِهِ وَلِتَعَلُّمِ الْآدَابِ مِنْهُ (ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ) أَيْ: فَرْضَهُ، وَحَمْلُ فِعْلِ الصَّحَابِيِّ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ جَوَازًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهُوَ عَكْسُ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ الْقَاضِي: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ. قُلْتُ: هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ أَنَّهُ نَوَى بِالصَّلَاتَيْنِ فَرْضَ الْعِشَاءِ قَالَ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُعَادُ إِلَّا الظَّهْرُ وَالْعِشَاءُ فِيهِ مُسَامَحَةٌ ; لِأَنَّ الْإِعَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ وَهِيَ أَنْ يَنْوِيَ بِالثَّانِيَةِ عَيْنَ الْأُولَى مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ، نَعَمْ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعِشَاءَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِإِعَادَتِهِمَا بَعْدَهُمَا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ لِلْعِلَلِ الْآتِيَةِ: قَالَ: أَمَّا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ فَلِلنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَهُمَا. قُلْتُ: وَلِخُصُوصِ خَبَرِ: " «مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً فَلْيُصَلِّ إِلَّا الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ» ". وَقَدْ أُعِلَّ بِالْوَقْفِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، مَعَ أَنَّ عَبْدَ الْحَقِّ قَالَ: وَصَلَهُ ثِقَةٌ، قَالَ: وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِأَنَّهُ وِتْرُ النَّهَارِ فَلَوْ أَعَادَهَا صَارَ شَفْعًا. قُلْتُ: وَلِعِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ النَّفْلَ لَا يَكُونُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ وَإِنْ ضَمَّ رَكْعَةً صَارَ مُخَالِفًا لِلْإِمَامِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الْمَغْرِبَ إِنَّمَا تُعَادُ بِزِيَادَةٍ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَقَوْلٌ شَاذٌّ، قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ قَدْ صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يُعِدْهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّاهَا مُنْفَرِدًا أَعَادَهَا فِي الْجَمَاعَةِ إِلَّا الْمَغْرِبَ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُعِيدُ إِلَّا الْمَغْرِبَ وَالصُّبْحَ، وَقَالَ: عَلَى أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ جَائِزٌ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ نَافِلَةً لِمُعَاذٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قُلْتُ: كَوْنُ الثَّانِيَةِ نَافِلَةً لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ مُعَاذٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ لَفْظُ مُسْلِمٍ: فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ. قُلْتُ: لَيْسَ فِيهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى مُدَّعَاهُمْ.

1151 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْعِشَاءَ وَهِيَ لَهُ نَافِلَةٌ.» رَوَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1151 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ) أَيِ: الْعِشَاءَ الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ نَوَى بِهَا مُعَاذٌ سُنَّةَ الْعِشَاءِ أَوْ نَفْلًا، (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْعِشَاءَ) أَيْ: فَرْضَ الْعِشَاءِ (وَهِيَ) أَيِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ بِالْجَمَاعَةِ نَفْلًا وَفَرْضًا، أَوِ الصَّلَاةَ الْأُولَى، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ وَهَذِهِ (لَهُ نَافِلَةٌ) أَيْ: زِيَادَةُ خَيْرٍ مَثُوبَةً، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَعْنَى هِيَ أَيِ الْعِشَاءُ ثَانِيًا لَهُ نَافِلَةٌ، وَلِقَوْمِهِ مَكْتُوبَةُ الْعِشَاءِ فَمَوْقُوفٌ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ مُعَاذٍ إِذْ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ ; لِأَنَّ النِّيَّةَ بِقَلْبِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْهُمَامِ أَنَّ النِّيَّةَ بِاللِّسَانِ بِدْعَةٌ مَا وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ فِي الصَّحِيحِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا وَتَسْلِيمِهِمْ فِي تَأْوِيلِهَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ ظَنِّ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ. (رَوَاهُ) : بَيَّضَ لَهُ الْمُصَنِّفُ لِيُبَيِّنَ رَاوِيَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يُبَيِّنِ الْمُؤَلِّفُ رَاوِيَهُ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ مَا وَجَدَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أُثْبِتَ فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ طَرِيقَيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَمَّا الثَّانِي بِالزِّيَادَةِ الَّتِي فِيهِ وَهِيَ قَوْلُهُ: نَافِلَةٌ لَهُ، فَلَمْ نَجِدْهُ فِي أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَلِّفُ أَوْرَدَهُ بَيَانًا لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَخَفِيَ قَصْدُهُ لِإِهْمَالِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، أَوْ هُوَ سَهْوٌ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَزِيدًا مِنْ خَائِضٍ اقْتَحَمَ بِهِ الْفُضُولُ إِلَى مَهَامِهَ لَمْ يَعْرِفْ طُرُقَهَا. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، قَالَ مِيرَكُ: لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِهِ: وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ فَكَانَ يَنْبَغِي تَأْخِيرُهُ لِلْحِسَابِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا فِي أَحَدِهِمَا وَلَا فِي وَاحِدٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَإِنَّمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: وَهِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةُ الْعِشَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: هَذِهِ زِيَادَةٌ صَحِيحَةٌ اهـ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ مَعْنًى لِمُوَافَقَةِ مَذْهَبِهِ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَجَاءَ بِهِ تَامًّا، وَسَاقَهُ أَحْسَنَ مِنْ سِيَاقِ ابْنِ جُرَيْجٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ جَابِرٍ، فَمِنْ أَيِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كَانَ الْقَوْلُ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حَقِيقَةِ فِعْلِ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَذَلِكَ أَمْ لَا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا ذَلِكَ عَنْ مُعَاذٍ إِنَّمَا قَالُوا قَوْلًا عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أُخْبِرَ بِهِ لَأَقَرَّهُ أَوْ غَيَّرَهُ، وَلَوْ كَانَ أَمْرًا مِنْهُ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ تُصَلَّى مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَحْمَدَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَأْتِينَا بَعْدَمَا نَنَامُ، وَنَكُونُ فِي أَعْمَالِنَا بِالنَّهَارِ فَيُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَنَخْرُجُ إِلَيْهِ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مُعَاذُ لَا تَكُنْ فَتَّانًا إِمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَلَى قَوْمِكَ» ".

الْفَصْلُ الثَّانِي 1152 - «عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ وَانْحَرَفَ. فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ، قَالَ: " عَلَيَّ بِهِمَا "، فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا. فَقَالَ: " مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ " فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَالَ: " فَلَا تَفْعَلَا، إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1152 - (عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: شَهِدْتُ) أَيْ: حَضَرْتُ (مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ) أَيْ: حَجَّةَ الْوَدَاعِ (فَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ) : وَهُوَ مَسْجِدٌ مَشْهُورٌ بِمِنًى، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخَيْفُ مَا انْحَدَرَ مِنْ غَلِيظِ الْجَبَلِ وَارْتَفَعَ عَنِ الْمَسِيلِ، يَعْنِي هَذَا وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ بِهِ. (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ) أَيْ: أَدَّاهَا وَسَلَّمَ مِنْهَا (وَانْحَرَفَ) أَيِ:

انْصَرَفَ عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ جَعَلَ يَمِينَهُ لِلْمَأْمُومِينَ وَيَسَارَهُ لِلْقِبْلَةِ كَمَا هُوَ السُّنَّةُ (فَإِذَا هُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِرَجُلَيْنِ) أَيْ: حَاضِرَيْهِمَا (فِي آخِرِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ، قَالَ: " عَلَيَّ) : اسْمُ فِعْلٍ (بِهِمَا) أَيْ: ائْتُونِي بِهِمَا وَأَحْضِرُوهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَيَّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَهُمَا حَالٌ، أَيْ أَقْبِلَا عَلَيَّ وَأْتِيَا بِهِمَا، أَوِ اسْمُ فِعْلٍ وَبِهِمَا مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أَيْ: أَحْضِرْهُمَا عِنْدِي (فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ تُحَرَّكُ مِنْ أَرْعَدَ الرَّجُلُ إِذْ أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ وَهَى الْفَزَعُ وَالِاضْطِرَابُ. (فَرَائِصُهُمَا) : جَمْعُ الْفَرِيصَةِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ جَنْبِ الدَّابَّةِ وَكَتِفِهَا، وَهِيَ تَرْجُفُ عِنْدَ الْخَوْفِ، أَيْ تَتَحَرَّكُ وَتَضْطَرِبُ، وَالْمَعْنَى يَخَافَانِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَثْنِيَةُ فَرِيصَةٍ وَهْمٌ مِنْهُ. نَعَمْ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّثْنِيَةُ وَلَمْ يَأْتِ بِهَا حَذَرًا مِنِ اجْتِمَاعِ التَّثْنِيَتَيْنِ فِي كَلِمَتَيْنِ عُدَّتَا كَلِمَةً لِكَمَالِ امْتِزَاجِهِمَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] هَذَا وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنَ الْجَمْعِيَّةِ ; لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرِيصَتَانِ. (فَقَالَ: " مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟) : مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا) أَيْ: مَنَازِلِنَا (قَالَ: " فَلَا تَفْعَلَا) أَيْ: كَذَلِكَ ثَانِيًا (إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ) أَيْ: مَعَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ (فَإِنَّهُمَا) أَيِ: الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةُ (لَكُمَا نَافِلَةٌ) : أَوِ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ زَائِدَةٌ فِي الْمَثُوبَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الصَّارِفُ لِلْأَمْرِ مِنَ الْوُجُوبِ جَعَلَهَا نَافِلَةً، وَالْجَوَابُ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ النَّفْلِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ لِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مُقَدَّمٌ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا قَبْلَ النَّهْيِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَعْلُومَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَكَيْفَ وَفِيهِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذَا صَلَّيْتَ فِي أَهْلِكَ ثُمَّ أَدْرَكْتَ فَصَلِّهَا إِلَّا الْفَجْرَ وَالْمَغْرِبَ» " قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ سَهْلُ بْنُ صَالِحٍ الْأَنْطَاكِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ وَقْفُ مَنْ وَقَفَهُ ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَخْفَى وَجْهُ تَعْلِيلِ إِخْرَاجِهِ الْفَجْرَ مِمَّا يَلْحَقُ بِهِ الْعَصْرُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقْلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1153 - «عَنْ بُسْرِ بْنِ مِحْجَنٍ عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُذِّنَ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى، وَرَجَعَ، وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ؟ أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَلَكِنِّي كُنْتُ قَدْ صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جِئْتَ الْمَسْجِدَ، وَكُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ ; فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1153 - (عَنْ بُسْرٍ) : بِضَمٍّ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ الْجَزَرِيَّةِ، وَقَدْ عَدَّ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ مَنِ اسْمُهُ بُسْرٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ، بُسْرَ بْنَ مِحْجَنٍ الدَّيْلَمِيَّ، ثُمَّ ذَكَرَ: وَقِيلَ: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَالْمُعْجَمَةِ، صَدُوقُ الرِّوَايَةِ، يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: حِجَازِيٌّ، وَقِيلَ: صَحَابِيٌّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ. (ابْنُ مِحْجَنٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ (عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ) أَيْ أَبَاهُ (كَانَ فِي مَجْلِسٍ) أَيْ: دَاخِلَ الْمَسْجِدِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُذِّنَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (بِالصَّلَاةِ) أَيْ: أُقِيمَ (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَوْ أُذِّنَ فَقَامَ بَعْدَ الْإِقَامَةِ (فَصَلَّى، وَرَجَعَ، وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ) أَيْ: مَكَانِهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْهُ، (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ) أَيْ: جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ (أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ " فَقَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَلَكِنِّي كُنْتُ قَدْ

صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا جِئْتَ الْمَسْجِدَ وَكُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلِّ) أَيْ: نَافِلَةً لَا قَضَاءً وَلَا إِعَادَةً (مَعَ النَّاسِ وَإِنْ) : وَصْلِيَّةٌ، أَيْ: وَلَوْ (كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَكُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ اهـ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالِي: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119] وَخَصَّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالنَّسَائِيُّ ) .

1154 - «وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ، قَالَ: يُصَلِّي أَحَدُنَا فِي مَنْزِلِهِ الصَّلَاةَ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ، وَتُقَامُ الصَّلَاةُ، فَأُصَلِّي مَعَهُمْ، فَأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: سَأَلَنَا عَنْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " فَذَلِكَ لَهُ سَهْمُ جَمْعٍ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1154 - (وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ) : قَبِيلَةٌ (أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ، قَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (يُصَلِّي أَحَدُنَا فِي مَنْزِلِهِ الصَّلَاةَ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ، وَتُقَامُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَتُقَامُ (الصَّلَاةُ، فَأُصَلِّي مَعَهُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقُولَ: أُصَلِّي فِي مَنْزِلِي، بَدَلَ قَوْلِهِ: يُصَلِّي أَحَدُنَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: فَيُصَلِّي مَعَهُمْ فَالْتَفَتَ وَكَذَا قَوْلُهُ: (فَأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا) أَيْ: شُبْهَةً (مِنْ ذَلِكَ) : هَلْ لِي أَوْ عَلَيَّ؟ (فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ) أَيْ: عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، أَيِ: الْآتِي وَهُوَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مِنْ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بَعْدَمَا صَلَّاهَا مُنْفَرِدًا اهـ. وَتَسْمِيَتُهَا إِعَادَةً مَجَازٌ إِذِ الثَّانِيَةُ نَافِلَةٌ فَهِيَ غَيْرُ الْأُولَى، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْإِعَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مَكْرُوهَةٌ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهَا خِلَافُ الْأَوْلَى. (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ: (فَذَلِكَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا الرَّجُلُ خِلَافَ مَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (لَهُ سَهْمُ جَمْعٍ) أَيْ: نَصِيبٌ مِنْ ثَوَابِ الْجَمَاعَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: فَأَجِدُ فِي نَفْسِي، أَيْ أَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ حَزَازَةً هَلْ ذَلِكَ لِي أَوْ عَلَيَّ؟ فَقِيلَ: لَهُ سَهْمُ جَمْعٍ، أَيْ: ذَلِكَ لَكَ لَا عَلَيْكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنِّي أَجِدُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ رَوْحًا أَوْ رَاحَةً، فَقِيلَ: ذَلِكَ الرَّوْحُ نَصِيبُكَ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ اهـ. وَهَذَا الْجَوَابُ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ مَا حَدَثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ تَعَدُّدِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَابْتُلِيَ بِهِ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ الْمُوَافِقِ فِي الْفَرْضِ أَوْلَى، ثُمَّ إِذَا صَلَّى نَافِلَةً قَبْلَ الْفَرْضِ أَوْ بَعْدَهُ مَعَ الْإِمَامِ الْمُخَالِفِ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ يَكُونُ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَى. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

1155 - «وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَجَلَسْتُ وَلَمْ أَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآنِي جَالِسًا، فَقَالَ: " أَلَمْ تُسْلِمْ يَا يَزِيدُ؟ " قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: " وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَعَ النَّاسِ فِي صَلَاتِهِمْ؟ " قَالَ: إِنِّي كُنْتُ قَدْ صَلَّيْتُ فِي مَنْزِلِي، أَحْسَبُ أَنْ قَدْ صَلَّيْتُمْ. فَقَالَ: " إِذَا جِئْتَ الصَّلَاةَ فَوَجَدْتَ النَّاسَ، فَصَلِّ مَعَهُمْ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ، تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً، وَهَذِهِ مَكْتُوبَةٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1155 - عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَجَلَسْتُ وَلَمْ أَدْخُلْ مَعَهُمْ) : دَفْعٌ لِوَهْمِ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ جَلَسَ وَاقْتَدَى (فِي الصَّلَاةِ) : يَعْنِي إِذْ كُنْتُ صَلَّيْتُ (فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآنِي جَالِسًا) أَيْ: عَلَى غَيْرِ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ (فَقَالَ: " أَلَمْ تُسْلِمْ) أَيْ: أَمَا أَسْلَمْتَ (يَا يَزِيدُ؟ قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ، فَقُلْتُ: (بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ أَسْلَمْتُ) : فِيهِ تَأْكِيدَانِ (قَالَ: " وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَعَ النَّاسِ فِي صَلَاتِهِمْ؟) : فَإِنَّهُ مِنْ عَلَامَةِ الْإِسْلَامِ الدَّالِّ عَلَى الْإِيمَانِ (قَالَ: إِنِّي كُنْتُ قَدْ صَلَّيْتُ فِي مَنْزِلِي، أَحْسَبُ أَنْ قَدْ صَلَّيْتُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ

حَالِيَةٌ، أَيْ: ظَانًّا فَرَاغَ صَلَاتِكَمْ اهـ. فَفِيهِ اعْتِذَارَانِ. (فَقَالَ: " إِذَا جِئْتَ الصَّلَاةَ) أَيِ: الْجَمَاعَةَ أَوْ مَسْجِدَهَا (فَوَجَدْتَ النَّاسَ يُصَلُّونَ) أَيْ: مُصَلِّينَ (فَصَلِّ مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ) : لِيَحْصُلَ لَكَ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ وَزِيَادَةُ النَّافِلَةِ (تَكُنْ) أَيْ: صَلَاتُكَ الْأُولَى (لَكَ نَافِلَةً) : بِالنَّصْبِ (وَهَذِهِ) أَيِ: الَّتِي صَلَّيْتَهَا الْآنَ، قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ الْعَكْسَ (مَكْتُوبَةٌ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي جَعْلِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُسْقِطَةِ لِلْقَضَاءِ نَافِلَةً، وَالصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُسْقِطَةٍ لِلْقَضَاءِ فَرِيضَةً، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ تُصَلَّى بِالْجَمَاعَةِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ اعْتِدَادَهَا اهـ. وَهُوَ مُشِيرٌ إِلَى كَوْنِ الْجَمَاعَةِ وَاجِبَةً أَوْ فَرْضًا أَوْ شَرْطًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ) .

1156 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: إِنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِي، ثُمَّ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْإِمَامِ، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ، أَيَّتَهُمَا أَجْعَلُ صَلَاتِي؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَذَلِكَ إِلَيْكَ؟ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَجْعَلُ أَيَّتَهُمَا شَاءَ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1156 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: إِنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِي) أَيْ بِالْجَمَاعَةِ أَوِ الِانْفِرَادِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ " ثُمَّ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْإِمَامِ، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ؟) أَيْ: أَزِيدُ فِي صَلَاتِي فَأُصَلِّي مَعَهُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوِ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَتَقْدِيمُ الْهَمْزَةِ لِلصَّدَارَةِ، (قَالَ لَهُ: نَعَمْ قَالَ الرَّجُلُ: أَيَّتَهُمَا) : بِالنَّصْبِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِالرَّفْعِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، أَيْ: أَيَّةَ الصَّلَاتَيْنِ (أَجْعَلُ صَلَاتِي؟) أَيْ: أَعُدُّ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيَّ مِنْهُمَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَخُصَّ إِحْدَاهُمَا بِالنَّفْلِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّسْخِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّ الْإِعَادَةَ مَكْرُوهَةٌ بِغَيْرِ سَبَبٍ عِنْدَنَا. (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَذَلِكَ إِلَيْكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِخْبَارٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) : وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ مَالِكٍ (يَجْعَلُ أَيَّتَهُمَا شَاءَ) ; لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ مَخْفِيٌّ عَلَى الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَجْعَلُونَ الْأُولَى فَرِيضَةً، وَأَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْأُولَى فَسَادٌ، فَيَحْسِبُ اللَّهُ تَعَالَى نَافِلَتَهُ بَدَلًا عَنْ فَرِيضَتِهِ، فَالِاعْتِبَارُ الْأُخْرَوِيُّ غَيْرُ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ الدُّنْيَوِيِّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَأَفْتَى بِهِ أَنَّ الْفَرْضَ إِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا، لَكِنْ صَرَّحَ خَبَرُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ: " «صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، أَيْ لِأَوَّلِهِ، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً» " اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ إِذْ لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْفَرِيضَةَ نَافِلَةً وَالنَّافِلَةَ فَرِيضَةً. (رَوَاهُ مَالِكٌ ) .

1157 - «وَعَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْنَا ابْنَ عُمَرَ عَلَى الْبَلَاطِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ. فَقُلْتُ: أَلَا تُصَلِّي مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: قَدْ صَلَّيْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1157 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى مَيْمُونَةَ قَالَ: أَتَيْنَا ابْنَ عُمَرَ عَلَى الْبَلَاطِ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ ضَرْبٌ مِنَ الْحِجَارَةِ يُفْرَشُ بِهِ الْأَرْضُ، ثُمَّ سُمِّيَ الْمَكَانُ بَلَاطًا اتِّسَاعًا، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (وَهُمْ) أَيْ: أَهْلُهُ (يُصَلُّونَ. فَقُلْتُ: أَلَا تُصَلِّي مَعَهُمْ؟ قَالَ: قَدْ صَلَّيْتُ) : وَلَعَلَّهُ صَلَّى جَمَاعَةً، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ صُبْحًا أَوْ عَصْرًا أَوْ مَغْرِبًا (وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تُصَلُّوا صَلَاةً) أَيْ: وَاحِدَةً بِطَرِيقَةِ الْفَرِيضَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ (فِي يَوْمٍ) أَيْ: فِي وَقْتٍ (مَرَّتَيْنِ) أَيْ: بِالْجَمَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا إِلَّا إِذَا وَقَعَ نُقْصَانٌ فِي الْأُولَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، قَالَ مِيرَكُ: إِنْ حُمِلَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ كَانَ مُنَافِيًا لِحَدِيثِ مُعَاذٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يُصَلِّيهَا مَعَ قَوْمِهِ. قُلْتُ: يُحْمَلُ فِعْلُ مُعَاذٍ عَلَى عَدَمِ الْإِعَادَةِ بِأَنَّهُ نَوَى أَوَّلًا نَفْلًا، ثُمَّ نَوَى فَرْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، أَوْ بِالْعَكْسِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِعَادَةِ صَلَاةِ الْفَرْضِ مُنْفَرِدًا جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ أَحَادِيثِ الْبَابِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ مَنْ صَلَّى وَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ مُنْفَرِدًا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ مَنْعُ الْإِعَادَةِ إِلَّا مَا وَرَدَ بِهِ الدَّلِيلُ، وَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي الْإِعَادَةِ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ. قُلْتُ: مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَذْهَبِنَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ جَوَابًا لِلسَّائِلِ ; إِذْ كَلَامُهُ فِي الْإِعَادَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ تَصْرِيحٌ بِالْإِعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِنَّمَا هِيَ إِعَادَةٌ صُورِيَّةٌ، فَيَكُونُ النَّهْيُ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَاتِّفَاقًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهَذَا أَوْلَى، وَبِالِاخْتِيَارِ أَحْرَى. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

1158 - وَعَنْ نَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَوِ الصُّبْحَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُمَا مَعَ الْإِمَامِ ; فَلَا يَعُدْ لَهُمَا. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1158 - (وَعَنْ نَافِعٍ) أَيْ: مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (قَالَ) أَيْ: نَافِعٌ (إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَوِ الصُّبْحَ) : وَفِي مَعْنَاهُ الْعَصْرُ (ثُمَّ أَدْرَكَهُمَا مَعَ الْإِمَامِ، فَلَا يَعُدْ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الْعَوْدِ (لَهُمَا) أَيْ: لِلصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِلَلِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

[باب السنن وفضائلها]

[بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1159 - عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ; بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ: أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، " وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ ; إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» ". [30 -] بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا أَيِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ (وَفَضَائِلِهَا) : فِي أَوْقَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ السُّنَّةَ، وَالنَّفْلَ، وَالتَّطَوُّعَ، وَالْمَنْدُوبَ، وَالْمُسْتَحَبَّ، وَالْمُرَغَّبَ فِيهِ، وَالْحَسَنَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا رَجَّحَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَجَازَ تَرْكُهُ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمَسْنُونِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ اتِّفَاقًا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَأَجْنَحَ وَخَسِرَ، فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْئًا قَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلُ بِهِ مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ» "، قَالَ النَّوَوِيُّ: تَصِحُّ النَّوَافِلُ وَتُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ نَاقِصَةً لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَخَبَرُ: لَا تُقْبَلُ نَافِلَةُ الْمُصَلِّي حَتَّى يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ: ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى الرَّاتِبَةِ الْبَعْدِيَّةِ لِتَوَقُّفِ صِحَّتِهَا عَلَى صِحَّةِ الْفَرْضِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ ذَاتِهَا، بَلْ يَتَوَقَّفُ بَعْدِيَّتُهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ غَيْرِهِ لَا تَصِحُّ النَّافِلَةُ مِمَّنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا. ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ أَثِمَ فَإِثْمُهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1159 - (عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ) : وَهِيَ أُخْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثْنَتَيْ عَشْرَةَ» ) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَتُكْسَرُ (رَكْعَةً) : بِسُكُونِ الْكَافِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْوَاضِحَاتِ ; لِأَنَّهَا عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ تَجْرِي بِفَتْحِهَا لِكَوْنِ جَمْعِهَا كَذَلِكَ، (بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ) : مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ النِّعْمَةِ (أَرْبَعًا) : بَدَلُ تَفْصِيلٍ (قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ) : وَكُلُّهَا مُؤَكَّدَةٌ وَآخِرُهُ آكَدُهَا حَتَّى قِيلَ بِوُجُوبِهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي رَدِّ قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ بِوُجُوبِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَفِي رَدِّ قَوْلِ الْحَسَنِ أَيْضًا بِوُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَوْ تَرَكْتُهَا لَخَشِيتُ أَنْ لَا يُغْفَرَ لِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي الصِّحَاحِ وَتَرَكَ الصَّحِيحَ الْآتِي. (وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ لِمُسْلِمٍ (أَنَّهَا) أَيْ: أَمُّ حَبِيبَةَ (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ) أَيْ: وَلَيْلَةٍ (ثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا) : وَهُوَ مَا لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا السُّنَّةُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ. (غَيْرُ فَرِيضَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْكِيدٌ لِلتَّطَوُّعِ، فَإِنَّ التَّطَوُّعَ التَّبَرُّعُ مِنْ نَفْسِهِ بِفِعْلٍ مِنَ الطَّاعَةِ وَهِيَ قِسْمَانِ: رَاتِبَةٌ وَهِيَ الَّتِي دَاوَمَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْرُ رَاتِبَةٍ وَهَذَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالرُّتُوبُ الدَّوَامُ اهـ. أَوْ مَعْنَاهُ طَوْعًا وَرَغْبَةً لَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَكُونُ غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا أَوْ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ. (إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ اهـ. فَكَانَ حَقُّ مُحْيِي السُّنَّةِ أَنْ يَذْكُرَ حَدِيثَ مُسْلِمٍ فِي الصِّحَاحِ، وَحَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ فِي الْحِسَانِ، لِيَكُونَ لِإِجْمَالِ مُسْلِمٍ كَالْبَيَانِ.

1160 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ» ، قَالَ: وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1160 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَرَادَ مَعِيَّةَ الْمُشَارَكَةِ لَا مَعِيَّةَ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا فِي النَّفْلِ مَكْرُوهَةٌ سِوَى التَّرَاوِيحِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] (رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ) : وَالتَّثْنِيَةُ لَا تُنَافِي الْجَمْعَ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رُوِيَ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ. (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ لِلْأَخِيرَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَائِدٌ إِلَى الْكُلِّ، وَيُوَافِقُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: " «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» "، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَنَا قَوْلُهُ: (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَيْضًا صَلَّى فِي بَيْتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُؤَيِّدُهُ مَا بَعْدَهُ. (قَالَ) أَيْ: ابْنُ عُمَرَ (وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ) أَيْ: أُخْتُهُ بِنْتُ عُمَرَ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْرَأُ فِيهِمَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ خَاصَّةً ; إِذْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ: رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ حَتَّى أَقُولَ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ؟ ثُمَّ أَوْرَدَ أَحَادِيثَ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ. {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ (الْإِخْلَاصَ) وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْأُولَى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الْآيَةَ، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] إِلَى قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] وَفِي رِوَايَةٍ فِي الثَّانِيَةِ: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] اهـ. مُلَخَّصًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] قَالَ الْجَزَرِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي قِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ، أَنَّهُمَا لِمَ اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِ اللَّهِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْكَافِرِينَ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ كَانَ الِافْتِتَاحُ بِهِ أَوَّلَ الصُّبْحِ لِتَشْهَدَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيِّ: " «اقْرَأْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» "، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَخْفِيفِهِمَا، أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي ثُلُثَ اللَّيْلِ أَوْ أَكْثَرَ، فَقَصَدَ أَنْ يَتَوَفَّرَ نَشَاطُهُ لِلْفَرْضِ، فَكَلَامُ عَائِشَةَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ.

1161 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1161 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (لَا يُصَلِّي) أَيْ شَيْئًا (بَعْدَ الْجُمُعَةِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَسْكُنُ (حَتَّى يَنْصَرِفَ) أَيْ: حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ (فَيُصَلِّي) : بِالرَّفْعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ لَا مِنْ حَيْثُ التَّشْرِيكِ عَلَى يَنْصَرِفَ، أَيْ: لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَإِذَا انْصَرَفَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَيْهِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ الصَّلَاةَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ ; إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ لَا يُصَلِّي حَتَّى يُصَلِّيَ، وَلَيْسَ مُرَادًا لِفَسَادِهِ (رَكْعَتَيْنِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِهِمَا سُنَّةَ الْجُمُعَةِ وَسُنَّتُهَا كَسُنَّةِ الظُّهْرِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: (فِي بَيْتِهِ) : عَمَلًا بِالْأَفْضَلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ ثَابِتَةٍ. أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا وَسَيَأْتِي أَيْضًا. وَفِي رِوَايَةٍ: بَعْدَهَا سِتًّا، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ.

1162 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ تَطَوُّعِهِ، فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ فِيهِنَّ الْوَتْرُ، وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1162 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ) : تَابِعِيٌّ (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَيْلًا وَنَهَارًا مَا عَدَا الْفَرَائِضَ. وَلِذَا قَالَ (عَنْ تَطَوُّعِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ، يَعْنِي بِلَفْظِ (عَنْ) أَوْلَى مِمَّا فِي الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنَ التَّطَوُّعِ. اهـ. فَتَكُونُ " مِنْ " بَيَانِيَّةً وَالْأَوْلَوِيَّةُ بِاعْتِبَارِ الْأَصَحِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى جَائِزَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ، سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ لَفْظِ النُّبُوَّةِ. (فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا) : هَذَا دَلِيلٌ لِمُخْتَارِ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمُؤَكَّدَةَ قَبْلَهَا أَرْبَعٌ، (ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ. ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) : وَلَعَلَّ وَجْهَ تَرْكِ الْعَصْرِ ; لِأَنَّهَا بِصَدَدِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ (وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ ثُمَّ يَدْخُلُ) ، أَيْ: بَيْتِي (فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ أَدَاءِ السُّنَّةِ فِي الْبَيْتِ، قِيلَ: فِي زَمَانِنَا إِظْهَارُ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ أَوْلَى لِيَعْلَمَهَا النَّاسُ. اهـ. أَيْ: لِيَعْلَمُوا عِلْمَهَا، أَوْ لِئَلَّا يَنْسُبُوهُ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُتَابَعَةَ السُّنَّةِ أَوْلَى مَعَ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ الْمَوْلَى. (وَكَانَ) ، أَيْ: أَحْيَانًا (يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) ، أَيْ: بَعْضَ أَوْقَاتِهِ وَسَاعَاتِهِ (تِسْعَ رَكَعَاتٍ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ تَارَةً، وَإِحْدَى عَشْرَةَ تَارَةً وَأَنْقَصَ تَارَةً. اهـ. وَجَاءَ فِي مُسْلِمٍ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، كَمَا سَيَأْتِي (فِيهِنَّ) ، أَيْ: فِي جُمْلَتِهِنَّ وَعَقِبِهِنَّ (الْوَتْرُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ: الْوَتْرُ وَالتَّهَجُّدُ سَوَاءٌ، وَقِيلَ الْوَتْرُ غَيْرُ التَّهَجُّدِ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَهَلْ جَمِيعُهَا وَتْرٌ أَمْ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْبَاقِي صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ فَالْمَفْهُومُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْوَتْرِ أَنَّ جَمِيعَهَا وَتْرٌ، وَلَيْسَ صَلَاةُ اللَّيْلِ غَيْرَ الْوَتْرِ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ صَلَّى الْوَتْرَ قَبْلُ ثُمَّ نَامَ وَقَامَ وَصَلَّى، فَإِنَّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ صَلَاةُ اللَّيْلِ. اهـ. وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الْوَتْرَ غَيْرُ التَّهَجُّدِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَاجِبٌ مُنْحَصِرٌ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ بِسَلَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا، غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَوْ أَوَّلِهِ بِشَرْطِ وُقُوعِهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، سَوَاءٌ بَعْدَ نَوْمٍ أَوْ قَبْلَهُ، إِلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ لِمَنْ يَثِقُ بِالِانْتِبَاهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وَتْرًا» "، وَأَمَّا الثَّانِي: فَسُنَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِآخِرِ اللَّيْلِ مُطْلَقًا، أَوْ بِنَوْمٍ قَبْلَهُ، أَمَّا الْأَحَادِيثُ فَسَيَأْتِي بَيَانُهَا مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا) ، أَيْ: زَمَانًا طَوِيلًا مِنَ اللَّيْلِ (قَائِمًا وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا) : قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ.: يَعْنِي يُصَلِّي صَلَاةً كَثِيرَةً مِنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، أَوْ يُصَلِّي رَكَعَاتٍ مُطَوَّلَةً فِي بَعْضِ اللَّيَالِي مِنَ الْقِيَامِ، وَفِي بَعْضِهَا مِنَ الْقُعُودِ. (وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ) ، أَيْ: لَا يَقْعُدُ قَبْلَ الرُّكُوعِ. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: يَنْتَقِلُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَيْهِمَا، وَكَذَا التَّقْدِيرُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، أَيْ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمَا مِنَ الْقُعُودِ. (وَكَانَ إِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ) ، أَيْ: لَا يَقُومُ لِلرُّكُوعِ. كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى كَرَاهَةِ الرُّكُوعِ قَائِمًا لِمَنِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا. قُلْتُ: لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ إِلَى الْأَفْضَلِ، قَالَ: وَحُجَّتُهُمْ مَا رُوِيَ بِأَسَانِيدَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ آيَةً، أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ ". فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَرْكَعُ قَائِمًا، فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الرُّكُوعَ قَائِمًا، وَمَنْ أَثْبَتَ الرُّكُوعَ قَاعِدًا لَا يَنْفِي هَذَا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الرُّكُوعَ قَاعِدًا فِي حَالٍ وَقَائِمًا فِي حَالٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى (وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ) ، أَيْ: ظَهَرَ الصُّبُحُ (صَلَّى) وَفِي نُسْخَةٍ يُصَلِّي (رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: خَفِيفَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُنَنِ الصُّبْحِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى الشَّيْخِ مُحْيِي السُّنَّةِ حَيْثُ أَدْرَجَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ. (ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ) ، أَيْ: فَرْضَ الصُّبْحِ.

1163 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1163 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ) ، أَيْ: عَلَى مُحَافَظَةِ شَيْءٍ (مِنَ النَّوَافِلِ) ، أَيِ الزَّوَائِدِ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنَ السُّنَنِ (أَشَدَّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: خَبَرُ (لَمْ يَكُنْ) وَيَجُوزُ خِلَافُ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، أَيْ أَكْثَرَ (تَعَاهُدًا) أَيْ: مُحَافَظَةً وَمُدَاوَمَةً (مِنْهُ) ، أَيْ: مِنْ تَعَاهُدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهَا " عَلَى " مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهَا (تَعَاهُدًا) وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ التَّمْيِيزِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَ (لَمْ يَكُنْ) (عَلَى شَيْءٍ) أَيْ: لَمْ يَكُنْ يَتَعَاهَدُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ، وَ (أَشَدَّ تَعَاهُدًا) حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ عَلَى تَأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ التَّعَاهُدُ مُتَعَاهَدًا، كَقَوْلِهِ: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. اهـ. وَحِينَئِذٍ (عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) يَتَعَلَّقُ بِتَعَاهُدًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ أَسْرَعَ مِنْهُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلَا إِلَى غَنِيمَةٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: " عَلَيْكَ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَإِنَّ فِيهِمَا فَضِيلَةً» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَا تَدَعُوا الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَإِنَّ فِيهِمَا الرَّغَائِبَ» ". وَرَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا بِلَفْظِ: " «هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ فِيهِمَا رَغَبُ الدَّهْرِ» " وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

1164 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1164 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ") ، أَيْ: فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَمَا هُوَ دُنْيَوِيٌّ لَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الصَّادِرَةُ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ حَمَلَ الدُّنْيَا عَلَى أَعْرَاضِهَا وَزَهْرَتِهَا، فَالْخَيْرُ إِمَّا مُجْرًى عَلَى زَعْمِ مَنْ يَرَى فِيهَا خَيْرًا، أَوْ يَكُونُ مِنْ بَابِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا، وَإِنْ حَمَلَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَتَكُونُ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْهُمَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَخَبَرُ مُسْلِمٍ: " أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " الصَّلَاةُ جَوْفَ اللَّيْلِ " مَحْمُولٌ عَلَى النَّفْلِ الْمُطْلَقِ.

1165 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ» "، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: " لِمَنْ شَاءَ " كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1165 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ") ، أَيْ: رَكْعَتَيْنِ. كَمَا فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، قَالَ مُحْيِي الدِّينِ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْغُرُوبِ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ، أَوْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِمَا وَرَدَ: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ. وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَشْهَرُهُمَا لَا يُسْتَحَبُّ، وَالْأَصَحُّ يُسْتَحَبُّ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَعَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَالْخَلَفِ، كَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَلَمْ يَسْتَحِبَّهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. قُلْتُ: وَإِمَامُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: وَذَلِكَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ عَنْ وَقْتِهِ، أَيْ: عَنْ وَقْتِهِ الْحَقِيقِيِّ عِنْدَ مَالِكٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَنْ وَقْتِهِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (قَالَ فِي الثَّالِثَةِ) ، أَيْ: عَقِبَهَا (" لِمَنْ شَاءَ ") ، أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ لِمَنْ شَاءَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (كَرَاهِيَةَ) ، أَيْ: عِلَّةٌ لِقَالَ، أَيْ: مَخَافَةَ (أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ غَيْرُهُ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: سُنَّةٌ، أَيْ: عَزِيمَةٌ لَازِمَةٌ مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ: (صَلُّوا) فَإِنَّهُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَتَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ يَدْفَعُ حَمْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَيَكُونُ مَنْدُوبًا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ قَوْلُهُ: سُنَّةٌ، أَيْ فَرِيضَةٌ إِذْ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِمْ: الْخِتَانُ سُنَّةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِيُعْرَفَ بِهِ خُرُوجُ الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ، ثُمَّ أُمِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِتَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ، وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ. اهـ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ فِي تَصْحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ خَبَرَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَعَلَهُمَا، فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ، أَوْ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ عَلَى خَصَائِصِهِ. وَخَبَرُ الشَّيْخَيْنِ: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، مُطْلَقٌ قَابِلٌ لِلتَّقْيِيدِ بِمَا عَدَا الْمَغْرِبَ، وَكَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي مُسْلِمٍ: إِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ لَهُمَا، مَعَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ الْمَحْصُورَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ ; لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّفْيَ عَلَى الِانْتِهَاءِ، وَمَنْ أَرَادَ تَحْقِيقَ هَذَا الْمُرَامِ، فَعَلَيْهِ شَرْحَ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1166 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي أُخْرَى لَهُ، قَالَ: " «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1166 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (وَفِي أُخْرَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَفَى الْأُخْرَى (لَهُ) ، أَيْ لِمُسْلِمٍ (قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ السُّنَّةِ بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ. اهـ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَهَا سِتٌّ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، أَوْ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ سِتًّا، وَهُوَ مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَرْبَعِ لِئَلَّا يَكُونَ قَدْ صَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ مِثْلَهَا، وَأَخَذَ مِنْ مَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لَا سُنَّةَ لِلْجُمُعَةِ قَبْلَهَا، وَابْتَدَعَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَهَا بِدَعَةٌ، كَيْفَ وَقَدْ جَاءَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِتَوْقِيفٍ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1167 - وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا ; حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1167 - (عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ حَافَظَ ") ، أَيْ: دَاوَمَ وَوَاظَبَ (" عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا ") : رَكْعَتَانِ مِنْهَا مُؤَكَّدَةٌ وَرَكْعَتَانِ مُسْتَحَبَّةٌ، فَالْأَوْلَى بِتَسْلِيمَتَيْنِ بِخِلَافِ الْأُولَى، (" حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ ") ، أَيْ: مُطْلَقًا أَوْ مُؤَبَّدًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: فَتَمَسُّ وَجْهَهُ النَّارُ أَبَدًا. اهـ. أَيْ: مَا حَافَظَ أَحَدٌ فَتَمَسُّ ذَاتَهُ نَارُ جَهَنَّمَ أَصْلًا، أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ. (وَابْنُ مَاجَهْ) .

1168 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ، تُفَتَّحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1168 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (" أَرْبَعٌ ") ، أَيْ: رَكَعَاتٌ (" قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ تُصَلَّى بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. اهـ. أَيِ: الْأَفْضَلُ فِيهَا ذَلِكَ (" تُفْتَحُ ") : بِالتَّأْنِيثِ وَيَجُوزُ التَّذْكِيرُ، وَبِالتَّخْفِيفِ وَيَجُوزُ التَّشْدِيدُ (" لَهُنَّ ") ، أَيْ: لِأَجْلِ طُلُوعِهِنَّ بَعْدَ قَبُولِهِنَّ (" أَبْوَابُ السَّمَاءِ ") ، أَيْ: يُرْفَعُ بِهَا إِلَى الْحَضْرَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَبُولِ. (" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِمَا احْتِمَالُ التَّحْسِينِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَلَفْظُهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ رَأَيْتُهُ يُدِيمُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَقَالَ: " «إِنَّهُ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَلَا يُغْلَقُ مِنْهَا بَابٌ حَتَّى يُصَلَّى الظُّهْرُ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ لِي فِي تِلْكَ السَّاعَةِ خَيْرٌ» " كَذَا قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ. اهـ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي سُنَّةِ النَّهَارِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مَثْنَى مَثْنَى كَصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ تَطَوُّعَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، وَالنَّهَارِ أَرْبَعًا أَفْضَلُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَرْبَعُ أَفْضَلُ فِي الْمَلَوَيْنِ. أَقُولُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَعْيِينُ تَسْلِيمٍ أَوْ تَسْلِيمَتَيْنِ، أَوْ تَعْيِينُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1169 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَقَالَ: " إِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1169 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ) : وَتِلْكَ الرَّكَعَاتُ الْأَرْبَعُ سُنَّةُ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهُ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَأَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُهَا وَسَمَّاهَا سُنَّةَ الزَّوَالِ، (وَقَالَ: " إِنَّهَا ") : أَيْ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ (" سَاعَةٌ تُفْتَحُ ") : بِالْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ (" فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ") : لِطُلُوعِ أَعْمَالِ الصَّالِحِينَ (" فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُضَمُّ (" لِي فِيهَا ") : أَيْ: فِي تِلْكَ السَّاعَةِ (" عَمَلٌ صَالِحٌ ") ، أَيْ: إِلَى السَّمَاءِ وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: (وَصَحَّحَهُ) غَيْرُ صَحِيحٍ.

1170 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ [وَأَبُو دَاوُدَ] . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1170 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا "، أَيْ: شَخْصًا، وَالْجُمْلَةُ دُعَاءٌ أَوْ إِخْبَارٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ الثَّانِي، مَعَ أَنَّ دَعْوَتَهُ مُسْتَجَابَةٌ لَا تَتَخَلَّفُ، فَدُعَاؤُهُ فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ مُتَضَمِّنٌ لِلْبِشَارَةِ (" صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا ") : وَالْمُرَادُ سُنَّةُ الْعَصْرِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهَى مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ [وَأَبُو دَاوُدَ] ) : قَالَ مِيرَكُ: وَحَسَّنَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِمَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَاهُ وَإِنْ أَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. (وَأَبُو دَاوُدَ) .

1171 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1171 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ) : وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ نَظَرٌ ; إِذْ لَفْظُ الْحَدِيثِ يَأْبَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالتَّسْلِيمِ فِيهِ لِلتَّحَلُّلِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَيُسَنُّ لِلْمُسَلِّمِ مِنْهَا أَنْ يَنْوِيَ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَخَلْفِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمُؤْمِنِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. اهـ. لَكِنَّ مَا تَقَدَّمَ أَنْسَبُ إِلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا صَلَّى أَرْبَعًا أَنْ يَكُونَ بِتَسْلِيمَةٍ أَوْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ، وَلِاخْتِلَافِ الْآثَارِ خَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْقَدُورِيُّ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ أَوْ رَكْعَتَيْنِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1172 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1172 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ» ) ، أَيْ: أَحْيَانًا فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَرْبَعِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

1173 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيمَا بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ ; عُدِلْنَ لَهُ بِعِبَادَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ ابْنِ أَبِي خَثْعَمٍ، وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ جِدًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1173 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ ") ، أَيْ: فَرْضِهِ (" سِتَّ رَكَعَاتٍ ") : الْمَفْهُومُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الرَّاتِبَتَيْنِ دَاخِلَتَانِ فِي السِّتِّ، وَكَذَا فِي الْعِشْرِينَ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي. قَالَهُ

الطِّيبِيُّ، فَيُصَلِّي الْمُؤَكَّدَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ، وَفِي الْبَاقِي بِالْخِيَارِ. (" لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيمَا بَيْنَهُنَّ ") ، أَيْ: فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِنَّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِذَا سَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ (" بِسُوءٍ ") ، أَيْ: بِكَلَامٍ سَيِّئٍ أَوْ بِمَا يُوجِبُ سُوءًا (" عُدِلْنَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَقِيلَ بِالْمَعْلُومِ (" لَهُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: عَدَلْتُ فُلَانًا بِفُلَانٍ: إِذَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمَا (" بِعِبَادَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مِنْ بَابِ الْحَثِّ وَالتَّحْرِيضِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفَضَّلَ مَا لَا يُعْرَفُ عَلَى مَا يُعْرَفُ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ؛ حَثًّا وَتَحْرِيضًا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: ثَوَابُ الْقَلِيلِ مُضَعَّفًا أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ الْكَثِيرِ غَيْرَ مُضَعَّفٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّ الْقَلِيلَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالْحَالِ يُضَاعَفُ عَلَى الْكَثِيرِ فِي غَيْرِهِمَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّلَاةُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ. (وَقَالَ) ، أَيِ التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ ابْنِ أَبِي خَثْعَمٍ، وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ) ، أَيِ الْبُخَارِيَّ (يَقُولُ: هُوَ) ، أَيْ: عُمَرُ (مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ) ، أَيِ الْبُخَارِيُّ (جِدًّا) ، أَيْ تَضْعِيفًا قَوِيًّا، قَالَ مِيرَكُ نَاقِلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَالْعَجَبُ مِنْ مُحْيِي السُّنَّةِ كَيْفَ سَكَتَ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ؟ قُلْتُ: يُنَافِيهِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، قَالَ مِيرَكُ: وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: «رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يُصَلِّي بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَقَالَ: رَأَيْتُ حَبِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ» ، وَقَالَ: " مَنْ «صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» ". حَدِيثٌ غَرِيبٌ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الثَّلَاثَةِ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ صَالِحُ بْنُ قَطَنٍ الْبُخَارِيُّ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَصَالِحٌ هَذَا لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ فِيهِ جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ.

1174 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1174 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ ") ، أَيْ: بَعْدَ فَرْضِهِ (" عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا ") ، أَيْ عَظِيمًا مُشْتَمِلًا عَلَى أَنْوَاعِ النِّعَمِ. (" فِي الْجَنَّةِ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ مُنْقَطِعًا بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ فَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُتَّصِلًا مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَيَعْقُوبُ كَذَّبَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهَا حَدِيثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّيهَا عِشْرِينَ وَيَقُولُ: " «هَذِهِ صَلَاةُ الْأَوَّلِينَ فَمَنْ صَلَّاهَا غُفِرَ لَهُ» ". وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يُصَلُّونَهَا، قَالَ جَمْعٌ: وَرُوِيَتْ أَرْبَعًا، وَرُوِيَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ وَأَكْثَرُهَا عِشْرُونَ. وَرُوِيَ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ذَكَرَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَقِّ مِنْهَا جُمْلَةً.

1175 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ عَلَيَّ، إِلَّا صَلَّى أَرْبَعَ أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1175 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ عَلَيَّ) ، أَيْ: فِي نَوْبَتِي (إِلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) ، أَيْ: رَكْعَتَانِ مُؤَكَّدَةٌ بِتَسْلِيمَةٍ وَرَكْعَتَانِ مُسْتَحَبَّةٌ، (أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ) : يُحْتَمَلُ الشَّكُّ وَالتَّنْوِيعُ. فَرَكْعَتَانِ نَافِلَةٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1176 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَ {وَأَدْبَارِ السُّجُودِ} [ق: 40] الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1176 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَنَصْبِ الرَّاءِ عَلَى الْحِكَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ - وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48 - 49] وَجَوَّزَ الرَّفْعَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (" الرَّكْعَتَانِ فِي الْفَجْرِ ") ، أَيْ: فَرْضُهُ، وَالْإِدْبَارُ وَالدُّبُورُ الذَّهَابُ يَعْنِي: عَقِيبَ ذَهَابِ النُّجُومِ، وَهُوَ سُنَّةُ الصُّبْحِ. {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ - وَمِنَ اللَّيِلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39 - 40] قَالَ الطِّيبِيُّ: صَلَاةُ أَدْبَارِ السُّجُودِ. وَأَدْبَارُ نَصْبُهُ بِسَبِّحْ فِي التَّنْزِيلِ أَوْقَعَهُ مُضَافًا فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْحِكَايَةِ. اهـ. وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ فَرِيضَةُ الْمَغْرِبِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَطْلَقَ السُّجُودَ وَأَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ إِطْلَاقًا لِلْجُزْءِ الْأَعْظَمِ عَلَى الْكُلِّ. انْتَهَى. وَفِي جَعْلِهِ جُزْءًا أَعْظَمَ نَظَرٌ، وَيَجُوزُ رَفْعُ (أَدْبَارَ السُّجُودِ) عَلَى الِابْتِدَائِيَّةِ، وَخَبَرُهُ (" الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ غَرِيبٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1177 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَرْبَعُ [رَكَعَاتٍ] قَبْلَ الظُّهْرِ، بَعْدَ الزَّوَالِ، تُحْسَبُ بِمِثْلِهِنَّ فِي صَلَاةِ السَّحَرِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّحُ اللَّهَ تِلْكَ السَّاعَةَ "، ثُمَّ قَرَأَ: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48] » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1177 - (عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَرْبَعٌ ") ، أَيْ: مِنَ الرَّكَعَاتِ. (" قَبْلَ الظُّهْرِ، بَعْدَ الزَّوَالِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَبْلَ الظُّهْرِ صِفَةٌ لِأَرْبَعٍ، وَخَبَرُهُ (" تُحْسَبُ بِمِثْلِهِنَّ ") ، أَيِ: الْكَائِنُ (" فِي صَلَاةِ السَّحَرِ ") ، أَيْ: تُوَازِي أَرْبَعًا فِي الْفَجْرِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْفَرِيضَةِ لِمُوَافَقَةِ الْمُصَلِّي، أَيْ: بَعْدَ الزَّوَالِ سَائِرَ الْكَائِنَاتِ فِي الْخُضُوعِ وَالدُّخُورِ لِبَارِئِهَا، فَإِنَّ الشَّمْسَ أَعْلَى وَأَعْظَمُ مَنْظُورٍ فِي الْكَائِنَاتِ، وَعِنْدَ زَوَالِهَا يَظْهَرُ هُبُوطُهَا وَانْحِطَاطُهَا، وَسَائِرُ مَا يَتَفَيَّأُ بِهَا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ. انْتَهَى. يَعْنِي: وَوَقْتَ الصُّبْحِ مُقَدِّمَةُ طُلُوعِهَا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَطَرِيقُ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، قَالَ مَيْرَ بَادٍ شَاهْ: لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ حَمْلُ السَّحَرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَتَشْبِيهُ هَذِهِ الْأَرْبَعِ بِأَرْبَعٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَشْهُودًا بِمَزِيدِ الْفَضْلِ. انْتَهَى. يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعُدُولَ إِنَّمَا هُوَ لِيَكُونَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى ; إِذْ لَيْسَ التَّهَجُّدُ أَفْضَلَ مِنْ سُنَّةِ الظُّهْرِ، وَالْأَظْهَرُ حَمْلُ السَّحَرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، وَيُوَجَّهُ كَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَقْوَى بِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَشَقُّ وَأَتْعَبُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ فَهُوَ أَوْلَى وَأَحْسَنُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ تَعْدِلُ فِي الْفَضْلِ أَرْبَعًا مُمَاثِلَةً لَهُنَّ مِنْ جُمْلَةِ صَلَاةِ السَّحَرِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْفَضْلِ الْأَعْظَمِ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالدَّلِيلِ عَلَى الْمُدَّعَى. (" وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّحُ اللَّهَ ") ، أَيْ: يُنَزِّهُهُ عَنِ الزَّوَالِ ; لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْكَمَالِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ (" تِلْكَ السَّاعَةَ ") : بِالنَّصْبِ، أَيْ حِينَ زَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ كَمَالِ صُعُودِهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: يُنَزِّهُهُ تَنْزِيهًا خَاصًّا تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] الْمُقْتَضِي لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَالتَّسْبِيحُ فِي الْآيَتَيْنِ بِلِسَانِ الْقَالِ وَالْحَالِ. (ثُمَّ قَرَأَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عُمَرُ {يَتَفَيَّأُ} [النحل: 48] بِالتَّذْكِيرِ، وَأَنَّثَهُ الْبَصْرِيُّ، أَيْ: يَتَمَيَّلُ وَيَدُورُ وَيَرْجِعُ {ظِلَالُهُ} [النحل: 48] ، أَيْ ظِلَالُ كُلِّ شَيْءٍ {عَنِ الْيَمِينِ} [النحل: 48] : أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ {وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48] : فِيهِ تَفَنُّنٌ، أَيْ: يَمِينُ كُلِّ شَيْءٍ وَشَمَالِهِ {سُجَّدًا} [النحل: 48] ، أَيْ: سَاجِدِينَ مُنْقَادِينَ {لِلَّهِ} [النحل: 48] : حَالٌ {وَهُمْ} [النحل: 48] ، أَيِ: الْخَلْقُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا مِنْ شَيْءٍ، وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ {دَاخِرُونَ} [النحل: 48] ، أَيْ: صَاغِرُونَ أَذِلَّاءُ خَاضِعُونَ، حَالٌ أُخْرَى مُتَدَاخِلَةٌ أَوْ مُتَرَادِفَةٌ، وَهِيَ أَوْلَى لِحُصُولِهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَوَلَمْ يَرَوْا، أَيْ بِالْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ، إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، أَيْ: مِنَ الْأَجْرَامِ الَّتِي لَهَا ظِلَالٌ مُتَفَيِّئَةٌ عَنْ أَيْمَانِهَا وَشَمَائِلِهَا، كَيْفَ تَنْقَادُ لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ عَلَيْهِ فِيمَا سَخَّرَهَا مِنَ التَّفَيُّؤِ، وَالْأَجْرَامُ فِي أَنْفُسِهَا دَاخِرَةٌ أَيْضًا مُنْقَادَةٌ صَاغِرَةٌ، وَالشَّمْسُ وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ وَأَعْلَى مَنْظُورٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّهَا عِنْدَ الزَّوَالِ يَظْهَرُ هُبُوطُهَا وَانْحِطَاطُهَا، وَأَنَّهَا آيِلَةٌ إِلَى الْفَنَاءِ وَالذَّهَابِ، وَلِذَا قَالَ سَيِّدُ الْمُوَحِّدِينَ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] ، فَأَشَارَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ الْمُصَلِّيَ حِينَئِذٍ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْكَائِنَاتِ فِي الْخُضُوعِ لِخَالِقِهَا، فَهُوَ وَقْتُ خُضُوعٍ وَافْتِقَارٍ، فَسَاوَى وَقْتَ السَّحَرِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ تَجَلِّي الْحَقِّ وَغَفْلَةِ الْخَلْقِ وَمَحَلِّ اسْتِغْفَارٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ (وَ) رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

1178 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَتْ: وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1178 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: تَعْنِي بَعْدَ وُفُودِ قَوْمِ عَبْدِ الْقَيْسِ (رَكْعَتَيْنِ) : قَضَاءً أَوَّلًا، ثُمَّ اسْتِمْرَارًا ثَانِيًا (بَعْدَ الْعَصْرِ) :. وَلَعَلَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ نَاذِرًا، أَوْ هُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَوَافَقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَمِنْ ثَمَّ عَزَّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. (عِنْدِي) ، أَيْ: فِي بَيْتِي (قَطُّ) ، أَيْ: أَبَدًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَتْ: وَالَّذِي) : قَسَمٌ (ذَهَبَ بِهِ) ، أَيْ: تَوَفَّاهُ (مَا تَرَكَهُمَا) ، أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ) .

1179 - وَعَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَقَالَ: «كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الْأَيْدِيَ عَلَى صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَكُنَّا نُصْلِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. فَقُلْتُ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1179 - (وَعَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ) : بِضَمَّتَيْنِ، وَأَمَّا الْحَبُّ الْهِنْدِيُّ فَهُوَ بِضَمَّتَيْنِ وَكَسْرَتَيْنِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَقَالَ: كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الْأَيْدِيَ عَلَى صَلَاةٍ) ، أَيْ: نَافِلَةٍ (بَعْدَ الْعَصْرِ) ، أَيْ، أَيْدِي مَنْ عَقَدَ الصَّلَاةَ وَأَحْرَمَ بِالتَّكْبِيرِ، أَيْ: يَمْنَعُهُمْ مِنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا وَقَفَ عَلَى قَوْلِ عَائِشَةَ، قُلْتُ: هَذَا مِنْ عَدَمِ وُقُوفِ الْقَائِلِ عَلَى كَمَالِ اطَّلَاعِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا كَانَ عُذْرُ مَنْ يُصَلِّي عَدَمَ الْاطَّلَاعِ عَلَى التَّخْصِيصِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَذَا قَوْلُ أَنَسٍ. (وَكُنَّا نُصْلِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ) : مُخَالِفٌ لَهُ، أَيْ: لِعُمَرَ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَرَوْا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً. (فَقُلْتُ) قَوْلُ الْمُخْتَارِ الرَّاوِي (لَهُ) ، أَيْ: لِأَنَسٍ (أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ لَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يَنْهَ مَنْ صَلَّى. انْتَهَى. وَفِيهِ تَقْرِيرٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْمَنْعِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهِ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ثُمَّ الثَّابِتُ بَعْدَ هَذَا نَفْيُ الْمَنْدُوبِيَّةِ، أَمَّا ثُبُوتُ الْكَرَاهَةِ فَلَا، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ آخَرُ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ اسْتِلْزَامِ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ الْقِنْيَةِ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ، وَالرَّكْعَتَانِ لَا تَزِيدُ عَلَى الْقَلِيلِ إِذَا تَجَوَّزَ فِيهِمَا. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ عَدَمُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1180 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ، ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ، فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَيَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1180 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ، ابْتَدَرُوا) : يُحْتَمَلُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَوِ التَّابِعِينَ، أَيْ: تَسَابَقُوا (السَّوَارِيَ) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ جَمْعُ سَارِيَةٍ، أَيِ: الْإِسْطِوَانَاتُ الْفَاصِلَةُ وَمُرَاعَاةً لِلسُّتْرَةِ أَيْضًا، وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: بِالتَّشْدِيدِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: السَّارِيَةُ: السَّحَابُ تَسْرِي لَيْلًا جَمْعُهُ سَوَارٍ، وَالْإِسْطِوَانَةُ. ذَكَرَهُ فِي مَادَّةِ (سَ رَ يَ) وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالتَّخْفِيفِ ; لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ، وَهِيَ أَنَّ فَاعِلَةً اسْمًا أَوْ صِفَةً تُجْمَعُ عَلَى فَوَاعِلَ كَالْجَوَارِي. وَلَا تَتَوَهَّمْ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْعَوَارِي جَمْعِ عَارِيَةٍ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ ذَكَرَهَا فِي مَادَّةِ (عَ وَرَ) وَجَوَّزَ التَّشْدِيدَ وَالتَّخْفِيفَ فِي الْجَمْعِ وَالْمُفْرَدِ، فَيَاؤُهُ لِلنِّسْبَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ (عَوَارِيُّ) بِالتَّشْدِيدِ، كَأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْعَارِ، لِأَنَّ طَلَبَهَا عَارٌ. انْتَهَى. وَعَلَى تَقْدِيرِ خِفَّتِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَخْفِيفًا لِلنِّسْبَةِ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعَ عَارِيَةٍ مِنَ الْعُرَى، فَحِينَئِذٍ سُمِّيَ بِهَا ; لِأَنَّهَا عَارِيَةٌ عَنِ الْمِلْكِ حِينَ الِاسْتِعَارَةِ، وَالْمَعْنَى وَقَفَ كُلُّ مَنْ سَبَقَ خَلْفَ أُسْطُوَانَةٍ. (فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ) : بِكَسْرِ هَمْزَةٍ إِنَّ وَجُوِّزَ فَتْحُهَا (لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: (حَتَّى) عَاطِفَةٌ لِمَا بَعْدَهَا عَلَى جُمْلَةِ ابْتَدَرُوا، (فَيَحْسِبُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا، أَيْ: فَيَظُنُّ (أَنَّ الصَّلَاةَ) ، أَيِ: الَّتِي هِيَ فَرْضُ الْمَغْرِبِ (قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهَا) أَيْ: تِلْكَ الصَّلَاةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (يُصَلِّيهِمَا) : بِالتَّثْنِيَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي يَقِفُ كُلُّ وَاحِدٍ خَلْفَ سَارِيَةٍ يُصَلِّي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى إِثْبَاتِ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ. انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا كَانَ نَادِرًا ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُعَجِّلُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ إِجْمَاعًا، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ، بَلْ خُرُوجُهُ عَنْ وَقْتِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَلَعَلَّهُ وَقَعَ هَذَا عَنْ بَعْضٍ فِي وَقْتٍ فَهِمُوا تَأْخِيرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعُذْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَوْ كَانَتَا أَوَّلًا ثُمَّ تُرِكَتَا عَلَى مَا قِيلَ، وَعَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1181 - «وَعَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ عُقْبَةَ الْجُهَنِيَّ، فَقُلْتُ: أَلَا أُعَجِّبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ؟ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. فَقَالَ عُقْبَةُ: إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الْآنَ؟ قَالَ: الشُّغْلُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1181 - (وَعَنْ مَرْثَدٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالثَّاءِ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَتَيْتُ عُقْبَةَ الْجُهَنِيَّ) : نِسْبَةً إِلَى جُهَيْنَةَ، قَبِيلَةٌ (فَقُلْتُ: أَلَا أُعَجِّبُكَ) : بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: أَلَا أُوقِعُكَ فِي التَّعَجُّبِ (مِنْ أَبِي تَمِيمٍ) ، أَيْ: مِنْ فِعْلِهِ، قَالَ مِيرَكُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي الْأَسْحَمِ بِمُهْمَلَتَيْنِ، الْجَيْشَانِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ، تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ ثِقَةٌ مُخَضْرَمٌ، أَسْلَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، ثُمَّ قَدِمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ فَشَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا، قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ. وَقَدْ عَدَّهُ جَمَاعَةٌ فِي الصَّحَابَةِ لِهَذَا الْإِدْرَاكِ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ. (يَرْكَعُ) أَيْ: يُصَلِّي (رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ: إِنَّا) أَيْ: مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ يَعْنِي بَعْضَهُمْ (كُنَّا نَفْعَلُهُ) ، أَيْ: أَحْيَانًا (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ) ، أَيْ: فِي زَمَانِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الْآنَ؟) ، أَيْ: عَنْهَا (قَالَ: الشُّغْلُ) : بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا، أَيْ: شُغْلُ الدُّنْيَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِبَاحَتِهَا، وَإِلَّا فَالشُّغْلُ لَا يَمْنَعُ التَّابِعِيَّ عَنِ السُّنَّةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1182 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مَسْجِدَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَصَلَّى فِيهِ الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ بَعْدَهَا، فَقَالَ: " هَذِهِ صَلَاةُ الْبُيُوتِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ: قَامَ نَاسٌ يَتَنَفَّلُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1182 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ (قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مَسْجِدَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ) : طَائِفَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ (فَصَلَّى فِيهِ الْمَغْرِبَ) ، أَيْ: فَرْضَهُ أَوْ سُنَّتَهُ (فَلَمَّا قَضَوْا) ، أَيْ: بَعْضُ الْقَوْمِ (صَلَاتَهُمْ رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ) ، أَيْ: يُصَلُّونَ نَافِلَةً بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ. (بَعْدَهَا) أَيْ: بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ (فَقَالَ: " هَذِهِ ") ، أَيِ: النَّوَافِلُ (" صَلَاةُ الْبُيُوتِ ") : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، أَيِ الْأَفْضَلُ كَوْنُهَا فِيهَا ; لِأَنَّهَا أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ فِيهِ حَظٌّ لِلْبُيُوتِ مِنَ الْبَرَكَةِ فِي الْقُوتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَى بَيْتِهِ بِخِلَافِ الْمُعْتَكِفِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا فِيهِ وَلَا كَرَاهَةَ بِالِاتِّفَاقِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ: قَامَ نَاسٌ يَتَنَفَّلُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ» ") : إِرْشَادًا لِمَا هُوَ الْأَفْضَلُ.

1183 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، حَتَّى يَتَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1183 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ) ، أَيْ: أَحْيَانًا لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصَ. (حَتَّى يَتَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُمَا فِيهِ لِعُذْرٍ مَنَعَهُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ أَعْذَارِ فِعْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ. قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ وَقْتِ الِاعْتِكَافِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُمَا فِي الْبَيْتِ، وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلِمَ بِذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1184 - وَعَنْ مَكْحُولٍ، يَبْلُغُ بِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ: أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، رُفِعَتْ صَلَاتُهُ فِي عِلِّيِّينَ» ". مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1184 - (وَعَنْ مَكْحُولٍ، يَبْلُغُ بِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ بِالْحَدِيثِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ. فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ، وَأَسْقَطَ مِنَ السَّنَدِ ذِكْرَ الصَّحَابِيِّ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَرْوِي: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ ") ، أَيْ: فَرْضِهِ أَوْ سُنَّتِهِ (" قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ ") ، أَيْ: بِكَلَامِ الدُّنْيَا (" رَكْعَتَيْنِ ") : يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا سُنَّتَا الْبَعْدِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا مِنْ سُنَّةِ وَقْتِ الْغَفْلَةِ (وَفِي رِوَايَةٍ: " أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ") : يُحْتَمَلُ أَنَّ مِنْهَا رَكْعَتَيْنِ سُنَّتَهَا الْبَعْدِيَّةَ، وَرَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْغَفْلَةِ، وَأَنَّ الْكُلَّ مِنْ صَلَاةِ الْغَفْلَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُمَا بِصَلَاةِ الْأَوَّابِينَ، كَمَا وَرَدَ. فَكَأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِطَوَافِ الْغَفْلَةِ فِي رَمَضَانَ (" رُفِعَتْ صَلَاتُهُ ") ، أَيْ: نَافِلَتُهُ، أَوْ مَعَ فَرِيضَتِهِ، (" فِي عِلِّيِّينَ ") : كِنَايَةً عَنْ غَايَةِ قَبُولِهَا وَعَظِيمِ ثَوَابِهَا. فِي الْقَامُوسِ: عِلِّيُّونَ جَمْعُ عِلِّيٍّ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، تَصْعَدُ إِلَيْهِ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ. اهـ. أَيْ: وَأَعْمَالُهُمْ. (مُرْسَلًا) ، أَيْ: يُبَلِّغُ بِهِ حَالَ كَوْنِ الْحَدِيثِ مُرْسَلًا ; لِأَنَّ مَكْحُولًا تَابِعِيٌّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْإِرْسَالُ هُنَا لَا يَضُرُّ ; لِأَنَّ الْمُرْسَلَ كَالضَّعِيفِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ ضَعْفُهُ يُعْمَلُ بِهِمَا فِي الْفَضَائِلِ. اهـ. وَهَذَا فِي مَذْهَبِهِ، وَإِلَّا فَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

1185 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، نَحْوَهُ، وَزَادَ: فَكَانَ يَقُولُ: " «عَجِّلُوا الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُمَا تُرْفَعَانِ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ» ". رَوَاهُمَا رَزِينٌ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ الزِّيَادَةَ عَنْهُ نَحْوَهَا فِي: " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1185 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ) ، أَيْ: مَرْوِيٌّ عَنْهُ (نَحْوُهُ) ، أَيْ: نَحْوُ حَدِيثِ مَكْحُولٍ بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ. (وَزَادَ) ، أَيْ: حُذَيْفَةُ (فَكَانَ يَقُولُ) ، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (" عَجِّلُوا الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ") ، أَيْ: بِالتَّخْفِيفِ فِيهِمَا أَوْ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِمَا، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا سُنَّتُهُ بِلَا خِلَافٍ (" فَإِنَّهُمَا تُرْفَعَانِ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ ") ، أَيْ: مَعَ مَلَائِكَةِ النَّهَارِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ تَابِعَةٌ لِلْفَرْضِ وَمُكَمِّلَةٌ لَهَا وَقْتَ الْعَرْضِ. (رَوَاهُمَا رَزِينٌ) قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: وَلَمْ أَرَهُمَا فِي الْأُصُولِ. (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ الزِّيَادَةَ) ، أَيِ: الْمَذْكُورَةَ (عَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (نَحْوَهَا) : بَدَلٌ، أَيْ: رُوِيَ نَحْوَ زِيَادَةِ رَزِينٍ عَنْهُ، (فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : فَتَتَقَوَّى بِذَلِكَ رِوَايَةُ رَزِينٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنْ إِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا لَوْ عَدَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ مِنَ الْأُصُولِ.

1186 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: إِنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: نَعَمْ، صَلَّيْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي، فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ، إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا نُوصِلَ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1186 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: إِنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَرْسَلَهُ) ، أَيْ: عَمْرًا (إِلَى السَّائِبِ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (يَسْأَلُهُ) ، أَيْ: يَسْأَلُ عَمْرٌو السَّائِبَ (عَنْ شَيْءٍ رَآهُ) ، أَيْ: ذَلِكَ الشَّيْءُ (مِنْهُ) ، أَيْ: مِنَ السَّائِبِ

(مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ، أَيِ: السَّائِبُ: وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعًا. (نَعَمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: نَعَمْ حَرْفُ إِيجَابٍ وَتَقْرِيرٍ لَمَّا سَأَلَهُ نَافِعٌ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ رَأَى مِنْكَ مُعَاوِيَةُ شَيْئًا فِي الصَّلَاةِ فَأَنْكَرَ عَلَيْكَ؟ وَالْمَذْكُورُ مَعْنَاهُ: (صَلَّيْتُ مَعَهُ) ، أَيْ: مَعَ مُعَاوِيَةَ (الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ) : مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ فِي الْجَامِعِ مَقْصُورٌ لِلسَّلَاطِينِ، (فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي) ، أَيِ: الَّذِي صَلَّيْتُ فِيهِ الْجُمُعَةَ (فَصَلَّيْتُ) ، أَيْ: سُنَّةَ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ (فَلَمَّا دَخَلَ) ، أَيْ: مُعَاوِيَةُ بَيْتَهُ (أَرْسَلَ إِلَيَّ) : لِئَلَّا تَكُونَ النَّصِيحَةُ عَلَى وَجْهِ الْفَضِيحَةِ، (فَقَالَ: لَا تَعُدْ) : مِنَ الْعَوْدِ (لِمَا فَعَلْتَ) : مِنْ إِتْيَانِ السُّنَّةِ فِي مَكَانِ فِعْلِ الْجُمُعَةِ بِلَا فَصْلٍ. (إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ) : هِيَ مِثَالٌ إِذْ غَيْرُهَا كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا يَأْتِي مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذِكْرَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ لِلتَّأْكِيدِ الزَّائِدِ فِي حَقِّهَا، لَا سِيَّمَا وَيُوهِمُ أَنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَأَنَّهُ الظُّهْرُ، وَهَذَا فِي مُجْتَمَعِ الْعَامِّ سَبَبٌ لِلْإِيهَامِ. (فَلَا تَصِلْهَا) : مِنَ الْوَصْلِ، أَيْ لَا تُوصِلْهَا (بِصَلَاةٍ) ، أَيْ: نَافِلَةٍ أَوْ قَضَاءٍ (حَتَّى تَكَلَّمَ) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ: حَتَّى تُكَلِّمَ مِنَ التَّكْلِيمِ، أَيْ: أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْفَصْلُ لَا بِالتَّكَلُّمِ بِذِكْرِ اللَّهِ. (أَوْ تَخْرُجَ) ، أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِأَنْ تَتَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، (فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ) ، أَيْ: بِمَا تَقَدَّمَ وَبَيَانُهُ (أَنْ لَا نُوصِلَ) ، أَيِ: الْجُمُعَةَ أَوْ صَلَاةً، أَيْ: صَلَاةً مِنَ الْمَكْتُوبَاتِ. (بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ) : وَالْمَقْصُودُ بِهِمَا الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِئَلَّا يُوهِمَ الْوَصْلَ، فَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1187 - وَعَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ بِمَكَّةَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُصَلِّي أَرْبَعًا. وَإِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1187 - (وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ بِمَكَّةَ تَقَدَّمَ) ، أَيْ: مِنْ مَكَانٍ صَلَّى فِيهِ (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) : فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِ مُعَاوِيَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ ; إِذْ بِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْفَصْلِ. (ثُمَّ يَتَقَدَّمُ) : لِتَكْثِيرِ شُهُودِ الْبُقَعِ الشَّرِيفَةِ (فَيُصَلِّي أَرْبَعًا) : وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ سِتٌّ وَإِنْ كَانَ يَقُولُ مَعَ غَيْرِهِ: إِنَّ تَقْدِيمَ الْأَرْبَعِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. (وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مُعَاوِيَةَ: أَوْ تَخْرُجَ؟ قُلْتُ: لَيْسَ بِمَنْزِلَتِهِ، بَلْ عَلَى مِنْوَالِهِ وَحَقِيقَتِهِ. (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: فِي بَيْتِهِ، وَلَعَلَّهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. (وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ) : هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَتَمْيِيزًا لَهَا عَنْ غَيْرِهَا. اهـ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ الْفَصْلَ مُسْتَحَبٌّ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا اخْتِصَاصُ مَكَّةَ بِمَا فَعَلَ دُونَ الْمَدِينَةِ، فَتَعْظِيمٌ لَهَا لِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، وَإِلَّا لَمَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَمَّ كَلَامُهُ، وَهُوَ غَرِيبٌ وَتَفْرِيعٌ عَجِيبٌ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ بِلَا نِزَاعٍ، حَتَّى يُقَالَ فِيهِ بِنَسْخٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَحْتَاجُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ كَانَ بِمُجَرَّدِ اتِّبَاعٍ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ (فَقِيلَ لَهُ) ، أَيْ: فِي الْحِكْمَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ فِي الْحَرَمَيْنِ الْمُعَظَّمَيْنِ، (فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ) : يَعْنِي: وَأَنَا أَفْعَلُهُ تَبَعًا لَهُ، وَلَعَلَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى السُّنَنَ فِي مَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ لِبُعْدِ بَيْتِهِ، وَصَلَّى فِي الْمَدِينَةِ فِي بَيْتِهِ لِقُرْبِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . (وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، قَالَ) ، أَيِ: الرَّاوِي (رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: أَوَّلًا (ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعًا) ، أَيْ: زَادَ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لَمَّا وَصَلَهُ الْأَثَرُ، وَتَحَقَّقَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: صَلَّى بَعْدَمَا ذَكَرَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ أَرْبَعًا، أَيْ: صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ.

[باب صلاة الليل]

[بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ]

[31] بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1188 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ. فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ، قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ، فَيَخْرُجُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [31] بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَيْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنَ التَّهَجُّدِ وَغَيْرِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1188 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي) ، أَيْ: غَالِبًا (فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ) : وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَ بَعْدَ نَوْمٍ أَمْ لَا. (إِحْدَى عَشْرَةَ) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَتُكْسَرُ (رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ) وَيُؤَيِّدُهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى. (وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ) ، أَيْ: مَضْمُومَةٍ إِلَى الشَّفْعِ الَّذِي قَبْلَهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ أَنَّ أَقَلَّ الْوَتْرِ رَكْعَةٌ فَرْدَةٌ، وَالتَّسْلِيمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَبِهِمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. (فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ) : قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَجْدَةٍ فَرْدَةٍ لِغَيْرِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ الْفَاءُ فِي (فَيَسْجُدُ) دَاعِيَةٌ إِلَى هَذَا، لَكِنَّ قَوْلَهُ (مِنْ ذَلِكَ) لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالْفِعْلِ، أَيْ: فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ جِهَةِ مَا صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ سَجْدَةَ شُكْرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ لِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ يَعْنِي فَيَسْجُدُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ سَجَدَاتِ تِلْكَ الرَّكَعَاتِ طَوِيلَةً. (قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً) . اهـ. وَنِسْبَةُ ابْنِ حَجَرٍ كَلَامَ الشَّارِحِ إِلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلَ الْقَاضِي إِلَى الشَّارِحِ وَالطَّعْنُ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: قَدِ اخْتَلَفَ الْآرَاءُ فِي جَوَازِ السَّجْدَةِ الْمُنْفَرِدَةِ مِنْ غَيْرِ تِلَاوَةٍ وَشُكْرٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حَرَامٌ كَالتَّقَرُّبِ بِرُكُوعٍ مُفْرَدٍ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ، قَالَهُ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الرَّوْضَةِ: سَوَاءٌ فِي هَذَا الْخِلَافُ فِي تَحْرِيمِ السَّجْدَةِ مَا يُفْعَلُ بَيْنَ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مَا يَفْعَلُ كَثِيرُونَ مِنَ الْجَهَلَةِ السَّجْدَةَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَشَايِخِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ قَطْعًا بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ إِلَى الْقِبْلَةِ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ قَصَدَ السُّجُودَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ غَفَلَ عَنْهُ، وَ (مِنْ) فِي (مِنْ ذَلِكَ) لِلتَّبْعِيضِ، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، وَمَعْنَاهُ قَدْ كَانَ بَعْضُ سَجَدَاتِهِ طَوِيلًا بِقَدْرِ مَا يَقْرَأُ أَحَدٌ خَمْسِينَ آيَةً (قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ) ، أَيْ: وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ بَعْدُ، (فَإِذَا سَكَتَ) : بِالتَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْبَاءِ (الْمُؤَذِّنُ) ، أَيْ: فَرَغَ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَكَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَرُوِيَ: (سَكَبَ) بِالْمُوَحَّدَةِ، وَمَعْنَاهُ صَبَّ الْأَذَانَ، وَالرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ لَمْ تَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: يَجُوزُ فِيهِ التَّاءُ الْمُثَنَّاةُ مِنْ فَوْقٍ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَلَكِنْ قَيَّدُوهُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، كَذَا فِي الْفَائِقِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَالنِّهَايَةِ لِلْجَزَرِيِّ، وَقَالَا: أَرَادَتْ عَائِشَةُ إِذَا أَذَّنَ فَاسْتَعَارَتِ السَّكْبَ لِلْإِفَاضَةِ فِي الْكَلَامِ، كَمَا يُقَالُ: أَفْرَغَ فِي أُذُنِي حَدِيثًا، أَيْ: أَلْقَى وَصَبَّ، وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: كَمَا يُقَالُ هَضَبَ فِي الْحَدِيثِ، وَأَخَذَ فِي الْخُطَّةِ، وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ (مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ) ، أَيْ: مِنْ أَذَانِهَا (وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّبَيُّنَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَذَانِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِذَلِكَ التَّبَيُّنِ فَائِدَةٌ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّبَيُّنِ الْإِسْفَارُ، فَيُفِيدُ أَنَّ الْإِسْفَارَ مُسْتَحَبٌّ حَتَّى فِي حَقِّ السُّنَّةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ ذَكَرَ نَظِيرَ مَا ذَكَرْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَفَادَ الْحَدِيثُ نَدْبَ التَّغْلِيسِ بِالْأَذَانِ، وَحِكْمَتُهُ اتِّسَاعُ الْوَقْتِ لِيَتِمَّ تَهَيُّؤُ النَّاسِ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ الشَّارِحِ مُشْكِلٌ، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِشْكَالِ وُقُوعَ الْأَذَانِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَهُوَ لَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْأَذَانَ فِي الْغَلَسِ، وَالسُّنَّةَ بَعْدَ التَّبَيُّنِ الْكُلِّيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَيُرَدُّ قَوْلُ مَنْ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ (سَكَتَ) لَيْسَ بِالْفَوْقِيَّةِ بَلْ بِالْمُوَحَّدَةِ. اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَبَيَانُهُ فِي كَلَامِنَا صَرِيحٌ (قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ) : هُمَا سُنَّةُ الْفَجْرِ (خَفِيفَتَيْنِ) : يَقْرَأُ فِيهِمَا (الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصَ) (ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) ، أَيْ: لِلِاسْتِرَاحَةِ عَنْ تَعَبِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ فَرْضَهُ عَلَى نَشَاطٍ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الِاضْطِجَاعَ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. اهـ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا وَجْهَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي السُّنَّةَ فِي الْبَيْتِ وَالْفَرْضَ فِي الْمَسْجِدِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بِحْثٍ. (حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ) ، أَيْ: يَسْتَأْذِنُهُ فِيهَا ; لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِنَظَرِ الْإِمَامِ (فَيَخْرُجُ) ، أَيْ: لِلصَّلَاةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، أَيْ: بِمَجْمُوعِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا السِّيَاقِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

1189 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي ; وَإِلَّا اضْطَجَعَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1189 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) : الْمُرَادُ بِهِمَا سُنَّةُ الْفَجْرِ، (فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّرْطُ مَعَ الْجَزَاءِ جَزَاءُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفًا، وَالْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى إِذَا صَلَّاهُمَا أَتَانِي فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي، (وَإِلَّا) ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ أَكُنْ مُسْتَيْقِظَةً (اضْطَجَعَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ سُنَّةِ الصُّبْحِ، وَبَيْنَ الْفَرِيضَةِ جَائِزٌ، وَعَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مَعَ الْأَهْلِ سُنَّةٌ. اهـ. يَعْنِي مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْفَرْضِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ أَوْ ثَوَابَهَا فَقَوْلُهُ: بَاطِلٌ، نَعَمْ كَلَامُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا كَلَامُ الدُّنْيَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى دَائِمًا، فَضْلًا عَمَّا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ; لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِ السُّنَّةِ أَنْ يَتَهَيَّأَ لِكَمَالِ الْحَالَةِ وَطَرْدِ الْغَفْلَةِ، فَيَدْخُلُ فِي الْفَرِيضَةِ عَلَى كَمَالِ الْحُضُورِ وَاللَّذَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1190 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1190 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) ، أَيْ: سُنَّتَهُ (اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) ، أَيْ: مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، أَخَذَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُنْدَبُ لِكُلِّ أَحَدٍ - الْمُتَهَجِّدِ وَغَيْرِهِ - أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ سُنَّةِ الصُّبْحِ وَفَرْضِهِ، بِضَجْعَةٍ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَلَا يَتْرُكُ الِاضْطِجَاعَ مَا أَمْكَنَهُ، بَلْ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِهِمَا، أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُجْزِئُ عَنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ حَيْثُ يَقَعُ مَوْقِعَهُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ أَيْضًا يُجْزِئُهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْفَصْلُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّجْعَةَ كَانَتْ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَتَحْصِيلِ النَّشَاطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَلِذَا وَرَدَ: كَلِّمِينِي يَا حُمَيْرَاءُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ الِاضْطِجَاعُ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَكَذَا قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّهُ بِدَعَةٌ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ: إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حَدِيثٌ، وَحَمْلُ ابْنِ حَجَرٍ كَلَامَهُمْ عَلَى عَدَمِ بُلُوغِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِلَيْهِمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ وَنِهَايَةٍ مِنَ السُّقُوطِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُ عَائِشَةَ: لَمْ يَكُنْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَضْطَجِعُ لِسُنَّةٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَدْأَبُ فَيَسْتَرِيحُ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَزْمٍ حَيْثُ قَالَ بِوُجُوبِهِ، وَفَسَادِ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِتَرْكِهِ، فَإِنَّهُ مُصَادِمٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَثِيرًا مَا تَرَكَهُ إِمَّا لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى الِاسْتِرَاحَةِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ.

1191 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا الْوَتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1191 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) ، أَيْ: آخِرِهِ (ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا) ، أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهَا (الْوَتْرُ) ، أَيْ: ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ الْكُلِّ، وَقَدْ صَرَّحَ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهَا: ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا، وَفِي مُسْلِمٍ: ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ. (وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا أَلْحَقَ الْوَتْرَ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بِالتَّهَجُّدِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي الْوَتْرَ آخِرَ اللَّيْلِ، وَيَبْقَى مُسْتَيْقِظًا إِلَى الْفَجْرِ، وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ، أَيْ سُنَّةُ الْفَجْرِ مُتَّصِلًا بِتَهَجُّدِهِ وَوَتْرِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: أَقُولُ: بَلْ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1192 - وَعَنْ مَسْرُوقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ، فَقَالَتْ: سَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1192 - (وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ، فَقَالَتْ: سَبْعٌ) ، أَيْ: مَرَّةً (وَتِسْعٌ) ، أَيْ: أُخْرَى (وَإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) ، أَيْ: كُلٌّ مَعَ ثَلَاثِ الْوَتْرِ (سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) ، أَيْ: غَيْرَ سُنَّةِ الْفَجْرِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُوتِرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَلَمَّا كَبُرَ وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، كَذَا قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى عَدِّ رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ مِنْ جُمْلَتِهَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ رَكَعَاتِ تَهَجُّدِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَالثَّلَاثُ وَتْرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِذَا غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ وَنَامَ عَنْ تَهَجُّدِهِ صَلَّى بِالنَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

1193 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1193 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ) ، أَيِ: التَّهَجُّدَ (افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) : قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: الْمُرَادُ بِهِمَا رَكْعَتَا الْوُضُوءِ، وَيُسْتَحَبُّ فِيهِمَا التَّخْفِيفُ ; لِوُرُودِ الرِّوَايَاتِ بِتَخْفِيفِهِمَا قَوْلًا وَعَمَلًا. اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ التَّهَجُّدِ يَقُومَانِ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْوُضُوءِ ; لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ لَهُ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَمْرًا يَشْرَعُ فِيهِ قَلِيلًا لِيَتَدَرَّجَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِيَحْصُلَ بِهِمَا نَشَاطُ الصَّلَاةِ وَيَعْتَادَ بِهِمَا، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1194 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَحِ الصَّلَاةَ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1194 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَامَ ") ، أَيْ: مِنَ النَّوْمِ (" أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: بَعْضِهِ (" فَلْيَفْتَتِحْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: فَلْيَفْتَحِ (" الصَّلَاةَ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ") : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ يَكُونُ أَوَّلًا بِالتَّخْفِيفِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1195 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ قَعَدَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَرَأَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْقِرْبَةِ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ صَبَّ فِي الْجَفْنَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا حَسَنًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ، لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَقُمْتُ وَتَوَضَّأْتُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَآذَنَهُ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ فِي دُعَائِهِ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا» " - وَزَادَ بَعْضُهُمْ - " «وَفِي لِسَانِي نُورًا» " وَذُكِرَ: " «وَعَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشِعَرِي وَبَشَرِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " «وَاجْعَلْ فِي نَفْسِي نُورًا، وَأَعْظِمْ لِي نُورًا» ". وَفِي أُخْرَى لِمُسْلِمٍ: " «اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1195 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ) : مِنَ الْبَيْتُوتَةِ (عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ) : وَهِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ (لَيْلَةً وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا) ، أَيْ: فِي نَوْبَتِهَا (فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً) : وَفِيهِ أَنَّ التَّحَدُّثَ بَعْدَ الْعِشَاءِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ إِذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الْآخِرَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ الْمَوْعِظَةِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ حُسْنِ الْعِشْرَةِ. (ثُمَّ رَقَدَ) ، أَيْ: نَامَ. فِي الشَّمَائِلِ: قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، أَيِ: الْمِخَدَّةِ أَوِ الْفِرَاشِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طُولِهَا (فَلَمَّا كَانَ) ، أَيْ: بَقِيَ (ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ) : صِفَةُ ثُلُثٍ، أَيْ: جَمْعِيُّهُ (أَوْ بَعْضُهُ) ، أَيْ: بَعْضُ الثُّلُثِ، أَيْ: أَقَلُّ مِنْهُ (قَعَدَ) ، أَيْ: قَامَ مِنَ النَّوْمِ (فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ) : يَتَفَكَّرُ فِي عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ وَيَسْتَغْرِقُ فِي عَالَمِ الْجَبَرُوتِ (فَقَرَأَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] ، أَيْ: فِي خِلْقَتِهِمَا أَوْ فِي الْخَلْقِ الْكَائِنِ فِيهِمَا {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران: 190] ، أَيْ: طُولًا وَقِصَرًا وَظُلْمَةً وَنُورًا وَحَرًّا وَبَرْدًا {لَآيَاتٍ} [آل عمران: 190] ، أَيْ: دَلَالَاتٌ وَاضِحَاتٌ وَبَيِّنَاتٌ لَائِحَاتٌ {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] ، أَيْ: لِأَرْبَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، عَلَى الْمِلَّةِ الْقَوِيمَةِ، وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ الْكَرِيمَةِ ; وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ» ". (حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ) : فَإِنَّ فِيهَا لَطَائِفَ عَظِيمَةً، وَعَوَارِفَ جَسِيمَةً لِمَنْ تَأَمَّلَ فِي مَبَانِيهَا، وَتَبَيَّنَ لَهُ بَعْضُ مَعَانِيهَا. (ثُمَّ قَامَ) ، أَيْ: قَصَدَ (إِلَى الْقِرْبَةِ فَأَطْلَقَ) ، أَيْ: حَلَّ (شِنَاقَهَا) : بِكَسْرِ الشِّينِ خَيْطَهَا الَّذِي يُشَدُّ بِهِ فَمُهَا، أَوِ السَّيْرَ الَّذِي تُعَلَّقُ بِهِ الْقِرْبَةُ (ثُمَّ صَبَّ) ، أَيْ: أَرَاقَ الْمَاءَ مِنْهَا (فِي الْجَفْنَةِ) ، أَيِ: الْقَصْعَةِ، وَهِيَ قَدَحٌ كَبِيرٌ، (ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا حَسَنًا) ، أَيْ: مُسْتَحْسَنًا (بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ) ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ حَسَنٌ، وَقِيلَ، أَيْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ. (لَمْ يُكْثِرْ) ، أَيْ: صَبَّ الْمَاءِ وَهُوَ صِفَةٌ أُخْرَى لِوُضُوءٍ أَوْ بَيَانٌ لِلْوُضُوءِ الْحَسَنِ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى عَدَمِ الْإِفْرَاطِ (وَقَدْ أَبْلَغَ) ، أَيْ: أَسْبَغَ الْمَاءَ إِلَى مَحَالِّهِ الْمَفْرُوضَةِ إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ التَّفْرِيطِ، (فَقَامَ فَصَلَّى) ، أَيْ: فَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ (فَقُمْتُ) ، أَيْ: نَهَضْتُ عَنِ النَّوْمِ أَوْ إِلَى الْقِرْبَةِ (وَتَوَضَّأْتُ) ، أَيْ: نَحْوَ وُضُوئِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، (فَقُمْتُ) ، أَيْ: لِلصَّلَاةِ مَعَهُ تَعَلُّمًا وَتَبَرُّكًا (عَنْ يَسَارِهِ) : لِعَدَمِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ كَانَ

صَغِيرًا وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، (فَأَخَذَ بِأُذُنِي) : وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَضَعَهَا أَوَّلًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مَسْكِ الْأُذُنِ أَوْ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ إِلَّا عَلَيْهِ، أَوْ لِيُنْزِلَ بَرَكَتَهَا بِهِ لِيَعِيَ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ. (فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " عَنْ " هُنَا. بِمَعْنَى الْجَانِبِ، أَيْ أَدَارَنِي عَنْ جَانِبِ يَسَارِهِ إِلَى جَانِبِ يَمِينِهِ. اهـ. وَفِي الشَّمَائِلِ بَدَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَفَتَلَهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفَتَلَهَا إِمَّا لِيُنَبِّهَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، أَوْ لِيَزْدَادَ تَيَقُّظُهُ لِحِفْظِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، أَوْ لِيُزِيلَ مَا عِنْدَهُ مِنَ النُّعَاسِ لِرِوَايَةِ: فَجَعَلْتُ إِذْ غَفَيْتُ يَأْخُذُ شَحْمَةَ أُذُنِي، (فَتَتَامَّتْ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ صَارَتْ تَامَّةً، تَفَاعَلَ مِنْ تَمَّ وَهُوَ لَا يَجِيءُ إِلَّا لَازِمًا. اهـ. أَيْ: تَمَّتْ وَتَكَامَلَتْ (صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) : وَفِي الشَّمَائِلِ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: يَعْنِي سِتَّ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَوْتَرَ، أَيْ: جَعَلَ الشَّفْعَ الْأَخِيرَ مُنْضَمًّا إِلَى الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَصَارَ وَتْرًا أَوْتَرَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي لِمُسْلِمٍ عَنْهُ. (ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ) ، أَيْ: تَنَفَّسَ بِصَوْتٍ حَتَّى يُسْمَعَ مِنْهُ صَوْتُ النَّفْخِ بِالْفَمِ، كَمَا يُسْمَعُ مِنَ النَّائِمِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: نَفَخَ مِنْ أَنْفِهِ، وَمِنْ ثَمَّ عُبِّرَ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِالْغَطِيطِ، وَهُوَ صَوْتُ الْأَنْفِ الْمُسَمَّى بِالْخَطِيطِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْمَمْدُودُ مِنَ الصَّوْتِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ صَوْتٌ يُسْمَعُ مِنْ تَرَدُّدِ النَّفَسِ أَوِ النَّفْخِ عِنْدَ الْخَفْقَةِ، أَيْ تَحْرِيكِ الرَّأْسِ. اهـ كَلَامُهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَوْتُ الْأَنْفِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْغَطِيطُ: الصَّوْتُ الَّذِي يَخْرُجُ مَعَ نَفَسِ النَّائِمِ وَهُوَ تَرْدِيدُهُ حَيْثُ لَا يَجِدُ مُسَاغًا، وَقَالَ: وَالْخَطِيطُ قَرِيبٌ مِنَ الْغَطِيطِ وَهُوَ صَوْتُ النَّائِمِ، وَفِي الْقَامُوسِ: غَطَّ النَّائِمُ غَطِيطًا: صَاتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (وَكَانَ) ، أَيْ: مِنْ عَادَتِهِ (إِذَا نَامَ نَفَخَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ بَيَانُ أَنَّ نَفْخَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِأَمْرٍ عَارِضٍ، بَلْ كَانَ جِبِلِّيًّا نَاشِئًا عَنْ عَبَالَةِ الْبَدَنِ، أَيْ: ضَخَامَتِهِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، نَعَمْ تِلْكَ الْعَبَالَةُ حَصَلَتْ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي آخِرِ عُمُرِهِ لَمَّا آتَاهُ اللَّهُ جَمِيعَ سُؤْلِهِ، وَأَرَاحَهُ مِنْ غَيِّ أَمَّتِهِ، كَانَ حِكْمَتُهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَعُلَمَاءِ الْبَاطِنِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَا هَذَا السِّمَنُ: كُلَّمَا تَذَكَّرْتُ كَثْرَةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَمَا اخْتَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِمَّا لَمْ يُؤْتِهِ لِغَيْرِهِمُ ازْدَدْتُ سِمَنًا، وَيَقُولُ الثَّانِي: كُلَّمَا تَذَكَّرْتُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَّهُ أَهَّلَنِي لِمَا تَرَوْنَ زَادَ سِمَنِي. اهـ. فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ السَّمِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ يَبْغَضُ السَّمِينَ، فَإِنَّ مَحِلَّهُ إِذَا كَانَ عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ نَشَأَ عَنْ تَنْعِيمٍ وَكَثْرَةِ أَكْلِ لَحْمٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ (يَبْغَضُ اللَّحَّامِينَ) (فَآذَنَهُ) : بِالْمَدِّ، أَيْ أَعْلَمَهُ (بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَإِنَّمَا لَمْ يَتَوَضَّأْ وَقَدْ نَامَ حَتَّى نَفَخَ ; لِأَنَّ النَّوْمَ لَا يَنْقُضُ الطُّهْرَ بِنَفْسِهِ، بَلْ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ خُرُوجِ الْخَارِجِ، وَلَمَّا كَانَ قَلْبُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقْظَانَ لَا يَنَامُ وَلَمْ يَكُنْ نَوْمُهُ مَظِنَّةً فِي حَقِّهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ، وَلَعَلَّهُ أَحَسَّ بِتَيَقُّظِ قَلْبِهِ بَقَاءَ طُهْرِهِ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَيَقَظَةُ قَلْبِهِ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَدَثِ وَمَا مَنَعَ النَّوْمُ قَلْبَهُ لِيَعِيَ الْوَحْيَ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْمَنَامِ. اهـ. فَالْوُضُوءُ الْأَوَّلُ إِمَّا لِنَقْضِ آخَرَ، أَوْ لِتَجْدِيدٍ وَتَنْشِيطٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَكَانَ فِي دُعَائِهِ) ، أَيْ: فِي جُمْلَةِ دُعَائِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ دُعَائِهِ حِينَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ، وَإِذَا خَرَجَ لِلصَّلَاةِ، أَيْ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ: (" «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا» ") : قِيلَ: هُوَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَظْهَرُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: النُّورَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: نُورًا عَظِيمًا، وَقَدَّمَ الْقَلْبَ ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَلِكِ الْمَالِكِ. (" «وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي عَيْنِي نُورًا» ") ; لِأَنَّهُمَا آلَتَا الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ. (" «وَعَنْ يَمِينِي نُورًا،

وَعَنْ يَسَارِي نُورًا» ) ، أَيْ: فِي جَانِبِي، أَوْ فِي جَارِحَتِي، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِالنُّورِ ضِيَاءَ الْحَقِّ، يَعْنِي اسْتَعْمِلْ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ مِنِّي فِي الْحَقِّ، وَاجْعَلْ تَصَرُّفِي وَتَقَلُّبِي فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ. (" وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي ") ، أَيْ: قُدَّامِي (" نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي إِيرَادِ عَدَمِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي هَذِهِ الْجَوَانِبِ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَامِ الْإِنَارَةِ وَإِحَاطَتِهَا ; إِذِ الْإِنْسَانُ يُحِيطُ بِهِ ظُلُمَاتُ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهَا إِلَّا بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْأَنْوَارُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، فَيَكُونُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ نُورًا يَسْتَضِيءُ بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ وَمَنْ يَتْبَعُهُ أَوْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] ، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122] ، قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ لَا مَنْعَ، ثُمَّ قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ النُّورَ يُظْهِرُ مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِهِ، فَنُورُ السَّمْعِ مُظْهِرٌ لِلْمَسْمُوعَاتِ، وَنُورُ الْبَصَرِ كَاشِفٌ لِلْمُبْصَرَاتِ، وَنُورُ الْقَلْبِ كَاشِفٌ عَنِ الْمَعْلُومَاتِ، وَنُورُ الْجَوَارِحِ مَا يَبْدُو عَلَيْهَا مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى طَلَبِ النُّورِ لِلْأَعْضَاءِ عُضْوًا عُضْوًا أَنْ يَتَحَلَّى كُلُّ عُضْوٍ بِأَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ، وَيَتَعَرَّى عَنْ ظُلْمَةِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَإِنَّ ظُلُمَاتِ الْجُمْلَةِ مُحِيطَةٌ بِالْإِنْسَانِ مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَالشَّيْطَانُ يَأْتِيهِ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ بِالْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ، أَيِ: الْمُشَبَّهَاتُ بِالظُّلُمَاتِ فَرَفْعُ كُلِّ ظُلْمَةٍ بِنُورٍ، قَالَ: وَلَا مُخَلِّصَ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْوَارٍ تَسْتَأْصِلُ شَأْفَةَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَلْبَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ بِـ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ ; لِأَنَّ الْقَلْبَ مَقَرُّ الْفِكْرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَصَرَ مَسَارِحُ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمَنْصُوبَةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ، وَالسَّمْعَ مَحَطُّ آيَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَالْيَمِينَ وَالشَّمَالَ خُصَّا بِـ (عَنْ) لِلْإِيذَانِ بِتَجَاوُزِ الْأَنْوَارِ عَنْ قَلْبِهِ وَبَصَرِهِ وَسَمْعِهِ إِلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَعُزِلَتْ فَوْقَ وَتَحْتَ وَأَمَامَ وَخَلْفَ مِنَ الْجَارَّةِ لِتَشْمَلَ اسْتِنَارَتَهُ وَإِنَارَتَهُ مَعًا مِنَ اللَّهِ وَالْخَلْقِ، ثُمَّ أَجْمَلَ بِقَوْلِهِ: (" وَاجْعَلْ لِي نُورًا ") : فَذْلَكَةً لِذَلِكَ. اهـ. أَيْ: إِجْمَالًا لِذَلِكَ التَّفْصِيلِ، وَفَذْلَكَةُ الشَّيْءِ: جَمْعُهُ. مَأْخُوذٌ مِنْ فَذْلَكَ وَهُوَ مَصْنُوعٌ كَالْبَسْمَلَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِهِ نُورًا عَظِيمًا جَامِعًا لِلْأَنْوَارِ كُلِّهَا. اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ: " وَاجْعَلْنِي نُورًا " وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْكُلِّ. (وَزَادَ بَعْضُهُمْ) ، أَيْ: بَعْضُ الرُّوَاةِ بَعْدَمَا ذَكَرَ (" وَفِي لِسَانِي نُورًا ") : خُصَّ بِالذِّكْرِ لِيَخُصَّ بِالذِّكْرِ (وَذَكَرَ) أَيِ: الرَّاوِي. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ: وَذَكَرَ، أَيْ ذَلِكَ الْبَعْضُ. يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: (" وَعَصَبِي ") لِأَنَّ بِهِ قَوَامَ الْبَدَنِ، (" وَلَحْمِي ") لِأَنَّ بِهِ نُمُوَّهُ وَزِيَادَتَهُ، (" وَدَمِي ") لِأَنَّ بِهِ حَيَاتَهُ، (" وَشَعَرِي ") ; لِأَنَّ بِهِ جَمَالَهُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا، (" وَبَشَرِي ") ، أَيْ: جِلْدِي ; لِأَنَّهُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ بَدَنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَفْظُهُ عَلَى مَا فِي الْحِصْنِ: وَفِي عَصَبِي نُورًا، وَفِي لَحْمِي نُورًا، وَفِي دَمِي نُورًا، وَفِي شَعَرِي نُورًا، وَفِي بَشَرِي نُورًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَفِي لِسَانِي نُورًا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْحِصْنِ. (- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا -) أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ (" «وَاجْعَلْ فِي نَفْسِي نُورًا وَأَعْظِمْ لِي نُورًا» ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيِ: اجْعَلْ نُورِي عَظِيمًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَسْنَدَهَا الْجَزَرِيُّ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَطْ وَجَعَلَهَا مُصَدَّرَةً بِقَوْلِهِ: وَفِي لِسَانِي نُورًا. (" وَفِي أُخْرَى لِمُسْلِمٍ: " «اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا» ") : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا.

1196 - وَعَنْهُ أَنَّهُ «رَقَدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَيْقَظَ، فَتَسَوَّكَ، وَتَوَضَّأَ وَهُوَ يَقُولُ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1196 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (" أَنَّهُ رَقَدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا حِكَايَةَ لَفْظِهِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ قَالَ: رَقَدْتُ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، وَرَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (فَاسْتَيْقَظَ) ، أَيِ: اسْتَنْبَهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّوْمِ، زَادَ فِي الشَّمَائِلِ: فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ، أَيْ أَثَرَهُ مِمَّا يَعْتَرِي الْوَجْهَ مِنَ الْفُتُورِ عَنْ وَجْهِهِ (فَتَسَوَّكَ، وَتَوَضَّأَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ تَجْدِيدًا لِلْوُضُوءِ لِعَدَمِ بُطْلَانِهِ بِنَوْمِهِ. اهـ. وَالْجَزْمُ بِالتَّجْدِيدِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ لِنَاقِضٍ آخَرَ، (وَهُوَ يَقُولُ) ، أَيْ: يَقْرَأُ، وَهُوَ يُنَاقِضُ الْحَدِيثَ السَّابِقَ بِظَاهِرِهِ حَيْثُ قَالَ: فَقَرَأَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ. إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِرَاءَةِ أَوِ الْوَاقِعَةِ، أَوْ تُحْمَلُ (ثُمَّ) ثَمَّةَ عَلَى أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ أَوْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] أَيِ: الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ (حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ) ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَادَةِ. (ثُمَّ انْصَرَفَ) ، أَيْ: عَنِ الصَّلَاةِ (فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ) : وَتَحَقَّقَ مِنْهُ النَّوْمُ (ثُمَّ) ، أَيْ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ (فَعَلَ ذَلِكَ) ، أَيِ: الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِهِ: فَتَسَوَّكَ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى نَفَخَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بَدَلٌ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي سِتِّ رَكَعَاتٍ. اهـ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ بَيَانٌ لِثَلَاثٍ وَكَذَلِكَ (كُلَّ ذَلِكَ) : بِالنَّصْبِ بَيَانٌ لَهُ أَيْضًا، أَيْ: كُلَّ مَرَّةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ (يَسْتَاكُ) : وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كُلُّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِيَسْتَاكُ، أَيْ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَقْرَأُ وَيُصَلِّي، وَ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ لِتَرَاخِي الْإِخْبَارِ تَقْدِيرًا وَتَأْكِيدًا لَا لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ مِنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ (وَيَتَوَضَّأُ) : قِيلَ: لِلتَّجْدِيدِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ لِإِحْسَاسِ الْحَدَثِ هُنَا وَبَقَاءِ الْوُضُوءِ ثَمَّةَ. اهـ. وَالظَّاهِرُ تَعَدُّدُ الْوَاقِعَةِ لِاخْتِلَافِ الْحَالَاتِ وَالْمُخَالَفَةِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ الرَّكَعَاتُ عَلَى الصَّلَوَاتِ، (وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ) : فِيهِ تَكْرِيرُ السِّوَاكِ وَالْقِرَاءَةِ كُلَّمَا قَامَ مِنَ النَّوْمِ وَإِنْ قَصُرَ، (ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّكَعَاتِ السِّتَّ كَانَتْ تَهَجُّدَهُ، وَأَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ. اهـ. وَلَا يُخَالِفُهُ الشَّافِعِيُّ، بَلْ يُكْرَهُ عِنْدَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَةٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1197 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، [ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ، فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ: ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، هَكَذَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَأَفْرَادِهِ مِنْ كِتَابِ " الْحُمَيْدِيِّ "، وَ " مُوَطَّأِ مَالِكٍ "، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَ " جَامِعِ الْأُصُولِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1197 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) : الْمَدَنِيِّ صَحَابِيٍّ مَشْهُورٍ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (أَنَّهُ قَالَ: لَأَرْمُقَنَّ) : بِضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ ; لَأَنْظُرَنَّ وَأَتَأَمَّلَنَّ وَأَحْفَظَنَّ وَأَرْقُبَنَّ (صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَدَلَ هَاهُنَا عَنِ الْمَاضِي فِي الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ لِتَقَرُّرِهَا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ قَبْلَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ نَهَارًا، ثُمَّ رَمَقَهُ فَصَلَّى إِلَخْ. وَحِينَئِذٍ فَالْمُضَارِعُ عَلَى حَالِهِ. اهـ. وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ تَقْدِيرَاتٍ كَثِيرَةٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَوْلُهُ: (اللَّيْلَةَ) ، أَيْ: فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ حَتَّى أَرَى كَمْ يُصَلِّي، وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْحُجُرَاتِ، وَفِي الشَّمَائِلِ: فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ أَوْ فُسْطَاطَهُ، وَهُوَ الْخَيْمَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ تَوَسُّدِ الْفُسْطَاطِ تَوَسُّدَ عَتَبَتِهِ فَيَكُونُ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، (فَصَلَّى) : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) ، أَيِ: ابْتِدَاءً (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ) : التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكُلِّ طَوِيلَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِرَادَةً لِغَايَةِ الطُّولِ، ثُمَّ تَنَزَّلَ شَيْئًا فَشَيْئًا يَعْنِي قَوْلَهُ:

(ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ) ، أَيْ: أَقَلُّ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ (قَبْلَهُمَا، ثُمَّ) : ثَانِيًا (صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) : وَالْقَبْلِيَّةُ إِضَافِيَّةٌ (ثُمَّ) : ثَالِثًا (صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ) رَابِعًا (صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرْبَعُ مَرَّاتٍ، فَعَلَى هَذَا لَا تَدْخُلُ الرَّكْعَتَانِ الْخَفِيفَتَانِ تَحْتَ مَا أَجْمَلَهُ بِقَوْلِهِ: فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، أَوْ يَكُونُ الْوَتْرُ رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَعَلَّ نَاسِخَ الْمَصَابِيحِ لَمَّا رَأَى الْمُجْمَلَ جَعَلَ الْخَفِيفَتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُفَصَّلِ، فَكَتَبَ قَوْلَهُ: ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ حَمَلَ قَوْلَهُ (ثُمَّ أَوْتَرَ) عَلَى ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ مِنَ الْبَيْنِ، (ثُمَّ أَوْتَرَ) : قَالَ الْمُظْهِرُ هُنَا: الْوَتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ ; لِأَنَّهُ عَدَّ مَا قَبْلُ عَشْرَ رَكَعَاتٍ لِقَوْلِهِ: رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، فَهَذِهِ سِتُّ رَكَعَاتٍ أُخَرُ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ لَا بِثَلَاثٍ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ (فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ ; لِأَنَّهُ صَلَّى عَشْرًا فِي خَمْسِ دُفُعَاتٍ، يَعْنِي مَا عَدَا الْخَفِيفَتَيْنِ، أَوْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَصَابِيحُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ: (قَوْلُهُ) أَيْ: قَوْلُ زَيْدٍ (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) : بِالنَّصْبِ، أَيْ: وَقَعَ قَوْلُ هَذَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ قَوْلِهِ: (هَكَذَا) ، أَيْ: أَرْبَعُ مَرَّاتٍ (فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ) ، أَيْ: مَتْنِهِ (وَأَفْرَادِهِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقِيلَ بِالْكَسْرِ، أَيْ: وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ (مِنْ كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) : الْجَامِعِ بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، (وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ) ، أَيْ: فِي مُوَطَّئِهِ (وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ) ، أَيْ: لِابْنِ الْأَثِيرِ، وَحَقُّهُ التَّقَدُّمُ عَلَى الْمُوَطَّأِ، وَكَذَا فِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَمَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْبَغَوِيِّ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي الْمَصَابِيحِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

1198 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «لَمَّا بَدَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَقُلَ كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ جَالِسًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1198 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا بَدَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ التَّبْدِينِ وَهُوَ الْكِبَرُ وَالضَّعْفُ، أَيْ: مَسَّهُ الْكِبَرُ وَأَسَنَّ، وَيُرْوَى بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ كَثُرَ لَحْمُهُ. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قِيلَ: لَمْ يُوصَفْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالسِّمَنِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ ثَقُلَ عَنِ الْحَرَكَةِ وَضَعُفَ عَنْهَا ثِقَلَ الرَّجُلِ الْبَادِنِ، قُلْتُ: وَلِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ (وَثَقُلَ) ، أَيْ: بَدَنُهُ عَطْفَ تَفْسِيرٍ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي قَوْلِهِ بَدَّنَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ مُخَفَّفًا بِضَمِّ الدَّالِّ مِنْ قَوْلِهِمْ بَدَنَ يَبْدُنَ بِدَانَةً، وَبَدَنَ بِفَتْحِ الدَّالِ يَبْدَنَ بَدَنًا وَهُوَ السِّمَنُ وَالِاكْتِنَازُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِهَا مِنَ التَّبْدِينِ وَهُوَ السِّنُّ وَالْكِبَرُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الَّتِي يَرْتَضِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوصَفْ بِالسِّمَنِ فِيمَا يُوصَفُ بِهِ. نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثَقُلَ، أَيْ: ضَعُفَ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَكَثْرَةِ لَحْمِهِ، كَمَا فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ، فَذِكْرُ كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ فِي رِوَايَةٍ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ ; لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ سَبَبَانِ يَجُوزُ ذِكْرُهُمَا وَذِكْرُ أَحَدِهِمَا وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ. اهـ. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى ; لِأَنَّهُ قَلَّ مَنْ كَبُرَ سِنُّهُ وَكَثُرَ لَحْمُهُ مَعَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْحَبْرَ السَّمِينَ» "، وَأَمَّا رِوَايَةُ كَثُرَ لَحْمُهُ، فَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِرْخَاءِ لَحْمِ بَدَنِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ كِبَرُ سِنِّهِ. (كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ) ، أَيِ: النَّافِلَةُ (جَالِسًا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ خَصَائِصِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ ثَوَابَ تَطَوُّعِهِ جَالِسًا كَهُوَ قَائِمًا ; لِأَنَّ الْكَسَلَ الْمُقْتَضِيَ لِكَوْنِ أَجْرِ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَجْرِ الْقَائِمِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ مَأْمُونٌ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَلَّى جَالِسًا ضَرُورَةً فَرْضًا أَوْ نَفْلًا يَكُونُ ثَوَابُهُ كَامِلًا، فَلَا يُعَدُ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْخَصَائِصِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِطْلَاقُ، سَوَاءٌ جُلُوسُهُ يَكُونُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَلَمْ يَقُلِ الْبُخَارِيُّ: أَكْثَرُ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا. اهـ. فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ تَبَايُنٌ فَتَأَمَّلْ.

1199 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ، عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ آخِرُهُنَّ (حم الدُّخَانُ) وَ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1199 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ) : جَمْعُ النَّظِيرَةِ وَهِيَ الْمِثْلُ وَالشَّبَهُ، أَيِ: السُّوَرُ الْمُمَاثِلَةُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ (الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرِنُ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، أَيْ: يَجْمَعُ (بَيْنَهُنَّ) ، أَيْ: بَيْنَ سُورَتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي رَكْعَةٍ (فَذَكَرَ) ، أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ، عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ) ، أَيْ: جَمْعِهِ (سُورَتَيْنِ) ، أَيْ: كُلُّ سُورَتَيْنِ مِنَ الْعِشْرِينَ (فِي رَكْعَةٍ آخِرُهُنَّ) ، أَيْ: آخِرُ الْعِشْرِينَ مُبْتَدَأٌ يَعْنِي آخِرَ الثِّنْتَيْنِ مِنَ الْعِشْرِينَ (حم الدُّخَانِ) : يُحْتَمَلُ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ فِي حم، وَالْفَتْحُ أَظْهَرُ، وَكَذَلِكَ فِي الدُّخَانِ وَالْجَرُّ أَشْهَرُ، (وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ لِلشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ رَوَى أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ قَالَا: أَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَنَثْرًا كَنَثْرِ الدَّقَلِ، لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ النَّظَائِرَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ (الرَّحْمَنُ وَالنَّجْمُ) فِي رَكْعَةٍ، (وَاقْتَرَبَتْ وَالْحَاقَّةُ) فِي رَكْعَةٍ، (وَالطُّورُ وَالذَّارِيَاتُ) فِي رَكْعَةٍ، (وَإِذَا وَقَعَتْ وَالنُّونُ) فِي رَكْعَةٍ، (وَسَأَلَ سَائِلٌ وَالنَّازِعَاتُ) فِي رَكْعَةٍ، (وَوَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وَعَبَسَ) فِي رَكْعَةٍ، (وَالْمُدَّثِّرُ وَالْمُزَّمِّلُ) فِي رَكْعَةٍ، (وَهَلْ أَتَى وَلَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فِي رَكْعَةٍ، (وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَالْمُرْسَلَاتُ) فِي رَكْعَةٍ، (وَالدُّخَانُ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) فِي رَكْعَةٍ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا تَأْلِيفُ ابْنِ مَسْعُودٍ. اهـ. وَهَكَذَا فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ تَسْمِيَتُهَا، لَكِنْ بِنَقْصٍ وَمُخَالَفَةٍ فِي التَّرْتِيبِ، وَآخِرُ الْحَدِيثِ يُنَافِي ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ آخِرُهُنَّ، أَيْ: آخِرُ الْعِشْرِينَ حم الدُّخَانِ، وَنَظِيرَتُهَا إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَنَظِيرَتُهَا وَالْمُرْسَلَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ، هَلْ هُوَ تَوْقِيفٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ بَعْضُهُ تَوْقِيفٌ وَبَعْضُهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ؟ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مُرَتَّبًا هَكَذَا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ إِلَّا هَكَذَا كَمَا هُوَ مُرَتَّبٌ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لِلصِّغَارِ أَنْ يَقْرَءُوا مِنْ أَسْفَلَ لِضَرُورَةِ التَّعْلِيمِ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ غَيْرَ مُرَتَّبٍ فَهُوَ غَيْرُ الْأَوْلَى، وَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَلَوْ قَرَأَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ سُورَةَ النَّاسِ فَمَاذَا يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعِيدُهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْدَأُ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، أَيْ إِلَى الْمُفْلِحُونَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْإِفَادَةَ أَوْلَى مِنَ الْإِعَادَةِ. قَالَ: وَالْهَذُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ: الْإِسْرَاعُ، يُرِيدُ سَرْدَ الْقِرَاءَةِ وَالْعَجَلَةَ فِيهَا، وَالنَّثْرُ بِالْمُثَلَّثَةِ: الرَّمْيُ، وَالدَّقَلُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ: رَدِيءُ التَّمْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَرْمِي جُمَلَهُ وَلَا يَتَأَنَّى بِهِ لِيَنْتَقِيَ مِنْهُ شَيْئًا. اهـ. قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ: أَنَّ قِيَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوَتْرِ، وَأَنَّ هَذَا قَدْرُ قِرَاءَتِهِ غَالِبًا وَتَطْوِيلُهُ بِسَبَبِ التَّدَبُّرِ، وَتَطْوِيلُ الْأَرْكَانِ وَقِرَاءَتُهُ الْبَقَرَةَ وَالنِّسَاءَ نَادِرٌ، وَإِنْكَارُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الرَّجُلِ لِيَحُضَّهُ عَلَى التَّأَمُّلِ لَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِرَاءَةُ الْمُفَصَّلِ فِي رَكْعَةٍ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1200 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، وَكَانَ يَقُولُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " " ذُو الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ "، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ. ثُمَّ رَكَعَ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ "، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَكَانَ قِيَامُهُ نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ، يَقُولُ: " لِرَبِّيَ الْحَمْدُ ". ثُمَّ سَجَدَ، فَكَانَ سُجُودُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، فَكَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ". ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَكَانَ يَقْعُدُ فِيمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي ". فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَرَأَ فِيهِنَّ (الْبَقَرَةَ) وَ (آلَ عِمْرَانَ) وَ (النِّسَاءَ) وَ (الْمَائِدَةَ) أَوِ (الْأَنْعَامَ) ،» شَكَّ شُعْبَةُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1200 - (عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ، رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَكَانَ) : الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ (يَقُولُ) ، أَيْ بَعْدَ النِّيَّةِ الْقَلْبِيَّةِ (" اللَّهُ أَكْبَرُ ") ، أَيْ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ أَعْظَمُ، وَتَفْسِيرُهُمْ إِيَّاهُ بِالْكَبِيرِ ضَعِيفٌ، كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُ كِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ لَهُ ذَلِكَ، وَأُوِّلَ لِأَنَّ أَفْعَلَ فُعْلَى يَلْزَمُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، أَوِ الْإِضَافَةُ كَالْأَكْبَرِ وَأَكْبَرِ الْقَوْمُ. كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (ثَلَاثًا " ذُو الْمَلَكُوتِ ") ، أَيْ: صَاحِبُ الْمُلْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالصِّيغَةُ لِلْمُبَالَغَةِ، (" وَالْجَبَرُوتِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلُوتٌ مِنَ الْجَبْرِ: الْقَهْرِ، وَالْجَبَّارُ: الَّذِي يَقْهَرُ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَالِي فَوْقَ خَلْقِهِ، (" وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ") ، أَيْ: غَايَةِ الْكِبْرِيَاءِ، وَنِهَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْبَهَاءِ، وَلِذَا قِيلَ: لَا يُوصَفُ بِهِمَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُمَا التَّرَفُّعُ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ مَعَ انْقِيَادِهِمْ لَهُ، وَقِيلَ: عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، قَالَ: الْكِبْرِيَاءُ: التَّرَفُّعُ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصِ، وَالْعَظَمَةُ: تَجَاوُزُ الْقَدْرِ عَنِ الْإِحَاطَةِ، وَالتَّحْقِيقُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لِلْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ فِي الصَّحِيحِ: (الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا قَصَمْتُهُ) ، أَيْ: كَسَرْتُهُ وَأَهْلَكْتُهُ. (ثُمَّ اسْتَفْتَحَ) ، أَيْ: قَرَأَ الثَّنَاءَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ، أَوِ اسْتَفْتَحَ بِالْقِرَاءَةِ، أَيْ بَدَأَ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْإِتْيَانِ بِالثَّنَاءِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ بَعْدَ الثَّنَاءِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَحَمْلًا عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ يَقُولُهُ فِي صَلَاتِهِ فِي مَحَلِّ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ. (فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ) ، أَيْ: كُلَّهَا، وَيُحْتَمَلُ بَعْضُهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، كَمَا فِي الْأَزْهَارِ، أَوِ الْفَاتِحَةَ وَفَاتِحَةَ الْبَقَرَةِ مَعَهَا، كَمَا قِيلَ. وَإِنَّمَا حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. (ثُمَّ رَكَعَ، فَكَانَ رُكُوعُهُ) ، أَيْ: طُولُهُ (نَحْوًا) ، أَيْ: قَرِيبًا (مِنْ قِيَامِهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالْمُرَادُ أَنَّ رُكُوعَهُ مُتَجَاوِزٌ عَنِ الْمَعْهُودِ كَالْقِيَامِ، (فَكَانَ يَقُولُ) : حِكَايَةُ الْمَاضِيَةِ اسْتِحْضَارًا. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ (فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُسَكَّنُ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَكَانَ قِيَامُهُ) بَعْدَ الرُّكُوعِ، أَيِ: اعْتِدَالُهُ (نَحْوًا) ، أَيْ: قَرِيبًا (مِنْ رُكُوعِهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسَخٍ مِنْ قِيَامِهِ، وَفِيهِ تَطْوِيلُ الِاعْتِدَالِ، مَعَ أَنَّهُ رُكْنٌ قَصِيرٌ عِنْدَنَا، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ طَوِيلٌ، بَلْ جَزَمَ بِهِ جَزْمَ الْمَذْهَبِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. اهـ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: " «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ» ". اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَا نَسَبَ الشَّيْخُ إِلَى بَعْضِ النُّسَخِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ الْمُصَحَّحَةِ. (يَقُولُ) ، أَيْ: بَعْدَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ: (" لِرَبِّيَ الْحَمْدُ " ثُمَّ سَجَدَ، فَكَانَ سُجُودُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ) ، أَيْ: لِلْقِرَاءَةِ، قَالَهُ عِصَامُ الدِّينِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَكُونَ سُجُودُهُ أَقَلَّ مِنْ رُكُوعِهِ، وَالْأَظْهَرُ: الْأَقْرَبُ مِنْ قِيَامِهِ مِنَ الرُّكُوعِ لِلِاعْتِدَالِ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ، أَيْ: مِنِ اعْتِدَالِهِ (فَكَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ". ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَكَانَ يَقْعُدُ فِيمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ) ، أَيْ: سُجُودِهِ الْأَوَّلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ مَا مَرَّ فِي الِاعْتِدَالِ (وَكَانَ يَقُولُ) ، أَيْ: فِي جُلُوسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: (" رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي ") : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْلُهُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي مَرَّتَيْنِ لِتَكْرَارِهِ كَرَّتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِكْثَارَهُ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ السَّابِقَةِ، (فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَرَأَ فِيهِنَّ) ، أَيْ: فِي الرَّكَعَاتِ الْأَرْبَعِ (الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ، أَوِ الْأَنْعَامَ، شَكَّ شُعْبَةُ) ، أَيْ: رَاوِي الْحَدِيثِ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ مَرْضَاةً لِلتَّرْتِيبِ الْمُقَرَّرِ، مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي جَمِيعِ السُّورِ تَوْقِيفِيٌّ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْآنَ مَصَاحِفُ الزَّمَانِ، كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ مَوْلَى الْأَنْصَارِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَنْبَسٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَبُو حَمْزَةَ عِنْدَنَا طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَبُو حَمْزَةَ عِنْدَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَزِيدَ. اهـ. وَقَوْلُ النَّسَائِيِّ أَصَحُّ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، وَالرَّجُلُ الْمُبْهَمُ هُوَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ الْعَنْبَسِيُّ الْكُوفِيُّ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَمُسْلِمٌ.

1201 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1201 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ ") : قَامَ بِهِ، أَيْ أَتَى بِهِ، يَعْنِي: مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي صَلَاتِهِ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّأَنِّي كَذَا قِيلَ، وَفِي الْأَزْهَارِ يُحْتَمُلُ مَنْ قَامَ وَقَرَأَ وَإِنْ لَمْ يُصِلِّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أَخَذَهَا بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ يَقْرَؤُهَا فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ. اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَقَلُّ مَرَاتِبِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ وَثَلَاثُ آيَاتٍ بَعْدَهَا، فَتِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ. (" لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ ") ، أَيْ: لَمْ يُثْبَتِ اسْمُهُ فِي صَحِيفَةِ الْغَافِلِينَ. (" «وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ» ") ، أَيِ الْمُوَاظِبِينَ عَلَى الطَّاعَةِ أَوِ الْمُطَوِّلِينِ الْقِيَامَ فِي الْعِبَادَةِ. وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ وَالْقِيَامُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: مِنَ الَّذِينَ قَامُوا بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَزِمُوا طَاعَتَهُ وَخَضَعُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَهَا مَزَايَا وَفَضَائِلُ، وَأَعْلَاهَا أَنْ تَكُونَ فِي الصَّلَاةِ، لَا سِيَّمَا فِي اللَّيْلِ، قَالَ تَعَالَى {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] وَمِنْ ثَمَّ أَوْرَدَ مُحْيِي السُّنَّةِ الْحَدِيثَ فِي بَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَحَاصِلُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ لَا بِصَلَاةٍ وَلَا بِلَيْلٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَدْنَى مَرَاتِبِهِ، وَيَدُلَّ عَلَيْهِ جَزَاءُ الشَّرْطِيَّةِ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: " لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ "، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مَحَلِّ الْأَكْمَلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَتَفْسِيرِي (قَامَ يُصَلِّي) فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ. فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ لَا يُعْرُفُ فِي الشَّرْعِ تَفْسِيرُ (قَامَ يُصَلِّي) وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفَاتَهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَسُوقٌ فِي بَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ. فَغَرِيبٌ؛ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْوُرُودِ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ، وَبَيْنَ إِيرَادِ غَيْرِهِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قِرَاءَتِهَا وَلَوْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ قِرَاءَتُهُ ذَلِكَ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ - فَمَرْدُودٌ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ قَيْدٍ، وَإِنْ كَانَ الْقَيْدُ يُفِيدُ زِيَادَةَ الْفَضِيلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ ") : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: مِنَ الْمُلْكِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ أَلْفُ آيَةٍ. (" كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ ") ، أَيْ: مِنَ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الْأَجْرِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَنَاطِيرِ، وَهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ. يَعْنِي مِنَ الَّذِينَ بَلَغُوا فِي حِيَازَةِ الْمَثُوبَاتِ مَبْلَغَ الْمُقَنْطِرِينَ فِي حِيَازَةِ الْأَمْوَالِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا نَجِدُ الْعَرَبَ تَعْرِفُ وَزْنَ الْقِنْطَارِ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ الْمِقْدَارُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، قِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَإِذَا قَالُوا: قَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ فَهِيَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ الْقِنْطَارُ: مِلْءُ جِلْدِ الثَّوْرِ ذَهَبًا، وَقِيلَ: هُوَ جُمْلَةٌ كَثِيرَةٌ مَجْهُولَةٌ مِنَ الْمَالِ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الْقِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ خَيْرٌ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ نَقَلَهُ الْمُنْذِرِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، وَالْأُوقِيَّةُ خَيْرٌ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَذَا رَوَاهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ، وَأَقُولُ: وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي لَيْلَةٍ أَصْبَحَ لَهُ قِنْطَارٌ، وَالْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، وَالْوُقِيَّةُ خَيْرٌ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَخَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ قَامَ بِمِائَتَيْ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَوْلُهُ: مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ، أَيْ: مِمَّنْ كُتِبَ لَهُ قِنْطَارٌ مِنَ الْأَجْرِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

1202 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ يَرْفَعُ طَوْرًا وَيَخْفِضُ طَوْرًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1202 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ) : فِي الْأَزْهَارِ يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ: مُخْتَلِفَةٌ. (يَرْفَعُ) ، أَيْ صَوْتَهَ رَفْعًا مُتَوَسِّطًا (طَوْرًا) ، أَيْ مَرَّةً أَوْ حَالَةً إِنْ كَانَ خَالِيًا (وَيَخْفِضُ طَوْرًا) : إِنْ كَانَ هُنَاكَ نَائِمٌ أَوْ بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُنَاسِبِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (يَرْفَعُ) خَبَرُ (كَانَ) وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَرْفَعُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهَا طَوْرًا صَوْتَهُ، وَإِنْ رُوِيَ مَجْهُولًا كَانَ ظَاهِرًا، يَعْنِي: كُلًّا مِنَ الْفِعْلَيْنِ لَوْ كَانَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ كَانَتْ خَبَرِيَّتُهُ ظَاهِرَةً، وَمَا احْتَاجَا إِلَى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1203 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْمَعُهُ مَنْ فِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ فِي الْبَيْتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1203 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : رَفْعُهَا (عَلَى قَدْرِ مَا يَسْمَعُهُ) ، أَيْ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : رَفْعُهَا (عَلَى قَدْرِ مَا يَسْمَعُهُ) ، أَيْ: مِقْدَارِ قِرَاءَةٍ يَسْمَعُهَا، وَفِي الشَّمَائِلِ: رُبَّمَا يَسْمَعُهَا، وَفِي نُسْخَةٍ: يَسْمَعُهُ، قَالَ عِصَامُ الدِّينِ: التَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ مَا قَرَأَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ صَوْتٌ أَوْ رَفْعٌ يَسْمَعُهُ، (مَنْ فِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْتِ) أَيْ فِي بَيْتِهِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحُجْرَةِ صَحْنُ الْبَيْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ هُوَ الْحُجْرَةُ نَفْسُهَا، أَيْ يُسْمِعُ مَنْ فِيهَا، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْحُجْرَةُ أَخَصُّ مِنَ الْبَيْتِ يَعْنِي كَانَ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ كَثِيرًا وَلَا يُسِرُّ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ، وَهَذَا إِذَا كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا، وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ، يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِيهَا كَثِيرًا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1204 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ، وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ، قَالَ: فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ "، قَالَ: قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَالَ لِعُمَرَ: " مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَكَ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا "، وَقَالَ لِعُمَرَ: " اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1204 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ مَارٌّ بِأَبِي بَكْرٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمَرَّ، وَقَوْلُهُ: (يُصَلِّي) : حَالٌ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ (يَخْفِضُ) : حَالٌ عَنْ ضَمِيرِ يُصَلِّي. انْتَهَى. وَفِي نُسْخَةٍ: وَهُوَ يَخْفِضُ (مِنْ صَوْتِهِ) ، أَيْ: بَعْضَ صَوْتِهِ. (وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ، قَالَ) أَبُو قَتَادَةَ (فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ) ، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّهُودِ وَالْجَمَالِ. (قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ!) : جَوَابٌ مُتَضَمِّنٌ لِعِلَّةِ الْخَفْضِ، أَيْ: أَنَا أُنَاجِي رَبِّي وَهُوَ يَسْمَعُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ. (وَقَالَ لِعُمَرَ: " «مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَكَ» "، فَقَالَ) : لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوقِظُ) أَيْ أُنَبِّهُ (الْوَسْنَانَ) ، أَيِ: النَّائِمَ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَغْرِقٍ فِي نَوْمِهِ، (وَأَطْرُدُ) أَيْ: أُبْعِدُ (الشَّيْطَانَ) : وَوَسْوَسَتَهُ بِالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَرْتَبَتِهِمَا وَمَقَامِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ فِي فِعْلَيْهِمَا وَحَالَيْهِمَا مِنْ مَرْتَبَةِ الْجَمْعِ لِلْأَوَّلِ وَحَالَةِ الْفَرْقِ لِلثَّانِي، وَالْأَكْمَلُ هُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ الَّذِي كَانَ حَالَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَدَلَّهُمَا عَلَيْهِ، وَأَشَارَ لَهُمَا إِلَيْهِ. (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِكَوْنِهِ الطَّبِيبَ الْحَاذِقَ وَالْحَبِيبَ الْمُشْفِقَ الْمُوَصِّلَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ (" «يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا» ") ، أَيْ: قَلِيلًا لِيَنْتَفِعَ بِكَ سَامِعٌ وَيَتَّعِظَ مُهْتَدٍ، وَلَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ مِزَاجُ التَّوْحِيدِ الْحَارُّ الْمُحْرِقُ مَا سِوَى اللَّهِ الْحَقِّ فِي الدَّارِ لِيَحْصُلَ لَهُ الْمَقَامُ الْجَمْعِيُّ الشُّهُودِيُّ، بِأَنْ لَا تَحْجُبَهُ الْوَحْدَةُ عَنِ الْكَثْرَةِ، وَلَا الْخَلْقُ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَكْمَلُ الْمَرَاتِبِ، وَأَفْضَلُ الْمَنَاصِبِ الذيِ هُوَ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَطَرِيقَةُ الْأَوْلِيَاءِ التَّابِعِينَ الْمُكَمَّلِينَ الْعِظَامِ، ( «وَقَالَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا» ") ، أَيْ: قَلِيلًا لِئَلَّا يَتَشَوَّشَ بِكَ نَحْوُ مُصَلٍّ أَوْ نَائِمٍ مَعْذُورٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ لِيَعْتَدِلَ مِزَاجُهُ، فَإِنَّ بُرُودَةَ الْخُلُقِ وَكَافُورِيَّةَ الشَّيْطَانِ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِمَزْجِ عَسَلِ التَّوْحِيدِ الَّذِي فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وَبِاسْتِعْمَالِ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ الَّتِي هِيَ لَذَّةُ الْعِبَادَاتِ وَزُبْدَةُ الطَّاعَاتِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالَاتِ وَأَصْحَابِ الْمَقَامَاتِ، أَذَاقَنَا اللَّهُ مِنْ مَشَارِبِهِمْ وَأَنَالَنَا مِنْ مَآرِبِهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] كَأَنَّهُ قَالَ لِلصِّدِّيقِ: انْزِلْ مِنْ مُنَاجَاتِكَ رَبَّكَ شَيْئًا قَلِيلًا وَاجْعَلْ لِلْخَلْقِ مِنْ قِرَاءَتِكَ نَصِيبًا، وَقَالَ لِعُمَرَ: ارْتَفِعْ مِنَ الْخَلْقِ هَوْنًا وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ مِنْ مُنَاجَاةِ رَبِّكَ نَصِيبًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَقَالَ مِيرَكُ، أَيْ: مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) ، أَيْ: بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1205 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَتَّى أَصْبَحَ بِآيَةٍ وَالْآيَةُ: " {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] » رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1205 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ فِي صَلَاتِهِ لَيْلًا، مِنْ حِينِ قِيَامِهِ (حَتَّى أَصْبَحَ) ، أَيِ: اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي الصَّلَاةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ خَارِجَهَا، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ، أَيِ: اللَّيْلَ كُلَّهُ، فِيهِ نَظَرٌ، إِذِ الْمَشْهُورُ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ مَا سَهِرَ لَيْلَةً كُلَّهَا قَطُّ، وَالْحَدِيثُ هَذَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ ; إِذْ مَبْدَأُ قِرَاءَتِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ قِيَامِهِ مِنْ نَوْمِهِ مُنْتَهِيًا إِلَى الصُّبْحِ، (بِآيَةٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِقَامَ، أَيْ: أَخَذَ يَقْرَؤُهَا مِنْ لَدُنْ قِيَامِهِ، يَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الذَّوْقِ وَاللَّذَّةِ الْمَنِيفَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، (وَالْآيَةُ) ، أَيِ: الْمَعْهُودَةُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} [المائدة: 118] ، أَيْ أُمَّةَ الْإِجَابَةِ عَلَى مَعَاصِيهِمْ {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] : وَيَسْتَحِقُّونَهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْكَ الظُّلْمُ، وَفِيهِ اسْتِعْطَافٌ لَطِيفٌ كَمَا فِي قَرِينَةِ اسْتِعْفَاءٍ شَرِيفٍ {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} [المائدة: 118] ، أَيْ: ذُنُوبَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ. وَمَا بَعْدَهُ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطَيْنِ {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} [المائدة: 118] ، أَيِ: الْغَالِبُ عَلَى مَا تُرِيدُ {الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ، أَيِ: الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، أَوِ الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا، أَوِ الْمُرَادُ بِالْعَزِيزِ الْمُنْتَقِمُ لِمُخَالِفِيهِ، وَبِالْحَكِيمِ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا، أَوِ الْمُرَادُ بِالْعَزِيزِ الْمُنْتَقِمُ لِمُخَالِفِيهِ، وَبِالْحَكِيمِ الْمُلَاطِفُ لِمُوَافِقِيهِ، فَيَصِيرُ لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِبَارَاتِ كِتَابِهِ وَبِإِشَارَاتِ خِطَابِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَاجَى رَبَّهُ قَائِلًا: إِنْ تُعَذِّبْ أُمَّتِي فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَالرَّبُّ إِذَا عَاقَبَ عَبْدَهُ فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، أَيْ: تُوَفِّقْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ الْقَادِرُ عَلَى مَا تَشَاءُ، الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يُثِيبُ وَلَا يُعَاقِبُ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ. انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّا قَبْلَ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْمَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا يُنَاسِبُهُ تَفْسِيرُ الْغُفْرَانِ بِتَوْفِيقِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ الضَّمِيرِ الظَّاهِرِ مِنْهُ عُمُومُ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ قِيلَ قَوْلُهُ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَقَعَ بَعْدَ التَّرَقِّي إِلَى السَّمَاءِ. فَفِي الْجُمْلَةِ لِكَلَامِهِ وَجْهٌ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

1206 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1206 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ") : يَعْنِي سُنَّةَ الْفَجْرِ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَوَّلَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ ") ، أَيْ: لِيَسْتَرِيحَ مِنْ تَعَبِ قِيَامِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ عَلَى نَشَاطِهِ وَانْبِسَاطِهِ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ فِي حَقِّ مَنْ تَهَجَّدَ بِاللَّيْلِ. انْتَهَى. فَيَنْبَغِي إِخْفَاؤُهُ وَفِعْلُهُ فِي الْبَيْتِ لَا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَرْأًى مِنَ النَّاسِ، وَيَحْتَرِسُ مِنْ أَنَّ النَّوْمَ يَأْخُذُهُ فَيُصَلِّي الْفَرْضَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، كَذَا قَالَهُ السَّيِّدُ زَكَرِيَّا مِنْ مَشَايِخِنَا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ مِيرَكُ: كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. انْتَهَى. وَقَدْ عُلِّلَ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّ أَبَا صَالِحٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1207 - عَنْ مَسْرُوقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، «أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: الدَّائِمُ، قُلْتُ: فَأَيُّ حِينَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1207 - (عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، أَيُّ الْعَمَلِ) : بِالرَّفْعِ (كَانَ أَحَبَّ) : بِالنَّصْبِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيِ الْعَمَلُ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَمِنْ ثَمَّ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّرَاخِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] (قُلْتُ فَأَيَّ حِينٍ) : بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ (كَانَ يَقُومُ) ، أَيْ فِيهِ (مِنَ اللَّيْلِ؟) أَيْ: مِنْ أَحْيَانِهِ وَأَوْقَاتِهِ؟ (قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ) ، أَيْ: صَوْتَ الدِّيكِ ; لِأَنَّهُ كَثِيرُ الصِّيَاحِ فِي اللَّيْلِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ أَوْقَاتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1208 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَا كُنَّا نَشَاءُ أَنْ نَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْنَاهُ، وَلَا نَشَاءُ أَنْ نَرَاهُ نَائِمًا إِلَّا رَأَيْنَاهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1208 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا كُنَّا) : " مَا " نَافِيَةٌ (نَشَاءُ) ، أَيْ: نُرِيدُ (أَنْ نَرَى) ، أَيْ: نُبْصِرُ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلِ) ، أَيْ: فِي وَقْتٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ (مُصَلِّيًا) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (إِلَّا رَأَيْنَاهُ) ، أَيْ: مُصَلِّيًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (وَلَا نَشَاءُ) ، أَيْ: نَقْصِدُ (أَنْ نَرَاهُ نَائِمًا) ، أَيْ: فِي اللَّيْلِ (إِلَّا رَأَيْنَاهُ) ، أَيْ: نَائِمًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى مَا كُنَّا أَرَدْنَا أَمْرًا مُهِمًّا إِلَّا وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ، يَعْنِي: أَنَّ أَمْرَهُ كَانَ قَصْدًا لَا إِفْرَاطًا وَلَا تَفْرِيطًا. انْتَهَى. يَعْنِي: كَانَ أَمْرُهُ مُتَوَسِّطًا لَا إِسْرَافًا وَلَا تَقْصِيرًا، نَامَ أَوَانَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَنَامَ فِيهِ كَأَوَّلِ اللَّيْلِ، وَيُصَلِّيَ أَوَانَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ كَآخِرِ اللَّيْلِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ أَنَّ صَلَاتَهُ وَنَوْمَهُ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاللَّيْلِ وَلَا يُرَتِّبُ وَقْتًا مُعَيَّنًا، بَلْ بِحَسَبِ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ الْقِيَامُ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ. فَإِنَّ عَائِشَةَ تُخْبِرُ عَمَّا لَهَا عَلَيْهِ اطِّلَاعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ تَقَعُ مِنْهُ غَالِبًا فِي الْبَيْتِ، فَخَبَرُ أَنَسٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. اهـ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَنَسٍ تَعَدُّدُ قِيَامِهِ، وَمَنَامِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مِنْوَالِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

1209 - وَعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُلْتُ وَأَنَا فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ لَأَرْقُبَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ حَتَّى أَرَى فِعْلَهُ، فَلَمَّا صَلَّى صَلَاةَ الْعِشَاءِ، وَهِيَ الْعَتَمَةُ، اضْطَجَعَ هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَنَظَرَ فِي الْأُفُقِ، فَقَالَ: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] حَتَّى بَلَغَ إِلَى: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194] ، ثُمَّ أَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فِرَاشِهِ، فَاسْتَلَّ مِنْهُ سِوَاكًا، ثُمَّ أَفْرَغَ فِي قَدَحٍ مِنْ إِدَاوَةٍ عِنْدَهُ مَاءً، فَاسْتَنَّ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى، حَتَّى قُلْتُ: قَدْ صَلَّى قَدْرَ مَا نَامَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى قُلْتُ قَدْ نَامَ قَدْرَ مَا صَلَّى، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1209 - (وَعَنْ حَمَدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) : مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ الْمُتَقَدِّمُ (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : فَلَا تَضُرُّ جَهَالَتُهُ لِظُهُورِ عَدَالَتِهِ بِبَرَكَةِ نِسْبَةِ صَحَابَتِهِ. (قَالَ) ، أَيِ الرَّجُلُ (قُلْتُ) ، أَيْ: فِي نَفْسِي، أَوْ لِبَعْضِ أَصْحَابِي (وَأَنَا فِي سَفَرٍ) : مِنْ غَزْوَةٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ حِجَّةٍ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَعَهُ، أَيْ: رَفِيقًا لَهُ (وَاللَّهَ لَأَرْقُبَنَّ) ، أَيْ لَأَنْظُرَنَّ وَأَحْفَظَنَّ (رَسُولَ اللَّهِ) ، أَيْ: وَقْتَ قِيَامِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: فِي اللَّيْلِ (لِلصَّلَاةِ) ، أَيْ: لِأَجْلِهَا (حَتَّى أَرَى فِعْلَهُ) وَأَقْتَدِيَ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَأَرْقُبَنَّ وَقْتَ صَلَاتِهِ فِي اللَّيْلِ فَأَنْظُرُ مَاذَا يَفْعَلُ فِيهِ، فَاللَّامُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: " قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ". (فَلَمَّا صَلَّى صَلَاةَ الْعِشَاءِ، وَهِيَ الْعَتَمَةُ) : لَا الْمَغْرِبُ، أَوْ لِأَنَّ الْعَتَمَةَ كَانَتْ أَشْهَرَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِشَاءِ (اضْطَجَعَ) ، أَيْ: رَقَدَ (هَوِيًّا) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، أَيْ: حِينًا طَوِيلًا (مِنَ اللَّيْلِ) : وَقِيلَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِاللَّيْلِ (ثُمَّ اسْتَيْقَظَ) ، أَيِ: اسْتَنْبَهَ مِنَ النَّوْمِ (فَنَظَرَ فِي الْأُفُقِ) ، أَيْ: نَوَاحِي السَّمَاءِ (فَقَالَ) ، أَيْ قَرَأَ {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا} [آل عمران: 191] ، أَيْ: مَرْئِيَّنَا مِنَ الْأُفُقِ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ، وَإِنَّمَا سَمِعَ الرَّاوِي هَذَا الْمِقْدَارَ (حَتَّى بَلَغَ إِلَى: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194] ، أَيْ وَعْدَكَ لِلْعِبَادِ فِي يَوْمِ الْمِيعَادِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَفَ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ السَّامِعَ لَمْ يَسْمَعْ مَا بَعْدَهُ، فَيُوَافِقُ مَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. (ثُمَّ أَهْوَى) ، أَيْ: قَصَدَ وَمَالَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: بِيَدِهِ (إِلَى فِرَاشِهِ، فَاسْتَلَّ) ، أَيِ: اسْتَخْرَجَ (مِنْهُ) ، أَيْ: مِنْ تَحْتِ فِرَاشِهِ (سِوَاكًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيِ انْتَزَعَ السِّوَاكَ مِنَ الْفِرَاشِ بِتَأَنٍّ وَتَدْرِيجٍ. اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ اللُّغَةِ، لَكِنْ وَقَعَ فِيهِ تَجْرِيدٌ مِنْهُ لِمُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ (ثُمَّ أَفْرَغَ) ، أَيْ: صَبَّ (فِي قَدَحٍ مِنْ إِدَاوَةٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: مَطْهُرَةٍ كَائِنَةٍ (عِنْدَهُ مَاءً) : مَفْعُولُ صَبَّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مَاءً بَلَّ السِّوَاكَ مِنْهُ كَمَا هُوَ السُّنَّةُ. اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَبَّ الْمَاءَ فِيهِ تَهْيِئَةً لِلْوُضُوءِ، (فَاسْتَنَّ) ، أَيِ: اسْتَعْمَلَ السِّوَاكَ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْأَسْنَانِ لِأَنَّهُ يُمِرُّهُ عَلَيْهَا، (ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى) ، أَيْ: بِوُضُوءٍ مُجَدَّدٍ أَوْ بِوُضُوئِهِ السَّابِقِ، (حَتَّى قُلْتُ: قَدْ صَلَّى قَدْرَ مَا نَامَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ) ، أَيْ: رَقَدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالِاضْطِجَاعِ وَضْعُ الْجَنْبِ عَلَى الْأَرْضِ، وَبِالِاسْتِيقَاظِ رَفْعُهُ عَنْهَا. (حَتَّى قُلْتُ) ، أَيْ: فِي ظَنِّي (قَدْ نَامَ) : أَوِ اسْتَرَاحَ (قَدْرَ مَا صَلَّى ثُمَّ اسْتَيْقَظَ) ، أَيْ: فَقَامَ (فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، أَيْ: مِنَ الِاسْتِيَاكِ وَالصَّلَاةِ. (وَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ) : مِنْ قِرَاءَةِ الْآيَاتِ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ ; إِذِ الْقَوْلُ قَبْلَ الْفِعْلِ، (فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، أَوْ مِنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ) : (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

1210 - وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَاتِهِ؟ فَقَالَتْ: وَمَا لَكُمْ وَصَلَاتُهُ؟ كَانَ يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى، ثُمَّ يُصَلِّي قَدْرَ مَا نَامَ، ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى، حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ نَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ، فَإِذَا هِيَ تَنْعَتُ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1210 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ) : بِمِيمَيْنِ عَلَى وَزْنِ جَعْفَرٍ، مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ. (أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَاتِهِ؟) ، أَيْ: فِي اللَّيْلِ، (فَقَالَتْ: وَمَا لَكُمْ وَصَلَاتُهُ؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: (وَمَا لَكُمْ) عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: مَا لَكُمْ وَقِرَاءَتُهُ، وَمَا لَكَمَ وَصَلَاتُهُ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَصَلَاتُهُ بِمَعْنَى " مَعَ "، أَيْ: مَا تَصْنَعُونَ مَعَ قِرَاءَتِهِ وَصَلَاتِهِ. ذَكَرَتْهَا تَحَسُّرًا وَتَلَهُّفًا عَلَى مَا تَذَكَّرَتْ مِنْ أَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَنَّهَا أَنْكَرَتِ السُّؤَالَ عَلَى السَّائِلِ. اهـ. أَوْ مَعْنَاهُ: أَيُّ شَيْءٍ يَحْصُلُ لَكُمْ مَعَ وَصْفِ قِرَاءَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَأَنْتُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَهُ، فَفِيهِ نَوْعُ تَعَجُّبٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: وَأَيُّ مَنْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ. ( «كَانَ يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى، ثُمَّ يُصَلِّي قَدْرَ مَا نَامَ، ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى، حَتَّى يُصْبِحَ» ) ، أَيْ: كَانَ صَلَاتُهُ فِي أَوْقَاتٍ ثَلَاثٍ إِلَى الصُّبْحِ، أَوْ كَانَ يَسْتَمِرُّ حَالُهُ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ وَالنِّيَامِ إِلَى أَنْ يُصْبِحَ (ثُمَّ نَعَتَتْ) ، أَيْ: وَصَفَتْ (قِرَاءَتَهُ، فَإِذَا هِيَ) ، أَيْ: أُمُّ سَلَمَةَ (تَنْعَتُ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً) : بِفَتْحِ السِّينِ أَوْ كَسْرِهَا، أَيْ مُبَيَّنَةً (حَرْفًا حَرْفًا) ، أَيْ: مُرَتَّلَةً وَمُجَوَّدَةً وَمُمَيَّزَةً غَيْرَ مُخَالَطَةٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحَرْفِ الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ، فَتُفِيدُ مُرَاعَاةَ الْوُقُوفِ بَعْدَ تَبْيِينِ الْحُرُوفِ. قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَقُولَ قِرَاءَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَقْرَأَ مُرَتِّلَةً مُبَيِّنَةً، كَقِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ: وَجْهُهَا يَصِفُ الْجَمَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 62] . اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُ السِّيَاقِ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .

[باب ما يقول إذا قام من الليل]

[بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1211 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [32] بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1211 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ) ، أَيْ: بَعْضَ أَوْقَاتِهِ (يَتَهَجَّدُ) ، أَيْ: يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَامَ، وَقَوْلُهُ: (قَالَ: " اللَّهُمَّ ") : خَبَرُ كَانَ، وَ (إِذَا) لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (قَالَ) جَوَابُ: (إِذَا) وَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرُ كَانَ. اهـ. قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ (يَتَهَجَّدُ) أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يَتَهَجَّدَ، أَيْ: يُصَلِّي التَّهَجُّدَ، قَالَ، أَيْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ. اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ الِافْتِتَاحِ أَوْ فِي قَوْمَةِ الِاعْتِدَالِ كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (" لَكَ الْحَمْدُ ") : تَقْدِيمُ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَكَذَلِكَ لَامُ الْجَرِّ مَعَ لَامِ الْجِنْسِ أَوِ الْعَهْدِ فِي الْحَمْدِ، وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ اللَّامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَفِيهِ ثَلَاثُ دَلَالَاتٍ. (" أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ") ، أَيِ: الْقَائِمُ بِأُمُورِهِمَا (فَيْعَلٌ) مِنْ قَامَ، وَمَعْنَاهُ الدَّائِمُ الْقَائِمُ بِحِفْظِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ فِي النِّهَايَةِ: فِي رِوَايَةٍ: قَيَّامُ، وَفِي رِوَايَةٍ: قَيُّومُ، وَهِيَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْقَيِّمُ

مَعْنَاهُ الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرُهُمْ وَمُدَبِّرُ جَمِيعَ الْعَالَمِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَالْقَيُّومُ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُ شَيْءٍ وَلَا دَوَامُ وَجُودِهِ إِلَّا بِهِ. (" وَمَنْ ") : غَلَبَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ (" فِيهِنَّ ") ، أَيْ: فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ " وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "، أَيْ: مُنَوِّرُهُمَا أَوْ مُظْهِرُهُمَا، أَوْ خَالِقُ نُورِهِمَا، أَوِ الْمَعْنَى: أَنْتَ الَّذِي بِهِ ظُهُورُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْتَ الَّذِي بِهِ اسْتَضَاءَ الْكَوْنُ كُلُّهُ وَخَرَجَ مِنْ ظُلْمَةِ الْعَدَمِ إِلَى نُورِ الْوُجُودِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: النُّورُ هُوَ الَّذِي يَبْصُرُ بِنُورِهِ ذُو الْعَمَايَةِ وَيَرْشُدُ بِهُدَاهُ ذُو الْغِوَايَةِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَضَافَ النُّورَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَعَةِ إِشْرَاقِهِ وَثُقُوبِ إِضَاءَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فُسِّرَ (اللَّهُ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مُنَوِّرُهُمَا، يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ اسْتَنَارَ مِنْهُمَا وَأَضَاءَ فَبِقُدْرَتِكَ وَجُودِكَ، وَالْأَجْرَامُ النَّيِّرَةُ بَدَائِعُ فِطْرَتِكَ وَالْعُقُولُ وَالْحَوَاسُّ خَلْقُكَ وَعَطِيَّتُكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ، أَيْ يَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ، وَقَدِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ بِقَوْلِ: (" وَمَنْ فِيهِنَّ ") : وَقِيلَ: مَعْنَى النُّورِ: الْهَادِي، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ إِضَافَةَ الْهِدَايَةِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَكَادُ تَسْتَقِيمُ بِالتَّقْدِيرِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَلِأَنَّ مَنْ فِيهِنَّ يَدْفَعُهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ النُّورَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ " وَمِنْ جُمْلَةِ أَسْمَائِهِ النُّورُ، وَسُمِّي بِهِ لِمَا اخْتُصَّ بِهِ مِنْ إِشْرَاقِ الْجَمَالِ وَسُبُحَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ. اهـ. مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الطِّيبِيِّ. (" «وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ» ") ، أَيِ: الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا تَصَرُّفًا كُلِّيًّا مِلَكِيًّا وَمُلْكِيًّا ظَاهِرِيًّا وَبَاطِنِيًّا، لَا نِزَاعَ فِي مِلْكِهِ وَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، (" وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ ") : لَا خُلْفَ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي الْإِنْعَامِ وَالِانْتِقَامِ فِي حَقِّ عَبِيدِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَرَّفِ الْحَقَّ فِي أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَنَكَّرَ فِي الْبَوَاقِي ; لِأَنَّهُ لَا مُنْكِرَ سَلَفًا وَخَلَفًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الثَّابِتُ الدَّائِمُ الْبَاقِي، وَمَا سِوَاهُ فِي مَعْرِضِ الزَّوَالِ. أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ. وَكَذَا وَعْدُهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْجَازِ دُونَ وَعْدِ غَيْرِهِ إِمَّا قَصْدًا وَإِمَّا عَجْزًا، تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالتَّنْكِيرُ فِي الْبَوَاقِي لِلتَّفْخِيمِ. (" وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ") : الْمُرَادُ بِلِقَاءِ اللَّهِ الْمَصِيرُ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ وَطَلَبُ مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَدَخَلَ فِيهِ اللِّقَاءُ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَقَالَ مِيرَكُ: اللِّقَاءُ: الْبَعْثُ أَوْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قُلْتَ: ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعْدِ؟ قُلْتُ: الْوَعْدُ مَصْدَرٌ وَالْمَذْكُورُ بَعْدَهُ هُوَ الْمَوْعُودُ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الْقَوْلِ بَعْدَ الْوَعْدِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فِي قَوْلِهِ: (" وَقَوْلُكَ حَقٌّ ") : فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الْحَقِّ؟ قُلْتُ: الْمُتَحَقَّقُ الْوُجُودِ الثَّابِتُ بِلَا شَكٍّ فِيهِ، فَإِنْ قُلْتَ: الْقَوْلُ يُوصَفُ بِالصِّدْقِ، وَيُقَالُ: هُوَ صِدْقٌ وَكَذِبٌ، وَلِذَا قِيلَ: الصِّدْقُ هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقَوْلِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ، وَالْحَقُّ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَاقِعِ الْمُطَابِقِ لِلْقَوْلِ؟ قُلْتُ: قَدْ يُقَالُ أَيْضًا: قَوْلٌ ثَابِتٌ، ثُمَّ إِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ عَرَّفَ الْحَقَّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَنَكَّرَ فِي الْبَوَاقِي؟ قُلْتُ: الْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ وَالنَّكِرَةُ، الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا قَرِيبَةٌ، بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، إِلَّا بِأَنَّ فِي الْمَعْرِفَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا اللَّامُ مَعْلُومَةٌ لِلسَّامِعِ، وَفِي النَّكِرَةِ لَا إِشَارَةَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا مَعْلُومَةً، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَوْلُكَ الْحَقُّ بِالتَّعْرِيفِ أَيْضًا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَرَّفَهُمَا لِلْحَصْرِ، وَذَكَرَ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (" وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ") ، أَيْ: نَعِيمُهَا (" وَالنَّارُ حَقٌّ ") ، أَيْ: جَحِيمُهَا (" وَالنَّبِيُّونَ ") : الَّذِينَ هُمْ أَعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ (" حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ ") : (" حَقٌّ ") : قَالَ مِيرَكُ: خَصَّ مُحَمَّدًا بَيْنَ النَّبِيِّينَ وَعَطَفَ عَلَيْهِمْ، إِيذَانًا بِالتَّغَايُرِ، وَأَنَّهُ فَاقَ عَلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، فَإِنَّ تَغَايُرَ الْوَصْفِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّاتِ، ثُمَّ تَجَرَّدَ عَنْ ذَاتِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ. (" وَالسَّاعَةُ ") ، أَيِ: الْقِيَامَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَالْحَوْضِ وَالْحِسَابِ (" حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ") ، أَيْ: أَذْعَنْتُ لِأَمْرِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (" وَبِكَ آمَنْتُ ") ، أَيْ: صَدَّقْتُ بِكَ وَبِجَمِيعِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ أَوْ بِكَلَامِكَ، وَبِأَخْبَارِ رَسُولِكَ، أَوْ بِتَوْفِيقِكَ، آمَنْتُ بِمَا آمَنْتَ نَفْسِي مِنْ عَذَابِكَ. (" وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ") ، أَيِ: اعْتَمَدْتُ فِي أُمُورِي، قَالَ مِيرَكُ، أَيْ فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ قَاطِعًا لِلنَّظَرِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ (" وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ") ، أَيْ: رَجَعْتُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ.

وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْإِنَابَةُ عَنِ الْغَفْلَةِ (" وَبِكَ ") ، أَيْ: بِقُوَّتِكَ أَوْ بِحُجَّتِكَ أَوْ بِنُصْرَتِكَ إِيَّايَ (" خَاصَمْتُ ") ، أَيْ: أَعْدَاءَكَ (" وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ ") ، أَيْ: رَفَعْتُ أَمْرِي لِتَحْكُمَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ يُخَالِفُنِي، وَالْمُحَاكَمَةُ رَفْعُ الْحُكْمِ إِلَى الْقَاضِي، قَالَ مِيرَكُ: قَدَّمَ مَجْمُوعَ صِلَاتِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَيْهَا إِشْعَارًا بِالتَّخْصِيصِ وَإِفَادَةً لِلْحَصْرِ. اهـ. زَادَ أَبُو عَوَانَةَ " أَنْتَ رَبُّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "، أَيِ: الْمَرْجِعُ فِي الدَّارَيْنِ. (" فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ ") ، أَيْ: مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ (" وَمَا أَخَّرْتُ ") ، أَيْ: مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَةِ (" وَمَا أَسْرَرْتُ ") ، أَيْ: أَخْفَيْتُ، وَلَوْ مِمَّا خَطَرَ بِالْبَالِ، (" وَمَا أَعْلَنْتُ ") : مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ الرِّدْيَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْقُصُورِ الْبَشَرِيَّةِ. قَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَمَا مَعْنَى سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ؟ قُلْتُ: سَأَلَهُ تَوَاضُعًا وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ، وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا لِرَبِّهِ، وَتَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ، (" وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ") : وَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. (" أَنْتَ الْمُقَدِّمُ ") ، أَيْ: لِمَنْ تَشَاءُ (" وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ") ، أَيْ: لِمَنْ تَشَاءُ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُخِّرَ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْبَعْثِ وَقُدِّمَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ: " نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ " نَقَلَهُ مِيرَكُ. (" لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ ") : وَفِي نُسْخَةٍ (أَوْ) بَدَلَ الْوَاوِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ " أَوْ ". اهـ. وَاقْتَصَرَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ أَيْضًا عَلَى الْأَوَّلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

1212 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1212 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : فِي الْمَصَابِيحِ: كَانَ تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَفْسِيرٌ لِضَمِيرِ كَانَ (إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ) ، أَيْ: صَلَاةَ نَفْسِهِ أَوْ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي مَا فِي الْحِصْنِ إِذَا افْتَتَحَ صَلَاةَ اللَّيْلِ. (قَالَ: " اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ") : تَخْصِيصُ هَؤُلَاءِ بِالْإِضَافَةِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لِتَشْرِيفِهِمْ وَتَفْضِيلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَأَنَّهُ قَدَّمَ جِبْرِيلَ ; لِأَنَّهُ أَمِينُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، فَسَائِرُ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ، وَأَخَّرَ إِسْرَافِيلَ ; لِأَنَّهُ أَمِينُ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالصُّورِ، فَإِلَيْهِ أَمْرُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَوَسَّطَ مِيكَائِيلَ ; لِأَنَّهُ أَخَذَ بِطَرَفٍ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ; لِأَنَّهُ أَمِينُ الْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْزَاقِ الْمُقَوِّمَةِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ مِيكَائِيلَ، وَفِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا خِلَافٌ. قِيلَ: لَا يَجُوزُ نَصْبُ (رَبُّ) عَلَى الصِّفَةِ ; لِأَنَّ الْمِيمَ الْمُشَدَّدَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ، فَلَا يُوصَفُ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: يَا رَبَّ جِبْرِيلَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ صِفَةٌ، فَكَمَا لَا تَمْتَنِعُ الصِّفَةُ مَعَ " يَا " لَا تَمْتَنِعُ مَعَ الْمِيمِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَوْلُ سِيبَوَيْهِ عِنْدِي أَصَحُّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُوفَةِ شَيْءٌ عَلَى حَدِّ: اللَّهُمَّ، وَلِذَلِكَ خَالَفَ سَائِرَ الْأَسْمَاءِ، وَدَخَلَ فِي حَيِّزِ مَا لَا يُوصَفُ نَحْوَ: حَيَّهَلْ، فَإِنَّهُمَا صَارَا بِمَنْزِلَةِ صَوْتٍ مَضْمُومٍ إِلَى اسْمٍ فَلَمْ يُوصَفْ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (" فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ") ، أَيْ: مُبْدِعُهُمَا وَمُخْتَرِعُهُمَا (" عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ") ، أَيْ: بِمَا غَابَ وَظَهَرَ عِنْدَ غَيْرِهِ (" أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ") : فِي يَوْمِ مَعَادِكَ بِمُوجِبِ مِيعَادِكَ بَعْدَ تَقْدِيرِكَ وَقَضَائِكَ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ (" فِيمَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ ") ، أَيْ: مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا (" اهْدِنِي ") ، أَيْ: ثَبِّتْنِي وَزِدْنِي الْهِدَايَةَ (" لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ ") : اللَّامُ بِمَعْنَى " إِلَى " كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْهِدَايَةَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِإِلَى وَبِاللَّامِ، قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ، وَ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، وَ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، أَيْ لِلَّذِي اخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَ مَجِيءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي دَعَوْا إِلَيْهِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ (" مِنَ الْحَقِّ ") : (مِنْ) بَيَانٌ لِـ (مَا) (بِإِذْنِكَ) ، أَيْ: بِتَوْفِيقِكَ وَتَيْسِيرِكَ (إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ") : جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّعْلِيلِ قَائِمَةٌ مَقَامَ التَّذْيِيلِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَرْبَعَةُ، وَابْنُ حِبَّانَ.

1213 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي "، أَوْ قَالَ: " ثُمَّ دَعَا ; اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1213 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَعَارَّ ") : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيِ: انْتَبَهَ مِنَ النَّوْمِ، وَقِيلَ: تَقَلَّبَ فِي فِرَاشِهِ (" مِنَ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: فِي اللَّيْلِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُقَالُ: تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ: إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ مَعَ صَوْتٍ، وَهَذِهِ الْيَقَظَةُ تَكُونُ مَعَ كَلَامٍ غَالِبًا فَأَحَبَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَسْبِيحًا وَتَهْلِيلًا وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِلَّا مِمَّنِ اسْتَأْنَسَ بِالذِّكْرِ. اهـ. وَتَحْقِيقُهُ مَا نَقَلَ مِيرَكُ عَنِ التُّورِبِشْتِيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ ثَعْلَبٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعَارَّ، فَقَالَ قَوْمٌ: انْتَبَهَ، وَقَالَ قَوْمٌ: عَلِمَ، وَقَالَ قَوْمٌ: تَمَطَّى وَإِنْ قُلْتَ: وَأَرَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ ذَهَبُوا إِلَى مَعَانٍ غَيْرِ مُتَقَارِبَةٍ مِنَ الِاشْتِقَاقِ اللَّفْظِيِّ إِلَّا قَوْلَ مَنْ قَالَ انْتَبَهَ وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ تَعَارَّ يَتَعَارُّ يُسْتَعْمَلُ فِي انْتِبَاهٍ مَعَ صَوْتٍ. يُقَالُ: تَعَارَّ الرَّجُلُ: إِذَا هَبَّ مِنْ نَوْمِهِ مَعَ صَوْتٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُخِذَ مِنْ عَرَارِ الظَّلِيمِ وَهُوَ صَوْتُهُ يُقَالُ: عَرَّ الظَّلِيمُ، أَيِ الذَّكَرُ مِنَ النَّعَامِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: عَرَّ الظَّلِيمُ يَعَرُّ عَرَارًا، كَمَا قَالُوا: زَمَّرَ النَّعَامُ يُزَمِّرُ زَمَارًا، وَأَرَى اسْتِعْمَالَ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دُونَ الْهُبُوبِ وَالِانْتِبَاهِ وَالِاسْتِيقَاظِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لِزِيَادَةِ مَعْنًى، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ مَنْ هَبَّ مِنْ نَوْمِهِ ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ الْهُبُوبِ فَيَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَوْجَزَ فِي اللَّفْظِ، وَأَعْرَضَ فِي الْمَعْنَى، وَأَتَى مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا بِقَوْلِهِ: تَعَارَّ لِيَدُلَّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَأَرَادَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] فَإِنَّ مَعْنَى خَرَّ سَقَطَ سُقُوطًا يُسْمَعُ مِنْهُ خَرِيرٌ، فِي اسْتِعْمَالِ الْخُرُورِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَنْبِيهٌ عَلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ السُّقُوطِ وَحُصُولِ الصَّوْتِ مِنْهُمْ بِالتَّسْبِيحِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (تَعَارَّ) تَنْبِيهٌ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الِانْتِبَاهِ وَالذِّكْرِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ تَعَوَّدَ الذِّكْرَ فَاسْتَأْنَسَ بِهِ وَغَلَبَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ حَدِيثَ نَفْسِهِ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ قَائِلِهِ: يَهِيمُ فُؤَادِي مَا حَيِيتُ بِذِكْرِهَا وَلَوْ أَنَّنِي أَرْمَمْتُ أَنَّ بِهِ الصَّدَى. اهـ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَعْنَى تَعَارَّ اسْتَيْقَظَ ; لِأَنَّهُ عَطَفَ الْقَوْلَ عَلَى التَّعَارِّ، قَالَ الشَّيْخُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ تَفْسِيرًا لِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْمُسْتَيْقِظُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ ذِكْرٍ، ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ. (" فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") ، أَيْ: لَيْسَ فِي الْكَوْنِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ (" وَحْدَهُ ") ، أَيْ: مُنْفَرِدًا بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْآثَارِ وَغَيْرِهِ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ مِنْ أَثَرِ غُبَارِ الْأَغْيَارِ فِي أَعْيُنِ أَعْيَانِ الْمُوَحِّدِينَ الْأَبْرَارِ (" لَا شَرِيكَ لَهُ ") : فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ (" لَهُ الْمُلْكُ ") : بَاطِنًا وَظَاهِرًا (" وَلَهُ الْحَمْدُ ") : أَوَّلًا وَآخِرًا (" وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ") : دَخَلَ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَتَعَلَّقَ بِإِرَادَتِهِ (" قَدِيرٌ ") : تَامُّ الْقُدْرَةِ كَامِلُ الْإِرَادَةِ (" وَسُبْحَانَ اللَّهِ ") : تَنْزِيهٌ لَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَزَوَالِ الْكَمَالِ (" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ") : عَلَى صِفَتَيْهِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ فِي تَقْدِيمِ الْحَمْدِ عَلَى التَّسْبِيحِ، لَكِنَّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِالْعَكْسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ ; لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَسْتَلْزِمُ التَّرْتِيبَ. اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ قَدَّمَ التَّسْبِيحَ رَاعَى التَّرْتِيبَ، فَإِنَّ التَّصْفِيَةَ وَالتَّخْلِيَةَ تَتَقَدَّمُ عَادَةً عَلَى التَّجْلِيَةِ وَالتَّحْلِيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَقْدِيمَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَلَى الْحَمْدُ لِلَّهِ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْعَكْسِ كَمَا فِي الْحِصْنِ لِلْجَزَرِيِّ أَيْضًا. (" وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") : الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقْصِ وَالزَّوَالِ (" وَاللَّهُ أَكْبَرُ ") : مِنْ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ (" وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ") : فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَمَعْنَاهُ: لَا تَحَوُّلَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَغَيْرِهَا وَلَا قُوَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ وَنَحْوِهَا إِلَّا بِعِصْمَتِهِ وَإِعَانَتِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. (" ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ") : وَفِي نُسْخَةٍ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي (أَوْ قَالَ: " ثُمَّ دَعَا ") : شَكَّ الرَّاوِي، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي الْبُخَارِيِّ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا، قَالَ الشَّيْخُ: " أَوْ " لِلشَّكِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ،

وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، ثُمَّ قَالَ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي، غَفَرَ لَهُ "، أَوْ قَالَ " فَدَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ "، شَكَّ الْوَلِيدُ، ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَفِي الْحِصْنِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " أَوْ يَدْعُو مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، ثُمَّ قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (" اسْتُجِيبَ لَهُ ") ، أَيْ: مَا دَعَاهُ مِنْ خُصُوصِ الْمَغْفِرَةِ أَوْ مِنْ عُمُومِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ بِهَا الِاسْتِجَابَةُ الْيَقِينِيَّةُ ; لِأَنَّ الِاحْتِمَالِيَّةَ ثَابِتَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الدُّعَاءِ (" فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى ") : قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَضَّأَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: دَعَا أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ النَّوْمِ فَقَالَ: كَيْتَ وَكَيْتَ ثُمَّ إِنْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ صَلَّى (" قُبِلَتْ صَلَاتُهُ ") . اهـ. وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْأَوَّلَ لِقُرْبِهِ اللَّفْظِيِّ، مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الشَّكُّ وَالتَّرْدِيدُ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَالظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي ; لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْمَعَانِي، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذِهِ الْمَقْبُولِيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمُتَعَقِّبَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ الْحَقِيقِيَّةِ كَمَا قَبْلَهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى مَا فِي الْحِصْنِ.

الْفَصْلُ الثَّانِيُ 1214 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1214 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ) ، أَيْ: قَامَ مِنْ نَوْمِهِ (قَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ") : ابْتَدَأَ بِالتَّوْحِيدِ ; لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ أَهْلِ التَّفْرِيدِ (" سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ") : قِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: أُسَبِّحُكَ مَعَ حَمْدِي إِيَّاكَ، أَوِ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ، أَيْ: وَبِحَمْدِكَ سَبَّحْتُ (" أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي ") : أَرَادَ تَعْلِيمَ أُمَّتِهِ، أَوْ تَعْظِيمَ رَبِّهِ وَجَلَالَتِهِ، أَوْ سَمَّى مُخَالَفَةَ الْأَفْضَلِ ذَنْبًا عَلَى مُقْتَضَى كَمَالِ طَاعَتِهِ، (" وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ ") ، أَيْ: فِي كُلِّ حَالٍ (" اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا ") : التَّنْكِيرُ لِلتَّفْخِيمِ (" وَلَا تُزِغْ قَلْبِي ") ، أَيْ: لَا تَجْعَلْ قَلْبِي مَائِلًا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، مِنْ أَزَاغَ، أَيْ: أَمَالَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: لَا تَبْلُنِي بِبَلَاءٍ يَزِيغُ فِيهِ قَلْبِي، (" بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي ") ، أَيْ: لَا تَسْلُبْ عَنِّي هِدَايَتَكَ بَعْدَ عِنَايَتِكَ ; إِذْ هِدَايَتُكَ لَا رُجُوعَ فِيهَا، وَعَطِيَّتُكَ لَا عَوْدَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمُقَصِّرُ مَنْ رَدَّ الْهَدِيَّةَ وَلَمْ يَقْبَلِ الْعَطِيَّةَ (" وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ") ، أَيْ: أَعْطِنِي مِنْ عِنْدِكَ فَضْلًا وَكَرَمًا (" رَحْمَةً ") ، أَيْ: تَوْفِيقًا وَتَثْبِيتًا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ، أَوْ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ (" إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ") ، أَيِ: الْمُتَفَضِّلُ بِالْعَطَاءِ الْجَمِيلِ وَالْإِحْسَانِ الْجَزِيلِ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ لِيَعْلَمُوا أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُمُ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَزَوَالِ نِعْمَتِهِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

1215 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَبِيتُ عَلَى ذِكْرٍ طَاهِرًا فَيَتَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، يَسْأَلُ اللَّهُ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1215 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَبِيتُ ") ، أَيْ: يَرْقُدُ فِي اللَّيْلِ (" عَلَى ذِكْرٍ ") ، أَيْ: مِنَ الْأَذْكَارِ الْمُسْتَحَبَّةِ عِنْدَ النَّوْمِ، أَوْ مُطْلَقِ الْأَذْكَارِ حَالَ كَوْنِهِ (" طَاهِرًا ") ، أَيْ: مُتَوَضِّئًا، أَوْ مُتَيَمِّمًا، أَوْ طَاهِرًا قَلْبُهُ مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ وَالْأَوْزَارِ، أَوْ سَلِيمًا قَلْبُهُ مِنْ غَيْرِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ (" فَيَتَعَارَّ ") ، أَيْ: يَنْتَبِهُ وَيَتَحَرَّكُ (" مِنَ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: بَعْضِهِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ، أَيْ: مِنَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ، (" فَيَسْأَلُ اللَّهُ خَيْرًا ") ، أَيْ: مِقْدَارًا أَوْ مُعَلَّقًا (" إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ") : أَوْ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِمَّا تَمَنَّاهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.

1216 - وَعَنْ شَرِيقٍ الْهَوْزَنِيِّ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَسَأَلْتُهَا: بِمَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ إِذَا هَبَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ: سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، كَانَ إِذَا هَبَّ مِنَ اللَّيْلِ؟ كَبَّرَ عَشْرًا، وَحَمِدَ اللَّهَ عَشْرًا، وَقَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا "، وَقَالَ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ " عَشْرًا، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَشْرًا، وَهَلَّلَ اللَّهَ عَشْرًا، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا وَضِيقِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ " عَشْرًا، ثُمَّ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1216 - (وَعَنْ شَرِيقٍ) : كَأَمِيرٍ (الْهَوْزَنِيِّ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالزَّايِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَطْنٍ مِنْ ذِي الْكُلَاعِ كَذَا فِي الْأَنْسَابِ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ: حِمْصِيٌّ مَقْبُولٌ تَابِعِيٌّ، (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَسَأَلْتُهَا: بِمَ كَانَ) ، أَيْ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ) ، أَيْ: يَبْتَدِئُ مِنَ الْأَذْكَارِ. (إِذَا هَبَّ) ، أَيِ: اسْتَيْقَظَ (مِنَ اللَّيْلِ؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ وَالْإِضَافَةُ بِمَعْنَى: " فِي " (فَقَالَتْ: سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ) : وَفِي هَذَا تَحْسِينٌ لِسُؤَالِهِ، وَتَزْيِينٌ لِمَقَالِهِ، وَتَأَسُّفٌ عَلَى غَفْلَةِ النَّاسِ عَنْ حَالٍ. (كَانَ إِذَا هَبَّ) ، أَيْ: تَنَبَّهَ (مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ عَشْرًا) : بَدَأَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِوَصْفِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، الْمُتَضَمِّنِ لِسَائِرِ النُّعُوتِ الْمُكَرَّمَةِ. (وَحَمِدَ اللَّهَ عَشْرًا، وَقَالَ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا "، وَقَالَ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ") ، أَيِ: الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَآفَةٍ (عَشْرًا، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَشْرًا) : اعْتِرَافًا بِالتَّقْصِيرِ (وَهَلَّلَ اللَّهَ عَشْرًا) : وَفِي خَتْمِ الْأَذْكَارِ بِالتَّوْحِيدِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ لِأَهْلِ التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِتَوْحِيدِهِ، لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ، (ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا ") ، أَيْ: شَدَائِدِهَا ; لِأَنَّ مَنْ بِهِ مَشَقَّةٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ ظُلْمٍ صَارَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ ضَيِّقَةً. (" وَضِيقِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ") ، أَيْ: شَدَائِدِ أَحْوَالِهَا وَسَكَرَاتِ أَهْوَالِهَا (عَشْرًا) : صَارَ الْمَجْمُوعُ سَبْعِينَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَثْرَةِ (ثُمَّ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ) ، أَيْ: صَلَاةَ التَّهَجُّدِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، كَذَا فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1217 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ، ثُمَّ يَقُولُ: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ "، ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا "، ثُمَّ يَقُولُ: " أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادٌ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " غَيْرُكَ "، ثُمَّ يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " ثَلَاثًا. وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ: ثُمَّ يَقْرَأُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1217 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) ، أَيِ: الْخُدْرِيِّ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَكْبِيرُ التَّحْرِيمَةِ (ثُمَّ يَقُولُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثِ بِالْمُضَارِعِ عَطْفًا عَلَى الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ، وَ (ثُمَّ) لِتَرَاخِي الْأَخْبَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِتَرَاخِي الْأَقْوَالِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ. (" سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ") ، أَيْ: أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا مَقْرُونًا بِحَمْدِكَ (" وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ") ، أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُهُ فَضْلًا عَنْ مُسَمَّاهُ، أَوْ تَعَاظَمَ اسْمُكَ عَنْ أَنْ يُلْحَدَ فِيهِ، أَوْ يُخْتَرَعَ لَكَ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ مِنْكَ ; إِذْ لَا يَعْلَمُ اللَّائِقَ بِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا أَنْتَ. (" وَتَعَالَى جَدُّكَ ") ، أَيِ: ارْتَفَعَ عَظَمَتُكَ فَوْقَ كُلِّ عَظَمَةٍ تُتَصَوَّرُ، أَوْ تَعَالَى غِنَاكَ عَنْ أَنْ يَحْتَاجَ لِأَحَدٍ، أَوْ أَنْ يَلْتَجِئَ إِلَيْهِ مُفْتَقِرٌ وَيَرْجِعَ خَائِبًا (" وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ ") : وَمَا سِوَاكَ مَخْلُوقٌ وَمَمْلُوكٌ وَمَقْهُورٌ لَكَ. (ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ") : لَا يُعْرَفُ كُنْهُ كِبْرِيَائِهِ (ثُمَّ يَقُولُ: " أَعُوذُ ") ، أَيْ: أَلْتَجِئُ وَأَعْتَصِمُ وَأَلُوذُ (" بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ ") ، أَيِ: الْمَوْصُوفُ بِوَصْفِهِ الْكَرِيمِ (" مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ") : الْمَعْرُوفِ بِوَصْفِهِ اللَّئِيمِ الْمَطْرُودِ مِنْ بَابِ رَبِّهِ، الرَّجِيمِ بِدَعْوَى شَرَفِ الزِّيَادَةِ وَإِبَاءِ دَعْوَةِ الْعِبَادَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ

كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِشُطُونِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ تَبَاعُدِهِ، فَالنُّونُ أَصْلِيَّةٌ، أَوْ لِشَيْطِهِ، أَيْ: هَلَاكِهِ، فَهِيَ زَائِدَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجِيمُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ لِرَجْمِهِ الْغَيْرَ بِوَسْوَسَتِهِ بِتَبْعِيدِهِ عَنْ قُرْبِ رَبِّهِ وَحَضْرَتِهِ، (" مَنْ هَمْزِهِ ") ، أَيْ: نَخْزِهِ يَعْنِي وَسْوَسَتُهُ وَإِغْوَاءَهُ، أَوْ سِحْرَهُ، وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالْجُنُونِ، (" وَنَفْخِهِ ") ، أَيْ: كِبْرِهِ وَعُجْبِهِ (" وَنَفْثِهِ ") : سِحْرِهِ أَوْ شِعْرِهِ، وَفِي الْحِصْنِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، قَالَ مِيرَكُ: ضَعَّفَ الْبَيْهَقِيُّ إِسْنَادَهُ. (وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " غَيْرُكَ " ثُمَّ يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " ثَلَاثًا. وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ) ، أَيْ: بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ (ثُمَّ يَقْرَأُ) ، أَيِ: الْقِرَاءَةَ أَوِ الْفَاتِحَةَ، وَالْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ مَنْ يُرَجِّحُ أَنَّ أَفْضَلَ صِيَغِ الِاسْتِعَاذَةِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ أَفْضَلَهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَتُهَا مِنْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَلِّمُ نَبِيَّهُ وَأُمَّتَهُ إِلَّا الْأَفْضَلَ.

1218 - وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: " سُبْحَانَ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الْهَوِيِّ، ثُمَّ يَقُولُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " الْهَوِيِّ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1218 - (وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ) : كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَيُقَالُ: كَانَ خَادِمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ) ، أَيْ: أَكُونُ فِي اللَّيْلِ (عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ) ، أَيْ: حُجْرَةٌ فِيهَا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: " سُبْحَانَ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الْهَوِيَّ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَنَصْبِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحِينُ الطَّوِيلُ مِنَ الزَّمَانِ وَقِيلَ مُخْتَصٌّ بِاللَّيْلِ وَالتَّعْرِيفُ هُنَا لِاسْتِغْرَاقِ الْحِينِ الطَّوِيلِ بِالذِّكْرِ بِحَيْثُ لَا يَفْتُرُ عَنْهُ بَعْضُهُ وَالتَّنْكِيرُ لَا يُفِيدُهُ نَصًّا، كَمَا تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ الْيَوْمَ كُلَّهُ، أَيْ بَعْضَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] ، أَيْ: بَعْضًا مِنْهُ. (ثُمَّ يَقُولُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " الْهَوِيَّ) : فَالْأَوَّلُ تَنْزِيهٌ مُجَرَّدٌ، وَالثَّانِي تَنْزِيهٌ مَمْزُوجٌ بِالْحَمْدِ، إِشَارَةٌ إِلَى تَقْدِيمِ التَّخْلِيَةِ عَلَى التَّحْلِيَةِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) ، أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ، (وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ) ، أَيْ: بِمَعْنَاهُ (وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

[باب التحريض على قيام الليل]

[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1219 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ ; وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ، كَسْلَانَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [33] بَابُ التَّحْرِيضِ، أَيِ: التَّرْغِيبِ. وَالتَّحْرِيضُ: التَّحْثِيثُ وَالتَّحْضِيضُ، (عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ) ، أَيْ: عَلَى الْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ فِي اللَّيْلِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1219 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَعْقِدُ ") : بِكَسْرِ الْقَافِ، أَيْ: يَشُدُّ (" الشَّيْطَانُ ") ، أَيْ:

إِبْلِيسُ أَوْ بَعْضُ جُنْدِهِ (" عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ") ، أَيْ: قَفَاهُ وَمُؤَخَّرِهِ، وَقِيلَ: وَسَطُهُ (" إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ ") : جَمْعُ عُقْدَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا عُقَدُ الْكَسَلِ، أَيْ: يَحْمِلُهُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ تَثْقِيلَهُ وَإِطَالَتَهُ، فَكَأَنَّهُ قَدْ شَدَّ عَلَيْهِ شَدًّا وَعَقَدَهُ ثَلَاثَ عُقَدٍ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْقَافِيَةُ الْقَفَا، وَقَفَا كُلِّ شَيْءٍ وَقَافِيَتُهُ آخِرُهُ، وَعَقْدُ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَتِهِ اسْتِعَارَةٌ عَنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَتَحْبِيبِهِ النَّوْمَ إِلَيْهِ وَالدَّعَةَ وَالِاسْتِرَاحَةَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالثَّلَاثِ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِأَنَّ الَّذِي يَنْحَلُّ بِهِ عُقْدَتُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الذِكْرُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ مَنَعَهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِعُقْدَةٍ عَقَدَهَا عَلَى قَافِيَتِهِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْقَفَا ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْوَاهِمَةِ وَمَحَلُّ تَصَرُّفِهَا، هُوَ أَطْوَعُ الْقُوَى لِلشَّيْطَانِ وَأَسْرَعُ إِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ. (" يَضْرِبُ ") ، أَيْ: بِيَدِهِ تَأْكِيدًا أَوْ إِحْكَامًا (" عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ ") : مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَضْرِبُ) ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مَفْعُولُ (يَضْرِبُ) غَيْرُ ظَاهِرٍ، قِيلَ: مَعْنَى يَضْرِبُ: يَحْجُبُ الْحِسَّ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى لَا يَسْتَيْقِظَ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف: 11] ، أَيْ: أَنَمْنَاهُمْ، قَالَ مِيرَكُ: وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعَقْدِ، فَقِيلَ: عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا يَعْقِدُ السَّاحِرُ مَنْ يَسْحَرُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: «إِنَّ عَلَى رَأْسِ كُلِّ آدَمِيٍّ حَبْلًا فِيهِ ثَلَاثُ عُقَدٍ» ، وَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَنَحْوُهُ لِأَحْمَدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ، وَقِيلَ: عَلَى الْمَجَازِ كَأَنَّهُ شَبَّهَ فِعْلَ الشَّيْطَانِ بِالنَّائِمِ مِنْ مَنْعِهِ مِنَ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ بِفِعْلِ السَّاحِرِ بِالْمَسْحُورِ مِنْ مَنْعِهِ عَنْ مُرَادِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَهُ عَقْدُ الْقَلْبِ وَتَصْمِيمُهُ عَلَى الشَّيْءِ فَكَأَنَّهُ يُوَسْوِسُ بِأَنَّ عَلَيْكَ لَيْلًا طَوِيلًا، فَيَتَأَخَّرُ عَنِ الْقِيَامِ. وَقِيلَ: مَجَازٌ عَنْ تَثْبِيطِ الشَّيْطَانِ وَتَعْوِيقِهِ لِلنَّائِمِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. (" عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ ") : قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ (لَيْلٌ) بِالرَّفْعِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ عَنْ مُسْلِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ مَعَ مَا بَعْدَهُ، أَيْ قَوْلُهُ: (" فَارْقُدْ ") : مَفْعُولٌ لِلْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: يُلْقِي الشَّيْطَانُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ يَعْقِدُهَا هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، أَيْ: طَوِيلٌ، قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: يُقَالُ: ضَرَبَ الشَّبَكَةَ عَلَى الطَّائِرِ: أَلْقَاهَا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: (عَلَيْكَ) إِمَّا خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: لَيْلٌ طَوِيلٌ، أَيْ: لَيْلٌ طَوِيلٌ بَاقٍ عَلَيْكَ، أَوْ إِغْرَاءٌ، أَيْ: عَلَيْكَ بِالنَّوْمِ أَمَامَكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ وَالثَّانِيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالتَّعْلِيلِ. (" فَإِنِ اسْتَيْقَظَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ") ، أَيْ: عُقْدَةُ الْكَسَالَةِ وَالْبِطَالَةِ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَعَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: وَفِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ. اهـ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمِشْكَاةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: وَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ بِالْإِفْرَادِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا سَيَأْتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ: عُقَدُهُ كُلُّهَا، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: انْحَلَّتِ الْعُقَدُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعُقَدَ تَنْحَلُّ كُلُّهَا بِالصَّلَاةِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الطِّهَارَةِ كَمَنْ نَامَ مُتَمَكِّنًا مَثَلًا، ثُمَّ انْتَبَهَ فَصَلَّى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَذْكُرَ أَوْ يَتَطَهَّرَ، أَوْ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَتَضَمَّنُ الطَّهَارَةَ وَالذِّكْرَ. (" فَأَصْبَحَ ") ، أَيْ: دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ أَوْ صَارَ (" نَشِيطًا ") ، أَيْ: لِلْعِبَادَةِ (" طَيِّبَ النَّفْسِ ") ، أَيْ: ذَاتَ فَرَحٍ ; لِأَنَّهُ تَخَلَّصَ عَنْ وِثَاقِ الشَّيْطَانِ وَتَخَفَّفَ عَنْهُ أَعْبَاءُ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ وَحَصَلَ لَهُ رِضَا الرَّحْمَنِ (" وَإِلَّا ") ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَلِكَ بَلْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَنَامَ حَتَّى تَفُوتَهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ. ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَالظَّاهِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ. (" أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ ") : مَحْزُونَ الْقَلْبِ كَثِيرَ الْهَمِّ مُتَحَيِّرًا فِي أَمْرِهِ (" كَسْلَانَ ") : لَا يُحَصِّلُ مُرَادَهُ فِيمَا يَقْصِدُهُ مِنْ أُمُورِهِ ; لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الشَّيْطَانِ وَمُبْعَدٌ عَنْ قُرْبِ الرَّحْمَنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. اهـ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَلَى مَا سَبَقَ.

1220 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: " أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1220 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: صَلَّى لَيْلًا طَوِيلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ قَامَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى وَجْهِ الْإِطَالَةِ وَالْإِدَامَةِ، (حَتَّى تَوَرَّمَتْ) ، أَيِ: انْتَفَخَتْ كَمَا فِي الشَّمَائِلِ عَنْهُ (قَدَمَاهُ) ، أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ (فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا) ، أَيْ: تَتَكَلَّفُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْنَى أَتُلْزِمُ نَفْسَكَ بِهَذِهِ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُطَاقُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَتَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ عِصَامُ الدِّينِ: الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ، (وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: " أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ") ، أَيْ: لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ بِغُفْرَانِ ذُنُوبِي وَسَائِرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: أَيْ أَأَتْرُكُ تِلْكَ الْكُلْفَةَ نَظَرًا إِلَى الْمَغْفِرَةِ فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَا بَلْ أَلْزَمُهَا وَإِنْ غُفِرَ لِي ; لِأَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ مُسَبَّبٌ عَنْ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَأَتْرُكُ قِيَامِي وَتَهَجُّدِي لِمَا غُفِرَ لِي فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. يَعْنِي أَنَّ غُفْرَانَ اللَّهِ إِيَّايَ سَبَبٌ لِأَنْ أَقْوَمَ وَأَتَهَجَّدَ شُكْرًا لَهُ فَكَيْفَ أَتْرُكُهُ؟ . اهـ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ عِبَادَتِي لِلَّهِ مِنْ خَوْفِ الذُّنُوبِ، بَلْ لِشُكْرِ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ عَلَيَّ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَقَالَ مِيرَكُ: كَأَنَّ الْمَعْنَى كَيْفَ لَا أَشْكُرُهُ، وَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيَّ وَخَصَّنِي بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ، فَإِنَّ الشَّكُورَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَدْعِي نِعْمَةً خَطِيرَةً وَمِنْحَةً كَثِيرَةً، وَتَخْصِيصُ الْعَبْدِ بِالذِّكْرِ مُشْعِرٌ بِعِنَايَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ صَاحِبِ الْإِنْعَامِ، وَمِنْ ثَمَّ وَصَفَهُ بِهِ فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ، وَلِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ تَقْتَضِي صِحَّةَ النِّسْبَةِ، وَلَيْسَتْ إِلَّا بِالْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ عَيْنُ الشُّكْرِ. اهـ. وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ: لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ مِنْ خَيْرِ أَسْمَائِيَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ ظَنَّ مَنْ سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ سَبَبِ تَحَمُّلِهِ الْمَشَقَّةَ فِي الْعِبَادَةِ أَنَّ سَبَبَهَا إِمَّا خَوْفُ الذَّنْبِ، أَوْ رَجَاءُ الْمَغْفِرَةِ، فَأَفَادَهُمْ أَنَّ لَهَا سَبَبًا آخَرَ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَهُوَ الشُّكْرُ عَلَى التَّأَهُّلِ لَهَا مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَإِجْزَالِ النِّعْمَةِ. اهـ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَوْمًا عَبَدُوا رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَأَنَّ قَوْمًا عَبَدُوا رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَأَنَّ قَوْمًا عَبَدُوا شُكْرًا فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ، كَذَا فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

1221 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ، مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: " ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ " أَوْ قَالَ: " فِي أُذُنَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1221 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقِيلَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ تَفْسِيرٌ، أَيْ: " لَهُ " كَمَا فِي نُسْخَةٍ، أَيْ لِأَجْلِهِ، وَفِي حَقِّهِ أَوْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ عَنْهُ تَفْسِيرٌ لِمَا ذُكِرَ بِهِ. (مَا زَالَ) ، أَيِ: الرَّجُلُ (نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ) ، أَيْ: صَارَ أَوْ دَخَلَ فِي الصُّبْحِ (مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ) ، أَيْ: صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (أَصْبَحَ) تَامَّةً، وَ (مَا قَامَ) فِي مَحَلِّ النَّصْبِ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ أَصْبَحَ، وَحَالُهُ أَنَّهُ غَيْرُ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَ (مَا قَامَ) خَبَرُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (مَا قَامَ) جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً مُبَيِّنَةً لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَوْ مُؤَكِّدَةً مُقَرِّرَةً لَهَا. (قَالَ) : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (" ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ ") : بِالْإِفْرَادِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّهِ، شَبَّهَ تَثَاقُلَ أُذُنِهِ وَعَدَمَ انْتِبَاهِهِ بِصَوْتِ الْمُؤَذِّنِ بِحَالِ مَنْ يُبَالُ فِي أُذُنِهِ فَثَقُلَ سَمْعُهُ وَفَسَدَ حِسُّهُ، وَالْبَوْلُ ضَارٌّ مُفْسِدٌ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِهَانَةِ الشَّيْطَانِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُسْتَخِفِّ بِالشَّيْءِ غَايَةَ الِاسْتِخْفَافِ أَنْ يَبُولَ بِهِ، وَخَصَّ الْأُذُنَ ; لِأَنَّ الِانْتِبَاهَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِاسْتِمَاعِ الْأَصْوَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ فِي النِّهَايَةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ الشَّيْطَانَ مَلَأَ سَمْعَهُ بِالْأَبَاطِيلِ فَأَحْدَثَ فِي أُذُنِهِ وَقْرًا عَنِ اسْتِمَاعِ دَعْوَةِ الْحَقِّ، قِيلَ: خَصَّ الْأُذُنَ بِالذِّكْرِ، وَالْعَيْنُ أَنْسَبُ بِالنَّوْمِ إِشَارَةً إِلَى ثِقَلِ النُّوَّمِ، فَإِنَّ الْمَسَامِعَ مَوَارِدُ الِانْتِبَاهِ بِالْأَصْوَاتِ وَنِدَاءِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَخَصَّ الْبَوْلَ مِنَ الْأَخْبَثَيْنِ ; لِأَنَّهُ مَعَ خَبَاثَتِهِ أَسْهَلُ مَدْخَلًا فِي تَجَاوِيفِ الْخُرُوقِ وَالْعُرُوقِ وَنُفُوذِهِ فِيهَا، فَيُورِثُ الْكَسَلَ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. (أَوْ قَالَ) : أَيْ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (" فِي أُذُنَيْهِ ") : بِالتَّثْنِيَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ جَعَلَهُ خَبِيثًا لَا يَقْبَلُ الْخَيْرَ، وَجَعَلَهُ مُسَخَّرًا وَمُطِيعًا لِلشَّيْطَانِ يَقْبَلُ مَا يَأْمُرُهُ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَقِيلَ الْبَوْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ مِمَّنْ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ شَخْصًا أَسْوَدَ جَاءَ فَشَغَرَ بِرِجْلِهِ فَبَالَ فِي أُذُنَيْهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ لَوَجَدَهَا رَطْبَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ.

1222 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَزِعًا، يَقُولُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ ! وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ " - يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ - " لِكَيْ يُصَلِّينَ؟ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1222 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً) ، أَيْ: مِنْ لَيَالِيهَا (فَزِعًا) : بِكَسْرِ الزَّايِ حَالٌ، أَيْ: خَائِفًا مُضْطَرِبًا مِمَّا شَاهَدَهُ، (يَقُولُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ ") : كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ وَتَعْظِيمٍ لِلشَّيْءِ، وَقَوْلُهُ: (" مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ ") : كَالتَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ ; لِأَنَّ " مَا " اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّعْظِيمِ، (" وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ ") : عَبَّرَ عَنِ الرَّحْمَةِ بِالْخَزَائِنِ لِكَثْرَتِهَا وَعِزَّتِهَا، وَعَنِ الْعَذَابِ بِالْفِتَنِ ; لِأَنَّهَا أَسْبَابٌ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى الْعَذَابِ وَجَمَعَهُمَا لِسَعَتِهِمَا وَكَثْرَتِهِمَا، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ. (" مَنْ يُوقِظُ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتِفْهَامٌ، أَيْ: هَلْ أَحَدٌ يُوقِظُ (" صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ " - يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ -) ، أَيْ: يَعْنِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوَاحِبِ الْحُجُرَاتِ أَزْوَاجَهُ الطَّاهِرَاتِ (" لِكَيْ يُصَلِّينَ؟ ") : لِيَجِدْنَ الرَّحْمَةَ وَيَتَخَلَّصْنَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْفِتْنَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنَ الْفِتَنِ مَا وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ صَوَاحِبِ الْحُجَرِ إِشَارَةٌ لِمَا وَقَعَ لِعَائِشَةَ مَعَ عَلِيٍّ فِي مَبَادِيهَا (" رُبَّ كَاسِيَةٍ ") ، أَيِ: امْرَأَةٌ أَوْ نَفْسٌ لَابِسَةٌ (" فِي الدُّنْيَا ") : مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ وَأَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنَ الْأَسْبَابِ، (" عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ ") : مِنْ أَصْنَافِ الثَّوَابِ وَفَاضِحَةٍ عِنْدَ الْحِسَابِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي قَوْلِهِ: (عَارِيَةٍ) هِيَ مَجْرُورَةٌ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَلَى النَّعْتِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ، وَالتَّقْدِيرُ: رُبَّ كَاسِيَةٍ هِيَ عَارِيَةٌ عَرَفْتُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِرُبَّ هُنَا التَّكْثِيرُ، قَالَ الْأَشْرَفُ، أَيْ كَاسِيَةٌ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ عَارِيَةٌ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّوَابِ، وَقِيلَ: عَارِيَةٌ مِنْ شُكْرِ النِّعَمِ، وَقِيلَ: هَذَا نَهْيٌ عَنْ لُبْسِ مَا يَشِفُّ مِنَ الثِّيَابِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ: رُبَّ كَاسِيَةٍ كَالْبَيَانِ لِمُوجِبِ اسْتِيقَاظِ الْأَزْوَاجِ لِلصَّلَاةِ، أَيْ: لَا يَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ يَتَغَافَلْنَ عَنِ الْعِبَادَةِ وَيَعْتَمِدْنَ عَلَى كَوْنِهِنَّ أَهَالِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاسِيَاتٍ خُلْعَةَ نِسْبَةِ أَزْوَاجِهِ مُتَشَرِّفَاتٍ فِي الدُّنْيَا بِهَا، فَهَذِهِ عَارِيَاتٌ فِي الْآخِرَةِ إِذْ لَا أَنْسَابَ فِيهَا وَالْحُكْمُ عَامٌّ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَذَكَرَ أَزْوَاجَهُ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالتِّرْمِذِيُّ.

1223 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» : ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَيْهِ وَيَقُولُ مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدُومٍ وَلَا ظَلُومٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1223 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَنْزِلُ رَبُّنَا ") ، أَيْ: أَمْرُهُ لِبَعْضِ مَلَائِكَتِهِ أَوْ يَنْزِلُ مُنَادِيهِ (" تَبَارَكَ ") : كَثُرَ خَيْرُهُ وَرَحْمَتُهُ وَآثَارُ جِمَالِهِ (" وَتَعَالَى ") : عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الطُّلُوعِ وَالنُّزُولِ، وَارْتَفَعَ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ بِكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، قِيلَ: إِنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَظَرْفِهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّنْزِيهِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْنَادِ مَا هُوَ حَقِيقَتُهُ، (" كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ أَوْ مَلَائِكَتُهُ، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَيَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ» ؟ " الْحَدِيثَ، وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي، وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ أَيْضًا، أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَمَعْنَاهُ الْإِقْبَالُ عَلَى الدَّاعِي بِالْإِجَابَةِ وَاللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَقَبُولِ الْمَعْذِرَةِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ الْكُرَمَاءِ، لَا سِيَّمَا الْمُلُوكَ إِذَا نَزَلُوا بِقُرْبِ مُحْتَاجِينَ مَلْهُوفِينَ مُسْتَضْعَفِينَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَشِبْهِهِ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ. فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِيمَانُ بِحَقِيقَتِهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، وَأَنَّ ظَاهِرَهَا الْمُتَعَارَفَ فِي حَقِّنَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَا نَتَكَلَّمُ فِي تَأْوِيلِهَا مَعَ اعْتِقَادِنَا تَنْزِيهَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ سَائِرِ سِمَاتِ الْحُدُوثِ. وَالثَّانِي: مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ إِنَّمَا تُتَأَوَّلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا بِحَسَبِ بَوَاطِنِهَا، فَعَلَيْهِ: الْخَبَرُ مُئَوَّلٌ بِتَأْوِيلَيْنِ، أَيِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَبِكَلَامِهِ وَبِكَلَامِ الشَّيْخِ الرَّبَّانِيِّ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ،

وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَذْهَبَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى صَرْفِ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ، كَالْمَجِيءِ، وَالصُّورَةِ، وَالشَّخْصِ، وَالرِّجْلِ، وَالْقَدَمِ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، وَالْغَضَبِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَالْكَوْنِ فِي السَّمَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْهِمُهُ ظَاهِرُهَا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ مَجَالَاتٍ قَطْعِيَّةِ الْبُطْلَانِ تَسْتَلْزِمُ أَشْيَاءَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَاضْطَرَّ ذَلِكَ جَمِيعَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ إِلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ نَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ مُعْتَقِدِينَ اتِّصَافَهُ سُبْحَانَهُ بِمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُئَوِّلَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السَّلَفِ، وَفِيهِ تَأْوِيلٌ إِجْمَالِيٌّ أَوْ مَعَ تَأْوِيلِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْخَلَفِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ، وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ فِي أَزْمِنَتِهِمْ لِذَلِكَ ; لِكَثْرَةِ الْمُجَسِّمَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ فِرَقِ الضَّلَالَةِ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى عُقُولِ الْعَامَّةِ، فَقَصَدُوا بِذَلِكَ رَدْعَهُمْ وَبُطْلَانَ قَوْلِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ اعْتَذَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَقَالُوا: لَوْ كُنَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ صَفَاءِ الْعَقَائِدِ وَعَدَمِ الْمُبْطِلِينَ فِي زَمَنِهِمْ لَمْ نَخُضْ فِي تَأْوِيلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَالِكًا وَالْأَوْزَاعِيَّ، وَهُمَا مِنْ كِبَارِ السَّلَفِ أَوَّلَا الْحَدِيثَ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا، وَكَذَلِكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ بِقَصْدِ أَمْرِهِ، وَنَظِيرُهُ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] ، أَيْ: قَصَدَ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، بَلْ قَالَ جَمْعٌ مِنْهُمْ وَمِنَ الْخَلَفِ: إِنَّ مُعْتَقِدَ الْجِهَةِ كَافِرٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعِرَاقِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَوْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَشْعَرِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ. وَقَدِ اتَّفَقَ سَائِرُ الْفِرَقِ عَلَى تَأْوِيلِ نَحْوِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الْآيَةَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ، وَ " «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» "، " «وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» " وَهَذَا الِاتِّفَاقُ يُبَيِّنُ لَكَ صِحَّةَ مَا اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى (الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ) لَا الْجَلَالَةِ. قُلْتُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى (إِلَّا اللَّهُ) وَعْدٌ، وَأَوْقَفَهُ وَقْفًا لَازَمًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَعْنَاهُ الَّذِي أَرَادَهُ تَعَالَى وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ تَكَلَّمَ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ جَزْمًا، فَفِي التَّحْقِيقِ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، وَلِهَذَا اخْتَارَ كَثِيرُونَ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ عَدَمَ تَعْيِينِ التَّأْوِيلِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَلِيقُ بِاللَّفْظِ، وَيَكِلُونَ تَعْيِينَ الْمُرَادِ بِهَا إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى، وَهَذَا تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَتَلَذُّذٌ بَيْنَ الْمَشْرَبَيْنِ، وَاخْتَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ تَوَسُّطًا آخَرَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مِنَ الْمَجَازِ الْبَيِّنِ الشَّائِعِ، فَالْحَقُّ سُلُوكُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ أَوْ مِنَ الْمَجَازِ الْبَعِيدِ الشَّاذِّ فَالْحَقُّ تَرْكُهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَالِاخْتِلَافُ فِي جَوَازِهِ وَعَدَمِهِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْأَمْرُ فِيهَا لَيْسَ بِالْخَطَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ. قُلْتُ: التَّوَقُّفُ فِيهَا لِعَدَمِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، مَعَ أَنَّ التَّوَقُّفَ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِ السَّلَفِ، وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِنُزُولِهِ: دُنُوُّ رَحْمَتِهِ وَمَزِيدُ لُطْفِهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِمْ، وَقَبُولُ مَعْذِرَتِهِمْ، كَمَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُلُوكِ الْكُرَمَاءِ وَالسَّادَةِ الرُّحَمَاءِ إِذَا نَزَلُوا بِقُرْبِ قَوْمٍ مَلْهُوفِينَ مُحْتَاجِينَ مُسْتَضْعَفِينَ، وَقَدْ رُوِيَ: «يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» ، أَيْ: يَنْتَقِلُ مِنْ مُقْتَضَى صِفَاتِ الْجَلَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الْأَنَفَةَ مِنَ الْأَرْذَالِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَقَهْرِ الْعُدَاةِ، وَالِانْتِقَامِ مِنَ الْعُصَاةِ إِلَى مُقْتَضَى صِفَاتِ الْجَمَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَقَبُولِ الْمَعْذِرَةِ وَالتَّلَطُّفِ بِالْمُحْتَاجِ، وَاسْتِقْرَاضِ الْحَوَائِجِ، وَالْمُسَاهَلَةِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْإِغْضَاءِ عَمَّا يَبْدُو مِنَ الْمَعَاصِي، وَلِهَذَا قِيلَ: هَذَا تَجَلٍّ صُورِيٌّ لَا نُزُولٌ حَقِيقِيٌّ، فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (" حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ ") : بِضَمِّ لَامِ ثُلُثٍ وَسُكُونِهِ (" الْآخِرُ ") : بِالرَّفْعِ صِفَةُ ثُلُثٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ مُتَشَابِهٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَيَنْتَقِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ إِلَى صِفَاتِ الرَّحْمَةِ وَالْجَمَالِ، قُلْتُ: التَّعْبِيرُ بِالِانْتِقَالِ لَا يَرْتَضِيهِ أَهْلُ الْكَمَالِ لِتَوَهُّمِ النَّقْصِ وَالزَّوَالِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الظُّهُورَ وَالتَّجَلِّيَ بِصِفَةِ الْجَمَالِ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: تَخْصِيصُ الثُّلُثِ الْآخِرِ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّهَجُّدِ، وَغَفْلَةِ النَّاسِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ النِّيَّةُ خَالِصَةً وَالرَّغْبَةُ وَافِرَةً، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ الْمُرَادُ نُزُولُ الرَّحْمَةِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَالْأَلْطَافِ السُّبُحَانِيَّةِ، وَقُرْبُهُ مِنَ الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى الصِّفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، أَوْ نُزُولُ مَلَكٍ مِنْ خَوَاصِّ مَلَائِكَتِهِ، فَيَنْقُلُ حِكَايَةَ كَلَامِ الرَّبِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تُنَافِي مَا وَرَدَ: حَتَّى يَمْضِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ» ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي هَكَذَا، وَفِي بَعْضِهَا هَكَذَا - كَذَا قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ - وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَكَرَّرَ النُّزُولُ عِنْدَ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ الْآخِرِ، وَاخْتُصَّ بِزِيَادَةِ الْفَضْلِ لِحَثِّهِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ، وَلِاتِّفَاقِ الصَّحِيحَيْنِ عَلَى رِوَايَتِهِ. اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا نُزُولُ تَجَلٍّ فَلَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِحَسَبِ أَزْمِنَةِ الْقَائِمِينَ عَنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَمُجْمَلُهُ: أَنَّ مُطْلَقَ اللَّيْلِ مَحَلُّ التَّنَزُّلِ الْإِلَهِيِّ مِنْ مَقَامِ الْجَلَالِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْجَمَالِ، دَاعِيًا عِبَادَهُ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ الْكَمَالِ إِلَى مِنَصَّةِ الْوِصَالِ حَالَ غَفْلَةِ عَامَّةِ الْخَلْقِ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ. (" يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ (أَنْ) فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَأُعْطِيَهُ، فَأَغْفِرَ لَهُ، قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (" مَنْ سَأَلَنِي فَأُعْطِيَهُ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَبِسُكُونِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ (" مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ") : قِيلَ: مَقْصُودُ الْحَدِيثِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْثِيثُ وَتَخْصِيصُ هَذَا الْوَقْتِ بِمَزِيدِ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ أَنْفَعُ وَأَرْجَى وَبِالْقَبُولِ أَحْرَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَيْهِ ") ، أَيْ: لُطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: عَنْ مَظْهَرَيْهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالتَّجَلِّي الصُّورِيِّ لِتَنَزُّهِ ذَاتِهِ عَنِ الْجَارِحَةِ وَالنُّزُولِ الْحِسِّيِّ. (" يَقُولُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: وَيَقُولُ، أَيْ بِذَاتِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ مِنْ خَوَاصِّ مَلَائِكَتِهِ (" مَنْ يُقْرِضُ ") ، أَيْ: يُعْطِي الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ أَوِ الْمَالِيَّةَ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ وَأَخْذِ الْعِوَضِ، (" غَيْرَ عَدُومٍ ") ، أَيْ: رَبًّا غَنِيًّا غَيْرَ فَقِيرٍ عَاجِزٍ عَنِ الْعَطَاءِ، (" وَلَا ظَلُومٍ ") : بِعَدَمِ الْوَفَاءِ أَوْ بِنَقْصٍ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ يَعْنِي: مَنْ يَعْمَلُ فِي الْعَاجِلَةِ رَجَاءَ الثَّوَابِ فِي الْآجِلَةِ لِغَنِيٍّ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ حَقِّهِ، وَعَادِلٍ لَا يَظْلِمُ الْمُقْرِضَ بِنَقْصِ مَا أَخَذَ، بَلْ يُضَاعِفُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَإِنَّمَا وَصَفَ ذَاتَهُ تَعَالَى بِنَفْيِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا الْمَانِعَانِ غَالِبًا عَنِ الْإِقْرَاضِ، فَالْمَعْنَى مَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا يَجِدْ جَزَاءَهُ كَامِلًا عِنْدِي فِي الْعُقْبَى، (" حَتَّى ") : غَايَةٌ لِلْبَسْطِ وَالْقَوْلِ، أَيْ: لَا يَزَالُ يَقُولُ ذَلِكَ طَلَبًا لِإِقْبَالِ قُلُوبِ طَالِبِيهِ إِلَيْهِ، (" يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ") ، أَيْ: يَنْشَقُّ أَوْ يَطْلُعُ، وَيَظْهَرُ الصُّبُحُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ ذَلِكَ اللُّطْفِ.

1224 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً، لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1224 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً ") ، أَيْ: مُبْهَمَةً (" لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ ") قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِسَاعَةٍ (" يَسْأَلُ اللَّهَ ") ، أَيْ: فِيهَا، كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ (" خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ") ، أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا (" وَذَلِكَ ") ، أَيِ: الْمَذْكُورُ مِنْ سَاعَةِ الْإِجَابَةِ (" كُلَّ لَيْلَةٍ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ خَبَرُ (ذَلِكَ) أَيْ: ثَابِتٌ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَا يَتَقَيَّدُ بِلَيْلَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَيَنْبَغِي تَحَرِّي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا أَمْكَنَ كُلَّ لَيْلَةٍ كَمَا قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَإِنَّ جَذْبَةً مِنْ جَذَبَاتِ الْحَقِّ تُوَازِي عَمَلَ الثَّقَلَيْنِ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يُفَضِّلُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ; لِأَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ فِيهَا سَاعَةُ إِجَابَةٍ مَوْعُودَةٌ، وَلَيْسَ بِذَلِكَ فِي النَّهَارِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةَ، فَلْيَجْتَهِدِ الرَّجُلُ أَنْ يُحْيِيَ كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ بَعْضَهَا لَعَلَّهُ يَجِدُ تِلْكَ السَّاعَةَ، وَالْحِكْمَةُ فِي إِبْهَامِ سَاعَةِ اللَّيْلِ كَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَصَلَاةِ الْوُسْطَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ لِتَحْصِيلِ الْمُرَادِ، وَعَدَمِ الْيَأْسِ مِنَ الْفَوْتِ، وَعَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَتَخْلِيصِ الْقَلْبِ مِنَ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ، وَكَوْنِ الْعَبْدِ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1225 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ: كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1225 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحَبُّ الصَّلَاةِ ") ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ شَرَفِ الْوَقْتِ وَزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ (" إِلَى اللَّهِ ") ، أَيْ: مِنَ النَّوَافِلِ (" «صَلَاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ» ") ; لِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ، وَهُوَ زُبْدَةُ عَيْنِ الْعِبَادَةِ، (" كَانَ ") : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ بِالْوَاوِ (" يَنَامُ ") ، أَيْ: دَاوُدُ (" نِصْفَ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: نِصْفَهُ الْأَوَّلَ (" وَيَقُومُ ") ، أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ (" ثُلُثَهُ ") : بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهِ، وَهُوَ السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ (" وَيَنَامُ سُدُسَهُ ") : بِضَمِّ الدَّالِّ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: سُدُسُهُ الْأَخِيرُ، ثُمَّ يَقُومُ عِنْدَ الصُّبْحِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ أَحَبُّ لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا نَامَتْ فِي الثُّلُثَيْنِ مِنَ اللَّيْلِ تَكُونُ أَخَفَّ وَأَنْشَطَ فِي الْعِبَادَةِ. اهـ. وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْتَزَمَ هَذَا النَّوْمَ لِيَكُونَ قِيَامُهُ جَامِعًا لِمَقَامِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِيُهَوِّنَ عَلَى أُمَّتِهِ فِي الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الْأَحْيَاءِ (" وَيَصُومُ ") ، أَيْ: دَاوُدُ (يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّ ذَلِكَ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ ; لِأَنَّهَا تُصَادِفُ مَأْلُوفَهَا فِي وَقْتٍ، وَتُفَارِقُهُ فِي وَقْتٍ. اهـ. وَلَعَلَّ هَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنْ أُلْفَةِ النَّفْسِ فِي الْجُمْلَةِ مَا الْتَزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْوَصْفَ فِي صِيَامِهِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " كَانَ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَرَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ، وَيُفْطِرُ مِنْهُ حَتَّى نَرَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَنْ يَصُومَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكُنْتَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ نَائِمًا " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَا الْوَقْتِ وَغَيْرَ ابْنِ الْوَقْتِ، فَهُوَ حَاكِمٌ غَيْرُ مَحْكُومٍ، فَكَانَ يَفْعَلُ الْعِبَادَاتِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي أَوْقَاتِ الطَّاعَاتِ دُونَ الْحَالَاتِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالْعَادَاتِ وَإِنْ كَانَتْ عَادَاتُ السَّادَاتِ سَادَاتِ الْعَادَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

1226 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيُحْيِي آخِرَهُ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَهْلِهِ قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ يَنَامُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ جُنُبًا، وَثَبَ فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1226 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ - تَعْنِي) : تَفْسِيرٌ لِضَمِيرِ كَانَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: تُرِيدُ عَائِشَةُ بِذَلِكَ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِالنَّصْبِ وَهُوَ مَفْعُولُ (تَعْنِي) فِي الظَّاهِرِ، وَاسْمُ (كَانَ) فِي الْمَعْنَى (يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيُحْيِي آخِرَهُ، ثُمَّ) : قِيلَ: يُمْكِنُ إِنَّ (ثُمَّ) هُنَا لِتَرَاخِي الْأَخْبَارِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: وَبَعْدَ صَلَاتِهِ وَفَرَاغِهِ مِنْ وِرْدِهِ، (وَإِنْ كَانَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: كَانَ (لَهُ حَاجَةٌ) ، أَيْ: بَعْدَ إِحْيَاءِ اللَّيْلَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (إِلَى أَهْلِهِ) : الْمُرَادُ مُبَاشَرَةُ زَوْجَتِهِ (قَضَى حَاجَتَهُ) ، أَيْ: فَعَلَهَا (ثُمَّ يَنَامُ) ، أَيْ: لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْعِبَادَةِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ لَفْظَةَ (ثُمَّ) لِيُعْلَمَ أَنَّ الْجَدِيرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَقْدِيمُ الْعِبَادَةِ عَلَى الشَّهْوَةِ وَأُمُورِ الْعَادَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَأْخِيرُ الْوَطْءِ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ أَوْلَى ; لِأَنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ قَدْ يَكُونُ مُمْتَلِئًا، وَالْجِمَاعُ عَلَى الِامْتِلَاءِ مُضِرٌّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ الْغُسْلُ فَيَنَامُ عَلَى جَنَابَةٍ وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَنَوْمُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ الْغُسْلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ الَّذِي لَوْلَاهُ لَفُهِمَ مِنْ نَهْيِ الْجُنُبِ عَنِ النَّوْمِ قَبْلَ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ حُرْمَتُهُ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَقَدَ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى الْكَمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (فَإِنْ كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ) : قِيلَ، أَيْ: أَذَانُ بِلَالٍ إِذَا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ، وَالنِّدَاءُ الثَّانِي أَذَانُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عِنْدَ الصُّبْحِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ الْأَذَانُ، وَبِالثَّانِي الْإِقَامَةُ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ نَسَبَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ إِلَى غَلَطٍ فَاحِشٍ (جُنُبًا) ، أَيْ: مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ آخِرِهِ (وَثَبَ) ، أَيْ: قَامَ بِسُرْعَةٍ مِنَ النَّوْمِ (فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ) ، أَيِ: اغْتَسَلَ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ) : وَإِمَّا لِلتَّجْدِيدِ أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: سُنَّةَ الْفَجْرِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ يَبْتَدِئُ بِهِمَا كَمَا ذُكِرَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَهُوَ يُنَاقِضُ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ أَعْنِي بَعْدَ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِحْيَاءَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا سُنَّةُ الْوُضُوءِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَذْهَبِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ. قُلْتُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ مُفَصَّلًا عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى تَمَامِ نِصْفِهِ الْأَوَّلِ» ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ يَقُومُ، أَيِ: السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ لِلتَّهَجُّدِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَوْتَرَ ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ، أَيْ: لِلنَّوْمِ فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فِي السُّدُسِ السَّادِسِ لِيَقْوَى بِهِ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ وَظَائِفِ الطَّاعَاتِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ، أَيْ: قَرُبَ مِنْهُمْ لِذَلِكَ، فَإِنْ سَمِعَ الْأَذَانَ، ظَاهِرُهُ الْأَذَانُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ تَبَيُّنِ الصُّبْحِ، وَثَبَ فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ مُلَّا حَنَفِي: وَهَذَا بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. اهـ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1227 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1227 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؟ ") ، أَيِ: الْزَمُوا الْقِيَامَ بِالْعِبَادَةِ فِي اللَّيْلِ، (" فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ ") : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ وَيُحَرَّكُ، أَيْ: عَادَتُهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الدَّأْبُ: الْعَادَةُ وَالشَّأْنُ وَقَدْ يُحَرَّكُ، وَأَصْلُهُ مِنْ دَأَبَ فِي الْعَمَلِ: إِذَا جَدَّ وَتَعِبَ. اهـ. وَهُوَ مَا يُوَاظِبُونَ عَلَيْهِ وَيَأْتُونَ بِهِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ آلَ دَاوُدَ كَانُوا يَقُومُونَ بِاللَّيْلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّكُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَإِنَّكُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَا يَقُومُ اللَّيْلَ لَيْسَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكَامِلِينَ، بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْمُزَكَّى عَلَنًا لَا سِرًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمَاضُونَ. (" قَبْلَكُمْ ") ، أَيْ: وَهِيَ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ (" وَهُوَ ") ، أَيْ: مَعَ كَوْنِهِ اقْتِدَاءً بِسِيرَةِ الصَّالِحِينَ (" قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ") ، أَيْ: مَحَبَّةُ مَوْلَاكُمْ مِمَّا تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: " «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» . (" وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ ") : مَصْدَرَانِ مِيمِيَّانِ كَالْمَحْمَدَةِ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ: سَاتِرَةٌ لِلذُّنُوبِ وَمَاحِيَةٌ لِلْعُيُوبِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَنَاهِيَةٌ (" عَنِ الْإِثْمِ ") ، أَيِ: ارْتِكَابِ مَا يُوجِبُهُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ، وَالشَّيْخُ مُحْيِي السُّنَّةِ كِلَاهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ يَرْفَعُهُ بِزِيَادَةٍ: " وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ مِنَ الْجَسَدِ "، وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ رَكْعَةً» . اهـ. يَعْنِي: وَلَوْ وَقَعَتْ رَكْعَةٌ فِي اللَّيْلِ.

1228 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثَةٌ يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ: الرَّجُلُ إِذَا قَامَ بِاللَّيْلِ يُصَلِّي، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا فِي الصَّلَاةِ، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1228 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثَةٌ ") ، أَيْ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَالْأَوْلَى أَشْخَاصٌ، وَيُرَادُ بِهَا الْأَنْوَاعُ، أَوَّلًا ثُمَّ الْقَوْمُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَصْنَافٌ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: ثَلَاثَةٌ، أَيْ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ، قَالَهُ فِي الْمَفَاتِيحِ. (" يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ ") ، أَيْ: يَرْضَى عَنْهُمْ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ نَظَرَ عِنَايَةٍ بَالِغَةٍ وَيَرْحَمُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً سَابِغَةً. (" الرَّجُلُ ") : خَصَّ ذِكْرَهُ نَظَرًا لِغَالِبِ الْحَالِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ عَمَلُ الرِّجَالِ (" إِذَا قَامَ بِاللَّيْلِ يُصَلِّي ") : وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلِ الْقَوْمَ إِذَا قَامُوا مَعَ أَنَّهُ الْمُطَابِقُ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمُتَعَاطِفِينَ، لِئَلَّا يُوهِمَ قَيْدَ الْجَمَاعَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، وَهُوَ بَدَلٌ عَنِ الرَّجُلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} [مريم: 16] . اهـ. وَفِي كَوْنِهِ بَدَلًا نَظَرٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ (" وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا فِي الصَّلَاةِ ") : لِلْجِهَادِ الْأَكْبَرِ (" وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ ") : لِلْجِهَادِ الْأَصْغَرِ، وَالتَّرْتِيبُ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَضِيلَةً وَمَشَقَّةً ; لِأَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ، ثُمَّ الْجَمَاعَةُ لِلِاخْتِلَافِ فِي فَرْضِيَّتِهَا (رَوَاهُ) ، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَعَ بَعْضِ تَغْيِيرٍ فِي اللَّفْظِ.

1229 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَكُنْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1229 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ) : بِالْحَرَكَاتِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ ") ، أَيْ: رِضَاهُ (" مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ") : خَبَرُ أَقْرَبُ، أَيْ: أَقْرَبِيَّتُهُ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ كَائِنَةٌ فِي اللَّيْلِ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّجَلِّي الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنُّزُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا حَالٌ مِنَ الرَّبِّ، أَيْ: قَائِلًا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ: (مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ) : الْحَدِيثَ. سَدَّتْ مَسَدَّ الْخَبَرِ، أَوْ مِنَ الْعَبْدِ، أَيْ: قَائِمًا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ دَاعِيًا مُسْتَغْفِرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ الْأَقْرَبِ، وَمَعْنَاهُ سَبَقَ فِي بَابِ السَّجْدَةِ مُسْتَقْصًى. فَإِنْ قُلْتَ: الْمَذْكُورُ هَاهُنَا أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ وَهُنَاكَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَخْ. أَنَّ رَحْمَتَهُ سَابِقَةٌ، فَقُرْبُ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ سَابِقٌ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، فَإِذَا سَجَدُوا قَرُبُوا مِنْ رَبِّهِمْ بِإِحْسَانِهِمْ، كَمَا قَالَ: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وَفِيهِ أَنَّ لُطْفَ اللَّهِ وَتَوْفِيقَهُ سَابِقٌ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ وَسَبَبٌ لَهُ، وَلَوْلَاهُ، لَمْ يَصْدُرْ مِنَ الْعَبْدِ خَيْرٌ قَطُّ. اهـ. وَقَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ السُّجُودِ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ هَاهُنَا بَيَانُ وَقْتِ كَوْنِ الرَّبِّ أَقْرَبَ مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ جَوْفُ اللَّيْلِ، وَالْمُرَادُ هُنَا بَيَانُ أَقْرَبِيَّةِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ وَهُوَ حَالُ السُّجُودِ. تَأَمَّلْ. اهـ. يَعْنِي فَإِنَّهُ دَقِيقٌ وَبِالتَّأَمُّلِ حَقِيقٌ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا وَقْتُ تَجَلٍّ خَاصٌّ بِوَقْتٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْعَبْدِ لِوُجُودِهِ لَا عَنْ سَبَبٍ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَهُ أَدْرَكَ ثَمَرَتَهُ، وَمَنْ لَا فَلَا. غَايَتُهُ أَنَّهُ مَعَ الْعِبَادَةِ أَتَمُّ مَنْفَعَةً وَنَتِيجَةً، وَأَمَّا الْقُرْبُ النَّاشِئُ مِنَ السُّجُودِ فَمُتَوَقِّفٌ عَلَى فِعْلِ الْعَبْدِ وَخَاصٌّ بِهِ، فَنَاسَبَ كُلَّ مَحَلٍّ مَا ذُكِرَ فِيهِ. (" الْآخِرِ ") : صِفَةٌ لِجَوْفِ اللَّيْلِ عَلَى أَنَّهُ يُنَصِّفُ اللَّيْلَ، وَيَجْعَلُ لِكُلِّ نِصْفٍ جَوْفًا، وَالْقُرْبُ يَحْصُلُ فِي جَوْفِ النِّصْفِ الثَّانِي، فَابْتِدَاؤُهُ يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ وَهُوَ وَقْتُ الْقِيَامِ لِلتَّهَجُّدِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ. (" فَإِنِ اسْتَطَعْتَ ") ، أَيْ: قَدَرْتَ وَوُفِّقْتَ (" أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ ") : فِي ضِمْنِ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا (" فِي تِلْكَ السَّاعَةِ ") : إِشَارَةٌ إِلَى لُطْفِهَا (" فَكُنْ ") ، أَيِ: اجْتَهِدْ أَنْ تَكُونَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، فَلَعَلَّكَ تَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِبَرَكَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ مِمَّنْ نُظِمَ فِي سِلْكِ الذَّاكِرِينَ لِتَقَدُّمِهِمْ، وَيُفَاضُ عَلَيْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لِمَنِ الصَّالِحِينَ أَبْلَغُ مِنْ إِنَّهُ لِصَالِحٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادُهُ) : تَمْيِيزٌ عَنِ الْغَرِيبِ، أَيْ: غَرِيبٌ إِسْنَادُهُ لَا مَتْنُهُ، وَيُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْغَرَابَةِ وَالصِّحَّةِ.

1230 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ. رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1230 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: بَعْضَهُ (" فَصَلَّى ") ، أَيِ: التَّهَجُّدَ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَهُوَ أَوْلَى بِالْأَدَاءِ (" وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ ") : بِالتَّنْبِيهِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ وَفِي مَعْنَاهَا مَحَارِمُهُ (" فَصَلَّتْ ") : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهَا وَلَوْ رَكْعَتَيْنِ (" فَإِنْ أَبَتْ ") ، أَيِ: امْتَنَعَتْ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ وَكَثْرَةِ الْكَسَلِ (" نَضَحَ ") ، أَيْ: رَشَّ (" فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ ") : وَالْمُرَادُ التَّلَطُّفُ مَعَهَا وَالسَّعْيُ فِي قِيَامِهَا لِطَاعَةِ رَبِّهَا مَهْمَا أَمْكَنَ، قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِكْرَاهَ أَحَدٍ عَلَى الْخَيْرِ يَجُوزُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ. (" رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: وُفِّقَتْ بِالسَّبْقِ (" فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا ") : وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَفِي التَّرْتِيبِ الذَّكَرِيِّ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ لَا تَخْفَى (" فَصَلَّى ") ، أَيْ: بِسَبَبِهَا (" فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ ") : وَفِيهِ بَيَانُ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَكَمَالِ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

1231 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: " جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1231 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟) ، أَيْ: أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَسْمَعَهُ اللَّهُ، أَيْ يَقْبَلُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ ; لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا يَقْتَرِنُ بِالْقَبُولِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُقَدَّرٍ إِمَّا فِي السُّؤَالِ، أَيْ: أَيُّ أَوْقَاتِ الدُّعَاءِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ؟ وَإِمَّا فِي الْجَوَابِ، أَيْ دُعَاؤُهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ (قَالَ: " جَوْفُ اللَّيْلِ ") : رُوِيَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَقَوْلُهُ: (" الْآخِرُ ") : صِفَتُهُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: جَوْفُ اللَّيْلِ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيِ: الدُّعَاءُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ. مَنْصُوبٌ صِفَةٌ لِلْجَوْفِ، وَالرَّفْعُ مُحْتَمَلٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَيْ: دُعَاءُ جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، وَهُوَ الْخَامِسُ مِنْ أَسْدَاسِ اللَّيْلِ. (" وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ") : بِنَصْبِ دُبُرٍ وَرَفْعِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: حَسَّنَهُ.

1232 - وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا، يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1232 - (وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا ") ، أَيْ: عَلَالِيَ فِي غَايَةٍ مِنَ اللَّطَافَةِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ الصَّفَاءِ وَالظَّرَافَةِ. (" يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا ") : وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى. (" أَعَدَّهَا اللَّهُ ") ، أَيْ: هَيَّأَهَا (" لِمَنْ أَلَانَ ") ، أَيْ: أَطَابَ (" الْكَلَامَ ") : كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَرُوِيَ: أَلْيَنَ كَأَجْوَدَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ، وَرُوِيَ لَيِّنٌ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى لِمَنْ لَهُ خُلُقٌ حَسَنٌ مَعَ الْأَنَامِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] فَيَكُونُ مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] (" وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ ") : بِالْكَرَمِ التَّامِّ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ (" وَتَابَعَ الصِّيَامَ ") ، أَيْ: أَكْثَرَ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ بِحَيْثُ تَابَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَلَا يَقْطَعُهَا رَأْسًا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: أَقَلُّهُ أَنْ يَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّوْمِ (" وَصَلَّى بِاللَّيْلِ ") ، أَيْ: لِمَنْ لَا يَنَامُ (" وَالنَّاسُ ") ، أَيْ: غَالَبُهُمْ (" نِيَامٌ ") : جَمْعُ نَائِمٍ أَوْ غَافِلُونَ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا رِيَاءَ يَشُوبُ عَمَلَهُ وَلَا شُهُودَ غَيْرٍ؛ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] الْمُنْبِئُ وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ عَنْ أَنَّهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ نَحْوَهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَيُرَى بَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا ". فَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطَيْهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ نَحْوَهُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ، وَفِيهِ: " «أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ".

1233 - وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَفِي رِوَايَتِهِ: ". «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1233 - (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ) : وَقَالَ: غَرِيبٌ. نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَفِي رِوَايَتِهِ) ، أَيِ التِّرْمِذِيِّ، أَوْ عَلِيٍّ: (" لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ ") : قَالَ مِيرَكُ: لَفْظُ حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي التِّرْمِذِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا " فَقَامَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " هِيَ لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ".

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1234 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1234 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي) ، أَيْ: خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعِيَ أَحَدٌ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ! لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ ") ، أَيْ: فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ الَّتِي أَذْكُرُهَا لَكَ وَهِيَ: (" أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: بَعْضَهُ لِلتَّهَجُّدِ فِيهِ (" فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: لَا عَنْ عُذْرٍ بَلْ دَعَةً وَرَفَاهِيَةً، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَانْتَظَمَ فِي سِلْكِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ تَارِكَ الْوِرْدِ مَلْعُونٌ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ صَاحِبَ الْوِرْدِ مَلْعُونٌ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُرَائِي، وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ فُلَانٍ لِيَسْمَعَ هَذَا الْكَلَامَ وَيَتَنَبَّهَ مِنَ النِّيَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْعِبَادَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَى الْعَادَةِ قَهْقَرَى فِي السَّيْرِ وَنُقْصَانٌ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَفِي الدُّعَاءِ: " «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» " إِذْ يَنْبَغِي لِلسَّالِكِ، وَالْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِلْمَزِيدِ، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي زِيَادَةٍ فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ، وَمَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَالْمُرَادُ زِيَادَةُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَا الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْأَهْلِ، كَمَا قَالَ، وَنِعْمَ مَنْ قَالَ: زِيَادَةُ الْمَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانٌ ... وَرِبْحُهُ غَيْرُ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

1235 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «كَانَ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةٌ يُوقِظُ فِيهَا أَهْلَهُ يَقُولُ: يَا آلَ دَاوُدَ قُومُوا فَصَلُّوا، فَإِنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا الدُّعَاءَ إِلَّا لِسَاحِرٍ أَوْ عَشَّارٍ» ) : رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1235 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كَانَ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةٌ ") : اسْمُ كَانَ، وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ (" يُوقِظُ فِيهَا أَهْلَهُ ") : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، أَيِ الْقَائِمُ بِاللَّيْلِ، يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] (" يَقُولُ: يَا آلَ دَاوُدَ! قُومُوا فَصَلُّوا ") ، أَيْ: مِنَ اللَّيْلِ وَلَوْ قَلِيلًا (" فَإِنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا الدُّعَاءَ ") : وَالصَّلَاةُ نَفْسُهَا دُعَاءٌ ; لِأَنَّ الثَّنَاءَ وَالْقِيَامَ فِي خِدْمَةِ الْمَوْلَى تَعَرُّضٌ لِلْعَطَاءِ، أَوْ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الدُّعَاءِ الْمَحْفُوفِ بِالذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ، (" إِلَّا لِسَاحِرٍ ") ، أَيْ: لِمُخَالَفَتِهِ الْخَالِقَ (" أَوْ عَشَّارٍ ") ، أَيْ: آخِذِ الْعُشُرِ وَهُوَ الْمَكَّاسُ، وَإِنْ أَخَذَ أَقَلَّ مِنَ الْعُشُرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ أَحْوَالِ الْمَكَّاسِينَ، وَذَلِكَ لِمَضِرَّتِهِ الْخَلْقَ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْعُبُودِيَّةُ هِيَ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. فَـ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَثْنَى مِنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللَّهِ السَّاحِرَ وَالْعَشَّارَ تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ وَتَغْلِيظًا، أَنَّهُمْ كَالْآيِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الْعَامَّةِ لِلْخَلَائِقِ. اهـ. يَعْنِي: فَإِنَّهُمْ وَإِنْ قَامُوا وَدَعَوْا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ لِغِلَظِ مُصِيبَتِهِمْ وَصُعُوبَةِ تَوْبَتِهِمْ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا يُوَفَّقُونَ لِهَذَا الْخَيْرِ لِمَا ابْتُلُوا بِهِ مِنَ الشَّرِّ الْكَثِيرِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْأَوَّلِ مُتَّصِلٌ، وَعَلَى الثَّانِي مُنْفَصِلٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1236 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ صَلَاةٌ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1236 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ ") ، أَيْ: وَرَوَاتِبُهَا. وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكْتُوبَةِ فَقَالَ، أَيِ: الْمَفْرُوضَةُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ. (" صَلَاةٌ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَفِي الْحِصْنِ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ حُجَّةٌ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، عَلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الرَّوَاتِبَ أَفْضَلُ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى لِنَصِّ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مِنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ خِلَافُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ. اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: التَّهَجُّدُ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةِ مَشَقَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ وَبُعْدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ. وَالرَّوَاتِبُ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ الْآكَدِيَّةِ فِي الْمُتَابَعَةِ لِلْمَفْرُوضَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ، أَوْ يُقَالُ: صَلَاةُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْوَتْرِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.

1237 - وَعَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، فَقَالَ: " إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1237 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا) ، أَيْ: رَجُلًا مُعَيَّنًا (يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ) ، أَيْ: قَارَبَ الصُّبْحُ (سَرَقَ) : أَوْ سَرَقَ بِالنَّهَارِ وَلَوْ بِالتَّطْفِيفِ وَنَحْوِهِ، (فَقَالَ: " إِنَّهُ ") ، أَيِ: الشَّأْنُ (" سَتَنْهَاهُ ") : بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَالْفَاعِلُ إِمَّا ضَمِيرٌ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ، أَيْ: هِيَ تَنْهَاهُ عَمَّا تَقُولُ، أَوْ مَا فِي قَوْلِهِ: (" مَا تَقُولُ ") ; لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، وَبِالتَّحْتَانِيَّةِ فَالْفَاعِلُ " مَا " وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ النُّسَخِ (مَا تَقُولُ) بِالْخِطَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْغَيْبَةِ، أَيِ: الرَّجُلُ الْأَوَّلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى السِّينِ لِلتَّأْكِيدِ فِي الْإِثْبَاتِ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدَمِهَا، كَمَا أَنَّ (لَنْ) لِلتَّأْكِيدِ فِي النَّفْيِ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى " لَا "، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَمِثْلُ هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا مَحَالَةَ تَنْهَاهُ فَيَتُوبُ عَنِ السَّرِقَةِ قَرِيبًا، فَالسِّينُ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ التَّنْفِيسِ ; إِذْ لَا بُدَّ مِنْ مُزَاوَلَةِ الصَّلَاةِ زَمَنًا حَتَّى يَجِدَ مِنْهَا حَالَةً فِي قَلْبِهِ تَمْنَعُهُ مِنَ الْإِثْمِ. اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] (رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

1238 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّيَا أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1238 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا، أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ ") ، أَيِ: امْرَأَتَهُ أَوْ نِسَاءَهُ وَأَوْلَادَهُ وَأَقَارِبَهُ وَعَبِيدَهُ وَإِمَاءَهُ، (" مِنَ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، (" فَصَلَّيَا ") ، أَيِ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، أَوِ الرَّجُلُ وَأَهْلُهُ (" أَوْ صَلَّى ") ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (" رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنْ فَاعِلِ " فَصَلَّيَا " عَلَى التَّثْنِيَةِ لَا الْإِفْرَادِ ; لِأَنَّهُ تَرْدِيدٌ مِنَ الرَّاوِي، فَالتَّقْدِيرُ: فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ أَدْخَلَ أَوْ صَلَّى فِي الْبَيْنِ، فَإِذَا أُرِيدَ تَقْيِيدُهُ بِفَاعِلِهِ يُقَدَّرُ فَصَلَّى وَصَلَّتْ جَمِيعًا فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّنَازُعِ. اهـ. وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ (جَمِيعًا) لَيْسَ بِقَيْدٍ لِقَوْلِهِ: " فَصَلَّى " مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: فَصَلَّيَا جَمِيعًا، أَوْ صَلَّى، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الشَّكَّ إِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْبَقِيَّةُ عَلَى حَالِهَا، فَيُقَالُ حِينَئِذٍ: إِنَّ (جَمِيعًا) حَالٌ مِنْ مَعْنَى ضَمِيرِ (فَصَلَّى) وَهُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: (جَمِيعًا) تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ (صَلَّيَا) أَوْ (صَلَّى) لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا وَقَعَ لِلشَّارِحِ هُنَا. (" كُتِبَا ") ، أَيِ: الصِّنْفَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (" فِي الذَّاكِرِينَ ") ، أَيِ: اللَّهَ كَثِيرًا، أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ (" وَالذَّاكِرَاتِ ") : كَذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ ") : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ: مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ، زَادَ النَّسَائِيُّ: جَمِيعًا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا.

1239 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَشْرَافُ أُمَّتَيْ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ، وَأَصْحَابُ اللَّيْلِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1239 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشْرَافُ أُمَّتَيْ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ ") : يَعْنِي: مَنْ حَفِظَ مَبَانِيَهُ وَعَرَفَ مَعَانِيَهُ، وَعَمِلَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَكُلُّ مَنْ حَمَلَهُ أَكْثَرَ وَبِمَقْصُودِهِ أَسْعَفَ يَكُونُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَشْرَفَ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَنْ حِفْظِ الْقُرْآنَ فَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ وَحْيًا جَلِيًّا فَإِنَّهُ قَدْ يُوحَى إِلَيْهِ وَحْيًا خَفِيًّا» "، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ مَنْ حَفِظَهُ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِلَّا كَانَ فِي زُمْرَةِ مَنْ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] (" وَأَصْحَابُ اللَّيْلِ ") ، أَيْ: أَصْحَابُ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ فِي الْوَقْتِ الْبَرِيءِ مِنَ الرِّيَاءِ مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْعَنَاءِ، يَعْنِي الْأَشْرَافُ هُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الرَّافِعِ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا أَشْرَفُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ، فَالْأَوَّلُونَ أَفْضَلُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الذَّاكِرِينَ، وَالْآخِرُونَ أَفْضَلُ الْعُمَّالِ الْحَاضِرِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِضَافَةُ الْأَصْحَابِ إِلَى اللَّيْلِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَثْرَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ: ابْنُ السَّبِيلِ لِمَنْ يُوَاظِبُ عَلَى السُّلُوكِ. اهـ. يَعْنِي سُلُوكَ السَّفَرِ الظَّاهِرِ، كَمَا يُقَالُ: ابْنُ الْوَقْتِ لِمَنْ يُحَافِظُ أَوْقَاتَهُ وَيُرَاعِي سَاعَاتِهِ لِيُرَتِّبَ طَاعَاتِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

1240 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ أَبَاهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ، يَقُولُ لَهُمْ: الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1240 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ: عَنْهُمَا، وَهُوَ مُوهِمٌ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ عُمَرُ وَابْنُهُ لَا عُمَرُ وَأَبُوهُ. (كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ) ، أَيْ مِنْ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، أَوْ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْأَوْقَاتِ (حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ) : لِيَنْتَفِعُوا بِمَا انْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ (يَقُولُ لَهُمْ: الصَّلَاةَ) : مَنْصُوبَةٌ بِتَقْدِيرِ أَقِيمُوا أَوْ صَلُّوا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِمَعْنَى: حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132] : وَهِيَ بِعُمُومِهَا تَشْمَلُ صَلَاةَ اللَّيْلِ {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] ، أَيْ: بَالِغْ فِي الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّاتِهَا وَمَشَاقِّ أَمْرِ أَهْلِكَ بِهَا، فَأَقْبِلْ أَنْتَ مَعَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى غِنَى فَقْرِكُمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَا تَهْتَمَّ بِأَمْرِ الرِّزْقِ، وَفَرِّغْ قَلْبَكَ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّا لِعَظَمَتِنَا وَقُدْرَتِنَا عَلَى رِزْقِ الْعِبَادِ. {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132] ، أَيْ: تَحْصِيلَ رِزْقٍ لَكَ وَلَا لِغَيْرِكَ {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] : كَمَا نُرْزَقُ غَيْرَكَ (وَالْعَاقِبَةُ) ، أَيِ الْمَحْمُودَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى (لِلتَّقْوَى) ، أَيْ: لِأَرْبَابِ التُّقَى مِنْ أُولِي النُّهَى الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ، الْوَاصِلِينَ إِلَى مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا أَصَابَتْهُ خَصَاصَةٌ قَالَ: قُومُوا فَصَلُّوا، بِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب القصد في العمل]

[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1241 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى يُظَنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى يُظَنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [34] بَابُ الْقَصْدِ أَيِ: الِاقْتِصَادُ وَالتَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (فِي الْعَمَلِ) ، أَيْ: عَمَلُ النَّوَافِلِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1241 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ) أَيْ أَيَّامًا كَثِيرَةً (حَتَّى نَظُنَّ) ، أَيْ: نَحْنُ، وَفِي نُسْخَةٍ: يُظَنُّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ بِالْمُثَنَّاةِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ. (أَنْ لَا يَصُومَ) : بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ، وَوَجْهُهُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الْمُثَقَّلَةِ (مِنْهُ) ، أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ (شَيْئًا) : يَعْنِي يُفْطِرُ كَثِيرًا مِنَ الشَّهْرِ، حَتَّى نَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَصُومُ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ يَصُومُ بَاقِيَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، (وَيَصُومُ) ، أَيْ: وَكَذَا يَصُومُ كَثِيرًا، أَيْ مِنْ ذَلِكَ الشَّهْرِ، أَوْ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ (حَتَّى نَظُنَّ) : بِالْوَجْهَيْنِ (أَنْ لَا يُفْطِرَ) : بِالْإِعْرَابَيْنِ (مِنْهُ) ، أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ (شَيْئًا) ، أَيْ: ثُمَّ يَصُومُ بَاقِيَهُ (وَكَانَ لَا تَشَاءُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: " لَا " بِمَعْنَى " لَيْسَ " أَوْ بِمَعْنَى " لَمْ "، أَيْ لَسْتَ تَشَاءُ، أَوْ لَمْ تَكُنْ تَشَاءُ، أَوْ لَا زَمَانَ تَشَاءُ، أَوْ لَا مِنْ زَمَانٍ تَشَاءُ (أَنْ تَرَاهُ) ، أَيْ: رُؤْيَتُهُ فِيهِ (مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ) ، أَيْ: نَائِمًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ قَالَهُمَا ابْنُ الْمَلَكِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا، وَكَذَا قَدَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ) ، أَيْ: نَائِمًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَلَكِ يُقَدَّرُ مُصَلِّيًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا التَّرْكِيبُ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْبَدَلِ، وَتَقْدِيرُهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَشَأْ رُؤْيَتَهُ مُتَهَجِّدًا رَأَيْتَهُ مُتَهَجِّدًا، وَإِنْ تَشَأْ رُؤْيَتَهُ نَائِمًا رَأَيْتَهُ نَائِمًا، أَيْ: كَانَ أَمْرُهُ قَصْدًا لَا إِسْرَافَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ، يَنَامُ فِي وَقْتِ النَّوْمِ وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ، وَيَتَهَجَّدُ فِي وَقْتِهِ وَهُوَ آخِرُهُ، وَعَلَى هَذَا حِكَايَةُ الصَّوْمِ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ عَلَى مَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَصُومُ النَّهَارَ أَبَدًا وَلَا أُفْطِرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قُلْتُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ أَنَسٍ، «سُئِلَ عَنْ صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَرَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ، وَيُفْطِرُ مِنْهُ حَتَّى نَرَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَنْ يَصُومَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكُنْتَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ نَائِمًا» . اهـ. وَبِهَذَا اتَّضَحَ تَصْوِيبُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ سَابِقًا.

1242 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1242 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحَبُّ الْأَعْمَالِ ") ، أَيِ: الْأَوْرَادُ (" إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا ") ; لِأَنَّ النَّفْسَ تَأْلَفُ لَهُ وَتُدَاوِمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: بِهَذَا الْحَدِيثِ يُنْكِرُ أَهْلُ التَّصَوُّفِ تَرْكَ الْأَوْرَادِ، كَمَا يُنْكِرُونَ تَرْكَ الْفَرَائِضِ. اهـ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو فِيمَا قَبْلَ الْبَابِ، وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي يَلِي هَذَا الْحَدِيثَ أَظْهَرُ، إِنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ يُوَجَّهُ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الطَّاعَةَ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَكَأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ عِبَادَةِ الْمَوْلَى، فَيَسْتَحِقُّ الْمَقْتَ بِخِلَافِ الْمُدَاوِمِ عَلَى الْبَابِ حَيْثُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجْعَلَ مِنَ الْأَحْبَابِ، وَيُعَدَّ مِنْ أَرْبَابِ أُولِي الْأَلْبَابِ، (" وَإِنْ قَلَّ ") ، أَيْ: وَلَوْ قَلَّ الْعَمَلُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ مَعَ الْمُدَاوَمَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ مَعَ تَرْكِ الْمُرَاعَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : فِي الْأَزْهَارِ: هَذَا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ، سَأَلْتُ عَائِشَةَ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: الدَّائِمُ. اهـ. فَتَكُونُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ نَحْوَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي الْمَعْنَى.

1243 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1243 - (" وَعَنْهَا ") ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ ") ، أَيِ: الْأَوْرَادِ مِنَ الْأَذْكَارِ وَسَائِرِ النَّوَافِلِ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ (" مَا تُطِيقُونَ ") ، أَيِ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَا تَحْمِلُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْرَادًا كَثِيرَةً بِحَيْثُ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى مُدَاوَمَتِهَا فَتَتْرُكُونَهَا، (" فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ ") : قَالَ: ابْنُ الْمَلَكِ: مَعْنَى الْمَلَالِ مِنَ اللَّهِ تَرْكُ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ، (" حَتَّى تَمَلُّوا ") ، أَيْ: تَتْرُكُوا عِبَادَتَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْرِضُ عَنْكُمْ إِعْرَاضَ الْمَلُولِ عَنِ الشَّيْءِ، وَلَا يَقْطَعُ عَنْكُمُ الثَّوَابَ وَالرَّحْمَةَ مَا بَقِيَ لَكُمْ نَشَاطُ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: لَا يَتْرُكُ فَضْلَهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا سُؤَالَهُ، وَذُكِرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِلِازْدِوَاجِ مِثْلَ {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، وَإِلَّا فَالْمَلَالُ وَهُوَ فُتُورٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ مِنْ كَثْرَةِ مُزَاوَلَةِ شَيْءٍ فَيُوجِبُ الْكَلَالَ فِي الْفِعْلِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ مُسْتَحِيلٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1244 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، وَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1244 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ ") ، أَيْ: وَقْتَ نَشَاطِهِ وَزَمَانَ انْبِسَاطِهِ أَوْ صَلَاتِهِ الَّتِي يَنْشَطُ فِيهَا، (" وَإِذَا فَتَرَ ") ، أَيْ: ضَعُفَ أَوِ انْقَبَضَ وَزَالَ نَشَاطُهُ، وَأَحَسَّ بِكَلَالٍ أَوْ تَعَبٍ، (" فَلْيَقْعُدْ ") ، أَيْ: عَنِ الْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ (لِيَتْرُكْ) نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: لِيُصَلِّ قَائِمًا، وَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ مُصَلِّيًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ سَالِكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَيَخْتَارَ سَبِيلَ الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ، وَيَحْتَرِزَ عَنِ السُّلُوكِ عَنْ وَجْهِ السَّآمَةِ وَالْمَلَالَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَاجَى عَنْ مَلَالَةٍ وَكَسَالَةٍ، وَإِذَا فَتَرَ وَضَعُفَ قَعَدَ عَنِ الْقِيَامِ، وَاشْتَغَلَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَنَامِ عَلَى قَصْدِ حُصُولِ النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ طَاعَةً، وَإِنْ كَانَ مِنْ أُمُورِ الْعَادَةِ، وَلِذَا قِيلَ: نَوْمُ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ: " «كَلِّمِينِي يَا حُمَيْرَاءُ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1245 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ ; فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1245 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا نَعَسَ ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُكْسَرُ (" أَحَدُكُمْ ") : وَالنُّعَاسُ أَوَّلُ النَّوْمِ وَمُقَدِّمَتُهُ (" وَهُوَ يُصَلِّي ") : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (" فَلْيَرْقُدْ ") : الْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ، (" حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ ") ، أَيْ: ثِقَلُهُ (" فَإِنَّ أَحَدَكُمْ ") : عِلَّةٌ لِلرُّقَادِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ (" إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي ") : مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَعْلَمُ مَاذَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَمَا يَقُولُ مِنْ غَلَبَةِ النَّوْمِ. (" لَعَلَّهُ ") : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِمَا قَبْلَهُ (" يَسْتَغْفِرُ ") ، أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ (" فَيَسُبَّ ") : بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ (" نَفْسَهُ ") ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اعْفِرْ، وَالْعَفْرُ هُوَ التُّرَابُ فَيَكُونُ دُعَاءً عَلَيْهِ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ. اهـ. وَهُوَ تَصْوِيرُ مِثَالٍ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ إِلَيْهِ التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَسْتَغْفِرُ، وَبِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلتَّرَجِّي، وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّ أَصْلَ الْمِشْكَاةِ بِالْوَجْهَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ عَلَى النَّصْبِ وَجُوِّزَ الرَّفْعُ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ، فَالرَّفْعُ لَيْسَ مِنَ الْأُصُولِ وَلَا رِوَايَةً مِنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي (فَيَسُبَّ) لِلسَّبَبِيَّةِ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ} [القصص: 8] قَالَ الْمَالِكِيُّ: يَجُوزُ فِي (فَيَسُبَّ) الرَّفْعُ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالنَّصْبُ بِاعْتِبَارِ جَعْلِ (فَيَسُبَّ) جَوَابًا لِلْفِعْلِ، فَإِنَّهَا مِثْلُ لَيْتَ فِي اقْتِضَائِهَا جَوَابًا مَنْصُوبًا. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 3 - 4] نَصَبَهُ عَاصِمٌ وَرَفَعَهُ الْبَاقُونَ اهـ كَلَامُهُ. قِيلَ: بِالنَّصْبِ أَوْلَى لِمَا مَرَّ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى لَعَلَّهُ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ لِذَنْبِهِ الْغُفْرَانَ لِيَصِيرَ مُزَكًّى، فَيَتَكَلَّمُ بِمَا يَجْلِبُ الذَّنْبَ فَيَزِيدُ الْعِصْيَانُ فَكَأَنَّهُ سَبَّ نَفْسَهُ. اهـ. وَلَا يَبَعُدُ أَنْ يَسُبَّ نَفْسَهُ حَقِيقَةً، مَعَ أَنَّ ارْتِكَابَ الْعِصْيَانِ وَلَوْ حَالَ نُعَاسِهِ أَعْظَمُ مِنْ سَبِّ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَأَسَاسِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1246 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا [وَقَارِبُوا] ، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1246 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الدِّينَ ") : وَهُوَ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ (" يُسْرٌ ") ، أَيْ: مَبْنِيٌّ عَلَى الْيُسْرِ، وَقِيلَ: (يُسْرٌ) مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ مُبَالَغَةً ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» ". وَأَمَّا حَدِيثُ: «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ» ، فَلَا أَصْلَ لَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّخَاوِيُّ، (" وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ ") ، أَيْ: وَلَنْ يُقَاوِمَهُ أَحَدٌ بِشِدَّةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَعَمَّقَ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَلَرُبَّمَا يَغْلِبُهُ مَا تَحَمَّلَهُ مِنَ الْكُلْفَةِ، فَيَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ مَا كُلِّفَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (" إِلَّا غَلَبَهُ ") ، أَيْ: إِلَّا غَلَبَ الدِّينُ عَلَيْهِ. وَالْمُشَادَّةُ: التَّشَدُّدُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يُشَادُّهُ، أَيْ: لَنْ يُبَالِغَ فِي تَشْدِيدِ الدِّينِ الْمَيْسُورِ أَحَدٌ يَسْتَقِرُّ عَلَى وَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ إِلَّا عَلَى وَصْفِ كَوْنِهِ قَدْ غَلَبَهُ ذَلِكَ الدِّينُ حَيْثُ كُثْرِهِ مَعَ يُسْرِهِ، وَقَصَدَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ عَلَى مَا شُرِعَ لَهُ تَهَوُّرًا، وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعَهَا مَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ مَآلَ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَفْتُرَ وَيَعْجِزَ عَنْهَا وَيَعُودَ مَلُومًا مُقَصِّرًا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ أَشَدُّ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَوْمٍ أَرَادُوا التَّشْدِيدَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا مَرَّ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو لَمَّا كَبِرَ وَضَعُفَ عَمَّا كَانَ أَوْصَاهُ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ أَعْمَالٍ ذَكَرَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُعْتَدِلَهَا، فَأَبَى إِلَّا مُشِقَّهَا: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (" فَسَدِّدُوا ") ، أَيِ: الْزَمُوا طَرِيقَ الِاقْتِصَارِ،

وَاطْلُبُوا سَبِيلَ السَّدَادِ مِنَ الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، (" وَقَارِبُوا ") ، أَيِ: الْأَمْرَ بِالسُّهُولَةِ وَلَا تُبَاعِدُوهُ بِالْكُلْفَةِ وَالصُّعُوبَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، يَعْنِي: إِذَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مَا فِي الْمُشَادَّةِ مِنَ الْوَهَنِ فَسَدِّدُوا، أَيِ: اطْلُبُوا السَّدَادَ وَهُوَ الْقَصْدُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا مَيْلَ فِيهِ، (وَقَارِبُوا) تَأْكِيدٌ لِلتَّسْدِيدِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، يُقَالُ: قَارَبَ فُلَانٌ فِي أُمُورِهِ: إِذَا اقْتَصَدَ (" وَأَبْشِرُوا ") ، أَيْ: بِالْجَنَّةِ وَالسَّلَامَةِ وَبِكُلِّ نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْجَزِيلَ عَلَى عَمَلِ الْقَلِيلِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، وَجَاءَ فِي لُغَةٍ: ابْشُرُوا بِضَمِّ الشِّينِ مِنَ الْبِشْرِ بِمَعْنَى الْإِبْشَارِ. (" وَاسْتَعِينُوا ") : عَلَى أَمْرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ بَيْنِ الْأَوْقَاتِ (" بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ ") : بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ فِيهِمَا، وَبِضَمِّ الْكَلِمَةِ الْأُولَى، أَيْ: بِالسَّيْرِ فِي السُّلُوكِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، وَهُمَا زَمَانُ الرَّاحَاتِ وَالْغَفَلَاتِ، (" وَشَيْءٍ ") : وَبِشَيْءٍ وَلَوْ قَلِيلٍ (" مِنَ الدُّلْجَةِ ") : بِضَمِّ الدَّالِّ وَتُفْتَحُ مَعَ سُكُونِ اللَّامِ: آخِرُ اللَّيْلِ، وَهُوَ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ وَأَكْمَلُ الْحَالَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْغُدْوَةُ بِالضَّمِّ: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدْوَةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ مِنَ الْغُدُوِّ، وَهُوَ سَيْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ نَقِيضُ الرَّوَاحِ، وَالدُّلْجَةُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ اسْمٌ مِنِ ادَّلَجَ بِالتَّشْدِيدِ: إِذَا سَارَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ اسْتُعِيرَتْ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ لِلصَّلَاةِ فِيهَا. اهـ. وَقِيلَ: الدُّلْجَةُ مِنَ الْإِدْلَاجِ بِسُكُونِهِ، وَهُوَ سَيْرُ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَالْمُرَادُ بِهِ إِحْيَاءُ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَهُوَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ، أَوِ الْمَعْنَى: اسْتَعِينُوا بِالطَّاعَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْجَنَّةِ، وَالْمَثُوبَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَالِاسْتِرَاحَةِ فِي غَيْرِهَا حَتَّى لَا تَكْسَلُوا وَلَا تَتْعَبُوا وَلَا تَمَلُّوا وَلَا تَخْلُوا، وَقِيلَ: اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ، وَاسْتِنْجَاحِ مَقَاصِدِكُمْ بِالصَّلَاةِ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ بِرِفْقٍ وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ، أَيِ: الْمُكَلِّفُ دَابَّتَهُ طَاقَتَهَا لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى. اهـ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْمُنْبَتُّ الَّذِي انْقَطَعَ بِهِ فِي سَفَرِهِ وَعَطَبَتْ رَاحِلَتُهُ، وَالْفِعْلُ انْبَتَّ مُطَاوِعُ بَتَّ مِنَ الْبَتِّ: الْقَطْعُ.

1247 - وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1247 - (وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ ") ، أَيْ: عَنْ وِرْدِهِ يَعْنِي عَنْ تَمَامِهِ (" أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ") ، أَيْ: مِنْ حِزْبِهِ يَعْنِي عَنْ بَعْضِ وِرْدِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوِ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ، وَفِي مَعْنَاهُ الصَّلَاةُ. (" فَقَرَأَ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ ") : جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ: (" كَأَنَّمَا قَرَأَهُ ") : صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أُثْبِتَ أَجْرَهُ فِي صَحِيفَةِ عَمَلِهِ إِثْبَاتًا مِثْلَ إِثْبَاتِهِ حِينَ قَرَأَهُ (" مِنَ اللَّيْلِ ") : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا ; لِأَنَّ مَا قَبْلَ الظُّهْرِ كَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ اللَّيْلِ، وَلِذَا يَجُوزُ الصَّوْمُ بِنَيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ تَقْيِيدَ نِيَّةِ الصَّوْمِ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ اللَّيْلِ، بَلْ لِتَقَعَ النِّيَّةُ فِي أَكْثَرِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ، وَالْمُرَادُ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ هُوَ الضَّحْوَةُ الْكُبْرَى، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] قَالَ الْقَاضِي، أَيْ ذَوِي خِلْفَةٍ يَخْلُفُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ فِي أَحَدِهِمَا تَدَارَكَهُ فِي الْآخَرِ. اهـ. وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَسَلْمَانَ، كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ. وَأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَجَزَ بِاللَّيْلِ كَانَ لَهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مُسْتَعْتَبٌ، وَمَنْ عَجَزَ بِالنَّهَارِ كَانَ لَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ مُسْتَعْتَبٌ. اهـ. فَتَخْصِيصُهُ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ مَعَ شُمُولِ الْآيَةِ النَّهَارَ بِالْكَمَالِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُبَادَرَةِ بِقَضَاءِ الْفَوْتِ قَبْلَ إِتْيَانِ الْمَوْتِ، فَإِنَّ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٍ خُصُوصًا فِي حَقِّ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، أَوْ لِأَنَّ وَقْتَ الْقَضَاءِ أَوْلَى أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْقَضَاءِ، أَوْ لِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ قَائِلَهُ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ.

1248 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1248 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : مُصَغَّرًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلِّ ") ، أَيِ: الْفَرْضَ (" قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ") ، أَيِ: الْقِيَامَ (" فَقَاعِدًا ") : أَيْ: فَصَلِّ قَاعِدًا، (" فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ") ، أَيِ: الْقُعُودَ (" فَعَلَى جَنْبٍ ") ، أَيْ: فَصَلِّ مُضْطَجِعًا مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ، فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّحَوُّلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُسَاعِدٌ عَلَى التَّحْوِيلِ، فَيَجُوزُ فَإِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: " صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ ". زَادَ النَّسَائِيُّ: " فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ". اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِلْقَاءَ فِي مَذْهَبِنَا أَفْضَلُ مِنَ الِاضْطِجَاعِ، وَمَعْنَى الِاسْتِلْقَاءِ أَنْ يَرْتَمِيَ عَلَى وِسَادَةٍ تَحْتَ كَتِفَيْهِ مَادًّا رِجْلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيمَاءِ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الِاسْتِلْقَاءِ تَمْنَعُ الصَّحِيحَ مِنْ إِيمَاءٍ، فَكَيْفَ الْمَرِيضُ؟ كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَنْتَهِضُ حَدِيثُ عِمْرَانَ حُجَّةً عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ لَهُ، وَكَانَ مَرَضُهُ الْبَوَاسِيرَ وَهُوَ يَمْنَعُ الِاسْتِلْقَاءَ فَلَا يَكُونُ خِطَابُهُ خِطَابًا لِلْأُمَّةِ، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَلْقَى تَقَعُ إِشَارَتُهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَبِهِ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِخِلَافِ الْآخَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَقَّقَهُ مُسْتَلْقِيًا كَانَ سُجُودًا وَرُكُوعًا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلَوْ أَتَمَّهُ عَلَى جَنْبٍ كَانَ إِلَى غَيْرِ جِهَتِهَا، وَبِمَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى مُسْتَلْقِيًا رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ» . وَلَمَّا كَانَتِ الْقُدْرَةُ شَرْطًا فِي الْفَرْضِ وَسَقَطَ بِالضَّرَرِ، فَفِي النَّفْلِ أَوْلَى، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَوْعِ مُنَاسَبَةٍ لِلْبَابِ.

1249 - وَعَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا، قَالَ: " إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1249 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ عِمْرَانَ (أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ) ، أَيْ: نَفْلُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ (قَاعِدًا، قَالَ: " إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا صَلَاةُ الْفَرْضِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ فَبَاطِلَةٌ إِجْمَاعًا، بَلْ مِنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الْقِيَامِ كَفَرَ ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، (" وَمَنْ صَلَّى ") ، أَيِ: النَّافِلَةَ (" قَاعِدًا ") ، أَيْ: بِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، (" فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَنَفِّلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ ; لِأَنَّ الْمُتَنَفِّلَ قَاعِدًا مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ يَكُونُ ثَوَابُهُ كَثَوَابِهِ قَائِمًا. اهـ. وَمَحَلُّهُ أَنَّ نِيَّتَهُ لَوْلَا الْعُذْرُ لَفَعَلَ لِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: إِنَّ الْعُذْرَ يُلْحِقُ صَاحِبَهُ التَّارِكَ لِأَجْلِهِ بِالْفَاعِلِ فِي الثَّوَابِ، (" وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا ") ، أَيْ: مُسْتَلْقِيًا أَوْ عَلَى جَنْبٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: مُضْطَجِعًا، أَيْ: لِغَيْرِ عُذْرٍ (" فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ ") . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا هُوَ فَمِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّ تَطَوُّعَهُ غَيْرَ قَائِمٍ كَهُوَ قَائِمًا ; لِأَنَّ الْكَسَلَ مَأْمُونٌ فِي حَقِّهِ. قُلْتُ: كَوْنُهُ مِنَ الْخَصَائِصِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الْبَشَرِيَّةِ أَنَّهُ يُشَارِكُ نَوْعَهُ، نَعَمْ هُوَ مَأْمُونٌ مِنَ الْكَسَلِ الْمَانِعِ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَمْنُهُ مِنْ مُطْلَقِ الْكَسَلِ فَمَحَلُّ بَحْثٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْكَسَلِ عَدَمُ الضَّعْفِ وَالْعُذْرُ أَعَمُّ مِنْهُمَا ; إِذْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنَ الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] ، أَيْ: لِتَتْعَبَ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ، أَيِ النَّافِلَةِ وَهُوَ جَالِسٌ» ، وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْمُ، أَوْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] فَلَا بُدَّ لِلتَّخْصِيصِ مِنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ مُشَارَكَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أُمَّتِهِ فِي الْأَحْكَامِ، نَعَمِ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِأَنَّ ثَوَابَهُ لَا يَنْقُصُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ قَاعِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ أَبَدًا، فَلَا يَكُونُ مِثْلَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُصَلِّي قَاعِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ نَائِمًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ؟ فَذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى جَوَازِهِ وَأَجْرُهُ نِصْفُ الْقَاعِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْأَوْلَى لِثُبُوتِهِ فِي السُّنَّةِ. اهـ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ فِي حَقِّ الْمُفْتَرِضِ الْمَرِيضِ الَّذِي أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ، أَوِ الْقُعُودُ مَعَ شِدَّةٍ وَزِيَادَةٍ فِي الْمَرَضِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجْرِ: فِيهِ أَبْلَغَ حُجَّةً عَلَى مَنْ حَرَّمَ الِاضْطِجَاعَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقُعُودِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1250 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ طَاهِرًا، وَذَكَرَ اللَّهِ حَتَّى يُدْرِكَهُ النُّعَاسُ، لَمْ يَتَقَلَّبْ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» ". ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي " كِتَابِ الْأَذْكَارِ " بِرِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1250 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ أَوَى ") : بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ (" إِلَى فِرَاشِهِ ") ، أَيْ: أَتَاهُ. فِي النِّهَايَةِ: أَوَى وَآوَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ: أَوَيْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ وَآوَيْتُ إِلَيْهِ، وَأَوَيْتُ غَيْرِي، وَآوَيْتُهُ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْمَقْصُورَ الْمُتَعَدِّيَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ فَمَقْصُورٌ، وَأَمَّا آوَانَا فَمَمْدُودٌ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْفَصِيحُ، وَحُكِيَ الْقَصْرَ فِيهِمَا، وَحُكِيَ الْمَدُّ فِيهِمَا. (" طَاهِرًا ") ، أَيْ: مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَخْبَاثِ، أَوْ مِنَ الْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ، (" وَذَكَرَ اللَّهَ ") : بِلِسَانِهِ أَوْ قَلْبِهِ، أَيَّ: نَوْعٍ مِنَ الْأَذْكَارِ (" حَتَّى يُدْرِكَهُ النُّعَاسُ ") ، أَيْ: يَغْلِبُهُ (" لَمْ يَتَقَلَّبْ ") ، أَيْ: لَمْ يَتَرَدَّدْ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى فِرَاشِهِ (" سَاعَةً ") : بِالنَّصْبِ، أَيْ: فِي سَاعَةٍ (" مِنَ اللَّيْلِ ") : وَرُوِيَتْ بِالرَّفْعِ وَبِالتَّأْنِيثِ فِي لَمْ يَتَقَلَّبْ، أَيْ: لَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ (" يَسْأَلُ اللَّهَ ") : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَتَقَلَّبُ (" فِيهَا ") ، أَيْ: فِي تِلْكَ السَّاعَةِ (" خَيْرًا ") : الْخَيْرُ هُنَا ضِدُّ الشَّرِّ (" مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ") : الْمُرَادُ مِنَ الْخَيْرِ الثَّانِي الْجِنْسُ، وَالتَّنْوِينُ فِي الْأَوَّلِ لِلتَّنْكِيرِ (" إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَيْضًا حَالٌ مِنْ (يَسْأَلُ) ، وَجَازَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعْنِي: لَا يَكُونُ لِلسَّائِلِ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَوْنَهُ مُعْطًى إِيَّاهُ، أَيْ: مَا طَلَبَ فَلَا يَخِيبُ. (ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ) : وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ بِالْأَلِفِ (فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ بِرِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ) ، أَيْ: فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَنَقَلَهُ مِيرَكُ.

1251 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ. رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي، وَرَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَانْهَزَمَ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِي الِانْهِزَامِ وَمَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ حَتَّى هُرِيقَ دَمُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي حَتَّى هُرِيقَ دَمُهُ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1251 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَجِبَ رَبُّنَا ") ، أَيْ: رَضِيَ وَاسْتَحْسَنَ (" مِنْ رَجُلَيْنِ ") ، أَيْ: فِعْلُهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: عَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْهُمَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَسَمَّاهُ عَجَبًا مَجَازًا ; لِأَنَّ التَّعَجُّبَ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّا خَفِيَ سَبَبُهُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. (" رَجُلٍ ") : بِالْجَرِّ بَدَلٌ، وَجُوِّزَ الرَّفْعُ، فَالتَّقْدِيرُ أَحَدُهُمَا أَوْ مِنْهُمَا أَوْ هُمَا رَجُلٌ (" ثَارَ ") ، أَيْ: قَامَ بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ وَرَغْبَةٍ (" عَنْ وِطَائِهِ ") : بِكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ: فِرَاشِهِ اللَّيِّنِ (" وَلِحَافِهِ ") : بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ: ثَوْبِهِ الَّذِي فَوْقَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " «لَيَذْكُرَنَّ اللَّهَ أَقْوَامٌ عَلَى الْفُرُشِ الْمُمَهَّدَةِ يُدْخِلُهُمُ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى» " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. (" مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ ") : بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ: مَحْبُوبِهِ (" وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ ") ، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الَّذِينَ هُمْ زُبْدَةُ الْخَلَائِقِ عِنْدَهُ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، عِلْمًا بِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَهُ لَا فِي قَبْرِهِ وَلَا يَوْمَ حَشْرِهِ، وَإِنَّمَا تَنْفَعُهُ طَاعَتُهُ فِي أَيَّامِ عُمُرِهِ، وَلِذَا قَالَ الْجُنَيْدُ لَمَّا رُؤِيَ فِي النَّوْمِ، وَسُئِلَ عَنْ مَرَاتِبِ الْقَوْمِ: طَاشَتِ الْعِبَارَاتُ، وَتَلَاشَتِ الْإِشَارَاتُ، وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا رُكَيْعَاتٌ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنَ الْأَوْقَاتِ. (" فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ ") ، أَيْ: مُبَاهَاةً لِعَبْدِهِ الَّذِي غَلَبَتْ صِفَاتُ مَلَكِيَّتِهِ عَلَى أَحْوَالِ بَشَرِيَّتِهِ، مَعَ وُجُودِ الشَّيْطَانِ وَالْوَسَاوِسِ وَالنَّفْسِ وَطَلَبِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَاجِسِ، (" انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ") ، أَيْ: نَظَرَ الرَّحْمَةِ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالشَّفَاعَةُ. وَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَأَيُّ تَشْرِيفٍ، أَوْ

تَفَكَّرُوا فِي قِيَامِهِ مِنْ مَقَامِ الرَّاحَةِ، (" ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ ") ، أَيْ: تَبَاعَدَ عَنْهُمَا (" مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ ") ، أَيْ: مُنْفَرِدًا مِنْهُمْ وَمِنِ اتِّفَاقِهِمْ، وَمُعْتَزِلًا عَنِ اقْتِرَابِهِمْ وَاعْتِنَاقِهِمْ، (" إِلَى صَلَاتِهِ ") ، أَيِ: الَّتِي تَنْفَعُهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ (" رَغْبَةً ") ، أَيْ: لَا رِيَاءً وَسُمْعَةً بَلْ مَيْلًا (" فِيمَا عِنْدِي ") ، أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، أَوْ مِنَ الرِّضَا وَاللِّقَاءِ يَوْمَ الْمَآبِ. (" وَشَفَقًا ") ، أَيْ: خَوْفًا (" مِمَّا عِنْدِي ") : مِنَ الْجَحِيمِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، أَوْ مِنَ السُّخْطِ وَالْحِجَابِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا غَايَةُ الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّهُ قَامَ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتِ رَاحَةِ النَّاسِ فِي الْعَادَةِ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ الْإِلَهِيِّ، فَيَكُونُ مِنْ عَلَامَةِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَلِذَا قَدَّمَهُ وَعَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (" وَرَجُلٍ ") : بِالْوَجْهَيْنِ (" غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") ، أَيْ: حَارَبَ أَعْدَاءَ اللَّهِ (" فَانْهَزَمَ ") ، أَيْ: غُلِبَ وَهَرَبَ (" مَعَ أَصْحَابِهِ فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ ") ، أَيْ: مِنَ الْإِثْمِ أَوْ مِنَ الْعَذَابِ (" فِي الِانْهِزَامِ ") : إِذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي الْمَقَامِ (" وَمَا لَهُ ") ، أَيْ: وَعَلِمَ مَا لَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ (" فِي الرُّجُوعِ ") ، أَيْ: فِي الْإِقْبَالِ عَلَى مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ، وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْعَدَدِ وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الْعُدَدِ، (" فَرَجَعَ ") ، أَيْ: حِسْبَةً لِلَّهِ وَجَاهَدَ (" حَتَّى هُرِيقَ ") ، أَيْ: صُبَّ (" دَمُهُ ") : يَعْنِي: قُتِلَ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ذَاكِرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْغَافِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَبِهِ يَظْهَرُ كَمَالُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، (" فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ ") ، أَيِ: الْمُقَرَّبِينَ (" انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ") ، أَيْ: نَظَرَ تَعَجُّبٍ (" رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي ") ، أَيْ: مِنَ الْعِقَابِ (" حَتَّى هُرِيقَ دَمُهُ ") ، أَيْ: عَلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ. (رَوَاهُ) : صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِيهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَرَوَى لَهُ الْأَرْبَعَةُ وَالْبُخَارِيُّ مُتَابَعَةً، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. اهـ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلَفْظُهُ: «إِنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ. رَجُلٌ قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ عَنْ فِرَاشِهِ وَلِحَافِهِ وَدِثَارِهِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: مَا حَمَلَ عَبْدِي هَذَا عَلَى مَا صَنَعَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا جَاءَ لِمَا عِنْدَكَ وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدَكَ، فَيَقُولُ: إِنِّي أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا، وَأَمَّنْتُهُ مِمَّا يَخَافُ» ، وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ لِلَّهِ مَعَ رَجَاءِ الثَّوَابِ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَطَلَبُ حُصُولِهِ لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ وَالْكَمَالَ، وَإِنْ نَافَى الْأَكْمَلَ، وَهُوَ الْعَمَلُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِغَرَضٍ وَلَا لِعِوَضٍ، وَأَمَّا قَوْلُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ عَنِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ مَنْ عَبَدَ لِأَجْلِ الثَّوَابِ أَوْ لِخَوْفِ الْعِقَابِ لَمْ تَصِحَّ عِبَادَتُهُ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ مَحْضُ عَمَلِهِ لِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَوْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ لَانْتَفَتْ عِبَادَتُهُ، وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ يَكْفُرُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1252 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ "، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِهِ. فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو؟ ". قُلْتُ: حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ قُلْتَ: " صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ ". وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا، قَالَ: " أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1252 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حُدِّثْتُ) ، أَيْ: حَدَّثَنِي نَاسٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (" صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا ") ، أَيْ: بِغَيْرِ عُذْرٍ (" نِصْفُ الصَّلَاةِ ") ، أَيْ: قَائِمًا، وَالْمَعْنَى نِصْفُ أَجْرِ صَلَاةِ الْقَائِمِ كَمَا مَرَّ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ: " عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ ". (قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَوَضَعْتُ يَدِي) : لَعَلَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ جَزَمَ بِهِ، وَقَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِ الْوَضْعُ قَبْلَهُ، (عَلَى رَأْسِهِ) ، أَيْ: لِيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى خِلَافَ الْأَدَبِ عِنْدَ طَائِفَةِ الْعَرَبِ

لِعَدَمِ تَكَلُّفِهِمْ وَكَمَالِ تَأَلُّفِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ لَهُ: أَنْتَ. دُونَ (أَنْتُمُ) الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى حُسْنِ الْآدَابِ فِي مَعْرِضِ الْخِطَابِ - لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى قَائِلِهِ الْعِتَابُ، وَتَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ هُنَا فِي شَرْحِ الْكِتَابِ، وَأَوْرَدَ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ، وَنَسَبَ قِلَّةَ الْأَدَبِ إِلَى الْأَصْحَابِ وَقَالَ عَلَى وَجْهِ الْإِطْنَابِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ تَوْقِيرًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ قُلْتُ: لَعَلَّهُ صَدَرَ عَنْهُ لَا عَنْ قَصْدٍ أَوْ لَعَلَّهُ اسْتَغْرَبَ كَوْنَهُ عَلَى خِلَافِ مَا حُدِّثَ عَنْهُ وَاسْتَبْعَدَهُ، فَأَرَادَ تَحْقِيقَ ذَلِكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: مَا لَكَ إِلَخْ؟ فَسَمَّاهُ وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَكَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا، فَإِنَّهُ حَالٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ الْإِشْكَالِ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي عَادَتِهِمْ يَفْعَلُهُ الْمُسْتَغْرِبُ الشَّيْءَ الْمُتَعَجِّبُ مِنْ وُقُوعِهِ مَعَ مَنِ اسْتَغْرَبَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَلَا يُنَافِي الْمُتَعَارَفَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْأَدَبِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ كَانَ رُبَّمَا لَمَسَ لِحْيَتَهُ الشَّرِيفَةَ عِنْدَ مُفَاوَضَتِهِ مَعَهُ. . اهـ. وَقَدْ شُوهِدَ فِي زَمَانِنَا أَنَّ بَعْضَ أَجْلَافِ الْعَرَبِ يُمْسِكُ لِحْيَةَ شَرِيفِ مَكَّةَ وَيَقُولُ: أَنَا فِدَاكَ يَا حَسَنُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَعْلُهُ مُعَلَّقًا فِي إِصْبَعِهِ. (فَقَالَ: " مَا لَكَ؟ ") ، أَيْ: مَا شَأْنُكَ، وَأَيُّ غَرَضٍ لَكَ، أَوْ، أَيُّ شَيٍّ أَقْلَقَكَ وَأَزْعَجَكَ حَتَّى فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ (" يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ") : وَعِنْدَهُمُ التَّسْمِيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْخُصُوصِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَنْتَ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّقَدُّمِ بِالْمَحَلِّ الْمَعْرُوفِ، وَلِذَا جَاءَ أَنَّهُ كَانَ أَحْفَظَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَفْقَهَ. (قُلْتُ: حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ، أَيْ: حَدَّثَنِي النَّاسُ (أَنَّكَ قُلْتَ: " صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ ") : وَكَذَا هُنَا بِلَفْظِ: " عَلَى " (" وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا ") : وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَعْمَالَكَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَكْمَلِ وَطَرِيقِ الْأَفْضَلِ، فَهَلْ تَحْدِيثُهُمْ صَحِيحٌ وَلَهُ تَأْوِيلٌ صَرِيحٌ أَمْ لَا؟ (قَالَ: " أَجَلْ ") ، أَيْ: نَعَمِ الْحَدِيثُ ثَابِتٌ، أَوْ نَعَمْ قَدْ قُلْتُ ذَلِكَ. (" وَلَكَنَّى لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ ") : يَعْنِي هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِي أَنْ لَا يَنْقُصَ ثَوَابُ صَلَوَاتِي عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَكُونُ مِنْ جَلَوَاتِي، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1253 - وَعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ: لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَقِمِ الصَّلَاةَ يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1253 - (وَعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ) : قَالَ فِي الْكَاشِفِ: هُوَ ثِقَةٌ. (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ) : قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ شَهِيرَةٌ (لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ) ، أَيْ بِعِبَادَةِ رَبِّي وَمُنَاجَاتِهِ، وَلَذَّةِ قِرَاءَةِ آيَاتِهِ. (فَكَأَنَّهُمْ) ، أَيْ بَعْضَ الْحَاضِرِينَ الْغَائِبِينَ عَنْ مَعْنَى الْحُضُورِ (عَابُوا ذَلِكَ) ، أَيْ تَمَنِّيهِ الِاسْتِرَاحَةَ (عَلَيْهِ) : حَيْثُ كَانَ ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ مُحْتَمِلَةً لِلِاسْتِرَاحَةِ بِهَا أَوْ مِنْهَا لِغَفْلَتِهِمْ عَنْهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ عَابُوا تَمَنِّيَهُ الِاسْتِرَاحَةَ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ وَثَقِيلَةٌ عَلَيْهَا، وَلَعَلَّهُمْ نَسُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] . (فَقَالَ) ، أَيِ: الرَّجُلُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَقِمِ الصَّلَاةَ يَا بِلَالُ! أَرِحْنَا بِهَا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ أَرِحْنَا بِأَدَائِهَا مِنْ شُغْلِ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: كَانَ اشْتِغَالُهُ بِالصَّلَاةِ رَاحَةً لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَعُدُّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ تَعَبًا، وَكَانَ يَسْتَرِيحُ بِالصَّلَاةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُنَاجَاةِ، وَلِذَا قَالَ: " «وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» " قُلْتُ: هَذَا الْقِيلُ هُوَ الْقَوْلُ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ قَبِيلِ قَالَ وَقِيلَ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ لَيْسَ مُرَادًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَرِحْنَا بِالدُّخُولِ فِيهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

[باب الوتر]

[بَابُ الْوَتْرِ]

[35] بَابُ الْوَتْرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1254 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ ; صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [35] بَابُ الْوَتْرِ أَيْ: صَلَاةُ الْوَتْرِ: وَبَيَانُ وَقْتِهِ وَعَدَدِ رَكَعَاتِهِ، وَكَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ سُنَّةً. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1254 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَلَاةُ اللَّيْلِ ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (" مَثْنَى ") : بِلَا تَنْوِينٍ لِعَدَمِ انْصِرَافِهِ لِلْعَدْلِ وَالْوَصْفِ عَلَى مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، أَيْ: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي نَافِلَةِ اللَّيْلِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ (" مَثْنَى ") : تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (" فَإِذَا خَشِيَ ") ، أَيْ: خَافَ (" أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ ") ، أَيْ: طُلُوعَهُ وَظُهُورَهُ (" صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ ") ، أَيْ: تِلْكَ الرَّكْعَةُ. وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ، وَلَوْ كَانَ مُرْسَلًا إِذِ الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ وَهُوَ مَوْقُوفٌ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَلَا يُوجَدُ مَعَ الْخَصْمِ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ رَكْعَةٍ مُفْرَدَةٍ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ، فَيُئَوَّلُ مَا وَرَدَ مِنْ مُحْمَلَاتِ الْأَحَادِيثِ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ: صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِيتَارِ بِوَاحِدَةٍ. رَدَّهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ ذَلِكَ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ هَذَا غَفْلَةٌ مِنْهُ، مُجَرَّدُ دَعْوَى فَلَا تُقْبَلُ، وَلِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِكَرَاهَةِ الْإِيتَارِ بِرَكْعَةٍ، وَجَوَابُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا لَا أَنَّ فِعْلَهَا لَا ثَوَابَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ; إِذْ لَوْ ثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْإِيتَارُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ، خُصُوصًا عَلَى مُقْتَضَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا وَرَدَ عَنْهُ نَهْيٌ مَقْصُودٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ صَحِيحٌ. (" لَهُ ") ، أَيْ: لِأَحَدِكُمْ (" مَا قَدْ صَلَّى ") ، أَيْ: مِنَ الشَّفْعِ السَّابِقِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ تَجْعَلُ هَذِهِ الرَّكْعَةَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا فِي اللَّيْلِ وَتْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَفْعًا، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: الْوَتْرُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ نَحْوَ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ أَمْرُ الْوَتْرِ، قَالَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. وَهَذَا جَوَابٌ تَسْلِيمِيٌّ فَإِنَّهُ قَالَ أَيْضًا: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَتْرَ وَاحِدَةٌ بِتَحْرِيمَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِيُحْتَاجَ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِجَوَابِهِ ; إِذْ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ كَوْنِهِ إِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً مُتَّصِلَةً، فَأَنَّى يُقَاوِمُ الصُّرَاحَ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا، وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ تَرَكْنَاهُ لِحَالِ الطُّولِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مَعْنَاهُ صَلَّى رَكْعَةً مَعَ ثِنْتَيْنِ قَبْلَهَا، وَمَذْهَبُنَا قَوِيٌّ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ ; لِأَنَّ الْوَتْرَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فَرْضًا أَوْ سُنَّةً فَإِنْ كَانَ فَرْضًا، فَالْفَرْضُ لَيْسَ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَتْرَ لَا يَكُونُ ثِنْتَيْنِ وَلَا أَرْبَعًا، فَيَثْبُتُ أَنَّهُ ثَلَاثٌ، وَإِنْ كَانَ سُنَّةً فَلَمْ نَجِدْ سُنَّةً إِلَّا وَلَهَا مِثْلٌ فِي الْفَرْضِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ كَهَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ السَّابِقِ يُسَلِّمُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، فَلَا يُرَاعَى خِلَافُهُ حِينَئِذٍ، وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الدَّلِيلَ مَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَخَبَرُ الْوَتْرِ ثَلَاثٌ كَوَتْرِ النَّهَارِ الْمَغْرِبِ. لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قُلْتُ: لَوْ سُلِّمَ عَدَمُ صِحَّةِ الْمَرْفُوعِ، فَهَذَا الْمَوْقُوفُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ قَالَ: وَخَبَرُ كَانَ لَا يُسَلَّمُ فِي رَكْعَتَيِ الْوَتْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. قُلْتُ: يَأْبَى عَنْ ذَلِكَ (كَانَ) الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ لُغَةً أَوْ عُرْفًا، وَأَيْضًا هَذَا مَنْطُوقٌ صَرِيحٌ، فَيُئَوَّلُ بِمَا يُوَافِقُهُ كُلُّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ. وَمِنْ أَعْجَبِ الْعُجَابِ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَرِهَ وَصْلَ الثَّلَاثِ، وَبِهِ أَفْتَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَخْذًا مِنْ حَدِيثٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ صَحِيحٌ: «لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ وَأَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ، وَلَا تُشَبِّهُوا الْوَتْرَ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ» ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ لِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى الْوَتْرَ ثَلَاثًا مَوْصُولًا، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ التَّنْزِيهِيُّ عَنِ الِاقْتِصَارِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: «أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ» لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الثَّلَاثِ وَعَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْخَمْسِ وَالسَّبْعِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا تُشَبِّهُوا الْوَتْرَ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ» "، أَيْ: فِي أَنَّهُ لَا يَسْبِقُهُ صَلَاةٌ، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ بِلَا قُنُوتٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.

1255 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْوَتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» ". رَوَاهَ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1255 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْوَتْرُ رَكْعَةٌ ") ، أَيْ: مُنْضَمَّةٌ بِشَفْعٍ قَبْلَهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ الشَّفْعَ يُوتَرُ بِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ مُنْشَأَةٌ (" مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ") : يَعْنِي: آخِرُ وَقْتِهَا آخِرُ اللَّيْلِ، أَوْ وَقْتُهَا الْمُخْتَارُ بَعْضُ أَجْزَاءِ آخِرِ اللَّيْلِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ.

1256 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي آخِرِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1256 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) ، أَيْ: بَعْضَهُ كَمَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ثَمَانِ رَكَعَاتٍ مِنْهَا بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: بِأَرْبَعِ تَسْلِيمَاتٍ. اهـ. وَيُمْكِنُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ وَأَرْبَعًا بِتَسْلِيمَتَيْنِ بَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ وَإِحَاطَةً بِالْفَضِيلَتَيْنِ. (يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ) ، أَيْ: مِنْ مَجْمُوعِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنَ الثَلَاثَ عَشْرَةَ ثِنْتَانِ حَقِيقَتَانِ، وَالْإِحْدَى عَشْرَةَ وَتْرٌ يُصَلِّي سِتًّا مِنْهَا مَفْصُولَةً، وَيُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ الْإِحْدَى عَشْرَةَ. اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لَرَجْعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْأَصْلِ. (بِخَمْسٍ) ، أَيْ: يُصَلِّي خَمْسَ رَكَعَاتٍ بِنِيَّةِ الْوَتْرِ (لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ) ، أَيْ: لِلتَّشَهُّدِ (إِلَّا فِي آخِرِهَا) . وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ جَوَازُ وَصْلِ الْخَمْسِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَتْرَ كَانَ أَوَّلًا خَمْسَةً، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. اهـ. وَقَدْ يُقَالُ الْمَعْنَى لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ لِلسَّلَامِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الرَّكَعَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْحَالَاتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1257 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ ; فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ. قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ وَتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ، وَيَحْمَدُهُ، وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ، وَلَا يُسَلِّمُ، فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ، فَلَمَّا أَسَنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ اللَّحْمَ، أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ فِي الْأُولَى، فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ. وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1257 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ، قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: انْطَلَقْتُ) ، أَيْ: ذَهَبْتُ (إِلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي) ، أَيْ: أَخْبِرِينِي (عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ) : بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ طَبْعِهِ وَمُرُوَّتِهِ (قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ) ، أَيْ: كَانَ خُلُقُهُ جَمِيعَ مَا فُصِّلَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَحَلِّيًا بِهِ، وَقِيلَ: تَعْنِي كَانَ خُلُقُهُ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَّى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] تَعْنِي أَنَّ الْعَظِيمَ إِذَا عَظَّمَ أَمْرًا لَمْ يُقَدِّرْ أَحَدٌ قَدْرَهُ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ طَوْرَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْإِحْيَاءِ: أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا كَانَ خُلُقُهُ - الْقُرْآنَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَتَحْصِيلِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ. (قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي) ، أَيْ: حَدِّثِينِي (عَنْ وَتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: عَنْ وَقْتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَعَدَدِ رَكَعَاتِهِ (فَقَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ) : مِنَ الْإِعْدَادِ، أَيْ نُهَيِّئُ (لَهُ) ، أَيْ: لِأَجْلِهِ (سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ) : بِالْفَتْحِ، أَيْ: مَاءَ وُضُوئِهِ (فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ) ، أَيْ: يُوقِظُهُ (مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ) ، أَيْ: فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي شَاءَ بَعْثَهُ فِيهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " مَا " مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَا شَاءَ فِيهِ بِمَعْنَى الْمِقْدَارِ، وَقَوْلُهُ: (مِنَ اللَّيْلِ) : بَيَانِيَّةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِهِ

(فَيَتَسَوَّكُ) : أَوَّلًا (وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ) ، أَيْ: يَقْرَأُ التَّشَهُّدَ. (وَيَحْمَدُهُ) ، أَيْ: يُثْنِي عَلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ يَتَشَهَّدُ، فَالْحَمْدُ إِذًا لِمُطْلَقِ الثَّنَاءِ إِذْ لَيْسَ فِي التَّحِيَّاتِ لَفْظُ الْحَمْدِ (وَيَدْعُوهُ) ، أَيِ: الدُّعَاءُ الْمُتَعَارَفُ (ثُمَّ يَنْهَضُ، وَلَا يُسَلِّمُ، فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ، وَيَحْمَدُهُ، وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا) : مِنَ الْإِسْمَاعِ، أَيْ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ بِحَيْثُ نَسْمَعُهُ، (ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ) : ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. " «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وَتْرًا» " وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْفِعْلِيَّةِ. وَفِي شَرْحِ الطَّيِّبِيِّ قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَفْعَلُهُمَا وَلَا أَمْنَعُ فِعْلَهُمَا. وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ فَعَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا لِبَيَانِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَتْرِ، وَبَيَانِ جَوَازِ النَّفْلِ جَالِسًا، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا رَدُّ الْقَاضِي عِيَاضٍ رِوَايَةَ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَيْسَ بِصَوَابٍ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ إِذَا صَحَّتْ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا تَعَيَّنَ، وَقَدْ جَمَعْنَا ثُمَّ قَالَ: وَلَا تَغْتَرَّ بِمَنْ يَعْتَقِدُ سُنِّيَّةَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ لِجَهَالَتِهِ وَعَدَمِ أُنْسِهِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمُسَافِرُ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ الْأَمْرَ بِالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوَتْرِ لِمُسَافِرٍ خَافَ أَنْ لَا يَسْتَيْقِظَ لِلتَّهَجُّدِ، ثُمَّ رَوَى عَنْ ثَوْبَانَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا السَّفَرَ جُهْدٌ وَثِقَلٌ، فَإِذَا أَوْتَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ وَإِلَّا كَانَتَا لَهُ» ". (فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَيُكْسَرُ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] (يَا بُنَيَّ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَسْرِهَا (فَلَمَّا أَسَنَّ) ، أَيْ: كَبِرَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ اللَّحْمَ) : قِيلَ، أَيِ السِّمَنَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ ضَعُفَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّمَا كَانَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِنَحْوِ سَنَةٍ. (أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ فِي الْأُولَى) : يَعْنِي: صَلَّاهُمَا قَاعِدًا كَمَا كَانَ يَصْنَعُ قَبْلَ أَنْ يَسَنَّ، (فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ، وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً) : وَكَذَا كُلُّ عِبَادَةٍ (أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا) : وَإِنَّمَا كَانَ يَتْرُكُهَا أَحْيَانًا لِعُذْرٍ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهَذَا يَدُلُّ مِنْهَا عَلَى مُوَاظَبَةِ الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ تَأْوِيلُ النَّوَوِيِّ بِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلَعَلَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا لِهَذَا رَدَّ رِوَايَةَ الرَّكْعَتَيْنِ حَيْثُ تُعَارِضُ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ عَلَى عَدَمِ مُوَاظَبَتِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ) ، أَيْ: مَنَعَهُ مَرَضٌ أَوْ أَلَمٌ (عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، صَلَّى بِالنَّهَارِ) ، أَيْ: فِي أَوَّلِهِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ لِمَا تَقَدَّمَ (ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ) ، أَيْ: دَائِمًا فَلَا يُرَادُ أَنَّهُ وَرَدَ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَإِنْ بَيِّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ بَابِ نَفْيِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ لَازِمِهِ دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُتَرَقِّبَةً أَحْوَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا وَحُضُورَهَا وَغَيْبَتَهَا، أَيْ: لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ إِذْ لَوْ كَانَ لَعَلِمْتُهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا مِمَّنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهُ تَمَكُّنًا تَامًّا، وَمِنْ ثَمَّ اطَّرَدَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] ، أَيْ: لَمْ يُوجَدْ وَإِلَّا تَعَلَّقُ عِلْمُ اللَّهِ بِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

1258 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وَتْرًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1258 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (" اجْعَلُوا ") : أَمْرُ نَدْبٍ (" آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وَتْرًا ") : رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

1259 - وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «بَادِرُوا الصُّبْحَ بِالْوَتْرِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1259 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (" بَادِرُوا الصُّبْحَ بِالْوَتْرِ ") ، أَيْ: أَسْرِعُوا بِأَدَاءِ الْوَتْرِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَنَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قِيلَ: لَا وَتْرَ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَقْضِيهِ مَتَى كَانَ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَامَ عَنْ وَتْرٍ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ الْوَتْرِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُصَلِّي صَاحِبَ تَرْتِيبٍ وَصَلَّى الصُّبْحَ قَبْلَ الْوَتْرِ ذَاكِرًا لَمْ يَصِحَّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَحْمَدُ.

1260 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1260 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ " مِنْ " فِيهِ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ بِمَعْنَى فِي (" فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ ") ، أَيْ: لِيُصَلِّ الْوَتْرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَأَمْرُهُ بِالْإِتْيَانِ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوْتِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ. (" وَمِنْ طَمَعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: فِي آخِرِهِ بِأَنْ يَثِقَ بِالِانْتِبَاهِ (" فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ ") ، أَيْ: مَحْضُورَةٌ تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ يَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَنْزِلُ هَؤُلَاءِ وَيَصْعَدُ هَؤُلَاءِ، فَهُوَ آخِرُ دِيوَانِ اللَّيْلِ، وَأَوَّلُ دِيوَانِ النَّهَارِ، أَوْ يَشْهَدُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ فِي الْعَادَةِ. (" وَذَلِكَ ") ، أَيِ: الْإِيتَارُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: أَيِ: الْإِيتَارُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ. مُحْتَجًّا بِأَنَّ (ذَلِكَ) إِنَّمَا يُشَارُ بِهَا لِلْبَعِيدِ ; لِأَنَّهُ يُشَارُ بِهَا لِلْقَرِيبِ أَيْضًا إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ مَنْزِلَتِهِ كَمَا فِي: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] . (" أَفْضَلُ ") : فَثَوَابُهُ أَكْمَلُ لِحُضُورِ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلِوُقُوعِهِ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ مِنَ الْأَسْحَارِ وَمُشَارَكَتِهِ مَعَ الْقَائِمِينَ الْأَبْرَارِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1261 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «مِنْ كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، وَانْتَهَى وَتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1261 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: " مِنْ " ابْتِدَائِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: (أَوْتَرَ) ، أَيْ: أَوْتَرَ مِنْ كُلِّ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: " مِنْ ". بِمَعْنَى " فِي "، أَيْ: فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ أَوْتَرَ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَقَوْلُهَا: (مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، وَالْمُرَادُ أَجْزَاءُ كُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْأَقْسَامِ الْمُسْتَغْرِقَةِ لِلَّيْلِ فَسَاوَتْ مَا قَبْلَهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: (مِنْ) الْأُولَى تَبْعِيضِيَّةٌ، وَ (مِنْ) الثَّانِيَةُ بَدَلٌ مِنْهَا، أَوْ بَيَانٌ بِمَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ (وَانْتَهَى وَتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ) ، أَيْ: ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ لَهُ الْوَتْرُ وَقْتَ السَّحَرِ وَهُوَ السُّدُسُ الْآخِرُ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى مَا فِي الْكَشَّافِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ كَانَ غَالِبَ فِعْلِهِ لَهُ حِينَئِذٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا رِوَايَاتٌ أُخَرُ، وَإِنَّمَا حَمَلْتُهُ عَلَى هَذَا لِيُفِيدَ فَائِدَةً لَا تُعْلَمُ مِنْ سَابِقِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَآخِرِهِ. اهـ. وَظَاهِرٌ أَنَّ السَّحَرَ لَا يُنَافِي آخِرَهُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السُّدُسُ الْآخِرُ، وَهُوَ يَشْمَلُ أَوَّلَ السَّحَرِ وَآخِرَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1262 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1262 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَوْصَانِي) ، أَيْ: عَهِدَ إِلَيَّ وَأَمَرَنِي أَمْرًا مُؤَكَّدًا (خَلِيلِي) : يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِثَلَاثٍ) ، أَيْ: خِصَالٍ (صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) ، أَيِ: الثَّالِثِ عَشَرَ، وَالرَّابِعِ عَشَرَ، وَالْخَامِسِ عَشَرَ، (مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) : يَعْنِي أَيَّامَ الْبِيضِ، وَقِيلَ يَوْمًا مِنْ أَوَّلِهِ، وَيَوْمًا مِنْ وَسَطِهِ، وَيَوْمًا مِنْ آخِرِهِ، وَقِيلَ: كُلُّ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ عَشْرٍ، وَقِيلَ مُطْلَقًا (وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى) : وَهِيَ أَقَلُّ صَلَاتِهِ (وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: وَالْوَتْرُ قَبْلَ النَّوْمِ لِيُنَاسِبَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ، فَأَتَى بِأَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَأَبْرَزَ الْفِعْلَ وَجَعَلَهُ فَاعِلًا اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِهِ لَمَّا خَافَ الْفَوْتَ أَنْ يَنَامَ عَنْهُ، وَإِلَّا فَالْوَتْرُ آخِرَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ سَبَبُهُ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَشْتَغِلُ أَوَّلَ لَيْلِهِ بِاسْتِحْضَارِهِ لِمَحْفُوظَاتِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَمْ يُسَايِرْهُ فِي حِفْظِ مِثْلِهَا أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ يَمْضِي عَلَيْهِ جُزْءٌ كَبِيرٌ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَلَمْ يَكَدْ يَطْمَعُ فِي اسْتِيقَاظِ آخِرِهِ، فَأَمَرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتَقْدِيمِ الْوَتْرِ لِذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ بِمَا هُوَ أَوْلَى. اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ آخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1263 - عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَرَأَيْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ أَمْ فِي آخِرِهِ؟ قَالَتْ، رُبَّمَا اغْتَسَلَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ فِي آخِرِهِ. قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً، قُلْتُ: كَانَ يُوتِرُ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَمْ فِي آخِرِهِ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا أَوْتَرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا أَوْتَرَ فِي آخِرِهِ. قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً، قُلْتُ: كَانَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ أَمْ يَخْفُتُ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا جَهَرَ بِهِ، وَرُبَّمَا خَفَتَ. قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1263 - (عَنْ غُضَيْفٍ) : بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَآخِرُهُ فَاءٌ، وَيُقَالُ غُطَيْفٌ بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنِ الْحَارِثِ) : ابْنُ زُنَيْمٍ بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ النُّونِ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ غُضَيْفٍ فَأَثْبَتَ صُحْبَتَهُ وَغُطَيْفٍ فَقَالَ: إِنَّهُ تَابِعِيٌّ وَهُوَ أَشْبَهُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: غُضَيْفٌ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ. (قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَرَأَيْتِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ، أَيْ: أَخْبِرِينِي، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، سَوَاءً كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً أَوْ عِلْمِيَّةً، أَيْ: هَلْ رَأَيْتِ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ) ، أَيْ: دَائِمًا (أَمْ فِي آخِرِهِ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا اغْتَسَلَ) ، أَيْ: جَامَعَ وَاغْتَسَلَ وَفِي إِضْمَارِهِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى. (فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ فِي آخِرِهِ) ، أَيْ: جَامَعَ أَوَّلَهُ وَاغْتَسَلَ آخِرَهُ وَرُبَّ لِلتَّكْثِيرِ فِيهِمَا أَوْ لِلتَّكْثِيرِ فِي الْأَوَّلِ، وَالتَّقْلِيلِ فِي الْآخَرِ بِحَسَبِ مَا رَأَى فِيهِ مِنَ النَّشَاطِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. (فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ) :، قَالَهُ تَعَجُّبًا وَفَرَحًا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ) ، أَيْ: أَمْرِ الشَّرْعِ (سَعَةً) : بِالْفَتْحِ، أَيْ وُسْعَةً وَتَسْهِيلًا وَتَيْسِيرًا قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ السَّعَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّكَالِيفِ نِعْمَةٌ يَجِبُ تَلَقِّيهَا بِالشُّكْرِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ دَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ عَظِيمَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ. (قُلْتُ: كَانَ) ، أَيْ: أَكَانَ (يُوتِرُ أَوَّلَ اللَّيْلِ) ، أَيْ: فِي أَوَّلِهِ (أَمْ فِي آخِرِهِ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا أَوْتَرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ) : وَهُوَ الْقَلِيلُ الْأَسْهَلُ (وَرُبَّمَا أَوْتَرَ فِي آخِرِهِ) : وَهُوَ الْكَثِيرُ الْأَفْضَلُ بِحَسَبِ مَا رَأَى فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَقْتِ. (قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً، قُلْتُ: كَانَ يَجْهَرُ) ، أَيْ: فِي اللَّيْلِ (بِالْقِرَاءَةِ أَمْ يَخْفُتُ؟) ، أَيْ: يُسِرُّ بِهَا (قَالَتْ: رُبَّمَا جَهَرَ بِهِ) ، أَيْ: فِي اللَّيْلِ (وَرُبَّمَا خَفَتَ) ، أَيْ: فِي لَيْلَتَيْنِ، أَوْ فِي لَيْلَةٍ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ وَالْحَالَ. (قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيِ: الْفُصُولَ الثَّلَاثَةَ، قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مُقْتَصِرًا عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ) أَيِ: الْفِقْرَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْ فِقْرَاتِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْتُ: كَانَ يَجْهَرُ إِلَخْ.

1264 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ: بِكَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُوتِرُ؟ قَالَتْ: كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ، وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ، وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ، وَعَشْرٍ وَثَلَاثٍ، وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَنْقَصَ مِنْ سَبْعٍ، وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1264 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ) : تَابِعِيٌّ: (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: بِكَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ؟) ، أَيْ: بِكَمْ رَكْعَةٍ كَانَ يَجْعَلُ صَلَاتَهُ وَتْرًا أَوْ بِكَمْ كَانَ يُصَلِّي الْوَتْرَ؟ (قَالَتْ: كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ) : بِتَسْلِيمَةٍ أَوْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ (أَوْ ثَلَاثٍ) ، أَيْ: بِتَسْلِيمَةٍ كَمَا فِي الْمَفَاتِيحِ فَيَكُونُ سَبْعًا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (وَسِتٍّ) ، أَيْ: وَبِسِتٍّ بِتَسْلِيمَتَيْنِ أَوْ بِثَلَاثٍ (وَثَلَاثٍ) : فَيَكُونُ تِسْعًا (وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ) : فَيَكُونُ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً (وَعَشْرٍ وَثَلَاثٍ) : فَيَكُونُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي إِتْيَانِهَا بِثَلَاثٍ فِي كُلِّ عَدَدِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ بِأَنَّ الْوَتْرَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الثَّلَاثُ، وَمَا وَقَعَ قَبْلَهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الْمُسَمَّى بِصَلَاتِهِ التَّهَجُّدَ فَإِطْلَاقُ الْوَتْرِ عَلَى الْكُلِّ مَجَازٌ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: " «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وَتْرًا» " (وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَنْقَصَ مِنْ سَبْعٍ، وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ) ، أَيْ: غَالِبًا وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ مَا كَانَ يَحْصُلُ مِنَ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ، أَوْ طُولِ الْقِرَاءَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَوْ مِنْ نَوْمٍ أَوْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ كِبَرِ السِّنِّ. قَالَتْ: فَلَمَّا أَسَنَّ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ غَيْرَهَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ يُضَعِّفْهُ هُوَ وَلَا الْمُنْذِرِيُّ.

1265 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْوَتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1265 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْوَتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَقُّ يَجِيءُ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَالْوُجُوبِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى الثَّانِي، وَالشَّافِعِيُّ إِلَى الْأَوَّلِ، أَيْ: ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ وَالسُّنَّةِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَأْكِيدٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أُخِذَ مِنْهُ وَمِنَ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: " «أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» " [وَرَجَّحَ] أَبُو حَنِيفَةَ وُجُوبَ الْوَتْرِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى وُجُوبِهِ أَحَدٌ. قُلْتُ: الْمُوَافَقَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَمَّا خَبَرُ: " «إِنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَحَافِظُوا عَلَيْهَا وَهِيَ الْوَتْرُ» " فَضَعِيفٌ. قُلْتُ: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَكُونُ مُقَوِّيًا لِلْمَقْصُودِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَضُرُّنَا ضَعْفُهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ الْغَالِبِ أَنَّ الضَّعْفَ إِنَّمَا نَشَأَ فِي رِجَالِ السَّنَدِ بَعْدَ الْمُجْتَهِدِ. (" فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ ") : بِأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّيَ ثَلَاثًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُخَالِفُهُ أَحَدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجْلِسَ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. (" وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ ") ، أَيْ: بِتَسْلِيمَةٍ كَمَا عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ عِنْدَ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ عِنْدَهُمْ فِي التَّفْضِيلِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْخِلَافُ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الثَّلَاثِ، أَمَّا مَا زَادَ عَلَيْهَا فَالْفَصْلُ فِيهِ أَفْضَلُ قَطْعًا، أَيْ: وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُهُ عَنِ الْمَوْصُولِ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَفْضَلَ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةِ الْفَصْلِ، وَالثَّانِي أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةِ الْعَدَدِ، أَوْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (" فَلْيَفْعَلْ ") : وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ صَحَّ حَدِيثُ: " «لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ وَأَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَلَا تُشَبِّهُوا الْوَتْرَ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ» " فَالْجَمْعُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ عَلَى الِاقْتِصَارِ بِثَلَاثٍ الْمُتَضَمِّنِ لِتَرْكِ صَلَاةِ اللَّيْلِ الْمُقْتَضِي لِلِاكْتِفَاءِ بِمُجَرَّدِ الْوَاجِبِ كَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ ") . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْوَتْرِ رَكْعَةٌ، وَأَنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ صَحِيحَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ الْإِيتَارُ بِوَاحِدَةٍ، وَلَا تَكُونُ الرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ صَلَاةً، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِ. اهـ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ: التَّمَسُّكُ فِي وُجُوبِ الْوَتْرِ بِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْمُنِيبِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَتَكِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْوَتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي، الْوَتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي، الْوَتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ أَبُو الْمُنِيبِ: ثِقَةٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ أَيْضًا،

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَأَنْكَرَ عَلَى الْبُخَارِيِّ إِدْخَالَهُ فِي الضُّعَفَاءِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا بَأْسَ بِهِ، فَالْحَدِيثُ حَسَنٌ. وَرَوَى الْبَزَّارُ مَرْفُوعًا: " «الْوَتْرُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ". فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ لِلنَّدْبِ وَالْحَقُّ هُوَ الثَّابِتُ، وَكَذَا الْوَاجِبُ لُغَةً وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ وَلِقِيَامِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فَمَا أَخْرَجُهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَمَا أَخْرَجَاهُ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: " «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» "، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَكَانَ بَعْثُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مُعَاذٌ مِنَ الْيَمَنِ، وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَامَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ، فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنَ الْقَابِلَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: " خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْوَتْرُ» ، هَذِهِ أَحْسَنُ مَا يُعَارَضُ لَهُمْ بِهِ، وَلَهُمْ غَيْرُهَا مِمَّا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ عَدَمِ تَمَامِ دَلَالَةٍ. وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ لِلْوُجُوبِ إِلَى اللُّغَوِيِّ فَمَا فِي السُّنَنِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «الْوَتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيُوتِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيُوتِرْ» " وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا، وَجْهُ الْقَرِينَةِ أَنَّهُ حَكَمَ بِالْوُجُوبِ، ثُمَّ خَيَّرَ فِيهِ بَيْنَ خِصَالٍ. إِحْدَاهَا: أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ كُلُّ خَصْلَةٍ يُخْبِرُ فِيهَا تَقَعُ وَاجِبَةً عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْخَمْسِ، فَلَزِمَ صَرْفُهُ إِلَى مَا قُلْنَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ، أَيْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَةِ أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَيَجُوزُ كَوْنُ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ يُصَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ لِعُذْرِ الطِّينِ وَالْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِهِ ; لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَمْ يُقَارِنْ وُجُوبَ الْخَمْسِ بَلْ مُتَأَخِّرٌ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنْزِلُ لِلْوَتَرِ» . وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ نَافِعٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُوتِرُ بِالْأَرْضِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ» . فَدَلَّ أَنَّ وَتْرَهُ ذَلِكَ كَانَ إِمَّا حَالَةَ عَدَمِ وُجُوبِهِ بِهِ أَوْ لِلْعُذْرِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ بَعْدَ سَفَرِهِ، وَعَنِ الثَّالِثِ: كَالْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، أَوِ الْمُرَادُ الْمَجْمُوعُ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ الْمُخْتَتَمَةِ بِوَتَرٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَجَلِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: " «خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ» ". وَعَنِ الْقَرِينَةِ الْمُدَّعَاةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ أَمْرُ الْوَتْرِ، فَيَجُوزُ كَوْنُهُ أَوَّلًا كَانَ كَذَلِكَ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا فِي آخِرِهَا» ، فَدَلَّ أَنَّ الْوَتْرَ أَوَّلًا كَانَ خَمْسَةً، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ يُفِيدُ خِلَافَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «لَا تُوتِرْ بِثَلَاثٍ أَوْتِرْ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ» " وَالْإِيتَارُ بِثَلَاثٍ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ أَمْرُ الْوَتْرِ، وَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يُؤَكِّدُ مُقْتَضَاهُ مِنَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " «فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي» " مُؤَكَّدًا بِالتَّكْرَارِ ثَلَاثًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. تَمَّ كَلَامُهُ. وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ بِأَسَانِيدَ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الْوَتْرُ حَقٌّ فَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ» " ثُمَّ قَالَ: فَلَوْلَا الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ هَذَا لَكَانَ جَائِزًا أَنْ يُقَالَ: مَنْ أَوْتَرَ يُخَيَّرُ فِي وَتْرِهِ كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَرِ، فَدَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِ هَذَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَنَقَلَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَسَنَدُ أَبِي دَاوُدَ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَأَقَرَّهُمَا النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ، فَقَوْلُ الذَّهَبِيِّ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ الْقَطَّانِ الرَّفْعَ، وَقَالَ: لَا حَفِظَ مَنْ لَمْ يَحْفَظْهُ. قُلْتُ: حَيْثُ اخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْإِيتَارِ بِوَاحِدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْبَحْثُ وَمَرَّ عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ ذَلِكَ.

1266 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1266 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ فَلَا شَبَهَ لَهُ، وَلَا مِثْلَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ فَلَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا مُعِينَ (" يُحِبُّ الْوَتْرَ ") ، أَيْ: يُثِيبُ عَلَيْهِ وَيَقْبَلُهُ مِنْ عَامِلِهِ، قَالَ الْقَاضِي: كُلُّ مَا يُنَاسِبُ الشَّيْءَ أَدْنَى مُنَاسَبَةٍ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تِلْكَ الْمُنَاسَبَةُ. اهـ. فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ أَنَّهُ يُحِبُّ الْوَتْرَ، أَيِ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُنْقَطِعَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَ بِعِبَادَةِ مَوْلَاهُ. (" فَأَوْتِرُوا ") ، أَيْ: صَلُّوا الْوَتْرَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْفَاءُ تُؤْذِنُ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْوَتْرَ فَأَوْتِرُوا. انْتَهَى. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ (" يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ ") ، أَيْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِهِ، فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ قَرَأَ أَوْ لَمْ يَقْرَأْ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْمَلُ مِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ أَوْ حَفِظَ وَعَلِمَ وَعَمِلَ مِمَّنْ تَوَلَّى قِيَامَ تِلَاوَتِهِ وَمُرَاعَاةَ حُدُودِهِ وَأَحْكَامِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَكُونُوا فِي ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيثَارِ مَحَابِّهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ لَعَلَّ تَخْصِيصَ أَهْلِ الْقُرْآنِ فِي مَقَامِ الْقُرْآنِيَّةِ لِأَجْلِ أَنَّ الْقُرْآنَ مَا أُنْزِلَ إِلَّا لِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَقَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا.

1267 - وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ: الْوَتْرُ جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1267 - (وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ) : بِضَمِّ الْحَاءِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ تَقْدِيمُ حُذَافَةَ عَلَى خَارِجَةَ هُوَ سَهْوُ قَلَمٍ (قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (" إِنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ ") ، أَيْ: جَعَلَهَا زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ مِنْ مَدَّ الْجَيْشَ وَأَمَدَّهُ، أَيْ زَادَهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَزِيدِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: زَادَكُمْ كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (" بِصَلَاةٍ ") : قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: الْإِمْدَادُ اتِّبَاعُ الثَّانِي الْأَوَّلَ تَقْوِيَةً لَهُ وَتَأْكِيدًا لَهُ مِنَ الْمَدَدِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أَمَرَكُمْ بِالرَّاءِ بِصَلَاةٍ (" هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ") : الْحُمْرُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ جَمْعُ الْأَحْمَرِ، وَالنَّعَمُ هُنَا الْإِبِلُ إِضَافَةُ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِلْعَرَبِ فِيهَا ; لِأَنَّ حُمْرَ النَّعَمِ أَعَزُّ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ، فَكَانَتْ كِنَايَةً عَنْ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا ; لِأَنَّهَا ذَخِيرَةُ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (" الْوَتْرِ ") : بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنْ صَلَاةٍ وَبِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِتَقْدِيرِ هِيَ الْوَتْرُ، وَجَوَّزَ النَّصْبَ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي وَالْجَرَّ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ هُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَمِنْ حَدِيثِ: " «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " وَهُوَ الْمُرَجَّحُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ هُنَا فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَمَّا ذَكَرْنَا إِلَى مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَيَصِحُّ جَرُّ الْوَتْرِ بَدَلًا (" جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ ") ، أَيْ وَقْتَ الْوَتْرِ (" فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى فَرْضِ الْعِشَاءِ (" إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ ") : وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ جَوَازُ تَقْدِيمِ الْوَتْرِ عَلَى فَرْضِ الْعِشَاءِ، مَعَ أَنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ بَعْدَ كَمَالِ الْمَزِيدِ فِيهِ وَهُوَ بِأَدَاءِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ. اهـ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لِإِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. وَعَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ زَادَكُمْ صَلَاةً

فَصَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ الْوَتْرَ الْوَتْرَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَحَدُ إِسْنَادَيْ أَحْمَدَ رُوَاتُهُ رَوَاةُ الصَّحِيحِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَغَيْرِهِمْ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَاعْتَرَضَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ ضَعْفًا. وَبِتَسْلِيمِهِ فَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ ; لِأَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوَتْرِ مَا ذُكِرَ، قُلْتُ: وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَأَقَلُّ مَرْتَبَتِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا، وَبِهِ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَتْرِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ لِتَفَرُّدِ التَّابِعِيِّ عَنِ الصَّحَابِيِّ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: غَرِيبٌ. لَا يُنَافِي الصِّحَّةَ لِمَا عُرِفَ، وَلِذَا يَقُولُ مِرَارًا فِي كِتَابِهِ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّهُ أَعَلَّهُ بِقَوْلِهِ: لَا يُعَرَفُ سَمَاعُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ مِنْ بَعْضٍ، فَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِهِ الْعِلْمَ بِاللُّقِيِّ، وَالصَّحِيحُ الِاكْتِفَاءُ بِإِمْكَانِ اللُّقِيِّ، ثُمَّ قَالَ: فَتَمَّ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ فِي الصِّحَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَانَ فِي كَثْرَةِ طُرُقِهِ الْمُضَعَّفَةِ ارْتِفَاعٌ لَهُ إِلَى الْحَسَنِ، بَلْ بَعْضُهَا حُجَّةٌ.

1268 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ نَامَ عَنْ وَتْرِهِ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1268 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) : تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ. قِيلَ: وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ وَهُوَ مَوْلَى عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" مَنْ نَامَ عَنْ وَتْرِهِ فَلْيُصَلِّ ") ، أَيْ: قَضَاءً (" إِذَا أَصْبَحَ ") : يَعْنِي قَبْلَ فَرْضِ الصُّبْحِ إِذَا كَانَ صَاحِبَ تَرْتِيبٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَبَعْدَهُ وَلَوْ آخِرَ الْعُمُرِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ فَلْيَقْضِ الْوَتْرَ بَعْدَ الصُّبْحِ مَتَى اتَّفَقَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: لَا يَقْضِي الْوَتْرَ بَعْدَ الصُّبْحِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا) : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَغَرَّ الْمَدَنِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، قُلْتُ: الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا إِذَا اعْتَضَدَ بِشَاهِدٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّ هَذَا الْمُرْسَلَ مَقُولًا لِأَنَّ الْحُجَّةَ وَحْدَهُ، غَفْلَةٌ عَنِ اعْتِضَادِهِ.

1269 - وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «سَأَلْنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُوتِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: " كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَفَى الثَّالِثَةِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1269 - (وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ) : تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (ابْنُ جُرَيْجٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ الْأَوَّلِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ (قَالَ: سَأَلْنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِأَيِّ شَيْءٍ) ، أَيْ: مِنَ السُّورِ (كَانَ يُوتِرُ) ، أَيْ: يُصَلِّي الْوَتْرَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) : وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ تَعْبِيرِ ابْنِ حَجَرٍ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يَقْرَأُ فِي وَتْرِهِ؟ (قَالَتْ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى) ، أَيْ: مِنَ الثَّلَاثَةِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، أَيْ: بَعْدَ الْفَاتِحَةِ (وَفِي الثَّانِيَةِ: بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَفِي الثَّالِثَةِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الثَّلَاثَ بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا لَقَالَتْ: فِي رَكْعَةٍ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ وَتُفْتَحُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ) : فِي التَّصْحِيحِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ

فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ: وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى. اهـ.

1270 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1270 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا زَايٌ مَقْصُورٌ، الْخُزَاعِيِّ، صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى خُرَاسَانَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى خَلْفَهُ رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ.

1271 - رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1271 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) .

1272 - وَالدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرَا: " وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1272 - (وَالدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَذْكُرَا) ، أَيْ: أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ (" الْمُعَوِّذَتَيْنِ ") : وَتَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيَّ، وَابْنَ مَاجَهْ رَوَوُا الْحَدِيثَ عَنْ أُبَيٍّ، وَلَمْ يَذْكُرَا الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَالِاعْتِمَادُ عَلَى حَدِيثِ أُبَيٍّ أَوْلَى مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ ; لِأَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ جُرَيْجٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي التَّقْرِيبِ فِيهِ لِينٌ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَخْطَأَ خُصَيْفٌ فَصَرَّحَ بِسَمَاعِهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ خِلَافُ الْمُعْتَادِ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ عَدَمِ تَطْوِيلِ الْأَخِيرَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الرَّكَعَاتِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامُ: وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا سِوَى قِرَاءَةِ الْإِخْلَاصِ، أَيْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ (الْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَوَى فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَفِي الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » . اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى الْحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ» ، وَكَذَا رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتَيِ الْوَتْرِ» ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ قِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الْوَتْرِ، فَقَالَ: عُمَرُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ وَكَانَ يَنْهَضُ فِي الثَّانِيَةِ بِالتَّكْبِيرِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ عَنِ الْوَتْرِ، فَقَالَ: عَلَّمَنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْوَتْرَ مِثْلُ الْمَغْرِبِ هَذَا وَتْرُ اللَّيْلِ وَهَذَا وَتْرُ النَّهَارِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَتْرُ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ كَوَتْرِ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا ضَعَّفُوا رَفْعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْفَعْهُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا يَحْيَى بْنُ أَبِي الْحَوَاجِبِ، وَقَدْ ضُعِّفَ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَحَكَى الْحَسَنُ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَوَّامِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي زِيَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ: سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فِي مَشْيَخَةٍ سِوَاهُمْ أَهْلِ فِقْهٍ وَصَلَاحٍ، فَكَانَ مِمَّا وَعَيْتُ عَنْهُمْ أَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ. اهـ. فَالْعَجَبُ مِنْ جَعْلِ النَّوَوِيِّ الْإِيتَارَ بِوَاحِدَةٍ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ كَمَا سَبَقَ عَنْهُ.

1273 - وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوَتْرِ: " «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فَيَمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1273 - (وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ) ، أَيْ: جُمَلًا مُفِيدَةً (أَقُولُهُنَّ) ، أَيْ: أَدْعُو بِهِنَّ (فِي قُنُوتِ الْوَتْرِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فِي الْوَتْرِ، وَظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَالشَّافِعِيَّةُ يُقَيِّدُونَ الْقُنُوتَ فِي الْوَتْرِ بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ (" اللَّهُمَّ اهْدِنِي ") ، أَيْ: ثَبِّتْنِي عَلَى الْهِدَايَةِ، أَوْ زِدْنِي مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْوُصُولِ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ النِّهَايَةِ، (" فِيمَنْ هَدَيْتَ ") ، أَيْ: فِي جُمْلَةِ مَنْ هَدَيْتَهُمْ أَوْ هَدَيْتَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيِ: اجْعَلْنِي مِمَّنْ هَدَيْتَهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقِيلَ (فِي) فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ بِمَعْنَى " مَعَ " قَالَ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] (" وَعَافِنِي فَيَمَنْ عَافَيْتَ ") ، أَيْ: مِنْ أَسْوَأِ الْأَدْوَاءِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنَ الْمُعَافَاةِ الَّتِي هِيَ دَفْعُ السُّوءِ (" وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ ") ، أَيْ تَوَلَّ أَمْرِي وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي فِي جُمْلَةِ مَنْ تَفَضَّلْتَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي أَحْبَبْتَهُمْ أَوْ مِمَّنْ تَقُومُ بِحِفْظِ أُمُورِهِمْ، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَمْرُ مُخَاطَبٍ مِنْ تَوَلَّى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا وَقَامَ بِحِفْظِهِ وَحَفِظَ أَمْرَهُ. (" وَبَارِكْ ") ، أَيْ: أَكْثِرِ الْخَيْرَ. (" لِي ") ، أَيْ: لِمَنْفَعَتِي (" فِيمَا أَعْطَيْتَ ") ، أَيْ: فِيمَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعُمُرِ وَالْمَالِ وَالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: (فِي) فِيهِ لَيْسَتْ كَمَا هِيَ فِي السَّوَابِقِ ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا أَوْقِعِ الْبَرَكَةَ فِيمَا أَعْطَيْتَنِي مِنْ خَيْرِ الدَّارَيْنِ، وَمَعْنَاهَا فِي قَوْلِهِ فِيمَنْ هَدَيْتَ اجْعَلْ لِي نَصِيبًا وَافِرًا مِنَ الِاهْتِدَاءِ مَعْدُودًا فِي زُمْرَةِ الْمُهْتَدِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. (" وَقِنِي ") ، أَيِ: احْفَظْنِي. (" شَرَّ مَا قَضَيْتَ ") ، أَيْ: مَا قَدَّرْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ وَقَدَرٍ، فَسَلِّمْ لِيَ الْعَقْلَ وَالدِّينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ: أَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَدَرِهِ (" فَإِنَّكَ ") : وَقَعَ كَالتَّعْلِيلِ لِسُؤَالِ مَا قَبْلَهُ (" تَقْضِي ") ، أَيْ: تُقَدِّرُ أَوْ تَحْكُمُ بِكُلِّ مَا أَرَدْتَ (" وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ ") : فَإِنَّهُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِكَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْكَ شَيْءٌ (" إِنَّهُ ") ، أَيِ: الشَّأْنُ (" لَا يَذِلُّ ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، أَيْ لَا يَصِيرُ ذَلِيلًا، أَيْ حَقِيقَةً وَلَا عِبْرَةَ بِالصُّورَةِ (" مَنْ وَالَيْتَ ") : الْمُوَالَاةُ ضِدُّ الْمُعَادَاةِ. وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ مِنْ عِبَادِكَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ مُطْلَقًا وَإِنِ ابْتُلِيَ بِمَا ابْتُلِيَ بِهِ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ مَنْ أَهَانَهُ وَأَذَلَّهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ الرِّفْعَةِ وَالْعِزَّةِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ أَوْلِيَائِهِ، وَلَا عِبْرَةَ إِلَّا بِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الِامْتِحَانَاتِ الْعَجِيبَةِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، كَقَطْعِ زَكَرِيَّا بِالْمِنْشَارِ، وَذَبْحِ وَلَدِهِ يَحْيَى، وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ، وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ: وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، أَيْ: لَا يَعِزُّ فِي الْآخِرَةِ أَوْ مُطْلَقًا وَإِنْ أُعْطِيَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَمُلْكِهَا مَا أُعْطِيَ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَمْتَثِلْ أَوَامِرَكَ وَلَمْ يَجْتَنِبْ نَوَاهِيَكَ، وَوَرَدَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ بَعْدَ ذَلِكَ: نَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إِلَيْكَ. اهـ كَلَامُهُ. (" تَبَارَكْتَ ") ، أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُكَ فِي الدَّارَيْنِ (" رَبَّنَا ") : بِالنَّصْبِ، أَيْ: يَا رَبَّنَا (" وَتَعَالَيْتَ ") ، أَيِ: ارْتَفَعَ عَظْمَتُكَ وَظَهَرَ قَهْرُكَ وَقُدْرَتُكَ عَلَى مَنْ فِي الْكَوْنَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيِ ارْتَفَعْتَ عَنْ مُشَابَهَةِ كُلِّ شَيْءٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي التَّصْحِيحِ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا نَعْرِفُ فِي الْقُنُوتِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ: (فَإِنَّكَ) بِالْفَاءِ وَالْبَاقُونَ (إِنَّكَ) بِغَيْرِ فَاءٍ. وَزَادَ النَّسَائِيُّ: وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، وَفِي آخِرِهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَزَادَ: نَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إِلَيْكَ. اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قَبْلَ زِيَادَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْحِصْنِ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، لَكِنْ صَحَّ أَيْضًا زِيَادَةُ وَاوٍ قَبْلَ إِنَّهُ، وَمِنْ ثَمَّ غَلَّطَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ حَذْفَ هَذِهِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ قَبْلَ إِنَّكَ وَرَبَّنَا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّ مِنْ إِثْبَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ مِيرَكُ: وَزَادَ الْحَاكِمُ فِي حَدِيثٍ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي قُنُوتِ الْوَتْرِ فِي الْأَخِيرَةِ إِذَا رَفَعْتُ رَأْسِي مِنَ الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَاقَهُ. اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: إِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ الَّذِي كَانَ أَبِي يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي قُنُوتِهِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ لِيَدْعُوا بِهِ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَوَتْرِ اللَّيْلِ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ هَذَا الدُّعَاءِ وَقَعَ لِقُنُوتِ الْوَتْرِ وَالصُّبْحِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هُنَا ثَلَاثُ خِلَافِيَّاتٍ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ إِذَا قَنَتَ فِي الْوَتْرِ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الْوَتْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ؟ وَالثَّالِثَةُ: هَلْ يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الْوَتْرِ أَوْ لَا؟ لِلشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَصَحَّحَهُ، قَالَ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقَوْلُهُنَّ فِي وَتْرِي إِذَا رَفَعْتُ رَأْسِي وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا السُّجُودُ» . الْحَدِيثَ، وَلَنَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» ، وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْقُنُوتِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الْوَتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ» ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَوْتَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ فَقَنَتَ مِنْهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ» ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ» ، وَيَجْعَلُ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ» ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَهْرًا فَقَطْ بِدَلِيلِ مَا سَيَأْتِي عَنْهُ قَرِيبًا فِي بَابِ الْقُنُوتِ، قَالَ: وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ كَانَ عَلَى وَفْقِ مَا قُلْنَا، قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ هِشَامٍ الدُّسْتُوَائِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْوَتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَلَمَّا تَرَجَّحُ ذَلِكَ خَرَجَ مَا بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنْ كَوْنِهِ مُحَلِّلًا لِلْقُنُوتِ، فَلِذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ سَهَا عَنِ الْقُنُوتِ فَتَذَكَّرَهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ لَا يَقْنُتُ، وَلَوْ تَذَكَّرَهُ فِي الرُّكُوعِ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: لَا يَقْنُتُ، وَالْأُخْرَى يَعُودُ إِلَى الْقِيَامِ فَيَقْنُتُ، وَالَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ فِي الرُّكُوعِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْقِيَامِ فَإِنْ عَادَ إِلَى الْقِيَامِ وَقَنَتَ وَلَمْ يُعِدِ الرُّكُوعَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّ رُكُوعَهُ قَائِمٌ لَمْ يَرْتَفِضْ إِلَّا إِذَا اقْتَدَى بِمَنْ يَقْنُتُ فِي الْوَتْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يُتَابِعُهُ اتِّفَاقًا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ بِرَكْعَتَيْنِ إِذَا قَنَتَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الثَّالِثَةِ لَا يَقْنُتُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَوْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ فَرَكَعَ وَهُوَ لَمْ يَفْرَغْ يُتَابِعُهُ، وَلَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ وَتَرَكَ الْقُنُوتَ وَلَمْ يَقْرَأِ الْمَأْمُومُ مِنْهُ شَيْئًا إِنْ خَافَ فَوْتَ الرُّكُوعِ يَرْكَعُ وَإِلَّا قَنَتَ ثُمَّ رَكَعَ. اهـ. وَالْخِلَافِيَّتَانِ الْأُخْرَيَانِ سَنَذْكُرُهُمَا فِي بَابِ الْقُنُوتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ قُنُوتَ الْوَتْرِ مُخْتَصٌّ عِنْدَنَا بِنِصْفِ رَمَضَانَ الثَّانِي لِمَا صَحَّ كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ، «عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: السُّنَّةُ إِذَا انْتَصَفَ رَمَضَانُ أَنْ يَلْعَنَ الْكَفَرَةَ فِي الْوَتْرِ بَعْدَمَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيٍّ لَمْ يَقْنُتْ بِهِمْ إِلَى النِّصْفِ الثَّانِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُنْذِرِيِّ بِأَنَّ مَا صَحَّحَهُ غَرِيبٌ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ مَجِيئِهِ بِطُرُقٍ أُخْرَى صِحَّتُهُ، وَبِفَرْضِ تَسْلِيمِهِ يُحْمَلُ عَلَى زِيَادَةِ قُنُوتٍ خَاصٍّ مَخْصُوصٍ بِوَقْتِ غَلَبَةِ الْكَفَّارِ وَدَفْعِهِمْ بِالدُّعَاءِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي دَوَامَ الْقُنُوتِ الْمَذْكُورِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1274 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ فِي الْوَتْرِ قَالَ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1274 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ فِي الْوَتْرِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنَ الْوَتْرِ، أَيْ: فِي آخِرِهِ (قَالَ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ") ، أَيِ: الْبَالِغِ أَقْصَى النَّزَاهَةِ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ لَيْسَ فِيهِ غَايَةُ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَسَيَأْتِي مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الطَّاهِرُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، وَفُعُّولٌ بِالضَّمِّ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ: وَهَذَا لَفْظُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى مُرْسَلًا، قَالَ: يَمُدُّ فِي الثَّالِثَةِ صَوْتَهُ وَيَرْفَعُ، وَأَمَّا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَلَمْ يَزِدْ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَزَادَ: رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ. (وَزَادَ) ، أَيِ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ) ، أَيْ: فِي آخِرِهِنَّ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَالْمَعْنَى يُمَدُّ فِي الثَّالِثَةِ صَوْتَهُ.

1275 - وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ " ثَلَاثًا، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالثَّالِثَةِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1275 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ) : قَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ، قُلْتُ: أَوْ حُذِفَ عَنْ أَبِيهِ، (قَالَ: كَانَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ " ثَلَاثًا، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالثَّالِثَةِ» ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الذِّكْرِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ، بَلْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ إِذَا اجْتَنَبَ الرِّيَاءَ إِظْهَارًا لِلدِّينِ، وَتَعْلِيمًا لِلسَّامِعِينَ، وَإِيقَاظًا لَهُمْ مِنْ رَقْدَةِ الْغَفْلَةِ، وَإِيصَالًا لِبَرَكَةِ الذِّكْرِ إِلَى مِقْدَارِ مَا يَبْلُغُ الصَّوْتُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالشَّجَرِ وَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ، وَطَلَبًا لِاقْتِدَاءِ الْغَيْرِ بِالْخَيْرِ وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ سَمِعَ صَوْتَهُ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ يَخْتَارُ إِخْفَاءَ الذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ وَهَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالنِّيَّةِ.

1276 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وَتْرِهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1276 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وَتْرِهِ) ، أَيْ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِحْدَى رِوَايَاتِ النَّسَائِيِّ كَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَتَبَوَّأَ مَضْجَعَهُ: (" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ ") ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ جَمَالِكَ (" مِنْ سَخَطِكَ ") ، أَيْ: مِنْ بَقِيَّةِ صِفَاتِ جَلَالِكَ (" وَبِمُعَافَاتِكَ ") : مِنْ أَفْعَالِ الْإِكْرَامِ وَالْإِنْعَامِ (" مِنْ عُقُوبَتِكَ ") : مِنْ أَفْعَالِ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ ") ، أَيْ: بِذَاتِكَ مِنْ آثَارِ صِفَاتِكَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وَإِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] وَتَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] أَيِ: انْقَطِعْ إِلَيْهِ انْقِطَاعًا بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى تَغِيبَ عَمَّا سِوَاهُ فَتَفْنَى عَنْ وُجُودِكَ وَشُهُودِكَ وَتَبْقَى بِبَقَاهُ، وَلَعَلَّ هَذَا السِّرَّ الْمُشِيرَ إِلَى مَقَامِ الْفَرْدِيَّةِ اقْتَضَى أَنْ يَقْرَأَ هَذَا الدُّعَاءَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ الْوَتْرِيَّةِ. وَفِي اصْطِلَاحِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ الْفِقْرَةُ الْأُولَى إِشَارَةٌ إِلَى تَوْحِيدِ الصِّفَاتِ، وَالثَّانِيَةُ إِلَى تَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ، وَالثَّالِثَةُ إِلَى تَوْحِيدِ الذَّاتِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْأَنْسَبُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَقْدِيمُ الْفِقْرَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ اللَّفْظِيَّ لَهُ تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ فِي التَّنَاسُبِ الْمَعْنَوِيِّ، وَقَدْ تُوَجَّهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِأَنَّ تَحَقُّقَ الْأَفْعَالِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ الصِّفَاتِ، فَهُمَا أَصْلٌ وَفَرْعٌ، وَتَقْدِيمُ الْأَصْلِ أَصْلٌ، وَإِنَّمَا قُدِّمَا عَلَى التَّوْحِيدِ الذَّاتِيِّ لِتَحَقُّقِهِمَا فِي الْخَارِجِ قَبْلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِهِ وَأَخْبَارِ سَيِّدِ أَحْرَارِهِ. (" لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ ") ، أَيْ: لَا أُطِيقُهُ وَلَا أَبْلُغُهُ حَصْرًا وَعَدَدًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَزَادَ بَعْضُهُمْ " سُبْحَانَكَ " قَبْلَ " لَا أُحْصِي " وَلَمْ أَرَ لَهُ أَصْلًا فِي الْحَدِيثِ. (" أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ") ، أَيْ: ذَاتِكَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ الِاسْتِغْفَارُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي بُلُوغِ الْوَاجِبِ مِنْ حَقِّ ذَاتِهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ. اهـ.

وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: " لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ وَلَوْ حَرَصْتُ، وَلَكِنْ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ "، قَالَ مِيرَكُ: قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنْتَ الَّذِي أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: " مَا " فِي كَمَا مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَالْكَافُ بِمَعْنَى الْمِثْلِ، أَيْ: أَنْتَ الذَّاتُ الَّتِي لَهَا صِفَاتُ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَلَهَا الْعِلْمُ الشَّامِلُ وَالْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ، أَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى إِحْصَاءِ ثَنَائِكَ، وَهَذَا الثَّنَاءُ إِمَّا بِالْقَوْلِ وَإِمَّا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ إِظْهَارُ فِعْلِهِ عَنْ بَثِّ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَالنَّسَائِيُّ: وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ وُجُوبِ الْقُنُوتِ، وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِيهِ، يَعْنِي قَوْلَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: اجْعَلْ هَذَا فِي وَتْرِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لِي، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُوَاظَبَةِ الْمُفَادَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَوْنِهَا غَيْرَ مَقْرُونَةٍ بِالتَّرْكِ، وَلَكِنَّ مُطْلَقَ الْمُوَاظِبَةِ أَعَمُّ مِنَ الْمَقْرُونَةِ بِهِ أَحْيَانًا وَغَيْرِ الْمَقْرُونَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَإِلَّا لَوَجَبَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ عَيْنًا أَوْ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا، لَكِنَّ الْمُتَقَرِّرَ عِنْدَهُمْ لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى مُضَرَ ; إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنِ اسْكُتْ، فَسَكَتَ، فَقَالَ: " يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْكَ سَبَّابًا وَلَا لَعَّانًا وَإِنَّمَا بَعَثَكَ رَحْمَةً " ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، ثُمَّ عَلَّمَهُ الْقُنُوتَ " اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَخْضَعُ لَكَ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخَافُ عَذَابَكَ إِنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ» ". اهـ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَفِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ: " «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ وَلَا نَكْفُرُكَ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مِنْ يَفْجُرُكَ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى» "، وَفِي نُسْخَةٍ: " وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ وَنَخْشَى عَذَابَكَ الْجِدَّ "، أَيِ: الْحَقُّ الثَّابِتُ " وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ إِنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ " بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيُفْتَحُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ زِيَادَةُ الْبَسْمَلَةِ قَبْلَ: اللَّهُمَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ الْأَسْيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَالَ: ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْخَلْعِ وَسُورَةِ الْحَفْدِ، مِنْهَا: أَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالطَّحَاوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقْنُتُ بِالسُّورَتَيْنِ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَاللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَمِنْهَا: أَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَجْعَلُوا فِي قُنُوتِ الْوَتْرِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: مَعْنَى الدُّعَاءِ: يَا أَللَّهُ إِنَّا نَطْلُبُ مِنْكَ الْعَوْنَ عَلَى الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَنَطْلُبُ مِنْكَ الْمَغْفِرَةَ لِلذُّنُوبِ، وَنُثْنِي مِنَ الثَّنَاءِ وَهُوَ: الْمَدْحُ. وَانْتِصَابُ الْخَيْرِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْكُفْرُ: نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَقَوْلُهُمْ: كَفَرْتُ فُلَانًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالْأَصْلُ: كَفَرْتُ نِعْمَتَهُ، وَنَخْلَعُ مِنْ خَلَعِ الْفَرَسُ رَسَنَهُ، أَيْ: أَلْقَاهُ وَطَرَحَهُ، وَالْفِعْلَانِ مُوَجَّهَانِ إِلَى (مَنْ) وَالْعَمَلُ مِنْهُمَا لِنَتْرُكَ، وَيَفْجُرُكَ: يَعْصِيكَ، وَالسَّعْيُ: الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، وَنَحْفِدُ، أَيْ: نَعْمَلُ لَكَ بِطَاعَتِكَ مِنَ الْحَفْدِ وَهُوَ: الْإِسْرَاعُ فِي الْخِدْمَةِ، وَالْمُلْحِقُ بِمَعْنَى لَحِقَ، وَمِنْهُ أَنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُلْحِقٌ بِالْكُفَّارِ غَيْرَهُمْ، وَهَذَا أَوْجَهُ لِلِاسْتِئْنَافِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّعْلِيلُ. اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا يُوَقِّتُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ صِدْقِ رَغْبَةٍ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ فِي غَيْرِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهُ جَازَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهُ قُنُوتَ الْحَسَنِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَمَنْ لَا يُحْسِنُ الْقُنُوتَ يَقُولُ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] ، وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَيُكَرِّرُ ثَلَاثًا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1277 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قِيلَ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ؟ قَالَ: أَصَابَ، إِنَّهُ فَقِيهٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَوْتَرَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِرَكْعَةٍ، وَعِنْدَهُ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1277 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ: هَلْ لَكَ) ، أَيْ جَوَابٌ أَوْ إِفْتَاءٌ (فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ) ، أَيْ فِي فِعْلِهِ (مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ؟) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اكْتَفَى بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مُنْضَمَّةٍ إِلَى شَفْعٍ قَبْلَهَا، فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الِاكْتِفَاءِ بِالْوَتْرِ وَتَرْكِ التَّهَجُّدِ، أَوْ تَرْكِ سُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ) ، أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَصَابَ) أَيْ أَدْرَكَ الثَّوَابَ فِي اجْتِهَادِهِ (إِنَّهُ فَقِيهٌ) ، أَيْ مُجْتَهِدٌ وَهُوَ مُثَابٌ وَإِنْ أَخْطَأَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ ثَمَّ كَانَ يَرْقَى مِنْبَرَ الْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ مِنْ فُقَهَائِهَا شَيْئًا يُخَالِفُ السُّنَّةَ، وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَذَا، أَوْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ كَذَا. (وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) مُصَغَّرًا (أَوْتَرَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِرَكْعَةٍ، وَعِنْدَهُ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ) : نَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ هُوَ كَرِيبٍ، رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الْوَتْرِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ مِنْ مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَ أَبَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى قِيلَ: لِابْنِ عَبَّاسٍ. (فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: دَعْهُ) ، أَيِ اتْرُكْهُ وَلَا تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ (فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ فَلَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا رَآهُ، يَعْنِي: وَلَعَلَّهُ رَأَى مَا لَمْ يَرَ غَيْرَهُ وَأَصْحَابُهُ كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ، وَهُمْ عُدُولٌ وَلَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ مُعَاوِيَةَ شَاذًّا مُنْفَرِدًا عَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَلِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حِكَايَةِ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1278 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْوَتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، الْوَتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، الْوَتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1278 - (وَعَنْ بُرَيْدَةٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْوَتْرُ حَقٌّ» ) ، أَيٌ وَاجِبٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (" «فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» ") ، أَيْ مِنْ أَتْبَاعِنَا (" «الْوَتْرُ حَقٌّ» ") ، أَيْ: فَرْضٌ عَمَلِيٌّ (" «فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» ") ، أَيْ: مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا (" «الْوَتْرُ حَقٌّ» ") ، أَيْ ثَابِتٌ وُجُوبُهُ بِالسُّنَّةِ (" «فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» ") ، أَيْ: مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا تَغْلِيظًا وَوَعِيدًا، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا الْحَدِيثَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ فِيهِ اتِّصَالِيَّةٌ كَمَا " فِي " قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي ". وَالْمَعْنَى: فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِنَا وَبِهَدْيِنَا وَطَرِيقِنَا، أَيْ: إِنَّهُ ثَبَاتٌ فِي الشَّرْعِ وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالتَّكْرِيرُ لِمَزِيدِ تَقْرِيرِ حَقِّيَّتِهِ وَإِثْبَاتِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلِوُجُوبِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِكُلٍّ وُجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا. اهـ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ الْأَرْجَحِيَّةِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ الْمُرَامِ، وَلَمَّا كَانَ " لَيْسَ مِنَّا " قَدْ يُقَالُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَيْسَ مِنَّا مَنِ اسْتَنْجَى مِنَ الرِّيحِ» "، وَكَقَوْلِهِ فِي تَارِكِ النِّكَاحِ مَعَ الْقُدْرَةِ مَعَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ إِجْمَاعًا: " «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» "، وَقَدْ يُقَالُ فِي الْفَرْضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] قُلْنَا: بِوُجُوبِ الْوَتْرِ لِكَوْنِ الدَّلِيلِ ظَنِّيًّا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لَهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ وَرَدُّوا عَلَى الْحَاكِمِ تَصْحِيحَهُ لَهُ مُجَرَّدُ دَعْوًى لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَعْنًى.

1279 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ نَامَ عَنِ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَ أَوْ إِذَا اسْتَيْقَظَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1279 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نَامَ عَنِ الْوِتْرِ) ، أَيْ: عَنْ فِعْلِهِ أَوْ وَقْتِهِ (أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ) ، أَيْ قَضَاءً، وَهُوَ مِنْ أَمَارَاتِ الْوُجُوبِ (إِذَا ذَكَرَ) ، أَيْ: رَاجِعٌ إِلَى النِّسْيَانِ (وَإِذَا اسْتَيْقَظَ) : رَاجِعٌ إِلَى النَّوْمِ، فَالْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " وَالتَّرْتِيبُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ السَّامِعِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

1280 - وَعَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلَغَهُ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْوِتْرِ: أَوَاجِبٌ هُوَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْتَرَ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُرَدِّدُ عَلَيْهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْتَرَ الْمُسْلِمُونَ» . رَوَاهُ فِي " الْمُوَطَّأِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1280 - ( «وَعَنْ مَالِكٍ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْوِتْرِ: أَوَاجِبٌ هُوَ؟» ) ، أَيْ: أَهْوَ سُنَّةٌ؟ ( «فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْتَرَ الْمُسْلِمُونَ» ) : اكْتَفَى بِالدَّلِيلِ عَنِ الْمَدْلُولِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ بِدَلِيلِ مُوَاظَبَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِجْمَاعُ [أَهْلِ الْإِسْلَامِ (فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُرَدِّدُ عَلَيْهِ) ، أَيْ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ وَيَطْلُبُ الْجَوَابَ الصَّرِيحَ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالتَّلْمِيحِ وَالتَّلْوِيحِ. (وَعَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: «أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْتَرَ الْمُسْلِمُونَ» ) : وَتَوَرَّعَ فِي الْخِطَابِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْجَوَابِ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَيْئًا فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْأَحْوَطُ وَهُوَ مُخْتَارُ الصُّوفِيَّةِ حَيْثُ يُوَاظِبُونَ عَلَى الْفِعْلِ الثَّابِتِ، وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْ كَوْنِهِ فَرْضًا أَوْ نَدْبًا، نَعَمْ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخِلَافِ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ يُزَادُ فِي ثَوَابِهِ عَلَى مَنِ اعْتَقَدَ السُّنِّيَّةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَلْخِيصُ الْجَوَابِ أَنْ لَا أَقْطَعَ بِالْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ، وَلَا بِعَدَمِ وُجُوبِهِ ; لِأَنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاظَبُوا عَلَيْهِ ذَهَبْتُ إِلَى الْوُجُوبِ، وَإِذَا فَتَّشْتُ نَصًّا دَالًّا عَلَيْهِ نَكَصْتُ عَنْهُ، أَيْ: رَجَعْتُ. أَقُولُ: اخْتَرْنَا الشِّقَّ الْأَوَّلَ وَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ. لَوْ وَجَدْنَا دَلِيلًا قَاطِعًا لَحَكَمْنَا بِالْفَرْضِيَّةِ، وَأَيْضًا لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ يَقُولُ هَذَا الْفِعْلَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اخْتِلَافُ الْأَئِمَّةِ رَحْمَةً، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مُوَاظَبَتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا سِيَّمَا مَعَ مُوَاظَبَةِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَيَكْفِي لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَصْلِ وُجُوبِ الْوِتْرِ وَأَنْ نُوَزِّعَ فِي صِفَتِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَمَحَلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَرِدْ مَا يَصْرِفُهُ إِلَى النَّدْبِ، وَهَاهُنَا صَحَّ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ مُسْتَوْفًى، عَلَى أَنَّهُ سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ اهـ، وَسَيَأْتِي جَوَابُ مَا سَيَأْتِي. (رَوَاهُ) ، أَيْ مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) : بِالْهَمْزِ، وَقِيلَ بِالْأَلِفِ، وَسَبَقَ الِاعْتِرَاضُ.

1281 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، يَقْرَأُ فِيهِنَّ بِتِسْعِ سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَ سُوَرٍ آخِرُهُنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1281 - ( «وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» ) ، أَيْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِيهِنَّ: (بِتِسْعِ سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ) : الظَّاهِرُ مِنْ قِصَارِهِ (يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثِ سُوَرٍ آخِرُهُنَّ) ، أَيْ: آخِرُ الثَّلَاثِ أَوِ السُّورِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي كُلٍّ مِنَ الثَّلَاثِ يَقْرَأُ سُورَتَيْنِ وَيَخْتِمُ بِالْإِخْلَاصِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْأَخِيرَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَكْرِيرِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اهـ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ الْأَوَّلُ وَيُسْتَبْعَدُ الثَّانِي ; إِذْ يَحْتَاجُ إِلَى جَعْلِ ضَمِيرِ (آخِرُهُنَّ) رَاجِعًا إِلَى السُّوَرِ التِّسْعِ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1282 - وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمَكَّةَ، وَالسَّمَاءُ مُغَيِّمَةٌ، فَخَشِيَ الصُّبْحَ، فَأَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ، ثُمَّ انْكَشَفَ، فَرَأَى أَنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا، فَشَفَعَ بِوَاحِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا خَشِيَ الصُّبْحَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1282 - (وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَّةَ، وَالسَّمَاءُ مُغَيِّمَةٌ) : كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِضَمِّ الْمِيمِ الْأَوْلَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ (مُغَيِّمَةً) بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْيَاءِ مُغَيِّمَةً، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ (مُغَمَّاةً) مُشَدَّدَةً وَمُخَفَّفَةً، وَفِي نُسْخَةٍ كَمَرْضِيَّةٍ وَمَآلُ الْكَلِّ إِلَى مَعْنَى وَاحِدٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ مُغَطَّاةً بِالْغَيْمِ، وَفِي نِهَايَةِ الْجَزَرِيِّ يُقَالُ: أَغْمَى عَلَيْنَا الْهِلَالُ وَغَمَّى فَهُوَ مُغْمى، وَمُغمًّى إِذْ حَالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ غَيْمٌ، يُقَالُ: غَامَتِ السَّمَاءُ وَأَغَامَتْ وَتغَمَّيَتْ كُلُّهُ بِمَعْنَى اهـ. زَادَ فِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ: وَأَغْيَمَتْ وَتَغَيَّمَتْ تَغَيُّمًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُقَالُ: غَيَّمْتُ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتَهُ وَأَغْمَى وَغَمَّى وَغَمَى بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِهَا الْكُلُّ بِمَعْنَى اهـ. وَفِي التَّاجِ: التَّغْيِيمُ وَالْإِغَامَةُ الدُّخُولُ فِي الْغَيْمِ، وَالْإِغْمَاءُ وَتَسَتُّرُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّخْصِ، وَيُعَدَّى بِعَلَى، وَالتَّغْمِيَةُ التَّغْطِيَةُ، قَالَ شُجَاعٌ: أَقُولُ: فَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَجُوزُ لُغَةُ (مُغَيِّمَةً) بِكَسْرِ الْيَاءِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّفْعِيلِ مِنَ الْأَجْوَفِ، (وَمغمِيَّةً) مِنَ النَّاقِصِ الثُّلَاثِيِّ عَلَى وَزْنِ مَرْمِيَّةٍ، وَمُغَمَّاةٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّغْمِيَةِ أَوِ الْإِغْمَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ رِوَايَةِ (مُغَمِّيَةً) بِفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ اهـ. لِأَنَّ فَتْحَهَا يَسْتَدْعِي قَلْبَ مَا بَعْدَهَا أَلِفًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. (فَخَشِيَ الصُّبْحَ، فَأَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ) ، أَيْ: بِضَمِّهَا إِلَى مَا قَبْلَهَا (ثُمَّ انْكَشَفَ) ، أَيْ: ارْتَفَعَ الْغَيْمُ فِي أَثْنَاءِ صِلَاتِهِ (فَرَأَى أَنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا) ، أَيْ: بَاقٍ عَلَيْهِ (فَشَفَعَ بِوَاحِدَةٍ) : لِتَصِيرَ صَلَاتُهُ شَفْعًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» "، وَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الْوِتْرِ الْمَنْهِيِّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» ". حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ غَفَلَ ابْنُ حَجْرٍ عَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِ الْحَدِيثَ فَقَالَ: وَأَبَى أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ، وَعَمِلُوا بِكُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ، فَقَالُوا: يُسَنُّ أَنْ لَا يُعِيدَ الْوِتْرَ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ الثَّانِي، وَأَمَّا نَقْضُ الْوِتْرِ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ قَضِيَّةِ كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يَخُصُّهُ، وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ لَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنِ اجْتِهَادِهِ وَهُوَ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ. قُلْتُ: هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَوْتَرَ قَبْلَ النَّوْمِ، ثُمَّ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى لَا يُوتِرُ ثَانِيًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» "، وَلَزِمَهُ تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» " ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ شَفْعُ الْأَوَّل لِامْتِنَاعِ التَّنَفُّلِ بِرَكْعَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ. (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا خَشِيَ الصُّبْحَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ) : كَمَا قَدَّمْنَا، أَوْ كَانَ مَذْهَبُهُ الْإِيتَارُ بِوَاحِدَةٍ، وَلِذَا قِيلَ فِي حَقِّهِ: إِنَّ عُمَرَ أَفْقَهُ مِنْهُ كَمَا سَبَقَ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

1283 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، قَامَ وَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1283 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ) ، أَيْ: فِي آخِرِ حَيَاتِهِ لَمَّا ضَعُفَ (يُصَلِّي) ، أَيْ: فِي اللَّيْلِ أَوْ فِي النَّهَارِ (جَالِسًا) : حَالٌ (فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ) : لِطُولِ قِرَاءَتِهِ (فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ) : شَيْءٌ قَلِيلٌ (قَدْر مَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ) ، أَيْ آيَةً. (أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً) : اكْتَفَى بِهَذَا التَّمْيِيزِ عَنْ تَمْيِيزِ الْأَوَّلِ، و " أَوْ " تَحْتَمِلُ الشَّكَّ وَالتَّنْوِيعَ. (قَامَ وَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ) : يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الِاعْتِدَالِ رُكْنًا، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ ثُمَّ اعْتَدَلَ ثُمَّ سَجَدَ (ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ) : وَهَذَا النَّوْعُ جَائِزٌ اتِّفَاقًا بِخِلَافِ عَكْسِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا افْتَتَحَ قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ يَجُوزُ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْعُدَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى أَوِ الثَّانِيَةِ كَمَا يَتَأَدَّى بِهِ هَذَا الْإِطْلَاقُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْبَابِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ سَاكِتٌ عَنِ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، أَوْ ذَكَرَ هَذَا الشَّفْعَ ; لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةُ الْوِتْرِ، أَوْ يَحْمِلُ هَذَا الشَّفْعَ عَلَى مَا بَعْدِ الْوِتْرِ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ.

1284 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ: خَفِيفَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1284 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ: (خَفِيفَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ) : تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا.

1285 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1285 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ» ) ، أَيْ: مَعَ شَفْعٍ قَبْلَهَا جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ السَّالِفَةِ، (ثُمَّ يَرْكَعُ) ، أَيْ: يُصَلِّي ( «رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ» ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يُنَافِي مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ تَارَةً يُصَلِّيهِمَا فِي جُلُوسٍ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ، وَتَارَةً يَقُومُ عِنْدَ إِرَادَةِ الرُّكُوعِ اهـ. وَلَعَلَّهُ كَانَ كُلُّهُ قَبْلَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» " أَوْ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1286 - وَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ هَذَا السَّهَرَ جُهْدٌ وَثِقَلٌ، فَإِذَا أَوْتَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، وَإِلَّا كَانَتَا لَهُ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. 1286 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ هَذَا السَّهَرَ) ، أَيْ: الَّذِي تَسْهَرُونَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ (جُهْدٌ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا مَشَقَّةٌ (وَثِقَلٌ) : بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، أَيْ: شَاقٌّ وَثَقِيلٌ عَلَى النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، (فَإِذَا أَوْتَرَ أَحَدُكُمْ) ، أَيْ: قَبْلَ النَّوْمِ إِمَّا عَلَى خِلَافِ الْأَفْضَلِ، وَإِمَّا بِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالِاسْتِيقَاظِ آخِرَ اللَّيْلِ، (فَلْيَرْكَعْ) ، أَيْ: فَلْيُصَلِّ (رَكْعَتَيْنِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يُنَافِي خَبَرَ: " «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» " إِمَّا لِأَنَّ أَوْتَرَ هُنَا بِمَعْنَى أَرَادَ، أَيْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ، (فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ) : فَلْيُوتِرْ، أَوْ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالرَّكْعَتَيْنِ هُنَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ نَظِيرَ مَا مَرَّ مِنْ تَأْوِيلِ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا بَعْدَ الْوِتْرِ بِذَلِكَ، وَالْأَخِيرُ غَيْرُ صَحِيحٍ ; إِذْ لَمْ يُعْرَفْ وُرُودُ الْأَمْرِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَيَتَعَيَّنُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلَ، وَحِينَئِذٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَنْعِ الْإِيتَارِ بِوَاحِدَةٍ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوِتْرِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ، وَالرَّكْعَتَانِ قَبْلَهُ نَافِلَةٌ قَائِمَةٌ مَقَامَ التَّهَجُّدِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ: (فَإِنْ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ) : وَصَلَّى فِيهِ فَبِهَا، أَيْ أَتَى بِالْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ، وَيَكُونُ نُورًا عَلَى نُورٍ. (وَإِلَّا) ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَقُمْ، أَيْ مِنَ اللَّيْلِ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ لَهُ النَّاشِئَةِ عَنْ سَهَرِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ (كَانَتَا) ، أَيْ: الرَّكْعَتَانِ (لَهُ) ، أَيْ: كَافِيَتَيْنِ لَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1287 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ، يَقْرَأُ فِيهِمَا {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] ، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] » . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1287 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ) ، أَيْ: فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَوْ أَحْيَانًا (يُصَلِّيهِمَا) ، أَيْ: الرَّكْعَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ يُصَلِّيهَا، أَيْ: الصَّلَاةَ الْمَعْهُودَةَ، وَهِيَ الرَّكْعَتَانِ الْمُنْبِئَتَانِ لِجَوَازِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجْرٍ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَجَعْلِ التَّثْنِيَةِ نُسْخَةً وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ (بَعْدَ الْوِتْرِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ، ثُمَّ بَعُدَ الِاسْتِيقَاظِ صَلَّى (وَهُوَ جَالِسٌ، يَقْرَأُ فِيهِمَا) ، أَيْ: فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا، أَيْ فِي الصَّلَاةِ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة: 1] ، أَيْ فِي الْأُولَى و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، أَيْ فِي الثَّانِيَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب القنوت]

[بَابُ الْقُنُوتِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1288 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ، أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ ; قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَرُبَّمَا قَالَ إِذَا قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ "، يَجْهَرُ بِذَلِكَ. وكان يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ: " اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا "، لِأَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] الْآيَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [36] بَابُ الْقُنُوتِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ فِي الْأَصْلِ الطَّاعَةُ، ثُمَّ سُمِّيَ طُولُ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ قُنُوتًا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُنُوتِ هُنَا الدُّعَاءُ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْقُنُوتِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا نَقَلَ الْأَبْهَرِيُّ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1288 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ) ، أَيْ: لِضَرَرِهِ (أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ) ، أَيْ: لِنَفْعِهِ (قَنَتَ) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِالصُّبْحِ أَوْ تَعْمِيمَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخَذَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي أَخِيرَةِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ لِلنَّازِلَةِ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، كَوَبَاءٍ وَقَحْطٍ وَطَاعُونٍ، وَخَاصَّةً بِبَعْضِهِمْ كَأَسْرِ الْعَالِمِ أَوِ الشُّجَاعِ مِمَّنْ تَعَدَّى نَفْعُهُ، وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ لَمْ يَقُلْ بِهِ فِيهَا غَيْرُ الشَّافِعِيِّ غَلَطٌ مِنْهُ، بَلْ قَنَتَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَغْرِبِ بِصِفِّينَ اهـ. وَنِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الطَّحَاوِيِّ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ غَلَطٌ ; إِذْ أَطْبَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى جَوَازِ الْقُنُوتِ عِنْدَ النَّازِلَةِ. (بَعْدَ الرُّكُوعِ) : قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، لَكِنْ رُوَاةُ الْقُنُوتِ بَعْدَهُ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ، فَهُوَ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ دَرَجَ الْفُقَهَاءُ الرَّاشِدُونَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَات عَنْهُمْ وَأَكْثَرِهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ الْبَاقِلَّانِيِّ: يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ التَّرْجِيحُ بِظَنِّيٍّ كَكَثْرَةِ الرُّوَاةِ أَوِ الْأَدِلَّةِ، أَوْ كَثْرَةِ أَوْصَافِهِمْ بِخِلَافِ الْقَطْعِيِّ كَتَقْدِيمِ النَّصِّ عَلَى الْقِيَاسِ اخْتِيَارٌ لَهُ، قُلْتُ: بَلْ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْخِيَارِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ، وَسَمَّاهُ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُورَ. (فَرُبَّمَا قَالَ) ، أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا قَالَ) : وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ، أَيْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَتِهِ: إِذْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. اللَّهُمَّ أَنْجِ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِنْجَاءِ، أَيْ خَلِّصْ (الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ) : هُوَ أَخُو خَالِدٍ، أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، فَلَمَّا فُدِيَ أَسْلَمَ فَقِيلَ لَهُ: هَلَّا أَسْلَمْتَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَدَيَ؟ فَقَالَ: كَرِهَتْ أَنْ يُظَنَّ بِي أَنِّي إِنَّمَا أَسْلَمْتُ جَزَعًا، فَحُبِسَ بِمَكَّةَ ثُمَّ أَفْلَتَ مِنْ أَسْرِهِمْ بِدُعَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ) : بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهُوَ أَخُو أَبِي جَهْلٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَعُذِّبَ فِي اللَّهِ، وَمُنِعَ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. (وَعَيَّاشَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّة (ابْنَ أَبِي رَبِيعَةَ) : وَهُوَ أَخُو أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا فَأَوْثَقَهُ أَبُو جَهْلٍ بِمَكَّةَ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ جَدُّهُمُ الْمُغَيَّرَةُ، وَهُمْ أَسْبَاطٌ كُلُّ وَاحِدٍ ابْنُ عَمِّ الْآخَرِ، دَعَا لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجَاةِ مِنْ أَسْرِ كُفَّارِ مَكَّةَ وَقَهْرِهِمْ. (اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، أَيْ: شِدَّتَكَ وَعُقُوبَتَكَ (عَلَى مُضَرَ) ، أَيْ كُفَّارِهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَطْءُ فِي الْأَصْلِ الدَّوْسُ بِالْقَدَمِ، فَسُمِّيَ بِهِ الْغَزْوُ وَالْقَتْلُ ; لِأَنَّ مَنْ يَطَأْ عَلَى الشَّيْءِ بِرِجْلِهِ فَقَدِ اسْتَقْصَى فِي إِهْلَاكِهِ وَإِمَاتَتِهِ، وَالْمَعْنَى خُذْهُمْ أَخْذًا شَدِيدًا (وَاجْعَلْهَا) ، أَيْ وَطْأَتَكَ (سِنِينَ) : جَمَعْ سَنَةٍ وَهُوَ الْقَحْطُ، أَيْ: اجْعَلْ عَذَابَكَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ قَحْطًا عَظِيمًا سَبْعَ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ، (كَسِنِي يُوسُفَ) ، أَيْ كَسِنِي أَيَّامِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الْقَحْطِ الْعَامِّ فِي سَبْعَةِ أَعْوَامٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي وَاجْعَلْهَا إِمَّا لِلْوَطْأَةِ وَإِمَّا لِلْأَيَّامِ الَّتِي يَسْتَمِرُّونَ فِيهَا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَهُوَ (سِنِينَ) جَمْعُ سَنَةٍ بِمَعْنَى الْقَحْطِ، وَهِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا، وَسِنِي يُوسُفَ هِيَ السَّبْعُ الشِّدَادُ الَّتِي أَصَابَهُمْ فِيهَا الْقَحْطُ. (يَجْهَرُ بِذَلِكَ) ، أَيْ بِالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْقُنُوت فِي غَيْرِ الْوِتْرِ. قُلْتُ: لَكِنْ يُقَيَّدُ بِمَا إِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ وَحِينَئِذٍ لَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ: وَعَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لِقَوْمٍ بِأَسْمَائِهِمْ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ لَا يُفْسِدُهَا، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: الْقُنُوتُ مَسْنُونٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ دَائِمًا، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالِ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ كَعَدُوٍّ أَوْ قَحْطٍ أَوْ وَبَاءٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ ضَرَرٍ

ظَاهِرٍ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَنَتُوا فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وإِلا فَلَا. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ مَسْنُونِيَّتِهِ فِي الصُّبْحِ غَيْرُ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. (وَكَانَ يَقُولُ بَعْضَ صِلَاتِهِ) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الصُّبْحِ أَوْ فِي الْوِتْرِ أَوْ فِي غَيْرِهَا بَعْدَ الرُّكُوعِ وَقَبْلَهُ وَلَوْ قَبْل السَّلَامِ: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا "، لِأَحْيَاءٍ) ، أَيْ: لِقَبَائِلَ جَمْعُ حَيٍّ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ (مِنَ الْعَرَبِ) ، أَيْ: أَبْعِدْهُمْ وَاطْرُدْهُمْ عَنْ رَحْمَتِكَ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الدُّعَاءَ بِالْإِمَاتَةِ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ فُلَانًا يَقْتَضِي أَنَّهُ ذَكَرَهُمْ بِأَعْلَامِهِمْ، وَقَوْلُهُ: لِأَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ يَقْتَضِي أَنَّهُ ذَكَرَهُمْ بِذِكْرِ قَبَائِلِهِمْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِي قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ: عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رَعْلٍ إِلَخْ. قُلْتُ: لَا مَانِعَ مِنْ أَنَّهُ ذَكَرَ أَعْلَامًا خَاصَّةً فِي قَبَائِلِهِمُ الْعَامَّةِ، أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ بِ (فُلَانًا وَفُلَانًا) الْقَبَائِلَ نَفْسَهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لِأَحْيَاءٍ الْمُتَعَلِّقِ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ لِأَحْيَاءٍ، أَيْ: عَنْهُمُ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ (يَقُولُ) ، سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِمُ الْخَاصُّ أَوِ الْعَامُّ، (حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى) : كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ثُمَّ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ مُسْتَغْنى عَنْهُ لِصِحَّةِ تَعَلُّقِ حَتَّى بِقَوْلِهِ، وَكَانَ يَقُولُ الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، أَيْ: شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ هِدَايَةِ الْخَلْقِ بِمَعْنَى تَوْفِيقِهِمْ، وَمِنْ إِهْلَاكِ الْأَعْدَاءِ وَإِمَاتَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بِتَوْفِيقِهِمْ لِلْإِسْلَامِ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بِإِمَاتَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَسْلِيطِكَ عَلَيْهِمْ. (الْآيَةَ) : بِتَثْلِيثِهَا وَتَمَامِهَا، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] أَوْ بِمَعْنَى إِلَى أَنْ، أَيِ اصْبِرْ عَلَى مَا يُصِيبُكَ إِلَى أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، وَلْيَكُنْ رِضَاكَ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَلَا تَقُلْ وَلَا تَفْعَلْ شَيْئًا بِاخْتِيَارِك، كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1289 - «وَعَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ، كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، إِنَّهُ كَانَ بَعَثَ أُنَاسًا يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ، سَبْعُونَ رَجُلًا، فَأُصِيبُوا، فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1289 - (وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ الْأَحْوَلِ) : تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ) ، أَيْ: فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوِ الْوَتَرِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ النَّازِلَةِ (كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ) ، أَيْ: كَانَ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَرَّ أَنَّهُ صَحَّ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ فِي الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ رَوَاهُ بِعَدَدٍ أَكْثَرَ، قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنْ لَا عِبْرَةَ بِالْأَكْثَرِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَعْدِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ حَيْثُ قَالَ أَنَسٌ: (إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ) ، أَيْ: فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ مُطْلَقًا (شَهْرًا) ، أَيْ: فَقَطْ (إِنَّهُ) بِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِلتَّعْلِيلِ لِلتَّحْدِيدِ بِالشَّهْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ (كَانَ بَعَثَ) ، أَيْ: أَرْسَلَ (أُنَاسًا) ، أَيْ: جَمَاعَةً (يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ) : لِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهِمْ وَحِفْظِهِمْ لِلْقُرْآنِ (إِلَى أَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ) : لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامِ الْإِيمَانِ (سَبْعُونَ) ، أَيْ: هُمْ سَبْعُونَ (رَجُلًا) : مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ يُقِيمُونَ فِيهَا وَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانُوا أَرْدَاءً لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ لِوُصُولِهِمْ غَايَةً بَالِغَةً مِنَ الشَّجَاعَةِ، وَكَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ، وَهُمْ قَوْمٌ غُرَبَاءُ فُقَرَاءُ زُهَّادٌ كَانُوا يَأْوُونَ فِي صِفَةِ آخِرِ مَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِظُلَلٍ يَبِيتُونَ فِيهَا يُكْثِرُونَ بِمَنْ يَقْدَمُ وَيُقِلُّونَ بِمَنْ يَمُوتُ، أَوْ يُسَافِرُ أَوْ يَتَزَوَّجُ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجرٍ أَنَّهُمْ مَا يَزِيدُونَ عَلَى السَبْعِينَ، بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيِقْرَأُوا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلُوا بِئْرَ مَعُونَةَ وَهِيَ

مَوْضِعٌ بِبِلَادٍ هُذَيْلٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ، فَصَدَّهُمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فِي أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُليْمٍ عُصَيَّةَ وَرِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَالْقَارَةِ فَقَاتَلُوهُمْ، (فَأُصِيبُوا) ، أَيْ: قُتِلُوا جَمِيعًا وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا كَعْبُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ فَإِنَّهُ تَخَلَّصَ وَبِهِ رَمَقٌ، وَظَنُّوا أَنَّهُ مَاتَ فَعَاشَ حَتَّى اسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَلَمْ يُوجَدْ جَسَدُهُ دَفَنَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَكَانَتِ الْوَاقِعَةُ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزْنًا شَدِيدًا. قَالَ أَنَسٌ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى أَحَدٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ. (فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ) ، أَيْ: عَلَى قَاتِلِيهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَهُمْ، أَيْ: لِهِدَايَتِهِمْ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى عَلَيْهِمْ يَعْنِي ثُمَّ لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصُّبْحِ أَبَدًا أَوْ مُطْلَقًا بَعْدَ الرُّكُوعِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: ثُمَّ تَرَكَهُ، أَيْ تَرَكَ الْقُنُوتَ مُطْلَقًا، أَوْ تَرَكَ الْقُنُوتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، أَوْ تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَعَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: «دَعَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلَاثِينَ صَبَاحًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَلِحْيَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ، وَأَعْتُرِضَ عَلَى ذِكْرِ لِحْيَانَ هُنَا فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ أَصَابَ الْقُرَّاءَ يَوْمئِذٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الَّذِي أَصَابَهُمْ لِحْيَانُ بَعْثُ الرَّجِيعِ، وَإِنَّمَا أَتَى الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَدَعَا عَلَى الَّذِينَ أَصَابُوا أَصْحَابَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ دُعَاءً وَاحِدًا، وَسَبَبُ هَذَا الْبَعْثِ أَنَّ قَوْمًا مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمْ مَنْ يُفَقِّهُهُمْ، فَبَعَثَ مَعَهُمْ سِتَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْا عَلَى الرَّجِيعِ - مَاءٍ لِهُذَيْلٍ بِالْهَرَاةِ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ - فَأَتَاهُمْ بَنُو لِحْيَانَ - بَطْنٌ مِنْ هُذَيْلٍ - فَقَتَلُوا عَاصِمًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى دَارِهِمْ، وَأَسَرُوا خُبَيْبًا، وَزَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ، فَبَاعُوهُمْ بِمَكَّةَ. وَتَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ تُوهِمُ أَيْضًا أَنَّ بَعْثَ الرَّجِيعِ وَبِئْرَ مَعُونَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَرَّرَ، وَإِنَّمَا أَدْمَجَهُمَا مَعًا لِقُرْبِهَا مِنْهَا، بَلْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ صَفَرٌ عَلَى رَأْسِ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ. الْفَصْلُ الثَّانِي الْفَصْلُ الثَّانِي

1290 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مَنْ بَنِي سُلَيْمٍ، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1290 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَتَابِعًا) ، أَيْ: مُوَالِيًا فِي أَيَّامِهِ أَوْ فِي صَلَاتِهِ (فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذَا قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) : وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ كَمَا تَقَدَّمَ. (مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: الْأَخِيرَةِ (يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ) : مُصَغَّرٌ (عَلَى رِعْلٍ) : بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ، بَطْنٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، (وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (وَيُؤَمِّنُ) ، أَيْ: يَقُولُ: آمِينَ (مَنْ خَلْفَهُ) ، أَيْ: مِنَ الْمَأْمُومِينَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الْفَرْضِ لَيْسَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، بَلْ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ مِنْ قَحْطٍ وَغَلَبَةِ عَدُوٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1291 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1291 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا) ، أَيْ: بَعْدَ الرُّكُوعِ كَمَا سَبَقَ. (ثُمَّ تَرَكَهُ) ، أَيْ: الْقُنُوتَ فِي الْفَرْضِ مُطْلَقًا، أَوْ تَرَكَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِي مُسْلِمٍ أَتَمُّ مِنْ هَذَا، وَلَيْسَ فِيهِ ثُمَّ تَرَكَهُ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنْ لَا يُقْنَتَ فِي الصَّلَوَاتِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي بَعْدَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُقْنَتُ فِي الصُّبْحِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ نَزَلَتْ نَازِلَةٌ بِالْمُسْلِمِينَ قَنَتَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَرَكَهُ، أَيْ: تَرَكَ اللَّعْنَ وَالدُّعَاءَ عَلَى الْقَبَائِلِ، أَوْ تَرْكَهُ فِي الصَّلَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ فِي

الصُّبْحِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْخِلَافِيَّةُ الثَّانِيَةُ لَهُ، أَيْ: لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا حَدِيثُ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لِأَنَّا أَقْرُبُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَمَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ. وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فَيَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: " اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِّي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكَتْ وَتَعَالَيْتَ» ". وَفِي هَذَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا وَعَافِنَا بِالْجَمْعِ خِلَافَ الْمَنْقُولِ، لَكِنَّهُمْ لَفَّقُوهُ مِنْ حَدِيثٍ فِي حَقِّ الْإِمَامِ عَامٌ لَا يَخُصُّ الْقُنُوتَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، وَهُوَ إِمَامٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ مُنْفَرِدًا لِيَحْفَظَ الرَّاوِي مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ يُفِيدُ الْمُوَاظِبَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّهُ رُوِيَ يَعْنِي الْقُنُوتَ فِي الْفَجْرِ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلَ: عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَأَنَسٍ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَائِشَةَ، وَقَالَ: ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَكَرَ جَمَاعَةً مِنَ التَّابِعِينَ، وَالْجَوَابُ أَوَّلًا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ الَّذِي هُوَ النَّصُّ فِي مَطْلُوبِهِمْ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِعَبْدِ اللَّهِ هَذَا، ثُمَّ نَقُولُ فِي دَفْعِ مَا قَبْلَهُ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ تَمَسُّكًا بِمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْقَصَّابِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «لَمْ يَقْنُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّبْحِ إِلَّا شَهْرًا، ثُمَّ تَرَكَهُ لَمْ يَقْنُتْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ» . وَحَاصِلُ تَضْعِيفِهِمْ، أَيِ الشَّافِعِيَّةِ إِيَّاهُ، أَيِ الْقَصَّابَ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرُ الْوَهْمِ، قُلْنَا: بِمِثْلِ هَذَا ضَعَّفَ جَمَاعَةٌ أَبَا جَعْفَرٍ فَكَافَأَهُ الْقَصَّابُ، ثُمَّ يُقَوِّي ظَنَّ ثُبُوتِ مَا رَوَاهُ الْقَصَّابُ، أَنَّ شَبَابَةَ رَوَى عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: «قُلْنَا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: إِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ، فَقَالَ: كَذَبُوا إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا وَاحِدًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ، فَهَذَا عَنْ أَنَسٍ صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضَةِ رِوَايَةٍ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْهُ، وَفِي أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَيَزْدَادُ اعْتِضَادُهُ، بَلْ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ مَا نَسِينَاهُ لِأُنْسٍ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْقُنُوتِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَقْنُتُ إِلَّا إِذَا دَعَا لِقَوْمٍ أَوْ دَعَا عَلَيْهِمْ» ، وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ، قَالَهُ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ. وَأَنصُّ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْنُتْ فِي الْفَجْرِ قَطُّ إِلَّا شَهْرًا وَاحِدًا لَمْ يُرَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا قَنَتَ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ يَدْعُو عَلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ، فَهَذَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَنَسٌ نَفْسُهُ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ، كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ غَالِبِ بْنِ فَرَقَدٍ الطَّحَّانِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ شَهْرَيْنِ، فَلَمْ يَقْنُتْ فِي صَلَاةِ الْغَدْوَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ النَّسْخُ وَجَبَ حَمْلُ الَّذِي عَنْ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ إِمَّا عَلَى الْغَلَطِ أَوْ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» "، أَيْ: الْقِيَامُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِيَامًا، وَالْإِشْكَالُ نَشَأَ مِنِ اشْتِرَاكِ لَفْظِ الْقُنُوتِ بَيْنَ مَا ذُكِرَ وَبَيْنَ الْخُضُوعِ وَالسُّكُوتِ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى قُنُوتِ النَّوَازِلِ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي النَّوَازِلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ: كَانَ لَا يَقْنُتُ إِلَّا إِذَا دَعَا إِلَخْ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ تَرَكَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ يَعْنِي الدُّعَاءَ عَلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ لَا مُطْلَقًا. وَأَمَّا قُنُوتُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْوِيُّ فَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ أَنَّ الْقُنُوتَ وَالدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الْكَافِرِينَ قَدْ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ لِاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ الْقُنُوتَ الْمُسْتَمِرَّ لَيْسَ بِسَنِّ الدُّعَاءِ لِهَؤُلَاءِ وَلَا عَلَى هَؤُلَاءِ فِي كُلِّ صَبَاحٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرِ لَفْظِ الرَّاوِي، مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَّا أَنْ يَدْعُوَ لِقَوْمٍ أَوْ عَلَى قَوْمٍ» وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ، فَلَزِمَ أَنَّ مُرَادَهُ مَا قُلْنَا أَوْ بَقَاءُ قُنُوتِ النَّوَازِلِ ; لِأَنَّ قُنُوتَهُ الَّذِي رَوَاهُ كَانَ كَقُنُوتِ النَّوَازِلِ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ نَذْكُرُهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْعَزِيزُ.

1292 - وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ! «إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، هَاهُنَا بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، أَكَانُوا يَقْنُتُونَ؟ قَالَ، أَيْ بُنَيَّ! مُحْدَثٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1292 - (وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ) : قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: وَالِدُهُ صَحَابِيٌّ، وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ طَارِقِ بْنِ الْأَشْيَمِ عَلَى وَزْنِ الْأَحْمَرِ، (قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ!) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا (إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ) ، أَيْ: بِالْمَدِينَةِ كَثِيرًا (وَعَلِيٍّ) ، أَيْ: وَصَلَّيْتَ خَلْفَ عَلِيٍّ (هَاهُنَا بِالْكُوفَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا ظَرْفَانِ، مُتَعَلِّقَانِ بِقَوْلِهِ: " وَعَلِيٍّ " عَلَى أَنَّ الْعَطْفَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعْدِيدِ دُونَ الِانْسِحَابِ ; لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ وَحْدَهُ بِالْكُوفَةِ. (نَحْوًا) ، أَيْ: قَدْرًا (مِنْ خَمْسِ سِنِينَ) ، أَيْ: مُدَّةَ مَجْمُوعِ أَيَّامِ مُلَازَمَةِ الْجَمِيعِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَرْبَعُ سِنِينَ وَأَشْهُرٌ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مُدَّةَ خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَكَانُوا يَقْنُتُونَ؟) ، أَيْ: فِي الصُّبْحِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَكَانُوا بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَبِإِسْقَاطِهَا فِي نَسْخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: وَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ اهـ. فَالسُّؤَالُ مُقَدَّرٌ، وَفِي ضِمْنِ الْجُمْلَةِ مُضْمَرٌ. قَالَ، أَيْ: أَبِي (أَيْ بُنَيَّ!) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا (مُحْدَثٌ) : بِفَتْحِ الدَّالِ، أَيْ: الْقُنُوتُ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهُ بَعْضُ التَّابِعِينَ، قِيلَ: لَا يَلْزَمُ نَفْيُ الْقُنُوتِ مِنْ نَفْيِ هَذَا الصَّحَابِيِّ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي آخِرِ الصَّفِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَسْمَعِ الْقُنُوتَ يَعْنِي: وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، وَقِيلَ: يُرِيدُ نَفْيَ الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ وَالْوَتْرِ، وَهُوَ أَبْعَدُ أَوْ سَمِعَ كَلِمَاتٍ لَمْ يَسْمَعْهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَنْكَرَهَا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ إِطْلَاقُ جَوَابِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذَا الصَّحَابِيِّ، فَأَنْكَرَهَا. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ إِطْلَاقُ جَوَابِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذَا الصَّحَابِيِّ نَفْيُ الْقُنُوتِ وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ بِالنَّفْيِ، وَقَدْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ بِالْإِثْبَاتِ مِثْلُ: الْحَسَنِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْأَجْوِبَةِ، وَسَيَأْتِيكَ بَقِيَّتُهَا، وَمِنْ أَغْرَبِ مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ تَرْكَ الْقُنُوتِ مُحْدَثٌ وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِرَدِّهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَقْنُتْ فِي شَيْءٍ مِنْ صِلَاتِهِ» ضَعِيفٌ، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ» ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: مَا أَحْفَظُهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. مُعَارَضٌ بِمَنْ حَفِظَهُ، قُلْتُ: أَقَلُّ مَا يُقَالُ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا، وَالْأَصْلُ وَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْقُنُوتِ. (وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَيْفَ يَكُونُ الْقُنُوتُ سُنَّةً رَاتِبَةً جَهْرِيَّةً، وَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ فَلَمْ يَقْنُتْ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ! إِنَّهَا بِدْعَةٌ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. بِاللَّفْظِ الَّذِي تَقَدَّمَ، قَالَ: وَهُوَ أَيْضًا يَنْفِي قَوْلَ الْحَازِمِيِّ فِي أَنَّ الْقُنُوتَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ عَلَيْهِ الْجُمْهُورَ مَعَارَضٌ بِقَوْلِ حَافِظٍ آخَرَ إِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى عَدَمِهِ. قُلْتُ: بَلِ الْجُمْهُورُ هُمُ الْخُلَفَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، فَمَنْ يَصْلُحُ بَعْدَهُمْ أَنْ يُسَمَّى جُمْهُورًا؟ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ، وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمَّا قَنَتَ فِي الصُّبْحِ أَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا، وَفِيهِ زِيَادَةٌ أَنَّهُ كَانَ مُنْكَرًا عِنْدَ النَّاسِ، وَلَيْسَ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ إِلَّا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ، وَأُخْرِجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْنُتُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَأُخْرِجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي قُنُوتِ الْفَجْرِ: مَا شَهِدْتُ وَمَا عَلِمْتُ، وَمَا أَسْنَدَ الْحَازِمِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْقُنُوتِ فَقَالَ: أَمَّا أَنَّهُ قَنَتَ مَعَ أَبِيهِ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَبِرْنَا وَنَسِينَا، وَأَتُوا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبَ فَسَلُوهُ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ لِمَا صَحَّ عَنْهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ صَحِبَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَنَتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَلَمْ يَرَهُ قَانِتًا فِي الْفَجْرِ، وَهَذَا سَنَدٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ،

وَنِسْبَةُ ابْنِ عُمَرَ إِلَى النِّسْيَانِ فِي مِثْلِ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا يَقْرُبُ ادِّعَاؤُهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تُسْمَعُ وَتُحْفَظُ، وَالْأَفْعَالُ الَّتِي تُفْعَلُ أَحْيَانًا فِي الْعُمْرِ، أَمَّا فِعْلٌ يَقْصِدُ الْإِنْسَانُ إِلَى فِعْلِهِ كُلَّ غَدْوَةٍ مَعَ خَلْقٍ كُلُّهُمْ يَفْعَلُهُ مِنْ صُبْحٍ إِلَى صُبْحٍ يَنْسَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَقُولُ: مَا شَهِدْتُ وَلَا عَلِمْتُ وَيَتْرُكُهُ مَعَ أَنَّهُ يُصْبِحُ فَيَرَى غَيْرَهُ يَفْعَلُهُ فَلَا يَتَذَكَّرُ، فَلَا يَكُونُ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الْعَقْلِ، وَبِمَا قَدَّمْنَاهُ إِلَى هُنَا يَقْطَعُ بِأَنَّ الْقُنُوتَ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً رَاتِبَةً ; إِذْ لَوْ كَانَ رَاتِبَةً لَفَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُلَّ صُبْحٍ يَجْهَرُ بِهِ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، أَوْ يَسَّرَ بِهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذَا الِاخْتِلَافِ، بَلْ كَانَ سَبِيلَهُ أَنْ يُنْقَلَ كَنَقْلِ جَهْرِ الْقِرَاءَةِ وَمُخَافَتَتِهَا، وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، فَإِنَّ مُوَاظَبَتَهُ عَلَى وُقُوفِهِ بَعْدَ فَرَاغِ جَهْرِ الْقِرَاءَةِ زَمَانًا سَاكِتًا فِيمَا يَظْهَرُ كَقَوْلِ مَالِكٍ، كَمَا يُدْرِكُهُ مَنْ خَلْفَهُ، وَتَتَوَفَّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى سُؤَالِ أَنَّ ذَلِكَ لِمَاذَا، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ فِي تَوْجِيهِ نِسْبَةِ سَعِيدٍ النِّسْيَانَ لِابْنِ عُمَرَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ أَنْ يُرَادَ قُنُوتُ النَّازِلَةِ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ نَفَى الْقُنُوتَ مُطْلَقًا فَقَالَ سَعِيدٌ: قَنَتَ مَعَ أَبِيهِ يَعْنِي فِي النَّازِلَةِ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يُوَاظِبُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ لُزُومِ سَبَبِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ قَنَتَ عِنْدَ مُحَارَبَةِ الصَّحَابَةِ مُسَيْلِمَةَ، وَعِنْدَ مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ قَنَتَ عُمَرُ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ فِي مُحَارَبَةِ مُعَاوِيَةَ، وَمُعَاوِيَةُ فِي مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1293 - عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، فَإِذَا كَانَتِ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: أَبَقَ أُبَيٌّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1293 - - (عَنِ الْحَسَنِ) ، أَيِ الْبَصْرِيِّ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، جَمَعَ النَّاسَ) ، أَيِ: الرِّجَالَ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَجَمَعَهُنَّ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ كَمَا سَيَأْتِي (عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) : وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا الْفَصْلَ، (فَكَانَ) ، أَيْ: أُبَيٌّ (يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: مِنَ الشَّهْرِ يَعْنِي مِنْ رَمَضَانَ (وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ) ، أَيْ: فِي الْوَتْرِ، وَلَعَلَّهُ مُقَيَّدٌ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْكَفَّارِ لِمَا مَرَّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ السُّنَّةَ إِذَا انْتَصَفَ رَمَضَانُ أَنْ يُلْعَنَ الْكَفَرَةُ فِي الْوَتْرِ، ثُمَّ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي اخْتِيَارِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفَاؤُلًا بِزَوَالِهِمْ وَانْتِقَالِهِمْ مِنْ مَحَالِلِهِمْ وَانْتِقَاصِهِمْ، كَمَا اخْتِيرَ النِّصْفُ الْأَخِيرُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ لِلْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ مِنْ خُرُوجِ الدَّمِ لِخُرُوجِ الْمَرَضِ وَزَوَالِ الْعَاهَةِ. (إِلَّا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي) ، أَيِ: الْأَخِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ بِلَفْظِ الثَّانِي، وَهُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّ الْبَاقِيَ مُوهِمٌ وَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ، (فَإِذَا كَانَتِ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ يَتَخَلَّفُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: تَخَلَّفَ بِالْمَاضِي، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ وَهُوَ الظَّاهِرُ. (فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهَا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ، (فَكَانُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ (يَقُولُونَ: أَبَقَ أُبَيٌّ) ، أَيْ: هَرَبَ عَنَّا، قَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِمْ: أَبَقَ إِظْهَارُ كَرَاهِيَةِ تَخَلُّفِهِ فَشَبَّهُوهُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140] سَمَّى هَرَبَ يُونُسَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ إِبَاقًا مَجَازًا، وَلَعَلَّ تَخَلُّفَ أُبَيٍّ كَانَ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ صَلَّاهَا بِالْقَوْمِ ثُمَّ تَخَلَّفَ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِيهِ أَنَّ تَخَلُّفَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لِعِلَّةٍ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِتَخَلُّفِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حُدُوثِ عُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ لَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَ عُذْرُهُ أَنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ التَّخَلِّيَ فِي هَذَا الْعَشْرِ الَّذِي لَا أَفْضَلَ مِنْهُ لِيَعُودَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ فِي خَلْوَتِهِ فِيهِ مَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ فِي جَلْوَتِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلِلْمَتْنِ طُرُقٌ أُخْرَى ضَعَّفَهَا النَّوَوِيُّ، وَفِي الْخُلَاصَةِ، وَمَا أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ: كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ إِلَخْ، ضَعِيفٌ بِأَبِي عَاتِكَةَ، وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، مَعَ أَنَّهُ الْقُنُوتُ فِيهِ

وَفِيمَا قَبْلَهُ يَحْتَمِلُ كَوْنُهُ طُولَ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لِلنِّصْفِ الْأَخِيرِ بِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ، فَهَذَا الْمَعْنَى يَمْنَعُ تَبَادُرَ الْمُتَنَازِعِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ يَعْنِي لِيَكُونَ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَوْ مَعَ ضَعْفِهِ، وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ الْمُخَرَّجُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوَتْرِ» ، الْحَدِيثَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّةِ الْأُولَى مَا هُوَ أَنَصُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى قُنُوتِ الْوَتْرِ مِنْ هَذَا، فَارْجِعْ إِلَيْهِ تَسْتَغْنِ عَنْ هَذَا فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ، يَعْنِي فَإِنَّ هَذَا مُطْلَقٌ قَابِلٌ لِلتَّقْيِيدِ.

1294 - وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1294 - (وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ) ، أَيْ: عَنْ مَحَلِّهِ فِي الصُّبْحِ أَوِ الْوَتْرِ أَوْ فِيهِمَا؟ (فَقَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَهْرًا فَقَطْ يَعْنِي فِي الصُّبْحِ بِدَلِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، قُلْتُ: أَكَانَ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ فِي الْوَتْرِ؟ قَالَ: قَبْلَهُ. قُلْتُ: فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَهُ؟ قَالَ: كَذَبَ، «إِنَّمَا قَنَتَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ الرُّكُوعِ، أَيْ فِي الصُّبْحِ شَهْرًا» اهـ. وَعَاصِمٌ كَانَ ثِقَةً جِدًّا، وَلَا مُعَارَضَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ أَنَسٍ، بَلْ هَذِهِ تَصْلُحُ مُفَسِّرَةً لِلْمُرَادِ بِمَرْوِيِّهِمْ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَهُ، وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرَهُمْ عَلَى وَفْقِ مَا قُلْنَا، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْوَتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: قَبْلَ الرُّكُوعِ) ، أَيْ: فِي الْوَتْرِ (وَبَعْدَهُ) ، أَيْ: فِي الصُّبْحِ، وَقْتَ قُنُوتِ النَّازِلَةِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب قيام شهر رمضان]

[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1295 - عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: " مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [37] بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْ قِيَامِ لَيَالِيهِ وَإِحْيَائِهَا بِالْعِبَادَةِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي الْبَابِ قِيَامُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1295 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ) ، أَيْ: فِي رَمَضَانَ (حُجْرَةً) : بِالرَّاءِ، وَذَكَرَ الْأَبْهَرِيُّ قَالَ الشَّيْخُ لِلْأَكْثَرِ بِالرَّاءِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالزَّايِ (فِي الْمَسْجِدِ) ، أَيْ: فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (مِنْ حَصِيرٍ) ، أَيْ: لِصَلَاتِهِ تَطَوُّعًا وَانْفِرَادِهِ لِلذِّكْرِ وَالْفِكْرِ تَضَرُّعًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: حَجَرَ عَلَى مَحَلِّهِ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ بِحَصِيرٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ لِمَا فِي الْخَلْوَةِ مِنَ الْأَسْرَارِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْجِلْوَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ بِالنَّاسِ أَفْضَلُ مِنِ اعْتِزَالِهِمْ مَحَلُّهُ فِي اعْتِزَالِهِمُ الدَّائِمِ، أَمَّا الِاعْتِزَالُ عَنْهُمْ فِي أَوْقَاتٍ فَاضِلَةٍ أَوْ مِنْ شَأْنِهَا الِاعْتِزَالُ فِيهَا، وَلَا ضَرُورَةَ بِهِمْ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي وَقْتِ اعْتِزَالِهِ، وَإِنِ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ أَمْكَنَهُمْ سُؤَالُهُ وَالْفَوْزُ بِمَآرِبِهِمْ مِنْهُ، أَوْ لِتَعْلِيمِهِمْ، إِيثَارَ الِاعْتِزَالِ فِي مِثْلِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، فَذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْرُقَهُ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا، وَجَعَلَ الْحَصِيرَ لِيَحْجِزَهُ عَنِ النَّاسِ حَالَ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَالسَّآمَةِ، وَلَيْسَ لَهُ دَخْلٌ أَبَدًا فِي مَسْأَلَةِ الِاعْتِزَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْحُجْرَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ أَوْ نَحْوِهِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنْ لَا يَحْجِزَ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا يَسَعُهُ وَإِلَّا حَرُمَ ; لِأَنَّ أَخْذَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنَّ مَحَلَّهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَحْتَاجُ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَوْ نَادِرًا، أَمَّا لَوْ عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّ النَّاسَ وَإِنْ كَثُرُوا فِي الْمَسْجِدِ لَا يَحْتَاجُونَ لَمَا أَخَذَهُ، فَلَا تَتَّجِهُ الْحُرْمَةُ حِينَئِذٍ اهـ. وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ مَنْ يُضَيِّقُ عَلَى الْأَنَامِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيَّامَ الْحَجِّ.

(فَصَلَّى فِيهَا) ، أَيْ: فِي تِلْكَ الْحُجْرَةِ (لَيَالِيَ) ، أَيْ: مِنْ رَمَضَانَ (حَتَّى اجْتَمَعَ) ، أَيْ: فَكَانَ يَخْرُجُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْهَا وَيُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ فِي الْفَرَائِضِ وَالتَّرَاوِيحِ، حَتَّى اجْتَمَعَ (عَلَيْهِ نَاسٌ) ، أَيْ: وَكَثُرُوا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هَاهُنَا: فَأْتَمُّوا بِهِ، مُوهِمٌ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ وَقَعَ بِهِ، وَهُوَ فِي دَاخِلِ الْحُجْرَةِ، وَهُوَ مَحَلُّ بَحْثٍ وَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. (ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ) ، أَيْ: حِسَّهُ (لَيْلَةً) : بِأَنْ دَخَلَ الْحُجْرَةَ بَعْدَمَا صَلَّى بِهِمُ الْفَرِيضَةَ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ سَاعَةٍ لِلتَّرَاوِيحِ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ، (وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ) : فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا اعْتِيدَ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي مِنَ التَّنَحْنُحِ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي دُخُولِهِ، أَوْ إِلَى الْإِعْلَامِ بِوُجُودِ الْمُتَنَحْنِحِ بِالْبَابِ، أَوْ بِطَلَبِهِ خُرُوجَ مَنْ قَصَدَهُ إِلَيْهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ، (لِيَخْرُجَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُجْرَةِ (إِلَيْهِمْ) : لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهَا كَمَا فِي اللَّيَالِي الْمَاضِيَةِ. (فَقَالَ) ، أَيْ: وَهُوَ فِيهَا أَوِ التَّقْدِيرُ فَخَرَجَ، فَقَالَ: (مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ) : بِكُمْ: خَبَرُ زَالَ قُدِّمَ عَلَى الِاسْمِ وَهُوَ الْمَوْصُولُ بِصِلَتِهِ، أَيْ أَبَدًا ثَبَتَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ (مِنْ صَنِيعِكُمْ) : مِنْ شِدَّةِ حِرْصِكُمْ فِي إِقَامَةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بِالْجَمَاعَةِ، وَ (مِنْ) بَيَانٌ لِلَّذِي (حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ) ، أَيْ: يُفْرَضَ (عَلَيْكُمْ) ، أَيْ: لَوْ وَاظَبْتُ عَلَى إِقَامَتِهَا بِالْجَمَاعَةِ لَفُرِضَتْ عَلَيْكُمْ، (وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ) ، أَيْ: ذَلِكَ (مَا قُمْتُمْ بِهِ) : وَلَمْ تُطِيقُوهُ بِالْجَمَاعَةِ كُلُّكُمْ لِعَجْزِكُمْ، وَفِيهِ بَيَانُ رَأْفَتِهِ لِأُمَّتِهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ جَمَاعَةً وَانْفِرَادًا، وَالْأَفْضَلُ فِي عَهْدِنَا الْجَمَاعَةُ لِكَسَلِ النَّاسِ، قِيلَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرِيضَةٌ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ وَاظَبُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ افْتِرَاضُهَا مُعَلَّقًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى دَوَامِ إِظْهَارِهَا جَمَاعَةً اهـ. وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ. (فَصَلُّوا، أَيُّهَا النَّاسُ) : أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ (فِي بُيُوتِكُمْ) : فَإِنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلنَّوَافِلِ لِكَوْنِهَا أَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ، (فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ) : وَهَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ إِلَّا النَّوَافِلَ الَّتِي مِنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، كَالْعِيدِ، وَالْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ. (فِي بَيْتِهِ) : خَبَرُ إِنَّ، أَيْ: صَلَاتُهُ فِي بَيْتِهِ. (إِلَّا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ) ، أَيِ: الْمَفْرُوضَةُ فَإِنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهِ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا فَقَالُوا: يُسَنُّ فِعْلُ النَّوَافِلِ الَّتِي لَا تُسَنُّ فِيهَا الْجَمَاعَةُ فِي الْبَيْتِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوِ الْكَعْبَةَ وَالرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ ; لِأَنَّ فَضِيلَةُ الِاتِّبَاعِ تَرْبُو عَلَى فَضِيلَةِ الْمُضَاعَفَةِ، وَلِتَعُودَ بَرَكَتُهَا عَلَى الْبَيْتِ، وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَإِنْ خَلَا الْمَسْجِدُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَعْبَةَ وَالرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ تُسْتَثْنَيَانِ لِلْغُرَبَاءِ لِعَدَمِ حُصُولِهِمَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَتُغْتَنَمُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَهُ أَئِمَّتُنَا: إِنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَهُ مِيرَكُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ " وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ زَمَنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَزَمَنَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ جَمَعَ عُمَرُ الرِّجَالَ عَلَى أُبَيٍّ، وَالنِّسَاءَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ أَمَرَ أُبَيًّا وَتَمِيمًا أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ، فَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِائَتَيْنِ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَا مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي جَمْعِهِ النَّاسَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هِيَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا، فَإِنَّ هَذَا الِاجْتِمَاعَ مُحْدَثٌ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَتْ بِدْعَةً ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِصَلَاتِهَا فِي بُيُوتِهِمْ لِعِلَّةٍ هِيَ خَشْيَةُ الِافْتِرَاضِ، وَقَدْ زَالَتْ بِمَوْتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ عُمَرُ أَوَائِلَ خِلَافَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهَا أَفْضَلُ، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ فِيهِ، أَيْ: إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَخَالَفَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهَا كُلُّهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ، وَقِيلَ: الِانْفِرَادُ فِيهَا أَفْضَلُ. قَالُوا: وَمَحَلُّهُ فِيمَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَخَافُ النَّوْمَ وَالْكَسَلَ وَلَا تَخْتَلُّ جَمَاعَةُ الْمَسْجِدِ بِفَقْدِهِ.

1296 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْغَبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1296 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْغَبُ) : مِنَ التَّرْغِيبِ (فِي قِيَامِ رَمَضَانَ) ، أَيْ: فِي قِيَامِ إِحْيَاءِ لَيَالِيهِ بِالتَّرَاوِيحِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ) ، أَيْ: بِعَزْمٍ وَبَتٍّ وَقَطْعٍ يَعْنِي بِفَرِيضَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَزِيمَةُ وَالْعَزْمُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، (فَيَقُولُ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ) ، أَيْ: أَحْيَا لَيَالِيَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَأَوْ أَتَى بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَهُوَ التَّرَاوِيحُ، أَوْ قَامَ إِلَى صَلَاةِ رَمَضَانَ (إِيمَانًا) ، أَيْ: مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَمُصَدِّقًا بِأَنَّهُ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ (وَاحْتِسَابًا) ، أَيْ: مُحْتَسِبًا بِمَا فَعَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ غَيْرَهُ، يُقَالُ: احْتَسَبَ بِالشَّيْءِ، أَيِ اعْتَدَّ بِهِ فَنَصَبَهُمَا عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، أَيْ: تَصْدِيقًا بِاللَّهِ وَإِخْلَاصًا وَطَلَبًا لِلثَّوَابِ. (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) : زَادَ أَحْمَدُ: " وَمَا تَأَخَّرَ "، أَيْ: مِنَ الصَّغَائِرِ، وَيُرْجَى غُفْرَانُ الْكَبَائِرِ. (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: قُبِضَ (وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ) ، أَيِ: التَّفَرُّقِ وَعَدَمِ الْجَمَاعَةِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَعْنِي: كَانُوا يُصَلُّونَ التَّرَاوِيحَ مُنْفَرِدِينَ بَعْضُهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، إِمَّا لِكَوْنِهِمْ مُعْتَكِفِينَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْمُفْرِدِينَ، أَوْ لِأَنَّ لَهُمْ فِي الْبَيْتِ مَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ الْعِبَادَةِ، فَيَكُونُونَ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُغْتَنِمِينَ، فَلَا مُخَالَفَةَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِيَّاهُمْ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي بُيُوتِهِمْ. (ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ) ، أَيْ: عَلَى وَفْقِ زَمَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ) ، أَيْ: جَمِيعِ زَمَانِهَا (وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ) ، أَيْ: فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ، وَصَدْرُ الشَّيْءِ وَوَجْهُهُ أَوَّلُهُ (عَلَى ذَلِكَ) ، أَيْ: عَلَى مَا ذُكِرَ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مَعَ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1297 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا ; فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صِلَاتِهِ خَيْرًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1297 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ) ، أَيْ: أَدَّاهَا، وَالْ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيِ: الْمَكْتُوبَةَ، كَذَا، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ (فِي مَسْجِدِهِ) : وَانْصَرَفَ عَنْهَا وَلَهُ بَيْتٌ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، (فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا) ، أَيْ: حِصَّةً وَحَظًّا (مِنْ صِلَاتِهِ) ، أَيْ: لِيَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَةِ صَلَاتِهِ بِأَنْ يُصَلِّيَ النَّوَافِلَ وَالسُّنَنَ فِيهِ، بَلِ الْقَضَاءُ أَيْضًا (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَاعِلٌ) ، أَيْ: خَالِقٌ أَوْ مُصَيِّرٌ (فِي بَيْتِهِ مِنْ صِلَاتِهِ) ، أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا (خَيْرًا) : يَعُودُ عَلَى أَهْلِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ وَنُزُولِ الْبَرَكَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ، وَلِذَا جَعَلَ النَّفْلَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ خَالِيًا بَعِيدًا عَنِ الرِّيَاءِ كَذَا، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَسْجِدٍ لَا تُضَاعَفُ فِيهِ الْحَسَنَةُ، أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَخُصُّ الْمُضَاعَفَةَ بِالْفَرِيضَةِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَخَافُ الرِّيَاءَ، أَوْ دَفْعًا لِوَهْمِ النِّفَاقِ، أَوْ حَثًّا عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فِي الْجُمْلَةِ مِنَ النَّوَافِلِ، وَمَعَ هَذَا تُسْتَثْنَى التَّرَاوِيحُ بِالِاتِّفَاقِ لِمَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِمَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَإِيرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ مُوهَمٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1298 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ "، فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ، جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السَّحُورُ. ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ ; إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرْ: ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1298 - (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: فِي رَمَضَانَ (فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ) ، أَيْ: لَمْ يُصَلِّ بِنَا غَيْرَ الْفَرِيضَةِ مِنْ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْفَرْضَ دَخَلَ حُجْرَتَهُ، (حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ) ، أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَمَضَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: سَبْعَ لَيَالٍ نَظَرًا إِلَى الْمُتَيَقَّنِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَيَكُونُ الْقِيَامُ فِي قَوْلِهِ: (فَقَامَ بِنَا) : لَيْلَةَ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ (حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ) : فَصَلَّى وَذَكَرَ اللَّهَ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَتَكَلَّمَ بِالْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِقِ وَدَقَائِقِ الْبَيَانِ، (فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ) ، أَيْ: مِمَّا بَقِيَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ، أَيْ: فَلَمَّا كَانَتِ الْبَاقِيَةُ السَّادِسَةَ، أَيِ: اللَّيْلَةَ السَّادِسَةَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ (لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ) : وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ، قَالَ صَاحِبُ الْمَفَاتِيحِ: فَحَسَبَ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ وَهُوَ لَيْلَةُ الثَلَاثِينَ إِلَى آخِرِ سَبْعِ لَيَالٍ، وَهُوَ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ (قَامَ بِنَا، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ) ، أَيْ: نِصْفُهُ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ نَفَّلْتَنَا) : بِالتَّشْدِيدِ (قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟) : وَفِي رِوَايَةٍ: بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا، أَيْ: لَوْ جَعَلْتَ بَقِيَّةَ اللَّيْلِ زِيَادَةً لَنَا عَلَى قِيَامِ الشَّطْرِ، وَفِي النِّهَايَةِ: لَوْ زِدْتَنَا مِنَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ، سُمِّيَتْ بِهَا النَّوَافِلُ ; لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: تَقْدِيرُهُ لَوْ زِدْتَ قِيَامَ اللَّيْلِ عَلَى نِصْفِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَنَا، وَلَوْ لِلتَّمَنِّي. (فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ) ، أَيْ: جِنْسَهُ (إِذَا صَلَّى) ، أَيِ: الْفَرْضَ (مَعَ الْإِمَامِ) ، أَيْ: وَتَابَعَهُ (حَتَّى يَنْصَرِفَ) ، أَيِ: الْإِمَامُ (حُسِبَ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: اعْتُبِرَ وَعْدٌ (لَهُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: كُتِبَ لَهُ (قِيَامُ لَيْلَةٍ) : وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْلَتِهِ، أَيْ: وَإِنِ اقْتَصَرَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ السِّيَاقُ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ قِيَامِ لَيْلَةٍ تَامَّةٍ يَعْنِي الْأَجْرَ حَاصِلٌ بِالْفَرْضِ، وَزِيَادَةُ النَّوَافِلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَدْرِ النَّشَاطِ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْضِ الْعَشَاءُ وَالصُّبْحُ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ بِذَلِكَ كَذَلِكَ، (فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ) ، أَيْ: مِنَ الْبَاقِيَةِ وَهِيَ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَعَلَّهُ سَهْوُ قَلَمٍ وَسَبْقُ قَدَمٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّهُ رَدَّ عَلَى الْحَلِيمِيِّ فِي قَوْلِهِ: يُسَنُّ اسْتِوَاءُ مِقْدَارِ الْقِيَامِ فِي جَمِيعِ لَيَالِي الشَّهْرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الْجِدِّ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فَهُوَ تَطَوُّعٌ، وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ فَمُحْدَثٌ غَيْرُ سُنَّةٍ اهـ. بِأَنَّ الْحَدِيثَ يُفِيدُ تَفَاوُتَ الْقِيَامِ بِتَفَاوُتِ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ أَحْيَاهَا كُلَّهَا ; لِأَنَّهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَمِنْ ثَمَّ جَمَعَ لَهَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَغَيْرَهَا لَمْ يُحْيِهِ كُلَّهُ، بَلْ تَفَاوَتَ بَيْنَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ تَفَاوُتُ الْقِيَامِ مَعَ الِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ فِيمَا ذَكَرَهُ ثَبَتَ رَدُّ مَا قَالَهُ الْحَلِيمِيِّ. (لَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ) ، أَيْ: مِنَ الْبَاقِيَةِ، وَهِيَ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ (جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ) ، أَيِ: الْخَوَاصَّ مِنْهُمْ (فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قُلْتُ) : قَالَهُ الرَّاوِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ: (وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ) : أَبُو ذَرٍّ (السَّحُورُ) : بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ذُكِرَ السَّحُورُ مُكَرَّرًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُوَ بِالْفَتْحِ اسْمٌ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ وَالْفِعْلُ نَفْسُهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُرْوَى بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ بِالضَّمِّ ; لِأَنَّهُ بِالْفَتْحِ الطَّعَامُ وَالْبَرَكَةُ وَالْأَجْرُ وَالثَّوَابُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الطَّعَامِ اهـ. وَبِهِ يَظْهَرُ خَشْيَتُهُمْ مِنْ فَوْتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: الْفَلَاحُ: الْفَوْزُ بِالْبُغْيَةِ، سُمِّيَ السَّحُورُ بِهِ ; لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى إِتْمَامِ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْفَوْزُ بِمَا قَصَدَهُ وَنَوَاهُ وَالْمُوجِبُ لِلْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُ الْفَلَاحِ الْبَقَاءُ، وَسُمِّيَ السُّحُورُ فَلَاحًا إِذَا كَانَ سَبَبًا لِبَقَاءِ الصَّوْمِ

وَمُعِينًا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُعِينٌ عَلَى إِتْمَامِ الصَّوْمِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَلَاحِ، وَهُوَ الْفَوْزُ بِالزُّلْفَى وَالْبَقَاءِ فِي الْعُقْبَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ يَعْنِي السَّحُورَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، لَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي مَتْنِ الْكِتَابِ اهـ. وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ، وَقِيلَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَيَبْعُدُ مِنَ الْفَهْمِ أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ لَفْظُ النُّبُوَّةِ فَتَأَمَّلْ. فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْتُ، أَيْ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ اهـ. فَتَدَبَّرْ. (ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ) ، أَيِ: الثَّامِنَةَ وَالْعِشْرِينَ وَالتَّاسِعَةَ وَالْعِشْرِينَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ بِالْجَمَاعَةِ لَمْ يَعْلَمْ أَهْيَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ، أَمِ التَّهَجُّدُ الْوَاجِبُ أَمِ الْوَتْرُ، أَمْ صَلَاةُ الْقَدْرِ اهـ؟ وَلَا مَنَعَ مِنَ الْجَمْعِ مَعَ أَنَّ صَلَاةَ الْقَدْرِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ، وَالْوَتْرُ لَا يُزَادُ عَلَى ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَذْهَبِ وَتَحَقَّقَ فِيمَا سَبَقَ، وَتَقْيِيدُ التَّهَجُّدِ بِالْوَاجِبِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ ; لِأَنَّ وُجُوبَهُ مَنْسُوخٌ حَتَّى فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْمَشْهُورِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لَهُ (وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ: «كَانَ بَعِيدَ الدَّارِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِلَيْلَةٍ يَنْزِلُ فِيهَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ» وَلَمْ يَقُلْ لَهُ صَلَاتُكَ فِي بَيْتِكَ أَفْضَلُ، فَدَلَّ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فِي قَصْدِ الْمَسْجِدِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي خُصُوصِيَّةً زَائِدَةً عَلَى الْبَيْتِ، وَحِينَئِذٍ فَيَقْضِي بِهِمَا عَلَى حَدِيثِ: " صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ " ; لِأَنَّهُمَا خَاصَّانِ فَيَقْضِي بِهِمَا عَلَى ذَلِكَ الْعُمُومِ. (وَالنَّسَائِيُّ) ، أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ. (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ) ، أَيْ: بِمَعْنَاهُ (إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرْ: ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ) .

1299 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ، فَقَالَ: " أَكُنْتِ تَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَتَيْتَ بَعْضَ نِسَائِكَ. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَزَادَ رَزِينٌ: " مِمَّنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ "، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1299 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: طَلَبَتْهُ فَمَا وَجَدَتْهُ (لَيْلَةً) : مِنْ لَيَالِيَّ، تَعْنِي: فِي لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ فِيهَا عِنْدِي، فَتَتَبَّعْتُهُ، (فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ) ، أَيْ: وَاقِفٌ أَوْ حَاضِرٌ فِيهِ، وَفِيهِ حَذْفٌ بَيِّنَتْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَيْ: فَشَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، وَخَرَجْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ بِالْبَقِيعِ فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ قُبِضَ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْتَفَتْ إِلَيَّ (فَقَالَ: " أَكُنْتِ تَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ) ، أَيْ: يَجُورَ وَيَظْلِمَ (اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ) : ذَكَرَ اللَّهَ تَنْوِيهًا لِعِظَمِ شَأْنِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَلَى حَدِّ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ تَزْيِينًا لِلْكَلَامِ وَتَحْسِينًا، أَوْ حِكَايَةً لِمَا وَقَعَ فِي الْآيَةِ: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50] ، وَإِشَارَةً إِلَى التِّلَاوَةِ بَيْنَهُمَا كَالْإِطَاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، قِيلَ: عَدَلَ عَنْ (أَحْيَفَ أَنَا) إِلَى: (يَحِيفَ رَسُولُهُ) ، إِيذَانًا بِأَنَّ الْحَيْفَ وَهُوَ الْجَوْرُ بِإِعْطَاءِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، أَوْ بِمَنْعِ مَنْ يَسْتَحِقُّ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ مَنِ اتَّصَفَ بِوَصْفِ الرِّسَالَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي: ظَنَنْتِ أَنِّي ظَلَمْتُكِ بِأَنْ جَعَلْتُ مِنْ نَوْبَتِكِ لِغَيْرِكِ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِمَنْ تَصَدَّى بِمَنْصِب الرِّسَالَةِ، وَهَذَا مَعْنَى الْعُدُولِ عَمَّا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ ظَنَنْتِ أَنِّي أَحْيَفُ عَلَيْكِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ قَوْلَهُ: أَكُنْتِ تَخَافِينَ بِقَوْلِهِ، أَيْ: أَدَمْتِ عَلَى أَنَّكِ تَظُنِّينَ فَلَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ الْكَوْنَ هُنَا لَيْسَ لِلِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ أَوْ لِوُقُوعِ الْخَوْفِ فِي الْمُضِيِّ، نَعَمْ كَانَ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ أَخِفْتِ أَوْ كُنْتِ خِفْتِ، لَكِنْ عَدَلَ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ، اسْتِحْضَارًا لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَظْنَنْتِ ظَنًّا مُنْسَحِبًا إِلَى الْحَالِ. (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي ظَنَنْتُ) : تَعْنِي: وَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (أَنَّكَ أَتَيْتَ بَعْضَ نِسَائِكَ) ، أَيْ: زَوْجَاتِكَ لِبَعْضِ مُهِمَّاتِكَ، فَأَرَدْتُ تَحْقِيقَهَا، وَحَمَلَنِي عَلَى هَذَا الْغَيْرَةُ الْحَاصِلَةُ لِلنِّسَاءِ الَّتِي تُخْرِجُهُنَّ عَنْ دَائِرَةِ الْعَقْلِ وَحَائِزَةِ التَدَبُّرٍ لِلْعَاقِبَةِ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ أَوِ الْمُعَاقَبَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنِّي مَا ظَنَنْتُ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيَّ أَوْ عَلَى غَيْرِي، بَلْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ

بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْكَ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي لِبَعْضِ نِسَائِكَ ; لِأَنَّ عَادَتَكَ أَنْ تُصَلِّيَ النَّوَافِلَ فِي بَيْتِكَ، قِيلَ: عَدَلَتْ إِلَى هَذَا الْإِطْنَابِ عَنْ (نَعَمْ) مَزِيدًا لِلتَّصْدِيقِ وَاسْتِدْرَارًا لِتَعَطُّفِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَيْهَا، وَعَفْوِهِ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ الْمُقْتَضِي لِخُرُوجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ الْحَامِلِ عَلَيْهِ عَظِيمُ الْغَيْرَةِ الَّتِي قَدْ يُؤَدِّي إِلَى خَرْمِ التَّكْلِيفِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّ يُعَاتِبْهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى كَسْرِهَا لِقَصْعَةِ ضَرَّةٍ لَهَا أَرْسَلَتْ فِيهَا إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَعَامًا، وَإِنَّمَا قَالَ تَمْهِيدًا لِعُذْرِهَا غَارَتْ أُمُّكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ قَصْعَتَهَا وَأَرْسَلَهَا لِتِلْكَ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا مَعَ أَنَّ الْكُلَّ مِلْكُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ: أَنَّهُ لَوْ قَالَتْ: " نَعَمْ " لَكَانَ كُفْرًا بَلْ عَدَلَتْ عَنْ " لَا " لِظُهُورِ عَدَمِ إِنْكَارِهَا وَبَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَذَكَرَتِ الْمَعْذِرَةَ فِي خُرُوجِهَا وَاعْتَرَفَتْ بِتَقْصِيرِهَا، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ، وَذَكَرَ عُذْرَهُ فِي خُرُوجِهِ عَنْهَا تَسْلِيَةً لَهَا. (فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ) ، أَيْ: مِنَ الصِّفَاتِ الْجَلَالِيَّةِ إِلَى النُّعُوتِ الْجَمَالِيَّةِ زِيَادَةَ ظُهُورٍ فِي هَذَا التَّجَلِّي ; إِذْ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: (سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي) وَفِي رِوَايَةٍ: غَلَبَتْ. (لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ) : وَهِيَ: لَيْلَةُ الْبَرَاءَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهَا ; لِأَنَّهَا لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَيُدَبَّرُ كُلُّ خَطْبٍ عَظِيمٍ مِمَّا يَقَعُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى يَكْتُبَ الْحُجَّاجَ وَغَيْرَهُمْ. (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) ، أَيْ: قَاصِدًا إِلَى السَّمَاءِ الْقَرِيبَةِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا الْمُتَلَوِّنِينَ بِالْمَعْصِيَةِ، الْمُحْتَاجِينَ إِلَى إِنْزَالِ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِمْ وَأَذْيَالِ الْمَغْفِرَةِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا النُّزُولَ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ التَّجَلِّي الْأَعْظَمِ وَنُزُولِ الرَّحْمَةِ الْكُبْرَى وَالْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالِمِينَ، لَا سِيَّمَا أَهْلَ الْبَقِيعِ يَعُمُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَتَمْتَازُ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي ; إِذِ النُّزُولُ الْوَارِدُ فِيهَا خَاصٌّ بِثُلُثِ اللَّيْلِ، (فَلِيَغْفِرَ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعَرِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ (غَنَمِ كَلْبٍ) ، أَيْ: قَبِيلَةِ بَنِي كَلْبٍ، وَخَصَّهُمْ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ غَنَمًا مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، نَقَلَ الْأَبْهَرِيُّ عَنِ الْأَزْهَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِغُفْرَانِ أَكْثَرَ عَدَدُ الذُّنُوبِ الْمَغْفُورَةِ لَا عَدَدُ أَصْحَابِهَا، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ اهـ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآتِي: فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، فَالْمُرَادُ أَصْحَابُهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ زَمَانُ التَّجَلِّيَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَالتَّنَزُّلَاتِ الصَّمَدَانِيَّةِ، وَالتَّقَرُّبَاتِ السُّبْحَانِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ الْأَوْفَى لِأَرْبَابِ الِاخْتِصَاصِ، فَالْمُنَاسِبُ الِاسْتِيقَاظُ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ وَالتَّعَرُّضُ لِنَفَحَاتِ الرَّحْمَةِ، وَأَنَا رَئِيسُ الْمُسْتَغْفِرِينَ، وَأَنِيسُ الْمُسْتَرْحِمِينَ، وَشَفِيعُ الْمُذْنِبِينَ، بَلْ وَرَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ خُصُوصًا أَمْوَاتَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَلَا يَلِيقُ لِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُمْتَثِلًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي أَدْعُو بِالْمَغْفِرَةِ لِأُمَّتِي، وَأَطْلُبُ زِيَادَةَ الرَّحْمَةِ لِذَاتِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ نِعْمَتِهِ، أَوْ يَسْتَنْكِفَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ بِالْقِيَامِ وَتَرْكِ الْمَنَامِ وَمُتَابَعَةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ بِبِرْكَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَزَادٌ رَزِينٌ: " مِمَّنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ) . قُلْتُ: وَمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّارَ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ؟ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ فِي رِوَايَاتٍ بَيَّنْتُهَا ثَمَّ بِغَيْرِ الْمُشَاحِنِ وَقَاطِعِ الرَّحِمِ وَمُدْمِنَ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِمْ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ -) : وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ (يُضَعِّفُ) ، أَيِ: الْبُخَارِيُّ (هَذَا الْحَدِيثَ) : وَيَقُولُ: يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، لَكِنْ يَعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، قِيلَ: وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْبَابِ الْإِيذَانُ بِأَنْ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِمَا وَرَدَ فِي إِحْيَائِهَا مِنَ الثَّوَابِ مَا لَا يُحْصَى، كَانَتْ كَالْمُقَدِّمَةِ لِقِيَامِ رَمَضَانَ فَاسْتَدْعَى ذِكْرُهُ ذِكْرَهَا اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَوْ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا كَانَ فِي الْقِيَامِ، وَالْمُرَادُ الْأَعْظَمُ مِنْهُ إِدْرَاكُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَذَكَرَ لَيْلَةَ الْبَرَاءَةِ طَرْدًا لِلْبَابِ ; لِأَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ بَعْضِ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

1300 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا، إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1300 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَتْمِيمٌ وَمُبَالَغَةٌ لِإِرَادَةِ الْإِخْفَاءِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعَادِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى وَجْهِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَعِيدَةً عَنِ الرِّيَاءِ، وَالْفَرَائِضَ شُرِعَتْ لِإِشَادَةِ الدِّينِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُؤَدَّى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ. (هَذَا) : صِفَةٌ لِلْمَسْجِدِ، وَالْمُرَادُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ مُطْلَقًا، لَا خُصُوصُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا سَبَقَ. (إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، (وَالتِّرْمِذِيُّ) : قَالَ: حَسَنٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1301 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،، قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ. قَالَ عُمَرُ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي تَقُومُونَ - يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ - وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1301 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) : بِالتَّنْوِينِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (الْقَارِّيِّ) : بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ قَارَّةَ، وَهُمْ عَضَلٌ وَالدِّيشُ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ تَابِعِيٌّ مِنْ أَجِلَّةِ تَابِعِي الْمَدِينَةِ، يُقَالُ: وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ وَلَا رُؤْيَةٌ، وَعَدَّهُ الْوَاقِدِيُّ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيمَنْ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (لَيْلَةً) : أَيْ فِي رَمَضَانَ (إِلَى الْمَسْجِدِ) ، أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، (فَإِذَا النَّاسُ) ، أَيْ: بَعْدَ صَلَاتِهِمُ الْعِشَاءَ جَمَاعَةً وَاحِدَةً (أَوْزَاعٌ) : بِسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا زَايٌ فِرَقٌ مُتَفَرِّقُونَ، فَقَوْلُهُ: (مُتَفَرِّقُونَ) : تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَعَطْفِ الْبَيَانِ وَهُوَ أَظْهَرُ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ فِيهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مُتَفَرِّقِينَ. (يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ) : بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ أَوَّلًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا، وَبَعْضَهُمْ يُصَلِّي جَمَاعَةً، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَيُصَلِّي الرَّجُلُ) ، أَيْ: مُؤْتَمًّا (فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَيْهَا رَمْزٌ ظَاهِرٌ: وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، أَيْ يَقْتَدِي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَكِنْ سَقَطَ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الَّتِي رَأَيْتُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ النَّاسِخِ وَاللَّهُ الْعَاصِمُ اهـ. وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الَّتِي رَأَيْتُهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ يَؤُمُّ الرَّجُلُ جَمَاعَةً دُونَ الْعَشَرَةِ. اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مُطْلَقَ الْجَمَاعَةِ أَوْ قَوْمَهُ وَقَبِيلَتَهُ، فَفِي الْقَامُوسِ الرَّهْطُ - وَيُحَرَّكُ - قَوْمُ الرَّجُلِ وَقَبِيلَتُهُ، أَوْ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، أَوْ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، أَوْ مَا فِيهِمُ امْرَأَةٌ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ الرَّهْطُ: مِنَ الرِّجَالِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَالرَّهْطُ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ وَأَهْلُهُ. (فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَوْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ إِنِّي أَرَى لَوْ، وَأَخَذَ مِنْهَا ابْنُ مَلَكٍ أَنْ لَوْ قَدْ تَعَلَّقَ فِعْلُ الْقَلْبِ (جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ) : يَأْتَمُّونَ كُلُّهُمْ بِهِ، وَيَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ (لَكَانَ أَمْثَلَ) ، أَيْ: أَفْضَلَ وَالثَّوَابُ أَكْمَلَ ; لِأَنَّ فِيهِ اجْتِمَاعَ الْقُلُوبِ وَاتِّفَاقَ الْكَلِمَةِ وَإِغَاظَةَ الشَّيْطَانِ وَنُمُوَّ الْأَعْمَالِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تُنِيفُ عَلَى السَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ، (ثُمَّ عَزَمَ) ، أَيْ: عَلَى ذَلِكَ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ عُمَرُ، (فَجَمَعَهُمْ) ، أَيِ: الرِّجَالَ مِنْهُمْ (عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) : لِمَا قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ أَقْرَأُ الصَّحَابَةِ، وَأَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ فَقَرَأَ سُورَةَ: {لَمْ يَكُنِ} [البينة: 1] وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ جَمَعَهُمْ عَلَى تَمِيمٍ الدَّارِمِيِّ، وَلَا مَانِعَ أَنَّ هَذَا كَانَ يَؤُمُّ تَارَةً وَالْآخَرُ أُخْرَى، وَجَمَعَ النِّسَاءَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ (قَالَ) ، أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ) ، أَيْ: مَعَ عُمَرَ (لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ) : الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ.

(قَالَ عُمَرُ: نَعِمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ) ، أَيِ: الْجَمَاعَةُ الْكُبْرَى لَا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ مِنْ أَصْلِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ، فَإِنَّهُ فِي حَيِّزِ الْمَدْحِ ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَتَحْرِيضٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَطَعَهَا إِشْفَاقًا مِنْ أَنْ تُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ عُمَرُ مِمَّنْ نَبَّهَ عَلَيْهَا وَسَنَّهَا عَلَى الدَّوَامِ، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (وَالَّتِي) ، أَيِ: الصَّلَاةُ الَّتِي (تَنَامُونَ عَنْهَا) ، أَيْ: مُعْرِضِينَ (أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي تَقُومُونَ) ، أَيْ: بِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَنْبِيهٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، وَقَدْ أَخَذَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَهَا بَعْدَ أَنْ يَنَامُوا، قُلْتُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ كَذَا، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَجَمَاعَاتُهُمْ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَفِي كَلَامِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِيمَاءٌ إِلَى عُذْرِهِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُمْ. (يُرِيدُ) ، أَيْ عُمَرُ (آخِرَ اللَّيْلِ) : وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الرُّوَاةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَكَانَ النَّاسُ) ، أَيْ: أَكْثَرُهُمْ (يَقُومُونَ أَوَّلُهُ) : وَبِالضَّرُورَةِ يَنَامُونَ آخِرَهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

1302 - وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَا مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، فَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1302 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حَضَرَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ أَبِيهِ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ (قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ) : بِالتَّشْدِيدِ نِسْبَةً إِلَى الدَّارِ (أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِالنَّاسِ، أَيْ يَكُونُ هَذَا إِمَامًا تَارَةً وَالْآخَرُ أُخْرَى، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُنَاوَبَةُ فِي الرَّكَعَاتِ أَوِ اللَّيَالِي، وَالنِّسَاءِ عَلَى سُلَيْمَانَ (فِي رَمَضَانَ) ، أَيْ لَيَالِيهِ (بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) ، أَيْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَمَّا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهْمٌ، وَالَّذِي صَحَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ سَنَدَ تِلْكَ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُمْ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي قَصَدُوا التَّشْبِيهَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَالْوَتْرَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمُ الْعِشْرِينَ، وَرِوَايَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ حَسَبَ رَاوِيهَا الثَّلَاثَةُ الْوَتْرِ، فَإِنَّهُ جَاءَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ آخِرُ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. (فَكَانَ الْقَارِئُ) ، أَيِ: الْإِمَامُ (يَقْرَأُ) ، أَيْ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ (بِالْمِئِينَ) : جَمْعُ مِائَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّقْرِيبُ لَا التَّحْدِيدُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمِائَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ بِالسُّوَرِ الَّتِي يَزِيدُ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ آيَةٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لَا سِيَّمَا وَأُرِيدَ الْخَتْمُ بِالتَّرَاوِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ. (حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَلَى الْعِصِيِّ بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ الْعَصَا، فَالْأُولَى لِلْجِنْسِ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ. (مِنْ طُولِ الْقِيَامِ) : عِلَّةٌ لِلِاعْتِمَادِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ طُولِ قِيَامِ الْإِمَامِ النَّاشِئِ مِنْ قِرَاءَةِ الْمِائَتَيْنِ، (فَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ) ، أَيْ: أَوَائِلِهِ وَأَعَالِيهِ وَفَرْعُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَى بُزُوغِ الْفَجْرِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْبُزُوغُ الطُّلُوعُ، وَالْمُرَادُ أَوَائِلُ مُقَدِّمَاتِهِ فلا يُنَافِي مَا سَيَأْتِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَحَّرُونَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ، وَلَعَلَّ هَذَا التَّطْوِيلَ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ فِي عَدَدِ قِيَامِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ عُمَرُ أَمَرَ بِهَذَا الْعَدَدِ زَمَانًا، كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِهِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَكَانُوا يَقْرَءُوا بِالْمِئِينَ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عِصِيِّهِمْ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ. رَوَاهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، وَرَوَيْنَا عَنْ شُبْرُمَةَ بْنِ شَكَلٍ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي رَمَضَانَ فَيُصَلِّي خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً. وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَلَاثَةَ قُرَّاءٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ، فَأَمَرَ أَسْرَعَهُمْ قِرَاءَةً أَنْ يَقْرَأَ لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَأَمَرَ أَوْسَطَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَأَمَرَ أَبْطَأَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ عِشْرِينَ كَذَا فِي الْعُجَالَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، الرِّجَالَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَالنِّسَاءَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ لِلتَّرَاوِيحِ.

1303 - وَعَنِ الْأَعْرَجِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ قَالَ: وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَإِذَا قَامَ بِهَا فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1303 - (وَعَنِ الْأَعْرَجِ) : مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ (قَالَ: مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ) ، أَيْ: الصَّحَابَةَ وَكُبَرَاءَ التَّابِعِينَ، (إِلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ) ، أَيْ: فِي وِتْرِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ فِي الْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَلِّمَاتِ، وَأَلَّفَ بَيْنِ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهُمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا تَرُدُّهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَلَا يُنَافِي مَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ: السّنَّةُ إِذَا انْتَصَفَ رَمَضَانُ أَنْ تَلْعَنَ الْكَفَرَةَ فِي الْوِتْرِ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: أَنَّهُ لَمَّا جُمِعَ النَّاسُ عَلَى أُبَيٍّ لَمْ يَقْنُتْ بِهِمْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، مَحْمُولٌ عَلَى الْقُنُوتِ الْمَخْصُوصِ الَّذِي فِيهِ لَعْنُ الْكَفَرَةِ عَلَى الْعُمُومِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَحْسَنَ أَصْحَابُنَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَذْكُرَ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ إِلَخْ. وَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنَسْتَهْدِيكَ وَنُؤْمِنُ بِكَ إِلَخْ. وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَاللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُعَظِّمُوا مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الشَّهْرِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِمَا أُنْزِلَ فِيهِ مِنَ الْفُرْقَانِ، اسْتَوْجَبُوا بِأَنْ يُدْعَى عَلَيْهِمْ، وَيُطْرَدُوا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ فِي تَخْصِيصِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ إِشَارَةً إِلَى زَوَالِهِمْ، وَتُزَلْزُلِهِمْ عَنْ مَحَالِلِهِمْ، وَانْتِقَالِهِمْ عَنْ حَالِهِمْ إِلَى سُوءِ مَآلِهِمْ. (قَالَ) ، أَيْ: الْأَعْرَجُ (وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: بِحَذْفِ الْيَاءِ (فَإِذَا قَامَ بِهَا فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ) : فَاعِلٌ (أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ) ، أَيْ: الْإِمَامُ فِي الْإِطَالَةِ، سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ رَأَى، وَقِيلَ: الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ تَخْفِيفُهُ وَاقِعًا. (رَوَاهُ مَالِكٌ) . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ الْحَنْبَلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّرَاوِيحِ عَدَدًا مُعَيَّنًا، بَلْ لَا يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، لَكِنْ كَانَ يُطِيلُ الرَّكَعَاتِ، فَلَمَّا جَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أُبَيٍّ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، وَكَانَ يُخَفِّفُ الْقِرَاءَةَ، بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنَ الرَّكَعَاتِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَخْفُ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مِنْ تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ كَانَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَقُومُونَ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ، وَآخَرُونَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَأَوْتَرُوا بِثَلَاثٍ، وَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ سَائِغٌ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ مُوَقَّتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَقَدْ أَخْطَأَ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً تَشْبِيهًا بِأَهْلِ مَكَّةَ، حَيْثُ كَانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ طَوَافًا وَيُصَلُّونَ رَكْعَتَيْهِ، وَلَا يَطُوفُونَ بَعْدَ الْخَامِسَةِ، فَأَرَادَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مُسَاوَاتَهُمْ، فَجَعَلُوا مَكَانَ كُلِّ طَوَافٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ عَدَدُهَا بِالنَّصِّ لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالصَّدْرُ الْأَوَّلُ كَانُوا أَوْرَعَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَدَّمْنَا فِي بَابِ النَّوَافِلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَأَلْتُ عَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً الْحَدِيثَ، وَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً سِوَى الْوَتْرِ» ، فَضَعِيفٌ بِأَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ جَدِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلصَّحِيحِ، نَعَمْ ثَبَتَ الْعِشْرُونَ مِنْ زَمَنٍ عُمَرَ، فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

وَفِي الْمُوَطَّأِ رِوَايَةٌ بِإِحْدَى عَشْرَةَ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ وَقَعَ أَوَّلًا ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْعِشْرِينَ، فَإِنَّهُ الْمُتَوَارَثُ، فَتَحْصُلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سُنَّةً إِحْدَى عَشْرَةَ بِالْوِتْرِ فِي جَمَاعَةِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ أَفَادَ أَنَّهُ لَوْلَا خَشْيَةُ ذَلِكَ لَوَاظَبْتُ بِكُمْ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَكُونُ سُنَّةً، وَكَوْنُهَا عِشْرِينَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» " نَدْبٌ إِلَى سُنَّتِهِمْ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُ ذَلِكَ سُنَّتِهِ ; إِذْ سُنَّتُهُ بِمُوَاظَبَتِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ الْعُذْرِ إِنَّمَا اسْتَفَدْنَا أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، فَيَكُونُ الْعِشْرُونَ مُسْتَحَبًّا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهَا هُوَ السُّنَّةُ كَالْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبَّةً، وَرَكْعَتَانِ مِنْهَا هِيَ السُّنَّةُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَشَايِخِ أَنَّ السُّنَّةَ عِشْرُونَ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَا قُلْنَا، فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ مَا هُوَ عِبَارَةُ الْقَدُورِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: مُسْتَحَبٌّ لَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيهِ، أَيْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: يُسَنُّ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْقَدُورِيِّ أَيْضًا يُوهِمُ أَنَّ الْكُلَّ مُسْتَحَبٌّ، كَمَا أَنَّ عِبَارَةَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ تُوهِمُ أَنَّ الْكُلَّ مَسَنُونٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَصْحِيحِهِمَا عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَظْهَرُ إِمَّا بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الْأَكْثَرِ مَنْ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ الْمَسْنُونَةِ عَلَى الْمُسْتَحَبَّةِ، أَوْ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنْ فِعْلِهِ عَلَى فِعْلِ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَلَى الْأَقْوَى مِنْ إِطْلَاقِ سُنَّتِهِ عَلَى سُنَّةِ خُلَفَائِهِ، فَقَوْلُ الْهِدَايَةِ أَوْلَى مَعَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ لِلْعَامَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوْلَى وَالطَّرِيقِ الْأَعْلَى. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ عِشْرِينَ رَكْعَةً، لَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً سِوَى الْوِتْرِ» ، وَمِمَّا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ «أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ لَيْلَتَيْنِ، وَلَمْ يَخْرُجْ فِي الثَّالِثَةِ» ، لَكِنِ الرِّوَايَتَانِ ضَعِيفَتَانِ، وَفِي صَحِيحَيْ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَالْوِتْرِ، لَكِنْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ عِشْرُونَ رَكْعَةً.

1304 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيًّا يَقُولُ: كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْقِيَامِ، فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ فَوْتِ السَّحُورِ. وَفِي أُخْرَى: مَخَافَةَ الْفَجْرِ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1304 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) ، أَيْ: ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، أَحَدِ أَعْلَامِ الْمَدِينَةِ تَابِعِيٍّ، قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُهُ شِفَاءٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيًّا يَقُولُ: كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْقِيَامِ) ، أَيْ: مِنْ قِيَامِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِيهِ، لَا لِمَا نُقِلَ عَنِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ لِكَوْنِهِمْ يَفْعَلُونَهَا عَقِبَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا قَبْلَ النَّوْمِ. (فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ) : بِفُتْحَتَيْنِ، أَيِ الْخُدَّامَ (بِالطَّعَامِ) ، أَيْ: بِتَهْيِئَتِهِ أَوْ بِإِحْضَارِهِ لِنَتَسَحَّرَ بِهِ، (مَخَافَةَ) : عِلَّةُ الِاسْتِعْجَالِ (فَوْتِ السُّحُورِ) : بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ (وَفِي أُخْرَى: مَخَافَةَ الْفَجْرِ) ، أَيْ: اقْتِرَابِهِ فَيَفُوتُ السُّحُورُ، فَمَآلُ الرِّوَايَتَيْنِ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفَتَا فِي الْمَبْنَى. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

1305 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «هَلْ تَدْرِينَ مَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ؟ " يَعْنِي لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَتْ: مَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " فِيهَا أَنْ يُكْتَبَ كلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِيهَا أَنْ يُكْتَبَ كُلُّ هَالِكٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِيهَا تُرْفَعُ أَعْمَالُهُمْ، وَفِيهَا تَنْزِلُ أَرْزَاقُهُمْ "، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثًا. قُلْتُ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ! فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى هَامَتِهِ، فَقَالَ: " وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ " يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1305 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْعَفِيفِ: عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ هَلْ تَدْرِينَ) ، أَيْ: تَعْلَمِينَ (مَا) ، أَيْ: مَا يَقَعُ (فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ) ، أَيْ: مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَقْدِيرِ الْأَمْرِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: نَبَّهَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ عَلَى عِظَمِ خَطَرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَمَا يَقَعُ فِيهَا، لِيَحْمِلَ ذَلِكَ الْأُمَّةَ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، وَآكَدِهِ عَلَى إِحْيَائِهَا بِالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ وَالْفِكْرِ وَالذِّكْرِ، كَلَامٌ مُسْتَحْسَنٌ، إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى التَّقْرِيرِ لَمْ يَقَعْ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيرِ، وَلَعَلَّهُ لِمَا رَأَى فِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَخْ. الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ سَبَقَ قَلَمُهُ وَتَبِعَ قَدَمُهُ، فَلَمْ يُصِبِ الْمُحَرِّرُ فَمَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (يَعْنِي) ، أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ اللَّيْلَةِ (لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ يَعْنِي عَائِشَةَ (قَالَتْ) : نَقَلَ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ قُلْتُ: (مَا فِيهَا) ، أَيْ: مَا يَقَعُ فِيهَا (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " فِيهَا أَنْ يُكْتَبَ) : يَعْنِي كِتَابَةً ثَانِيَةً بَعْدَ الْكِتَابَةِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ

(كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ) : وَتَخْصِيصُهُمْ تَشْرِيفٌ لَهُمْ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ) ، أَيْ: الْآتِيَةِ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ (وَفِيهَا أَنْ يُكْتَبَ كُلُّ هَالِكٍ) ، أَيْ: مَيِّتٌ (مِنْ بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَآجَالِهِمْ، وَجَمِيعِ أُمُورِهِمْ إِلَى الْأُخْرَى الْقَابِلَةِ (وَفِيهَا تُرْفَعُ أَعْمَالُهُمْ) ، أَيْ: تُكْتَبُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تُرْفَعُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَلِهَذَا سَأَلَتْ عَائِشَةُ: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَخْ، أَيْ كَمَا سَيَأْتِي، وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، يَعْنِي إِذَا كَانَتِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْكَائِنَةُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ تُكْتَبُ قَبْلَ وُجُودِهَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، فَقَرَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَجَابَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَذَفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبِلَهُ، وَالْمَعْنَى تُرَفْعُ أَعْمَالُهُمْ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَلَا يُنَافِيهِ رَفْعُهَا كُلَّ يَوْمٍ أَعْمَالَ اللَّيْلِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَعْمَالَ النَّهَارِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَكُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ رَفْعٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَا يَقَعُ فِي السَّنَةِ، وَالثَّانِي رَفْعٌ خَاصٌّ لِكُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَالثَّالِثَ رَفْعٌ لِجَمِيعِ مَا يَقَعُ فِي الْأُسْبُوعِ وَكَانَ حِكْمَةُ تَكْرِيرِ هَذَا الرَّفْعِ مَزِيدُ تَشْرِيفِ الطَّائِعِينَ وَتَقْبِيحِ الْعَاصِينَ، وَقَيْدُ شَارِحٌ الْأَعْمَالِ بِالصَّالِحَةِ: وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وَوَاضِحٌ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ لِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّفْعِ فِيهَا الْقَبُولُ وَهُوَ غَيْرُ الْمُرَادِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. (وَفِيهَا تَنْزِلُ) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَرُوِيَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا (أَرْزَاقُهُمْ) ، أَيْ: أَسْبَابُ أَرْزَاقِهِمْ أَوْ تَقْدِيرِهَا، وَهُوَ يَشْمَلُ حِسِّيهَا وَمَعْنَوِيهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ تَنْزِيلُ عِلْمِ مَقَادِيرِهَا لِلْمُوَكَّلِينَ بِهَا، أَوْ أَسْبَابِهَا كَالْمَطَرِ بِأَنْ يَنْزِلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، أَوْ مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى السَّحَابِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ، وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ مَا يُوَضِّحُ الْمُرَادَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] قَدْ يَشْهَدُ لِلثَّانِي، وَاحْتِمَالُ إِرَادَةِ السَّحَابِ بِالسَّمَاءِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، قِيلَ: هَذَا كُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْآيَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَهُوَ وَإِنْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بَلْ صَرِيحَهُ يَرُدُّهُ لِإِفَادَتِهِ فِي آيَةِ أَنَّهُ نَزَلَ فِي رَمَضَانَ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُ نَزَلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَلَا تَخَالُفَ بَيْنِهِمَا ; لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ جُمْلَةِ رَمَضَانَ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا النُّزُولِ نُزُولُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُتَفَرِّقًا بِحَسِبِ الْحُجَّةِ وَالْوَقَائِعِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا النُّزُولَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ثَبَتَ أَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي يُفَرْقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فِي الْآيَةِ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنْ لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ يَقَعُ فِيهَا فَرْقٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهَا الْمُرَادَةُ مِنَ الْآيَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةٌ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ وُقُوعُ ذَلِكَ الْفَرْقِ فِي كُلٍّ مِنَ اللَّيْلَتَيْنِ إِعْلَامًا بِمَزِيدِ شَرَفِهِمَا اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مَا يُصَدَّرُ إِلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ فِي إِحْدَاهِمَا إِجْمَالًا، وَفِي الْأُخْرَى تَفْصِيلًا، أَوْ تَخُصُّ إِحْدَاهُمَا بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْأُخْرَى بِالْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ. (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مِنْ أَحَدٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) ، أَيْ: أَوَّلًا وَآخِرًا بِدَلَالَةِ الْإِطْلَاقِ، لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالِاسْتِحْقَاقِ (إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى) :

وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] لِأَنَّ الْعَمَلَ سَبَبٌ صُورِيٌّ، وَسَبَبُهُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ رَحْمَةُ اللَّهِ لَا غَيْرُ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ بِالْعَبْدِ، فَلَمْ يَدْخُلْ إِلَّا بِمَحْضِ الرَّحْمَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَقِيلَ دُخُولُهَا بِالرَّحْمَةِ، وَتَفَاوُتُ الدَّرَجَاتِ بِتَفَاوُتِ الطَّاعَاتِ وَالْخُلُودُ بِالنِّيَّاتِ. (ثَلَاثًا) ، أَيْ: قَالَ هَذَا الْقَوْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ مِنَ الْأُولَى وَالْوُسْطَى وَالْأُخْرَى، وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ لَفْظُ ثَلَاثًا غَيْرُ مَذْكُورٍ. (قُلْتُ) : هَذَا رُجُوعٌ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ لَا بِالْمَعْنَى، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الرَّاوِي عَنْهَا لَا يَظْهَرُ لَهُ مَعْنى. (وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) ، أَيْ: مَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى مَعَ كَمَالِ مَرْتَبَتِكَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. (فَوَضَعَ يَدَهُ) ، أَيْ: تَوَاضُعًا (عَلَى هَامَتِهِ) ، أَيْ: رَأْسِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ التَّكَبُّرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِشَارَةٌ إِلَى افْتِقَارٍ كُلَّ الِافْتِقَارِ مِنْ شُمُولِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ، (فَقَالَ: " وَلَا أَنَا) ، أَيْ: وَلَا أَدْخُلُهَا أَنَا فِي زَمَانٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ، (إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ) ، أَيْ: إِلَّا وَقْتَ أَنْ يَسْتُرَ ذَاتِي وَيُحِيطَ بِي مِنْ كُلِّ جِهَاتِي، مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِمْدِ وَهُوَ غِلَافُ السَّيْفِ (مِنْهُ) ، أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ وَفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ (بِرَحْمَتِهِ) : لَا بِعِلْمٍ وَعَمَلٍ مِنِّي، مَعَ أَنَّهُمَا لَا يُتَصَوَّرَانِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ عِنَايَتِهِ (يَقُولُهَا) ، أَيْ: هَذِهِ الْجُمَلَ وَهِيَ: وَلَا أَنَا. إِلَخْ. (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : طِبْقَ الْأَوَّلِ فِي التَّأْكِيدِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

1306 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1306 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَطَّلِعُ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ يَتَجَلَّى عَلَى خَلْقِهِ بِمَظْهَرِ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ وَالْإِكْرَامِ الْوَاسِعِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بِمَعْنَى يَنْزِلُ، وَقَدْ مَرَّ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ، أَيْ يَنْظُرُ نَظَرَ الرَّحْمَةِ السَّابِقَةِ وَالْمَغْفِرَةِ الْبَالِغَةِ (فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ) : الْمُتَّصِفِ بِذَنْبِهِ الْمُعْتَرِفِ بِتَقْصِيرِهِ وَعَيْبِهِ (إِلَّا لِمُشْرِكٍ) ، أَيْ: كَافِرٍ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْكُفْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (أَوْ) : لِلتَّنْوِيعِ (مُشَاحِنٍ) ، أَيْ: مُبَاغِضٍ وَمُعَادٍ لِأَحَدٍ، لَا لِأَجْلِ الدِّينِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى يُسَامِحُ عِبَادَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَنْ حُقُوقِهِ إِلَّا الْكُفْرَ بِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ عَبِيدِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّحْنَاءُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ إِلَّا لِلدِّينِ، وَلَا يَأْمَنُ أَحَدُهُمْ أَذَى صَاحِبِهِ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْقَتْلِ، وَرُبَّمَا يَنْتَهِي إِلَى الْكُفْرِ إِذْ كَثِيرًا مَا يُحْمَلُ عَلَى اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْعَدُوِّ وَمَالِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قُرِنَ الْمُشَاحِنُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِقَاتِلِ النَّفْسِ، وَكِلَاهُمَا تَهْدِيدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي مُوسَى.

1307 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " إِلَّا اثْنَيْنِ: مُشَاحِنٌ وَقَاتِلُ نَفْسٍ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1307 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَفِي رِوَايَتِهِ) ، أَيْ: رِوَايَةِ أَحْمَدَ (إِلَّا اثْنَيْنِ: مُشَاحِنٌ) : بِالرَّفْعِ، أَيْ هُمَا مُشَاحِنٌ (وَقَاتِلُ نَفْسٍ) ، أَيْ: تَعَمُّدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَجُوزُ جَرُّهُمَا عَلَى الْبَدَلِيةِ.

1308 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا، وَصُومُوا يَوْمَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلَا كَذَا أَلَا كَذَا؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1308 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ فَقُومُوا فِيهَا، وَإِذَا ذَهَبَ إِلَى وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَنْ يُقَالَ لَيْلَةُ النِّصْفِ، فَأَنَّثَ الضَّمِيرَ اعْتِبَارًا لِلنِّصْفِ ; لِأَنَّهَا عَيْنُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنْ يَقَعَ الْقِيَامُ فِي جَمِيعِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّيْلِ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْقِيَامِ فِيهَا، وَحَسَنَةٌ أَيْضًا مُقَابَلَةُ قَوْلِهِ: (وَصُومُوا يَوْمَهَا) ، أَيْ: فِي نَهَارِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِكَمَالِهِ، وَيُعَاضِدُ قَوْلَهُ: (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ) ، أَيْ: يَتَجَلَّى بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ تَجَلِّيًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِأَرْبَابِ الْخُصُوصِ، وَلَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ (فِيهِ) ، أَيْ: فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ (لِغُرُوبِ الشَّمْسِ) ، أَيْ: أَوَّلِ وَقْتِ غُرُوبِهَا (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) : مُتَعَلِّقٌ بِيَنْزِلُ بِتَضْمِينِ نَاظِرٍ، انْظُرِ الْعِنَايَةَ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَبْوَابِ فُتُوحَاتِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا، وَقِبْلَةِ دُعَائِهِمْ، وَمَصْعَدِ أَعْمَالِهِمْ، وَمُرْتَقَى أَرْوَاحِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ لَيْلَهَا يَعْنِي بَعْضَهَا إِذْ بَعْضُ اللَّيْلِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَيْلٌ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ السَّابِقُ: كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، قُلْتُ: الْبَعْضِيَّةُ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ التَّنْكِيرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] لَا أَنَّ اللَّيْلَ يُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهِ الْبَعْضُ خُصُوصًا مَعَ الْإِضَافَةِ ثُمَّ قَالَ: أَوْ جَوْفَهَا، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَيْلُ اللَّيْلِ، وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُمْ أُرِيدَ بِهِ التَّأْكِيدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57] ، وَالْجَوْفِيَّةُ غَيْرُ مُسْتَفَادَةٍ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا يُسْتَغْنَى عَنْ قَوْلِ الشَّارِحِ اهـ. وَأَنْتَ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ (فَيَقُولُ) ، أَيْ: تَعَالَى رَبُّنَا أَوْ مُنَادِيهِ حِكَايَةً عَنْهُ (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ وَالْعَرْضِ (مِنْ) : زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ وَحُذِفَتْ مِمَّا بَعْدَهُ لِلِاكْتِفَاءِ (مِنْ مُسْتَغْفِرٍ) : يَسْتَغْفِرُ (فَأَغْفِرَ لَهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الْعَرْضِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: (أَلَا مُسْتَرْزِقٌ) : بِالرَّفْعِ (فَأَرْزُقَهُ) : بِالنَّصْبِ (أَلَا مُبْتَلًى) ، أَيْ: مُسْتَعِفٌّ يَطْلُبُ الْعَافِيَةَ وَهُوَ مُقَدَّرٌ لِظُهُورِهِ، (فَأُعَافِيَهُ؟) : وَلَا يُشْكِلُ وُجُودُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبْتَلِينَ يَسْأَلُونَ الْعَافِيَةَ وَلَا يُجَابُونَ، لِعَدَمِ اسْتِجْمَاعِهِمْ لِشُرُوطِ الدُّعَاءِ (أَلَا كَذَا) : مِنْ طَالِبٍ عَطَاءً فَأُعْطِيَهُ (أَلَا كَذَا؟) : مِنْ دَافِعِ بَلَاءٍ فَأَدْفَعَهُ (حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أَشْقِيَاءَ فَامْحُهُ وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبِتْنَا، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ، وَهَذَا الدُّعَاءُ قَدْ نُقِلَ فِي الْحَدِيثِ قِرَاءَتُهُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِقَوِيٍّ كَذَا فِي تَفْسِيرِ السَّيِّدِ مُعِينِ الدِّينِ الصَّفَوِيِّ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابَةِ الْأُولَى الْكِتَابَةُ الْمُعَلَّقَةُ ; إِذِ الْحِكْمَةُ لَا تَتَبَدَّلُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الَّلَآلِي: إِنَّ مِائَةَ رَكْعَةٍ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ بِالْإِخْلَاصِ عَشْرَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَعَ طُولِ فَضْلِهِ لِلدَّيْلَمِيِّ وَغَيْرِهِ مَوْضُوعٌ. وَفِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَمِمَّا أُحْدِثَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الصَّلَاةُ الْأَلْفِيَّةُ مِائَةَ رَكْعَةٍ بِالْإِخْلَاصِ عَشْرًا عَشْرًا بِالْجَمَاعَةِ، وَاهْتَمُّوا بِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، لَمْ يَأْتِ بِهَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ إِلَّا ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ، وَلَا تَغْتَرَّ بِذِكْرِ صَاحِبِ الْقُوتِ وَالْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ لِلْعَوَامِّ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ افْتِتَانٌ عَظِيمٌ، حَتَّى الْتُزِمَ بِسَبَبِهَا كَثْرَةُ الْوَقِيدِ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْفُسُوقِ وَانْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ مَا يُغْنِي عَنْ وَصْفِهِ حَتَّى خَشِيَ الْأَوْلِيَاءُ مِنَ الْخَسْفِ،

وَهَرَبُوا فِيهَا إِلَى الْبَرَارِي. وَأَوَّلُ حُدُوثِ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ قَالَ: وَقَدْ جَعَلَهَا جَهَلَةُ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ مَعَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَنَحْوِهِمَا شَبَكَةً لِجَمْعِ الْعَوَامِّ، وَطَلَبًا لِرِيَاسَةِ التَّقَدُّمِ، وَتَحْصِيلِ الْحُطَامِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ اللَّهُ أَئِمَّةَ الْهُدَى فِي سَعْيِ إِبْطَالِهَا، فَتَلَاشَى أَمْرُهَا، وَتَكَامَلَ إِبْطَالُهَا فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ فِي أَوَائِلِ سِنِي الْمِائَةِ الثَّامِنَةِ، قُلْتُ: يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ الضَّعِيفِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوهُ لِمَا يُقَارِنُهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ نَازَعَ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ، وَمَالَ إِلَى نَدْبِ تِلْكَ الصَّلَاةِ الْمَرْوِيَّةِ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ لَهُ أَوَّلًا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ رِوَايَتُهَا وَلَا ذِكْرُهَا، إِلَّا مَعَ بَيَانِ حَالِهَا، قِيلَ: وَأَوَّلُ حُدُوثِ الْوَقِيدِ مِنَ الْبَرَامِكَةِ كَانُوا عَبْدَةَ النَّارِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا أَدْخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مَا يُمَوِّهُونَ أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الدِّينِ، وَمَقْصُودُهُمْ عِبَادَةُ النِّيرَانِ، حَيْثُ رَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تِلْكَ النِّيرَانِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ اسْتِحْبَابُ زِيَادَةِ الْوَقِيدِ عَلَى الْحَاجَةِ فِي مَوْضِعٍ، وَمَا يَفْعَلُهُ عَوَامُّ الْحُجَّاجِ مِنَ الْوَقِيدِ بِجَبَلِ عَرَفَاتٍ وَبِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَبِمِنًى، فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الطَّرْسُوسِيُّ الِاجْتِمَاعَ لَيْلَةَ الْخَتْمِ فِي التَّرَاوِيحِ وَنَصْبَ الْمَنَابِرِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، قُلْتُ: رَحِمَهُ اللَّهُ مَا أَفْطَنَهُ، وَقَدِ ابْتُلِيَ بِهِ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، حَتَّى فِي لَيَالِي الْخَتْمِ يَحْصُلُ اجْتِمَاعٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْعَبِيدِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْكُسُوفِ وَالْعِيدِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ الْعَدِيدُ، وَمُنْكَرَاتُ الْجَدِيدِ، وَيَسْتَقْبِلُونَ النَّارَ، وَيَسْتَدْبِرُونَ بَيْتَ اللَّهِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ، وَيَقِفُونَ عَلَى هَيْئَةِ عَبدَةِ النِّيرَانِ فِي نَفْسِ الْمَطَافِ، حَتَّى يَضِيقَ عَلَى الطَّائِفِينَ الْمَكَانُ وَيُشَوِّشُونَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الذَّاكِرِينَ وَالْمُصَلِّينَ وَقُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْغُفْرَانَ وَالرِّضْوَانَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

[باب صلاة الضحى]

[بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1309 - عَنْ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاغْتَسَلَ، وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. وَقَالَتْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَذَلِكَ ضُحًى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [38] بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ وَقْتُ الضُّحَى، وَهُوَ صَدْرُ النَّهَارِ حِينَ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ وَتُلْقِي شُعَاعَهَا اهـ. قِيلَ: التَّقْدِيرُ صَلَاةُ وَقْتِ الضُّحَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِضَافَةَ الصَّلَاةِ إِلَى الضُّحَى بِمَعْنَى " فِي " كَصَلَاةِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ النَّهَارِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وَقِيلَ: مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمُسَبَّبِ إِلَى السَّبَبِ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الضَّحْوَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ، وَالضُّحَى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ شُرُوقُهُ، وَبِهِ سُمِّيَ صَلَاةُ الضُّحَى، وَالضَّحَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ هُوَ إِذَا عَلَتِ الشَّمْسُ إِلَى زَيْغِ الشَّمْسِ فَمَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ: وَقْتُ الضُّحَى عِنْدَ مُضِيِّ رُبُعِ الْيَوْمِ إِلَى قُبَيْلِ الزَّوَالِ، وَقِيلَ: هَذَا وَقْتُهُ الْمُتَعَارَفُ، وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُ صَلَاةِ الْإِشْرَاقِ، وَقِيلَ: الْإِشْرَاقُ أَوَّلُ الضُّحَى. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1309 - (عَنْ أُمِّ هَانِئٍ) : بِهَمْزَةٍ بَعْدَ النُّونِ بِلَا خِلَافٍ عَلَى مَا فِي التَّهْذِيبِ، وَاسْمُهَا فَاخِتَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، (قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاغْتَسَلَ، وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» ) ، أَيْ: بِتَسْلِيمَتَيْنِ، أَوْ بِأَرْبَعٍ، (فَلَمْ أَرَ صَلَاةً) ، أَيْ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلَاةً كَمَا فِي الشَّمَائِلِ (قَطُّ) ، أَيْ: أَبَدًا.

(أَخَفَّ مِنْهَا) : وَذَلِكَ بِتَرْكِ قِرَاءَتِهِ السُّورَةَ الطَّوِيلَةَ وَالْأَذْكَارَ الْكَثِيرَةَ. (غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ) ، أَيْ: كَانَ يُتِمُّ كَمَا فِي الشَّمَائِلِ. (الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: نَصَبَ غَيْرَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَفَّفَ سَائِرَ الْأَرْكَانِ مِنَ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَلَمْ يُخَفِّفْ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَقَالَ مُنْلَا حَنَفِيُّ: مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِمْ مَا رَأَيْتُهُ إِلَخْ. وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالتَّخْصِيصُ بِهِمَا ; لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّسَاهُلُ فِيهِمَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ ضَعْفُ مَا قِيلَ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالِاعْتِنَاءِ إِلَخْ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ. (وَقَالَتْ) ، أَيْ أُمُّ هَانِئٍ (فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَذَلِكَ ضُحًى) ، أَيْ: مَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَاةَ ضُحًى، أَوْ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَقْتُ ضُحًى، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا صَحَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَةَ الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، يُسَلِّمُ مَعَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَالسُّبْحَةُ بِالضَّمِّ الصَّلَاةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1310 - وَعَنْ مُعَاذَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ: كَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى؟ قَالَتْ: أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1310 - (وَعَنْ مُعَاذَةَ) : بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيَّةِ الصَّهْبَاءِ الْبَصْرِيَّةِ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: كَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: كَمْ رَكْعَةً وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِقَوْلِهِ: (يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى؟ قَالَتْ: أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) ، أَيْ: لَا يَنْقُصُ عَنْ أَرْبَعٍ، فِي الْإِحْيَاءِ: يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا وَالشَّمْسِ، وَاللَّيْلِ، وَالضُّحَى، وَالِانْشِرَاحِ (وَيَزِيدُ) : عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ وَهُوَ مَقُولٌ لِلْقَوْلِ، أَيْ: يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَيَزِيدُ (مَا شَاءَ اللَّهُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيْ يَزِيدُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَلَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْأَسْوَدَ كَمْ أُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: كَمْ شِئْتَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ شَدَّادٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى مِائَةَ رَكْعَةٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1311 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1311 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ) : بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، أَيْ: عِظَامِ الْأَصَابِعِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْعِظَامُ كُلُّهَا، فِي النِّهَايَةِ: السُّلَامَى جَمْعُ السُّلَامِيَّةِ وَهِيَ الْأُنْمُلَةُ مِنْ أَنَامِلِ الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ: وَاحِدَةٌ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى سُلَامَيَاتٍ، وَهِيَ الَّتِي بَيْنَ كُلِّ مَفْصِلَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الْإِنْسَانِ. (صَدَقَةٌ) : وَ " عَلَى " هُنَا لِلتَّأْكِيدِ، نَدَبَ التَّصَدُّقَ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ الْمُصْطَلَحِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ يُصْبِحُ إِمَّا صَدَقَةٌ، أَيْ: تُصْبِحُ الصَّدَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ سُلَامَى، وَإِمَّا مِنْ أَحَدِكُمْ عَلَى تَجْوِيزِ زِيَادَةِ " مِنْ " وَالظَّرْفُ خَبَرُهُ، وَصَدَقَةٌ: فَاعِلُ الظَّرْفِ، أَيْ: يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ صَدَقَةً، وَإِمَّا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ بَعْدَهَا مُفَسِّرَةٌ لَهُ، قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي أَنَّ كُلَّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِ ابْنِ آدَمَ يُصْبِحُ سَلِيمًا عَنِ الْآفَاتِ بَاقِيًا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا مَنَافِعُهُ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ شُكْرًا لِمَنْ صَوَّرَهُ وَوَقَاهُ عَمَّا يُغَيِّرُهُ وَيُؤْذِيهِ اهـ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مِفْصَلًا " تَارَةً ذَكَرَ الْعِظَامَ ; لِأَنَّهَا بِهَا قِوَامُ الْبَدَنِ، وَتَارَةً ذَكَرَ الْمَفَاصِلَ ; لِأَنَّ بِهَا يَتَيَسَّرُ الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ وَالتَّرَدُّدُ وَالنُّهُوضُ إِلَى الْحَاجَاتِ، (فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ، تَرَكَ تَعْدِيدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَفَاصِلِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِذِكْرِ تَعْدِيدِ مَا ذَكَرَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِ اهـ. أَوْ ; لِأَنَّ تَعْدِيدَ الْمَفَاصِلِ يَجُرُّ إِلَى الْإِطَالَةِ، وَفِي تَرْكِهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]

الْمَقْصُودُ مَا بِهِ الْقِيَامٌ بِشُكْرِهَا عَلَى أَنْ جَعْلَ لَهُ مَا يَكُونُ بِهِ مُتَمَكِّنًا عَلَى الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَلَيْسَ الصَّدَقَةُ بِالْمَالِ فَقَطْ، بَلْ كُلُّ خَيْرٍ صَدَقَةٌ. (وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ) : وَكَذَا سَائِرُ الْأَذْكَارِ، وَبَاقِي الْعِبَادَاتِ صَدَقَاتٌ عَلَى نَفْسِ الذَّاكِرِ، وَخَيْرَاتٌ وَمَبَرَّاتٌ عَلَيْهِ. (وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ) ; لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُمَا رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ تَرْكَ ذِكْرِ (كُلُّ) هُنَا اسْتِغْنَاءٌ بِذِكْرِهِ أَوَّلًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى نُدْرَةِ وُقُوعِهِمَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهُمَا لَا سِيَّمَا مِنَ الْمُعْتَزِلِ عَنِ النَّاسِ اهـ. وَلِظُهُورِ الْكُلِّيَّةِ فِيهِمَا ; لِأَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي تَرْكِ ذِكْرِ الصَّدَقَةِ الْحَقِيقِيَّةِ تَسْلِيَةٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالْعَاجِزِينَ عَنِ الْخَيْرَاتِ الْمَالِيَّةِ. (وَيُجْزِئُ) : بِالتَّذْكِيرِ أَوِ التَّأْنِيثِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِالضَّمِّ، أَيْ ضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِجْزَاءِ، وَبِالْفَتْحِ مِنْ جَزَى يَجْزِي، أَيْ يَكْفِي (مِنْ ذَلِكَ) : هِيَ بِمَعْنَى " عَنْ "، أَيْ: يَكْفِي عَمَّا ذَكَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَى السُّلَامَى مِنَ الصَّدَقَاتِ (رَكْعَتَانِ) ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَمَلٌ بِجَمِيعِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ، فَيَقُومُ كُلُّ عُضْوٍ بِشُكْرِهِ، وَلِاشْتِمَالِ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ فِيهَا أَمْرًا لِلنَّفْسِ بِالْخَيْرِ وَنَهْيًا لَهَا عَنْ تَرْكِ الشُّكْرِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى) ، أَيْ مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى، أَوْ فِي وَقْتِ الضُّحَى، فَيَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِمَا، وَلِذَا كَرِهَ جَمَاعَةٌ تَرَكَهَا، وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى نَهْيِ الْبُتَيْرَاءِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِمَا بِالْإِجْزَاءِ أَنَّهُ وَقْتُ غَفْلَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنِ الطَّاعَةِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَلِذَا فُسِّرَ الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ فِي الْآيَةِ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَالْوِتْرُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، لِكَوْنِهِمَا وَقْتَ الِاسْتِرَاحَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1312 - ( «وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ مِنَ الضُّحَى) : فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّاعَةِ أَفْضَلُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1312 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ مِنَ الضُّحَى) ، أَيْ: عِنْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ شَيْئًا يَسِيرًا (فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّاعَةِ أَفْضَلُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ زَائِدَةٌ، أَيْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الضُّحَى، أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ قَوْلُهُ: لَقَدْ عَلِمُوا، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ إِيقَاعَ صَلَاتِهِمْ فِي بَعْضِ وَقْتِ الضُّحَى، أَيْ: أَوَّلِهِ، وَلَمْ يَصْبِرُوا إِلَى الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، أَيْ: كَيْفَ يُصَلُّونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ أَفْضَلُ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ صَلَاةُ مُبْتَدَأٍ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى إِنْكَارَ إِنْشَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الضُّحَى، وَجَوَّزَ ابْنُ حَجَرٍ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً لِمُقَدَّرٍ، أَيْ صَلَاةً هِيَ الضُّحَى، وَعِنْدِي أَنَّ الِابْتِدَائِيَّةَ أَظْهَرُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا لِلْعِلَّةِ. (قَالَ: " صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ) : الْأَوَّابُ: الْكَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ: هُوَ الْمُطِيعُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُسَبِّحُ، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَنَّ التَّوَّابَ هُوَ الرَّجَّاعُ بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْأَوَّابُ هُوَ الرَّجَّاعُ بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْغَفْلَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ لَا يُحَافِظُ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى إِلَّا أَوَّابٌ وَهِيَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ. (حِينَ تَرْمَضُ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْمِيمِ، أَيْ: تَحْتَرِقُ (الْفِصَالُ) : جَمْعُ الْفَصِيلِ وَلَدُ النَّاقَةِ إِذَا فُصِلَ عَنْ أُمِّهِ يَعْنِي: أَخْفَاهَا مِنْ شِدَّةِ حَرِّ النَّهَارِ، وَقِيلَ ; لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ زَمَانُ الِاسْتِرَاحَةِ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَاشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ اسْتَحَقَّ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ وَالْجَزَاءَ الْجَزِيلَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الرَّمْضَاءُ شِدَّةُ وَقْعِ حَرِّ الشَّمْسِ عَلَى الرَّمْلِ وَغَيْرِهِ إِلَى حِينِ يَجِدُ الْفَصِيلُ حَرَّ الشَّمْسِ، فَيَبْرُكُ مِنْ حِدَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ وَإِحْرَاقِهَا أَخْفَافَهَا، فَذَلِكَ حِينُ صَلَاةِ الضُّحَى، وَهِيَ عِنْدَ مُضِيِّ رُبُعِ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَى الْأَوَّابِينَ لِمَيْلِ النَّفْسِ فِيهِ إِلَى الدَّعَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، فَالِاشْتِغَالُ فِيهِ بِالصَّلَاةِ أَوْبٌ مِنْ مُرَادِ النَّفْسِ إِلَى مَرْضَاةِ الرَّبِّ، قِيلَ: قَالَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ دَخَلَ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، وَوَجَدَ أَهْلَهُ يُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَوَّلَهُ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، وَآخِرُهُ قُرْبَ الِاسْتِوَاءِ، وَأَفْضَلُهُ أَوْسَطُهُ وَهُوَ رُبُعُ النَّهَارِ، لِئَلَّا يَخْلُو كُلُّ رُبُعٍ مِنَ النَّهَارِ عَنِ الصَّلَاةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1313 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ! ارْكَعْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ; أَكْفِكَ آخِرَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصلُ الثَّانِي 1313 - (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَنِ اللَّهِ) : هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ أَوِ التَّقْدِيرُ نَاقِلًا أَوْ قَائِلًا: عَنِ اللَّهِ (تَبَارَكَ) ، أَيْ: كَثُرَ خَيْرُهُ وَبَرَكَتُهُ (وَتَعَالَى) ، أَيْ: عَلَا مَجْدُهُ وَعَظَمَتُهُ (أَنَّهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ (قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ! ارْكَعْ) ، أَيْ: صَلِّ (لِي) ، أَيْ: خَالِصًا لِوَجْهِي (أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ) : قِيلَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الضُّحَى، وَقِيلَ: صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ، وَقِيلَ: سُنَّةُ الصُّبْحِ وَفَرْضُهُ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ فَرْضِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ (أَكْفِكَ) ، أَيْ: مُهِمَّاتِكَ (آخِرَهُ) ، أَيْ: إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أَكْفِكَ شُغْلَكَ وَحَوَائِجَكَ، وَأَدْفَعُ عَنْكَ مَا تَكْرَهُهُ بَعْدَ صَلَاتِكَ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَالْمَعْنَى فَرِّغْ بَالَكَ بِعِبَادَتِي فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، أُفَرِّغْ بَالَكَ فِي آخِرِهِ بِقَضَاءِ حَوَائِجِكَ اهـ. وَهُوَ مَعْنَى مَنْ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ لَهُ، وَقَدْ وَرَدَ: مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا؛ هَمَّ الدِّينِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ صَاحِبُ تَخْرِيجِ الْمَصَابِيحِ: حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى، وَلِهَذَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ الضُّحَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقَعُ النَّهَارُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ عَلَى مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا. نَقَلَهُ مِيرَكُ: لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى عُرْفِ الْحُكَمَاءِ وَالْمُنَجِّمِينَ، وَأَمَّا عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ فَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الصُّبْحِ إِلَى الْمَغْرِبِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الضَّحْوَةِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ أَوَّلُ النَّهَارِ، فَمِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ: عَنْهُمَا، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ اهـ. وَفِي سَنَدِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَفِي الشَّمَائِلِ بِلَفْظِ: ابْنُ آدَمَ. بِدُونِ حَرْفِ النِّدَاءِ.

1314 - وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ الْغَطَفَانِيِّ، وَأَحْمَدُ عَنْهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1314 - (وَرَوَاهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَأَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ غَلَطٌ لِاخْتِلَافِ الرَّاوِي (أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا (عَنْ نُعَيْمٍ) : مُصَغَّرًا (ابْنِ هَمَّارٍ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالزَّايِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَكْثَرُ أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ هَمَّارٌ، وَيُقَالُ هَبَّارٌ بِالْمُوَحَّدَةِ وَهَدَّارٌ وَخَمَّارٌ وَهَمَّامٌ وَحِمَازٌ وَهِمَارٌ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. (الْغَطَفَانِيِّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ غَطَفَانَ بِحَرَكَتَيْنِ، (وَأَحْمَدُ عَنْهُمْ) ، أَيْ: يَرْوِي أَحْمَدُ عَنِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: عَنِ الثَّلَاثَةِ الْأَوَّلِينَ وَنُعَيْمٍ وَهْمٌ وَصَوَابُهُ عَنِ الْأَوَّلِينَ، فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ ثَلَاثَةٌ.

1315 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ "، قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: " النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا، وَالشَّيْءُ تُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ; فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1315 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا» ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الصَّادِ، قِيلَ: نِصْفُهَا سَاكِنَاتٌ، وَنِصْفُهَا مُتَحَرِّكَاتٌ، فَإِنْ تَحَرَّكَتْ سَاكِنَةٌ أَوْ سَكَنَتْ مُتَحَرِّكَةٌ لَاخْتَلَّ نِظَامُهُ، وَتَعَذَّرَ قِيَامُهُ، وَتَنَغَّصَ عَيْشُهُ وَقِوَامُهُ. (فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُجُوبِ فِي حَدِيثِ يُصْبِحُ قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ اهـ. وَهُوَ بِمَعْنَى اللُّزُومِ وَالتَّأْكِيدِ لَا الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ، إِذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ رَكْعَتَيِ الضُّحَى وَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ كَانَ الشُّكْرُ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا وَاجِبًا شَرْعًا وَعَقْلًا. (قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ ذَاكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: ذَلِكَ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ كَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ، فَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُتَعَارَفِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْمَالِيَّةِ، أَيْ: لَا يُطِيقُ كُلُّ أَحَدٍ ذَلِكَ. (يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟) ; لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فُقَرَاءُ (قَالَ: " النُّخَاعَةُ) : بِضَمِّ النُّونِ، أَيِ: النُّخَاعَةُ الَّتِي تَرَاهَا (فِي الْمَسْجِدِ) ، أَيْ: تَكُونُ فِيهِ (تَدْفِنُهَا) ، أَيْ، أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ

خِطَابًا عَامًا عَدْلَ عَنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ الِاخْتِصَاصُ بِالصَّحَابَةِ، أَيْ: دَفْنُهَا صَدَقَةٌ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (وَالشَّيْءُ) : بِالرَّفْعِ، أَيِ الْمُؤْذِي لِلْمَارَّةِ مِنْ شَوْكٍ أَوْ حَجَرٍ (تُنَحِّيهِ) : بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: تُبْعِدُهُ (عَنِ الطَّرِيقِ) ، أَيْ: تَنْحِيَةُ ذَلِكَ صَدَقَةٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ يَدْفِنُ النُّخَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ هَذِهِ الْخِلَالِ، وَإِنَّ كُلَّ مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يُخَاطَبَ بِخِطَابٍ يَنْبَغِي أَنْ يَهْتَمَّ بِهَا. وَرَدَّهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ النُّخَامَةُ مِنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ دَفْنَهَا حِينَئِذٍ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، كَمَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحَثَّ عَلَيْهِ، أَمَّا نُخَامَتُهُ هُوَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ دَفْنُهَا ; لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا بِفِعْلِهَا، فَلَزِمَهُ قَطْعُهُ بِدَفْنِهَا الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ كَفَّارَةً لِذَلِكَ اهـ. وَيُدْفَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّدَقَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً أَوْ سُنَّةً، أَمَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبَانِ، وَقَدْ أُقِيمَا مَقَامَ الصَّدَقَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ) ، أَيْ: شَيْئًا مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّدَقَةِ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا يَبْلُغُ عَدَدَ الثَّلَاثِمِائَةِ وَالسِّتِّينَ (فَرَكْعَتَا الضُّحَى) ، أَيْ: صَلَاتُهُ (تُجْزِئُكَ) ، أَيْ: تَكْفِيكَ عَنْ جَمِيعِهَا، وَأَفْرَدَ الْخَبَرَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، أَيْ: فَصَلَاةُ الضُّحَى تُجْزِئُكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَقَوَّاهُ غَيْرُهُ اهـ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّهُ خَلَقَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَفْصِلًا، فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَهَلَّلَ اللَّهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً، أَوْ عَظْمًا، أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ» "، أَيْ: أَبْعَدَهَا. قُلْتُ: وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيِّ ... يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمٍ ذَكِيِّ وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِابْنِ آدَمَ الْمُلُوحَةَ فِي الْعَيْنَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا شَحْمَتَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَذَابَتَا، وَجَعَلَ الْمَرَارَةَ فِي الْأُذُنَيْنِ حِجَابًا مِنَ الدَّوَابِّ، مَا دَخَلَتِ الرَّأْسَ دَابَّةٌ إِلَّا الْتَمَسَتِ الْوُصُولَ إِلَى الدِّمَاغِ، فَإِذَا ذَاقَتِ الْمَرَارَةَ الْتَمَسَتِ الْخُرُوجَ، وَجَعَلَ الْحَرَارَةَ فِي الْمَنْخَرَيْنِ لِيَسْتَنْشِقَ بِهَا الرِّيحَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ ; لَأَنْتَنَ الدِّمَاغُ، وَجَعَلَ الْعُذُوبَةَ فِي الشَّفَتَيْنِ يَجِدُ بِهَا طَعْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَسْمَعُ النَّاسُ حَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ» ". ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ مِنَ الْعُلُومِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ.

1316 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ; بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا مَنْ ذَهَبٍ فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1316 - ( «وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً» ) ، أَيْ: جُمْلَةً أَوْ مُفَرَّقَةً (بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا مِنْ ذَهَبٍ فِي الْجَنَّةِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) ، أَيْ: إِسْنَادُهُ (لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ مَرْفُوعًا " «إِنْ صَلَّيْتَ الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا أَرْبَعًا كُتِبْتَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا سِتًّا كُتِبْتَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا ثَمَانِيًا كُتِبْتَ مِنَ الْفَائِزِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا عَشْرًا لَمْ يُكْتَبْ لَكَ الْيَوْمَ ذَنْبٌ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: يَا عَمَّاهُ أَوْصِنِي، قَالَ: سَأَلْتَنِي كَمَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: " «إِنْ صَلَّيْتَ الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ تُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ» " إِلَخْ، قَالَ الْبَزَّارُ: وَلَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، كَذَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: " «وَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا كُتِبَ مِنَ الْعَابِدِينَ، وَمَنْ صَلَّى سِتًّا كُفِيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَمَنْ صَلَّى ثَمَانِيًا كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْقَانِتِينَ» ". وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنْ طُرُقٍ، وَهَذَا أَحْسَنُ أَسَانِيدِهِ، وَنَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ الثَّمَانَ أَفْضَلُهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ كَثِيرُونَ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ غَرِيبٌ.

1317 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى يُسَبِّحَ رَكْعَتَيِ الضُّحَى، لَا يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، غُفِرَ لَهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1317 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهْنِيِّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ جُهَيْنَةَ مُصَغَّرًا. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَعَدَ) ، أَيْ: اسْتَمَرَّ (فِي مُصَلَّاهُ) : مِنَ الْمَسْجِدِ أَوِ الْبَيْتِ مُشْتَغِلًا بِالذِّكْرِ أَوِ الْفِكْرِ، أَوْ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ، أَوْ مُسْتَفِيدًا، أَوْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ (حِينَ يَنْصَرِفُ) ، أَيْ: يُسَلِّمُ (مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ) ، أَيْ: إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ (رَكْعَتَيِ الضُّحَى) ، أَيْ: بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَارْتِفَاعِهَا (لَا يَقُولُ) ، أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمَا (إِلَّا خَيْرًا) : وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، وَاكْتَفَى بِالْقَوْلِ عَنِ الْفِعْلِ. (غُفِرَ لَهُ خَطَايَاهُ) ، أَيْ: الصَّغَائِرُ، وَيَحْتَمِلُ الْكَبَائِرُ (وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهْنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَسَهْلٌ ضَعِيفٌ، وَالرَّاوِي عَنْهُ زَبَّانُ بِفَتْحِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ بَعْدَ الْأَلْفِ نُونٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا، مَعَ صَلَاحِهِ وَعِبَادَتِهِ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَيُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ صَحَّ فِي نَحْوِ ذَلِكَ أَنَّهُ كَحَجَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ، وَهُوَ مُقَارِنٌ لِمَا هُنَا وَقَدْ وَرَدَ: " «مِنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» " اتِّفَاقًا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1318 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى ; غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1318 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ حَافَظَ) ، أَيْ: وَاظَبَ وَدَاوَمَ (عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى) : يُرْوَى بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ كَالْغَرْفَةِ وَالْغُرْفَةِ، أَيْ: رَكْعَتَيِ الضُّحَى مِنَ الشَّفْعِ بِمُنَى الزَّوْجِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) : قِيلَ: إِنَّمَا خَصَّ الْكَثْرَةَ بِزَبَدِ الْبَحْرِ لِاشْتِهَارِهِ بِالْكَثْرَةِ عِنْدَ الْمُخَاطِبِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَبَّرَ هُنَا بِمَثَلٍ، وَفِيمَا سَبَقَ بِأَكْثَرَ ; لِأَنَّ عَمَلَ ذَلِكَ أَشُقُّ، فَكَانَتِ الزِّيَادَةُ بِهِ أَحَقَّ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ الْمَذْكُورَةَ أَقْوَى مِنْ مُجَرَّدِ الْقُعُودِ الْمَسْطُورِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُدَاوَمَةُ فِيهِ أَيْضًا مُعْتَبِرَة أَوْ يُضَمُّ إِلَيْهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ الْفَرِيضَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ نَهَّاسِ بْنِ قَهْمٍ اهـ. وَنَهَّاسٌ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

1319 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ تَقُولُ: لَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتُهَا. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1319 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي الضُّحَى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ) : لَعَلَّهُ تَأَسِّيًا بِمَا صَدَرَ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَامَ الْفَتْحِ، (ثُمَّ تَقُولُ) ، أَيْ: حَثًّا عَلَى الْمُحَافَظَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ، (لَوْ نُشِرَ) ، أَيْ: أُحْيِيَ (لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتُهَا) ، أَيْ: مَا تَرَكْتُ هَذِهِ اللَّذَّةَ بِتِلْكَ اللَّذَّةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ مُبَالَغَةً، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعْنَاهُ لَوْ خُصِّصْتُ بِإِحْيَاءِ أَبَوَيَّ الَّذِي لَا أَلَذَّ مِنْهُ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ لِي: اتْرُكِي لَذَّةَ فِعْلِهَا فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ اللَّذَّةِ مَا تَرَكْتُ ذَلِكَ، إِيثَارًا لِلَّذَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَإِنْ دَعَا الطَّبْعُ الْجَبَلِيُّ إِلَى تَقَدُّمِ تِلْكَ اللَّذَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الْمَعْنَى مَا تَرَكْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ اشْتِغَالًا بِالتَّرْحِيبِ بِهِمَا، وَالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِمَا، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ نِهَايَةِ الْمُوَاظَبَةِ، وَغَايَةِ الْمُحَافَظَةِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُهَا قَاطِعٌ عَنْهَا. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

وَقَدْ جَاءَتْ عَنْ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءُ مُخْتَلِفَةٌ فَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ» بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ ثُمَّ هَاءِ ضَمِيرٍ، وَقَوْلُ شَارِحٍ أَنَّهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الَّذِي فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مِنْ سَفَرِهِ، فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَقْيِيدُ النَّفْيِ بِغَيْرِ الْمَجِيءِ مِنْ مَغِيبِهِ، وَتُقَدِّمُ رِوَايَةُ مُعَاذَةَ عَنْهَا الْإِثْبَاتَ مُطْلَقًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْهَا بِلَفْظِ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبِّحُ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا، فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَفْيُ رُؤْيَتِهَا مُطْلَقًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَجَمَاعَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ دُونَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، وَرِوَايَةُ مُعَاذَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْهَا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ عَدَمَ رُؤْيَتِهَا ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُقُوعِ، فَيُقَدَّمُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ الْإِثْبَاتُ، وَذَهَبَ الْآخَرُونَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا: مَا رَأَيْتُهُ سَبَّحَهَا، أَيْ دَاوَمَ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهَا: وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا، أَيْ: عَلَى الدَّوَامِ، وَكَذَا قَوْلُهَا: وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ شَيْئًا يَعْنِي الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا، قَالَ: وَفِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَتْ: وَإِنْ كَانَ لِيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضُ عَلَيْهِمُ اهـ. وَحَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ قَوْلِهَا: مَا كَانَ يُصَلِّي إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ، وَقَوْلِهَا: كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا إِلَخْ. أَنَّ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى صِلَاتِهِ إِيَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالثَّانِي عَلَى الْبَيْتِ قَالَ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُهَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهَا: مَا رَأَيْتُهُ سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ صِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَقَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: قَوْلُهُ مَا صَلَّاهَا مَعْنَاهُ مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهَا: كَانَ يُصَلِّيهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْ فِي الْإِنْكَارِ عَنْ مُشَاهَدَتِهَا، وَفِي الْإِثْبَاتِ عَنْ غَيْرِهَا، وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَفَتْ صَلَاةَ الضُّحَى الْمَعْهُودَةَ مِنْ هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَوَقْتٍ مَخْصُوصٍ: وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا إِذْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ لَا بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، كَمَا قَالَتْ: أَرْبَعًا وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ، نَقَلُهُ مِيرَكُ، عَنِ الشَّيْخِ، وَقَدْ عَدَّ السُّيُوطِيُّ بِضْعًا وَعِشْرِينَ صَحَابِيًّا مِمَّنْ يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى.

1320 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ: لَا يَدَعُهَا، وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُولَ: لَا يُصَلِّيهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1320 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى) : أَيْ: أَيَّامًا (حَتَّى نَقُولَ) : بِالنُّونِ (لَا يَدَعُهَا) ، أَيْ: لَا يَتْرُكُهَا أَبَدًا (وَيَدَعُهَا) ، أَيْ: أَحْيَانًا (حَتَّى نَقُولَ: لَا يُصَلِّيهَا) : وَكَانَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْأَوْقَاتِ مِنَ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَاتِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَلَاةِ التَّهَجُّدِ وَصَوْمِ النَّفْلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَيَّدَ التَّرْكُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنَ الْعَدَدِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّ الضُّحَى كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ يَوْمٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1321 - وَعَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: تُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَا إِخَالُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1321 - (وَعَنْ مُوَرِّقٍ) : بِالتَّشْدِيدِ اسْمُ فَاعِلٍ (الْعِجْلِيِّ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ نِسْبَةً إِلَى بَنِي عِجْلٍ قَبِيلَةً. (قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: تُصَلِّي الضُّحَى؟) : بِحَذْفِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ. (قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَعَمَرُ؟) ، أَيْ: كَانَ يُصَلِّيهَا؟ (قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟) ، أَيْ: كَانَ يُصَلِّيهَا؟ (قَالَ: لَا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَ حِكْمَةُ تَقْدِيمِ عُمَرَ، مَعَ أَنَّ الصِّدِّيقَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَطَّلِعُ مِنْ حَالِ أَبِيهِ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ غَيْرِهِ. قُلْتُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لِلتَّرَقِّي لِقَوْلِهِ: (قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : كَانَ يُصَلِّيهَا (قَالَ: لَا إِخَالُهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَقَدْ تُفْتَحُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، أَيْ: لَا أَظُنُّهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. كَرِهَ بَعْضُهُمْ صَلَاةَ الضُّحَى، رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ رَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقَالَ: أَمَّا إِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَلَاةً مَا صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ فِي نَفْيِ صَلَاةِ الضُّحَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِثْبَاتُهَا فِي حَدِيثِ غَيْرِهَا، هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِفَضْلِهَا، وَيَتْرُكُهَا فِي بَعْضِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ، وَيُشْبِهَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ لَمْ يَحْضُرْ عِنْدَهَا وَقْتَ الضُّحَى إِلَّا نَادِرًا، وَيُصَلِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ نِسَائِهِ، وَلَهَا يَوْمٌ مِنْ تِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ صَحَّ قَوْلُهَا مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهَا، أَوْ نَقُولُ مَعْنَاهُ مَا رَأَيْتُهُ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ الضُّحَى بِدْعَةٌ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّظَاهُرَ بِهَا بِدَعَةٌ ; لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تُصَلَّى فِي الْبُيُوتِ، أَوْ نَقُولُ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمْرَهُ بِذَلِكَ، أَوْ يُقَالُ الْمُوَاظَبَةُ بِدْعَةٌ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُوَاظِبْ خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ اهـ. مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ مُنْلَا حَنَفِي: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ارْتَفَعَ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَوْفَ تَوَهُّمِ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ.

[باب التطوع]

[بَابُ التَّطَوُّعِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1322 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: " يَا بِلَالُ! حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ "، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [39] بَابُ التَّطَوُّعِ أَيْ: سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الثَّابِتَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِنْ شُكْرِ الْوُضُوءِ، وَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالْحَاجَةِ، وَمِنْهَا صَلَاةُ التَّسْبِيحِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1322 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بِمَعْنَى عَقِبَ أَوْ قُبَيْلَ، وَتَحْتَمِلُ الصَّلَاةُ فَرْضَهُ وَسُنَّتَهُ. (يَا بِلَالُ! حَدِّثْنِي) ، أَيْ: أَخْبِرْنِي (بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ) ، أَيْ: اخْتَرَعْتَهُ (فِي الْإِسْلَامِ) : قِيلَ: أَضَافَ الرَّجَاءَ إِلَى الْعَمَلِ ; لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ مَرْجُوٌّ بِهِ الثَّوَابُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يَكُونُ رَجَاؤُكَ بِثَوَابِهِ أَكْثَرَ اهـ. وَفِي كَلَامِهِ مُسَامِحَتَانِ: الْأُولَى قَوْلُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْفَاعِلِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَالْأُخْرَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ مَعْنَى الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ. (فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ) ، أَيْ: صَوْتَهُمَا عِنْدَ مَشْيِكَ فِيهِمَا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: صَوْتَ مَشْيِكَ فِيهِمَا ; لِأَنَّ الْمَشْيَ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ لَيْسَ لَهُ صَوْتٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَأَصْلُهُ السَّيْرُ اللَّيِّنُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الصَّوْتُ اللَّيِّنُ الْمُلَائِمُ النَّاشِئُ مِنَ السَّيْرِ، وَلَعَلَّهُ سُمِّيَ الدُّفُّ دُفًّا لِذَلِكَ. (بَيْنَ يَدِيَّ) : وَهَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْخَادِمِ عَلَى الْمَخْدُومِ وَحِكْمَةُ سَمَاعِهِ لِدَفِّهِمَا أَنَّهُمَا آلَةُ الْمَشْيِ، وَالِاجْتِهَادُ الْمُوَصِّلُ لِلْمَقْصِدِ وَالْمُرَادِ، كَذَا قِيلَ، وَلَعَلَّ فِي صُورَةِ التَّقْدِيمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا خَالِصًا، وَلِذَا خُصَّ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ الْخُدَّامِ بِسَمَاعِ دَفَّ نَعْلَيْهِ الْمُشِيرِ إِلَى خِدْمَتِهِ، وَصُحْبَتِهِ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الدَّارَيْنِ وَمُرَافَقَتِهِ. (فِي الْجَنَّةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا أَمْرٌ كُوشِفَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فِي نَوْمِهِ، أَوْ يَقَظَتِهِ، أَوْ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ، أَوْ رَأَى ذَلِكَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَمَشْيهِ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ الْخِدْمَةِ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَقَدُّمِ بَعْضِ الْخَدَمِ بَيْنَ يَدِيِّ مَخْدُومِهِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا رَآهُ لِيَطِيبَ قَلْبُهُ وَيُدَاوِمَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَلِتَرْغِيبِ السَّامِعِينَ إِلَيْهِ. (قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا) ، أَيْ: خَاصًّا مِنْ لَدُنِّي (أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي) : بِالْفَتْحِ، أَيْ: مِنْ أَنِّي، وَقِيلَ بِالْكَسْرِ جُمْلَةً مُسْتَأْنِفَةً جَوَابَ لِمَ سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ؟ فَقَالَ: أَنِّي (لَمْ أَتَطَهَّرْ) : وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ (طُهُورًا) : بِضَمِّ الطَّاءِ، أَيْ: طَهَارَةٌ وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ: بِفَتْحِ الطَّاءِ، أَيْ وُضُوءً. (فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ) : كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ نَهَارٍ، وَعَكْسِ ابْنِ حَجَرٍ. (إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي) ، أَيْ: قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِي مِنَ النَّوَافِلِ (أَنْ أُصَلِيَّ) : وَقِيلَ: وَجَبَ وَاللَّامُ بِمَعْنَى " عَلَى " وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ ; لِأَنَّهَا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَلِلدِّرَايَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ إِنَّمَا هِيَ الصَّلَاةُ الْمَخْصُوصَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى شُكْرُ الْوُضُوءِ، قِيلَ: فِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُصَرِّحَةَ بِالْحُرْمَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى هَذَا الْمُحْتَمَلِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْفَوْرِيَّةِ، بَلِ الْبُعْدِيَّةِ بِشَرْطِ بَقَاءِ تِلْكَ الطَّهَارَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ أُمُورًا مُتَعَدِّدَةً غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ الْكُلَّ فَحَفِظَ بَعْضُ الرُّوَاةِ هَذَا، وَبَعْضُهُمْ ذَاكَ، أَوْ تَكُونُ الْوَاقِعَةُ مُكَرَّرَةً، فَذَكَرَ هَذَا فِي مَرَّةٍ، وَذَاكَ فِي أُخْرَى.

1323 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: " إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ ولا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنَّ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي، وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي، وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقَدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ "، قَالَ: " وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1323 - (وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ) ، أَيْ: طَلَبَ تَيَسُّرِ الْخَيْرِ فِي الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْفِعْلِ، أَوِ التَّرْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ ضِدُّ الشَّرِّ. (فِي الْأُمُورِ) ، أَيْ: الَّتِي نُرِيدُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا مُبَاحَةً كَانَتْ أَوْ عِبَادَةً، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيقَاعِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ فِعْلِهَا. (كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهَذَا الدُّعَاءِ (يَقُولُ) : بَدَلٌ أَوْ حَالٌ (إِذَا هَمَّ) ، أَيْ: قَصَدَ (أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ) ، أَيْ: مِنْ نِكَاحٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُرِيدُ فِعْلَهُ أَوْ تَرْكَهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْوَارِدُ عَلَى الْقَلْبِ عَلَى مَرَاتِبَ: الْهِمَّةُ، ثُمَّ اللَّمَّةُ، ثُمَّ الْخَطِرَةُ، ثُمَّ النِّيَّةُ، ثُمَّ الْإِرَادَةُ، ثُمَّ الْعَزِيمَةُ، فَالثَّلَاثَةُ الْأَوَّلُ لَا يُؤَاخِذُ بِهَا بِخِلَافِ الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ فَقَوْلُهُ: إِذَا هَمَّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ، فَيَسْتَخِيرُ، فَيَظْهَرُ لَهُ بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ مَا هُوَ الْخَيْرُ، بِخِلَافٍ مَا إِذَا تَمَكَّنَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ وَقَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ مَيْلٌ وَحُبٌّ، فَيَخْشَى أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ وَجْهُ الْأَرْشَدِيَّةِ لِغَلَبَةِ مَيْلِهِ إِلَيْهِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهَمِّ الْعَزِيمَةَ ; لِأَنَّ الْخَوَاطِرَ لَا تُثْبِتُ فَلَا يَسْتَخِيرُ إِلَّا عَلَى مَا يَقْصِدُ التَّصْمِيمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِلَّا لَوِ اسْتَخَارَ فِي كُلِّ خَاطِرٍ لَاسْتَخَارَ فِيمَا لَا يَعْبَأُ بِهِ فَتَضِيعُ عَلَيْهِ أَوْقَاتُهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَمْرًا ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. (فَلْيَرْكَعْ) ، أَيْ: لِيُصَلِّ أَمْرُ نَدْبٍ (رَكْعَتَيْنِ) : بِنِيَّةِ الِاسْتِخَارَةِ، وَهُمَا أَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، يَقْرَأُ فِي الْأُولَى (الْكَافِرُونَ) : وَفِي الثَّانِيَةِ (الْإِخْلَاصِ) : وَقِيلَ فِي الْأُولَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ - مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ - وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 68 - 69] وَفِي الثَّانِيَةِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] (مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ) : بَيَانٌ لِلْأَكْمَلِ، وَنَظِيرُهُ: تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَشُكْرُ الْوُضُوءِ، قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْفَرِيضَةُ وَمَا عُيِّنَ وَقْتًا فَتَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمْعٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ. (ثُمَّ لْيَقُلْ) ، أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ) ، أَيْ: أَطْلُبُ أَصْلَحَ الْأَمْرَيْنِ (بِعِلْمِكَ) ، أَيْ: بِسَبَبِ عِلْمِكَ، وَالْمَعْنَى أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَشْرَحَ صَدْرِي لِخَيْرِ الْأَمْرَيْنِ بِسَبَبِ عِلْمِكَ بِكَيْفِيَّاتِ الْأُمُورِ، وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَكُلِّيَّاتِهَا ; إِذْ لَا يُحِيطُ بِخَيْرِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: (وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ) : إِمَّا لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] ، أَيْ: أَطْلُبُ خَيْرَكَ مُسْتَعِينًا بِعِلْمِكَ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِيمَ خَيْرُكَ، وَأَطْلُبُ مِنْكَ الْقُدْرَةَ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، وَإِمَّا لِلِاسْتِعْطَافِ، أَيْ بِحَقِّ عِلْمِكَ الشَّامِلِ وَقُدْرَتِكِ الْكَامِلَةِ اهـ. وَنَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 17] الْآيَةَ. وَقِيلَ: أَيْ أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تُقَدِّرَ لِي الْخَيْرَ بِمَعْنَى تُظْهِرَ لِي تَقْدِيرُكَ الْخَيْرَ بِسَبَبِ قُدْرَتِكَ عَلَيْهِ. (وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ) ، أَيْ: تَعْيِينُ الْخَيْرِ وَتَبْيِينُهُ وَتَقْدِيرُهُ وَتَيْسِيرُهُ، وَإِعْطَاءُ الْقُدْرَةِ لِي عَلَيْهِ، (فَإِنَّكَ تَقْدِرُ) : بِالْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُمْكِنٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُكَ، (وَلَا أَقْدِرُ) : عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِقُدْرَتِكَ وَحَوْلِكَ وَقُوَّتكَ، (وَتَعْلَمُ) : بِالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، كُلِّيهَا

وَجُزْئِيهَا، مُمْكِنِهَا وَغَيْرِهَا، (وَلَا أَعْلَمَ) : شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِإِعْلَامِكَ وَإِلْهَامِكَ (وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) : بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِهَا، وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْبُرْهَانِ، أَيْ: أَنْتَ كَثِيرُ الْعِلْمِ بِمَا يَغِيبُ عَنِ السَّوِيِّ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، فَضْلًا عَنِ الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ، وَالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ تَذْيِيلٌ وَتَتْمِيمٌ وَتَكْمِيلٌ مَعَ إِطْنَابٍ وَتَأْكِيدٍ لِمَا قَبْلَهُ، وَمَقَامُ الدُّعَاءِ خَلِيقٌ بِذَلِكَ لِمَا وَرَدَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ تَشْوِيشِ النَّشْرِ الْإِشَارَةُ بِتَقْدِيمِ الْعِلْمِ أَوَّلًا إِلَى عُمُومِهِ، وَبِتَقْدِيمِ الْقُدْرَةِ ثَانِيًا إِلَى أَنَّهَا الْأَنْسَبُ بِالْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْإِقْدَارُ عَلَى فِعْلِ خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الْعِلْمِ خَتَمَ بِأَخِيرِهِ بِجُمْلَةِ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَتَرَكَ: وَأَنْتَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ) ، أَيْ: إِنْ كَانَ فِي عِلْمِكَ (أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ) ، أَيْ: الَّذِي يُرِيدُهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ أَوْ يُضْمِرُ فِي بَاطِنِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ، فَأَوْقَعَ الْكَلَامَ مَوْقِعَ الشَّكِّ عَلَى مَعْنَى التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ.: وَالرِّضَا بِعِلْمِهِ فِيهِ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْبَلَاغَةِ (تَجَاهُلَ الْعَارِفِ) ، وَ (مَزْجَ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ) ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّكَّ فِي أَنَّ الْعِلْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، لَا فِي أَصْلِ الْعِلْمِ اهـ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَنَتَوَقَّفُ فِي جَوَازِ الْأَوَّلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. (خَيْرٌ لِي) أَيِ الْأَمْرُ الَّذِي عَزَمْتُ عَلَيْهِ أَصْلَحُ (فِي دِينِي) ، أَيْ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدِينِي أَوَّلًا وَآخِرًا (وَمَعَاشِي) : فِي الصِّحَاحِ: الْعَيْشُ الْحَيَاةُ، وَقَدْ عَاشَ الرَّجُلُ مَعَاشًا وَمَعِيشًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَأَنْ يَكُونَ اسْمًا مِثْلَ مَعَابٍ وَمَعِيبٍ، قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَعَاشِ الْحَيَاةَ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يُعَاشُ فِيهِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عِنْد الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: فِي دِينِي وَفِي دُنْيَايَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَهُ أَيْضًا فِي الْكَبِيرِ: فِي دُنْيَايَ وَآخِرَتِي. (وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فِي دِينِي إِلَخْ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي مِفْتَاحِ الْحِصْنِ: " أَوْ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّخْيِيرِ، أَيْ: أَنْتَ مُخَيَّرٌ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ: عَاجَلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، أَوْ قُلْتَ مَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي. قَالَ الطَّيِّبِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكَّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: عَاجَلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَوْمُ حَيْثُ قَالُوا هِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: خَيْرٌ فِي دِينِهِ دُونَ دُنْيَاهُ وَهُوَ مَقْصُودُ الْإِبْدَالِ، وَخَيْرٌ فِي دُنْيَاهُ فَقَطْ وَهُوَ حَظٌّ حَقِيرٌ، وَخَيْرٌ فِي الْعَاجِلِ دُونَ الْآجِلِ وَبِالْعَكْسِ وَهُوَ أَوْلَى، وَالْجَمْعُ أَفْضَلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ بَدَلَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، وَلَفْظُ " فِي " الْمُعَادَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي، رُبَّمَا يُؤَكِّدُ هَذَا، وَعَاجِلُ الْأَمْرِ يَشْمَلُ الدِّينِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ، وَالْآجِلُ يَشْمَلُهُمَا وَالْعَاقِبَةَ. (فَاقْدُرْهُ) : بِضَمِّ الدَّالِّ وَيُكْسَرُ (لِي) ، أَيْ: اجْعَلْهُ مَقْدُورًا لِي أَوْ هَيِّئْهُ وَنَجِّزْهُ لِي، فِي النِّهَايَةِ: قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْقَدْرِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا قَضَاهُ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَدَرَ يَقْدِرُ قَدْرًا، وَقَدْ تُسَكَّنُ دَالُهُ، وَمِنْهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي تُقَدَّرُ فِيهَا الْأَرْزَاقُ وَتُقْضَى، وَمِنْهُ حَدِيثُ الِاسْتِخَارَةِ: فَاقْدُرْهُ لِي، قَالَ مِيرَكُ: رُوِيَ بِضَمِّ الدَّالِّ وَكَسْرِهَا، وَمَعْنَاهُ أَدْخِلْهُ تَحْتَ قُدْرَتِي، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: (وَيَسِّرْهُ لِي) : طَلَبَ التَّيْسِيرِ بَعْدَ التَّقْدِيرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ التَّقْدِيرِ التَّيْسِيرُ فَيَكُونُ وَيَسِّرْهُ عَطْفًا تَفْسِيرِيًّا اهـ. وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ ; لِأَنَّ الْأَقْدَارَ أَعَمُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " فَوَفِّقْهُ وَسَهِّلْهُ "، وَقَالَ ابْنُ الْمُعَلَّى فِي مَنْسِكِهِ: تَنْبِيهٌ، قَالَ شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ الْقَوَاعِدِ: مِنَ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْمَشِيئَةِ، كَمَنْ يَقُولُ: اقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ، إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ دُونَ الْمَاضِي ; لِأَنَّهُ طَلَبٌ، وَالطَّلَبُ فِي الْمَاضِي مَحَالٌ، فَيَكُونُ مُقْتَضَى هَذَا الدُّعَاءِ أَنْ يَقَعَ تَقْدِيرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ التَّقْدِيرِ، أَيْ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ، بَلْ وَقَعَ جَمِيعُهُ فِي الْأَزَلِ، فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ يَقْتَضِي مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أَنُفٌ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْخَوَارِجِ وَهُوَ فِسْقٌ بِإِجْمَاعٍ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ وَرَدَ الدُّعَاءُ بِلَفْظِ: اقْدُرْ فِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ فَقَالَ فِيهِ: " وَاقَدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ "، قُلْتُ: يَتَعَيَّنُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ التَّقْدِيرَ أُرِيدَ بِهِ هَاهُنَا التَّيْسِيرُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَالدَّاعِي إِذَا أَرَادَ هَذَا الْمَجَازَ جَازَ، وَإِنَّمَا يُحْرَمُ الْإِطْلَاقُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ. (ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ) ، أَيْ: أُكْثِرِ الْخَيْرَ وَالْبَرَكَةَ فِيمَا أَقْدَرْتَنِي عَلَيْهِ وَيَسَّرْتَهُ لِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثُمَّ

لِلرُّتْبَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحِكْمَةُ ثُمَّ أَنَّ فِي الْحُصُولِ بَعْدَ السُّؤَالِ نَوْعُ تَرَاخٍ غَالِبًا اهـ. وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ ; إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَصْحُوبًا بِالْبَرَكَةِ مِنْ أَوَّلِ الْوَهْلَةِ كَانَ مُضْمَحِلًّا، نَعَمْ ظُهُورُ الْبَرَكَةِ قَدْ يَكُونُ مُتَرَاخِيًا مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَعَلَى تَسْلِيمِ صِحَّةِ مَا قَالَ فِي الْخَارِجِ مَثَلًا، فَهُوَ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ الطَّلَبِ وَالدُّعَاءِ أَصْلًا. (وَإِنَّ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ) ، أَيْ: الْمَذْكُورَ أَوِ الْمُضْمَرَ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ (شَرٌّ لِي) ، أَيْ: غَيْرُ صَالِحٍ (فِي دِينِي، وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي) ، أَيْ: مَعَادِي (أَوْ قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَلُ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ قَالَ الْمُسْتَخِيرُ بَدَلَهُ (فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ) : " فَأَوْ " عَلَى الْأَوَّلِ لِلشَّكِّ وَعَلَى الثَّانِي لِلتَّخْيِيرِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا قِيلَ: وَإِنْ جَمَعَ بِأَنْ حَذَفَ، قَالَ: لِيَكُونَ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ فَلَا بَأْسَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْوِيَّ فِي سَائِرِ أَحَادِيثِ الِاسْتِخَارَةِ انْحَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ. (فَاصْرِفْهُ عَنِّي) ، أَيْ: بِالْبُعْدِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَبِعَدَمِ إِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ لِي عَلَيْهِ وَبِالتَّعْوِيقِ وَالتَّعْسِيرِ فِيهِ. (وَاصْرِفْنِي عَنْهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَاصْرِفْهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَصْرُوفًا عَنْهُ إِلَّا وَيَكُونُ هُوَ مَصْرُوفًا عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَاصْرِفْهُ عَنِّي لَا تَقْدِرْنِي عَلَيْهِ، وَبِقَوْلِهِ: اصْرِفْنِي عَنْهُ اصْرِفْ خَاطِرِي عَنْهُ، حَتَّى لَا يَكُونَ سَبَبَ اشْتِغَالِ الْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (وَاقَدِرْ لِيَ الْخَيْرَ) ، أَيْ: يَسِّرْهُ لِي وَاجْعَلْهُ مَقْدُورًا لِفِعْلِي. (حَيْثُ كَانَ) ، أَيِ: الْخَيْرُ مِنْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: حَيْثُ كُنْتُ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ: وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ خَيْرًا فَوَفِّقْنِي لِلْخَيْرِ حَيْثُ كَانَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: " وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ خَيْرًا لِي فَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كَانَ "، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "، أَيْنَمَا كَانَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ". (ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ) ، أَيْ: بِالْخَيْرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: بِقَضَائِكَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيِ اجْعَلْنِي رَاضِيًا بِخَيْرِكَ الْمَقْدُورِ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا قُدِّرَ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ فَرَآهُ شَرًّا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ " مِنَ التَّرْضِيَةِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ رَاضِيًا وَأَرْضَيْتُ وَرَضِيتُ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنًى، قَالَ مِيرَكُ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ. (قَالَ) ، أَيِ: الرَّاوِي وَهُوَ جَابِرٌ أَوْ غَيْرُهُ (وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ) ، أَيْ: عِنْدَ قَوْلِهِ هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ إِمَّا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَقُلْ، أَيْ: فَلْيَقُلْ هَذَا مُسَمِّيًا، أَوْ عَطْفٌ عَلَى لِيَقُلْ عَلَى التَّأْوِيلِ ; لِأَنَّهُ أَيْ: يُسَمَّى فِي مَعْنَى الْأَمْرِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ لَفْظِ النُّبُوَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الْأُصُولُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهَا، وَأَيْضًا لَا يُشْتَرَطُ فِي إِبْرَازِ الْأَمْرِ وَتَعْيِينِهِ التَّسْمِيَةُ وَالْإِظْهَارُ، بَلْ يَكْفِي فِي تَبْيِينِهِ النِّيَّةُ وَالْإِضْمَارُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَسْرَارِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَلْتُ: وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ كِلَاهُمَا، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: فَإِنْ كَانَ زَوَاجًا فَلْيَكْتُمُ الْخِطْبَةَ، أَيْ: بِالْكَسْرِ، ثُمَّ لْيَتَوَضَّأْ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ لْيُصَلِّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ لْيَحْمَدِ اللَّهَ وَيُمَجِّدْهُ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعَلُّمُ وَلَا أَعْلَمَ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَإِنْ رَأَيْتَ، أَيْ عَلِمْتَ أَنَّ فِي فُلَانَةٍ وَيُسَمِّيهَا، أَيْ يَذْكُرُهَا بِاسْمِهَا، أَيْ: فِي لِسَانِهِ أَوْ قَلْبِهِ خَيْرًا لِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي فَاقْدُرْهَا لِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا خَيْرًا لِي مِنْهَا فِي دِينِي وَآخِرَتِي فَاقْدُرْهَا لِي اهـ. وَفِي تَرْكِ الدُّنْيَا فِي الْفِقْرَةِ الْأَخِيرَةِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى، وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ وَلَفْظُهُ: " «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ كَثْرَةُ اسْتِخَارَتِهِ اللَّهَ وَرِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ وَسُخْطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ» "، وَلَفْظُ الْحَاكِمِ: " مِنْ «سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ كَثْرَةُ اسْتِخَارَتِهِ اللَّهَ، وَمِنْ شِقْوَتِهِ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ» "، وَفِي الصِّحَاحِ: الشِّقْوَةُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ لُغَةً الشَّقَاوَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: " «مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ، وَلَا عَالٍ مَنِ اقْتَصَدَ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قِيلَ: وَيَمْضِي بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ لِمَا يَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ انْشِرَاحًا خَالِيًا عَنْ هَوَى النَّفْسِ، فَإِنْ لَمْ يَنْشَرِحْ لِشَيْءٍ، فَالَّذِي يُظْهِرُ أَنَّهُ يُكَرِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ الْخَيْرُ، قِيلَ: إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَجَلَةً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ خِرْ لِي بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَاخْتَرْ لِي وَاجْعَلْ لِيَ الْخَيَرَةَ بِفَتْحِ الْيَاءِ فِيهِ، أَوِ اللَّهُمَّ خِرْ لِي وَاخْتَرْ لِي، وَلَا تَكِلُنِي إِلَى اخْتِيَارِي، وَنُقِلَ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ هَذِهِ الِاسْتِخَارَةُ الْمَنْظُومَةُ. يَا خَائِرًا لِعَبِيدِهِ لَا تَتْرُكَّنَ أَحَدًا سُدَى خِرْ لِي إِلَيْكَ طَرِيقَةً بِيَدَيْكَ أَسْبَابُ الْهُدَى وَمِنَ الدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1324 - عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ ; إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرِ الْآيَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1324 - (عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : وَهَذَا مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ، كَرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ وَعَكْسَهُ، وَرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَسَيَأْتِي وَجْهُ قَوْلِهِ: وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيَّنَ بِهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَالَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمُبَالَغَتَهُ فِي الصِّدْقِ، حَتَّى سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدِّيقًا. (قَالَ) ، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا مِنْ رَجُلٍ) ، أَيْ: أَوِ امْرَأَةٍ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِزِيَادَةِ إِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ (يُذْنِبُ ذَنْبًا) ، أَيْ: أَيُّ ذَنْبٍ كَانَ (ثُمَّ يَقُومُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ، يَعْنِي وَلَوْ تَأَخَّرَ الْقِيَامُ بِالتَّوْبَةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ ; لِأَنَّ التَّعْقِيبَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَالْإِتْيَانُ بِثُمَّ لِلرَّجَاءِ، وَالْمَعْنَى ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} [سبأ: 46] (فَيَتَطَهَّرُ) ، أَيْ: فَيَتَوَضَّأُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. وَالْغَسْلُ أَفْضَلُ، وَبِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْمَلُ، كَذَا قِيلَ، وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» "، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَبْرِيدِ الْقَلْبِ عَنْ حَرَارَةِ هَوَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ثُمَّ يُصَلِّي) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ: رَكْعَتَيْنِ، أَيْ: بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَالْإِخْلَاصِ، أَوْ بِالْآيَةِ الْآتِيَةِ، وَبِآيَةِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] (ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) ، أَيْ: لِذَلِكَ الذَّنْبِ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ بِالْمُدَاوَمَةِ وَالْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا، وَأَنْ يَتَدَارَكَ الْحُقُوقَ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ، وَثُمَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ التَّعْقِيبِي (إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ) : وَفِي الْحِصْنِ: إِلَّا غَفَرَ لَهُ، أَيْ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا، بَلْ وَبُدِّلَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتٌ عَلَى مَا يَشْهَدُ لَهُ آيَةُ الْفَرْقَانِ وَنِهَايَةِ الْغُفْرَانِ (ثُمَّ قَرَأَ) ، أَيْ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِشْهَادًا وَاعْتِضَادًا، أَوْ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ تَصْدِيقًا وَتَوْفِيقًا (وَالَّذِينَ) : عَطْفٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ لِبَيَانِ أَنَّ الْجَنَّةَ كَمَا أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ أُعِدْتَ لِلتَّائِبِينَ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأُ خَبَرُهُ سَيَأْتِي وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنْ لَا يُفْصَلَ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ تَفْسِيرِيًّا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَهُمُ الَّذِينَ {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران: 135] ، أَيْ: فَعِلَةٌ مُتَزَايِدَةٌ فِي الْقُبْحِ {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] : بِالصَّغَائِرِ كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ الْحَرَامِ وَالْكَذِبِ، وَالْغَيْبَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَيُّ ذَنْبٍ كَانَ مِمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ اهـ. فَيَكُونُ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ. {ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135] ، أَيْ: ذَكَرُوا عِقَابَهُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ وَعِيدَهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَعْنَاهُ: صَلُّوا، لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَالْمَعْنَى ذَكَرُوا اللَّهَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ مِنْ ذِكْرِ الْعِقَابِ، أَوْ تَذْكُرِّ الْحِجَابَ، أَوْ تَعْظِيمَ رَبِّ الْأَرْبَابِ، أَوْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِالصَّلَاةِ الَّتِي تَجْمَعُهَا (فَاسْتَغْفَرُوا) ، أَيْ: طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَامَةِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ (لِذُنُوبِهِمْ) : اللَّامُ مَعْدِيَّةٌ أَوْ تَعْلِيلِيَّةٌ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْآيَةَ اهـ. وَتَمَامُهَا: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} [آل عمران: 135] أَيْ: لَا يَغْفِرُهَا (إِلَّا اللَّهَ) ، أَيِ: الْمَوْصُوفَ بِصِفَةِ الْغَفُورِ وَالْغَفَّارِ، فَالْأُولَى مُبَالَغَةٌ لِكَثْرَةِ الذُّنُوبِ، وَالثَّانِيَةُ لِكَثْرَةِ الْمُذْنِبِينَ، فَالِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى النَّفْيِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، (وَلَمْ يُصِرُّوا) ، أَيْ: لَمْ يَدِيمُوا وَلَمْ

يَسْتَمِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغَائِرِ يُعَدُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ زَلَّةٌ صَدَرَ عَنْهُمْ تَوْبَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالَ مَنْ يُصِرُّوا، أَيْ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ عَالِمَيْنِ بِهِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَوْ يَعْلَمُونَ جَزَاءَ الْإِصْرَارِ أَوْ ثَوَابَ الِاسْتِغْفَارِ، أَوْ صِفَةَ رَبِّهِمُ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي " ثَلَاثًا. " فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ، قِيلَ: فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ قَدْ يُطْلِقُ الْأَمْرَ لِلتَّلَطُّفِ ; وَإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُرَاقِبُهُ وَتَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ وَهُوَ يُبَاعِدُ وَيُقَصِّرُ فِي حَقِّكَ: افْعَلْ مَا شِئْتَ فَلَسْتُ أُعْرِضُ عَنْكَ، وَلَا أَتْرُكُ وِدَادَكَ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ بِهَذَا الْمَعْنَى، أَيْ: إِنْ فَعَلَتْ أَضْعَافَ مَا كُنْتَ تَفْعَلُ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَ عَنْهُ غَفَرْتُ لَكَ فَإِنِّي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا مَا دُمْتَ عَنْهَا مُسْتَغْفِرًا إِيَّاهَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ إِذَا كَانَ بِالْوَصْفِ السَّابِقِ، كَمَا يَتَبَادَرُ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ فَتَأَمَّلْ، وَخَبَرُ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَسْمَاءِ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ رَجِلًا إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ، وَإِذَا حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُلْتَزِمًا أَنْ لَا يَرْوِيَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَحْفُوظُهُ بِالْمَبْنَى دُونَ الْمَرْوِيِّ بِالْمَعْنَى، بِخِلَافِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَلِذَا قَلَّتْ رِوَايَتُهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ تَبَعًا لَهُ فِي هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَهَذَا وَجْهٌ لِقَوْلِهِ: وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَمُعَاذٍ، وَوَاثِلَةٍ، وَأَبِي الْيُسْرِ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، انْتَهَى. أَقُولُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ مُسَدَّدٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةَ بِمِثْلِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْمِشْكَاةِ لَمْ يَقِفْ عَلَى مَوْضِعِ إِيرَادِهِ فِي سُنَنِهِ، فَتَرَكَ ذِكْرَهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ كَمَا قَالَهُ الْمَقْدِسِيُّ فِي السِّلَاحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ) : وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ إِلَّا أَنَّهُ (لَمْ يَذْكُرِ الْآيَةَ) .

وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " «وَإِذَا أَخْطَأَ أَوْ أَذْنَبَ، فَأَحَبَّ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ فَلْيَمُدَّ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْهَا لَا أَرْجِعُ إِلَيْهَا أَبَدًا، فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ فِي عَمَلِهِ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: إِذَا أَرَدْتَ التَّوْبَةَ تَغَسَّلْ وَاغْسِلْ ثِيَابَكَ، وَصَلِّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ ضَعْ وَجْهَكَ عَلَى الْأَرْضِ فِي مَكَانٍ خَالٍ لَا يَرَاكَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ اجْعَلِ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِكَ، وَمَرِّغْ وَجْهَكَ الَّذِي هُوَ أَعَزُّ أَعْضَائِكَ فِي التُّرَابِ بِدَمْعٍ جَارٍ، وَقَلْبٍ حَزِينٍ، وَصَوْتٍ عَالٍ، وَاذْكُرْ ذُنُوبَكَ وَاحِدًا وَاحِدًا مَا أَمْكَنَكَ، وَلُمْ نَفْسَكَ الْعَاصِيَةَ عَلَيْهَا وَوَبِّخْهَا، وَقُلْ: أَمَا تَسْتَحِينَ يَا نَفْسُ؟ أَمَا آنَ لَكِ أَنْ تَتُوبِي وَتَرْجِعِي؟ أَلَكِ طَاقَةٌ بِعَذَابِ اللَّهِ؟ أَلَكِ حَاجِزٌ عَنْ سَخَطِ اللَّهِ؟ وَاذْكُرْ مِنْ هَذَا كَثِيرًا مَعَ الْبُكَاءِ، وَارْفَعْ يَدَيْكَ إِلَى الرَّبِّ الرَّحِيمِ، وَقُلْ: يَا إِلَهِي عَبْدُكَ الْآبِقُ رَجَعَ إِلَى بَابِكَ، عَبْدُكَ الْعَاصِي رَجَعَ إِلَى الصُّلْحِ، عَبْدُكَ الْمُذْنِبُ أَتَاكَ بِالْعُذْرِ، فَاعْفُ عَنِّي بِجُودِكَ وَتَقَبَلْنِي بِفَضْلِكَ، وَانْظُرْ إِلَيَّ بِرَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَاعْصِمْنِي فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَجَلِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِيَدِكَ وَأَنْتَ بِنَا رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

1325 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1325 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ) : بِالْبَاءِ، أَيْ: أَهَمَّهُ، وَيُرْوَى بِالنُّونِ، أَيْ: أَغَمَّهُ (أَمْرٌ) ، أَيْ: أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ نَزَلَ بِهِ غَمٌّ، قَالَ فِي تَيْسِيرِ الْوُصُولِ: حَزَبَهُ بِالْبَاءِ وَالنُّونِ، أَيْ نَزَلَ بِهِ، وَأَوْقَعَهُ فِي الْحُزْنِ اهـ. وَهُوَ لَفٌّ وَنَشْرٌ. (صَلَّى) ، أَيْ: تَسْهِيلًا لِلْأَمْرِ وَامْتِثَالًا لِلْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] ، أَيْ: بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَايَا وَالِالْتِجَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَهَذِهِ الصَّلَاةُ يَنْبَغِي أَنْ تُسَمَّى بِصَلَاةِ الْحَاجَاتِ ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ وَلَا مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.

1326 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا بِلَالًا، فَقَالَ: " بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَطُّ إِلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهُ وَرَأَيْتُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِهِمَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1326 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: ذَاتَ يَوْمٍ (فَدَعَا بِلَالًا) ، أَيْ: بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا مَرَّ (فَقَالَ: " بِمَا) : وَفِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ: " بِمَ " (سَبَقْتَنِي) ، أَيْ: خُدَّامِي، أَوْ قُدَّامِي (إِلَى الْجَنَّةِ؟) : وَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِكَ بِالْخِدْمَةِ بَيْنَ يَدِي حِينَ دُخُولِ الْجَنَّةِ؟ إِذْ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ عَلَى وَفْقِ زِيَادَاتِ الطَّاعَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ، أَيْ: بِأَيِّ عَمَلٍ يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ سَبَقْتَ وَأَقْدَمْتَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ آمُرَكَ وَأَدْعُوَكَ إِلَيْهِ؟ جُعِلَ السَّبَبُ فِيمَا يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ كَالسَّبْقِ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، يَعْنِي جَعَلَ السَّبْقَ فِي السَّبَبِ كَالسَّبْقِ فِي الْمُسَبِّبِ، ثُمَّ رَشَّحَهُ عَلَيْهِ بِأَنْ رُتِّبَ عَلَيْهِ سَمَاعُ الْخَشْخَشَةِ أَمَامَهُ، وَهِيَ سَمَاعُ حَرَكَتِهِ أَوْ دَفِيفِ النَّعْلِ بَيْنَ يَدَيْهِ حَيْثُ قَالَ: (مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَطُّ) : يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ رَأَى بِلَالًا كَذَلِكَ مَرَّاتٍ، وَلَعَلَّ إِحْدَاهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَالثَّانِيَةَ فِي الْمَنَامِ، وَالثَّالِثَةَ فِي عَالَمِ الْكَشْفِ (إِلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ) ، أَيْ: حَرَكَةً لَهَا صَوْتٌ كَصَوْتِ السِّلَاحِ (أَمَامِي) ، أَيْ: قُدَّامِي، وَلَا يَجُوزُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِذْ لَيْسَ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَسْبِقَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَكَيْفَ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ؟ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَذَّنْتُ) ، أَيْ: مَا

أَرَدْتُ التَّأْذِينَ (قَطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ) : نَفْلًا قَبْلَ الْأَذَانِ، وَالْأَظْهَرُ مَا أَذَّنْتُ إِلَّا صَلَّيْتُ قَبْلَ الْإِقَامَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَابِلٌ لِاسْتِثْنَاءِ الْمَغْرِبِ ; إِذْ مَا مِنْ عَامٍّ إِلَّا وَخُصَّ، وَإِنْ خُصَّ هَذَا الْعَامُّ أَيْضًا، (وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ) ، أَيْ: حَقِيقِيٌّ أَوْ حُكْمِيٌّ. (قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهُ) ، أَيْ: بَعْدَ حُدُوثِ ذَلِكَ الْحَدَثِ، وَفِي إِيثَارِ (عِنْدَهُ) عَلَى بَعْدِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُدَاوَمَةِ الطَّهَارَةِ. (وَرَأَيْتُ) : عَطْفٌ عَلَى تَوَضَّأُتُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: ظَنَنْتُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اعْتَقَدْتُ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْيِ، أَيِ اخْتَرْتُ. (أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ) : شُكْرًا لَهُ تَعَالَى عَلَى إِزَالَةِ الْأَذِيَّةِ وَتَوْفِيقِ الطَّهَارَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنْ مُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِمَا اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَهُمَا نَذْرًا عَلَى نَفْسِهِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِهِمَا) ، أَيْ: بِهِمَا نِلْتَ مَا نِلْتَ أَوْ عَلَيْكَ بِهِمَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا قِيلَ بِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ التَّثْنِيَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْقَرِيبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُمَا دَوَامُ الطَّهَارَةِ وَتَمَامُهَا بِأَدَاءِ شُكْرِ الْوُضُوءِ، فَيُوَافِقُ الْحَدِيثَ السَّابِقَ أَوَّلَ الْبَابِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الصَّلَاةِ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ، وَالصَّلَاةِ بَعْدَ كُلِّ طَهَارَةٍ، أَوْ إِلَى الصَّلَاةِ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ، وَمَجْمُوعِ دَوَامِ الْوُضُوءِ، وَشُكْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1327 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيَحْسُنِ الْوُضُوءَ ثُمَّ لْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لْيُثْنِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ، وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ، وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًى إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1327 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ) ، أَيْ: دِينِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ (إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ) : وَفِي الْحِصْنِ: وُضُوءَهُ (ثُمَّ لْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) : بِكَسْرِ اللَّامِ، وَتُسَكَّنُ، (ثُمَّ لْيُثْنِ) : مِنَ الْإِثْنَاءِ (عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْيُصَلِّ) : بِالْوَجْهَيْنِ (عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَالْأَصَحُّ الْأَفْضَلُ لَفْظُ صَلَاةِ التَّشَهُّدِ (ثُمَّ لْيَقُلْ) : وَفِي الْحِصْنِ: وَلْيَقُلْ، أَيْ عَوْدًا لِلثَّنَاءِ عَلَى الْبَدْءِ، (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ) : الَّذِي لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ (الْكَرِيمُ) : الَّذِي يُعْطِي بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَبِدُونِ الْمِنَّةِ. (سُبْحَانَ اللَّهِ) : وَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَ تَقْدِيمِ التَّنْزِيهِ عَلَى (رَبِّ الْعَرْشِ) ، أَيْ: الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْمُكَوِّنَاتِ، وَالْإِضَافَةُ تَشْرِيفِيَّةٌ لِتَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنْ الِاحْتِيَاجِ إِلَى شَيْءٍ، وَعَنْ جَمِيعِ سِمَاتِ الْحُدُوثِ مِنْ الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَاخْتُلِفَ فِي كَوْنِ (الْعَظِيمِ) : صِفَةٌ لِلرَّبِّ أَوِ الْعَرْشِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ " نَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ بِرَفْعِ الْعَظِيمِ، عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلرَّبِّ، وَالَّذِي ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَرْشِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ، وَ {رَبِّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] بِالْجَرِّ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، وَجَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا، أَيْ: شَاذًّا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ، وَأُعْرِبَ بِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّفْعِ نَعْتًا لِلْعَرْشِ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قُطِعَ عَمَّا قَبْلَهُ لِلْمَدْحِ، وَرُجِّحَ لِحُصُولِ تَوَافَقِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَرَجَّحَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ الْأَوَّلَ ; لِأَنَّ وَصْفَ الرَّبِّ بِالْعَظِيمِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ الْعَرْشِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ وَصْفَ مَا يُضَافُ لِلْعَظِيمِ بِالْعَظِيمِ أَقْوَى فِي تَعْظِيمِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ نَعَتَ الْهُدْهُدُ عَرْشَ بِلْقِيسَ بِأَنَّهُ عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. وَبَيْنَ الْعَرْشَيْنِ بَوْنٌ عَظِيمٌ، وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ فِي الْمَقَامِ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَجْزِ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِعْطَاءِ مَسْئُولِ عَبْدِهِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، أَيْ: مَالِكِهِمْ وَخَالِقِهِمْ، وَمُرَبِّيهِمْ وَمُصْلِحِ أُمُورِهِمْ، وَمُعْطِي حَاجَاتِهِمْ، وَمُجِيبِ دَعَوَاتِهِمْ، وَفِي الْحِصْنِ بِدُونِ الْعَاطِفِ،

وَخَتَمَ الثَّنَاءَ بِمَا هُوَ مِنْ مَجَامِعِهِ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ صِيَغِ الْحَمْدِ لِافْتِتَاحِ الْقُرْآنِ بِهِ إِشَارَةً إِلَى التَّفَاؤُلِ بِزَوَالِ النِّقْمَةِ وَحُصُولِ النِّعْمَةِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ حَامِدٌ لَهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَرَاضٍ عَنْهُ بِكُلِّ فِعَالٍ. (أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ: أَسْبَابَهَا، وَمَا فِي نُسْخَةِ جَلَالٍ مِنْ فَتْحِ الْجِيمِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: جَمْعُ مُوجِبَةٍ وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْمُوجِبَةُ لِقَائِلِهَا الْجَنَّةَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ وَالصِّفَاتَ الَّتِي تَحْصُلُ رَحْمَتُكَ بِسَبَبِهَا. (وَعَزَائِمَ مغْفِرَتِكَ) ، أَيْ: مُؤَكِّدَاتِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أَعْمَالًا تَتَعَزَّمُ وَتَتَأَكَّدُ بِهَا مَغْفِرَتُكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جَمْعُ عَزِيمَةٍ وَهِيَ الْخَصْلَةُ الَّتِي يَعْزِمُهَا الرَّجُلُ، يَعْنِي الْخِصَالَ الَّتِي تَحْصُلُ مَغْفِرَتُكَ بِسَبَبِهَا، أَيْ: أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْطِيَ نَصِيبًا وَافِرًا مِنْهُمَا. (وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ) ، أَيْ: طَاعَةٍ وَعِبَادَةٍ فَإِنَّهُمَا غَنِيمَةٌ مَأْخُوذَةٌ بِغَلَبَةِ دَوَاعِي عَسْكَرِ الرُّوحِ عَلَى جُنْدِ النَّفْسِ، فَإِنَّ الْحَرْبَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا عَلَى الدَّوَامِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى الْجِهَادَ الْأَكْبَرَ ; لِأَنَّ أَعْدَى عَدِوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ. (وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ) ، أَيْ: الْخَلَاصَ مِنْ كُلِّ مَا يَجْرَحُ دِينَ السَّالِكِ. (لَا تَدَعْ) ، أَيْ: لَا تَتْرُكْ (لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ) ، أَيْ: إِلَّا مَوْصُوفًا بِوَصْفِ الْغُفْرَانِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ وَفِيمَا يَلِيه مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (وَلَا هَمًّا) ، أَيْ: غَمًّا (إِلَّا فَرَّجْتَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفُّ، أَيْ: أَزَلْتَهُ وَكَشَفْتَهُ (وَلَا حَاجَةً هِيَ) : تِلْكَ الْحَاجَةُ (لَكَ رِضًا) ، أَيْ: بِهَا، يَعْنِي مُرْضِيَةً (إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، انْتَهَى. نَقَلَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَنْدُبُ تَحَرِّي غَدَاةَ السَّبْتِ لِحَاجَتِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ غَدَا يَوْمَ السَّبْتِ فِي طَلَبِ حَاجَةٍ يَحِلُّ طَلَبُهَا فَأَنَا ضَامِنٌ لِقَضَائِهَا» ". وَذَكَرَ «الْجَزَرِيُّ» فِي الْحِصْنِ: صَلَاةُ حِفْظِ الْقُرْآنِ تَخْصِيصًا مِنْ بَيْنِ حَاجَاتِ الْإِنْسَانِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُلْحِقَهَا بِهَا هُنَا، قَالَ: وَمَنْ أَرَادَ حِفْظَ الْقُرْآنِ فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْجُمْعَةِ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقُومَ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخَرِ فَلْيَقُمْ، فَإِنَّهَا سَاعَةٌ مَشْهُودَةٌ، وَالدُّعَاءُ فِيهَا مُسْتَجَابٌ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي وَسَطِهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي أَوَّلِهَا، فَيُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى الْفَاتِحَةَ وَسُورَةَ يس، وَفِي الثَّانِيَةِ الْفَاتِحَةَ وَحم الدُّخَانِ، وَفِي الثَّالِثَةِ الْفَاتِحَةَ وَالم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وَفِي الرَّابِعَةِ الْفَاتِحَةَ وَتَبَارَكَ الْمُلْكِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَلِيُحْسِنِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَلِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ، وَيَسْتَغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَلِإِخْوَانِهِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ لْيَقُلْ فِي آخِرِ ذَلِكَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي بِتَرْكِ الْمَعَاصِي أَبَدًا مَا أَبْقَيْتَنِي، وَارْحَمْنِي أَنْ أَتَكَلَّفَ مَا لَا يَعْنِينِي، وَارْزُقْنِي حُسْنَ النَّظَرِ فِيمَا يُرْضِيكَ عَنِّي، اللَّهُمَّ بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ - أَيْ: لَا تُدْرَكْ - أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَانُ بِجَلَالِكَ وَنُورِ وَجْهِكَ - أَيْ: ذَاتِكَ - أَنْ تُلْزِمَ قَلْبِي حِفْظَ كِتَابِكَ، كَمَا عَلَّمْتَنِي، وَارْزُقْنِي أَنْ أَتْلُوَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيكَ عَنِّي، اللَّهُمَّ بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ، أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَانُ بِجَلَالِكَ وَنُورِ وَجْهِكِ أَنْ تُنَوِّرَ بِكِتَابِكَ بَصَرِي، وَأَنْ تُطْلِقَ بِهِ لِسَانِي، وَأَنْ تُفَرِّجَ بِهِ عَنْ قَلْبِي، وَأَنْ تَشْرَحَ بِهِ صَدْرِي، وَأَنْ تَسْتَعْمِلَ - وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَأَنْ تَغْسِلَ - بِهِ بَدَنِي، فَإِنَّهُ لَا يُعِينُنِي عَلَى الْحَقِّ غَيْرُكَ، وَلَا يُؤْتِيهِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا يُجَابُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْطَأَ مُؤْمِنًا قَطُّ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا.

[باب صلاة التسبيح]

[بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ]

[40] بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ 1328 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: " يَا عَبَّاسُ! يَا عَمَّاهُ! أَلَا أُعْطِيكَ؟ أَلَا أَمْنَحُكَ؟ أَلَا أُخْبِرُكَ؟ أَلَا أَفْعَلُ بِكَ؟ عَشْرَ خِصَالٍ إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ، خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ، سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ: أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَأَنْتَ قَائِمٌ، قُلْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَسْجُدُ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمْرِكَ مَرَّةً» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". [40] بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ أَيْ: هَذَا مَبْحَثُهَا أَوْ بَيَانُهَا. 1328 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ، وَحَذْفِ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ. (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: (يَا عَبَّاسُ) : طَلَبًا لِمَزِيدِ إِقْبَالِهِ (يَا عَمَّاهُ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَزِيدِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَهُوَ مُنَادَى مُضَافٌ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَقُلِبَتْ يَاؤُهُ أَلِفًا، وَأُلْحِقَتْ بِهَاءِ السَّكْتِ، كَيَاغُلَامَاهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (أَلَا أُعْطِيكَ؟) : أَلَا لِلتَّنْبِيهِ، أَوِ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَأَجَابَ بِغَيْرِ جَوَابٍ لِظُهُورِ الصَّوَابِ. (أَلَا أَمْنَحُكَ؟) ، أَيْ: أَلَا أُعْطِيكَ مِنْحَةً، وَالْمُرَادُ بِالْمِنْحَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى فِعْلِ مَا تُفِيدُهُ الْخِصَالُ الْعَشْرُ، وَهُوَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَفِي الْمُغْرِبِ الْمَنْحُ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ شَاةً أَوْ نَاقَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا، ثُمَّ يَرُدَّهَا إِذَا ذَهَبَ دَرُّهَا هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى قِيلَ فِي كُلِّ عَطَاءٍ. (أَلَا أُخْبِرُكَ؟) : وَفِي الْحِصْنِ: أَلَا أَحْبُوكَ؟ يُقَالُ: حَبَاهُ كَذَا وَبِكَذَا إِذَا أَعْطَاهُ، وَالْحِبَاءُ الْعَطِيَّةُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (أَلَا أَفْعَلُ بِكَ؟) : وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: بِاللَّامِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ بِالْبَاءِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَا أَفْعَلُ بِكَ أَنَّهُ قَالَ: غَيْرُ وَاحِدٍ، كَذَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَالصَّوَابُ: أَلَا أَفْعَلُ لَكَ؟ اهـ وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ، وَلَا صَوَابَ فِي ذَلِكَ، بَلِ الَّذِي فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ هُوَ الْبَاءُ، فَهُوَ غَفْلَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ مَا قَالُوهُ بِسَبَبِ التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ الَّذِي وَقَعَ فِي أَصْلِهِ مِنْ نُسْخَةِ الْمِشْكَاةِ، كَمَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ الْمَوَاضِعُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِعْلَ الْخِصَالِ إِلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا، وَالْهَادِي إِلَيْهَا، وَكَرَّرَ أَلْفَاظًا مُتَقَارِبَةَ الْمَعْنَى تَقْرِيرًا لِلتَّأْكِيدِ، وَتَأْيِيدًا لِلتَّشْوِيقِ، وَتَوْطِئَةً لِلِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الصَّلَاةِ. (عَشْرَ خِصَالٍ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَازُعِ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ هِيَ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْخَصْلَةُ هِيَ الْخَلَّةُ وَهِيَ الِاخْتِلَالُ الْعَارِضُ لِلنَّفْسِ، إِمَّا لِشَهْوَتِهَا الشَّيْءَ، أَوْ لِحَاجَتِهَا إِلَيْهِ، فَالْخَصْلَةُ كَمَا تُقَالُ لِلْمَعَانِي الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ تُقَالُ أَيْضًا لِمَا تَقَعُ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ، أَيْ: عَشَرَةُ أَنْوَاعِ ذُنُوبِكَ، وَالْخِصَالُ الْعَشْرُ مُنْحَصِرَةٌ فِي قَوْلِهِ: أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَقَدْ زَادَهَا إِيضَاحًا بِقَوْلِهِ: عَشْرَ خِصَالٍ بَعْدَ حَصْرِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، أَيْ: هَذِهِ عَشْرُ خِصَالٍ، فَقَدْ سَقَطَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، أَيْ: فِي الْمَصَابِيحِ شَيْءٌ مِنْ مَوْضِعَيْنِ، الْأَوَّلُ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ سَقَطَ مِنْهُ (قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ) ، وَالثَّانِي بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَعَلَانِيَتَهُ) سَقَطَ مِنْهُ عَشْرُ خِصَالٍ، فَالْحَدِيثُ عَلَى مَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، كَذَا حَقَّقَهُ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: فَمَنْ نَصَبَ عَشْرًا فَالْمَعْنَى خُذْهَا أَوْ دُونَكَ عَشْرَ خِصَالٍ، وَقِيلَ: عِدَّهَا، قِيلَ: وَمَعْنَى الْأَخِيرَةِ أَلَا أُصَيِّرُكَ ذَا عَشْرِ خِصَالٍ، أَوْ أَلَا آمُرُكَ بِمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ أَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَهُ تَصِيرُ ذَا عَشْرِ خِصَالٍ يُغْفَرُ بِهَا ذَنْبُكَ، وَفُهِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّفْعَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: مَنْصُوبٌ عَلَى تَنَازُعِ الْأَفْعَالِ قَبْلَهَا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مُكَفِّرَ عَشْرِ خِصَالٍ يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ: (إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ) ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ مُقَدَّرًا وُجِّهَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ اهـ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِذَا فَعَلْتَ مَا أُعَلِّمُكَ. (غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ) : ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: فَالْخِصَالُ الْعَشْرُ هِيَ الْأَقْسَامُ الْعَشْرَةُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْ أَجْلِ خُلُوِّ أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مِنْ قَدِيمِهِ وَحَدِيثِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْعَشْرِ الْخِصَالِ التَّسْبِيحَاتُ وَالتَّحْمِيدَاتُ وَالتَّهْلِيلَاتُ وَالتَّكْبِيرَاتُ، فَإِنَّهَا سِوَى الْقِيَامِ عَشْرٌ عَشْرٌ اهـ. فَفِيهِ تَغْلِيبٌ (أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ) : بِالنَّصْبِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ، أَيْ: مَبْدَأَهُ وَمُنْتَهَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ الذَّنْبِ مَا لَا يُوَاقِعُهُ الْإِنْسَانُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ كُلَّ ذَنَبٍ كَانَ أَوْ هُوَ كَائِنٌ. (قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ) ، أَيْ: جَدِيدَهُ كَمَا فِي أَصْلِ الْأَصِيلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِثْبَاتُهُمَا أَشْهَرُ مِنْ إِسْقَاطِهِمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ اهـ.

وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ التُّورِبِشْتِيُّ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (خَطَأَهُ) : بِفُتْحَتَيْنِ وَهَمْزَةٍ (وَعَمْدَهُ) : قِيلَ: يُشْكِلُ بِأَنَّ الْخَطَأَ لَا إِثْمَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ) . فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِنْ جُمْلَةِ الذَّنْبِ؟ وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّنْبِ مَا فِيهِ نَقْصٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَغْفِرَةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخَطَأِ مِنْ نَحْوِ الْإِتْلَافِ مِنْ ثُبُوتِ بَدَلِهَا فِي الذِّمَّةِ، وَمَعْنَى الْمَغْفِرَةِ حِينَئِذٍ إِرْضَاءُ الْخُصُومِ، وَفَكُّ النَّفْسِ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: [" «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مَرْهُونَةٌ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ» "] . (صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ، سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالضَّمِيرُ فِي هَذِهِ كُلِّهَا عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ: ذَنْبَكَ، وَسَقَطَ مِنَ الْمِشْكَاةِ هُنَا لَفْظُ عَشْرِ خِصَالٍ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْحِصْنُ وَغَيْرُهُ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: فَإِنْ قُلْتَ: أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَا يَلِيهِ، وَكَذَا بَاقِيهِ فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى تَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ؟ قُلْتُ: ذَكَرَهُ قَطْعًا لِوَهْمِ أَنَّ ذَلِكَ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ رُبَّمَا يَكُونُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَعَلَى هَذَا فِي أَقْرَانِهِ، وَأَيْضًا فِي التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَقْسَامِ حَثٌّ لِلْمُخَاطَبِ عَلَى الْمَحْثُوثِ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنَ الْأَقْسَامِ أَعَمُّ مِمَّا يَلِيه مِنْ وَجْهٍ ; إِذِ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا، وَقَدْ يَكُونُ حَدِيثًا، وَالْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ قَدْ يَكُونُ خَطَأً وَقَدْ يَكُونُ عَمْدًا، وَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا وَقَدْ يَكُونُ كَبِيرًا، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ قَدْ يَكُونُ سِرًّا وَقَدْ يَكُونُ عَلَنًا، وَعَلَى هَذَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ، فَإِنَّ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَةَ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا إِلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ. (أَنْ تُصَلِّيَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " أَنْ " مُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، أَوْ هِيَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمُقَدَّرُ عَائِدٌ إِلَى ذَلِكَ، أَيْ: هُوَ يَعْنِي الْمَأْمُورَ بِهِ أَنْ تُصَلِّيَ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ هِيَ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْخِصَالِ الْعَشْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ تُصَلِّي بِنِيَّةِ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ، وَلَوْ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فِيمَا يَظْهَرُ، قُلْتُ: هَذَا مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، مَانِعَةٌ مِنْ إِرَادَةِ الْإِطْلَاقِ الْمَفْهُومِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، قَاضِيَةٌ عَلَيْهِ، وَالشَّافِعِيَّةُ اسْتَثْنَوْا الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُقَدَّمٌ، وَهَذِهِ لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَظَهَرَ بُطْلَانُ مَا ظَهَرَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا (تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً) : وَسَيَأْتِي مَا وَرَدَ فِي تَعْيِينِهَا وَتَعْيِينِ أَفْضَلِ أَوْقَاتِ صَلَاتِهَا، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا أَرْبَعًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ: الْحَدِيدِ، وَالْحَشْرِ، وَالصَّفِّ، وَالْجُمُعَةِ، وَالتَّغَابُنِ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهَا فِي الِاسْمِ، (فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ) ، أَيْ: قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. (وَأَنْتَ قَائِمٌ، قُلْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : زَادَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. (خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَتُكْسَرُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَا صَرَّحَ بِهِ هَذَا السِّيَاقُ أَنَّ التَّسْبِيحَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ أَخَذَ بِهِ أَئِمَّتُنَا، وَأَمَّا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ جَعْلِهِ الْخَمْسَ عَشْرَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَبَعْدَ الْقِرَاءَةِ عَشْرًا، وَلَا يُسَبِّحُ فِي الِاعْتِدَالِ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: لَكِنْ جَلَالَتُهُ تَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَنْ مُخَالَفَتِهِ، وَوَافَقَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ، فَجَعَلَ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ عَشْرًا، لَكِنَّهُ أَسْقَطَ فِي مُقَابَلَتِهَا مَا يُقَالُ فِي جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِشْرِينَ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا وَرَدَ فِي أَثَرٍ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. (ثُمَّ تَرْكَعُ، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا) ، أَيْ: بَعْدَ تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. (ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا) ، أَيْ بَعْدَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ، (ثُمَّ تَهْوِي) : فِي الصِّحَاحِ: هَوَى بِالْفَتْحِ يَهْوِي بِالْكَسْرِ هُوِيًّا إِذَا سَقَطَ إِلَى أَسْفَلَ، (سَاجِدًا) : حَالٌ (فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا) :

أَيْ بَعْدَ تَسْبِيحِ السُّجُودِ، (ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا) : مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ دُعَاءٍ عِنْدَنَا، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَهَا بَعْدَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَنَحْوِهِ. (ثُمَّ تَسْجُدُ) ، أَيْ ثَانِيًا (فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ) ، أَيْ: مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ (فَتَقُولُهَا عَشْرًا) ، أَيْ: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ عَلَى مَا فِي الْحِصْنِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ وَجِلْسَةَ التَّشَهُّدِ، (فَذَلِكَ) ، أَيْ: مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّسْبِيحَاتِ (خَمْسٌ وَسَبْعُونَ) ، أَيْ: مَرَّةً عَلَى مَا فِي الْحِصْنِ (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) ، أَيْ: ثَابِتَةٌ فِيهَا (تَفْعَلُ ذَلِكَ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ (فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ) ، أَيْ: فِي مَجْمُوعِهَا بِلَا مُخَالَفَةٍ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّلَاثِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَمِائَةِ تَسْبِيحَةٍ (إِنِ اسْتَطَعْتَ) : اسْتِئْنَافٌ، أَيْ: إِنْ قَدَرْتَ (أَنْ تُصَلِّيَهَا) ، أَيْ: هَذِهِ الصَّلَاةَ (فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ، أَيْ: فِي كُلِّ يَوْمٍ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ، أَوْ مَعَ وُجُودِهَا لِعَائِقٍ، (فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ، أَيْ: فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ (مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) : لِمَا تَقَدَّمَ (فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمُرِكَ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ (مَرَّةً ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ اهـ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا فِي الْحِصْنِ.

1329 - وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1329 - (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ نَحْوَهُ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ غَيْرُ حَدِيثٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَثِيرُ شَيْءٍ، قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ صَلَاةَ التَّسْبِيحِ، وَذَكَرُوا الْفَضْلَ فِيهَا، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِمَّنْ رَوَاهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْخَطِيبُ، وَالْآجُرِّيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ السَّمْعَانِيُّ، وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ، اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ جَمَاعَةٌ اهـ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ " حَسَنٌ "، وَقَدْ أَسَاءَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ بِذِكْرِهِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي فَضَائِلِ السُّوَرِ فَضْلُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَأَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي فَضَائِلِ الصَّلَوَاتِ فَضْلُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: صَلَاةُ التَّسْبِيحِ مُرَغَّبٌ فِيهَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَادَهَا فِي كُلِّ حِينٍ، وَلَا يَتَغَافَلُ عَنْهَا قَالَ: وَيَبْدَأُ فِي الرُّكُوعِ بِسُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا، ثُمَّ يُسَبِّحُ التَّسْبِيحَاتِ الْمَذْكُورَةَ، وَقِيلَ لَهُ: إِنْ سَهَا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ هَلْ يُسَبِّحُ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ عَشْرًا عَشْرًا؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا هِيَ ثَلَاثُمِائَةِ تَسْبِيحَةٍ.

قُلْتُ: وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِنْ سَهَا وَنَقَّصَ عَدَدًا مِنْ مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ يَأْتِي بِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ تَكْمِلَةً لِلْعَدَدِ الْمَطْلُوبِ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ صَلَّاهَا لَيْلًا فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ صَلَّاهَا نَهَارًا فَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُسَلِّمْ، غَيْرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي يَقُولُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ يُؤَدِّي إِلَى جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكُ يُسَبِّحُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ عَشْرًا، وَالْبَاقِي كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَلَا يُسَبِّحُ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ السُّبْكِيُّ: وَجَلَالَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ تَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَإِنَّمَا أُحِبُّ الْعَمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّسْبِيحِ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ الْفَصْلُ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْقِيَامِ، فَإِنَّ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ حِينَئِذٍ مَشْرُوعَةٌ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَيَنْبَغِي لِلْمُتَعَبِّدِ أَنْ يَعْمَلَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَارَةً، وَيَعْمَلَ بِحَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أُخْرَى، وَأَنْ يَفْعَلَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَنْ يَقْرَأَ فِيهَا تَارَةً بِالزَّلْزَلَةِ، وَالْعَادِيَاتِ، وَالْفَتْحِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَتَارَةً بِ (أَلْهَاكُمُ، وَالْعَصْرِ، وَالْكَافِرُونَ، وَالْإِخْلَاصِ) وَأَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيَدْعُو لِحَاجَتِهِ، فَفِي كُلِّ شَيْءٍ ذَكَرْتُهُ وَرَدَتْ سُنَّةٌ، أَمَّا كَوْنُهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ صُحْبَةٌ يَرْوِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ائْتِنِي غَدًا أَحْبُوكَ وَأُثِيبُكَ وَأُعْطِيكَ " حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ يُعْطِينِي عَطِيَّةً، أَيْ حِسِّيَّةً، وَالْحَالُ أَنَّهَا مَعْنَوِيَّةٌ، قَالَ: " إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَقُمْ فَصَلِّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ " فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ: " ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ فَاسْتَوِ جَالِسًا وَلَا تَقُمْ حَتَّى تُسَبِّحَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرَ عَشْرًا، وَتُهَلِّلَ عَشْرًا، ثُمَّ تَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الْأَرْبَعِ الرَّكَعَاتِ فَإِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَعْظَمَ أَهْلِ الْأَرْضِ ذَنْبًا غُفِرَ لَكَ ". قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُصَلِّيَهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ؟ قَالَ: صَلِّهَا مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: إِنَّهُ يَقُولُ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ: بِسُبْحَانِكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يُسَبِّحُ خَمْسَ عَشْرَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَعَشْرًا بَعْدَهَا، وَالْبَاقِي عَشْرًا عَشْرًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَلَا يُسَبِّحُ بَعْدَ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ قَاعِدًا، وَهَذَا هُوَ الْأَحْسَنُ وَهُوَ اخْتِيَارُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ زَادَ بَعْدَ التَّسْبِيحِ: وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَحَسُنٌ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ اللُّمْعَةِ فِي رَغَائِبِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِابْنِ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيِّ، نَزِيلِ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ: يُسْتَحَبُّ صَلَاةُ التَّسْبِيحِ عِنْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ التَّكَاثُرَ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَالْعَصْرِ، وَفِي الثَّالِثَةِ الْكَافِرُونَ، وَفِي الرَّابِعَةِ الْإِخْلَاصَ، فَإِذَا كَمُلَتِ الثَّلَاثُمِائَةِ تَسْبِيحَةٍ قَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَوْفِيقَ أَهْلِ الْهُدَى، وَأَعْمَالَ أَهْلِ الْيَقِينِ، وَمُنَاصَحَةَ أَهْلِ التَّوْبَةِ، وَعَزْمَ أَهْلِ الصَّبْرِ، وَحَذَرَ أَهْلِ الْخَشْيَةِ، وَتَعَبُّدَ أَهْلِ الْوَرَعِ، وَعِرْفَانَ أَهْلِ الْعِلْمِ، حَتَّى أَخَافَكَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مَخَافَةً تَحْجِزُنِي عَنْ مَعَاصِيكَ، وَحَتَّى أَعْمَلَ بِطَاعَتِكَ عَمَلًا أَسْتَحِقُّ بِهِ الرِّضَا، وَحَتَّى أُنَاصِحَكَ فِي التَّوْبَةِ خَوْفًا مِنْكَ، وَحَتَّى أُخْلِصَ لَكَ النَّصِيحَةَ حُبًّا لَكَ، وَحَتَّى أَتَوَكَّلَ عَلَيْكَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا حُسْنَ ظَنٍّ بِكَ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَالْأَقْرَبُ مِنْ الِاعْتِدَالِ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُصَلِّيَهَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَهَذَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا عِنْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ اهـ. كَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الْمَرْحُومُ قُطْبُ الدِّينِ الْمُفْتِي بِالْحَرَمِ الْأَمِينِ فِي رِسَالَتِهِ أَدْعِيَةِ الْحَجِّ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ قَبْلَ السَّلَامِ وَلَفْظُهُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَوْفِيقَ أَهْلِ الْهُدَى، وَأَعْمَالَ أَهْلِ الْيَقِينِ، وَمُنَاصَحَةَ أَهْلِ التَّوْبَةِ، وَعَزْمَ أَهْلِ الصَّبْرِ، وَجِدَّ أَهْلِ الْخَشْيَةِ، وَطَلَبَ أَهْلِ الرَّغْبَةِ، وَتَعَبُّدَ أَهْلِ الْوَرَعِ، وَعِرْفَانَ أَهْلِ الْعِلْمِ، حَتَّى أَخَافَكَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مَخَافَةً تَحْجِزُنِي عَنْ مَعَاصِيكَ، وَحَتَّى أَعْمَلَ بِطَاعَتِكَ عَمَلًا أَسْتَحِقُّ بِهِ رِضَاكَ، وَحَتَّى أُنَاصِحَكَ بِالتَّوْبَةِ خَوْفًا مِنْكَ، وَحَتَّى أُخْلِصَ لَكَ النَّصِيحَةَ حَيَاءً مِنْكَ، وَحَتَّى أَتَوَكَّلَ عَلَيْكَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا حُسْنَ ظَنٍّ بِكَ سُبْحَانَ خَالِقِ النَّارِ اهـ. وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ حُسْنِ سَنَدِهِ كَمَا لَا يَخْفَى.

1330 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكَمَّلُ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " ثُمَّ الزَّكَاةُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1330 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ) ، أَيْ: طَاعَاتِهِ (صَلَاتُهُ) ، أَيِ: الْفَرِيضَةُ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الدِّمَاءُ " أَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ اهـ. أَوِ الْأَوَّلَ مِنْ تَرْكِ الْعِبَادَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ. (فَإِنْ صَلُحَتْ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: صَلَاحُهَا بِأَدَائِهَا صَحِيحَةً اهـ. أَوْ بِوُقُوعِهَا مَقْبُولَةً. (فَقَدْ أَفْلَحَ) ، أَيْ: فَازَ بِمَقْصُودِهِ (وَأَنْجَحَ) ، أَيْ: ظَفَرَ بِمَطْلُوبِهِ، فَيَكُونُ فِيهِ تَأْكِيدٌ، أَوْ فَازَ بِمَعْنَى خُلِّصَ مِنَ الْعِقَابِ، وَأَنْجَحَ، أَيْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ، (وَإِنْ فَسَدَتْ) : بِأَنْ لَمْ تُؤَدَّ أَوْ أُدِّيَتْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، أَوْ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، (فَقَدْ خَابَ) : بِحِرْمَانِ الْمَثُوبَةِ (وَخَسِرَ) : بِوُقُوعِ الْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَى خَابَ نَدِمَ وَخَسِرَ، أَيْ صَارَ مَحْرُومًا مِنَ الْفَوْزِ وَالْخَلَاصِ قَبْلَ الْعَذَابِ. (فَإِنِ انْتَقَصَ) : بِمَعْنَى نَقَصَ اللَّازِمِ (مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ) ، أَيْ: مِنَ الْفَرَائِضِ (قَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) : مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ (انْظُرُوا) : يَا مَلَائِكَتِي (هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطُوِّعٍ؟) : فِي صَحِيفَتِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ، أَيْ: سُنَّةٍ أَوْ نَافِلَةٍ مِنْ صَلَاةٍ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ قَبْلَ الْفَرْضِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَعْلَمِ الْعَبْدُ نُقْصَانَ فَرْضِهِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، (فَيُكَمَّلُ) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَبِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ (بِهَا) ، أَيْ: بِنَافِلَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: بِالتَّطَوُّعِ وَتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ النَّافِلَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ نَصْبُ " فَيُكَمَّلُ " عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ: " فَكَمِّلُوا بِهَا فَرِيضَتَهُ "، وَإِنَّمَا أُنِّثَ ضَمِيرُ التَّطَوُّعِ فِي بِهَا نَظَرًا إِلَى الصَّلَاةِ. (مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ) ، أَيْ: مِقْدَارُهُ، (ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ) : مِنَ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا (عَلَى ذَلِكَ) ، أَيْ: إِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمَفْرُوضِ يُكَمَّلُ لَهُ بِالتَّطَوُّعِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " ثُمَّ الزَّكَاةُ مِثْلُ ذَلِكَ) : يَعْنِي: الْأَعْمَالَ الْمَالِيَّةَ مِثْلَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى السَّوِيَّةِ، (ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ) ، أَيْ: سَائِرُ الْأَعْمَالِ مِنَ الْجِنَايَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ (عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ) : مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ، فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ، فَمَنْ كَانَ حَقٌّ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَيُدْفَعُ إِلَى صَاحِبِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

1331 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1331 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ) : وَقَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَآخَرُونَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَعْنَاهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا خَبَرُ: لَا تُقْبَلُ نَافِلَةُ الْمُصَلِّي حَتَّى يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ فَضَعِيفٌ.

1332 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لَعَبْدٍ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا، وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلَاتِهِ، وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ "، يَعْنِي الْقُرْآنَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1332 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَذِنَ اللَّهُ) : مِنْ أَذِنْتُ الشَّيْءَ أَصْغَيْتُ لَهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا غَايَةُ الْإِصْغَاءِ، وَهِيَ الْإِقْبَالُ بِاللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَالرِّضَا، أَيْ: مَا قَبِلَ (لِعَبْدٍ فِي شَيْءٍ) ، أَيْ: مِنَ الْعِبَادَاتِ (أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا) : يَعْنِي: أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةَ، كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، أَيْ: خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: (أَذِنَ) الْمُفَسَّرُ (بِأَقْبَلَ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ فِي مُنَاجَاتِهِ مَعَ رَبِّهِ مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ وَلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ. (وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ) : بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يُنْثَرُ وَيُفَرَّقُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ذَرَرْتُ الْحَبَّ وَالْمِلْحَ، أَيْ: فَرَّقْتُهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَيُدَرُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا، أَيْ: لَيُنَزَّلُ وَهُوَ مَشَاكِلٌ لِلصَّوَابِ، لَكِنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَالرِّوَايَةُ هُوَ الْأَوَّلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ هُوَ الرِّوَايَةَ أَنْسَبُ مِنَ الدَّرِّ بِالْمُهْمَلَةِ ; لِأَنَّهُ أَشْمَلُ مِنْهُ لِاخْتِصَاصِ الدَّرِّ، أَيِ: الصَّبُّ بِالْمَائِعِ وَعُمُومِ الذَّرِّ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الدَّرُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ تَصْحِيفٌ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُشَاكِلٌ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ لَمْ تُسَاعِدْهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ ; لِأَنَّ الْأَنْسَبَ بِالْمَقَامِ تَخْرِيجُهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِمَلِكٍ كَرِيمٍ أَرَادَ الْإِحْسَانَ إِلَى عَبْدٍ أَحْسَنَ خِدْمَتَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَاللَّائِقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ بِنَثْرِ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ عَلَى رَأْسِهِ إِعْظَامًا لَهُ، وَإِشْهَارًا لِمَرْتَبَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ ذِكْرُ الرَّأْسِ فِي قَوْلِهِ: (عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ) ، أَيْ: يُنَزِّلُ الرَّحْمَةَ وَالثَّوَابَ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْبِرِّ عَلَى الْمُصَلِّي، (مَا دَامَ فِي صِلَاتِهِ، وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ) ، أَيْ: مَا طَلَبَ الْعِبَادُ شَيْئًا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ (إِلَى اللَّهِ) ، أَيْ: مِنَ الْأَذْكَارِ الَّتِي لَمْ تُخَصَّ وَحْدَهَا بِزَمَنٍ أَوْ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ مُطْلَقِ الْقُرْبَانِ (بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ) ، أَيْ: ظَهَرَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَرَائِعِهِ وَمِنْ أَحْكَامِهِ، وَقِيلَ: مَا خَرَجَ مِنْ كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: مِنْ عِلْمِهِ الْكَامِلِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَمَعْنَى خُرُوجِهِ مِنْهُ ظُهُورُهُ عَلَى لِسَانِهِ مِمَّا هُوَ مَحْفُوظٌ فِي صَدْرِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: كَلَامُ اللَّهِ خَرَجَ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، أَيْ: بِهِ أَمَرَ وَنَهَى، ثُمَّ يُحَاسِبُ عَمَّا وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، أَوْ أَنْزَلَهُ حُجَّةً لِلْخَلْقِ، وَعَلَيْهِمْ لِيُكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، ثُمَّ مَآلُ تَبَيُّنِ حَقِيقَتِهِ وَظُهُورِ صِدْقِ مَا نَطَقَ بِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَقُولُ: يَا رَبَّ الْقُرْآنِ، قَالَ: مِهْ، أَمَا عَلِمَتْ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ، أَيْ إِنَّهُ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالرُّبُوبِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُدُوثِهِ وَانْفِصَالِهِ عَنِ الذَّاتِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. (يَعْنِي الْقُرْآنَ) : وَهَذَا تَفْسِيرُ بَعْضِ الرُّوَاةِ لَا الصَّحَابِيِّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ أَبُو النَّصْرِ، وَقِيلَ: مَا خَرَجَ مِنَ الْعَبْدِ وَهُوَ مَا هُوَ مَتْلُوٌّ عَلَى لِسَانِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُفَسِّرَ مَنْ هُوَ، وَالْحَدِيثُ نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ أَبُو نَصْرٍ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَسَامَحُ فِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابِيِّ، فَيُجْعَلُ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .

[باب صلاة السفر]

[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]

[41] بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ الفصلُ الْأَوَّلُ 1333 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [41] بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ السَّفَرُ لُغَةً: قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ قَطْعٍ تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ جَوَازِ الْإِفْطَارِ وَقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ شَرْعًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ مَسَافَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ وَلَيَالِيهَا بِسَيْرٍ وَسَطٍ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: هُوَ مَسِيرَةُ مَرْحَلَتَيْنِ بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ، وَذَلِكَ يَوْمَانِ أَوْ يَوْمٌ وَلَيْلَةٍ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا أَرْبَعَ بُرَدٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُقَصِّرُ فِي مَسِيرَةِ يَوْمٍ، وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1333 - (عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا) ، أَيْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَرَادَ فِيهِ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، (وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) : وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورُ الْآنَ بِبِئْرِ عَلِيٍّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذُو الْحُلَيْفَةِ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ لِلْمُهْمِلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُسَمِّيهَا الْعَوَامُّ أَبْيَارِ عَلِيٍّ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ قَاتَلَ فِي بِئْرِهَا الْجَانَّ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ. (رَكْعَتَيْنِ) ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي السَّفَرِ. أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ بُنْيَانَ الْبَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقَصِّرُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَصَرِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ مَنْزِلِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَوْ جَاوَزَنَا هَذَا الْخُصَّ لَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاحْتَجَّ بِهِ الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ قَاصِدًا مَكَّةَ، لَا أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ غَايَةُ سَفَرِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1334 - وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمِنًا، رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1334 - (وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ: بِالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ نَحْنُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ ; لِأَنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ يَكُونُ جَمْعًا. (قَطُّ) : ظَرْفٌ بِمَعْنَى الدَّهْرِ، وَالزَّمَانُ مُتَعَلِّقٌ بَكُنَّا. قَالَ الْأَشْرَفُ: قَطُّ مُخْتَصٌّ بِالْمَاضِي الْمَنْفِيِّ، وَلَا مَنْفِيَّ هُنَا، فَتَقْدِيرُهُ مَا كُنَّا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا آمَنُهُ قَطُّ. (وَآمَنُهُ) : عَطْفٌ عَلَى (أَكْثَرُ) وَقَطُّ مُقَدَّرٌ هَاهُنَا، وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا كُنَّا، وَالْوَاوُ فِي " وَنَحْنُ " لِلْحَالِ الْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ صَلَّى وَمَعْمُولِهِ، وَهُوَ (بِمِنًا) : بِالِانْصِرَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ " بِمِنَى " غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ قَصَدَ إِلَى الْبُقْعَةِ لَا يَنْصَرِفُ، وَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ وَإِنْ قَصَدَ بِالْمَوْضِعِ يَنْصَرِفُ وَيُكْتَبُ بِالْأَلْفِ وَالْأَغْلَبُ تَذْكِيرُهُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يُمْنَى فِيهِ مِنَ الدِّمَاءِ، أَيْ: يُرَاقُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى يَمُنُّ فِيهَا عَلَى عِبَادِهِ بِالْمَغْفِرَةِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْمِنَحِ، وَالْقِيلُ لَا يُلَائِمُ مَادَّةَ الِاشْتِقَاقِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ جِبْرِيلَ لِمَا أَرَادَ مُفَارَقَةَ آدَمَ قَالَ لَهُ: تَمَنَّ قَالَ: أَتَمَنَّى الْجَنَّةَ، أَوْ لِتَقْدِيرِ اللَّهِ فِيهِ الشَّعَائِرَ مِنْ مِنًى، أَيْ: قَدَّرَ، وَالْمَعْنَى صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ أَنَّا بِمَنًا. (رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْثَرُ أَكْوَانِنَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ عَدَدًا، وَأَكْثَرُ أَكْوَانِنَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ أَمْنًا، وَإِسْنَادُ الْأَمْنِ إِلَى الْأَوْقَاتِ مَجَازٌ كَذَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ شَارِحٌ: ضَمِيرُ آمَنُهُ عَائِدٌ إِلَى " مَا " إِنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً تَقْدِيرُهُ: وَنَحْنُ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ عَدَدٍ كُنَّا قَبْلَ إِيَّاهُ، وَآمَنُ عَدَدٍ كُنَّا قَبْلَ إِيَّاهُ، وَإِلَى الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ إِنْ كَانَ " مَا " مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: وَنَحْنُ أَكْثَرُ كوْنٍ، أَيْ وُجُودٍ، وَآمَنُ كَوْنٍ مَا كُنَّا قَبْلُ، وَجِيءَ بِ (قَطُّ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى النَّفْيِ، أَيْ: مَا كُنَّا قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَدَدِ وَمِثْلَ ذَلِكَ الْأَمْنِ قَطُّ، وَفِي الْمَفَاتِيحِ: وَرُوِيَ: أَمَنَةٌ جَمْعُ آمِنٍ كَطَلَبَةٍ وَطَالِبٍ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ بِمَعْنَى كَثِيرٍ، " وَمَا " نَافِيَةٌ، وَخَبَرُ كُنَّا مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَنَحْنُ كَثِيرُونَ مَا كُنَّا مِثْلَ ذَلِكَ قَطُّ وَنَحْنُ أَمَنَةٌ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مَا " نَافِيَةٌ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، أَوْ أَكْثَرَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ كَانَ، وَيَجُوزُ إِعْمَالٌ مَا فِيمَا قَبْلَهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَيْسَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَنَحْنُ مَا كُنَّا قَطُّ فِي وَقْتٍ أَكْثَرَ مِنَّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلَا آمَنَ مِنَّا فِيهِ مِنَ الْأَمَانِ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آمَنُهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيِ: آمَنَ اللَّهُ نَبِيَّهَ حِينَئِذٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَقُولُ هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ (أَكْثَرَ) خَبَرَ كَانَ ; إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْطِفَ وَآمَنُهُ عَلَى أَكْثَرَ وَهُوَ تَعَسُّفٌ جَدًّا، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ. أَعْلَمُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ رُخْصَةٌ أَوْ عَزِيمَةٌ؟ فَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الثَّانِي، وَغَيْرُهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِالْخَوْفِ، وَلَا تَجُوزُ الرُّخَصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُعَارِضُهُ تَقْيِيدُ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالْكُفَّارِ ; لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسَافِرِينَ حَالَ نُزُولِهَا فِي الْخَوْفِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَفِي هَذَا غَايَةُ الْفَخَامَةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ قَيْدَ تَوْسِعَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ وَإِعْلَامًا بِأَنَّ فِعْلَهُ مَنْسُوبٌ إِلَى رَبِّهِ ; لِأَنَّهُ خَبَرُهُ فِي خَلْقِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سَفَرُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ سَوَاءٌ فِي الرُّخَصِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1335 - وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، قَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى، فَقَالَ: " «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1335 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) : مُصَغَّرًا قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَالطَّائِفَ، وَتَبُوكَ. (قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَقْصُرُوا} [النساء: 101] ، أَيْ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101] ، أَيْ سَافَرْتُمْ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء: 101] {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ) ، أَيْ: وَذَهَبَ الْخَوْفُ فَمَا وَجْهُ الْقَصْرِ؟ (قَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ) : أَنْتَ (مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى، فَقَالَ: " صَدَقَةٌ) ، أَيْ: قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ صَدَقَةٌ، قَالَ: ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ رُخْصَةٌ لَا وَاجِبٌ، وَإِلَّا لَمْ يُسَمَّ (صَدَقَةٌ) ، قَلْتُ: الصَّدَقَةُ أَعَمُّ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] (تَصَدَّقَ اللَّهُ) ، أَيْ: تَفَضَّلَ (بِهَا عَلَيْكُمْ) ، أَيْ: تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً (فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ) ، أَيْ: سَوَاءٌ حَصَلَ الْخَوْفُ أَمْ لَا. وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْآيَةِ: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ; لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ، فَحِينَئِذٍ لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَصْرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ خَوَّفَ وَأَمَرَ، فَاقْبَلُوا ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، فَيُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ وَالْإِتْمَامُ إِسَاءَةٌ. وَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَكْثَرُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْقَصْرِ، وَرَدُّ ابْنِ حَجَرٍ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ.

1336 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قِيلَ لَهُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قَالَ: " أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1336 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ) ، أَيْ: مُتَوَجِّهِينَ (إِلَى مَكَّةَ) ، أَيْ: لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (فَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: بِالْوَاوِ (يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ فِي الرُّبَاعِيَّةِ (حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ) ، أَيْ: حَتَّى قَصَّرَ فِي مَكَّةَ أَيْضًا (قِيلَ لَهُ: أَقَمْتُمْ) ، أَيْ تَوَقَّفْتُمْ (بِمَكَّةَ شَيْئًا؟) ، أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ. (قَالَ: " أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا) : قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيْ عَشْرَ لَيَالٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ مِنَ اللَّيَالِي، أَوْ مِنَ الْأَيَّامِ، وَحُذِفَتِ التَّاءُ ; لِأَنَّ الْمَعْدُودَ إِذَا حُذِفَ جَازَ حَذْفُهَا وَإِثْبَاتُهَا اهـ. وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ إِذَا أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَجِبُ الْإِتْمَامُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَصِّرُ مَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمَا قَالَا: إِذَا قَدِمْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ، وَفِي نَفْسِكَ أَنْ تُقِيمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلِ الصَّلَاةَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تُظْعِنُ فَاقْصُرْهَا، قَالَ: وَالْأَثَرُ فِي مَثَلِهِ كَالْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: ارْتَجَّ عَلَيْنَا الثَّلْجُ، وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي غَزَاةٍ، فَكُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ بِبَعْضِ بِلَادِ فَارِسَ سِنِينَ، فَكَانَ لَا يَجْمَعُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. وَأُخْرِجَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالشَّامِ شَهْرَيْنِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ قَوْلُهُ: بِهَا أَطْلَقَهُ عَلَى مَا يُنْسَبُ إِلَيْهَا إِذْ لَمْ يَقُمِ الْعَشْرَ الَّتِي أَقَامَهَا لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُ دَخَلَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَرَجَ مِنْهَا صَبِيحَةَ الْخَمِيسِ، فَأَقَامَ بِمِنًى وَالْجُمُعَةُ بِنَمِرَةَ وَعَرَفَاتٍ، ثُمَّ عَادَ السَّبْتَ بِمِنًى لِقَضَاءِ نُسُكِهِ، ثُمَّ بِمَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، ثُمَّ بِمِنًى يَوْمُهُ فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّتَهُ، وَالْأَحَدُ وَالِاثْنَيْنُ وَالثُّلَاثَاءُ إِلَى الزَّوَالِ ثُمَّ نَفَرَ، فَنَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ وَطَافَ فِي لَيْلَتِهِ لِلْوَدَاعِ، ثُمَّ رَحَلَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلْتُفَرَّقْ إِقَامَتُهُ قَصْرٌ فِي الْكُلِّ، وَبِهَذَا أَخَذْنَا أَنَّ لِلْمُسَافِرِ إِذَا دَخَلَ مَحَلًّا أَنْ يُقَصِّرَ فِيهِ مَا لَمْ يَصِلْ وَطَنَهُ أَوْ يَنْوِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، أَوْ يُقِيمُهَا. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا، وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْإِقَامَةُ بِمَكَّةَ وَمُسَاكَنَةُ الْكُفَّارِ كَمَا رَوَيَاهُ أَيْضًا، فَالْإِذْنُ فِي الثَّلَاثَةِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ السَّفَرِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَرْبَعَةِ، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَنَعَ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْإِقَامَةَ بِالْحِجَازِ، ثُمَّ أَذِنَ لِتَاجِرِهِمْ أَنْ يُقِيمَ ثَلَاثًا، وَفِي مَعْنَاهَا مَا فَوْقَهَا وَدُونَ الْأَرْبَعَةِ هـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي مَأْخَذِ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْخَفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1337 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَافَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا، فَأَقَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَحْنُ نُصَلِّي فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَكَّةَ، تِسْعَةَ عَشَرَ، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا أَقَمْنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1337 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَافَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفرًا، فَأَقَامَ) ، أَيْ: لَبِثَ النَّبِيُّ (تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا) : لِشُغْلٍ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ (يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) : وَبِهَذَا جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ الْقَصْرَ إِلَى تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا اهـ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُنَافِي قَوْلَهُمُ الْمُعْتَمَدَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ أَنَّهُ إِذَا زَادَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) : اسْتِنْبَاطًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ (فَنَحْنُ نُصَلِّي فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَكَّةَ، تِسْعَةَ عَشَرَ) ، أَيْ يَوْمًا (رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا أَقَمْنَا) ، أَيْ: مَكَثْنَا (أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَدِ السَّابِقِ الْإِقَامَةُ فِيهِ لَا السَّيْرُ، يَعْنِي: نَحْنُ إِذَا أَقَمْنَا فِي مَنْزِلٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا أَقَمْنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ نُصَلِّي أَرْبَعًا، وَلَعَلَّ يَوْمَ النُّزُولِ وَالرَّحِيلِ دَاخِلٌ فِيهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالُوا: هَذَا مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالَّذِي قَالَهُ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ أَقَامَ التِّسْعَةَ عَشَرَ لِكَوْنِهِ كَانَ مُحَاصِرًا لِلطَّائِفِ، أَوْ حَرْبِ هَوَازِنَ يَنْتَظِرُ الْفَتْحَ كُلَّ سَاعَةٍ، ثُمَّ يَرْحَلُ، فَلَمْ يَكُنْ مُقِيمًا حَقِيقَةً لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ تَوَقُّفِهِ الْخُرُوجَ مَتَى انْقَضَتْ حَاجَتُهُ، وَهِيَ الْفَتْحُ، وَمِنْهُ وَمِنْ خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ تُجْبِرُ مَا فِي سَنَدِهِ مِنَ الضَّعْفِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَقَامَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِمَكَّةَ.

1338 - «وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ رَحْلَهُ، وَجَلَسَ، فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا، فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ، قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا أَتْمَمْتُ صَلَاتِي، صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1338 - (وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ) ، أَيْ: رَافَقْتُهُ (فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ رَحْلَهُ) ، أَيْ: مَسْكَنَهُ، وَمَا يَسْتَصْحِبُهُ مِنَ الْأَثَاثِ (وَجَلَسَ فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا) : جَمْعُ قَائِمٍ، أَيْ: قَائِمِينَ لِلصَّلَاةِ، (فَقَالَ) : إِنْكَارًا (مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ) ، أَيْ: يَتَنَفَّلُونَ، وَقِيلَ: يُصَلُّونَ السُّبْحَةَ وَهِيَ صَلَاةُ الضُّحَى (قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا) ، أَيْ مُصَلَّيًا النَّافِلَةَ فِي السَّفَرِ (أَتْمَمْتُ صَلَاتِي) ، أَيِ: الْمَكْتُوبَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ لَا يُتَنَفَّلَ فِي السَّفَرِ. (صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ) ، أَيْ: وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ (وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، كَذَلِكَ) ، أَيْ: كَانُوا لَا يَزِيدُونَ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذِهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْقَصْرِ تُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنِ اخْتَارَ أَنْ لَا يُتَطَوَّعَ فِي السَّفَرِ لَا لِلرُّخْصَةِ، كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضٌ، يَعْنِي: لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِ النَّفْلِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ الرَّوَاتِبِ فِي حَدِيثِهِ الْآتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1339 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْن [صَلَاةِ] الظُّهْرِ وَالْعَصْر إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1339 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ» ) ، أَيْ: جَمْعَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ (إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ) ، أَيْ: جَنَاحِ سَفَرٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَقْحَمَ (ظَهْرِ) تَأْكِيدًا، وَقِيلَ جَعَلَ لِلسَّيْرِ ظَهْرًا ; لِأَنَّ السَّائِرَ مَا دَامَ عَلَى سَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ رَاكِبٌ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى تَارَةً يَنْوِي تَأْخِيرَ الظُّهْرِ لِيُصَلِّيَهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَتَارَةً يُقَدِّمُ الْعَصْرُ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيُؤَدِّيهَا بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبِ، وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهِ وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ. (وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) ، أَيْ: كَذَلِكَ، وَبُسِطَ هَذَا الْمَبْحَثُ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ.

1340 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ إِلَّا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1340 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ) ، أَيْ: ظَهْرِ دَابَّتِهِ (حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ) : قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى حَيْثُ، أَوْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْعَائِدُ إِلَى حَيْثُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِلَيْهِ (يُومِئُ) : بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ مَنْ أَوْمَأَ، وَيُبْدَلُ، أَيْ يُشِيرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُصَلِّي، وَكَذَا عَلَى رَاحِلَتِهِ (إِيمَاءً) ، أَيْ: بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (صَلَاةَ اللَّيْلِ) : مَفْعُولُ يُصَلِّي (إِلَّا الْفَرَائِضَ) : مُسْتَثْنَى مِنْ (صَلَاةَ اللَّيْلِ) قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَيَعْنِي أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْأَتَمُّ أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، فَإِنَّ الْفَرَائِضَ كُلَّهَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا عَلَى الدَّابَّةِ إِلَّا لِعُذْرٍ. (وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوِتْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا يَتَمَشَّى إِذَا اتَّحَدَ مَعْنَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَالْوَجْهُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُحَكَّمَ الْوِتْرُ، وَيُؤَكَّدَ، ثُمَّ أُكِّدَ مِنْ بَعْدُ وَلَمْ يُرَخَّصْ فِي تَرْكِهِ وَقَالَ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُوتِرُ بِالْأَرْضِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1341 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كُلَّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَصَرَ الصَّلَاةَ وَأَتَمَّ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1341 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُلَّ) : بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ (ذَلِكَ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ سَائِلٍ عَنْهُمَا، وَكُلَّ مَفْعُولُ قَوْلِهِ: (قَدْ فَعَلَ) : أَوْ مُبْتَدَأٌ عَلَى حَذْفِ الْعَائِدِ، أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ فَعَلَهُ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَمْرٍ مُبْهَمٍ لَهُ شَأْنٌ لَا يُدَرَى إِلَّا بِتَفْسِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهَا: (قَصَرَ الصَّلَاةَ وَأَتَمَّ) ، أَيْ: قَصَرَ الرُّبَاعِيَّةَ فِي السَّفَرِ وَأَتَمَّهَا، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْإِتْمَامِ عَلَى مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ، أَوْ مَعْنَى الْإِتْمَامِ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُنْقِصْهُ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا فِي السَّفَرِ، وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، فَيَكُونُ عَطْفَ تَفْسِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْإِتْمَامُ بَلْ يَأْثَمُ. (رَوَاهُ) ، أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَفِي سَنَدِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى اهـ. فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا يَتِمُّ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ حَدِيثُ النَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ، وَالْبَيْهَقِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ، فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ، وَقَصَّرَ وَأَتْمَمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَصَّرْتَ وَأَتْمَمْتُ وَأَفْطَرْتَ وَصُمْتُ، قَالَ: " أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ " وَمَا عَابَ عَلَيَّ» ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عُمْرَةُ رَمَضَانَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ عُمْرَةَ رَمَضَانَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ إِلَّا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كُلُّهُنَّ فِي الْقِعْدَةِ، نَعَمْ أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ الَّتِي مَعَ حِجَّتِهِ كَانَتْ فِي الْحِجَّةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَصَحُّ مِنْ خَبَرِهَا أَيْضًا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهَا " أَحْسَنْتِ "، أَيْ: فَعَلْتِ فِعْلًا جَائِزًا إِذْ لَا يَحْسُنُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُخَالِفِ لِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الْقَصْرُ الْأَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهَا، كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُقَصِّرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ الدَّرَاقُطْنِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ، أَوْ فِعْلُهُ أَحْيَانًا بِالْبَيَانِ الْجَوَازُ، أَوْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِقَصْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي سَفَرِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ اتِّفَاقًا، كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.

1342 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، يَقُولُ: " يَا أَهْلَ الْبَلَدِ! صَلُّوا أَرْبَعًا، فَإِنَّا سَفْرٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1342 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ) ، أَيْ: مَكَثَ (بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً) ، أَيْ: لِبَعْضِ أَشْغَالِهِ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ (لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ) : فِي الرُّبَاعِيَّةِ (يَقُولُ) ، أَيْ: بَعْدَ تَسْلِيمِهِ خِطَابًا لِلْمُقْتَدِينَ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ: (يَا أَهْلَ الْبَلَدِ: صَلُّوا أَرْبَعًا) ، أَيْ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، (فَإِنَّا) ، أَيْ: فَإِنِّي وَأَصْحَابِي (سَفْرٌ) : بِسُكُونِ الْفَاءِ جَمْعُ سَافِرٍ كَرَكْبٍ وَصَحْبٍ، أَيْ: مُسَافِرُونَ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ صَلَّى بِمَكَّةَ إِمَامًا وَقَالَ بَعْدَ السَّلَامِ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنِّي مُسَافِرٌ، فَقَالَ بَعْضُ السُّفَهَاءِ: نَحْنُ نَعْرِفُ هَذِهِ الْمُسَألَةَ أَحْسَنَ مِنْكُمْ، فَضَحِكَ الْإِمَامُ وَقَالَ: لَوْ عَرَفْتَ لَمَا تَكَلَّمْتَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ لِدَلَالَتِهَا عَلَى مَحْذُوفٍ هُوَ سَبَبٌ لِمَا بَعْدَ الْفَاءِ، أَيْ: صَلُّوا أَرْبَعًا وَلَا تَقْتَدُوا بِنَا فَإِنَّا سَفْرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَانْفَجَرَتْ) ، أَيْ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

1343 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ فِي الْحَضَرِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ بَعْدَهَا شَيْئًا، وَالْمَغْرِبُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ سَوَاءٌ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ، وَلَا يَنْقُصُ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، وَهِيَ وِتْرُ النَّهَارِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1343 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ) ، أَيْ: صَلَاتَهُ (فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: فَرْضًا (وَبَعْدَهَا) ، أَيْ: بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ (رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: سُنَّةَ الظُّهْرِ. (وَفِي رِوَايَةٍ) ، أَيْ: عَنْهُ (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ فِي الْحَضَرِ الظُّهْرَ) ، أَيْ: فَرْضَهُ (أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: فَرْضَهُ (وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: فَرْضًا (وَلَمْ يُصَلِّ بَعْدَهَا شَيْئًا) : لِلْكَرَاهَةِ بَعْدَهَا (وَالْمَغْرِبُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ سَوَاءٌ) : حَالٌ، أَيْ: مُسْتَوَيَا عَدَدِهَا فِيهِمَا وَقَوْلُهُ: (ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ) : بَيَانٌ لَهَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، (وَلَا يَنْقُصُ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: شَيْئًا مِنْهَا، وَقِيلَ: لِلْمَفْعُولِ ; لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ لَازِمٌ، أَيْ: الْمَغْرِبُ. (فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ) ; لِأَنَّ الْقَصْرَ مُنْحَصِرٌ فِي الرُّبَاعِيَّةِ. (وَهِيَ وِتْرُ النَّهَارِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، كَالتَّعْلِيلِ لِعَدَمِ جَوَازِ النُّقْصَانِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ وِتْرَ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ بِتَسْلِيمٍ لَا يَنْقُصُ، وَفِي جَعْلِ الْمَغْرِبِ وِتْرِ النَّهَارِ تَوَسُّعٌ لِقُرْبِهِ إِلَيْهِ. (وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالرَّوَاتِبِ فِي السَّفَرِ إِتْيَانُهَا فِي الْحَضَرِ اهـ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِهَا فِي الْمَنْزِلِ، وَيَتْرُكُهَا إِذَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: مَا رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَدِيثًا أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْ هَذَا.

1344 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ ; جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ. حتّى يَنْزِلَ لِلْعَصْرِ، وَفِي الْمَغْرِبِ مِثْلَ ذَلِكَ، إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعِشَاءِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1344 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) : غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّامِ. (إِذَا زَاغَتْ) ، أَيْ: مَالَتْ (الشَّمْسُ) ، أَيْ: عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ أَرَادَ بِهِ الزَّوَالَ، (قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ) : ظَرْفٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ (جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) ، أَيْ: فِي الْمَنْزِلِ بِأَنْ أَخَّرَ الظَّهْرَ إِلَى آخَرِ وَقَتِهِ، وَعَجَّلَ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ، (وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ) ، أَيْ: تَزُولَ (أَخَرَّ الظُّهْرَ) ، أَيْ: إِلَى

آخَرِ وَقْتِهِ (حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعَصْرِ) ، أَيْ لِقُرْبِهِ، وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، (وَفِي الْمَغْرِبِ مِثْلَ ذَلِكَ) ، أَيْ: يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) ، أَيْ: فِي الْمَنْزِلِ كَمَا سَبَقَ، (وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعِشَاءِ) : وَفِي تُفِيدُ النُّزُولَ لِلْعِشَاءِ إِشَارَةً إِلَى مَا قُلْنَا: (ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْوَقْتِ حَدِيثٌ قَائِمٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، فَهَذَا شَهَادَةٌ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ، وَعَدَمِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا فِي جَوَازِ جَمْعَيِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَنَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ فِعْلِهَا فِيهِ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَأَنَّهُ تَرَكَ جَمْعَ عَرَفَةَ لِشُهْرَتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ فِي ثُبُوتِ الْمُعَارِضِ يَتَرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِزِيَادَةِ الرَّاوِي، وَبِأَنَّهُ أَحْفَظُ.

1345 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ وَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِنَاقَتِهِ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1345 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ) ، أَيْ: خَرَجَ مِنَ الْمِصْرِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا فِي الْكِفَايَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ، وَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَجَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ وَكَرِهَهُ مُحَمَّدٌ. (وَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ) ، أَيْ: يَتَنَفَّلَ رَاكِبًا وَالدَّابَّةُ تَسِيرُ بِنَفْسِهَا،، أَوْ يَسُوقُهَا بِرِجْلٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَا فِي الْخُلَاصَةِ. (اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِنَاقَتِهِ، فَكَبَّرَ) ، أَيْ: لِلِاسْتِفْتَاحِ عَقِبَ الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنَّهُمَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فِي الْمُحِيطِ: مِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ عِنْدَ التَّحْرِيمَةِ، يَعْنِي بِشَرْطِ كَوْنِهَا سَهْلَةً وَزِمَامَهَا بِيَدِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُنَا لَمْ يَأْخُذُوا بِهِ، هَذَا فِي النَّفْلِ، وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَقَدِ اشْتَرَطَ التَّوَجُّهَ إِلَيْهَا عِنْدَ التَّحْرِيمَةِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى الدَّابَّةِ يَجُوزُ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ: الْمَطَرُ وَالْخَوْفُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ، وَالْعَجُزُ عَنِ الرُّكُوبِ لِلضَّعْفِ، أَوْ جُمُوحُ الدَّابَّةِ وَلَا مُعَيَّنَ، كَذَا فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ لِمَوْلَانَا أَبِي الْمَكَارِمِ. (ثُمَّ صَلَّى) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايِرَةُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ ثُمَّ اسْتَمَرَّ فِي صَلَاتِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ هَاهُنَا لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَلِمَا كَانَ الِاهْتِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ أَشَدَّ لِكَوْنِهِ مُقَارِنًا لِلنِّيَّةِ خُصَّ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ. (حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ) ، أَيْ: ذَهَبَ بِهِ مَرْكُوبُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَحْمَدُ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1346 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَجِئْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1346 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَجِئْتُ) ، أَيْ: إِلَيْهِ (وَهُوَ يُصَلِّي) : حَالٌ (عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ) : ظَرْفٌ، أَيْ: يُصَلِّي إِلَى جَانِبِ الْمَشْرِقِ، أَوْ حَالٌ، أَيْ: مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْمَشْرِقِ، أَوْ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً إِلَى جَانِبِ الْمَشْرِقِ، (وَيَجْعَلُ السُّجُودَ) ، أَيْ إِيمَاءَهُ إِلَيْهِ (أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ) ، أَيْ: أَسْفَلَ مِنْ إِيمَائِهِ إِلَى الرُّكُوعِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَبَاقِي الْأَرْبَعَةِ، وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1347 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنًا رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَعُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ صَدَرًا مِنْ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بَعْدُ أَرْبَعًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا صَلَّاهَا وَحْدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1347 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًا) ، أَيْ: فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ (رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: فِي الْفَرَائِضِ الرُّبَاعِيَّةِ (وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ) ، أَيْ: كَذَلِكَ (وَعُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ) : كَذَلِكَ (وَعُثْمَانُ) : كَذَلِكَ (صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ) ، أَيْ: زَمَانًا أَوَّلًا مِنْهَا نَحْوَ سِتِّ سِنِينَ (ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بَعْدُ) ، أَيْ: بَعْدَ مُضِيِّ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ خِلَافَتِهِ (أَرْبَعًا) ; لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ» ". ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَفِي إِنْكَارِ النَّاسِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ جَائِزٌ، فَمَدْفُوعٌ فَإِنَّ الْمُبَيِّنَ لِلْجَوَازِ لَيْسَ إِلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِي وُقُوعِ هَذَا مِنْ عُثْمَانَ مُتَكَرِّرًا مَعَ عَدَمِ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ أَظْهَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَمُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ نَشَأَ مِنْ قِلَّةِ إِطْلَاعِهِ. (فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ عُثْمَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إِمَامًا يُتِمُّ (صَلَّى أَرْبَعًا) ; لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ الْمُقْتَدِي أَنْ يَتْبَعَ إِمَامَهُ قَصَرَ أَوْ أَتَمَّ. (وَإِذَا صَلَّاهَا وَحْدَهُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ) ; لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ، وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ وَأَحْوَطُ بِلَا خِلَافٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1348 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْأُولَى، قَالَ الزُّهْرِيُّ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1348 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: أَوَّلًا بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، (ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا) ، أَيْ: فِي الْحَضَرِ، (وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْأُولَى) : فَلَوْ أَتَمَّهَا يَكُونُ مُسِيئًا عِنْدَنَا، وَتَكُونُ الرَّكْعَتَانِ نَفْلًا، وَلَوْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الْقَعْدَةِ الْأَوْلَى الَّتِي هِيَ الْأَخِيرَةُ حُكْمًا بَطَلَ فَرْضُهُ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ قَوْلَهَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، تَعْنِي: وِتْرَ النَّهَارِ عَلَى حَالِهِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعْنَاهُ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِمَا، فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ تَحَتُّمًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى جَوَازِ الْإِتْمَامِ تَمَّ كَلَامُهُ. وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ النُّقْصَانِ إِذْ لَمْ يُعْهَدُ فِي الشَّرْعِ فَرْضٌ مَحْدُودٌ لِمَنْ أَرَادَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ احْتِيَاجِهِ إِلَى دَلِيلٍ مُثْبِتٍ، وَلِظُهُورِ بُطْلَانِهِ مَا الْتَفَّتْ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ الْآتِيَةِ. (قَالَ الزُّهْرِيُّ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِمَا، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْقَصْرَ جَائِزًا وَالْإِتْمَامَ جَائِزًا، فَأَخَذَا بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ وَهُوَ الْإِتْمَامُ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَيْفَ تَرَى هَذَا مَعَ تَيَقُّنِهَا بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأَوَّلُ عُثْمَانِ بِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِتْمَامَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ، فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، وَقِيلَ: لِأَنَّ عُثْمَانَ نَوَى الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْحَجِّ فَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ حَرَامٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: لِعُثْمَانَ أَرْضٌ بِمِنًى فَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْإِقَامَةَ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعْلِيلُ الصَّرِيحُ فَمَا عَدَاهُ مِن الِاحْتِمَالِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَصَرَ ; لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَيْسَرِ عَلَى الْأُمَّةِ، فَأَخَذَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالشِّدَّةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: سَبَبُ إِتْمَامِ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَصْرَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ شَاخِصًا سَائِرًا، وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ بِمَكَانٍ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ فَلَهُ حُكْمُ الْمُقِيمِ فَيُتِمُّ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَدَثَ لَهَا تَرَدُّدٌ أَوْ ظَنٌّ فِي جَعْلِهَا رَكْعَتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ مُقَيَّدٌ بِحَرَجِهِ بِالْإِتْمَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُرْوَةَ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا، فَقُلْتُ لَهَا: لَوْ صَلَّيْتِ رَكْعَتَيْنِ؟ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ، وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ: أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ، أَيْ: تَأَوَّلَتْ أَنَّ الْإِسْقَاطَ مَعَ الْحَرَجِ، لَا أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّرْكِ مَعَ بَقَاءِ الِافْتِرَاضِ فِي الْمُخَيَّرِ فِي أَدَائِهِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ اهـ. فَالْكَافُ لِلتَّنْظِيرِ لَا لِلتَّمْثِيلِ فَتَأَمَّلْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1349 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1349 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ) ، أَيِ: الرُّبَاعِيَّةُ (عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] (فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ) : هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ لِمَذْهَبِنَا، وَالْأَجْوِبَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ حَجَرٍ مَرْدُودَةً، وَمَا نُقِلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ عَائِشَةَ أَتَمَّتْ بِحَضْرَتِهِ، وَأَقَرَّهَا عَلَيْهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِلَّا كَانَ ارْتَفِعَ الْخِلَافُ. (وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً) ، أَيْ: مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ كَمَا فِي آيَةِ الْخَوْفِ فِي الثُّنَائِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْحِكَمِيَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَخَذَ بِظَاهِرِهِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْجُمْهُورُ: إِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ كَصَلَاةِ الْأَمْنِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ، وَرَكْعَةٌ أُخْرَى يَأْتِي بِهَا مُنْفَرِدًا كَمَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ اهـ. وَأَمَّا فِي الرُّبَاعِيَّةِ الْحَضَرِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ مُطْلَقًا، فَيُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي الْبَاقِي وَحْدَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، أَيْ: عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَهُوَ مَرْفُوعٌ حُكْمًا.

1350 - وَعَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَا: «سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَالْوِتْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1350 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (قَالَا: سَنَّ) ، أَيْ: شَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: ثَبَتَ عَلَى لِسَانِهِ، وَإِلَّا فَالْقَصْرُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ بَيَّنَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا فِي الْكِتَابِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: بَيَّنَ أَنَّهَا كَذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْقَصْرَ فَمَرْدُودٌ، لِعَدَمِ دَلِيلٍ مُخَصَّصٍ وَلِقَوْلِهِ: (وَهُمَا) ، أَيْ: الرَّكْعَتَانِ (تَمَامٌ) ، أَيْ: تَمَامُ الْمَفْرُوضِ (غَيْرُ قَصْرٍ) ، أَيْ: غَيْرُ نُقْصَانٍ عَنْ أَصْلِ الْفَرْضِ، فَإِطْلَاقُ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ أَوْ إِضَافِيٌّ، وَأَمَّا بَعْدُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ تَمَامٌ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّوَابِ، فَثَوَابُ الْقَصْرِ يُقَارِبُ ثَوَابَ الْإِتْمَامِ اهـ. وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِمْ: الْقَصْرُ أَفْضَلُ فِي السَّفَرِ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ لَا فِي تَفَاوُتِ الْمُثَوَّبَاتِ. (وَالْوِتْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ) ، أَيْ: مَشْرُوعٌ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا، أَوْ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيَّيْنِ، لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، فَتَرْدِيدُ ابْنِ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَّهُ مَرْفُوعٌ مَدْفُوعٌ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1351 - وَعَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ فِي الصَّلَاةِ فِي مِثْلِ مَا يَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَفَى مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ، وَفَى مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ. رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1351 - (وَعَنْ مَالِكٍ بَلَغَهُ) ، أَيْ: مَالِكًا مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، فِي مِثْلِ مَا يَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ) : وَهُوَ مِنْ أَحَدِ طَرِيقَيْهِ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ. (وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَهُمَا مَرْحَلَتَانِ. (وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وَهُوَ بَلَدٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ شَاقَّتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. (قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ) ، أَيْ: أَقَلُّ مَا بَيْنَ مَا ذُكِرَ (أَرْبَعَةُ بُرُدٍ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ بَرِيدٍ، وَهُوَ فَرْسَخَانِ، أَوْ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي النِّهَايَةِ: هِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالِ، وَالْمِيلُ أَرْبَعَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (رَوَاهُ) ، أَيْ مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) ، أَيْ: عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ وَهَذَا كَمَا تَرَى غَيْرُ مُلَائِمٍ، فَكَانَ عَلَى الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. . . . . . إِلَخْ. ثُمَّ يَقُولُ: رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بَلَاغًا. ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ وَذَلِكَ. . . . إِلَخْ. عَلَى طِبْقِ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ حَيْثُ يَبْدَأُ بِالصَّحَابِيِّ وَيَخْتِمُ بِالْمُخَرِّجِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُوَافِقُهُ مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ أَتُقْصَرُ الصَّلَاةُ إِلَى عَرَفَةَ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ إِلَى عُسْفَانَ وَإِلَى جُدَّةَ وَإِلَى الطَّائِفِ، وَمَا صَحَّ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ.

قُلْتُ: لَوْ كَانَ تَوْقِيفًا لَظَهَرَ وَنُقِلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُمَا، وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ: هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَفَحُّصِ مُرَادِهِ بِالنَّاسِ، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ قَضِيَّةَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَبْلَ حُدُوثِ الْخِلَافِ اهـ. لِأَنَّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَلَكَةٍ فِي الْفِقْهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ لِمَسَافَةِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ» " فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ تُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأُجِيب: بِضَعْفِ الْحَدِيثِ لِضَعْفِ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ، فَبَقِيَ قَصْرُ الْأَقَلِّ بِلَا دَلِيلٍ اهـ. وَلْيَكُنْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، وَحَرَّرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ "، فَعَمَّ بِالرُّخْصَةِ وَهِيَ مَسْحُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ الْجِنْسَ، أَيْ: جِنْسَ الْمُسَافِرِينَ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمُسَافِرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِعَدَمِ الْمَعْهُودِ الْمُعَيَّنِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ عُمُومِ الرُّخْصَةِ الْجِنْسُ، حَتَّى إِنَّهُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ مُسَافِرٍ مِنْ مَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عُمُومِ التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِكُلِّ مُسَافِرٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَوْ كَانَ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَثَبَتَ مُسَافِرٌ لَا يُمْكِنُهُ الْمَسْحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ كُلُّ مُسَافِرٍ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً بِيَقِينٍ، فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِيَقِينٍ مَا هُوَ سَفَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ اهـ. وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَرَدُّ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى ابْنِ الْهُمَامِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَصْحَابُنَا مَا أَخَذُوا بِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ: " «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» "، فِي هَذَا الْبَابِ لِمُعَارَضَتِهِ لِخَبَرِهِمَا أَيْضًا: لَا تُسَافِرُ يَوْمَيْنِ، بَلْ لِمُسْلِمٍ يَوْمًا بَلْ صَحَّ بَرِيدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى سَفَرًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: يُقْصُرُ فِي قَصِيرِهِ كَأَنْ خَرَجَ لِبُسْتَانِهِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي الْقَصِيرِ إِذَا كَانَ فِي الْخَوْفِ، لَكِنْ عَلَّقَ فِي الْأُمِّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَصَرَ بِذِي قَرَد، لَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ وَاقِعَةُ حَالٍ تَحْتَمِلُ أَنَّ مَقْصِدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ أَبْعَد، وَعَرَضَ لَهُ رُجُوعٌ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1352 - وَعَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَفَرًا، فَمَا رَأَيْتُهُ تَرَكَ رَكْعَتَيْنِ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1352 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ) : ابْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَفَرًا، فَمَا رَأَيْتُهُ تَرَكَ رَكْعَتَيْنِ) : لَعَلَّهُمَا شُكْرَ الْوُضُوءِ، أَو الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِمَا فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ. (إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ) ، أَيْ: زَاغَتْ وَمَالَتْ (فِي الظُّهْرِ) : ظَرْفٌ لِتَرَكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

1353 - وَعَنْ نَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ يَتَنَفَّلُ فِي السَّفَرِ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1353 - (وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ يَتَنَفَّلُ فِي السَّفَرِ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ) : لَعَلَّ تَنَفُّلَهُ كَانَ رَوَاتِبَ، أَوْ كَانَ يَتَنَفَّلُ فِي وَقْتِ الْوُسْعِ مَعَ عِلْمِهِ بِجَوَازِ التَّرْكِ، فَيُحْمَلُ إِنْكَارُهُ السَّابِقُ عَلَى النَّفْلِ الْمُجَرَّدِ فِي الْوَقْتِ الْمُضَيَّقِ، أَوْ فِي الْمُوَسَّعِ عَلَى زَعْمِ الِالْتِزَامِ الْوَظَائِفِ حَتَّى حَالَةَ السَّفَرِ، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْتُبُ لِلْمُسَافِرِ ثَوَابَ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الْحَضَرِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَكَذَا الْمَرِيضِ، وَالشَّيْخِ الضَّعِيفِ، وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ وَمَنْعُهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] (رَوَاهُ مَالِكٌ) ، أَيْ فِي الْمُوَطَّأِ، وَفِيهِ مُسَامَحَةٌ أَيْضًا إِذْ لَيْسَ بَيْنَ مَالِكٍ وَنَافِعٍ إِسْنَادٌ، حَتَّى يُقَالَ: رَوَاهُ مَالِكٌ.

[باب الجمعة]

[بَابُ الْجُمُعَةِ]

[42] بَابُ الْجُمُعَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1354 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثُمَّ هَذَا فِي يَوْمِهِمُ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِمْ - يَعْنِي الْجُمُعَةَ - فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ " وَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَى آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [42] بَابُ الْجُمُعَةِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ هِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى، وَتُخَفَّفُ الْمِيمُ بِالْإِسْكَانِ، أَيِ الْيَوْمُ الْمَجْمُوعُ فِيهِ ; لِأَنَّ فُعْلَةً بِالسُّكُونِ لِلْمَفْعُولِ كَهُمْزَةٍ، وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيِ الْيَوْمُ الْجَامِعُ، فَتَاؤُهَا لِلْمُبَالَغَةِ كَضُحْكَةٍ لِلْمُكْثِرِ مِنْ ذَلِكَ لَا لِلتَّأْنِيثِ، وَإِلَّا لَمَا وُصِفَ بِهَا الْيَوْمُ، قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَ آدَمَ جُمِعَ فِيهَا، وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِهِ بِحَوَّاءَ فِي الْأَرْضِ فِي يَوْمِهَا، وَقِيلَ: لِمَا جُمِعَ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحُكِيَ كَسْرُ الْمِيمِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَهَمٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْفَتْحُ، فَفِي الْقَامُوسِ، الْجُمُعَةُ بِضَمَّةٍ وَبِضَمَّتَيْنِ وَكَهُمزَةٍ اهـ. وَالضَّمُّ وَالْفَتْحُ قِرَاءَتَانِ شَاذَّتَانِ أَيْضًا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْفَتْحَ، وَحَكَى الْكَسْرَ وَهُوَ فِي صَدَدِ الِاسْتِيعَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَهَمٌ، نَعَمْ لَوْ حَكَى الثَّلَاثَةَ ثُمَّ قَالَ: وَحُكِيَ الْكَسْرُ لَاحْتَمَلَ وُقُوعُهُ، مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْكُتُبِ الصَّرْفِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْوَزْنَ لَيْسَ مِنَ الْأَوْزَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا وَإِسْكَانِهَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ، وَجْهُ الْفَتْحِ أَنَّهَا مَجْمَعُ النَّاسِ وَيَكْثُرُونَ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: {هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وَكَانَتْ تُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْعَرُوبَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1354 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَحْنُ) ، أَيْ: أَنَا وَأُمَّتِي (الْآخِرُونَ) : فِي الدُّنْيَا وُجُودًا (السَّابِقُونَ) : شُهُودًا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَوْ آخِرُ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الدُّنْيَا السَّابِقُونَ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى، وَقَالَ مِيرَكُ، أَيْ نَحْنُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْثًا أَوْ خُرُوجًا فِي الدُّنْيَا، السَّابِقُونَ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْأُخْرَى، فَإِنَّ أُمَّتَهُ تُحْشَرُ قَبْلَ سَائِرِ الْأُمَمِ وَتَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ أَوَّلًا، وَيُقْضَى لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. (بَيْدَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، أَيْ: غَيْرَ (أَنَّهُمْ) ، أَيْ: غَيْرُنَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُتَدَيِّنِينَ بِأَدْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ، أَوْ مَعَ أَنَّهُمْ، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ، قَالَ الْمَالِكِيُّ: الْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّهُ بِمَعْنَى لَكِنْ. (أُوتُوا) ، أَيْ: أُعْطُوا (الْكِتَابَ) : الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ (مِنْ قَبْلِنَا) ، أَيْ فِي الدُّنْيَا (وَأُوتِينَاهُ) ، أَيِ الْكِتَابَ (مِنْ بَعْدِهِمْ) : فَإِنَّا وَإِيَّاهُمْ مُتَسَاوِيَةُ الْأَقْدَامِ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَالتَّقَدُّمِ الزَّمَانِيِّ لَا يُوجِبُ فَضْلًا وَلَا شَرَفًا، فَهَذَا رَدٌّ وَمَنْعٌ لِفَضْلِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ إِنَّهُ مِنْ بَابِ: " وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ "، أَيْ: نَحْنُ السَّابِقُونَ بِمَا مَنَحَنَا مِنَ الْكِمَالَاتِ غَيْرَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَتَأَخَّرَ كِتَابُنَا مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ وَالْكَمَالِ ; لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِكِتَابِهِمْ وَمُعْلِمٌ لِفَضَائِحِهِمْ، فَهُوَ السَّابِقُ فَضْلًا وَإِنْ سَبَقَ وُجُودًا، قَالَ الْمَوْلَوِيُّ الرُّومِيُّ: وَمِنْ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ أَنْ جَعَلَهُمْ عِبْرَةً لَنَا، وَفَضَائِحَهُمْ نَصَائِحَنَا، وَتَعْذِيبَهُمْ تَأْدِيبَنَا، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَمْرَ مُنْعَكِسًا، وَالْحَالَ مُلْتَبِسًا، وَأَيْضًا فَنَحْنُ بِالتَّأْخِيرِ تَخَلَّصْنَا عَنْ الِانْتِظَارِ الْكَثِيرِ، فَفَضْلُهُ تَعَالَى عَلَيْنَا كَبِيرٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. (ثُمَّ) : أَتَى بِهَا إِشْعَارًا بِأَنَّ مَا قَبْلَهَا كَالتَّوْطِئَةِ وَالتَّأْسِيسِ لِمَا بَعْدَهَا. (هَذَا) ، أَيْ: هَذَا الْيَوْمُ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ (يَوْمِهِمْ) : الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَإِنَّهُ (الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِمْ) : أَوَّلًا اسْتِخْرَاجَهُ بِأَفْكَارِهِمْ وَتَعْيِينَهُ بِاجْتِهَادِهِمْ، (يَعْنِي الْجُمُعَةِ) ، أَيْ: مُجْمَلًا تَفْسِيرٌ لِلرَّاوِي لِهَذَا يَوْمِهِمْ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ "، أَيْ: يُرِيدُ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. (فَاخْتَلَفُوا) ، أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابِ (فِيهِ) ، أَيْ فِي تَعْيِينِهِ لِلطَّاعَةِ وَقَبُولِهِ لِلْعِبَادَةِ وَضَلُّوا عَنْهُ، وَأَمَّا نَحْنُ بِحَمْدِهِ (فَهَدَانَا اللَّه لَهُ) ، أَيْ: لِهَذَا الْيَوْمِ وَقَبُوِلِهِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سَبْقِنَا الْمَعْنَوِيِّ كَمَا أَنَّ فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ: بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مَنْ قَبِلْنَا إِشْعَارًا إِلَى سَبْقِهِمُ الْحِسِّيِّ وَإِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] ، وَهَذَا كُلُّهُ بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا، أَيْ فَرَضَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَجْتَمِعُوا يَوْمًا وَيُعَظِّمُوا فِيهِ خَالِقَهُمْ بِالطَّاعَةِ، لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَخْرِجُوهُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَيُعَيِّنُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ قَبِيلٍ أَنْ يَتْبَعَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ صَوَابًا كَانَ أَوْ خَطَأً كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: يَوْمُ السَّبْتِ ; لِأَنَّهُ يَوْمُ فَرَاغٍ وَقَطْعِ عَمَلٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْقَطِعَ النَّاسُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، وَيَتَفَرَّغُوا لِعِبَادَةِ مَوْلَاهُمْ، وَزَعَمَتِ النَّصَارَى: أَنَّ الْمُرَادَ يَوْمُ الْأَحَدِ ; لِأَنَّهُ يَوْمُ بَدْءِ الْخَلْقِ الْمُوجِبِ لِلشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، فَهَدَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ، وَوَفَّقَهُمْ لِلْإِصَابَةِ حَتَّى عَيَّنُوا الْجُمُعَةَ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِلْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وَكَانَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ فِيهِ لِفَضْلِهِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ أَوْجَدَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَفِي الْجُمُعَةِ أَوْجَدَ نَفْسَ الْإِنْسَانِ، وَالشُّكْرُ عَلَى نِعْمَةِ الْوُجُودِ أَهَمُّ وَأَحْرَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ لَنَا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ وَفَّقَنَا لِلْإِصَابَةِ لِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: جُمِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْجُمُعَةُ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ لِلْيَهُودِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلِلنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، فَلْنَجْعَلْ يَوْمًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُصَلِّي وَنَشْكُرُ فِيهِ، فَجَعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَى سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، فَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ، وَذَكَّرَهُمْ فَسَمَّوْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] اهـ. وَالْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا - وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُطْلَقًا - لَكِنْ مَعَ هَذَا لَهُ شَاهِدٌ حَسَنٌ، بَلْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْيَهُودِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ فَأَبَوْا وَقَالُوا: يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَجَعَلَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَيِّدُ مَا قَالَ شَارِحٌ: إِنَّا اجْتَهَدْنَا فَأَصَبْنَاهُ وَهُمُ اجْتَهَدُوا فَأَخْطَأُوهُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَأَنَّ مَعْنَاهُ: فَهَدَانَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ تَوَلَّى تَعْيِينَهُ لَنَا، وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى اجْتِهَادِنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ إِلَيْنَا لَوُفِّقْنَا لِإِصَابَتِهِ بِبِرْكَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُوَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلنُّقُولِ الصَّرِيحَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِلسِّيَاقِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُبْقِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَزِيدَ مَزِيَّةٍ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُسْتَثْنَوْنَ عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشُّمُنِّيُّ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَقَامَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] (وَالنَّاسُ) ، أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ كُنِّيَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ (لَنَا) : مُتَعَلِّقٌ بِـ (تَبَعٌ) قُدِّمَ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَوْ مُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ تَعْلِيلِيَّةٌ مُشِيرَةٌ إِلَى النَّفْعِ (فِيهِ) ، أَيْ: فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْيَوْمِ لِلْعِبَادَةِ (تَبَعٌ) : فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا هُدُوا لِمَا يَعْقُبُهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مَبْدَأَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَأَوَّلَ أَيَّامِهِ كَانَ الْمُتَعَبِّدُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ مَتْبُوعًا، وَالْمُتَعَبِّدُ فِي الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ تَابِعًا، كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ بِتَوَالِيهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اعْتِبَارِ الْأُسْبُوعِ، لَا شَكَّ فِي تَقْدِيمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ

وُجُودًا فَضْلًا عَنِ الرُّتْبَةِ، وَبَيَانُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ) ، أَيْ: نَحْنُ اخْتَرْنَا الْجُمُعَةَ، وَالْيَهُودُ بَعْدَهَا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ يَوْمِ الْيَهُودِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ السَّبْقَ الْمَعْنَوِيَّ لَنَا يَعْنِي: أَنَّهُمْ مَعَ التَّقَدُّمِ الْخَارِجِيِّ اخْتَارُوا التَّأَخُّرَ عَنَّا، وَتَرَكُوا لَنَا التَّقَدُّمَ عَلَيْهِمْ، {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29] . وَخَطَرَ لِي نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَحِكْمَةٌ شَرِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ زِيَادَةَ " لَا " فِي " لِئَلَّا " لِئَلَّا يَنْسِبَ إِلَيْهِمُ الْعِلْمَ أَصْلًا، وَكَانَ هَذَا الْإِلْهَامُ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَالِ وُصُولِ كِتَابَتِي هَذَا الْمَقَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدَ الْأَيَّامِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالنَّاسُ تَبَعٌ أَنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِنْ أُخِّرَ فِي الْوُجُودِ وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهُوَ سَابِقٌ فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ غَيْرُ مُؤَخَّرٍ عَنْهُمَا، بَلْ وَاسِطَةُ عِقْدٍ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْأَحَدِ، وَمُتَقَدِّمٌ عَلَى السَّبْتِ، كَمَا فُهِمَ مِنْ قَضِيَّةِ عِلَلِهِمْ، وَكَأَنَّهُ وَهَمٌ، وَاعْتُبِرَ تَأَخُّرُ الْجُمُعَةِ عَنْهُمَا بِاعْتِبَارِ دَوْرِ الْأُسْبُوعِ بِحَسَبِ مُتَعَارَفٍ الْآنَ، وَغَفَلَ عَنْ تَرْتِيبِ الْوُجُودِ الْأَصْلِيِّ فِي سَابِقِ الزَّمَانِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ تَبَعٌ غَدًا بِالدَّلِيلِ السَّابِقِ، قَالَ الْمَالِكِيُّ: وَقَعَ ظَرْفُ الزَّمَانِ خَبَرًا عَنِ الْجَنَّةِ، فَيُقَدِّرُ مَعْنَى قَبْلَ الْعَيْنَيْنِ، أَيْ: تَعْبُدُ الْيَهُودُ غَدًا اهـ. وَلَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ، فَالْوَجْهُ هُوَ الَّذِي نَحْنُ اخْتَرْنَاهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْيَهُودُ يُعَظِّمُونَ أَوْ قَالُوا: يَوْمُنَا يَكُونُ غَدًا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ اهـ. فَأَنْتَ مُخْتَارٌ فِي قَبُولِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالِاخْتِيَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ) ، أَيْ خِلْقَةً (الْأَوَّلُونَ) : حَيَاةً وَرُتْبَةً (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَالْعِبْرَةُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَوَاقِفِهِ، (وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) : يَعْنِي نَبِيَّنَا قَبْلَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُمَّتَهُ قَبْلَ سَائِرِ الْأُمَمِ اعْتِبَارًا لِلسَّبْقِ الْمَعْنَوِيَّ، لَا الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى بَابِهِ وَأَرَادُوا الِاجْتِمَاعَ بِجِنَابَةٍ مِنْهُمْ: الْعَبَّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَبِلَالٌ، وَغَيْرُهُمْ، وَأَعْلَمُهُ الْخَادِمُ بِحُضُورِهِمْ أَذَنَ لِبِلَالٍ أَنْ يَدْخُلَ، فَدَخَلَ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ بَعْضُ الْحَمِيَّةِ، وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ مَوْلًى عَلَيْنَا مُعَاشِرِ أَكَابِرِ الْعَرَبِ؟ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: الذَّنْبُ لَنَا فَإِنَّا تَأَخَّرْنَا فِي دُخُولِ الْإِسْلَامِ، وَتَقَدَّمَ بِلَالٌ مُعَانَدَةً وَمُخَالَفَةً لِقَبُولِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ - فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10 - 12] ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] الْآيَةَ. (بَيْدَ أَنَّهُمْ ". وَذَكَرَ) ، أَيْ مُسْلِمٌ (نَحْوَهُ) ، أَيْ: مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ (إِلَى آخِرِهِ) : يَعْنِي الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ بِوَضْعِ الْأَوَّلُونَ مَوْضِعَ السَّابِقُونَ، وَيَكُونُ أَحَدُهُمَا نَقْلًا بِالْمَعْنَى وَبِزِيَادَةٍ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ.

1355 - وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْهُ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ.» ـــــــــــــــــــــــــــــ 1355 - (وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْهُ) ، أَيْ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَعَنْ حُذَيْفَةَ) : عَطْفٌ عَلَى عَنْهُ، أَيْ: عَنْهُمَا جَمِيعًا (قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: " نَحْنُ الْآخَرُونَ) ، أَيْ: الَّذِينَ تَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فِي حَالِ كَوْنِنَا وَإِيَّاهُمْ (مَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، أَيْ: مَنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ فِي السَّبْقِ لَهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِي الْآخَرِينَ مَوْصُولَةٌ، وَمَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الصِّلَةِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الضَّمِيرِ أَوْ هُوَ صِفَةٌ، وَالْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: نَحْنُ النَّاسُ الْآخِرُونَ الْمَوْجُودُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. (الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ الْآخَرُونَ، أَيِ: الَّذِينَ يُقْضَى لَهُمْ قَبْلَ النَّاسِ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَوَّلًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقَدُّمِ رُتْبَتِهِمْ فِي كُلِّ مَوْقِفٍ مِنْ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، وَفِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْحُكُومَةِ، وَفِي قَوْلِهِ لَهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ الِاعْتِنَاءِ بِهِمْ وَبِشَأْنِهِمْ، وَإِيمَاءٌ إِلَى إِظْهَارِ رِفْعَةِ مَكَانَتِهِمْ وَعُلُوِّ مَكَانِهِمْ، فَكَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ تَبَعٌ لَهُمْ، بَلْ خُلِقُوا لِأَجْلِهِمْ حَشَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُمْ.

1356 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1356 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ) ، أَيْ: عَلَى مَا سَكَنَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: خَيْرُ يَوْمٍ ظَهَرَ بِظُهُورِ الشَّمْسِ إِذِ الْيَوْمُ لُغَةً مِنْ طُلُوعِهَا إِلَى غُرُوبِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ هُنَا النَّهَارُ الشَّرْعِيُّ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَلِمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ سَاعَتَهَا بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ، ثُمَّ وَجَّهَهُ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَصْدِ الشَّارِحِ فِي مُعَالَجَةِ تَصْحِيحِ " عَلَى " لِيَكُونَ عَلَى بَابِهِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ " عَلَى " لِلظَّرْفِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} [القصص: 15] كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ، وَتَبِعَهُ الْمُغْنِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ: طَلَعَتْ فِيهِ. (الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ) : الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ جِنْسِ الْعَالَمِ وَزَادَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: وَحَوَّاءُ. (وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ) : أَوَّلًا لِلْفَضْلِ السَّابِقِ (وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا) : لِتَلَاحُقِ اللَّاحِقِ وَظُهُورِ حَالِ أَوْلَادِهِ مِنَ الْمُبْطِلِ وَالْمُحِقِّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْإِخْرَاجُ مِنْهَا لِمَا كَانَ لِلْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ الشَّرِيفَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ يَصْلُحُ دَلَالَةً لِفَضِيلَةِ هَذَا الْيَوْمِ اهـ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ إِخْرَاجَهُ مَا كَانَ لِلْإِهَانَةِ، بَلْ لِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ فَهُوَ لِلْإِكْمَالِ لَا لِلْإِذْلَالِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لِمَا وَقَعَ مِنْهُ الْجَرِيمَةُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمَوْصُوفِ بِالْعَظَمَةِ اسْتَحَقَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ، وَإِيمَاءٌ نَبِيهٍ إِلَى تَعْظِيمِ هَذَا الْيَوْمِ بِالْمُحَافَظَةِ عَنِ السَّيِّئَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ خَلْقَهُ وَإِدْخَالَهُ كَانَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خُلِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أُمْهِلَ إِلَى يَوْمِ جُمُعَةٍ أُخْرَى، فَأُدْخِلُ فِيهِ الْجَنَّةَ، وَكَذَا الِاحْتِمَالُ فِي يَوْمِ الْإِخْرَاجِ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: لَمَّا كَانَ الْخُرُوجُ لِتَكْثِيرِ النَّسْلِ وَبَثِّ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرَضِينَ وَإِظْهَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لِأَجْلِهَا، وَمَا أُقِيمَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا لَهَا، وَكَانَ لَا يَسْتَتِبُّ ذَلِكَ إِلَّا بِخُرُوجِهِ مِنْهَا، فَكَانَ أَحْرَى بِالْفَضْلِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِ فِيهَا. وَقَالَ عِيَاضٌ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضَايَا الْمَعْدُودَةَ لَيْسَتْ لِذِكْرِ فَضِيلَتِهِ ; لِأَنَّ إِخْرَاجَ آدَمَ وَقِيَامَ السَّاعَةِ لَا يُعَدُّ فَضِيلَةً، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَمَا سَيَقَعُ لِيَتَأَهَّبَ فِيهِ الْعَبْدُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِنَيْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفْعِ نَقْمِهِ اهـ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَقَوْلِ مَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالشَّارِحُ أَوَّلُ وَالتَّأْوِيلُ إِنَّمَا يَكُونُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ قَوْلَ عِيَاضٍ بِكَلَامِ الشَّارِحِ مَرْدُودٌ، مَعَ أَنَّ كَلَامَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا صَرَّحَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مَا يَأْتِي فِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ هَذَا الْإِخْرَاجَ وَقِيَامَ السَّاعَةِ مِنْ جُمْلَةِ خِلَالِ الْخَيْرِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ عِيَاضًا مَا عَدَّهُ مِنْ خِصَالِ الشَّرِّ وَلَمْ يَنْفِ كَوْنَهُ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا نَفَى عَدَّهُ فَضِيلَةً عَلَى مِنْوَالِ بَقِيَّةِ مَا ذُكِرَ مَعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ) ، أَيِ: الْقِيَامَةُ وَهِيَ مَا بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، (إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ) . وَهُوَ الْمَجْمَعُ الْأَعْظَمُ وَالْمَوْقِفُ الْأَفْخَمُ، وَالْمَظْهَرُ لِمَنْ هُوَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ أَفْضَلُ وَأَكْرَمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَجْهُ عَدِّهِ أَنَّهُ يُوصِّلُ أَرْبَابَ الْكَمَالِ إِلَى مَا أُعِدِّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قُلْتُ: وَلِمَا يَرَوْا أَعْدَاءَهُمْ فِي الْحَمِيمِ وَالْجَحِيمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ قِيلَ عَرَفَةُ، وَقِيلَ: الْجُمُعَةُ هَذَا إِذَا أُطْلِقَ، وَأَمَّا إِذَا قِيلَ: أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ فَهُوَ عَرَفَةُ، وَأَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ فَهُوَ الْجُمُعَةِ تَمَّ كَلَامُهُ. وَإِذَا وَافَقَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ يَكُونُ أَفْضَلَ الْأَيَّامِ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ أَفْضَلَ وَأَبَرَّ، وَمِنْهُ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْجُمُعَةُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «الْجُمُعَةُ حَجُّ الْمَسَاكِينِ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " حَجُّ الْفُقَرَاءِ ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1357 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: قَالَ: " وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ ". وَفِي رِوَايَةِ لَهُمَا، قَالَ: " «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1357 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً) ، أَيْ شَرِيفَةً عَظِيمَةً، وَالْحِكْمَةُ فِي إِخْفَائِهَا لِيَشْتَغِلَ النَّاسُ بِالْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ نَهَارِهَا، رَجَاءَ أَنْ يُوَافِقَ دُعَاؤُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ إِيَّاهَا (لَا يُوَافِقُهَا) ، أَيْ: لَا يُصَادِفُهَا (مُسْلِمٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: عَبْدٌ مُسْلِمٌ (يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا) ، أَيْ: بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْقَالِ (خَيْرًا) ، أَيْ: يَلِيقُ السُّؤَالُ فِيهِ (إِلَّا أَعْطَاهُ) ، أَيْ: ذَلِكَ الْمُسْلِمَ (إِيَّاهُ) ، أَيْ: ذَلِكَ الْخَيْرُ يَعْنِي: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهُ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهُ لَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ مُسْلِمٌ: قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: خَفِيفَةٌ وَإِشَارَةُ يَدِهِ إِلَى الْقِلَّةِ فِي حَدِيثٍ بَيَانٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُمْتَدَّةً كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَلَا يُنَافِي خَبَرًا صَحَّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَا عَشَرَ سَاعَةً فِيهَا سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا كَلَامًا طَوِيلًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ فَتَأَمَّلْ. (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) ، أَيْ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، (قَالَ: " إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً) : قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَهِيَ أَرْجَى أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ (لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ) ، أَيْ: مُلَازِمٌ مُوَاظِبٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَهُوَ قَائِمٌ، وَحَمَلُوهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ لِيُلَائِمَ عُمُومَ قَوْلِهِ: (يُصَلِّي) : أَوِ الْمُرَادُ لَهُ يَدْعُو وَيَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا أَوَّلْنَا هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ لِيَتَوَافِقَ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ. (يَسْأَلُ اللَّهُ خَيْرًا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْمُبَاحَ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُوصَفُ بِخَيْرٍ وَلَا بِشَرٍّ، غَايَتَهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ تَعَالَى يُعْطِي الْخَيْرَ فَلَا يَمْنَعُ الْمُبَاحَ (إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: قَائِمٌ يُصَلِّي. . . . . إِلَخْ. كُلُّهَا صِفَاتٌ لِمُسْلِمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي حَالًا لِاتِّصَافِهِ بِقَائِمٍ وَيَسْأَلُ إِمَّا حَالٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَدَاخِلَةٌ. زَادَ النَّوَوِيُّ: إِذْ مَعْنَى يُصَلِّي يَدْعُو.

1358 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، قَالَ: «سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ: " هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1358 - (وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ) ، أَيْ فِي بَيَانِ وَقْتِهَا. (هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ) ، أَيْ: بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجُلُوسِ عَقِبَ صُعُودِ الْإِمَامِ الْمِنْبَرَ. (إِلَى أَنْ تُقْضَى) : بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ (الصَّلَاةُ) ، أَيْ يُفْرَغُ مِنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ وَبَيْنَ أَنْ يَقْضِيَ، إِلَّا أَنَّهُ أَتَى بِإِلَى لِيُبَيِّنَ أَنَّ جَمِيعَ الزَّمَانِ الْمُبْتَدَأِ مِنَ الْجُلُوسِ إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ تِلْكَ السُّوَيْعَةُ، وَإِلَى هَذِهِ نَظِيرُهُ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] ، فَدَلَّتْ عَلَى اسْتِيعَابِ الْحِجَابِ لِلْمَسَافَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ وَلَوْلَاهَا لَمْ يُفْهَمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، ذَكَرَهُ فِي الْحِصْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ حِينِ تُقَامُ الصَّلَاةُ إِلَى السَّلَامِ مِنْهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزْنِيِّ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: " «فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» ". وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَقِيلَ: بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقِيلَ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَذَهَبَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ إِلَى أَنَّهَا بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ بِيَسِيرٍ إِلَى ذِرَاعٍ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْهُ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: مِنِ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ، وَهَذَا مُخْتَارُ

فَاطِمَةَ، وَالْمَقْصُودُ مَنْ ذِكْرِ الِاخْتِلَافَاتِ مُرَاعَاةُ خُصُوصِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَالَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّهَا وَقْتُ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الْفَاتِحَةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَى أَنْ يَقُولَ آمِينَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ، بَلِ الصَّوَابُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، أَيِ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ: أَنَّ هَذَا أَجْوَدُ حَدِيثٍ وَأَصَحَّهُ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ يَسْتَوْعِبُهُ جَمِيعَ الْوَقْتِ الَّذِي عُيِّنَ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَفِي مُسْلِمٍ هِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُخْتَارَ النَّوَوِيِّ وَالْجَزَرِيِّ لَا يُفِيدُ تَعْيِينَ السَّاعَةِ لِاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْخُطْبَةِ، وَأَزْمِنَةِ الصَّلَاةِ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ مَا قَالَاهُ مِنْ أَحْوَالِ الْإِجَابَةِ لَا مِنْ أَوْقَاتِهَا، إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ السَّاعَةَ تَدُورُ مَعَ تِلْكَ الْحَالَةِ، أَوْ يَكُونُ وَقْتُ خُطْبَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَضْبُوطًا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ، لَكِنْ سَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُ فِي الْبَرْدِ، وَيُؤَخِّرُ فِي الْحَرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتَرَضَ عَلَى تَصْوِيبِ النَّوَوِيِّ، وَقَالَ: أَمَّا خَبَرُ أَنَّهَا مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ فَضَعِيفٌ، وَخَبَرُ أَنَّهَا مِنْ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إِلَى الِانْصِرَافِ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَإِنْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَمَّا مَا صَحَّ فِي حَدِيثِ: مِنِ الْتِمَاسِهَا آخرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ هَذِهِ السَّاعَةً مُنْتَقِلَةٌ تَكُونُ يَوْمًا فِي وَقْتٍ وَيَوْمًا فِي آخِرَ، كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهَا تَدُورُ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ، فَيَوْمًا تَكُونُ بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ، وَيَوْمًا مِنْ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إِلَى السَّلَامِ، وَيَوْمًا مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَيَوْمًا فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ الْيَوْمِ. وَرَجَّحَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ الْقَوْلَ بِالِانْتِقَالِ، وَلِصِحَّةِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ حَكَى إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَنَقَلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ تَبْلَغُ الْخَمْسِينَ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، لَكِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: مَا عَدَّا الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مَا بَيْنَ جُلُوسِ الْإِمَامِ وَسَلَامِهِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِهَا إِمَّا ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، أَوْ مَوْقُوفٌ اسْتَنَدَ قَائِلُهُ إِلَى اجْتِهَادٍ دُونَ تَوْقِيفٍ، وَطَرِيقُ تَحْصِيلهَا بِيَقِينٍ أَنْ يَنْقَسِمَ جَمَاعَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ حِصَّةً مِنْهُ يَدْعُو فِيهَا لِنَفْسِهِ وَلِأَصْحَابِهِ، أَوْ بِأَنْ يُلْزِمَ قَلْبَهُ اسْتِحْضَارَ الدُّعَاءِ مِنْ فَجْرِهَا إِلَى غُرُوبِ شَمْسِهَا، وَقَدْ سُئِلَ الْبَلْقِينِيُّ: كَيْفَ يَدْعُو حَالَ الْخُطْبَةِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ؟ فَأَجَابَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الدُّعَاءِ التَّلَفُّظُ، بَلِ اسْتِحْضَارُهُ لِقَلْبِهِ كَافٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَلَغَنِي أَنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الفصلُ الثَّانِي 1359 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ، فَلَقِيتُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، فَجَلَسْتُ مَعَهُ، فَحَدَّثَنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، وَحَدَّثْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثْتُهُ أَنْ قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ، وَفَيْهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ، إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ؟ فَقُلْتُ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ. فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَا حَدَّثْتُهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبَ كَعْبٌ، فَقُلْتُ لَهُ: ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: صَدَقَ كَعْبٌ. ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: قَدْ عَلِمْتُ أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهَا وَلَا تَضِنَّ عَلَيَّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: وَكَيْفَ تَكُونُ آخِرَ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهَا "؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ "؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَهُوَ ذَلِكَ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ إِلَى قَوْلِهِ: صَدَقَ كَعْبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1359 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ) : مَحَلٌّ مَعْرُوفٌ، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهُ طُورُ سَيْنَاءَ، (فَلَقَيْتُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَحْبَارُ جَمْعٌ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَالْإِضَافَةُ كَمَا فِي زَيْدِ الْخَيْلِ، وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، كَعْبُ بْنُ مَاتِعٍ مِنْ حِمْيَرَ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَأَسْلَمَ زَمَنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (فَجَلَسْتُ مَعَهُ، فَحَدَّثَنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، وَحَدَّثْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) ، أَيْ: عَنْ أَحَادِيثِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثْتُهُ) : خَبَرُ كَانَ (أَنْ قُلْتُ) : اسْمُ كَانَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: مَعَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ يَوْمٍ) ، أَيْ نَهَارٍ (طَلَعَتْ عَلَيْهِ) ، أَيْ: عَلَى مَا فِيهِ (الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ) : الَّذِي هُوَ مَبْنَى الْعَالَمِ (وَفِيهِ أُهْبِطَ) ، أَيْ: أُنْزِلَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، لِعَدَمِ تَعْظِيمِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الزَّلَّةِ لِيَتَدَارَكَهُ بَعْدَ النُّزُولِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَيَرْتَقِي إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَلِيَعْلَمَ قَدْرَ النِّعْمَةِ ; لِأَنَّ الْمِنْحَةَ تَتَبَيَّنُ عِنْدَ الْمِحْنَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ أُهْبِطَ هُنَا بِمَعْنَى أُخْرِجَ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ، وَقِيلَ:

كَانَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالْإِهْبَاطُ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ، فَيُفِيدُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِمَّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا فِي يَوْمَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِيهِ) ، أَيْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِخُصُوصِهِ (تِيبَ عَلَيْهِ) : وَهُوَ مَاضٍ مَجْهُولٌ منْ تَابَ، أَيْ: وُفِّقَ لِلتَّوْبَةِ وَقُبِلَتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَهِيَ أَعْظَمُ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] . (وَفِيهِ) ، أَيْ: فِي نَحْوِهِ مِنْ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ (مَاتَ) : وَالْمَوْتُ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ. كَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الْقَاضِي: لَا شَكَّ أَنَّ خَلْقَ آدَمَ فِيهِ يُوجِبُ لَهُ شَرَفًا، وَكَذَا وَفَاتَهُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَنَابِ الْأَقْدَسِ، وَالْخَلَاصِ عَنِ النَّكَبَاتِ. (وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ) : وَفِيهَا نِعْمَتَانِ عَظِيمَتَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وُصُولُهُمْ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَحُصُولُ أَعْدَائِهِمْ فِي عَذَابِ الْجَحِيمِ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ) : زِيَادَةُ مِنْ لِإِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ (إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ) ، أَيْ: مُنْتَظِرَةٌ لِقِيَامِ السَّاعَةِ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) : وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالسِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ مُصْغِيَةٌ مُسْتَمِعَةٌ، وَيُرْوَى مُسِيخَةٌ بِالسِّين بِإِبْدَالِ الصَّادِ سِينًا، وَوَجْهُ إِصَاخَةِ كُلِّ دَابَّةٍ وَهِيَ مَا لَا يَعْقِلُ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُهَا مُلْهَمَةً بِذَلِكَ مُسْتَشْعِرَةً عَنْهُ، فَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي الْإِخْفَاءِ عَنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَنَّهُمْ لَوْ كُشِفُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اخْتَلَّتْ قَاعِدَةُ الِابْتِلَاءِ وَالتَّكْلِيفِ وَحَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ: أَنَّهُ لَوْ أُلْهِمُوا بِمَا أُلْهِمَتِ الدَّوَابُّ وَانْتَظَرُوا وُقُوعَ الْقِيَامَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَالُ قَاعِدَةِ التَّكْلِيفِ، وَلَا وُقُوعُ الْقِيَامَةِ فَتَدَبَّرْ. (مِنْ حِينَ تُصْبِحُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ إِعْرَابُهُ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْفَتْحِ، (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) ; لِأَنَّ الْقِيَامَةَ تَظْهَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَيْنَ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ. (شَفَقًا) ، أَيْ خَوْفًا (مِنَ السَّاعَةِ) ، أَيْ: مِنْ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لِوُقُوعِهَا فِي سَاعَةٍ. قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مَأْخَذَ مَنْ قَالَ: إِنَّ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ بَيْنَ ظُهُورِ الصُّبُحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، يَعْنِي: أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ إِذَا كَانَتْ ذَاكِرَاتٍ حَاضِرَاتٍ خَائِفَاتٍ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْكَامِلَ يَنْبَغِي بِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ الْمَوْلَى، وَخَائِفًا عَمَّا وَقَعَ لَهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى ; إِذْ خَوْفُ الدَّوَابِّ مِنْ تَصْيِيرِ التُّرَابِ، وَخَوْفِ أُولِي الْأَلْبَابِ مِنْ رَدِّ الْبَابِ، وَعَظِيمِ الْعِقَابِ، وَسُخْطِ الْحِجَابِ، فَخَوْفُهُنَّ أَهْوَنُ مَآبًا، وَلِذَا يَقُولُ الْكَافِرُ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] . (إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ لَا يُلْهَمُونَ بِأَنَّ هَذَا يَوْمٌ يُحْتَمَلُ وُقُوعُ الْقِيَامَةِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ غَالِبَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتِثْنَاءٌ مِنْ (مُصِيخَةٌ) وَإِخْفَاؤُهَا عَنْهُمَا لِيَتَحَقَّقَ لَهُمُ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوهَا لَتَنَغَّصَ عَلَيْهِمْ عَيْشُهُمْ، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِتَحْصِيلِ كَفَافِهِمْ مِنَ الْقُوتِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ. (وَفِيهِ) ، أَيْ: فِي جِنْسِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا) ، أَيْ: لَا يُوَافِقُهَا (عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي) : حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِالِانْتِظَارِ، أَوْ مَعْنَاهُ يَدْعُو (يَسْأَلُ اللَّهَ) : حَالٌ أَوْ بَدَلٌ (شَيْئًا) : مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ) : بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي آدَابِ الدُّعَاءِ. (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَالَ (كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ الشَّرِيفَةِ وَيَوْمٌ خَبَرُهُ، (فَقُلْتُ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ هِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ أَوْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ يَوْمٌ اهـ، أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى مَا ذُكِرَ كَائِنٌ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، وَهَذَا أَظْهَرُ مُطَابَقَةً لِلْجَوَابِ،

وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ. (فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ) : بِالْحِفْظِ أَوْ بِالنَّظَرِ (فَقَالَ) ، أَيْ كَعْبٌ (صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ عِلْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ أَنَّهُ أُمِّيٌّ حَيْثُ أَخْبَرَ بِمَا خَفِيَ عَلَى أَعْلَمِ أَهْلِ الْكِتَابِ. (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ) : وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، فَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ. (فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي) ، أَيْ بِجُلُوسِي (مَعَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَا حَدَّثْتُهُ) ، أَيْ: وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثْتُهُ (فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ، أَيْ: فِي شَأْنِهِ (فَقُلْتُ لَهُ) ، أَيْ لِعَبْدِ اللَّهِ (قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبَ كَعْبٌ) ، أَيْ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَإِنَّمَا فُتِحَ لِعَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي هُوَ لِكَعْبٍ مِنَ الْأَمْرِ النَّظَرِيِّ بِبَرَكَةِ الصُّحْبَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَسَبْقِ السَّعَادَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: قَوْلُهُ: كَذَبَ كَعْبٌ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ كَعْبًا مُخْبِرٌ بِذَلِكَ لَا مُسْتَفْهِمٌ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَفْهِمًا لَمَا أَجَابَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِقَوْلِهِ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي إِخْبَارِهِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَذَبَ، فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَالُ هَذَا عَلَى جَوَازِ تَغْلِيظِ الْعَالِمِ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ عَنْهُ الْخَطَأُ فِي الْإِفْتَاءِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (فَقُلْتُ لَهُ) ، أَيْ لِعَبْدِ اللَّهِ (ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ) ، أَيْ: سَاعَةُ الْجُمُعَةِ، (فِي كُلِّ جُمُعَةٍ) : وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيِ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، فَهُوَ مِمَّا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: صَدَقَ كَعْبٌ) ، أَيِ: الْآنَ (ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: قَدْ عَلِمْتُ أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ؟) : بِنَصْبٍ أَيَّةَ، أَيْ: عَرَفْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ: وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهَا، وَبَنَى عَلَيْهَا ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: هِيَ هُنَا كَهِيَ فِي: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف: 12] . (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ) ، أَيْ: لِعَبْدِ اللَّهِ (أَخْبِرْنِي بِهَا) ، أَيْ: بِتِلْكَ السَّاعَةِ (وَلَا تَضِنَّ) : بِكَسْرِ الضَّادِ وَتُفْتَحُ وَبِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: لَا تَبْخَلْ بِهَا (عَلَيَّ) : وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ: بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ حَدِيثُ: " الْتَمِسُوا السَّاعَةَ " كَمَا سَيَأْتِي. (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: وَكَيْفَ تَكُونُ؟) ، أَيْ: تِلْكَ السَّاعَةُ (آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) ، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَالَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: فِي شَأْنِهَا (لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهَا؟) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَهُوَ يُصَلِّي وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَا يُصَلَّى فِيهَا، قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ (فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا) ، أَيْ جُلُوسًا أَوْ مَكَانَ جُلُوسٍ (يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ) ، أَيْ: فِيهِ (فَهُوَ فِي صَلَاةٍ) ، أَيْ حُكْمًا (حَتَّى يُصَلِّيَ؟) ، أَيْ: حَقِيقَةً (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: بَلَى) ، أَيْ: بَلَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. (قَالَ) ، أَيْ عَبْدُ اللَّهِ، وَوَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ، أَيْ: كَعْبٌ (فَهُوَ) ، أَيِ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ (ذَلِكَ) ، أَيْ: الِانْتِظَارُ، وَقِيلَ، أَيِ: السَّاعَةُ الْخَفِيفَةُ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) ، أَيْ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. (وَرَوَى أَحْمَدُ إِلَى قَوْلِهِ: صَدَقَ كَعْبٌ) .

1360 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1360 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْتَمِسُوا) ، أَيْ: اطْلُبُوا (السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: تُطْمَعُ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ فِيهَا (فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَهِيَ قَدْرُ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى قَبْضَتِهِ، وَإِسْنَادُهُ أَصَحُّ مِنْ إِسْنَادِ التِّرْمِذِيِّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَاتٌ لِلْإِجَابَةِ، وَالسَّاعَةُ الْعُظْمَى مِنْهَا مُهِمَّةٌ، أَوْ تَدُورُ فِي أَيَّامِ الْجُمُعَةِ كَمَا قِيلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهَذِهِ السَّاعَاتُ أَرْجَى الْبَقِيَّةِ كَالْأَوْتَارِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ.

1361 - وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ تُعْرَضُ صِلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ قال: يَقُولُونَ بَلِيتَ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1361 - (وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ أَفْضَلُ أَوْ مُسَاوٍ (فِيهِ خُلِقَ آدَمُ) ، أَيْ طِينَتُهُ كَمَا سَبَقَ، (وَفِيهِ) ، أَيْ فِي جِنْسِهِ (قُبِضَ) ، أَيْ رُوحُهُ (وَفِيهِ النَّفْخَةُ) ، أَيِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تُوَصِّلُ الْأَبْرَارَ إِلَى النِّعَمِ الْبَاقِيَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَيِ النَّفْخَةُ الْأُولَى فَإِنَّهَا مَبْدَأُ قِيَامِ السَّاعَةِ وَمَقْدَمُ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (وَفِيهِ الصَّعْقَةُ) ، أَيِ الصَّيْحَةُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الصَّوْتُ الْهَائِلُ الَّذِي يَمُوتُ الْإِنْسَانُ مِنْ هَوْلِهِ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، قَالَ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] ، فَالتَّكْرَارُ بِاعْتِبَارِ تَغَايُرِ الْوَصْفَيْنِ وَالْأَوْلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ التَّغَايُرِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ النَّفْخَةُ الْأُولَى بِالصَّعْقَةِ ; لِأَنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَبِهَذَا الْوَصْفِ تَتَمَيَّزُ عَنِ الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى صَعْقَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهِيَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ الَّذِي عَجَزَ عَنْهُ الْجَبَلُ الْقَوِيُّ، فَصَارَ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، أَيْ: مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] (فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ) ، أَيْ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ فِيهَا أَفْضَلُ مَنْ غَيْرِهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِتَضَاعُفِ الْحَسَنَاتِ إِلَى سَبْعِينَ عَلَى سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَلِكَوْنِ إِشْغَالِ الْوَقْتِ الْأَفْضَلِ بِالْعَمَلِ الْأَفْضَلِ هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَجْمَلُ، وَلِكَوْنِهِ سَيِّدَ الْأَيَّامِ فَيُصْرَفُ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ إِذَا عَرَفْتُمْ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ. (فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ) : يَعْنِي عَلَى وَجْهِ الْقَبُولِ فِيهِ، وَإِلَّا فَهِيَ دَائِمًا تُعْرَضُ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا عِنْدَ رَوْضَتِهِ، فَيَسْمَعُهَا بِحَضْرَتِهِ، وَقَدْ جَاءَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَهَا، وَفَضِيلَةِ الْإِكْثَارِ مِنْهَا عَلَى سَيِّدِ الْأَبْرَارِ، وَالْأَلْفُ أَكْثَرُ مَا وَرَدَ مِنَ الْمِقْدَارِ، فَاجْعَلْهُ وِرْدَكَ مِنَ الْأَذْكَارِ. (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ بَلِيتَ، وَقِيلَ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الْأَرْمِ وَهُوَ الْأَكْلُ، أَيْ: صِرْتَ مَأْكُولًا لِلْأَرْضِ، وَقِيلَ: أَرَمَّتْ بِالْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ وَالتَّاءِ السَّاكِنَةِ، أَيْ: أَرَمَّتِ الْعِظَامُ وَصَارَتْ رَمِيمًا كَذَا قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُرْوَى أَرْمَمْتَ بِالْمِيمَيْنِ، أَيْ صِرْتَ رَمِيمًا. قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَمْتَ بِحَذْفِ إِحْدَى الْمِيمَيْنِ كَظَلْتَ، ثُمَّ كُسِرَتِ الرَّاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ يَعْنِي: أَوْ فُتِحَتْ بِالْأَخَفِّيَّةِ أَوْ بِالنَّقْلِيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُهُ أَرْمَمْتَ فَحَذَفُوا إِحْدَى الْمِيمَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ الْعَرَبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَرَمَّتْ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، وَإِسْكَانِ التَّاءِ، أَيْ: أَرَمَّتِ الْعِظَامُ، وَقِيلَ: فِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ كَذَا فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ لِلْإِمَامِ النَّوَوِيِّ نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.

(قَالَ) ، أَيْ: أَوْسٌ الرَّاوِي (يَقُولُونَ) ، أَيِ: الصَّحَابَةُ، أَيْ يُرِيدُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ (بَلِيتَ) : وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِ (يَقُولُ: بَلِيتَ) فَلَا يُعَرَّجُ عَلَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَمْتَ، يَقُولُ: بَلِيتَ، وَأَمَّا فِي الْمِشْكَاةِ فَلَفْظُ الْحَدِيثِ هَكَذَا قَالَ: يَقُولُونَ: بَلِيتَ، فَهُوَ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ اسْتِبْعَادًا، تَأَمَّلْ. ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَوَجْهُ التَّأَمُّلِ أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ الْغَيْبَةُ فِي يَقُولُونَ، وَتَكْرَارُ قَالَ، وَيُنَافِيهِ مَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَقَدْ أَرَمْتَ يَقُولُ: قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ، أَيْ قَالَ الرَّاوِي: بَلِيتَ مِنْ أَرِمَ الْمَالُ وَالنَّاسُ، أَيْ: فَنُوا، وَأَرْضٌ أَرِمَةٌ لَا تَنْبُتُ شَيْئًا فَمَعْنَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ قَالَ الرَّاوِي: يَقُولُونَ، أَيْ يَعْنُونَ بِأَرَمْتَ بَلِيتَ، أَيْ: مَعْنَاهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ مُشْكِلِ الْحَدِيثِ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَعْنِي. (قَالَ) ، أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ) ، أَيْ: مَنَعَهَا وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَطِيفَةٌ (أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ) ، أَيْ: مِنْ أَنْ تَأْكُلَهَا، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي قُبُورِهِمْ أَحْيَاءٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْعَرْضِ وَالسَّمَاعِ هُوَ الْمَوْتُ وَهُوَ قَائِمٌ؟ قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ حِفْظَ أَجْسَادِهِمْ مِنْ أَنْ تَرِمَ خَرْقٌ لِلْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُهَا، فَكَذَلِكَ يُمَكِّنُ مِنَ الْعَرْضِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ الِاسْتِمَاعِ مِنْهُمْ صَلَوَاتِ الْأمَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَرِدُ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، فَنَبِيُّ اللَّهِ حَيٌّ يُرْزَقُ اهـ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: لَا حَاجَةَ فِي وَجْهِ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ إِلَى هَذَا التَّطْوِيلِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ. . . إِلَخْ. مُقَابِلَ قَوْلِهِ: فَقَدَ أَرَمْتَ، وَأَيْضًا فَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ، فَيُمْكِنُ لَهُمْ سَمَاعُ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِمْ، تَأَمَّلْ. تَمَّ كَلَامُهُ، فَتَأَمَّلْ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ أَنَّهُ مُحَصِّلُ الْجَوَابِ هُوَ خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنَ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ غَايَتُهُ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْضِيحِ وَالْإِطْنَابِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ، مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَقَدْ أَرَمْتَ كَلَامٌ حَسَنٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَأَلُوا بَيَانَ كَيْفِيَّةِ الْعَرْضِ بَعْدَ اعْتِقَادِ جَوَازِ أَنَّ الْعَرْضَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِ الصَّادِقِ: " «فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» " لَكِنْ حَصَلَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ أَنَّ الْعَرْضَ هَلْ هُوَ عَلَى الرُّوحِ الْمُجَرَّدِ أَوْ عَلَى الْمُتَّصِلِ بِالْجَسَدِ؟ وَحَسِبُوا أَنَّ جَسَدَ النَّبِيِّ كَجَسَدِ كُلِّ أَحَدٍ، فَكَفَى فِي الْجَوَابِ مَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قَدَّمَهُ الطِّيبِيُّ فَإِنَّمَا يُفِيدُ حَصْرَ الْعَرْضِ، وَالسَّمَاعِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ سَائِرَ الْأَمْوَاتِ أَيْضًا يَسْمَعُونَ السَّلَامَ وَالْكَلَامَ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُ أَقَارِبِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، نَعَمْ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَكُونُ حَيَاتُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَيَحْصُلُ لِبَعْضِ وُرَّاثِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْحَظُّ الْأَوْفَى بِحِفْظِ أَبْدَانِهِمُ الظَّاهِرَةِ، بَلْ بِالتَّلَذُّذِ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهِمَا فِي قُبُورِهِمُ الطَّاهِرَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ كُلُّهَا ذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِ شَرْحِ الصُّدُورِ فِي أَحْوَالِ الْقُبُورِ، بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآثَارِ الصَّرِيحَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا أَفَادَهُ مِنْ ثُبُوتِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ حَيَاةً بِهَا يَتَعَبَّدُونَ، وَيُصَلُّونَ فِي قُبُورِهِمْ، مَعَ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَالْمَلَائِكَةِ أَمْرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْبَيْهَقِيُّ جُزْءًا فِي ذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ. (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لَهُ عِلَّةٌ دَقِيقَةٌ أَشَارَ إِلَيْهَا الْبُخَارِيُّ نَقَلَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ إِنَّهُ صَحِيحٌ بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ أَوْ غَرِيبٌ لِعِلَّةٍ خَفِيَّةٍ بِهِ، فَقَدِ اسْتَرْوَحَ ; لِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ رَدَّهَا.

1362 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وما طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ، فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ وَهُوَ يُضَعَّفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1362 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ) ، أَيِ: الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ (يَوْمُ الْقِيَامَةِ) : وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ يَوْمُ الْعِيدِ، وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ أَهْلَ الْبَوَادِي يَتَوَاعَدُونَ لِحُضُورِهِ فِي الْمِصْرِ. (وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ) ; لِأَنَّهُ يَشْهَدُهُ أَهْلُ الدِّينِ غَالِبًا (وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ) : وَلَعَلَّ فِي

تَقْدِيمِ الْيَوْمِ الْمَشْهُودِ مَعَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] إِشَارَةً إِلَى أَعَظْمِيَّةِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلِيَّتِهِ، أَوْ إِلَى أَكْثَرِيَّةِ جَمْعِيَّتِهِ فَتُشَابِهُ الْقِيَامَةَ بِالْجَمْعِيَّةِ وَالْهَيْئَةِ الْإِحْرَامِيَّةِ، فَكَأَنَّهَا قِيَامَةٌ صُغْرَى، وَهُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ كَالْعَرْضَةِ الْكُبْرَى، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ الْآيَةِ فِي تَقْدِيمِ الشَّاهِدِ عَلَى الْمَشْهُودِ مُرَاعَاةُ الْفَوَاصِلِ كَالْأُخْدُودِ، أَوْ لِأَجْلِ تَقَدُّمِهِ غَالِبًا فِي الْوُجُودِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ شَأْنَهُ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ، حَيْثُ أَقْسَمَ بِهِ، وَأَوْقَعَهُ وَاسِطَةَ الْعِقْدِ لِقِلَادَةِ الْيَوْمَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ وَنَكَّرَهُ تَفْخِيمًا، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ الشَّهَادَةَ مَجَازًا ; لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ فِيهِ نَحْوَ: نَهَارُهُ صَائِمٌ يَعْنِي: وَشَاهِدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الشَّرِيفِ الْخَلَائِقُ لِتَحْصِيلِ السَّعَادَةِ الْكُبْرَى اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَالذَّاكِرِينَ، وَالدَّاعِينَ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ فَهُوَ شَاهِدٌ وَمَشْهُودٌ، كَمَا قِيلَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى: هُوَ الْحَامِدُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ. (وَمَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ) : فِي الثَّانِي زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِلْأَوَّلِ (عَلَى يَوْمٍ) ، أَيْ عَلَى مَوْجُودِ يَوْمٍ وَسَاكِنِهِ، أَوْ فِي يَوْمٍ (أَفْضَلَ مِنْهُ) ، أَيْ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ) : مِنْ بَابِ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، فَبِالْحَدِيثَيْنِ عُلِمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْمُسْلِمَ وَاحِدٌ فِي الشَّرِيعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36] . (يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ) : فِيهِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: يُصَلِّي مَعَ زِيَادَةِ التَّقْيِيدِ بِالْخَيْرِ، ثُمَّ الدُّعَاءُ يَشْمَلُ الثَّنَاءَ، وَهُمَا يُكُونَانِ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ يَقْتَصِرَانِ عَلَى الْجِنَانِ. (إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ) ، أَيْ: بِنَوْعٍ مِنَ الْإِجَابَةِ (وَلَا يَسْتَعِيذُ) : لَفْظًا أَوْ قَلْبًا (مِنْ شَيْءٍ) ، أَيْ: مِنْ شَرِّ نَفْسٍ أَوْ شَيْطَانٍ أَوْ إِنْسَانٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ أَوْ عَارٍ أَوْ نَارٍ. (إِلَّا أَعَاذَهُ) ، أَيْ: أَجَارَهُ (مِنْهُ) : بِقِسْمٍ مِنَ الْإِعَادَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ، إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، وَهُوَ) ، أَيْ مُوسَى (يُضَعَّفُ) : أَقُولُ: لَكِنْ يُقَوِّيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَغَيْرُهَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1363 - عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الْأَيَّامِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ، فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ: خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ، وَأَهْبَطَ اللَّهُ فِيهِ آدَمُ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا رِيَاحٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا هُوَ مُشْفِقٌ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1363 - عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الْأَيَّامِ) ، أَيْ: أَفْضَلُهَا، أَوْ أُرِيدَ بِالسَّيِّدِ الْمَتْبُوعُ، كَمَا قَالَ: " وَالنَّاسُ لَنَا تَبَعٌ ". (وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) : وَالظَّاهِرُ شُمُولُ يَوْمِ عَرَفَةَ، لَكِنْ قَوْلُهُ: (وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ) : يُفِيدُ التَّسَاوِيَ، أَوْ أَفْضَلِيَّةَ عَرَفَةَ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ رَزِينٍ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَإِنْ وَافَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حجَّةً فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهُ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَيَوْمهَا أَفْضَلُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ صَرِيحَةٌ بِأَفْضَلِيَّةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي، وَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِهِ كَذَلِكَ، هَذَا وَيُحْتَمَلُ أَعَظْمِيَّةُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى يَوْمِ الْعِيدَيْنِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ يَوْمَ عِبَادَةٍ صِرْفٍ، وَهُمَا يَوْمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ. (فِيهِ) ، أَيْ فِي نَفْسِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (خَمْسُ خِلَالٍ) ، أَيْ: خِصَالٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ (خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ) ، أَيْ: طِينَتَهُ (وَأَهْبَطَ اللَّهُ) :

أَيْ: أُنْزِلَ (" فِيهِ آدَمُ إِلَى الْأَرْضِ ") : لِإِظْهَارِ ذُرِّيَّتِهِ وَأَحْكَامِ بَشَرِيَّتِهِ، (" وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ ") : لِلرُّجُوعِ إِلَى حَضْرَتِهِ (" وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ ") : اللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَيِ: الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ (" فِيهَا شَيْئًا ") ، أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ (" إِلَّا أَعْطَاهُ ") ، أَيِ: اللَّهُ إِيَّاهُ (" مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا ") ، أَيْ: مَا لَمْ يَكُنْ مَسْئُولُهُ حَرَامًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ مَا يَشْمَلُ الْمُبَاحَ، بَلْ هَذَا يَشْمَلُ الْمَكْرُوهَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي تَقْيِيدَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِخُصُوصِ الْخَيْرِ تَنْبِيهًا لِلطَّالِبِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرَ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمَكْرُوهَ لَا يَنْبَغِي سُؤَالُهُ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: حَرَامًا بِمَعْنَى مَمْنُوعًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 95] الْآيَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ") : وَفِيهَا عِيدُ أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَلِذَا يُسَمَّى يَوْمُ الْجُمُعَةِ عِيدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَسَاكِينِ. (" مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا رِيَاحٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا بَحْرٍ ") ، أَيْ: وَلَا مِنْ دَابَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، (" إِلَّا هُوَ مُشْفِقٌ ") ، أَيْ: خَائِفٌ (" مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ") ، أَيْ: خَوْفًا مِنْ فَجْأَةِ السَّاعَةِ وَعَظَمَةِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَجَلَّى بِصِفَةِ الْغَضَبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ تَجَلِّيًا مَا تَجَلَّى قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1364 - وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَخْبِرْنَا عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَاذَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ؟ قَالَ: " فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ» وَسَاقَ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1364 - (وَرَوَى أَحْمَدُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَخْبِرْنَا عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ، أَيْ: عَنْ خَوَاصِّهِ (مَاذَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ؟ قَالَ: " فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ خَيْرَاتٌ تُوجِبُ فَضِيلَةُ الْيَوْمِ، قَالَ الْقَاضِي: خَلْقُ آدَمَ يُوجِبُ لَهُ شَرَفًا وَمَزِيَّةٍ، وَكَذَا وَفَاتُهُ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَنَابِ الْأَقْدَسِ، وَالْخَلَاصِ عَنِ النَّكَبَاتِ، وَكَذَا قِيَامُ السَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُصُولِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. (وَسَاقَ) ، أَيْ: ذَكَرَهَا مُرَتَّبًا (إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِخَمْسِ خِلَالٍ الْحَصْرَ، فَإِنَّهُ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ عِنْدَنَا يَوْمَ الْمَزِيدِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ فِي الْفِرْدَوْسِ وَادِيًا أَفْيَحَ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ، يَجْلِسُ فِيهِ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا رَبُّكُمْ قَدْ صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي، فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ، فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ وَلَكُمْ عَلَيَّ مَا تَمَنَّيْتُمْ وَلَدَيَّ مَزِيدٌ، فَهُمْ يُحِبُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهُمْ مِنَ الْخَيْرِ ". وَفِي رِوَايَةٍ لِلْآجُرِّيِّ: (أَنَّهُمْ يَمْكُثُونَ فِي جُلُوسِهِمْ هَذَا إِلَى مُنْصَرَفِ النَّاسِ مِنَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى غُرُفِهِمْ، وَفِي أُخْرَى لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، فَيُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَيَزُورُونَ اللَّهَ فَيَبْرُزُ لَهُمْ عَرْشُهُ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَيُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ، وَمَا فِيهِمْ أَدْنَى عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، وَمَا يَرَوْنَ أَصْحَابَ الْكُرْسِيِّ بِأَفْضَلَ مِنْهِمْ مَجْلِسًا) الْحَدِيثَ. وَفِي أُخْرَى لَهُ أَيْضًا: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَزُورُونَ رَبَّهُمْ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، فِي رِمَالِ الْكَافُورِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنِّي مَجْلِسًا أَسْرَعُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَبْكَرُهُمْ غُدُوًّا اهـ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَسَافَةِ وَالْجِهَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَكَانَةِ وَالْقُرْبَةِ.

1365 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ ; لِأَنَّ فِيهَا طُبِعَتْ طِينَةُ أَبِيكَ آدَمَ، وَفِيهَا الصَّعْقَةُ وَالْبَعْثَةُ، وَفِيهَا الْبَطْشَةُ، وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا اللَّهَ فِيهَا اسْتُجِيبَ لَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1365 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَ) ، أَيْ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِالرَّفْعِ

(يَوْمَ الْجُمُعَةِ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ. (قَالَ: " لِأَنَّ فِيهَا ") : أَنَّثَهُ نَظَرًا لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ (" طُبِعَتْ ") ، أَيْ: خُمِّرَتْ وَجُمِعَتْ (" طِينَةُ أَبِيكَ آدَمَ ") ، أَيِ: الَّذِي هُوَ مَجْمُوعَةُ الْعَالَمِ، وَالْخِطَابُ لِلْقَائِلِ السَّائِلِ، (" وَفِيهَا الصَّعْقَةُ ") ، أَيِ: الصَّيْحَةُ الْأُولَى الَّتِي بِهَا يَمُوتُ جَمِيعُ أَهْلِ الدُّنْيَا (" وَالْبَعْثَةُ ") : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَتُفْتَحُ، أَيِ: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي بِهَا تَحْيَا جَمِيعُ الْأَجْسَادِ الْفَانِيَةِ (" وَفِيهَا الْبَطْشَةُ ") ، أَيِ: الْأَخْذَةُ الشَّدِيدَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الطَّامَّةُ الَّتِي لِلْخَلَائِقِ عَامَّةً، وَمَا قِيلَ أَنَّهَا الْقِيَامَةُ فَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: سُئِلَ عَنْ سَبَبِ التَّسْمِيَةِ؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ بِهَا لِاجْتِمَاعِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ فِيهَا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ مَوْجُودٌ فِي كُلٍّ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْهَيْئَةِ الْمَجْمُوعِيَّةِ. (" وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْهَا ") ؟ ، أَيْ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (" سَاعَةٌ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: (فِي) هَذِهِ تَجْرِيدِيَّةٌ إِذِ السَّاعَةُ هِيَ نَفْسُ آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: فِي الْبَيْضَةِ عِشْرُونَ مَنًّا مِنْ حَدِيدٍ، وَالْبَيْضَةُ نَفْسُ الْأَرْطَالِ اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: وَفِي آخِرِهَا سَاعَةٌ (" مَنْ دَعَا اللَّهَ فِيهَا اسْتُجِيبَ لَهُ ") : إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى السَّاعَتَيْنِ قَبْلَ تِلْكَ السَّاعَةِ لِقُرْبِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) ، أَيْ: مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، وَرُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، عَنِ الْمُنْذِرِيِّ.

1366 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ صَلَاتُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا "، قَالَ: قُلْتُ: وَبَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَبِيُّ اللَّهِ حَيٌّ يُرْزَقُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1366 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ ") ، أَيْ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ (" مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ ") : بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ. هَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ هُوَ الْجُمُعَةُ كَمَا أَنَّ الْحَدِيثَ السَّابِقَ يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ عَلِيٍّ بِأَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْجُمُعَةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُوَافِقُ لِتَفْسِيرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا، وَلَا يُنَافِيهِ إِطْلَاقُ الْمَشْهُودِ هُنَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ فَتَدَبَّرْ، مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا، فَإِنَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَاجِعٌ إِلَى إِكْثَارِ الصَّلَاةِ الْمَفْهُومِ مِنْ (أَكْثِرُوا) ، وَيُؤَيِّدُهُ السِّيَاقُ الْمُكْتَنَفُ بِالسِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ. (" وَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ") : يَحْتَمِلُ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ (" إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ ") : إِمَّا بِالْمُكَاشَفَةِ أَوْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ (" صِلَاتُهُ ") ، أَيْ: وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ مِنِ ابْتِدَاءِ شُرُوعِهِ (" حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ") ، أَيْ: مِنَ الصَّلَاةِ يَعْنِي: الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ. (قَالَ) ، أَيْ أَبُو الدَّرْدَاءِ ظَنَّا أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِحَالِ الْحَيَاةِ الظَّاهِرَةِ (قُلْتُ: وَبَعْدَ الْمَوْتِ) ، أَيْ: أَيْضًا، وَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ وَيَبْعُدُ الْحَمْلُ عَلَى الِاسْتِبْعَادِ لِمُخَالَفَتِهِ حُسْنَ الِاعْتِقَادِ، أَوْ وَبَعْدَ الْمَوْتِ مَا الْحُكْمُ فِيهِ؟ (قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ ") ، أَيْ مَنَعَهَا مَنْعًا كُلِّيًّا (" أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ ") ، أَيْ: جَمِيعَ أَجْزَائِهِمْ، فَلَا فَرْقَ لَهُمْ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِذَا قِيلَ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا يَمُوتُونَ وَلَكِنْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ مِنْهُمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، فَإِنَّ عَرْضَ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِأَرْوَاحِهِمْ مَعَ أَجْسَادِهِمْ (" فَنَبِيُّ اللَّهِ ") : يَحْتَمِلُ الْجِنْسَ وَالِاخْتِصَاصَ بِالْفَرْدِ الْأَكْمَلِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ رَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، وَصَحَّ خَبَرُ: الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَحُلُولُهُمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ جَائِزٌ عَقْلًا، كَمَا وَرَدَ بِهِ خَبَرُ الصَّادِقِ: (" حَيٌّ ") ، أَيْ دَائِمًا (" يُرْزَقُ ") : رِزْقًا مَعْنَوِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الشُّهَدَاءِ مِنْ أُمَّتِهِ {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فَكَيْفَ سَيِّدُهُمُ بَلْ رَئِيسُهُمْ ; لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ أَيْضًا مَرْتَبَةُ الشَّهَادَةِ مَعَ مَزِيدِ السَّعَادَةِ بِأَكْلِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ وَعُودِ سُمِّهَا الْمَغْمُومَةِ، وَإِنَّمَا عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الشَّهَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلْبَشَاعَةِ الصُّورِيَّةِ، وَلِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ بِحِفْظِ فَرْدٍ مِنْ بَيْنِ أَعْدَائِهِ مِنْ شَرِّ الْبَرِيَّةِ، وَلَا يُنَافِيهِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ رِزْقٌ حِسِّيٌّ أَيْضًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ» ، ثُمَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتِيجَةً لِلْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي اسْتِفَادَةً مِنْ كَلَامِهِ وَتَفْرِيعًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، أَيْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ.

1367 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» ") . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1367 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ ") : زِيَادَةُ (مِنْ) لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ فَيَشْمَلُ الْفَاسِقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّنْوِينَ لِلتَّعْظِيمِ (" يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ") : الظَّاهِرُ أَنَّ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ (" إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ ") ، أَيْ: حَفِظَهُ (" فِتْنَةَ الْقَبْرِ ") ، أَيْ: عَذَابَهُ وَسُؤَالَهُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْلَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَضْلِ الْمَوْلَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرَفَ الزَّمَانِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ، كَمَا أَنَّ فَضْلَ الْمَكَانِ لَهُ أَثَرٌ جَسِيمٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ) . قُلْتُ: ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي بَابِ مَنْ لَا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْهُ بِلَفْظِهِ: " إِلَّا بَرِئَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ "، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثَةٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا بِلَفْظِ: " وُقِيَ الْفَتَّانَ "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ، أَيِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ سُؤَالِ الْقَبْرِ لَا تُعَارِضُ أَحَادِيثَ السُّؤَالِ السَّابِقَةِ، أَيْ: لَا تُعَارِضُهَا بَلْ تَخُصُّهَا وَتُبَيِّنُ مَنْ لَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ وَلَا يُفْتَنُ فِيهِ مِمَّنْ يَجْرِي عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَيُقَاسِي تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ فِيهِ مُدْخَلٌ لِلْقِيَاسِ وَلَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ لِقَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: وَمَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدِ انْكَشَفَ لَهُ الْغِطَاءُ عَمَّا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ ; لِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا تُسْجَرُ فِيهِ جَهَنَّمُ وَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا وَلَا يَعْمَلُ سُلْطَانُ النَّارِ فِيهِ مَا يَعْمَلُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، فَإِذَا قَبَضَ اللَّهُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ، فَوَافَقَ قَبْضُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا لِسَعَادَتِهِ وَحُسْنِ مَآبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْبَضُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَّا مَنْ كُتِبَ لَهُ السَّعَادَةُ عِنْدَهُ، فَلِذَلِكَ يَقِيهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ ; لِأَنَّ سَبَبَهَا إِنَّمَا هُوَ تَمْيِيزُ الْمُنَافِقِ مِنَ الْمُؤْمِنِ. قُلْتُ: وَمِنْ تَتِمَّةِ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، فَكَانَ عَلَى قَاعِدَةِ الشُّهَدَاءِ فِي عَدَمِ السُّؤَالِ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أُجِيرَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ» ". وَأَخْرَجَ حُمَيْدٌ فِي تَرْغِيبِهِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ بُكَيْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَوُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» ". وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ يَمُوتُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ إِلَّا وُقِيَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ، وَلَقِيَ اللَّهَ وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ شُهُودٌ يَشْهَدُونَ لَهُ أَوْ طَابَعٌ» " وَهَذَا الْحَدِيثُ لَطِيفٌ صَرَّحَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفِتْنَةِ وَالْعَذَابِ مَعًا. اهـ كَلَامُ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

1368 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَرَأَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الْآيَةَ، وَعِنْدَهُ يَهُودِيٌّ. فَقَالَ: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَاهَا عِيدًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1368 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الْآيَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: كَفَيْتُكُمْ شَرَّ عَدُوِّكُمْ وَجَعَلْتُ لَكُمُ الْيَدَ الْعُلْيَا، كَمَا تَقُولُ الْمُلُوكُ: الْيَوْمَ كَمُلَ لَنَا الْمُلْكُ، إِذَا كُفُوا مَنْ يُنَازِعُهُمُ الْمُلْكَ، وَوَصَلُوا إِلَى أَغْرَاضِهِمْ، وَمَبَاغِيهِمْ، أَوْ أَكْمَلْتُ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَكْلِيفِكُمْ مِنْ تَعْلِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَقَوَانِينِ الْقِيَاسِ وَأُصُولِ الِاجْتِهَادِ اهـ. وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِأَوَّلِ الْآيَةِ، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِبَقِيَّتِهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ) فَالْمَعْنَى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ أَرْكَانَ دِينِكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ أُمُورَ دُنْيَاكُمُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ لِنِعَمِ عُقْبَاكُمْ وَتُوصِلُكُمْ إِلَى رِضَا مَوْلَاكُمْ، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، أَيِ: اخْتَرْتُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الِانْقِيَادُ التَّامُّ دِينًا لَكُمْ فَإِنَّ الدِّينَ

التَّامَّ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الْإِنْعَامِ (وَعِنْدَهُ) : أَيْ: وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ (يَهُودِيٌّ) ، أَيْ: حَاضِرٌ (فَقَالَ) ، أَيِ: الْيَهُودِيُّ (لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا لَاتَّخَذَنَاهَا) ، أَيْ: جَعَلْنَا يَوْمَ نُزُولِهَا (عِيدًا) ، أَيْ: سُرُورًا عَظِيمًا وَفَرَحًا، وَسِيمَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، أَوْ جَعَلْنَا وَقْتَ نُزُولِهَا يَوْمَ عِيدٍ (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا) ، أَيِ: الْآيَةَ (نَزَلَتْ) ، أَيْ: عَلَيْنَا (فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ) ، أَيْ: وَقْتِ عِيدَيْنِ لَنَا أَوْ فِي يَوْمَيْ عِيدٍ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْعِيدَ اجْتِمَاعُهُمَا دُونَ انْفِرَادِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ) : بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ يَعْنِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي يَوْمَيْ عِيدٍ لَنَا فَضْلًا وَإِحْسَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ نَجْعَلَهُمَا عِيدَيْنِ بِأَنْفُسِنَا، أَوْ قَدْ تَضَاعَفَ السُّرُورُ لَنَا بِإِنْزَالِهَا فَإِنَّا نُعَظِّمُ الْوَقْتَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْيَوْمَيْنِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلِذَا يُسَمَّى الْحَجَّ الْأَكْبَرَ عَلَى الَّذِي اشْتُهِرَ، ثُمَّ فِي تَقْدِيمِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَرَفَةَ، إِمَّا لِكَوْنِ الْأَوَّلِ أَفْضَلَ، أَوْ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِيَوْمِ عَرَفَةَ وَالتَّعَبُّدَ فِيهِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمَيْنِ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي جَوَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْيَهُودِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ، يَعْنِي مَا اتَّخَذْنَاهُ عِيدًا وَاحِدًا بَلْ عِيدَيْنِ، وَتَكْرِيرُ الْيَوْمِ تَقْرِيرٌ لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ يَوْمٍ بِمَا سُمِّيَ بِهِ، وَإِضَافَةُ يَوْمٍ إِلَى عِيدَيْنِ كَإِضَافَةِ الْيَوْمِ إِلَى الْجُمْعَةِ، أَيْ يَوْمُ الْفَرَحِ الْمَجْمُوعِ، وَالْمَعْنَى يَوْمُ الْفَرَحِ الَّذِي يَعُودُونَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فِيهِ إِلَى السُّرُورِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْعِيدُ مَا يُعَاوِدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَخُصَّ فِي الشَّرِيعَةِ بِيَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ مَجْعُولًا لِلسُّرُورِ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: " أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ " صَارَ يُسْتَعْمَلُ الْعِيدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِيهِ مَسَرَّةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ: إِنَّكُمْ تَقْرَأُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا لَاتَّخَذَنَاهَا عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَأَشُكُّ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا؟ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ) : الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَأُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ قَبِيصَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ جُمْعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَكِلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: وَهُمَا لَنَا عِيدَانِ، وَالرَّجُلُ الْمُبْهَمُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لِلْبُخَارِيِّ هُوَ: كَعْبُ الْأَحْبَارِ، كَذَا جَاءَ مُسَمًّى فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي أَوَّلِ تَارِيخِ دِمَشْقَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهُوَ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَكَانَ سُؤَالُهُ لِعُمَرَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، وَلَعَلَّ سُؤَالَهُ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَلِذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى قَالَتِ الْيَهُودُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1369 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ» "، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: " «لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ لَيْلَةٌ أَغَرُّ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمٌ أَزْهَرُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1369 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ) : مُنَوَّنٌ وَقِيلَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ (قَالَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا ") ، أَيْ: فِي طَاعَتِنَا وَعِبَادَتِنَا (" فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ ") ، أَيْ: إِدْرَاكَهُ بِتَمَامِهِ، وَالتَّوْفِيقَ

لِصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ. (قَالَ) ، أَيْ: أَنَسٌ (وَكَانَ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ لَيْلَةٌ أَغَرُّ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيِ أَنْوَرُ مِنَ الْغُرَّةِ اهـ. نَزَّلَ لَيْلَتَهُ مَنْزِلَةَ يَوْمِهِ، فَوُصِفَ بِأَغَرَّ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، أَوْ ذَكَرَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لَيْلَةً بِمَعْنَى لَيْلٍ ; إِذِ التَّاءُ لِوِحْدَةِ الْجِنْسِ لَا لِلتَّأْنِيثِ. (" وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمٌ أَزْهَرُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَزْهَرُ الْأَبْيَضُ، وَمِنْهُ: أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ فِي اللَّيْلَةِ الْغَرَّاءِ وَالْيَوْمِ الْأَزْهَرِ، أَيْ: لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ وَيَوْمِهَا اهـ. وَالنُّورَانِيَّةُ فِيهِمَا مَعْنَوِيَّةٌ لِذَاتِهِمَا، فَالنِّسْبَةُ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لِلْعِبَادَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِمَا، فَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

[باب وجوبها]

[بَابُ وُجُوبِهَا] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1370 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: " «لِيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [43] بَابُ وُجُوبِهَا أَيِ: الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِهَا وَفَرْضِيَّتِهَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْجُمُعَةُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْجُمُعَةُ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ فَرَضٌ آكَدُ مِنَ الظُّهْرِ، وَبِإِكْفَارِ جَاحِدِهَا اهـ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الرَّحْمَةِ فِي اخْتِلَافِ الْأُمَّةِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَغَلَّطُوا مَنْ قَالَ: هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1370 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ) : (أَنَّهُمَا قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ) ، أَيْ: دَرَجَاتِهِ، أَوْ مُتَّكِئًا عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَذَكَرَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ التَّذْكِيرِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى اشْتِهَارِ هَذَا الْحَدِيثِ، (" لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ ") : قِيلَ: اللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ، وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَيَجِيءُ الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِ الْمُفَاخَرَةِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (" عَنْ وَدْعِهُمُ ") : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الدَّالِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي وَصْلِ نَحْوِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلَى مَا بَعْدَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. (" الْجُمُعَاتِ ") ، أَيْ: عَنْ تَرْكِهِمْ إِيَّاهَا وَالتَّخَلُّفِ عَنْهَا. مِنْ وَدَعَ الشَّيْءَ يَدَعُهُ وَدْعًا إِذَا تَرَكَهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالنُّحَاةُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَرَبَ أَمَاتُوا مَاضِيَ (يَدَعُ) وَمَصْدَرَهُ، وَاسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِتَرَكَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ عَلَى قِلَّةِ اسْتِعْمَالِهَا فَهُوَ شَاذٌّ فِي الِاسْتِعْمَالِ صَحِيحٌ فِي الْقِيَاسِ اهـ. وَقَدْ جَاءَ فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ {مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَأَيْضًا يُرَدُّ عَلَى الصَّرْفِيِّينَ حَيْثُ قَالُوا: وَحَذْفُ الْوَاوِ فِي يَدَعُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ وَاوٌ لَا يَاءٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَاءً لَمَا حُذِفَ، فَكَأَنَّهُمْ مَا تَشَرَّفُوا بِمَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَالْحَدِيثِ، وَلِهَذَا قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمَا قَالَ النُّحَاةُ، فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحُجَّةُ الْقَاضِيَةُ عَلَى كُلِّ ذِي لَهْجَةٍ وَفَصَاحَةٍ. (" أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ") ، أَيْ: لَيَمْنَعَنَّهُمْ لُطْفَهُ وَفَضْلَهُ، وَالْخَتْمُ الطَّبْعُ ' وَمِثْلُهُ الرَّيْنُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَقِيلَ: هُوَ إِعْدَامُ اللُّطْفِ وَأَسْبَابِ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: هُوَ خَلْقُ الْكُفْرِ فِي صُدُورِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ السُّنَّةِ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. (" ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ ") ، أَيْ: مَعْدُودِينَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: (ثُمَّ) لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّ كَوْنَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْغَافِلِينَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ بِالْغَفْلَةِ أَدْعَى لِشَقَائِهِمْ، وَأَنْطَقُ لِخُسْرَانِهِمْ مِنْ مُطْلَقِ كَوْنِهِمْ مَخْتُومًا عَلَيْهِمْ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، إِمَّا الِانْتِهَاءُ عَنْ تَرْكِ الْجُمُعَاتِ، وَإِمَّا خَتْمُ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ اعْتِيَادَ تَرْكِ الْجُمُعَةِ يُغَلِّبُ الرَّيْنَ عَلَى الْقَلْبِ، وَيُزَهِّدُ النُّفُوسَ فِي الطَّاعَةِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْغَافِلِينَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا، قَالَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1371 - عَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضُّمَيْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1371 - (عَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضُّمَيْرِيِّ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، كَذَا فِي النُّسَخِ كُلِّهَا، وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي هَامِشِ نُسْخَتِهِ: صَوَابُهُ: الضَّمْرِيِّ، ثُمَّ كَتَبَ تَحْتَهُ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ اهـ. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ، فَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، مَنْسُوبٌ إِلَى ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ، وَكَذَا فِي الْمُغْنِي، وَكَذَا ضَبَطَهُ فِي الْأَنْسَابِ وَقَالَ: مَنْسُوبٌ إِلَى ضَمْرَةَ، وَهُمْ بَنُو ضَمْرَةَ رَهْطُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ اهـ. قِيلَ: اسْمُهُ أَدْرَعُ، وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ، وَقِيلَ: جُنَادَةُ، وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنِ اسْمِ أَبِي الْجَعْدِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَلَهُ حَدِيثٌ قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ نَقَلَهُ مِيرَكُ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ وَهْبٌ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ ") : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ جُمُعَةٍ (" تَهَاوُنًا بِهَا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ إِهَانَةً، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ تَسَاهُلًا عَنِ التَّقْصِيرِ لَا عَنْ عُذْرٍ (" طَبَعَ اللَّهِ ") ، أَيْ: خَتَمَ (" عَلَى قَلْبِهِ ") : بِمَنْعِ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: كَتَبَهُ مُنَافِقًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَحَسَّنَهُ (وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَحَسَّنَهُ (وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَلَفْظُهُمَا: " «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مُنَافِقٌ» ".

1372 - وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1372 - (وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ.

1373 - وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1373 - (وَأَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ: " «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَقَالَ. صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: " مَنْ «تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَعَنْ أُسَامَةَ رَفَعَهُ: " «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمُعَاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كُتِبَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، نَقَلَهُ الْمُنْذِرِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: " «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ رَمَى الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ» "، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا بَابٌ يَحْتَمِلُ جُزْءًا.

1374 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِنِصْفِ دِينَارٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1374 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَلْيَتَصَدَّقْ ") : قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ لِدَفْعِ إِثْمِ التَّرْكِ (" بِدِينَارٍ ") : فِي الْأَزْهَارِ، أَيْ: كَفَّارَةً (" فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ") ، أَيِ: الدِّينَارَ بِكَمَالِهِ (" فَبِنِصْفِ دِينَارٍ ") ، أَيْ: فَلْيَتَصَدَّقْ بِنِصْفِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ وَالنَّسَائِيُّ: قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا التَّصَدُّقُ لَا يَرْفَعُ إِثْمَ التَّرْكِ، أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ، حَتَّى يُنَافِيَ خَبَرَ: " «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَفَّارَةٌ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". وَإِنَّمَا يُرْجَى بِهَذَا التَّصَدُّقِ تَخْفِيفُ الْإِثْمِ، وَذَكَرَ الدِّينَارَ وَنِصْفَهُ لِبَيَانِ الْأَكْمَلِ، فَلَا يُنَافِي ذِكْرَ الدِّرْهَمِ أَوْ نِصْفَهُ، وَصَاعِ حِنْطَةٍ أَوْ نِصْفِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ; لِأَنَّ هَذَا لِبَيَانِ أَدْنَى مَا يَحْصُلُ بِهِ النَّدْبُ.

1375 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1375 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» ") : وَهُوَ الْأَذَانُ أَوَّلَ الْوَقْتِ، كَمَا هُوَ الْآنَ فِي زَمَانِنَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ وَقْتَ الْجُمُعَةِ لِيَحْضُرُوا وَيَسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا زَادَهُ عُثْمَانُ: لِيَنْتَهِيَ الصَّوْتُ إِلَى نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَحَمْلُ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعِيدٌ جِدًّا، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِ مِقْدَارُ بُلُوغِ الصَّوْتِ، هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: مَنْ هُوَ فِي أَطْرَافِ الْمِصْرِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِ فُرْجَةٌ، بَلِ الْأَبْنِيَةُ مُتَّصِلَةٌ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، يَعْنِي: وَلَوْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِ فُرْجَةٌ مِنَ الْمَزَارِعِ وَالْمَرَاعِي، فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إِنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ اهـ. وَلَا تَلْزَمُ مُسَافِرًا بِالِاتِّفَاقِ. وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَجُوبُهَا عَلَى الْمُسَافِرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ، وَسَيَأْتِي مُسْتَثْنَيَاتٌ أُخَرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ لَهُ شَاهِدًا جَيِّدًا، وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْحِسَانِ، وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ اهـ. وَكَأَنَّهُمَا نَظَرَا إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] .

1376 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إِلَى أَهْلِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1376 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ ") : بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ (" اللَّيْلُ إِلَى أَهْلِهِ ") : فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ: أَوَيْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ وَآوَيْتُ غَيْرِي وَأَوَيْتُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: مِنَ الْمُتَعَدِّي، قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيِ الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ كَانَ بَيْنَ وَطَنِهِ وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْجُمُعَةَ مَسَافَةٌ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَبِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: وَشَرْطٌ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ وَطَنِهِ يُنْقَلُ إِلَى دِيوَانِ الْمِصْرِ الَّذِي يَأْتِيهِ لِلْجُمُعَةِ، فَإِنْ كَانَ لِوَطَنِهِ دِيوَانٌ غَيْرُ دِيوَانِ الْمِصْرِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَنْ كَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْمِصْرِ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ يُسْمَعُ فِيهِ النِّدَاءُ مِنَ الْمِصْرِ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ، وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْهُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي ثَلَاثِ فَرَاسِخَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْرُ مِيلٍ، وَقِيلَ: قَدْرُ مِيلَيْنِ، وَقِيلَ: سِتَّةُ أَمْيَالٍ، وَقِيلَ: إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْضُرَ الْجُمُعَةَ وَيَبِيتَ بِأَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَإِلَّا فَلَا، قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَهَذَا حَسَنٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ) .

1377 - وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إِلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ: عَبْدٍ مَمْلُوكٍ، أَوِ امْرَأَةٍ، أَوْ صَبِيٍّ، أَوْ مَرِيضٍ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ " عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي وَائِلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1377 - (وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْجُمُعَةُ حَقٌّ ") ، أَيْ: ثَابِتٌ فَرَضِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (" وَاجِبٌ ") ، أَيْ: فَرْضٌ مُؤَكَّدٌ (" عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ") : فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْقَائِلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ (" فِي جَمَاعَةٍ ") ; لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِجَمَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ، وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةٌ سُوَى الْإِمَامِ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمْ مِمَّنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ وَقَالَا: اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعِينَ كَامِلِينَ لِخَبَرِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ جَابِرٍ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَهُ جُمُعَةً اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ، (" إِلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: " إِلَّا " بِمَعْنَى " غَيْرِ " وَمَا بَعْدَهُ مَجْرُورٌ صِفَةً لِمُسْلِمٍ، أَيْ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ غَيْرِ (" عَبْدٍ مَمْلُوكٍ، أَوِ امْرَأَةٍ، أَوْ صَبِيٍّ ") : وَفِي مَعْنَاهُ الْمَجْنُونُ

(" أَوْ مَرِيضٍ ") ، أَيْ: مَرَضًا يَشُقُّ مَعَهُ الْحُضُورُ عَادَةً، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُسَافِرُ وَهُوَ سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي ضَعُفَ يَلْحَقُ بِالْمَرِيضِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ اهـ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى مُطْلَقًا، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ إِنْ وَجَدَ قَائِدًا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُقْعَدِ وَمَقْطُوعِ الرِّجْلَيْنِ، وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ، وَالْمُمَرِّضُ كَالْمَرِيضِ إِنْ بَقِيَ الْمَرِيضُ ضَائِعًا بِذَهَابِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بِرَفْعِ عَبْدٍ، وَمَا بَعْدَهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ: هُمْ، وَ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَحْسَنُ جَعْلُهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ وَاجِبٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْعَبْدِ الَّذِي حَضَرَ مَعَ مَوْلَاهُ بَابَ الْمَسْجِدِ لِحِفْظِ الدَّابَّةِ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْحِفْظِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ: طَارِقٌ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ بِذَاكَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: رِجَالُ إِسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ، وَمَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُهُ فَهُوَ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَيْسَ هَذَا قَدْحًا فِي صُحْبَتِهِ، وَلَا فِي الْحَدِيثِ، بَلْ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا " «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ إِلَّا عَلَى صَبِيٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ أَوْ مُسَافِرٍ» " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرَوَيْهِ، وَزَادَ فِيهِ الْمَرْأَةَ وَالْمَرِيضَ. (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، أَيْ: لِلْبَغَوِيِّ (بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ، عَنْ رَجُلٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (مِنْ بَنِي وَائِلٍ) : لَفْظُ شَرْحِ السُّنَّةَ، كَذَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي وَائِلٍ يَقُولُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ» ". وَرَوَاهُ طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ " أَوْ مَرِيضٍ ". وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا اهـ. وَلَيْسَ فِي الْمَصَابِيحِ أَيْضًا زِيَادَةُ: " أَوْ مَرِيضٍ " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَاءَ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ بِلَفْظِهِ الْمَذْكُورِ، إِلَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ (عَلَى) بَعْدَ (إِلَّا) ، فَقَالَ: إِلَّا أَرْبَعَةً. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْهُمَامِ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: " الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا أَرْبَعَةً: مَمْلُوكٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَرِيضٌ "، وَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1378 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ: " «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُحْرِقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1378 - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِقَوْمٍ) ، أَيْ: فِي شَأْنِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَوْ عَنْهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى. (يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: سَبَقَ مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْجَمَاعَاتِ. (" «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُحْرِقَ» ") : بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ (" عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ ") ، أَيْ: بِغَيْرِ عُذْرٍ (" عَنِ الْجُمُعَةِ ") ، أَيْ: عَنْ إِتْيَانِهَا (" بُيُوتَهُمْ ") : بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا مَفْعُولٌ لِأُحْرِقَ، وَالْمَعْنَى لَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ خَلِيفَتِي فِي الْإِمَامَةِ، ثُمَّ أَتَوَجَّهَ بِخَدَمَتِي نَحْوَ الْمُتَخَلِّفِينَ فَأُحْرِقَ بُيُوتَهُمْ، أَيْ: مَا فِي بُيُوتِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَفِي هَذَا مِنَ الْوَعِيدِ مَا لَا يُوصَفُ. قَالَ السَّيِّدُ بَادْشَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَتْرُكُ الْفَرْضَ وَيَشْتَغِلُ بِهِمْ؟ قُلْتُ: الْمَقْصُودُ التَّغْلِيظُ وَالْمُبَالَغَةُ دُونَ الْحَقِيقَةِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلَى بَدَلٍ لِمَصْلَحَةِ ضَرُورَةٍ إِذَا أَدَّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَكِنَّ الْإِحْرَاقَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إِذَا كَانَ تَخَلُّفُهُمْ جُحُودًا، وَلَعَلَّهُ وَقَعَ قَبْلَ نَسْخِ الْهَمِّ بِالتَّحْرِيقِ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الْخَلِيفَةِ تَرْكُ فَرْضِ الْجُمُعَةِ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُهَا، كَمَا هُوَ الْآنَ مِنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْخِلَافِيَّةِ، فَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: إِنَّمَا تَجُوزُ إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ

فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا أَكْثَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْهُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَجُوزُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، قِيلَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ بِمَوْضِعَيْنِ لَا غَيْرُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ السَّرْخَسِيُّ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ إِقَامَتِهَا فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فِي مَسْجِدَيْنِ وَأَكْثَرَ، وَبِهِ نَأْخُذُ لِإِطْلَاقِ لَا جُمْعَةَ إِلَّا فِي مِصْرٍ، فَإِذَا تَحَقَّقَ تَحَقَّقَ فِي كُلٍّ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ إِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ قَصَدَ التَّغْلِيظَ وَالْمُبَالَغَةَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ تَخَلُّفَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا جُحُودًا، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، فَضْلًا عَنِ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ إِلَّا مُنَافِقٌ ظَاهِرُ النِّفَاقِ لَا مَسْتُورُ الشِّقَاقِ، وَنَسْخُ الْهَمِّ بِالتَّحْرِيقِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، نَعَمِ الْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ تَحْرِيقِ الْمَالِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ تَحْرِيقِ غَيْرِ الْمُتَخَلِّفِ وَالْغَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1379 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، كُتِبَ مُنَافِقًا فِي كِتَابٍ لَا يُمْحَى وَلَا يُبَدَّلُ» " وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " ثَلَاثًا ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1379 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ") ، أَيْ: صَلَاتَهَا (" مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ") : كَالْخَوْفِ مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ كَالْمَطَرِ وَالثَّلْجِ وَالْوَحْلِ وَنَحْوِهَا. كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ. (" كُتِبَ مُنَافِقًا ") : وَعِيدٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ (" فِي كِتَابٍ لَا يُمْحَى ") : مَا فِيهِ (" وَلَا يُبَدَّلُ ") : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ، أَيْ: لَا يُغَيَّرُ بِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَتُبْ، وَقِيلَ: أَوْ مَا لَمْ يَتَصَدَّقْ، (وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " ثَلَاثًا ") ، أَيْ: قَالَ: وَمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) .

1380 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلَّا مَرِيضٌ، أَوْ مُسَافِرٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَمْلُوكٌ. فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1380 - (وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ") : هَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ، (" فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ ") ، أَيْ: يَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ (" يَوْمَ الْجُمُعَةِ ") : ظَرْفٌ لِلْجُمُعَةِ (" إِلَّا مَرِيضٌ، أَوْ مُسَافِرٌ ") : سَفَرًا مُبَاحًا أَوْ غَيْرَهُ خِلَافًا لِمَنْ قَيَّدَهُ بِالْمُبَاحِ (" أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ مَمْلُوكٌ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: رُفِعَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوجَبِ عَلَى التَّأْوِيلِ، أَيْ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ فَلَا يَتْرُكُ الْجُمُعَةَ إِلَّا مَرِيضٌ، فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي يَتْرُكُ الرَّاجِعِ إِلَى " مَنْ "، قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: هَكَذَا بِالرَّفْعِ فِي الْمَصَابِيحِ، أَقُولُ: وَتَقْدِيرُهُ فَلَا يُحْرَمُ أَحَدٌ مِنَ الْغُفْرَانِ إِلَّا عَبْدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا} [البقرة: 249] بِالرَّفْعِ فِي الْكَشَّافِ، أَيْ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: وَهُوَ إِمَّا لُغَةٌ أَوْ بِتَأْوِيلٍ (" فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ) ، أَيِ: اسْتَغْنَى بِهِمَا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ (" اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ ") ، أَيْ: فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، وَعَنْ عِبَادَتِهِ، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ لِيَتَشَرَّفُوا بِالطَّاعَةِ. (" وَاللَّهُ غَنِيٌّ ") : بِذَاتِهِ (" حَمِيدٌ ") : مَحْمُودٌ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، سَوَاءٌ حُمِدَ أَوْ لَمْ يُحْمَدْ أَوْ حَامِدٌ يُثْنِي عَلَى مُطِيعِهِ بِالْجَمِيلِ وَيَشْكُرُهُ بِإِعْطَاءِ الْجَزِيلِ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى آيَةِ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَابِدِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ، فَإِنَّ اللَّهْوَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَنَعِّمِينَ، وَالتِّجَارَةُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكْتَسِبِينَ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، بِمَعْنَاهُ.

[باب التنظيف والتبكير]

[بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ]

[44] بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 1381 - عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [44] بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ أَيْ: تَطْهِيرِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنَ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ، وَمِنْ كَمَالِهِ التَّدْهِينُ وَالتَّطَيُّبُ. (وَالتَّبْكِيرِ) : فِي النِّهَايَةِ: بَكَّرَ بِالتَّشْدِيدِ أَتَى الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَكُلُّ مَنْ أَسْرَعَ إِلَى شَيْءٍ فَقَدْ بَكَّرَ إِلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ الْجُمُعَةِ: " مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ " فَقِيلَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَكُرِّرَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ مَعْنَى ابْتَكَرَ أَدْرَكَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ، وَأَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ بَاكُورَتُهُ. الفصل الأول. 1381 - (عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَغْتَسِلُ ") : بِالرَّفْعِ (" رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِثْلُهُ الْمَرْأَةُ كَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ فَلْيَغْتَسِلْ» ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ تَغَيَّرَ فِي زَمَانِنَا ; إِذْ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إِلَى الْجُمُعَةِ (" وَيَتَطَهَّرُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " فَيَتَطَهَّرُ "، أَيْ يَتَنَظَّفُ (" مَا اسْتَطَاعَ ") ، أَيْ: مَا قَدَرَ (" مِنْ طُهْرٍ ") : التَّنْوِينُ لِلتَّكْثِيرِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بِالطُّهْرِ قَصَّ الشَّارِبَ، وَقَلْمَ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقَ الْعَانَةِ، وَنَتْفَ الْإِبِطِ، وَتَنْظِيفَ الثِّيَابِ، (" وَيَدَّهِنُ ") : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ: يَتَدَهَّنُ (" مِنْ دُهْنِهِ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (" أَوْ يَمَسُّ ") : قِيلَ: " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ، وَالْمَعْنَى إِنْ لَمْ يَجِدِ الدُّهْنَ يَمَسَّ، وَقِيلَ: أَوْ لِلشَّكِّ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى " الْوَاوِ " ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ اجْتِمَاعُهُمَا أَوْ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ (" مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَيَّدَهُ إِمَّا تَوْسِعَةً كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: وَمَسَّ مِنْ طِيبِهِ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، أَوِ اسْتِحْبَابًا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَتَّخِذَ الطِّيبَ لِنَفْسِهِ، وَيَجْعَلَ اسْتِعْمَالَهُ عَادَةً لَهُ، فَيَدَّخِرَهُ فِي بَيْتِهِ، فَلَا تَخْتَصُّ الْجُمُعَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: لَكِنْ يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ الِاهْتِمَامُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي خُصُوصِيَّةِ هَذَا الْيَوْمِ اهـ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّطَيُّبَ مُسْتَحَبٌّ دَائِمًا، لَكِنْ أُكِّدَ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ فِي خُصُوصِ وَقْتِ إِرَادَةِ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: مَعْنَى الدُّهْنِ هُنَا الطِّيبُ، وَ (أَوْ يَمَسُّ) لِلتَّرَدُّدِ مِنَ الرَّاوِي، وَقِيلَ: تَخَيَّرَ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَدْهَانِهِمْ كَانَ مُطَيَّبًا، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، أَيْ: إِنْ لَمْ يَجِدْ دُهْنًا. أَوْ تَكُونُ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْبَيْتِ حَقِيقَةٌ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ: " يَمَسُّ مِنْ طِيبِ امْرَأَتِهُ "، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، قَالَ: وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ بَيْتَ الرَّجُلِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَرْأَةُ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ رِوَايَةَ: " وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ " تَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ حَقِيقَتُهُ، تَأْمَّلْ، قَالَهُ مِيرَكُ. فَتَأَمَّلْنَا فَوَجَدْنَا الْأَمْرَ أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ حَقِيقَةُ بَيْتِ الرَّجُلِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَزَوِّجًا أَوْ عَزَبًا، وَلَا يُنَافِيهِ مِنْ طِيبِ امْرَأَتِهِ ; لِأَنَّ طِيبَهَا غَالِبًا مِنْ عِنْدِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ تَصِحُّ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَلَمَّا كَانَ طِيبُهَا غَالِبًا مُتَمَيِّزًا عَنْ طِيبِ الرَّجُلِ مُتَعَيِّنًا مُتَبَيِّنًا لَهَا، أَشَارَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ طِيبٌ مُخْتَصٌّ لِاسْتِعْمَالِهِ، وَأَكَدَّ فِي التَّطَيُّبِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَبَالَغَ حَتَّى قَالَ: " وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ "، أَيْ: وَلَوْ مِنْ طِيبِهَا حَقِيقَةً، أَيْ: مِنْ مِلْكِهَا، فَإِنَّ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي هَذَا الِانْبِسَاطَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" ثُمَّ يَخْرُجُ ") ، أَيِ: ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِسُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ وَلَا لِخَوْفٍ وَحَيَاءٍ، (" فَلَا يُفَرِّقُ ") : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ (" بَيْنَ اثْنَيْنِ ") : كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، أَوِ الصَّاحِبَيْنِ الْمُسْتَأْنِسَيْنِ، أَوْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا فُرْجَةَ بَيْنَهُمَا، فَيَحْصُلَ الْأَذَى لَهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّبْكِيرِ، أَيْ: عَلَيْهِ أَنْ يُبَكِّرَ فَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِبْطَاءِ، أَيْ: لَا يُبْطِئُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ، فَحِينَئِذٍ يَنْطَبِقُ الْحَدِيثُ عَلَى الْبَابِ يَعْنِي مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّنْظِيفِ

وَالتَّبْكِيرِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعُنْوَانَ كُلَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنَ الْبَابِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ ظَاهِرُهُ مِنْ طَلَبِ عَدَمِ التَّخَطِّي، وَإِنْ لَمْ يُبَكِّرْ بِأَنْ يَجْلِسَ آخِرَ النَّاسِ، وَلَا يَتَخَطَّى أَحَدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ الْآتِيَ أَوَّلَ الْفَصْلِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. (" ثُمَّ يُصَلِّيَ مَا كُتِبَ لَهُ ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ الْآتِي: ثُمَّ يُنْصِتُ، وَلِقَوْلِهِ لَهُ: فَالصَّوَابُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: مَا قُدِّرَ لَهُ، أَيْ مِنْ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ أَرْبَعٌ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْقَضَاءِ أَوِ النَّوَافِلِ، وَأَقَلُّهُ رَكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (" ثُمَّ يُنْصِتُ ") : بِضَمِّ الْيَاءِ يُقَالُ: أَنْصَتَ يُنْصِتُ إِنْصَاتًا إِذَا سَكَتَ سُكُوتَ مُسْتَمِعٍ، وَقَدْ نَصَتَ أَيْضًا وَأَنْصَتَهُ إِذَا أَسْكَتَهُ، فَهُوَ لَازِمٌ مُتَعَدٍّ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِالْفَتْحِ يُوهِمُ أَنَّهُ رِوَايَةٌ أَوْ نُسْخَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. (" إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ ") ، أَيْ: خَطَبَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَحْرُمُ فِي الْخُطْبَةِ الْكَلَامُ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْبِيحًا، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْكِتَابَةُ، وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلَامِ، وَهَلْ يَحْمِدُ إِذَا عَطَسَ؟ الصَّحِيحُ نَعَمْ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ، لَكِنْ أَشَارَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِيَدِهِ حِينَ رَأَى مُنْكَرًا، الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ قَرِيبًا بِحَيْثُ يُسْمَعُ، فَلَوْ كَانَ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ، فَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ اخْتَارَ السُّكُوتَ، وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ اهـ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِالذِّكْرِ لِمَنْ لَمْ يُسْمَعْ، وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَكَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. (" إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى ") : الْمُرَادُ بِهَا الْمَاضِيَةُ أَوِ الْمُسْتَقْبَلَةُ، وَالْأُولَى أَوْلَى ; لِأَنَّ الْغُفْرَانَ بِالسَّابِقِ أَحْرَى، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْأُخْرَى الَّتِي مَضَتْ كَمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَلَفْظُهُ: " غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا "، قَالَ مِيرَكُ: أَقُولُ: وَكَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّانِي وَلَفْظُهُ: " كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا "، لَكِنْ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا بِلَفْظِ: " فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ "، يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ تَأَمَّلْ. اهـ. فَتَأَمَّلْنَا فَوَجَدْنَا قَوْلَهُ: الَّتِي تَلِيهَا يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ، فَحَمَلْنَا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ نَصًّا فِي الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ، قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجُمُعَةَ الَّتِي تَعْقُبُ لَا شَيْءَ فِيهَا مُكَفَّرٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي الْمُكَفِّرَةِ الْمُرْتَبِطَةِ بِزَمَنٍ أَوْ عَمَلٍ أَنَّهَا إِنْ وَجَدَتْ شَيْئًا كَفَّرَتْهُ وَإِلَّا رُفِعَ لِلْفَاعِلِ دَرَجَاتٌ بِقَدْرِ تِلْكَ الطَّاعَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1382 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنِ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1382 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنِ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ ") : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْيَوْمِ، وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوِ اغْتَسَلَ قَبْلَ الصُّبْحِ وَصَلَّى بِهِ كَانَ آتِيًا بِالسُّنَّةِ، وَلَوِ اغْتَسَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِهَا، وَكَذَا غُسْلُ الْعِيدِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ زِيَادَةُ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) بَعْدَ قَوْلِهِ: مَنِ اغْتَسَلَ، فَبَنَى عَلَيْهَا، وَقَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا قَالَهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّ وَقْتَ غُسْلِهَا يَدْخُلُ بِفَجْرِ يَوْمِهَا اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. (" فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ ") : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ (" ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ ") ، أَيِ: الْخَطِيبُ (" مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ مَعَهُ ") : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى " يَفْرُغَ "، فَيُفِيدُ الْإِنْصَاتَ فِيمَا بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةَ أَيْضًا، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى " ثُمَّ أَنْصَتَ "، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لَفْظًا وَمَعْنًى. (" غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ ") ، أَيْ: ذُنُوبُ مَا بَيْنَهُ، أَوْ قَدْرُ ذُنُوبِ مَا بَيْنَهُ (" وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ") : بِرَفْعِ (فَضْلُ) عَطْفًا بِالْوَاوِ بِمَعْنَى " مَعَ " عَلَى " مَا " فِي " مَا بَيْنَهُ "، أَيْ: بَيْنَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مَعَ زِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى السَّبْعَةِ لِتَكُونَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَجُوِّزَ الْجَرُّ فِي فَضْلٍ لِلْعَطْفِ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا بَيْنَ السَّاعَةِ الَّتِي يُصَلِّي فِيهَا الْجُمُعَةَ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْجُمُعَةِ، فَيَكُونُ الْعَدَدُ سَبْعًا، وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَتَصِيرُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يُنَافِي مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمَغْفُورَ ذُنُوبُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ زِيدَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَأَخْبَرَ بِهِ إِعْلَامًا بِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ.

1383 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ ; غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1383 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " مَنْ تَوَضَّأَ ") : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّخْصَةِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ. (" فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ") ، أَيْ: أَتَى بِمُكَمِّلَاتِهِ مِنْ سُنَنِهِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: أَتَى بِوَاجِبَاتِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ إِتْيَانَهَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: تَوَضَّأَ مَعَ أَنَّ الْمُكْتَفِيَ بِالْوَاجِبِ مُسِيءٌ لَا مُحْسِنٌ، (" ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ ") ، أَيْ: حَضَرَ خُطْبَتَهَا وَصَلَاتَهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ أَتَى مَحَلَّهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ، (" فَاسْتَمَعَ ") : إِنْ كَانَ قَرِيبًا، وَيَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِمَاعِ الْإِنْصَاتُ دُونَ عَكْسِهِ، (" وَأَنْصَتَ ") ، أَيْ: سَكَتَ إِنْ كَانَ بَعِيدًا، لَكِنْ جَوَّزَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ حِينَئِذٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قُرْبَ الْخَطِيبِ أَفْضَلُ، وَقِيلَ: فِي زَمَانِنَا الْبُعْدُ مِنْهُ أَكْمَلُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَأَنْصَتَ تَأْكِيدٌ بَلْ تَأْسِيسٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الِاسْتِمَاعَ وَيَتَكَلَّمُ، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ قَصْدِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ اهـ. وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ قَوْلُهُ: تَأْكِيدٌ بَلْ تَأْسِيسٌ، وَقَوْلُهُ: قَصَدَ الِاسْتِمَاعَ، وَالصَّوَابُ قَصَدَ السَّمَاعَ فَإِنَّهُ الِاسْتِمَاعُ. (" غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ ") ، أَيِ: السَّابِقَةِ كَمَا سَبَقَ (" وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى ") ، أَيْ: سَوَّاهُ لِلسُّجُودِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: بِطَرِيقِ اللَّعِبِ، وَفِي حَالِ الْخُطْبَةِ (" فَقَدْ لَغَا ") : يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ، أَيْ: أَتَى بِصَوْتِ لَغْوٍ مَانِعٍ عَنِ الِاسْتِمَاعِ، فَيَكُونُ شَبِيهًا بِمَنْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ " مَنْ لَغَا، أَيْ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يُشْرَعُ لَهُ، أَوْ عَبَثَ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ صَوْتٌ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ، أَيْ كَامِلَةً اهـ. وَقِيلَ: لَغَا عَنِ الصَّوَابِ، أَيْ مَالَ. فِي النِّهَايَةِ: لَغَى يَلْغِي وَلَغَى يَلْغَى وَلَغَا يَلْغُو إِذَا تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِي، وَهُوَ اللَّغْوُ، وَالْمُرَادُ بِمَسِّ الْحَصَى تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ لِلسُّجُودِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: تَقْلِيبُ السُّبْحَةِ وَعَدُّهَا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ السُّبْحَةَ الْمَعْرُوفَةَ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1384 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1384 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُمْ غَيْرُ الْحَفَظَةِ اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْتَمِرُّونَ مِنَ الصُّبْحِ، أَوْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، أَوْ مِنْ حِينِ الزَّوَالِ وَهُوَ أَقْرَبُ، (" عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ") ، أَيِ: الْجَامِعِ (" يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيِ الدَّاخِلَ الْأَوَّلَ، وَالْفَاءُ فِيهِ وَثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً كِلْتَاهُمَا لِتَرْتِيبِ النُّزُولِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، لَكِنْ فِي الثَّانِيَةِ تَرَاخٍ لَيْسَ فِي الْأُولَى. (" وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ ") ، أَيِ: الْمُبَكِّرِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالتَّبْكِيرُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، وَهِيَ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَئِمَّتِنَا، أَيِ السَّائِرِ إِلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ الزَّوَالِ ; لِأَنَّ التَّهْجِيرَ هُوَ السَّيْرُ فِي الْهَاجِرَةِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ نِصْفَ النَّهَارِ، وَقِيلَ: التَّهْجِيرُ إِلَى الصَّلَاةِ التَّبْكِيرُ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ جُعِلَ الْوَقْتُ الَّذِي يَرْتَفِعُ فِيهِ النَّهَارُ، وَيَأْخُذُ الْحُرُّ فِي الِازْدِيَادِ مِنَ الْهَاجِرَةِ، كَمَا يُسَمَّى النِّصْفُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّهَارِ غُدْوَةً وَالْآخَرُ عَشِيَّةً، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: " وَمَثَلُ اَلْمُهَجِّرِ " عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَفُوِّضَ التَّرْتِيبُ إِلَى الذِّهْنِ ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْفَاءِ التَّفْصِيلِيَّةِ، وَالْوَاوُ هُنَا أَوْقَعُ مِنَ الْفَاءِ ; لِأَنَّهَا تُوهِمُ الْعَطْفَ عَلَى الْأَوَّلِ الثَّانِي، وَالْحَالُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى يَكْتُبُونَ. (" كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي ") : مِنَ الْإِهْدَاءِ (" بَدَنَةً ") ، أَيْ: نَاقَةً تُنْحَرُ بِمَكَّةَ. مِنْ بَدُنَ الرَّجُلُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، أَيْ ضَخُمَ، وَالْبَدَنَةُ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْبَقَرَةِ أَيْضًا عِنْدَنَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّ تَقَابُلَهَا هُنَا بِقَوْلِهِ: (" ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً ") : خَصَّهَا بِالنَّاقَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: سُمِّيَتْ بَدَنَةً لِعِظَمِ بَدَنِهَا وَهِيَ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَفِي اخْتِصَاصِ ذِكْرِ الْهَدْيِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ إِدْمَاجٌ لِمَعْنَى التَّعْظِيمِ فِي إِنْشَاءِ الْجُمُعَاتِ، وَأَنَّهُ بِمَثَابَةِ الْحُضُورِ فِي «عَرَفَاتٍ» ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ بِالْبَدَنَةِ هُنَا

وَاحِدَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْبَقَرِ بَلِ الْغَنَمِ، تَارَةً لِلْوَحْدَةِ، أَيْ: يَنْقُلُهَا إِلَى حَرَمِ مَكَّةَ لِيَذْبَحَهَا فِيهِ تَقْرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا وَرَدَ: الْجُمُعَةُ حَجُّ الْمَسَاكِينِ. (" ثُمَّ كَبْشًا ") : وَهُوَ الْحَمَلُ إِذَا أَثْنَى، أَوْ إِذَا خَرَجَتْ رَبَاعِيَتُهُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَبْشًا أَقْرَنَ مُبَالَغَةً فِي حُسْنِهِ، (" ثُمَّ دَجَاجَةً ") : فَتْحُ الدَّالِ أَفْصَحُ مِنْ كَسْرِهَا كَذَا فِي الصِّحَاحِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحُكِيَ الضَّمُّ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: بَدَلَ الدَّجَاجَةِ بَطَّةً، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي عُصْفُورًا، (" ثُمَّ بَيْضَةً ") : وَفِي قَبُولِ الْإِهْدَاءِ بِالْأَخِيرَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ الْحَجِّ إِشَارَةٌ إِلَى سَعَةِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ مَفْرُوضٌ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَالْجُمُعَةُ عَامَّةُ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءُ، (" فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ ") : أَرَادَ نَفْسَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَالْمُرَادُ الْخُرُوجُ الْحَقِيقِيُّ مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، أَوِ الْمَعْنَى إِذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ بِدُخُولِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ بِطُلُوعِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْأَخِيرُ أَنْسَبُ. (" طَوَوْا ") أَيِ: الْمَلَائِكَةُ، (" صُحُفَهُمْ ") أَيْ: دَفَاتِرَهُمُ الَّتِي يَكْتُبُونَ فِيهَا أَسْمَاءَ أَهْلِ الْجُمُعَةِ أَوَّلًا فَأَوَّلًا، وَالْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ مَرَاتِبِهِمْ فِي السَّبْقِ فَرْعًا وَأَصْلًا، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: " طَوَوْا صُحُفَهُمْ فَلَا يَكْتُبُونَ شَيْئًا " أَيْ: مِنْ ثَوَابِ التَّبْكِيرِ. (" وَيَسْتَمِعُونَ ") أَيِ: الْمَلَائِكَةُ مَعَ النَّاسِ (" الذِّكْرَ ") أَيِ: الْخُطْبَةَ. قَالَ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، وَسُمِّيَتْ بِهِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِجْمَالِهَا وَإِكْمَالِهَا، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَمِعُوا الْمُنَاسِبِ لِلْعَطْفِ عَلَى طَوَوْا ; حُصُولُ اشْتِرَاكِ الْغَيْرِ مَعَهُمْ فِي الِاسْتِمَاعِ، وَدُخُولِهِمْ فِي مَدَاخِلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ مَكَانًا خَالِيًا قَبْلَ صُعُودِهِ الْمِنْبَرَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، كَذَا وَجَدْنَاهُ فِي دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ اهـ. وَهُوَ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْأُمَرَاءُ حَيْثُ كَانُوا خُطَبَاءَ لِتَكَبُّرِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَعَدَمِ اخْتِلَاطِهِمْ بِالْأَوْلِيَاءِ، وَتَسَلُّطِهِمْ عَلَى طَلَبَةِ الدُّنْيَا مِنَ الْعُلَمَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» ". فَذَهَبَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَاتِ لَحَظَاتٌ لَطِيفَةٌ بَعْدَ الزَّوَالِ ; لِأَنَّ الرَّوَاحَ فِي اللُّغَةِ: الذَّهَابُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالرَّوَاحُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِنَّهُ الذَّهَابُ سَوَاءٌ كَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ أَوْ آخِرَهُ، أَوْ فِي اللَّيْلِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ السَّاعَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِلْحَثِّ عَلَى التَّبْكِيرِ إِلَيْهَا، وَالتَّرْغِيبِ فِي فَضِيلَةِ السَّبْقِ، وَانْتِظَارِ الْجُمُعَةِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالتَّنَفُّلِ وَالذِّكْرِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالذَّهَابِ بَعْدَ الزَّوَالِ اهـ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَمْشُونَ عَلَى السَّرْجِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجَامِعِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ: وَأَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ تَرْكُ التَّبْكِيرِ إِلَى الْمَسَاجِدِ.

1385 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1385 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ ") أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ (" يَوْمَ الْجُمُعَةِ ") : ظَرْفٌ، (أَنْصِتْ) : مِنَ الْإِنْصَاتِ بِمَعْنَى السُّكُوتِ مَقُولُ الْقَوْلِ، (" وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ") : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، (" فَقَدْ لَغَوْتَ ") : جَزَاءُ الشَّرْطِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَغَيْتَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] ، قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْإِنْصَاتِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ الْإِنْصَاتُ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ اهـ. وَلَعَلَّهُ قَالَ بِهِ فِي قَوْلٍ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَهُوَ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ حَتَّى يُنَافِيَ الْجَمْعَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ: لَغَوْتَ أَيْ: تَكَلَّمْتَ بِمَا لَا يَعْنِيكَ. وَقِيلَ: خِبْتَ وَخَسِرْتَ، وَقِيلَ: مِلْتَ وَعَدَلْتَ عَنِ الصَّوَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ قَامَتْ مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ فِي الْمَنُوبِ، لَا يَجُوزُ فِي النَّائِبِ. تَمَّ كَلَامُهُ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِهِ مَعَ حُرْمَةِ الْكَلَامِ

لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ حِكْمَةُ النَّهْيِ لَا أَنَّهَا قِيَاسٌ، فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، فَكَيْفَ فِي حَقِّ مَنِ ارْتَكَبَ الْمُنْكَرَ، وَتَكَلَّمَ ابْتِدَاءً؟ ! وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ مَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِ الْمُعْتَمَدِ أَنَّ الْكَلَامَ حَالَ الْخُطْبَةِ وَلَوْ عَبَثًا مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ اهـ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَالْكَلَامُ مَنْهِيٌّ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا، فَالطَّرِيقُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْيَدِ لِلسَّكْتِ اهـ. كَلَامُهُ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: الْإِنْصَاتُ وَاجِبٌ، سَوَاءٌ سَمِعَ الْخُطْبَةَ أَمْ لَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَوْلُهُ: " فَقَدْ لَغَوْتَ " هَذَا يُفِيدُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ مَنْعَ الصَّلَاةِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّهُ مَنْعٌ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ أَعْلَى مِنَ السُّنَّةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فَمَنْعُهُ مِنْهَا أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: الْعِبَادَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّلَالَةِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَقَالَ: " أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا ". فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُعَارَضَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ مِنْهُ ; لِجَوَازِ كَوْنِهِ قَطَعَ الْخُطْبَةَ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِخَبَرِ أَنَسٍ: دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» " وَأَمْسَكَ عَنِ الْخُطْبَةِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ اهـ. وَعِنْدِي الْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطَعَ خُطْبَتَهُ مُسْتَبْعَدٌ، لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لِلْإِخْلَالِ بِالنَّظْمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، كَقِصَّةِ عُمَرَ مَعَ عُثْمَانَ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ اهـ. فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ يَخْطُبُ أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يَخْطُبَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَأَمْسَكَ عَنِ الْخُطْبَةِ نَصًّا فِي قَطْعِ الْخُطْبَةِ ; لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ أَمْسَكَ عَنْ شُرُوعِهَا، نَعَمْ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِهِمَا حَيْثُ قَالَا: يُبَاحُ الْكَلَامُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الْخُطْبَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ يَجِبُ تَرْكُ صَلَاةِ النَّافِلَةِ وَالْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلِمَ أَنَّ عَلَى الدَّاخِلِ قَضَاءَ رَكْعَتِيِ الصُّبْحِ، فَأَمَرَهُ بِهِمَا رِعَايَةً لِلتَّرْتِيبِ الْوَاجِبِ عِنْدَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ أَوِ الْمَنْسُوخِيَّةِ جَمْعًا لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَا اعْتِيدَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَنَّ شَخْصًا يَقْرَأُ هَذَا الْحَدِيثَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَذَانِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، وَقَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْخُطْبَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً إِلَّا أَنَّهُ حَسَنٌ ; لِأَنَّ فِيهِ حَثَّ النَّاسِ عَلَى الْإِصْغَاءِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَعَدَمِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، وَمِمَّا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمَّا أَرَادَ الْخُطْبَةَ أَمَرَ مَنْ يَسْتَنْصِتُ لَهُ النَّاسَ، فَسُنَّ ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى هَذَا، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ، وَشَنَّعَ عَلَى فَاعِلِهِ، فَقَدْ غَفَلَ عَمَّا قَرَّرْتُهُ فَتَأَمَّلْ. اهـ. فَتَأَمَّلْنَا، فَوَجَدْنَا الْمُنَاقَضَةَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً، وَبَيْنَ الثَّانِي حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحْسَنَةٍ، إِذْ قُعُودُ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ مُنْتَظِرًا فَرَاغَ كَلَامِ غَيْرِهِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ شَرْعًا، وَوَضْعًا، وَطَبْعًا، وَأَمَّا أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ يَسْتَنْصِتُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ إِنَّمَا كَانَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْمِنْبَرَ، فَالْقِيَاسُ فَاسِدٌ. وَمِنْ قَبِيحِ أَفْعَالِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ الْخَطِيبَ الشَّافِعِيَّ بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ يُسَلِّمُ بَعْدَ طُلُوعِهِ الْمِنْبَرَ، وَتَوَجُّهِهِ إِلَى النَّاسِ، وَلَا أَحَدَ يَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَكُلُّ مَنْ يَقْرُبُهُ، وَيَسْمَعُ سَلَامَهُ، يَكُونُ عَاصِيًا بِتَرْكِ رَدِّهِ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ لَا يُتَصَوَّرُ ; لِأَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ عَقِيبَ سَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ يَشْرَعُونَ فِي الْأَذَانِ فَقُلْتُ لِخَطِيبٍ: إِمَّا أَنْ تَتْرُكَ هَذِهِ السُّنَّةَ لِئَلَّا تُوقِعَ النَّاسَ فِي تَرْكِ الْفَرْضِ، وَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَ الْمُؤَذِّنَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْكَ، ثُمَّ يُؤَذِّنَ. فَقَالَ: هَذَا عَادَةٌ وَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهَا، وَمِنْ أَقْبَحِ أَفْعَالِ الْمُؤَذِّنِينَ حِينَئِذٍ رَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، وَمِنْ قَبِيحِ فِعْلِ الْخَطِيبِ أَنَّهُ أَحْيَانًا يَتَّبِعُهُمْ، وَيَنْتَظِرُ سُكُوتَهُمْ، ثُمَّ يُبَالِغُونَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ ذِكْرِ السَّلَاطِينِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِشَآمَةِ الْبِدْعَةِ، وَمُتَارَكَةِ السُّنَّةِ، وَمَنْشَؤُهَا تَذَلُّلُ الْعُلَمَاءِ لِلْأُمَرَاءِ، وَإِدْخَالُ أَسَامِيهِمْ فِي الْخُطْبَةِ مُتَوَسِّلِينَ إِلَى غَرَضِهِمُ الْفَاسِدِ بِذَكَرِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخُطْبَةِ، إِلَى أَنَّ مُعَانَدِيهِمْ وَمُخَالِفِيهِمْ مِنَ الرَّافِضَةِ وَجَدُوا سَبِيلًا إِلَى الضَّلَالَةِ الزَّائِدَةِ، فَيَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فَوْقَ مَنَابِرِهِمْ مَكَانَ مَدْحِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَهُمْ، وَهَذِهِ كُلُّهَا بِدَعٌ ; فَكُنْ مُنْكِرًا بِقَلْبِكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ، وَمَا أَحْسَنَ فِعْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَيْثُ جَعَلَ مَكَانَ سَبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ الصَّادِرِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَوْقَ الْمَنَابِرِ هَذِهِ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ فِي آخِرِ

الْخُطْبَةِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] فَهَذِهِ هِيَ الْبِدْعَةُ الْحَسَنَةُ، بَلِ السُّنَّةُ الْمُسْتَحْسَنَةُ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ. وَالْمُرَادُ بِالْمُسْلِمِينَ زُبْدَتُهُمْ وَعُمْدَتُهُمْ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْأَتْقِيَاءُ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِعُنْوَانِ الْبَابُ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى التَّبْكِيرِ، حَتَّى لَا تُفُوتَهُ سُنَّةُ الْجُمُعَةِ، أَوْ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، أَوْ لَا يَحْتَاجَ إِلَى قَوْلِهِ: (أَفْسِحُوا) ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ وَجْهَ مُنَاسَبَتِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى الْكَلَامِ حَالَةَ الْخُطْبَةِ، فَبَيَّنَ لَهُ حُكْمَهُ، فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ إِذْ يَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ الْمُبَكِّرُ وَغَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1386 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ يُخَالِفُ إِلَى مَقْعَدِهِ، فَيَقْعُدَ فِيهِ، وَلَكِنْ يَقُولُ: افْسَحُوا» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1386 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " أَيْ: مِنْ مَقْعَدِهِ " ثُمَّ يُخَالِفُ» ") بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالْجَزْمِ أَيْ: يَقْعُدُ وَيَذْهَبُ (" إِلَى مَقْعَدِهِ ") أَيْ: إِلَى مَوْضِعِ قُعُودِهِ (" فَيَقْعُدَ فِيهِ ") قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُخَالَفَةُ: أَنْ يُقِيمَ صَاحِبَهُ مِنْ مَقَامِهِ فَيُخَالِفَ فَيَنْتَهِيَ إِلَى مَقْعَدِهِ فَيَقْعُدَ فِيهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] وَفِيهِ إِدْمَاجٌ وَزَجْرٌ لِلْمُتَكَبِّرِينَ أَيْ: كَيْفَ تُقِيمُ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ وَهُوَ مِثْلُكُ فِي الدِّينِ، وَلَا مَزِيَّةَ لَكَ عَلَيْهِ؟ ! زَادَ ابْنُ حَجَرٍ: فَيَحْرُمُ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَا الْجَالِسِ رِضًا حَقِيقِيًّا، لَا عَنْ خَوْفٍ أَوْ حَيَاءٍ، وَإِنْ بَعَثَهُ لِيَأْخُذَ لَهُ مَقْعَدًا قَبْلَ الزَّحْمَةِ ; لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ وَنَحْوَهَا لَا تُسْتَحَقُّ بِالْبَعْثِ، بَلِ الْمَبْعُوثُ أَحَقُّ بِمَا جَلَسَ فِيهِ لِسَبْقِهِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَاوِيًا أَنَّهُ لِمُرْسِلِهِ، بَلْ يُكْرَهُ الْقِيَامُ لَهُ سُنَّةً، وَإِيثَارُهُ بِهِ إِنْ كَانَ مَنْ يَقُومُ لَهُ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْفَضِيلَةِ لِكَوْنِهِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَيَتَنَحَّى لَهُ أَيِ الثَّانِي ; لِأَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرْبِ بِلَا عُذْرٍ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِيثَارُ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ، كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] اهـ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ خَدَمَةَ بَعْضِ الظَّلَمَةِ دَخَلُوا جَامِعًا، فَأَقَامُوا الْفُقَرَاءَ وَبَعَثُوا سَجَاجِيدَهُمْ، وَدَفَعُوهُمْ، وَضَرَبُوهُمْ، فَقِيلَ لِعَارِفٍ هُنَاكَ: أَمَا تَرَى يَا مَوْلَانَا ظُلْمَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هَذَا حَالُ عِبَادَتِهِمْ، فَقِسْ حَالَ ظُلْمِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ. (" وَلَكِنْ يَقُولُ ") أَيْ: أَحَدُكُمْ لِلْقَاعِدِينَ (" أَفْسِحُوا ") : وَفِي رِوَايَةٍ: تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا فَإِنْ زَادَ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَوْ يُفْسِحِ اللَّهُ لَكُمْ، كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ آيَتُهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] ، لَكِنْ هَذَا إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلتَّوَسُّعِ وَإِلَّا فَلَا يُضَيِّقْ عَلَى أَحَدٍ، بَلْ يُصَلِّي وَلَوْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْحَثِّ عَلَى التَّبْكِيرِ، لِئَلَّا يَقَعَ فِيمَا يَجِبُ عَنْهُ التَّحْذِيرُ مِنْ قِيَامِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَمِنَ الْكَلَامِ وَلَوْ بِقَوْلِهِ: {فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1387 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ، ثُمَّ صَلَّى مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمُعَتِهِ الَّتِي قَبْلَهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي. 1387 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ") : وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَاسْتَنَّ أَيِ اسْتَاكَ (" وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ ") قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ الثِّيَابَ الْبِيضَ اهـ. يَعْنِي أَفْضَلَهَا - مِنْ حَيْثُ اللَّوْنُ -، الْبِيضَ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: " «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ ; فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» " وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ. وَزَادَ الْخَطَّابِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: الْجُدُدَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ فَقَدَ الْبِيضَ فَمَا صُبِغَ قَبْلَ النَّسْجِ

وَأَوْلَاهُ الْأَبْرَادُ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَهُ بُرْدٌ يَلْبَسُهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ، أَمَّا مَا صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ فَيُكْرَهُ لُبْسُهُ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا صُبِغَ حُمْرَةً أَوْ صُفْرَةً ; فَإِنَّهُمَا مَكْرُوهَتَانِ عِنْدَنَا، لَكِنْ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُصْبَغَا قَبْلَ النَّسْجِ أَوْ بَعْدَهُ، (" وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ ") أَيْ: إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ تَحْصِيلُهُ، بِأَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ أَوْ عِنْدَ امْرَأَتِهِ، وَلَا يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ ; إِذْ فِي الطَّلَبِ ذُلٌّ فِي التَّحْقِيقِ، وَلَوْ: أَيْنَ الطَّرِيقُ؟ . (" ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ ") : بِأَنْ بَكَّرَ، وَقَعَدَ حَيْثُ انْتَهَى إِلَيْهِ الْمَجْلِسُ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ التَّقَدُّمَ مَعَ التَّأَخُّرِ فَقَدْ تَعَدَّى حَدَّ التَّأَثُّرِ. (" ثُمَّ صَلَّى ") : أَيْ مِنَ الْعِبَادَةِ (" مَا كَتَبَ اللَّهُ ") أَيْ: أَدَّى مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ (" لَهُ ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ ") أَيْ: ظَهَرَ (" إِمَامُهُ ") : بِطُلُوعِ الْمِنْبَرِ (" حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ ") قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَانَ حِكْمَةً ذِكْرُهُ طَلَبَ الْإِنْصَاتِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ كَرَاهَةُ الْكَلَامِ عِنْدَنَا وَحُرْمَتُهُ عِنْدَ غَيْرِنَا تَنْتَهِي بِفَرَاغِ الْخُطْبَةِ. (" كَانَتْ ") أَيْ: فَعْلَتُهُ الْمَذْكُورَةُ (" كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا ") أَيْ: لِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ بَيْنَ سَاعَةِ صَلَاتِهِ هَذِهِ (" وَبَيْنَ جُمُعَتِهِ ") ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ أَيْ: صَلَاتِهَا (" الَّتِي قَبْلَهَا ") . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ قَالَ: وَيَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَقُولُ: إِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ حَسَنَةٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيثُ بِمَعْنَاهُ سَبَقَ بَعْضُهَا، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ التَّصْحِيحَ وَنَحْوَهُ مَا يَكُونُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِ الْحَدِيثِ، لَا لِكَوْنِهِ جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ، نَعَمْ يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: أَنَّهُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ، صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا حِينَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ بِحَسَبِ دَرَجَةِ إِسْنَادِهِ وَصِفَاتِهِ.

1388 - وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ، وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ: أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1388 - (وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ غَسَّلَ ") : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: ثِيَابَهُ، (" يَوْمَ الْجُمُعَةِ ") قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: رُوِيَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ شُدِّدَ فَمَعْنَاهُ: حَمَلَ غَيْرَهُ عَلَى الْغُسْلِ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ وَهِلَالٌ، وَهُمَا مِنَ التَّابِعِينَ كَأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ فِيهِ غَضَّةً لِلْبَصَرِ، وَصِيَانَةً لِلنَّفْسِ عَنِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَمْنَعُهُ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقِيلَ: التَّشْدِيدُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ دُونَ التَّعْدِيَةِ، كَمَا فِي قَطَّعَ وَكَسَّرَ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ لَهُمْ لِمَمٌ وَشُعُورٌ، وَفِي غَسْلِهَا كُلْفَةٌ، فَأَفْرَدَ ذِكْرَ غَسْلِ الرَّأْسِ لِذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَكْحُولٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَإِنْ خُفِّفَ فَمَعْنَاهُ: إِمَّا التَّأْكِيدُ، وَإِمَّا غَسْلُ الرَّأْسِ أَوَّلًا بِمِثْلِ الْخِطْمِيِّ، ثُمَّ الِاغْتِسَالُ لِلْجُمُعَةِ. (" وَاغْتَسَلَ ") أَيْ: تَغَسَّلَ بِنَفْسِهِ، وَفِي حَاشِيَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: غَسَّلَ بِالتَّشْدِيدِ قَالَ كَثِيرٌ: إِنَّهُ الْمُجَامَعَةُ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مَجْمَعُ غَضِّ الطَّرْفِ فِي الطَّرِيقِ، يُقَالُ: غَسَّلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ إِذَا جَامَعَهَا، قِيلَ بِالتَّشْدِيدِ مَعْنَاهُ اغْتَسَلَ بَعْدَ الْجِمَاعِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ لِلْجُمُعَةِ، فَكُرِّرَ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقِيلَ: غَسَّلَ بَالَغَ فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ سِبَاغًا وَتَثْلِيثًا، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ: (" وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ ") ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي غَسَلَ بِالتَّخْفِيفِ، وَحِينَئِذٍ فَاغْتَسَلَ لَا يَخْلُو مِنَ الزِّيَادَةِ، كَكَسَبَ وَاكْتَسَبَ، فَأَمَّا أَنْ يُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى الْوُضُوءِ، أَوِ الْأَوَّلُ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَالثَّانِي عَلَى غَسْلِ رَأْسِهِ بِالْخِطْمِيِّ وَنَحْوِهِ ; لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَكُونُ نَظَافَتُهُ أَبْلَغَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَوَّلَ يُحْمَلُ عَلَى غَسْلِ الرَّأْسِ، وَالَثَانِي عَلَى الِاغْتِسَالِ لِلْجُمُعَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَذْهَبُ إِلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى التَّخْفِيفِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ فِي غَسَلَ مَا اخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ غَسَلَ رَأْسَهَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ: وَمَنْ غَسَلَ رَأَسَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنْ مَكْحُولٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ بَيْنَ مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ السَّيِّدُ: وَقَوْلُهُ بَكَّرَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: أَتَى الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَكُلُّ مَنْ أَسْرَعَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ بَكَّرَ إِلَيْهِ أَيْ: فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ ; لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا بَكَّرُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ» ". قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَابْتَكَرَ مَعْنَاهُ: أَدْرَكَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ، وَأَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ بَاكُورَتُهُ، وَابْتَكَرَ إِذَا أَتَى بَاكُورَةَ الْفَاكِهَةِ.

قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بَكَّرَ: تَصَدَّقَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، يَتَأَوَّلُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: " «بَاكِرُوا بِالصَّدَقَةِ ; فَإِنَّ الْبَلَاءَ لَا يَتَخَطَّاهَا» "، وَتَابَعَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَأَرَى نَقْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ; لِمُطَابَقَتِهِ أُصُولَ اللُّغَةِ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ تَنْسِيقُ الْكَلَامِ ; فَإِنَّهُ حَثَّ عَلَى التَّبْكِيرِ، ثُمَّ الِابْتِكَارِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَغْدُو إِلَى الْمَسْجِدِ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْتَمِعُ الْخُطْبَةَ ثَانِيًا. اهـ كَلَامُ التُّورْبَشْتِيُّ. قُلْتُ: دَعْوَى شَهَادَةِ تَنْسِيقِ الْكَلَامِ لِصِحَّةِ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ مِنْهُ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ; فَإِنَّهُ حَثَّ عَلَى التَّبْكِيرِ (" وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ ") وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى مُبَاكَرَةِ الصَّدَقَةِ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ النَّسَقِ، وَقَوْلُ التُّورْبَشْتِيِّ: لِمُطَابَقَتِهِ أُصُولَ اللُّغَةِ، أَفَادَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِمَوَادِّ اللُّغَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَادَّةَ بَكَّرَ لَمْ تَجِئْ بِمَعْنَى تَصَدَّقَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اللَّفْظِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْوِيَةٌ لِأَصْلِ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ خَطَلٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بَكَرَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بَاكِرًا فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلِكُتُبِ اللُّغَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ بَكَرَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ وَفِيهِ بُكُورًا، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَأَبْكَرَ وَبَاكَرَهُ: أَتَاهُ بُكْرَةً اهـ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ بَكَرَ بِالتَّخْفِيفِ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِإِحْدَى حُرُوفِ الْجَرِّ الْمَذْكُورَةِ، نَعَمْ قِيلَ بَكَّرَ مُبَالَغَةُ بَكَرَ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْبُكُورِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَمَّا مَا قِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، جُمِعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا فَهُوَ اسْتِرْوَاحٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: " وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ "، فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَرْكَبْ أَفَادَ دَفْعَ تَوَهُّمِ حَمْلِ الْمَشْيِ عَلَى الْمُضِيِّ وَلَوْ رَاكِبًا، وَنَفْيَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالْمَشْيِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أَوَّلًا، ثُمَّ التَّصْدِيقِ ثَانِيًا، ثُمَّ بِالْمَشْيِ وَالدُّنُوِّ مِنَ الْإِمَامِ. تَمَّ كَلَامِهِ. أَقُولُ: هَذَا تَزْيِيفٌ ضَعِيفٌ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِنَسَقِ الْكَلَامِ تَتَابُعُهُ مِنَ السِّبَاقِ وَاللِّحَاقِ، وَتَنَاسُبُهُ مِنْ مَعْنَى الْوِفَاقِ فَمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَغَسَّلَ وَاغْتَسَلَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مِنَ التَّأْكِيدِ الْحَقِيقِيِّ، أَوِ التَّغَايُرِ الِاعْتِبَارِيِّ، وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (" وَدَنَا ") أَيْ: قَرُبَ (" مِنَ الْإِمَامِ ") أَيِ: الْخَطِيبِ (" وَاسْتَمَعَ ") أَيْ: مَا يُلْقِي إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ (" وَلَمْ يَلْغُ ") : بِضَمِّ الْغَيْنِ أَيْ: بِالْكَلَامِ مَعَ الْأَنَامِ، وَبِالْفِعْلِ الْعَبَثُ مِنْ أَفْعَالِ الْعَوَامِّ، (" كَانَ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتُضَمُّ (" عَمَلُ سَنَةٍ ") أَيْ: ثَوَابُ أَعْمَالِهَا (" أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا ") : بَدَلٌ مِنْ: " عَمَلُ سَنَةٍ " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ) . وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: لَمْ نَسْمَعْ مِنَ الشَّرِيعَةِ حَدِيثًا صَحِيحًا مُشْتَمِلًا عَلَى مِثْلِ هَذَا الثَّوَابِ أَيْ: فَيَتَأَكَّدَ الْعَمَلُ لِيُنَالَ الْأَمَلُ.

1389 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مَهْنَتِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1389 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا عَلَى أَحَدِكُمْ ") قِيلَ: " مَا " مَوْصُولَةٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: " مَا " بِمَعْنَى لَيْسَ، وَاسْمُهُ مَحْذُوفٌ، وَعَلَى أَحَدِكُمْ خَبَرُهُ، وَقَوْلُهُ: (" إِنْ وَجَدَ ") أَيْ: سَعَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ زَائِدٍ عَلَى مَلْبُوسِ مَهْنَتِهِ، وَهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَوْلُهُ: (" أَنْ يَتَّخِذَ ") : مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْمِ الْمَحْذُوفِ، مَعْمُولٌ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ (عَلَى) بِالْمَحْذُوفِ، وَالْخَبَرُ: أَنْ يَتَّخِذَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61] إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ حَرَجٌ أَيْ: نَقْصٌ يُخِلُّ بِزُهْدِهِ فِي أَنْ يَتَّخِذَ (" ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ ") أَيْ: يَلْبَسُهُمَا فِيهِ، وَفِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْعِيدِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْمُتَّقِينَ لَوْلَا تَعْظِيمُ الْجُمُعَةِ، وَمُرَاعَاةُ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، (" سِوَى ثَوْبَيْ مَهْنَتِهِ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: بِذْلَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، أَيْ: غَيْرَ الثَّوْبَيْنِ اللَّذَيْنِ مَعَهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فِي

الْفَائِقِ: رُوِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، وَالْكَسْرُ عِنْدَ الْإِثْبَاتِ خَطَأٌ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: بِالْفَتْحِ الْخِدْمَةُ، وَلَا يُقَالُ بِالْكَسْرِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ لَوْ جِيءَ بِالْكَسْرِ أَنْ يَكُونَ كَالْجِلْسَةِ وَالْخِدْمَةِ، إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ عَلَى فَعْلَةٍ يُقَالُ: مَهَنْتُ الْقَوْمَ أَمْهَنُهُمْ أَيْ: أَبْتَذِلُهُمْ فِي الْخِدْمَةِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَاقْتَصَرَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الْفَتْحِ أَيْضًا، لَكِنْ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْمِهْنَةُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَالتَّحْرِيكِ، وَكَكَلِمَةٍ، الْحَذْقُ بِالْخِدْمَةِ وَالْعَمَلُ، مَهَنَهُ كَمَنَعَهُ وَنَصَرَهُ، مَهْنًا وَمَهْنَةً وَيُكْسَرُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ لَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ.

1390 - وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1390 - (وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ قَالَهُ الطِّيبِيُّ.

1391 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «احْضُرُوا الذِّكْرَ، وَادْنُوا مِنَ الْإِمَامِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1391 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ:) بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْضُرُوا الذِّكْرَ ") أَيِ: الْخُطْبَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَتَذْكِيرِ الْأَنَامِ، (" وَادْنُوا ") أَيِ: اقْرُبُوا قَدْرَ مَا أَمْكَنَ (" مِنَ الْإِمَامِ ") يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ، (" فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ ") أَيْ: عَنْ مَوَاطِنِ الْخَيْرَاتِ بِلَا عُذْرٍ (" حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ ") أَيْ: فِي دُخُولِهَا أَوْ فِي دَرَجَاتِهَا (" وَإِنْ دَخَلَهَا ") قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَبَاعَدُ عَنِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَعَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْمُقَرَّبِينَ، حَتَّى يُؤَخَّرَ إِلَى آخِرِ صَفِّ الْمُتَسَفِّلِينَ، وَفِيهِ تَوْهِينُ أَمْرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَتَسْفِيهُ رَأْيِهِمْ، حَيْثُ وَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَعَالِي الْأُمُورِ إِلَى سَفْسَافِهَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ دَخَلَهَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الدَّاخِلَ قَنِعَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمِنَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، وَالْمَقَامَاتِ الرَّفِيعَةِ، بِمُجَرَّدِ الدُّخُولِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: فِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1392 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ; اتَّخَذَ جِسْرًا إِلَى جَهَنَّمَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1392 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَذَا سَهْوٌ ; لِأَنَّ أَنَسًا وَالِدَ مُعَاذٍ لَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ وَلَا صُحْبَةٌ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ: عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ كَمَا فِي التِّرْمِذِيَّ، أَوْ بِدُونِ قَوْلِهِ: عَنْ أَبِيهِ، وَاللَّهُ الْعَاصِمُ. (" مَنْ تَخَطَّى ") أَيْ: تَجَاوَزَ (" رِقَابَ النَّاسِ ") قَالَ الْقَاضِي: أَيْ بِالْخَطْوِ عَلَيْهَا (" يَوْمَ الْجُمُعَةِ ") : خُصَّ لِلتَّعْظِيمِ (" اتَّخَذَ ") : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقِيلَ: لِلْمَفْعُولِ (" جِسْرًا ") أَيْ: مَعْبَرًا مُمْتَدًّا (" إِلَى جَهَنَّمَ ") قَالَ الْقَاضِي: فَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ: أَنَّ صُنْعَهُ هَذَا يُؤَدِّيهِ إِلَى جَهَنَّمَ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إِيذَاءِ النَّاسِ وَاحْتِقَارِهِمْ، فَكَأَنَّهُ جِسْرٌ اتَّخَذَهُ إِلَيْهَا: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرْنَا غَيْرُ تَفْصِيلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ ذِكْرًا طَوِيلًا يُسَمَّى خُطْبَةً أَوْ ذِكْرًا لَا يُسَمَّى خُطْبَةً، فَكَانَ الشَّرْطُ الذِّكْرَ الْأَعَمَّ بِالْقَاطِعِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَأْثُورَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى رَجُلًا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ فَقَالَ: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ أَيْ: تَأَخَّرْتَ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْطُبُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قُدَّامَ الصَّفِّ فُرْجَةٌ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُتَخَطَّى عَلَيْهِ رَضِيَ لَهُ.

1393 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَهَى عَنِ الْحُبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1393 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَعَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنِ الْحُبْوَةِ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى الْكَسْرِ، وَفِي النِّهَايَةِ بِكَسْرِهَا وَضَمِّهَا اسْمٌ مِنَ الِاحْتِبَاءِ، وَهُوَ ضَمُّ السَّاقِ إِلَى الْبَطْنِ بِثَوْبٍ أَوْ بِالْيَدَيْنِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ ; لِأَنَّهُ يَجْلِبُ النَّوْمَ، فَلَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، وَيُعَرِّضُ طِهَارَتَهُ لِلِانْتِقَاضِ اهـ. يَعْنِي أَنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ عَلَى الْجَنْبِ فَتُنْقَضُ طَهَارَتُهُ، فَيَمْنَعُهُ الِاشْتِغَالُ بِالطَّهَارَةِ عَنِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا جِلْسَةُ الْمُتَكَبِّرِينَ. هَذَا وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ: أَنَّ الْحُبْوَةَ بِالْوَاوِ مُثَلَّثَةُ الْحَاءِ اسْمٌ مِنْ حَبَاهُ أَعْطَاهُ، وَأَمَّا الِاسْمُ مِنَ الِاحْتِبَاءِ فَهُوَ الْحِبْيَةُ بِالْكَسْرِ، فَأَشَارَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَوَادِّهِمَا بِأَنَّ الْأُولَى وَاوِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةَ يَائِيَّةٌ، (يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ) فَهُوَ قَيْدٌ احْتِرَازِيٌّ، وَالْأَوَّلُ وَاقِعِيٌّ اتِّفَاقِيُّ، أَوْ تَأْكِيدِيُّ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ) ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، فَاعْتِرَاضُ النَّوَوِيِّ فِي مَجْمُوعِهِ بِأَنَّ فِي مُسْنَدِ التِّرْمِذِيَّ ضَعِيفَيْنِ فَلَا يَتِمُّ حُسْنُهُ لَا يَتِمُّ اعْتِرَاضُهُ.

1394 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1394 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا نَعَسَ ") بِفَتْحِ الْعَيْنِ (أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ) أَيْ: إِلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَيْهِ أَمْ لَا ; لِأَنَّ بِالتَّحَوُّلِ يَرْتَفِعُ الثِّقَلُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ بِلَفْظِ إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ; فَلْيَتَحَوَّلْ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

1395 - (عَنْ نَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ، قِيلَ لِنَافِعٍ: فِي الْجُمُعَةِ. قَالَ: فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا» ) . (وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1395 - (عَنْ نَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ) أَيْ: مِنْ مَكَانِ قُعُودِ الرَّجُلِ الثَّانِي أَوِ الرَّجُلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ خَلَّا الْمَكَانَ وَقَعَدَ فِيهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ رَجَعَ وَأَرَادَ إِقَامَتَهُ (وَيَجْلِسَ) بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ. (فِيهِ) أَيْ: فِي مَقْعَدِهِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ بِالنَّصْبِ، وَلَوْ صَحَّ الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ لَكَانَ الْمَجْمُوعُ مَنْهِيًّا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى " يُقِيمَ " فَكُلٌّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ حَتَّى لَوْ أَقَامَهُ وَلَمْ يَقْعُدْ لَمْ يَرْتَكِبِ النَّهْيَ، وَالْوَجْهُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى، وَمَا أَفَادَتْهُ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْإِيذَاءُ وَهُوَ حَاصِلٌ بِكُلٍّ عَلَى الِانْفِرَادِ ; فَحُرِّمَ لِأَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْمُبَاحِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ غَيْرُهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ " اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَحَطَّ الْإِيذَاءِ إِنَّمَا هُوَ الْإِقَامَةُ مِنْهُ لَا الْجُلُوسُ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَقَامَهُ وَلَمْ يَجْلِسْ فَهُوَ مَنْهِيٌّ، وَإِذَا قَامَ بِنَفْسِهِ فَجَلَسَ فِيهِ أَحَدٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ وَجَلَسَ غَيْرُهُ مَكَانَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ ; فَذِكْرُ الْجُلُوسِ لِلسَّبَبِ الْعَادِيِّ، وَفِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَقَامَهُ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ جَازَ، فَقَوْلُهُ: فَكُلٌّ مَنْهِيٌّ عَلَى حِدَتِهِ، غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ. (قِيلَ لِنَافِعٍ: فِي الْجُمُعَةِ) أَيْ: هَذَا النَّهْيُ فِي الْجُمُعَةِ فَقَطْ. (قَالَ: فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِلرَّجُلِ بَعْثُ مَنْ يَحِيزُ لَهُ مَكَانًا مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ وَنَحْوِهِمَا، أَيْ: تَحْتَ الْمِيزَابِ، فَيَحْرُمُ فَرْشُ السَّجَّادَاتِ فِيهِ لِمَنْ جَاءَ وَوَجَدَ فِرَاشًا أَنْ يُنَحِّيَهُ وَيَجْلِسَ مَحَلَّهُ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ رَفْعِهِ بِيَدِهِ وَنَحْوِهَا لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِهِ حِينَئِذٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1396 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِلَغْوٍ فَذَلِكَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا ; فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1396 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ) أَيِ اتَّصَفُوا بِأَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ. (فَرَجُلٌ) الْفَاءُ تَفْضِيلِيَّةٌ ; لِأَنَّ التَّقْسِيمَ حَاضِرٌ، فَإِنَّ حَاضِرِي الْجُمُعَةِ ثَلَاثَةٌ: فَمِنْ رَجُلٍ لَاغٍ مُؤْذٍ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، فَحَظُّهُ مِنَ الْحُضُورِ اللَّغْوُ وَالْأَذَى، وَمِنْ ثَانٍ طَالِبٍ حَظَّهُ غَيْرَ مُؤْذٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ وَلَا لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ بِكَرَمِهِ فَيَعْسِفَ مَطْلُوبَهُ، وَمِنْ ثَالِثٍ طَالِبٍ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ، مُتَحَرٍّ احْتِرَامَ الْخَلْقِ فَهُوَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْفَاءُ زَائِدَةٌ فَغَفْلَةٌ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ كَوْنُهَا لِلتَّفْرِيجِ إِذِ التَّفْضِيلُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ فُرْقَةٍ بَيْنَ التَّفْرِيعِ

وَالتَّفْصِيلِ (حَضَرَهَا بِلَغْوٍ) أَيْ حُضُورًا مُلْتَبِسًا بِكَلَامِ عَبَثٍ أَوْ فِعْلِ بَاطِلٍ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: يَلْغُو عَلَى الْمُضَارِعِ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِمُطَابَقَتِهِ لِلْفِقْرَاتِ الْآتِيَةِ (فَذَلِكَ) أَيِ: اللَّغْوُ (حَظُّهُ) أَيْ: حَظُّ ذَلِكَ الرَّجُلِ (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ حُضُورِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَائِيَّةٌ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ ; لِكَوْنِهِ نَكِرَةً وُصِفَتْ بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَا حَظَّ لَهُ كَامِلٌ ; لِأَنَّ اللَّغْوَ يَمْنَعُ كَمَالَ ثَوَابِ الْجُمُعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّغْوِ مَا يَشْمَلُ التَّخَطِّيَ وَالْإِيذَاءَ، بِدَلِيلِ نَفْيِهِ عَنِ الثَّالِثِ أَيْ فَذَلِكَ الْأَذَى حَظُّهُ. (وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ) أَيْ: مُشْتَغِلًا بِهِ حَالَ الْخُطْبَةِ حَتَّى مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ أَوْ كَمَالِهِ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ فِي الثَّالِثِ بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ (فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ) أَيْ: مَدْعَاهُ لِسَعَةِ حِلْمِهِ وَكَرَمِهِ (وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ) : عِقَابًا عَلَى مَا أَسَاءَ بِهِ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِالدُّعَاءِ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ ; فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا حَرَامٌ عِنْدَ غَيْرِنَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ) أَيْ: مُقْتَرِنًا بِسُكُوتٍ مَعَ اسْتِمَاعٍ (وَسُكُوتٍ) أَيْ: مُجَرَّدٍ، فَالْأَوَّلُ إِذَا كَانَ قَرِيبًا، وَالثَّانِي إِذَا كَانَ بَعِيدًا وَهُوَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مُخْتَارُ ابْنِ الْهُمَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِنْصَاتَ وَالسُّكُوتَ بِمَعْنًى، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِلتَّأْكِيدِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا سَمِعَ الْخُطْبَةَ فَفِي النِّهَايَةِ الْإِنْصَاتُ أَنْ يَسْكُتَ سُكُوتَ مُسْتَمِعٍ، وَفِي الْقَامُوسِ أَنْصَتَ: سَكَتَ، وَأَنْصَتَ لَهُ: سَكَتَ لَهُ، وَاسْتَمَعَ لِحَدِيثِهِ وَأَنْصَتَهُ: أَسْكَتَهُ اهـ. فَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَعَدِّي بِأَنَّهُ يُسْكِتُ النَّاسَ بِالْإِشَارَةِ ; فَإِنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْمِيدِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِإِنْصَاتٍ لِلْخَطِيبِ، وَسُكُوتٍ عَنِ اللَّغْوِ (وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ) أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزْ عَنْهَا (وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا) أَيْ: بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْأَذَى كَالْإِقَامَةِ مِنْ مَكَانِهِ، أَوِ الْقُعُودِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ، أَوْ عَلَى سَجَّادَتِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، أَوْ بِنَحْوِ رَائِحَةِ ثُومٍ أَوْ بَصَلٍ (فَهِيَ) أَيْ: جُمُعَتُهُ الشَّامِلَةُ لِلْخُطْبَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ (كَفَّارَةٌ) أَيْ: لَهُ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ أَيْ: لِذُنُوبِهِ مِنْ حِينِ انْصِرَافِهِ (إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي) أَيْ: إِلَى مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي (تَلِيهَا) أَيْ: تَقْرُبُهَا وَهِيَ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى مَا وَرَدَ مَنْصُوصًا (وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى الْجُمُعَةِ (وَذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ كَفَّارَةِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ مِنَ السَّبْعَةِ وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةٍ (بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ) أَيْ: بِسَبَبِ مُطَابَقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فَإِنَّهُ لَمَّا قَامَ بِتَعْظِيمِ هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ جَاءَ بِحَسَنَةٍ تُكَفِّرُ ذَنْبَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَتَتَعَدَّى الْكَفَّارَةُ إِلَى الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ بِحُكْمِ أَقَلِّ التَّضَاعُفِ فِي الْحَسَنَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ مِيرَكُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.

1397 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ; فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ. لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ» ") . (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1397 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) أَيْ: بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْإِطْلَاقُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، نَعَمْ جَوَّزَ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الذِّكْرَ إِذَا كَانَ لَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ (وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ) أَيْ: وَهُوَ يَعْلَمُ كُرْهَةَ الْكَلَامِ أَوْ حُرْمَتَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهَذَا لِأَجْلِ قَوْلِهِ (فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ) أَيْ: صِفَتُهُ كَصِفَتِهِ، أَوْ مَثَلُهُ الْغَرِيبُ الشَّانِ كَمَثَلِ الْحِمَارِ (يَحْمِلُ) : صِفَةٌ أَوْ حَالٌ (أَسْفَارًا) أَيْ: كُتُبًا كِبَارًا مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ الْمُتَكَلِّمَ الْعَارِفَ بِأَنَّ التَّكَلُّمَ حَرَامٌ بِالْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ أَسْفَارًا مِنَ الْحِكَمِ وَهُوَ يَمْشِي وَلَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ (وَالَّذِي يَقُولُ) أَيْ بِالْعِبَارَةِ لَا بِالْإِشَارَةِ (لَهُ) أَيْ: لِهَذَا الْمُشَبَّهِ بِالْحِمَارِ (أَنْصِتْ) أَيِ: اسْكُتْ مَعَ أَنَّهُ أَنْكَرُ الْأَصْوَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ كَانَ قَوْلُهُ لَهُ ذَلِكَ مَانِعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الِاسْتِمَاعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالْجَهْرِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ، سَمِعَ الْخَطِيبَ، أَوْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا، وَخَبَرُ الْبَيْهَقِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَئِذٍ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَأَوْمَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَأَعَادَ الْكَلَامَ فَأَعَادُوا، ثُمَّ أَعَادَ فَأَعَادُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَعْدَدْتَ لَهَا. قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ فَمَدْفُوعُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَقْصُودِهِ

فَإِنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ لَا تَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَكَلَّمَ قَبْلَ جُلُوسِهِ، أَوْ قَبْلَ شُرُوعِهِ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مَعَ احْتِمَالِ نَسْخِهِ أَوْ خُصُوصِيَّتِهِ أَوْ عَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحُكْمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَنْعُ الْأَصْحَابِ بِالْإِشَارَةِ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ جَائِزًا لَمَا مَنَعُوهُ، وَحَمْلُ اللَّغْوِ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَدَبِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ ; فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يُشَبِّهُ مَنْ تَرَكَ الْأَدَبَ بِالْحِمَارِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا الْمُرَادُ بِهِ الْخُطْبَةُ أَوْ شَامِلٌ لَهَا (لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ) أَيْ: كَامِلَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ وَمَنْ أَسْكَتَهُ فَقَدْ لَغَا، فَلَيْسَ لَهُ فَضِيلَةُ الْجُمُعَةِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: مَنْ لَغَا كَانَتْ صَلَاتُهُ ظُهْرًا، وَحُرِمَ فَضْلَ الْجُمُعَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَنْ سَأَلَهُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ وَقَدْ قَرَأَ سُورَةَ بَرَاءَةَ - مَتَى أُنْزِلَتْ؟ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ، فَلَمَّا صَلَّوْا قَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟ قَالَ إِنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا الْجُمُعَةَ، فَجَاءَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَدَقَ أُبَيٌّ. اهـ. وَهُوَ يَصْلُحُ دَلِيلًا لِنَسْخِ جَوَازِ الْكَلَامِ السَّابِقِ ; فَإِنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، نَعَمْ، الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ شُهُودِهَا نَفْيٌ لِكَمَالِ ثَوَابِهَا لَا لِأَصْلِهُ، وَإِلَّا لَأَمَرَ بِإِعَادَتِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا تَبْطُلُ الْجُمُعَةُ بِالْكَلَامِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِحُرْمَتِهِ، وَخَبَرُ: فَلَا جُمُعَةَ لَهُ أَيْ: كَامِلَةٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . قَالَ مِيرَكُ: وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

1398 - (وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ مُرْسَلًا قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا فَاغْتَسِلُوا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ» ) . (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1398 - (وَعَنْ عُبَيْدِ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ السَّبَّاقِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حِجَازِيٌّ يُعَدُّ فِي التَّابِعِينَ (مُرْسَلًا) أَيْ بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ) بِضَمِّ جِيمٍ، وَفَتْحِ مِيمٍ، جَمْعُ جُمُعَةٍ (يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ) ، أَيْ: جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ (إِنَّ هَذَا) أَيِ: الْيَوْمَ (يَوْمٌ) أَيْ: عَظِيمٌ (جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا) أَيْ: يَوْمَ سُرُورٍ تَزْيِينٍ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ (فَاغْتَسِلُوا) أَيْ: بَالِغُوا فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ (وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ) أَيْ: مِنْ طِيبِ الرِّجَالِ، وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ لَوْنٌ، وَلَهُ رَائِحَةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنَّ أَفْضَلَهُ الْمِسْكُ الْمَخْلُوطُ بِمَاءِ الْوَرْدِ ; لِأَنَّ الْمِسْكَ هُوَ الَّذِي كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَتَطَيَّبُ بِهِ غَالِبًا، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنْهُ بِحَيْثُ لَوْ أُخِذَ لَكَانَ رَأْسَ مَالٍ (فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ) وَإِنْ كَانَ تَارِكًا لِلَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالشَّهَوَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَمُشْتَغِلًا بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ; فَإِنَّ الطِّيبَ مِنَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ، وَالثَّوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إِنَّمَا يُقَالُ فِيمَا فِيهِ مَظِنَّةُ حَرَجٍ، وَمَسُّ الطِّيبِ وَلَا سِيَّمَا يَوْمِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، فَمَا مَعْنَاهُ؟ قُلْتُ: لَعَلَّ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَوَهَّمُوا أَنَّ مَسَّ الطِّيبِ مِنْ عَادَةِ النِّسَاءِ ; فَنُفِيَ الْحَرَجُ كَمَا هُوَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ، مَعَ أَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ أَوْ رُكْنٌ (وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ) أَيِ: الْزَمُوا السِّوَاكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، خُصُوصًا عِنْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ تَكْمِيلًا لِلطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ.

1399 - (وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَّصِلًا) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1399 - (وَهُوَ) أَيْ: عُبَيْدٌ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَّصِلًا) قَالَ مِيرَكُ: لَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ ") . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

1400 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلْيَمَسَّ أَحَدُهُمْ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالْمَاءُ لَهُ طِيبٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1400 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ") قَالَ الطِّيبِيُّ: حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، فَحُذِفَ الْفِعْلُ، وَأُقِيمَ الْمَصْدَرُ مُقَامَهُ اخْتِصَارًا، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُؤَخَّرَ بَعْدَ الْكَلَامِ تَوْكِيدًا لَهُ، فَقَدَّمَهُ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: حَقًّا نُصِبَ بَدَلًا عَنِ اللَّفْظِ بِفِعْلِهِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (أَنْ يَغْتَسِلُوا) فَاعِلٌ، وَقَوْلُهُ: (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) ظَرْفٌ لِلِاغْتِسَالِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَقْتُهُ بِالْفَجْرِ ; فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ خِلَافًا لَلْأَوْزَاعِيِّ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْغُسْلِ قَبْلَ الْيَوْمِ ; فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ النَّظَافَةُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَلِذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: الصَّحِيحُ أَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْيَوْمِ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوِ اغْتَسَلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَا

يُجْزِئُ إِجْمَاعًا، وَقَوْلُهُ: وَلَا يُبْطِلُهُ طُرُوُّ حَدَثٍ إِجْمَاعًا؛ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمُخَالَفَتِهِ مَذْهَبَنَا الصَّحِيحَ، ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالِاغْتِسَالِ، وَحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ، يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ مَالِكٍ مَعَ صَرِيحِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، لَكِنْ حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَقَالُوا بِكَرَاهَةِ تَرْكِهَا لِلْخَبَرِ الْحَسَنِ، بَلْ صَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا أَيْ: فَبِالرُّخْصَةِ أَخَذَ وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ. وَكَوْنُ حَدِيثِ الْوُجُوبِ أَصَحَّ لَا يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلَى تَأْكِيدِ النَّدْبِ بِقَرِينِةِ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ لَمْ تَتَقَاوَمْ فِي الصِّحَّةِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ بَعْضِهَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ: إِنْ عُثْمَانَ تَأَخَّرَ فَجَاءَ وَعُمَرُ يَخْطُبُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ لَهُ شُغْلٌ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأَ وَحَضَرَ، فَقَالَ عُمَرُ وَالْوُضُوءُ أَيْضًا اهـ. وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانَا يَعْتَقِدَانِ سُنِّيَّةَ الْغُسْلِ أَوْ وُجُوبَهُ، لَكِنْ جَوَّزَا تَرْكَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِنْ ضِيقِ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْعَوْدِ لِلْغُسْلِ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، فَهُوَ أَمْرٌ غَرِيبٌ وَاسْتِدْلَالٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدِ اعْتَذَرَ عَنِ التَّأَخُّرِ وَتَرْكِ الْغُسْلِ بِالشُّغْلِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي الْمَسْجِدِ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَفَاتَهُ وَقْتُ التَّدَارُكِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالْعُودِ لِلْغُسْلِ الْمُؤَدِّى إِلَى تَفْوِيتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا؟ ! عَلَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غَيْرُ مُشَرِّعٍ فَلَا يَدُلُّ عَدَمُ أَمْرِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ. (وَلْيَمَسَّ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى ; إِذْ فِيهِ سِمَةُ الْأَمْرِ أَيْ: لِيَغْتَسِلُوا وَلْيَمَسَّ (أَحَدُهُمْ) أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الْفَرْقِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ أُكِّدَ، أَوْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ لَا يَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ (مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ) أَيْ بِشَرْطِ طِيبِ أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ» ، أَوْ مِنْ طِيبٍ لَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ جِنْسِ طِيبِ أَهْلِهِ، لَا مِنْ نَوْعِهِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ مَمْنُوعٌ مِنْ طِيبِ النِّسَاءِ، وَهُوَ مَا لَهُ لَوْنٌ ( «فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَيَّ طِيبٍ فَالْمَاءُ لَهُ طِيبٌ وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَطْيَبَ» ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِذَا وَرَدَ: الْمَاءُ طِيبُ الْفُقَرَاءِ. يَعْنِي: طِيبَ مَنْ لَا طِيبَ لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّيبِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الطِّيبُ فَالْمَاءُ كَافٍ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيفُ وَإِزَالَةُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَفِيهِ تَطْيِيبٌ لِخَاطِرِ الْمَسَاكِينِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) . وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ فَغَرِيبٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ.

[باب الخطبة والصلاة]

[بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ] " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ " 1401 - (عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ [45]- بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ أَيْ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَصَلَاتِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِهَا، وَكَمَالَاتِهِمَا، وَبَيَانِ أَوْقَاتِهِمَا. " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ " 1401 - (عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ) أَيْ: إِلَى الْغُرُوبِ، وَتَزُولُ عِنْدَ اسْتِوَائِهَا يَعْنِي: بَعْدَ تَحَقُّقِ الزَّوَالِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَزِيدُ عَلَى الزَّوَالِ مَزِيدًا يُحِسُّ مَيَلَانَهَا أَيْ: كَانَ يُصَلِّي وَقْتَ الِاخْتِيَارِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَارِجِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُبَادِرُ بِهَا عَقِبَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَأَنَّ وَقْتَهَا لَا يَدْخُلُ إِلَّا بَعْدَ وَقْتِ الزَّوَالِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ ; فَإِنَّهُ أَجَازَهَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُمْشَى فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الظِّلَّ، بَلِ الظِّلَّ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: نَتَّبِعُ الْفَيْءَ، وَعَلَى التَّنْزِيلِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى شِدَّةِ التَّعْجِيلِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ:. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ الْحَدِيثَ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيدَانَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ: شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَكَانَ خُطْبَتُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَذَكَرَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ نَحْوَهُ قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِ ابْنِ سِيدَانَ.

1402 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: مَا كُنَّا نُقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1402 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: مَا كُنَّا نَقِيلُ) بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ: مَا كُنَّا نَفْعَلُ الْقَيْلُولَةَ، وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ بِنَوْمٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَيْلُولَةُ وَالْمَقِيلُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ نَوْمٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] وَالْجَنَّةُ لَا نَوْمَ فِيهَا. (وَلَا نَتَغَدَّى) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُؤْكَلُ أَوَّلَ النَّهَارِ. (إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ) أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِ صَلَاتِهَا قَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا كِنَايَتَانِ عَنِ التَّكْبِيرِ أَيْ: لَا يَتَغَدَّوْنَ، وَلَا يَسْتَرِيحُونَ، وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِمُهِمٍّ، وَلَا يَهْتَمُّونَ بِأَمْرٍ سِوَاهُ اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا ذُكِرَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ عِوِضًا عَمَّا فَاتَهُمْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقَعُ تَغَدِّيهِمْ، وَمَقِيلُهُمْ بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَقِيقَةً لِيَلْزَمَ وُقُوعُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَيَكُونَ حُجَّةً لِأَحْمَدَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِيهِ رَدٌّ لِأَحْمَدَ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا الْغَدَاءَ، وَلَا، لَا يَكُونُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَاسْتِدْلَالٌ عَجِيبٌ، وَاسْتِنْبَاطٌ غَرِيبٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ.

1403 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ» ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1403 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ) أَيْ: تَعَجَّلَ وَأَسْرَعَ (بِالصَّلَاةِ) أَيْ: صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ (وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ) أَيْ: صَلَّاهَا بَعْدَ أَنْ وَقَعَ ظِلُّ الْجِدَارِ فِي الطَّرِيقِ كَيْلَا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِالشَّمْسِ، كَذَا قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا. قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: وَيُحْمَلُ حَدِيثُهُ الْآخَرُ (كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ) عَلَى أَنَّهُ فِي فَصْلٍ دُونَ فَصْلٍ، وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ كَانَ عُمُومَ الْأَحْوَالِ لِيَتَّفِقَ الْحَدِيثَانِ اهـ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُسَنُّ الْإِبْرَادُ بِالْجُمُعَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ كَالظُّهْرِ، وَقَدْ خَالَفَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَحَمَلُوهُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِمَكَانِ كَانَ فَإِنَّهَا تَدُلُّ لُغَةً أَوْ عُرْفًا عَلَى الِاسْتِمْرَارِ (يَعْنِي الْجُمُعَةَ) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1404 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1404 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ) أَيِ: الْإِعْلَامُ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ) وَهُوَ الْأَذَانُ (إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ) أَيْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَثَانِيهِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْخُطْبَةِ وَنَزَلَ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ) أَيْ: زَمَانِهِمْ (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ) أَيْ: زَمَنُ خِلَافَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ تَامَّةٌ أَيْ: حَصَلَ عَهْدُهُ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ كَوْنُهَا نَاقِصَةً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: خَلِيفَةً، وَفِيهِ أَنَّ التَّقْدِيرَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (وَكَثُرَ النَّاسُ) أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ بِالْمَدِينَةِ، وَصَارَ ذَلِكَ الْأَذَانُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ لَا يَسْمَعُهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَوْ لَمَّا ظَهَرَتِ الْبِدْعَةُ عَلَى مَا قِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ الْبِدَعِ، وَهُوَ تَرْكُ التَّكْبِيرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِاسْتِبْعَادِ سَمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَمِيعِهِمُ الْأَذَانَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (زَادَ) أَيْ: عُثْمَانُ (النِّدَاءَ الثَّالِثَ) أَيْ: حُدُوثًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْوُقُوعِ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَهُ أَذَانٌ آخَرُ قَدِيمًا مَعَ الْإِقَامَةِ فِي الْمَفَاتِيحِ أَيْ: فَأَمَرَ عُثْمَانُ أَنْ يُؤَذَّنَ أَوَّلَ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يَصْعَدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ كَمَا فِي زَمَانِنَا اهـ. وَقَدْ حَدَثَ فِي زَمَانِنَا أَذَانٌ رَابِعٌ وَهُوَ الْأَذَانُ لِإِعْلَامِ دُخُولِ الْخَطِيبِ فِي الْمَسْجِدِ (عَلَى الزَّوْرَاءِ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بِالرَّاءِ وَالْمَدِّ: مَوْضِعٌ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ. قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: ذُكِرَ تَفْسِيرُهَا فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ هِيَ دَارٌ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، يَقِفُ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى سَطْحِهَا، وَلَعَلَّ هَذِهِ الدَّارَ سُمِّيَتْ زَوْرَاءَ لِمَيْلِهَا عَنْ عِمَارَةِ الْبَلَدِ. يُقَالُ: قَوْسٌ زَوْرَاءُ أَيْ: مَائِلَةٌ، وَأَرْضٌ زَوْرَاءُ أَيْ: بَعِيدَةٌ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ وَقِيلَ: جِدَارٌ، وَقِيلَ: حَجَرٌ كَبِيرٌ، وَجَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ بِالْأَخِيرِ فَقَالَ: الزَّوْرَاءُ حَجَرٌ كَبِيرٌ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ: زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى دَارٍ فِي السُّوقِ يُقَالُ لَهَا: الزَّوْرَاءُ فَكَانَ يُؤَذَّنُ عَلَيْهَا. نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ نَقَلَ هِشَامٌ هَذَا الْأَذَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالنِّدَاءِ الثَّالِثِ هُوَ النِّدَاءُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِيَحْضُرَ الْقَوْمُ، وَيَسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا زَادَ عُثْمَانُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ النَّاسِ فَرَأَى هُوَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ قَبْلَ الْوَقْتِ لِيَنْتَهِيَ الصَّوْتُ إِلَى نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، وَيَجْتَمِعَ النَّاسُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ ; لِئَلَّا يَفُوتَ عَنْهُمْ أَوَائِلُ الْخُطْبَةِ، وَسُمِّيَ هَذَا النِّدَاءُ ثَالِثًا، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْوُقُوعِ أَوَّلًا ; لِأَنَّهُ ثَالِثُ النِّدَاءَيْنِ اللَّذَيْنَ كَانَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَانِ الشَّيْخَيْنِ، وَهُمَا الْأَذَانُ بَعْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ، وَقَبْلَ قِرَاءَةِ الْخُطْبَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ وَالْإِقَامَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ نُزُولِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنِّدَاءِ الثَّانِي اهـ. وَقَوْلُهُ: يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ قَبْلَ الْوَقْتِ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ بَقِيَّةِ الشُّرَّاحِ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَعُرْفِ زَمَانِنَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ بَعْدَ طُلُوعِهِ الْمِنْبَرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَذَانَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَيْ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ كَمَا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ، ثُمَّ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَمِّيهِ بِدْعَةً قِيلَ: إِنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ مَا أُحْدِثَ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَوْ كَانَ حَسَنًا وَإِلَّا فَمَا أَحْدَثَهُ عُثْمَانُ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَلَا يُعَارَضُ أَنَّ عُثْمَانَ أَحْدَثَ أَذَانًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ بِالْإِعْلَامِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ اسْتَمَرَّ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، ثُمَّ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ أَذَانًا عَلَى مَكَانٍ عَالٍ، فَفَعَلَ وَأَخَذَ النَّاسُ بِفِعْلِهِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ إِذْ ذَاكَ ; لِكَوْنِهِ خَلِيفَةً مُطَاعًا، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ بِمَكَّةَ الْحَجَّاجُ، وَالْبَصْرَةِ زِيَادٌ، وَأَمَّا الَّذِي نَقَلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ

ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَذَانَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَدْ نَازَعَهُ كَثِيرُونَ، وَمِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ اهـ. وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَا يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ هُوَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بِأَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ إِعْلَامًا فَيَكُونُ أَصْلَ إِعْلَامِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلَعَلَّهُ تُرِكَ أَيَّامَ الصِّدِّيقِ أَوْ أَوَاخِرَ زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا، فَلِهَذَا سَمَّاهُ عُمَرُ بِدْعَةً، وَتَسْمِيَتُهُ تَجْدِيدَ السُّنَّةِ بِدْعَةً عَلَى مِنْوَالِ مَا قَالَ فِي التَّرَاوِيحِ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هِيَ، هَذَا وَقَدْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: تَعَلَّقَ بِالْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ نَفَى أَنَّ لِلْجُمُعَةِ سُنَّةً أَيْ: قَبْلِيَّةً، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا رَقِيَ الْمِنْبَرَ أَخَذَ بِلَالٌ فِي الْأَذَانِ، فَإِذَا أَكْمَلَهُ أَخَذَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْخُطْبَةِ، فَمَتَى كَانُوا يُصَلُّونَ السُّنَّةَ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ إِذَا فُرِغَ مِنَ الْأَذَانِ قَامُوا فَرَكَعُوا فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِأَنَّ خُرُوجَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالضَّرُورَةِ ; فَيَجُوزُ كَوْنُهُ بَعْدَ مَا كَانَ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ وَهُمْ أَيْضًا كَانُوا يَعْلَمُونَ الزَّوَالَ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤَذِّنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ; لِأَنَّ اعْتِمَادَهُ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ اعْتِمَادُهُمُ اهـ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّهُ إِذَا أُذِّنَ الْأَوَّلُ تَرَكُوا الْبَيْعَ، وَسَعَوْا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّمَا يَجِبُ السَّعْيُ وَتَرْكُ الْبَيْعِ إِذَا أُذِّنَ الْأَذَانُ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَزَمَنِ الشَّيْخَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لَكِنْ قَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْآنَ الَّذِي أُحْدِثَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ. قَالَ الشِّيمِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ اهـ. وَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوا بِعُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمُ السَّعْيُ، وَتَرْكُ الشُّغْلِ الْمَانِعِ قَبْلَ أَذَانِ الْخُطْبَةِ ; لِئَلَّا يَفُوتَهُمْ شَيْءٌ فَقَدَّرُوا الْأَذَانَ الْأَوَّلَ الَّذِي يَقَعُ أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ وَالْأَرْبَعَةُ: قَالَ ابْنُ هَمَّامٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ زَادَ النِّدَاءَ الثَّانِي، أَيْ بِاعْتِبَارِ الْأَحْدَاثِ. وَفِي رِوَايَةٍ سُمِّيَ بِالْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ.

1405 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطْبَتَانِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ، فَكَانَ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1405 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا) أَيْ: بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ خُطْبَتَهُ كَانَتْ حَالَةَ الْقِيَامِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَسُنَّةٌ عِنْدَنَا، وَفَرْضٌ عِنْدَ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجُلُوسُ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا هُوَ لِعُذْرٍ لَمَّا كَثُرَ شَحْمُ بَطْنِهِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَذَا وَعَنِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كَأَكْثَرِ الْفَصْلِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْفَصْلَ غَيْرُ وَاجِبٍ. بَلْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَمْ أَجِدْ لَهُ دَلِيلًا، وَالْفِعْلُ وَإِنِ اقْتَضَى الْوُجُوبَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِتَرْكِهِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْجُلُوسِ قَبْلَهُمَا وَبَيْنَهُمَا، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ثَابِتٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ ! قَالَ جَمْعٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَالْعَجَبُ إِيجَابُ هَذَا دُونَ الِاسْتِقْبَالِ، وَأَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْجَوَابِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ; فَأَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَخَذَ أَئِمَّتُنَا مِنْ قَوْلِهِ: يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ آيَةٍ فِي إِحْدَى الْخُطْبَتَيْنِ، وَأَخَذُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَيُذَكِّرُ النَّاسَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهَا مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) تَفْسِيرُ الْخُطْبَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلْخُطْبَتَيْنِ، وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ يَقْرَأُ فِيهِمَا، وَقَوْلُهُ: (يُذَكِّرُ النَّاسَ) عَطْفٌ عَلَيْهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ، انْتَهَى، التَّذْكِيرُ هُوَ الْوَعْظُ وَالنَّصِيحَةُ، وَذِكْرُ مَا يُوجِبُ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ (فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا) أَيْ: مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، مِنَ التَّقْصِيرِ وَالتَّطْوِيلِ (وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَصْدُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ فِي الطَّرِيقَةِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّوَسُّطِ فِي الْأُمُورِ، وَالتَّبَاعُدِ عَنِ الْإِفْرَاطِ، ثُمَّ لِلتَّوَسُّطِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كَالْوَسَطِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَسَاوِيَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ ; لِيُخَالِفَ حَدِيثَ عَمَّارٍ أَيِ: الْآتِيَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ، كَانَ يَجْلِسُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَلَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ.

1406 - (وَعَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ ; فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1406 - (وَعَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ) أَيْ: إِطَالَتَهَا (وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ) بِكَسْرِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الصَّادِ أَيْ: تَقْصِيرَهَا (مَئِنَّةٌ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحُكِيَ فَتْحُ الْهَمْزَةِ فَغَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْأُصُولِ (مِنْ فِقْهِهِ) أَيْ: عَلَامَةٌ يَتَحَقَّقُ بِهَا فِقْهُهُ، مَفْعِلَةٌ بُنِيَتْ مِنْ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ، وَحَقِيقَتُهَا مَظِنَّةٌ، وَمَكَانٌ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَّهُ فَقِيهٌ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ، وَالْخُطْبَةَ تَوْطِئَهٌ لَهَا، فَتُصْرَفُ الْعِنَايَةُ إِلَى الْأَهَمِّ، كَذَا قِيلَ أَوْ لِأَنَّ حَالَ الْخُطْبَةِ تَوَجُّهُهُ إِلَى الْخَلْقِ، وَحَالَ الصَّلَاةِ مَقْصَدَةُ الْخَالِقِ، فَمِنْ فَقَاهَةِ قَلْبِهِ إِطَالَةُ مِعْرَاجِ رَبِّهِ. وَقَالَ: فَكُلُّ شَيْءٍ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ مَئِنَّةٌ لَهُ، وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا مَفْعِلَةٌ مِنْ مَعْنَى إِنَّ الَّتِي لِلتَّحْقِيقِ، غَيْرِ مُشْتَقَّةٍ مِنْ لَفْظِهَا ; لِأَنَّ الْحُرُوفَ لَا يُشْتَقُّ مِنْهَا، وَإِنَّمَا ضُمِّنَ حُرُوفَهَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا فِيهَا، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْهَا بَعْدَ مَا جُعِلَتِ اسْمًا لَكَانَ قَوْلًا، وَمِنْ أَغْرَبِ مَا قِيلَ فِيهَا: إِنَّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنْ ظَاءِ الْمَظِنَّةِ، وَالْمِيمَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ زَائِدَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ عَلَامَةٌ مِنْ فِقْهِهِ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْأَصْلُ، وَالْخُطْبَةَ هِيَ الْفَرْعُ، وَمِنَ الْقَضَايَا الْفِقْهِيَّةِ أَنْ يُؤْثَرَ الْأَصْلُ عَلَى الْفَرْعِ بِزِيَادَةٍ، (فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ بِهَذَا الطُّولِ مَا يَكُونُ عَلَى وِفَاقِ السُّنَّةِ، لَا أَقْصَرَ مِنْهَا وَلَا أَطْوَلَ ; لِيَكُونَ تَوْفِيقًا بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ قَبْلَهُ انْتَهَى. أَقُولُ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ; فَإِنَّ الْأَوَّلَ دَلَّ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِيهِمَا، وَالثَّانِيَ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَزِيَّةِ فِي الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا، لَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْفَجْرَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ إِلَى الظُّهْرِ، فَنَزَلَ وَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ وَخَطَبَ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ وَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ وَخَطَبَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ» اهـ. لِوُرُودِهِ نَادِرًا اقْتَضَاهُ، وَلِكَوْنِهِ بَيَانًا لِلْجَوَازِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ وَاعِظًا، وَالْكَلَامُ فِي الْخُطَبِ الْمُتَعَارَفَةِ، (وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا) أَيْ: بَعْضُ الْبَيَانِ يَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ، فَكَمَا يُكْتَسَبُ الْإِثْمُ بِالسِّحْرِ، يُكْتَسَبُ بِبَعْضِ الْبَيَانِ أَوْ مِنْهُ مَا يَصْرِفُ قُلُوبَ الْمُسْتَمِعِينَ إِلَى قَبُولِ مَا يَسْتَمِعُونَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ، فَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي قِصَرِ الْخُطْبَةِ ; فَإِنَّهُ فِي مَعْرِضِ الْبَلِيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ مِنْ هَذِهِ الْمِحْنَةِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ، فَهُوَ ذَمٌّ لِتَزْيِينِ الْكَلَامِ وَتَعْبِيرِهِ بِعِبَارَةٍ فِيهَا السَّامِعُ كَالتَّحَيُّرِ فِي السِّحْرِ، نُهِيَ عَنْهُ كَهُوَ عَنِ السِّحْرِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مَدْحٌ لِلْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، يُرِيدُ أَنَّ الْبَلِيغَ - أَيِ: الَّذِي لَهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا تَأْلِيفَ كَلَامٍ بَلِيغٍ، أَيْ: مُطَابِقٍ لِمُقْتَضَى الْحَالِ - يَبْعَثُ النَّاسَ عَلَى حُبِّ الْآخِرَةِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، بِبَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ ; فَبَيَانُهُ هُوَ السِّحْرُ الْحَلَالُ فِي اجْتِذَابِ الْقُلُوبِ، وَالِاشْتِمَالِ عَلَى الدَّقَائِقِ وَاللَّطَائِفِ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ ذَكَرُهُ اسْتِطْرَادًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنِ اقْصُرُوا، أَيِ: اقْصُرُوا الْخُطْبَةَ وَأَنْتُمْ تَأْتُونَ بِهَا مَعَانِيَ جَمَّةً فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى طَبَقَاتِ الْبَيَانِ ; وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» ". قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَمٌّ لِإِمَالَةِ الْقُلُوبِ وَصَرْفِهَا بِمَقَاطِعِ الْكَلَامِ، حَيْثُ يُكْتَسَبُ بِهِ مِنَ الْإِثْمِ مَا يُكْتَسَبُ بِالسِّحْرِ، وَأَدْخَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَدْحٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِتَعْلِيمِ الْبَيَانِ، وَشُبِّهَ بِالسِّحْرِ لِمَيْلِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ، وَأَصْلُ السِّحْرِ الصَّرْفُ، وَالْبَيَانُ يَصْرِفُ الْقُلُوبَ وَيُمِيلُهَا إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1407 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ وَيَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَابَةِ وَالْوُسْطَى» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1407 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَطَبَ) أَيْ: لِلْجُمُعَةِ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهَا (احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ) لِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بَوَارِقُ أَنْوَارِ الْجَلَالِ الصَّمَدَانِيَّةِ، وَلَوَامِعُ أَضْوَاءِ الْكَمَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَشُهُودُ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَتَقْصِيرُ أَكْثَرِهِمْ فِي امْتِثَالِ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ، (وَعَلَا صَوْتُهُ) بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ أَيِ: ارْتَفَعَ كَلَامُهُ لِنُزُولِ الْهُمُومِ، أَوْ رَفَعَ صَوْتَهَ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِإِبْلَاغِ وَعْظِهِمْ إِلَى آذَانِهِمْ، وَتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْخَبَرِ فِي خَوَاطِرِهِمْ، وَتَأْثِيرِهِ فِيهِمْ (وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ) أَيْ: أَثَارَ الْغَضَبَ النَّاشِئَ مِمَّا تَفْعَلُهُ الْأُمَّةُ مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ (حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ) إِضَافَةٌ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ: كَمَنْ يُنْذِرُ قَوْمًا مِنْ قُرْبِ جَيْشٍ عَظِيمٍ قَصَدُوا الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ (يَقُولُ) صِفَةٌ لِمُنْذِرٍ، أَوْ حَالٌ مِنْهُ (صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ)

التَّشْدِيدُ فِيهِمَا. قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: أَيْ سَيُصَبِّحُكُمُ الْعَدُوُّ، وَسَيُمَسُّونَكُمْ يَعْنِي سَيَأْتِيكُمْ وَقْتَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ صَبَّحَكُمُ الْعَدُوُّ كَذَا أَمْسَاكُمْ، وَالْمُرَادُ الْإِنْذَارُ بِإِغَارَةِ الْجَيْشِ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، وَيَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِـ " مُنْذِرُ جَيْشٍ "، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنِ اسْمِ كَانَ، وَالْعَامِلُ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، فَالْقَائِلُ إِذًا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُ: الثَّانِي عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ " كَأَنَّهُ " اهـ. الصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ; إِذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فِي الْمِنْبَرِ صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّحَابِيِّ لَفْظَ (وَيَقُولُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُنْذِرِ: ثُمَّ قَبْلَهُ ثُمَّ الصَّحِيحُ، أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى احْمَرَّتْ ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِي يَقُولُ الرَّفْعُ، فَارْتَفَعَ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَدْخُولِ حَتَّى. (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ) بِالرَّفْعِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَهُوَ أَبْلَغُ، وَإِنْ كَانَ النَّصْبُ أَظْهَرُ مَعْنًى. قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ بِنَصْبِهَا وَرَفْعِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ، وَبِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مَعَهُ، أَيْ: يَعْنِي إِلَيْكُمْ قَرِيبًا مِنَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أُكِّدَ الضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ (كَهَاتَيْنِ) يَعْنِي أَنَّهَا سَتَأْتِيكُمْ بَغْتَةً فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ كَإِتْيَانِ الْجَيْشِ بَغْتَةً فِي الْوَقْتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ (وَيَقْرُنُ) بِضَمِّ الرَّاءِ، وَفِي لُغَةٍ بِكَسْرِهَا، كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ (بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَجُوِّزَ الرَّفْعُ أَيِ: الْمُسَبِّحَةِ (وَالْوُسْطَى) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَثَّلَ حَالَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ، وَإِنْذَارَهُ الْقَوْمَ بِمَجِيءِ الْقِيَامَةِ، وَقُرْبِ وُقُوعِهَا، وَتَهَالُكِ النَّاسِ فِيمَا يُرْدِيهِمْ أَيْ: يُهْلِكُهُمْ - بِحَالِ مَنْ يُنْذِرُ قَوْمَهُ عَنْ غَفْلَتِهِمْ بِجَيْشٍ قَرِيبٍ مِنْهُمْ، يَقْصِدُ الْإِحَاطَةَ بِهِمْ بَغْتَةً مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَكَمَا أَنَّ الْمُنْذِرَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَتَحْمَرُّ عَيْنَاهُ، وَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ عَلَى تَغَافُلِهِمْ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صَعِدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي بُطُونَ قُرَيْشٍ، وَأَعْمَامَهُ، وَعَمَّاتِهِ، وَأَوْلَادَهُ، وَيَقُولُ: لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، كَذَلِكَ حَالُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْإِنْذَارِ، وَإِلَى قُرْبِ الْمَجِيءِ أَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1408 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1408 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: (وَنَادَوْا) أَيْ: يَقُولُ الْكُفَّارُ لِمَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أَيْ: بِالْمَوْتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ قَضَى عَلَيْهِ أَيْ: أَمَاتَهُ. " {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] " وَالْمَعْنَى: سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْنَا، يَقُولُونَ هَذَا لِشِدَّةِ مَا بِهِمْ ; فَيُجَابُونَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ أَوْ خَالِدُونَ، وَفِيهِ نَوْعُ اسْتِهْزَاءٍ بِهِمْ دَلَّ الْحَدِيثُ وَمَا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 23] " وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] ، وَقَوْلُهُ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ إِلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّخْوِيفِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى التَّبْشِيرِ لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ، وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الشَّهْوَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لِيُبَيِّنَ لَنَا قَدْرَ لُبْثِنَا فِي النَّارِ، فَيَقُولُ لَهُمْ مَالِكٌ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ أَيْ: لَكُمْ لُبْثٌ طَوِيلٌ فِيهَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ آيَةِ الْوَعْظِ وَالتَّخْوِيفِ عَلَى الْمِنْبَرِ سُنَّةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ مِيرَكُ.

1409 - (وَعَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: «مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1409 - (وَعَنْ أُمِّ هِشَامٍ) بِكَسْرِ الْهَاءِ صَحَابِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِ هَاشِمٍ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ (بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: مَا أَخَذْتُ) أَيْ: مَا حَفِظْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] أَيْ: هَذِهِ السُّورَةَ (إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمُظْهِرِ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ السُّورَةِ لَا جَمِيعُهَا ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْرَأْ جَمِيعَهَا فِي الْخُطْبَةِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ أَوَّلَهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَإِلَّا لَكَانَتْ قِرَاءَتُهَا وَاجِبَةً أَوْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ بَعْضَهَا ; فَحَفِظَتِ الْكُلَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: قَوْلُهُ: يَقْرَؤُهَا أَيْ: كُلَّهَا، وَحَمْلُهَا عَلَى أَوَّلِ السُّورَةِ صَرْفٌ لِلنَّصِّ عَنْ ظَاهِرِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ مَعَ الطِّيبِيِّ، لَكِنْ نَحْنُ نَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ بِحَمْلِ كُلِّهَا عَلَى الْخُطَبِ الْمُتَعَدِّدَةِ ; إِذِ الْحَمْلُ عَلَى كُلِّ السُّورَةِ فِي كُلِّ خُطْبَةِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ كَانَ يَقْرَأُ ق فِي خُطْبَتِهِ كُلَّ جُمُعَةٍ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ بِبَرَاءَةَ.

1410 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1410 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) بِالتَّصْغِيرِ الْقُرَشِيِّ الْمَخْزُومِيِّ: رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَقِيلَ: قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَلِيَ إِمَارَةَ الْكُوفَةِ. ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ) وَفِي الشَّمَائِلِ خَطَبَ النَّاسَ. (وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: عِصَابَةٌ. قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَتُسَمَّى بِهَا الْعِمَامَةُ، وَقَدْ جَاءَ فِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ: «صَلَاةٌ بِعِمَامَةٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ عِمَامَةٍ» " (سَوْدَاءُ) وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ دَسْمَاءُ أَوْ سَوْدَاءُ، وَقِيلَ: مُلَطَّخَةٌ بِدُسُومَةِ شَعْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ كَانَ يَكْثُرُ دُهْنُهُ، (قَدْ أَرْخَى) أَيْ: سَدَلَ وَأَرْسَلَ (طَرَفَيْهَا) بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ: طَرَفَيْ عِمَامَتِهِ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ لُبْسَ الزِّينَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ، وَإِرْسَالَ طَرَفَيْهَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ سُنَّةٌ. قَالَ مِيرَكُ فِي حَاشِيَةِ الشَّمَائِلِ: هَذِهِ الْخُطْبَةُ وَقَعَتْ فِي مَعْرِضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ. وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: يُسَنُّ لُبْسُ السَّوَادِ لِحَدِيثٍ فِيهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ أَنَّ عِمَامَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَرْبَعَةُ وَفِي الشَّمَائِلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ أَيْ: أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَرَأَيْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَسَالِمًا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي ثَلْجِ الْفُؤَادِ فِي لُبْسِ السَّوَادِ عَنْ عَلَيٍّ: أَنَّهُ لَبِسَ عِمَامَةً سَوْدَاءَ قَدْ أَرْخَاهَا مِنْ خَلْفِهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عَلَيٍّ عِمَامَةً سَوْدَاءَ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ خَطَبَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ سُودٌ، وَعِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ يُرْخِيهَا شِبْرًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ شِبْرٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ اعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ أَرْخَى مِنْ خَلْفِهِ نَحْوًا مِنْ ذِرَاعٍ. وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ لُبْسَ الْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَالْبَرَاءُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَوَاثِلَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ عُدَيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَرْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا مَعَهُ جِبْرِيلُ، وَأَنَا أَظُنُّهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ. فَقَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّهُ لَوَضِحُ الثِّيَابِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ السُّودَ» . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْمُولَةِ فِي إِرْسَالِ الْعَذَبَةِ، «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَدَلَهَا بَيْنَ يَدِيَّ وَمِنْ خَلْفِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَرْسَلَ مِنْ خَلْفِهِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ وَنَحْوَهَا، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا فَاعْتَمَّ، فَإِنَّهُ أَغْرَبُ وَأَحْسَنُ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ لَا يُوَلِّي وَالِيًا حَتَّى يُعَمَّمَ يُرْخِيَ لَهَا مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ نَحْوَ الْأُذُنِ. رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَوْلُ الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ: مَا فَارَقَ الْعَذَبَةَ قَطُّ. لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ، بَلْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْهُدَى: أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمُّ تَارَةً بِعَذَبَةٍ وَتَارَةً بِلَا عَذَبَةٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ: «خَالِفُوا الْيَهُودَ» إِلَخْ، وَحَدِيثُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِمَامَةٍ صَمَّاءَ» فَلَا أَصْلَ لَهُمَا، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَتَرَكَهَا اسْتِنْكَافًا عَنْهَا أَثِمَ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَنْكِفٍ فَلَا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يَجُوزُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ بِإِرْسَالِ طَرَفِهَا، وَبِغَيْرِ إِرْسَالِهِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ إِرْسَالِهَا شَيْءٌ، وَإِرْسَالُهَا إِرْسَالًا فَاحِشًا كَإِرْسَالِ الثَّوْبِ، فَيَحْرُمُ لِلْخُيَلَاءِ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِ ; لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا إِسْبَالَ فِي الْإِزَارِ، وَالْقَمِيصِ، وَالْعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا إِذَا اقْتَدَى الشَّخْصُ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عَمَلِ الْعَذَبَةِ، وَحَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ خُيَلَاءُ فَدَوَاؤُهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُ، وَيُعَالِجَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ الْعَذَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَزُلْ إِلَّا بِتَرْكِهَا فَلْيَتْرُكْهَا مُدَّةً حَتَّى تَزُولَ ; لِأَنَّ تَرْكَهَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَإِزَالَةَ الْخُيَلَاءِ وَاجِبَةٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ فِي السَّوَادِ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَلْبَسَ السَّوَادَ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ هَذَا، لَكِنْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ إِنَّمَا هُوَ الْبَيَاضُ، ثُمَّ قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْبَسُ الْبَيَاضَ دُونَ السَّوَادِ، إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَرَتُّبُ مَفْسَدَةٍ عَلَيْهِ لِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ وَفِي الْإِحْيَاءِ فِي مَوْضِعٍ تَبَعًا لِقَوْلِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ: يُكْرَهُ لُبْسُ السَّوَادِ. وَأَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: بِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى لُبْسِ السُّودِ بِدْعَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ لُبْسَهُ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ بَنُو الْعَبَّاسِ فِي خِلَافَتِهِمْ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ الرَّايَةَ الَّتِي عُقِدَتْ لِجَدِّهِمُ الْعَبَّاسِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ كَانَتْ سَوْدَاءَ. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْأَلْوَانِ مِنَ الزِّينَةِ، وَأَقْرَبُهَا إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ يَلْبَسُهُ الْعُبَّادُ وَالنُّسَّاكُ.

1411 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلِيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1411 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَخْطُبُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ) أَيْ: يُرِيدُ أَوْ يَقْرُبُ أَنْ يَخْطُبَ، (فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلِيَتَجَوَّزْ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ، (فِيهِمَا) أَيْ: لِيُخَفِّفْ. قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ ; لِأَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تَحْصُلُ بِهَا بِخِلَافِ عَكْسِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْمَذْهَبِ: إِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ مُسْتَحَبَّةٌ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لَهُ، وَلِلْبُخَارِيِّ بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَقُلْ: " وَلِيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا ". قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنْ سُلَيْكًا الْغَطَفَانِيَّ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَجَلَسَ ; فَقَالَ لَهُ: " سُلَيْكُ، قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ " إِلَخْ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَفْعُهُ غَرِيبٌ، وَالْمَعْرُوفُ كَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. قَالَ: خُرُوجُهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَكَلَامُهُ يَقْطَعُ الْكَلَامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: عَنْ عَلَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، كَانُوا يَكْرَهُونَ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: إِذَا قَعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا صَلَاةَ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَجِيءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ: يَجْلِسُ وَلَا يُصَلِّي. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ فَيَجِبُ تَقْلِيدُهُ عِنْدَنَا إِذَا لَمْ يَنْفِهِ شَيْءٌ آخَرُ مِنَ السُّنَّةِ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَخْ، لَا يَنْفِي كَوْنَ الْمُرَادِ أَنْ يَرْكَعَ مَعَ سُكُوتِ الْخَطِيبِ ; لِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ لَكَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ انْتَهَى. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَرَّرَ أَمْرَهُ لَهُ بِالصَّلَاةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فِي ثَلَاثِ جُمَعٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ كَانَ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ فِي الْجُمُعَةِ الْأُولَى ثَوْبَيْنِ، فَدَخَلَ بِهِمَا فِي الثَّانِيَةِ فَتَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا فِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ انْتَهَى. فَيَكُونُ الْحُكْمُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ ; لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَنْعِ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ لِعِلَّةِ التَّصَدُّقِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

1412 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1412 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي صَلَاةَ الْجُمُعَةِ. (مَعَ إِمَامٍ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مُخْتَصٌّ بِالْجُمُعَةِ، بَيَّنَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ. (فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ) قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَيْ: لَمْ تَفُتْهُ، وَمَنْ لَمْ تَفُتْهُ الْجُمُعَةُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَيَقُومُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ، وَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى اهـ. وَالْأَظْهَرُ حَمْلُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» "، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُفَصَّلًا فَرَاجِعْهُ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ فِي خُصُوصِ الْجُمُعَةِ فِي حَدِيثِ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . وَفِي حَدِيثِ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيَصِلْ إِلَيْهَا أُخْرَى» . ضَبَطَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُودِ " إِلَيْهَا ". فَالصَّوَابُ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَسُكُونِ لَامٍ مُخَفَّفَةٍ ; لِأَنَّ الْوُصُولَ يَتَعَدَّى بِإِلَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1413 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ، كَانَ يَجْلِسُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ حَتَّى يَفْرُغَ أُرَاهُ الْمُؤَذِّنَ ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ وَلَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1413 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ) أَيْ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا إِجْمَالٌ وَتَفْصِيلُهُ: (كَانَ يَجْلِسُ) اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ (إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَيْ: يُسْتَحَبُّ الْخُطْبَةُ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَّا بِمَكَّةَ ; فَإِنَّ الْخُطْبَةَ عَلَى مِنْبَرِهَا بِدْعَةٌ، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ كَمَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَإِنَّمَا أَحْدَثُ ذَلِكَ بِمَكَّةَ مُعَاوِيَةُ، وَفِيهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَأَقَرَّهُ السَّلَفُ مَعَ اعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ فِي وَقَائِعَ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ. (حَتَّى يَفْرُغَ أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ (الْمُؤَذِّنَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأُرَاهُ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ لِيَفْرُغَ، أَيْ: قَالَ الرَّاوِي: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ قَالَ الرَّاوِي: أَظُنُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرَادَ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ: حَتَّى يَفْرُغَ تَقْيِيدُهُ بِالْمُؤَذِّنِ، وَالْمَعْنَى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ عَلَى الْمِنْبَرِ مِقْدَارَ مَا يَفْرُغُ الْمُؤَذِّنُ مِنْ

أَذَانِهِ. (ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ) أَيْ: جَلْسَةً خَفِيفَةً. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ قَدْرَ الْإِخْلَاصِ. (وَلَا يَتَكَلَّمُ) أَيْ: حَالَ جُلُوسِهِ بِغَيْرِ الذِّكْرِ، أَوِ الدُّعَاءِ، أَوِ الْقِرَاءَةِ سِرًّا. وَالْأَوْلَى الْقِرَاءَةُ لِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ كَانَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي جُلُوسِهِ كِتَابَ اللَّهِ. قِيلَ: وَالْأَوْلَى قِرَاءَةُ الْإِخْلَاصِ، كَذَا فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ. (ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ) فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ يُكْرَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ وَصْفُ السَّلَاطِينِ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ ; لِأَنَّ فِيهِ خَلْطَ الْعِبَادَةِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَهِيَ الْكَذِبُ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: مَنْ قَالَ لِسُلْطَانِ زَمَانِنَا: عَدَلَ، كَفَرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ الْإِنْصَاتُ إِلَى أَنْ يُشْرَعَ فِي مَدْحِ الظَّلَمَةِ، وَلِذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْبُعْدَ فِي زَمَانِنَا عَنِ الْخَطِيبِ أَفْضَلُ كَيْلَا يَسْمَعَ مَدْحَ الظَّلَمَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ وَفِيهِ مَقَالٌ.

1414 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1414 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: تَوَجَّهْنَاهُ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْقَوْمُ الْخَطِيبَ، وَالْخَطِيبُ الْقَوْمَ اهـ. وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْإِمَامَ عِنْدَ الْخُطْبَةِ، لَكِنَّ الرَّسْمَ الْآنَ أَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ لِلْحَرَجِ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلسُّرُوجِيِّ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنِ اسْتِقْبَالِهِمُ الْإِمَامَ تَرْكُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عَلَى مَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْعِيدِ، فَيَقُومَ مُقَابِلَ النَّاسِ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ. نَعَمْ، الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذِّرٌ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَإِذَا صَعِدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى الْقَوْمِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ اهـ. وَمِنْ عَجَائِبِ مَا وَقَعَ لِي أَنِّي كُنْتُ بَعْدَ فَرَاغِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَذْهَبُ إِلَى الْخَطِيبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَقُولُ لَهُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَتَعَجَّبَ مِنِّي مَرَّةً. فَقُلْتُ: إِنَّكَ أَوَّلُ مَا تُسَلِّمُ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ، وَلَا يَرُدُّ أَحَدٌ الْجَوَابَ وَلَوْ رَدَّ أَحَدٌ لَمْ تَسْمَعْ فَلَا يُفِيدُ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَ الْمُؤَذِّنَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَإِلَّا تَتْرُكِ السَّلَامَ لِئَلَّا يَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ الْعَامِّ، وَالْإِثْمِ التَّامِّ. فَقَالَ لِي: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُ خَرْقٌ لِلْعَادَةِ. قُلْتُ: الْإِرَادَةُ تَرْكُ الْعَادَةِ، وَبِتَرْكِهَا تَصِيرُ الْعَادَةُ عِبَادَةً. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ أَيِ: ابْنِ عَطِيَّةَ قَالَهُ مِيرَكُ. (وَهُوَ ضَعِيفٌ) أَيْ: فِي الرِّوَايَةِ. (ذَاهِبُ الْحَدِيثِ) أَيْ: وَاهِمٌ فِي نَقْلِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: ذَاهِبٌ حَدِيثُهُ، غَيْرُ حَافِظٍ لِلْحَدِيثِ، وَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ ضَعِيفٌ.

1415 - ( «وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ فَقَدَ وَاللَّهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَلْفَيْ صَلَاةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1415 - (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا) ، فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: كُلُّ بَلَدٍ فُتِحَ بِالسَّيْفِ يُخْطَبُ فِيهَا بِالسَّيْفِ كَمَكَّةَ، وَالَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا كَالْمَدِينَةِ يُخْطَبُ فِيهَا بِلَا سَيْفٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْقِيَامِ. (ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا) . فِي الْيَنَابِيعِ: الْجَهْرُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْجَهْرِ فِي الْأُولَى. (فَمَنْ نَبَّأَكَ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أَخْبَرَكَ وَحَدَّثَكَ. (أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا، فَقَدْ كَذَبَ) أَيِ: افْتَرَى. (فَقَدَ وَاللَّهِ، صَلَّيْتُ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاللَّهِ، قَسَمٌ اعْتَرَضَ بَيْنَ قَدْ وَمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ، وَالْفَاءُ فِي فَمَنْ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي فَقَدْ كَذَبَ جَوَابُ مَنْ، وَفِي فَقَدَ وَاللَّهِ، سَبَبِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَاذِبٌ ظَاهِرُ الْكَذِبِ ; بِسَبَبِ أَنِّي صَلَّيْتُ. (مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ) أَيْ: مِنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، أَوْ أَرَادَ التَّكْثِيرَ لَا التَّحْدِيدَ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُقِمْ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا عَشْرَ سِنِينَ، وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا هِيَ الْجُمُعَةُ الَّتِي تَلِي قُدُومَهُ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يُصَلِّ أَلْفَيْ جُمُعَةٍ بَلْ نَحْوَ خَمْسِمِائَةٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1416 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا. فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] . رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1416 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ، نَزَلَ الْكُوفَةَ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ. (أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَمِّ الْحَكَمِ) بِفَتْحَتَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَظُنُّهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ. قُلْتُ: أَوْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. (يَخْطُبُ قَاعِدًا فَقَالَ) أَيْ: كَعْبٌ مِنْ غَايَةِ الْغَضَبِ. (انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ) بِعَيْنِ الْعَجَبِ فِي تَرْكِ الْأَدَبِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ جَوَازُ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ حَرَامًا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ أَوْ مَكْرُوهًا عِنْدَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ إِظْهَارَ خِلَافِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يُنْبِئُ عَنْ خُبْثٍ أَيِّ خُبْثٍ. (يَخْطُبُ قَاعِدًا) وَقَالَ اللَّهُ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَوْا) أَيْ: أَبْصَرُوا أَوْ عَرَفُوا. (تِجَارَةً) أَيْ: بَيْعًا وَشِرَاءً. (أَوْ لَهْوًا) أَيْ: طَبْلًا وَصَدًّا. (انْفَضُّوا) أَيْ: تَفَرَّقُوا. (إِلَيْهَا) أَيْ: إِلَى التِّجَارَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَمُرَاعَاةِ أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ، أَوِ اخْتُصَّتْ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الطَّبْلَ إِنَّمَا كَانَ لِإِعْلَامِ مَجِيءِ أَسْبَابِ التِّجَارَةِ، وَكَانُوا إِذَا أَقْبَلَتِ الْعِيرُ اسْتَقْبَلُوهَا بِالتَّصْفِيقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ قَدْ قَالَ اللَّهُ حَالٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ الْإِنْكَارِ رَأَى كَيْفَ يَخْطُبُ قَاعِدًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُمْ جُوعٌ وَغَلَاءٌ، فَقَدِمَ تِجَارَةٌ مِنْ زَيْتِ الشَّامِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا فَتَرَكُوهُ قَائِمًا وَمَا بَقِيَ مَعَهُ إِلَّا يَسِيرٌ اهـ. وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ أَوِ اثْنَا عَشَرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا فِي مُسْلِمٍ: عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ الْبَاقِينَ اثْنَا عَشَرَ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ خَرَجُوا جَمِيعًا لَأَضْرَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْوَادِيَ نَارًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ الْوَقْتَ ; فَإِنَّهَا لَا تَصِحَّ بَعْدَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَوَقْتُهَا وَقْتُ الظُّهْرِ إِجْمَاعًا، وَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ إِلَّا فِي قَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَلَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَمِنْ شُرُوطِهَا الْخُطْبَةُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَشَرْطُهَا كَوْنُهَا فِي الْوَقْتِ، وَلَا تَصِحُّ قَبْلَهُ، وَأَنْ تَكُونَ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَةِ، وَرُكْنُهَا مُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ بِنِيَّتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا ذِكْرٌ طَوِيلٌ يُسَمَّى خُطْبَةً، وَوَاجِبُهَا كَوْنُهَا مَعَ الطَّهَارَةِ، وَالْقِيَامِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَسُنَّتُهَا: كَوْنُهَا خُطْبَتَيْنِ بِجِلْسَةٍ بَيْنَهُمَا، يَشْتَمِلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْحَمْدِ وَالتَّشَهُّدِ، أَيْ: لَفَظِ الشَّهَادَةِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأُولَى عَلَى تِلَاوَةِ آيَةٍ وَالْوَعْظِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ بَدَلَ الْوَعْظِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرْكَانٌ فَلَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ أَجْزَأَ إِنْ كَانَ عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَالْقِيَامُ فِيهَا أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ إِذَا كَانَ أَنْشَرَ لِلصَّوْتِ فَكَانَتْ مُخَالَفَتُهُ مَكْرُوهَةً. قَالَ: وَلَمْ يَحْكُمْ هُوَ أَيْ: كَعْبٌ، وَلَا غَيْرُهُ بِفَسَادِ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشُرُوطٍ عِنْدَهُمْ أَيْ: عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَيَكُونَ كَالْإِجْمَاعِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ ذِكْرًا طَوِيلًا يُسَمَّى خُطْبَةً، أَوْ ذِكْرًا لَا يُسَمَّى خُطْبَةً، فَكَانَ الشَّرْطُ الذِّكْرَ الْأَعَمَّ بِالْقَاطِعِ غَيْرَ أَنَّ الْمَأْثُورَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اخْتِيَارُ أَحَدِ الْفَرْدَيْنِ أَعْنِي الذِّكْرَ الْمُسَمَّى بِالْخُطْبَةِ وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ سُنَّهً، لَا أَنَّهُ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يُجَزِئُ غَيْرُهُ ; إِذْ لَا يَكُونُ بَيَانًا لِعَدَمِ الْإِجْمَالِ فِي لَفْظِ الذِّكْرِ، وَقَدْ عُلِمَ وُجُوبُ تَنْزِيلِ الْمَشْرُوعَاتِ عَلَى حَسَبِ أَدِلَّتِهَا، فَهَذَا الْوَجْهُ يُغْنِي عَنْ قِصَّةِ عُثْمَانَ، فَإِنَّهَا لَمْ تُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ بَلْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا خَطَبَ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ وُلِّيَ الْخِلَافَةَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَارْتُجَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يُعِدَّانِ لِهَذَا الْمَقَامِ مَقَالًا، وَأَنْتُمْ إِلَى إِمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ إِلَى إِمَامٍ قَوَّالٍ، وَسَتَأْتِيكُمُ الْخُطَبُ بَعْدُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، وَنَزَلَ وَصَلَّى بِهِمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ إِمَّا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا، وَإِمَّا عَلَى كَوْنِ نَحْوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَنَحْوِهَا يُسَمَّى خُطْبَةً لُغَةً، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ عُرْفًا، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لِلَّذِي قَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، فَسَمَّاهُ خَطِيبًا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْخِطَابُ الْقُرْآنِيُّ إِنَّمَا تَعَلُّقُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ بِلُغَتِهِمْ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعُرْفَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي مُحَاوَرَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى غَرَضِهِمْ، فَأَمَّا فِي أَمْرٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ تَعَالَى فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ لُغَةً اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1417 - «وَعَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ، فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1417 - (وَعَنْ عُمَارَةَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. (ابْنِ رُوَيْبَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ. (أَنَّهُ رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ) . فِي الْقَامُوسِ: نَبَرَ الشَّيْءَ: رَفَعَهُ، وَمِنْهُ الْمِنْبَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ. (رَافِعًا يَدَيْهِ) أَيْ: عِنْدَ التَّكَلُّمِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْوُعَّاظِ إِذْ جَمُّوا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ: (فَقَالَ) أَيْ: عُمَارَةُ. (قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ) : دُعَاءٌ عَلَيْهِ، أَوْ إِخْبَارٌ عَنْ قُبْحِ صُنْعِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] . (لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ) : بِالْجَرِّ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: يَقُولُ أَيْ: يُشِيرُ عِنْدَ التَّكَلُّمِ فِي الْخُطْبَةِ بِإِصْبَعِهِ يُخَاطِبُ النَّاسَ، وَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى الِاسْتِمَاعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1418 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا اسْتَوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: " اجْلِسُوا " فَسَمِعَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَجَلَسَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ " تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1418 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «لَمَّا اسْتَوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: " اجْلِسُوا» ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّكَلُّمِ فِي الْمِنْبَرِ اهـ. وَعِنْدَنَا كَلَامُ الْخَطِيبِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ مَكْرُوهٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ رَأَى أَحَدًا مِنَ الْحَاضِرِينَ قَامَ لِيُصَلِّيَ، فَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ لِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَالِسِ بِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ إِجْمَاعًا. (فَسَمِعَ ذَلِكَ) أَيْ: أَمْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجُلُوسِ. (ابْنُ مَسْعُودٍ، فَجَلَسَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ) : مُبَادَرَةً إِلَى الِامْتِثَالِ. (فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " تَعَالَ ") أَيِ: ارْتَفِعْ عَنْ صَفِّ النِّعَالِ إِلَى مَقَامِ الرِّجَالِ، وَهَلُمَّ إِلَى الْمَسْجِدِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُهُ أَنْ يُدْعَى الْإِنْسَانُ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، ثُمَّ جُعِلَ لِلدُّعَاءِ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ، وَتَعَلَّى ذَهَبَ صَاعِدًا يُقَالُ: عَلَّيْتُهُ فَتَعَلَّى. (" يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ") : خِطَابُ تَشْرِيفٍ وَتَخْصِيصٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَرْبَابِ الْخُصُوصِ وَالْكَمَالِ حَيْثُ حَبَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخُصُوصِيَّاتٍ لَمْ يَجْعَلْهَا لِغَيْرِهِ، وَيَكْفِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّهِ: " «رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ» ". وَلِذَا كَانَ إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ يُقَدِّمُ قَوْلَهُ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ مَا عَدَا الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1419 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيَصِلِّ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَتَانِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا» " أَوْ قَالَ: " الظُّهْرَ ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1419 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيَصِلْ ") : مِنَ الْوَصْلِ. (" إِلَيْهَا ") أَيْ: إِلَى تِلْكَ الرَّكْعَةِ. (" أُخْرَى ") : كَمَا مَرَّ فَتَذَكَّرْ. (" وَمَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَتَانِ ") أَيْ: صَلَاتُهَا، وَقِيلَ: أَيِ: الرُّكُوعَانِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِأَنْ يُدْرِكَ الْإِمَامَ بَعْدَ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ أَنَّ الْجُمُعَةَ صَلَاةُ الْكَامِلِينَ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا ; فَاحْتِيطَ لَهَا مَا لَمْ يُحْتَطْ لِغَيْرِهَا، فَلَمْ تُدْرَكْ إِلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ

كَامِلَةٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّصْرِيحِ، بَلْ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الْمُخَالِفِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُمُ، الْمَمْنُوعِ عِنْدَنَا عَلَى الصَّحِيحِ. (" فَلْيُصَلِّ ") : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ. (" أَرْبَعًا ") أَيِ: الظُّهْرَ. (أَوْ قَالَ: " الظُّهْرَ ") أَيْ: بَدَلَ (أَرْبَعًا) . (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) : وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَبِلَفْظِ: " «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» ". وَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَاعْتَرَضَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ، وَيُغْنِي عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: " «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» ". وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِمَا صَلَّى مَعَهُ مَا أَدْرَكَ، وَبَنَى عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ سُجُودِ السَّهْوِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ، وَإِنْ أَدْرَكَهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ بَنَى عَلَيْهَا الظُّهْرَ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: لَهُمَا إِطْلَاقُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فَاقْضُوا ". قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَبَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ فِي الْحُكْمِ، فَمَنْ أَخَذَ بِلَفْظِ: " أَتِمُّوا " قَالَ: مَا يُدْرِكُهُ الْمَسْبُوقُ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَنْ أَخَذَ بِلَفْظِ " فَاقْضُوا " قَالَ: مَا يُدْرِكُهُ آخِرُهَا، ثُمَّ قَالَ: وَمَا رَوَاهُ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إِلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى وَإِلَّا صَلَّى أَرْبَعًا لَمْ يَثْبُتْ. اهـ. وَأَمَّا لَفْظُ الْمِشْكَاةِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ الْمُخَالَفَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَتَانِ أَيْ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْهُمَا، فَلْيُصَلِّ الظُّهْرَ أَيْ: لَا قَضَاءَ الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الرَّكْعَتَانِ بِالرُّكُوعَانِ، فَمِنْ بَابِ صَرْفِ النَّصِّ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ إِلَيْهِ، وَلَا حَدِيثٍ دَالٍّ عَلَيْهِ، هَذَا وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوْتِ الْحُكْمِيِّ، وَهُوَ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْجُمُعَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا، فَإِنَّ مِنْهَا الْمِصْرَ، لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا جُمُعَةَ، وَلَا تَشْرِيقَ، وَلَا صَلَاةَ فِطْرٍ، وَلَا أَضْحَى، إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ، أَوْ فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَكَفَى بِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قُدْوَةً، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَكَانَ كَعْبٌ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ تَرَحَّمَ عَلَى أَسْعَدَ لِذَلِكَ قَالَ: قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ. فَكَانَ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَلَا يَلْزَمُ حُجَّةً ; لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْجُمُعَةُ، وَبِغَيْرِ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَتِلْكَ الْحَرَّةُ مِنْ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ، وَلِلْفِنَاءِ حُكْمُ الْمِصْرِ، فَيَسْلَمُ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنِ الْمُعَارِضِ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِهِ سَمَاعًا ; لِأَنَّ دَلِيلَ الِافْتِرَاضِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى يُفِيدُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَمْكِنَةِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى نَفْيِهَا فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ سَمَاعٍ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ الْمُسْتَمِرِّ فِي مِثْلِهِ، وَفِي الصَّلَوَاتِ الْبَاقِيَاتِ أَيْضًا، وَلِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ اشْتَغَلُوا بِنَصْبِ الْمَنَابِرِ وَالْجُمَعِ إِلَّا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَوْ آحَادًا اهـ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْمِصْرِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا قَلَّمَا يَتَّفِقُ وُقُوعُهُ فِي بَلَدٍ، وَلِذَا قَالُوا: فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ الشَّكُّ فِي جَوَازِ الْجُمُعَةِ، يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ يَنْوِي بِهَا آخِرَ فَرْضٍ أَدْرَكْتُ وَقْتَهُ، وَلَمْ أُؤَدِّهِ بَعْدُ، فَإِنْ لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ وَقَعَتْ ظُهْرًا، وَإِنْ صَحَّتْ وَكَانَ عَلَيْهِ ظُهْرٌ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِلَّا فَنَفْلٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا بِنِيَّةِ سُنَّةِ الْوَقْتِ، ثُمَّ أَرْبَعًا بِالنِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ سُنَّةِ الْوَقْتِ، فَإِنْ صَحَّتِ الْجُمُعَةُ يَكُونُ الْمُصَلِّي قَدْ أَدَّى سُنَّتَهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَإِلَّا فَقَدَ صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ سُنَّتِهِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأَرْبَعِ الَّتِي بِنِيَّةِ آخِرِ الظُّهْرِ ; فَإِنَّهُ إِنْ وَقَعَ فَرْضًا فَلَا تَضُرُّهُ قِرَاءَةُ السُّورَةِ، وَإِنْ وَقَعَ نَفْلًا فَقِرَاءَةُ السُّورَةِ وَاجِبَةٌ اهـ. وَلَا تَغْتَرَّ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِصْرٌ لِصَلَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِمَا ; لِأَنَّ الْأَوْصَافَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَأَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ حَدِّ الْمِصْرِ - عَلَى مَا صَحَّحَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ - أَنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ، وَيُقِيمُ الْحُدُودَ، وَلَا شَكَّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُنَفِّذَ لِلْأَحْكَامِ عَزِيزٌ، بَلْ مَعْدُومٌ مِنْ بَيْنِ الْأَنَامِ ; لِأَنَّ غَالِبَ الْقُضَاةِ يَأْخُذُونَ الْقَضَاءَ بِالدَّرَاهِمِ، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةٍ تَقَلُّدِهِ، ثُمَّ غَالِبُهُمْ يَأْخُذُونَ الرِّشَا، وَاخْتُلِفَ فِي انْعِزَالِهِمْ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ انْعِزَالِهِمْ، ثُمَّ أَكْثَرُهُمْ مَا يُنَفِّذُونَ الْأَحْكَامَ إِمَّا لِجَهْلِهِمْ أَوْ لِعَدَمِ الْتِفَاتِهِمْ، وَوُجُودِ فِسْقِهِمْ، وَلَوْ فُرِضَ فَرْدٌ مِنْهُمْ مُتَّصِفٌ بِأَوْصَافِ الْقَضَاءِ، وَأَرَادُوا إِجْرَاءَ الْأَحْكَامِ عَلَى وَفْقِ نِظَامِ الْإِسْلَامِ مَنَعَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الدِّينِ مِنْ شِيَمِ الْمُتَّقِينَ.

[باب صلاة الخوف]

[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

[46] بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ " 1420 - عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ، فَصَافَفْنَا لَهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا، فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» . وَرَوَى نَافِعٌ نَحْوَهُ. وَزَادَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا، قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، قَالَ نَافِعٌ: لَا أُرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [46] بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَيْ: أَحْكَامِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ نَحْوُ قَوْلِهِ: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ مُعْتَدٌّ بِهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي التَّرْجِيحِ، قِيلَ: جَاءَتْ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ نَوْعًا، وَقِيلَ: أَقَلُّ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ، وَقَدْ أَخَذَ بِكُلِّ رِوَايَةٍ مِنْهَا جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَحْمَدَ: لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ صَلَّى بِوَاحِدَةٍ مِمَّا صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ لَا يُغَيِّرُ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ، وَمَعْنَى الْخَبَرِ السَّابِقِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ، الَّذِي أَخَذَ بِظَاهِرِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَأْمُومَ يَنْفَرِدُ فِيهِ عَنِ الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ كَمَا يَأْتِي ; لِيَلْتَئِمَ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُصَلِّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْخَوْفِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ. " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ " 1420 - (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (غَزَوْتُ) أَيِ: الْكُفَّارَ. فِي الْقَامُوسِ غَزَا الْعَدُوَّ: سَارَ إِلَى قِتَالِهِمْ. (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : حَالٌ (قِبَلَ نَجْدٍ) : بِكَسْرِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ، نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ: نَاحِيَتَهُ، وَالنَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَالْمُرَادُ هُنَا نَجْدُ الْحِجَازِ لَا نَجْدُ الْيَمَنِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا ارْتَفَعَ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ تِهَامَةَ إِلَى الْعِرَاقِ. (فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ) أَيْ: حَاذَيْنَاهُ وَقَابَلْنَاهُ. فِي النِّهَايَةِ الْمُوَازَاةُ: الْمُقَابَلَةُ وَالْمُوَاجَهَةُ، يُقَالُ: وَازَيْتُهُ إِذَا حَاذَيْتُهُ. وَفِي الصَّحَّاحِ هُوَ بَإَذَائِهِ أَيْ: بِحِذَائِهِ، وَقَدْ آزَيْتُهُ أَيْ: حَاذَيْتُهُ، وَلَا تَقُلْ وَازَيْتُهُ. وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَيْضًا أَنَّهُ مَهْمُوزٌ فَقَطْ، لَكِنَّ رِوَايَةَ الْمُحْدَثِينَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى نَقْلِ اللُّغَوِيِّينَ، مَعَ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، لَا سِيَّمَا وَوَافَقَهُمْ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَوْ هُمَا لُغَتَانِ كَالْمُوَاكَلَةِ وَالْمُوَاخَذَةِ. (فَصَافَفْنَا) أَيْ: قُمْنَا صَفَّيْنِ كَمَا سَيَأْتِي. (لَهُمْ) أَيْ: لِحَرْبِهِمْ، أَوْ جَعَلْنَا نُفُوسَنَا صَفَّيْنِ فِي مُقَابَلَتِهِمْ. (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي) أَيْ: بِالْجَمَاعَةِ إِمَامًا. (لَنَا) أَيْ: لِتَحْصِيلِ ثَوَابِنَا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَنَا حَيْثُ لَمْ يُصَلِّ مَعَ جَمَاعَةٍ، وَتَرَكَ جَمَاعَةً أُخْرَى يُصَلُّونَ مَعَ غَيْرِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ تَعَدُّدِ الْجَمَاعَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْقَوْمُ حَاضِرِينَ، وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَجُوزُ خَلْفَ التَّنَفُّلِ، وَإِلَّا لَأَمْكَنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُصَلِّيَ مَرَّتَيْنِ بِالطَّائِفَتَيْنِ، وَالْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ، حَيْثُ مَا تُرِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ الْهُمَامِ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا تَلْزَمُ إِذَا تَنَازَعَ الْقَوْمُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَنَازَعُوا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَمَامَ الصَّلَاةِ، وَيُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى إِمَامٌ آخَرُ تَمَامَهَا. (فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُمُ السَّابِقُونَ فِي الْإِسْلَامِ. (وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ) : وَهُمُ اللَّاحِقُونَ. (عَلَى الْعَدُوِّ) أَيْ: عَلَى جَانِبِهِمْ بِالْوُقُوفِ فِي مُقَابَلَتِهِمْ لِدَفْعِ مُقَاتَلَتِهِمْ. (وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: أَتَى بِالرُّكُوعِ. (بِمَنْ مَعَهُ) :

أَيْ: مَعَ الَّذِينَ قَامُوا مَعَهُ. (وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) أَيْ: بِمَنْ مَعَهُ. (ثُمَّ انْصَرَفُوا) أَيِ: الطَّائِفَةُ الَّتِي صَلَّتْ تِلْكَ الرَّكْعَةَ. (مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا) أَيِ: الَّتِي مَا صَلَّتْ. (فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَعَلَ الرُّكُوعَ. (بِهِمْ) : وَقَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ أَيْ: صَلَّى لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: (رَكْعَةً) بِمَعْنَى رُكُوعًا ; لِقَوْلِهِ: (وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) إِذِ الرَّكْعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِانْضِمَامِ السَّجْدَتَيْنِ. (ثُمَّ سَلَّمَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ. (فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنَ الْمَأْمُومِينَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ. (فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) وَتَفْصِيلُهُ: أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ ذَهَبُوا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الْأُولَى إِلَى مَكَانِهِمْ وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ مُنْفَرِدِينَ، وَسَلَّمُوا وَذَهَبُوا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ وَأَتَمُّوا مُنْفَرِدِينَ، وَسَلَّمُوا كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَذَا قِيلَ، وَبِهَذَا أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُشْعِرْ بِذَلِكَ اهـ. وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ مَشْيُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَإِتْمَامُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فِي مَكَانِهَا مِنْ خَلْفِ الْإِمَامِ، وَهُوَ أَقَلُّ تَغْيِيرًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَمَامِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ، وَسَاقَ إِسْنَادَ الْإِمَامِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ: فِيهِ، فَالْمَوْقُوفُ فِيهِ كَالْمَرْفُوعِ اهـ. وَبِهِ انْدَفَعَ كَلَامُ النَّوَوِيِّ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ فِرْقَةً مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ جَاءَتْ إِلَى مَكَانِهَا ثُمَّ أَتَمَّتْ صَلَاتَهَا، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّ كُلًّا صَلَّى بَعْدَ سَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا بَقِيَ فِي مَحَلِّهِ مِنْ غَيْرِ مَجِيءٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ اقْتَدَوْا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمُ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ اهـ. وَاخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ، ثُمَّ الْمَذْهَبُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى تُتِمُّ صَلَاتَهَا بِلَا قِرَاءَةٍ كَاللَّاحِقِ، وَالطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تُتِمُّهَا بِالْقِرَاءَةِ كَالْمَسْبُوقِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُقِيمًا وَالصَّلَاةُ رُبَاعِيَّةٌ، فَيُصَلِّيَ مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَغْرِبُ مُطْلَقًا تُصَلَّى مَعَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: قَدْ جَازَتْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَفْعَالِ فِيهَا بِلَا ضَرُورَةٍ ; لِصِحَّةِ الْخَبَرِ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَوْمٍ، وَالْكَيْفِيَّةُ الْآتِيَةُ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ فِي يَوْمٍ آخَرَ، وَدَعْوَى النَّسْخِ بَاطِلَةٌ لِاحْتِيَاجِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ، وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ هُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. (وَرَوَى نَافِعٌ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا. (نَحْوَهُ) أَيْ: مَعْنَى مَا رَوَاهُ سَالِمٌ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ: كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ: يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً، وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا، فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا وَلَا يُسَلِّمُونَ، وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ، وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَتَقُومُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ. إِلَخْ. فَالصِّيغَةُ فِي الْحَدِيثِ صِيغَةُ الْفَتْوَى لَا إِخْبَارٌ عَمَّا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَ، وَإِلَّا لَقَالَ: قَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُونَ أَنْ يَقُولَ: قَامَ الْإِمَامُ ; وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ: قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى. إِلَخِ اهـ. وَبِهِ يَتَبَيَّنُ تَحْقِيقُ هَذَا الْحَدِيثُ. (وَزَادَ) أَيْ: نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ، عَنْ سَالِمٍ عَنْهُ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: زَادَ ابْنُ عُمَرَ. (فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ) أَيْ: هُنَاكَ أَوْ وَقَعَ خَوْفٌ شَدِيدٌ، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ. (هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُجَرَّدُ الْمُصَافَّةِ، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجَمَاعَةَ بِأَنْ يَلْتَحِمَ الْقِتَالُ. (صَلَّوْا) أَيِ: النَّاسُ مُنْفَرِدِينَ. (رِجَالًا) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، جَمْعُ رُجْلَانٍ بِضَمِّ الرَّاءِ، بِمَعْنَى الرَّاجِلِ ضِدِّ الرَّاكِبِ، وَقِيلَ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، جَمْعُ رَاجِلٍ، كَذَا قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ رِجَالًا بِالتَّخْفِيفِ جَمْعُ رَاجِلٍ، وَكَذَا (قِيَامًا) جَمْعُ قَائِمٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ

بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ: قَائِمِينَ. وَهُمَا حَالَانِ مِنْ فَاعِلِ صَلَّوْا، أَيْ: صَلَّوْا حَالَ كَوْنِهِمْ رَاجِلِينَ قَائِمِينَ. (عَلَى أَقْدَامِهِمْ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَيَّنَ بِقَوْلِهِ قِيَامًا أَنَّ رِجَالًا جَمْعُ رَاجِلٍ لَا رَجُلٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَيْهِمَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمَا ; لِقَوْلِهِ: قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ قِيَامَهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ فِي كُلِّ حَالَاتِهِمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ. (أَوْ رُكْبَانًا) أَيْ: رَاكِبِينَ، فَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ، أَوِ التَّنْوِيعِ. (مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا) أَيْ: بِحَسَبِ مَا يَتَسَهَّلُ لَهُمْ، وَفِي تَقْدِيمِ الرَّاجِلِ وَالْمُسْتَقْبِلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْأَوْلَوِيَّةِ. وَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: يُفْسِدُهَا الْمَشْيُ، وَالرُّكُوبُ، وَالْقِتَالُ. (قَالَ نَافِعٌ: لَا أُرَى بِالضَّمِّ) أَيْ: لَا أَظُنُّ. (ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ) أَيِ: الْمَزِيدَ الْمَوْقُوفَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ. إِلَخْ. أَوْ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ إِلَخْ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا، لَكِنْ جَزَمَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ بِالْأَوَّلِ. قُلْتُ: فَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ. إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ كَمَا ظَنَّ نَافِعٌ، فَقَدْ جَزَمَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُلْزِمُهُمْ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، وَلَمْ يُجِزْ لَهُمْ تَأْخِيرَهَا عَنْهُ، وَقِيلَ: تَمْتَنِعُ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ وَيَجِبُ تَأْخِيرُهَا، حَتَّى يَزُولَ الْخَوْفُ، كَمَا فَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَغَلَطَ فَاعِلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَضِيَّةُ الْخَنْدَقِ مَنْسُوخَةٌ كَمَا مَرَّ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ قَضِيَّةَ الْخَنْدَقِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اشْتِدَادُ الْخَوْفِ. قَالَ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ وَلَا يَجِبُ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ رِوَايَةٌ عَنْهُ. قَالَ: وَيُسَنُّ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِامْتِنَاعِهَا مَمْنُوعٌ. قُلْتُ: التَّصْرِيحُ فِي الْآيَةِ مَمْنُوعٌ، فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْإِمَامِ مَدْفُوعٌ. قَالَ: وَمِنَ الشَّوَاذِّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ مَكَانَ كُلِّ رَكْعَةٍ تَكْبِيرَةٌ، وَبِأَنَّهُ يُجْزِئُ رَكْعَةٌ يُومِئُ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَسَجْدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَتَكْبِيرَةٌ اهـ. وَلَعَلَّ الْقَائِلَ بِهِ أَرَادَ إِدْرَاكَ حُرْمَةِ الْوَقْتِ بِمَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْفِعْلِ، لَا أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنِ الصَّلَاةِ بِحَيْثُ تَسْقُطُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ خُصَيْفٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامُوا صَفًّا خَلْفَهُ مُسْتَقْبِلَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِهِمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَكْعَةً، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُونَ فَقَامُوا فِي مَقَامِهِمْ، وَاسْتَقْبَلَ هَؤُلَاءِ الْعَدُوَّ، فَصَلَّى بِهِمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ هَؤُلَاءِ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً وَسَلَّمُوا» ، وَأُعِلَّ بِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ أَبِيهِ، وَخُصَيْفٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.

1421 - وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، «عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ بِطَرِيقٍ آخَرَ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1421 - (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ. (عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَبِالتَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، أَنْصَارِيٌّ، مَدَنِيٌّ، تَابِعِيٌّ، مَشْهُورٌ، عَزِيزُ الْحَدِيثِ، سَمِعَ أَبَاهُ، وَسَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قِيلَ: إِنَّ اسْمَ هَذَا الْمُبْهَمِ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ ; لِأَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ رَوَى حَدِيثَ صَلَاةِ الْخَوْفِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ أَبُوهُ ; لِأَنَّ أَبَا أُوَيْسٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ فَقَالَ: عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ أَبِيهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ صَالَحًا سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ وَمِنْ سَهْلٍ ; فَلِذَلِكَ كَانَ يُبْهِمُهُ تَارَةً، وَيُعَيِّنُهُ أُخْرَى، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. قُلْتُ: وَهَذَا الْمُحْتَمَلُ مُتَعَيِّنٌ لَمَّا ثَبَتَ حَدِيثُهُ عَنْهُمَا وَلَوْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا، وَمِثْلُ هَذَا الْإِبْهَامِ لَا يَضُرُّ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى قَصْدِ الْعَامِّ، وَكُلُّ الصَّحَابَةِ عُدُولٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ. (يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَ (يَوْمَ) ظَرْفٌ. (صَلَّى) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ ذَاتَ الرِّقَاعِ ; لِأَنَّ أَقْدَامَ الْأَصْحَابِ قَدْ نُقِّبَتْ، فَشَدُّوا الرِّقَاعَ أَيِ: الْخِرَقَ، جَمْعُ الرُّقْعَةِ بِمَعْنَى الْخِرْقَةِ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الثَّوْبِ عَلَى أَرْجُلِهِمْ،

فَسُمِّيَتْ ذَاتَ الرِّقَاعِ، هَذَا مَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ نَقْلًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِأَرْضٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالرِّقَاعِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهِ جَبَلًا بَعْضُهُ أَحْمَرُ، وَبَعْضُهُ أَبْيَضُ، وَبَعْضُهُ أَسْوَدُ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ. قَالَ السَّيِّدُ: وَقَوْلُ جَابِرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ: كَمَا سَيَأْتِي " وَحَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ " يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أُطْلِقَ اسْمُ الْحَالِّ عَلَى الْمَحَلِّ اهـ. (صَلَاةَ الْخَوْفِ) : مَفْعُولُ (صَلَّى) ، (أَنَّ طَائِفَةً) قَالَ الطِّيبِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَّنْ أَيْ: رُوِيَ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ طَائِفَةً. (صَفَّتْ مَعَهُ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ. (وَطَائِفَةً) : بِالنَّصْبِ لِلْعَطْفِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ: وَطَائِفَةٌ أُخْرَى. (وِجَاهَ الْعَدُوِّ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ وَضَمِّهَا، أَيْ: حِذَاءَهُمْ وَقُبَالَتَهُمْ، وَنَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ لِطَائِفَةٍ أَيْ: وَطَائِفَةٌ صَفَّتْ مُقَابِلَ الْعَدْوِ. وَفِي النِّهَايَةِ: " وِجَاهَ " بِكَسْرِ الْوَاوِ وَيُضَمُّ. وَفِي رِوَايَةٍ تِجَاهَ الْعَدْوِ فَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، مِثْلُهَا فِي تُقَاةٍ وَتُخَمَةٍ. (فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ) أَيْ: لَمَّا قَامَ. (ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفَارَقَهُ بِالنِّيَّةِ هَؤُلَاءِ الْمُقْتَدُونَ بِهِ اهـ. وَهُوَ مِمَّا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ نَقْلًا وَلَا عَقْلًا، مَعَ أَنَّهُ يَفُوتُهُ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ (ثُمَّ) أَيْ: بَعْدَ سَلَامِهِمُ (انْصَرَفُوا) أَيْ: إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ. (فَصَلَّوْا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى) أَيْ: وَهُوَ قَائِمٌ يَنْتَظِرُهُمْ فَاقْتَدَوْا بِهِ. (فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ) أَيْ: عَلَيْهِ. (مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ) أَيْ: لَمَّا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ. (ثَبَتَ جَالِسًا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَامُوا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ مُفَارَقَةٍ. (وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ) أَيْ: مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ جَلَسُوا مَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. (ثُمَّ) أَيْ: بَعْدَ تَشَهُّدِهِمْ. (سَلَّمَ بِهِمْ) أَيْ: بِالطَّائِفَةِ الْأَخِيرَةِ، أَيْ: مَعَهُمْ لِيَحْصُلَ لَهُمْ فَضِيلَةُ التَّسْلِيمِ مَعَهُ، كَمَا حَصَلَ لِلْأَوَّلِينَ فَضِيلَةُ التَّحْرِيمِ مَعَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِالْأَوَّلِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. (وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَمُسْلِمٌ، وَالْأَرْبَعَةُ أَيْضًا. (بِطَرِيقٍ آخَرَ: قَالَ ابْنُ حَجَرٍ) أَيْ: نَحْوَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِثْلُهُ. (عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قُلْتُ: وَمَعَ وُجُودِ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِيمَا سَبَقَ: إِنَّ الْمُبْهَمَ هُوَ أَبُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الرَّجِيحِ؟ ! قَالَ السَّيِّدُ: وَأَبُو حَثْمَةَ هَذَا كَانَ دَلِيلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أُحُدٍ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَارِصًا لِخَيْبَرَ.

1422 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأَخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَرَطَهُ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَخَافُنِي؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ: " اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ، فَتَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ، قَالَ: فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1422 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ قَالَ) : أَيْ: جَابِرٌ. (كُنَّا) أَيْ: مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ عِنْدَ إِرَادَةِ نُزُولِ الْمَنْزِلِ. (إِذَا أَتَيْنَا) أَيْ: مَرَرْنَا. (عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ) أَيْ: كَثِيرَةِ الظِّلِّ. (تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِعَدَمِ الْخَيْمَةِ لَهُ) ، يَعْنِي: فَكَذَا فَعَلْنَا بِذَاتِ الرِّقَاعِ، وَنَزَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ شَجَرَةٍ لِلِاسْتِرَاحَةِ إِلَى حِينِ الِاجْتِمَاعِ. (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ. (فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: فَجْأَةً. (وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ) أَيْ: قَرِيبَةٍ مِنْهُ، أَوْ بِشَجَرَةٍ هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَحْتَ ظِلِّهَا. (فَأَخَذَ) أَيِ: الْمُشْرِكُ. (سَيْفَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : إِمَّا لِكَوْنِهِ نَائِمًا، أَوْ غَافِلًا عَنْهُ، وَالتَّغَايُرُ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَوَّلًا، وَنَبِيِّ اللَّهِ ثَانِيًا، إِنَّمَا هُوَ لِلتَّفَنُّنِ، وَحَذَرًا مِنَ الثِّقَلِ لِتَوَالِي لَفْظَيْنِ مُتَّحِدَيْنِ. (فَاخْتَرَطَهُ) أَيْ: سَلَّهُ مِنْ غِمْدِهِ: وَهُوَ غِلَافُهُ. (فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَخَافُنِي؟) أَيْ: فِي هَذَا الْحَالِ. (قَالَ: " لَا ") : فَإِنَّ صَاحِبَ الْكَمَالِ لَا يَخَافُ إِلَّا مِنَ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. (قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ) أَيْ: يُخَلِّصُكَ الْآنَ. (مِنِّي؟) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ

ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَيْ: لَا يَمْنَعُكَ أَحَدٌ مِنِّي. قُلْتُ: لَا يُلَائِمُهُ. (قَالَ: " اللَّهُ ") أَيْ: هُوَ الَّذِي سَلَّطَكَ عَلَيَّ. (" يَمْنَعُنِي مِنْكَ ") : إِذْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ يَكْفِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ " فَبَسَطَ اعْتِمَادًا عَلَى اللَّهِ، وَاعْتِضَادًا بِحِفْظِهِ وَكَلَاءَتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] . قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَرْطِ شَجَاعَتِهِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْأَذَى، وَحِلْمِهِ عَلَى الْجُهَّالِ. (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ. (فَتَهَدَّدَهُ) أَيْ: هَدَّدَهُ وَخَوَّفَهُ. (أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَمَدَ السَّيْفَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ وَتُشَدَّدُ، أَيْ: أَدْخَلَهُ فِي غِلَافِهِ. (وَعَلَّقَهُ) أَيْ: فِي مَكَانِهِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ. ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ إِذْ هُمْ بِهِ أَصَابَهُ دَاءٌ بِصُلْبِهِ، فَبَدَرَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، وَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ أَسْلَمَ وَاهْتَدَى بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ وَإِنَّمَا عَاهَدَ أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا لَمْ يُعَاقِبْهُ تَأَلُّفًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (قَالَ) : أَيْ: جَابِرٌ. (فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ) أَيْ: أُذِّنَ وَأُقِيمَ لِلظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ. (فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَتَأَخَّرُوا أَيْ: عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّوْا فِيهِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، وَسَلَّمُوا عَنْهُمَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ تَأَخَّرُوا قَاصِدِينَ جِهَةَ الْعَدُوِّ، إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّأَخُّرِ عَنْ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ السَّلَامِ عَنْهَا، وَمَعَ هَذَا لَا دَلَالَةَ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " ثُمَّ بَعْدَ سَلَامِهِمْ تَأَخَّرُوا ". فَلَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ. (وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى) أَيْ: بَعْدَ مَجِيئِهِمْ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (رَكْعَتَيْنِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ: لَمْ يَجِدْ فِي مَحَالِّهِمْ إِلَّا نِسْوَةً، فَأَخَذَهُنَّ إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَتَأْيِيدٌ لِقَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ: لَقِيَ جَمْعًا مِنْهُمْ فَتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، وَقَدْ أَخَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى صَلَّى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفِ اهـ. وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ رَأَيْتَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلَيِ ابْنِ سَعْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ ; فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُحْمَلُ عَلَى الْآخَرِ، وَالثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، مَعَ أَنَّ الْمَوْضِعَ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ اهـ. فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَرَّتَيْنِ. مَرَّةً كَمَا رَوَاهُ سَهْلٌ، وَمَرَّةً كَمَا رَوَاهُ جَابِرٌ، فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَهَذَا عَلَى الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ ; بِدَلِيلِ الِاسْتِظْلَالِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَمَا سَيَجِيءُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبَ: قِيلَ: جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ آيَةِ الْقَصْرِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ أَقَامُوا فِيهِ. قَالَ: وَأَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ؟ ! إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَذَلِكَ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْقَصْرِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَوْمَ قَصَرُوا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتِمٌّ، لَكِنْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ عِنْدَهُ مَنِ ائْتَمَّ بِمُتِمٍّ يُتِمُّ، وَإِنْ كَانَا مُسَافِرَيْنِ، وَلْيُحَقَّقْ هَذَا الْمَوْضِعُ، وَلَمْ أَجِدْ لِلشُّرَّاحِ كَلَامًا فِي هَذَا الْمَقَامِ اهـ. أَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَبِيَدِهِ أَزِمَّةُ التَّحْقِيقِ: إِنَّ مَا قِيلَ: أَنَّهُ قَبْلَ آيَةِ الْقَصْرِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، بَلِ الصَّوَابُ الَّذِي لَا وَجْهَ لَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حَدِيثٍ مَحْمُولًا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ لَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ، إِذْ صَلَاةُ الْخَوْفِ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الْقِيَاسِ، بَلْ مُخْتَصَّةٌ مُنْحَصِرَةٌ بِمَا وَرَدَ عَنْ سَيِّدِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَكْعَتَيْنِ أَيْ: مَعَ الْإِمَامِ، كَمَا أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْمُرَادَ بِرَكْعَةٍ أَيْ: مَعَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: مَعْنَاهُ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا، وَبِالثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الثَّانِيَةِ مُتَنَفِّلًا وَهُمْ مُفْتَرِضُونَ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. قُلْتُ: مَعَ عَدَمِ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قِيلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي جَوَازِهِ، وَيُتْرَكَ ظَاهِرُهُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَالَ فِي الْأَزْهَارِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ.

قُلْتُ: ثَبَتَ الْعَرْشُ أَوَّلًا فَانْقُشْ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَالِ كَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِيمًا، وَالْمُقِيمُ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْمِصْرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَوْمَ قَضَوْا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَضَوْا، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ فِي الْأَحَادِيثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ بِالْقَصْرِ، فَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ شَافِعِيٌّ مُنْصِفٌ غَايَةَ الْإِنْصَافِ، وَمُجْتَهِدٌ مُجْتَمِعُ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ، حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِيهِ، وَصَاحِبُ الْبَيْتِ أَدْرَى بِمَا فِيهِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى كَلَامِهِ شَيْءٌ مِمَّا نَظَرَ زَيْنُ الْعَرَبِ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْمِصْرِ اتِّفَاقِيٌّ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي خَارِجِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا. وَفِي الْأَزْهَارِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: لِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَاتِ الرِّقَاعِ شُرُوطٌ: أَحُدُّهَا: أَنْ يَكُونُوا مُسَافِرِينَ. قُلْتُ: أَوْ مُقِيمِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخَافَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعَدُوِّ وَالْهُجُومِ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: هَذَا شَرْطٌ لِمُطْلَقِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، لَا لِخُصُوصِ صَلَاتِهِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ يُمْكِنُ تَفْرِيقُهُمْ فِرْقَتَيْنِ. قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا عَامٌّ غَيْرُ مَخْصُوصٍ، وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَ: وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الرَّوْضَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي عُيُونِ التَّارِيخِ: فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ اهـ. قَالَ السَّيِّدُ: هَذَانِ الْقَوْلَانِ يُخَالِفَانِ نَصَّ الْبُخَارِيِّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ هِيَ بَعْدَ خَيْبَرَ ; لِأَنَّ أَبَا مُوسَى قَدِمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فِي السُّنَّةِ السَّابِعَةِ، وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ ذَاتَ الرِّقَاعِ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ مَرَّةً فِي الْخَامِسَةِ، وَمَرَّةً فِي السَّابِعَةِ أَوِ الثَّامِنَةِ اهـ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: الَّذِي يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ أَنَّهَا بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ ; لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ، وَقَدْ ثَبَتَ وُقُوعُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَدَلَّ عَلَى تَأَخُّرِهَا عَنِ الْخَنْدَقِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِنَّمَا شُرِعَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فِي الصَّحِيحِ، فَلِذَا لَمْ يُصَلِّهَا إِذْ ذَاكَ. وَقَوْلُهُ فِي الْكَافِي: إِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَهِيَ قَبْلَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي طَرِيقِ حَدِيثِ الْخَنْدَقِ لِلنَّسَائِيِّ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ. فَذَكَرَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي صِفَةِ تِلْكَ الصَّلَاةِ لِاخْتِلَافِ أَيَّامِهَا. فَقَدْ صَلَّى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِعُسْفَانَ، وَبَطْنِ نَخْلَةَ، وَبِذَاتِ الرِّقَاعِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَشْكَالٍ مُتَبَايِنَةٍ بِنَاءً عَلَى مَا رَآهُ مِنَ الْأَحْوَطِ، فَالْأَحْوَطِ فِي الْحِرَاسَةِ، وَالتَّوَقِّي مِنَ الْعَدُوِّ، وَأَخَذَ بِكُلِّ رِوَايَةٍ مِنْهَا جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ. (فَكَانَتْ) أَيْ: وَقْعَةُ تِلْكَ الصَّلَاةِ. (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ) أَيْ: مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَبِنَفْسِهِ رَكْعَتَيْنِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1423 - وَعَنْهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعَنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، ثُمَّ قَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ، وَتَأَخَّرَ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1423 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ. (قَالَ: صَلَّى) أَيْ: بِنَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ. (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ) الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى فِي. (فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِلتَّحْرِيمِ. (وَكَبَّرْنَا) : الْوَاوُ لِلْجَمْعِيَّةِ فَتُفِيدُ الْمَعِيَّةَ، وَيَبْعُدُ تَقْدِيرُ ابْنِ حَجَرٍ الْبُعْدِيَّةَ. (جَمِيعًا) : أَرَادَ بِهِ الصَّفَّيْنِ. (ثُمَّ رَكَعَ) أَيْ: بَعْدَ الْقِرَاءَةِ. (وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ) أَيْ: نَزَلَ. (بِالسُّجُودِ) أَيْ: مُلْتَبِسًا بِهِ

أَوْ بِسَبَبِهِ. (وَالصَّفُّ) : يَجُوزُ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى فَاعِلِ انْحَدَرَ، وَجَازَ لِوُجُودِ الْفَصْلِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْعَطْفُ أَلْطَفُ لِمَا يَلْزَمُ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَشْرَفِ لِلْأَضْعَفِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْعَطْفُ أَوْلَى لِإِيهَامِ الْآخَرِ أَنَّهُمْ قَارَنُوهُ فِي الِانْحِدَارِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مُقَارَنَةَ الْإِمَامِ فِي جُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ لَا يَفْعَلُهَا الصَّحَابَةُ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ، ثُمَّ نَفْيُ فِعْلِهَا عَنِ الصَّحَابَةِ مُحْتَاجٌ إِلَى حُجَّةٍ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّهَا تُوجَدُ ; لِأَنَّ إِثْبَاتَ النَّفْيِ مُتَعَذِّرٌ، كَمَا أَنَّ نَفْيَ الْإِثْبَاتِ مُتَعَسِّرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الصَّفُّ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ أَيْ: كَذَلِكَ، وَالْمَعْنَى مِثْلَ نُزُولِهِ لِلسُّجُودِ نَزَلَ الصَّفُّ. (الَّذِي يَلِيهِ) أَيِ: الَّذِي يَقْرُبُ مِنْهُ، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الصَّفِّ الْمُرَادِ بِهِ الْقَوْمُ. (وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ) أَيِ: الَّذِينَ تَأَخَّرُوا لِلْحِرَاسَةِ لِمَنْ أَمَامَهُمْ فِي سُجُودِهِمْ. (فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ) أَيْ: صَدْرِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ ; كَيْلَا يَهْجُمُوا عَلَى مُقَاتِلَتِهِمْ. (فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ) أَيْ: أَدَّاهُ، وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ. (وَقَامَ) أَيْ: مَعَهُ. (الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ) أَيِ: انْهَبَطَ. (الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ) أَيِ: الَّذِينَ تَأَخَّرُوا لِلْحِرَاسَةِ لِمَنْ أَمَامَهُمْ فِي سُجُودِهِمْ. (بِالسُّجُودِ) أَيْ: بِسَبَبِهِ أَوْ إِلَيْهِ. (ثُمَّ) أَيْ: لَمَّا فَرَغُوا مِنْ سَجْدَتِهِمْ. (قَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ: وَوَقَفُوا مَكَانَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ) أَيْ: بَعْدَ أَنِ اسْتَوَوْا مَعَ الْأَوَّلِينَ فِي الْقِيَامِ خَلْفَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِأَنْ وَقَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤَخَّرِ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْمُقَدَّمِ انْتَهَى، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَتَأَخَّرَ الْمُقَدَّمُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِخُطْوَةٍ أَوْ خُطْوَتَيْنِ اهـ. وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا تُقَاسُ عَلَى صَلَاةِ الْأَمْنِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُشْتَرَطُ حِينَئِذٍ كَمَا عُلِمَ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى أَنْ لَا يَزِيدَ فِعْلُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى خُطْوَتَيْنِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ تَوَالَتْ أَفْعَالُهُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ صِحَّةَ هَذَا الشَّرْطِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ أَدِلَّةٍ أُخْرَى لَوْ وُجِدَتْ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ الْحِكْمَةُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ حِيَازَةُ فَضِيلَةِ الْمَعِيَّةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ جَبْرًا لِمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْمَعِيَّةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوَّلِيَّةِ. (ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: قَامَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَاتِحَةِ، بَلْ عَلَى آيَةٍ أَيِّ آيَةٍ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ. (وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ) أَيِ: انْخَفَضَ لَهُ. (وَالصَّفُّ) : بِالْوَجْهَيْنِ. (الَّذِي يَلِيهِ) الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلصَّفِّ، وَقَدَّرَ ابْنُ حَجَرٍ لَفْظَ (وَهُوَ) قَبْلَ الْمَوْصُولِ الثَّانِي. (وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ) : وَهُوَ الَّذِي كَانَ مُقَدَّمًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى. (فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: نَحْوَ الْعَدْوِ. (فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَالصَّفُّ) : بِالْإِعْرَابَيْنِ. (الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بَعْدَ انْحِدَارِهِمْ. (وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا: فَكَانَ صَلَاةُ الْجَمْعِ رَكْعَتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ) ، غَايَتُهُ أَنَّهُ تَأَخَّرَتِ الْمُتَابَعَةُ لِلْإِمَامِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ حَالَةَ الْقَوْمَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَيُعَضِّدُهُ انْحِدَارُ الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهِمْ جَمِيعًا أَنَّ الْمُنْحَدِرِينِ لَمْ يَقْعُدُوا لِلتَّشَهُّدِ ; فَإِنَّهُ وَإِنْ تَأَخَّرَ السَّلَامُ عَنِ الْإِمَامِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا جَمِيعًا لِعَدَمِ لُزُومِ الْمَعِيَّةِ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُسْفَانَ.

" الْفَصْلُ الثَّانِي " 1424 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي الْخَوْفِ بِبَطْنِ نَخْلٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَ طَائِفَةٌ أُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ " الْفَصْلُ الثَّانِي " 1424 - (عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ) : لَيْسَ لِلِاسْتِمْرَارِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمُضِيِّ. (يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي الْخَوْفِ) أَيْ: فِي حَالَةِ الْخَوْفِ الْكَائِنِ. (بِبَطْنِ نَخْلٍ) : اسْمُ مَوْضِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَ طَائِفَةٌ أُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ) وَفِي الْأَزْهَارِ أَنَّهُ بِنَجْدٍ مِنْ أَرْضِ غَطَفَانَ، وَقِيلَ: بَطْنُ النَّخْلِ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَصْرُ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَفَارَقُوهُ وَأَتَمُّوا لِنَفْسِهِمْ وَمَضَوْا، وَجَاءَتِ الْأُخْرَى وَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَقَامُوا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْحَضَرِ أَيْضًا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ. قَوْلُهُ: " قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَصْرُ غَرِيبٌ وَعَجِيبٌ وَبِعِيدٌ مِنْ فَهْمِ اللَّبِيبِ ; لِأَنَّ الْمُسَافِرَ مِنَ الْمَدِينَةِ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ مِنْهَا يَقْصُرُ، وَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا أَيْضًا يَقْصُرُ، فَكَيْفَ قَصَرَ هَذَا التَّصَوُّرُ؟ ! ثُمَّ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَيَأْبَى عَنْ إِتْمَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَكْرَارُ الرَّاوِي لَفْظَ السَّلَامِ، هَذَا وَلَا إِشْكَالَ فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْقَصْرِ، وَقَدْ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ نَفْلًا، وَعَلَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِنَا مُشْكِلٌ جِدًّا ; فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى السَّفَرِ لَزِمَ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْحَضَرِ يَأْبَاهُ السَّلَامُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَأَمَّا الْقَوْمُ فَأَتَمُّوا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بَعْدَ سَلَامِهِ، وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ تُصَلَّى مَرَّتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ. (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ هَكَذَا مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ مُطَوَّلًا) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَوْفٍ الظُّهْرَ، فَصُفَّ بَعْضُهُمْ خَلْفَهُ، وَبَعْضُهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْطَلَقَ الَّذِينَ صَلَّوْا مَعَهُ فَوَقَفُوا مَوْقِفَ أَصْحَابِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّوْا خَلْفَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعًا وَلِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ.

" الْفَصْلُ الثَّالِثُ " 1425 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ بَيْنَ ضَجْنَانَ وَعُسْفَانَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لِهَؤُلَاءِ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَهِيَ الْعَصْرُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ، فَتَمِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ أَصْحَابَهُ شَطْرَيْنِ، فَيُصَلِّيَ بِهِمْ، وَتَقُومَ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَرَاءَهُمْ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، فَتَكُونَ لَهُمْ رَكْعَةٌ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَانِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. " الْفَصْلُ الثَّالِثُ " 1425 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ بَيْنَ ضَجْنَانَ) : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْجِيمِ، وَالنُّونِ، مَوْضِعٌ أَوْ جَبَلٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَوْضِعٌ أَوْ جَبَلٌ قُرَيْبَ عُسْفَانَ، وَفِي الْمُغْنِي: جَبَلٌ بِمَكَّةَ، وَفِي الْقَامُوسِ: ضَجْنَانُ كَسَكْرَانَ، جَبَلٌ قُرَيْبَ مَكَّةَ، وَجَبَلٌ آخَرُ بِالْبَادِيَةِ مُوَافِقًا لِمَا فِي النِّهَايَةِ. (وَعُسْفَانَ) : كَعُثْمَانَ، مَوْضِعٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. وَفِي النِّهَايَةِ: قَرْيَةٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَعِبَارَةُ الْقَامُوسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلُ مُنْصَرِفٌ دُونَ الثَّانِي، وَالْمَضْبُوطُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ عَدَمُ انْصِرَافِهِمَا، وَزَادَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَحَاصَرَ الْمُشْرِكِينَ. (فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ) أَيْ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. (لِهَؤُلَاءِ) أَيْ: لِلْمُسْلِمِينَ. (صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ) أَيْ: مِنْ

أَرْوَاحِ أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ. وَلَفْظُ ابْنِ الْهُمَامِ: مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. (وَهِيَ الْعَصْرُ) : لِمَا وَقَعَ مِنْ تَأْكِيدِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُرَاعَاتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] أَيْ: فَلَا تَتْرُكُونَهَا أَبَدًا، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي نَقْلِ ابْنِ الْهُمَامِ. (فَأَجْمِعُوا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ. (أَمْرَكُمْ) أَيْ: أَمْرَ الْقِتَالِ، وَالْمَعْنَى فَاعْزِمُوا عَلَيْهِ. (فَتَمِيلُوا) : بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ: فَتَحْمِلُوا، وَلَفْظُ ابْنِ الْهُمَامِ: ثُمَّ مِيلُوا. (عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً) : كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102] . (وَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى نَحْوِ: جَاءَ زَيْدٌ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ. (فَأَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ أَصْحَابَهُ شَطْرَيْنِ أَيْ: نِصْفَيْنِ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ يَعْنِي: صَفَّيْنِ. (فَيُصَلِّيَ) : بِالنَّصْبِ. (بِهِمْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: يُحْرِمُ بِهِمْ جَمِيعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ بِهِمْ رَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ. (وَتَقُومَ) : بِالنَّصْبِ. (طَائِفَةٌ أُخْرَى وَرَاءَهُمْ) وَأَمْرُ الْإِحْرَامِ بِالْكُلِّ مَعَ الْإِمَامِ، مُقَرَّرٌ بِمُقْتَضَى الْمَقَامِ يَعْنِي: تَسْتَمِرُّ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَائِمَةَ الِاعْتِدَالِ تَحْرُسُهُمْ عِنْدَ سُجُودِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُرَاقَبَتِهِمُ الْعَدُوَّ لِئَلَّا يَبْغَتَهُمُ الْعَدُوُّ، وَهُمْ فِي السُّجُودِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى تَسْتَمِرُّ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ إِلَى أَنْ فَرَغَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى. قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] أَيْ: رَكْعَةً أُخْرَى، وَلِيَصِحَّ قَوْلُهُ الْآتِي: فَتَكُونَ لَهُمْ رَكْعَةٌ. (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: الْحَارِسُونَ، وَالْأَظْهَرُ أَيِ: الْمُصَلُّونَ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ يَحْرُسُونَ فِي رَكْعَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ ; وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] فَالْحِذْرُ كَالْجُنَّةِ، وَالْأَسْلِحَةُ كَالسَّيْفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مَا فِيهِ الْحِذْرُ. الْكَشَّافُ: جَعَلَ الْحِذْرَ وَهُوَ التَّحَرُّزُ وَالتَّيَقُّظُ آلَةً يَسْتَعْمِلُهَا الْغَازِي، فَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَسْلِحَةِ فِي الْأَخْذِ دَلَالَةً عَلَى التَّيَقُّظِ التَّامِّ، وَالْحِذْرِ الْكَامِلِ، وَمِنْ ثَمَّ قَدَّمَهُ عَلَى أَخْذِ الْأَسْلِحَةِ. (فَتَكُونَ لَهُمْ) أَيْ: لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: لِكُلٍّ مِنَ الْحَارِسِينَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ لَهُ. (رَكْعَةٌ) أَيْ: مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَانِ) أَيْ: كَامِلَتَانِ تَابِعَةٌ فِيهِمَا الطَّائِفَتَانِ، وَذَكَرَ الرَّكْعَةَ وَالرَّكْعَتَيْنِ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْقَضِيَّتَيْنِ، وَاخْتَارَ إِمَامُنَا الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ مِنَ الْبَابِ لِمُرَافَقَتِهِمَا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدٌ فَسَاقَهُ، وَقَالَ: فَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ، فَفُرِّقْنَا فِرْقَتَيْنِ، الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ غَزْوَةَ عُسْفَانَ كَانَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ اهـ. كَلَامُ ابْنِ الْهُمَامِ.

[باب صلاة العيدين]

[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

[47] بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ " 1426 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ، وَيُوصِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [47] بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَيِ: الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى. قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْعِيدُ عِيدًا لِأَنَّهُ يَعُودُ كُلَّ سَنَةٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَوْدِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. وَفِي الْأَزْهَارِ: كُلُّ اجْتِمَاعٍ لِلسُّرُورِ، فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ عِيدٌ لِعَوْدِ السُّرُورِ بِعَوْدِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعُودُ عَلَى الْعِبَادِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلِذَا قِيلَ: لَيْسَ الْعِيدُ لِمَنْ لَبِسَ الْجَدِيدَ، إِنَّمَا الْعِيدُ لِمَنْ أَمِنَ الْوَعِيدَ، وَجَمْعُهُ أَعْيَادٌ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْوَاوَ لَا الْيَاءَ لِلُزُومِهَا فِي الْوَاحِدِ، أَوْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْوَادِ الْخَشَبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَاجِبَةٌ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَوَجْهُ الْوُجُوبِ مُوَاظَبَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ، كَذَا فِي الْهِدَايَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ: أَنَّ أَوَّلَ عِيدٍ صَلَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيدُ الْفِطْرِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهِيَ الَّتِي فُرِضَ رَمَضَانُ فِي شَعْبَانِهَا، ثُمَّ دَاوَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى. " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ " 1426 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى) أَيْ: وَيَوْمَ الْأَضْحَى. (إِلَى الْمُصَلَّى) أَيْ: مُصَلَّى الْعِيدِ بِالْمَدِينَةِ خَارِجَ الْبَلَدِ، وَهُوَ الْآنَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ، وَبِالتَّبَرُّكِ مَوْصُوفٌ. فِي. (شَرْحِ السُّنَّةِ) : السُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَيُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ، أَيِّ مَسْجِدٍ دَاخِلَ الْبَلَدِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ إِلَى الْجَبَّانَةِ، وَيَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضُّعَفَاءِ فِي الْمِصْرِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْكَلَامُ كُلُّهُ فِي غَيْرِ مَسْجِدَيْ مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَمَّا هُمَا فَهِيَ فِيهِمَا أَفْضَلُ مُطْلَقًا تَبَعًا لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلِشَرَفِهِمَا مَعَ اتِّسَاعِهِمَا. (فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ) أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (بِهِ الصَّلَاةُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَبْدَأُ بِهِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِـ " أَوَّلُ شَيْءٍ "، وَأَوَّلُ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ مُخَصَّصًا فَهُوَ خَبَرٌ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَعْرَفُ مِنْهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرَتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] فَدَلَّ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالتَّعْرِيضِ بِبَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْهُمْ: مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فِي تَقْدِيمِهِ الْخُطْبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ. (ثُمَّ يَنْصَرِفُ) أَيْ: عَنِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " أَيْ: مِنْ مُصَلَّاهُ إِلَى الْمِنْبَرِ "، فَغَفْلَةٌ عَنْ أَنَّ الْمِنْبَرَ مَا كَانَ إِذْ ذَاكَ. (فَيَقُومُ) أَيْ: عَلَى الْأَرْضِ. (مُقَابِلَ النَّاسِ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَتُفْتَحُ، حَالٌ. قَالَ الشَّيْخُ: فِيهِ أَنَّ الْخُطْبَةَ عَلَى الْأَرْضِ عَنْ قِيَامٍ فِي الْمُصَلَّى أَوْلَى مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ أَنَّ الْمُصَلَّى يَكُونُ بِمَكَانٍ فِيهِ فَضَاءٌ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ رُؤْيَتِهِ كُلُّ مَنْ حَضَرَ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي مَكَانٍ مَحْصُورٍ، فَقَدْ لَا يَرَاهُ بَعْضُهُمْ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْمُصَلَّى عَلَى الْمِنْبَرِ مَرْوَانُ نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَضَعِ الْمِنْبَرَ لِلْعِيدِ دُونَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلَّ جُمُعَةٍ بِخِلَافِ الْعِيدِ، فَإِنَّهُ حَالَةٌ نَادِرَةٌ. وَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ اخْتِيرَ الْمِنْبَرُ ; لِأَنَّهُ لِلتَّبْلِيغِ أَبْلَغُ وَأَظْهَرُ، فَهُوَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ وَإِنْ كَانَ لِلْوَاضِعِ نِيَّةٌ سَيِّئَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ الْهُمَامِ قَالَ: وَلَا يَخْرُجُ الْمِنْبَرُ إِلَى الْجَبَّانَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بِنَاءِ الْمِنْبَرِ بِالْجَبَّانَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ، قَالَ خَوَاهِرُ زَادَهْ: حَسَنٌ فِي زَمَانِنَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِهِ. (وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ) أَيْ: مُسْتَقْبِلِينَ لَهُ عَلَى

حَالَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهَا. (فَيَعِظُهُمْ) أَيْ: يُذَكِّرُهُمْ بِالْعَوَاقِبِ: بِشَارَةً مَرَّةً، وَنِذَارَةً أُخْرَى، وَبِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَبِالرَّغْبَةِ فِي الْأُخْرَى، وَبِالْوَعْدِ فِي الثَّوَابِ، وَبِالْوَعِيدِ فِي الْعِقَابِ لِئَلَّا يَسْتَلِذَّهُمْ فَرْطُ السُّرُورِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَيَغْفُلُوا عَنِ الطَّاعَةِ، وَيَقَعُوا فِي الْمَعْصِيَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ غَالِبِ أَهْلِ الزَّمَانِ الْآنَ. (وَيُوصِيهِمْ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ أَيْ: بِالتَّقْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقَوُا اللَّهَ} [النساء: 131] وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَامِلَةٌ، وَبِمَرَاتِبِ الْكَمَالِ شَامِلَةٌ، أَدْنَاهَا التَّقْوَى عَنِ الشِّرْكِ بِالْمَوْلَى، وَأَوْسَطُهَا امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابُ الزَّوَاجِرِ، وَأَعْلَاهَا الْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ وَالْغَيْبَةُ عَمَّا سِوَاهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: يُوصِيهِمْ بِإِدَامَةِ الطَّاعَاتِ، وَالتَّحَرُّزِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَبِرِعَايَةِ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَمِنْهَا النُّصْحُ التَّامُّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. (وَيَأْمُرُهُمْ) أَيْ: وَيَنْهَاهُمْ يَعْنِي بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَقَامِ، فَيَكُونُ الِاخْتِصَارُ عَلَى (يَأْمُرُهُمْ) مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ: يَأْمُرُهُمْ بِأَحْكَامِ الْفِطْرَةِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ، وَبِأَحْكَامِ الْأُضْحِيَّةِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَيَعِظُهُمْ أَيْ: يُنْذِرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ ; لِيَتَّقُوا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَيُوصِيهِمْ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لِيَنْصَحُوا لَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْحَلَالِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. (وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ) أَيْ: يُرْسِلَ أَوْ يُعَيِّنَ. (بَعْثًا) أَيْ: جَيْشًا إِلَى نَاحِيَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. (قَطَعَهُ) أَيْ: أَرْسَلَهُ، وَقِيلَ قَطَعَهُ بِمَعْنَى وَزَّعَهُ، بِأَنْ يَقُولَ: يَخْرُجُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ كَذَا، وَمِنْ بَنِي فُلَانٍ كَذَا. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يُفْرِدَ قَوْمًا مِنْ غَيْرِهِمْ يَبْعَثُهُمْ إِلَى الْغَزْوِ لَأَفْرَدَهُمْ وَبَعَثَهُمْ. (أَوْ يَأْمُرَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ. (بِشَيْءٍ) أَيْ: مِنْ أُمُورِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ أَوِ التَّخْصِيصِ لِبَعْضِ النَّاسِ، أَوْ لِبَعْضِ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ أَوْ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ. (أَمَرَ بِهِ) أَيْ: لَأَمَرَ بِمَا أَرَادَ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ: وَلَيْسَ تَكْرَارًا لِلْأَمْرِ السَّابِقِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَخِيرِ الْأَمْرُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَعْثِ وَقَطْعِهِ مِنَ الْحَرْبِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا. وَقَالَ الشَّارِحُ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْبَعْثُ: الْجَيْشُ الْمَبْعُوثُ إِلَى مَوْضِعٍ، مُصَدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ جَيْشًا إِلَى مَوْضِعٍ لَأَرْسَلَهُ، وَقِيلَ: قَطَعَهُ أَيْ: وَزَّعَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ، أَوْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ مِنْ مَصَالِحِ النَّاسِ لَأَمَرَ؛ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَجْمَعَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَمْ تَمْنَعْهُ الْخُطْبَةُ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْخُطْبَةِ غَيْرُ حَرَامٍ عَلَى الْإِمَامِ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الْعِيدِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. قُلْتُ: كَلَامُ الْإِمَامِ إِذَا كَانَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ حَرَامٌ، وَلَوْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الْأَنَامِ؟ ! (ثُمَّ يَنْصَرِفُ) أَيْ: يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.

1427 - «وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيدَيْنِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1427 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيدَيْنِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَا مَرَّتَيْنِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ أَيْ: كَثِيرًا. (بِغَيْرِ أَذَانٍ) أَيْ: مُتَعَارَفٍ. (وَلَا إِقَامَةٍ) أَيْ: مَعْرُوفَةٍ. بَلْ يُنَادِي: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ لِيَخْرُجَ النَّاسُ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ، وَهَذَا النِّدَاءُ مُسْتَحَبٌّ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَا لِشَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ. وَفِي الْأَزْهَارِ: بَلْ يُكْرَهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِحْدَاثِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْوُلَاةِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ فِي الْعِيدِ مُعَاوِيَةُ. وَقِيلَ: زِيَادٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَقَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

1428 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1428 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ) قَالَ التُّورْبِشْتِيُّ: ذِكْرُ الشَّيْخَيْنِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُقَرِّرُهُ مِنَ السُّنَّةِ، إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ لِتِلْكَ السُّنَّةِ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ مَعْمُولٌ بِهَا. قَدْ عَمِلَ الشَّيْخَانِ بِهَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يُغَيَّرْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ مَشْيَخَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ ذِكْرُهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِشْرَاكِ أَيْ: فِي التَّشْرِيعِ، مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ فِيهِ ذَلِكَ اهـ. وَأَفْهَمَ سُكُوتُهُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَمَّا مَا فَعَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ مِنْ تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ لَمَّا كَانَ وَالِيًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ، فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي فِعْلِ عُثْمَانَ إِنْ صَحَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ لِمُجَرَّدِ بَيَانِ الْجَوَازِ لَا لِإِدَامَةِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَرْوَانَ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْإِدَامَةَ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ اهـ. وَقَوْلُهُ لِمُجَرَّدِ بَيَانِ الْجَوَازِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِجَوَازِهِ، فَبَيَّنَهُ بِفِعْلِهِ ; لِأَنَّهُ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ سَهْوًا أَوْ وَهْمًا أَنَّهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عَلَى الْخُطْبَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّذْكِيرِ أَوِ الْإِعْلَامِ، لِعِلْمِهِ بِالْجَوَازِ، وَلِإِعْلَامِهِ أَهْلَ الْحِجَازِ بِأَنَّ عَمَلَهُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُجَازِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ التَّقْدِيمُ فِيهَا، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَصَحِيحَةٌ اتِّفَاقًا، وَاعْتُذِرَ عَنْ مَرْوَانَ بِأَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرِ السُّنَّةَ عَنْهَا بَلْ قِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ سَبَقَهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَكَذَا مُعَاوِيَةُ كَمَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُمَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَمَا ذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ إِنْ صَحَّ فَهُوَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فِي تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ وَتَأْخِيرِهَا، أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ وَالْعِيدَ نَفْلٌ، فَخُولِفَ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَلَا يَرُدُّ خُطْبَةَ عَرَفَةَ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلصَّلَاةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَقُدِّمَتْ لِتَكْمِيلِ شُرُوطِهَا، بِخِلَافِ الْعِيدَيْنِ، وَأَيْضًا تُقَدَّمُ الشَّرَائِطُ عَلَى الصَّلَاةِ كَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ وَقْتَ الْعِيدِ أَوْسَعُ مِنْ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، وَالْوَقْتُ قَدْ تَضِيقُ فَقُدِّمَتِ الْخُطْبَةُ فِي الْجُمُعَةِ وَأُخِّرَتْ فِي غَيْرِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ، وَلَوْ أُخِّرَتْ فَرُبَّمَا ذَهَبُوا وَتَرَكُوا فَأَثِمُوا فَقُدِّمَتْ، وَتَقْدِيمُهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1429 - «وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيدَ؟ قَالَ: نَعَمْ. خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلَا إِقَامَةً، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يُهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ، وَحُلُوقِهِنَّ، يَدْفَعْنَ إِلَى بِلَالٍ، ثُمَّ ارْتَفَعَ هُوَ وَبِلَالٌ إِلَى بَيْتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1429 - (وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشَهِدْتَ) فِي الْمَصَابِيحِ بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ: أَحَضَرْتَ؟ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيدَ؟) أَيْ: صَلَاتَهُ. (قَالَ: نَعَمْ) أَيْ: شَهِدْتُهُ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ. (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: إِلَى الْمُصَلَّى. (فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَخَطَبَ قَائِمًا، ثُمَّ قَعَدَ قُعَيْدَةً ثُمَّ قَامَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا رُوِيَ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ فِي الْعِيدِ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ ضَعِيفٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ» ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَكْرِيرِ الْخُطْبَةِ شَيْءٌ، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْجُمُعَةِ. (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ صَلَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (أَذَانًا وَلَا إِقَامَةً) فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْهُمَا وَهُوَ بَعِيدٌ مَعْنًى، وَإِنْ قَرُبَ لَفْظًا. (ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَمَعَهُ بِلَالٌ. (فَوَعَظَهُنَّ) أَيْ: خَوَّفَهُنَّ وَنَصَحَهُنَّ بِالْخُصُوصِ ; لِبُعْدِهِنَّ وَعَدَمِ سَمَاعِهِنَّ الْخُطْبَةَ. (وَذَكَّرَهُنَّ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمُخْتَصَّةِ بِهِنَّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ. (وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ) أَيْ: بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَوْ بِالزَّكَاةِ، أَوْ بِمُطْلَقِ الصَّدَقَةِ. (فَرَأَيْتُهُنَّ يُهْوِينَ) : بِضَمِّ الْأَوَّلِ،

وَكَسْرِ الثَّالِثِ. فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ: أَهْوَى بِيَدِهِ إِلَيْهِ أَيْ: مَدَّهَا نَحْوَهُ وَأَمَالَهَا إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: أَهْوَى يَدَهُ وَبِيَدِهِ إِلَى الشَّيْءِ لِيَأْخُذَهُ، أَيْ: يَقْصِدْنَ. (إِلَى آذَانِهِنَّ) : بِالْمَدِّ جَمَعُ أُذُنٍ. (وَحُلُوقِهِنَّ) : جَمْعُ حَلْقٍ، وَهُوَ الْحُلْقُومُ أَيْ: إِلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْقُرْطِ وَالْقِلَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحُلُوقُ جَمْعُ حَلْقَةٍ. (يَدْفَعْنَ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِنَّ يَدْفَعْنَ مَا أَخَذْنَ مِنْ حُلُوقِهِنَّ. (إِلَى بِلَالٍ) أَيْ: بِإِلْقَائِهِ فِي ثَوْبِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِيَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَطِيَّةِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذَنْ زَوْجِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ قَالُوا: وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَاسْتِطَابَةِ نَفْسِ الرَّجُلِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " «لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا» " مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الرَّشِيدَةِ. ذَكَرَهُ السَّيِّدُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ عَجِيبٌ إِذْ غَيْرُ الرَّشِيدَةِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهَا بِإِذْنِ زَوْجٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، فَالْوَجْهُ إِنْ صَحَّ حَمْلُهُ عَلَى الْإِعْطَاءِ مِنْ مَالِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ، وَأَمَّا مَالُهَا فَإِنْ كَانَتْ رَشِيدَةً جَازَ لَهَا مُطْلَقًا، أَوْ سَفِيهَةً امْتَنَعَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا اهـ. أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَوْلَى، وَخُصَّ مِنْهُ أَمْرُ الْمَوْلَى، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَطِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ مِنَ الْهِبَةِ لِلْأَجْنَبِيَّةِ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ عَلَى الصَّدَقَاتِ التَّطَوُّعِيَّةِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ وَالْفَرْضِيَّةِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِتْيَانُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النِّسَاءَ خَاصٌّ بِهِ ; لِأَنَّهُ أَبٌ لَهُنَّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْخَطِيبَ لَا يَلْزَمُهُ خُطْبَةٌ أُخْرَى، قِيلَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ تُسَنُّ الصَّدَقَةُ فِي الْمَسْجِدِ خِلَافًا لِمَنْ حَرَّمَهَا أَوْ كَرِهَهَا. وَفِي هَذَا الْأَخْذِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ بِالْمُصَلَّى خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَيِّنٌ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْ حَرَّمَهَا أَوْ كَرِهَهَا قَيَّدَ الْإِعْطَاءَ بِالسَّائِلِ مُطْلَقًا، أَوِ الْمُلِحِّ، أَوِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، أَوِ الْمُشْغَلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ لِسُكَّانِ الْمَسْجِدِ مِنَ الْفُقَرَاءِ فَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِهِ، بَلْ فِي اسْتِحْبَابِهِ. (ثُمَّ ارْتَفَعَ) أَيْ: ذَهَبَ وَأَسْرَعَ مُتَكَلِّفًا. فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ رَفَعْتُ نَاقَتِي كَلَّفْتُهَا الْمَرْفُوعَ مِنَ السَّيْرِ، وَقِيلَ: أَيْ: ذَهَبَ وَانْصَرَفَ. (هُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَبِلَالٌ إِلَى بَيْتِهِ) أَيْ: إِلَى بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ إِلَى بَيْتِ بِلَالٍ، وَهُوَ وَهْمٌ، قَالَهُ فِي الْأَزْهَارِ، وَنَقَلَهُ مِيرَكُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1430 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1430 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ) أَيْ: سُنَّةً، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (قَبْلَهُمَا) أَيْ: قَبْلَ الرَّكْعَتَيْنِ. (وَلَا بَعْدَهُمَا) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا النَّفْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُصَلَّى لِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُكَرَهُ لِلْقَوْمِ التَّنَفُّلُ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِفِعْلِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ ذَلِكَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَيُكْرَهُ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِمَنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ لِإِعْرَاضِهِ بِهِ عَنِ الْخَطِيبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يُصَلِّي قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَهَا لَا قَبْلَهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1431 - «وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ، وَذَوَاتَ الْخُدُورِ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَتَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ مُصَلَّاهُنَّ، قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: " لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1431 - (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أُمِرْنَا) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ: نَحْنُ مُعَاشِرَ النِّسَاءِ. (أَنْ نُخْرِجَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ. (الْحُيَّضَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ جَمْعُ حَائِضٍ أَيْ: الْبَالِغَاتِ مِنَ الْبَنَاتِ، أَوِ الْمُبَاشِرَاتِ بِالْحَيْضِ، مَعَ أَنَّهُنَّ غَيْرُ طَاهِرَاتٍ. (يَوْمَ الْعِيدَيْنِ) : قَالَ الْمَالِكِيُّ: فِيهِ إِفْرَادُ الْيَوْمِ، وَهُوَ الْمُضَافُ إِلَى الْعِيدَيْنِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُثَنًّى وَنَحْوُ قَوْلِهِ: وَمَسَحَ أُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا يَعْنِي: حَيْثُ أَفْرَدَ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَلَوْ رُوِيَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ عَلَى الْأَصْلِ لَجَازَ أَيْ: جَازَ أَنْ يَقُولَ: يَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ أَوْ يَوْمَيِ الْعِيدِ. (وَذَوَاتَ الْخُدُورِ) أَيْ: السُّتُورِ جَمْعُ خِدْرٍ، وَهُوَ السِّتْرُ عَطْفٌ عَلَى الْحُيَّضِ أَيِ: الَّتِي قَلَّ،

خُرُوجُهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَجَوَّزَ الزَّرْكَشِيُّ فِي " تُخْرَجَ " أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ التَّاءِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ، فَالتَّقْدِيرُ أُمِرْنَا أَنْ تُخْرَجَ مِنَّا الْحُيَّضُ، وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، فَهُمَا مَرْفُوعَانِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْعَوَاتِقَ بَدَلَ الْخُدُورِ جَمْعُ عَاتِقٍ أَيِ: الْبَالِغَاتُ ; لِأَنَّهُنَّ عُتِقْنَ عَنِ الْخِدْمَةِ أَوْ عَنْ قَهْرِ الْأَبَوَيْنِ. (فَيَشْهَدْنَ) أَيْ: يَحْضُرْنَ. (جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ) أَيْ: دُعَاءَهُمْ وَيُكَثِّرْنَ سَوَادَهُمْ. (وَتَعْتَزِلُ) وَفِي رِوَايَةٍ: يَعْتَزِلْنَ بِإِثْبَاتِ النُّونِ عَلَى لُغَةٍ شَاذَّةٍ. (الْحُيَّضُ عَنْ مُصَلَّاهُنَّ) أَيْ: تَنْفَصِلُ وَتَقِفُ فِي مَوْضِعٍ مُنْفَرِدَاتٍ لِئَلَّا يُؤْذِينَ غَيْرَهُنَّ بِدَمِهِنَّ أَوْ رِيحِهِنَّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَمَرَ جَمِيعَ النِّسَاءِ بِحُضُورِ الْمُصَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ لِتُصَلِّيَ مَنْ لَيْسَ لَهَا عُذْرٌ، وَتَصِلَ بَرَكَةُ الدُّعَاءِ إِلَى مَنْ لَهَا عُذْرٌ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ لِلنَّاسِ فِي حُضُورِ الصَّلَوَاتِ، وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَمُقَارَبَةِ الصُّلَحَاءِ لِيَنَالَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، وَهَذَا أَيْ: حُضُورُهُنَّ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ فِي زَمَانِنَا لِظُهُورِ الْفَسَادِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتُلِفَ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ لِيَوْمِ الْعِيدَيْنِ، فَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ، وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِخَبَرِ عَائِشَةَ: لَوْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَحْدَثَتِ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَتَخْرُجُ الْعَجَائِزُ لِلْعِيدِ لَا الشَّوَابُّ اهـ. وَهُوَ قَوْلٌ عَدْلٌ، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُقَيَّدَ بِأَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُشْتَهَاةٍ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ، بِإِذْنِ حَلِيلِهَا مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ بِأَنْ لَا يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَالِ، وَيَكُنَّ خَالِيَاتٍ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ، وَالْبَخُورِ وَالشُّمُومِ، وَالتَّبَخْتُرِ وَالتَّكَشُّفِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا أَحْدَثْنَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مُلَازِمَاتٌ الْبُيُوتَ لَا يَخْرُجْنَ، وَوَجَّهَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ، فَأُرِيدَ التَّكْثِيرُ بِهِنَّ تَرْهِيبًا لِلْعَدُوِّ اهـ. وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمُسَبَّبَ يَزُولُ بِزَوَالِ السَّبَبِ، وَلِذَا أُخْرِجَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَصْرِفِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ هَذَا صَارَ مَنْسُوخًا فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ. وَهُوَ تَوْجِيهٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ ذَلِكَ لَا يُجْدِي، إِذْ لَا بُدَّ فِي النَّسْخِ الَّذِي زَعَمَهُ مِنْ تَحَقُّقِ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ، وَمَعْرِفَةِ تَأَخُّرِهِ عَنِ الْمَنْسُوخِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَهْجُرُ ذِكْرَ اللَّهِ وَمَوَاطِنَ الْخَيْرِ، وَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُ الصِّبْيَانِ. كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْرِجُ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فِي الْعِيدِ. (قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا) أَيْ: مَا حُكْمُ وَاحِدَةٍ مِنَّا. (لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ؟) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: كِسَاءٌ تَسْتَتِرُ النِّسَاءُ بِهِ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بَيْتِهِنَّ. قَالَ الْجَزَرِيُّ: الْجِلْبَابُ الْإِزَارُ، وَفِي تَاجِ الْأَسَامِي: هُوَ الرِّدَاءُ. (قَالَ: " لِتُلْبِسْهَا ") : أَمْرٌ مِنَ الْإِلْبَاسِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ. (" صَاحِبَتُهَا ") : بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. (" مِنْ جِلْبَابِهَا ") : قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَيْ: تُعِيرُهَا مِنْ ثِيَابِهَا مَا لَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَشْرِيكُهَا مَعَهَا فِي لُبْسِ الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهَا، وَيَشْهَدُ لَهُ رِوَايَةُ: " «تُلْبِسُهَا صَاحِبَتُهَا طَائِفَةً مِنْ ثَوْبِهَا» "، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ: يَخْرُجْنَ وَلَوِ اثْنَتَانِ فِي جِلْبَابٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ الْجِلْبَابِ، قِيلَ: هُوَ الْمِقْنَعَةُ، أَوِ الْخِمَارُ، أَوْ أَعْرَضُ مِنْهُ، وَقِيلَ: الثَّوْبُ الْوَاسِعُ يَكُونُ دُونَ الرِّدَاءِ، وَقِيلَ: الْإِزَارُ، وَقِيلَ: الْمِلْحَفَةُ، وَقِيلَ: الْمُلَاءَةُ. وَقِيلَ: الْقَمِيصُ كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْجِنْسِيَّةِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالشَّخْصِيَّةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ ثَوْبًا وَاسِعًا قَابِلًا لِلِاشْتِرَاكِ، فَتَقْطَعُهُ وَتُعْطِي صَاحِبَتَهَا بَعْضَهُ بِالْمِلْكِيَّةِ أَوِ الْعَارِيَّةِ، وَفِيهِ الْمُبَالَغَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْحَثُّ عَلَى الْمَكَارِمِ الْجَسِيمَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1432 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ: تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: " دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ ; فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1432 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا) : التَّعْبِيرُ بِأَبِي بَكْرٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الرَّاوِي لِتَجْوِيزِ نَقْلِ الْمَعَانِي كَقَوْلِهِ: (وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ) أَيْ: بِنْتَانِ صَغِيرَتَانِ، أَوْ خَادِمَتَانِ مَمْلُوكَتَانِ، وَصَحَّ أَنَّ إِحْدَاهُمَا كَانَ اسْمُهَا حَمَامَةَ. (فِي أَيَّامِ مِنًى) : بِعَدَمِ الِانْصِرَافِ، وَقِيلَ يَنْصَرِفُ أَيْ: أَيَّامِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ. (تُدَفِّفَانِ) :

بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: تَضْرِبَانِ بِالدُّفِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ، الدَّفُّ: الْجَنْبُ، وَمِنْهُ دَفَّتَا الْمُصْحَفِ لِمُشَابَهَتِهِمَا بِجَنْبَيْنِ، وَالدُّفُّ بِالضَّمِّ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ مُتَّخَذٌ مِنْ جِلْدِ الْجَنْبِ اهـ. وَفِي النِّهَايَةِ: الدُّفُّ، بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ مَعْرُوفٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الدَّفُّ، بِالْفَتْحِ الْجَنْبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ صَفْحَتُهُ، وَالَّذِي يُضْرَبُ بِهِ، وَالضَّمُّ أَعْلَى. (وَتَضْرِبَانِ) أَيْ: بِالدُّفِّ، فَيَكُونُ عَطْفًا تَفْسِيرِيًّا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ تَكْرَارٌ لِزِيَادَةِ الشَّرْحِ، وَقِيلَ تَرْقُصَانِ مِنْ ضَرْبِ الْأَرْضِ وَوَطْئِهَا اهـ. وَقِيلَ: تَضْرِبَانِ عَلَى الْكَفِّ يَعْنِي تَارَةً وَتَارَةً. (وَفِي رِوَايَةٍ: تُغَنِّيَانِ) أَيْ: بَدَلَ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ، فَيَكُونُ حَالًا بِأَنْ تَرْفَعَا أَصْوَاتَهُمَا بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ قَرِيبًا مِنَ الْحُدَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ " أَيْ: لَا تُحْسِنَانِ الْغِنَاءَ وَلَا اتَّخَذَتَاهُ كَسْبًا وَصَنْعَةً، أَوْ لَا تُعْرَفَانِ بِهِ، أَوْ لَيْسَتَا كَعَادَةِ الْمُغَنِّيَاتِ مِنَ التَّشْوِيقِ إِلَى الْهَوَى، وَالتَّعْرِيضِ بِالْفَاحِشَةِ، وَالتَّشْبِيبِ بِالْجَمَالِ الدَّاعِي إِلَى الْفِتْنَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (بِمَا) وَفِي رِوَايَةٍ: مِمَّا. (تَقَاوَلَتْ) : تَفَاعَلَ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: تَنَاشَدَتْ وَتَفَاخَرَتْ بِهِ. (الْأَنْصَارُ) أَيْ: بِمَا يُخَاطِبُ الْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْحَرْبِ مِنَ الْأَشْعَارِ الَّتِي تَفَاخَرَ فِيهَا الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. (يَوْمَ بُعَاثَ) : بِضَمِّ الْبَاءِ، اسْمُ مَوْضِعٍ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلَيْنِ، وَالْأَشْهَرُ فِيهِ تَرْكُ الصَّرْفِ قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. وَفِي النِّهَايَةِ: بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَمَنْ قَالَ بِالْمُعْجَمَةِ فَقَدْ صَحَّفَ، وَهُوَ اسْمُ حِصْنٍ لِلْأَوْسِ جَرَى الْحَرْبُ فِي هَذَا الْيَوْمِ عِنْدَ هَذَا الْحِصْنِ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَكَانَتْ فِيهِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْأَوْسِ، وَاسْتَمَرَّتْ بَيْنَهُمَا مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى زَالَتْ بِيُمْنِ قُدْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63] ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] . (وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَغَشٍّ) أَيْ: مُتَغَطٍّ وَمُلْتَفٌّ. (بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: زَجَرَهُمَا بِكَلَامٍ غَلِيظٍ عَنِ الْغِنَاءِ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُ مِنْ مَنْعِ اللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَرَّرَهُنَّ عَلَى هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ. (فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: " دَعْهُمَا ") أَيِ: اتْرُكْهُمَا. (" يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا ") أَيْ: أَيَّامُ مِنًى أَوِ الْأَيَّامُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا. (" أَيَّامُ عِيدٍ ") : سَمَّاهَا عِيدًا لِمُشَارَكَتِهَا يَوْمَ الْعِيدِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الصَّوْمِ فِيهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي مَقَالِهِ نَظَرٌ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أَيَّامُ سُرُورٍ وَفَرَحٍ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَتِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجَازَتِ الصَّحَابَةُ غِنَاءَ الْعَرَبِ الَّذِي فِيهِ نِشَادٌ وَتَرَنُّمٌ وَالْحُدَاءَ، وَفَعَلُوهُ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِحُرْمَةِ الْغِنَاءِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَلَا يُجَرِّحُ الشَّاهِدَ قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَوَاضِعَ الصَّالِحِينَ تُنَزَّهُ عَنِ اللَّهْوِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ، وَأَنَّ التَّابِعَ لِلْكَبِيرِ إِذَا رَأَى بِحَضْرَتِهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ يُنْكِرُهُ إِجْلَالًا لِلْكَبِيرِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " يَا أَبَا بَكْرٍ ") : كَذَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي إِشَارَةً إِلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ الْقِيَاسُ الْخَطِّيُّ، وَالثَّانِيَ الرَّسْمُ الْقُرْآنِيُّ. (" إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ ") أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الْأَقْوَامِ الْمُبْطِلَةِ. (" عِيدًا ") : كَالنَّيْرُوزِ لِلْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَعَلَ عُلَمَاؤُنَا التَّشَبُّهَ بِهِمْ كَلُبْسِ ثِيَابِ الزِّينَةِ، وَلُعْبِ الْبَيْضِ، وَصَبْغِ الْحِنَّاءِ، وَاللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِلْيَوْمِ كُفْرًا. (" وَهَذَا ") أَيْ: هَذَا الْوَقْتُ. (" عِيدُنَا ") أَيْ: مَعَاشِرَ الْإِسْلَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا اعْتِذَارٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَنَّ إِظْهَارَ السُّرُورِ فِي يَوْمِ الْعِيدَيْنِ شِعَارُ أَهْلِ الدِّينِ، وَلَيْسَ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَانَ الشِّعْرُ الَّذِي تُغَنِّيَانِ بِهِ فِي وَصْفِ الْحَرْبِ وَالشَّجَاعَةِ، وَفِي ذِكْرِهِ مَعُونَةٌ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَأَمَّا الْغِنَاءُ بِذِكْرِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ مِنَ الْقَوْلِ، فَهُوَ الْمَحْظُورُ مِنَ الْغَنَاءِ، وَحَاشَا أَنْ يَجْرِيَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ وَضَرْبَ الدُّفِّ غَيْرُ مَحْظُورٍ لَكِنْ فِي

بَعْضِ الْأَحْيَانِ. أَمَّا الْإِدْمَانُ عَلَيْهِ فَمَكْرُوهٌ، وَمُسْقِطٌ لِلْعَدَالَةِ، مَاحٍ لِلْمُرُوءَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الدُّفِّ جَائِزٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جَلَاجِلُ، وَفِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَأَنَّ إِنْشَادَ الشِّعْرِ الَّذِي لَيْسَ بِهَجْوٍ وَلَا سَبٍّ جَائِزٌ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانَ: اسْتِمَاعُ صَوْتِ الْمَلَاهِي كَالضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " «اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي مَعْصِيَةٌ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ، وَالتَّلَذُّذُ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ» " إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ، وَإِنْ سَمِعَ بَغْتَةً فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ كُلَّ الْجُهْدِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ» ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَشْعَارِ الْعَرَبِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْفِسْقِ وَالْخَمْرِ وَالْغُلَامِ مَكْرُوهٌ ; لِأَنَّهُ ذِكْرُ الْفَوَاحِشِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1433 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكُلَهُنَّ وِتْرًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1433 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَغْدُو) أَيْ: لَا يَخْرُجُ إِلَى الْمُصَلَّى. (يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ) : مِنْ ثَلَاثٍ إِلَى عَشْرٍ. (وَيَأْكُلَهُنَّ) : بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ. (وِتْرًا) أَيْ: ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا، أَوْ تِسْعًا. قَالَ الْأَشْرَفُ: لَعَلَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْرَعَ بِالْإِفْطَارِ يَوْمَ الْفِطْرِ لِيُخَالِفَ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْإِفْطَارَ فِي سَلْخِ رَمَضَانَ حَرَامٌ، وَفِي الْعِيدِ وَاجِبٌ، وَلَمْ يُفْطِرْ فِي الْأَضْحَى قَبْلَ الصَّلَاةِ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ اهـ. وَهُوَ كَوْنُ مُخَالَفَةِ الْفِعْلِ مُشْعِرَةٌ بِمُخَالَفَةِ الْحُكْمِ، وَأَيْضًا سَبَبُ التَّأْخِيرِ فِي الْأَضْحَى لِيَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ أَوَّلًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ " فِيهِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ جُمْلَةَ: " وَيَأْكُلَهُنَّ وِتْرًا " رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ بِطَرِيقِ التَّعْلِيقِ، وَإِيرَادُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَرْوِيهِ مَوْصُولًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مَوْصُولًا مُسْنَدًا عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ مُرَجَّى بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيَأْكُلَهُنَّ وِتْرًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِ الْمُنْصِفِ: أَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بَيَانَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَوْصُولَاتِ وَالْمُعَلَّقَاتِ فِي دِيبَاجَةِ الْكِتَابِ، لَكِنَّ مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالَاتِهِ فِي بَيَانِ الْمُخَرَّجِ يُشْعِرُ بِالِالْتِزَامِ حَيْثُ قَالَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْأَمْرُ فِيهِ هَيِّنٌ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِالْتِزَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ التَّامِّ، وَأَمَّا فِي الْبَعْضِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَلَامِ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ الْتِزَامٌ فَمَا عَلَيْهِ الْإِلْزَامُ.

1434 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1434 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ) أَيْ: رَجَعَ فِي غَيْرِ طَرِيقِ الْخُرُوجِ، قِيلَ: وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُوهٌ مِنْهَا: أَنْ يَشْمَلَ أَهْلَ الطَّرِيقَيْنِ بَرَكَتُهُ وَبَرَكَةُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَفْتِيَ مِنْهُ أَهْلُ الطَّرِيقَيْنِ. وَمِنْهَا: إِشَاعَةُ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمِنْهَا: التَّحَرُّزُ عَنْ كَيْدِ الْكُفَّارِ. وَمِنْهَا اعْتِيَادُ أَخْذِهِ ذَاتَ الْيَمِينِ حَيْثُ عَرَضَ لَهُ سَبِيلَانِ، وَمِنْهَا: أَخْذُ طَرِيقٍ أَطْوَلَ فِي الذَّهَابِ إِلَى الْعِبَادَةِ لِيُكْثِرَ خُطَاهُ فَيَزِيدَ ثَوَابُهُ، وَأَخْذُ طَرِيقٍ أَخْصَرَ لِيُسْرِعَ إِلَى مَثْوَاهُ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَعَدُّدِ الطَّرِيقِ ; لِأَنَّ طُولَ الطَّرِيقِ إِلَى الْمَسْجِدِ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ، نَعَمْ هَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِاخْتِيَارِ الْأَطْوَلِ عَلَى الْأَخْصَرِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ الْأَقْرَبَ مُبَادَرَةً إِلَى الطَّاعَةِ، وَمُسَارَعَةً إِلَى الْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ حَالِ الْمُرَاجَعَةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءَ الطَّرِيقَيْنِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ لَهُ الطَّرِيقَانِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَزُورَ قُبُورَ أَقَارِبِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَزْدَادَ الْمُنَافِقُونَ غَيْظًا إِلَى غَيْظِهِمْ. وَمِنْهَا: التَّفَاؤُلُ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكْثُرَ الِازْدِحَامُ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَدَمَ التَّكْرَارِ أَنْشَطُ عِنْدَ طِبَاعِ الْأَنَامِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ: أَنَّ الْجُمْهُورَ رَوَوْهُ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، لَا كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

1435 - «وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ، فَإِنَّمَا هُوَ شَاةُ لَحْمٍ، عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1435 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ) أَيْ: فِي الْمَدِينَةِ. (فَقَالَ) أَيْ: فِي خُطْبَتِهِ. (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ. (بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ (أَنْ) وَمَدْخُولُهَا اسْمَ (إِنَّ) اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ نَصْبِ أَوَّلِ الْمُوَافِقِ لِلْمُتَبَادِرِ، ثُمَّ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَوَّلِ، وَمَا نَبْدَأُ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. (ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ) : بِالنَّصْبِ فِيهِمَا وَيُرْفَعَانِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمُرَادُ بِالنَّحْرِ هُنَا الَّذِي هُوَ فِي لَبَّةِ الْإِبِلِ مَا يَشْمَلُ الذَّبْحَ، وَهُوَ مَا فِي الْحَلْقِ مُطْلَقًا، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ نُصَلِّيَ صَلَاةَ الْعِيدِ الْمُسْتَتْبِعَةَ لِلْخُطْبَتَيْنِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَيْ: لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْخُطْبَةِ: أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ. إِلَخْ مُشْعِرٌ بِتَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ، لَكِنْ عِنْدَ التَّأَمُّلِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ ذَلِكَ فِي خُطْبَتِهِ، فَهُوَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ ثُمَّ الْخُطْبَةِ، وَأَنَّ تَقْدِيمَ كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ عَلَى الذَّبْحِ هُوَ الْمَشْرُوعُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي مُخَالَفَتُهُ. (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ عَلَى الذَّبْحِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: الصَّلَاةُ مَعَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ حِينَئِذٍ التَّقَابُلُ بَيْنَ الشَّرْطِيَّتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ: أَيْ: مَضَى عَلَيْهِ قَدْرُ فِعْلِ ذَلِكَ بِأَخَفِّ مُمْكِنٍ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَإِنَّهُ مَعَ صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمُجَازِيِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحَقِيقِيِّ فَأَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. (فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا) أَيْ: طَرِيقَتَنَا، وَصَادَفَ شَرِيعَتَنَا، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ، فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. ثُمَّ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ قَدْرَ رُمْحٍ وَمَضَى بَعْدَهُ قَدْرُ رَكْعَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ ذَبَحَ بَعْدَهُ جَازَ سَوَاءٌ صَلَّى الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يُصَلِّ، فَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَهُ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَصْرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا إِلَى يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَيْ: وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا أَنَّ وَقْتَ الْأُضْحِيَّةِ إِذَا مَضَى عَقِبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِنَاءً عَلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعِيدِ بِهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا، أَوْ بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا كَرُمْحٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ: اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَيْهِ اهـ. وَفِي صِحَّةِ كَوْنِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَأْخَذَهُمْ نَظَرٌ ظَاهِرٌ إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا أَصْلًا، وَلَا شَكَّ فِي حَمْلِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، هَذَا وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي قَبْلَ الشُّرُوقِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ وَاجِبَةٌ، وَوَقْتُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي حَقِّ الْمِصْرِيِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْقُرَى اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُعْتَدُّ بِالذَّبْحِ قَبْلَ فَجْرِ النَّحْرِ إِجْمَاعًا اهـ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَدَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، فِي شَرْطِ صِحَّةِ الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ وَيَخْطُبَ، وَيُؤَيِّدُهُمْ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَصْرِيحًا بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا وَمَنْطُوقًا بِمَا فُهِمَ مَفْهُومًا. (وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ، فَإِنَّمَا هُوَ) أَيِ: الْمَذْبُوحُ الْمَفْهُومُ مِنْ ذَبَحَ. (شَاةُ لَحْمٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ كَخَاتَمِ فِضَّةٍ،

أَيْ: شَاةٌ هِيَ لَحْمٌ، وَالتَّعْبِيرُ بِالشَّاةِ لِلْغَالِبِ ; إِذِ الْبَقَرُ وَالْإِبِلُ كَذَلِكَ. (عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ) : فَإِنَّ الشَّاةَ شَاتَانِ: شَاةٌ يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَشَاةُ نُسُكٍ يُتَصَدَّقُ بِهَا لِلَّهِ تَعَالَى. (لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ) : بِضَمَّتَيْنِ أَيْ: لَيْسَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي فِيهَا الثَّوَابُ. (فِي شَيْءٍ) : وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى الرَّأْيِ السَّدِيدِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ قَالَهُ مِيْرَكُ.

1436 - وَعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1436 - (وَعَنْ جُنْدَبٍ) : بِضَمِّهِمَا وَفَتْحِ الدَّالِ. (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى بَجِيلَةَ كَحَنِيفَةَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ ذَبَحَ) أَيْ: أُضْحِيَّتَهُ. (قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى) : فَإِنَّ الْأُولَى لَا تُحْسَبُ مِنَ النُّسُكِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَتَأْوِيلُ ابْنِ حَجَرٍ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَبْلَ الصَّلَاةِ. بِقَوْلِهِ: قَبْلَ مُضِيِّ قَدْرِ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ فِي حَقِّ الْمِصْرِيِّ. (وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ) أَيْ: ذَبْحًا صَحِيحًا حَالَ كَوْنِهِ كَائِنًا مَذْكُورًا عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ وُجُوبًا عِنْدَنَا، نَدْبًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1437 - وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1437 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ» ) أَيْ: لِأَكْلِهِ فَقَطْ، لَا عَنِ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي لِلْقُرْبَةِ. ( «وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ» ) أَيْ: صَحَّ أُضْحِيَّتُهُ. (وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: وَافَقَ طَرِيقَتَهُمْ، وَصَادَفَ شَرِيعَتَهُمْ، وَالْغَرِيبُ مِنَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مَعَ نُصُوصِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَصِحَّةِ رِوَايَاتِهَا، وَوُضُوحِ دَلَالَتِهَا، كَيْفَ خَالَفَ الْجُمْهُورَ؟ ! وَمَا الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى صَرْفِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا وَحَقِيقَتِهَا؟ ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا ذَلِكَ بِزَمَنِ الصَّلَاةِ دُونَ فِعْلِهَا الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ أَضْبَطُ لِلنَّاسِ فِي الْأَمْصَارِ وَغَيْرِهَا فَلَا يَصْلُحُ لِلْعُدُولِ عَنِ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ الْأَمْصَارِ. نَعَمْ يُرْتَكَبُ الْمَجَازُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْقُرَى مَعَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى أَهْلِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1438 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1438 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْبَحُ) أَيِ: الْبَقَرَةَ أَوِ الشَّاةَ. (وَيَنْحَرُ) أَيِ: الْإِبِلَ. (بِالْمُصَلَّى) : لِإِظْهَارِ الْأُضْحِيَّةِ لِيُقْتَدَى بِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيْرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

" الْفَصْلُ الثَّانِي " 1439 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: (مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ) ؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. " الْفَصْلُ الثَّانِي " 1439 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ) أَيْ: مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. (وَلَهُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْلَا اسْتِدْعَاءُ الرَّاجِعِ مِنَ الْحَالِ أَعْنِي: وَلَهُمْ لَكَانَتْ لَنَا مَنْدُوحَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ اهـ. يَعْنِي: وَلَقُلْنَا لِلْأَنْصَارِ أَوْ لِلْأَصْحَابِ. (يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا) : وَهُمَا: يَوْمُ النَّيْرُوزِ، وَيَوْمُ الْمِهْرَجَانِ. كَذَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ. وَفِي الْقَامُوسِ: النَّيْرُوزُ: أَوَّلُ يَوْمِ السَّنَةِ مُعَرَّبُ نَوْرُوزٍ. قُدِّمَ إِلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَيْءٌ مِنَ الْحَلَاوِي فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: لِلنَّيْرُوزِ. فَقَالَ: نَيْرُوزُنَا كُلَّ يَوْمٍ، وَفِي الْمِهْرَجَانِ قَالَ: مِهْرَجَانُنَا كُلَّ يَوْمٍ اهـ. وَالنَّوْرُوزُ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ تَتَحَوَّلُ الشَّمْسُ فِيهِ إِلَى بُرْجِ الْحَمَلِ، وَهُوَ أَوَّلُ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، كَمَا أَنَّ غُرَّةَ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلُ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ. وَأَمَّا مِهْرَجَانُ، فَالظَّاهِرُ بِحُكْمِ مُقَابَلَتِهِ بِالنَّيْرُوزِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ يَوْمِ الْمِيزَانِ، وَهُمَا يَوْمَانِ مُعْتَدِلَانِ فِي الْهَوَاءِ، لَا حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ، وَيَسْتَوِي فِيهِمَا) اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَكَانَ الْحُكَمَاءُ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمُتَعَلِّقِينَ بِالْهَيْئَةِ اخْتَارُوهُمَا لِلْعِيدِ فِي أَيَّامِهِمْ، وَقَلَّدَهُمْ أَهْلُ زَمَانِهِمْ ; لِاعْتِقَادِهِمْ بِكَمَالِ عُقُولِ حُكَمَائِهِمْ، فَجَاءَ الْأَنْبِيَاءُ، وَأَبْطَلُوا مَا بَنَى عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ. (فَقَالَ: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا أَيْ: فِي الْيَوْمَيْنِ. (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ) لِلتَّحْقِيقِ. (أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا) : الْبَاءُ هُنَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ أَيْ: جَعَلَ لَكُمْ بَدَلًا عَنْهُمَا خَيْرًا. (مِنْهُمَا) أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَخَيْرًا لَيْسَتْ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ ; إِذْ لَا خَيْرِيَّةَ فِي يَوْمَيْهِمَا. (يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ) : وَقَدَّمَ الْأَضْحَى ; فَإِنَّهُ الْعِيدُ الْأَكْبَرُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. نُهِيَ عَنِ اللَّعِبِ وَالسُّرُورِ فِيهِمَا أَيْ: فِي النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ، وَفِيهِ نِهَايَةٌ مِنَ اللُّطْفِ، وَأَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ ; لِأَنَّ السُّرُورَ الْحَقِيقِيَّ فِيهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعْظِيمَ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَغَيْرِهِمَا أَيْ: مِنْ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. قَالَ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ الْحَنَفِيُّ: مَنْ أَهْدَى فِي النَّيْرُوزِ بَيْضَةً إِلَى مُشْرِكٍ تَعْظِيمًا لِلْيَوْمِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَحَاسِنَ: الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَنَفِيُّ: مَنِ اشْتَرَى فِيهِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يَشْتَرِيهِ فِي غَيْرِهِ، أَوْ أَهْدَى فِيهِ هَدِيَّةً إِلَى غَيْرِهِ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ الْيَوْمِ كَمَا يُعَظِّمُهُ الْكَفَرَةُ فَقَدْ كَفَرَ، وَإِنْ أَرَادَ بِالشِّرَاءِ التَّنَعُّمَ وَالتَّنَزُّهَ، وَبِالْإِهْدَاءِ التَّحَابَّ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ، لَمْ يَكُنْ كُفْرًا لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّشَبُّهِ بِالْكَفَرَةِ، حِينَئِذٍ فَيُحْتَرَزُ عَنْهُ اهـ. وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَيَجْعَلُونَ أَيْضًا أَيَّامَ دُخُولِ الْكَعْبَةِ عِيدًا، وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، إِلَّا أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْخَوَارِجِ، بِإِظْهَارِ السُّرُورِ، كَمَا أَنَّ إِظْهَارَ آثَارِ الْحُزْنِ مِنْ شِيَمِ الرَّوَافِضِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَهْوَنَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُمَا ; فَإِنَّهُمَا مِنَ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ، ظَهَرَتْ فِي أَيَّامِ مَنَاصِبِ النَّوَاصِبِ، وَزَمَانِ غَلَبَةِ الشِّيعَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ بِحَمْدِ اللَّهِ غَافِلُونَ عَنْهُمَا، غَيْرَ عَالِمَيْنِ بِأَحْوَالِهِمَا، وَشَارَكَتِ الرَّافِضَةُ الْمَجُوسِيَّةَ أَيْضًا فِي تَعْظِيمِ النَّيْرُوزِ ; مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَتَقَرَّرَتِ الْخِلَافَةُ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ لِلِاحْتِرَازِ وَالِاحْتِرَاسِ عَنِ الشَّبَاهَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ أَهْلُ مِصْرَ وَنَحْوُهُمْ، فَإِنَّ لِمَنْ بِهَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَعْظِيمًا خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ فِي أَعْيَادِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى صُوَرِ تِلْكَ التَّعْظِيمَاتِ، كَالتَّوَسُّعِ فِي الْمَأْكُولِ، وَالزِّينَةِ عَلَى طِبْقِ مَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ، وَمِنْ ثَمَّ أَعْلَنَ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِّ الْمَالِكِيُّ فِي مَدْخَلِهِ، وَبَيَّنَ تِلْكَ الصُّوَرَ، وَكَيْفِيَّةَ مُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِيهَا، بَلْ قَالَ: إِنَّ بَعْضَ عُلَمَائِهَا قَدْ تَحْكُمُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ فِي أَنْ يَفْعَلَ لَهَا نَظِيرَ مَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ فِي أَعْيَادِهِمْ فَيُطِيعُهَا، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ.

1440 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ، وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1440 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) بِالتَّصْغِيرِ. (قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ» ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: يَأْكُلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْأَكْلِ عَلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ ذَلِكَ الْمَطْعُومِ حُلْوًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَ حِبَرَةٍ فِي كُلِّ عِيدٍ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ حُلَّةً حَمْرَاءَ» اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَوْبَيْنِ مِنَ الْيَمَنِ، فِيهِمَا خُطُوطٌ حُمْرٌ وَخُضْرٌ، لَا أَنَّهُ أَحْمَرُ بَحْتٌ فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ الْبُرْدَةِ أَحَدَهُمَا اهـ. وَالْحِبَرَةُ عَلَى وَزْنِ الْعِنَبَةِ ضَرْبٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ، وَيُحَرَّكُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ. ( «وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ» ) : مُوَافَقَةً لِلْفُقَرَاءِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا شَيْءَ لَهُمْ إِلَّا مَا أَطْعَمَهُمُ النَّاسُ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَإِنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يَطْعَمُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ ; فَيَكُونَ أَكْلُهُ مَبْنِيًّا عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِهِ أَوْ سُنِّيَّتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) :. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ. وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ بُرَيْدَةَ، وَزَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَحْمَدُ: فَيَأْكُلُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَصَحَّحَ زِيَادَةَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَيْضًا.

1441 - وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1441 - (وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: عَنْ جَدِّ كَثِيرٍ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الْأُولَى» ) أَيْ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى. (سَبْعًا) : أَيْ: غَيْرَ تَكْبِيرَةِ التَّحْرِيمِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. (قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ خَمْسًا) أَيْ: غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ. (قَبْلَ الْقِرَاءَةِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: السَّبْعُ فِي الْأُولَى غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، وَالْخَمْسُ فِي الثَّانِيَةِ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعِ. وَالْخَمْسِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأُولَى: أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ اهـ. وَسَيَأْتِي دَلِيلُهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي الْبَابِ، وَجَدُّ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ: تِسْعُ تَكْبِيرَاتٍ، فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، يُكَبِّرُ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا مَعَ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، وَبِهِ يَقُولُ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ اهـ. كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيْرَكُ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ، فَيَكُونُ الْخَمْسُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، فَفِي تَعْبِيرِهِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ نَوْعُ مُسَامَحَةٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ الْهُمَامِ ذَكَرَهُ مُفَصَّلًا فَقَالَ: أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ تِسْعًا: أَرْبَعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَرْكَعُ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ فَإِذَا فَرَغَ كَبَّرَ أَرْبَعًا ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ طُرُقًا أُخَرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوُ هَذَا. وَهَذَا أَثَرٌ صَحِيحٌ قَالَهُ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِثْلُ هَذَا يُحْمَلُ عَلَى الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ مِثْلُ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسَنُّ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ سِرًّا بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ لَا قَبْلَ الْأُولَى بَعْدَ الْأَخِيرَةِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لِأَثَرٍ فِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلًا وَفِعْلًا بِسَنَدٍ جَيِّدٍ اهـ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. (وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ) قَالَ مِيْرَكُ. نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ الْمَدَنِيُّ، ضَعَّفُوهُ، لَكِنْ حَسُنَ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ نَقْلًا عَنِ التَّخْرِيجِ، قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَالَ: وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الْأُولَى، وَخَمْسٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِي كِتَابِ الْعِلَلِ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ.

أَقُولُ: وَفِي هَذَا عَنِ الْبُخَارِيِّ عِنْدِي نَظَرٌ، فَإِنَّ كَثِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَذَّابٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ أَرْكَانِ الْكَذِبِ، وَكَذَّبَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِالْمَتِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ اعْتَضَدَ عِنْدَ مَنْ صَحَّحَهُ بِشَاهِدٍ وَأُمُورٍ قَدْ خَفِيَتْ، وَكَذَلِكَ تَصْحِيحُ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مَشْهُورٌ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرُهُ الضَّعْفُ، وَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

1442 - وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَبَّرُوا فِي الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ سَبْعًا وَخَمْسًا، وَصَلَّوْا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَجَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1442 - (وَعَنْ جَعْفَرٍ) أَيِ: الصَّادِقِ. (بْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ: الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (مُرْسَلًا) : سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَبَّرُوا فِي الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ سَبْعًا» ) أَيْ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى. (وَخَمْسًا) : فِي الثَّانِيَةِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. (وَصَلَّوْا قَبْلَ الْخُطْبَةِ) أَيْ: فِي الْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَرَّ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمَنْ خَالَفَ فِيهِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِمُجَرَّدِ حُظُوظِ نُفُوسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّاسَ بِانْقِضَاءِ الصَّلَاةِ يَنْفَضُّونَ عَنْهُمْ، وَلَا يَسْمَعُونَ خُطْبَتَهُمْ لِجَوْرِهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ، قَصَدُوا أَنْ يُقَدِّمُوهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيَسْمَعَهَا النَّاسُ. (وَجَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ) أَيْ: فِيهِمَا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ اتِّفَاقٌ بَلْ حُكِيَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) : قَالَ صَاحِبُ التَّخْرِيجِ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ يَرْفَعُهُ. وَأَخْرَجَهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَلَفْظُهُ «عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ كَبَّرَ فِي الْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ سَبْعًا وَخَمْسًا، وَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ» ، وَمِثْلُهُ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ لِلشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا، أَمَّا عَلَى مَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَيَذْكُرُ قَوْلَهُ: عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَأَمَّا عَلَى مَا فِي الْمُسْنَدِ فَلِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُتَكَلَّفَ، وَيُقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مُرْسَلًا إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ عَنْ عَلِيٍّ لَا إِرْسَالَ جَعْفَرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوِ الْمُرَادُ بِالْإِرْسَالِ الِانْقِطَاعُ سَوَاءً كَانَ مَرْفُوعًا أَوْ مَوْقُوفًا، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ أَخْرَجَهُ فِي تَصْنِيفٍ آخَرَ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيْرَكُ.

1443 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا مُوسَى وَحُذَيْفَةَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا تَكْبِيرَهُ عَلَى الْجَنَائِزِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: صَدَقَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1443 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، «قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا مُوسَى وَحُذَيْفَةَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟» ) أَيْ: فِي صَلَاتِهِمَا. (فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَانَ يُكَبِّرُ) : أَيْ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. (أَرْبَعًا) أَيْ: مُتَوَالِيَةً، وَالْمَعْنَى مَعَ تَكْبِيرِ الْإِحْرَامِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَمَعَ تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ فِي الثَّانِيَةِ. (تَكْبِيرُهُ) أَيْ: مِثْلَ عَدَدِ تَكْبِيرِهِ. (عَلَى الْجَنَائِزِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ مِنْهَا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَالزَّوَائِدُ إِنَّمَا هُوَ ثَلَاثَةٌ اهـ. وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّ الزَّوَائِدَ ثَلَاثَةٌ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الزَّوَائِدُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَةٌ، فَالتَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ فَقَطْ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، خِلَافًا لِتَقْدِيرِ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: مِثْلَ تَكْبِيرِهِ عَلَى الْجَنَائِزِ. (فَقَالَ حُذَيْفَةُ: صَدَقَ) أَيْ: أَبُو مُوسَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : زَادَ ابْنُ الْهُمَامِ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَذَلِكَ كُنْتُ أُكَبِّرُ فِي الْبَصْرَةِ حَيْثُ كُنْتُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِحَدِيثَيْنِ إِذْ تَصْدِيقُ حُذَيْفَةَ رِوَايَةٌ لِمِثْلِهِ، وَسُكُوتُ أَبِي دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيِّ. تَصْحِيحٌ أَوْ تَحْسِينٌ مِنْهُمَا قَالَ: وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَنَعَ الْقَوْلَ بِتَصْحِيحِهِ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَأَوَّلَهُ وَقَالَ: وَنَحْنُ وَإِنْ خَرَجْنَا عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، لَكِنْ أَوْجَبَهُ أَنَّهُ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَتْرُوكٌ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُسَاوِي شَيْئًا، وَضَرَبَ عَلَى حَدِيثِهِ فِي الْمُسْنَدِ، وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ حَدِيثُهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَاهِي الْحَدِيثِ، وَأَفْظَعَ فِيهِ الْقَوْلَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَيْسَ فِي تَكْبِيرَةِ الْعِيدَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا آخُذُ فِيهَا بِفِعْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُهُ قُلْنَا: غَايَتُهُ الْمُعَارَضَةُ، وَيَتَرَجَّحُ أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَعَارِضٌ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَمَذْهَبِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَمَذْهَبِنَا، فَاضْطَرَبَ الْمَرْوِيُّ، وَأَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَوْ لَمْ يَسْلَمْ كَانَ مُقَدَّمًا، فَكَيْفَ وَهُوَ سَالِمٌ لِاضْطِرَابِ مُعَارِضِهِ اهـ. مُلَخَّصًا. وَاتَّفَقُوا عَلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَاتِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيُسْكَتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ قَدْرَ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ ; فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ تُوجِبُ الِاشْتِبَاهَ عَلَى النَّاسِ، وَلَيْسَ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ عِنْدَنَا ذِكْرٌ مَسْنُونٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ.

1444 - وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُووِلَ يَوْمَ الْعِيدِ قَوْسًا فَخَطَبَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1444 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُووِلَ) : عَلَى وَزْنِ نُودِيَ، مَجْهُولُ نَاوَلَ أَيْ: أُعْطِيَ فِي يَدِهِ. (يَوْمَ الْعِيدِ قَوْسًا، فَخَطَبَ عَلَيْهِ) : وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمِنْبَرَ فِي مُصَلَّى الْعِيدِ حَدَثَ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيْرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

1445 - وَعَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا خَطَبَ يَعْتَمِدُ عَلَى عِتْرَتِهِ اعْتِمَادًا» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1445 - (وَعَنْ عَطَاءٍ) أَيِ: ابْنِ يَسَارٍ، تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ. (مُرْسَلًا) : كَانَ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا خَطَبَ يَعْتَمِدُ عَلَى عِتْرَتِهِ) : هِيَ رُمْحٌ قَصِيرٌ فِي طَرَفِهَا زُجٌّ أَوْ عَصًا. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ هِيَ أَقْصَرُ مِنَ الْحَرْبَةِ. (اعْتِمَادًا) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيِ: اعْتِمَادًا كُلِّيًّا. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) قَالَ مِيْرَكُ: وَالْبَيْهَقِيُّ.

1446 - «وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: شَهِدْتُ الصَّلَاةَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ مُتَّكِئًا عَلَى بِلَالٍ، فَحَمَدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ، وَذَكَّرَهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَمَضَى إِلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1446 - (وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ شَهِدْتُ) أَيْ: حَضَرْتُ. (الصَّلَاةَ) أَيْ: صَلَاةَ الْعِيدِ. (مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ عِيدٍ) أَيْ: مِنَ الْأَعْيَادِ. (فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ) : كَمَا هُوَ عَادَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ مُتَّكِئًا عَلَى بِلَالٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْخَطِيبَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ كَالْقَوْسِ، وَالسَّيْفِ، وَالْعِتْرَةِ، وَالْعَصَا، أَوْ يَتَّكِئُ عَلَى إِنْسَانٍ اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. (فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: شَكَرَهُ. (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) : بِمَا أَلْهَمَ إِلَيْهِ. (وَوَعَظَ النَّاسَ) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَعْظُ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ، فَقَوْلُهُ: (وَذَكَّرَهُمْ) : بِالتَّشْدِيدِ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ اهـ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَذَكَّرَهُمُ الْعَوَاقِبَ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالْعَوَاقِبُ لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى وَعَظَهُمْ نَصَحَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَالنَّارِ وَالْجَنَّةِ. (وَحَثَّهُمْ) أَيْ: رَغَّبَهُمْ وَحَرَّضَهُمْ. (عَلَى طَاعَتِهِ) أَيْ: طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا طَاعَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ ; لِأَنَّهُ يَشْمَلُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، أَوِ الْمُرَادُ عِبَادَتُهُ النَّافِلَةُ، أَوْ عَلَى طَاعَتِهِ الْخَاصَّةِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَوِ الْأُضْحِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحَثَّهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ لِكَوْنِهَا طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَعِيدٌ عَنِ السِّبَاقِ وَالسِّيَاقِ. (وَمَضَى إِلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلَالٌ) وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ رُؤْيَتُهُ لَهُنَّ الَّتِي قَالَ جَمْعٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِحِلِّهَا. (فَأَمَرَهُنَّ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (بِتَقْوَى اللَّهِ) أَيِ: الْجَامِعَةِ لِامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ، وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ. (وَوَعَظَهُنَّ) : بِتَخْوِيفِ الْعِقَابِ. (وَذَكَّرَهُنَّ) : بِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ أَوْ بِإِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ، وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ، فَيُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُنَّ مِنْ إِعْطَاءِ مَا فِي آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هُنَا: وَذَكَّرَهُنَّ بِالْعَوَاقِبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْبِشَارَةِ تَارَةً، وَالنِّذَارَةِ أُخْرَى، فَهُوَ عَطْفٌ أَعَمُّ، فَمُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ سَابِقًا مِنْ كَوْنِهِ بَدَلًا مِمَّا قَبْلَهُ. قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا قَالَ: ذَكَّرَهُنَّ إِمَّا تَفْسِيرٌ لِوَعْظَهُنَّ، أَوْ تَأْكِيدٌ لَهُ ; إِذِ الْوَعْظُ الْإِنْذَارُ بِالْعِقَابِ، وَالتَّذْكِيرُ الْإِخْبَارُ بِالثَّوَابِ، وَالتَّذْكِيرُ يَكُونُ لِأَمْرٍ عُلِمَ سَابِقًا اهـ. وَهُوَ مَوْضِعُ تَأَمُّلٍ اهـ. وَفَاتَهُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ الْأَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ اهـ. وَهُوَ مَوْضِعُ تَأَمُّلٍ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ تَحْقِيقُهُمَا عَلَى مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ أَوِ الْعُرْفِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَ الشَّارِحِ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُطَابِقُ لِمَا ذَكَرَهُ أَرْبَابُ اللُّغَةِ، كَصَاحِبِ الْفَائِقِ، وَالْخَلِيلِ، وَغَيْرِهِمَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ أَنَّهُ اكْتَفَى فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالتَّذْكِيرِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) . قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: حَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ: وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِي الصِّحَاحِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ يَسِيرًا إِذَا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلْمَعْنَى عَلَى الْعَادَةِ، كَذَا قَالَهُ - قُدِّسَ سِرُّهُ - مُعْتَرِضًا عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ مِنْ قِبَلِ مُحْيِ السُّنَّةِ، بِأَنَّ إِيرَادَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ هُنَا لَا بِالْأَصَالَةِ، بَلْ لِمُنَاسَبَةِ الِاتِّكَاءِ عَلَى الْقَوْسِ وَالْعَصَا، فَبَيَّنَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِ الِاتِّكَاءِ عَلَى الْآدَمِيِّ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَاللَّهُ الْهَادِي، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَا يَصْلُحُ دَفْعًا لِلِاعْتِرَاضِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الصِّحَاحِ، ثُمَّ أَحَادِيثُ الْحِسَانِ تَكُونُ مُبَيِّنَةً وَمُفَسِّرَةً لِجَوَازِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي الْكِتَابِ، وَيَشْهَدُ تَتَبُّعَهُ لِمَا فِي الْمُبْهَمِ مِنَ الصَّوَابِ وَنَظِيرِهِ مَا فَعَلَهُ بِخُصُوصِ هَذَا الْبَابِ، حَيْثُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، ثُمَّ قَالَ هُنَا.

1447 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ رَجَعَ فِي غَيْرِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1447 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ) أَيْ: ذَاهِبًا (فِي طَرِيقٍ رَجَعَ فِي غَيْرِهِ) أَيْ: فِي طَرِيقٍ غَيْرِهِ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي تَكْبِيرِ الْإِمَامِ حَالَةَ خُرُوجِهِ إِلَى وَقْتِ وُصُولِهِ إِلَى الْمُصَلَّى مَعَ الْأَنَامِ، وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُنَا الْأَعْلَامُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْخِلَافُ فِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْفِطْرِ لَا فِي أَصْلِهِ ; لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعِنْدَهُمَا يُجْهَرُ بِهِ كَالْأَضْحَى، وَعِنْدَهُ لَا يُجْهَرُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِهِمَا. قُلْتُ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ بِدْعَةٌ يُخَالِفُ الْأَمْرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] فَيُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ فِي الْأَضْحَى، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ التَّكْبِيرُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَالْأَوْلَى الِاكْتِفَاءُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَالِمٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى» . فَالْجَوَابُ: أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ فِيهَا التَّكْبِيرُ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْآيَةِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ أَمْرًا بِالتَّكْبِيرِ أَعَمُّ مِنْهُ، وَمِمَّا فِي الطَّرِيقِ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى التَّكْبِيرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، لِجَوَازِ كَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَ دَلَالَتُهَا عَلَيْهِ ظَنِّيَّةً لِاحْتِمَالِ التَّعْظِيمِ، كَانَ الثَّابِتُ الْوُجُوبَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهِ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَكَذَا رَوَى الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَهْرَ. نَعَمْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا غَدَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى، ثُمَّ يُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْإِمَامُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ لَا يُعَارَضُ بِهِ عُمُومُ الْآيَةِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ أَعَنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} [الأعراف: 205] إِلَى قَوْلِهِ: {وَدُونَ الْجَهْرِ} [الأعراف: 205] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ» فَكَيْفَ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّاسَ يُكَبِّرُونَ فَقَالَ لِقَائِدِهِ: أَكَبَّرَ الْإِمَامُ؟ قِيلَ: لَا. قَالَ: أَفَجُنَّ النَّاسُ؟ ! أَدْرَكْنَا مِثْلَ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا كَانَ أَحَدٌ يُكَبِّرُ قَبْلَ الْإِمَامِ» . وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ الْعَامَّةُ مِنْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ اهـ. وَمَا يَفْعَلُهُ الْمُؤَذِّنُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ التَّكْبِيرِ فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إِلَى مَا بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَمَا رَأَيْتُ لَهُ أَصْلًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيْرَكُ: وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَقَالَ: حَدِيثُ جَابِرٍ كَأَنَّهُ أَصَحُّ اهـ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ السَّنَدِ، وَلِذَا قَالَ: كَأَنَّهُ أَصَحُّ. (وَالدَّارِمِيُّ) .

1448 - وَعَنْهُ: «أَنَّهُ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَصَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1448 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (أَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ. (أَصَابَهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةَ. (مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَصَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الصَّحْرَاءِ، إِلَّا إِذَا أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَيُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَالْأَفْضَلُ أَدَاءُهَا فِي الصَّحْرَاءِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَفِي مَكَّةَ خِلَافٌ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي مَكَّةَ أَنْ يُصَلِّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَمْ يُعْرَفْ خِلَافُهُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصِّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْكِرَامِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] لِعُمُومِ عِبَادَاتِهِمْ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالْعِيدِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَالْجِنَازَةِ، وَالْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، وَهُوَ وَجْهُ مَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ: مِنْ أَنَّهُ صُلِّيَ عَلَى آدَمَ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَلَعَلَّهُ لِهَذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَسَاجِدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 17] وَفِي قِرَاءَةٍ: (مَسْجِدَ اللَّهِ) وَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَسْجِدُ لِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِيرَادُهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ إِمَّا لِمَا ذُكِرَ، أَوْ لِكَوْنِ مَا فِيهِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ الْمَسَاجِدِ، أَوْ لِأَنْ لَا جِهَاتٍ أَرْبَعَةٍ، فَكَأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ مَسْجِدٌ، وَهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ لَهُ مِنْ بَيْنِ الْمَسَاجِدِ، وَقِيلَ: الْكَعْبَةُ قِبْلَةُ مَنْ بِالْمَسْجِدِ، وَهُوَ قِبْلَةُ مَنْ بِمَكَّةَ، وَمَكَّةُ قِبْلَةُ أَهْلِ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةُ أَهْلِ الدُّنْيَا، أَوْ لِعِظَمِهِ وَعَظَمَتِهِ عُدَّ كُلٌّ مِنْ أَجْزَائِهِ مَسْجِدًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: وَزَادَ رَزِينٌ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْمُصَلَّى.

1449 - وَعَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَهُوَ بِنَجْرَانَ: عَجِّلِ الْأَضْحَى، وَأَخِّرِ الْفِطْرَ، وَذَكِّرِ النَّاسَ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1449 - (وَعَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ مِيْرَكُ: تُكُلِّمَ فِيهِ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) : يُكَنَّى أَبَا الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيَّ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَجْرَانَ سَنَةَ عَشْرٍ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (وَهُوَ بِنَجْرَانَ) : بِفَتْحِ النُّونِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ، فَرَاءٌ فَأَلِفٌ فَنُونٌ، عَلَى وَزْنِ سَلْمَانَ، بَلَدٌ بِالْيَمَنِ كَانَ وَالِيًا فِيهِ. (عَجِّلِ الْأَضْحَى) أَيْ: صَلَاتَهُ لِيَشْتَغِلَ النَّاسُ لِذَبْحِ الْأَضَاحِيِّ. (وَأَخِّرِ الْفِطْرَ) أَيْ: صَلَاتَهُ لِتُوَسِّعَ عَلَى النَّاسِ وَقْتَ إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. فَانْظُرْ إِلَى نَظَرِهِ الْإِكْسِيرِ الْمُرَاعِي جَانِبَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، وَمَظْهَرًا لِلُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. (وَذَكِّرِ النَّاسَ) أَيْ: بِالْمَوْعِظَةِ فِي خُطْبَتَيِ الْعِيدَيْنِ، أَوْ ذَكِّرْهُمْ بِخُصُوصِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَأَحْكَامِ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْخُطْبَتَيْنِ. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) أَيْ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ. وَسَاقَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ طَلَبْتُ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ لِكِتَابِهِ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَلَمْ أَجِدْهُ. كَذَا نَقَلَهُ مِيْرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا إِلَّا أَنَّهُ يُعْمَلُ لَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا) .

1450 - وَعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا، وَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1450 - (وَعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ) أَيْ: أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ يُقَالُ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، رَوَى (عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ) : جَمْعُ عَمٍّ، كَالْبُعُولَةِ جَمْعُ بَعْلٍ، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَأُبُوَّةٍ، وَخُئُولَةٍ. (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي صِغَارِ التَّابِعِينَ، عُمِّرَ بَعْدَ أَبِيهِ أَنَسٍ زَمَانًا طَوِيلًا، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (أَنَّ رَكْبًا) : جَمْعُ رَاكِبٍ، كَصَحْبٍ وَصَاحِبٍ. (جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْهَدُونَ) أَيْ: يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ. (أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ؟ بِالْأَمْسِ) :. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُمْ قَدِمُوا آخِرَ النَّهَارِ، وَصَحَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِسْنَادَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مِنْ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ وَقْتَهَا مِنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ تُؤَدَّى بَعْدَ الزَّوَالِ لَمَا أَخَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْغَدِ. (فَأَمَرَهُمْ) أَيِ: النَّاسَ. (أَنْ يُفْطِرُوا) أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمَ. (وَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا) أَيْ: يَذْهَبُوا فِي الْغُدْوَةِ أَيْ: جَمِيعًا. (إِلَى مُصَلَّاهُمْ) : لِصَلَاةِ الْعِيدِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي لَمْ يَرَوُا الْهِلَالَ فِي الْمَدِينَةِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصَامُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَجَاءَ قَافِلَةٌ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِفْطَارِ، وَبِأَدَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْيَوْمِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ. وَفِي الْفِقْهِ إِنْ شَهِدُوا بَعْدَ الزَّوَالِ أَفْطَرَ النَّاسُ، وَصَلَّوْا صَلَاةَ الْعِيدِ مِنَ الْغَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَظَاهِرِ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ لَا يَقْضِي الصَّلَاةَ مِنَ الْيَوْمِ وَلَا مِنَ الْغَدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: إِنْ حَدَثَ عُذْرٌ مَنَعَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ صَلَّاهَا مِنَ الْغَدِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَإِنْ مَنَعَ عُذْرٌ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يُصَلِّ بَعْدَهُ بِخِلَافِ الْأَضْحَى، فَإِنَّهَا تُصَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَيْضًا إِنْ مَنَعَ عُذْرٌ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَكَذَا إِنْ أَخَّرَهَا إِلَى الْيَوْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ جَازَ، لَكِنْ مَعَ الْإِسَاءَةِ اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صَلَاةُ الْعِيدِ الْمَقْضِيَّةُ رَكْعَتَانِ كَالْمُؤَدَّاةِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ بِمَا فِيهِ خَفَاءٌ، قَالَ أَحْمَدُ: أَرْبَعٌ كَالْجُمُعَةِ إِذَا فَاتَتْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْجُمُعَةِ بَعِيدٌ ; لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الظُّهْرِ، أَوْ صَلَاتَا وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَجَازَ رُجُوعُ أَحَدِهَا لِعَدَدِ الْأُخْرَى، وَهُنَا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ اهـ. وَمَا نَقَلَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ إِذْ مَذْهَبُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ صَلَاةَ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَقْضِيهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) وَقَالَ مِيْرَكُ: سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سُكُوتَهُمَا إِمَّا تَصْحِيحٌ أَوْ تَحْسِينٌ مِنْهُمَا، فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1451 - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمَ الْأَضْحَى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ - يَعْنِي عَطَاءً - بَعْدَ حِينٍ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَنِي قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنْ لَا أَذَانَ لِلصَّلَاةِ يَوْمَ الْفِطْرِ حِينَ يَخْرُجُ الْإِمَامُ، وَلَا بَعْدَمَا يَخْرُجُ وَلَا إِقَامَةَ، وَلَا نِدَاءَ وَلَا شَيْءَ، لَا نِدَاءَ يَوْمَئِذٍ وَلَا إِقَامَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1451 - (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ الْأُولَى عَلَى مَا فِي التَّقْرِيبِ وَالْمُغْنِي. (قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ) أَيِ: ابْنُ يَسَارٍ. (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ. (وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَا: لَمْ يَكُنْ) أَيِ: الشَّأْنُ أَوِ التَّأْذِينُ. (يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ) : نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. (وَلَا يَوْمَ الْأَضْحَى، قَالَ) أَيِ: ابْنُ جُرَيْجٍ. (ثُمَّ سَأَلْتُهُ - يَعْنِي عَطَاءً - بَعْدَ حِينٍ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ: عَنْ تَفْصِيلِهِ أَوِ الْإِعَادَةِ، لِتَأْكِيدِ الْإِفَادَةِ احْتِيَاطًا. (فَأَخْبَرَنِي) أَيْ: عَطَاءٌ لَا لِتَفْصِيلِ الْآتِي. (قَالَ) أَيْ: عَطَاءٌ. (أَخْبَرَنِي: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ) : بِالتَّخْفِيفِ. (لَا أَذَانَ) أَيْ: مَشْرُوعٌ أَوْ مَرْوِيٌّ. (لِلصَّلَاةِ يَوْمَ الْفِطْرِ) : وَتَرَكَ يَوْمَ الْأَضْحَى لِلِاكْتِفَاءِ. (حِينَ يَخْرُجُ الْإِمَامُ) أَيْ: أَوَّلَ الْوَقْتِ. (وَلَا بَعْدَمَا يَخْرُجُ) أَيْ: عِنْدَ إِرَادَتِهِ الصَّلَاةَ. (وَلَا إِقَامَةَ وَلَا نِدَاءَ) : تَأْكِيدٌ. (وَلَا شَيْءَ) : مِنْ ذَلِكَ قَطُّ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلنَّفْيِ. (لَا نِدَاءَ) : بِلَا وَاوٍ. (يَوْمَئِذٍ وَلَا إِقَامَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ إِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ جَابِرٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ عَطَاءٍ ذَكَرَهُ تَفْرِيعًا لِابْنِ جُرَيْجٍ يَعْنِي حَدَّثْتُ لَكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ ثُمَّ سَأَلْتَنِي عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ حِينٍ اهـ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ النِّدَاءُ بِالْأَذَانِ ; لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُنَادَى لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَذَّنَ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مُعَاوِيَةُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1452 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ فَيَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّى صَلَاتَهُ، قَامَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي مُصَلَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ يَبُثُّ ذِكْرَهُ لِلنَّاسِ، أَوْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ: تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا، وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ. ثُمَّ يَنْصَرِفُ» ، قَالَ: كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَخَرَجْتُ مُخَاصِرًا مَرْوَانَ حَتَّى أَتَيْنَا الْمُصَلَّى، فَإِذَا كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ قَدْ بَنَى مِنْبَرًا مِنْ طِينٍ وَلَبِنٍ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُنَازِعُنِي يَدَهُ، كَأَنَّهُ يَجُرُّنِي نَحْوَ الْمِنْبَرِ وَأَنَا أَجُرُّهُ نَحْوَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ فِي ذَلِكَ مِنْهُ قُلْتُ: أَيْنَ الِابْتِدَاءُ بِالصَّلَاةِ؟ ! فَقَالَ: لَا يَا أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ تُرِكَ مَا تَعْلَمُ. قُلْتُ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1452 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ) أَيْ: لِصَلَاةِ الْعِيدِ. (يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ فَيَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ) أَيْ: قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْعِيدِ بِسَبِّحْ وَالْغَاشِيَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ، «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» . وَرَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَرَّةً فِي الْعِيدَيْنِ فَقَطْ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. (فَإِذَا صَلَّى صَلَاتَهُ) أَيْ: فَرَغَ مِنْهَا. (قَامَ) أَيْ: لِلْخُطْبَةِ. (فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي مُصَلَّاهُمْ) أَيْ: مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ. (فَإِنْ كَانَتْ لَهُ) أَيْ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي نُسْخَةٍ: لَهُمْ أَيْ: لِلنَّاسِ. (حَاجَةٌ يَبْعَثُ) أَيْ: يُبْعَثُ عَسْكَرٌ لِمَوْضِعِ. (ذِكْرِهِ) أَيِ: الْبَعْثُ بِتَفْصِيلِهِ) أَوِ الْمَبْعُوثُ مِمَّنْ يُرِيدُ بَعْثَهُ. (لِلنَّاسِ، أَوْ كَانَتْ لَهُ أَيْ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (حَاجَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ) أَيْ: بِغَيْرِ الْبَعْثِ إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ. (أَمَرَهُمْ بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ) أَيْ: فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ. (تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا) : التَّثْلِيثُ لِلتَّأْكِيدِ اعْتِنَاءً بِأَمْرِ الصَّدَقَةِ ; لِعُمُومِ نَفْعِهَا، وَشَرْحِ النُّفُوسِ بِهَا، أَوْ بِاعْتِبَارِ النَّبِيِّ فِي حِذَائِهِ وَيَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ أَيْ: تَصَدَّقُوا لِدُنْيَاكُمْ، تَصَدَّقُوا لِمَوْتَاكُمْ، وَتَصَدَّقُوا لَأُخْرَاكُمْ، أَوِ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ لِلزَّكَاةِ، وَالثَّانِي لِلْفِطْرَةِ، وَالثَّالِثُ لِلصَّدَقَةِ. (وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ) : أَكْثَرُ النُّسَخِ عَلَى رَفْعِ أَكْثَرَ وَنَصْبِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُبَالِغُ فِي حَثِّهِنَّ أَكْثَرَ، وَيُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَآهُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، لِكُفْرَانِهِنَّ الْعَشِيرَ، وَلِحُبِّهِنَّ زِينَةَ الدُّنْيَا. (ثُمَّ يَنْصَرِفُ) أَيْ: يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ. (فَلَمْ يَزَلْ) أَيِ: الْأَمْرُ. (كَذَلِكَ) أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمِنْوَالِ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ، وَالْخُطْبَةِ بِالْقِيَامِ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ الْمِنْبَرِ. (حَتَّى كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ) : وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ اثْنَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: (كَانَ) تَامَّةٌ وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ أَيْ: حَدَثَ عَهْدُهُ، أَوْ إِمَارَتُهُ اهـ. يَعْنِي عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا مِنْ أَبِي سَعِيدٍ رَدٌّ لِمَا حُكِيَ: أَنَّ عُثْمَانَ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ شَطْرَ خِلَافَتِهِ الْأَخِيرَ، وَأَنَّ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ قَدَّمَاهَا أَيْضًا، وَمِمَّا رَدَّ ذَلِكَ أَيْضًا مَا صَحَّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: شَهِدْتُ صَلَاةَ الْفِطْرِ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ» ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَهَا مُعَاوِيَةُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى، وَهُوَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ: أَنَّ عُثْمَانَ فِي شَطْرِ خِلَافَتِهِ الْأَخِيرِ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ ; لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ - عَنْ عُمَرَ، وَلَيْسَ يَصِحُّ عَنْهُ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَهَا مُعَاوِيَةُ، وَقِيلَ: مَرْوَانُ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: زِيَادٌ بِالْبَصْرَةِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَقِيلَ: فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ آخِرَ أَيَّامِهِ، وَقَدْ عَدَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْخِلَافِ، أَوْ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى خِلَافِ بَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَ إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ. (فَخَرَجْتُ) أَيْ: لِصَلَاةِ الْعِيدِ. (مُخَاصِرًا) : حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ. (مَرْوَانَ) : مَفْعُولُهُ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْمُخَاصَرَةُ: أَنْ يَأْخُذَ رَجُلٌ بِيَدِ رَجُلٍ آخَرَ وَهُمَا مَاشِيَانِ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ خَصْرِ صَاحِبِهِ. (حَتَّى أَتَيْنَا الْمُصَلَّى، فَإِذَا كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ) أَيْ: ابْنُ مَعْدِي كَرِبَ الْكَنَدِيُّ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَمَّاهُ كَثِيرًا، وَكَانَ اسْمُهُ قَلِيلًا، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَدْ بَنَى) : يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ. (مِنْبَرًا مِنْ طِينٍ وَلَبِنٍ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ: الْآجُرُّ قَبْلَ الطَّبْخِ ; لِتَكُونَ الْخُطْبَةُ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ السُّنَّةُ فِي الْجُمُعَةِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا صَحَّ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَنْكَرَ النَّاسُ عَلَى مَرْوَانَ إِخْرَاجَهُ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُصَلَّى لِيَخْطُبَ عَلَيْهِ ; وَلِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنَّ الْإِخْرَاجَ كَانَ أَوَّلًا، ثُمَّ بَنَاهُ مَبْنِيًّا عَلَى إِنْكَارِ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ أَهْوَنُ وَأَحْسَنُ. (فَإِذَا مَرْوَانُ) : هِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ: فَاجَأَ مَكَانَ الْمِنْبَرِ زَمَانَ الْإِتْيَانِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَقَوْلُهُ: (يُنَازِعُنِي) أَيْ: يُجَاذِبُنِي. (يَدُهُ) : بِالرَّفْعِ: بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، وَيُنْصَبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، كَمَا مَرَّ فِيهِ: يُنَازِعُنِي الْقُرْآنَ. (كَأَنَّهُ يَجُرُّنِي نَحْوَ الْمِنْبَرِ) وَإِنَّمَا قَالَ: كَأَنَّهُ ; لِأَنَّ قَصْدَهُ الذَّاتِيَّ إِنَّمَا هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْمِنْبَرِ، وَجَرُّهُ تَابِعِيٌّ عَارِضِيٌّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: (وَأَنَا أَجُرُّهُ نَحْوَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ) أَيْ: عَزْمَهُ الْمُنْجَرَّ إِلَى الْإِصْرَارِ، وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ بِالِانْجِرَارِ. (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ مَرْوَانَ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعِلْ بِالْفِعْلِ. (قُلْتُ) أَيْ: لَهُ. (أَيْنَ الِابْتِدَاءُ بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: لَا) أَيْ: لَا يُبْتَدَأُ بِالصَّلَاةِ أَوَّلًا، يَعْتَقِدُ أَنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ هُوَ السُّنَّةُ. (يَا أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ تُرِكَ مَا تَعْلَمُ) أَيْ: مَا عَلِمْتَ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ، وَقَدْ أَتَيْنَا بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أَجَابَهُ بِمَا أَجَابَهُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. أَقُولُ: لَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْقَوْلِ ; فَإِنَّهُ يَعْتَبَرُ لُزُومًا مِنْ تَرْكِ شَيْءٍ اخْتِيَارُ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الْمَقَالَ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ تُرِكَ مَا تَعْلَمُ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ، وَصَارَتِ السُّنَّةُ وَالْخَيْرُ الْآنَ تَقَدُّمُ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي طَرَأَتْ، وَهِيَ انْفِضَاضُ النَّاسِ قَبْلَ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ لَوْ أُخِّرَتْ. (قُلْتُ: كَلَّا) : رَدْعٌ، أَوْ مَعْنَاهُ حَقًّا، وَفِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ: لَا. أَيْ: لَا تَكُونُ السُّنَّةُ ذَلِكَ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، ثُمَّ أَغْرَبَ، وقَدَّرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ، وَلَكِنْ مِنْ شَأْنِ أَكْثَرِكُمْ مَعْشَرَ أُمَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ أَنَّكُمْ. (لَا تَأْتُونَ) أَيْ: فِيمَا تُحْدِثُونَهُ مِنَ الْبِدَعِ. (بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ) : لِأَنِّي عَالِمٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِحْدَاثُكُمْ لِذَلِكَ وَنَحْوِهِ شَرٌّ أَيُّ شَرٍّ، وَزَعْمُكُمْ أَنَّكُمْ لَوْ أَخَّرْتُمُ الْخُطْبَةَ لَمْ يَسْمَعْهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هُوَ لِجَوْرِكُمْ، وَسُوءِ صَنِيعِكُمْ، وَظُلْمِكُمْ لِلرَّعِيَّةِ، حَتَّى صَارُوا فِي غَايَةٍ مِنَ التَّنَفُّرِ عَنْكُمْ، وَفِي نِهَايَةٍ مِنَ الْكَرَاهَةِ لِسَمَاعِ كَلَامِكُمْ. (ثَلَاثَ مِرَارٍ) : بِرَاءَيْنِ أَيْ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ لِيَنْزَجِرَ عَنْ إِحْدَاثِهِ. (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ، وَلَمْ يَحْضُرِ الْجَمَاعَةَ تَقْبِيحًا لِفِعْلِ مَرْوَانَ وَتَنْفِيرًا عَنْهُ، وَقِيلَ: انْصَرَفَ مِنْ جِهَةِ الْمِنْبَرِ إِلَى جِهَةِ الصَّلَاةِ لِمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَهُ، وَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ فَجَذَبْتُ ثَوْبَهُ فَجَذَبَنِي فَارْتَقَى فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ، فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ، فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ، خَيْرٌ مِمَّا لَا أَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَجَعَلْنَاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةَ، لَا يَصِحُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَوْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ خَالَفَ السُّنَّةَ، وَلَا يُعِيدُ الْخُطْبَةَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: هَذَا السِّيَاقَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ بِزِيَادَةٍ، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ.

[باب في الأضحية]

[بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ] [48] بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1453 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ، قَالَ: رَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [48]- بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَيُكْسَرُ، وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِتَخْفِيفِهَا، فَمُحْتَاجٌ إِلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ أَوْ دَلِيلٍ صَحِيحٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِي الْأُضْحِيَّةِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْمَذْبُوحِ يَوْمَ النَّحْرِ، الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ: أُضْحِيَّةٌ وَإِضْحِيَّةٌ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا، وَجَمْعُهَا أَضَاحِيٌّ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، الثَّالِثَةُ: ضَحِيَّةٌ، وَجَمْعُهَا ضَحَايَا، وَالرَّابِعَةُ: أَضْحَاةٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْجَمْعُ أَضْحَى، كَأَرْطَأَةَ وَأَرْطَى، وَبِهَا سُمِّيَ يَوْمُ الْأَضْحَى، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ تُفْعَلُ فِي الضُّحَى، وَفِي الْأَضْحَى لُغَتَانِ: التَّذْكِيرُ لُغَةُ قَيْسٍ، وَالتَّأْنِيثُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْأُضْحِيَّةُ مَا يُذْبَحُ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَبِهِ سُمِّيَ يَوْمُ الْأَضْحَى، وَيُقَالُ: ضَحَّى بِكَبْشٍ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا ذَبَحَهُ وَقْتَ الضُّحَى مِنْ أَيَّامِ الْأَضْحَى، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ ذَلِكَ وَلَوْ ذَبَحَ آخِرَ النَّهَارِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَسْمِيَةُ الْأُضْحِيَّةِ بِهَا فِي الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلَاتِنَا هَذِهِ فَلْيُعِدْ» اهـ. وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أَيْ: صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَانْحَرِ النُّسُكَ، كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مُفَسِّرُونَ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُقِيمِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَاعْتَبَرَ فِي وُجُوبِهَا النِّصَابَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَدَلِيلُنَا مَا جَاءَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى النَّاسُ ذَلِكَ وَاجِبًا، وَفِيهِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا مَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، وَتَعْلِيلُهَا وَقَعَ لِتَوَهُّمِ عُمُومِ الْوُجُوبِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مُوَاظَبَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَشْرَ سِنِينَ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا سَبَقَ: فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ إِلَّا لِلْوُجُوبِ، وَحَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ مَرْدُودٌ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْوُجُوبَ خَبَرُ: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً لِأَنْ يُضَحِّيَ فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَحْضُرْ مُصَلَّانَا» وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَرْفُوعٌ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1453 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ضَحَّى) مِنَ التَّضْحِيَّةِ أَيْ: ذَبَحَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ الْأُضْحِيَّةَ. (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ) فِي الْقَامُوسِ: الْكَبْشُ: الْحَمَلُ إِذَا أَثْنَى، أَوْ إِذَا خَرَجَتْ رُبَاعِيَّتُهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الذَّكَرَ أَفْضَلُ مِنَ الْأُنْثَى ; فَإِنَّ لَحْمَهُ أَطْيَبُ. (أَمْلَحَيْنِ) : أَفْعَلُ مِنَ الْمُلْحَةِ، وَهِيَ بَيَاضٌ يُخَالِطُهُ السَّوَادُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقِيلَ: بَيَاضُهُ أَكْثَرُ مِنْ سَوَادِهِ، وَقِيلَ: هُوَ النَّقِيُّ الْبَيَاضِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُ عَائِشَةَ: هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ، وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ، وَيَبْرَكُ فِي سَوَادٍ. تَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مِنْ بَدَنِهِ سُودٌ، وَبَاقِيهِ أَبْيَضُ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَدَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ» ، وَمُنَازَعَةُ الْبُخَارِيِّ فِي رَفْعِهِ لَا تَضُرُّ ; لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَا يَقُولُهُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَلَوْ تَعَارَضَ اللَّوْنُ وَطِيبُ اللَّحْمِ، فَرِعَايَةُ طِيبِهِ أَفْضَلُ. فَمَرْدُودٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّوْنِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَمِّيَّةِ اللَّحْمِ وَكَيْفِيَّتِهِ، مَعَ أَنَّ فِي الْكَثْرَةِ زِيَادَةُ مَنْفَعَةِ الْفُقَرَاءِ، فَالْأَمْرُ تَعْبُدِيٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَقْرَنَيْنِ) أَيْ: طَوِيلَيِ الْقَرْنِ أَوْ عَظِيمَيْهِمَا، وَقِيلَ: ذَوَيْ قَرْنٍ. (ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) : وَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَعْرِفُ آدَابَ الذَّبْحِ، وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلْيَحْضُرْ عِنْدَ الذَّبْحِ لِلْخَبَرِ الْحَسَنِ، بَلْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِفَاطِمَةَ: قُومِي إِلَى أُضْحِيَّتِكِ فَاشْهَدِيهَا ; فَإِنَّهُ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا يُغْفَرُ لَكِ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكِ. وَفِي

رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ: كُلُّ ذَنْبٍ عَمَلْتِيهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ فِيهِ: أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَذْبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ الْأُضْحِيَّةَ بِيَدِهِ ; لِأَنَّ الذَّبْحَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ أَصْلُهَا أَنْ يُبَاشِرَ كُلٌّ بِنَفْسِهِ وَلَوْ وَكَّلَ غَيْرَهُ جَازَ اهـ. وَلَعَلَّ وَجْهَ تَعَدُّدِهِمَا مَا يَأْتِي: أَنَّهُ ذَبَحَ وَاحِدًا عَنْ نَفْسِهِ وَآلِهِ، وَوَاحِدًا عَنْ أَمَتِهِ. (وَسَمَّى النَّبِيُّ وَكَبَّرَ) أَيْ: قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْوَاوُ الْأُولَى لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ قَبْلَ الذَّبْحِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ عِنْدَنَا، وَالتَّكْبِيرَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْكُلِّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِيهِ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلذَّابِحِ مُطْلَقًا أَنْ يُسَمِّيَ وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ أَبَاحَ الْمَذْبُوحَ مَعَ ذِكْرِهِمْ لَهُ أَنَّهُمْ شَاكُّونَ فِي أَنَّ ذَابِحَهُ سَمَّى أَوْ لَا، فَمَدْفُوعٌ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمَلَ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَا يَذْبَحُ إِلَّا مُسَمِّيًا، وَأَنَّ الشَّكَّ لَا يَضُرُّهُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] وَ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ آكِلَ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ غَيْرُ فَاسِقٍ. فَمَرْدُودٌ ; فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّتُنَا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنَ الْحَدِيثِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَهُ: وَيُخْتَارُ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَبَعْدَهَا ثَلَاثًا اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ لِمُخَالَفَتِهِ الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ تَقْدِيمُ التَّكْبِيرِ عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَالثَّانِي: التَّثْلِيثُ آخِرًا. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجْرٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ، فَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى اهْتِمَامٍ بِمَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ صِحَّةً وَفَسَادًا، ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الذَّبْحِ، وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُسَنُّ. (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ. (رَأَيْتُهُ) : - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَاضِعًا) : حَالٌ. (قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا) : جَمْعُ صَفْحٍ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَهُوَ الْجَنْبُ، وَقِيلَ: جَمْعُ صَفْحَةٍ وَهُوَ عُرْضُ الْوَجْهِ، وَقِيلَ: نَوَاحِي عُنُقِهَا. وَفِي النِّهَايَةِ: صَفْحُ كُلِّ شَيْءٍ جِهَتُهُ وَنَاحِيَتُهُ. (وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِتْيَانَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ أَوِ الْحَالِيَّةِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا، وَصَحَّ خَبَرُ: الْأُضْحِيَّةُ الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ، وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِمَكْسُورِ الْقَرْنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ ضَعِيفًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1454 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرَكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، قَالَ: يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ، ثُمَّ قَالَ: اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ، فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1454 - (وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكَبْشٍ) أَيْ: بِأَنْ يُؤْتَى بِهِ إِلَيْهِ. (أَقْرَنَ، يَطَأُ) أَيْ: يَمْشِي. (فِي سَوَادٍ) قِيلَ: هُوَ مَجَازٌ عَنْ سَوَادِ الْقَوَائِمِ. (وَيَبْرَكُ) أَيْ: يَضْجَعُ. (فِي سَوَادٍ) : عَنْ سَوَادِ الْبَطْنِ. (وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ) : عَنْ سَوَادِ الْعَيْنِ، وَقِيلَ: أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنَّ الْكَبْشَ كَانَ عَلَى مَا يَلِي أَظْلَافَهَا مِنَ الْأَكَارِعِ لُمْعَةُ سَوَادٍ، وَعَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَالْمَحَاجِرِ، وَهِيَ حَوَالَيْ عَيْنَيْهِ، وَبَاقِيهِ أَبْيَضُ. (فَأُتِيَ بِهِ) أَيْ: فَجِيءَ بِالْكَبْشِ. (لِيُضَحِّيَ بِهِ) : عِلَّةٌ لِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (قَالَ: يَا عَائِشَةَ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ) أَيْ: هَاتِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَنُو تَمِيمٍ تُثَنِّي وَتَجْمَعُ وَتُؤَنِّثُ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: هَلُمَّ فِي الْكُلِّ اهـ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] أَيْ: أَحْضِرُوهُمْ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ ضَعْفِ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: تَعَالِي بِهَا، وَالْمُدْيَةُ: بِضَمِّ الْمِيمِ أَصَحُّ مِنَ الْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، أَيِ: السِّكِّينُ. (ثُمَّ قَالَ: اشْحَذِيهَا) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: حُدِّي الْمُدْيَةَ. (بِحَجَرٍ) أَيْ: مِنْ أَحْجَارِ الْمِسَنِّ أَوْ مُطْلَقًا. (فَفَعَلَتْ) وَفِي خَبَرِ مُسْلِمٍ: «وَلِيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ» وَهِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ السِّكِّينُ الْعَظِيمُ، وَيُكْرَهُ حَدُّهَا قُبَالَةَ الذَّبِيحَةِ ; لِأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ بِالدِّرَّةِ مَنْ رَآهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَرِهَ ذَبْحَ أُخْرَى قُبَالَتَهَا لِخَبَرٍ فِيهِ. (ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ، فَأَضْجَعَهُ) أَيْ: أَرْقَدَهُ عَلَى جَنْبِهِ. (ثُمَّ ذَبَحَهُ) أَيْ: أَرَادَ ذَبْحَهُ. (ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ هَذِهِ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَأَنَّهَا هُنَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ

الْأَوَّلِيَّةَ، وَإِلَّا فَالتَّسْمِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الذَّبْحِ. (اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ) ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ الْمُشَارَكَةُ فِي الثَّوَابِ مَعَ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّ الْغَنَمَ الْوَاحِدَ لَا يَكْفِي عَنِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا اهـ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَكِنْ إِذَا ذَبَحَ وَاحِدٌ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ بِشَاةٍ تَأَدَّتِ السُّنَّةُ لِجَمِيعِهِمْ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَمَالِكٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ إِذَا ذَبَحَ أُضْحِيَّةً: أُضَحِّي هَذَا عَنِّي وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَكُرِهَ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ نَقْلَ الطِّيبِيِّ وَابْنِ الْمَلَكِ مُتَنَافِيَانِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَوَازِ الْمَنْقُولِ، وَلَا عَلَى مَنْعِهِ، وَلَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ الْمَذْكُورِ، بَلْ لَمَّا دَعَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ - وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ - شَارَكَهُ آلُهُ وَأُمَّتُهُ فِي قَبُولِ أُضْحِيَّاتِهِمْ، أَوْ مِنْ مُطْلَقِ عِبَادَاتِهِمْ. (ثُمَّ ضَحَّى) ، أَيْ: فَعَلَ الْأُضْحِيَّةَ بِذَلِكَ الْكَبْشِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ تَأْوِيلَنَا قَوْلَهُ: ثُمَّ ذَبَحَهُ، بِأَنَّهُ أَرَادَ ذَبْحَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ الْأَسَاسِ: أَوْ غَدَّى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَجَازٌ، وَالْحَمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْفَى مَهْمَا أَمْكَنَ، ثُمَّ مَعْنَى غَدَّى أَيْ: غَدَّى النَّاسَ بِهِ أَيْ: جَعَلَهُ طَعَامَ غَدَاءٍ لَهُمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيْرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ.

1455 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1455 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً) : وَهِيَ الْكَبِيرَةُ بِالسِّنِّ، فَمِنَ الْإِبِلِ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا خَمْسُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي السَّادِسَةِ، وَمِنَ الْبَقَرِ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَمِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ مَا تَمَّتْ لَهَا سَنَةٌ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ) أَيْ: يَصْعُبَ. (عَلَيْكُمْ) أَيْ: ذَبْحُهَا، بِأَنْ لَا تَجِدُوهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَالظَّاهِرُ أَيْ: يَعْسُرُ عَلَيْكُمْ أَدَاءُ ثَمَنِهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ) بِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْجَذَعَةُ لَا تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى مُسِنَّةٍ، وَمَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ اهـ. وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «نِعْمَتِ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ» وَرَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: «ضَحُّوا بِالْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ» . (فَذَبَحُوا جَذَعَةً) : بِفَتْحَتَيْنِ. (مِنَ الضَّأْنِ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَيُحَرَّكُ خِلَافَ الْمَعْزِ مِنَ الْغَنَمِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ قَبْلَ السَّنَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، لَكِنْ يُقَيَّدُ بِأَنَّهَا تَكُونُ بِنْتَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تُشْبِهُ مَا لَهَا سَنَةٌ لِعِظَمِ جُثَّتِهَا. وَفِي النِّهَايَةِ: الْجَذَعُ مِنْ أَسْنَانِ الدَّوَابِّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْهَا شَابًّا فَهُوَ مِنَ الْإِبِلِ مَا دَخَلَ فِي الْمُسِنَّةِ، وَمِنَ الْبَقَرِ مَا دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الضَّأْنِ مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ، وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْهَا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ إِلَّا الثَّنِيُّ، وَهُوَ مِنَ الْإِبِلِ مَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ سِنِينَ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْمَعْزِ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ وَطَعَنَ فِي الثَّالِثَةِ، وَأَمَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى جَوَازِهِ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ عَظِيمًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَجُوزُ مِنَ الضَّأْنِ إِلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا وَرَدَ: «نِعْمَتِ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ» اهـ. لَكِنَّ قَوْلَهُ: الْمَعْزُ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ مَخْصُوصٌ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَفِي التَّعْبِيرِ بِالِاتِّفَاقِ تَخَالُفٌ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: النَّهْيُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَذْبَحُوا لِلْحُرْمَةِ فِي الْإِجْزَاءِ، وَلِلتَّنْزِيهِ فِي الْعُدُولِ إِلَى الْأَدْنَى، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْحَدِيثِ بِدَلِيلِ. (إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ) وَالْعُسْرُ قَدْ يَكُونُ لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا، وَقَدْ يَكُونُ لِفَقْدِهَا وَعِزَّتِهَا، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ الْحَمْلُ وَالْحَثُّ عَلَى الْأَكْمَلِ وَالْأَفْضَلِ، وَهُوَ الْإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الضَّأْنُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ التَّرْتِيبَ وَالشَّرْطَ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: الْمُرَادُ بِالْمُسِنَّةِ هُنَا الْبَقَرَةُ فَقَطْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا مُخَصِّصَ لَهَا، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَانَ مُقْتَضَى عَادَتِهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَيَقُولَ: رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.

1456 - «وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ غَنَمًا يُقَسِّمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ أَنْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِي جَذَعٌ. قَالَ: (ضَحِّ بِهِ) » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1456 - ( «وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ غَنَمًا» ) أَيْ: أَغْنَامًا. (يُقَسِّمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ) أَيْ: أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (ضَحَايَا) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُقَسِّمُهَا، إِرَادَةَ التَّضْحِيَةِ. (فَبَقِيَ) أَيْ: بَعْدَ الْقِسْمَةِ. (عَتُودٌ) فِي النِّهَايَةِ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: هُوَ الصَّغِيرُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ إِذَا قَوِيَ، وَأَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ. (فَذَكَرَهُ) أَيْ: عُقْبَةَ بَقَاءِ

الْعَتُودِ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ أَنْتَ) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بِالْمَعْزِ إِذَا كَانَ لَهُ سَنَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُذَاقُ مِنْهُ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ كَمَا «فِي جَذَعَةِ ابْنِ نِيَارٍ قَالَ يُجْزِئُ عَنْكَ وَلَا يُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ لَا تُؤْخَذُ بِالذَّوْقِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ صَرِيحٌ فِي الِاخْتِصَاصِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تَحْمِلَ الْجَذَعَةُ الْمُخْتَصَّةُ مَا دُونُ نِصْفِ السَّنَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. (وَفِي رِوَايَةٍ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَنِي جَذَعٌ» ) أَيْ: مِنَ الضَّأْنِ. (قَالَ: ضَحِّ بِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيْرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

1457 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1457 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْبَحُ) أَيِ: الشَّاةَ وَالْبَقَرَ. (وَيَنْحَرُ) أَيِ: الْإِبِلَ. (بِالْمُصَلَّى. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ السَّيِّدُ: قَدْ مَرَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، ذَكَرَهُ هُنَا لِبَيَانِ مَكَانِ الذَّبْحِ ; إِذِ الذَّبْحُ فِي الْمُصَلَّى أَفْضَلُ لِإِظْهَارِ الشِّعَارِ، وَذُكِرَ ثَمَّةَ لِبَيَانِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِذَا ذَبَحَ بِالْمُصَلَّى عُلِمَ أَنَّ الْأَفْضَلَ الذَّبْحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ فَنَنْحَرَ قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ عَدَمُ جَوَازِ الذَّبْحِ قَبْلَ الصَّلَاةِ.

1458 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْجَزُورُ عَنْ سَبْعَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1458 - وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ» أَيْ: أَنْ تُجْزِئَ عَنْ سَبْعَةِ أَشْخَاصٍ. (وَالْجَزُورُ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَهُوَ مَا يُجْزَرُ أَيْ: يُنْحَرُ مِنَ الْإِبِلِ خَاصَّةً، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ الْجَزَّارَ يَأْخُذُهَا فَهِيَ جُزَارَةٌ، كَمَا يُقَالُ: أَخَذَ الْعَامِلُ عُمَالَتَهُ. (عَنْ سَبْعَةٍ) أَيْ: تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةِ أَنْفُسٍ، أَوْ يُضَحِّي عَنْ سَبْعَةِ أَشْخَاصٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْأَكْثَرُونَ تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ عَنْ سَبْعَةٍ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَكْثَرَ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: تَجُوزُ الْإِبِلُ عَنْ عِشْرَةٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، وَسَيَأْتِي فِي الْحَاوِي. هُوَ مَوْقُوفٌ وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ، وَمَتْرُوكٌ وَلَيْسَ بِمُعَوَّلٍ، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَكْلَ نَصِيبِهِ وَلَمْ يَصْرِفْ مِنْهُ شَيْئًا فِي الْأُضْحِيَّةِ جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ كُلُّهُمُ الْأُضْحِيَّةَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لِسَبْعَةٍ الِاشْتِرَاكُ فِي بَدَنَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشُّرَكَاءُ أَهْلَ بَيْتٍ وَاحِدٍ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الْبُيُوتِ، وَالْجَزُورُ عَنْ سَبْعَةٍ كَذَلِكَ اهـ. وَهُوَ تَعْبِيرٌ مُوهِمٌ فَتَأَمَّلْ! (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَزَعْمُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَهُ غَلَطٌ، وَفِي خَبَرٍ لِمُسْلِمٍ، فِي التَّحَلُّلِ بِالْإِحْصَارِ، «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» . (وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ) أَيْ: لَفْظُ الْحَدِيثِ. (لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ، وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ، وَهَذَا هُوَ الدَّاعِي لِلْمُصَنِّفِ إِلَى ذِكْرِ أَبِي دَاوُدَ مَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يُسْنَدُ لِغَيْرِ الصَّحِيحِ، لَكِنَّ الْبَغَوِيَّ لَمَّا أَخَذَ لَفْظَ أَبِي دَاوُدَ الثَّابِتَ مَعْنَاهُ فِي مُسْلِمٍ، وَجَعَلَهُ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ أَوْهَمَ أَنَّ اللَّفْظَ لِأَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ، فَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ هُوَ الْمَعْنَى، وَلِأَبِي دَاوُدَ اللَّفْظُ.

1459 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ بَعْضُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا، وَلَا يَقْلِمَنَّ ظُفْرًا، وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ ظِفَارِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1459 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ) أَيْ: أَوَّلُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. (وَأَرَادَ) أَيْ: قَصَدَ. (بَعْضُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ) : سَوَاءً وَجَبَ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ، أَوْ أَرَادَ التَّضْحِيَةَ عَلَى الْجِهَةِ التَّطَوُّعِيَّةِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ، وَلَا عَلَى السُّنِّيَّةِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ; لِأَنَّهُ فَوَّضَ إِلَى إِرَادَتِهِ حَيْثُ قَالَ: وَأَرَادَ) ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُفَوِّضِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. قُلْتُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ» وَقَوْلُهُ: «مَنْ أَرَادَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» . وَلِهَذَا اعْتَرَضَ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَأَطَالُوا فِي إِبْطَالِهِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ.

أَقُولُ: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ عَنْهُمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ وُجُودِ النِّصَابِ عِنْدَهُمَا، وَتَرَكَاهَا كَرَاهَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ حَتَّى عَلَى الْفُقَرَاءِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا السُّنَّةَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْوُجُوبُ، فَإِنَّ هَذَا وَظِيفَةُ الشَّارِعِ حَيْثُ يَتْرُكُ الشَّيْءَ تَارَةً لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلِلْعِلْمِ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَأَيْضًا هَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ مِنْ قِبَلِهِمَا. نَعَمْ لَوْ صَرَّحَا بِهَا لَكَانَ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ مُرَادُهُمَا بِالْوُجُوبِ الْفَرْضِيَّةُ، إِذِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوُجُوبِ حَادِثٌ بَعْدَهُمَا، وَنَحْنُ نَقُولُ بِعُلُومِ الْفَرْضِيَّةِ لِفِقْدَانِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَيَكْفِي لِلْوُجُوبِ بَعْضُ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا مُبْهَمٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ: سُنَّةٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ، فَلَا تُنَافِي الْوُجُوبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ، وَهَذَا لَا يَضُرُّنَا لِأَنَّا مَا ادَّعَيْنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا، وَالصَّوَابُ أَنَّ هُنَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا قَوْلَ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ قَالَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامِ» ) ضَحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. أَقُولُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ حَسَنٌ كَمَا سَيَأْتِي، مَعَ أَنَّ أَخْذَ الْمُجْتَهِدِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ، وَلَا يَضُرُّ ضَعْفٌ حَدَثَ بِالْحَدِيثِ بَعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَعَ أَنَّ الْعَتِيرَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِالِاتِّفَاقِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. قُلْتُ: وَلَا سُنَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ أَيْضًا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ «نَسَخَ الْأَضْحَى كُلَّ ذَبْحٍ» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَلَا يَمَسُّ) : بِضَمِّ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: بِالْقَطْعِ وَالْإِزَالَةِ. (مِنْ شَعَرِهِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ. (وَبَشَرِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ. (شَيْئًا) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُمَا لِلتَّشَبُّهِ بِحُجَّاجِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الْمُحْرِمِينَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُضَحِّي يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَوْجِبَةً لِلْعِقَابِ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ فَفَدَاهَا بِالْأُضْحِيَّةِ، وَصَارَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا فِدَاءَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ مَسِّ الشَّعْرِ وَالْبَشَرِ ; لِئَلَّا يُفْقَدَ مِنْ ذَلِكَ قِسْطٌ مَا عِنْدَ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَفَيَضَانِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ، لِيَتِمَّ لَهُ الْفَضَائِلُ، وَيَتَنَزَّهَ عَنِ النَّقَائِصِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا التَّشَبُّهُ بِالْحُجَّاجِ غَلَّطُوهُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ طَلَبُ الْإِمْسَاكِ عَنْ نَحْوِ الطِّيبِ وَلَا قَائِلَ بِهِ اهـ. وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ مِنْ قَائِلِهِ ; لِأَنَّ التَّشَبُّهَ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ وَجَّهَ تَوْجِيهًا حَسَنًا قِي خُصُوصِ اجْتِنَابِ قَطْعِ الشَّعْرِ أَوِ الظُّفْرِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْمُرَادُ بِالْبَشَرِ هُنَا الظُّفْرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ دَلَّتَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْبَشَرُ ظَاهِرُ جِلْدِ الْإِنْسَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُقَشِّرُ مِنْ جِلْدِهِ شَيْئًا إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَقْشِيرِهِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ: فَلَا يَمَسُّ مِنْ شَعْرِ مَا يُضَحِّي بِهِ، وَبَشَرِهِ أَيْ ظُفْرِهِ وَأَرَادَ بِهِ الظِّلْفَ، ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَمَنَعُوا مِنْ أَخْذِ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ مَا لَمْ يُذْبَحْ، وَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَرَيَانِ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَصْحَابُ اهـ. وَفِي عِبَارَتِهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الِاسْتِغْرَابِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ، فَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يُضَحِّيَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنْ لَا يَحْلِقَ شَعْرَهُ، وَلَا يُقَلِّمَ ظُفْرَهُ حَتَّى يُضَحِّيَ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مَكْرُوهًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُبَاحٌ، وَلَا يُكْرَهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: بِتَحْرِيمِهِ كَذَا فِي رَحْمَةِ الْأُمَّةِ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: رَخَّصَ. أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ فَخِلَافُهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. (وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَأْخُذَنَّ) : بِنُونِ التَّأْكِيدِ أَيْ: لَا يُزِيلَنَّ. (شَعْرًا، وَلَا يُقَلِّمَنَّ) : بِكَسْرِ اللَّامِ مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ وَقِيلَ بِالتَّثْقِيلِ أَيْ: لَا يَقْطَعَنَّ. (ظُفُرًا) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَبِالْكَسْرِ شَاذٌّ أَيْ: لُغَةً ; لِأَنَّ سُكُونَ الثَّانِي شَاذٌّ قِرَاءَةً، وَقَرَأَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] . (وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ) أَيْ: أَبْصَرَهُ أَوْ عَلِمَهُ. (وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1460 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشَرَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1460 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مِنْ أَيَّامٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَيَّامِ جُمْلَتُهَا. (الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ) : ظَرْفٌ لِلْعَمَلِ بِالرَّفْعِ لَا غَيْرَ. (إِلَى اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ: تَعَالَى. (مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ) أَيِ: الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَمَلُ مُبْتَدَأٌ، وَفِيهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَالْخَبَرُ أَحَبُّ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ مَا. أَيْ: وَاسْمُهَا أَيَّامٌ) ، وَمِنِ الْأُولَى زَائِدَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَلَ، وَفِيهِ حَذْفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ سِوَى الْعَشْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّهَا أَيَّامُ زِيَارَةِ بَيْتِ اللَّهِ، وَالْوَقْتُ إِذَا كَانَ أَفْضَلَ كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِ أَفْضَلَ. وَذَكَرَ السَّيِّدُ: اخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ وَالْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْعَشْرُ أَفْضَلُ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَشْرُ رَمَضَانَ أَفْضَلُ لِلصَّوْمِ وَالْقَدْرِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ أَيَّامَ هَذِهِ الْعَشْرِ أَفْضَلُ لِيَوْمِ عَرَفَةَ، وَلَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ; لِأَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ أَفْضَلُ لَيَالِي السَّنَةِ ; وَلِذَا قَالَ: (مِنْ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ لَيَالٍ، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ. (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ) : بِالرَّفْعِ. (فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ !) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: وَلَا الْجِهَادُ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّانِي. (قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. (إِلَّا رَجُلٌ) أَيْ: إِلَّا جِهَادُ رَجُلٍ. (خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِمَّا ذَكَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ. (وَبِشَيْءٍ) أَيْ: صَرَفَ مَالَهُ وَنَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي أُخِذَ مَالُهُ، وَأُرِيقَ دَمُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا الْجِهَادُ أَفْضَلُ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَعْمَالِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ; لِأَنَّ الثَّوَابَ بِقَدْرِ الْمَشَقَّةِ اهـ. وَفِي تَعْلِيلِهِ بَحْثٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَطْوِيلٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيْرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1461 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ذَبَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، أَمْلَحَيْنِ، مَوْجُوءَيْنِ، فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيلِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ ذَبَحَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: «ذَبَحَ بِيَدِهِ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1461 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ذَبَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَلَمَّا. إِلَخْ. (يَوْمَ الذَّبْحِ) أَيْ: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيُسَمَّى يَوْمَ النَّحْرِ أَيْضًا. (كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، أَمْلَحَيْنِ، مَوْجُوءَيْنِ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ وَاوٍ فَضَمِّ جِيمٍ وَسُكُونِ وَاوٍ فَهَمْزٍ مَفْتُوحٍ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: مُوجَيَيْنِ بِضَمِّ الْمِيمِ فَفَتْحِ الْجِيمَ وَالْيَاءُ الْأُولَى مُخَفَّفَةٌ وَمُشَدَّدَةٌ، وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ أَيْ: خَصِيَّيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُرْوَى مَوْجِيَّيْنِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، قَلَبُوا الْهَمْزَةَ وَالْوَاوَ يَاءً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ اهـ. فِي النِّهَايَةِ: الْوِجَاءُ أَنْ تُرَضَّ أَيْ: تُدَقَّ أُنْثَيَا الْفَحْلِ رَضًّا شَدِيدًا يُذْهِبُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُوجَأَ الْعُرُوقُ وَالْخُصْيَتَانِ بِحَالِهِمَا، وَفِي الْقَامُوسِ: وَوُجِيَ هُوَ بِالضَّمِّ فَهُوَ مَوْجُوءٌ وَوَجِئٌ: دُقَّ عُرُوقُ خُصْيَتَيْهِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمَا، أَوْ هُوَ رُضَاضُهُمَا حَتَّى يَنْفَضِخَا أَيْ: يَنْكَسِرَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَرِهَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَوْجُوءَةَ لِنُقْصَانِ الْعُضْوِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ; لِأَنَّ الْخِصَاءَ يَزِيدُ اللَّحْمَ طِيبًا ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْعُضْوَ لَا يُؤْكَلُ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ أَنْ يَذْبَحَ الْأُضْحِيَّةَ بِنَفْسِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ اهـ. وَفِي تَعْلِيلِهِ إِشْكَالٌ لِمَا فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ: «أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ اشْتَرَى كَبْشًا لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَعَدَا الذِّئْبُ، فَأَخَذَ أَلْيَتَهُ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ» ، لَكِنْ أَشَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ سَنَدِهِ. (فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: جَعَلَ وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِلْقَاءَ الْقِبْلَةِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِ قَلْبِهِ تِلْقَاءَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَلَمَّا ذَبَحَهُمَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: أَرَادَ ذَبْحَهُمَا. (قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْ: جَعَلْتُ ذَاتِيَ

مُتَوَجِّهًا. (لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أَيْ: إِلَى خَالِقِهِمَا وَمُبْدِعِهِمَا. (عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) : حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ فِي وَجَّهْتُ وَجْهِي، أَيْ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي فِي الْأُصُولِ وَبَعْضِ الْفُرُوعِ. (حَنِيفًا) : حَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى الْمِلَّةِ الْقَوِيمَةِ الَّتِي هِيَ التَّوْحِيدُ الْحَقِيقِيُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا سِوَى الْمَوْلَى ; وَلِذَا «لَمَّا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا» . (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : لَا شِرْكًا جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا. قَالَ السَّيِّدُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ؟ قِيلَ: كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: مُوسَى، وَقِيلَ: عِيسَى، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ لِنَسْخِ الْكُلِّ بِشَرِيعَةِ عِيسَى، وَشَرْعُهُ كَانَ قَدْ حُرِّفَ وَبُدِّلَ. قَالَ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] أَيْ: شَرَائِعَهُ وَأَحْكَامَهُ، وَفِيهِ أَنَّ عِيسَى كَانَ مَبْعُوثًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ; فَلَا يَكُونُ نَاسِخًا لِأَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ، وَلَمْ يَعْبُدْ صَنَمًا قَطُّ إِجْمَاعًا، وَكَانَتْ عِبَادَتُهُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَنَا. قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: وَلَعَلَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - جَعَلَ خَفَاءَ ذَلِكَ وَكِتْمَانَهُ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ. قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَظْهَرُ شَيْءٌ يُشْبِهُ الْمُعْجِزَاتِ يَعْنِي الَّتِي تُسَمَّى إِرْهَاصًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا قَبْلَ أَرْبَعِينَ غَيْرَ مُرْسَلٍ، وَأَمَّا بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْعٍ سِوَى شَرِيعَتِهِ إِجْمَاعًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَلِيًّا، ثُمَّ بَعْدَهَا صَارَ نَبِيًّا، ثُمَّ صَارَ رَسُولًا. (إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي) أَيْ: سَائِرُ عِبَادَاتِي أَوْ تَقَرُّبِي بِالذَّبْحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالذَّبْحِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . (وَمَحْيَايَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُسَكَّنُ. (ط وَمَمَاتِي) : بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: وَمَا آتِيهِ فِي حَيَاتِي، وَمَا أَمُوتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ اهـ. أَوْ حَيَاتِي وَمَوْتِي. (لِلَّهِ) أَيْ: خَالِصَةٌ لِوَجْهِهِ. (رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: سَيِّدُهُمْ وَخَالِقُهُمْ، وَمُرَبِّيهِمْ وَمُصْلِحُهُمْ، وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ. (لَا شَرِيكَ لَهُ) أَيْ: فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. (وَبِذَلِكَ) أَيْ: بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعُبُودِيَّةِ. (أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، وَحُكْمِهِ، وَقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ. (اللَّهُمَّ) أَيْ: يَا اللَّهُ. (مِنْكَ) أَيْ: هَذِهِ الْأُضْحِيَّةُ عَطِيَّةٌ وَمِنْحَةٌ، وَاصِلَةٌ إِلَيَّ مِنْكَ. (وَلَكَ) أَيْ: مَذْبُوحَةٌ وَخَالِصَةٌ لَكَ. وَفِي الْمَصَابِيحِ زِيَادَةُ إِلَيْكَ، أَيْ: وَاصِلَةٌ وَرَاجِعَةٌ إِلَيْكَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْأَمْثَالِ: مِمَّا لَكُمْ يُهْدَى لَكُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْكَبْشَ مِنْكَ، وَجَعَلْتُهُ لَكَ، وَأَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ. (عَنْ مُحَمَّدٍ) أَيْ: صَادِرَةٌ عَنْهُ. (وَأُمَّتِهِ) أَيِ: الْعَاجِزِينَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ فِي سُنَّةِ أُضْحِيَّتِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِأَهْلِ زَمَانِهِ، وَالتَّعْمِيمَ الْمُنَاسِبَ لِشُمُولِ إِحْسَانِهِ، وَالْأَوَّلُ يَحْتَمِلُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ أَوِ الْأَخِيرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ الْمُشَارَكَةُ إِمَّا مَحْمُولَةٌ عَلَى الثَّوَابِ، وَإِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ ذَلِكَ الْجَنَابِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَنْ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَالثَّانِي عَنْ أُمَّتِهِ الضَّعِيفَةِ. (بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ ذَبَحَ) أَيْ: بِيَدِهِ، وَأَمَرَ بِذَبْحِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَأَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ. وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ عَنْعَنَهُ، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ. (وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، ذَبَحَ بِيَدِهِ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا) أَيِ: الْكَبْشُ، أَوْ مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَبْشَيْنِ. (عَنِّي) أَيِ: اجْعَلْهُ أُضْحِيَّةً عَنِّي. (وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي) : وَفِيهِ رَائِحَةٌ مِنَ الْوُجُوبِ، فَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَمَّنْ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ يُضَحِّ، إِمَّا لِجَهَالَةٍ، أَوْ نِسْيَانٍ وَغَفْلَةٍ، أَوْ فَقْدِ أُضْحِيَّةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ رَحْمَةٌ عَلَى أُمَّتِهِ الْمَرْحُومَةِ عَلَى عَادَتِهِ الْمَعْلُومَةِ.

1462 - وَعَنْ حَنَشٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَانِي أَنْ أُضَحِّيَ عَنْهُ، فَأَنَا أُضَحِّي عَنْهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1462 - (وَعَنْ حَنَشٍ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَبَائِي، قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ، وَقَدِمَ مِصْرَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ. (قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ) أَيْ: زِيَادَةً عَلَى أُضْحِيَّتِهِ الْخَاصَّةِ لَهُ. (فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا؟ !) أَيْ: مَا سَبَبُ هَذَا الزَّائِدِ؟ ! (فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَانِي) أَيْ: عَهِدَ إِلَيَّ وَأَمَرَنِي. (أَنْ أُضَحِّيَ عَنْهُ) : بَعْدَ مَوْتِهِ إِمَّا بِكَبْشَيْنِ عَلَى مِنْوَالِ حَيَاتِهِ، أَوْ بِكَبْشَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْهُ) ، وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِي. (فَأَنَا أُضَحِّي عَنْهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ تَجُوزُ عَمَّنْ مَاتَ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَلَمْ يَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ التَّضْحِيَةَ عَنِ الْمَيِّتِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أُحِبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ وَلَا يُضَحِّيَ، فَإِنْ ضَحَّى فَلَا يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، وَيَتَصَدَّقُ بِالْكُلِّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ. وَفِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا الْحَاكِمُ: «أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِكَبْشَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي أَنْ أُضَحِّيَ عَنْهُ أَبَدًا ; فَأَنَا أُضَحِّي عَنْهُ أَبَدًا» .

1463 - «وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ، وَأَلَّا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا شَرْقَاءَ وَلَا خَرْقَاءَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْأُذُنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1463 - (وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ) : بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: نَنْظُرَ إِلَيْهِمَا، وَشَامِلٌ فِي سَلَامَتِهِمَا مِنْ آفَةٍ تَكُونُ بِهِمَا، كَالْعَوَرِ وَالْجَدَعِ، قِيلَ: وَالِاسْتِشْرَافُ إِمْعَانُ النَّظَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ وَضْعُ يَدِكَ عَلَى حَاجِبِكَ كَيْلَا تَمْنَعَكَ الشَّمْسُ مِنَ النَّظَرِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّرَفِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى شَيْءٍ أَشْرَفَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الِاسْتِشْرَافُ الِاسْتِكْشَافُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الشُّرْفَةِ، وَهِيَ خِيَارُ الْمَالِ، أَيْ: أَمَرَنَا أَنْ نَتَخَيَّرَهُمَا أَيْ: نَخْتَارَ ذَاتَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ الْكَامِلَتَيْنِ. (وَأَنْ لَا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: الَّتِي قُطِعَ مِنْ قِبَلِ أُذُنِهَا شَيْءٌ، ثُمَّ تُرِكَ مُعَلَّقًا مِنْ مُقَدَّمِهَا. (وَلَا مُدَابَرَةٍ) وَهِيَ الَّتِي قُطِعَ مِنْ دُبُرِهَا، وَتُرِكَ مُعَلَّقًا مِنْ مُؤَخَّرِهَا. (وَلَا شَرْقَاءَ) بِالْمَدِّ أَيْ: مَشْقُوقَةِ الْأُذُنِ طُولًا مِنَ الشَّرَقِ، وَهُوَ الشَّقُّ، وَمِنْهُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّ فِيهَا تُشَرَّقُ لُحُومُ الْقَرَابِينِ. (وَلَا خَرْقَاءَ) بِالْمَدِّ أَيْ: مَثْقُوبَةِ الْأُذُنِ ثُقْبًا مُسْتَدِيرًا، وَقِيلَ: الشَّرْقَاءُ مَا قُطِعَ أُذُنُهَا طُولًا، وَالْخَرْقَاءُ: مَا قُطِعَ أُذُنُهَا عَرْضًا، قَالَ الْمُظْهِرُ: لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ قُطِعَ بَعْضُ أُذُنِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ إِذَا قُطِعَ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ، وَلَا بَأْسَ بِمَكْسُورِ الْقَرْنِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ الْوَجْهُ ; لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ كُلَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَضْبَاءِ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ» . قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَا عَضْبَاءُ الْأُذُنِ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ النِّصْفُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ مَقْطُوعًا اهـ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْزِئُ مَا قُطِعَ دُونَ نِصْفِ أُذُنِهِ، وَهُوَ تَحْدِيدٌ يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ فَهُوَ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ قِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَدِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِلَّا فَالْمُجْتَهِدُ أَسِيرُ الدَّلِيلِ. فَإِذَا لَمْ تَرَ الْهِلَالَ فَسَلِّمْ لِأُنَاسٍ رَأَوْهُ بِالْأَبْصَارِ وَحَاصِلُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَقْطُوعُ الْأُذُنِ كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا، وَلَا مَقْطُوعُ النِّصْفِ خِلَافَ الَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا خِلْقَةً، وَلَا مَقْطُوعُ الذَّنَبِ وَالْأَنْفِ وَالْإِلْيَةِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْأُذُنِ، وَلَا الَّتِي يَبِسَ ضَرْعُهَا، وَلَا الذَّاهِبَةُ ضَوْءُ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَنْقُصَ رَعْيُهَا ; إِذْ لَا تُبْصِرُ أَحَدَ شِقَّيِ الْمَرْعَى، وَلَا الْعَجْمَاءُ الَّتِي لَا مُخَّ لَهَا وَهِيَ الْهَزِيلَةُ، وَلَا الْعَرْجَاءُ الَّتِي لَا تُنْسَبُ إِلَى الْمَنْسَكِ، وَلَا الْمَرِيضَةُ الَّتِي لَا تَعْتَلِفُ، وَلَا الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا بِحَيْثُ لَا تَعْتَلِفُ، وَلَا الْجَلَّالَةُ، وَيَجُوزُ الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا طُولًا، أَوْ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهَا، وَهِيَ مُتَدَلِّيَةٌ أَوْ مِنْ خَلْفِهَا، فَالنَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يُبَالُوا بِتَصْحِيحِ التِّرْمِذِيِّ) لَهُ، وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ: ذَهَبَ الْأَرْبَعَةُ أَنْ تُجْزِئَ الشَّرْقَاءُ وَهِيَ الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَالْخَرْقَاءُ وَهِيَ الْمَثْقُوبَةُ الْأُذُنِ مِنْ كَيٍّ أَوْ غَيْرِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ) نَقَلَهُ مِيْرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ) أَيْ: رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ. (إِلَى قَوْلِهِ: وَالْأُذُنَ) بِالنَّصْبِ حِكَايَةً وَهِيَ الْأَوْلَى.

1464 - وَعَنْهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُضَحِّيَ بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1464 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ. (قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُضَحِّيَ بِأَعْضَبَ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ» ) أَيْ: مَكْسُورِ الْقَرْنِ، مَقْطُوعِ الْأُذُنِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَقِيلَ: مَقْطُوعُ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ، وَالْعَضْبُ الْقَطْعُ، وَفِي الْمُهَذَّبِ: أَنَّهُ تَجُوزُ الْجَمَّاءُ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا، أَوْ كَانَ مَكْسُورًا، أَوْ ذَهَبَ غِلَافُ قَرْنِهَا، فَيَكُونُ النَّهْيُ تَنْزِيهًا. وَفِي الْفَائِقِ: الْعَضْبُ فِي الْقَرْنِ دَاخِلُ الِانْكِسَارِ، وَيُقَالُ لِلِانْكِسَارِ فِي الْخَارِجِ الْقَصْمُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقَدْ يَكُونُ الْعَضْبُ فِي الْأُذُنِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْقَرْنِ أَكْثَرُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَقَالَ مِيْرَكُ نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ: رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ اهـ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ.

1465 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: مَاذَا يُتَّقَى مِنَ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقَالَ: أَرْبَعًا: الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تَنْقَى» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1465 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: مَاذَا يُتَّقَى) أَيْ: يُحْتَرَزُ وَيُجْتَنَبُ. (مِنَ الضَّحَايَا) مِنْ بَيَانِيَّةٌ لِمَا. (فَأَشَارَ بِيَدِهِ) أَيْ: بِأَصَابِعِهِ. (فَقَالَ: أَرْبَعًا) أَيِ: اتَّقُوا أَرْبَعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: السُّؤَالُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: أَرْبَعٌ بِالرَّفْعِ، أُجِيبُ: بِأَنَّهُ رُبَّمَا صَحَّفَ النَّاسِخُ نَتَّقِي بِالنُّونِ، فَكَتَبَ يُتَّقَى بِالْيَاءِ، أَوْ أَنْ يُخَالَفَ الْجَوَابُ فَيُقَدَّرَ الْعَامِلُ اتَّقِ أَرْبَعًا اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ التَّصْحِيفَ قَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاقِلِ، وَلَكِنْ مَعَ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ وَتَعَدُّدِ طُرُقِهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، سِيَّمَا وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ: فَأَشَارَ بِيَدِهِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ بِالْإِشَارَةِ، وَقَوْلُهُ: أَرْبَعًا مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، رَفْعًا لِلْإِبْهَامِ الْفِعْلِيِّ بِالتَّعْبِيرِ الْقَوْلِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْعَرْجَاءَ) : بِالنَّصْبِ بَدَلًا مِنْ أَرْبَعًا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ كَذَا فِي الْأَزْهَارِ. (الْبَيِّنَ) : بِالْوَجْهَيْنِ أَيِ: الظَّاهِرَ. (ظَلْعُهَا) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَبِفَتْحٍ أَيْ: عَرَجُهَا وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَهَا الْمَشْيَ. (وَالْعَوْرَاءَ) : عَطْفٌ عَلَى الْعَرْجَاءِ. (الْبَيِّنَ عَوَرُهَا) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: عَمَاهَا فِي عَيْنٍ، وَبِالْأَوْلَى فِي الْعَيْنَيْنِ. (وَالْمَرِيضَةَ الْبَيِّنَ مَرَضُهَا) : وَهِيَ الَّتِي لَا تَعْتَلِفُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ الْخَفِيَّ فِي الضَّحَايَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ. (وَالْعَجْفَاءَ) أَيِ: الْمَهْزُولَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ الْكَسْرَاءَ، وَفِي أُخْرَى الْكَسِيرَةَ. (الَّتِي لَا تَنْقَى) : مِنَ الْإِنْقَاءِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هِيَ الْمَهْزُولَةُ الَّتِي لَا نَقِيَ لِعِظَامِهَا يَعْنِي: لَا مُخَّ لَهَا مِنَ الْعَجَفِ، يُقَالُ: أَنْقَتِ النَّاقَةُ أَيْ: صَارَ فِيهَا نَقْيٌ، أَيْ: سَمِنَتْ وَوَقَعَ فِي عِظَامِهَا الْمُخُّ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ فَسَّرَهُ بِأَنَّهَا الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا مِنَ الشَّحْمِ. قَالَ: وَالْكَسْرَاءَ الَّتِي لَا تَنْقَى هِيَ الَّتِي لَا تَقُومُ مِنَ الْهُزَالِ. (وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

1466 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَحِيلٍ، يَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ، وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1466 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَحِيَلٍ» ) : قَالَ السَّيِّدُ أَيْ: كَرِيمٍ سَمِينٍ مُخْتَارٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ النَّبِيلَ وَالْعَظِيمَ فِي الْخَلْقِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْمُخْتَارَ مِنَ الْفُحُولِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ بِالْفَحْلِ مِنَ الْعِظَمِ وَالْقُوَّةِ، وَقِيلَ الْمُنْجِبُ فِي ضِرَابِهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِلتَّضْحِيَةِ الْأَسْمَنُ الْأَكْحَلُ حَتَّى إِنَّ التَّضْحِيَةَ بِشَاةٍ سَمِينَةٍ أَفْضَلُ مِنْ شَاتَيْنِ، وَكَثْرَةُ اللَّحْمِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ الشَّحْمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ رَدِيئًا قَالَهُ فِي الْأَزْهَارِ. (يَنْظُرُ فِي سَوَادٍ) أَيْ: حَوَالَيْ عَيْنَيْهِ سَوَادٌ) . (وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ) أَيْ: فَمُهُ أَسْوَدُ. (وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ أَيْ: قَوَائِمُهُ سُودٌ مَعَ بَيَاضِ سَائِرِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، نَقَلَهُ مِيْرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

1467 - وَعَنْ مُجَاشِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ بَنَى سُلَيْمٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْجَذَعَ يُوفِي مِمَّا يُوفِي مِنْهُ الثَّنِيُّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1467 - (وَعَنْ مُجَاشِعٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ. (مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ مِيْرَكُ: وَهُوَ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ وَهْبٍ السُّلَمِيُّ: أَخُو مُجَالِدٍ، وَلَهُمَا صُحْبَةٌ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْجَذَعَ) أَيْ: مِنَ الضَّأْنِ. (يُوفَى) : مُضَارِعٌ مَجْهُولٌ مِنَ التَّوْفِيَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الْإِيفَاءِ، وَيُقَالُ: أَوْفَاهُ حَقَّهُ، وَوَفَّاهُ أَيِ: أَعْطَاهُ وَافِيًا أَيْ: تَامًّا. (مِمَّا يُوفَى مِنْهُ الثَّنِيُّ) أَيِ: الْجَذَعُ يُجْزِئُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنَ الثَّنْيِ أَيْ: مِنَ الْمَعْزِ، وَالْمَعْنَى يَجُوزُ تَضْحِيَةُ الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ كَتَضْحِيَةِ الثَّنْيِّ مِنَ الْمَعْزِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

1468 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «نِعْمَتِ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1468 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (نِعْمَتِ الْأُضْحِيَّةُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَضَمُّهَا أَشْهَرُ. (الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ) : مَدَحَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1469 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ الْأَضْحَى، فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الْبَعِيرِ عَشَرَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1469 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ) : وَلَعَلَّهُمْ أَقَامُوا فِي بَلَدٍ، أَوْ وَقَعَتِ الْأُضْحِيَّةُ اسْتِحْبَابًا لَا وُجُوبًا. (فَحَضَرَ الْأَضْحَى) أَيْ: يَوْمُ عِيدِهِ. (فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ) أَيْ: سَبْعَةُ أَشْخَاصٍ، بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي بَيَانًا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: مَرْفُوعٌ: بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ اشْتَرَكْنَا، وَعِنْدِي أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقُدِّمَ خَبَرُهُ: الْجَارُ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلِاشْتِرَاكِ. (وَفِي الْبَعِيرِ عَشَرَةٌ) قَالَ الْمُظْهِرُ: عَمِلَ بِهِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ مِمَّا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ: الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْجَزُورُ عَنْ سَبْعَةٍ اهـ. قَالَ الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَعَارَضُ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ: فِي الْبَدَنَةِ سَبْعَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ فَهُوَ شَاكٌّ، وَغَيْرُهُ جَازِمٌ بِالسَّبْعَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

1470 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، وَإِنَّهُ لَيُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1470 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا عَمِلَ) ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ: مِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ أَيْ عَمَلًا. (يَوْمَ النَّحْرِ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. (أَحَبَّ) : بِالنَّصْبِ صِفَةُ عَمَلٍ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ، وَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَحَبُّ. (إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ) أَيْ: صَبِّهِ. (وَإِنَّهُ) : الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ إِهْرَاقُ الدَّمِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ: الدَّمُ الْمُهْرَاقُ، فَلَا وَجْهَ لَهُ إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُهْرَاقَ دَمُهُ. (لِيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَالتَّأْنِيثُ فِي قَوْلِهِ: (بِقُرُونِهَا) : جَمْعُ الْقَرْنِ. (وَأَشْعَارِهَا) : جَمْعُ الشَّعْرِ. (وَأَظْلَافِهَا) : جَمْعُ ظِلْفٍ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: (إِنَّهُ) أَيِ: الْمُضَحَّى بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ. (إِنَّهَا) أَيِ: الْأُضْحِيَّةُ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالضَّمَائِرِ بَعْدُ. قَالَ السَّيِّدُ: وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بَدَلَ (بِقُرُونِهَا) (بِفُرُوثِهَا) جَمْعُ فَرْثٍ، وَهُوَ النَّجَاسَةُ الَّتِي فِي الْكِرْشِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْأُصُولِ. قُلْتُ: فَيَكُونُ تَصْحِيفًا. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: يَعْنِي أَصْلُ الْعِبَادَاتِ يَوْمَ الْعِيدِ إِرَاقَةُ دَمِ الْقُرْبَانِ، وَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ نُقْصَانِ شَيْءٍ مِنْهُ، لِيَكُونَ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ أَجْرٌ، وَيَصِيرَ مَرْكَبَهُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَكُلُّ يَوْمٍ مُخْتَصٌّ بِعِبَادَةٍ، وَيَوْمُ النَّحْرِ بِعِبَادَةٍ فَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ التَّضْحِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْ ذَبْحِ الْغَنَمِ فِي فِدَاءِ الْإِنْسَانِ لَمَا فَدَى إِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِذَبْحِ الْغَنَمِ، وَقَوْلُهُ: (وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ رِضَاهُ

(بِمَكَانٍ) أَيْ: بِمَوْضِعٍ قُبِلَ. (قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالْأَرْضِ) أَيْ: يَقْبَلُهُ تَعَالَى عِنْدَ قَصْدِ الذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ دَمُهُ عَلَى الْأَرْضِ. (فَطِيبُوا بِهَا أَيْ: بِالْأُضْحِيَّةِ. (نَفْسًا) : تَمْيِيزٌ عَنِ النِّسْبَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٌ أَيِ: إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُهُ وَيَجْزِيكُمْ بِهَا ثَوَابًا كَثِيرًا، فَلْتَكُنْ أَنْفُسُكُمْ بِالتَّضْحِيَةِ طَيِّبَةً غَيْرَ كَارِهَةٍ لَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَطِيبُوا بِهَا أَيْ: بِثَوَابِهَا الْجَزِيلِ نَفْسًا أَيْ: قَلْبًا. أَيْ: بَادِرُوا إِلَيْهَا فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيْرَكُ: وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. (وَابْنُ مَاجَهْ) .

1471 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ فِيهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1471 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا) : بِمَعْنَى لَيْسَ. (مِنْ أَيَّامٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ، وَأَيَّامٍ اسْمُهَا. (أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُهَا، وَبِالْفَتْحِ صِفَتُهَا، وَخَبَرُهَا ثَابِتَةٌ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ أَيَّامٍ عَلَى الْمَحَلِّ، وَالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهَا صِفَتُهَا عَلَى اللَّفْظِ، وَقَوْلُهُ: (أَنْ يَتَعَبَّدَ) : فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ أَحَبَّ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لِأَنْ يَتَعَبَّدَ أَيْ: يَفْعَلَ الْعِبَادَةَ. (لَهُ) أَيْ: لِلَّهِ. (فِيهَا) أَيْ: فِي الْأَيَّامِ. (مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: لَوْ قِيلَ: (أَنْ يَتَعَبَّدَ) مُبْتَدَأٌ، وَ (أَحَبَّ) خَبَرُهُ، وَ (مِنْ) مُتَعَلِّقٌ بِأَحَبَّ) ; يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَ (أَحَبَّ) وَمَعْمُولِهِ بِأَجْنَبِيٍّ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقْرَأَ. (أَحَبَّ بِالْفَتْحِ لِيَكُونَ صِفَةَ (أَيَّامٍ) ، وَأَنْ (يَتَعَبَّدَ) فَاعِلُهُ، وَ (مِنْ) مُتَعَلِّقٌ بِأَحَبَّ، وَالْفَصْلُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَحْسَنَ فِي عَيْنِهِ الْكُحْلُ مِنْ عَيْنِ زَيْدٍ، وَخَبَرُ مَا مَحْذُوفٌ. أَقُولُ: لَوْ جُعِلَ أَحَبَّ خَبَرَ مَا وَ (أَنْ يَتَعَبَّدَ) مُتَعَلِّقًا بِأَحَبَّ بِحَذْفِ الْجَارِّ أَيْ: مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ لِأَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لَكَانَ أَقْرَبَ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا اللَّفْظُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ لِتَعْظِيمِ الْأَيَّامِ وَالْعِبَادَةُ تَابِعَةٌ لَهَا لَا عَكْسُهُ، وَعَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُ يَلْزَمُ الْعَكْسُ مَعَ ارْتِكَابِ ذَلِكَ التَّعَسُّفِ. (يَعْدِلُ) : بِالْمَعْلُومِ، وَقِيلَ بِالْمَجْهُولِ أَيْ: يَسْوِي. (صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا) أَيْ: مَا عَدَا الْعَاشِرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ. (بِصِيَامِ سَنَةٍ) أَيْ: لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ كَذَا قِيلَ، وَالْمُرَادُ صِيَامُ التَّطَوُّعِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَيَّامُ رَمَضَانَ. (وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ) . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِيسَى الرَّمْلِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْبَجَلِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، - وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ - يَعْنِي مِنَ الْعَشْرِ - ; فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ مِنْهَا يَعْدِلُ بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَالْعَمَلُ فِيهِنَّ يُضَاعَفُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1472 - «عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: شَهِدْتُ الْأَضْحَى يَوْمَ النَّحْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَعْدُ أَنْ صَلَّى وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَرَى لَحْمَ أَضَاحٍ قَدْ ذُبِحَتْ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ - أَوْ نُصَلِّيَ - فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ ذَبَحَ، وَقَالَ: مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1472 - (عَنْ جُنْدَبِ) : بِضَمِّهِمَا وَبِفَتْحِ الدَّالِ. (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: شَهِدْتُ) أَيْ: حَضَرْتُ. (الْأَضْحَى) أَيْ: عِيدَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: مُصَلَّاهُ وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِقَوْلِهِ: (يَوْمَ النَّحْرِ) : بَدَلٌ مِنَ الْأَضْحَى. (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَعْدُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الدَّالِ مِنْ عَدَا يَعْدُو أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزْ. (أَنْ صَلَّى، وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَسَلَّمَ) : عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ. (فَإِذَا هُوَ يَرَى لَحْمَ أَضَاحِيٍّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزْ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى الْخُطْبَةِ،

فَفَاجَأَ لَحْمَ الْأَضَاحِيِّ، وَقِيلَ: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الدَّالِ أَيْ: لَمْ يَرْجِعْ بَعْدَ أَنْ صَلَّى إِلَى بَيْتِهِ حَتَّى رَأَى لَحْمَ أَضَاحِيٍّ. (قَدْ ذُبِحَتْ) قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: (وَمَنْ ذَبَحَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: مَنْ كَانَ ذَبَحَ. (قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ: هُوَ. (- أَوْ نُصَلِّيَ) - أَيْ: نَحْنُ، شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ، إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُصَلًّى مُتَعَدِّدٌ. (فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا) أَيْ: بَدَلَ تِلْكَ الذَّبِيحَةِ. (أُخْرَى) أَيِ: أُضْحِيَّةً أُخْرَى، فَإِنَّ الْأُولَى غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ فِي الْأُخْرَى. (- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ ذَبَحَ، وَقَالَ: مَنْ ذَبَحَ وَفِي نُسْخَةٍ: مَنْ كَانَ ذَبَحَ. (قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ) بِالْيَاءِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: بِالنُّونِ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ: أَوْ نُصَلِّيَ بِالنُّونِ. (فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا) : وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ كَمَا سَبَقَ. (وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ) : مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: قَائِلًا بِسْمِ اللَّهِ، فَمُسْتَدْرَكٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ أَنَّهُ يَقَعُ اسْمُ اللَّهِ مَقْرُونًا بِالْبَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1473 - وَعَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: الْأَضْحَى يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ الْأَضْحَى. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1473 - (وَعَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: الْأَضْحَى) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا جَمْعُ أَضْحَاةٍ وَهِيَ الْأُضْحِيَّةُ، كَأَرْطَى وَأَرْطَاةٍ أَيْ: وَقْتُ الْأَضَاحِيِّ. (يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ الْأَضْحَى) وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَقَالُوا: يَنْتَهِي وَقْتُ الذَّبْحِ بِغُرُوبِ ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَأَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ أُخَرَ. مِنْهَا خَبَرُ: «فِي كُلِّ أَيَّامٍ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» . صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَاعْتَرَضَهُ النَّوَوِيُّ فِي مَوْضِعٍ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَفِي آخَرَ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، نَعَمْ إِيصَالُهُ جَاءَ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ. وَمِنْهَا: خَبَرُ «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا ذَبْحٌ» . إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَخَبَرُ: «أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ نَحْرٍ» . صَحَّحَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَنَظَرَ فِيهِ الْبَيْهَقِيُّ. أَقُولُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ يُمْكِنُ حَمْلُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَأَيَّامِ مِنًى عَلَى التَّغْلِيبِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَهُ طُرُقًا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا ; فَهُوَ حَسَنٌ يُحْتَجُّ بِهِ، وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، فَمَنْ زَعَمَ تَفَرُّدَ الشَّافِعِيِّ بِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَقَالَ جَمْعٌ: يَنْتَهِي الذَّبْحُ بِانْتِهَاءِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي مُرْسَلٍ يُحْتَجُّ لَهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ الْحِجَّةِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

1474 - وَقَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1474 - (وَقَالَ) أَيْ: مَالِكٌ. (بَلَغَنِي) : وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ: وَبَلَغَنِي. (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلَهُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: مِثْلَ مَرْوِيِّ ابْنِ عُمَرَ.

1475 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ يُضَحِّي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1475 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ يُضَحِّي» ) أَيْ: كُلَّ سَنَةٍ فَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1476 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ. قَالُوا: فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1476 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: مِنْ خَصَائِصِ شَرِيعَتِنَا أَوْ سَبَقَنَا بِهَا بَعْضُ الشَّرَائِعِ. (قَالَ: سُنَّةُ أَبِيكُمْ) أَيْ: طَرِيقَتُهُ الَّتِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهَا. قَالَ تَعَالَى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] فَهِيَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي قَرَّرْتُهَا

شَرِيعَتُنَا. (إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِي نُسْخَةٍ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (قَالُوا) : فَمَا لَنَا: وَفِي نُسْخَةٍ: وَمَا لَنَا. (فِيهَا) أَيْ: فِي الْأَضَاحِيِّ مِنَ الثَّوَابِ. (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ) : بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ. (حَسَنَةٌ) : وَالْبَاءُ لِلْبَدَلِيَّةِ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ فِي بِكُلِّ شَعْرَةٍ بِمَعْنَى فِي لِيُطَابِقَ السُّؤَالَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَنَا مِنَ الثَّوَابِ فِي الْأَضَاحِيِّ؟) فَأَجَابَ: فِي كُلِّ شَعْرَةٍ) مِنْهَا حَسَنَةٌ) ، وَلَمَّا كَانَ الشَّعْرُ كِنَايَةً عَنِ الْمَعْزِ كَنَّوْا عَنِ الضَّأْنِ بِالصُّوفِ. (قَالُوا: فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ؟ أَيِ: الضَّأْنُ مَا لَنَا فِيهِ، فَإِنَّ الشَّعْرَ مُخْتَصٌّ بِالْمَعْزِ، كَمَا أَنَّ الْوَبَرَ مُخْتَصٌّ بِالْإِبِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] وَلَكِنْ قَدْ يُتَوَسَّعُ بِالشَّعْرِ فَيَعُمُّ. (قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ) أَيْ: طَاقَةٍ. (مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ) : فَكَذَا بِكُلِّ وَبَرَةٍ حَسَنَةٌ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَظْمَةَ فِي الْأُضْحِيَّةِ لَهَا فَضِيلَةٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيْرَكُ: وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

[باب العتيرة]

[بَابُ الْعَتِيرَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1477 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ. قَالَ: وَالْفَرَعُ: أَوَّلُ نِتَاجٍ كَانَ لَهُمْ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالْعَتِيرَةُ: فِي رَجَبٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [49] بَابُ الْعَتِيرَةِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ تُطْلَقُ عَلَى شَاةٍ، كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَجَبٍ، وَعَلَى الذَّبِيحَةِ الَّتِي كَانُوا يَذْبَحُونَهَا لِأَصْنَامِهِمْ، ثُمَّ يَصُبُّونَ دَمَهَا عَلَى رَأْسِهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1477 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: لَا فَرَعَ) أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ بِفَتْحَتَيْنِ، أَوَّلُ وَلَدٍ تُنْتِجُهُ النَّاقَةُ، قِيلَ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا تَمَّتْ إِبِلُهُ مِائَةً قَدَّمَ بَكْرَةً فَنَحَرَهَا وَهُوَ الْفَرَعُ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَهُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ. أَيْ: لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ نُسِخَ وَنُهِيَ عَنْهُ أَيْ: لِلتَّشَبُّهِ. (وَلَا عَتِيرَةَ) : وَهِيَ شَاةٌ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ، يَتَقَرَّبُ بِهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْبِهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَيَلِيقُ بِحُكْمِ الدِّينِ. وَأَمَّا الْعَتِيرَةُ الَّتِي يَعْتِرُهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَهِيَ الذَّبِيحَةُ الَّتِي كَانَتْ تُذْبَحْ لِلْأَصْنَامِ، وَيُصَبُّ دَمُهَا عَلَى رَأْسِهَا. فِي النِّهَايَةِ: كَانَتِ الْعَتِيرَةُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَذْبَحُ الْعَتِيرَةَ فِي رَجَبٍ اهـ. وَلَعَلَّهُ مَا بَلَغَهُ النَّسْخُ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ. قِيلَ: هَذَا التَّفْسِيرُ مِنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَبِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْأَعْلَامِ، وَقِيلَ: مِنِ ابْنِ رَافِعٍ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً وَهُوَ الْأَقْرَبُ وَالْأَرْجَحُ، وَبِهِ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ. (وَالْفَرَعُ: أَوَّلُ نِتَاجٍ) بِكَسْرِ النُّونِ. (كَانَ يُنْتَجُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيِ: أَوَّلُ وَلَدٍ تُنْتِجُهُ النَّاقَةُ. (لَهُمْ) أَيْ: لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. (كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ) : بِسُكُونِ الْيَاءِ جَمْعُ طَاغُوتٍ، أَيْ: لِأَصْنَامِهِمْ، كَالْأُضْحِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِسْلَامِ. (وَالْعَتِيرَةُ) : بِالرَّفْعِ. (فِي رَجَبٍ شَاةٌ) أَيْ: كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْعَتِيرَةُ اسْمُ شَاةٍ أَوْ ذَبِيحَةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ وَالْجَاهِلِيَّةِ لِأَصْنَامِهِمْ، وَقِيلَ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا تَمَّتْ إِبِلُهُ مِائَةً يَنْذِرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَائِلًا: إِنْ كَانَ كَذَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ فِي رَجَبٍ كَذَا، وَكَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ عَتِيرَةً، وَكِلَاهُمَا مُنِعَا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَحَلُّ النَّهْيِ عَلَى التَّقَرُّبِ بِهِ لَا لِوَجْهِهِ تَعَالَى، كَذَبْحِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ لِآلِهَتِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ «حَدِيثُ نُبَيْشَةَ أَنَّهُ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَالَ: اذْبَحُوا لِلَّهِ فِي أَيِّ: شَهْرٍ كَانَ، وَبِرُّوا لِلَّهِ، وَأَطْعِمُوا» اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ وَقَعَ النَّهْيُ الْعَامُّ لِلتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْأَصْنَامِ، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ جَوَازِهِ بِابْنِ سِيرِينَ مِنْ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَعْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمَنْعُ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَاجِعٌ إِلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الذَّبْحِ لِآلِهَتِهِمْ، أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْوُجُوبِ، أَوْ أَنَّهُمَا لَيْسَا كَالْأُضْحِيَّةِ فِي الِاسْتِحْبَابِ، أَوْ فِي ثَوَابِ إِرَاقَةِ الدَّمِ، وَأَمَّا تَفْرِقَةُ اللَّحْمِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَصَدَقَةٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ كُلَّ شَهْرٍ كَانَ حَسَنًا، وَلَكِنْ وَرَدَ النَّهْيُ لِلتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْأَصْنَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيْرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1478 - «عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا وُقُوفًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةً وَعَتِيرَةً، هَلْ تَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ؟ هِيَ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: أَبُو دَاوُدَ: وَالْعَتِيرَةُ مَنْسُوخَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1478 - (عَنْ مِخْنَفِ) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَمِنْبَرٍ. (بْنِ سُلَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ. (قَالَ) : كُنَّا وُقُوفًا أَيْ: وَاقِفِينَ أَوْ ذَوِي وُقُوفٍ. (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ) : يَعْنِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. (فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ) أَيْ: وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ. (فِي كُلِّ عَامٍ) أَيْ: سَنَةٍ. (أُضْحِيَّةً وَعَتِيرَةً، هَلْ تَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ) ؟ هِيَ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّةَ أَيِ: الذَّبِيحَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى رَجَبٍ لِوُقُوعِهَا فِيهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : زَادَ مِيْرَكُ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَوْنٍ. (ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ) قَالَ مِيْرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ عِبَارَةَ التِّرْمِذِيِّ هَكَذَا: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ، وَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ بِضَعْفِ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، كَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ التَّخْرِيجِ اهـ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: وَجْهُ ضَعْفِهِ: أَنَّ أَبَا رَمْلَةَ الرَّاوِي عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ مَجْهُولٌ، كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ - لِمَنْ قَالَ لَهُ: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ اذْبَحُوا لِلَّهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ. وَلِمَنْ قَالَ لَهُ: إِنَّا كُنَّا نُفْرِعُ فَرَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَرَعٌ» الْحَدِيثَ. وَصَحَّ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفَرَعَةِ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ وَاحِدَةٌ، وَفِي خَبَرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ -: «أَنَّ الْفَرَعَ حَقٌّ، وَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى يَكْبُرَ فَيُعْطِي أَرْمَلَةً، أَوْ يَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ ذَبْحِهِ» ، وَفِي آخَرَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: «مَنْ شَاءَ عَتَرَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ، وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ» ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاقْتَضَتْهُ الْأَحَادِيثُ أَنَّهُمَا لَا يُكْرَهَانِ، بَلْ يُسْتَحَبَّانِ. هَذَا مَذْهَبُنَا. وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ مَنْسُوخٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. (وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَالْعَتِيرَةُ مَنْسُوخَةٌ) وَفِي نُسْخَةٍ: (الْعَتِيرَةُ) بِلَا وَاوٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: نَاسِخُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ، فَالْمُرَادُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، إِذْ قَدْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَتِيرَةِ، الْعَتِيرَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ. وَفِيهِ بَحْثٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْعَتِيرَةِ نَفْيُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ النَّسْخُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُقِيمٍ أَيْ: فِي مِصْرٍ، وَهُوَ مَالِكُ النِّصَابِ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى كُلِّ مُسَافِرٍ أَيْضًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَا تَجِبُ إِلَّا بِالنَّذْرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَضْحَى عَلَيَّ فَرِيضَةٌ، وَعَلَيْكُمْ سُنَّةٌ» وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَضْحَى عَلَيْهِ فَرِيضَةٌ بِفَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَاجِبٌ عَلَيْنَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ: الضُّحَى، وَالْأَضْحَى، وَالْوَتْرُ اهـ. وَلَنَا أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ الْفَرِيضَةُ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ إِذْ مَرْتَبَةُ الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِ عِنْدَنَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1479 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُمِرْتُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى عِيدًا جَعَلَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا مَنِيحَةً أُنْثَى، أَفَأُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنْ خُذْ مِنْ شَعْرِكَ وَأَظْفَارِكَ، وَتَقُصُّ مِنْ شَارِبِكَ، وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ، فَذَلِكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِكَ عِنْدَ اللَّهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1479 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُمِرْتُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى) أَيْ: بِجَعْلِهِ. (عِيدًا جَعَلَهُ اللَّهُ) أَيْ: يَوْمَ الْأَضْحَى. (لِهَذِهِ الْأُمَّةِ) أَيْ: عِيدًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ عِيدًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ

يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ أَيْ: بِأَنْ أَجْعَلَهُ عِيدًا، وَقَوْلُهُ: جَعَلَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ حُكْمٌ، ذُكِرَ بَعْدَ مَا يُشْعِرُ بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَوْمَ الْأَضْحَى ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّضْحِيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَكَمَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالتَّضْحِيَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: أَرَأَيْتَ. إِلَخْ اهـ. وَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّضْحِيَةِ الْمُوَافِقِ لِمَذْهَبِنَا، فَإِنَّ الشَّيْءَ يُذْكَرُ، فَلَمَّا ذَكَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِجَعْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عِيدًا، وَكَانَ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ حُكْمُ التَّضْحِيَةِ وَالْأَضَاحِيِّ. (قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي. (إِنْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا مَنِيحَةً) فِي النِّهَايَةِ: الْمَنِيحَةُ: أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ نَاقَةً أَوْ شَاةً يَنْتَفِعُ بِلَبَنِهَا وَيُعِيدُهَا، وَكَذَا إِذَا أَعْطَى لِيَنْتَفِعَ بِصُوفِهَا وَوَبَرِهَا زَمَانًا ثُمَّ يَرُدُّهَا. (أُنْثَى) : قِيلَ: وَصْفُ مَنِيحَةٍ بِأُنْثَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنِيحَةَ قَدْ تَكُونُ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا عَلَامةُ التَّأْنِيثِ، كَمَا يُقَالُ: حَمَامَةٌ أُنْثَى، وَحَمَامَةٌ ذَكَرٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل: 18] فَإِنَّ تَأْنِيثَ الْفِعْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ أُنْثَى عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: مَنْ مَنَحَ مَنْحَةَ وَرِقٍ، أَوْ مَنَحَ لَبَنًا، كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ. (أَفَأُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: لَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَنِيحَةِ هَهُنَا مَا يُمْنَحُ بِهَا، وَبِمَا مَنَعَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ سِوَاهَا يُنْتَفَعُ بِهِ. (وَلَكِنْ خُذْ مِنْ شَعْرِكَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَيْ: أَشْعَارِكَ. (وَأَظْفَارِكَ، وَقُصَّ مِنْ شَارِبِكَ) : خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِيَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ، فَذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَفْعَالِ. (تَمَامُ أُضْحِيَّتِكَ عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ: أُضْحِيَّتُكَ تَامَّةٌ بِنِيَّتِكَ الْخَالِصَةِ، وَلَكَ بِذَلِكَ مِثْلُ ثَوَابِ الْأُضْحِيَّةِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ إِلَّا عَلَى الْعَاجِزِ، وَلِذَا قَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ: تَجِبُ حَتَّى عَلَى الْمُعْسِرِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْتَدِينُ وَأُضَحِّي؟ قَالَ: نَعَمْ ; فَإِنَّهُ دَيْنٌ مَقْضِيٌّ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ. قُلْتُ: أَمَّا الْمُرْسَلُ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ ضَعِيفًا لَوْ صَحَّ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُؤَيَّدًا مَعَ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِالضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِطَرِيقٍ أَبْلَغَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيلَ: سُنَّةُ كِفَايَةٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

[باب صلاة الخسوف]

[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1480 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إِنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ مُنَادِيًا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ، وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [50]- بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ أَيْ: لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: خُسُوفُ الْعَيْنِ ذَهَابُهَا فِي الرَّأْسِ، وَخُسُوفُ الْقَمَرِ كُسُوفُهُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، هَذَا أَجْوَدُ الْكَلَامِ. وَفِي الصَّحَّاحِ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ تَكْسِفُ كُسُوفًا، وَكَذَا الْقَمَرُ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَقُرِئَ: وَخُسِفَ الْقَمَرُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَزَادَ فِي الْقَامُوسِ: أَوِ الْخُسُوفُ إِذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمَا، وَالْكُسُوفُ كُلُّهُمَا، وَلَاشَكَّ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الِاسْتِعْمَالِ كُسُوفُ الشَّمْسِ وَخُسُوفُ الْقَمَرِ، فَالْأَوْلَى لِلْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: الْكُسُوفُ بَدَلَ الْخُسُوفِ، فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ كُلَّهَا وَرَدَتْ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، أَوْ يَقُولَ: الْكُسُوفُ وَالْخُسُوفُ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مِيْرَكُ: الْكُسُوفُ لُغَةً التَّغَيُّرُ إِلَى سَوَادٍ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ لَا؟ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُقَالُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، وَانْكَسَفَا وَخَسَفَا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا، وَانْخَسَفَا كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ: الْكُسُوفُ تَغَيُّرُ اللَّوْنِ وَالْخُسُوفُ ذَهَابُهُ، وَالْمَشْهُورُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكُسُوفَ لِلشَّمْسِ، وَالْخُسُوفَ لِلْقَمَرِ، وَاخْتَارَهُ ثَعْلَبٌ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ: أَنَّهُ أَفْصَحُ، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ عَكْسَ ذَلِكَ، وَغَلَّطَهُ لِثُبُوتِ الْخَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: يُقَالُ بِهِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِهِ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَدْلُولَ الْكُسُوفِ لُغَةً غَيْرُ مَدْلُولِ الْخُسُوفِ ; لِأَنَّ الْكُسُوفَ التَّغَيُّرُ إِلَى سَوَادٍ، وَالْخُسُوفَ النُّقْصَانُ. فَإِذَا قِيلَ فِي الشَّمْسِ: كَسَفَتْ أَوْ خَسَفَتْ ; لِأَنَّهَا تَتَغَيَّرُ، وَيَلْحَقُهَا النَّقْصُ سَاغَ، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ. وَقِيلَ: بِالْكَافِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَبِالْخَاءِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِكُسُوفِ الشَّمْسِ، وَكَذَا لِلْقَمَرِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ كَمَا صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيلَ: فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: صَلَاةُ الْعِيدِ آكَدُ ; لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ وَاجِبَةٌ عَلَى قُوَيْلَةٍ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1480 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: فِي زَمَانِهِ. (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَعَثَ مُنَادِيًا: بِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ) أَيْ: يُنَادِي بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِيَجْتَمِعُوا إِنْ لَمْ يَكُونُوا اجْتَمَعُوا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّلَاةُ مُبْتَدَأٌ، وَجَامِعَةٌ خَبَرُهُ، أَيِ: الصَّلَاةُ تَجْمَعُ النَّاسَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الصَّلَاةُ ذَاتُ جَمَاعَةٍ أَيْ: تُصَلَّى جَمَاعَةً لَا مُنْفَرِدًا كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، فَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ كَ طَرِيقٌ سَائِرٌ اهـ. وَجُوِّزَ نَصْبُ الْأَوَّلِ بِتَقْدِيرِ احْضُرُوا مَعَ نَصْبِ الثَّانِي عَلَى الْحَالِ، وَرَفْعُهُ بِتَقْدِيرِ هِيَ جَامِعَةٌ، وَرَفْعُ الْأَوَّلِ بِالْخَبَرِيَّةِ أَيْ: هَذِهِ الصَّلَاةُ مَعَ نَصْبِ الثَّانِي عَلَى الْحَالِيَّةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُسِنُّ فِعْلَهَا جَمَاعَةٌ كَالْعِيدِ، وَمِنْ ثَمَّ سُنَّ النِّدَاءُ لَهَا بِمَا ذُكِرَ لَا انْفِرَادًا كَسَائِرِ الرَّوَاتِبِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَوَافَقَهُ مَالِكٌ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسَوِّيَةِ بَيْنَ الْكُسُوفَيْنِ اهـ. وَمَا نُسِبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الِانْفِرَادِ فِي الْكُسُوفِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ ابْنَ الْهُمَامِ قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، أَوْ مُصَلَّى الْعِيدِ، وَلَا تُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ. وَفِي الْهِدَايَةِ: وَلَيْسَ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: فِيهِ سَعِيدُ بْنُ حَفْصٍ، وَلَا أَعْرِفُ حَالَهُ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا حَتَّى يَثْبُتَ التَّصْرِيحُ لَهُ. (فَتَقَدَّمَ) أَيْ: هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) أَيْ: رُكُوعَاتٍ. (فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ) : فَائِدَةُ ذِكْرِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الرُّكُوعِ دُونَ السُّجُودِ. (قَالَتْ عَائِشَةُ) أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِهَا مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ، وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ، كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ) أَيْ: كَانَ ذَلِكَ الرُّكُوعُ أَوِ السُّجُودُ أَطْوَلَ مِنْ رُكُوعِ الْخُسُوفِ وَسُجُودِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: مِنْ كُلِّهِ مِنَ الرُّكُوعَاتِ وَالسُّجُودَاتِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ رَكْعَتَانِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسُجُودَانِ، وَيُصَلَّى الْخُسُوفُ وَالْكُسُوفُ بِالْجَمَاعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَفُرَادَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ إِمَامُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْكُسُوفِ، وَأَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَيُصَلَّى كُسُوفُ الشَّمْسِ جَمَاعَةً، وَخُسُوفُ الْقَمَرِ فُرَادَى، وَرُكُوعُهُمَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِتَكْرِيرِ الرُّكُوعِ مَعَ صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِهِ. قُلْتُ: سَيَجِيءُ تَحْقِيقُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ. قَالَ: وَعِنْدَنَا أَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ كَسُنَّةِ الصُّبْحِ، وَدَلِيلُ هَذِهِ خَبَرُ الْحَاكِمِ الَّذِي قَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ الذَّهَبِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَلَاتِكُمْ هَذِهِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَصَحَّ أَيْضًا «أَنَّ الشَّمْسَ كَسَفَتْ فَخَرَجَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَزِعًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَانْجَلَتْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَاتُ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنَ الْمَكْتُوبَةِ» اهـ. وَفِيهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَحَيْثُ اجْتَمَعَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ تَقَدَّمَ عَلَى الْفِعْلِ فَقَطْ، مَعَ أَنَّهُ اضْطَرَبَ فِي الزِّيَادَةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مَا ثَبَتَ تَعَدُّدُ الْقَضِيَّةِ، بَلْ تَعَدُّدُ الْكُسُوفِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْحَالَاتِ الْعَادِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1481 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «جَهَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1481 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: جَهَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ) : قِيلَ: الْمُرَادُ خُسُوفُ الْقَمَرِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ بِاللَّيْلِ، فَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْخُسُوفِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوفٍ لَا تَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا، وَاعْتَرَضَ بِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ جَهَرَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، وَأَجَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. قُلْتُ: يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ثُبُوتِ تَعَدُّدِ الْقَضِيَّةِ، فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا يُرَجَّحُ الْجَهْرُ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ ; لِأَنَّهَا لَيْلِيَّةٌ، وَيُسَرُّ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ ; لِأَنَّهَا نَهَارِيَّةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1482 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ. قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ: قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ ! قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1482 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ) كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَفِي مُسْلِمٍ: انْكَسَفَتْ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: خَسَفَتْ. (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ) أَيْ: وَقَفَ. (قِيَامًا طَوِيلًا) صِفَةٌ لِقِيَامًا، أَوْ لَزِمَانًا مُقَدَّرًا. (نَحْوًا) أَيْ: تَقْرِيبًا، وَبَيَانُهُ قَوْلُهُ: (مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) أَيْ: مِنْ مُقَدَّرِ قِرَاءَتِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مَا قَرَأَ، إِذْ لَوْ سَمِعَهُ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِغَيْرِهِ. (ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ) أَيْ: رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ. (فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ) ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ يَعْنِي كُلَّ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ تَقَدَّمَ، فَهُوَ أَطْوَلُ مِمَّا بَعْدَهُ. (ثُمَّ رَفَعَ) أَيْ: رَأْسَهُ لِلْقَوْمَةِ. (ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَامَ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: ثُمَّ قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَامَ. (قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَوَّلُ) الْإِضَافِيُّ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ: فَيَكُونُ التَّنَزُّلُ تَدْرِيجِيًّا. (ثُمَّ رَفَعَ) فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ أَيْ: رَأْسَهُ لِلْقَوْمَةِ. (ثُمَّ سَجَدَ) أَيْ: سَجْدَتَيْنِ كَذَلِكَ. (ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ) أَيْ: أَضَاءَتْ، وَأَصْلُهُ تَجَلَّيَتْ. (فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حُكْمَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَاحِدٌ فِي الْجُمْلَةِ. (آيَتَانِ) أَيْ: عَلَامَتَانِ. (مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) أَيِ: الْآفَاقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا خَلْقَانِ مُسَخَّرَانِ لَيْسَ لَهُمَا سُلْطَانٌ فِي غَيْرِهِمَا، وَلَا قُدْرَةٌ لَهُمَا عَلَى الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَهُمَا بَعْضُ النَّاسِ مَعْبُودَيْنِ. (لَا يَخْسِفَانِ) : بِالتَّذْكِيرِ تَغْلِيبًا لِلْقَمَرِ طَبَّقَ الْقَمَرَيْنِ. (لِمَوْتِ أَحَدٍ) أَيْ: خَيِّرٍ. (وَلَا لِحَيَاتِهِ) أَيْ: وَلَا لِوِلَادَةِ شِرِّيرٍ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: زَعَمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ كُسُوفَ الشَّمْسِ وَكُسُوفَ الْقَمَرِ يُوجِبُ حُدُوثَ تَغَيُّرٍ فِي الْعَالَمِ مِنْ مَوْتٍ، وَوِلَادَةٍ، وَضَرَرٍ، وَقَحْطٍ، وَنَقْصٍ وَنَحْوِهَا، فَأُعْلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَقَالَ: (فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَيْ: بِالصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَبِالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَفِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ: فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَرَ بِالْفَزَعِ عِنْدَ كُسُوفِهِمَا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِلَى الصَّلَاةِ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْجُهَّالِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالْفَزَعِ إِلَى الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُمَا آيَتَانِ دَالَّتَانِ عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 7] ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ مَا كَانَ يُوجَدُ فِيهِمَا الْخَسْفُ إِلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُمَا آيَتَانِ شَبِيهَتَانِ بِمَا سِيقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: آيَتَانِ يُخَوِّفَانِ عِبَادَ اللَّهِ لِيَفْزَعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] اهـ. يَعْنِي: لَنَا أَنْ نُعْطِيَ النُّورَ وَالْكَمَالَ، وَبِيَدِ قُدْرَتِنَا الْفَنَاءُ وَالزَّوَالُ، فَاخْشَوْا مِنْ زَوَالِ نُورِ الْإِيمَانِ، وَافْزَعُوا إِلَى اللَّهِ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ ; فَإِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ لِلْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ، وَشَامِلَةٌ لِلْأَفْعَالِ وَالْحَالَاتِ، وَتُرِيحُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ، وَتُفَرِّجُ مِنْ كُلِّ غَمٍّ، وَلِذَا قَالَ: أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ. ثُمَّ إِنَّهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا رَأَوْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَقَدَّمَ مِنْ مَكَانِهِ وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ رَأَوْهُ تَأَخَّرَ، وَأَرَادُوا فَهْمَ سَبَبِهِ

(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا) أَيْ: قَصَدْتَ تَنَاوُلَ شَيْءٍ وَأَخْذَهُ. (فِي مَقَامِكَ هَذَا) أَيْ: فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّيْتَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: فِي مَقَامِكَ هَذَا الَّذِي وَعَظْتَنَا فِيهِ. (ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ) أَيْ: تَأَخَّرْتَ. (فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ) أَيْ: مُشَاهَدَةً أَوْ مُكَاشَفَةً. (فَتَنَاوَلْتُ) أَيْ: قَصَدْتُ التَّنَاوُلَ. (مِنْهَا عُنْقُودًا) أَيْ: قِطْعَةً مِنَ الْعِنَبِ، يَعْنِي: حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ عَنْ مَكَانِي. (وَلَوْ أَخَذْتُهُ) أَيِ: الْعُنْقُودَ. (لَأَكَلْتُمْ) : مَعْشَرَ الْأُمَّةِ. (مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا) أَيْ: مُدَّةَ بَقَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِطَابُ عَامٌّ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ السَّمَاعُ وَالْأَكْلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. قَالَ الْقَاضِي: وَوَجْهُ ذَلِكَ إِمَّا بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَانَ كُلِّ حَبَّةٍ تُقْتَطَفُ حَبَّةً أُخْرَى، كَمَا وَرَدَ فِي خَوَاصِّ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، أَوْ بِأَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْ حَبِّهِ إِذَا غَاصَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ فِي الزَّرْعِ، فَيَبْقَى نَوْعُهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا فَيُؤْكَلُ مِنْهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: سَبَبُ تَرْكِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَنَاوُلَ الْعُنْقُودِ أَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَهُ وَرَآهُ لَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالْغَيْبِ فَيَرْتَفِعُ التَّكْلِيفُ. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. (وَرَأَيْتُ النَّارَ) أَيْ: حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارَ ; فَتَأَخَّرْتُ خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ حَرَارَتِهَا. (فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ) أَيْ: مِثْلَ الْيَوْمِ. (مَنْظَرًا قَطُّ) أَيْ: لَمْ أَرَ مَنْظَرًا مِثْلَ مَنْظَرِ الْيَوْمِ فَهُوَ مَنْظَرًا، فَلَمَّا قُدِّمَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. (أَفْظَعَ) أَيْ: أَشَدَّ، وَأَكْرَهَ، وَأَخْوَفَ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَمْ أَرَ مَنْظَرًا مِثْلَ الْمَنْظَرِ الَّذِي رَأَيْتُهُ الْيَوْمَ أَيْ: رَأَيْتُ مَنْظَرًا مَهُولًا فَظِيعًا، وَالْفَظِيعُ: الشَّنِيعُ. (وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا) أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُطْلَقًا. (النِّسَاءَ) : قَدْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ: أَنَّ «أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يُمْسِي عَلَى زَوْجَتَيْنِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا» ، فَكَيْفَ يَكُنَّ مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، وَهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِهَا ابْتِدَاءً، ثُمَّ يَخْرُجْنَ وَيَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ فَيُصَيَّرْنَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا انْتِهَاءً، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِهَا بِالْقُوَّةِ ثُمَّ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُنَّ، هَذَا وَلَا بِدْعَ أَنَّهُنَّ يَكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهِمَا لِكَثْرَتِهِنَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَقَالُوا. (بِمَ) أَيْ: بِسَبَبِ أَيِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ. (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) أَيِ: الزَّوْجَ الْمُعَاشِرَ. (وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ عَلَى طَرِيقِ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا ضِدُّ الشُّكْرِ، وَهُوَ الْكُفْرَانُ، وَبَيَانُهُ قَوْلُهُ: (لَوْ أَحْسَنْتَ) : الْخِطَابُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْإِحْسَانُ. (إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ) أَيْ: جَمِيعَ الزَّمَانِ أَوِ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ. (ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا) أَيْ: يَسِيرًا مِنَ الْمَكَارِهِ، وَأَمْرًا حَقِيرًا مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالشَّرِّ. (قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا مَضَى مِنَ الْعُمُرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيْرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

1483 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَتْ: ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ. يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1483 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : بِرَفْعِ نَحْوَ أَيْ: مِثْلُ حَدِيثِهِ فِي الْمَعْنَى. (وَقَالَتْ: ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ) أَيِ: انْكَشَفَتْ. (فَخَطَبَ النَّاسَ) أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ النَّاسَ. (فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: شَكَرَهُ. (وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ» ) أَيِ: اعْبُدُوهُ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاخْتَارَ فِي الْأَسْرَارِ وُجُوبَهَا لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ» . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالدُّعَاءِ ; لِأَنَّ النُّفُوسَ عِنْدَ مُشَاهَدَةٍ مَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ تَكُونُ مُعْرِضَةً عَنِ الدُّنْيَا وَمُتَوَجِّهَةً إِلَى الْحَضْرَةِ الْعُلْيَا، فَتَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ. (وَكَبِّرُوا) أَيْ: عَظِّمُوا الرَّبَّ أَوْ قُولُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ ; فَإِنَّهُ يُطْفِئُ نَارَ الرَّبِّ. (وَصَلُّوا) أَيْ: صَلَاةَ الْكُسُوفِ أَوِ الْخُسُوفِ. (وَتَصَدَّقُوا) : بِالتَّرَحُّمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ وَالْمُتَنَعِّمِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ لِكَوْنِهِمْ غَالِبًا لِلْمَعَاصِي مُرْتَكِبِينَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ. (ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ) : فِيهِ ذِكْرُ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَهُوَ نِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَاللَّهِ، مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ) : بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ. أَيِ: أَشَدُّ غَيْرَةً. (مِنَ اللَّهِ) : وَالْغَيْرَةُ فِي الْأَصْلِ كَرَاهَةُ شَرِكَةِ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى كَرَاهَةُ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. (أَنْ يَزْنِيَ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَغْيَرَ أَيْ: عَلَى أَنْ يَزْنِيَ. (عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ) أَيْ: عَلَى زِنَا عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ، فَإِنَّ غَيْرَتَهُ تَعَالَى وَكَرَاهِيَتَهُ ذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ غَيْرَتِكُمْ وَكَرَاهِيَتِكُمْ عَلَى زِنَا عَبْدِكُمْ وَأَمَتِكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ يَزْنِيَ مُتَعَلِّقٌ بِأَغْيَرَ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مِنْ (أَنْ) مُسْتَمِرٌّ، وَنِسْبَةُ الْغَيْرَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ مَحْمُولٌ عَلَى غَايَةِ إِظْهَارِ غَضَبِهِ عَلَى الزَّانِي، وَإِنْزَالِ نَكَالِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لِوَجْهِ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ لَمَّا خَوَّفَ أُمَّتَهُ مِنَ الْخُسُوفَيْنِ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ، وَالصَّلَاةِ وَالتَّصَدُّقِ، أَرَادَ أَنْ يَرْدَعَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي كُلِّهَا، فَخَصَّ مِنْهَا الزِّنَا، وَفَخَّمَ شَأْنَهُ، وَنَدَبَ أُمَّتَهُ بِقَوْلِهِ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَنَسَبَ الْغَيْرَةَ إِلَى اللَّهِ. وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ رِعَايَةٌ لِحُسْنِ الْأَدَبِ ; لِأَنَّ الْغَيْرَةَ أَصْلُهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْأَهْلِ وَالزَّوْجِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ الْغَيْرَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ لِتَبَعِيَّةِ شِبْهِ حَالِ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ مَعَ عَبْدِهِ الزَّانِي مِنَ الِانْتِقَامِ، وَحُلُولِ الْعِقَابِ بِحَالِ مَا يَفْعَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ الزَّانِي مِنَ الزَّجْرِ وَالتَّعْزِيرِ، ثُمَّ كَرَّرَ النُّدْبَةَ لِيُعَلِّقَ بِهِ مَا يُنَبَّهُ بِهِ عَلَى سَبَبِ النُّدْبَةِ، وَالْفَزَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِلْمٍ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِغَضَبِهِ فَقَالَ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ) : مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى وَغُفْرَانِهِ، أَوْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْآخِرَةِ وَعَجَائِبِ شَأْنِهِ. (لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا) أَيْ: زَمَانًا قَلِيلًا، أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَقِيلَ: الْقِلَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَدَمِ. (وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

1484 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ، لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1484 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. (فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزِعًا) أَيْ: خَائِفًا، كَانَ فَزَعُهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ شَفَقًا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ، أَوْ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ لِيَفْزَعُوا عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُمْ بِاللَّهِ وَأَخْوَفَهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] . (يَخْشَى) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقِيلَ: لِلْمَفْعُولِ. وَفِي نُسْخَةٍ: نَخْشَى بِالنُّونِ أَيْ: نَخَافُ. (أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ) : بِالنَّصْبِ، وَيُرْفَعُ نِيَابَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالُوا: هَذَا تَخْيِيلٌ مِنَ الرَّاوِي، وَتَمْثِيلٌ كَأَنَّهُ قَالَ: فَزِعَ فَزَعًا كَفَزَعِ مَنْ يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، وَإِلَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَالِمًا بِأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ، وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَقَدْ وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى النَّصْرَ، وَإِعْلَاءَ دِينِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ

فَزَعُهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ: كَالْخُسُوفِ، وَالزَّلَازِلِ، وَالرِّيحِ، وَالصَّوَاعِقِ ; شَفَقًا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ، كَمَا أَتَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَخْطَأَ الرَّاوِي حَيْثُ قَالَ هَذَا ; لِأَنَّ أَبَا مُوسَى لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا فِي قَلْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا الظَّنُّ غَيْرُ صَوَابٍ، فَإِنْ قِيلَ: مُحْتَمَلٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ قَبْلَ الْإِخْبَارِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَقَّعُ السَّاعَةَ كُلَّ لَحْظَةٍ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ إِيمَانَ أَبِي مُوسَى كَانَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ فَتْحِ خَيْبَرَ، قِيلَ: يَجُوزُ ذُهُولُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأَخْبَارِ بِوَاسِطَةِ مَا كُوشِفَ لَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الذُّهُولُ إِلَى الرَّاوِي بِوَاسِطَةِ مَا رَأَى مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ انْكِسَافَ الشَّمْسِ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. إِلَخِ اهـ. قَالَ مِيْرَكُ: هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ فِي يَخْشَى بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ الْغَائِبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ يُخْشَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَوْ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنْ سَاعَدَتِ الرِّوَايَةُ فَلَا إِشْكَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. (فَأَتَى الْمَسْجِدَ) أَيْ: مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ رَدٌّ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُصَلَّى فُرَادَى فِي الْبُيُوتِ اهـ. وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا تَقَدَّمَ: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْجَامِعِ. (فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ، وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ) : ظَاهِرُهُ عَدَمُ تَعَدُّدِهِمَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. (مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ) أَيْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ مِثْلَهُ. (وَقَالَ) أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ. (هَذِهِ الْآيَاتُ) أَيْ: كَالْكُسُوفَيْنِ، وَالزَّلَازِلِ، وَالصَّوَاعِقِ. (الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ) أَيْ: يُظْهِرُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُ يُرْسِلُهَا إِلَيْهِمْ. (لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ) أَيْ: لِوِلَادَةِ أَحَدٍ. (وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا) أَيْ: بِالْآيَاتِ. (عِبَادَهُ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْهَيْئَةِ مِنَ السَّبَبِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، وَالسَّيْفُ الْآمِدِيُّ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا لَا يُنَافِي ذِكْرَ الْحُسَّابِ أَسْبَابًا عَادِيَّةً لِلْكُسُوفَيْنِ ; لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْعَالًا تَجْرِي عَلَى الْعَادَاتِ، وَأَفْعَالًا خَارِجَةً عَنْهَا، وَعِنْدَ هَذِهِ يَزْدَادُ خَوْفُ أَهْلِ الْمُرَاقَبَةِ لِقُوَّةِ اعْتِقَادِهِمْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلِهِ لِمَا شَاءَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ اشْتِدَادِ هُبُوبِ الرِّيَاحِ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ كَرِيحِ عَادٍ، وَإِنْ كَانَ هَبُوبُهَا مَوْجُودًا. (فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ. (فَافْزَعُوا) أَيِ: الْتَجِئُوا مِنْ عَذَابِهِ. (إِلَى ذِكْرِهِ) : وَمِنْهُ الصَّلَاةُ. (وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ.

1485 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1485 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ» ) : فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عَاشِرِ الشَّهْرِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ أَهْلِ الْهَيْئَةِ: لَا يُمْكِنُ كُسُوفُهَا فِي غَيْرِ يَوْمِ السَّابِعِ أَوِ الثَّامِنِ أَوِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا أَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، وَهَذَا خَارِقٌ لَهَا. (ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِإِثْبَاتِ هَمْزَةِ الِابْنِ خَطَأٌ. قَالَ الْمُظْهِرُ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ انْكِسَافَ الشَّمْسِ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَوْتِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. (فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ) أَيْ: رُكُوعَاتٍ إِطْلَاقًا لِلْكُلِّ وَإِرَادَةً لِلْجُزْءِ. (بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِثَلَاثِ رُكُوعَاتٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: وَأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْخُسُوفَ إِذَا تَمَادَى جَازَ أَنْ يُرْكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثُ رُكُوعَاتٍ، وَخَمْسُ رُكُوعَاتٍ، وَأَرْبَعُ رُكُوعَاتٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي. قَالَ مِيْرَكُ: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كُتُبِهِمْ: مِنَ الْمِنْهَاجِ، وَالْمُحَرَّرِ، وَالْعُجَالَةِ، وَالْقُونَوِيِّ. أَقُولُ: لَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ النَّوَوِيِّ وَأَتْبَاعِهِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَعْرِفُ التَّمَادِيَ فِي الْخُسُوفِ أَوَّلَ وَهْلَةٍ حَتَّى يَبْتَدِئَ بِثَلَاثِ رُكُوعَاتٍ أَوْ بِثَمَانٍ أَوْ بِنَحْوِهَا، مَعَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ كُلَّهَا فِي صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَدُّدُهُ عَادَةً فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى انْجَلَتْ - مُنَافَاةً لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ: لَوْ تَمَادَى الْكُسُوفُ لَمْ يُكَرِّرْ صَلَاتَهُ، وَلَمْ يَزِدْ فِيهَا عَلَى رُكُوعَيْنِ مُطْلَقًا، كَمَا لَا يَنْفَصُّ عَنْهُمَا إِنْ نَوَاهُمَا، وَإِنْ وَقَعَ الِانْجِلَاءُ. وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ: بِأَنَّهُ لَا مَسَاغَ لِحَمْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ إِذَا تَعَدَّدَتِ الْوَاقِعَةُ، وَهِيَ لَمْ تَتَعَدَّدْ ; لِأَنَّ مَرْجِعَهَا كُلَّهَا إِلَى صَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَرْجِيحُ أَخْبَارِ الرُّكُوعَيْنِ فَقَطْ ; لِأَنَّهَا أَصَحُّ وَأَشْهَرُ. قُلْتُ: بَلْ يَجِبُ تَرْجِيحُ أَخْبَارِ الرُّكُوعِ فَقَطْ ; لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ قَوْلًا وَفِعْلًا كَمَا سَبَقَ، وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلِفُ الْآثَارِ، ثُمَّ قَالَ: وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ كَابْنِ الْمُنْذِرِ، فَذَهَبُوا إِلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَحَمَلُوا الرِّوَايَاتِ فِي الزِّيَادَةِ وَالتَّكْرِيرِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ اهـ. وَفِيهِ: أَنَّ تَعَدُّدَ الْوَاقِعَةِ لَا يَثْبُتُ بِالتَّجَوُّزِ الْعَقْلِيِّ مِنْ دُونِ التَّثَبُّتِ النَّقْلِيِّ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

1486 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كُسِفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1486 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ) أَيْ: رُكُوعَاتٍ. (فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) .

1487 - وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1487 - (وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذَلِكَ) أَيْ: وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ عَلِيٍّ كَرِوَايَتِهِ مَعْنًى، فَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ، وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَتُهُ كَرِوَايَتِهِ لَفْظًا، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَنْسُبَ الْحَدِيثَ إِلَى عَلِيٍّ، ثُمَّ يَقُولَ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1488 - «وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنْتُ أَرْتَمِي بَأَسْهُمٍ لِي بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ كُسِفَتِ الشَّمْسُ، فَنَبَذْتُهَا فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا حَدَثَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ رَافِعٌ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ وَيَحْمَدُ، وَيَدْعُو حَتَّى حَسَرَ عَنْهَا، فَلَمَّا حَسَرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْهُ. وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1488 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَرْتَمِي) أَيِ: أَطْرَحُ مِنَ الْقَوْسِ. (بَأَسْهُمٍ) جَمْعِ سِهَامٍ (لِي بِالْمَدِينَةِ) : وَهُوَ إِمَّا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ بِالْمَدِينَةِ. (فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَعْنِي: امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، فَإِنَّهُ صَحَّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَهَا بِالرَّمْيِ، وَقَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ فَتَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا. (إِذْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَنَبَذْتُهَا) : وَضَعْتُ السِّهَامَ وَأَلْقَيْتُهَا. (فَقُلْتُ) : فِي نَفْسِي أَوْ لِأَصْحَابِي. (وَاللَّهِ لِأَنْظُرَنَّ) أَيْ: لَأَبْصَرَنَّ. (إِلَى مَا حَدَثَ) أَيْ: تَجَدَّدَ مِنَ السُّنَّةِ. (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ رَافِعٌ يَدَيْهِ) أَيْ: وَاقِفٌ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْقِيَامِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَاجْتِمَاعِ النَّاسِ خَلْفَهُ صُفُوفًا، أَوِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، إِذْ لَمْ يُعْرَفْ مَذْهَبُ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي أَوْقَاتِ الْأَذْكَارِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لِلْكُسُوفِ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ رَافِعٌ يَدَيْهِ لِإِرَادَةِ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، فَجَعَلَ فِي ذَلِكَ الرُّكُوعِ يُسَبِّحُ إِلَخْ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ الْمُنَاسِبِ لِمَذْهَبِهِ فَقَطْ، مَعَ أَنَّهُ يَأْبَاهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا حَسَرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

(فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ وَيُحَمِّدُ، وَيَدْعُو حَتَّى حَسَرَ) أَيْ: أُزِيلَ الْكُسُوفُ وَكُشِفَ. (عَنْهَا) أَيْ: عَنِ الشَّمْسِ. (فَلَمَّا حَسَرَ عَنْهَا) قَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَرَأَ فِيهِمَا سُورَتَيْنِ ; لِأَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بَعْدَ إِذْهَابِ الْكُسُوفِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَوَقَفَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، وَطَوَّلَ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ، وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّحْمِيدَ، حَتَّى ذَهَبَ الْخُسُوفُ، ثُمَّ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَرَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَقَرَأَ فِيهَا الْقُرْآنَ، وَرَكَعَ وَسَجَدَ، وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ اهـ. وَهُوَ يُنَافِي مَا قَدْ سَبَقَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ: أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزِيدُ فِي عَدَدِ الرُّكُوعَاتِ إِذَا تَمَادَى الْكُسُوفُ، وَلِمَا سَيَأْتِي: أَنَّهُ صَلَّى حَتَّى انْجَلَتْ. وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ) قَالَ مِيْرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا. (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: لِلْبَغَوِيِّ. (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. (وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) أَيْ: بَدَلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَحَدَّثَ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَالْجَامِعِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِرِوَايَتِهِ، وَلَمْ أَجِدْ لَفْظَ الْمَصَابِيحِ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ بِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ذَكَرَهُ الطِّيبِىُّ. قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: لَهُ أَيْ: لِلشَّافِعِيِّ رِوَايَةُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْهَا قَالَتْ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَامَ فَكَبَّرَ فَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا هُوَ أَدْنَى مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى اللَّهِ» ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَمْ يَكَدْ يَرْكَعُ، ثُمَّ رَكَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَسْجُدُ، ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَسْجُدُ، ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ. وَفَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ «عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَغُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ نَرْمِي غَرَضَيْنِ لَنَا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ مِنَ الْأُفُقِ اسْوَدَّتْ حَتَّى آضَتْ أَيْ: صَارَتْ كَأَنَّهَا تَنُّومَةٌ بِتَشْدِيدِ النُّونِ شَجَرٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَاللَّهِ، لِيُحْدِثَنَّ شَأْنُ هَذِهِ الشَّمْسِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ حَدَثًا. قَالَ: فَدَفَعَنَا فَإِذَا هُوَ بَارِزٌ، فَاسْتَقْدَمَ فَصَلَّى، فَقَامَ كَأَطْوَلِ مَا قَامَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَوَافَقَ تَجَلِّي الشَّمْسِ جُلُوسَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ،

ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَبِيصَةَ الْهِلَالِيِّ قَالَ: كَسَفَتْ. وَفِيهِ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتْ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَاتُ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوهَا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنَ الْمَكْتُوبَةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ وَثَابَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فَانْجَلَتْ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا كَانَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ» . قَالَ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْهَا الصَّحِيحُ، وَمِنْهَا الْحَسَنُ، وَقَدْ دَارَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مِنْهَا: مَا فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِأَنْ يَجْعَلُوهُ كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ وَهِيَ الصُّبْحُ، فَإِنَّ كُسُوفَ الشَّمْسِ كَانَ عِنْدَ ارْتِفَاعِهَا قَيْدَ رُمْحَيْنِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ. فَأَفَادَ أَنَّ السُّنَّةَ رَكْعَتَانِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْأَحْدَثِ عَلَى الْأَقَلِّ اسْتِعَارَةً مِنْ حَدَاثَةِ السِّنِّ، فَإِنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ صِغَرِهِ بِمَعْنَى قِلَّةِ عُمْرِهِ. قَالَ: وَمِنْهَا مَا فُصِّلَ فَأَفَادَ تَفْصِيلُهُ أَنَّهَا بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ، وَحَمْلُ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِمْكَانُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ إِذَا أَوْجَبَهُ دَلِيلٌ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ كَوْنُ أَحَادِيثِ الرُّكُوعَيْنِ أَقْوَى. قُلْنَا: هَذِهِ أَيْضًا فِي رُتْبَتِهَا، أَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ آخِرًا فَلَا شَكَّ، وَكَذَا مَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالْبَاقِي لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَقَدْ تَعَدَّدَتْ فِرَقُهُ فَيَرْتَقِي إِلَى الصَّحِيحِ، فَهَذِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ حِينَئِذٍ، فَكَافَأَتْ أَحَادِيثَ الرُّكُوعَيْنِ، وَكَوْنِ بَعْضُ تِلْكَ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْكُلُّ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، غَايَةُ مَا فِيهِ كَثْرَةُ الرُّوَاةِ، وَلَا تَرْجِيحَ عِنْدَنَا بِذَلِكَ، ثُمَّ الْمَعْنَى الَّذِي رَوَيْنَاهُ أَيْضًا فِي الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ وَالْمُغْنِي، وَهُوَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَفَرَّقَ فِي آحَادِ الْكُتُبِ وَأَثْنَائِهَا خُصُوصِيَّاتُ الْمُتُونِ. وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا أَقْوَى سَنَدًا فَالضَّعِيفُ قَدْ يَثْبُتُ مَعَ صِحَّةِ الطَّرِيقِ بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ كَذَلِكَ فِيهَا، فَإِنَّ أَحَادِيثَ تَعَدُّدِ الرُّكُوعِ اضْطَرَبَتْ وَاضْطَرَبَ فِيهَا الرُّوَاةُ أَيْضًا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَوَى رُكُوعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى ثَلَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى أَرْبَعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى خَمْسًا، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ، فَوَجَبَ تَرْكُ رِوَايَاتِ التَّعَدُّدِ كُلِّهَا إِلَى رِوَايَاتٍ غَيْرِهَا. وَلَوْ قُلْنَا: الِاضْطِرَابُ يَشْمَلُ رِوَايَاتِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، فَوَجَبَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ صَحَّ، وَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا تَرَجُّحَ رِوَايَاتِ الِاتِّحَادِ ضِمْنًا لَا قَصْدًا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِرِوَايَاتِ الْإِطْلَاقِ أَعْنِي نَحْوَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ. وَعَنْ هَذَا الِاضْطِرَابِ الْكَثِيرِ وُفِّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِحَمْلِ رِوَايَاتِ التَّعَدُّدِ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا أَطَالَ فِي الرُّكُوعِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَعْهُودِ جِدًّا، وَلَا يَسْمَعُونَ لَهُ صَوْتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ رَفْعِ مَنْ خَلْفَهُ مُتَوَقِّعِينَ رَفْعَهُ، وَعَدَمِ سَمَاعِهِمُ الِانْتِقَالَ، فَرَفَعَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِي مَنْ رَفَعَ، فَلَمَّا رَأَى مَنْ خَلْفَهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَرْفَعْ، فَلَعَلَّهُمُ انْتَظَرُوهُ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّهُ يُدْرِكُهُمْ فِيهِ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ رَجَعُوا إِلَى الرُّكُوعِ، فَظَنَّ مَنْ خَلْفَهُمْ أَنَّهُ رُكُوعٌ بَعْدَ رُكُوعٍ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَرَوَوْا كَذَلِكَ، ثُمَّ لَعَلَّ رِوَايَاتِ الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ بِنَاءً عَلَى اتِّفَاقِ تَكَرُّرِ الرَّفْعِ مِنَ الَّذِي خَلْفَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْكُسُوفُ الْوَاقِعُ فِي زَمَنِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ تَكَرَّرَ مِرَارًا مَعَ بُعْدِ أَنْ يَقَعَ نَحْوَ سِتِّ مَرَّاتٍ فِي عَشْرِ سِنِينَ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ كَانَ رَأْيُنَا أَوْلَى أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَارِيخُ فِعْلِهِ الْمُتَأَخِّرِ فِي الْكُسُوفِ الْمُتَأَخِّرِ، فَقَدْ وَقَعَ التَّعَارُضُ، وَوَجَبَ الْإِحْجَامُ عَنِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ كَانَ الْمُتَعَدِّدُ عَلَى وَجْهِ التَّثْنِيَةِ أَوِ الْجَمْعِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ كَانَ الْمُتَجَدِّدُ، فَبَقِيَ الْمَجْزُومُ بِهِ اسْتِنَانُ الصَّلَاةِ مَعَ التَّرَدُّدِ فِي كَيْفِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمَرْوِيَّاتِ فَيُتْرَكُ، وَيُصَارُ إِلَى الْمَعْهُودِ، ثُمَّ يَتَضَمَّنُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّرَجُّحِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ مُلَخَّصًا.

1489 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: «لَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1489 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: لَقَدْ أَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَتَاقَةِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: فَكِّ الرِّقَابِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. (فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ) : لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَسَائِرَ الْخَيْرَاتِ يَدْفَعُ الْعَذَابَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1490 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُسُوفٍ لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1490 - (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) : بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا مَعَ ضَمِّ الْجِيمِ. (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُسُوفٍ) أَيْ: لِلشَّمْسِ (لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَتَبِعَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ. رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِمَا عَنْهُ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ أَسْمَعْ حَرْفًا مِنَ الْقِرَاءَةِ» ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَلَمْ أَسْمَعْ لَهُ قِرَاءَةً» . قَالَ: وَلَهُمَا رِوَايَةٌ عَنْ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَتْ: جَهَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، وَالْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ: «جَهَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ: «صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا حَصَلَ التَّعَارُضُ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ الْإِخْفَاءُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) :. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ قُدِّمَ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَفْظُهُ، أَوْ لِكَوْنِ إِسْنَادِهِ صَحِيحًا. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

1491 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَاتَتْ فُلَانَةُ، بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَّ سَاجِدًا، فَقِيلَ لَهُ: تَسْجُدُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ؟ ! فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا رَأَيْتُمْ آيَةً فَاسْجُدُوا» ، وَأَيُّ آيَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ! رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1491 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ) : مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. (قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَاتَتْ فُلَانَةُ) أَيْ: صَفِيَّةُ وَقِيلَ: حَفْصَةُ. (بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِالرَّفْعِ بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالنَّصْبُ بِتَقْدِيرِ يَعْنُونَ. (فَخَرَّ) أَيْ: سَقَطَ وَوَقَعَ. (سَاجِدًا) : آتِيًا بِالسُّجُودِ أَوْ مُصَلِّيًا. (فَقِيلَ لَهُ: تَسْجُدُ) : بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ. (فِي هَذِهِ السَّاعَةِ؟) أَيْ: سَاعَةِ الْإِمَاتَةِ، مَعَ أَنَّ السُّجُودَ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ مَمْنُوعٌ. (فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا رَأَيْتُمْ آيَةً) أَيْ: عَلَامَةً مُخَوِّفَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالُوا: الْمُرَادُ بِهَا الْعَلَامَاتُ الْمُنْذِرَةُ بِنُزُولِ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ الَّتِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، وَوَفَاةُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّهُنَّ ضَمَمْنَ إِلَى شَرَفِ الزَّوْجِيَّةِ شَرَفَ الصُّحْبَةِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَمَنَةُ أَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ» . الْحَدِيثَ. فَهُنَّ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهِنَّ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُنَّ سَالِبَةً لِلْأَمَنَةِ. وَزَوَالُ الْأَمَنَةِ مُوجِبُ الْخَوْفِ. (فَاسْجُدُوا) أَيْ: صَلُّوا، وَقِيلَ: أَرَادَ السُّجُودَ فَحَسْبُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مُطْلَقٌ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْآيَةِ خُسُوفُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرُهَا كَمَجِيءِ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَغَيْرِهِمَا، فَالسُّجُودُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَيَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْضًا لِمَا وَرَدَ: «كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ» اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَالَ: فِي ظُلْمَةٍ أَوْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ الصَّلَاةُ حَسَنَةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ. (وَأَيُّ آيَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟) : لِأَنَّهُنَّ ذَوَاتُ الْبَرَكَةِ، فَبِحَيَاتِهِنَّ يُدْفَعُ الْعَذَابُ عَنِ النَّاسِ، وَيُخَافُ الْعَذَابُ بِذَهَابِهِنَّ، فَيَنْبَغِي الِالْتِجَاءُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَالسُّجُودُ عِنْدَ انْقِطَاعِ بَرَكَتِهِنَّ ; لِيَنْدَفِعَ الْعَذَابُ بِبَرَكَةِ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ، إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، نَقَلَهُ مِيْرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1492 - عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِهِمْ، فَقَرَأَ بِسُورَةٍ مِنَ الطُّوَلِ، وَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ مِنَ الطُّوَلِ، ثُمَّ رَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ كَمَا هُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو حَتَّى انْجَلَى كُسُوفُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1492 - (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَصَلَّى بِهِمْ) أَيْ: صَلَاةَ الْكُسُوفِ. (فَقَرَأَ سُورَةً) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِسُورَةٍ. (مِنَ الطُّوَلِ) : بِضَمِّ الطَّاءِ وَتُكْسَرُ، وَبِفَتْحِ الْوَاوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَمْعُ الطُّوْلَى، كَالْكُبْرَى وَالْكُبَرِ. ( «وَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ» ) أَيْ: رُكُوعَاتٍ. (وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى الثَّانِيَةِ. (فَقَرَأَ بِسُورَةِ) : بِالْبَاءِ لَا غَيْرَ. ( «مِنَ الطُّوَلِ، ثُمَّ رَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ كَمَا هُوَ» ) أَيْ: كَائِنًا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا. (مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: جَلَسَ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَجُلُوسِهِ فِيهَا يَعْنِي مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. (يَدْعُو حَتَّى انْجَلَى كُسُوفُهَا) أَيِ: انْكَشَفَ وَارْتَفَعَ، وَالْإِشْكَالُ الْمُتَقَدِّمُ قَوِيَ هُنَا حَيْثُ صَلَّى بِخَمْسِ رُكُوعَاتٍ، ثُمَّ دَعَا حَتَّى انْجَلَى. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ دَعَا مُسْتَقْبِلًا جَالِسًا أَوْ قَائِمًا، أَوْ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَدَعَا وَيُؤَمِّنُونَ. قَالَ الْحُلْوَانِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ وَلَوْ قَامَ وَدَعَا مُعْتَمِدًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ كَانَ أَيْضًا حَسَنًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1493 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَيَسْأَلُ عَنْهَا، حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى حِينَ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ مِثْلَ صَلَاتِنَا: يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ» . وَلَهُ فِي أُخْرَى: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمًا مُسْتَعْجِلًا إِلَى الْمَسْجِدِ وَقَدِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى حَتَّى انْجَلَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْخَسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا خَلِيقَتَانِ مِنْ خَلْقِهِ، يُحْدِثُ اللَّهُ فِي خَلْقِهِ مَا شَاءَ، فَأَيُّهُمَا انْخَسَفَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ، أَوْ يُحْدِثَ اللَّهُ أَمْرًا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1493 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) رَكْعَتَيْنِ قَالَ الْمُظْهِرُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَّاهَا مَرَّاتٍ، وَكَانَ إِذَا طَالَتْ مُدَّةُ الْكُسُوفِ مَدَّ فِي صَلَاتِهِ، وَزَادَ فِي عَدَدِ الرُّكُوعِ، وَإِذَا قَصَرَتْ نَقَصَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ الْحَالِ وَمِقْدَارِ الْحَاجَةِ. قَالَ: وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى هَذَا، وَأَنَّهُ إِذَا طَالَ الْخُسُوفُ يَزِيدُ فِي عَدَدِ الرُّكُوعِ، أَوْ فِي إِطَالَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ، وَيُطَوِّلُ السُّجُودَ كَالْقِيَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأَنْوَارِ مِنْ أَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ وَرُكُوعَانِ، وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَلَوْ زِيدَ أَوْ نَقَصَ عَامِدًا بَطَلَتْ، وَنَاسِيًا يَتَدَارَكُ، وَكَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ، وَإِذَا شَرَعَ فِيهَا بِنِيَّةٍ لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَلَا النَّقْصُ عَنْهَا، لِأَنَّ جَوَازَهُمَا خَاصٌّ بِالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ اهـ. ثُمَّ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَعْفِ الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْكُسُوفِ مَعَ الْإِشْكَالِ السَّابِقِ الَّذِي يَزِيدُهُ الْكَلَامُ اللَّاحِقُ. (وَيَسْأَلُ عَنْهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: يَسْأَلُ اللَّهَ بِالدُّعَاءِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهَا، أَوْ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنِ انْجِلَائِهَا أَيْ: كُلَّمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَسْأَلُ هَلِ انْجَلَتْ؟ . (حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: ظَهَرَتْ، أَوِ انْجَلَى كُسُوفُهَا، فَالْمُرَادُ بِتَكْرِيرِ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَرَّاتُ اهـ. وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُنَافِي الْأَحَادِيثَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَيُقَرِّبُ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى حِينَ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ مِثْلَ صَلَاتِنَا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ تَعَدُّدِ الرُّكُوعِ. (وَلَهُ) أَيْ: لِلنَّسَائِيِّ. (فِي أُخْرَى) أَيْ: فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى،. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ: ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمًا مُسْتَعْجِلًا إِلَى الْمَسْجِدِ» ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: فَخَرَجَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَزِعًا حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ،

(وَقَدِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى) وَفِي رِوَايَةٍ: لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي. ( «حَتَّى انْجَلَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ» ) أَيْ: يَزْعُمُونَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. ( «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْخَسِفَانِ» ) وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَنْكَسِفَانِ. (إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الشَّمْسَ) وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّ الشَّمْسَ. (وَالْقَمَرَ لَا يَنْخَسِفَانِ) . وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَنْكَسِفَانِ. (لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ) أَيْ: لِوِلَادَتِهِ. (وَلَكِنَّهُمَا خَلِيقَتَانِ مِنْ خَلْقِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مَخْلُوقَتَانِ نَاشِئَتَانِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَنَاوِلِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ عَلَى التَّسَاوِي، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا فِي الْوُجُودِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْخَلْقُ: النَّاسُ. وَالْخَلِيقَةُ: الْبَهَائِمُ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يَعْنِي الْمَعْنَى الْأَعْظَمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنْسَبُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ; لِأَنَّهُ رَدٌّ لِزَعْمِ مَنْ يَرَى أَثَرَهُمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ بِالْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، أَيْ: لَيْسَ كَمَا يَزْعُمُونَ، بَلْ هُمَا مُسَخَّرَانِ كَالْبَهَائِمِ دَائِبَانِ مَقْهُورَانِ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهِمَا مُنَاسِبٌ لِهَذَا الْمَقَامِ كَتَحْقِيرِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] . (وَيُحْدِثُ اللَّهُ فِي خَلْقِهِ مَا شَاءَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مَا يَشَاءُ أَيْ: مِنَ الْكُسُوفِ وَالْكُشُوفِ، وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا شَاءَ مَفْعُولُ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَمِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ اهـ. يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَلْقِهِ. (فَأَيُّهُمَا انْخَسَفَ فَصَلُّوا) وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا بَدَأَ أَيْ: تَجَلَّى لِلشَّيْءِ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنَ الْمَكْتُوبَةِ. (حَتَّى يَنْجَلِيَ، أَوْ يُحْدِثَ اللَّهُ أَمْرًا) : تَفُوتُ بِهِ الصَّلَاةُ كَظُهُورِ الشَّمْسِ بِالِانْجِلَاءِ، وَبِغُرُوبِهَا كَاسِفَةً، وَالْمَقَرُّ بِالِانْجِلَاءِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَظُهُورِ الصُّبْحِ، وَبِغُرُوبِهِ خَاسِفًا، أَوْ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ بِوُقُوعِ فِتْنَةٍ مَانِعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: غَايَةٌ لِمُقَدَّرٍ أَيْ: صَلُّوا مِنِ ابْتِدَاءِ الِانْخِسَافِ مُنْتَهِينَ إِمَّا إِلَى الِانْجِلَاءِ أَوْ إِحْدَاثِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرًا، وَهَذَا الْمُقَدَّرُ يَرْبُطُ الشَّرْطَ بِالْجَزَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَائِدِ إِلَى الشَّرْطِ.

[باب في سجود الشكر]

[بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ] وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ الْفَصْلُ الثَّانِي 1494 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَاءَهُ أَمْرٌ سُرُورٌ - أَوْ يُسَرُّ بِهِ - خَرَّ سَاجِدًا، شَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [51] بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ سَجْدَةُ الشُّكْرِ عِنْدَ حُدُوثِ مَا يُسَرُّ بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَعِنْدَ انْدِفَاعِ بَلِيَّةٍ جَسِيمَةٍ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ، هَذَا وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَيْنَ الْبَابِ وَالْفَصْلِ. (وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) : اعْتِذَارًا عَنْ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ وَ (الثَّالِثِ) : اعْتِذَارًا عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: لَمْ يَذْكُرْ أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ مِنَ الصِّحَاحِ حَدِيثًا فِيهِ أَيْ: فِي هَذَا الْبَابِ، وَكُلُّ مَا أَوْرَدَهُ فِيهِ مِنَ الْحِسَانِ، وَقَدْ وَجَدْتُ مِنْهُ فِي الصِّحَاحِ، «عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا لَمَّا بَشَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ» ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. الْفَصْلُ الثَّانِي 1494 - (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَاءَهُ أَمْرٌ» ) : بِالتَّنْوِينِ لِلتَّعْظِيمِ. (سُرُورٌ: بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: لِأَجْلِ حُصُولِهِ أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنَ النِّسْبَةِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي يَعْنِي أَمْرَ سُرُورٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَمْرٌ

سُرُورٌ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ بِهِ، أَوْ عَلَى الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ أَيِ: أَمْرٌ ذُو سُرُورٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَمْرُ سُرُورٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيِ: إِذَا جَاءَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَالَ كَوْنِهِ سُرُورًا) اهـ. وَهُوَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَوْ بِكَوْنِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ. (أَوْ يُسَرُّ بِهِ -) : شَكَّ الرَّاوِي فِي اللَّفْظِ وَالْمَبْنَى، وَإِلَّا فَالْمَآلُ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى. (خَرَّ) أَيْ: سَقَطَ. (سَاجِدًا شَاكِرًا) : حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ، أَوْ مُتَرَادِفَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ: شُكْرًا بِالنَّصْبِ لِلْعِلَّةِ. (لِلَّهِ تَعَالَى) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَرَأَوُا السُّجُودَ مَشْرُوعًا فِي بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الصَّلَاةُ. وَحُجَّتُهُمْ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أُتِيَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ خَرَّ سَاجِدًا» ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، رَأَيْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالضُّحَى رَكْعَتَيْنِ حِينَ بُشِّرَ بِالْفَتْحِ، أَوْ لِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ، وَنَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: لَوْ أُلْزِمَ الْعَبْدُ السُّجُودَ عِنْدَ كُلِّ نِعْمَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ عَظِيمَةِ الْمَوْقِعِ عِنْدَ صَاحِبِهَا لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنِ السُّجُودِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْهَا أَدْنَى سَاعَةٍ، فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةٍ عِنْدَ الْعِبَادِ نِعْمَةَ الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ يَتَجَدَّدُ عَلَيْهِ بِتَجَدُّدِ الْأَنْفَاسِ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِينَ سَجَدَ رَأَى نُغَاشِيًّا. فَمُرْسَلٌ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ سُرُورٌ يَحْصُلُ عِنْدَ هُجُومِ نِعْمَةٍ يَنْتَظِرُهَا، أَوْ يُفَاجِئُهَا مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ مِمَّا يَنْدُرُ وُقُوعُهَا لَا مَا اسْتَمَرَّ وُقُوعُهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَيَّدَهُ فِي الْحَدِيثِ بِالْمَجِيءِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَنُكِّرَ أَمْرٌ لِلتَّفْخِيمِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَذَا حَدِيثُ النُّغَاشِيِّ، وَالْمُرْسَلُ ضَعِيفٌ، لَكِنَّهُ إِذَا تَقَوَّى بِحَدِيثٍ آخَرَ ضَعِيفٍ قَوِيَ، وَصَارَ حَسَنًا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَنَقَلَ مِيْرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ، وَفِي إِسْنَادِهِ بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضٌ، وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اهـ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ عَنْ جَابِرٍ، وَجَرِيرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قُلْتُ: وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْبَرَاءِ، كُلِّهِمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تَمَّ كَلَامُهُ.

1495 - وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا مِنَ النُّغَاشِينَ، فَخَرَّ سَاجِدًا» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مُرْسَلًا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1495 - (وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ) أَيْ: مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يُكَنَّى أَبَا جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِالْبَاقِرِ، وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ تَبَقَّرَ فِي الْعِلْمِ أَيْ: تَوَسَّعَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، أَيْ: مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، فَغَفْلَةٌ ; لِأَنَّ الصَّادِقَ لَقَبُ ابْنِهِ، أَمَّا هُوَ فَلَقَبُهُ الْبَاقِرُ. ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا مِنَ النُّغَاشِينَ» ) : بِضَمِّ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ مِيْرَكُ: النُّغَاشِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَالنُّغَاشُ بِحَذْفِهَا هُوَ الْقَصِيرُ جِدًّا الضَّعِيفُ الْحَرَكَةِ النَّاقِصُ الْخِلْقَةِ اهـ. وَقِيلَ: الْمُبْتَلَى، وَقِيلَ: الْمُخْتَلِطُ الْعَقْلِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: رَجُلًا نُغَاشِيًا. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَرُوِيَ نُغَاشِيًّا بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. (فَخَرَّ) أَيْ: وَقَعَ سَاجِدًا قَالَ الْمُظْهِرُ: السُّنَّةُ إِذَا رَأَى مُبْتَلًى أَنْ يَسْجُدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى أَنْ عَافَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ. وَلْيَكْتُمِ السُّجُودَ، وَإِذَا رَأَى فَاسِقًا فَلْيُظْهِرِ السُّجُودَ لِيَنْتَبِهَ وَيَتُوبَ اهـ. وَرُوِيَ: أَنَّ الشِّبْلِيَّ رَأَى وَاحِدًا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مُرْسَلًا) : لِأَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا سَمِعَ أَبَاهُ زَيْنَ الْعَابِدِينَ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، لَكِنِ اعْتَضَدَ لِشَوَاهِدَ أَكَّدَتْهُ. مِنْهَا: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ لِرُؤْيَةِ زَمِنٍ، وَأَنَّهُ سَجَدَ لِرُؤْيَةِ قِرْدٍ» . (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ) : وَفِي نُسْخَةٍ لِلَّفْظِ الْمَصَابِيحُ: يَعْنِي نُغَاشًا بَدَلٌ مِنَ النُّغَاشِينَ.

1496 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا كُنَّا قَرِيبًا مِنْ عَزْوَزَاءَ، نَزَلَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَدَعَا اللَّهَ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا، فَمَكَثَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا، فَمَكَثَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا، قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي، وَشَفَعْتُ لِأُمَّتِي، فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي شُكْرًا، ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي، فَسَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي، فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي شُكْرًا، ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي، فَسَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي، فَأَعْطَانِي الثُّلُثَ الْآخِرَ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي) شُكْرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1496 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) : أَحَدِ الْعَشْرَةِ. (قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ نُرِيدُ» ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ أَيْ: هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ. (الْمَدِينَةَ) ك أَيْ أَصَالَةً، وَنَحْنُ مُرِيدُونَ تَابِعُونَ لَهُ فِي الْمُرَادِ. (فَلَمَّا كُنَّا قَرِيبًا) أَيْ: فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ أَوْ قَرِيبِينَ، أَوْ ذَوِي قُرْبٍ. (مِنْ عَزْوَزَاءَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ الْأُولَى، وَفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ، وَقِيلَ: بِالْقَصْرِ، ثَنِيَّةٌ بِالْجُحْفَةِ عَلَيْهَا الطَّرِيقُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِصَلَابَةِ أَرْضِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَزَازِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، الْأَرْضِ الصُّلْبَةِ، أَوْ لِقِلَّةِ مَائِهِ مِنَ الْعُزُوزَةِ، وَهِيَ النَّاقَةُ الضَّيِّقَةُ الْإِحْلِيلِ الَّتِي لَا يَنْزِلُ) لَبَنُهَا إِلَّا بِجُهْدٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَزْوَرَاءَ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَذَا فِي حَاشِيَةِ نُسْخَةِ السَّيِّدِ مَرْفُوعًا عَلَيْهِ: ظَاهِرٌ؛ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِيمَاءً إِلَى عَدَمِ وِجْدَانِ نُسْخَةٍ فِي الْمِشْكَاةِ مُطَابَقَةٍ لَهُ. وَنَقَلَ مِيْرَكُ عَنْ خَطِّ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّ قَوْلَهُ: عَزْوَزَاءَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّاءَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا وَاوٌ مَفْتُوحَةٌ، وَبَعْدَ الزَّايِ الثَّانِيَةِ أَلِفٌ مَمْدُودَةٌ، وَالْأَشْهَرُ حَذْفُ الْأَلِفِ، هَكَذَا صَحَّحَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ شُرَّاحُ الْمَصَابِيحِ وَقَالُوا: هِيَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْعَزَازَةُ بِالْفَتْحِ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ، وَالشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، فِي صَحِيحِ الْمَصَابِيحِ: عَزْوَرَاءُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَزَايٍ: سَاكِنَةٍ ثُمَّ وَاوٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَأَلِفٍ، وَضَبَطَ بَعْضُهُمْ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَهِيَ: ثَنِيَّةٌ عِنْدَ الْجُحْفَةِ خَارِجَ مَكَّةَ. قَالَ الشَّيْخُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى مَا ضَبَطَهُ شُرَّاحُ الْمَصَابِيحِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَقَدِ اضْطَرَبُوا فِي تَقْيِيدِهَا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ ضَبَطَهَا عَلَى الصَّوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ، وَيُفْهَمُ مِنَ النِّهَايَةِ أَنَّهُ بِالزَّايِ: الْمُعْجَمَةِ. (نَزَلَ: نُزُولُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَكُنْ لِخَاصِّيَّةِ الْبُقْعَةِ، بَلْ لِوَحْيٍ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي النَّهْيِ أَوِ الْأَمْرِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبُقْعَةَ لَا تَخْلُو عَنْ خُصُوصِيَّةٍ حَيْثُ اخْتَصَّتْ بِالدُّعَاءِ لِأُمَّتِهِ مِنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَدَعَا اللَّهَ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَّ أَيْ: وَقَعَ أَوْ سَجَدَ. (سَاجِدًا فَمَكَثَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا. (طَوِيلًا) : أَيْ مَكَثَ طَوِيلًا أَوْ زَمَانًا كَثِيرًا. (ثُمَّ قَامَ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا، فَمَكَثَ طَوِيلًا ثُمَّ قَامَ أَيْ: ثَالِثًا. (فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِخْفَاءَ أَفْضَلُ فِي الدُّعَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] وَدَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ إِلَّا فِيمَا وَرَدَ الْأَثَرُ بِخِلَافِهِ. (قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي) أَيْ: دَعَوْتُهُ أَوْ طَلَبْتُ رَحْمَتَهُ. (وَشَفَعْتُ لِأُمَّتِي) أَيْ: لِغُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ، وَسَتْرِ عُيُوبِهِمْ، وَإِعْلَاءِ دَرَجَتِهِمْ، وَرِفْعَةِ عَظْمَتِهِمْ وَمَرْتَبَتِهِمْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِلْمَسْئُولِ أَوْ بَعْضِهِ. (فَأَعْطَانِي) أَيْ: فَوَهَبَنِي. (ثُلُثَ أُمَّتِي) : بِضَمِّ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ، أَوْ أَعْطَانِي مَغْفِرَةَ ثُلُثِهِمْ وَهُمُ السَّابِقُونَ. (فَخَرَرْتُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: وَقَعْتُ. (سَاجِدًا لِرَبِّي شُكْرًا) أَيْ: لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَطَلَبًا لِلزِّيَادَةِ. قَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] . (ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي، فَسَأَلْتُ رَبِّي) أَيْ: سِعَةَ رَحْمَتِهِ، وَمَزِيدَ مَغْفِرَتِهِ. (لِأُمَّتِي) أَيْ: كَافَّةً. (فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي) : وَهُمُ الْمُقْتَصِدُونَ. (فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي) شُكْرًا، ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي، فَسَأَلْتُ رَبِّي أَيْ: سِعَةَ رَحْمَتِهِ وَمَزِيدَ مَغْفِرَتِهِ. (لِأُمَّتِي) أَيْ: كَافَّةً. (فَأَعْطَانِي الثُّلُثَ الْآخِرَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِهَا، وَهُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْعَاصُونَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: فَأَعْطَانِيهِمْ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْخُلُودُ، وَتَنَالُهُمْ شَفَاعَتِي، وَلَا يَكُونُونَ كَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ، فَإِنَّ مَنْ عُذِّبَ مِنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْخُلُودُ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لُعِنُوا لِعِصْيَانِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، فَلَمْ تَنَلْهُمُ الشَّفَاعَةُ، وَالْعُصَاةُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ عُوقِبَ مِنْهُمْ نُقِّيَ وَهُذِّبَ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، وَإِنْ عُذِّبَ بِهَا تَنَالُهُ الشَّفَاعَةُ، وَإِنِ اجْتَرَحَ الْكَبَائِرَ، وَيُتَجَاوَزُ عَنْهُمْ مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ كَرَامَةً لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ.

وَفِي بَعْضِ كَلَامِهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْخُلُودُ بِخِلَافِ الْأُمَمِ ; لِأَنَّهُ يَخْلُو مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، أَوْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، وَلَا يَصِحُّ الثَّانِي فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَالْقَضِيَّتَانِ فِي الْأُمَمِ كُلِّهَا مُتَسَاوِيَتَانِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُمَّتِهِ الْمَرْحُومَةِ. (فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي: وَلَمْ يَقُلْ هُنَا: شُكْرًا لِمَا سَبَقَ مُكَرَّرًا. قَالَ الْمُظْهِرُ: لَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أُمَّتِهِ مَغْفُورِينَ بِحَيْثُ لَا تُصِيبُهُمُ النَّارُ ; لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَهْدِيدِ آكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالرِّبَا، وَالزَّانِي، وَشَارِبِ الْخَمْرِ، وَقَاتِلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ سَأَلَ أَنْ يَخُصَّ أُمَّتَهُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ بِأَنْ لَا يَمْسَخَ صُوَرَهُمْ بِسَبَبِ الذُّنُوبِ، وَأَنْ لَا يُخَلِّدَهُمْ فِي النَّارِ بِسَبَبِ الْكَبَائِرِ، بَلْ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ مَاتَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَطْهِيرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَى هَذَا، كَذَا الْكِتَابُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، وَالْعَفْوُ مِنَ الْكَرِيمِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَرْجَى مِنَ الْعَذَابِ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ. وَأَمَّا دُخُولُ النَّارِ فَلَيْسَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ اهـ. وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ نَظَرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ السُّنَّةَ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَيْ: عَلَى تَعَذُّبِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَيْ: عَلَى غُفْرَانِهِمْ، فَأَقُولُ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْعَقَائِدِ مِنْ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي الْجُمْلَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُغْفَرُ لِجَمِيعِهِمْ ثَانِيًا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَإِنَّ الثَّانِيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَالْأُولَى إِمَّا مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُئَوَّلَةٌ، بِأَنَّ اللَّامَ فِي الذُّنُوبِ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ مَا عَدَا الْكُفْرِ، أَوِ الِاسْتِغْرَاقُ، فَيَكُونُ مُقَيَّدًا بِالتَّوْبَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَانَتْ شَفَاعَتُهُ فِي الْأُمَّةِ فِي أَنْ لَا يُخَلِّدَهُمْ فِي النَّارِ، وَيُخَفِّفَ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ صَغَائِرِ ذُنُوبِهِمْ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَدْخُلُ النَّارَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي وَالْمُظْهِرِ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي الصَّغَائِرِ، وَفِي عَدَمِ الْخُلُودِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ تَمْحِيصِهِمْ بِالنَّارِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي النَّارِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي.» وَعَنِ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ جَابِرٍ: مَنْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَمَا لَهُ وَلِلشَّفَاعَةِ، وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا كَثِيرَةٌ. قُلْتُ: لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، فَلَا مُنَافَاةَ لِمَا قَالَاهُ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِذْنِ، فَإِذَا تَعَلَّقَتِ الْمَشِيئَةُ بِأَنْ تَنَالَ بَعْضَ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ وَأُذِنَ فِيهَا فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَشِيئَةَ إِذَا ثَبَتَ تَعَلُّقُهَا بِشَيْءٍ مِنْ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ، فَلَيْسَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) أَيْ: مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ.

[باب الاستسقاء]

[بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1497 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [52] بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ السُّقْيَا، وَفِي الشَّرْعِ طَلَبُ السُّقْيَا لِلْعِبَادِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا بِسَبَبِ قِلَّةِ الْأَمْطَارِ، أَوْ عَدَمِ جَرْيِ الْأَنْهَارِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَخْرُجُونَ لِلِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ كَثِيرٌ مِنْهَا، مُتَوَاضِعِينَ مُتَخَشِّعِينَ فِي ثِيَابٍ خَلَقٍ مُشَاةً يُقَدِّمُونَ الصَّدَقَةَ كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا فِي مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ ثَابِتَةٌ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، أَدْنَاهَا مُجَرَّدُ الدُّعَاءِ فُرَادَى أَوْ مَعَ الِاجْتِمَاعِ لَهُ، رَوَى أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ: أَنَّ «قَوْمًا شَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَحْطَ الْمَطَرِ فَقَالَ: اجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ ثُمَّ قُولُوا: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ. فَفَعَلُوا فَسُقُوا» ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَسْقَى عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ بِالدُّعَاءِ بِلَا صَلَاةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَحْسَنُ هَذَا النَّوْعِ مَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَأَوْسَطُهَا: الدُّعَاءُ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَلَوْ نَوَافِلَ، وَفِي كُلِّ خُطْبَةٍ مَشْرُوعَةٍ، وَأَعْلَاهَا: بِالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ كَمَا يَأْتِي وَيُنْدَبُ تَكْرِيرُ الِاسْتِسْقَاءِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1497 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ: ابْنِ عَاصِمِ بْنِ مَازِنٍ الْأَنْصَارِيِّ، لَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجِيِّ الَّذِي رَأَى الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَشَرْحِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: الْأَوَّلُ شَهِدَ أُحُدًا وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ مُشَارِكًا وَحْشِيَّ بْنَ الْحَارِثِ فِي قَتْلِهِ، وَالثَّانِي: شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: [وَوَهَّمَ الْبُخَارِيُّ ابْنَ عُيَيْنَةَ] فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، بَلْ هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ. (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاسِ) أَيْ: مَعَهُمْ. (إِلَى الْمُصَلَّى) أَيْ: فِي الْمَدِينَةِ. (يَسْتَسْقِي) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ. (فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى فِي الِاسْتِسْقَاءِ صَلَاةً بَلْ يَدْعُو لَهُ، وَالشَّافِعِيُّ يُصَلِّي كَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَمَالِكٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَهَا بِدْعَةً فَخَطَأٌ فَاحِشٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَعْلِهَا سُنَّةً، لِكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهَا مَرَّةً وَتَرَكَهَا أُخْرَى، أَنْ تَكُونَ بِدْعَةً، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ جَهْلِهِ وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِمَرْتَبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ، سِيَّمَا الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْهُمَامُ الْأَقْدَمُ الَّذِي قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي حَقِّهِ: النَّاسُ كُلُّهُمْ عِيَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ مَعَ كَثْرَتِهَا. (جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ لِلِاسْتِسْقَاءِ بِالْجَمَاعَةِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: قُلْنَا: فَعَلَهُ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى، فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنَّمَا يَكُونُ سُنَّةً مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَنَا. يَعْنِي: يَجُوزُ لَوْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ، لَكِنْ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَفِي الْكَافِي الَّذِي هُوَ جَمْعُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ. قَالَ: لَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ إِنَّمَا فِيهِ الدُّعَاءُ، بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ خَرَجَ وَدَعَا. وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَدَعَا وَاسْتَسْقَى، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ صَلَاةٌ إِلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ شَاذٌّ لَا يُؤْخَذُ بِهِ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَوَجْهُ الشُّذُوذِ أَنَّ فِعْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَاشْتُهِرَ نَقْلُهُ اشْتِهَارًا وَاسِعًا، وَلَفَعَلَهُ عُمَرُ حِينَ اسْتَسْقَى، وَلَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ ; لِتَوَفُّرِ الْكُلِّ فِي الْخُرُوجِ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلِاسْتِسْقَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يُنْكِرُوا، وَلَمْ تَشْتَهِرْ رِوَايَتُهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى اضْطِرَابٍ فِي كَيْفِيَّتِهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ: كَانَ ذَلِكَ شُذُوذًا فِيمَا حَضَرَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّذُوذَ يُرَادُ بِاعْتِبَارِ الطُّرُقِ إِلَيْهِمْ، إِذْ لَوْ تَيَقَّنَا عَنِ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ رَفْعَهُ لَمْ يَبْقَ إِشْكَالٌ اهـ. قِيلَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُقْرَأَ فِي الْأُولَى بِ (ق) أَوْ سَبِّحْ وَفِي الثَّانِيَةِ: بِاقْتَرَبَ أَوِ الْغَاشِيَةِ، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُقْرَأَ فِي الثَّانِيَةِ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1] ; لِأَنَّهَا لَائِقَةٌ بِالْحَالِ، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأُولَى: الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: بِالْغَاشِيَةِ. (وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ. (يَدْعُو) : حَالٌ. (وَرَفَعَ يَدَيْهِ) أَيْ: لِلدُّعَاءِ. (وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) قَالَ الْمُظْهِرُ: الْغَرَضُ مِنَ التَّحْوِيلِ التَّفَاؤُلُ بِتَحْوِيلِ الْحَالِ يَعْنِي: حَوَّلْنَا أَحْوَالَنَا رَجَاءَ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْعُسْرَ بِالْيُسْرِ، وَالْجَدْبَ بِالْخِصْبِ، وَكَيْفِيَّةُ التَّحْوِيلِ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى الطَّرَفَ الْأَسْفَلَ مِنْ جَانِبِ يَسَارِهِ، وَبِيَدِهِ الْيُسْرَى الطَّرَفَ الْأَسْفَلَ أَيْضًا مِنْ جَانِبِ يَمِينِهِ، وَيَقْلِبَ يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الطَّرَفُ الْمَقْبُوضُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى كَتِفِهِ الْأَعْلَى مِنْ جَانِبِ الْيَمِينِ، وَالطَّرَفُ الْمَقْبُوضُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى كَتِفِهِ الْأَعْلَى مِنْ جَانِبِ الْيَسَارِ،

فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ انْقَلَبَ الْيَمِينُ يَسَارًا وَالْيَسَارُ يَمِينًا، وَالْأَعْلَى أَسْفَلَ وَبِالْعَكْسِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ كَانَ مُرَبَّعًا يَجْعَلُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَإِنْ كَانَ مُدَوَّرًا كَالْجُبَّةِ يَجْعَلُ جَانِبَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ. وَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَمَا رَوَاهُ كَانَ تَفَاؤُلًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اعْتِرَافٌ بِرِوَايَتِهِ، وَمَنَعَ اسْتِنَانَهُ ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ لِأَمْرٍ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَدَى الْعِبَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ التَّحْوِيلِ كَانَ تَفَاؤُلًا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَصَحَّحَهُ، قَالَ: «وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّلَ الْقَحْطُ» . وَفِي طِوَالَاتِ الطَّبَرَانِيِّ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «وَقَلَبَ رِدَاءَهُ لِكَيْ يَتَقَلَّصَ الْقَحْطُ إِلَى الْخِصْبِ» ، وَفِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ: «لِتَتَحَوَّلَ السَّنَةُ مِنَ الْجَدْبِ إِلَى الْخِصْبِ» ، ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِ وَكِيعٍ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَطُولُ رِدَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعَانِ وَشِبْرٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ فِيهِ: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعَةَ تَكْبِيرَاتٍ، وَقَرَأَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] ، وَكَبَّرَ فِيهَا خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ» ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، كَمَا زَعَمَ، بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ مُعَارَضٌ، أَمَّا ضَعْفُهُ فَبِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَالنَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ، وَأَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، لَيْسَ لَهُ حَدِيثٌ مُسْتَقِيمٌ، وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اسْتَسْقَى، فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُكَبِّرْ فِيهِمَا إِلَّا تَكْبِيرَةً» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَزِدْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ اهـ. وَلَهُ يَظْهَرُ بُطْلَانُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَالْعِيدِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا تُصَلَّى الْعِيدُ، وَبِهِ يُرَدُّ قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّهَا كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَتْ كَالْعِيدِ اهـ.

1498 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1498 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ» ) أَيْ: رَفْعًا كَامِلًا. (فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ) أَيْ: جِنْسِ دُعَائِهِ. (إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ) أَيْ: فِي دُعَائِهِ. (فَإِنَّهُ يَرْفَعُ) أَيْ: كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ. (حَتَّى يُرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (بَيَاضُ إِبِطَيْهِ) : قَالَ الْقَاضِي أَيْ: لَا يَرْفَعُهُمَا كُلَّ الرَّفْعِ حَتَّى يُجَاوِزَ رَأْسَهُ، وَيُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِحْبَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْأَدْعِيَةِ كُلِّهَا أَيْ: غَالِبِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيْرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1499 - وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1499 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ. ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ» ) قَالُوا: فَعَلَ هَذَا تَفَاؤُلًا بِتَقَلُّبِ الْحَالِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَذَلِكَ نَحْوَ صَنِيعِهِ فِي تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى مَا يَسْأَلُهُ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ بَطْنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ، لِيَنْصَبَّ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمْطَارِ كَمَا قَالَ: إِنَّ الْكَفَّ إِذَا جُعِلَ بَطْنُهَا إِلَى الْأَرْضِ، انْصَبَّ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ، وَقِيلَ: مَنْ أَرَادَ دَفْعَ بَلَاءٍ مِنَ الْقَحْطِ وَنَحْوِهِ، فَلْيَجْعَلْ ظَهْرَ كَفِّهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَمَنْ سَأَلَ نِعْمَةً مِنَ اللَّهِ فَلْيَجْعَلْ بَطْنَ كَفِّهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَرَوَى أَحْمَدُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَفْعَلُ الْأَوَّلَ إِذَا اسْتَعَاذَ، وَالثَّانِيَ إِذَا سَأَلَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1500 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1500 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا» ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَأَصْلُهُ صَيْوِبٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ كَسَيِّدٍ، أَيْ: مَطَرًا. نَقَلُهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَيَّدَهُ الْوَاحِدِيُّ بِالْكَثِيرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْكَشَّافِ، الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ الَّذِي يُصَوَّبُ أَيْ: يَنْزِلُ وَيَقَعُ، وَفِيهِ مُبَالَغَاتٌ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِيبِ، وَالْبِنَاءِ، وَالتَّنْكِيرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمَطَرِ شَدِيدٌ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ سَيْبًا بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: عَطَاءً، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِمُقَدَّرٍ. أَيِ: اسْقِنَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، أَوْ أَسْأَلُكَ أَوِ اجْعَلْهُ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ أَيِ: أَنْزِلْهُ عَلَيْهَا حَالَ كَوْنِهِ سَيْبًا أَيْ: مَطَرًا نَازِلًا. (نَافِعًا) أَيْ: لَا مُغْرِقًا كَقَوْمِ نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ تَتْمِيمٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّ صَيِّبًا مَظِنَّةُ الضَّرَرِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ مَطَرٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفْعٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ أَمْ لَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ حِبَّانَ: هَنِيئًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَتُقَدِّرُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِأَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا سَيْبًا، نَافِعًا هَنِيئًا، وَقِيلَ: يَأْتِي بِكُلِّ مَرَّةٍ وَهُوَ الصَّوَابُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1501 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَطَرٌ قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ ! قَالَ: لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1501 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَصَابَنَا) أَيْ: حَصَلَ لَنَا وَنَزَلَ عَلَيْنَا. (وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَوِ الْفَاعِلِ. (مَطَرٌ، قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ. (فَحَسَرَ) أَيْ: (كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبَهُ) أَيْ: عَنْ بَدَنِهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ عَنْ رَأْسِهِ لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ: حَسَرَ ثَوْبَهُ عَنْ ظَهْرِهِ. (حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ) : وَرَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إِذَا سَالَ السَّيْلُ قَالَ: اقْرَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ طُهْرًا فَنَتَطَهَّرُ مِنْهُ، وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَيْهِ» ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَوَمَا قَرَأْتَ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] فَأُحِبُّ أَنْ يَنَالَنِي مِنْ بَرَكَتِهِ. (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ !) أَيْ: مَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ (قَالَ: لِأَنَّهُ) أَيِ: الْمَطَرُ الْجَدِيدُ. ( «حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» ) أَيْ: جَدِيدُ النُّزُولِ بِأَمْرِ رَبِّهِ، سَيَكُونُ كَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ، وَالنَّبْتِ وَالزَّهْرِ فِي الرَّبِيعِ مَا اخْتَلَطَ بِالْمُخْتَلِطِينَ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الْعَاصِينَ، أَوْ لِكَوْنِهِ نِعْمَةً مُجَدَّدَةً، وَلِذَا قِيلَ: لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةٌ، أَوْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، وَالْقَاصِدِ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَتَكْرِيمُهُ، أَوْ لِأَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى قُرْبِ الْعَهْدِ مِنْ عَالَمِ الْعَدَمِ الَّذِي يَتَمَنَّاهُ الْخَائِفُونَ، وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّالِكُونَ الْفَانُونَ ; فَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ التُّورْبِشْتِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُ قَرِيبٌ عَهْدُهُ بِالْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَاءُ الْمُبَارَكُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُزْنِ سَاعَتَئِذٍ، فَلَمْ تَلْمَسْهُ الْأَيْدِي الْخَاطِئَةُ. وَلَمْ تُكَدِّرْهُ مُلَاقَاةُ أَرْضٍ عُبِدَ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ، وَأَنْشَدَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: تَضُوعُ أَرْوَاحُ نَجْدٍ مِنْ ثِيَابِهِمُ ... عِنْدَ الْقُدُومِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِالدَّارِ قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ أَنْ يَتَقَرَّبُوا وَيَرْغَبُوا فِيمَا فِيهِ خَيْرٌ وَبَرَكَةٌ اهـ، وَيُسَنُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ ; لِأَنَّهُ يُسْتَجَابُ حِينَئِذٍ، كَمَا فِي خَبَرٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَآخَرَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ رُؤْيَةَ الْكَعْبَةِ كَذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1502 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1502 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُصَلَّى، فَاسْتَسْقَى، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَجَعَلَ) أَيْ: أَلْقَى. (عِطَافَهُ) أَيْ: جَانِبَ رِدَائِهِ. (الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ) ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ فِي النِّهَايَةِ: الْعِطَافُ هُوَ الرِّدَاءُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الْعِطَافَ إِلَى الرِّدَاءِ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ أَحَدَ شِقَّيِ الْعِطَافِ، فَالْهَاءُ ضَمِيرُ الرِّدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ أَيْ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُرِيدُ بِالْعِطَافِ جَانِبَ الرِّدَاءِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: عَنِ الرِّدَاءِ عِطَافًا لِوُقُوعِهِ عَلَى الْعِطْفَيْنِ وَهُمَا الْجَانِبَانِ، ثُمَّ (دَعَا اللَّهَ، لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَاللَّفْظُ لَهُ، وَرَوَاهُ الْبَقِيَّةُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا بِأَلْفَاظٍ قَرِيبَةِ الْمَعْنَى، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ.

1503 - وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ لَهُ سَوْدَاءُ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْفَلَهَا فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثَقُلَتْ قَلَبَهَا عَلَى عَاتِقَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1503 - (وَعَنْهُ) أَي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. (قَالَ: «اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ» ) أَيْ: كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ، لَهُ عَلَمَانِ فِي طَرَفَيْهِ مِنْ صُوفٍ وَغَيْرِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ ثَوْبُ خَزٍّ، أَوْ صُوفٌ مُعَلَّمٌ، وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى بِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَوْدَاءَ مُعَلَّمَةً. (لَهُ) أَيْ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (سَوْدَاءُ) : صِفَةٌ لِخَمِيصَةٍ، وَفِيهِ تَجْرِيدٌ. ( «فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْفَلَهَا، فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثَقُلَتْ» ) أَيْ: عَسُرَتْ عَلَيْهِ. (قَلَّبَهَا) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَقِيلَ: بِتَخْفِيفِهَا. (عَلَى عَاتِقَيْهِ) أَيْ: جَعَلَ أَسْفَلَهَا أَعْلَاهَا عَلَى عَاتِقَيْهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَالصَّوَابُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، أَيْ: لَمْ يَجْعَلْ أَسْفَلَهَا أَعْلَاهَا، بَلْ جَعَلَ مَا عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ. قَالَ الزَّيْلَغِيُّ مُخَرِّجُ الْهِدَايَةِ: زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَحَوَّلَ النَّاسُ مَعَهُ. قَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ اهـ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: إِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَنَقْلُ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَا يَمَسُّهُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ تَقْرِيرَهُ إِيَّاهُمْ إِذْ حَوَّلُوا أَحَدَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ تَقْرِيرَهُ الَّذِي هُوَ مِنَ الْحُجَجِ مَا كَانَ مِنْ عِلْمِهِ، وَلَمْ يَدُلَّ شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ عَلَى عِلْمِهِ بِفِعْلِهِمْ، ثُمَّ تَقْرِيرِهِ، بَلِ اشْتَمَلَ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّلُوا بَعْدَ تَحْوِيلِ ظَهْرِهِ إِلَيْهِمْ اهـ. وَمَحَلُّ التَّحْوِيلِ الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِينَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

1504 - وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَسْقِي عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ، قَرِيبًا مِنَ الزَّوْرَاءِ، قَائِمًا يَدْعُو يَسْتَسْقِي، رَافِعًا يَدَيْهِ قِبَلَ وَجْهِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِمَا رَأْسَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1504 - (وَعَنْ عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ. (مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ) : بِالْمَدِّ، اسْمُ رَجُلٍ مِنْ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ أَكْلِ اللَّحْمِ، أَوْ لَحْمِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قِيلَ: هُوَ الَّذِي يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ حَدِيثٌ سِوَاهُ، وَعُمَيْرٌ يُرْوَى عَنْهُ وَلَهُ أَيْضًا صُحْبَةٌ. (أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَسْقِي عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ» ) : وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْحَرَّةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَوَادِ أَحْجَارِهَا بِهَا كَأَنَّهَا طُلِيَتْ بِالزَّيْتِ. (قَرِيبًا مِنَ الزَّوْرَاءِ) : بِفَتْحِ الزَّايِ: الْمُعْجَمَةِ مَوْضِعٌ. (قَائِمًا يَدْعُو يَسْتَسْقِي) : حَالَانِ أَيْ: دَاعِيًا مُسْتَسْقِيًا. (رَافِعًا يَدَيْهِ قِبَلَ وَجْهِهِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: قُبَالَتَهُ، أَيْ: تَارَةً وَتَارَةً، فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ. (لَا يُجَاوِزُ بِهِمَا) أَيْ: بِيَدَيْهِ حِينَ رَفَعَهُمَا. (رَأْسَهُ) : لَا يُنَافِي مَا مَرَّ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُبَالِغُ فِي الرَّفْعِ لِلِاسْتِسْقَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهِ، وَهَذَا فِي نَادِرٍ مِنْهَا أَوْ بِالْعَكْسِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) أَيْ: مَعْنَاهُ.

1505 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي فِي الِاسْتِسْقَاءِ - مُتَبَذِّلًا، مُتَوَاضِعًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَضَرِّعًا» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1505 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي فِي الِاسْتِسْقَاءِ -) أَيْ: يُرِيدُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَرَجَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي. (مُتَبَذِّلًا) : بِتَقْدِيمِ التَّاءِ عَلَى الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: لَابِسًا ثَوْبَ الْبِذْلَةِ. فِي النِّهَايَةِ: التَّبَذُّلُ تَرْكُ التَّزَيُّنِ عَلَى جِهَةِ التَّوَاضُعِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ إِظْهَارِ الِافْتِقَارِ، وَإِرَادَةِ جَبْرِ الِانْكِسَارِ، وَلِئَلَّا يَكُونَ مُكَرَّرًا مَعَ قَوْلِهِ: (مُتَوَاضِعًا) : فِي الظَّاهِرِ. (مُتَخَشِّعًا) : فِي الْبَاطِنِ. (مُتَضَرِّعًا) : بِاللِّسَانِ فِي أَنْوَاعِ الذِّكْرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقْلُهُ مِيْرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

1506 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ، وَبَهِيمَتَكَ، وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ، وَأَحْيِ بَلَدَكَ الْمَيِّتَ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1506 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. (قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِ» ) : بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ أَوِ الْقَطْعِ. (عِبَادَكَ) : يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ. (وَبَهِيمَتَكَ) أَيْ: بَهَائِمَكَ مِنْ جَمِيعِ دَوَابِّ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتِهَا. (وَانْشُرْ) : بِضَمِّ الشِّينِ أَيِ: ابْسُطْ. (رَحْمَتَكَ، وَأَحْيِ بَلَدَكَ الْمَيِّتَ) أَيْ: بِإِنْبَاتِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا أَيْ: يَبْسِهَا. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

1507 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاكِئُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، مَرِيئًا مُرِيعًا، نَافِعًا، غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ قَالَ: فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1507 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاكِئُ» ) : الْمُوَاكَأَةُ وَالتَّوَكُّؤُ وَالِاتِّكَاءُ: الِاعْتِمَادُ وَالتَّحَامُلُ عَلَى الشَّيْءِ. فِي النِّهَايَةِ أَيْ: يَتَحَامَلُ عَلَى يَدَيْهِ، أَيْ: يَرْفَعُهُمَا وَيَمُدُّهُمَا فِي الدُّعَاءِ، وَمِنْهُ التَّوَكُّؤُ عَلَى الْعَصَا، وَهُوَ التَّحَامُلُ عَلَيْهَا، هَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ. (فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا) : بِالْوَصْلِ وَالْقَطْعِ. (غَيْثًا) أَيْ: مَطَرًا. (مُغِيثًا) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: مُغِيثًا مِنَ الْإِغَاثَةِ بِمَعْنَى الْإِعَانَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَبْلَهُ: هَنِيئًا. (مَرِيئًا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمَدِّ، وَيَجُوزُ إِدْغَامُهُ أَيْ: هَنِيئًا مَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ، لَا ضَرَرَ فِيهِ مِنَ الْغَرَقِ وَالْهَدْمِ، وَصَحَّ فِي مُسْلِمٍ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. قَالَ الْقَاضِي: عَنْ

بَعْضِهِمْ، وَمَا هُنَا مِنَ الْإِغَاثَةِ بِمَعْنَى الْمَعُونَةِ، وَلَيْسَ مِنْ طَلَبِ الْغَيْثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ طَلَبِهِ أَيْ: هَيِّئْ لَنَا غَيْثًا. فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ مَرَأَنِي الطَّعَامُ، وَأَمْرَأَنِي: إِذَا لَمْ يَثْقُلْ عَلَى الْمَعِدَةِ، وَانْحَدَرَ عَنْهَا طَيِّبًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَيُحْتَمَلُ مَرِيئًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ، أَوْ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْيَاءِ مِدْرَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ مَرِيءٌ: كَثِيرَةُ اللَّبَنِ، وَلَا أُحَقِّقُهُ رِوَايَةً. (مَرِيعًا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ، أَيْ: كَثِيرًا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: ذَا مَرَاعَةٍ وَخِصْبٍ، وَيُرْوَى مُرْبِعًا بِالْبَاءِ أَيْ: بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: مُنْبِتًا لِلرَّبِيعِ، الْمُغْنِي عَنِ الِارْتِيَادِ لِعُمُومِهِ، وَالنَّاسُ يُرْبِعُونَ حَيْثُ شَاءُوا، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى النُّجْعَةِ. وَيُرْوَى مَرْتَعًا أَيْ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالتَّاءِ أَيْ: يَنْبُتُ بِهِ مَا يُرْتِعُ الْإِبِلَ، وَكُلُّ خَصْبٍ مَرْتَعٌ، وَمِنْهُ: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَرِيعًا أَيْ: خَصْبًا، فَعِيلٌ مِنْ مَرُعَ الْأَرْضُ بِالضَّمِّ مَرَاعَةً أَيْ: صَارَتْ كَثِيرَةَ الْمَاءِ وَالنَّبَاتِ، وَقِيلَ: مُرِيعًا بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: مُخْصِبًا، مِنْ أَمْرَعَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَخْصَبَ، أَوْ غَيْثًا كَثِيرَ النَّمَاءِ ذَا رِيعٍ، مِنْ أَرَاعَتِ الْإِبِلُ إِذَا كَثُرَتْ أَوْلَادُهَا، وَمِرْبَعًا مِفْعَلٌ مِنَ الرَّبْعِ أَيْ: مَوْضِعُ إِقَامَةٍ، وَمُرْبِعًا بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: مُقِيمًا لِلنَّاسِ، مُغْنِيًا لَهُمْ عَنِ الِارْتِيَادِ ; لِعُمُومِهِ جَمِيعَ الْبِلَادِ، مِنْ أَرْبَعَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَقِيلَ: مُنْبِتًا لِلرَّبْعِ، وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي يَرْعَاهُ الشَّاءُ فِي الرَّبِيعِ. (نَافِعًا، غَيْرَ ضَارٍّ) : تَأْكِيدٌ. (عَاجِلًا) غَيْرَ آجِلٍ: مُبَالَغَةٌ. (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ. (فَأَطْبَقَتْ) : عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَقِيلَ بِالْمَفْعُولِ. (عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ) يُقَالُ: أَطْبَقَ إِذَا جَعَلَ الطَّبَقَ عَلَى رَأْسِ شَيْءٍ وَغَطَّاهُ بِهِ، أَيْ: جُعِلَتْ عَلَيْهِمُ السَّحَابُ كَطَبَقٍ، وَقِيلَ: أَيْ: ظَهَرَ السَّحَابُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَغَطَّاهُمُ السَّحَابُ كَطَبَقٍ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَ السَّمَاءَ مِنْ تَرَاكُمِ السَّحَابِ وَعُمُومِهِ الْجَوَانِبَ. وَقِيلَ: أَطْبَقَتْ بِالْمَطَرِ الدَّائِمِ، يُقَالُ: أَطْبَقَتْ عَلَيْهِ الْحُمَّى أَيْ: دَامَتْ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْ: مَلَأَتْ وَالْغَيْثُ الْمُطْبِقُ هُوَ الْعَامُّ الْوَاسِعُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَقِبَ الْمُغِيثِ وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُغِيثُ الْخَلْقَ مِنَ الْقَحْطِ بِالْغَيْثِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَالْمُغِيثُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَكَّدَ مَرِيئًا بِمَرْتَعًا بِالتَّاءِ يُنْبِتُ اللَّهُ بِهِ مَا يُرْتِعُ الْإِبِلَ، وَالْحَدَّ النَّافِعَ، عَاجِلًا بِغَيْرِ آجِلٍ اعْتِنَاءً بِشَأْنِ الْخَلْقِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى سِعَةِ رَحْمَةِ الْحَقِّ، فَكَمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الدُّعَاءِ كَانَتِ الْإِجَابَةُ طِبْقًا لَهُ حَيْثُ أَطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ، فَإِنَّ فِي إِسْنَادِ الْإِطْبَاقِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالسَّحَابُ هُوَ الْمُطْبِقُ أَيْضًا مُبَالَغَةً، وَعَرَّفَهَا لِيَنْتَفِيَ أَنَّ تَنَزُّلَ الْمَطَرِ مِنْ سَمَاءٍ، أَيْ: مَنْ أُفُقٍ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْآفَاقِ ; لِأَنَّ كُلَّ أُفُقٍ مِنْ آفَاقِهَا سَمَاءٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ غَمَامٌ مُطْبِقٌ أَخَذَ بِآفَاقِ السَّمَاءِ إِجَابَةً لِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيْرَكُ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَفْظُهُ: أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَوَاكٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: بَوَاكِي بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ بَاكِيَةٍ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْخَطَّابِيِّ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاكِئُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ مَضْمُومَةٍ وَآخِرُهُ مَهْمُوزٌ قَالَ: وَمَعْنَاهُ يَتَحَامَلُ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا رَفَعَهُمَا وَمَدَّهُمَا فِي الدُّعَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ الْخَطَّابِيُّ لَمْ تَأْتِ بِهِ الرِّوَايَةُ، وَلَا انْحَصَرَ الصَّوَابُ فِيهِ، بَلْ لَيْسَ هُوَ وَاضِحَ الْمَعْنَى، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: «أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَوَازِلُ» بَدَلَ بَوَاكِي اهـ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1508 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ، وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَتْرُكِ الرَّفْعَ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافِعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً، فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتِ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الْكِنِّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1508 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: شَكَا) يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَقِيلَ بِالْيَاءِ. (النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُحُوطَ الْمَطَرِ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ: فَقْدَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقُحُوطُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقَحْطِ أَوْ جَمْعٌ، وَأُضِيفَ إِلَى الْمَطَرِ لِيُشِيرَ إِلَى عُمُومِهِ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى. (فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ، فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى) :. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمِنْبَرِ. وَقَالَ الْمَشَايِخُ: لَا يَخْرُجُ وَلَيْسَ إِلَّا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ حُكْمِهِمْ بِصِحَّتِهِ اهـ. أَوْ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَوَعَدَ النَّاسُ يَوْمًا

يَخْرُجُونَ فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. (قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَدَا) : بِالْأَلِفِ لَا بِالْهَمْزَةِ، أَيْ: ظَهَرَ. (حَاجِبُ الشَّمْسِ) أَيِ: أَوَّلُهُ أَوْ بَعْضُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيِ: أَوَّلُ طُلُوعِ شُعَاعِهَا مِنَ الْأُفُقِ. قَالَ مِيْرَكُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَاجِبِ مَا طَلَعَ أَوَّلًا مِنْ جِرْمِ الشَّمْسِ مُسْتَدَقًّا مُشَبَّهًا بِالْحَاجِبِ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْمُغْرِبِ حَاجِبُ الشَّمْسِ: أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنَ الشَّمْسِ مُسْتَعَارٌ مِنْ حَاجِبِ الْوَجْهِ. (فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ فَحَمِدَ اللَّهَ) : قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: تُسَنُّ الْخُطْبَةُ، وَتَكُونُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيَسْتَفْتِحُهُمَا بِالِاسْتِغْفَارِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الْعِيدِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا: لَا خُطْبَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ إِسْحَاقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ قَالَ: «أَرْسَلَنِي الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ - وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ - إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ عَنِ اسْتِسْقَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى، فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ» ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: ثُمَّ هِيَ خُطْبَةُ الْعِيدِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي فَتَكُونُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ ; وَلِذَا قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَاحِدَةٌ، وَلَا صَرِيحَ فِي الْمَرْوِيَّاتِ يُوَافِقُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا خُطْبَتَانِ. (ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ) أَيْ: إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. (جَدْبَ دِيَارِكُمْ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: قَحْطَهَا. (وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ) أَيْ: تَأَخُّرَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالسِّينُ لِلْمُبَالَغَةِ، يُقَالُ: اسْتَأْخَرَ الشَّيْءُ إِذَا تَأَخَّرَ تَأَخُّرًا بَعِيدًا. (عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ أَيْ: وَقَتِهِ، مِنْ إِضَافَةِ الْخَاصِّ إِلَى الْعَامِّ، يَعْنِي: عَنْ أَوَّلِ زَمَانِ الْمَطَرِ، وَالْإِبَّانُ أَوَّلُ الشَّيْءِ. فِي النِّهَايَةِ: قِيلَ: نُونُهُ أَصْلِيَّةٌ فَيَكُونُ فِعَّالًا، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ فَيَكُونُ فِعْلَانٌ مِنْ آبَ الشَّيْءُ يَئُوبُ إِذَا تَهَيَّأَ لِلذَّهَابِ، وَفِي حَدِيثِ الْبَعْثِ: هَذَا إِبَّانُ نُجُومِهِ، أَيْ: وَقْتُ ظُهُورِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ: إِبَّانُ الشَّيْءِ بِالْكَسْرِ حِينُهُ أَوْ أَوَّلُهُ. (عَنْكُمْ) : مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِئْخَارِ. (وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أَيْ: فِي كِتَابِهِ. (أَنْ تَدْعُوهُ) أَيْ: دَائِمًا خُصُوصًا عِنْدَ الشَّدَائِدِ. (وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ) : بِقَوْلِهِ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، وَلَا خُلْفَ فِي وَعْدِهِ. (ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) : الْمُفِيضُ عَلَى عِبَادِهِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِالنِّعَمِ الْجَلِيلَةِ وَالدَّقِيقَةِ تَارَةً فِي صُورَةِ النَّعْمَاءِ، وَمَرَّةً فِي طَرِيقَةِ الْبَلَاءِ، وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] : بِالْأَلِفِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، أَيْ: مَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ فِي كُلِّ حِينٍ، وَالتَّخْصِيصُ لَهُ لِعَظَمَةِ يَوْمِ الدِّينِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَلَاءَ مُجَازَاةٌ فِي الدُّنْيَا لِمَا صَدَرَ مِنَ الْعِبَادِ مِنْ وُجُوهِ التَّقْصِيرِ فِي الْعُبُودِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ، الْمُتَوَحِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ. (وَيَفْعَلُ مَا يُؤَيِّدُهُ) ، وَيَحْكُمُ مَا يَشَاءُ، لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، كَمَا رُوِيَ: يَا عَبْدِي أُرِيدُ وَتُرِيدُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ. قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: أُرِيدُ وِصَالَهُ وَيُرِيدُ هَجْرِي فَأَتْرُكُ مَا أُرِيدُ لِمَا يُرِيدُ وَسَأَلَ الْبِسْطَامِيُّ أَبَا يَزِيدَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: هَذِهِ أَيْضًا إِرَادَةٌ. (اللَّهُمَّ أَنْتَ) اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ: أَنْتَ تَأْكِيدٌ. (الْغَنِيُّ) : بِذَاتِهِ عَنِ الْعَبْدِ وَعِبَادَتِهِ. (وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ) أَيِ: الْمُحْتَاجُونَ إِلَيْكَ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ. (أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: غَيْثًا أَيْ: مَطَرًا يُغِيثُنَا وَيُعِينُنَا ; فَإِنَّا عَرَفْنَا قَدْرَ

نِعْمَتِكَ بَعْدَ فِقْدَانِ بَعْضِهَا. (وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً) أَيْ: بِالْقُوتِ حَتَّى لَا نَمُوتَ، وَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى عِبَادَةِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْمَعْنَى اجْعَلْهُ مَنْفَعَةً لَنَا لَا مَضَرَّةً عَلَيْنَا. (وَبَلَاغًا) أَيْ: زَادًا يُبَلِّغُنَا. (إِلَى حِينٍ) أَيْ: مِنْ أَحْيَانِ آجَالِنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَلَاغُ مَا يُتَبَلَّغُ بِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَالْمَعْنَى اجْعَلِ الْخَيْرَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْنَا سَبَبًا لِقُوَّتِنَا، وَمَدَدًا لَنَا مُدَدًا طِوَالًا. (ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَتْرُكِ الرَّفْعَ) : بَلْ بَالَغَ فِيهِ. (حَتَّى بَدَا) أَيْ: ظَهَرَ. (بَيَاضُ إِبِطَيْهِ) أَيْ: مَوْضِعُهُمَا. (ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ) : وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ إِشَارَةً إِلَى التَّبَتُّلِ إِلَى اللَّهِ، وَالِانْقِطَاعِ عَمَّا سِوَاهُ. (وَقَلَّبَ) : بِالتَّشْدِيدِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي رِوَايَةٍ عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ، وَلَا تَخَالُفَ ; لِأَنَّهَا عُفْرَةٌ نِسْبِيَّةٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الشَّعْرِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَدَعْوَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ لَهُ شَعْرٌ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ، بَلْ ثَبَتَ نَتْفُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (أَوْ حَوَّلَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. (رِدَاءَهُ) : لِلتَّفَاؤُلِ وَإِرَادَةِ تَقْلِيبِ الْحَالِ مِنَ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ. (وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: يَدَهُ يَعْنِي هَذِهِ الْحَالَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي حَالِ تَحْوِيلِ ظَهْرِهِ أَيْضًا. (ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ) أَيْ: بِوَجْهِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَاسِ. (وَنَزَلَ) أَيْ: مِنَ الْمِنْبَرِ. (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ) أَيْ: أَوْجَدَ أَوْ أَحْدَثَ. (سَحَابَةً، فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: ظَهَرَ فِيهَا الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، فَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ. فِي النِّهَايَةِ: بَرِقَتْ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْحَيْرَةِ، وَبِالْفَتْحِ مِنَ الْبَرِيقِ اللَّمَعَانُ. (ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ جَاءَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: أَمْطَرَتْ بِالْأَلِفِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِلْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّ أَمْطَرَتْ وَمَطَرَتْ لُغَتَانِ فِي الْمَطَرِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَا يُقَالُ: أَمْطَرَتْ إِلَّا فِي الْعَذَابِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الحجر: 74] . وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. قَالَ تَعَالَى: {عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] ، وَهُوَ فِي الْخَيْرِ ; لِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ خَيْرًا. (فَلَمْ يَأْتِ) أَيْ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي اسْتَسْقَى فِيهِ مِنَ الصَّحْرَاءِ. (مَسْجِدَهُ) أَيِ: النَّبَوِيَّ فِي الْمَدِينَةِ. (حَتَّى سَالَتِ السُّيُولُ) أَيْ: مِنَ الْجَوَانِبِ. (فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ) أَيْ: سُرْعَةَ مَشْيِهِمْ وَالْتِجَائِهِمْ. (إِلَى الْكِنِّ) : بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَهُوَ مَا يُرَدُّ بِهِ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ مِنَ الْمَسَاكِنِ. (ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) أَيْ: آخِرُ أَضْرَاسِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكَانَ ضَحِكُهُ تَعَجُّبًا مِنْ طَلَبِهِمُ الْمَطَرَ اضْطِرَارًا، ثُمَّ طَلَبِهِمُ الْكِنَّ عَنْهُ فِرَارًا، وَمِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِظْهَارِ قُرْبَةِ رَسُولِهِ وَصِدْقِهِ بِإِجَابَةِ دُعَائِهِ سَرِيعًا، وَبِصِدْقِهِ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ. (فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَذَلِكَ الْكَلَامُ السَّابِقُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْخُطْبَةِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَعَلَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَعَلَّهُ بِهَذِهِ الْغَرَابَةِ أَوْ بِالِاضْطِرَابِ، فَإِنَّ الْخُطْبَةَ فِيهِ مَذْكُورَةٌ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَهَا، وَكَذَا فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا تَمَّ اسْتِبْعَادُ أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ وَقَعَ حَالَ حَيَاتِهِ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ. السَّنَةَ الَّتِي اسْتَسْقَى فِيهَا بِغَيْرِ صَلَاةٍ، وَالسَّنَةَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا، وَإِلَّا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. هَذَا وَيُسْتَحْسَنُ أَيْضًا الدُّعَاءُ بِمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَهُوَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا، مَرِيعًا غَدَقًا، مُجَلِّلًا سَحًّا، عَامًّا طَبَقًا دَائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْبِلَادِ وَالْعِبَادِ وَالْخَلْقِ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَالضَّنْكِ مَا لَا نَشْكُو إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا، فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا، فَإِذَا مُطِرُوا قَالُوا: اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا، وَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنْ زَادَ الْمَطَرُ حَتَّى خِيفَ

التَّضَرُّرُ قَالُوا: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الْوِدِّيَّةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» ، لِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ ; فَادْعُ اللَّهَ يُغِثْنَا. فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. قَالَ أَنَسٌ: فَلَا وَاللَّهِ، مَا نَرَى بِالسَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعَ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ. قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلَا وَاللَّهِ، مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْعًا. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِسْقَاءِ إِذَا تَأَخَّرَ الْمَطَرُ عَنْ أَوَانِهِ فِعْلُهُ أَيْضًا، أَوْ مَلُحَتِ الْمِيَاهُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهَا أَوْ غَارَتْ» .

1509 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إِذَا قُحِطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ: فَيُسْقَوْنَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1509 - (وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا قُحِطُوا) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. (اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ) أَيْ: تَشَفَّعَ بِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بَعْدَ اسْتِغْفَارِهِ وَدُعَائِهِ. (فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (فَتَسْقِينَا) بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضَمِّهَا. (وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا، فَاسْقِنَا) : بِالْوَجْهَيْنِ. (قَالَ: فَيُسْقَوْنَ) : قَالَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: بِعَمِّي سَقَى اللَّهُ الْبِلَادَ وَأَهْلَهَا ... عَشِيَّةَ يَسْتَسْقِي بِشَيْبَتِهِ عُمَرُ تَوَجَّهَ بِالْعَبَّاسِ بِالْجَدْبِ دَاعِيًا ... فَمَا جَازَ حَتَّى جَاءَ بِالدِّيمَةِ الْمَطَرُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاسْتَسْقَى مُعَاوِيَةُ بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَسْقِي بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلِنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَسْقِي بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، يَا يَزِيدُ: ارْفَعْ يَدَيْكَ إِلَى اللَّهِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ، فَثَارَتْ سَحَابَةٌ مِنَ الْمَغْرِبِ كَأَنَّهَا تُرْسٌ، وَهَبَّتْ رِيحٌ فَسُقُوا حَتَّى كَادَ النَّاسُ لَا يَبْلُغُونَ مَنَازِلَهُمْ.

1510 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَرَجَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي، فَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ رَافِعَةٍ بَعْضَ قَوَائِمِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: ارْجِعُوا فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكُمْ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ النَّمْلَةِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1510 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَرَجَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي» ) : حَالٌ. ( «فَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ رَافِعَةٍ بَعْضَ قَوَائِمِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: ارْجِعُوا فَقَدِ اسْتُجِيبَ» ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَضَمِّهَا حَالَ الْوَصْلِ. (لَكُمْ) أَيْ: تَبَعًا. (مِنْ أَجْلِ هَذِهِ النَّمْلَةِ) : فِيهِ إِظْهَارُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَغِنَاهُ عَمَّا سِوَاهُ، وَفِيهِ بَيَانُ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى كَافَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ، وَإِنَّهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ، وَقَاضِي الْحَاجَاتِ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) أَيْ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قِيلَ: وَهَذَا النَّبِيُّ هُوَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى ظَهْرِهَا وَرَفَعَتْ يَدَيْهَا. وَقَالَتِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْتَنَا فَإِنْ رَزَقْتَنَا وَإِلَّا فَأَهْلِكْنَا. وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتِ: «اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، لَا غِنَى بِنَا عَنْ رِزْقِكَ، فَلَا تُهْلِكْنَا بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ» .

[باب في الرياح والمطر]

[بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ]

[53] بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1511 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [53] بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ ضُبِطَ بِالسُّكُونِ عَلَى الْوَقْفِ، وَبِالرَّفْعِ مُنَوَّنًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فِي الرِّيَاحِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: (بَابُ الرِّيَاحِ) : بِالْإِضَافَةِ فَمَا ذُكِرَ فِيهِ مَعَهَا وَقَعَ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، فَلِذَا لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ بِالتَّرْجَمَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1511 - (. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نُصِرْتُ) أَيْ: فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ. قَالَ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] . (بِالصَّبَا) : مَقْصُورَةٌ، رِيحٌ شَرْقِيَّةٌ تَهُبُّ مِنْ مَطْلَعِ الشَّمْسِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّبَا الرِّيحُ الَّتِي تَجِيءُ مِنْ قِبَلَ ظَهْرِكَ إِذَا اسْتَقْبَلْتَ الْقِبْلَةَ، وَالدَّبُورُ هِيَ الَّتِي تَجِيءُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِكَ حَالَ الِاسْتِقْبَالِ أَيْضًا اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ تُجَاهِ الْكَعْبَةِ، وَهِيَ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ، قِيلَ: هَذَا فِي دِيَارِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَمَا فِي حُكْمِهِمَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي قِبْلَتُهَا السَّمْتُ الْغَرْبِيُّ دُونَ دِيَارِ الرُّومِ وَالْعَرَبِ. (وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ) : بِفَتْحِ الدَّالِ رِيحٌ غَرْبِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ وَرَاءِ الْكَعْبَةِ بَارِدَةً رَطْبَةً، وَالْجَنُوبُ هِيَ الَّتِي تَهُبُّ عَنْ يَمِينِهَا، وَهِيَ حَارَّةٌ رَطْبَةٌ، وَالشَّمَالُ هِيَ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ شَمَالِهَا، وَهِيَ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ، وَهِيَ رِيحُ الْجَنَّةِ الَّتِي تَهُبُّ عَلَيْهِمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . رُوِيَ: أَنَّ الْأَحْزَابَ: وَهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَالْيَهُودُ، لَمَّا حَاصَرُوا الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ هَبَّتْ رِيحُ الصَّبَا، وَكَانَتْ شَدِيدَةً، فَقَلَعَتْ خِيَامَهُمْ، وَكَفَأَتْ قُدُورَهُمْ، وَضَرَبَتْ وُجُوهَهُمْ بِالْحَصَى وَالتُّرَابِ، وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ مَا كَادَ أَنْ يُهْلِكَهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَزَلْزَلُوا أَقْدَامَهُمْ، وَأَحَاطُوا بِهِمْ حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ عَنْ آخِرِهِمْ، فَابْتَدَأَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بِالرَّحِيلِ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ وَلَحِقُوهُ فِي أَثَرِهِ، فَلَمْ يَأْتِ الْفَجْرُ وَلَهُمْ ثَمَّةَ حِسٌّ وَلَا أَثَرٌ بَعْدَمَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ مِنَ الْخَوْفِ وَسُوءِ الظُّنُونِ مَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب: 10] الْآيَاتِ. وَكَانَ ذَلِكَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْمُ عَادٍ كَانَتْ قَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي قَوْلٍ، فَهَبَّتْ عَلَيْهِمُ الدَّبُورُ، وَأَلْقَتْهُمْ عَلَى الْأَرْضِ بِحَيْثُ انْدَقَّتْ رُءُوسُهُمْ وَانْشَقَّتْ بُطُونُهُمْ، وَخَرَجَتْ مِنْهُمْ أَحْشَاءُهُمْ، فَالرِّيحُ مَأْمُورَةٌ، تَجِيءُ تَارَةً لِنُصْرَةِ قَوْمٍ، وَتَارَةً لِإِهْلَاكِ قَوْمٍ، كَمَا أَنَّ النِّيلَ كَانَ مَاءً لِلْمَحْبُوبِينَ، وَدِمَاءً لِلْمَحْجُوبِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] فَفِي هَذَا كُلِّهِ إِظْهَارٌ لِلْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، وَبَيَانُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ وَالْعَنَاصِرَ مُسَخَّرَةٌ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ رَدًّا عَلَى الطَّبِيعِيِّينَ وَالْحُكَمَاءِ الْمُتَفَلْسِفِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيْرَكُ.

1512 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَبْتَسِمُ فَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1512 - ( «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَاحِكًا» ) : حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ. (حَتَّى أَرَى) أَيْ: أُبْصِرَ. (مِنْهُ لَهَوَاتِهِ) : جَمْعُ لَهَاةٍ، وَهِيَ لَحْمَةٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى الْحَلْقِ، وَقِيلَ: هِيَ قَعْرُ الْفَمِ قَرِيبٌ مِنْ أَصْلِ اللِّسَانِ. (إِنَّمَا كَانَ يَبْتَسِمُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ

ظُهُورُ النَّوَاجِذِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الضَّحِكَ وَظُهُورِ اللَّهَوَاتِ؟ قُلْتُ: مَا قَالَتْ عَائِشَةُ لَمْ يَكُنْ، بَلْ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ شَهِدَ مَا لَمْ تَشْهَدْهُ عَائِشَةُ، وَأَثْبَتَ مَا لَيْسَ فِي خَبَرِهَا، وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنَ النَّافِي، أَوْ كَانَ التَّبَسُّمُ عَلَى سَبِيلِ الْأَغْلَبِ وَظُهُورُ النَّوَاجِذِ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالنَّوَاجِذِ مُطْلَقُ الْأَسْنَانِ أَيْ: لَا أَوَاخِرُهَا. قَالَ مِيرَكُ: جَوَابُهُ الْأَوَّلُ غَيْرُ سَدِيدٍ ; لِأَنَّ ظُهُورَ النَّوَاجِذِ ثَبُتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ، وَالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي بَابِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا) أَيْ: سَحَابًا. (أَوْ رِيحًا عُرِفَ) أَيِ: التَّغْيِيرُ. (فِي وَجْهِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: ظَهَرَ أَثَرُ الْخَوْفِ فِي وَجْهِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ السَّحَابِ أَوِ الرِّيحِ مَا فِيهِ ضَرَرُ النَّاسِ، دَلَّ نَفْيُ الضَّحِكَ الْبَلِيغِ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ فَرِحًا لَاهِيًا بَطِرًا، وَدَلَّ إِثْبَاتُ التَّبَسُّمِ عَلَى طَلَاقَةِ وَجْهِهِ، وَدَلَّ أَثَرُ خَوْفِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْغَيْمِ أَوِ الرِّيحِ عَلَى رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَهَذَا هُوَ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

1513 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ "، وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: " لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ، كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] » ". وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَقُولُ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ: " رَحْمَةً ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1513 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ) أَيِ: اشْتَدَّ هُبُوبُهَا. (قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا) أَيْ: خَيْرَ ذَاتِهَا. (وَخَيْرَ مَا فِيهَا) أَيْ: مِنْ مَنَافِعِهَا كُلِّهَا. (وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ) أَيْ: بِخُصُوصِهَا فِي وَقْتِهَا، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ الْفَتْحُ عَلَى الْخِطَابِ، وَشَرِّ مَا أَرْسِلَتْ، عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ ; لِيَكُونَ مِنْ قَبِيلِ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ". قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَأُرْسِلَتْ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا كَمَا هُوَ الْمَحْفُوظُ أَوْ لِلْفَاعِلِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ احْتِمَالِ مَا قَالَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى ذَلِكَ الْمِنْوَالِ، فَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِنُكْتَةٍ شَرِيفَةٍ يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْأَذْوَاقِ وَالْأَحْوَالِ. (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ. وَكَتَبَ مِيرَكُ فَوْقَهُ: صَحَّ، إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ الْخِلَافِ. (وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ) أَيْ: تَغَيَّمَتْ وَتَخَيَّلَ مِنْهَا الْمَطَرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّمَاءُ هُنَا بِمَعْنَى السَّحَابِ، وَتَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ إِذَا ظَهَرَ فِي السَّمَاءِ أَثَرُ الْمَطَرِ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَمِنْهُ إِذَا رَأَى الْمَخِيلَةَ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ؛ الْمَخِيلَةُ: مَوْضِعُ الْخَيَالِ، وَهُوَ الظَّنُّ كَالْمَظِنَّةِ، وَهِيَ السَّحَابَةُ الْخَلِيقَةُ بِالْمَطَرِ. (تَغَيَّرَ لَوْنُهُ) : مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَتَعْلِيمًا لَهُمْ فِي مُتَابَعَتِهِ. (وَخَرَجَ) : مِنَ الْبَيْتِ تَارَةً. (وَدَخَلَ) : أُخْرَى. (وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ) فَلَا يَسْتَقِرُّ فِي حَالٍ مِنَ الْخَوْفِ. (فَإِذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ. (مَطَرَتْ) أَيِ: السَّحَابُ، يُقَالُ: مَطَرَتِ السَّمَاءُ وَأَمْطَرَتْ: بِمَعْنًى. (سُرِّيَ عَنْهُ) أَيْ: كُشِفَ الْخَوْفُ وَأُزِيلَ عَنْهُ. فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ: سَرَوْتُ الثَّوْبَ وَسَرَّيْتُهُ إِذَا خَلَعْتُهُ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةُ، وَتَجْوِيزُ ابْنِ حَجَرٍ التَّخْفِيفَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ. (فَعَرَفَتْ ذَلِكَ) أَيِ: التَّغَيُّرَ. (عَائِشَةُ، فَسَأَلَتْهُ) أَيْ: عَنْ سَبَبِهِ. (قَالَ: " لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ) : قِيلَ: لَعَلَّ هَذَا الْمَطَرَ، وَالظَّاهِرُ لَعَلَّ هَذَا السَّحَابَ. (كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ) : الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ أَيْ: مِثْلُ الَّذِي قَالَ فِي حَقِّهِ قَوْمُ عَادٍ: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ أَيِ: السَّحَابَ. {عَارِضًا} [الأحقاف: 24] أَيْ: سَحَابًا عَرَضَ: {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الأحقاف: 24] أَيْ: صَحَارِيهِمْ وَمَحَالِّ مَزَارِعِهِمْ. قَالُوا: ظَنَّا أَنَّهُ سَحَابٌ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] أَيْ: سَحَابٌ عَرَضَ لِيُمْطِرَ. قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 24] أَيْ: مِنَ الْعَذَابِ: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24] ، فَظَهَرَتْ مِنْهُ رِيحٌ فَأَهْلَكَتْهُمْ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَقُولُ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ: " رَحْمَةً) : بِالنَّصْبِ، أَيِ: اجْعَلْهُ رَحْمَةً وَلَا عَذَابًا، وَبِالرَّفْعِ أَيْ: هَذِهِ رَحْمَةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ فِي التَّصْحِيحِ حَيْثُ قَالَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْحِصْنِ: إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: " «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1514 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] الْآيَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1514 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ) قِيلَ: هُوَ جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ الْمَخْزَنُ، أَيْ: خَزَائِنُ الْغَيْبِ. (خَمْسٌ) : لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ. وَرُوِيَ: مَفَاتِحُ وَهُوَ جَمْعُ مِفْتَاحٍ، أَيِ: الْعُلُومُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ. فِي النِّهَايَةِ: الْمَفَاتِيحُ وَالْمَفَاتِحُ جَمَعُ مِفْتَاحٍ وَمَفْتَحٍ، وَهُمَا فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِخْرَاجِ الْمُغْلَقَاتِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا، وَالْمَعْنَى لَا يَعْلَمُ كُلِّيَّاتِهَا غَيْرُ اللَّهِ، وَقَدْ يَطَّلِعُ بَعْضُ أَصْفِيَائِهِ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ مِنْهُنَّ. (ثُمَّ قَرَأَ) أَيْ: بَيَانًا لِتِلْكَ الْخَمْسِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَيْ: لَا عِنْدَ غَيْرِهِ: عِلْمُ السَّاعَةِ أَيْ: عِلْمُ وَقْتِ قِيَامِهَا، وَيُنَزِّلُ: بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ الْغَيْثَ أَيْ: يُرْسِلُ الْمَطَرَ الَّذِي يُغِيثُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ فِي أَزْمِنَةٍ وَأَمْكِنَةٍ، وَكَمِّيَّةٍ وَكَيْفِيَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ. (الْآيَةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ اقْرَأْ، أَوِ اذْكُرْ بَقِيَّةَ الْآيَةِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا مَحْذُوفٌ أَيِ: الْآيَةُ مَشْهُورَةٌ، وَبِالْجَرِّ أَيْ: إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ: يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى تَامٌّ أَوْ نَاقِصٌ، وَأَبْيَضُ وَأَسْوَدُ، وَطَوِيلٌ وَقَصِيرٌ، وَسَعِيدٌ وَشَقِيٌّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُعْلَمُ مُجْمَلُهُ بِحَسَبِ خَرْقِ الْعَادَةِ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ} [لقمان: 34] أَيْ: بِأَيِّ قِطْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ تَمُوتُ أَوْ بِأَيِّ أَرْضٍ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: بِأَيِّ قَدَمٍ وَمَرْتَبَةٍ تَمُوتُ. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) . أَيْ: بِمَا ذَكَرَ وَغَيْرِهُ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ، أَلَا يَعْلَمَ مَنْ خَلَقَ خَبِيرٌ أَيْ: مُطَّلِعٌ عَلَى خَفَايَا الْأُمُورِ، أَوْ مُخْبِرٌ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ أُمُورِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1515 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1515 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَيْسَتِ السَّنَةُ) أَيِ: الْقَحْطُ الشَّدِيدُ. فِي النِّهَايَةِ: السَّنَةُ الْجَدْبُ، وَهِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ، وَيُقَالُ: أَسْنَتُوا إِذَا أَجْدَبُوا قَلَبُوا لَامَهَا تَاءً. (بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا) أَيْ: لَا يَنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْمَطَرُ. (وَلَكِنْ) : بِالتَّخْفِيفِ. (السَّنَةُ) أَيْ: قَدْ تَكُونُ. (أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا) : التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّكْثِيرِ. (وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا) ؛ قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى أَنَّ الْقَحْطَ الشَّدِيدَ لَيْسَ بِأَنْ لَا يُمْطَرَ، بَلْ بِأَنْ يُمْطَرَ وَلَا يَنْبُتَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَ الشِّدَّةِ بَعْدَ تَوَقُّعِ الرَّخَاءِ، وَظُهُورِ مَخَائلِهِ وَأَسْبَابِهِ أَفْظَعُ مِمَّا إِذَا كَانَ الْيَأْسُ حَاصِلًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَالنَّفْسُ مُتَرَقِّبَةً لِحُدُوثِهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1516 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَعَالَى، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَبِالْعَذَابِ، فَلَا تَسُبُّوهَا وَسَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا، وَعُوذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا» " رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1516 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى، يُرِيحُ بِهَا عِبَادَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] وَإِتْيَانُهَا بِالْعَذَابِ لِلْكُفَّارِ، وَرَحْمَةٌ لِلْأَبْرَارِ حَيْثُ تَخَلَّصُوا مِنْ أَيْدِي الْفُجَّارِ. (تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَبِالْعَذَابِ، فَلَا تَسُبُّوهَا) أَيْ: بِلُحُوقِ ضَرَرٍ مِنْهَا ; فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ مَقْهُورَةٌ. قَالَ الرَّاغِبُ: الرَّوْحُ: التَّنَفُّسُ، وَقَدْ رَاحَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَنَفَّسَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] أَيْ: مِنْ فَرَحِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ بَعْضُ الرَّوْحِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أَيْ: رَحْمَتِهِ مَعَ أَنَّهَا تَجِيءُ بِالْعَذَابِ؟ ! فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَذَابٌ لِقَوْمٍ ظَالِمِينَ، رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيُؤَيِّدُهُ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] الْكَشَّافُ: فِيهِ إِيذَانٌ بِوُجُوبِ الْحَمْدِ عِنْدَ إِهْلَاكَ الظَّلَمَةِ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَجْزَلَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: بِأَنَّ الرُّوحَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَيِ: الرَّائِحُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الرِّيحَ مِنْ رَوَائِحِ اللَّهِ تَعَالَى " أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَجِيءُ مَنْ حَضَرَتْهُ بِأَمْرِهِ، فَتَارَةً تَجِيءُ بِالرَّحْمَةِ وَأُخْرَى بِالْعَذَابِ، فَلَا يَجُوزُ سَبُّهَا، بَلْ تَجِبُ التَّوْبَةُ عِنْدَ التَّضَرُّرِ بِهَا وَهُوَ تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَأْدِيبُهُ رَحْمَةٌ لِلْعِبَادِ. (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا، وَعُوذُوا مِنْ شَرِّهَا) قِيلَ: الرِّيَاحُ ثَمَانٍ. أَرْبَعٌ لِلرَّحْمَةِ: النَّاشِرَاتُ، وَالذَّارِيَاتُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَالْمُبَشِّرَاتُ. وَأَرْبَعٌ لِلْعَذَابِ: الْعَاصِفُ، وَالْقَاصِفُ، وَهُمَا فِي الْبَحْرِ. وَالصَّرْصَرُ، وَالْعَقِيمُ، وَهُمَا فِي الْبَرِّ. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ.

1517 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَا تَلْعَنُوا الرِّيحَ ; فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَأَنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1517 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «لَا تَلْعَنُوا الرِّيحَ ; فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» ) أَيْ: إِمَّا بِالرَّحْمَةِ، أَوْ بِالنِّقْمَةِ. (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ. (مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ) أَيْ: ذَلِكَ الشَّيْءُ. (لَهُ) أَيِ: اللَّعْنُ. (بِأَهْلٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ لَهُ: صِفَةُ (شَيْئًا) ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، وَالضَّمِيرُ فِي (لَهُ) رَاجِعٌ إِلَى مَصْدَرِ لَعَنَ، وَفِي عَلَيْهِ إِلَى (مَنْ) عَلَى تَضْمِينِ (رَجَعَتْ) مَعْنَى اسْتَقَلَّتْ، يَعْنِي مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَهْلًا لِلَّعْنِ. (رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى اللَّاعِنِ أَيِ: اسْتَقَلَّتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ رَاجِعَةً ; لِأَنَّ اللَّعْنَ طَرْدٌ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ طَرَدَ مَا هُوَ أَهْلٌ لِرَحْمَةِ اللَّهِ عَنْ رَحْمَتِهِ جُعِلَ مَطْرُودًا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الصِّفَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلَّعْنِ ثَلَاثٌ: الْكُفْرُ، وَالْبِدْعَةُ، وَالْفِسْقُ، وَلَيْسَتِ الرِّيحُ مُتَّصِفَةً بِوَاحِدَةٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَزَادَ: لَا نَعْرِفُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ بَشِيرِ بْنِ عُمَرَ كَذَا فِي التَّخْرِيجِ، وَبَشِيرٌ هُوَ الزَّهْرَانِيُّ، ثِقَةٌ؛ كَذَا فِي التَّصْحِيحِ.

1518 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1518 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ) : فَإِنَّ الْمَأْمُورَ مَعْذُورٌ. (فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ) أَيْ: رِيحًا تَكْرَهُونَهَا لِشِدَّةِ حَرَارَتِهَا، أَوْ بُرُودَتِهَا، أَوْ تَأَذَّيْتُمْ لِشِدَّةِ هُبُوبِهَا. (فَقُولُوا) أَيْ: رَاجِعِينَ إِلَى خَالِقِهَا وَآمِرِهَا. « (اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ» ": عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. ( «وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْ: وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.

1519 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «مَا هَبَّتْ رِيحٌ قَطُّ إِلَّا جَثَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رُكْبَتِهِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً، وَلَا تَجْعَلْهَا عَذَابًا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا، وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا» ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [القمر: 19] ، وَ: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] ، وَ: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] ، وَ: {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، والْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1519 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا هَبَّتْ رِيحٌ قَطُّ إِلَّا جَثَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: قَعَدَ. (عَلَى رُكْبَتَيْهِ) : كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، فَفِيهِ تَجْرِيدٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: هِيَ أَصْلُ السَّيِّدِ عَلَى رُكْبَتِهِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى، خَوْفًا عَلَى أُمَّتِهِ، وَتَعْلِيمًا لَهُمْ فِي تَبَعِيَّتِهِ. (وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً) أَيْ: لَنَا. (وَلَا تَجْعَلْهَا عَذَابًا) أَيْ: عَلَيْنَا. (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا، وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) : أَوْرَدَ الْمُؤَلِّفُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ تَأْيِيدًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رِيَاحًا وَرِيحًا» ، فَقَوْلُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ: إِلَخْ مُبْتَدَأٌ بِتَقْدِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الرِّيَاحَ بِالْجَمْعِ لِلْخَيْرِ، وَالرِّيحَ بِالْإِفْرَادِ لِلشَّرِّ، وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ الْقَوْلِ: {رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت: 16] . أَيْ: شَدِيدُ الْبَرْدِ. وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ: بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ، وَبِكَسْرِهِمَا وَضَمِّهِمَا وَصْلًا {الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] أَيْ: مَا لَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ} [الحجر: 22] : تَفَرَّدَ حَمْزَةُ بِتَوْحِيدِهِ، {لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] . جَمْعُ لَاقِحَةٍ، بِمَعْنَى تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ وَتَجْعَلُهَا حَامِلَةً بِالْأَثْمَارِ، أَنْ يُرْسِلَ: هَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَمُطَابِقٌ لِمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَأَمَّا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَصْلُ السَّيِّدِ: وَأَرْسَلْنَا فَهُوَ خَطٌّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْقُرْآنُ. الرِّيَاحَ: لَا خِلَافَ فِي جَمْعِهِ، وَوَهِمَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي ثَانِيهِ {مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ: قَالَ الطِّيبِيُّ: مُعْظَمُ الشَّارِحِينَ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْحَدِيثِ، نَقَلَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ جِدًّا، وَأَبَى أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَنِ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ تَفْسِيرَهُ كَمَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ أَيِ: الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] الْآيَةَ. وَبِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ جُلَّ اسْتِعْمَالِ الرِّيحِ الْمُفْرَدَةِ فِي الْبَابِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا مَتِينًا فَإِنَّا نَرَى أَنْ لَا نَتَسَارَعَ إِلَى رَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَيَسَّرَ عَلَيْنَا تَأْوِيلُهُ وَنُخْرِجُ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ التَّضَادَّ الَّذِي جَدَّ أَبُو جَعْفَرٍ فِي الْهَرَبِ مِنْهُ: إِنَّمَا نَشَأَ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي نَقَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ نَفْسُهُ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِتَأْوِيلٍ يُمْكِنُ مَعَهُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّصُوصِ الَّتِي عَارَضَهُ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ أَنْ نَذْهَبَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُ سَأَلَ النَّجَاةَ مِنَ التَّدْمِيرِ بِتِلْكَ الرِّيحِ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مُهْلِكَةً لَمْ يَعْقُبْهَا أُخْرَى، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُوجَدُ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، وَنَسْتَنْشِقُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكَأنَّهُ قَالَ: لَا تُدَمِّرْنَا بِهَا، فَلَا تُمِرَّ عَلَيْنَا بَعْدَهَا، وَلَا تَهُبُّ دُونَنَا جَنُوبٌ وَلَا شَمَالٌ، بَلْ أَفْسِحْ فِي الْمُدَّةِ حَتَّى تَهُبَّ عَلَيْنَا أَرْوَاحٌ كَثِيرَةٌ بَعْدَ هَذِهِ الرِّيحِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا كَثُرَتْ جَلَبَتِ السَّحَابَ، وَكَثُرَتِ الْأَمْطَارُ، فَزَكَتِ الزُّرُوعُ وَالْأَشْجَارُ، وَإِذَا لَمْ تَكْثُرْ وَكَانَتْ رِيحًا وَاحِدَةً، فَإِنَّهَا تَكُونُ عَقِيمَةً، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا تَلْقَحُ السَّحَابُ إِلَّا مِنْ رِيَاحٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ التَّنْزِيلِ دُونَ أَصْحَابِ اللُّغَةِ إِذَا حُكِمَ عَلَى الرِّيحِ وَالرِّيَاحِ مُطْلَقَيْنِ. كَانَ إِطْلَاقُ الرِّيحِ غَالِبًا فِي الْعَذَابِ وَالرِّيَاحِ فِي الرَّحْمَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا تُرَدُّ تِلْكَ الْآيَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ; لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْوَصْفِ، وَلَا تِلْكَ الْأَحَادِيثُ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قُيِّدَتِ الْآيَةُ بِالْوَصْفِ وَوُحِّدَتْ ; لِأَنَّهَا فِي حَدِيثِ الْفُلْكِ وَجَرَيَانِهَا فِي الْبَحْرِ، فَلَوْ جُمِعَتْ لَأَوْهَمَتِ اخْتِلَافَ الرِّيَاحِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعَطَبِ أَوِ الِاحْتِبَاسِ، وَلَوْ أُفْرِدَتْ وَلَمْ تُقَيَّدْ بِالْوَصْفِ لَآذَنَتْ بِالْعَذَابِ وَالدَّمَارِ، وَلِأَنَّهَا أُفْرِدَتْ وَكُرِّرَتْ لِيُنَاطَ بِهِ مَرَّةً طَيِّبَةٌ وَأُخْرَى عَاصِفٌ، وَلَوْ جُمِعَتْ لَمْ يَسْتَقِمِ التَّعَلُّقُ.

1520 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَبْصَرْنَا شَيْئًا مِنَ السَّمَاءِ - تَعْنِي السَّحَابَ - تَرَكَ عَمَلَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ "، فَإِنْ كَشَفَهُ حَمِدَ اللَّهَ، وَإِنْ مَطَرَتْ قَالَ: " سَقْيًا نَافِعًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1520 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَبْصَرْنَا شَيْئًا) " أَيْ: سَحَابًا خَارِجًا. (مِنَ السَّمَاءِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: سُمِّيَ السَّحَابُ نَاشِئًا ; لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنَ الْأُفُقِ يُقَالُ: نَشَأَ: أَيْ: خَرَجَ، أَوْ يَنْشَأُ فِي الْهَوَاءِ أَيْ: يَظْهَرُ، أَوْ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنَ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الْبِحَارِ وَالْأَرَاضِي النَّزَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (- تَعْنِي) أَيْ: تُرِيدُ عَائِشَةُ بِقَوْلِهِ: نَاشِئًا. (السَّحَابَ -) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِتَفْسِيرِ اللُّغَةِ مِنَ الرَّاوِي بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ وَهُوَ قَوْلُهَا: (تَرَكَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (عَمَلَهُ) : الْمُشْتَغِلَ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ. (وَاسْتَقْبَلَهُ) أَيِ: السَّحَابَ. (وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ " فَإِنْ) الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ أَيْ: فَإِنْ (كَشَفَهُ اللَّهُ) أَيْ: أَذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ السَّحَابَ وَلَمْ يُمْطِرْ. (حَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: عَلَى النَّجَاةِ مِنْ شَرِّهِ. (وَإِنْ مَطَرَتْ قَالَ: " اللَّهُمَّ سَقْيًا) : بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا أَيِ: اسْقِنَا سَقْيًا، أَوْ أَسْأَلُكَ سَقْيًا فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَنَصَبَهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ اللَّفْظِ بِفِعْلِهِ فَمَحَلُّ بَحْثٍ. (نَافِعًا) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ أَيْ: لَفْظُ الْحَدِيثِ لِلشَّافِعِيِّ وَلِلْبَاقِينَ مَعْنَاهُ.

1521 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ» " رَوَاهُ. أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1521 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ) : بِإِضَافَةِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ لِلْبَيَانِ، فَالرَّعْدُ هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلِكَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّافِعِيُّ، عَنِ الثِّقَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ وَالْبَرْقَ أَجْنِحَتُهُ يَسُوقُ السَّحَابَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمَسْمُوعُ صَوْتَهُ أَوْ صَوْتَ سَوْقِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ، وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ، وَالْمَسْمُوعَ تَسْبِيحُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، وَأَنَّهُ يُحْرِزُ الْمَاءَ فِي نُقْرَةِ إِبْهَامِهِ، وَأَنَّهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ إِلَّا سَبَّحَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ الْمَطَرُ، وَرُوِيَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «بَعَثَ اللَّهُ السَّحَابَ فَنَطَقَتْ أَحْسَنَ النُّطْقِ، وَضَحِكَتْ أَحْسَنَ الضَّحِكَ، فَالرَّعْدُ نُطْقُهَا، وَالْبَرْقُ ضَحِكُهَا» ". وَقِيلَ: الْبَرْقُ لَمَعَانُ سَوْطِ الرَّعْدِ يُزْجَرُ بِهِ السَّحَابُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الرَّعْدَ صَوْتُ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ، وَالْبَرْقَ مَا يُقْدَحُ مِنَ اصْطِكَاكِهَا، فَهُوَ مِنْ حَزْرِهِمْ وَتَخْمِينِهِمْ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. (وَالصَّوَاعِقَ) : بِالنَّصْبِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَأَحَسَّ الصَّوَاعِقَ مِنْ بَابِ. عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَوْ أُطْلِقَ السَّمْعُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْحِسُّ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الرَّعْدِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الصَّاعِقَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ: هِيَ نَارٌ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ فِي رَعْدٍ شَدِيدٍ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقِيلَ: الصَّاعِقَةُ صَيْحَةُ الْعَذَابِ أَيْضًا، وَتُطْلَقُ عَلَى صَوْتٍ شَدِيدٍ غَايَةَ الشِّدَّةِ يُسْمَعُ مِنَ الرَّعْدِ، وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى صَوْتِ الرَّعْدِ أَيْ: صَوْتِ السَّحَابِ، فَالْمُرَادُ بِالرَّعْدِ السَّحَابُ بِقَرِينَةِ إِضَافَةِ الصَّوْتِ إِلَيْهِ، أَوِ الرَّعْدُ صَوْتُ السَّحَابِ فَفِيهِ تَجْرِيدٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ قَعْقَعَةُ رَعْدٍ يَنْقَضُّ مَعَهَا قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ، يُقَالُ: صَعَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ إِذَا أَهْلَكَتْهُ فَصَعِقَ أَيْ: مَاتَ إِمَّا لِشَدَّةِ الصَّوْتِ، وَإِمَّا بِالْإِحْرَاقِ. (قَالَ: " «اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ» ) : الْغَضَبُ اسْتِعَارَةٌ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْمَلَكِ عِنْدَ انْفِعَالِهِ وَغَلَيَانِ دَمِهِ، ثُمَّ الِانْتِقَامُ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، وَأَكْبَرُ مَا يَنْتَقِمُ بِهِ الْقَتْلُ ; فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وَرَشَّحَ الِاسْتِعَارَةَ بِهِ عُرْفًا، وَأَمَّا الْإِهْلَاكُ وَالْعَذَابُ فَجَارِيَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. (وَعَافِنَا) أَيْ: أَمِتْنَا بِالْعَافِيَةِ. (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ: قَبْلَ نُزُولِ عَذَابِكَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَهُ طُرُقٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1522 - عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1522 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ) أَيْ: صَوْتَهُ (تَرَكَ الْحَدِيثَ) أَيِ: الْكَلَامَ مَعَ الْأَنَامِ. (وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ) : وَهُوَ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَالْمَعْنَى يُنَزِّهُهُ حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَبِسًا. (بِحَمْدِهِ) : لَهُ تَعَالَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِسْنَادُهُ مَجَازِيٌّ ; لِأَنَّ الرَّعْدَ سَبَبٌ لِأَنْ يُسَبِّحَ اللَّهَ السَّامِعُ حَامِدًا لَهُ خَائِفًا رَاجِيًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ فَنِسْبَةُ التَّسْبِيحِ إِلَيْهِ حَقِيقَةٌ. (وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أَيْ: مِنْ أَجْلِ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: مِنْ خَوْفِ الرَّعْدِ ; فَإِنَّهُ رَئِيسُهُمْ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ فِي سَفَرٍ فَأَصَابَنَا رَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَقَالَ لَنَا كَعْبٌ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الرَّعْدَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ثَلَاثًا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْنَا فَعُوفِينَا. وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ قَالَهُ فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَعَلَيَّ دِيَتُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ بِإِسْنَادٍ لَيْسَ بِثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ لَا نُتْبِعَ أَبْصَارَنَا الْكَوْكَبَ إِذَا انْقَضَّ، وَأَنْ نَقُولَ عِنْدَ ذَلِكَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ: إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ: «مَا مِنْ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا وَالسَّمَاءُ تُمْطِرُ فِيهَا يُصَرِّفُهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ يَشَاءُ» ، وَبِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ كَعْبٍ: أَنَّ السُّيُولَ سَتَعْظُمُ آخِرَ الزَّمَانِ. قَالَ مِيرَكُ: إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.

[كتاب الجنائز]

[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]

(5) - كِتَابُ الْجَنَائِزِ (1) بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1523 - عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (5) كِتَابُ الْجَنَائِزِ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجِنَازَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ، وَيُقَالُ بِالْفَتْحِ لِلْمَيِّتِ، وَبِالْكَسْرِ لِلنَّعْشِ عَلَيْهِ مَيِّتٌ، وَيُقَالُ عَكْسُهُ، وَالْجَمْعُ جَائِزٌ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ. (بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ) أَيْ: وُجُوبًا وَثَوَابًا. (وَثَوَابِ الْمَرَضِ) . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1523 - (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَطْعِمُوا الْجَائِعَ) أَيِ: الْمُضْطَرَّ وَالْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ. (وَعُودُوا الْمَرِيضَ) : أَمْرٌ مِنَ الْعِيَادَةِ. (وَفُكُّوا الْعَانِيَ) أَيِ: الْأَسِيرَ، وَكُلُّ مَنْ ذَلَّ وَاسْتَكَانَ وَخَضَعَ فَقَدْ عَنَى كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: أَيْ: أَعْتِقُوا الْأَسِيرَ أَيِ: الرَّقِيقَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: خَلِّصُوا الْأَسِيرَ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ لِلْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا امْتَثَلَ بَعْضٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ.

1524 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: " رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1524 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ) أَيْ: خِصَالٌ كُلُّهُنَّ فُرُوضُ كِفَايَةٍ. (رَدُّ السَّلَامِ) أَيْ: جَوَابُهُ، وَأَمَّا السَّلَامُ فَسُنَّةٌ، وَهُوَ سُنَّةٌ أَفْضَلُ مِنَ الْفَرْضِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالتَّسَبُّبِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ. (وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ) : وَيُسْتَثْنَى مِنْهُمَا أَهْلُ الْبِدَعِ. (وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ) لِلْمُعَاوَنَةِ، وَقِيلَ لِلضِّيَافَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْصِيَةٌ. (وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) : بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُرْوَى بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ: جَوَابُهُ: بِيَرْحَمُكَ اللَّهُ إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فِي النِّهَايَةِ: التَّشْمِيتُ بِالشِّينِ وَالسِّينِ الدُّعَاءُ لِلْعَاطِسِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَالْمُعْجَمَةُ أَعْلَاهُمَا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الشَّوَامِتِ، وَهِيَ الْقَوَائِمُ، كَأَنَّهُ دَعَا لِلْعَاطِسِ بِالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَبْعَدَكَ اللَّهُ عَنِ الشَّمَاتَةِ بِكَ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذِهِ كُلُّهَا فِي حَقِّ الْإِسْلَامِ يَسْتَوِي فِيهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ غَيْرَ أَنْ يَخُصَّ الْبَرَّ بِالْبَشَاشَةِ وَالْمُسَاءَلَةِ وَالْمُصَافَحَةِ دُونَ الْفَاجِرِ الْمُظْهِرِ لِفُجُورِهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: إِذَا دَعَا الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ إِلَى الضِّيَافَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ فِي دِينِهِ مِنَ الْمَلَاهِي وَمَفَارِشِ الْحَرِيرِ، وَرَدُّ السَّلَامِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَأَمَّا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ فَسُنَّةٌ إِذَا كَانَ لَهُ مُتَعَهِّدٌ، وَإِلَّا فَوَاجِبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ السُّنَّةَ عَلَى الْوَاجِبِ إِنْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ كَمَا يُقَالُ: صُمْ رَمَضَانَ وَسِتَّةً مِنْ شَوَّالٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1525 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ " قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1525 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ) أَيْ: خِصَالٌ. (قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ) أَيِ: ابْتِدَاءً وَجَوَابًا. (وَإِذَا دَعَاكَ) أَيْ: لِلْإِعَانَةِ وَالدَّعْوَةِ. (فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ) أَيْ: طَلَبَ مِنْكَ النَّصِيحَةَ. (فَانْصَحْ لَهُ) : وَالنَّصِيحَةُ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: النُّصْحُ تَحَرِّي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فِيهِ إِصْلَاحُ صَاحِبِهِ. (وَإِذَا عَطَسَ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَيُكْسَرُ. (فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: عَلَى نِعْمَتِهِ ; لِأَنَّ الْعُطَاسَ حَيْثُ لَا عَارِضَ مِنْ زُكَامٍ وَنَحْوِهِ إِنَّمَا

يَنْشَأُ عَنْ خِفَّةِ الْبَدَنِ، وَخُلُوِّهِ عَنِ الْأَخْلَاطِ الْمُثْقِلَةِ لَهُ عَنِ الطَّاعَةِ، بِخِلَافِ التَّثَاؤُبِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ ; وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ» . (فَشَمِّتْهُ) أَيْ: قُلْ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. (وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ) : وَلَوْ مَرَّةً، وَمَا اشْتُهِرَ فِي مَكَّةَ أَنَّ بَعْضَ الْأَيَّامِ لَا يُعَادُ الْمَرِيضُ فِيهَا فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَيُبْطِلُهُ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعِبَادَةُ وَنَحْوُهَا، وَزَعَمَ أَنَّ السَّبْتَ لَا يُعَادُ فِيهِ مِمَّا أَدْخَلَهُ يَهُودِيٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ مَلِكًا فَأَمَرَهُ بِالْمَجِيءِ إِلَيْهِ يَوْمَ سَبْتِهِ فَخَشِيَ مِنْ قَطْعِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ دُخُولَ الطَّبِيبِ عَلَى الْمَرِيضِ يَوْمَ السَّبْتِ لَا يَصْلُحُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: تُسْتَحَبُّ فِي الشِّتَاءِ لَيْلًا، وَفِي الصَّيْفِ نَهَارًا غَرِيبٌ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِيَادَةِ حُصُولُ التَّسَلِّي وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَصْحَابِ وَالْأَحْبَابِ حَالَةَ التَّخَلِّي، فَإِنَّ لِقَاءَ الْخَلِيلِ شِفَاءُ الْعَلِيلِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْجَنَابِ الْعَلِيِّ، وَالتَّضَرُّعِ بِالدُّعَاءِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَلَمَّا كَانَ لَيْلُ الشِّتَاءِ وَنَهَارُ الصَّيْفِ طَوِيلًا نَاسَبَ أَنْ يَشْغَلُوهُ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ، وَيُخَفِّفُوا عَنْهُ حِمْلَ السَّقَمِ بِالْحُضُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالتَّأَنُّسِ بِالْكَلَامِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّنْفِيسِ لَدَيْهِ. وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَنِ ابْتُلِيَ بِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ. (وَإِذَا مَاتَ تَبِعْتَهُ) أَيْ: جِنَازَتَهُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَلِلدَّفْنِ أكْمَلُ. قَالَ السَّيِّدُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ فِي الْعَدَدِ، فَإِنَّ هَذَا زَائِدٌ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَمْسَ مُقَدَّمٌ فِي الصُّدُورِ، وَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ: عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ أَوْ كَانَتْ سِتَّةً كَانَ صَادِقًا، لَوْ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى لِفُلَانٍ: عَلَى سِتَّةِ دَرَاهِمَ كَانَ أَيْضًا صَادِقًا، وَالْأَمْرُ لِلتَّسْلِيمِ، وَالْعِيَادَةُ لِلنَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَلَامُ فَانْصَحُ لَهُ زَائِدَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ لَمْ يُسْتَحَبَّ التَّشْمِيتُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، كَذَا قَالَهُ فِي الْأَزْهَارِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1526 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ. أَمَرَنَا: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَنَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْحَرِيرِ، والْإِسْتَبْرَقِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ وَالْقَسِّيِّ» ، وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ - وَفِي رِوَايَةٍ: - وَعَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ ; فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1526 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ) أَيِ: الْحَالِفِ يَعْنِي: جَعْلَهُ بَارًّا، صَادِقًا فِي قَسَمِهِ، أَوْ جَعْلَ يَمِينِهِ صَادِقَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَحَدٌ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى تَصْدِيقِ يَمِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْصِيَةٌ، كَمَا لَوْ أَقْسَمَ أَنْ لَا يُفَارِقَكَ حَتَّى تَفْعَلَ كَذَا، وَأَنْتَ تَسْتَطِيعُ فِعْلَهُ، فَافْعَلْ كَيْلَا يَحْنَثَ. وَقِيلَ: هُوَ إِبْرَارُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ، لَتَفْعَلَنَّ، كَذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: هُوَ تَصْدِيقُ مَنْ أَقْسَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ مَا سَأَلَهُ الْمُلْتَمِسُ، وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ يُقَالُ: بَرَّ وَأَبَرَّ الْقَسَمَ إِذَا صَدَّقَهُ. (وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ) : قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هُوَ وَاجِبٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَبِكَفِّهِ عَنِ الظُّلْمِ. (وَنَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: عَنْ لُبْسِهِ. (وَعَنِ الْحَرِيرِ) أَيِ: الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ اللِّينِ. (وَالْإِسْتَبْرَقِ) : الْمَنْسُوجِ مِنَ الْغَلِيظِ. (وَالدِّيبَاجِ) : الرَّقِيقِ، وَقِيلَ: الْحَرِيرُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ وَغَيْرِهِ مَعَ غَلَبَةِ الْإِبْرَيْسَمِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَنْوَاعُ وَالتَّفْصِيلُ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ. (وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ) : بِالْيَاءِ، الْوِطَاءُ عَلَى السَّرْجِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا مَا كَانَتْ مِنْ مَرَاكِبِ الْعَجَمِ مِنْ دِيبَاجٍ أَوْ حَرِيرٍ، وَلَعَلَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَمْرَاءِ كَذَلِكَ، لَكِنْ مَا كَانَ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ دِيبَاجٍ فَحَرَامٌ عَلَى أَيِّ لَوْنٍ كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا، وَكَانَتْ حَمْرَاءَ فَمَكْرُوهٌ لِرُعُونَتِهَا، كَذَا حَرَّرَهُ السَّيِّدُ، وَقِيلَ: الْمِيثَرَةُ مَا غَشِيَتِ السُّرُوجَ تُتَّخَذُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَقِيلَ: هِيَ سُرُوجٌ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَهِيَ وِسَادَةٌ تُجْعَلُ أَوْ تُوضَعُ فِي السَّرْجِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَ مِنَ الْحَرِيرِ فِي النِّهَايَةِ: الْمِيثَرَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَلَةٌ مِنَ الْوَثَارِ، يُقَالُ: وَثَرَ وَثَارَةً فَهُوَ وَثِيرٌ أَيْ: وَطِئٌ لَيِّنٌ، وَأَصْلُهَا مِوْثَرَةٌ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ الْمِيمِ، وَهِيَ مِنْ مَرَاكِبِ الْعَجَمِ تُعْمَلُ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ دِيبَاجٍ، وَتُتَّخَذُ كَالْفِرَاشِ الصَّغِيرِ، وَتُحْشَى بِقُطْنٍ أَوْ صُوفٍ يَجْعَلُهَا الرَّاكِبُ تَحْتَهُ عَلَى الرِّحَالِ وَالسُّرُوجِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصَفَهَا بِالْحَمْرَاءِ ; لِأَنَّهَا كَانَتِ الْأَغْلَبَ فِي مَرَاكِبِ الْأَعَاجِمِ، يَتَّخِذُونَهَا

رُعُونَةً. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِنْ كَانَتِ الْمِيثَرَةُ مِنْ دِيبَاجٍ فَحَرَامٌ، وَإِلَّا فَالْحَمْرَاءُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ مِيثَرَةِ الْأُرْجُوَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي: تَوْصِيفُهَا بِالْحُمْرَةِ لِأَنَّهَا كَانَتِ الْأَغْلَبَ فِي مَرَاكِبِ الْأَعَاجِمِ، يَتَّخِذُونَهَا رُعُونَةً. (وَالْقَسِّيِّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَالْيَاءِ. فِي الْفَائِقِ: الْقَسِّيُّ ضَرْبٌ مِنْ ثِيَابٍ كِتَّانٍ مَخْلُوطٍ بِحَرِيرٍ يُؤْتَى بِهِ مِنْ مِصْرَ، نُسِبَ إِلَى قَرْيَةٍ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا: الْقَسُّ، وَقِيلَ الْقَسُّ: الْقَزُّ، وَهِيَ رَدِيءُ الْحَرِيرِ، أُبْدِلَتِ الزَّايُ: سِينًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالنَّهْيُ إِمَّا لِغَلَبَةِ الْحَرِيرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا ثِيَابًا حَمْرَاءَ. قَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ؟ قُلْتَ: الْحَرِيرُ اسْمٌ عَامٌّ، وَالدِّيبَاجُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَالْإِسْتَبْرَقُ نَوْعٌ مِنَ الدِّيبَاجِ، والْقَسِّيُّ مَا يُخَالِطُهُ الْحَرِيرُ أَوْ رَدِيءُ الْحَرِيرِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ بَيَانًا لِاهْتِمَامٍ بِحُكْمِهِ، وَدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ تَخْصِيصَهُ بِاسْمٍ مُسْتَقِلٍّ يُنَافِي دُخُولَهُ تَحْتَ الْحُكْمِ الْعَامِّ، وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ غَيْرُ الْحَرِيرِ نَظَرًا إِلَى الْعُرْفِ، وَكَوْنُهَا ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ مُقْتَضِيَةً لِاخْتِلَافِ مُسَمَّيَاتِهَا. (وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ) : وَالَّذِي أَوْلَى، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذِهِ الْخِصَالُ مُخْتَلِفَةُ الْمَرَاتِبِ فِي حُكْمِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْوُجُوبِ، فَتَحْرِيمُ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ خَاصٌّ لِلرِّجَالِ، وَتَحْرِيمُ آنِيَةِ الْفِضَّةِ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْمَخِيلَةِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَنِ الشُّرْبِ) : بِضَمِّ الشِّينِ وَبِفَتْحٍ وَفِي مَعْنَاهُ الْأَكْلُ. (فِي الْفِضَّةِ) : وَالذَّهَبِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ. (مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا) أَيْ: ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ. (لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: مَنِ اعْتَقَدَ حِلَّهَا وَمَاتَ عَلَيْهِ) ; فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَحُكْمُ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ خِلَافُ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ ذَنْبٌ صَغِيرٌ غَلُظَ وَشُدِّدَ لِلرَّدِّ وَالِارْتِدَاعِ اهـ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ عَنْ كَوْنِهِ جَهَنَّمِيًّا ; فَإِنَّ الشُّرْبَ مِنْ أَوَانِي الْفِضَّةِ مِنْ دَأْبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 15] ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا دَأْبُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَكُونُ جَهَنَّمِيًّا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ فِي الْآخِرَةِ مُدَّةَ عَذَابِهِ، أَوْ وَقْتَ وُقُوفِهِ وَحِسَابِهِ، أَوْ فِي الْجَنَّةِ مُدَّةً يَنْسَى مُدَّةَ شَرَابِهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا صَحَّ فِي الْحَرِيرِ: " مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ " وَفِي الْخَمْرِ: " مَنْ شَرِبَهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ " قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ آنِيَةً وَلُبَاسًا وَشَرَابًا غَيْرَ مَا ذُكِرَ لِمَنْ حَرَّمَهُ، وَيَكُونُ نَقْصًا فِي مَرْتَبَتِهِ لَا عِقَابًا فِي حَقِّهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَقَالَ مُسْلِمٌ: " «وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ» ". وَهُوَ يَحْتَمِلُ السَّلَامَ، وَرَدَّهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1527 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1527 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ» ) : مِنَ ابْتِدَاءِ شُرُوعِ الْعِيَادَةِ. (فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ) : بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: فِي رَوْضَتِهَا، أَوْ فِي الْتِقَاطِ فَوَاكِهِ الْجَنَّةِ وَمُجْتَنَاهَا. فِي النِّهَايَةِ: خَرَفَ الثَّمَرَةَ جَنَاهَا، وَالْخُرْفَةُ: اسْمُ مَا يُخْرَفُ مِنَ النَّخِيلِ حِينَ يُدْرِكُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «عَائِدُ الْمَرِيضِ عَلَى مَخَارِفِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» ) وَالْمَخَارِفُ: جَمْعُ مَخْرَفٍ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ الْحَائِطُ مِنَ النَّخِيلِ، يَعْنِي أَنَّ الْعَائِدَ فِيمَا يُحْرِزُهُ مِنَ الثَّوَابِ كَأَنَّهُ عَلَى نَخِيلِ الْجَنَّةِ يَخْرِفُ ثِمَارَهَا. قَالَ الْقَاضِي: الْخُرْفَةُ مَا يُجْتَنَى مِنَ الثِّمَارِ، وَقَدْ تَجُوزُ بِهَا الْبُسْتَانُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَحَلُّهَا وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِهَا بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَلَى مَخَارِفِ الْجَنَّةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ: فِي مَوَاضِعِ خُرْفَتِهَا. (حَتَّى يَرْجِعَ ": قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: شُبِّهَ مَا يَحُوزُهُ عَائِدُ الْمَرِيضِ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يَحُوزُ الْمُخْتَرِفُ مِنَ الثِّمَارِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ بِسَعْيِهِ إِلَيْهِ يَسْتَوْجِبُ الْجَنَّةَ وَمَخَارِفَهَا بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1528 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ ! قَالَ: أَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ ! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ ! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1528 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ أَوْ بِلَا وَاسِطَةٍ بِالْوَحْيِ الْعَامِّ، أَوْ بِالْإِلْهَامِ فِي قُلُوبِ الْأَنَامِ، أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ مُعَاتِبًا لِابْنِ آدَمَ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِمَا قَصَّرَ فِي حَقِّ أَوْلِيَائِهِ بِالْأَفْضَالِ. ( «يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي» ) : أَرَادَ بِهِ مَرِضَ عَبْدُهُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لِذَلِكَ الْعَبْدِ، فَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ ذَاتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ عَادَ مَرِيضًا لِلَّهِ فَكَأَنَّهُ زَارَ اللَّهَ. ( «قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ» ؟ !) : حَالٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ. (كَيْفَ) أَيِ: الْمَرَضُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْمَرِيضِ الْعَاجِزِ، وَأَنْتَ الْقَاهِرُ الْقَوِيُّ الْمَالِكُ. فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ تَمْرَضُ مَكَانَ كَيْفَ أَعُودُكَ؟ ! قُلْنَا: عَدَلَ عَنْهُ مُعْتَذِرًا إِلَى مَا عُوتِبَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْمَرَضِ. ( «قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي» ) أَيْ: لَوَجَدْتَ رِضَائِي (عِنْدَهُ؟) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْعَجْزِ وَالِانْكِسَارِ عِنْدَهُ تَعَالَى مِقْدَارًا وَاعْتِبَارًا، كَمَا رُوِيَ: أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْعِبَارَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِيَادَةَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْإِطْعَامِ وَالْإِسْقَاءِ الْآتِيَيْنِ، حَيْثُ خَصَّ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ: وَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ فَإِنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْرَبُ إِلَى الْمُنْكَسِرِ الْمِسْكِينِ اهـ. وَقِيلَ: الْعَجْزُ وَالِانْكِسَارُ أَلْصَقُ وَأَلْزَمُ هُنَاكَ. وَالْعِيَادَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَإِنْ كَانَتَا فِي الصُّورَةِ وَاحِدَةً، فَالْعِيَادَةُ أَزْيَدُ إِمَّا بِنُقْطَةٍ وَهِيَ دَرَجَةٌ، أَوْ بِثَمَانِ مَرَاتِبَ. فَإِنَّ الْبَاءَ اثْنَانِ وَالْيَاءَ عَشْرَةٌ، هَذَا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حَدِيثِ: " لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ " إِلَخْ، وَقَدْ قِيلَ: لَمْ يَرِدْ فِي الثَّوَابِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. (يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ) أَيْ: طَلَبْتُ مِنْكَ الطَّعَامَ. (فَلَمْ تُطْعِمْنِي؟ . قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ !) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكَ تُطْعِمُ وَلَا تُطْعَمُ، وَأَنْتَ غَنِيٌّ قَوِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا الْعَاجِزُ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِنْفَاقِ. (قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ. ( «اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ» ) أَيْ: ثَوَابَ إِطْعَامِهِ. (عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ) أَيْ: طَلَبْتُ مِنْكَ الْمَاءَ. (فَلَمْ تَسْقِنِي) : بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ فِي أَوَّلِهِ. (قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ) : بِالْوَجْهَيْنِ. (وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ !) أَيْ: مُرَبِّيهِمْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَضْلًا عَنِ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ. (قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِيهِ، أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ. (إِنَّكَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: " أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. (لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ) : بِلَا لَامٍ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ حَذْفِهَا. (ذَلِكَ عِنْدِي؟) : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْكَائِنَاتِ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ الْجُزْئِيَّاتُ وَالْكُلِّيَّاتُ، وَأَنَّهُ مُبْتَلٍ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ، لِيَكُونَ كَفَّارَةً لِلذُّنُوبِ، وَرَفْعًا لِلدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1529 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ يَعُودُهُ قَالَ: " لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ". فقال لَهُ: " «لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ". قَالَ: كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَعَمْ إِذًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1529 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ) أَيْ: وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ. (يَعُودُهُ) : فِيهِ كَمَالُ تَوَاضُعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُتَضَمِّنِ لِرَأْفَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَتَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ. (وَكَانَ) أَيْ: مِنْ عَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: " لَا بَأْسَ) : بِالْهَمْزِ وَإِبْدَالِهِ. (طَهُورٌ) " أَيْ: لَا مَشَقَّةَ وَلَا تَعَبَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ بِالْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّهُ مُطَهِّرُكَ مِنَ الذُّنُوبِ. (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) : لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِلتَّفْوِيضِ أَوْ لِلتَّعْلِيقِ، فَإِنَّ

كَوْنَهُ طَهُورًا مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِ صَبُورًا شَكُورًا. (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَهُ) أَيْ: لِلْأَعْرَابِيِّ. (لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " قَالَ) أَيِ: الْأَعْرَابِيُّ مِنْ جَفَاوَتِهِ، وَعَدَمِ فَطَانَتِهِ. (كَلَّا) أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتَ، أَوْ لَا تَقُلْ هَذَا فَإِنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا مُحْتَمِلٌ لِلْكُفْرِ وَعَدَمِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُهُ أَعْرَابِيًّا جِلْفًا، فَلَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَةَ الرَّدِّ وَالتَّكْذِيبِ، وَلَا بَلَغَ حَدَّ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ. (بَلْ حُمَّى تَفُورُ) أَيْ: تَغْلِي فِي بَدَنٍ كَغَلْيِ الْقُدُورِ. (عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ) أَيْ: بِعَقْلٍ قَصِيرٍ أَيِسَ مِنْ قُدْرَةِ الْقَدِيرِ. (تُزِيرُهُ الْقُبُورَ) أَيْ: تَحْمِلُهُ الْحُمَّى عَلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَتَجْعَلُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ. (فَقَالَ النَّبِيُّ -) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: غَضَبًا عَلَيْهِ. (فَنَعَمْ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا. (إِذًا) وَفِي نُسْخَةٍ " إِذَنْ " أَيْ: إِذَنْ هَذَا الْمَرَضُ لَيْسَ بِمُطَهِّرِكَ كَمَا قُلْتَ، أَوْ ضَخْمٌ إِذَا أَبَيْتَ إِلَّا الْيَأْسَ وَكُفْرَانَ النِّعْمَةِ، فَنَعَمْ إِذًا يَحْصُلُ لَكَ مَا قُلْتَ إِذْ لَيْسَ جَزَاءُ كُفْرَانِ النِّعْمَةَ إِلَّا حِرْمَانَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَنَعَمْ تَقْرِيرٌ لِمَا قَالَ: يَعْنِي: أَرْشَدْتُكَ بِقَوْلِي: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّ الْحُمَّى تُطَهِّرُكَ مِنْ ذُنُوبِكَ ; فَاصْبِرْ وَاشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى، فَأَبَيْتَ إِلَّا الْيَأْسَ وَالْكُفْرَانَ، فَكَانَ كَمَا زَعَمْتَ، وَمَا اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ، بَلْ رَدَدْتَ نِعْمَةَ اللَّهِ وَأَنْتَ مُسَجَّعٌ بِهِ قَالَهُ غَضَبًا عَلَيْهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.

1530 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ، مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءٌ لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1530 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اشْتَكَى) أَيْ: مَرِضَ (مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ) أَيِ: النَّبِيُّ ذَلِكَ الْمَرِيضَ. (بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ) أَيْ: دَاعِيًا. (أَذْهِبِ الْبَاسَ) أَيْ: أَزِلْ شِدَّةَ الْمَرَضِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: اللَّهُمَّ أَذْهِبِ الْبَاسَ، وَهُوَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزِ هُنَا مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ فِي قَوْلِهِ ". (رَبَّ النَّاسِ) : نَصْبًا بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْعَسْقَلَانِيَّ قَالَ: الْبَاسُ بِغَيْرِ هَمْزٍ لِلِازْدِوَاجِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ الْهَمْزَةُ. (وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي) : وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْتَ الْمُمْرِضُ أَدَبًا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وَلَمَّا لَمْ يَفْهَمْ كُلُّ أَحَدٍ هَذَا الْمَعْنَى صَرَّحَ الصِّدِّيقُ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ: الَّذِي أَمْرَضَنِي يَشْفِينِي) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِالْوَاوِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِحَذْفِهَا، وَالضَّمِيرُ فِي اشْفِهِ لِلْعَلِيلِ أَوْ هِيَ هَاءُ السَّكْتِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا يُوهِمُ نَقْصًا، وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . ( «وَلَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ» ) : هَذَا مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: أَنْتَ الشَّافِي. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ قَوْلُهُ: لَا شِفَاءَ بِالْمَدِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَنَا أَوَّلُهُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا شِفَاؤُكَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا شِفَاءَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ مِنَ الدَّوَاءِ وَالتَّدَاوِي لَا يَنْجَعُ إِنْ لَمْ يُصَادِفْ تَقْدِيرَ اللَّهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: لَا شِفَاءَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحَصْرِ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: أَنْتَ الشَّافِي ; لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ إِذَا كَانَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ أَفَادَ الْحَصْرَ ; لِأَنَّ تَدْبِيرَ الطَّبِيبِ، وَدَفْعِ الدَّوَاءِ لَا يَنْجَعُ فِي الْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ الشِّفَاءَ، وَقَوْلُهُ: ( «شِفَاءٌ لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» ) : تَكْمِيلٌ لِقَوْلِهِ: اشْفِ. وَالْجُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَقَوْلُهُ: لَا يُغَادِرُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَا يَتْرُكُ، وَسَقَمًا بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ وَسُكُونٍ مَرَضًا، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهُ: (شِفَاءً) مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: اشْفِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ أَيْ: هَذَا أَوْ هُوَ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ. فَيَخْلُفُهُ مَرَضٌ آخَرُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَثَلًا، فَكَانَ يَدْعُو بِالشِّفَاءِ الْمُطْلَقِ لَا بِمُطْلَقِ الشِّفَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .

1531 - وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ «إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُصْبُعِهِ: " بِسْمِ اللَّهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1531 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: كَانَ) : إِمَّا زَائِدَةٌ أَوْ فِيهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ. (إِذَا اشْتَكَى) أَيْ: شَكَا (الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيِ: الْعُضْوَ. (مِنْهُ) : الضَّمِيرُ إِلَى

الْإِنْسَانِ أَيْ: مِنْ جَسَدِهِ. (أَوْ كَانَتْ بِهِ) أَيْ: بِالْإِنْسَانِ. (قَرْحَةٌ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا، مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَعْضَاءِ مِثْلُ الدُّمَّلِ. (أَوْ جُرْحٌ) : بِالضَّمِّ كَالْجِرَاحَةِ بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ. (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُصْبُعِهِ) أَيْ: أَشَارَ بِهَا قَائِلًا. (بِسْمِ اللَّهِ) أَيْ: أَتَبَرَّكُ بِهِ. (تُرْبَةُ أَرْضِنَا) أَيْ: هَذِهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا مَمْزُوجَةٌ. (بِرِيقَةِ بَعْضِنَا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتْفُلُ عِنْدَ الرُّقْيَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى مِنْ كُلِّ الْآلَامِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا فَاشِيًا مَعْلُومًا بَيْنَهُمْ. قَالَ: وَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّابَتَهُ، وَوَضْعُهَا عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّقَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِأَرْضِهَا جُمْلَةُ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِبَرَكَتِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ، عَلَى إِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ، فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ، فَيَمْسَحُ بِهَا عَلَى الْمَوْضِعِ الْجَرِيحِ وَالْعَلِيلِ، وَيَتَلَفَّظُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي حَالِ الْمَسْحِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّقْيَةِ مَا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالسِّحْرِ. وَكَلِمَةِ الْكُفْرِ اهـ. وَمِنَ الْمَحْذُورِ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى كَلَامٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ; لِاحْتِمَالِ اشْتِمَالِهِ عَلَى كُفْرٍ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ صَنِيعِهِ ذَلِكَ، وَمِنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّ تُرْبَةَ أَرْضِنَا إِشَارَةٌ إِلَى فِطْرَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَرِيقَةُ بَعْضِنَا إِشَارَةٌ إِلَى النُّطْفَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الْإِنْسَانُ فَكَأَنَّهُ يَتَضَرَّعُ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَيُعَرِّضُ بِفَحْوَى الْمَقَالِ: إِنَّكَ اخْتَرَعْتَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ أَبْدَعْتَ بَنِيهِ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَهَيِّنٌ عَلَيْكَ أَنْ تَشْفِيَ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ، وَتَمُنَّ بِالْعَافِيَةِ عَلَى مَنِ اسْتَوَى فِي مِلْكِكَ حَيَاتُهُ وَمَمَاتُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: قَدْ شَهِدَتِ الْمَبَاحِثُ الطِّبِّيَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّيقَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي النُّضْجِ، وَتَبْدِيلُ الْمِزَاجِ، وَلِتُرَابِ الْوَطَنِ تَأْثِيرٌ فِي حِفْظِ الْمِزَاجِ الْأَصْلِيِّ، وَدَفْعِ نِكَايَةِ الْمَضَرَّاتِ ; وَلِذَا ذُكِرَ فِي تَيْسِيرِ الْمُسَافِرِينَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْمُسَافِرُ تُرَابَ أَرْضِهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِصْحَابِ مَائِهِ، حَتَّى إِذَا وَرَدَ مَاءً غَيْرَ مَا اعْتَادَهُ جَعَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي سِقَائِهِ، وَشَرِبَ الْمَاءَ مِنْهَا ; لِيَأْمَنَ مِنْ تَغَيُّرِ مِزَاجِهِ، ثُمَّ إِنَّ الرُّقَى وَالْعَزَائِمَ لَهَا آثَارٌ عَجِيبَةٌ تَتَقَاعَدُ الْعُقُولُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كُنْهِهَا اهـ. وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، وَكُلُّ إِنَاءٍ يَرْشَحُ بِمَا فِيهِ، وَقَوْلُهُ: بِأُصْبُعِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلٍ قَالَ، وَتُرْبَةُ أَرْضِنَا: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَذِهِ، وَالْبَاءُ فِي (بِرِيقَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ أَوْ حَالٌ، وَالْعَامِلُ مِنَ الْإِشَارَةِ، أَيْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشِيرًا بِأُصْبُعِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، هَذِهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا مَعْجُونَةٌ بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، قُلْنَا بِهَذَا الْقَوْلِ، أَوْ صَنَعْنَا هَذَا الصَّنِيعَ. (لِيُشْفَى سَقِيمُنَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا بِسْمِ اللَّهِ مَقُولُ الْقَوْلِ صَرِيحًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِسْمِ اللَّهِ حَالًا أُخْرَى مُتَدَاخِلَةً أَوْ مُتَرَادِفَةً عَلَى تَقْدِيرِ: قَالَ مُتَبَرِّكًا: بِسْمِ اللَّهِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا، وَالْمَقُولُ الصَّرِيحُ قَوْلُهُ: تُرْبَةُ أَرْضِنَا، وَإِضَافَةُ تُرْبَةِ أَرْضِنَا وَرِيقَةِ بَعْضِنَا، تَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَأَنَّ تِلْكَ التُّرْبَةَ وَالرِّيقَةَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ شَرِيفٍ، بَلْ بِذِي نَفْسِ شَرِيفَةٍ قُدْسِيَّةٍ طَاهِرَةٍ عَنِ الْأَوْزَارِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ: وَرِيقَةُ بَعْضِنَا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ مُزِجَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: ضَبْطُ لِيُشْفَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وسَقِيمُنَا بِالرَّفْعِ وَيُفْتَحُ أَوَّلُهُ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ مُقَدَّرٌ، سَقِيمَنَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. (بِإِذْنِ رَبِّنَا) أَيْ: بِأَمْرِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ دُعَاءٍ، أَوْ دَوَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّنَا. فِي رِوَايَةِ لَهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ. قُلْتَ: وَلِهَذَا نُسِبَ الْحَدِيثُ فِي الْحِصْنِ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَطْ.

1532 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: «كَانَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1532 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اشْتَكَى) أَيْ: مَرِضَ وَهُوَ لَازِمٌ، وَقَدْ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَجَعًا (نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ) فِي النِّهَايَةِ: النَّفْثُ بِالْفَمِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالنَّفْخِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التَّفْلِ ; لِأَنَّ التَّفْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيقِ. (بِالْمُعَوِّذَاتِ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيْ:

قَرَأَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَنَفَثَ الرِّيقَ عَلَى بَدَنِهِ، وَأَرَادَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَكُلَّ آيَةٍ تُشْبِهُهُمَا مِثْلُ: وَإِنْ يَكَادُ، وَإِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ أَطْلَقَ الْجَمْعَ عَلَى التَّثْنِيَةِ مَجَازًا، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوِ الْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَوْ هُمَا وَالْإِخْلَاصُ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقِيلَ: الْكَافِرُونَ أَيْضًا. (وَمَسَحَ) أَيْ: عَلَيْهِ وَعَلَى أَعْضَائِهِ. (بِيَدِهِ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَجَسَدَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي عَنْهُ رَاجِعٌ إِلَى ذَلِكَ النَّفْثِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ، أَيْ: نَفَثَ عَلَى بَعْضِ جَسَدِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ مُتَجَاوِزًا عَنْ ذَلِكَ النَّفْثِ إِلَى سَائِرِ أَعْضَائِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرُّقْيَةَ وَالنَّفْثَ بِكَلَامِ اللَّهِ سُنَّةٌ. (فَلَمَّا اشْتَكَى) أَيْ: شَكَا (وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قِيلَ: لَعَلَّهُ تَرَكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النَّفْثَ بِهِمَا عَلَى نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ ; لِعِلْمِهِ أَنَّهُ آخِرُ مَرَضِهِ اهـ. وَفِيهِ مَا فِيهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: كَانَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ) : لَمْ يَذْكُرِ الْمَسْحَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ وَتَرَكْتُ ذِكْرَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ النَّفْثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُهُ أَحْيَانًا اكْتِفَاءً بِالنَّفْثِ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَالْجَمْعُ أَفْضَلُ.

1533 - «وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ " قَالَ: فَفَعَلْتُ. فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1533 - ( «وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ» ) أَيْ: فِي بَدَنِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ نَدْبُ شِكَايَةِ مَا بِالْإِنْسَانِ لِمَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ رَجَاءً لِبَرَكَةِ دُعَائِهِ. (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ضَعْ) : أَمْرٌ مِنَ الْوَضْعِ. (يَدَكَ عَلَى الَّذِي) أَيْ: عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَأْلَمُ، أَيْ: يُوجِعُ. (مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ) أَيْ: بِغَلَبَتِهِ وَعَظَمَتِهِ. (وَقُدْرَتِهِ) أَيْ: بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. (مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ) أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ. (وَأُحَاذِرُ) أَيْ: أَخَافُ وَأَحْتَرِزُ، وَهُوَ مُبَالَغَةُ أَحْذَرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعَوَّذَ مِنْ وَجَعٍ هُوَ فِيهِ وَمِمَّا يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْحَزَنِ وَالْخَوْفِ، فَإِنَّ الْحَذَرَ هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَخُوفٍ. (قَالَ) أَيْ: عُثْمَانُ. (فَفَعَلْتُ) أَيْ: مَا قَالَ لِي. (فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي) أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ وَالْحَزَنِ بِبَرَكَةِ صِدْقِ التَّوَجُّعِ وَالِامْتِثَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَرْبَعَةُ.

1534 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1534 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ جِبْرِيلَ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا. (أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِلزِّيَارَةِ أَوْ لِلْعِيَادَةِ. (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَحَذْفِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَقِيلَ بِالْمَدِّ عَلَى إِثْبَاتِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَإِبْدَالِهَا أَلِفًا، وَقِيلَ بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ (: " نَعَمْ) : وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: الِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ فِيهِ لِلتَّقْرِيرِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلتَّقْرِيرِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى جَوَابٍ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِتْيَانِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ اطِّلَاعُهُ عَلَى مَا لَدَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ. (بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ مَأْخُوذٌ مِنَ الرُّقْيَةِ. (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ عَنْهُ. (مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ) أَيْ: خَبِيثَةٍ. (أَوْ عَيْنٍ) : بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا، وَقِيلَ بِالْإِضَافَةِ. (حَاسِدٍ) : وَأَوْ تَحْتَمِلُ الشَّكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلتَّنْوِيعِ، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ

نَفْسَ الْآدَمِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَيْنُ ; فَإِنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلَى الْعَيْنِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَنْفُوسٌ إِذَا كَانَ يُصِيبُهُ النَّاسُ بِعَيْنِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَوْ مِنْ عَيْنِ حَاسِدٍ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ بِلَفْظٍ مُخْتَلِفٍ، أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. ( «اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ» ) : كَرَّرَهُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَبَدَأَ بِهِ وَخَتَمَ بِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا نَافِعَ إِلَّا هُوَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، أَقُولُ: وَزَادَ فِي الْحِصْنِ: التِّرْمِذِيُّ.

1535 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ: " أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ "، وَيَقُولُ: " إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ ": " بِهِمَا " عَلَى لَفْظِ الثَّنْيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1535 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ: " أُعِيذُكُمَا) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِيُعَوِّذَ. (بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْكَلِمَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تَقَعُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْكَلَامِ اسْمًا كَانَ أَوْ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا، وَتَقَعُ عَلَى الْأَلْفَاظِ الْمَبْسُوطَةِ وَعَلَى الْمَعَانِي الْمَجْمُوعَةِ، وَالْكَلِمَاتُ هَاهُنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ ; لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِهَا، وَوَصْفُهَا بِالتَّامَّةِ لِخُلُوِّهَا عَنِ النَّوَاقِضِ وَالْعَوَارِضِ، بِخِلَافِ كَلِمَاتِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَاللَّهْجَةِ وَأَسَالِيبِ الْقَوْلِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ يُوجَدُ فَوْقَهُ آخَرُ، إِمَّا فِي مَعْنًى أَوْ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَهُمْ قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ مُعَارَضَةٍ أَوْ خَطَأٍ أَوْ نِسْيَانٍ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ، وَأَعْظَمُ النَّقَائِصِ الَّتِي هِيَ مُقْتَرِنَةٌ بِهَا أَنَّهَا كَلِمَاتٌ مَخْلُوقَةٌ تَكَلَّمَ بِهَا مَخْلُوقٌ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْأَدَوَاتِ وَالْجَوَارِحِ، وَهَذِهِ نَقِيصَةٌ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا كَلَامٌ مَخْلُوقٌ، وَكَلِمَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْقَوَادِحِ، فَهِيَ لَا يَسَعُهَا نَقْصٌ، وَلَا يَعْتَرِيهَا اخْتِلَالٌ، وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَا عَلَى الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَخْلُوقَةً لَمْ يَعُذْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِمَخْلُوقٍ. (مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ) أَيْ: جِنٍّ وَإِنْسٍ. (وَهَامَّةٍ) أَيْ: مِنْ شَرِّهِمَا، وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ كُلُّ دَابَّةٍ ذَاتِ سُمٍّ يَقْتُلُ، وَالْجَمْعُ الْهَوَامُّ، وَأَمَّا مَا لَهُ سُمٌّ وَلَا يَقْتُلُ فَهُوَ السَّامَّةُ كَالْعَقْرَبِ وَالزُّنْبُورِ، وَقَدْ يَقَعُ الْهَوَامُّ عَلَى مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ مُطْلَقًا كَالْحَشَرَاتِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ عَنِ النِّهَايَةِ. (وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: جَامِعَةٍ لِلشَّرِّ عَلَى الْمَعْيُونِ، مِنْ لَمَّهُ إِذَا جَمَعَهُ، أَوْ تَكُونُ بِمَعْنَى مُلِمَّةٍ أَيْ: مُنْزِلَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي الصِّحَاحِ: الْعَيْنُ اللَّامَّةُ هِيَ الَّتِي تُصِيبُ بِسُوءٍ، وَاللَّمَمُ طَرَفٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَلَامَّةٌ أَيْ: ذَاتُ لَمَمٍ، وَأَصْلُهَا مِنْ أَلَمَّتْ بِالشَّيْءِ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ، وَقِيلَ: لَامَّةٌ لِازْدِوَاجِ هَامَّةٍ، وَالْأَصْلُ مُلِمَّةٌ ; لِأَنَّهَا فَاعِلُ أَلْمَمَتْ اهـ. قِيلَ: وَجْهُ إِصَابَةِ الْعَيْنِ أَنَّ الْخَاطِرَ إِذَا نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ وَاسْتَحْسَنَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَوِيَّةِ صُنْعِهِ، قَدْ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي الْمَنْظُورِ عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ نَظَرِهِ عَلَى غَفْلَةٍ ابْتِلَاءً لِعِبَادِهِ لِيَقُولَ الْمُحِقُّ: إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ، وَغَيْرُهُ مِنْ غَيْرِهِ. (وَيَقُولُ: " إِنَّ أَبَاكُمَا) : أَرَادَ بِهِ الْجَدَّ الْأَعْلَى، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (كَانَ يُعَوِّذُ بِهِمَا) أَيْ: بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ. (إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) : وَلَدَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَسَنَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَنْبَعُ ذُرِّيَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا أَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ مَعْدِنُ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ. " بِهِمَا " عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ اهـ. إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ كَلِمَاتِ اللَّهِ مَجَازًا مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ، وَمِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، أَوِ الْأُولَى جُمْلَةُ الْمُسْتَعَاذِ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةُ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ.

1536 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1536 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا) : تَنْوِيهٌ لِلتَّنْوِيعِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ حَالٌ عَنْهُ، أَيْ: خَيْرًا مُلْتَبِسًا بِهِ. (يُصِبْ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمَعْلُومِ، وَقَوْلُهُ: (مِنْهُ) بِمَعْنَى لِأَجْلِهِ، وَضَمِيرُهُ عَائِدٌ إِلَى الْخَيْرِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: رُوِيَ: مَجْهُولًا؛ أَيْ: يَصِيرُ ذَا مُصِيبَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِكُلِّ

مَكْرُوهٍ، وَمَعْلُومًا أَيْ: يَجْعَلُهُ ذَا مُصِيبَةٍ لِيُطَهِّرَهُ بِهَا مِنَ الذُّنُوبِ، وَلِيَرْفَعَ بِهَا دَرَجَتَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَتْحُ أَحْسَنُ لِلْأَدَبِ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وَقَالَ مِيرَكُ: يُصِبْ مَجْزُومٌ ; لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا أَوْصَلَ إِلَيْهِ مُصِيبَةً، فَمِنْ لِلتَّعْدِيَةِ يُقَالُ: أَصَابَ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو أَيْ: أَوْصَلَ إِلَيْهِ مُصِيبَةً. قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَوْصَلَ إِلَيْهِ مُصِيبَةً لِيُطَهِّرَهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَلِرَفْعِ دَرَجَتِهِ، وَالْمُصِيبَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَكْرُوهٍ يُصِيبُ أَحَدًا. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ أَيْ: نِيلَ بِالْمَصَائِبِ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ الْفَائِقُ أَيْ: يَنَلْ مِنْهُ بِالْمَصَائِبِ، فَالضَّمِيرُ لِمَنْ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَبْتَلِيهِ بِالْمَصَائِبِ فَهُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1537 - وَعَنْهُ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1537 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخِدْرِيِّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ) : " مَا " نَافِيَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي قَوْلِهِ. (مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا، وَالْأَوَّلُ التَّعَبُ، وَالْأَلَمُ الَّذِي يُصِيبُ الْبَدَنَ مِنْ جِرَاحَةٍ وَغَيْرِهَا، وَالثَّانِي الْأَلَمُ اللَّازِمُ، وَالسَّقَمُ الدَّائِمُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ النِّهَايَةِ. (وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ: وَبِفَتْحِهِمَا. (وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ) : لَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي كُلِّهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَذَى كُلُّ مَا لَا يُلَائِمُ النَّفْسَ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْكُلِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَا يَتَأَذَّى الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 58] وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: " «كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ» "، وَالْهَمُّ الَّذِي يُهِمُّ الرَّجُلَ أَيْ: يُذِيبُهُ، مِنْ هَمَمْتُ الشَّحْمَ إِذَا أَذَبْتُهُ، وَالْحَزَنُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ خُشُونَةٌ يُقَالُ: مَكَانُ حُزْنٍ أَيْ: خَشِنٌ، فَالْهَمُّ أَخَصُّ، وَالْغَمُّ هُوَ الْحَزَنُ الَّذِي يَغُمُّ الرَّجُلَ أَيْ: يُصِيرُهُ بِحَيْثُ يَقْرُبُ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ، فَالْهَمُّ وَالْحَزَنُ مَا يُصِيبُ الْقَلْبَ مِنَ الْأَلَمِ بِفَوْتِ مَحْبُوبٍ، إِلَّا أَنَّ الْغَمَّ أَشَدُّهَا، وَالْحَزَنَ أَسْهَلُهَا، وَقِيلَ: الْهَمُّ يَخْتَصُّ بِمَا هُوَ آتٍ، وَالْحَزَنُ بِمَا فَاتَ. قَالَ مِيرَكُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ وَكِيعًا قَالَ: لَمْ يُسْمَعْ فِي الْهَمِّ أَنْ يَكُونَ كَفَّارَةً إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَمِنْ غَرَائِبِ فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا اشْتَدَّ الْهَمُّ بِإِنْسَانٍ كَانَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ كَثِيرًا مِنْ أَعْذَارِهَا الْوَارِدَةِ فِي السُّنَّةِ كَالرِّيحِ وَالْمَطَرِ اهـ. وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ كَمَا لَا يَخْفَى مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ» ". وَلِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ. (حَتَّى الشَّوْكَةُ) : بِالرَّفْعِ، حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ الشَّوْكَةِ خَبَرُهَا، وَبِالْجَرِّ، فَحَتَّى عَاطِفَةٌ، أَوْ بِمَعْنَى " إِلَى " مِمَّا بَعْدَهَا حَالٌ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: سِتٌّ يَجِدُ الشَّوْكَةَ. (يُشَاكُهَا) : الْكَشَّافِ: شَكَّتِ الرَّجُلَ شَوْكَةٌ أُدْخِلَتْ فِي جَسَدِهِ شَوْكَةٌ وَشِيكَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يُشَاكُ شَوْكًا اهـ. قِيلَ: فِيهِ ضَمِيرُ الْمُسْلِمِ أُقِيمَ مَقَامَ فَاعِلِهِ، وَهَا ضَمِيرُ الشَّوْكَةِ أَيْ: حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُ الْمُسْلِمُ تِلْكَ الشَّوْكَةَ أَيْ: تُجْرَحُ أَعْضَاؤُهُ بِشَوْكَةٍ، وَالشَّوْكَةُ هَاهُنَا الْمَرَّةُ مِنْ شَاكَهُ، وَلَوْ أَرَادَ وَاحِدَةَ النَّبَاتِ لَقَالَ: يُشَاكُ بِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا الْمَرَّةُ مِنَ الْمَصْدَرِ جَعَلَهَا غَايَةً لِلْمُعَانَةِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ الطِّيبِيِّ، وَتَابَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يُشَاكُ مَفْعُولُهُ الثَّانِي. (إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا) أَيْ: بِمُقَابَلَتِهَا أَوْ بِسَبَبِهَا. (مِنْ خَطَايَاهُ) أَيْ: بَعْضِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِيهِ تَنْبِيهُ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ السَّالِكَ إِنْ عَجَزَ عَنْ مَرْتَبَةِ الرِّضَا، وَهِيَ التَّلَذُّذُ بِحَلَاوَةِ الْبَلَاءِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ تَجَرُّعُ مَرَارَةِ الصَّبْرِ فِي حُبِّ الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ وَرَدَ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابُ.

1538 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ ". قَالَ: فَقُلْتُ: ذَلِكَ لِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ فَقَالَ: " أَجَلْ ". ثُمَّ قَالَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1538 - ( «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُوعَكُ» ) : الْوَعَكُ: حَرَارَةُ الْحُمَّى وَأَلَمُهَا، وَقَدْ وَعَكَهُ الْمَرَضُ وَعْكًا، وَوَعْكَةً فَهُوَ مَوْعُوكٌ أَيِ: اشْتَدَّ بِهِ. (فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي) : صِحَاحٌ: مَسِسْتُ الشَّيْءَ بِالْكَسْرِ أَمَسِّهُ هِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ: مَسَسْتُ بِالْفَتْحِ أَمَسُّهُ بِالضَّمِّ. ( «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا» ) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ. (شَدِيدًا) : وَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنَ حَجَرٍ: كَأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ جَوَابَ مَا انْقَدَحَ عِنْدَهُ مِنْ أَنَّ الْبَلَايَا سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا ذَنْبَ لَهُ فَغَيْرُ مُطَابِقٍ لِقَوْلِ الرَّاوِي. فَقُلْتُ: لِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ وَمُعَارِضٌ لِكَلَامِ نَفْسِهِ هُنَاكَ أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَا انْقَدَحَ عِنْدَهُ، بِأَنَّ الْمَصَائِبَ قَدْ تَكُونُ لِمُجَرَّدِ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَعَ هَذَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِجَوَابِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا كَمَا قَالَ الرَّاوِي. - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَجَلْ) أَيْ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِ الرَّاوِي: وَعْكًا شَدِيدًا مَعَ زِيَادَةِ تَحْرِيرٍ بِقَوْلِهِ: (إِنِّي أُوعَكُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَأْخُذُنِي الْوَعْكُ. (كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ) : يَعْنِي مِثْلَ أَلَمِ وَعْكِ رَجُلَيْنِ. (مِنْكُمْ " قَالَ) أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ. (فَقُلْتُ: ذَلِكَ) أَيْ: وَعَكُ رَجُلَيْنِ (لِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْثِيرَ. (فَقَالَ: " أَجَلْ) أَيْ: نَعَمْ. (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِبْهُ أَذًى» ) أَيْ: مَا يُؤْذِيهِ وَيُتْعِبُهُ. (مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ) أَيْ: فَمَا دُونَهُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا تَتَأَذَّى بِهِ النَّفْسُ. ( «إِلَّا حَطَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ حَالَ الْمَرِيضِ وَإِصَابَةَ الْمَرَضِ جَسَدَهُ، ثُمَّ مَحْوَ السَّيِّئَاتِ عَنْهُ سَرِيعًا بِحَالَةِ الشَّجَرَةِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ الْخَرِيفِيَّةِ، وَتَنَاثُرِ الْأَوْرَاقِ مِنْهَا، فَهُوَ تَشْبِيهٌ تَمْثِيلِيٌّ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْإِزَالَةُ الْكُلِّيَّةُ عَلَى سَبِيلِ السُّرْعَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ ; لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ لَا يَخْلُو عَنْ كَوْنِهِ مُتَأَذِّيًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَحْمُومٌ، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ مِنْ فَوْقِ الْقَطِيفَةِ فَوَجَدْتُ حَرَارَةَ الْحُمَّى فَوْقَ الْقَطِيفَةِ. فَقُلْتُ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " إِنَّا كَذَلِكَ مَعْشَرَ الْأَنْبيَاءِ يُضَاعَفُ عَلَيْنَا الْوَجَعُ لِيُضَاعَفَ لَنَا الْأَجْرُ ". قُلْتُ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ» . " وَفِي رِوَايَةٍ: " «النَّبِيُّ لِيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا الْعَبَاءَةَ فَيَجُوبُهَا فَيَلْبَسُهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ الْقَمْلُ، وَكَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَطَايَا إِلَيْكُمْ» ".

1539 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا الْوَجَعُ عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1539 - ( «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا الْوَجَعُ» ) : بِالرَّفْعِ. (عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ وَجَعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَجَعُ مُبْتَدَأٌ، وَأَشَدُّ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَمِنْ زَائِدَةٌ أَيْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ وَجَعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي نُسْخَتِهِ: مِنْ أَحَدٍ بَدَلُ أَحَدٍ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِدَةً، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ وَجَعًا مِنَ الْوَجَعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ» ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

1540 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي، فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1540 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي) : بِكَسْرِ الْقَافِ فِيهِمَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْحَاقِنَةُ الْوَهْدَةُ الْمُنْخَفِضَةُ بَيْنَ التُّرْقُوَتَيْنِ، وَالذَّاقِنَةُ الذَّقْنُ، وَقِيلَ: طَرَفُ الْحُلْقُومِ، وَقِيلَ: مَا يَنَالُهُ الذَّقْنُ مِنَ الصَّدْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تُوُفِّيَ مُسْنَدًا إِلَيَّ. (فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ تَكُونُ لِكَثْرَةِ الذُّنُوبِ، وَلَمَّا رَأَيْتُ شِدَّةَ وَفَاتِهِ عَلِمْتُ أَنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ لَيْسَتْ مِنَ الْمُنْذِرَاتِ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ، بَلْ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، وَإِنَّ هَوْنَ الْمَوْتِ لَيْسَ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1541 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى، حَتَّى يَأْتِيَ أَجَلُهُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ الَّتِي لَا يُصِيبُهَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1541 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِ) أَيِ: الْكَامِلِ أَوْ مُطْلَقًا. (كَمَثَلِ الْخَامَةِ) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. فِي النِّهَايَةِ: الْخَامَةُ الْغُصْنَةُ اللَّيِّنَةُ. (مِنَ الزَّرْعِ) وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ، وَقِيلَ: الْخَامَةُ الْغُصْنَةُ الرَّطْبَةُ مِنَ النَّبَاتِ لَمْ يَشْتَدَّ بَعْدُ، وَقِيلَ: مَا لَهَا سَاقٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ: طَاقَةٌ مِنَ الزَّرْعِ فَهُوَ صِفَةٌ لِخَامَةٍ، وَقَوْلُهُ. (تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ) صِفَةٌ أُخْرَى اهـ. وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا أَيْ: تُمِيلُهَا يَمِينًا وَشِمَالًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ إِذَا هَبَّتْ شَمَالًا مَالَتِ الْخَامَةُ إِلَى الْجَنُوبِ، وَإِذَا هَبَّتْ جَنُوبًا فَيَأْتِ فِي جَانِبِ الشَّمَالِ، وَقِيلَ: فَيَأَتِ الشَّجَرَةُ أَلْقَتْ فَيْأَهَا، فَالرِّيحُ إِذَا أَمَالَتْهُ إِلَى جَانِبٍ أُلْقِيَ ظِلُّهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَى حَدٍّ. {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48] . (تَصْرَعُهَا) : بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ أَيْ: تُسْقِطُهَا. (مَرَّةً) : فِي النِّهَايَةِ أَيْ: تُمِيلُهَا وَتَرْمِيهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. (وَتَعْدِلُهَا) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَبِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: تُقِيمُهَا. (أُخْرَى) أَيْ: تَارَّةً أُخْرَى، يَعْنِي يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَقَّةِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْمَرَضِ وَغَيْرِهَا. (حَتَّى يَأْتِيَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: حَتَّى يَأْتِيَ. (أَجَلُهُ) أَيْ: يَمُوتَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ عِلَّةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ ذِلَّةٍ، كَمَا رُوِيَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَةِ السَّعَادَةِ قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ. يَعْنِي بِشَرْطِ الصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالشُّكْرِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا. " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْخَامَةِ تَحْمَرُّ مَرَّةً وَتَصْفَرُّ أُخْرَى» . (وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ) أَيِ: الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْحُكْمِيِّ. (كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي ضَبْطِهَا وَالْمَنْقُولُ فِي رِوَايَتِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا فَتْحُ الرَّاءِ، وَهُوَ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ يُشْبِهُ الصَّنَوْبَرَ وَلَيْسَ بِهِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَأَكْثَرُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ بِالسُّكُونِ، شَجَرُ الصَّنَوْبَرِ، وَالصَّنَوْبَرُ ثَمَرَتُهُ، وَهُوَ شَجَرٌ صُلْبٌ شَدِيدٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ الرَّاءِ الشَّجَرَةُ وَبِالسُّكُونِ الصَّنَوْبَرُ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ الرَّاءِ شَجَرَةُ الْأَرْزَنِ، وَفِي النِّهَايَةِ الْأَرْزَةُ بِسُكُونٍ، وَقِيلَ فَتْحُهَا، وَقِيلَ بِوَزْنِ فَاعِلَةٍ، وَأَنْكَرَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ شَجَرَةُ الْأَرْزَنِ وَهُوَ خَشَبٌ مَعْرُوفٌ، وَقِيلَ: هُوَ الصَّنَوْبَرُ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَسَوَّى بَعْضٌ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالسُّكُونِ، وَقَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الْأَرْزَنِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا اهـ. فَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْزَنِ مِنَ الدُّخْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْأَرْزَنُ وَيُضَمُّ شَجَرُ الصَّنَوْبَرِ، كَالْأَرْزَةِ، أَوِ الْعَرْعَرِ وَبِالتَّحْرِيكِ شَجَرُ الْأَرْزَنِ وَهُوَ شَجَرٌ صُلْبٌ. (الْمُجْذِيَةُ) قَالَ مِيرَكُ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ آخِرَ الْحُرُوفِ مُخَفَّفَةٍ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ الْقَائِمَةُ. (الَّتِي لَا يُصِيبُهَا شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْمَيَلَانِ بِاخْتِلَافِ الرِّيَاحِ. (وَحَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا) قَالَ مِيرَكُ: بِالنُّونِ وَالْجِيمِ - الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيِ: انْقِطَاعُهَا وَانْقِلَاعُهَا، وَهُوَ مُطَاوِعٌ مِنْ جَعَفَ. (مَرَّةً وَاحِدَةً) : فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ يُقِلُّ لَهُمُ الْأَمْرَاضَ وَالْمَصَائِبَ لِئَلَّا يَحْصُلَ لَهُمْ كَفَارَّةٌ وَلَا ثَوَابٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1542 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزَةِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1542 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ» ) : اللَّامُ لِلْجِنْسِ. (تُمِيلُهُ) : بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا وَرَدَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مَا مَرِضَتْ قَطُّ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طَلِّقْهَا ; فَإِنَّهَا لَا خَيْرَ فِيهَا» ) : وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الدُّنْيَا أَنْ تَمَرَّرِي وَتَكَدَّرِي عَلَى أَوْلِيَائِي حَتَّى يُحِبُّوا لِقَائِي» ". وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» ". ( «وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ» ) الْجُمْلَتَانِ لِوَجْهِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّشْبِيهُ إِمَّا تَمْثِيلِيٌّ وَإِمَّا مُفَرِّقٌ فَيُقَدَّرُ لِلْمُشَبَّهِ مَعَانٍ بِإِزَاءِ مَا لِلْمُشَبَّهِ بِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَرَى نَفْسَهُ عَارِيَةً مَعْزُولَةً عَنِ اسْتِعْمَالِ اللَّذَّاتِ مَعْرُوضَةً لِلْحَوَادِثِ. ( «وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزَةِ» ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ وَتُفْتَحُ. (لَا تَهْتَزُّ) أَيْ: لَا تَتَحَرَّكُ. (حَتَّى تُسْتَحْصَدَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: يَدْخُلُ وَقْتُ حَصَادِهَا فَتُقْطَعُ اهـ. فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَقِلُّ بَلَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا يَخِفَّ عَذَابُهُ الْعُقْبَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ وَلِمُسْلِمٍ.

1543 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمِّ السَّائِبِ فَقَالَ: مَا لَكِ تُزَفْزِفِينَ؟ ! " قَالَتِ: الْحُمَّى - لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا - قَالَ: " لَا تَسُبِّي الْحُمَّى ; فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1543 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمِّ السَّائِبِ فَقَالَ: " مَا لَكِ تُزَفْزِفِينَ» ؟ !) ": بِالزَّايَيْنِ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ، فَإِنَّهُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالرَّاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَفْرَفَ الطَّائِرُ بِجَنَاحَيْهِ إِذَا بَسَطَهُمَا عِنْدَ السُّقُوطِ عَلَى شَيْءٍ، وَالْمَعْنَى مَا لَكِ تَرْتَعِدِينَ، وَيُرْوَى بِالزَّايِ: مِنَ الزَّفْزَفَةِ وَهِيَ الِارْتِعَادُ مِنَ الْبَرْدِ، وَالْمَعْنَى مَا سَبَبُ هَذَا الِارْتِعَادِ الشَّدِيدِ؟ . (قَالَتِ: الْحُمَّى) أَيِ: النَّوْعُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْبَلْغَمِ وَالصَّفْرَاءِ الْمُوجِبُ لِانْزِعَاجِ الْبَدَنِ وَشِدَّةِ تَحَرُّكِهِ. (لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ أَوْ تَقْدِيرُهُ تَأْخُذُنِي الْحُمَّى، أَوِ الْحُمَّى مَعِي، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ دُعَائِيَّةٌ. (فَقَالَ: " لَا تَسُبِّي الْحُمَّى) أَيْ: بِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا. (فَإِنَّهَا تُذْهِبُ) أَيْ: تَمْحُو وَتُكَفِّرُ وَتُزِيلُ. (خَطَايَا بَنِي آدَمَ) أَيْ: مِمَّا يَقْبَلُ التَّكْفِيرَ. (كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ) : بِالْكَسْرِ. (خَبَثَ الْحَدِيدِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: وَسَخَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كِيرُ الْحَدَّادِ، وَهُوَ الْمَبْنِيُّ مِنَ الطِّينِ، وَقِيلَ: الزِّقُّ الَّذِي يَنْفُخُ بِهِ النَّارَ وَالْمَبْنِيُّ الْكُورُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي " كَشْفِ الْغُمَّى فِي أَخْبَارَ الْحُمَّى "، عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَيُكَفِّرُ عَنِ الْمُؤْمِنِ خَطَايَاهُ كُلَّهَا بِحُمَّى لَيْلَةٍ» ". قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هَذَا مِنْ جَيِّدِ الْحَدِيثِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: حُمَّى لَيْلَةٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ ". وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ جَهَنَّمَ، وَهِيَ نَصِيبُ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ» ". وَفِي حَدِيثٍ " «إِنَّ الْحُمَّى حُمَّى أُمَّتِي مِنْ جَهَنَّمَ» "، «وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا جَزَاءُ الْحُمَّى؟ قَالَ: تَجْرِي الْحَسَنَاتُ عَلَى صَاحِبِهَا مَا اخْتَلَجَ عَلَيْهِ قَدَمٌ أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهِ عِرْقٌ» " قَالَ أُبَيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُمَّى لَا تَمْنَعُنِي خُرُوجًا فِي سَبِيلِكَ، وَلَا خُرُوجًا إِلَى بَيْتِكَ، وَمَسْجِدِ نَبِيِّكَ. قَالَ الرَّاوِي: فَلَمْ يَمْشِ أُبَيٌّ قَطُّ إِلَّا وَبِهِ حُمَّى.

1544 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ بِمِثْلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1544 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ) وَفِي مَعْنَاهُ: إِذَا كَبُرَ وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةٍ. (أَوْ سَافَرَ) أَيْ: وَفَاتَ مِنْهُ بِذَلِكَ نَفْلٌ. (كُتِبَ لَهُ بِمِثْلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ) أَيْ: مِنَ النَّوَافِلِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] . (مُقِيمًا صَحِيحًا) : شَابًّا قَوِيًّا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَا يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي الْمَدِينَةِ لِعَدَمِ مُؤْنَةِ السَّفَرِ، أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُمْ أَجْرُ الْغَزْوِ وَالسَّفَرِ مَعَهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَقَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ.

1545 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1545 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» ) أَيْ: حُكْمًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: شَهَادَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ الْأُصُولَ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالطَّاعُونَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ مَعَ لَهِيبٍ فِي الْآبَاطِ، وَالْأَصَابِعِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ، يَسْوَدُّ مَا حَوْلَهَا، أَوْ يَخْضَرُّ، أَوْ يَحْمَرُّ، وَأَمَّا الْوَبَاءُ فَقِيلَ هُوَ الطَّاعُونُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَرَضٌ يَكْثُرُ فِي أَنَّهُ مَرَضٌ يَكْثُرُ فِي النَّاسِ وَيَكُونُ نَوْعًا وَاحِدًا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الطَّاعُونُ هُوَ الْمَرَضُ الْعَامُّ وَالْوَبَاءُ الَّذِي يَفْسَدُ بِهِ الْهَوَاءُ، فَتَفْسَدُ بِهِ الْأَمْزِجَةُ وَالْأَبْدَانُ، وَقِيلَ: الطَّاعُونُ هُوَ الْمَوْتُ بِالْوَبَاءِ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْوَبَاءُ: الْمَوْتُ الْعَامُّ وَالْمَرَضُ الْعَامُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: " «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: " وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، وَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1546 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1546 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الشُّهَدَاءُ) أَيْ: فِي الْجُمْلَةِ. (خَمْسَةٌ) : وَهُوَ جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ يَشْهَدُ مَقَامَهُ قَبْل مَوْتِهِ، أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُهُ أَيْ: تَحْضُرُهُ مُبَشِّرَةً لَهُ. (الْمَطْعُونُ) أَيِ: الَّذِي ضَرَبَهُ الطَّاعُونُ وَمَاتَ بِهِ. (وَالْمَبْطُونُ) أَيِ: الَّذِي يَمُوتُ بِمَرَضِ الْبَطْنِ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ: مَنْ مَاتَ بِوَجَعِ الْبَطْنِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ هَلِ الْمُرَادُ بِالْبَطْنِ الِاسْتِسْقَاءُ أَوِ الْإِسْهَالُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. (وَالْغَرِيقُ) أَيِ: الَّذِي يَمُوتُ مِنَ الْغَرَقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ. مِمَّنْ رَكِبَ الْبَحْرَ رُكُوبًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ. (وَصَاحِبُ الْهَدَمِ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَتُسَكَّنُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَدَمُ مَا يُهْدَمُ بِهِ مِنْ جَوَانِبِ الْبِئْرِ فَيَسْقُطُ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: الَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدَمِ وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ مَا يُهْدَمُ بِهِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْهَدَمُ بِالتَّحْرِيكِ الْبِنَاءُ الْمَهْدُومُ فَعَلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَبِالسُّكُونِ الْفِعْلُ نَفْسُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بِسُكُونِ الدَّالِ وَيُفْتَحُ، لَكِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ اسْمًا لِلْمَهْدُومِ، وَيَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا إِلَّا أَنَّهُ مُوهِمٌ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْفَتْحَ أَكْثَرُ وَهْمًا، بَلْ فِي التَّحْقِيقِ لَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ ; وَلِذَا اخْتَارَ الشُّرَّاحُ الْفَتْحَ. (وَالشَّهِيدُ) أَيِ: الْمَقْتُولُ. (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : قَالَ الرَّاغِبُ: سُمِّيَ شَهِيدًا لِحُضُورِ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَهُ، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30] ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ هَذِهِ الْحَالَةَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ تَشْهَدُ أَرْوَاحُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي مِنَ الشَّهِيدِ الْحُكْمِيِّ إِلَى الْحَقِيقِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّهَدَاءَ الْحُكْمِيَّةَ كَثِيرَةٌ، وَرَدَتْ فِي أَحَادِيثَ شَهِيرَةٍ، جَمَعَهَا السُّيُوطِيُّ فِي كُرَّاسَةٍ سَمَّاهَا: (أَبْوَابُ السَّعَادَةِ فِي أَسْبَابِ الشَّهَادَةِ) مِنْهَا: مَا ذُكِرَ، وَمِنْهَا: صَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَالْحَرِيقُ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ أَيْ: فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ، وَقِيلَ: تَمُوتُ بِكْرًا، وَمِنْهَا: الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا إِلَى وَضْعِهَا إِلَى فِصَالِهَا، وَمِنْهَا: صَاحِبُ السُّلِّ أَيِ: الدَّقُّ، وَالْغَرِيبُ، وَالْمُسَافِرُ، وَالْمَصْرُوعُ عَنْ دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُرَابِطُ، وَالْمُتَرَدِّي، وَمَنْ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ وَأَهْلِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ دَمِهِ، أَوْ مَظْلَمَتِهِ. وَمِنْهَا: الْمَيِّتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَرْعُوبُ عَلَى فِرَاشِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَعَنْ عَلِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ ظُلْمًا فَمَاتَ فِي السَّجْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ ضُرِبَ فَمَاتَ فِي الضِّرْسِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «الْحُمَّى شَهَادَةٌ» ". وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الشُّهَدَاءِ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: " رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ فَقَتَلَهُ» ". وَعَنْ أَبِي مُوسَى: مَنْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ، أَوْ لَدْغَتْهُ هَامَّةٌ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ، فَكَتَمَ فَمَاتَ، فَهُوَ شَهِيدٌ. وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» ". وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْغَيْرَةَ عَلَى النِّسَاءِ، وَالْجِهَادَ عَلَى الرِّجَالِ، فَمَنْ صَبَرَ مِنْهُنَّ كَانَ لَهَا أَجْرُ شَهِيدٍ» ". وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الْمَوْتِ وَفِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ شَهِيدٍ» . " وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ صَلَّى الضُّحَى، وَصَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْوَتْرَ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» " وَمِنْهَا: التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ فَسَادِ الْأُمَّةِ. وَمِنْهَا: مَنْ مَاتَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْمُؤَذِّنُ الْمُحْتَسِبُ، وَمَنْ عَاشَ مُدَارِيًّا وَمَنْ جَلَبَ طَعَامًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ سَعَى عَلَى امْرَأَتِهِ، وَوَلَدِهِ، وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، فَكُلُّ مَنْ كَثُرَ أَسْبَابُ شَهَادَتِهِ زِيدَ لَهُ فِي فَتْحِ أَبْوَابِ سَعَادَتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1547 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي: " أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1547 - ( «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الطَّاعُونِ» ) أَيْ: مَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ (فَأَخْبَرَنِي " أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أَيْ: مِنْ عِبَادِهِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. (وَأَنَّ اللَّهَ ": بِفَتْحِ

الْهَمْزَةِ عَلَى الْعَطْفِ، وَبِكَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. (جَعَلَهُ رَحْمَةً) أَيْ: سَبَبَ زِيَادَةِ رَحْمَةٍ. (لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيِ: الصَّابِرِينَ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْكَافِرِينَ بِدَلِيلِ وَأَنَّ اللَّهَ إِلَخْ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ. (لَيْسَ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: جَعَلَهُ رَحْمَةً. (مِنْ أَحَدٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ، أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ. (يَقَعُ الطَّاعُونُ) : صِفَةَ أَحَدٍ، وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَقَعُ فِي بَلَدِهِ. (فَيَمْكُثُ) أَيْ: ذَلِكَ الْأَحَدُ. (فِي بَلَدِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى يَقَعُ، وَكَذَا وَيَعْلَمُ اهـ. فَكَانَ فِي نُسْخَتِهِ وَيَعْلَمُ بِالْوَاوِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأُصُولُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَطْفٌ عَلَى يَمْكُثُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، فَهُوَ غَيْرُ مُرْضٍ. (صَابِرًا مُحْتَسِبًا) : حَالَانِ مِنْ فَاعِلِ يَمْكُثُ أَيْ: يَصْبِرُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ، طَالِبًا لِثَوَابِهِ لَا غَيْرَ، كَحِفْظِ مَالِهِ أَوْ غَرَضٍ آخَرَ. (يَعْلَمُ) : حَالٌ آخَرُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ يَمْكُثُ. (أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ) أَيْ: مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ. (إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ) : خَبَرُ لَيْسَ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1548 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1548 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ: ابْنِ حَارِثَةَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " «الطَّاعُونُ رِجْزٌ» ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: عَذَابٌ. (أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: (ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فَخَالَفُوا. قَالَ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف: 162] . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ، فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ شُيُوخِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، وَأَرَادَ بِالْبَابِ بَابَ الْقُبَّةِ الَّتِي يُصَلِّي إِلَيْهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِسَمِعْتُمْ عَلَى تَضْمِينِ أُخْبِرْتُمْ، وَبِأَرْضٍ حَالٌ أَيْ: وَاقِعًا فِي أَرْضٍ. (فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ) : بِضَمِّ التَّاءِ مِنَ الْإِقْدَامِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْمَحْفُوظُ ضَمُّ التَّاءِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَتَحَ التَّاءَ بَعْضُ الرُّوَاةِ وَضَمُّ الدَّالِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدِمَ يَقْدُمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ الدَّالَ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ يَقْدَمُ قُدُومًا، وَالْمَحْفُوظُ عِنْدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ ضَمُّ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَقْدَمَ عَلَى الْأَمْرِ إِقْدَامًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا بَلَغَ الْحِجْرَ دِيَارَ ثَمُودَ الْمُعَذَّبِينَ فِيهَا مَنَعَ أَصْحَابَهُ الدُّخُولَ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «إِذَا مَرَرْتُمْ بِأَرْضِ قَوْمٍ مُعَذَّبِينَ فَأَسْرِعُوا لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ» ". (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّ الْعَذَابَ لَا يَدْفَعُهُ الْفِرَارُ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ: أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الطَّاعُونُ لَمَّا كَانَ عَذَابًا نَهَى عَنِ الْإِقْدَامِ ; فَإِنَّهُ تَهَوُّرٌ وَإِقْدَامٌ عَلَى الْخَطَرِ، وَالْعَقْلُ يَمْنَعُهُ، وَنَهَى عَنِ الْفِرَارِ أَيْضًا ; فَإِنَّ الثَّبَاتَ فِيهِ تَسْلِيمٌ لِمَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ اخْتِيَارٌ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَرْضَى وَالْمَوْتَى لَوْ تَحَوَّلَ الْأَصِحَّاءُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْبَلَاءِ، فَإِنَّهُ تَهَوُّرٌ، وَعَنِ الْفِرَارِ فَإِنَّهُ فِرَارٌ مِنَ الْقَدَرِ وَلَا يَنْفَعُهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ، وَالْآخَرُ تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1549 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ ثُمَّ صَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» " يُرِيدُ عَيْنَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1549 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ» ) أَيْ: بِفَقْدِ بَصَرِ عَيْنَيَهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا أَحَبَّ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فِي حَوَاسِّهِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ السَّمْعُ

أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ فَوَائِدَ السَّمْعِ غَالِبُهَا أُخْرَوِيٌّ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ إِدْرَاكِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْعُلُومِ، وَفَوَائِدُ الْبَصَرِ غَالِبُهَا دُنْيَوِيٌّ. (ثُمَّ صَبَرَ) : هِيَ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ. (عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا) أَيْ: بَدَلَهُمَا، أَوْ مِنْ أَجْلِ فَقْدِهِمَا. (الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولَهُ مَعَ النَّاجِينَ، أَوْ مَنَازِلَ مَخْصُوصَةً فِيهَا. (يُرِيدُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَبِيبَتَيْهِ. (عَيْنَيْهِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنْ أَنَسٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ فَقْدَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ فِيهِ الْجَنَّةُ، وَفَضْلُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي لِمَنِ ابْتُلِيَ بِذَلِكَ أَنْ يَتَأَسَّى بِأَحْوَالِ الْأَكَابِرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الْبَلَاءُ، فَصَبَرُوا عَلَيْهِ وَرَضَوْا بِهِ، بَلْ عَدُّوهُ نِعْمَةً، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ حَبْرُ الْأُمَّةِ، وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْشَدَ: إِنْ يُذْهِبِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا ... فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي لِلْهُدَى نُورُ

الْفَصْلُ الثَّانِي 1550 - عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1550 - (عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً» ) : الْغُدْوَةُ: بِضَمِّ الْغَيْنِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغُدْوَةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَوَّلُ النَّهَارِ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ. (إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ) أَيْ: دَعَا لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ. (سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ) أَيْ: يَغْرُبَ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَيْ: حَتَّى يَنْتَهِيَ الْمَسَاءُ، وَانْتِهَاؤُهُ بِانْتِهَاءِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَنَسَبَ الْقَوْلَ إِلَى ثَعْلَبٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ اللُّغَوِيِّينَ. (وَإِنْ عَادَهُ) : نَافِيَةٌ بِدَلَالَةِ إِلَّا، وَلِمُقَابَلَتِهَا مَا. (عَشِيَّةً) أَيْ: مَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ أَوَّلَ اللَّيْلِ. (إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ) أَيْ: لِلْعَائِدِ فِي كِلَا الْوَقْتَيْنِ. (خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ) أَيْ: بُسْتَانٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الثَّمَرُ الْمُجْتَنَى، أَوْ مَخْرُوفٌ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. (وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ.

1551 - «وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1551 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: عَادَنِيَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُسَكَّنُ. (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجَعٍ) أَيْ: مِنْ رَمَدٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ قَالَهُ مِيرَكُ. (كَانَ بِعَيْنَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِتَخْفِيفِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: فِيهِ بَيَانُ اسْتِحْبَابِ الْعِيَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ مَخُوفًا كَالصُّدَاعِ، وَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَإِنَّ ذَلِكَ عِيَادَةٌ حَتَّى يَحُوزَ بِذَلِكَ أَجْرَ الْعِيَادَةِ، وَيَحْنَثُ بِهِ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ. أَقُولُ: وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْعِيَادَةَ فِي الرَّمَدِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّهُ، وَلَا أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَيَسَّرَ لَهُمُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ، مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ خِلَافُهُ! نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فَقَالَ: بَابُ الْعِيَادَةِ مِنَ الرَّمَدِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الْحَدِيثَ، وَاللَّهُ الْهَادِي، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. أَقُولُ: يُحْمَلُ قَوْلُهُ خِلَافَ السُّنَّةِ عَلَى السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَلَا يُرَدُّ الْحَدِيثُ إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ عِيَادَةٌ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً، وَإِنَّمَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: عَلَى زَعْمِ أَنَّهُ عِيَادَةٌ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُشَابِهٌ بِالْعِيَادَةِ فَأَطْلَقَهُ مَجَازًا، مَعَ

أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ والطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا: " «ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهُمْ عِيَادَةٌ: الْعَيْنُ، وَالرَّمَدُ، وَالضِّرْسُ» ". وَإِنْ صَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ مَبْنَى الْإِيمَانِ وَحِنْثِهِ عِنْدَنَا عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا عَلَى اللُّغَةِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَتَرْجَمَةُ أَبِي دَاوُدَ: لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ فِي شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ. وَمِنَ السُّنَّةِ أَيِ: الْمُؤَكَّدَةِ أَنْ يَعُودَ أَخَاهُ فِيمَا اعْتَرَاهُ أَيْ: أَصَابَهُ مِنَ الْمَرَضِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَمْرَاضٍ: صَاحِبِ الرَّمَدِ، وَالضِّرْسِ، وَالدُّمَّلِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَبِتَقْيِيدِنَا السُّنَّةَ بِالْمُؤَكَّدَةِ يَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ «أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنَيَّ» ; فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّنَنِ الْغَيْرِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهَا الْعِيَادَةُ، لَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ بِعِلَّةٍ فَعِيَادَتُهُ سُّنَّةٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

1552 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، وَعَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مُحْتَسِبًا، بُوعِدَ مِنْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ سِتِّينَ خَرِيفًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1552 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ) أَيْ: أَتَى بِهِ كَامِلًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: أَتَى بِهِ صَحِيحًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ صَحِيحًا لَا يُقَالُ لَهُ فِي الشَّرْعِ: إِنَّهُ تَوَضَّأَ. (وَعَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ) : وَلَعَلَّ الْأَمْرَ بِالطَّهَارَةِ لِلْعِيَادَةِ ; لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بِنُقْطَةِ زِيَادَةٍ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى رِعَايَةِ صَاحِبِ الْعِيَادَةِ، فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْوُضُوءَ سُنَّةٌ فِي الْعِبَادَةِ ; لِأَنَّهُ إِذَا دَعَا عَلَى الطَّهَارَةِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي الْوُضُوءِ هُنَا أَنَّ الْعِيَادَةَ عِبَادَةٌ، وَأَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَكْمَلِ أَفْضَلُ، هَذَا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْوُضُوءُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، ثُمَّ قَالَ: وَالِاعْتِذَارُ عَمَّهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا هَذَا الْحَدِيثَ بَعِيدًا مَعَ كَوْنِ السُّنَّةِ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ. أَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَسْتَبْعِدُ أَنَّ فُقَهَاءَ الشَّافِعِيَّةِ لَمْ يَرَوْا مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُجَوِّزُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ مَا بَلَغَتْ مِثْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحَدِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَلَكِنْ كَمَا وَرَدَ: " حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ ". (مُحْتَسِبًا) أَيْ: طَالِبًا لِلثَّوَابِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ مِنَ الْأَسْبَابِ. (بُوعِدَ) : مَاضٍ مَجْهُولٌ مِنَ الْمُبَاعَدَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ لِلْمُبَالَغَةِ. (مِنْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ سِتِّينَ خَرِيفًا) أَيْ: سَنَةً. كَمَا فِي رِوَايَةٍ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ إِطْلَاقًا لِلْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ: قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ يُؤَرِّخُونَ أَعْوَامَهُمْ بِالْخَرِيفِ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَانَ جِدَادِهِمْ وَقِطَافِهِمْ وَإِدْرَاكِ غَلَّاتِهِمْ إِلَى أَنْ أَرَّخَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَنَةِ الْهِجْرَةِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ اعْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ بِمَا رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخَرِيفَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ كَأَمِيرٍ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَيْنَ الْقَيْظِ وَالشِّتَاءِ تُخْتَرَفُ فِيهِ الثِّمَارُ، وَأَرَّخَ الْكُتَّابُ وَقْتَهُ فَقَوْلُهُ: كَانُوا يُؤَرِّخُونَ أَعْوَامَهُمْ بِالْخَرِيفِ، مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْخَرِيفَ آخِرَ سَنَتِهِمْ، أَوْ أَوَّلَهَا لِمَا عَلَّلَهُ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُطْلِقُونَ الْخَرِيفَ عَلَى الْعَامِ جَمِيعًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَمَا الدَّخْلُ فِيهِ لِتَارِيخِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْهِجْرَةِ، فَإِنَّ سَبَبَهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُؤَرِّخُونَ لِمَعْرِفَةِ مُضِيِّ مُدَّةِ السِّنِينَ بِأَمْرٍ غَرِيبٍ كَانَ يَقَعُ فِي سَنَةٍ مِنَ السِّنِينِ كَعَامِ الْفِيلِ، فَغَيَّرَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَعَلَ اعْتِبَارَ التَّارِيخِ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى تَارِيخِ يَوْمِنَا هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1553 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا فَيَقُولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ، رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ، إِلَّا شُفِيَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَضَرَ أَجَلُهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1553 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ) : " مَا " لِلنَّفْيِ وَ " مِنْ " زَائِدَةٌ. (يَعُودُ مُسْلِمًا) أَيْ: يَزُورُهُ فِي مَرَضِهِ. (فَيَقُولُ) أَيِ: الْعَائِدُ. (سَبْعَ مَرَّاتٍ) : لَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى السَّبْعَةِ الْأَعْضَاءِ. (أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ) أَيْ: فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. (رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) : فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِهِ، وَمُحِيطٌ بِمُكَوِّنَاتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الرَّبِّ. (أَنْ يَشْفِيَكَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَفْعُولٌ ثَانٍ. (إِلَّا شُفِيَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: ذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْمَرِيضُ سَرِيعًا، وَالْحَصْرُ غَالِبِيٌّ، أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى شُرُوطٍ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَضَرَ أَجَلُهُ) أَيْ: فَيُهَوِّنُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، وَيَحْصُلُ لَهُ شِفَاءُ الْبَاطِنِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

1554 - وَعَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ مِنَ الْحُمَّى وَمِنَ الْأَوْجَاعِ كُلِّهَا أَنْ يَقُولُوا: " بِسْمِ الْكَبِيرِ، أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ نَعَّارٍ، وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1554 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّمُهُمْ مِنَ الْحُمَّى) أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا. (وَمِنَ الْأَوْجَاعِ كُلِّهَا أَنْ يَقُولُوا) أَيِ: الْمَرْضَى أَوْ عُوَّادُهُمْ " بِسْمِ اللَّهِ الْكَبِيرِ) أَيْ: شَأْنُهُ وَالْعَلِيُّ بُرْهَانُهُ. (أَعُوذُ بِاللَّهِ) : هَذَا لَفْظُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَفِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ: نَعُوذُ بِاللَّهِ. (الْعَظِيمِ مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ) : بِالتَّنْوِينِ. (نَعَّارٍ) أَيْ: فَوَّارِ الدَّمِ، يُقَالُ: نَعَرَ الْعِرْقُ، يَنْعَرُ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا إِذَا فَارَ مِنْهُ الدَّمُ، اسْتَعَاذَ لِأَنَّهُ إِذَا غَلَبَ لَمْ يُمْهِلْ، وَقِيلَ: سَائِلُ الدَّمِ، وَقِيلَ: مُضْطَرِبٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: نَعَرَ الْعِرْقُ بِالدَّمِ إِذَا ارْتَفَعَ وَعَلَا وَجُرِحَ، نَعَّارٌ وَنَعُورٌ إِذَا صَوَّتَ دَمُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ اهـ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَيُرْوَى " عِرْقٌ نَعَّارٌ ". (وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ) : قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، والْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ، وَلِعَدَمِ اطِّلَاعِ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: يُسَنُّ ذِكْرُ ذَلِكَ لِلْعَائِدِ ; لِأَنَّ الضَّعِيفَ حُجَّةٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا.

1555 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنِ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا أَوِ اشْتَكَاهُ أَخٌ لَهُ، فَلْيَقُلْ: رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ، فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ، عَلَى هَذَا الْوَجَعِ فَيَبْرَأُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1555 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنِ اشْتَكَى) أَيْ: شَكَا. (مِنْكُمْ شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ. (أَوِ اشْتَكَاهُ) : الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى. (شَيْئًا) . (أَخٌ لَهُ، فَلْيَقُلْ) أَيِ: الْمُشْتَكِي أَوْ أَخُوهُ الْعَائِدُ. (رَبُّنَا اللَّهُ) : قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: فِي النُّسَخِ بِالرَّفْعِ، وَفِي شَرْحٍ قَالَ: إِنَّهُ بِالنَّصْبِ، وَاللَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ. (الَّذِي) : صِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ. (فِي السَّمَاءِ) أَيْ: رَحْمَتُهُ، أَوْ أَمْرُهُ، أَوْ مُلْكُهُ الْعَظِيمُ، أَوِ الَّذِي مَعْبُودٌ فِي السَّمَاءِ كَمَا أَنَّهُ مَعْبُودٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] ، وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُوهِمِ لِلْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. (تَقَدَّسَ اسْمُكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَسْمَاؤُكَ أَيْ: تَطَهَّرْتَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَبُّنَا: مُبْتَدَأٌ، اللَّهُ: خَبَرُهُ، الَّذِي: صِفَةٌ مَادِحَةٌ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ ; لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ، وَمِنْ ثَمَّةَ نَزَّهَ اسْمَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَقْدِيسُ الْمُسَمَّى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. (أَمْرُكَ) أَيْ: مُطَاعٌ. (فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] أَيْ: مَا أَمَرَ بِهِ فِيهَا وَدَبَّرَهَا مِنْ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّيِّرَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ) : " مَا " كَافَّةٌ مُهَيِّئَةٌ لِدُخُولِ الْكَافِ عَلَى الْجُمْلَةِ. فِي الْفَائِقِ: الْأَمْرُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَكِنَّ الرَّحْمَةَ شَأْنُهَا أَنْ تَخُصَّ بِالسَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا مَكَانُ الطَّيِّبِينَ الْمَعْصُومِينَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلِذَلِكَ أَتَى بِالْفَاءِ الْجَزَائِيَّةِ، بِالتَّقْدِيرِ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ. (فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ: فِي أَهْلِهَا. (اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَتُفْتَحُ أَيْ: ذَنْبَنَا. (وَخَطَايَانَا) أَيْ: كَبَائِرَنَا وَصَغَائِرَنَا، وَعَمْدَنَا وَخَطَأَنَا. (أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ) أَيْ: مُحِبُّهُمْ وَمُتَوَلِّي أَمْرِهِمْ، وَالْإِضَافَةُ تَشْرِيفِيَّةٌ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الشِّرْكِ، أَوِ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ الْأَفْعَالَ الدَّنِيَّةَ، وَالْأَقْوَالَ الرِّدِيَّةَ. (أَنْزِلْ رَحْمَةً) أَيْ: عَظِيمَةً. (مِنْ رَحْمَتِكَ) أَيِ: الْوَاسِعَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِلَى آخِرِهِ تَقْرِيرٌ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ. (وَشِفَاءً) أَيْ: عَظِيمًا. (مِنْ شِفَائِكَ) أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ. (عَلَى هَذَا الْوَجَعِ) : بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِي الْوَجَعِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ مَا يَعْرِفُهُ

كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْوَجَعَ مَا هُوَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى. (شَيْئًا) ، فَالْجِيمُ مَفْتُوحٌ، وَإِلَى مَنْ فِي مَنِ اشْتَكَى، فَالْجِيمُ مَكْسُورٌ. وَقَالَ مِيرَكُ: ضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَهُوَ مَنْ بِهِ وَجَعٌ. أَيْ: بِفَتْحِ الْجِيمِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْفَتْحُ هُوَ الرِّوَايَةُ. (فَيَبْرَأُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: فَهُوَ يَتَعَافَى، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَيَبْرَأُ جَوَابٌ لِيَقُلْ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْأُصُولِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ اهـ. لَكِنَّ الْحَاكِمَ رَوَاهُ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ.

1556 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا، أَوْ يَمْشِي لَكَ إِلَى جِنَازَةٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1556 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأْ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ، وَبِالْهَمْزَةِ فِي آخِرِهِ مَجْزُومًا، أَيْ: يَجْرَحْ. (لَكَ عَدُوًّا) أَيِ: الْكُفَّارَ، أَوْ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، وَيُكْثِرْ فِيهِمُ النِّكَايَةَ بِالْإِيلَامِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْإِلْزَامِ بِالْجَزْمِ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ بِتَقْدِيرِ: فَهُوَ يَنْكَأُ مِنَ النَّكْءِ بِالْهَمْزَةِ مِنْ حَدِّ: مَنَعَ، وَمَعْنَاهُ الْخَدْشُ، وَيُمْكِنُ مِنَ النِّكَايَةِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيِ: التَّأْثِيرُ بِالْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، لَكِنَّ الرَّسْمَ لَا يُسَاعِدُ الْأَخِيرَ، وَفِي الصِّحَاحِ: نَكَأْتُ الْقُرْحَةَ أَنْكَأُهَا نَكْأً إِذَا قَشَرْتَهَا، وَفِي النِّهَايَةِ: نَكَيْتُ فِي الْعَدُوِّ أَنْكِي نِكَايَةٍ فَأَنَا نَاكٍ إِذَا أَكْثَرْتَ فِيهِمُ الْجِرَاحَ وَالْقَتْلَ فَوَهِمُوا لِذَلِكَ، وَقَدْ يُهْمَزُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: (يَنْكَأْ) مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ: فَإِنَّهُ يَنْكَأُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِالرَّفْعِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: يَغْزُو فِي سَبِيلِكَ. (أَوْ يَمْشِي) : بِالرَّفْعِ أَيْ: أَوْ هُوَ يَمْشِي. قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا وَرَدَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ يَنْكَأُ بِالرَّفْعِ ظَاهِرٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجَزْمِ فَهُوَ وَارِدٌ عَلَى قِرَاءَةِ: مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرُ. (لَكَ) أَيْ: لِأَمْرِكَ وَابْتِغَاءِ وَجْهِكَ. (إِلَى جِنَازَةٍ) اتِّبَاعُهَا لِلصَّلَاةِ لِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى صَلَاةٍ، وَهَذَا تَوَسُّعٌ شَائِعٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ وَلَعَلَّهُ جَمَعَ بَيْنَ النِّكَايَةِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَدَحَ فِي إِنْزَالِ الْعِقَابِ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ، وَالثَّانِي سَعَى فِي إِيصَالِ الرَّحْمَةِ إِلَى وَلِيِّ اللَّهِ اهـ. أَوْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَرَضِ إِمَّا كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ، أَوْ تَذْكِيرٌ بِالْمَوْتِ وَالْآخِرَةِ وَالْعِقَابِ، وَهُمَا حَاصِلَانِ لَهُ بِالْعَمَلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

1557 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، «عَنْ أُمَيَّةَ: أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] ، وَعَنْ قَوْلِهِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] "، فَقَالَتْ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: " هَذِهِ مُعَاتَبَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى وَالنَّكْبَةِ، حَتَّى الْبِضَاعَةِ يَضَعُهَا فِي يَدِ قَمِيصِهِ، فَيَفْقِدُهَا، فَيَفْزَعُ لَهَا، حَتَّى إِنَّ الْعَبْدَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ، كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنَ الْكِيرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1557 - (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ السَّيِّدُ: اسْمُ امْرَأَةِ وَالِدِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، وَلَيْسَ بِأُمِّهِ، قَالَهُ فِي التَّقْرِيبِ، فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُمِّهِ خَطَأٌ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُسَامَحَةِ أَوِ الْمَجَازِ. (أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنْ تُبْدُوا: كَذَا بِلَا وَاوٍ قَبْلَ إِنْ أَيْ: إِنْ تُظْهِرُوا: {مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] أَيْ: فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ السُّوءِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ. {أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] أَيْ: تُضْمِرُوهُ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِخُطُورِ الْخَوَاطِرِ. {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] أَيْ: يِجَازِيكُمْ بِسِرِّكُمْ وَعَلَنِكُمْ، أَوْ يُخْبِرُكُمْ بِمَا أَسْرَرْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ. (وَعَنْ قَوْلِهِ) أَيْ: تَعَالَى: (مَنْ يَعْمَلُ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. (سُوءً) أَيْ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. (يُجْزَ بِهِ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا أَوِ الْعُقْبَى إِلَّا مَا شَاءَ مَنْ شَاءَ. (فَقَالَتْ) أَيْ: عَائِشَةُ. (مَا سَأَلَنِي عَنْهَا) أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: عَنْهَا. (فَقَالَ: " هَذِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى مَفْهُومِ الْآيَتَيْنِ

الْمَسْئُولِ عَنْهُمَا أَيْ: مُحَاسَبَةِ الْعِبَادِ أَوْ مُجَازَاتِهِمْ بِمَا يُبْدُونَ وَمَا يَخَافُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ. (مُعَاتَبَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ) أَيْ: مُؤَاخَذَتُهُ الْعَبْدَ بِمَا اقْتَرَفَ مِنَ الذَّنْبِ. (بِمَا يُصِيبُهُ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ صِلَةُ مُعَاتَبَةٍ، وَيَصِحُّ كَوْنُ الْبَاءِ سَبَبِيَّةً. (مِنَ الْحُمَّى) : وَغَيْرُهَا مُؤَاخَذَةُ الْمُعَاتِبِ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْحُمَّى بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا مِنْ أَشَدِّ الْأَمْرَاضِ وَأَخْطَرِهَا. قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: الْعِتَابُ أَنْ يُظْهِرَ أَحَدُ الْخَلِيلَيْنِ مِنْ نَفْسِهِ الْغَضَبَ عَلَى خَلِيلِهِ لِسُوءِ أَدَبٍ ظَهَرَ مِنْهُ، مَعَ أَنَّ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتَهُ، يَعْنِي: لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلْ مَعْنَاهَا أَنَّهُ يُلْحِقُهُمْ بِالْجُوعِ، وَالْعَطَشِ، وَالْمَرَضِ، وَالْحَزَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَكَارِهِ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا صَارُوا مُطَهَّرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهَا فُهِمَتْ أَنَّ هَذِهِ مُؤَاخَذَةُ عِقَابٍ أُخْرَوِيٍّ ; فَأَجَابَهَا بِأَنَّهَا مُؤَاخَذَةُ عِتَابٍ فِي الدُّنْيَا عِنَايَةً وَرَحْمَةً اهـ. وَلِذَلِكَ لَمَّا شَقَّتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الصَّحَابَةِ وَأَزْعَجَتْهُمْ نَزَلَ عَقِبَهَا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] كَمَا أَنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمْ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وَتَفْسِيرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهَا «بِأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ» ; نَزَلَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَوَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ: هَذِهِ مُعَاقَبَةُ اللَّهِ بِالْقَافِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: إِشَارَةٌ إِلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا. وَيُرْوَى: مُعَاتَبَةُ اللَّهِ مِنَ الْعِتَابِ أَيْ: يُؤَاخِذُ اللَّهُ مَعَهُ أَخْذَ الْعَاتِبِ. قَالَ شَارِحُ الرِّوَايَةِ: الْأُولَى فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَهِيَ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فِي الْحَدِيثِ وَلَا مَعْنَى لَهَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرُوِيَ: مُتَابَعَةُ اللَّهِ، وَمَعْنَاهَا صَحِيحٌ خِلَافًا لِمَنْ نَازَعَ فِيهِ، وَأَطَالَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ وتَحْرِيفٌ لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إِلَى أَصْلٍ أَصْلًا، ثُمَّ جَعَلَهُ بِمَعْنَى تَبِعَهُ أَيْ: طَالَبَهُ تَبِعَتَهُ غَايَةً مِنَ الْبُعْدِ، وَأَعْرَبَ حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ خَبَرٌ: اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ، أَيِ: اقْتَدَوْا بِهِ. (وَالنَّكْبَةُ) : بِفَتْحِ النُّونِ أَيِ: الْمِحْنَةُ، وَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ. (حَتَّى الْبِضَاعَةِ) : بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ بِالْكَسْرِ طَائِفَةٌ مِنْ مَالِ الرِّجَالِ. (يَضَعُهَا فِي يَدِ قَمِيصِهِ) أَيْ: كُمِّهِ، سُمِّيَ بِاسْمِ مَا يُحْمَلُ فِيهِ. (فَيَفْقِدُهَا) أَيْ: يَتَفَقَّدُهَا وَيَطْلُبُهَا، فَلَمْ يَجِدْهَا لِسُقُوطِهَا، أَوْ أَخْذِ سَارِقٍ لَهَا مِنْهُ. (فَيَفْزَعُ لَهَا) أَيْ: يَحْزَنُ لِضَيَاعِ الْبِضَاعَةِ فَيَكُونُ كَفَّارَةً كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي إِذَا وَضَعَ بِضَاعَةً فِي كُمِّهِ، وَوَهِمَ أَنَّهَا غَابَتْ فَطَلَبَهَا وَفَزِعَ كَفَّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبَهُ، وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَا يَخْفَى. (حَتَّى) أَيْ: وَلَا يَزَالُ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحْوَالَ، حَتَّى " (إِنَّ الْعَبْدَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ، وَأَظْهَرَ الْعَبْدَ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِ إِظْهَارًا لِكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُقْتَضِي لِلصَّبْرِ وَالرِّضَا بِأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ. (كَمَا يَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ) : بِسَبَبِ الِابْتِلَاءِ بِالْبَلَاءِ. (كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ) بِالْكَسْرِ أَيِ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَا دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، فَإِذَا ضُرِبَا كَانَا عَيْنًا. (الْأَحْمَرُ) أَيِ: الذَّهَبُ يُشْوَى فِي النَّارِ تَشْوِيَةً بَالِغَةً. (مِنَ الْكِيرِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ مُتَعَلِّقٌ بِيَخْرُجُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1558 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إِلَّا بِذَنَبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، وَقَرَأَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 98 - 1558 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يُصِيبُ عَبْدًا) : التَّنْوِينُ لِلتَّنْكِيرِ. (نَكْبَةٌ) أَيْ: مِحْنَةٌ وَأَذًى، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ لَا لِلْجِنْسِ، لِيَصِحَّ تَرَتُّبُ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا بِالْفَاءِ، وَهُوَ. (فَمَا فَوْقَهَا) أَيِ: فِي الْعِظَمِ. (أَوْ دُونَهَا) : فِي الْمِقْدَارِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَمَا فَوْقَهَا) فِي الْعِظَمِ أَوْ دُونَهَا فِي الْحَقَارَةِ، وَيَصِحُّ عَكْسُهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ خِلَافُ مَعْرُوفِ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] مَمْنُوعٌ ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ فَوْقَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فَمَا فَوْقَهَا فِي الْكِبَرِ كَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ: فَمَا دُونَهَا، كَمَا يُقَالُ:

فُلَانٌ جَاهِلٌ، فَيُقَالُ: وَفَوْقَ ذَلِكَ، أَيْ: وَأَجْهَلُ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، لَكِنَّ مُخْتَارَ الْكَشَّافِ وَالْبَيْضَاوِيِّ: أَنَّ مَعْنَاهُ مَا زَادَ عَلَيْهَا فِي الْجَنَّةِ كَالذُّبَابِ، أَوْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ مَثَلًا، وَهُوَ الصِّغَرُ وَالْحَقَارَةُ كَجَنَاحِهَا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَنَظِيرُهُ فِي الِاحْتِمَالَيْنِ مَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلًا بِمِنًى خَرَّ عَلَى طُنُبِ فُسْطَاطٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكَ بِشَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» ". فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا تَجَاوَزَ الشَّوْكَةَ فِي الْأَلَمِ كَالْخُرُورِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فِي الْقِلَّةِ كَمَخَبَّةٍ ; لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ مِنْ مَكْرُوهٍ فَهُوَ لِخَطَايَاهُ حَتَّى نَخْبَةِ النَّمْلَةِ» " اهـ. وَهِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ: قَرْصَتُهَا، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ. (إِلَّا بِذَنْبٍ) أَيْ: يَصْدُرُ مِنَ الْعَبْدِ. (وَمَا يَعْفُو اللَّهُ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ أَيِ: الَّذِي يَغْفِرُهُ وَيَمْحُوهُ. (عَنْهُ أَكْثَرُ) : مِمَّا يُجَازِيهِ. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ: أَيْ: لَا تُصِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا مُصِيبَةٌ إِلَّا بِسَبَبِ ذَنْبٍ صَدَرَ مِنْهُ، تَكُونُ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ الَّتِي لَحِقَتْهُ فِي الدُّنْيَا كَفَّارَةٌ لِذَنْبِهِ، وَالَّذِي يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يُجَازِيَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَكْثَرُ وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ، فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ. (وَقَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. {وَمَا أَصَابَكُمْ} [الشورى: 30] : مَا: شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ. {مِنْ مُصِيبَةٍ} [الشورى: 30] أَيْ: مِنْ مَرَضٍ، وَشِدَّةٍ، وَهَلَاكٍ، وَتَلَفٍ فِي أَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْمُذْنِبِينَ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّمَا تُصِيبُهُمْ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ. {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] : الرِّوَايَةُ بِالْفَاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِحَذْفِهَا فِي الْآيَةِ أَيْ: بِذُنُوبٍ كَسَبَتْهَا أَنْفُسُكُمْ، فَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ: بِكَسْبِكُمُ الْآثَامَ، وَانْتِسَابُ الِاكْتِسَابِ إِلَى الْأَيْدِي ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِهَا، وَالْمَعْنَى: مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. (وَيَعْفُو) أَيْ: فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى: (عَنْ كَثِيرٍ) أَيْ: كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ، أَوْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُذْنِبِينَ وَتُكْتَبُ الْأَلِفُ بَعْدِ وَاوِ يَعْفُ، مَعَ أَنَّهُ مُفْرَدٌ عَلَى الرَّسْمِ الْقُرْآنِيِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1559 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ مَرِضَ، قِيلَ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ: اكْتُبْ لَهُ مِثْلَ عَمَلِهِ إِذَا كَانَ طَلِيقًا حَتَّى أُطْلِقَهُ، أَوْ أَكْفِتَهُ إِلَيَّ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1559 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ» ) أَيْ: عَلَى جِهَةِ الْمُتَابَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ " مِنَ الْعِبَادَةِ " أَيْ: نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا مِنَ النَّوَافِلِ بَعْدَ قِيَامِهِ بِالْفَرَائِضِ. (ثُمَّ مَرِضَ) : وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تِلْكَ الْعِبَادَةِ. (قِيلَ) أَيْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا مَرَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: حَتَّى أَطْلَقَهُ. (لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ) أَيْ: صَاحِبِ الْحَسَنَاتِ. ( «كُتِبَ لَهُ مِثْلُ عَمَلِهِ إِذَا كَانَ طَلِيقًا» ) أَيْ: مُطْلَقًا مِنَ الْمَرَضِ الَّذِي عَرَضَ لَهُ غَيْرَ مُقَيِّدٍ بِهِ مَنْ أَطْلَقَهُ إِذَا رَفَعَ عَنْهُ الْقَيْدَ، أَيْ: إِذَا كَانَ صَحِيحًا لَمْ يُقَيِّدْهُ الْمَرَضُ عَنِ الْعَمَلِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (حَتَّى أُطْلِقَهُ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَكْتُبُ إِلَى حِينِ أَرْفَعُ عَنْهُ قَيْدَ الْمَرَضِ. (أَوْ أَكْفِتَهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: أَقْبِضَهُ. (إِلَيَّ) : فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: أَضُمُّهُ إِلَى الْقَبْرِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَرْضِ: كِفَاتٌ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: أُمِيتُهُ. قِيلَ: الْكَفْتُ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَهُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمَوْتِ. قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا عَاصِمٌ الْقَارِّيُّ، رَوَى لَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَأَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ مُتَابَعَةً.

1560 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ، قِيلَ لِلْمَلَكِ: اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، فَإِنْ شَفَاهُ غَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ» . " رَوَاهُمَا فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1560 - (وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ قَالَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي نُسْخَةٍ: قِيلَ: (لِلْمَلَكِ) : الْمُوَكَّلِ أَيْ: صَاحِبِ يَمِينِهِ. (اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ) أَيْ: مِثْلَهُ. (الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ) : وَالظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ نَفْسُ الْعَمَلِ، وَقِيلَ: ثَوَابُهُ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ ; فَإِنَّهُ يَشْمَلُ التَّضَاعُفَ. (فَإِنْ شَفَاهُ) أَيِ: اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -. (غَسَّلَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: نَظَّفَهُ. (وَطَهَّرَهُ) : مِنَ الذُّنُوبِ ; لِأَنَّ الْمَرَضَ كَفَّرَهَا، وَالْوَاوُ تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ تَأْكِيدِيَّةٌ، أَوْ تَنْوِيعِيَّةٌ. (وَإِنْ قَبَضَهُ) أَيْ: أَمَرَ بِقَبْضِهِ وَأَمَاتَهُ. (غَفَرَ لَهُ) : مِنَ السَّيِّئَاتِ. (وَرَحِمَهُ) : بِقَبُولِ الْحَسَنَاتِ، أَوْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ الْمَثُوبَاتِ. (رَوَاهُمَا) أَيْ: رَوَى صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ. (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) قَالَ مِيرَكُ: وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ كَمَا يُفْهَمُ مِنَ التَّخْرِيجِ وَالتَّصْحِيحِ.

1561 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الشَّهَادَةُ سَبْعٌ، سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ " وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ» " رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1561 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ التَّاءِ، كُنْيَتُهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَجَمِيعَ الْمَشَاهِدِ بَعْدَهَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الشَّهَادَةُ) أَيِ: الْحُكْمِيَّةُ. (سَبْعٌ) : بَلْ أَكْثَرُ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ. (سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: غَيْرِ الشَّهَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. ( «الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ إِلَى آخِرِهِ بَيَانٌ لِلسَّبْعِ بِحُسْنِ الْمَعْنَى. ( «وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ» ) : إِذَا كَانَ سَفَرُهُ طَاعَةً. ( «وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ» ) : وَهِيَ قُرْحَةٌ أَوْ قُرُوحٌ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ دَاخِلَ جَنْبِهِ، ثُمَّ تُفْتَحُ وَيَسْكُنُ الْوَجَعُ، وَذَلِكَ وَقْتُ الْهَلَاكِ، وَمِنْ عَلَامَاتِهَا الْوَجَعُ تَحْتَ الْأَضْلَاعِ، وَضِيقُ النَّفَسِ مَعَ مُلَازَمَةِ الْحُمَّى وَالسُّعَالِ، وَهِيَ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرُ. (وَالْمَبْطُونُ) : مِنْ إِسْهَالٍ، أَوِ اسْتِسْقَاءٍ، أَوْ وَجَعِ بَطْنٍ. (شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ " أَيِ: الْمُحْرَقُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ بِالْحَرْقِ. شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدَمِ) : بِفَتْحِ الدَّالِ وَيُسَكَّنُ. (شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ وَسُكُونِ الْمِيمِ. (شَهِيدٌ) : فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: تَمُوتُ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ، وَقِيلَ: تَمُوتُ بِكْرًا، وَالْجُمْعُ بِالضَّمِّ بِمَعْنَى الْمَجْمُوعِ، كَالذُّخْرِ بِمَعْنَى الْمَذْخُورِ، وَكَسَرَ الْكِسَائِيُّ الْجِيمَ أَيْ: مَاتَتْ مَعَ شَيْءٍ مَجْمُوعٍ فِيهَا غَيْرِ مُنْفَصِلٍ عَنْهَا مِنْ حَمْلٍ أَوْ بَكَارَةٍ أَوْ غَيْرِ مَطْمُوثَةٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْجُمْعُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهِا، وَالرِّوَايَةُ بِالضَّمِّ أَيْ: تَمُوتُ وَوَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا، وَقِيلَ: هُوَ الطَّلْقُ، وَقِيلَ: بِأَنْ تَمُوتَ بِالْوِلَادَةِ، وَقِيلَ، بِسَبَبِ بَقَاءِ الْمَشِيمَةِ فِي جَوْفِهَا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْخَلَاصِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ مِنْ زَوْجِهَا أَيْ: مَاتَتْ بِكْرًا يَفْتَضُّهَا زَوْجُهَا. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخَانِ بِلَا خِلَافٍ.

1562 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ هُوِّنَ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ مَا لَهُ ذَنْبٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1562 - (وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ) أَيْ: أَكْثَرُ أَوْ أَصْعَبُ بَلَاءً؟ أَيْ: مِحْنَةً وَمُصِيبَةً. (قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ) أَيْ: هُمْ أَشَدُّ فِي الِابْتِلَاءِ ; لِأَنَّهُمْ يَتَلَذَّذُونَ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَتَلَذَّذُ غَيْرُهُمْ بِالنَّعْمَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُبْتَلَوْا لَتُوُهِّمَ فِيهِمُ الْأُلُوهِيَّةُ، وَلِيُتَوَهَّنَ عَلَى الْأُمَّةِ الصَّبْرُ عَلَى الْبَلِيَّةِ. (ثُمَّ الْأَمْثَلُ) أَيِ: الْأَشْبَهُ بِهِمْ، أَوِ الْأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. (فَالْأَمْثَلُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: الْأَشْرَفُ فَالْأَشْرَفُ، وَالْأَعْلَى فَالْأَعْلَى رُتْبَةً وَمَنْزِلَةً

يَعْنِي: مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ بَلَاؤُهُ أَشَدُّ لِيَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ فِيهِ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَالْفَاءُ لِلتَّعَاقُبِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَالِي تَنَزُّلًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ، وَاللَّامُ فِي الْأَنْبِيَاءِ لِلْجِنْسِ اهـ. كَوْنُهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، إِذْ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ عَظِيمِ مِحْنَةٍ، وَجَسِيمِ بَلِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ زَمَنِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ( «يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ» ) أَيْ: مِقْدَارِهِ ضَعْفًا وَقُوَّةً، وَنَقْصًا وَكَمَالًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَاللَّامُ فِي الرَّجُلِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُتَوَالِيَةِ اهـ. وَيَصِحُّ كَوْنُهَا لِلْجِنْسِ، بَلْ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ. (فَإِنْ كَانَ) : تَفْصِيلٌ لِلِابْتِلَاءِ وَقَدْرِهِ. (فِي دِينِهِ صُلْبًا) : خَبَرُ كَانَ أَيْ: شَدِيدًا، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى الرَّجُلِ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ. (اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ أَيْ: كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً. (وَإِنْ كَانَ) أَيْ: هُوَ. (فِي دِينِهِ رِقَّةٌ) : الْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِقَّةٌ اسْمَ كَانَ أَيْ: ضَعُفٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ الصَّلَاةَ صِفَةً لَهُ، وَالرِّقَّةَ صِفَةً لَهُ، وَالرِّقَّةُ صِفَةٌ لِدِينِهِ مُبَالَغَةٌ وَعَلَى الْأَصْلِ اهـ. وَكَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الصُّلْبِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْجُثَثِ، وَفِي الرِّقَّةِ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْمَعَانِي، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ. (هُوِّنَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ سُهِّلَ وَقُلِّلَ. (عَلَيْهِ) أَيِ: الْبَلَاءُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِيَكُونَ ثَوَابُهُ أَقَلَّ. أَقُولُ: بَلْ رَحْمَةً عَلَيْهِ وَلُطْفًا بِهِ، فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَوْلَا التَّخْفِيفُ فِي بَلَائِهِ لَخُشِيَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ مِنَ ابْتِلَائِهِ ; وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» ". (فَمَا زَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ الْمُبْتَلَى قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ كَانَ الْأَوَّلِ. (كَذَلِكَ) أَيْ: أَبَدًا يُصِيبُ الصَّالِحَ الْبَلَاءُ، وَيُغْفَرُ ذَنْبُهُ بِإِصَابَتِهِ إِيَّاهُ. (حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ) : كِنَايَةٌ عَنْ خَلَاصِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ مَحْبُوسًا، ثُمَّ أُطْلِقَ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ. (مَا لَهُ) أَيْ: عَلَيْهِ. (ذَنْبٌ) : يَخْتَصُّ بِهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ شَفِيعًا لِغَيْرِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) .

1563 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1563 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا أَغْبِطُ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ. يُقَالُ: غَبَطْتُ الرَّجُلَ أَغْبِطُهُ إِذَا اشْتَهَيْتَ أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مَا لَهُ، وَأَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ أَيْ: مَا أَحْسُدُ. (أَحَدًا) : وَلَا أَتَمَنَّى وَلَا أَفْرَحُ لِأَحَدٍ. (بِهَوْنِ مَوْتٍ) : الْهَوْنُ: بِالْفَتْحِ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ أَيْ: بِسَهُولَةِ مَوْتٍ. (بَعْدَ الَّذِي) أَيْ: بَعْدَ الْحَالِ الَّذِي. (رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) -: وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) .

1564 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْمَوْتِ، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ، أَوْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1564 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْمَوْتِ» ) أَيْ: مَشْغُولٌ أَوْ مُلْتَبِسٌ بِهِ، وَالْأَحْوَالُ بَعْدَهَا مُتَدَاخِلَاتٌ. (وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ) أَيْ: بِالْمَاءِ تَبْرِيدًا لِحَرَارَةِ الْمَوْتِ، أَوْ دَفْعًا لِلْغَشَيَانِ وَكَرْبِهِ، أَوْ تَنْظِيفًا لِوَجْهِهِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى رَبِّهِ، أَوْ إِظْهَارًا لِعَجْزِهِ وَتَبْرِئَتِهِ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. (ثُمَّ يَقُولُ: " «اللَّهُمَّ أَعَنِّي عَلَى مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ» ) أَيْ: عَلَى دَفْعِهَا عَنِّي. (أَوْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ) أَيْ: شَدَائِدِهِ، جَمْعُ سَكْرَةٍ بِسُكُونِ الْكَافِ، وَهِيَ شِدَّةُ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: السُّكْرُ حَالَةٌ تَعْرِضُ بَيْنَ الْمَرْءِ

وَعَقْلِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الشَّرَابِ، وَقَدْ يَعْتَرِي مِنَ الْغَضَبِ وَالْعِشْقِ، وَلَوْ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْخَوْفِ. قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2] ، أَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُغْمَى عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، فَاللَّائِقُ بِمَقَامِهِ الْعَلِيِّ، وَحَالِهِ الْجَلِيِّ أَنْ يُحْمَلَ الْإِغْمَاءُ عَلَى مَعْنَى الْغَيْبَةِ بِالشُّهُودِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَعَلَى مَعْنَى الْغَمَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ، بِنَاءً عَلَى مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ الصَّفِيَّةُ، وَالطَّائِفَةُ الْبَهِيَّةُ السُّنِّيَّةُ. قِيلَ: أَوْ لِلشَّكِّ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ، وَيُرَادُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ مَا يَقَعُ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنَ الْمَرِيضِ، أَوْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَخَطَرَاتِهِ وَتَزْيِينِ خَطَرَاتِهِ، وَمِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ شَدَائِدُهُ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا الْمُحْتَضِرُ فَيَمُوتُ فَزَعًا جَزَعًا، وَالْمَطْلُوبُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَمُسْلِمٌ مُحْسِنٌ لِلظَّنِّ بِرَبِّهِ، وَفِي هَذَا تَعْلِيمٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُمَّتِهِ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا عَلَى مِلَّتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.

1565 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1565 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ) أَيْ: قَضَى وَقَدَّرَ. (بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ) أَيْ: كُلَّهُ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى. (عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ أَيِ: الِابْتِلَاءَ بِالْمَكَارِهِ. (فِي الدُّنْيَا) لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى. (وَإِذَا أَرَادَ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ) أَيْ: أَخَّرَ. (عَنْهُ) مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ. (بِذَنْبِهِ) أَيْ: بِسَبَبِهِ. (حَتَّى يُوَافِيَهُ) أَيْ: يُجَازِيَهُ جَزَاءً وَافِيًا. (بِهِ) أَيْ: بِذَنْبِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَنْصُوصُ إِلَى الْعَبْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْكَسَ اهـ. وَلَعَلَّ الْمُوَافَاةَ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْمُلَاقَاةِ. قَالَ: وَالْمَعْنَى لَا يُجَازِيهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يَجِيءَ فِي الْآخِرَةِ مُتَوَافِرَ الذُّنُوبِ وَافِيهَا ; فَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنَ الْعِقَابِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: إِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْهُ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

1566 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ، مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1566 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ عُظْمَ الْجَزَاءِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الظَّاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرٍ ثُمَّ فَتْحٍ أَيْ: عَظَمَةُ الْأَجْرِ وَكَثْرَةُ الثَّوَابِ مَقْرُونٌ. (مَعَ عُظْمِ الْبَلَاءِ) : كَيْفِيَّةً وَكَمِّيَّةً، جَزَاءً وِفَاقًا، وَأَجْرًا طِبَاقًا. (وَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذَا أَحَبَّ) أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ. (قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ) : فَإِنَّ الْبَلَاءَ لِلْوُلَاةِ، وَالِابْتِلَاءَ لِلْأَوْلِيَاءِ. (فَمَنْ رَضِيَ) أَيْ: بِالْبَلَاءِ. (فَلَهُ الرِّضَا) أَيْ: فَلْيَعْلَمْ أَنَّ لَهُ الرِّضَا مِنَ الْمَوْلَى، أَوْ فَيَحْصُلُ لَهُ الرِّضَا فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، قِيلَ: رِضَا الْعَبْدِ مَحْفُوفٌ بِرِضَاءَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى سَابِقًا وَلَاحِقًا، وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّمَا اللَّاحِقُ أَثَرُ السَّابِقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقَائِقِ. (وَمَنْ سَخِطَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ: كَرِهَ بَلَاءَ اللَّهِ، وَفَزِعَ وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ. (فَلَهُ السَّخَطُ) : مِنَ اللَّهِ أَوَّلًا وَالْغَضَبُ عَلَيْهِ آخِرًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّضَا وَالسَّخَطَ حَالَانِ مُتَعَلِّقَانِ بِالْقَلْبِ، فَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ أَنِينٌ مِنْ وَجَعٍ وَشِدَّةِ مَرَضٍ وَقَلْبُهُ مَشْحُونٌ مِنَ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ. هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ جَمِيعًا، وَحَذَفَ ذِكْرَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لِدَلَالَةِ التَّفْصِيلِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْفَاءَ فِي فَمَنْ تَفْصِيلِيَّةٌ، وَالتَّفْصِيلُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُفَصَّلِ ; لِأَنَّ الْمُفَصَّلَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ، وَالتَّفْصِيلُ عَلَى فَرِيقَيْنِ: أَهْلِ الرِّضَا، وَأَهْلِ السَّخَطِ. قَالَ مِيرَكُ: أَقُولُ: وَلِلْحَدِيثِ مَحْمَلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ نُزُولَ الْبَلَاءِ عَلَامَةُ الْمَحَبَّةِ فَمَنْ رَضِيَ بِالْبَلَاءِ صَارَ مَحْبُوبًا حَقِيقِيًّا لَهُ تَعَالَى، وَمَنْ سَخِطَ صَارَ مَسْخُوطًا عَلَيْهِ، تَأَمَّلْ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: فَهُمْ مِنْهُ أَنَّ رِضَا اللَّهِ مَسْبُوقٌ بِرِضَاءِ الْعَبْدِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بَعْدَ رِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] وَمُحَالٌ أَنْ يَحْصُلَ رِضَاءُ اللَّهِ، وَلَا يَحْصُلُ رِضَا الْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] . فَعَنِ اللَّهِ الرِّضَا أَزَلًا وَأَبَدًا، سَابِقًا وَلَاحِقًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: بِسَنَدِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. (وَابْنُ مَاجَهْ) .

1567 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوِ الْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى مَالِكٌ نَحْوَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1567 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ» ) أَيْ: يَنْزِلُ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ. (أَوِ الْمُؤْمِنَةِ) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ بِالْوَاوِ فَقَالَ: الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " بِدَلِيلِ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ " فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ": بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: أَوْلَادِهِ " حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ " أَيْ: يَمُوتَ. (وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ) : بِالْهَمْزِ وَالْإِدْغَامِ أَيْ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ ; لِأَنَّهَا قَدْ زَالَتْ بِسَبَبِ الْبَلَاءِ؟ . (رَوَاهُ، التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى مَالِكٌ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

1568 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ يُبَلِّغُهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1568 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَدْ سمَّاهُ ابْنُ مَنْدَهْ اللَّجْلَاجَ بْنَ حَكِيمٍ، وَفِي التَّقْرِيبِ وَالِدُ مُحَمَّدٍ مَجْهُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ. أَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ يُسَمِّ أَبَاهُ، لَكِنْ سَمَّاهُ ابْنُ مَنْدَهْ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ " أَيْ: فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. (مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ) أَيْ: مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ فِي الْجَنَّةِ. (لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ) : لِعَجْزِهِ عَنِ الْعَمَلِ الْمُوصِلِ إِلَيْهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ سَبَبٌ لِلدَّرَجَاتِ. قِيلَ: وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِيمَانِ الْعَبْدِ، وَالْخُلُودُ بِالنِّيَّةِ، (ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ) أَوْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّنْوِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ. (ثُمَّ صَبَّرَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: رَزَقَهُ الصَّبْرَ. (عَلَى ذَلِكَ) مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] . (حَتَّى يُبَلِّغَهُ) : اللَّهُ بِالتَّشْدِيدِ، وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى هَذَا إِمَّا لِلْغَايَةِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى " كَيْ "، وَالْمَعْنَى حَتَّى يُوَصِّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (الْمَنْزِلَةَ) أَيِ: الْمَرْتَبَةَ الْعُلْيَا. (الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ) أَيْ: إِرَادَتُهَا. (مِنَ اللَّهِ) تَعَالَى شَأْنُهُ، وَتَوَالَى إِحْسَانُهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

1569 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مُثِّلَ ابْنُ آدَمَ وَإِلَى جَنْبِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مَنِيَّةً، إِنْ أَخْطَأَتْهُ الْمَنَايَا وَقَعَ فِي الْهَرَمِ حَتَّى يَمُوتَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1569 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِخِّيرٍ) : بِكَسْرِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُثِّلَ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: صُوِّرَ وَخُلِقَ. (ابْنُ آدَمَ) : وَقِيلَ: مَثَلُ ابْنِ آدَمَ بِفَتْحَتَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ، وَيُرِيدُ بِهِ صِفَتَهُ وَحَالَهُ الْعَجِيبَةَ الشَّأْنِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ، أَيِ: الظَّرْفُ، وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مُرْتَفِعٌ بِهِ أَيْ: حَالُ ابْنِ آدَمَ أَنَّ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ مَنِيَّةً مُتَوَجِّهَةً إِلَى نَحْوِهِ، مُنْتَهِيَةً إِلَى جَانِبِهِ، وَقِيلَ: خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَثَلُ ابْنِ آدَمَ مَثَلُ الَّذِي يَكُونُ إِلَى جَنْبِهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مَنِيَّةً، وَلَعَلَّ الْحَذْفَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. (وَإِلَى جَنْبِهِ) : الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: بِقُرْبِهِ. (تِسْعٌ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: تِسْعَةٌ. (وَتِسْعُونَ) أَرَادَ بِهِ الْكَثْرَةَ دُونَ الْحَصْرِ. (مَنِيَّةً) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: بَلِيَّةً مُهْلِكَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ: سَبَبُ مَوْتٍ. (إِنْ أَخْطَأَتْهُ الْمَنَايَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَنَايَا جَمْعُ مَنِيَّةٍ وَهِيَ الْمَوْتُ ; لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْمُنَى، وَهُوَ التَّقْدِيرُ سَمَّى كُلَّ بَلِيَّةٍ مِنَ الْبَلَايَا مَنِيَّةً ; لِأَنَّهَا طَلَائِعُهَا وَمُقَدِّمَاتُهَا اهـ. أَيْ: إِنْ جَاوَزَتْهُ فَرْضًا أَسْبَابُ الْمَنِيَّةِ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَالْجُوعِ، وَالْغَرَقِ، وَالْحَرْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. (وَقَعَ فِي الْهَرَمِ) أَيْ: فِي مَجْمَعِ الْمَنَايَا وَمَنْبَعِ الْبَلَايَا. (حَتَّى يَمُوتَ) : مِنْ جُمْلَةِ الْبَرَايَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: يُرِيدُ أَنَّ أَصْلَ خَلْقِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا تُفَارِقَهُ الْمَصَائِبُ وَالْبَلَايَا وَالْأَمْرَاضُ وَالْأَدْوَاءُ، كَمَا قِيلَ: الْبَرَايَا أَهْدَافُ الْبَلَايَا، وَكَمَا قَالَ صَاحِبُ الْحِكَمِ ابْنُ عَطَاءٍ: مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الْأَكْدَارِ، فَإِنْ أَخْطَأَتْهُ تِلْكَ النَّوَائِبُ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ أَدْرَكَهُ مِنَ الْأَدْوَاءِ الدَّاءُ الَّذِي لَا دَوَاءَ لَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، رَاضِيًا بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَضَاهُ، فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ. ( «مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي، فَلْيَلْتَمِسْ رَبًّا سِوَائِي» ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَزَادَ مِيرَكُ: حَسَنٌ.

1570 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1570 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) -: (يَوَدُّ) أَيْ: يَتَمَنَّى. (أَهْلُ الْعَافِيَةِ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : ظَرْفُ يَوَدُّ. (حِينَ يُعْطَى) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. (أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ) : مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ: كَثِيرًا، أَوْ بِلَا حِسَابٍ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] . (لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ) : بِالتَّخْفِيفِ، وَيُحْتَمَلُ التَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ أَيْ: قُطِّعَتْ. (فِي الدُّنْيَا) : قِطْعَةً قِطْعَةً. (بِالْمَقَارِيضِ) : جَمْعُ الْمِقْرَاضِ ; لِيَجِدُوا ثَوَابًا كَمَا وَجَدَ أَهْلُ الْبَلَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوُدُّ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ، وَتَمَنِّي كَوْنِهِ لَهُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّمَنِّي، وَفِي الْحَدِيثِ هُوَ مِنَ الْمَوَدَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى التَّمَنِّي، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ إِلَخْ، نَزَلَ مَنْزِلَةَ مَفْعُولِ يَوَدُّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ مَا يُلَازِمُ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ مُقْرَضَةً فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الثَّوَابُ الْمُعْطَى. قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَفْعُولَ يَوَدُّ الثَّوَابُ عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ، وَقَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ: حَالٌ أَيْ: مُتَمَنِّينَ أَنَّ جُلُودَهُمْ إِلَخْ، أَوْ قَائِلِينَ: لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ، عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ اهـ. وَهَذَا كُلُّهُ تَكَلُّفٌ، بَلْ تَعَسُّفٌ، وَالظَّاهِرُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي جَوَابِ الْإِشْكَالِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] ، وَهُوَ أَنَّ لَوْ إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: تَوَدُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ بَيْنَهَا. وَأُجِيبُ: أَيْضًا بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ بِمُرَادِفِهِ نَحْوِ: (فِجَاجًا) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ.

1571 - وَعَنْ عَامِرٍ الرَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَسْقَامَ، فَقَالَ: " «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ، ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهُ، كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ، كَانَ كَالْبَعِيرِ إِذَا عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ، وَلِمَ أَرْسَلُوهُ " فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْأَسْقَامُ؟ وَاللَّهِ مَا مَرِضْتُ قَطُّ. فَقَالَ: " قُمْ عَنَّا فَلَسْتَ مِنَّا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1571 - (وَعَنْ عَامِرٍ الرَّامِ) : بِحَذْفِ الْيَاءِ تَخْفِيفًا كَمَا فِي الْمُتَعَالِ ; لِأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ الرَّمْيِ، قَوِيَّ السَّاعِدِ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُقَالُ الزَّامِّيُّ، صَحَابِيٌّ، رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَحْدَهُ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: عَامِرٌ الرَّاوِي صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثٌ يُرْوَى بِإِسْنَادٍ مَجْهُولٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّامِ بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى الرَّامِي، وَيُقَالُ عَامِرُ بْنُ الرَّامِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيُذْكَرُ فِيمَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ وَرِوَايَةٌ. (قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَسْقَامَ) أَيِ: الْأَمْرَاضَ، أَوْ ثَوَابَهَا. (فَقَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ. (ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ السَّقَمِ. (كَانَ) أَيِ: السَّقَمُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الصَّبْرُ عَلَيْهِ. (كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ) أَيْ: تَنْبِيهًا لِلْمُؤْمِنِ فَيَتُوبَ وَيَتَّقِيَ. (فِيمَا يَسْتَقْبِلُ) : مِنَ الزَّمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: إِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ، ثُمَّ عُوفِيَ تَنَبَّهَ وَعَلِمَ أَنَّ مَرَضَهُ كَانَ مُسَبَّبًا عَنِ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ فَيَنْدَمُ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى مَا مَضَى فَيَكُونُ كَفَّارَةً لَهَا. (وَإِنَّ الْمُنَافِقَ) : وَفِي مَعْنَاهُ الْفَاسِقُ الْمُصِرُّ. (إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ) : بِمَعْنَى عُوفِيَ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْعَافِيَةُ. (كَانَ) أَيِ: الْمُنَافِقُ فِي غَفْلَتِهِ. (كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ) أَيْ: شَدُّوهُ وَقَيَّدُوهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَرَضِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ. (ثُمَّ أَرْسَلُوهُ) أَيْ: أَطْلَقُوهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَافِيَةِ. (فَلَمْ يَدْرِ) أَيْ: لَمْ) يَعْلَمْ. (لِمَ أَيْ: لِأَيِّ سَبَبٍ. (عَقَلُوهُ، وَلِمَ أَرْسَلُوهُ؟) يَعْنِي: أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَتَّعِظُ وَلَا يَتُوبُ، فَلَا يُفِيدُ مَرَضُهُ لَا فِيمَا مَضَى، وَلَا فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، فَأُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْأَسْقَامُ؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: عَرِّفْنَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَسْقَامِ، وَمَا الْأَسْقَامُ؟ . (وَاللَّهِ مَا مَرِضْتُ قَطُّ. فَقَالَ " قُمْ) أَيْ: تَنَحَّ وَابْعُدْ. (عَنَّا فَلَسْتَ مِنَّا) أَيْ: لَسْتَ مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا، حَيْثُ لَمْ تُبْتَلْ بِبَلِيَّتِنَا، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ; لَوْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ بِهِ خَيْرًا لَطَهَّرَ بِهِ جَسَدَهُ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْعِفْرِيتَ النِّفْرِيتَ، الَّذِي لَا يُرْزَأُ فِي وَلَدِهِ، وَلَا يُصَابُ فِي مَالِهِ» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ.

1572 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَيُطَيِّبُ بِنَفْسِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1572 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ» ) أَيْ: أَذْهِبُوا حُزْنَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَجَلِهِ، بِأَنْ تَقُولُوا: لَا بَأْسَ طَهُورٌ، أَوْ يُطَوِّلُ اللَّهُ عُمْرَكَ وَيَشْفِيكَ وَيُعَافِيكَ، أَوْ وَسِّعُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ فَيُنَفَّسُ عَنْهُ الْكَرْبُ، وَالتَّنَفُّسُ: التَّفْرِيجُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: طَمِّعُوهُ فِي طُولِ عُمْرِهِ، وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ. (فَإِنَّ ذَلِكَ) أَيْ: تَنْفِيسَكُمْ لَهُ (لَا يَرُدُّ شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ بِتَنْفِيسِكُمْ. (وَيُطِيبُ) : بِالتَّخْفِيفِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ. (بِنَفْسِهِ) أَيْ: فَيُخَفِّفُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْكَرْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُجْعَلَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَفَاعِلُ يُطِيبُ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ إِنَّ، وَيُسَاعِدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ الْمَصَابِيحِ، وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ. قِيلَ لِهَارُونِ الرَّشِيدِ وَهُوَ عَلِيلٌ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، وَطَيِّبْ نَفْسَكَ ; فَإِنَّ الصِّحَّةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْفَنَاءِ، وَالْعِلَّةُ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْبَقَاءِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ طَيَّبَ نَفْسِي، وَرَوَّحَتْ قَلْبِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قِيلَ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَرِيضِ الِاسْتِيَاكُ إِذَا قَرُبَ نَزْعُهُ، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عِنْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: إِنَّهُ يُسَهِّلُ نَزْعَ الرُّوحِ، وَكَذَا التَّطَيُّبِ لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَجَاءَ فِعْلُهُ عَنْ سَلْمَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَا لُبْسُ الثِّيَابِ النَّظِيفَةِ، وَجَاءَ عَنْ فَاطِمَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَكَذَا الصَّلَاةُ لِقِصَّةِ خُبَيْبٍ، وَكَذَا الِاغْتِسَالُ. وَجَاءَ عَنْ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.

1573 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «وَمَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1573 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ) : بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ) : إِسْنَادُهُ مَجَازِيٌّ، أَيْ: مَنْ مَاتَ مِنْ وَجِعِ بَطْنِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْإِسْهَالَ، وَالِاسْتِسْقَاءَ، وَالنِّفَاسَ، وَقِيلَ: مَنْ حَفِظَ بَطْنَهُ مِنَ الْحَرَامِ وَالشُّبَهِ، فَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ بَطْنُهُ. (لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ) : لِأَنَّهُ لِشِدَّتِهِ كَانَ كَفَّارَةً لِسَيِّئَتِهِ، وَصَحَّ فِي مُسْلِمٍ: «إِنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ» ، أَيْ: إِلَّا حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَيَقُولُ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1574 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: " أَسْلِمْ ". فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ ; فَأَسْلَمَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1574 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ غُلَامٌ) أَيْ: وَلَدٌ. (يَهُودِيٌّ) : قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ الْقُدُّوسِ. (يَخْدُمُ النَّبِيَّ -) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِضَمِّ الدَّالِ وَيُكْسَرُ. (فَمَرِضَ، فَآتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهُ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ عِيَادَةِ الذِّمِّيِّ. فِي الْخِزَانَةِ: لَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ الْمَجُوسِيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ الْفَاسِقِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، (فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ) : وَهُوَ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْعِيَادَةِ. (فَقَالَ لَهُ: " أَسْلِمْ " فَنَظَرَ) أَيِ: الْوَلَدُ. (إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ) أَيْ: أَبُوهُ. (عِنْدَهُ) قَالَ مِيرَكُ: عَنِ الشَّيْخِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ. (فَقَالَ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ ; فَأَسْلَمَ) : فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ. (فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ. (يَقُولُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ) أَيْ: خَلَّصَهُ وَنَجَّاهُ. (مِنَ النَّارِ) أَيْ: لَوْ مَاتَ كَافِرًا، قَالَ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: أَنْقَذَنِي مِنَ النَّارِ اهـ. فَيَكُونُ ضَمِيرُ هُوَ يَقُولُ رَاجِعًا إِلَى

الْغُلَامِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ أَنْقَذَ بِي بِالْبَاءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنْقَذَهُ اللَّهُ بِسَبَبِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ بِصِحَّةِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: هُوَ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ الْبَالِغِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْبَالِغُ، فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ لِصِحَّةِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا صَحَّ إِسْلَامُ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَهُوَ صَبِيٌّ لِمَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَ مَنُوطًا بِالتَّمْيِيزِ. أَقُولُ: فَمَا دَلِيلُ النَّسْخِ بَعْدَهَا مِنَ الْحَدِيثِ، أَوِ الْكَلَامِ، أَوْ إِجْمَاعِ الْأَعْلَامِ؟ ثُمَّ قَالَ عَلَى: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ، صَرِيحٌ فِي بُلُوغِهِ إِذِ الْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ أَخْبَرَ بِهِ اهـ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ صَرِيحٍ فِي الْمُدَّعَى، فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الْأَطْفَالِ خِلَافِيَّةٌ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهَا الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَأَيْضًا لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ بَعْدَ تَقَرُّرِ أَنَّ الْأَطْفَالَ فِي الْجَنَّةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ، فَالْمُرَادُ أَنْقَذَهُ اللَّهُ بِي وَبِسَبَبِي لَا بِسَبَبٍ آخَرَ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ زِيَادَةُ رِفْعَةِ دَرَجَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَكْثِيرِ أُمَّتِهِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: " مِنَ النَّارِ " الْكُفْرُ الْمُسَمَّى نَارًا ; لِأَنَّهُ سَبَبُهَا، أَوْ يَؤُولُ إِلَيْهَا، وَأَيْضًا بَوْنٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ الشَّخْصُ مُؤْمِنًا مُسْتَقِلًّا فِي الْجَنَّةِ فِي الْمَرْتَبَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ مَخْدُومًا مُعَظَّمًا، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهَا تَابِعًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ خَادِمًا لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ» " مَا يَمْنَعُ سَبْقَ عَذَابِهِمْ فِي النَّارِ. وَالْمَسْأَلَةُ غَيْرُ صَافِيَةٍ، وَالْأَدِلَّةُ غَيْرُ شَافِيَةٍ، وَلِذَا تَحَيَّرَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، وَتَوَقَّفَ فِيهَا إِمَامُ الْفُقَهَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْأَشْيَاءِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1575 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَى مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1575 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ عَادَ مَرِيضًا) أَيْ: مُحْتَسِبًا. (نَادَى مُنَادٍ) أَيْ: مَلَكٌ. (مِنَ السَّمَاءِ: طِبْتَ) : دُعَاءٌ لَهُ بِطِيبِ عَيْشِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى. (وَطَابَ مَمْشَاكَ) : مَصْدَرٌ أَوْ مَكَانٌ أَوْ زَمَانٌ مُبَالَغَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنْ سَيْرِهِ وَسُلُوكِهِ طَرِيقَ الْآخِرَةِ بِالتَّعَرِّي عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّحَلِّي بِمَكَارِمِهَا. (وَتَبَوَّأْتَ) أَيْ: تَهَيَّأْتَ. (مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ مَنَازِلِهَا الْعَالِيَةِ. (مَنْزِلًا) أَيْ: مَنْزِلَةً عَظِيمَةً وَمَرْتَبَةً جَسِيمَةً بِمَا فَعَلْتَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: دُعَاءٌ لَهُ بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي الْأُخْرَى، كَمَا أَنَّ طِبْتَ دُعَاءٌ لَهُ بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا أُخْرِجَتِ الْأَدْعِيَةُ فِي صُورَةِ الْأَخْبَارِ، إِظْهَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى عِيَادَةِ الْأَخْيَارِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لَهُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

1576 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «إِنَّ عَلِيًّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1576 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ عَلِيًّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجَعِهِ) أَيْ: فِي زَمَنِ مَرَضِهِ. (الَّذِي تُوُفِّيَ) أَيْ: قُبِضَ رُوحُهُ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ) ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ أَيْ: مَقْرُونًا بِحَمْدِهِ، أَوْ مُلْتَبِسًا بِمُوجَبِ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ. (بَارِئًا) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْبُرْءِ، خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَصْبَحَ، وَالْمَعْنَى قَرِيبًا مِنَ الْبُرْءِ بِحَسَبِ ظَنِّهِ، أَوْ لِلتَّفَاؤُلِ، أَوْ بَارِئًا مِنْ كُلِّ مَا يَعْتَرِي الْمَرِيضَ مِنَ الْقَلَقِ وَالْغَفْلَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1577 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ. فَادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: " إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكَ ". فَقَالَتْ: أَصْبِرُ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1577 - (وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. (قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. (امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّ اسْمَهَا شُعَيْرَةُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا، وَفِي بَعْضِهَا بِالْقَافِ بَدَلُ الْعَيْنِ، وَفِي أُخْرَى بِالْكَافِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا مَاشِطَةُ خَدِيجَةَ. (أَتَتِ النَّبِيَّ -) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِكَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي أُصْرَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الصَّرَعُ عِلَّةٌ تَمْنَعُ الْأَعْضَاءَ الرَّئِيسَةَ عَنِ انْفِعَالِهَا مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ، وَسَبَبُهُ رِيحٌ غَلِيظٌ يَحْتَبِسُ فِي مَنَافِذِ الدِّمَاغِ، أَوْ بُخَارٌ رَدِيءٌ يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَقَدْ يَتْبَعُهُ تَشَنُّجٌ فِي الْأَعْضَاءِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ الشَّخْصُ مُنْتَصِبًا، بَلْ يَسْقُطُ وَيَقْذِفُ بِالزَّبَدِ لِغِلَظِ الرُّطُوبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الصَّرَعُ مِنَ الْجِنِّ، وَلَا يَقَعُ إِلَّا مِنَ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ مِنْهُمْ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَطِبَّاءِ. (وَإِنَّى أَتَكَشَّفُ) : بِمُثَنَّاةٍ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ التَّكَشُّفِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَبِالنُّونِ السَّاكِنَةِ مُخَفَّفًا مِنَ الِانْكِشَافِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا خَشِيَتْ أَنْ تَظْهَرَ عَوْرَتُهَا وَهِيَ لَا تَشْعُرُ. (فَادْعُ اللَّهَ لِي) أَيْ: بِالْعَافِيَةِ التَّامَّةِ. (فَقَالَ: " إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى جَوَازِ تَرْكِ الدَّوَاءِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّ إِدَامَةَ الصَّبْرِ مَعَ الْمَرَضِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَافِيَةِ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِمَّنْ لَا يُعَطِّلُهُ الْمَرَضُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ عَنْ نَفْعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ تَرْكَ التَّدَاوِي أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ يُسَنُّ التَّدَاوِي لِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ «قَالُوا: أَنَتَدَاوَى؟ فَقَالَ: " تَدَاوَوْا ; فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ الْهَرَمِ» " وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ إِذْ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ مَعَ شُهُودِ خَالِقِهَا ; وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَكَ التَّدَاوِي تَوَكُّلًا كَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَضِيلَةً. (وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكَ " فَقَالَتْ: أَصْبِرُ) أَيْ: عَلَى الصَّرَعِ. (فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا اللَّهَ لَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1578 - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا جَاءَهُ الْمَوْتُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ: هَنِيئًا لَهُ، مَاتَ وَلَمْ يُبْتَلَ بِمَرَضٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَيْحَكَ، وَمَا يُدْرِيكَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُ بِمَرَضٍ فَكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» " رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1578 - (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا جَاءَهُ الْمَوْتُ) أَيْ: فَجْأَةً. (فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ: هَنِيئًا لَهُ: مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ. (مَاتَ وَلَمْ يُبْتَلَ بِمَرَضٍ) : اسْتِئْنَافٌ مُمْتَدٌّ لِمُوجِبِ التَّهْنِئَةِ، وَالْوَاوُ حَالِيَّةٌ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَيْحَكَ) فِي النِّهَايَةِ: وَيْحَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَتَوَجُّعٍ، أَيْ: لَا تَمْدَحْ عَدَمَ الْمَرَضِ، وَإِنَّمَا تَرَحَّمْ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ فِي ظَنِّهِ أَنَّ عَدَمَ الْمَرَضِ مَكْرُمَةٌ. (مَا يُدْرِيكَ) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُكَ أَنَّ فَقْدَ الْمَرَضِ مَكْرُمَةٌ؟ (لَوْ أَنَّ اللَّهَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: " لَوْ " لِلتَّمَنِّي ; لَأَنَّ الِامْتِنَاعِيَّةَ لَا تُجَابُ بِالْفَاءِ أَيْ: لَا تَقُلْ هَنِيئًا لَهُ، لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ. (ابْتَلَاهُ بِمَرَضٍ) وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ لَوِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ. (فَكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ) : وَعَلَى الْأَوَّلِ مَا يُدْرِيكَ مُعْتَرِضَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي مُتَّصِلَةٌ بِمَا بَعْدَهَا. (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) : لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ تَابِعِيٌّ، وَكَانَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، عَالِمًا وَرِعًا، صَالِحًا زَاهِدًا، مَشْهُورًا بِالْفِقْهِ وَالدِّينِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ.

1579 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ) ، وَالصُّنَابِحِيِّ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى رَجُلٍ مَرِيضٍ يَعُودَانِهِ، فَقَالَا لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟) قَالَ: أَصْبَحْتُ بِنِعْمَةٍ) . قَالَ شَدَّادٌ: أَبْشِرْ بِكَفَّارَاتِ السَّيِّئَاتِ) ، وَحَطِّ الْخَطَايَا) ; فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ: إِذَا أَنَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا، فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا، وَيَقُولُ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي وَابْتَلَيْتُهُ، فَأَجْرُوا لَهُ مَا كُنْتُمْ تُجْرُونَ لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1579 - (وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ: هُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ عِبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ: كَانَ شَدَّادٌ مِمَّنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْحُكْمَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ. (وَالصُّنَابِحِيِّ: بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، مَنْسُوبٌ إِلَى صُنَابِحِ بْنِ زَاهِرٍ، بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّ الصُّنَابِحِيَّ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّابِعِيُّ، لَا عَبْدَ اللَّهِ الصَّحَابِيَّ قَالَ: وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الصَّحَابَةِ، والصُّنَابِحِيُّ قَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. (أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى رَجُلٍ مَرِيضٍ يَعُودَانِهِ، فَقَالَا لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ : فِيهِ أَنَّ الْعِيَادَةَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَفْضَلُ (قَالَ: أَصْبَحْتُ بِنِعْمَةٍ أَيْ: مَصْحُوبًا بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ نِعْمَةُ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ. (قَالَ شَدَّادٌ: أَبْشِرْ بِكَفَّارَاتِ السَّيِّئَاتِ أَيِ: الْمَعَاصِي. (وَحَطِّ الْخَطَايَا أَيْ: وَضْعِ التَّقْصِيرَاتِ فِي الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ. (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ: إِذَا أَنَا) : فَائِدَتُهُ تَقَدُّمُ الْحُكْمِ، وَبَيَانُ مَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْضَى بِهِ لِعِظَمِ فَائِدَتِهِ. (ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا) : نَعْتٌ أَوْ حَالٌ. (فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ) أَيْ: مَا بِهِ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ وَجَعٍ. (فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ) أَيْ: مَرْقَدِهِ. (ذَلِكَ) أَيِ: الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ مَرَضِهِ سُمِّيَ بِاسْمِ مُلَازِمِهِ غَالِبًا، وَهُوَ مُتَجَرِّدٌ بَاطِنًا عَنْ ذُنُوبِهِ. (كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَفِي نُسَخٍ بِالْجَرِّ أَيْ: كَتَجَرُّدِهِ ظَاهِرًا فِي وَقْتِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. (مِنَ الْخَطَايَا) : قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَرَضَ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِذَا حَمِدَ الْمَرِيضُ عَلَى ابْتِلَائِهِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ رَخَّصَ ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِ: كَفَّارَاتٌ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ فَحَمَلُوا الْمُطْلَقَاتِ الْوَارِدَةَ فِي التَّكْفِيرِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. (وَيَقُولُ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي) أَيْ: حَبَسْتُهُ بِالْمَرَضِ. (وَابْتَلَيْتُهُ) أَيِ: امْتَحَنْتُهُ لِيَظْهَرَ مِنْهُ الشُّكْرُ أَوِ الْكُفْرُ. (فَأَجْرُوا لَهُ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِجْرَاءِ. (مَا كُنْتُمْ تُجْرُونَ لَهُ) أَيْ: مِنْ كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ. (وَهُوَ صَحِيحٌ) : حَالٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: عَنِ الْمُنْذِرِيِّ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ.

1580 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا مِنَ الْعَمَلِ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْحَزَنِ لِيُكَفِّرَهَا عَنْهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1580 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا مِنَ الْعَمَلِ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْحُزْنِ» ) أَيْ: بِأَسْبَابِهِ، وَهُوَ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِفَتْحَتَيْنِ. (لِيُكَفِّرَهَا) أَيِ: الذُّنُوبَ. (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الْعَبْدِ بِسَبَبِ الْحَزَنِ، وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا لَيْثَ بْنَ سُلَيْمٍ.

1581 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ الرَّحْمَةَ) حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسْ فِيهَا» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1581 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ. يَخُوضُ الرَّحْمَةَ» أَيْ: يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ. (حَتَّى يَجْلِسَ) : أَيْ: عِنْدَهُ. (فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسْ) أَيْ: غَاصَ، وَفِي رِوَايَةٍ: " اسْتَغْرَقَ فِيهَا " قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ الرَّحْمَةَ بِالْمَاءِ إِمَّا فِي الطَّهَارَةِ، أَوْ فِي الشُّيُوعِ وَالشُّمُولِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) أَيْ: بَلَاغًا. (وَأَحْمَدُ) أَيْ: مُسْنَدًا وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ، فَإِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ اسْتَنْقَعَ فِيهَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، والطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَرَوَاهُ فِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَزَادَ: " وَإِذَا قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا يَزَالُ يَخُوضُ فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ " وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْحَسَنِ أَقْرَبُ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ يَعُودُ مَرِيضًا فَإِنَّمَا يَخُوضُ الرَّحْمَةَ، فَإِذَا قَعَدَ عِنْدَ الْمَرِيضِ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ ". قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لِلصَّحِيحِ الَّذِي يَعُودُ الْمَرِيضَ، فَمَا لِلْمَرِيضِ؟ قَالَ: " تَحُطُّ عَنْ ذُنُوبِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، والطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَزَادَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» " كَذَا حَرَّرَهُ مِيرَكُ.

1582 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمُ الْحُمَّى، فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ، فَلْيَسْتَنْقِعْ فِي نَهْرٍ جَارٍ وَلْيَسْتَقْبِلْ جِرْيَتَهُ، فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ، وَصَدِّقْ رَسُولَكَ. بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلْيَنْغَمِسْ فِيهِ ثَلَاثَ غَمْسَاتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي ثَلَاثٍ فَخَمْسٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ فَسَبْعٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي سَبْعٍ فَتِسْعٍ، فَإِنَّهَا لَا تَكَادَ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1582 - وَعَنْ ثَوْبَانَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمُ الْحُمَّى " أَيْ: أَخَذَتْهُ. ( «فَإِنَّ الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ» ) أَيْ: لِشِدَّةِ مَا يَلْقَى الْمَرِيضُ فِيهَا مِنَ الْحَرَارَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ إِذَا فَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا كَذَلِكَ. (فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ) أَيِ: الْبَارِدُ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فَلْيُطْفِئْهَا، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ الْحُمَّى. مُعْتَرِضَةٌ. (فَلْيَسْتَنْقِعْ فِي نَهْرٍ جَارٍ) : بَيَانٌ لِلْإِطْفَاءِ. (وَلْيَسْتَقْبِلْ جِرْيَتَهُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ: قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: مَا أَشَدَّ جِرْيَةَ هَذَا الْمَاءِ بِالْكَسْرِ، وَلَعَلَّ هَذَا خَاصٌّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيِّ الَّتِي يَأْلَفُهَا أَهْلُ الْحِجَازِ، فَإِنَّ مِنَ الْحُمَّى مَا يَكَادُ مَعَهَا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ قَاتِلًا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ إِطْفَاؤُهَا بِالْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ ثِقَةٍ. (فَيَقُولُ) أَيْ: حَالَ الِاسْتِقْبَالِ. (بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ، وَصَدِّقْ رَسُولَكَ) أَيِ: اجْعَلْ قَوْلَهُ هَذَا صَادِقًا بِأَنْ تَشْفِيَنِي، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ) : ظَرْفٌ لِ (لْيَسْتَنْقِعْ) ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلْيَنْغَمِسْ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَلْيَغْمِسْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. (فِيهِ) أَيْ: فِي النَّهْرِ أَوْ فِي مَائِهِ. (ثَلَاثَ غَمَسَاتٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ. (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: (وَلْيَنْغَمِسْ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: (فَلْيَسْتَنْقِعْ) جِيءَ بِهِ لِتَعَلُّقِ الْمَرَّاتِ. (فَإِذَا لَمْ يَبْرَأْ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ. (فِي ثَلَاثٍ) أَيْ: ثَلَاثِ غَمَسَاتٍ، أَوْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. (فَخَمْسٌ) : بِالرَّفْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَالْأَيَّامُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْغَمِسَ فِيهَا خَمْسٌ أَوْ فَالْمَرَّاتُ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ فَفِي خَمْسٍ (فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ فَسَبْعٍ) : بِالْوَجْهَيْنِ (فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي سَبْعٍ فَتِسْعٍ) : كَذَلِكَ (فَإِنَّهَا) أَيِ: الْحُمَّى (لَا تَكَادُ) أَيْ: تَقْرُبُ. (تُجَاوِزُ تِسْعًا) أَيْ: بَعْدَ هَذَا الْعَمَلِ. (بِإِذْنِ اللَّهِ -) عَزَّ وَجَلَّ - أَيْ: بِإِرَادَتِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ لَهَا بِالذَّهَابِ وَعَدَمِ الْعَوْدِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: كُنْتُ أَدْفَعُ النَّاسَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَاحْتَبَسْتُ عَنْهُ أَيَّامًا فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: الْحُمَّى. فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ، أَوْ بِمَاءِ زَمْزَمَ» ". الْمَشْهُورُ ضَبْطُ (ابْرُدُوهَا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَالرَّاءُ مَضْمُومَةٌ أَيْ: أَسْكِنُوا حَرَارَتَهَا، وَحُكِيَ كَسْرُ الرَّاءِ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ أَبْرَدَ الشَّيْءَ إِذَا عَالَجَهُ فَصَيَّرَهُ بَارِدًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنَّهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ: فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ كِيرِ جَهَنَّمَ فَنَحُّوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ» ". وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ «عَنْ فَاطِمَةَ قَالَتْ، أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نِسَاءٍ - نَعُودُهُ، فَإِذَا نَعُودُهُ، فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقَةٌ يَقْطُرُ مَاؤُهَا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْحُمَّى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْكَ. فَقَالَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمُ» اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَرَاتِبَ فِي كُلِّ مَقَامٍ ثَلَاثَةٌ: الْأَعْلَى، وَالْوَسَطُ، وَالْأَدْنَى، وَعَلَيْهِ مَدَارُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاغْتِسَالُ لِلْمَحْمُومِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَيَكُونُ مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي اطَّلَعَ عَلَيْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَضْمَحِلُّ عِنْدَ ذَلِكَ جَمِيعُ كَلَامِ أَهْلِ الطِّبِّ حَيْثُ يَقُولُونَ: إِنَّ اغْتِسَالَ الْمَحْمُومِ بِالْمَاءِ خَطَرٌ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْهَلَاكِ ; لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَسَامَّ، وَيُحْقَنُ بِالْبَخَارِ الْمُتَخَلِّلِ، وَيَعْكِسُ الْحَرَارَةَ إِلَى دَاخِلِ الْجِسْمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّلَفِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْحُمَّيَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِبَعْضِ الْأَمَاكِنِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا أَوْجَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْقُوَى قَوِيَّةً، وَالْحُمَّى حَارَةً، وَالنُّضْجُ بَيِّنَ وَلَا وَرَمَ فِي الْجَوْفِ وَلَا فَتْقَ، فَإِنَّ الْمَاءَ الْبَارِدَ يَنْفَعُ شُرْبُهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَلِيلُ خَصْبَ الْبَدَنِ وَالزَّمَانِ حَارًّا، وَكَانَ مُعْتَادًا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ اغْتِسَالًا، فَلْيُؤْذَنْ لَهُ، وَقَدْ نَزَّلَ ابْنُ الْقَيِّمِ حَدِيثَ ثَوْبَانَ عَلَى هَذِهِ الْقُيُودِ فَقَالَ: هَذِهِ الصِّفَةُ تَنْفَعُ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ فِي الْحُمَّى الْعَرَضِيَّةِ، أَوِ الْغِبِّ الْخَالِصَةِ الَّتِي لَا وَرَمَ مَعَهَا، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الرَّدِيئَةِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ، فَيُطْفِئُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَبْرَدُ مَا يَكُونُ لِبُعْدِهِ عَنْ مُلَاقَاةِ الشَّمْسِ، وَوُفُورِ الْقُوَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِكَوْنِهِ عَقِبَ النَّوْمِ وَالسُّكُونِ وَبَرْدِ الْهَوَاءِ. قَالَ: وَالْأَيَّامُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا هِيَ الَّتِي تَقَعُ بِحَرَّانِ الْأَمْرَاضِ الْحَارَّةِ غَالِبًا، لَا سِيَّمَا الْبِلَادُ الْحَارَّةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: غَلِطَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْعِلْمِ، فَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ لَمَّا أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، فَاحْتَقَنَتِ الْحَرَارَةُ فِي بَاطِنِ بَدَنِهِ، فَأَصَابَتْهُ عِلَّةٌ صَعْبَةٌ كَادَتْ تُهْلِكُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِلَّتِهِ قَالَ قَوْلًا سَيِّئًا لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ جَهْلُهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ.

1583 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ذُكِرَتِ الْحُمَّى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَبَّهَا رَجُلٌ ; فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَسُبَّهَا فَإِنَّهَا تَنْفِي الذُّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1583 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ذُكِرَتِ الْحُمَّى) : عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: وُصِفَتْ شِدَّتُهَا. (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَبَّهَا رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَسُبَّهَا) : بِفَتْحِ الْبَاءِ وَبِضَمِّهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْفَتْحُ فِي نَحْوِ رُدَّهَا بِلَا خِلَافٍ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي شَرْحِ الشَّافِيَةِ: لِأَنَّ الْهَاءَ لِخَفَائِهَا كَالْعَدَمِ، فَكَأَنَّ الْأَلِفَ وَاقِعَةٌ بَعْدَ الدَّالِ اهـ. فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الضَّمِّ أَنَّ " لَا " نَافِيَةٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ. (فَإِنَّهَا تَنْفِي الذُّنُوبَ) : وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَمْحُو. (كَمَا تَنْفِي النَّارُ) أَيْ: تُخْرِجُ. (خَبَثَ الْحَدِيدِ) كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَمْحِيصِهَا مِنَ الذُّنُوبِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1584 - وَعَنْهُ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ مَرِيضًا فَقَالَ: " أَبْشِرْ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا لِتَكَوُنَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1584 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ مَرِيضًا فَقَالَ: " أَبْشِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: هِيَ» ) أَيِ: الْحُمَّى كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ. (نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي إِضَافَةِ النَّارِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لُطْفٌ وَرَحْمَةٌ، وَلِذَلِكَ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: عَبْدِي، وَوَصَفَهُ بِالْمُؤْمِنِ، وَقَوْلُهُ: أُسَلِّطُهَا خَبَرٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ. (فِي الدُّنْيَا) : خَبَرٌ آخَرُ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِأُسَلِّطُهَا. (لِتَكُونَ) أَيِ: الْحُمَّى. (حَظَّهُ) أَيْ: نَصِيبَهُ بَدَلًا. (مِنَ النَّارِ) : مِمَّا اقْتَرَفَ مِنَ الذُّنُوبِ الْمَجْعُولَةِ لَهُ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا نَصِيبُهُ مِنَ الْحَتْمِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَعِنْدِي أَنَّ الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ، والْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قَالَ: الْحُمَّى فِي الدُّنْيَا حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْوُرُودِ فِي الْآخِرَةِ. وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا: «إِنَّ لِكُلِّ آدَمِيٍّ حَظًّا مِنَ النَّارِ، وَحَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْهَا الْحُمَّى تُحْرِقُ جِلْدَهُ، وَلَا تُحْرِقُ جَوْفَهُ وَهِيَ حَظُّهُ مِنْهَا» اهـ. نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الْمُؤْمِنُ بِالْكَامِلِ، لِئَلَّا يَشْكُلَ بِأَنَّ بَعْضَ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَرَوَاهُ هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ.

1585 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الرَّبَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا أُخْرِجُ أَحَدًا مِنَ الدُّنْيَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى أَسْتَوْفِيَ كُلَّ خَطِيئَةٍ فِي عُنُقِهِ بِسَقَمٍ فِي بَدَنِهِ، وَإِقْتَارٍ فِي رِزْقِهِ» . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1585 - (وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الرَّبَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَقُولُ: وَعِزَّتِي) أَيْ: غَلَبَتِي وَقُوَّتِي. (وَجَلَالِي) أَيْ: عَظَمَتِي وَقُدْرَتِي. (لَا أُخْرِجُ أَحَدًا مِنَ الدُّنْيَا أُرِيدُ أَغْفِرُ لَهُ) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ، فَحَذَفَ أَنْ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أُخْرِجُ أَوْ صِفَةٌ لِلْمَفْعُولِ. (حَتَّى أَسْتَوْفِيَ كُلَّ خَطِيئَةٍ) أَيْ: جَزَاءَ كُلِّ سَيِّئَةٍ اقْتَرَفَهَا، وَكَنَّى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (فِي عُنُقِهِ) : بِضَمَّتَيْنِ: فِي ذِمَّتِهِ، حَيْثُ لَمْ يَتُبْ عَنْهَا أَيْ: كُلِّ خَطِيئَةٍ بَاقِيَةٍ. (بِسَقَمٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَضَمٍّ وَسُكُونٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَوفِيَ، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَضْمِينِ مَعْنَى اسْتِبْدَالٍ، كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (فِي بَدَنِهِ) إِشَارَةً إِلَى سَلَامَةِ دِينِهِ. (وَإِقْتَارٍ) أَيْ: تَضْيِيقٍ (فِي رِزْقِهِ) أَيْ: نَفَقَتِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي كَوْنِ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسمِائَةِ عَامٍ. قَالَ مِيرَكُ: الْإِقْتَارُ التَّضْيِيقُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الرِّزْقِ يُقَالُ: أَقْتَرَ اللَّهُ رِزْقَهُ أَيْ: ضَيَّقَهُ وَقَلَّلَهُ، وَقَدْ أَقْتَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُقْتِرٍ، وَقَتَّرَ فَهُوَ مَقْتُورٌ. كَذَا فِي الطِّيبِيُّ، فَعَلَى هَذَا الْإِقْتَارُ مُسْتَعْمَلٌ فِي جُزْءِ مَعْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ اهـ. وَالنُّكْتَةُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ التَّضْيِيقُ فِي صَدْرِهِ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَشْرُوحُ الصَّدْرِ، وَبِهِ يَحْصُلُ لَهُ غِنَى الْقَلْبِ الْمُقْتَضِي لِاخْتِيَارِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى، وَلِلشُّكْرِ عَلَى الْمِحْنَةِ مَا لَمْ يَشْكُرْ غَيْرَهُ عَلَى الْمِنْحَةِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ أَرَهُ فِي الْأُصُولِ.

1586 - وَعَنْ شَقِيقٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعُدْنَاهُ فَجَعَلَ يَبْكِي، فَعُوتِبَ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أَبْكِي لِأَجْلِ الْمَرَضِ ; لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْمَرَضُ كَفَّارَةٌ» " وَإِنَّمَا أَبْكِي لِأَنَّهُ أَصَابَنِي. عَلَى حَالِ فَتْرَةٍ، وَلَمْ يُصِبْنِي فِي حَالِ اجْتِهَادٍ لِأَنَّهُ يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا مَرِضَ مَا كَانَ يُكْتَبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ ; فَمَنَعَهُ مِنْهُ الْمَرَضُ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1586 - (وَعَنْ شَقِيقٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. (قَالَ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ. (فَعُدْنَاهُ فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ. (يَبْكِي، فَعُوتِبَ) أَيْ: فِي الْبُكَاءِ ; فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْجَزَعِ مِنَ الْمَرَضِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَكَابِرِ. (فَقَالَ: إِنِّي لَا أَبْكِي لِأَجْلِ الْمَرَضِ ; لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْمَرَضُ كَفَّارَةٌ» ". وَإِنَّمَا أَبْكِي لِأَنَّهُ) أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّهُ. (أَصَابَنِي) أَيِ: الْمَرَضُ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ كَسْرُ أَنَّ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. (عَلَى حَالِ فَتْرَةٍ) أَيْ: ضَعْفٍ فِي الْعِبَادَةِ. (وَلَمْ يُصِبْنِي فِي حَالِ اجْتِهَادٍ) أَيْ: فِي الطَّاعَةِ الْبَدَنِيَّةِ

فَلَوْ وَقَعَتِ الْإِصَابَةُ حَالَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ لَكَانَتْ سَبَبًا لِلزِّيَادَةِ. (لِأَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ. (يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا مَرِضَ مَا كَانَ) أَيْ: مِثْلُ جَمِيعِ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ. (يُكْتَبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ فَمَنَعَهُ مِنْهُ الْمَرَضُ) أَيْ: لَا مَانِعَ آخَرَ مِنَ الشُّغْلِ وَالْكِبَرِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

1587 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعُودُ مَرِيضًا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1587 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعُودُ مَرِيضًا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثِ» ) أَيْ: مُضِيِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَعَلَيْهِ الْبَغَوِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْعِيَادَةُ لَا تَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ ; لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «عُودُوا الْمَرِيضَ» ) . وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ - يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ - فَضَعِيفٌ جِدًّا، تَفَرَّدَ بِهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَوَجَدْتُ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِيهِ أَيْضًا رَاوٍ مَتْرُوكٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ مَوْضُوعٌ كَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، أَوْ مُخْتَصٌّ بِسَنَدٍ خَاصٍّ لَهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الطُّرُقِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَهُ أَصْلٌ. وَقَدْ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ. وَفِي الْمَقَاصِدِ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لَهُ طُرُقٌ ضِعَافٌ يَتَقَوَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَلِهَذَا أَخَذَ بِمَضْمُونِهَا جَمَاعَةٌ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَسْأَلُ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ يَغِيبُ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَبَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا كَانَ يَعُودُهُ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَمْ يُظْهِرُوا الْمَرَضَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَدْ ذُكِرَ فِي شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " «إِذَا اشْتَكَى عَبْدِي، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَدْ شَكَانِي» ) فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَرِيضٍ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَرَضِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِحَيْثُ لَا يُظْهِرُهُ قَبْلَهَا اهـ. أَوْ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى زَمَانِ الِاسْتِحْبَابِ، أَوْ جَوَازِ التَّأْخِيرِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، رَجَاءَ أَنْ يَتَعَافَى، وَأَمَّا الْمَخْصُوصُونَ وَالْمُتَمَرِّضُونَ، فَلَهُمْ) حُكْمٌ آخَرُ، وَلِذَا تُسْتَحَبُّ الْعِيَادَةُ غِبًّا إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ، فَإِذَا غُلِبَ وَخِيفَ عَلَيْهِ يَتَعَهَّدُهُ كُلَّ يَوْمٍ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْمَرَضِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَفِي سَنَدِهِ مَتْرُوكٌ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعِيفٌ.

1588 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَخَلْنَا عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ يَدْعُو لَكَ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1588 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ يَدْعُو لَكَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مُرْهُ يَدْعُو لَكَ ; لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الذُّنُوبِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ جَزْمُهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ لَا يَحْذِفُ حَرْفَ الْعِلَّةِ لِلْجَازِمِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى حَدِّ: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31] عَلَى أَحَدِ الْأَعَارِيبِ فِيهِ فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِعَدَمِ ظُهُورِ السَّبَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ لَهَا لِصَرَاحَةِ الْجَزْمِ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ الْجَزْمَ لِيَتَكَلَّفَ السَّبَبَ النَّاشِئَ عَنْ تَكَلُّفِهِ السَّبَبَ الْعَادِيَّ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. (فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ) : لِأَنَّهُ أَشْبَهَهُمْ فِي التَّنَقِّي مِنَ الذُّنُوبِ، أَوْ فِي دَوَامِ الذِّكْرِ.

1589 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ تَخْفِيفُ الْجُلُوسِ، وَقِلَّةُ الصَّخَبِ فِي الْعِيَادَةِ عِنْدَ الْمَرِيضِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَثُرَ لَغَطُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ، قُومُوا عَنِّي» . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1589 - ( «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ تَخْفِيفُ الْجُلُوسِ، وَقِلَّةُ الصَّخَبِ» ) ، بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ: رَفْعُ الصَّوْتِ. (فِي الْعِيَادَةِ عِنْدَ الْمَرِيضِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: اضْطِرَابُ الْأَصْوَاتِ لِلْخِصَامِ مَنْهِيٌّ مِنْ أَصْلِهِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ

الْمَرِيضِ فَالْقِلَّةُ بِمَعْنَى الْعَدَمِ. (قَالَ أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ كَذَا فِي أَصْلِ الْعَفِيفِ، وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَثُرَ لَغَطُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي النِّهَايَةِ: اللَّغَطُ صَوْتٌ وَضَجَّةٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ. (قُومُوا عَنِّي قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ وَفَاتِهِ، رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ ". فَقَالَ عُمَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَسُولُ اللَّهِ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ. فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالِاخْتِلَافَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُومُوا عَنِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَرَادَ الْكِتَابَةَ فَوَقَعَ الْخِلَافُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي عَدَمِهَا فَتَرَكَهَا اخْتِيَارًا مِنْهُ، كَيْفَ وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَوْ صَمَّمَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عُمَرَ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَنْطِقَ بِبِنْتِ شَفَةٍ، وَلَقَدْ بَقِيَ حَيًّا بَعْدَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ عِنْدَهُ عُمَرُ لَا غَيْرُهُ، بَلْ أَهْلُ الْبَيْتِ: كَعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ، فَلَوْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الْكِتَابَةِ بِالْخِلَافَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَفَعَلَ، عَلَى أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْخِلَافَةِ بِمَا كَانَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا جَلِيًّا، وَهُوَ تَقْدِيمُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْإِمَامَةِ بِالنَّاسِ أَيَّامَ مَرَضِهِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - لَمَّا خَطَبَ لِمُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ - رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ صَلِّ بِالنَّاسِ، وَأَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ يَنْظُرُنِي وَيُبْصِرُ مَكَانِي، وَنِسْبَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَارِسِ الْإِسْلَامِ إِلَى التَّقِيَّةِ جَهْلٌ بِعِظَمِ مَكَانَتِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: لَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: إِنْ شِئْتُ لَمَلَأْتُهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ خَيْلًا وَرِجَالًا ; فَأَغْلَظَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ سَبًّا وَزَجْرًا ; إِعْلَامًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْخَلِيفَةُ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِي حَقِيَّةِ خِلَافَتِهِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ.

1590 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْعِيَادَةُ فَوَاقُ نَاقَةٍ» " وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا: «أَفْضَلُ الْعِيَادَةِ سُرْعَةُ الْقِيَامِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ اهـ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1590 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْعِيَادَةُ فَوَاقُ نَاقَةٍ» " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا، وَبِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: أَفْضَلُ زَمَانِ الْعِيَادَةِ مِقْدَارُ فَوَاقِهَا، وَهُوَ قَدْرُ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ ; لِأَنَّهَا تُحْلَبُ ثُمَّ تُتْرَكُ سُوَيْعَةً يَرْضَعُهَا الْفَصِيلُ لِتَدِرَّ، ثُمَّ تُحْلَبُ، يُقَالُ: مَا أَقَامَ عِنْدَهُ إِلَّا فَوَاقًا. (وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ، وَإِسْنَادِ الْحَدِيثِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «أَفْضَلُ الْعِيَادَةِ سُرْعَةُ الْقِيَامِ» قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَفْضَلُ مَا يَفْعَلُهُ الْعَائِدُ فِي الْعِيَادَةِ أَنْ يَقُومَ سَرِيعًا. قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: أَفْضَلُ الْعِيَادَةِ عِيَادَةٌ فِيهَا سُرْعَةُ الْقِيَامِ. وَفِي شَرْحِ الشَّرْعِ قِيلَ: نِعْمَ الْعَادَةُ التَّخْفِيفُ فِي الْعِيَادَةِ، وَقِيلَ: الْعِيَادَةُ لَحْظَةٌ وَلَفْظَةٌ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: عُدْنَا السَّرِيَّ السَّقَطِيَّ مَرَضَ مَوْتِهِ فَأَطَلْنَا الْجُلُوسَ عِنْدَهُ، وَكَانَ لَهُ وَجَعُ بَطْنٍ، ثُمَّ قُلْنَا لَهُ: ادْعُ لَنَا حَتَّى نَخْرُجَ مِنْ عِنْدِكَ. قَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُمْ كَيْفَ يَعُودُونَ الْمَرْضَى. وَرُوِيَ: أَنَّهُ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى مَرِيضٍ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ، فَقَالَ الْمَرِيضُ: لَقَدْ تَأَذَّيْنَا مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَقُومُ وَأُغْلِقُ الْبَابَ. قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ مِنْ خَارِجٍ؛ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَكْتَفِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ، بَلْ سَلَكَ طَرِيقَ التَّصْرِيحِ حَيْثُ رُوِيَ: أَنَّهُ دَخَلَ ثَقِيلٌ عَلَى مَرِيضٍ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ، ثُمَّ قَالَ: مَا تَشْتَكِي. قَالَ: قُعُودُكَ عِنْدِي. وَرُوِيَ: أَنَّهُ دَخَلَ قَوْمٌ عَلَى مَرِيضٍ فَأَطَالُوا الْقُعُودَ، وَقَالُوا: أَوْصِنَا. فَقَالَ: أُوصِيكُمْ أَنْ لَا تُطِيلُوا الْجُلُوسَ إِذَا عُدْتُمْ مَرِيضًا، هَذَا وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إِذَا ظُنَّ أَنَّ الْمَرِيضَ يُؤْثِرُ التَّطْوِيلَ لِنَحْوِ صَدَاقَةٍ، أَوْ تَبَرُّكٍ، أَوْ قِيَامٍ بِمَا يُصْلِحُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

1591 - 1592 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَهِي قَالَ أشْتَهِي خُبْزَ بُرٍّ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرٍّ فَلْيَبْعَثْ إِلَى أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1591 - 1592 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: أَشْتَهِي خُبْزَ بُرٍّ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرٍّ فَلْيَبْعَثْ» ) . أَيْ: بِهِ. (إِلَى أَخِيهِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى ضِيقِ عَيْشِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفَقْرِ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَفِي الشَّمَائِلِ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّهَا قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «مَا كَانَ يَفْضَلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُبْزُ

الشَّعِيرِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبِيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا هُوَ وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ» . ( «ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ: إِذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ» ) أَيْ: فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ شِفَاءً كَمَا شُوهِدَ فِي كَثِيرٍ، حَيْثُ صَدَقَتْ شَهْوَةُ الْمَرِيضِ لَهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ مَأْلُوفِهِ الَّذِي انْقَطَعَ عَنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِمَّا بِنَاءً عَلَى التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ هُوَ الشَّافِي، أَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ قَدْ شَارَفَ الْمَوْتَ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1593 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا ; فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ. قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1593 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ. (قَالَ: تُوُفِّيَ) أَيْ: مَاتَ. (رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مِنْ أَهْلِهَا، وَفِيهِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ عُمُومِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْمَوْتَ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْمُجَاوَرَةِ فِيهِمَا. ( «فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ. قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: إِلَى مَوْضِعِ قَطْعِ أَجَلِهِ، وَسُمِّيَ الْأَثَرُ أَجَلًا ; لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْعُمْرَ، قَالَ زُهَيْرٌ: وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَجَلٌ ... لَا يَنْتَهِي الْعُمْرُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَثَرُ وَأَصْلُهُ مِنْ أَثَرِ مِشْيَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ لَا يَبْقَى لِأَقْدَامِهِ أَثَرٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمُنْقَطَعِ أَثَرِهِ مَحَلَّ قَطْعِ خُطُوَاتِهِ، انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُنْقَطَعُ أَثَرِهِ هُوَ قَبْرُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. (فِي الْجَنَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِقِيسَ، يَعْنِي مَنْ مَاتَ فِي الْغُرْبَةِ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ، وَيُفْتَحُ لَهُ مَا بَيْنَ قَبْرِهِ وَمَوْلِدِهِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

1594 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَوْتُ الْغُرْبَةِ شَهَادَةٌ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1594 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَوْتُ غُرْبَةٍ شَهَادَةٌ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، والْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ «مَوْتِ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ مَاتَ غَرِيبًا، مَاتَ شَهِيدًا» ، وَفِي حَدِيثٍ: «الْغَرِيبُ شَهِيدٌ» .

1595 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ مَاتَ مَرِيضًا مَاتَ شَهِيدًا، أَوْ وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَغُدِيَ، وَرِيحَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1595 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَاتَ مَرِيضًا مَاتَ شَهِيدًا، أَوْ وُقِيَ» ) أَيْ: حُفِظَ. (فِتْنَةَ الْقَبْرِ) أَيْ: عَذَابَهُ، هَكَذَا وَقَعَ مَرِيضًا فِي النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُغَيَّرَةِ غَرِيبًا بَدَلَ مَرِيضًا، لَكِنْ وَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ مَاجَهْ: مُرَابِطًا مَاتَ شَهِيدًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَنِزَاعُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِيهِ وَقَوْلُهُ صَوَابُهُ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَرْدُودٌ، وَكَذَا قَوْلُ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ الْمَرِيضُ بِوَجَعِ الْبَطْنِ لِيُوَافِقَ الْأَحَادِيثَ الْمَارَّةَ فِي الْمَبْطُونِ، وَوَجْهُ رَدِّ هَذَا أَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا بِالْوَهْمِ ; إِذْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ حَتَّى يُدَّعَى تَعَارُضٌ أَوْ تَخْصِيصٌ، وَإِنَّمَا حَدِيثُ الْمَبْطُونِ خَاصٌّ، وَحَدِيثُ «مَنْ مَاتَ مَرِيضًا مَاتَ شَهِيدًا» عَامٌّ، ثُمَّ ذَكَرَ: أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ: هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَمْرَاضِ، لَكِنْ يُقَيَّدُ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ «مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ، وَقِيلَ: الْإِسْهَالُ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَمُوتُ حَاضِرَ الْعَقْلِ، عَارِفًا بِاللَّهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَةِ السُّؤَالِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ يَمُوتُ بِسَائِرِ الْأَمْرَاضِ، فَإِنَّهُمْ تَغِيبُ عُقُولُهُمْ. قُلْتُ: لَا حَاجَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا التَّقْيِيدِ ; فَإِنَّ الْحَدِيثَ غَلَطَ فِيهِ الرَّاوِي بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا، لَا مَنْ مَاتَ مَرِيضًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ لِأَجْلِ ذَلِكَ اهـ.

فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مَرْدُودٌ. (وَغُدِيَ) بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْغُدْوَةِ. (وَرِيحَ) مِنَ الرَّوَاحِ. (عَلَيْهِ) حَالٌ. (بِرِزْقِهِ) نَائِبُ الْفَاعِلِ أَيْ: جِيءَ لَهُ بِرِزْقِهِ حَالَ كَوْنِهِ نَازِلًا عَلَيْهِ. (مِنَ الْجَنَّةِ) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] ، فَإِنَّ الْغُدْوَةَ وَالْبُكْرَةَ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالرَّوَاحَ وَالْعَشِيَّ آخِرُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الدَّوَامُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْوَقْتَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ رِزْقٌ خَاصٌّ لَهُمْ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالرِّزْقِ هُنَا حَقِيقَتُهُ لِعَدَمِ اسْتِحَالَتِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ رُوحُهُ فِي خِيَامٍ أَوْ قَنَادِيلَ وَأَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ، وَنَحْوِهَا خَارِجَهَا أَوْ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رُوحُهُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ تَعَلَّقَ فِي شَجَرِهَا، وَتَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا كَيْفَ شَاءَتْ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

1596 - وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَخْتَصِمُ الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمْ إِلَى رَبِّنَا - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنَ الطَّاعُونِ، فَيَقُولُ الشُّهَدَاءُ: إِخْوَانُنَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا. وَيَقُولُ الْمُتَوَفَّوْنَ: إِخْوَانُنَا مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَمَا مِتْنَا. فَيَقُولُ رَبُّنَا: انْظُرُوا إِلَى جِرَاحِهِمْ فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَتُهُمْ جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ، فَإِذَا جِرَاحُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1596 - (وَعَنِ الْعِرْبَاضِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ. (بْنِ سَارِيَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَخْتَصِمُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. (الشُّهَدَاءُ) أَيِ: الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. (وَالْمُتَوَفَّوْنَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. (عَلَى فُرُشِهِمْ) أَعَمُّ مِنَ الشُّهَدَاءِ الْحُكْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. (إِلَى رَبِّنَا) حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ مُنْتَهُونَ وَمُتَوَجِّهُونَ وَمُتَحَاكِمُونَ إِلَى رَبِّنَا - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) مُتَعَلِّقٌ بِيَخْتَصِمُ. (مِنَ الطَّاعُونِ) أَيْ: بِسَبَبِهِ. (فَيَقُولُ الشُّهَدَاءُ) بَيَانُ الِاخْتِصَامِ. (إِخْوَانُنَا) خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ هُوَ هُمْ، أَيِ: الْمَطْعُونُونَ إِخْوَانُنَا فِي أَشْبَاهِنَا فَيَكُونُونَ مَعَنَا قِي مَقَامِنَا. (قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا) بَيَانُ الْمُشَاكَةِ وَبُرْهَانُ الْمُنَاسَبَةِ. (وَيَقُولُ الْمُتَوَفَّوْنَ) أَيْ: عَلَى فُرُشِهِمْ. (إِخْوَانُنَا) أَيْ: هُمْ أَمْثَالُنَا. (مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَمَا مِتْنَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا. (فَيَقُولُ رَبُّنَا) وَفِي نُسْخَةٍ: تَبَارَكَ وَتَعَالَى. (انْظُرُوا) أَيْ تَأَمَّلُوا لِيَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْحُكْمُ وَأَبْصِرُوا إِلَى جِرَاحَتِهِمْ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ الْخِطَابُ لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ لِلْفَرِيقَيْنِ الْمُخْتَصِمَيْنِ. (فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاحُهُمْ) جَمْعُ جِرَاحَةٍ بِالْكَسْرِ. (جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ ; فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ) يَعْنِي مُلْحَقٌ بِهِمْ فِي ثَوَابِهِمْ. (وَمَعَهُمْ) أَيْ: فِي حَشْرِهِمْ وَمَقَامِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تُشْبِهْ فَإِنَّهُمْ مِنَ الْمَيِّتِينَ عَلَى فُرُشِهِمْ. (فَإِذَا) أَيْ: فَنَظَرُوا فَإِذَا. (جِرَاحُهُمْ) أَيْ: جِرَاحُ الْمَطْعُونِينَ. (قَدْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ) أَيْ: جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لِقُوَّةِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ حَتَّى فِي دَارِ الْقَرَارِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ فَيَقُولُ أَصْحَابُ الطَّاعُونِ: نَحْنُ شُهَدَاءُ. فَيُقَالُ: انْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيلُ دَمًا كَرِيحِ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ، فَيَجِدُونَهُمْ» . كَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ.

1597 - وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْفَارُّ مِنَ الطَّاعُونِ كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ، وَالصَّابِرُ فِيهِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» . (رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1597 - (وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْفَارُّ مِنَ الطَّاعُونِ كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ» ) قِيلَ: شُبِّهَ بِهِ فِي إِبْطَالِ أَجْرِ الشَّهَادَةِ لَا فِي أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: شُبِّهَ بِهِ فِي ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، وَالزَّحْفُ الْجَيْشُ الدَّهْمُ الَّذِي لِكَثْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَزْحَفُ أَيْ: يَدِبُّ دَبِيبًا مِنْ زَحَفَ الصَّبِيُّ إِذَا دَبَّ عَلَى اسْتِهِ قَلِيلًا سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ. (وَالصَّابِرُ فِيهِ) أَيْ: فِي الطَّاعُونِ. (لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ) سَوَاءٌ مَاتَ بِهِ أَوْ لَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ والطَّبَرَانِيُّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ.

[باب تمني الموت وذكره]

[بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1598 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ) ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ أَيْ: حُكْمِ تَمَنِّيهِ. (وَذِكْرِهِ) أَيْ: فَضْلُ ذِكْرِ الْمَوْتِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1598 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ» ) نَهْيٌ فِي صُورَةِ النَّفْيِ مُبَالَغَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْيَاءُ فِي قَوْلِهِ لَا يَتَمَنَّى مُثْبَتَةٌ فِي رَسْمِ الْخَطِّ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، فَلَعَلَّهُ نَهْيٌ وَرَدَ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا يَتَمَنَّى فَأُجْرِيَ مُجْرَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِالرَّفْعِ كَمَا هُوَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَفِيهِ أَنَّهُ سَهْوُ قَلَمٍ وَصَوَابُهُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَقُولُهُ كَ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] أَيْ: عَلَى قَوْلِ وَأَمَّا قَوْلُهُ كَالزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً بِالرَّفْعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ بِنُونِ التَّأْكِيدِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِهَا وَدُونَ الْيَاءِ وَبِالْيَاءِ أَيْضًا، نَهْيًا عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ أَيْ: لَا يَتَّمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ ; وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيَاةَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَطَلَبُ زَوَالِ الْحَيَاةِ عَدَمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ اهـ. وَالنَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَبْلَغُ لِإِفَادَتِهِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ انْتِفَاءَ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَدَمَ وُقُوعِهِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ لِمَا نَهَى عَنْهُ يَنْتَهِي، فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِالنَّفْيِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ عَلَى الْإِخْبَارِ الْمَحْضِ لَكَانَ أَوْلَى فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ إِيهَامِ الْخُلْفِ فِي الْخَبَرِ ; إِذْ كَثِيرًا مَا وُجِدَ التَّمَنِّي وَغَيْرُهُ ; وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَصْلُحُ اسْتِدْلَالُ الْأَئِمَّةِ بِهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدُ لِمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» ". فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّبَرُّمِ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُكْرَهُ التَّمَنِّي لِخَوْفِ فَسَادٍ فِي دِينِهِ. (إِمَّا مُحْسِنًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَصْلُهُ أَنَّ مَا فَأُدْغِمَتْ، وَمَا زَائِدَةٌ عِوَضًا عَنِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ أَيْ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا. وَقَالَ الْمَالِكِيُّ: تَقْدِيرُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسِيئًا، فَحَذَفَ يَكُونُ مَعَ اسْمِهَا مَرَّتَيْنِ، وَأَبْقَى الْخَبَرَ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إِنَّ، وَلَوْ قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ: " النَّاسُ مَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ ". (فَلَعَلَّهُ) جَوَابُ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ. (أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا) وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ» ". وَفِي لَفْظِ: " «خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا، وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالًا» ". وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالثَّانِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِلَفْظِ: " «خِيَارُكُمْ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ» ". فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُلَفَّقٌ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَعَلَّ هُنَا بِمَعْنَى عَسَى. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: الرِّوَايَةُ الْمُعْتَدُّ بِهَا كَسْرُ الْهَمْزَةِ فِي إِمَّا، وَنَصْبُ مُحْسِنًا، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرَفْعِ مُحْسِنٍ بِكَوْنِهِ صِفَةً لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ. (وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ) أَيْ: يَسْتَرْضِيَ يَعْنِي يَطْلُبُ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ. قَالَ الْقَاضِي: الِاسْتِعْتَابُ طَلَبُ الْعُتْبَى، وَهُوَ الْإِرْضَاءُ. وَقِيلَ: هُوَ الْإِرْضَاءُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1599 - وَعَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ ; إِنَّهُ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ أَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1599 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ» ) أَيْ: بِقَلْبِهِ. (وَلَا يَدَعُ) أَيْ: بِاللِّسَانِ. (بِهِ) أَيْ: بِالْمَوْتِ. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَوْلُهُ " لَا يَدْعُ " فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِحَذْفِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّهُ) نَهْيٌ. قَالَ الزَّيْنُ: وَجْهُ صِحَّةِ عَطْفِهِ عَلَى النَّفْيِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلَ نَهْيٌ عَلَى بَابِهِ، وَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ لُغَتَيْ حَذْفِ حَرْفِ الْعِلَّةِ وَإِثْبَاتِهِ. (إِنَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: يَصِحُّ فَتْحُهَا تَعْلِيلًا، وَكَسْرُهَا اسْتِئْنَافًا، فَمَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ ضَبْطِ لَفْظِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ. (إِذَا مَاتَ) أَيْ: أَحَدُكُمْ. (انْقَطَعَ أَمَلُهُ) أَيْ: رَجَاؤُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْخَيْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بِالْهَمْزَةِ فِي الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِالْعَيْنِ اهـ. وَاعْتِرَاضٌ عَلَى الْبَغَوِيِّ، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ عَمَلُهُ. ثُمَّ قَوْلُهُ مُتَقَارِبَانِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ ; فَإِنَّمَا مُتَبَايِنَانِ. (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: طُولُ عُمُرِهِ. (إِلَّا خَيْرًا) لِصَبْرِهِ عَلَى الْبَلَاءِ، وَشُكْرِهِ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَرِضَاهُ بِالْقَضَاءِ، وَامْتِثَالِهِ أَمْرَ الْمَوْلَى فِي دَارِ الْبَلْوَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1600 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ) أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1600 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ» بِضَمِّ الضَّادِ وَتُفْتَحُ أَيْ: مِنْ أَجْلِ ضَرَرٍ مَالِيٍّ أَوْ بَدَنِيٍّ. (أَصَابَهُ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَزَعِ فِي الْبَلَاءِ، وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. (فَإِنْ كَانَ) أَيْ: أَحَدُكُمْ. (لَا بُدَّ) أَيْ: أَلْبَتَّةَ وَلَا مَحَالَةَ، وَلَا فِرَاقَ. (فَاعِلًا) أَيْ: مُرِيدًا أَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ فَلَا يَطْلُبِ الْمَوْتَ مُطْلَقًا، بَلْ لِيُقَيِّدَهُ تَفْوِيضًا وَتَسْلِيمًا. (فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ) مُدَّةَ بَقَائِهَا. (خَيْرًا لِي) أَيْ: مِنَ الْمَوْتِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ غَالِبَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْأَزْمِنَةُ خَالِيَةً عَنِ الْفِتْنَةِ وَالْمِحْنَةِ. (وَتَوَفَّنِي) أَيْ: أَمِتْنِي. (إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِذَا كَانَ الْوَفَاةَ أَيِ: الْمَمَاتُ. (خَيْرًا لِي) أَيْ: مِنَ الْحَيَاةِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَكْسَ مَا تَقَدَّمَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةٌ: «وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدْ أَفْتَى النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِخَوْفِ فِتْنَةٍ دِينِيَّةٍ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَغَيْرِهِمَا. وَكَذَا يُنْدَبُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، بَلْ صَحَّ عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّهُ تَمَنَّاهُ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَلَوْ بِنَحْوِ طَاعُونٍ. وَفِي مُسْلِمٍ: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ» . وَيُنْدَبُ أَيْضًا تَمَنِّي الْمَوْتِ بِبَلَدٍ شَرِيفٍ لِمَا فِي الْبُخَارِيُّ: أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي بِبَلَدِ رَسُولِكَ. فَقَالَتْ بِنْتُهُ حَفْصَةُ: أَنَّى يَكُونُ هَذَا؟ فَقَالَ: يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِذَا شَاءَ أَيْ: وَقَدْ فَعَلَ فَإِنَّ قَاتِلَهُ كَافِرٌ مَجُوسِيٌّ.

1601 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ: " لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حَضَرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌأَكْرَهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1601 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ قَالَ الْأَشْرَفُ: الْحُبُّ هُنَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالثِّقَةُ بِوَعْدِهِ، دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الْجِبِلَّةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ الْمَصِيرُ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ، وَطَلَبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. (أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ) ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَيْسَ الْغَرَضُ بِلِقَاءِ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ كُلًّا يَكْرَهُهُ، فَمَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا وَأَبْغَضَهَا أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَمَنْ آثَرَهَا وَرَكَنَ إِلَيْهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَوْتَ غَيْرُ اللِّقَاءِ لَكِنَّهُ مُعْتَرِضٌ دُونَ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ فَيَجِبُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ، وَيَتَحَمَّلَ مَشَاقَّهُ ; لِيَصِلَ بَعْدَهُ بِالْفَوْرِ إِلَى اللِّقَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَرَى فِي الدَّلِيلِ الْيَقَظَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا قَبْلَهُ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. (فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (إِنَّا) أَيْ: كُلُّنَا مَعْشَرَ بَنِي آدَمَ. (لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ) أَيْ: بِحَسَبِ الطَّبْعِ، وَخَوْفًا مِمَّا بَعْدَهُ. (قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَفِي نُسْخَةٌ بِفَتْحِهَا، أَيْ: فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَنْتِ يَا عَائِشَةُ، إِذْ لَيْسَ كَرَاهَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتَ لِخَوْفِ شِدَّتِهِ كَرَاهَةَ لِقَاءِ اللَّهِ، بَلْ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ هِيَ كَرَاهَةُ الْمَوْتِ الْإِيثَارُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَالرُّكُونُ إِلَى الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ. (وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ) بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ. (إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ) أَيْ: عَلَامَتُهُ، أَوْ وَقْتُهُ، أَوْ مَلَائِكَتُهُ. (بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا. (وَكَرَامَتِهِ) قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] الْآيَاتِ الثَّلَاثِ. (فَلَيْسَ شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا زِينَتُهَا حِينَئِذٍ. (أَحَبُّ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى الْمُؤْمِنِ. (مِمَّا أَمَامَهُ) أَيْ: قُدَّامَهُ مِنَ الْمَنْزِلَةِ وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. (فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ) أَيْ: بِالضَّرُورَةِ، أَيْ: طَمَعًا لِلْحُسْنَى وَزِيَادَةً. (وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ) بِالْمَحَبَّةِ السَّابِقَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لَهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] . (وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: حَضَرَهُ الْمَوْتُ، أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَأَنْوَاعُهُ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ الْبَنَّاءِ لِلْمَجْهُولِ هُنَا زِيَادَةُ التَّهْوِيلِ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ ; لِيَشْمَلَ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ وَغَيْرَهُ. (بُشِّرَ) فِيهِ تَهَكُّمٌ نَحْوُ {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ، أَوْ مُشَاكَلَةٌ لِلْمُقَابَلَةِ، أَوْ أُرِيدَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ أَيْ: أَخْبِرْ. (بِعَذَابِ اللَّهِ) لَهُ فِي الْقَبْرِ. (وَعُقُوبَتِهِ) وَهِيَ أَشَدُّ الْعَذَابِ فِي النَّارِ. وَأَبْعَدُ

ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: إِطْنَابٌ لِمَزِيدِ التَّهْوِيلِ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الْغَضَبُ، وَبِالْآخَرِ الْعَذَابُ. (فَلَيْسَ شَيْءٌ) أَيْ: يَوْمَئِذٍ. (أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ) أَيْ: قُدَّامَهُ. (فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَعْنَاهُ يَبْعُدُ عَنْ رَحْمَتِهِ وَمَزِيدِ نِعْمَتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: الْقِطْعَةُ الْأُولَى مِنَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: " كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَرَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِلَخْ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، نَعَمْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ " فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ: " لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ» " فَذِكْرُهُ بِأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ حَتَّى يَحْسُنَ فِي آخِرِهِ قَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1602 - وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ: «وَالْمَوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ اللَّهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1602 - (وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ: " «وَالْمَوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ اللَّهِ» ) يَعْنِي لَا تُمْكِنُ رُؤْيَةُ اللَّهِ قَبْلَ الْمَوْتِ بَلْ بَعْدَهُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ الْمَوْتَ ; لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى لِقَائِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ قَبْلَهُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ غَيْرُ الْمَوْتِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ: وَالْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ أَيْ: قَبْلَ اللِّقَاءِ فَهُوَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ.

1603 - وَعَنِ ابْنِ قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ؟ وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1603 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْكَسْرُ أَفْصَحُ. (فَقَالَ: " مُسْتَرِيحٌ) أَيْ: هُوَ مُسْتَرِيحٌ. (أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، أَوْ لِلتَّرْدِيدِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ حَجْرٍ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْ: لَا يَخْلُو الْمَيِّتُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَعَلَى الْأَوَّلِ، يُرَادُ بِالْمَيِّتِ الْجِنْسُ اسْتِطْرَادًا، وَعَلَى الثَّانِي الْحَاضِرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَرَاحَ الرَّجُلُ وَأَرَاحَ إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ بَعْدَ الْإِعْيَاءِ. ( «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ؟ وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ» ) ؟ أَيْ: مَا مَعْنَاهَا أَوْ مَا بِمَعْنَى مَنْ. (فَقَالَ: " الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ) أَيْ: يَجِدُ الرَّاحَةَ بِالْمَوْتِ. (مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا) أَيْ: تَعَبِهَا بِالْأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْكَوْنِيَّةِ التَّقْدِيرِيَّةِ. (وَأَذَاهَا) أَيْ: مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، أَوْ أَذَى أَهْلِهَا. (إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ) أَيْ: ذَاهِبًا وَاصِلًا إِلَيْهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَسْرُوقٌ: مَا غَبَطْتُ شَيْئًا بِشَيْءٍ كَمُؤْمِنٍ فِي لَحْدِهِ ; أَمِنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَاسْتَرَاحَ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أُحِبُّ الْمَوْتَ اشْتِيَاقًا إِلَى رَبِّي، وَأُحِبُّ الْمَرَضَ تَكْفِيرًا لِخَطِيئَتِي، وَأُحِبُّ الْفَقْرَ تَوَاضُعًا لِرَبِّي. (وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ) وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْكَافِرِ. (يَسْتَرِيحُ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ شَرِّهِ. (الْعِبَادُ) مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حِينَ فَعَلَ مُنْكَرًا إِنْ مَنَعُوهُ آذَاهُمْ وَعَادَاهُمْ إِنْ سَكَتُوا عَنْهُ، أَضَرَّ بِدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. (وَالْبِلَادُ) مِنَ الْعِمَارَاتِ وَالْفَلَوَاتِ. (وَالشَّجَرُ) أَيِ: النَّبَاتَاتُ. (وَالدَّوَابُّ) أَيِ: الْحَيَوَانَاتُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَرَاحَ الْبِلَادُ وَالْأَشْجَارُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَقْدِهِ يُرْسِلُ السَّمَاءَ مِدْرَارًا، وَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَا حَبَسَ لِشُؤْمِهِ الْأَمْطَارَ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: «أَنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوتُ هَزَلًا بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ» ، وَخَصَّ الْحُبَارَى ; لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الطَّيْرِ نُجْعَةً أَيْ: طَلَبًا لِلرِّزْقِ، وَإِنَّمَا تُذْبَحُ بِالْبَصْرَةِ، وَتُوجَدُ فِي حَوْصَلَتِهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءِ، وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ وَبَيْنَ مَنَابِتِهَا مَسِيرَةُ أَيَّامٍ، وَجَاءَ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ تَلْعَنُ الْمُذْنِبِينَ بِسَبَبِ حَبْسِ الْقَطْرِ عَنْهَا بِذُنُوبِهِمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

1604 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1604 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْكِبِي) وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَأَخْذُ الْمَنْكِبِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّنْبِيهِ. (فَقَالَ: " «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ» ) أَيْ: لَا تَمِلْ إِلَيْهَا ; فَإِنَّكَ مُسَافِرٌ عَنْهَا إِلَى الْآخِرَةِ ; فَلَا تَتَّخِذْهَا وَطَنًا، وَلَا تَأْلَفْ مُسْتَلْزَمَاتِهَا، وَاعْتَزِلْ عَنِ النَّاسِ وَمُخَالَتَطِهِمْ ; فَإِنَّكَ تُفَارِقُهُمْ، وَأَلْزِمْ يَدَكَ اللَّازِمَ، وَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِطُولِ الْبَقَاءِ فِيهَا، وَلَا تَتَعَلَّقْ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ، وَلَا تَشْتَغِلْ فِيهَا بِمَا لَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْغَرِيبُ الَّذِي يُرِيدُ الذِّهَابَ إِلَى أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ «حُبِّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ» فَمَوْضُوعٌ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ

صَحِيحًا، لَا سِيَّمَا إِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَطَنِ الْجَنَّةُ، فَإِنَّهَا الْمَسْكَنُ الْأَوَّلُ. (أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) أَوْ فِيهِ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى بَلْ، شَبَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسِكَ السَّالِكَ بِالْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَسْكَنٌ يَأْوِيهِ، ثُمَّ تَرَقَّى وَأَضْرَبَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: " أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ " لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَسْكُنُ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ، وَيُقِيمُ فِيهَا بِخِلَافِ عَابِرِ السَّبِيلِ الْقَاصِدِ لِلْبَلَدِ الشَّاسِعِ. (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ) مُخَاطَبَةً لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ. (إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ) أَيْ: لِيَكُنِ الْمَوْتُ فِي إِمْسَائِكَ وَإِصْبَاحِكَ نُصْبَ عَيْنِكَ، مُقَصِّرًا لِلْأَمَلِ، مُبَادِرًا لِلْعَمَلِ، غَيْرَ مُؤَخِّرِ عَمَلَ اللَّيْلِ إِلَى النَّهَارِ، وَعَمَلَ النَّهَارِ إِلَى اللَّيْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، لَكِنْ ذَكَرَهُ فِي الْإِحْيَاءِ مَرْفُوعًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " «وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» اهـ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَعُدَّ مِنْ كَلَامِهِ مَوْقُوفًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ السُّيُوطِيَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ: " «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَادَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ: " وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ. (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: عُمْرُكَ لَا يَخْلُو مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، فَفِي الصِّحَّةِ سَيْرُكَ الْقَصْدُ، بَلْ لَا تَقْنَعْ بِهِ وَزِدْ عَلَيْهِ مَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ لَكَ الْفُتُورُ عَنْهُ، بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَفِي قَوْلِهِ: (وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) إِشَارَةٌ إِلَى أَخْذِ نَصِيبِ الْمَوْتِ، وَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الْفُتُورِ مِنَ السُّقْمِ يَعْنِي لَا تَقْعُدُ فِي الْمَرَضِ عَنِ السَّيْرِ كُلَّ الْقُعُودِ، بَلْ مَا أَمْكَنَكَ مِنْهُ فَاجْتَهِدْ فِيهِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

1605 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: " لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1605 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) يُفِيدُ كَمَالَ ضَبْطِ الرَّاوِي وَإِحْكَامِ الْمَرْوِيِّ. (يَقُولُ: " «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» ) أَيْ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ، بِأَنْ يُغْفَرَ لَهُ، فَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ عَنِ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ إِلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ لَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ حَالَةٍ يَنْقَطِعُ عِنْدَهَا الرَّجَاءُ لِسُوءِ الْعَمَلِ كَيْلَا يُصَادِفَهُ الْمَوْتُ عَلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُسْنِ الظَّنِّ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَأْمِيلِ الْعَفْوِ، وَتَحْقِيقِ الرَّجَاءِ فِي رَوْحِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلَا يَظُنَّ بِيَ إِلَّا خَيْرًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» ". قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ تَتَبَّعْتُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَوَجَدْتُ أَحَادِيثَ الرَّجَاءِ أَضْعَافَ أَحَادِيثِ الْخَوْفِ مَعَ ظُهُورِ الرَّجَاءِ فِيهَا قُلْتُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَهُوَ سَبَقَتْ أَوْ غَلَبَتْ رَحْمَتِي عَلَى غَضَبِي لَكَفَى دَلِيلًا عَلَى تَرْجِيحِ الرَّجَاءِ وَيُعَضِّدُهُ آيَةُ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ فِي عَالَمِ الْوُجُودِ مِنْ غَلَبَةِ آثَارِ الرَّجَاءِ عَلَى آثَارِ الْخَوْفِ، وَاتَّفَقَ الصُّوفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى وَجْهِ الرَّجَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الطَّاعَةِ عَلَى طَرِيقِ الْخَوْفِ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ، وَالثَّانِي طَاعَةُ الْعَبِيدِ، وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» ". قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَحْسِنُوا أَعْمَالَكُمُ الْآنَ حَتَّى يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِاللَّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ ; فَإِنَّ مَنْ سَاءَ عَمَلُهُ قَبْلَ الْمَوْتِ يَسُوءُ ظَنُّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَالْجَنَاحَيْنِ لِلسَّائِرِ إِلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَكِنْ فِي الصِّحَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ الْخَوْفُ لِيَجْتَهِدَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ وَانْقَطَعَ الْعَمَلُ يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ الرَّجَاءُ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ الْوِفَادَةَ حِينَئِذٍ إِلَى مَلِكٍ كَرِيمٍ رءُوفٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1606 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ، قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟ يَقُولُونَ: نَعَمْ يَا رَبَّنَا. فَيَقُولُ: لِمَ؟ فَيَقُولُونَ: رَجَوْنَا عَفْوَكَ وَمَغْفِرَتَكَ. فَيَقُولُ: قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1606 - (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنْ شِئْتُمْ أَنْبَأَتْكُمْ) أَخْبَرَتْكُمْ، وَعَلَّقَهُ بِمَشِيئَتِهِمْ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ، وَلِحَثِّهِمْ عَلَى التَّفَرُّغِ لِسَمَاعِهِ. (مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ) مَا الْأُولَى اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ. (لِلْمُؤْمِنِينَ) بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ أَوْ رَسُولٍ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ) أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ. (لَهُ؟)

أَيِ: اللَّهِ تَعَالَى. (قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ، وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِلتَّهَيُّؤِ بِالْإِصْغَاءِ لِلْكَلَامِ ; لِيَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ عَلَى الْوَجْهِ التَّامِّ. (قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟) مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ الْمَصِيرَ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ أَوْ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَفِي الثَّانِي نَظَرٌ. (فَيَقُولُونَ: نَعَمْ يَا رَبَّنَا) اسْتِعْطَافًا لِمَزِيدِ عَطَائِهِ وَرِضْوَانِهُ. (فَيَقُولُ: لِمَ؟) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لِأَيِّ سَهْوٍ أَذْنَبْتُمْ؟ وَالصَّحِيحُ لِمَ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟ . (فَيَقُولُونَ؟ رَجَوْنَا عَفْوَكَ وَمَغْفِرَتَكَ) وَفِيهِ أَنَّ مِنْ حَسَّنَ الظَّنَّ بِاللَّهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِبَوَاطِنِهِمْ إِعْلَامُ السَّامِعِينَ بِسَبَبِ مَحَبَّتِهِمْ لِلِقَائِهِ عَلَى حَدِّ: {أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة: 260] أَوِ الْمُرَادُ زِيَادَةُ الِانْبِسَاطِ وَالتَّلَذُّذِ بِهِمْ لِسَمَاعِ كَلَامِ الرَّبِّ عَلَى الْبِسَاطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17] ، فَيَقُولُ: (قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ) لِي تَثَبَّتْتُ، فَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: " «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ وَاثِلَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: «إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ» . رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَحَبَّةَ لِقَائِهِ تَعَالَى عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِقَاءَهُ ; لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِهَذِهِ فَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ، وَكَذَا حُكْمُ الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى عَدَمِ الرِّضَا، فَفِي التَّنْزِيلِ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] . (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ) وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ. قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَذَا فِي التَّصْحِيحِ.

1607 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1607 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» ) وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: قَاطِعِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ: كَاسِرِهَا قَالَ مِيرَكُ: صَحَّحَ الشَّارِحُ الطِّيبِيُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ حَيْثُ قَالَ: شَبَّهَ اللَّذَّاتِ الْفَانِيَةَ، وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةَ، ثُمَّ زَوَالَهَا بِبِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ يَنْهَدِمُ بِصَدَمَاتٍ هَائِلَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُنْهَمِكَ فِيهَا بِذِكْرِ الْهَادِمِ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهَا يَشْتَغِلُ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِرَارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ. (وَأَنْشَدَ) زَيْنُ الْعَابِدِينَ: فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا ... وَيَا آمِنًا مِنْ أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ غَفَلْتَ تُخَاطِرُ ... فَلَا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلَا ذَاكَ غَامِرُ. اهـ كَلَامُهُ. لَكِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمَهَمَّاتِ: الْهَاذِمُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، هُوَ الْقَاطِعُ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَقَدْ صَرَّحَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ بِأَنَّ الرَّاوِيَةَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَتْلِ وَحْشِيٍّ لِحَمْزَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: هَادِمٌ يُرْوَى بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: دَافِعُهَا أَوْ مُخَرِّبُهَا وَبِالْمُعْجَمَةِ أَيْ: قَاطِعُهَا، وَاخْتَارَ بَعْضٌ مِنْ مَشَايِخِنَا وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُصَحِّحِ الْخِطَابَ غَيْرُهُ وَجَعَلَ الْأَوَّلَ مِنْ غَلَطِ الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَوْتِ) بِالْجَرِّ عَطْفُ بَيَانٍ، وَبِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي يَعْنِي اذْكُرُوهُ وَلَا تَنْسَوْهُ حَتَّى لَا تَغْفُلُوا عَنِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَتْرُكُوا تَهْيِئَةَ زَادِ الْآخِرَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَزَادَ: فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ فِي كَثِيرٍ إِلَّا قَلَّلَهُ وَلَا فِي قَلِيلٍ إِلَّا كَثَّرَهُ. (وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، زَادَ: فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضَيْقٍ إِلَّا وَسِعَهُ، وَلَا ذَكَرَهُ فِي سِعَةٍ إِلَّا ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ وَأَحْزَمُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: " أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَاسْتِعْدَادًا لِلْمَوْتِ، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ.»

1608 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) : «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ) (لِأَصْحَابِهِ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ. قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) » . (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1608 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ: إِنَّ. (نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَاتَ يَوْمِ) قِيلَ: (ذَاتَ) مُقْحَمٌ، وَقِيلَ: صِفَةٌ لِمُدَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ كَذَاتِ زَيْدٍ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ التَّجَوُّزِ بِإِرَادَةِ مُطْلَقِ الزَّمَانِ. ( «لِأَصْحَابِهِ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» ) أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ. ( «قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ» ) لَمْ يَقُولُوا: حَقَّ الْحَيَاءِ اعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْهُ. (يَا نَبِيَّ اللَّهِ) يَعْنِي وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: عَلَى تَوْفِيقِنَا بِهِ. (قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ) أَيْ: لَيْسَ حَقَّ الْحَيَاءِ) أَنْ تَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَحْيِي وَكَانَ الْقِيَاسُ ذَلِكُمْ وَكَأَنَّهُ نَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ فِيمَا يَنْبَغِي لَهُمْ مِنَ التَّعَاضُدِ وَالِاتِّحَادِ وَلَكِنْ. ( «مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَا» ) أَصْلُهُ الْهَمْزَةُ وَلَكِنْ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِحَذْفِهَا وَقْفًا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا رِعَايَةً لِلسَّجْعِ. (فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ) أَيْ: عَنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ خِدْمَةِ اللَّهِ بِأَنْ لَا يَسْجُدَ لِصَنَمٍ أَوْ لِأَحَدٍ تَعْظِيمًا لَهُ وَلَا يُصَلِّيَ لِلرِّيَاءِ، وَلَا يَخْضَعَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَرْفَعَهُ تَكَبُّرًا. (وَمَا وَعَى) أَيْ: «وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، جَمْعُهُ الرَّأْسَ مِنَ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ عَمَّا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ. ( «وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ» ) أَيْ: أَكْلَ الْحَرَامِ. (وَمَا حَوَى) أَيْ: مَا اتَّصَلَ اجْتِمَاعُهُ بِهِ مِنَ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ، وَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِي الْمَعَاصِي بَلْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: لَيْسَ حَقُّ الْحَيَاةِ مِنَ اللَّهِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ أَنْ يَحْفَظَ نَفْسَهُ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ، وَقَوْلُهُ: عَمَّا لَا يَرْضَاهُ فَلْيَحْفَظْ رَأْسَهُ وَمَا وَعَاهُ مِنَ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَاللِّسَانِ وَالْبَطْنِ، وَمَا حَوَى أَيْ: لَا يَجْمَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَلَالَ. ( «وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى» ) بِكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ بَلَى الشَّيْءُ إِذَا صَارَ خَلِقًا مُتَفَتِّتًا يَعْنِي وَلْيَذْكُرْ صَيْرُورَتَهُ فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بَالِيَةً. ( «وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا» ) فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى لِلْأَقْوِيَاءِ. (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أَيْ: جَمِيعَ مَا ذُكِرَ. ( «فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ: إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، قُلْتُ: وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْصَرَ جَمَاعَةً يَحْفِرُونَ قَبْرًا فَبَكَى حَتَّى بَلَّ التُّرَابَ بِدُمُوعِهِ، وَقَالَ إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا» .

1609 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1609 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ» ) لِأَنَّهُ وَسِيلَةُ السَّعَادَاتِ الْأَبَدِيَّةِ، وَذَرِيعَةُ الْوُصُولِ إِلَى مَحْضَرِ الْقُدْسِ، وَمَحْفَلِ الْأُنْسِ فَالنَّظَرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى غَايَتِهِ، مُعْرِضٌ عَنْ بِدَايَتِهِ مِنَ الْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ وَالتَّمَزُّقِ وَالِاضْمِحْلَالِ، أَوْ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِرُوحِ الرُّوحِ، وَالْقَالَبُ إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَفَصِ وَفِي النِّهَايَةِ التُّحْفَةُ طُرْفَةُ الْفَاكِهَةِ، وَقَدْ تُفْتَحُ الْحَاءُ ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْفَاكِهَةِ مِنَ الْأَلْطَافِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُهَا وَحْفَةٌ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ التُّحْفَةُ بِالضَّمِّ الطُّرْفَةُ جَمْعُ تُحَفٍ وَقَدْ أَتْحَفَهُ تُحْفَةً أَوْ أَصْلُهَا وَحْفَةً. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ.

1610 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1610 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» ) قِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَامَةُ الْخَيْرِ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي يَشْتَدُّ الْمَوْتُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِحَيْثُ يَعْرَقُ جَبِينُهُ مِنَ الشِّدَّةِ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ أَوْ لِتَزِيدَ دَرَجَتُهُ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُكَابِدُهُ مِنْ شِدَّةِ السِّيَاقِ الَّتِي يَعْرَقُ دُونَهَا الْجَبِينُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَدِّ الْمُؤْمِنِ فِي طَلَبِ الْحَلَالِ وَتَضْيِيقِهِ عَلَى نَفْسِهُ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ.

1611 - (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَوْتُ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ الْأَسَفِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ «أَخْذَةُ الْأَسَفِ لِلْكَافِرِ، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1611 - (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ فِي النُّسْخَةِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَبْدِ اللَّهِ. (ابْنِ خَالِدٍ) وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي هَامِشِ كِتَابِهِ صَوَابُهُ عَبِيدُ بْنُ خَالِدٍ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدٍ السُّلَمِيَّ الْمُهَاجِرِيَّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينِ، وَفِي الْمَعْنَى: عَبِيدُ بْنُ خَالِدٍ عَلَى الصَّوَابِ وَقِيلَ: هُوَ عَبْدَةُ بْنُ خَالِدٍ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْتُ الْفُجْأَةِ) بِضَمِّ الْفَاءِ مَدًّا وَفَتْحِهَا وَسُكُونِ الْجِيمِ قَصْرًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ مَصْدَرُ فَجَأَهُ الْأَمْرُ إِذَا جَاءَ بَغْتَةً، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ فِعْلٌ بِالْفَتْحِ. وَفِي النِّهَايَةِ: فَجَأَهُ الْأَمْرُ فُجَاءَةً بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ وَفَجْأَةً بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْجِيمِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ فَجَأَ مُفَاجَأَةً إِذَا جَاءَهُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ. وَفِي الْقَامُوسِ: فَجَأَهُ كَسَمِعَهُ وَمَنَعَهُ فَجَأَ وَفُجَاءَةً هَجَمَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ: بِضَمِّ الْفَاءِ مَعَ الْقَصْرِ فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلرِّوَايَةِ ثُمَّ الْمَوْتُ شَامِلٌ لِلْقَتْلِ أَيْضًا إِلَّا الشَّهَادَةَ. (أَخْذَةُ الْأَسَفِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَرُوِيَ بِكَسْرِهَا وَالْقَامُوسُ الْأَسَفُ مُحَرَّكَةً أَشَدُّ الْحُزْنِ أَسِفَ كَ فَرِحَ وَعَلَيْهِ غَضَبٌ، «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَوْتِ الْفُجْأَةِ فَقَالَ: " رَاحَةُ الْمُؤْمِنِ وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْكَافِرِ» . وَيُرْوَى أَسِفٌ كَ (كَتِفٍ) أَيْ: أَخْذَةُ سُخْطِ أَوْ سَاخِطًا اهـ. فِي الْفَائِقِ أَيْ: أَخْذَةُ سُخْطٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أَيْ: أَغْضَبُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الْغَضْبَانَ لَا يَخْلُو عَنْ حُزْنٍ وَلَهَفٍ فَقِيلَ لَهُ: آسِفٌ حَتَّى كَثُرَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعٍ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلْحُزْنِ، وَهَذَا بِالْإِضَافَةِ فِيهِ بِمَعْنًى مِنْ نَحْوِ خَاتَمِ فِضَّةٍ. قَالَ الزَّيْنُ: لِأَنَّ اسْمَ الْغَصْبِ يَقَعُ عَلَى الْأَخْذَةِ وُقُوعَ اسْمِ الْفِضَّةِ عَلَى الْخَاتَمِ. قَالُوا: رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْأَسِفُ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا، فَالْكَسْرُ الْغَضْبَانُ، وَالْفَتْحُ الْغَضَبُ أَيْ: مَوْتُ الْفُجْأَةِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ غَضَبِ اللَّهِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِيَسْتَعِدَّ لِمَعَادِهِ بِالتَّوْبَةِ، وَإِعْدَادِ زَادِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يُمْرِضْهُ لِيَكُونَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَالَ تَعَالَى: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] وَهُوَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ لِمَا رُوِيَ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَوْتُ الْفُجْأَةِ رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْكَافِرِ» . وَقَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: رُوِيَ آسِفٌ بِوَزْنِ فَاعِلٍ، وَهُوَ الْغَضْبَانُ كَذَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ فَقَالَ: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ مَرَّةً عَنْ عُبَيْدٍ يَعْنِي وَقَفَهُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَحَدِيثُ عُبَيْدٍ رِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَالْوَقْفُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُؤْخَذُ بِالرَّأْيِ، كَيْفَ وَقَدْ أَسْنَدَهُ الرَّاوِي مَرَّةً؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ أَخْذَةُ أَسَفٍ) وَفِي صَحِيحِهِ أَخْذَةُ الْأَسَفِ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا. (لِلْكَافِرِ وَرَحْمَةٌ) بِالرَّفْعِ. (لِلْمُؤْمِنِ)

1612 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1612 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ) أَيْ: فِي سَكَرَاتِهِ. (فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟) أَيْ: أَطَيِّبًا أَمْ مَغْمُومًا؟ قَالَهُ الزَّيْنُ: وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ أَوْ نَفْسَكَ فِي التَّنْقَالِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ، أَرَاجِيًا رَحْمَةَ اللَّهِ أَوْ خَائِفًا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ؟ . (قَالَ: أَرْجُو اللَّهَ) أَيْ: أَجِدُنِي أَرْجُو رَحْمَتَهُ. (يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنِّي) أَيْ: مَعَ هَذَا. (أَخَافَ ذُنُوبِي) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَّقَ الرَّجَاءَ بِاللَّهِ وَالْخَوْفَ بِالذَّنْبِ وَأَشَارَ بِالْفِعْلِيَّةِ إِلَى أَنَّ الرَّجَاءَ حَدَثَ عِنْدَ السِّيَاقِ، وَبِالِاسْمِيَّةِ وَالتَّأْكِيدِ إِلَى أَنَّ خَوْفَهُ كَانَ مُسْتَمِرًّا مُحَقَّقًا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَجْتَمِعَانِ) بِالتَّذْكِيرِ. أَيِ: الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ عَلَى مَا فِي الْمَفَاتِيحِ وَغَيْرِهِ، وَبِالتَّأْنِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: أَيْ: هَاتَانِ الْخَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ. (فِي قَلْبِ عَبْدٍ) أَيْ: مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. (فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ) أَيْ: فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ زَمَانُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَمِثْلُهُ كَانَ زَمَانٌ يُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا: كَوَقْتِ الْمُبَارَزَةِ، وَزَمَانِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ الْمِثْلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مِثْلُ زَائِدَةٌ، وَالْمَوْطِنُ إِمَّا مَكَانٌ أَوْ زَمَانٌ كَمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: إِمَّا مَكَانٌ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ جَعْلُ ابْنِ حَجَرٍ مِثْلَ هَذَا الْمَوْطِنِ كَمِثْلِكَ لَا يَبْخَلُ وَكَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَالْحَالُ أَنَّ الْمِثْلَ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ غَيْرُ زَائِدٍ ; لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ بِقَوْلِهِ: مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ فَأَنْتَ أَوْلَى بِأَنْ لَا تَبْخَلَ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ النَّفْيُ بِالطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْأَجْوِبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَهُوَ مَسْلَكٌ دَقِيقٌ، وَبِالتَّأْوِيلِ حَقِيقٌ، وَقَدْ حَرَّرْنَاهُ مَعَ سَائِرِ الْأَجْوِبَةِ فِي الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِهِ. (إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو) أَيْ: مِنَ الرَّحْمَةِ. (وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ) أَيْ: مِنَ الْعُقُوبَةِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: عَنِ الْمُنْذِرِيِّ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَيْضًا.

1613 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ ; فَإِنَّ هَوْلَ الْمُطَّلَعِ شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْإِنَابَةَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1613 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ» ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. (فَإِنَّ هَوْلَ الْمُطَّلَعِ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَفَتْحٍ اسْمُ مَكَانِ الِاطِّلَاعِ أَوْ زَمَانِهِ، أَوْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَلْقَاهُ الْمَرِيضُ عِنْدَ النَّزْعِ وَيُشْرِفُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ. (شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ) أَيِ: الْعُظْمَى. (أَنْ يَطُولَ عُمُرُ الْعَبْدِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ. (وَيَرْزُقُهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْإِنَابَةَ) أَيِ: الرُّجُوعَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَوَامَ الْحُضُورِ بِالْعِصْمَةِ أَوَّلًا أَوْ بِالتَّوْبَةِ آخِرًا فِي النِّهَايَةِ الْمُطَّلَعُ مَكَانُ الِاطِّلَاعِ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ يُقَالُ: مُطَّلَعُ هَذَا الْجَبَلِ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا أَيْ: مَأْتَاهُ وَمَصْعَدُهُ يُرِيدُ لَهُ مَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدِهِ، فَشَبَّهَهُ بِالْمُطَّلَعِ الَّذِي يُشْرِفُ عَلَيْهِ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ أَقُولُ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ أَوَّلًا بِشِدَّةِ الْمُطَّلَعِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَمَنَّاهُ قِلَّةَ صَبْرٍ وَضَجَرٍ فَإِذَا جَاءَ مُتَمَنَّاهُ يَزْدَادُ ضَجَرًا عَلَى ضَجَرٍ فَيَسْتَحِقُّ مَزِيدَ سُخْطٍ، وَثَانِيًا بِحُصُولِ السَّعَادَةِ فِي طُولِ الْعُمْرِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا خُلِقَ لِاكْتِسَابِ السَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ، وَرَأْسُ مَالِهِ الْعُمْرُ، وَهَلْ رَأَيْتَ تَاجِرًا يُضَيِّعُ رَأْسَ مَالِهِ؟ ! فَإِذًا بِمَ يَرْبَحُ؟ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُطَّلَعِ زَمَانَ اطِّلَاعِ مَلَكِ الْمَوْتِ، أَوِ الْمُنْكَرِ وَالنَّكِيرِ، أَوْ زَمَانَ اطِّلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَةِ الْغَضَبِ فِي الْقِيَامَةِ، أَوْ زَمَانَ الِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُورٍ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَعَلَّهُ أَوْجَهُ وَأَقْرَبُ، وَبِالْمَقَامِ أَنْسَبُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا.

1614 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «جَلَسْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَّرَنَا وَرَقَّقَنَا فَبَكَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ، فَقَالَ يَا لَيْتَنِي مِتُّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا سَعْدُ، أَعِنْدِي تَتَمَنَّى الْمَوْتَ " فَرَدَّدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: " يَا سَعْدُ، إِنْ كُنْتَ خُلِقْتَ لِلْجَنَّةِ فَمَا طَالَ عُمْرُكَ وَحَسُنَ مِنْ عَمَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1614 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ. (فَذَكَّرَنَا) بِالتَّشْدِيدِ أَيِ: الْعَوَاقِبَ أَوْ وَعَظَنَا. (وَرَقَّقَنَا) أَيْ: زَهَّدَنَا فِي الدُّنْيَا، وَرَغَّبَنَا فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: رَقَّقَ أَفْئِدَتَنَا بِالتَّذْكِيرِ. (فَبَكَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا أَيْ: فِي الصِّغَرِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ مُطْلَقًا حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِمَّا اقْتَرَفْتُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا سَعْدُ، أَعِنْدِي) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ. (تَتَمَنَّى الْمَوْتَ؟) يَعْنِي لِتَمَنِّيهِ بَعْدِي وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِي فَكَيْفَ يُطْلَبُ الْعَدَمُ؟ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ تَمَنِّيهِ ; لِمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ وَعَدَمِ الرِّضَا، وَفِيهِ أَنَّ تَمَنِّيَهُ لَمْ يَكُنْ مُبَيِّنًا عَلَى عَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلْ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نُقْصَانٍ فِي دِينِهِ، وَهُوَ مُسْتَثْنًى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ. (فَرَدَّدَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ذَلِكَ) أَيْ: يَا سَعْدُ إِلَخْ. (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) لِتَأْكِيدِ الْإِنْكَارِ، أَوْ لِحَمْلِهِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. (ثُمَّ قَالَ: يَا سَعْدُ، إِنْ كُنْتَ) أَيْ لَا وَجْهَ لِتَمَنِّي الْمَوْتِ فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ. (خُلِقْتَ لِلْجَنَّةِ فَمَا طَالَ عُمْرُكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ أَيِ: الزَّمَانُ الَّذِي طَالَ فِيهِ عُمْرُكَ اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً. (وَحَسُنَ مِنْ عَمَلِكَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ مِنْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيْ: حَسُنَ بَعْضُ عَمَلِكَ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً مِنْ ضَمِيرِ حَسُنَ. (فَهُوَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ طُولِ الْعُمْرِ وَحُسْنِ الْعَمَلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ. (خَيْرٌ لَكَ) وَحُذِفَ الشِّقُّ الْآخَرُ مِنَ التَّرْدِيدِ، وَهُوَ وَإِنْ كُنْتَ خُلِقْتَ لِلنَّارِ فَلَا خَيْرَ فِي مَوْتِكَ، وَلَا يَحْسُنُ الْإِسْرَاعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْحَذْفِ مِنَ اللُّطْفِ، وَالْجُمْلَةُ جَزَاءٌ لِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتَ خُلِقْتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ هُوَ مِنَ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ فَكَيْفَ قَالَ: إِنْ كُنْتَ، أُجِيبُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْلِيلُ لَا الشَّكُّ أَيْ: كَيْفَ تَتَمَنَّى الْمَوْتَ عِنْدِي وَأَنَا بَشَّرْتُكَ بِالْجَنَّةِ؟ أَيْ: لَا تَتَمَنَّ لِأَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكُلَّمَا طَالَ عُمْرُكَ زَادَتْ دَرَجَتُكَ، وَنَظِيرُهُ فِي التَّعْلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] فَقِيلَ لَهُ: الشَّهَادَةُ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَبْتَ، وَهِيَ إِمَّا تَحْصُلُ بِالْجِهَادِ وَيُعَضِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «عَنْ سَعْدٍ: أَنَّهُ قَالَ: أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ لَكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ» اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّرْدِيدَ فَرْضِيٌّ، وَتَقْدِيرِيٌّ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الْبِشَارَةَ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى حَالٍ وَقْتَ الْبِشَارَةِ ; وَلِهَذَا مَا أَزَالَتْ عَنْهُمُ الْخَوْفَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَبْقِ عَذَابِ النَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَعَ جَوَازِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ لَهُ قَبْلَ الْبِشَارَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1615 - وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرَّبٍ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى خَبَّابٍ وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا ; فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يَتَمَنَّ) أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ) لَتَمَنَّيْتُهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَمْلِكُ دِرْهَمًا، وَإِنَّ فِي جَانِبِ بَيْتِيَ الْآنَ لَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ بِكَفَنِهِ فَلَمَّا رَآهُ بَكَى وَقَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلَّا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ، إِذَا جُعِلَتْ عَلَى رَأْسِهِ قَلَصَتْ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَإِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ، حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ وَجُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: ثُمَّ أُتِيَ بِكَفَنِهِ إِلَى آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1615 - (وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرَّبٍ) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّضْرِيبِ الْعَبْدِيِّ الْكُوفِيِّ، تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ سَمِعَ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَغَيْرَهُمَا، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى خَبَّابٍ) بِالتَّشْدِيدِ أَيِ: ابْنِ الْأَرَتِّ بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، تَمِيمِيٌّ سُبِيَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَبِيعَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ حَالَفَ بَنِي زُهْرَةَ، وَأَسْلَمَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ فَعُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا لِذَلِكَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ مُنْصَرَفَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مِنْ صِفِّينَ فَمَرَّ بِقَبْرِهِ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ خَبَّابًا ; أَسْلَمَ رَاغِبًا، وَهَاجَرَ طَائِعًا، وَعَاشَ مُجَاهِدًا، وَابْتُلِيَ فِي جِسْمِهِ أَحْوَالًا، وَلَنْ يُضَيِّعَ اللَّهُ أَجَرَهُ. (وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا) أَيْ: فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ مِنْ بَدَنِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَيُّ عِلَاجٌ مَعْرُوفٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْكَيِّ فَقِيلَ: النَّهْيُ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْهُ، وَأَمَّا إِذَا اعْتُقِدَ أَنَّهُ سَبَبٌ وَأَنَّ الشَّافِيَ هُوَ اللَّهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مِنْ قِبَلِ التَّوَكُّلِ وَهُوَ دَرَجَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْجَوَازِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ «لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ

يَتَوَكَّلُونَ» . (فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يَتَمَنَّ بِصِيغَةِ النَّهْيِ. (أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ أَيْ: لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ. (لِتَمَنِّيهِ) أَيْ: لِأَسْتَرِيحَ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ الَّذِي مِنْ شَأْنِ الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ تَنْفِرَ مِنْهُ وَلَا تَصْبِرَ عَلَيْهِ. (وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَمْلِكُ دِرْهَمًا) كَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ الْفُتُوحَاتِ الْعَظِيمَةَ لَمْ تَقَعْ إِلَى بَعْدُ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ لَمَّا افْتَتَحَ أَفْرِيقِيَّةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ فِيهِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَاوُ قَسَمِيَّةٌ، وَاللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ، أَقُولُ: لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ كَوْنِهَا قَسَمِيَّةٌ. قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عُلِّمْتُمْ} [البقرة: 65] اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ قَالَهُ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا فِي حَاشِيَتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ لِلِابْتِدَاءِ، وَقَالَ عِصَامُ الدِّينِ: لَعَلَّ قَوْلَ الْبَيْضَاوِيِّ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ، وَالصَّوَابُ وَاللَّامُ بِتَقْدِيرِ الْقَسَمِ أَيْ: وَاللَّهِ، لَقَدْ عُلِّمْتُمْ ; إِذِ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ مَا تُدْخِلُ شَرْطًا نَازَعَهُ الْقَسَمُ فِي جَزَائِهِ جَوَابًا اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ} [الأحزاب: 15] يُقَدَّرُ لِذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ الْقَسَمُ، وَمِمَّا يُحْتَمَلُ جَوَابُ الْقَسَمِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَدَّرَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ وَمَا قَبْلَهُ أَجْوِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68] وَهَذَا مُرَادُ ابْنِ عَطِيَّةَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ قَسَمٌ وَالْوَاوُ تَقْتَضِيهِ أَيْ: هُوَ جَوَابُ قَسَمٍ، وَالْوَاوُ هِيَ الْمُحَصِّلَةُ لِذَلِكَ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ وَتَوَهَّمَ أَبُو حَيَّانَ عَلَيْهِ مَالَا يُتَوَهَّمُ عَلَى صِغَارِ الطَّلَبَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاوَ جَوَابُ قَسَمٍ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَذْفُ الْمَجْرُورِ، وَبَقَاءُ الْجَارِّ وَحَذْفُ الْقَسَمِ مَعَ كَوْنِ الْجَوَابِ مَنْفِيًّا بِأَنْ. (وَإِنَّ فِي جَانِبِ بَيْتِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا. (الْآنَ لَأَرْبَعِينَ) اللَّامُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. (أَلْفَ دِرْهَمٍ قَالَ) أَيْ: حَارِثَةُ. (ثُمَّ أُتِيَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. (بِكَفَنِهِ فَلَمَّا رَآهُ) أَيْ: مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ. (بَكَى) قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ، إِمَّا مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ اكْتَوَى بِسَبَبِهِ، أَوْ غِنًى خَافَ مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِالْجُمْلَةِ الْقَسَمِيَّةِ، وَبَيَّنَ فِيهَا تَغَيُّرَ حَالَتَيْهِ حَالَةِ صُحْبَتِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَالَتِهِ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَاسَ حَالَهُ فِي جَوْدَةِ الْكَفَنِ عَلَى حَالِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَكْفِينِهِ. (وَقَالَ: لَكِنَّ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَكِنْ. (حَمْزَةَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلَّا بُرْدَةٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ. (مَلْحَاءُ) أَيْ: فِيهَا خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ. (إِذَا جُعِلَتْ) أَيِ: الْبُرْدَةُ. (عَلَى رَأْسِهِ قَلَصَتْ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: قَصُرَتْ وَانْكَشَفَتْ. (عَنْ قَدَمَيْهِ وَإِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ) أَيِ: اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِيمَا يَكُونُ إِلَى فَوْقٍ. (عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى مُدَّتْ) أَيْ: وُضِعَتْ مَمْدُودَةً. (عَلَى رَأْسِهِ، وَجُعِلَ عَلَى قَدَمِهِ الْإِذْخِرُ) وَهُوَ حَشِيشَةٌ طَيِّبَةُ الرَّائِحَةِ يُسْقَفُ بِهَا الْبُيُوتُ فَوْقَ الْخَشَبِ، وَهَمْزَتُهَا زَائِدَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ لَكِنْ تَسْتَدْعِي الْمُخَالَفَةَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى فَأَيْنَ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: الْمَعْنَى إِنْ تَرَكْتُ مُتَابَعَةَ أُولَئِكَ السَّادَةِ الْكِرَامِ، وَمَا اقْتَفَيْتُ أَثَرَهُمْ حَيْثُ هَيَّأْتُ لِكَفَنِي مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ، لَكِنَّ حَمْزَةَ سَارَ بِسَيْرِهِمْ فَمَا وَجَدَ مَا يُوَارِيهِ حَيْثُ جُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، حَيْثُ تَأَسَّفَ سَعْدٌ مَعَ كَمَالِ سَعَادَتِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا فَخْرَ إِلَّا فِي الْفَقْرِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْقُوتِ وَالسُّتْرَةِ بِالْأَمْرِ الضَّرُورِيِّ لَا غَيْرَ وَإِنَّ خِلَافَ ذَلِكَ كَحَالَتِهِ الْآنَ غَيْرُ كَامِلٍ عِنْدَهُمْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ. (لَمْ يَذْكُرْ: ثُمَّ أُتِيَ بِكَفَنِهِ إِلَى آخِرِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

[باب ما يقال عند من حضره الموت]

[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1616 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، " «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ) أَيْ: عَلَامَتُهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1616 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) أَيْ: ذَكِّرُوا مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ مِنْكُمْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ أَوْ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، بِأَنْ تَتَلَفَّظُوا بِهَا أَوْ بِهِمَا عِنْدَهُ لَا أَنْ تَأْمُرُوهُ بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مَنْ قَرُبَ مِنْكُمْ مِنَ الْمَوْتِ سَمَّاهُ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» ، وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَسُورَةِ يس بُعَيْدَ هَذَا اهـ. قِيلَ: وَيُمْكِنُ الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ يس بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَكَذَا التَّلْقِينُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا بَعْدَ الدَّفْنِ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ التَّلْقِينِ عَلَيْهِ أَحَقُّ مِنَ الْمُحْتَضَرِ ; لِأَنَّهُ فِي الْمُحْتَضَرِ لَا يَخْلُو عَنِ الْمَجَازِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الدَّفْنِ، وَلَا بَأْسَ إِطْلَاقُ كِلَيْهِمَا نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَوْلُهُ: إِطْلَاقُ التَّلْقِينِ إِلَخْ فِيهِ أَنَّ التَّلْقِينَ الْمُتَعَارَفَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي السَّلَفِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَادِثٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ أَنَّ التَّلْقِينَ اللُّغَوِيَّ حَقِيقَةٌ فِي الْمُحْتَضَرِ مَجَازٌ فِي الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى السَّمَاعِ، وَأَوْجَبُ إِلَى الِانْتِفَاعِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» أَرَادَ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ لَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «افْتَحُوا عَلَى صِبْيَانِكُمْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَقِّنُوهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ; فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ مَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ وَاحِدٌ» ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: غَرِيبٌ كَذَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ لِلسُّيُوطِيِّ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ هَذَا التَّلْقِينُ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ بَلْ نَقَلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

1617 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا: خَيْرًا ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1617 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ» ) أَيِ: الْحُكْمِيَّ فَأَوْ لِلشَّكِّ، أَوِ الْحَقِيقِيَّ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهَا لِلشَّكِّ، وَالْمُرَادُ مِنَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ. (فَقُولُوا خَيْرًا) أَيْ: لِلْمَرِيضِ اشْفِهِ، وَلِلْمَيِّتِ اغْفِرْ لَهُ ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ أَوْ لَكُمْ بِالْخَيْرِ، أَوْ قُولُوا لِلْمُحْتَضَرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ; فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا يُقَالُ لَهُ اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يَقُولُونَ آمِينَ. (عَلَى مَا تَقُولُونَ) أَيْ: مِنَ الدُّعَاءِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مِنَ الْأَدْعِيَةِ الصَّالِحَةِ فَعَلَيْهِ تَرْغِيبٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةُ تَرْهِيبٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ.

1618 - وَعَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَوَّلُ بَيْتِ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1618 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ) بِالتَّأْنِيثِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ. (مُصِيبَةٌ) عَظِيمَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ مِنْ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ. (فَيَقُولُ: مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ إِنَّا) بَدَلٌ مِنْ مَا أَيْ: إِنَّ ذَوَاتَنَا وَجَمِيعَ مَا يُنْسَبُ إِلَيْنَا. (لِلَّهِ) مِلْكًا وَخَلْقًا. (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ؟ قُلْتُ: لَمَّا أَمَرَهُ بِالْبِشَارَةِ وَأَطْلَقَهَا لِيَعُمَّ كُلَّ مُبَشَّرٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لِيَعُمَّ كُلَّ أَحَدٍ، نَبَّهَ عَلَى تَفْخِيمِ الْأَمْرِ، وَتَعْظِيمِ شَأْنِ هَذَا الْقَوْلِ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الْقَوْلِ مَطْلُوبًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ إِلَّا طَلَبَ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا لِلَّهِ تَسْلِيمٌ وَإِقْرَارٌ، بِأَنَّهُ وَمَا يَمْلِكُهُ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، وَمِنْهُ الْبَدْءُ وَإِلَيْهِ الرُّجُوعُ وَالْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَصَبَرَ عَلَى مَا

أَصَابَهُ، سَهُلَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيبَةُ، وَأَمَّا التَّلَفُّظُ بِذَلِكَ مَعَ الْجَزَعِ فَقَبِيحٌ، وَسُخْطٌ لِلْقَضَاءِ اهـ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ كُلَّ مَا مَدَحَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ خَصْلَةٍ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِهَا كَمَا أَنَّ الْمَذْمُومَةَ فِيهِ تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: التَّلَفُّظُ بِذَلِكَ مَعَ الْجَزَعِ قَبِيحٌ فَمَرْدُودٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ خَلْطِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالْعَمَلِ السُّوءِ كَالِاسْتِغْفَارِ مَعَ الْإِصْرَارِ قَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102] . (اللَّهُمَّ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وَفِيهِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقُ الدُّعَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ الدُّعَاءُ الْخَاصُّ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مَحْذُوفٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَلِّمَ أَمَتَهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ كُلَّهُ بِخُصُوصِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ مَا ذَكَرَ فِيهِمَا اهـ. وَالِاحْتِمَالُ مُسَلَّمٌ وَالظَّاهِرُ مَمْنُوعٌ. (آجِرْنِي) بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَبِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْجِيمِ. (فِي مُصِيبَتِي) الظَّاهِرُ أَنَّ فِي بِمَعْنَى بَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهَا بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38] فَغَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَجَرَهُ يُؤْجِرُهُ إِذَا أَثَابَهُ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَكَذَلِكَ آجَرَهُ يَأْجُرُهُ اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا يَعْنِي مُجَرَّدَهُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْقَامُوسِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الزَّيْنُ: آجَرَهُ اللَّهُ يَأْجُرُهُ وَيَأْجِرُهُ أَثَابَهُ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ لَكِنَّ الْكَسْرَ مَعَ الْقَصْرِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النُّسَخِ. قَالَ مِيرَكُ: رُوِيَ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَبِالْقَصْرِ وَضَمِّهَا، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مَقْصُورٌ لَا يُمَدُّ وَمَعْنَى أَجَرَهُ اللَّهُ أَعْطَاهُ أَجْرَهُ وَجَزَاءَ صَبْرِهِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ بِهَمْزِ الْوَصْلِ. قُلْتُ: هَذَا سَهْوٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْهَمْزَةَ الْمَوْجُودَةَ إِنَّمَا هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ، وَهَمْزَةُ الْوَصْلِ سَقَطَتْ فِي الدَّرْجِ. (وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا) أَيِ: اجْعَلْ لِي خَلَفًا مِمَّا فَاتَ عَنِّي فِي هَذِهِ الْمُصِيبَةِ. (إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا) قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ يُقَالُ: لِمَنْ ذَهَبَ مَا لَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُ مِثْلِهِ بِأَنْ ذَهَبَ وَالِدُهُ خَلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْهُ بِغَيْرِ أَلْفٍ أَيْ: كَانَ اللَّهُ خَلِيفَةً مِنْهُ عَلَيْكَ، وَيُقَالُ لِمَنْ ذَهَبَ لَهُ مَالٌ أَوْ وَلَدٌ أَوْ مَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُ مِثْلِهِ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ، أَيْ: رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ مِثْلَهُ. (فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ) تَعْنِي زَوْجَهَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ عَلَى الْأَصَحِّ لِانْتِفَاضِ جُرْحِهِ الَّذِي جُرِحَ بِأُحُدٍ، وَهُوَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، أَسْلَمَ بَعْدَ عَشْرَةِ أَنْفُسٍ. (قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْجَبُ مِنْ تَنْزِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا عَلَى مُصِيبَتِهَا فِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَغَازِي فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بِالظَّعِينَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَخَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَابْنَ عَمَّتِهِ، اسْتِعْظَامًا لِأَبِي سَلَمَةَ اهـ. يَعْنِي عَلَى زَعْمِهَا. (أَوَّلُ بَيْتٍ) اسْتِئْنَافٌ فِيهِ بَيَانٌ لِلتَّعَجُّبِ وَتَعْلِيلٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ أَيْ: أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتٍ. (هَاجَرَ) أَيْ: مَعَ عِيَالِهِ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) - بِنَاءً عَلَى الْمُتَابَعَةِ. (ثُمَّ أَنِّي قُلْتُهَا) أَيْ: كَلِمَةَ الِاسْتِرْجَاعِ، وَالدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ بَعْدَهَا. (فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) - أَيْ: بِأَنْ جَعَلَنِي زَوْجَتَهُ، وَكَانَ عِوَضَ خَيْرٍ لِي مِنْ زَوْجِي أَبِي سَلَمَةَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

1619 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرَهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ ; فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: " لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ ; فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ": ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1619 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. (قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرَهُ) بِفَتْحِ الشِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ إِذَا نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ، وَضَمُّ الشِّينِ مِنْهُ غَيْرُ مُخْتَارٍ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: شَقَّ بَصَرُهُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: بَقِيَ بَصَرُهُ مَفْتُوحًا هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَالشِّينُ مَفْتُوحَةٌ بِلَا خِلَافٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: أَنَّهُ يُقَالُ: شَقَّ بَصَرُ الْمَيِّتِ وَلَا يُقَالُ: شَقَّ الْمَيِّتُ بَصَرَهُ، وَهُوَ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَصَارَ يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ وَلَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ، ذَكَرَهُ

الْجَزَرِيُّ وَكَذَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ. (فَأَغْمَضَهُ) أَيْ: غَمَّضَ عَيْنَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا يَقْبُحَ مَنْظَرُهُ، وَالْإِغْمَاضُ بِمَعْنَى التَّغْمِيضِ وَالتَّغْطِيَةِ. (ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عِلَّةٌ لِلْإِغْمَاضِ ; لِأَنَّ الرُّوحَ إِذَا فَارَقَ. (تَبِعَهُ الْبَصَرُ) أَيْ: فِي الذِّهَابِ فَلَمْ يَبْقَ لِانْفِتَاحِ بَصَرِهِ فَائِدَةٌ أَوْ عِلَّةٌ لِلشَّقِّ أَيِ: الْمُحْتَضَرُ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ الْمُتَوَلِّي لِرُوحِهِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ شَزْرًا وَلَا يَرْتَدُّ طَرْفُهُ حَتَّى تُفَارِقَهُ الرُّوحُ، أَوْ تَضْمَحِلَّ بَقَايَا قُوَى الْبَصَرِ، وَيَبْقَى الْحَصْرُ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخُصَ بَصَرُهُ ". قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " فَذَلِكَ حَتَّى يَتْبَعَ بَصَرُهُ نَفْسَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ الْغِطَاءَ سَاعَتَئِذٍ حَتَّى يُبْصِرَ، قُلْتُ: يُؤَيِّدُهُ: {فَكَشْفنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] . (فَضَجَّ) بِالْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: رَفَعَ الصَّوْتَ بِالْبُكَاءِ، وَصَاحَ بِالنَّاسِ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: (لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ) وَفِي رِوَايَةٍ نُسْكِتُهُمْ، بِالنُّونِ وَالتَّاءِ، فَقَالَ: إِلَخْ قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: لَا تَقُولُوا شَرًّا وَوَائِلًا أَوِ الْوَيْلَ لِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُمْ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يُرْجِعَ تَبِعَتَهُ إِلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ دَعَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِشَرٍّ وَيَكُونُ الْمَدَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أَيْ: بَعْضُكُمْ بَعْضًا اهـ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ) أَيْ: فِي دُعَائِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأُولَى أَيِ: الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ سَابِقًا وَالْهِجْرَةِ إِلَى خَيْرِ الْأَنَامِ. (وَاخْلُفْهُ) بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّ اللَّامِ مِنْ خَلَفَ يَخْلُفُ إِذَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ بَعْدَهُ فِي رِعَايَةِ أَمْرِهِ، وَحِفْظِ مَصَالِحِهِ أَيْ: كُنْ خَلَفًا أَوْ خَلِيفَةً لَهُ. (فِي عَقِبِهِ) بِكَسْرِ الْقَافِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فِي أَوْلَادِهِ وَإِلَّا ظَهَرَ مَنْ يَعْقُبُهُ وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ مِنْ وَلَدٍ وَغَيْرِهِ، وَلِذَا أَبْدَلَ عَنْ عَقِبِهِ لِقَوْلِهِ: (فِي الْغَابِرِينَ) بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ: الْبَاقِينَ فِي الْأَحْيَاءِ مِنَ النَّاسِ) ، فَقَوْلُهُ فِي الْغَابِرِينَ حَالٌ مِنْ عَقِبِهِ، أَيْ: أَوْقِعْ خِلَافَتَكَ فِي عَقِبِهِ كَائِنِينَ فِي جُمْلَةِ الْبَاقِينَ مِنَ النَّاسِ. (وَاغْفِرْ لَنَا) يَصِحُّ أَنَّهَا لِتَعْظِيمِ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ وَلَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ الْأُمَّةِ. (وَلَهُ) أَيْ: أَبِي سَلَمَةَ خُصُوصًا، وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ تَأْكِيدًا. (يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْسِحْ لَهُ) أَيْ: وَسِّعْ. (فِي قَبْرِهِ) دُعَاءٌ بِعَدَمِ الضَّغْطَةِ. (وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ) أَيْ: فِي قَبْرِهِ، أَرَادَ بِهِ دَفْعَ الظُّلْمَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) الْأَخْصَرُ أَنَّهُ كَانَ يُجْمِلُ وَيَقُولُ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ مُسْلِمٌ.

1620 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدَةٍ حِبَرَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1620 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (سُجِّيَ) أَيْ: غُطِّيَ وَسُتِرَ. (بِبُرْدَةٍ حِبَرَةٍ) بِالْإِضَافَةِ وَتَرْكِهَا، وَالْحِبَرَةُ بِوَزْنِ الْعِنَبَةِ بُرْدٌ يَمَانٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ الْحِبَرُ مِنَ الْبُرُودِ مَا كَانَ مُوشًّى مُخَطَّطًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا قَالَ: بِثَوْبِ حِبَرَةٍ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1621 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1621 - (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ) بِرَفْعِ آخِرِهِ وَقِيلَ بِنَصْبِهِ. (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مَحَلُّهُ النَّصْبُ أَوِ الرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ أَوِ الِاسْمِيَّةِ. قَالَ مِيرَكُ: الْمُرَادُ بِهِ قَرِينَتُهُ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عَلَمٍ لِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْخَاتِمَةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ) قَوْلُهُ: الْمُرَادُ مَعَ قَرِينَتِهِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِلْمِ الظَّاهِرِ، أَوْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِلْمٍ فَيَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ يُرَادُ قَرِينَتُهُ مَعْنًى، وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. (دَخَلَ الْجَنَّةَ) أَمَّا قَبْلَ الْعَذَابِ

دُخُولًا، أَوْ بَعْدَ أَنْ عُذِّبَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ، وَالْأَوَّلُ الْأَظْهَرُ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ آخِرُ كَلَامِهِمْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَثِيرٌ مِنَ الْمُخَالِفِينَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَتَكَلَّمُونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فَلَابُّدَ مِنْ ذِكْرِ قَرِينَتِهَا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قُلْتُ: إِنَّ الْقَرِينَةَ صُدُورُهُ عَنْ صَدْرِ الرِّسَالَةِ اهـ. وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُهُ فَالْأَوْجَهُ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْقَرِينَةِ فِي مُتَجَدِّدِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمَشْحُونُ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَاعْتِرَافِهِ بِنَبُّوتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيُكْتَفَى عَنْهُ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الْمُتَضَمِّنِ لِلنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَغَيْرِهَا فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ. مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِهِ الشَّهَادَتَانِ، وَأَنَّهُ عَلَمٌ لَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ شَامِلٌ لِلِّسَانِيِّ وَالنَّفْسَانِيِّ لِرِوَايَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَفْضَلُ، وَالْمُرَادُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

1622 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اقْرَءُوا سُورَةَ يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1622 - (وَعَنْ مَعْقِلٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ. (بْنِ يَسَارٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اقْرَءُوا سُورَةَ يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» ) أَيِ: الَّذِينَ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي قِرَاءَتِهَا أَنْ يَسْتَأْنِسَ الْمُحْتَضَرُ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَيِّتِ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَكَأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْأَمْوَاتِ، وَأَنْ يُرَادَ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ أَوْ دُونَ مَدْفَنِهِ. قَالَ الْإِمَامُ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ يس عَلَى مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ مَعَ وُرُودِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبٌ، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ " يس» إِيذَانًا بِأَنَّ اللِّسَانَ حِينَئِذٍ ضَعِيفُ الْقُوَّةِ، وَسَاقِطُ الْمِنَّةِ، لَكِنَّ الْقَلْبَ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ مَا يَزْدَادُ قُوَّةً قَلْبُهُ وَيَسْتَمِدُّ تَصْدِيقَهُ بِالْأُصُولِ فَهُوَ إِذَنْ عَمَلُهُ وَمَهَامُّهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - أَنَّ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ إِلَى خَاتِمَتِهَا مَشْحُونَةٌ بِتَقْرِيرِ أُمَّهَاتِ الْأُصُولِ، وَجَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْمُعْتَبَرَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْعُلَمَاءُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَكَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَإِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَأَمَارَاتِ السَّاعَةِ، وَبَيَانِ الْإِعَادَةِ وَالْحَشْرِ وَحُضُورِ الْعَرَصَاتِ وَالْحِسَابِ، وَالْجَزَاءِ وَالْمَرْجِعِ وَالْمَآبِ، فَحَقُّهَا أَنْ تُقْرَأَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عِنْدَ رَأْسِهِ سُورَةُ " يس " إِلَّا هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ» اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْضًا «يس قَلْبُ الْقُرْآنِ، لَا يَقْرَؤُهَا عَبْدٌ يُرِيدُ الدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ; فَاقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» . قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عِنْدَهُ يس إِلَّا هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، وَخَالَفَهُ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ، فَقَالَ: بَلْ يُقْرَأُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ مُسَجًّى، وَذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّهُ يُقْرَأُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ ابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ: «مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَقَرَأَ عِنْدَهُمَا يس غُفِرَ لَهُ بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا» .

1623 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ وَهُوَ يَبْكِي حَتَّى سَالَ دُمُوعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ عُثْمَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1623 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ) بِالتَّشْدِيدِ. (عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَخٌ رَضَّاعِيٌّ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمَّا دُفِنَ قَالَ: نِعْمَ السَّلَفُ هُوَ لَنَا، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ عَابِدًا مُجْتَهِدًا مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ. (وَهُوَ مَيِّتٌ) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. (وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (يَبْكِي حَتَّى سَالَ دُمُوعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ عُثْمَانَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ تَقْبِيلَ الْمُسْلِمِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْبُكَاءَ عَلَيْهِ جَائِزٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيٌّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

1624 - وَعَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَيِّتٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1624 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَيِّتٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا مَاتَ، فَالْأَوْلَى إِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا عِنْدَ أَحْمَدَ: أَنَّهُ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَحَدَرَ فَاهُ فَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَانَبِيَّاهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاصَفِيَّاهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَحَدَرَ فَاهُ، وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، وَقَالَ وَاخَلِيلَاهُ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَوَضَعَ فَاهُ عَلَى جَبِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي وَيَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، كَذَا فِي الْمَوَاهِبِ.

1625 - وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ: «أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ الْبَرَاءِ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهُ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَرَى طَلْحَةَ إِلَّا قَدْ حَدَثَ بِهِ الْمَوْتُ فَآذِنُونِي بِهِ وَعَجِّلُوا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1625 - (وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ. (أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ الْبَرَاءِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي قَالَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمَّا مَاتَ وَصَلَّى عَلَيْهِ " «اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ وَأَنْتَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ وَيَضْحَكُ إِلَيْكَ» " عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، رَوَى عَنْهُ حُصَيْنُ بْنُ وَحْوَحٍ. (مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهُ فَقَالَ: إِنِّي لَا أُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزِ أَيْ: لَا أَظُنُّ. (طَلْحَةَ إِلَّا قَدْ حَدَثَ) أَيْ: ظَهَرَ. (بِهِ الْمَوْتُ فَآذِنُونِي) بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الذَّالِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الذَّالِ أَيْ: أَعْلِمُونِي. (بِهِ) أَيْ: بِمَوْتِهِ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَعَجِّلُوا) أَيْ: غُسْلَهُ وَتَجْهِيزَهُ وَتَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ. (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ) أَيْ: جُثَّتُهُ. (أَنْ تُحْبَسَ) أَيْ: تُقَامَ وَتُوقَفَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِلْحُكْمِ بِعَدَمِ الْحَبْسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عَزِيزٌ مُكَرَّمٌ فَإِذَا اسْتَحَالَ جِيفَةً وَنَتِنًا اسْتَقْذَرَهُ النُّفُوسُ وَتَنْبُو عَنْهُ الطِّبَاعُ ; فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْرِعَ فِيمَا يُوَارِيهُ فَيَسْتَمِرُّ عَلَى عِزَّتِهِ فَذِكْرُ الْجِيفَةِ هُنَا كَذِكْرِ السَّوْأَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيه} [المائدة: 31] السَّوْأَةُ الْفَضِيحَةُ لِقُبْحِهَا قَالَ مِيرَكُ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: جِيفَةُ مُسْلِمٍ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ كَمَا زَعَمَ. (بَيْنَ ظَهَرَانَيْ أَهْلِهِ) أَيْ: بَيْنَ أَهْلِهِ وَالظَّهْرُ مُقْحَمٌ، وَالْعَرَبُ تَضَعُ الِاثْنَيْنِ مَقَامَ الْجَمْعِ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: يُقَالُ: هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ أَيْ: أَقَامَ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِظْهَارِ أَوِ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ بَيْنَ ظَهْرَيْهِمْ ظَهْرٌ مِنْهُمْ قُدَّامَهُ، وَظَهْرٌ وَرَاءَهُ فَهُوَ بِهِمْ مَكْفُوفٌ مِنْ جَانِبِهِ أَوْ مِنْ جَوَانِبِهِ، إِذَا قِيلَ: بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَاسْتُعْمِلَ فِي الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ مُطْلَقًا، وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ زَائِدَتَانِ أَيْ: لَا تَتْرُكُوا الْمَيِّتَ زَمَانًا طَوِيلًا لِئَلَّا يَنْتُنَ وَيَزِيدَ حُزْنُ أَهْلِهِ عَلَيْهِ اهـ. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ الْمَعْنَوِيِّ ظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: وَالتَّثْنِيَةُ فِيهِ لَفْظِيَّةٌ فَقَطْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1626 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ لِلْأَحْيَاءِ قَالَ: أَجْوَدُ وَأَجْوَدُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1626 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بِهَا، كَانَ جَوَادًا ظَرِيفًا، عَفِيفًا حَلِيمًا، يُسَمَّى بَحْرُ الْجُودِ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ فِي الْإِسْلَامِ أَسْخَى مِنْهُ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ) أَيِ: الْمُشْرِفِينَ عَلَى الْمَوْتِ. (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ) أَيِ: الَّذِي لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ. (الْكَرِيمُ) أَيِ: الَّذِي أَعْطَى قَبْلَ الْمَسْأَلَةِ. (سُبْحَانَ اللَّهِ) أَيْ: مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ مَا خَطَرَ بِبَالِكَ فَإِنَّهُ وَرَاءَ ذَلِكَ. (رَبِّ الْعَرْشِ) إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لِتَنَزُّهِهِ عَنِ الْمَكَانِ. (الْعَظِيمِ) صِفَةٌ لِلْمُضَافِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي أَبْلَغُ،

وَوَصْفُهُ بِالْعَظَمَةِ ; لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمُحِيطٌ بِالْمُكَوِّنَاتِ. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ: عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ. (رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: خَالِقُهُمْ وَمُرَبِّيهِمْ. (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ) أَيْ: ذَلِكَ التَّلْقِينُ. (لِلْأَحْيَاءِ) أَيْ: لِلْأَصِحَّاءِ أَيَحْسُنُ أَمْ لَا. (قَالَ: أَجْوَدُ وَأَجْوَدُ) أَيْ: أَحْسَنُ كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّكْرَارُ لِلِاسْتِمْرَارِ أَيْ: جَوْدَةٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى جَوْدَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى الْوَاوِ فِيهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَلِمَاتٍ مَنْ قَالَهُنَّ عِنْدَ وَفَاتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.»

1627 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا قَالُوا: اخْرُجِي حَمِيدَةً أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا تَزَالُ يُقَالُ لَهَا: ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحَ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَمَا تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ. فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا لَا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ; فَتُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1627 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْمَيِّتُ) أَيْ: جِنْسُهُ وَالْمُرَادُ مَنْ قَرُبَ مَوْتُهُ. (تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ) أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلَائِكَةُ الْعُقُوبَةِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ اجْتِمَاعُ الطَّائِفَتَيْنِ لِإِبْهَامِ جِنْسِ الْمَيِّتِ ثُمَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالصَّلَاحِ وَالْفُجُورِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَيْهِ. (فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا) أَيْ: مُؤْمِنًا أَوْ قَائِمًا بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَالْفَاسِقُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِيَكُونَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَشْيَةِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ مُقَابَلَتَهُ بِالْكَافِرِ تُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْكَافِرِ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ السُّوءُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلصَّالِحِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ. (مُؤْمِنًا) إِلَى. (صَالِحًا) وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالرَّجُلِ السُّوءِ الْكَافِرَ ; لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْفَاسِقَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود: 108] الْآيَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. (قَالُوا) أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. (اخْرُجِي) أَيْ: مِنْ جَسَدِكِ الطَّيِّبِ فَارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. (أَيَّتُهَا النَّفْسُ) أَيِ: الرُّوحُ. (الطَّيِّبَةُ) أَيِ: اعْتِقَادًا أَوْ أَخْلَاقًا، أَوِ الْمُطَمْئِنَّةُ بِذِكْرِ اللَّهِ، الْآمِنَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْسِ وَالرُّوحِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الصُّوفِيَّةُ فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ ; لِأَنَّهُمْ يُكَنُّونَ بِالنَّفْسِ عَنْ مَظْهَرِ الشَّرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] وَبِالرُّوحِ عَنْ مَظْهَرِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] . (كَانَتْ) اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِلتَّعْلِيلِ (فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ) أَيْ: أَعْمَالًا أَوْ بِالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادِ لِحُكْمِ اللَّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ كُنْتِ لِيُطَابِقَ النِّدَاءَ وَاخْرُجِي لَكِنِ اعْتَبَرَ اللَّامَ الْمَوْصُولَةَ أَيَ: النَّفْسَ الَّتِي طَابَتْ كَائِنَةً فِي الْجَسَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لِلنَّفْسِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا لَيْسَ نَفْسًا مُعَيَّنَةً بَلِ الْجِنْسُ مُطْلَقًا اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ مُنَاقَشَةٌ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ لَمْ تَكُنْ مَوْصُولَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالنَّفْسُ مُعَيَّنَةٌ عِنْدَ النِّدَاءِ وَحِينَ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ إِخْبَارِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَكَانَتْ جَوَابًا عَمَّا يُقَلِّلُ مِنْ سَبَبِ طِيبِهَا، فَيُقَالُ: سَبَبُهُ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ السَّالِمِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ بَلِ الصَّوَابُ قَلْبُهُ فَإِنَّ طِيبَ الرُّوحِ سَبَبٌ لِطِيبِ الْقَالَبِ لَا عَكْسُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: " «إِذَا صَلُحَ الْقَلْبُ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» " الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ مَعْدِنُ التَّكْلِيفِ، وَمَنْبَعُ الْخِطَابِ فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ فِي الْأُخْرَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: (اخْرُجِي) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ لَطِيفٌ يُوصَفُ بِالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَالصُّعُودِ وَالنُّزُولِ، وَهُوَ خِطَابٌ ثَانٍ، أَوْ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: (حَمِيدَةً) أَيْ: مَحْمُودَةً جَمِيلَةً، أَوْ حَامِدَةً شَاكِرَةً. (وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: رَاحَةٍ. (وَرَيْحَانٍ) أَيْ: رِزْقٍ أَوْ مَشْمُومٍ وَالتَّنْوِينُ فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ. (وَرَبٍّ) أَيْ: وَبِمُلَاقَاةِ رَبٍّ. (غَيْرِ غَضْبَانَ) بِعَدَمِ الِانْصِرَافِ وَفِي نُسْخَةٍ: بِالِانْصِرَافِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَدَلَ إِلَيْهِ عَنْ رَاضٍ رِعَايَةً لِلْفَاصِلَةِ أَيِ: السَّجْعِ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ أَبْلَغُ مِمَّا عَدَلَ عَنْهُ فَالْعَدْلُ عَنْهُ أَنْ لَا عُدُولَ

فَتَأَمَّلْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: رَوْحٌ أَيِ: اسْتِرَاحَةٌ، وَلَوْ رُوِيَ بِالضَّمِّ كَانَ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ ; لِأَنَّهَا كَالرُّوحِ لِلْمَرْحُومِ. قُلْتُ: قَدْ جَاءَ الْفَتْحُ أَيْضًا بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] ، وَقِيلَ: الْبَقَاءُ أَيْ: هَذَانِ لَهُ مَعًا، وَهُوَ الْخُلُودُ وَالرِّزْقُ، وَقَوْلُهُ: وَرَبٍّ. هَذَا مُقَرِّرٌ لِلْأَوَّلِ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وَنَحْوُهُ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الرُّوحَ بِضَمِّ الرَّاءِ بِمُخَالِفٍ لِلرِّوَايَةِ. (فَلَا تَزَالُ) أَيِ: النَّفْسُ. (يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ) أَيْ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِشَارَةِ زِيَادَةً فِي سُرُورِهَا بِسَمَاعِهَا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهَا. (حَتَّى تَخْرُجَ) أَيْ: بِطَيِّبَةٍ. (ثُمَّ يُعْرَجُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (بِهَا إِلَى السَّمَاءِ) أَيِ: الدُّنْيَا. (فَيُفْتَحُ لَهَا) أَيْ: بَعْدَ الِاسْتِفْتَاحِ أَوْ قَبْلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: تَطْلُبُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ مَعَهَا أَنْ يُفْتَحَ لَهَا فَلَا وَجْهَ لَهُ فَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ فَيُسْتَفْتَحُ مَكَانَ يُفْتَحُ. (فَيُقَالُ) أَيْ: يَقُولُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ. (مَنْ هَذَا فَيَقُولُونَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَيُقَالُ: أَيْ: يَقُولُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ الَّذِينَ مَعَهُ: (فُلَانٌ) أَيْ: هَذَا فُلَانٌ أَيْ: رُوحُهُ. (فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ) وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كَوْنِهِمْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ يَعْرِفُونَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِاسْمِهِ وَعَمَلِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى خَطَؤُهُ ; إِذِ الْعُلْوِيُّونَ مَا اطَّلَعُوا عَلَى اسْمِهِ إِلَّا بِالسُّؤَالِ مِنْ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، وَقَامُوا بِصُعُودِ رُوحِهِ، وَفَتْحِ بَابِ سَمَائِهِ عَلَى طِيبِ عَمَلِهِ. (ادْخُلِي) أَيْ: فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَا أَوْ فِي عِبَادِي أَيْ: مَحَلِّ أَرْوَاحِهِمْ. (حَمِيدَةً) أَيْ: مَحْمُودَةً أَوْ حَامِدَةً. (وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا تَزَالُ) أَيْ: هِيَ. (يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ وَالْبِشَارَةِ بِالصُّعُودِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. (حَتَّى تَنْتَهِيَ) أَيْ: تَصِلَ. (إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ) أَيْ: أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ أَيْ: ظُهُورُ مُلْكِهِ وَهُوَ الْعَرْشُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: رَحْمتُهُ بِمَعْنَى الْجَنَّةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَزَادَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107] فَيُطَابِقُ فِي حَدِيثِ الْآيَتَيْنِ، وَهُمَا: (وَادْخُلِي جَنَّتِي) ، (وَجَنَّةَ نَعِيمٍ) ، قُلْنَا: مَا فِي دُخُولِهَا الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ وُصُولِهَا إِلَى الْفَلَكِ الْأَطْلَسِ، وَالْمَقَامِ الْأَقْدَسِ، وَيُنَاسِبُهُ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ، مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْجَنَّةِ فِي سَمَاءٍ بِعَيْنِهَا، لَا يُعْرَفُ لَهُ خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ بَلْ قَالَ تَعَالَى: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] . (فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ) بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ أَوْ نَاقِصَّةٌ. (السُّوءُ) بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا صِفَةُ الرَّجُلِ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ ابْنِ حَجَرٍ رَفْعَ الْأَوَّلِ وَنَصْبَ الثَّانِي فَمُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ أَيْ: فَإِذَا وَجَدَ أَيْ: وَجَدَهُ أَعْنِي الْكَافِرَ أَوِ الْفَاسِقَ غَيْرَ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْآتِيَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ عَادَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالسُّكُوتِ عَنْ حَالِ الْفَاجِرِ لُطْفًا وَرَحْمَةً لِيَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. (قَالَ) أَيْ: مَلَكُ الْمَوْتِ أَوْ رَئِيسُ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُطَابِقُ مَا سَبَقَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. (اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ) أَيِ: اعْتِقَادًا أَوْ أَحْوَالًا. (كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ) أَيْ: أَعْمَالًا. (اخْرُجِي ذَمِيمَةً) أَيْ: مَذْمُومَةً. (وَأَبْشِرِي) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] أَوْ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ وَالِازْدِوَاجِ، وَحَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ مُقَابِلٌ لِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ. (بِحَمِيمٍ) أَيْ: مَاءٍ حَارٍّ غَايَةَ الْحَرَارَةِ. (وَغَسَّاقٍ) بِتَخْفِيفٍ وَتَشْدِيدٍ مَا يَغْسِقُ أَيْ: يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ: الْبَارِدُ الْمُنْتِنُ، قِيلَ: لَوْ قَطَرَتْ فِي الْمَشْرِقِ لَنَتَّنَتْ أَهْلَ الْمَغْرِبِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْغَسَّاقُ عَذَابٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. (وَآخَرَ) أَيْ: بِعَذَابٍ آخَرَ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: وَبِأَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: وَضُرُوبٌ أُخَرُ مَذُوقَةٌ وَيَصِحُّ فَتْحُ أَوَّلِهِ وَنَوْعٌ آخَرُ فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ ; لِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ يَقُولَ: بِمَدِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ جَعْلُهُ الْجَمْعَ أَصْلًا، وَتَجْوِيزُ الْمُفْرَدِ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ وَالنُّسَخُ الْمُصَحَّحَةُ. (مِنْ شَكْلِهِ) أَيْ: مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي الْحَرَارَةِ وَالْمَرَارَةِ. (أَزْوَاجٍ) بِالْجَرِّ أَيْ: أَصْنَافٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَأُخَرُ أَيْ: مَذُوقَاتٌ أُخَرُ مِثْلُ الْغَسَّاقِ فِي الشِّدَّةِ وَالْفَظَاعَةِ أَزْوَاجٌ أَجْنَاسٌ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا وَجْهَ لِإِرْجَاعِهِ الضَّمِيرَ إِلَى الْغَسَّاقِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَقْرَبَ مَذْكُورٍ، فَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ إِفْرَادَ

الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ قَالَ: وَآخَرَ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى حَمِيمٍ. قُلْتُ: لَيْسَ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بَلْ مَجْرُورٌ بِالْفَتْحَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ. قَالَ: وَأَزْوَاجٌ صِفَةٌ لِآخَرَ، وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا ; لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ الضُّرُوبِ وَالْأَصْنَافِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَعِي جِيَاعًا اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ النَّوْعِ وَالصِّنْفِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي الْآيَةِ أُخَرُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. (فَمَا تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ) بِالْكَرَاهَةِ (ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ) أَيْ: إِظْهَارٌ لِلْمَذَلَّةِ وَالْإِهَانَةِ (فَيُفْتَحُ لَهَا) أَيْ: يُسْتَفْتَحُ لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] . (فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَعْرِفُونَهُمْ بِمُجَرَّدِ اسْمِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ فُلَانًا كِنَايَةٌ عَمَّا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَيُعْرَفُ بِهِ جَمِيعُ رَسْمِهِ وَأَمْرِهِ. (فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ارْجِعِي ذَمِيمَةً) أَيْ: مَذْمُومَةً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْخَلْقِ. (فَإِنَّهَا) أَيِ: الْقِصَّةَ. (لَا تُفْتَحُ) بِالتَّأْنِيثِ وَتُذَكَّرُ وَبِالتَّخْفِيفِ وَتُشَدَّدُ (لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَتُرْسَلُ) أَيْ: تُرَدُّ وَسَيَأْتِي أَنَّهَا تُطْرَحُ. (مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ) أَيْ: تَرْجِعُ. (إِلَى الْقَبْرِ) وَتَكُونُ دَائِمًا مَحْبُوسَةً فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ بِخِلَافِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ ; فَإِنَّهَا تَسِيرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَتَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِجَسَدِهِ أَيْضًا تَعَلُّقًا كُلِّيًّا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي قَبْرِهِ وَيُصَلِّي، وَيَتَنَعَّمُ وَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَنَازِلِهِ فِي الْجَنَّةِ بِحَسَبِ مُقَامِهِ وَمَرْتَبَتِهِ، فَأَمْرُ الرُّوحِ وَأَحْوَالُ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ كُلُّهَا عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَلَا يُشْكِلُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْمُؤْمِنِ بِالْآيَاتِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

1628 - وَعَنْهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا. قَالَ حَمَّادٌ: فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ. قَالَ: وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ، وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تُعَمِّرِينَهُ ; فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ قَالَ حَمَّادٌ: وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا، وَذَكَرَ لَعْنًا، وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ، فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَيْطَةً كَانَتْ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1628 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا» ) هَذَا تَفْصِيلٌ لِلْمُجْمَلِ السَّابِقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا الْكَرِيمَانِ الْكَاتِبَانِ، وَلَا يُنَافِي الْجَمْعَ فِيمَا مَرَّ، أَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ فَالِاحْتِمَالُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ جَمْعٌ وَالْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَالْبَقِيَّةُ أَوِ الْكُلُّ يَقُولُونَ لِرُوحِهِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ، أَوِ الْقَائِلُ وَاحِدٌ، وَنُسِبَ إِلَى الْكُلِّ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَقَرُوهَا} [هود: 65] وَكَقَوْلِهِمْ: قَتَلَهُ بَنُو فُلَانٍ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الْآتِي. (قَالَ حَمَّادٌ) وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا دُونَ الْحَدِيثِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ رَاوِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (فَذَكَرَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الصَّحَابِيُّ وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ نِسْيَانَ رَاوِيهِ لَفْظَ النُّبُوَّةِ فِي هَذَا دُونَ مَعْنَاهُ فَذَكَرَهُ بِسِيَاقٍ يُشْعِرُ بِذَلِكَ. (مِنْ طِيبِ رِيحِهَا) أَيْ: أَوْصَافًا عَظِيمَةً مِنْ طِيبِ رِيحِهَا. (وَذَكَرَ) أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ. (الْمِسْكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: وَذَكَرَ الْمِسْكَ، لَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ كَالتَّشْبِيهِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ اهـ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: وَذَكَرَ أَنَّ طِيبَ رِيحِهَا أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. (قَالَ:) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ) أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ أَيْ: كُلُّ سَمَاءٍ. (رُوحٌ طَيِّبَةٌ) مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ: هُوَ أَوْ هِيَ، وَقَوْلُهُ: (جَاءَتْ) يَعْنِي الْآنَ. (مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مِنْ جِهَتِهَا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ. (صَلَّى اللَّهُ) أَيْ: أَنْزَلَ الرَّحْمَةَ. (عَلَيْكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي عَلَيْكَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: جَاءَتْ إِلَى الْخِطَابِ، وَفَائِدَتُهُ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ لَهَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، قُلْتُ: وَلِمَزِيدِ التَّلَذُّذِ بِخِطَابِهِمْ إِيَّاهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَرَاهَةُ الصَّلَاةِ اسْتِقْلَالًا عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ مَحَلُّهَا إِنْ صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا مِنْهُمْ لِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ فِي صَلَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ مِنْ تَبَرُّعِ صَاحِبِ الْحَقِّ بِهِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَلِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: " {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43] . (وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ) بِضَمِّ الْمِيمِ يَعْنِي عَلَى ظَاهِرِكِ وَبَاطِنِكِ، وَتَقْدِيمُ الْبَاطِنِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، وَالنَّظَرُ إِلَيْه أَتَمُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِعَارَةٌ، شَبَّهَ

تَدْبِيرَهَا الْبَدَنَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِعِمَارَةِ مَنْ يَتَوَلَّى مَدِينَةً وَيُعَمِّرُهَا بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. (فَيُنْطَلَقُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَيَنْطَلِقُونَ. (بِهِ إِلَى رَبِّهِ) أَيْ: إِلَى مَوْضِعِ حُكْمِهِ، أَوْ عَرْشِ رَبِّهِ، وَمَقَامِ قُرْبِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآتِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. (ثُمَّ يَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ. (انْطَلِقُوا بِهِ) أَيِ: الْآنَ، أَيْ: لِيَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي الْجَنَّةِ أَوْ عِنْدَهَا. (إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ) ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُ بِحُكْمِ الْأَزَلِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ هُنَا مُدَّةُ الْبَرْزَخِ. قَالَ) الطِّيبِيُّ: يُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَجَلَيْنِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] أَيْ: أَجَلُ الْمَوْتِ وَأَجَلُ الْقِيَامَةِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ. قَالَ حَمَّادٌ: وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الصَّحَابِيُّ. (مِنْ نَتْنِهَا) بِسُكُونِ التَّاءِ أَيْ: عَفَنِهَا. (وَذَكَرَ لَعْنًا) أَيْ: مَعَ النَّتَنِ، فَإِنَّ الْبُعْدَ مِنْ لَوَازِمِ النَّتَنِ. (وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ) مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ. (رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ) أَيْ: قَارَبَتِ السَّمَاءَ. (مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ هَاهُنَا يُقَالُ، وَفِي الْأَوَّلِ يَقُولُ رِعَايَةً لِحُسْنِ الْأَدَبِ حَيْثُ نَسَبَ الرَّحْمَةَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَمْ يَنْسِبْ إِلَيْهِ الْغَضَبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] . (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَيْطَةً) وَهِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، كُلُّ مُلَاءَةٍ عَلَى طَاقَةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ لُفْقَتَيْنِ أَيْ: طَرَفُ رَيْطَةٍ. (كَانَتْ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى بَدَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (عَلَى أَنْفِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِرَدَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُوشِفَ بِرُوحِ الْكَافِرِ، وَشَمَّ مِنْ نَتَنِ رِيحِ رُوحِهِ. (هَكَذَا) أَيْ: كَفِعْلِي هَذَا، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى أَنْفِهِ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ، صَدَرَتْ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ أَيْ: فِيهَا مِنَ النَّتَنِ وَالْقُبْحِ مَا لَوْ ظَهَرَ لِأَحَدِكُمْ لَغَطَّى أَنْفَهُ عَنْهُ كَذَلِكَ اهـ. وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ لِغَيْرِ بَاعِثٍ نَقْلِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1629 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَبْوَابَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ! فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدُمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا. فَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ أَمَا أَتَاكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: قَدْ ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطٌ عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ إِلَى بَابِ الْأَرْضِ فَيَقُولُونَ: مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ؟ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1629 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا قُبِضَ. (أَتَتْ) أَيْ: جَاءَتْهُ. (مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ) وَلَعَلَّ رُوحَهُ تُلَفُّ فِيهَا، وَتُرْفَعُ إِلَى السَّمَاءِ، وَالْكَفَنُ الدُّنْيَوِيُّ يَصْحَبُ الْجَسَدَ الصُّورِيَّ. (فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي) أَيْ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ. (رَاضِيَةً) عَنِ اللَّهِ سَابِقًا بِثَوَابِ اللَّهِ لَاحِقًا. (مَرْضِيًّا عَنْكِ) أَيْ: أَوَّلًا وَآخِرًا. (إِلَى رَوْحِ اللَّهِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: رَحْمَتِهِ أَوْ رَاحَةٍ مِنْهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28] . (وَرَيْحَانٍ) أَيْ: رِزْقٍ كَرِيمٍ، أَوْ مَشْمُومٍ عَظِيمٍ. (وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ) أَيْ: رَءُوفٍ رَحِيمٍ. (فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَخْرُجُ خُرُوجًا مِثْلَ رِيحِ مِسْكٍ بِفَتْقِ فَأْرَتِهَا، وَهُوَ قَدْ فَاقَ سَائِرَ أَرْوَاحِ الْمِسْكِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَتَخْرُجُ حَالَ كَوْنِهَا مِثْلَ أَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ، وَدَعْوَتُهُ أَنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَوْضَحُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ فَغَيْرُ وَاضِحٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْضَحَ. (حَتَّى إِنَّهُ) أَيِ: الْمُؤْمِنَ أَوْ رُوحَهُ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَوْ بِدُونِهِ فَإِنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَالْمَعْنَى حَتَّى إِنَّهُ مِنْ طِيبِ رُوحِهِ وَعَظَمَةِ رِيحِهِ. (يُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) أَيْ: يَصْعَدُونَ بِهِ مَنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ تَكْرِيمًا، وَتَعْظِيمًا، وَتَشْرِيفًا، لَا كَسَلًا وَتَعَبًا وَتَكْلِيفًا، وَلِذَا تَنَاوَبُوهُ وَإِلَّا فَأَحَدُهُمْ لَا يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ. (حَتَّى يَأْتُوا) وَفِي رِوَايَةٍ فَيَشْتُمُونَهُ وَفِي رِوَايَةٍ فَيَشْتُمُونَهُ حَتَّى يَأْتُوا. (بِهِ أَبْوَابَ السَّمَاءِ) أَيْ: بَابًا بَعْدَ بَابٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: بَابَ السَّمَاءِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ، وَهُوَ غَايَةٌ لِلْمُنَاوَلَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: غَايَةٌ لِـ يَخْرُجُ فَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِالْغَايَةِ. (فَيَقُولُونَ) أَيْ: بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ لِبَعْضِ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ عَلَى جِهَةِ التَّعَجُّبِ مِنْ غَايَةِ عَظَمَةِ طِيبِهِ. (مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ!) أَيْ: وَصَلَتْ إِلَيْكُمُ الْآنَ مِنْهَا. (فَيَأْتُونَ) وَفِي رِوَايَةٍ: كُلَّمَا أَتَوْا سَمَاءً، قَالُوا ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا أَيِ: الْمَلَائِكَةُ الْأَوَّلُونَ أَوِ الْمُسْتَقْبِلُونَ.

السَّائِلُونَ. (بِهِ) أَيْ: بِرُوحِهِ. (أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: إِلَى مَقَرِّ أَرْوَاحِهِمْ فِي عِلِّيِّينَ أَوْ فِي الْجَنَّةِ، أَوْ عَلَى بَابِهَا، أَوْ تَحْتَ الْعَرْشِ بِحَسَبِ مَنْزِلَتِهِ. (فَلَهُمْ) الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِأَرْوَاحِهِمْ. (أَشَدُّ فَرَحًا) وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَهُمْ أَفْرَحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ مُؤَكِّدَةً نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] وَهُمْ مُبْتَدَأٌ، وَأَشَدُّ خَبَرُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ جَارَّةً أَيْ: لَهُمْ فَرَحٌ أَشَدُّ فَرَحًا ; فَيَكُونُ الْفَرَحُ فَرَحًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. (بِهِ) أَيْ: بِقُدُومِهِ. (مِنْ أَحَدِكُمْ) أَيْ: مِنْ فَرَحِهِ. (بِغَائِبِهِ) أَيِ: الْمَخْصُوصِ بِهِ. (يَقْدَمُ عَلَيْهِ) أَيْ: حَالَ قُدُومِهِ. (فَيَسْأَلُونَهُ) أَيْ: بَعْضُ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ) . (مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟) أَيْ: كَيْفَ حَالُهُ وَشَأْنُهُ؟ أَيْ: فِي الطَّاعَةِ لِيَفْرَحُوا بِهِ وَيَدْعُوا لَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ أَوْ فِي الْمَعْصِيَةِ لِيَحْزَنُوا عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرُوا لَهُ. (مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟) تَأْكِيدٌ، أَوِ الْمُرَادُ شَخْصٌ آخَرُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (فَيَقُولُونَ) أَيْ: بَعْضٌ آخَرُ مِنَ الْأَرْوَاحِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَيَقُولُ: أَيْ: بَعْضُهُمْ أَوْ أَحَدُهُمْ. (دَعُوهُ) أَيِ: اتْرُكُوهُ. (الْآنَ) وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى يَسْتَرِيحَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: دَعُوا الْقَادِمَ فَإِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِتَعَبِ الدُّنْيَا. (فَإِنَّهُ) أَيِ: الْقَادِمُ. (فِي غَمِّ الدُّنْيَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا فَكَانَ زَائِدَةٌ، أَوْ ضَمِيرُ فَإِنَّهُ لِلشَّأْنِ، وَكَانَ أَيِ: الْقَادِمُ فِي غَمِّ الدُّنْيَا إِلَى الْآنَ مَا اسْتَرَاحَ مِنْ هَمِّهَا. (فَيَقُولُ) أَيِ: الْقَادِمُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، وَالْجُمْلَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ. (قَدْ مَاتَ) أَيْ: فُلَانٌ الْمَسْئُولُ، أَوْ فُلَانٌ الثَّانِي، وَهُوَ الْأَقْرَبُ. (أَمَا أَتَاكُمْ) أَيْ: أَمَا جَاءَكُمْ. (فَيَقُولُونَ) وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِذَا قَالَ لَهُمْ: مَا أَتَاكُمْ فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ. يَقُولُونَ أَيْ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ: (قَدْ ذُهِبَ بِهِ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتَ: إِنَّهُ مَاتَ وَلَمْ يَلْحَقْ بِنَا فَقَدْ ذُهِبَ بِهِ اهـ. وَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ بِلَفْظِ أَوَمَا أُوتِيَ عَلَيْكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَوَقَدْ هَلَكَ. فَيَقُولُ: أَيْ وَاللَّهِ، فَيَقُولُونَ: نَرَاهُ قَدْ ذُهِبَ بِهِ. (إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ) أَيِ: النَّارِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] لِأَنَّهَا مَأْوَى الْمُجْرِمِ، وَمَقَرُّهُ كَمَا أَنَّ الْأُمَّ لِلْوَلَدِ كَذَلِكَ ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا زِيدَ فِي رِوَايَةِ: فَبِئْسَتِ الْأُمُّ الْمُرَبِّيَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأُمُّ الْمَصِيرُ، أُطْلِقَ عَلَى الْمَأْوَى عَلَى التَّشْبِيهِ ; لِأَنَّ الْأُمَّ مَأْوَى الْوَلَدِ وَمَقَرُّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت: 25] وَالْهَاوِيَةُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَخَبَرٌ لِأُمِّهُ وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، كَأَنَّهَا النَّارُ الْعَمِيقَةُ تُهْوِي أَهْلَ النَّارِ فِيهَا مَهْوًى بَعِيدًا. (وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ. (أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ) الْجَوْهَرِيُّ الْمِسْحُ بِالْكَسْرِ الْبِلَاسُ. (فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً) أَيْ: كَارِهَةً غَيْرَ رَاضِيَةٍ عَنِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا. (مَسْخُوطًا) أَيْ: مَغْضُوبًا. (عَلَيْكِ) أَيْ: أَزَلًا وَأَبَدًا. (إِلَى عَذَابِ اللَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ اخْرُجِي. (عَزَّ) أَيْ: غَلَبَ كَلِمُهُ وَأَمْرُهُ. (وَجَلَّ) أَيْ: قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ. (فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ) بِإِثْبَاتِ النُّونِ وَرَفْعِهِ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ عَلَى حَدِّ: (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ) فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: حَتَّى أَتَوْا يَعْنِي بِهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (بَابَ الْأَرْضِ) وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى بَابِ الْأَرْضِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى بَابِ الْأَرْضِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: بَابَ سَمَاءِ الْأَرْضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَابِ بَابُ الْأَرْضِ فَيُرَدُّ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي هَذَا الْبَابِ. (فَيَقُولُونَ) أَيْ: مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ. (مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ حَتَّى!) وَفِي رِوَايَةٍ: كُلَّمَا أَتَوْا عَلَى أَرْضٍ قَالُوا ذَلِكَ ; فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ حَتَّى غَايَةً لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ لِسَيْرِهِمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ. (يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ) وَمَحَلُّهَا سِجِّينٌ، وَهُوَ مَوْضِعُ جَهَنَّمَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالْحَاكِمُ والْبَيْهَقِيُّ اهـ. وَالرِّوَايَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هِيَ لَفْظُ الْحَاكِمِ.

1630 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ. قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنَ السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ يَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ ; فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. يَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ يَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ. قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ. فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ وَيَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ، أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ. قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا وَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدْعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَتَخْرُجَ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ يَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ يَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَتِحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ حَرُّهَا وَسَمُومُهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ، فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ» . وَفِي رِوَايَةٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ: «إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَتُنْزَعُ نَفْسُهُ يَعْنِي الْكَافِرَ مَعَ الْعُرُوقِ فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ لَا يُعْرِجَ رُوحَهُ مِنْ قِبَلِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1630 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتُكْسَرُ. (مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا) أَيْ: وَصَلْنَا. (إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ قَبْلَ أَنْ يُلْحَدَ، وَلَمَّا بِمَعْنَى لَمْ، وَفِيهِ تَوَقُّعٌ. (فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَكَأَنَّ. (عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنْ إِطْرَاقِهِمْ رُءُوسَهُمْ، وَسُكُوتِهِمْ، وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِمْ يَمِينًا وَشِمَالًا. قَالَ مِيرَكُ: وَالطَّيْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَأَنَّ أَيْ عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ الطَّيْرُ يُرِيدُ صَيْدَهُ فَلَا يَتَحَرَّكُ، وَهَذِهِ كَانَتْ صِفَةَ مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَسْكُتُونَ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ وَالطَّيْرُ لَا يَسْقُطُ إِلَّا عَلَى سَاكِنٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَوْلُهُمْ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرَ إِذَا سَكَنُوا مِنْ هَيْبَتِهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْغُرَابَ إِذَا وَقَعَ عَلَى رَأْسِ الْبَعِيرِ فَيَلْتَقِطُ مِنْهُ الْحَمْلَةَ وَالْحَمْلَتَيْنِ، فَلَا يُحَرِّكُ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ لِئَلَّا يَنْفُرَ عَنْهُ الْغُرَابُ. (وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ) بِضَمِّ الْكَافِ. (بِهِ فِي الْأَرْضِ) أَيْ: يُؤَثِّرُ بِطَرَفِ الْعُودِ الْأَرْضَ فِعْلَ الْمُتَفَكِّرِ الْمَهْمُومِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ) ظَرْفٌ لِقَالَ. (أَوْ ثَلَاثًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ) أَيْ: إِدْبَارٍ. (مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ) أَيِ: اتِّصَالٍ بِهَا. (نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ) إِظْهَارًا لِلِّطُفِ وَالْعِنَايَةِ، أَوِ انْعِكَاسًا مِنْ أَنْوَارِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ. (كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ) أَيْ: وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالشَّمْسِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَخْبَرَ بِهَا عَنِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فِي الْأَصْلِ فَقَوْلٌ مَنْطِقِيٌّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. (مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ حَرِيرِهَا. (وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِسْكِهَا وَعَنْبَرِهَا وَعَبِيرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَنُوطُ مَا يُخْلَطُ مِنَ الطِّيبِ لِأَكْفَانِ الْمَوْتَى وَأَجْسَادِهِمْ. (حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ) أَيْ: قَرِيبًا مِنْهُ مَعَ كَمَالِ الْأَدَبِ، يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ الرُّوحِ مِنْهُ. (ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. (حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يُنَافِي ظَاهِرُهُ مَا مَرَّ أَنَّ الْقَائِلَ غَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنَّهُ وَمَلَائِكَةٌ أُخَرُ بِهَا يَقُولُونَ ذَلِكَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَا مَرَّ أَنَّ الْقَائِلَ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا مَرّ

الْعَبْدِ سَلَّمَهَا إِلَى أَعْوَانِهِ الَّذِينَ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ. (حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ) مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ. (وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ) أَيِ: الْجَنِّيِّ. (وَيَخْرُجُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الرُّوحِ رِيحٌ أَوْ شَيْءٌ. (كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ) أَيْ: مِثْلِ أَطْيَبِهَا فَالْكَافُ مَثَلِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ هُوَ فَاعِلُ يَخْرُجُ، أَيْ: يَخْرُجُ مِنْهَا رَائِحَةٌ كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ. (وُجِدَتْ) أَيْ: تِلْكَ النَّفْحَةُ. (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) أَيْ: جَمِيعِهَا مُنْذُ خُلِقَتِ الدُّنْيَا إِلَى فَنَائِهَا. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (فَيَصْعَدُونَ) أَيْ: أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ، أَوْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. (بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا) هَذَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ أَوِ الرَّاوِي، وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي رِوَايَةِ السُّيُوطِيِّ. (عَلَى مَلَأٍ) أَيْ: جَمْعٍ عَظِيمٍ. (مِنَ الْمَلَائِكَةِ) أَيِ: الَّذِينَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. (إِلَّا قَالُوا) أَيِ: الْمَلَأُ. (مَا هَذَا الرَّوْحُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيِ: الرِّيحُ وَضَمِّهَا. (الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ) أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. (فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ) أَيْ: رُوحُهُ أَوْ رَوْحُهُ. (بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ) أَيْ: أَلْقَابِهِ وَأَوْصَافِهِ. (الَّتِي كَانُوا) أَيْ: أَهْلُ الدُّنْيَا. (يُسَمُّونَهُ) أَيْ: يَذْكُرُونَهُ. (بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ. (فِي الدُّنْيَا حَتَّى) لَا يَزَالُ الْمَلَائِكَةُ يَسْأَلُونَ وَيُجَابُونَ كَذَلِكَ حَتَّى (يَنْتَهُوا بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الرُّوحِ. (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أُنِّثَ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ، وَذُكِّرَ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ اهـ. الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَفِي الْقَامُوسِ الرُّوحُ بِالضَّمِّ مَا بِهِ حَيَاةُ الْأَنْفُسِ وَيُؤَنَّثُ. (فَتُفْتَحُ) بِالتَّأْنِيثِ أَيِ: السَّمَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُذكَّرَ فَالْجَارُّ نَائِبُ الْفَاعِلِ. (لَهُمْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِفْتَاحِ، ثُمَّ جُمِعَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُ بَلْ يَسْتَمِرُّونَ مَعَهُ اهـ. وَهُوَ خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ لَهُمْ لِلْمُسْتَفْتِحِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ قَوْلُهُ لَهُ عِلَّةً وَصِلَةً لِلْفِعْلِ، وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الْمَقْصُودِ ; فَالْمُطَابَقَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ التَّغْلِيبُ فَيُرَاعَى الِاسْتِخْدَامُ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِ. (فَيُشَيِّعُهُ) أَيْ: يَسْتَقْبِلُهُ وَيَصْحَبُهُ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي السَّمَاءِ (مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا) أَيْ: تَقْرُبُهَا وَتَدْنُو مِنْهَا وَهَكَذَا. (حَتَّى يُنْتَهَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْجَارُّ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ لَفْظُ بِهِ سَاقِطٌ، وَيَنْتَهِي بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ. (إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ) أَيِ: الْجَنَّةِ إِذْ هِيَ مُجَاوِرَةٌ لَهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نِهَايَةُ السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، وَالِاقْتِرَابُ إِلَى عَرْشِ الرَّحْمَنِ أَيْ: سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. (فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: اكْتُبُوا) أَيْ: أَثْبِتُوا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ اكْتُبُوا الْآنَ، وَإِنْ كُتِبَ فِي سَابِقِ الزَّمَانِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ صَحِيحٍ وَنَقْلٍ صَرِيحٍ. (كِتَابَ عَبْدِي) بِالْإِضَافَةِ لِلتَّشْرِيفِ ; وَلِذَا قَالَ فِي الْكَافِرِ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ أَيِ: اجْعَلُوا كِتَابَةَ عَبْدِي بِكِتَابَةِ اسْمِهِ. (فِي عِلِّيِّينَ) أَيْ: فِي دَفْتَرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَدِيوَانِ الْمُقَرَّبِينَ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعٌ فِيهِ كِتَابُ الْأَبْرَارِ، فَالْمُرَادُ بِكِتَابِ الْعَبْدِ صَحِيفَةُ أَعْمَالِهِ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: أَيْ: فِي كِتَابِ عَبْدِي يَعْنِي أَنَّهُ فِي عِلِّيِّينَ، أَوْ فِي عَوَالٍ، أَوْ غُرَفٍ مِنَ الْجَنَّةِ مَآلًا، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي سِجِّينٍ، وَلِكُلِّ رُوحٍ بِجَسَدِهَا اتِّصَالٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يُشْبِهُ الِاتِّصَالَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بَلْ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِهِ حَالُ النَّائِمِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَشَدَّ مِنْ حَالِ النَّائِمِ اتِّصَالًا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَرَدَ أَنَّ مَقَرَّهَا فِي عِلِّيِّينَ أَوْ سِجِّينٍ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا عِنْدَ أَفَنِيَةِ قُبُورِهَا. قَالَ: وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ مَأْذُونٌ لَهَا فِي التَّصَرُّفِ، وَتَأْوِي إِلَى مَحَلِّهَا مِنْ عِلِّيِّينَ أَوْ سِجِّينٍ. قَالَ: وَإِذَا نُقِلَ الْمَيِّتُ مِنْ قَبْرٍ إِلَى قَبْرٍ فَالِاتِّصَالُ الْمَذْكُورُ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَا لَوْ تَفَرَّقَتِ الْأَجْزَاءُ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الرُّوحُ مِنْ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ الَّذِي كَلَمْحِ الْبَصَرِ، مَا يَقْتَضِي عُرُوجَهَا مِنَ الْقَبْرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي أَدْنَى لَحْظَةٍ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ رُوحُ النَّائِمِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رُوحَ النَّائِمِ تَصْعَدُ حَتَّى تَخْتَرِقَ الطِّبَاقَ، وَتَسْجُدُ لِلَّهِ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ ثُمَّ تُرَدُّ إِلَى جَسَدِهِ فِي أَيْسَرِ زَمَانٍ؛ انْتَهَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: اكْتُبُوا كِتَابَ مَقَرِّ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ. (وَأَعِيدُوهُ) الْآنَ (إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ: لِيَتَعَلَّقَ بِالْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَيَتَهَيَّأَ لِجَوَابِ السُّؤَالِ (فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ) أَيْ: أَجْسَادَ بَنِي آدَمَ. (وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ) أَيْ: أَجْسَادَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ.

(وَمِنْهَا أُخْرِجْهُمْ) أَيْ: كُمَّلًا. (تَارَّةً) أَيْ مَرَّةً. (أُخْرَى قَالَ:) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّ إِعَادَةَ قَالَ لِطُولِ الْكَلَامِ أَوْ لِفَصْلِهِ بِكَلَامِ غَيْرِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْمَوَاضِعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. (فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ، فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ الْبَعْضِ بِأَنَّ الْعَوْدَ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى الْبَعْضِ، وَلَا إِلَى قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ إِلَى نِصْفِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِ الْعَقْلِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى صِحَّةِ النَّقْلِ. (يَأْتِيهِ مَلَكَانِ) أَيِ: الْمُنْكَرُ وَالنَّكِيرُ لَكِنْ فِي صُورَةِ مُبَشِّرٍ وَبَشِيرٍ. (فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولُونَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينَيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ) ؟ أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْعِبَارَةِ فِتْنَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَامْتِحَانٌ لِلْمُوقِنِ حَيْثُ أَتَيَا بِصِيغَةِ الْجَهَالَةِ، وَلَمْ يُذَكِّرَاهُ بِصِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ إِذْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ (فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ) وَفِي رِوَايَةٍ: مُحَمَّدٌ نَبِيٌّ. (فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟) أَيْ: بِمَا قُلْتَ: أَوْ مَا سَبَبُ عِلْمِكَ بِرِسَالَتِهِ، أَوْ مَا سَبَبُ إِقْرَارِكَ، أَمُجَرَّدُ التَّقْلِيدِ فِي التَّصْدِيقِ، أَوِ الْبُرْهَانُ وَالتَّحْقِيقُ؟ (فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ) أَيْ: بِالْكِتَابِ، أَوْ بِالرَّسُولِ، أَوْ بِمَا فِيهِ، وَعَلِمْتُ جَمِيعَ مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَعَانِيهِ (وَصَدَّقْتُ) أَيْ: تَصْدِيقًا قَلْبِيًّا، وَمَا اكْتَفَيْتُ بِالْإِيمَانِ اللِّسَانِيِّ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجْرٍ أَوْ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ عِنْدَ أَرْبَابِ التَّأْيِيدِ. (فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ: عَلَى لِسَانِ الْحَقِّ (أَنْ صَدَقَ عَبْدِي) أَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ ; لِأَنَّ فِي النِّدَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَجَعْلُهَا مَصْدَرِيَّةً يُخِلُّ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِأَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ بِصِدْقِ عَبْدِي. (فَأَفْرِشُوهُ) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَعْطُوهُ فِرَاشًا أَوْ أَفْرِشُوا لَهُ فِرَاشًا، فَالْهَمْزَةُ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ أَفْرَشَ فُلَانًا بِسَاطًا بَسَطَهُ لَهُ كَفَرَشَهُ فَرْشًا، وَفَرَّشَهُ تَفْرِيشًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: أَفْرِشُوا قَبْرَهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِمَا فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا فَرَشَهُ فَرْشًا وَفِرَاشًا أَيْ: بَسَطَهُ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَفْرُوشَ لَا يَكُونُ إِلَّا الْبِسَاطَ، وَالْقَبْرُ لَيْسَ إِلَّا مَفْرُوشًا فِيهِ، وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي لِسَانِ أَهْلِ الزَّمَانِ مِنَ الْعَرَبِ أَفْرَشَوا الْبَيْتَ فَاتِّسَاعٌ فِي الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُمُ الْمَيِّتُ مَفْرُوشٌ أَيْ: مَفْرُوشٌ فِيهِ. (مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ فُرُشِهَا. (وَأَلْبِسُوهُ) بِهَمْزَةِ الْقَطْعِ أَيِ: (اكْسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ ثِيَابِهَا. (وَافْتَحُوا لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِهِ. (بَابًا) أَيْ: مِنَ الْقَبْرِ. (إِلَى الْجَنَّةِ) أَيْ: جِهَتِهَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ مِنَ الْجَنَّةِ فَمِنْ سَهْوِ الْقَلَمِ. (قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: نَسِيمِهَا. (وَطِيبِهَا) أَيْ: رَائِحَتِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: رَوْحُهَا مَرَّ بَيَانُهُ فَمُوهِمٌ جَوَازَ ضَمِّ الرَّاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: (وَطِيبِهَا) تَأْكِيدٌ، فَغَفْلَةٌ عَنِ التَّحْقِيقِ الثَّابِتِ بِالتَّأْيِيدِ. (فَيُفْسَحُ) بِالتَّخْفِيفِ وَتُشَدَّدُ أَيْ: يُوَسَّعُ (لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ) وَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْبَصَرِ الْمُرَتَّبِ عَلَى اخْتِلَافِ الْبَصِيرَةِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَيَأْتِيهِ) أَيِ: الْمُؤْمِنَ. (رَجُلٌ) أَيْ: شَيْءٌ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ. (حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ) كِنَايَةٌ عَنْ حُسْنِ عَمَلِهِ وَخُلُقِهِ، (فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ) أَيْ: بِمَا يَجْعَلُكَ مَسْرُورًا، يَعْنِي بِمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ بِبَالِ بَشَرٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] وَأَمَّا تَقْدِيرُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: يَسُرُّكَ رَبُّكَ فَغَفْلَةٌ عَنْ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى تَقْدِيرِ " بِهِ " أَيْضًا، وَإِذَا صَحَّ الْكَلَامُ بِلَا تَقْدِيرٍ فَلَا يُقَدَّرُ، وَالنِّسْبَةُ الْمَجَازِيَّةُ غَيْرُ عَزِيزَةٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.} [البقرة: 69] (هَذَا) أَيُ: الْوَقْتُ. (يَوْمُكَ) أَيْ: زَمَانُكَ الْمَحْمُودُ. (الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ) أَيْ: بِهِ فِي الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] . (فَيَقُولُ) أَيِ: الْمُؤْمِنُ. (لَهُ مَنْ أَنْتَ) حَيْثُ أَنَّسْتَ الْغَرِيبَ، وَبَشَّرْتَ بِالْخَيْرِ الْعَجِيبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا سَرَّهُ بِالْبِشَارَةِ قَالَ لَهُ: إِنِّي لَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ حَتَّى أُجَازِيَكَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ: مَنْ أَنْتَ؟ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْمَدْحِ مُجْمَلًا وَفِيهِ نَظَرٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ

وَقَرِينَةُ الْحَالَةِ ثُمَّ قَالَ: وَالْفَاءُ فِي. (فَوَجْهُكَ) لِتَعْقِيبِ الْبَيَانِ بِالْمُجْمَلِ عَلَى عَكْسِ قَوْلِ الشَّقِيِّ لِلْمَلَكِ: مَنْ أَنْتَ؟ (الْوَجْهُ) أَيْ: وَجْهُكَ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالنِّهَايَةِ فِي الْكَمَالِ، وَحَقٌّ لِمِثْلِ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَجِيءَ بِالْخَيْرِ وَيُبَشِّرَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ وَقَوْلُهُ: (يَجِيءُ بِالْخَيْرِ) جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَقِيلَ: الْمَوْصُولُ مُقَدَّرٌ أَيْ: وَجْهُكَ الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. (فَيَقُولُ) أَيِ: الْمُصَوَّرَةُ بِصُورَةِ الرَّجُلِ. (أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ) . فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ التَّكْرَارُ لِلْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ. (حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي) أَيْ: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْخَدَمِ. (وَمَالِي) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً أَيْ: مَالِي مِنَ الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَغَيْرِهَا مِنْ حُسْنِ الْمَالِ، وَمِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ أَقَارِبُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِمَالِي مَا يَشْمَلُ الْحُورَ وَالْقُصُورَ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يَعْنِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ إِحْيَائِهِ لِكَيْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَيَزِيدَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَزِيدَ ثَوَابًا وَيُرْفَعَ فِي دَرَجَاتِهِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ أَنَّ حَمْلَ السَّاعَةِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَامَةِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْغَرَابَةِ. وَقَالَ مِيرَكُ: الْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ: طَلَبَ إِقَامَةَ الْقِيَامَةِ لِكَيْ يَصِلَ إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِرِ حِكَايَةً عَنْهُ رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ لِكَيْ يَهْرَبَ بِهِ عَمَّا يُعَدُّ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ. (قَالَ) يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا، وَفِي الرِّوَايَاتِ جَمِيعِهَا ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْقِصَّةِ الثَّانِيَةِ. (وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ) أَيْ: مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. (سُودُ الْوُجُوهِ) إِظْهَارًا لِلْغَضَبِ بِمَا يُنَاسِبُ عِلْمَهُ، أَوِ انْعِكَاسًا مِنْ قِبَلِهِ. (مَعَهُمُ الْمُسُوحُ) جَمْعُ الْمِسْحِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ اللِّبَاسُ الْخَشِنُ. (فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ انْتِظَارًا لِخُرُوجِ رُوحِهِ. (ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ) أَيْ: خَبِيثَةُ الْخِصَالِ غَيْرُ مَرَضِيَّةِ الْأَعْمَالِ. (اخْرُجِي فِي سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) أَيْ: إِلَى آثَارِ غَضَبِ اللَّهِ مِنْ أَنْوَاعِ عِقَابِهِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَتَفَرَّقُ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ أَيِ: الرُّوحُ. (فِي جَسَدِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: كَرَاهَةَ الْخُرُوجِ إِلَى مَا يُسَخِّنُ عَيْنَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، كَمَا أَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَخْرُجُ وَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنَ السِّقَاءِ فَرَحًا إِلَى مَا تَمُرُّ بِهِ عَيْنُهُ مِنَ الْكَرَامَةِ اهـ. وَتَسْخِيرُ الْعَيْنِ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَوْهَرِ كَمَا أَنَّ قُرَّةَ الْعَيْنِ عِبَارَةٌ عَنِ السُّرُورِ، وَلِذَا قَالُوا: دَمْعُ الْحُزْنِ وَدَمْعُ الْفَرَحِ بَارِدٌ. (فَيَنْتَزِعُهَا) أَيْ: مَلَكُ الْمَوْتِ يَسْتَخْرِجُ رُوحَهُ بِعُنْفٍ وَشَدَّةٍ وَمُعَالَجَةٍ. (كَمَا يُنْزَعُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةٍ كَمَا يُنْتَزَعُ. (السَّفُّودُ) كَتَنُّورٍ أَيِ: الشَّوْكُ أَوِ الْحَدِيدُ الَّتِي يُشْوَى بِهَا اللَّحْمُ. (مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ نَزْعَ رُوحِ الْكَافِرِ مِنْ أَقْصَى عُرُوقِهِ بِحَيْثُ يَصْحَبُهُ الْعُرُوقُ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَتُنْزَعُ نَفْسُهُ مَعَ الْعُرُوقِ نَزْعَ السَّفُّودِ وَهُوَ الْحَدِيدُ الَّتِي يُشْوَى بِهَا اللَّحْمُ فَيَبْقَى مَعَهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَحْرُوقِ، فَيَسْتَصْحِبُ عِنْدَ الْجَذْبِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الصُّوفِ مَعَ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ وَبِعَكْسِهِ شَبَّهَ خُرُوجَ رُوحِ الْمُؤْمِنِ مِنْ جَسَدِهِ بِتَرْشِيحِ الْمَاءِ وَسَيَلَانِهِ مِنَ الْقِرْبَةِ الْمَمْلُوءَةِ مَاءً مَعَ سُهُولَةٍ وَلُطْفٍ. (فَيَأْخُذُهَا) أَيْ: مَلَكُ الْمَوْتِ. (فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدْعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ) أَيْ: مُبَادَرَةً إِلَى الْأَمْرِ. (حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجَ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ رُوحِ الْكَافِرِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ جَسَدِهِ. (كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا) افْتِضَاحًا لَهَا، وَإِظْهَارًا لِرَدَاءَتِهَا. (فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ) أَيْ: يَذْكُرُونَهُ بِأَشْنَعِ أَوْصَافِهِ. (الَّتِي كَانَ يُسَمَّى) وَفِي نُسْخَةٍ: كَانُوا أَيْ: أَهْلُ السَّمَاءِ يُسَمُّونَ أَيْ: يُسَمُّونَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ السَّيِّدِ بِفَتْحِ الْمِيمِ فَالضَّمِيرَانِ إِلَى الْكَافِرِ. (بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ

الْأَسْمَاءِ. (فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) أَيِ: الْقُرْبَى. (فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيِ: اسْتِشْهَادًا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} [الأعراف: 40] . (لَا تُفَتَّحُ) بِالتَّأْنِيثِ مَعَ التَّشْدِيدِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَمَعَ التَّخْفِيفِ قِرَاءَةُ الْبَصْرِيِّ، وَبِالتَّذْكِيرِ وَالتَّخْفِيفِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. (لَهُمْ) أَيْ: لِلْكُفَّارِ. (أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أَيْ: شَيْءٌ مِنْهَا. {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ} [الأعراف: 40] أَيْ: يَدْخُلَ. {الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] أَيْ: خَرْقَهُ وَثَقْبَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: سَمُّ الْإِبْرَةِ مَثَلٌ فِي ضِيقِ الْمَسْلَكِ وَالْجَمَلُ مَثَلٌ فِي عِظَمِ الْجِرْمِ فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِالْمُحَالِ اهـ. وَذَلِكَ بِأَنَّ دُخُولَ الْجِرْمِ الْعَظِيمِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى عَظَمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْخَرْقِ الضَّيِّقِ جِدًّا مَعَ بَقَائِهِ عَلَى ضِيقِهِ مُحَالٌ عَقْلًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَكَذَلِكَ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ مُحَالٌ لِذَلِكَ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ لَيْسَ مُحَالًا لِذَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ مُحَالٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَلَا يَدْخُلُ الْكَافِرُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَيُجَوِّزُهُ لَوْلَا النَّقْلُ، نَعَمِ الْعَقْلُ الْكَامِلُ أَيْضًا، لَا يُجَوِّزُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَلِذَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] الْآيَةَ، وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] . (فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ) قِيلَ: هُوَ مَوْضِعٌ فِيهِ كِتَابُ الْفُجَّارِ مِنْ قَعْرِ النَّارِ (فِي الْأَرْضِ) حَالٌ لَازِمَةٌ أَوْ بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ. (السُّفْلَى) أَيِ: السَّابِعَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَحَلِّ جَهَنَّمَ وَهُوَ الْأَشْهَرُ مِنْ خِلَافٍ طَوِيلٍ فِيهِ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ: لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَيَنْبَغِي لَنَا الْإِمْسَاكُ عَنْهُ. (فَتُطْرَحُ) أَيْ: تُرْمَى. (رُوحُهُ) طَرْحًا أَيْ: رَمْيًا شَدِيدًا. (ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيِ: اعْتِضَادٌ لِلْمُبَالَغَةِ.: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي} [الحج: 31] أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّمْثِيلِ أَيْ: تَرْمِي. {بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] أَيْ: بَعِيدٌ أَوْ عَمِيقٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ أَيْ: هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَطَارِحِ الْبَعِيدَةِ وَهَذَا اسْتِشْهَادٌ مُجَرَّدٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى فَتَطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا لَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِحَالِ الْكَافِرِ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهُ شَبَّهَ فِي الْآيَةِ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ بِالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْأَهْوَاءَ الَّتِي تُوَزِّعُ أَفْكَارَهُ بِالطَّيْرِ الْمُخْتَطِفَةِ، وَالشَّيْطَانَ الَّذِي يُغْوِيهِ وَيَطْرَحُ بِهِ فِي وَادِي الضَّلَالَةِ بِالرِّيحِ الَّذِي هُوَ يَهْوِي بِمَا عُصِفَ بِهِ فِي بَعْضِ الْمُهَاوِي الْمُتْلِفَةِ. (فَتُعَادُ رُوحُهُ) فِي جَسَدِهِ. (وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ) بِسُكُونِ الْهَاءِ الْأَخِيرَةِ فِيهِمَا، وَهُوَ كَلَامُ الْمَبْهُوتِ الْمُتَحَيِّرِ فِي الْجَوَابِ، وَلِذَا صَرَّحَ وَقَالَ: (لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ) : أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ) ؟ أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ. (فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ) أَيْ: كَذَبَ فِي نَفْيِ الدِّرَايَةِ عَنْهُ مُطْلَقًا، بَلْ عَرَفَ اللَّهَ وَأَشْرَكَ بِهِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الدِّينُ، وَمَا تَدَيَّنَ بِهِ، وَظَهَرَتْ رِسَالَةُ النَّبِيِّ بِالْمُعْجِزَاتِ عِنْدَهُ، وَمَا أَطَاعَهُ، أَوِ الْكَذِبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْنَى: لَا أَدْرِي لَمْ يَكُنْ لِي قَابِلِيَّةُ دِرَايَةٍ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَهَذَا كَذِبٌ مَحْضٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا هَذَا الْعِلْمَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ) وَفِي رِوَايَةِ السُّيُوطِيِّ: وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ. (وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا) أَيْ: يَأْتِيهِ بَعْضُ حَرِّهَا فِي قَبْرِهِ، وَأَمَّا تَمَامُهُ فَفِي الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَيَأْتِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَتَقْدِيرٌ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيرٍ وَتَقْرِيرٍ. (وَسَمُومِهَا) أَيْ: شِدَّةِ حَرَارَتِهَا، وَظَاهِرُ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ سَمُومَهَا مَمْزُوجٌ بِالنَّتَنِ وَالْعُفُونَةِ. (وَيُضَيَّقُ) بِالتَّشْدِيدِ. (عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ) أَيْ: فِي قَبْرِهِ وَفِي بَدَنِهِ. (أَضْلَاعُهُ)

أَيْ: عِظَامَ جَنْبَيْهِ، وَأَمَّا ضَغْطَةُ الْقَبْرِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ بَلِ الْأَكَابِرِ الْمُوَحِّدِينَ كَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سَيِّدِ الْأَنْصَارِ الَّذِي حَمَلَ جَنَازَتَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَاهْتَزَّ لِمَوْتِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّمَا هُوَ ضَمَّةٌ لِلْأَرْضِ كَمُعَانَقَةِ الْأُمِّ الْمُشْتَاقَةِ لِوَلَدِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: دَائِمًا أَوْ غَالِبًا أَوْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّيقِ وَالضَّمِّ مِنْ خَصَائِصِ الْكُفَّارِ فَعَنِ التَّحْقِيقِ بَعِيدٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَكَابِرِ غَيْرُ سَدِيدٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ) أَيْ: لَهُ، قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: (أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ) أَيِ: الْيَوْمُ. (الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا كَمَا مَرَّ. (فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ) أَيِ: الْكَامِلُ فِي الْقُبْحِ. (يَجِيءُ بِالشَّرِّ) وَفِي رِوَايَةٍ: الَّذِي يَجِيءُ بِالشَّرِّ. (فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ) أَيِ: الْمُرَكَّبُ مِنْ خُبْثِ عَقَائِدِكَ وَأَعْمَالِكَ وَأَخْلَاقِكَ، فَالْمَعَانِي تَتَجَسَّدُ وَتَتَصَوَّرُ فِي قَوَالِبِ الْمَبَانِي. (فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ نَحْوَهُ) أَيْ: مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ. (وَزَادَ) أَيِ: الرَّاوِي: (فِيهِ) أَيْ: فِي نَحْوِهِ. (إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ) أَيْ: رُوحُ الْمُؤْمِنِ. (صَلَّى عَلَيْهِ) أَيْ: دَعَا لَهُ. (كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ) أُرِيدَ بِهَا الْجِنِّيُّ. (وَفُتِحَتْ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ) أَيْ: مِنْ أَبْوَابِ كُلِّ سَمَاءٍ. (إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: يَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ بِهِ وَيَصِحُّ كَوْنُهُ بِنَاءً لِلْفَاعِلِ أَيْ: يُعْرِجُ اللَّهُ أَيْ: يَأْمُرُ بِعُرُوجِهِ. (مِنْ قِبَلِهِمْ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ: مِنْ جِهَتِهِمْ أَيْ: لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَيَتَشَرَّفُوا بِمُشَايَعَتِهِ، وَنَاهِيكَ جِدًّا تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَجَزَاءً وَتَكْرِيمًا. (وَتُنْزَعُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (نَفْسُهُ) أَيْ: رُوحُهُ. (يَعْنِي الْكَافِرَ مَعَ الْعُرُوقِ) إِشَارَةً إِلَى كَرَاهَةِ خُرُوجِهِ، وَشِدَّةِ الْجَذْبِ فِي نَزْعِ رُوحِهِ، وَكَمَالِ تَعَلُّقِهِ بِجِيفَةِ بَدَنِهِ. (فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ) أَيْ: سَمَاءِ الدُّنْيَا. (وَتُغْلَقُ) أَيْ: دُونَهُ. (أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أَيْ: جَمِيعُهَا (لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ) أَيْ: مِنْ أَبْوَابِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ أَهْلِ سَمَاءٍ فَسَهْوُ قَلَمٍ. (إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ لَا يُعْرَجَ رُوحُهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلْفَاعِلِ أَيْ: أَنْ لَا يُصْعِدَ رُوحَهُ. (مِنْ قِبَلِهِمْ) كَرَاهَةً لِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَمَرَّ فِي الْمُؤْمِنِ بِرُوحِهِ، وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ إِلَّا جِهَةَ الْمَعْنَى دُونَ طَرِيقَةِ الْمَبْنَى إِلَّا إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى وَحْدَتِهِ، وَفِي الْمُؤْمِنِ إِيمَاءٌ إِلَى جَمْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُحْبَتِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَالطَّيَالِسِيُّ، وَعَبْدٌ فِي مَسْنَدَيْهِمَا، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ اهـ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: عَبْدٌ. عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ فِي التَّفْسِيرِ.

1631 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «لَمَّا حَضَرَتْ كَعْبًا الْوَفَاةُ أَتَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ بِنْتُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنْ لَقِيتَ فُلَانًا فَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّ بِشْرٍ، نَحْنُ أَشْغَلُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَهُوَ ذَاكَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1631 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كَعْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمَازِنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ شَهِدَ بَدْرًا. (قَالَ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ. (لَمَّا حَضَرَتْ كَعْبًا الْوَفَاةُ أَتَتْهُ) أَيْ: كَعْبًا. (أُمُّ بِشْرٍ بِنْتُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ) أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ، وَمَعْرُورٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ الْأُولَى. (فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) ، كُنْيَةُ كَعْبٍ. (إِنْ لَقِيتَ) أَيْ: بَعْدَ مَوْتِكَ. (فُلَانًا)

أَيْ: رُوحُهُ الظَّاهِرُ أَنَّهَا تَعْنِي أَبَاهَا الْبَرَاءَ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَلَدُهَا بِشْرٌ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي لَبِيبَةَ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وَجَدَتْ أُمُّهُ وَجْدًا شَدِيدًا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يَزَالُ الْهَالِكُ يَهْلِكُ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَهَلْ تَتَعَارَفُ الْمَوْتَى فَأُرْسِلَ إِلَى بِشْرٍ بِالسَّلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ يَتَعَارَفُونَ كَمَا يَتَعَارَفُ الطَّيْرُ فِي رُءُوسِ الْأَشْجَارِ» ، وَكَانَ لَا يَهْلِكُ هَالِكٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ إِلَّا جَاءَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ فَقَالَتْ: يَا فُلَانُ، عَلَيْكَ السَّلَامُ. فَيَقُولُ: وَعَلَيْكِ، فَتَقُولُ: اقْرَأْ عَلَى بِشْرٍ مِنِّي السَّلَامَ. (فَاقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَفِي رِوَايَةٍ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. (فَقَالَ) أَيْ لَهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ: (غَفَرَ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّ بِشْرٍ، نَحْنُ أَشْغَلُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ» ) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابٌ عَنِ اعْتِذَارِهِ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَشْغَلُ أَيْ: لَسْتُ مَنْ يُشْغَلُ عَمَّا كَلَّفْتُكَ، بَلْ أَنْتَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْتَ وَكَيْتَ. (تَعْلُقُ) بِضَمِّ اللَّامِ. (بِشَجَرِ الْجَنَّةِ) أَيْ: تَتَعَلَّقُ بِأَشْجَارِهَا، وَتُمَتَّعُ بِأَثْمَارِهَا، وَفِي حَدِيثٍ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرْعَى فِي الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَشْرَبُ مِنْ مِيَاهِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْعَرْشِ.» قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ فِي الْجَنَّةِ يَعْنِي أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالشُّهَدَاءِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَنَّةَ الْمَأْوَى ; لِأَنَّهَا تَأْوِي إِلَيْهَا الْأَرْوَاحُ وَهِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيَتَنَعَّمُونَ بِنَعِيمِهَا، وَيَشُمُّونَ بِطَيِّبِ رِيحِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَوْهَرِيُّ عَلَقَتِ الْإِبِلُ الْعِضَاةَ تَعَلُقُ بِالضَّمِّ إِذَا تَشَبَّثَتْهَا وَتَنَاوَلَتْهَا بِأَفْوَاهِهَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» اهـ كَلَامُهُ، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: تَعْلُقُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ تُفِيدُ الِاتِّصَالَ لَعَلَّهُ كَنَّى بِهِ عَنِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا اتَّصَلَتْ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ، وَتَشَبَّثَتْ لَهَا أَكَلَتْ مِنْ ثَمَرِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ لَا تَفْنَى فَيُنَعَّمُ الْمُحْسِنُ، وَيُعَذَّبُ الْمُسِيءُ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ «نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَنَسَمَةُ الْكَافِرِ فِي سِجِّينٍ؟» (قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَهُوَ ذَاكَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَهُوَ ذَلِكَ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

1632 - وَعَنْهُ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ تَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1632 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: كَعْبٍ. (أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّسَمَةُ تُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الْإِنْسَانِ جِسْمًا وَرُوحًا، وَعَلَى الرُّوحِ مُفْرَدَةً، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِقَوْلِهِ: حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ. (طَيْرٍ) وَفِي رِوَايَةٍ: طَائِرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، وَفِي أُخْرَى كَطَيْرٍ خُضْرٍ، وَفِي أُخْرَى فِي صُوَرِ طَيْرٍ، وَفِي أُخْرَى فِي صُورَةِ طَيْرٍ بِيضٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَالْأَشْبَهُ أَوِ الْأَصَحُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ طَيْرًا أَوْ صُورَةَ طَيْرٍ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ لَاسِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ» ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُسْتَبْعِدٍ إِذْ لَيْسَ لِلْأَقْيِسَةِ وَالْعُقُولِ فِيهِ حُكْمٌ، وَمَجَالُ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُنَعَّمَ وَالْمُعَذَّبَ جُزْءٌ مِنَ الْبَدَنِ يَبْقَى فِيهِ الرُّوحُ، فَهُوَ الَّذِي يُؤْلَمُ وَيُعَذَّبُ وَيَتَلَذَّذُ وَيُنَعَّمُ، وَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ، وَيَسْرَحُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ فِي جَوْفِ طَيْرٍ أَوْ فِي صُورَتِهِ، وَفِي قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ كُلُّ ذَلِكَ

غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ نَسَمَةِ الْمُؤْمِنِ أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ ; لِأَنَّ هَذَا صِفَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغُدُوِّ وَالْعَشِيِّ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ. (تَعْلُقُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: تَعْلُقُ بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: تَأْكُلُ الْعُلْقَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ مَا يُتَبَلَّغُ مِنَ الْعَيْشِ أَيْ تَسْرَحُ. (فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ) أَيْ: يَرُدَّهُ إِلَيْهِ رَدًّا كَامِلًا فِي بَدَنِهِ. (يَوْمَ يَبْعَثُهُ، رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) قَالَ السُّيُوطِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ» ، أَوْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي حَدِيثِ كَعْبٍ نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَهَا يَكُونُ طَائِرًا أَيْ: عَلَى صُورَتِهِ لَا أَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ، وَيَكُونُ الطَّائِرُ ظَرْفًا لَهَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ كَطَيْرٍ خُضْرٍ» ، وَفِي لَفْظٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَجُولُ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ، وَلَفْظِ ابْنِ عَمْرٍو: فِي صُوَرِ طَيْرٍ بِيضٍ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ كَعْبٍ: «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ طَيْرٌ خُضْرٌ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ: جَوْفِ طَيْرٍ. وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: أَنْكَرَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَةَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ ; لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ مَحْصُورَةً مُضَيَّقًا عَلَيْهَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ ثَابِتَةٌ، وَالتَّأْوِيلَ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَجْوَافِ حَقِيقَةً وَيُوَسِّعُهَا اللَّهُ لَهَا حَتَّى تَكُونَ أَوْسَعَ مِنَ الْفَضَاءِ كَذَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْإِيرَادَ مِنْ أَصْلِهِ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ التَّضْيِيقُ وَالِانْحِصَارُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرُّوحِ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَسَدِ وَالرُّوحِ إِذَا كَانَتْ لَطِيفَةً يَتْبَعُهَا الْجَسَدُ فِي اللَّطَافَةِ فَتَسِيرُ بِجَسَدِهَا حَيْثُ شَاءَتْ وَتَتَمَتَّعُ بِمَا شَاءَتْ وَتَأْوِي إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ لَهَا كَمَا وَقَعَ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمِعْرَاجِ وَلَا تَبَاعُدَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ حَيْثُ طُوِيَتْ لَهُمُ الْأَرْضُ، وَحَصَلَ لَهُمْ أَبْدَانٌ مُكْتَسَبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَجَدُوهَا فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهَذَا فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَمْرِ الْعَادِيِّ غَالِبًا، فَكَيْفَ وَأَمْرُ الرُّوحِ وَأَحْوَالُ الْآخِرَةِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَإِنَّمَا رُكِّبَ لِلْأَرْوَاحِ أَبْدَانٌ لَطِيفَةٌ عَارِيَةٌ بَدَلًا عَنْ أَجْسَادِهِمُ الْكَثِيفَةِ مُدَّةَ الْبَرْزَخِ وَسِيلَةً لِتَمَتُّعِ الْأَرْوَاحِ بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهَا، لِيَقَعَ النَّعِيمُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَعَلَى طِبْقِ الْحَالِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ أَحْيَاءً بِأَرْوَاحٍ أُخَرَ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ مَحْذُورٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ كَوْنُ الرُّوحَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي التَّنْوِيرِ: قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: هَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ. وَقَالُوا: لَا يَكُونُ رُوحَانِ فِي جَسَدٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَقَوْلُهُمْ جَهْلٌ بِالْحَقَائِقِ، وَاعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ بَيِّنٌ، فَإِنَّ رُوحَ الشَّهِيدِ الَّذِي كَانَ فِي جَوْفِ جَسَدِهِ فِي الدُّنْيَا يُجْعَلُ فِي جَوْفِ جَسَدٍ آخَرَ كَأَنَّهُ صُورَةُ طَائِرٍ فَيَكُونُ فِي هَذَا الْجَسَدِ الْآخَرِ كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مُدَّةَ الْبَرْزَخِ إِلَى أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا خَلَقَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ قِيَامُ حَيَاتَيْنِ بِجَوْهَرٍ وَاحِدٍ، فَيَحْيَا الْجَوْهَرُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا رُوحَانِ فِي جَسَدٍ فَلَيْسَ بِمُحَالٍ ; إِذْ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْأَجْسَامُ فَهَذَا الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَرُوحُهُ غَيْرُ رُوحِهَا وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا أَنْ لَوْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ الطَّائِرَ لَهُ رُوحٌ غَيْرُ رُوحِ الشَّهِيدِ، وَهُمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا قِيلَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ أَيْ: فِي صُورَةِ طَيْرٍ كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ مَلَكًا فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

1633 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَمُوتُ فَقُلْتُ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1633 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ. (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ. (وَهُوَ يَمُوتُ) أَيْ: سِيَاقَ الْمَوْتِ وَنَزْعَهُ. (فَقُلْتُ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ خَالِدَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَتْ: جَاءَتْ) أُمُّ أُنَيْسٍ بِنْتُ أَبِي قَتَادَةَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَقَالَتْ: يَا عَمُّ أَقْرِئْ أَبِي السَّلَامَ. كَذَا فِي شَرْحِ الصُّدُورِ.

[باب غسل الميت وتكفينه]

[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1634 - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: " اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي ". فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ، فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: " «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا: ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، وَابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا " وَقَالَتْ: فَضَفَّرْنَا شَعَرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، فَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ أَيْ: آدَابِهِمَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1634 - (عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) : اسْمُهَا نُسَيْبَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، بِنْتِ كَعْبٍ، وَقِيلَ: بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيَّةُ، بَايَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُمَرِّضُ الْمَرْضَى، وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا) أَيْ: مَعْشَرَ النِّسَاءِ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ) قِيلَ: هِيَ زَوْجَةُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: أُمُّ كُلْثُومٍ زَوْجَةُ عُثْمَانَ، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ. (فَقَالَ: " «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا» ) ": وَفِي رِوَايَةٍ كَمَا سَيَأْتِي: " أَوْ سَبْعًا "، " أَوْ فِيهِ " لِلتَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ، إِذْ لَوْ حَصَلَ النَّقَاءُ بِالْأَوَّلُ اسْتُحِبَّ التَّثْلِيثُ، وَكُرِهَ التَّجَاوُزُ عَنْهُ، وَإِنْ حَصَلَ بِالثَّانِيَةِ أَوْ بِالثَّالِثَةِ اسْتُحِبَّ التَّخْمِيسُ، وَإِلَّا فَالتَّسْبِيعُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ " أَوْ " هُنَا تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَحَدِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مُسْتَفَادٌ مِنْ خَارِجٍ عَنِ الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ) لَا يَنْفِي التَّخْيِيرَ. (" أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ) " بِكَسْرِ الْكَافِ خِطَابٌ لِمَنْ يَتَلَقَّى الْكَلَامَ عَنْهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ خِطَابُ الْعَامِّ، أَوْ نَزَلَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ مَنْزِلَةَ الرَّجُلِ فِي قِيَامِهَا بِهَذَا الْأَمْرِ. (إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ أَيِ: الْأَكْثَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: خِطَابٌ لِأُمِّ عَطِيَّةَ، وَرَأَيْتُ مِنَ الرَّأْيِ أَيْ: إِنِ احْتَجْتُنَّ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ لِلْإِنْقَاءِ لَا لِلتَّشَهِّي فَافْعَلْنَهُ اهـ. وَقَوْلُهُ: خِطَابٌ لِأُمِّ عَطِيَّةَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْخِطَابَ فِي ذَلِكِ ; لِأَنَّ رَأَيْتُنَّ خِطَابٌ لِلنِّسَاءِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} [البقرة: 232] ، فَإِنَّهَا كَانَتْ رَئِيسَتَهُمْ، فَخُصَّتْ بِالْخِطَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ عُمِّمْنَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي رَأَيْتُنَّ أَيْضًا لَهَا إِمَّا عَلَى التَّعْظِيمِ أَوْ تَنْزِيلًا مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ، حَيْثُ مَدَارُ رَأْيِهِنَّ عَلَى رَأْيِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِاغْسِلْنَهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَا يَقْتَضِي اسْتِعْمَالَ السِّدْرِ فِي جَمِيعِ الْغَسَلَاتِ، وَالْمُسْتَحَبُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكَرَّةِ الْأُولَى لِيُزِيلَ الْأَقْذَارَ، وَيَمْنَعَ عَنْهُ تَسَارُعَ الْفَسَادِ، وَيَدْفَعَ الْهَوَامَّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنْظِيفِ لَا أَصْلُ التَّطْهِيرِ، وَإِلَّا فَالْمَاءُ كَافٍ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَسْخِينَ الْمَاءِ كَذَلِكَ بِمَا يُرِيدُ فِي تَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ، فَكَانَ مَطْلُوبًا شَرْعِيًّا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا يُغْلَى، قِيلَ: يَبْدَأُ بِالْقَرَاحِ أَوَّلًا لِيَبْتَلَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ بِالْمَاءِ أَوَّلًا، فَيَتِمَّ قَلْعُهُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، ثُمَّ يَحْصُلُ تَطَيُّبُ الْبَدَنِ بَعْدَ النَّظَافَةِ بِمَاءِ الْكَافُورِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُغْسَلَ بِالسِّدْرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كِتَابِ الْهِدَايَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ «كَانَ يَأْخُذُ الْغُسْلَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، يَغْسِلُ بِالسِّدْرِ مَرَّتَيْنِ، وَالثَّالِثَ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ» ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. (وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ) أَيِ: الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ. (كَافُورًا أَوْ شَيْئًا) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. (مِنْ كَافُورٍ) : وَهُوَ لِدَفْعِ الْهَوَامِّ. (فَإِذَا فَرَغْتُنَّ) أَيْ: مِنْ غَسْلِهَا. (فَآذِنَّنِي) : بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْأُولَى، أَمْرٌ لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ مِنَ الْإِيذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، وَالنُّونُ الْأُولَى أَصْلِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ فَاعِلٍ، وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ، وَالثَّالِثَةُ لِلْوِقَايَةِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ، وَيَجُوزُ فِيهِ إِسْكَانُ الْهَمْزِ وَفَتْحُ الذَّالِ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْهُ فِي نُسْخَةٍ. (فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ) : بِالْمَدِّ أَيْ: أَعْلَمْنَاهُ بِالْفَرَاغِ. (فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ) : فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: إِزَارَهُ الْمَشْدُودَ بِهِ خَصْرُهُ، وَالْحَقْوُ: فِي الْأَصْلِ مَعْقِدُ الْإِزَارِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الْإِزَارُ لِمُجَاوَرَتِهِ. (فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا) أَيِ: الْمَيِّتَةَ. (إِيَّاهُ) أَيِ: الْحَقْوَ، وَالْخِطَابُ لِلْغَاسِلَاتِ. فِي النِّهَايَةِ: أَيِ: اجْعَلْنَهُ شِعَارَهَا، وَالشِّعَارُ الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجَسَدَ لِأَنَّهُ يَلِي شَعَرَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ: اجْعَلْنَ هَذَا الْحَقْوَ تَحْتَ الْأَكْفَانِ بِحَيْثُ يُلَاصِقُ بَشَرَتَهَا، وَالْمُرَادُ إِيصَالُ الْبَرَكَةِ إِلَيْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: " «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا: ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا» " وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى السَّبْعِ لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا وَرَدَ فِي عَدَدِ التَّطْهِيرِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ تِسْعًا وَهَكَذَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى السَّبْعِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ النَّقَاءُ بِهَا بَلْ بِدُونِهَا فَمَحَلُّ بَحْثٍ. (وَابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا) أَيْ: مِنَ الْيَدِ وَالْجَنْبِ وَالرِّجْلِ. (وَمَوَاضِعَ الْوُضُوءِ مِنْهَا) وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَيُقَدَّمُ مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ الْمَفْرُوضَةِ فَلَا مَضْمَضَةَ وَلَا اسْتِنْشَاقَ عِنْدِنَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَلُفَّ الْغَاسِلُ عَلَى أُصْبُعِهِ خِرْقَةً يَمْسَحُ بِهَا أَسْنَانَهُ، وَلَهَاتَهُ، وَشَفَتَيْهِ، وَمَنْخَرَيْهِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ وَلَا يُؤَخِّرَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ مِنَ الْغُسْلِ، وَلَا يُقَدِّمَ غَسْلَ يَدَيْهِ، بَلْ يَبْدَأُ بِوَجْهِهِ بِخِلَافِ الْجُنُبِ ; لِأَنَّهُ يَتَطَهَّرُ بِهِمَا، وَالْمَيِّتُ يُغَسَّلُ بِيَدِ غَيْرِهِ. (وَقَالَتْ) : أُمُّ عَطِيَّةَ فِي جُمْلَةِ حَدِيثِهَا. (فَضَفَرْنَا) : بِالتَّخْفِيفِ. (شَعَرَهَا) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ، وَالضَّفْرُ: فَتْلُ الشَّعَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنَ الضَّفِيرَةِ، وَهِيَ النَّسْجُ، وَمِنْهُ ضَفْرُ الشَّعَرِ وَإِدْخَالُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ. (ثَلَاثَةَ قُرُونٍ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: أَقْسَامٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِفَتْلِ شَعَرِهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ مُرَاعَاةُ عَادَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ مُرَاعَاةُ سُنَّةِ عَدَدِ الْوَتْرِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ. (فَأَلْقَيْنَاهَا) أَيِ: الضَّفَائِرَ. (خَلْفَهَا) أَيْ: وَرَاءَ ظَهْرِهَا اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَضَفَّرْنَا نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وَفِي أُخْرَى: فَمَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وَهُوَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْضًا، ذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: تُتْرَكُ عَلَى حَالِهَا مِنْ غَيْرِ تَضْفِيرٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) إِلَّا قَوْلَهَا: فَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا، فَإِنَّهُ لِلْبُخَارِيِّ فَقَطْ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا، قَالَهُ مِيرَكُ.

1635 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَّةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1635 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ» ) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ. (بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَيُضَمُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَتْحُ السِّينِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعَنِ الْأَزْهَرِيِّ الضَّمُّ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْفَتْحُ أَشْهَرُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ. فِي الْفَائِقِ: يُرْوَى بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا، بِالْفَتْحِ مَنْسُوبٌ إِلَى سَحُولٍ وَهُوَ الْقَصَّارُ ; لِأَنَّهُ يَسْحَلُهَا أَيْ: يَغْسِلُهَا، أَوْ إِلَى سُحُولَ وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ وَهُوَ جَمْعُ سَحْلٍ، فَهُوَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قُطْنٍ، وَفِيهِ شُذُوذٌ لِأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى الْجَمْعِ، وَقِيلَ: اسْمُ قَرْيَةٍ بِالضَّمِّ أَيْضًا. (مِنْ كُرْسُفٍ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَالسِّينِ أَيْ: مِنْ قُطْنٍ. (لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ) . قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ: الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي الْكَفَنِ قَمِيصٌ أَصْلًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ خَارِجٍ عَنِ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، وَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَفَنِ قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ لَفَائِفَ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةٌ: الْأَثْوَابُ الثَّلَاثَةُ: إِزْارٌ، وَقَمِيصٌ، وَلِفَافَةٌ اهـ. وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمُ الْعِمَامَةَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْقَمِيصُ وَالْعِمَامَةُ مِنْ جُمْلَةِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّهُمَا زَائِدَانِ، فَلَيْسَ بِمَعْنَى سِوَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ. قُلْتُ: وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَا كُفِّنَ فِيهِمَا أَيْضًا، فَالْمَسْأَلَةُ مُتَنَازَعٌ فِيهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُحْتَمَلٌ، مَعَ أَنَّ نِسْبَةَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ الْعِمَامَةَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا. قَالَ أَيِ النَّوَوِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَمِيصَ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُزِعَ عَنْهُ عِنْدَ تَكْفِينِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْزَعْ لَأَفْسَدَ الْأَكْفَانَ لِرُطُوبَتِهِ. أَقُولُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ، بَلِ الدَّلِيلُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ خَارِجٌ عَنِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَيْسَ الْقَمِيصُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، بَلْ خَارِجٌ عَنْهَا كَمَا قَالَ مَالِكٌ، لَزِمَ كَوْنُ السُّنَّةِ أَرْبَعَةَ أَثْوَابٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ «عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ لِعَائِشَةَ: فِي كَمْ ثَوْبٍ كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ» ، وَإِنْ عُورِضَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «كُفِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصٍ، وَإِزْارٍ، وَلِفَافَةٍ» ، فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي حُلَّةٍ يَمَانِيَةٍ وَقَمِيصٍ» . مُرْسَلٌ، وَالْمُرْسَلُ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً عِنْدَنَا لَكِنْ مَا وَجْهُ تَقْدِيمِهِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعَادِلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِحَدِيثِ الْقَمِيصِ بِسَبَبِ تَعَدُّدِ طُرُقِهِ، مِنْهَا: الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا. وَمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوَهُ مُرْسَلًا، وَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي عَبَّاسٍ قَالَ: «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَحُلَّةٍ نَجْرَانِيَّةٍ» ، وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِيَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، ثُمَّ يُرَجَّحُ بَعْدَ الْمُعَادَلَةِ بِأَنَّ الْحَالَ فِي تَكْفِينِهِ أَكْشَفُ لِلرِّجَالِ ثُمَّ الْبَحْثُ، وَإِلَّا فَفِيهِ تَأَمُّلٌ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَكَيْفَ يُلْبِسُونَهُ الْأَكْفَانَ فَوْقَهُ وَفِيهِ بَلَلُهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِتَعَدُّدِ قَمِيصِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَفُسِخَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ الْغُسْلِ، وَغُسِّلَ بِالْآخَرِ، ثُمَّ كُفِّنَ فِي الْيَابِسِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ قَمِيصَهُ كَفَنًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ» . قَالَ: وَالْحُلَّةُ فِي عُرْفِهِمْ مَجْمُوعُ ثَوْبَيْنِ: إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَلَيْسَ فِي الْكَفَنِ عِمَامَةٌ عِنْدَنَا، وَاسْتَحْسَنَهَا بَعْضُهُمْ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُعَمِّمُهُ وَيَجْعَلُ الْعَذْبَةَ عَلَى وَجْهِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.

1636 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1636 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ» ) ": بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ. (كَفَنَهُ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَيْ: فَلْيَخْتَرْ مِنَ الثِّيَابِ أَنْظَفَهَا وَأَتَمَّهَا وَأَبْيَضَهَا عَلَى مَا رَوَتْهُ السِّتَّةُ، وَلَمْ يُرَدْ بِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُبَذِّرُونَ أَشَرًا، وَرِيَاءً، وَسُمْعَةً، لِمَا سَيَأْتِي عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَمَا يُؤْثِرُهُ الْمُبَذِّرُونَ مِنَ الثِّيَابِ الرَّفِيعَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ: «أَحْسِنُوا أَكْفَانَ مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ» .

1637 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ; فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ خَبَّابٍ: قَتْلُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي " بَابِ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1637 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ» ) : الْوَقْصُ: كَسْرُ الْعُنُقِ أَيِ: أَسْقَطَتْهُ فَانْدَقَّ عُنُقُهُ. (وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ) : قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ، وَكَانَ وُقُوعُ الْمُحْرِمِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ مِنْ عَرَفَةَ، ذَكَرَهُ فِي الْمَوَاهِبِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ» ) ": وَفِي لَفْظٍ: فِي ثَوْبَيْنِ، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: إِزَارِهِ وَرِدَائِهِ اللَّذَيْنِ لَبِسَهُمَا فِي الْإِحْرَامِ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ كَفَنَ الْكِفَايَةِ ثَوْبَانِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: كَفَنُ الْكِفَايَةِ أَقَلُّ مَا يَجُوزُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ، وَفِي حَالِ الضَّرُورَةِ بِحَسَبِ مَا يُوجَدُ اهـ. وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَإِنِ اقْتُصِرَ عَلَى ثَوْبَيْنِ جَازَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِمَا: اغْسِلُوهُمَا وَكَفَّنُونِي فِيهِمَا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَا نَشْتَرِي لَكَ جَدِيدًا؟ قَالَ: لَا. الْحَيُّ أَحْوَجُ إِلَى الْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ. وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ وَهِيَ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ صَدِيدُ الْمَيِّتِ، وَفِي الْفُرُوعِ الْغَسِيلُ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ فِي الْكَفَنِ، ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَالْإِزَارُ مِنَ الْقَرْنِ إِلَى الْقَدَمِ، وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ: لَا إِشْكَالَ أَنَّ اللِّفَافَةَ مِنَ الْقَرْنِ إِلَى الْقَدَمِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْإِزَارِ كَذَلِكَ، فَلَا أَعْلَمُ وَجْهَ مُخَالَفَةِ إِزَارِ الْمَيِّتِ إِزَارَ الْحَيِّ مِنَ السُّنَّةِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمُحْرِمِ: «كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ» ". وَهُمَا ثَوْبَا إِحْرَامِهِ: إِزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِزَارَهُ مِنَ الْحَقْوِ، وَكَذَا حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ لَيْلَى بِنْتُ قَائِفٍ، قَالَتْ: «كُنْتُ فِيمَنْ يُغَسِّلُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانَا الْحِقَاءَ، ثُمَّ الدِّرْعَ، ثُمَّ الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ حَقْوَهُ فِي حَدِيثِ غُسْلِ زَيْنَبَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ إِزَارَ الْمَيِّتِ كَإِزَارِ الْحَيِّ مِنَ الْحَقْوِ، فَيَجِبُ كَوْنُهُ فِي الْمُذَكِّرِ كَذَلِكَ لِعَدَمِ الْفَرْقِ فِي هَذَا، وَقَدْ حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وَإِنْ أَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ لِجَهَالَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ حُضُورِ أُمِّ عَطِيَّةَ غُسْلَ أُمِّ كُلْثُومٍ بَعْدَ زَيْنَبَ، وَقَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ: أُمُّ كُلْثُومٍ تُوُفِّيَتْ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَائِبٌ، مُعَارَضٌ بِقَوْلِ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهَا مَاتَتْ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ زَيْنَبَ بِسَنَةٍ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَشُدُّهُ مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ «عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ فَقَالَ: " اغْسِلْنَهَا» الْحَدِيثَ كَمَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ، وَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ: مِثْلَ ذَلِكَ فِي زَيْنَبَ لَا يُنَافِيهِ لِمَا قُلْنَا آنِفًا. (وَلَا تَمَسُّوهُ) : مِنَ الْمَسِّ، وَرُوِيَ مِنَ الْإِمْسَاسِ. (بِطِيبٍ) قَالَ مِيرَكُ: كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَفِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَبِفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ أَمَسَّ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: مِسْتُهُ بِالْكَسْرِ أَمِسْهُ وَمَسَسْتُهُ كَنَصْرَتُهُ. (وَلَا تُخَمِّرُوا) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: لَا تُغَطُّوا وَلَا تَسْتُرُوا. (رَأْسَهُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: ذَهَبُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: أَنَّ الْمُحْرِمَ يُكَفَّنُ بِلِبَاسِ إِحْرَامِهِ، وَلَا يُسْتَرُ رَأْسُهُ، وَلَا يُمَسُّ طِيبًا. (فَإِنَّهُ يُبْعَثُ) أَيْ: يُحْشَرُ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا) أَيْ: قَائِلًا: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ; لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ مَاتَ مُحْرِمًا. قَالَ: وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمَوْتَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ. (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ خَبَّابٍ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ. (قَتْلُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَجْهُولُ حِكَايَةِ مَا فِي الْحَدِيثِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ حَدِيثَ خَبَّابٍ، أَيْ: سَنَذْكُرُ هَذَا اللَّفْظَ: وَهُوَ قَتْلُ. (مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ) أَيْ: إِلَى آخِرِهِ (فِي: " بَابِ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : هَذَا اعْتِذَارٌ قَوْلِيٌّ، وَاعْتِرَاضٌ فِعْلِيٌّ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، زَعْمًا مِنَ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ حَدِيثَ خَبَّابٍ أَلْيَقُ بِذَلِكَ الْبَابِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ تَغْيِيرَ التَّصْنِيفِ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَهَا أَنَا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ. «قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةً» ، وَهِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ: شَمْلَةٌ مُخَطَّطَةٌ بِخُطُوطٍ بِيضٍ فِي سُودٍ، «كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا أَيْ: سَتَرْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " ضَعُوهَا بِمَا يَلِي» أَيْ: يَقْرُبُ رَأْسَهُ، «وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرِ» " اهـ. وَهَذَا كَحَدِيثِهِ عَنْ حَمْزَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُمَا دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّ كَفَنَ الضَّرُورَةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى أَنَّ سَتْرَ جَمِيعِ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1638 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ ; فَإِنَّهَا مَنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ، وَمِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدُ ; فَإِنَّهُ يُنْبِتُ الشَّعَرَ، وَيَجْلُو الْبَصَرَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى " مَوْتَاكُمْ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1638 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْبَسُوا) بِفَتْحِ الْبَاءِ، أَمْرُ نَدْبٍ. (مِنْ ثِيَابِكُمْ) : مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَوْ بَيَانِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ. (الْبَيَاضَ) أَيْ: ذَاتَ الْبَيَاضِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْبِيضَ، فَلَا تَجُوزُ. (فَإِنَّهَا) أَيِ: الثِّيَابَ الْبِيضَ. (مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ) : الظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ اللَّوْنَ الْأَبْيَضَ أَفْضَلُ الْأَلْوَانِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَبْيَضَ لَا يُسَمَّى مُلَوَّنًا، هَذَا وَقَدْ لَبِسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرَ الْأَبْيَضِ كَثِيرًا لِبَيَانِ جَوَازِهِ أَوْ لِعَدَمِ تَيَسُّرِهِ. ( «وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» ) : الْأَمْرُ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَحَبُّهَا الْبَيَاضُ، وَلَا بَأْسَ بِالْبُرْدِ وَالْكَتَّانِ لِلرِّجَالِ، وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ الْحَرِيرُ، وَالْمُزَعْفَرُ وَالْمُعَصْفَرُ اعْتِبَارًا لِلْكَفَنِ بِاللِّبَاسِ فِي الْحَيَاةِ. ( «وَمِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدُ» ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ، حَجَرٌ لِلْكُحْلِ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ. (فَإِنَّهُ يُنْبِتُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ. (الشَّعَرَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا أَيْ: شَعَرَ الْهُدْبِ. (وَيَجْلُو الْبَصَرَ) أَيْ: يَزِيدُ نُورَهُ، وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ النَّوْمِ اتِّبَاعًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا، وَأَقْوَى سَرَيَانًا حِينَئِذٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَبْرَزَ الْأَوَّلَ فِي صُورَةِ الْأَمْرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، وَأَخْبَرَ عَنِ الثَّانِي لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ مِنْ خَيْرِ دَأْبِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِمُنَاسَبَةِ الزِّينَةِ، يَتَزَيَّنُ بِهِمَا الْمُتَمَيِّزُونَ مِنَ الصُّلَحَاءِ اهـ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ مِنْهُ أَنَّ الِاكْتِحَالَ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، وَتَبِعَهُ عِصَامُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثًا، وَأَمَرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: بِاكْتَحِلُوا، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ: بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ; فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ، الْبَسُوا، وَغَايَرَ مَعَ أَنَّ كُلًّا مَأْمُورٌ بِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمَأْمُورِ. بِخِلَافِ الْأَخِيرِ فَمَحَلُّ نَظَرٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَرُوِيَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَرَوَاهُ (ابْنُ مَاجَهْ إِلَى: " مَوْتَاكُمْ) ".

1639 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَغَالَوْا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1639 - (وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَغَالَوْا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ، أَيْ: لَا تُبَالِغُوا وَلَا تَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ. (فِي الْكَفَنِ) أَيْ: فِي كَثْرَةِ ثَمَنِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَصْلُ الْغَلَاءِ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُقَالُ: غَالَيْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، وَغَلَوْتُ فِيهِ أَغْلُو إِذَا جَاوَزْتُ فِيهِ الْحَدَّ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَدَّ الْوَسَطُ فِي الْكَفَنِ، وَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ الْمُسْتَحْسَنُ. (فَإِنَّهُ يُسْلَبُ) أَيْ: يَبْلَى. (سَلْبًا سَرِيعًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتُعِيرَ السَّلْبُ لِبِلَى الثَّوْبِ مُبَالَغَةً فِي السُّرْعَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ، وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْمُنْذِرِيُّ قَالَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ.

1640 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْمَيِّتُ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1640 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ. دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ جَدِيدٍ. (فَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «الْمَيِّتُ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا» ) ": فِي النِّهَايَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَمَّا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ فِي ظَاهِرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْكَفَنِ أَحَادِيثُ. قَالَ: وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَعْنَى، وَأَرَادَ بِهِ الْحَالَةَ الَّتِي يَمُوتُ عَلَيْهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَمَلَهُ الَّذِي يَخْتِمُ. يُقَالُ: فُلَانٌ ظَاهِرُ الثِّيَابِ إِذَا وَصَفُوهُ بِطَهَارَةِ النَّفْسِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ، وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أَيْ: عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ دَنِسُ الثِّيَابِ إِذَا كَانَ خَبِيثَ النَّفْسِ وَالْمَذْهَبِ، وَهُوَ كَالْحَدِيثِ الْآخَرِ «يُبْعَثُ الْعَبْدُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» . قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْأَكْفَانِ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يُكَفَّنُ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ يَقْصُرُ فَهْمُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَنِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، فَلَا يُعَدُّ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ سَمِعَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: " {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] فَعَمَدَ إِلَى عِقَالَيْنِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ، فَوَضَعَهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَقَالَ: الْبَعْثُ غَيْرُ الْحَشْرِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ مَعَ الثِّيَابِ وَالْحَشْرُ عَلَى الْعُرْيِ وَالْحِفَاءِ. قَالَ الشَّيْخُ: وَلَمْ يَصْنَعْ هَذَا الْقَائِلُ شَيْئًا، فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ نَصَرَ السُّنَّةَ، وَقَدْ ضَيَّعَ أَكْثَرَ مِمَا حَفِظَ فَإِنَّهُ سَعَى فِي تَحْرِيفِ سُنَنٍ كَثِيرَةٍ لِيُسَوِّيَ كَلَامَ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَفْضَلِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ. وَقَالَ: إِنَّمَا هُمَا لِلْمُهْلِ وَالتُّرَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " «الْمَيِّتُ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا» " لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهَا عَلَى الْأَكْفَانِ ; لِأَنَّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ اهـ. وَفِيهِ: أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الصِّدِّيقِ عَلَى الْمُهْلِ ابْتِدَاءً، وَكَلَامِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى خَلْقِهِ انْتِهَاءً فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي: الْعَقْلُ لَا يَأْبَى حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَسَبَ مَا فَهِمَ مِنْهُ الرَّاوِي، إِذْ لَا يَبْعُدُ إِعَادَةُ ثِيَابِهِ الْبَالِيَةِ، كَمَا لَا يَبْعُدُ إِعَادَةُ عِظَامِهِ النَّاخِرَةِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى جَوَازِ إِعَادَةِ الْمَعْدُومِ لَا تَخْصِيصَ لَهُ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عُرَاةً» حَمَلَ جُمْهُورَ أَهْلِ الْمَعَانِي، وَبَعَثَهُمْ عَلَى أَنْ أَوَّلُوا الثِّيَابَ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَمُوتُ عَلَيْهَا مِنَ الصَّالِحَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُلَابِسُهَا كَمَا يُلَابِسُ الْمَلَابِسَ، فَاسْتُعِيرَ لَهَا الثِّيَابُ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْحَشْرَ غَيْرُ الْبَعْثِ، فَجَازَ كَوْنُ هَذَا بِالثِّيَابِ، وَذَلِكَ بِالْعُرْيِ، أَوِ الْمُرَادُ اكْتِسَاؤُهُ بِهِ حِينَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحِسَابِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: يُحْشَرُونَ عُرَاةً أَوَّلًا، ثُمَّ يَلْبَسُونَ كَمَا وَرَدَ: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا الْعُذْرَةُ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابِيِّ، فَأَنْ يُقَالَ عَرَفَ مَغْزَى الْكَلَامِ، لَكِنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِبْهَامِ، وَحَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى غَيْرِ مَا يَتَرَقَّبُ، وَنَحْوُهُ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] حَيْثُ قَالَ: أَزِيدُ عَلَى السَبْعِينَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ أَيْضًا حَمَلَ الْمَحَلَّ عَلَى الْمَعْنَى، وَجَعَلَ تَبْدِيلَ ثِيَابِهِ الْوَسِخَةِ وَالْعَتِيقَةِ، بِثِيَابِهِ النَّظِيفَةِ أَوِ الْجَدِيدَةِ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّهُ اسْتِقْبَالٌ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَتَهَيُّؤٌ لِلْقُدُومِ عَلَى أَرْوَاحِ الْحَضَرَاتِ الْمُعَظَّمَةِ، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الطَّهَارَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ أُعْطِيَ الشَّهَادَةَ» " فَالنَّظَافَةُ الظَّاهِرَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ فِي اسْتِجْلَابِ الطَّهَارَةِ الْبَاطِنَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ يُبْعَثُ عَلَى عَمَلِهِ الَّذِي يَخْتِمُ بِهِ إِلَّا هَذَا بِأَنْ يَكُونَ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَةِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالتَّسْلِيمِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ الْكَرِيمِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِفَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمَا مَا وَصَّى أَنْ تُجْعَلَ تِلْكَ الثِّيَابُ أَكْفَانًا لَهُ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إِنَّ الْمَلْبُوسَ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنْ مَذْهَبِنَا ; لِأَنَّ مَآلَهُ لِلْبِلَى، وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ اخْتَارَ الْخَلِقَ. وَقَالَ: الْحَيُّ أَوْلَى بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكَفَنَ إِنَّمَا هُوَ لِدَمِ الْمَيِّتِ وَصَدِيدِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَوَاضُعٌ مِنْهُ، وَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى جَوَازِ كَفَنِ الْخَلِقِ أَيْضًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَى الْمَرْفُوعَ مِنْهُ فَقَطِ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

1641 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «خَيْرُ الْكَفَنِ الْحُلَّةُ، وَخَيْرُ الْأُضْحِيَةِ الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1641 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «خَيْرُ الْكَفَنِ الْحُلَّةُ» ) " أَيِ: الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ فَوْقَ الْقَمِيصِ، وَهُوَ كَفَنُ السُّنَّةِ أَوْ بِدُونِهِ، وَهُوَ كَفَنُ الْكِفَايَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْحُلَّةُ وَاحِدُ الْحُلَلِ، وَهِيَ بُرُودُ الْيَمَنِ، وَلَا يُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى يَكُونَ ثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ اهـ. وَهِيَ نَوْعٌ مُخَطَّطٌ مِنْ ثِيَابِ الْقُطْنِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ. قَالَ الْمُظْهِرُ: اخْتَارَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَبْيَضَ أَفْضَلُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كُفِّنَ فِي السَّحُولِيَّةِ» . وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمُ» اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْحُلَّةَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى اخْتِيَارِ الْبِيضِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الْحُلَّةِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ يَوْمَئِذٍ أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ. (" «وَخَيْرُ الْأُضْحِيَةِ الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ فَضِيلَةَ الْكَبْشِ الْأَقْرَنِ عَلَى غَيْرِهِ لِعِظَمِ جُثَّتِهِ، وَسِمَنِهِ فِي الْغَالِبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ.

1642 - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1642 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ: وَقَالَ غَرِيبٌ. (وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: كِلَاهُمَا. (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

1643 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1643 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُدٍ) : جَمْعُ قَتِيلٍ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى " فِي " أَيْ: أَمَرَنِي فِي حَقِّهِمْ. (أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ) أَيِ: السِّلَاحُ وَالدُّرُوعُ. (وَالْجُلُودُ) : مِثْلُ الْفَرْوِ وَالْكِسَاءِ غَيْرِ الْمُلَطَّخِ بِالدَّمِ. (وَأَنْ يُدْفَنُوا بِثِيَابِهِمْ وَدِمَائِهِمْ) أَيِ: الْمُتَلَطِّخَةِ بِالدَّمِ، ثُمَّ لَا يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِكَرَمِهِ، فَإِنَّهُ مَغْفُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُغَسَّلُ، وَلَكِنْ يُصَلَّى ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ تَعْلِيلِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ أَبُو عَاصِمٍ الْوَاسِطِيُّ ضَعَّفُوهُ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ تَغَيَّرَ بِآخِرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي تَرْكِ غُسْلِ الشَّهِيدِ أَحَادِيثُ. مِنْهَا: مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ وَيَقُولُ: " أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ " فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ» . زَادَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ. قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ اللَّيْثَ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَفَرُّدُ اللَّيْثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. ثُمَّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنَّمَا مُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ مَا فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» ، وَهَذَا مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، فَيُعَارِضُ حَدِيثَ جَابِرٍ عِنْدَنَا، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ مُثْبِتٌ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ نَافٍ، وَنَمْنَعُ أَصْلَ الْمُخَالِفِ فِي تَضْعِيفِ الْمُرْسَلِ، وَلَوْ سَلِمَ فَعِنْدَهُ إِذَا اعْتَضَدَ بِرَفْعِ مَعْنَاهُ قُبِلَ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «فَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ حِينَ فَاءَ النَّاسُ مِنَ الْقِتَالِ فَقَالَ رَجُلٌ: رَأَيْتُهُ عِنْدَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ، فَلَمَّا رَآهُ وَرَأَى مَا مُثِّلَ بِهِ شَهِقَ» أَيْ: تَرَدَّدَ الْبُكَاءُ فِي صَدْرِهِ كَمَنَعَ وَضَرَبَ وَسَمِعَ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَبَكَى، «فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَمَى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، ثُمَّ جِيءَ بِحَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ بِالشُّهَدَاءِ فَيُوضَعُونَ إِلَى جَانِبِ حَمْزَةَ، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُرْفَعُونَ وَيُتْرَكُ حَمْزَةُ حَتَّى صَلَّى عَلَى الشُّهَدَاءِ كُلِّهِمْ» .

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " مُخْتَصَرٌ. وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَفِي سَنَدِهِ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، فَلَا يَقْصُرُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَهُوَ حُجَّةٌ اسْتِقْلَالًا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ صَلَاحِيَتِهِ عَاضِدًا لِغَيْرِهِ. وَأَسْنَدَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ النِّسَاءُ يَوْمَ أُحُدٍ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ يُجْهِزْنَ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ، وَجِيءَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَوُضِعَ فِي جَنْبِهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَرُفِعَ الْأَنْصَارِيُّ وَتُرِكَ حَمْزَةُ ثُمَّ جِيءَ بِآخَرَ، فَوُضِعَ إِلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَ فَصَلَّى عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ صَلَاةً» ، وَهَذَا لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ قَتْلَى أُحُدٍ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً، وَكَانَتِ الْقَتْلَى يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ» ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْزِلُ عَنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْكُلُّ ضَعِيفًا ارْتَقَى الْحَاصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1644 - عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ، وَأَرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا، وَلَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1644 - (عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: إِبْرَاهِيمَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِيَ أَيْ: جِيءَ. (بِطَعَامٍ) أَيْ: لِلْإِفْطَارِ. (وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي) : قَالَهُ تَوَاضُعًا وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثِيَّةِ اخْتِيَارِ الْفَقْرِ وَالصَّبْرِ، وَإِلَّا فَقَدَ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ الْعَشَرَةَ الْمُبَشَّرَةَ أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ. (كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ. (إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ) أَيْ: سُتِرَ بِهَا. (بَدَتْ) أَيْ: ظَهَرَتْ. (رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ) : وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِهِ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ: أَنَّهُ غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ، وَجُعِلَ عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرُ. (أُرَاهُ) أَيْ: أَظُنُّهُ. (قَالَ) أَيْ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ. (وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي) : مِنْ جِهَةِ الشَّهَادَةِ فِي رِكَابِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوِ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ الْفَقْرَ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مِنْهُمَا قَوْلُهُ: (ثُمَّ بُسِطَ) أَيْ: وُسِّعَ وَكُثِّرَ. (لَنَا) : أَرَادَ نَفْسَهُ، وَبَقِيَّةَ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ اتَّسَعَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا بِوَاسِطَةِ الْغَنَائِمِ أَوِ التِّجَارَةِ. (مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا) مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا: وَفِي نُسْخَةٍ: مَا أُعْطِينَاهُ أَيْ: مِنَ الْمَالِ الْكَثِيرِ. (وَلَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ) : بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ. (حَسَنَاتُنَا) أَيْ: ثَوَابُهَا. (عُجِّلَتْ) أَيْ: أُعْطِيَتْ عَاجِلًا. (لَنَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: خِفْنَا أَنْ نَدْخُلَ فِي زُمْرَةِ مَنْ قِيلِ فِيهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] اهـ. أَوْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] . كَمَا صَدَرَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ، وَهَذَا لَمَّا كَانَ الْخَوْفُ غَالِبًا عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَمَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى: مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعَاجِلَةَ وَلَمْ يُرِدْ غَيْرَهَا تَفَضَّلْنَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مَا نَشَاءُ لَا مَا يَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ لَا لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ: أَذْهَبْتُمْ مَا كُتِبَ لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَيْ: أَذْهَبْتُمُوهُ فِي دُنْيَاكُمْ، فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَظِّكُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ بِالْحَظِّ الِاسْتِمْتَاعُ بِاللَّهْوِ وَالتَّنَعُّمِ الَّذِي يَشْغَلُ الرَّجُلَ الِالْتِذَاذُ بِهِ عَنِ الدِّينِ وَتَكَالِيفِهِ، حَتَّى يَعْكُفَ مِنْهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ، وَلَمْ يَعِشْ إِلَّا لِيَأْكُلَ الطَّيِّبَ، وَيَلْبَسَ اللَّيِّنَ، وَيَقْطَعَ أَوْقَاتَهُ بِاللَّهْوِ وَالطَّرَبِ، وَلَا يَعْبَأُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَا يَحْمِلُ عَلَى النَّفْسِ مَشَاقَّهَا، وَأَمَّا التَّمَتُّعُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَأَرْزَاقِهِ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْهَا إِلَّا لِعِبَادِهِ، وَيَقْوَى بِهَا عَلَى دِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَالْقِيَامِ بِالْعَمَلِ، وَكَانَ نَاهِضًا بِالشُّكْرِ، فَهُوَ عَنْ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ. وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَيْ: تَمْرًا، وَشَرِبُوا عَلَيْهِ مَاءً، فَقَالَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» . (ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي) أَيْ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. (حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ) أَيْ: مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْخَوْفَ إِذَا غَلَبَ مَنَعَ الْمَيْلَ إِلَى اللَّذَّةِ، وَذَهَبَتْ عَنْهُ الشَّهْوَةُ بِالْمَرَّةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1645 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، قَالَ: وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1645 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: جَاءَ. (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ) : رَئِيسَ الْمُنَافِقِينَ بِاسْتِدْعَاءِ وَلَدِهِ الْمُؤْمِنِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى وَصِيَّةِ وَالِدِهِ. (بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ) أَيْ: قَبَرَهُ. فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ) أَيْ: مِنْ قَبْرِهِ. (فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَنَفَثَ فِيهِ) أَيْ: فِي وَجْهِهِ أَوْ فِي فِيهِ. (مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ) : وَكُلُّ هَذَا مُدَارَاةٌ وَمُلَاطَفَةٌ، وَحُسْنُ مُعَاشَرَةٍ وَمُؤَالَفَةٍ، وَإِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْحِسِّيَّةَ لَا تَنْفَعُ مَنْفَعَةً كُلِّيَّةً مَعَ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، الْعَارِفِينَ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيَّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّامِيَ أَنْ يُعْطِيَهُ فَرْوَتَهُ لِيَجْعَلَهَا لِلْكَفَنِ كُسْوَتَهُ، فَقَالَ) لَهُ أَبُو يَزِيدَ: لَوْ دَخَلْتَ فِي جِلْدِي، وَأَحَاطَ بِكَ جَسَدِي، مَا نَفَعَكَ وَعَذَّبَكَ اللَّهُ إِنْ شَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا أَدْرِي، وَلَوْ دَرَيْتَ لَا أَمْلِكُ نَفْسِي فَضْلًا عَنْ غَيْرِي، وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الِاعْتِقَادُ وَالِاجْتِهَادُ، وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ. (قَالَ أَيْ: جَابِرٌ. (وَكَانَ) أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. (كَسَا عَبَّاسًا) أَيْ: حِينَ أُسِرَ بِبَدْرٍ. (قَمِيصًا) : لِأَنَّهُ كَانَ عُرْيَانًا، وَفِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ لِلْبَغْوَيِّ قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ أَبُو هَارُونَ: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَلْبِسْ قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ. وَرُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ فِيمَا فَعَلَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي وَصَلَاتِي مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ بِهِ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ» " رُوِيَ أَنَّهُ أَسْلَمَ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ لَمَّا رَأَوْهُ يَتَبَرَّكُ بِقَمِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ مُنَافِقٌ ظَاهِرُ النِّفَاقِ، وَأُنْزِلَ فِي كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ تُتْلَى، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [الفاتحة: 84 - 32360] ، وَأَنْ يَكُونَ تَأْلِيفًا لِابْنِهِ وَإِكْرَامًا لَهُ، وَكَانَ مُسْلِمًا بَرِيئًا مِنَ النِّفَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ مُجَازَاةً لَهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ كَسَا الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصًا، فَأَرَادَ أَنْ يُكَافِئَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِمُنَافِقٍ عِنْدَهُ يَدٌ لَمْ يُجَازِهِ عَلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّكْفِينِ بِالْقَمِيصِ، وَإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنَ الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ لِعِلَّةٍ أَوْ سَبَبٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْعِلَّةِ السَّبَبَ الْمُتَقَدِّمَ وَبِالسَّبَبِ الْحَادِثِ. قَالَ الْبَغْوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: «بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَهْلَكَكَ حُبُّ الْيَهُودِ أَيْ: حُبُّ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ لِتُؤَنِّبَنِي أَيْ: تُرْجِعَنِي وَتُعَيِّرَنِي، وَلَكِنْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ تَسْتَغْفِرُ لِي، وَسَأَلَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي قَمِيصِهِ، وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ» ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يَعْنِي: الْبُخَارِيَّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ؟ ! فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَخِّرْ: عَنِّي يَا عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهِ قَالَ: فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ " {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] " إِلَى قَوْلِهِ: " {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] " قَالَ: أَيْ: عُمَرُ فَعَجِبْتُ مِنْ جُرْءَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ» ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا قَالَ: " {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] " وَقَفَ لَهُ وَلَدُهُ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ مُسِلًّا سَيْفَهُ وَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَقُلْ إِنَّكَ الْأَذَلُّ وَرَسُولُ اللَّهِ الْأَعَزُّ ضَؤُبْتُ عُنُقَكَ بِهَذَا. فَقَالَ ذَلِكَ فَمَكَّنَهُ مِنْ دُخُولِهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْعَزِيزَ مِنَ الذَّلِيلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْ: دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ الْجَلِيلِ.

[المشي بالجنازة والصلاة عليها]

[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]

(5) الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1646 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ (5) بَابُ الْمَشْيِ أَيْ: آدَابِهِ بِالْجَنَازَةِ أَيْ: بِالسَّرِيرِ، أَوْ بِالْمَيِّتِ، فِي الْمَغْرِبِ: الْجَنَازَةُ بِالْكَسْرِ السَّرِيرُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ الْمَيِّتُ، وَالسَّرِيرُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ، وَبِالْفَتْحِ هُوَ السَّرِيرُ لَا غَيْرُ. (وَالصَّلَاةُ) : عَطْفٌ عَلَى الْمَشْيِ. (عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الْجَنَازَةِ، أَيِ: الْمَيِّتُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1646 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ) ": وَضَابِطُ الْإِسْرَاعِ أَخْذًا مِنْ خَبَرٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ شِدَّةِ الْمَسِيرِ بِهَا فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ بِأَنْ يَكُونَ مَشِينَ بِهَا فَوْقَ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ وَدُونَ الْخَبَبِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَيَمْشِي بِهَا عَلَى أَسْرَعِ سَجِيَّةِ مَشْيٍ لَا الْإِسْرَاعِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى مَنْ يُشَيِّعُهَا، إِلَّا أَنْ يُخَافَ تَغَيُّرُهَا أَوِ انْفِجَارُهَا فَيُجْعَلُ بِهَا مَا قَدَّرُوهُ. (فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً) أَيْ: فَإِنْ تَكُنِ الْجَنَازَةُ صَالِحَةً أَوْ مُؤْمِنَةً. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْجَنَازَةُ بِالْكَسْرِ الْمَيِّتُ وَبِالْفَتْحِ السَّرِيرُ، فَعَلَى هَذَا أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الْجَنَازَةِ وَأُرِيدَ الْمَيِّتُ. (فَخَيْرٌ) أَيْ: فَحَالُهَا خَيْرٌ، أَوْ فِعْلُهَا خَيْرٌ. (تُقَدِّمُونَهَا) : بِالتَّشْدِيدِ. (إِلَيْهِ) أَيْ: فَإِنْ كَانَ حَالُ ذَلِكَ الْمَيِّتِ حَسَنًا طَيِّبًا، فَأَسْرِعُوا بِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الطَّيِّبَةِ عَنْ قَرِيبٍ. (وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَتِ الْجَنَازَةُ عَيْنَ الْمَيِّتِ، وَوُصِفَتْ بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ عُبِّرَ عَنِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالْخَيْرِ، وَجُعِلَتِ الْجَنَازَةُ الَّتِي هِيَ مَكَانُ الْمَيِّتِ مُقَدِّمَةً عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ، فَكَنَّى بِالْجَنَازَةِ عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُبَالَغَةً فِي كَمَالِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمَّا لَاحَظَ فِي جَانِبِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ هَذَا قَابَلَ قَرِينَتَهُ بِوَضْعِ الشَّرِّ عَنِ الرِّقَابِ، وَكَانَ أَثَرُ عَمَلِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ رَاحَةً لَهُ، فَأُمِرَ بِإِسْرَاعِهِ إِلَى مَا يَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ، وَأَثَرُ عَمَلِ الرَّجُلِ الْغَيْرِ الصَّالِحِ مَشَقَّةً عَلَيْهِمْ، فَأُمِرَ بِوَضْعِ جِيفَتِهِ عَنْ رِقَابِهِمْ، فَالضَّمِيرُ فِي " إِلَيْهِ " رَاجِعٌ إِلَى الْخَيْرِ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ وَالْإِكْرَامِ، فَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِمَّا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ: " مُسْتَرِيحٌ أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ". وَقَالَ الْمَالِكِيُّ فِي التَّوْضِيحِ: " إِلَيْهَا " بِالتَّأْنِيثِ، وَقَالَ: أَنَّثَ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ إِلَى الْخَيْرِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ، فَكَادَ يَسْعَى أَنْ يَقُولَ: فَخَيْرٌ قَدَّمْتُمُوهَا إِلَيْهِ، لَكِنَّ الْمُذَكَّرَ مُجَوَّزٌ تَأْنِيثُهُ إِذَا أُوِّلَ بِمُؤَنَّثٍ كَتَأْوِيلِ الْخَيْرِ الَّذِي يُقَدِّمُ النَّفْسَ الصَّالِحَةَ لَا لِرَحْمَةٍ أَوْ بِالْحُسْنَى أَوْ بِالْيُسْرَى. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَهِيَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: فَثَمَّةَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَ الْجَنَازَةَ إِلَيْهِ، يَعْنِي حَالَهُ فِي الْقَبْرِ حَسَنٌ طَيِّبٌ، فَأَسْرِعُوا بِهَا حَتَّى يَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ: فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ. أَيْ: إِنَّهَا بَعِيدَةٌ عَنِ الرَّحْمَةِ، فَلَا مَصْلَحَةَ لَكُمْ فِي مُصَاحَبَتِهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ سُنَّةُ تَرْكِ مُصَاحَبَةِ أَهْلِ الْبَطَالَةِ وَغَيْرِ الصَّالِحِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

1647 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَ الْإِنْسَانُ لَصُعِقَ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1647 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ) " أَيْ: بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ، وَهُيِّئَتْ لِيَحْمِلُوهَا. (فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ) : " أَيْ: بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ. (قَدِّمُونِي) أَيْ: أَسْرِعُوا بِي إِلَى مَنْزِلِي لِمَا يَرَى فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْغَالِيَةِ. فِي الْأَزْهَارِ: الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ الْمَيِّتِ عَلَى السَّرِيرِ أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ وَهُوَ كَإِحْيَائِهِ فِي الْقَبْرِ لِيُسْأَلَ، بَلْ قَدْ أَثْبَتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّمْعَ لِلْمَيِّتِ قَبْلَ إِتْيَانِ الْمَلَكَيْنِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ، أَوِ الْمَجَازُ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِدْخَالِ وَالسُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ اهـ. وَالثَّانِي: لَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ، فَالْمُعَوَّلُ هُوَ الْأَوَّلُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ مَنْ يُغَسِّلُهُ، وَمَنْ يَحْمِلُهُ، وَمَنْ يُكَفِّنُهُ، وَمَنْ يُدْلِيهِ فِي حُفْرَتِهِ» " اهـ. وَتَجْوِيزُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَقَالُ بِلِسَانِ الْحَالِ لَا يُنَافِي مَعْرِفَتَهُ وَقُدْرَتَهُ عَلَى لِسَانِ الْمَقَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا) أَيْ: لِأَقَارِبِهَا أَوْ لِمَنْ يَحْمِلُهَا. (يَا وَيْلَهَا) أَيْ: وَيْلَ الْجَنَازَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَا وَيْلِي، وَهَلَاكِي احْضَرْ، فَهَذَا أَوَانُكَ، فَعَدَلَ عَنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْجَنَازَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى كَرَاهِيَةَ إِضَافَةِ الْوَيْلِ إِلَى نَفْسِهِ. (أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا) : وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ: يَسْتَمِعُ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَعْنَى يَسْمَعُ. (كُلُّ شَيْءٍ) أَيْ: حَتَّى الْجَمَادَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقِيٌّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ السَّمَاعُ عَلَى الْفَهْمِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . (إِلَّا الْإِنْسَانَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. (وَلَوْ سَمِعَ الْإِنْسَانُ) أَيْ: حَقِيقَةَ السَّمَاعِ. (لَصُعِقَ) أَيْ: لَمَاتَ أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَفِيهِ بَيَانُ حِكْمَةِ عَدَمِ سَمَاعِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَلُّ نِظَامُ الْعَالَمِ، وَيَكُونُ الْإِيمَانُ شُهُودِيًّا لَا غَيْبِيًّا، وَلِذَا قِيلَ: لَوْلَا الْحَمْقَى لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْغَفْلَةُ مَانِعَةٌ مِنَ الرِّحْلَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1648 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1648 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا) قَالَ الْقَاضِي: الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ إِمَّا لِتَرْحِيبِ الْمَيِّتِ وَتَعْظِيمِهِ، وَإِمَّا لِتَهْوِيلِ الْمَوْتِ وَتَعْظِيمِهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ يَنْبَغِي أَنْ يَضْطَرِبَ، وَيَقْلَقَ مَنْ رَأَى مَيِّتًا اسْتِشْعَارًا مِنْهُ وَرُعْبًا، وَلَا يَثْبُتُ عَلَى حَالِهِ لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَقِلَّةِ الِاحْتِفَالِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا الْمَوْتُ فَزَعٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا» " اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَمَنْ تَبِعَهَا) أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ. (فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ) أَيْ: عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ قَصْدًا لِلْمُسَاعَدَةِ، وَقِيَامًا بِحَقِّ الْأُخُوَّةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، أَوْ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ لِلِاحْتِيَاجِ فِي الدَّفْنِ إِلَى النَّاسِ، وَلِيَكْمُلَ أَجْرُهُ فِي الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، قَالَا: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ، وَيُعَضِّدُهُ رِوَايَةُ الثَّوْرِيِّ: حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ، وَلِأَنَّهَا مَا دَامَتْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ هُمْ وَاقِفُونَ، فَقُعُودُهُمْ مُخَالَفَةٌ لَهُمْ، وَيُشْعِرُ بِالتَّمَيُّزِ عَنْهُمْ، وَالتَّكَبُّرِ عَلَيْهِم) . قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِذَا لَمْ يُرِدِ الذَّهَابَ مَعَهَا، فَالْقِيَامُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ جَمْعٌ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُعُودِ، وَقَالَ بَعْضٌ: هُمَا مَنْدُوبَانِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ مِنْهُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْأَحَادِيثُ مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْآتِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1649 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «مَرَّتْ جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ. فَقَالَ: " إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1649 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَرَّتْ جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا) أَيِ: الْمَيِّتَةُ. (يَهُودِيَّةٌ) : أَوِ الْجَنَازَةُ جَنَازَةُ يَهُودِيَّةٍ. (فَقَالَ: " إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ) ": بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ تَقْدِيرُهُ: ذُو فَزَعٍ. (فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا) : ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ الْحَقِيقِيِّ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْجَنَازَةِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ أَنَّ أَمْرَهُ بِالْقِيَامِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا لِإِظْهَارِ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ فَهُوَ عَلَامَةُ غِلَظِ قَلْبِهِ، وَعِظَمِ غَفْلَتِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ تَغَيُّرُ الْحَالِ فِي قَلْبِهِ، وَفِي ظَاهِرِهِ لَا حَقِيقَتِهِ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحُدُهُمَا: أَنَّ جُمْلَةَ (إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ) مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ جَنَازَةَ الْيَهُودِيِّ زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا اهـ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَقُومُونَ لَهَا، إِنَّمَا تَقُومُونَ إِعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوسَ.

1650 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَقُمْنَا، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا، يَعْنِي فِي الْجَنَازَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَأَبِي دَاوُدَ: قَامَ فِي الْجَنَازَةِ ثُمَّ قَعَدَ بَعْدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1650 - (وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ) أَيْ: لِرُؤْيَةِ الْجَنَازَةِ. (فَقُمْنَا) تَبَعًا لَهُ أَيْ: أَوَّلًا. (وَقَعَدَ) أَيْ: ثَبَتَ قَاعِدًا. (فَقَعَدْنَا) أَيْ: تَبَعًا لَهُ آخِرًا، يَعْنِي أَيْ: يُرِيدُ عَلِيٌّ بِالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ (فِي الْجَنَازَةِ) أَيْ: فِي رُؤْيَتِهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا. (وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَأَبِي دَاوُدَ: قَامَ فِي الْجَنَازَةِ) أَيْ: لَهَا. (ثُمَّ قَعَدَ بَعْدُ) قَالَ مِيرَكُ: وَكَأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، حَيْثُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي الصِّحَاحِ بِلَفْظِ مَالِكٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، دُونَ لَفْظِ مُسْلِمٍ. وَالْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اخْتَارَ لَفْظَ أَبِي دَاوُدَ لِأَنَّهُ أَصْرَحُ فِي النُّسَخِ مِنْ عِبَارَةِ مُسْلِمٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ الْمَفْهُومَ مِنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مَنْسُوخٌ، لَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَابِ تَأَمَّلْ اهـ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَنِ الشَّافِعِيِّ حَدِيثُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِنْ شَاءَ قَامَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقُمْ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَدَّمُونَ الْجَنَازَةَ فَيَقْعُدُونَ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَيْهِمِ الْجَنَازَةُ. قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ لِلْجَنَازَةِ ثُمَّ يَقْعُدُ بَعْدَ قِيَامِهِ إِذَا تَجَاوَزَتْ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اتِّبَاعَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ يُسْتَحَبُّ، الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ أَيَّامًا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ يَقُومُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِعْلُ الْأَخِيرِ قَرِينَةً وَأَمَارَةً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ فِي ذَيْنِكَ الْخَبَرَيْنِ لِلنَّدْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِلْوُجُوبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَجَازِ أَقْرَبُ مِنَ النَّسْخِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ لِلنَّدْبِ، وَقُعُودُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ لِعَدَمِ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ اهـ. وَقَدْ صَرَّحَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَتَى بِأَدِلَّتِهِ، قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَمَّا الْقَاعِدُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا مَرَّتْ بِهِ أَوْ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا جِيءَ بِهِ فَلَا يَقُومُ لَهَا، وَقِيلَ: يَقُومُ، وَاخْتِيرَ الْأَوَّلُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِالْقِيَامِ فِي الْجَنَازَةِ ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ» ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ لِأَحْمَدَ تَمَّ كَلَامُهُ، وَالْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الِاحْتِمَالِ. الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنَ النَّسْخِ وَقَوْلِهِ: أَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّسْخِ مَنْدُوبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَالَ أَئِمَّتُنَا: هُمَا مَنْدُوبَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْقُعُودِ شَيْءٌ إِلَّا حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي النَّسْخِ ; لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْقُعُودَ فِيهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الْمُدَّعَى وَالدَّلِيلِ، قَالَ: وَاعْتُرِضَ عَلَى النَّوَوِيِّ بِأَنَّ الَّذِي فَهِمَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ التَّرْكَ مُطْلَقًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ فَهْمَ الصَّحَابِيِّ لَا سِيَّمَا مِثْلُ عَلِيٍّ بَابِ مَدِينَةِ الْعِلْمِ مُقَدَّمٌ عَلَى فَهْمِ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ يُسَاعِدُهُ مِنَ الْقَرَائِنِ الْخَارِجِيَّةِ مَا لَا يُدْرِكُهُ غَيْرُهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ بِالْقُعُودِ مَنْ رَآهُ قَائِمًا، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ كَمَا فِي مُسْلِمٍ: «قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْجَنَازَةِ حَتَّى تُوضَعَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ «رَأَى نَاسًا قِيَامًا يَنْتَظِرُونَ الْجَنَازَةَ أَنْ تُوضَعَ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِدِرَّةٍ مَعَهُ أَوْ سَوْطٍ أَنِ اجْلِسُوا، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ مَا كَانَ يَقُومُ» ، وَبِهَذَا اتَّضَحَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ نَسْخِهِمَا اهـ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يُفِيدُ مَنْعَ الْقِيَامِ حَتَّى تُوضَعَ اهـ. وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْجَنَازَةِ ابْتِدَاءً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَضِيَّةٌ أُخْرَى، وَنَسْخٌ لِحُكْمٍ آخَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي: مِنْ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا تَبِعَ جَنَازَةً لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ فَعَرَضَ لَهُ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا هَكَذَا نَصْنَعُ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَجَلَسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: خَالِفُوهُمْ» .

1651 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1651 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ اتَّبَعَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ. (مَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا) أَيْ: بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ تَصْدِيقًا بِثَوَابِهِ، وَجَعَلَ لَفْظَ بِاللَّهِ مَتْنًا، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ تَفْسِيرِهِ بِقَوْلِهِ: (وَاحْتِسَابًا) أَيْ: طَلَبًا لِلثَّوَابِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَا لِلرِّيَاءِ، وَتَطْيِيبِ قَلْبِ أَحَدٍ اهـ. وَفِيهِ نَطَرٌ ; لِأَنَّ إِدْخَالَ السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ الثَّقَلَيْنِ، وَوَرَدَ: أَنَّ مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْعِلَّةِ، وَقِيلَ إِنَّهُمَا حَالَانِ أَيْ: مُؤْمِنًا وَمُحْتَسِبًا. (وَكَانَ مَعَهُ) أَيْ:

اسْتَمَرَّ مَعَ جَنَازَتِهِ. (حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الْجَنَازَةِ. (وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا) وَرُوِيَ الْفِعْلَانِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. (فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الْأَجْرِ) حَالٌ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَائِنًا مِنَ الثَّوَابِ، فَمِنْ بَيَانِيَّةٌ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْمُبَيَّنِ. (بِقِيرَاطَيْنِ) أَيْ: بِقِسْطَيْنِ وَنَصِيبَيْنِ عَظِيمَيْنِ. فِي النِّهَايَةِ: الْقِيرَاطُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الدِّينَارِ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِهِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَأَهْلُ الشَّامِ يَجْعَلُونَهُ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالْيَاءُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الرَّاءِ ; فَإِنَّ أَصْلَهُ قِرَّاطٌ، قِيلَ: لِأَنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى قَرَارِيطَ، وَهُوَ شَائِعٌ مُسْتَمِرٌّ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ بَعْضُ الشَّيْءِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فُسِّرَ بِقَوْلِهِ. (كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ) وَذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ لَا لِلَفْظِ الْقِيرَاطِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّتَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْأَجْرِ، فَبَيَّنَ الْمَعْنَى بِالْقِيرَاطِ الَّذِي هُوَ حِصَّةٌ مِنْ جُمْلَةِ الدِّينَارِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: وَلَوْ صُوِّرَ جِسْمًا يَكُونُ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ اهـ. وَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ: أَنَّ أَصْغَرَهُمَا كَأُحُدٍ. لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُتَّبِعِينَ. (وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ) أَيِ: الْجَنَازَةُ. (فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا أَيْضًا: «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ. قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: أَصْغَرُهُمَا كَأُحُدٍ. وَفِي أُخْرَى لَهُ أَيْضًا: حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ. وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ تَقْيِيدُهُ بِقُيُودٍ أُخْرَى وَهِيَ: الْحَمْلُ، وَالْجُثُوُّ فِي الْقَبْرِ، وَإِذْنُ الْوَلِيِّ فِي الِانْصِرَافِ، وَجَرَى عَلَى الْأَخِيرِ قَوْمٌ، وَالْجُمْهُورُ مَا اعْتَبَرُوا هَذِهِ التَّقْيِيدَاتِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ أَوْ لَهُ عِلَّةُ شُذُوذٍ أَوْ نَحْوُهُ عِنْدَهُمْ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً حَتَّى يُقْضَى دَفْنُهَا كُتِبَ لَهُ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ» . أَيْ: وَاحِدٌ لِلصَّلَاةِ وَاثْنَانِ لِلتَّشْيِيعِ.

1652 - وَعَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ الْيَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، خَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1652 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ) أَيْ: أَخْبَرَهُمْ بِمَوْتِهِ. فِي الْقَامُوسِ: نَعَاهُ لَهُ نَعْوًا وَنَعْيًا: أَخْبَرَهُ بِمَوْتِهِ، وَالنَّجَاشِيُّ بِالتَّشْدِيدِ، فَيَاؤُهُ لِلنِّسْبَةِ، وَتَخْفِيفُهَا فَيَاؤُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَبِكَسْرِ نُونِهِ وَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا، وَهُوَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا تَشْدِيدُ الْجِيمِ فَخَطَأٌ، وَالسِّينُ تَصْحِيفٌ، وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ بِوَزْنِ أَرْبَعَةٍ، وَحَاؤُهُ مُهْمَلَةٌ وَقِيلَ مُعْجَمَةٌ، وَهُوَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَكَانَ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ بَالِغًا فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. (الْيَوْمَ) ظَرْفُ نَعَى أَيْ: فِي الْيَوْمِ. (الَّذِي مَاتَ فِيهِ) وَهُوَ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ: قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَانَ النَّجَاشِيُّ مُسْلِمًا يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ قَوْمِهِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ مُعْجِزَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ. (وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى) فِي الْهِدَايَةِ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ» . وَرُوِيَ فَلَا شَيْءَ لَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي الْخُلَاصَةِ: مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ كَانَ الْقَوْمُ وَالْمَيِّتُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ اهـ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِي الْكَرَاهَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إِنَّمَا بُنِيَ لِصَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَتَوَابِعِهَا مِنَ النَّوَافِلِ، وَالذِّكْرِ وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِاحْتِمَالِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوَتَنْزِيهٍ رِوَايَتَانِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأُولَى كَوْنُهَا تَنْزِيهِيَّةً إِذِ الْحَدِيثُ لَيْسَ هُوَ نَهْيًا غَيْرَ مَصْرُوفٍ، وَلَا قُرِنَ الْفِعْلُ بِوَعِيدٍ ظَنِّيٍّ، بَلْ سَلْبُ الْأَجْرِ، وَسَلْبُ الْأَجْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعَارِضُ الْمَشْهُورَ. قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا سَبَبٌ مَوْضُوعٌ فَسَلْبُ الثَّوَابِ مَعَ فِعْلِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ إِثْمٍ يُقَاوِمُ ذَلِكَ الثَّوَابَ. قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ النَّفْيُ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: «وَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ» . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ صُلِّيَ عَلَيْهِمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ شَهِدُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا، وَفِي تَرْكِهِمُ الْإِنْكَارَ دَلِيلُ الْجَوَازِ اهـ. وَهُوَ لَا يُنَافِي كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ. (فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ) ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْضِرَهُ وَخُصُوصِيَّتُهُ بِهِ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا بَيَانُ ذَلِكَ النَّعْيِ، وَهِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ مَاتَ الْيَوْمَ عَبْدٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ: أَصْحَمَةُ فَقُومُوا عَلَيْهِ» . وَفِي أُخْرَى عِنْدَ ابْنِ شَاهِينَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: «قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمُ النَّجَّاشِيِّ» . فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْمُرُنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى عِلْجٍ مِنَ الْحَبَشَةِ ; فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يَؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199] " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَفِي أُخْرَى لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «أَصْبَحْنَا ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخَاكُمْ أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيَّ قَدْ تُوُفِّيَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ قَالَ: فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَثَبْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ الْمُصَلَّى فَقَامَ فَصَفَفْنَا فَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَوْضَحُ حُجَّةٍ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ وَمَقْبَرَتِهَا، وَدَعْوَى أَنَّ الْأَرْضَ انْطَوَتْ حَتَّى صَارَتِ الْجَنَازَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَعَلَى التَّسْلِيمِ فَبِالنِّسْبَةِ لِلصَّحَابَةِ فَهِيَ صَلَاةُ غَائِبٍ قَطْعًا. قُلْتُ: هَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَرَى الْمُقْتَدِي جَنَازَةَ الْمَيِّتِ الْمَوْضُوعَةِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الثَّانِي، وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ فَمُؤَيَّدٌ بِمَا رُوِيَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ نَاقِلًا عَنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُشِفَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَرِيرِ النَّجَاشِيِّ حَتَّى رَآهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ» . وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَّاشِيَّ تُوُفِّيَ فَقُومُوا وَصَلُّوا عَلَيْهِ. فَقَامَ عَلَيْهِ وَصَلُّوا خَلْفَهُ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَهُمْ لَا يَظُنُّونَ أَنَّ جَنَازَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» . فَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ ظَنِّهِمْ ; لِأَنَّهُ هُوَ فَائِدَتُهُ الْمُعْتَدُّ بِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ كُوشِفَ لَهُ، وَإِمَّا أَنَّ ذَلِكَ خُصَّ بِهِ النَّجَاشِيُّ فَلَا يُحَلِّقُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ مَعَ شَهَادَةِ الصِّدِّيقِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صَلَّى عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْغَيْبِ وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيُّ، وَيُقَالُ: اللَّيْثِيُّ الْمُزَنِيُّ، وَيُقَالُ: «اللَّيْثِيُّ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَبُوكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُزَنِيِّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ أَتُحِبُّ أَنْ أَطْوِيَ لَكَ الْأَرْضَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَرَفَعَ لَهُ سَرِيرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَخَلْفَهُ صَفَّانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي كُلِّ صَفٍّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: بِمَ أَدْرَكَ هَذَا؟ بِحُبِّهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقِرَاءَتِهِ إِيَّاهَا جَائِيًا وَذَاهِبًا، وَقَائِمًا وَقَاعِدًا» ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَصَلَّى عَلَى زَيْدٍ وَجَعْفَرٍ لَمَّا اسْتُشْهِدَا بِمُؤْتَةَ عَلَى مَا فِي مَغَازِي الْوَاقِدِيِّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: «لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ بِمُؤْتَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكُشِفَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مَعْرَكَتِهِمْ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَمَضَى حَتَّى اسْتُشْهِدَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَسْعَى، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَمَضَى حَتَّى اسْتُشْهِدَ وَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ، اسْتَغْفِرُوا لَهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ يَطِيرُ مِنْهَا بِجَنَاحَيْنِ حَيْثُ شَاءَ» . قُلْنَا: إِنَّمَا ادَّعَيْنَا الْخُصُوصِيَّةَ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ رُفِعَ لَهُ سَرِيرٌ، وَلَا هُوَ مَرْئِيٌّ لَهُ، وَمَا ذُكِرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ هَذَا مَعَ ضَعْفِ الطُّرُقِ فَمَا فِي الْمُغَازِي مُرْسَلٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَمَا فِي الطَّبَقَاتِ ضَعِيفٌ بِالْعَلَاءِ وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ وَيُقَالُ: ابْنُ يَزِيدَ، اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَدْ عَنْعَنَهُ ثُمَّ دَلِيلُ الْخُصُوصِيَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى غَائِبٍ إِلَّا عَلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ سِوَى النَّجَاشِيِّ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ رُفِعَ لَهُ، وَكَانَ بِمَرْأًى مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ خَلْقٌ مِنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ غَيْبًا فِي الْأَسْفَارِ كَأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَالْغَزَوَاتِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَرِيصًا حَتَّى قَالَ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ ; فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ لَهُ» .

1653 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: «كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1653 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: يُكَنَّى أَبَا عُمَرَ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ، سَكَنَهَا وَمَاتَ بِهَا، وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ. (يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْنَاهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أَحْيَانًا أَوْ أَوَّلًا. (يُكَبِّرُ خَمْسًا) قَالَ النَّوَوِيُّ: دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرَهُ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَبَّرُ الْيَوْمَ إِلَّا أَرْبَعًا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا بَعْدَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَصِحُّ مِنَ الْخِلَافِ اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَهَا فَكَبَّرَ خَمْسًا ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ خَمْسًا ; إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ ابْنَ أَرْقَمَ لَيْسَ قَائِلًا بِالنَّسْخِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهِ قَالَ حُذَيْفَةُ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ لَكِنْ لَوْ كَبَّرَ خَمْسًا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ اهـ. وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: إِجْمَاعَ الْأَكْثَرِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1654 - «وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ. فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1654 - (وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ) أَيْ: بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى. (فَقَالَ) أَيْ: إِنَّمَا قَرَأَتُ الْفَاتِحَةَ، أَوْ رَفَعْتُ صَوْتِيَ بِهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ. (لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا) أَيْ: قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ. (سُنَّةٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: لَيْسَ بِدْعَةً. قَالَ الْأَشْرَفُ: الضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بَلْ مَا يُقَابِلُ الْبِدْعَةَ، أَيْ: أَنَّهَا طَرِيقَةٌ مَرْوِيَّةٌ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَوْ قُرِأَتْ مَكَانَ الثَّنَاءِ لَقَامَتْ مَقَامَ السُّنَّةِ. وَفِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ قَالُوا: لَا يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ إِلَّا أَنْ يَقْرَأَهَا بِنِيَّةِ الثَّنَاءِ، وَلَمْ تَثْبُتِ الْقِرَاءَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْرَؤُهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ اهـ. وَهَذَا يُعْلِمُ ضَعْفَ قَوْلِهِ أَيْ: أَنَّهَا طَرِيقَةٌ مَرْوِيَّةٌ، وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي أُمَامَةَ وَسَنَدُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآنِ مُخَافَتَةً. فَتَأْوِيلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ.

1655 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ. قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1655 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ) : أَيْ: بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُ حَفِظَ مِنْ دُعَائِهِ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْهُ لَا عَنْهُ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا تَقَرَّرَ فِي الْفِقْهِ مِنْ نَدْبِ الْإِسْرَارِ ; لِأَنَّ الْجَهْرَ هُنَا لِلتَّعْلِيمِ لَا غَيْرُ. (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ) بِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ. (وَارْحَمْهُ) بِقَبُولِ الطَّاعَاتِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: تَأْكِيدٌ أَوْ أَعَمُّ. (وَعَافِهِ) أَمْرٌ مِنَ الْمُعَافَاةِ وَالْهَاءُ ضَمِيرٌ، وَقِيلَ لِلسَّكْتِ، وَالْمَعْنَى خَلِّصْهُ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: سَلِّمْهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبَلَايَا. (وَاعْفُ عَنْهُ) أَيْ: عَمَّا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ التَّقْصِيرَاتِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: عَافِهِ أَيْ: سَلِّمْهُ مِنْ كُلِّ مُؤْذٍ، وَاعْفُ عَنْهُ تَأْكِيدٌ أَوْ أَخَصُّ أَيْ: سَلِّمْهُ مِنْ خَطَرِ الذُّنُوبِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَفْوُ وَالْعَافِيَةُ وَالْمُعَافَاةُ مُتَقَارِبَةٌ: فَالْعَفْوُ: مَحْوُ الذُّنُوبِ، وَالْعَافِيَةُ: أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْبَلَايَا، وَالْمُعَافَاةُ: وَهِيَ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُعَافِيَهُمْ مِنْكَ، وَيَصْرِفَ أَذَاهُمْ عَنْكَ، وَأَذَاكَ عَنْهُمْ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْعَافِيَةِ وَالْمُعَافَاةِ مِنَ الْمَعْنَى غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَيِّتِ، بَلْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْعَافِيَةِ لَا يُنَاسِبُ الْحَيَّ أَيْضًا ; فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعَهُ دَعَوْا بِالْعَافِيَةِ وَلَمْ يَسْلَمُوا مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْبَلِيَّةِ بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، بَلِ السَّلَامَةُ مِنَ الْأَسْقَامِ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُيُوبِ الْعِظَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ الْأَسْقَامُ عَلَى سَيِّئِ الْأَسْقَامِ: كَالْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْعَافِيَةِ، أَنْ لَا يَجْزَعَ فِي الْآلَامِ، وَيَصْبِرَ وَيَشْكُرَ، وَيَرْضَى بِقَضَاءِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، وَيَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ تَكَالِيفِ الْأَحْكَامِ. (وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ) بِضَمِّ الزَّايِ: وَيُسَكَّنُ أَيْ: رِزْقَهُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يُقَدَّمُ مِنَ الطَّعَامِ إِلَى الضَّيْفِ أَيْ: أَحْسِنْ نَصِيبَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. (وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا أَيْ: قَبْرَهُ. قَالَ مِيرَكُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ كَذَا فِي الْمَسْمُوعِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ، وَالْمَضْبُوطِ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا وَضَبَطَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي مِفْتَاحِ الْحِصْنِ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى اهـ. لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَكَانُ الدُّخُولِ أَوِ الْإِدْخَالُ وَإِنَّمَا اخْتَارَ الشَّيْخُ الضَّمَّ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ الْقُرَّاءِ قَرَءُوا بِالضَّمِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُدْخِلُكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] وَانْفَرَدَ الْإِمَامُ نَافِعٌ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ أَيْضًا بِحَسَبِ الْمَعْنَى أَنْسَبُ ; لِأَنَّ دُخُولَهُ لَيْسَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِإِدْخَالِ غَيْرِهِ. (وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: طَهِّرْ مِنَ الذُّنُوبِ بِأَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَنْوَاعُ الْمُطَهِّرَاتِ مِنَ الدَّنَسِ. (وَنَقِّهِ) بَهَاءِ الضَّمِيرِ أَوِ السَّكْتِ. (مِنَ الْخَطَايَا) تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ. (كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الْوَسَخِ، تَشْبِيهٌ لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الصَّغَائِرُ، وَبِالْآخَرِ الْكَبَائِرُ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا حَقُّ اللَّهِ، وَبِالْآخَرِ حَقُّ الْعِبَادِ. (وَأَبْدِلْهُ) أَيْ: عَوِّضْهُ. (دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا) أَيْ: خَدَمًا. (خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ)

أَيْ: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَنِسَاءِ الدُّنْيَا أَيْضًا، فَلَا يُشْكِلُ أَنَّ نِسَاءَ الدُّنْيَا يَكُنَّ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُورِ ; لِصَلَاتِهِنَّ وَصِيَامِهِنَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَخَيْرٌ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ إِذْ لَا خَيْرِيَّةَ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ، فَلَيْسَ عَلَى بَابِهِ إِذِ الْكَلَامُ فِي النِّسْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا فِي النِّسْبَةِ الْإِضَافِيَّةِ ; قَالَ تَعَالَى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] . (وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ) أَيِ: ابْتِدَاءً. (وَأَعِذْهُ) أَيْ: أَجِرْهُ. (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ. (وَفِي رِوَايَةِ وَقِهِ) بَهَاءِ الضَّمِيرِ أَوِ السَّكْتِ أَيِ: احْفَظْهُ. (فِتْنَةَ الْقَبْرِ) أَيِ: التَّحَيُّرَ فِي جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ الْمُؤَدِّيَ إِلَى عَذَابِ الْقَبْرِ. (وَعَذَابِ النَّارِ، قَالَ) أَيْ: عَوْفٌ. (حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا) تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ. (ذَلِكَ الْمَيِّتَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ،. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا الدُّعَاءُ أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ.

1656 - وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا تُوَفِّي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَتْ: ادْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: وَاللَّهِ، لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1656 - (وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) أَيْ: فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَحُمِلَ إِلَيْهَا عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ لِيُدْفَنَ بِالْبَقِيعِ، وَذَلِكَ فِي إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ. (قَالَتِ: ادْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ) أَيْ: سَأَلَتْ عَائِشَةُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ لِتُصَلِّيَ هِيَ عَلَيْهِ أَيْضًا. (فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا) أَيْ: فَأَبَوْا عَلَيْهَا، وَقَالُوا: لَا يُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ. (فَقَالَتْ: وَاللَّهِ، لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ) اسْمٌ لِلْأُمِّ. (فِي الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ سَهْلٌ. (وَأَخِيهِ) وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُهُ سَهْلٌ، مَاتَا سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَيْضَاءُ أُمُّهُمَا، وَاسْمُهَا: دَعْدُ بِنْتُ الْجَحْدَمِ، وَاسْمُ أَبِيهِمَا عَمْرُو بْنُ وَهْبٍ. قَالَ مِيرَكُ: غَلِطَ الطِّيبِيُّ فِي اسْمِ أَبِيهِمَا وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ كَمَا فِي الِاسْتِيعَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَكَانَ سَهْلٌ قَدِيمَ الْإِسْلَامِ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرَهَا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى قَوْلِ عَائِشَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُتَوَافِرِينَ فَلَوْ لَمْ يَعْلَمُوا بِالنَّسْخِ لَمَا خَالَفُوا حَدِيثَ عَائِشَةَ اهـ. كَلَامُ الطِّيبِيِّ، أَوْ حَمَلُوهُ عَلَى عُذْرٍ كَمَطَرٍ، أَوْ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْجَوَازِ، وَعَمِلُوا بِالْأَفْضَلِ فِي حَقِّ سَعْدٍ سِيَّمَا وَكَانَ مَظِنَّةَ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِإِتْيَانِهِ مِنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ، وَتَحْرِيكِهِ عَلَى الْأَعْنَاقِ السَّعِيدَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فِيهِ أَوْضَحُ حُجَّةٍ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْأَفْضَلُ إِدْخَالُ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَمَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ لَكَانَ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمَا امْتَنَعَ جُلُّ الصَّحَابَةِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ الْجَوَازَ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: بِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ مَعَ خِلَافِ الْإِمَامِ الْأَكْمَلِ، وَقَدْ نَازَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الشَّافِعِيَّ فِي الِاسْتِحْبَابِ بِأَنَّهُ كَانَ لِلْجَنَائِزِ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَالْغَالِبُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا ثَمَّةَ، وَدَفَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يَصْلُحُ نَقْلًا، وَلَا يَصِحُّ عَقْلًا، ثُمَّ نَاقَضَ كَلَامَهُ وَعَارَضَ مَرَامَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ» . فَضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَالَّذِي فِي جَمِيعِ أُصُولِ أَبِي دَاوُدَ الْمُعْتَمَدَةِ. فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، أَوِ الْمُرَادُ فَلَا أَجْرَ لَهُ كَامِلٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

1657 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1657 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) بِضَمِّ الدَّالِّ وَفَتْحِهَا. (قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا) أَيْ: حِينَ وِلَادَتِهَا. (فَقَامَ) أَيْ: وَقَفَ لِلصَّلَاةِ. (وَسْطَهَا أَيْ: حِذَاءَ وَسَطِهَا بِسُكُونِ السِّينِ، وَيُفْتَحُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَسْطُ بِالسُّكُونِ يُقَالُ فِيمَا كَانَ مُتَفَرِّقَ الْأَجْزَاءِ كَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ مُتَّصِلَ الْأَجْزَاءِ كَالدَّارِ وَالرَّأْسِ فَهُوَ بِالْفَتْحِ، وَقَبْلَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْآخَرِ، وَكَأَنَّهُ أَشْبَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ

الْوَسَطُ بِالْفَتْحِ كَالْمَرْكَزِ لِلدَّائِرَةِ، وَبِالسُّكُونِ دَاخِلَ الدَّائِرَةِ، وَقِيلَ: كُلُّ مَا يَصْلُحُ فِيهِ بَيْنَ فَبِالْفَتْحِ وَمَا لَا فَبِالسُّكُونِ اهـ. ثُمَّ الْأَمَامُ يَقَعُ بِحِذَاءِ صَدْرِ الْمَيِّتِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجُزِ الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي سِكَّةِ الْمِرْبَدِ فَمَرَّتْ جَنَازَةٌ مَعَهَا نَاسٌ كَثِيرَةٌ قَالُوا: جَنَازَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَتَبِعْتُهَا، فَإِذَا أَنَا بَرْجَلٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ رَقِيقٌ، عَلَى رَأْسِهِ خِرْقَةٌ تَقِيهِ مِنَ الشَّمْسِ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا الدِّهْقَانُ؟ وَهُوَ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ رَئِيسُ الْإِقْلِيمِ مُعَرَّبٌ، قَالُوا: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ: فَلَمَّا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ قَامَ أَنَسٌ فَصَلَّى عَلَيْهَا وَأَنَا خَلْفَهُ لَا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَمْ يُطِلْ وَلَمْ يُسْرِعْ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقْعُدُ فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ، الْمَرْأَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ فَقَرَّبُوهَا وَعَلَيْهَا نَعْشٌ أَخْضَرُ، فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا نَحْوَ صَلَاتِهِ عَلَى الرَّجُلِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْجَنَازَةِ كَصَلَاتِكَ، يُكَبِّرُ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، وَيَقُومُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ. قَالَ: نَعَمْ. إِلَى أَنْ قَالَ غَالِبٌ: فَسَأَلْتُ عَنْ صَنِيعِ أَنَسٍ فِي قِيَامِهِ فِي الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا، فَحَدَّثُونِي أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنِ النُّعُوشُ فَكَانِ يَقُومُ حِيَالَ عَجِيزَتِهَا يَسْتُرُهَا مِنَ الْقَوْمِ، مُخْتَصَرٌ مِنْ لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قُلْنَا: يُعَارَضُ هَذَا بِمَا رَوَى أَحْمَدُ: أَنَّ أَبَا غَالِبٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ أَنَسٍ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَامَ حِيَالَ صَدْرِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسَطَهَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الصَّدْرِ وَسَطًا) بَلِ الصَّدْرُ وَسَطٌ بِاعْتِبَارِ تَوَسُّطِ الْأَعْضَاءِ، إِذْ فَوْقَهُ يَدَاهُ وَرَأْسُهُ، وَتَحْتَهُ بَطْنُهُ وَفَخِذَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَفَ كَمَا قُلْنَا ; لِأَنَّهُ مَالَ إِلَى الْعَوْرَةِ فِي حَقِّهَا، فَظَنَّ الرَّاوِي ذَلِكَ لِتَقَارُبِ الْمَحَلَّيْنِ، كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

1658 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ دُفِنَ لَيْلًا فَقَالَ: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ قَالُوا: الْبَارِحَةَ. قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟ قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1658 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ دُفِنَ لَيْلًا) أَيْ: فِي لَيْلٍ مِنَ اللَّيَالِي. (فَقَالَ: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ قَالُوا: الْبَارِحَةَ) . أَيِ: اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ. (قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟ !) بِالْمَدِّ أَيْ: أَدَفَنْتُمُوهُ فَلَا أَعْلَمْتُمُونِي؟ (قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا) وَفِي نُسْخَةٍ: وَكَرِهْنَا. (أَنْ نُوقِظَكَ) أَيْ: نُنَبِّهَكَ مِنَ النَّوْمِ. (فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ مَسَائِلُ جَوَازِ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ، أَيْ: بِتَقْرِيرِهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ، وَاسْتِحْبَابُ صَلَاةِ الْمَيِّتِ بِالْجَمَاعَةِ اهـ. وَلَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَطَرِّفَتَيْنِ إِلَّا مَا شَذَّ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا صَحَّ أَيْضًا: «أَنَّ نَاسًا رَأَوْا فِي الْمَقْبَرَةِ نَارًا، فَأَتَوْهَا فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَبْرِ، وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: نَاوِلُونِي صَاحِبَكُمْ، فَإِذَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ» ، وَأَمَّا خَبَرُ مُسْلِمٍ: زَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ، فَالنَّهْيُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ دَفْنِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَكْرَارِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ الصَّفِّ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ وَصَفَّهُمْ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا» . قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَلِيَّ، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِنَا، وَلَا مُخَلِّصَ إِلَّا بِادِّعَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَصْلًا، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ مِنَ الصَّحَابَةِ اهـ. وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَقَعَتْ صَلَاةُ غَيْرِهِ تَبَعًا لَهُ، أَوْ مِمَّنْ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ، ثُمَّ رَأَيْتُ السُّيُوطِيَّ ذَكَرَ فِي أُنْمُوذَجِ اللَّبِيبِ: أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ فِي عَهْدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْجَنَازَةِ إِلَّا بِصَلَاتِهِ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجَنَازَةِ فِي حَقِّهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْهِدَايَةِ، وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ مَا فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرِ مِسْكِينَةٍ غَيْرَ لَيْلَةِ دَفْنِهَا» ، وَفِي مُرْسَلٍ صَحِيحٍ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُرْسَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَوْصُولِ حَتَّى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى عَلَى أُمِّ سَعْدٍ بَعْدَ شَهْرٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا حِينَ مَوْتِهَا» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَاسْمُ صَاحِبِ الْقَبْرِ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعُلْوِيُّ، حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، رَوَى حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا، وَالطَّبَرَانِيُّ مُطَوَّلًا، وَفِي رِوَايَتِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ: «فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ فَصَفَّ النَّاسَ مَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ يَضْحَكُ إِلَيْكَ وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ» ، وَالضَّحِكُ كِنَايَةٌ عَنِ الرِّضَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1659 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابٌّ فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ. فَقَالُوا: مَاتَ. قَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ. فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ. فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1659 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً) بِفَتْحِ أَنَّ وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا. (سَوْدَاءَ، كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: تَكْنِسُهُ وَتُطَهِّرُهُ مِنَ الْقُمَامَةِ. (أَوْ شَابٌّ) أَيْ: كَانَ يَقُمُّ وَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ أَنَّ إِنْ كَانَ أَنَّ مَرْوِيًّا وَإِلَّا فَعَلَى الْمَجْمُوعِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: أَنَّ أَسْوَدَ كَانَ يَقُمُّ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِهِ الْوَاحِدَ مِنْ سُودَانِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: اسْمُ رَجُلٍ. (فَفَقَدَهَا) وَفِي نُسْخَةٍ: فَفَقَدَهُ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَنْهَا) ، أَوْ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى الشَّكِّ فِي الْأَوَّلِ. (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ قَالَ مِيرَكُ: فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ الَّذِي بَاشَرَ جَوَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (مَاتَ) أَيْ: أَوْ مَاتَتْ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي) ؟ أَيْ: أَخْبَرْتُمُونِي بِمَوْتِهِ لِأُصَلِّيَ عَلَيْهِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ حِكَايَةً عَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: أَفَلَا إِلَخْ. (فَكَأَنَّهُمْ) أَيِ: الْمُخَاطَبِينَ. (صَغَّرُوا) أَيْ: حَقَّرُوا. (أَمْرَهَا) أَوْ أَمْرَهُ أَيْ: وَعَظَّمُوا أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْلِيفِهِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ. (فَقَالَ: دُلُّونِي) أَمْرٌ مِنَ الدَّلَالَةِ. (عَلَى قَبْرِهِ) أَوْ قَبْرِهَا. (فَدَلُّوهُ) بِضَمِّ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ. (فَصَلَّى عَلَيْهَا) أَوْ عَلَيْهِ. (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُشَارُ إِلَيْهَا الْقُبُورُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ. (عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ كَأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ: لَيْسَ النَّظَرُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ إِلَى حَقَارَتِهِ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ، بَلْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، قُلْنَا: صَلَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَسَلَّمَ كَانَتْ لِتَنْوِيرِ الْقَبْرِ، وَإِذَا لَا يُوجَدُ فِي صَلَاةِ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ التَّكْرَارُ مَشْرُوعًا فِيهَا ; لِأَنَّ الْفَرْضَ مِنْهَا يُؤَدَّى مَرَّةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. (وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ) قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْقُبُورِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ.

1660 - وَعَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَاتَ لَهُ ابْنٌ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ، انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: تَقُولُ: هُمْ أَرْبَعُونَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَخْرِجُوهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1660 - (وَعَنْ كُرَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ. (مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَاتَ لَهُ) أَيْ: لِعَبْدِ اللَّهِ. (ابْنٌ بِقُدَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ، مَوْضِعٌ قَرِيبٌ بِعُسْفَانَ. (أَوْ بِعُسْفَانَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ) ابْنِ حَجَرٍ: شَكٌّ مَنْ كُرَيْبٍ، وَهُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ. (فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ، انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مَا مَوْصُولَةٌ بَيَّنَهَا. (مِنَ النَّاسِ) وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا بِمَعْنَى مَنْ. (قَالَ) أَيْ: كُرَيْبٌ. (فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ) أَيْ: بِهِمْ أَوْ بِاجْتِمَاعِهِمْ. (فَقَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ. (تَقُولُ) بِالْخِطَابِ، أَيْ: تَظُنُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَقَالَ) كُرَيْبٌ: يَقُولُ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ. فَمُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. (هُمْ أَرْبَعُونَ. قَالَ أَيْ: كُرَيْبٌ. (نَعَمْ) وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: قُلْتُ: فَفِيهِ تَجْرِيدٌ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ. (فَأَخْرِجُوهُ) أَيِ: الْمَيِّتُ. (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ. (عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا) قِيلَ: وَحِكْمَةُ خُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ أَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ قَطُّ إِلَّا كَانَ فِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ. (إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ) أَيْ: قَبْلَ شَفَاعَتِهِمْ. (فِيهِ) أَيْ: فِي حَقِّ ذَلِكَ الْمَيِّتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

1661 - وَعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1661 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ. (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ مَيِّتٍ) أَيْ: مُسْلِمٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. (تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. (يَبْلُغُونَ) أَيْ: فِي الْعَدَدِ. (مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ) أَيْ: يَدْعُونَ لَهُ. (إِلَّا شُفِّعُوا) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: قُبِلَتْ شَفَاعَتُهُمْ. (فِيهِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا تَضَادَّ بَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَكُرَيْبٍ ; لِأَنَّ السَّبِيلَ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَكُونَ الْأَقَلُّ مِنَ الْعَدَدَيْنِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا وَعَدَ الْمَغْفِرَةَ لِمَعْنًى لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ النُّقْصَانُ مِنَ الْفَضْلِ الْمَوْعُودِ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يَزِيدُ تَفَضُّلًا، فَيَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ فَضْلِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْكَثْرَةَ، إِذِ الْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ اهـ. فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَوْجَبَ» أَيْ: غَفَرَ لَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ لِلرِّجَالِ فِعْلُ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ، وَإِنَّمَا صَلَّوْا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَادًا الرِّجَالُ حَتَّى فَرَغُوا ثُمَّ الصِّبْيَانُ كَذَلِكَ، ثُمَّ النِّسَاءُ كَذَلِكَ، ثُمَّ الْعَبِيدُ كَذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِجْمَاعَ أَهْلِ السِّيَرِ عَلَى صَلَاتِهِمْ عَلَيْهِ أَفْرَادًا، وَبِهِ يَرُدُّ إِنْكَارَ ابْنِ دِحْيَةَ لِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِعَظِيمِ أَمْرِهِ، وَتَنَافُسِهِمْ فِي أَنْ لَا يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَعَيَّنَ إِمَامٌ لِيَؤُمَّ الْقَوْمَ، فَلَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ فِي الصَّلَاةِ لَصَارَ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَعَيَّنَ لِلْخِلَافَةِ، وَقِيلَ: صَلَّوْا عَلَيْهِ جَمَاعَةً وَأَمَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقِيلَ: جَمَاعَاتٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَيْهِ أَفْذَاذًا) بِالْمُعْجَمَةِ، أَيْ: جَمَاعَاتٍ بَعْدَ جَمَاعَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُرَدُّ بِأَنَّ رِوَايَةَ غَيْرِ مُسْلِمٍ أَفْرَادًا بِالرَّاءِ أَوْ أَرْسَالًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ. (أَفْذَاذًا لِتَسْلِيمِ صِحَّتِهِ بِمَعْنَى جَمَاعَاتٍ اهـ. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَفْرَادِ وَالْأَرْسَالِ هُوَ مَعْنَى الْأَفْذَاذِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةً مُنْفَرِدَةً، بَلْ كَانَتْ جَمَاعَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، فَإِنَّ الرَّسَلَ مُحَرَّكَةً الْقَطِيعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَجَمْعُهُ أَرْسَالٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَرْسَالًا أَيْ: أَفْوَاجًا وَفِرَقًا مُقَطَّعَةً يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

1662 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ. ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا. فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا وَجَبَتْ. فَقَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ. أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1662 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرُّوا) أَيِ: الصَّحَابَةُ. (بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا) أَيْ: ذَكَرُوهَا بِأَوْصَافٍ حَمِيدَةٍ وَأَخْلَاقٍ سَدِيدَةٍ فَقَوْلُهُ: (خَيْرًا) تَأْكِيدٌ أَوْ دَفْعٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ عَلَى. (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ) أَيْ: ثَبَتَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا أَثْنَوْا عَلَيْهِ أَوْ إِنْ كَانَ مَاتَ عَلَيْهِ. (ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِعْمَالُ الثَّنَاءِ فِي الشَّرِّ مُشَاكَلَةٌ أَوْ تَهَكُّمٌ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَثْنَوْا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى وَصَفُوا فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَيْدِ فَفِي الْقَامُوسِ: الثَّنَاءُ وَصْفٌ بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ أَوْ خَاصٌّ بِالْمَدْحِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ مُكِّنُوا مِنَ الثَّنَاءِ بِالشَّرِّ مَعَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْبُخَارِيِّ فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ. قُلْتُ: النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ وَغَيْرِ الْمُتَظَاهِرِ فِسْقُهُ وَبِدْعَتُهُ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يَحْرُمُ سَبُّهُمْ تَحْذِيرًا مِنْ طَرِيقَتِهِمُ اهـ. وَفِي الْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ الْمَيِّتَيْنِ وَلَوْ كَانَا مُتَظَاهِرَيْنِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ جَوَازَ ذَمِّهِمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا لِكَيْ يَنْزَجِرَا أَوْ يَحْتَرِزَ النَّاسُ عَنْهُمَا، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُمَا مَاتَا عَلَى التَّوْبَةِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ الْجُمْهُورُ مِنْ لَعْنِ نَحْوِ يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ، وَخُصُوصِ الْمُبْتَدِعَةِ بِأَعْيَانِهِمْ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى سَبِّهِمْ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُعَارَضَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ» ، وَيُدْفَعُ بِحَمْلِ الْمَذْمُومِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ. (فَقَالَ: وَجَبَتْ) أَيْ: حَقَّتْ لَهُ النَّارُ، يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ وَالْمَوْتِ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ عَامًّا فِي كُلٍّ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، بَلْ تُرْجَى الْجَنَّةُ لِلْأَوَّلِ وَيُخَافُ لِلثَّانِي مِنَ النَّارِ، وَأَمَّا جَزْمُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَبِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. (فَقَالَ عُمَرُ: مَا وَجَبَتْ؟) أَيْ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِكَ: وَجَبَتْ فِي الْمَوْضُوعَيْنِ؟ وَأَرَادَ التَّصْرِيحَ بِمَا يُعْلَمُ مِنْ قِيَامِ الْقَرِينَةِ. (فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: قَالَ. (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا) أَيِ: الْآخَرُ

(أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الثَّنَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ غَيْرُ مُوجِبٍ لِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، بَلْ ذَلِكَ عَلَامَةُ كَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا ارْتِيَابَ أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ بَعْدَ ثَنَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حُكْمٌ عَقَّبَ وَصْفًا مُنَاسِبًا، وَهُوَ يُشْعِرُ بِالْعِلْيَةِ، وَكَذَا الْوَصْفُ بِقَوْلِهِ: (أَنْتُمْ أَيْ: أَيُّهَا الصَّحَابَةُ، أَوْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ. (شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّشْرِيفِ، وَأَنَّهُمْ بِمَكَانٍ وَمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَيْضًا كَالتَّزْكِيَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ، وَإِظْهَارِ عَدَالَتِهِمْ بَعْدَ أَدَاءِ شَهَادَتِهِمْ لِصَاحِبِ الْجَنَازَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ وَنَفْعٌ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ وَيُصَدِّقُ ظُنُونَهُمْ فِي حَقِّ الْمَثْنِيِّ عَلَيْهِ كَرَامَةً لَهُمْ، وَتَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ كَالدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ، فَيُوجِبُ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، فَهُوَ كَالْوَاجِبِ إِذَ لَا أَثَرَ لِلْعَمَلِ وَلَا الشَّهَادَةِ فِي الْوُجُوبِ، وَإِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ يَرْمُزُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أَيْ: جَعَلْنَاكُمْ عُدُولًا خِيَارَ الشُّهُودِ لِتَشْهَدُوا عَلَى غَيْرِكُمْ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ رَقِيبًا عَلَيْكُمْ، وَمُزَكِّيًا لَكُمْ، وَيُبَيِّنَ عَدَالَتَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ لِشَهَادَتِهِمْ مَدْخَلًا فِي نَفْعِهِمْ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلثَّنَاءِ فَائِدَةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «حِينَ أَثْنَوْا عَلَى جَنَازَةٍ جَاءَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ كَانَ يُعْلِنُ كَذَا وَيُسِرُّ كَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَدَّقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ: وَغَفَرَ لَهُ مَا لَا يَعْلَمُونَ» . قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا نَتِيجَةَ سِتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِسَتْرِ الْمَعَاصِي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ غَالِبِيٌّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْطِقُ الْأَلْسِنَةَ فِي حَقِّ كُلِّ إِنْسَانٍ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ سَرِيرَتِهِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَلِذَا قِيلَ أَلْسِنَةُ الْخَلْقِ أَقْلَامُ الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ خُلِقَ لِلْجَنَّةِ يَصِيرُ لِلنَّارِ بِقَوْلِهِمْ وَلَا عَكْسُهُ، إِذْ قَدْ يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّنَاءُ بِالْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ وَفِي بَاطِنِ الْأَمْرِ خِلَافُهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَامَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْوَاقِعِ غَالِبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ» . أَنَّ مَا يَقُولُ الصَّحَابَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ يَكُونُ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ لَا يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِمْ. بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا رَأَوْا مِنْهُ الصَّلَاحَ وَالْخَيْرَاتِ فِي حَيَاتِهِ، وَالْخَيْرَاتُ وَالصَّلَاحُ عَلَامَةُ كَوْنِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا رَأَوْا مِنْهُ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ، وَالشَّرُّ وَالْفَسَادُ مِنْ عَلَامَةِ النَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ بِكَوْنِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، بَلْ يُرْجَى لِمَنْ شُهِدَ لَهُ بِالْخَيْرِ، وَيُخَافُ النَّارُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ بِالشَّرِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. (وَفِي رِوَايَةٍ الْمُؤْمِنُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الصَّحَابَةُ فَيُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ وَالْخِطَابُ فِي أَنْتُمْ لِلْأُمَّةِ الْمَوْجُودِينَ أَوَّلًا، وَاللَّاحِقِينَ آخِرًا. (شُهَدَاءُ اللَّهِ الْإِضَافَةُ تَشْرِيفِيَّةٌ وَمُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ. (فِي الْأَرْضِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ فِي السَّمَاءِ.

1663 - وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. قُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ؟ قَالَ. وَثَلَاثَةٌ؟ قُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ " ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1663 - (وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَيْ: أَثْنَوْا عَلَيْهِ بِجَمِيلٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِشَهَادَتِهِمْ صَلَاتَهُمْ عَلَيْهِ، وَدُعَاءَهُمْ وَشَفَاعَتَهُمْ لَهُ، فَيَقْبَلُ اللَّهُ ذَلِكَ. (أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَيْ: بِفَضْلِهِ، وَسَبَبِ خَيْرِهِ وَصَلَاحِهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُ ذَنْبٌ فَيَغْفِرُ اللَّهُ ذَنْبَهُ، وَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ بِتَصْدِيقِ ظَنِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَوْنِهِ صَالِحًا ; وَلِذَا قِيلَ أَلْسِنَةُ الْخَلْقِ أَقْلَامُ الْحَقِّ فَيَتَضَمَّنُ الْحَدِيثُ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا. (قُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ) ؟ أَيْ: وَمَا حُكْمُ ثَلَاثَةٍ؟ . (قَالَ: وَثَلَاثَةٌ) أَيْ: وَكَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ وَمَا قَبْلَهُ عَطْفُ تَلْقِينٍ. (قُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ) . ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ غَالِبًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى رَدِّ مَا قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْوَاحِدِ كِفَايَةٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1664 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ ; فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1664 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ) أَيْ: بِاللَّعْنِ وَالشَّتْمِ وَإِنْ كَانُوا فُجَّارًا أَوْ كُفَّارًا إِلَّا إِذَا كَانَ مَوْتُهُ بِالْكُفْرِ قَطْعِيًّا، كَفِرْعَوْنَ وَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ. (فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا) أَيْ: وَصَلُوا. (إِلَى مَا قَدَّمُوا) وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى مَا قَدَّمُوهُ أَيْ: مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ، أَوْ مُجَازَاةِ مَا عَمِلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُجَازِي، فَإِذْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ إِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ بِأَنْ كَانُوا كَافِرِينَ أَوْ فَاجِرِينَ، فَمَا لَكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَمِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ ذَمَّ بَعْضِ الْأَحْيَاءِ لِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ فَائِدَةٍ مَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَقَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ.

1665 - وَعَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: " أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ " فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ: " أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1665 - (وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ) جَمْعُ قَتِيلٍ. (فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) أَيْ: مِنَ الْكَفَنِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَلَاقِي بَشْرَتِهِمَا، إِنْ يُمْكِنْ حَيْلُولَتُهُمَا بِنَحْوِ إِذْخِرٍ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الثَّوْبَ كَانَ طَوِيلًا فَأُدْرِجَا فِيهِ، وَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فِي وَاحِدٍ لَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَا يَجُوزُ تَجْرِيدُهُمَا بِحَيْثُ تَتَلَاقَى بَشْرَتُهُمَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثِيَابُهُ الْمُتَلَطِّخَةُ بِالدَّمِ وَغَيْرِ الْمُتَلَطِّخَةِ، وَلَكِنْ يُضْجَعُ أَحَدُهُمَا بِجَنْبِ الْآخَرِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَجُوزُ دَفْنُ مَيِّتَيْنِ فَصَاعِدًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَفِي قَبْرٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ: حَالٌ، أَيْ: كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَالَ كَوْنِهِمَا أَيْ: كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ ثَوْبُهُ الَّذِي لَابِسُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَأَمَّا جَمْعُهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: (ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا) أَيْ: حِفْظًا أَوْ قِرَاءَةً (لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْأَحَدَ. (فِي اللَّحْدِ) بِفَتْحِ اللَّامِ، وَبِضَمِّ وَسُكُونِ الْحَاءِ أَيِ: الشَّقِّ فِي عُرْضِ الْقَبْرِ جَانِبَ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ إِمَامٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَيَكُونُ كَذَلِكَ قَارِئُهُ مُسْتَحَقَّ التَّقَدُّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَالْمَرَاتِبِ الْعُلْيَا فِي جَنَّةِ الْمَأْوَى. (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا شَهِيدٌ) أَيْ: شَاهِدٌ وَمُثْنٍ. (عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: أَنَا شَفِيعٌ لَهُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُمْ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اهـ. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى تَدْفَعُ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالتَّضْمِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] . {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] ، فَالْمُرَادُ: أَنَا حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، أُرَاقِبُ أَحْوَالَهُمْ وَأَصُونُهُمْ عَنِ الْمَكَارِهِ اهـ. كَذَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحِ الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَتْلَى كَمَا لَا يَخْفَى. (وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمُ) الْبَاءُ الثَّانِيَةُ لِلْمُصَاحَبَةِ. (وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى أَمَرَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا بِفَتْحِ اللَّامِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعُلِمَ أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. قُلْتُ: هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَرَجَّحَ الصَّلَاةَ إِمَّا لِإِثْبَاتِهَا، أَوْ لِلِاحْتِيَاطِ فِيهَا، أَوْ لِلرُّجُوعِ إِلَى الْأَصْلِ عَنِ التَّسَاقُطِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَأَمَّا صَلَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى حَمْزَةَ فَلِمَزِيدِ رَأْفَتِهِ. قُلْتُ: إِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا فِي الْجُمْلَةِ لَوْ كَانَتْ صَلَاتُهُ مُنْحَصِرَةً فِي حَمْزَةَ، وَإِنَّمَا صَلَّى عَلَى جَمِيعِ الشُّهَدَاءِ كَمَا سَبَقَ، وَمَزِيَّةُ حَمْزَةَ لِمَزِيدِ الرَّحْمَةِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ صَلَّى عَلَيْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ تَوْدِيعًا لَهُمْ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ الصَّلَاةِ بِالدُّعَاءِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِقَوْلِهِ: صَلَاتُهُ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لِدَفْعِ إِرَادَةِ الْمَجَازِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ كَدُعَائِهِ لِلْمَيِّتِ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنَ الْمُخَالِفِ إِذْ لَا يُصَلَّى عِنْدَ الْقَبْرِ عِنْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اهـ. فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى خُصُوصِيَّاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَلَمْ يُغَسَّلُوا) هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَيُوَافِقُهُ خَبَرُ أَحْمَدَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَغْسِيلِهِمْ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ كَلْمٍ أَوْ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَصَحَّ أَنَّ حَنْظَلَةَ قُتِلَ وَهُوَ جُنُبٌ فَلَمْ يُغَسِّلْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ» " فَلَوْ وَجَبَ غُسْلُهُ لَمَا سَقَطَ إِلَّا بِفِعْلِنَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1666 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرَسٍ مَعْرُورٍ فَرَكِبَهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ جَنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحِ، وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1666 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: أُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرَسٍ مَعْرُورٍ) أَيْ: عَارٍ مِنَ السَّرْجِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اعْرَوْرَى الْفَرَسُ أَيْ: رَكِبَهُ عُرْيَانًا، فَالْفَارِسُ مَعْرُورٌ وَالْفَرَسُ مُعْرَوْرَى، هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ صَحَّتْ بِالْكَسْرِ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ فَرَسٌ مُعْرَوْرِيٌّ عَلَى الْمَفْعُولِ لَا سَرْجَ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرَهُ، اعْرَوْرَى الْفَرَسُ وَاعْرَوْرَيْتُهُ رَكِبْتُهُ عُرْيَانًا لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَهُوَ أَيِ: الْآتِي بِالْفَرَسِ مَعْرُورٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مُنَوَّنًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِهِ يُرَدُّ قَوْلُ بَعْضِهِمُ الرِّوَايَةَ بِالْكَسْرِ وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ، فَمَرْدُودٌ، وَوَجْهُهُ لَا يَخْفَى عَلَى طَبْعٍ مَعْقُولٍ، وَذَوْقٍ مَقْبُولٍ. (فَرَكِبَهُ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (حِينَ انْصَرَفَ مِنْ جَنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحِ) بِفَتْحِ الدَّالِ، وَكَوْنُهُ ابْنَ الدَّحْدَاحِ كَذَا هُوَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ، وَعَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَأَحْمَدَ: أَنَّ الدَّحْدَاحَ، وَفِي أُخْرَى: أُمُّ الدَّحْدَاحِ، وَأَبُو الدَّحْدَاحِ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ اسْمٌ وَلَا نَسَبٌ، غَيْرَ أَنَّهُ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، وَيُشْكِلُ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي الدَّحْدَاحِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ: أَنَّهُ عَاشَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، نَعَمْ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ مَاتَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُكَنَّى أَبَا الدَّحْدَاحِ، لَكِنْ قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: الْحَقُّ أَنَّهُ غَيْرُ هَذَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّكُوبِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الْجَنَازَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ رُكُوبُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُذْرٍ لَكِنْ سَيَأْتِي دَلِيلٌ قَوْلِيٌّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يُكْرَهُ الرُّكُوبُ فِي الرُّجُوعِ مِنَ الْجَنَازَةِ اتِّفَاقًا لِانْقِضَاءِ الْعِبَادَةِ. (وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ) أَيْ: بَعْضُنَا قُدَّامَهُ، وَبَعْضُنَا وَرَاءَهُ، وَبَعْضُنَا يَمِينَهُ وَبَعْضُنَا شِمَالَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1667 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا، وَعَنْ يَسَارِهَا وَعَنْ يَمِينِهَا، وَالسَّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: قَالَ: " «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» ". وَفِي الْمَصَابِيحِ: عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1667 - (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) أَيِ: الثَّقَفِيِّ، أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَقِ وَقَدِمَ مُهَاجِرًا، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً وَهُوَ أَمِيرُهَا لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُغِيرَةَ غَيْرَهَ. (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ) إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى الْعُذْرِ، أَوْ مُقَيَّدٌ بِحَالِ الرُّجُوعِ، لِمَا سَيَأْتِي. (وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا) وَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَنَا. (وَأَمَامَهَا) وَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. (وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا) وَهُمَا جَائِزَانِ. (قَرِيبًا مِنْهَا) أَيْ: كُلَّمَا يَكُونُ أَقْرَبَ مِنْهَا فِي الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِلْمُسَاعَدَةِ فِي الْحَمْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، لِزِيَادَةِ التَّذَكُّرِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ. (وَالسِّقْطُ) بِتَثْلِيثِ السِّينِ، وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ مَا بَدَا بَعْضُ خَلْقِهِ، فِي الْقَامُوسِ: السِّقْطُ مُثَلَّثَةٌ: الْوَلَدُ لِغَيْرِ تَمَامٍ اهـ. وَهُوَ أَتَمُّ بِالْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ: (يُصَلَّى عَلَيْهِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنَّمَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا ثُمَّ مَاتَ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِي الْبَطْنِ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الِاسْتِهْلَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ حَرَكَةِ عُضْوٍ أَوْ رَفْعِ صَوْتٍ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ خُرُوجُ أَكْثَرِهِ حَيًّا، حَتَّى لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُهُ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَفِي الْأَقَلِّ لَا، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: إِذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَوَرِثَ. قَالَ النَّسَائِيُّ وَلِلْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ غَيْرُ حَدِيثٍ مُنْكَرٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ جَابِرٍ رَفْعُهُ: الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُورَّثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَكَأَنَّ الْمَوْقُوفَ أَصَحُّ. وَأَنْتَ سَمِعْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ تَقَدُّمُ الرَّفْعِ لَا التَّرْجِيحِ بِالْأَحْفَظِ، وَالْأَكْثَرُ بَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ، وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَصَحَّحَهُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «السِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» . إِلَخْ " فَسَاقِطَةٌ ; إِذِ الْحَصْرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.

(وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ) أَيْ: إِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ. (بِالْمَغْفِرَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ: بِالْعَافِيَةِ. (وَالرَّحْمَةِ) نَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ لَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُمَا، بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ شَفِيعًا لِأَبَوَيْهِ، وَسَلَفًا وَذُخْرًا، وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَفْرِغِ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَلَا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ اهـ. وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى أَنْ يَقْرَأَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. إِلَى آخِرِهِ، وَبَعْدَ الثَّانِيَةِ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ، وَبَعْدَ الثَّالِثَةِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا إِلَى آخِرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا ذُخْرًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا مُشَفَّعًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ: أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ: قَالَ: " الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ) " أَيْ: يَسِيرُ، وَلِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ حَكَى الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ كَالْخَطَّابِيِّ: الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَسِيرَ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ عَنْ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْأَفْضَلَ أَمَامَهَا، وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ ; لِمَا صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَمْشِي أَمَامَ الْجَنَازَةِ اهـ. وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ مَا وَرَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَقَدَّمَ عَلَى الْجَنَازَةِ رَاكِبًا، وَلَوْ وَرَدَ وَصَحَّ كَانَ مُعَارَضًا يَحْتَاجُ إِلَى مُرَجِّحٍ. (وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا) أَيْ: يَمْشِي حَيْثُ أَرَادَ مِنَ الْجِهَاتِ أَيْ: فِي حَوَالِهَا. (وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ) فِي الْقَامُوسِ: الطِّفْلُ بِالْكَسْرِ: الصَّغِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمَوْلُودُ. (وَفِي الْمَصَابِيحِ: عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ) أَيْ: بَدَلٌ مِنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَالْقَاضِي: قَوْلُهُ: عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ سَهْوٌ، وَلَعَلَّهُ مِنْ خَطَأِ النَّاسِخِ ; إِذْ لَيْسَ فِي عَدَدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَحَدٌ بِهَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَالْحَدِيثُ رُوِيَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَمَا فِي الْمَصَابِيحِ خَبْطٌ مِنَ الْكُتَّابِ.

1668 - وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1668 - (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: بِهَذَا الْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْحَدِيثِ الْآتِي، وَعِلَّةُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجَنَازَةِ انْتِبَاهُ النَّاسِ، وَاعْتِبَارُهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَقُدَّامَهَا، كَأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفِيعُ يَمْشِي قُدَّامَ الْمَشْفُوعِ لَهُ. قُلْتُ: وَيُزَادُ فِي الْأَوَّلِ لِيَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِلْمُسَاعَدَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ فِي حَمْلِ الْجَنَازَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ كَالْمُوَدِّعِينَ، وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مِنَ السَّابِقِينَ، وَأَنَّهُمْ مِنَ اللَّاحِقِينَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْأَفْضَلُ لِلْمُشَيِّعِ لِلْجَنَازَةِ الْمَشْيُ خَلْفَهَا، وَيَجُوزُ أَمَامَهَا إِلَّا أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْهَا أَوْ، يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ فَيُكْرَهُ وَلَا يَمْشِي عَنْ يَمِينِهَا وَلَا عَنْ شِمَالِهَا. أَقُولُ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ، وَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّهْيِ التَّنْزِيهِيِّ ; لِإِدْرَاكِ الْعَمَلِ بِالْأَفْضَلِ. قَالَ: وَيُكْرَهُ لِمُشَيِّعِهَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَيَذْكُرُ فِي نَفْسِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ، وَقَدْ نُقِلَ فِعْلُ السَّلَفِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَالتَّرْجِيحِ بِالْمَعْنَى هُوَ يَقُولُ: هُمْ شُفَعَاءُ، وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ لِيُمَهِّدَ الْمَقْصُودَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: هُمْ مُشَيِّعُونَ فَيَتَأَخَّرُونَ وَالشَّفِيعُ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الذِّكْرُ لَا يَسْتَصْحِبُ الْمُشَوَّعَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ شَرْعًا إِلْزَامُ تَقْدِيمِهِ حَالَةَ الشَّفَاعَةِ لَهُ أَعْنِي حَالَةَ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ شَرْعًا عَدَمُ اعْتِبَارِ مَا اعْتَبَرَهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَالَ. (التِّرْمِذِيُّ: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُرْسَلًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِقَوِيٍّ اهـ. هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ قَالَ مِيرَكُ: عِبَارَةُ التِّرْمِذِيِّ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ: كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ فِي ذَلِكَ أَصَحُّ ; وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ،

وَأَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ الطَّرِيقَ الْمُتَّصِلَ فِي كِتَابِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالطَّرِيقُ الْمُرْسَلُ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ اهـ. وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ: مُرْسَلٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا مُرْسَلٌ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّذِي رَفَعَهُ. وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ، وَقَدْ أَتَى بِزِيَادَةٍ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ فَوَجَبَ قَبُولُهَا، وَقَدْ تَابَعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلَى وَصْلِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَزِيَادُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمِمَّنْ وَصَلَهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَى وَصْلِهِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ حُجَّةٌ ثِقَةٌ كَذَا فِي التَّصْحِيحِ.

1669 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، وَلَا تَتْبَعُ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأَبُو مَاجِدٍ الرَّاوِي: رَجُلٌ مَجْهُولٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1669 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ) أَيْ: حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَيَمْشِي وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا. (وَلَا تَتْبَعُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَبِرَفْعِ الْعَيْنِ عَلَى النَّفْيِ، وَبِسُكُونِهَا عَلَى النَّهْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ أَيْ: لَا تَتَّبِعُ هِيَ النَّاسَ، فَلَا تَكُونُ عَقِيبَهُمْ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ: امْشُوا خَلْفَ الْجَنَازَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَغَيْرُ تَابِعَةٍ. وَقَوْلُهُ: (لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا) تَقْرِيرٌ بَعْدَ تَقْرِيرٍ، وَالْمَعْنَى لَا يَثْبُتُ لَهُ الْأَجْرُ اهـ. أَيِ: الْأَجْرُ الْأَكْمَلُ فَيُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ أَنَّ الْمَشْيَ وَرَاءَهَا أَفْضَلُ، وَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنَ الْمَشْيِ أَمَامَ الْجَنَازَةِ وَاقِعَةُ حَالٍ فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ فَعَلُوهُ لِلْأَفْضَلِيَّةِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِعَارِضٍ اقْتَضَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْأَزْمَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَاجِدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأَبُو مَاجِدٍ الرَّاوِي رَجُلٌ مَجْهُولٌ) قُلْتُ جَهْلُ الرَّاوِي الْمُتَأَخِّرِ لَا يَضُرُّ لِلْمُجْتَهِدِ حَيْثُ ثَبَتَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ، وَقَالَ بِهِ.

1670 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً وَحَمَلَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1670 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً وَحَمَلَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ) " قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي يُعَاوِنُ الْحَامِلِينَ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ يَتْرُكُهَا لِيَسْتَرِيحَ، ثُمَّ يَحْمِلُهَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ يَفْعَلُ كَذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (" فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهَا) " بَيَانٌ لِمَا قَالَ مِيرَكُ: أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْمُعَاوَنَةِ لَا مِنْ دَيْنٍ وَغَيْبَةٍ وَنَحْوِهِمَا. هُوَ قَدْ عَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا مَرَّ أَوَّلَ كِتَابِ الْجَنَائِزِ أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُشَيِّعَ جَنَازَتَهُ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ مُبْتَدِعٍ وَفَاسِقٍ مُعْلِنٍ، كَظَالِمٍ وَمَكَّاسٍ تَنْفِيرًا عَنْ حَالَتِهِ الْقَبِيحَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

1671 - وَقَدْ رَوَى فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ جَنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1671 - (وَقَدْ رَوَى) أَيِ: الْمُصَنِّفُ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ جَنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: عَمُودَيِ الْجَنَازَةِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ يَحْمِلَهَا ثَلَاثَةٌ: يَقِفُ أَحَدُهُمْ قُدَّامَهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، وَاثْنَانِ خَلْفَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضَعُ عَمُودًا عَلَى عَاتِقِهِ، هَذَا عِنْدَ حَمْلِ الْجَنَازَةِ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعَاوِنَهُمْ مَنْ شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ التَّرْبِيعُ: بِأَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةٌ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ عَمُودًا عَلَى عَاتِقِهِ اهـ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَمَلَ جَنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ بَيْتِهِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ خَرَجَ بِهِ مِنَ الدَّارِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَالدَّارُ يَكُونُ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ اهـ. إِلَّا أَنَّ الْآثَارَ فِي الْبَابِ ثَابِتَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: بَعْدَ مَا سَرَدَ تِلْكَ الْآثَارَ قُلْنَا: هَذِهِ مَوْقُوفَاتٌ. وَالْمَرْفُوعُ مِنْهَا ضَعِيفٌ، ثُمَّ هِيَ وَقَائِعُ حَالٍ فَاحْتَمَلَ كَوْنَ ذَلِكَ فَعَلُوهُ ; لِأَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ لِعَارِضٍ اقْتَضَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنِ اتَّبَعَ الْجَنَازَةَ فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعَةِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَنِيفَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الْمُعْتَمِرِ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ حَمْلُ الْجَنَازَةِ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعَةِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ: مَنِ اتَّبَعَ الْجَنَازَةَ فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ كُلِّهَا ; فَإِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ، وَأَنَّ خِلَافَهَا إِنْ تَحَقَّقَ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ فَلِعَارِضٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُنَاظِرِ تَعْيِينُهُ.

1672 - وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَرَأَى نَاسًا رُكْبَانًا. فَقَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ؟ إِنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ نَحْوَهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْقُوفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1672 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ: مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَرَأَى نَاسًا رُكْبَانًا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قُدَّامَ الْجَنَازَةِ أَوْ طَرَفَهَا لِئَلَّا يُنَافِيَ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَسِيرُ الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ أَيْ: حَالَةَ الْمُرَاجَعَةِ. (فَقَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ؟ إِنَّ) بِالْكَسْرِ. (مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ) فِي الْأَزْهَارِ كَرِهَ الرُّكُوبَ خَلْفَ الْجَنَازَةِ ; لِأَنَّهُ تَنَعُّمٌ وَتَلَذُّذٌ، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. قُلْتُ: حَمْلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ هَذَا لَاسِيَّمَا فِي حَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَاشٍ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا. قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَسِيرُ الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ. أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ بِمَرَضٍ أَوْ شَلَلٍ أَوْ عَرَجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ اهـ. وَجَمْعُنَا السَّابِقُ أَجْمَعُ مِنْ جَمْعِهِ اللَّاحِقِ، ثُمَّ قَالَ: حَدِيثُ ثَوْبَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ الْجَنَازَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالرَّحْمَةِ وَمَعَ الْكُفَّارِ بِاللَّعْنَةِ. قَالَ: أَنَسٌ «مَرَّتْ جَنَازَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ فَقِيلَ: إِنَّهُ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ. فَقَالَ: إِنَّا قُمْنَا لِلْمَلَائِكَةِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى نَدْبِ الْقِيَامِ لِتَعْظِيمِ الْفُضَلَاءِ وَالْكُبَرَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: هَذَا اللَّفْظُ. (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِدَابَّةٍ وَهُوَ مَعَ جَنَازَةٍ فَأَبَى أَنْ يَرْكَبَ فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِيُ بِدَابَّةٍ فَرَكِبَ. فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَمْشِي فَلَمْ أَكُنْ لِأَرْكَبَ وَهُمْ يَمْشُونَ، فَلَمَّا ذَهَبُوا رَكِبْتُ. (قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْقُوفًا) لَكِنْ يُرَجَّحُ الْمَرْفُوعُ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ.

1673 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْجَنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1673 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْجَنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، قُلْتُ: مَعَ عَدَمِ تَعْيِينِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ كَانَتْ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ أَيِّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ تَكْبِيرَاتِهِ. الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَلِكَ الْقَوِيِّ اهـ. قَالَ مِيرَكُ: يُشِيرُ إِلَى أَنَّ فِي سَنَدِهِ أَبَا شَيْبَةَ: إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُثْمَانَ الْوَاسِطِيَّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. (وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ عَلَى الْجَنَازَةِ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. فَقَالَ: إِنَّهَا مِنَ السُّنَّةِ اهـ. فَنِسْبَةُ الْحَدِيثِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ غَيْرُ صَحِيحٍ. (وَابْنِ مَاجَهْ) .

1674 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1674 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: ادْعُوَا لَهُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْإِخْلَاصِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا جَعَلُوا الدُّعَاءَ خَاصًّا لَهُ فِي الْقَلْبِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي اللَّفْظِ، وَأَغْرَبَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَخْصِيصِ الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ، وَلَا يَكْفِي التَّعْمِيمُ وَهُوَ الْأَصَحُّ اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِخُصُوصِيَّةٍ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ رُكْنٌ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ مَعَ أَنَّ وُجُوبَ الدُّعَاءِ مُطْلَقًا غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَنَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ. (وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1675 - وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1675 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا) أَيْ: حَاضِرِنَا. (وَغَائِبِنَا) قَالَ مِيرَكُ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ تَعْمِيمِ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَخْصِيصِ مَا مَرَّ، الْجَمْعُ بَيْنَ الدُّعَاءَيْنِ لِلْمَيِّتِ خَاصَّةً، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً اهـ. لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْوُرُودِ، وَإِذَا وَرَدَ فَفِي الْوُجُوبِ. (وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الدُّعَاءُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ اهـ. وَيَدْفَعُهُ مَا وَرَدَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى طِفْلٍ لَا يَعْمَلُ خَطِيئَةً قَطُّ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ قِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ وَضِيقَهُ» ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الشَّابَّ، وَالشَّيْخَ فَلَا إِشْكَالَ، وَتَكَلَّفَ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَ التُّورِبِشْتِيُّ عَنِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ لِلصِّبْيَانِ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُمْ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ السُّؤَالُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنَ الذُّنُوبِ حَتَّى إِذَا كَانَ فَعَلَهُ كَانَ مَغْفُورًا، وَإِلَّا فَالصَّغِيرُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ اهـ. وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا الْبَحْثِ فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَرَائِنِ الْأَرْبَعِ الشُّمُولُ وَالِاسْتِيعَابُ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّخْصِيصِ نَظَرًا إِلَى مُفْرَدَاتِ التَّرْكِيبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَلَّمَاتِ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ، فَهِيَ مِنَ الْكِنَايَةِ الزُّبْدِيَّةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَمْعُهُ فِي قَوْلِهِ. (اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ) أَيِ: الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِلْأَوَامِرِ. (وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ) أَيِ: التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ إِذْ لَا نَافِعَ حِينَئِذٍ غَيْرُهُ. (اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ أَقُولُ: الْفَتْحُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الضَّمُّ لُغَةً. (أَجْرَهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: أَجْرَ الْإِيمَانِ. أَقُولُ الصَّوَابُ: أَجْرُ الْمَيِّتِ، أَوْ أَجْرُ الْمُؤْمِنِ. (وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ) أَيْ: لَا تَجْعَلْنَا مَفْتُونِينَ بَعْدَ الْمَيِّتِ بَلِ اجْعَلْنَا مُعْتَبِرِينَ بِمَوْتِهِ عَنْ مَوْتِنَا، وَمُسْتَعِدِّينَ لِرِحْلَتِنَا، وَفِي الْمَصَابِيحِ: وَلَا تُضِلَّنَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَا تَفْتِنَّا أَيْ: لَا تُلْقِي عَلَيْنَا الْفِتْنَةَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، الْمُرَادُ بِهَا هَهُنَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. (وَابْنُ مَاجَهْ) .

1676 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْأَشْهَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأُنْثَانَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَفِي آخِرِهِ: وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1676 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْأَشْهَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ) أَيْ: رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ. (عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأُنْثَانَا وَفِي. رَاوِيَةِ أَبِي دَاوُدَ فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي آخِرِهِ) اسْتَرْوَحَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَمَعْنَاهُمَا صَحِيحٌ أَيْضًا فَإِنَّهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا اتَّحَدَا قَصْدًا اهـ. وَكَأَنَّهُ مَا فَهِمَ تَحْقِيقَ الطِّيبِيِّ وَتَدْقِيقَهُ الْآتِيَ. (وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ الْإِيمَانِ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي الرَّاوِيَةِ الْأُولَى، وَتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ فِي الثَّانِيَةِ؟ قُلْتُ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمَا يُعَبِّرَانِ عَنِ الدَّيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَرَدَ الْإِسْلَامُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِانْقِيَادُ وَإِظْهَارُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ دُونَ الْإِيمَانِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أُشِيرَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَعْمَالِ فِي الْحَيَاةِ، وَالْإِيمَانِ عِنْدَ الْمَمَاتِ، قُلْتُ: فِي الْعِبَارَةِ مُنَاقَشَةٌ لَا تَخْفَى قَالَ: وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْعَوَامِّ. وَالثَّانِي: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ وَالِاسْتِسْلَامُ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْخَوَاصِّ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى هَذَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الْإِسْلَامُ ثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ فَيُنَاسِبُ حَالُ الْحَيَاةِ الْقِيَامَ بِتَكَالِيفِ الْأَثْقَالِ، وَالْإِيمَانُ حَقِيقَةُ التَّصْدِيقِ، وَالِاعْتِقَادِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ فَيُلَائِمُهُ حَالُ الْمَمَاتِ، فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ. فَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ هِيَ الْعُمْدَةُ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى إِمَّا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الرُّوَاةِ نِسْيَانًا أَوْ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَجَوَازِ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى. أَوْ يُقَالُ: فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ أَيْ: وَتَوَابِعِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَيْ: عَلَى الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ مُقَدِّمَةُ يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

1677 - وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1677 - (وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ» ) أَيْ: أَمَانِكَ ; لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِكَ. (" وَحَبْلِ جِوَارِكَ) " بِكَسْرِ الْجِيمِ قِيلَ: عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، وَقِيلَ: الْحَبْلُ الْعَهْدُ أَيْ: فِي كَنَفِ حِفْظِكَ، وَعَهْدِ طَاعَتِكَ. وَقِيلَ: أَيْ: فِي سَبِيلِ قُرْبِكَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ وَمُتَمَسِّكٌ بِالْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] " وَفَسَّرَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِالْجِوَارِ الْأَمَانُ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ يَعْنِي الْحَبْلَ الَّذِي يُورِثُ الِاعْتِصَامُ بِهِ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ، وَالْمَعْرِفَةَ وَالْإِيقَانَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِحْسَانِ، وَمَنَازِلِ الْجِنَانِ، قَالَ تَعَالَى: " {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] " وَفِي النِّهَايَةِ كَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَحِيفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ أَخَذَ عَهْدًا مِنْ سَيِّدِ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَيَأْمَنُ بِهِ مَا دَامَ مُجَاوِرًا أَرْضَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخَرَ، فَيَأْخُذُ مِثْلَ ذَلِكَ فَهَذَا حَبْلُ الْجِوَارِ، أَوْ هُوَ مِنَ الْإِيجَارَةِ وَالْأَمَانِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْحَبْلُ: الْأَمَانُ وَالْعَهْدُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الثَّانِي أَظْهَرُ، وَقَوْلُهُ: وَحَبْلِ جِوَارِكَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: فِي ذِمَّتِكَ، نَحْوَ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ فُلَانًا فِي عَهْدِكَ، فَنُسِبَ إِلَى الْجِوَارِ مَا كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَجُعِلَ لِلْجِوَارِ عَهْدًا مُبَالَغَةً فِي كَمَالِ حِمَايَتِهِ، فَالْحَبْلُ مُسْتَعَارٌ لِلْعَهْدِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْثِقَةِ، وَعَقْدِ الْقَوْلِ بِالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ. (فَقِهِ) بِالضَّمِيرِ أَوْ بِهَاءِ السَّكْتِ. (مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ) أَيِ: امْتِحَانِ السُّؤَالِ فِيهِ، أَوْ مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِهِ: مِنَ الضَّغْطَةِ وَالظُّلْمَةِ وَغَيْرِهِمَا. (وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ) أَيْ: بِالْوَعْدِ، فَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَجْرِيدٌ لِاسْتِعَارَةِ الْحَبْلِ لِلْعَهْدِ ; لِأَنَّ الْوَفَاءَ يُنَاسِبُ الْعَهْدَ. (وَالْحَقِّ) أَيْ: أَنْتَ أَهْلٌ بِأَنْ تُحِقَّ بِالْحَقِّ، وَأَهْلِهِ، وَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَنْتَ أَهْلُ الْحَقِّ، أَوْ أَنْتَ أَهْلُ الثُّبُوتِ بِمَا ثَبَتَ عَنْكَ، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] أَيْ: هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى شِرْكُهُ، وَيُرْجَى مَغْفِرَتُهُ. (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ) لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ بِالْخُصُوصِ، سَوَاءً حَصَلَ فِي ضِمْنِ الْعُمُومِ أَوْ غَيْرِهِ. (إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ) أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِلسَّيِّئَاتِ. (الرَّحِيمُ) كَثِيرُ الْمَرْحَمَةِ بِقَبُولِ الطَّاعَاتِ، وَالتَّفَضُّلِ بِتَضَاعُفِ الْحَسَنَاتِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ. (وَابْنُ مَاجَهْ) .

1678 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مُسَاوِيهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1678 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذْكُرُوا) قَالَ مِيرَكُ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ. (مَحَاسِنَ) جَمْعُ حُسْنٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. (مَوْتَاكُمْ) جَمْعُ مَيِّتٍ، فَعِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ. (وَكُفُّوا) أَمْرٌ لِلْوُجُوبِ أَيِ: امْتَنِعُوا. (عَنْ مُسَاوِيهِمْ) جَمْعُ سُوءٍ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَيْضًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ ذِكْرَ الصَّالِحِينَ مَحَاسِنُ الْمَوْتَى وَمَسَاوِيهِمْ مُؤَثِّرٌ فِي حَالِ الْمَوْتَى، فَأُمِرُوا بِنَفْعِ الْغَيْرِ، وَنُهُوا عَنْ ضَرَرِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الصَّالِحِينَ فَأَثَرُ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْعَوْا فِي نَفْعِ أَنْفُسِهِمْ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمُ اهـ. وَقَوْلُهُ: وَنُهُوا عَنْ ضَرَرِهِ مُنَاقِضٌ بِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِقًا إِلَّا أَنْ يُحْفَظَ التَّارِيخُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَ قُرْبِ الْمَوْتِ وَالثَّانِيَ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ، أَوِ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى اجْتِمَاعِ الصَّالِحِينَ عَلَى ذَمِّهِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الِانْفِرَادِ وَنَظِيرُهُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ وَالْأَقَلِّ بِالْقَذْفِ،، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: غَيْبَةُ الْمَيِّتِ أَشَدُّ مِنَ الْحَيِّ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّ عَفْوَ الْحَيِّ وَاسْتِحْلَالَهُ مُمْكِنٌ وَمُتَوَقَّعٌ فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ. وَفِي الْأَزْهَارِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِذَا رَأَى الْغَاسِلُ مِنَ الْمَيِّتِ مَا يُعْجِبُهُ كَاسْتِنَارَةِ وَجْهِهِ، وَطِيبِ رِيحِهِ، وَسُرْعَةِ انْقِلَابِهِ عَلَى الْمُغْتَسَلِ اسْتُحِبَّ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ، وَإِنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ كَنَتْنِهِ، وَسَوَادِ وَجْهِهِ، أَوْ بَدَنِهِ، أَوِ انْقِلَابِ صُورَتِهِ، حَرُمَ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

1679 - وَعَنْ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى جَنَازَةِ رَجُلٍ فَقَامَ حِيَالَ رَأْسِهِ ثُمَّ جَاءُوا بِجَنَازَةِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ، صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَامَ حِيَالَ وَسَطِ السَّرِيرِ فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْجَنَازَةِ مَقَامَكُمْ مِنْهَا وَمِنَ الرَّجُلِ مَقَامَكُمْ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ مَعَ زِيَادَةٍ وَفِيهِ: فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1679 - (وَعَنْ نَافِعٍ) تَابِعِيٌّ. (أَبِي غَالِبٍ) عَطْفُ بَيَانٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّ الْكُنْيَةَ كَانَتْ أَعْرَفَ، وَأَشْهَرَ فَجِيءَ بِهَا بَيَانًا لِنَافِعٍ. (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى جَنَازَةِ رَجُلٍ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى مَا سَبَقَ. (فَقَامَ حِيَالَ رَأْسِهِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: حِذَاءَهُ وَمُقَابِلَهُ. (ثُمَّ جَاءُوا بِجَنَازَةِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ) وَفِيمَا تَقَدَّمَ امْرَأَةٌ أَنْصَارِيَّةٌ، فَالْقَضِيَّةُ إِمَّا مُتَعَدِّدَةٌ، وَإِمَّا مُتَّحِدَةٌ، فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ قُرَيْشِيَّةً أَنْصَارِيَّةً. (فَقَالُوا) : أَيْ: أَوْلِيَاؤُهَا. (يَا أَبَا حَمْزَةَ) كُنْيَةُ أَنَسٍ. (صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَامَ حِيَالَ وَسَطِ السَّرِيرِ) بِسُكُونِ الْوَسَطِ وَفَتْحِهِ. (فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا) بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ. (رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْجَنَازَةِ؟) . أَيْ: مِنَ الْمَرْأَةِ. (مَقَامَكَ مِنْهَا، وَمِنَ الرَّجُلِ مَقَامَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ) . فِي الْأَزْهَارِ: أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الْمَيِّتِ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَقَالَ مَالِكِيٌّ: يَقِفُ عِنْدَ وَسَطِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ مَنْكِبَيِ الْمَرْأَةِ، بِعَكْسِ الْحَدِيثِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ مِنِ ابْنِ الْهُمَامِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ نَقْلِ الْأَزْهَارِ هَذَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَالِكًا فِي طَرَفَيِ التَّنَاقُضِ وَالتَّدَافُعِ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى حَدِّ الْوَسَطِ وَالتَّمَانُعِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْقَصْدَ هُوَ الصَّدْرُ الَّذِي هُوَ الْوَسَطُ، وَلَكِنْ عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، فَتَارَةً وَقَعَ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ وُقُوفُهُمْ إِلَى مَا يَلِي الرَّأْسَ، وَأُخْرَى إِلَى مَا يَلِي الرِّجْلَ، فَحَصَلَ الْخِلَافُ بِمُقْتَضَى الِاخْتِلَافِ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: وَزَعَمَ أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَ صَدْرِهِ غَلَطٌ صَرِيحٌ، فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ أَحْمَدَ رَوَاهُ صَرِيحًا وَسَنَدُهُ حَسَنٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ. (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ. (مَعَ زِيَادَةٍ) وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي نَقْلِ ابْنِ الْهُمَامِ. (وَفِيهِ) أَيْ: فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ. (فَقَامَ) أَيْ: أَنَسٌ. (عِنْدَ عَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ جِيمٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَجِيزَةُ الْعَجُزُ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ خَاصَّةً، وَالْعَجُزُ مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1680 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: «كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمُرَّ عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، أَيْ: مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. فَقَالَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ: " أَلَيْسَتْ نَفْسًا» "؟ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1680 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِي الْكُوفِيِّينَ. (قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ) بِالتَّصْغِيرِ. (وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ) صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ أَنْصَارِيَّانِ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُوفَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا. (فَمُرَّ عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ ; فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا) أَيِ: الْجَنَازَةَ. (مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَرْضُ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الرَّذَالَةِ وَالسَّفَالَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف: 176] أَيْ: مَالَ إِلَى السَّفَالَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَحَدُ الرُّوَاةِ تَفْسِيرًا. (أَيْ: مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ) وَقِيلَ: أَيْ مْنَ لَا تَصْعَدُ رُوحُهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَتُرَدُّ إِلَى الْأَرْضِ. (فَقَالَا: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ» ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ، فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ أَنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، أَوْ أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَوْ يَهُودِيَّةٌ، وَفِي بَعْضِهَا يَهُودِيَّةٌ. (فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ فَزَعٌ كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ اهـ. أَوِ التَّعْظِيمُ لِخَالِقِ النَّفْسِ، أَوْ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَصْحَبُونَهَا، وَقَدْ ثَبَتَ نَسْخُ الْقِيَامِ بِرَاوِيَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَلَعَلَّ الْعُذْرَ عَدَمُ عِلْمِهِمَا بِالنَّسْخِ. أَوْ بَعْدَ الْعِلْمِ عَمَلًا بِالْجَوَازِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1681 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَبِعَ جَنَازَةً لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ فَعَرَضَ لَهُ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا هَكَذَا نَصْنَعُ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: " خَالِفُوهُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَبِشْرُ بْنُ رَافِعٍ الرَّاوِي لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1681 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَبِعَ جَنَازَةً لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ» ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَتُضَمُّ، وَسُكُونِ الْحَاءِ: الشَّقُّ، وَفِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْقَبْرِ. (فَعَرَضَ لَهُ أَيْ: ظَهَرَ. (حَبْرٌ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ: عَالِمٌ. (مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ) أَيِ: الْحَبْرُ. (لَهُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (إِنَّا) أَيْ: مَعْشَرَ الْيَهُودِ. (هَكَذَا نَصْنَعُ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ) أَيْ: عُبَادَةُ. (فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: بَعْدَ مَا كَانَ وَاقِفًا أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ. (وَقَالَ) جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلِ الْفِعْلِيِّ وَالْقَوْلِيِّ. (خَالِفُوهُمْ) فَبَقِيَ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّابِعَ لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ سُنَّةٍ تَكُونُ شِعَارَ أَهْلِ الْبِدْعَةِ تَرْكُهَا أَوْلَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَبِشْرُ بْنُ الرَّافِعِ الرَّاوِي بِسُكُونِ الْبَاءِ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ. (لَيْسَ بِالْقَوِيِّ) .

1682 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِالْقِيَامِ فِي الْجَنَازَةِ ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1682 - (وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا) أَمْرَ نَدْبٍ أَوْ وُجُوبٍ. (بِالْقِيَامِ فِي الْجَنَازَةِ) أَيْ: فِي حَالِ رُؤْيَتِهَا وَقَبْلَ دَفْنِهَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي النَّسْخِ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا. (ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَنَا) تَأْيِيدًا لِلْفِعْلِ بِالْقَوْلِ. (بِالْجُلُوسِ) وَظَاهِرُهُ كَرَاهَةُ الْقِيَامِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1683 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: «إِنَّ جَنَازَةً مَرَّتْ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَامَ الْحَسَنُ وَلَمْ يَقُمِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ الْحَسَنُ: أَلَيْسَ قَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ؟ ! قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ جَلَسَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1683 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) بِعَدَمِ الِانْصِرَافِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ الْمَزِيدَتَيْنِ مُطْلَقًا. (قَالَ: إِنَّ جَنَازَةً مَرَّتْ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَامَ الْحَسَنُ) لِعَدَمِ بُلُوغِهِ النَّسْخَ، أَوْ حَمْلِ النَّسْخِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَجَوَّزَ الِاسْتِحْبَابَ. (وَلَمْ يَقُمِ ابْنُ عَبَّاسٍ) عَمَلًا بِالنَّسْخِ، وَحَمْلًا لِلْأَمْرِ بِالْجُلُوسِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى النَّدْبِ أَوْ عَلَى الْإِبَاحَةِ. « (فَقَالَ الْحَسَنُ: أَلَيْسَ قَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ؟ !) أَيْ: فَكَيْفَ وَهَذَا جَنَازَةُ مُسْلِمٍ؟ ! . (قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ جَلَسَ) أَيْ: قَالَ: نَعَمْ. قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا ثُمَّ جَلَسَ) » أَيْ: ثَانِيًا يَعْنِي الْفِعْلَ الثَّانِيَ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، سِيَّمَا وَقَدْ أَكَّدَهُ بِالْأَمْرِ بِالْجُلُوسِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَيِّنٌ لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ الطِّيبِيِّ: الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ (ثُمَّ جَلَسَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ: فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ كَانَ جُلُوسُهُ مُتَأَخِّرًا فَيَكُونُ كَمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ اهـ. إِذْ مُقْتَضَى مُقَابَلَةِ الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ جَلَسَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ، وَالضَّمِيرُ لِلْحَسَنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ لِعَدَمِ حُصُولِ الْجَوَابِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ يَكُونُ مُصَادَفَةً وَمُوَافَقَةً، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ جَلَسَ فَائِدَةٌ، وَلَوْ جُعِلَ الضَّمِيرُ فِيهِ: جَلَسَ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ لَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا قَالَ الْحَسَنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، وَلِذَا أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ تَرْكَهُ لِلْقِيَامِ، لَكِنْ لَمَّا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ تَرَكَ الْإِنْكَارَ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْكُمَّلِ، أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُمْ إِلَّا مَحْضَ ظُهُورِ الْحَقِّ، أَوْ تَذَّكَّرَ كَلَامَ وَالِدِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

1684 - وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ جَالِسًا فَمُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَامَ النَّاسُ حَتَّى جَاوَزَتِ الْجَنَازَةُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا مُرَّ بِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِهَا جَالِسًا وَكَرِهَ أَنْ تَعْلُوَ رَأْسَهُ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَامَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1684 - (وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ: الْبَاقِرِ. (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ. (أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ جَالِسًا فَمُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَامَ النَّاسُ) أَيْ: بَعْضُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّسْخُ، أَوْ كَانُوا قَائِلِينَ بِالِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْجَوَازِ. (حَتَّى جَاوَزَتْ) أَيْ: تَعَدَّتِ. (الْجَنَازَةُ) مِنْ مُقَابَلَتِهِمْ. ( «فَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا مُرَّ بِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِهَا جَالِسًا وَكَرِهَ أَنْ تَعْلُوَ رَأْسَهُ جَنَازَةُ الْيَهُودِيِّ» ) إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ. (فَقَامَ) أَيْ: عَنِ الطَّرِيقِ لِهَذَا، وَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قِيَامِ النَّاسِ لِلْجَنَازَةِ، عَكْسَ مَا سَبَقَ مِنْهُ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عَدَمِ الْقِيَامِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُتَأَخِّرٌ فَيَكُونُ بَعْدَ تَفَحُّصِهِ الْمَسْأَلَةَ وَتَقَرُّرِهَا عِنْدَهُ أَنَّ قِيَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ; لِأَنَّهُ اخْتَلَفَتْ عِلَلُ الْقِيَامِ فَجُعِلَتْ تَارَةً لِلْفَزَعِ، وَأُخْرَى كَرَامَةً لِلْمَلَائِكَةِ، وَأُخْرَى كَرَاهِيَةَ رِفْعَةِ جَنَازَةِ الْيَهُودِيِّ عَلَى رَأْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأُخْرَى لَمْ تَعْتَبِرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ، وَيُمْكِنُ جَمْعُ الْعِلَلِ بِمَعْلُولٍ وَاحِدٍ، إِذِ الْعَمَلُ بِالنِّيَّاتِ، أَوْ كَانَ إِنْكَارُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ، وَإِنْكَارُهُ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الطَّرِيقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

1685 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذَا مَرَّتْ بِكَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ فَقُومُوا لَهَا، فَلَسْتُمْ لَهَا تَقُومُونَ، إِنَّمَا تَقُومُونَ لِمَنْ مَعَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1685 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا مَرَّتْ بِكَ) أَيُّهَا الصَّالِحُ لِلْخِطَابِ. (جَنَازَةُ يَهُودِيِّ) قُدِّمَ لِتَقَدُّمِ مِلَّتِهِمْ، أَوْ لِلتَّرَقِّي وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ) . (أَوْ) فِيهِمَا لِلتَّنْوِيعِ. (فَقُومُوا لَهَا) إِفْرَادُ الْخِطَابِ أَوَّلًا وَالْجَمْعُ ثَانِيًا إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ أَبِي مُوسَى، وَعُمُومِ الْحُكْمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلَّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] الْآيَةَ أَوِ الْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ كَافُ الْخِطَابِ لِإِرَادَةِ عُمُومِ الْمُخَاطَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} [البقرة: 232] . (فَلَسْتُمْ لَهَا تَقُومُونَ) أَيْ: فِي الْحَقِيقَةِ. (إِنَّمَا تَقُومُونَ لِمَنْ مَعَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ) أَيْ: مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، أَوْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، قَدْ يُقَالُ: هَذَا مُشْكِلٌ ; لِأَنَّهُ أَثَبَتَ الْقِيَامَ لَهَا ثُمَّ نَفَاهُ عَنْهَا، وَقَدْ يُجَابُ أَنَّهُ أَثْبَتَهُ لَهَا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ، وَنَفَاهُ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ بَاطِنِ الْأَمْرِ، وَالْحَقِيقَةُ وَإِنْكَارُ الْبَلِيغِ عَلَى رِعَايَةِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالْحَيْثِيَّاتِ سَائِغٌ، شَائِعٌ، وَمِنْهُ قَضِيَّةُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، مَعَ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَضَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] هَذَا وَلَا يُنَافِيهِ مَا مَرَّ مِنْ تَعْلِيلِ الْقِيَامِ ; لِأَنَّهُ لِكَوْنِ الْمَوْتِ فَزَعًا تَارَةً، وَأُخْرَى بِكَرَاهَةِ رَفْعِ جَنَازَةِ يَهُودِيَّةٍ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُخْرَى لَمْ تَعْتَبِرْ شَيْئًا مِنَ الْعِلَلِ، لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ عِلَلٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَيُذْكَرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1686 - وَعَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ جَنَازَةً مَرَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ فَقِيلَ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ: " إِنَّمَا قُمْتُ لِلْمَلَائِكَةِ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

1687 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثُ صُفُوفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَوْجَبَ» " فَكَانَ مَالِكٌ إِذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الْجَنَازَةِ جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَتَقَالَّ النَّاسَ عَلَيْهَا جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ أَوْجَبَ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1687 - (وَعَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ) بِالتَّصْغِيرِ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَوْجَبَ» ) أَيْ: ذَلِكَ الْفِعْلُ عَلَى اللَّهِ) تَعَالَى مَغْفِرَتَهُ، وَعْدًا مِنْهُ وَفَضْلًا، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَالتَّعَجُّبُ بِالْإِيجَابِ نَظَرًا لِكَوْنِ وَعْدِ اللَّهِ لَا يُخْلَفُ، فَهُوَ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، صَحِيحُ زِيَادَةٍ لِلتَّطْمِيعِ فِي

حُسْنِ الرَّجَاءِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17] ثُمَّ هُوَ خَبَرُ مَا، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ عَامِّ الْأَحْوَالِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَعْنَى تَأْثِيرِ الثَّنَا بِالْمَغْفِرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ بَحْثٌ إِذِ الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ وَاضِحٌ. (فَكَانَ مَالِكٌ) أَيِ: ابْنُ هُبَيْرَةَ. (إِذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الْجَنَازَةِ) أَيْ: عَدَّهُمْ قَلِيلًا. (جَزَّأَهُمْ) بِالشَّدِيدِ أَيْ فَرَّقَهُمْ، وَجَعَلَ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا صَفًّا وَاحِدًا. (ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ) وَفِي جَعْلِهِ صُفُوفًا إِشَارَةٌ إِلَى كَرَاهَةِ الِانْفِرَادِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّ أَفْضَلَ الصُّفُوفِ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ آخِرُهَا، وَفِي غَيْرِهَا أَوَّلُهَا، إِظْهَارًا لِلتَّوَاضُعِ، وَلِتَكُونَ شَفَاعَتُهُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ، وَلَا يَدْعُو لِلْمَيِّتِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الزِّيَادَةَ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ) بِالْإِضَافَةِ. (قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ إِذَا صَلَّى) أَيْ: أَرَادَ الصَّلَاةَ. (عَلَى جَنَازَةٍ فَتَقَالَّ النَّاسَ عَلَيْهَا) أَيِ: الْمُنْتَظَرِينَ، تَفَاعَلَ مِنَ الْقِلَّةِ، أَيْ: رَآهُمْ قَلِيلًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ النَّاسِ أَيْ: صَارَ النَّاسُ قَلِيلًا. (جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ) أَيْ: قَسَّمَهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، أَيْ: شُيُوخًا، وَكُهُولًا، وَشَبَابًا، أَوْ فُضَلَاءَ، وَطَلَبَةَ الْعِلْمِ، وَالْعَامَّةَ. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: اسْتِدْلَالًا لِفِعْلِهِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ) وَأَقَلُّ الصَّفِّ أَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. (أَوْجَبَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَاتِهِ بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ مَغْفِرَةَ ذَنْبِ عَبْدِهِ. (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ) أَيْ: مَعْنَاهُ.

1688 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ: " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنْتَ هَدَيْتَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ قَبَضْتَ رُوحَهَا، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا، جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1688 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا) أَيْ: سَيِّدُهَا وَمَالِكُهَا، وَمُرَبِّيهَا وَمُصْلِحُهَا. (وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا) ابْتِدَاءً. (وَأَنْتَ هَدَيْتَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ) الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْإِيمَانِ انْتِهَاءً. (وَأَنْتَ قَبَضْتَ رُوحَهَا) أَيْ: أَمَرْتَ بِقَبْضِ رُوحِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: نِسْبَةُ الْقَبْضِ إِلَى اللَّهِ حَقِيقِيَّةً، حَيْثُ قَالَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] أَوِ النِّسْبَةُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ مَجَازِيَّةٌ، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] . (وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ أَيْ: بَاطِنِهَا وَظَاهِرِهَا حَتَّى مِنْهَا. (جِئْنَا) أَيْ: حَضَرْنَا. (شُفَعَاءَ) أَيْ: بَيْنَ يَدَيْكَ دَاعِينَ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ. (فَاغْفِرْ لَهُ) فَإِنَّكَ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَقَاضِي الْحَاجَاتِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ: فَاغْفِرْ لَهَا.

1689 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1689 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَيُكْسَرُ، وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ. (قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ) أَيْ: أَبَدًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ بَالِغٍ عَمَلٌ بِغَيْرِ ذَنْبٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الْخَطِيئَةِ عَنْهُ وَلَوْ صُورَةً. (فَسَمِعْتُهُ) أَيْ: أَبَا هُرَيْرَةَ. (يَقُولُ) أَيْ: فِي صِلَاتِهِ. (اللَّهُمَّ أَعِذْهُ) أَيْ: أَجِرْهُ. (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ اعْتَقَدَ شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ أَمْرٌ عَامٌّ لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَأَنَّ الْفِتْنَةَ تَسْقُطُ مِنَ الصَّغِيرِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَذَابُ الْقَبْرِ غَيْرُ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَلَوْ عَذَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ كَانَ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، يَعْنِي لَا يُطْلَبُ لَهُ دَلِيلٌ مِنَ الْعَمَلِ ; لِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ هُنَا الْعُقُوبَةَ، وَلَا السُّؤَالَ بَلْ مُجَرَّدُ أَلْأَلَمِ بِالْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ، وَالْوَحْشَةِ وَالضَّغْطَةِ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأَطْفَالَ وَغَيْرَهُمْ، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْمُوَطَّأِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

1690 - وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا قَالَ: يَقْرَأُ الْحَسَنُ عَلَى الطِّفْلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا، وَفَرَطًا وَذُخْرًا وَأَجْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1690 - (وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا) أَيْ: بِلَا إِسْنَادٍ فِي الطِّيبِيِّ قَالَ) : فِي الْإِرْشَادِ: وَالتَّعْلِيقُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا حُذِفَ مِنْ مُبْتَدَأٍ إِسْنَادُهُ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَاسْتَعْمَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي حَذْفِ كُلِّ الْإِسْنَادِ، كَمَا هُنَا، مِثَالُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَذَا. (قَالَ أَيِ: الْبُخَارِيُّ نَقْلًا عَنِ الْحَسَنِ. (يَقْرَأُ الْحَسَنُ) أَيْ: كَانَ يَقْرَأُ. (عَلَى الطِّفْلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ) أَيْ: بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مَقَامَ الثَّنَاءِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَأْوِيلِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلشَّافِعِيِّ ; فَإِنَّ الْحَسَنَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَغَايَتُهُ الْمُوَافَقَةُ. (وَيَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ. (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ) أَيِ: الطِّفْلَ. (لَنَا سَلَفًا) بِفَتْحَتَيْنِ فِي النِّهَايَةِ: قِيلَ: هُوَ مِنْ سَلَفِ الْمَالِ، كَأَنَّهُ قَدْ أَسْلَفَهُ وَجَعَلَهُ ثَمَنًا لِلْأَجْرِ، وَالثَّوَابِ الَّذِي يُجَازَى عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: سَلَفُ الْإِنْسَانِ مِنْ تَقَدُّمِهِ بِالْمَوْتِ مِنْ آبَائِهِ وَذَوِي قَرَابَتِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّابِعِينَ السَّلَفَ الصَّالِحَ. (وَفَرَطًا) فِي النِّهَايَةِ أَجْرًا يَتَقَدَّمُنَا، وَفِي الصِّحَاحِ: الْفَرَطُ بِالتَّحْرِيكِ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ الْوَارِدَةَ فَيُهَيِّئُ الْأَرْسَاتِ وَالدِّلَاءَ، وَيَرِدُ الْحِيَاضَ وَيَسْتَقِي لَهُمْ. (وَذُخْرًا) بِضَمِّ الذَّالِ وَسُكُونِ الْخَاءِ أَيْ: ذَخِيرَةً. (وَأَجْرًا) أَيْ: ثَوَابًا جَزِيلًا. قَالَ مِيرَكُ: عِبَارَةُ الْبُخَارِيِّ هَكَذَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَقْرَأُ أَيِ: الْمُصَلِّي عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا اهـ. فَعَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ إِلَخْ، ثُمَّ يَقُولُ: فِي آخِرِهِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ تَعْلِيقًا، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخْرِجِينَ لَا مِنْ جُمْلَةِ الرُّوَاةِ الَّذِينَ الْتَزَمَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَهُمْ، وَأَيْضًا يُفْهَمُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ وَمِنْ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يُفْهَمُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ، وَبَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَةَ ذُخْرًا لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَرَى مَعَ أَنَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا أَيْضًا تَأَمَّلْ، وَلَعَلَّ فِي نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ مِنَ الْبُخَارِيِّ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ وَصُحِّفَ قَالَ بِكَانَ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ.

1691 - وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُوَرَّثُ، حَتَّى يَسْتَهِلَّ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: وَلَا يُوَرَّثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1691 - (وَعَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ وَلَا يُوَرَّثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ» ) فِي النِّهَايَةِ: اسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ تَصْوِيتُهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، وَهَذَا مِثَالٌ، وَالْمَدَارُ عَلَى مَا يُعْلَمُ بِهِ حَيَاتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْهُمَامِ مَا يَنْفَعُكَ فِي هَذَا الْمَقَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ: ابْنَ مَاجَهْ. (لَمْ يَذْكُرْ وَلَا يُوَرَّثُ) وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَفْظُهُ: إِذَا اسْتَهَلَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ، لَكِنِ اعْتَرَضَ عَلَى تَصْحِيحِهِمَا لَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ.

1692 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: " «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ فَوْقَ شَيْءٍ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ، يَعْنِي أَسْفَلَ مِنْهُ» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُجْتَبَى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1692 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ بَدْرٍ الْبَصْرِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَهَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ) أَيْ: مِنْ أَنْ يَقِفَ. (الْإِمَامُ فَوْقَ شَيْءٍ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ) أَيْ: خَلْفَ ذَلِكَ الشَّيْءِ. (يَعْنِي أَسْفَلَ مِنْهُ) وَيُعْلَمُ النَّهْيُ مِنَ الْعَكْسِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُجْتَبَى) اسْمٌ لِكِتَابٍ لَهُ. (فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ أَنَّ الْأَنْسَبَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. قَالَ ابْنُ هَمَّامٍ: وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَالْمَيِّتُ عَلَى دَابَّةٍ، أَوْ أَيْدِي النَّاسِ، لِأَنَّهُ كَالْإِمَامِ، وَاخْتِلَافُ الْمَكَانِ مَانِعٌ مِنَ الِاقْتِدَاءِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَشَرْطُ صِحَّتِهَا إِسْلَامُ الْمَيِّتِ وَطَهَارَتُهُ، وَوَضْعُهُ أَمَامَ الْمُصَلِّي، فَلِهَذَا الْقَيْدِ لَا تَجُوزُ عَلَى غَائِبٍ وَلَا حَاضِرٍ عَلَى دَابَّةٍ وَغَيْرِهَا، وَلَا مَوْضُوعٍ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي، وَهُوَ كَالْإِمَامِ مِنْ وَجْهٍ.

[باب دفن الميت]

[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

(بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1693 - «عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ: أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَى اللَّبِنِ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابٌ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1693 - (عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ) أَيْ: مَاتَ. (أَلْحِدُوا) بِكَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَبِقَطْعِهَا وَكَسْرِ الْحَاءِ. (لِي) أَيْ: لِأَجْلِي. (لَحْدًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مِنْ بَابِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى تَجْرِيدٍ فِي الْفِعْلِ، أَيِ: اجْعَلُوا لِي لَحْدًا. فِي النِّهَايَةِ: اللَّحْدُ الشَّقُّ الَّذِي يُعْمَلُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ، لِوَضْعِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ قَدْ أُمِيلَ عَنْ وَسَطِ الْقَبْرِ إِلَى جَانِبِهِ، يُقَالُ: لَحَدْتُ وَأَلْحَدْتُ، وَأَصْلُ الْإِلْحَادِ الْمَيْلُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْحَدُوا هُوَ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَيَجُوزُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ اللَّحْدِ، وَنَصْبُ اللَّبِنِ فَإِنَّهُ فُعِلَ ذَلِكَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ نَقَلُوا أَنَّ عَدَدَ لَبِنَاتِهِ تِسْعٌ اهـ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَوْعٌ مِنَ الْإِعْجَازِ لَهُ، أَوْ صِنْفٌ مِنَ الْكَرَامَةِ لِلصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِاللَّحْدِ لَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّ أَيَّ الْحَفَّارِينَ مِنْ صَاحِبِ اللَّحْدِ وَالشَّقِّ، فَالْعَمَلُ لَهُ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ اللَّحْدَ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّحْدُ لَنَا، ثُمَّ قَوْلُهُ: لَحْدًا بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَيِّنٌ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الِاسْمِيُّ فَمُشْتَرَكٌ فِيهِمَا، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ، حَيْثُ قَالَ: اللَّحْدُ وَيُضَمُّ: الشَّقُّ يَكُونُ فِي عُرْضِ الْقَبْرِ، وَلَحَدَ الْقَبْرَ كَمَنَعَ، وَأَلْحَدَهُ عَمِلَ لَهُ لَحْدًا، وَالْمَيِّتَ دَفَنَهُ. (وَانْصِبُوا) بِكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: أَقِيمُوا. (عَلَيَّ أَيْ: فَوْقِي. (اللَّبِنَ بِكَسْرِ الْبَاءِ، فِي الْقَامُوسِ: اللَّبِنُ كَكَتِفٍ الْمَضْرُوبُ مِنَ الطِّينِ مُرَبَّعًا لِلْبِنَاءِ، وَيُقَالُ فِيهِ بِالْكَسْرِ وَبِكَسْرَتَيْنِ. (نَصْبًا) أَيْ: نَصْبًا مَرْصُوصًا عَلَى) وَجْهِ الْعَادَةِ. (كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: بِقَبْرِهِ. (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلْحِدَ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ أُلْحِدَ وَنُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنُ) نَصْبًا، وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الْأَرْضِ نَحْوَ شِبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا اللَّحْدُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ ضَرُورَةً مِنْ رَخْوِ الْأَرْضِ فَيُخَافُ أَنْ يَنْهَارَ اللَّحْدُ فَيُصَارُ إِلَى الشَّقِّ، بَلْ ذُكِرَ لِي أَنَّ بَعْضَ الْأَرَضِينَ مِنَ الرِّمَالِ يَسْكُنُهَا بَعْضُ الْأَعْرَابِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الشَّقُّ أَيْضًا، بَلْ يُوضَعُ الْمَيِّتُ وَيُهَالُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ.

1694 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1694 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ» ) فِي النِّهَايَةِ: الْقَطِيفَةُ هِيَ كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ وَهُوَ الْمُهَدَّبُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ» ، أَيِ: الَّذِي يَعْمَلُ لَهَا، وَيَهْتَمُّ بِتَحْصِيلِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذِهِ الْقَطِيفَةُ أَلْقَاهَا شُقْرَانُ مَوْلًى مِنْ مَوَالِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يَلْبَسَهَا أَحَدٌ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ وَضْعِ الْقَطِيفَةِ وَالْمِخَدَّةِ وَنَحْوِهِمَا تَحْتَ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَحْسُنُ فِي غَيْرِهِ اهـ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ نَقْلًا عَنْ وَكِيعٍ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فَارَقَ أَهْلَ الدُّنْيَا فِي بَعْضِ أَحْكَامِ حَيَاتِهِ فَارَقَهُمْ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ مَمَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَقَّ لِجَسَدٍ عَصَمَهُ اللَّهُ عَنِ الْبِلَى وَالِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُفْرَشَ لَهُ فِي قَبْرِهِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْرَشُ لِلْحَيِّ لَهُ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي غَيْرِهِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَنَازَعَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ فَقَصْدُ شُقْرَانَ بِوَضْعِهَا دَفَعَ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَقَالَ الشَّيْخُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ فِي السِّيرَةِ: وَفُرِشَتْ فِي قَبْرِهِ قَطِيفَةٌ وَقِيلَ أُخْرِجَتْ، وَهَذَا أَثْبَتُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ: إِنَّهَا أُخْرِجَتْ قَبْلَ إِهَالَةِ التُّرَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1695 - وَعَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ: أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1695 - (وَعَنْ سُفْيَانَ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، كُوفِيٌّ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. (التَّمَّارُ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الَّذِي يَبِيعُ التَّمْرَ. (أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا) بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَنْ يُجْعَلَ كَهَيْئَةِ السَّنَامِ، وَهُوَ خِلَافُ تَسْطِيحِهِ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْمُسَنَّمُ الْمُحَدَّبُ كَهَيْئَةِ السَّنَامِ، خِلَافَ الْمُسَطَّحِ، وَهُوَ الْمُرَبَّعُ، قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: احْتَجَّ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ التَّسْنِيمَ فِي شَكْلِ الْقُبُورِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْطِيحِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّسْطِيحُ أَفْضَلُ ; لِأَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَبْطُوحَةً بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ، أَيْ: مَبْسُوطَةً بِالرِّمَالِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُسَطَّحًا، وَرُوِيَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَطَّحَ قَبْرَ ابْنِهِ، وَرَشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ» . قَالَ السَّيِّدُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّرَ عَمَّا كَانَ فِي الْقَدِيمِ، وَجُعِلَ مُسَنَّمًا ; لِأَنَّ جِدَارَهُ سَقَطَ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: وَقِيلَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ هَذَا الظَّنُّ، وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ، وَتَجْصِيصِهَا، وَرَوَى ابْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ نَاشِزَةً مِنَ الْأَرْضِ، وَعَلَيْهَا فَلَقٌ مِنْ مُدَرٍ أَبْيَضَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَلَفْظُهُ عَنْ سُفْيَانَ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَبْرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُسَنَّمَةً، وَمَا عُورِضَ بِهِ مِمَّا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّتُ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ، لَيْسَ مُعَارِضًا لِهَذَا، حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَأَيْضًا ظَهَرَ أَنَّ الْقَاسِمَ أَرَادَ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ بِرَاوِيَةِ أَبِي حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ ثَلَاثَةً كُلَّهُمْ لَهُ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبٌ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ: مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، وَسَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَسَأَلْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبِرُونِي عَنْ قُبُورِ آبَائِكُمْ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكُلُّهُمْ قَالُوا: إِنَّهَا مُسَنَّمَةٌ اهـ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَنَّ التَّسْطِيحَ صَارَ شِعَارَ الرَّوَافِضِ، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ أَمْرِ عَلِيٍّ تَسْوِيَةَ الْمُشْرِفِ فِي الْخَبَرِ الْآتِي، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لَا عَلَى التَّسْطِيحِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا عَلَى التَّسْنِيمِ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ، بَلْ فِيهِ مُبَالَغَةٌ لِلزَّجْرِ عَلَى الْبِنَاءِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ تَسْوِيَتُهُ بِالْأَرْضِ حَقِيقَةً، إِذِ السُّنَّةُ أَنْ يُعْلَمَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُرْفَعَ شِبْرًا كَقَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

1696 - وَعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: «قَالَ لِي عَلِيٌّ أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1696 - (وَعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ. (الْأَسَدِيِّ) بِفَتْحِ السِّينِ وَيُسَكَّنُ. (قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: أَلَا أَبْعَثُكَ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ لِلتَّخْضِيضِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا لِلتَّنْبِيهِ. (عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ) أَيْ: أَرْسَلَنِي إِلَى تَغْيِيرِهِ، وَلِذَا عُدِّيَ بِعَلَى. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: أَلَا أُرْسِلُكَ لِلْأَمْرِ الَّذِي أَرْسَلَنِي لَهُ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعْدِيَتَهُ بِحَرْفِ عَلَى لِمَا فِي الْبَعْثِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّأْمِيرِ، أَيْ: هَلَّا أَجْعَلُكَ أَمِيرًا عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَمَّرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنْ لَا تَدَعَ) أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَلَا نَافِيَةٌ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ أَنْ لَا تَدَعَ وَقِيلَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ وَلَا نَاهِيَةٌ أَيْ: لَا تَتْرُكْ. (تِمْثَالًا) أَيْ: صُورَةً. (إِلَّا طَمَسْتَهُ) أَيْ: مَحَوْتَهُ وَأَبْطَلْتَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، فِي الْأَزْهَارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّصْوِيرُ حَرَامٌ، وَالْمَحْوُ وَاجِبٌ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْجُلُوسُ فِي مُشَاهَدَتِهِ. (وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا) هُوَ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ حَتَّى ارْتَفَعَ دُونَ الَّذِي أُعْلِمَ عَلَيْهِ بِالرَّمْلِ وَالْحَصْبَاءِ، أَوْ مَحْسُومَةٌ بِالْحِجَارَةِ لِيُعْرَفَ وَلَا يُوطَأَ. (إِلَّا سَوَّيْتَهُ) فِي الْأَزْهَارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ قَدْرَ شِبْرٍ، وَيُكْرَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ الْهَدْمُ، فَفِي قَدْرِهِ خِلَافٌ، قِيلَ إِلَى الْأَرْضِ تَغْلِيظًا، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ، أَيْ: لَفْظِ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسْوِيَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْقُبُورِ بِالْبِنَاءِ الْعَالِي، وَلَيْسَ مُرَادُنَا ذَلِكَ بِتَسْنِيمِ الْقَبْرِ بَلْ بِقَدْرِ مَا يَبْدُو مِنَ الْأَرْضِ، وَيَتَمَيَّزُ عَنْهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

1697 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1697 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» ) قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: النَّهْيُ عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ لِلْكَرَاهَةِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ بِذَلِكَ وَتَجْصِيصَ وَجْهِهِ، وَالنَّهْيُ فِي الْبِنَاءِ لِلْكَرَاهَةِ إِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَلِلْحُرْمَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسْبَلَةِ، وَيَجِبُ الْهَدْمُ وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ بِالْحِجَارَةِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَالْآخَرُ: أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهَا خِبَاءٌ وَنَحْوُهُ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، قُلْتُ: فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْخَيْمَةُ لِفَائِدَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْقُرَّاءُ تَحْتَهَا فَلَا تَكُونُ مَنْهِيَّةً. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاخْتُلِفَ فِي إِجْلَاسِ الْقَارِئِينَ لِيَقْرَءُوا عِنْدَ الْقَبْرِ، وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ اهـ. ثُمَّ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَلِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ: كَانُوا يُظَلِّلُونَ عَلَى الْمَيِّتِ إِلَى سَنَةٍ. قَالَ: وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ أَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: انْزَعْهُ يَا غُلَامُ، وَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَلِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ أَبَاحَ السَّلَفُ الْبِنَاءَ عَلَى قَبْرِ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشْهُورِينَ لِيَزُورَهُمُ النَّاسُ، وَيَسْتَرِيحُوا بِالْجُلُوسِ فِيهِ اهـ. (وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ كَالْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، قِيلَ لِلتَّغَوُّطِ، وَالْحَدِيثِ قِيلَ لِلْإِحْدَادِ وَهُوَ أَنْ يُلَازِمَ الْقَبْرَ وَلَا يَرْجِعَ عَنْهُ، وَقِيلَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ فِيهِ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَحُرْمَتِهِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ الْقُعُودِ هُوَ الْجُلُوسُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِحَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ «عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ انْزِلْ مِنْ عَلَى الْقَبْرِ، لَا تُؤْذِي صَاحِبَ الْقَبْرِ، وَلَا يُؤْذِيكَ» ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْوَطْءِ عَلَى الْقَبْرِ قَالَ: كَمَا أَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَذَاهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1698 - وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1698 - (وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ. (الْغَنَوِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ» ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَرِهَ الْجُلُوسَ عَلَى الْقَبْرِ وَوَطْأَهُ وَحِينَئِذٍ فَمَا يَصْنَعُهُ النَّاسُ مِمَّنْ دُفِنَتْ أَقَارِبُهُ ثُمَّ دُفِنَتْ حَوَالَيْهِ مِنْ وَطْءِ تِلْكَ الْقُبُورِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ مَكْرُوهٌ، وَيُكْرَهَ النَّوْمُ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ، بَلْ أَوْلَى، وَيُكْرَهُ كُلُّ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِنَ السُّنَّةِ، وَالْمَعْهُودُ مِنْهَا لَيْسَ إِلَّا زِيَارَتَهَا وَالدُّعَاءَ عِنْدَهَا قَائِمًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْبَقِيعِ، وَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، أَسَأَلُ اللَّهَ لِي وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» . (وَلَا تُصَلُّوا) أَيْ: مُسْتَقْبِلِينَ. (إِلَيْهَا) لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ الْبَالِغِ، لِأَنَّهُ مِنْ مَرْتَبَةِ الْمَعْبُودِ فَجَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ الْعَظِيمِ وَالتَّعْظِيمِ الْبَلِيغِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّعْظِيمُ حَقِيقَةً لِلْقَبْرِ أَوْ لِصَاحِبِهِ لَكَفَرَ الْمُعَظِّمُ، فَالتَّشَبُّهُ بِهِ مَكْرُوهٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَفِي مَعْنَاهُ، بَلْ أَوْلَى مِنْهُ الْجَنَازَةُ الْمَوْضُوعَةُ، وَهُوَ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ حَيْثُ يَضَعُونَ الْجَنَازَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُونَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مُسْتَقْبِلِينَ إِلَيْهَا وَعِنْدَهَا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ مِنَ الْحَدِيثِ، بَلْ مُنَافٍ لِمَفْهُومِ. (إِلَيْهَا) فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

1699 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1699 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ» ) أَيْ: مِنَ النَّارِ. (فَتُحْرِقَ) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. (ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ) بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: تَصِلُ. (إِلَى جِلْدِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ، وَسَرَايَةُ مَضَرَّتِهِ إِلَى قَلْبِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِمَنْزِلَةِ سَرَايَةِ النَّارِ مِنَ الثَّوْبِ إِلَى الْجِلْدِ. (خَيْرٌ لَهُ) أَيْ: أَحْسَنُ لَهُ وَأَهْوَنُ. (مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرِ) الظَّاهِرِ عُمُومُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: لِمُسْلِمٍ، وَلَوْ جَوَّزَ أَنْ يُخْتَصَّ فَمُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ مُخَصِّصٍ، مَعَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِهِ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ تُدْرِكُ رُوحُهُ مَا يُفْعَلُ بِهِ فَيُحِسُّ، وَيَتَأَذَّى كَمَا يَتَأَذَّى الْحَيُّ اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّوحُ لَا يَبْلَى، لَا سِيَّمَا عَجَبُ الذَّنَبِ، كَمَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ فِي الْأَزْهَارِ، نَقْلًا

عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا فِيهِ التَّغْلِيظُ عَلَى الْجُلُوسِ لِلْحَدَثِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ، وَمَا لَا تَغْلِيظَ فِيهِ عَلَى الْجُلُوسِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَالِاتِّكَاءُ وَالِاسْتِنَادُ كَالْجُلُوسِ الْمُطْلَقِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُهُ حُرْمَةُ الْقُعُودِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ الِاتِّكَاءُ وَالِاسْتِنَادُ وَدَوْسُهُ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَصْحَابِ، لَكِنْ مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ كَرَاهَةُ ذَلِكَ تَنْزِيهًا، وَغَلَطٌ مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَإِنِ انْتَصَرَ لَهُ بَعْضُهُمْ، بِأَنَّهُ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ لِلْخَبَرِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَاوِيَ الْحَدِيثِ، وَتَفْسِيرُ رَاوِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَفْسِيرِ غَيْرِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ فِي الْحَدِيثِ الْقُعُودَ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَاهُ فِي مُسْنَدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ: مَنْ جَلَسَ عَلَى قَبْرٍ يَبُولُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَغَوَّطُ، وَهَذَا حَرَامٌ إِجْمَاعًا، فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، قَالَ: وَلَا يُكْرَهُ دَوْسُهُ لِحَاجَةٍ كَحَفْرٍ، أَوْ قِرَاءَةٍ عَلَيْهِ، أَوْ زِيَارَةٍ، وَلَوْ لِأَجْنَبِيٍّ لِلِاتِّبَاعِ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلِأَنَّهُ مَعَ الْحَاجَةِ لَيْسَ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، بِخِلَافِهِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ الْبِلَى، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا حُرْمَةَ، وَلَا كَرَاهَةَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ احْتِرَامِهِ أَيْضًا اهـ. وَفِي اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ لِغَيْرِ الْحَفْرِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي تَقْيِيدِهِ بِمَا قَبْلَ الْبِلَى لِمُعَارَضَتِهِ ظَاهِرَ النُّصُوصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1700 - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ، وَالْآخَرُ لَا يَلْحَدُ، فَقَالُوا: أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلًا عَمِلَ عَمَلَهُ، فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ، فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1700 - (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ) أَيْ: حَفَّارَانِ لِلْقُبُورِ. (أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ أَيْ: يَحْفُرُ اللَّحْدَ، وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ. (وَالْآخَرُ لَا يَلْحَدُ) بَلْ يَفْعَلُ الشَّقَّ، وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، وَكَانَ يَفْعَلُ الضَّرِيحَ، وَهُوَ شَقٌّ فِي وَسَطِ الْقَبْرِ. (فَقَالُوا) أَيِ: اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلًا) بِالتَّنْوِينِ مَنْصُوبَةً، وَفِي نُسْخَةٍ: أَوَّلُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، قِيلَ الرِّوَايَةُ فِي أَوَّلُ بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ كَقَبْلُ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ وَالنَّصْبُ. (عَمِلَ عَمَلَهُ) أَيْ: مِنَ اللَّحْدِ أَوِ الشَّقِّ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ) أَيْ: قَبْلَ الْآخَرِ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ اخْتِيَارِهِ لِمُخْتَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَلَحَدَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ (لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: لِقَبْرِهِ، أَوْ لَحَدَ قَبْرَهُ لِأَجْلِهِ. (رَوَاهُ) أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) قَالَ السَّيِّدُ: ظَاهِرُهُ الْإِرْسَالُ ; لِأَنَّ عُرْوَةَ تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ خَالَتِهِ، وَغَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُسْنَدًا إِلَى عَائِشَةَ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ فِي ابْنِ مَاجَهْ، وَإِلَّا لَمْ يَقُلْ رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ تَأَمَّلْ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ غَيْرَ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فَلِهَذَا لَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهِ.

1701 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1701 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» ) قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِلتُّورِبَشِتِيِّ: أَيِ: اللَّحْدُ آثَرُ وَأَوْلَى لَنَا، وَالشَّقُّ آثَرُ وَأَوْلَى لِغَيْرِنَا، أَيْ: هُوَ اخْتِيَارُ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ فَضِيلَةِ اللَّحْدِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنِ الشَّقِّ، لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ فِي الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ كَانَ يَصْنَعُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْهِيًّا لَمَا قَالَتِ الصَّحَابَةُ أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلًا عَمِلَ عَمَلَهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُضْطَرُّ إِلَيْهِ لِرَخَاوَةِ الْأَرْضِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ نَفْسَهُ، أَيْ: أُوثِرُ لِيَ اللَّحْدَ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْكَائِنِ، فَيَكُونُ مُعْجِزَةً اهـ. قَالَ السَّيِّدُ: هَذَا التَّوْجِيهُ بَعِيدٌ جِدًّا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّقُّ لِغَيْرِنَا، تَأَمَّلْ وَجْهَ التَّأَمُّلِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَالشَّقُّ اخْتِيرَ لِغَيْرِنَا، مِمَّنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ لِلْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ، وَالْمَعْنَى: اللَّحْدُ اخْتِيرَ لِي وَلِمَنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدِي وَقَبْلِي، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ قَبْلَنَا أَوْ مَنْ بَعْدَنَا، أَوِ اللَّحْدُ لَنَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالشَّقُّ جَائِزٌ لِغَيْرِنَا، وَهُوَ أَوْجَهُ مِنَ التَّوْجِيهِ السَّابِقِ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَرَاهَةَ الشَّقِّ، حَيْثُ قَالُوا: الشَّقُّ اخْتِيَارُ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ السَّيِّدُ: وَقَالَ غَرِيبٌ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

1702 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1702 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْبَجَلِيِّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ضَعِيفٌ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ ابْنَ السَّكَنِ رَوَاهُ فِي صَحَاحِهِ.

1703 - وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: احْفُرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَعْمِقُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَحْسِنُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1703 - (وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ) أَيِ: ابْنِ أُمَيَّةَ ابْنِ الْخَشْخَاشِ النَّجَّارِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، كَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ شِهَابًا، فَغَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَهُ فَسَمَّاهُ هِشَامًا، وَاسْتُشْهِدَ أَبُوهُ عَامِرٌ يَوْمَ أُحُدٍ) ، وَسَكَنَ هِشَامٌ الْبَصْرَةَ وَمَاتَ فِيهَا، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ. (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ أَيْ: وَقْتَ انْتِهَاءِ غَزْوَتِهِ عِنْدَ إِرَادَةِ دَفْنِ الشُّهَدَاءِ. (احْفُرُوا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنَعُوا الدَّفْنَ فِي الْفَسَاقِيِّ، وَبَيَّنُوا أَنَّ فِيهِ مَفَاسِدَ فَلْيُجْتَنَبْ مَا أَمْكَنَ. (وَأَوْسِعُوا) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ. (وَأَعْمِقُوا) كَذَلِكَ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَعْمَقَ الْبِئْرَ جَعَلَهَا عَمِيقَةً. قَالَ الْمُظْهِرُ أَيِ: اجْعَلُوا عُمْقَهُ قَدْرَ قَامَةِ رَجُلٍ إِذَا مَدَّ يَدَهُ، إِلَى رُءُوسِ أَصَابِعِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْمِقُوا بِالْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ مِنَ التَّغْمِيقِ، قُلْتُ: مَا قِيلَ لَا يَصِحُّ هُنَا لِمُخَالَفَتِهِ لِلرِّوَايَةِ، وَالدِّرَايَةِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا ضُبِطَ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلِوُجُودِ الْهَمْزَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ ذَكَرَ أَنَّ الْغَمَقَ مُحَرِّكَةً رُكُوبُ النَّدَى الْأَرْضَ، غَمَقَتِ الْأَرْضُ مُثَلَّثَةً فَهِيَ غَمِقَةٌ، كَفَرِحَةٍ ذَاتُ نَدًى، أَوْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمِيَاهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَرْضٌ غَمِقَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمِيَاهِ وَالْبُرُوزِ. (وَأَحْسِنُوا) أَيْ: أَحْسِنُوا إِلَى الْمَيِّتِ فِي الدَّفْنِ قَالَهُ فِي الْأَزْهَارِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِلْمُظْهِرِ: أَيِ: اجْعَلُوا الْقَبْرَ حَسَنًا بِتَسْوِيَةِ قَعْرِهِ ارْتِفَاعًا وَانْخِفَاضًا، وَتَنْقِيَتِهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْقَذَاةِ، وَغَيْرِهِمَا. (وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ لَا بِالنَّقْلِ كَمَا يُتَوَهَّمُ، وَقَوْلُهُمْ: كُلُّ سِرٍّ جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ شَاعَ مَنْسُوبٌ إِلَى اللَّحْنِ. (وَالثَّلَاثَةَ) بِالنَّصْبِ أَيْ: مِنَ الْأَمْوَاتِ. (فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ) قَالَ السَّيِّدُ: الْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ ضَرُورَةً، وَلَا يَجُوزُ بِدُونِهَا اهـ. وَالْأَمْرُ فِي الْأَوَّلِ لِلْوُجُوبِ وَفِي الْبَاقِي لِلنَّدْبِ. (وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا) أَيْ: إِلَى جِدَارِ اللَّحْدِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فِي الْأَزْهَارِ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى تَعْظِيمِ الْمُعَظَّمِ عِلْمًا وَعَمَلًا، قُلْتُ: حَيًّا وَمَيِّتًا، فَيَكُونُ دَائِمًا إِمَامًا وَأَمَامًا،. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ كَمَا تَكُونُ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ تَكُونُ عَلَى أَكْثَرَ، فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجَنَائِزُ إِنْ شَاءَ اسْتَأْنَفَ لِكُلِّ مَيِّتٍ صَلَاةً، وَإِنْ شَاءَ وَضَعَ الْكُلَّ، وَصَلَّى عَلَيْهِمْ صَلَاةً وَاحِدَةً، وَهُوَ فِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِهِمْ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ وَضَعَهُمْ بِالطُّولِ سَطْرًا وَاحِدًا وَيَقِفُ عِنْدَ أَفْضَلِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ وَضَعَهُمْ وَاحِدًا وَرَاءَ وَاحِدٍ، إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَتَرْتِيبُهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَلْفَهُ، حَالَ الْحَيَاةِ، فَيُقَرِّبُ مِنْهُ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ، وَيُبْعِدُ عَنْهُ الْمَفْضُولَ فَالْمَفْضُولَ، وَكُلُّ مَنْ بَعُدَ مِنْهُ كَانَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَقْرَبَ. قَالَ: وَلَوِ اجْتَمَعُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَوَضَعَهُمْ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَيُقَدَّمُ الْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ إِلَى الْقِبْلَةِ كَمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَقْرَبِيَّةَ هُنَا عَلَى بَابِهَا وَأَمَّا قِيَاسُ ابْنِ حَجَرٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى حَدِيثِ الْإِمَامَةِ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ هُنَاكَ صَارِفَيْنِ عَنْ ظَاهِرِهِ، أَوَّلُهُمَا تَقْدِيمُ الصِّدِّيقِ فِي الْإِمَامَةِ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ، وَثَانِيهُمَا تَعْلِيلُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْأَفْقَهَ بِمَسَائِلِ الصَّلَاةِ أَوْلَى لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِ الْإِمَامِ بِهَا فِي شَرَائِطِهَا، وَالْقِرَاءَةُ رُكْنٌ وَاحِدٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ إِلَى آخِرِهِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَحْسِنُوا) .

1704 - «وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأَبِي لِتَدْفِنَهُ فِي مَقَابِرِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدُّوا الْقَتْلَى إِلَى مَضَاجِعِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1704 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جَاءَتْ عَمَّتِي) فِي الْأَزْهَارِ نَقْلًا عَنِ الْغَوَامِضِ عَمَّةُ جَابِرٍ هَذِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيِّ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ. (بِأَبِي) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. (لِتَدْفِنَهُ فِي مَقَابِرِنَا) أَيْ: فِي الْمَدِينَةِ. (فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدُّوا الْقَتْلَى) جَمْعُ الْقَتِيلِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ أَيِ: الشُّهَدَاءُ. (إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أَيْ: مَقَاتِلهِمْ، وَالْمَعْنَى: لَا تَنْقُلُوا الشُّهَدَاءَ مِنْ مَقْتَلِهِمْ بَلِ ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ قُتِلُوا، وَكَذَا مَنْ مَاتَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُنْقَلُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، قَالَهُ فِي بَعْضِ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ فِي الْأَزْهَارِ: الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رُدُّوا الْقَتْلَى لِلْوُجُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَقْلَ الْمَيِّتِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ يَغْلُبُ فِيهِ التَّغَيُّرُ حَرَامٌ، وَكَانَ ذَلِكَ زَجْرًا عَنِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ دَلِيلٍ وَأَقْوَى حُجَّةٍ فِي تَحْرِيمِ النَّقْلِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَهْيَ النَّقْلِ مُخْتَصٌّ بِالشُّهَدَاءِ، لِأَنَّهُ نُقِلَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنْ قَصْرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرُوا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى نَقْلِهِمْ، بَعْدَ دَفْنِهِمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظُ مَضَاجِعِهِمْ، وَلَعَلَّ وَجْهُ تَخَصُّصِ الشُّهَدَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] وَفِيهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ حَيَاةً وَمَوْتًا، وَبَعْثًا وَحَشْرًا، وَيُتَبَرَّكُ النَّاسُ بِالزِّيَارَةِ إِلَى مَشَاهِدِهِمْ وَيَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى زِيَارَةِ جَبَلِ أُحُدٍ، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُنْقَلُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، أَيِ ابْتِدَاءِ أُحُدٍ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا، لَمَّا رُوِيَ أَنَّ جَابِرًا جَاءَ بِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي قُتِلَ بِأُحُدٍ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى الْبَقِيعِ وَدَفَنَهُ بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إِلَى النَّقْلِ نُقِلَ، وَإِلَّا فَلَا، لِمَا رُوِّينَا عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَعْصَعَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا، وَكَانَ قَبْرُهُمَا مِمَّا يَلِي السَّيْلَ، وَكَانَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا مِمَّنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَحُفِرَ عَنْهُمَا لِيُغَيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا، فَوُجِدَا لَمْ يَتَغَيَّرَا، كَأَنَّمَا مَاتَا بِالْأَمْسِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ جُرِحَ وَيَدُهُ عَلَى جُرْحِهِ فَدُفِنَ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ ثُمَّ أُرْسِلَتْ فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، وَكَانَ بَيْنَ أُحُدٍ وَبَيْنَ الْحَفْرِ عَنْهُمَا سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِجَابِرٍ أَنَّهُ يَنْقُلُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يُنْقَلَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يُنْبَشُ بَعْدَ إِهَالَةِ التُّرَابِ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ، إِلَّا لِعُذْرٍ. قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: وَالْعُذْرُ أَنْ يَظْهَرَ أَنَّ الْأَرْضَ مَغْصُوبَةٌ، أَوْ يَأْخُذَهَا شَفِيعٌ، وَلِذَا لَمْ يُحَوَّلْ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ دُفِنُوا بِأَرْضِ الْحَرْبِ، إِذْ لَا عُذْرَ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ أَنْ يَسْقُطَ فِي اللَّحْدِ مَالٌ ثَوْبٌ، أَوْ دِرْهَمٌ لِأَحَدٍ، وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمَشَايِخِ فِي امْرَأَةٍ دُفِنَ ابْنُهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا فَلَمْ تَصْبِرْ فَأَرَادَتْ نَقْلَهُ أَنَّهُ لَا يَسَعُهَا ذَلِكَ لِتَجْوِيزِ شَوَاذِّ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَمْ نَعْلَمْ خِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّهُ لَا يُنْبَشُ، وَقَدْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ، أَوْ بِلَا صَلَاةٍ فَلَمْ يُبِيحُوهُ لِتَدَارُكِ فَرْضٍ لَحِقَهُ يُتَمَكَّنُ بِهِ مِنْهُ، أَمَّا إِذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْ تَسْوِيَةِ اللَّبِنِ فَلَا بَأْسَ بِنَقْلِهِ نَحْوَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ. قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إِلَى الْمَقَابِرِ قَدْ تَبْلُغُ هَذَا الْمِقْدَارَ، وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَقْلَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ مَكْرُوهٌ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْفَنَ كُلٌّ فِي مَقْبَرَةِ الْبَلْدَةِ الَّتِي مَاتَ بِهَا، وَنُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ مَاتَ بِالشَّامِ، وَحُمِلَ مِنْهَا: وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِيكَ إِلَيَّ مَا نَقَلْتُكَ، وَلَدَفَنْتُكَ حَيْثُ مُتَّ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: فِي النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ لَا إِثْمَ، لِمَا نُقِلَ أَنَّ يَعْقُوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ بِمِصْرَ، وَنُقِلَ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ، وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقَلَ تَابُوتَ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا أَتَى عَلَيْهِ زَمَانٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ لِيَكُونَ مَعَ آبَائِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ تَتَوَفَّرْ فِي شُرُوطِ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا إِلَّا انْهُ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي ضَيْعَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ إِلَيْهَا اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ

نُقِلَ حِينَ مَوْتِهِ لَا بَعْدَ دَفْنِهِ فَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ نَقْلُ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ عَنْ عُذْرٍ أَيْضًا، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْإِثْمِ وَالْكَرَاهَةِ، إِذِ الْكَرَاهَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى إِلَّا لِعَارِضٍ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَذُكِرَ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي بَلَدِهِ يُكْرَهُ نَقْلُهُ إِلَى أُخْرَى، لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، بِمَا فِيهِ تَأْخِيرُ دَفْنِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ كَرَاهَةً، قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ مِنْ نَقْلِهُ إِلَى أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَوْ إِلَى قُرْبِ قَبْرِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ لِيَزُورَهُ أَقَارِبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا كَرَاهَةَ إِلَّا مَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ، أَوْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ، مِنْ مُطْلَقِ الشُّهَدَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَلَفْظُهُ) : أَيْ: لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ هَذَا اللَّفْظُ. (التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ صَحَّحَهُ عَنْ جَابِرٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَكَانُوا نُقِلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يُرَدُّ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَمْرُهُ بِرَدِّهِمْ كَانَ أَوَّلًا، وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ جَابِرًا جَاءَ بِأَبِيهِ إِلَى الْبَقِيعِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهَرٍ اهـ. وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مَقْبُولٌ بَلْ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ.

1705 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «سُلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1705 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُلٌّ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي النِّهَايَةِ هُوَ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ بِتَأَنٍّ وَتَدْرِيجٍ، أَيْ: جُرَّ بِلُطْفٍ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: فِي الْقَبْرِ. (مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ، وَجَانِبِهِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ إِلَى الْمَيِّتِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) أَيْ: عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى شَائِبَةٍ مِنَ الضَّعْفِ، لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحٍ، لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَسَنٌ فَكَيْفَ يَكُونُ صَحِيحًا؟ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسَلُّ سَلًّا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ بِأَنْ يُوضَعَ فِي السَّرِيرِ فِي مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الْمَيِّتِ بِإِزَاءِ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ مِنَ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُدْخَلُ رَأْسُ الْمَيِّتِ الْقَبْرَ، وَيُسَلُّ كَذَلِكَ، أَوْ تُكَوَّرُ رِجْلَاهُ مَوْضِعَ رَأْسِهِ وَيُسَلُّ كَذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَالْمَرْوِيُّ لِلشَّافِعِيِّ الْأَوَّلُ قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، وَقَالَ: أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي النَّضْرِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَإِسْنَادُ أَبِي دَاوُدَ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَا أُخْرِجَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: أَوْصَانِي الْحَارِثُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ الْخَطْمِيُّ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ الْقَبْرِ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ، وَرُوِيَ خِلَافُهُ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ النَّخَعِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُدْخِلَ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يُسَلَّ سَلًّا، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخِذَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَاسْتُقْبِلَ اسْتِقْبَالًا، وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَى مَا دُفِعَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ مِنْ أَنَّ سَلَّهُ لِلضَّرُورَةِ وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: تَعَارَضَ مَا رَوَيْنَاهُ فَتَسَاقَطَ، وَلَوْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ كَانَ لِلضَّرُورَةِ كَمَا قُلْنَا، وَغَايَةُ فِعْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ، ظَنَّ السُّنَّةَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَجَدْنَا التَّشْرِيعَ الْمَنْقُولَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ خِلَافَهُ، وَكَذَا بَعْدَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَّ عَلِيًّا كَبَّرَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُكَفَّفِ أَرْبَعًا، وَأَدْخَلَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَلِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَأَدْخَلَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، فَالْأَوْلَى الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ.

1706 - وَعَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا فَأُسْرِجَ لَهُ بِسِرَاجٍ فَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ إِنْ كُنْتَ لَأَوَّاهًا تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1706 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ قَبْرًا) أَيْ: قَبْرَ مَيِّتٍ لِيَدْفِنَهُ. (لَيْلًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَفْنَ الْمَيِّتِ لَيْلًا لَا يُكْرَهُ. (فَأُسْرِجَ) مَاضٍ مَجْهُولٌ. (لَهُ) أَيْ: لِلْمَيِّتِ، أَوْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (بِسِرَاجٍ) أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: أُسْرِجَ عَلَى طَرَفِ الْقَبْرِ لِيُضِيءَ. (فَأَخَذَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَيِّتَ. (مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ) فِي الْأَزْهَارِ: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُوضَعُ فِي عُرْضِ الْقَبْرِ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ مُؤَخَّرُ الْجَنَازَةِ إِلَى مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ، وَرَأْسُهُ إِلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُدْخَلُ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَكْثَرُونَ: يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ الرَّأْسِ بِأَنْ يُوضَعَ رَأْسُ الْجَنَازَةِ عَلَى مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ لِلْإِجْمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقَ حَفَّارِي بَلَدِهِ أَوْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ. (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ. (رَحِمَكَ اللَّهُ) دُعَاءٌ أَوْ إِخْبَارٌ. (إِنْ كُنْتَ) إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْمُبْتَدَأِ، وَلَزِمَهَا اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، أَيْ: إِنَّكَ كُنْتَ. (لَأَوَّاهًا) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: كَثِيرَ التَّأَوُّهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَوْ كَثِيرَ التَّضَرُّعِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، أَوْ كَثِيرَ الْبُكَاءِ مِنْ خَوْفٍ، أَوْ كَثِيرَ الدُّعَاءِ لِطَلَبِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فِي النِّهَايَةِ الْأَوَّاهُ الْمُتَأَوِّهُ الْمُتَضَرِّعُ، وَقِيلَ هُوَ كَثِيرُ الْبُكَاءِ، أَوِ الْكَثِيرُ الدُّعَاءِ. (تَلَّاءً) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: كَثِيرَ التِّلَاوَةِ أَوْ كَثِيرَ الْمُتَابَعَةِ. (لِلْقُرْآنِ) وَالْمَعْنَى يَسْتَحِقُّ بِهِمَا الرَّحْمَةَ الْكَامِلَةَ، وَالْمَغْفِرَةَ الشَّامِلَةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ) قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى كَوْنِ الْمِنْهَالِ بْنِ خَلِيفَةَ فِي إِسْنَادِهِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ اهـ. مَعَ أَنَّ فِيهِ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَأَةَ، وَمِنْهَالَ بْنَ خَلِيفَةَ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا، وَذَلِكَ يَحُطُّ الْحَدِيثَ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ، لَا الْحَسَنِ اهـ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ: إِنَّ الرَّجُلَ الْمَقْبُورَ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ ذَا الْبِجَادَيْنِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَفِي الْقَامُوسِ الْبِجَادُ، كَكِتَابٍ: كِسَاءٌ مُخَطَّطٌ، وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ دَلِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ حَدِيثَ ذِي الْبِجَادَيْنِ بِطُرُقٍ، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحَدِيثِ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى تَحْسِينِ التِّرْمِذِيِّ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ; لِأَنَّ شَقَّ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ كَانَ لَاصِقًا بِالْجِدَارِ الْقِبْلِيِّ، وَلَحْدَهُ تَحْتَ الْجِدَارِ، فَلَا مَوْضِعَ هُنَاكَ يُوضَعُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ تَعَلُّقُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، قُلْتُ: مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ، فَتَأَمَّلْ، وَأَنْصِفْ، وَلَا تَتَّبِعِ الْمُتَعَسِّفَ قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَغَالِبُ طُرُقِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَاللَّهِ فَكَأَنِّي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قَبْرِ عَبْدِ اللَّهِ ذِي الْبِجَادَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، يَقُولُ: أَدْنِيَا مِنِّي أَخَاكُمَا، وَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، حَتَّى أَسْنَدَهُ فِي لَحْدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَلَّاهُمَا الْعَمَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَمْسَيْتُ عَنْهُ رَاضِيًا فَارْضَ عَنْهُ» ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، فَوَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوْ وَدِدْتُ أَنِّي مَكَانَهُ.

1707 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَدْخَلَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الثَّانِيَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1707 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أُدْخِلَ) رُوِيَ مَجْهُولًا وَمَعْلُومًا. (الْمَيِّتُ) بِالرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ. (الْقَبْرَ) مَفْعُولٌ ثَانٍ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَلًا أَوْ تَعْلِيمًا. (بِسْمِ اللَّهِ) أَيْ: وَضَعْتُهُ أَوْ وُضِعَ أَوْ أُدْخِلُهُ. (وَبِاللَّهِ) أَيْ: بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، أَوْ بِعَوْنِهِ وَقُدْرَتِهِ. (وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِهِ الْجَامِعَةِ الشَّامِلَةِ، وَدِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ الْكَامِلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: أَدْخُلُ رُوِيَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَى نَاسٌ نَارًا فِي الْمَقْبَرَةِ فَأَتَوْهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَبْرِ وَهُوَ يَقُولُ: نَاوِلُونِي صَاحِبَكُمْ، فَإِذَا هُوَ بِالرَّجُلِ الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَعْلُومِ يَحْتَمِلُ الدَّوَامَ أَيْضًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْمَجْهُولِ يَحْتَمِلُ عَدَمَهُ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى. أَقُولُ: وَفِيهِ أَنَّ إِدْخَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَيِّتَ بِنَفْسِهِ الْأَشْرَفِ لَمْ يَكُنْ دَائِمًا بَلْ كَانَ نَادِرًا، لَكِنَّ قَوْلَهُ: بِسْمِ اللَّهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا مَعَ إِدْخَالِهِ وَإِدْخَالِ غَيْرِهِ تَأَمَّلْ. (وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: شَرِيعَتِهِ وَطَرِيقَتِهِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْأَوْلَى مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: كُلُّهُمُ الرِّوَايَتَيْنِ. (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الثَّانِيَةَ) أَيِ: الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ بِسْمِ اللَّهِ: وَبِاللَّهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَلَفْظُهُ: «إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي قُبُورِهِمْ فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» ، وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ طُرُقٌ عَدِيدَةٌ.

1708 - وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا ": «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَى عَلَى الْمَيِّتِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ» " رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: رَشَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1708 - (وَعَنْ جَعْفَرٍ) أَيِ: الصَّادِقِ. (بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِيهِ) أَيْ: مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ. (مُرْسَلًا) لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُذِفَ الصَّحَابِيُّ، وَالْغَالِبُ رِوَايَتُهُ عَنْ جَابِرٍ. (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَى) كَرَمَى، أَيْ: قَبَضَ التُّرَابَ وَرَمَاهُ. (عَلَى الْمَيِّتِ) الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. (ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ) أَيْ: حَفَنَاتٍ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهُ يَقُولُ: مَعَ الْأُولَى. (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) وَمَعَ الثَّانِيَةِ. (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) وَمَعَ الثَّالِثَةِ. (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) . (بِيَدَيْهِ جَمِيعًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَالسُّنَّةُ لِمَنْ حَضَرَ الْمَيِّتَ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ أَنْ يَحْثِيَ التُّرَابَ، وَيَرْمِيَهُ فِي الْقَبْرِ بَعْدَ نَصْبِ اللَّبِنِ، وَفِي التَّحْبِيرِ لِلْقُشَيْرِيِّ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ فِي الْمَنَامِ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: وُزِنَتْ حَسَنَاتِي فَرَجَحَتِ السَّيِّئَاتُ عَلَى الْحَسَنَاتِ فَسَقَطْتُ عَلَى صُرَّةٍ فِي كِفَّةِ الْحَسَنَاتِ فَرَجَحَتْ، فَحُلَّتِ الصُّرَّةُ، فَإِذَا فِيهَا كَفُّ تُرَابٍ أَلْقَيْتُهُ فِي قَبْرِ مُسْلِمٍ، ذَكَرَهُ فِي الْمَوَاهِبِ. (وَأَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَشَّ) أَيِ: الْمَاءَ. (عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُسَنُّ حَيْثُ لَا مَطَرَ رَشُّ الْقَبْرِ بِمَاءٍ بَارِدٍ، وَطَاهِرٍ طَهُورٍ تَفَاؤُلًا، بِأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّدُ مَضْجَعَهُ. (وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ) وَهِيَ بِالْمَدِّ الْحَصَى الصِّغَارُ قَالَ: فَفِي الْقَامُوسِ الْحَصْبَاءُ الْحَصَى، وَالْحَصَى صِغَارُ الْحِجَارَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْحَصْبَاءُ الصِّغَارُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْحَصَا عَلَيْهِ سُنَّةٌ، لِئَلَّا يَنْبِشَهُ سَبُعٌ، وَلِيَكُونَ عَلَامَةً لَهُ اهـ. وَفِي الْعِلَّةِ الْأُولَى بَحْثٌ. (رَوَاهُ) أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) وَرَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ. (رَشَّ) قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ الْبَاقِرِ مُرْسَلًا فِي حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِلَى جَمِيعًا، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ رَشَّ، وَقَدَّمَ حَدِيثَ الرَّشِّ عَلَى حَدِيثِ حَثَى، وَذَكَرَ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَحَثَى بِيَدَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ» ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ مِيرَكُ: كَذَا فِي التَّصْحِيحِ، وَهُوَ خِلَالَ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فَتَأَمَّلْ اهـ. وَرَوَى الْبَزَّارُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالرَّشِّ فِي قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ فِي قَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَدَلِيلُ الْحَثْيِ جَيِّدٌ، وَدَلِيلُ وَضْعِ الْحَصَى ضَعِيفٌ، وَمَعَ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِهِ فَيُسَنُّ وَضْعُهَا عَلَى الْقَبْرِ اهـ. وَفِيهِ إِشْكَالَانِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ حَدِيثَ الْحَثْيِ وَالرَّشِّ وَاحِدٌ، وَحَدِيثَ الرَّشِّ بِانْفِرَادِهِ ضَعِيفٌ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ لَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ.

1709 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ تُوطَأَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1709 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ) بِالتَّذَكِيرِ وَتُؤَنَّثُ. (الْقُبُورُ) قِيلَ: لَعَلَّ وُرُودَ النَّهْيِ لِأَنَّهُ نَوْعُ زِينَةٍ، وَلِذَلِكَ رَخَّصَ بَعْضُهُمُ التَّطْيِينَ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُطَيِّنَ الْقَبْرُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا) قَالَ الْمُظْهِرُ: يُكْرَهُ كِتَابَةُ اسْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ، لِئَلَّا يُهَانَ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ، وَيُدَاسَ بِالِانْهِدَامِ، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَكَذَا يُكْرَهُ كِتَابَةُ اسْمِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ عَلَى جِدَارِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَخَذَ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكِتَابَةُ عَلَى الْقَبْرِ سَوَاءٌ اسْمُ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرُهُ فِي لَوْحٍ عِنْدَ رَأْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ، قِيلَ: وَيُسَنُّ كِتَابَةُ اسْمِ الْمَيِّتِ لَا سِيَّمَا الصَّالِحُ لِيُعْرَفَ عِنْدَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْكِتَابَةِ مَنْسُوخٌ كَمَا قَالَهُ الْحَاكِمُ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّائِدِ عَلَى مَا يُعْرَفُ بِهِ حَالُ الْمَيِّتِ اهـ. وَفِي قَوْلِهِ: يُسَنُّ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ. (وَأَنْ تُوطَأَ) أَيْ: بِالْأَرْجُلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ، قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: النَّهْيُ عَنِ التَّجْصِيصِ وَالْكِتَابَةِ وَالْوَطْءِ الْكَرَاهِيَةُ، وَالْوَطْءُ لِحَاجَةٍ كَزِيَارَةٍ، وَدَفْنِ مَيِّتٍ لَا يُكْرَهُ نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَفِي وَطْئِهِ لِلزِّيَارَةِ مَحَلُّ بَحْثٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَابِرٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1710 - وَعَنْهُ قَالَ: " «رُشَّ قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الَّذِي رَشَّ الْمَاءَ عَلَى قَبْرِهِ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، بِقِرْبَةٍ بَدَأَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رِجْلَيْهِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1710 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ. (قَالَ: رُشَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِنْزَالِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعَوَاطِفِ الرَّبَّانِيَّةِ، كَمَا وَرَدَ بِالطَّرَاوَةِ وَعَدَمِ الدُّرُوسِ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنَّ الْقَبْرَ إِذَا رُشَّ بِالْمَاءِ كَانَ أَكْثَرَ بَقَاءً وَأَبْعَدَ عَنِ التَّنَاثُرِ وَالِانْدِرَاسِ، قُلْتُ: هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ حِسِّيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِبَارَةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنَ الْإِشَارَةِ فَهُوَ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ الشَّرَافَةِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُرِيدِينَ بَنَى بَيْتًا ثُمَّ ضَيَّفَ شَيْخَهُ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: لِأَيِّ شَيْءٍ فَتَحْتَ الطَّاقَةَ؟ قَالَ: لِدُخُولِ الْهَوَاءِ، وَشُمُولِ الضِّيَاءِ، فَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقْصِدَ بِالْأَصَالَةِ سَمَاعَ الْأَذَانِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي تَبَعًا لَهُ. (وَكَانَ الَّذِي رَشَّ الْمَاءَ عَلَى قَبْرِهِ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ) بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. (بِقِرْبَةٍ بَدَأَ) أَيِ: ابْتَدَأَ فِي الرَّشِّ. (مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ) لِشَرَفِهِ وَاسْتَمَرَّ. (حَتَّى انْتَهَى إِلَى رِجْلَيْهِ) وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَرَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ مِرَارًا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ) وَفِي وَجْهِ رِوَايَتِهِ فِي الدَّلَائِلِ خَطَأٌ.

1711 - وَعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ، فَدُفِنَ، أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَأْتِهِ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهَا فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ. قَالَ الْمُطَّلِبُ: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا، ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: أُعَلِّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1711 - (وَعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ قُرَشِيٌّ، أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، لَمْ يَنْسُبِ الْمُطَّلِبُ رَاوِيَهُ، وَكَذَا فِي الْمَصَابِيحِ وَقَعَ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَالْمُصَنِّفُ جَعَلَهُ مَنْسُوبًا إِلَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: وَالسُّلَمِيُّ فِي تَخْرِيجِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ، وَهُوَ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَفِي الْحَدِيثِ إِرْسَالٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ، حَيْثُ قَالَ الْمُطَّلِبُ: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِلَى آخِرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى خَطَأِ الْمُصَنِّفِ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا كَثِيرٌ عَنْ يَزِيدَ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ فَوُضِعَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: هَذَا عَلَامَةُ قَبْرِهِ، يُدْفَنُ إِلَيْهِ يَعْنِي مَنْ مَاتَ بَعْدَهُ» اهـ. (قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ. (أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ) كَأَنَّهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْعَاطِفِ أَيْ: وَأَخْرَجَ جَنَازَتَهُ. (فَدُفِنَ) وَقَوْلُهُ: (أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) جَوَابُ لَمَّا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ لَمَّا هُوَ أُخْرِجَ، لِوُقُوعِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَرَ حُذِفَ عَاطِفُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَاشِيَةِ السَّابِقَةِ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ) أَيْ: كَبِيرٍ لِوَضْعِ الْعَلَامَةِ وَفِي رِوَايَةٍ: بِصَخْرَةٍ. (فَلَمْ يَسْتَطِعْ) أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ. (حَمْلَهَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ عَلَى تَأْوِيلِ الصَّخْرَةِ. (فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَرَ) أَيْ: كَشَفَ وَأَبْعَدَ كُمَّهُ. (عَنْ ذِرَاعَيْهِ) أَيْ: سَاعِدَيْهِ، وَفِي النِّهَايَةِ أَخْرَجَهَا عَنْ كُمَّيْهِ اهـ. وَهُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى. وَفِي الْأَزْهَارِ فِيهِ أَنَّ حَسْرَ الذِّرَاعِ لِحَاجَةٍ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَلَا تَرْكُ أَدَبٍ بِمَرْأَى النَّاسِ، إِذْ فِيهِ صِيَانَةُ الثَّوْبِ عَنِ الْأَدْنَاسِ. (قَالَ الْمُطَّلِبُ: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَسَرَ» ) أَيْ: كَشَفَ الثَّوْبَ عَنْهُمَا. (ثُمَّ حَمَلَهَا أَيْ: وَحْدَهُ. (فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ) أَيْ: رَأَسِ قَبْرِ عُثْمَانَ. (وَقَالَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (أُعَلِّمُ) مُضَارِعُ مُتَكَلِّمٍ مِنَ الْإِعْلَامِ. (بِهَا) أَيْ: أُعَلِّمُ النَّاسَ بِهَذِهِ الْحِجَارَةِ. (قَبْرَ أَخِي) وَأَجْعَلُ الصَّخْرَةَ عَلَامَةً لِقَبْرِ أَخِي، وَسَمَّاهُ أَخًا تَشْرِيفًا لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ قُرَشِيًّا، أَوْ لِأَنَّهُ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، قِيلَ: إِنَّهُ أَسْلَمُ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَهَاجَرَ مَرَّتَيْنِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَوَّلُ

مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. (وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى قُرْبِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أُضَمُّ إِلَيْهِ فِي الدَّفْنِ. (مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي) فِي الْأَزْهَارِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ عَلَّامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعَلِّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي» ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْمَعَ الْأَقَارِبُ فِي مَوْضِعٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» ، وَكَانَ عُثْمَانُ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ دُفِنَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ ابْنُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: سَمَّاهُ أَخَاهُ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ كَانَ قُرَشِيًّا، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ الْجُمَحِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ: لَا أَشْرَبُ مَا يُضْحِكُ بِيَ مَنْ هُوَ دُونِي، وَقَالَ السُّلَمِيُّ: وَكَانَ عُثْمَانُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ دَفْنٍ بِالْبَقِيعِ، وَمَنْ هَاجَرَ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبَ بِنْتِهِ بَعْدَ أَنْ مَاتَتِ الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ: عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ» ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَأُخْتِهِ زَيْنَبَ لَمَّا تُوُفِّيَا: الْحَقَا بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ: عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ» فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ بِالنِّسْبَةِ لِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ بَعْضُ مُتَقَدِّمِي أَئِمَّتِنَا: وَيُسَنُّ وَضْعُ أُخْرَى عِنْدَ رِجْلِهِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ حَجَرَيْنِ عَلَى قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَرَدَ بِأَنَّ الْمَحْفُوظَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ حَجَرٌ وَاحِدٌ كَمَا تَقَرَّرَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ الْحَجَرَ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ التَّعَدُّدَ، مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرِّرَةَ التَّعَارُضَ عَلَى تَسْلِيمِ ثُبُوتِ الْوَاحِدِ أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ مَوْلَى الْأَسْلَمِيِّينَ، تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ اهـ. فَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ أَنَّ سَنَدَهُ جَيِّدٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الِانْتِقَادِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ النُّقَّادُ.

1712 - وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ، اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1712 - (وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهْ) بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَهِيَ عَمَّتُهُ، لَكِنْ قَالَ يَا أُمَّاهْ ; لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ، أَوْ لِكَوْنِهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. (اكْشِفِي لِي) أَيْ: أَظْهِرِي وَارْفَعِي السِّتَارَةَ. (عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولِ اللَّهِ. (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ) أَيْ: ضَجِيعَيْهِ، وَهُمَا الْعُمَرَانِ الْقَمَرَانِ الْمُنَوِّرَانِ، بِجَنْبِ الْبَدْرِ الْمُنِيرِ، أَوْ شَمْسِ الظَّهِيرِ. (فَكَشَفَتْ لِي) لِأَجْلِي أَوْ لِرُؤْيَتِهِ. (عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ) أَيْ: مُرْتَفِعَةٍ غَايَةَ الِارْتِفَاعِ، وَقِيلَ: أَيْ: عَالِيَةٍ أَكْثَرَ مِنْ شِبْرٍ (وَلَا لَاطِئَةٍ) بِالْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ أَيْ: مُسْتَوِيَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، يُقَالُ: لَطَأَ بِالْأَرْضِ أَيْ: لَصِقَ بِهَا. (مَبْطُوحَةٍ) صِفَةٌ لِقُبُورٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: مُسَوَّاةٍ مَبْسُوطَةٍ عَلَى الْأَرْضِ اهـ. وَفِيهِ أَنْ تَكُونَ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى لَاطِئَةٍ، وَتَقَدَّمَ نَفْيُهَا، وَالصَّوَابُ مَعْنَاهَا مُلْقَاةٌ فِيهَا الْبَطْحَاءُ، فَفِي الْقَامُوسِ: تَبْطِيحُ الْمَسْجِدِ إِلْقَاءُ الْحَصَى فِيهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: بَطْحُ الْمَكَانِ تَسْوِيَتُهُ، وَبَطَحَ " الْمَسْجِدَ أَلْقَى فِيهِ الْبَطْحَاءَ، وَهُوَ الْحَصَى الصِّغَارُ، اهـ. وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِلشَّافِعِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّسْطِيحِ، وَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقُبُورَ الثَّلَاثَةَ مُسَطَّحَةٌ لَا مُسَنَّمَةٌ، وَأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ صَحَّحَ أَنَّ قَبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْتَفِعٌ شِبْرًا، قُلْتُ: كَوْنُهُ مُرْتَفِعًا شِبْرًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُسَنَّمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَصْرِيحُ سُفْيَانَ: أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا. (بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ) أَيْ: بِرَمْلِ الْعَرْصَةِ، وَهِيَ مَوْضِعٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَرْصَةُ جَمْعُهَا عَرَصَاتٌ، وَهِيَ كُلُّ مَوْضِعٍ

وَاسِعٍ لَا بِنَاءَ فِيهِ، وَالْبَطْحَاءُ مَسِيلٌ وَاسِعٌ فِيهِ دِقَاقُ الْحَصَى، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْحَصَى لِإِضَافَتِهَا إِلَى الْعَرْصَةِ، وَقَوْلُهُ. (الْحَمْرَاءِ) صِفَةٌ لِلْبَطْحَاءِ أَوِ الْعَرْصَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُرْتَفِعَةٍ، وَلَا مُنْخَفِضَةٍ، لَاصِقَةٍ بِالْأَرْضِ مَبْسُوطَةٍ مُسَوَّاةٍ، وَالْبَطْحُ أَنْ يُجْعَلَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ مُسَطَّحًا، حَتَّى يُسَوَّى وَيَذْهَبَ التَّفَاوُتُ. قَالَ السَّيِّدُ: وَفِيهِ بَحْثٌ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مَا قُلْنَا، أَوَّلًا أَوْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْقُبُورِ صُورَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَنِ الْأَرْضِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ الْخِلَافَ لِي أَنَّهَا مُسَنَّمَاتٌ أَوْ مُرَبَّعَاتٌ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مِنَ ابْنِ الْهُمَامِ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَقَامِ، ثُمَّ قَالَ السَّيِّدُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَلْقَى فِيهَا بَطْحَاءَ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ السَّيِّدُ: قِيلَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقِيلَ: حَسَنٌ.

1713 - «وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمْ يُلْحَدْ بَعْدُ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَجَلَسْنَا مَعَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1713 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ) أَيْ: فَوَصَلْنَا. (وَلَمَّا) أَيْ: لَمْ. (يَلْحَدْ بَعْدُ) أَيْ: لَمْ يَفْرَغْ مِنْ حَفْرِ اللَّحْدِ بَعْدَ مَجِيئِنَا. (فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (وَجَلَسْنَا مَعَهُ) أَيْ: حَوْلَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، حَتَّى يُلْحَدَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَأَمَّا عِنْدَ زِيَارَةِ الْمَيِّتِ فَيَجْلِسُ أَوْ يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ، هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ. (وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ) إِشَارَةً إِلَى الْإِطْرَاقِ قَالَ السَّيِّدُ: قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مُطَوَّلًا فِي بَابِ: مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْهُ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ ذُهِلَ عَنْ إِيرَادِ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَأَوْرَدَهُ هُنَاكَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَا أَوْرَدَهُ مُطَوَّلًا فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَأَيْضًا أَوْرَدَهُ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ يَحْصُلُ بِهَا الْمُغَايَرَةُ بِلَا تَكْرَارٍ حَقِيقَةً.

1714 - وَعَنْ عَائِشَةَ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» " رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1714 - (وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ " «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» " يَعْنِي فِي الْإِثْمِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُهَانُ مَيِّتًا، كَمَا لَا يُهَانُ حَيًّا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَأَلَّمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ لَازَمِهِ أَنَّهُ يَسْتَلِذُّ بِمَا يَسْتَلِذُّ بِهِ الْحَيُّ اهـ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَذَى الْمُؤْمِنِ فِي مَوْتِهِ كَأَذَاهُ فِي حَيَاتِهِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ. (وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: سَنَدُهُ حَسَنٌ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1715 - «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُدْفَنُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا. قَالَ: فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا، فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1715 - (عَنْ أَنَسٍ: قَالَ: شَهِدْنَا) أَيْ: حَضَرْنَا. (بِنْتَ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أُمَّ كُلْثُومٍ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (تُدْفَنُ) فِي حَالِ دَفْنِهَا. (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. (عَلَى الْقَبْرِ) أَيْ: شَفِيرِهِ. (فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ) تَسِيلَانِ دَمْعًا. (فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟) مِنْ زَائِدَةٌ. (لَمْ يُقَارِفْ) فِي النِّهَايَةِ: قَارَفَ الذَّنْبَ إِذَا أَتَاهُ، وَلَاصَقَهُ، وَقَارَفَ امْرَأَتَهُ إِذَا جَامَعَهَا، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: لَمْ يُقَارِفْ أَيْ: لَمْ يُذْنِبْ ذَنْبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْجِمَاعُ فَكُنِّيَ عَنْهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ:

(اللَّيْلَةَ) أَيِ: الْبَارِحَةَ بِقَرِينَةِ السُّؤَالِ، نَقَلَ مِيرَكُ: قَالَ الرَّاوِي: يَعْنِي لَمْ يُقَارِفِ الذَّنْبَ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: قَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ ذُنُوبًا كَسَبَهَا، وَقَارَفَ فُلَانٌ الشَّيْءَ إِذَا دَنَاهُ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ قِرَافٍ أَيْ: خِلَاطٍ وَجِمَاعٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَارَبْتَهُ، فَقَدْ قَارَفْتَهُ. قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عُثْمَانَ وَكَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي تُوُفِّيَتْ، هَلْ خَالَطَ امْرَأَتَهُ أَيِ: الْأُخْرَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ؟ فَلَمْ يَقُلْ عُثْمَانُ لَمْ أُقَارِفْ أَنَا) ، كَذَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلْحَافِظِ إِسْمَاعِيلَ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ. (فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَارَفَةِ الْجِمَاعُ، وَإِنْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ مَجْهُولَةً عِنْدَنَا فَإِنَّ الْجَزْمَ بِعَدَمِ مُقَارَفَةِ الذَّنْبِ مُسْتَبْعَدٌ مِنَ الْأَكَابِرِ. (قَالَ: فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا) فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا الظَّاهِرِ لِأَنْ يَدْفِنَهَا فِيهِ فَيَكُونَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ الْمُسَاعَدَةَ، وَالْمُحَرَّمُ دَفْنَهَا. قَالَ أَبُو الْهُمَامِ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنَ النِّسَاءِ الْقَبْرَ، وَلَا يُخْرِجُهُنَّ إِلَّا الرِّجَالُ ; لِأَنَّ مَسَّ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا بِحَائِلٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ فِي حَيَاتِهَا فَكَذَا بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِذَا مَاتَتْ وَلَا مَحْرَمَ دَفَنَهَا أَهْلُ الصَّلَاحِ مِنْ مَشَايِخِ جِيرَانِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَالشَّبَابُ الصُّلَحَاءُ، أَمَّا إِنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَلَوْ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ نَزَلَ، وَأَلْحَدَهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا يُشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَحَارِمَ وَالزَّوْجَ أَوْلَى مِنْ صَالِحِ الْأَجَانِبِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُثْمَانَ كَانَ لَهُمَا عُذْرٌ مَنَعَهُمَا نُزُولَ الْقَبْرِ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنَ الْخَبَرِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّةَ صُلَحَاءُ وَأَحَدُهُمْ بَعِيدُ الْعَهْدِ بِالْجِمَاعِ قُدِّمَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ: أَنَّ رُقْيَةَ لَمَّا مَاتَتْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَدْخُلُ الْقَبْرَ رَجُلٌ قَارَفَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَدْخُلْ عُثْمَانُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُهُ مَعَ مَا مَرَّ أَنَّ عُثْمَانَ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي كُلٍّ مِنْ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ الْأَصْلِ أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ فَيُحْمَلُ الْمُجْمَلُ عَلَى الْمُبَيَّنِ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَعَ عَلَى جِمَاعِ عُثْمَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَكَنَّى عَنْ مَنْعِهِ بِقَوْلِهِ: أَيُّكُمْ لَمْ يُقَارِفْ؟ فَسَكَتَ فَصَدَقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَلَغَهُ فَأَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يَتَوَلَّى إِدْخَالَهَا، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْقَبْرِ لِأَنَّهُ لِفَرْطِ شَهْوَتِهِ قَارَفَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَخَشِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ نَزَلَ أَنْ يَتَذَكَّرَ شَيْئًا فَيَذْهَلَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِكَمَالِ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مُنَافٍ ; لِأَنْ يَقَعَ مُتَعَدِّدًا مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1716 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَعْلَمَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1716 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ لِابْنِهِ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ. (وَهُوَ) أَيْ: عَمْرٌو. (فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ) أَيْ: صَدَدِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: السِّيَاقُ النَّزْعُ وَأَصْلُهُ السِّوَاقُ. (إِذَا أَنَا مُتُّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا. (فَلَا تَصْحَبْنِي) أَيْ: لَا تَتْرُكْ أَنْ يَكُونَ مَعَ جَنَازَتِي. (نَائِحَةٌ) أَيْ: صَائِحَةٌ بِالْبُكَاءِ، وَنَادِبَةٌ بِالنِّدَاءِ ; فَإِنَّهُ يُؤْذِي الْمَيِّتَ وَالْحَيَّ، وَشَغَلَ الْمُشَيِّعَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَفَنَاءِ الدُّنْيَا، وَفَكَّرَ مُقَصِّرَهُمْ فِي أَمْرِ الْعُقْبَى. (وَلَا نَارٌ) أَيْ: لِلْمُبَاهَاةِ وَالرِّيَاءِ، كَمَا كَانَ عَادَةُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَقِيَتْ إِلَى الْآنَ فِي مَكَّةَ مِنْهَا بَقِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِأَنَّهَا مِنَ التَّفَاؤُلِ الْقَبِيحِ، وَفِيهِ أَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّفَاؤُلِ الْقَبِيحِ، لَا أَنَّهَا بَعْضُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. (فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي) أَيْ: أَرَدْتُمْ دَفْنِي. (فَشُنُّوا) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: صُبُّوا وَكُبُّوا. (عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا) فِي النِّهَايَةِ: الشَّنُّ الصَّبُّ، بِسُهُولَةٍ (ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي) لَعَلَّهُ دُعَاءٌ بِالتَّثْبِيتِ وَغَيْرِهِ. (قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ) أَيْ: بَعِيرٌ وَهُوَ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُذَكَّرُ، فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ يُنْحَرُ وَتَأْنِيثُهُ. (وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ أَيْ: بِدُعَائِكُمْ وَأَذْكَارِكُمْ وَقِرَاءَتِكُمْ، وَاسْتِغْفَارِكُمْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّهُ «كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الرَّجُلِ يَقِفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لِأَخِيكُمْ، وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، وَفِي رِوَايَةٍ التَّثَبُّتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: وَبِهَذَا الْخَبَرِ وَقَوْلِ عُمَرَ اعْتَضَدَ حَدِيثُ التَّلْقِينِ الْمَشْهُورِ، فَمِنْ ثَمَّ عَمِلُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَيَقُولُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إِنَّ التَّلْقِينَ بِدْعَةٌ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، اهـ. وَهُوَ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ لِأَنَّ الْمُعْتَضِدَ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمُعْتَضِدِ وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَضِدْ إِجْمَاعًا كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّهُ الْفَضَائِلُ الثَّابِتَةُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ لَقِّنُوا فَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. (وَأَعْلَمَ) مِنْ غَيْرِ وَحْشَةٍ. (مَاذَا أُرَاجِعُ) أَيْ: أُجَاوِبُ بِهِ. (رُسُلَ رَبِّي) أَيْ: سُؤَالَ الْمَلَكَيْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ ) .

1717 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلْيُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ فَاتِحَةُ الْبَقَرَةِ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْبَقَرَةِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1717 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ» ) أَيْ: لَا تُؤَخِّرُوا دَفْنَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُسْتَحْسَنُ الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِهِ كُلِّهِ مِنْ حِينِ يَمُوتُ. (وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ) وَهُوَ تَأْكِيدٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى سُنَّةِ الْإِسْرَاعِ فِي الْجَنَازَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: دُونَ الْخَبَبِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْعَدْوِ دُونَ الْعَنَقِ، وَالْعَنَقُ: خَطْوٌ فَسِيحٌ، فَيَمْشُونَ بِهِ مَا دُونَ الْعَنَقِ، وَلَوْ مَشَوْا بِهِ الْخَبَبَ كُرِهَ، لِأَنَّهُ ازْدِرَاءٌ بِالْمَيِّتِ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَشْيِ مَعَ الْجَنَازَةِ فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ،» وَهُوَ مُضَعَّفٌ. وَأَخْرَجَ السِّتَّةُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ غَيْرَ صَالِحَةٍ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» . (وَلْيُقْرَأْ) بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ، وَبِسُكُونِ اللَّامِ وَيُكْسَرُ. (عِنْدَ رَأْسِهِ فَاتِحَةَ الْبَقَرَةِ) أَيْ: إِلَى الْمُفْلِحُونَ. (وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ) وَفِي نُسْخَةٍ خَاتِمَةِ. (الْبَقَرَةِ) أَيْ: مِنْ. (آمَنَ الرَّسُولُ) إِلَخْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ تَخْصِيصَ فَاتِحَتِهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَدْحِ كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ هَدًى لِلْمُتَّقِينَ، الْمَوْصُوفِينَ بِالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَخَاتِمَتِهَا لِاحْتِوَائِهَا عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَإِظْهَارِ الِاسْتِكَانَةِ، وَطَلَبِ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّوَلِّي إِلَى كَنَفِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِمَايَتِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ابْنِ عُمَرَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرُوزِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إِذَا دَخَلْتُمُ الْمَقَابِرَ فَاقْرَءُوا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَاجْعَلُوا ثَوَابَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلزَّائِرِ الِاعْتِبَارُ، وَلِلْمَزُورِ الِانْتِفَاعُ بِدُعَائِهِ اهـ. وَفِي الْإِحْيَاءِ لِلْغَزَالِيِّ: وَالْعَاقِبَةِ لِعَبْدِ الْحَقِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَحْوُهُ، وَأَخْرَجَ الْخَلَّالُ فِي الْجَامِعِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا مَاتَ لَهُمُ الْمَيِّتُ اخْتَلَفُوا إِلَى قَبْرِهِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَأَخْرَجَ أَبُو مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي فَضَائِلِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «مَنْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ وَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ وَهَبَ أَجْرَهُ لِلْأَمْوَاتِ، أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ الْأَمْوَاتِ» ، وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ: سَعْدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ فِي مَوَائِدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ ثُمَّ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَأَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ ثَوَابَ مَا قَرَأْتُ مِنْ كَلَامِكَ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، كَانُوا شُفَعَاءَ لَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى» ، وَأَخْرَجَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْأَنْصَارِيُّ فِي مَشْيَخَتِهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ حَمَّادٌ الْمَكِّيُّ: خَرَجْتُ لَيْلَةً إِلَى مَقَابِرِ مَكَّةَ فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى قَبْرٍ فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ أَهْلَ الْمَقَابِرِ حَلَقَةً حَلَقَةً، فَقُلْتُ: قَامَتِ الْقِيَامَةُ قَالُوا: لَا، وَلَكِنْ رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِنَا قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لَنَا فَنَحْنُ نَقْتَسِمُهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْعَزِيزِ صَاحِبُ الْخِلَالِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ» ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَدِيثُ اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْمَيِّتِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ، ثُمَّ قَالَ: اخْتُلِفَ فِي وُصُولِ ثَوَابِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ، فَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوُصُولِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ إِمَامُنَا الشَّافِعِيُّ مُسْتَدِلًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنِ الْآيَةِ بِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] الْآيَةَ أَدْخَلَ الْأَبْنَاءَ الْجَنَّةَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ، الثَّانِي: أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ لَهَا مَا سَعَتْ، وَمَا سُعِيَ لَهَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْكَافِرُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ مَا سَعَى وَسُعِيَ لَهُ قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. الرَّابِعُ: لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى مِنْ طَرِيقِ الْعَدْلِ، فَأَمَّا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ فَجَائِزٌ أَنْ يَزِيدَهُ اللَّهُ مَا شَاءَ قَالَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ. الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّامَ فِي الْإِنْسَانِ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ: لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْوُصُولِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي نَقْلِ الثَّوَابِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَنْ

حَجٍّ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ وَقْفٍ أَوْ دُعَاءٍ، أَوْ قِرَاءَةٍ، وَبِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا فِي كُلِّ مِصْرٍ وَعَصْرٍ يَجْتَمِعُونَ وَيَقْرَءُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي جُزْءٍ أَلَّفَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ فَجَازَ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: اسْتُحِبَّ لِزَائِرِ الْقُبُورِ أَنْ يَقْرَأَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَدْعُوَ لَهُمْ عَقِبَهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِنْ خَتَمُوا الْقُرْآنَ عَلَى الْقَبْرِ كَانَ أَفْضَلَ.

1718 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحُبْشِيِّ وَهُوَ مَوْضِعٌ فَحُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ بِهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ أَتَتْ قَبْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ، لَوْ حَضَرْتُكَ مَا دُفِنْتَ إِلَّا حَيْثُ مُتَّ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1718 - (وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ. (قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ: الصِّدِّيقُ. (بِالْحُبْشِيِّ) فِي النِّهَايَةِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَكَسْرِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، مَوْضِعٌ) قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَبَلٌ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ. (وَهُوَ مَوْضِعُ تَفْسِيرٍ مِنَ الرَّاوِي يَحْتَمِلُ الْقَوْلَيْنِ. (فَحُمِلَ) أَيْ: نُقِلَ. (إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ بِهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ) أَيْ: مَكَّةَ. (أَتَتْ قَبْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ: أَخِيهَا. (فَقَالَتْ) أَيْ: مُنْشِدَةً مُشِيرَةً إِلَى أَنَّ طُولَ الِاجْتِمَاعِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ زَوَالِهِ يَكُونُ كَأَقْصَرِ زَمَنٍ وَأَسْرَعِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْفَانِي جَمِيعُهُ، قَالَ تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] وَلِذَا قِيلَ: الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَاجْعَلْهَا طَاعَةً. (وَكُنَّا) أَيْ: إِنَّا وَإِيَّاكَ حَالَ حَيَاتِكَ مُتَقَارِبَيْنِ، وَمُتَصَاحِبَيْنِ وَمُتَحَابَّيْنِ. (كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجَذِيمَةُ هَذَا كَانَ مَلِكًا بِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْعَرَبَ، وَهُوَ صَاحِبُ الزَّبَّاءِ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: الزَّبَّاءُ مَلِكَةُ الْجَزِيرَةِ، وَتُعَدُّ مِنْ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ أَيْ: كَنَدِيمِيْهِ وَجَلِيسَيْهِ وَأَنِيسَيْهِ، قِيلَ: نَدْمَانَاهُ الْفَرْقَدَانِ. (حِقْبَةً) بِكَسْرٍ أَيْ: مُدَّةً لَا وَقْتَ لَهَا. (مِنَ الدَّهْرِ) أَيِ: الزَّمَانِ. (حَتَّى قِيلَ) : أَيْ: إِلَى أَنْ قَالَ النَّاسُ: إِنَّهُمَا (لَنْ يَتَصَدَّعَا) أَيْ: لَنْ يَتَفَرَّقَا) أَبَدًا، تَوَهَّمَا أَنَّ طُولَ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ يَدُومُ. (فَلَمَّا تَفَرَّقَا أَيْ: بِالْمَوْتِ. (كَأَنِّي وَمَالِكٌ) هُوَ أَخُو الشَّاعِرِ الْمَيِّتِ (لِطُولِ اجْتِمَاعٍ) أَيْ: عِنْدَهُ. (لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً) أَيْ: سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ. (مَعًا) أَيْ: مُجْتَمَعَيْنِ لِمَا تَقَرَّرُ أَنَّ الْفَانِيَ إِذَا انْقَطَعَ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، قَالَ تَعَالَى: {كَأَنَّ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] وَقِيلَ: اللَّامُ فِي طُولٍ بِمَعْنَى مَعَ أَوْ بَعْدَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكَ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَمِنْهُ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، أَيْ: بَعْدَهَا، قَالَ الشَّمَنِيُّ فِي شَرْحِ الْمُغْنِي: وَهَذَا الْبَيْتُ لِتَمِيمِ بْنِ نُوَيْرَةَ، يَرْثِي أَخَاهُ مَالِكًا، الَّذِي قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. (ثُمَّ قَالَتْ) أَيْ: عَائِشَةُ. (وَاللَّهِ لَوْ حَضَرْتُكَ) أَيْ: وَقْتَ الدَّفْنِ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَيْ: حَضَرْتُ وَفَاتَكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَدَفْنَكَ. (مَا دُفِنْتَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (إِلَّا حَيْثُ مُتَّ) أَيْ: مَنَعْتُكَ أَنْ تُنْقَلَ، وَقَدْ نُقِلَ بَحْثُ النَّقْلِ فِيمَا سَبَقَ، وَكَأَنَّهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَهَبَتْ إِلَى مَنْعِ النَّقْلِ مُطْلَقًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أَنَّ كُلَّ مَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ لَا يُمِيتُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي مَكَّةَ اهـ. وَهُوَ تَعْلِيلٌ غَرِيبٌ. (وَلَوْ شَهِدْتُكَ) أَيْ: حَضَرْتُ وَفَاتَكَ. (مَا زُرْتُكَ) أَيْ: ثَانِيًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ زَوَّارَتِ الْقُبُورِ» . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا قِيلَ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ بِنَسْخِ ذَلِكَ، قُلْتُ: النَّاسِخُ قَوْلُهُ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» "، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرُّخْصَةُ إِنَّمَا هِيَ الرِّجَالُ، فَلَعَلَّهَا ذَهَبَتْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا مَا جَوَّزَتْ خُرُوجَ نِسَاءٍ إِلَى الْمَسَاجِدِ مَعَ تَجْوِيزِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلِّلَةً بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ عَلِمَ فَسَادَ نِسَاءِ الزَّمَانِ لَمَنَعَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ ; لِأَنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كُنَّ مُعْتَدَّاتٍ أَبَدًا، فَلَا يَجُوزُ خُرُوجُهُنَّ مِنَ الْبَيْتِ إِلَّا لِحَاجَةٍ، كَالْحَجِّ أَوْ مُجَرَّدِ الزِّيَارَةِ، لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1719 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «سَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدًا، وَرَشَّ عَلَى قَبْرِهِ مَاءً» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1719 - (وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: سَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدًا) هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الضَّرُورَةِ أَوِ الْجَوَازِ. (وَرَشَّ) أَيْ: أَمَرَ بِالرَّشِّ. (عَلَى قَبْرِهِ مَاءً، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1720 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1720 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ أَيْ: رَمَى عَلَى قَبْرِهِ بِالتُّرَابِ. (مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا) أَيْ: ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِعَانَةِ الْخَيْرَاتِ وَلَوْ بِبَعْضِ الْفِعْلَاتِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ) .

1721 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: " لَا تُؤْذِ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ، أَوْ لَا تُؤْذِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1721 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ: (قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: لَا تُؤْذِ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ) أَيْ: لَا تُهِنْهُ. (أَوْ لَا تُؤْذِهِ) أَيْ: بِالضَّمِيرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب البكاء على الميت]

[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1722 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (بَابُ الْبُكَاءِ) بِالْمَدِّ عَلَى الْأَفْصَحِ أَيْ: جَوَازِهِ. (عَلَى الْمَيِّتِ) أَيْ: بِدُونِ نِيَاحَةٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1722 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ) اسْمُهُ الْبَرَاءُ، وَاسْمُ أُمِّ سَيْفٍ زَوْجَتِهِ خَوْلَةُ بَنْتُ الْمُنْذِرِ، أَنْصَارِيَّةٌ، كَذَا فِي التَّخْرِيجِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّهَا رَيَّانُ مُرْضِعَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْقَيْنِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْيَاءِ أَيِ: الْحَدَّادِ. (وَكَانَ) أَيْ: أَبُو سَيْفٍ. (ظِئْرًا) بِكَسْرِ الظَّاءِ مَهْمُوزٍ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَهُوَ الْمُرْضِعَةُ (لِإِبْرَاهِيمَ) وَمَعْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ زَوْجَ مُرْضِعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَصَاحِبَ لَبَنِهَا، تُوُفِّي إِبْرَاهِيمُ وَلَهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا كَذَا فِي التَّخْرِيجِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ: الظِّئْرُ: الْمُرَبِّي وَالْمُرْضِعُ، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْعَطْفُ، وَسُمِّيَ زَوْجُ الْمُرْضِعَةِ ظِئْرًا ; لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي الْعَطْفِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الظِّئْرُ الْمُرْضِعَةُ غَيْرَ وَلَدِهَا، وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ أَيْضًا. (فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ) أَيْ: وَضَعَ أَنْفَهُ فِي وَجْهِهِ عَلَى وَجْهِهِ كَمَنْ يَشُمُّ رَائِحَةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ الْأَطْفَالِ وَالتَّرَحُّمَ بِهِمْ نِسْبَةٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، رَوَى: أَنَّهُ «قَالَ رَجُلٌ لِي: عَشَرَةُ صِبْيَانٍ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" لَا أَمْلِكُ لَكَ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ» ) أَيْ: بِأَيَّامٍ. (وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ) أَيْ: يَمُوتُ، وَقِيلَ: يَتَحَرَّكُ وَيَتَرَدَّدُ فِي الْفِرَاشِ لِكَوْنِهِ فِي النَّزْعِ. (فَجَعَلَتْ) أَيْ: صَارَتْ. (عَيْنَا رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَ سُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: تُسِيلَانِ دَمْعًا، فِي النِّهَايَةِ: ذَرَفَتِ الْعَيْنُ

إِذَا جَرَى دَمْعُهَا. (فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ) عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيِ: النَّاسُ يَبْكُونَ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَبْكِي كَمَا نَبْكِي! قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَنْتَ تَفْعَلُ كَذَا، وَتَنْفَجِعُ لِلْمَصَائِبِ كَالنَّاسِ، اسْتَغْرَبَ مِنْهُ ذَلِكَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعَجْزِ عِنْدَ مُقَاوَمَةِ الْمُصِيبَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي تُشَاهِدُهَا رِقَّةٌ وَرَحْمَةٌ عَلَى الْمَقْبُوضِ، لَا مَا تَوَهَّمْتَ مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ. (فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا) أَيِ: الدَّمْعَةُ أَوِ الْحَالَةُ الَّتِي تُشَاهِدُهَا. (رَحْمَةٌ) أَيْ: أَثَرُ رَحْمَةٍ. (ثُمَّ أَتْبَعَهَا) أَيْ: تِلْكَ الْمَرَّةَ مِنَ الْبُكَاءِ. (بِأُخْرَى) أَيْ: بِمَرَّةٍ أُخْرَى وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَتْبَعَ الدَّمْعَةَ الْأُولَى بِدَمْعَةٍ أُخْرَى، أَوْ أَتْبَعَ الْكَلِمَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّهَا رَحْمَةٌ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى. (فَقَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ) بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ. (يَحْزَنُ) بِفَتْحِ الزَّايِ:، وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ ضَمِّ الزَّايِ فَخَطَأٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّهُ بِالضَّمِّ مُتَعَدٍّ، وَبِالْفَتْحِ لَازِمٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمَا ذَلِكَ، وَلَا يُمْنَعَانِ مِمَّا خُلِقَا لَهُمَا، خُصُوصًا إِذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْمَثُوبَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّهَا رَحْمَةٌ كَلِمَةً مُجْمَلَةً، فَعَقَّبَهَا بِالتَّفْصِيلِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَيَنْصُرُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، أَيْ: هَذِهِ الدَّمْعَةُ الَّتِي تَرَاهَا فِي الْعَيْنِ أَثَرُ رَحْمَةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ. (وَلَا نَقُولُ) أَيْ: مَعَ ذَلِكَ. (إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا) وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ رَبِّنَا. (وَإِنَّا لِفِرَاقِكَ) أَيْ: بِسَبَبِ مُفَارَقَتِكَ إِيَّانَا. (يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) أَيْ: طَبْعًا وَشَرْعًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْزَنْ فَمِنْ قَسَاوَةِ قَلْبِهِ، وَمَنْ لَمْ يَدْمَعْ فَمِنْ قِلَّةِ رَحْمَتِهِ، فَهَذَا الْحَالُ أَكْمَلُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، مِنْ حَالِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ مِنَ الْمَشَايِخِ فَضَحِكَ، فَإِنَّ الْعَدْلَ أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَبْكِي أَوَلَمْ تَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ ! فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي نَهَيْتُ عَنِ النَّوْحِ» .

1723 - «وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ; فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا ; فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، فَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1723 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: زَيْنَبُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَوَّبَهُ غَيْرُهُ. (إِلَيْهِ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ) أَيْ: قَرُبَ قَبْضُهُ وَمَوْتُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: دَخَلَ فِي حَالَةِ الْقَبْضِ وَمُعَالَجَةِ النَّزْعِ، وَفِي النِّهَايَةِ قُبِضَ الْمَرِيضُ إِذَا تُوُفِّيَ، وَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، ثُمَّ قِيلَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ عَاشَ حَتَّى نَاهَزَ الْحُلُمَ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ لَهُ صَبِيٌّ عُرْفًا، بَلْ لُغَةً، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْوَضْعَ اللُّغَوِيَّ يَكْفِي هُنَا، وَقِيلَ: الصَّوَابُ أَنَّهُ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ، كَمَا ثَبَتَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ. (فَأْتِنَا) أَيْ: احْضَرْنَا. (فَأَرْسَلَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا. (يَقْرَأُ السَّلَامَ) عَلَيْهَا. (وَيَقُولُ) تَسْلِيَةً لَهَا. (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ) وَوَقَعَ فِي الْحِصْنِ: وَلِلَّهِ، وَهُوَ مَعَ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ خِلَافُ مَا فِي الْأُصُولِ. (مَا أَعْطَى) مَا: فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ التَّقْدِيرُ: لِلَّهِ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ، وَعَلَى الثَّانِي لِلَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَهُ مَا أَعْطَى مِنْهُمْ، أَوْ مَا هُوَ أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي تَقَدُّمِ الْمَجَازِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْمَلِكِ الْجَبَّارِ، وَقَدَّمَ الْأَخْذَ عَلَى الْإِعْطَاءِ مَعَ أَنَّ الْأَخْذَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْوَاقِعِ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَهُ هُوَ الَّذِي كَانَ أَعْطَاهُ، فَإِنْ أَخَذَهُ أَخَذَ مَا هُوَ لَهُ، فَلَا يَنْبَغِي الْجَزَعُ ; لِأَنَّ مَنْ يُسْتَوْدَعُ الْأَمَانَةَ لَا يَنْبَغِي لَهُ الْجَزَعُ إِذَا اسْتُعِيدَتْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ إِعْطَاءَ الْحَيَاةِ لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَ الْمَيِّتِ، وَثَوَابَهُمْ عَلَى الْمُصِيبَةِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. (وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى) قَالَ مِيرَكُ: أَيْ: كُلٌّ مِنَ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، أَوْ مِنَ الْأَنْفُسِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ كُلٌّ مِنَ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ عِنْدَ اللَّهِ مُقَدَّرٌ مُؤَجَّلٌ. قَالَ مِيرَكُ: وَيَجُوزُ فِي كُلٍّ النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى أَنْ، فَيَنْسَحِبُ التَّأْكِيدُ عَلَيْهِ أَيْضًا، أَقُولُ: لَكِنْ لَا يُسَاعِدُهُ الرَّسْمُ، وَالرِّوَايَةُ. قَالَ: وَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ الْعِلْمُ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْمُلَازَمَةِ، وَالْأَجَلُ يُطْلَقُ عَلَى الْحَدِّ الْأَخِيرِ عَلَى مَجْمُوعِ الْعُمُرِ. (فَلْتَصْبِرْ) أَيْ: هِيَ. (وَلْتَحْتَسِبْ) أَيْ: تَطْلُبِ الْأَجْرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِلْغَائِبِ الْمُؤَنَّثِ، أَوِ الْحَاضِرِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا) فَعَلَى هَذَا الْمُبَلِّغُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلَفَّظَ بِهِ فِي الْغَيْبَةِ اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ يُورِثُ الثَّوَابَ، وَالْجَزَعَ يُفَوِّتُهُ عَنِ الْمُصَابِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي التَّعْزِيَةِ، وَلِذَا قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ: فَإِذَا عَزَّى أَحَدًا

يُسَلِّمُ وَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ إِلَخْ. قَالَ: «وَكَتَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُعَاذٍ يُعَزِّيهِ فِي ابْنٍ لَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ، وَأَلْهَمَكَ الصَّبْرَ، وَرَزَقَنَا وَإِيَّاكَ الشُّكْرَ، فَإِنَّ أَنْفُسَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَأَهْلِينَا وَأَوْلَادَنَا مِنْ مَوَاهِبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْهَنِيئَةِ، وَعَوَارِيهِ الْمُسْتَوْدَعَةِ، مَتَّعَ بِهَا إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ، وَيَقْبِضُهَا لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ افْتَرَضَ عَلَيْنَا الشُّكْرَ إِذَا أَعْطَى، وَالصَّبْرَ إِذَا ابْتَلَى، فَكَانَ ابْنُكَ مِنْ مَوَاهِبِ اللَّهِ الْهَنِيئَةِ، وَعَوَارِيهِ الْمُسْتَوْدَعَةِ، مَتَّعَكَ بِهِ فِي غِبْطَةٍ وَسُرُورٍ، وَقَبَضَهُ مِنْكَ لِأَجْرٍ كَثِيرٍ، الصَّلَاةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهُدَى إِنِ احْتَسَبْتَ فَاصْبِرْ، وَلَا يُحْبِطْ جَزَعُكَ أَجْرَكَ؛ فَتَنْدَمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَا يَدْفَعُ حُزْنًا، وَمَا هُوَ نَازِلٌ فَكَانَ وَالسَّلَامُ» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ الْحَاكِمُ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَمِنَ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ وَالْقَضَايَا الْعَجِيبَةِ أَنَّهُ أَثْنَاءَ كِتَابَتِي هَذَا الْكِتَابَ وَقَعَ مِنْ قَضَاءِ رَبِّ الْأَرْبَابِ أَنْ مَاتَ لِي ابْنٌ اسْمُهُ حَسَنٌ، وَفِي الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ حَاوِي الْفَوَاضِلِ، وَجَامِعُ الْفَضَائِلِ، حَسَّنَ اللَّهُ مَثْوَاهُ، وَزَيَّنَ مَضْجَعَهُ وَمَأْوَاهُ، فَحَصَلَ لِي بِهَذَا الْحَدِيثِ تَعْزِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَتَسْلِيَةٌ شَامِلَةٌ، وَنَرْجُو مِنَ اللَّهِ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ مَعَ الْإِنَابَةِ التَّامَّةِ. (فَأَرْسَلَتْ) أَيِ: ابْنَتُهُ. (إِلَيْهِ) أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى. (تُقْسِمُ عَلَيْهِ) أَيْ: تَحْلِفُ عَلَيْهِ. (لَيَأْتِيَنَّهَا) بِالنُّونِ الْمُؤَكَّدَةِ، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) كُبَرَاءُ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَاؤُهُمْ. (وَرِجَالٌ) أَيْ: آخَرُونَ مِمَّنْ هُمْ دُونَهُمْ. (فَرُفِعَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ رُفِعَ الصَّبِيُّ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ وَضَعَهُ أَحَدٌ فِي حِجْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَنَفْسُهُ) أَيْ: رُوحُهُ. (تَتَقَعْقَعُ) أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (فَفَاضَتْ) سَالَتْ. (عَيْنَاهُ) وَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى نَزَلَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَقَالَ سَعْدٌ) أَيِ: الْمَذْكُورُ. (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟) الْبُكَاءُ أَيْ: مِنْكَ. (فَقَالَ: هَذِهِ) أَيِ: الدَّمْعَةُ. (رَحْمَةٌ) أَيْ: أَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: التَّبْكِيَةُ مِنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ. (جَعَلَهَا) أَيْ: خَلَقَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ. (فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ) قَالَ مِيرَكُ: ظَنَّ سَعْدٌ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْبُكَاءِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُسِّيَ، فَأَعْلَمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْبُكَاءِ وَدَمْعَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَا مَكْرُوهٍ، بَلْ هُوَ رَحْمَةٌ وَفَضِيلَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ النَّوْحُ وَالنَّدْبُ، وَشَقُّ الْجُيُوبِ، وَضَرْبُ الْخُدُودِ. (فَإِنَّمَا) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ. (يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) جَمْعُ رَحِيمٍ بِمَعْنَى الرَّاحِمِ، أَيْ: وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنِ اتَّصَفَ بِأَخْلَاقِهِ، وَيَرْحَمُ عِبَادَهُ، وَ (مِنْ) فِي: مِنْ عِبَادِهِ بَيَانِيَّةٌ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الرُّحَمَاءُ قَدَّمَهَا إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا يَكُونُ أَوْقَعَ اهـ كَلَامُ الطِّيبِيِّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، فَمَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ اهـ. وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَأَرْبَابُ الْمَالِ مُتَخَلِّقُونَ بِأَخْلَاقِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، مُتَّصِفُونَ بِالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ، وَالرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ الْفَاضِلَةِ.

1724 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوًى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَاشِيَةٍ، فَقَالَ: قَدْ قَضَى. قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا. فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ، أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1724 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: اشْتَكَى) أَيْ: مَرِضَ. (سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوًى) مَصْدَرٌ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ: مَرَضًا. (لَهُ) أَيْ: حَاصِلًا لَهُ. (فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ) حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يَقْصِدُ عِيَادَتَهُ. (مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِهِ. (فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ) أَيْ: صَادَفَهُ. (فِي غَاشِيَةٍ) أَي) : شِدَّةٍ مِنَ الْمَرَضِ، أَوْ فِي غَشَيَانِ وَإِغْمَاءٍ مِنْ غَايَةِ الْمَرَضِ، حَتَّى ظُنَّ أَنَّهُ مَاتَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْغَاشِيَةُ الدَّاهِيَةُ مِنْ شَرٍّ أَوْ مَكْرُوهٍ، أَوْ مَرَضٍ، الْمُرَادُ بِهَا هَهُنَا مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ مِنْ كَرْبِ الْوَجَعِ الَّذِي بِهِ لَا حَالُ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهُ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَعَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِالْغَاشِيَةِ الْقَوْمُ الْحُضُورُ عِنْدَهُ الَّذِينَ هُمْ غَاشِيَتُهُ، أَيْ: يَغْشَوْنَهُ لِلْخِدْمَةِ، أَوِ الزِّيَارَةِ قَالَ مِيرَكُ: كَذَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْغَاشِيَةِ الثَّوْبَ الَّذِي يُلْقَى عَلَى الْمَرِيضِ أَوِ الْمَيِّتِ، وَلِذَا سَأَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَضَى. (قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: رَحْمَةٌ عَلَيْهِ، وَتَذَكَّرُوا لِمَا صَدَرَ لَهُ مِنَ الْخِدْمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ. (فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا) وَفِي نِسْبَةِ الْبُكَاءِ إِلَى الرُّؤْيَةِ الْمِلْكُ: إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الدَّمْعَةُ. (فَقَالَ) تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ. (أَلَا تَسْمَعُونَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَوَمَا سَمِعْتُمْ أَوْ مَا عَلِمْتُمُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا تَسْمَعُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ. (إِنَّ اللَّهَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ بَيَانٌ لِلْمَقُولِ الْمُقَدَّرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. (لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ) بَلْ يُثَابُ بِهِمَا إِذَا كَانَا عَلَى جِهَةِ الرَّحْمَةِ. (وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا) أَيْ: إِذَا قَالَ: مَا لَا يُرْضِي الرَّبَّ، بِأَنْ قَالَ شَرًّا مِنَ الْجَزَعِ وَالنِّيَاحَةِ. (وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ) يَعْنِي الْمُرَادَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ هُنَا اللِّسَانُ الَّذِي يُضَرُّ بِهِ الْإِنْسَانُ. (أَوْ يُرْحَمُ) أَيْ: بِهَذَا إِنْ قَالَ خَيْرًا، بِأَنِ اسْتَرْجَعَ مَثَلًا، أَوِ اسْتَغْفَرَ أَوْ تَرَحَّمَ، وَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ مِنْ جَوَازِ الْبُكَاءِ وَلَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ، وَرَفْعِ صَوْتٍ، نَقَلَ جَمَاعَةٌ فِيهِ الْإِجْمَالَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: فَإِذَا وَجَبَتْ لَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، فِي الْأَذْكَارِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْبُكَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَكْرُوهٌ لِهَذَا الْخَبَرِ، بَلْ قَالَ جَمَاعَةٌ إِنَّهُ يُفِيدُ تَحْرِيمَهُ اهـ. وَيَرُدُّهُ مَا رَوَى مُسْلِمٌ: أَنَّهُ «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قَبْرَ ابْنِهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ» ، وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّهُ بَكَى عَلَى قَبْرِ بِنْتٍ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ نَهْيُهُنَّ عَلَى بُكَاءٍ خَاصٍّ لَهُنَّ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَفْهُومِ، وَلَعَلَّ فَائِدَةَ الْقَيْدِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُكَاءَ بِالدَّمْعِ لَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِالْأُمُورِ الْجِبِلِّيَّةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ الدِّينِيَّةِ. ( «وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ» ) أَيْ: مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ. (عَلَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ: بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِبُكَاءِ الْحَيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ مَا نِيحَ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ يُبْكَ عَلَيْهِ يُعَذَّبْ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَنَسَبَتْهُمَا إِلَى النِّسْيَانِ وَالِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمَا، وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قَالَتْ: وَإِنَّمَا «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَهُودِيَّةٍ: إِنَّهَا تُعَذَّبُ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهَا،» تَعْنِي تُعَذَّبُ بِكُفْرِهَا فِي حَالِ بُكَاءِ أَهْلِهَا، لَا بِسَبَبِ الْبُكَاءِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ، وَيُنَاحَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَنُفِّذَتْ وَصِيتُهُ، فَهَذَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَنَوْحِهِمْ ; لِأَنَّهُ تَسَبَّبَهُ، وَأَمَّا مَنْ بَكَوْا عَلَيْهِ وَنَاحُوا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ فَلَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِذَا أَوْصَى بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمَيِّتِ الْمُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ الْحَالُ بِبُكَائِهِمْ وَصُرَاخِهِمْ وَجَزَعِهِمْ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: هَذَا فِي بَعْضِ الْأَمْوَاتِ: كَأَنْ يُعَذَّبُ فِي زَمَانِ بُكَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِمَا فِي رِوَايَةٍ: «يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» ، وَفِي أُخْرَى: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ إِذَا قَالَتِ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَا نَاصِرَاهُ، وَاكَاسِيَاهُ، جَبَذَا الْمَيِّتَ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْتَ عَضُدَاهَا؟ ! أَنْتَ نَاصِرُهَا؟ ! أَنْتَ كَاسِيهَا؟ ! اهـ. وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَذَّبُ إِذَا كَانَ أَوْصَى أَوْ كَانَ بِفِعْلِهِمْ يَرْضَى ; وَلِهَذَا أَوْجَبَ دَاوُدُ وَمَنْ تَبِعَهُ الْوَصِيَّةَ بِتَرْكِ الْبُكَاءِ، وَالنَّوْحِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ وَجْهُ قُوَّةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَوَجْهُ ضَعْفِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا قَالَتْهُ أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُكَاءِ هُنَا الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَنِيَاحَةٍ وَلَا بِمُجَرَّدِ الدَّمْعَةِ، وَسَيَأْتِي أَقْوَالٌ أُخَرُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1725 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1725 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَّا) أَيْ: مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتِنَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا، وَالْمُرَادُ الْوَعِيدُ وَالتَّغْلِيظُ الشَّدِيدُ. (مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ) جَمَعَهُ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ فَإِنَّهُ مِنْ مُفْرَدِ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ الْمَعْنَى. (وَشَقَّ الْجُيُوبَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِكَسْرٍ، وَفِي مَعْنَاهُ طَرْحُ الْعِمَامَةِ، وَضَرْبُ الرَّأْسِ عَلَى الْجِدَارِ، وَقَطْعُ الشَّعْرِ. (وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: بِدُعَائِهِمْ يَعْنِي: قَالَ عِنْدَ الْبُكَاءِ مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، مِمَّا يَقُولُ بِهِ الْجَاهِلِيَّةُ، كَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَكَوَاكَهْفَاهُ، وَاجَبَلَاهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

1726 - وَعَنِ ابْنِ بُرْدَةَ قَالَ: «أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسِي الْأَشْعَرِيِّ ; فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ: أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمِي وَكَانَ يُحَدِّثُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ، وَصَلَقَ، وَخَرَقَ» ؟ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1726 - (وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ) أَيْ: عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ قَيْسٍ: أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، أَحَدِ التَّابِعِينَ الْمَشْهُورِينَ الْمُكْثِرِينَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمَا، كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ شُرَيْحٍ، فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ; فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ أَيْ: شَرَعَتْ، وَجَعَلَتْ، وَصَارَتْ (تَصِيحُ بِرَنَّةٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ صَوْتٌ مَعَ الْبُكَاءِ فِيهِ تَرْجِيعٌ. (ثُمَّ أَفَاقَ) أَيْ: أَبُو مُوسَى. (فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمِي) أَيْ: مَا حَدَّثْتُكِ. (وَكَانَ يُحَدِّثُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ يُحَدِّثُهَا حَالٌ، وَالْعَامِلُ قَالَ، وَمَفْعُولُ أَلَمْ تَعْلَمِي مَقُولُ الْقَوْلِ، أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ فَتَنَازَعَا مِنْهُ. (مِمَّنْ حَلَقَ) أَيْ: شَعْرَهُ أَوْ رَأْسَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ. (وَصَلَقَ) وَفِي الْمَصَابِيحِ بِالسِّينِ، وَهُوَ لُغَةٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، أَيْ: رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ وَالْمَرَحِ، أَوْ قَالَ مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَقِيلَ: الصَّلْقُ: اللَّطْمُ وَالْخَدْشُ. (وَخَرَقَ) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: قَطَعَ ثَوْبَهُ بِالْمُصِيبَةِ، وَكَانَ الْجَمِيعُ مِنْ صَنِيعِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ مِنْ صَنِيعِ النِّسَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا مَاتَ لِأَحَدِهِمْ قَرِيبٌ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، كَمَا أَنَّ عَادَةَ بَعْضِ الْعَجَمِ قَطْعُ بَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الَّتِي تَحْلِقُ وَجْهَهَا لِلزِّينَةِ، قُلْتُ: هَذَا الْأَخِيرُ بَعِيدٌ مِنَ الْمَقَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.

1727 - وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ. وَقَالَ: النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1727 - (وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعٌ) أَيْ: خِصَالٌ أَرْبَعٌ كَائِنَةٌ. (فِي أُمَّتِي) حَالَ كَوْنِهِنَّ. (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: مِنْ أُمُورِهِمْ وَخِصَالِهِمُ الْمُعْتَادَةِ، طُبِعَ عَلَيْهِنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَّةِ. (لَا يَتْرُكُونَهُنَّ) أَيْ: غَالِبًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ تَدُومُ فِي الْأُمَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ بِأَسْرِهِمْ تَرْكَهَمْ لِغَيْرِهَا مِنْ سُنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ ; فَإِنَّهُنَّ إِنْ يَتْرُكْهُنَّ طَائِفَةٌ جَاءَهُنَّ آخَرُونَ. (الْفَخْرُ) أَيِ: الِافْتِخَارُ. (فِي الْأَحْسَابِ) أَيْ: فِي شَأْنِهَا وَسَبَبِهَا، وَالْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ: كَالشَّجَاعَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْحَسَبُ وَالْكَرَمُ يَكُونَانِ فِي الرَّجُلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِآبَائِهِ شَرَفٌ، وَالشَّرَفُ وَالْمَجْدُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا الْآبَاءَ، فِي الْفَائِقِ الْفَخْرُ تَعْدَادُ الرَّجُلِ مِنْ مَآثِرِهِ، وَمَآثِرِ آبَائِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَنْ فَاتَ حَسَبُهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِحَسَبِ أَبِيهِ، أَيِ: التَّفَاخُرُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّعْظِيمُ بِعَدِّ مَنَاقِبِهِ، وَمَآثِرِ آبَائِهِ، وَتَفْضِيلِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ لِيُحَقِّرَهُ لَا يَجُوزُ. (وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ) أَيْ: إِدْخَالُ الْعَيْبِ فِي أَنْسَابِ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى تَحْقِيرُ الرَّجُلِ آبَاءَ غَيْرِهِ، وَتَفْضِيلُ آبَائِهِ عَلَى آبَاءِ غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَظْهَرُ اللَّهُمَّ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، وَالْكُفْرِ، قُلْتُ: إِلَّا إِذَا أَرَادَ أَذَى مُسْلِمٍ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى بِالطَّعْنِ فِي أَنْسَابِ الْغَيْرِ عَنِ الْفَخْرِ بِنَسَبِ نَفْسِهِ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ الْحَسَبُ وَالنَّسَبُ، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الطَّعْنِ فِي نَسَبِ نَفْسِهِ اهـ. فِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ ; وَمَحَلُّ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مُرَادُهُ أَذَى غَيْرِهِ بِالتَّصْرِيحِ أَوِ الْكِنَايَةِ، أَوْ يَكُونُ إِثْبَاتُهُ كَذَّابًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ رَبِّهِ، وَمَحَلُّ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَسِيبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَيَطْعَنُ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي وَعِيدِ: لَعَنَ اللَّهُ الْخَارِجَ عَنَّا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَالدَّاخِلَ فِينَا مِنْ غَيْرِ نَسَبٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُ قَوْمِهِ يَدَيِ الشَّرَفِ مَثَلًا بِالزُّورِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْعَنَ فِي نَسَبِ نَفْسِهِ حِينَئِذٍ، لِيُظْهِرَ الْحَقَّ وَيُذْهِبَ الْبَاطِلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالِاسْتِسْقَاءُ) أَيْ: طَلَبُ السُّقْيَا. (بِالنُّجُومِ) أَيْ: بِسَبَبِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: طَلَبُ السُّقْيَا أَيْ: تَوَقُّعُ الْأَمْطَارِ عَنْ وُقُوعِ النُّجُومِ فِي الْأَنْوَاءِ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادَ الرَّجُلِ نُزُولَ الْمَطَرِ بِظُهُورِ نَجْمِ كَذَا حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَالنِّيَاحَةُ)

بِالرَّفْعِ وَهِيَ الرَّابِعَةُ، وَهُوَ قَوْلُ: وَا وَيْلَاهُ، وَا حَسْرَتَاهُ، وَالنُّدْبَةُ عِنْدَ شَمَائِلِ الْمَيِّتِ، مِثْلَ وَا شُجَاعَاهُ، وَا أَسَدَاهُ، وَا جَبَلَاهُ. (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النَّائِحَةُ) أَيِ: الَّتِي صَنْعَتُهَا النِّيَاحَةُ. (وَإِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا) أَيْ: قَبْلَ حُضُورِ مَوْتِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ أَنْ يَتُوبَ وَهُوَ يَأْمُلُ الْبَقَاءَ، وَيَتَمَكَّنُ مَنْ تَأَتِّي الْعَمَلِ الَّذِي يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ.} [النساء: 18] الْآيَةَ اهـ. وَبِهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا: أَنَّ تَوْبَةَ الْيَأْسِ مِنَ الْكَافِرِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَمِنَ الْمُؤْمِنِ مَقْبُولَةٌ كَرَامَةً لِإِيمَانِهِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ إِطْلَاقُ قَوْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. (تُقَامُ) مَجْهُولٌ مِنَ الْإِقَامَةِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْمَوْقِفِ لِلْفَضِيحَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: تُحْشَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُقَامُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْوَقْفِ، جَزَاءً عَلَى قِيَامِهَا فِي الْمَنَاحَةِ، وَهُوَ الْأَمْثَلُ. (وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ) أَيْ: قَمِيصٌ مَطْلِيٌّ. (مِنْ قَطِرَانٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، طِلَاءٌ يُطْلَى بِهِ، وَقِيلَ: دُهْنٌ يُدْهَنُ بِهِ الْجَمَلُ الْأَجْرَبُ، وَمَا ضَبَطْنَاهُ هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي الْحَدِيثِ، وَعَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا إِلَّا مَا شَذَّ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْقَطِرَانُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَظَرِبَانِ: عُصَارَةُ الْأَبْهَلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِهَا فَقَاصِرٌ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَطِرَانُ مَا يَنْحَلِبُ مِنْ شَجَرٍ يُسَمَّى الْأَبْهَلَ فَيُطْبَخُ، وَيُدْهَنُ بِهِ الْإِبِلُ الْجَرْبَاءُ، فَيَحْرِقُ الْجَرَبَ بِحَرَارَتِهِ وَحِدَّتِهِ الْجِلْدَ، وَقَدْ تَبْلُغُ حَرَارَتُهُ الْجَوْفَ. (وَدِرْعٌ) عَطْفٌ عَلَى سِرْبَالٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: دِرْعُ الْحَدِيدِ يُؤَنَّثُ، وَدِرْعُ الْمَرْأَةِ قَمِيصُهَا، السِّرْبَالُ الْقَمِيصُ مُطْلَقًا. (مِنْ جَرَبٍ) أَيْ: مِنْ أَجْلِ جَرَبٍ كَائِنٍ بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يُسَلَّطُ عَلَى أَعْضَائِهَا الْجَرَبُ وَالْحِكَّةُ، بِحَيْثُ يُغَطِّي جِلْدَهَا تَغْطِيَةَ الدِّرْعِ، فَتُطْلَى مَوَاقِعُهُ بِالْقَطِرَانِ، لِتُدَاوَى فَيَكُونُ الدَّوَاءُ، أَدْوَى مِنَ الدَّاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى لَذْعِ الْقَطِرَانِ، وَإِسْرَاعِ النَّارِ فِي الْجُلُودِ، وَاللَّوْنِ الْوَحْشِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: خُصَّتْ بِدِرْعٍ مِنَ الْجَرَبِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَجْرَحُ بِكَلِمَاتِهَا الْمُحْرِقَةِ قُلُوبَ ذَوَاتِ الْمُصِيبَاتِ، وَتَحُكُّ بِهَا بَوَاطِنَهُنَّ ; فَعُوقِبَتْ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِمَا يُمَاثِلُهُ فِي الصُّورَةِ، وَخُصَّتْ أَيْضًا بِسَرَابِيلَ مِنْ قَطِرَانٍ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ الثِّيَابَ السُّودَ فِي الْمَآتِمِ، فَأَلْبَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى السَّرَابِيلَ لِتَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهَا، فَإِنْ قُلْتَ: ذَكَرَ الْخِلَالَ الْأَرْبَعَ وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهَا الْوَعِيدَ سِوَى النِّيَاحَةِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ قُلْتُ: النِّيَاحَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالنِّسَاءِ، وَهُنَّ لَا يَنْزَجِرْنَ مِنْ هِجْرَانِهِنَّ انْزِجَارَ الرِّجَالِ، فَاحْتَجْنَ إِلَى مَزِيدِ الْوَعِيدِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ قَوْلِ: النَّائِحَةُ إِلَخْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَخَذَ أَئِمَّتُنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمَ النَّوْحِ، وَتَعْدِيدَ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ، بِنَحْوِ وَاكَهْفَاهُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْبُكَاءِ، وَتَحْرِيمِ ضَرْبِ الْخَدِّ، وَشَقِّ الْجَيْبِ، وَنَشْرِ الشَّعْرِ وَحَلْقِهِ وَنَتْفِهِ، وَتَسْوِيدِ الْوَجْهِ، وَإِلْقَاءِ التُّرَابِ عَلَى الرَّأْسِ، وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ: وَالضَّابِطُ أَنَّهُ يَحْرُمُ كُلُّ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ إِظْهَارَ جَزَعٍ يُنَافِي الِانْقِيَادَ وَالتَّسْلِيمَ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: وَمِنْ ذَلِكَ تَغْيِيرُ الزِّيِّ، وَلِبْسُ غَيْرِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِلُبْسِهِ، أَيْ: وَإِنِ اعْتِيدَ لُبْسُهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ.

1728 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي. قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ. فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ ": إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1728 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي) أَيْ: بِرَفْعِ صَوْتٍ. (عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ) هَذَا تَوْطِئَةٌ لِمَا بَعْدَهُ، أَيْ: خَافِي عِقَابَهُ أَوْ مُخَالَفَتَهُ بِتَرْكِ النِّيَاحَةِ. (وَاصْبِرِي) حَتَّى تُؤْجَرِي. (قَالَتْ) أَيْ: جَاهِلَةً بِمَنْ يُخَاطِبُهَا، وَظَانَّةً أَنَّهُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ، وَغَافِلَةً عَمَّا قِيلَ: انْظُرْ إِلَى مَا قَالَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ قَالَ. (إِلَيْكَ) اسْمُ فِعْلٍ أَيِ: ابْعِدْ وَتَنَحَّ. (عَنِّي) وَلَا تَلُمْنِي، وَمَا أَبْعَدَ تَقْدِيرَ ابْنِ حَجَرٍ وَتَقْرِيرَهُ وَتَحْرِيرَهُ، حَيْثُ قَالَ: أَيْ تَبَاعَدْ عَنِّي لِأَمْرَيْنِ: كُونِي امْرَأَةً وَأَنْتَ ذَكَرٌ أَجْنَبِيٌّ، وَكَوْنُ حَالِكَ لَيْسَ كَحَالِي. (فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَمْ تُبْتَلَ. (بِمُصِيبَتِي) أَيْ: بِعَيْنِهَا أَوْ بِمِثْلِهَا عَلَى زَعْمِهَا. (وَلَمْ تَعْرِفْهُ) النَّبِيَّ أَوْ وَلَمْ تَعْرِفْهُ أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقِيلَ لَهَا) : أَيْ: بَعْدَ مَا ذَهَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدِمَتْ) عَلَى مَا جَاوَبَتْ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ بَابِهِ. (بَوَّابِينَ) كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُلُوكِ الْجَبَابِرَةِ. (فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ) أَيْ: فَلَا تَأْخُذْ عَلَيَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَهَّمَتْ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُلُوكِ، فَقَالَتِ اعْتَذَرًا: لَمْ أَعْرِفْكَ. (فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ) أَيِ: الْكَامِلُ الْمَرْضِيُّ الْمُثَابُ عَلَيْهِ. (عِنْدَ الصَّدْمَةِ) أَيِ: الْحَمْلَةِ. (الْأُولَى) وَابْتِدَاءِ الْمُصِيبَةِ، وَأَوَّلِ لُحُوقِ الْمَشَقَّةِ، وَإِلَّا فَكُلُّ أَحَدٍ يَصْبِرُ بَعْدَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذْ هُنَاكَ سَوْرَةُ الْمُصِيبَةِ فَيُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ، وَبَعْدَهَا تَنْكَسِرُ السَّوْرَةُ، وَيَتَسَلَّى الْمُصَابُ بَعْضَ التَّسَلِّي، فَيَصِيرُ الصَّبْرُ طَبْعًا، فَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا) اهـ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَصِرِ الصَّبْرُ طَبْعًا ثُمَّ تُذْكَرُ الْمُصِيبَةُ ثُمَّ صَبَرَ وَلَوْ طَالَ الْعَهْدُ فَيُثَابُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الدَّرَجَةَ الْأَعْلَى عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

1729 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجُ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1729 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ) ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. (فَيَلِجَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ. (النَّارَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لَا يَدْخُلُهَا، وَالْمَعْنَى هُنَا نَفْيُ الِاجْتِمَاعِ، لَا اعْتِبَارُ السَّبَبِيَّةِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: إِنَّمَا تَنْصِبُ الْفَاءُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ إِذَا كَانَ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا سَبَبِيَّةٌ، وَلَا سَبَبِيَّةَ هُنَا، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْأَوْلَادِ وَلَا عَدَمُهُ سَبَبًا لِوُلُوجِ أَبِيهِمُ النَّارَ فَيُحْمَلُ الْفَاءُ عَلَى مَعْنَى وَاوِ الْجَمَاعَةِ، أَيْ: لَا يَجْتَمِعُ هَذَانِ: مَوْتُ ثَلَاثَةِ أَوْلَادٍ وَوُلُوجُ النَّارِ. (إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ) وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَلِجُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ فَلَا مَحِيدَ عَنْ ذَلِكَ، وَالرَّفْعُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ وُلُوجٌ عَقِبَ مَوْتِ الْأَوْلَادِ، إِلَّا مِقْدَارًا يَسِيرًا، وَمَعْنَى فَاءِ التَّعْقِيبِ كَمَعْنَى الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] فِي أَنَّ مَا سَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْكَائِنِ، وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ كَالْوَاقِعِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: السَّبَبِيَّةُ لَيْسَتْ مُمْتَنِعَةً بَلْ صَحِيحَةٌ، وَزَعْمُ امْتِنَاعِهَا مَبْنِيٌّ عَلَى النَّظَرِ لِمُطْلَقِ الْوُلُوجِ، وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ مُطْلَقَةً بَلِ الْوُلُوجُ الْمُقَيَّدُ بِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى تَحِلَّةِ الْقَسَمِ، وَذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَنْ مَوْتِهِمْ بِلَا شَكَّ، فَاتَّضَحَ الْإِتْيَانُ بِالْفَاءِ، وَعَجِيبٌ مِنَ الشَّارِحِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ) ذَلِكَ؟ ! وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: إِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ فَلَا مَحِيدَ عَنْ ذَلِكَ أَعْجَبُ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ قَيْدًا، بَلِ اسْتِدْرَاكٌ لِئَلَّا يُنَافِيَ الْحُكْمُ الْحَدِيثِيُّ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيَّ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ أَمْرًا مَقْضِيًّا وَمَعْلُومًا دِينًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، فَفِيهِ دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ وَإِشَارَةٌ صَحِيحَةٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ قَيْدًا لِلْحَكَمِ أَصْلًا وَفَصْلًا، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْعَجَمِ، وَالْمُعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَرَبِ نَسَبًا وَأَصْلًا فِي النِّهَايَةِ: أَرَادَ التَّحِلَّةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] الْآيَةَ. وَقَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ التَّخْرِيجِ: الْوُرُودُ هُوَ الْعُبُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى جَهَنَّمَ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْهَا اهـ. فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ لُحُوقِ ضَرَرٍ اهـ. فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا التَّحِلَّةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَصْدَرٌ كَالتَّحْلِيلِ، وَتَحْلِيلُ الْقَسَمِ جَعْلُهُ صِدْقًا، فَمَعْنَى: إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ قِيلَ: إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يُبِرُّ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمَهُ، فِيهِ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] يَعْنِي لَا يَدْخُلُ النَّارَ لَكِنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ لُحُوقِ ضَرَرٍ مِنْهَا بِهِ، وَقِيلَ: إِلَّا زَمَانًا يَسِيرًا يُمْكِنُ فِيهِ تَحِلَّةُ الْقَسَمِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ مَثَلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يَقِلُّ وَقْتُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فَعَلْتُهُ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ أَيْ: لَمْ أَفْعَلْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا حَلَلْتُ بِهِ يَمِينِي، وَلَمْ أُبَالِغْ اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا قَسَمَ فِي الْآيَةِ ظَاهِرًا، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] أَيْ: حَتَّمَهُ وَقَضَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ وَعَدَ بِهِ وَعْدًا مُؤَكَّدًا لَا يُمْكِنُ خُلْفُهُ، وَقِيلَ: أَقْسَمَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْقَسَمُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ مُضْمَرٌ، أَيْ: وَاللَّهِ، مَا مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعْلَّقُ بِهِ الْمَقَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرُنَّهُمْ} [مريم: 68] الْآيَةَ، ثُمَّ رَأَيْتُ التُّورِبِشْتِيَّ قَالَ: قِيلَ: الْقَسَمُ مُضْمَرٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أَيْ: وَإِنْ مِنْكُمْ وَاللَّهِ، إِلَّا وَارِدُهَا، وَقِيلَ: مَوْضِعُ الْقَسَمِ مَرْدُودٌ إِلَى قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرُنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68] . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْقَسَمِ مَا دَلَّ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] تَذْيِيلٌ، وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ لِمَجِيءِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَلَفْظُ كَانَ وَعَلَى تَأْكِيدِ الْحَتْمِ بِالْمُقْتَضَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1730 - وَعَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِسْوَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبُهُ إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: أَوِ اثْنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَوْ اثْنَانِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1730 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِسْوَةٍ) اسْمُ جَمْعٍ. (مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ: مِنْ نِسَائِهِمْ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ كَمَالُ اسْتِحْضَارِ الْقَضِيَّةِ لَا أَنَّ هُنَاكَ خُصُوصِيَّةً. (لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ) بِفَتْحَتَيْنِ اسْمُ جِنْسٍ وَيُضَمُّ الْوَاوُ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ. (فَتَحْتَسِبُهُ) بِالرَّفْعِ، لَا غَيْرَ أَيْ: تَطْلُبُ إِحْدَاكُنَّ بِمَوْتِهِ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَتَعْتَدُّهُ فِيمَا يُدَّخَرُ لَهَا فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَتَصْبِرُ رَاجِيَةً لِرَحْمَةِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَلَيْسَ هَذِهِ الْفَاءَ كَمَا فَيَلِجُ بَلْ هِيَ لِلتَّسَبُّبِ بِالْمَوْتِ، وَحَرْفُ النَّفْيِ مُنْصَبٌّ عَلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مَعًا. (إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولَهُ أَوَّلِيًّا، وَهُوَ لَا

يُنَافِي الْوُلُوجَ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ. (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: أَوِ اثْنَانِ) عَطْفٌ تَلْقِينِيٌّ أَيْ: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَقُولَ أَوِ اثْنَانِ) . (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَوِ اثْنَانِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا عَلَى حَدِّ: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ اهـ. وَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَخَطَأٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، بَيَانُ الْأُولَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ لَهَا عَطْفٌ عَلَى مَنْ آمَنَ أَيْ: وَأَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَبَيَانُ الثَّانِيَةِ أَنَّ التَّلْقِينَ وَالْعَرْضَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ النَّازِلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَالِي دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَعَالِي. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ قَبْلَ الذِّكْرِ، إِلَّا أَنَّهُ عُلِمَ بِقَرِينَةِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ غَالِبًا. (ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) يَعْنِي فِي اللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ ثَلَاثَةٌ مُطْلَقٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: ثَلَاثَةٌ مُقَيَّدُ الْوَصْفِ. قَالَ مِيرَكُ: حَقَّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَ: أَصْلُ الْحَدِيثِ مَرْوِيٌّ فِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا لَكِنْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكَيْفَ يَقُولُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي النِّهَايَةِ؟ ! أَيْ: لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ الرِّجَالِ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهِمُ الْقَلَمُ، فَيُكْتَبَ عَلَيْهِمِ الْحِنْثُ وَالْإِثْمُ انْتَهَى، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْحِنْثَ بِالْبُلُوغِ، وَبَعْضُهُمْ بِالذَّنْبِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: الْحَدَّ الَّذِي يُكْتَبُ عَلَيْهِمِ الْحِنْثُ أَيِ: الذَّنْبُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ لَيْسَ احْتِرَازِيًّا، بَلْ أَكْمَلِيًّا ; فَإِنَّ شَفَاعَتَهُمْ أَرْجَى، وَالصَّبْرَ عَلَيْهِمْ أَقْوَى.

1731 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَقُولُ اللَّهُ: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1731 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ: مَا لِعَبْدِي) أَيْ: لَيْسَ لِعَبْدِي. (الْمُؤْمِنُ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهَ» ) أَيْ: مُخْتَارَهُ وَمَحْبُوبَهُ مِنَ الْوَلَدِ أَوِ الْوَالِدِ أَوْ غَيْرِهِمَا. فِي النِّهَايَةِ: صَفِيُّ الرَّجُلِ: الَّذِي يُصَافِيهِ الْوُدَّ، وَيُخْلِصُهُ لَهُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَلَدٌ لَا يَكُونُ لَهُ غَيْرُهُ، قُلْتُ: أَوْ مِثْلُهُ. (مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا) ظَاهِرُهُ إِفَادَةُ الْعُمُومِ لَا تُفِيدُ خُصُوصَ الْوَلَدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِأَهْلِ الدُّنْيَا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الصَّفِيَّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ كَانَ جَزَاؤُهُ وَرَاءَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَرِضْوَانُ اللَّهِ أَكْبَرُ انْتَهَى، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَجَعَلَهُ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ. (ثُمَّ احْتَسَبَهُ) أَيْ: صَبَرَ عَلَيْهِ طَالِبًا لِلثَّوَابِ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ لِلصُّنْعِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مَنْ قَبَضْتُ، أَيِ: احْتَسَبَ قَبْضَ صَفِيِّهِ، وَمَوْتِ حَبِيبِهِ، أَيْ: طَلَبَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ عَلَى مُفَارَقَةِ الْخَلِيلِ، وَبِالرِّضَا عَلَى قَضَاءِ الرَّبِّ الْجَلِيلِ. (إِلَّا الْجَنَّةَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ أَيْ: مَا لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الثَّوَابَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالِاثْنَيْنِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1732 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. الْفَصْلُ الثَّانِي 1732 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّائِحَةَ) يُقَالُ: نَاحَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا نَدَبَتْهُ أَيْ: بَكَتْ عَلَيْهِ وَعَدَّدَتْ مَحَاسِنَهُ، وَقِيلَ: النَّوْحُ بُكَاءٌ مَعَ صَوْتٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الَّتِي تَنُوحُ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا ; فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الَّتِي تَنُوحُ عَلَى مَعْصِيَتِهَا فَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَخَصَّ النَّائِحَةَ ; لِأَنَّ النَّوْحَ يَكُونُ مِنَ السَّنَاءِ غَالِبًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ: مَنْ يُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَحْيَانًا فَلَا يُخِلُّ بِعَدَالَتِهِ كَمَا فِي الْكَذِبِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَكُونُ مَحَلَّ اللَّعْنِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ. (وَالْمُسْتَمِعَةَ) أَيِ: الَّتِي تَقْصِدُ السَّمَاعَ وَيُعْجِبُهَا، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَمِعَ وَالْمُغْتَابَ شَرِيكَانِ فِي الْوِزْرِ، وَالْمُسْتَمِعُ وَالْقَارِئُ مُشْتَرِكَانِ فِي الْأَجْرِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَالثَّلَاثَةُ ضُعَفَاءُ.

1733 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَجَبٌ لِلْمُؤْمِنِ! إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ وَشَكَرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ اللَّهَ وَصَبَرَ، وَالْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ أَمْرِهِ حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِهِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1733 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَبٌ) أَيْ: غَرِيبٌ، وَشَأْنٌ عَجِيبٌ. (لِلْمُؤْمِنِ) أَيِ: الْكَامِلِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ طُوبَى لَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُهُ أَعْجَبُ عَجَبًا، فَعُدِلَ مِنَ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِلثَّبَاتِ كَقَوْلِكَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، قِيلَ: وَمِنْ ثَمَّ كَانَ سَلَامُ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] أَبْلَغُ مِنْ سَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعَجَبَ بِقَوْلِهِ: (إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: أَثْنَى عَلَيْهِ بِأَوْصَافِ الْجَمَالِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. (وَشَكَرَ) عَلَى نِعْمَةِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ. (وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ) أَيْ: بَلِيَّةٌ وَمِحْنَةٌ. (حَمِدَ اللَّهَ) بِأَوْصَافِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ. (وَصَبَرَ) عَلَى حُكْمِ رَبِّهِ الْمُتَعَالِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ نِصْفُهُ صَبْرٌ وَنِصْفُهُ شُكْرٌ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] وَفِي تَقْدِيمِ الشُّكْرِ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ عَلَى كَثْرَةِ النَّعِيمِ وَسَبْقَتِهَا، وَفِي تَقَدُّمِ الصَّبْرِ فِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى قُوَّةِ احْتِيَاجِ الْعَبْدِ إِلَى الصَّبْرِ ; فَإِنَّهُ عَلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ: صَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَصَبْرٌ فِي الْمُصِيبَةِ، وَفِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ نُكْتَةٌ خَفِيَّةٌ، رَمَزَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللَّهِ، يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَالتَّسْلِيمُ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَوْلُهُ: إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ اللَّهَ عِنْدَهَا لِعِلْمِهِ بِمَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَالثَّوَابُ نِعْمَةٌ، فَحَمْدُ اللَّهِ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ مَحْمُودٌ عِنْدَ النِّعْمَةِ، وَعِنْدَ الْمُصِيبَةِ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: مَعْنَاهُ حَمِدَهُ عَلَى سَائِرِ نِعَمِهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أَوْ حَمِدَ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَةَ لَيْسَتْ فِي دِينِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَا وَقَعَ أَكْبَرُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا: وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ قَالَ الْمُظْهِرُ: وَتَحَقُّقُ الْحَمْدِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَوْضِيحُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: فَإِنْ مُسَّ بِالنَّعْمَاءِ عَمَّ سُرُورُهَا وَإِنْ مُسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهُ الْأَجْرُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَمْدِ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] اهـ. وَمَا أَبْعَدَ ابْنَ حَجَرٍ عَنِ التَّحْقِيقِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُرَادِفِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّ الشُّكْرَ أَخَصُّ مِنَ الْحَمْدِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا. (فَالْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ فِيهَا أَيِ: الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ يُثَابُ. (فِي كُلِّ أَمْرِهِ) أَيْ: شَأْنِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَغَيْرِهِمَا، حَتَّى فِي أُمُورِ الْمُبَاحِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هُنَا الْخَيْرُ، فَالْمُبَاحُ يَنْقَلِبُ خَيْرًا بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ. ( «حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِهِ» ) أَيْ: فَمِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، يَعْنِي إِذَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ فَحَمِدَ أُجِرَ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَصَبَرَ أُجِرَ، فَهُوَ مَأْجُورٌ فِي كُلِّ أُمُورِهِ، حَتَّى فِي الشَّهْوَانِيَّةِ بِبَرَكَةِ إِيمَانِهِ، وَإِذَا قَصَدَ بِالنَّوْمِ زَوَالَ التَّعَبِ لِلْقِيَامِ إِلَى الْعِبَادَةِ عَنْ نَشَاطٍ كَانَ النَّوْمُ طَاعَةً، وَعَلَى هَذَا الْأَكْلُ وَجَمِيعُ الْمُبَاحَاتِ، قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: نَوْمُ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ. وَقَوْلُهُ آخَرِينَ: نَوْمُ الظَّالِمِ عِبَادَةٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، يَرْفَعُهُ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِي عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ: كَيْفَ يَكُونُ مِنْ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ ثِقَةٌ؟ ! اهـ. أَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُخَرِّجُ حَدِيثَهُ فِي كُتُبِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَالَهِ، تَمَّ كَلَامُ مَيْرَكَ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ قَتْلَهُ وَلَعَلَّ حُضُورَهُ مَعَ الْعَسْكَرِ كَانَ بِإِكْرَاهٍ، أَوْ رُبَّمَا حَسُنَ حَالُهُ وَطَابَ مَآلُهُ، وَمَنِ الَّذِي يَسْلَمُ مِنْ صُدُورِ مَعْصِيَةٍ عَنْهُ، وَمِنْ ظُهُورِ ذِلَّةٍ مِنْهُ؟ فَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ أَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ، لَا سِيَّمَا وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ صِحَّتُهُ، مَبْنًى وَمَعْنًى، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ دِينًا وَلَا دُنْيَا حَتَّى يُتَفَحَّصَ عَنِ الرُّوَاةِ، وَلَا يُقْبَلَ إِلَّا مِنَ الثِّقَاتِ، وَإِذَا أَغْمَضُوا عَنِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ إِذَا كَانَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ، مَعَ أَنَّ رِجَالَ الصَّحِيحَيْنِ قَدْ يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ خَارِجِيٌّ أَوْ رَافِضِيٌّ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَوْا فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ حَلَّ الْكَذِبِ لِنُصْرَةِ مَقَالَتِهِ.

1734 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ بَابَانِ بَابٌ يَصْعَدُ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَبَابٌ يَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، فَإِذَا مَاتَ بَكَيَا عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1734 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ) مُخْتَصٌّ بِهِ. (بَابَانِ) أَيْ: مِنَ السَّمَاءِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (بَابٌ يَصْعَدُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُضَمُّ أَيْ: يَطْلُعُ وَيُرْفَعُ. (مِنْهُ عَمَلُهُ) أَيِ: الصَّالِحُ أَيْ: إِلَى مُسْتَقَرِّ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مَحَلُّ كِتَابَتِهَا فِي السَّمَاءِ بَعْدَ كِتَابَتِهَا فِي الْأَرْضِ، وَفِي إِطْلَاقِهِ الْعَمَلَ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عَمَلَهُ كُلَّهُ صَالِحٌ. (وَبَابٌ يَنْزِلُ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ. (مِنْهُ رِزْقُهُ) أَيِ: الْحِسِّيُّ أَوِ الْمَعْنَوِيُّ إِلَى مُسْتَقَرِّ الْأَرْزَاقِ مِنَ الْأَرْضِ. (فَإِذَا مَاتَ بَكَيَا) أَيِ: الْبَابَانِ. (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى فِرَاقِهِ ; لِأَنَّهُ انْقَطَعَ خَيْرُهُ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُمَا يَتَأَذَّيَانِ بِشَرِّهِ، فَلَا يَبْكِيَانِ عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ، أَنَّ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا عِلْمًا بِاللَّهِ، وَلَهَا تَسْبِيحٌ، وَلَهَا خَشْيَةٌ، وَغَيْرُهَا، وَقِيلَ: أَيْ: بَكَى عَلَيْهِ أَهْلُهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَشَّافُ هَذَا تَمْثِيلٌ، وَتَخَيُّلُ مُبَالَغَةٍ فِي فُقْدَانِ مَنْ دَرَجَ وَانْقَطَعَ خَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ بُكَاءِ مُصَلَّى الْمُؤْمِنِ وَآثَارِهِ فِي الْأَرْضِ، وَمَصَاعِدِ عَمَلِهِ، وَمَهَابِطِ رِزْقِهِ فِي السَّمَاءِ، تَمْثِيلٌ وَنَفْيُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَبِحَالِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِحَالِ مَنْ يَعْظُمُ فَقْدُهُ، فَيُقَالُ فِيهِ: بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْعُقُولِ. (فَذَلِكَ) أَيْ: مَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَوْ مِصْدَاقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى الْكُفَّارِ. (السَّمَاءُ) أَيْ: بَابُهَا. (وَالْأَرْضُ) أَيْ: مَكَانُهَا الْمُخْتَصُّ بِهِ لِعَدَمِ طُلُوعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى السَّمَاءِ وَالظَّهْرِ، وَالْعَمَلِ السَّيِّئِ فِي مَكَانِهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ عَلَى خِلَافِهِمْ بِبُكَائِهِمَا عَلَيْهِمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ) .

1735 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِمَا الْجَنَّةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ مَنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ يَا مُوَفَّقَةُ، فَقَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ فَأَنَا فَرَطُ أُمَّتِي، لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1735 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: وَلَدَانِ لَمْ يَبْلُغَا أَوَانَ الْحُلُمِ بَلْ مَاتَا قَبْلَهُ. (مِنْ أُمَّتِي) بَيَانٌ لِمَنْ يُقَالُ: فَرَطٌ إِذَا تَقَدَّمَ، وَسِيقَ فَهُوَ فَارِطٌ وَفَرَطٌ وَالْفَرَطُ هُنَا الْوَلَدُ الَّذِي مَاتَ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ وَيَتَهَيَّأُ لِوَالِدَيْهِ نُزُلًا وَمَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ) كَمَا يَتَقَدَّمُ فُرَّاطُ الْقَافِلَةِ إِلَى الْمَنَازِلِ فَيُعِدُّونَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى وَغَيْرِهِمَا. (أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِمَا الْجَنَّةَ أَيْ: مَعَ النَّاجِينَ أَوَّلًا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِمَا، أَوْ بِالشَّفَاعَةِ مِنْهُمَا، لِمَا وَرَدَ لَا يَزَالُ السِّقْطُ مُحْبَنْطِئًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَقُولَ اللَّهُ: خُذْ بِيَدَيْ أَبَوَيْكَ وَأَدْخِلْهُمَا الْجَنَّةَ، وَالْمُحْبَنْطِئُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ: الْمُتَغَضِّبُ الْمُسْتَبْطِئُ لِلشَّيْءِ، وَقِيلَ: الْمُمْتَنِعُ امْتِنَاعَ طَلَبٍ لَا امْتِنَاعَ إِبَاءٍ. ( «فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ» ؟) أَيْ: فَمَا حُكْمُهُ؟ أَوْ فَهَلْ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ؟ ( «قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ» ) أَيْ: فَكَذَلِكَ. (يَا مُوَفَّقَةُ) أَيْ: فِي الْخَيِّرَاتِ، وَلِلْأَسْئِلَةِ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَهَا شَفَقَةً عَلَى الْأُمَّةِ. ( «فَقَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟» ) أَيْ: فَمَا حَالُهُ؟ ( «قَالَ: فَأَنَا فَرَطُ أُمَّتِي» ) أَيْ: سَابِقُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ بِالشَّفَاعَةِ سَائِقُهُمْ بَلْ أَنَا أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ فَرَطٍ، فَإِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ. (لَنْ يُصَابُوا) أَيْ: أُمَّتِي. (بِمِثْلِي) أَيْ: بِمِثْلِ مُصِيبَتِي لَهُمْ، فَإِنَّ مُصِيبَتِي أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ سَائِرِ الْمَصَائِبِ، فَأَكُونُ أَنَا فَرَطَهُمْ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ رَآهُ فَالْمُصِيبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَقَدْ أَنْشَدَتِ الزَّهْرَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ ... أَنْ لَا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا ... صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا وَأَمَّا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ فَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى وَالْمِحْنَةُ الْكُبْرَى حَيْثُ مَا كَانَ لَهُمْ إِلَّا مَرَارَةُ الْفَقْدِ مِنْ غَيْرِ حَلَاوَةِ الْوَجْدِ، وَلِهَذَا بِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتَسَلَّى عَنْ مَوْتِ كُلِّ مَحْبُوبٍ، وَفَقْدِ كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَنِعْمَ مَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ:

وَلَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا بَقَاءٌ لِسَاكِنٍ ... لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهَا مُخَلَّدًا وَمَا أَحَدٌ يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ سَالِمًا ... وَسَهْمُ الْمَنَايَا قَدْ أَصَابَ مُحَمَّدَا وَقَدْ عَزَّانَا اللَّهُ قَبْلَ ارْتِحَالِهِ، وَمَغِيبِ شَمْسِ جَمَالِهِ، بِقَوْلِهِ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] تَلْوِيحًا، وَبِقَوْلِهِ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] تَصْرِيحًا، وَهَذَا مِنْ قَضَائِهِ الْمَحْتُومِ، وَقَدَرِهِ الْمَقْسُومِ، فَمَوْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصِيبَةٌ عَامَّةٌ، وَمِحْنَةٌ تَامَّةٌ، أَفْزَعَتِ الْفُؤَادَ، وَقَطَعَتِ الْأَكْبَادَ، وَأَوْحَشَتِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، سَوَاءً الْحَاضِرُ وَالْبَادِ، فَنَحْنُ بِقَضَائِهِ رَاضُونَ وَقَائِلُونَ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ) .

1736 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ. فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1736 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ» ) أَيِ: الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ. ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ» ) أَيْ: مَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ. (قَبَضْتُمْ) عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ نَظِيرَ تَجَاهُلِ الْعَارِفِ بِالْمَرَامِ. (وَلَدَ عَبْدِي) أَيْ: رُوحَهُ. (فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ) ثَانِيًا إِظْهَارًا لِكَمَالِ الرَّحْمَةِ، كَمَا أَنَّ الْوَالِدَ الْعَطُوفَ يَسْأَلُ الْفَصَّادَ هَلْ قَصَدْتَ وَلَدِي؟ مَعَ أَنَّهُ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ. ( «قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ» ) ؟ قِيلَ: سُمِّيَ الْوَلَدُ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الْأَبِ، كَالثَّمَرَةِ لِلشَّجَرَةِ. ( «فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي» ) ؟ أَيْ: مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَزَعِهِ وَصَبْرِهِ، وَكُفْرِهِ وَشُكْرِهِ. (فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ) أَيْ: حَتَّى عَلَى الْبَلِيَّةِ الَّتِي مِنْ عِنْدِكَ. (وَاسْتَرْجَعَ) أَيْ: أَظْهَرَ رُجُوعَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَى أَمْرِكَ بِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ، وَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ بَعْضَنَا سَابِقُونَ وَالْبَاقُونَ لَاحِقُونَ. (فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي) أَيْ: هَذَا. (بَيْتًا) أَيْ: عَظِيمًا. (فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْبَيْتَ. (بَيْتَ الْحَمْدِ) أَضَافَ الْبَيْتَ إِلَى الْحَمْدِ الَّذِي قَالَهُ عِنْدَ الْمُصْبِيَةِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ ذَلِكَ الْحَمْدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَجَعَ السُّؤَالُ إِلَى تَنْبِيهِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى عَبْدِهِ الْحَاضِرِ لِأَجْلِ تَصَبُّرِهِ عَلَى الْمَصَائِبِ، أَوْ عِنْدَ تَشَكِّيهِ، بَلْ إِعْدَادُهُ إِيَّاهَا مِنْ جُمْلَةِ النَّعْمَاءِ الَّتِي تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا، ثُمَّ اسْتِرْجَاعُهُ، وَأَنَّ نَفْسَهُ مِلْكُ اللَّهِ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فِي الْعَاقِبَةِ. قَالَ: أَوَّلًا وَلَدُ عَبْدِي أَيْ: فَرْعُ شَجَرَتِهِ، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى ثَمَرَةِ فُؤَادِهِ، أَيْ: نَقَاوَةِ خُلَاصَتِهِ، فَإِنَّ خُلَاصَةَ الْإِنْسَانِ الْفُؤَادُ، وَالْفُؤَادُ إِنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِ لِمَا هُوَ مَكَانُ اللَّطِيفَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَبِهَا شَرَفُهُ وَكَرَامَتُهُ، فَحَقِيقٌ لِمَنْ فَقَدَ مِثْلَ النِّعْمَةِ الْخَطِيرَةِ، وَتَلَقَّاهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ الْحَمْدِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا حَتَّى الْمَكَانَ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ ; فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بَيْتَ الْحَمْدِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1737 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ الرَّاوِي، وَقَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْقُوفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1737 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عَزَّى مُصَابًا) أَيْ: وَلَوْ بِغَيْرِ مَوْتٍ بِالْمَأْتِيِّ لَدَيْهِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ بِمَا يُهَوِّنُ الْمُصِيبَةَ عَلَيْهِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ بِوَعْدِ الْأَجْرِ، أَوْ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِنَحْوِ: أَعْظَمَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ، وَأَلْهَمَكَ الصَّبْرَ، وَرَزَقَكَ الشُّكْرَ. (فَلَهُ) أَيْ: لِلْمُعَزِّي. (مِثْلُ أَجْرِهِ) أَيْ: نَحْوُ الْمُصَابِ عَلَى صَبْرِهِ ; لِأَنَّ «الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعَزَاءِ بِالْمَدِّ وَهُوَ الصَّبْرُ فَلَهُ لِأَجْلِ هَذِهِ التَّعْزِيَةِ ثَوَابٌ مِثْلُ ثَوَابِ الْمُصَابِ، لِأَجْلِ صَبْرِهِ فِي الْمُصِيبَةِ، وَقِيلَ: التَّعْزِيَةُ التَّأَسِّي وَالتَّصَبُّرُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، بِأَنْ يَقُولَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَيَقُولُ الْمُعَزِّي: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ بِالْمَدِّ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ الرَّاوِي) بِسُكُونِ الْيَاءِ. (وَقَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ. (وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ) بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْوَاوِ. (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْقُوفًا) أَيْ: عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، لَكِنْ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَيُعَضِّدُهُ خَبَرُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلَّا كَسَاهُ اللَّهُ مَنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَقَوْلُهُ: قُومُوا إِلَى أَخِينَا نُعَزِّيهِ.

1738 - وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرُدًا مِنَ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1738 - (وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عَزَّى ثَكْلَى) الثَّكْلُ فُقْدَانُ الْوَلَدِ، وَالرَّجُلُ ثَكْلَانُ أَيْ: مَنْ عَزَّى الْمَرْأَةَ الَّتِي مَاتَ وَلَدُهَا، أَيِ: الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ. (كُسِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (بُرُدًا) أَيْ: أُلْبِسَ ثَوْبًا عَظِيمًا. (فِي الْجَنَّةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ كَذَا فِي مَبْدَأِ التِّرْمِذِيِّ.

1739 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1739 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي طَالِبٍ. (قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعِيُّ جَعْفَرٍ) بِف) تْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: خَبَرُ مَوْتِهِ بِمُؤْتَةَ، وَهِيَ مَوْقِعٌ عِنْدَ تَبُوكَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، قِيلَ: النَّعْيُ وَالنَّعِيُّ الْإِخْبَارُ بِالْمَوْتِ، وَالنَّعْيُ أَيْضًا النَّاعِي، وَفِي الْقَامُوسِ: نَعَاهُ لَهُ نَعْوًا وَنَعْيًا أَخْبَرَهُ بِمَوْتِهِ، وَالنَّعِيُّ كَغَنِيٍّ النَّاعِي وَالْمَنْعِيُّ. (قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: لِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ. (اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا) أَيْ: يَتَقَوَّتُونَ بِهِ يُسَمَّى الْآنَ بِمَكَّةَ، رَفَعَهُ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَلَا يَفْعَلُونَهُ إِلَّا بَعْدَ الدَّفْنِ عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ. (فَقَدْ أَتَاهُمْ) أَيْ: مِنْ مَوْتِ جَعْفَرٍ. (مَا يَشْغَلُهُمْ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْغَيْنِ وَقِيلَ: بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّالِثِ) ، الْقَامُوسُ: شَغَلَهُ كَمَنَعَهُ شَغْلًا وَيُضَمُّ، وَأَشْغَلَهُ لُغَةٌ جَيِّدَةٌ أَوْ قَلِيلَةٌ، أَوْ رَدِيئَةٌ، وَالْمَعْنَى جَاءَهُمْ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْحُزْنِ عَنْ تَهْيِئَةِ الطَّعَامِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَيَحْصُلُ لَهُمُ الضَّرَرُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ اهـ. وَالْمُرَادُ طَعَامٌ يُشْبِعُهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْحُزْنَ الشَّاغِلَ عَنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ لَا يَسْتَمِرُّ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، وَقِيلَ: يُحْمَلُ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُدَّةَ التَّعْزِيَةِ، ثُمَّ إِذَا صُنِعَ لَهُمْ مَا ذَكَرَ مِنْ أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَكْلِ لِئَلَّا يَضْعُفُوا بِتَرْكِهِ اسْتِحْيَاءً، أَوْ لِفَرْطِ جَزَعٍ، وَاصْطِنَاعُهُ مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ لِلنَّائِحَاتِ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ ; لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَاصْطِنَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ لَهُ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، بَلْ صَحَّ عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نَعُدُّهُ مِنَ النِّيَاحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، قُلْتُ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَوِ الْغَائِبِ، وَإِلَّا فَهُوَ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1740 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1740 - (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ) مَجْهُولُ نَاحَ. (فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ النِّيَاحَةِ، أَوْ مَوْصُولَةٌ فَالْبَاءُ لِلْآلَةِ أَيْ: بِمَا نِيحَ بِهِ عَلَيْهِ مِثْلُ: وَاجَبَلَاهُ كَمَا سَيَأْتِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .

1741 - «وَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ تَقُولُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1741 - (وَعَنْ عَمْرَةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ. (بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا) : أَيْ: لِعَائِشَةَ. (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ تَقُولُ) حَالٌ مِنْ عَائِشَةَ، قِيلَ: مَفْعُولٌ ثَانٍ لَسَمِعْتُ، وَمَا بَيْنَهُمَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَجَوَّزَ الطِّيبِيُّ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ. (يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الْآدَابِ الْحَسَنَةِ الْمَأْخ) وذَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فَمَنِ اسْتَغْرَبَ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا

يَنْبَغِي أَنْ يُوَطِّئَ وَيُمَهِّدَ لَهُ بِالدُّعَاءِ إِقَامَةً لِعُذْرِهِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ، وَمِنْ ثَمَّ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيَانًا وَاعْتِذَارًا بِقَوْلِهَا. (مَا بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ أَوْ لِلِافْتِتَاحِ، يُؤْتَى بِهَا لِمُجَرَّدِ مَوْرِدِهِ الْخَاصِّ. (أَوْ أَخْطَأَ) فِي إِرَادَتِهِ الْعَامَّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَكِنَّهُ نَسِيَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَتَى بِغَيْرِهِ وَأَخْطَأَ مِنْهُ، إِلَى غَيْرِهِ اهـ. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ بِقَوْلِهَا: (إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ: إِنَّهُمْ) أَيِ: الْيَهُودُ (لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا) أَيِ: الْيَهُودِيَّةَ. (لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا) أَيْ: لِكُفْرِهَا أَوْ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهَا) ، وَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ كَافِرٍ وَفَاجِرٍ يُعَذَّبُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَارِدٌ لَوْ لَمْ يُسْمَعِ الْحَدِيثُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْرِدِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَبِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْهُ، وَعَنْ غَيْرِهِ غَيْرِ مُقَيَّدَةٍ بَلْ مُطْلَقَةٌ، دَخَلَ هَذَا الْخُصُوصُ تَحْتَ ذَلِكَ الْعُمُومِ، فَلَا مُنَافَاةَ وَلَا مُعَارَضَةَ، فَيَكُونُ اعْتِرَاضُهَا بِحَسَبِ اجْتِهَادِهَا. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: اخْتَلَفُوا فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ: فَقِيلَ: إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ بِذَلِكَ فَيُعَذَّبُ بِسَبَبِهِ بِقَدْرِ وَصِيَّتِهِ، وَقِيلَ: هَذَا الْقَوْلُ فِي حَقِّ مَيِّتٍ خَاصٍّ كَانَ يَهُودِيًّا، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ فِي بُكَائِهِمْ وَنَوْحِهِمْ مِنْ أَخْبَارِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا يَكُونُ مَذْمُومًا شَرْعًا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا يَقَعُ فِي الْبُكَاءِ مِنَ الْأَلْفَاظِ. قَالَ: وَعِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُوَ الْأَلَمَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ إِذَا سَمِعَهُمْ يَبْكُونَ، أَوْ بَلَغَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ تَأَلُّمٌ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِّينَا: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَاتَ لَهَا وَلَدٌ فَوَجَدَتْ عَلَيْهِ وَجْدًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَحَلَتْ فِي بَعْضِ مَقَاصِدِهَا إِلَى الْمَغْرِبِ، فَحَضَرَ يَوْمُ الْعِيدِ وَعَادَتُهَا فِي بَلَدِهَا أَنْ تَخْرُجَ كُلَّ يَوْمِ عِيدٍ إِلَى الْمَقَابِرِ تَبْكِي عَلَى وَلَدِهَا، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ فِي بَلَدِهَا خَرَجَتْ إِلَى مَقَابِرِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَفَعَلَتْ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ، وَأَكْثَرَتِ الْبُكَاءَ وَالْوَيْلَ ثُمَّ نَامَتْ، فَرَأَتْ أَهْلَ الْمَقْبَرَةِ قَدْ هَاجُوا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، هَلْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا وَلَدٌ؟ ! فَقَالُوا: لَا. فَقَالُوا: كَيْفَ جَاءَتْ عِنْدَنَا تُؤْذِينَا بِبُكَائِهَا؟ ! ثُمَّ ذَهَبُوا وَضَرَبُوهَا ضَرْبًا وَجِيعًا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَتْ وَجَدَتْ أَلَمَ ذَلِكَ الضَّرْبِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ تَأْلَمُ مِنَ الْمُؤْذِيَاتِ، وَتَفْرَحُ مِنَ اللَّذَّاتِ فِي الْبَرْزَخِ، كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ أَحْوَالَ الْأَحْيَاءِ، وَمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ، وَوَرَدَ أَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِالزِّيَارَاتِ، وَيَأْلَمُونَ بِانْقِطَاعِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْبُكَاءُ، وَالْعَوِيلُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ تَتَأَذَّى بِهِ الْأَرْوَاحُ وَتَنْقَبِضُ، كَانَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّعْذِيبِ الْمَنْفِيِّ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ مُسْتَدِلَّةً بِالْآيَةِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ فِي تَأَذِّي الْأَرْوَاحِ بِمَا تَتَأَذَّى بِهِ الْأَشْبَاحُ، وَهُوَ مَحْمَلٌ حَسَنٌ، وَتَأْوِيلٌ مُسْتَحْسَنٌ، لَوْلَا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ تَقْيِيدِ الْعِقَابِ بِقَوْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الرِّوَايَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1742 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: تُوُفِّيَتْ بِنْتٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ، فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِعُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ مُوَاجِهُهُ، أَلَا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَ، فَقَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ. قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أَنْ أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي، يَقُولُ: وَا أَخَاهُ، وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " إِنَّ «الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ؟ ! " فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، لَا وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ» ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ " {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى قَالَ ابْنُ مُلَيْكَةَ: فَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1742 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ. (قَالَ: تُوُفِّيَتْ بِنْتٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ مُنْصَرَفٍ. (بِمَكَّةَ فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا) أَيْ: لِنَحْضُرَ صَلَاتَهَا وَدَفْنَهَا. (وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ: وَقَدْ حَضَرَاهَا أَيْضًا. (فَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَإِنِّي لَجَالِسٍ لِيَكُونَ حَالًا، وَالْعَامِلُ حَضَرَ، وَالْفَاءُ تَسْتَدْعِي الِاتِّصَالَ بِقَوْلِهِ: فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ بِالْوَاوِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِظَاهِرِ كَلَامِ الطِّيبِيِّ: قَوْلُهُ فَإِنَّى جَالِسٌ عَطْفٌ عَلَى فَجِئْنَا اهـ. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ اتِّصَالِهِ بِقَوْلِهِ: فَجِئْنَا

لِنَشْهَدَهَا أَيْضًا، وَإِلَّا لَكَانَ الْأَمْرُ سَهْلًا بِأَنْ يُقَالَ: جُمْلَةُ وَحَضَرَهَا اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَهُمَا، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ دَخَلَتْ عَلَى مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: فَبَعْدَ حُضُورِهَا إِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا إِشْعَارًا بِكَمَالِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمَا. (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ. (مُوَاجِهُهُ) أَيْ: مُقَابِلَ ابْنِ عُثْمَانَ. (أَلَا تَنْهَى) أَيْ: أَهْلَكَ. (عَنِ الْبُكَاءِ) أَيْ: بِالصِّيَاحِ وَالنِّيَاحِ. (فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ: مُعْتَرِضًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّ عَائِشَةَ خَالَفَتْهُ كَأَبِيهِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا وَهُوَ لَا يُكَلِّفُ بِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ الثَّانِيَ خَارِجٌ عَنِ الْمَبْحَثِ إِجْمَاعًا، وَخِلَافُ عَائِشَةَ غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَا، وَأَبُوهُ مُوَافِقٌ لَهُ إِمَّا فِي الْكُلِّ أَوْ فِي الْبَعْضِ لِقَوْلِهِ: (قَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ) أَيِ: الْعُمُومَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِصَوْتٍ أَوْ نُدْبَةٍ عِنْدَ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ، أَوْ يَرْوِي أَيْ: بَعْضَ ذَلِكَ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ بِبَعْضَ بُكَاءِ أَهْلِهِ كَمَا سَيَأْتِي. (ثُمَّ حَدَّثَ) أَيْ: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَا سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (فَقَالَ: صَدَرْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ سَائِرًا. (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. (فَإِذَا هُوَ) أَيْ: عُمَرُ. (بِرَكْبٍ) أَيْ: جَمَاعَةٍ مِنَ الرُّكْبَانِ. (تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ) بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْمِيمِ: نَوْعُ شَجَرٍ. (فَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ لِي. (اذْهَبْ فَانْظُرْ) أَيْ: تَحَقَّقْ. (مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟) أَيْ: كَبِيرُهُمْ أَوْ أَمِيرُهُمْ. (فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ) أَيْ: وَمَنْ مَعَهُ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ. (فَأَخْبَرْتُهُ) أَيْ: عُمَرَ بِهِ أَوْ بِالْخَبَرِ. (فَقَالَ: ادْعُهُ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا أَيِ: اطْلُبْ صُهَيْبًا. (فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ) : أَيْ: لِصُهَيْبٍ. (ارْتَحِلْ) أَيْ: مِنْ مَكَانِكَ. (فَالْحَقْ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيِ: اتْبَعْ. (أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ: أَمْرَهُ أَوِ الِاجْتِمَاعَ بِهِ، وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِلْمُصَاحِبَةِ الْخُصُوصِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ السَّالِفَةِ بَيْنَ عُمَرَ وَصُهَيْبٍ ; فَإِنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: (فَلَمَّا أَنْ) زَائِدَةٌ. (أُصِيبَ عُمَرُ) أَيْ: جُرِحَ فِي الْمِحْرَابِ، وَنُقِلَ إِلَى بَيْتِهِ مَعَ الْأَصْحَابِ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْمَدِينَةَ بِقَلِيلٍ بِضَرْبِ ذَلِكَ الْمَجُوسِيِّ لَهُ بِخِنْجَرِهِ، ضَرَبَاتٍ مُتَعَدِّدَةً، وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الصُّبُحَ، فَسَقَطَ وَحُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ، وَضَرَبَ بِهِ كَثِيرِينَ وَهُوَ يَشُقُّ الصُّفُوفَ حَتَّى أُلْقِيَ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ خَشْيَةً مِنْ خِنْجَرِهِ الْمَسْلُولِ بِيَدِهِ، لِكُلِّ مَنْ وَالَاهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ اللَّعِينُ بِذَلِكَ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَكَمَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الصَّلَاةَ لِلنَّاسِ وَدَخَلَ النَّاسُ عَلَى عُمَرَ يَتَعَرَّفُونَ الْخَبَرَ. (دَخَلَ) أَيْ: عَلَيْهِ. (صُهَيْبٌ يَبْكِي) حَالٌ. (يَقُولُ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ يَبْكِي. (وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاهُ) لَيْسَ فِي هَذَا نَوْحٌ نَظِيرَ مَا صَدَرَ عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ قَوْلِهَا وَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ شَرْطَ النَّوْحِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِرَفْعِ صَوْتٍ. (فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، أَتُبْكِي عَلَيَّ) أَيْ: بِالصَّوْتِ وَالنُّدْبَةِ. (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَيِّتَ) أَيْ: مُطْلَقًا أَوِ الْمُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ (لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) أَقُولُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنْوَاعِ رِوَايَاتِهِ ; لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ تَأْوِيلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ إِيرَادِ عُمَرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَعْضِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ النُّدْبَةِ، وَطَرِيقَةُ النَّوْحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ حُكْمًا أَوْ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ قَابِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ مَا يَكُونُ عَنْ وَصِيَّتِهِ، أَوْ مِنْ نَحْوِ يَهُودِيَّةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: وَهُمُ الَّذِينَ أَوْصَاهُمْ دُونَ مَا لَمْ يُوصِيهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَوْصَاهُمْ كُلَّهُمْ، فَمَآلُ الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ مَقَالُ اللَّفْظِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَمْلَ الْمَفْهُومَ مُخَالِفٌ لِمَا فَهِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْعُمُومِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْمَيِّتِ أَعَمُّ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى فَهْمِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَيِّتِ الْمُحْتَضِرُ، وَبِالْعَذَابِ تَشْوِيشُ خَاطِرِهِ مِمَّنْ حَوْلَهُ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ فِي مُرَاقَبَةِ

الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ: لَيْتَنِي كَنْتُ أَخْرَسَ إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، إِذِ الْمُنَاسِبُ حِينَئِذٍ الدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ تَهْوِينًا أَوْ تَلْقِينًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ) أَيِ: الْكَلَامَ أَوِ الْحَدِيثَ (لِعَائِشَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ سَهْوٌ يَحْتَاجُ إِلَى عَفْوٍ، وَفِيهِ مِنَ الْآدَابِ الْحَسَنَةِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى. (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَغْرَبْتُ مِنْ عُمَرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، فَجَعَلَتْ قَوْلَهَا: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ تَمْهِيدًا وَدَفْعًا لِمَا يُوجِبُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الْخَطَأِ. (لَا) أَيْ: لَيْسَ كَذَلِكَ. (وَاللَّهِ، مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَيِّتَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتُفْتَحُ. (لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) أَيْ: مُطْلَقًا، وَلَا مُقَيَّدًا بِالْبَعْضِ، وَهَذَا النَّفْيُ الْمُؤَكَّدُ بِالْقَسَمِ مِنْهَا بِنَاءً عَلَى ظَنِّهَا أَوْ زَعْمِهَا، أَوْ مُقَيَّدٌ بِسَمَاعِهَا، وَإِلَّا فَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَكَيْفَ وَالْحَدِيثُ رُوِيَ مَنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ بِأَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ؟ ! مَعَ أَنَّهُ بِعُمُومِهِ لَا يُنَافِي مَا قَالَتْ بِخُصُوصِهِ. (وَلَكِنْ) أَيِ: الَّذِي حَدَّثَ بِهِ جُمْلَةَ " إِنَّ اللَّهَ. . . " إِلَخْ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَكِنْ قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ) فِيهِ أَنَّ النَّفْيَ مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هُنَا مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَتْ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهَا أَوَّلًا. (حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ) بِسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: كَافِيكُمُ الْقُرْآنُ فِي تَأْيِيدِ مَا ذَهَبْتُ مِنَ الْخَبَرِ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] الْجُمْلَةُ بَدَلُ كُلٍّ أَوْ بَعْضٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوِزْرُ وَالْوَقْرُ أَخَوَانِ، وَزَرَ الشَّيْءَ إِذَا حَمَلَهُ، وَالْوَازِرَةُ صِفَةُ النَّفْسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَحْمِلُ إِلَّا وِزْرَهَا، لَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ نَفْسٍ كَمَا تَأْخُذُ جَبَّارَةُ الدُّنْيَا الْوَلِيَّ بِالْوَلِيِّ، وَالْجَارَّ بِالْجَرِّ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْآيَةَ بِظَاهِرِهَا يُنَافِي مَا ذَكَرَتْ مِنْ: أَنَّ الْكَافِرَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ: عِنْدَ قَوْلِ عَائِشَةَ، أَوْ عِنْدَ نَقْلِهِ عَنْهَا مُؤَيِّدًا لَهَا، وَمِصْدَاقًا لِكَلَامِهَا. (وَاللَّهُ) بِالرَّفْعِ مَعَ الْوَاوِ، وَهُوَ حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ بِلَفْظِ {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] قَالَ مِيرَكُ: أَيْ: أَنَّ الْعَبْرَةَ لَا يَمْلِكُهَا ابْنُ آدَمَ، وَلَا تَسَبُّبَ لَهُ فِيهَا، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا؟ ! فَضْلًا عَنِ الْمَيِّتِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَحَاصِلُهُ جَوَازُ عُمُومِ الْبُكَاءِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، مَعَ مُنَاقَضَتِهِ لِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] مِنْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةَ الْقَهْقَهَةُ، عَلَى مَا نَقَلَ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: قَدَّرَ الدَّاوُدِيُّ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْجَمِيلِ مِنَ الْبُكَاءِ، فَلَا يُعَذِّبُ بِمَا أَذِنَ فِيهِ اهـ. وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْبَحْثِ كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الطِّيبِيُّ: غَرَضُهُ تَقْرِيرٌ لِنَفْيِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ: مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْأَهْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ بُكَاءَ الْإِنْسَانِ وَضَحِكَهُ، وَحُزْنَهُ وَسُرُورَهُ مِنَ اللَّهِ يُظْهِرُهَا فِيهِ، فَلَا أَثَرَ لَهَا فِي ذَلِكَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَلْقًا، وَمِنَ الْعَبْدِ كَسْبًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَالشَّرْعُ قَدِ اعْتَبَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَثَرِ كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْبَشَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّحِكَ وَالتَّبَسُّمَ فِي وَجْهِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَذَلِكَ الْحُزْنُ وَالسُّرُورُ تَارَةً يَكُونَانِ مِنَ الْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ يُثَابُ الشَّخْصُ بِهِمَا، وَتَارَةً مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّنِيَّةِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِمَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّصَوُّفِ، وَزُبْدَتُهُ فِي الْإِحْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ لَمْ يُؤْثَرْ ذَلِكَ قِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَقَدْ أُثِرَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ؟ ! قُلْتُ: لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ لَا يَرْضَى بِالْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الصِّدِّيقَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ، أَيْ: كَافِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْقُرْآنِ هَذَا الْآيَةُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] إِنَّهَا فِي شَأْنِكُمْ، وَمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ، أَقُولُ: لَا دَلَالَةَ لِقَوْلِهَا عَلَى هَذَا الْمُدَّعِي، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ أَلْفَاظِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي الْمَعْنَى لَا لِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ فِي الْمَبْنَى، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَعَلَ الْخِلَافَ بَيْنَ عَائِشَةَ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَفْظِيًّا، مَعَ أَنَّ لَهُمْ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةَ الْمَبَانِي وَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ جَمْعُهَا فِي وَاحِدٍ مِنَ الْمَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْفَارُوقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ، فَقَالَ ذَلِكَ لِسُوءِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَالصِّدِّيقَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَتْ ذَلِكَ، وَلِكُلٍّ وَجْهٌ هُوَ مُوَلِّيهَا اهـ. وَهَذَا بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا صَدَرَ عَنْ مِشْكَاةِ صَدْرِ النُّبُوَّةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا) أَيْ: شَيْءٌ مِنَ

الْقَوْلِ أَوْ شَيْئًا آخَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَعِنْدَ ذَلِكَ سَكَتَ ابْنُ عُمَرَ وَأَذْعَنَ، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي السُّكُوتِ عَلَى الْإِذْعَانِ بَلْ تَرْكُ الْمُجَادَلَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَرْبَابِ الْعِرْفَانِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَسِيرُ الدَّلِيلِ وَأَنَّ لَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُخَطِّئَ غَيْرَهُ، وَأَنْ يَحْلِفَ عَلَى خَطَئِهِ وَإِنْ كَانَ أَجَلَّ مِنْهُ وَأَوْسَعَ عِلْمًا، إِذْ عُمَرُ كَذَلِكَ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اهـ. وَفِيهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ وَنَقْلٌ صَحِيحٌ يَصْلُحُ لِلرَّدِّ عَلَى بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى فِقْهِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا الْمُعْتَرِضِينَ عَلَيْنَا مِمَّنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ قَيْدِ التَّقْيِيدِ، وَلَمْ يَبْرُزْ فِي مَيْدَانِ التَّحْقِيقِ، وَالتَّأْيِيدِ عِنْدَ اعْتِرَاضِنَا عَلَى ابْنِ حَجَرٍ: إِذَا وَقَعَ لَهُ كَلَامٌ غَيْرُ سَدِيدٍ ; لِأَنَّ مِثْلَكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ، مُفْتِي الْأَنَامِ ابْنِ حَجَرٍ: الَّذِي هُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ.

1743 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ تَعْنِي شَقَّ الْبَابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ: انْهَهُنَّ، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ: وَاللَّهِ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَزَعَمْتُ أَنَّهُ قَالَ: فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ، فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَنَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1743 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ) أَيْ: زَيْدٍ. (وَجَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي طَالِبٍ. (وَابْنِ رَوَاحَةَ) أَيْ: جَاءَ خَبَرُ شَهَادَتِهِمْ. (جَلَسَ) أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ. (يُعْرَفُ فِيهِ) أَيْ: فِي وَجْهِهِ الْوَجِيهِ. (الْحُزْنُ) أَيْ: أَثَرُهُ، وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِفَتْحِهِمَا: هُمْ قُوتُ الْمُحِبِّينَ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْ: حَزِينًا بِمُقْتَضَى الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ جُلُوسَهُ كَانَ لِلْعَزَاءِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَجُوزُ الْجُلُوسُ لِلْمُصِيبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَيُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ اهـ. فَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ كَانَ جُلُوسُهُ فِي الْمَسْجِدِ اتِّفَاقِيًّا. (وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ) أَيْ: مِنْ ذِي صَيْرٍ أَيْ: شَقٍّ لَهُ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ، وَلِذَا قِيلَ: (تَعْنِي) أَيْ: تُرِيدُ عَائِشَةُ بِصَائِرِ الْبَابِ) . (شَقُّ الْبَابِ بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ: خَرْقُهُ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلرَّاوِي عَنْهَا. (فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ. (إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ) أَيْ: أَهْلَ جَعْفَرٍ. (وَذَكَرَ) أَيِ: الرَّجُلُ. (بُكَاءَهُنَّ) الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ، سَادَّةٌ مَسَدَّ الْخَبَرِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنَ الْمُسْتَتِرِ فِي: فَقَالَ، وَحَذَفَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خَبَرَ إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ عَنْ نِسَاءِ جَعْفَرٍ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ فَعَلْنَ كَذَا وَكَذَا بِمَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْبُكَاءِ الشَّنِيعِ، وَالنَّوْحِ الْفَظِيعِ. (فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ) أَيِ: الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ. (لَمْ يُطِعْنَهُ) أَيْ: فِي تَرْكِ الْبُكَاءِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: حِكَايَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِ الرَّجُلِ أَيْ: فَذَهَبَ وَنَهَاهُنَّ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَهَيْتُهُنَّ فَلَمْ يُطِعْنَنِي، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: وَاللَّهِ، غَلَبْنَنَا. (فَقَالَ: انْهَهُنَّ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ، وَفَتْحِ الْهَاءِ أَمْرٌ مِنَ النَّهْيِ، أَيِ: امْنَعْهُنَّ مِنَ الْبُكَاءِ. (فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ) أَيْ: فَذَهَبَ إِلَيْهِنَّ وَنَهَاهُنَّ وَلَمْ يُطِعْنَهُ أَيْضًا، فَأَتَاهُ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ. (قَالَ: وَاللَّهِ) ، غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ هُنَّ أَغْلَبُ. (فَزَعَمَتْ) بِالْغِيبَةِ أَيْ: قَالَتْ عَمْرَةُ: فَزَعَمَتْ عَائِشَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنِّي ظَنَّتْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخْبَرَتْ قَالَ النَّوَوِيُّ الزَّعْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ وَعَلَى الْكَذِبِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَيُنَزَّلُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ اهـ. وَظَنِّي أَنَّهُ مِنْهَا بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ بِالتَّكَلُّمِ أَيْ: قَالَتْ عَائِشَةُ فَزَعَمْتُ أَيْ: ظَنَنْتُ. (أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَاحْثُ) بِضَمِّ الثَّاءِ أَمْرٌ مِنَ الْحَثْيِ وَهُوَ الرَّمْيُ. (فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) فِي النِّهَايَةِ احْثُوا التُّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ، كِنَايَةً عَنِ الْخَيْبَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْحَقِيقَةُ اهـ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ إِذَا كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِهِنَّ عَلَى حَالِهِنَّ لِعَدَمِ نَفْعِ النَّصِيحَةِ بِهِنَّ مِنْ حَالِ ضَجَرِهِنَّ فِي جَزَعِهِنَّ. (فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ) فِي النِّهَايَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: قَالَتْ عَائِشَةُ لِلرِّجُلِ: أَذَلَّكَ اللَّهُ فَإِنَّكَ آذَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا كَفَفْتَهُنَّ عَنِ الْبُكَاءِ اهـ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فِي الزَّجْرِ، وَإِلَّا فَقَدَ قَامَ بِالْأَمْرِ حَيْثُ نَهَاهُنَّ عَنِ الضَّجَرِ، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ: حَيْثُ صَرَفَ الْأَمْرَ إِلَى الْحَثْيِ فِي أَفْوَاهِهِنَّ. (وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَنَاءِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: تَعَبِ الْخَاطِرِ مِنْ سَمَاعِ ارْتِكَابِهِنَّ الْكَبَائِرَ أَوِ الصَّغَائِرَ، وَعَدَمِ انْزِجَارِهِنِّ بِالزَّوَاجِرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1744 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: غَرِيبٌ وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ، لَأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ، فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ، إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخُلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ، وَكَفَفْتُ عَنِ الْبُكَاءِ، فَلَمْ أَبْكِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1744 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. (قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ) أَيْ: زَوْجُهَا الْأَوَّلُ. (قُلْتُ: غَرِيبٌ) أَيْ: هُوَ مَيِّتٌ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ) ، لِأَنَّهُ كَانَ مَكِّيًّا مِنْ أَصْحَابِ الْهِجْرَةِ. (وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا غَرِيبًا أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَهُوَ إِمَّا مَجَازٌ أَوْ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. (لَأَبْكِيَنَّهُ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: وَاللَّهِ، لَأَبْكِيَنَّ عَلَيْهِ. (بُكَاءً) أَيْ: شَدِيدًا. (يُتَحَدَّثُ عَنْهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ لِكَمَالِ شِدَّتِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْهَا كَانَ قَبْلَ عِلْمِهَا بِتَحْرِيمِ النِّيَاحَةِ. (فَكُنْتُ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ) أَيْ: بِالْقَصْدِ وَالْعَزِيمَةِ، وَتَهْيِئَةِ أَسْبَابِ الْحُزْنِ مِنَ الثِّيَابِ السُّودِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: قُلْتُ: أَيْ: قُلْتُ عَقِيبَ مَا تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْقَوْلِ إِلَّا مَعَ الْوَاوِ لِيَكُونَ حَالًا اهـ. وَغَفَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ ذَلِكَ التَّحْقِيقِ فَقَالَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قُلْتُ، أَيْ: عَقِبَ قَوْلِي ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ تَمَامِ التَّهَيُّؤِ. (إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ) ظَرْفٌ لِتَهَيَّأْتُ وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ: حَيْثُ قَالَ: ظَرْفٌ لَقُلْتُ أَيْ: جَاءَتْنِي مِنْ قُبَالَتِي امْرَأَةٌ. (تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي) أَيْ: تُسَاعِدَنِي فِي الْبُكَاءِ وَمُعَاوَنَتِي فِي النِّدَاءِ. (فَاسْتَقْبَلَهَا) أَيْ: تِلْكَ الْمَرْأَةَ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: بَعْدَ عِلْمِهِ مِمَّا هِيَ قَاصِدَةٌ لَهُ. (فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ) أَيْ: أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ بِإِعَانَتِكِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. (أَنْ تُدْخِلِي الشَّيطَّانَ) أَيْ: أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِدُخُولِ الشَّيْطَانِ. (بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ) أَيِ: الشَّيْطَانَ. (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ، وَأَبْعَدَهُ مِنْ إِغْوَاءِ أَهْلِهِ. (مَرَّتَيْنِ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى يَوْمُ دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَوْمَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا مُسْلِمًا، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ التَّكْرِيرُ أَيْ: أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِخْرَاجًا بَعْدَ إِخْرَاجٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَجْدِهِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أَيْ: مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَقُولُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى يَوْمُ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَبِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَوْمُ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنَّهُ مِنْ ذَوِي الْهِجْرَتَيْنِ أَقُولُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرَّتَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بَقَالَ، أَيْ: أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ لِكَمَالِ الِاهْتِمَامِ مَرَّتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَكَفَفْتُ) عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: فَانْزَجَرْتُ وَمَنَعْتُ نَفْسِي. (عَنِ الْبُكَاءِ فَلَمْ أَبْكِ) أَيِ: الْبُكَاءَ الْمَذْمُومَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْلُومِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ ) .

1745 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهُ، وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي أَنْتَ كَذَلِكَ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1745 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ) بِضَمِّ النُّونِ. (بْنِ بَشِيرٍ) صَحَابِيَّانِ. (قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحةَ) هُوَ مِنَ النُّقَبَاءِ، وَالصَّحَابَةِ الْأَجِلَّاءِ. (فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي وَا جَبَلَاهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ، وَالْقَوْلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: قَائِلَةً: وَا جَبَلَاهُ، تَوْطِئَةً لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) . (وَا كَذَا وَا كَذَا) كِنَايَتَانِ عَنْ نَحْوِ سَيِّدَاهُ وَسَنَدَاهُ. (تُعَدِّدُ عَلَيْهِ) أَيْ: بِأَوْصَافِهِ الْجَمِيلَةِ بَدَلٌ مِنْ تَبْكِي، أَوْ بَيَانٌ لَهُ. (فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ مَا قُلْتِ: شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ. (كَذَلِكَ) أَيْ: أَنْتَ، وَفِي نُسْخَةٍ: كَذَاكَ بِلَا لَامٍ، أَيْ: لَمَّا قُلْتِ: وَا جَبَلَاهُ قِيلَ: أَنْتَ جَبَلٌ أَيْ: كَهْفٌ، يَلْجَئُونَ إِلَيْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَنْصُرُ مَذْهَبَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ: بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَخَذَ بِظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُؤَوَّلٌ بِمَا قَدَّمْتُهُ، وَتِلْكَ التَّأْوِيلَاتُ لَا يَأْتِي مِنْهَا شَيْءٌ هُنَا، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْتُهُ، قُلْتُ: سَيَأْتِي فِي كَلَامِ السُّيُوطِيِّ مَا يَقُولُ الطِّيبِيُّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ تَوْبِيخِهِ بِهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَلَا أَمَرَ؟ قُلْتُ: إِخْبَارُهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَنْزَجِرَ النِّسَاءُ عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ اهـ. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ صَلَاحِيَتِهِ لِلْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ أَيْ: أُخْتُهُ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْبُكَاءِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1746 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ: وَا جَبَلَاهُ، وَا سَيِّدَاهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَلْهَزَانِهِ، وَيَقُولَانِ: أَهَكَذَا كُنْتَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1746 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ مَيِّتٍ) أَيْ: حَقِيقِيٍّ أَوْ مُشْرِفٍ عَلَى الْمَوْتِ (يَمُوتُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ أَوْ تَضِلُّ الضَّالَّةُ فِي الْمَشَارِفِ، لِلْمَوْتِ وَالْمَرِيضِ، وَالضَّلَالِ مَيِّتًا، وَمَرِيضًا وَضَالَّةً، وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحةَ اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ: بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. (فَيَقُومُ) أَيْ: فَيَشْرَعُ. (بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ: وَا جَبَلَاهُ، وَا سَيِّدَاهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ) نَحْوَ سَنَدَاهُ وَمُعْتَمِدًا. (إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَلْهَزَانِهِ) بِفَتْحِ الْهَاءِ أَيْ: يَضْرِبَانِهِ وَيَدْفَعَانِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: اللَّهْزُ الضَّرْبُ بِجَمْعِ الْيَدِ فِي الصَّدْرِ، يُقَالُ: لَهَزَهُ بِالرُّمْحِ أَيْ: طَعَنَهُ فِي الصَّدْرِ. (وَيَقُولَانِ: أَهَكَذَا كُنْتَ) ؟ أَيْ: تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَحَادِيثَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ، الثَّانِي: لَا مُطْلَقًا، الثَّالِثُ: أَنَّ الْبَاءَ لِلْحَالِ أَيْ: أَنَّهُ يُعَذَّبُ حَالَ بُكَائِهِمْ عَلَيْهِ وَالتَّعْذِيبُ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ لَا بِسَبَبِ الْبُكَاءِ، الرَّابِعُ: أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْكَافِرِ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ عَائِشَةَ، الْخَامِسُ: أَنَّهُ خَاصٌّ. مِمَّنْ كَانَ النَّوْحُ سُنَّتَهُ وَطَرِيقَتَهُ، وَعَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، السَّادِسُ: أَنَّهُ فِيمَنْ أَوْصَى بِهِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: إِذَا مُتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَتَ مَعْبَدِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ فِيمَنْ لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِ فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ وَاجِبَةً، إِذَا عَلِمَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ أَهْلِهِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، الثَّامِنُ: أَنَّ التَّعْذِيبَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَبْكُونَ بِهَا عَلَيْهِ وَهِيَ مَذْمُومَةٌ شَرْعًا كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: يَا مُرَمِّلَ النِّسْوَانِ، يَا مُيَتِّمَ الْأَوْلَادِ، يَا مُخَرِّبَ الدُّورِ، التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِمَا يَنْدُبُ بِهِ أَهْلُهُ، الْعَاشِرُ: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ وَلَفْظُهُ أَنَّ " «الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ» " اهـ. وَتَقَدَّمَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ تَأَلُّمُ الْمَيِّتِ بِسَبَبِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ مَذْمُومٍ، كَمَا يَتَأَلَّمُ بِسَائِرِ الْمَعَاصِي الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ، وَيَفْرَحُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ لَهُ تَسَبُّبٌ فِي هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ بِتَقْصِيرٍ فِي الْوَصِيَّةِ، أَوْ رَضِيَ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَالْعَذَابُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِلَّا فَمَحْمُولٌ عَلَى تَأَلُّمِهِ سَواءً عِنْدَ نَزْعِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَذِهِ الْبَلِيَّةِ الْكُبْرَى.

1747 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَاتَ مَيِّتٌ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ يَنْهَاهُنَّ وَيَطْرُدُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ ; فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ وَالْقَلْبَ مُصَابٌ، وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1747 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَاتَ مَيِّتٌ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي. (فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْمَيِّتِ فَقَامَ عُمَرُ يَنْهَاهُنَّ) أَيِ: الْأَقَارِبَ. (وَيَطْرُدُهُنَّ) أَيِ: الْأَجَانِبَ بِضَرْبِهِنَّ كَمَا سَيَأْتِي. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُنَّ) أَيِ: اتْرُكْهُنَّ. (يَا عُمَرُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ) أَيْ: بِالطَّبْعِ، وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّرْعُ. (وَالْقَلْبَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ. (مُصَابٌ) أَيْ: أَصَابَهُ الْمُصِيبَةُ، فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَقَلَّبَ إِلَى الْحُزْنِ، كَمَا أَنَّهُ يَنْقَلِبُ عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ إِلَى الْفَرَحِ، فَهُوَ السَّبَبُ فِي بُكَاءِ الْعَيْنِ وَضَحِكِهَا. (وَالْعَهْدَ) أَيْ: زَمَانَ الْمُصِيبَةِ (قَرِيبٌ) أَيْ: مِنْهُنَّ فَالصَّبْرُ صَعْبٌ عَلَيْهِنَّ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّبْرُ أَيِ: الْكَامِلُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَعَكَسَ فِيهِ التَّرْتِيبَ الطَّبِيعِيَّ ; لِأَنَّ قُرْبَ الْعَهْدِ يُورِثُ شِدَّةَ الْحُزْنِ لِلْقَلْبِ، وَهِيَ تُورِثُ دَمْعَ الْعَيْنِ، إِيثَارًا لِذِكْرِ مَا يَظْهَرُ، وَيُعْلَمُ عَلَى مَا يَخْفَى، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ بُكَاءَهُنَّ كَانَ بِصَوْتٍ، لَكِنْ لَا يَرْفَعُهُ، فَنَهَاهُنَّ عُمَرُ سَدًّا لِبَابِ الذَّرِيعَةِ، حَتَّى لَا يَنْجَرَّ إِلَى النِّيَاحَةِ الْمَذْمُومَةِ، لَا سِيَّمَا فِي الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَأَمَرَهُ بِتَرْكِهِنَّ، وَأَظْهَرَ عُذْرًا لَهُنَّ فِي أَفْعَالِهِنَّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَنْعُ عُمَرَ لِضُرِّهِنَّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، فَمَنْعُهُ ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُنَّ إِلَّا مُجَرَّدُ الْبُكَاءِ، فَمَنَعَهُنَّ مِنْهُ عُمَرُ كَأَنَّهُ لِلتَّمَسُّكِ فِيهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَإِذَا وَجَبَتْ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، فَأَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُنَّ، وَذَكَرَ لَهُ عُذْرَهُنَّ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ لَا غَلَبَةَ، أَمَّا مَعَ غَلَبَةِ الْحُزْنِ فَلَا كَرَاهَةَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْبُكَاءِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ إِجْمَاعًا، وَقَدْ صَدَرَ الْبُكَاءُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، حَيْثُ قَالَ: " «الْعَيْنُ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبُ يَحْزَنُ» " فَالنَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبُكَاءِ الْمَذْمُومِ، وَلَا اعْتِبَارَ لَا بِالْمَفْهُومِ مِنَ الظَّرْفِ الَّذِي وَقَعَ قَيْدًا اتِّفَاقِيًّا، أَوْ غَالِبِيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرٍ وَمَزِيَّةُ تَحْرِيرِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ مِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَيُقَوِّيهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) كَذَا فِي نُسْخَةٍ. (وَالنَّسَائِيُّ ) .

1748 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَتِ النِّسَاءُ، وَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَهْلًا، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَمِنَ الْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَمِنَ اللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1748 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَتِ النِّسَاءُ، وَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ) أَيْ: عَنْهُنَّ. (بِيَدِهِ) وَفِيهِ إِشْعَارٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الضَّرْبُ عَلَى النِّيَاحَةِ، بَلْ يَنْبَغِي النَّصِيحَةُ ; وَلِذَا أَخَّرَهُ. (وَقَالَ: مَهْلًا) بِسُكُونِ الْهَاءِ، أَيْ: أَمْهِلْهُنَّ مَهْلًا، أَوْ أَعْطِهِنَّ مَهْلًا. قَالَ السَّيِّدُ: مَهْلًا مَصْدَرٌ عَامِلُهُ مَحْذُوفٌ كَذَا فِي الطِّيبِيِّ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إِذَا سِرْتُمْ إِلَى الْعَدُوِّ فَمَهْلًا مَهْلًا، فَإِذَا وَقَعَتِ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْنِ فَمَهْلًا مَهْلًا، السَّاكِنُ الرِّفْقَ، وَالْمُتَحَرِّكُ التَّقَدُّمَ، أَيْ: إِذَا سِرْتُمْ فَتَأَنَّوْا، وَإِذَا لَقِيتُمْ فَاحْمِلُوا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَهَلُ بِالتَّحْرِيكِ التُّؤَدَةُ وَالتَّبَاطُؤُ، يُقَالُ: مَهَّلْتُهُ وَأَمْهَلْتُهُ، أَيْ: سَكَّنْتُهُ وَأَخَّرْتُهُ، وَمَهْلًا يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ، وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَهْلُ وَيُحَرَّكُ، وَالْمُهْلَةُ بِالضَّمِّ: السَّكِينَةُ وَالرِّفْقُ اهـ. وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُهْلَ فِيهِ لُغَتَانِ، السُّكُونُ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَامُوسِ بِقَوْلِهِ: وَيُحَرَّكُ، وَكَانَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ اقْتَصَرَ عَلَى السُّكُونِ نَظَرًا إِلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، فَاقْتِصَارُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى التَّحْرِيكِ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. (يَا عُمَرُ) وَالْمَعْنَى: لَا تُبَادِرْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُنَّ الْحُكْمُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] (ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ) أَيْ: صِيَاحَهُ بِالنِّيَاحَةِ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ لِحَمْلِهِ مِنْ نَعَقَ الرَّاعِي بِغَنَمِهِ دَعَاهَا لِتَعُودَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] . (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا لَهُ أَتَمَّ الْبَيَانَ. (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ. (مَهْمَا كَانَ) فِي الْقَامُوسِ: مَهْمَا بَسِيطٌ لَا مُرَكَّبٌ مِنْ (مَهْ) وَ (مَا) لَا مِنْ (مَا مَا) خِلَافًا لِزَاعِمِيهِمَا اهـ. وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا اسْمُ شَرْطٍ، أَوْ حَرْفُ شَرْطٍ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ ظَرْفٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ، أَيْ: مَهْمَا كَانَ الْبُكَاءُ. (مِنَ الْعَيْنِ) أَيْ: مِنَ الدَّمْعِ. (وَمِنَ الْقَلْبِ) أَيْ: مِنَ الْحُزْنِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيْ: مَحْمُودٌ مَرْضِيٌّ مِنْ جِهَتِهِ، وَصَادِرٌ مِنْ خِلْقَتِهِ. (وَمِنَ الرَّحْمَةِ) أَيْ: وَنَاشِئٌ مِنْ رَحْمَةِ صَاحِبِهِ. (وَمَا كَانَ) مَا شَرْطِيَّةٌ أَيْضًا. (مِنَ الْيَدِ) كَالضَّرْبِ عَلَى الْخَدِّ، وَقَطْعِ الثَّوْبِ، وَنَتْفِ الشَّعْرِ. (وَمِنَ اللِّسَانِ) أَيْ: بِطَرِيقِ الصِّيَاحِ، وَعَلَى وَجْهِ النِّيَاحِ، أَوْ يَقُولُ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ الرَّبُّ. (فَمِنَ الشَّيْطَانِ) أَيْ: مِنْ إِغْوَائِهِ أَوْ بِرِضَائِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَهْمَا) حَرْفُ الشَّرْطِ تَقُولُ: مَهْمَا تَفْعَلْ أَفْعَلْ، قِيلَ: إِنَّ أَصْلَهَا. (مَا مَا فَقُلِبَتِ الْأَلِفُ الْأُولَى هَاءً، وَمَحَلُّهُ رَفْعٌ بِمَعْنَى أَيُّمَا شَيْءٍ كَانَ مِنَ الْعَيْنِ فَمِنَ اللَّهِ، فَإِنْ قُلْتَ: نِسْبَةُ الدَّمْعِ إِلَى الْعَيْنِ، وَالْقَوْلِ إِلَى اللِّسَانِ، وَالضَّرْبِ بِالْيَدِ، إِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْكَسْبِ فَالْكُلُّ يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ التَّقْدِيرِ فَمِنَ اللَّهِ، فَمَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ الْبُكَاءِ بِاللَّهِ؟ قُلْتُ: الْغَالِبُ فِي الْبُكَاءِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا، فَالْأَدَبُ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ قَوْلِ الْخَنَا، وَالضَّرْبِ بِالْيَدِ عَنِ الْمُصِيبَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَعَلَّ إِسْنَادَ الْبُكَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ رَاضٍ بِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُ بِهِ بِخِلَافِ مَا صَدَرَ مِنَ اللِّسَانِ وَالْيَدِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رَاضٍ بِهِمَا، وَالرَّحْمَنَ يُؤَاخِذُ بِهِمَا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِسْنَادُ مَا صَدَرَ مِنْهُمَا لِلْعَبْدِ حَتَّى يُقَالَ: إِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْكَسْبِ فَالْكُلُّ مِنَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ التَّقْدِيرِ فَالْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَأَمَّلْ اهـ. وَهِيَ مُنَاقَشَةٌ لَطِيفَةٌ، وَمُجَادَلَةٌ شَرِيفَةٌ، وَبَيَانُهَا أَنَّ تَرْدِيدَ الطِّيبِيِّ لَيْسَ عَلَى الطَّرِيقِ الْعُرْفِيِّ، فَإِنَّهُ لَا مِرْيَةَ أَنَّ الْكُلَّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا، وَبِكَسْبِ الْعَبْدِ ثَانِيًا، فَمَحَلُّ السُّؤَالِ، وَمَوْرِدُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ كَيْفَ نُسِبَ بَعْضُهَا إِلَى الرَّحْمَنِ، وَبَعْضُهَا إِلَى الشَّيْطَانِ، فَيُجَابُ أَنَّ بَعْضَهَا مُبَاحٌ أَوْ مَحْمُودٌ، فَيُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ لِإِبَاحَتِهِ بِهِ، أَوْ لِرِضَاهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، وَبَعْضُهَا مَعْصِيَةٌ فَيُنْسَبُ إِلَى الشَّيْطَانِ، حَيْثُ تَسَبَّبَ بِالْإِغْوَاءِ، وَحَصَلَ لَهُ بِهِ الرِّضَا، فَيَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْعَذَابَ، هَذَا وَقَدْ يُقَالُ: دَمْعُ الْعَيْنِ، وَحُزْنُ الْقَلْبِ، لَيْسَا مِنَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي نِسْبَتِهِمَا إِلَى الصِّفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقَائِقِ الْحَدِيثِيَّةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ ) .

1749 - وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا قَالَ: لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رَفَعَتْ، فَسَمِعَتْ صَائِحًا يَقُولُ: أَلَا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ آخَرُ: بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1749 - (وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا) أَيْ: بِلَا إِسْنَادٍ. (قَالَ: لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ) أَيِ: الْخَيْمَةَ. (عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً) الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِاجْتِمَاعِ الْأَحْبَابِ لِلذِّكْرِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَحُضُورِ الْأَصْحَابِ لِلدُّعَاءِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَمَّا جَعْلُ فِعْلِهَا عَلَى الْعَبَثِ الْمَكْرُوهِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَغَيْرُ لَائِقٍ بِصَنِيعِ أَهْلِ الْبَيْتِ. (ثُمَّ رَفَعَتْ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ: أَمَرَتِ الْمَرْأَةُ بِرَفْعِهَا، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: رُفِعَتِ الْخَيْمَةُ. (فَسَمِعَتْ) أَيِ: الْمَرْأَةُ. (صَائِحًا) أَيْ: هَاتِفًا غَيْبِيًّا. (يَقُولُ: أَلَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ. (هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ آخَرُ: بَلْ يَئِسُوا) وَالظَّاهِرُ سَئِمُوا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي صُورَةِ الْيَأْسِ قَالَ: يَئِسُوا. (فَانْقَلَبُوا) أَيْ: رَجَعُوا، قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ سَوَادِ بْنِ مُصْعَبٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَخَوَيْنِ كَانَا جَارَيْنِ لَهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَجِدُ بِصِحَابِهِ وَجْدًا، لَا يُرَى مِثْلُهُ فَخَرَجَ الْأَكْبَرُ إِلَى أَصْفَهَانَ فَمَاتَ الْأَصْغَرُ، فَاخْتَلَفَ إِلَى قَبْرِهِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ مِنْ خَلْفِهِ يَوْمًا: يَا أَيُّهَا الْبَاكِي عَلَى غَيْرِهِ ... نَفْسَكَ أَصْلِحْهَا وَلَا تَبْكِهِ إِنَّ الَّذِي تَبْكِي عَلَى أَثَرِهِ ... تُوشِكُ أَنْ تَسْلُكَ فِي سِلْكِهِ قَالَ: فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ خَلْفَهُ أَحَدًا، فَاقْشَعَرَّ وَحُمَّ فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا ثَلَاثًا حَتَّى مَاتَ، فَدُفِنَ إِلَى جَنْبِهِ اهـ. وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ يَرْوِيهِ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ أَوَّلًا، وَيَنْسُبَ الْحَدِيثَ إِلَيْهِ مُعَنْعَنًا، ثُمَّ يَقُولَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَدِيثِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.

1750 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ، قَالَا: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَرَأَى قَوْمًا قَدْ طَرَحُوا أَرْدَيْتَهُمْ يَمْشُونَ فِي قُمُصٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبِفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ تَأْخُذُونَ، أَوْ بِصَنِيعِ الْجَاهِلِيَّةِ تَشَبَّهُونَ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَدْعُوَ عَلَيْكُمْ دَعْوَةً تَرْجِعُونَ فِي غَيْرِ صُوَرِكُمْ، قَالَ: فَأَخَذُوا أَرْدِيَتِهِمْ، وَلَمْ يَعُودَا لِذَلِكَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1750 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ قَالَا: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ، فَرَأَى قَوْمًا) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ. (قَدْ طَرَحُوا أَرْدِيَتَهُمْ) أَيْ: وَضَعُوهَا مِنْ أَكْتَافِهِمْ. (يَمْشُونَ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ طَرَحُوا، أَوْ صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِقَوْمًا (فِي قُمُصٍ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ قَمِيصٍ، يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الشِّعَارَ الْمَعْرُوفَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ هُوَ الرِّدَاءُ فَوْقَ الْقَمِيصِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِأَنَّ يَمْشُونَ حَالٌ مِنَ الْوَاوِ فِي طَرَحُوا، أَوْ هُوَ مِنَ الْوَاوِ فِي يَمْشُونَ. وَقَالَ السَّيِّدُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَحْوَالًا مُتَرَادِفَةً مِنْ مَفْعُولِ رَأَى، فَإِنَّ قَوْلَهُ: قَدْ طَرَحُوا حَالٌ مِنْهُ، وَيَمْشُونَ حَالٌ أُخْرَى اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ قَوْمًا نَكِرَةٌ، وَشَرْطُ ذِي الْحَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً فَلَا يَبْقَى مُسَوِّغٌ هُنَا حِينَئِذٍ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبِفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: مِنْ تَغْيِيرِ الزِّيِّ الْمَأْلُوفِ عِنْدَ الْمَوْتِ (تَأْخُذُونَ) الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَمَحَلُّهُ الْفِعْلُ، وَقَدَّمَ الْجَارَّ لِبَيَانِ مَحَطِّ الْإِنْكَارِ. (أَوْ بِصَنِيعِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلشَّكِّ. (تَشَبَّهُونَ) أَيْ: تَتَشَبَّهُونَ فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (لَقَدْ هَمَمْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَيْ: قَصَدْتُ. (أَنْ أَدْعُوَ عَلَيْكُمْ) أَيْ: بِالْمَضَرَّةِ. (دَعْوَةً) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ. (تَرْجِعُونَ) عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ وَقِيلَ: لِلْمَفْعُولِ أَيْ: تَصِيرُونَ أَوْ تُرَدُّونَ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ (فِي غَيْرِ صُوَرِكُمْ) أَيْ: بِالْمَسْخِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَضْمِينِ الرُّجُوعِ مَعْنَى صَارَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الصَّيْرُورَةَ هِيَ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فَلَا تَضْمِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: ضُمِّنَ الرُّجُوعُ مَعْنَى الْعَوْدِ فَعُدِّيَ بِفِي، ثُمَّ ضُمِّنَ الْعَوْدُ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَمَا فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ الْعَوْدَ حَقِيقَةٌ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَتَأَمَّلْ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ، وَمَعْثَرَةُ الْأَقْدَامِ. قَالَ: أَوْ تُحْمَلُ الصُّورَةُ عَلَى الصِّفَةِ وَالْحَالَةِ أَيْ: تَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ، كَمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ اهـ. وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّقَابُلِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّ فِي بِمَعْنَى إِلَى، لَكِنْ لَا دَخْلَ لِلصُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ أَوَّلًا بِهَذَا الْقَوْلِ، بَلْ هُوَ قَوْلٌ مُقَابَلٌ فِيمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَسْخَ هَلْ هُوَ صُورِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ؟ قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَرْجِعُونَ إِلَى بُيُوتِكُمْ فِي غَيْرِ

صُوَرِكُمْ، وَفِي غَيْرِ صُوَرِكُمْ حَالٌ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْوَجْهَيْنِ اهـ. وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ، وَتَقْدِيرٌ مُسْتَحْسَنٌ. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي وَفِيهِ إِيهَامٌ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ اثْنَانِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَيُحْتَمَلُ قَالَ الرَّاوِي الشَّامِلُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا. (فَأَخَذُوا أَرْدِيَتَهُمْ وَلَمْ يَعُودُوا) أَيْ: لَمْ يَرْجِعُوا بَعْدَ ذَلِكَ. (لِذَلِكَ) أَيْ: إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَوْ لَمْ يَرْجِعُوا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الصَّادِرِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِذَا وَرَدَ فِي مِثْلِ أَدْنَى تَغْيِيرٍ مِنْ مَوْضِعِ الرِّدَاءِ عَنِ الْمَنْكِبِ هَذَا الْوَعِيدُ الْبَلِيغُ، فَكَيْفَ مَا يُشَاهَدُ مِنَ الْأُمُورِ الشَّنِيعَةِ؟ ! قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَرَسِّمُونَ بِرُسُومِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ تَرَكُوا الْمَنَادِيلَ الَّتِي عَلَى أَكْتَافِهِمُ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْأَصْلِ مَنْزِلَةَ الْأَرْدِيَةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَكَمَا أَنَّ أُولَئِكَ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى تَرْكِ مَنَادِيلِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ الْأَرْدِيَةِ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: لُبْسُ الرِّدَاءِ سُنَّةٌ بِخِلَافِ الْمِنْدِيلِ عَلَى الْكَتِفِ، فَإِنَّهُ إِمَّا مُبَاحٌ أَوْ بِدْعَةٌ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ، فَوَضْعُهُ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، مَعَ أَنَّ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَحْمَلًا آخَرَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّوَابِ: وَهُوَ جَعْلُهُمْ هَذَا عَلَامَةً تُبَيِّنُ الْمُصَابَ، وَأَيْضًا عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى تَعْزِيَتِهِمْ إِيَّاهُ، لَا يُمْكِنُ بَقَاءُ الْمِنْدِيلِ عَلَى كَتِفِهِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ يَنْطَرِحُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الزِّحَامِ، وَقَدْ وَقَعَ لِي بِالْخُصُوصِ فِي تَعْزِيَةِ وَلَدِي وَثَمَرَةِ كَبِدِي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَخَذْتُهُ مِنْ كَتِفِي، وَنَاوَلْتُهُ لِبَعْضِ الْخُدَّامِ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1751 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتْبَعَ جَنَازَةٌ مَعَهَا رَانَّةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1751 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتْبَعَ) بِالتَّخْفِيفِ وَتَشْدِيدٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُشَيَّعُ. (جَنَازَةٌ مَعَهَا رَانَّةٌ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ نَائِحَةٌ صَائِحَةٌ، وَفِي مَعْنَاهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا أَمْرٌ آخَرُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَهَذَا أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي عَدَمِ الْحُضُورِ عِنْدَ مَجْلِسٍ فِيهِ الْمَحْظُورُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) .

1752 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: مَاتَ ابْنٌ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهِ هَلْ سَمِعْتَ مِنْ خَلِيلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ شَيْئًا يَطَيِّبُ بِأَنْفُسِنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَالَ: نَعَمْ. سَمِعْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ، يَلْقَى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ فَيَأْخُذُهُ بِنَاحِيَةِ ثَوْبِهِ، فَلَا يُفَارِقُهُ " حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1752 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي هُرَيْرَةَ. (مَاتَ ابْنٌ لِي) أَيْ: صَغِيرٌ. (فَوَجَدْتُ) أَيْ: حَزِنْتُ. (عَلَيْهِ) حُزْنًا شَدِيدًا. (هَلْ سَمِعْتَ مِنْ خَلِيلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَسَلَامُهُ. (شَيْئًا يَطِيبُ بِأَنْفُسِنَا؟) بِالتَّخْفِيفِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَبِالتَّشْدِيدِ فَالْبَاءُ لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَعْنِي زِيَادَةَ الْبَاءِ فِي الْمَفْعُولِ أَمْرٌ مُطَّرِدٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُغْنِي وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ عِنْدَ مَنْ يَرَى زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ كَالْأَخْفَشِ فَوَهْمٌ مِنْهُ، لِانْتِقَالِهِ مِنَ الْبَاءِ إِلَى مِنْ أَيْ: يُسَلِّيهَا. (عَنْ مَوْتَانَا) أَيْ: مِنَ الصِّغَارِ. (قَالَ: نَعَمْ. سَمِعْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صِغَارُهُمْ) أَيْ: صِغَارُ الْمُسْلِمِينَ. (دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ) فِي النِّهَايَةِ: جَمْعُ دُعْمُوصٍ، وَهِيَ دُوَيْبَّةٌ تَغُوصُ فِي الْمَاءِ، وَتَكُونُ فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ، وَالدُّعْمُوصُ أَيْضًا الدَّخَّالُ فِي الْأُمُورِ الدَّخُولُ عَلَى الْحُرَمِ، وَلَا يُحْتَجَبُ مِنْهُمْ. (يَلْقَى أَحَدُهُمْ) أَيْ: أَحَدُ الصِّغَارِ. (أَبَاهُ) أَيْ: فَكَيْفَ أُمُّهُ؟ ! وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمُقْتَضَى الْمَقَامِ، أَوْ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتِفَاءً بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ عَلَى الْمُرَامِ. (فَيَأْخُذُ بِنَاحِيَةِ ثَوْبِهِ) أَيْ: بِطَرَفِهِ. (فَلَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ) الْجَنَّةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ أَيْ: لِأَحْمَدَ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لِهَذَا ذَكَرَ أَحْمَدَ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ بَعْدَ الشَّيْخَيْنِ أَحَدًا مِنَ الْمُخَرِّجِينَ لِظُهُورِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ إِذَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

1753 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا، نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: اجْتَمِعْنَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَاجْتَمَعْنَ فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلَاثَةٌ إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَيْنِ؟ فَأَعَادَتْهُ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1753 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ) أَيْ: فَازُوا وَظَفِرُوا بِهِ، وَنَحْنُ مَحْرُومَاتٌ مِنَ اغْتِنَامِهِ وَاكْتِسَابِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَخَذُوا نَصِيبًا، وَفَازُوا مِنْ مَوَاعِظِكَ. (فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ) بِسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ: مِنْ أَجْلِ انْتِفَاعِ ذَاتِكَ، وَبَرَكَاتِ كَلِمَاتِكَ يَوْمًا، وَلَوْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ لَكَانَ وَجْهًا وَجِيهًا، وَعَلَى الْمَقْصُودِ تَنْبِيهًا نَبِيهًا، وَالْمَعْنَى: اجْعَلْ لَنَا مِنْ أَجْلِ سَمَاعِ أَحَادِيثِكَ النَّفْسِيَّةِ، وَأَقَاوِيلِكَ الْأَنِيسَةِ. (يَوْمًا) أَيْ: وَقْتًا مِنَ الْأَوْقَاتِ، أَوْ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً، أَوْ يَوْمًا لَا أَقَلَّ مِنْهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: يَوْمًا أَيْ: نَصِيبًا، إِطْلَاقًا لِلْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ، وَمِنْ نَفْسِكَ حَالٌ مِنْ يَوْمًا، وَمِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيِ: اجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ مَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ. (نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ) أَقُولُ: يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ، أَوْ بِمَا بَعْدَهُ، أَوْ يَتَنَازَعَانِ فِيهِ. قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: نَأْتِيكَ فِيهِ آبَ مِنْ حَمْلِ الْيَوْمِ عَلَى النَّصِيبِ، قُلْتُ: أَبِي الْإِبَاءِ حَيْثُ قُدِّرَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَانْدَفَعَ بِهِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ مَا مَرَّ، وَهَهُنَا حَقِيقَةُ الزَّمَنِ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: وَلَا أَدْرِي مَا الْبَاعِثُ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي: نِصْفُ الْعِلْمِ، وَنِصْفُهُ الْآخَرُ: أَنْ تَدْرِيَ أَنْ لَا مَعْنَى بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لِقَوْلِهِ: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ، فَأَوَّلَهُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ كَمَا أَوَّلَهُ غَيْرُهُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ عَيِّنْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ يَوْمًا فِي الْأُسْبُوعِ، نَأْتِيكَ فِيهِ لِاسْتِمَاعِ حَدِيثِكَ، قُلْتُ: وُرُودُ النَّفْسِ بِمَعْنَى عِنْدَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لُغَةً وَعُرْفًا، فَالتَّخْطِئَةُ غَيْرُ صَوَابٍ، نَعَمْ هَذَا حَاصِلُ الْمَعْنَى، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَبْنَى ; وَلِذَا قَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْهُ: الْجَعْلُ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، بِمَعْنَى فَعَلَ، وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ بِمَعْنَى صَيَّرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا لَازِمَةٌ وَهُوَ التَّعْيِينُ، وَيَوْمًا مَفْعُولٌ بِهِ لَا مَفْعُولٌ فِيهِ، وَ (مِنْ) فِي. (مِنْ نَفْسِكَ) ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِاجْعَلْ، يَعْنِي هَذَا الْجَعْلُ مَنْشَؤُهُ اخْتِيَارُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا اخْتِيَارُنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ وَقْتِ نَفْسِكَ بِإِضْمَارِ الْوَقْتِ، وَالظَّرْفُ صِفَةُ يَوْمًا، وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ اهـ. يَعْنِي وَمِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيِ: اجْعَلْ لَنَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَقْتًا مَا مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِذَاتِكَ الْأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ جَزَّءَ أَوْقَاتَهُ فَجَعَلَ جُزْءًا لِلَّهِ، وَجُزْءًا لِأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، وَجُزْءًا لِلنَّاسِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَالَ: اجْتَمِعْنَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ. (فِي يَوْمِ كَذَا) أَيْ: فِي نَهَارِ كَذَا. (وَ) فِي وَقْتِ. (كَذَا) أَوْ فِي وَقْتِ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا. (فِي مَكَانِ كَذَا) أَيْ: مِنَ الْمَسْجِدِ أَوِ الْبَيْتِ. (وَكَذَا) أَيْ: مِنْ وَصْفِهِ بِمُقَدَّمِهِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ. (فَاجْتَمَعْنَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ. (فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ وَلَعَلَّ مَا أَتَاهُنَّ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَذَّرًا فَعَيَّنَ لَهُنَّ زَمَانًا مُعَيَّنًا، وَمَكَانًا مُبَيَّنًا، فَأَتَاهُنَّ فَلَا يُنَافِي مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ: مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ يُؤْتَى وَلَا يَأْتِي، أَوْ نَزَلَ تَعْيِينُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَهُنَّ، وَإِتْيَانُهُنَّ فِيهِمَا مَنْزِلَةَ إِتْيَانِهِنَّ الْعِلْمَ. (ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا) بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمِّ الْأَوَّلِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ: مِنْ أَوْلَادِهَا مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. (ثَلَاثَةٌ إِلَّا كَانَ) أَيْ: تَقَدُّمُهُمْ وَمَوْتُهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِلَّا كَانَ الْوَلَدُ بِمَعْنَى الثَّلَاثَةِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ مَبْنًى وَمَعْنًى. (لَهَا) أَيْ: لِلْمَرْأَةِ. (حِجَابًا) أَيْ: سَاتِرًا. (مِنَ النَّارِ. فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَيْنِ) عَطْفٌ تَلْقِينِيٌّ. (وَأَعَادَتْهَا) أَيِ: الْمَرْأَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. (مَرَّتَيْنِ) أَوْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ: أَوِ اثْنَيْنِ، أَوْ قُلْ: وَاثْنَيْنِ. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ، وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ، أَوِ الْإِلْهَامِ، أَوْ نَظَرًا فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1754 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يُتَوَفَّى لَهُمَا ثَلَاثَةٌ إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَانِ؟ قَالَ: أَوِ اثْنَانِ. قَالُوا: أَوْ وَاحِدٌ؟ قَالَ: أَوْ وَاحِدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ السِّقْطَ لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسَرَرِهِ. إِلَى الْجَنَّةِ إِذَا احْتَسَبَتْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1754 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ) أَيْ: مِنَ الْوَالِدَيْنِ. (يُتَوَفَّى لَهُمَا ثَلَاثَةٌ) أَيْ: مِنَ الْوَلَدِ. (إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمَا) وَهُوَ لَا يُنَافِي سَبَبِيَّةَ أَوْلَادِهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِيَّاهُمَا تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَدْخَلَهُمَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلْمَصْدَرِ. (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَانِ؟) عَطْفُ الْتِمَاسٍ. (قَالَ: أَوِ اثْنَانِ. قَالُوا: أَوْ وَاحِدٌ؟ قَالَ: أَوْ وَاحِدٌ) . وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِالثَّلَاثَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ، وَلِيُلْجِئَهُمْ فِي إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ إِلَى السُّؤَالِ. (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: تَتْمِيمًا وَمُبَالَغَةً فِي ثَوَابِ الْوَلَدِ مُؤَكِّدًا بِالْقَسَمِ. (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَيْ: رُوحِي أَوْ حَيَاتِي بِتَصَرُّفِ إِرَادَتِهِ، وَقَبْضِ قُدْرَتِهِ. (إِنَّ السِّقْطَ) بِالْكَسْرِ أَشْهَرُ مِنْ أُخْتَيْهِ، وَهُوَ مَوْلُودٌ غَيْرُ تَامٍّ. (لَيَجُرُّ أُمَّهُ) أَيْ: لَيَسْحَبُهَا. (بِسَرَرِهِ) بِفَتْحَتَيْنِ وَكَسْرِهَا لُغَةٌ فِي السِّينِ، وَهُوَ مَا تَقْطَعُهُ الْقَابِلَةُ مِنَ السُّرَّةِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي النِّهَايَةِ: مَا يَبْقَى بَعْدَ الْقَطْعِ اهـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِيدُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ كَالْأَظَافِرِ الْمَقْلُوعَةِ، وَالْأَشْعَارِ الْمَقْطُوعَةِ وَالْقُلْفَةِ، وَغَيْرِهَا. (إِلَى الْجَنَّةِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ بَالِغَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الطِّفْلَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بِالْقَلْبِ كَبِيرُ تَعَلُّقٍ إِذَا كَانَ هَذَا ثَوَابُهُ فَكَيْفَ بِثَوَابِ مَنْ تَعَلَّقَ الْقَلْبُ بِهِ تَعَلُّقًا كُلِّيًّا، حَتَّى صَارَ أَعَزَّ مِنَ النَّفْسِ عِنْدَهَا؟ ! وَأَمَّا تَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ: السَّرَرُ بِالْمُصْرَانِ الْمُتَّصِلِ بِسُرَّتِهِ وَبَطْنِ أُمِّهِ، فَغَرِيبٌ مُخَالِفٌ لِلْعِلَّةِ. (إِذَا احْتَسَبَتْهُ) أَيْ: إِذَا عَدَّتْ أَمُّهُ مَوْتَهُ ثَوَابًا، وَصَبَرَتْ عَلَى فِرَاقِهِ احْتِسَابًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ. (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) .

1755 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا مِنَ النَّارِ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ. قَالَ: وَاثْنَيْنِ. قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَبُو الْمُنْذِرِ سَيِّدُ الْقُرَّاءِ: قَدَّمْتُ وَاحِدًا. قَالَ: وَوَاحِدًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1755 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْوَلَدِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مَنْ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنِسْبَةُ التَّقَدُّمِ إِلَيْهِ مَجَازٌ ; لِأَنَّهُ سَبَبُهُ اهـ. وَفِي أَنَّ الْأَبَ وَالْأُمَّ سَبَبَانِ لِوُجُودِهِ لَا لِتَقْدِيمِهِ بِالْمَوْتِ عَلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ قَدَّمَ صَبْرَ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْوَلَدِ عِنْدَ فَقْدِهِمْ، وَاحْتَسَبَ ثَوَابَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّقْدِيمِ لَازِمُهُ، وَهُوَ التَّأَخُّرُ أَيْ: مَنْ تَأَخَّرَ مَوْتُهُ عَنْ مَوْتِ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ الْمُقَدَّمِينَ عَلَيْهِمْ. (لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) أَيِ: الذَّنْبَ أَوِ الْبُلُوغَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَيْدٌ لِلْكَمَالِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ عَلَيْهِمْ أَرَقَّ، وَالصَّبْرُ عَنْهُمْ أَشَقَّ، وَشَفَاعَتُهُمْ أَرْجَى وَأَسْبَقَ. (كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا) أَيْ: حِصَارًا مُحْكَمًا وَحَاجِزًا مَانِعًا. (مِنَ النَّارِ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ) أَيْ: فَمَا حُكْمُهُ؟ (قَالَ: وَاثْنَيْنِ) أَيْ: وَكَذَا مَنْ قَدَّمَ اثْنَيْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: زِدْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْبِشَارَةِ فَإِنِّي قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ، أَيْ: وَمَنْ قَدَّمَ اثْنَيْنِ؟ وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْدِيرِ حَيْثُ قَالَ: فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ قَدَّمَ اثْنَيْنِ؟ فَإِنِّي قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ. قَالَ: يَحْصُلُ لَكَ ذَلِكَ وَإِنْ قَدَّمْتَ اثْنَيْنِ اهـ. وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مُطَابِقٍ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِحَسَبِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. (قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَبُو الْمُنْذِرِ) بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ مَدْحٌ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. (سَيِّدُ الْقُرَّاءِ) بِشَهَادَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ. (قَدَّمْتُ وَاحِدًا. قَالَ: وَوَاحِدًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ، هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

1756 - «وَعَنْ قُرَّةَ الْمُزَنِيِّ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُحِبُّهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا فَعَلَ ابْنُ فُلَانٍ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا تُحِبُّ أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ يَنْتَظِرُكَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ: بَلْ لِكُلِّكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1756 - (وَعَنْ قُرَّةَ الْمُزَنِيِّ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُحِبُّهُ؟) أَيْ: حُبًّا بَالِغًا حَيْثُ يَصْحَبُكَ دَائِمًا. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ) وَفِيهِ غَايَةٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ مَحَبَّتِهِ لِوَلَدِهِ، حَيْثُ جَعَلَهَا مُشَبَّهَةً بِحُبِّهِ اللَّهَ، وَأَوْرَدَهَا بِصِيغَةِ الدُّعَاءِ. (فَفَقَدَهُ) أَيِ: ابْنَهُ مَعَهُ. (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَوْ فَقَدَهُ أَيْضًا. (فَقَالَ: مَا فَعَلَ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ. (ابْنُ فُلَانٍ؟ أَيْ: مَا جَرَى لَهُ مِنَ الْفِعْلِ؟ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ) . أَيِ: ابْنُهُ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: عِنْدَ حُضُورِ أَبِيهِ. (أَمَا تُحِبُّ أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ) أَيِ: ابْنَكَ. (يَنْتَظِرُكَ) ؟ لِيَشْفَعَكَ وَلِيُدْخِلَهَا مَعَكَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خَرْقِ الْعَادَةِ مِنْ تَعَدُّدِ الْأَجْسَادِ الْمُكْتَسَبَةِ، حَيْثُ إِنَّ الْوَلَدَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَنْتَظِرُكَ أَيْ: مُفَتِّحًا لَكَ مُهَيِّئًا لِدُخُولِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] فَاسْتُعِيرَ لِلْفَتْحِ الِانْتِظَارُ مُبَالَغَةً اهـ. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى. (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ خَاصَّةً) أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ. (أَمْ لِكُلِّنَا؟) أَيْ: أَمْ هُوَ عَامَّةٌ لِجَمِيعِنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ. (قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ. (بَلْ لِكُلِّكُمْ) أَيْ: كَافَّةً. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1757 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ السِّقْطَ لَيُرَاغِمُ رَبَّهُ إِذَا أَدْخَلَ أَبَوَيْهِ النَّارَ، فَقَالَ: أَيُّهَا السِّقْطُ الْمُرَاغِمُ رَبَّهُ أَدْخِلْ أَبَوَيْكَ الْجَنَّةَ، فَيَجُرُّهُمَا بِسَرَرِهِ حَتَّى يُدْخِلَهُمَا الْجَنَّةَ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1757 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ السِّقْطَ) بِالْكَسْرِ أَيِ: الْوَلَدَ السَّاقِطَ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. (لَيُرَاغِمُ) أَيْ: يُجَادِلُ وَيُخَاصِمُ. (رَبَّهُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هُنَا تَخْيِيلٌ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحِقْوِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: مَهْ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكُمْ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ. أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ فَقَالَتْ: بَلَى» . الْحَدِيثَ اهـ. وَفِيهِ أَنْ لَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّخْيِيلِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْقِيقِ، بِلَا مَانِعٍ وَصَارِفٍ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ، وَأَمَّا حَدِيثُ الرَّحِمِ فَمِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَالرَّحِمُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، فَإِمَّا أَنْ يُتْرَكَ عَلَى حَالِهِ وَلَا يَنْصَرِفَ فِي مِنْوَالِهِ كَمَا هُوَ طَرِيقُ السَّلَفِ، أَوْ يُؤَوَّلُ عَلَى دَأْبِ الْخَلَفِ، مَعَ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعَانِيَ لَهَا حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ يَجْعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى صُوَرًا وَأَجْسَامًا، وَيَجْعَلَهَا نَاطِقَةً وَسَائِلَةً وَمُجِيبَةً، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. (إِذَا أَدْخَلَ) أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِقَوْلِهِ الْآتِي: أَدْخِلْ أَبَوَيْكَ. (أَبَوَيْهِ النَّارَ، فَيُقَالُ: أَيُّهَا السِّقْطُ الْمُرَاغِمُ رَبَّهُ أَدْخِلْ أَبَوَيْكَ أَيْ: كُنْ سَبَبًا لِدُخُولِ أَبَوَيْكَ. (الْجَنَّةَ ; فَيَجُرُّهُمَا بِسَرَرِهِ حَتَّى يُدْخِلَهُمَا الْجَنَّةَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1758 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " ابْنَ آدَمَ، إِنْ صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى لَمْ أَرْضَ لَكَ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1758 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ابْنَ آدَمَ، بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ: يَا ابْنَ آدَمَ. (إِنْ صَبَرْتَ) أَيْ: عَلَى الْبَلَاءِ. (وَاحْتَسَبْتَ) أَيْ: طَلَبْتَ الثَّوَابَ مِنَ الْمَوْلَى، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الصَّبْرِ الْمَحْمُودِ احْتِسَابُ الثَّوَابِ، وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ. (عِنْدَ الصَّدْمَةِ) أَيِ: الْجُمْلَةُ. (الْأُولَى لَمْ أَرْضَ لَكَ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ) أَيْ: غَيْرَ نَعِيمِهَا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1759 - وَعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَةٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا وَإِنْ طَالَ عَهْدُهَا فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعًا، إِلَّا جَدَّدَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1759 - (وَعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَةٍ يُصَابُ) أَيْ: يُبْتَلَى (بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ. (طَالَ عَهْدُهَا) أَيْ: بَعُدَ زَمَانُهَا. (فَيُحْدِثُ) أَيْ: يُجَدِّدُ. (لِذَلِكَ) أَيْ: لِأَجْلِ ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ، وَقِيلَ: أَوْ عِنْدَهُ، فَاللَّازِمُ التَّوْقِيتُ. (اسْتِرْجَاعًا) بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ. (إِلَّا جَدَّدَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) أَيْ: أَثْبَتَ. (لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ) أَيِ: الِاسْتِرْجَاعِ ثَوَابًا جَدِيدًا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ. (فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا) أَيْ: مِثْلَ ثَوَابِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ. (يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا) أَيْ: وَقْتَ ابْتِلَائِهِ بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ ابْتِدَاءً، وَصَبْرُهُ وَتَسْلِيمُهُ بِقَضَائِهِ تَعَالَى رِضًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ. (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

1760 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلْيَسْتَرْجِعْ ; فَإِنَّهُ مِنَ الْمَصَائِبِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1760 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَ الْإِصْبَعَيْنِ، وَيَدْخُلُ طَرَفُهُ فِي النَّقْبِ الَّذِي فِي صَدْرِ النَّعْلِ الْمَشْدُودِ فِي الزِّمَامِ، وَالزِّمَامُ السَّيْرُ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّسْعُ. (فَلْيَسْتَرْجِعْ) أَمْرُ نَدْبٍ. (فَإِنَّهُ) أَيِ: انْقِطَاعُ الشِّسْعِ. (مِنَ الْمَصَائِبِ) أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهَا، وَرُوِيَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْتَرْجَعَ حِينَ انْطَفَأَ سِرَاجٌ لَهُ» ، وَلَعَلَّ مِنَ انْقِطَاعِ الشِّسْعِ أَقَلُّ أَفْرَادِ الْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: نَبَّهَ بِالشِّسْعِ عَلَى مَا فَوْقَهُ بِالْأَوْلَى، وَعَلَى مَا دُونَهُ بِطَرِيقِ التَّسَاوِي ; فَيُسَنُّ ذِكْرُ الِاسْتِرْجَاعِ فِي الْجَمِيعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ تَسَاوِيَ الشَّيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ مَا دُونَهُ.

1761 - وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: يَا عِيسَى، إِنِّي بَاعِثٌ مِنْ بَعْدِكَ أُمَّةً إِذَا أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا اللَّهَ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا، وَلَا حِلْمَ وَلَا عَقْلَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا لَهُمْ، وَلَا حِلْمَ وَلَا عَقْلَ؟ ! قَالَ: أُعْطِيهِمْ مِنْ حِلْمِي وَعِلْمِي» . رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1761 - (وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: يَا عِيسَى، إِنِّي بَاعِثٌ) أَيْ: خَالِقٌ وَمُظْهِرٌ. (مِنْ بَعْدِكَ أُمَّةً) جَمَاعَةً عَظِيمَةً، أَوْ أُمَّةً لِنَبِيٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ صُلَحَاءُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (إِذَا أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا اللَّهَ) أَيْ: عَلَيْهِ. (وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا) أَيْ: طَلَبُوا الثَّوَابَ مِنَ اللَّهِ. (وَصَبَرُوا) أَيْ: عَلَى حُكْمِ اللَّهِ. (وَلَا حِلْمَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ لَا حِلْمَ لَهُمْ. (وَلَا عَقْلَ) أَيْ: كَيِّسَانِ أَوْ كَامِلَانِ قَبْلَ ذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُمْ، وَفِي الْهَدْيِ لِابْنِ الْقَيِّمِ: وَلَا عِلْمَ بَدَلَ وَلَا عَقْلَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. (فَقَالَ) أَيْ: عِيسَى. (يَا رَبِّ، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَمَالِ لَهُمْ. (وَلَا حِلْمَ وَلَا عَقْلَ؟ !) لِأَنَّ الْحِلْمَ هِيَ الصِّفَةُ الْمُعْتَدِلَةُ تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ عَنِ الْعَجَلَةِ، وَتَبْعَثُهُ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي الْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ، حَتَّى يَقُومَ بِمُقْتَضَى الْمَقَامِ، فَيَشْكُرَ عِنْدَ الْإِنْعَامِ، وَلَا يَبْطُرَ عَنِ الْإِنْعَامِ، وَيَصْبِرَ عَلَى الْمِحْنَةِ، وَلَا يَجْزَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالْعَقْلُ يَمْنَعُهُ وَيَعْقِلُهُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، فَيَكُونُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْكُفْرَانِ، وَحَامِلًا وَبَاعِثًا لَهُ عَلَى حَمْدِ الْمَلِكِ الْمَنَّانِ، وَبِهِ يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَالْخَيْرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِلْمٌ وَلَا عَقْلٌ فَأَمْرُهُمْ غَرِيبٌ، وَحَالُهُمْ عَجِيبٌ. (قَالَ: أُعْطِيهِمْ مِنْ حِلْمِي وَعِلْمِي) أَيْ: لِلْمُدْنِينَ عِنْدَ الْمِنْحَةِ وَالْمِحْنَةِ، لِيَشْكُرُوا حَالَ السَّرَّاءِ، وَيَصْبِرُوا حَالَ الضَّرَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَيَكُونُوا جَامِعِينَ لِمَظْهَرِيَّةِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَا حِلْمَ وَلَا عَقْلَ. قِيلَ: هُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَفْهُومِ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا ; لِأَنَّ الِاحْتِسَابَ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ لَا الْحِلْمِ وَالْعَقْلِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ أَيْ: كَيْفَ يَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ مَنْ لَا عَقْلَ وَلَا حِلْمَ لَهُ؟ ! فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ إِنْ فَنِيَ حِلْمُهُ وَعَقْلُهُ يَتَحَلَّمُ وَيَتَعَقَّلُ بِحِلْمِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، وَفِي وَضْعِ عِلْمِي مَوْضِعَ الْعَقْلِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ نِسْبَةِ الْعَقْلِ إِلَيْهِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهُوَ الْقُوَّةُ الْمُتَهَيِّئَةُ لِقَبُولِ الْعِلْمِ اهـ. أَوْ مَلَكَةٌ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ السَّنِيَّةِ، وَتَمْنَعُهُ عَنِ الْأَحْوَالِ الدَّنِيَّةِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَاهِيَّتِهِ وَتَعَارِيفِهِ عِبَارَاتٌ أَخْصَرُهَا: أَنَّهُ صِفَةٌ أَوْ قُوَّةٌ يُدْرِكُ بِهَا الضَّرُورِيَّاتِ، أَوِ النَّظَرِيَّاتِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ. (رَوَاهُمَا) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ وَالَّذِي قَبْلَهُ. (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب زيارة القبور]

[بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ]

بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1762 - عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ) أَيْ: جَوَازُهَا وَفَضْلُهَا وَآدَابُهَا. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1762 - (عَنْ بُرَيْدَةَ) أَيِ ابْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ، أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا، بَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَمَاتَ بِمَرْوَ غَازِيًا، مِنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَيْتُكُمْ) أَيْ قَبْلَ هَذَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِ: " كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ " فَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ الْمِشْكَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِغَيْرِ مُسْلِمٍ كَمَا سَنَذْكُرُهُ (عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) الْأَمْرُ لِلرُّخْصَةِ أَوْ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ، بَلْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِهِمْ وُجُوبَهَا، قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْإِذْنُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ قَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» ، رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخَّصَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَلَمَّا رُخِّصَ عَمَّتِ الرُّخْصَةُ لَهُنَّ فِيهِ، أَقُولُ هَذَا الْمَبْحَثُ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّارِيخِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْعُمُومُ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي " نَهَيْتُكُمْ " كَمَا أَنَّهُ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ، أَوْ أَصَالَةِ الرِّجَالِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي " فَزُورُوهَا "، مَعَ أَنَّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الرُّخْصَةَ عَامَّةٌ لَهُنَّ، وَاللَّعْنُ قَبْلَ الرُّخْصَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِمَالِ أَيْضًا، وَقِيلَ يُكْرَهُ لَهُنَّ الزِّيَارَةُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَجَزَعِهِنَّ اهـ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ فَلَا رُخْصَةَ لَهُنَّ فِيهِ، وَقَالَ مِيرَكُ: هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَمَعَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي نَسْخِ الرِّجَالِ عَنْ زِيَارَاتِهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ زِيَارَتَهَا سُنَّةٌ لَهُمْ، وَهَلْ تُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ؟ وَجْهَانِ: قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ بِالْكَرَاهَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُكْرَهُ إِذَا أَمِنَتِ الْفِتْنَةَ، وَيَنْبَغِي لِلزَّائِرِ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْقَبْرِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ، لَوْ زَارَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَإِنَّ الْمُبَاهَاةَ بِتَكْثِيرِ الْأَمْوَاتِ فِعْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ دَارَ رَحَى الْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ قَوَاعِدَ زِيَارَةِ الشِّرْكِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُورِثُ رِقَّةَ الْقَلْبِ، وَتُذَكِّرُ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَعَلَى هَذَا النَّسَقِ الْفَاءَانِ فِي فَأَمْسِكُوا وَفَاشْرَبُوا اهـ وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ( «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ» ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ: ( «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُرِقُّ الْقَلْبَ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، وَلَا تَقُولُوا هَجْرًا» ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ» ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَلَفْظُهُ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا عِبْرَةً» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِتَعْلِيلَاتِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ كَالرِّجَالِ فِي حُكْمِ الزِّيَارَةِ، إِذَا زُرْنَ بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حَقِّهِنَّ، وَيُؤَيِّدُ الْخَبَرَ السَّابِقَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِالْمَرْأَةِ فَأَمَرَهَا بِالصَّبْرِ وَلَمْ يَنْهَهَا عَنِ الزِّيَارَةِ، وَأَمَّا خَبَرُ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» فَمَحْمُولٌ عَلَى زِيَارَتِهِنَّ لِمُحَرَّمٍ كَالنَّوْحِ وَغَيْرِهِ مِمَّا اعْتَدْنَهُ، وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّهَا تُدْمِعُ الْعَيْنَ» فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ دَلِيلٌ (وَنَهَيْتُكُمْ) أَيْ أَوَّلَ الْأَمْرِ (عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتُخَفَّفُ أَيْ عَنِ ادِّخَارِهَا وَإِمْسَاكِهَا، وَكَانَ النَّهْيُ لِأَجْلِ الْفُقَرَاءِ الْمُحْتَاجِينَ، وَقَدْ وَقَعَ قَحْطٌ بِالْبَادِيَةِ فَدَخَلَ أَهْلُهَا الْمَدِينَةَ (فَوْقَ ثَلَاثٍ) أَيْ لَيَالٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مِنَ الْأَيَّامِ، وَلَعَلَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالتَّاءِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ (فَأَمْسِكُوا) أَيْ لُحُومَهَا مُطْلَقًا، فَالْأَمْرُ لِلرُّخْصَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، أَوِ الْمُرَادُ: أَمْسِكُوا لُحُومَهَا الْبَاقِيَةَ بَعْدَ إِعْطَاءِ ثُلُثِهَا الْفُقَرَاءَ، وَإِهْدَاءِ ثُلُثِهَا الْأَغْنِيَاءَ، اسْتِحْبَابًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لُحُومَهَا الْبَاقِيَ بَعْدَ مَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ مِنْهَا، وَهُوَ قَدْرٌ لَهُ مَوْقِعٌ لَا تَافِهٌ جِدًّا، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ (مَا بَدَا) بِالْأَلِفِ أَيْ ظَهَرَ (لَكُمْ) أَيْ مُدَّةَ بُدُوِّ الْإِمْسَاكِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: نَهَاهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لُحُومِ أَضَاحِيِّهِمْ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ التَّصَدُّقَ بِهِ، فَرَخَّصَ لَهُمُ الْإِمْسَاكَ مَا شَاءُوا (وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ) أَيْ عَنْ إِلْقَاءِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحَلَاوَى فِي الْمَاءِ (إِلَّا فِي سِقَاءٍ) أَيْ قِرْبَةٍ، فَإِنَّهُ جِلْدٌ رَقِيقٌ لَا يَجْعَلُ الْمَاءَ حَارًّا، فَلَا يَصِيرُ مُسْكِرًا عَنْ قَرِيبٍ، بِخِلَافِ سَائِرِ الظُّرُوفِ، فَإِنَّهَا تَجْعَلُ الْمَاءَ حَارًّا فَيَصِيرُ النَّبِيذَ مُسْكِرًا، فَرَخَّصَ لَهُمْ شُرْبَ النَّبِيذِ مِنْ كُلِّ ظَرْفٍ، مَا لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا فَقَالَ (فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ) أَيِ الظُّرُوفِ وَالْأَوَانِي (كُلِّهَا) فِيهِ تَغْلِيبٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَعْرِيفِ السِّقَاءِ (وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ السِّقَاءَ يُبَرِّدُ الْمَاءَ فَلَا يَشْتَدُّ مَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِدَادَ مَا فِي الظُّرُوفِ وَالْأَوَانِي، فَيَصِيرُ خَمْرًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ هُوَ الْمُسْكِرُ لَا الظُّرُوفُ بِعَيْنِهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُطْلَقًا، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

1763 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «زَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهَ، فَقَالَ: " اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1763 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ قَبْرَ أُمِّهِ) أَيْ بِالْأَبْوَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (فَبَكَى) أَيْ عَلَى فِرَاقِهَا أَوْ عَلَى عَذَابِهَا أَوْ عَلَى مَوْتِهِ بِمَوْتِهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَقَابِرِ (وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ) قِيلَ: زِيَارَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهُ مَعَ أَنَّهَا كَافِرَةٌ تَعْلِيمٌ مِنْهُ لِلْأُمَّةِ حُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقَارِبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ قَضَاءَ حَقِّهَا مَعَ كُفْرِهَا (فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، وَالِاسْتِغْفَارُ لِلْكَافِرِينَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ أَبَدًا (وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي) بِنَاءً عَلَى الْمَجْهُولِ مُرَاعَاةً لِقَوْلِهِ " فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي "، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ كَانَ مَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ سِتَّ سِنِينَ خَرَجَتْ بِهِ إِلَى أَخْوَالِهَا بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ بِالْمَدِينَةِ تَزُورُهُمْ، وَمِنْهُمْ أَبُو أَيُّوبَ، ثُمَّ رَجَعَتْ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْأَبْوَاءِ تُوُفِّيَتْ فَقَبْرُهَا هُنَاكَ، وَقِيلَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ زَارَ قَبْرَهَا بِالْأَبْوَاءِ، ثُمَّ قَامَ مُسْتَعْبِرًا، فَقَالَ: " «إِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّي فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي» "، وَنَزَلَ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] الْآيَةَ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَلَعَلَّ حِكْمَةَ عَدَمِ الْإِذْنِ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا إِتْمَامُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ بِإِحْيَائِهَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تَصِيرَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوِ الْإِمْهَالُ إِلَى إِحْيَائِهَا لِتُؤْمِنَ بِهِ فَتَسْتَحِقَّ الِاسْتِغْفَارَ الْكَامِلَ حِينَئِذٍ اهـ وَفِيهِ أَنَّ قَبْلَ الْإِيمَانِ لَا تَسْتَحِقُّ الِاسْتِغْفَارَ مُطْلَقًا، ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ وَالِدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَا كَافِرَيْنِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي حَقِّهِمَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحَدِيثُ إِحْيَائِهِمَا حَتَّى آمَنَا بِهِ ثُمَّ تُوُفِّيَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْحَافِظُ ابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ مَعَ أَنَّ الْحُفَّاظَ طَعَنُوا فِيهِ، وَمَنَعُوا جَوَازَهُ أَيْضًا بِأَنَّ إِيمَانَ الْيَأْسِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إِجْمَاعًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَبِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْمُكَلَّفِ إِنَّمَا هُوَ الْإِيمَانُ الْغَيْبِيُّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ أَيْضًا فِي رَدِّ مَا تَشَبَّثَ بِهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، وَلَا عَذَابَ عَلَيْهِمَا مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ صَنَّفَ السُّيُوطِيُّ رَسَائِلَ ثَلَاثَةً فِي نَجَاةِ وَالِدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الْأَدِلَّةَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَعَلَيْكَ بِهَا إِنْ أَرَدْتَ بَسْطَهَا (فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا) أَيِ الْقُبُورَ أَوْ زِيَارَاتِهَا (تُذَكِّرُ الْمَوْتَ) يَعْنِي وَذِكْرَ الْمَوْتِ يُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَيُرَغِّبُ فِي الْعُقْبَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي زِيَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ، وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ فِي نُسَخِ رِوَايَاتِنَا بِالصَّحِيحِ الْمَشْرِقِيَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ هَذَا الْحَدِيثَ: وُجِدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ مَاهَانَ لِأَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَلَا يُوجَدُ فِي نُسْخَةِ بِلَادِنَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيِّ اهـ وَقَدْ رَوَاهُ مُحْيِي السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْغَافِرِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَلَعَلَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُزَكِّي فِي الْأَطْرَافِ، وَقَبْرُ أُمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَبْوَاءِ تُوُفِّيَتْ مَرْجِعَهَا مِنْ زِيَارَةِ أَخْوَالِ أَبِيهِ بَنِي النَّجَّارِ بِالْمَدِينَةِ، وَعُمُرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتُّ سِنِينَ، وَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَزَارَهُ. وَيُرْوَى أَنَّهُ زَارَهُ فِي أَلْفِ نَعْتٍ أَيْ فِي أَلْفِ نَفْسٍ، مُصَمَّتِينَ بِالسِّلَاحِ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ.

1764 - «وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1764 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) أَيِ ابْنِ الْحُصَيْبِ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ) أَيِ الصَّحَابَةَ (إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ) أَيْ لِلزِّيَارَةِ (أَنْ يَقُولُوا) عِنْدَ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِمَفْعُولَيْ يُعَلِّمُ، أَيْ يُعَلِّمُهُمْ كَيْفِيَّةَ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ السَّلَامَ عَلَى الْمَوْتَى كَالسَّلَامِ عَلَى الْأَحْيَاءِ، فِي تَقَدُّمِ الدُّعَاءِ عَلَى الِاسْمِ، خِلَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَقَدُّمِ الِاسْمِ عَلَى الدُّعَاءِ، قَالَ الْحَمَاسِيُّ: عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ... وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا

وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] وَنَحْوُهُ، وَفِيهِ أَبْلَغُ الرَّدِّ لِقَوْلِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْأَوْلَى عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْخِطَابِ، مَعَ ظُهُورِ بُطْلَانِ تَعْلِيلِهِمْ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ مِنْ حَيْثُ الْخِطَابِ بَيْنَ تَقَدُّمِهِ وَتَأَخُّرِهِ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْمَيِّتَ أَهْلٌ لِلْخِطَابِ مُطْلَقًا، لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» "، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ قَالَ عَلَيْكَ السَّلَامُ: " أَنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ " تَحِيَّةُ الْمَوْتَى إِخْبَارٌ عَنْ عَادَتِهِمُ السَّابِقَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَوْتَى كُفَّارُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ تَحِيَّةُ مَوْتَى الْقُلُوبِ، فَلَا تَفْعَلُوهُ (أَهْلَ الدِّيَارِ) بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بِيَاءِ النِّدَاءِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: نَصْبُهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَفْصَحُ، وَبِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: سَمَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْضِعَ الْقُبُورِ دَارًا لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ كَالْأَحْيَاءِ فِي الدِّيَارِ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بَيَانٌ لِأَهْلِ الدِّيَارِ (وَالْمُسْلِمِينَ) ذَكَرَهُ لِلتَّأْكِيدِ بِاعْتِبَارِ تَغَايُرِ الْوَصْفَيْنِ، أَوِ الْمُرَادُ بِـ " الْمُسْلِمِينَ " الْمُخْلِصِينَ لِوَجْهِهِ - تَعَالَى - " إِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ وَفِي نُسْخَةٍ: لَاحِقُونَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقِيلَ: " إِنْ " شَرْطِيَّةٌ، وَمَعْنَاهُ: لَاحِقُونَ بِكُمْ فِي الْمُوَافَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: هُوَ لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّفْوِيضِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وَقِيلَ: لِلتَّأَدُّبِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، اسْتَثْنَى اللَّهُ - تَعَالَى - فِيمَا يَعْلَمُ لِيَسْتَثْنِيَ الْخَلْقُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَأَمَرَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: التَّعْلِيقُ بِاعْتِبَارِ اللُّحُوقِ بِخُصُوصِ أَهْلِ الْمَقْبَرَةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ) أَيِ الْخَلَاصَ مِنَ الْمَكَارِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهِ اهـ زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: وَإِنَّا بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمُ اهـ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ: وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قُبَالَةَ وَجْهِ الْمَيِّتِ قَبْلَ جُلُوسِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1765 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1765 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبُورٍ بِالْمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي حَالِ السَّلَامِ عَلَى الْمَيِّتِ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ لِوَجْهِ الْمَيِّتِ، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ كَذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ عَمَلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَنَا أَنَّهُ حَالَةَ الدُّعَاءِ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، كَمَا عُلِمَ مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ، اهـ وَفِيهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَوَاضِعِ الدُّعَاءِ وَقَعَ اسْتِقْبَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مِنْهَا مَا نَحْنُ فِيهِ، وَمِنْهَا حَالَةُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ، وَخُرُوجُهُ، وَحَالُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَقْتَصِرَ الِاسْتِقْبَالُ وَعَدَمُهُ عَلَى الْمَوْرِدِ إِنْ وُجِدَ وَإِلَّا فَخَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ، وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ بَعْضُ السَّلَفِ بَعْدَ الزِّيَارَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِلْأَدْعِيَةِ فَهُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ لَا مَسْطُورَ فِيهِ لِلْأَئِمَّةِ (بِوَجْهِهِ) . قَالَ الْمُظْهِرُ: وَاعْلَمْ أَنَّ زِيَارَةَ الْمَيِّتِ كَزِيَارَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، يَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَيَاةِ إِذَا زَارَهُ يَجْلِسُ مِنْهُ عَلَى الْبُعْدِ لِكَوْنِهِ عَظِيمَ الْقَدْرِ فَكَذَلِكَ فِي زِيَارَاتِهِ يَقِفُ، أَوْ يَجْلِسُ عَلَى الْبُعْدِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَجْلِسُ مِنْهُ عَلَى الْقُرْبِ فِي حَيَاتِهِ، كَذَلِكَ يَجْلِسُ بِقُرْبِهِ إِذَا زَارَهُ اهـ وَإِذَا زَارَهُ يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَ " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَدْعُو لَهُ، وَلَا يَمْسَحْهُ وَلَا يُقَبِّلْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ قَبْرِ الْوَالِدَيْنِ.

(فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ) قَدَّمَ مَغْفِرَةَ اللَّهِ لَهُ عَلَى مَغْفِرَتِهِ لِلْمَيِّتِ إِعْلَامًا بِتَقَدُّمِ دُعَاءِ الْحَيِّ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ (أَنْتُمْ سَلَفُنَا) بِفَتْحَتَيْنِ، فِي النِّهَايَةِ: هُوَ مِنْ سَلَفِ الْمَالِ كَأَنْ أَسْلَفَهُ، وَجَعَلَهُ ثَمَنًا لِلْأَجْرِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: سَلَفُ إِنْسَانٍ مَنْ تَقَدَّمَهُ بِالْمَوْتِ مِنَ الْآبَاءِ وَذَوِي الْقَرَابَةِ، وَلِذَا سُمِّيَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّابِعِينَ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ اهـ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ: بِأَنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ هُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ اهـ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَا مُشَاحَّةَ لِلِاصْطِلَاحِ، وَالصَّحَابَةُ مَخْصُوصُونَ بِالنِّسْبَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ لَا شَكَّ أَنَّهُمُ التَّابِعُونَ، وَالْخَلَفُ الصَّالِحُ هُمُ التَّبَعُ، وَالْمُصَنِّفُ جَعَلَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ السَّلَفَ عِبَارَةً عَنِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمُ السَّلَفُ حَقِيقَةً، وَالْخَلَفُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعِهِمْ، وَوَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَاكَ فَنَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ (وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، يَعْنِي: تَابِعُونَ لَكُمْ، مِنْ وَرَائِكُمْ لَاحِقُونَ بِكُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1766 - «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعِدُونَ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1766 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ) " مِنْ " مُتَعَلِّقٌ بِاللَّيْلَةِ بِمَعْنَى النَّصِيبِ، أَوِ الْمَحْذُوفِ أَيِ الَّتِي تَخُصُّهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الطِّيبِيُّ: " كُلَّمَا " ظَرْفٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْعُمُومِ وَجَوَابُهُ (يَخْرُجُ) وَهُوَ الْعَامِلُ فِيهِ، وَهَذَا حِكَايَةُ مَعْنَى قَوْلِهَا لَا لَفْظُهَا، أَيْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إِذَا بَاتَ عِنْدَهَا أَنْ يَخْرُجَ (مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ) أَيْ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، فِيهِ قُبُورُ أَهْلِهَا، فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ وَلَا يُسَمَّى بَقِيعًا، إِلَّا وَفِيهِ شَجَرٌ، أَوْ أُصُولُهَا وَالْغَرْقَدُ شَجَرٌ، وَالْآنَ بَقِيَتِ الْإِضَافَةُ دُونَ الشَّجَرَةِ، (فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ) قِيلَ الدَّارُ مُقْحَمٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ يَا أَهْلَ دَارِ قَوْمٍ (مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ) بِالْقَصْرِ أَيْ جَاءَكُمْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا قَالَ أَتَاكُمْ لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ كَالْحَاضِرِ اهـ أَوْ لِتَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ وَقَعَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَدِّ أَيْ أَعْطَاكُمْ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} [آل عمران: 194] (مَا تُوعَدُونَ) أَيْ مَا كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ، أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنَ الْعَذَابِ (غَدًا) فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهُ بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ (مُؤَجَّلُونَ) أَيْ أَنْتُمْ مُؤَخَّرُونَ وَمُمْهَلُونَ إِلَى غَدٍ، بِاعْتِبَارِ أُجُورِكُمْ، اسْتِيفَاءً وَاسْتِقْصَاءً، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْمَوْعُودِ أُمُورٌ إِجْمَالِيَّةٌ لَا أُمُورٌ تَفْصِيلِيَّةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِعْرَابُهُ مُشْكِلٌ، إِنْ حُمِلَ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ مِنْ وَاوٍ عَلَى حَذْفِ الْوَاوِ، وَالْمُبْتَدَأِ كَانَ فِيهِ شُذُوذَانِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ سَائِغٌ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، كَمَا هُنَا، وَفِيهِ بَحْثٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنْ مَا تُوعَدُونَ، أَيْ أَتَاكُمْ مَا تُؤَجِّلُونَهُ أَنْتُمْ، وَالْأَجَلُ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَحْدُودُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ بِمَنْزِلَةِ الْحَاضِرِ اهـ وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَعِيدٌ تَكَلُّفٌ جِدًّا، بَلِ السِّيَاقُ يَنْبُو عَنْهُ (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ) أَيْ: يَا أَهْلَ الْمَقْبَرَةِ بِالْخُصُوصِ (لَاحِقُونَ) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] قِيلَ: أَيْ تُدْفَنُ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) أَيْ مَقْبَرَةِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْإِجْمَالِيَّةَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ كَافِيَةٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1767 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَعْنِي فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، قَالَ: قُولِي: " السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1767 - (وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَعْنِي) أَيْ تُرِيدُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِالسُّؤَالِ كَيْفِيَّةَ الْمَقَالِ (فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، قَالَ: " قُولِي السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ") وَفِيهِ تَغْلِيبُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ (وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ) أَيِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا عَلَيْنَا بِالْمَوْتِ (مِنَّا) أَيْ مَعْشَرِ الْمُؤْمِنِينَ (وَالْمُسْتَأْخِرِينَ) أَيِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَي الْمَوْتِ، وَالسِّينُ فِيهِمَا لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، أَيِ الْأَمْوَاتَ مِنَّا وَالْأَحْيَاءَ، قَدَّمَ الْأَمْوَاتَ هَاهُنَا لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ، وَاسْتِنْسَاقِ الْكَلَامِ، أَوْ مُرَاعَاةِ مَا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْعَلَّامِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24] (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ) أَيْ أَيُّهَا السَّابِقُونَ (لَلَاحِقُونَ) بِلَامَيْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ كَذَا فِي الْحِصْنِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ أَبُو رَزِينٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ طَرِيقِي عَلَى الْمَوْتَى، فَهَلْ مِنْ كَلَامٍ أَتَكَلَّمُ بِهِ إِذَا مَرَرْتُ عَلَيْهِمْ، قَالَ: قُلِ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَنْتُمْ لَنَا سَلَفٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ "، قَالَ أَبُو رَزِينٍ: يَسْمَعُونَ؟ قَالَ: " يَسْمَعُونَ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا "، قَالَ: " يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَا تَرْضَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْكَ بِعَدَدِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ» " اهـ وَقَوْلُهُ " لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا " أَيْ جَوَابًا يَسْمَعُهُ الْحَيُّ، وَإِلَّا فَهُمْ يَرُدُّونَ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ وَالتَّمْهِيدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» "، صَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «إِذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَعَرَفَهُ، وَإِذَا مَرَّ بِقَبْرٍ لَا يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، أَيْ وَلَمْ يَعْرِفْهُ» .

1768 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ يُرْفَعُ الْحَدِيثُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ زَارَ قَبْرَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ غُفِرَ لَهُ "، وَكُتِبَ بَرًّا» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1768 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ) تَابِعِيٌّ (يَرْفَعُ الْحَدِيثَ) أَيْ بِإِسْقَاطِ الصَّحَابِيِّ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ زَارَ قَبْرَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا) عَطْفٌ عَلَى أَبَوَيْهِ (فِي كُلِّ جُمُعَةٍ) أَيْ كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، أَوْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ (غُفِرَ لَهُ) أَيْ فِي مَعْصِيَتِهِ (وَكُتِبَ بَرًّا) بِفَتْحِ الْبَاءِ، بِمَعْنَى بَارًّا فِي طَاعَتِهِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مُرْسَلًا) وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.

1769 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1769 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ") أَيْ مُطْلَقًا (فَزُورُوا) وَفِي نُسْخَةٍ: فَزُورُوهَا (فَإِنَّهَا) أَيْ زِيَارَةَ الْقُبُورِ أَوِ الْقُبُورَ أَيْ رُؤْيَتَهَا (تُزَهِّدُ الدُّنْيَا) فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ هَادِمُ اللَّذَّاتِ، وَمُهَوِّنُ الْكُدُورَاتِ، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا تَحَيَّرْتُمْ فِي الْأُمُورِ فَاسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الْقُبُورِ، هَذَا أَحَدُ مَعْنَيَيْهِ (وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ) وَتُعِينُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لَهَا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

1770 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ زَوَّرَاتِ الْقُبُورِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَرِهَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ، تَمَّ كَلَامُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1770 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ زَوَّرَاتِ الْقُبُورِ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ كَثِيرَاتُ الزِّيَارَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ) أَيِ التِّرْمِذِيُّ (قَدْ رَأَى) أَيْ ذَهَبَ (بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا) أَيِ اللَّعْنَ (كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ) وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَرِهَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَكَثْرَةِ عَجْزِهِنَّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: صَوَابُهُ وَكَثْرَةُ جَزَعِهِنَّ (تَمَّ كَلَامُهُ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ، تَمَّ كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ.

1771 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِيَ الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنِّي وَاضِعٌ ثَوْبِي وَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1771 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِيَ الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ قَبْرُهُ أَوْ دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ وَأَبُوهَا (وَإِنِّي وَاضِعٌ) بِالتَّنْوِينِ وَالظَّاهِرُ وَاضِعَةٌ، فَكَأَنَّهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ حَائِضٍ، أَوِ التَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ، وَيَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى قَوْلِهَا (ثَوْبِي) أَيْ بَعْضَ ثِيَابِي، وَلِذَا أُفْرِدَ هُنَا وَجُمِعَ فِيمَا سَيَأْتِي (وَأَقُولُ) أَيْ فِي نَفْسِي لِبَيَانِ عُذْرِ الْوَضْعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَوْلُ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِوَضْعِ الثَّوْبِ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ الْكَائِنُ هُنَا (زَوْجِي وَأَبِي) أَيْ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي، وَالْآخَرُ أَبِي، أَوِ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَيْ إِنَّمَا الشَّأْنُ زَوْجِي وَأَبِي مَدْفُونَانِ فِيهِ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْبَيْتِ أَيْ إِنَّمَا هُوَ مَدْفَنُ زَوْجِي وَأَبِي، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ (فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَهُمْ) فِيهِ اخْتِيَارُ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ (فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُهُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ احْتِرَامَ الْمَيِّتِ كَاحْتِرَامِهِ حَيًّا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَفِي شَرْحِ الصُّدُورِ لِلسُّيُوطِيِّ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الصَّحَابِيِّ قَالَ: لَأَنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ عَلَى حَدِّ سَيْفٍ حَتَّى تُخْطَفَ رِجْلِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ، وَمَا أُبَالِي أَفِي الْقُبُورِ قَضَيْتُ حَاجَتِي أَيْ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ أَمْ فِي السُّوقِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ غَفْرَانَةَ مَرَّ عَلَى مَقْبَرَةٍ هُوَ حَاقِنٌ قَدْ غَلَبَهُ الْبَوْلُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ نَزَلْتَ فَبُلْتَ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ الْأَمْوَاتِ كَمَا أَسْتَحْيِي مِنَ الْأَحْيَاءِ.

[كتاب الزكاة]

[كِتَابُ الزَّكَاةِ] بَابٌ - كِتَابُ الزَّكَاةِ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1772 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: " «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (كِتَابُ الزَّكَاةِ) هِيَ فِي اللُّغَةِ الطَّهَارَةُ، وَقَالَ تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] وَإِنَّمَا يُقَالُ زَكَى الزَّرْعُ إِذَا نَمَى، سُمِّيَ بِهَا نَفْسُ الْمَالِ الْمُخْرَجِ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، قَالَ تَعَالَى وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيتَاءِ هُوَ الْمَالُ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الْإِيتَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالْوُجُوبِ، وَمُتَعَلِّقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ، وَمُنَاسَبَةُ اللُّغَوِيِّ أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ إِذْ يَحْصُلُ بِهِ النَّمَاءُ بِالْإِخْلَافِ مِنْهُ - تَعَالَى - فِي الدَّارَيْنِ، قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] وَالطَّهَارَةُ لِلنَّفْسِ مِنْ دَنَسِ الْبُخْلِ وَوَسَخِ الْمُخَالَفَةِ، وَلِلْمَالِ بِإِخْرَاجِ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ أَعْنِي الْفُقَرَاءَ، ثُمَّ هِيَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسَبَبُهَا الْمَالُ الْمَخْصُوصُ، أَعْنِي النِّصَابَ النَّامِيَ تَحْقِيقًا، أَوْ تَقْدِيرًا، وَلِذَا تُضَافُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ زَكَاةُ الْمَالِ، وَشَرْطُهَا الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْفَرَاغُ مِنَ الدَّيْنِ، ثُمَّ قِيلَ: فُرِضَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ مَعَ فَرْضِ الصَّوْمِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفُرِضَ غَيْرُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ إِجْمَالًا، وَبُيِّنَتْ بِالْمَدِينَةِ تَفْصِيلًا جَمْعًا بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا بِمَكَّةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1772 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُعَاذًا) بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ أَرْسَلَ (إِلَى الْيَمَنِ) أَيْ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا (فَقَالَ: " إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ") يُرِيدُ بِهِمُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: قُيِّدَ قَوْلُهُ قَوْمًا بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَفْضِيلًا لَهُمْ، أَوْ تَغْلِيبًا عَلَى غَيْرِهِمْ (فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) لِأَنَّ فِيهِمْ مُشْرِكِينَ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) فَإِنَّ مُوَحِّدِيهِمْ قَدْ يَكُونُونَ لِرِسَالَتِهِ مُنْكِرِينَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ دَعْوَةِ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِتَالِ، لَكِنَّ هَذَا إِذَا لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، أَمَّا إِذَا بَلَغَتْهُمْ فَغَيْرُ وَاجِبَةٍ، لِأَنَّهُ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغَارَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَافِلُونَ (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أَيِ انْقَادُوا أَيْ لِلْإِسْلَامِ (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) قَالَ الْأَشْرَفُ تَبَعًا لِزَيْنِ الْعَرَبِ: يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ بِالْأُصُولِ فَقَطْ، وَذَلِكَ لِتَعْلِيقِهِ الْإِعْلَامَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الطَّاعَةِ لِلْإِيمَانِ، وَقَبُولِ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، بِفَاءِ الْجَزَاءِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا إِشْعَارَ لِأَنَّ الْمُتَرَتِّبَ الْإِعْلَامُ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ بِالْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا لَا يُخَاطَبُ بِهِ الْكُفَّارُ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِتَكْلِيفِهِمْ بِهَا إِنَّمَا يَقُولُ إِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ فَقَطْ، حَتَّى يُعَاقَبَ عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7] ، {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] الْآيَتَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَنَحْوَهُ كَالْعِيدَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِفَرْضِيَّةِ الْوِتْرِ وَالْعِيدَيْنِ أَحَدٌ إِجْمَاعًا، وَالْمَفْهُومُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا، بَلْ مَفْهُومُ الْعَدَدِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ اتِّفَاقًا مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي بَيَانَ الْأَحْكَامِ إِجْمَاعًا، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ بِهِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ اقْتِصَارًا، وَمِنَ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْخَمْسِ مَعَ فَرْضِيَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ كِفَايَةً، فِي صُورَةٍ وَعَيْنًا فِي أُخْرَى اتِّفَاقًا، وَأَيْضًا صَلَاةُ الْوَتْرِ مِنْ تَوَابِعِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مُلْحَقَةٌ بِهَا، فَذِكْرُهَا مُشْعِرٌ بِذِكْرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا، كَمَا لَمْ يَذْكُرِ الصَّوْمَ مَعَ أَنَّهُ فُرِضَ قَبْلَ الزَّكَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أَيْ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ (فَأَعْلِمْهُمْ) لِيَكُونَ الْحُكْمُ تَدْرِيجِيًّا عَلَى وَفْقِ مَا نَزَلْ بِهِ التَّكْلِيفُ الْإِلَهِيُّ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ أَيْسَرُ مِنَ الْإِطَاعَةِ الْمَالِيَّةِ أَيْ فَأَخْبِرْهُمْ (أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ) أَيْ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ، وَشُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْوُجُوبِ (صَدَقَةً) أَيْ زَكَاةً لِأَمْوَالِهِمْ (تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ يَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ اهـ وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَجْنُونَ، وَفِيهِ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِمْ (فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) أَيْ إِنْ وُجِدُوا، وَكُرِهَ النَّقْلُ، وَسَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ وَصَحَابَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ الطَّمَعِ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ اللِّئَامِ لِأَنَّهُ خِلَافُ دَأْبِ الْكِرَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَدْفُوعَ عَيْنُ الزَّكَاةِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ نَقْلَ الزَّكَاةِ عَنْ بَلَدِ الْوُجُوبِ لَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِيهِ، بَلْ صَدَقَةُ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِمُسْتَحِقِّ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا نُقِلَتْ وَأُدِّيَتْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ، إِلَّا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ رَدَّ صَدَقَةً نُقِلَتْ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الشَّامِ إِلَى مَكَانِهَا مِنْ خُرَاسَانَ اهـ وَفِيهِ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ، بَلْ فَعَلَهُ إِظْهَارًا لِكَمَالِ الْعَدْلِ، وَقَطْعًا لِلْأَطْمَاعِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ دَفْعَ الْمَالِ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، بَلْ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَفِي الْهِدَايَةِ: وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ لَقُلْنَا بِجَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الذِّمِّيِّ، أَيْ كَمَا قُلْنَا بِجَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِمْ، لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا» "، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَدِيثُ " «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» " مَعَ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُفِيدُ مَنْعَ غَنِيِّ الْغُزَاةِ وَالْغَارِمِينَ عَنْهَا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ لِغَنِيٍّ مَعَ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُفِيدُ مَنْعَ غَنِيِّ الْغُزَاةِ، وَالْغَارِمِينَ عَنْهَا، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ لِغَنِيِّ الْغُزَاةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْفَيْءِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ مَكَانُ الْمَالِ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَكَانُ الرَّأْسِ الْمُخْرَجِ عَنْهُ، فِي الصَّحِيحِ مُرَاعَاةً لِإِيجَابِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَيُكْرَهُ نَقْلُهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، إِلَّا إِلَى قَرِيبِهِ أَوْ إِلَى أَحْوَجَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ دَفْعِ الْقِيَمِ مِنْ قَوْلِ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابِ خَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ، وَيَجِبُ كَوْنُ مَحَلِّهِ كَوْنَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ أَحْوَجَ أَوْ ذَلِكَ مَا يَفْضُلُ بَعْدَ إِعْطَاءِ فُقَرَائِهِمْ، وَأَمَّا النَّقْلُ لِلْقَرَابَةِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، زِيَادَةً عَلَى قُرْبَةِ الزَّكَاةِ (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أَيْ لِلْإِنْفَاقِ (فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ) جَمْعُ كَرِيمَةٍ أَيِ احْتَرِزْ مِنْ أَخْذِ الْأَعْلَى مِنْ أَصْنَافِ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا تَبَرُّعًا مِنْهُمْ، فَفِيهِ أَمْرٌ بِالْعَدْلِ الْوَسَطِ الْمَرْعِيِّ فِيهِ جَانِبُ الْأَغْنِيَاءِ، وَحَقُّ الْفُقَرَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَالِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ مَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي الْأَدَاءِ وَقْتَ الْإِمْكَانِ، أَيْ بَعْدَ الْوُجُوبِ (وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ) أَيْ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ بِأَنْ تَأْخُذَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ أَوْ تُؤْذِيَهُ بِلِسَانِكَ (فَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ) أَيْ قَبُولِهِ لَهَا (حِجَابٌ) أَيْ مَانِعٌ، بَلْ هِيَ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ - تَعَالَى، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ الْقَبُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا تَعْلِيلٌ لِلِاتِّقَاءِ، وَتَمْثِيلُ الدَّعْوَةِ لِمَنْ يَقْصِدُ إِلَى السُّلْطَانِ مُتَظَلِّمًا فَلَا يُحْجَبُ عَنْهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

1773 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا رُدِّتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْإِبِلُ؟ قَالَ: " وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَافَصِيلًا وَاحِدًا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رَدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ "، قِيلَ يَاَ رَسُولَ اللَّهِ: فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: " وَلَا صَاحِبُ بَقْرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَضْبَاءُ، تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْخَيْلُ؟ قَالَ: " فَالْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا، وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا، وَلَا رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فِي مَرْجٍ وَرَوْضَةٍ، فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٌ، وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ وَلَا تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ وَلَا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْحُمُرُ؟ قَالَ: " مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] » ) " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1773 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الضَّمِيرُ لِمَعْنَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ دُونَ لَفْظِهِمَا، إِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِمَا الشَّيْءَ الْحَقِيرَ ; بَلْ وَافِيَةَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَإِمَّا عَلَى تَأْوِيلِ الْأَمْوَالِ وَإِمَّا عَوْدًا إِلَى الْفِضَّةِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ، وَيُعْلَمُ حَالُ الذَّهَبِ مِنْهَا أَيْضًا، وَقِيلَ: أَرَادَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالذَّهَبُ مُؤَنَّثٌ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَلَى وَفْقِ التَّنْزِيلِ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وَاكْتَفَى بِبَيَانِ صَاحِبِهَا عَنْ بَيَانِ حَالِ صَاحِبِ الذَّهَبِ، أَوْ لِأَنَّ الْفِضَّةَ أَكْثَرُ انْتِفَاعًا فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنَ الذَّهَبِ، وَأَشْهَرُ فِي أَثْمَانِ الْأَجْنَاسِ، وَلِذَا اكْتَفَى بِهِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» "، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (صُفِّحَتْ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ كَمَا جُعِلَتِ الْفِضَّةُ وَنَحْوُهَا (لَهُ) أَيْ لِصَاحِبِهَا (صَفَائِحُ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَهِيَ مَا طُبِعَ عَرِيضًا، وَقُرِئَتْ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، لِقَوْلِهِ صُفِّحَتْ، وَمَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَفِي الْفِعْلِ ضَمِيرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْتَ إِمَّا بِالتَّأْوِيلِ السَّابِقِ، وَإِمَّا عَلَى التَّطْبِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، الَّذِي هُوَ هُوَ، انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامُ الطِّيبِيِّ بِعَيْنِهِ (مِنْ نَارٍ) أَيْ يُجْعَلُ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، أَوْ يُجْعَلُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، أَيْ يُجْعَلَ صَفَائِحَ كَأَنَّهَا نَارٌ، أَوْ كَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَارٍ، يَعْنِي كَأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِفَرْطِ إِحْمَائِهَا وَشِدَّةِ حَرَارَتِهَا صَفَائِحُ النَّارِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُوَافِقُ مَا فِي التَّنْزِيلِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35] فَجَعَلَ عَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هِيَ

الْمَحْمِيُّ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ (فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، أَيْ أُوقِدَ عَلَيْهَا ذَاتُ حِمًى وَحَرٍّ شَدِيدٍ، مِنْ قَوْلِهِ {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 11] فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي " فَأُحْمِيَتْ فِي نَارِ "، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا إِلَى الْفِضَّةِ فَالْفَاءُ تَفْسِيرِيَّةٌ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ إِلَى الصَّفَائِحِ النَّارِيَّةِ، أَيْ تُحْمَى مَرَّةً ثَانِيَةً (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) لِيَشْتَدَّ حَرُّهَا فَالْفَاءُ تَعْقِيبِيِّةٌ (فَيُكْوَى بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْفِضَّةِ أَوْ بِتِلْكَ الصَّفَائِحِ (جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ) قِيلَ: لِأَنَّهُ ازْوَرَّ عَنِ الْفَقِيرِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَعَبَسَ لَهُ وَجْهُهُ، وَبِشْرُهُ، وَوَلَّاهُ عِنْدَ الْإِلْحَاحِ ظَهْرَهُ، فَيُكْوَى بِمَالِهِ أَعْضَاؤُهُ الَّتِي آذَى الْفَقِيرَ بِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ، الَّتِي هِيَ الدِّمَاغُ وَالْقَلْبُ وَالْكَبِدُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ، الَّتِي هِيَ مِنْ مَقَادِيمِ الْبَدَنِ وَمُؤَخَّرِهِ وَجَنْبَاهُ (كُلَّمَا رُدَّتْ) أَيْ عَنْ بَدَنِهِ إِلَى النَّارِ (أُعِيدَتْ) أَيْ أَشَدَّ مَا كَانَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ كُلَّمَا بَرُدَتْ رُدَّتْ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، لِيُحْمَى عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي إِذَا وَصَلَ كَيُّ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُعِيدَ الْكَيُّ إِلَى أَوَّلِهَا، حَتَّى وَصَلَ إِلَى آخِرِهَا اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي رُدَّتْ رَاجِعًا إِلَى الْأَعْضَاءِ، أَيْ كُلَّمَا رُدَّتِ الْأَعْضَاءُ بِالتَّبْدِيلِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْإِفْنَاءِ أُعِيدَتِ الصَّفَائِحُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] (لَهُ) أَيْ لِمَانِعِ الزَّكَاةِ (فِي يَوْمٍ) وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أَيْ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَيَطُولُ عَلَى بَقِيَّةِ الْعَاصِينَ، بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ فَهُوَ عَلَى بَعْضِهِمْ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {يَوْمٌ عَسِيرٌ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9 - 10] (حَتَّى يُقْضَى) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُحْكَمَ (بَيْنَ الْعِبَادِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فِي الْعَذَابِ وَبَقِيَّةَ الْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ، وَلِذَا قِيلَ: الدُّنْيَا حَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عِقَابٌ (فَيُرَى) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الرُّؤْيَةِ أَوِ الْإِرَاءَةِ وَقَوْلُهُ (سَبِيلُهُ) مَرْفُوعٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَمَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى الثَّانِي، وَفِي نُسْخَةٍ: فَيَرَى بِالْمَعْلُومِ مِنَ الرُّؤْيَةِ، أَيْ هُوَ سَبِيلُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا وَبِرَفْعِ لَامِ سَبِيلِهِ وَنَصْبِهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَسْلُوبَ الِاخْتِيَارِ يَوْمَئِذٍ مَقْهُورٌ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرُوحَ إِلَى النَّارِ، فَضْلًا عَنِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُعَيَّنَ لَهُ أَحَدُ السَّبِيلَيْنِ (إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ) إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ سِوَاهُ وَكَانَ الْعَذَابُ تَكْفِيرًا لَهُ (وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) إِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى خُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ ضَعْفُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ أَيْضًا، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِأَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ تَرْكَ الزَّكَاةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ إِنْ كَانَ كَافِرًا بِأَنِ اسْتَحَلَّ تَرْكَهَا، (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْإِبِلُ) أَيْ هَذَا حُكْمُ النُّقُودِ، فَالْإِبِلُ مَا حُكْمُهَا؟ أَوْ عَرَفْنَا حُكْمَ النَّقْدَيْنِ فَمَا حُكْمُ الْإِبِلِ؟ فَالْفَاءُ مُتَّصِلٌ بِمَحْذُوفٍ (قَالَ: وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ) بِالرَّفْعِ أَيْ يُوجَدُ، وَيَكُونُ، قِيلَ: بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ لَفْظًا لِوُجُودِ الْوَاوِ بَلْ جَوَابٌ لَهُ مَعْنًى مِنْ بَابِ تَلْقِينِ الْعَطْفِ، لَكِنْ مَعْنًى لَا لَفْظًا (لَا يُؤَدِّي) صِفَةٌ أَيْ لَا يُعْطِي صَاحِبُ الْإِبِلِ (مِنْهَا حَقَّهَا) أَيِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِيهَا (وَمِنْ حَقِّهَا) أَيِ الْمَنْدُوبِ وَ " مِنْ " تَبْعِيضِيَّةٌ (حَلْبُهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: بِفَتْحِ اللَّامِ هِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَحُكِيَ سُكُونُهَا وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسُ (يَوْمَ وِرْدِهَا) قِيلَ: الْوِرْدُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ، وَنَوْبَةُ الْإِتْيَانِ إِلَى الْمَاءِ فَإِنَّ الْإِبِلَ تَأْتِي الْمَاءَ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَرُبَّمَا تَأْتِي فِي ثَمَانِيَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا أَنْ يُسْقَى أَلْبَانَهَا الْمَارَّةُ، وَهَذَا مِثْلُ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْجَذَاذِ بِاللَّيْلِ، أَرَادَ أَنْ يُصْرَمَ بِالنَّهَارِ لِيَحْضُرَهَا الْفُقَرَاءُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَحَصَرَ يَوْمَ الْوِرْدِ لِاجْتِمَاعِهِمْ غَالِبًا عَلَى الْمِيَاهِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ يَحْلِبَهَا فِي يَوْمِ شُرْبِهَا الْمَاءَ دُونَ غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَلْحَقَهَا مَشَقَّةُ الْعَطَشِ، وَمَشَقَّةُ الْحَلْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُ وَقَعَ اسْتِطْرَادًا وَبَيَانًا لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ لَا لِكَوْنِ التَّعْذِيبِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيْضًا لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْتَمَلَ عَلَى

وَقْتِ الْقَحْطِ أَوْ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَوْ عَلَى وُجُوبِ ضِيَافَةِ الْمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا قِيلَ: إِنَّ حَقَّهَا الْأَوَّلُ أَعَمُّ مِنَ الثَّانِي، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ التَّعْذِيبَ عَلَيْهِمَا مَعًا تَغْلِيظٌ (إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (بُطِحَ) أَيْ أُلْقِيَ ذَلِكَ الصَّاحِبُ عَلَى وَجْهِهِ (لَهَا) أَيْ لِتِلْكَ الْإِبِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ لَهُ: أَيْ لِإِبِلِهِ أَوْ لِفِعْلِهِ، أَوْ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَهُ بِالتَّذْكِيرِ وَهُوَ خَطَأٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي الْفِعْلِ لِصَاحِبِ الْإِبِلِ وَالْمَجْرُورَ لِلْإِبِلِ لِيَسْتَقِيمَ، وَلِأَنَّ الْمَبْطُوحَ الْمَالِكُ لَا الْإِبِلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا التَّمَسُّكُ بِالرِّوَايَةِ فَمُسْتَقِيمٌ وَأَمَّا بِالْمَعْنَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الضَّمِيرُ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَوْ لِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ لِصَاحِبِ الْإِبِلِ، وَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ قَائِمًا مَقَامَ الْفَاعِلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36] (بِقَاعٍ) أَيْ فِي أَرْضٍ وَاسِعَةٍ مُسْتَوِيَةٍ (قَرْقَرٍ) أَيْ أَمْلَسَ، وَقِيلَ: أَيْ مُسْتَوٍ فَيَكُونُ صِفَةً مُؤَكِّدَةً (أَوْفَرَ مَا كَانَتْ) أَيْ أَكْثَرَ عَدَدًا وَأَعْظَمَ سِمَنًا، وَأَقْوَى قُوَّةً، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ يُرِيدُ كَمَالَ حَالِ الْإِبِلِ، الَّتِي وَطِئَتْ صَاحِبَهَا فِي الْقُوَّةِ وَالسِّمَنِ، لِيَكُونَ أَثْقَلَ لِوَطْئِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْفَرُ مُضَافٌ إِلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي لَهَا، وَالْعَامِلُ بُطِحَ، وَقَوْلُهُ (لَا يَفْقِدُ) أَيِ الصَّاحِبُ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْإِبِلِ (فَصِيلًا) أَيْ وَلَدَ إِبِلٍ (وَاحِدًا) تَأْكِيدٌ وَالْجُمْلَةُ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ أَوْفَرَ (تَطَؤُهُ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ تَضْرِبُهُ وَتَدُوسُهُ الْإِبِلُ (بِأَخْفَافِهَا) أَيْ بِأَرْجُلِهَا (وَتَعَضُّهُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ تَقْرِضُهُ وَتَقْطَعُ جِلْدَهُ (بِأَفْوَاهِهَا) أَيْ بِأَسْنَانِهَا (كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا) أَيْ أُولَى الْأَبِلِ (رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا) قَالُوا: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ عَكْسُ ذَلِكَ، كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِمُسْلِمٍ، وَهُوَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا، وَتَوْجِيهُ مَا فِي الْكِتَابِ إِنَّهُ مَرَّتِ الْأُولَى عَلَى التَّتَابُعِ فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْأُخْرَى إِلَى الْغَايَةِ رُدَّتْ مِنْ هَذِهِ الْغَايَةِ، وَتَبِعَهَا مَا كَانَ يَلِيهَا فَمَا يَلِيهَا، إِلَى أَوَّلِهَا فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ وَالتَّتَابُعِ عَلَى طَرِيقِ الطَّرْدِ، وَالْعَكْسِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْصُلُ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ) فَكَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعِبَادِ، حَيْثُ لَمْ يَرْحَمُوا فُقَرَاءَ الْبِلَادِ مِنَ الزُّهَّادِ وَالْعِبَادِ (فَيُرَى) أَيْ فَيُعْلَمُ (سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ) إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ (وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) إِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرَانِ (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟) أَيْ كَيْفَ حَالُ صَاحِبِهَا (قَالَ: " وَلَا صَاحِبُ بَقْرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا ") أَيْ مِنْ أَجْلِهَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا (حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا) وَفِي نُسْخَةٍ لَهُ (بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا (شَيْئًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ قُرُونُهَا سَلِيمَةٌ (لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ) أَيْ مُلْتَوِيَةُ الْقَرْنَيْنِ (وَلَا جَلْحَاءُ) أَيْ لَا قَرْنَ لَهَا (وَلَا عَضْبَاءُ) أَيْ مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ، وَنَفْيُ الثَّلَاثَةِ عِبَارَةٌ عَنْ سَلَامَةِ قُرُونِهَا لِيَكُونَ أَجْرَحَ لِلْمَنْطُوحِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِيهَا مَعْدُومَةٌ فِي الْعُقْبَى، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَهَا الدُّنْيَا، وَظَاهِرُ الْبَعْثِ أَنْ يُعِيدَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى كَمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَعَلَّهُ يَخْلُقُهَا أَوَّلًا كَمَا كَانَتْ، ثُمَّ يُعْطِيهَا الْقُرُونَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِعَذَابِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّدَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (تَنْطَحُهُ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتُكْسَرُ فِي الْقَامُوسِ نَطَحَهُ كَمَنَعَهُ وَضَرَبَهُ أَصَابَهُ بِقَرْنِهِ فَقَوْلُهُ (بِقُرُونِهَا) إِمَّا تَأْكِيدٌ وَإِمَّا تَجْرِيدٌ (وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا) جَمْعُ ظِلْفٍ وَهُوَ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ بِالْفَرَسِ (كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَالْخَيْلُ، قَالَ: " فَالْخَيْلُ ") قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابٌ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَلَهُ تَوْجِيهَانِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَعْنَاهُ دَعِ السُّؤَالَ عَنِ الْوُجُوبِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَلَكِنِ اسْأَلْ عَمَّا يَرْجِعُ مِنِ اقْتِنَائِهَا عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَعَلَى مَذْهَبٍ: مَعْنَاهُ لَا تَسْأَلْ عَمَّا وَجَبَ فِيهَا مِنَ الْحُقُوقِ، وَحْدَهُ، بَلِ اسْأَلْ عَنْهُ وَعَمَّا يَتَّصِلُ

بِهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ، إِلَى صَاحِبِهَا، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْوُجُوبِ؟ قُلْتُ: بِعَطْفِ الرِّقَابِ عَلَى الظُّهُورِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّقَابِ الذَّوَاتُ، إِذْ لَيْسَ فِي الرِّقَابِ مَنْفَعَةٌ لِلْغَيْرِ، كَمَا فِي الظُّهُورِ، وَبِمَفْهُومِ الْجَوَابِ الْآتِي فِي الْحُمُرِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَنْزَلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ» ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ: بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا أَدَاءُ زَكَاةِ تِجَارَتِهَا اهـ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ فَالْخَيْلُ مَا حُكْمُهَا؟ أَيَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ فَيُعَاقَبَ تَارِكُهَا لِذَلِكَ، أَوْ لَا فَلَا، قَالَ: فَالْخَيْلُ أَحْكَامُهَا ثَلَاثَةٌ أُخْرَى، أَيْ غَيْرُ مَا مَرَّ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يُعَاقَبَ تَارِكُهَا، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ الَّذِي يَكَادُ أَنْ يَقْرُبَ مِنَ الصَّرِيحِ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدَقُّ مُسْكَةٍ مِنْ إِنْصَافٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، قُلْتُ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ السِّيَاقِ فَهُوَ مِنَ الْمُكَابَرَةِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ لِأَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ مَحْضُ الْمَقْصُودِ، وَالْمَرَامُ هُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي النُّقُودِ وَالْحَيَوَانَاتِ ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ تَقْرِيرِهِ لَا يَكُونُ الْجَوَابُ مُطَابِقًا بَلْ وَلَا يَكُونُ دَلِيلًا لِأَحَدٍ مُطْلَقًا، فَلِهَذَا حَمَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَنَزَّلُوهُ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ الطَّبْعُ السَّلِيمُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهَا فِيهَا التَّقْدِيرُ أَحْكَامُهَا ثَلَاثَةٌ غَيْرَ الزَّكَاةِ، فَهُوَ مِمَّا يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ، فَلَا يُسْمَعُ اهـ وَهَلْ هَذَا مُنَاقَضَةٌ بَيْنَ كَلَامَيْهِ وَمُدَافَعَةٌ بَيْنَ تَقْدِيرَيْهِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الثَّانِيَ هُوَ عَيْنُ الْأَوَّلِ عِنْدَ مَنْ لَهُ سَمْعٌ وَقَلْبٌ، فَتَأَمَّلْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَا زَكَاةَ فِيهَا فَبَاطِلٌ مِنْ عِنْدِهِ تَقْوِيَةٌ لِمَذْهَبِهِ، ثُمَّ أَطَالَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّلَلِ، وَأَصْنَافِ الْخَطَلِ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا خَوْفًا مِنَ السَّآمَةِ وَالْمَلَلِ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ رَبَطَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ (هِيَ) أَيِ الْخَيْلُ (لِرَجُلٍ وِزْرٌ) أَيْ ثِقَلٌ وَإِثْمٌ (وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ) أَيْ لِحَالِهِ فِي مَعِيشَتِهِ لِحِفْظِهِ عَنِ الِاحْتِيَاجِ وَالسُّؤَالِ (وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ) أَيْ ثَوَابٌ عَظِيمٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ " فَالْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ ": فِيهِ جَمْعٌ وَتَفْرِيقٌ وَتَقْسِيمٌ، أَمَّا الْجَمْعُ فَقَوْلُهُ ثَلَاثَةٌ، وَأَمَّا التَّفْرِيقُ فَقَوْلُهُ (فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ) الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ فَخَيْلٌ رَبَطَهَا، أَوْ يُقَالَ: وَأَمَّا الَّذِي لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَخَيْلُ رَجُلٍ (رَبَطَهَا رِيَاءً) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ أَيْ لِيَرَى النَّاسُ عَظَمَتَهُ فِي رُكُوبِهِ، وَحِشْمَتِهِ (وَفَخْرًا) أَيْ يَفْتَخِرُ بِاللِّسَانِ عَلَى مَنْ دُونِهُ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ (وَنِوَاءً) بِكَسْرِ النُّونِ وَالْمَدِّ وَالْوَاوِ بِمَعْنًى أَوْ أَيْ مُنَازَعَةً وَمُعَادَاةً (عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي رِوَايَةٍ: رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، أَيِ اسْتِغْنَاءً بِهَا، وَطَلَبًا لِنِتَاجِهَا، وَتَعَفُّفًا عَنِ السُّؤَالِ، يَعْنِي لِيَرْكَبَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا يَسْأَلُ مَرْكُوبًا مِنْ أَحَدٍ اهـ كَلَامُهُ وَأَنْتَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْوِزْرِ، بَلْ لِلسِّتْرِ بِلَا خِلَافٍ، فَالصَّوَابُ أَنَّ مَحَلَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الرَّجُلِ الثَّانِي كَمَا سَيَأْتِي (فَهِيَ) أَيْ تِلْكَ الْخَيْلُ (لَهُ وِزْرٌ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ فَهِيَ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ مُشْعِرَةٌ بِاهْتِمَامِ الشَّارِعِ بِهِ، وَالتَّحْذِيرِ عَنْهُ (وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِيُجَاهِدَ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْجِهَادُ، بَلِ النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ، إِذْ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ اهـ وَأَيْضًا إِذَا أَرَادَ بِهِ الْجِهَادَ فَتَكُونُ لَهُ أَجْرًا، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهَا لَهُ سِتْرٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ يُعَضِّدُهُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ: وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيَا وَتَعَفُّفًا، أَيِ اسْتِغْنَاءً بِهَا وَتَعَفُّفًا عَنِ السُّؤَالِ، أَوْ هُوَ أَنْ يَطْلُبَ بِنِتَاجِهَا الْعِفَّةَ وَالْغِنَى، أَوْ يَتَرَدَّدَ عَلَيْهَا مُتَاجَرَةً وَمُزَارِعَةً فَتَكُونَ سِتْرًا لَهُ يَحْجِبُهُ عَنِ الْفَاقَةِ (ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا) أَيْ بِالْعَارِيَةِ لِلرُّكُوبِ أَوِ الْفَحْلِ (وَلَا رِقَابِهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا تَأْكِيدٌ وَتَتِمَّةٌ لِلظُّهُورِ وَإِمَّا دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الزَّكَاةِ فِيهَا اهـ وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايِرَةُ فَيَكُونُ كَالْإِبِلِ فِيهَا حَقَّانِ (فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ) أَيْ حِجَابٌ يَمْنَعُهُ عَنِ الْحَاجَةِ لِلنَّاسِ (وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِهَادُ، فَإِنَّ نَفْعَهُ مُتَعَدٍّ إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ (فِي مَرْجٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ مَرْعًى، فِي النِّهَايَةِ، هُوَ الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ، ذَاتُ نَبَاتٍ كَثِيرٍ، يَمْرُجُ فِيهَا الدَّوَابُّ أَيْ تَسْرَحُ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِرَبَطَ (وَرَوْضَةٍ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوِ الرَّوْضَةُ أَخَصُّ مِنَ الْمَرْعَى، وَفِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِ: أَوْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَمَا أَكَلَتْ)

أَيِ الْخَيْلُ (مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ) بَيَانٌ مُقَدَّمٌ (أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْعَلَفِ وَالْأَزْهَارِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ (إِلَّا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ) أَيِ الَّذِي أَكَلَتْهُ مِنَ الْعُشْبِ وَالزَّرْعِ (حَسَنَاتٌ) بِالرَّفْعِ نَائِبُ الْفَاعِلِ وَنَصَبَ عَدَدَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِعَدَدِ مَأْكُولَاتِهَا (وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ) لِأَنَّ بِهَا بَقَاءَ حَيَاتِهَا مَعَ أَنَّ أَصْلَهَا قَبْلَ الِاسْتِحَالَةِ غَالِبًا مِنْ مَالِ مَالِكِهَا (وَلَا تَقْطَعُ) أَيِ الْخَيْلُ (طِوَلَهَا) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ حَبْلَهَا الطَّوِيلَ الَّذِي شُدُّ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي يَدِ الْفَرَسِ وَالْآخَرُ فِي وَتَدٍ أَوْ غَيْرِهِ لِتَدُورَ فِيهِ وَتَرْعَى مِنْ جَوَانِبِهَا وَلَا تَذْهَبُ لِوَجْهِهَا (فَاسْتَنَّتْ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ عَدَتْ وَمَرَجَتْ وَنَشِطَتْ لِمَرَاحِهَا أَوْ نَشَاطِهَا (وَلَا رَاكَبَ عَلَيْهَا شَرَفًا) أَيْ شَوْطًا أَوْ مَيْدَانًا أَوْ مَوْضِعًا عَالِيًا مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ ذَهَابًا إِلَى إِخْرَاجِ الْمَرْجِ أَوْ مَعَ الْعَوْدِ إِلَى مَحَلِّهَا (أَوْ شَرَفَيْنِ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَرَفًا لِأَنَّ الدَّابَّةَ تَعْدُو حَتَّى تَبْلُغَ شَرَفًا مِنَ الْأَرْضِ أَيْ مُرْتَفَعًا فَتَقِفُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقْفَةً، ثُمَّ تَعْدُو مَا بَدَا لَهَا (إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا) أَيْ بِعَدَدِ خُطَاهَا (وَأَرْوَاثِهَا) أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (حَسَنَاتٌ) وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالرَّوْثِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الْبَوْلَ أَوْ أَسْقَطَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْهُ (وَلَا مَرَّ بِهَا) أَيْ جَاوَزَهَا (صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا (فَشَرِبَتْ مِنْهُ) أَيِ الْخَيْلُ (وَلَا يُرِيدُ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَنْوِي (أَنْ يَسْقِيَهَا) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا (إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي اعْتِدَادِ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ مَا تَسْتَقْذِرُهُ النُّفُوسُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهَا، وَكَذَا إِذَا احْتَسَبَ مَا لَا نِيَّةَ لَهُ فِيهِ وَقَدْ وَرَدَ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَا بَالُ مَا إِذَا قَصَدَ الِاحْتِسَابَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُجْعَلُ لِمَالِكِهَا بِجَمِيعِ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا وَفَضَلَاتِهَا حَسَنَاتٌ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحُمُرُ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حِمَارٍ أَيْ مَا حُكْمُهَا؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ هَلْ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ (قَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (الْفَاذَّةُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ الْمُنْفَرِدَةُ فِي مَعْنَاهَا (الْجَامِعَةُ) لِجَمِيعِ الْخَيْرَاتِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مِثْلُهَا فِي قِلَّةِ الْأَلْفَاظِ وَجَمْعِ مَعَانِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: سُمِّيَتْ جَامِعَةً لِاشْتِمَالِ اسْمِ الْخَيْرِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ: فَرَائِضِهَا وَنَوَافِلِهَا، وَاسْمِ الشَّرِّ عَلَى مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيِ الْجَامِعَةُ أَوِ الْمُنْفَرِدَةُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى سَهْوٍ فِي أَصْلِهِ مِنْ سُقُوطِ لَفْظِ الْجَامِعَةِ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) أَيْ مِقْدَارَ نَمْلَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مِنَ الْهَبَاءِ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ (خَيْرًا يَرَهُ) أَيْ يَرَى ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] فَلَوْ أَعَانَ وَاحِدًا عَلَى رُكُوبِهَا يُثَابُ، وَلَوِ اسْتَعَانَ بِرُكُوبِهَا عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ يُعَاقَبُ، فَقَدْ رَوَى الْأَصْفَهَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «النَّادِمُ يَنْظُرُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةَ، وَالْمُعْجَبُ يَنْظُرُ مِنَ اللَّهِ الْمَقْتَ، وَاعْلَمُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ سَيَنْدَمُ عَمَلَهُ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَرَى حُسْنَ عَمَلِهِ، وَسُوءَ عَمَلِهِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَطِيَّتَانِ، فَأَحْسِنُوا السَّيْرَ عَلَيْهِمَا إِلَى الْآخِرَةِ، وَاحْذَرُوا التَّسْوِيفَ، فَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَلَا يَغْتَرَنَّ أَحَدُكُمْ بِحِلْمِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مَنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1774 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي شِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ " ثُمَّ تَلَا {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180] الْآيَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1774 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ) أَيْ أَعْطَاهُ (مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ) بِالتَّشْدِيدِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ صُوِّرَ وَجُعِلَ (لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا) بِضَمِّ الشِّينِ وَيُكْسَرُ أَيْ عَلَى صُورَةِ شُجَاعٍ أَيِ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ نُصِبَ مَجْرَى الْمَفْعُولِ أَيْ صُوِّرَ مَالُهُ شُجَاعًا، أَوْ ضُمِّنَ مِثْلَ مَعْنَى التَّصْيِيرِ، أَيْ صُيِّرَ مَالُهُ عَلَى صُورَةِ شُجَاعٍ (أَقْرَعَ) أَيِ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ، لِكَثْرَةِ سُمِّهِ وَطُولِ عُمْرِهِ (لَهُ زَبِيبَتَانِ) أَيْ نُقْطَتَانِ سَوْدَاوَانِ فَوْقَ الْعَيْنَيْنِ، وَهُوَ أَخْبَثُ الْحَيَّاتِ، وَقِيلَ: الزَّبِيبَتَانِ الزَّبَدَانِ فِي الشِّدْقَيْنِ (يُطَوَّقُهُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، أَيْ يُجْعَلُ الشُّجَاعُ طَوْقًا فِي عُنُقِهِ، أَوْ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الرَّجُلُ شُجَاعًا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} [آل عمران: 180] (يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ) أَيِ الشُّجَاعُ ذَلِكَ الْبَخِيلَ (بِلِهْزِمَتَيْهِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْهَاءِ (يَعْنِي: شِدْقَيْهِ) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الدَّالِ، أَيْ بِطَرَفَيْ فَمِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اللِّهْزِمَةُ: اللِّحَى وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْحَنَكِ، وَفُسِّرَ بِالشِّدْقِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ اهـ وَقِيلَ هُمَا عَظْمَانِ نَاتِئَانِ تَحْتَ الْأُذُنَيْنِ، وَقِيلَ: مُضْغَتَانِ عَلِيفَتَانِ تَحْتَهَا (ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ) أَيْ جَزَاؤُهُ أَوْ مُنْقَلَبُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ نَوْعُ تَهَكُّمٍ لِمَزِيدِ غُصَّتِهِ وَهَمِّهِ لِأَنَّهُ شَرٌّ أَتَاهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَرْجُو خَيْرًا (ثُمَّ تَلَا) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180] بِالْغِيبَةِ وَالْخِطَابِ وَكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا مَعَ الْأَوَّلِ وَالْفَتْحِ مَعَ الثَّانِي (الْآيَةَ) أَيْ {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1775 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا أَتَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1775 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ ") أَوْ لِلتَّقْسِيمِ (إِلَّا يُؤَدِّي حَقَّهَا) أَيْ لَا يُعْطِي زَكَاتَهَا (إِلَّا أُتِيَ بِهَا) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ حَالَ كَوْنِهَا (أَعْظَمَ مَا تَكُونُ) بِالتَّأْنِيثِ وَقِيلَ: بِالتَّذْكِيرِ، وَقِيلَ: " أَعْظَمَ " حَالٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْإِضَافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ أَيْ أَقْوَاهُ (وَأَسْمَنُهُ) وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ مَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَطْفُ مُرَادِفٍ أَوْ أَخَصُّ فَبَعِيدٌ مِنَ التَّحْقِيقِ، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا مُبَايَنَةً عَلَى التَّدْقِيقِ (تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا) أَيْ تَدُوسُهُ بِأَرْجُلِهَا جَزَاءً لِتَكَبُّرِهُ (وَتَنْطِحُهُ) أَيْ تَضْرِبُهُ (بِقُرُونِهَا) جَزَاءً لِإِبَائِهِ وَامْتِنَاعِهِ، فَغَلَّبَ الْإِبِلَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الثَّلَاثَةِ، وَلِذَا بَدَأَ بِذِكْرِهَا، وَغَلَّبَ الْأَخِيرَيْنِ فِي الثَّانِي لِكَثْرَتِهِمَا (كُلَّمَا جَازَتْ) أَيْ مَرَّتْ (أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ) ثُمَّ إِمَّا مَعَ فَرِيقِ الْجَنَّةِ وَإِمَّا مَعَ فَرِيقِ النَّارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1776 - وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَتَاكُمُ الْمُصَدِّقُ فَلْيَصْدُرْ عَنْكُمْ وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1776 - (وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَتَاكُمُ الْمُصَدِّقُ ") بِتَخْفِيفِ الصَّادِ أَيْ آخِذُ الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْعَامِلُ (فَلْيَصْدُرْ عَنْكُمْ) بِضَمِّ الدَّالِّ أَيْ يَرْجِعُ (وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ) الْجُمْلَةُ حَالٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ الْمُسَبَّبَ وَأَرَادَ السَّبَبَ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ لِلْعَامِلِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ أَمْرٌ لِلْمُزَكِّي، وَالْمَعْنَى تَلَقَّوْهُ بِالتَّرْحِيبِ، وَأَدَاءِ زَكَاةِ أَمْوَالِكُمْ، لِيَرْجِعَ عَنْكُمْ رَاضِيًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مُبَالَغَةً فِي اسْتِرْضَاءِ الْمُصَدِّقِ، وَإِنْ ظُلِمَ كَمَا سَيَجِيءُ فِي حَدِيثٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

1777 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ "، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَدَقَتِهِ قَالَ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1777 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ) لِيُفَرِّقَهَا عَنْهُمْ (قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ، فَآتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَالتَّبَرُّكِ، قِيلَ يَجُوزُ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي مُعْطِي الزَّكَاةِ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهَا بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ، فَهِيَ خَاصَّةٌ لَهُ. اهـ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ: قِيلَ: لَفْظُ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى بِهَا لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى بِمَعْنَاهُ اهـ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اخْتَلَفُوا فِي الدُّعَاءِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ، فَقِيلَ: يُكْرَهُ وَلَوْ أَنْ أَرَادَ بِهَا مُطْلَقَ الرَّحْمَةِ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ، وَقِيلَ: خِلَافُ الْأَوْلَى، وَقِيلَ: يُسَنُّ، وَقِيلَ: يُبَاحُ إِنْ أَرَادَ بِالصَّلَاةِ مُطْلَقَ الرَّحْمَةِ، وَيُكْرَهُ إِنْ أَرَادَ بِهَا مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ. اهـ، وَالْمَانِعُونَ يَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْآلَ مُقْحَمٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِآلِهِ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَيَعُمُّ الدُّعَاءُ، لِأَنَّهُ إِذَا دَعَا لِآلِهِ لِأَجْلِهِ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الدُّعَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (وَفِي رِوَايَةٍ) قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ (إِذَا أَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَدَقَةٍ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ) أَيْ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلسَّاعِي أَنْ يَدْعُوَ لِمُعْطِي الزَّكَاةِ، فَيَقُولَ: آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ، وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا، وَقَوْلُهُ آجَرَكَ اللَّهُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَهُوَ أَجْوَدُ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لِمَنْ أَتَاهُ بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي أَهْلِهِ» ".

1778 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْعَبَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا "، ثُمَّ قَالَ: " يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1778 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ) أَيْ أَرْسَلَهُ عَامِلًا (عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ) أَيْ فَجَاءَ وَاحِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهُ (مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ) بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ: ابْنُ جَمِيلٍ لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ. اهـ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ فَلَا يُعَدُّ مِنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ التَّقْدِيرُ " مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ الزَّكَاةَ "، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيِ امْتَنَعَ مِنْ إِعْطَائِهَا فَحَلُّ الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ مُخِلٌّ لِلْمَبْنَى (وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يَنْقِمُ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَيُفْتَحُ أَيْ مَا يُنْكِرُ نِعْمَةَ اللَّهِ (ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّهُ (كَانَ) أَوْ مَا يَكْرَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ (فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) وَهَذَا مِمَّا لَا يُكْرَهُ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةَ عَلَى الْحَدِّ وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ ضِرَابِ الْكَتَائِبِ وَلِهَذَا قِيلَ التَّقْدِيرُ: مَا يَنْقِمُ شَيْئًا إِلَّا أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَقِيلَ: مَا يَغْضَبُ عَلَى طَالِبِ الصَّدَقَةِ إِلَّا كُفْرَانَ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَسْنَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِغْنَاءَ إِلَى نَفْسِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ سَبَبًا لِدُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَوِجْدَانِ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا حَمَلَهُ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ إِلَّا الْإِغْنَاءُ، وَهُوَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: يُقَالُ نَقِمْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْقِمُ بِالْكَسْرِ إِذَا عِبْتَ عَلَيْهِ، وَنَقِمَ الْأَمْرَ وَنَقِمْتُهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ إِذَا كَرِهْتُهُ، وَفِي الْمَغْرِبِ نَقِمَ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ كَذَا إِذَا عَابَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ وَكَرِهَهُ، أَقُولُ: فَمَعْنَى الْحَدِيثِ مَا يَنْقِمُ وَيَغْضَبُ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَيَكْرَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا) وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً أَيْ تَظْلِمُونَهُ بِطَلَبِ الزَّكَاةِ مِنْهُ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لِأَنَّهُ (قَدِ احْتَبَسَ) أَيْ وَقَفَ (أَدْرَاعَهُ) جَمْعُ الدِّرْعِ (وَأَعْتُدَهُ) بِضَمِّ التَّاءِ جَمْعُ عَتَادٍ وَهُوَ مَا أَعَدَّهُ الرَّجُلُ مِنَ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَآلَاتِ الْحَرْبِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَأَنْتُمْ تَظْلِمُونَهُ بِأَنْ تَعُدُّوهَا مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَتَطْلُبُونَ الزَّكَاةَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ احْتِبَاسِ آلَاتِ الْحَرْبِ حَتَّى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالثِّيَابِ وَالْبُسُطِ، وَعَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ كَمَا قَالَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَعَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِ الْوَاقِفِ

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَإِلَّا لَمَا اعْتَذَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مُطَالَبَةِ زَكَاةِ مَالِ التِّجَارَةِ عَلَى خَالِدٍ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَقِيلَ: تَظْلِمُونَهُ بِدَعْوَى مَنْعِ الزَّكَاةِ مِنْهُ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَ تَبَرُّعًا سِلَاحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ قَصَدَ بِاحْتِبَاسِهَا إِعْدَادَهَا لِلْجِهَادِ دُونَ التِّجَارَةِ، وَقِيلَ: تَظْلِمُونَهُ بِطَلَبِ مَا زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ قَدِ احْتَبَسَ الْأَدْرَاعَ وَالْأَعْتُدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَقِيلَ: بِدَعْوَى أَنَّهُ غَنِيٌّ وَقَدِ احْتَبَسَ مِنْ رَهْنِ أَسْلِحَتِهِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِأَجْلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، فَـ " فِي " تَعْلِيلِيَّةٌ (وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ) أَيْ صَدَقَةُ الْعَبَّاسِ لِلسَّنَةِ الذَّاهِبَةِ (عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) أَيْ مِثْلُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فِي كَوْنِهَا فَرِيضَةً عَامٌ آخَرُ، لَا فِي السِّنِينَ وَالْقَدْرِ، قِيلَ: أَخَّرَ عَنْهُ زَكَاةَ عَامَيْنِ لِحَاجَةٍ بِالْعَبَّاسِ، وَتَكَفَّلَ بِهَا عَنْهُ، وَيُعَضِّدُهُ مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهَا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَقْبِضْهَا وَكَانَتْ دَيْنًا عَلَى الْعَبَّاسِ لِأَنَّهُ رَأَى بِهِ حَاجَةً، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى السَّاعِي قُلْتُ أَحْوَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَانَتْ مِنْ خَصَائِصِهِ فَلَا يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ اهـ وَلَا مَنْعَ إِذَا رَأَى الْخَلِيفَةُ مِثْلَ هَذَا فِي بَعْضِ رَعَايَاهُ رِعَايَةً لِحَالِهِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى عَدَمِ فَوْتِ مَالِهِ، وَقِيلَ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ سَنَتَيْنِ تَقْدِيمًا عَامَ شَكَا الْعَامِلُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّا تَسَلَّفْنَا مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ "، وَرُوِيَ: إِنَّا تَعَجَّلْنَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِالْحَمْلِ عَلَى وُقُوعِ الْقَضِيَّتَيْنِ (ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْهَمْزَةُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَمَا نَافِيَةٌ، أَيْ مَا عَلِمْتَ (أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ النُّونِ، أَيْ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ، إِذْ يُقَالُ لِنَخْلَتَيْنِ نَبَتَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ صِنْوَانٌ، وَلِأَحَدِهِمَا صِنْوٌ، وَالْمَعْنَى أَمَا تَنَبَّهْتَ أَنَّهُ عَمِّي وَأَبِي، فَكَيْفَ تَتَّهِمُهُ بِمَا يُنَافِي حَالَهُ، لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا، وَأَنْتَ تَلُومُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُؤْذِهِ رِعَايَةً لِجَانِبِي (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

1779 - وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَخَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالًا مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلَّانِى اللَّهُ، فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقْرًا لَهُ خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعِرُ "، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغَتُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: " هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ يُتَذَرَّعُ بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ فَهُوَ مَحْظُورٌ، وَكُلُّ دَخِيلٍ فِي الْعُقُودِ يُنْظَرُ هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ كَحُكْمِهِ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ أَمْ لَا. هَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1779 - (وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنَ الْأِزْدِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ قَبِيلَةٌ مِنْ بُطُونِ قَحْطَانَ (يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ) بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّاءِ، فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَقَدْ تُفْتَحُ نِسْبَةً إِلَى بَنِي لُتَبٍ، قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَهَا، قَالُوا: وَهُوَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ بِإِسْكَانِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْجَامِعِ: بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ التَّاءِ وَالْمَعْنَى جَعَلَهُ عَامِلًا (عَلَى الصَّدَقَةِ) وَسَاعِيًا فِي أَخْذِهَا (فَلَمَّا قَدِمَ) أَيِ الْمَدِينَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْعَمَلِ (قَالَ: هَذَا) إِشَارَةٌ لِبَعْضِ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ (لَكُمْ وَهَذَا) إِشَارَةٌ لِبَعْضٍ آخَرَ (أُهْدِيَ لِي فَخَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيِ النَّاسَ لِيُعَلِّمَهُمْ وَلِيُحَذِّرَهُمْ مِنْ فِعْلِهِ (فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ شَكَرَهُ شُكْرًا جَزِيلًا (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أَيْ ثَنَاءً جَمِيلًا (ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ) أَيْ بَعْدَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ (فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالًا مِنْكُمْ) أَيْ أَجْعَلُهُمْ عُمَّالًا (عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ) أَيْ جَعَلَ حَاكِمًا فِيهِ (فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ) أَيْ مِنَ الْعُمَّالِ وَرُوعِيَ فِيهِ الْإِجْمَالُ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَيْنَهُ سِتْرًا وَتَكَرُّمًا عَلَيْهِ (فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ) أُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ وَهِيَ (هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي) أَيْ أُعْطِيَتْ لِي، أَوْ أُرْسِلَتْ إِلَيَّ هَدِيَّةً (فَهَلَّا جَلَسَ) أَيْ لِمَ لَمْ يَجْلِسْ (فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلشَّكِّ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِشَأْنِهِ، وَتَحْقِيرٌ لَهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ التَّعْظِيمُ مِنْ حَيْثُ عَمَلِهِ (فَيَنْظُرَ) بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ قَوْلِهِ فَهَلَّا يَجْلِسُ أَيْ فَيَرَى أَوْ يَنْتَظِرُ (أَيُهْدَى لَهُ) أَيْ شَيْءٌ فِي بَيْتِهِ الْأَصْلِيِّ (أَمْ لَا) لِعَدَمِ الْبَاعِثِ الْعَرَضِيِّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةً لِأَنَّهُ لَا يُعْطِهِ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا لِطَمَعٍ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ زَكَاتِهِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنَّهُ يُعْطَى لِغَيْرِ هَذَا الْغَرَضِ أَيْضًا، لَكِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُعْطَى مِنْ حَيْثُ الْعَمَلِ، وَلَهُ أُجْرَةُ الْعَمَلِ مِنْ هَذَا الْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَهُوَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ، وَمَا أُعْطِي لَهُ يَكُونُ دَاخِلًا مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ (وَالَّذِي نَفْسِي) أَيْ ذَاتِي أَوْ رُوحِي (بِيَدِهِ) أَيْ بِقَبْضَةِ تَصَرُّفِهِ (لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ) أَيْ خُفْيَةً أَوْ عَلَانِيَةً (مِنْهُ) أَيْ مَالِ الصَّدَقَةِ (شَيْئًا) أَيْ أَصَالَةً أَوْ تَبَعًا (إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ صَارَ سَبَبًا لِمَجِيئِهِ (يَحْمِلُهُ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (عَلَى رَقَبَتِهِ) أَيْ تَشْهِيرًا

أَوِ افْتِضَاحًا، قِيلَ فِي الْآيَةِ {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] وَأُجِيبُ بِأَنَّ الظُّهُورَ يَشْمَلُ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهَا، أَوْ ذَاكَ فِي أَوْزَارِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا فِي أَوْزَارِ الْفُجَّارِ، لِمَزِيدِ قُبْحِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهَا حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ عِبَادِهِ (إِنْ كَانَ) أَيِ الْمَأْخُوذُ (بَعِيرًا لَهُ) أَيْ لِلْبَعِيرِ (رُغَاءً) بِضَمِّ الرَّاءِ صَوْتٌ لِلْبَعِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فَلَهُ رُغَاءٌ فَحَذَفَ الْفَاءَ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَهُوَ سَائِغٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ شَائِعٍ. اهـ (أَوْ بَقَرًا لَهُ خُوَارٌ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ صَوْتُ الْبَقَرِ (أَوْ شَاةً) بِالنَّصْبِ (تَيْعِرُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَفَتْحِهَا أَيْ تَصِيحُ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْعَرَصَاتِ فَيَكُونُ أَشْهَرَ فِي فَضِيحَتِهِ وَأَكْثَرَ فِي سَلَامَتِهِ (ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ) أَيْ وَبَالَغَ فِي رَفْعِهِمَا (حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ) أَيْ بَيَاضَهُمَا، وَالْعُفْرَةُ بِالضَّمِّ بَيَاضٌ لَيْسَ بِخَالِصٍ، وَلَكِنْ كَلَوْنِ الْعُفَرِ بِالتَّحْرِيكِ، أَيِ التُّرَابِ، أَرَادَ مَنْبَتَ الشَّعْرِ مِنَ الْإِبِطَيْنِ لِمُخَالَطَةِ بَيَاضِ الْجِلْدِ سَوَادَ الشَّعْرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ نَتْفِ الشَّعْرِ، أَوْ حَلْقِهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يُرَى مِنَ الْبُعْدِ (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) أَيِ الْوَعِيدَ أَوْ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) كَرَّرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّقْرِيرِ، وَقِيلَ هَلْ بِمَعْنَى قَدْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ) كَذَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ إِمَّا كَذَا فِي رِوَايَتِهِ، وَإِمَّا نُقِلَ بِالْمَعْنَى، وَلَكِنْ مُقْتَضَى الْمَقَامِ تَقْدِيمُ الْأَبِ فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِزِيَادَةِ الْإِكْرَامِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ " بَيْتِ أُمِّهِ " مَحْمُولًا عَلَى التَّنَزُّلِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَيْسَ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ، فَفِيهِ تَهْجِينٌ لِحَالِهِ (فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إِلَيْهِ) وَهَذَا أَيْضًا تَفْسِيرٌ لَهُ، أَوْ نَقْلٌ مَعْنَوِيٌّ أَوْ رِوَايَةٌ (أَمْ لَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ يُتَذَرَّعُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُتَوَسَّلُ (بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ فَهُوَ مَحْظُورٌ) أَيْ مَمْنُوعٌ وَمُحَرَّمٌ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْقَرْضُ يَجُرُّ الْمَنْفَعَةَ، وَالدَّارُ الْمَرْهُونَةُ يَسْكُنُهَا الْمُرْتَهِنُ بِلَا كِرَاءٍ، وَالدَّابَّةُ الْمَرْهُونَةُ يَرْكَبُهَا أَوْ يَرْتَفِقُ بِهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ (وَكُلُّ دَخِيلٍ) بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ أَيْ كُلُّ عَقْدٍ يَدْخُلُ (فِي الْعُقُودِ) وَيُضَمُّ إِلَى بَعْضِهَا (يَنْظُرُ) أَيْ فِيهِ (هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ كَحُكْمِهِ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ أَمْ لَا) فَعَلَى الْأَوَّلِ يَصِحُّ، وَعَلَى الثَّانِي لَا يَصِحُّ كَمَا إِذَا بَاعَ مِنْ أَحَدٍ مَتَاعًا يُسَاوِي عَشْرَةً بِمِائَةٍ لِيُقْرِضَهُ أَلْفًا مَثَلًا يَدْفَعُ رِبْحَهُ إِلَى ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَمَنْ رَهَنَ دَارًا بِمَبْلَغٍ كَثِيرٍ وَأَجَّرَهُ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ فَقَدِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ بَعْضَ أُمَّتِهِ يَرْتَكِبُونَ هَذَا الْمَحْظُورَ بَالَغَ حَيْثُ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ " مَرَّتَيْنِ (هَكَذَا) أَيْ نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ عَنْهُ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي الْمُوَطَّأِ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ يُعْطِي صَاحِبَهُ الذَّهَبَ الْجَيِّدَ وَيَجْعَلُ مَعَهُ رَدِيئًا، وَيَأْخُذُ مِنْهُ ذَهَبًا مُتَوَسِّطًا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَقَالَ: هَذَا لَا يَصْلُحُ لِأَنَّهُ أَخَذَ فَضْلَ جَيِّدِهِ مِنَ الرَّدِيءِ وَلَوْلَاهُ لَمْ يُبَايِعْهُ. اهـ وَمَا قَالَهُ فِي الْكُلِّيَّةِ الْأُولَى فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرِّرَةِ أَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ، فَوَسِيلَةُ الطَّاعَةِ طَاعَةٌ، وَوَسِيلَةُ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ مِنَ الْكُلِّيَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِ مَنْ مَنَعَ الْحِيَلَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الرِّبَا، أَوْ غَيْرِهِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ يَرَى إِبَاحَةَ الْحِيَلِ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الدَّخِيلِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَ عَامِلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، وَقَدْ قَالَ لَهُ: إِنَّهُ يُشْتَرَى صَاعُ تَمْرٍ جَيِّدٍ بِصَاعَيْ رَدِيءٍ حِيلَةٌ تُخْرِجُهُ عَنِ الرِّبَا، وَهِيَ أَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِدَرَاهِمَ وَيَشْتَرِيَ بِهَا الْجَيِّدَ، فَافْهَمْ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ تَوَسَّطَ فِي مُعَامَلَةٍ أَخْرَجَهَا عَنِ الْمُعَامَلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الرِّبَا جَائِزٌ، هَذَا وَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ أَنَّ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا وَلَيْسَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَيَاءَ مِنَ النَّاسِ كَأَنْ سُئِلَ بِحَضْرَتِهِمْ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ لَمْ يُعْطَهُ، الْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِهِ مِثْلَ هَذَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُكْرَهٌ بِسَبَبِ الْحَيَاءِ، فَهُوَ كَالْمُكْرَهِ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا مُدَارَاةً عَنْ عِرْضِهِ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ أَعْطَى حَاكِمًا أَوْ سَاعِيًا أَوْ أَسِيرًا شَيْئًا عَلِمَ الْمُعْطَى مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ لَهُ بِالْحَقِّ أَوْ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْحَقَّ إِلَّا إِنْ أَخَذَ شَيْئًا فَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ وَمَا أَشْبَهَهَا لَا يَمْلِكُ الْآخِذُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ» ، وَلِضَعْفِ دَلَالَةِ الْإِعْطَاءِ عَلَى الْمِلْكِ أَثَرُ الْقَصْدِ الْمُخْرِجِ لَهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ بِخِلَافِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ دَالٌّ قَوِيٌّ عَلَى الْمِلْكِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ قَصْدٌ قَارَنَهُ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ هَاهُنَا صَالِحٌ، وَهُوَ التَّخَلُّصُ عَنِ الرِّبَا، وَفِي تِلْكَ الصُّوَرِ فَاسِدٌ، وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

1780 - وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1780 - (وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ) أَيْ جَعَلْنَاهُ عَامِلًا (عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا) أَيْ أَخْفَى عَلَيْنَا (مِخْيَطًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ أَيْ إِبْرَةً (فَمَا فَوْقَهُ) أَيْ فَشَيْئًا يَكُونُ فَوْقَهُ فِي الصِّغَرِ أَوِ الْكِبَرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ " فَمَا فَوْقَهُ " لِلتَّعْقِيبِ عَلَى التَّوَالِي، وَمَا فَوْقَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَعْلَى أَوِ الْأَدْنَى كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] وَذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ اسْتِطْرَادًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي ذِكْرِ الْعَمَلِ وَالْخِيَانَةِ (كَانَ) أَيْ ذَلِكَ الْكِتْمَانُ (غُلُولًا) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ أَيْ خِيَانَةً فِي الْغَنِيمَةِ (يَأْتِي بِهِ) أَيْ بِمَا غَلَّ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تَفْضِيحًا لَهُ، قَالَ - تَعَالَى - {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1781 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ، فَانْطَلَقَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِكَ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ وَذَكَرَ كَلِمَةً لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ، فَقَالَ: فَكَبَّرَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1781 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] أَيْ يَجْمَعُونَهَا أَوْ يَدْفِنُونَهَا {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] كَبُرَ بِضَمِّ الْبَاءِ أَيْ شَقَّ وَصَعُبَ (ذَلِكَ) أَيْ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ الْعُمُومِ (عَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّهُ يَمْنَعُ جَمْعَ الْمَالِ مُطْلَقًا وَأَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَثَّلَ مَالًا جَلَّ أَوْ قَلَّ فَالْوَعِيدُ لَاحِقٌ بِهِ (فَقَالَ عُمَرُ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَا أُفَرِّجُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ أُزِيلُ الْغَمَّ وَالْهَمَّ (عَنْكُمْ) وَآتَى بِالْفَرَجِ لَكُمْ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَقَدْ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (فَانْطَلَقَ) أَيْ فَذَهَبَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (كَبُرَ) أَيْ عَظُمَ (عَلَى أَصْحَابِكَ هَذِهِ الْآيَةُ) أَيْ حُكْمُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ مَنْعِ الْجَمْعِ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ) بِالتَّذْكِيرِ أَوِ التَّأْنِيثِ أَيْ لِيُحِلَّ اللَّهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ لَكُمْ (مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ) قَالَ - تَعَالَى - {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَمَعْنَى التَّطَيُّبِ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ إِمَّا أَنْ يُحِلَّ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ الْمَخْلُوطِ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ وَإِمَّا أَنْ يُزَكِّيَهُ مِنْ تَبِعَةِ مَا لَحِقَ بِهِ مِنْ إِثْمِ مَنْعِ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَنْزِ مَنْعُ الزَّكَاةِ لَا الْجَمْعُ مُطْلَقًا (وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ) عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ " قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ فِي الْمَصَابِيحِ لَكِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِكَذَا، وَلَمْ يَفْرِضِ الْمَوَارِيثَ إِلَّا لِيَكُونَ طَيِّبًا، لِمَنْ يَكُونُ بَعْدَكُمْ، وَالْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْجَمْعُ مَحْظُورًا مُطْلَقًا لَمَا افْتَرَضَ اللَّهُ الزَّكَاةَ وَلَا الْمِيرَاثَ وَقَوْلُ (وَذَكَرَ كَلِمَةً) مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - أَيْ وَذَكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَةً أُخْرَى فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا أَضْبِطُهَا، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَعِلَّتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (لِتَكُونَ) أَيْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ لِتَكُونَ الْمَوَارِيثُ (طَيِّبَةً لِمَنْ بَعْدَكُمْ فَقَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (فَكَبَّرَ عُمَرُ) أَيْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَرَحًا، لِكَشْفِ الْحَالِ وَرَفْعِ الْإِشْكَالِ (ثُمَّ قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَهُ) أَيْ لِعُمَرَ (أَلَا أُخْبِرُكَ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَلَا لِلتَّنْبِيهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ اسْتِفْهَامِيَّةً وَلَا نَافِيَةً (بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ) أَيْ بِأَفْضَلِ مَا يَقْتَنِيهِ وَيَتَّخِذُهُ لِعَاقِبَتِهِ، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنْ لَا وِزْرَ فِي جَمْعِ الْمَالِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَرَأَى فَرَحَهُمْ بِذَلِكَ، رَغَّبَهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَهُوَ التَّقَلُّلُ وَالِاكْتِفَاءُ بِالْبُلْغَةِ (الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) أَيِ الْجَمِيلَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَيَانٌ، قِيلَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَنْفَعُ مِنَ الْكَنْزِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا يَدَّخِرُهَا الرَّجُلُ، لِأَنَّ النَّفْعَ فِيهَا أَكْثَرُ لِأَنَّهُ (إِذَا نَظَرَ) أَيِ الرَّجُلُ (إِلَيْهَا سَرَّتْهُ) أَيْ جَعَلَتْهُ مَسْرُورًا - بِجَمَالِ صُورَتِهَا، وَحُسْنِ سِيرَتِهَا، وَحُصُولِ حِفْظِ الدِّينِ بِهَا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ حَصَّنَ ثُلْثَيْ دِينِهِ» " وَقَدْ يُؤَدِّي حُسْنُ صُورَتِهَا إِلَى مُشَاهَدَةِ التَّجَلِّيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْلَى مَقَاصِدِ

الصُّوفِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمَّا قِيلَ لِلْجُنَيْدِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ: أَلَا تَتَزَوَّجُ؟ ! فَقَالَ: إِنَّمَا تَصْلُحُ الْمَرْأَةُ لِمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جَمَالِ اللَّهِ فِيهَا (وَإِذَا أَمَرَهَا) بِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ (أَطَاعَتْهُ) وَخَدَمَتْهُ (وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ) وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: فِي نَفْسِهِ، أَيْ لَهُ حَقُّ زَوْجِهَا مِنْ بُضْعِهَا وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهَا، وَكَذَا بَيْتُ زَوْجِهَا وَمَالُهُ وَوَلَدُهُ، فَهَذِهِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، قَالَ الْقَاضِي: لَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَكَنْزِهِ مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ وَرَأَى اسْتِبْشَارَهُمْ بِهِ، رَغَّبَهُمْ عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الْجَمِيلَةُ فَإِنَّ الذَّهَبَ لَا يَنْفَعُكَ إِلَّا بَعْدَ الذَّهَابِ عَنْكَ، وَهِيَ مَا دَامَتْ مَعَكَ تَكُونُ رَفِيقَكَ، تَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَسُرُّكَ، وَتَقْضِي عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَطَرَكَ، وَتُشَاوِرُهَا فِيمَا يَعِنُّ لَكَ فَتَحْفَظُ عَلَيْكَ سِرَّكَ، وَتَسْتَمِدُّ مِنْهَا فِي حَوَائِجِكَ، فَتُطِيعُ أَمْرَكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا تُحَامِي مَالَكَ وَتُرَاعِي عِيَالَكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا أَنَّهَا تَحْفَظُ بَذْرَكَ، وَتُرَبِّي زَرْعَكَ، فَيَحْصُلُ لَكَ بِسَبَبِهَا وَلَدٌ، يَكُونُ لَكَ وَزِيرًا فِي حَيَاتِكَ، وَخَلِيفَةً بَعْدَ وَفَاتِكَ، لَكَانَ لَهَا بِذَلِكَ فَضْلٌ كَثِيرٌ. اهـ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِمَا بُيِّنَ أَنَّ جَمْعَ الْمَالِ مُبَاحٌ لَهُمْ ذُكِرَ أَنَّ صَرْفَهُ إِلَى مَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا خَيْرٌ وَأَبْقَى فَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى كَرَاهِيَةِ جَمْعِ الْمَالِ، وَلِذَا قَالَ: الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَيَجْمَعُهَا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا الْمُرَادُ بِالْكَنْزِ الْمَذْمُومِ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ وَإِنْ لَمْ تَدْفِنْ، فَإِنْ أَدَّيْتَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ دُفِنَ، لِمَا فِي حَدِيثٍ سَنَدُهُ حَسَنٌ: «مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ: أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى الْكَنْزِ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَّا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ إِنَّ الْكَنْزَ فِي الْآيَةِ مَا لَمْ يُنْفَقْ مِنْهُ فِي الْغَزْوِ، وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ إِنَّهُ الدَّفْنُ فَهُوَ غَلَطٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَمْ يَعْتَرِضْهُ الْمُنْذِرِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ.

1782 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «سَيَأْتِيكُمْ رُكَيْبٌ مُبَغَّضُونَ، فَإِذَا جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ، وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهِمْ، وَأَرْضُوهُمْ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ، وَلْيَدْعُوا لَكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1782 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيَأْتِيكُمْ رُكَيْبٌ) تَصْغِيرُ رَكْبٍ وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لِلرَّاكِبِ، فَلِذَا صُغِّرَ عَلَى لَفْظِهِ، وَلَوْ كَانَ جَمْعًا لِرَاكِبٍ كَمَا قِيلَ لِقِيلَ: رُوَيْكِبُونَ أَيْ سُعَاةٌ وَعُمَّالٌ لِلزَّكَاةِ (مُبَغَّضُونَ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ يُبْغَضُونَ طَبْعًا لَا شَرْعًا، لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَحْبُوبَ قُلُوبِهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْعُمَّالِ سَيْءَ الْخُلُقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ (فَإِذَا جَاءُوكَهُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ) أَيْ قُولُوا لَهُمْ مَرْحَبًا وَأَهْلًا وَسَهْلًا، وَأَظْهِرُوا الْفَرَحَ بِقُدُومِهِمْ، وَعَظِّمُوهُمْ (وَخَلُّوا) أَيِ اتْرُكُوا (بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ) أَيْ مَا يَطْلُبُونَ مِنَ الزَّكَاةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَا تَمْنَعُوهُمْ وَإِنْ ظَلَمُوكُمْ، لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ مُخَالَفَةُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ مِنْ جِهَتِهِ، وَمُخَالَفَةُ السُّلْطَانِ تُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ. اهـ، وَهُوَ كَلَامُ الْمُظْهِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَمَّ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُخَالَفَةَ لَجَازَ الْكِتْمَانُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجُزْ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ؟ قَالَ: " لَا " (فَإِنْ عَدَلُوا) أَيْ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ (فَلِأَنْفُسِهِمْ) أَيْ فَلَهُمُ الثَّوَابُ (وَإِنْ ظَلَمُوا) بِأَخْذِ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْكُمْ أَوْ أَفْضَلَ أَيْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ أَوْ عَلَى زَعْمِكُمْ (فَعَلَيْهِمْ) وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَعَلَيْهَا، أَيْ فَعَلَى أَنْفُسِهِمْ إِثْمُ ذَلِكَ الظُّلْمِ، وَلَكُمُ الثَّوَابُ بِتَحَمُّلِ ظُلْمِهِمْ (وَأَرْضُوهُمْ) أَيِ اجْتَهِدُوا فِي إِرْضَائِهِمْ مَا أَمْكَنَ بِأَنْ تُعْطُوهُمُ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ وَلَا غِشٍّ وَلَا خِيَانَةٍ (فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ) أَيْ كَمَالَهَا (رِضَاهُمْ) بِالْقَصْرِ وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ حُصُولُ رِضَاهُمْ (وَلْيَدْعُوا) بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا (لَكُمْ) وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ لِقَابِضِ الزَّكَاةِ سَاعِيًا أَوْ مُسْتَحِقًّا أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُزَكِّي، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الْمَفْتُوحَةُ لِلتَّعْلِيلِ، وَالتَّقْدِيرُ أَرْضُوهُمْ لِتَتِمَّ زَكَاتُكُمْ وَلْيَدْعُوا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِرْضَاءَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الدُّعَاءِ، وَوُصُولِ الْقَبُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ " مُبَغَّضُونَ " أَوْجَهُ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ " سَيَأْتِيكُمْ " إِلَخْ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ عُمَّالُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَنْصُرُهُ شَكْوَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَعْمِلُ ظَالِمًا، فَالْمَوْتُ أَنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ عُمَّالٌ يَطْلُبُونَ مِنْكُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، فَتُبَغِّضُونَهُمْ وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، وَلَيْسُوا بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ " وَإِنْ عَدَلُوا "، " وَإِنْ ظَلَمُوا " مَبْنَيٌّ عَلَى هَذَا الزَّعْمِ، وَلَوْ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي الْحَقِيقَةِ كَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ " وَيَدْعُوا لَكُمْ " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: ثِقَةٌ.

1783 - وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَ نَاسٌ - يَعْنِي مِنَ الْأَعْرَابِ - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُصَدِّقِينَ يَأْتُونَا فَيَظْلِمُونَا، فَقَالَ: " أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ ظَلَمُونَا؟ قَالَ: " أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ، وَإِنْ ظُلِمْتُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1783 - (وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ - يَعْنِي مِنَ الْأَعْرَابِ -) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي عَنْ جَرِيرٍ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَكَسْرِ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ عَامِلُ الزَّكَاةِ (يَأْتُونَا فَيَظْلِمُونَا) بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا فِيهِمَا (فَقَالَ: أَرْضُوا) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ (مُصَدِّقِيكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ ظَلَمُونَا) أَيْ نُرْضِيهِمْ وَلَوْ كَانُوا ظَالِمِينَ عَلَيْنَا (قَالَ: أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ وَإِنْ ظُلِمْتُمْ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ وَإِنِ اعْتَقَدْتُمْ أَنَّكُمْ مَظْلُومُونَ بِسَبَبِ حُبِّكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَظْلُومِينَ حَقِيقَةً يَجِبُ إِرْضَاؤُهُمْ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِرْضَاؤُهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَظْلُومِينَ حَقِيقَةً، لِقَوْلِهِ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِهِمْ رِضَاؤُهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ لَفْظَةَ إِنِ الشُّرْطِيَّةِ هُنَا تَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ.

1784 - «وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَّةِ قَالَ: قُلْنَا أَنَّ أَهْلَ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ؟ قَالَ: " لَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1784 - (وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيِّةِ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ بَشِيرُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَقِيلَ: بَشِيرُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَصَاصِيَّةِ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَقِيلَ: مَنْسُوبَةٌ إِلَى خَصَاصَ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَنْ أَزْدٍ (قَالَ: قُلْنَا إِنَّ أَهْلَ الصَّدَقَةِ) أَيْ أَهْلَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْعُمَّالِ (يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا) أَيْ يَظْلِمُونَ وَيَتَجَاوَزُونَ وَيَأْخُذُونَ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْنَا (أَفَنَكْتُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ؟ قَالَ: لَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ كِتْمَانَ بَعْضِ الْمَالِ خِيَانَةٌ، وَمَكْرٌ; وَلِأَنَّهُ لَوْ رَخَّصَ لَرُبَّمَا كَتَمَ بَعْضُهُمْ عَلَى عَامِلٍ غَيْرِ ظَالِمٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1785 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ كَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1785 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ) مُتَعَلِّقٌ بِالْعَامِلِ أَيْ عَمَلًا بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ، أَوْ بِالْإِخْلَاصِ وَالِاحْتِسَابِ (كَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ فِي تَحْصِيلِ بَيْتِ الْمَالِ، وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ فِي تَمْشِيَةِ أَمْرِ الدَّارَيْنِ (حَتَّى يَرْجِعَ) أَيِ الْعَامِلُ (إِلَى بَيْتِهِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

1786 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1786 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) قِيلَ: إِنْ أَرَادَ جَدُّهُ مُحَمَّدًا فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ أَرَادَ جَدَّ شُعَيْبٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ فَشُعَيْبٌ لَمْ يُدْرِكْ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يُذْكَرْ حَدِيثُهُ فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، لِأَنَّهُ يَرْوِيهِ هَكَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقِيلَ: إِنَّ شُعَيْبًا أَدْرَكَ جَدَّهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ أَيْضًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَنْ جَدِّهِ أَيْ جَدِّ أَبِيهِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ، أَوْ جَدِّ عَمْرٍو فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا، وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ الْأَوَّلُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ، الَّذِي يُفِيدُ الِاتِّصَالَ، وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ أَنَّ حَدِيثَهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالِانْقِطَاعِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا جَلَبَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ لَا يَقْرَبُ الْعَامِلُ أَمْوَالَ النَّاسِ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ يَنْزِلَ السَّاعِي مَحَلًّا بَعِيدًا عَنِ الْمَاشِيَةِ، ثُمَّ يَحْضُرُهَا، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى مِيَاهِهِمْ أَوْ أَمْكِنَةِ مَوَاشِيهِمْ لِسُهُولَةِ الْأَخْذِ حِينَئِذٍ، وَيُطْلَقُ الْجَلَبُ أَيْضًا عَلَى حَثِّ فَرَسِ السِّبَاقِ عَلَى قُوَّةِ الْجَرْيِ - بِمَزِيدِ الصِّيَاحِ عَلَيْهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِضْرَارِ الْفَرَسِ (وَلَا جَنَبَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ لَا يُبْعِدُ صَاحِبُ الْمَالِ الْمَالَ بِحَيْثُ تَكُونُ مَشَقَّةٌ عَلَى الْعَامِلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَا يَنْزِلُ السَّاعِي بِأَقْصَى مَحَالِّ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِالْأَمْوَالِ أَنْ تُجَنَّبَ إِلَيْهِ أَيْ تُحْضَرَ. اهـ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَلَبِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَا يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ أَغْرَبَ حَيْثُ ذَكَرَ

هَذَا الْمَعْنَى أَوَّلًا مُؤَدِّيًا بِقِيلَ تَبَعًا لِلطِّيبِيَّ، ثُمَّ قَالَ: وَوَجْهُ النَّهْىِ عَنْ هَذَا وَاضِحٌ أَيْضًا، فَلَعَلَّ تَضْعِيفُهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لَا غَيْرَ. اهـ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ أَيْضًا أَنْسَبُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى السِّبَاقِ بِأَنْ يُجَنِّبَ فَرَسًا إِلَى الْفَرَسِ الَّذِي سَابَقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَتَرَ الْمَرْكُوبُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَجْنُوبِ، قِيلَ: وَكَانَ وَجْهُ النَّهْيِ عَنْهُ أَنَّ السِّبَاقَ بِمَا هُوَ لِبَيَانِ اخْتِبَارِ قُوَّةِ الْفَرَسِ، وَبِهَذَا الْفِعْلِ لَا يُعْرَفُ قُوَّةُ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرَسَيْنِ، فَرُبَّ فَرَسٍ تَوَانَى أَوَّلًا فِي الْإِثْنَاءِ ثُمَّ سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ مُشْتَرِكٌ فِي مَعْنَى السِّبَاقِ وَالزَّكَاةِ، وَالْقَرِينَةُ الْمُوَضِّحَةُ لِأَدَاءِ الْمَعْنَى الثَّانِي قَوْلُهُ (وَلَا تُؤْخَذُ) بِالتَّأْنِيثِ وَتُذَكَّرُ (صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ) أَيْ مَنَازِلِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ وَمِيَاهِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ لِأَنَّهُ كَنَّى بِهَا عَنْهُ فَإِنَّ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فِي دَوْرِهِمْ لَازِمٌ لِعَدَمِ بُعْدِ السَّاعِي عَنْهَا فَيُجْلَبُ إِلَيْهِ، وَلِعَدَمِ بُعْدِ الْمُزَكِّي فَإِنَّهُ إِذَا بَعُدَ عَنْهَا لَمْ يُؤْخَذْ فِيهَا. اهـ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ مُؤَكِّدٌ لِأَوَّلِهِ، أَوْ إِجْمَالٌ لِتَفْصِيلِهِ، لَكِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرِّرَةَ أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، تُفِيدُ أَنَّ النَّفْيَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ سَابِقٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، ثُمَّ الْجَامِعُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُنَاسَبَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَهِيَ عَدَمُ الضَّرَرِ وَالْإِضْرَارِ مِنَ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَسْرَارِ النَّبَوِيَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1787 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُمْ وَقَفُوهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1787 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا) أَيْ وَجَدَهُ وَحَصَّلَهُ وَاكْتَسَبَهُ ابْتِدَاءً (فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي مَنْ وَجَدَ مَالًا وَعِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَمَانُونَ شَاةً وَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ حَصَلَ لَهُ أَحَدٌ وَأَرْبَعُونَ شَاةً بِالشِّرَاءِ أَوْ بِالْإِرْثِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْأَحَدِ وَالْأَرْبَعِينَ حَتَّى يَتَمَّ حَوْلُهَا مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، أَوِ الْإِرْثِ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْمَالِ الْمَوْجُودِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يَكُونُ الْمُسْتَفَادُ تَبَعًا لَهُ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الثَّمَانِينَ وَجَبَ الشَّاتَانِ، يَعْنِي كَمَا فِي الْكُلِّ، كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ النِّتَاجُ تَبَعًا لِلْإِمْهَاتِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ) أَيْ سَمَّى التِّرْمِذِيُّ (جَمَاعَةٌ) أَيْ بِأَسْمَائِهِمْ (أَنَّهُمْ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْ ذَكَرَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ عَدَدُهُمْ (وَقَفُوهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ (عَلَى ابْنِ عُمَرَ) أَيْ لَمْ يَرْفَعْهُ ابْنُ عُمَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْمَتْنِ، كَمَا وَقَفَهُ وَقَالَ: مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا إِلَخْ، وَفِي الْمَصَابِيحِ الْوَقْفُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ، قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ أَبِي عُمَرَ مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا إِلَخْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَرُوِيَ مَوْقُوفًا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ الْمَدِينِي، وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ كَثِيرُ الْغَلَطِ، هَكَذَا عِبَارَةُ التِّرْمِذِيِّ، وَالَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الْمُصَنِّفَ لَيْسَ فِيهِ، تَأَمَّلْ. اهـ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَقَفُوهُ: لَكِنَّ الْقَاعِدَةَ الْحَدِيثَةَ الْأُصُولِيَّةَ أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ رَفَعَ ; لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ تُقَوِّي مِنْ وَصْلِهِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لَهُ فَمَحَلُّهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقَانِ صَحِيحَيْنِ، أَوْ حَسَنَيْنِ، وَالْحَدِيثُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِذَا اعْتَمَدَهُ الْأَئِمَّةُ وَجَعَلُوا الدَّلِيلَ لِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْحَوْلَ فِيمَا ذُكِرَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَمَتَى خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ عَادَ فَوْرًا بِطَلَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلًا آخَرَ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَتَأَمَّلْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» "، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» "، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ " فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ ": فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ، فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ فَبِحِسَابٍ أَوْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَالْحَارِثُ وَإِنْ كَانَ مُضَعَّفًا لَكِنَّ عَاصِمَ ثِقَةٌ وَقَدْ رَوَى الثِّقَةُ أَنَّهُ رَفَعَهُ مَعَهُ فَوَجَبَ قَبُولُ رَفْعِهِ وَرُدَّ تَصْحِيحُ وَقَفْهِ، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضُمُّ الْمُسْتَفَادُ، بَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَوْلٌ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ زَكَّاهُ سَوَاءً كَانَ نِصَابًا أَوْ أَقَلَّ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ جِنْسِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنِ اسْتَفَادَ ": الْحَدِيثَ

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» "، بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ، وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الْأَصْلِ نَفْسِهِ، فَيَنْسَحِبُ حَوْلُهُ عَلَيْهَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، قُلْنَا: لَوْ قُدِّرَ تَسْلِيمُ ثُبُوتِهِ فَعُمُومُهُ لَيْسَ مُرَادًا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى خُرُوجِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ، وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ مِمَّا يُعَلَّلُ، وَيَخْرُجُ بِالتَّعْلِيلِ ثَانِيًا، فَعِلَلُنَا بِالْمُجَانَسَةِ، فَقُلْنَا: إِخْرَاجُ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ مِنْ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ ضَمِّهَا إِلَى حَوْلِ الْأَصْلِ لِمُجَانَسَتِهَا إِيَّاهُ، لَا لِلتَّوَلُّدِ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ الْمُسْتَفَادُ إِذَا كَانَ مُجَانِسًا أَيْضًا، فَيُضَمُّ إِلَى مَا عِنْدَهُ بِمَا يُجَانِسُهُ، فَكَانَ اعْتِبَارُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِهِ فِي أَصْحَابِ الْغَلَّةِ الَّذِينَ يَسْتَغِلُّونَ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّ فِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ مِنْ دِرْهَمٍ وَنَحْوِهُ حَرَجًا عَظِيمًا، وَشُرِعَ الْحَوْلُ لِلتَّيْسِيرِ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ، وَعَلَى هَذِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ اللَّامِ فِي الْحَوْلِ لِلْحَوْلِ الْمَعْهُودِ قِيَامُهُ لِلْأَصْلِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ، بَلْ يَكُونُ لِلْمَعْهُودِ كَوْنُهُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمُسْتَفَادَ ابْتِدَاءً، وَهُوَ النِّصَابُ الْأَصْلِيُّ، أَعْنِي أَوَّلَ مَا اسْتَفَادَهُ، وَغَيْرَهُ، وَالتَّخْصِيصُ وَقَعَ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُجَانِسُ، وَبَقِيَ تَحْتَ الْعُمُومِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَمْ يُجَانِسْ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْأَصْلِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْحَوْلُ مُرَادٌ بِهِ الْمَعْهُودُ الْمُقَدَّرُ.

1788 - وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1788 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ حَالًا بِمُضِيِّ الْحَوْلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ حَوْلُهَا فَهُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى لَا تَحْقِيقُ الْمَبْنَى (فَرَخَّصَ لَهُ) أَيِ الْعَبَّاسِ (فِي ذَلِكَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ بَعْدَ حُصُولِ النِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ. اهـ، وَكَذَا عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الْفِطْرَةِ بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ اتِّفَاقًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ، وَلَا قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّ مَالَهُ سَبَبَانِ يُقَدَّمُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا عَلَيْهِمَا، وَزَكَاةُ الْمَالِ لَهَا سَبَبَانِ: مِلْكُ النِّصَابِ، وَتَمَامُ الْحَوْلِ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ لَهَا سَبَبَانِ: دُخُولُ رَمَضَانَ، وَإِدْرَاكُ جُزْءٍ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةِ الْعِيدِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ، هُوَ يَقُولُ الزَّكَاةُ إِسْقَاطُ الْوَاجِبِ، وَلَا إِسْقَاطَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَصَارَ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ، بِجَمْعِ أَنَّهُ أَدَاءٌ قَبْلَ السَّبَبِ، إِذِ السَّبَبُ هُوَ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ، وَلَمْ يُوجَدْ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ اعْتِبَارَ الزَّائِدِ عَلَى مُجَرَّدِ النِّصَابِ جُزْءٌ مِنَ السَّبَبِ، بَلْ هُوَ النِّصَابُ فَقَطْ، وَالْحَوْلُ تَأْجِيلٌ فِي الْأَدَاءِ بَعْدَ أَصْلِ الْوُجُوبِ، فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَتَعْجِيلُ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ، فَالْأَدَاءُ بَعْدَ النِّصَابِ كَالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ، وَكَصَوْمِ الْمُسَافِرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ بَعْدَ السَّبَبِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ مَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْجِيلِ زَكَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مُسَارَعَةً إِلَى الْخَيْرِ، فَأَذِنَ لَهُ ذَلِكَ.

1789 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " «أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، لِأَنَّ الْمُثَنَّى بْنَ الصَّبَّاحِ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1789 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ صَارَ وَلِيَّ يَتِيمٍ (لَهُ مَالٌ) أَيْ عَظِيمٌ بِأَنْ يَكُونَ نِصَابًا، وَلَمَّا حَمَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى مُطْلَقِ الْمَالِ قَالَ فِي قَوْلِهِ " حَتَّى تَأْكُلَهُ " أَيْ مُعْظَمَهُ إِذْ مَا دُونَ النِّصَابِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَأْكُلَ الصَّدَقَةُ مِنْهُ شَيْئًا (فَلْيَتَّجِرْ) بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (فِيهِ) أَيْ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَلْيَتَّجِرْ بِهِ كَقَوْلِكَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ لِأَنَّهُ عُدَّةٌ لِلتِّجَارَةِ، فَجَعَلَهُ ظَرْفًا لِلتِّجَارَةِ وَمُسْتَقَرِّهَا، وَفَائِدَةُ جَعْلِ الْمَالِ مَقَرًّا لِلتِّجَارَةِ أَنْ لَا يُنْفِقَ مِنْ أَصْلِهِ، بَلْ يُخْرِجُ النَّفَقَةَ مِنَ الرِّبْحِ، وَإِلَيْهِ يُنْظَرُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وَإِلَى قَوْلِهِ {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] (وَلَا بِتَرْكِهِ) بِالنَّهْيِ وَقِيلَ: بِالنَّفْيِ (حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ) أَيْ تُنْقِصَهُ وَتُفْنِيَهِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ سَبَبُ الْإِفْنَاءِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْهُ فَيَنْقُصَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا زَكَاةَ فِيهِ. اهـ، وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ لِأَنَّ الْمُثَنَّى) عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ (ابْنُ الصَّبَّاحِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (ضَعِيفٌ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ:

لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ تَدْلِيسًا وَتَعْمِيَةً، وَإِبْهَامًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْوِيَ هُوَ عَنْ شُعَيْبٍ، وَشُعَيْبٌ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ جَدِّ شُعَيْبٍ، وَهُوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عِمْرَانَ يَرْوِيهِ عَنْ شُعَيْبٍ، وَهُوَ عَنْ جَدِّهِ، فَلَا يَكُونُ مُتَّصِلًا. اهـ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَرَدَ بِأَنَّ الضَّعِيفَ هُوَ وَصْلُهُ، وَأَمَّا إِرْسَالُهُ فَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ لِلْحَدِيثِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ وَالْأُخَرُ ضَعِيفٌ، لِيَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ، بَلْ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ لِاحْتِمَالِ الِاتِّصَالِ وَالْإِرْسَالِ كَوْنُ الرَّاوِي مُدَلِّسًا هَذَا الْحَدِيثَ، لِاحْتِمَالِ الِاتِّصَالِ فِي الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّ عِلَّةَ الضَّعْفِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ لَيْسَتْ إِلَّا كَوْنَ الْمُثَنَّى ضَعِيفًا، وَالْحَدِيثُ مُنْحَصِرٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِلَّا فَالْمُرْسَلُ إِذَا كَانَ صَحِيحًا حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيمَا لَمْ يُعْتَضَدْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدِ اعْتَضَدَ بِعُمُومِ الْخَبَرَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ: خَبَرِ " يَأْخُذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ "، وَخَبَرِ " فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ " فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَامَّةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِاجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَضَعِيفٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا يُرْوَى الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، لِأَنَّ الْمُثَنَّى يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّلْقِيحِ: قَالَ مُهَنَّى سَأَلَتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقَانِ آخَرَانِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ بِاعْتِرَافِهِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنَ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يَسْتَلْزِمُ قَوْلَهُ عَنْ سَمَاعٍ، إِذْ يُمْكِنُ الرَّأْيُ فِيهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَيْهِ، فَحَاصِلُهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ عَنِ اجْتِهَادٍ، عَارَضَهُ رَأْيُ صَحَابِيٍّ آخَرَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَنَا أَبُو حَنِيفَةَ حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ زَكَاةٌ، وَلَيْثٌ كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ، وَقِيلَ: اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَكُنْ لِيَذْهَبَ فَيَأْخُذَ عَنْهُ حَالَ اخْتِلَاطِهِ، وَيَرْوِيهِ، وَهُوَ الَّذِي شَدَّدَ أَمْرَ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُشَدِّدْهُ غَيْرُهُ، عَلَى مَا عُرِفَ، وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، مَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. اهـ، مُلَخَّصُهَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1790 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَأَبَى بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ "؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1790 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ مَاتَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْ جُعِلَ خَلِيفَةً (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ وَفَاتِهِ (وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ) إِمَّا تَغْلِيظٌ أَوْ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَإِنْكَارُ وُجُوبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كُفْرٌ اتِّفَاقًا ; بَلْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ إِنْكَارَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ كَفْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا أَوِ الْمَعْنَى قَارَبُوا الْكُفْرَ أَوْ شَابَهُوا الْكُفَّارَ، أَوْ أَرَادَ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ (مِنَ الْعَرَبِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ غَطَفَانَ وَفَزَارَةَ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَغَيْرَهَمْ، مَنَعُوا الزَّكَاةَ فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَاعْتَرَضَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ الْآتِي، وَأَبُو بَكْرٍ جَعَلَهُمْ كُفَّارًا لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ، أَوْ أَتَوْا بِشُبْهَةٍ فِي الْمَنْعِ، فَيَكُونُ تَغْلِيظًا، وَعُمَرُ أَجْرَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ. اهـ، وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي مَا رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّي زَكَاتَنَا لِمَنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ سَكَنًا لَنَا، وَالْآنَ قَدْ ذَهَبَ بِوَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا نُؤَدِّيهَا لِغَيْرِهِ، أَيْ لَمَّا أَنْ عَزَمَ عَلَى قِتَالِهِمْ (قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَأَبَى بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) كِنَايَةً عَنِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُشْرِكُونَ (فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) يَعْنِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ وَهِيَ لَا اللَّهُ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ وَحْدَهَا (عَصَمَ) بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ حَفِظَ وَمَنَعَ (مِنِّي) أَيْ مِنْ تَعَرُّضِي أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ) أَيْ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ لِمَالِهِ وَنَفْسِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، إِلَّا بِحَقِّهِ أَيْ بِحَقِّ هَذَا الْقَوْلِ أَوْ بِحَقِّ أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ

(وَحِسَابُهُ) أَيْ جَزَاؤُهُ وَمُحَاسَبَتُهُ (عَلَى اللَّهِ) بِأَنَّهُ مُخْلِصٌ أَمْ لَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ نَتْرُكُ مُقَاتَلَتَهُ، وَلَا نُفَتِّشُ بَاطِنَهُ، هَلْ هُوَ مُخْلِصٌ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَحِسَابُهُ عَلَيْهِ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ (بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) أَيِ الْمَقْرُونَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ الْمَوْجُودَتَيْنِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَهَذَا أَظْهَرُ فِي اسْتِدْلَالِ أَبِي بَكْرٍ (فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ) أَيْ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ النَّفْسِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي الْحَقَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ " إِلَّا بِحَقِّهِ " أَعَمَّ مِنَ الْمَالِ، وَغَيْرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّ عُمَرَ حَمَلَ قَوْلَهُ بِحَقِّهِ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ صَحَّ اسْتِدْلَالُهُ بِالْحَدِيثِ، فَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ شَامِلٌ لِلزَّكَاةِ أَيْضًا، أَوْ تَوَهَّمَ عُمَرُ أَنَّ الْقِتَالَ لِلْكُفْرِ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ لَا لِلْكُفْرِ اهـ، وَلَا مُسْتَدَلَّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ بِأَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ فَإِنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِتَالِ لِقَوْمٍ تَرَكُوا شِعَارَ الْإِسْلَامِ بِتَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدًا مِنْ أَصْحَابِنَا جَوَّزَ الْقِتَالَ لِقَوْمٍ تَرَكُوا الْأَذَانَ فَضْلًا عَنِ الْأَرْكَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الْآيَةَ يُوجِبُ حَقَّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا لِلْإِمَامِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ وَظَهَرَ تَغَيُّرُ النَّاسِ كَرِهَ أَنْ يُفَتِّشَ السُّعَاةُ عَلَى النَّاسِ مَسْتُورَ أَمْوَالِهِمْ فَفَوَّضَ الدَّفْعَ إِلَى الْمُلَّاكِ نِيَابَةً عَنْهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ طَلَبَ الْإِمَامِ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهُمْ طَالَبَهُمْ بِهَا (وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي) أَيْ بِالْمَنْعَةِ وَالْغَلَبَةِ (عَنَاقًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيِ الْأُنْثَى لَمْ تَبْلُغْ سِتَّةً مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ، وَذَكَرَهَا مُبَالَغَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي رِوَايَةٍ: عَقَالًا، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَصَحُّهَا وَأَقْوَاهَا قَوْلُ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ أَنَّهُ وَرَدَ مُبَالَغَةً، لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ، فَيَقْتَضِي قِلَّةً وَحَقَارَةً، فَانْدَفَعَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ قَوْلِهِ: وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا فِي الصِّغَارِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، فَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ مَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ «عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: أَتَانِي مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَيْتُهُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِيَّ، يَعْنِي كِتَابِي أَنْ لَا آخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ» . . الْحَدِيثَ، قَالَ: وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ لَا يُعَارِضُهُ لِأَنَّ أَخْذَ الْعَنَاقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ مِنَ الصِّغَارِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ " فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ " أَنَّ الْعَنَاقَ يُقَالُ عَلَى الْجَزِعَةِ وَالثَّنِيَّةِ، وَلَوْ مَجَازًا، فَارْجِعْ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ، وَلَوْ سَلِمَ جَازَ أَخْذُهَا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ لَا أَنَّهَا هِيَ نَفْسُ الْوَاجِبِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، أَوْ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ لَا التَّحْقِيقِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عِقَالًا مَكَانَ عَنَاقًا (كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا) أَيْ عَلَى تَرْكِ مَنْعِهَا أَوْ لِأَجْلِ مَنْعِهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ أَصْلًا عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ أَخْذًا مِنَ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ مَانِعِيهَا قَهْرًا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا هُوَ فِي قِتَالِ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ لِإِنْكَارِهَا أَوْ شُبْهَةٍ فِي وُجُوبِهَا، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، وَأَمَّا مَنِ انْقَادَ إِلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا فَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ فِي فِعْلِهَا، وَتَرْكِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي الْمَقْهُورِ (قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ) أَيِ الشَّأْنُ (إِلَّا رَأَيْتُ) أَيْ عَلِمْتُ (أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ) وَفَتَحَ قَلْبَهُ بِالْإِلْهَامِ غَيْرَةً عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ) أَيْ رَأَى أَبَا بَكْرٍ أَوِ الْقِتَالَ (هُوَ الْحَقُّ) وَهَذَا إِنْصَافٌ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِهِ، مَعَ أَنَّهُ مَظْهَرُ نُطْقِ الْحَقِّ، وَمَنْبَعُ عَيْنِ الصِّدْقِ، وَهَذَا يُظْهِرُ كَمَالَ الصِّدِّيقِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَارُوقِ، حَيْثُ سَلَكَ الصِّدِّيقُ طَرِيقَ التَّدْقِيقِ وَسَبِيلَ التَّحْقِيقِ، عَلَى وَفْقِ التَّوْفِيقِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عُلِمَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ مُحِقٌّ، فَهَذَا الضَّمِيرُ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1791 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ أَصَابِعَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1791 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ) وَهُوَ الْمَالُ الْمَكْنُوزُ أَيِ الْمَجْمُوعُ، أَوِ الْمَدْفُونُ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَالٍ حَرَامٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا) أَيْ يَصِيرُ حَيَّةً وَيَنْقَلِبُ وَيَتَصَوَّرُ، أَوْ يَكُونُ جَزَاؤُهُ شُجَاعًا (أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ) أَيْ صَاحِبُ الْكَنْزِ أَوْ صَاحِبُ الشُّجَاعِ وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ (وَهُوَ) أَيِ الشُّجَاعُ (يُطَالِبُهُ) وَلَا يَتْرُكُهُ (حَتَّى يُلْقِمَهُ) مِنَ الْإِلْقَامِ (أَصَابِعَهُ) لِأَنَّ الْمَانِعَ الْكَانِزُ يَكْتَسِبُ الْمَالَ بِيَدَيْهِ، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَهُوَ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَلْقُمَ الشُّجَاعُ أَصَابِعَ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَصَابِعُهُ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ، وَثَانِيهِمَا أَنْ يُلْقِمَ صَاحِبُ الْمَالِ الشُّجَاعَ أَصَابِعَ نَفْسِهِ أَيْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ لُقْمَةَ الشُّجَاعِ، تَأَمَّلْ. اهـ، وَلَعَلَّ وَجْهُ التَّأَمُّلِ مَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ بَقِيَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ: ذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّجَاعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ أَيْ شِدْقَيْهِ، وَخَصَّ هُنَا بِإِلْقَامِ الْأَصَابِعَ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الْمَانِعَ يَكْتَسِبُ الْمَالَ بِيَدَيْهِ، وَيَفْتَخِرُ بِشِدْقَيْهِ، فَخُصَّا بِالذِّكْرِ. اهـ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: كُلٌّ يُعَذَّبُ بِمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَانَعَ الزَّكَاةِ يُعَذَّبُ بِجَمِيعِ مَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ، فَيَكُونُ مَالُهُ تَارَةً يُجْعَلُ صَفَائِحَ، وَتَارَةً يُصَوَّرُ شُجَاعًا أَقْرَعَ يُطَوِّقُهُ، وَتَارَةً يَتْبَعُهُ وَيَفِرُّ مِنْهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ أَصَابِعَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1792 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِهِ شُجَاعًا "، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180] » الْآيَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1792 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِهِ شُجَاعًا، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا مِصْدَاقَهُ) أَيْ مَا يُصَدِّقُهُ وَيُوَافِقُهُ (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ مِصْدَاقِهِ، أَوْ مِنْ بَيَانٍ لَهُ، وَمَا بَعْدَهُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنَ الْكُلِّ، وَأَمَّا جَعْلُ ابْنِ حَجَرٍ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، كَمَا لَا يَخْفَى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180] الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، وَفِيهَا {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.

1793 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا خَالَطَتِ الزَّكَاةُ مَالًا قَطُّ إِلَّا أَهْلَكَتْهُ» ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَزَادَ: قَالَ: يَكُونُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ صَدَقَةٌ فَلَا تُخْرِجْهَا فَيُهْلِكُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى تَعْلِيقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ هَكَذَا فِي الْمُنْتَقَى، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي خَالَطَتْ. . تَفْسِيرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ غَنِيٌّ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْفُقَرَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1793 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا خَالَطَتِ الزَّكَاةُ مَالًا قَطُّ) أَيْ بِأَنْ يَكُونَ صَاحِبُ مَالٍ مِنَ النِّصَابِ فَيَأْخُذُ الزَّكَاةَ، أَوْ بِأَنْ لَمْ يُخْرِجْ مِنْ مَالِهِ الزَّكَاةَ (إِلَّا أَهْلَكَتْهُ) أَيْ نَقَصَتْهُ أَوْ أَفْنَتْهُ، أَوْ قَطَعَتْ بَرَكَتَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ مَحَقَتْهُ، أَوِ اسْتَأْصَلَتْهُ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ كَانَتْ حِصْنًا لَهُ، أَوْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ كَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ، لِأَنَّ الْحَرَامَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ شَرْعًا (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحُمَيْدِيُّ وَزَادَ) أَيِ الْحُمَيْدِيُّ (قَالَ) أَيِ الْبُخَارِيُّ: أَوْ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ (يَكُونُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ صَدَقَةٌ فَلَا تُخْرِجُهَا فَيُهْلِكُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ) فَكَأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ وَاخْتَلَطَتْ (وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ) أَيْ لَا بِالذِّمَّةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مَعَ احْتِمَالِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فِي مُخَالَطَةِ الْمَالِ، وَالْحَلَالُ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِذَا أَمْكَنَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَإِرَادَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُمْتَنَعِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَى الْمُخَالَطَةِ، فَإِنَّهَا مَعْنًى وَمَبْنًى تَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ مُتَمَايِزَيْنِ، يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَأَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهَا بِإِهْلَاكِ الْحَرَامِ الْحَلَالَ؟ قُلْتُ: لَمَّا جَعَلَ الزَّكَاةَ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ لَا بِالذِّمَّةِ جَعَلَ قَدْرَ الزَّكَاةِ الْمُخْرَجِ مِنَ

النِّصَابِ مُعَيَّنًا، وَمُشَخَّصًا، فَيَسْتَقِيمُ الْخَلْطُ بِمَا بَقِيَ مِنَ النِّصَابِ، قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ مَعَ مُصَادَرَتِهِ الْمُسْتَلْزَمَةِ لِلدَّوْرِ الْحَاصِلِ مِنْهُ التَّكَلُّفُ النَّاشِئُ عَنِ الِاضْطِرَابِ لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْبَصَائِرِ وَأُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (هَكَذَا فِي الْمُنْتَقَى) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ قَدِ احْتَجَّ (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ (عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي خَالَطَتْ) أَيْ فِي لَفْظِ خَالَطَتْ الْوَاقِعِ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ (تَفْسِيرُهُ) أَيْ مَعْنَاهُ أَوْ تَأْوِيلُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مَقُولُ قَوْلِ أَحْمَدَ (إِنَّ الرَّجُلَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ غَنِيٌّ) شَكٌّ لِلرَّاوِي، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَوْ لِلتَّنْوِيعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغِنَى أَخَصُّ مِنَ الْيَسَارِ. اهـ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَدَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ (وَإِنَّمَا هِيَ) أَيِ الزَّكَاةُ (لِلْفُقَرَاءِ) أَيْ وَلِأَمْثَالِهِمْ وَغُلِّبُوا لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْبَقِيَّةِ، أَوْ لِكَوْنِ الْفَقْرِ شَرْطًا فِي غَالِبِ بَقِيَّتِهِمْ، وَلِابْنِ حَجَرٍ هُنَا مَبَاحِثُ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا فَأَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهَا.

[باب ما يجب فيه الزكاة]

[بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1794 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخِدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1794 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) جَمْعُ وَسْقٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ السِّينِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْقَامُوسِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَفْصَحُ مِنْ كَسْرِهِ فَغَيْرُ مَشْهُورٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَهِيَ سِتُّونَ صَاعًا، وَكُلُّ صَاعٍ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، وَكُلُّ مُدٍّ رِطْلٌ وَثُلُثُ رِطْلٍ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّ مُدٍّ رِطْلَانِ، وَالرِّطْلُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ الْوَسْقُ حِمْلُ الْبَعِيرِ، كَمَا أَنَّ الْوِقْرَ حِمْلُ الْبَعِيرِ، وَالْبِغَالِ، وَقُدِّرَ بِسِتِّينَ صَاعًا. اهـ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَرَدَ سِتُّونَ صَاعًا فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ ابْنُ حَيَّانَ وَحَسَّنَهُ الْمُنْذِرِيُّ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ قَدْرُ ثَمَانِمِائَةٍ مِنْ كُلٍّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا (مِنَ التَّمْرِ) التَّاءُ الْمُثَنَّاةُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِالْمُثَلَّثَةِ كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (صَدَقَةٌ) قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكَذَا الْحَالُ فِي الزَّبِيبِ وَالْحُبُوبِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجِبُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهَا، مِنَ النَّبَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ بِاعْتِبَارِ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَالثَّانِيَ عَامٌّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ حُجَّةٌ لَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي عَدِّهِ وُجُوبَ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَأَوَّلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ، وَقِيمَةُ الْوَسْقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُهُ لِذَلِكَ بِمَا لَا يُقَاوِمُ هَذَا الْحَدِيثَ بَلْ وَلَا يُقَارِبُهُ فَمَرْدُودٌ بِمَا سَنَذْكُرُهُ (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ أُوقِيَّةٍ بِالْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَالْجَمْعِ، قَدْ يُشَدَّدُ فَيُقَالُ أَوَاقٍ كَبَخَاتِيِّ جَمْعُ بُخْتِيَّةٍ، وَقَدْ يُخَفَّفُ وَيُقَالُ أَوَاقٍ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ أُوقِيَّةُ الْحِجَازِ وَأَهْلِ مَكَّةَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَتِ الْأُوقِيَّةُ قَدِيمًا عِبَارَةً عَنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَهِيَ فِي غَيْرِ الْحَدِيثِ نَصِفُهُ سُدُسُ الرِّطْلِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَالْهَمْزَةُ زَائِدَةٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهِيَ مِنَ الْوِقَايَةِ، لِأَنَّهَا تَقِي صَاحَبَهَا الْحَاجَةَ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَوَاقٍ بِالتَّنْوِينِ وَبِإِثْبَاتِ التَّحْتَانِيَّةِ مُشَدَّدًا وَتَخْفِيفًا جَمْعُ أُوقِيَّةٍ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَحُكِيَ: وَقِيَّةٌ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْوَاوِ. اهـ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَمْزَتُهَا زَائِدَةٌ وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِي حَدِيثٍ وَقِيَّةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَسْقَلَانِيَّ عَبَّرَ عَنْهُ بِحَكْيٍ، ثُمَّ مِقْدَارُ الْوَقِيَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا بِالِاتِّفَاقِ (مِنَ الْوَرِقِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا أَيِ الْفِضَّةِ مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا

(صَدَقَةٌ) وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا الْأَغْلَبُ، وَأَمَّا نِصَابُ الذَّهَبِ فَعِشْرُونَ مِثْقَالَا، وَلَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَهَا (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ) رُوِيَ بِالْإِضَافَةِ، وَرُوِيَ بِتَنْوِينِ خَمْسٍ فَيَكُونُ ذَوْدٌ بَدَلًا عَنْهَا، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ هِيَ الْأُولَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ خَمْسُ إِبِلٍ مِنَ الذَّوْدِ، لَا خَمْسُ أَذْوَادٍ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لِابْنِ الْمَلَكِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الذَّوْدُ مِنَ الْإِبِلِ قِيلَ: مَا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى التِّسْعِ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْعَشْرَةِ، وَاللَّفْظُ مُؤَنَّثٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، قَالَ ابْنُ هَمَّامٍ: وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْوَاحِدِ عَلَى نَظِيرِ اسْتِعْمَالِ الرَّهْطِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] اهـ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الذَّوْدُ مِنَ الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِمَا، قِيلَ: إِنَّ إِضَافَةَ الْخَمْسِ إِلَى الذَّوْدِ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُضَافَ إِلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، وَقِيلَ: رُوِيَ خَمْسٌ مُنَوَّنًا فَيَكُونُ ذَوْدٌ بَدَلًا عَنْهُ، وَمِنَ الْإِبِلِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِذَوْدٍ، بِخِلَافِ الْوَرِقِ، وَمِنَ التَّمْرِ، فَإِنَّهُمَا مُمَيَّزَتَانِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَمُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ: " «لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوْسُقٍ» "، ثُمَّ أَعَادَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ تَمْرٍ ثَمْرٌ بِالْمُثَلَّثَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ بِالْمُثَنَّاةِ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِيهِ: وَالْوَسْقُ سِتُّونَ مَخْتُومًا، وَابْنُ مَاجَهْ: وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، وَلَأَبَى حَنِيفَةَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِيمَا سَقَتِ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» " وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّازِقِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: فِيمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ الْعُشْرُ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَارُضٌ عَامٌّ، أَوْ يَقُولُ يَتَعَارَضَانِ، وَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ إِنْ لَمْ يُعْرَفُ التَّارِيخُ، وَإِنْ عُرِفَ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ كَقَوْلِنَا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ بِمُوجَبِ هَذَا الْعَامِّ هُنَا، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ مَعَ حَدِيثِ الْأَوْسَاقِ فِي الْإِيجَابِ فِيمَا دُونَ الْخَمْسَةِ أَوْسُقٍ كَانَ الْإِيجَابُ أَوْلَى لِلِاحْتِيَاطِ، فَمَنْ تَمَّ لَهُ الْمَطْلُوبُ فِي نَفْسِ الْأَصْلِ الْخِلَافِيِّ تَمَّ لَهُ هُنَا، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْخُرُوجِ عَنِ الْغَرَضِ لَأَظْهَرْنَا صِحَّتَهُ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْبَحْثَ يَتِمُّ عَلَى الصَّاحِبَيْنِ لِالْتِزَامِهِمَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَمْلِ مَرْوِيِّهِمَا عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. اهـ، كَلَامُ الْمُحَقِّقِ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.

1795 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ، وَلَا فِي فَرَسِهِ "، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " لَيْسَ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1795 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ) قَالَ ابْنُ الْحَجَرِ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ شُرُوطَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْمَالِ بِأَنْوَاعِهَا الْإِسْلَامُ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الصِّدِّيقِ فِي كِتَابِهِ الْآتِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَنْ يَقُولُ أَنَّ الْكَافِرَ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَفْهَمَهُ، قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7] وَقَالُوا {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] وَعَلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ) أَيِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُعَدَّا لِلتِّجَارَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهَا، وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي إِنَاثِ الْخَيْلِ دِينَارًا فِي كُلِّ فَرَسٍ، أَوْ يُقَوِّمُهَا صَاحِبُهَا، وَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا حُجَّةٌ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْفَرَسِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا فِي الْخَيْلِ وَالْعَبِيدِ مُطْلَقًا فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِهَا فِي الْفَرَسِ وَالْعَبْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْخِدْمَةِ، وَحُمِلَ الْعَبْدُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ، وَالْفَرَسُ عَلَى فَرَسِ الْغَازِي. اهـ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ قَالُوا: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَهَاهُنَا أَبْحَاثٌ شَرِيفَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ الْهُمَامِ، فَرَاجِعْهُ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ تَحْقِيقَ الْكَلَامِ، قَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ) كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَيْسَ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ» ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَائِيَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: إِلَّا قَوْلُهُ: إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ.

1796 - «وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرِينِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى السِّتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةَ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِيهِ الْحِقَّةُ، وَيُجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةَ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةَ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلَّا بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ وَيُعْطَى شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بَنَتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقُّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بَنْتَ لِبَوْنٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَيُعْطَى مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بَنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَلَا تُخْرَجَ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ، إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَفِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1796 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ) أَيْ لِأَنَسٍ (هَذَا الْكِتَابَ) أَيِ الْمَكْتُوبَ الْآتِي (لَمَّا وَجَّهَهُ) أَيْ حِينِ أَرْسَلَهُ أَبُو بَكْرٍ (إِلَى الْبَحْرِينِ) مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ قُرَيْبَ الْبَصْرَةِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ بَيْنَ بَحْرَيْنِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بَدَلٌ مِنَ الْكِتَابِ، بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ وَاضِحٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ كَتَبَ لَهُ هَذِهِ النُّقُوشَ الَّتِي هِيَ بِسْمِ اللَّهِ إِلَخْ (هَذِهِ) أَيِ الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا النُّقُوشُ اللَّفْظِيَّةُ الْآتِيَةُ (فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ) بِالْإِضَافَةِ أَيْ مَفْرُوضَةُ الصَّدَقَةِ (وَالَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ) أَيْ فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ بِأَمْرِهِ - تَعَالَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَرَضَ أَيْ بَيَّنَ وَفَصَّلَ. اهـ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ إِنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ جُمْلَةً بِمَكَّةَ، وَفُصِّلَتْ بِالْمَدِينَةِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، إِذْ بَعْضُ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ (وَالَّتِي) عَطْفٌ عَلَى الَّتِي، عَطْفُ تَفْسِيرٍ، أَيِ الصَّدَقَةُ الَّتِي (أَمَرَ اللَّهُ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الْأَوَّلِ لَمْ يَنْشَأْ عَنِ الِاجْتِهَادِ بَلْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَدَعُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ الْإِجْمَالِيَّ بِالنَّصِّ، وَتَفْصِيلُ الْأُمُورِ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا، عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَكَانَ الطِّيبِيُّ لَاحَظَ هَذَا الْمَعْنَى وَفَسَّرَ قَوْلَهُ " فَرَضَ " بِقَوْلِهِ بَيَّنَ وَفَصَّلَ، وَغَفَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ فَخَلَطَ بَيْنَ التَّفْسِيرَيْنِ، حَيْثُ قَالَ: أَيْ أَوْجَبَهَا وَبَيَّنَهَا وَفَصَّلَهَا، ثُمَّ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَتَحْرِيرٍ وَتَقْرِيرٍ، فَإِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ وَاجِبَةً بِأَمْرِ اللَّهِ وَمُبَيَّنَةً بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَمَنْ سُئِلَهَا) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ طَلَبَهَا (مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي سُئِلَهَا أَيْ كَائِنَةً عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ بِلَا تَعَدٍّ (فَلْيُعْطِهَا) لِدَلِيلِ قَوْلِهِ (وَمَنْ سُئِلَهَا فَوْقَهَا) أَيْ فَوْقَ حَقِّهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَزْيَدَ مِنْ وَاجِبِهَا كَمِّيَّةً أَوْ كَيْفِيَّةً، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ إِجْمَاعِيَّةً إِجْمَالًا، لَا اجْتِهَادِيَّةً، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ يَقْدُمُ السَّاعِي (فَلَا يُعْطَ) أَيْ شَيْئًا مِنَ الزِّيَادَةِ، أَوْ لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَى السَّاعِي، بَلْ إِلَى الْفُقَرَاءِ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ خَائِنًا فَتَسْقُطُ طَاعَتُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ الْمُزَكِّي فَلَهُ أَنْ يَأْبَاهُ، وَلَا يَتَحَرَّى رِضَاهُ، وَدَلَّ حَدِيثُ جَرِيرٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: " «أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ، وَإِنْ ظُلِمْتُمْ» "، عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُصَدِّقِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ، وَكَأَنَّ نِسْبَةَ الظُّلْمِ إِلَيْهِمْ عَلَى زَعْمِ الْمُزَكِّي أَوْ جَرَيَانٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا عَامٌّ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. اهـ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَالْجَوَازِ أَوِ الْأَوَّلَ إِذَا كَانَ يَخْشَى التُّهْمَةَ وَالْفِتْنَةَ، وَهَذَا عِنْدَ عَدَمِهِمَا، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الدَّفْعِ عَنْ مَالِهِ إِذَا طُولِبَ بِغَيْرِ حَقِّهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ بِنَفْسِهِ دُونَ الْإِمَامِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ وَالْحَاكِمَ إِذَا ظَهَرَ فِسْقُهُمَا بَطَلَ حُكْمُهُمَا. اهـ، وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا إِذَا طُلِبَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِ لَا يُعْطِي الزَّائِدَ بَلْ يُعْطِي الْوَاجِبَ، وَهَذَا مُرِيحٌ فِي بَقَاءِ وِلَايَتِهِمَا، وَإِنْ فُسِّقَا بِطَلَبِ غَيْرِ الْوَاجِبِ (فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ ثُمَّ أَتَى بِهِ بَيَانًا لَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي أَرْبَعٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ لِيُعْطِ أَيِ الْوَاجِبَ أَوِ الْمَفْرُوضَ أَوِ الْمُعْطَى فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ (مِنَ الْإِبِلِ) تَمْيِيزٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: بَدَأَ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ أَمْوَالَهُمْ أَوْ أَنْفُسَهَا (فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ) بَيَانٌ لِلْأُمِّ فِي الْوَاجِبِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِي (مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ) أَيِ الْوَاجِبُ مِنَ الْغَنَمِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ إِبِلًا مَنْ كُلِّ خَمْسِ إِبِلٍ شَاةٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (مِنَ) الْأُولَى ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِشَاةٍ تَوْكِيدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: خِمْسُ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَالثَّانِيَةُ لَغْوٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ لِيُعْطِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ شَاةً، كَائِنَةً مِنَ الْغَنَمِ، لِأَجْلِ كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَقِيلَ: مِنَ الْغَنَمِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الصَّدَقَةُ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ مِنَ الْغَنَمِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُ بَيَانٍ ل

قُدِّمَ الْخَبَرُ لِأَنَّ الْغَرَضَ بَيَانُ الْمَقَادِيرِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ وُجُوبِ النِّصَابِ، فَحَسُنَ التَّقْدِيمُ، كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (فَإِذَا بَلَغَتْ) أَيِ الْإِبِلُ أَوِ الْأَرْبَعُ وَالْعِشْرُونَ (خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ) قِيلَ: هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهَا تَكُونُ حَامِلًا، وَالْمَخَاضُ الْحَوَامِلُ مِنَ النُّوقِ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، بَلْ وَاحِدَتُهَا خِلْفَةٌ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَى الْمَخَاضِ، وَالْوَاحِدَةُ لَا تَكُونُ بِنْتَ نُوقٍ لِأَنَّ أُمَّهَا تَكُونُ فِي نُوقٍ حَوَامِلَ تُجَاوِرُهُنَّ تَضَعُ حَمْلَهَا مَعَهُنَّ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ مِنْ أَنَّ أُمَّهَا صَارَتْ مَخَاضًا أَيْ حَامِلًا بِأُخْرَى فَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَخَاضُ وَجَعُ الْوِلَادَةِ، فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: ذَاتُ مَخَاضٍ، وَإِنَّمَا قَالَ (أُنْثَى) تَوْكِيدًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْبِنْتَ هَاهُنَا، وَالِابْنَ فِي ابْنِ لَبُونٍ كَالْبِنْتِ وَالِابْنِ فِي بِنْتِ طَبَقٍ، وَابْنِ آوَى يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ وَصْفَ الْبِنْتِ بِالْأُنْثَى لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجِنْسُ الشَّامِلُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، كَالْوَلَدِ إِذْ فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ قَدْ يُطْلَقُ الْبِنْتُ وَالِابْنُ وَيُرَادُ بِهِمَا الْجِنْسُ، كَمَا فِي ابْنِ عِرْسٍ وَبِنْتِ طَبَقٍ، وَهِيَ سُلْحِفَاةٌ تَبِيضُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ بَيْضَةً، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ فِيهَا خَمْسَ شِيَاهٍ، وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ يَصِحَّ كَالْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِي ذَلِكَ (فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى) وَهِيَ مَا لَهَا سَنَتَانِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ أُمَّهَا تَكُونُ ذَاتَ لَبَنٍ تُرْضِعُ بِهِ أُخْرَى غَالِبًا (فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، أَيْ مَا لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ (طَرُوقَةُ الْجَمَلِ) بِفَتْحِ الطَّاءِ فَعُولَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مَرْكُوبَةٍ لِلْفَحْلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْفَحْلَ يَعْلُو مِثْلَهَا فِي سِنِّهَا، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ تُرْكَبَ وَتَحْمِلَ، وَيَطْرَقَهَا الْجَمَلُ، قِيلَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الْأَوْقَاصِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ (فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، مَا لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا سَقَطَتْ أَسْنَانُهَا وَالْجَذَعُ السُّقُوطُ، وَقِيلَ: لِتَكَامُلِ أَسْنَانِهَا، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُقَالُ لِلْإِبِلِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ أَجْذَعُ وَجَذَعٌ اسْمٌ لَهُ فِي زَمَنٍ لَيْسَ سِنٌّ يَنْبُتُ، وَلَا يَسْقُطُ، وَالْأُنْثَى جَذَعَةٌ (فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهِ بِنْتَا لَبُونٍ) فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا شَيْءَ فِي الْأَوْقَاصِ (فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ) قَالَ ابْنُ هَمَّامٍ: تَقْدِيرُ النِّصَابِ وَالْوَاجِبِ أَمْرٌ تَوْفِيقِيٌّ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِبِلِ هُوَ الْإِنَاثُ أَوْ قِيمَتُهَا، بِخِلَافِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِيهِمَا الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ) قَالَ الْقَاضِي: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْحِسَابِ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ، يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا زَادَ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ لَمْ تُسْتَأْنَفِ الْفَرِيضَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تُسْتَأْنَفُ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ خَمْسٌ لَزِمَ حِقَّتَانِ وَشَاةٌ، وَهَكَذَا إِلَى بِنْتِ مَخَاضٍ، وَبِنْتِ لَبُونٍ عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ الصَّدَقَةِ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى عَشْرٍ وَمِائَةٍ تُرَدُّ الْفَرَائِضُ إِلَى أَوَّلِهَا، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ كِتَابًا لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الصَّدَقَاتِ وَالدِّيَاتِ وَغَيْرِهَا، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الْإِبِلَ إِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ كُتُبَ الصَّدَقَاتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا كِتَابُ الصِّدِّيقِ، وَمِنْهَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَمِنْهَا كِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي الدِّيَاتِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِلِيهِ، وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الْهُمَامِ الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَقَامِ فَرَاجِعْهُ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ تَمَامَ الْمَرَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كُلُّهَا تَنُصُّ عَلَى وُجُوبِ الشَّاةِ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ، ذَكَرَهَا فِي الْغَايَةِ. اهـ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ لَا تُقَاوِمُ حَدِيثَ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّا نَقُولُ: الْحَدِيثُ إِذَا

تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَصَحَّ وَلَهُ مُسْنَدٌ مِنْهَا يَرْجِعُ عَلَى الْبُخَارِيِّ: لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَعَلَّقَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْبُخَارِيَّ، وَلَا عِبْرَةَ بِالضَّعْفِ النَّاشِئِ بَعْدَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ ( «وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهِ صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا» ) أَيْ مَالِكُهَا وَصَاحِبُهَا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا، فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَقِيلَ مُتَّصِلٌ إِطْلَاقًا لِلصَّدَقَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، تَأْكِيدًا لِمَا قَبْلَهُ كَمَا فُهِمَ مِمَّا سَبَقَ (فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهِ شَاةٌ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الْإِبِلِ) يَتَعَيَّنُ أَنَّ " مِنْ " زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، دَاخِلَةٌ عَلَى الْفَاعِلِ أَيْ وَمَنْ بَلَغَتْ إِبِلُهُ (صَدَقَةَ الْجَذَعَةِ) بِالنَّصْبِ، وَالْإِضَافَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بَلَغَتِ الْإِبِلُ نِصَابًا يَجِبُ فِيهِ الْجَذَعَةُ. اهـ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ صَدَقَةٍ بِتَنْوِينِهَا وَنَصْبِ الْجَذَعَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ (وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا) أَيِ الْقِصَّةُ أَوِ الْحِقَّةُ أَوْ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ (تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ) تَفْسِيرٌ (وَيَجْعَلُ) ضَمِيرُهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ (مَعَهَا) أَيْ مَعَ الْحِقَّةِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ (شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، أَوْ أُنْثَى وَذَكَرٍ مِنَ الضَّأْنِ مَا لَهَا سَنَةٌ، وَمِنَ الْمَعْزِ مَا لَهَا سَنَتَانِ (أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا) جَبْرًا وَعَشْرٌ ضَعِيفٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النُّزُولِ وَالصُّعُودِ مِنَ السِّنِّ الْوَاجِبِ عِنْدَ فَقْدِهِ إِلَى سَنٍّ آخَرَ يَلِيهِ، وَعَلَى أَنَّ جَبْرَ كُلِّ مَرْتَبَةٍ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى أَنَّ الْمُعْطِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالشَّاتَيْنِ (وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةَ الْحِقَّةِ) بِأَنْ كَانَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ (وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ) بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ إِنَّ أَوْ فَاعِلُ تُقْبَلُ فَالضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ (وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ) أَيِ الْعَامِلُ أَوِ الْمُسْتَحِقُّ إِنْ قَبَضَ لِنَفْسِهِ (عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةَ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، إِلَّا بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ) إِعْرَابُهُ كَمَا سَبَقَ، وَفِي أَصْلِ ابْنِ الْحَجَرِ فَإِنَّهَا أَيْ بِنْتَ اللَّبُونِ تُقْبَلُ مِنْهُ. اهـ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأُصُولِ مِنْ ذِكْرِ بِنْتِ لَبُونٍ بَعْدَ قَوْلِهِ تُقْبَلُ مِنْهُ (وَيُعْطَى) أَيِ الْمَالِكُ (شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَرَةَ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ مِنَ السِّنِّ الْوَاجِبِ إِلَى الْمَالِكِ. اهـ، وَعُلِّلَ بِأَنَّهُمَا شُرِعَا تَخْفِيفًا لَهُ، فَفَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى اخْتِيَارِهِ (وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقُتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ) أَيْ بِنْتُ اللَّبُونِ (عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ مَخَاضٌ وَيُعْطَى) أَيِ الصَّاحِبُ (مَعَهَا) أَيْ مَعَ بِنْتِ الْمَخَاضِ، وَمَعَهَا حَالٌ مِمَّا يُعِدُّهُ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ (عِشْرِينَ دِرْهَمًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، كَائِنَةً مَعَ بِنْتِ الْمَخَاضِ، فَلَمَّا قُدِّمَ صَارَ حَالًا (أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ) أَيْ بِنْتُ مَخَاضٍ (عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ (عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا) بِأَنْ فَقَدَهَا حِسًّا أَوْ شَرْعًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَحْتَمِلُ مَعْنَاهُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ أَصْلًا، أَوْ لَا تَكُونَ صَحِيحَةً بَلْ مَرِيضَةً فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ، أَوْ لَا تَكُونَ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ مُتَوَسِّطَةٌ، بَلْ لَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى غَايَةِ الْجَوْدَةِ (وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ) أَيْ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، قَهْرًا عَلَى السَّاعِي (وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ) أَيْ لَا يَلْزَمُهُ مَعَ

ابْنِ لِبَوْنٍ شَيْءٌ آخَرُ مِنَ الْجُبْرَانِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ الْأُنُوثَةِ تُجْبَرُ بِفَضْلِ السِّنِّ (وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ آلَةُ الدِّفَاعِ، فَكَانَتْ غَنِيمَةً لِكُلِّ طَالِبٍ، ثُمَّ الضَّأْنُ وَالْمَاعِزُ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ (فِي سَائِمَتِهَا) بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، أَوْ حَالٌ أَيْ لَا فِي مَعْلُوفَتِهَا، وَالسَّائِمَةُ هِيَ الَّتِي تَرْعَى فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالسَّائِمَةُ الَّتِي تَرْعَى وَلَا تُعْلَفُ فِي الْأَهْلِ، وَفِي الْفِقْهِ: هِيَ تِلْكَ مَعَ قَيْدِ كَوْنِ ذَلِكَ لِقَصْدِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، حَوْلًا، أَوْ أَكْثَرَ، فَلَوْ أُسِيمَتْ أَيِ الْإِبِلُ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ لَمْ تَكُنِ السَّائِمَةُ الْمُسْتَلْزَمَةُ شَرْعًا لِحُكْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، بَلْ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَوْ أَسَامَهَا لِلتِّجَارَةِ كَانَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ، لَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ. اهـ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْغَنَمِ إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً، فَأَمَّا الْمَعْلُوفَةُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَوَامِلِ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ، عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً، وَأَوْجَبَهَا مَالِكٌ فِي عَوَامِلِ الْبَقَرِ وَنَوَاضِحِ الْإِبِلِ. اهـ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ: النَّصُّ عَلَى السَّوْمِ فِي الْإِبِلِ أَيْضًا، وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ (إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ) مُبْتَدَأٌ (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ) أَيْ وَبَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ إِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا أَرْبَعٌ. اه، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ أَنْ تَزِيدَ مِائَةً أُخْرَى فَتَصِيرَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَيَجِبُ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَاحِدَةً فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ. اهـ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ (فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ) وَكَذَا الْمَرْأَةُ (نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً) تَمْيِيزٌ (وَاحِدَةً) بِالنَّصْبِ إِمَّا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِوَاحِدَةٍ، أَوْ مَفْعُولُ " نَاقِصَةً "، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهَا، وَبِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَهِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً (فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) أَيْ تَطَوُّعًا (وَلَا تُخْرَجُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (فِي الصَّدَقَةِ) أَيِ الزَّكَاةُ (هَرِمَةٌ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيِ الَّتِي أَضَرَّ بِهَا كِبَرُ السِّنِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَالْمَرِيضَةِ (وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِضَمٍّ أَيْ صَاحِبَةُ عَيْبٍ وَنَقْصٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ إِذِ الْعَيْبُ يَشْمَلُ الْمَرَضُ وَالْهَرَمَ، وَغَيْرَهَمَا، وَمَنْ فَسَّرَهُمَا بِالنَّقْصِ وَالْعَيْبِ أَرَادَ التَّأْكِيدَ ; إِذِ النَّقْصُ وَالْعَيْبُ مُتَّحِدَانِ. اهـ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَيْبَ أَعَمُّ مِنَ النَّقْصِ، مَعَ أَنَّ الْهَرَمَ لَيْسَ مَعِيبًا فِي اللُّغَةِ، وَلَوْ كَانَ مَعِيبًا فِي الشَّرْعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا إِذَا كَانَ كُلُّ مَالِهِ أَوْ بَعْضُهُ سَلِيمًا، فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ مَعِيبًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ وَاحِدًا مِنْ وَسَطِهِ (وَلَا تَيْسٌ) أَيْ فَحْلُ الْغَنَمِ، قَالَ الشُّرَّاحُ: أَيْ إِذَا كَانَتْ كُلُّ الْمَاشِيَةِ أَوْ بَعْضُهَا إِنَاثًا لَا يُؤْخَذُ الذَّكَرُ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ وَرَدَ بِهِمَا السُّنَّةُ، الْأَوَّلُ أَخْذُ التُّسْعِ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ وَالثَّانِي أَخْذُ ابْنِ اللَّبُونِ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ مَكَانَ بِنْتِ الْمَخَاضِ عِنْدَ عَدَمِهَا فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَاشِيَتُهُ كُلُّهَا ذُكُورًا فَيُؤْخَذُ الذَّكَرُ وَقِيلَ: لَا يُؤْخَذُ التَّيْسُ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَقْصِدُ مِنْهُ الْفُحُولَةَ فَيَتَضَرَّرُ بِإِخْرَاجِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِنَتَنِهِ وَفَسَادِ لَحْمِهِ فَهُوَ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّ الْوَاجِبَ هِيَ الْأُنْثَى (إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ) بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَهُوَ الْمَالِكُ، وَجُمْهُورُ الْمُحْدَثِينَ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ الْعَامِلُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَخْتَصُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَيْسٌ، إِذْ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَ ذَاتَ عَوَرٍ فِي صَدَقَتِهِ، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَامِلَ يَأْخُذُ مَا شَاءَ مِمَّا يَرَاهُ أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ لِلْمُسْتَحِقِّينَ، فَإِنَّهُ وَكِيلُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْمَوَاشِي كُلُّهَا مَعِيبَةً، هَذَا كَلَامُ الشُّرَّاحِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا، وَالْمَعْنَى لَا يُخْرِجُ الْمُزَكِّي النَّاقِصَ وَالْمَعِيبَ، لَكِنْ يُخْرِجُ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقِ مِنَ السَّلِيمِ وَالْكَامِلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيلَ بِتَشْدِيدِهَا أَيِ الْمَالِكُ، بِأَنْ تَمَحَّضَتْ مَاشِيَتُهُ كُلُّهَا مَعِيبَةً، أَوْ ذُكُورًا، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ رَاجِعٌ لِلْكُلِّ أَيْضًا، وَعَجِيبٌ مِمَّنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَالِكِ وَجَعَلَهُ رَاجِعًا إِلَى التَّيْسِ فَقَطْ. اهـ، وَهُوَ غَيْرُ

مُتَّجِهٍ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ (وَلَا يَجْمَعُ) نَفْيُ مَجْهُولٍ (بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرِّقُ) بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ (بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) نُصِبُ عَلَى الْعِلَّةِ رَاجِعَةً إِلَيْهِمَا، أَيْ مَخَافَةَ تَقْلِيلِهَا، وَتَكْثِيرِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ خَشْيَةَ فَوْتِ الصَّدَقَةِ وَتَقْلِيلِهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ خَشْيَةَ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ أَوْ كَثْرَتِهَا إِنْ رَجَعَ لِلْمَالِكِ وَخَشْيَةَ سُقُوطِ الصَّدَقَةِ أَوْ قِلَّتِهَا إِنْ رَجَعَ إِلَى السَّاعِي، قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: النَّهْيُ لِلسَّاعِي عَنْ جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِثْلَ أَنْ يَجْمَعَ أَرْبَعِينَ شَاةً لِرَجُلَيْنِ لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ، وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعَةِ مِثْلَ أَنْ يُفَرِّقَ مِائَةً وَعِشْرِينَ لِرَجُلٍ أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ، لِيَأْخُذَ ثَلَاثَ شِيَاهٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالنَّهْيُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَجْمَعَ أَرْبَعِينَهُ مَثَلًا إِلَى أَرْبَعِينَ لِغَيْرِهِ لِتَقْلِيلِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْ يُفَرِّقَ عِشْرِينَ لَهُ مَخْلُوطًا بِعِشْرِينَ لِغَيْرِهِ لِسُقُوطِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا نَهْيٌ لِلْمَالِكِ، وَالسَّاعِي جَمِيعًا، نَهَى رَبَّ الْمَالِ عَنِ الْجَمْعِ، وَالتَّفْرِيقِ قَصْدًا إِلَى تَكْثِيرِ الصَّدَقَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَأْتِي هَذَا فِي صُوَرٍ أَرْبَعٍ أَشَارَ إِلَيْهَا الْقَاضِي بِقَوْلِهِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ نَهْيٌ لِلْمَالِكِ عَنِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ قَصْدًا إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ، أَوْ تَقْلِيلِهَا ; كَمَا إِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَيَخْلِطُهَا بِأَرْبَعِينَ لِغَيْرِهِ لِيَعُودَ وَاجِبُهُ مِنْ شَاةٍ إِلَى نِصْفِهَا، وَكَمَا إِذَا كَانَ لَهُ عِشْرُونَ شَاةً مَخْلُوطَةً بِمِثْلِهَا فَفَرَّقَهَا لِئَلَّا يَكُونَ نِصَابًا، فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ نُهِيَ السَّاعِي أَنْ يُفَرِّقَ الْمَوَاشِيَ عَلَى الْمَالِكِ فَيَزِيدَ الْوَاجِبُ، كَمَا إِذَا كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً وَوَاجِبُهَا شَاةٌ فَفَرَّقَهَا السَّاعِي أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ لِيَأْخُذَ ثَلَاثَ شِيَاهٍ، وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ لِتَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ تَزِيدَ كَمَا إِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاةً مُتَفَرِّقَةٌ فَجَمَعَهَا السَّاعِي لِيَأْخُذَ شَاةً أَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيَصِيرَ الْوَاجِبُ ثَلَاثَ شِيَاهٍ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْخَلْطَةَ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا تَأْثِيرًا كَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ ( «وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ» ) يُعَضِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ اهـ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ إِذْ يُتَصَوَّرُ فِي الْمُشَارَكَةِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ بِالسَّوِيَّةِ أَيْ بِالْعَدَالَةِ بِمُقْتَضَى الْحِصَّةِ، فَيَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْمُشَارَكَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ أَنَّ الشَّرِكَةَ تَكُونُ مُنَاصَفَةً، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِثْلَ أَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسُ إِبِلٍ فَأَخَذَ السَّاعِي وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا شَاةً فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّاعِيَ إِذَا ظَلَمَ وَأَخَذَ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى فَرْضِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: قَوْلُهُ مَا كَانَ إِلَخْ أَيِ الْوَاجِبُ الَّذِي أَخَذَ السَّاعِي مِنَ الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، أَمَّا الرُّجُوعُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقَائِلُ بِأَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلْخَلْطَةِ فِي حُكْمِ الصَّدَقَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمِلْكُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَمِثْلُ أَنْ يَأْخُذَ السَّاعِي شَاتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَائِعَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَثْلَاثًا قَبْلَ قِسْمَتِهِمَا الْأَغْنَامَ فَالْمَأْخُوذُ مَنْ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةٌ وَثُلُثٌ، وَوَاجِبُهُ فِي الثَّمَانِينَ شَاةٌ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَا شَاةٍ، وَوَاجِبُهُ فِي أَرْبَعِينَ شَاةٌ، فَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَرْجِعُ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهِ بِثُلُثِ شَاةٍ، حَتَّى تَرْجِعَ حِصَّةٌ مِنْ ثَمَانِينَ شَاةٍ إِلَى تِسْعٍ وَسَبْعِينَ، وَحِصَّةُ صَاحِبِهِ مِنْ أَرْبَعِينَ إِلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ الْخَلِيطَيْنِ خَلْطَةُ الْجِوَارِ ثَلَاثُونَ بَقَرًا وَلِلْآخَرِ أَرْبَعُونَ، وَأَخَذَ السَّاعِي تَبِيعًا مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ، وَمُسِنَّةً مِنْ صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ، فَيَرْجِعُ الْأَوَّلُ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ تَبِيعٍ عَلَى الثَّانِي، وَيَرْجِعُ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ الْمُسِنَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَخَذَ بِالْعَكْسِ رَجَعَا بِالْعَكْسِ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ أَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ، وَفِي خَلْطِ الشُّيُوعِ يَرْجِعُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ وَإِلَّا فَلَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقَدِ اشْتَمَلَ كِتَابُ الصِّدِّيقِ وَكِتَابُ عُمَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَهِيَ مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، مَخَافَةَ الصَّدَقَةِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيَانِ الْمُرَادِ إِذَا كَانَ مَبْنَى بَعْضِ الْخِلَافِ، وَذَلِكَ إِذْ كَانَ النِّصَابُ بَيْنَ شُرَكَاءَ، وَصَحَّتِ الْخَلْطَةُ بَيْنَهُمْ، بِاتِّحَادِ الْمَسْرَحِ وَالْمَرَاحِ، وَالرَّاعِي وَالْفَحْلِ، وَالْمُحْلَبِ، تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ. . . " الْحَدِيثَ، وَفِي عَدَمِ الْوُجُوبِ تَفْرِيقُ الْمُجْتَمِعِ، وَعِنْدَنَا لَا يَجِبُ، وَإِلَّا لَوَجَبَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ لَنَا هَذَا الْحَدِيثُ، فَفِي الْوُجُوبِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْلَاكِ الْمُتَفَرِّقَةِ إِذِ الْمُرَادُ الْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ فِي الْأَمْلَاكِ لَا الْأَمْكِنَةِ، أَلَا يُرَى أَنَّ النِّصَابَ الْمُفَرَّقَ فِي أَمْكِنَةٍ مَعَ وَحْدَةِ الْمِلْكِ يَجِبُ فِيهِ، وَمَنْ مَلَكَ ثَمَانِينَ شَاةً لَيْسَ لِسَاعٍ أَنْ يَجْعَلَهَا نِصَابَيْنِ، بِأَنْ يُفَرِّقَهَا فِي مَكَانَيْنِ، فَمَعْنَى لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ السَّاعِي بَيْنَ الثَّمَانِينَ مَثَلًا، أَوِ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ، لِيَجْعَلَهَا نِصَابَيْنِ، وَثَلَاثَةً، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ أَيْ لَا يُجْمَعُ مَثَلًا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ الْمُتَفَرِّقَةِ بِالْمِلْكِ بِأَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً لِيَجْعَلَهَا نِصَابًا، وَالْحَالُ أَنَّ لِكُلِّ عِشْرِينَ، قَالَ: وَمَا كَانَ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ إِلَخْ قَالُوا: أَرَادَ بِهِ إِذَا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِحْدَى وَسِتُّونَ مَثَلًا مِنَ الْإِبِلِ، لِأَحَدِهِمَا سِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَلِلْآخَرِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْهَا بِنْتَ لَبُونٍ، وَبِنْتَ مَخَاضٍ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةِ مَا أَخَذَهُ السَّاعِي مِنْ مِلْكِهِ زَكَاةَ شَرِيكِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَخَافَةَ الصَّدَقَةِ: مَخَافَةَ الصَّدَقَةِ ثُبُوتٌ فِيمَا لَا صَدَقَةَ فِيهِ، أَيْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ وَالْجَمْعَ كَيْلَا تَثْبُتَ الصَّدَقَةُ فِي مَا لَا صَدَقَةَ فِيهِ وَاجِبَةً، كَمَا لَوْ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّمَانِينَ حَيْثُ تَجِبُ ثِنْتَانِ، وَالْوَاجِبُ فِيهَا لَيْسَ إِلَّا وَاحِدَةً، أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِشْرِينَ لِرَجُلَيْنِ لِتَجِبَ وَاحِدَةٌ، وَالْوَاقِعُ أَنْ لَا وُجُوبَ فِيهَا (وَفِي الرِّقَةِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ أَيِ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ، أَصْلُهُ وَرِقٌ، وَهُوَ الْفِضَّةُ، حُذِفَ مِنْهُ الْوَاوُ، وَعَوَّضَ عَنْهَا التَّاءُ، كَمَا فِي عِدَةٍ وَدِيَةٍ (رُبْعُ الْعُشْرِ) بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ الثَّانِي، وَضَمِّهِمَا فِيهِمَا يَعْنِي إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَرُبْعُ الْعُشْرِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَمَرَّ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا لِلْغَالِبِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ خَبَرُ الدِّينَارِ أَيِ الْمِثْقَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، قَالَ: هَذَا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَفِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهِ، وَإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى مَعْنَاهُ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِسْنَادِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمِثْقَالُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّةً مِنْ حَبِّ الشَّعِيرِ الْمُعْتَدِلِ خُمُسَا حَبَّةٍ، وَالدِّرْهَمُ خَمْسُونَ حَبَّةٍ، وَخُمُسَا حَبَّةٍ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِثْقَالِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الْمِثْقَالِ اهـ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ زِنَةُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَالْمِثْقَالُ عِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَالْقِيرَاطُ خَمْسُ شُعَيْرَاتٍ مُتَوَسِّطَاتٍ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ) أَيِ الرِّقَةُ الَّتِي عِنْدَهُ (إِلَّا تِسْعِينَ) أَيْ دِرْهَمًا (وَمِائَةً) أَيْ دَرَاهِمَ، وَالْمَعْنَى إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ نَاقِصَةً عَنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ) أَيْ لَا يَجِبُ إِجْمَاعًا (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) أَيْ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ مَالِكُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ فِيهَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، هَذَا يُوهِمُ أَنَّهَا إِذَا زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ تَتِمَّ مِائَتَيْنِ كَانَتْ فِيهِ الصَّدَقَةُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ تِسْعِينَ لِأَنَّهُ آخِرُ فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ الْمِائَةِ، وَالْحِسَابُ إِذَا جَاوَزَ الْمِائَةَ كَانَ تَرْكِيبُهُ بِالْفُصُولِ وَالْعَشَرَاتِ، وَالْمِئَاتِ وَالْأُلُوفِ، فَذَكَرَ التِّسْعِينَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنْ لَا صَدَقَةَ فِيمَا نَقَصَ عَنْ كَمَالِ الْمِائَتَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» "، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَقَلِّ مَا نَقَصَ مِنَ النِّصَابِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِحَدِيثِ " «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» "، وَيُسَمَّى هَذَا فِي الْأُصُولِ النَّصَّ الْمُقَيَّدَ بِمُفَارَقَةِ نَصٍّ آخَرَ، وَيَنْصُرُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، لَكِنْ إِذَا ضُمَّ مَعَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: مُقَطَّعًا فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ، وَهُوَ كِتَابٌ مُسْتَفِيضٌ مَشْهُورٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَزَادَ فِيهِ: وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَقَدْ يُوهِمُ لَفْظُ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِيهِ الِانْقِطَاعَ لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ صَحِيحٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا» .

1797 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1797 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ) أَيِ الْمَطَرُ وَالسَّيْلُ وَالْأَنْهَارُ (وَالْعُيُونُ) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ (أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَقِيلَ: بِالتَّشْدِيدِ وَغَلَطٌ، وَقِيلَ: بِإِسْكَانِهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فِي النِّهَايَةِ ; هُوَ مِنَ النَّخْلِ الَّذِي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، يَجْتَمِعُ فِي حُفَيْرَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَذْيُ، وَهُوَ الزَّرْعُ الَّذِي لَا يَسْقِيهِ إِلَّا مَاءُ الْمَطَرِ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوَّلُ هَاهُنَا أَوْلَى لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَيِ الثَّانِي، هُوَ الْمَشْهُورُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ التُّورِبِشْتِيُّ، وَقِيلَ: مَا يُزْرَعُ فِي الْأَرْضِ تَكُونُ رَطْبَةً أَبَدًا، لِقُرْبِهَا مِنَ الْمَاءِ، مِنْ عَثَرَ عَلَى الشَّيْءِ يَعْثُرُ عُثُورًا، وَعَثَرَ أَيْ طَلَعَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَهَجَّمَ عَلَى الْمَاءِ فَنُسِبَ إِلَى الْعَثَرَةِ (الْعُشْرُ) أَيْ يَجِبُ عُشْرُهُ (وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ) أَيْ وَفِيمَا سُقِيَ بِبَعِيرٍ أَوْ ثَوْرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ، وَالنَّضْحُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى السَّقْيِ، فِي النِّهَايَةِ: وَالنَّوَاضِحُ هِيَ الْإِبِلُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا، وَالْوَاحِدُ نَاضِحٌ. اهـ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْأُنْثَى نَاضِحَةٌ. اهـ وَفِيهِ بَحْثٌ ; وَيُسَمَّى هَذَا الْحَيَوَانُ سَانِيَةً (نِصْفُ الْعَشْرِ) لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُؤْنَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ. اهـ، وَجَاءَ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ: «فِيمَا سَقَتِ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ أَيِ الْمَطَرُ عُشْرٌ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ، أَوْ كَانَ بَعْلًا أَيْ مَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ لِقُرْبِهِ مِنَ الْمَاءِ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي أَوِ النَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» .

1798 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخَمُسُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1798 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْعَجْمَاءُ) أَيِ الْبَهِيمَةُ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ تَأْنِيثُ الْأَعْجَمِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ (جَرْحُهَا) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا وَالْمَفْهُومُ مِنَ النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ الْجِرَاحَةُ، وَالْمُرَادُ إِتْلَافُهَا، قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْجَرْحِ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ، وَقِيلَ: هُوَ مِثَالٌ نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ (جُبَارٌ) بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ هَدْرٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ لِيَصِحَّ حَمْلُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ فِعْلُ الْعَجْمَاءِ هَدْرٌ بَاطِلٌ. اهـ، وَهُوَ غَفْلَةٌ عَنْ وُجُودِ جَرْحِهَا، فَإِنَّهَا مَعَهُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، نَعَمِ الْجُمْلَتَانِ الْمُتَأَخِّرَتَانِ تَحْتَاجَانِ إِلَى تَقْدِيرٍ، كَمَا لَا يَخْفَى، يَعْنِي إِذَا أَتْلَفَتِ الْبَهِيمَةُ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا قَائِدٌ وَلَا سَائِقٌ وَكَانَ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا أَحَدٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بِتَقْصِيرِهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ لَيْلًا، لِأَنَّ الْمَالِكَ قَصَّرَ فِي رَبْطِهَا، إِذِ الْعَادَةُ أَنْ تُرْبَطَ الدَّوَابُّ لَيْلًا، وَتُسَرَّحَ نَهَارًا، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَابْنُ الْمَلَكِ (وَالْبِئْرُ) بِهَمْزٍ وَيُبْدَلُ (جُبَارٌ) أَيِ الْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ بِلَا تَعَدٍّ إِذَا وَقَعَ فِيهَا أَحَدٌ، أَوِ انْهَارَ عَلَى الْحَافِرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ فِي الْأَوَّلِ وَلِلْأَمْرِ فِي الثَّانِي (وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ) كَالْبِئْرِ فِي الْوَجْهَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِذَا حَفَرَ أَحَدٌ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ مَوَاتٍ، وَوَقَعَ فِيهَا أَحَدٌ أَوْ دَابَّةٌ لَا ضَمَانَ عَلَى حَافِرِهَا، أَمَّا إِذَا حَفَرَ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ، وَكَذَا إِذَا حَفَرَ وَاحِدٌ مَوْضِعًا فِيهِ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ لِيُخْرِجَ مِنْهُ وَوَقَعَ فِيهِ أَحَدٌ أَوْ دَابَّةٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَكَذَلِكَ الْفَيْرُوزَجُ وَالطِّينُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا اسْتَأْجَرَ حَافِرًا لِحَفْرِ الْبِئْرِ أَوِ اسْتِخْرَاجِ الْمَعْدِنِ فَانْهَارَ عَلَيْهِ لَا ضَمَانَ، وَكَذَا إِذَا وَقَعَ فِيهِ إِنْسَانٌ فَهَلَكَ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَفْرُ عُدْوَانًا وَإِنْ كَانَ فَفِيهِ خِلَافٌ (وَفِي الرِّكَازِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (الْخَمُسُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّكَازُ الْمَعْدِنُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: " الذَّهَبُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خُلِقَتْ "، وَدَفِينُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَالْمُنَاسِبُ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، قِيلَ: وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنْسَبُ بِذِكْرِ انْهِيَارِ الْمَعْدِنِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اللُّغَةُ تَحْتَمِلُهَا لِأَنَّ كُلًّا مَرْكُوزٌ فِي الْأَرْضِ أَيْ ثَابِتٌ، وَيُقَالُ رَكَزَهُ أَيْ دَفَنَهُ، قِيلَ: الْحَدِيثُ عَلَى رَأْيِ الْحِجَازِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ الْخُمُسُ لِكَثْرَةِ نَفْعِهِ وَسُهُولَةِ أَخْذِهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الرِّكَازُ يَعُمُّ الْمَعْدِنَ، وَالْكَنْزَ لِأَنَّهُ مِنَ الرَّكْزِ، مُرَادًا بِهِ الْمَرْكُوزُ، أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوِ الْمَخْلُوقَ، فَكَانَ إِيجَابًا فِيهِمَا وَلَا يُتَوَهَّمُ عَدَمُ إِرَادَةِ الْمَعْدِنِ بِسَبَبِ عَطْفِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ إِفَادَةِ أَنَّهُ جُبَارٌ، أَيْ هَدْرٌ لَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِلَّا لَتَنَاقَصَ فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَعْدِنِ لَيْسَ هُوَ الْمُعَلَّقُ فِي ضِمْنِ الرِّكَازِ، لِيَخْتَلِفَ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ أَيْ إِهْلَاكُهُ، أَوِ الْهَلَاكُ بِهِ لِلْأَجِيرِ الْحَافِرِ لَهُ، غَيْرُ مَضْمُونٍ، لَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ نَفْسِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ أَصْلًا، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ; إِذِ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي كَمِّيَّتِهِ لَا فِي أَصْلِهِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ "، قِيلَ: وَمَا الرِّكَازُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الذَّهَبُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، يَوْمَ خُلِقَتِ الْأَرْضُ» "، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَذَكَرَهُ فِي الْإِمَامِ، فَهُوَ وَإِنْ سُكِتَ عَنْهُ فِي الْإِمَامِ مُضَعَّفٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ مِنَ الْمَعْدِنِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ، وَمَا لَيْسَ بِجَامِدٍ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ، وَجَامِدٌ لَا يَنْطَبِعُ كَالْجَصِّ وَالنَّوْرَةِ وَالزَّرْنِيخِ، وَسَائِرِ الْأَحْجَارِ كَالْيَاقُوتِ، وَالْمِلْحِ، وَلَا يَجِبُ الْخُمُسُ إِلَّا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُبْ إِلَّا فِي النَّقْدَيْنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1799 - عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةً الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ زُهَيْرٌ: أَحْسَبُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «هَاتُوا رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ حَتَّى تَتِمَّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَمَا زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ، وَفِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَشَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِنْ زَادَتْ فَثَلَاثُ شِيَاهٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ فَلَيْسَ عَلَيْكَ فِيهَا شَيْءٌ، وَفِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1799 - (عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» ) أَيْ إِذَا لَمْ يَكُونَا لِلتِّجَارَةِ، وَفِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَفَوْتُ مُشْعِرٌ بِسَبْقِ ذَنْبٍ، مِنْ إِمْسَاكِ الْمَالِ عَنِ الْإِنْفَاقِ، أَيْ تَرَكْتُ وَجَاوَزْتُ عَنْ أَخْذِ زَكَاتِهِمَا مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَالٍ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ

مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَعْنَى إِذَا عَفَوْتُ عَنْهُمَا وَعَنْ أَمْثَالِهِمَا مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ الْأَمْوَالِ (فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ) أَيْ زَكَاةَ الْفِضَّةِ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ (مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ) بَيَانٌ لِلنِّصَابِ (فَإِذَا بَلَغَتْ) أَيِ الرِّقَةُ (مِائَتَيْنِ فَقَطْ) أَيْ بَعْدَ حَوْلٍ أَيِ الْوَاجِبُ (خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ لَأَبَى دَاوُدَ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو زُهَيْرٍ، وَهُوَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِصُحْبَةِ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: لَمْ يُسْمَعْ عَنْهُ إِلَّا أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ (عَنْ عَلِيٍّ قَالَ زُهَيْرٌ) بِالتَّصْغِيرِ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (أَحْسَبُهُ) أَيْ أَظُنُّهُ (مَرْوِيًّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ) أَيْ عَلِيٌّ، أَوِ النَّبِيُّ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، وَالْحَارِثِ عَنْ زُهَيْرٍ قَالَ: أَحْسَبُهُ قَالَ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَجْزُومًا، لَيْسَ فِيهِ قَالَ زُهَيْرٌ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ (هَاتُوا) أَيْ فِي كُلِّ حَوْلٍ (رُبْعَ الْعُشْرِ) أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ وَبَيَانُهُ (مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ) أَيْ مِنَ الزَّكَاةِ (حَتَّى تَتِمَّ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ أَيْ تَبْلُغَ أَيِ الرِّقَةُ أَوِ الْوَرِقُ (مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَيْ بَالِغَةً مِائَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] (فَإِذَا كَانَتْ) أَيِ الرِّقَةُ أَوِ الْوَرِقُ (مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: سَوَاءً كَانَتْ مَسْكُوكَةً، أَوْ لَا، وَفِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ، مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ نِصَابًا مَسْكُوكًا مِنْ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ لُزُومَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقَوُّمِ، وَالْعُرْفُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَسْكُوكِ، وَكَذَا نِصَابُ السَّرِقَةِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ (فَفِيهَا) أَيْ حِينَئِذٍ (خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَمَا زَادَ) أَيْ عَلَى أَقَلِّ نِصَابٍ (فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ) أَيْ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ كَمَا عُلِمَ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَأُعِيدَ هُنَا لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ، لِمَا جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّحِّ، وَمَنْعِ الزَّكَاةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا عَفْوَ فِي الدَّرَاهِمِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزَّائِدِ عَلَى النِّصَابِ بِقَدْرٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا زَكَاةَ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الزَّائِدُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ هُوَ الْأَرْبَعِينَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، قَالَ مِيرَكُ: إِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْهُ، قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: وَعَاصِمٌ تَكَلَّمَ فِيهِ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ الْمَذْكُورِ، وَالْحَارِثِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِمَا وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ مَوْقُوفًا. اهـ، أَقُولُ: وَثَّقَ عَاصِمًا الْمَذْكُورَ ابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْعَجْلِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: صَدُوقٌ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: هُوَ وَسَطٌ، وَأَمَّا الْحَارِثُ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَقَوَّى أَمْرَهُ بَعْضُهُمْ، وَلِحَدِيثِهِ شَوَاهِدُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُهُ حَدِيثُ الثِّقَاتِ، إِلَّا قَوْلُهُ: فَمَا زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ. اهـ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَرِوَايَةُ الْحَارِثِ وَالْأَعْوَرِ لَيْسَتْ فِي الْمَصَابِيحِ، وَرَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ: مِمَّا زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ (وَفِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ) بَدَلٌ مِنْ فِي الْغَنَمِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (شَاةً) تَمْيِيزٌ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَيْسَ " شَاةً " هَاهُنَا تَمْيِيزًا مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، لِأَنَّ دِرْهَمًا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاحِدِ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَلَا يُعْلَمُ هَذَا مِنَ الرِّقَةِ فَيَكُونُ شَاةً هُنَا لِمَزِيدِ التَّوْضِيحِ، وَنَظَرَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ (شَاةٌ) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَفِي الْغَنَمِ خَبَرُهُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ " كُلِّ " زَائِدَةٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا اسْتِغْرَاقُ أَفْرَادِ الْأَرْبَعِينَ، لِيُفِيدَ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِكُلٍّ مِنْ أَرْبَعِينَ، أَوِ الْوَاجِبُ شَاةٌ مُبْهَمَةٌ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ لِلثَّانِي، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٍ، وَإِلَّا لَفَسَدَ الْمَعْنَى، إِذْ لَا تَتَكَرَّرُ الزَّكَاةُ هُنَا بِتَكَرُّرِ الْأَرْبَعِينَ إِجْمَاعًا، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ (إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَشَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ فَإِنْ زَادَتْ) أَيْ وَاحِدَةً أَوِ الْغَنَمُ عَلَى مِائَتَيْنِ (فَثَلَاثُ شِيَاهٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَإِذَا) وَفِي نُسْخَةٍ فَإِنْ

(زَادَتْ) أَيِ الشَّاةُ (عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ) أَيْ وَبَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ (فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ (إِلَّا تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ فَلَيْسَ عَلَيْكَ فِيهَا شَيْءٌ، وَفِي الْبَقْرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ) أَيْ بَقْرًا (تَبِيعٌ) أَيْ مَا لَهُ سَنَةٌ، وَسُمِّي بِهِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ بَعْدُ، وَالْأُنْثَى تَبِيعَةٌ (وَفِي الْأَرْبَعِينَ) أَيْ مِنَ الْبَقَرِ (مُسِنَّةٌ) أَيْ مَا لَهُ سَنَتَانِ، وَطَلَعَ سِنُّهَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا تَتَعَيَّنُ الْأُنُوثَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَا فِي الْغَنَمِ بِخِلَافِ الْإِبِلِ، لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ فَضْلًا فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْإِبِلِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، فَفِيهَا تَبِيعَانِ، ثُمَّ يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ بِزِيَادَةِ عَشْرٍ فَعَشْرٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ. اهـ. وَهُوَ رِوَايَةُ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لِقَوْلِ مُعَاذٍ فِي الْبَقْرِ لَا شَيْءَ فِي الْأَوْقَاصِ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ فَفِيمَا زَادَ يُحْسَبُ إِلَى سِتِّينَ، وَفِيهَا ضَعْفُ مَا فِي ثَلَاثِينَ، فَفِي الْوَاحِدَةِ رُبْعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، أَوْ ثُلُثُ عُشْرِ تَبِيعٍ، وَعَلَى هَذَا لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ النَّصْبِ بِالرَّأْيِ، فَيَجِبُ بِحِسَابِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَمَنْ تَبِعَهُ (وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ) وَلَوْ بَلَغَتْ نِصَابًا (شَيْءٌ) فَعَلَى بِمَعْنَى فِي، أَوِ التَّقْدِيرُ عَلَى صَاحِبِ الْعَوَامِلِ، وَهِيَ جَمْعُ عَامِلَةٍ مِنَ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ فِي الْحَرْثِ، وَالسَّقْيِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ مَالِكٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِي مَعْنَاهُ الْحَوَامِلُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعَوَامِلَ تَصْدُقُ عَلَى الْحَوَامِلِ وَالْمُثِيرَةِ فَالنَّفْيُ عَنْهَا نَفْيٌ عَنْهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِي خُصُوصِ اسْمِ الْمُثِيرَةِ حَدِيثٌ مُضَعَّفٌ فِي الدَّارَقُطْنِيِّ: لَيْسَ فِي الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. اهـ وَالْمُثِيرَةُ عَلَى مَا فِي الْبَقَرِ تُثِيرُ الْأَرْضَ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا اقْتَضَاهُ السِّيَاقُ أَنَّ الْعَوَامِلَ مِنَ الْبَقَرِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ يَلْحَقُ بِهَا الْإِبِلُ قِيَاسًا، وَإِنَّ أَسَاسَهَا الْمَالِكُ كُلَّ الْحَوْلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمُدَّةُ الْعَمَلِ الْمُؤَثِّرَةُ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي السَّنَةِ. اهـ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْغَلَبَةِ.

1800 - «وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَمْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1800 - (وَعَنْ مُعَاذٍ) بِالضَّمِّ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَجَّهَهُ) أَيْ جَعَلَهُ مُتَوَجِّهًا (إِلَى الْيَمَنِ) عَامِلًا عَلَى الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا (أَمْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْبَقَرِ) وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْبَقْرُ مِنْ بَقَرَ إِذَا شَقَّ ; سُمِّي بِهِ لِأَنَّهُ يَشُقُّ الْأَرْضَ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالتَّاءُ فِي بَقَرَةٍ لِلْوَحْدَةِ، فَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، لَا لِلتَّأْنِيثِ (مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ) أَيْ بَقَرَةً (تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً) يَعْنِي أَوْ مُسِنًّا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مُرْسَلًا، وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ، قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: زَعَمَ ابْنُ بَطَّالِ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ هَذَا مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ مَسْرُوقًا رَاوِيَهُ عَنْ مُعَاذٍ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا، وَإِنَّمَا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ بِشَوَاهِدِهِ، فَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذٍ نَحْوُهُ، وَطَاوُسٌ عَنْ مُعَاذٍ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ قَبْلَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْيَمِينِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ يَعْنِي مُحْتَلِمًا دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَغَافِرِ ثِيَابٌ تَكُونُ بِالْيَمِينِ، حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُرْسَلًا، وَهَذَا أَصَحُّ، وَيَعْنِي بِالدِّينَارِ مِنَ الْحَالِمِ الْجِزْيَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرَّجَاهُ، وَأَعَلَّهُ

عَبْدُ الْحَقِّ بِأَنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا، وَصَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ، وَأَمَّا ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَإِنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَجَدْنَا حَدِيثَ مَسْرُوقٍ إِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ فِعْلُ مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ، وَمَسْرُوقٌ عِنْدَنَا بِلَا شَكٍّ أَدْرَكَ مُعَاذًا بِسِنِّهِ وَعَقْلِهِ، وَشَاهَدَ أَحْكَامَهُ يَقِينًا، وَأَفْتَى فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ رَجُلٌ كَانَ بِالْيَمَنِ أَيَّامَ مُعَاذٍ، بِنَقْلِ الْكَافَّةِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ عَنْ مُعَاذٍ، فِي أَخْذِهِ لِذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُجْعَلُ بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاذٍ، وَهُوَ مَا فَشَا مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ أَنَّ مُعَاذًا أَخَذَ كَذَا وَكَذَا، وَالْحَقُّ قَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِحَدِيثِهِ عَنْ مُعَاذٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْمُعَاصَرَةِ، مَا لَمْ يُعْلَمْ عَدَمُ اللِّقَاءِ، وَأَمَّا عَلَى مَا شَرَطَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ مِنَ الْعِلْمِ بِاجْتِمَاعِهِمَا وَلَوْ مَرَّةً، فَكَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مَا وَجَّهَهُ ابْنُ حَزْمٍ. اهـ، كَلَامُ الْمُحَقِّقِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ أَنَّ مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ صَحِيحٌ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، قَالُوا: فَالْأَوْقَاصُ؟ قَالَ: مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا بِشَيْءٍ وَسَأَسْأَلُهُ إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ، فَقَالَ: " لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ» " قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: وَالْأَوْقَاصُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى أَرْبَعِينَ وَالْأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ، وَفِي السَّنَدِ ضَعْفٌ وَفِي الْمَتْنِ أَنَّهُ رَجَعَ فَوَجَدَهُ حَيًّا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ، وَفِيهِ أَيْ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ حَدِيثٌ آخَرُ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُصَدِّقُ أَهْلَ الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنَ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَفِي السِّتِّينَ مُسِنَّةً وَتَبِيعًا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا آخُذَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ مُسِنَّةً أَوْ جَذَعًا، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَاعْتِرَاضٌ أَيْضًا بِأَنَّ مُعَاذًا لَمْ يُدْرِكْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيًّا، وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ مُعَاذًا. . . الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَقْدُمَ مُعَاذٌ، وَطَاوُسٌ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا، وَأُخْرِجَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ شَابًّا جَمِيلًا حَلِيمًا سَمْحًا مِنْ أَفْضَلِ شَبَابِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُمْسِكُ شَيْئًا، وَلَمْ يَزَلْ يُدَانُ حَتَّى أَغَرَقَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي الدَّيْنِ، فَلَزِمَهُ غُرَمَاؤُهُ حَتَّى تَغَيَّبَ عَنْهُمْ أَيَّامًا فِي بَيْتِهِ، فَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ، فَجَاءَ وَمَعَهُ غُرَمَاؤُهُ. . . فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَبَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْبُرَكَ وَيُؤَدِّيَ عَنْكَ دَيْنَكَ، فَخَرَجَ مُعَاذٌ إِلَى الْيَمَنِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ مُعَاذٌ. . الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، قَالَ الْحَاكِمَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى أَنَّهُ «قَدِمَ فَسَجَدَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا مُعَاذُ مَا هَذَا؟ " قَالَ: وَجَدْتُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْيَمَنِ يَسْجُدُونَ لِعُظَمَائِهِمْ، وَقَالُوا هَذِهِ تَحِيَّةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَذَبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» "، وَفِي هَذَا أَنَّ مُعَاذًا أَدْرَكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيًّا. اهـ وَلَعَلَّ الْجَمْعَ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1801 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمُعْتَدِي فِي الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1801 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُعْتَدِي) أَيِ السَّاعِي الْمُتَجَاوِزِ عَنْ قَدْرِ الْوَاجِبِ (فِي الصَّدَقَةِ) أَيْ فِي أَخْذِهَا (كَمَانِعِهَا) أَيْ فِي الْوِزْرِ، وَقِيلَ: الْمَالِكُ الْمُعْتَدِي بِكَتْمِ بَعْضِهَا أَوْ وَصْفِهَا عَلَى السَّاعِي حَتَّى أَخَذَ مِنْهُ مَا لَا يُجْزِئُهُ، أَوْ تَرَكَ عَنْهُ بَعْضَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، كَمَانِعِهَا مِنْ أَصْلِهَا فِي الْإِثْمِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُعْتَدِيَ بِمَا ذُكِرَ مَانِعٌ حَقِيقَةً فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّشْبِيهُ؟ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمُخَادِعُ فِي صُورَةِ الْمُعْطِي حَيْثُ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ عُرْفًا أَنَّهُ مَانِعٌ فَشُبِّهَ بِهِ لِيُعْلَمَ قُبْحُ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْمُعْتَدِي هُوَ الَّذِي يُعْطِيهَا غَيْرَ مُسْتَحِقِّهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ السَّاعِيَ إِذَا أَخَذَ خِيَارَ الْمَالِ فَإِنَّ الْمَالِكَ رُبَّمَا يَمْنَعُهَا فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى، فَكَانَ ظُلْمًا لِلْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُ هُوَ فِي الْإِثْمِ كَالْمَانِعِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُجَاوِزُ الْحَدَّ فِي الصَّدَقَةِ، بِحَيْثُ لَا يُبْقِي لِعِيَالِهِ شَيْئًا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيَمُنُّ وَيُؤْذِي، فَالْإِعْطَاءُ مَعَ الْمَنِّ وَالْأَذَى كَالْمَنْعِ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، قَالَ - تَعَالَى - {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263] فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ

عَلَى الْمُعْتَدِي فِي الصَّدَقَةِ مِنَ الْإِثْمِ مَا عَلَى الْمَانِعِ، فَلَا يَحِلُّ لِرَبِّ الْمَالِ كِتْمَانُ الْمَالِ، وَإِنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ السَّاعِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الِاسْتِمْرَارِ فِي الْمَنْعِ، فَإِذَا فُقِدَ الْقَيْدُ فُقِدَ التَّشْبِيهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ اهـ، وَهُوَ كِنْدِيٌّ بَصْرِيٌّ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ يُرْوِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

1802 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1802 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ) أَيْ وَلَا زَبِيبٍ (صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: بَلْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، فَكَانَ يَنْبَغِي إِيرَادُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ.

1803 - وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: «عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ» . مُرْسَلٌ رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1803 - (وَعَنْ مُوسَى) وَهُوَ أَبُو عِيسَى (بْنِ طَلْحَةَ) أَيِ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الْقُرَشِيِّ أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، تَابِعِيٌّ سَمِعَ أَبَاهُ وَجَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ (قَالَ: عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ بَعْضُهُمْ: أَحَذَ مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ إِنْ تَعَلَّقَ عَنِ النَّبِيِّ بِقَوْلِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ: كَانَ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قَالَ: عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مُعْتَرِضًا، وَلَا مَعْنَى لَهُ، قُلْتُ: بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ كِتَابَهُ بِهَذَا الْمَضْمُونِ أَوْ مُوَافِقٌ لِلرِّوَايَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: قَالَ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: مُرْسَلٌ، قَالَ: وَإِنْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذٍ كَانَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ كِتَابٍ فِي الْخَبَرِ، أَيْ صَادِرًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا، بَلْ يَكُونُ هَذَا وِجَادَةً. اهـ، لَكِنْ يَتَوَقَّفُ كَوْنُهُ وِجَادَةً عَلَى ثُبُوتِ كَوْنِ الْكِتَابِ بِخَطِّ مُعَاذٍ، وَاشْتَرَطُوا فِيهَا الْإِذْنَ بِالرِّوَايَةِ، وَحِينَئِذٍ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُرْسَلِ، لَكِنْ فِيهِ ثُبُوتُ الِاتِّصَالِ لِلِارْتِبَاطِ الْمُفِيدِ ثُبُوتَ النِّسْبَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا لِمَنْ شَرَطَ الِاتِّصَالَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، كَالصَّحِيحَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، فَكَوْنُهُ وِجَادَةً لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُرْسَلًا، فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ قَالَ: هَذَا مِنْ بَابِ الْوِجَادَةِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَقْلٍ مِنْ كِتَابِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ إِجَازَةٍ وَلَا سَمَاعٍ، وَلَا قِرَاءَةٍ. اهـ، فَعَلَى هَذَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُرْسَلًا لِعَدَمِ صِحَّةِ الْوِجَادَةِ، فَإِطْلَاقُهُ الْوِجَادَةَ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ لَا الِاصْطِلَاحِ، فَلَا مُنَافَاةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا قِيلَ إِنَّ مُوسَى هَذَا وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّاهُ لَمْ يَثْبُتْ (أَنَّهُ) أَيْ مُعَاذٌ (قَالَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا (أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ) أَيِ الزَّكَاةَ وَهِيَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ (مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَقَطْ، بَلْ تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيمَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ إِذَا كَانَ قُوتًا، وَعِنْدَنَا فِيمَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ قُوتًا كَانَ أَوْ لَا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ غَيْرُهَا. اهـ، وَسَبَقَهُ الْمُظْهِرُ بِذَلِكَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِنْ صَحَّ بِالنَّقْلِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ ثَمَّةَ شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَمَعْنَاهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْمُعْشَرَاتِ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَغَلَّبَ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحُبُوبِ لِكَثْرَتِهِمَا فِي الْوُجُودِ، وَأَصَالَتِهَا فِي الْقُوتِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِمَّا يَزْرَعُهُ النَّاسُ وَتَغْرِسُهُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ سَوَاءً كَانَ قُوتًا أَوْ غَيْرَ قُوتٍ، فَذَكَرَ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ عِنْدَهُ لِلتَّغْلِيبِ أَيْضًا (مُرْسَلٌ) قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ شَائِبَةُ الِاتِّصَالِ بِوَاسِطَةِ الْوِجَادَةِ إِنْ صَحَّ أَنَّ الْكِتَابَ بِخَطِّ مُعَاذٍ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) وَفِي مَعْنَاهُ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ: لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَالْحَصْرُ فِيهِ إِضَافِيٌّ لِخَبَرِ الْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالسَّيْلُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي عُمُومِ الْمُقْتَاتِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَأَمَّا الْقِثَّاءُ وَالْبِطِّيخُ وَالرُّمَّانُ وَالْقَضْبُ أَيْ بِالْمُعْجَمَةِ السَّاكِنَةِ وَهِيَ الرَّطْبَةُ فَعَفْوًا عَنَّا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ لَمْ يُوجِبْ فِيهِ شَيْئًا، فَمُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ وَتَوْضِيحٍ وَبَيَانٍ.

1804 - وَعَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فِي زَكَاةِ الْكُرُومِ: " إِنَّهَا تُخْرَصُ كَمَا تُخْرَصُ النَّخْلُ، ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا، كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1804 - (وَعَنْ عَتَّابٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ (بْنِ أَسِيدٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَاسْتَعْمَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَكَّةَ، وَعُمْرُهُ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَأَقَرَّهُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا يَوْمَ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ مِنْ سَادَةِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي زَكَاةِ الْكُرُومِ) أَيْ فِي كَيْفِيَّةِ زَكَاتِهَا، وَهِيَ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ الْكَرْمِ وَهُوَ شَجَرُ الْعِنَبِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُنَافِي تَسْمِيَةُ الْعِنَبِ كَرْمًا خَبَرَ الشَّيْخَيْنِ: «لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ كَرْمًا، فَإِنَّ الْكَرْمَ هُوَ الْمُسْلِمُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ» ، لِأَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ عَلَى أَنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ مِنْ لَفْظِ الرَّاوِي، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، أَوْ خَاطَبَ بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا بِهِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا سَمَّتِ الْعَرَبُ الْعِنَبَ كَرْمًا لِكَثْرَةِ حَمْلِهِ، وَسُهُولَةِ قَطْفِهِ، وَكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ، إِذْ هُوَ فَاكِهَةٌ وَقُوتٌ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ خَلٌّ وَدِبْسٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْخَمْرُ كَرْمٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَحُثُّهُمْ عَلَى الْكَرَمِ، فَنَهَى الشَّرْعُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا لِتَضَمُّنِهِ مَدْحَهَا، فَتَتَشَوَّقُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَكَانَ اسْمُ الْكَرْمِ بِالْمُؤْمِنِ وَبِقَلْبِهِ أَلْيَقَ وَأَعْلَقَ لِكَثْرَةِ خَيْرِهِ وَنَفَعِهِ، وَاجْتِمَاعِ الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ فِيهِ. اهـ، وَفِيهِ أَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ إِنَّمَا هُوَ مَظَنَّةُ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ الرَّاوِي: بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَلَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَكَاةِ الْكُرُومِ فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ (إِنَّهَا تُخْرَصُ) أَيْ تُحْزَرُ وَتُخَمَّنُ (كَمَا تُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ) أَيِ الْمَخْرُوصِ (زَبِيبًا) قَالَ الْمُظْهِرُ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ إِذَا ظَهَرَ فِي الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ حَلَاوَةٌ يُقَدِّرُ الْحَازِرُ أَنَّ هَذَا الْعِنَبَ إِذَا صَارَ زَبِيبًا كَمْ يَكُونُ، فَهُوَ حَدُّ الزَّكَاةِ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا (كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ وَلَا أَدْرَكَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ مَاجَهْ، لَكِنْ بَيَّنَ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ أَنَّهُ مِنْ مَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا وَسَنَدُهُ صَحِيحًا، أَوْ حَسَنًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا، فَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَ الْمُرْسَلَ حُجَّةً، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً، إِلَّا إِذَا اعْتُضِدَ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَصَحُّ فِيهَا إِنَّمَا يُعْتَدُّ بِهَا إِذَا اعْتُضِدَتْ بِإِسْنَادٍ أَوْ إِرْسَالٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ يَقُولُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، أَوْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ هُنَا، ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ إِنَّ حِكْمَةَ جَعْلِ النَّخْلِ فِيهِ أَصْلًا مَقِيسًا عَلَيْهِ أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتِ الْأَوَّلَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَبِهَا نَخْلٌ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَخَرَصَهَا، فَلَمَّا فَتَحَ الطَّائِفَ وَبِهَا الْعِنَبُ الْكَثِيرُ أَمَرَ بِخَرْصِهِ، كَخَرْصِ النَّخْلِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ، وَهُوَ الْأَحْسَنُ، أَوْ أَنَّ النَّخْلَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ.

1805 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: " «إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1805 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ (حَدَّثَ) أَيْ رَوَى وَأَخْبَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إِذَا خَرَصْتُمْ) أَيْ خَمَّنْتُمْ أَيْ أَيُّهَا السُّعَاةُ (فَخُذُوا) أَيْ زَكَاةَ الْمَخْرُوصِ مِنْ آفَةٍ (وَدَعُوا) أَيِ اتْرُكُوا (الثُّلُثَ) بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهِ أَيْ تَوْسِعَةً عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَلِجِيرَانِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " فَخُذُوا " جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، وَدَعُوا، عَطْفٌ عَلَيْهِ إِذَا خَرَصْتُمْ فَبَيِّنُوا مِقْدَارَ الزَّكَاةِ، ثُمَّ خُذُوا ثُلْثَيْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ، وَاتْرُكُوا الثُّلُثَ لِصَاحِبِ الْمَالِ حَتَّى يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: حُذِفَ فَخُذُوا، وَجُعِلَ " فَدَعُوا " جَوَابًا لِعَدَمِ اللَّبْسِ، قَالَ الْقَاضِي: الْخِطَابُ مَعَ الْمُصَدِّقِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا لِلْمَالِكِ ثُلُثَ مَا خَرَصُوا عَلَيْهِ أَوْ رُبُعَهُ تَوْسِعَةً عَلَيْهِ، حَتَّى يَتَصَدَّقَ بِهِ هُوَ عَلَى جِيرَانِهِ وَمَنْ يَمُرُّ بِهِ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَغْرَمَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ لَا عِبْرَةَ بِالْخَرْصِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الرِّبَا، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِيهِ كَانَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ عَتَّابٍ فَإِنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَتَحْرِيمُ الرِّبَا كَانَ مُقَدَّمًا. اهـ، كَلَامُهُ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ فِي الصَّحِيحِ صَرِيحٌ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا أَخْذُ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَتْرُكُ السَّاعِي لَهُ نَخْلَةً أَوْ نَخْلَاتٍ يَأْكُلُهَا أَهْلُهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ: لَا يَتْرُكُ لَهُ شَيْئًا وَأَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ: دَعُوا لَهُ ذَلِكَ لِيُفَرِّقَهُ بِنَفْسِهِ عَلَى نَحْوِ أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِمْ، لِطَمَعِهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْهُ (فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا) أَيْ لَهُ (الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَمَالِكٍ: لَا يُتْرَكُ شَيْءٌ مِنَ الزَّكَاةِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ فِي يَهُودِ خَيْبَرَ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَاهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ نِصْفَ الثَّمَرَةِ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِصْفَهَا، فَأَمَرَ الْخَارِصَ أَنْ يَتْرُكَ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ مُسَلَّمًا لَهُمْ، وَيُقَسِّمَ الْبَاقِي نِصْفًا لَهُمْ وَنِصْفًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

1806 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودٍ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ، قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1806 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ) أَيْ يُرْسِلُ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودٍ) أَيْ فِي خَيْبَرَ (فَيَخْرُصُ النَّخْلَ) بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ يَحْزِرُهَا (حِينَ يَطِيبُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ أَيْ يَظْهَرُ فِي الثِّمَارِ الْحَلَاوَةُ (قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَأَبَى دَاوُدَ: قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ ابْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ الثِّمَارُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ يُخَيِّرُ الْيَهُودَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ الْخَرْصِ أَوْ يَدْفَعُوهُ إِلَيْهِ بِهِ، لِكَيْ يُحْصِيَ الزَّكَاةَ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتُفَرَّقَ، وَهَذِهِ زَكَاةُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَرَكُوهَا فِي أَيْدِي الْيَهُودِ يَعْمَلُونَ فِيهَا. اهـ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، فَبَيَّنَهُ بِأَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ لَمْ يَخْرُصْ عَلَيْهِمْ إِلَّا حِصَّةَ الْغَانِمِينَ، دَفَعُوا إِلَيْهِمْ نَخْلَهَا لِيَعْمَلُوا فِيهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ التَّمْرِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، لَكِنْ أَخْرَجَ هُوَ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ شَاهِدًا لَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

1807 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْعَسَلِ فِي كُلِّ عَشْرَةِ أَزُقٍّ زِقٌّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَلَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرُ شَيْءٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1807 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي كُلِّ عَشْرَةِ أَزُقٍّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ (أَفُعْلٍ) جَمْعُ قِلَّةٍ (زِقٌّ) بِكَسْرِ الزَّايِ مُفْرَدُهُ، وَهُوَ ظَرْفٌ مِنْ جِلْدٍ يُجْعَلُ فِيهِ السَّمْنُ وَالْعَسَلُ وَغَيْرُهَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحْمَدُ، وَفِي الْجَدِيدِ لَا عُشْرَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ) أَيِ التِّرْمِذِيُّ (فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ) أَيْ مَحَلُّ قَوْلٍ، أَوْ قَوْلٌ ; قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَوْضِعُ قَوْلٍ لِلْمُحَدِّثِينَ أَيْ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَطَعَنُوا فِي صِحَّتِهِ (وَلَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْبَابِ) أَيْ بَابِ زَكَاةِ الْعَسَلِ (كَثِيرُ شَيْءٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَحَادِيثَ دَالَّةً عَلَى أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ: وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ مِنَ الْعَسَلِ الْعُشْرَ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤْخَذُ فِي زَمَانِهِ مِنَ الْعَسَلِ الْعُشْرُ، مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِنْ أَوْسَطِهَا مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهِ، وَغَايَةُ مَا فِي حَدِيثِ الْقِرَبِ أَنَّهُ كَانَ أَدَاؤُهُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً، وَهُوَ فَرْعُ بُلُوغِ عَسَلِهِمْ هَذَا الْمَبْلَغَ، أَمَّا النَّفْيُ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ قِرَبٍ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ فَضَعِيفٌ.

1808 - وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1808 - (وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ (قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ) أَيْ أَخْرِجْنَ زَكَاةَ أَمْوَالِكُنَّ (وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، فَكَسْرُ اللَّامِ وَتَشْدِيدُ التَّحْتِيَّةِ وَاحِدُهُ: حَلْيٌ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، مَا تَحَلَّى أَيْ تَزَيَّنَ بِهِ لُبْسًا أَوْ غَيْرَهُ، دَلَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ الْمُبَاحِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا زَكَاةَ فِي الْحَلْيِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ (فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ لِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا الْبَاعِثَةِ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَةِ لِلْعُقْبَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ.

1809 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَتَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُمَا: " تُؤَدِّيَانِ زَكَاتَهُ؟ " قَالَتَا: لَا. فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ " قَالَتَا: لَا، قَالَ: " فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَوَى الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ نَحْوَ هَذَا، وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ وَابْنُ لَهِيعَةَ يُضَعَّفَانِ فِي الْحَدِيثِ. وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1809 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَتَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَسْوِرَةٌ لِجَمْعِ الْيَدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي يَدَيْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سِوَارَيْنِ (مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُمَا: تُؤَدِّيَانِ) أَيْ أَتُؤَدِّيَانِ (زَكَاتَهُ) أَيِ الذَّهَبَ أَوْ مَا ذَكَرَ مِنَ السِّوَارَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِيهِ بِمَعْنَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] (قَالَتَا: لَا. فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ قَالَتَا: لَا، قَالَ: فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ، قَالَ الْأَشْرَافُ: وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ التَّطَوُّعُ، أَوِ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ الْإِعَارَةُ. اهـ، وَهُمَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ إِذْ لَا وَعِيدَ فِي تَرْكِ التَّطَوُّعِ وَالْإِعَارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الزَّكَاةِ عَلَى الْعَارِيَةِ، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، قَالَ: أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ كَثِيرًا بِالْإِسْرَافِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ مُتَّخَذًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، قَدْ بَقِيَتْ فِيهِ زَكَاةٌ. اهـ، وَهُمَا أَبْعَدُ مِنَ الْأَوَّلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّدَقَةِ التَّطَوُّعُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْعِيدِ، فَإِنَّهُنَّ حِينَئِذٍ لَمْ يُخْرِجْنَ رُبْعَ الْعُشْرِ مِنَ الْحَلْيِ عَلَيْهِنَّ، بَلْ كُنَّ يَرْمِينَ مَا كَانَ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَلْيِ فِي حِجْرِ بِلَالٍ. اهـ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي صَدَقَةَ الْفَرْضِ، سَوَاءً كَانَتْ بِمِقْدَارِ الْفَرْضِ، أَوْ زَائِدًا عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَئِنْ سَلِمَ (فَلَوْ) هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ تَصَدَّقْنَ مِنْ كُلِّ مَا يَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ حَتَّى مِمَّا يَجِبُ فِيهِ مِنَ الْحَلْيِ، وَمِنْ ثَمَّ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ " «فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ» " اهـ وَلَا يَخْفَى بُعْدُ مِثْلِ هَذَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَهُوَ حَمْلُ " لَوْ " عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَلَا يُرَادُ بِهَا حَقِيقَتُهَا بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ " لَوْ " هُنَا مِثْلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» "، أَيِ اتَّقُوهَا بِمَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ قَلَّ كَشِقِّ تَمْرَةٍ، أَوْ كَثُرَ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: " «فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ» "، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ تَعْلِيلِ الطِّيبِيِّ بِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَوَى الْمُثَنَّى بْنُ صَبَّاحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَيْبٍ نَحْوَ هَذَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَضَعَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْحَدِيثِ، وَأَرَادَ بِنَحْوِ هَذَا مَعْنَاهُ (وَالْمُثَنَّى بْنُ صَبَّاحٍ وَابْنُ لَهِيعَةَ يُضَعَّفَانِ فِي الْحَدِيثِ) قَالَ مِيرَكُ: أَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ هَذَا الْحَدِيثَ أَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ رَوَى الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ إِلَخْ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ تَقْرِيبِ ذِكْرِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَتَضْعِيفِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِجْمَالُ وَالْإِغْلَاقُ فِي نَقْلِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ (وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ) قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ: بَلْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي حُلِيِّهِمَا أَيِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ سَوَاءً كَانَ مُبَاحًا أَوْ لَا حَتَّى يَجِبَ أَنْ يَضُمَّ الْخَاتَمَ مِنَ الْفِضَّةِ، وَحِلْيَةَ السَّيْفِ، وَالْمُصْحَفِ، وَكُلَّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَالْمَنْقُولَاتِ مِنَ الْعُمُومَاتِ وَالْخُصُوصَاتِ تُصَرِّحُ بِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «هَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» "، رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ، وَمِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ بِنْتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: " أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ " قَالَتْ: لَا، قَالَ: " أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ " قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَطَّانُ فِي كِتَابِهِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْمُنْذِرُ فِي مُخْتَصَرِهِ: إِسْنَادُهُ لَا يُقَالُ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ رَجُلًا رَجُلًا، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: أَتَتِ امْرَأَتَانِ. . فَسَاقَهُ، وَتَضْعِيفُ التِّرْمِذِيِّ وَقَوْلُهُ: " لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ " مُؤَوَّلٌ وَإِلَّا فَخَطَأٌ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لَعَلَّ التِّرْمِذِيَّ قَصَدَ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا، وَإِلَّا فَطَرِيقُ أَبِي دَاوُدَ لَا مَقَالَ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ تَصْحِيحِهِ لِحَدِيثٍ إِلَى دَاوُدَ: وَبِهَذَا ضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّ عِنْدَهُ فِيهِ ضَعِيفَيْنِ، ابْنُ لَهِيعَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَاحِ، وَمِنْهُمَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: «دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتِ وَرِقٍ، فَقَالَ: " مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ " فَقُلْتُ: صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لَكَ بِهِنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ؟ "، فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: " هُنَّ حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ» "، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الْحَدِيثَ كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا الْمَطْلُوبِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَرْفُوعَةٌ، غَيْرَ أَنَّا اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى مَا لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمَنْقُولَاتُ عَنِ الْمُخَالِفِينَ مِمَّا يَنْبَغِي صَوْنُ النَّفْسِ عَنْ إِحْضَارِهَا وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَا يُصَرِّحُ بِرَدِّهَا. اهـ، كَلَامُ الْمُحَقِّقِ مُلَخَّصًا، وَمِنْ جُمْلَةِ تَأْوِيلِهِمْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الْحَلْيَ كَانَ مُحُرَّمًا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ حِينَئِذٍ لِتَحْرِيمِهِ، فَلَمَّا أُبِيحَ زَالَتْ زَكَاتُهُ.

1810 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: " مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1810 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ) فِي النِّهَايَةِ: هُوَ جَمْعُ وَضَحٍ بِفَتْحَتَيْنِ نَوْعٌ مِنَ الْحَلْيِ، يُعْمَلُ مِنَ الْفِضَّةِ سُمِّيَ بِهِ لِبَيَاضِهِ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟) أَيِ أَسْتِعْمَالُ الْحَلْيِ كَنْزٌ مِنَ الْكُنُوزِ الَّذِي تُوُعِّدَ عَلَى اقْتِنَائِهِ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا (فَقَالَ: مَا بَلَغَ) أَيِ الَّذِي بَلَغَ (أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ) أَيْ نِصَابًا (فَزُكِّيَ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَلَيْسَ بِكَنْزٍ. رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: رِجَالُهُ رِجَالُ الْبُخَارِيِّ، اهـ، وَأَقُولُ: وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ أَيْضًا. اهـ، وَأَقُولُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

1811 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1811 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي) أَيْ مِنَ الْمَالِ الَّذِي (نُعِدُّهُ) أَيْ نُهَيِّئُهُ (لِلْبَيْعِ) أَيْ لِلتِّجَارَةِ، وَخُصَّ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُنْوَى بِهِ الْقِنْيَةُ لَا زَكَاةَ فِيهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَهَذَا تَحْسِينٌ مِنْهُمْ، وَصَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ إِسْنَادَهُ حَسَنٌ. اهـ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ بِوُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَيَدُلُّ لَهَا أَيْضًا خَبَرُ الْحَاكِمِ بِسَنَدَيْنِ صَحِيحَيْنِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ» " وَالْبَزُّ أَمْتِعَةُ الْبَزَّازِ، وَالسِّلَاحُ، وَلَيْسَ فِيهِ زَكَاةُ عَيْنٍ، فَصَدَقَتُهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَأَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مَنْ يَبِيعُ الْأُدْمَ بِأَنْ يُقَوِّمَهُ وَيُخْرِجَ زَكَاتَهُ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعُرُوضِ زَكَاةٌ إِلَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ، وَرِوَايَةُ لَا زَكَاةَ فِيهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفَةٌ.

1812 - وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ مَعَادِنَ الْقَبِيلَةِ، وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ» ، فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا تُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاةُ إِلَى الْيَوْمِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1812 - (وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ) أَيْ عَنْ كَثِيرِينَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ) أَيْ خَصَّ (لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ مَعَادِنَ الْقَبَيْلَةِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْبَاءِ مَجْرُورَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى (قَبَلٍ) اسْمُ مَوْضِعٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَحْفُوظُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْبَاءِ. اهـ، وَلَعَلَّ غَيْرَ الْمَحْفُوظِ كَسْرُ الْقَافِ وَسُكُونُ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْإِقْطَاعُ مَا يَجْعَلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْأَجْنَادِ وَالْمُرْتَزِقَةِ مِنْ قِطْعَةِ أَرْضٍ لِيَرْتَزِقَ مِنْ رِيعِهَا، فِي النِّهَايَةِ: الْإِقْطَاعُ يَكُونُ تَمْلِيكًا، وَغَيْرَهُ وَفِي حَدِيثٍ أَبْيَضَ: أَنَّهُ اسْتَقْطَعَهُ الْمِلْحَ، أَيْ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ إِقْطَاعًا يَتَمَلَّكُهُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ، وَيَنْفَرِدُ. اهـ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي أَعْطَاهُ لِيَعْمَلَ فِيهَا وَيُخْرِجَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ بَاطِنَةً، فَإِنَّ الظَّاهِرَةَ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا (وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ وَضَبَطَ بِالْمُعْجَمَةِ وَهُوَ أَيْضًا مَوْضِعٌ وَاسِعٌ بِعَيْنِهِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، أَوْ أَقَلُّ، وَفِيهِ مَسَاجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهِ قُرًى كَثِيرَةٌ، وَهُوَ بِأَعْلَى الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ مِنْ دَرْبِ الْمَاشِي، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ (فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاةُ إِلَى الْيَوْمِ) أَيْ لَا يُأْخَذُ مِنْهَا الْخَمُسُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ إِلَّا رُبْعُ الْعُشْرِ، كَزَكَاةِ النَّقْدَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فَيُوجِبَانِ الْخُمُسَ فِي الْمَعْدِنِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيِّ: إِنْ وَجَدَهُ بِتَعَبٍ وَمُؤْنَةٍ يَجِبُ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَإِلَّا فَالْخُمُسُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1813 - عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ، وَلَا فِي الْعَرَايَا صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِي الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ، وَلَا فِي الْجَبْهَةِ صَدَقَةٌ» "، قَالَ الصَّقْرُ: الْجَبْهَةُ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْعَبِيدُ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1813 - (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيْسَ فِي الْخَضْرَوَاتِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: كَالرَّيَاحِينِ وَالْأَوْرَادِ وَالْبُقُولِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ (صَدَقَةٌ) لِأَنَّهَا لَا تُقْتَاتُ، وَالزَّكَاةُ تَخْتَصُّ بِالْقُوتِ كَمَا مَرَّ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الْقُوتَ مَا يَقُومُ بِهِ بَدَنُ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الِاقْتِيَاتَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا حَيَاةَ بِدُونِهَا، فَوَجَبَ فِيهِ حَقٌّ لِأَرْبَابِ الضَّرُورَاتِ (وَلَا فِي الْعَرَايَا) جَمْعُ عَرِيَّةٍ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، أَوْ مَفْعُولَةٍ، وَهِيَ النَّخْلَةُ الَّتِي يُعْطِيهَا مَالِكُهَا لِغَيْرِهِ لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا عَامًا أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي الْقَامُوسِ وَأَعْرَاهُ النَّخْلَةَ وَهَبَ ثَمَرَتَهَا عَامًا، وَالْعَرِيَّةُ النَّخْلَةُ الْمُعَرَّاةُ، وَالَّتِي أُكِلَ مَا عَلَيْهَا، وَمَا عُزِلَ عَنِ الْمُسَاوَمَةِ عِنْدَ بَيْعِ النَّحْلِ، اهـ (صَدَقَةٌ) لِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَكُونُ دُونَ النِّصَابِ أَوْ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهَا قَبْلَ الْوُجُوبِ بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ ( «وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» ) لِمَا مَرَّ أَنَّهُ قَلِيلٌ فَلَا تَتَشَوَّفُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الْمُوَاسَاةِ مِنْهُ (وَلَا فِي) الْإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ (الْعَوَامِلِ) لِلْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ (صَدَقَةٌ) لِأَنَّهَا بِالْعَمَلِ صَارَتْ غَيْرَ مُقْتَنَاةٍ لِلنَّمَاءِ كَمَا مَرَّ (وَلَا فِي الْجَبْهَةِ صَدَقَةٌ، قَالَ) أَبُو سَعِيدٍ (الصَّقْرُ: الْجَبْهَةُ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْعَبِيدُ) وَالَّذِي فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا الْخَيْلُ، قَالَ فِي الْفَائِقِ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا خِيَارُ الْبَهَائِمِ كَمَا يُقَالُ وَجْهُ السِّلْعَةِ بِخِيَارِهَا، وَوَجْهُ الْقَوْلِ وَجَبْهَتُهُمْ لِسَيِّدِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ خِيَارُ الْخَيْلِ، ثُمَّ رَأَيْتُ صَاحِبَ النِّهَايَةِ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مَا قَالَهُ الصَّقْرُ فِيهِ بُعْدٌ وَتَكَلُّفٌ (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) .

1814 - وَعَنْ طَاوُسٍ «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَتَى بِوَقَصِ الْبَقَرِ فَقَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ: الْوَقَصُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْفَرِيضَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1814 - (وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَتَى بِوَقَصِ) بِفَتْحِ الْقَافِ (الْبَقَرِ فَقَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ) أَيْ بِأَخْذِ شَيْءٍ (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ) أَيِ الشَّافِعِيُّ (الْوَقَصُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْفَرِيضَةَ) أَيْ مَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ ابْتِدَاءً كَأَرْبَعِ الْإِبِلِ، وَدُونَ ثَلَاثِينَ الْبَقَرِ، وَأَرْبَعِينَ الْغَنَمِ، أَوْ فِي الْأَثْنَاءِ كَمَا بَيْنَ الْخَمْسِ وَالْعَشْرِ فِي الْأَوَّلِ، وَالثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ فِي الثَّانِي، وَالْأَرْبَعِينَ وَالْمِائَةِ الْإِحْدَى وَالْعِشْرِينَ فِي الثَّالِثِ، وَالْأَشْهَرُ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ بَيَانِ قَدْرِ أَكْثَرِ وَقَصِ الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ: الْوَقَصُ فِي الْبَقَرِ خَاصَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب صدقة الفطر]

[بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1815 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ) وَيُقَالُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ أَوِ الْفِطْرَةُ كَأَنَّهَا مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ الْخِلْقَةُ، فَوُجُوبُهَا عَلَيْهَا تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ أَيْ تَطْهِيرٌ لَهَا وَتَنْقِيَةٌ لِعَمَلِهَا، وَيُقَالُ لِلْمُخْرَجِ هُنَا فِطْرَةٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَهِيَ مُوَلَّدَةٌ لَا عَرَبِيَّةٌ وَلَا مُعَرَّبَةٌ، بَلِ اصْطِلَاحِيَّةٌ لِلْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ عَلَى الْمُخْتَارِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَفُرِضَتْ هِيَ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، أَمَّا رَمَضَانُ فَفِي شَعْبَانَ، وَأَمَّا هِيَ فَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمَيْنِ، وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَجَبَتْ بِمُوجَبِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ، مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِعُمُومِهَا فِيهَا، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ: إِنَّ وُجُوبَهَا سَابِقٌ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ، وَاعْتَدَّ بِهِ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَقِيلَ: إِنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ فُرِضَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَيَدُلُّ لِفَرْضِهَا قَبْلَ الزَّكَاةِ خَبَرُ قَيْسِ ابْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا» أَيِ اكْتِفَاءً بِالْأَمْرِ السَّابِقِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ: وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ، أَيْ نُخْرِجُهَا، وَحِكْمَةُ إِيجَابِهَا طُهْرُ الصَّوْمِ عَلَى مَا يَأْتِي، وَوُجُوبُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ جَمْعًا حَكَوُا الْخِلَافَ فِيهَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَتَبِعَهُمُ ابْنُ اللَّبَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا، لَكِنَّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ مَا قَالَهُ غَلَطٌ صَرِيحٌ، وَفِي الْمَجْمُوعِ سَبَقَهُ إِلَيْهِمُ الْأَصَمُّ وَهُوَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ.

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1815 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّهَا فَرِيضَةٌ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، أَقُولُ لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَهُوَ فَرْضِيٌّ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى الِافْتِرَاضِ فَإِنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُتَعَيَّنٌ، مَا لَمْ يُقَيِّمْ صَارِفٌ عَنْهُ، وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّقْدِيرِ، خُصُوصًا فِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَمَعْنَى لَفْظِ فَرَضَ هُوَ مَعْنَى لَفْظِ أَمَرَ، وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ بِظَنِّيٍّ إِنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ الِافْتِرَاضَ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهٍ يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ، فَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ، الَّذِي نَقُولُ بِهِ، غَايَتُهُ أَنَّ الْفَرْضَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ أَعَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ فِي عُرْفِنَا، فَأَطْلَقْنَاهُ عَلَى أَحَدِ جُزْأَيْهِ. اهـ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا، وَلَمَّا رَأَى الْحَنَفِيَّةُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ، وَالثَّانِيَ مَا ثَبَتَ بِظَنِّيٍّ قَالُوا إِنَّ الْفَرْضَ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاجِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذَا قَطْعِيٌّ لِمَا عَلِمْتُ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَالْفَرْضُ فِيهِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، حَتَّى عَلَى قَوَاعِدِهِمْ، فَلَا يُحْتَاجُ لِتَأْوِيلِهِمُ الْفَرْضَ هُنَا بِالْوَاجِبِ. اهـ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي لُزُومِ هَذَا الْفِعْلِ، وَأَمَّا أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ الْوَاجِبِ بِنَاءً عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لَا سِيَّمَا وَالْأَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ فِي التَّعْبِيرِ بِالْفَرْضِ وَالْوُجُوبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وُجُوبُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا حَكَاهُ الْمُنْذِرِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فَمَنْقُوضٌ بِأَنَّ جَمْعًا حَكُوا الْخِلَافَ فِيهَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَبِعَهُمُ ابْنُ اللَّبَّانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الْأَصَمُّ، هَذَا وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ صَلَّى وَصَامَ، وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَرَبِيعَةَ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا أَهْلَ الْبَادِيَةِ، فَثَبَتَ بِهَذَا النِّزَاعِ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَدِيثُ ظَنِّيٌّ وَمَدْلُولُهُ غَيْرُ قَطْعِيٍّ حَالَ كَوْنِهَا (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ الصَّاعَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَأَخَذَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ رُجُوعُ أَبِي يُوسُفَ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ، وَمَنْ تَبِعَهُ كَالشَّافِعِيِّ، وَتَضْعِيفُ الْبَيْهَقِيِّ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى حُدُوثِ الضَّعْفِ بَعْدَ تَعَلُّقِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ، ثَمَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، فَلَيْسَ ذِكْرُهُمَا لِحَصْرِ الْإِعْطَاءِ مِنْهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّصَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْ لِلْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ إِذَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ، وَقُوتِ عِيَالِهِ، لِيَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ قَدْرُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَقُولُ: وَهَذَا تَقْدِيرُ نِصَابٍ كَمَا لَا يَخْفَى، إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَيَّدُوا هَذَا الْإِطْلَاقَ بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ تُفِيدُ التَّقْيِيدَ بِالْغِنَى، وَصَرَفُوهُ إِلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَالْعُرْفِيِّ، وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا، مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» "، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا، وَتَعْلِيقَاتُهُ الْمَجْزُومَةُ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ رَوَاهُ مَرَّةً بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَفْظُ الظَّهْرِ مُقْحِمٌ كَظَهْرِ الْقَلْبِ، وَظَهْرُ الْغَيْبِ فِي الْمَغْرِبِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ زِيَادَةً عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَمَّا مَا رَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ أَبِي ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صَغِيرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَدُّوا صَاعًا مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ "، شَكَّ حَمَّادٌ، عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ، ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، حُرٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ، غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ، أَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطَى» فَقَدْ ضَعَّفَهُ، وَلَوْ صَحَّ لَا يُقَاوِمُ مَا رَوَيْنَاهُ فِي الصِّحَّةِ، مَعَ أَنَّ مَا لَا يَنْضَبِطُ كَثْرَةً مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ فِيهِ الْفَقِيرُ، فَكَانَتْ تِلْكَ رِوَايَةً شَاذَّةً فَلَا تُقْبَلُ خُصُوصًا مَعَ نُبُوِّ قَوَاعِدِ الصَّدَقَاتِ، وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهَا (عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ وُجُوبَ الْفِطْرَةِ عَلَى السَّيِّدِ كَالْوُجُوبِ عَلَى الْعَبْدِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَتَعَلَّقَ التَّمْلِيكُ إِذْ لَا يَمْلِكُ إِلَّا الْمَالِكُ، وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِ الْحَرِّ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الرُّكْنُ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهَا عَلَى الْعَبْدِ وَيَتَحَمَّلُهُ السَّيِّدُ، لَيْسَ بِذَاكَ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ، أَنْ يَصْرِفَ الْمُكَلَّفُ نَفْسَ مَنْفَعَتِهِ لِمَالِكِهِ، وَهُوَ الرَّبُّ - تَعَالَى - ابْتِلَاءً لَهُ لِتَظْهَرَ طَاعَتُهُ مِنْ عِصْيَانِهِ، وَلِذَا لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ إِلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، فَإِذَا فُرِضَ كَوْنُ الْمُكَلَّفِ لَا يَلْزَمُهُ شَرْعًا صَرْفُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِعْلُ الْإِعْطَاءِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ شَخْصًا آخَرَ لَزِمَ انْتِفَاءُ الِابْتِلَاءِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التَّكْلِيفِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ، وَثُبُوتُ الْفَائِدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْآخَرِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الَّذِي لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ يُمْكِنُ أَنْ يُكَلِّفَ ابْتِدَاءً السَّيِّدَ بِسَبَبِ عَبْدٍ مَلَّكَهُ لَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَوَجَبَ لِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ لُزُومُ انْتِفَاءِ مَقْصُودِ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ مِنْ لَفْظِ " عَلَى " فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ، وَعَبْدٍ عَلَى مَعْنَى عَنْ كَقَوْلِهِ:

إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا وَهُوَ كَثِيرٌ، هَذَا لَوْ لَمْ يَجِئْ شَيْءٌ مِنْ أَلْفَاظِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ (عَنْ) كَيْلَا يُنَافِيَهُ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ فَكَيْفَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صَرَّحَ بِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ) وَهُوَ يَعُمُّ الْحَاضِرَ وَالْغَائِبَ حَالَ كَوْنِهِمْ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنَ الْعَبْدِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِطْرَةُ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: يَجِبُ لِلْإِطْلَاقِ وَلِحَدِيثٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، نِصْفَ صَاعٍ مَنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ» "، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الصَّحِيحِ يُوجِبُهَا فِي الْكَافِرِ، وَالتَّقْيِيدُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يُعَارِضُهُ، لِمَا عُرِفَ مِنْ عَدَمِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْأَسْبَابِ لِأَنَّهُ لَا تَزَاحُمَ فِيهَا فَيُمْكِنُ الْأَخْذُ بِهِمَا فَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ سَبَبًا، بِخِلَافِ وُرُودِهَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، هَذَا وَتَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ دُونَ زَوْجِهَا عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ (وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لِجَوَازِ التَّأْخِيرِ عَنِ الْخُرُوجِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَفِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ عَنِ الْيَوْمِ خِلَافٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ نَدْبًا خَبَرُ الْحَسَنِ: «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ إِنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا لِلْوُجُوبِ وَإِنْ قَوَّاهُ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا. اهـ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ خَبَرَ الْحَسَنِ يُفِيدُ الْوُجُوبَ إِلَّا أَنَّ جَمَاعَةً ادَّعَوْا أَنَّ إِخْرَاجَهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَفْضَلُ إِجْمَاعًا، ثُمَّ مِمَّا يُؤَكِّدُونَ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ جَوَازُ التَّقَدُّمِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ بَعْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: فَإِنْ قَدَّمُوهَا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ جَازَ، لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ، يَعْنِي الرَّأْسَ الَّذِي يُمَوِّنُهُ، وَيَلِي عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ، وَفِيهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ، إِلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ لَابُدَّ مِنْ كَوْنِهِ بِإِذْنٍ سَابِقٍ، فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ قَبْلَ الْوُجُوبِ مِمَّا لَمْ يُعْقَلْ، فَلَمْ يَكُونُوا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ إِلَّا بِسَمْعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ: عِنْدَ قَوْلِهِ: هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ خَلَفٍ، وَكَذَا الشَّافِعِيُّ بِجَوَازِ تَعْجِيلِهَا بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ لَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَلَا فِطْرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَعَمَّا قِيلَ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَهُ، وَمَا قِيلَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ أَصْلًا، اهـ. وَكَأَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبِمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ، وَكَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسِّمُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الْمُصَلَّى وَيَقُولُ: " «أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ» " اهـ وَفِي رِوَايَةٍ " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " وَلَعَلَّ الْأَمْرَ بِالْإِغْنَاءِ لِئَلَّا يَتَشَاغَلَ الْفَقِيرُ بِالْمَسْأَلَةِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوا أَمْرَهُ وَفِعْلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِمَا تَقَدَّمَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

1816 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مَنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1816 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بُرٍّ بِقَرِينِةِ قَوْلِهِ (أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ فَيَكُونُ عَطْفُ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِنْ أَرَدْتَ تَحْقِيقَ الْمَرَامِ فَعَلَيْكَ بِشَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ فَإِنَّهُ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ (أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ) قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: اخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ أَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِتَخْيِيرِ الْمُؤَدَّى مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْ لِتَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا وَهُوَ الْغَالِبُ، فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لِلتَّخْيِيرِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لِتَعْيِينِ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْغَلَبَةِ وَهُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَمَعْنَاهُ: كُنَّا نُخْرِجُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ بِحَسَبِ أَقْوَاتِنَا وَمُقْتَضَى أَحْوَالِنَا اهـ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ هَذِهِ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، فَإِنَّ الْقُوتَ الْغَالِبَ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى مَا دُونَهُ فِي الشَّرَفِ اهـ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ (أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ هُوَ الْكِشْكُ إِذَا كَانَ مِنَ اللَّبَنِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ لَبَنٌ يَابِسٌ غَيْرُ مَنْزُوعِ الزُّبْدِ، وَقَدْ ضَبَطَ بَعْضُهُمُ الْأَقِطَ بِتَثْلِيثِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي الْأَقِطِ خِلَافٌ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ (أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهَا الْحَسَنُ عَنْهُ، وَصَحَّحَهَا أَبُو الْيُسْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ نِصْفُ صَاعٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1817 - «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ: أَخْرِجُوا صَدَقَةَ صَوْمِكِمْ، فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ، أَوْ مَمْلُوكٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1817 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ لِلنَّاسِ (فِي آخِرِ رَمَضَانَ) ظَرْفٌ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفَ قَوْلِهِ ( «أَخْرِجُوا صَدَقَةَ صَوْمِكُمْ، فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ» ) أَيْ حِنْطَةٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلثَّلَاثَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ حَيْثُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِالْمَدِينَةِ: أَرَى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَرْفُوعٌ حُكْمًا، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مِنِ اجْتِهَادِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، قُلْتُ: فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ إِسْنَادِهِ سُكُوتُ أَبِي دَاوُدَ بَعْدَ إِيرَادِهِ.

1818 - وَعَنْهُ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَ الصِّيَامِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1818 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَ الصِّيَامِ) أَيْ: تَطْهِيرَ الصَّوْمِ وَقِيلَ: الصِّيَامُ جَمْعُ صَائِمٍ كَالْقِيَامِ جَمْعُ قَائِمٍ، وَفِي الْمَصَابِيحِ طُهْرَةَ الصَّائِمِ؛ أَيْ: تَطْهِيرًا لِذُنُوبِهِ (مِنَ اللَّغْوِ) وَهُوَ مَا لَا يُعْنَى، وَقِيلَ: الْبَاطِلُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ الْقَبِيحُ (وَالرَّفَثُ) أَيِ الْفُحْشُ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يَجْرِي مِنَ الْكَلَامِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَحْتَ اللِّحَافِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ قَبِيحٍ اهـ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ عَلَى الْقَبِيحِ الْفِعْلِيِّ أَوِ الْعَطْفُ تَفْسِيرِيٌّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا لِأَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ لَمْ يُوجِبِ الْفِطْرَةَ عَلَى الْأَطْفَالِ لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَلْزَمْهُمُ الصِّيَامُ لَمْ يَلْزَمْ طُهْرَتُهُ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى إِيجَابِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِيجَابِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الطُّهْرَةِ وَالطُّعْمَةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَسَاكِينِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ مَعَ هَذَا أَيْضًا إِلَى أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِهَا أَنْ يَمْلِكَ مَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ لِاسْتِوَاءِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي كَوْنِهَا طُهْرَةً. أَقُولُ: كَمَا أَنَّهُ شَرَطَ مَا ذُكِرَ شَرَطْنَا النِّصَابَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ مَا أَمْكَنَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَفْضِيلِ الْفُقَرَاءِ فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ مُطَهَّرَةً وَذُنُوبُهُمْ مَغْفُورَةً مِنْ غَيْرِ صَدَقَةٍ، وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ وُقُوعِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ (وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ) أَيْ لِيَكُونَ قُوتُهُمْ يَوْمَ الْعِيدِ مُهَيِّئًا تَسْوِيَةً بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ فِي وِجْدَانِ الْقُوتِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الطُّهْرَةَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الصَّائِمِينَ، وَالطُّعْمَةَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّقْسِيمِ سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي تَعْرِيفِ الْمِسْكِينِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ يَعْنِي: فَسَنَدُهُ حَسَنٌ، بَلْ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ رُكْنَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ هُوَ نَفْسُ الْأَدَاءِ إِلَى الْمَصْرِفِ، وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهَا مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبُو دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ أَوِ الرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ مَجْرُوحٌ اهـ. وَفِي خَبَرٍ حَسَنٍ غَرِيبٍ: «شَهْرُ رَمَضَانَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يُرْفَعُ إِلَّا بِزَكَاةِ الْفِطْرِ» .

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1819 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُنَادِيًا فِي فِجَاجِ مَكَّةَ: " أَلَا إِنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ سِوَاهُ، أَوْ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1819 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُنَادِيًا فِي فِجَاجِ مَكَّةَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ فِي طُرُقِهَا وَهِيَ الْوَاسِعَةُ، مُتَعَلِّقٌ بِبَعَثَ ( «أَلَا إِنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، مُدَّانِ» ) أَيْ هِيَ مُدَّانِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِصَدَقَةٍ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ (مِنْ قَمْحٍ) تَمْيِيزٌ (أَوْ سِوَاهُ) أَيْ مِنْ غَيْرِ الْقَمْحِ، وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ (أَوْ صَاعٌ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (مِنْ طَعَامٍ) أَيْ سِوَى الْقَمْحِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الطَّعَامَ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: شَكَّ فِي أَيِّ اللَّفْظَيْنِ سَمِعَ اهـ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ مُدَّانِ أَوْ سِوَاهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ تَعَارَضَتْ فِي مِقْدَارِ الْحِنْطَةِ، فَفِي بَعْضِهَا مُدَّانِ، وَفِي بَعْضِهَا صَاعٌ، وَفِي بَعْضِهَا نَصِفُ صَاعٍ، فَإِنْ أَرَدْتَ تَحْقِيقَ الْكَلَامِ فَعَلَيْكَ بِشَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ.

1820 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «صَاعٌ مِنْ بُرٍّ، أَوْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، أَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1820 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِيِ صُعَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) أَوْرَدَ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَاشِفِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ بِلَا لَفْظِ أَبِي، وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْمُزِّيُّ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ، لَكِنْ قَالَ: وَيُقَالُ: ابْنُ أَبِي صُعَيْرٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ الشَّاعِرُ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ زَمَنَ الْفَتْحِ اهـ. وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: فِي الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَيُقَالُ: ابْنُ أَبِي صُعَيْرٍ لَهُ رُؤْيَةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ سَمَاعٌ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ، وَقَالَ فِي حَرْفِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ: ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ أَوِ ابْنُ أَبِي صُعَيْرٍ - مُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا - الْعُذُرِيُّ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ يَعْنِي الْمُعْجَمَةَ -، وَيُقَالُ: ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُعَيْرٍ وَيُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، ثُمَّ قَالَ: وَحَدِيثُهُ هَذَا مُضْطَرِبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهُوَ يَهِمُ كَثِيرًا، وَقَالَ: مَهْمَا ذَكَرْتُ لِأَحْمَدَ حَدِيثَ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ فَقَالَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إِنَّمَا هُوَ مُرْسَلٌ يَرْوِيهِ مَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا اهـ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْمَازِنِيُّ الْعُذُرِيُّ، وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ، وَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ وَمَسَحَ وَجْهَهُ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَالزُّهْرِيُّ ذَكَرَهُ فِي حَرْفِ الْعَيْنِ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي حَرْفِ الْمُثَلَّثَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَاعٌ مِنْ بُرٍّ ") أَيِ الْفِطْرَةُ صَاعٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مِنْ بُرٍّ " أَوْ قَمْحٍ " شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي " عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ " أَيْ مُجْزِئٌ " صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، أَمَّا غَنِيُّكُمْ " أَيْ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ " فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ " التَّزْكِيَةُ بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ أَوِ التَّنْمِيَةِ، أَيْ يُطَهِّرُ حَالَهُ وَيُنَمِّي مَالَهُ وَأَعْمَالَهُ بِسَبَبِهَا " وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ " أَيْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَكَابِرِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى مَذْهَبِنَا، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَمَنْ مَلَكَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ زِيَادَةً عَلَى قُوتِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ لِيَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ (فَيَرُدُّ) أَيْ: اللَّهُ " عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ " أَيْ: هُوَ الْمَسَاكِينَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي فَيَرُدُّ، وَيَرْفَعُ أَكْثَرَ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِمَنْ يَكُونُ قَلِيلَ الْمَالِ بِوَعْدِ الْعِوَضِ وَالْخَلَفِ فِي الْمَالِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ حَسَنًا، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ - مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ. قَالَ ابْنُ

الْهُمَامِ: هُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيٌّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَمُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ وَالْمَتْنِ، فَالْأَوَّلُ أَهْوَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي صُعَيْرٍ، أَوْ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ، وَالثَّانِي أَهْوَ الْعَدَوِيُّ، أَوِ الْعُذُرِيُّ؟ فَقِيلَ: الْعَدَوِيُّ نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ الْأَكْبَرِ عَدِيٍّ، وَقِيلَ: الْعُذُرِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ فِي تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ: الْعُذُرِيُّ بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالرَّاءِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَبُو مُحَمَّدٍ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَغِيرٌ، وَالْعَدَوِيُّ تَصْحِيفٌ، وَالثَّالِثُ أَهْوَ «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ» ، أَوْ هُوَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ، أَوْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ. قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُصْرَفَ رَأْسٌ إِلَى اثْنَيْنِ اهـ لَكِنْ تُبْعِدُهُ رِوَايَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهِيَ مِنْ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا، طَرِيقُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَقَالَ: " أَدُّوا صَاعًا مِنْ بُرٍّ، أَوْ قَمْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ» ". وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ مِنْ أَنْ يُجَاءَ بِالرَّأْيِ؟

[باب من لا تحل له الصدقة]

[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1821 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: " لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكْلَتُهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ) قِيلَ: هِيَ مِنْحَةٌ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالْهَدِيَّةِ أَنْ يَمْلِكَ الرَّجُلُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَإِكْرَامًا لَهُ، فَفِي الصَّدَقَةِ نَوْعُ تَرَحُّمٍ وَذُلٍّ لِلْآخِذِ وَلِذَلِكَ حُرِّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ الْهَدِيَّةِ، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمِرًا بِالصَّدَقَاتِ وَمُرَغِّبًا فِي الْمَبَرَّاتِ فَتَنَزَّهَ عَنِ الْأَخْذِ مِنْهَا بَرَاءَةً لِسَاحَتِهِ عَنِ الطَّمَعِ فِيهَا وَعَنِ التُّهْمَةِ بِالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَلِذَا قَالَ: " «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» " إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمَصْلَحَةَ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُ سَفِيرٌ مَحْضٌ مُشْفِقٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ بِاجْتِهَادٍ صَدَرَ مِنْ مِشْكَاةِ صَدْرِهِ الْأَنْوَرِ وَقَلْبِهِ الْأَزْهَرِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1821 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرَةٍ) أَيْ مُلْقَاةٍ (فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: " لَوْلَا أَنْ أَخَافَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ ") أَيْ مِنْ تَمْرِهَا (لَأَكْلَتُهَا) تَعْظِيمًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى جَوَازِ أَكْلِ مَا وُجِدَ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَطْلُبُهُ مَالِكُهُ، وَعَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالْمُتَّقِي أَنْ يَجْتَنِبَ عَمَّا فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَفِي الْإِحْيَاءِ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أُرِّقَ لَيْلَةً فَقَالَتْ لَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ: أُرِّقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَجَلْ، وَجَدْتُ تَمْرَةً فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ» " وَفِي رِوَايَةٍ " فَأَكَلْتُهَا فَخَشِيتُ "، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا يُنَادِي عَلَى عِنَبَةٍ الْتَقَطَهَا فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: إِنَّ مِنَ الْوَرَعِ مَا يَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ - فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَإِظْهَارَ الْوَرَعِ هُنَالِكَ وَلِخُرُوجِهِ بِتَصَنُّعِهِ عَمَّا عُرِفَ مِنْ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّؤُونَ وَيَمْشُونَ حُفَاةً وَيُصَلُّونَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى أَنَّ فِي الطَّرِيقِ نَجَاسَةً أَوْ لَا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجُبْنَةٍ وَجُبَّةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَكَلَ وَلَبِسَ، هَذَا وَلَوْ نَظَرَ أَحَدٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ لَمْ يَجِدْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَلَالًا، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُتَصَوَّرُ الْحَلَالُ بِيَقِينٍ إِلَّا فِي الْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ الْمُلْتَقِي بِالْيَدِ مِمَّا فِي الْهَوَاءِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

1822 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كِخْ كِخْ " لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: " أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1822 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ) أَيِ الزَّكَاةِ (فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ) أَيْ فَمِهِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كِخْ كِخْ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِ الْخَاءِ، قِيلَ: وَبِكَسْرٍ فَتَنْوِينٍ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ وَهِيَ كَلِمَةٌ يُزْجَرُ بِهَا الصَّبِيُّ وَالصَّبِيَّةُ عَنْ تَعَاطِي الْمُسْتَقْذَرِ بِمَعْنَى اتْرُكْ وَارْمِ وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ (لِيَطْرَحَهَا) أَيِ التَّمْرَةَ مِنْ فِيهِ (ثُمَّ قَالَ: أَمَا شَعَرْتَ) أَيْ مَا عَلِمْتَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (أَنَّا) أَيْ مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ (لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرٍ وَاضِحٍ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ الْمُخَاطَبُ، أَيْ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْكَ هَذَا مَعَ ظُهُورِهِ؟ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ مِنْ " لَا تَفْعَلْ "، وَفِيهِ مُخَاطَبَةُ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ " كِخْ كِخْ " إِذْ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي غَيْرِ الْمُمَيَّزِ، وَفَائِدَتُهُ إِعْلَامُ الْحَاضِرِينَ بِالْحُكْمِ لِيَزِيدَ وَيَشْتَهِرَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْآبَاءِ نَهْيُ الْأَوْلَادِ عَمَّا لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ اهـ وَلِذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَحْرُمُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ إِلْبَاسُ الصَّبِيِّ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْإِحْيَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ وَرَعِ الْمُتَّقِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ وَالْمَنْدُوبَةُ، وَأَمَّا عَلَى آلِهِ فَالْمَفْرُوضَةُ لَا غَيْرَ سَيَأْتِي كَلَامُ أَئِمَّتِنَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1823 - وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1823 - (وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ ") أَيْ أَنْوَاعَ الزَّكَاةِ وَأَصْنَافَ الصَّدَقَاتِ " إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ " الْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ هَذِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَلَا إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا بَدَلٌ لِمَا قَبْلَهَا وَبِأَنَّهَا زَائِدَةٌ وَنَحْوَهَا، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا أَوْسَاخًا لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ أَمْوَالَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ، قَالَ - تَعَالَى - {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] فَهِيَ كَغَسَّالَةِ الْأَوْسَاخِ، فَفِي الْكَلَامِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ " وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ " زِيدَ " لَا " لِتَأْكِيدِ " لَا " النَّافِيَةِ وَكَذَا اللَّامُ الثَّانِيَةُ، قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ سَوَاءً كَانَ بِسَبَبِ الْعَمَلِ أَوْ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا وَكَذَا الْمَفْرُوضَةُ لِآلِهِ أَيْ أَقْرِبَائِهِ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَمُبَاحٌ لَهُمْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: " وَلَا تُدْفَعُ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ " هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَإِنَّمَا كَانَ مُمْتَنِعًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُ بَنِي هَاشِمٍ إِلَى بَعْضٍ زَكَاتَهُمْ. قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَبَنُو هَاشِمٍ هُمْ بَنُو الْحَارِثِ وَالْعَبَّاسِ ابْنَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَنُو عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ أَوْلَادِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بَنُو أَبِي لَهَبٍ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ أَوَّلًا فِي الْآبَاءِ إِكْرَامًا لَهُمْ ثُمَّ سَرَتْ إِلَى الْأَبْنَاءِ وَلَا إِكْرَامَ لَأَبَى لَهَبٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ مِيرَكُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ: وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ تَحْرِيمَ الصَّدَقَةِ عَلَى آلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ اهـ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «اجْتَمَعَ ابْنُ رَبِيعَةَ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَا: لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ إِلَيَّ وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ فَأَصَابَا مِنْهَا مَا يُصِيبُ النَّاسُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تُرْسِلُوهُمَا. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٌ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ وَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَجِئْنَاكَ لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّي إِلَيْكَ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَنُصِيبُ كَمَا يُصِيبُونَ. قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، ادْعُوَا لِي مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ " رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَعْمِلُهُ فِي الْأَخْمَاسِ وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَتَيَاهُ، فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: " أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا» " قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا مَا وَعَدْنَاكَ مِنَ النَّصِّ عَلَى عَدَمِ حَلِّ أَخْذِهَا لِلْعَامِلِ الْهَاشِمِيِّ، وَلَفْظُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ: " «لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ إِنَّمَا هِيَ غَسَّالَةُ أَيْدِي النَّاسِ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ» "، وَهُوَ يُوجِبُ تَحْرِيمَ صَدَقَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» "، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ تُنَظِّمُ الصَّدَقَةَ النَّافِلَةَ وَالْوَاجِبَةَ، فَجَرَوْا عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبَةِ فَقَالُوا لَا يَجُوزُ صَرْفُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَعُشْرِ الْأَرْضِ وَغَلَّةِ الْوَقْفِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ النَّافِلَةُ فَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَيَجُوزُ النَّفْلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا يَجُوزُ النَّفْلُ لِلْغَنِيِّ كَذَا فِي الْفَتَاوَى الْعُتَابِيَّةِ اهـ وَصُرِّحَ فِي الْكَافِي بِدَفْعِ صَدَقَةِ الْوَقْفِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَنَّهُ بَيَانُ الْمَذْهَبِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ خِلَافٍ، فَقَالَ: وَأَمَّا التَّطَوُّعُ وَالْوَقْفُ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى فِي الْوَاجِبِ يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ فَيَتَدَنَّسُ بِهِ الْمُؤَدَّى كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَفِي النَّفْلِ يَتَبَرَّعُ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَدَنَّسُ بِهِ الْمُؤَدَّى كَمَنْ تَبَرَّدَ بِالْمَاءِ اهـ. وَالْحَقُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ إِجْرَاءُ صَدَقَةِ الْوَقْفِ مَجْرَى النَّافِلَةِ فَإِنْ ثَبَتَ فِي النَّافِلَةِ جَوَازُ الدَّفْعِ يَجِبُ دَفْعُ الْوَقْفِ وَإِلَّا فَلَا، إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوَاقِفَ مُتَبَرِّعٌ بِتَصَدُّقِهِ بِالْوَقْفِ إِذْ لَا إِنْفَاقَ وَاجِبٌ، كَانَ مَنْشَأُ الْغَلَطِ وُجُوبَ دَفْعِهَا عَلَى النَّاظِرِ وَبِذَلِكَ لَمْ تَصِرْ صَدَقَةً وَاجِبَةً عَلَى الْمَالِكِ بَلْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ وُجُوبُ إِتْبَاعِ شَرْطِ الْوَاقِفِ عَلَى النَّاظِرِ، فَوُجُوبُ الْأَدَاءِ هُوَ نَفْسُ هَذَا الْوُجُوبِ فَلْنَتَكَلَّمْ فِي النَّافِلَةِ ثُمَّ يُعْطَى مِثْلَهُ لِلْوَقْفِ، فَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالتَّطَوُّعِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ: بَعْضٌ يَحِلُّ لَهُمُ التَّطَوُّعُ فَقَدْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِتَرْجِيحِ حُرْمَةِ النَّافِلَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْعُمُومَاتِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فَلَا تُدْفَعُ إِلَيْهِمُ النَّافِلَةُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ مَعَ الْأَدَبِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ تَكْرِمَةً لِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ حَدِيثُ لَحْمِ بَرِيرَةَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهَا لَمْ يَأْكُلْهُ؛ اعْتَبَرَهُ هَدِيَّةً مِنْهَا فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةً نَافِلَةً.

1824 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ أَهَدْيَةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَكَلَ مَعَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1824 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ) أَيْ جِيءَ بِهِ (سَأَلَ عَنْهُ) أَوْ عَنِ الطَّعَامِ أَيْ عَنِ الْآتِي بِهِ (أَهَدِيَّةٌ) أَيْ فَقَالَ: أَهْوَ هَدِيَّةٌ؟ (أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ) أَيْ لَهُ (صَدَقَةٌ) أَيْ هُوَ (قَالَ لِأَصْحَابِهِ) أَيْ مِنْ غَيْرِ آلِهِ (كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ شَرَعَ وَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ سَرِيعًا مِنْ غَيْرِ تَحَامٍ عَنْهُ (فَأَكَلَ مَعَهُمْ) وَفَارَقَتِ الصَّدَقَةُ الْهَدِيَّةَ حَيْثُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ وَحَلَّتْ لَهُ هَذِهِ بِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الصَّدَقَةِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ عِزِّ الْمُعْطِي وَذُلِّ الْآخِذِ فِي احْتِيَاجِهِ إِلَى التَّرَحُّمِ عَلَيْهِ وَالرِّفْقِ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْهَدِيَّةِ التَّقَرُّبُ إِلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ وَإِكْرَامُهُ بِعَرْضِهَا عَلَيْهِ فَفِيهَا غَايَةُ الْعِزَّةِ وَالرِّفْعَةُ لَدَيْهِ، وَأَيْضًا فَمِنْ شَأْنِ الْهَدِيَّةِ مُكَافَأَتُهَا فِي الدُّنْيَا، وَلِذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عِوَضَهَا عَنْهَا فَلَا مِنَّةَ الْبَتَّةَ فِيهَا بَلْ لِمُجَرَّدِ الْمَحَبَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: تَهَادُوا تَحَابُّوا. وَأَمَّا جَزَاءُ الصَّدَقَةِ فَفِي الْعُقْبَى وَلَا يُجَازِيهَا إِلَّا الْمَوْلَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1825 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ إِحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا عُتِقَتْ، فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ "، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: " أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً فِيهَا لَحْمٌ؟ " قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: " هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1825 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ) أَيْ حَصَلَ بِسَبَبِهَا (ثَلَاثُ سُنَنٍ) أَيْ أَحْكَامٌ وَمَسَائِلُ شَرْعِيَّةٌ جَعَلَتْهَا مَكَانًا وَمَقَرًّا لِلْمَسَائِلِ، لِأَنَّهَا وُجِدَتْ بِوُجُودِهَا وَهِيَ اسْمُ جَارِيَةٍ اشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ وَأَعْتَقَتْهَا وَزَعَمَ بَائِعُوهَا أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُمْ وَكَانَتْ حَالَ عِتْقِهَا مُتَزَوِّجَةً عَبْدًا اسْمُهُ مُغِيثٌ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (إِحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا عَتَقَتْ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالتَّاءِ أَيْ صَارَتْ مَعْتُوقَةً (فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا) أَيْ بَيْنَ فَسْخِ نِكَاحِهِ وَإِمْضَائِهِ، فَالْمَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ أَمَةً وَزَوْجُهَا عَبْدٌ فَعُتِقَتْ تَكُونُ مُخَيَّرَةً إِنْ شَاءَتْ فَسَخَتْ وَإِنْ شَاءَتْ لَا وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ فِي قَضِيَّتِهَا وَهِيَ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ " الْوَلَاءُ " بِفَتْحِ الْوَاوِ " لِمَنْ أَعْتَقَ " أَيْ لَا لِمَنْ بَاعَ وَلَوْ شَرَطَ أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ، فَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ أَيْ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ عَلَى عَائِشَةَ (وَالْبُرْمَةُ) أَيِ الْقِدْرُ مِنَ الْحَجَرِ وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقِدْرِ مُطْلَقًا (تَفُورُ) أَيْ تَغْلِي مُلْتَبِسَةً (بِلَحْمٍ) وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَقُرِّبَ) بِالتَّشْدِيدِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ) بِضَمِّ الْهَمْزِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَيُضَمُّ الْأُدَامُ وَهُوَ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ الْخُبْزُ، أَيْ: يَطِيبُ أَكْلُهُ بِهِ وَيُتَلَذَّذُ الْأَكْلُ بِسَبَبِهِ (مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ أُدَامٍ، فَلَمَّا لَمْ يُؤْتَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا فِي الْبُرْمَةِ (فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً فِيهَا لَحْمٌ ") الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ (قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: " هُوَ ") أَيِ اللَّحْمُ " عَلَيْهَا " أَيْ عَلَى بَرْبَرَةَ (صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا تُصُدِّقَ عَلَى الْمُحْتَاجِ بِشَيْءٍ مَلَكَهَ فَلَهُ أَنْ يُهْدِيَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ اهـ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْمَلَكِ: فَيَحِلُّ التَّصَدُّقُ عَلَى مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْهَدِيَّةِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مَقَطَّعًا.

1826 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1826 - (وَعَنْهَا) أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» ) أَيْ يُجَازِي وَيُعْطِي الْجَزَاءَ وَالْعِوَضَ؛ مِنْ أَثَابَ إِذَا أَعْطَى الثَّوَابَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

1827 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1827 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ ") أَيْ إِلَى كُرَاعِ غَنَمٍ أَوْ أَيِّ قُرْبَةٍ (لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ) مِنْ كِرْبَاسٍ أَوْ شَاةٍ (لَقَبِلْتُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكُرَاعُ هُوَ مُسْتَدَقُّ السَّاقِ مِنَ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ بِمَنْزِلَةِ الْوَظِيفِ مِنَ الْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ، وَقِيلَ: كُرَاعُ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْأَوَّلُ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِجَابَةِ مَعَ الْقِلَّةِ، وَالثَّانِي مَعَ الْبُعْدِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَوْ دَعَانِي أَحَدٌ إِلَى ضِيَافَةِ كُرَاعِ غَنَمٍ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ، وَهَذَا حَثٌّ عَلَى التَّوَاضُعِ وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ. قَالَ الْقَاضِي: مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقَدْ غَلِطَ، فَكَانَ ابْنُ حَجَرٍ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُرَاعُ الْغَمِيمِ أَمَامَ عَسَفَانَ وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ عَسَفَانَ وَقَدِيدٍ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْمُرَادُ بِالذِّرَاعِ ذِرَاعُ الْغَنَمِ وَغَيْرِهَا أَوْ ذِرَاعُ الْكِرْبَاسِ وَهُوَ تَرْغِيبٌ فِي قَبُولِ الْهَدِيَّةِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: إِدْخَالُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ فِيهِ خَفَاءٌ وَتَأَمُّلٌ اهـ فَتَأَمَّلْنَا فَوَجَدْنَا وَجْهَهُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالْهَدِيَّةَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ لِتَعَلُّقِهِ بِالْهَدِيَّةِ كَمَا يُقَالُ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ وَيُسَمَّى اسْتِطْرَادًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ.

1828 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1828 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَيْسَ الْمِسْكِينُ ") أَيِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْمِسْكِينُ شَرْعًا الْمِسْكِينَ عُرْفًا وَهُوَ " الَّذِي يَطُوفُ " أَيْ يَدُورُ وَيَتَرَدَّدُ " عَلَى النَّاسِ " فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى الْأَبْوَابِ " تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ " جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَيْسَ الْمِسْكِينُ مَنْ يَتَرَدَّدُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَيَأْخُذُ لُقْمَةً فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا لَيْسَ بِمِسْكِينٍ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ قُوتِهِ، وَالْمُرَادُ ذَمُّ مَنْ هَذَا فِعْلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الزَّكَاةَ، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ اسْتِحْقَاقِهِ بَلْ إِثْبَاتَ الْمَسْكَنَةِ لِغَيْرِ هَذَا الْمُتَعَارَفِ بِالْمَسْكَنَةِ وَإِثْبَاتَ اسْتِحْقَاقِهِ أَيْضًا اهـ وَهَذَا الْقِيلُ هُوَ الْقَوْلُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَصْرِفُ الزَّكَاةِ حَيْثُ لَا شَيْءَ لَهُمَا لَكِنَّ الثَّانِيَ أَفْضَلُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ " وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ " وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: الْكَامِلَ فِي الْمَسْكَنَةِ " الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى " أَيْ شَيْئًا أَوْ مَالًا " يُغْنِيهِ " أَيْ عَنْ غَيْرِهِ وَيَكْفِيهِ " وَلَا يُفْطَنُ بِهِ " بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَا يُعْلَمُ بِاحْتِيَاجِهِ " فَيُتَصَدَّقَ " بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مَجْهُولًا " عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ " أَيْ لَا يَتَعَرَّضُ " فَيَسْأَلَ النَّاسَ " بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مَعْلُومًا بَلْ يُخْفِي حَالَ نَفْسِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْكَلَامِ الْقَدِيمِ {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] أَيْ أَصْلًا وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَمَنْ تَبِعَهُمَا مِنْ أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا لَا يَكْفِيهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَوَّذَ مِنَ الْفَقْرِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَسَأَلَ الْمَسْكَنَةَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ - فَمَدْفُوعٌ لِأَنَّ حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ قِيلَ: ضَعِيفٌ، بَلْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَوَّذَ مِنَ الْمَسْكَنَةِ» أَيْضًا ثُمَّ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ اللَّذَيْنِ رَجَعَ مَعْنَاهُمَا إِلَى غَايَةِ الْقِلَّةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى مَا وَرَدَ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، أَوْ أَرَادَ بِهِ فَقْرَ الْقَلْبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ دُونَ حَالِ الْفَقْرِ كَمَا أَنَّهُ اسْتَعَاذَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى لَا مِنْ حَالِ الْغِنَى، وَقَدْ تُحْمَلُ الْمَسْكَنَةُ الَّتِي سَأَلَهَا عَلَى التَّوَاضُعِ اللَّازِمِ لِأَهْلِهَا بِأَنْ لَا يُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ الْأَغْنِيَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1829 - عَنْ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي فِيمَا تُصِيبُ مِنْهَا، فَقَالَ: لَا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْأَلَهُ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: " إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَنَا وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1829 - (عَنْ أَبِي رَافِعٍ) وَاسْمُهُ أَسْلَمُ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَيْ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ) أَيْ: أَرْسَلَهُ سَاعِيًا لِيَجْمَعَ الزَّكَاةَ وَيَأْتِيَ بِهَا إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَلَمَّا أَتَى أَبَا رَافِعٍ فِي طَرِيقِهِ (فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي) أَيِ ائْتِ مَعِي إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَيْمَا تُصِيبَ) نُصِبَ بِكَيْ وَمَا زَائِدَةٌ أَيْ لِتَأْخُذَ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الصَّدَقَةِ بِسَبَبِ ذَهَابِكَ مَعِي أَوْ بِأَنْ أَقُولَ لَهُ لِيُعْطِيَ نَصِيبَكَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْمُرَافَقَةَ وَالْمُصَاحَبَةَ وَالْمُعَاوَنَةَ عِنْدَ السَّفَرِ لَا بَعْدَ الرُّجُوعِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُهُ (فَقَالَ لَا) أَيْ لَا أَصْحَبُكَ (حَتَّى آتِيَ) أَيْ أَجِيءَ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَأَسْأَلَهُ) أَيْ أَسْتَأْذِنَهُ أَوْ أَسْأَلَهُ هَلْ يَجُوزُ لِي أَمْ لَا؟ (فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ) أَيْ عَنْ ذَلِكَ (فَقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَنَا وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ) أَيْ عُتَقَاءَهُمْ (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أَيْ فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِهِمْ لِخَبَرِ الْوَلَاءِ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، وَهَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي مَنْ تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ لَا تَحْرُمُ عَلَى مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لِانْتِفَاءِ السَّبَبِ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ تَنْزِيهًا وَضَمًّا لَهُمْ عَلَى التَّشْبِيهِ بِسَادَاتِهِمُ اهـ. وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنِ الْمَذْهَبِ وَتَبِعَ الطِّيبِيَّ فِي الْمَطْلَبِ، لَكِنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ أَطْيَبُ حَيْثُ قَالَ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، لَكِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْفِي مُؤْنَتَهُ اهـ وَهُوَ تَأْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ دَلِيلٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَصَحَّحَهُ (وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حَيَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَفِي نَقْلِ ابْنِ الْهُمَامِ وَالشُّمُنِّيِّ فَقَالَ: " «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَكَذَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1830 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. 1831 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1830 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» ") فِي الْمُحِيطِ الْغِنَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: غِنًى يُوجِبُ الزَّكَاةَ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابِ حَوْلًى تَامٍّ، وَغِنًى يُحَرِّمُ الصَّدَقَةَ وَيُوجِبُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَةَ وَهُوَ مِلْكُ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ نِصَابٍ مِنَ الْأَمْوَالِ الْفَاضِلَةِ عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَغِنًىٍ يُحَرِّمُ السُّؤَالَ دُونَ الصَّدَقَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَمَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ (وَلِذِي مِرَّةٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ: الْقُوَّةُ؛ أَيْ وَلَا لِقَوِيٍّ عَلَى الْكَسْبِ (سَوِيٍّ) أَيْ صَحِيحِ الْبَدَنِ تَامِّ الْخِلْقَةِ فِيهِ نَفْيُ كَمَالِ الْحِلِّ لَا نَفْسُ الْحِلِّ أَوْ لَا تَحِلُّ لَهُ بِالسُّؤَالِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِمَنْ أَعْضَاؤُهُ صَحِيحَةٌ وَهُوَ قَوِيٌّ يَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ الْمَعْنَى وَلَا لِذِي عَقْلٍ وَشَدَّةٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِصَابٌ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ حَسَنٌ وَذَكَرَ أَنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَرْفَعْهُ وَرَوَاهُ سُفْيَانُ مَرْفُوعًا (وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ يَرْوُونَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

1832 - وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: «أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا النَّظَرَ، وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1832 - (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ الْخِيَارِ) وَفِي نُسْخَةٍ: ابْنِ الْخِيَارِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قُرَشِيٌّ نَوْفَلِيٌّ يُقَالُ إِنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعَدُّ فِي التَّابِعِينَ، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَشْهَرُ فِي السَّمَاعِ (وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ مِنْهَا) أَيْ فَطَالَبَاهُ أَنْ يُعْطِيَهُمَا شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ (فَرَفَعَ فِينَا النَّظَرَ) أَيِ الْبَصَرَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ) بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا أَيْ قَوِيَّيْنِ (فَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا ") أَيْ مِنْهَا وَوَكَّلْتُ الْأَمْرَ إِلَى أَمَانَتِكُمَا لَكِنْ تَكُونَانِ فِي خَطَرِ الْأَخْذِ بِغَيْرِ حَقٍّ إِنْ كُنْتُمَا قَوِيَّيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَالُكُمَا أَوْ غَنِيَّيْنِ (وَلَا حَظَّ) أَيْ لَا نَصِيبَ (فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أُعْطِيكُمَا لِأَنَّ فِي الصَّدَقَةِ ذُلًّا وَهَوَانًا فَإِنْ رَضِيتُمَا بِذَلِكَ أَعْطَيْتُكُمَا أَوْ لَا أُعْطِيكُمَا لِأَنَّهَا حَرَامٌ عَلَى الْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ، فَإِنْ رَضِيتُمَا بِأَكْلِ الْحَرَامِ أُعْطِيكُمَا، قَالَ تَوْبِيخًا، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حُرْمَةُ سُؤَالِهِمَا لِقَوْلِهِ: " وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا " فَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ مُحَرَّمًا غَيْرَ مُسْقَطٍ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ لَمْ يَفْعَلْهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) أَيْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَا أَوْجَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ هُوَ أَحْسَنُهَا إِسْنَادًا فَهَذَا مَعَ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُفِيدُ مَنْعَ غَنِيِّ الْغُزَاةِ وَالْغَارِمِينَ عَنْهَا، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ لِغَنِيِّ الْغُزَاةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْفَيْءِ.

1833 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ، لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1833 - (وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (مُرْسَلًا) أَيْ بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ") أَيْ لِمُجَاهِدٍ مُنْقَطِعٍ عَنِ الْغَزْوِ أَوِ الْحَجِّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فَسَّرَ أَحْمَدُ سَبِيلَ اللَّهِ فِي الْآيَةِ بِسَفَرِ الْحَجِّ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْحَجَّ سَبِيلُ اللَّهِ، وَاخْتَارَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ

بَحْثٌ لِلْجُمْهُورِ " أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا " أَيْ عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ نَحْوِ عَاشِرٍ وَحَاسِبٍ وَكَاتِبٍ " أَوْ لِغَارِمٍ " أَيْ مَنِ اسْتَدَانَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ فِي دِيَةٍ أَوْ دَيْنٍ تَسْكِينًا لِلْفِتْنَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا " أَوْ لِرَجُلٍ " أَيْ غَنِيٍّ " اشْتَرَاهَا " أَيِ الزَّكَاةَ مِنَ الْفَقِيرِ " بِمَالِهِ أَوْ لِرَجُلٍ " أَيْ غَنِيٍّ " كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ " (رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ) أَيْ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ هَكَذَا مُرْسَلًا، وَرَوَى أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَوْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا بِمَعْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُسْنَدًا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَصَلَ هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ.

1834 - وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَوِ ابْنِ السَّبِيلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1834 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَوِ ابْنِ السَّيْلِ) اعْلَمْ أَنِّي تَتَبَّعْتُ رِوَايَاتِ أَبِي دَاوُدَ، فَهِيَ ثَلَاثٌ: مِنْهَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْحَدِيثَ، وَمِنْهَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْنَاهُ قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ زَيْدٍ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الطَّائِيُّ حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عِمْرَانَ الْبَاقِي عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَوِ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ جَارٍ فَقِيرٍ تَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَيُهْدِي لَكَ أَوْ يَدْعُوكَ» "، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنَ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قِيلَ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحَدِيثُ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَقْوَ قُوَّةً تَرْجُحُ حَدِيثَ مُعَاذٍ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ؛ يَعْنِي قَوْلَهُ: " «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» " وَلَوْ قَوِيَ قُوَّتَهُ تَرَجَّحَ حَدِيثُ مُعَاذٍ بِأَنَّهُ مَانِعٌ وَمَا رَوَاهُ مَبِيحٌ مَعَ أَنَّهُ دَاخِلُهُ التَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قُيِّدَ لِلْأَخْذِ لَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدِّيوَانِ وَلَا أَخَذَ مِنَ الْفَيْءِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُضْعِفُ الدَّلَالَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَمْ يَدْخُلْهُ.

1835 - وَعَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْتُهُ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا: فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1835 - (وَعَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ) بِضَمِّ الصَّادِ مَمْدُودًا (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْتُهُ فَذَكَرَ) أَيْ زِيَادٌ أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَدِيثًا طَوِيلًا فَأَتَاهُ) أَيْ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا» ") أَيْ إِلَى أَنْ حَكَمَ فِي الصَّدَقَاتِ " هُوَ " أَيِ اللَّهُ - تَعَالَى - وَهُوَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ " فَجَزَّأَهَا " بِتَشْدِيدِ الزَّايِ فَهَمْزٍ أَيْ فَقَسَّمَ أَصْحَابَهَا " ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ " أَيْ أَصْنَافٍ قَالَ " فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ " أَيْ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ " أَعْطَيْتُكَ " أَيْ حَقَّكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ فِي التَّجْزِئَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ التَّفْرِيقِ فِي الْأَصْنَافِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ عَلَى أَهْلِ السِّهَامِ بِحِصَصِهِمْ وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ إِلَّا عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُصْرَفُ إِلَّا إِلَى هَذِهِ الْمَصَارِفِ لَا أَنَّهَا تُصْرَفُ إِلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَصَارِفِ، وَلِذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَتُصْرَفُ إِلَى الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَأَبِي الْعَالِيَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: " «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» "، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ، وَبَسَطَ فِيهِ الْكَلَامَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ وَانْتَصَرَ لَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا نِظَامَ لَهُ فِي الْمَرَامِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الْأَفْرِيقِيُّ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1836 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ، فَسَأَلَ الَّذِي سَقَاهُ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ قَدْ سَمَّاهُ فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، وَهُمْ يَسْقُونَ فَحَلَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا، فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي فَهُوَ هَذَا، فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ فَاسْتَقَاءَ، رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1836 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ) أَيْ وَافَقَ هَوَى نَفْسِهِ فَأَنْكَرَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ الْقَلْبِيِّ بِالْإِلْهَامِ الْغَيْبِيِّ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: سَأَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِذْ رَابَهُ فَإِنَّهُ أَعْجَبَهُ طَعْمَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَا كَانَ يَأْلَفُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الرِّيبَةِ وَحَمْلِهِ عَلَى الْوَرَعِ (فَسَأَلَ الَّذِي سَقَاهُ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ) أَيْ مَرَّ (عَلَى مَاءٍ) أَيْ مَكَانِ مَاءٍ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: أَيْ مَكَانٍ فِيهِ مَاءٌ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ، وَمَا الْمَانِعُ أَنَّهُ وَرَدَ الْمَاءَ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ لَازِمِ وُرُودِهِ مَحَلَّهُ اهـ وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا تَخْفَى (قَدْ سَمَّاهُ) أَيْ عَيَّنَهُ بِاسْمِهِ " فَإِذَا " لِلْمُفَاجَأَةِ (نَعَمٌ) بِفَتْحَتَيْنِ (مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَهُمْ) أَيِ الرُّعَاةُ أَوْ أَهْلُ النَّعَمِ (يَسْقُونَ) أَيِ النَّعَمَ (فَحَلَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا) أَيْ فَأَعْطُونِي هَذَا فَأَخَذْتُهُ (فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي) بِكَسْرِ السِّينِ (فَهُوَ هَذَا، فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ) أَيْ فِي فَمِهِ أَوْ حَلْقِهِ (اسْتِقَاءَ) أَيْ فَتَقَيَّأَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ جَوْفِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا غَايَةُ الْوَرَعِ وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشُّبَهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ كَانَ الشَّارِحُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ قَوْلَ أَئِمَّتِهِ: إِنَّ كُلَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ حَرَامًا لَزِمَهُ أَنْ يَتَقَيَّأَهُ إِنْ أَطَاقَهُ وَإِنْ عُذِرَ فِي تَنَاوُلِهِ اهـ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ اللَّبَنِ حَرَامًا لِأَنَّ الْقَابِضَ إِذَا أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْقَاقِ وَأَهْدَاهُ لِغَيْرِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى فَرْضٍ أَنَّ عُمَرَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ فَلَا شَكَّ فِي حِلِّيَّتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ بَرَيْرَةَ أَنَّهُ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ فَكَأَنَّ الْمُعْتَرِضَ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِهَذَا وَظَنَّ أَنَّ اللَّبَنَ حَرَامٌ، وَأَيْضًا لَا فَائِدَةَ فِي اسْتِقَائِهِ إِذْ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْقِيَةُ الْبَاطِنِ مِنْ أَثَرِ الْحَرَامِ أَوِ الشُّبْهَةِ وَهَذَا لَا شُبْهَةَ أَنَّهُ وَرَعٌ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: وَإِنَّمَا تَقَيَّأَ مَا شَرِبَهُ مَعَ الْجَهْلِ حَتَّى لَا يَنْبُتَ مِنْهُ لَحْمٌ يَثْبُتُ وَيَبْقَى، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا يَدْرِي فَلَا يَضُرُّهُ، لِأَنَّ الْحَرَامَ إِذَا أُكِلَ وَحَصَلَ فِي الْمَعِدَةِ أَثَّرَ فِي قَسَاوَةِ الْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ صَاحِبُهُ وَلِذَا تَقَيَّأَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ شَرِبَ عَلَى جَهْلٍ، وَهَذَا وَإِنْ أَفْتَيْنَا بِأَنَّهُ حَلَالٌ لِلْفَقِيرِ فَإِنَّمَا أَحْلَلْنَاهُ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَهُوَ كَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ إِذَا أَحْلَلْنَاهُ لِلضَّرُورَةِ وَلَا يَلْتَحِقُ بِالطَّيِّبَاتِ اهـ (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له]

[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَمِنْ تَحِلُّ لَهُ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1837 - «عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: " أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا "، ثُمَّ قَالَ: " يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ، يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَمَنْ تَحِلُّ لَهُ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1837 - (عَنْ قَبِيصَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (ابْنِ مُخَارِقٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، (قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: مَا يَتَحَمَّلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ لِدَفْعِ وُقُوعِ حَرْبٍ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَالِ أَيْ يَسْتَدِينُهُ وَيَدْفَعُهُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَتَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْحَمَالَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْأَلُهُ فِيهَا) أَيْ فِي الْحَمَالَةِ بِمَعْنَى لِأَجْلِهَا (فَقَالَ: " أَقِمْ ") أَمْرٌ مِنَ الْإِقَامَةِ بِمَعْنَى اثْبُتْ وَاصْبِرْ " حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ " أَيْ يَحْضُرَنَا مَالُهَا " فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا " أَيْ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِالْحَمَالَةِ (ثُمَّ قَالَ: " يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ ") أَيِ السُّؤَالَ وَالشَّحْذَةَ " لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ " فِي شَرْحِ

ابْنِ الْمَلَكِ قَالُوا: هَذَا بَحْثُ سُؤَالِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا سُؤَالُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَمَنْ لَا يَقْدِرْ عَلَى كَسْبٍ لِكَوْنِهِ زَمِنًا أَوْ ذَا عِلَّةٍ أُخْرَى جَازَ لَهُ السُّؤَالُ بِقَدْرِ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَا يَدَّخِرُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فَتَرَكَهُ لِاشْتِغَالِ الْعِلْمِ جَازَتْ لَهُ الزَّكَاةُ وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَإِنْ تَرَكَهُ لِاشْتِغَالِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَصِيَامِهِ لَا تَجُوزُ لَهُ الزَّكَاةُ وَيُكْرَهُ لَهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَإِنْ جَلَسَ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ فِي بُقْعَةٍ وَاشْتَغَلُوا بِالطَّاعَةِ وَرِيَاضَةِ الْأَنْفُسِ وَتَصْفِيَةِ الْقُلُوبِ يُسْتَحَبُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْأَلَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ وَكِسْرَاتِ الْخُبْزِ لَهُمْ وَاللِّبَاسَ لِأَجْلِهِمْ " رَجُلٍ " بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنْ أَحَدٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ ثَلَاثَةٍ وَبِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ " تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ " أَيْ جَازَتْ بِشَرْطِ أَنْ يُتْرَكَ الْإِلْحَاحُ وَالتَّغْلِيظُ فِي الْخِطَابِ " حَتَّى يُصِيبَهَا " أَيْ إِلَى أَنْ يَجِدَ الْحَمَالَةُ أَوْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ (ثُمَّ يُمْسِكَ) أَيْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، يَعْنِي إِذَا أَخَذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ مَا يُؤَدِّي ذَلِكَ الدَّيْنَ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ آخَرَ مِنْهَا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَفِيهِ نَظَرٌ " وَرَجُلٌ " بِالْوَجْهَيْنِ " أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ " أَيْ آفَةٌ وَحَادِثَةٌ مُسْتَأْصِلَةٌ مِنْ جَاحَهُ يَجُوحُهُ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ وَهِيَ الْآفَةُ الْمُهْلِكَةُ لِلثِّمَارِ وَالْأَمْوَالِ (اجْتَاحَتْ) أَيِ اسْتَأْصَلَتْ وَأَهْلَكَتْ " مَالَهُ " مِنْ ثِمَارِ بُسْتَانِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ " فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ " أَيْ سُؤَالُ الْمَالِ مِنَ النَّاسِ " حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا " أَيْ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ مَا تَقُومُ بِهِ حَاجَتُهُ الضَّرُورِيَّةُ " مِنْ عَيْشٍ " أَيْ مَعِيشَةٍ مِنْ قُوتٍ وَلِبَاسٍ " أَوْ قَالَ " شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي " سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ " بِالْكَسْرِ وَهُوَ الصَّوَابُ مَا يُسَدُّ بِهِ الْفَقْرُ وَيُدْفَعُ وَيَكْفِي الْحَاجَةَ " وَرَجُلٍ " بِالْوَجْهَيْنِ أَيْ غَنِيٍّ " أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ " أَيْ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ اشْتُهِرَ بِهَا بَيْنَ قَوْمِهِ " حَتَّى يَقُومَ " أَيْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ " ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا " بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ أَيِ الْعَقْلِ الْكَامِلِ (مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ) أَيْ يَقُومَ ثَلَاثَةٌ قَائِلِينَ هَذَا الْقَوْلَ، وَالْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي ثُبُوتِ الْفَاقَةِ، قَالَ الصَّغَانِيُّ: هَكَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ: يَقُومَ، وَالصَّحِيحُ: يَقُولَ بِاللَّامِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَكَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَقْدِيرَ الْقَوْلِ مَعَ الْقِيَامِ آكَدُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ قَالَ: وَبِمَا تَقَرَّرَ فِي مَعْنَى " يَقُومَ "، انْدَفَعَ قَوْلُ الصَّغَانِيِّ وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ كَلَامَ الصَّغَانِيِّ فِي تَصْرِيحِ الرِّوَايَةِ لَا فِي تَصْحِيحِ الدِّرَايَةِ مَعَ أَنَّ عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّقْدِيرِ أَظْهَرُ فِي مَقَامِ التَّقْرِيرِ، هَذَا وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّ " يَقُومَ " بِمَعْنَى " يَقُولَ "، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَوَجْهُ بُعْدِهِ أَنَّ الْقَوْلَ يَأْتِي بِمَعْنَى الْفِعْلِ لَا الْعَكْسُ كَمَا فِي هَذَا الْمَحَلِّ فَتَأَمَّلْ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَالِاحْتِيَاطِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى بَرَاءَةِ السَّائِلِ عَنِ التُّهْمَةِ فِي ادِّعَائِهِ وَأَدْعَى لِلنَّاسِ إِلَى سُرْعَةِ إِجَابَتِهِ، وَخَصَّ بِكَوْنِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْعَالِمُونَ بِحَالِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّبْيِينِ وَالتَّعْرِيفِ إِذْ لَا مَدْخَلَ لِعَدَدِ الثَّلَاثِ مِنَ الرِّجَالِ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّهَادَاتِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِعْسَارَ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْبَعْضِ إِلَّا بِثَلَاثَةٍ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ فَثُلِّثَتْ عَلَى خِلَافِ مَا اعْتِيدَ فِي الْإِثْبَاتِ لِلْحَاجَةِ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ نَقْلًا عَنِ التَّخْرِيجِ: أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُقْبَلُ مِنْ عَدْلَيْنِ وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَلَفِهِ وَالْإِعْسَارِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْمَالِ " فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ " أَيْ فَسَبَبُ هَذِهِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ صَارَتْ حَلَالًا لَهُ " حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ " وَيَخْتَلِفُ فَاعِلُ قَالَ بِاخْتِلَافِ مَنْ وَقَعَ لَهُ الشَّكُّ فَتَأَمَّلْ " فَمَا سِوَاهُنَّ " أَيْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ " سُحْتٌ " بِضَمَّتَيْنِ وَبِسُكُونِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَكْثَرُ هُوَ الْحَرَامُ الَّذِي لَا يَحِلُّ كَسْبُهُ لِأَنَّهُ يُسْحِتُ الْبَرَكَةَ أَيْ يُذْهِبُهَا " يَأْكُلُهَا " أَيْ يَأْكُلُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِالْمَسْأَلَةِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَالْحَاصِلُ يَأْكُلُ حَاصِلُهَا " صَاحِبُهَا سُحْتًا " نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَأْكُلُهَا وَجَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ حَالًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ بِمَعْنَى الصَّدَقَةِ وَالْمَسْأَلَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1838 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1838 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ ") أَيْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، يُقَالُ سَأَلْتُهُ الشَّيْءَ وَعَنِ الشَّيْءِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ فَنَصْبُهُ لِنَزْعِ الْخَافِضِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقِيلَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ " تَكَثُّرًا " مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ لِيَكْثُرَ مَالُهُ لَا لِلِاحْتِيَاجِ " فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا " أَيْ قِطْعَةً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، يَعْنِي مَا أَخَذَ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ بِالنَّارِ، وَجَعَلَهُ جَمْرًا لِلْمُبَالَغَةِ فَهَذَا كَقَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] أَيْ مَا يُوجِبُ نَارًا فِي الْعُقْبَى وَعَارًا فِي الدُّنْيَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْرًا حَقِيقَةً يُعَذَّبُ بِهِ كَمَا ثَبَتَ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ " فَلْيَسْتَقِلَّ " أَيْ مِنَ السُّؤَالِ أَوِ الْجَمْرِ " أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ " أَيْ لِيَطْلُبْ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُ أَوْ تَهْدِيدٌ، وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ أَوِ اسْتَقَلَّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1839 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1839 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ ") أَيْ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بَيَانِ الْحَالِ " حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ " بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ وَحُكِيَ فَتْحُ الْمِيمِ أَيْضًا وَالضَّمُّ هُوَ الْمَحْفُوظُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَيْ قِطْعَةٌ يَسِيرَةٌ مِنَ اللَّحْمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا جَاءَ لَهُ وَلَا قَدْرَ، مِنْ قَوْلِهِمْ لِفُلَانٍ وَجْهٌ فِي النَّاسِ أَيْ قَدْرٌ وَمَنْزِلَةٌ أَوْ يَأْتِي فِيهِ وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِهِ لَحْمٌ أَصْلًا إِمَّا عُقُوبَةً لَهُ وَإِمَّا إِعْلَامًا بِعَمَلِهِ اهـ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَلَامَةً لَهُ يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ تَفْضِيحًا لِحَالِهِ وَتَشْهِيرًا لِمَا لَهُ وَإِذْلَالًا لَهُ كَمَا أَذَلَّ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَرَاقَ مَاءَ وَجْهِهِ بِالسُّؤَالِ، وَمِنْ دُعَاءِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ سُجُودِ غَيْرِكَ فَصُنْ وَجْهِي عَنْ مَسْأَلَةِ غَيْرِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1840 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمِ شَيْئًا فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1840 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ» ) مَصْدَرٌ بِمَعْنَى السُّؤَالِ أَيْ لَا تُبَالِغُوا وَتُلِحُّوا، مِنْ أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِذَا أَلَحَّ فِيهَا " فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي " أَيْ بِالْإِلْحَافِ " أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجَ " بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ مَنْصُوبًا وَمَرْفُوعًا وَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ سَبَبِيَّةٌ فِي الْإِخْرَاجِ " لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الشَّيْءِ يَعْنِي لِإِعْطَائِهِ أَوْ لِذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يَخْرُجُ " كَارِهٌ " وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ " فَيُبَارَكَ " بِالنَّصْبِ مَجْهُولًا أَيْ فَإِنْ يُبَارَكْ " لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ " أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِلْحَافِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: نَصْبُهُ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ أَيْ لَا يَجْتَمِعُ إِعْطَائِي كَارِهًا مَعَ الْبَرَكَةِ اهـ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ فَيُقَدَّرُ هُوَ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ بَاعِثَ الْمُعْطِي الْحَيَاءُ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْحَاضِرِينَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَعْطَاهُ - فَهُوَ حَرَامٌ إِجْمَاعًا وَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ بَدَلِهِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُمَا حَرَامٌ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، وَالثَّانِي حَلَالٌ مَعَ الْكَرْهَةِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ أَلَّا يُذِلَّ نَفْسَهُ وَلَا يُلِحَّ فِي السُّؤَالِ وَلَا يُكَلِّفَ بِالْمَسْئُولِ، فَإِنْ فَقَدَ أَحَدَ الشُّرُوطِ فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ.

1841 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1841 - (وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ") أَيْ فَيَجْمَعَ حَطَبًا ثُمَّ يَرْبُطَ بِهِ " لِيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ " قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحُزْمَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ، قَدْرُ مَا يُحْمَلُ بَيْنَ الْعَضُدَيْنِ وَالصَّدْرِ وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُحْمَلُ عَلَى الظَّهْرِ مِنَ الْحَطَبِ " فَيَبِيعَهَا " قِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ " أَنْ "، أَيْ فَأَنْ يَبِيعَ تِلْكَ الْحُزْمَةَ وَثَمَنَهَا " فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ " أَيْ يَمْنَعَ عَنْ إِرَاقَةِ مَاءِ وَجْهِهِ بِالسُّؤَالِ " خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ " أَيْ يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ فِي أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا حَدِيثُ «مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِأَجْلِ غِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ» .

1842 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ لِي: " يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى "، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1842 - (وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ بَعْدَهُ زَايٌ (قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ شَيْئًا (فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ لِي) أَيْ بَعْدَ السُّؤَالِ الثَّالِثِ، أَوْ بَعْدَ مَا فَنِيَ الْمَالُ، أَوْ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ " يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ " أَيِ الْمَالَ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ أَوْ جِنْسَهُ أَوْ نَوْعَهُ الْحَاصِلَ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَتَعَبٍ " خَضِرٌ " بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ طَرِيٌّ نَاعِمٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ غَايَةَ الرَّغْبَةِ " حُلْوٌ " أَيْ لَذِيذٌ عِنْدَ النَّفْسِ تَمِيلُ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ غَايَةَ الْمَيْلِ، وَقِيلَ: الْخَضِرُ فِي الْعَيْنِ طَيِّبٌ وَالْحُلْوُ يَكُونُ فِي الْفَمِ طَيِّبًا إِذْ لَا تَمَلَّ الْعَيْنُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْخَضِرِ بَلْ يَقْوَى النَّظَرُ إِلَيْهِ قُوَّةَ الْبَصَرِ، وَلَا يَمَلُّ الْفَمُ مِنْ أَكْلِ الْحُلْوِ، وَكَذَلِكَ النَّفْسُ حَرِيصَةٌ بِجَمْعِ الْمَالِ لَا تَمَلُّ عَنْهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ مِنْ حَيْثُ زَهْرَتُهَا وَبَهْجَتُهَا وَبَهَاؤُهَا ثُمَّ سُرْعَةُ فَنَائِهَا مَا فِي الْأَمْوَالِ مِنْ زِيَادَةِ عَنَائِهَا وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا " فَمَنْ أَخَذَهُ " أَيِ الْمَالَ أَخْذًا مُلْتَبَسًا " بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ " أَيْ مِنَ الْأَخْذِ يَعْنِي بِلَا سُؤَالٍ وَلَا إِشْرَافٍ وَلَا طَمَعٍ أَوْ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ مِنَ الْمُعْطِي " بُورِكَ لَهُ فِيهِ " لِأَنَّهُ نَاظِرٌ فِي أَخْذِهِ إِلَى رَبِّهِ مُمْتَثِلٌ لِأَمْرِهِ قَائِمٌ لِشُكْرِهِ مُتَقَوٍّ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ لَا حَظَّ لَهُ فِي قَبُولِهِ إِلَّا رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] وَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْحَالِ حَدِيثُ «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ، وَخَبَرُ: «ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ» " وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ " يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ أَيْ بِطَمَعٍ أَوْ حِرْصٍ أَوْ تَطَلُّعٍ " لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ " قِيلَ: الْإِشْرَافُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ يُرَى بِكَرَاهِيَتِهِ مِنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ بِالْإِعْطَاءِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ نَفْسِ الْمُعْطِي وَاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيضٍ مِنَ السَّائِلِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُعْطَهُ لَتَرَكَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَوِ الْمُرَادُ نَفْسُ السَّائِلِ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الْإِعْطَاءِ أَوْ عَنْ إِنْفَاقِ الصَّدَقَةِ وَعَدَمِ إِمْسَاكِهَا " وَكَانَ " أَيِ السَّائِلُ الْآخِذُ الصَّدَقَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِمَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْبَرَكَةِ وَكَثْرَةِ الشَّرِهِ وَالنَّهْمَةِ " كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ " أَيْ كَذِي آفَةٍ يَزْدَادُ سُقْمًا بِالْأَكْلِ وَهُوَ مُعَبَّرٌ عَنْهُ بِجُوعِ الْبَقَرِ وَفِي مَعْنَاهُ مَرَضُ الِاسْتِسْقَاءِ " وَالْيَدُ الْعُلْيَا " أَيِ الْمُعْطِيَةُ أَوِ الْمُتَعَفِّفَةُ " خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى " وَهِيَ الْآخِذَةُ أَوِ السَّائِلَةُ وَقِيلَ السُّفْلَى الْمَانِعَةُ (قَالَ حَكِيمٌ) أَيْ بَعْدَ مَا سَمِعَ فِي السُّؤَالِ مِنْ نَقْصِ الْحَالِ وَعَدَمِ بَرَكَةِ الْمَالِ فِي الْمَالِ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ) بِسُكُونِ الرَّاءِ قَبْلَ الزَّايِ أَيْ لَا أُنْقِصُ " أَحَدًا " أَيْ مَالَ أَحَدٍ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ وَالْأَخْذِ مِنْهُ (بَعْدَكَ) أَيْ بَعْدَ سُؤَالِكَ هَذَا أَوْ بَعْدَ قَوْلِكَ هَذَا شَيْئًا؛ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَرْزَأَ بِمَعْنَى أُنْقِصُ (حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا) أَيْ إِلَى أَنْ أَمُوتَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1843 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ: " الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1843 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ (يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ) أَيْ فَضْلَهَا وَالْحَثَّ عَلَيْهَا أَوْ حُكْمَ أَخْذِهَا أَوْ سُؤَالِهَا (وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْكَفُّ عَنِ الْحَرَامِ وَعَنِ السُّؤَالِ عَنِ النَّاسِ " الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ " أَيِ الْمُعْطِيَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَكَذَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْمُتَعَفِّفَةُ مِنَ الْعِفَّةِ، وَرَجَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّعَفُّفِ وَالسُّؤَالِ، وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنَّ الْمُنْفِقَةَ أَعْلَى مِنَ الْآخِذَةِ وَالْمُتَعَفِّفَةَ أَعْلَى مِنَ السَّائِلَةِ، قِيلَ: الْإِنْفَاقُ يَدُلُّ عَلَى التَّعَفُّفِ مَعَ زِيَادَةٍ وَيُنَاسِبُ التَّحْرِيضَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَرِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ أَوْلَى وَأَصَحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً اهـ. وَالتَّفْسِيرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنْ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْأَرْجَحُ مَا فِي أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْعُلْيَا هِيَ الْمُتَعَفِّفَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّعَفُّفِ عَنْهَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: مَرْدُودٌ، بَلِ الرَّاجِحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا حَيْثُ يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا بِاعْتِبَارِ الْحَالَتَيْنِ لِأَصْحَابِهِمَا مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ التَّرْجِيحَ لِرِوَايَةِ الْمُتَعَفِّفَةِ عَلَى الْمُنْفِقَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِنِظَامِ الْمَرَامِ لَا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَئِمَّةِ الْأَنَامِ " وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ " قَالَ الشَّيْخُ:

أَبُو النَّجِيبِ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي آدَابِ الْمُرِيدِينَ: وَأَجْمَعُوا أَيِ الصُّوفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغِنَى إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالرِّضَا، فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» "، وَقَالَ: الْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ قِيلَ لَهُ: الْيَدُ الْعُلْيَا تَنَالُهَا الْفَضِيلَةُ بِإِخْرَاجِ مَا فِيهَا، وَالْيَدُ السُّفْلَى تَنَالُهَا الْمَنْقَصَةُ بِحُصُولِ الشَّيْءِ فِيهَا اهـ وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْغَنِيَّ بِإِعْطَاءِ بَعْضِ الْمَالِ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِاخْتِيَارِ الْفَقْرِ، وَالْفَقِيرَ بِأَخْذِ بَعْضِ الْمَالِ مَالَ إِلَى الْغِنَى فَتَنْقُصُ حَالُهُ وَيُخْشَى مَآلُهُ، وَفِي هَذَا مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ وَدَلَالَةٌ جَسِيمَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ عَلَى الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حَالُ السَّائِلِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ حَالُ الْمُتَعَفِّفِ وَالْآخِذِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّائِلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا، وَأَمَّا إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْحَالُ فَانْقَلَبَ الْمِثَالُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ أَعْنِي خَوَاجَةَ عُبَيْدَ اللَّهِ السَّمَرْقَنْدِيَّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - لَمَّا سُئِلَ: الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَفْضَلُ أَمِ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ؟ فَقَالَ: بَلِ الْفَقِيرُ الشَّاكِرُ، وَهُوَ إِمَّا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ أَوِ الشِّكَايَةَ الضَّرُورِيَّةَ أَوِ الْإِشَارَةَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1844 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «إِنَّ أُنَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: " مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1844 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: إِنَّ أُنَاسًا) وَفِي نُسْخَةٍ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ أَيْ جَمَاعَةً (مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ شَيْئًا (فَأَعْطَاهُمْ) أَيْ إِيَّاهُ (ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ فَنِيَ (مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: " مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ ") أَيْ مَالٍ، وَ " مِنْ " بَيَانٌ لِـ " مَا "، وَمَا خَبَرِيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِلشَّرْطِ أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ مَوْجُودٌ عِنْدِي أُعْطِيكُمْ " فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ " وَلَمْ أَمْنَعْهُ مِنْكُمْ " وَمَنْ يَسْتَعِفَّ " وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْفَكِّ أَيْ: مَنْ يَطْلُبْ مِنْ نَفْسِهِ الْعِفَّةَ عَنِ السُّؤَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ يَطْلُبِ الْعِفَّةَ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَيْسَ السِّينُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ " يُعِفَّهُ اللَّهُ " أَيْ يَجْعَلْهُ عَفِيفًا مِنَ الْإِعْفَافِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الْعِفَّةِ وَهِيَ الْحِفْظُ عَنِ الْمَنَاهِي، يَعْنِي مَنْ قَنِعَ بِأَدْنَى قُوتٍ وَتَرَكَ السُّؤَالَ تَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقَنَاعَةُ وَهِيَ كَنْزٌ لَا يَفْنَى " وَمَنْ يَسْتَغْنِ " أَيْ يُظْهِرْ الْغِنَى بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالتَّعَفُّفِ عَنِ السُّؤَالِ حَتَّى يَحْسَبَهُ الْجَاهِلُ غَنِيًّا مِنَ التَّعَفُّفِ " يُغْنِهِ اللَّهُ " أَيْ يَجْعَلْهُ غَنِيًّا أَيْ بِالْقَلْبِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» " وَمَنْ يَتَصَبَّرْ " أَيْ يَطْلُبْ تَوْفِيقَ الصَّبْرِ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ قَالَ - تَعَالَى - {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] أَوْ يَأْمُرْ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ وَيَتَكَلَّفْ فِي التَّحَمُّلِ عَنْ مَشَاقِّهِ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، لِأَنَّ الصَّبْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى صَبْرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْبَلِيَّةِ، أَوْ مَنْ يَتَصَبَّرْ عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّطَلُّعِ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ بِأَنْ يَتَجَرَّعَ مَرَارَةَ ذَلِكَ، وَلَا يَشْكُوَ حَالَهُ لِغَيْرِ رَبِّهِ (يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يُسَهِّلْ عَلَيْهِ الصَّبْرَ فَتَكُونُ الْجُمَلُ مُؤَكِّدَاتٍ وَيَزِيدُ إِرَادَةَ مَعْنَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ (وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً) أَيْ: مُعْطًى أَوْ شَيْئًا (هُوَ خَيْرٌ) أَيْ: أَفْضَلُ لِاحْتِيَاجِ السَّائِلِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ (وَأَوْسَعُ) أَيْ: أَشْرَحُ لِلصَّدْرِ (مِنَ الصَّبْرِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقَامَ الصَّبْرِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ بِمَا لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِمَكَارِمِ الصِّفَاتِ وَالْحَالَاتِ، وَلِذَا قُدِّمَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَوْسَعَ أَنَّهُ تَتَّسِعُ بِهِ الْمَعَارِفُ وَالْمَشَاهِدُ وَالْأَعْمَالُ وَالْمَقَاصِدُ، فَإِنْ قِيلَ: الرِّضَا أَفْضَلُ مِنْهُ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، أُجِيبُ: بِأَنَّهُ غَايَتُهُ الَّتِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ إِلَّا مَعَهَا فَلَيْسَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] إِذِ الْمُرَادُ بِهِ فِي حَقِّهِ، وَنَحْوُهُ مَا يَكُونُ مَعَهُ رِضًا، وَإِلَّا فَهُوَ مَقَامٌ نَاقِصٌ جِدًّا، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ - تَعَالَى - {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وَ {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وَ {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ (خَيْرٌ) أَيْ: هُوَ خَيْرٌ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ (خَيْرًا) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ عَطَاءٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَوَقَعَ فِي نُسَخِ مُسْلِمٍ: " مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرٌ " بِلَا لَفْظِ هُوَ وَهُوَ مُقَدَّرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ " خَيْرًا " بِالنَّصْبِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْإِمَامِ النَّوَوِيِّ، فَفِي قَوْلِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. تَسَاهُلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1845 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: " خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1845 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِينِي الْعَطَاءَ) قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ أَجْرَ عَمَلِهِ فِي الصَّدَقَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ السَّاعِدِيِّ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ (فَأَقُولُ: أَعْطِهِ) الضَّمِيرُ لِلْعَطَاءِ أَوْ لِلسَّكْتِ (أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي) أَيْ: أَحْوَجَ (فَقَالَ: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ) أَيْ: اقْبَلْهُ وَأَدْخِلْهُ فِي مَالِكَ، أَيْ إِنْ كُنْتَ مُحْتَاجًا (وَتَصَدَّقْ بِهِ) أَيْ عَلَى أَفْقَرَ مِنْكَ إِنْ كَانَ فَاضِلًا عَنْكَ عَمَّا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ (فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ) إِشَارَةً إِلَى جِنْسِ الْمَالِ أَوِ الْمَالِ الَّذِي أَعْطَاهُ (وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِشْرَافُ الِاطِّلَاعُ عَلَى شَيْءٍ وَالتَّعَرُّضُ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الطَّمَعُ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكَ غَيْرُ طَامِعٍ لَهُ (وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ) أَيْ: فَاقْبَلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْتَاجًا (وَمَا لَا) أَيْ: وَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِيئَكَ هُنَالِكَ إِلَّا بِتَطَلُّعٍ إِلَيْهِ وَاسْتِشْرَافٍ عَلَيْهِ (فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) مِنَ الْإِتْبَاعِ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: فَلَا تَجْعَلْ نَفْسَكَ تَابِعَةً لَهُ وَلَا تُوصِلِ الْمَشَقَّةَ إِلَيْهَا فِي طَلَبِهِ، حُكِيَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ اشْتَرَى (شَيْئًا) مِنَ السُّوقِ فَحَمَلَهُ بَنَانُ الْحَمَّالُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ، وَكَانَ الْخَبْزُ مَنْشُورًا لِيَبْرُدَ أَمَرَ وَلَدَهُ أَنْ يُعْطِيَ قُرْصًا لِبَنَانَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ، فَامْتَنَعَ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ أَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَهُ وَيُعْطِيَهُ، فَأَخَذَهُ، فَتَعَجَّبَ الْوَلَدُ مِنِ امْتِنَاعِهِ أَوَّلًا، وَأَخْذِهِ ثَانِيًا، فَسَأَلَ الْإِمَامَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَمَّا دَخَلَ وَرَأَى الْعَيْشَ وَقَعَ مِنْهُ إِشْرَافٌ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ فَامْتَنَعَ لِذَلِكَ، وَلَمَّا خَرَجَ وَجَاءَهُ الْخُبْزُ مِنْ غَيْرِ إِشْرَافٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَخَذَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي حَدِيثٍ: «مَنْ أَتَاهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ فَرَدَّهُ فَكَأَنَّمَا رَدَّهُ عَلَى اللَّهِ» ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ بِوُجُوبِ قَبُولِهِ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1846 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمَسَائِلُ كُدُوحٌ يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1846 - (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْمَسَائِلُ " جَمْعُ الْمَسْأَلَةِ، وَجُمِعَتْ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا سُؤَالُ أَمْوَالِ النَّاسِ (كُدُوحٌ) مِثْلَ: صُبُورٍ لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الْكَدْحِ بِمَعْنَى: الْجَرْحِ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ الْمَسَائِلِ بِاعْتِبَارِ مَنْ قَامَتْ بِهِ، أَيْ: سَائِلُ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ جَارِحٌ لَهُمْ بِمَعْنَى مُؤْذِيهِمْ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَوْ جَارِحٌ وَجْهَهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ، وَبِضَمِّ الْكَافِ جَمْعُ كَدْحٍ، وَهُوَ أَثَرٌ مُسْتَنْكَرٌ مِنْ خَدْشٍ أَوْ عَضٍّ، وَالْجَمْعُ هُنَا أَنْسَبُ لِيُنَاسِبَ الْمَسَائِلَ (يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ) أَيْ: يَجْرَحُ وَيَشِينُ بِالْمَسَائِلِ (وَجْهَهُ) وَيَسْعَى فِي ذَهَابِ عَرْضِهِ بِالسُّؤَالِ بِرِيقُ مَاءِ وَجْهِهِ فَهِيَ كَالْجِرَاحَةِ لَهُ، وَالْكَدْحُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْجَرْحِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] (فَمَنْ شَاءَ) أَيِ: الْإِبْقَاءَ (أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ) أَيْ: مَاءِ وَجْهِهِ مِنَ الْحَيَاءِ بِتَرْكِ السُّؤَالِ وَالتَّعَفُّفِ (وَمَنْ شَاءَ) أَيْ: عَدَمَ الْإِبْقَاءِ، (تَرَكَهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْإِبْقَاءَ (إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ) أَيْ: حُكْمٍ وَمُلْكٍ بِيَدِهِ بَيْتُ الْمَالِ، فَيَسْأَلُ حَقَّهُ، فَيُعْطِيهِ مِمَّنْ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي عَطِيَّةِ السُّلْطَانِ، وَالصَّحِيحُ إِنْ غَلَبَ فِي يَدِهِ الْحَرَامُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ لَمْ تَحِلَّ وَإِلَّا حَلَّتْ يَعْنِي: حَرُمَ سُؤَالُهُ، وَالْأَخْذُ مِنْهُ كَمَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَاعْتَمَدَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَكِنَّهُ بَالَغَ فِي رَدِّهِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فَيُكْرَهُ ذَلِكَ سُؤَالًا وَأَخْذًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي قَبُولِ عَطَاءِ السُّلْطَانِ، فَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَأَبَاحَهُ آخَرُونَ (أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ (بُدًّا) أَيْ: عِلَاجًا آخَرَ غَيْرَ السُّؤَالِ أَوْ لَا يَجِدُ مِنَ السُّؤَالِ فِرَاقًا وَخَلَاصًا كَمَا فِي الْحَمَالَةِ وَالْجَائِحَةِ وَالْفَاقَةِ ; بَلْ يَجِبُ حَالَ الِاضْطِرَارِ فِي الْعُرْيِ وَالْجُوعِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَكَذَا يَجِبُ السُّؤَالُ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ فَتَرَكَهُ حَتَّى أَعْسَرَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّهُ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي وَرْطَةِ الْفِسْقِ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ هَذِهِ الزَّلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفِسْقِ بِسُؤَالِ الْأَغْنِيَاءِ مَا يُؤَدِّي بِهِ هَذَا الْوَاجِبَ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ نِزَاعُ بَعْضِهِمْ لِلْغَزَالِيِّ فِي الْوُجُوبِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .

1847 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ أَوْ خُدُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ ، قَالَ: " خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1847 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ ") أَيْ: عَنِ السُّؤَالِ وَيَكْفِيهِ بِقَدْرِ الْحَالِ " جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ " أَيْ: أَثَرُهَا " فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ " أَيْ: جُرُوحٌ " أَوْ خُدُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ " بِضَمِّ أَوَائِلِهَا أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي: جَمْعُ خَمْشٍ وَخَدْشٍ وَكَدْحٍ، فَـ " أَوْ " هُنَا إِمَّا لِشَكِّ الرَّاوِي، إِذِ الْكُلُّ يُعْرِبُ عَنْ أَثَرِ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ مِنْ مُلَاقَاةِ الْجَسَدِ مَا يُقَشِّرُ أَوْ يَجْرَحُ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَا: آثَارٌ مُسْتَنْكَرَةٌ فِي وَجْهِهِ حَقِيقَةً، أَوْ أَمَارَاتٌ لِيُعْرَفَ وَيُشْتَهَرَ بِذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ أَوْ لِتَقْسِيمِ مَنَازِلِ السَّائِلِ فَإِنَّهُ مُقِلٌّ أَوْ مُكْثِرٌ أَوْ مُفَرِّطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَذَكَرَ الْأَقْسَامَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَالْخَمْشُ أَبْلَغُ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْخَدْشِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْكَدْحِ، إِذِ الْخَمْشُ فِي الْوَجْهِ، وَالْخَدْشُ فِي الْجِلْدِ، وَالْكَدْحُ فَوْقَ الْجِلْدِ، وَقِيلَ: الْخَدْشُ قَشْرُ الْجِلْدِ بِعُودٍ، وَالْخَمْشُ قَشْرُهُ بِالْأَظْفَارِ، وَالْكَدْحُ الْبَعْضُ، وَهِيَ فِي أَصْلِهَا مَصَادِرُ لَكِنَّهَا لَمَّا جُعِلَتْ أَسْمَاءً لِلْآثَارِ جُمِعَتْ (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟) أَيْ: كَمَا هُوَ أَوْ أَيُّ مِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ يُغْنِيهِ؟ (قَالَ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا) أَيْ: قِيمَةُ الْخَمْسِينَ مِنَ الذَّهَبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتَهَا مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَهُوَ غَنِيٌّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قَدْرَ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ عَلَى دَائِمِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ فِي أَغْلَبِهَا، فَهُوَ غَنِيٌّ كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِكَسْبِ يَدٍ أَوْ تِجَارَةٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِمُ التِّجَارَةَ، وَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ أَعْنِي: خَمْسِينَ دِرْهَمًا كَافِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ، قُدِّرَ بِهِ تَخْمِينًا، وَبِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ أَعْنِي: الْأُوقِيَّةَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَلَا نَسْخَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقِيلَ: حَدِيثُ (مَا يُغْنِيهِ) مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ الْأُوقِيَّةِ، وَهُوَ بِحَدِيثِ خَمْسِينَ، وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِمَا رُوِيَ مُرْسَلًا: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَعِنْدَهُ عَدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ، فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ اهـ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي مَذْهَبِهِ مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ مَلَكَ قُوتَ يَوْمِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالسُّؤَالِ، فَمَا نُسِبَ إِلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْأَنْسَبُ بِمَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ السُّؤَالِ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ النَّسْخِ بِالْعَكْسِ بِأَنْ نُسِخَ الْأَكْثَرُ، فَالْأَكْثَرُ إِلَى أَنْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ تَدْرِيجِيًّا بِمُقْتَضَى الْحُكْمِ كَمَا وَقَعَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَوَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي الزِّيَادَاتِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكَمُ الْإِلَهِيَّاتُ عَلَى وَفْقِ الطِّبَاعِ وَالْمَأْلُوفَاتِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

1848 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ، فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ» " قَالَ النُّفَيْلِيُّ وَهُوَ أَحَدُ رُوَاتِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ " وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا تَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ " وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ " أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1848 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ " أَيْ: مِنَ السُّؤَالِ وَهُوَ قُوتُهُ فِي الْحَالِ " فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ " يَعْنِي: مَنْ جَمَعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالسُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَكَأَنَّهُ جَمَعَ لِنَفْسِهِ نَارَ جَهَنَّمَ (قَالَ النُّفَيْلِيُّ) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ مَنْسُوبٌ إِلَى أَحَدِ آبَائِهِ (وَهُوَ أَحَدُ رُوَاتِهِ) أَيِ: الْحَدِيثِ (فِي مَوْضِعٍ آخَرَ) أَيْ: فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى زِيَادَةً عَلَى الْأُولَى " وَمَا الْغِنَى " الظَّاهِرُ: قِيلَ: وَمَا الْغِنَى " الَّذِي لَا تَنْبَغِي " بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ (مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ " قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ " أَيْ: قَدْرُ كِفَايَتِهِمَا بِمَالٍ أَوْ كَسْبٍ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنْ عِلْمٍ أَوْ حَالٍ، التَّغْدِيَةُ إِطْعَامُ طَعَامِ الْغُدْوَةِ، وَالتَّعْشِيَةُ إِطْعَامُ طَعَامِ الْعَشَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي مَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَيَجُوزُ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَسْأَلَهَا بِقَدْرِ مَا يَتِمُّ بِهِ نَفَقَةُ سَنَةٍ لَهُ وَلِعِيَالِهِ وَكِسْوَتُهُمَا ; لِأَنَّ تَفْرِيقَهُمَا فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً (وَقَالَ) أَيِ: النُّفَيْلِيُّ (فِي مَوْضِعٍ آخَرَ) أَيْ: فِي الْجَوَابِ عَمَّا يُغْنِيهِ " أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ " بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِهَا، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، أَيْ: مَا يُشْبِعُهُ مِنَ الطَّعَامِ أَوَّلَ يَوْمِهِ وَآخِرَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِسُكُونِ الْبَاءِ، مَا يُشْبِعُ، وَبِفَتْحِ الْبَاءِ الْمَصْدَرُ، وَفِي الْقَامُوسِ الشَّبَعُ بِالْفَتْحِ، وَكَعَنَبٍ ضِدَّ الْجُوعِ، وَبِالْكَسْرِ وَكَعِنَبٍ اسْمُ مَا أَشْبَعَكَ " أَوْ لَيْلَةً وَيَوْمٍ " شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1849 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ، وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا، فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا» ". رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1849 - (وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ) سَبَقَ أَنَّ إِبْهَامَ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ ; لِأَنَّ الْأَصَحَّ ; بَلِ الصَّوَابَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ مِنْهُمْ زَلَّةٌ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلتَّوْبَةِ بِبَرَكَةِ مَا حَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الصُّحْبَةِ، وَلَوْ بِاللَّحْظَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ ") بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْفِضَّةِ " أَوْ عَدْلُهَا " بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَيُفْتَحُ، أَيْ: مَا يُسَاوِيهَا مِنْ ذَهَبٍ وَمَالٍ آخَرَ " فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا " أَيْ: إِلْحَاحًا وَإِسْرَافًا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.

1850 - وَعَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ، وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَرَضْفًا يَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقُلْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1850 - (وَعَنْ حُبْشِيٍّ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحِّدَةِ (ابْنِ جُنَادَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو الْجَنُوبِ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَعَدُّوهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ» " أَيْ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِهِ " وَلَا لِذِي مِرَّةٍ " بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: قُوَّةٍ بِأَنْ لَا يَكُونَ بِهِ عِلَّةٌ " سَوِيٍّ " أَيْ: صَحِيحٍ سَلِيمِ الْأَعْضَاءِ عَلَى الْكَسْبِ " إِلَّا لِذِي فَقْرٍ " اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَخِيرِ " مُدْقِعٍ " أَيْ: شَدِيدٍ مِنْ أَدْقَعَ لَصَقَ بِالدَّقْعَاءِ وَهُوَ التُّرَابُ " أَوْ غُرْمٍ " بِضَمِّ الْغَيْنِ أَيْ: دَيْنٍ " مُفْظِعٍ " أَيْ: شَنِيعٍ مِثْقَالٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُرَادُ مَا اسْتَدَانَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فِي مَبْلَغٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَوِ الْمَعْصِيَةِ وَصَرَفَهُ فِي مُبَاحٍ، أَوْ تَابَ اهـ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْغَرَامَةِ بِنَحْوِ دِيَةٍ وَكَفَّارَةٍ " وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ " أَيْ: وَاحِدًا مِنْهُمْ " لِيُثْرِيَ " مِنَ الْإِثْرَاءِ " بِهِ " أَيْ: بِسَبَبِ السُّؤَالِ وَبِالْمَأْخُوذِ " مَالَهُ " بِفَتْحِ اللَّامِ وَرَفْعِهِ أَيْ: لِيَكْثُرَ مَالُهُ، مِنْ أَثْرَى الرَّجُلُ إِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُهُ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَفِي النِّهَايَةِ الثَّرَى الْمَالُ وَأَثْرَى الْقَوْمُ كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَفِي الْقَامُوسِ الثَّرْوَةُ كَثْرَةُ الْعَدَدِ مِنَ النَّاسِ وَالْمَالِ، وَثَرِيَ الْقَوْمُ كَثُرُوا وَنَمَوْا وَالْمَالُ كَذَلِكَ وَثَرِيَ كَرَضِيَ كَثُرَ مَالُهُ كَأَثْرَى، إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ: مَالَهُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ أَثْرَى لَازِمٌ فَيَتَعَيَّنُ رَفْعُهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مَا مَوْصُولَةٌ وَلَهُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِيُثَرِّيَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَهُوَ يَحْتِمَلُ اللُّزُومَ كَأَثْرَى، وَيَحْتَمِلُ التَّعْدِيَةَ عَلَى الْقِيَاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ " كَانَ " أَيِ: السُّؤَالُ أَوِ الْمَالُ " خُمُوشًا " بِالضَّمِّ أَيْ: عَبَسًا " فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " أَيْ: عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ " وَرَضْفًا " بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: حَجَرًا مَحْمِيًّا " يَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ " أَيْ: فِيهَا، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّحْرِيقُ وَالتَّعْذِيبُ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، وَلَعَلَّ الْخَمْشَ عَذَابٌ لِوَجْهِهِ لِتَوَجُّهِهِ إِلَى غَيْرِهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَأَكْلُ الْحَجَرِ عَذَابٌ لِلِسَانِهِ وَفَمِهِ فِي السُّؤَالِ مِنَ الْمَخْلُوقِ الْمُتَضَمِّنِ لِلشِّكَايَةِ مِنْ مَوْلَاهُ - تَعَالَى، وَلِذَا وَرَدَ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا " فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقُلْ " أَيْ: هَذَا السُّؤَالُ أَوْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّكَالِ " وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ " وَهُمَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1851 - عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: " أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ "، فَقَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ، وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ: " ائْتِنِي بِهِمَا " فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، وَقَالَ: " مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ ". قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: " مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ " مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، فَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ: " اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا، فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا، فَائْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: " اذْهَبْ، فَاحْتَطِبْ، وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا " فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَهُ، وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ: " يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1851 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُهُ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ " فَقَالَ: أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ " بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ تَقْرِيرِيٍّ وَ " مَا " نَافِيَةٌ وَكَأَنَّ الْهَمْزَةَ سَقَطَتْ مِنْ أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ فَقَالَ: فِيهِ حَذْفُ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ " فَقَالَ: بَلَى حِلْسٌ " أَيْ: فِيهِ حِلْسٌ وَهُوَ بِكَسْرِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ لَامٍ كِسَاءٌ غَلِيظٌ يَلِي ظَهْرَ الْبَعِيرِ تَحْتَ

الْقَتَبُ " نَلْبَسُ " بِفَتْحِ الْبَاءِ " بَعْضَهُ " أَيْ: بِالتَّغْطِيَةِ لِدَفْعِ الْبَرْدِ " وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ " أَيْ: بِالْفَرْشِ " وَقَعْبٌ " بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: قَدَحٌ " نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ " مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ " قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا " أَيْ: بِالْحِلْسِ وَالْقَعْبِ " فَأَتَاهُ " أَيْ: بِهِمَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ " فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ " أَيِ: الْمَتَاعَيْنِ، فِيهِ غَايَةُ التَّوَاضُعِ وَإِظْهَارِ الْمَرْحَمَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ عَلَيْهِمَا رَغِبَ فِيهِمَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِمَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الشَّدِيدِ (قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا) بِضَمِّ الْخَاءِ وَيُحْتَمَلُ كَسْرُهَا (بِدِرْهَمٍ، قَالَ: " مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ " مَرَّتَيْنِ) ظَرْفٌ لِقَالَ (أَوْ ثَلَاثًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، فَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بِيعِ الْمُعَاطَاةِ (وَقَالَ: " اشْتَرِ ") بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفِي لُغَةٍ بِسُكُونِهَا " بِأَحَدِهِمَا " أَيْ: أَحَدِ الدِّرْهَمَيْنِ " طَعَامًا فَانْبِذْهُ " بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيِ: اطْرَحْهُ " إِلَى أَهْلِكَ " أَيْ: مِمَّنْ يَلْزَمُكَ مُؤْنَتُهُ " وَاشْتَرِ بِالْأُخَرِ قَدُومًا " بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِّ أَيْ: فَأْسًا " فَائْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ " أَيْ: بَعْدَ مَا اشْتَرَاهُ (فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُودًا) أَيْ: مُمْسِكًا " بِيَدِهِ " أَيِ: الْكَرِيمَةِ (ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ، فَاحْتَطِبْ) أَيِ: اطْلُبِ الْحَطَبَ وَاجْمَعْ " وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا " أَيْ:، لَا تَكُنْ هُنَا هَذِهِ الْمُدَّةَ لَا أَرَاكَ، وَهَذَا مِمَّا أُقِيمَ فِيهِ الْمُسَبَّبُ مَقَامَ السَّبَبِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ الرَّجُلِ عَنْ تَرْكِ الِاكْتِسَابِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، لَا نَهْيُ نَفْسِهِ عَنِ الرُّؤْيَةِ (فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَهُ، وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا) أَيْ: حُبُوبًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةَ ") أَيْ: إِذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا أَوْ مُطْلَقًا، لِأَنَّ السُّؤَالَ ذُلٌّ فِي التَّحْقِيقِ وَلَوْ أَيْنَ الطَّرِيقُ " نُكْتَةً " أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا عَلَامَةً قَبِيحَةً أَوْ أَثَرًا مِنَ الْعَيْبِ " فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ " أَيْ: لَا تَحِلُّ وَلَا تَجُوزُ وَلَا تَصِحُّ " إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ " أَيْ: شَدِيدٍ " أَوْ لِذِي غُرْمٍ " أَيْ: غَرَامَةٍ أَوْ دَيْنٍ " مُفْظِعٍ " أَيْ: فَظِيعٍ وَثَقِيلٍ وَفَضِيحٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ لَكِنَّ الْحُكْمَ جَوَازُ السُّؤَالِ لِأَدَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، فَيُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ اهـ. وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِلْحُكْمِ أَوِ الْحُكْمُ يُخَالِفُهُ، وَهَذَا خُلْفٌ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، إِذِ الْحُكْمُ جَوَازُ أَخْذِ الزَّكَاةِ لِأَدَاءِ الدَّيْنِ، لَا جَوَازُ السُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِلْمَذْهَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْخِلَافِ الْمُرَتَّبِ " أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ " بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا أَيْ: مُؤْلِمٍ، وَالْمُرَادُ دَمٌ يُوجِعُ الْقَاتِلَ وَأَوْلِيَاءَهُ بِأَنْ تَلْزَمَهُ الدِّيَةُ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يُؤَدِّي بِهِ الدِّيَةَ، وَيَطْلُبُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْهُمْ، وَتَنْبَعِثُ الْفِتْنَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ بَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُوجِعُ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ فَلَا تَكَادُ ثَائِرَةُ الْفِتْنَةِ تُطْفَأُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَيَقُومُ لَهُ مَنْ يَتَحَمَّلُ الْحَمَالَةَ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَتَحَمَّلَ الدِّيَةَ فَيَسْعَى فِيهَا، وَيَسْأَلَ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ، وَلَيْسَ لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ مَالٌ، وَلَا يُؤَدِّي أَيْضًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا قَتَلُوا الْمُتَحَمِّلَ عَنْهُ، وَهُوَ أَخُوهُ أَوْ حَمِيمُهُ، فَيُوجِعُهُ قَتْلُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مُطَوَّلًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يَكْتُبُ حَدِيثَهُ. ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (وَرَوَىَ ابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ: يِوْمَ الْقِيَامَةِ) .

1852 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالْغَنَاءِ، إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى آجِلٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1852 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ ") أَيْ: حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْفَقْرِ وَضِيقِ الْمَعِيشَةِ " فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ " أَيْ: عَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَظْهَرَهَا بِطَرِيقِ الشِّكَايَةِ لَهُمْ، وَطَلَبَ إِزَالَةَ فَاقَةٍ مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: نَزَلَ بِالْمَكَانِ، وَنَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ، وَمِنَ الْمَجَازِ نَزَلَ بِهِ مَكْرُوهٌ، وَأَنْزَلْتُ حَاجَتِي عَلَى كِرِيمٍ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مَنِ اعْتَمَدَ فِي سَدِّهَا عَلَى سُؤَالِهِمْ " لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ " أَيْ: لَمْ تُقْضَ حَاجَتُهُ، وَلَمْ تَزَلْ فَاقَتُهُ، وَكُلَّمَا تُسَدُّ حَاجَةٌ أَصَابَتْهُ أُخْرَى أَشَدُّ مِنْهَا " وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ " بِأَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَوْلَاهُ " أَوْشَكَ اللَّهُ " أَيْ: أَسْرَعَ وَعَجَّلَ " لَهُ بِالْغَنَاءِ " بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْمَدِّ: أَيِ: الْكِفَايَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْغِنَى. قَالَ شُرَّاحُ الْمَصَابِيحِ: رِوَايَةُ بِالْغِنَى بِالْكَسْرِ مَقْصُورًا عَلَى مَعْنَى الْيَسَارِ تَحْرِيفٌ لِلْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ قَالَ: يَأْتِيهِ الْكِفَايَةُ عَمَّا هُوَ فِيهِ (إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ) قِيلَ: بِمَوْتٍ قَرِيبٍ لَهُ غَنِيٍّ، فَيَرِثُهُ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] " أَوْ غِنَى " بِكَسْرٍ وَقَصْرٍ: أَيْ: يَسَارٌ " آجِلٍ " أَيْ: بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَالًا وَيَجْعَلَهُ غَنِيًّا. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ هَكَذَا: أَيْ: بِالْعَيْنِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ " أَوْ غِنًى آجِلٍ " بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَهُوَ أَصَحُّ دِرَايَةً لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] اهـ. وَفِيهِ بَحْثُ تَأَمُّلٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1853 - عَنِ ابْنِ الْفِرَاسِيِّ، أَنَّ الْفِرَاسِيَّ قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَسْأَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا وَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ، فَسَلِ الصَّالِحِينَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1853 - (عَنِ ابْنِ الْفِرَاسِيِّ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ (أَنَّ الْفِرَاسِيَّ) هُوَ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ (قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَسْأَلُ) بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ: أَيْ: وَأَطْلُبُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا ") : أَيْ: لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ " وَإِنْ كُنْتَ ": أَيْ: سَائِلًا " لَا بُدَّ ": أَيْ: لَكَ مِنْهُ، وَلَا غِنًى لَكَ عَنْهُ " فَسَلْ " بِالْوَجْهَيْنِ: أَيِ: اطْلُبِ " الصَّالِحِينَ " لِأَنَّ الصَّالِحَ لَا يُعْطِي إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا كِرِيمًا وَرَحِيمًا، وَلَا يَهْتِكُ الْعِرْضَ، وَلِأَنَّهُ يَدْعُو لَكَ، فَيُسْتَجَابُ، وَلِذَا كَانَ فُقَرَاءُ بَغْدَادَ يَسْأَلُونَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ، وَمِنْ غَرِيبِهِ مَا وَقَعَ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِ الْإِمَامِ احْتَاجُوا إِلَى الْخَمِيرَةِ فِي حَالِ الْعَجْنِ مَرَّةً، فَطَلَبُوا مِنْ بَيْتِ وَلَدِهِ، وَكَانَ قَدْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ، وَمِنْ صَلَاحِهِ وَتَقْوَاهُ يَرْقُدُ عِنْدَ بَابِهِ فِي اللَّيْلِ قَائِلًا: لَعَلَّهُ احْتَاجَ إِلَيَّ، وَلَمَّا خَبَزُوا انْكَشَفَ لِلْإِمَامِ أَنَّ فِيهِ شُبْهَةً، فَسَأَلَهُمْ، فَحَكَوْا لَهُ بِالْقَضِيَّةِ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ، وَتَبِعُوهُ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ نُعْطِيهِ لِلْفُقَرَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ إِجْلَاءِ عَيْبِهِ، فَلَمْ يَأْخُذْهُ الْفُقَرَاءُ، فَرَمَوْهُ فِي الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَمَّا اطَّلَعَ عَلَى فِعْلِهِمُ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْحُوتِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

1854 - «وَعَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا، وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ، أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ، وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ، قَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي قَدْ عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ، فَكُلْ وَتَصَدَّقْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1854 - (وَعَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ) : أَيْ: جَعَلَنِي عَامِلًا (عَلَى الصَّدَقَةِ) : أَيْ: عَلَى أَخْذِهَا وَجَمْعِهَا وَحِفْظِهَا (فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا) : أَيْ: مِنْ أَخْذِهَا (وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ) : أَيْ: إِلَى عُمَرَ (أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفِي الْقَامُوسِ مُثَلَّثَةٌ: أُجْرَةُ الْعَمَلِ (فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي) : بِالْوَجْهَيْنِ (عَلَى اللَّهِ، قَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ:

صِيغَةُ الْمَفْعُولِ (فَإِنِّي قَدْ عَمِلْتُ) : أَيْ: عَلَى الصَّدَقَةِ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَمَّلَنِي) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: أَعْطَانِي أُجْرَةَ الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى: أَرَادَ إِعْطَاءَهَا، أَوْ أَمَرَ لِي بِالْعَطَاءِ (فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ فَكُلْ» ") : أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ فَقِيرًا " وَتَصَدَّقْ ": أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ غَنِيًّا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْعَامِّ، وَإِنْ كَانَ فَرْضًا كَالْقَضَاءِ وَالْحِسْبَةِ وَالتَّدْرِيسِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ كِفَايَةُ هَؤُلَاءِ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِمَّا سَبَقَ وُجُوبُ قَبُولِ مَا أُعْطِيَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ الْأَمْرَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1855 - وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ يَوْمَ عَرَفَةَ رَجُلًا يَسْأَلُ النَّاسَ، فَقَالَ: أَفِي هَذَا الْيَوْمِ وَفِي هَذَا الْمَكَانِ تَسْأَلُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ؟ فَخَفَقَهُ بِالدِّرَّةِ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1855 - (وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ يَوْمَ عَرَفَةَ رَجُلًا يَسْأَلُ النَّاسَ، فَقَالَ:) : أَيْ: عَلِيٌّ (أَفِي هَذَا الْيَوْمِ، وَفِي هَذَا الْمَكَانِ) : أَيْ: أَنَّ زَمَانَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَمَكَانَ قَبُولِ الثَّنَاءِ، وَحُصُولِ الرَّجَاءِ؟ (يُسْأَلُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ) : أَيْ: شَيْئًا حَقِيرًا مِثْلَ الْغَدَاءِ، أَوِ الْعَشَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: هَذَا الْمَكَانُ، وَهَذَا الْيَوْمُ يُنَافِيَانِ السُّؤَالَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ السُّؤَالُ فِي الْمَسَاجِدِ، إِذْ لَمْ تُبْنَ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ اهـ. وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ لِلشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَرْسِيِّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَازِمًا لِزِيَارَةِ سَيِّدِنَا حَمْزَةَ " فَتَبِعَهُ رَجُلٌ " فَانْفَتَحَ لِلشَّيْخِ بَابُ التُّرْبَةِ مِنْ غَيْرِ مِفْتَاحٍ، فَدَخَلَ فَرَأَى رَجُلًا مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ، فَسَأَلَ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ: فَرَحَّمْتُ عَلَى رَفِيقِي، فَقُلْتُ لَهُ: أَدْرَكْتَ وَقْتَ الْإِجَابَةِ، فَاطْلُبْ مَقْصُودَكَ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى، فَسَأَلَ دِينَارًا، فَرَجَعْتُ، فَلَمَّا دَخَلْتُ بَابَ الْمَدِينَةِ نَاوَلَهُ رَجُلٌ دِينَارًا، فَدَخَلْتُ عَلَى شَيْخِي السَّيِّدِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ، فَقَالَ لِلرَّجُلِ: قَبْلَ نَقْلِ الْقَضِيَّةِ يَا دَنِيَّ الْهِمَّةِ، أَدْرَكْتَ وَقْتَ الْإِجَابَةِ وَسَأَلْتَ دِينَارًا، لِمَ لَا سَأَلْتَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ مِثْلَ أَبِي الْعَبَّاسِ؟ وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا حُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ بَهَاءِ الدِّينِ النَّقْشَبَنْدِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا رَأَيْتَ فِي حَجِّكَ مِنَ الْعَجَائِبِ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا بَاعَ وَاشْتَرَى فِي سُوقِ مِنًى كَذَا وَكَذَا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَلَمْ يَغْفُلْ عَنِ اللَّهِ سَاعَةً، وَرَأَيْتُ شَيْخًا كَبِيرًا مُتَعَلِّقًا بِالْمُلْتَزَمِ طَالِبًا مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - الدُّنْيَا، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُ الْإِجَابَةِ (فَخَفَقَهُ) : أَيْ: ضَرَبَهُ (بِالدِّرَّةِ) : بِكَسْرِ الدَّالِّ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، فِي الْقَامُوسِ هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْخَفْقُ الضَّرْبُ بِالشَّيْءِ الْعَرِيضِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

1856 - وَعَنْ عُمَرَ، قَالَ: تَعْلَمُنَّ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ، وَأَنَّ الْإِيَاسَ غِنًى، وَأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا يَئِسَ عَنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1856 - (وَعَنْ عُمَرَ، قَالَ: تَعْلَمُونَ) : خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: تَعْلَمُنَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: لَتَعْلَمُنَّ، وَفِيهِ شُذُوذَانِ؛ إِيرَادُ اللَّامِ فِي أَمْرِ الْمُخَاطَبِ، وَحَذْفُهَا مَعَ كَوْنِهَا مُرَادَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مُحَمَّدُ تَغْدُ نَفْسُكَ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ (تَعْلَمُنَّ) جَوَابَ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، وَاللَّامُ الْمُقَدَّرَةُ هِيَ الْمَفْتُوحَةُ، أَيْ: وَاللَّهِ لَتَعْلَمُنَّ (أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ الطَّمَعَ) : أَيْ: فِي الْخُلُقِ (فَقْرٌ) : أَيْ: حَاضِرٌ، أَوْ يَجُرُّ إِلَيْهِ (وَأَنَّ الْإِيَاسَ) بِمَعْنَى الْيَأْسِ مِنَ النَّاسِ (غِنًى، وَأَنَّ الْمَرْءَ) : تَفْسِيرٌ لِمَا تَقَدَّمَ (إِذَا يَئِسَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِذَا أَيِسَ (عَنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ) وَلِذَا قِيلَ: الْيَأْسُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ، وَقَالَ السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ لَمَّا طُلِبَ مِنْهُ عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ: هُوَ فِي كَلِمَتَيْنِ: اطْرَحِ الْخَلْقَ عَنْ نَظَرِكَ، وَاقْطَعْ طَمَعَكَ عَنِ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكَ غَيْرَ مَا قَسَمَ لَكَ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

1857 - وَعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ يَكْفُلُ لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا فَأَتَكَفَّلَ لَهُ بِالْجَنَّةِ " فَقَالَ ثَوْبَانُ: أَنَا، فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1857 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَيُقَالُ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ السَّرَاةِ؛ مَوْضِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، أَصَابَهُ سَبْيٌ، فَاشْتَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ حَضَرًا وَسَفَرًا حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ وَنَزَلَ الرَّمْلَةَ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حِمْصَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ يَكْفُلُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْفَاءِ مَرْفُوعًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: (مَنْ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِنَ التَّكْفِيلِ أَيْ: مَنْ يَضْمَنُ وَيَلْتَزِمُ (لِي) وَيَتَقَبَّلُ مِنِّي (أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا) أَيْ مِنَ السُّؤَالِ أَوْ مِنَ الْأَشْيَاءِ (فَأَتَكَفَّلَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ أَيْ: أَتَضَمَّنَ (لَهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عُقُوبَةٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ (فَقَالَ ثَوْبَانُ: أَنَا) أَيْ: تَضَمَّنْتُ أَوْ أَتَضَمَّنُ (فَكَانَ) أَيْ: ثَوْبَانُ بَعْدَ ذَلِكَ (لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا) أَيْ: وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْهُ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَوْتَ فَإِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، بَلْ قِيلَ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْأَلْ حَتَّى يَمُوتَ؛ يَمُوتُ عَاصِيًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

1858 - «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَشْتَرِطُ عَلَيَّ أَنْ لَا تَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " وَلَا سَوْطَكَ إِنْ سَقَطَ مِنْكَ حَتَّى تَنْزِلَ إِلَيْهِ فَتَأْخُذَهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1858 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: إِلَى الْمُبَايَعَةِ الْخَاصَّةِ (وَهُوَ يَشْرُطُ عَلَيَّ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ يَقُولُ لِي عَلَى جِهَةِ الِاشْتِرَاطِ أُبَايِعُكَ عَلَى (أَنْ لَا تَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا وَعَلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرُ النُّسَخِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: (أَنْ) مُفَسِّرَةٌ دَاخِلَةٌ عَلَى النَّهْيِ لِمَا فِي يَشْتَرِطُ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً (قُلْتُ: نَعَمْ) أَيْ: بَايَعْتُكَ عَلَى ذَلِكَ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُبَالَغَةِ (وَلَا سَوْطَكَ) أَيْ: وَلَا تَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ لَكَ (إِنْ سَقَطَ مِنْكَ حَتَّى تَنْزِلَ إِلَيْهِ فَتَأْخُذَهُ) أَيْ: بِنَفْسِكَ، وَفِي هَذَا النُّزُولِ حُصُولُ عُلُوٍّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب الإنفاق وكراهية الإمساك]

[بَابُ الْإِنْفَاقِ وَكَرَاهِيَةِ الْإِمْسَاكِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1859 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَسَرَّنِي أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْءٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ» "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْإِنْفَاقِ وَكَرَاهِيَةِ الْإِمْسَاكِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1859 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ) بِضَمَّتَيْنِ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ (ذَهَبًا) تَمْيِيزٌ (لَسَرَّنِي) أَيْ: أَعْجَبَنِي وَجَعَلَنِي فِي سُرُورٍ ( «أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ، يَعْنِي لَسَرَّنِي عَدَمُ مُرُورِ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَالْحَالُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدِي، وَالنَّفْيُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْحَالِ (إِلَّا شَيْءٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجْهُ الرَّفْعِ أَنَّ قَوْلَهُ شَيْءٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، أَيْ: لَسَرَّنِي أَنْ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْءٌ (أُرْصِدُهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَحْفَظُهُ وَأُعِدُّهُ (لِدَيْنٍ) أَيْ: لِأَدَاءِ دَيْنٍ كَانَ عَلَيَّ، لِأَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الْعَوَامِّ وَظَلَمَةِ الطَّغَامِ يَعْمَلُونَ الْخَيْرَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَعَلَيْهِمْ حُقُوقُ الْخَلْقِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ غَيْرِ الْعَارِفَةِ يَجْتَهِدُونَ فِي الرِّيَاضَاتِ وَتَكْثِيرِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَمَا يَقُومُونَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الدِّيَانَاتِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

1860 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1860 - (وَعَنْهُ) أَيْ: أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مِنْ يَوْمٍ) مَا نَافِيَةٌ وَمِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ يَوْمٌ ( «يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ» ) صِفَةُ يَوْمٍ (إِلَّا مَلِكَانِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (يَنْزِلَانِ) أَيْ: فِيهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ مَحْذُوفٍ، أَيْ: عَلَى وَجْهٍ إِلَّا هَذَا الْوَجْهُ؛ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا) أَيْ: لِمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْخَيْرَاتِ ( «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا» ) أَيْ: مِنْ مَحَلِّهِ فِي مَحَلِّهِ، وَأُطْلِقَ مُبَالَغَةً فِي مَدْحِ الْإِنْفَاقِ (خَلَفًا) أَيْ: عِوَضًا عَظِيمًا وَهُوَ الْعِوَضُ الصَّالِحُ أَوْ عِوَضًا فِي الدُّنْيَا وَبَدَلًا فِي الْعُقْبَى لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] (وَيَقُولُ الْآخَرُ) لِلْآخَرِ الَّذِي لَمْ يُنْفِقْ فِي مَرْضَاةِ الْمَوْلَى ( «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا» ) أَيْ: عَنْ خَيْرِهِ لِغَيْرِهِ (تَلَفًا) أَيْ: لِمَالِهِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، وَفِي إِيرَادِهِ بِلَفْظِ الْإِعْطَاءِ مُشَاكَلَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1861 - وَعَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَنَفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1861 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ) بِنْتِ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَفِقِي) أَيْ: فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ - تَعَالَى - ( «وَلَا تُحْصِي» ) أَيْ لَا تُبْقِي شَيْئًا لِلِادِّخَارِ، فَإِنَّ مَنْ أَبْقَى شَيْئًا أَحْصَاهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَا تَعُدِّي مَا أَنْفَقْتِهِ فَتَسْتَكْثِرِيهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْقِطَاعِ إِنْفَاقِكِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ( «فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» ) بِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلنَّفْيِ أَيْ: فَيُقِلَّ الرِّزْقَ عَلَيْكِ بِقَطْعِ الْبَرَكَةِ وَيَجْعَلَهُ كَالشَّيْءِ الْمَعْدُودِ، أَوْ فَيُحَاسِبَكِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَصْلُ الْإِحْصَاءِ الْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ حَصْرًا وَعَدَدًا، وَالْمُرَادُ هُنَا عَدُّ الشَّيْءِ لِلْقِنْيَةِ وَالِادِّخَارِ لِلِاعْتِدَادِ وَتَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اهـ. فَقَوْلُهُ فِي " «فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» " مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّجْرِيدِ ( «وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» ) الْإِيعَاءُ حِفْظُ الشَّيْءِ فِي الْوِعَاءِ أَيْ: لَا تَمْنَعِي فَضْلَ الْمَالِ عَنِ الْفَقِيرِ فَيَمْنَعَ اللَّهُ عَنْكِ فَضْلَهُ وَيَسُدَّ عَلَيْكِ بَابَ الْمَزِيدِ (ارْضَخِي) بِفَتْحِ الضَّادِ الرَّضْخُ: الْعَطِيَّةُ الْقَلِيلَةُ أَيْ: أَعْطِي (مَا اسْتَطَعْتِ) أَيْ: مَا قَدَرْتِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَأَنْفِقِي شَيْئًا وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا وَلَا تَجْعَلِيهِ حَقِيرًا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ كَثِيرًا وَفِي مِيزَانِ الْقَبُولِ كَبِيرًا، قَالَ - تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] وَقَالَ - جَلَّ عَظَمَتُهُ - {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا أَمَرَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّضْخِ لِمَا عَرَفَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ تَتَصَرَّفُ فِي مَالِهَا وَلَا فِي مَالِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُحِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ كَالْكِسْرَةِ وَالتَّمْرَةِ، وَبِالطَّعَامِ الَّذِي يَفْضُلُ فِي الْبَيْتِ وَلَا يَصْلُحُ لِلِادِّخَارِ لِتَسَارُعِ الْفَسَادِ إِلَيْهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1862 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1862 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ» ) أَيْ: مِمَّا يَنْفَدُ ( «أُنْفِقْ عَلَيْكَ» ) مِمَّا لَا يَنْفَدُ، إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] وَالْمَعْنَى أَنْفِقِ الْأَمْوَالَ الْفَانِيَةَ فِي الدُّنْيَا لِتُدْرِكَ الْأَحْوَالَ الْعَالِيَةَ فِي الْعُقْبَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَعْطِ النَّاسَ مَا رَزَقْتُكَ حَتَّى أَنْ أَرْزُقَكَ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1863 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ تَبْذُلِ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1863 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ تَبْذُلِ الْفَضْلَ» ) أَيْ: إِنْفَاقَ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْكَفَافِ، فَإِنْ مَصْدَرِيَّةٌ مَعَ مَدْخُولِهَا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (خَيْرٌ لَكَ) أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْفَضْلِ دُونَ مُطْلَقِ الْمَالِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ الْمَالَ، فَفِي الْخَبَرِ " «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» "، وَقَدْ «جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مَنْ ذَهَبَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خُذْهَا فَهِيَ لِلصَّدَقَةِ وَمَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى أَنْ أَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَخَذَهَا وَرَمَاهُ بِهَا رَمْيَةً لَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: " يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ وُجُوهَ النَّاسِ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» " وَالْمُرَادُ إِمَّا غِنًى مَالِيٌّ فَضْلًا عَمَّا أَعْطَاهُ، وَإِمَّا غِنًى قَلْبِيٌّ مُتَّكِلٌ عَلَى فَضْلِ مَوْلَاهُ، وَلِهَذَا لَمَّا تَصَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ قَرَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا عَرَفَ مِنْ كَمَالِ حَالِهِ، وَأَرَادَ عُمَرُ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ بَعْضِ مَالِهِ (وَإِنْ تُمْسِكْهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْفَضْلَ وَتَمْنَعْهُ (شَرٌّ لَكَ) أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ ( «وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ» ) بِالْفَتْحِ وَهُوَ مِنَ الرِّزْقِ الْقُوتُ وَهُوَ مَا كَفَّ عَنِ النَّاسِ وَأَغْنَى عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: لَا تُذَمُّ عَلَى حِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ أَوْ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَكَسْبِهِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّكَ إِنْ حَفِظْتَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ تَتَصَدَّقْ بِمَا فَضَلَ عَنْكَ فَأَنْتَ مَذْمُومٌ وَبَخِيلٌ وَمَلُومٌ (وَابْدَأْ) أَيِ: ابْتَدِئْ فِي إِعْطَاءِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْكَفَافِ (بِمَنْ تَعُولُ) أَيْ: بِمَنْ تُمَوِّنُهُ وَيَلْزَمُكَ نَفَقَتُهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ " «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ.

1864 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدُيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1864 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ» ) أَيْ: صِفَتُهُمَا ( «كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ» ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: وِقَايَتَانِ (مِنْ حَدِيدٍ) وَيُرْوَى بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ رُوِيَ بِهَا، وَقِيلَ: الصَّحِيحُ هَاهُنَا النُّونُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الدِّرْعَ لَا يُسَمَّى الْجُبَّةَ بِالْبَاءِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ بِالنُّونِ تَصْحِيفٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْجُنَّةُ بِالضَّمِّ مَا اسْتَتَرْتَ بِهِ مِنْ سِلَاحٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا دِرْعَانِ شُبِّهَ بِهِمَا صِفَتَا الْبُخْلِ وَالتَّصَدُّقِ اللَّتَانِ جُبِلَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِمَا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9] وَرُوِيَ جُبَّتَانِ بِالْبَاءِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ؛ إِذْ لَمْ يُعْهَدْ جُبَّةُ حَدِيدٍ، وَلِمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " عَلَيْهِمَا دِرْعَانِ " وَلِقَوْلِهِ " كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا "، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْجُنَّتَانِ الْوَاقِيَتَانِ اللَّتَانِ يَشْمَلَانِ الدِّرْعَيْنِ (قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهُمَا) بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ: شُدَّتْ وَعُصِرَتْ وَضُمَّتْ وَأُلْصِقَتْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَنَصْبِ أَيْدِيهِمَا عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الْفِعْلِ إِلَى جِنْسِ الْجُنَّةِ الْمَفْهُومِ مِنَ التَّثْنِيَةِ (إِلَى ثُدْيِهِمَا) بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعُ الثَّدِيِّ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَيُكْسَرُ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَالثَّدِيُّ خَاصٌّ بِالْمَرْأَةِ أَوْ عَامٌّ؛ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَيَعْنِي بِهِمَا جَنْبَيِ الصَّدْرِ (وَتَرَاقِيهِمَا) بِفَتْحِ التَّاءِ جَمْعُ التَّرْقُوَةِ وَهُوَ أَسْفَلُ الْكَتِفِ وَفَوْقَ الصَّدْرِ (فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ) أَيْ: طَفِقَ وَشَرَعَ وَأَرَادَ ( «كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ» ) أَيْ: هَمَّ يَتَصَدَّقُ (انْبَسَطَتْ) أَيْ: تَوَسَّعَتْ جُنَّتُهُ (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الْمُتَصَدِّقِ ( «وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ» ) أَيْ: قَصَدَ إِلَيْهَا وَعَزَمَ إِلَيْهَا (قَلَصَتْ) بِفَتْحِ اللَّامِ أَيِ: انْضَمَّتْ وَالْتَصَقَتْ جُنَّتُهُ عَلَيْهِ (وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ) بِسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا (بِمَكَانِهَا) اشْتَدَّتْ وَالْتَصَقَتِ الْحِلَقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَالْيَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ: ضَاقَتْ غَايَةَ التَّضْيِيقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجَوَادَ إِذَا هَمَّ بِالصَّدَقَةِ اتَّسَعَ لِذَلِكَ صَدْرُهُ وَطَاوَعَتْهُ يَدَاهُ فَامْتَدَّتَا بِالْعَطَاءِ، وَالْبَخِيلَ يَضِيقُ صَدْرُهُ وَتَنْقَبِضُ يَدَاهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَجَعَلَ بِمَعْنَى طَفِقَ، وَكُلَّمَا تَصَدَّقَ يَدُلُّ عَلَى خَبَرِهِ أَيْ: طَفِقَ السَّخِيُّ يَتَّسِعُ صَدْرُهُ؛ كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ السَّخِيَّ إِذَا هَمَّ بِخَيْرٍ سَهُلَ عَلَيْهِ، وَالْبَخِيلُ عَكْسُهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1865 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1865 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا الظُّلْمَ» ) أَيِ: الْمُشْتَمِلَ عَلَى الشُّحِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ الرَّدِيَّةِ ( «فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَكُونُ الظُّلْمُ ظُلُمَاتٍ عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَهْتَدِي بِسَبَبِهَا، كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا الشَّدَائِدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] أَيْ: شَدَائِدِهِمَا ( «وَاتَّقُوا الشُّحَّ» ) أَيِ: الْبُخْلَ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنَ الظُّلْمِ، وَقِيلَ: الشُّحُّ بُخْلُ الرَّجُلِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَالْبُخْلُ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: الْبُخْلُ يَكُونُ فِي الْمَالِ وَالشُّحُّ يَكُونُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ مَعْرُوفٍ أَوْ طَاعَةٍ فَهُوَ أَشَدُّ مَنْعًا مِنَ الْبُخْلِ، وَقِيلَ: الشُّحُّ بُخْلٌ مَعَ الْحِرْصِ، وَهُوَ أَنْسَبُ، وَأُفْرِدَ الشُّحُّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ مَنْشَأُ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ وَنَتِيجَةُ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا الذَّمِيمَةِ، قَالَ - تَعَالَى - {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ( «فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ) فَدَاؤُهُ قَدِيمٌ وَبَلَاؤُهُ عَظِيمٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَلَاكُهُمْ كَوْنُهُمْ مُعَذَّبِينَ بِهِ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا وَأَنْ يَكُونَ فِي الْعُقْبَى ( «حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» ) قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ الشُّحُّ سَبَبًا لِذَلِكَ لِأَنَّ فِي بَذْلِ الْمَالِ وَمُوَاسَاةِ الْإِخْوَانِ التَّحَابَّ وَالتَّوَاصُلَ، وَفِي الْإِمْسَاكِ وَالشُّحِّ التَّهَاجُرَ وَالتَّقَاطُعَ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى التَّشَاجُرِ وَالتَّعَادِي مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبَاحَةِ الْمَحَارِمِ مِنَ الْفُرُوجِ وَالْأَعْرَاضِ وَفِي الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1866 - وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِالْأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1866 - (وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَصَدَّقُوا) أَيِ: اغْتَنِمُوا التَّصَدُّقَ عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَعِنْدَ حُصُولِ مَنْ يَقْبَلُهُ، وَاقْبَلُوا مِنَّةَ الْفَقِيرِ فِي أَخْذِهِ مِنْكُمْ، فَالْمَعْنَى تَصَدَّقُوا قَبْلَ أَنْ لَا تَتَصَدَّقُوا، عَلَى سَنَنِ «حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا» (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (يَأْتِي عَلَيْكُمْ) أَيْ عَلَى بَعْضِكُمْ ( «زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ» ) أَيْ: يَذْهَبُ بِهَا ( «فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا» ) قِيلَ: هُوَ زَمَانُ الْمَهْدِيِّ وَنُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقِيلَ: زَمَانُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا وَرَدَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ حَتَّى يُخْرِجَ الرَّجُلُ زَكَاةَ مَالِهِ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا» (يَقُولُ الرَّجُلُ) أَيِ: الْفَقِيرُ، وَالْمَعْنَى كُلُّ رَجُلٍ عُرِضَتْ عَلَيْهِ وَكَانَ مِنْ قَبْلُ مُسْتَحِقًّا لَهَا (لَوْ جِئْتَ بِهَا) أَيْ: بِالصَّدَقَةِ (بِالْأَمْسِ) أَيْ: قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الزَّمَنِ الْمَاضِي حَالَ فَقْرِي (لَقَبِلْتُهَا فَأَمَّا الْيَوْمَ) أَيِ: الْآنَ (فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا) وَهُوَ إِمَّا مِنْ غِنَاهُ الصُّورِيِّ مِنْ إِصَابَةِ الْمَالِ أَوْ لِغِنَاهُ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ حُصُولِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَوُصُولِ الْكَمَالِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي يَصِيرُ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَغْنِيَاءَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ رَاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ وَتَارِكِينَ لِلدُّنْيَا يَقْنَعُونَ بِقُوتِ يَوْمٍ وَلَا يَدَّخِرُونَ الْمَالَ لِلْمَآلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1867 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: " أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1867 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ) أَيْ أَنْوَاعِهَا (أَعْظَمُ أَجْرًا؟) أَيْ: أَجْزَلُ ثَوَابًا وَأَكْمَلُ مَآبًا (قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ) بِتَخْفِيفِ الصَّادِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقِيلَ بِتَشْدِيدِهَا عَلَى الْإِبْدَالِ وَالْإِدْغَامِ ( «وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ» ) وَالْمَعْنَى أَفْضَلُهَا صَدَقَتُكَ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَيْ: وَهُوَ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ فِي حَالِ صِحَّتِكَ وَاخْتِصَاصِ الْمَالِ بِكَ وَشُحِّ نَفْسِكَ، وَذَلِكَ أَشَدُّ مُرَاغَمَةً لِنَفْسِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَوْلُهُ شَحِيحٌ تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِلصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ يَكُونُ شَحِيحًا (تَخْشَى الْفَقْرَ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ حَالٌ بَعْدَ حَالٍ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، أَيْ: تَقُولُ فِي نَفْسِكَ لَا تُتْلِفْ مَالَكَ كَيْلَا تَصِيرَ فَقِيرًا فَتَحْتَاجَ إِلَى النَّاسِ (وَتَأْمُلُ الْغِنَى)

بِضَمِّ الْمِيمِ بِمَعْنَى تَطْمَعُ وَتَرْجُو أَيْ: وَتَقُولُ اتْرُكْ مَالَكَ فِي بَيْتِكَ لِتَكُونَ غَنِيًّا وَيَكُونَ لَكَ عِزٌّ عِنْدَ النَّاسِ بِسَبَبِ غِنَاكَ (وَلَا تُمْهِلَ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَنْ تَصَدَّقَ وَيَجُوزُ الْجَزْمُ عَلَى أَنَّ لَا لِلنَّهْيِ أَيْ: وَلَا تُؤَخِّرِ الصَّدَقَةَ أَوْ وَلَا تُمْهِلْ نَفْسَكَ ( «حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ» ) وَالْمُرَادُ أَنْ تَقْرُبَ الرُّوحُ بُلُوغَ الْحُلْقُومِ (قُلْتَ) لِوَرَثَتِكَ (وَلِفُلَانٍ) أَيْ: لِأَجْلِ فُلَانٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُوصَى لَهُ (كَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى الْمُوصَى بِهِ (وَلِفُلَانٍ) أَيْ: لِغَيْرِهِ (كَذَا) أَيْ مِنَ الْمَالِ بِالْوَصِيَّةِ، وَالتَّكْرِيرُ يُفِيدُ التَّكْثِيرَ، وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ كَذَا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ بِكَذَا، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ حِينَئِذٍ تَصْرِفُ الْمَالَ إِلَى الْخَيْرَاتِ (وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ) قِيلَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: وَقَدْ صَارَ الْمَالُ الَّذِي تَتَصَرَّفُ فِيهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثُلُثَاهُ حَقًّا لِلْوَارِثِ وَأَنْتَ تَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ فَكَيْفَ يُقْبَلُ مِنْكَ؟ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمَنْعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ أَيْ: وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ الْوَارِثِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ وَكَانَ، أَيْ: عِنْدَكُمْ لِفُلَانٍ كَذَا مِنَ الْمَالِ فَيَكُونُ الذَّمُّ عَلَى الْإِمْهَالِ إِلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَإِنَّ فِعْلَ الْخَيْرِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ عَمَلُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، وَرَدُّ الْحُقُوقِ لَا يَنْبَغِي فِيهِ الْإِهْمَالُ لِأَنَّ الْخَطَرَ كَثِيرٌ فِي الْمَالِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ صَدْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1868 - «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: " هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ "، فَقُلْتُ: فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: " هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1868 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ) أَيْ: وَصَلْتُ إِلَيْهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي) وَهُوَ مِمَّنِ اخْتَارَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى (قَالَ) تَقْوِيَةً لِقَلْبِهِ وَتَسْلِيَةً لِنَفْسِهِ وَتَجْلِيَةً لِرُوحِهِ وَتَحْلِيَةً لِسِرِّهِ (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أَيِ: الْأَكْثَرُونَ تِجَارَةً فِي الْمَالِ هُمُ الْأَكْثَرُونَ خَسَارَةً فِي الْمَآلِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُمْ ضَمِيرٌ لِغَيْرِ مَذْكُورٍ، لَكِنْ يَأْتِي تَفْسِيرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: هُمْ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ خَبَرُهُ وَهُوَ الْأَخْسَرُونَ (وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) قَسَمٌ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ (فَقُلْتُ: فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) بِفَتْحِ الْفَاءِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ لِأَنَّهُ مَاضٍ، خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَيُحْتَمَلُ كَسْرُ الْفَاءِ وَالْقَصْرُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ أَيْ: يَفْدِيكَ أَبِي وَأُمِّي وَهُمَا أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي (مَنْ هُمْ) فِيهِ لَطَافَةٌ لَا تَخْفَى، وَالْمَعْنَى مَنِ الْأَخْسَرُونَ الَّذِينَ أَجْمَلْتَهُمْ ( «قَالَ: هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا» ) لَعَلَّ جَمْعَ التَّمْيِيزِ لِإِرَادَةِ الْأَنْوَاعِ أَوْ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ أَيِ: الْأَخْسَرُونَ مَالًا هُمُ الْأَكْثَرُونَ مَالًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي مَنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ خُسْرَانُهُ أَكْثَرُ ( «إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» ) هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَيْ: إِلَّا مَنْ أَشَارَ بِيَدَيْهِ إِلَى الْجَوَانِبِ فِي صَرْفِ مَالِهِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَلَعَلَّ التَّثْلِيثَ إِشَارَةٌ إِلَى الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ وَالْأَمَامِ لَكِنَّ قَوْلَهُ ( «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ» ) يَأْبَى عَنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ " هَكَذَا " فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالثَّلَاثِ الْجَمْعَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِلَّا مَنْ تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ أَيْ: فَلَيْسَ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلْ مِنَ الْفَائِزِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالثَّلَاثِ الْقُدَّامُ وَالْخَلْفُ وَأَحَدُ الْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى نُسْخَةِ التَّثْنِيَةِ فَالْمُرَادُ بِهَا التَّكْرِيرُ وَالتَّكْثِيرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: قَالَ بِيَدِهِ أَيْ: أَشَارَ، وَقَالَ بِيَدِهِ أَيْ: أَخَذَ، وَقَالَ بِرِجْلِهِ أَيْ: ضَرَبَ، وَقَالَ بِالْمَاءِ عَلَى يَدَيْهِ أَيْ: صَبَّهُ، وَقَالَ بِثَوْبِهِ أَيْ: رَفَعَهُ، فَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْعَالِ اتِّسَاعًا، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى أَشَارَ بِيَدِهِ إِشَارَةً مِثْلَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ وَ (مِنْ) بَيَانُ الْإِشَارَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ لِمَجِيءِ " عَنْ " وَالتَّقْدِيرُ: مُبْتَدِأً مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَمُجَاوِزًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) هُمْ مُبْتَدَأٌ وَقَلِيلٌ خَبَرُهُ وَمَا زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْقِلَّةِ أَيِ: الْمُسْتَثْنَوْنَ قَلِيلٌ أَوْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ قَلِيلٌ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] وَإِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] وَإِشَارَةٌ إِلَى أَفْضَلِيَّةِ الْفَقْرِ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1869 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1869 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: السَّخِيُّ) وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَ رِضَا الْمَوْلَى فِي بَذْلِهِ عَلَى الْغِنَى (قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ) أَيْ: رَحْمَتِهِ كَذَا قِيلَ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي التَّخَلُّقِ بِصِفَةِ الْكَرَمِ (قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ) يَصْرِفُ الْمَالَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَيُوجِبُ لَهُ حُسْنَ الْمَآلِ (قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ) بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَفِي الْحَقِيقَةِ هُمُ النَّاسُ، أَوْ بِالسَّخَاوَةِ إِلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَوْ لِأَنَّ السَّخِيَّ يُحِبُّهُ جَمِيعُ النَّاسِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ لِبَعْضِهِمْ نَفْعٌ مِنْ سَخَاوَتِهِ كَمَحَبَّةِ الْعَادِلِ (بَعِيدٌ عَنِ النَّارِ) لِأَنَّ السَّخِيَّ لَمْ يَرْتَضِ بِأَخْذِ مَالِ الْحَرَامِ وَصَرْفِهِ فِي غَيْرِ الْمَقَاصِدِ الْعِظَامِ وَإِلَّا سَيَكُونُ مُسْرِفًا، وَلِذَا قِيلَ: لَا خَيْرَ فِي سَرَفٍ وَلَا سَرَفَ فِي خَيْرٍ (وَالْبَخِيلُ) وَهُوَ الَّذِي لَا يُؤَدِّي الْوَاجِبَ عَلَيْهِ (بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ) وَتَبِينُ الْأَشْيَاءُ بِأَضْدَادِهَا (وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ) أَرَادَ بِهِ ضِدَّ الْعَابِدِ وَهُوَ مَنْ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ دُونَ النَّوَافِلِ لِأَنَّ تَرْكَ الدُّنْيَا رَأَسُ كُلِّ عِبَادَةٍ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَاهِلِ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ جَاهِلًا غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وُجُوبَ عَيْنٍ ( «أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَابِدٍ» ) أَيْ: كَثِيرِ النَّوَافِلِ سَوَاءٌ يَكُونُ عَالِمًا أَمْ لَا (بَخِيلٍ) ، لِأَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَأَيْضًا الْبَخِيلُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ الشَّرْعِيَّ الْمَالِيَّ، وَالسَّخِيُّ ضِدُّهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَامَ بِالْفَرَائِضِ وَتَرَكَ النَّوَافِلَ أَفْضَلُ مِمَّنْ قَامَ بِالنَّوَافِلِ وَتَرَكَ الْفَرَائِضَ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ مُبْتَلَوْنَ بِهَذَا الْبَلَاءِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّمَا حُرِمُوا الْوُصُولَ بِتَضْيِيعِ الْأُصُولِ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ جَاهِلًا غَيْرَ عَابِدٍ أَحَبُّ مِنْ عَالِمٍ عَابِدٍ رِعَايَةً لِلْمُطَابَقَةِ، فَيَا لَهَا مِنْ حَسَنَةٍ غَطَّتْ خَصْلَتَيْنِ ذَمِيمَتَيْنِ، وَيَا لَهَا مِنْ سَيِّئَةٍ غَطَّتْ خَصْلَتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ كَرِيمَتَيْنِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِلَّا مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ هُوَ الْوَارِقِيُّ الْكُوفِيُّ يُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ، ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ مَتْرُوكٌ.

1870 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَأَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ عِنْدِ مَوْتِهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1870 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ» ) أَيْ: لَتَصَدُّقُهُ (فِي حَيَاتِهِ) أَيْ: صِحَّتِهِ (بِدِرْهَمٍ) أَيْ: مَثَلًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ التَّقْلِيلَ ( «خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ» ) أَيْ: مَثَلًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِمَالِهِ بَدَلَ مِائَةٍ، وَالْمُرَادُ التَّكْثِيرُ، وَالْمَعْنَى بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي مَقَامِ كَمَالِهِ سَوَاءٌ حُمِلَ الدِّرْهَمُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَوْ عَلَى التَّمْثِيلِ فِي قِلَّتِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِمَالِهِ فَإِنَّهُ تَحْرِيفٌ، فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ (عِنْدَ مَوْتِهِ) أَيِ: احْتِضَارِ مَوْتِهِ فَكَأَنَّهُ مَيِّتٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ تَصَدُّقَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَلَوْ قَلِيلًا خَيْرٌ مِنْ تَصَدُّقِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَقْتَ مَمَاتِهِ وَلَوْ كَثِيرًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1871 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ الَّذِي يَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ يُعْتِقُ كَالَّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِعَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1871 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَثَلُ الَّذِي يَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ) أَيِ: احْتِضَارِهِ (أَوْ يُعْتِقُ) أَيْ: عِنْدَ مَوْتِهِ وَفِي مَعْنَاهُ عِنْدَ مَوْتِ مَمْلُوكِهِ (كَالَّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِعَ) كَسَمِنَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي هَذَا الْإِهْدَاءِ نَوْعُ اسْتِخْفَافٍ بِالْمُهْدَى إِلَيْهِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَرْتَبَةٌ نَاقِصَةٌ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَالْإِعْتَاقَ حَالَ الصِّحَّةِ أَفْضَلُ كَمَا أَنَّ السَّخَاوَةَ عِنْدَ الْمَجَاعَةِ أَكْمَلُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

1872 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ؛ الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1872 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ» ) أَيْ: كَامِلٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: خَبَرٌ مَوْصُوفٌ وَالْمُبْتَدَأُ (الْبُخْلُ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَبِفَتْحِهَا (وَسُوءُ الْخُلُقِ) بِضَمِّهَا وَسُكُونِ الثَّانِي أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَمِعَا فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ بُلُوغُ النِّهَايَةِ فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا وَلَا يَنْفَكَّانِ عَنْهُ، فَأَمَّا مَنْ فِيهِ بَعْضُ هَذَا أَوْ بَعْضُ ذَلِكَ أَوْ يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي بَعْضٍ فَإِنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: خَصْلَتَانِ مُبْتَدَأٌ سَوَّغَهُ إِبْدَالُ الْمَعْرِفَةِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ وَالْخَبَرُ لَا يَجْتَمِعَانِ اهـ. وَإِغْلَاقُهُ لَا يَخْفَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَا يَجْتَمِعَانِ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ مُسَوِّغَةٌ لِكَوْنِ الْمُبْتَدَأِ نَكِرَةً، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: «الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ صَدَقَةَ بْنِ مُوسَى اهـ. وَصَدَقَةُ بْنُ مُوسَى ضَعِيفٌ؛ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ النَّسَائِيِّ " «لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» "، فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ سُوءُ الْخُلُقِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْإِيمَانَ، فَإِنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ هُوَ مَا بِهِ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي.

1873 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1873 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولًا أَوَّلِيًّا (خِبٌّ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ: خَدَّاعٌ يُفْسِدُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْخِدَاعِ (وَلَا بَخِيلٌ) يَمْنَعُ الْوَاجِبَ مِنَ الْمَالِ (وَلَا مَنَّانٌ) مِنَ الْمِنَّةِ أَيْ: يَمُنُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ الْعَطَاءِ، أَوْ مِنَ الْمَنِّ بِمَعْنَى الْقَطْعِ لِمَا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ، وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ هَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى يُجْعَلَ طَاهِرًا مِنْهَا إِمَّا بِالتَّوْبَةِ عَنْهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ بِالْعُقُوبَةِ بِقَدْرِهَا تَمْحِيصًا فِي الْعُقْبَى أَوْ بِالْعَفْوِ عَنْهُ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1874 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ " «لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ» " فِي كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1874 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ» ) مِنَ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ ( «شُحٌّ هَالِعٌ» ) أَيْ: جَازِعٌ يَحْمِلُ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَزَعِ عَلَى ذَهَابِهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 - 21] وَقِيلَ: الشُّحُّ أَبْلَغُ مِنَ الْبُخْلِ لِأَنَّ الْبُخْلَ مَنْعُ مَا وَجَبَ بَذْلُهُ مِنَ الْمَالِ، وَالشُّحَّ مَنْعُ كُلِّ وَاجِبٍ مِنَ الْمَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ ( «وَجُبْنٌ خَالِعٌ» ) أَيْ: شَدِيدٌ كَأَنَّهُ يَخْلَعُ قَلْبَهُ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ مِنَ الْمُحَارَبَةِ مَعَ الْكُفَّارِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي عَمَلِ الْأَبْرَارِ، وَخُصَّ الرَّجُلُ إِمَّا لِأَنَّهُمَا مَمْدُوحَانِ لِلنِّسَاءِ فِي نَوْعٍ مِنْهُمَا أَوْ لِأَنَّ مَذَمَّةَ الرِّجَالِ بِهِمَا فَوْقَ مَذَمَّةِ النِّسَاءِ بِهِمَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ: وَهُوَ إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ " «لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ» ") أَيِ: الْكَامِلُ، أَوْ أُرِيدَ بِهِمَا الزَّجْرُ وَالتَّهْدِيدُ (فِي كِتَابِ الْجِهَادِ) لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ تَحْوِيلِهِ عَنْ مَحَلِّهِ الْأَسْبَقِ الْأَلْيَقِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1875 - «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: " أَطْوَلُكُنَّ يَدًا "، فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، وَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَ طُولُ يَدِهَا الصَّدَقَةَ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ زَيْنَبُ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَسْرَعُكُنَّ لُحُوقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا ". قَالَتْ: وَكَانَتْ يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا؟ قَالَتْ: فَكَانَتْ أَطْوَلَنَا يَدًا زَيْنَبُ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَتَصَدَّقُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1875 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَرَضِيَ عَنْهُنَّ ( «قُلْنَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا» ) أَيْ: بِالْمَوْتِ بَعْدَكَ، وَمِنْهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ: " إِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي» " فَضَحِكَتْ (قَالَ: «أَطْوَلُكُنَّ يَدًا» ) أَيْ: أَكْثَرُكُنَّ صَدَقَةً وَأَعْظَمُكُنَّ إِحْسَانًا، فَإِنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْمِنَّةُ وَالنِّعْمَةُ وَالْإِحْسَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيَّ يَدًا يُحِبُّهُ قَلْبِي» " وَكَذَا قَوْلُ الشَّاطِبِيِّ: - إِلَيْكَ يَدًى مِنْكَ الْأَيَادِي تُمِدُّهَا (فَأَخَذُوا) الظَّاهِرُ فَأَخَذْنَ وَعُدِلَ إِلَى أَخَذُوا تَعْظِيمًا كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: - وَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالشَّاهِدُ الثَّانِي أَظْهَرُ كَمَا لَا يَخْفَى لِأَنَّ مُسَوِّغَ ذَلِكَ التَّغْلِيبُ لِلْجِنْسِ الْأَشْرَفِ وَلَا تَغْلِيبَ هُنَا لِأَنَّ الْكُلَّ نِسْوَةٌ ( «قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا» ) أَيْ: وَيَقِيسُونَ أَيْدِيَهُنَّ بِهَا بِنَاءً عَلَى فَهْمِهِنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدِ الْجَارِحَةُ ( «وَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا» ) أَيْ: فِي الْحِسِّ (فَعَلِمْنَا بَعْدُ) أَيْ: بَعْدَ هَذَا حِينَ مَاتَتْ زَيْنَبُ أَوَّلًا وَكَانَتْ أَكْثَرَهُنَّ صَدَقَةً (أَنَّمَا كَانَ) بِالْفَتْحِ (طُولُ يَدِهَا) بِالرَّفْعِ (الصَّدَقَةَ) بِالنَّصْبِ كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَعَكَسَ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَهِمْنَا أَوَّلًا ظَاهِرَهُ وَلَمَّا فَطِنَّا بِمَحَبَّتِهَا الصَّدَقَةَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْيَدِ إِلَّا الْعَطَاءَ اهـ. وَفِيهِ تَأَمُّلٌ (وَكَانَتْ) الْوَاوُ لِلْحَالِ ( «أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ زَيْنَبُ» ) كَذَا فِي نُسْخَةٍ قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ هُنَا بَعْدَ قَوْلِهِ لُحُوقًا بِهِ زِيَادَةُ لَفْظِ زَيْنَبَ مُلْحَقًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ وَقَعَ بِحَذْفِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ اهـ. وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّ سَوْدَةَ كَانَتْ أَسْرَعَ لُحُوقًا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا وَهْمٌ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ جَارِحَةً، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا زَيْنَبُ، فَالصَّحِيحُ تَقْدِيرُ زَيْنَبَ أَوْ وُجُودُهُ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي الْحَدِيثِ اخْتِصَارًا أَوِ اكْتِفَاءًا لِشُهْرَةِ الْقِصَّةِ لِزَيْنَبَ، أَوْ يُؤَوَّلَ الْكَلَامُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ، قُلْتُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِيِّ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا اخْتِصَارُ مَحَلٍّ فَالْأَوْلَى أَنَّ الْأَخِيرَيْنِ أَحَقُّ وَالثَّالِثَ أَدَقُّ (وَكَانَتْ) أَيْ: زَيْنَبُ (تُحِبُّ الصَّدَقَةَ) أَيْ: إِعْطَاءَهَا، وَكَانَتْ لَهَا صِنَاعَةٌ وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ بِالْيَدِ وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ لِلْيَدِ، فَأَطْوَلُكُنَّ يَدًا بِمَعْنَى أَفْضَلُكُنَّ يَدًا؛ حَيْثُ إِنَّهَا تَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهَا وَتَتَصَدَّقُ بِيَدِهَا مِنْ كَدِّ يَدِهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ) أَيْ: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَسْرَعُكُنَّ لُحُوقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا» ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ طُولَ الْحَيَاةِ كَانَ فِي حَيَاتِهِ أَفْضَلَ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْمَوْتُ أَكْمَلُ، لِهَذَا قَالَ بِلَالٌ: - غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّةْ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ (قَالَتْ) أَيْ: عَائِشَةُ (فَكَانَتْ) أَيْ: جَمَاعَةُ النِّسَاءِ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (يَتَطَاوَلْنَ) أَيْ: يَتَقَايَسْنَ أَطْوَالَ أَيْدِيهِنَّ (أَيَّتُهُنَّ) بِالضَّمِّ (أَطْوَلَ يَدًا) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ: يَتَطَاوَلْنَ نَاظِرَاتٍ أَيَّتُهُنَّ، قِيلَ: وَجْهُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْحَاضِرَاتِ كَانَتْ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ، وَأَنَّ سَوْدَةَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ عَائِشَةَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ، وَعَائِشَةُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ أَوْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْحَاضِرَاتِ جَمِيعُهُنَّ، وَأَنَّ زَيْنَبَ تُوُفِّيَتْ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ قَبْلَ جَمِيعِ الْأَزْوَاجِ اهـ. وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ لَا تَخْفَى (قَالَتْ) أَيْ: عَائِشَةُ (كَانَتْ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ أَيْ: ظَهَرَتْ ( «أَطْوَلَنَا يَدًا» ) أَيْ: بِالصَّدَقَةِ (زَيْنَبُ) وَكَانَتِ امْرَأَةً قَصِيرَةً؛ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ (لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَتَصَدَّقُ) أَيْ: تَدْبُغُ الْجُلُودَ بِيَدِهَا ثُمَّ تَبِيعُهَا وَتَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ طُولَ الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنْ قِصَرِ الطَّمَعِ وَكَفِّ النَّفْسِ الْمُتَعَدِّي، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْلِيلٌ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ لِقَوْلِهَا يَتَطَاوَلْنَ وَأَنَّ الْمُرَادَ الْمَعْنَوِيُّ لَا الصُّورِيُّ.

1876 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «قَالَ رَجُلٌ: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى غَنِيٍّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَزَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1876 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ) أَيْ: مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي نَفْسِهِ أَوْ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ أَوْ فِي نِدَائِهِ حَالَ دُعَائِهِ (لَأَتَصَدَّقَنَّ) أَيِ: اللَّيْلَةَ (بِصَدَقَةٍ) أَيْ: عَظِيمَةٍ وَاقِعَةٍ مَوْقِعَهَا لِيَتَعَلَّقَ بِهَا قَبُولٌ عَظِيمٌ (فَخَرَجَ) أَيْ: مِنْ بَيْتِهِ (بِصَدَقَتِهِ) أَيِ: الَّتِي نَوَى بِهَا لِيُعْطِيَهَا مُسْتَحِقَّهَا (فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ) مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ أَنَّهُ سَارِقٌ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا، فَأَذَاعَ السَّارِقُ بِأَنَّهُ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ (فَأَصْبَحُوا) أَيِ: النَّاسُ (يَتَحَدَّثُونَ) بَعْضُهُمْ مِنَ السَّارِقِ أَوْ بِإِلْهَامِ الْخَالِقِ، وَالْمَعْنَى فَصَارَ النَّاسُ مُتَحَدِّثِينَ، أَوْ مَعْنَاهُ دَخَلُوا فِي الصَّبَاحِ حَالَ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ تَعَجُّبًا أَوْ إِنْكَارًا (تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ) ظَرْفٌ (عَلَى سَارِقٍ) نَائِبُ الْفَاعِلِ أَوْ هُوَ ( «بِصَدَقَةٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ» ) أَيْ: عَلَى تَصَدُّقِي عَلَى سَارِقٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا جَزَمَ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ بِصَدَقَةٍ جُوزِيَ بِوَضْعِهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَشَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ عَلَى مَنْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ تَعَجُّبٌ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ كَمَا تَعَجَّبُوا مِنْ فِعْلِهِ، فَذُكِرَ الْحَمْدُ فِي مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ كَمَا يُذْكَرُ التَّسْبِيحُ فِي مَوْضِعِهِ ( «لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ» ) أَيْ: أُخْرَى لَعَلَّهَا تَقَعُ فِي مَحَلِّهَا ( «فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ» ) أَيْ: تَعَجُّبًا أَوْ إِنْكَارًا ( «تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ» ) أَيِ: اللَّيْلَةَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ ( «عَلَى غَنِيٍّ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَزَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ» ) فَذَلِكَ فَذْلَكَةٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حَمْدِهِ - تَعَالَى - وَثَنَائِهِ تَفْوِيضًا وَتَسْلِيمًا لِقَضَائِهِ فَجُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ بِتَمَامِ نِظَامِ الْمَرَامِ (فَأُتِيَ) فَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ (فَقِيلَ لَهُ) أَيْ: صَدَقَاتُكَ مَقْبُولَةٌ، وَكُلُّهَا فِي مَوَاضِعِهَا مَوْضُوعَةٌ ( «أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ» ) فَلَا تَخْلُوا عَنْ مَثُوبَةٍ مُتَضَمِّنَةٍ لِحِكْمَةٍ ( «فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ» ) إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةَ الِاكْتِفَاءِ ( «وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا» ) وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي السَّارِقِ وَالزَّانِيَةِ أَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ الْمَعْصِيَةَ لِلْحَاجَةِ وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي مَا وَرَدَ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا ( «وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ» ) أَيْ: يَتَّعِظُ وَيَتَذَكَّرُ ( «فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ» ) اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَقِيرًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ غَنِيٌّ لَا يُعِيدُهَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَرِدُّ مَا أَدَّاهُ، وَهَلْ يَطِيبُ لِلْقَابِضِ إِذَا ظَهَرَ الْحَالُ؟ لَا رِوَايَةَ فِيهِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنْ لَا يَطِيبَ يَتَصَدَّقُ، وَقِيلَ يَرُدُّهُ لِلْمُعْطِي عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِيُعِيدَ الْأَدَاءَ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ مَعَ إِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى الصَّوَابِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ أَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلَهُمَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ «عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي، وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا يَزِيدُ لَكَ مَا نَوَيْتَ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» " اهـ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَاقِعَةَ حَالٍ يَجُوزُ فِيهَا كَوْنُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ كَانَتْ نَفْلًا لَكِنَّ عُمُومَ لَفْظِ مَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لَكَ مَا نَوَيْتَ» " يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ) أَيْ: وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ.

1877 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ؛ الِاسْمُ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ وَيَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1877 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بَيْنَا) بِإِشْبَاعِ الْفَتْحَةِ أَلِفًا أَيْ: بَيْنَ أَوْقَاتٍ (رَجُلٌ بِفَلَاةٍ) أَيْ: بِصَحْرَاءَ وَاسِعَةٍ ( «مِنَ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ» ) بِقَطْعِ هَمْزٍ وَوَصْلِهِ (حَدِيقَةَ فُلَانٍ) وَهِيَ بُسْتَانٌ يَدُورُ عَلَيْهِ حَائِطٌ، وَفُلَانٌ كِنَايَةٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ اسْمِ صَاحِبِ الْحَدِيقَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ صَرِيحًا (فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ) أَيْ: تَبَعَّدَ عَنْ مَقْصِدِهِ (فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ) وَهِيَ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ (فَإِذَا شَرْجَةٌ) بِسُكُونِ الرَّاءِ مَسِيلُ الْمَاءِ إِلَى السَّهْلِ مِنَ الْأَرْضِ (مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ) بِكَسْرِ الشِّينِ أَيِ: الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الْحَرَّةِ (قَدِ اسْتَوْعَبَتْ) أَيْ: بِالْأَخْذِ (ذَلِكَ الْمَاءَ) أَيِ: النَّازِلَ مِنَ السَّحَابِ الْوَاقِعَ فِي الْحَرَّةِ (كُلَّهُ) تَأْكِيدٌ (فَتَتَبَّعَ) أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ (الْمَاءَ) أَيْ: أَثَرَهُ ( «فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ» ) أَيْ: مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ مِنْ حَدِيقَتِهِ (بِمِسْحَاتِهِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهِيَ الْمِجْرَفَةُ مِنَ الْحَدِيدِ أَوْ غَيْرِهِ (فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (لَهُ) أَيْ: لِصَاحِبِ الْحَدِيقَةِ (يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكُ؟) أَيِ: الْمَخْصُوصُ (قَالَ: فُلَانٌ؛ الِاسْمُ) بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ صَرَّحَ بِاسْمِهِ لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَنَّى عَنْهُ بِفُلَانٍ ثُمَّ فَسَّرَ بِقَوْلِهِ: الِاسْمُ (الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ) وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ التَّصْرِيحِ إِلَى الْكِنَايَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَيْسَتْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ (فَقَالَ لَهُ) أَيْ لِلرَّجُلِ ( «يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ وَيَقُولُ» ) أَيْ: ذَلِكَ الصَّوْتُ يَعْنِي صَاحِبَهُ لِلسَّحَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ يَقُولُ ( «اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: قُلْتُ أَنَا فُلَانٌ لِاسْمِكَ الْمَخْصُوصِ وَبَدَلِهِ، فَإِنَّ الْهَاتِفَ صَرَّحَ بِالِاسْمِ، وَالْكِنَايَةُ مِنَ السَّامِعِ (فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟) أَيْ: فِي حَدِيقَتِكَ مِنَ الْخَيْرِ حَتَّى تَسْتَحِقَّ هَذِهِ الْكَرَامَةَ (قَالَ: أَمَّا) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ (إِذْ قُلْتَ) وَفِي نُسْخَةٍ إِذَا قُلْتَ ( «هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» ) أَيْ: مِنْ زَرْعِ الْحَدِيقَةِ وَثَمَرِهَا ( «فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ» ) بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِي ( «وَآكُلُ أَنَا وَعِيالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا» ) أَيْ: وَأَصْرِفُ فِي الْحَدِيقَةِ لِلزِّرَاعَةِ وَالْعِمَارَةِ (ثُلُثَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1878 - وَعَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ "، قَالَ: " فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ " - شَكَّ إِسْحَاقُ - إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَصَ أَوِ الْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ: الْبَقَرُ، قَالَ: " فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا "، قَالَ: " فَأَتَى الْأَقْرَعُ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ "، قَالَ: " فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ "، قَالَ: " وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا "، قَالَ: " فَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ "، قَالَ: " فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنِ الْإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ "، قَالَ: " ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ مَالًا؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ " قَالَ: " وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ " قَالَ: " وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1878 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى» ) مَنْصُوبَاتٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ " ثَلَاثَةً " ( «فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ» ) أَيْ: يَمْتَحِنَهُمْ لِيَعْرِفُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ: لِيَعْرِفَهُمُ النَّاسُ أَوْ لِيَعْلَمَ - تَعَالَى - أَحْوَالَهُمْ عِلْمَ ظُهُورٍ كَمَا يَعْلَمُهَا عِلْمَ بُطُونٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ خَبَرُ إِنَّ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ دُخُولَ الْفَاءِ فِي خَبَرِهَا، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ قَدَّرَ الْخَبَرَ أَيْ: فِيمَا أَقُصُّ عَلَيْكُمْ، فَقَوْلُهُ فَأَرَادَ تَفْسِيرٌ لِلْمُجْمَلِ، وَلَوْ رُفِعَ " أَبْرَصَ " وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْخَبَرِيَّةِ تَعَيَّنَ لِلتَّفْسِيرِ اهـ. يَعْنِي أَنَّ رَفْعَهَا بِتَقْدِيرِ أَحَدِهِمْ أَبْرَصَ أَوْ مِنْهُمْ أَبْرَصُ ( «فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا» ) أَيْ: فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِسْكِينٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ( «فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ» ) أَيِ: الْمَلَكُ ( «أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ» ) أَيْ: مِنَ الْأَحْوَالِ (قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ) كَالْبَيَاضِ (وَجِلْدٌ حَسَنٌ) أَيْ نَاعِمٌ طَرِيٌّ (وَيَذْهَبُ عَنِّي) بِالرَّفْعِ كَقَوْلِهِ أَحْضُرُ الْوَغَى، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيَّ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَزُولُ عَنِّي ( «الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ» ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: كَرِهُوا مُخَالَطَتِي مِنْ أَجْلِهِ وَهُوَ الْبَرَصُ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ (فَمَسَحَهُ) أَيِ: الْمَلَكُ ( «فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ» ) بِفَتْحَتَيْنِ ( «وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا، قَالَ» )

أَيِ: الْمَلَكُ ( «فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ» - شَكَّ إِسْحَاقُ -) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ، أَقُولُ: وَالْإِبِلُ أَرْجَحُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ الْآتِي فَأَعْطِنِي نَاقَةً بِصِيغَةِ الْجَزْمِ ( «إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَصَ أَوِ الْأَقْرَعَ» ) اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الشَّكِّ ( «قَالَ أَحَدُهَا: الْإِبِلُ، وَقَالَ الْأَخَرُ: الْبَقَرُ» ) أَيْ: لَمْ يَشُكَّ إِسْحَاقُ فِي هَذَا بَلْ فِي التَّعْيِينِ؛ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ (فَأُعْطِيَ) أَيْ: طَالَبُ الْإِبِلِ لَا الْأَبْرَصُ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ (نَاقَةً عُشَرَاءَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الشِّينِ وَالْمَدِّ: الَّتِي أَتَى عَلَى حَمْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحَامِلِ مُطْلَقًا (فَقَالَ) أَيِ: الْمَلَكُ ( «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ» ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ ( «وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، قَالَ: وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، فَقَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ» ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ ( «بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا» ) قِيلَ: هِيَ الَّتِي عُرِفَ مِنْهَا كَثْرَةُ النِّتَاجِ وَقِيلَ: الْحَامِلُ (فَأُنْتِجَ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مِنِ الْإِنْتَاجِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَمَعْنَاهُ تَوَلِّي الْوِلَادَةِ وَالْمَشْهُورُ نَتَجَ وَالنَّاتِجُ لِلْإِبِلِ كَالْقَابِلَةِ لِلنِّسَاءِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: اسْتَوْلَدَ النَّاقَةَ وَالْبَقَرَةَ (هَذَانِ) أَيِ: الْأَبْرَصُ وَالْأَقْرَعُ (وَوَلَّدَ) فِعْلٌ مَاضٍ مَعْلُومٌ مِنَ التَّوْلِيدِ بِمَعْنَى الْإِنْتَاجِ (هَذَا) أَيِ: الْأَعْمَى (فَكَانَ لِهَذَا) أَيْ: لِلْأَبْرَصِ ( «وَادٍ مِنِ الْإِبِلِ وَلِهَذَا» ) أَيْ: لِلْأَقْرَعِ ( «وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ وَلِهَذَا» ) أَيْ: لِلْأَعْمَى ( «وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ قَالَ» ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثُمَّ أَنَّهُ) أَيِ: الْمَلَكَ ( «أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ» ) أَيِ: الَّتِي جَاءَ الْأَبْرَصَ عَلَيْهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ (وَهَيْئَتِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْأَبْرَصِ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ حَالَهُ وَيَرْحَمُ عَلَيْهِ بِمَالِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِ حَيْثُ جَاءَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي تَسَبَّبَ فِي جَمَالِهِ وَحُصُولِ كَثْرَةِ مَالِهِ (فَقَالَ) أَيْ: لَهُ (رَجُلٌ مِسْكِينٌ) أَيْ: أَنَا (قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ) أَيِ: الْأَسْبَابُ (فِي سَفَرِي) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: فِيهِ تَأَمُّلٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُسَاعِدُ التَّعْدِيَةَ، وَالْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ بِالْبَاءِ بِمَعْنَى مِنْ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمُلَابَسَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] وَالْحِبَالُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ الْحَبْلِ وَهُوَ الْعَهْدُ وَالزَّمَانُ وَالْوَسِيلَةُ وَكُلُّ مَا تَرْجُو فِيهِ خَيْرًا أَوْ فَرَجًا أَوْ تَسْتَدْفِعُ بِهِ ضَرَرًا وَالْحَبْلُ هَاهُنَا السَّبَبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْقَطَعَتْ بِيَ الْأَسْبَابُ، وَفِي شَرْحِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ أَيِ: الْأَسْبَابُ الَّتِي يَقْطَعُهَا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَلِبَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ " الْحِيَالُ " بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ جَمْعُ حِيلَةٍ أَيْ: لَمْ تَبْقَ لِيَ حِيلَةٌ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ " الْجِبَالُ " بِالْجِيمِ وَهُوَ جَمْعُ جَبَلٍ أَيْ: طَالَ سَفَرِي وَقَعَدْتُ عَنْ بُلُوغِ حَاجَتِي (فَلَا بَلَاغَ) أَيْ: كِفَايَةً (لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ) أَيْ: إِيجَادًا وَإِمْدَادًا (ثُمَّ بِكَ) أَيْ: سَبَبًا وَإِسْعَادًا وَفِيهِ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ مَا لَا يَخْفَى حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَبِكَ، وَثُمَّ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ وَالتَّنَزُّلِ فِي الْمَرْتَبَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَتْ إِخْبَارًا بَلْ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] اهـ. وَكَقَوْلِهِمْ:

" {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] " الْآيَةَ (أَسْأَلُكَ) أَيْ: مُقْسِمًا عَلَيْكَ أَوْ مُتَوَسِّلًا إِلَيْكَ ( «بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ» ) أَيِ: الْإِبِلَ (بَعِيرًا) مَفْعُولُ أَسْأَلُكَ أَيْ: أَطْلُبُ مِنْكَ بَعِيرًا ( «أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي» ) أَيْ إِلَى مَقْصُودِي أَوْ وَطَنِي ( «فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ» ) أَيْ: حُقُوقُ الْمَالِ كَثِيرَةٌ عَلَيَّ وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى أَدَائِهَا أَوْ حُقُوقُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَثِيرَةٌ فَلَمْ يَحْصُلْ لَكَ الْبَعِيرُ، وَقَدْ أَرَادَ بِهِ دَفْعَهُ وَهُوَ غَيْرُ صَادِقٍ فِيهِ (فَقَالَ: إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (كَأَنِّي أَعْرِفُكَ) وَنُكْتَةُ التَّشْبِيهِ الْمُغَالَطَةُ لِتَمَكُّنِهِ الْمُكَابَرَةَ ( «أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ» ؟) أَيْ: قَدْ كُنْتَ أَبْرَصَ (يَقْذَرُكَ النَّاسُ) بِفَتْحِ الذَّالِ أَيْ: يَكْرَهُونَكَ وَيَسْتَقْذِرُونَكَ وَهُوَ حَالٌ كَقَوْلِهِ (فَقِيرًا) أَوْ هَذَا خَبَرٌ ثَانٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ (فَأَعْطَاكَ اللَّهُ) أَيْ: مَالًا أَوْ جَمَالًا وَمَالًا ( «فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا» ) حَالٌ (عَنْ كَابِرٍ) أَيْ: كَبِيرًا أَخْذًا عَنْ كَبِيرٍ أَوْ كَبِيرًا بَعْدَ كَبِيرٍ وَالْمَعْنَى حَالَ كَوْنِي أَكْبَرَ قَوْمِي سِنًّا وَرِيَاسَةً وَنَسَبًا وَأَخْذًا عَنْ آبَائِيَ الَّذِينَ هُمْ كَذَلِكَ حَسَبًا، وَنِعْمَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: - كَأَنَّ الْفَتَى لَمْ يَعْرَ يَوْمًا إِذَا اكْتَسَى ... وَلَمْ يَكُ صُعْلُوكًا إِذَا مَا تَمَوَّلَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ فِي الْجَوَابِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عُرْفًا مِنَ التَّكْذِيبِ فِي شَيْءٍ تَكْذِيبَهُ فِي آخَرَ (فَقَالَ) أَيِ: الْمَلَكُ ( «لَهُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا» ) أَوْرَدَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي وَوَجْهُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَقِيلَ: ذَكَرَ (إِنْ) دُونَ (إِذَا) مَعَ أَنَّ كَذِبَهُ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ عِنْدَ الْمَلَكِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ وَتَصْوِيرِ أَنَّ الْكَذِبَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ اهـ. وَفِيهِ مَا فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَدَلَ عَنْ " إِذَا كَذَبْتَ " إِلَى قَوْلِهِ " إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا " بِصِيغَةِ الْمَاضِيِ وَبِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِالْكَذِبِ غَالِبًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَسْتَحِقُّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ إِنْ بِمَعْنَى إِذَا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] ( «فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ» ) مِنَ الْبَرَصِ وَالْفَاقَةِ أَيْ: جَعَلَكَ حَقِيرًا فَقِيرًا ( «قَالَ: وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ» ) لَمْ يَقُلْ هُنَا وَهَيْئَتِهِ اخْتِصَارًا أَوِ اكْتِفَاءً ( «فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا» ) أَيْ: لِهَذَاكَ ( «وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ» ) قَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ دَخَلَ الْفَاءُ فِي الْجَزَاءِ وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ قُلْتُ هُوَ دُعَاءٌ اهـ. أَيْ: هَذَا فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ فَلِذَا جَازَ دُخُولُ الْفَاءِ وَإِنْ جُعِلَ خَبَرًا يَكُونُ التَّقْدِيرُ فَقَدْ صَيَّرَكَ اللَّهُ ( «قَالَ: وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ» ) أَيْ: مُسَافِرٌ ( «انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ» ) اعْتِرَافًا وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ ( «قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ» ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ: لَا أَسْتَفْرِغُ طَاقَتِي (الْيَوْمَ بِشَيْءٍ) أَيْ: بِمَنْعِ شَيْءٍ (أَخَذْتَهُ لِلَّهِ - تَعَالَى -) كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ لَا أَشُقَّ عَلَيْكَ فِي رَدِّ شَيْءٍ تَطْلُبُهُ مِنِّي أَوْ تَأْخُذُهُ مِنْ مَالِي كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ ( «قَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ» ) أَيْ: أَنْتَ وَرَفِيقَاكَ وَالْمَعْنَى اخْتُبِرْتُمْ، هَلْ تَذْكُرُونَ سُوءَ حَالَتِكُمْ وَشِدَّةَ خِدْمَتِكُمْ أَوَّلًا وَتَشْكُرُونَ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ عَلَيْكُمْ آخِرًا؟ ( «فَقَدْ رَضِيَ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِيهِمَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1879 - «وَعَنْ أُمِّ مُجَيْدٍ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمِسْكِينَ لِيَقِفُ عَلَى بَابِي حَتَّى أَسْتَحْيِيَ فَلَا أَجِدُ فِي بَيْتِي مَا أَدْفَعُ فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ادْفَعِي فِي يَدِهِ وَلَوْ ظِلْفًا مُحْرَقًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1879 - (وَعَنْ أُمِّ مُجَيْدٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ اسْمُهَا حَوَّاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ (قَالَتْ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمِسْكِينَ» ) أَيْ: جِنْسَهُ وَيُحْتَمَلُ الْعَهْدُ (لَيَقِفُ عَلَى بَابِي) أَيْ: وَيَسْأَلُ شَيْئًا مِنِّي وَيُكَرِّرُ سُؤَالَهُ عَنِّي (حَتَّى أَسْتَحْيِيَ) وَلِأَجْلِ أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى بَابٍ يَفْتَحُ بَابَ الْحَيَاءِ وَبِسَيْفِ الْحَيَاءِ يُحْرَمُ أَخْذَ الْعَطَاءِ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنَ الْفُقَرَاءِ يَسْأَلُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَيَقُولُ: يَا فَتَّاحُ يَا رَزَّاقُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَ عَلَى الْبَابِ ( «فَلَا أَجِدُ فِي بَيْتِي مَا أَدْفَعُ» ) أَيْ: شَيْئًا أَضَعُ (فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادْفَعِي فِي يَدِهِ) أَيْ: لَا تَرُدِّيهِ خَائِبًا (وَلَوْ ظِلْفًا) أَيْ: وَلَوْ كَانَ مَا يُدْفَعُ بِهِ ظِلْفًا وَهُوَ لِلْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَالظَّبْيِ، وَشِبْهَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِدَمِ مِنًّا يَعْنِي شَيْئًا يَسِيرًا، وَقَوْلُهُ (مُحْرَقًا) مُبَالَغَةً (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

1880 - «وَعَنْ مَوْلًى لِعُثْمَانَ قَالَ: أُهْدِيَ لِأُمِّ سَلَمَةَ بُضْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ اللَّحْمُ فَقَالَتْ لِلْخَادِمِ: ضَعِيهِ فِي الْبَيْتِ لَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُهُ، فَوَضَعَتْهُ فِي كَوَّةِ الْبَيْتِ، وَجَاءَ سَائِلٌ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ: تَصَدَّقُوا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، فَقَالُوا: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، فَذَهَبَ السَّائِلُ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَا أَمَّ سَلَمَةَ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ أَطْعَمُهُ " فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ لِلْخَادِمِ: اذْهَبِي فَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكِ اللَّحْمِ، فَذَهَبَتْ فَلَمْ تَجِدْ فِي الْكَوَّةِ إِلَّا قِطْعَةَ مَرْوَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَإِنَّ ذَلِكَ اللَّحْمَ عَادَ مَرْوَةً لِمَا لَمْ تُعْطُوهُ السَّائِلَ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1880 - (وَعَنْ مَوْلًى لِعُثْمَانٍ قَالَ: أُهْدِيَ لِأُمِّ سَلَمَةَ بُضْعَةٌ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ: قِطْعَةٌ (مِنْ لَحْمٍ) وَهِيَ مَطْبُوخَةٌ ( «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ اللَّحْمُ» ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ (فَقَالَتْ لِلْخَادِمِ) وَهُوَ وَاحِدُ الْخَدَمِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِجَرْيِهِ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ وَهُوَ هُنَا أُنْثَى لِقَوْلِهِ (ضَعِيهِ) أَيِ: اللَّحْمَ ( «فِي الْبَيْتِ لَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُهُ، فَوَضَعَتْهُ» ) أَيِ: الْخَادِمُ (فِي كَوَّةِ الْبَيْتِ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتُضَمُّ أَيْ: فِي ثُقْبِهِ وَطَاقِهِ ( «وَجَاءَ سَائِلٌ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ» ) أَيِ: السَّائِلُ (تَصَدَّقُوا) أَيْ: يَا أَهْلَ الْبَيْتِ ( «بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، فَقَالُوا: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ» ) فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالسُّؤَالِ بِلَفْظِ الدُّعَاءِ مِنَ السَّائِلِ وَالتَّعْرِيضُ بِهِمَا مِنَ الْمَسْئُولِ ( «فَذَهَبَ السَّائِلُ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا أَمَّ سَلَمَةَ هَلْ عِنْدَكُمْ» ) فِيهِ تَعْظِيمٌ أَوْ تَغْلِيبٌ أَوِ الْتِفَاتٌ وَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَعِنْدَكُمْ (شَيْءٌ أَطْعَمُهُ؟) أَيْ: آكُلُهُ ( «فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ لِلْخَادِمِ: اذْهَبِي فَأْتِي» ) أَيْ: فَهَاتِي (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكِ اللَّحْمِ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَيُفْتَحُ ( «فَذَهَبَتْ فَلَمْ تَجِدْ فِي الْكَوَّةِ إِلَّا قِطْعَةَ مَرْوَةٍ» ) بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: حَجَرٌ أَبْيَضُ بَرَّاقٌ، وَقِيلَ: هِيَ مَا يَقْدَحُ مِنْهُ النَّارُ ( «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَإِنَّ ذَلِكِ اللَّحْمَ» ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِهَا (عَادَ) أَيْ: صَارَ (مَرْوَةً لِمَا) بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَبِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ (لَمْ تُعْطُوهُ) أَيْ: مِنْهُ (السَّائِلَ) (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

1881 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ مَنْزِلًا؟ " قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: " الَّذِي يُسْأَلُ بِاللَّهِ وَلَا يُعْطِي بِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1881 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ مَنْزِلًا» ") أَيْ: مَرْتَبَةً عِنْدَ اللَّهِ (قِيلَ: نَعَمْ) أَيْ: قَالُوا: بَلَى " قَالَ: «الَّذِي يُسْأَلُ بِاللَّهِ» " عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ " وَلَا يُعْطِي " بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ " بِهِ " أَيْ: بِاللَّهِ أَوْ بِهَذَا السُّؤَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ كَالْبَاءِ فِي كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ أَيْ: يُسْأَلُ بِوَاسِطَةِ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ لِلْقَسَمِ وَالِاسْتِعْطَافِ أَيْ: بِقَوْلِ السَّائِلِ أَعْطَوْنِي شَيْئًا بِحَقِّ اللَّهِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مُتَّهَمًا بِحَقِّ اللَّهِ وَيُظَنُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مُقْسِمًا عَلَيْهِ بِاللَّهِ اسْتِعْطَافًا إِلَيْهِ وَحَمْلًا لَهُ عَلَى الْإِعْطَاءِ، بِأَنْ يُقَالَ لَهُ بِحَقِّ اللَّهِ أَعْطِنِي كَذَا لِلَّهِ وَلَا يُعْطِي مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا، أَيْ: وَالصُّورَةُ أَنَّهُ مَعَ قُدْرَةِ عِلْمِ اضْطِرَارِ السَّائِلِ إِلَى مَا سَأَلَهُ، وَعَلَى هَذَا حُمِلَ قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ أَخْذًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ: إِنَّ رَدَّ السَّائِلِ بِوَجْهِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ فَيُقَدَّرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَلَا يُعْطِي بِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1882 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُثْمَانَ فَأَذِنَ لَهُ وَبِيَدِهِ عَصَاهُ فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا كَعْبُ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَصِلُ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، فَرَفَعَ أَبُو ذَرٍّ عَصَاهُ فَضَرَبَ كَعْبًا وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا أُحِبُّ لَوْ أَنَّ لِي هَذَا الْجَبَلَ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ وَيُتَقَبَّلُ مِنِّي أَذَرُ خَلْفِي مِنْهُ سِتَّ أَوَاقِيَّ» " أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا عُثْمَانُ أَسَمِعْتَهُ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1882 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُثْمَانَ) أَيْ: لِلدُّخُولِ (فَأَذِنَ لَهُ وَبِيَدِهِ عَصَاهُ) الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالضَّمِيرُ لِأَبِي ذَرٍّ (فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا كَعْبُ) أَيْ: كَعْبُ الْأَحْبَارِ (إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ) أَيِ: ابْنَ عَوْفٍ (تُوُفِّيَ وَتَرَكَ مَالًا) أَيْ: كَثِيرًا بِحَيْثُ جَاءَ رُبُعُ ثَمَنِهِ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ (فَمَا تَرَى فِيهِ؟) أَيْ: فَمَا تَقُولُ فِي حَقِّ الْمَالِ أَوْ صَاحِبِهِ؟ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى هَلْ تَضُرُّ كَثْرَةُ مَالِهِ فِي نَقْصِ كَمَالِهِ؟ (فَقَالَ) أَيْ: كَعْبٌ (إِنْ كَانَ) شَرْطِيَّةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً (يَصِلُ فِيهِ) أَيْ: مَالِهِ وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِيهَا فَقَالَ: أَيْ: فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي تَرَكَهَا (حَقَّ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ) أَيْ: لَا كَرَاهَةَ فِيهِ وَلَا نَقْصَ لَهُ (فَرَفَعَ أَبُو ذَرٍّ عَصَاهُ فَضَرَبَ) أَيْ: بِهَا (كَعْبًا) ضَرْبَ تَأْدِيبٍ حَمْلًا عَلَى التَّهْذِيبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَضْرِبُهُ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَنْزٍ بَعْدَ إِخْرَاجِ حَقِّ اللَّهِ مِنْهُ، أُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا ضَرَبَهُ لِأَنَّهُ نَفَى الْبَأْسَ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُحَاسَبُ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ أَيْ: بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَقَامَ الْأَعْلَى هُوَ صَرْفُ الْمَالِ فِي مَرْضَاةِ الْمَوْلَى كَمَا هُوَ طَرِيقُ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ كَعْبًا أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ لَا بَأْسَ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الرُّخْصَةِ دُونَ الْعَزِيمَةِ، وَمَعَ هَذَا لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْإِهَانَةِ لَا سِيَّمَا فِي حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ، وَلَعَلَّ أَبَا ذَرٍّ غَلَتْ عَلَيْهِ الْجَذْبَةُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الضَّرْبَةِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِلَا بَأْسٍ نَفْيَ الْحُرْمَةِ أَوِ الْكَرَاهَةِ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَلَعَلَّ هَذَا الْفِعْلَ وَأَمْثَالَهُ مِمَّا صَدَرَ عَنْهُ فِي جَذْبِهِ حَالَةَ أَمْرِ عُثْمَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى رَبْزَةَ حَتَّى تُوفِيَ بِهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (وَقَالَ) أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا أُحِبُّ لَوْ أَنَّ لِي هَذَا الْجَبَلَ» ") لَعَلَّهُ جَبَلُ أُحُدٍ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ أَرَادَ الْجِنْسَ " ذَهَبًا أُنْفِقُهُ " حَالٌ " «وَيُتَقَبَّلُ مِنِّي أَذَرُ» " مَفْعُولُ أُحِبُّ عَلَى حَذْفِ أَنْ وَرَفْعِ الْفِعْلِ؛ قَالَهُ الطِّيبِيُّ أَيْ: أُحِبُّ أَنْ أَتْرُكَ " خَلْفِي مِنْهُ سِتَّ أَوَاقِيَّ " بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا وَحَذْفُهَا، وَلَعَلَّهُ: أُحِبُّ أَنْ أَتْرُكَ أَقَلَّ مِنْ هَذَا الْمِقْدَارِ لِلتَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ أَوْ لِدَيْنٍ غَائِبٍ " أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ " أَيْ: أُقْسِمُ بِهِ عَلَيْكَ (يَا عُثْمَانُ أَسَمِعْتَهُ) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) ظَرْفٌ لِأَنْشُدُكَ أَوْ لِأَسَمِعْتَهُ (قَالَ: نَعَمْ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ قَائِلًا بِأَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ، عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَأَدِلَّةُ الْأَوَّلِينَ أَظْهَرُ وَالتَّسْلِيمُ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَكَانَ قِيَاسُ دَأْبِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِقَوْلِهِ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.

1883 - «وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، قَالَ: " ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: " «كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1883 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ» ) أَيْ: مُتَوَجِّهًا (إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ حُجْرَةٍ ( «فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ» ) أَيْ: مِنْ أَجْلِ إِسْرَاعِهِ (فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ) أَيْ: فَرَجَعَ عَلَيْهِمْ وَاطَّلَعَ عَلَى مَا لَدَيْهِمْ ( «فَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ» ) يَعْنِي وَفَزِعُوا مِنْ حَالَتِهِ " قَالَ: «ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي» ) أَيْ: يَمْنَعَنِي تَأْخِيرُ قِسْمَتِهِ عَنْ مَقَامِ الزُّلْفَى وَيُلْهِيَنِي عَنِ الْحُضُورِ عِنْدَ الْمَوْلَى كَمَا فِي حَدِيثِ أَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ " فَأَمَرْتُ " أَيْ: أَهْلَ الْبَيْتِ " بِقِسْمَتِهِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: كُنْتُ خَلَّفْتُ " بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: تَرَكْتُ خَلْفِي " فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ " بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: أَتْرُكَهُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ.

1884 - «وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدِي فِي مَرَضِي سِتَّةُ دَنَانِيرَ أَوْ سَبْعَةٌ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُفَرِّقَهَا، فَشَغَلَنِي وَجَعُ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْهَا مَا فَعَلَتِ السِّتَّةُ أَوِ السَّبْعَةُ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَقَدْ شَغَلَنِي وَجَعُكَ، فَدَعَا بِهَا ثُمَّ وَضَعَهَا فِي كَفِّهِ فَقَالَ: " مَا ظَنُّ نَبِيِّ اللَّهِ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهَذِهِ عِنْدَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1884 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدِي فِي مَرَضِهِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ أَوْ سَبْعَةٌ» ) بِالتَّنْوِينِ وَتَرْكِهِ ( «فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُفَرِّقَهَا» ) بِالتَّشْدِيدِ ( «فَشَغَلَنِي وَجَعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ) أَيْ: عَنْ تَفْرِيقِهَا (ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْهَا) أَيْ: قَائِلًا " «مَا فَعَلَتِ السِّتَّةُ أَوِ السَّبْعَةُ» " بِالرَّفْعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِذَا رُوِيَ بِالنَّصْبِ كَانَ " فَعَلْتِ " عَلَى خِطَابِ عَائِشَةَ اهـ. وَالتَّقْدِيرُ مَا فَعَلْتِ بِالسِّتَّةِ أَوِ السَّبْعَةِ؟ يَعْنِي هَلْ فَرَّقْتِهَا أَوْ مَا فَرَّقْتِهَا (قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ) أَيْ: مَا فَرَّقْتُهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْقَسَمِ تَحْقِيقُ التَّقْصِيرِ لِيَكُونَ سَبَبًا لِقَبُولِ الْعُذْرِ ( «لَقَدْ كَانَ شَغَلَنِي وَجَعُكَ» ) أَيْ: عَنْ تَفْرِيقِهَا " فَدَعَا بِهَا ثُمَّ وَضَعَهَا فِي كَفِّهِ فَقَالَ: «مَا ظَنُّ نَبِيِّ اللَّهِ» " وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ " لَوْ لَقِيَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهَذِهِ " أَيِ: الدَّنَانِيرُ " عِنْدَهُ " أَيْ: ثَابِتَةٌ وَبَاقِيَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: هَذِهِ مُنَافِيَةٌ لِحَالِ النُّبُوَّةِ اهـ. يَعْنِي لِكَمَالِهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1885 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى بِلَالٍ وَعِنْدَهُ صُبْرَةٌ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ: " مَا هَذَا يَا بِلَالُ؟ " قَالَ: شَيْءٌ ادَّخَرْتُهُ لِغَدٍ، فَقَالَ: " أَمَا تَخْشَى أَنْ تَرَى لَهُ غَدًا بُخَارًا فِي جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1885 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى بِلَالٍ وَعِنْدَهُ صُبْرَةٌ» ) بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: كَوْمَةٌ ( «مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ مَا هَذَا» ) أَيِ: التَّمْرُ " يَا بِلَالُ؟ قَالَ: شَيْءٌ ادَّخَرْتُهُ لِغَدٍ " أَيْ: لِحَاجَتِي فِي مُسْتَقْبَلٍ مِنَ الزَّمَانِ: " فَقَالَ: «أَمَا تَخْشَى أَنْ تَرَى لَهُ» " أَيْ: لِهَذَا الشَّيْءِ أَوِ التَّمْرِ غَدًا أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ " «بُخَارًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ» " أَيْ: أَثَرًا يَصِلُ إِلَيْكَ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قُرْبِهِ مِنْهَا " يَوْمَ الْقِيَامَةِ " أَيْ: جَمِيعُ زَمَانِهَا أَوْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِغَدٍ " أَنْفِقْ بِلَالُ " أَيْ: يَا بِلَالُ " وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا " أَيْ: فَقْرًا وَاعِدًا مَا، وَهَذَا أَمْرٌ إِلَى تَحْصِيلِ مَقَامِ الْكَمَالِ وَإِلَّا فَقَدْ جَوَّزَ ادِّخَارَ الْمَالِ سَنَةً لِلْعِيَالِ وَكَذَا لِضُعَفَاءِ الْأَحْوَالِ، قِيلَ: وَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَ ذِي الْعَرْشِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَيْ: أَتَخْشَى أَنْ يُضَيِّعَ مِثْلَكَ مَنْ هُوَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ؟ اهـ. أَوْ ذُو الْعَرْشِ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّحْمَنِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] أَيْ: أَتَخَافُ أَنْ يُخَيِّبَ أَمَلَكَ وَيُقَلِّلَ رِزْقَكَ مَنْ رَحْمَتُهُ عَمَّتْ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَالطُّيُورَ وَالدَّوَابَّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ مُرَاعَاةُ السَّجْعِ أَنْ يُوقَفَ عَلَى إِقْلَالًا بِالْإِسْكَانِ أَوْ يُقَالَ يَا بِلَالًا لِلِازْدِوَاجِ كَمَا قِيلَ الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، أَقُولُ: هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ فِي السَّجْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ.

1886 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «السَّخَاءُ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَمَنْ كَانَ سَخِيًّا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتْرُكْهُ الْغُصْنُ حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَالشُّحُّ شَجَرَةٌ فِي النَّارِ فَمَنْ كَانَ شَحِيحًا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتْرُكْهُ الْغُصْنُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ» " رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1886 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السَّخَاءُ شَجَرَةٌ» ) أَيْ: كَشَجَرَةٍ (فِي الْجَنَّةِ) لَعَلَّ شَبَهَهُ بِهَا فِي عَظَمَتِهَا وَكَوْنِهَا ذَاتَ أَغْصَانٍ وَشُعَبٍ كَثِيرَةٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صِفَةُ السَّخَاءِ مُصَوَّرَةً شَجَرَةً فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: جِنْسُ الشَّجَرَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ نَوْعَانِ مُتَعَارَفٌ وَهِيَ شَجَرَةُ السَّخَاءِ الثَّابِتِ أَصْلُهَا فِي الْجَنَّةِ وَفَرْعُهَا فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ أَخَذَ بَغُضْنٍ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا أَوْصَلَهُ إِلَى أَصْلِ الْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: " «فَمَنْ كَانَ سَخِيًّا» " أَيْ: فِي عِلْمِ اللَّهِ أَوْ فِي الدُّنْيَا " «أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا» " أَيْ: بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السَّخَاءِ " «فَلَمْ يَتْرُكْهُ الْغُصْنُ» " أَيْ: وَلَوْ آخِرَ الْأَمْرِ ( «حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَالشُّحُّ» ) أَيِ: الْبُخْلُ " «شَجَرَةٌ فِي النَّارِ فَمَنْ كَانَ شَحِيحًا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتْرُكْهُ الْغُصْنُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ» " أَيْ: أَوَّلًا " رَوَاهُمَا " أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ وَالَّذِي قَبْلَهُ " الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

1887 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «بَادِرُوا بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْبَلَاءَ لَا يَتَخَطَّاهَا» " رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1887 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَادِرُوا ") أَيِ: الْمَوْتَ أَوِ الْمَرَضَ أَوْ غَيْرَكُمْ " بِالصَّدَقَةِ " أَيْ: بِإِعْطَائِهَا لِلْمُسْتَحِقَّةِ " فَإِنَّ الْبَلَاءَ لَا يَتَخَطَّاهَا " أَيْ: لَا يَتَجَاوَزُهَا بَلْ يَقِفُ دُونَهَا أَوْ يَرْجِعُ عَنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْمُبَادَرَةِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ، قِيلَ: جُعِلَتِ الصَّدَقَةُ وَالْبَلَاءُ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ فَأَيُّهُمَا سَبَقَ لَمْ يَلْحَقْهُ الْآخَرُ وَلَمْ يُخَطِّهِ، وَالتَّخَطِّي تَفَعُّلٌ مِنَ الْخَطْوِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا تَدْفَعُ الصَّدَقَةُ الْبَلَاءَ الْوَاقِعَ وَهُوَ خِلَافُ إِطْلَاقِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ الْبَلَاءَ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنَّهُ جَعَلَ الصَّدَقَةَ سِتْرًا وَحِجَابًا بَيْنَ يَدَيِ الْمُتَصَدِّقِ وَلَا يَتَخَطَّاهَا الْبَلَاءُ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

[باب فضل الصدقة]

[بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1888 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ - فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ) هِيَ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ صِدْقِ رَغْبَةِ صَاحِبِهَا فِي مَرَاتِبِ الْجَنَّاتِ أَوْ تَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ تَصْدِيقِ صَاحِبِهَا فِي إِظْهَارِ الْإِيمَانِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1888 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ» ") بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُكْسَرُ أَيْ: بِمِثْلِهَا صُورَةً أَوْ قِيمَةً " مِنْ كَسْبٍ " أَيْ: صِنَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَلَوْ إِرْثًا وَهِبَةً " طَيِّبٍ " أَيْ: حَلَالٍ " «وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ» " جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْحَلَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَأَنَّ الْحَلَالَ الْمُكْتَسَبَ يَقَعُ بِمَحَلٍّ عَظِيمٍ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْعَارِفُ بِاللَّهِ الْوَلِيُّ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمُتَّقِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّالِحِينَ كَانَ يَكْتَسِبُ وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ وَيُنْفِقُ الثُّلُثَ وَيَصْرِفُ الثُّلُثَ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَجَاءَهُ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا وَقَالَ: يَا شَيْخُ أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ فَدُلَّنِي عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، فَقَالَ: حَصِّلِ الْمَالَ مِنَ الْحَلَالِ ثُمَّ أَنْفِقْ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي يَدِ الْمُسْتَحِقِّ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْغَنِيُّ فَقَالَ: اخْرُجْ فَإِذَا لَقِيتَ أَحَدًا حَنَّ عَلَيْهِ قَلْبُكَ فَأَعْطِهِ، فَخَرَجَ فَرَأَى شَيْخًا كَبِيرًا أَعْمَى فَقِيرًا فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ فَسَمِعَ أَنَّ الْأَعْمَى يَحْكِي إِلَى مَنْ بِجَنْبِهِ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى شَخْصٍ بِالْأَمْسِ فَأَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا، فَانْبَسَطْتُ وَصَرَفْتُ الْبَارِحَةَ فِي الشُّرْبِ مَعَ فُلَانَةَ الْمُغَنِّيَةِ، فَجَاءَ إِلَى الشَّيْخِ وَحَكَى لَهُ بِالْوَاقِعَةِ فَأَعْطَاهُ الشَّيْخُ مِنْ دَرَاهِمِ كَسْبِهِ دِرْهَمًا وَقَالَ لَهُ: إِذَا خَرَجْتَ مِنَ الْبَيْتِ فَأَوَّلُ مَنْ يَقَعُ نَظَرُكَ عَلَيْهِ فَادْفَعِ الدِّرْهَمَ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ فَرَأَى شَخْصًا مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ يَظْهَرُ مِنْهُ آثَارُ الْغِنَى فَخَافَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِأَمْرِ الشَّيْخِ عَرَضَ عَلَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَخَذَهُ رَجَعَ مِنْ طَرِيقِهِ وَتَبِعَهُ الْغَنِيُّ إِلَى أَنْ رَآهُ دَخَلَ فِي خَرَابَةٍ وَخَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ وَرَجَعَ إِلَى الْبَلَدِ فَدَخَلَ وَرَاءَهُ فِي تِلْكَ الْخَرَابَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا إِلَّا حَمَامَةً مَيِّتَةً فَتَبِعَهُ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَهُ بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْحَالِ، فَذَكَرَ أَنَّ مَعَهُ أَوْلَادًا صِغَارًا وَكَانُوا فِي غَايَةٍ مِنَ الْمَجَاعَةِ فَحَصَلَ لَهُ اضْطِرَابٌ، فَخَرَجَ دَائِرًا فَرَأَى الْحَمَامَةَ فَأَخَذَ بِهَا لَهُمْ، فَلَمَّا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْفُتُوحِ رَدَّ الْحَمَامَةَ إِلَى مَكَانِهَا فَعَرَفَ تَحْقِيقَ مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ، " «فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهُ بِيَمِينِهِ» " يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْقَبُولِ وَوُقُوعِ الصَّدَقَةِ مِنْهُ مَوْقِعَ الرِّضَا عَلَى أَكْمَلِ الْحُصُولِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَرْضِيَّ يُتَلَقَّى بِالْيَمِينِ فِي الْعَادَةِ " «ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا» " التَّرْبِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ أَيْ: يُزِيدُهَا وَيُعَظِّمُهَا حَتَّى تَثْقُلَ فِي الْمِيزَانِ " «كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ» " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَيُضَمُّ وَبِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيِ: الْمُهْرُ وَهُوَ وَلَدُ الْفَرَسِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ لُغَةٌ، فَفِي الْقَامُوسِ الْفِلُوُّ بِالْكَسْرِ وَكَعَدُوٍّ وَسُمُوٍّ الْجَحْشُ وَالْمُهْرُ إِذَا فُطِمَا أَوْ بَلَغَا السَّنَةَ " حَتَّى تَكُونَ " بِالتَّأْنِيثِ أَيِ: الصَّدَقَةُ أَوْ ثَوَابُهَا أَوْ تِلْكَ التَّمْرَةُ " مِثْلَ

الْجَبَلِ " أَيْ: فِي الثِّقَلِ، قِيلَ: هَذَا تَمْثِيلٌ لِزِيَادَةِ التَّفْهِيمِ وَخَصَّهُ بِالْفَلُوِّ ; لِأَنَّ زِيَادَتَهُ بَيِّنَةٌ وَفِي الْحَدِيثِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] فَالْمُرَادُ بِالرِّبَا جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالصَّدَقَاتُ تُقَيَّدُ بِالْحَلَالَاتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: «إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ» ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَحْمَتِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي يُرْتَضَى يُتَلَقَّى بِالْيَمِينِ اسْتُعْمِلَتِ الْيَمِينُ فِي مِثْلِ هَذَا، أَقُولُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ السَّلَفِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِحَقِيقَةِ الْحَالَاتِ مَعَ اعْتِقَادِنَا التَّنْزِيهَ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّشْبِيهِ.

1889 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1889 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ» ") مَا نَافِيَةٌ وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: " مِنْ مَالٍ " زَائِدَةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ بَيَانِيَّةٌ أَيْ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مَالًا أَوْ بَعْضَ مَالٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ مَالٍ بَلْ تَزِيدُ أَضْعَافَ مَا يُعْطَى مِنْهُ بِأَنْ يَنْجَبِرَ بِالْبَرَكَةِ الْخَفِيَّةِ أَوْ بِالْعَطِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوْ بِالْمَثُوبَةِ الْعَلِيَّةِ، " «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ» " أَيْ: بِسَبَبِ عَفْوِهِ عَنْ شَيْءٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ " إِلَّا عِزًّا " قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّهُ إِذَا عُرِفَ بِالْعَفْوِ سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوبِ وَزَادَ عِزُّهُ، أَوِ الْمُرَادُ عِزُّ الثَّوَابِ وَكَذَا الْمُرَادُ مِنَ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ " «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ» " بِأَنْ أَنْزَلَ نَفْسَهُ عَنْ مَرْتَبَةٍ يَسْتَحِقُّهَا لِرَجَاءِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ دُونَ غَرَضٍ غَيْرِهِ " «إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» " إِمَّا رَفَعَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا رَفَعَهُ فِي الْأُخْرَى، قُلْتُ: وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1890 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1890 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ» ") أَيْ: شَفْعًا مِنْ جِنْسٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الزَّوْجُ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَعَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا ; لِأَنَّهُ زَوْجٌ مِنْ آخَرَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا اهـ. فَالْمُرَادُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الِاثْنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا الصِّنْفَانِ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ، فَتَدَبَّرْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَدِرْهَمَيْنِ أَوْ دِينَارَيْنِ أَوْ مُدَّيْنِ مِنَ الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَسُئِلَ أَبُو ذَرٍّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: مَا الزَّوْجَانِ؟ قَالَ: فَرَسَانِ أَوْ عَبْدَانِ أَوْ بَعِيرَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ التَّكْرِيرُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَشْفَعُ صَدَقَتَهُ بِأُخْرَى اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا صَدَقَتَانِ إِحْدَاهُمَا سِرٌّ وَالْأُخْرَى عَلَانِيَةٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] وَقِيلَ أَيْ: صَلَاتَيْنِ أَوْ صَوْمَيْنِ حَمْلًا لِلْحَدِيثِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ النَّافِلَةَ لِلْفُقَرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ لِلْأَغْنِيَاءِ (مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ) أَيِ: الزَّوْجَانِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِصِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ وَنَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: فِي مَرْضَاتِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِالْجِهَادِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ يَعْنِي وَأَعَمَّ وَأَتَمَّ وَأَشْهَرَ فَتَدَبَّرْ " «دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ» " أَيْ: دَعَتْهُ الْخَزَنَةُ مِنْ جَمِيعِ أَبَوَابِهَا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا يُوَازِي الْأَعْمَالَ يَسْتَحِقُّ بِهَا الدُّخُولَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ عَلَى أَجْمَلِ الْأَحْوَالِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِنْ أَحَدِ أَبَوَابِهَا لِمَا سَيَجِيءُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَهَا بَابٌ، وَيُقَوِّيهِ سُؤَالُ الصِّدِّيقِ " «وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ» " أَيْ: ثَمَانِيَةٌ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا وَفِيهِ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ ظَاهِرَةٌ جِدًّا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ بَابٍ مِنْهَا يُسَمَّى بِبَابِ عِبَادَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الطَّاعَةِ يَدْخُلُ مِنْهَا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الْعِبَادَةُ وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا، كُلُّهَا بِوَصْفِ الزِّيَادَةِ، دُعِيَ مِنْ جَمِيعِ الْأَبْوَابِ الْوَارِدَةِ تَكْرِيمًا لِأَرْبَابِ الْوِفَادَةِ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ " «فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَوَاتِ» " أَيْ: مِمَّنْ يُكْثِرُ النَّفْلَ؛ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَوْ مِمَّنْ يُحْسِنُهَا " «دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ» " أَيْ: أَوَّلًا وَهُوَ أَفْضَلُ

الْأَبْوَابِ يَعْنِي: قِيلَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ادْخُلِ الْجَنَّةَ مِنْ هَذَا الْبَابِ " «وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ» " أَيْ: يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ " «دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ» " أَيْ: مِنْ بَابِ الصِّيَامِ الْمُسَمَّى بَابَ الرَّيَّانِ ضِدَّ الْعَطْشَانِ، قِيلَ: وَهُوَ بَابٌ يَسْقِي الصِّيَامُ فِيهِ شَرَابًا طَهُورًا قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِيَزُولَ عَطَشُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ كَانَ اسْمًا لِلْبَابِ فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَهُوَ مِنَ الرُّوَاءِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَرْوِي يُقَالُ: رَوَى يَرْوِي فَهُوَ رَيَّانٌ أَيِ: الصَّائِمُ بِتَعَطُّشِهِ فِي الدُّنْيَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ لِيَأْمَنَ الْعَطَشَ اهـ. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ لِلْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ بَابُ الضُّحَى، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُدَاوِمُونَ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى؟ هَذَا بَابُكُمْ فَادْخُلُوهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ» " ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ. وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بَابُ التَّوْبَةِ وَبَابُ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَبَابُ الرَّاضِينَ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مِنْ بَابِ الْأَيْمَنِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَلَعَلَّهُ الثَّامِنُ " «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ» " مَا نَافِيَةٌ وَمِنْ زَائِدَةٌ وَهِيَ اسْمُ مَا، أَيْ: لَيْسَ ضَرُورَةٌ وَاحْتِيَاجٌ عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ إِنْ لَمْ يُدْعَ مِنْ سَائِرِهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَهَذَا نَوْعُ تَمْهِيدِ قَاعِدَةِ السُّؤَالِ فِي قَوْلِهِ " «فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا» " أَيْ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِي بِأَنْ لَا ضَرُورَةَ وَلَا احْتِيَاجَ لِمَنْ يُدْعَى مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ إِلَى الدُّعَاءِ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَابِ إِذْ يَحْصُلُ مُرَادُهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ " قَالَ: نَعَمْ " أَيْ: يَكُونُ جَمَاعَةٌ يُدْعَوْنَ مِنْ جَمِيعِ الْأَبْوَابِ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا لَهُمْ ; لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ " «وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» " لِأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ جَامِعًا لِهَذِهِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَلِكَ الَّذِي لَا تَوَى» بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْقَصْرِ أَيْ: لَا ضَيَاعَ وَلَا هَلَاكَ وَلَا خَسَارَةَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ «دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ» ، أَيْ: لَكَ، عَلَى زَعْمِهِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ تَعْظِيمِهِ وَتَفْخِيمِهِ.

1891 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: " فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جِنَازَةً؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: " فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: " فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1891 - (وَعَنْهُ) أَيْ: أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا» ") مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَأَصْبَحَ بِمَعْنَى صَارَ وَخَبَرُهُ صَائِمًا أَوْ بِمَعْنَى دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ فَتَكُونُ تَامَّةً وَصَائِمًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا " يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ وَأَمَّا وَقْفُهُ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ فَلَحْنٌ عَامِّيٌّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ أَنَا هُنَا لِلتَّعْيِينِ فِي الْإِخْبَارِ لَا لِلِاعْتِدَادِ بِنَفْسِهِ كَمَا يُذْكَرُ فِي مَقَامِ الْمُفَاخَرَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَرِهَهُ الصُّوفِيَّةُ، وَقَدْ وَرَدَ " {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] "، " {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا رَدُّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى جَابِرٍ حَيْثُ أَجَابَ بَعْدَ دَقِّ الْبَابِ بِأَنَا قَائِلًا: أَنَا، فَلِعَدَمِ التَّعْيِينِ فِي مَقَامِ الْإِخْبَارِ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَ أَنَا مِنْ حَيْثُ هُوَ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ وَإِنَّمَا هُوَ يُذَمُّ بِاعْتِبَارِ إِخْبَارِهِ مِمَّا يَفْتَخِرُ بِهِ كَقَوْلِ إِبْلِيسَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ أَنَا الْعَالِمُ وَأَنَا الزَّاهِدُ وَأَنَا الْعَابِدُ، بِخِلَافِ أَنَا الْفَقِيرُ الْحَقِيرُ الْعَبْدُ الْمُذْنِبُ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ " قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جِنَازَةً» ؟ " أَيْ: قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا» ؟ " قَالَ " أَبُو بَكْرٍ أَنَا) فِيهِ جَوَازُ قَوْلِ أَنَا كَآيَةِ " {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] " وَحَدِيثِ " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» " فَفِيهِ رَدٌّ لِكَرَاهَةِ طَائِفَةٍ هَذَا الْقَوْلَ لَكِنَّ إِنَّمَا مَحَلُّهَا إِذَا صَدَرَ عَنْ إِثْبَاتِ النَّفْسِ وَرُعُونَتِهَا وَتَوَهُّمِ كَمَالِ ذَاتِهَا وَحَقِيقَتِهَا كَمَا صَدَرَ عَنْ إِبْلِيسَ حَيْثُ قَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] . وَأَمَّا «حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: " مَنْ ذَا؟ " فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: " أَنَا أَنَا " كَأَنَّهُ كَرِهَهَا» ، فَسَبَبُ كَرَاهَتِهِ لَهَا الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ تَعْرِيفِهِ نَفْسَهُ، ثُمَّ لَوْ عَرَفَهُ بِصَوْتِهِ لَمَا اسْتَفْهَمَهُ فَسَقَطَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ

السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ هُنَا مِنْ أَصْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ: " «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا اجْتَمَعْنَ» ") أَيْ: هَذِهِ الْخِصَالُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؛ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ؛ وَكَأَنَّ التَّرْتِيبَ أَخَذَهُ مِنَ الْفَاءِ التَّعْقِيبِيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ التَّعْقِيبِ عَلَى السُّؤَالِ كَمَا ذَكَرُوا فِي ثُمَّ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلتَّرَاخِي فِي السُّؤَالِ أَوِ التَّقْدِيرُ إِذَا ذَكَرْتُمْ هَذَا فَمَنْ فَعَلَ هَذَا؛ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ مَا وُجِدَتْ وَحُصِّلَتْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ " فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ " أَيْ: بِلَا مُحَاسَبَةٍ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْإِيمَانِ يَكْفِي لِمُطْلَقِ الدُّخُولِ أَوْ مَعْنَاهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1892 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1892 - (وَعَنْهُ) أَيْ: أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ» ") قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: نَصْبُ النِّسَاءِ وَجَرُّ الْمُسَلَّمَاتِ عَلَى الْإِضَافَةِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ وَيُقَدَّرُ عِنْدَ الْبَصْرِيَّةِ مَوْصُوفٌ أَيْ: نِسَاءُ الطَّوَائِفِ الْمُسَلَّمَاتِ، وَالثَّانِي: ضَمُّ النِّسَاءِ عَلَى النِّدَاءِ وَرَفْعُ الْمُسَلِّمَاتِ عَلَى لَفْظِهِ، وَالثَّالِثُ: نَصْبُهُ عَلَى مَحَلِّهِ " لَا تَحْقِرَنَّ " بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَبِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ أَيْ: لَا تَسْتَحْقِرْ إِهْدَاءَ شَيْءٍ أَوْ تَصَدُّقَهُ " جَارَةٌ " أَيْ: فَقِيرَةٌ أَوْ غَنِيَّةٌ مِنْكُنَّ أَوْ مِنْ غَيْرِكُنَّ وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْجَارِ، وَقِيلَ: جَارَةُ الْمَرْأَةِ مَرْأَةُ زَوْجِهَا " لِجَارَتِهَا " أَيْ: لِأَجْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَكَابِرِ " «وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» " بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالسِّينِ أَيْ: وَلَوْ أَنْ تُهْدِيَ أَوْ تَصَدَّقَ فِرْسِنَ شَاةٍ وَهُوَ لَحْمٌ بَيْنَ ظِلْفَيِ الشَّاةِ وَأُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ أَيْ: وَلَوْ شَيْئًا يَسِيرًا وَأَمْرًا حَقِيرًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَلِأَمْرِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ بِقَوْلِهِ {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] وَالْمَعْنَى لَا تَمْتَنِعْ إِحْدَاكُنَّ مِنَ الْهَدِيَّةِ أَوِ الصَّدَقَةِ لِجَارَتِهَا احْتِقَارًا لِلْمَوْجُودِ عِنْدَهَا وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِمَنْ أَهْدَى إِلَيْهِنَّ، فَالْمَعْنَى لَا تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ هَدِيَّةَ جَارَتِهَا بَلْ تَقْبَلُهَا وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَاسْتِجْلَابِ الْقُلُوبِ بِالْعَطِيَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1893 - وَعَنْ جَابِرٍ وَحُذَيْفَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1893 - (وَعَنْ جَابِرٍ وَحُذَيْفَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّ مَعْرُوفٍ ") أَيْ: مَا عُرِفَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرَاتِ مِنْ عَطِيَّةِ مَالٍ أَوْ خُلُقٍ حَسَنٍ أَوْ مَا عُرِفَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ " صَدَقَةٌ " أَيْ: ثَوَابُهُ كَثَوَابِ الصَّدَقَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَحُذَيْفَةَ مَعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، فَحَدِيثُ جَابِرٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَتَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1894 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1894 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَحْقِرَنَّ) أَيْ: أَنْتَ " «مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا» " قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْرُوفُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ أَيْ: أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ النَّصَفَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ وَتَلَقِّي النَّاسَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ " «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ» " ضِدُّ الْعُبُوسِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْبَشَاشَةُ وَالسُّرُورُ فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى قَلْبِهِ سُرُورٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيصَالَ السُّرُورِ إِلَى قَلْبِ مُسْلِمٍ حَسَنَةٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1895 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: " فَلْيَعْمَلْ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعَ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقَ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: " يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ؟ قَالَ: " فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: " فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ صَدَقَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1895 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ") أَيْ: يَجِبُ عَلَيْهِ " صَدَقَةٌ " أَيْ: شُكْرًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ " أَيْ: مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ " قَالَ: فَلْيَعْمَلْ بِيَدَيْهِ " أَيْ: فَلْيَكْتَسِبْ مَالًا يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ " فَيَنْفَعَ نَفْسَهُ " وَيَدْفَعَ ضَرَرَهُ عَنِ النَّاسِ " وَيَتَصَدَّقَ " أَيْ: إِنْ فَضَلَ عَنْ نَفْسِهِ " «قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ» " شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَمَلِ " قَالَ: «فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ» " صِفَةُ ذَا أَيِ: الْمُتَحَيِّرَ فِي أَمْرِهِ الْحَزِينَ أَوِ الضَّعِيفَ أَوِ الْمَظْلُومَ الْمُسْتَغِيثَ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِعَانَةُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْمَالِ أَوْ بِالْجَاهِ أَوْ بِالدَّلَالَةِ أَوِ النَّصِيحَةِ أَوِ الدُّعَاءِ " «قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ؟ قَالَ: فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ» " وَهُوَ يَشْمَلُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِفَادَةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالنَّصِيحَةَ الْعَمَلِيَّةِ " «قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيُمْسِكُ» " أَيْ: نَفْسَهُ أَوِ النَّاسَ " عَنِ الشَّرِّ " بِالِاعْتِزَالِ وَغَيْرِهِ " فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ " أَيْ: فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الشَّرِّ لَهُ تَصَدُّقٌ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ كَانَ لَهُ أَجْرٌ كَالتَّصَدُّقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1896 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1896 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ سُلَامَى» ) وَهُوَ بِضَمِّ السِّينِ وَهُوَ عَظْمُ الْإِصْبَعِ " مِنَ النَّاسِ " أَيْ: مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ " عَلَيْهِ " أَيْ: عَلَى كُلِّ سُلَامَى، وَالْمَعْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ بِعَدَدِ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْ أَعْضَائِهِ " صَدَقَةٌ " أَوْجَبَ الصَّدَقَةَ عَلَى السُّلَامَى مَجَازًا وَفِي الْحَقِيقَةِ عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: سُلَامَى جَمْعُ سُلَامِيَّةٍ وَهِيَ الْأُنْمُلَةُ مِنَ الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ: وَاحِدَةٌ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ وَيُجْمَعُ عَلَى سُلَامَيَاتٍ وَهِيَ الَّتِي بَيْنَ كُلِّ مَفْصِلَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْنَى عَلَى كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْ أَعْضَائِهِ صَدَقَةٌ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنْ جَعَلَ فِي أَعْضَائِهِ مَفَاصِلَ تَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، قِيلَ: وَخَصَّ مَفَاصِلَ الْأَصَابِعِ لِأَنَّهَا الْعُمْدَةُ فِي الْأَفْعَالِ قَبْضًا وَبَسْطًا " كُلَّ يَوْمٍ " بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ فِي كُلِّ يَوْمِ " تَطْلُعُ الشَّمْسُ " صِفَةٌ تَخُصُّ الْيَوْمَ عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ بِمَعْنَى النَّهَارِ " يَعْدِلُ " بِالْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَعْدِلَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ " بَيْنَ الِاثْنَيْنِ " ظَرْفٌ لَهُ وَالْخَبَرُ " صَدَقَةٌ " أَيْ عَدْلُهُ وَإِصْلَاحُهُ بَيْنَ الْخِصْمَيْنِ وَدَفْعُهُ ظُلْمَ الظَّالِمِ عَنِ الْمَظْلُومِ صَدَقَةٌ " وَيُعِينُ الرَّجُلَ " أَيْ: إِعَانَتُهُ الرَّجُلَ " عَلَى دَابَّتِهِ " أَيْ: دَابَّةِ الرَّجُلِ أَوِ الْمُعَيَّنِ " فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا " أَيْ: نَفْسَهُ أَوْ مَتَاعَهُ " أَوْ يَرْفَعُ " شَكٌّ أَوْ تَنْوِيعٌ " «عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ» " أَيْ: مُطْلَقًا أَوْ مَعَ النَّاسِ " «صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ» " بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ وَبِالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ " «يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ» " أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الطَّوَافِ وَالْعِيَادَةِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهَا " «صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى» " أَيْ: يُزِيلُهُ عَنِ الطَّرِيقِ كَالشَّوْكَةِ وَالْعَظْمِ وَالْقَذَرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَذَى النَّفْسِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنِ النَّاسِ " صَدَقَةٌ " أَيْ صَدَقَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1897 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ. فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1897 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ» ") بَيَانٌ لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ " «عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ» " بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ وَيُفْتَحُ مُلْتَقَى الْعَظْمَيْنِ فِي الْبَدَنِ " فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ " أَيْ: عَظَّمَهُ أَوْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ " وَحَمِدَ اللَّهَ " أَيْ: أَثْنَى عَلَيْهِ أَوْ شَكَرَهُ " وَهَلَّلَ اللَّهَ " أَيْ: وَحَّدَهُ أَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَسَبَّحَ اللَّهَ " أَيْ: نَزَّهَهُ عَنْ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ أَوْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ " وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ " أَيْ: بِالتَّوْبَةِ أَوْ بِاللِّسَانِ " وَعَزَلَ " أَيْ: بَعَّدَ وَنَحَّى " حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكًا أَوْ عَظْمًا " أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَلَعَلَّ فِي تَرْكِ ذِكْرِ نَحْوِ الرَّوْثِ حُسْنَ الْأَدَبِ " أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ " أَيْ: بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ بِالْجَنَانِ " عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ " أَيْ: بِعَدَدِهَا نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَذْكَارِ وَمَا بَعْدَهَا أَوْ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَعْنِي مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ " وَالثَّلَاثِمِائَةِ " قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أُضِيفَ الثَّلَاثُ وَهِيَ مَعْرِفَةٌ إِلَى مِائَةٍ وَهِيَ نَكِرَةٌ وَاعْتُذِرَ بِأَنَّ اللَّامَ زَائِدَةٌ فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا،

وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ بَعْدَ الْإِضَافَةِ كَمَا فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ بَعْدَ التَّرْكِيبِ لَكَانَ وَجْهًا حَسَنًا اهـ. يَعْنِي فَمَنْ فَعَلَ الْخَيْرَ بِعَدَدِ تِلْكَ الْمَفَاصِلِ جَزَاؤُهُ " فَإِنَّهُ يَمْشِي " بِالْمُعْجَمَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُهْمَلَةِ، قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: وَكَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ يُمْسِي مِنَ الْإِمْسَاءِ أَوْ مِنَ الْمَشْيِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ " يَوْمَئِذٍ " أَيْ: وَقْتَ إِذْ فَعَلَ ذَلِكَ " وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ " أَيْ: أَبْعَدَهَا وَنَحَّاهَا " عَنِ النَّارِ " وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَرَفْعِ النَّفْسِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1898 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ " قَالُوا " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1898 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ» ") بِالرَّفْعِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرُ " صَدَقَةٌ " قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ صَدَقَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَبِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَعَلَى النَّصْبِ يَكُونُ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ مَجْرُورًا فَيَكُونُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنَّ الْوَاوَ قَامَتْ مَقَامَ الْبَاءِ اهـ. وَكَذَا قَوْلُهُ " «وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ» " إِلَخْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ صَدَقَةً تَشْبِيهًا لَهَا بِالْمَالِ فِي إِثْبَاتِ الْجَزَاءِ وَعَلَى الْمُشَاكَلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا صَدَقَةٌ عَلَى نَفْسِهِ " «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ» " أَسْقَطَ الْمُضَافَ هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى مَا سَبَقَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ " «وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ» " وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُنْكَرِ " صَدَقَةٌ " أَيْ: صَدَقَةٌ عَلَى صَاحِبِ النَّصِيحَةِ وَإِرَادَةِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ قَبِلَهَا أَمْ لَا " «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ» " بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ الْفَرْجُ أَيْ: فِي مُجَامَعَةِ أَحَدِكُمْ حَلَالَهُ " صَدَقَةٌ " وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْبُضْعُ الْجِمَاعُ وَفِي إِعَادَةِ الظَّرْفِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً ثَابِتَةٌ وَهِيَ بِمَعْنَى فِي، وَإِنَّ نُزِعَتْ مِنْ بَعْضِ النُّسَخِ، وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الصَّدَقَةِ أَغْرَبُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِبُضْعِ أَحَدِكُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ صَدَقَةً إِذَا نَوَى فِيهِ عَفَافَ نَفْسِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ حُصُولَ وَلَدٍ صَالِحٍ اهـ. وَهُوَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّ الْإِشَارَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ وَلِعَدَمِ ظُهُورِ هَذَا الْمَعْنَى " قَالُوا " أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ» ) أَيْ: أَيَقْضِيهَا وَيَفْعَلُهَا ( «وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ» ) وَالْأَجْرُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الْمُبَاحِ (" قَالَ ") : " أَرَأَيْتُمْ " أَيْ: أَخْبِرُونِي " لَوْ وَضَعَهَا " أَيْ: شَهْوَةَ بُضْعِهِ " فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ " أَيْ: فِي الْوَضْعِ " وِزْرٌ؟ " قَالَ الطِّيبِيُّ: أَقْحَمَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ بَيْنَ لَوْ وَجَوَابِهَا تَأْكِيدًا لِلِاسْتِخْبَارِ فِي أَرَأَيْتُمْ " فَكَذَلِكَ " أَيْ: فَعَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ " «إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ» " وَعَدَلَ عَنِ الْحَرَامِ مَعَ أَنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ إِلَيْهِ وَتَسْتَلِذُّ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْحَلَالِ، فَإِنَّ لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةً، وَالنَّفْسُ بِالطَّبْعِ إِلَيْهَا أَمْيَلُ وَالشَّيْطَانُ إِلَى مُسَاعَدَتِهَا أَقْبَلُ وَالْمُؤْنَةُ فِيهَا عَادَةً أَقَلُّ " كَانَ لَهُ أَجْرٌ " وَفِي نُسْخَةٍ أَجْرًا بِالنَّصْبِ، فَالْأَجْرُ لَيْسَ فِي نَفْسِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ فِي وَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا كَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِفْطَارِ فِي الْعِيدِ وَكَأَكْلِ السَّحُورِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الشَّهَوَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِذَا قِيلَ: الْهَوَى إِذَا صَادَفَ الْهُدَى فَهُوَ كَالزُّبْدَةِ مَعَ الْعَسَلِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] هَذَا مَا سَنَحَ لِي وَخَطَرَ بِبَالِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1899 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1899 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ» ") بِكَسْرِ اللَّامِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا أَيِ: النَّاقَةُ ذَاتُ اللَّبَنِ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالنِّتَاجِ " الصَّفِيُّ " صِفَةُ اللِّقْحَةِ أَيِ: الْغَزِيرَةُ اللَّبَنِ " مِنْحَةً " بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: عَطِيَّةً بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقِيلَ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَنْحُ إِعْطَاءُ ذَاتِ لَبَنٍ فَقِيرًا لِيَشْرَبَ مُدَّةً ثُمَّ يَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا إِذَا ذَهَبَ دَرُّهَا، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ» " قِيلَ: أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ فِي الْعَارِيَّةِ ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ كُلُّ عَطِيَّةٍ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ " «وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو» " أَيْ: تَذْهَبُ مُلْتَبِسَةً " بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ " أَيْ: يُحْلَبُ مِنْ لَبَنِهَا مِلْءَ إِنَاءٍ وَقْتَ الْغَدْوَةِ وَمِلْءَ إِنَاءٍ آخَرَ وَقْتَ الرَّوَاحِ وَهُوَ الْمَسَاءُ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ مَادِحَةٌ لِمِنْحَةٍ أَوِ اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ

عَنْ مَنْ سَأَلَ عَنْ سَبَبِ كَوْنِهَا مَمْدُوحَةً، وَلَعَلَّ بَعْضَ أَسْخِيَاءِ الْعَرَبِ كَانُوا يَذُمُّونَ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِطَبْعِ الْكِرَامِ عَلَى طَرِيقِ السَّجِيَّةِ فَمَدَحَهَا رَدًّا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَإِنَّ الْقَلِيلَ لَهُ أَجْرٌ جَزِيلٌ وَثَنَاءٌ جَمِيلٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1900 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1900 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ» ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: يَغْرِزُ " غَرْسًا " بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ " أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا " أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ " فَيَأْكُلُ مِنْهُ " أَيْ: مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْمَغْرُوسِ أَوِ الْمَزْرُوعِ " إِنْسَانٌ " وَلَوْ بِالتَّعَدِّي " أَوْ طَيْرٌ أَوْ بَهِيمَةٌ " أَيْ: وَلَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ " إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ " قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّوَايَةُ بِرَفْعِ الصَّدَقَةِ عَلَى أَنَّ كَانَتْ تَامَّةٌ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَأْكُولِ وَأُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ.

1901 - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ " «وَمَا سُرِقَ لَهُ صَدَقَةٌ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1901 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ " «وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ» ") أَيْ: يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ تَصَدُّقِ الْمَسْرُوقِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بِأَيِّ سَبَبٍ يُؤْكَلُ مَالُ الْمُسْلِمِ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى نُقْصَانِ الْمَالِ فَإِنَّ أَجْرَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

1902 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ فَنَزَعَتْ خُفَّهَا فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَغُفِرَ لَهَا " بِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1902 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ» ) بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ وَفَتْحِهَا أَيِ: الْفَاجِرَةُ مِنَ الْوَمْسِ وَهُوَ الْحِكَاكُ " مَرَّتْ بِكَلْبٍ " أَيْ: عَلَى كَلْبٍ كَائِنٍ " عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ " أَيْ: بِئْرٌ وَقِيلَ: بِئْرٌ لَمْ تُطْوَ " يَلْهَثُ " يُقَالُ: لَهَثَ الْكَلْبُ إِذَا خَرَجَ لِسَانُهُ مِنَ الْعَطَشِ وَالتَّعَبِ " كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ " أَيْ: قَارَبَ أَنْ يُهْلِكَهُ " فَنَزَعَتْ خُفَّهَا " أَيْ: خَلَعَتْهُ " فَأَوْثَقَتْهُ " أَيْ: شَدَّتْهُ " بِخِمَارِهَا " بَدَلًا مِنَ الْحَبْلِ وَالدَّلْوِ " فَنَزَعَتْ " أَيْ: جَذَبَتْ بِهِمَا " لَهُ " أَيْ: لِلْكَلْبِ " مِنَ الْمَاءِ " أَيْ: مَاءِ الْبِئْرِ " فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ " تَأْكِيدٌ لِلْخَبَرِ " قِيلَ: إِنَّ " أَيْ: أَئِنَّ " لَنَا فِي الْبَهَائِمِ " أَيْ: فِي إِحْسَانِهَا " أَجْرًا، قَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ " أَيْ: حَيَوَانٍ " أَجْرٌ " قِيلَ إِنَّ الْكَبِدَ إِذَا ظَمِئَتْ تَرَطَّبَتْ وَكَذَا إِذَا أُلْقِيَتْ عَلَى النَّارِ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ بَابِ وَصْفِ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، أَيْ: كَبِدٍ يُرَطِّبُهَا السَّقْيُ وَيُصَيِّرُهَا رَطْبَةً، وَقَدْ وَرَدَ: " كَبِدٍ حَرَّى " تَأْنِيثُ حَرَّانَ، قَالَ الْمُظْهِرُ: فِي إِطْعَامِ كُلِّ حَيَوَانٍ وَسَقْيِهِ أَجْرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِقَتْلِهِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى غُفْرَانِ الْكَبِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، قِيلَ: وَفِي الْحَدِيثِ تَمْهِيدُ فَائِدَةِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1903 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ أَمْسَكَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ مِنَ الْجُوعِ، فَلَمْ تَكُنْ تُطْعِمُهَا وَلَا تُرْسِلُهَا فَتَأْكُلَ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1903 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ» ") أَيْ: فِي شَأْنِهَا وَبِسَبَبِهَا وَلِأَجْلِهَا فَفِي تَعْلِيلِيَّةٌ سَبَبِيَّةٌ " أَمْسَكَتْهَا " أَيْ: رَبَطَتْهَا الْمَرْأَةُ وَمَنَعَتْهَا مِنَ الصَّيْدِ " حَتَّى مَاتَتْ " أَيِ: الْهِرَّةُ " مِنَ الْجُوعِ " قِيلَ: هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةٌ وَإِنَّمَا صَارَتْ كَبِيرَةً بِإِصْرَارِهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى إِصْرَارِهَا وَيَجُوزُ التَّعْذِيبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَمَا فِي الْعَقَائِدِ سَوَاءٌ اجْتَنَبَ مُرْتَكِبُهَا الْكَبِيرَةَ أَمْ لَا لِدُخُولِهَا تَحْتَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبِيرَةُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ

تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] وَعَنْهُ أَجْوِبَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَيْسَ هُنَا مَحَلُّهَا " «فَلَمْ تَكُنْ تُطْعِمُهَا وَلَا تُرْسِلُهَا فَتَأْكُلَ» " بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ " «مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» " بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَضَمُّهَا أَيْ: هَوَامِّهَا وَحَشَرَاتِهَا وَفِيهِ تَفْخِيمُ أَمْرِ الذَّنْبِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1904 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ: لِأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ بِهِ الْجَنَّةَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1904 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ» ") أَيْ: ظَاهِرِهِ لَا فِي جَنْبَيْهِ " فَقَالَ: لِأُنَحِّيَنَّ " بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ أَيْ: لَأُبْعِدَنَّ " هَذَا عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيْ: لِكَيْلَا يُؤْذِيَهُمْ " فَأُدْخِلَ " مَاضٍ مَجْهُولٌ " الْجَنَّةَ " بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ: فَنَحَّاهُ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ كَذَا قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُمْكِنُ أَنَّ إِدْخَالَهُ الْجَنَّةَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَإِنْ لَمْ يُنَحِّهِ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ نَحَّاهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1905 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1905 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ» ") أَيْ: يَمْشِي وَيَتَبَخْتَرُ أَيْ يَتَرَدَّدُ وَيَتَنَعَّمُ " «فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ» " فِي تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ لِأَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا " «كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» " أَيْ يَتَأَذَّوْنَ بِهَا وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ عَلَى قَتْلِ الْمُؤْذِي وَإِزَالَتِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1906 - وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: قُلْتُ: «يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «اتَّقُوا النَّارَ» فِي بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1906 - (وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعْ بِهِ» ) رُوِيَ مَجْزُومًا جَوَابًا لِلْأَمْرِ وَمَرْفُوعًا صِفَةً لِشَيْءٍ أَيْ: أَنْتَفِعْ بِعَمَلِهِ (قَالَ: " «اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ» ") قِيلَ: هُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ فَنَبَّهَ بِأَدْنَى شُعَبِ الْإِيمَانِ عَلَى أَعْلَاهَا أَيْ: لَا تَتْرُكْ بَابًا مِنَ الْخَيْرِ، قُلْتُ: هُوَ فِي الْمَعْنَى كَحَدِيثِ " «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» " وَكَحَدِيثِ " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» "، وَلِذَا قِيلَ: أَيْ: أَذَى نَفْسِكَ أَوِ الْأَذَى هُوَ هَوَى النَّفْسِ فَإِنَّهَا مَعْدِنُهُ وَمَنْبَعُهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وُجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسِ بِهِ ذَنْبٌ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الِاحْتِمَاءَ أَوْلَى مِنِ اسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ، وَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، بَلْ مُقَدِّمَةٌ لِلتَّحْلِيَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتَّقُوا النَّارَ) تَمَامُهُ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ أَيْ: بِنِصْفِهَا، وَالْمَعْنَى ادْفَعُوهَا عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِالْخَيْرَاتِ وَلَوْ كَانَ الِاتِّقَاءُ بِتَصَدُّقِ بَعْضِ تَمْرَةٍ يَعْنِي لَا تَسْتَقِلُّوا شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ أَيْ: يَطِيبُ بِهَا قَلْبُ الْمُسْلِمِ أَوْ بِكَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْأَذْكَارِ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةِ الْفَقِيرِ (فِي بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -) أَيْ: فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ لِعَدِيٍّ مَذْكُورٍ فِي الْبَابِ لَكِنَّ لَفْظَهُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، وَكَانَ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ أَتَى بِبَعْضِ الْحَدِيثِ أَوْ بِحَدِيثٍ مُسْتَقِلٍّ هُنَا مُنَاسَبَةً لِهَذَا الْبَابِ فَعَدَّهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ بَابِ التَّكْرَارِ فَأَسْقَطَهُ وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 1907 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ جِئْتُ فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ فَكَانَ أَوَّلُ مَا قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1907 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ جِئْتُ» ) أَيْ: إِلَيْهِ لِأَطَّلِعَ عَلَيْهِ وَأُسْلِمَ لَدَيْهِ " «فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ» ) أَيْ: أَبْصَرْتُ وَجْهَهُ ظَاهِرًا وَقِيلَ: تَأَمَّلْتُ وَتَفَرَّسْتُ بِأَمَارَاتٍ لَائِحَةٍ فِي سِيمَاهُ، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ تَكَلَّفْتُ فِي الْبَيَانِ ( «عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ» ) بِالْإِضَافَةِ وَيُنَوَّنُ أَيْ: بِوَجْهٍ ذِي كَذِبٍ فَإِنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ (فَكَانَ أَوَّلُ مَا قَالَ) بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ " خِطَابٌ عَامٌّ بِكَلِمَاتٍ جَامِعَةٍ لِلْمُعَامَلَةِ مَعَ

الْخَلْقِ وَالْحَقِّ " «أَفْشُوا السَّلَامَ» " أَيْ: أَظْهِرُوهُ وَأَكْثِرُوهُ عَلَى مَنْ تَعْرِفُونَهُ وَمَنْ لَا تَعْرِفُونَهُ " «وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ» " أَيْ: لِنَحْوِ الْمَسَاكِينِ وَالْأَيْتَامِ " «وَصِلُوا الْأَرْحَامَ» " أَيْ: وَلَوْ بِالسَّلَامِ " «وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ» " أَيْ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ " وَالنَّاسُ نِيَامٌ " لِأَنَّهُ وَقْتُ الْغَفْلَةِ، فَلِأَرْبَابِ الْحُضُورِ مَزِيدُ الْمَثُوبَةِ أَوْ لِبُعْدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ( «تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» ) أَيْ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنْ مَلَائِكَتِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

1908 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اعْبُدُوا الرَّحْمَنَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1908 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اعْبُدُوا الرَّحْمَنَ» ") أَيِ الَّذِي عَلَّمَكُمُ الْقُرْآنَ ( «وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ» ) أَيْ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ ( «وَأَفْشُوا السَّلَامَ» ) أَيْ لِلْأَنَامِ ( «تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» ) أَيْ فِي خَيْرِ مَقَامٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

1909 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1909 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ» ) أَيْ لَتَمْنَعُ مَوْتَةَ فَقُلِبَتْ وَاوُهَا يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ فِي الْمَوْتِ، وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ وَيُضَمُّ، وَالْمُرَادُ مَا لَا تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُ وَلَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ كَالْفَقْرِ الْمُدْقِعِ وَالْوَصَبِ الْمُوجِعِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي تُفْضِي بِهِ إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَنِسْيَانِ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: مَوْتُ الْفَجْأَةِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالتَّرَدِّي وَالْهَدْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي حَاشِيَةِ مِيرَكَ قَالَ الشَّارِحُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْمِيتَةِ السَّوْءِ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمَوْتِ كَالْفَقْرِ الْمُدْقِعِ وَالْوَصَبِ الْمُوجِعِ وَالْأَلَمِ - الْمُرَادُ الْمُفْلِقُ - وَالْأَغْلَالِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالْأَهْوَالِ الَّتِي تَشْغَلُهُ عَمَّا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَمَوْتِ الْفَجْأَةِ الَّتِي هُوَ أَخْذَةُ الْآسِفِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمُظْهِرِ: أَرَادَ بِهِ مَا تَعَوَّذَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي وَمِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» " ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ إِطْفَاءُ الْغَضَبِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَكْرُوهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا وَرَدَ: لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الصَّدَقَةُ، وَمَوْتُ السَّوْءِ عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ وَوَخَامَةِ الْعَاقِبَةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا وَرَدَ: الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ نَفْيَ الْمَكْرُوهِ لِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ أَبْلَغُ مِنَ الْعَكْسِ، فَكَأَنَّهُ نَفَى الْغَضَبَ وَأَرَادَ الرِّضَا وَنَفَى الْمِيتَةَ السَّوْءَ وَأَرَادَ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْجَزَاءَ الْحَسَنَ فِي الْعُقْبَى، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1910 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1910 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ» ") أَيِ الْمُسْلِمَ (بِوَجْهٍ) بِالتَّنْوِينِ (طَلْقٍ) بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ الثَّانِي، وَقِيلَ: بِتَثْلِيثِ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَبِفَتْحٍ وَكَسْرٍ، وَيُقَالُ: طَلِيقٌ أَيْ ضَاحِكٌ مُسْتَبْشِرٌ (وَأَنْ تُفْرِغَ) مِنَ الْإِفْرَاغِ أَيْ تَصُبَّ (مِنْ دَلْوِكَ) أَيْ عِنْدَ اسْتِقَائِكَ (فِي إِنَاءِ أَخِيكَ) لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى الِاسْتِقَاءِ أَوْ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الدَّلْوِ وَالدِّلَاءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) أَيْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، كَذَا نَقَلَهُ الْجَزَرِيُّ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ حَسَنٌ فَقَطْ وَلَيْسَ فِي سَنَدِهِ غَيْرُ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: فِيهِ لِينٌ، وَقَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

1911 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَنَصْرُكَ الرَّجُلَ الرَّدِيءَ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ فِي الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1911 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ» ) أَيْ عَلَى وَجْهِ الِانْبِسَاطِ (صَدَقَةٌ) أَيْ إِحْسَانٌ إِلَيْهِ أَوْ لَكَ فِيهِ ثَوَابُ صَدَقَةٍ ( «وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ» ) وَالصَّدَقَاتُ مُخْتَلِفَةُ الْمَرَاتِبِ

( «وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ» ) أُضِيفَتْ إِلَى الضَّلَالِ كَأَنَّهَا خُلِقَتْ لَهُ، وَهِيَ الَّتِي لَا عَلَامَةَ فِيهَا لِلطَّرِيقِ فَيَضِلُّ فِيهَا الرَّجُلُ (لَكَ صَدَقَةٌ) زِيدَ لَكَ فِي هَذِهِ الْقَرْنِيَّةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا لِمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ (وَنَصْرُكَ) أَيْ إِعَانَتُكَ ( «الرَّجُلَ الرَّدِيءَ الْبَصَرِ» ) بِالْهَمْزِ وَيُدْغَمُ أَيِ الَّذِي لَا يُبْصِرُ أَصْلًا أَوْ يُبْصِرُ قَلِيلًا (لَكَ صَدَقَةٌ) وَضَعَ النَّصْرَ مَوْضِعَ الْقِيَادِ مُبَالَغَةً فِي الْإِعَانَةِ كَأَنَّهُ يَنْصُرُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيهِ (وَإِمَاطَتُكَ) أَيْ إِزَالَتُكَ ( «الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ» ) أَيْ وَنَحْوَهَا (عَنِ الطَّرِيقِ) أَيْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ( «لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ» ) أَيْ صَبُّكَ ( «مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ» ) أَيْ بَعْضَ الْمَاءِ (لَكَ صَدَقَةٌ) فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَخِيكَ دَلْوٌ أَوْ أَعْطَيْتَهُ مَاءً مِنْ دَلْوِكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

1912 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الْمَاءُ " فَحَفَرَ بِئْرًا وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1912 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ) أَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ ( «مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ» ؟) أَيْ لِرُوحِهَا (قَالَ: الْمَاءُ) إِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ أَعَمُّ نَفْعًا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ خُصُوصًا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَلِذَلِكَ مَنَّ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْأَزْهَارِ: الْأَفْضَلِيَّةُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، وَكَانَ هُنَاكَ أَفْضَلَ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَالْحَاجَةِ وَقِلَّةِ الْمَاءِ (فَحَفَرَ) أَيْ سَعْدٌ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ - أَيِ الرَّاوِي -: عَنْ سَعْدٍ، فَحَفَرَ (بِئْرًا) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (وَقَالَ) أَيْ سَعْدٌ (هَذِهِ) أَيْ هَذِهِ الْبِئْرُ صَدَقَةٌ (لِأُمِّ سَعْدٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَرَوَى هُوَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «إِنَّ سَعْدًا وَهُوَ ابْنُ عُبَادَةَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " الْمَاءُ» "، وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، ثُمَّ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ نَحْوَهُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ مُنْقَطِعٌ، فَإِنَّ سَعِيدًا وَالْحَسَنَ لَمْ يُدْرِكَا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ.

1913 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1913 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ» ) مَا زَائِدَةٌ وَأَيُّ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ (كَسَا) أَيْ أَلْبَسَ (مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ عَلَى حَالَةِ عُرْيٍ أَوْ لِأَجْلِ عُرْيٍ أَوْ لِدَفْعِ عُرْيٍ وَهُوَ يَشْمَلُ عُرْيَ الْعَوْرَةِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ( «كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ» ) أَيْ مِنْ ثِيَابِهَا، الْخُضْرُ جَمْعُ أَخْضَرَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - " {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف: 31] " وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ " «مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ» " بِذِكْرِهِ الْمُنْذِرِيَّ وَلَا مُنَافَاةَ ( «وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ» ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَثْمَارَهَا أَفْضَلُ أَطْعِمَتِهَا ( «وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأٍ» ) بِفَتْحَتَيْنِ مَقْصُورًا وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ عَطَشٍ ( «سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» ) أَيْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ أَوْ شَرَابِهَا. وَالرَّحِيقُ صَفْوَةُ الْخَمْرِ وَالشَّرَابُ الْخَالِصُ الَّذِي لَا غِشَّ فِيهِ، وَالْمَخْتُومُ هُوَ الْمَصُونُ الَّذِي لَمْ يُبْتَذَلْ لِأَجْلِ خِتَامِهِ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ غَيْرُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفَاسَتِهِ، وَقِيلَ: الَّذِي يُخْتَمُ بِالْمِسْكِ مَكَانَ الطِّينِ وَالشَّمْعِ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الَّذِي يَخْتِمُ أَوَانِيَهُ لِنَفَاسَتِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ آخِرُ مَا يَجِدُونَ مِنْهُ فِي الطَّعْمِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ مِنْ قَوْلِهِمْ خَتَمْتُ الْكِتَابَ أَيِ: انْتَهَيْتُ إِلَى آخِرِهِ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ - خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 25 - 26] وَالْمَعْنَى الْأَخِيرُ هُوَ الَّذِي عِنْدَ أَرْبَابِ الذَّوْقِ فَإِنَّ خَتْمَ الْأَوَانِي بِمَعْنَى مَنْعِهَا لَا يُلَائِمُ مَقَامَ الْجَنَّةِ الَّتِي لَا مَقْطُوعَةٌ وَلَا مَمْنُوعَةٌ، وَفِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

1914 - وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ فِي الْمَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ " ثُمَّ تَلَا {لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الْآيَةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1914 - (وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ فِي الْمَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» ") وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ لَا يَحْرِمَ السَّائِلَ وَالْمُسْتَقْرِضَ وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مَتَاعَ بَيْتِهِ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ كَالْقِدْرِ وَالْقَصْعَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا الْمَاءَ وَالْمِلْحَ وَالنَّارَ؛ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا غَيْرُ الزَّكَاةِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَالْمُسَافِرِ وَالسَّائِلِ وَتَخْلِيصِ رِقَابِ الْمَمْلُوكِ بِالْعِتْقِ وَنَحْوِهِ (ثُمَّ تَلَا) أَيْ: قَرَأَ اعْتِضَادًا أَوِ اسْتِشْهَادًا {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177] بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]- الْآيَةَ) أَيْ: {وَلَكِنَّ الْبَرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّاَئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَبِهِ الِاسْتِشْهَادُ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ إِيتَاءَ الْمَالِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ثُمَّ قَفَّاهُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، قِيلَ: الْحَقُّ حَقَّانِ حَقٌّ يُوجِبُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى عِبَادِهِ وَحَقٌّ يَلْتَزِمُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الْمُوَقَّاةِ مِنَ الشُّحِّ الْمَجْبُولِ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ اهـ. وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] يَعْنِي: إِذَا عَاهَدُوا اللَّهَ بِطْرِيقِ النَّذْرِ الْمُوجِبِ لِلْوَفَاءِ بِهِ شَرْعًا وَبِالِالْتِزَامِ الْعُرْفِيِّ السُّلُوكِيِّ الْمُقْتَضِي وَفَاءَهُ مُرُوءَةً وَعُرْفًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ بِقَطْعِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ.

1915 - «وَعَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا قَالَتْ: قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: " الْمَاءُ "، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: " الْمِلْحُ "، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: " أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1915 - (وَعَنْ بُهَيْسَةَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، لَهَا صُحْبَةٌ؛ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (عَنْ أَبِيهَا قَالَتْ: قَالَ) أَيْ: أَبُوهَا ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: " الْمَاءُ» ") أَيْ: عِنْدَ عَدَمِ احْتِيَاجِ صَاحِبِ الْمَاءِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ بِنَاءً عَلَى وُسْعِهِ عَادَةً (قَالَ: " يَا نَبِيَّ اللَّهِ ") تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ (مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟) أَيْ: بَعْدَ الْمَاءِ (قَالَ: " الْمِلْحُ ") لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَبَذْلِهِ عُرْفًا (قَالَ: " يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ ") أَيْ: بَعْدَهُ (قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: فِعْلُ الْخَيْرِ جَمِيعِهِ " خَيْرٌ لَكَ " لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَالْخَيْرُ لَا يَحِلُّ لَكَ مَنْعُهُ، فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ " لَا يَحِلُّ " بِمَعْنَى لَا يَنْبَغِي (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، فَالْحَدِيثُ حَسَنٌ صَالِحٌ عِنْدَهُ.

1916 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَافِيَةُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدِّرَامِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1916 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً» ) أَيْ: زَرَعَ أَرْضًا يَابِسَةً " فَلَهُ فِيهَا " أَيْ: فِي نَفْسِ إِحْيَائِهَا " أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَافِيَةُ " وَهِيَ كُلُّ طَالِبِ رِزْقٍ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ طَائِرٍ مِنْ عَفَوْتُهُ أَيْ: أَتَيْتُهُ أَطْلُبُ مَعْرُوفَهُ، وَعَافِيَةُ الْمَاءِ وَارِدَتُهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: الْعَوَافِي أَيْ: طَوَالِبُ الرِّزْقِ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ حَاصِلِ الْأَرْضِ وَرِيعِهَا أَوْ مِنَ الْمَأْكُولِ أَوْ مِنَ النَّبَاتِ (فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ) أَيْ: إِذَا كَانَ لَهُ رَاضِيًا وَشَاكِرًا أَوْ مُحْتَمِلًا صَابِرًا (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِ مِيرَكَ: كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ.

1917 - وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ مَنَحَ مِنْحَةَ لَبَنٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ هَدَى زُقَاقًا كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1917 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ مَنَحَ ") أَيْ: أَعْطَى " مِنْحَةَ لَبَنٍ " تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا وَالْإِضَافَةُ فِيهَا بَيَانِيَّةٌ؛ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِي الْمِنْحَةِ تَجْرِيدًا بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْعَطِيَّةِ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ بِقَوْلِهِ " أَوْ وَرِقٍ " بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا وَهِيَ قَرْضُ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ الْمِنْحَةَ مَرْدُودَةٌ، وَقِيلَ: الصِّلَةُ أَيْ: مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً، وَلَعَلَّ وَجْهَ عَدَمِ ذِكْرِ الذَّهَبِ أَنَّهُ ذَهَبُ أَهْلِ الْكَرَمِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ أَوْ يُعْلَمُ حُكْمُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى سَبِيلِ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى " أَوْ هَدَى " بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ دَلَّ السَّائِلَةَ (زُقَاقًا) بِضَمِّ الزَّايِ أَيْ سِكَّةً وَطَرِيقًا أَيْ: عَرَّفَ ضَالًّا أَوْ ضَرِيرًا طَرِيقًا، وَقِيلَ: إِلَى سَكَنِهِ أَوْ بَيْتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنْ هَدَى مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَوْ إِلَى مَفْعُولٍ، وَيُرْوَى بِتَشْدِيدِ الدَّالِ إِمَّا مُبَالَغَةً فِي الْهِدَايَةِ أَوْ مِنَ الْهَدِيَّةِ أَيْ: تَصَدَّقَ بِزُقَاقٍ مِنَ النَّخْلِ وَهُوَ السِّكَّةُ وَالصَّفُّ مِنْ أَشْجَارِهِ أَوْ جَعَلَهُ وَقْفًا " كَانَ لَهُ " أَيْ: ثَبَتَ لَهُ " مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ " أَيْ: كَانَ مَا ذُكِرَ لَهُ مِثْلَ إِعْتَاقِ رَقَبَةٍ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ نَفْعُ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: كَعَدْلِ رَقَبَةٍ أَوْ نَسَمَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ» ، قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ: كَمِثْلِ عَبْدٍ وَأَمَةٍ، وَأَوْ لِلشَّكِّ، وَالنَّسَمَةُ الْإِنْسَانُ، أَوْ عَدْلُ رَقَبَةٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَالنَّسَمَةُ أَنْ يُعِينَ فِي فَكَاكِهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ: صَحِيحٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

1918 - «وَعَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ، لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا صَدَرُوا عَنْهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَرَّتَيْنِ: قَالَ: " لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ، عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ " قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي إِنْ أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ أَوْ فَلَاةٍ فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ " قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ، قَالَ: " لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا "، قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلَا عَبْدًا وَلَا بَعِيرًا وَلَا شَاةً. قَالَ: " وَلَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ ; إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ. وَارْفَعْ إِزَاَرَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ حَدِيثَ السَّلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ " «فَيَكُونَ لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ وَوَبَالُهُ عَلَيْهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1918 - (وَعَنْ أَبِي جُرَيٍّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ (جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ) أَيْ: يَرْجِعُونَ (عَنْ رَأْيِهِ) وَيَعْمَلُونَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَيَجْتَنِبُونَ عَمَّا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَنْصَرِفُونَ عَمَّا رَآهُ وَيَسْتَصْوِبُونَهُ، شَبَّهَ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْهُ بَعْدَ تَوَجُّهِهِمْ إِلَيْهِ لِسُؤَالِ مَصَالِحِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ بِالْوَارِدَةِ إِذَا صَدَرُوا عَنِ الْمَنْهَلِ بَعْدَ الرِّيِّ (لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا صَدَرُوا عَنْهُ) : أَيْ: عَمِلُوا بِهِ، صِفَةٌ كَاشِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِلْمَقْصُودِ (قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ. قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَرَّتَيْنِ) إِمَّا لِعَدَمِ سَمَاعِهِ أَوْ لِعَدَمِ جَوَابِهِ تَأْدِيبًا لَهُ (قَالَ: لَا تَقُلْ) نَهْيُ تَنْزِيهٍ (عَلَيْكَ السَّلَامُ) أَيِ: ابْتِدَاءً (عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ) أَيْ: فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُحَيَّا بِهِ الْأَحْيَاءُ لِأَنَّهُ شُرِعَ لَهُ أَنْ يُحَيِّيَ صَاحِبَهُ، وَشُرِعَ لَهُ أَنْ يُجِيبَهُ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُوضَعَ مَا وُضِعَ لِلْجَوَابِ مَوْضِعَ التَّحِيَّةِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُحَيَّوْا بِتَقْدِيمِ السَّلَامِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» اهـ. وَيُوَضِّحُهُ كَلَامُ بَعْضِ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّهُ يُحَيَّا الْمَيِّتُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، إِذْ قَدْ سَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَمْوَاتِ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ تَحِيَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ يُحَيَّا بِهَا الْمَيِّتُ لَا الْحَيُّ، وَذَلِكَ لِمَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ شُرِعَتْ لِجَوَابِ التَّحِيَّةِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَيِّيَ صَاحِبَهُ بِمَا شُرِعَ لَهُ مِنَ التَّحِيَّةِ فَيُجِيبَ صَاحِبُهُ بِمَا شُرِعَ لَهُ مِنَ الْجَوَابِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْجَوَابَ مَكَانَ التَّحِيَّةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَيِّتِ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ أَنْ تَشْمَلَهُ بَرَكَةُ السَّلَامِ، وَالْجَوَابُ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ هُنَالِكَ، فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ بِكِلْتَا الصِّيغَتَيْنِ، وَالْآخَرُ أَنَّ إِحْدَى فَوَائِدِ السَّلَامِ أَنْ يُسْمِعَ الْمُسَلِّمُ الْمُسَلَّمَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً لَفْظَ السَّلَامِ لِيَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنْ قِبَلِ قَلْبِهِ، فَإِذَا بَدَأَ بِعَلَيْكَ لَمْ يَأْمَنْ حَتَّى يُلْحِقَ بِهِ السَّلَامَ بَلْ يَسْتَوْحِشُ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِ، فَأُمِرَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى إِينَاسِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ بِتَقْدِيمِ السَّلَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَطْلُوبٍ فِي الْمَيِّتِ فَسَاغَ لِلْمُسَلِّمِ أَنْ يَفْتَتِحَ بِالْكَلِمَتَيْنِ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ، وَقِيلَ: إِنَّ عُرْفَ الْعَرَبِ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى قَبْرٍ أَنْ قَالُوا: عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ» " عَلَى وَفْقِ عُرْفِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ ; لَا لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى الْأَمْوَاتِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ اهـ. فَعَلَى الْأَخِيرِ يُحْمَلُ عَلَى عُرْفٍ خَاصٍّ أَوْ عَلَى جَهْلِ الرَّجُلِ بِالْعُرْفِ، وَالْجَاهِلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ، فَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَ كَلَامِهِ - عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ» " وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ السَّلَامُ جَوَابًا لَهُ، وَتَحِيَّةُ الْمَيِّتِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ هَذَا وَهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ) أَيْ: إِذَا سَلَّمْتَ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ (قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ هُوَ: هُوَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ الْآتِيَيْنِ، أَوْ صِفَةٌ لِلَّهِ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ عَلَى نُسْخَةِ الضَّمِّ بِنَاءً عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِي " دَعَوْتَهُ " فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْآتِيَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ " مَقْرُونًا بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ وَإِنْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ وَظُهُورِ أَنْوَاعِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَأَصْنَافِ شَمَائِلِ الرِّسَالَةِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ سُؤَالِهِ مَعْرِفَةَ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بِوَصْفِ الرِّسَالَةِ الْمَوْصُوفِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ لَا إِثْبَاتَهَا بِالْمُعْجِزَةِ، وَهَذَا مَحْمَلُ فَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ " بِي " بَعْدَ " دَعَوْتَهُ " أَيْ: بِالتَّوَسُّلِ إِلَيَّ أَوْ بَعْدَ كَشْفِهِ أَيْ: بِسَبَبِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ( «إِنْ أَصَابَكَ ضُرٌّ» ) بِضَمِّ الضَّادِ وَيُفْتَحُ " فَدَعَوْتَهُ " أَيْ: أَنْتَ بِوَسِيلَتِي أَوْ أَنَا " كَشَفَهُ " أَيْ: أَزَالَ اللَّهُ ذَلِكَ الضُّرَّ " عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ " أَيْ: سَنَةُ قَحْطٍ لَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا " فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ " أَيْ: صَيَّرَهَا ذَاتَ نَبَاتٍ لَكَ " وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ " وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ أَيْ: فَلَاةٍ خَالِيَةٍ مِنَ الْمَاءِ وَالشَّجَرِ فَهِيَ الْمَفَازَةُ الْمُهْلِكَةُ " أَوْ فَلَاةٍ " أَيْ: مَفَازَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُمْرَانِ فَهِيَ الْمَفَازَةُ الْخَطِرَةُ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلشَّكِّ " فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ " أَيْ: فَحَادَتْ وَمَالَتْ عَنِ الطَّرِيقِ أَوْ غَابَتْ عَنْكَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ " فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ، قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ " أَيْ: أَوْصِنِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] " قَالَ: «لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا» " أَيْ: لَا تَشْتُمْهُ، وَإِنَّمَا عَهِدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَدَمَ السَّبِّ، بِعِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى حَالِهِ ذَلِكَ فَنَهَاهُ عَنْهُ " فَقَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ " أَيْ: بَعْدَ عَهْدِهِ أَحَدًا " حُرًّا وَلَا عَبْدًا وَلَا بَعِيرًا وَلَا شَاةً " أَيْ: لَا إِنْسَانًا وَلَا حَيَوَانًا سَدًّا لِلْبَابِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ سَبُّ إِنْسَانٍ مَخْصُوصٍ عُلِمَ مَوْتُهُ بِالْكُفْرِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي عَدَمِ سَبِّهِ، وَالْأَفْضَلُ الِانْشِغَالُ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ حَتَّى عَنْ لَعْنِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ خُطُورَ مَا سِوَى اللَّهِ فِي الْخَاطِرِ نُقْصَانٌ " قَالَ " أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «وَلَا تَحْقِرَنَّ شِيئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ» " أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَوْ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا أَوْ صَغِيرًا ( «وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ» ) قِيلَ أَيْ: وَكَلِّمْ أَخَاكَ تَكْلِيمًا فَحُذِفَ الْفِعْلُ الْعَامِلُ وَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: تَكْلِيمُكَ أَخَاكَ، ثُمَّ وُضِعَ الْفِعْلُ مَعَ أَنْ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى النَّهْيِ، كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَوْلُهُ: وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى شَيْءٍ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ مُسْتَأْنَفٌ عِلَّةٌ لَهُ أَوْ مُبْتَدَأٌ وَإِنَّ ذَلِكَ خَبَرُهُ " وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ " أَيْ: بَشَّاشٌ " إِلَيْهِ وَجْهُكَ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ " مُنْبَسِطٌ " وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَتَوَاضَعُ لَهُ وَتَطْلُبُ الْكَلَامَ حَتَّى يَفْرَحَ قَلْبُهُ بِحُسْنِ خُلُقِكَ " إِنَّ ذَلِكَ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ التَّغْلِيبِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا لِلْعِلَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّكْلِيمِ مَعَ انْبِسَاطِ الْوَجْهِ مِنْ جُمْلَةِ " الْمَعْرُوفِ " «الَّذِي لَا يُنْكَرُ وَلَا يُحَقَّرُ فَلَا يُتْرَكُ» " وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ " أَيْ: لِيَكُنْ سِرْوَالُكَ وَقَمِيصُكَ قَصِيرَيْنِ " فَإِنْ أَبَيْتَ " رَفْعَ إِزَارِكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَارْفَعْهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَتَجَاوَزْ عَنْهُمَا " وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ " أَيِ: اجْتَنِبْهُ " فَإِنَّهَا " أَيْ: هَذِهِ الْفَعْلَةُ أَوِ الْخَصْلَةُ الَّتِي هِيَ الْإِسْبَالُ مِنْ إِرْسَالِ الثَّوْبِ وَإِرْخَائِهِ " مِنَ الْمَخِيلَةِ " بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ أَيِ: الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ " «وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ» " أَيْ: سَبَّكَ وَلَعَنَكَ " وَعَيَّرَكَ " أَيْ: لَامَكَ وَعَيَّرَكَ " بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ " أَيْ: مِنْ

عَيْبِكَ سَوَاءٌ يَكُونُ فِيكَ أَمْ لَا " فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ " أَيْ: فَضْلًا عَمَّا لَا تَعْلَمُ فِيهِ " فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ " أَيْ: إِثْمُ مَا ذُكِرَ مِنَ الشَّتْمِ وَالتَّعْيِيرِ " عَلَيْهِ " أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الْمَرْءِ وَلَا يَضُرُّكَ شَيْءٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ الْجِذْرِيُّ وَالْمُنْذِرِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْحَدِيثِ (حَدِيثَ السَّلَامِ) أَيْ: صَدْرَ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّلَامِ، قَالَ مِيرَكُ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُنْذِرِيِّ وَالشَّيْخِ الْجِذْرِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا لَكِنَّ اللَّفْظَ لِأَبِي دَاوُدَ (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِلتِّرْمِذِيِّ " «فَيَكُونَ لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ وَوَبَالُهُ عَلَيْهِ» " قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لِلتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الْمُؤَلِّفُ: وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، قُلْتُ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِي التِّرْمِذِيِّ بِكَمَالِهِ.

1919 - «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ " قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: " بَقِيَتْ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1919 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً) أَيْ: أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ أَهْلُ الْبَيْتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ ") عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ مِنَ الشَّاةِ " قَالَتْ: مَا بَقِيَ " أَيْ: مِنْهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " إِلَّا كَتِفُهَا " أَيِ: الَّتِي لَمْ يُتَصَدَّقْ بِهَا " قَالَ: بَقِيَتْ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا " بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ أَيْ: مَا تَصَدَّقْتِ بِهِ فَهُوَ بَاقٍ، وَمَا بَقِيَ عِنْدَكِ فَهُوَ غَيْرُ بَاقٍ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

1920 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا، إِلَّا كَانَ فِي حِفْظٍ مِنَ اللَّهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ مِنْهُ خِرْقَةٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1920 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا» ) أَيْ: إِزَارًا أَوْ رِدَاءًا أَوْ غَيْرَهَا " إِلَّا كَانَ فِي حِفْظٍ " قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فِي حِفْظٍ أَيِّ حِفْظٍ " مِنَ اللَّهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ " أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِ " مِنْهُ " أَيْ: مِنَ الثَّوْبِ " خِرْقَةٌ " أَيْ: قِطْعَةٌ يَسِيرَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فِي حِفْظِ اللَّهِ لِيَدُلَّ التَّنْكِيرُ عَلَى نَوْعِ تَفْخِيمٍ وَشُيُوعٍ، وَهَذَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا حَصْرَ وَلَا عَدْلَ لِثَوَابِهِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحِفْظِ مَعْنَى السِّتْرِ فَيُوَافِقَ مَا وَرَدَ " «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» " وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الثَّوْبِ وَقَدْرِهِ وَحَالِ مُعْطِيهِ وَآخِذِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) أَيْ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اهـ. كَلَامُهُ وَحُصَيْنُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.

1921 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: " «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ " رَجُلٌ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ، وَرَجُلٌ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا " أُرَاهُ قَالَ: " مِنْ شِمَالِهِ، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْعَدُوَّ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، أَحَدُ رُوَاتِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، كَثِيرُ الْغَلَطِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1921 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، يَرْفَعُهُ) أَيْ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يُحِبُّهُمُ اللَّهُ) فَإِنْ ظَهَرَ عَلَامَةُ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ أَوْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ أَنْتَجَتْ لَهُمُ التَّوْفِيقَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ (رَجُلٌ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ وَالنَّاسُ نَائِمُونَ (يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ) فَكَأَنَّهُ يُكَلِّمُ اللَّهَ وَيُكَلِّمُهُ فِي خَلْوَةٍ وَهَذَا عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ (وَرَجُلٌ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ) أَيْ صَدَقَةِ نَفْلٍ (بِيَمِينِهِ) وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الْأَدَبِ فِي الْعَطَاءِ بِأَنْ يَكُونَ بِالْيَمِينِ رِعَايَةً لِلْأَدَبِ وَتَفَاؤُلًا بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ أَوْ بِمَنْ يَكُونُ عَلَى يَمِينِهِ (يُخْفِيهَا) أَيْ يُخْفِي تِلْكَ الصَّدَقَةَ غَايَةَ الْإِخْفَاءِ خَوْفًا مِنَ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ مُبَالَغَةً فِي قَصْدِ ابْتِغَاءِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا (أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مِنَ الْإِرَاءَةِ أَيْ أَظُنُّهُ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ ابْنُ مَسْعُودٍ (مِنْ شِمَالِهِ) أَيْ يُخْفِيهَا مِنْ

شِمَالِهِ أُرِيدَ بِهِ كَمَالُ الْمُبَالَغَةِ أَوْ مِمَّنْ فِي جِهَةِ شِمَالِهِ (وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ) أَيْ فِي جَيْشٍ صَغِيرٍ (فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فَاسْتَقْبَلَ الْعَدُوَّ) أَيْ وَقَاتَلَهُمْ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَمُنَاسَبَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُمْ مُجَاهِدُونَ، فَالْأَوَّلُ يُجَاهِدُ فِي نَفْسِهِ وَيَمْنَعُهَا عَنِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ وَالرَّاحَةِ وَيُخَالِفُ أَقْرَانَهُ بِالسَّهَرِ وَالتِّلَاوَةِ، وَالثَّانِي يُجَاهِدُ فِي مَالِهِ وَيُخْرِجُهُ وَيُعْطِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ إِخْوَانُهُ وَيُخَالِفُ غَالِبَ أَهْلِ زَمَانِهِ فِي أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَ، وَالثَّالِثُ يُجَاهِدُ فِي بَذْلِ رُوحِهِ حَيْثُ لَا طَمَعَ لِلنَّفْسِ فِي الْغَنِيمَةِ وَمَدْحِ النَّاسِ لَهُ بِالشَّجَاعَةِ وَيُخَالِفُ أَصْحَابَهُ فِي الِانْهِزَامِ، وَالْمُنَاسَبَةُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ تُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْغَازِينَ» ، وَالثَّانِي دَخِيلٌ بَيْنَهُمَا يَلْحَقُ بِهِمَا؛ حَيْثُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَالنَّاسُ عَنْهُ غَافِلُونَ وَعَنْ طَرِيقِهِ عَادِلُونَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ ضَعِيفٌ (أَحَدُ رُوَاتِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ كَثِيرُ الْغَلَطِ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ مَعَ كَوْنِهِ إِمَامًا فِي رِوَايَةِ الْمِقْرَاءَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقٍ مَحْفُوظٍ، وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ظَبْيَانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ كَثِيرُ الْغَلَطِ، هَكَذَا عِبَارَةُ التِّرْمِذِيِّ فِي جَامِعِهِ، وَتَطْبِيقُ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْمُؤَلِّفُ لَا تَخْلُو عَنْ تَكَلُّفِ تَأَمُّلٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1922 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلَاثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ فَرَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْيَانِهِمْ، فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ، وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ الشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالْغَنِيُّ الظَّلُومُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1922 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلَاثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ فَرَجُلٌ» ) أَيْ مُعْطِي رَجُلٍ (أَتَى قَوْمًا) وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ صَاحِبُ قَوْمٍ (فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ) أَيْ مُسْتَعْطِفًا بِاللَّهِ قَائِلًا: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَعْطُونِي (وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ لِقَرَابَةٍ) أَيْ وَلَمْ يَقُلْ أَعْطُونِي بِحَقِّ قَرَابَةٍ (بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ) أَيِ الرَّجُلَ الْعَطَاءَ (فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْيَانِهِمْ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ بِأَشْخَاصِهِمْ وَتَقَدَّمَ (فَأَعْطَاهُ سِرًّا) وَقِيلَ: أَيْ تَأَخَّرَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَى جَانِبٍ حَتَّى لَا يَرَوْهُ الْأَعْيَانُ الْأَشْخَاصُ أَيْ سَبَقَهُمْ بِهَذَا الْخَيْرِ فَجَعَلَهُمْ خَلْفَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ " فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ عَنْ أَعْيَانِهِمْ " وَهَذَا أَشَدُّ مَعْنًى وَالْأَوَّلُ أَوْثَقُ سَنَدًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى خَلَا بِالسَّائِلِ فَأَعْطَاهُ سِرًّا، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِأَعْيَانِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ أَيْ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ مُسْتَتِرًا بِظِلَالِهِمْ، وَأَعْيَانِهِمْ أَيْ أَشْخَاصِهِمْ، قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنَّمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ لِتَعْظِيمِ اسْمِهِ وَتَصَدُّقِهِ حِينَ خَالَفَهُ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ اهـ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ سَبَبَ زِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ وَلِصَاحِبَيْهِ الْآتِيَيْنِ مُخَالَفَةُ الْخَلْقِ وَمُوَافَقَةُ الْحَقِّ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ " لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ) تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى السِّرِّ (وَقَوْمٌ) أَيْ وَقَائِمُ قَوْمٍ (سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ " أَيْ أَطْيَبَ وَأَلَذَّ (مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ) أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُقَابَلُ وَيُسَاوَى بِالنَّوْمِ (فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ) أَيْ فَنَامُوا (فَقَامَ) أَيْ مِنَ النَّوْمِ أَوْ عَنْهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ (يَتَمَلَّقُنِي) أَيْ يَتَوَاضَعُ لَدَيَّ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيَّ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَلَقُ بِالتَّحْرِيكِ زِيَادَةٌ فِي التَّوَدُّدِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، قِيلَ: دَلَّ أَوَّلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآخِرُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ - تَعَالَى - وَوُجِّهَ بِأَنَّ مَقَامَ الْمُنَاجَاةِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْرَارٍ وَمُنَاجَاةٍ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ، فَحَكَى اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ، فَحَكَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَا بِمَعْنَاهُ إِذْ لَا يُقَالُ يَتَمَلَّقُ اللَّهَ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ فِي شَيْءٍ (وَيَتْلُو آيَاتِي) أَيْ يَقْرَأُ أَلْفَاظَهَا وَيُتْبِعُهَا بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهَا (وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ) أَيْ جَيْشٍ (فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا) أَيْ أَصْحَابُهُ (فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ) أَيْ خِلَافَ مَنْ وَلَّى دُبُرَهُ بِتَوَلِّيهِ ظَهْرَهُ (حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ) أَيْ حَتَّى يَفُوزَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ (وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ الشَّيْخُ الزَّانِي) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْخِ الشَّيْبَةُ ضِدُّ الشَّابِّ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُحْصَنُ ضِدُّ الْبِكْرِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ) أَيِ الْمُتَكَبِّرُ فَإِنَّهُ صَدَقَةٌ (وَالْغَنِيُّ الظَّلُومُ) أَيْ كَثِيرُ الظُّلْمِ فِي الْمَطْلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّيْخَ وَأَخَوَيْهِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ فِيهِمْ أَشَدُّ مَذَمَّةً وَأَكْثَرُ نُكْرَةً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .

1923 - وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَقَالَ: بِهَا عَلَيْهَا، فَاسْتَقَرَّتْ فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ شِدَّةِ الْجِبَالِ، فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنِ الْجِبَالِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الْحَدِيدُ. فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمِ، النَّارُ. فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الْمَاءُ. فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الرِّيحُ. فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمِ، ابْنُ آدَمَ تَصَدَّقَ صَدَقَةً بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا عَنْ شِمَالِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَذُكِرَ حَدِيثُ مُعَاذٍ " «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ» " فِي كِتَابِ " الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1923 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ) أَيْ أَرْضَ الْكَعْبَةِ وَدُحِيَتْ وَبُسِطَتْ مِنْ جَوَانِبِهَا وَبَقِيَتْ كَلَوْحَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ (جَعَلَتْ) أَيْ شَرَعَتْ (تَمِيدُ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَمِيلُ وَتَتَحَرَّكُ وَتَضْطَرِبُ شَدِيدَةً وَلَا تَسْتَقِرُّ حَتَّى قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: لَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسُ بِهَا (فَخَلَقَ الْجِبَالَ) وَقِيلَ: أَوَّلُهَا أَبُو قَيْسٍ (فَقَالَ: بِهَا عَلَيْهَا) أَيْ أَمَرَ وَأَشَارَ بِكَوْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا عَلَيْهَا (اسْتَقَرَّتْ) أَيِ: الْجِبَالُ عَلَيْهَا فَثَبَتَتِ الْأَرْضُ فِي مَكَانِهَا أَوْ مَا مَادَتْ عَنْ حَالِهَا وَمَحَلِّهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْأَمْرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظَةِ كُنْ فَيَكُونُ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ عِنْدِي دَقِيقٌ وَبِالْقَبُولِ حَقِيقٌ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ مَرَّ مِرَارًا أَنَّ الْقَوْلَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ، وَقَرِينَةُ اخْتِصَاصِهِ اقْتِضَاءُ الْمَقَامِ، فَالتَّقْدِيرُ أَلْقَى بِالْجِبَالِ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَإِيثَارُ الْقَوْلِ عَلَى الْإِلْقَاءِ وَالْإِرْسَالِ لِبَيَانِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ يَتَأَتَّى مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: ضُمِّنَ الْقَوْلُ مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ أَمَرَ الْجِبَالَ قَائِلًا: ارْسِي عَلَيْهَا، وَقِيلَ: أَيْ ضَرَبَ بِالْجِبَالِ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمَلَائِكَةَ بِوَضْعِ الْجِبَالِ عَلَى الْأَرْضِ اهـ وَالْأَخِيرُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْمَنْقُولِ حَيْثُ وَرَدَ " فَأَصْبَحَتِ الْمَلَائِكَةُ فَرَأَوُا الْجِبَالَ عَلَيْهَا " يَرُدُّهُ قَوْلُهُ ( «فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ شِدَّةِ الْجِبَالِ فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنِ الْجِبَالِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الْحَدِيدُ» ) فَإِنَّهُ يَكْسَرُ الْحَجَرَ وَيُقْلَعُ بِهِ الْجِبَالُ ( «فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمِ، النَّارُ» ) فَإِنَّهَا تُلَيِّنُ الْحَدِيدَ وَتُذِيبُهُ ( «فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الْمَاءُ» ) لِأَنَّهُ يُطْفِئُهَا ( «فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الرِّيحُ» ) مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تُفَرِّقُ الْمَاءَ وَتُنَشِّفُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ الرِّيحَ تَسُوقُ السَّحَابَ الْحَامِلَ لِلْمَاءِ ( «فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمِ، ابْنُ آدَمَ تَصَدَّقَ صَدَقَةً بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ» ) قِيلَ: أَشَدِّيَّتُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَخَّرَ نَفْسَهُ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَى غَرَائِزَ لَا تَدْفَعُهَا النَّارُ وَالْمَاءُ وَالرِّيحُ وَلَا تُحْمَلُ عَلَى مَا تَأْبَاهُ بِالتَّشَدُّدِ وَلَا تَنْقَلِبُ عَمَّا تَرُومُهُ بِالِاحْتِيَالِ، فَهِيَ أَشَدُّ مِنْ كُلِّ شَدِيدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ سَخَّرَهَا حَيْثُ مَنَعَهَا مِنْ إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ إِيثَارًا لِلسُّمْعَةِ وَحُبًّا لِلثَّنَاءِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَدْ قَهَرَ الشَّيْطَانَ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَصَّلَ رِضَا الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ أَشَدَّ مِنَ الرِّيحِ الْأَشَدِّ مِمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ فِي الصُّعُوبَةِ وَالشِّدَّةِ، فَإِذَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ عَمَلًا تَوَسَّلَ إِلَى إِطْفَائِهِ كَانَ أَشَدَّ وَأَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْأَجْرَامِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ مِنْ جِبِلَّةِ ابْنِ آدَمَ الْقَبْضَ وَالْبُخْلَ الَّذِي هُوَ مِنْ طَبِيعَةِ الْأَرْضِ، وَمِنْ جِبِلَّتِهِ الِاسْتِعْلَاءَ وَطَلَبَ انْتِشَارَ الصِّيتِ وَهُمَا مِنْ طَبِيعَتَيِ النَّارِ وَالرِّيحِ، فَإِذَا رَغَمَ بِالْإِعْطَاءِ جِبِلَّتَهُ الْأَرْضِيَّةَ أَوْ بِالْإِخْفَاءِ جِبِلَّتَهُ النَّارِيَّةَ وَالرِّيحِيَّةَ كَانَ أَشَدَّ الْكُلِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَذُكِرَ حَدِيثُ مُعَاذٍ «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ» ) أَيْ تُزِيلُ الذُّنُوبَ وَتَمْحُوهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ) أَيْ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ هُنَاكَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1924 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُنْفِقُ مِنْ كُلِّ مَالٍ لَهُ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا اسْتَقْبَلَتْهُ حَجَبَةُ الْجَنَّةِ، كُلُّهُمْ يَدْعُوهُ إِلَى مَا عِنْدَهُ " قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: " إِنْ كَانَتْ إِبِلًا فَبَعِيرَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً فَبَقَرَتَيْنِ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1924 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُنْفِقُ» ) أَيْ يَتَصَدَّقُ (مِنْ كُلِّ مَالٍ لَهُ) أَيْ مِنْ كُلِّ مَالِهِ (زَوْجَيْنِ) أَيِ اثْنَيْنِ أَوْ صِنْفَيْنِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ فِي ابْتِغَاءِ وَجْهِهِ وَمَرْضَاةِ رَبِّهِ أَوْ يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ طَاعَتِهِ مِنَ الْحَجِّ وَالْغَزْوِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهَا (إِلَّا اسْتَقْبَلَتْهُ حَجَبَةُ الْجَنَّةِ) بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ حَاجِبٍ أَيْ بَوَّابُو أَبْوَابِهَا (كُلُّهُمْ يَدْعُوهُ) أَفْرَدَ الضَّمِيرَ لِلَفْظِ كُلِّ أَوِ الْمَعْنَى: كُلٌّ مِنْهُمْ يَدْعُوهُ (إِلَى مَا عِنْدَهُ) أَيْ مِنَ النِّعَمِ الْعِظَامِ وَالْمِنَحِ الْفِخَامِ أَوْ إِلَى بَابٍ هُوَ وَاقِفٌ عِنْدَهُ بِالِاسْتِدْعَاءِ وَالْعَرْضِ، وَالْغَرَضُ أَنْ يَتَشَرَّفَ بِدُخُولِهِ مِنْهُ (قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟) أَيْ كَيْفَ يُنْفِقُ زَوْجَيْنِ مِمَّا يَتَمَلَّكُهُ بِالْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ (قَالَ: إِنْ كَانَتْ إِبِلًا) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ مَالٍ بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ فَإِنَّ الْإِبِلَ مُؤَنَّثٌ (فَبَعِيرَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً) أَيْ بَقَرًا (فَبَقَرَتَيْنِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

1925 - وَعَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ ظِلَّ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَدَقَتُهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1925 - (وَعَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو الْخَيْرِ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ الْمِصْرِيُّ سَمِعَ ابْنَ عَامِرٍ وَأَبَا أَيُّوبَ وَابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ " إِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَالظِّلِّ فِي أَنَّهَا تَحْمِيهِ عَنْ أَذَى الْحَرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ ظِلُّ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَدَقَتُهُ أَيْ: إِحْسَانُهُ إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ إِمَّا هُوَ أَنْ تُجَسَّدَ صَدَقَتُهُ أَوْ يُجَسَّمَ ثَوَابُهَا وَقَدْ تُخَصَّصُ الصَّدَقَةُ بِمَا لَهَا ظِلٌّ حَقِيقِيٌّ كَثَوْبِ الْخَيْمَةِ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

1926 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ فِي النَّفَقَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ» " قَالَ سُفْيَانُ: إِنَّا قَدْ جَرَّبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1926 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ فِي النَّفَقَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ» ) أَيْ بَاقِيَهَا أَوْ جَمِيعَهَا (قَالَ سُفْيَانُ) أَيِ الثَّوْرِيُّ فَإِنَّهُ الْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ (إِنَّا) أَيْ نَحْنُ وَأَصْحَابُنَا (قَدْ جَرَّبْنَاهُ) أَيِ الْحَدِيثَ لِنَعْلَمَ صِحَّتَهُ أَوْ جَرَّبْنَاهُ الْوُسْعَ (فَوَجَدْنَاهُ) أَيْ جَزَاءَهُ (كَذَلِكَ) أَيْ عَلَى تَوْسِيعِ الْعَامِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) أَيْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحْدَهُ.

1927 - (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ وَضَعَّفَهُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1927 - (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ) أَيْ عَنِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهِمْ، وَأَعَادَ لَفَظَ عَنْ لِئَلَّا يَعْطِفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْصَحُ (وَضَعَّفَهُ) أَيِ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَهُ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ فِي التَّرْغِيبِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْأَسَانِيدُ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً فَهِيَ إِذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَحْدَثَتْ قُوَّةً اهـ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَهُ طُرُقٌ صُحِّحَ بَعْضُهَا وَبَعْضُهَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَشْيَاءِ الْعَشَرَةِ مَا عَدَا الصَّوْمَ وَالتَّوْسِيعَ.

1928 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ: الصَّدَقَةُ مَاذَا هِيَ؟ قَالَ: أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ، وَعِنْدَ اللَّهِ الْمَزِيدُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1928 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (الصَّدَقَةُ) بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ جُمْلَةُ (مَاذَا هِيَ؟) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ثَوَابُهَا؟ (قَالَ: أَضْعَافٌ) أَيْ هِيَ يَعْنِي ثَوَابَهَا أَضْعَافٌ مِنْ عَشَرَةٍ (مُضَاعَفَةٌ) أَيْ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ (وَعِنْدَ اللَّهِ الْمَزِيدُ) أَيِ الزِّيَادَةُ تَفَضُّلًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: " {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] " قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ خَبَرٌ بِالتَّأْوِيلِ أَيِ الصَّدَقَةُ أَقُولُ فِيهَا مَاذَا هِيَ، وَالسُّؤَالُ عَنْ حَقِيقَةِ الصَّدَقَةِ لَا يُطَابِقُ الْجَوَابَ بِقَوْلِ: أَضْعَافٌ، لَكِنَّهُ وَارِدٌ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: لَا تَسْأَلْ عَنْ حَقِيقَتِهَا فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ وَاسْأَلْ عَنْ ثَوَابِهَا لِيُرَغِّبَكَ فِيهَا اهـ. وَفِيهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَكَلُّفِهِ أَنَّ الْمَعْلُومَ لَا يُسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى يُنْهَى عَنْ سُؤَالِهِ وَيُعْدَلَ عَنْ جَوَابٍ آخَرَ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُمْ أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَاذَا صَنَعَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بَلْ يَجِبُ نَصْبُ زَيْدٍ، وَمَعْنَى أَرَأَيْتَ أَخْبِرْ وَهُوَ مَنْقُولٌ مَنْ رَأَيْتَ بِمَعْنَى أَبْصَرْتَ أَوْ عَرَفْتَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَبْصَرْتَهُ، وَشَاهَدْتَ الْعَجِيبَةَ أَوْ عَرَفْتَهَا أَخْبِرْنِي عَنْهَا، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الِاسْتِخْبَارِ عَنْ حَالَةٍ عَجِيبَةٍ وَقَدْ يُؤْتَى بَعْدَهُ بِالْمَنْصُوبِ الَّذِي كَانَ مَفْعُولًا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ يُحْذَفُ نَحْوُ: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ} [الأنعام: 47] ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِفْهَامٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُقَدَّرٍ وَلَيْسَ لِجُمْلَةِ مَا صَنَعَ مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ كَمَا تُوُهِّمَ أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، بَلْ هِيَ لِبَيَانِ الْحَالِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهَا لِمَا قَالَ: رَأَيْتَ زَيْدًا؟ قَالَ الْمُخَاطَبُ: عَنْ أَيِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ تَسْأَلُ؟ فَقَالَ: مَا صَنَعَ، كَمَا فِي الرِّضَى فَعَلَى هَذَا يَجِبُ نَصْبُ الصَّدَقَةِ فِي قَوْلِهِ أَرَأَيْتَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِرَفْعِهَا يَتَعَيَّنُ تَوْجِيهُهَا بِأَنْ يُقَالَ: هِيَ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] : فَإِنْ قُلْتَ مَا مُتَعَلِّقُ أَرَأَيْتَ؟ قُلْتُ: " الَّذِي يَنْهَى " مَعَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ وَهُمَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ، قَالَ أَبُو حِبَّانَ: وَمَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هَاهُنَا لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ أَيْ فِي الْأَنْعَامِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ادَّعَى أَنْ جُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، وَالْمَوْصُولُ هُوَ الْآخَرُ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - " {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى - وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى - أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} [النجم: 33 - 35] " وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، فَتَخْرُجُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ الْقَانُونِ إِلَخْ، وَقَالَ فِي الْإِعْلَانِ: أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي لَا يُعَلَّقُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَثِيرًا مَا يُعَلَّقُ، اهـ. فَكَلَامُ الرَّضِيِّ بِمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ثُبُوتِ نَصْبِ زَيْدٍ، وَلِذَا قَالَ فِي الْإِعْلَانِ: اخْتَلَفُوا فِي الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ الْمَنْصُوبِ بِأَرَأَيْتَكَ نَحْوَ أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا مَا صَنَعَ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ زَيْدًا مَفْعُولٌ أَوَّلٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَلَا يَجُورُ التَّعْلِيقُ فِي هَذِهِ وَإِنْ جَازَ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَخَوَاتِهَا نَحْوَ عَلِمْتَ زَيْدًا مَنْ هُوَ، وَقَالَ السَّفَاقِسِيُّ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] هَنَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا لِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الَّتِي بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى جُمْلَةٍ ابْتِدَائِيَّةٍ يَكُونُ الْخَبَرُ فِيهَا اسْتِفْهَامًا، فَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فَمُقَدَّرٌ، اهـ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ كَمَا لَا يَخْفَى (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب أفضل الصدقة]

[بَابُ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1929 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَكِيمٍ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1929 - (عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ بَعْدَهُ زَايٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» ") قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ كَانَتْ عَفْوًا قَدْ فَضَلَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى كَانَ صَدَقَتُهُ مُسْتَنَدَهُ إِلَى ظَهْرٍ قَوِيٍّ مِنَ الْمَالِ، أَوْ أَرَادَ غِنًى يُعْتَمَدُ وَيُسْتَظْهَرُ بِهِ عَلَى النَّوَائِبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الظَّهْرُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: ظَهْرُ غِنًى عِبَارَةٌ عَنْ تَمَكُّنِ الْمُتَصَدِّقِ عَنْ غِنًى مَا، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: هُوَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، أَيْ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ، وَتَنْكِيرُ غِنًى لِيُفِيدَ أَنْ لَا بُدَّ لِلْمُتَصَدِّقِ مِنْ غِنًى مَا، إِمَّا غِنَى النَّفْسِ وَهُوَ الِاسْتِغْنَاءُ عَمَّا بُذِلَ بِسَخَاوَةِ النَّفْسِ ثِقَةً بِاللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِمَّا غِنَى الْمَالِ الْحَاصِلِ فِي يَدِهِ، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ الْيَسَارَيْنِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» "، وَإِلَّا لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَيَتْرُكَ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ فِي الْجُوعِ وَالشِّدَّةِ، وَلِذَا خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ ( «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» ) أَيْ بِمَنْ تَلْزَمُكَ نَفَقَتُهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) أَيْ عَنْهُمَا (وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَكِيمٍ وَحْدَهُ) فَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1930 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1930 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ» ) أَيِ الزَّوْجَةِ وَالْأَقَارِبِ (وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا) أَيْ يَعْتَدُّهَا مِمَّا يَدَّخِرُ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ يَطْلُبُ الْحِسْبَةَ وَهِيَ الثَّوَابُ (كَانَتْ لَهُ) أَيْ نَفَقَتُهُ (صَدَقَةً) أَيْ عَظِيمَةً أَوْ مَقْبُولَةً أَوْ نَوْعًا مِنَ الصَّدَقَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1931 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ. أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1931 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دِينَارٌ) مُبْتَدَأٌ صِفَتُهُ (أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ فِي الْجِهَادِ، أَوْ فِي الْحَجِّ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ (وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ) أَيْ فِي فَكِّهَا أَوْ إِعْتَاقِهَا " «وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» " قَالَ الطِّيبِيُّ: دِينَارٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ ( «أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» ) قِيلَ: لِأَنَّهُ فَرْضٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1932 - وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1932 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفْضَلُ دِينَارٍ ") يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ (" «يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى دَابَّتِهِ» ") أَيْ دَابَّةٍ مَرْبُوطَةٍ (" فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") مِنْ نَحْوِ الْجِهَادِ (" وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ ") أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُجَاهِدِينَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يَعْنِي: الْإِنْفَاقُ عَلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ أَفْضَلُ مِنِ الْإِنْفَاقِ عَلَى غَيْرِهِمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّرْتِيبِ، لِأَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ الصَّادِرُ مِنَ الْحَكِيمِ لَا يَخْلُو عَنْ حُكْمِهِ، فَالْأَفْضَلُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مُخَصِّصٌ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] » (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1933 - «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أَنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ، إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ؟ فَقَالَ: " أَنَفِقِي عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1933 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا (أَنْ أَنْفِقَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ فِي إِنْفَاقِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ (عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَبُو سَلَمَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، زَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوْلَادٌ: عُمَرُ وَمُحَمَّدٌ وَزَيْنَبُ وَدُرَّةُ (إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ) أَيْ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا (فَقَالَ: " «أَنَفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1934 - «وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ "، قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنِّي وَإِلَّا صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ. قَالَتْ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجَتِي وَحَاجَتُهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ، قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلَانِكَ: أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَنْ أَزْوَاجِهِمَا وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا؟ وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ هُمَا؟ " ; قَالَ: امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ " قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَهُمَا "، " أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ "، " وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1934 - (وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ") أَيْ جَمَاعَتَهُنَّ (" وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ ") بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ الْحَلْيِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَهُوَ مَا يُزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَصُوغِ الْمَعْدِنِيَّاتِ، أَوِ الْحِجَارَةِ (قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ) أَيْ قَلِيلُهَا (وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ) أَيْ بِإِعْطَائِهَا أَوْ بِالتَّصَدُّقِ (فَأْتِهِ) أَيْ فَاحْضُرْهُ (فَاسْأَلْهُ) وَفِي نُسْخَةٍ فَسَلْهُ أَيْ هَلْ يُجْزِئُنِي أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَوْلَادِكَ أَمْ لَا؟ (فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ) أَيِ التَّصَدُّقُ عَلَيْكَ (يُجْزِئُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ: أَيْ يُغْنِي وَيَقْضِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْهَمْزَةِ فِي آخِرِهَا أَيْ يَكْفِي (عَنِّي) أَيْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْكُمْ وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْكُمْ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ تُجْزِئْنِي (صَرَفْتُهَا) أَيْ عَنْكُمْ (إِلَى غَيْرِكُمْ) أَيْ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ

(قَالَتْ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ) وَلَعَلَّ امْتِنَاعَهُ لِأَنَّ سُؤْلَهُ يُنْبِئُ عَنِ الطَّمَعِ (قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ) أَيْ فَذَهَبُتُ (فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ وَاقِفَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ (بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) الْمَفْهُومُ مِنْ حَدِيثِ الْبَزَّارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَابِ بَابُ الْمَسْجِدِ (حَاجَتِي وَحَاجَتُهَا) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ عَيْنُهَا، أَوْ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ (قَالَتْ) أَيْ زَيْنَبُ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ أَعْطَى اللَّهُ رَسُولَهُ هَيْبَةً وَعَظَمَةً يَهَابُهُ النَّاسُ، وَيُعَظِّمُونَهُ، وَلِذَا مَا كَانَ أَحَدٌ يَجْتَرِئُ عَلَى الدُّخُولِ عَلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ دَلَّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ أَصْحَابُهُ فِي مَجْلِسِهِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرَ، وَذَلِكَ عِزَّةٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا كِبْرٌ وَسُوءُ خُلُقٍ، وَإِنَّ تِلْكَ الْعِزَّةَ أَلْبَسَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ (قَالَتْ) أَيْ زَيْنَبُ ( «فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلَانِكَ: أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَنْ أَزْوَاجِهِمَا وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا» ) بِضَمِّ الْحَاءِ جَمْعُ حَجْرٍ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، يُقَالُ: فُلَانٌ فِي حَجْرِ فُلَانٍ أَيْ فِي كَنَفِهِ وَمَنْعِهِ وَالْمَعْنَى فِي تَرْبِيَتِهِمَا (وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ) إِرَادَةَ الْإِخْفَاءِ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الرِّيَاءِ، أَوْ رِعَايَةً لِلْأَفْضَلِ، وَهَذَا أَيْضًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِعَدَمِ دُخُولِهَا (قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ هُمَا؟ " ; قَالَ: امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيُّ الزَّيَانِبِ ") قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ أَيَّةُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] اهـ بَلْ قِيلَ: التَّأْنِيثُ أَفْصَحُ (قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ) هَذَا يُؤَيِّدُ اصْطِلَاحَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ فَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، لَا ابْنُ عُمَرَ، وَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَا ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، مَعَ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَجِلَّاءُ، لَكِنَّهُ أَجَلُّ فَالْمُطْلَقُ يَصْرِفُ الْأَكْمَلَ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّهُ أَفْقَهُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، قِيلَ: وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِلَالٌ عَنْهُمَا مَعَ أَنَّهُمَا نَهَيَا عَنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ إِجَابَتَهُ فَرْضٌ دُونَ غَيْرِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَهُمَا ") أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا (" أَجْرَانِ أَجْرٌ الْقَرَابَةِ ") أَيِ الصِّلَةِ (" وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) قَالَ الشُّمُنِّيُّ: رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ. اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ إِلَى امْرَأَتِهِ بِاتِّفَاقٍ، وَلَا تَدْفَعُ الْمَرْأَةُ زَكَاتَهَا إِلَى زَوْجِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنَافِعِ عَادَةً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَدْفَعُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَهُمَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالنَّسَائِيِّ عَنْ زَيْنَبَ الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ فَقَالَ فِيهِ: فَلَمَّا انْصَرَفَ وَجَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَاءَتْهُ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَنَا الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَعِنْدِي حَلْيٌ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ» "، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا مُعَارَضَةَ لَازِمَةٌ بَيْنَ هَذِهِ وَالْأُولَى فِي شَيْءٍ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَقَوْلُهُ " وَلَدُكِ " يَجُوزُ كَوْنُهُ مَجَازًا عَنِ الرَّبَائِبِ وَهُمُ الْأَيْتَامُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَكَوْنُهُ حَقِيقَةً فَالْمَعْنَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ إِذَا تَمَلَّكَهَا أَنْفَقَهَا عَلَيْهِمْ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدَقَةِ نَافِلَةٍ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَتَخَوَّلُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: وَهَلْ يُجْزِئُ ; وَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الْحَادِثِ لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إِلَّا فِي الْوَاجِبِ ; لَكِنْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهِمْ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ النَّقْلِ لِأَنَّهُ لُغَةً الْكِفَايَةُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ يَكْفِي التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ مُسَمَّى الصَّدَقَةِ وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِهَا مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -؟ .

1935 - «وَعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1935 - (وَعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً) أَيْ جَارِيَةً مَوْلُودَةً فِي مِلْكِهَا مَمْلُوكَةً (فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِهِ (فَذَكَرَتْ ذَلِكَ) أَيِ الْإِعْتَاقَ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتِهَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا " بِكَسْرِ التَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِإِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ حَتَّى تَوَلَّدَتْ يَاءٌ " أَخْوَالَكِ " جَمْعُ الْخَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى خَادِمٍ مِنْ ضِيقِ الْحَالِ " كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ " لِأَنَّهُ كَانَ صَدَقَةً وَصِلَةً، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1936 - «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: " إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1936 - ( «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي» ) أَيْ أَوَّلًا أَوْ زِيَادَةً " قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا " أَيْ لَا جِدَارًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ اخْتِلَاطًا وَأَظْهَرُ اطِّلَاعًا فَيَكُونُ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ وَظُهُورِ الْمَوَدَّةِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَارَ الْأَقْرَبَ بِمَزِيدِ الْإِحْسَانِ أَنْسَبُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْحِصَارَ الْإِهْدَاءِ إِلَى الْأَقْرَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ لِمَا فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْآتِي وَهُوَ قَوْلُهُ :

1937 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1937 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً» ") أَيْ فِيهَا لَحْمٌ أَوْ لَا " فَأَكْثِرْ مَاءَهَا " أَيْ عَلَى الْمُعْتَادِ لِنَفْسِكَ " وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ " جَمْعُ الْجَارِ يَعْنِي تَفَقَّدْهُمْ بِزِيَادَةِ طَعَامِكَ وَتَجَدُّدِ عَهْدِكَ بِذَلِكَ تَحْفَظْ بِهِ حَقَّ الْجِوَارِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِكْثَارِ الْمَاءِ فِي مَرَقَةِ الطَّعَامِ حِرْصًا عَلَى إِيصَالِ نَصِيبٍ مِنْهُ إِلَى الْجَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَذِيذًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1938 - «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " جُهْدُ الْمُقِلِّ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1938 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " جُهْدُ الْمُقِلِّ ") بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُهْدُ بِالضَّمِّ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، أَيْ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُ الْقَلِيلِ الْمَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْفَضِيلَةَ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَقُوَّةِ التَّوَكُّلِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ اهـ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُقِلِّ الْغَنِيُّ الْقَلْبِ لِيُوَافِقَ قَوْلَهُ " «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» "، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ عَلَى الْجُوعِ أَنْ يُعْطِيَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْغِنَى فِي قَوْلِهِ " «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» " مَنْ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْجُوعِ وَالشِّدَّةِ، تَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا، فَمَنْ يَصْبِرُ فَالْإِعْطَاءُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، وَمَنْ لَا يَصْبِرُ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ أَنْ يُمْسِكَ قُوتَهُ ثُمَّ يَتَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ اهـ وَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ تَصَدُّقَ الْفَقِيرِ الْغَنِيِّ الْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا أَفْضَلُ مِنْ تَصَدُّقِ الْغَنِيِّ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، فَهُوَ مِنْ أَدِلَّةِ أَفْضَلِيَّةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ عَلَى الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَأَنَّ عِبَادَةَ الْأَوَّلِ مَعَ قِلَّتِهَا أَفْضَلُ مِنَ الثَّانِي مَعَ كَثْرَتِهَا، فَكَيْفَ بِتَسَاوِيهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعًا: " «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ أَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْ عُرْضِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا» "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ " وَابْدَأْ " أَيْ أَيُّهَا الْمُتَصَدِّقُ أَوِ الْمُقِلُّ " بِمَنْ تَعُولُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

1939 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1939 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ) وَكَذَا فِي النُّسَخِ مُصَغَّرًا، وَقَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ سَلْمَانُ مُكَبَّرًا بِلَا يَاءٍ، وَسُلَيْمَانُ سَهْوٌ مِنَ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ صَاحِبِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. انْتَهَى، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: هُوَ سَلْمَانُ بْنُ عَامِرٍ الضَّبِّيُّ، عِدَادُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ مِنَ الرُّوَاةِ ضَبِّيٌّ غَيْرُهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ ذُكِرَ بَعْدَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّهْوَ مِنِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الْكِتَابِ لَذَكَرَهُ فِي عِدَادِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ» ") أَيْ وَاحِدَةٌ " وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ " أَيْ مُتَعَدِّدٌ " صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ خَيْرَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ وَاحِدٍ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

1940 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ، قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ "، قَالَ عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ "، قَالَ عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ "، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ "، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " أَنْتَ أَعْلَمُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1940 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ) أَيْ وَأُرِيدُ أَنْ أُنْفِقَهُ (قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ " قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ "، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ " قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا قَدَّمَ الْوَلَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ لِشِدَّةِ افْتِقَارِهِ إِلَى النَّفَقَةِ بِخِلَافِهَا فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا لَأَمْكَنَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ عَنِ اللُّزُومِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ صَغِيرًا فَقِيرًا ( «قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ "، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " أَنْتَ أَعْلَمُ» ") بِحَالِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ مِنْ أَقَارِبِكَ وَجِيرَانِكَ وَأَصْحَابِكَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

1941 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ ; رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَتْلُوهُ ; رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِيهَا، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ ; رَجُلٌ يُسْأَلُ بِاللَّهِ وَلَا يُعْطِي بِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1941 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ ") يَحْتَمِلُ الِاسْتِفْهَامَ وَالتَّنْبِيهَ فِي الْإِعْلَامِ " بِخَيْرِ النَّاسِ " أَيْ بِمَنْ هُوَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، إِذْ لَيْسَ الْغَازِي أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ بِشَرِّ النَّاسِ إِذِ الْكَافِرُ شَرٌّ مِنْهُ؛ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ مِنْهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَا شَكَّ أَنَّ قَاتِلَ النَّاسِ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ الْإِطْلَاقِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الثَّانِي " رَجُلٌ " بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ، وَبِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ " مُمْسِكٌ " صِفَةُ رَجُلٍ أَيْ آخِذٌ " بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " أَيْ مُتَهَيِّئٌ لِلْقِتَالِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَتْلُوهُ " أَيْ يَتْبَعُهُ وَيَقْرُبُهُ فِي الْخَيْرِيَّةِ " رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ " بِالْوَجْهَيْنِ، أَيْ مُتَبَاعِدٌ عَنِ النَّاسِ مُنْفَرِدٌ عَنْهُمْ، إِلَى مَوْضِعٍ خَالٍ مِنَ الْبَوَادِي أَوِ الصَّحَارِي " فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ " أَيْ مَثَلًا، وَهُوَ تَصْغِيرُ غَنَمٍ بِمَعْنَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ " «يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِيهَا، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ ; رَجُلٌ يُسْأَلُ» " مِنْهُ، عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُطْلَبُ " بِاللَّهِ " أَيْ بِالْقَسَمِ بِهِ بِأَنْ يَقُولَ الْفَقِيرُ لِشَخْصٍ: أَعْطِنِي بِاللَّهِ " وَلَا يُعْطِي " عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيِ الرَّجُلُ الْمَسْئُولُ مِنْهُ " بِهِ " أَيْ بِاللَّهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَلَا يُعْطَى بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ يَسْأَلُ مَالَكَ لِنَفْسِهِ بِاللَّهِ وَلَا يُعْطَى بِاللَّهِ إِذَا سَأَلَ بِهِ اهـ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَتَأَمَّلْ. نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلَانِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ وَيُقَدَّرُ الْمَوْصُولُ فِي الثَّانِي، فَيَكُونُ الْمَعْنَى شَرُّ النَّاسِ مَنْ يَسْأَلُ بِاللَّهِ أَيْ بِالْيَمِينِ وَالْإِلْحَاحِ لِأَنَّهُ إِيقَاعٌ لِلنَّاسِ فِي الْحَرَجِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُعْطَى بِسَبَبِ الْحَيَاءِ فَيَكُونُ أَخْذُهُ حَرَامًا، وَمَنْ لَا يُعْطِي بِاللَّهِ أَيْ بِالْقَسَمِ وَالْحَلِفِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَسْئُولِ، حَيْثُ تَرَكَ تَعْظِيمَ اللَّهِ - تَعَالَى، وَعَدَلَ عَنِ التَّرَحُّمِ عَلَى الْفَقِيرِ الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ الِاضْطِرَارُ وَالِافْتِقَارُ الْمُلْجِئُ إِلَى الْيَمِينِ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَسْئُولُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) .

1942 - وَعَنْ أُمِّ بُجَيْدٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1942 - (وَعَنْ أُمِّ بُجَيْدٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ؛ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْقَامُوسُ وَالْعَسْقَلَانِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِالنُّونِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، ثُمَّ هِيَ حَوَّاءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِكُنْيَتِهَا، كَانَتْ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُدُّوا السَّائِلَ» ") قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ " «لَا تَرُدُّوا السَّائِلَ» "، أَيْ لَا تَجْعَلُوهُ مَحْرُومًا، بَلْ أَعْطُوهُ شَيْئًا " وَلَوْ بِظِلْفٍ " بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ لِلْفَرَسِ " مُحْرَقٍ " مِنِ الْإِحْرَاقِ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي رَدِّ السَّائِلِ بِأَدْنَى مَا يَتَيَسَّرُ، وَلَمْ يُرِدْ صُدُورَ هَذَا الْفِعْلِ مِنَ الْمَسْئُولِ مِنْهُ، فَإِنَّ الظِّلْفَ الْمُحْرَقَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَقْتُ زَمَنَ الْقَحْطِ (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ) أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، عَنِ الْحَوَّاءِ بِنْتِ السَّكَنِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مَعْنَاهُ.

1943 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنِ اسْتَعَاذَ مِنْكُمْ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ، حَتَّى تُرَوْا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1943 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنِ اسْتَعَاذَ ") أَيْ مَنْ سَأَلَ مِنْكُمُ الْإِعَاذَةَ مُسْتَغِيثًا " بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ " قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَنِ اسْتَعَاذَ بِكُمْ وَطَلَبَ مِنْكُمْ دَفْعَ شَرِّكُمْ أَوْ شَرِّ غَيْرِكُمْ عَنْهُ، قَائِلًا: بِاللَّهِ عَلَيْكَ أَنْ تَدْفَعَ عَنِّي شَرَّكَ، فَأَجِيبُوهُ وَادْفَعُوا عَنْهُ الشَّرَّ، تَعْظِيمًا لِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَالتَّقْدِيرُ مَنِ اسْتَعَاذَ مِنْكُمْ مُتَوَسِّلًا بِاللَّهِ مُسْتَعْطِفًا بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ صِلَةَ اسْتَعَاذَ، أَيْ مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُ، بَلْ أَعِيذُوهُ وَادْفَعُوا عَنْهُ، فَوُضِعَ أَعِيذُوا مَوْضِعَ ادْفَعُوا وَلَا تَتَعَرَّضُوا مُبَالَغَةً " «وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ» " أَيْ تَعْظِيمٌ لِاسْمِ اللَّهِ وَشَفَقَةٌ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ " وَمَنْ دَعَاكُمْ " أَيْ إِلَى دَعْوَةٍ " فَأَجِيبُوهُ " أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ " «وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا» " أَيْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ إِحْسَانًا قَوْلِيًّا أَوْ فِعْلِيًّا " فَكَافِئُوهُ " مِنَ الْمُكَافَأَةِ أَيْ أَحْسِنُوا إِلَيْهِ مِثْلَ مَا أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ - وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 60 - 77] " فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ " أَيْ بِالْمَالِ، وَالْأَصْلُ تُكَافِئُونَ فَسَقَطَ النُّونُ بِلَا نَاصِبٍ وَجَازِمٍ إِمَّا تَخْفِيفًا أَوْ سَهْوًا مِنَ النَّاسِخِينَ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ عَلَى الْحِفْظِ مُعَوَّلٌ، وَنَظِيرُهُ: كَمَا تَكُونُو يُوَلَّ عَلَيْكُمْ، عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمَيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي بَكَرَةَ " فَادْعُوا لَهُ " أَيْ لِلْمُحْسِنِ يَعْنِي فَكَافِئُوهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ " حَتَّى تُرَوْا " بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ تَظُنُّوا وَبِفَتْحِهَا أَيْ تَعْلَمُوا أَوْ تَحْسَبُوا " أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ " أَيْ كَرِّرُوا الدُّعَاءَ حَتَّى تَظُنُّوا قَدْ أَدَّيْتُمْ حَقَّهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ " «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» "، قُلْتُ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أُسَامَةَ مَرْفُوعًا، قَالَ: فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَحَدٍ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَدَّى الْعِوَضَ، وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ كَثِيرًا، وَكَانَتْ عَادَةُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إِذَا دَعَا لَهَا السَّائِلُ تُجِيبُهُ بِمِثْلِ مَا يَدْعُو لَهَا ثُمَّ تُعْطِيهِ مِنَ الْمَالِ، فَقِيلَ لَهَا: تُعْطِينَ السَّائِلَ الْمَالَ وَتَدْعِينَ بِمِثْلِ مَا يَدْعُو لَكِ، فَقَالَتْ: لَوْ لَمْ أَدْعُ لَهُ لَكَانَ حَقُّهُ بِالدُّعَاءِ لِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّي عَلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ، فَأَدْعُو لَهُ بِمِثْلِ مَا يَدْعُو لِي حَتَّى أُكَافِئَ دُعَاءَهُ لِتَخْلُصَ لِيَ الصَّدَقَةُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

1944 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا الْجَنَّةُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1944 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ» ") أَيْ بِذَاتِهِ " إِلَّا الْجَنَّةُ " بِالرَّفْعِ أَيْ لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ أَنْ تُدْخِلَنَا جَنَّةَ النَّعِيمِ، وَلَا يُسْأَلُ رُوِيَ غَائِبًا نَفْيًا وَنَهْيًا وَمَجْهُولًا، وَرَفْعَ الْجَنَّةِ، وَنَهْيًا مُخَاطِبًا مَعْلُومًا مُفْرَدًا، وَنَصْبَ الْجَنَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا تَسْأَلُوا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا بِوَجْهِ اللَّهِ، مِثْلَ أَنْ تَقُولُوا: أَعْطِنِي شَيْئًا بِوَجْهِ اللَّهِ أَوْ بِاللَّهِ، فَإِنَّ اسْمَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُسْئَلَ بِهِ مَتَاعُ الدُّنْيَا، بَلِ اسْأَلُوا بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ لَا تَسْأَلُوا اللَّهَ مَتَاعَ الدُّنْيَا بَلْ رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ، وَالْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الذَّاتِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1945 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبَرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبَرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَخٍ بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنَّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ " فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ، وَبَنِي عَمِّهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1945 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ) أَيْ زَوْجُ أُمِّهِ (أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا) تَمْيِيزٌ (مِنْ نَخْلٍ) بَيَانٌ (وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ) بِالرَّفْعِ (إِلَيْهِ بَيْرَحَاءَ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا ضَبَطَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَجَاءَ فِي ضَبْطِهِ أَوْجُهٌ كَثِيرَةٌ جَمَعَهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ، فَقَالَ: يُرْوَى بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَبِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، فَهَذِهِ ثَمَانِ لُغَاتٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: بَرِيحَا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى التَّحْتَانِيَّةِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: بَارِيحَا مِثْلَهُ، لَكِنْ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ اهـ وَفِي الْمُغْرِبِ: الْبَرَاحُ الْمَكَانُ الَّذِي لَا سُتْرَةَ فِيهِ، مِنْ شَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كَأَنَّهَا زَالَتْ، وَبَيْرَحَا فَيْعَلَى مِنْهُ، وَهِيَ بُسْتَانٌ لِأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ بِالْمَدِينَةِ، وَعَنْ شَيْخِنَا أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ مُحَدِّثِي مَكَّةَ يَرْوُونَهَا بَيْرَحَا، وَحَاءُ اسْمُ رَجُلٍ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْبِئْرُ، وَالصَّوَابُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى، وَفَى الْمُقَدِّمَةِ اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَيُقَالُ بِلَفْظِ الْبِئْرِ وَالْإِضَافَةِ لِمِثْلِ حَرْفِ الْهِجَاءِ، فَعَلَى هَذَا فَحَرَكَاتُ الْإِعْرَابِ فِي الرَّاءِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ الصُّورِيُّ: هِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْيَاءِ فِي كُلِّ حَالٍ: فَخَلَصْنَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، وَحُكِيَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ فِيهَا فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بَيْرَحَا وَبَيْرَحَاءُ، بِالْمَدِّ فِيهِمَا وَبَيْرَحَا بِالْقَصْرِ، قِيلَ: فَيْعَلَا مِنَ الْبَرَاحِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الظَّاهِرَةُ اهـ فَتَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْمَنْقُولِ أَنَّ الْوَجْهَ الْمُعْتَمَدَ مَا ضَبَطْنَاهُ أَوَّلًا، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، ثُمَّ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِرَفْعِ أَحَبَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَالْخَبَرُ بَيْرَحَاءَ، وَنَصْبُهُ لَفْظِيٌّ أَوْ تَقْدِيرِيٌّ، وَفِي بَعْضِهَا بِنَصْبِ أَحَبَّ عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ وَبِئْرُحَاءُ اسْمٌ مُؤَخَّرٌ (وَكَانَتْ) أَيِ الْبُقْعَةُ أَوِ الْبِئْرُ (مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ) أَيْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُهَا) أَيِ الْبُقْعَةَ الَّتِي هِيَ الْبُسْتَانُ أَوْ بُسْتَانُ الْبِئْرِ (وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا) أَيْ فِي الْبُقْعَةِ أَوْ فِي الْبِئْرِ (طَيِّبٍ) أَيْ حُلْوٌ الْمَاءُ أَوْ حَلَالٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ (قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: 92] أَيِ الْجَنَّةَ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: التَّقْوَى، وَقِيلَ: الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: الْخَيْرُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] أَيْ مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِكُمْ إِلَيْكُمْ ( «قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَرْجُو بِرَّهَا» ) أَيْ خَيْرَهَا (وَذُخْرَهَا) أَيْ نَتِيجَتَهَا الْمُدَّخَرَةَ، وَفَائِدَتَهَا الْمُدَّخَرَةَ، يَعْنِي لَا أُرِيدُ ثَمَرَتَهَا الْعَاجِلَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْفَانِيَةَ، بَلْ أَطْلُبُ مَثُوبَتَهَا الْآجِلَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ الْبَاقِيَةَ (عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا) أَيِ اصْرِفْهَا (يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ) أَيْ فِي مَصْرِفٍ عَلَّمَكَ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَفِي الْمَعَالِمِ بِلَفْظِ حَيْثُ شِئْتَ ( «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَخٍ بَخٍ» ") بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا مَعَ التَّنْوِينِ، وَكَرَّرَ لِلْمُبَالَغَةِ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: هِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَجِّبُ مِنَ الشَّيْءِ، وَتُقَالُ عِنْدَ الْمَدْحِ وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ، فَإِنْ وُصِلَتْ خُفِضَتْ وَنُوِّنَتْ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ فِيهَا لُغَاتٌ: إِسْكَانُ الْخَاءِ وَكَسْرُهَا مُنَوَّنًا وَبِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَبِضَمِّهَا مُنَوَّنًا، وَبِتَشْدِيدِهَا مَضْمُومًا، وَمُنَوَّنًا، وَاخْتَارَ الْخَطَّابِيُّ إِذَا كُرِّرَ تَنْوِينَ الْأُولَى وَتَسْكِينَ الثَّانِيَةِ " ذَلِكَ " أَيْ مَا ذَكَرْتُهُ أَوِ التَّذْكِيرُ لِأَجْلِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلٌ، " مَالٌ رَابِحٌ " بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ ذِي رِبْحٍ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ، وَقِيلَ: فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَرْبُوحٌ، وَيُرْوَى بِالْيَاءِ أَيْ رَائِحٌ عَلَيْكَ نَفْعُهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُهُ بِالْيَاءِ يَعْنِي بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِلَّا فَلَا يُقْرَأُ إِلَّا بِالْهَمْزَةِ الْمُبْدَلِ عَنْهَا، كَقَائِلٍ وَبَائِعٍ، وَعَائِشَةَ، وَفِي الْمَعَالِمِ: «بَخٍ ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ» " وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا " أَيْ صَدَقَةً " فِي الْأَقْرَبِينَ " أَيْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ (قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ) أَيْ أَنَا بِأَمْرِكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ) يُحْتَمَلُ التَّخْصِيصُ وَالتَّفْسِيرُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ عَطِيَّةُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ الدَّرَجَةَ الْعَلِيَّةَ: حَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَسَّمَهُ بَيْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ " «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّهُ لَمْ أُعْلِنْهُ» ".

1946 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تُشْبِعَ كَبِدًا جَائِعًا» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1946 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تُشْبِعَ كَبِدًا جَائِعًا» ") قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَالنَّاطِقَ وَغَيْرَهُ اهـ وَتَقَدَّمَ الْمُسْتَثْنَى (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب صدقة المرأة من مال الزوج]

[بَابُ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1947 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابٌ) بِالسُّكُونِ وَالتَّنْوِينِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَابُ النَّفَقَةِ، وَفَى بَعْضِهَا بَابُ مَا تُنْفِقُهُ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1947 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ» ") أَيْ تَصَدَّقَتْ " مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ " نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ غَيْرَ مُسْرِفَةٍ فِي التَّصَدُّقِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى إِذْنِ الزَّوْجِ لَهَا بِذَلِكَ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً، وَقِيلَ: هَذَا جَارٍ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنَّ عَادَاتِهِمْ أَنْ يَأْذَنُوا لِزَوْجَاتِهِمْ وَخَدَمِهِمْ بِأَنْ يُضَيِّفُوا الْأَضْيَافَ، وَيُطْعِمُوا السَّائِلَ وَالْمِسْكِينَ وَالْجِيرَانَ، فَحَرَّضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ عَلَى هَذِهِ الْعَادَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْخَصْلَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ " «كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ» " أَيْ بِسَبَبِ إِنْفَاقِهَا. " وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ " أَيْ بِكَسْبِهِ وَتَحْصِيلِهِ " وَلِلْخَازِنِ " أَيِ الَّذِي كَانَتِ النَّفَقَةُ فِي يَدِهِ " مِثْلُ ذَلِكَ " أَيِ الْأَجْرِ " وَلَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا " أَيْ مِنَ النَّقْصِ أَوْ مِنَ الْأَجْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنْ طَعَامٍ أُعِدَّ لِلْأَكْلِ وَجُعِلَتْ مُتَصَرِّفَةً وَجُعِلَتْ لَهُ خَازِنًا، فَإِذَا أَنْفَقَتْ مِنْهُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يَعُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا، وَأَمَّا جَوَازُ التَّصَدُّقِ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ صَرِيحًا، نَعَمِ، الْحَدِيثُ الْآتِي دَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّصَدُّقِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَكَذَا الْخَادِمُ، وَالْحَدِيثُ الدَّالُّ عَلَى الْجَوَازِ خَرَجَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، يُطْلِقُونَ الْأَمْرَ لِلْأَهْلِ وَالْخَادِمِ فِي التَّصَدُّقِ وَالْإِنْفَاقِ عِنْدَ حُضُورِ السَّائِلِ، وَنُزُولِ الضَّيْفِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1948 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1948 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ» ") أَيْ تَصَدَّقَتْ " مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا " أَيْ مِنْ مَالِهِ " مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ " أَيْ مَعَ عِلْمِهَا بِرِضَى الزَّوْجِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى النَّوْعِ الَّذِي سُومِحَتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ " فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ " قِيلَ: هَذَا مُفَسَّرٌ بِمَا إِذَا أَخَذَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهَا، وَتَصَدَّقَتْ بِهِ، فَعَلَيْهَا غُرْمُ مَا أَخَذَتْ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ وَرَضِيَ بِذَلِكَ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ بِمَا تَصَدَّقَتْ مِنْ نَفَقَتِهَا، وَنِصْفُ أَجْرِهِ لَهُ بِمَا تَصَدَّقَتْ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهَا ; لِأَنَّ الْأَكْثَرَ حَقُّ الزَّوْجِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1949 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا، طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1949 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ» ) أَيْ مِنَ الصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا " كَامِلًا " حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ " مُوَفَّرًا " بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ تَامًّا، فَهُوَ تَأْكِيدٌ، وَبِكَسْرِهَا حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ مُكَمِّلًا عَطَاءَهُ " طَيِّبَةً " أَيْ رَاضِيَةً غَيْرَ شَحِيحَةٍ " بِهِ " أَيْ بِالْعَطَاءِ " نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ " عَطْفٌ عَلَى يُعْطِي " إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ " فِيهِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ: شَرْطُ الْإِذْنِ لِقَوْلِهِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَعَدَمُ نُقْصَانِ مَا أُمِرَ بِهِ، لِقَوْلِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا، وَطِيبُ النَّفْسِ بِالتَّصَدُّقِ إِذْ بَعْضُ الْخُزَّانِ وَالْخُدَّامِ لَا يَرْضَوْنَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ التَّصَدُّقِ، وَإِعْطَاءُ مَنْ أُمِرَ لَهُ بِهِ إِلَى مِسْكِينٍ آخَرَ، فَالْخَازِنُ مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهُ صِفَاتٌ لَهُ، وَخَبَرُهُ " أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ " بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ أَيِ الْمَالِكُ وَالْخَازِنُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَدْ صَحَّ رِوَايَةُ الْجَمْعِ أَيْضًا كَمَا فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ضُبِطَ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى التَّثْنِيَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَجُوزُ الْكَسْرُ عَلَى الْجَمْعِ أَيْ هُوَ مُتَصَدِّقٌ مِنَ الْمُتَصَدِّقِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1950 - «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1950 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ رَجُلًا) قِيلَ: هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ (قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أُمِّي) قَالَ مِيرَكُ: هِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ مَسْعُودِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (افْتُلِتَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الِافْتِلَاتِ وَقَوْلُهُ (نَفْسَهَا) بِالنَّصْبِ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفِعْلِ، وَالْفَلْتَةُ: الْبَغْتَةُ، وَالْأَصْلُ أَفْلَتَهَا اللَّهُ نَفْسَهَا أَيِ اخْتَلَسَهَا نَفْسَهَا، مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، ثُمَّ تُرِكَ ذِكْرُ الْفَاعِلِ وَبُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، كَمَا تَقُولُ: اخْتَلَسْتُ الشَّيْءَ وَاسْتَلَبْتُهُ، وَقِيلَ: أُخِذَتْ نَفْسُهَا فَلْتَةً أَيْ مَاتَتْ فَجْأَةً، وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ (وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ) أَيْ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الْكَلَامِ (تَصَدَّقَتْ) أَيْ مِنْ مَالِهَا بِشَيْءٍ أَوْ أَوْصَتْ بِتَصَدُّقِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا (فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ ") قِيلَ: لَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ إِلَّا الصَّدَقَةُ وَالدُّعَاءُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1951 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حُجَّةِ الْوَدَاعِ: " «لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا طَعَامٌ؟ ، قَالَ: " ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1951 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَةِ عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتُكْسَرُ " لَا تُنْفِقُ " نَفْيٌ وَقِيلَ: نَهْيٌ، فِي الْمَصَابِيحِ: أَلَا لَا تُنْفِقُ " امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا " أَيْ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ: " ذَلِكَ ") أَيِ الطَّعَامُ " أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا " أَيْ أَنْفُسِنَا، وَفِي نُسْخَةٍ أَمْوَالِ النَّاسِ، يَعْنِي فَإِذَا لَمْ تَجُزِ الصَّدَقَةُ بِمَا هُوَ أَقَلُّ قَدْرًا مِنَ الطَّعَامِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ، فَكَيْفَ تَجُوزُ بِالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1952 - وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: «لَمَّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءُ، قَامَتِ امْرَأَةٌ جَلِيلَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نِسَاءِ مُضَرَ، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَأَزْوَاجِنَا فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟ قَالَ: " الرَّطْبُ تَأْكُلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1952 - (وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: لَمَّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءُ قَامَتِ امْرَأَةٌ جَلِيلَةٌ) أَيْ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ أَوْ طَوِيلَةُ الْقَامَةِ (كَأَنَّهَا مِنْ نِسَاءِ مُضَرَ) وَهِيَ قَبِيلَةٌ (فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا كَلٌّ) بِفَتْحِ الْكَافِ أَيْ ثِقَلٌ وَعِيَالٌ (عَلَى آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَأَزْوَاجِنَا فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) أَيْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِمْ (قَالَ: " الرَّطْبُ ") بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ مِنَ الْمَرَقِ وَاللَّبَنِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْبُقُولِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَعَ فِيهَا الْمُسَامَحَةُ بِتَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ، بِخِلَافِ الْيَابِسِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ " تَأْكُلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ " أَيْ تُرْسِلْنَهُ هَدِيَّةً (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1953 - عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: «أَمَرَنِي مَوْلَايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلَايَ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: " لِمَ ضَرَبْتَهُ؟ " فَقَالَ: يُعْطِي طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، فَقَالَ: " الْأَجْرُ بَيْنَكُمَا "، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1953 - (عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ) أَيْ مَمْلُوكِهِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ، وَقِيلَ: كَانَ لَا يَأْكُلُ مَا ذُبِحَ عَلَى الْأَصْنَامِ، وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ وَجْهَ تَسْمِيَتِهِ أَنَّهُ آبِي اللَّحْمِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَوْلَاهُ إِلَى الْمِسْكِينِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُهُ (قَالَ: أَمَرَنِي مَوْلَايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ الْقَدِّ وَهُوَ الشَّقُّ طُولًا ( «فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلَايَ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: " لِمَ ضَرَبْتَهُ؟ " قَالَ: يُعْطِي طَعَامِي مِنْ غَيْرِ أَنْ آمُرَهُ» ) أَيْ بِغَيْرِ إِذْنِي إِيَّاهُ (فَقَالَ: " الْأَجْرُ بَيْنَكُمَا ") أَيْ لَوْ أَرَدْتَ أَوْ رَضِيتَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يُرِدْ بِهِ إِطْلَاقَ يَدِ الْعَبْدِ، بَلْ كَرِهَ صَنِيعَ مَوْلَاهُ فِي ضَرْبِهِ عَلَى أَمْرٍ تَبَيَّنَ رُشْدُهُ فِيهِ، فَحَثَّ السَّيِّدَ عَلَى اغْتِنَامِ الْأَجْرِ، وَالصَّفْحِ عَنْهُ، فَهَذَا تَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ لِآبِي اللَّحْمِ لَا تَقْرِيرٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ» ؟) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (بِشَيْءٍ) أَيْ تَافِهٍ أَوْ مَأْذُونٍ فِيهِ عَادَةً (قَالَ: " «نَعَمْ وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

[باب من لا يعود في الصدقة]

[بَابُ مَنْ لَا يَعُودُ فِي الصَّدَقَةِ]

(بَابُ مَنْ لَا يَعُودُ فِي الصَّدَقَةِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1954 - «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَا تَشْتَرِهِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ مَنْ لَا يَعُودُ فِي الصَّدَقَةِ) أَيْ لَا حَقِيقَةً وَلَا صُورَةً. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1954 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: حَمَلْتُ) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ أَيْ أَرْكَبْتُ شَخْصًا (عَلَى فَرَسٍ) أَيْ لِلْغَزْوِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ جَعَلْتُ فَرَسًا حُمُولَةً مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُمُولَةٌ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، وَتَصَدَّقْتُ بِهَا عَلَيْهِ (فَأَضَاعَهُ) أَيِ الْفَرَسَ (الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ) يَعْنِي أَسَاءَ سِيَاسَتَهُ، وَالْقِيَامَ بِتَرْبِيَتِهِ، وَعَلْفَهُ حَتَّى صَارَ كَالشَّيْءِ الضَّائِعِ الْهَالِكِ (فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ) أَيِ الْفَرَسَ مِنْهُ (وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ، وَهُوَ إِمَّا لِتَغَيُّرِ الْفَرَسِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَقِيَهُ رَخِيصًا أَوْ لِكَوْنِي مُنْعِمًا عَلَيْهِ (فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَا تَشْتَرِهِ ") بَهَاءِ الضَّمِيرِ أَوِ السَّكْتِ، وَهُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ " وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ " أَيْ صُورَةً " وَإِنْ أَعْطَاكَهُ " وَصْلِيَّةٌ " بِدِرْهَمٍ " الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَشْتَرِهِ، أَوْ بِقَوْلِهِ أَعْطَاكَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ شِرَاءَ الْمُتَصَدِّقِ صَدَقَتَهُ حَرَامٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لَكَوْنِ الْقُبْحِ فِيهِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ رُبَّمَا يُسَامِحُ الْمُتَصَدِّقَ فِي الثَّمَنِ بِسَبَبِ تَقَدُّمِ إِحْسَانِهِ فَيَكُونُ كَالْعَائِدِ فِي صَدَقَتِهِ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الَّذِي سُومِحَ " «فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» " قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَنْفِيرٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنِ الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْمُرُوءَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ " «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ» " أَيْ وَلَوْ فِي الصُّورَةِ " «فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ» " أَيْ حَقِيقَةً (" «كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي الْمَعَالِمِ لِلْبَغَوِيِّ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ فَمَا كَانَ شَيْءٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْ فُلَانَةَ هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَقَالَ: لَوْ أَنِّي لَا أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ لِلَّهِ لَنَكَحْتُهَا.

1955 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، قَالَ: " وَجَبَ أَجَرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: " صُومِي عَنْهَا " قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1955 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ) أَيْ جَارِيَةٌ (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَصَدَّقْتُ) أَيْ قَبْلَ ذَلِكَ (عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ) أَيْ بِتَمْلِيكِهَا لَهَا هِبَةً أَوْ صَدَقَةً (وَإِنَّهَا) أَيْ أُمِّي (مَاتَتْ) فَهَلْ آخُذُهَا وَتَعُودُ فِي مِلْكِي أَمْ لَا؟ " قَالَ: وَجَبَ أَجَرُكِ " أَيْ بِالصِّلَةِ " وَرَدَّهَا " أَيِ الْجَارِيَةَ " عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ " النِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكِ بِالْمِيرَاثِ، وَصَارَتِ الْجَارِيَةُ مِلْكًا لَكِ بِالْإِرْثِ وَعَادَتْ إِلَيْكِ بِالْوَجْهِ الْحَلَالِ، وَالْمَعْنَى أَنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَوْدِ فِي الصَّدَقَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَلَى قَرِيبِهِ، ثُمَّ وَرِثَهَا حَلَّتْ لَهُ، وَقِيلَ: يَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى فَقِيرٍ لِأَنَّهَا صَارَتْ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - اهـ وَهَذَا تَعْلِيلٌ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ فَلَا يُعْقَلُ (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ) أَيْ قَضَاؤُهُ " أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ " حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا " قَالَ: صُومِي عَنْهَا " أَيْ بِالْكَفَّارَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَّزَ أَحْمَدُ أَنْ يَصُومَ الْوَلِيُّ عَنِ الْمَيِّتِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ بِهَذَا، وَلَمْ يُجَوِّزْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اهـ بَلْ يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِكُلِّ يَوْمٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقِيلَ: لِصَلَوَاتِ كُلِّ يَوْمٍ (قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا ") أَيْ سَوَاءٌ وَجَبَ عَلَيْهَا أَمْ أَوْصَتْ بِهِ أَمْ لَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ عَنِ الْمَيِّتِ بِالِاتِّفَاقِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

[كتاب الصوم]

[كِتَابُ الصَّوْمِ]

كِتَابُ الصَّوْمِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1956 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " «فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «فُتِحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الصَّوْمِ هُوَ لُغَةً: الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] أَيْ إِمْسَاكًا عَنِ الْكَلَامِ، وَشَرْعًا: إِمْسَاكٌ عَنِ الْجُوعِ وَعَنْ إِدْخَالِ شَيْءٍ بَطْنًا لَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الْغُرُوبِ عَنْ نِيَّةٍ، كَذَا عَرَّفَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، شَرَعَهُ - سُبْحَانَهُ - لِفَوَائِدَ، أَعْظَمُهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا لِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَاشِئٌ عَنِ الْآخَرِ؛ سُكُونُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَكَسْرُ شَهْوَتِهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ، مِنَ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْفَرْجِ، فَإِنَّ بِهِ تَضْعُفُ حَرَكَتُهَا فِي مَحْسُوسَاتِهَا، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا جَاعَتِ النَّفْسُ شَبِعَتْ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا شَبِعَتْ جَاعَتْ كُلُّهَا، وَالنَّاشِئُ عَنْ هَذَا صَفَاءُ الْقَلْبِ عَنِ الْكَدَرِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِكُدُورَتِهِ فُضُولُ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ، وَبَاقِيهِمَا، وَبِصَفَائِهِ تُنَاطُ الْمَصَالِحُ وَالدَّرَجَاتُ، وَمِنْهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي عُمُومِ السَّاعَاتِ، فَتُسَارِعُ إِلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ. وَالرَّحْمَةُ حَقِيقَتُهَا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ نَوْعُ أَلَمٍ بَاطِنٍ فَيُسَارِعُ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فَيَنَالُ بِذَلِكَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ، وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا، وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ بِشْرٍ الْحَافِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعَدُ وَثَوْبُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ: فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ تَنْزِعُ الثَّوْبَ: أَوْ مَعْنَاهُ، فَقَالَ: يَا أَخِي، الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ وَلَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ، كَمَا يَتَحَمَّلُونَ اهـ وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ عِنْدَ كُلِّ أَكْلَةٍ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِحَقِّ الْجَائِعِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا كَانَ يَشْبَعُ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَةِ الْقَحْطِ مَعَ كَثْرَةِ الْمَأْكُولِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، لِئَلَّا يَنْسَى أَهْلَ الْجُوعِ وَالْفَاقَةِ، وَلِيَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي الْخَاصَّةِ وَالْحَاجَةِ. ثُمَّ كَانَتْ فَرْضِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ بَعْدَمَا صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ بِشَهْرٍ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنِ الْهِجْرَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ، وَقِيلَ: لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَهُ صَوْمٌ، وَقِيلَ: كَانَ ثُمَّ نُسِخَ، فَقِيلَ: عَاشُورَاءُ، وَقِيلَ: الْأَيَّامُ الْبِيضُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ اسْتَنْكَرُوهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَخُيِّرُوا بَيْنَ الصَّوْمِ وَإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ كَمَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِمَا فِي آخِرِهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَلَمَّا فُرِضَ كَانَ يُبَاحُ بَعْدَ الْغُرُوبِ تَعَاطِي الْمُفْطِرِ مَا لَمْ يَحْصُلْ نَوْمٌ أَوْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَإِلَّا حُرِّمَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَأُبِيحَ تَعَاطِيهِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1956 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ» ") أَيْ وَقْتُ شَهْرِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمْضَاءِ، فِي الْقَامُوسِ: رَمِضَ يَوْمُنَا كَفَرِحَ: اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَقَدَمُهُ احْتَرَقَتْ مِنَ الرَّمْضَاءِ لِلْأَرْضِ الشَّدِيدَةِ الْحَرَارَةِ، وَسُمِّيَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، فَرَافَقَ زَمَنَ الْحَرِّ، أَوْ مِنْ رَمِضَ الصَّائِمُ: اشْتَدَّ حَرُّ جَوْفِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحْرِقُ الذُّنُوبَ، وَرَمَضَانُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَغَيْرُ مُشْتَقٍّ، أَوْ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْغَافِرِ، أَيْ يَمْحُو الذُّنُوبَ وَيَمْحَقُهَا " فُتِحَتْ " بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ أَكْثَرُ كَمَا فِي التَّنْزِيلِ، وَبِالتَّشْدِيدِ لِتَكْثِيرِ الْمَفْعُولِ " أَبْوَابُ السَّمَاءِ " قِيلَ: فَتْحُهَا كِنَايَةٌ عَنْ تَوَاتُرِ نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَتَوَالِي طُلُوعِ الطَّاعَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبْوَابِ الرَّحْمَةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِمَنْ مَاتَ فِيهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا لَا يَفْسُدُ عَلَيْهِ، (وَفِي رِوَايَةٍ: " «فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ» ") ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إِلَى دُخُولِهَا " وَغُلِّقَتْ " بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ " أَبْوَابُ جَهَنَّمَ " وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ مَا يَدْخُلُ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الصَّائِمَ يَتَنَزَّهُ عَنِ الْكَبَائِرِ، وَيُغْفَرُ لَهُ بِبَرَكَةِ الصِّيَامِ الصَّغَائِرُ، وَقَدْ وَرَدَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَتْحُ أَبْوَابِ السَّمَاءِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْزِيلِ الرَّحْمَةِ، وَإِزَالَةِ الْغَلْقِ عَنْ مَصَاعِدِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ تَارَةً بِبَذْلِ التَّوْفِيقِ، وَأُخْرَى بِحُسْنِ الْقَوْلِ، وَغَلْقُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَزُّهِ أَنْفُسِ الصَّائِمِ عَنْ رِجْسِ الْفَوَاحِشِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْبَوَاعِثِ عَلَى الْمَعَاصِي بِقَمْعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَحْمِلُوا عَلَى ظَاهِرِ

الْمَعْنَى؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمَنِّ عَلَى الصُّوَّامِ وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُدِبُوا إِلَيْهِ، حَتَّى صَارَ الْجِنَانُ فِي هَذَا الشَّهْرِ كَأَنَّ أَبْوَابَهَا فُتِحَتْ، وَنَعِيمَهَا أُبِيحَتْ، وَالنِّيرَانَ كَأَنَّ أَبَوَابَهَا غُلِّقَتْ وَأَنْكَالَهَا عُطِّلَتْ، وَإِذَا ذَهَبْنَا فِيهِ إِلَى الظَّاهِرِ لَمْ يَقَعِ الْمَنُّ مَوْقِعَهُ، وَيَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُيَسَّرٍ لِدُخُولِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ، وَجَوَّزَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَجْهَيْنِ فِي فَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ، وَتَغْلِيقِ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، أَعْنِي الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةُ الْفَتْحِ تَوْفِيقَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى اسْتِحْمَادِ فِعْلِ الصَّائِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَيْضًا إِذَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ الْمُعْتَقِدُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ يَزِيدُ فِي نَشَاطٍ وَيَتَلَقَّاهُ بِأَرْيَحِيَّتِهِ، وَيَنْصُرُهُ حَدِيثُ عُمَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ: «إِنَّ الْجَنَّةَ تَزَخْرَفَتْ لِرَمَضَانَ» . الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ " «وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» " أَيْ قُيِّدَتْ بِالسَّلَاسِلِ مَرَدَتُهُمْ، وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ تَسْوِيلِ النُّفُوسِ، وَاسْتِعْصَائِهَا عَنْ قَبُولِ وَسَاوِسِهِمْ، إِذْ بِالصَّوْمِ تَنْكَسِرُ الْقُوَّةُ الْحَيَوَانِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْغَضَبِ وَالشَّهَوَاتِ الدَّاعِيَيْنِ إِلَى أَنْوَاعِ السَّيِّئَاتِ، وَتَنْبَعِثُ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَائِلَةُ إِلَى الطَّاعَاتِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ أَنَّ رَمَضَانَ أَقَلُّ الشُّهُورِ مَعْصِيَةً، وَأَكْثَرُهَا عِبَادَةً (وَفِي رِوَايَةٍ: " «فُتِحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» ") أَيْ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ إِلَى آخِرِهِ؛ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: إِلَّا رِوَايَةَ " أَبْوَابُ السَّمَاءِ " فَإِنَّهَا مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، وَإِلَّا رِوَايَةَ " أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ " فَإِنَّهَا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَالرِّوَايَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ; فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَرَوَاهَا النَّسَائِيُّ اهـ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ: الْأَصْلُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَالرِّوَايَتَانِ الْأُخْرَيَانِ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، تَمَّ كَلَامُهُ، فَكَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَجْعَلَ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَصْلًا، ثُمَّ يَقُولَ: وَفِي رِوَايَةٍ: فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فُتِحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ يَذْكُرَ: «وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» .

1957 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، مِنْهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1957 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ كَانَ اسْمُهُ حَزْنًا، فَسَمَّاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَهْلًا، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَهُمَا صَحَابِيَّانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ» ") أَيْ طَبَقَاتٍ عَلَى طِبْقِ عِبَادَاتٍ، وَيَمْنَعُ الْجَارُّ حَمْلَ الْبَابِ عَلَى بَابِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ فِي سُورِ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَالِ الصَّادِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُ - تَعَالَى - مَعْلُومٌ " مِنْهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ " إِمَّا لِأَنَّهُ بِنَفْسِهِ رَيَّانٌ لِكَثْرَةِ الْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ إِلَيْهِ وَالْأَزْهَارِ وَالْأَثْمَارِ الطَّرِيَّةِ لَدَيْهِ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ يَزُولُ عَنْهُ عَطَشُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَدُومُ لَهُ الطَّرَاوَةُ وَالنَّظَافَةُ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ، قَالَ الطَّيِّبِيُّ الزَّرْكَشِيُّ: الرَّيَّانُ: فَعْلَانُ كَثِيرُ الرِّيِّ، نَقِيضُ الْعَطَشِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الصَّائِمِينَ عَلَى عَطَشِهِمْ وَجُوعِهِمْ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الرِّيِّ عَنِ الشِّبَعِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَشَقُّ مَا فِيهِ عَطَشُ الْكَبِدِ، لَا سِيَّمَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، إِذْ كَثِيرًا مَا يُصْبَرُ عَلَى الْجُوعِ دُونَ الْعَطَشِ، ثُمَّ قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُقْتَصِرَ عَلَى شَهْرِ رَمَضَانَ، بَلْ مُلَازَمَةُ النَّوَافِلِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَثْرَتُهَا (لَا يَدْخُلُهُ) أَيْ لَا يَدْخُلُ بَابَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ، أَوْ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ (إِلَّا الصَّائِمُونَ) وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; فَإِنَّهُ بِعَدَمِ دُخُولِ تِلْكَ الطَّبَقَةِ يَكُونُ نَاقِصَ الْمَرْتَبَةِ بِخِلَافِ الْمَعْنَى الثَّانِي فَإِنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ مِنْ بَابٍ آخَرَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1958 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1958 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ» ") أَيْ أَيَّامَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: رَمَضَانُ بِدُونِ شَهْرٍ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِخَبَرِ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَهُوَ شَاذٌّ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الضَّعِيفَ لَا يُثْبِتُ اسْمَ اللَّهِ " إِيمَانًا " نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاعْتِقَادُ بِفَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: تَصْدِيقًا لِثَوَابِهِ، وَقِيلَ: نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ مُصَدِّقًا لَهُ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَيْ صَوْمَ إِيمَانٍ أَوْ صَوْمَ مُؤْمِنٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ " وَاحْتِسَابًا " أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ مِنْهُ - تَعَالَى - أَوْ إِخْلَاصًا أَيْ بَاعِثُهُ عَلَى الصَّوْمِ مَا ذُكِرَ، لَا الْخَوْفُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْهُمْ، وَلَا قَصْدُ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى احْتِسَابًا اعْتِدَادُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَأْمُورِيَّةِ مِنَ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَعَنِ النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِهِ، طَيِّبَةً نَفْسُهُ بِهِ، غَيْرَ كَارِهَةٍ لَهُ، وَلَا مُسْتَثْقِلَةٍ لِصِيَامِهِ، وَلَا مُسْتَطِيلَةٍ لِأَيَّامِهِ " غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "

أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ وَيُرْجَى لَهُ عَفْوُ الْكَبَائِرِ " «وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ» " أَيْ لَيَالِيَهُ أَوْ مُعْظَمَهَا، أَوْ بَعْضَ كُلِّ لَيْلَةٍ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَغَيْرِهَا، مِنَ التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: غَيْرَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، تَقْدِيرًا، أَيْ لِمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهَا تَحْرِيرًا، أَوْ مَعْنَاهُ أَدَّى التَّرَاوِيحَ فِيهَا " «إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» " سَوَاءٌ عَلِمَ بِهَا أَوْ لَا " إِيمَانًا " أَيْ بِوُجُودِهَا " وَاحْتِسَابًا " لِثَوَابِهَا عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - " غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَنَّ الْمُكَفِّرَاتِ إِنْ صَادَفَتِ السَّيِّئَاتِ تَمْحُوهَا إِذَا كَانَتْ صَغَائِرَ، وَتُخَفِّفُهَا إِذَا كَانَتْ كَبَائِرَ، وَإِلَّا تَكُونُ مُوجِبَةً لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّاتِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: رَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ أَمْرًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْغُفْرَانُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ نَتِيجَةُ الْفُتُوحَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَمُسْتَتْبَعٌ لِلْعَوَاطِفِ الرَّبَّانِيَّةِ قَالَ - تَعَالَى - {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 1 - 2] الْآيَةَ، وَفَى أَصْلِ الْمَالِكِيِّ: مَنْ يَقُمْ، قَالَ: وَقَعَ الشَّرْطُ مُضَارِعًا وَالْجَوَابُ مَاضِيًا لَفْظًا لَا مَعْنًى، وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ أَسِيفٌ، مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ رَقَّ، وَالنَّحْوِيُّونَ يَسْتَضْعِفُونَ ذَلِكَ وَيَرَاهُ بَعْضُهُمْ مَخْصُوصًا بِالضَّرُورَةِ، وَالصَّحِيحُ الْحُكْمُ بِجَوَازِهِ مُطْلَقًا، لِثُبُوتِهِ فِي كَلَامِ أَفْصَحِ الْفُصَحَاءِ، وَكَثْرَةِ صُدُورِهِ عَنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ، أَقُولُ: نَحْوُهُ فِي التَّنْزِيلِ {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16] وَ {مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] وَ {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْأَمَالِي: جَوَابُ الشَّرْطِ " فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا " مِنْ حَيْثُ الْإِخْبَارُ، كَقَوْلِهِمْ: إِنْ تُكْرِمْنِي الْيَوْمَ فَقَدْ أَكْرَمْتُكَ أَمْسِ، فَالْإِكْرَامُ الْمَذْكُورُ شَرْطٌ وَسَبَبٌ لِلْإِخْبَارِ بِالْإِكْرَامِ الْوَاقِعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، لَا نَفْسُ الْإِكْرَامِ، فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْجَوَابُ فِي الْآيَةِ أَيْ: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ يَكُنْ سَبَبًا لِذِكْرِ هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا، وَصَاحِبُ الْمِفْتَاحِ أَوَّلَ الْمِثَالَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَعْتَدَّ بِإِكْرَامِكَ لِيَ الْآنَ فَأَعْتَدَّ بِإِكْرَامِي إِيَّاكَ أَمْسِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ: مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلْيَحْتَسِبْ قِيَامَهُ، وَلِيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِغُفْرَانِهِ قَبْلُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1959 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ " قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - " إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ، فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1959 - (وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ ") أَيْ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ لِابْنِ آدَمَ " يُضَاعَفُ " أَيْ ثَوَابُهُ فَضْلًا مِنْهُ - تَعَالَى - " الْحَسَنَةُ " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ جِنْسُ الْحَسَنَاتِ الشَّامِلُ لِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ مُضَاعَفٌ وَمُقَابَلٌ " بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا " لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَهَذَا أَقَلُّ الْمُضَاعَفَةِ، وَإِلَّا فَقَدَ يَزْدَادُ " إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ " بِكَسْرِ الضَّادِ أَيْ مِثْلٍ، بَلْ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا فِي التَّأْوِيلِ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَقَوْلِهِ {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] وَقَالَ بَعْضُهُمُ: التَّقْدِيرُ حَسَنَتُهُ، وَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْعَائِدِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ كُلُّ، أَوِ الْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْحَسَنَةُ مِنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِـ " كُلُّ عَمَلِ " الْحَسَنَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَلِذَلِكَ وَضَعَ الْحَسَنَةَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ، أَيِ الْحَسَنَاتُ يُضَاعَفُ أَجْرُهَا مِنْ عَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ " قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: إِلَّا الصَّوْمَ " فَإِنَّ ثَوَابَهُ لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ، وَلَا يُحْصِي حَصْرَهُ إِلَّا اللَّهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى خُصُوصِيَّاتٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ يَتَوَلَّى جَزَاءَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَكِلُهُ إِلَى مَلَائِكَةِ قُدُسِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُسْتَثْنًى عَنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْكَلَامِ حِكَايَةً إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرَّحْ بِذَلِكَ فِي صَدْرِهِ، بَلْ فِي وَسَطِهِ اهـ. وَهُوَ أَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَفَادَ الْجُمْلَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَتَاهُ الْوَحْيُ أَوِ الْإِلْهَامُ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالِاسْتِثْنَاءِ فَحَكَاهُ بِأَلْفَاظِهِ الْمُنَزَّلَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاخْتُصَّ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ سِرٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَيَكُونُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - " فَإِنَّهُ لِي " لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا صُورَةَ لَهُ فِي الْوُجُودِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، إِذْ كَثِيرًا مَا يُوجَدُ الْإِمْسَاكُ الْمُجَرَّدُ عَنِ الصَّوْمِ، فَلَا مُقَوِّمَ لَهُ إِلَّا النِّيَّةُ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ - تَعَالَى، وَلَوْ أَظْهَرَ بِقَوْلِهِ: أَنَا صَائِمٌ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَتَصْحِيحِ نِيَّتِهِ " وَأَنَا أَجْزِي بِهِ " أَيْ وَأَنَا الْعَالِمُ بِجَزَائِهِ، وَإِلَيَّ أَمْرُهُ، وَلَا أَكِلُهُ إِلَى غَيْرِي، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ كَسْرَ النَّفْسِ وَتَعْرِيضَ الْبَدَنِ لِلنُّقْصَانِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ، وَالْعَطَشِ، وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى صَرْفِ الْمَالِ وَاشْتِغَالِ الْبَدَنِ بِمَا فِيهِ رِضَاهُ، فَبَيْنَهُ

وَبَيْنَهَا أَمَدٌ بَعِيدٌ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - " يَدَعُ شَهْوَتَهُ " أَيْ يَتْرُكُ مَا اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ " وَطَعَامَهُ " تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوِ الشَّهْوَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَالطَّعَامُ عِبَارَةٌ عَنْ سَائِرِ الْمُفْطِرَاتِ، وَقَدَّمَ الْجِمَاعَ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ فَإِنَّهُ أَقْبَحُ مُفْسِدَاتِهِ (مِنْ أَجْلِي) أَيْ مِنْ جِهَةِ أَمْرِي وَقَصْدِ رِضَائِي، وَأَجْرِي، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الصَّوْمِ، وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّوْمَ لَا رِيَاءَ فِيهِ أَصْلًا ; لِأَنَّ غَايَةَ مَا يَقُولُهُ الْمُرَائِي: أَنَا صَائِمٌ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ رِيَاءً فِي أَصْلِ الصَّوْمِ، إِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ بِهِ الرِّيَاءُ الْإِخْبَارُ عَنِ الصَّوْمِ لَا غَيْرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَوْلُهُ " فَإِنَّهُ لِي " أَيْ لَمْ يُشَارِكْنِي فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا عُبِدَ بِهِ غَيْرِي، وَهَذَا لِأَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - قَدْ عَبَدَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ آلِهَتَهُمْ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ عَبَدَتْ آلِهَتَهَا بِالصَّوْمِ، وَلَا تَقَرَّبَتْ بِهِ إِلَيْهَا فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ اهـ وَصَوْمُ الْمُسْتَخْدِمِينَ لِنَحْوِ الْجِنِّ أَوِ النُّجُومِ لَيْسَ لِذَوَاتِهِمْ بَلْ لِيَتَخَلَّوْا عَنِ الْكُدُورَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ حَتَّى يَقْدِرُوا عَلَى مُلَاقَاةِ الصُّوَرِ الرُّوحَانِيَّةِ " «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ» " أَيْ مَرَّتَانِ مِنَ الْفَرَحِ عَظِيمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى فِي الْآخِرَةِ " «فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ» " أَيْ إِفْطَارِهِ بِالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْمَأْمُورِ، أَوْ بِوِجْدَانِ التَّوْفِيقِ لِإِتْمَامِ الصَّوْمِ، أَوْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، أَوْ بِمَا يَرْجُوهُ مِنْ حُصُولِ الثَّوَابِ، وَقَدْ وَرَدَ: " «ذَهَبَ الظَّمَأُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ» "، أَوْ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ «لِلصَّائِمِ عِنْدَ إِفْطَارِهِ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً» " «وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» " أَيْ بِنَيْلِ الْجَزَاءِ أَوْ حُصُولِ الثَّنَاءِ أَوِ الْفَوْزِ بِاللِّقَاءِ " «وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ» " بِفَتْحِ لَامِ الِابْتِدَاءِ تَأْكِيدًا، وَبِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ خَلُفَ فَمُهُ إِذَا تَغَيَّرَ رَائِحَةُ فَمِهِ، خُلُوفًا بِالضَّمِّ لَا غَيْرُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ الْخَاءَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ خَطَأٌ، أَيْ مَا يُخَلَّفُ بَعْدَ الطَّعَامِ فِي فَمِ الصَّائِمِ مِنْ رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ بِخِلَافِ الْمُعْتَادِ " أَطْيَبُ " أَيْ أَفْضَلُ وَأَرْضَى وَأَحَبُّ " عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ " عِنْدَكُمْ لِأَنَّ رَائِحَةَ فَمِ الصَّائِمِ مِنْ أَثَرِ الصِّيَامِ وَهُوَ عِبَادَةٌ يَجْزِي بِهَا اللَّهُ - تَعَالَى - بِنَفَسِهِ صَاحِبَهَا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: فُضِّلَ مَا يُنْكَرُ مِنَ الصِّيَامِ عَلَى أَطْيَبِ مَا يُسْتَلَذُّ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ مَا فَوْقَهُ مِنْ آثَارِ الصَّوْمِ وَنَتَائِجِهِ اهـ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ عَدَمُ إِزَالَةِ الْخُلُوفِ بِالسِّوَاكِ وَغَيْرِهِ، كَمَا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ بَعْدَ الزَّوَالِ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّ نَظِيرَهُ قَوْلُ الْوَالِدَةِ: لَبَوْلُ وَلَدِي أَطْيَبُ مِنْ مَاءِ الْوَرْدِ عِنْدِي، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ غَسْلِ الْبَوْلِ، فَكَذَا هَذَا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي أَثْنَاءِ بَابِ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ " «وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ» " بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ وِقَايَةٌ كَالْقَوْسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ حِجَابٌ وَحِصْنٌ لِلصَّائِمِ مِنَ الْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا وَمِنَ النَّارِ فِي الْعُقْبَى " وَإِذَا " وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِذَا أَيْ إِذَا عَرَفْتَ مَا فِي الصَّوْمِ مِنَ الْفَضَائِلِ الْكَامِلَةِ وَالْفَوَائِدِ الشَّامِلَةِ " كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ " بِرَفْعِ يَوْمٍ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، فَالتَّقْدِيرُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ يَوْمَ صَوْمِ أَحَدِكُمْ " فَلَا يَرْفُثْ " بِضَمِّ الْفَاءِ وَيُكْسَرُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: بِتَثْلِيثِ الْفَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْقَامُوسِ " وَلَا يَصْخَبْ " بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ بِالْهَذَيَانِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا لِيَكُونَ صَوْمُهُ كَامِلًا، فَالْمَعْنَى لِيَكُنِ الصَّائِمُ صَائِمًا عَنْ جَمِيعِ الْمَنَاهِي وَالْمَلَاهِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَلَا يَجْهَلْ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ اهـ فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ " فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ " أَيِ ابْتَدَأَهُ بِسَبٍّ أَوْ شَتْمٍ " أَوْ قَاتَلَهُ " أَيْ أَرَادَ قَتْلَهُ بِحَرْبٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ مُخَاصَمَةٍ وَمُجَادَلَةٍ " فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ " وَهُوَ إِمَّا بِاللِّسَانِ لِيَنْزَجِرَ خَصْمُهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِذَا كُنْتُ صَائِمًا لَا يَجُوزُ لِي أَنْ أُخَاصِمَكَ بِالشَّتْمِ وَالْهَذَيَانِ، فَلَا يَلِيقُ بِكَ أَنْ تُعَارِضَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمُرُوءَةِ عَادَةً، فَيَنْدَفِعُ خَصْمُهُ، أَوْ مَعْنَاهُ: فَلَا يَنْبَغِي مِنْكَ التَّطَاوُلُ عَلَيَّ بِلِسَانِكَ، أَوْ بِيَدِكَ لِأَنِّي فِي ذِمَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَمَنْ يَخْفِرِ اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ يُهْلِكْهُ، وَلَا مِنِّي بِأَنْ أَغْضَبَ وَأُجَازِيَكَ، أَوْ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفُحْشُ وَالْغَضَبُ اهـ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: أَيْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، لِتَكُونَ فَائِدَةُ ذِكْرِهِ بِقَلْبِهِ كَفَّ نَفْسِهِ عَنْ مُقَاتَلَتِهِ خَصْمَهُ، وَذِكْرِهِ بِلِسَانِهِ كَفًّا لِخَصْمِهِ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 1960 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 1960 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ» ") بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ أَيْ قُيِّدَتِ " الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ " جَمْعُ مَارِدٍ كَطَلَبَةٍ وَجَهَلَةٍ وَهُوَ الْمُتَجَرِّدُ لِلشَّرِّ، وَمِنْهُ الْأَمْرَدُ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الشَّعَرِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوْ عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَبَيَانٍ كَالتَّتْمِيمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَارِدُ هُوَ الْعَاتِيُّ الشَّدِيدُ، وَتَصْفِيدُ الشَّيَاطِينِ إِمَّا فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، وَإِمَّا فِيهَا وَفِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَيَّامِ اهـ كَلَامُ الْمُخْتَصَرِ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالْأَيَّامِ ضِدَّ اللَّيَالِي فَيَرُدُّهُ هَذَا الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ، حَيْثُ قَالَ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْأَوْقَاتَ فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَإِمَّا فِيهَا إِلَخْ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ ذَكَرَ فِي الشَّرْحِ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامُهُ خَاصَّةً، وَأَرَادَ الشَّيَاطِينَ الَّتِي هِيَ مُسْتَرِقَةُ السَّمْعِ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ كَانَ وَقْتًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَتِ الْحِرَاسَةُ قَدْ وَقَعَتْ بِالشُّهُبِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - وَحَفِظْنَاهَا الْآيَةَ، وَالتَّصْفِيدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُبَالَغَةٌ لِلْحِفْظِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَهُ وَبَعَّدَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَتَخَلَّصُونَ فِيهِ مِنْ إِفْسَادِ النَّاسِ مَا يَتَخَلَّصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ لِاشْتِغَالِ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ بِالصِّيَامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ، وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ اهـ وَيَرُدُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ مَا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْوَصْفِ بِأَيَّامِ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَهُوَ زَمَنُ حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَعَ بُعْدِهِ وَكَوْنِهِ خِلَافَ ظَاهِرِ التَّصْفِيدِ يُنَافِي الْإِطْلَاقَ، وَلَا يُلَائِمُهُ بَقِيَّةُ الْأَوْصَافِ الْآتِيَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ الشَّيَاطِينِ وَتَصْفِيدِهِمْ كَيْلَا يُوَسْوِسُوا فِي الصَّائِمِينَ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ تَنَزُّهُ أَكْثَرِ الْمُنْهَمِكِينَ فِي الطُّغْيَانِ عَنِ الْمَعَاصِي وَرُجُوعُهُمْ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى، وَأَمَّا مَا يُوجَدُ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ فِي بَعْضِهِمْ فَإِنَّهَا تَأْثِيرَاتٌ مِنْ تَسْوِيلَاتِ الشَّيَاطِينِ أُغْرِقَتْ فِي عُمْقِ تِلْكَ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ، وَبَاضَتْ فِي رُءُوسِهَا، وَقِيلَ: قَدْ خُصَّ مِنْ عُمُومِ " «صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» " زَعِيمُ زُمْرَتِهِمْ، وَصَاحِبُ دَعْوَتِهِمْ لِمَكَانِ الْإِنْظَارِ الَّذِي سَأَلَهُ مِنَ اللَّهِ، فَأُجِيبَ إِلَيْهِ، فَيَقَعُ مَا يَقَعُ مِنَ الْمَعَاصِي بِتَسْوِيلِهِ وَإِغْوَائِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ كِنَايَةً عَنْ ضَعْفِهِمْ فِي الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ " «وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ» " كَالتَّأْكِيدِ لِمَا قَبْلَهُ " «وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ» " وَلَعَلَّهَا أَبْوَابٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْهُمَا، أَوْ أَبْوَابُهُمَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، قَدْ تُفْتَحُ وَتُغْلَقُ، بِخِلَافِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الْمُبَارَكِ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَزْمِنَةَ الشَّرِيفَةَ وَالْأَمْكِنَةَ اللَّطِيفَةَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي كَثْرَةِ الطَّاعَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَشْهَدُ بِهِ الْحِسُّ وَالْمُشَاهَدَةُ، فَلْتُغْتَنَمِ الْفُرْصَةُ، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ " وَيُنَادِي مُنَادٍ " أَيْ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْمَقَالِ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ " يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ " أَيْ طَالِبَ الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ " أَقْبِلْ " أَيْ إِلَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، بِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ فِي عِبَادَتِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنِ الْإِقْبَالِ أَيْ تَعَالَ فَإِنَّ هَذَا أَوَانُكَ، فَإِنَّكَ تُعْطَى الثَّوَابَ الْجَزِيلَ بِالْعَمَلِ الْقَلِيلِ، أَوْ مَعْنَاهُ يَا طَالِبَ الْخَيْرِ الْمُعْرِضَ عَنَّا وَعَنْ طَاعَتِنَا أَقْبِلْ إِلَيْنَا وَعَلَى عِبَادَتِنَا، فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ تَحْتَ قُدْرَتِنَا وَإِرَادَتِنَا " وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ " أَيْ يَا مُرِيدَ الْمَعْصِيَةِ " أَقْصِرْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيْ أَمْسِكْ عَنِ الْمَعَاصِي وَارْجِعْ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَهَذَا أَوَانُ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَزَمَانُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَغْفِرَةِ، وَلَعَلَّ طَاعَةَ الْمُطِيعِينَ وَتَوْبَةَ الْمُذْنِبِينَ وَرُجُوعَ الْمُقَصِّرِينَ فِي رَمَضَانَ مِنْ أَثَرِ النِّدَاءَيْنِ، وَنَتِيجَةُ إِقْبَالِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى الطَّالِبِينَ، وَلِهَذَا تَرَى أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ صَائِمِينَ حَتَّى الصِّغَارَ وَالْجَوَارِ، بَلْ غَالِبُهُمُ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ يَكُونُونَ حِينَئِذٍ مُصَلِّيِنَ مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ أَصْعَبُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ يُوجِبُ ضَعْفَ الْبَدَنِ الَّذِي يَقْتَضِي الْكَسَلَ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَكَثْرَةَ النَّوْمِ عَادَةً، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَى الْمَسَاجِدَ مَعْمُورَةً، وَبِإِحْيَاءِ اللَّيَالِي مَغْمُورَةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ " أَيْ كَثِيرُونَ " مِنَ النَّارِ " فَلَعَلَّكَ تَكُونُ مِنْهُمْ " وَذَلِكَ " قَالَ الطِّيبِيُّ: أَشَارَ بُقُولِهِ ذَلِكَ إِمَّا لِلْبَعِيدِ وَهُوَ النِّدَاءُ، وَإِمَّا لِلْقَرِيبِ وَهُوَ لِلَّهِ عُتَقَاءُ " كُلَّ لَيْلَةٍ " أَيْ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ

مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ " قَالَ الْجَزَرِيُّ: كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ تَأَمُّلٍ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ كَثِيرُ الْغَلَطِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَلِذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، يَعْنِي قَوْلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى مُجَاهِدٍ اهـ كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ، لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: وَاللَّفْظُ لِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَنَحْوَهُ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ فِيهِ: " «فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ بَابٌ مِنْهَا الشَّهْرَ كُلَّهُ» " اهـ. كَلَامُهُ، وَيُقَوِّي رَفْعَ الْحَدِيثِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَهُوَ مَرْفُوعٌ حُكْمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، تَمَّ كَلَامُ مِيرَكَ، وَفِيهِ أَوَّلًا أَنَّ ابْنَ عَيَّاشٍ وَلَوْ كَانَ كَثِيرَ الْغَلَطِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ضَابِطٌ عِنْدَ الْأَقَلِّ وَمِنْهُمُ الْجَزَرِيُّ، وَلِذَا قَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْأَعْمَشِ فَلَا يَخْلُو عَنْ غَرَابَةٍ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ ضَعِيفٌ سَوَاءٌ عَنِ الْأَعْمَشِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلِذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ إِلَخْ لَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ، بَلْ عَلَى غَرَابَتِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ أَوْرَدَهُ مَرْفُوعًا مُخَالِفًا لِمَنْ أَوْرَدَهُ مَوْقُوفًا، وَالْغَرَابَةُ لَا تُنَافِي الْحُسْنَ وَالصِّحَّةَ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَلِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهَذَا أَيْ كَوْنُهُ مَوْقُوفًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَصَحُّ أَيْ مِنْ كَوْنِهِ مَرْفُوعًا، مَعَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ النِّزَاعِ، وَتَحَصَّلَ آخِرَ الْأَمْرِ أَنَّ كَوْنَهُ مَرْفُوعًا أَصَحُّ، هَذَا وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ هُوَ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ عَاصِمٍ أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ شُعْبَةَ، وَيُقَدَّمُ عَلَى حَفْصٍ فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ فَاقَ أَقْرَانَهُ فِي الْفَضَائِلِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ ضَعِيفًا لِقِلَّةِ ضَبْطِهِ الْحَدِيثُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1961 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1961 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ) إِشَارَةً إِلَى ضَعْفِهِ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صَحَّ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى فَلَا يَضُرُّ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) أَيْ إِسْنَادًا كَمَا ذُكِرَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1962 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 1962 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَتَاكُمْ ") أَيْ جَاءَكُمْ " رَمَضَانُ " أَيْ زَمَانُهُ أَوْ أَيَّامُهُ " شَهْرٌ مُبَارَكٌ " بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، وَظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ أَيْ كَثُرَ خَيْرُهُ الْحِسِّيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً أَيْ جَعَلَهُ اللَّهُ مُبَارَكًا عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي التَّهْنِئَةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي أَوَّلِ الشُّهُورِ بِالْمُبَارَكَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ» "، إِذْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ رَمَضَانَ مِنْ أَصْلِهِ مُبَارَكٌ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: لَا مَانِعَ مِنْ قَبُولِ زِيَادَةِ الْبَرَكَةِ " «فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ» " أَيْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ " تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ " اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَبِالتَّأْنِيثِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهَا وَبِتَخْفِيفِ الْفِعْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَيُشَدَّدَانِ " «وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ» " وَفِي نُسْخَةٍ: " الْحَمِيمِ " وَهُوَ تَصْحِيفٌ " وَتُغَلُّ " بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنِ الْإِغْلَالِ " فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ " يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُقَيَّدِينَ هُمُ الْمَرَدَةُ فَقَطْ، وَهُوَ مَعْنًى لَطِيفٌ يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ السَّابِقُ، فَيَكُونُ عَطْفُ الْمَرَدَةِ عَلَى الشَّيَاطِينِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ عَطْفَ تَفْسِيرٍ وَبَيَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدُ عَامَّةِ الشَّيَاطِينِ بِغَيْرِ الْأَغْلَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ " لِلَّهِ فِيهِ " أَيْ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ فِي الْعَشْرِ الْأُخَرِ مِنْهُ يَعْنِي غَالِبًا، وَإِلَّا فَهِيَ مُبْهَمَةٌ فِي جَمِيعِ رَمَضَانَ أَوْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَلِذَا لَوْ قَالَ أَحَدٌ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَا تُطَلَّقُ حَتَّى

يَمْضِيَ عَلَيْهَا السَّنَةُ كُلُّهَا " «لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» " أَيِ الْعَمَلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ " وَمَنْ حُرِمَ " بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ " خَيْرَهَا " بِالنَّصْبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ حَرَمَهُ الشَّيْءَ يَحْرِمُهُ حِرْمَانًا وَأَحْرَمَهُ أَيْضًا أَيْ مَنَعَهُ إِيَّاهُ اهـ وَفِي الْقَامُوسِ: أَحْرِمُهُ لِغَيِّهِ أَيْ مَنْ مُنِعَ خَيْرَهَا بِأَنْ لَمْ يُوَفَّقْ لِإِحْيَائِهَا وَلَوْ بِالطَّاعَةِ فِي طَرَفَيْهَا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ بِجَمَاعَةٍ فَقَدْ أَدْرَكَ حَظَّهُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنَالُ فَضْلَهَا إِلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا فَالْمُرَادُ مِنْهُ فَضْلُهَا الْكَامِلُ " فَقَدْ حُرِمَ " أَيْ مُنِعَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، كَمَا سَيَجِيءُ صَرِيحًا فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْمُرَادُ حِرْمَانُ الثَّوَابِ الْكَامِلِ أَوِ الْغُفْرَانِ الشَّامِلِ الَّذِي يَفُوزُ بِهِ الْقَائِمُ فِي إِحْيَاءِ لَيْلِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: اتَّحَدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ دَلَالَةً عَلَى فَخَامَةِ الْجَزَاءِ، أَيْ فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فِيمَا أَعْلَمُ؛ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ.

1963 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النُّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيُشَفَّعَانِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1963 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الصِّيَامُ ") أَيْ صِيَامُ رَمَضَانَ " وَالْقُرْآنُ " أَيْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقُرْآنُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّهَجُّدِ وَالْقِيَامِ بِاللَّيْلِ كَمَا عُبِّرَ بِهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ " وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ " اهـ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ " يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ " وَتَتَجَسَّدُ الْمَعَانِي وَالْأَعْمَالُ وَيُحْتَمَلُ بِبَيَانِ الْحَالِ. " «يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ " أَيْ: يَا رَبِّ " إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ» " مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ " بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي " بِالتَّشْدِيدِ أَيِ: اقْبَلْ شَفَاعَتِي " فِيهِ " أَيْ فِي حَقِّهِ " وَيَقُولُ الْقُرْآنُ " لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ كَلَامُهُ - تَعَالَى - غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَمْ يَقُلْ أَيْ رَبِّ، وَأَخْطَأَ ابْنُ حَجَرٍ خَطَأً فَاحِشًا، حَيْثُ قَدَّرَ هُنَا أَيْ رَبِّ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، لَا يُقَالُ: أَرَادَ بِالْقُرْآنِ الْمَقْرُوءِ فَإِنَّا نَقُولُ: لَا يَصِحُّ التَّقْدِيرُ الْمُوهِمُ لِلتَّضْلِيلِ الْمُحْوِجُ إِلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ، لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَدْفَعُ الْإِيرَادَ، وَكَلَامُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ لَا يُؤَوَّلُ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُعَوَّلُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ مُرَادًا بِهِ اللَّفْظِيُّ، فَالْجَوَابُ: لَا، لِمَا فِيهِ مِنِ الْإِيهَامِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَنَّ الْجَبَّارَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ النَّخْلَةُ الطَّوِيلَةُ، وَيُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ الْجَبَّارُ مَخْلُوقٌ مُرَادًا بِهِ النَّخْلَةُ لِلْإِيهَامِ اهـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا رَبَّ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: مَهْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ، أَيْ أَنَّهُ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالْمَرْبُوبِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُدُوثِهِ وَانْفِصَالِهِ عَنِ الذَّاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ اهـ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْمُدَّعَى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَى، وَهُوَ لَهُ أَوْلَى فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى " «مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيُشَفَّعَانِ» " بِالتَّشْدِيدِ مَجْهُولًا أَيْ يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُمَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَتِهِمَا، وَلَعَلَّ شَفَاعَةَ رَمَضَانَ فِي مَحْوِ السَّيِّئَاتِ وَشَفَاعَةَ الْقُرْآنِ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّفَاعَةُ وَالْقَوْلُ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقُرْآنِ إِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ أَوْ يَجْرِيَ عَلَى مَا عَلَيْهِ النَّصُّ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، فَإِنَّ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةَ تَتَلَاشَى وَتَضْمَحِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ الْعَوَالِمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إِلَّا الْإِذْعَانُ وَالْقَبُولُ، وَمَنْ أَوَّلَ قَالَ: اسْتُعِيرَتِ الشَّفَاعَةُ وَالْقَبُولُ لِلصِّيَامِ وَالْقُرْآنِ لِإِطْفَاءِ غَضَبِ اللَّهِ وَإِعْطَاءِ الْكَرَامَةِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَرِجَالُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْجُوعِ، وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ.

1964 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مَنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا كُلُّ مَحْرُومٍ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1964 - (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ ") الْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَحْسُوسٌ عِنْدَ أَرْبَابِ التَّكْرِيمِ كَمَا نُقِلَ عَنْ سَيِّدِي عَبْدِ الْقَادِرِ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ الْكَرِيمَ - " قَدْ حَضَرَكُمْ " أَيْ فَاغْتَنِمُوا حُضُورَهُ بِالصِّيَامِ فِي نَهَارِهِ وَالْقِيَامِ فِي لَيْلِهِ " وَفِيهِ لَيْلَةٌ " أَيْ وَاحِدَةٌ مُبْهَمَةٌ مِنْ لَيَالِيهِ " خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ " أَيْ فَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رَجَاءَ أَنْ تُدْرِكُوهَا " مَنْ حُرِمَهَا " أَيْ خَيْرَهَا وَتَوْفِيقَ الْعِبَادَةِ فِيهَا وَمُنِعَ عَنِ الْقِيَامِ بِبَعْضِهَا " فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا " أَيْ حَتَّى يَتَخَلَّفَ عَنْهَا " إِلَّا كُلُّ مَحْرُومٍ " بِرَفْعِ " كُلُّ " عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ أَيْ كُلَّ مَمْنُوعٍ مِنَ الْخَيْرِ لَا حَظَّ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَلَا ذَوْقَ لَهُ مِنِ الْعِبَادَةِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «هَذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَكُمْ، يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فَبُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، إِذَا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَمَتَى؟» " نَقَلَهُ مِيرَكُ.

1965 - وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهَرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مَنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يُزَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ "، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا نُفَطِّرُ بِهِ الصَّائِمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُعْطَى هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ، أَوْ تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ فِيهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 1965 - (عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ يَحْتَمِلُ خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ وَخُطْبَةَ الْمَوْعِظَةِ (فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ) أَيْ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ حَالِهِ فِي خُطَبِهِ، وَكَأَنَّ سَلْمَانَ حَذَفَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا، قُلْتُ: مَا اخْتَصَرَهُ بَلِ اقْتَصَرَهُ وَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرَهُ بِقَوْلِهِ خَطَبَنَا، فَإِنَّ الْخُطْبَةَ هِيَ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ " أَيُّهَا " وَفَى نُسْخَةٍ: يَا أَيُّهَا " النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ " بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ أَيْ أَشْرَفَ عَلَيْكُمْ وَقَرُبَ مِنْكُمْ " شَهْرٌ عَظِيمٌ " أَيْ قَدْرُهُ لِأَنَّهُ سَيِّدُ الشُّهُورِ كَمَا فِي حَدِيثٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ شَارَفَكُمْ وَأَلْقَى ظِلَّهُ عَلَيْكُمْ، وَنُقِلَ عَنْ مُحْيِي السُّنَّةِ أَنَّهُ بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ أَطَلَّ عَلَيْنَا بِالْمُهْمَلَةِ أَشْرَفَ، وَأَظَلَّكُمْ رَمَضَانُ بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ وَدَنَا مِنْكُمْ كَأَنَّهُ أَلْقَى عَلَيْكُمْ ظِلَّهُ اهـ وَعِبَارَتُهُ أَحْسَنُ مِنْ عِبَارَةِ الطَّيِّبِيِّ كَمَا لَا يَخْفَى " شَهَرٌ مُبَارَكٌ " أَيْ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ قَدْرَهُ " «شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ» " أَيْ عَظِيمَةٌ، وَفَى أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَهُوَ سَهْوٌ " خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ " أَيْ صِيَامَ نَهَارِهِ (فَرِيضَةً) أَيْ فَرْضًا قَطْعِيًّا (وَقِيَامَ لَيْلِهِ) أَيْ إِحْيَاءَهُ بِالتَّرَاوِيحِ وَنَحْوِهَا (تَطَوُّعًا) أَيْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، فَمَنْ فَعَلَهُ فَازَ بِعَظِيمِ ثَوَابِهِ وَمَنْ تَرَكَهُ حُرِمَ الْخَيْرَ وَعُوقِبَ بِعِتَابِهِ " مَنْ تَقَرَّبَ " أَيْ إِلَى اللَّهِ

" فِيهِ " أَيْ فِي نَهَارِهِ أَوْ لَيْلِهِ " بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ " أَيْ مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْلِ " كَانَ كَمَنْ " أَيْ ثَوَابُهُ كَثَوَابِ مَنْ " أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ " بَدَنِيَّةً أَوْ مَالِيَّةً " كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ) أَيْ مِنَ الْأَشْهُرِ، وَهَذَا فِيمَا سِوَى الْحَرَمِ، إِذْ حَسَنَاتُهُ عَنْ مِائَةِ أَلْفٍ فِي غَيْرِهِ " وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ " لِأَنَّ صِيَامَهُ بِالصَّبْرِ عَنِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَنَحْوِهَا، وَقِيَامَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مِحْنَةِ السَّهَرِ وَسُنَّةِ السَّحُورِ عِنْدَ السَّحَرِ، وَلِذَا أُطْلِقَ الصَّبْرُ عَلَى الصَّوْمِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ بِأَنَّ بَاقِيَ الْأَشْهُرِ شُهُورُ الشُّكْرِ فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا تَسْهِيلًا لِلصَّائِمِينَ وَتَسْلِيَةً لِلْقَائِمِينَ " وَالصَّبْرُ " أَيْ كَمَالُهُ الْمُتَضَمِّنُ لِلشُّكْرِ، كَمَا حَرَّرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ أَنَّ وُجُودَهُمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مُتَلَازِمَانِ، وَفَى التَّحْقِيقِ مُتَعَانِقَانِ وَبِكُلِّ طَاعَةٍ وَخَصْلَةٍ حَمِيدَةٍ مُتَعَلِّقَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفُهُ صَبْرٌ وَنِصْفُهُ شُكْرٌ، فَتَرْكُ الْمَعْصِيَةِ صَبْرٌ، وَامْتِثَالُ الطَّاعَةِ شُكْرٌ " ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ " أَوْ يُقَالُ: الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ جَزَاؤُهُ الْجَنَّةُ لِمَنْ قَامَ بِهِ مَعَ النَّاجِينَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ مِنْ غَيْرِ مُقَاسَاةٍ لِشَدَائِدِ الْمَوْقِفِ فَأَمْرٌ رَاشِدٌ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْحَدِيثِ فَلَا يَنْبَغِي الْجَرَاءَةُ عَلَيْهِ " وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ " أَيِ الْمُسَاهَمَةِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْمَعَاشِ وَالرِّزْقِ، وَأَصْلُهُ الْهَمْزَةُ فَقُلِبَتْ وَاوًا تَخْفِيفًا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، لَا سِيَّمَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْجِيرَانِ " وَشَهْرٌ يُزَادُ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ " وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " يُزَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا "، وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ فِيهِ وَيُحْتَمَلُ تَعْمِيمُ الرِّزْقِ بِالْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَفِي الْحَدِيثِ تَشْجِيعٌ عَلَى الْكَرَمِ وَتَحْضِيضٌ عَلَى مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ " مَنْ فَطَّرَ " بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ " فِيهِ صَائِمًا " أَيْ أَطْعَمَهُ أَوْ سَقَاهُ عِنْدَ إِفْطَارِهِ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ " كَانَ " أَيِ التَّفْطِيرُ " لَهُ " أَيْ لِلْمُفَطِّرِ " مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ " أَيِ الْمُفَطِّرُ " مِنَ النَّارِ " أَيْ سَبَبًا لِحُصُولِهِمَا، وَفَى نُسْخَةٍ بِرَفْعِ الْمَغْفِرَةِ وَالْعِتْقِ، فَالْمَعْنَى: حَصَلَ لَهُ مَغْفِرَةٌ وَعِتْقٌ " وَكَانَ لَهُ " أَيْ وَحَصَلَ لِلْمُفَطِّرِ " مِثْلُ أَجْرِهِ " أَيْ مِثْلُ ثَوَابِ الصَّائِمِ " مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ " مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ " مِنْ أَجْرِهِ " أَيْ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ " شَيْءٌ " وَهُوَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ وَإِفَادَةُ تَأْكِيدٍ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ النَّقْصِ مِنْ لَفْظِ " مِثْلُ أَجْرِهِ " أَوَّلًا،

" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا نُفَطِّرُ بِهِ الصَّائِمَ " بِالتَّكَلُّمِ بِالْفِعْلَيْنِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْغَيْبَةِ فِيهِمَا أَيْ لَا يَجِدُ كُلُّنَا مَا يُشْبِعُهُ وَإِنَّمَا الَّذِي يَجِدُ ذَلِكَ بَعْضُنَا فَمَا حُكْمُ مَنْ لَا يَجِدُ ذَلِكَ؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ ") أَيْ مِنْ جِنْسِ هَذَا الثَّوَابِ أَوْ هَذَا الثَّوَابَ كَامِلًا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِشْبَاعِ " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ» " بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ شَرْبَةِ لَبَنٍ يُخْلَطُ بِالْمَاءِ " أَوْ تَمْرَةٍ " وَفِي تَقْدِيمِ الْمَذْقَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنَ التَّمْرَةِ إِمَّا لِفَضِيلَةِ اللَّبَنِ أَوْ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ " أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ " وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكُلُّكُمْ يَقْدِرُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ بِإِطْلَاقِهِ " «وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ» " وَلَعَلَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْإِشْبَاعِ فِي الشَّرْطِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَوْ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي الدُّنْيَا، وَبِالْإِسْقَاءِ فِي الْجَزَاءِ لِكَوْنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ، بَلْ لَا احْتِيَاجَ إِلَّا إِلَيْهِ فِي الْعُقْبَى " مِنْ حَوْضِي " أَيِ الْكَوْثَرِ فِي الْقِيَامَةِ " شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ " أَيْ بَعْدَهَا " حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ " أَيْ إِلَى أَنْ يَدْخُلَهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا ظَمَأَ فِي الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا} [طه: 119] فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَظْمَأُ أَبَدًا " وَهُوَ " أَيْ رَمَضَانُ " شَهْرٌ أَوَّلَهُ رَحْمَةٌ " أَيْ وَقْتُ رَحْمَةٍ نَازِلَةٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَامَّةٍ، وَلَوْلَا حُصُولُ رَحْمَتِهِ مَا صَامَ وَلَا قَامَ أَحَدٌ مِنْ خَلِيقَتِهِ، لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ " وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ " أَيْ زَمَانُ مَغْفِرَتِهِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى رَحْمَتِهِ، فَإِنَّ الْأَجِيرَ قَدْ يَتَعَجَّلُ بَعْضَ أَجْرِهِ قُرْبَ فَرَاغِهِ مِنْهُ " وَآخِرُهُ " وَهُوَ وَقْتُ الْأَجْرِ الْكَامِلِ " عِتْقٌ " أَيْ لِرِقَابِهِمْ " مِنَ النَّارِ " وَالْكُلُّ بِفَضْلِ الْجَبَّارِ وَتَوْفِيقِ الْغَفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارِ لِلْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ " وَمَنْ خَفَّفَ " أَيْ فِي الْخِدْمَةِ " عَنْ مَمْلُوكِهِ فِيهِ " أَيْ فِي رَمَضَانَ رَحْمَةً عَلَيْهِ وَإِعَانَةً لَهُ بِتَيْسِيرِ الصِّيَامِ إِلَيْهِ " غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " أَيْ لِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْزَارِ " وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ " جَزَاءً لِإِعْتَاقِهِ الْمَمْلُوكَ مِنْ شِدَّةِ الْعَمَلِ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ: إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثَّوَابِ بِاقْتِصَارٍ عَنْهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي الشَّيْخِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ لَيَالِيَ رَمَضَانَ كُلَّهَا، وَصَافَحَهُ جِبْرِيلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَمَنْ صَافَحَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَرِقُّ قَلْبُهُ وَتَكْثُرُ دُمُوعُهُ "، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ؟ قَالَ: " فَقَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ "، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لُقْمَةُ خُبْزٍ؟ قَالَ: " فَمَذْقَةُ لَبَنٍ "، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ؟ قَالَ: " فَشَرْبَةٌ مِنْ مَاءٍ» "، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَفِي أَسَانِيدِهِمْ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِاخْتِصَارٍ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي إِسْنَادِهِ كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ.

1966 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَطْلَقَ كُلَّ أَسِيرٍ وَأَعْطَى كُلَّ سَائِلٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1966 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَطْلَقَ كُلَّ أَسِيرٍ» ) أَيْ مَحْبُوسٍ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَبْسَ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ الْعَبْدِ بِتَلْخِيصِهِ مِنْهُ تَخْلِيقًا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ مَحْبُوسٍ عَلَى كُفْرِهِ بَعْدَ أَسْرِهِ لِيَخْتَارَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنَّ أَوِ الْقَتْلَ مَثَلًا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الذَّكَرَ الْحُرَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا أُسِرَ تَخَيَّرَ الْإِمَامُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَهُوَ مَنْسُوخٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَوْ مَخْصُوصٌ بِحَرْبِ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْقَتْلُ أَوِ الِاسْتِرْقَاقُ عِنْدَهُمْ، هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: وَحُكْمُ أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ عِنْدَنَا الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ، وَالْمَنُّ وَالْفِدَاءُ الْمَذْكُورَانِ فِي الْآيَةِ فَمَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لِأَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَةٌ " مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَنِّ أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ الْقَتْلِ وَيُسْتَرَقُّوا أَوْ يُمَنَّ عَلَيْهِمْ فَيُخَلُّوا بِقَبُولِهِمُ الْجِزْيَةَ، وَبِالْفِدَاءِ أَنْ يُفَادَى بِأَسَارِيهِمْ أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مَذْهَبًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُهُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَرَى فِدَائَهُمْ لَا بِمَالٍ وَلَا بِغَيْرِهِ لِئَلَّا يَعُودُوا حَرْبًا عَلَيْنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ: الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالْمَنُّ وَالْفِدَاءُ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ اهـ، فَاللَّائِقُ بِالْمُتَكَلِّمِ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا عَلَى احْتِمَالٍ يُخَالِفُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، مَعَ أَنَّهُ مَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمُومِ فَضْلًا عَنْ خُصُوصِ رَمَضَانَ أَنَّهُ أَعْتَقَ كَافِرًا وَأَرْسَلَهُ قَطُّ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِمْرَارُهُ الْحَقِيقِيُّ أَوِ الْعُرْفِيُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَوْنِ الْمَفْهُومِ أَنَّهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ رَمَضَانَ ; وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ " وَأَعْطَى كُلَّ سَائِلٍ " أَيْ زِيَادَةً عَلَى مُعْتَادِهِ وَإِلَّا فَلَا كَانَ عِنْدَهُ لَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ أَيْضًا، فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ مَا سُئِلَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، «فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ» ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْ مَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَمَنَعَهُ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ: مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ لَوْلَا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لَاؤُهُ نَعَمُ قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ لَمْ يَقُلْ لَا مَنْعًا لِلْعَطَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقُولَهَا اعْتِذَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ وَبَيْنَ لَا أَحْمِلُكُمُ اهـ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَالرَّسُولُ» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، وَأَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا سُؤَالًا وَجَوَابًا بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ يُنَاقِضُ صَوَابًا.

1967 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْجَنَّةَ تُزَخْرَفُ لِرَمَضَانَ مِنْ رَأْسِ الْحَوْلِ إِلَى حَوْلِ قَابِلٍ " قَالَ: " فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَبَّتْ رِيحٌ تَحْتَ الْعَرْشِ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ عَلَى الْحُورِ الْعِينِ فَيَقُلْنَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لَنَا مِنْ عِبَادِكَ أَزْوَاجًا تَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُنَا وَتَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ بِنَا» " رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1967 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْجَنَّةَ تُزَخْرَفُ» ") أَيْ تُزَيَّنُ بِالذَّهَبِ وَنَحْوِهِ " لِرَمَضَانَ " أَيْ لِأَجْلِ قُدُومِهِ " مِنْ رَأَسِ الْحَوْلِ إِلَى حَوْلِ قَابِلٍ " أَيْ يُبْتَدَأُ التَّزْيِينُ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ مُنْتَهِيًا إِلَى سَنَةٍ آتِيَةٍ أَوَّلَ الْحَوْلِ غُرَّةَ الْمُحَرَّمِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَنَّةَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُزَيَّنَةٌ لِأَجْلِ رَمَضَانَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الْغُفْرَانِ وَرَفْعِ دَرَجَاتِ الْجِنَانِ، مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الزَّمَانِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ رَأْسُ الْحَوْلِ مِمَّا بَعْدَ رَمَضَانَ، وَلَعَلَّهُ اصْطِلَاحُ أَهْلِ الْجِنَانِ وَيُنَاسِبُهُ كَوْنُهُ يَوْمَ عِيدٍ وَسُرُورٍ، وَوَقْتَ زِينَةٍ وَحُبُورٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: لَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْحَوْلِ بِأَنْ تَبْتَدِئَ الْمَلَائِكَةُ فِي تَزْيِنِهَا أَوَّلَ شَوَّالٍ وَتَسْتَمِرَّ إِلَى أَوَّلِ رَمَضَانَ، فَتُفْتَحُ أَبَوَابُهَا حِينَئِذٍ لِيَطَّلِعَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ قَبْلُ، إِعْلَامًا لَهُمْ بِعِظَمِ شَرَفِ رَمَضَانَ وَشَرَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمُجَازَاتِهِمْ عَلَى صَوْمِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الظَّاهِرِ الْبَاهِرِ اهـ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الزِّينَةِ مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ إِلَخْ، لِأَنَّ الزِّينَةَ الْمُتَعَارَفَةَ تَكُونُ فِي أَوَائِلِ أَمْرِ الْفَرَحِ، وَقَدْ تَكُونُ بَعْدَ الْفَرَحِ، وَالْمُنَاسِبُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ

رَمَضَانَ وَقْتُهُ، وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ تُرْفَعُ أَعْمَالُ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، ثُمَّ مَا بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِأُمُورٍ زَائِدَةٍ عَلَى الزِّينَةِ فِي خُصُوصِهِ مِنْ فَتْحِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَغَلْقِ أَبْوَابِ النِّيرَانِ، وَأَمْثَالِهِمَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَعَادَ قَالَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مَقُولُ ابْنِ عُمَرَ فَتَدَبَّرْ " «فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَبَّتْ رِيحٌ تَحْتَ الْعَرْشِ» " أَيْ هَبَّتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَنَثَرَتْ رَائِحَةً عَطِرَةً طَيِّبَةً، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَحْتَ الْعَرْشِ أَيْ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ سَقْفَ الْجَنَّةِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ سَقْفًا بِمَعْنَى أَعْلَاهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فَاصِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ يَكُونَ هُبُوبُ الرِّيحِ فِي الْجَنَّةِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الرِّيحَ تَنْزِلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مُبْتَدَأً بِاعْتِبَارِ ظُهُورِهَا فِي الْجَنَّةِ " مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ " أَيْ مِنْ وَرَقِ شَجَرِهَا مُبْتَدَأً " عَلَى الْحُورِ الْعِينِ " أَيْ مُنْتَثِرَةٌ عَلَى رَأْسِهِنَّ، وَلَعَلَّهَا أَثَرُ خُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ " فَيَقُلْنَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لَنَا مِنْ عِبَادِكَ " أَيِ الصَّالِحِينَ الصَّائِمِينَ الْقَائِمِينَ " أَزْوَاجًا تَقَرُّ " بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ تَتَلَذَّذُ " بِهِمْ " أَيْ بِطَلْعَتِهِمْ وَصُحْبَتِهِمْ " أَعْيُنُنَا " أَيْ أَبْصَارُنَا أَوْ ذَوَاتُنَا " وَتَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ بِنَا " قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنَ الْقَرِّ بِمَعْنَى الْبِرِّ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِكَ قَرَّ اللَّهُ عَيْنَيْهِ جَعَلَ دَمْعَ عَيْنَيْهِ بَارِدًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ، فَإِنَّ دَمْعَتَهُ بَارِدَةٌ أَوْ مِنَ الْقَرَارِ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْفَوْزِ بِالْبُغْيَةِ، فَإِنَّ مَنْ فَازَ بِهَا قَرَّ نَفْسَهُ، وَلَا يَسْتَشْرِفُ عَيْنَهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ لِحُصُولِهِ (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) قَالَ مِيرَكُ: لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْغِفَارِيِّ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُرَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ، وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ وَأَهَلَّ رَمَضَانُ، فَقَالَ: " «لَوْ يَعْلَمُ الْعِبَادُ مَا رَمَضَانُ لَتَمَنَّتْ أُمَّتِي أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ كُلُّهَا رَمَضَانَ» "، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَدِّثْنَا، فَقَالَ: " «إِنَّ الْجَنَّةَ لَتُزَيَّنُ لِرَمَضَانَ مِنْ رَأْسِ الْحَوَلِ إِلَى الْحَوَلِ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَبَّتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَصَفَّقَتْ وَرَقَ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ الْحُورُ الْعِينُ إِلَى ذَلِكَ فَيَقُلْنَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لَنَا مِنْ عِبَادِكَ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَزْوَاجًا، تَقَرُّ أَعْيُنُنَا بِهِمْ وَأَعْيُنُهُمْ بِنَا "، قَالَ: " فَمَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا زُوِّجَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فِي خَيْمَةٍ مِنْ دُرَّةٍ " كَمَا نَعَتَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ» قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: فِي الْقَلْبِ مِنْ جَرِيرِ بْنِ أَيُّوبَ - يَعْنِي أَحَدَ رُوَاتِهِ - شَيْءٌ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَجَرِيرُ بْنُ أَيُّوبَ الْبَجَلِيُّ اهـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَقُولُ: وَلِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ، وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَلَيْسَ فِي إِسْنَادِهِ مِمَّنْ أُجْمِعَ عَلَى ضَعْفِهِ، فَاخْتِلَافُ طُرُقِ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا.

1968 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُغْفَرُ لِأُمَّتِهِ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1968 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " يُغْفَرُ لِأُمَّتِهِ ") أَيْ لِكُلِّ الصَّائِمِينَ مِنْهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا حِكَايَةُ مَعْنَى مَا تَلَفَّظَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا لَفْظُهُ، أَيِ الَّذِي هُوَ يُغْفَرُ لِأُمَّتِي " فِي آخِرِ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ " وَالْمُرَادُ مَغْفِرَتُهُ الْكَامِلَةُ وَرَحْمَتُهُ الشَّامِلَةُ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ أَوْسَطَهُ مَغْفِرَةٌ " «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: لَا» " هَذَا بِظَاهِرِهِ رَدٌّ عَلَى مَنِ اخْتَارَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، إِذْ قَدْ تَكُونُ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ بِأَنْ يُقَالَ: لَا، أَيْ لَيْسَ سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ كَوْنَهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، بَلْ سَبَبُهَا كَوْنُهَا آخِرَ لَيْلَةٍ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَنْ تَكُونَ غَيْرَهَا مِنْ بَقِيَّةِ لَيَالِي عَشْرٍ الْأَخِيرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ " وَلَكِنَّ " بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ " الْعَامِلَ " أَيْ وَلَكِنَّ سَبَبَهَا أَنَّ الْعَامِلَ " إِنَّمَا يُوَفَّى " أَيْ يُعْطَى وَافِيًا " أَجْرَهُ " بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلٍ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مُقَدَّرٌ أَيْ إِيَّاهُ " إِذَا قَضَى عَمَلَهُ " أَيْ أَحْكَمَهُ وَفَرَغَ مِنْهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِدْرَاكٌ لِسُؤَالِهِمْ عَنْ سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ كَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْأَخِيرَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِسَبَبِ الْمَغْفِرَةِ، فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ سَبَبَهَا هُوَ إِفْرَاغُ الْعَبْدِ عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ عَمَلٍ اهـ وَالْأَظْهَرُ وَضْعُ الزَّمَانِ مَوْضِعَ السَّبَبِ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ نَفْسَهَا لَيْسَتْ سَبَبًا بَلْ هِيَ زَمَانُ الْعِبَادَةِ وَهِيَ سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَفَى قَضَى بِمَعْنَى فَرَغَ مَجَازُ الْمُشَارَفَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ نَوَى حِينَئِذٍ صَوْمَ الْيَوْمِ الْآتِي فَكَأَنَّهُ صَامَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِآخِرِ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةُ الْعِيدِ وَالنِّسْبَةُ بِأَدْنَى مَلَابَسَةٍ كَمَا فِي عِيدِ رَمَضَانَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب رؤية الهلال]

[بَابُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ]

بَابُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1969 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ "، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَيِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 1969 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَصُومُوا ") أَيْ يَوْمَ ثَلَاثِينَ شَعْبَانَ عَنْ رَمَضَانَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ " حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ " أَيْ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَكُمْ رُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَيَثْبُتُ بِعَدْلٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ غَيْمٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ غَيْمٌ أَمْ لَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا تَثْبُتُ أَصْلًا؛ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ لَا تَصُومُوا عَلَى قَصْدِ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ، وَهُوَ أَنْ يَرَى هُوَ أَوْ مَنْ يَثِقُ عَلَيْهِ، وَالْمُنْفَرِدُ بِالرُّؤْيَةِ إِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنْ يَصُومَ، وَيُسِرَّ بِإِفْطَارِ عِيدِهِ اهـ. وَيَصُومُ عِنْدَنَا - مَعْشَرَ الْحَنَفِيَّةِ - أَوَّلًا وَلَا يُفْطِرُ يَوْمَ عِيدٍ احْتِيَاطًا، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَلَكِنْ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ فِي حَقِّهِ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالِاحْتِيَاطِ يُنَافِي تَأْوِيلَ قَوْلِهِ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنْ أَيْقَنَ أَفْطَرَ وَيَأْكُلُ سِرًّا، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ لَوْ أَفْطَرَ قَضَى، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِي لُزُومِهَا الْخِلَافَ بَعْدَ رَدِّ شَهَادَتِهِ وَقَبْلَهُ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ لُزُومِهَا فِيهِمَا، وَيُحْمَلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تَصُومُوا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ عِنْدَكُمْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ " وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ " أَيْ هِلَالَ شَوَّالٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: حَتَّى تَثْبُتَ رُؤْيَتُهُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ لَا بِأَقَلَّ بِالِاتِّفَاقِ، وَظَاهِرُ عُمُومِ هَذَا النَّهْيِ كَالْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ يَرُدُّ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ قَالُوا: الْمُنْفَرِدُ بِالرُّؤْيَةِ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ يُسِرُّ بِفِطْرِهِ فِي عِيدِهِ، وَلَوْ لَمْ يَرَ هِلَالَ شَوَّالٍ، لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَالنَّهْيُ فِيهِمَا لِلتَّحْرِيمِ عَلَى الْأَصْلِ هُوَ بِالنَّظَرِ لِعُمُومِ النَّاسِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَاوُ الْجَمْعِ، أَمَّا مَنْ رَآهُ وَحْدَهُ وَلَمْ يُشْهِدْ بِهِ أَوْ لَمْ يُقْبَلْ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ مَنِ اعْتَقَدَ صِدْقَهُ فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى رُؤْيَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ رَمَضَانُ وَلَا شَوَّالٌ عَلَى الْعُمُومِ اهـ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالِنَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَرْبَابِ الْفُهُومِ، فَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ. " فَإِنْ غُمَّ " أَيْ غُطِّيَ الْهِلَالُ فِي لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ " عَلَيْكُمْ " أَيْ أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ سُتِرَ الْهِلَالُ بِغَيْمٍ، مِنْ غَيَّمْتُ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتَهُ، وَفَى غُمَّ ضَمِيرُ الْهِلَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بِمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ مَغْمُومًا عَلَيْكُمْ، وَتُرِكَ ذِكْرُ الْهِلَالِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ " فَاقْدِرُوا " بِكَسْرِ الدَّالِّ وَيُضَمُّ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الضَّمُّ خَطَأٌ " لَهُ " أَيْ لِلْهِلَالِ، وَالْمَعْنَى قَدِّرُوا لِهِلَالِ الشَّهْرِ الْمُسْتَقْبِلِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فَاقْدِرُوا عَدَدَ الشَّهْرِ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ " ثَلَاثِينَ يَوْمًا " إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ الشَّهْرِ وَدَوَامُ خَفَاءِ الْهِلَالِ مَا أَمْكَنَ أَيْ قَبْلَ الثَّلَاثِينَ، وَالْمَعْنَى: اجْعَلُوا الشَّهْرَ ثَلَاثِينَ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يَعْنِي حَقِّقُوا مَقَادِيرَ أَيَّامِ شَعْبَانَ حَتَّى تُكْمِلُوهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا اهـ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ: التَّقْدِيرُ بِإِكْمَالِ الْعَدَدِ، يُقَالُ قَدَرْتُ الشَّيْءَ أَقْدِرُهُ قَدْرًا بِمَعْنَى قَدَّرْتُهُ تَقْدِيرًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّقْدِيرُ بِحِسَابِ الْقَمَرِ فِي الْمَنَازِلِ، أَيِ اقْدِرُوا مَنَازِلَ الْقَمَرِ فَإِنَّهُ يَدُلُّكُمْ عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ اهـ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: " فَاقْدِرُوا " خِطَابُ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَقَوْلُهُ: " فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ " خِطَابٌ لِلْعَامَّةِ اهـ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِحَدِيثِ " «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» "، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّهْرِ لَيْسَتْ إِلَى الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ كَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ النُّجُومِ، وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ وَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَرَى، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى - مُخَاطِبًا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ خِطَابًا عَامًّا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ الْعَامِّ " «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» " وَلِمَا فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ: " «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ» " وَلِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الصَّوْمُ يَوْمَ يَصُومُونَ وَالْفِطْرُ

يَوْمَ يُفْطِرُونَ» " بَلْ أَقُولُ: لَوْ صَامَ الْمُنَجِّمُ عَنْ رَمَضَانَ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَتِهِ يَكُونُ عَاصِيًا فِي صَوْمِهِ، إِلَّا إِذَا ثَبَتَ الْهِلَالُ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَلَوْ جَعَلَ عِيدَ الْفِطْرِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ الْفَاسِدِ يَكُونُ فَاسِقًا، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنِ اسْتَحَلَّ إِفْطَارَهُ فَرْضًا عَنْ عَدِّهِ وَاجِبًا صَارَ كَافِرًا، وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ - خِطَابٌ لِلْعَامَّةِ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ عَمَلُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ نَقْلَ كَلَامِهِ وَالسُّكُوتَ عَلَيْهِ الْمُوهِمَ قَبُولَ قَوْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقِلَ كَلَامَهُ إِلَّا بِنِيَّةِ الرَّدِّ عَلَيْهِ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً ") أَيِ الشَّهْرُ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ أَوْ أَقَلُّهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: أَيْ هَذَا مُحَقَّقٌ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى طَلَبِ الْهِلَالِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ " فَلَا تَصُومُوا " أَيْ عَلَى قَصْدِ رَمَضَانَ " حَتَّى تَرَوْهُ " أَيِ الشَّهْرَ يَعْنِي تَعْلَمُوا كَمَالَهُ أَوْ تُبْصِرُوا هِلَالَهُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] " فَإِنْ غُمَّ " أَيْ أَمْرُ الشَّهْرِ أَوْ هِلَالِهِ " عَلَيْكُمْ " أَيْ بِغَيْمٍ وَنَحْوِهِ " فَأَكْمِلُوا " أَيْ أَتِمُّوا " الْعِدَّةَ " مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ عِدَّةَ شَعْبَانَ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " ثَلَاثِينَ " أَيْ يَوْمًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَكْمِلُوا هَذِهِ الْعِدَّةَ، وَثَلَاثِينَ بَدَلٌ مِنْهُ بَدَلُ الْكُلِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1970 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1970 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ") أَيْ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَالضَّمِيرُ لِلْهِلَالِ عَلَى حَدِّ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ اكْتِفَاءً بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] أَيْ لِأَبَوَيِ الْمَيِّتِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أَيْ وَقْتَ دُلُوكِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الصَّوْمَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ يَتَحَقَّقُ، وَأَنَّ الْإِقَامَةَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الدُّلُوكِ فَلَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي الْآيَةِ اللَّامُ بِمَعْنَى " بَعْدَ " أَيْ بَعْدَ دُلُوكِهَا أَيْ زَوَالِهَا، كَمَا فِي قَوْلِكَ: جِئْتُهُ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ كَذَا، يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مَدَّهُ لِلرُّؤْيَةِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ الْفَيَّاضُ - أَيْ أَطَالَ اللَّهُ مُدَّتَهُ إِلَى الرُّؤْيَةِ، وَقَوْلِهِ: جِئْتُهُ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ كَذَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى بَعْدَ اهـ الْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرَدُّ " وَأَفْطِرُوا " أَيِ اجْعَلُوا عِيدَ الْفِطْرِ " لِرُؤْيَتِهِ " أَيْ لِأَجْلِهَا أَوْ بَعْدَهَا أَوْ وَقْتَهَا " فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ " أَيْ أَتِمُّوا عَدَدَهُ " ثَلَاثِينَ " أَيْ فَكَذَا رَمَضَانُ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِ رُؤْيَةٍ بَلْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ، إِنْ كَانُوا أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ إِذْ لَمْ يَرَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَضَوْا يَوْمًا وَاحِدًا حَمْلًا عَلَى شَعْبَانَ، غَيْرَ أَنَّهُ اتُّفِقَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوُا اللَّيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَإِنْ أَكْمَلُوا شَعْبَانَ عَنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ قَضَوْا يَوْمَيْنِ احْتِيَاطًا، لِاحْتِمَالِ نُقْصَانِ شَعْبَانَ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا هِلَالَ شَعْبَانَ إِلَّا كَانُوا بِالضَّرُورَةِ مُكَمِّلِينَ رَجَبًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ " «فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَكَمِّلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ، وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا» "، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا كَرِوَايَةِ: " «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمُ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ثُمَّ صُومُوا» "، وَرِوَايَةِ: " فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ "، وَرِوَايَةِ: " «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ صُومُوا» "، وَرِوَايَةِ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَالَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ» ، وَهَذِهِ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ - رَدُّوا قَوْلَ أَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَطَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مَعْنَى اقْدِرُوا ضَيِّقُوا لَهُ وَقَدِّرُوهُ تَحْتَ السَّحَابِ فَيَجِبُ عِنْدَهُمْ صَوْمُ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَنْ رَمَضَانَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الثَّلَاثِينَ مُغَيَّمَةً، وَقَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَآخِرِينَ: قَدِّرُوا بِحِسَابِ الْمَنَازِلِ، أَئِمَّتُنَا: مَنْ قَالَ بِتَقْدِيرِهِ تَحْتَ السَّحَابِ فَهُوَ مُنَابِذٌ لِصَرِيحِ مَا فِي الرِّوَايَاتِ، وَمَنْ قَالَ بِحِسَابِ الْمَنَازِلِ فَرَدَّ عَلَيْهِ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ " إِنَّا أُمَّةٌ " الْآتِي، وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَا مَرَّ عَنْ أَحْمَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهْمٌ اهـ أَقُولُ: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ إِجْمَاعِهِمْ أَوْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ أَوْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ وُجُوبًا عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَاسْتِحْبَابًا عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا، مِنْ أَنَّ الْأَفْضَلَ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْخَوَاصِّ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ النِّيَّةِ الْخَالِصَةِ مِنَ التَّرْدِيدِ بِأَنْ يَنْوِيَ صَوْمًا مُطْلَقًا وَلَا يَقُولَ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَعَنْهُ، وَإِلَّا فَعَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا إِنْ قَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ، ثُمَّ إِذَا صَحَّ صَوْمُهُ وَاتَّفَقَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَيَقَعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ.

1971 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» " وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، ثُمَّ قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ الثَّلَاثِينَ يَعْنِي مَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1971 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّا ") أَيْ مَعَاشِرَ الْعَرَبِ " أُمَّةٌ " أَيْ جَمَاعَةٌ " أُمِّيَّةٌ " قِيلَ: الْأُمِّيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى أُمَّةِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ غَالِبًا كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ، وَإِطْلَاقُ الْأَمْنِ مِنْ قِبَلِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ ثُمَّ صَارَ الْآخَرُ تَبَعًا لِلْأَوَّلِ فِي النِّسْبَةِ وَالْحُكْمِ، أَوْ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى الْحَالِ الَّتِي وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَلَمْ يَعْلَمْ قِرَاءَةً وَلَا كِتَابَةً، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى أُمِّ الْقُرَى وَهِيَ مَكَّةُ أَيْ إِنَّا أُمَّةٌ مَكِّيَّةٌ " لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ " بِضَمِّ السِّينِ، وَهَذَا الْحُكْمُ بِالنَّظَرِ لِأَكْثَرِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ: لَا نُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَالْحِسَابَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: أَيْ مَنْسُوبُونَ إِلَى الْأُمِّ لِبَقَائِهِمْ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَلَدَتْهُمْ عَلَيْهَا مِنْ عَدَمِ إِحْسَانِ الْكِتَابَةِ وَالْحِسَابِ، وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّ الْحَالَةَ هِيَ عَدَمُ الْكِتَابَةِ لَا عَدَمُ إِحْسَانِهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَا نَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَحِسَابَ النُّجُومِ حَتَّى نَعْتَمِدَ عَلَى عِلْمِ النُّجُومِ وَسَيْرِ الْقَمَرِ وَنَعْرِفَ الشَّهْرَ بِذَلِكَ اهـ وَفِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْجَوَازِ بِالْعَمَلِ بِالنُّجُومِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ نَفْسُهُ سَابِقًا، قَالَ الطِّيبِيُّ " إِنَّا " كِنَايَةٌ عَنْ جِيلِ الْعَرَبِ، وَقَوْلُهُ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ أُمِّيَّةٌ، وَهَذَا الْبَيَانُ ثُمَّ الْإِشَارَةُ بِالْيَدِ ثُمَّ الْقَوْلُ بِاللِّسَانِ يُنْهِيكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ فِي مَعْرِفَةِ الشَّهْرِ لَا إِلَى الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ النَّجَاسَةِ اهـ. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى مَا يَعْتَادُهُ الْمُنَجِّمُونَ لَيْسَ مِنْ هَدْيِنَا وَسُنَّتِنَا، بَلْ عِلْمُنَا يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنَّا نَرَاهُ مَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ كَمَا قَالَ " الشَّهْرُ " مُبْتَدَأٌ " هَكَذَا " مُشَارًا بِهَا إِلَى نَشْرِ الْأَصَابِعِ الْعَشْرِ " وَهَكَذَا " ثَانِيًا " وَهَكَذَا " ثَالِثًا خَبَرُهُ بِالرَّبْطِ بَعْدَ الْعَطْفِ " وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ " أَيْ أَحَدَ الْإِبْهَامَيْنِ أَوِ التَّقْدِيرُ مِنْ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إِبْهَامَ الْيَمِينِ، عَلَى أَنَّ اللَّامَ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ " وَفِي الثَّالِثَةِ " أَيْ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ مِنْ فِعْلِهِ هَكَذَا فَصَارَ الْجُمْلَةُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ " ثُمَّ قَالَ: الشَّهْرُ " أَيْ تَارَةً أُخْرَى " هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا " قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ عَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَفِي الثَّالِثَةِ لِيَكُونَ الْعَدَدُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، وَلَمْ يَعْقِدِ الْإِبْهَامَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِيَكُونَ الْعَدَدُ ثَلَاثِينَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ " يَعْنِي تَمَامَ الثَّلَاثِينَ " ثُمَّ زَادَ الرَّاوِي الْبَيَانَ فَقَالَ (يَعْنِي مَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ) اهـ، وَفِيهِ إِيهَامٌ أَنَّ (يَعْنِي) الْأَوَّلَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ، فَالتَّقْدِيرُ: قَالَ الرَّاوِي: يَعْنِي أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِهِ هُنَا لَمْ يَعْقِدِ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ تَمَامَ الثَّلَاثِينَ، ثُمَّ زَادَ الْبَيَانَ فَبَيَّنَ الْكَيْفِيَّةَ فِي الْمَرَّتَيْنِ جَمِيعًا، فَالتَّقْدِيرُ: قَالَ الرَّاوِي أَيْضًا: زِيَادَةٌ فِي الْإِيضَاحِ تَأَسِّيًا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي أَيْ يُرِيدُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ مَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا بَالَغَ فِي الْبَيَانِ بِمَا ذَكَرَهُ مَعَ الْإِشَارَةِ الْمَذْكُورَةِ لِيُبْطِلَ الرُّجُوعَ إِلَى مَا عَلَيْهِ الْحُسَّابُ الْمُنَجِّمُونَ، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا مَرَّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، ثُمَّ قَالَ أَكْثَرُ أَئِمَّتِنَا: الْمُنَجِّمُ، وَهُوَ مَنْ يَرَى أَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ طُلُوعُ النَّجْمِ الْفُلَانِيِّ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] الِاهْتِدَاءُ فِي نَحْوِ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ، وَلَا بِحِسَابِ الْحَاسِبِ، وَهُوَ مَنْ يَعْرِفُ مَنَازِلَ الْقَمَرِ وَتَقْدِيرَ مَسِيرِهِ، لَكِنْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَعْمَلَ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ هَلْ يُجْزِئُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ أَوْ لَا فَيَلْزَمُهُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ الْأَوَّلُ اهـ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ، وَلَعَلَّهُ مُقَيَّدٌ بِأَوَّلِ رَمَضَانَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرَادَ بِهِمَا أَنَّهُ بِحَسْبِ مَا يَرَى الْهِلَالَ لَا عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّعَاقُبِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّوَوِيَّ وَابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ صَرَّحَا بِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَنْقُصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ لَا خَمْسَةً، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَأَنَّهُمَا اعْتَمَدَا فِي ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ خِلَافُ ذَلِكَ عُمِلَ بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا إِلَى قَوْلِهِ " وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ " لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ " الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا " يَعْنِي مَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: هَكَذَا ذَكَرَهُ آدَمُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ مُخْتَصَرًا. وَفِيهِ اخْتِصَارٌ عَمَّا رَوَاهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ الْمُثَنَّى وَغَيْرُهُ عَنْ غُنْدُرٍ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ عَنْ مُسْلِمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفَى الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَدَّى مَا وَجَبَ بِتَبْلِيغِهِ بِالْعِبَارَةِ أَدَّاهُ أَيْضًا بِالْإِشَارَةِ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ إِيمَاءَ الْأَخْرَسِ بِعُرْفِ النِّكَاحِ وَطَلَاقِهِ وَنَحْوِهِمَا كَاللِّسَانِ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ.

1972 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1972 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شَهْرَا عِيدٍ) أَيْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَشَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرَ عِيدٍ بِطَرِيقِ الْمُجَاوَرَةِ أَوْ لِأَنَّ عِيدَهُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَلِذَا سُمِّيَ عِيدَ الْفِطْرِ " لَا يَنْقُصَانِ " أَيْ غَالِبًا عَنِ الثَّلَاثِينَ، أَوْ لَا يَنْقُصَانِ ثَوَابًا، وَلَوْ نَقَصَا عَدَدًا، أَوْ لَا يَنْقُصَانِ مَعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَرَادَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَنْقُصَانِ حِسًّا كَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ الشِّيعَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمُشَاهَدَةِ كَمَا تَرَى، وَمُنَافٍ لِمَا صَحَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا مَعَهُ ثَلَاثِينَ» ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ فَقَطْ ثَلَاثِينَ كَذَا فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ " رَمَضَانَ وَذِي الْحِجَّةِ " بَدَلَانِ أَوْ بَيَانَاتٌ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فِيهِ وُجُوهٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَنْقُصَانِ مَعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَحَمَلُوهُ عَلَى غَالِبِ الْأَمْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ تَفْضِيلَ الْعَمَلِ فِي الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ عَنْ عَشْرِ رَمَضَانَ، أَقُولُ: فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ ثَوَابُ الْعَمَلِ فِي أَحَدِهِمَا عَنِ الْعَمَلِ فِي الْأَجْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ قَائِلٍ ثَالِثٍ: إِنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ نَاقِصَيْنِ فِي الثَّوَابِ، وَإِنْ وُجِدَا نَاقِصَيْنِ فِي عَدَدِ الْحِسَابِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَمُ وَأَشْبَهُهَا بِالصَّوَابِ اهـ، فَثَوَابُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ كَثَوَابِ ثَلَاثِينَ مِنْهُمَا، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ كَيْفَ يَسْتَوِي الْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ فِي الْعِبَادَةِ وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَالثَّانِي إِنَّ ذَا الْحِجَّةِ لَيْسَ فِي نُقْصَانِهِ الثَّوَابُ حَتَّى يُقَالَ ثَوَابُ ذِي الْحِجَّةِ نَاقِصُ الْعَدَدِ كَكَامِلِهِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الثَّوَابَ الْإِجْمَالِيَّ الْوَارِدَ فِي رَمَضَانَ كَقَوْلِهِ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ عُفِرَ لَهُ - يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ سَوَاءٌ تَمَّ أَوْ نَقَصَ الْهِلَالُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا جَوَابًا عَنِ الثَّانِي، وَوَجْهِ الِاخْتِصَاصِ بِالتَّفْضِيلِ الْإِلَهِيِّ الْخَاصِّ بِهَذَيْنَ الشَّهْرَيْنِ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ لَا يَنْقُصَانِ فِي الْحُكْمِ، إِذْ لَا جُنَاحَ بِسَبَبِ الْخَطَأِ فِي الْعِيدِ، أَيْ أَنَّهُ لَا يَعْرِضُ فِي قُلُوبِكُمْ شَكٌّ إِذَا صُمْتُمْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ إِنْ وَقَعَ فِي الْحَجِّ خَطَأٌ لَمْ يَكُنْ فِي نُسُكِكُمْ نَقْصٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَا يَنْقُصُ ثَوَابُ الْحَجَّةِ عَنْ ثَوَابِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ فِيهِ الْمَنَاسِكَ وَالْعَشْرَ، وَقِيلَ: إِنَّ ثَوَابَهُمَا الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ الصِّيَامُ وَالْقِيَامُ وَالْحَجُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ خُصَّا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا كَغَيْرِهِمَا فِي الْفَضَائِلِ الَّتِي يُتَوَهَّمُ نَقْصُهَا بِنَقْصِهِمَا لَا لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِهِمَا، بَلْ كُلُّ شَهْرٍ يَثْبُتُ عَلَيْهِ فَضِيلَةٌ فَهِيَ حَاصِلَةٌ لَهُ تَمَّ أَوْ نَقَصَ لَا يَنْقُصُ، أَوْ لَا يَنْقُصَانِ ثَوَابًا وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُهُمَا كَمَا صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ، وَغَيْرُهُ، فَكُلُّ فَضِيلَةٍ ثَبَتَتْ لِرَمَضَانَ أَوِ الْحَجَّةِ فَهِيَ حَاصِلَةٌ، نَقَصَ أَوْ تَمَّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ظَاهِرُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ فِي بَيَانِ اخْتِصَاصِ الشَّهْرَيْنِ بِمَزِيَّةٍ لَيْسَتْ فِي سَائِرِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ فِي سَائِرِهَا قَدْ يَنْقُصُ دُونَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحُكْمِ وَرَفْعِ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ عَمَّا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ خَطَأٌ فِي الْحُكْمِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِالْعِيدَيْنِ وَجَوَازِ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فِيهِمَا، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَقُلْ شَهْرَا رَمَضَانَ وَذِي الْحِجَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1973 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1973 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ ") قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَمَرْجِعُهُ إِلَى خِلَافِ الْأَوْلَى، وَلَا يَكُونُ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ بَلْ دُونَ ذَلِكَ " بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ " قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ حَذَرًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهِ يُخَصُّ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَرَرِ الشَّهْرِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا: آخِرُهُ، وَهَذَا وَمَا صَحَّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " كَانَ الْمُعْتَمَدُ مِنْ مَذْهَبِنَا حُرْمَةَ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ بَلْ وَمَا قَبْلَهُ كَمَا يَأْتِي اهـ. سَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ قَالَ الْمُظْهِرُ: يُكْرَهُ صَوْمُ آخِرِ شَعْبَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ " إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا " أَيْ نَذْرًا مُعَيَّنًا أَوْ نَفْلًا مُعْتَادًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِرَمَضَانَ " فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ " أَيْ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: الْعِلَّةُ تَرْكُ الِاسْتِرَاحَةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّشَاطِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: اخْتِلَاطُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ فَإِنَّهُ يُورِثُ الشَّكَّ

بَيْنَ النَّاسِ فَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ، فَلِذَلِكَ يَصُومُ فَيُوَافِقُهُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى ظَنِّ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ، ثُمَّ هَذَا النَّهْيُ فِي النَّفْلِ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ وَالنَّذْرُ فَفِيهِمَا ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُمَا فَرْضٌ، وَتَأْخِيرُهُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَأَمَّا الْوِرْدُ فَتَرْكُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ أَدَوَمُهَا، وَتَرْكُهُ عِنْدَ مَنْ أَلِفَ بِهِ شَدِيدٌ، وَقِيلَ: الْعِلَّةُ لُزُومُ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَيَّدَ الصَّوْمَ بِالرُّؤْيَةِ فَهُوَ كَالْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ، أَقُولُ: وَكَذَا قَالَ - تَعَالَى - {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فَقَالَ: فَمَنْ تَقَدَّمَ صَوْمَهُ فَقَدْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ، أَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَكَأَنَّهُ حَاوَلَ الطَّعْنَ، قَالَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» " اهـ، يَعْنِي إِذَا صَامَ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ أَوْ بِنِيَّةٍ عَلَى طَرِيقِ التَّرْدِيدِ بِأَنْ يَنْوِيَ إِنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ عَنْهُ، وَإِلَّا فَعَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَّا إِذَا صَامَ نَفْلًا أَوْ نَحْوَهُ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ، وَلَا فِي النَّهْيِ الْأَكِيدِ، وَيُومِئُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ " لَا يَتَقَدَّمَنَّ " عَلَى أَنَّ حَدِيثَ " مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1974 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1974 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ ") أَيْ إِذَا مَضَى النِّصْفُ الْأَوَّلُ مِنْهُ " فَلَا تَصُومُوا " أَيْ بِلَا انْضِمَامِ شَيْءٍ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا صِيَامَ حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ، وَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ رَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَضْعُفُوا عَنْ حَقِّ الْقِيَامِ بِصِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى وَجْهِ النَّشَاطِ، وَأَمَّا مَنْ صَامَ شَعْبَانَ كُلَّهُ فَيَتَعَوَّدُ بِالصَّوْمِ وَيَزُولُ عَنْهُ الْكُلْفَةُ، وَلِذَا قَيَّدَهُ بِالِانْتِصَافِ أَوْ نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّقَدُّمِ الْمُقَدَّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَقْصُودُ اسْتِجْمَامُ مَنْ لَا يَقْوَى عَلَى تَتَابُعِ الصِّيَامِ فَاسْتُحِبَّ الْإِفْطَارُ كَمَا اسْتُحِبَّ إِفْطَارُهُ عَرَفَةَ لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ، فَأَمَّا مِنْ قَدَرَ فَلَا نَهْيَ لَهُ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الشَّهْرَيْنِ فِي الصَّوْمِ اهـ وَكَلَامٌ حَسَنٌ لَكِنْ يُخَالِفُ مَشْهُورَ مَذْهَبِهِ أَنَّ الصِّيَامَ بِلَا سَبَبٍ بَعْدَ نِصْفِ شَعْبَانَ مَكْرُوهٌ، وَفَى شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ: قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: يَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ الصَّوْمُ بَعْدَ النِّصْفِ مُطْلَقًا تَمَسُّكًا بِأَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَخَافُ الضَّعْفَ بِالصَّوْمِ، وَرَدَّهُ الْمُحَقِّقُونَ بِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ بَلْ صَحِيحٌ، وَبِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلضَّعْفِ، وَمَا نِيطَ بِالْمَظِنَّةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحَقُّقُهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا بَقِيَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا تَصُومُوا» " وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا نَظَرَ لِقَوْلِ أَحْمَدَ إِنَّهُ مُنْكَرٌ لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ سَكَتَ عَلَيْهِ فِي سُنَنِهِ مَعَ نَقْلِهِ عَنْهُ فِي غَيْرِهَا الْإِنْكَارَ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ عَنْ رَاوِيهِ: إِنَّهُ ثِقَةٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا هَذَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَ إِنْكَارِهِ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي رَدِّهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَعْنَاهُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُفْطِرَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ أَخَذَ فِي الصَّوْمِ.

1975 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1975 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَحْصُوا ") بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَمْرٌ مِنِ الْإِحْصَاءِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْعَدُّ بِالْحَصَا أَيْ عُدُّوا " هِلَالَ شَعْبَانَ " أَيْ أَيَّامَهُ " لِرَمَضَانَ " أَيْ لِأَجْلِ رَمَضَانَ أَوْ لِلْمُحَافِظَةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لِتَعْلَمُوا دُخُولَ رَمَضَانَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِحْصَاءُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعَدِّ بِأَنْوَاعِ الْجُهْدِ، وَلِذَلِكَ كَنَّى بِهِ عَنِ الطَّاقَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا» " اهـ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ وَلَنْ تَعُدُّوا اسْتِقَامَتَكُمْ شَيْئًا مُعْتَدًّا بِهِ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ اجْتَهِدُوا فِي إِحْصَائِهِ وَضَبْطِهِ بِأَنْ تَتَحَرَّوْا مَطَالِعَهُ وَتَتَرَاءَوْا مَنَازِلَهُ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فِي إِدْرَاكِ هِلَالِ رَمَضَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَتَّى لَا يَفُوتَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

1976 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1976 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ مَا عَلِمْتُهُ (يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ) أَيْ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ أَوْ مُعْظَمَهُ فِي أَكْثَرِ الزَّمَانِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ صِيَامِ التَّطَوُّعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ إِيرَادَ هَذَا الْحَدِيثِ بِذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

1977 - وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1977 - (وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ) أَيْ مَوْقُوفًا " مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ " عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يَقُلْ يَوْمَ الشَّكِّ، وَأَتَى بِالْمَوْصُولِ لِلْمُبَالَغَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمٍ يُشَكُّ فِيهِ أَدْنَى شَكٍّ يُوجِبُ عِصْيَانَ مَنْ كُنْيَتُهُ أَبُو الْقَاسِمِ، الَّذِي يَقْسِمُ حُكْمَ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ بِحَسَبِ قَدْرِهِمْ وَاقْتِدَارِهِمْ فَكَيْفَ بِمَنْ صَامَ يَوْمًا الشَّكُّ فِيهِ قَائِمٌ ثَابِتٌ؟ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] أَيْ إِلَى الَّذِي أُونِسَ مِنْهُمْ أَدْنَى الظُّلْمِ، فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِ؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَامَ نَاوِيًا مِنْ رَمَضَانَ (فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الشَّكُّ هُوَ اسْتِوَاءُ طَرَفَيِ الْإِدْرَاكِ مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَمُوجِبُهُ هُنَا أَنْ يُغَمَّ الْهِلَالُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَيُشَكَّ فِي الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ أَمِنْ رَمَضَانَ هُوَ أَوْ مِنْ شَعْبَانَ؟ أَوْ يُغَمَّ مِنْ رَجَبٍ هِلَالُ شَعْبَانَ فَأُكْمِلَتْ عِدَّتُهُ وَلَمْ يَكُنْ رُؤِيَ هِلَالُ رَمَضَانَ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَهُوَ الثَّلَاثُونَ أَوِ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ؟ وَمِمَّا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِ أَصْحَابِنَا مَا إِذَا شَهِدَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الصَّحْوِ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِغَلَطِهِ عِنْدَنَا لِظُهُورِهِ، فَمُقَابِلُهُ مَوْهُومٌ لَا مَشْكُوكٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْمٍ فَهُوَ شَكٌّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَمَذْهَبُنَا إِبَاحَتُهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَتُهُ إِنْ لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا لَهُ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وُجُوبُ صَوْمِهِ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ، ثُمَّ هَذَا فِي عَيْنِ يَوْمِ الشَّكِّ، فَأَمَّا صَوْمُ مَا قَبْلَهُ فَفِي التُّحْفَةِ قَالَ: وَالصَّوْمُ قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَكْرُوهٌ، أَيُّ صَوْمٍ كَانَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ " الْحَدِيثَ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَرِهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا اعْتَادُوا ذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكْرَهُ وَصْلُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ اسْتِدْلَالَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِرِوَايَةِ " أَنْ تَصُومُوا غَدًا " وَاحْتِمَالُ ابْنِ الْهُمَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى رِوَايَةِ " فَلْيَصُومُوا " فَلَا مُعَارَضَةَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ عَنْ عَمَّارٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ كَذَا فِي التَّصْحِيحِ، وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ، وَقَوْلُ الصَّغَانِيِّ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، ثُمَّ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنَ الصَّحَابِيِّ لَا تُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْمُوجِبُ بِإِخْبَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَلَا الْبُلُوغُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْعَدْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَسْتُورِ، وَبِهِ أَخَذَ الْحُلْوَانِيِّ، فَحَاصِلُ الْخِلَافِ الْمُحَقَّقِ فِي الْمَذْهَبِ هُوَ اشْتِرَاطُ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ أَوِ الِاكْتِفَاءِ بِالسَّتْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ لِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ فِي قَبُولِ الْمَسْتُورِ ; لَكِنَّ الْحَقَّ أَنْ لَا يُتَمَسَّكَ بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا الزَّمَانَ، لِأَنَّ ذِكْرَهُ الْإِسْلَامَ

بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الشَّهَادَتَيْنِ إِنْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلَامِهِ فَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ أَسْلَمَ عَدْلًا إِلَى أَنْ يَظْهَرَ خِلَافُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ إِخْبَارًا عَنْ حَالِهِ السَّابِقِ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ عَدَالَتَهُ قَدْ ثَبَتَتْ بِإِسْلَامِهِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِبَقَائِهَا مَا لَمْ يَظْهَرِ الْخِلَافُ، وَلَمْ يَكُنِ الْفِسْقُ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتُعَارِضُ الْغَلَبَةُ ذَلِكَ الْأَصْلَ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ إِلَى ظُهُورِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنَّمَا ثَبَتَ مَوْقُوفًا عَلَى عَمَّارٍ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْهُ فَقَالَ: وَقَالَ صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ: " مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ " إِلَخْ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ فِي كُتُبِهِمْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَأَتَى بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ لَا يُعَارِضُ حَدِيثَ السَّرَرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِلَّا وُلِيَ حَمْلُهُ عَلَى إِرَادَةِ صَوْمِهِ عَنْ رَمَضَانَ وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنَ الرَّجُلِ الْمُتَنَحِّي قَصْدَ ذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ أَصْلًا.

1978 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ يَعْنِي هِلَالَ رَمَضَانَ، فَقَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1978 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) أَيْ وَاحِدٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَهُمْ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ) يَعْنِي وَكَانَ غَيْمًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ كَافٍ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَلَا إِلَى الدَّعْوَى (يَعْنِي هِلَالَ رَمَضَانَ) أَيْ قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثٍ يَعْنِي رَمَضَانَ: ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ فَبِهَذَا ظَهَرَ ضَعْفُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ، الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ (فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَةِ اهـ وَفِي الْفَصْلِ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْضِيلِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنَ الْقَضِيَّتَيْنِ (قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ) أَيْ نَادِ فِي مَحْضَرِهِمْ وَأَعْلِمْهُمْ (أَنْ يَصُومُوا) أَيْ بِأَنْ يَصُومُوا (غَدًا) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: فَلْيَصُومُوا، وَفِي عَدَمِ تَقْيِيدِهِ بِرَمَضَانَ إِشْعَارٌ إِلَى مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ أَدَاؤُهُ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِقَيْدِ الْغَدِ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ فِي النَّهَارِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مُحْتَمَلٌ لِكَوْنِهِ شَهِدَ فِي النَّهَارِ أَوِ اللَّيْلِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ اهـ وَلَا يَخْفَى أَنَّ اسْتِدْلَالَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِرِوَايَةِ " أَنْ يَصُومُوا غَدًا " وَاحْتِمَالَ ابْنِ الْهُمَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى رِوَايَةِ " فَلْيَصُومُوا " فَلَا مُعَارَضَةَ، قَالَ الْمُظْهِرُ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ فِسْقٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَعَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ مَقْبُولَةٌ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ اهـ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ طُرُقٍ مَوْصُولًا وَمِنْ طُرُقٍ مُرْسَلًا، وَإِنْ كَانَتْ طُرُقُ الِاتِّصَالِ صَحِيحَةً.

1979 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1979 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ) قَالَ الْمُظْهِرُ: التَّرَائِي أَنْ يُرِيَ بَعْضُ الْقَوْمِ بَعْضًا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الِاجْتِمَاعُ لِلرُّؤْيَةِ لِقَوْلِهِ (فَأَخْبَرْتُ) أَيْ وَحْدِي (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنِّي رَأَيْتُهُ) أَيِ الْهِلَالَ (فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ) أَيْ بِصِيَامِ رَمَضَانَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ اهـ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ ثُبُوتِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ بِوَاحِدٍ احْتِيَاطًا، وَزَعَمَ جَمْعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَئِمَّتِنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ بِالْوَاحِدِ إِلَى مُوَافَقَةِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ كَبَقِيَّةِ الشُّهُورِ، وَأَصْحَابُهُ أَدْرَى بِنُصُوصِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ أَوَّلَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ مَا أَوْهَمَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ إِلَى الِاثْنَيْنِ بِالْقِيَاسِ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، فَلَمَّا صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ وَحْدَهُ وَشَهَادَةَ ابْنِ عُمَرَ وَحْدَهُ كَانَ مَذْهَبُهُ قَبُولَ الْوَاحِدِ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَتْرُكُ الْحَدِيثَ لِلْقِيَاسِ مَعَ قَوْلِهِ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ حَاكِمٌ يَرَاهُ، وَإِلَّا وَجَبَ الصَّوْمُ وَلَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ إِجْمَاعًا.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1980 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1980 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ) أَيْ يَتَكَلَّفُ فِي عَدِّ أَيَّامِ شَعْبَانَ لِمُحَافَظَةِ صَوْمِ رَمَضَانَ (مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ) لِعَدَمِ تَعَلُّقِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ بِغَيْرِهِ إِلَّا شَهْرِ الْحَجِّ، وَهُوَ نَادِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، مَعَ أَنَّ ضَبْطَهُ قَدْ يُبْتَنَى عَلَى ضَبْطِهِ (ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ) أَيْ شَعْبَانُ (عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

1981 - وَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: «خَرَجْنَا لِلْعُمْرَةِ فَلَمَّا نَزَلْنَا بِبَطْنِ نَخْلَةَ تَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، فَلَقِينَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْنَا: إِنَّا رَأَيْنَا الْهِلَالَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، فَقَالَ: أَيُّ لَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدَّهُ لِلرُّؤْيَةِ فَهُوَ لِلَيْلَةِ رَأَيْتُمُوهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: أَهَلَلْنَا رَمَضَانَ وَنَحْنُ بِذَاتِ عِرْقٍ فَأَرْسَلْنَا رَجُلًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَدَّهُ لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1981 - (وَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُثْنَاةِ بَيْنَهُمَا مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ فِيهِ تَشَيُّعٌ قَلِيلٌ، كَثِيرُ الْإِرْسَالِ؛ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، فَمَا كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ سَمَاعًا فَمَقْبُولٌ، وَمَا كَانَ عَنْ كَذَا فَهُوَ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُهُ أَسْعَدُ بْنُ فَيْرُوزَ الْكُوفِيُّ (قَالَ: خَرَجْنَا) أَيْ مِنْ بَلَدِنَا (لِلْعُمْرَةِ) أَيْ لِأَجْلِهَا وَقَصْدِهَا وَتَحْصِيلِهَا (فَلَمَّا نَزَلْنَا بِبَطْنِ نَخْلَةَ) قَرْيَةٌ مَشْهُورَةٌ شَرْقِيَّةَ مَكَّةَ تُسَمَّى الْآنَ بِالْمَضِيقِ؛ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ (تَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ) أَيِ اجْتَمَعْنَا لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِكَمَالِ ظُهُورِهِ، أَوْ أَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا لِخَفَاءِ نَظَرِهِ أَوْ عَدَمِ عِلْمِهِ بِمَسْقَطِ قَمَرِهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْهِلَالِ تُكْرَهُ لِأَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فِيهِ أَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى الْإِشَارَةِ عِنْدَ الْإِرَاءَةِ فَتُحْمَلُ الْكَرَاهَةُ عَلَى وَقْتِ عَدَمِ الضَّرُورَةِ (فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ) أَيْ صَاحِبُ ثَلَاثِ لَيَالٍ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ (وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، فَلَقِينَا) أَيْ نَحْنُ (ابْنَ عَبَّاسٍ) بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَفَتْحِ الْيَاءِ فِي لَقِينَا وَالْمَعْنَى هُوَ لَقِيَنَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لَفْظًا وَمَعْنًى؛ فَإِنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْأَدَبِ (فَقُلْنَا) أَيْ لَهُ (إِنَّا) أَيْ مَعْشَرَ الْقَوْمِ (رَأَيْنَا الْهِلَالَ) أَيْ مُرْتَفِعًا جِدًّا (فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، فَقَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (أَيُّ لَيْلَةٍ) بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ أَيَّةِ لَيْلَةٍ (رَأَيْتُمُوهُ؟) أَيِ الْهِلَالَ فِيهَا (قُلْنَا: لَيْلَةَ كَذَا) أَيْ رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ كَذَا وَهُوَ الْإِثْنَيْنِ مَثَلًا (وَكَذَا) وَهُوَ لَيْلَةُ الثُّلَاثَاءَ (فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدَّهُ لِلرُّؤْيَةِ) أَيْ جَعَلَ مُدَّةَ رَمَضَانَ زَمَانَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ؛ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ لِوَقْتِهَا. فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّامَ لِلتَّوْقِيتِ فَلَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى بَعْدَ فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْمَعْنَى يَتِمُّ بِدُونِهِ (فَهُوَ) أَيْ رَمَضَانُ (لِلَيْلَةِ رَأَيْتُمُوهُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِإِضَافَةِ " لَيْلَةِ " إِلَى الْجُمْلَةِ، وَفِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِالتَّنْوِينِ، وَيَدُلُّ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ " أَيُّ لَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ " غَايَتُهُ أَنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهَا فِيهِمَا، وَالْمَعْنَى رَمَضَانُ حَاصِلٌ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِكِبَرِهِ، بَلْ وَرَدَ أَنَّ انْتِفَاخَ الْأَهِلَّةِ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فَهُوَ حَاصِلٌ وَقْتَ لَيْلَةِ الرُّؤْيَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِإِضَافَتِهِ الْوَقْتَ إِلَى اللَّيْلَةِ وَهِيَ الْوَقْتُ أَيْضًا (وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ (قَالَ: أَهْلَلْنَا رَمَضَانَ) فِي النِّهَايَةِ أَهَلَّ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ إِذَا لَبَّى وَرَفَعَ صَوْتَهُ، وَمِنْهُ إِهْلَالُ الْهِلَالِ وَاسْتِهْلَالُهُ إِذَا رَفَعَ الصَّوْتَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ اهـ فَمَعْنَاهُ رَأَيْنَا هِلَالَ رَمَضَانَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ تَرَاءَيْنَاهُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى (وَنَحْنُ بِذَاتِ عِرْقٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَوْقَ بَطْنِ نَخْلَةَ بِنَحْوِ يَوْمٍ، إِذْ هِيَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَبَطْنُ نَخْلَةَ عَلَى مَرْحَلَةٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ،

(فَأَرْسَلْنَا رَجُلًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ) أَيْ فَسَأَلَهُ عَمَّا وَقَعَ بَيْنَنَا مِمَّا سَبَقَ فَقَالَ (ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّهُ لِرُؤْيَتِهِ ") قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَطَالَ مُدَّتَهُ إِلَى الرُّؤْيَةِ، أَيْ أَطَالَ مُدَّةَ شَعْبَانَ إِلَى زَمَانِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَأَوْضَحُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ابْتِدَاءَ مُدَّتِهِ حَاصِلًا بَعْدَ رُؤْيَتِهِ فَغَيْرُ وَاضِحٍ، بَلْ فَاسِدٌ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَمَدَّهُ رَاجِعٌ إِلَى شَعْبَانَ، وَفِي لِرُؤْيَتِهِ إِلَى رَمَضَانَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ لِرَمَضَانَ كَمَا وَهِمَ لَا مَعْنَى إِلَى لِأَمْرِ رَمَضَانَ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى بَعْدَ فَالْمَعْنَى أَطَالَ مُدَّةَ رَمَضَانَ بَعْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ لَصَحَّ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ، فَتَدَبَّرْ " فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ " يُقَالُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ أَيِ اسْتَعْجَمَ مِثْلُ غُمَّ، أَيْ فَإِنْ أُخْفِيَ عَلَيْكُمْ بِنَحْوِ غَيْمٍ " فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ " أَيْ عَدَدَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُنَافِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَا قَبْلَهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ تَرَاءَوْهُ بِذَاتِ عِرْقٍ، وَتَنَازَعُوا فِيهِ فَأَرْسَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَأَجَابَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلُوا بَطْنَ نَخْلَةَ رَأَوْهُ فَسَأَلُوهُ شِفَاهًا، فَأَجَابَهُمْ بِمَا يُطَابِقُ الْجَوَابَ، وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْحُكْمِ بِدُخُولِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ شَعْبَانَ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ قَوْلُهُ لِلَيْلَةِ رَأَيْتُمُوهُ أَنْ لَا عِبْرَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَإِنَّهُ لَوْ رُؤِيَ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ شَعْبَانَ أَوْ رَمَضَانَ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُحْكَمْ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَلَا الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَلَا يُفْطِرُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يُمْسِكُهُ مِنْ شَعْبَانَ، بَلْ إِنْ رُؤِيَ بَعْدَ الْغُرُوبِ حُكِمَ بِهِ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ، وَإِلَّا فَلَا لِلْخَبَرِ السَّابِقِ: " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ "، وَلِمَا صَحَّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْسَلَ إِلَى جُنْدٍ لَهُ بِالْعِرَاقِ: إِنَّ هَذِهِ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتَ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ نَاسًا رَأَوْا هِلَالَ الْفِطْرِ نَهَارًا فَأَتَمَّ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْلِ، وَقَالَ: لَا، حَتَّى يُرَى مِنْ حَيْثُ يُرَى بِاللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَصْلُحُ أَنْ نُفْطِرَ حَتَّى تَرَوْهُ لَيْلًا مِنْ حَيْثُ يُرَى، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِّينَا فِي ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ غَيْرُهُ: وَعَنْ عَلِيٍّ وَأَنَسٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ، وَرَوَى مَالِكٌ بَلَاغًا أَنَّ الْهِلَالَ رُؤِيَ زَمَنَ عُثْمَانَ بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى أَمْسَى، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنْ رُؤِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلِلْمَاضِيَةِ أَوْ بَعْدَهُ فَلِلْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ لَوْ رُؤِيَ يَوْمَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ يَكُونُ لِلْمَاضِيَةِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّهْرِ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ اهـ، وَبِهِ يَتَأَيَّدُ الْمُعْتَمَدُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ حَرَامٌ، وَيَنْدَفِعُ اعْتِمَادُ مَا نُقِلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ صَوْمَهُ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ اهـ، وَفِي انْدِفَاعِ الِاعْتِمَادِ يُحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِنَادُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُسَنَّ صَوْمُهُ إِذَا أُطْبِقَ الْغَيْمُ لِقَوْلِ أَحْمَدَ بِوُجُوبِهِ، لِأَنَّ الْخِلَافَ إِذَا خَالَفَ سُنَّةً صَحِيحَةً لَا يُرَاعَى اهـ وَفِيهِ أَنَّ هَذَا مُجَازَفَةٌ صَرِيحَةٌ، وَالْحَقُّ مَذْهَبُنَا الْمُتَوَسِّطُ الْأَعْدَلُ، فَتَأَمَّلْ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْوَجَلِ.

[باب في مسائل متفرقة من كتاب الصوم]

[باب في مسائل متفرقة من كتاب الصوم] (بَابٌ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1982 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابٌ) أَيْ: فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الصَّوْمِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1982 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَسَحَّرُوا ") أَمْرُ نَدْبٍ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ أَيْ تَنَاوَلُوا شَيْئًا مَا وَقْتَ السَّحَرِ، لِحَدِيثِ " «تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجَرْعَةِ مَاءٍ» "، وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، فِي الْقَامُوسِ: السَّحَرُ هُوَ قُبَيْلُ الصُّبْحِ، وَفِي الْكَشَّافِ هُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: وَقْتُهُ يَدْخُلُ بِنِصْفِ اللَّيْلِ " فَإِنَّ فِي السَّحُورِ " الرِّوَايَةُ الْمَحْفُوظَةُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَتْحُ السِّينِ وَهُوَ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ " بَرَكَةً " لِأَنَّ فِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا بِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَلِكَوْنِهِ يَسْتَعِينُ بِهِ الصَّائِمُ عَلَى صَوْمِهِ لِقِيَامِ ذَلِكَ الْأَكْلِ مَقَامَ أَكْلِ يَوْمِهِ، فِي النِّهَايَةِ أَكْثَرُ مَا يُرْوَى بِالْفَتْحِ وَقِيلَ الصَّوَابُ بِالضَّمِّ، لِأَنَّهُ الْمَصْدَرُ، وَالْأَجْرُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الطَّعَامِ اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ

يُقَالُ الصَّوَابُ بِالْفَتْحِ لِأَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِاسْتِعْمَالِ السُّنَّةِ، فَإِذَا أُثِيبَ عَلَى أَثَرِهِ فَبِالْأَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ فَيُفِيدُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَا يَخْفَى، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " «مِدَادُ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ» " مَعَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْبَرَكَةِ بِالثَّوَابِ غَرِيبٌ، وَسَيَأْتِي: هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ حُصُولُ التَّقَوِّي بِهِ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اسْتَعِينُوا بِمُقَابَلَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَبِأَكْلِ السَّحُورِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ» "، أَوِ الْمُرَادُ زِيَادَةُ الثَّوَابِ لِاسْتِنَانِهِ بِسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَرْقُ مَا بَيْنَ صَوْمِنَا وَصَوْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» " وَلَا مُنَافَاةَ، فَلْيَكُنِ الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالسَّحُورُ مَا يُؤْكَلُ فِي السَّحَرِ وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ فِي أَكْلِ السَّحُورِ بَرَكَةٌ بِنَاءً عَلَى ضَبْطِهِ بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ سَحَرٍ، فَأَمَّا عَلَى فَتْحِهَا وَهُوَ الْأَعْرَفُ فِي الرِّوَايَةِ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ فِي السَّحَرِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ السُّحُورَ جَمْعُ سَحَرٍ، غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ عَلَى رِوَايَةِ فَتْحِ السِّينِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي أَكْلِ السَّحُورِ لَا فِي نَفْسِ السُّحُورِ، كَمَا قِيلَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «وَبِأَكْلِ السَّحُورِ» " فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي كَلَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

1983 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1983 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ ") مَا زَائِدَةٌ أُضِيفَ إِلَيْهَا الْفَصْلُ بِمَعْنَى الْفَرْقِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ تَصْحِيفٌ " أَكْلَةُ السَّحَرِ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَرَّةُ، قَالَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ اللُّقْمَةُ، وَهُوَ كَذَا فِي نُسْخَةٍ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّحُورَ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَبَاحَهُ لَنَا إِلَى الصُّبْحِ بَعْدَ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْنَا أَيْضًا فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ، وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يَنَامُوا أَوْ مُطْلَقًا، وَمُخَالَفَتُنَا إِيَّاهُمْ تَقَعُ مَوْقِعَ الشُّكْرِ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ، فَقَوْلُ ابْنِ الْهُمَامِ: إِنَّهُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ غَيْرُ صَحِيحٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1984 - وَعَنْ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1984 - (وَعَنْ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ ") أَيْ مَوْصُوفِينَ بِخَيْرٍ كَثِيرٍ أَوِ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ ضِدُّ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ " مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ " أَيْ مَا دَامُوا عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ، وَيُسَنُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى الصَّلَاةِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ بِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَإِنَّ فِي التَّعْجِيلِ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَهُ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ أَيِ اخْتِلَاطِهَا، ثُمَّ صَارَ عَادَةً لِأَهْلِ الْبِدْعَةِ فِي مِلَّتِنَا اهـ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَلَوْ أَخَّرَ لِتَأْدِيبِ النَّفْسِ وَمُوَاصَلَةِ الْعِشَائَيْنِ بِالنَّفْلِ غَيْرَ مُعْتَقَدٍ وُجُوبَ التَّأْخِيرِ لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ، أَقُولُ بَلْ يَضُرُّهُ حَيْثُ يَفُوتُهُ السُّنَّةَ، وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ بِشَرْبَةِ مَاءٍ لَا يُنَافِي التَّأْدِيبَ وَالْمُوَاصَلَةَ، مَعَ أَنَّ التَّحْصِيلَ إِظْهَارُ الْعَجْزِ الْمُنَاسِبِ لِلْعُبُودِيَّةِ وَمُبَادَرَةٌ إِلَى قَبُولِ الرُّخْصَةِ مِنَ الْحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ التُّورِبِشْتِيَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْخَصْلَةُ الَّتِي لَمْ يَرْضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقُولُ: يُشَابِهُ هَذَا التَّأْخِيرُ تَقَدُّمَ صَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَفِيهِ أَنَّ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ هِيَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، مَنْ تَعَوَّجَ عَنْهَا فَقَدِ ارْتَكَبَ الْمُعْوَجَّ مِنَ الضَّلَالِ وَلَوْ فِي الْعِبَادَةِ اهـ وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أَعْجَلَ النَّاسِ إِفْطَارًا وَأَبْطَأَهُمْ سَحُورًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَزَادَ أَحْمَدُ: " وَأَخَّرُوا السَّحُورَ ".

1985 - وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1985 - (وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ ") أَيْ ظَلَامُهُ " مِنْ هَاهُنَا " أَيْ جَانِبِ الشَّرْقِ " وَأَدْبَرَ النَّهَارُ " أَيْ ضِيَاؤُهُ " مِنْ هَاهُنَا " أَيْ جَانِبِ الْغَرْبِ " وَغَرَبَتْ " بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ غَابَتِ " الشَّمْسُ " أَيْ كُلُّهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ لِبَيَانِ كَمَالِ الْغُرُوبِ كَيْلَا يُظَنَّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِفْطَارُ لِغُرُوبِ بَعْضِهَا اهـ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَيْنِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ غُرُوبَهَا عَنِ الْعُيُونِ لَا يَكْفِي لِأَنَّهَا قَدْ تَغِيبُ وَلَا تَكُونُ غَرَبَتْ حَقِيقَةً فَلَا بُدَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْغُرُوبِ اهـ وَهُوَ غَرِيبٌ غَيْرُ صَحِيحٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ، وَلِذَا اقْتَصَرَ الْعُلَمَاءُ عَلَى

ذِكْرِهِ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّ الْقَيْدَ الثَّانِيَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتِمُّ كَلَامُهُمْ لَوْ كَانَ غَرَبَتْ مُقَدَّمًا فَيَرْجِعُ الْحُكْمُ إِلَى مَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ " فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " أَيْ صَارَ مُفْطِرًا حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يُفْطِرْ حِسًّا، كَذَا فِي الرِّوَايَةِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، بِدَلِيلِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى نِيَّةِ الصَّوْمِ لِلْغَدِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ وَيَشْرَبْ، وَقِيلَ: دَخَلَ فِي وَقْتِ الْإِفْطَارِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُوَاصِلِ أَيْ لَيْسَ لِلْمُوَاصِلِ فَضْلٌ عَلَى الْآكِلِ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَا يَقْبَلُ الصَّوْمَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِخْبَارِ عَلَى الْإِنْشَاءِ إِظْهَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى وُقُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ فَلْيُفْطِرِ الصَّائِمُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ مَنُوطَةٌ بِتَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ وَحَصَلَ وَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف: 10 - 11] أَيْ آمِنُوا وَجَاهِدُوا، وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الصَّوْمَ يَنْقَضِي وَيَتِمُّ بِتَمَامِ الْغُرُوبِ هُوَ مِمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ.

1986 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبَيْتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1986 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ ") أَيْ تَتَابُعِ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ إِفْطَارٍ بِاللَّيْلِ، وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ أَنَّهُ يُورِثُ الضَّعْفَ وَالسَّآمَةَ وَالْقُصُورَ عَنْ أَدَاءِ غَيْرِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَقِيلَ: النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: لِلتَّنْزِيهِ، قَالَ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ اهـ وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ» ، الْحَدِيثَ، كَمَا فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ، وَقِيلَ: هُوَ صَوْمُ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفْطِرَ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّةَ، وَيَرُدُّهُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ ") بِكَسْرِ الْمِيمِ " إِنِّي " اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِنَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَعْدَ نَفْيِهَا بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ " أَبَيْتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي " قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا خَبَرٌ وَإِمَّا حَالٌ إِنْ كَانَ تَامَّةً " وَيَسْقِينِي " بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَيُضَمُّ، قَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " وَأَيُّكُمْ مِثْلِي " الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ - تَعَالَى - يُفِيضُ عَلَيْهِ مَا يَسُدُّ مَسَدَّ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَيُقَوِّيهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَحْرُسُهُ مِنَ الْخَلَلِ الْمُفْضِي إِلَى ضَعْفِ الْقُوَى وَكَلَالِ الْأَعْضَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْخَطَّابِيِّ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ ذُكِرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الظَّاهِرِ بِأَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - طَعَامًا وَشَرَابًا لَيَالِيَ صِيَامِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَرَامَةً لَهُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ " أَيُّكُمْ مِثْلِي " يُفِيدُ التَّوْبِيخَ الْمُؤْذِنَ بِالْبُعْدِ الْبَعِيدِ، وَكَذَلِكَ لَفْظَةُ مِثْلِي، لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ هُوَ عَلَى صِفَتِي وَمَنْزِلَتِي وَقُرْبِي مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى، وَمِنْ ثَمَّةَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ (أَبِيتُ) اهـ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ مِنْ عِنْدِهِ - تَعَالَى - كَرَامَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ: " وَأَيُّكُمْ مِثْلِي "، كَمَا أَنَّهُ يُضْعِفُهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ ; فَإِنَّ الْوِصَالَ مَعَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنَ الْمُحَالِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 1987 - عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ يَجْمَعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمَيُّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَفَهُ عَلَى حَفْصَةَ مَعْمَرٌ وَالزَّيْدِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ الَأَيْلِيُّ كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 1987 - (عَنْ حَفْصَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ لَمْ يَجْمَعِ ") بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدْ قِيلَ الْإِجْمَاعُ وَالْإِزْمَاعُ وَالْعَزْمُ بِمَعْنًى، وَهُوَ إِحْكَامُ النِّيَّةِ، وَقِيلَ الْإِجْمَاعُ هُوَ الْعَزْمُ التَّامُّ، وَحَقِيقَتُهُ جَمْعُ رَأْيِهِ عَلَيْهِ، أَيْ مِنْ لَمْ يَنْوِ " الصِّيَامَ " وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ أَجْمَعَ الْأَمْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ وَأَزْمَعَ عَلَيْهِ وَأَزْمَعَهُ أَيْضًا إِذَا صَمَّمَ عَزْمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} [يوسف: 102] أَيْ أَحْكَمُوهُ بِالْعَزِيمَةِ، وَالْمَعْنَى مَنْ لَمْ يُصَمِّمِ الْعَزْمَ عَلَى الصَّوْمِ " قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ " وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ بِلَا نِيَّةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ وَدَاوُدَ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى جَوَازِ النَّفْلِ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَخَصَّصُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتِينِي فَيَقُولُ: " أَعْنَدَكِ غَدَاءٌ؟ " فَأَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: " إِنِّي صَائِمٌ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنِّي إِذَنْ لَصَائِمٌ "، وَإِذَنْ لِلِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ اهـ وَالْغَدَاءُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمِلَةِ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَمِنْ ثَمَّةَ

لَمْ تَجُزِ النِّيَّةُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا مَعَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنْ تُوجَدَ النِّيَّةُ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ فَيَكُونُ قَبْلَ الصَّحْوَةِ الْكُبْرَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ نِيَّةَ صَوْمِ النَّفْلِ تَصِحُّ قَبْلَ الْغُرُوبِ لِمَا صَحَّ عَنْ فِعْلِ حُذَيْفَةَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِ التَّبْيِيتِ فِي فَرْضٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَهُ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ كَرَمَضَانَ، وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ، فَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَإِسْحَاقَ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ قَالُوا: لَوْ نَوَى أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صِيَامَ جَمِيعِ الشَّهْرِ أَجْزَأَهُ لَأَنَّ الْكُلَّ كَصَوْمِ يَوْمٍ وَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى الزَّكَاةِ لَا يُقَابِلُ النَّصَّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمَيُّ) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ، وَهُوَ أَصَحُّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَلَمْ يَصِحَّ رَفْعُهُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَاهُ اللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ مَرْفُوعًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَفَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَهُوَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَرَوَى الْخَطَّابِيُّ قَالَ: وَزِيَادَاتُ الثِّقَاتِ مَقْبُولَةٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَقَامَ إِسْنَادَهُ وَرَفَعَهُ، وَهُوَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» " وَقَالَ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: اخْتُلِفَ فِي رَفْعِ الْحَدِيثِ وَوَقْفِهِ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقْفَهُ بَعْدَ أَنْ أَطْنَبَ النَّسَائِيُّ فِي تَخْرِيجِ طُرِقِهِ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنِ الْبُخَارِيِّ تَرْجِيحَ وَقْفِهِ، وَعَمِلَ بِظَاهِرِ الْإِسْنَادِ جَمَاعَةٌ فَصَحَّحُوا رَفْعَهُ، مِنْهُمُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حَزْمٍ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَفَهُ عَلَى حَفْصَةَ مَعْمَرٌ) بِسُكُونِ الْعَيْنِ بَيْنَ فَتْحَتَيِ الْمِيمَيْنِ (وَالزُّبَيْدِيُّ) بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ صَاحِبُ الزُّهْرِيِّ (وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ) أَيِ ابْنُ يَزِيدٍ (الَأَيْلِيُّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَبِاللَّامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: نَسَبُهُ إِلَى بَلْدَةٍ بِالشَّامِ، ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ) قَالَ النَّوَوِيُّ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ كَثِيرَةٍ رَفْعًا، وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الْمَوْصُولَةِ: رِجَالُ إِسْنَادِهِ كُلُّهُمْ أَجِلَّةٌ ثِقَاتٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ الْحَدِيثِ وَاسْتُحْضِرَتِ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ أَنَّ النَّفْيَ إِذَا أُطْلِقَ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ لِنَفْيِ الْحَقِيقَةِ دُونَ نَفْيِ كَمَالِهَا عُلِمَ مِنْهُ وُجُوبُ النِّيَّةِ، وَرَدَّ قَوْلَ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَزُفَرَ: لَا تَجِبْ لِرَمَضَانَ نِيَّةٌ لِتَعْيِينِهِ، وَعَدَمِ انْعِقَادِ غَيْرِهِ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي لَفْظِهِ " «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» " يُجْمَعُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ يَبِيتُ وَلَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اللَّيْلِ، رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى وَقْفِهِ، وَلَنَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ: أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَكَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يُصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» "، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إِيجَابٍ قَبْلَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ إِذْ لَا يُؤْمَرُ بِإِمْسَاكٍ مَنْ أَكَلَ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ إِلَّا فِي يَوْمٍ مَفْرُوضِ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ إِذَا أَفْطَرَ فِيهِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ وَلَمْ يَنْوِهِ لَيْلًا أَنَّهُ تُجْزِئُهُ نِيَّتُهُ نَهَارًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَى مَرْوِيِّهِ لِقُوَّةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا رَوَاهُ بَعْدَ مَا نَقَلَنَا فِيهِ مِنِ الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهِ، فَيَلْزَمُ إِذْ قُدِّمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ كَمَا فِي أَمْثَالِهِ مِنْ نَحْوِ ( «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ» ) وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ اهـ مُلَخَّصًا.

1988 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ أَحَدُكُمْ وَالْإِنَاءُ فِي يَدِهِ فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1988 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ ") أَيْ أَذَانَ الصُّبْحِ " أَحَدُكُمْ وَالْإِنَاءُ " أَيِ الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهُ أَوْ يَشْرَبُ مِنْهُ " فِي يَدِهِ " جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ " فَلَا يَضَعْهُ " أَيِ الْإِنَاءَ " حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ " أَيْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهَذَا إِذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الطُّلُوعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ طُلُوعَ الصُّبْحِ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ طَلَعَ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَلَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» "، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَائِدَةُ الْقَيْدِ، قَالَ: أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنْ يَسْمَعَ النِّدَاءَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي الصُّبْحِ لِتَغَيُّمِ الْهَوَاءِ مَثَلًا فَلَا يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ بِأَذَانِهِ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ لِعِلْمِهِ أَنَّ دَلَائِلَ الْفَجْرِ مَعْدُومَةٌ وَلَوْ ظَهَرَتْ لِلْمُؤَذِّنِ لَظَهَرَتْ لَهُ أَيْضًا، فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ طُلُوعَهُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَذَانِ الصَّارِخِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِمْسَاكِ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُشْعِرُ دَلِيلُ الْخِطَابِ بِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِنَاءُ فِي يَدِهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ تَعْجِيلَ الْإِفْطَارِ مَسْنُونٌ، لَكِنَّ هَذَا مِنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ لَهُ مَفْهُومٌ اتِّفَاقًا اهـ يَعْنِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَّا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا اعْتِبَارَ بِالْمَفْهُومِ إِلَّا فِي الْمَسْأَلَةِ لَا فِي الْأَدِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ: إِيمَاءً وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ طَلَبُ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ، أَيْ إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ نِدَاءَ الْمَغْرِبِ وَصَادَفَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنَاءَ فِي يَدِهِ لِحَالَةٍ أُخْرَى فَلْيُبَادِرْ بِالْفِطْرِ مِنْهُ وَلَا يُؤَخِّرْ إِلَى وَضْعِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ الشَّارِحِ، وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْإِنَاءُ فِي يَدِهِ لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ بَلْ لِلْمُبَالَغَةِ فِي السُّرْعَةِ اهـ وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ لِحَاجَةٍ أُخْرَى يَرُدُّهُ صَرِيحُ الْحَدِيثِ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ قَيْدٌ احْتِرَازِيٌّ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ إِمْكَانَ سُرْعَةِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ لِتَقَارُبِ وَقْتِهِ وَاسْتِدْرَاكِ حَاجَتِهِ وَاسْتِشْرَافِ نَفْسِهِ وَقُوَّةِ نَهْمَتِهِ وَتَوَجُّهِ شَهْوَتِهِ بِجَمِيعِ هِمَّتِهِ مِمَّا يَكَادُ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ مُنِعَ مِنْهُ لِمَا امْتَنَعَ فَأَجَازَهُ الشَّارِعُ - رَحْمَةً عَلَيْهِ، وَتَدْرِيجًا لَهُ بِالسُّلُوكِ وَالسَّيْرِ إِلَيْهِ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِي الصُّبْحِ الْمُرَادِ فِي الصَّوْمِ. فَقَدْ ذَكَرَ الشُّمُنِّيُّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَّلُ طُلُوعِ الصُّبْحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ: اسْتِنَارَتُهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْأَعْمَشِ، قَالَ مَسْرُوقٌ: لَمْ يَكُونُوا يَعُدُّونَ الْفَجْرَ فَجْرَكُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَعُدُّونَ الْفَجْرَ الَّذِي يَمْلَأُ الْبُيُوتَ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: الْأَوَّلُ أَحْوَطُ، وَالثَّانِي أَرْفَقُ اهـ وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَبْنِيٌّ عَلَى الرِّفْقِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظُ التَّبْيِينِ فِي الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَجْرِ فِي الْآيَةِ الْإِسْفَارُ فَهُوَ مِمَّا كَادَ الْإِجْمَاعُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ يَحِلُّ تَعَاطِي الْمُفْطِرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَا أَظُنُّ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ يَصِحُّ عَنْهُمَا اهـ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فَالْقَائِلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ يَكْفُرُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

1989 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1989 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا» ") أَيْ أَكْثَرُهُمْ تَعْجِيلًا فِي الْإِفْطَارِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الْمُتَابَعَةُ لِلسُّنَّةِ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الْبِدْعَةِ وَالْمُخَالَفَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ اهـ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَفْضَلِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْحَدِيثِ تُوجِبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ - تَعَالَى - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِالْحَدِيثِ الْآتِي: " «لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ» "، وَسَبَبُهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ الْحَنَفِيَّةَ سَمْحَاءُ سَهْلَةٌ لَيْسَ فِيهَا حَرَجٌ لِيَسْهُلَ قِيَامُهُمْ بِهَا وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا، وَلِذَا قِيلَ: عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَغُلِبُوا وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُقَيِّمُوا الدِّينَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلِأَنَّهُ إِذَا أَفْطَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ يُؤَدِّيهَا عَنْ حُضُورِ قَلْبٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسٍ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ اهـ وَلِذَا قِيلَ: الطَّعَامُ الْمُمْتَزِجُ بِالصَّلَاةِ خَيْرٌ مِنَ الصَّلَاةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالطَّعَامِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِمَا، نَقْلَهُ مِيرَكُ.

1990 - وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ غَيْرُ التِّرْمِذِيِّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1990 - (وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ ") الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ " عَلَى تَمْرٍ " أَيْ عَلَى تَمْرَةٍ اكْتِفَاءً بِأَصْلِ السُّنَّةِ، وَإِلَّا فَأَدْنَى كَمَالِهَا ثَلَاثٌ كَمَا سَيَأْتِي، مَعَ أَنَّ التَّمْرَ اسْمُ جِنْسٍ " فَإِنَّهُ " أَيِ التَّمْرُ " بَرَكَةٌ " أَيْ ذُو بِرْكَةٍ وَخَيْرٍ كَثِيرٍ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنَّ الْحَلَاءَ يُسْرِعُ الْقُوَّةَ إِلَى الْقَوِيِّ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى زَوَالِ مَرَارَةِ الْعِصْيَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فَإِنَّ الْإِفْطَارَ عَلَى التَّمْرِ فِيهِ ثَوَابٌ كَثِيرٌ وَبَرَكَةٌ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ عَدَمَ حُسْنِ الْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ طَهُورٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَوْلَى أَنْ تُحَالَ عِلَّتُهُ إِلَى الشَّارِعِ، وَأَمَّا مَا يَجْرِي فِي الْخَاطِرِ وَهُوَ أَنَّ التَّمْرَ حُلْوٌ وَقُوتٌ، وَالنَّفْسُ قَدْ تَعِبَتْ بِمَرَارَةِ الْجُوعِ فَأَمَرَ الشَّارِعُ بِإِزَالَةِ هَذَا التَّعَبِ بِشَيْءٍ هُوَ قُوتٌ وَحُلْوٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ خَوَاصِّ التَّمْرِ أَنَّهُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَعِدَةِ إِنْ وَجَدَهَا خَالِيَةً حَصَلَ بِهِ الْغِذَاءُ وَإِلَّا أَخْرَجَ مَا هُنَاكَ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ، وَقَوْلُ الْأَطِبَّاءِ إِنَّهُ يُضْعِفُ الْبَصَرَ مَحْمُولٌ عَلَى كَثِيرِهِ الْمُضِرِّ دُونَ قَلِيلِهِ فَإِنَّهُ يُقَوِّيهِ " فَإِنْ لَمْ يَجِدْ " أَيِ التَّمْرَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْحَلَوِيَّاتِ " فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ " أَيِ الْمَاءَ " طَهُورٌ " أَيْ بَالِغٌ فِي الطَّهَارَةِ فَيُبْتَدَأُ بِهِ تَفَاؤُلًا بِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لِأَنَّهُ مُزِيلُ الْمَانِعِ مِنْ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَلِذَا مَنَّ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى عِبَادِهِ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُزِيلُ الْعَطَشَ عَنِ النَّفْسِ اهـ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْإِفْطَارِ: " ذَهَبَ الظَّمَأُ " كَمَا سَيَأْتِي (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيُّ أَحَدٍ قَوْلَهُ " فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ " غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ: لَمْ يَذْكُرُوا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَ (غَيْرَ) مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ (فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى) أَيْ لَهُمْ أَوْ لَهُ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَنَحْوُهُ خَبَرُ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحُوهُ " «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلْيُفْطِرْ عَلَى التَّمْرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ التَّمْرَ فَعَلَى الْمَاءِ فَإِنَّهُ طَهُورٌ» " وَهَذَا التَّرْتِيبُ لِكَمَالِ السُّنَّةِ لَا لِأَصْلِهَا اهـ وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ التَّمْرُ مَوْجُودًا وَبَدَأَ بِالْمَاءِ أَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَلَا شَكَّ فِي مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَأَتَى بِالسُّنَّةِ فَالتَّرْتِيبُ مُعْتَبَرٌ كَمَا فِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْحَدِيثِيَّةِ، وَيُؤَكِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي وَهُوَ قَوْلُهُ.

1991 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1991 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْطِرُ) أَيْ فِي صِيَامِهِ (قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ) أَيِ الْمَغْرِبَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ، وَأَمَّا مَا صَحَّ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا بِرَمَضَانَ يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ حِينَ يَنْظُرَانِ إِلَى اللَّيْلِ الْأَسْوَدِ ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهُوَ لِبَيَانِ جَوَازِ التَّأْخِيرِ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُ التَّعْجِيلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُفْطِرُ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَأَنَّهُمَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا تَمْرٌ وَلَا مَاءٌ، أَوْ كَانَا غَيْرَ مُعْتَكِفَيْنِ، وَرَأَيَا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ مَكْرُوهَيْنِ، لَكِنَّ إِطْلَاقَ الْأَحَادِيثِ ظَاهِرٌ فِي اسْتِثْنَاءِ حَالِ الْإِفْطَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبَاتٌ) بِالرَّفْعِ أَيْ مَوْجُودَةٌ أَوْ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ (فَتُمَيْرَاتٌ) بِالْجَرِّ أَيْ فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ فَتُمَيْرَاتٌ عِوَضُهَا (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا) أَيْ شَرِبَ (حَسَوَاتٍ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ (مِنْ مَاءٍ) فِي النِّهَايَةِ: الْحُسْوَةُ بِالضَّمِّ الْجُرْعَةُ مِنْ شَرَابٍ بِقَدْرِ مَا يُحْسَى مَرَّةً وَاحِدَةً وَبِالْفَتْحِ مَرَّةٌ اهـ وَالظَّاهِرُ مِنْهُ تَرْجِيحُ الضَّمِّ فَلَا أَقَلَّ مِنْ جَوَازِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ: حَسَا زِيدٌ الْمَاءَ شَرِبَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَالْحُسْوَةُ بِالضَّمِّ: الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنْهُ، الْمَرَّةُ مِنَ الْحَسْوِ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ، وَقِيلَ: تَقْدِيمُ التَّمْرِ فِي الشِّتَاءِ وَالْمَاءِ فِي الصَّيْفِ لِرِوَايَةٍ بِهِ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَدْخُلَ جَوْفَهُ أَوَّلًا شَيْءٌ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَقَضِيَّتُهُ تَقْدِيمُ الزَّبِيبِ عَلَى الْمَاءِ، قِيلَ بَلِ الْحُلْوُ كُلُّهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكُلُّهُ ضَعِيفٌ، أَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنِ التَّمْرُ مَوْجُودًا فَقِيَاسٌ صَحِيحٌ، بَلْ وَرَدَ أَيْضًا

فِي حَدِيثٍ كَمَا سَبَقَ، وَإِلَّا فَمُعَارَضَتُهُ بِالنَّصِّ صَرِيحٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: السُّنَّةُ بِمَكَّةَ تَقْدِيمُ مَاءِ زَمْزَمَ عَلَى التَّمْرِ أَوْ خَلْطُهُ بِهِ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ خِلَافُ الِاتِّبَاعِ، وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَامَ عَامَ الْفَتْحِ أَيَّامًا كَثِيرَةً بِمَكَّةَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ خَالَفَ عَادَتَهُ الَّتِي هِيَ تَقْدِيمُ التَّمْرِ عَلَى الْمَاءِ، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَلَفْظُهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى ثَلَاثِ تَمَرَاتٍ، أَوْ شَيْءٍ لَمْ تُصِبْهُ النَّارُ» ، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ وَجَدَ تَمْرًا فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا فَلْيُفْطِرْ عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَهُ طَهُورٌ» " رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا.

1992 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا أَوْ جَهَّزَ غَازِيًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَمُحْيِي السُّنَّةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1992 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مِنْ فَطَّرَ صَائِمًا ") قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: التَّفْطِيرُ جَعْلُ أَحَدٍ مُفْطِرًا أَيْ مَنْ أَطْعَمَ صَائِمًا اهـ أَيْ عِنْدَ إِفْطَارِهِ " أَوْ جَهَّزَ غَازِيًا " أَيْ هَيَّأَ أَسْبَابَهُ مِنَ السِّلَاحِ وَالْفَرَسِ وَالنَّفَقَةِ " فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ " أَيِ الصَّائِمُ أَوِ الْغَازِي أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَهَذَا الثَّوَابُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى التَّقْوَى، وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: نَظَمَ الصَّائِمَ فِي سِلْكِ الْغَازِي لِانْخِرَاطِهِمَا فِي مَعْنَى الْمُجَاهَدَةِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقَدَّمَ الْجِهَادَ الْأَكْبَرَ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَمُحْيِي السُّنَّةِ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِهِ جُمْلَةً، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مُقَطَّعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِمَا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مَنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ» " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَفْظُ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَالنَّسَائِيِّ: " «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ جَهَّزَ حَاجًّا أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» " وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فَعَزَى الْحَدِيثَ إِلَى الْبَيْهَقِيِّ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَالْعَزْوُ إِلَى أَصْحَابِ السُّنَنِ أَوْلَى وَأَصْوَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِمَا لِأَنَّ لَفْظَهُمَا مُغَايِرٌ لِلَفْظِ الطَّرِيقَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُخْتَصَرٌ وَالثَّانِي مُطَوَّلٌ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُخَالَفَةِ بَقِيَّةِ الْأَلْفَاظِ.

1993 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: " ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1993 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَفْطَرَ) أَيْ بَعْدَ الْإِفْطَارِ (قَالَ: " ذَهَبَ الظَّمَأُ ") بِفَتْحَتَيْنِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: الظَّمَأُ مَهْمُوزُ الْآخِرِ مَقْصُورٌ وَهُوَ الْعَطَشُ، وَإِنَّمَا ذُكَرْتُ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا لِأَنِّي رَأَيْتُ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَتَوَهَّمَهُ مَمْدُودًا اهـ وَفِيهِ أَنَّهُ قُرِئَ (لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَاءٌ) بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَفِي الْقَامُوسِ: ظَمِئَ كَفَرِحَ ظَمَأً وَظَمَاءً، ظَمَاءَةٌ: عَطَشٌ أَوْ أَشَدٌّ الْعَطَشِ، وَلَعَلَّ كَلَامَ النَّوَوِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ خِلَافُ الرِّوَايَةِ لَا أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي اللُّغَةِ " وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ " أَيْ بِزَوَالِ الْيُبُوسَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْعَطَشِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ فَاسْتِرْوَاحٌ لِأَنَّ مِنْهَا نِعْمَةً مُسْتَقِلَّةً، نَعَمْ لَوْ عُكِسَ الْعَطَشُ لَكَانَ تَأْكِيدًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْجُمْلَةِ " وَثَبَتَ الْأَجْرُ " أَيْ زَالَ التَّعَبُ وَحَصَلَ الثَّوَابُ، وَهَذَا حَثٌّ عَلَى الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ التَّعَبَ يَسِيرٌ لِذَهَابِهِ وَزَوَالِهِ، وَالْأَجْرُ كَثِيرٌ لِثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ ثُبُوتِ الْأَجْرِ بَعْدَ زَوَالِ التَّعَبِ اسْتِلْذَاذٌ أَيَّ اسْتِلْذَاذٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخِيرِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ، وَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ - تَعَالَى، رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، أَوْ لِئَلَّا يَجْزِمَ كُلُّ أَحَدٍ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَجْرِ الْأَفْرَادِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِنْ بِمَعْنَى إِذْ فَتَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ مَا سَبَقَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَلَى مَا فِي الْحِصْنِ.

1994 - وَعَنْ مُعَاذٍ بْنِ زُهْرَةَ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ صَمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1994 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ زُهْرَةَ) تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنْهُ حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ الْكُوفِيُّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ) أَيْ دَعَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ قَرَأَ بَعْدَ الْإِفْطَارِ، وَمِنْهُ " اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ " قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي الْقَرِينَتَيْنِ عَلَى الْعَامِلِ دَلَالَةً عَلَى الِاخْتِصَاصِ إِظْهَارًا لِلِاخْتِصَاصِ فِي الِافْتِتَاحِ وَإِبْدَاءً لِشُكْرِ الصَّنِيعِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فِي الِاخْتِتَامِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلًا) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: مُعَاذُ بْنُ زُهْرَةَ، وَيُقَالُ أَبُو زُهْرَةَ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ، فَأَرْسَلَ حَدِيثًا فَوَهِمَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ، قَالَ مِيرَكُ: عِبَارَةُ أَبِي دَوُادَ هَكَذَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ زُهْرَةَ: بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَهُ، لَا يُقَالُ لِمِثْلِهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ إِلَى آخِرِهِ، وَمُعَاذُ بْنُ زُهْرَةَ بْنِ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَانْفَرَدَ بِإِخْرَاجِ حَدِيثِهِ هَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَلَيْسَ لَهُ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ اهـ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مَعَ إِرْسَالِهِ حُجَّةٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ وَالطَّبَرَانِيَّ رَوَيَاهُ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ: «لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةٌ لَا تُرَدُّ» ، وَوَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: " «يَا وَاسِعَ الْفَضْلِ اغْفِرْ لِي» "، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَانَنِي فَصُمْتُ وَرَزَقَنِي فَأَفْطَرْتُ» اهـ وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ " اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ " فَزِيَادَةٌ، (وَبِكَ آمَنْتُ) لَا أَصْلَ لَهَا وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا، وَكَذَا زِيَادَةُ (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَلِصَوْمِ غَدٍ نَوَيْتُ) بَلِ النِّيَّةُ بِاللِّسَانِ مِنَ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1995 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 1995 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا ") أَيْ غَالِبًا وَعَالِيًا أَوْ وَاضِحًا وَلَائِحًا " مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ " أَيْ مُدَّةَ تَعْجِيلِهِمُ الْفِطْرَ " لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ " أَيِ الْفِطْرَ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ وَتَبِعَهُمُ الْأَرْفَاضُ فِي زَمَانِنَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِوَامَ الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَعْدَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ فِي مُوَافَقَتِهِمْ تَلَفًا لِلدِّينِ، قَالَ - تَعَالَى - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

1996 - وَعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ قَالَ: «دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، قَالَتْ: أَيُّهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟ قُلْنَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَتْ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ أَبُو مُوسَى» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1996 - (وَعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ) كِلَاهُمَا تَابِعِيٌّ (عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلَانِ) مُبْتَدَأٌ (مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) صِفَةٌ وَهِيَ مُسَوِّغَةٌ لِكَوْنِ الْمُبْتَدَأِ نَكِرَةً وَالْخَبَرُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ (أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ) أَيْ يَخْتَارُ تَأْخِيرَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّرْتِيبَ الذِّكْرِيَّ يُفِيدُ التَّرْتِيبَ الْفِعْلِيَّ فِي الْعَمَلَيْنِ، وَإِلَّا قَالُوا: وَلَا تَمْنَعُ تَقْدِيمَ الْإِفْطَارِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى تَقْدِيرِ تَأْخِيرِهَا أَيْضًا (قَالَتْ: أَيُّهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟ قُلْنَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَتْ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآخَرُ أَبُو مُوسَى) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَوَّلُ عَمِلَ بِالْعَزِيمَةِ وَالسُّنَّةِ وَالثَّانِي بِالرُّخْصَةِ اهـ وَهَذَا بِمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفِعْلِ فَقَطْ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخِلَافُ قَوْلِيًّا فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اخْتَارَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّعْجِيلِ وَأَبُو مُوسَى اخْتَارَ عَدَمَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ، وَإِلَّا فَالرُّخْصَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ الْكُلِّ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ عَمَلُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى السُّنَّةِ وَعَمَلُ أَبِي مُوسَى عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ كَمَا سَبَقَ مِنْ عَمَلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكَانَ عُذْرُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعُذْرٌ بَارِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

1997 - وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: «دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى السَّحُورِ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: " هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1997 - (وَعَنِ الْعِرْبَاضِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى السَّحُورِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا (فِي رَمَضَانَ قَالَ) عَطْفٌ أَوْ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ " هَلُمَّ " أَيْ تَعَالَ، فِي النِّهَايَةِ: فِيهِ لُغَتَانِ، فَأَهْلُ الْحِجَازِ يُطْلِقُونَهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالِاثْنَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ وَيُؤَنَّثُ اهـ وَجَاءَ التَّنْزِيلُ بِلُغَةِ الْحِجَازِ " قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ " أَيْ أَحْضِرُوهُمْ " إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ " وَالْغَدَاءُ مَأْكُولُ الصَّبَاحِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ وَضَبَطَهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ أَوَّلِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِيهِمَا.

1998 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنَ التَّمْرُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1998 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ ") بِفَتْحِ السِّينِ لَا غَيْرَ " التَّمْرُ " قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا مَدَحَ التَّمْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِأَنَّ فِي نَفْسِ السَّحُورِ بَرَكَةٌ، وَتَخْصِيصُهُ بِالتَّمْرِ بَرَكَةً، عَلَى بَرَكَةِ إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ، لِيَكُونَ الْمَبْدُوءُ بِهِ وَالْمُنْتَهَى إِلَيْهِ الْبَرَكَةَ (رَوَاهُ أَبُو دُوَادَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) .

[باب تنزيه الصوم]

[بَابُ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1999 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ) أَيْ بَيَانُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَجِبُ تَبْعِيدُ الصَّوْمِ عَمَّا يُبْطِلُهُ أَوْ يُبْطِلُ ثَوَابَهُ أَوْ يَنْقُصُهُ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 1999 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ لَمْ يَدَعْ ") أَيْ يَتْرُكْ " قَوْلَ الزُّورِ " أَيِ الْبَاطِلَ وَهُوَ مَا فِيهِ إِثْمٌ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الزُّورُ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ، أَيْ مَنْ لَمْ يَتْرُكِ الْقَوْلَ الْبَاطِلَ مِنْ قَوْلِ الْكُفْرِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ وَالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ اجْتِنَابُهَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ارْتِكَابُهَا " وَالْعَمَلَ " بِالنَّصْبِ " بِهِ " أَيْ بِالزُّورِ يَعْنِي الْفَوَاحِشَ مِنَ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهَا فِي الْإِثْمِ كَالزُّورِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ " فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ " أَيِ الْتِفَاتٌ وَمُبَالَاةٌ، وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ يَنْفِي السَّبَبَ وَإِرَادَةَ نَفْيِ الْمُسَبِّبِ " فِي أَنْ يَدَعَ " أَيْ يَتْرُكَ " طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ " فَإِنَّهُمَا مُبَاحَانِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا تَرَكَهُمَا وَارْتَكَبَ أَمْرًا حَرَامًا مِنْ أَصْلِهِ اسْتَحَقَّ الْمَقْتَ، وَعَدَمَ قَبُولِ طَاعَتِهِ فِي الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ تَرْكُ الْمَعَاصِي مُطْلَقًا لَا تَرْكًا دُونَ تَرْكٍ، وَكَأَنَّ هَذَا مَأْخَذُ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّوْبَةَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَالصَّحِيحَةُ حِصَّتُهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهَا بِنَاءً عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْقَبُولِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ عَدَمُ الصِّحَّةِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، قَالَ الْقَاضِي: الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّوْمِ كَسْرُ الشَّهْوَةِ وَتَطْوِيعُ الْأَمَّارَةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ لَمْ يُبَالِ بِصَوْمِهِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ نَظَرَ عِنَايَةٍ، فَعَدَمُ الْحَاجَةِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَالْقَبُولِ، وَكَيْفَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَالْحَالُ أَنَّهُ تَرَكَ مَا يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ زَمَانِ الصَّوْمِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَارْتَكَبَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ وَالزُّورَ أَصْلُ الْفَوَاحِشِ، وَمَعْدِنُ الْمَنَاهِي، بَلْ قَرِينُ الشِّرْكِ، قَالَ - تَعَالَى - {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الشِّرْكَ وَالزُّورَ مُضَادٌّ لِلْإِخْلَاصِ، وَالصَّوْمُ بِالِاخْتِصَاصِ فَيَرْتَفِعُ بِمَا يُضَادُّهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ الْحَاكِمِ الَّذِي صَحَّحَهُ: " «لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَطْ إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» "، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْ يَتَأَكَّدَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي عَلَى الصَّائِمِ كَمَا قِيلَ فِي الْحَجِّ، لَكِنْ لَا يَبْطُلُ ثَوَابُهُ مِنْ أَصْلِهِ بَلْ كَمَالُهُ، فَلَهُ ثَوَابُ الصَّوْمِ وَإِثْمُ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِذَلِكَ ثَوَابُهُ مِنْ أَصْلِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَعَلِيلٍ مُبِينٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: يَتَأَكَّدُ عَلَى الصَّائِمِ أَيْ مِنْ حَيْثُ الصَّوْمُ فَلَا يُنَافِي كَوْنُهُ وَاجِبًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنْ يَكُفَّ لِسَانَهُ وَسَائِرَ جَوَارِحِهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَآكَدُ مِنْ ذَلِكَ كَفُّ مَا ذُكِرَ عَنِ الْمَعَاصِي بِأَسْرِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إِذِ الْإِجْمَاعُ قَائِمٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ عَنِ الْمُبَاحَاتِ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ قَوْلُهُ يُكْرَهُ لَهُ شَمُّ الرَّيَاحِينِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا وَلَمْسُهَا مُحْتَاجٌ إِلَى نَهْيٍ وَارِدٍ مَقْصُودٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ.

2000 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِأَرَبِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2000 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ رَخَّصَ فِي قُبْلَةِ الصَّائِمِ عُمَرُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهَا إِذَا لَمْ تُحَرِّكِ الشَّهْوَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْرَهُ لِلشَّابِّ وَيُرَخَّصُ لِلشَّيْخِ (وَيُبَاشِرُ) أَيْ بَعْضَ نِسَائِهِ، يُلْصِقُ الْبَشَرَةَ بِالْبَشَرَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يَلْمِسُ نِسَاءَهُ بِيَدِهِ (وَهُوَ صَائِمٌ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ صَائِمًا، زَادَ مُسْلِمٌ: فِي رَمَضَانَ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَعِنْدَنَا كُرْهُ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْجِمَاعَ أَوِ الْإِنْزَالَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُكْرَهُ الْقُبْلَةُ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنَ الْفِتْنَةِ اهـ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ) مِنْ مَلَكَ إِذَا قَدَرَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ صَارَ حَاكِمًا عَلَيْهِ (لِأَرَبِهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ الْحَاجَةُ وَتُرِيدُ بِهِ الشَّهْوَةَ، وَقَدْ يُرْوَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَيُفَسَّرُ تَارَةً بِأَنَّهُ الْحَاجَةُ وَتَارَةً بِأَنَّهُ الْعَقْلُ وَتَارَةً بِأَنَّهُ الْعُضْوُ، وَأُرِيدَ هَاهُنَا الْعُضْوُ الْمَخْصُوصُ، كَذَا ذُكِرَ لِأَنَّ الصَّدِّيقَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ذَكَرَتْ أَنْوَاعَ الشَّهْوَةِ مُتَرَقِّيَةً مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، فَبَدَأَتْ بِمُقَدِّمَتِهَا الَّتِي هِيَ الْقُبْلَةُ ثُمَّ ثَنَّتْ بِالْمُبَاشَرَةِ مِنْ نَحْوِ الْمُدَاعَبَةِ وَالْمُعَانَقَةِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تُعَبِّرَ عَنِ الْمُجَامَعَةِ فَكَنَّتْ عَنْهَا بِالْأَرَبِ، وَإِلَى عِبَارَةٍ أَحْسَنَ مِنْهَا اهـ وَفِيهِ أَنَّ الْمُسْتَحْسَنَ إِذًا أَنَّ الْأَرَبَ بِمَعْنَى الْحَاجَةِ كِنَايَةً عَنِ الْمُجَامَعَةِ، وَأَمَّا الذَّكَرُ فَغَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْأُنْثَى كَمَا لَا يَخْفَى، لَا سِيَّمَا فِي حُضُورِ الرِّجَالِ، ثُمَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ أَغْلَبَكُمْ وَأَقْدَرَكُمْ عَلَى مَنْعِ النَّفْسِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَتْ بِمِلْكِهِ حَاجَتَهُ فَبَعُدَ قَمْعِهِ الشَّهْوَةَ فَلَا يَخَافُ الْإِنْزَالَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِ الْقُبْلَةُ وَالْمُلَامَسَةُ بِالْيَدِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى حِفْظِ نَفْسِهِ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى هَوَاهُ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ، وَغَيْرُهُ قَلَّمَا يَصْبِرُ عَلَى تَرْكِهِمَا، لِأَنَّ غَيْرَهُ قَلَّمَا يِمْلِكُ هَوَاهُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونَانِ مَكْرُوهَيْنِ لِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ «أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَشَّ أَيْ نَشَطَ وَارْتَاحَ فَقَبَّلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِلًا: صَنَعْتُ أَمْرًا عَظِيمًا، فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

2001 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ حُلْمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2001 - (وَعَنْهَا) أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ) أَيِ الصُّبْحُ (فِي رَمَضَانَ) أَيْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ (وَهُوَ جُنُبٌ) سُمِّيَ بِهِ لِكَوْنِ الْجَنَابَةِ سَبَبًا لِتَجَنُّبِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِهِمَا فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ أَوْ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ (مِنْ غَيْرِ حُلْمٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَيُضَمُّ، وَهُوَ صِفَةٌ مُمَيِّزَةٌ أَيْ مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ بَلْ مِنْ جِمَاعٍ، فَإِنَّ الثَّانِي أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ فَيُعْرَفُ حُكْمُ الْأَوَّلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، بَلْ وَلَوْ وَقَعَ الِاحْتِلَامُ فِي حَالِ الصِّيَامِ لَا يَضُرُّ مَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَالِمُونَ مِنِ الِاحْتِلَامِ لِأَنَّهُ عَلَامَةُ تَأَتِّي الشَّيْطَانِ فِي حَالِ الْمَنَامِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا احْتَاجَتْ عَائِشَةُ لِقَوْلِهَا مِنْ غَيْرِ حُلْمٍ مَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَحْتَلِمُونَ لِأَنَّ هَذَا النَّفْيَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَلِمُونَ بِرُؤْيَةِ جِمَاعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِالنَّائِمِ وَهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الِاحْتِلَامُ بِمَعْنَى نُزُولِ الْمَنِيِّ فِي النَّوْمِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ وِقَاعٍ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ نَحْوِ امْتِلَاءِ الْبَدَنِ فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْخِلْقِيَّةِ أَوِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَفِيهِ أَنَّ الِاحْتِمَالَ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِدْلَالِ (فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا اغْتَسَلَ وَأَتَمَّ صَوْمَهُ، وَقِيلَ: يَبْطُلُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُبْطِلُ الْفَرْضَ دُونَ النَّفْلِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ شَرْحِ السُّنَّةِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] الْآيَةِ: فِي تَجْوِيزِ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى الصُّبْحِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْغُسْلِ إِلَيْهِ وَصِحَّةُ صَوْمِ الْمُصْبِحِ جُنُبًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً إِلَى الِانْفِجَارِ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ إِلَّا بَعْدَ الصُّبْحِ اهـ وَقَالَ جَمْعٌ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ لَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ: يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْفَجْرِ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَصْبَحَ مُجَامِعًا وَاسْتَدَامَ الْجِمَاعَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2002 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2002 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» ) قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ احْتَجَمَ فِي حَالِ اجْتِمَاعِ الصَّوْمِ مَعَ الْإِحْرَامِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ صَائِمًا مُحْرِمًا» ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَاوِيهِ " وَهُوَ صَائِمٌ " يُبْطِلُ مَا قِيلَ إِنَّمَا احْتَجَمَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا، وَالْمُسَافِرُ لَهُ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ وَغَيْرِهَا، وَوَجْهُ إِبْطَالِهِ لَهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الصَّوْمَ مَعَ الْحِجَامَةِ إِذْ لَا يُقَالُ: أَكَلَ وَهُوَ صَائِمٌ اهـ وَفِيهِ بَحْثٌ، قَالَ الْمُظْهِرُ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الْحِجَامَةُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْتِفَ شَعْرًا، وَكَذَا لِلصَّائِمِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَبْطُلُ صَوْمُ الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ عَطَاءٌ: يَبْطُلُ صَوْمُ الْمَحْجُومِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُكْرَهُ لَهُ مَخَافَةَ الضَّعْفِ، وَسَيَأْتِي دَلِيلُهُمْ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2003 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2003 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ نَسِيَ ") أَيْ أَنَّهُ فِي الصَّوْمِ " وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ " وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فَأَكَلَ وَشَرِبَ " فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ " يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا مِنْ وُجُوبِ إِتْمَامِهِ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، فَانْدَفَعَ تَقْيِيدُ ابْنِ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وُجُوبًا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فَرْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ: " «مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ» " لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» " قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَكَلَ نَاسِيًا فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَائِمٌ، فَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَاسْتَمَرَّ ثُمَّ تَذَكَّرَ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّ الْأَكْلَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى تَأَمُّلِ الْحَالِ، وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ: لَا يُفْطِرُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ كَثِيرًا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَبْطُلُ الصَّوْمُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ بِاخْتِيَارِهِ الْمُقْتَضِي لِفَسَادِ صَوْمِهِ بَلْ لِأَجْلِ إِنْسَائِهِ - تَعَالَى - لَهُ لُطْفًا بِهِ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَّلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ " فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ " فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ لِلشُّمُنِّيِّ: قَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي الْجِمَاعِ دُونَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجِبُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْجِمَاعِ دُونَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِمَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْحَاكِمُ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ» "، وَأَمَّا إِنْ أَفْطَرَ خَطَأً أَوْ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ يَقْضِي فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقْضِي فِيهِمَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» " وَلَنَا أَنَّ الْمُفْطِرَ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فَيَفْسَدُ صَوْمُهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي النَّاسِي، إِلَّا أَنَّا نَزَّلْنَاهُ فِيهِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ بِيَدِهِ، وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا نَفْيُ الْمَأْثَمِ وَرَفْعُهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّوْمِ اللُّغَوِيُّ فَيَكُونُ أَمْرًا بِالْإِمْسَاكِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، كَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ وَنَحْوِهِ، مَدْفُوعٌ أَوَّلًا بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ أَمْكَنَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ وَجَبَ، وَثَانِيًا بِأَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ يَدْفَعُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَصَوْمُهُ إِنَّمَا كَانَ الشَّرْعِيَّ، فَإِتْمَامُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالشَّرْعِيِّ، وَثَالِثًا بِأَنَّ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَسُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ صَائِمًا فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ نَاسِيًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَتِمَّ صَوْمَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ» " وَفِي لَفْظٍ: وَلَا قَضَاءَ عَلَيْكَ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ وَزَادَ فِيهِ: فَلَا تُفْطِرُ.

2004 - وَعَنْهُ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، قَالَ: " مَا لَكَ؟ " قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " هَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ: لَا قَالَ: " اجْلِسْ " وَمَكَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ، قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ؟ "، قَالَ: أَنَا، قَالَ: " خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ "، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتِ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي؟ ! فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: " أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2004 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ) أَيْ جَالِسُونَ أَوْ ذَوُو جُلُوسٍ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرَّجُلُ عَلَى مَا ضَبَطْنَا هُوَ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيُّ الْبَيَاضِيُّ، وَقِيلَ: سُلَيْمَانُ أَوْ سَلَمَةُ وَهُوَ أَصَحُّ، وَكَانَ قَدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ خَشْيَةَ أَنْ لَا يَمْلِكَ نَفْسَهُ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا فِي رَمَضَانَ، كَذَا وَجَدْنَاهُ فِي عِدَّةٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ) أَيْ بِحُصُولِ الذَّنْبِ

لِي، وَفِي الْمَصَابِيحِ: وَأَهْلَكْتُ، أَيْ زَوْجَتِي بِأَنْ حَصَّلْتُ لَهَا ذَنْبًا (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَا لَكَ؟ " أَيُّ شَيْءٍ حَصَلَ أَوْ وَقَعَ لَكَ؟ وَفِي الْمَصَابِيحِ: مَا شَأْنُكَ ; وَأَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَمْرُكَ وَحَالُكَ (قَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي) أَيْ جَامَعْتُهَا، وَزَادَ فِي الْمَصَابِيحِ: فِي رَمَضَانَ (وَأَنَا صَائِمٌ) كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: (وَاقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهَذَا أَخَذَ أَئِمَّتُنَا فَقَالُوا: إِنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ الْآتِيَةُ بِالْجِمَاعِ إِنْ كَانَ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ يُمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ بِخَصَائِصَ كَثِيرَةٍ، وَكَذَا الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَرْأَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَفِي الْهِدَايَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» " قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْإِفْطَارِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ وَاقِعَةِ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجِبُ كَوْنُ ذَلِكَ الْفِطْرِ بِأَمْرٍ خَاصٍّ لَا بِالْأَعَمِّ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ أَنَّهُ بِالْجِمَاعِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَلَا مُتَمَسَّكَ بِهِ لِأَحَدٍ، بَلْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِمَاعُ الرَّجُلِ وَهُوَ السَّائِلُ لِمَجِيئِهِ مُفَسَّرًا كَذَلِكَ بِرِوَايَةٍ مِنْ نَحْوِ عِشْرِينَ رَجُلًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قُلْنَا: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ تَعْلِيقُهَا بِالْإِفْطَارِ فِي عِبَارَةِ الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا أَفَادَ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ خُصُوصِ الْأَحْوَالِ الَّتِي شَاهَدَهَا فِي قَضَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ سَمِعَ مَا يُفِيدُ أَنَّ إِيجَابَهَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ الْإِفْطَارِ فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالُوهُ فِي أُصُولِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ مَا إِذَا نَقَلَ الرَّاوِي بِلَفْظٍ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فَإِنَّهُمُ اخْتَارُوا اعْتِبَارَهُ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ الرَّاوِي، وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى، فَهَذَا مِثْلُهُ بِلَا تَفَاوُتٍ لِمَنْ تَأَمَّلَ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَيْهَا إِذَا طَاوَعَتْهُ، فَالْكَفَّارَةُ أَوْلَى عَلَى نَظِيرِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَتَكُونُ ثَابِتَةً لِدَلَالَةِ نَصِّ حَدِّهَا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ: يَعْنِي وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ جِمَاعًا أَوْ غَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مَأْخُوذٌ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْتِقَ» . . . الْحَدِيثَ، وَأَعَلَّهُ بِأَبِي مَعْشَرٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْعِلَلِ فِي حَدِيثِ " الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْتُ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا» . . الْحَدِيثَ، وَهَذَا مُرْسَلُ سَعِيدٍ، وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ، وَعِنْدَنَا هُوَ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَأَيْضًا دَلَالَةُ نَصِّ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ تُفِيدُهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ عَلِمَ اسْتِوَاءَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ أَكَفُّ عَنْ كُلِّهَا، ثُمَّ عَلِمَ لُزُومَ عُقُوبَةٍ عَلَى مَنْ فَوَّتَ الْكَفَّ عَنْ بَعْضِهَا جَزَمَ بِلُزُومِهَا عَلَى مَنْ فَوَّتَ الْكَفَّ عَنِ الْبَعْضِ الْآخَرِ حُكْمًا لِلْعَمَلِ بِذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ، غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ، أَعْنِي بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمَيْنِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ الثَّالِثُ، وَيَفْهَمُ كُلُّ عَالِمٍ بِهِمَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي لُزُومِهَا تَفْوِيتُ الرُّكْنِ لَا خُصُوصُ رُكْنٍ اهـ وَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ لَا خَفِيٌّ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْتِيبِ مُقَدِّمَاتٍ مِنْ مَقِيسٍ وَمَقِيسٍ عَلَيْهِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ وَدَقَائِقِهِ الْمُحْتَاجِ إِلَى إِدْرَاكِ جَامِعِهِ وَفَارِقِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟ " أَيْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً " تُعْتِقُهَا " أَيْ كَفَّارَةً لِهَذَا الذَّنْبِ ( «قَالَ: لَا، قَالَ: " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " هَلْ تَجِدُ " بِدُونِ الْفَاءِ " إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ: لَا» ) قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ رَتَّبَ الثَّانِيَ بِالْفَاءِ عَلَى فَقْدِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّالِثَ بِالْفَاءِ عَلَى فَقْدِ الثَّانِي، فَدَلَّ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَقَالَ مَالِكٌ بِالتَّخْيِيرِ، فَإِنَّ الْمُجَامِعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ عِنْدَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةٌ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهَا مُخَيَّرَةٌ كَالْكَفَّارَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَأَجَابُوا بِأَنَّ أَوْ كَمَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَا تَمْنَعُهُ كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَاتُ الْأُخَرُ، وَحِينَئِذٍ فَالتَّقْدِيرُ: أَوْ يَصُومُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْعِتْقِ أَوْ يُطْعِمُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ، وَرُوَاتُهَا أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ فَقَدْ رَوَاهَا عِشْرُونَ صَحَابِيًّا، وَهِيَ حِكَايَةُ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوَاةُ هَذَا اثْنَانِ، وَهُوَ لَفْظُ الرَّاوِي، وَخَبَرُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ عِتْقِ وَنَحْرِ بَدَنَةٍ ضَعِيفٌ، وَإِنْ أَخَذَ بِهِ الْحَسَنُ اهـ وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَاءَ فِي أَصْلِنَا الْمُوَافِقِ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَأَمَّا فِي أَصْلِ الْبُخَارِيِّ فَمَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا مَفْقُودٌ، وَأَمَّا الْفَاءُ فِي الْأَوَّلِ فَمَوْجُودٌ اتِّفَاقًا، وَهُوَ يَكْفِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى

التَّرْتِيبُ لِعِلْمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ: " اجْلِسْ " وَمَكَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا أَيْ لَبِثَ وَتَوَقَّفَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَسَكَتَ بِالسِّينِ أَوِ التَّاءِ فَتَصْحِيفٌ لِمُخَالَفَتِهِ الْأُصُولَ الْمُعْتَمَدَةَ (فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجُلُوسِ وَالْمُكْثِ (أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ جِيءَ (بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ) أَيْ بِفَتْحَتَيْنِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَرُوِيَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ (الْمِكْتَلُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ الزِّنْبِيلُ (الضَّخْمُ) بِسُكُونِ الْخَاءِ أَيِ الْعَظِيمُ، قِيلَ: الْمَنْسُوجُ مِنْ نَسَائِجِ الْخُوصِ، فِي الْمُغْرِبِ: يَسَعُ ثَلَاثِينَ صَفًّا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هُوَ مِكْتَلٌ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَيَكُونُ سِتِّينَ مُدًّا لِأَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَعَامَ الْكَفَّارَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ " قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ " أَيْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ (قَالَ: أَنَا) أَيْ أَنَا هُوَ، أَوْ أَنَا السَّائِلُ " قَالَ: فَخُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ " أَيْ عَلَى الْفُقَرَاءِ (فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ: هُوَ عَلَى حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى أَكْثَرَ حَاجَةً مِنِّي (يَا رَسُولَ اللَّهِ) وَفِيهِ نَوْعُ اسْتِعَانَةٍ وَاسْتِغَاثَةٍ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَيَّنَ أَفْقَرِيَّتَهُ بِقَوْلِهِ الْمُؤَكَّدِ بِقَسَمِهِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ (فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) أَيِ الْمَدِينَةِ (يُرِيدُ) أَيْ يَعْنِي الرَّجُلُ بِاللَّابَتَيْنِ (الْحَرَّتَيْنِ) أَيْ فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ مِنَ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ، الْحَرَّةُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ: الْأَرْضُ ذَاتُ الْحِجَارَةِ السُّودِ، وَالْمَعْنَى مَا بَيْنَ أَطْرَافِهَا (أَهْلُ بَيْتٍ) أَيْ جُمْلَةٌ مُجْتَمِعُونَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ (أَفْقَرُ مِنِّي) بِالرَّفْعِ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: (أَهْلُ) مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَا، (وَأَفْقَرَ) خَبَرُهُ إِنْ جَعَلْتَهَا حِجَازِيَّةً، وَبِالرَّفْعِ إِنْ جَعَلْتَهَا تَمِيمِيَّةً بِأَفْقَرَ (فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ) أَيْ ظَهَرَتْ (أَنْيَابُهُ) جَمْعُ نَابٍ وَهُوَ الَّذِي بَعْدَ الرَّبَاعِيَةِ (ثُمَّ قَالَ: " أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ ") وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: فَلَا تُفْطِرْ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِ الْأَدَاءِ لَا الْفِعْلِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالَ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ شَيْءٌ، فَلَمَّا تَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَصَارَ قَادِرًا أَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَأَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: فَلَمَّا ذَكَرَ حَاجَتَهُ أَخَّرَهُ عَلَيْهِ إِلَى الْوُجْدِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ هَذَا خَاصًّا بِذَلِكَ الرَّجُلِ، وَقِيلَ: مَنْسُوخٌ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنَ الْأَخِيرَيْنِ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِمَا، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ أَصْحَابُ السِّتَّةِ لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ، وَفِي لَفْظٍ: أَنْيَابُهُ، وَفِي لَفْظٍ: نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ، وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُدَ: زَادَ الزُّهْرِيُّ: رُبَّمَا كَانَ هَذَا رُخْصَةً لَهُ خَاصَّةً وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فَعَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ التَّكْفِيرِ، قَالَ الْمُنْذِرُ: قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَعَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِأَيِّ شَيْءٍ أَفْطَرَ، قَالَ: لِانْتِسَاخِهِ بِمَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ " كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُكَ " اهـ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَأَمَّا رَفْعُ الْمُصَنِّفِ يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ: يُجْزِئُكَ وَلَا يُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ، فَلَمْ يُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ، وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا لَفْظُ الْفَرَقِ بِالْفَاءِ بَلْ بِالْعَيْنِ، وَهُوَ مِكْتَلٌ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا عَلَى مَا قِيلَ، قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ أَخَّرَ عَنْهُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا فِي الْحَالِ عَاجِزًا عَنِ الصَّوْمِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ لَهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خُصُوصِيَّةٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْكَ، وَلَفَظُ (وَأَهْلَكْتُ) لَيْسَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَضَعَّفَهُ الْحَاكِمُ اهـ مُلَخَّصًا.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2005 - عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ وَيَمَصُّ لِسَانَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2005 - (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ) أَيْ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ (وَيَمَصُّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ ضَمُّهُ (لِسَانَهَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ فِي التَّصْحِيحِ: اعْلَمْ أَنَّ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدَ بْنَ دِينَارٍ الطَّلْحِيَّ الْبَصْرِيَّ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ مُرَّةَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كِتَابٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: قَوْلُهُ " وَيَمَصُّ لِسَانَهَا " فِي الْمَتْنِ لَا يَقُولُهُ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا سَعْدُ بْنُ أَوْسٍ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: بَصْرِيٌّ ضَعِيفٌ، قِيلَ: إِنَّ ابْتِلَاعَ رِيقِ الْغَيْرِ يُفْطِرُ إِجْمَاعًا، وَأُجِيبَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ فِعْلِيَّةٌ مُحْتَمَلَةٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْصُقُهُ وَلَا يَبْتَلِعُهُ، وَكَانَ يَمَصُّهُ وَيُلْقِي جَمِيعَ مَا فِي فَمِهِ، وَالْوَاقِعَةُ الْفِعْلِيَّةُ إِذَا احْتُمِلَتْ لَا دَلِيلَ فِيهَا اهـ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ مَعَ بُعْدِهِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ صَائِمَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2006 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَسَأَلَهُ فَنَهَاهُ، فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ، وَإِذَا الَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2006 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ» ) قِيلَ: هِيَ مَسُّ الزَّوْجِ الْمَرْأَةَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَقِيلَ: هِيَ الْقُبْلَةُ وَاللَّمْسُ بِالْيَدِ (فَرَخَّصَ لَهُ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَسَأَلَهُ) أَيْ عَنْهَا (فَنَهَاهُ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتَأَمَّلْنَا حَالَهُمَا (فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ) أَيْ فِيهَا (شَيْخٌ، وَأَمَّا الَّذِي نَهَاهُ) أَيْ عَنْهَا (شَابٌّ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَهُمَا بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، إِذِ الْغَالِبُ عَلَى الشَّيْخِ سُكُونُ الشَّهْوَةِ وَأَمْنُ الْفِتْنَةِ فَأَجَازَ لَهُ، بِخِلَافِ الشَّابِّ فَنَهَاهُ اهْتِمَامًا لَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ هَذَا النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ أَوْ لِلتَّحْرِيمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: سَنَدُهُ جَيِّدٌ.

2007 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ: لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2007 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ " بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ غَلَبَهُ وَسَبَقَهُ فِي الْخُرُوجِ " وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ " لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ " وَلَوِ اسْتَقَاءَ " أَيْ مِنْ تَسَبُّبٍ لِخُرُوجِهِ " وَعَمْدًا " أَيْ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارًا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنِ النِّسْيَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، إِذِ الْجَهْلُ لَيْسَ بِعُذْرٍ وَكَذَا الْخَطَأُ وَالْإِكْرَاهُ " فَلْيَقْضِ " قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَمِلَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَهْلُ الْعِلْمِ فَقَالُوا: مَنِ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَمَنْ ذَرَعَهُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: بُطْلَانُ الصَّوْمِ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ رَزِينٍ الْبَكْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَتْنَا مَوْلَاةٌ لَنَا يُقَالُ لَهَا: سُلْمَى مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَقُولُ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ هَلْ مِنْ كِسْرَةٍ؟ " فَأَتَتْهُ بِقُرْصٍ فَوَضَعَهُ عَلَى فِيهِ، فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ هَلْ دَخَلَ بَطْنِي مِنْهُ شَيْءٌ؟ كَذَلِكَ قُبْلَةُ الصَّائِمِ إِنَّمَا الْإِفْطَارُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ» " لِجَهَالَةِ الْمَوْلَاةِ لَمْ يُثْبِتْهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا عَلَى جَمَاعَةٍ، فَفِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ، وَالْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، وَرُوِيَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ مَخْصُوصًا بِحَدِيثِ الِاسْتِقَاءِ إِذِ الْفِطْرُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعُودُ بِشَيْءٍ وَإِنْ قَلَّ حَتَّى لَا يُحِسَّ بِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَفِي نَقْلِ ابْنِ الْهُمَامِ حَسَنٌ غَرِيبٌ (لَا نَعْرِفُهُ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا (إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ: لَا أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ لَا أَظُنُّهُ (مَحْفُوظًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَدِيثِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُنْكَرًا اهـ وَهَذَا مِنْهُ مُنْكَرٌ، إِذْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا أُرَاهُ مَحْفُوظًا لِهَذَا يَعْنِي لِلْغَرَابَةِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ الرَّاوِي فَإِنَّهُ هُوَ الشَّاذُّ الْمَقْبُولُ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، ثُمَّ قَدْ تَابَعَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَقَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ أَيْضًا، وَمَا رُوِيَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَرَجَ فِي يَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ فَدَعَا بِالْمَاءِ فَشَرِبَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا يَوْمٌ كُنْتَ تَصُومُهُ، قَالَ: " أَجَلْ، وَلَكِنْ قِئْتُ» "، مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الشُّرُوعِ أَوْ عُرُوضِ الضَّعْفِ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ آثَارِ الْفِطَرِ مِمَّا دَخَلَ وَبَيْنَ آثَارِ الْقَيْءِ أَنَّ فِي الْقَيْءِ يَتَحَقَّقُ رُجُوعُ شَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ وَإِنْ قَلَّ فَلِاعْتِبَارِهِ يُفْطِرُ، وَفِيمَا إِذَا ذَرَعَهُ إِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنْ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ، فَكَانَ كَالنِّسْيَانِ لَا الْإِكْرَاهِ وَالْخَطَأِ اهـ قَالَ الشُّمُنِّيُّ: لَوْ تَقَيَّأَ دُونَ مِلْءِ الْفَمِ لَا يَقْضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ حُكْمًا، وَيَقْضِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ.

2008 - وَعَنْ مَعْدَانَ بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَنِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاءَ فَأَفْطَرَ، قَالَ: فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاءَ فَأَفْطَرَ، قَالَ: صَدَقَ، وَأَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2008 - (وَعَنْ مَعْدَانَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَهُ) أَيْ أَخْبَرَهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاءَ) أَيْ عَمْدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ (فَأَفْطَرَ) يَعْنِي عَنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] (قَالَ) أَيْ مَعْدَانُ (فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ) هُوَ مَوْلًى اشْتَرَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْتَقَهُ (فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ وَهُوَ لَا يَنْصَرِفُ، وَقِيلَ: مُنْصَرِفٌ أَيْ مَسْجِدِ الشَّامِ (فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاءَ فَأَفْطَرَ، قَالَ) أَيْ ثَوْبَانُ (صَدَقَ) أَيْ أَبُو الدَّرْدَاءِ (وَأَنَا صَبَبْتُ) أَيْ سَكَبْتُ (لَهُ) أَيْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَضُوءَهُ) بِالْفَتْحِ أَيْ مَاءَ وُضُوئِهِ، قَالَ مِيرَكُ: احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ عَلَى أَنَّ الْقَيْءَ نَاقِضُ الْوُضُوءِ، وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى غَسْلِ الْفَمِ وَالْوَجْهِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ، وَالثَّانِي أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ كَلَامَ الشَّارِعِ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَوْ قَرِينَةُ السِّيَاقِ تَقْضِي بِأَنَّ الْمَاءَ الْمَصْبُوبَ لِلتَّنْظِيفِ، نَعَمْ يَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِلنَّقْضِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُضُوءِ السَّابِقِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَارِجِ عَنِ الْقَرِينَةِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّدْبِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ: رِوَايَةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ حِكَايَةَ قَيْءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَيِّ عِلَّةٍ أَفْطَرَ، لِلْقَيْءِ أَوْ لِغَيْرِهِ ; وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ " مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ " الْحَدِيثَ، أَنَّ الْقَيْءَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْفِطْرِ، فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ غَيْرُهُ، وَهُوَ عَوْدُ مَا قَاءَ أَوْ وُصُولُ الْمَاءِ إِلَى الْجَوْفِ عِنْدَ غَسْلِ الْفَمِ، وَقَوْلُ ثَوْبَانَ: صَدَقَ، تَصْدِيقٌ لِلْقَيْءِ وَالْإِفْطَارِ لَا تَصْدِيقُ كَوْنِ الْإِفْطَارِ لِلْقَيْءِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ جَوَّدَ حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ حُسَيْنٍ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ.

2009 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا أُحْصِي يَتَسَوَّكُ وَهُوَ صَائِمٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2009 - (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا أُحْصِي) أَيْ مِقْدَارًا لَا أَقْدِرُ عَلَى إِحْصَائِهِ وَعَدِّهِ لِكَثْرَتِهِ وَقَوْلُهُ (يَتَسَوَّكُ) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَلَا أُحْصِي صِفَتُهَا وَهِيَ ظَرْفٌ لِ (يَتَسَوَّكُ) أَيْ يَتَسَوَّكُ مَرَّاتٍ لَا أَقْدِرُ عَلَى عَدِّهَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ مِيرَكُ: وَلَعَلَّهُ حَمَلَ الرُّؤْيَةَ عَلَى مَعْنَى الْعِلْمِ فَجَعَلَ (يَتَسَوَّكُ) مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ، وَيَتَسَوَّكُ حِينَئِذٍ حَالٌ وَقَوْلُهُ (وَهُوَ صَائِمٌ) حَالٌ أَيْضًا إِمَّا مُتَرَادِفَةٌ وَإِمَّا مُتَدَاخِلَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَقُولُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ الْمَقَالِ، وَالتَّدَاخُلُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْحَالِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: لَا يَضُرُّ السِّوَاكُ لِلصَّائِمِ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُطَهِّرٌ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يُكْرَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّ خُلُوفَ الصَّائِمِ أَثَرُ الْعِبَادَةِ، وَالْخُلُوفُ يَظْهَرُ عِنْدَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَخُلُوُّ الْمَعِدَةِ يَكُونُ عِنْدَ الزَّوَالِ غَالِبًا، وَإِزَالَةُ أَثَرِ الْعِبَادَةِ مَكْرُوهٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: لَا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ اسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ سَوَاءٌ كَانَ رَطْبًا أَوْ مَبْلُولًا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكْرَهُ بِالرُّطَبِ وَالْمَبْلُولِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّ فِيهِ إِزَالَةَ الْخُلُوفِ الْمَحْمُودِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» "، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» " وَالْخُلُوفُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى الصَّحِيحِ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ الْفَمِ مِنْ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ وَذَلِكَ لَا يُزَالُ بِالسِّوَاكِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: بَلْ إِنَّمَا يُزِيلُ أَثَرَهُ الظَّاهِرَ عَنِ السِّنِّ مِنَ الِاصْفِرَارِ وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَ الْخُلُوفِ خُلُوُّ الْمَعِدَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالسِّوَاكُ لَا يُفِيدُ شَغْلَهَا بِطَعَامٍ لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ مِثْلُ مَا قُلْنَا، رَوَى الطَّبَرَانِيُّ «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ قَالَ: سَأَلْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَتَسَوَّكُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَيَّ النَّهَارِ أَتَسَوَّكُ؟ قَالَ: أَيَّ النَّهَارِ شِئْتَ، غَدْوَةً وَعَشِيَّةً، قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَهُ عَشِيَّةً، وَيَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ "، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ

لَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالسِّوَاكِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ بِفِيِّ الصَّائِمِ خُلُوفٌ وَإِنِ اسْتَاكَ، وَمَا كَانَ بِالَّذِي يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُنْتِنُوا أَفْوَاهَهُمْ عَمْدًا، مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، بَلْ فِيهِ شَرٌّ إِلَّا مَنِ ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا. قَالَ: وَكَذَا الْغُبَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ "، إِنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ مَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ عَنْهُ مَحِيصًا، فَأَمَّا مَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَلَاءِ عَمْدًا فَمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَجْرِ شَيْءٌ» ، قِيلَ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَيْضًا مَنْ تَكَلَّفَ الدَّوَرَانَ تَكْثِيرًا لِلْمَشْيِ إِلَى الْمَسَاجِدِ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ " وَمَنْ تَصَنَّعَ فِي طُلُوعِ الشَّيْبِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ " إِنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِمَا مَنْ بُلِيَ بِهِمَا، وَفِي الْمَطْلُوبِ أَيْضًا أَحَادِيثُ مُضَعَّفَةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا شَيْئًا لِلِاسْتِشْهَادِ وَالتَّقْوِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يُحْتَجَّ عَلَيْهِ فِي الْإِثْبَاتِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثَنَا إِسْحَاقُ الْخُوَارَزْمِيُّ قَالَ: «سَأَلْتُ عَاصِمًا الْأَحْوَلَ أَيَسْتَاكُ الصَّائِمُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَرَاهُ أَشَدَّ رُطُوبَةً مِنَ الْمَاءِ؟ قُلْتُ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَمَّنْ رَحِمَكَ اللَّهُ، قَالَ: عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَاكُ آخِرَ النَّهَارِ،» وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ، قُلْنَا: كَفَى ثُبُوتُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ تَعَدُّدِ الضَّعِيفِ فِيهِ مَعَ عُمُومَاتِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ السِّوَاكِ، وَأَمَّا مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدْوَةِ وَلَا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ، فَإِنَّ الصَّائِمَ إِذَا يَبِسَتْ شَفَتَاهُ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُقَاوِمُ مَا قَدَّمْنَا اهـ وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: بِعَدَمِ كَرَاهَةِ تَسَوُّكِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَوَجْهُ بُطْلَانِهِ أَنَّ الْمَانِعَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ لَا سِيَّمَا إِذَا وَرَدَ عَنِ الشَّارِعِ أَحَادِيثُ مُطْلَقَةٌ شَامِلَةٌ لِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَا بَعْدَهُ، وَخُصُوصًا إِذَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِعْلُهُمْ وَإِفْتَاؤُهُمْ عَلَى جَوَازِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَيْفَ يَصْلُحُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ الْخُلُوفِ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى مَنْعِ السِّوَاكِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَصَرْفِ الْإِطْلَاقِ إِلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ صَرِيحٍ أَوْ تَعْلِيلٍ صَحِيحٍ، وَهَلْ هُوَ إِلَّا مُبَالَغَةٌ فِي فَضِيلَةِ الصَّوْمِ، كَمَا يُبَالِغُ أَحَدٌ وَيَقُولُ: لَعَرَقُ فُلَانٍ الَّذِي يَحْصُلُ حَالَ كَدِّهِ فِي آخِرِ النَّهَارِ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنْ مَاءِ الْوَرْدِ، فَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ إِزَالَةِ الْعَرَقِ بِالِاغْتِسَالِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ اهـ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ.

2010 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَأَبُو عَاتِكَةَ الرَّاوِي يَضْعُفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2010 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اشْتَكَيْتُ عَيْنَيَّ) بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ أَشْكُو مِنْ وَجَعِ عَيْنَيَّ " أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ " أَيْ حَالَ كَوْنِي صَائِمًا (قَالَ: نَعَمْ) فِيهِ جَوَازُ الِاكْتِحَالِ بِلَا كُرْهٍ لِلصَّائِمِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: مَكْرُوهٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عُذْرٍ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: الِاكْتِحَالُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ لِلصَّائِمِ وَإِنْ ظَهَرَ طَعْمُهُ فِي الْحَلْقِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) وَقَالَ: لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَأَبُو عَاتِكَةَ الرَّاوِي يَضْعُفُ) وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «اكْتَحَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَائِمٌ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ، فَهَذِهِ عِدَّةُ طُرُقٍ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَالْمَجْمُوعُ يُحْتَجُّ بِهِ لِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ، وَأَمَّا مَا فِي أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَالَ: " لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ " فَضَعِيفٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُوَافِقُهُ خَبَرُ الْبَيْهَقِيِّ وَالْحَاكِمِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ وَهُوَ صَائِمٌ» ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ فِي الْمَجْمُوعِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَخَبَرُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ مِنَ الْكُحْلِ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ» ، فِي إِسْنَادِهِ مَنِ اخْتُلِفَ فِي تَوْثِيقِهِ.

2011 - وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَرْجِ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنَ الْعَطَشِ أَوْ مِنَ الْحَرِّ» رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2011 - (وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ: الْجَهَالَةُ بِالصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ أَيْ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ (قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَرْجِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَقَالَ: مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَحَلٌّ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ ( «يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنَ الْعَطَشِ أَوْ مِنَ الْحَرِّ» ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، أَيْ مِنْ أَجْلِ دَفْعِ أَحَدِهِمَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يُكْرَهَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ وَأَنْ يَنْغَمِسَ فِيهِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ بُرُودَتُهُ فِي بَاطِنِهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوِ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ سَوَاءً وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ أَوْ لَا، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي حَلْقِهِ أَثَرُهُ دَاخِلًا مِنَ الْمَسَامِّ، وَالْمُفْطِرُ الدَّاخِلُ مِنَ الْمَنَافِذِ كَالْمُدْخَلِ وَالْمُخْرَجِ لَا مِنَ الْمَسَامِّ الَّذِي هُوَ جَمِيعُ الْبَدَنِ، لِلِاتِّفَاقِ فِيمَنْ شَرَعَ فِي الْمَاءِ يَجِدُ بَرْدَهُ فِي بَاطِنِهِ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ أَعَنِيَ الدُّخُولَ فِي الْمَاءِ وَالتَّلَفُّفِ بِالثَّوْبِ الْمَبْلُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الضَّجَرِ فِي إِقَامَةِ الْعِبَادَةِ، لَا لِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْإِفْطَارِ اهـ فَكَأَنَّ الْإِمَامَ حَمَلَ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِظْهَارِ الْعَجْزِ وَالتَّضَرُّعِ عِنْدَ حُصُولِ الْآلَامِ وَعَلَى ارْتِكَابِ الْحِكْمَةِ فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ بِالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ اسْتِعَانَةً لِلْقِيَامِ بِوَاجِبِ الْعُبُودِيَّةِ لِرَبِّ الْأَرْبَابِ، وَإِشَارَةً إِلَى مُشَارَكَتِهِ الْأُمَّةَ الْآمِنَةَ فِي الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ، مَيْلًا إِلَيْهِمْ وَتَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَخِلَافُ الْأَوْلَى وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ مِنْ إِظْهَارِ الْعَجْزِ لِلرَّحْمَةِ عَلَى ضُعَفَاءَ الْأُمَّةِ (رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ) أَيْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِانْحِصَارِ الطَّرِيقِ فِي وَاحِدٍ.

2012 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ «أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى رَجُلًا بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ مَنْ رَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ أَيْ تَعَرُّضًا لِلْإِفْطَارِ: الْمَحْجُومُ لِلضَّعْفِ، وَالْحَاجِمُ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَصِلَ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ بِمَصِّ الْمَلَازِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2012 - (وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى رَجُلًا) أَيْ مَرَّ عَلَيْهِ (بِالْبَقِيعِ) أَيْ بِمَقْبَرَةِ الْمَدِينَةِ (وَهُوَ) أَيِ الرَّجُلُ (يَحْتَجِمُ وَهُوَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (آخِذًا) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (بِيَدِي) إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ قُرْبِهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ وَيُكْسَرُ (خَلَتْ) أَيْ مَضَتْ (مِنْ رَمَضَانَ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حِفْظِ الرَّاوِي وَضَبْطِهِ بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَحَالِهِ (فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ " «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» " قَالَ الطِّيبِيُّ: عَمِلَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ مُعَارِضٌ، ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ أَوْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحُوهُ (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (رَحْمَةُ اللَّهِ) وَفِي نُسَخَةٍ صَحِيحَةٍ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَتَأَوَّلَهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ (بَعْضُ مَنْ رَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ) وَهُمُ الْجُمْهُورُ، فَبَعْضُهُمْ قَالُوا أَيْ (تَعَرُّضًا لِلْإِفْطَارِ) كَمَا يُقَالُ هَلَكَ فُلَانٌ أَيْ تَعَرَّضَ لِلْهَلَاكِ (الْمَحْجُومُ لِلضَّعْفِ) أَيْ لِحُصُولِ الضَّعْفِ لَهُ بِالْحِجَامَةِ فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْفِطْرِ (وَالْحَاجِمُ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَصِلَ شَيْءٌ) أَيْ مِنَ الدَّمِ (إِلَى جَوْفِهِ بِمَصٍّ

الْمَلَازِمِ) بِإِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ الْمِلْزَمَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ قَارُورَةُ الْحَجَّامِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الدَّمُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ عَلَى الْمَحَلِّ وَتَقْبِضُهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهِمَا مَسَاءً فَقَالَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ عَذَرَهُمَا بِذَلِكَ أَيْ قَدْ أَمْسَيَا وَدَخَلَا وَقْتَ الْإِفْطَارِ، وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا يَغْتَابَانِ فَقَالَ: أَفْطِرَا، أَيْ بَطَلَ أَجْرُهُمَا بِالْغِيبَةِ كَالْإِفْطَارِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَالْمُرَادُ بُطْلَانُ كَمَالِ أَجْرِهِ لَا أَصْلُ ثَوَابِهُ كَمَا سَبَقَ، وَذَكَرَ السَّيِّدُ عَلِيٌّ الْقَاضِي أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَقَالُوا: يُفْطِرُ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ مَسْرُوقٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ وَلَا يَفْسَدُ الصَّوْمُ بِهَا، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى التَّشْدِيدِ، وَأَنَّهُمَا نَقَصَا أَجْرَ صِيَامِهِمَا وَأَبْطَلَاهُ بِارْتِكَابِ هَذَا الْمَكْرُوهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا بَأْسَ بِهَا، إِذْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ أَفْطَرَ تَعَرَّضَ لِلْإِفْطَارِ كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي الْمَتْنِ اهـ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذِكْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ حِجَامَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَتْ سَنَةَ عَشْرَةٍ، وَحَدِيثُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ سَنَةَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَفِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ، فَلْيُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَارَةً بِمَكَّةَ وَتَارَةً بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّ احْتِجَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَائِمٌ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَرُوِيَ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَفْطَرَ هَذَا "، ثُمَّ رَخَّصَ بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً، قَالَ الْحَازِمِيُّ: وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِنَسْخِ الْأَوَّلِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا بَأْسَ بِسَوْقِ نُبْذَةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ، وَنَقَلَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ، تَمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ السَّابِقَ، ثُمَّ قَالَ: وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكُبْرَى عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ، يَعْنِي حَدِيثَيْ ثَوْبَانَ وَشَدَّادٍ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» " وَصَحَّحَهُ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذَا، وَبَلَغَ أَحْمَدَ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ ضَعَّفَهُ وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مُجَازَفَةٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: مُتَوَاتِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ مَا قَالَهُ بِبَعِيدٍ، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَالسُّنَنِ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِيِّ، وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُفْطِرُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا ادِّعَاءُ النَّسْخِ، وَذَكَرُوا فِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ثَابِتٍ «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا كَرِهْتُ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَفْطَرَ هَذَانِ» ، ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً، وَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، وَرَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ» ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ بَعْدَ مَا قَالَ: " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ، وَكَذَا فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا قَالَ الْحَدِيثَ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَطَلْحَةُ هَذَا احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا رِوَايَةُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ وَهِيَ الَّتِي أَخْرَجَهَا ابْنُ حَمَّادٍ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَظْهَرُ سَنَدًا وَأَظْهَرُ تَأْوِيلًا، إِمَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُحْرِمًا إِلَّا وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَالْمُسَافِرُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ جَوَابُ ابْنِ خُزَيْمَةَ، أَوْ أَنَّ الْحِجَامَةَ كَانَتْ مَعَ الْغُرُوبِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَبَا طِيبَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ مَعَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَضَعَ الْمَحَاجِمَ مَعَ إِفْطَارِ الصَّائِمِ فَحَجَمَهُ ثُمَّ سَأَلَهُ: " كَمْ خَرَاجُكَ؟ " قَالَ: صَاعَانِ، فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا» اهـ. وَالثَّانِي التَّأْوِيلُ بِأَنَّ مُرَادَهُ ذَهَابُ ثَوَابِ الصَّوْمِ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ، وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَجُلَيْنِ يَحْجُمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَاغْتَابَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الْآخَرُ، فَقَالَ: " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ "، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا لِلْحِجَامَةِ وَلَكِنْ لِلْغِيبَةِ» ، لَكِنْ أُعِلَّ بِالِاضْطِرَابِ فَإِنَّ فِي بَعْضِهَا إِنَّمَا مَنَعَ إِبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ خَشْيَةَ الضَّعْفِ، تَمَّ كَلَامُ الْمُحَقِّقِ مُخْتَصَرًا.

2013 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ وَإِنْ صَامَهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: أَبُو الْمُطَوِّسِ الرَّاوِي لَا أَعْرِفُ لَهُ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2013 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ " كَسَفَرٍ " وَلَا مَرَضٍ ") أَيْ: مُبِيحٌ لِلْإِفْطَارِ مِنْ عَطْفِ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ " لَمْ يَقْضِ عَنْهُ " أَيْ: عَنْ ثَوَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ " صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ " أَيْ: صَوْمُهُ فِيهِ، فَالْإِضَافَةُ بِمَعْنَى فِي، نَحْوُ مَكْرُ اللَّيْلِ (وَكُلِّهُ) لِلتَّأْكِيدِ " وَإِنْ صَامَهُ " أَيْ وَلَوْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَمْ يَجِدْ فَضِيلَةَ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ بِصَوْمِ النَّفْلِ، وَإِنْ سَقَطَ قَضَاؤُهُ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ " وَإِنْ صَامَهُ "، أَيْ: حَقَّ الصِّيَامِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِلَّا فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُهُ أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ كُلِّهِ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ عَمَّا أَفْطَرَهُ مِنْ رَمَضَانَ لَا يُجْزِئُهُ، قَالَ بِهِ عَلَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ يَوْمٌ بَدَلَ يَوْمٍ وَإِنْ كَانَ مَا أَفْطَرَهُ فِي غَايَةِ الطُّولِ وَالْحَرِّ، وَمَا صَامَهُ بَدَلَهُ فِي غَايَةِ الْقِصَرِ وَالْبَرْدِ، وَأَوْجَبَ بَدَلَ الْيَوْمِ رَبِيعَةُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، لِأَنَّ السَّنَةَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالنَّخَعِيُّ ثَلَاثَةَ آلَافِ يَوْمٍ، وَلَا يُكْرَهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ فِي زَمَنٍ، وَشَذَّ مَنْ كَرِهَهُ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَمَنْ أَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَوْرًا عَقِبَ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَلِعُذْرٍ يُسَنُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَجِبُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بَلْ هِيَ أَفْضَلُ مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ) أَيْ: فِي تَفْسِيرِهِ كَمَا يُقَالُ بَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ الصَّوْمِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: أَبُو الْمُطَوِّسِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ (الرَّاوِي لَا أَعْرِفُ لَهُ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ) قَالَ: وَلَا أَدْرِي سَمِعَ أَبُو الْمُطَوِّسِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا، وَقَالَ ابْنُ خَلَفٍ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ إِسْنَادُهُ غَرِيبًا وَإِنْ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْدِيدِ فَغَفْلَةٌ لَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ كَوْنِ الْإِسْنَادِ غَرِيبًا أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ ضَمِّهِ مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيِّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ، فَإِنَّهُ إِذَا سَكَتَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، فَوَجْهُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ لِلْكُلِّ، وَوَقَعَ الشَّكُ فِي اتِّصَالِ سَنَدِهِ، فَتَأَمَّلْ.

2014 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَذَكَرَ حَدِيثَ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ فِي بَابِ سُنَنِ الْوُضُوءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2014 - (وَعَنْهُ) أَيْ: أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ ") أَيْ: حَاصِلٌ أَوْ حَظٌّ " مِنْ صِيَامِهِ " أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ " إِلَّا الظَّمَأُ " بِالرَّفْعِ أَيِ: الْعَطَشُ وَنَحْوُهُ مِنَ الْجُوعِ، وَاخْتَارَ الظَّمَأَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ أَعْظَمُ " وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ " أَيْ: فِي اللَّيْلِ " لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ " أَيْ: أَثَرٌ " إِلَّا السَّهَرُ " أَيْ: وَنَحْوُهُ مِنْ تَعَبِ الرِّجْلِ وَصَفَارِ الْوَجْهِ وَضَعْفِ الْبَدَنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ الصَّائِمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَسِبًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَنِبًا عَنِ الْفَوَاحِشِ مِنَ الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَنَاهِي فَلَا حَاصِلَ لَهُ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَإِنْ سَقَطَ الْقَضَاءُ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَأَدَاؤُهَا بِغَيْرِ جَمَاعَةٍ بِلَا عُذْرٍ فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْقَضَاءَ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ اهـ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَذَا جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ إِذْ لَمْ تَكُنْ خَالِصَةً اهـ. كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِمَا إِلَّا خَسَارَةُ الْمَالِ، وَتَعَبُ الْبَدَنِ فِي الْمَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ وَأَنَّ النَّفْيَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْمَرَائِي فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ ثَوَابٌ أَصْلًا (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ " «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ» " وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُهُ: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنَ الصِّيَامِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» (وَذُكِرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (حَدِيثُ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو رَزِينٍ لَقِيطُ بْنُ عَامِرٍ صَبْرَةُ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمَا شَخْصَانِ (فِي بَابِ سُنَنِ الْوُضُوءِ) وَالْحَدِيثُ قَوْلُهُ بَالَغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ وَهُوَ فِي مَحَلِّهِ كَمَا لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ إِيرَادَ الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الْمَوْضُوعِ لِلْحُكْمِ السَّابِقِ مِنْهُ أَوْلَى.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2015 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ الرَّاوِي يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2015 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيِّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثَلَاثٌ ") أَيْ: خِصَالٌ " لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ " بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيِ: الِاحْتِجَامُ، وَقَدْ عَلِمْتَ الْخِلَافَ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ " وَالْقَيْءُ " أَيْ: إِذَا غَلَبَهُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ " وَالِاحْتِلَامُ " أَيْ: وَلَوْ تَذَكَّرَ الْمَنَامَ وَرَأَى الْمَنِيَّ فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ لَكِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ لَا يَضُرُّهُ بِالْإِجْمَاعِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ الرَّاوِي يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: إِنَّهُ أَصَحُّ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ» " قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِهَا إِسْنَادًا وَأَصَحِّهَا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَجِبُ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَضَعْفُ رُوَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْحِفْظِ لَا الْعَدَالَةِ، فَالتَّظَافُرُ دَلِيلُ الْجَادَّةِ فِي خُصُوصِهِ.

2016 - وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: «سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2016 - (وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ ثَابِتُ بْنُ أَسْلَمَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ مِنْ أَعْلَامِ الْبَصْرَةِ، صَحِبَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً (قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كُنْتُمْ) وَلَفْظُ ابْنِ الْهُمَامِ: أَكُنْتُمْ ( «تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَا» ) أَيْ: مَا كُنَّا نَكْرَهُهَا (إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ) أَيْ: لِلْمَحْجُومِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ كَمَا هُوَ فِي الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ ظَاهِرَةٌ فِي إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ سَنَدٍ فَيَكُونُ حُجَّةً لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2017 - وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2017 - (وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ تَرَكَهُ) أَيِ: الِاحْتِجَامَ احْتِيَاطًا أَوْ خَوْفًا مِنَ الضَّعْفِ (فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ) قَالَ مِيرَكُ: حَقُّ الْإِيرَادُ عَلَى مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ أَنْ يَقُولَ أَوَّلًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ إِلَخْ، ثُمَّ يَقُولُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.

2018 - وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إِنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِي فِيهِ مِنَ الْمَاءِ لَا يَضِيرُ أَنْ يَزْدَرِدَ رِيقَهُ، وَمَا بَقِيَ فِي فِيهِ، وَلَا يَمْضُغُ الْعِلْكَ فَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكَ لَا أَقُولُ إِنَّهُ يُفْطِرُ وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2018 - (وَعَنْ عَطَاءٍ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ: إِنْ مَضْمَضَ) أَيِ: الصَّائِمُ (ثُمَّ أَفْرَغَ) أَيْ: صَبَّ (مَا فِي فِيهِ) أَيْ: جَمِيعَ مَا فِي فِيهِ (مِنَ الْمَاءِ) بَيَانٌ لِمَا الْمَوْصُولَةِ (لَا يَضِيرُهُ) أَيْ: لَا يَضُرُّ صَوْمَهُ مِنْ ضَارٍّ، لُغَةٌ بِمَعْنَى ضَرَّ (أَنْ يَزْدَرِدَ رِيقَهُ) أَيْ يَبْتَلِعُهُ (وَمَا بَقِيَ فِي فِيهِ) أَيْ فَمِهِ عَطِفَ عَلَى رِيقِهِ، وَقِيلَ: مَا نَافِيَةٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَظُنُّ أَنَّهُ سَقَطَتْ كَلِمَةُ ذَا عَنِ النَّاسِخِ، وَكَانَ أَصْلُهُ: وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ، وَكَذَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ هَذَا التَّعْلِيقَ: وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: الصَّائِمُ يَتَمَضْمَضُ ثُمَّ يَزْدَرِدُ رِيقَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، قَالَ: لَا يَضُرُّهُ، وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ؟ وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ اهـ. فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الصَّائِمُ إِنْ دَخَلَ غُبَارٌ أَوْ دُخَانٌ أَوْ ذُبَابٌ حَلْقَهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْبَلَلِ الْبَاقِي فِي الْمَضْمَضَةِ (وَلَا يَمْضُغُ الْعِلْكَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الَّذِي يُمْضَغُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَضَمِّهَا عِنْدَ ابْنِ سِيدَهْ، وَلَا نَافِيَةٌ أَوْ نَاهِيَةٌ، فِي الْقَامُوسِ مَضَغَهُ كَمَنَعَهُ: لَاكَهُ

بِسِنِّهِ، وَالْعِلْكُ صَمْغُ الصَّنَوْبَرِ، وَالْأَرْزَةِ وَالْفُسْتُقِ وَالسَّرْوِ وَالْيَنْبُوتِ وَالْبُطْمِ، وَهُوَ أَجْوَدُهَا، مُسَخِّنٌ مُدِرٌّ بَاهِيٌّ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَيَمْضُغُ الْعِلْكَ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ عِنْدَ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ بِحَذْفِ كَلِمَةِ (لَا) وَهُوَ أَوْفَقُ بِالسِّيَاقِ، كَمَا لَا يَخْفَى، تَأَمَّلْ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالسِّيَاقِ أَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ السَّابِقِ فِي الرُّخْصَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ بِالْإِثْبَاتِ لَا بِالنَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: فَرْقٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ حَيْثُ رَخَّصَ فِي ازْدِرَادِ الْأَوَّلِ وَنَهَى عَنِ ابْتِلَاعِ الثَّانِي فَبِهَذَا الْمَعْنَى يُنَاسِبُ عَدَمَ الْإِثْبَاتِ، فَالنَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ وَالنَّهْيُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَثْبَتُ، وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَكُرِهَ مَضْغُ شَيْءٍ عِلْكًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إِلَّا طَعَامَ صَبِيٍّ ضَرُورَةً، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ الْمَمْنُوعَ، فَأَوْلَى أَنْ تُبِيحَ الْمَكْرُوهَ، وَلَوْ تَغَيَّرَ رِيقُ الْخَيَّاطِ بِخَيْطٍ مَصْبُوغٍ وَابْتَلَعَهُ إِنْ صَارَ رِيقُهُ مِثْلَ صِبْغِ الْخَيْطِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَإِلَّا لَمْ يَفْسَدْ اهـ. كَلَامُهُمْ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْغَلَبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ) بِالْكَسْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَصِحُّ هُنَا كَسْرُ الْعَيْنِ وَفَتْحُهَا، أَيِ الرِّيقَ الْمُتَوَلِّدَ مِنَ الْعُلُوكِ أَوْ مِنْ مَضْغِهِ (لَا أَقُولُ إِنَّهُ يُفَطِّرُ) بِالتَّشْدِيدِ فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الِازْدِرَادِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ فَالضَّمِيرُ إِلَى الصَّائِمِ، وَفِي كَلَامِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا لَمْ يُفَطِّرْ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَى الْجَوْفِ عَيْنٌ أَجْنَبِيَّةٌ وَإِنَّمَا النَّازِلُ إِلَيْهِ مَحْضُ الرِّيقِ لَا غَيْرَ (وَلَكِنْ يُنْهَى) أَيْ: نَهْيَ تَنْزِيهٍ (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الِازْدِرَادِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى مَضْغِ الْعِلْكِ حَيْثُ قَالَ: وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَئِمَّتُنَا أَيْضًا، فَقَالُوا: يُسَنُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ مَضْغِ الْعِلْكِ فَإِنْ فَعَلَ كُرِهَ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الرِّيقَ، فَإِنِ ابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ فِي وَجْهٍ قَالَ وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُفْطِرُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْكِ وَلَا بِنُزُولِ الرِّيقِ مِنْهُ إِلَى جَوْفِهِ فَإِنْ تَفَتَّتَ فَوَصَلَ مِنْ جِرْمِهِ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ عَمْدًا، وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ لَمْ يُفْطِرْ، وَلَوْ نَزَلَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ دُونَ جِرْمِهِ لَمْ يُفْطِرْ، لِأَنَّ ذَلِكَ الطَّعْمَ لِمُجَاوِرَةِ الرِّيقِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنِ ابْتَلَعَ الرِّيقَ وَفِيهِ طَعْمُهُ أَفْطَرَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ اهـ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: وَكُرِهَ مَضْغُ شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ عِلْكًا أَمْ غَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا بِأَنْ لَمْ يَمْضُغْهُ أَحَدٌ إِنْ كَانَ أَبْيَضَ، وَكَذَا إِذَا كَانَ أَسْوَدَ، وَالْأَبْيَضُ يَتَفَتَّتُ قَبْلَ الْمَضْغِ فَيَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ عَدَمَ الْفَسَادِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعَدَمِ الْوُصُولِ، فَإِذَا فُرِضَ فِي بَعْضِ الْعِلْكِ مَعْرِفَةُ الْوُصُولِ مِنْهُ عَادَةً وَجَبَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْفَسَادِ لِأَنَّهُ كَالْمُتَيَقِّنِ، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِلْفَسَادِ وَتُهْمَةِ الْإِفْطَارِ، وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ الْتُهَمِ» " وَقَالَ عَلِيٌّ: إِيَّاكَ وَمَا سَبَقَ إِلَى الْقُلُوبِ إِنْكَارُهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ اعْتِذَارُهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ فِي حَقِّهِنَّ فَإِنَّ بِنْيَتَهُنَّ ضَعِيفَةٌ، قَدْ لَا تَحْتَمِلُ السِّوَاكَ، فَيُخْشَى عَلَى اللِّثَةِ وَالسِّنِّ مِنْهُ، وَهَذَا قَائِمٌ مَقَامَهُ فَيَفْعَلْنَهُ اهـ. وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ لِكَرَاهَتِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَشَبُّهٌ بِالنِّسَاءِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ) .

[باب صوم المسافر]

[بَابُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2019 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إِنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ أَيْ: فِي بَيَانِ حُكْمِ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ مِنْ جَوَازِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَبَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2019 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: «إِنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟» ) أَيْ: فَمَا حُكْمُهُ؟ أَيْ هَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ فِي الصَّوْمِ أَوْ ضِدِّهِ أَوْ يُقَدَّرُ الِاسْتِفْهَامُ (وَكَانَ) أَيْ: حَمْزَةُ (كَثِيرَ الصِّيَامِ) وَسَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ صَائِمَ الدَّهْرِ، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ الْحَالِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ (فَقَالَ: " إِنْ شِئْتَ ") أَيْ: أَرَدْتَ الصِّيَامَ " فَصُمْ " لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وَفِي تَقَدُّمِ هَذَا الْحُكْمِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ،

قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ صَوْمَهُ أَفْضَلُ لِتَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ " وَإِنْ شِئْتَ " أَيِ: اخْتَرْتَ الْإِفْطَارَ " فَأَفْطِرْ " بِهَمْزَةِ قَطْعٍ، فَإِنَّهُ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] أَيْ: وَأَفْطَرَ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عَدَدِ تِلْكَ الْأَيَّامِ، قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا التَّخْيِيرُ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا ابْنَ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ صَامَ فِي السَّفَرِ قَضَى فِي الْحَضَرِ، وَإِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَكَأَنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفِطْرُ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ أَيْسَرُهَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] وَأَمَّا الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ وَلَا يُطِيقُهُ فَإِفْطَارُهُ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ: " «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» "، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَجْهُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أُولَئِكَ الْعُصَاةُ " فِيمَنْ بَلَغَ لَهُ إِنْ صَامُوا أَنَّ هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَقْبَلْ قَلْبُهُ رُخْصَةَ اللَّهِ - تَعَالَى، فَأَمَّا مَنْ رَأَى الْفِطْرَ مُبَاحًا وَقَوِيَ عَلَى الصَّوْمِ فَصَامَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَائِلٌ بِالتَّخْيِيرِ، فَمَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَوْمِ الْعُصَاةِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ وَبَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِمَا هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَعْذُورٌ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى حَدِيثِ التَّخْيِيرِ بِخِلَافِهِمْ فَإِنَّهُمُ اطَّلَعُوا عَلَيْهِ وَتَرَكُوهُ لِغَيْرِ مَقْنَعٍ، فَغَيْرُ مُقْنِعٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَيْسَرُهُمَا بَعْدَ نَقْلِهِ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، فَمُخَالِفٌ لِمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَعَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَيْسَرَ هُوَ الْأَفْضَلُ يَرْجِعُ فِي التَّحْقِيقِ إِلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ، فَتَدَبَّرْ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْدُبُ التَّمَسُّكَ بِالرُّخْصَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، وَتَرْكَ التَّنَطُّعِ وَالتَّعَمُّقِ، وَمَنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَهُوَ لَهُ أَفْضَلُ مُسَارَعَةً لِبَرَأَةِ الذِّمَّةِ وَلِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ عُلَمَائِنَا: وَصَوْمُ سَفَرٍ لَا يَضُرُّهُ أَحَبُّ، وَفِي الْهِدَايَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِنَا وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْهُ إِنَّمَا هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَسَيَأْتِي لَفْظُ مُسْلِمٍ.

2020 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2020 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا) أَيْ: جَاهَدْنَا الْكُفَّارَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ الْغَزْوَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَهُ بِخِلَافِ السَّرِيَّةِ (لَسِتَّ عَشْرَةَ) أَيْ: لَيْلَةً (مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى غَلَطِ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَحَدًا إِذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي أَثْنَاءِ رَمَضَانَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ (فَمِنَّا مَنْ صَامَ) وَهُمُ الْأَقْوِيَاءُ (وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ) وَهُمُ الضُّعَفَاءُ أَوْ خُدَّامُ الْكُبَرَاءِ (فَلَمْ يَعِبْ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: لَمْ يَلُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَجِدُ، أَيْ: لَا يَغْضَبُ وَلَا يَعْتَرِضُ (الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ) لِأَنَّهُ عَمِلَ بِالرُّخْصَةِ (وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) لِعَمَلِهِ بِالْعَزِيمَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَرُوِيَ أَيْضًا: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَصُومُ الصَّائِمُ وَيُفْطِرُ الْمُفْطِرُ، وَلَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، مَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذِهِ غَيْرُ غَزْوَةِ الْفَتْحِ، لِأَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ اسْتُشْهِدَ قَبْلَهَا بِمُؤْتَةَ، وَغَيْرُ غَزْوَةِ بَدْرٍ لِأَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَضَرَ هَذِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ يَوْمَ بَدْرٍ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَافَرَ أَيَّامَ رَمَضَانَ غَيْرَ هَاتَيْنِ الْغَزْوَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الصَّحِيحِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ حَرٌّ شَدِيدٌ حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - اهـ. وَلَمْ يَذْكُرْ رَمَضَانَ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لِيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا مَنَّا أَحَدٌ صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ يُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْأَخِيرَةَ لِمُسْلِمٍ، وَالرَّبِيعُ نَسَبَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى إِلَى الشَّيْخَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2021 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " قَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2021 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا) بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: مُزَاحَمَةً فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى غَرَضِ الِاطِّلَاعِ (وَرَجُلًا) هُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ، وَاسْمُهُ قَيْسٌ، وَقِيلَ: قُشَيْرٌ، وَقِيلَ: قَيْصَرٌ، وَهُوَ أَصَحُّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ) أَيْ: جُعِلَ عَلَيْهِ ظِلٌّ اتِّقَاءً عَنِ الشَّمْسِ، أَوْ إِبْقَاءً عَلَيْهِ لِلْإِفَاقَةِ لِأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ، أَوْ مِنْ ضَعْفِ الصَّوْمِ، أَوْ مِنَ الْإِغْمَاءِ، وَقِيلَ: ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ مِظَلَّةٌ كَالْخَيْمَةِ وَشِبْهِهَا، وَقِيلَ: ظُلِّلَ عَلَيْهِ بِالْقِيَامِ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ، قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: إِنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ هَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ كَمَا بُيِّنَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُلُوغِ الْعَطَشِ النِّهَايَةَ وَحَرَارَةِ الصَّوْمِ الْغَايَةَ " فَقَالَ: مَا هَذَا؟ " أَيْ: مَا هَذَا الزِّحَامُ أَوِ التَّظْلِيلُ (قَالُوا: صَائِمٌ) أَيْ: ثَمَّةُ صَائِمٌ، سَقَطَ لِلضَّعْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا بِمَعْنَى مَنْ، أَيْ: مَنْ هَذَا السَّاقِطُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ " فَقَالَ: لَيْسَ الْبِرَّ الصَّوْمُ " قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: مِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَرَوَى أَهْلُ الْيَمَنِ لَيْسَ مِنْ أَمْبِرٍ أَمْصِيَامُ فِي أَمْسَفَرٍ، فَأَبْدَلُوا مِنَ اللَّامِ مِيمًا، وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَفِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ: الصِّيَامُ بَدَلَ الصَّوْمِ أَيِ: الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ " فِي السَّفَرِ " لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ، وَقَالَ - تَعَالَى - {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَدَّى الصَّوْمُ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي شَاهَدَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلِيلِ صِيَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ عَامَ الْفَتْحِ، وَخَيَّرَ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَصَوْمُ سَفَرٍ لَا يَضُرُّ أَحَبُّ مِنَ الْفِطْرِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَالْأَوْزِاعِيُّ: الْفِطْرُ أَحَبُّ مُطْلَقًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْعَزِيمَةُ فِي حَقِّ الْكُلِّ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ، وَأَيْضًا رَمَضَانُ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ فَالْأَدَاءُ فِيهِ أَفْضَلُ، قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ مَعَ الْقُوَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ مَعَ الْعَجْزِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَكْثَرُونَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خِدْمَةَ الصُّلَحَاءِ خَيْرٌ مِنَ النَّوَافِلِ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْعَوَارِفِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2022 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ فَسَقَطَ الصَّوَّامُونَ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ وَسَقَوُا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2022 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ) أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ (وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ فَسَقَطَ الصَّوَّامُونَ) بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ ضَعُفُوا عَنِ الْحَرَكَةِ وَمُبَاشَرَةِ حَوَائِجِهِمْ لِأَجْلِ ضَعْفِهِمْ (وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ) أَيْ بِالْخِدْمَةِ (فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ) أَيْ قَامَ الْمُفْطِرُونَ وَنَصَبُوا الْخِيَامَ (وَسَقَوُا الرِّكَابَ) أَيِ الْإِبِلَ الَّتِي يُسَارُ عَلَيْهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ) أَيْ بِالثَّوَابِ الْأَكْمَلِ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ كَانَ فِي حَقِّهِمْ حِينَئِذٍ أَفْضَلَ، وَفِي ذِكْرِ الْيَوْمِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ إِطْلَاقِ هَذَا الْحُكْمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَنَّهُمْ مَضَوْا وَاسْتَصْحَبُوا الْأَجْرَ وَلَمْ يَتْرُكُوا لِغَيْرِهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ يُقَالُ ذَهَبَ بِهِ إِذَا اسْتَصْحَبَهُ وَمَضَى بِهِ مَعَهُ اهـ يَعْنِي بِالْأَجْرِ كُلِّهِ أَوْ بِكُلِّ الْأَجْرِ مُبَالَغَةً، هَذَا وَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّهُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] الْكَشَّافِ، يُقَالُ ذَهَبَ بِهِ إِذَا اسْتَصْحَبَهُ وَمَضَى مَعَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ مَعْنَاهَا أَذْهَبَهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلِاسْتِحَالَةِ الْمُضِيِّ وَالِاسْتِصْحَابِ مَعَ نُورِهِمْ فِي حَقِّهِ - تَعَالَى - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2023 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدِهِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2023 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ) أَيْ: عَامَ الْفَتْحِ (فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ أَوْ خَطَأُ قَدَمٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْضِعٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ (ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ) أَيْ: طَلَبَهُ (فَرَفَعَهُ إِلَى يَدِهِ) الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ

حَالٌ أَيْ: رَفَعَ الْمَاءَ مُنْتَهِيًا إِلَى أَقْصَى مَدِّ يَدِهِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: كَذَا لِأَكْثَرِهِمْ، وَعِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ إِلَى فِيهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِلَّا أَنَّ إِلَى فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ بِمَعْنَى عَلَى فَيَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ اهـ. وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ بَعْضِهِمُ: الصَّوَابُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ " فَرَفَعَهُ إِلَى فِيهِ " وَإِنَّ ذِكْرَ يَدِهِ لِيَرَوْهُ وَيَقْتَدُوا بِهِ، لَكِنْ قَالَ الرَّضِيُّ وَغَيْرُهُ: التَّحْقِيقُ أَنَّهَا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَلِذَا اخْتَرْنَاهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَرَفَعَهُ رَفْعًا بَلِيغًا مُنْتَهِيًا إِلَى رَفْعِ يَدِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّضْمِينُ أَيِ انْتَهَى الرَّفْعُ إِلَى أَقْصَى غَايَتِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فِي الظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87] أَيْ: فَرَفَعَهُ حَالَ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ (لِيَرَاهُ النَّاسُ) أَيْ: وَلِيَعْلَمُوا جَوَازَهُ أَوْ لِيَخْتَارُوا مُتَابَعَتَهُ (فَأَفْطَرَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي السَّفَرِ جَازَ أَنْ يُفْطِرَ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ فِيهِ أَظْهَرُ وَلَعَلَّ ذَا مُؤَوَّلٌ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ مَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا ذَلِكَ الْيَوْمَ مُطْلَقًا بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَامَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى عُسْفَانَ فَأَفْطَرَ أَيْ مِنْهُ وَاسْتَمَرَّ مُفْطِرًا (حَتَّى قِدَمَ مَكَّةَ) وَهُوَ إِمَّا لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِحُصُولِ عُذْرٍ حَادِثٍ وَهُوَ التَّهَيُّؤُ لِلْقِتَالِ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ (وَذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ كَانَ (فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْطَرَ) يَعْنِي فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ حَالَ السَّفَرِ (فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ) أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَا فَرْقَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ مَنْ يُنْشِئُ السَّفَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَبَيْنَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: إِذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْقَائِلِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الشَّهْرُ كُلُّهُ، فَأَمَّا مَنْ شَهِدَ بَعْضَهُ فَلَمْ يَشْهَدِ الشَّهْرَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَسَفَرٍ، وَاخْتُلِفَ أَيَّ يَوْمٍ خَرَجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفَتْحِ، فَقِيلَ: لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2024 - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ شَرِبَ بَعْدَ الْعَصْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2024 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (شَرِبَ بَعْدَ الْعَصْرِ) يَعْنِي عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ رَفْعِ الْمَاءِ إِلَى يَدِهِ لِيُعْلِمَ النَّاسَ أَنَّ الْإِفْطَارَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ، وَهَذَا أَقْرَبُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قَالَ الطِّيبِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي الْمَقْصُودِ كَمَا لَا يَخْفَى.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2025 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْكَعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمَ عَنِ الْمُسَافِرِ وَعَنِ الْمُرْضِعِ وَالْحُبْلَى» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2025 - (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْكَعْبِيِّ) وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيِّ، وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَخُوهُ قُشَيْرٌ، فَهُوَ كَعْبِيٌّ لَا قُشَيْرِيٌّ، خِلَافًا لِمَا وَقَعَ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَنَّ كَعْبًا لَهُ ابْنَانِ عَبْدُ اللَّهِ جَدُّ أَنَسٍ هَذَا، وَقُشَيْرٌ وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَا فِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ هُوَ أَبُو أُمَامَةَ الْكَعْبِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَالْعُقَيْلِيُّ وَالْعَامِرِيُّ، أَسْنَدَ حَدِيثًا وَاحِدًا فِي صَوْمِ الْمُسَافِرِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَأَمَّا أَبُو الْحَمْزَةَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ أَنْصَارِيٌّ نَجَّارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ يُسْنِدُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ ") قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ، لِأَنَّ وَضَعَ بِمَعْنَى أَسْقَطَ، وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي إِسْقَاطُ وُجُوبِهِ الْأَخَصِّ لَا جَوَازِهِ الْأَعَمِّ اهـ. وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ مَوْضُوعَ وَضَعَ لَيْسَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ لَا لُغَةً وَلَا اصْطِلَاحًا، أَمَّا لُغَةٌ فَظَاهَرٌ، وَأَمَّا الِاصْطِلَاحُ الشَّرْعِيُّ فَقَدْ وَرَدَ: «أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ» ، أَيْ: كُلْفَتَهُمَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ، وَكَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى

- {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الشَّارِحِينَ، أَيْ: لِلْهِدَايَةِ مَنْ يَحْكِي خِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّ الْقَصْرَ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ أَوْ رُخْصَةٌ، وَيُنْقَلُ اخْتِلَافُ عِبَارَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: رُخْصَةٌ، عَنَى رُخْصَةَ الْإِسْقَاطِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ، وَتَسْمِيَتُهَا رُخْصَةً مَجَازٌ، وَهَذَا بَحْثٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ اهـ وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ مَذْهَبِنَا الصَّرِيحِ فِي الْمَقْصُودِ وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَتْ: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ» ، فَمَعْنَى وَضَعَ أَيْ رَفَعَ ابْتِدَاءً عَنِ الْمُسَافِرِ (شَطْرَ الصَّلَاةِ) أَيْ نِصْفَ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَلَا قَضَاءَ (وَالصَّوْمَ) بِالنَّصْبِ أَيْ وُجُوبَهُ (عَنِ الْمُسَافِرِ) لَكِنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا أَقَامَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا ذُكِرَ عَنِ الْمُسَافِرِ بَعْدَ الصَّوْمِ لِيَصِحَّ عَطْفُ عَنِ الْمُرْضِعِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ شَطْرَ الصَّلَاةِ لَيْسَ مَوْضُوعًا عَنِ الْمُرْضِعِ (وَعَنِ الْمُرْضِعِ) وَلَمْ تَدْخُلْهُ التَّاءُ لِلِاخْتِصَاصِ مِثْلُ حَائِضٍ (وَالْحُبْلَى) لَكِنْ يَقْضِيَانِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَى الْحَامِلِ دُونَ الْمُرْضِعِ، كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِنْ أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا قَضَتَا وَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ خَافَتَا عَلَى الْوَلَدِ فَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ أَيْضًا كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ اهـ وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ ثَبَتَتْ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ يَجْمَعُ نَظْمُ الْكَلَامِ أَشْيَاءَ ذَاتَ عَدَدٍ مَسُوقَةً فِي الذِّكْرِ مُتَفَرِّقَةً فِي الْحُكْمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُ (وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَحْمَدُ.

2026 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ كَانَ لَهُ حَمُولَةٌ تَأْوِي إِلَى شِبْعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2026 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ) بِفَتْحِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُكْسَرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَفْتَحُونَهَا، قُلْتُ: قَوْلُ الْمُحَدِّثِينَ أَقْوَى مِنَ اللُّغَوِيِّينَ وَأَحْرَى كَمَا لَا يَخْفَى (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ كَانَ لَهُ حَمُولَةٌ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ مَرْكُوبٌ كُلُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ إِبِلٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَفَعُولٌ يَدْخُلُهُ الْهَاءُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مِنْ كَانَ لَهُ دَابَّةٌ (تَأْوِي) أَوْ تَأْوِيهِ فَإِنَّ أَوَى لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ أَوَى بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مُخَالِفٌ لِلطِّيبِيِّ، حَيْثُ يُقَالُ: وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ فِي الْمُتَعَدِّي بِالْمَدِّ، وَفِي الْحَدِيثِ يَجُوزُ الْوَجْهَانِ، وَالْمَعْنَى: تُؤَدِّي صَاحِبَهَا أَوْ تَأَوِي بِصَاحِبِهَا (إِلَى شِبْعٍ) بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ مَا أَشْبَعَكَ وَبِفَتْحِ الْبَاءِ الْمَصْدَرُ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ حَالُ شِبَعٍ وَرَفَاهِيَةٍ أَوْ إِلَى مَقَامٍ يَقْدِرُ عَلَى الشِّبَعِ فِيهِ وَلَمْ يَلْحَقْهُ فِي سَفَرِهِ وَعْثَاءٌ وَمَشَقَّةٌ وَعَنَاءٌ، وَأَمَّا مَا زَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَسْكَنٌ يَقِيهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، فَغَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْحَدِيثِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْطِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ (فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ) أَيْ رَمَضَانَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَمْرُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالْحَثِّ عَلَى الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى جَوَازِ الْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنْ كَانَ رَاكِبًا وَسَفَرُهُ قَصِيرٌ بِحَيْثُ يَبْلُغُ إِلَى الْمَنْزِلِ فِي يَوْمِهِ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ، وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ أَيَّ قَدْرٍ كَانَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ الْأَزْدِيُّ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا الْحَدِيثُ شَيْئًا، وَقَالَ الْعَقَبِيُّ: لَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَّا بِهِ وَلَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ كَذَا فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا بَأْسَ بِهِ اهـ وَصَحَّ الْحَدِيثُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا طَرِيقٌ وَاحِدٌ، فَلَا يَحْسُنُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ جَوَازَ الْفِطْرِ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ كَطَوِيلِهِ اهـ وَالْأَوْلَى رَدُّهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2027 - عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: " أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2027 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَادٍ بِالْحِجَازِ مُنْتَهَاهُ قَرِيبٌ مِنْ عُسْفَانَ، سُمِّيَ ذَلِكَ الْمُنْتَهَى كُرَاعًا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ

كُرَاعُ الْغَنَمِ وَهُوَ مَا دُونَ الرُّكْبَةِ مِنَ السَّاقِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْكُرَاعُ جَانِبٌ مُسْتَطِيلٌ مِنَ الْحَرَّةِ تَشْبِيهًا بِالْكُرَاعِ وَالْغَمِيمُ بِالْفَتْحِ وَادٍ بِالْحِجَازِ (فَصَامَ النَّاسُ) عَطْفٌ عَلَى فَصَامَ أَيْ صَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ (ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ) أَيِ الْقَدَحَ أَوِ الْمَاءَ (حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (ثُمَّ شَرِبَ) أَيْ لِيُتَابِعَهُ النَّاسُ بِمَا اقْتَضَى رَأْيُهُ الَّذِي فَوْقَ كُلِّ قِيَاسٍ (فَقِيلَ لَهُ) أَيْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ إِفْطَارِهِ (إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ) ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ إِفْطَارَهُ كَانَ بَيَانَ الْجَوَازِ (قَدْ صَامَ) أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِلَفْظِ الْبَعْضِ ثُمَّ رَجَعَ لِمَعْنَاهُ (قَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) حَيْثُ عَمِلُوا بِالظَّنِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ بِالسُّؤَالِ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا أَوْ تَشْدِيدًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعْرِيفُ فِي الْخَبَرِ لِلْجِنْسِ أَيِ الْكَامِلُونَ فِي الْعِصْيَانِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا رَفَعَ قَدَحَ الْمَاءِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتْبَعُوهُ فِي قَبُولِ رُخْصَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَمَنْ صَامَ فَقَدْ بَالَغَ فِي عِصْيَانِهِ اهـ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا وَقَعَ مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى خَطَأٍ فِي اجْتِهَادِهِمْ إِذْ لَمْ يَقَعْ أَمْرٌ صَرِيحٌ بِإِفْطَارِهِمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَفَرَّدَ بِالصَّوْمِ، وَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْفِطْرِ أَمْرًا حَازِمًا لِمَصْلَحَةِ بَيَانِ جَوَازِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مَحْمُولٌ عَلَى مَا اسْتَضَرُّوا بِهِ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي لَفْظٍ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ، وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي وَفِيهِ: وَكَانَ أَمْرُهُ بِالْفِطْرِ فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَالْعِبْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَكِنْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2028 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «صَائِمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2028 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَائِمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ) أَيْ مَعَ احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ الْمُضِرَّةِ (كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ) أَيْ كَوِزْرِ الْمُفْطِرِ فِي حَالِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ، قَالَ مِيرَكُ: يُفْهَمُ مِنْهُ مَنْعُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ كَمَنْعِ الْإِفْطَارِ فِي الْحَضَرِ، قُلْتُ: هَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَمَشَى عَلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ، وَبِمَا أَوَّلْنَاهُ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ صَرِيحًا، وَذَهَبَ إِلَيْهَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا تَارِكُ الرُّخْصَةِ وَالْآخَرُ تَارِكُ الْعَزِيمَةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِيهِ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ إِذْ تَرْكُ الرُّخْصَةِ مُبَاحٌ وَتَرْكُ تِلْكَ الْعَزِيمَةِ حَرَامٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى التَّيْمِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ أَسْنَدَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَوْ ثَبَتَ مَرْفُوعًا كَانَ خُرُوجُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ خَرَجَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْفِطْرِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِهِ اهـ وَالْكَدِيدُ مَا بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَرَجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ الصَّوْمِ لَا غَيْرُهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ آخِرَ الْأَمْرِ، فَالْحَاصِلُ التَّعَارُضُ بِحَسْبِ الظَّاهِرِ، وَالْجَمْعُ مَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِ أَحَدِهِمَا، وَاعْتِبَارِ نَسْخِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ قَاطِعَةٍ فِيهِ، وَالْجَمْعُ بِمَا قُلْنَا مِنْ حَمْلِ مَا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ مَنْ لَمْ يُفْطِرْ إِلَى الْعِصْيَانِ وَعَدَمِ الْبِرِّ وَفِطْرِهِ بِالْكَدِيدِ عَلَى عُرُوضِ الْمَشَقَّةِ، خُصُوصًا وَقَدْ وَرَدَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَقْلِ وُقُوعِهَا فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَأَحَادِيثُ الْجَوَازِ أَقْوَى ثُبُوتًا، وَاسْتِقَامَةَ مَجِيءٍ، وَأَوْفَقُ لِكِتَابِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ، وَقَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ قَوْلِهِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ - يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 184 - 185] فَعَلَّلَ التَّأْخِيرَ إِلَى إِدْرَاكِ الْعِدَّةِ بِإِرَادَةِ الْيُسْرِ، وَالْعُسْرُ أَيْضًا لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْفِطْرِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْيُسْرُ فِي الصَّوْمِ إِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَضِرٍّ بِهِ لِمُوَافَقَةِ النَّاسِ، فَإِنَّ فِي الِائْتِسَاءِ تَخْفِيفًا، أَوْ لِأَنَّ النَّفْسَ تَوَطَّنَتْ عَلَى هَذَا الزَّمَانِ مَا لَمْ تَتَوَطَّنْ عَلَى غَيْرِهِ، فَالصَّوْمُ فِيهِ أَيْسَرُّ عَلَيْهَا، وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى: فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ أَوِ الْمَعْنَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ يَحِلُّ لَهُ التَّأْخِيرُ إِلَيْهَا لَا كَمَا ظَنَّهُ أَهْلُ الظَّوَاهِرِ.

2029 - «وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ قَالَ: " هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2029 - (وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجِدُ بِي قُوَّةً) أَيْ: زَائِدَةً (عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ) أَيْ: إِثْمٌ أَوْ بَأْسٌ بِالصَّوْمِ أَوِ الْفِطْرِ (قَالَ: " هِيَ ") أَيِ: الْإِفْطَارُ " رُخْصَةٌ " وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ " مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - " فَإِنَّ الصَّوْمَ عَزِيمَةٌ مِنْهُ - تَعَالَى - لِقَوْلِهِ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ " هِيَ رُخْصَةٌ " الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى السُّؤَالِ، أَيْ هَلْ عَلَيَّ إِثْمٌ أَنْ أُفْطِرَ؟ فَأَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنِ السَّائِلَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ الْإِفْطَارَ فِي السَّفَرِ عِصْيَانٌ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، فَسَأَلَ: هَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَصُومَ لِأَنِّي قَوِيٌّ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا، لِأَنَّ الْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ، فَلَفْظُ الْحَسَنِ يُقَوِّي الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ الْعِصْيَانَ إِنَّمَا هُوَ فِي رَدِّ الرُّخْصَةِ لَا فِي إِتْيَانِهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ فِي الْفِطْرِ لِأَنِّي قَوِيٌّ؟ وَالرُّخْصَةُ لِلضَّعِيفِ، أَوْ فِي الصَّوْمِ لِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ، وَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً وَقَوْلُهُ هِيَ أَيْ تِلْكَ الْفِعْلَةُ أَوِ الْخَصْلَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّثَ ضَمِيرَهُ وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ " فَمَنْ أَخَذَ بِهَا " أَيْ: بِالرُّخْصَةِ " فَحَسَنٌ " أَيْ: فِعْلُهُ حَسَنٌ مَرْضِيٌّ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ " وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ " وَفِي مُغَايَرَةِ الْعِبَارَةِ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى فَضِيلَةِ الصَّوْمِ " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ " كَانَ ظَاهِرُ الْمُقَابَلَةِ أَنْ يَقُولَ فَحَسَنٌ أَوْ فَأَحْسَنُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] بَلْ مُقْتَضَى كَوْنِ الْأَوَّلِ رُخْصَةً وَالثَّانِي فَحَسَنٌ لَكِنْ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إِذَا كَانَتْ حَسَنًا فَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلِمَ بِنُورِ النُّبُوَّةِ أَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ: فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ، أَيْ: فِي الصَّوْمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُقَدَّمَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ، وَكَذَا مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

[باب القضاء]

[بَابُ الْقَضَاءِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2030 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: تَعْنِي الشُّغْلَ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْقَضَاءِ أَيْ: حُكْمُهُ وَآدَابُهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2030 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ) أَيِ: الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ (يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ) أَيْ: قَضَاؤُهُ (مِنْ رَمَضَانَ) وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّوْمُ اسْمُ كَانَ، وَعَلَيَّ خَبَرُهُ، وَيَكُونُ زَائِدَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ إِنَّ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، كَانَ زَائِدَةٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: نَحْوُ {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 112] وَتَنْظِيرُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ كَوْنُهَا غَيْرَ زَائِدَةٍ لِأَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى حَضَرَ أَيْ كَانَ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ يَحْضُرُ أَيْ وَقْتُ قَضَائِهِ بِأَنْ أَكُونَ طَاهِرَةً صَحِيحَةً اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: كَانَ الصَّوْمُ يَحْضُرُ الصَّوْمُ أَوْ مَرْجِعُ كَانَ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَلَوْ قِيلَ بِزِيَادَةِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنِ اسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ لَكِنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهَا (فَمَا أَسْتَطِيعُ) أَيْ: مَا أَقْدِرُ (أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ عَلَى غَيْرِهِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُ (الشُّغْلُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا فِي النُّسَخِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ: يَمْنَعُنِي الشُّغْلُ اهـ. وَالظَّاهِرُ يَمْنَعُهَا الشُّغْلُ (مِنَ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَمِنْ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ: لِأَجَلِ، وَالْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ مُهَيِّئَةً نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاسْتِمْتَاعِهِ جَمِيعَ أَوْقَاتِهَا إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَصُومُ حَتَّى الْقَضَاءِ، كَيْلَا تُفَوِّتَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِمْتَاعَهُ بِهَا، فَتُؤَخِّرُ الْقَضَاءَ إِلَى شَعْبَانَ لِأَنَّهُ غَايَةُ الْإِمْكَانِ فِي تَأْخِيرِهِ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: تَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَ شَعْبَانَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا،

وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهَا قَدْ يَكُونُ فِي اللَّيَالِي، ثُمَّ أَوْ لِلشَّكِّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ عَنْ يَحْيَى عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ وَالشُّغْلُ مُبْتَدَأٌ، وَالتَّقْدِيرُ: الشُّغْلُ الْمَانِعُ لِقَضَاءِ الصَّوْمِ كَانَ ثَابِتًا مِنْ جِهَتِهِ أَوِ اشْتِغَالِهَا بِخِدْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الْقَضَاءِ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: هُوَ بِالرَّفْعِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ: أَوْجَبَ لَكِ الشَّغْلُ أَوْ مِنَ الشُّغْلِ، وَهَذَا مِنَ الْبُخَارِيِّ بَيَانٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ بَلْ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهَا، وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَمَا نَقْدِرُ أَنْ نَقْضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ نَصَّ فِي كَوْنِهِ مِنْ قَوْلِهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ اهـ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2031 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2031 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ ") أَيْ: نَفْلًا لِئَلَّا يَفُوتَ عَلَى الزَّوْجِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا " وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ " أَيْ: حَاضَرٌ مَعَهَا فِي بَلَدِهَا " إِلَّا بِإِذْنِهِ " تَصْرِيحًا أَوْ تَلْوِيحًا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ إِطْلَاقُ مَنْعِ صَوْمِ النَّفْلِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِي اسْتِثْنَاءِ نَحْوِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْحَقْ بِالصَّوْمِ فِي ذَلِكَ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ لِقِصَرِ زَمَنِهَا وَفِي مَعْنَى الصَّوْمِ الِاعْتِكَافُ، لَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ رُجُوعُهُ عَنِ الْإِذْنِ لَهَا فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْدُوبِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَكَذَا الصَّوْمُ فَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، إِذْ لَا يَتَّجِهُ حِينَئِذٍ لِلْإِذْنِ وَلِمُخَالِفَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ (لَا يَحِلُّ) عَلَى مَعْنَى لَا يَنْبَغِي أَنْ تَصُومَ قَضَاءَ رَمَضَانَ أَوْ قَضَاءَ صَوْمِ النَّفْلِ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا لِيَكُونَ مُنَاسِبًا لِعُنْوَانِ الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ " وَلَا تَأْذَنَ " بِالنَّصْبِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ عَطْفًا عَلَى) تَصُومَ (أَيْ وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَأْذَنَ أَحَدًا مِنَ الْأَجَانِبِ أَوِ الْأَقَارِبِ حَتَّى النِّسَاءِ، وَلَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَصِحُّ رَفْعُهُ خَبَرًا يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ وَجَزْمُهُ عَلَى النَّهْيِ " فِي بَيْتِهِ " أَيْ: فِي دُخُولِ بَيْتِهِ " إِلَّا بِإِذْنِهِ " وَفِي مَعْنَاهُ الْعِلْمُ رِضَاهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2032 - «وَعَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ لِعَائِشَةَ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2032 - (وَعَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ لِعَائِشَةَ: مَا بَالُ الْحَائِضِ) أَيْ: مَا شَأْنُهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْهُ التَّاءُ لِلِاخْتِصَاصِ (تَقْضِي الصَّوْمَ) أَيِ: الَّذِي فَاتَهَا أَيَّامَ حَيْضِهَا (وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟) مَعَ أَنَّهُمَا فَرْضَانِ تُرِكَا لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْحَيْضُ، وَفِي مَعْنَاهُ النِّفَاسُ (قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ) أَيِ: الشَّأْنُ (يُصِيبُنَا ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَيُفْتَحُ أَيِ الْحَيْضُ (فَنُؤْمَرُ) أَيْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ النِّسَاءِ (بِقَضَاءِ الصَّوْمِ) لَعَلَّهُ لِنُدْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ (وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ) لِكَثْرَتِهَا الْمُوجِبَةِ لِلْحَرَجِ، فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قِيلَ: مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: دُعِيَ السُّؤَالُ عَنِ الْعِلَّةِ إِلَى مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ مُتَابَعَةِ النَّصِّ، وَالِانْقِيَادِ لِلشَّارِعِ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَتِ السَّائِلَةُ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ، فَكَأَنَّ الْجَوَابَ اعْتِرَافٌ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ، وَاغْتِرَافٌ مِنْ بَحْرِ الْعُبُودِيَّةِ بِالتَّعَبُّدِ فِي أُمُورِ الْعِلَّةِ، فَلَا أَدْرِي نِصْفَ الْعِلْمِ {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] أَوْ يُقَالُ إِنَّمَا السَّائِلَةُ أَرَادَتِ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ مِنْ جِهَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَتِ الْمَسْئُولَةُ أَنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا لَا غَيْرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا عُلِّلَ أَنَّ قَضَاءَ الصَّوْمِ لَا يَشُقُّ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً بِخِلَافِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ كَثِيرًا لِأَنَّهُ يَكُونُ غَالِبًا فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، وَقَدْ يَمْتَدُّ إِلَى عَشْرٍ فَيَلْزَمُ قَضَاءُ صَلَوَاتِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ، وَذَلِكَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ التَّقْدِيرَ دَعَى السُّؤَالُ عَنِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهَا خَفِيَّةٌ لَا أَهْلِيَّةَ لَكِ فِيهَا إِلَى فَهْمِهَا، فَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ عَنْ فِقْهِهِ إِذِ الصَّحَابِيَّاتُ مَا كُنَّ عَنْ فَهْمِ مِثْلِ هَذَا خَالِيَاتٌ، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ قَوْلُ الْعَلَّامَةِ التَّفْتَازَانِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] : إِنَّهُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يُدْرِكُونَ دَقَائِقَ الْحِكَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْهَيْئَةِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ السَّائِلَيْنِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ الَّذِي قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ مِنَ الْأَعْلَامِ الْكِرَامِ، وَفِيهِمْ عَلَيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - الَّذِي هُوَ بَابٌ لِمَدِينَةِ الْعِلْمِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2033 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2033 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ ") أَيْ: قَضَاءُ صَوْمٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَدَاءِ رَمَضَانَ وَقَضَائِهِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ " صَامَ " أَيْ: كَفَّرَ " عَنْهُ وَلِيُّهُ " قَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَتَدَارَكُ ذَلِكَ وَلِيُّهُ بِالْإِطْعَامِ فَكَأَنَّهُ صَامَ، وَالْوَلِيُّ كُلُّ قَرِيبٍ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَذَهَبَ إِلَى ظَاهِرِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَإِنْ صَامَ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، جَازَ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ صَوْمَ الْوَلِيِّ، وَقَالَ دَاوُدُ: هَذَا فِي النَّذْرِ، وَفِي قَضَاءِ رَمَضَانَ يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَصُومُ عَنْهُ عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَنَقَلَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ: مَنْ يَقُولُ بِالصِّيَامِ يَجُوزُ لَهُ الْإِطْعَامُ وَيَجْعَلُ الْوَلِيَّ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ اهـ. وَإِنَّمَا أَوَّلُوا الْحَدِيثَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ وَفَتْوَى الصَّحَابَةِ يُخَالِفَانِهِ وَكَذَا الْحَدِيثُ الْآتِي وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا فِي لُزُومِ الْإِطْعَامِ عَلَى الْوَارِثِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنْ أَوْصَى فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَارِثُ إِخْرَاجَهُ إِذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ أَخْرَجَ كَانَ مُتَطَوِّعًا عَنِ الْمَيِّتِ وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ إِجْزَائِهِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ بَعْدَ إِمْكَانِ قَضَائِهِ، وَأَمَّا مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ فَلَا تَدَارُكَ لَهُ، وَلَا إِثْمَ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا طَاوُسًا وَقَتَادَةَ فَإِنَّهُمَا يُوجِبَانِ التَّدَارُكَ بِالصَّوْمِ أَوِ الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ «أَنَّهُ جَاءَتْ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - امْرَأَةُ قَرَابَةٍ لِامْرَأَةٍ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرُ شَهْرٍ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: " صُومِي عَنْهَا» .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2034 - عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2034 - (عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ» ") عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ " مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ " مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ الْفَائِتَةِ، وَكَذَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقِيلَ: فِي صَلَاةِ كُلِّ يَوْمٍ " مِسْكِينٌ " أَيْ: نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ وَأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ) قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَقَالَ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالصَّحِيحُ إِلَخْ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ بِحَمْلِهِ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، قُلْتُ: يَأْبَى عَنْ هَذَا الْحَمْلِ الْحَدِيثُ الْآتِي عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَالْمَحْفُوظُ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2035 - عَنْ مَالِكٍ بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُسْأَلُ: هَلْ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؟ أَوْ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؟ فَيَقُولُ: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ. بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2035 - (عَنْ مَالِكٍ بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُسْئِلُ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (هَلْ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ أَوْ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؟ فَيَقُولُ: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ) أَيْ: بَدَلًا عَنْهُ (وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ

صَامَ عَنْهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ يَوْمًا جَازَ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُصَلِّي عَنْهُ اهـ. فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالِاتِّفَاقِ اتِّفَاقَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الصَّوْمِ (رَوَاهُ) أَيْ: مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: " لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتَ تَقْضِيهِ عَنْهَا؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» قُلْنَا: الِاتِّفَاقُ عَلَى صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الصَّلَاةِ الدَّيْنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى أَنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَفَتْوَى الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَذَكَرَهُ مَالِكٌ بَلَاغًا فِي الْمُوَطَّأِ قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنَ التَّابِعَيْنِ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا يَصُومُ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ اهـ. وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ النَّسْخَ وَأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، آخِرًا اهـ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّ مِنَ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِكَ وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صَوْمِكَ» " مَعَ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُعْضَلٌ مُرْسَلٌ، قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَدْعُو لَهُمَا، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ مِنْ مُتَأَخِّرِيِ الشَّافِعِيَّةِ: وَيَصِلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ كُلِّ عِبَادَةٍ فُعِلَتْ عَنْهُ وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، وَكَتَبَ أَصْحَابُنَا الْحَنَفِيَّةُ خَاصَّةً عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ غَيْرَهَا، بَلْ عِبَارَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

[باب صيام التطوع]

[بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2036 - «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا ربَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ أَيْ: فِعْلُهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَنْ طَوْعٍ وَرَغْبَةٍ لَا عَنْ تَكْلِيفٍ مُرَتَّبٍ عَلَى رَهْبَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2036 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: أَحْيَانًا (يَصُومُ) أَيِ: النَّفْلَ مُتَتَابِعًا (حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ) أَيْ: أَبَدًا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرِّوَايَةُ فِي نَقُولُ بِالنُّونِ وَقَدْ وُجِدَتْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ أَيْ: مَعْنَاهَا تَقُولُ أَنْتَ أَيُّهَا السَّامِعُ لَوْ أَبْصَرْتَهُ، (وَالرِّوَايَةَ) أَيْضًا بِنَصْبِ اللَّامِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ الْمُسْتَقْبَلَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيَجُوزُ بِيَاءِ الْغَائِبِ أَيْضًا أَيْ: يَقُولُ الْقَائِلُ اهـ. وَفِيهِ تَفْكِيكُ الضَّمِيرِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَجْوِيزِهِ، وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ جَوَازِهِ سِيَّمَا فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَلَامِ (وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ» ) هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءٍ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ (إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ) ثَانِي مَفْعُولٍ رَأَيْتُ وَالضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ) لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (صِيَامًا) تَمْيِيزٌ (فِي شَعْبَانَ) مُتَعَلِّقٌ بِصَامَ، وَالْمَعْنَى: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ فِي شَعْبَانَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ سِوَى رَمَضَانَ، وَكَانَ صِيَامُهُ فِي شَعْبَانَ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ فِيمَا سِوَاهُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ فِي شَهْرٍ يَعْنِي بِهِ غَيْرَ شَعْبَانَ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَكِنَّ فِي أَكْثَرِ، وَفِي شَعْبَانَ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي مِنْهُ الْعَائِدِ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: مَا رَأَيْتُهُ كَائِنًا فِي غَيْرِ شَعْبَانَ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ كَائِنًا فِي شَعْبَانَ، مِثْلُ زَيْدٌ قَائِمًا أَحْسَنُ مِنْهُ قَاعِدًا، أَوْ كِلَاهُمَا ظَرْفٌ، الْأَكْثَرُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ، وَالثَّانِي بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمَعْنَى، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِرُؤْيَتِهِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ) قِيلَ: أَيْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ (كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَكَانَ (يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا) قَالَ النَّوَوِيُّ: الثَّانِي تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ، وَبَيَانُ قَوْلِهَا كُلَّهُ أَيْ غَالِبَهُ اهـ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى " قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ " وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصُومَهُ كُلَّهُ فِي سَنَةٍ وَأَكْثَرَهُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى فَالْمَعْنَى عَلَى الْعَطْفِ اهـ. وَهُوَ أَقْرَبُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَقِيلَ: كَانَ يَصُومُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ وَتَارَةً بَيْنَهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَفَظُ (كُلَّهُ) تَأْكِيدٌ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ وَرَفْعُ التَّجَوُّزِ مِنَ احْتِمَالِ الْبَعْضِ، فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَعْضِ مُنَافٍ لَهُ، وَلَوْ جُعِلَ كَانَ الثَّانِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِئْنَافًا لِيَكُونَ بَيَانًا لِلْحَالَتَيْنِ حَالَةِ الْإِتْمَامِ وَحَالَةِ غَيْرِهِ، لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَعْذَبَ، فَلَوْ عَكَفَ بِالْوَاوِ لَمْ يَحْمِلْ هَذَا التَّأْوِيلَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2037 - ( «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ شَهْرًا كُلَّهُ؟ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُهُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إِلَّا رَمَضَانَ وَلَا أَفْطَرَهُ كُلَّهُ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2037 - ( «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ شَهْرًا كُلَّهُ؟ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُهُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إِلَّا رَمَضَانَ وَلَا أَفْطَرَهُ» ) أَيْ: شَهْرًا (كُلَّهُ) تَأْكِيدٌ لَهُ (حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ) أَيْ: بَعْضَهُ (حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) كِنَايَةٌ عَنِ الْمَوْتِ، وَاللَّامُ فِي لِسَبِيلِهِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ لَقِيتُهُ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ تُرِيدُ مُسْتَقْبَلًا لِثَلَاثٍ، أَيْ: كَانَ حَالُهُ مَا ذُكِرَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، فَلَمَّا أَدَّاهَا مَضَى إِلَى مَأْوَاهُ وَمُسْتَقَرِّهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى الْأُولَى بِمَعْنَى كَيْ، كَقَوْلِكَ سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَ الْبَلَدَ بِالنَّصْبِ، إِذَا كَانَ دُخُولُكَ مُتَرَقِّبًا لِمَا يُوجَدُ كَأَنَّكَ قُلْتَ سِرْتُ كَيْ أَدْخُلَهَا، وَكَانَ مُنْقَضِيًا إِلَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ فِي وَقْتِ وُجُودِ السَّيْرِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ كَانَ مُتَرَقِّبًا، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ حَتَّى الْأُولَى غَايَةُ عَدَمِ الصَّوْمِ بِاسْتِمْرَارِ الْإِفْطَارِ اسْتَعْقَبَ لِلصَّوْمِ، وَالثَّانِيَةَ غَايَةٌ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحَالَتَيْنِ مِنَ الصِّيَامِ وَالْإِفْطَارِ، وَالِاسْتِمْرَارُ هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ النَّفْيِ الدَّاخِلِ عَلَى الْمَاضِي، وَالْحَدِيثُ وَارِدٌ عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ عَزَمَ أَلَّا يَصُومَ الشَّهْرَ كُلَّهُ كَانَ مُتَرَقِّبًا أَنْ يَصُومَ بَعْضَهُ، وَحَتَّى الثَّانِيَةُ غَايَةٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْجُمَلِ كُلِّهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2038 - «وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَأَلَهُ أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَعِمْرَانَ يَسْمَعُ فَقَالَ: " يَا أَبَا فُلَانٍ أَمَا صُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2038 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ (سَأَلَهُ) أَيْ: عِمْرَانَ (أَوْ سَأَلَ رَجُلًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَعِمْرَانُ يَسْمَعُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَا أَبَا فُلَانٍ أَمَا صُمْتَ " الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَمَا نَافِيَةٌ " مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ " بِفَتْحِ السِّينِ وَيُكْسَرُ وَكَذَا السِّرَارِ عَلَى مَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، قَالَ شَاعِرُهُمْ: شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وَمَا شَعُرْنَا ... لِأَنْصَافٍ لَهُنَّ وَلَا سِرَارِ أَيْ: آخِرُهُ، فِي الْقَامُوسِ السَّرَارُ كَسَحَابٍ مِنَ الشَّهْرِ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْهُ، كَسَرَرِهِ وَسِرَرِهِ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ آخِرُ لَيْلَةٍ لِسَتْرِ الْهِلَالِ بِنُورِ الشَّمْسِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: الصَّحِيحُ أَنَّ سَرَرَهُ: آخِرُهُ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْيَوْمَ أَوِ الْيَوْمَيْنِ الَّذِي يُسْتَرُ الْقَمَرُ، وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِنَّهُ الْأَشْهُرُ، وَقِيلَ: رُوِيَ: صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ، فَقِيلَ: أَوَّلُهُ، وَقِيلَ: مُسْتَهَلُّهُ، وَقِيلَ: وَسَطُهُ، وَسِرُّ كُلِّ شَيْءٍ جَوْفُهُ، قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَقَالَ رُوِيَ هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَّةِ هَذَا الشَّهْرِ؟ كَأَنَّهُ أَرَادَ وَسَطَهُ لِأَنَّ السُّرَّةَ وَسَطُ قَامَةِ الْإِنْسَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّرَرُ لَيْلَتَانِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، سُمِّيَ الْيَوْمَانِ الْأَخِيرَانِ مِنَ الشَّهْرِ سَرَرًا وَسِرَارًا لِاسْتِتَارِ الْقَمَرِ فِي لَيْلَتِهِمَا (قَالَ: لَا، قَالَ: " فَإِذَا أَفْطَرْتَ ") أَيِ: الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ شَعْبَانَ، وَقِيلَ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ رَمَضَانَ " فَصُمْ يَوْمَيْنِ " لِقَضَائِهِمَا أَوْ بَدَلًا عَنْهُمَا وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَةَ التَّعْقِيبِ وَإِلَّا فَالْأَمْرُ وُجُوبٌ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْبُعْدِيَّةِ، قَالُوا: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ يَوْمَيْنِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ بِنَذْرٍ، فَلَمَّا فَاتَهُ قَالَ لَهُ: " «إِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ» "، وَقِيلَ: لَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ عَادَةً لَهُ فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ صِيَامَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ قَبْلَ رَمَضَانَ، فَلَمَّا فَاتَهُ اسْتَحَبَّ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْضِيَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى وُجُوبِ يَوْمِ الشَّكِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِرَجُلٍ: " «هَلْ صُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ» " وَفِي لَفْظٍ فَصُمْ يَوْمًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَإِنَّهُ صَوْمُ دَاوُدَ» "، وَسِرَارُ الشَّهْرِ آخِرُهُ لِاسْتِتَارِ الْقَمَرِ فِيهِ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ السِّرَارَ قَدْ يُقَالُ عَلَى الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ مِنْ لَيَالِي الشَّهْرِ، لَكِنْ دَلَّ قَوْلُهُ (صُمْ يَوْمًا) عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَوْمُ آخِرِهَا لَا كُلِّهَا، وَإِلَّا قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَكَانَهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ (مِنْ سَرَرِ الشَّهْرِ) لِإِفَادَةِ التَّبْعِيضِ، وَعِنْدَنَا هَذَا يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ صَوْمِهِ لَا وُجُوبَهُ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَهْيِ التَّقَدُّمِ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ التَّقَدُّمَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَيَصِيرُ حَدِيثُ السَّرَرِ لِلِاسْتِحْبَابِ اهـ. يَعْنِي لِلْخَوَاصِّ مَخْفِيًّا عَنِ الْعَوَامِّ.

2039 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2039 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ» ) أَيْ صِيَامُهُ وَالْإِضَافَةُ لِلتَّعْظِيمِ " الْمُحَرَّمُ " بِالرَّفْعِ صِفَةُ الْمُضَافِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ بِصِيَامِ شَهْرِ اللَّهِ صِيَامَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ اهـ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَفْضَلِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ يَوْمِ عَاشُورَاءَ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، وَفِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: صُمْ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَاتْرُكْ صُمِ الْمُحَرَّمَ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَاتْرُكْ، وَأَمَّا حَدِيثُ صَوْمِ رَجَبٍ فَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ أَئِمَّتُنَا: أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ لِصَوْمِ التَّطَوُّعِ الْمُحَرَّمُ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْحُرُمِ: رَجَبٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَذِي الْقِعْدَةِ " وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ " أَيْ تَوَابِعِهَا مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْفَرِيضَةِ الْوِتْرُ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ وَاجِبٌ عِلْمِيٌّ " صَلَاةُ اللَّيْلِ " أَوْ يُقَالُ صَلَاةُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنَ الرَّوَاتِبِ مِنْ حَيْثِيَّةِ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ وَالْبُعْدِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقَوْلِ بِاسْتِمْرَارِ الْوُجُوبِ لَدَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فَرِيضَةً ثُمَّ صَارَ سُنَّةً بِالنَّسْخِ، وَقِيلَ: هَذِهِ السُّنَّةُ أَفْضَلُ السُّنَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْحَدِيثُ حُجَّةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْفَرَائِضَ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: الرَّوَاتِبُ أَصْلٌ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَوْفَقُ لِنَصِّ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَمْرِي إِنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ سِوَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] وَقَوْلِهِ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] إِلَى قَوْلِهِ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ لَكَفَاهُ مَزِيَّةً اهـ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ الْوِتْرُ فَلَا إِشْكَالَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2040 - «- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ: يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرُ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2040 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى) التَّحَرِّي طَلْبُ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى، وَقِيلَ: التَّحَرِّي طَلْبُ الصَّوَابِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي طَلَبِ شَيْءٍ (صِيَامَ يَوْمٍ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ مَا رَأَيْتُهُ يُبَالِغُ فِي الطَّلَبِ وَيَجْتَهِدُ فِي صِيَامِ يَوْمٍ (فَضَّلَهُ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ) أَيْ صِيَامَهُ (يَوْمَ عَاشُورَاءَ) بَدَلٌ أَوْ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، قِيلَ: لَيْسَ فَاعُولَاءُ بِالْمَدِّ فِي كَلَامِهِمْ غَيْرَهُ وَقَدْ يَلْحَقُ بِهِ تَاسُوعَاءُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أُخِذَ مِنَ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ إِظْمَاءُ الْإِبِلِ وَلِهَذَا زَعَمُوا أَنَّهُ يَوْمُ التَّاسِعِ، وَالْعَشْرُ مِمَّا بَيْنَ الْوِرْدَيْنِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ التَّاسِعُ لِأَنَّهَا إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ ثُمَّ لَمْ تَرِدْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فَوَرَدَتِ التَّاسِعَ فَذَلِكَ الْعَشْرُ، وَوَرَدَتْ تِسْعًا إِذَا وَرَدَتِ الْيَوْمَ الثَّامِنَ، وَفُلَانٌ يُحَمُّ رَبْعًا إِذَا حُمَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، وَعَاشُورَاءُ مِنْ بَابِ صِفَةٍ لَمْ يَرِدْ لَهَا فِعْلٌ، وَالتَّقْدِيرُ يَوْمٌ مُدَّتُهُ عَاشُورَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْظِيمِ اهـ أَيْ عَاشِرٌ وَأَيُّ عَاشِرٍ (وَهَذَا الشَّهْرَ) بِالنَّصْبِ أَيْ أَيَّامَهُ عَطْفٌ عَلَى هَذَا الْيَوْمِ (يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرَقِّي أَوْ تَقْدِيمِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ أَوْ لِتَقْدِيمِهِ فِي أَصْلِ وُجُوبِ الصَّوْمِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ " فَضَّلَهُ " فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ (فَضْلُهُ) بِسُكُونِ الضَّادِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ شَرْحِ السُّنَّةِ: مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى صَوْمَ يَوْمٍ يُبْتَغَى فَضْلُهُ إِلَّا صِيَامَ رَمَضَانَ، وَهَذَا الْيَوْمُ عَاشُورَاءُ، فَقِيلَ: فَضْلُهُ بَدَلٌ مِنْ صِيَامٍ أَيْ يَتَحَرَّى فَضْلَ صِيَامِ يَوْمٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ لَيْسَ نِيَّةَ الطَّرْحِ دَائِمًا، قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا الْمُبْدَلُ مِنْهُ هُنَا لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمُتَنَحِّي لِاسْتِدْعَاءِ الضَّمِيرِ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ نَحْوُ قَوْلِكَ: زَيْدًا رَأَيْتُ غُلَامَهُ صَالِحًا أَيْ مَا رَأَيْتَهُ يُبَالِغُ فِي تَفْضِيلِ يَوْمٍ عَلَى يَوْمٍ إِلَّا عَاشُورَاءَ وَرَمَضَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَا لَمْ يُظَنَّ إِلْحَاقُهُ بِالْوَاجِبِ اهـ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْأَصَحُّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَصْلًا كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ، إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ، فَمَدْفُوعٌ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَاشُورَاءُ» ، وَكَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» "، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إِيجَابٍ قَبْلَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ،

إِذَا لَا يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ بِإِمْسَاكٍ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ إِلَّا فِي يَوْمٍ مَفْرُوضِ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ، وَفِيهِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَوَّلًا إِنَّمَا كَانَ وُقُوعُهُ آخِرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعَاشُورَاءُ كَانَتْ فَرِيضَةً ثُمَّ نُسِخَتْ بِرَمَضَانَ، يَعْنِي وَلَا شَكَّ أَنَّ سُنَّةً كَانَتْ فَرِيضَةً أَفْضَلُ مِنْ سُنَّةٍ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ فَضَّلَهُ بِتَشْدِيدِ الضَّادِ فَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ يَتَحَرَّى، وَالْحَمْلُ عَلَى الصِّفَةِ أَوْلَى لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مُسْتَثْنًى، وَلَا بُدَّ مِنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَلَيْسَ هَا هُنَا إِلَّا قَوْلُهُ (يَوْمٍ) ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى: مَا رَأَيْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى فِي صِيَامِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ صِفَتُهُ أَنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا صِيَامَ هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى فِي تَفْضِيلِ صِيَامِهِ مَا لَمْ يَتَحَرَّ فِي تَفْضِيلِ غَيْرِهِ، وَهَذَا الشَّهْرُ عَطْفٌ عَلَى هَذَا الْيَوْمِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ، إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصِيَامُ شَهْرٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مِنَ اللَّفِّ التَّقْدِيرِيِّ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الشَّهْرِ أَيَّامُهُ يَوْمًا فَيَوْمًا مَوْصُوفًا هَذَا الْوَصْفَ اهـ قِيلَ: لَعَلَّ هَذَا عَلَى فَهْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِلَّا فَيَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَدُفِعَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي فَضْلِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ لَا فِي فَضْلِ الْيَوْمِ مُطْلَقًا مَعَ أَنَّ الْيَوْمَ أَيْضًا مُخْتَلَفٌ فِيهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2041 - وَعَنْهُ «قَالَ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2041 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ) رَوَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ رَأَى الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ نُعَظِّمُهُ أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى» " أَيْ بِمُوَافَقَتِهِ فَصَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْيَوْمَ (وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) أَيْ أَجَابَهُ أَوَّلًا بِالْوُجُوبِ ثُمَّ بَعُدَ النَّسْخُ بِالنَّدْبِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الْعَاشِرَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ (قَالُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ) أَيْ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَتَقْدِيرُ ابْنِ حَجَرٍ هَذَا مَوْضِعٌ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ (يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) أَيْ وَتَجِبُ مُخَالَفَتُهُمْ فَكَيْفَ نُوَافِقُهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَئِنْ بَقِيتُ) أَيْ فِي الدُّنْيَا أَوْ لَئِنْ عِشْتُ " إِلَى قَابِلٍ " أَيْ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ وَهُوَ السَّنَةُ الْآتِيَةُ " لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ " أَيْ فَقَطْ، أَوْ مَعَ الْعَاشِرِ فَيَكُونُ مُخَالَفَةً فِي الْجُمْلَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمَعَ هَذَا مَا كَانَ تَارِكًا لِتَعْظِيمِ الْيَوْمِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ نُصْرَةُ الدِّينِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ شُكْرًا، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الشُّكْرِ سِيَّمَا عَلَى وَجْهِ الْمُشَارَفَةِ عَلَى مِثْلِ زَمَانِ وُقُوعِ النِّعْمَةِ فِيهِ، بَلْ صَوْمُ الْعَاشِرِ أَيْضًا فِيهِ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِذِ الْفَتْحُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَالصَّوْمُ مَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ أَوَّلِهِ، وَلَوْ أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَالَفَتَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ لَتَرَكَ الصَّوْمَ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يَعِشْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْقَابِلِ بَلْ تُوُفِّيَ فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ فَصَارَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنَ الْمُحَرَّمِ صَوْمَ سُنَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْهُ لِأَنَّهُ عَزَمَ عَلَى صَوْمِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قِيلَ: أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ فَيَكُونُ هَدْيُهُ مُخَالِفًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْجَوَابِ لِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ صَوْمُ التَّاسِعِ فَقَطْ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا، فَإِنْ أَفْرَدَهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلتَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ اهـ وَرَوَى أَحْمَدُ خَبَرَ صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَحْصُلُ بِأَحَدِهِمَا، وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2042 - «وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2042 - (وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ) وَهِيَ امْرَأَةُ الْعَبَّاسِ (بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ نَاسًا) أَيْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ (تَمَارَوْا) أَنْ شَكُّوا وَتَبَاحَثُوا وَاخْتَلَفُوا (عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ) أَيْ بِعَرَفَاتٍ (فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ ذَلِكَ الْيَوْمِ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ) بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِ أَوْ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ) عَلَى طَرِيقِ الْمَنْعِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ أَوِ اسْتِدْلَالًا بِالْوَقْتِ الَّذِي صِيَامُهُ يَقْتَضِي الضَّعْفَ الْمَانِعَ عَنْ قُوَّةِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَلِمَا يُوجِبُ مُتَابَعَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَرَجِ الْعَامِّ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِذَلِكَ الْعَامِّ (فَأَرْسَلْتُ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ (إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ) لِعِلْمِهِ بِمَحَبَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ حَيْثُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلِذَا كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا قَالَ: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَأَطْعِمْنِي خَيْرًا مِنْهُ» "، وَإِذَا كَانَ لَبَنًا قَالَ: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ،

وَزِدْنِي مِنْهُ» "، أَوْ لِمُنَاسَبَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ (وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ وَقْتَ الدُّعَاءِ (فَشَرِبَهُ) أَيْ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى إِعْلَاءً لِإِظْهَارِ الْحُكْمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى رَحْمَتِهِ لِلْعَالَمِينَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَحَبَّ الْأَكْثَرُ إِفْطَارَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةٌ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، أَمَّا الْحَاجُّ فَلَيْسَ سُنَّةً لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَ، كَيْلَا يَضْعُفَ عَنِ الدُّعَاءِ بِعَرَفَةَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيِهِ: سُنَّةٌ لَهُ أَيْضًا، وَقَالَ أَحْمَدُ: سُنَّةٌ لَهُ إِنْ لَمْ يَضْعُفْ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ، وَلِلْحَاجِّ إِنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنِ الْوُقُوفِ وَالدَّعَوَاتِ فَالْمُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لِأَنَّهُ لِإِخْلَالِهِ بِالْأَهَمِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُسِيءَ خُلُقَهُ فَيُوقِعُهُ فِي مَحْظُورٍ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صَوْمُهُ لِلْحَاجِّ خِلَافُ الْأَوْلَى، بَلْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي نُكَتِهِ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَيْ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَمَا قِيلَ إِنَّ فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولًا يَرُدُّهُ أَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ صَحَّحَهُ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2043 - «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2043 - ( «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَائِمًا فِي الْعَشْرِ» ) أَيِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (قَطُّ) قِيلَ: دَلَّ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، عَلَى أَنَّ صَوْمَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ سُنَّةٌ فَكَيْفَ لَا يَصُومُ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ: مَا رَأَيْتُ. . إِلَخْ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا سُنَّةً إِذَا جَازَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ وَلَا تَعْلَمُ هِيَ، وَإِذَا تَعَارَضَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ فَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِثْبَاتَ أَوْلَى عَلَى فَرْضِ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا عَلَى احْتِمَالِهِ فَلَا مَعَ بُعْدِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَيَّامِ أَوْقَاتُ نَوْبَتِهَا وَقَوْلُهَا قَطُّ يَنْفِي الْقَوْلَ بِحَمْلِ الرُّؤْيَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَيْضًا عَدَمُ صِيَامِهِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا سُنَّةً لِأَنَّهَا كَمَا تَثْبُتُ بِالْفِعْلِ تَثْبُتُ بِالْقَوْلِ، وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَغَّبَ فِي صِيَامِهَا بِمَا ذَكَرَ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا مَا يَقْتَضِي اخْتِيَارَ الْفِطْرِ عَلَى الصَّوْمِ، وَلِذَا مَا كَادَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، مَعَ أَنَّهُ قَالَ: " «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - " وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْضُ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ تِسْعَ الْحِجَّةِ» فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهَا أَحْيَانًا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ: سَيِّدُ الشُّهُورِ رَمَضَانُ، وَأَعْظَمُهَا حُرْمَةً ذُو الْحِجَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ ذَا الْحِجَّةِ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَجَبٌ أَوِ الْمُحَرَّمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2044 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ غَضَبَهُ قَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمِنْ غَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ " أَوْ قَالَ: " لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ " قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: " وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟ " قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: " ذَلِكَ صَوْمُ دَاوُدَ " قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: " وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2044 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟) أَيْ أَنْتَ (فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ ظَهَرَ أَثَرُ الْغَضَبِ عَلَى وَجْهِهِ (مِنْ قَوْلِهِ) أَيْ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ وَسُوءِ سُؤَالِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: سَبَبُ غَضَبِهِ كَرَاهَةُ مَسْأَلَتِهِ، لِأَنَّهُ خَشِيَ مِنْ جَوَابِهِ مَفْسَدَةً، وَهِيَ أَنَّهُ رُبَّمَا يَعْتَقِدُ السَّائِلُ وُجُوبَهُ، أَوْ يَسْتَقِلَّهُ، أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا لَمْ يُبَالِغْ فِي الصَّوْمِ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُقُوقِ أَزْوَاجِهِ وَأَضْيَافِهِ، وَلِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ فَيَتَضَرَّرُ بَعْضُهُمْ، وَكَانَ حَقُّ السَّائِلِ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ أَصُومُ، أَوْ كَمْ أَصُومُ، فَيَخُصُّ السُّؤَالَ بِنَفْسِهِ لِيُجَابَ بِمُقْتَضَى حَالِهِ، كَمَا أَجَابَ غَيْرَهُ بِمُقْتَضَى أَحْوَالِهِمْ اهـ وَأَيْضًا كَانَ صَوْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، بَلْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَتَارَةً يُكْثِرُ الصَّوْمَ وَتَارَةً يُقِلُّهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ الْمَقَالِ فَيَتَعَذَّرُ جَوَابُ السُّؤَالِ، وَلِذَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ عِبَادَتِهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَتَقَالُّوهَا فَبَلَغَهُ فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: " «أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْوَفُكُمْ مِنْهُ» "، يَعْنِي وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَثْرَةُ الْعِبَادَةِ بَلْ حُسْنُهَا، وَمُرَاعَاةُ شَرَائِعِهَا وَحَقَائِقِهَا وَدَقَائِقِهَا وَتَقْسِيمِهَا فِي أَوْقَاتِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا (فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ غَضَبَهُ) أَيْ عَلَى السَّائِلِ وَخَافَ مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَمِنَ السَّرَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ عَامَّةً لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] (قَالَ) اعْتِذَارًا مِنْهُ وَاسْتِرْضَاءً مِنْهُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] أَيْ حَتَّى يَأْتِيَ بِكَلَامٍ سَدِيدٍ (رَضِينَا بِاللَّهِ) أَيْ بِقَضَائِهِ (رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ) أَيْ بِأَحْكَامِهِ (دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ) أَيْ بِمُتَابَعَتِهِ (نَبِيًّا) وَالْمَنْصُوبَاتُ تَمْيِيزَاتٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَالَاتٍ

مُؤَكِّدَاتٍ (نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ) وَذِكْرُ غَضَبِ اللَّهِ تَزْيِينٌ لِلْكَلَامِ وَتَعْيِينٌ بِأَنَّ غَضَبَهُ - تَعَالَى - يُوَافِقُ غَضَبَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فَجَعَلَ عُمَرُ يُرَدِّدُ) أَيْ يُكَرِّرُ (هَذَا الْكَلَامَ) وَهُوَ رَضِينَا إِلَخْ (حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ مَنْ) أَيْ حَالُ مَنْ (يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟) أَيْ هَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ، انْظُرْ حُسْنَ الْأَدَبِ حَيْثُ بَدَأَهُ بِالتَّعْظِيمِ، ثُمَّ سَأَلَ السُّؤَالَ عَلَى وَجْهِ التَّعْمِيمِ، وَلِذَا قِيلَ: حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ (قَالَ: " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ ") أَيْ لَا صَامَ صَوْمًا فِيهِ كَمَالُ الْفَضِيلَةِ وَلَا أَفْطَرَ فِطْرًا يَمْنَعُ جُوعَهُ وَعَطَشَهُ (أَوْ قَالَ: لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا، قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي هَذَا الشَّخْصُ كَأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا وَلَمْ يَصُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، اهـ وَهَذَا كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ " «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» " وَأَمَّا خَبَرُ: " «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا» " وَعَقَدَ تِسْعِينَ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجَعَلَهُ الْعُمْدَةُ فِي نَفْيِ الْكَرَاهَةِ الَّتِي قَالَ بِهَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ دَلِيلٌ لَهَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ إِذْ مَعْنَى ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ أَيْ عَنْهُ فَلَا يَدْخُلُهَا أَوْ لَا يَكُونُ فِيهَا مَوْضِعٌ. وَقِيلَ: إِخْبَارٌ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَادَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ رِيَاضَةً وَلَا كُلْفَةً يَتَعَلَّقُ بِهَا مَزِيدُ ثَوَابٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ، وَحَيْثُ لَمْ يَنَلْ رَاحَةَ الْمُفْطِرِينَ وَلَذَّتَهُمْ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ، قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ أَدْخَلَ الْمَنْهِيَّ فِي الصَّوْمِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُدْخِلْهَا فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ فِي صَوْمِ مَا عَدَاهَا، لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ وَحَمْزَةَ بْنَ عُمَرَ الْأَسْلَمِيَّ كَانَا يَصُومَانِ الدَّهْرَ سِوَى هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عِلَّةُ النَّهْيِ أَنْ يُكْرَهَ صَوْمُ الدَّهْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الصَّوْمَ يَجْعَلُهُ ضَعِيفًا فَيَعْجِزَ عَنِ الْجِهَادِ وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ، فَمَنْ لَمْ يَضْعُفْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ لِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ أَوْ يَصِيرُ طَبْعًا لَهُ وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ (قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟) بِأَنْ يَجْعَلَ الْعِبَادَةَ غَالِبَةً عَلَى الْعَادَةِ " قَالَ: وَيُطِيقُ " بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ أَتَقُولُ ذَلِكَ وَيُطِيقُ " ذَلِكَ أَحَدٌ " فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي نَهْيِ صَوْمِ الدَّهْرِ هُوَ الضَّعْفُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ أَطَاقَهُ أَحَدٌ فَلَا بَأْسَ فَهُوَ أَفْضَلُ (قَالَ) أَيْ عُمَرُ (كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: " ذَلِكَ صَوْمُ دَاوُدَ ") يَعْنِي وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنِ الِاعْتِدَالِ، وَمُرَاعَاةٍ لِجَانِبَيِ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ بِأَحْسَنِ الْأَحْوَالِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اجْتَهِدْ فِي الْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُكَ عَنِ الْعَمَلِ، وَاجْتَهِدْ فِي الْعَمَلِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُكَ عَنِ الْعِلْمِ، فَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَشَرُّهَا تَفْرِيطُهَا وَإِفْرَاطُهَا، وَكَذَا وَرَدَ: أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟) إِبْقَاءٌ لِلْبَدَنِ عَنِ الضَّعْفِ لِيَتَقَوَّى عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ (قَالَ: " وَدِدْتُ ") بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ أَحْبَبْتُ وَتَمَنَّيْتُ " أَنِّي " مَعَ كَمَالِ قُوَّتِي " طُوِّقْتُ " عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ جَعَلَنِي مُطِيقًا " ذَلِكَ " أَيِ الصِّيَامَ الْمَذْكُورَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَمْ تَشْغَلْنِي الْحُقُوقُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَصُومَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ يُوَاصِلُ، وَقَالَ: أَبَيْتُ. . . الْحَدِيثَ اهـ وَفِيهِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الصِّيَامِ الْمَذْكُورِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْمُدَاوَمَةِ ذَلِكَ الْوِصَالُ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَفِيهِمَا أَيْضًا لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَيْ لَا أَفْضَلَ لَكَ لِأَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ بَعْدِ ذَلِكَ الْجَوَابِ عَلَى جِهَةِ التَّفْضِيلِ وَالتَّبَرُّعِ مِنْ غَيْرِ السُّؤَالِ " ثَلَاثٌ " أَيْ صَوْمُ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَذَفَ التَّاءَ مِنْهَا نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّهُ مُؤَنَّثٌ وَقِيلَ: بِحَذْفِ الْمَعْدُودِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: حَذَفَ التَّاءَ اعْتِبَارًا بِاللَّيَالِي الْكَشَّافِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - " أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " قِيلَ: عَشْرٌ ذَهَابًا إِلَى اللَّيَالِي، وَالْأَيَّامُ دَاخِلَةٌ مَعَهَا، وَلَا تَرَاهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ التَّذْكِيرَ فِيهِ ذَاهِبِينَ إِلَى الْأَيَّامِ، يَقُولُ: صُمْتُ عَشْرًا وَلَوْ ذُكِرَتْ خَرَجَتْ مِنْ كَلَامِهِمُ اهـ وَنُوقِشَ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ مِنْ تَغْلِيبِ اللَّيَالِي ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا مَعْدُودَةٌ مِنَ الْعِدَّةِ، وَفِي صُمْتُ عَشْرًا نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَا اعْتِبَارَ لَهَا فِي الصَّوْمِ بِوَجْهٍ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُهُ، فَلَا وَجْهَ لَهُ فِيهَا، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّهُ لِمُلَابَسَةٍ بَيْنَهُمَا لَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيَالِي فِي طَرَفَيْ بِيَوْمِ

" الصَّوْمِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ جَمَاعِيٌّ قُلْنَا الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الشَّارِعِ، فَلَا دَخْلَ لِلُّغَةِ فِيهِ، أَقُولُ: مَعْرِفَةُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الشَّارِعِ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ اللُّغَةِ حَيْثُ قَالَ: صُمْتُ عَشْرًا، أَنَّ إِيرَادَ اللَّيَالِي بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، فَتَأَمَّلْ " مِنْ كُلِّ شَهْرٍ " قِيلَ: هُوَ أَيَّامُ الْبِيضِ، وَقِيلَ: أَيْ ثَلَاثٌ يَجِدُ هَذَا الثَّوَابَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي " وَرَمَضَانُ " أَيْ وَصَوْمُ رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ مُنْتَهِيًا " إِلَى رَمَضَانَ " الْقِيَاسُ انْصِرَافُهُمَا لَكِنْ ضُبِطَ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ غَيْرَ مُنْصَرِفِينَ " فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ " أَيِ الْمَحْمُودُ " كُلِّهِ " أَيْ حُكْمًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، هَكَذَا قِيلَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكُلِّيَّةَ الْحُكْمِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ رَمَضَانَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ دُخُولِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ، الْمَعْنَى أَنَّ صِيَامَهُ كَصِيَامِهِ فِي الثَّوَابِ لَكِنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ عَلَى حَدِّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، قِيلَ: ثَلَاثٌ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ قَوْلُهُ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ، وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ، أَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَدْخَلَ الْفَاءَ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَلِكَ أَنَّ (ثَلَاثٌ) مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِفَةٌ، أَيْ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَصُومُهَا الرَّجُلُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ أَيَّامِ الْبِيضِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ، مَا لَمْ يَظُنَّ إِلْحَاقَهُ بِالْوَاجِبِ " «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ» " أَيِ اللَّهُ أَوِ الصِّيَامُ " السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ " أَيْ ذُنُوبَهُمَا " وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ " قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْمُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ، قَالَ الْقَاضِيَ عِيَاضٌ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ، قَلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمُكَفِّرٍ وَبِغَيْرِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالُوا: الْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ الصَّغَائِرُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الصَّغَائِرُ يُرْجَى تَخْفِيفُ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُفِعَتِ الدَّرَجَاتُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَقِيلَ: تَكْفِيرُ السَّنَةِ الْآتِيَةِ أَنْ يَحْفَظَهُ مِنَ الذُّنُوبِ فِيهَا، وَقِيلَ: أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ قَدْرًا يَكُونُ كَفَّارَةً لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَالْقَابِلَةِ إِذَا جَاءَتْ وَاتَّفَقَتْ لَهُ ذُنُوبٌ " وَقِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ " فِي النِّهَايَةِ: الِاحْتِسَابُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ هُوَ الْبِدَارُ إِلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَتَحْصِيلِهِ بِاسْتِعْمَالِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ فِيهَا طَلَبًا لِلثَّوَابِ الْمَرْجُوِّ فِيهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ أَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكَفِّرَ فَوَضَعَ مَوْضِعَهُ أَحْتَسِبُ وَعَدَّاهُ بِعَلَى الَّذِي لِلْوُجُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ مُبَالَغَةً لِحُصُولِ الثَّوَابِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2045 - وَعَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: " فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2045 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ) أَيْ يَوْمِهِ هُوَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ يَقْرَءُونَهُ بِقَطْعِ الْوَصْلِ، وَلَا يَعْرِفُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ بَلْ وَلَا يَدْرِي كَيْفِيَّةَ الِابْتِدَاءِ مَعَ ادِّعَائِهِ الِانْتِمَاءَ إِلَى الِانْتِهَاءِ، ثُمَّ السُّؤَالُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ، أَنْ يَكُونَ مِنْ كَثْرَةِ صِيَامِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مُطْلَقِ الصِّيَامِ وَخُصُوصِ فَضْلِهِ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ " فَقَالَ: فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ " أَيِ الْوَحْيُ " عَلَيَّ " يَعْنِي حَصَلَ لِي فِيهِ بَدْءُ الْكَمَالِ الصُّورِيِّ وَطُلُوعِ الصُّبْحِ الْمَعْنَوِيِّ، الْمَقْصُودُ الظَّاهِرِيُّ وَالْبَاطِنِيُّ، وَالتَّفَضُّلُ الِابْتِدَائِيُّ وَالِانْتِهَائِيُّ، فَوَقْتٌ يَكُونُ مَنْشَأً لِلنِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُوجَدَ فِيهِ الطَّاعَةُ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ فَيَجِبُ شُكْرُهُ - تَعَالَى - عَلَيَّ، وَالْقِيَامُ بِالصِّيَامِ لَدَيَّ، لِمَا أَوْلَى مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ إِلَيَّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اخْتِيَارًا لِلِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَيْ فِيهِ وُجُودُ نَبِيِّكُمْ، وَفِيهِ نَزَلَ كِتَابُكُمْ، وَثُبُوتُ نُبُوَّتِهِ، فَأَيُّ يَوْمٍ أَوْلَى بِالصَّوْمِ مِنْهُ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْعِلَّةِ أَيْ سُئِلَ عَنْ فَضِيلَتِهِ لِأَنَّهُ لَا مَقَالَ فِي صِيَامِهِ، فَهُوَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْعِلَّةِ فَيُطَابِقُ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ نَفْسِ الصَّوْمِ فَالْمَعْنَى هَلْ فِيهِ فَضْلٌ، فَحِينَئِذٍ مَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فَصْلُ الْخِطَابِ لَا مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ فِي الْحَوَادِثِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ قَدْ يَتَشَرَّفُ بِمَا يَقَعُ فِيهِ، وَكَذَا الْمَكَانُ، وَلِذَا قِيلَ: شَرَفُ الْمَكَانِ بِالْمَكِينِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2046 - «وَعَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2046 - ( «وَعَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ» ) أَيْ وَهَذَا أَقَلُّ مَا كَانَ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ (فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ) احْتِرَازٌ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ (كَانَ يَصُومُ؟) أَيْ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ أَوْسَطِهَا أَوْ آخِرِهَا مُتَّصِلَةً أَوْ مُنْفَصِلَةً (قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي) أَيْ يَهْتَمُّ لِلتَّعْيِينِ (مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ) أَيْ كَانَ يَصُومُهَا بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِي رَأْيُهُ الشَّرِيفُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2047 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2047 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ) أَيْ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ حَدَّثَ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ حَدَّثَ الْحَدِيثَ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ، وَالْمُرَادُ بِالرَّاوِي عَنْهُ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ: وَعَنِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ إِلَخْ " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ» " بِهَمْزَةِ قَطْعٍ أَيْ جَعَلَ عَقِبَهُ فِي الصِّيَامِ " سِتًّا " أَيْ سِتَّةَ أَيَّامٍ وَالتَّذْكِيرُ لِتَأْنِيثِ الْمُمَيَّزِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ لَيَالِيهِ " مِنْ شَوَّالٍ " وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى التَّوَالِي وَالتَّفَرُّقِ " «كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» " قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ التَّشْبِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْحَثِّ عَلَى صِيَامِ السِّتِّ اهـ وَفِيهِ إِنَّمَا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ لَوْ كَانَ السِّتُّ يَقُومُ بِانْفِرَادِهِ مَقَامَ بَقِيَّةِ السَّنَةِ، وَأَمَّا بِالِانْضِمَامِ إِلَى رَمَضَانَ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهُ صِيَامُ الدَّهْرِ حُكْمًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، كَمَا بَيَّنَهُ خَبَرُ النَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: " «صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ» "، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ فَرْضًا عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مُعَلِّلًا بِقَوْلِهِ: وَإِلَّا فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ لِمَا مَرَّ مِنْ حُصُولِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَيْ نَفْلًا اهـ وَفِي تَعْلِيلِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ الشَّارِعِ عَلَى شَيْءٍ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِهِ إِذْ مُرَادُهُ بَيَانُهُ تَرْغِيبًا فِي شَأْنِهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي التَّشْبِيهِ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ، أَوِ الْأَغْلَبُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ، فَلَوْ أُرِيدَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ حَقِيقَةً لَتَعَيَّنَ الْمُبَالَغَةُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْبَلَاغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ الْمَحْمُودَ إِنَّمَا هُوَ إِذَا أَفْطَرَ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا وَإِلَّا فَمَذْمُومٌ حَرَامٌ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّ رَمَضَانَ مَحْسُوبٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي السُّنَّةِ: قَدِ اسْتَحَبَّ قَوْمٌ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَهَا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ مُتَتَابِعَةً أَيْ بَيْنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ بَعْدَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ إِذِ التَّتَابُعُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ رَمَضَانَ وَبَيْنَ السِّتِّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ حَقِيقَةً لِنَهْيِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، فَأَمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَجَازِ الْمُشَارَفَةِ فَإِنَّهُ تَتَابَعٌ حُكْمًا مَعَ وُجُودِ الْفَصْلِ بِيَوْمٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْبَعْدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَأَنَّهُ صَامَ السَّنَةَ» "، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ فَرَّقَهَا جَازَ، وَحَكَى مَالِكٌ: الْكَرَاهَةَ فِي صِيَامِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَصُومُهَا، قَالُوا: يُكْرَهُ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهَا اهـ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: صَوْمُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَرَاهَتُهُ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا، وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: الْأَفْضَلُ وَصْلُهَا بِيَوْمِ الْفِطْرِ، وَقِيلَ: بَلْ تَفْرِيقُهَا فِي الشَّهْرِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ وَقَعَ الْفَصْلُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَلَمْ يَلْزِمِ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اعْتِقَادِ لُزُومِهَا مِنَ الْعَوَامِّ لِكَثْرَةِ الْمُدَاوَمَةِ، وَلِذَا سَمِعْنَا مَنْ يَقُولُ: يَوْمُ الْفِطْرِ نَحْنُ إِلَى الْآنَ لَمْ يَأْتِ عِيدُنَا أَوْ نَحْوُهُ، فَأَمَّا عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّفْرِيقَ أَفْضَلُ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ بِهِ عَنِ التَّشْبِيهِ الْمَوْهُومِ وَاعْتِقَادِ اللُّزُومِ، وَيَلْتَئِمُ بِهِ كَلَامُ أَهْلِ الْعُلُومِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ثَوَابَ صَوْمِ الدَّهْرِ يَحْصُلُ بِانْضِمَامِ سِتٍّ إِلَى رَمَضَانَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي شَوَّالٍ

فَكَانَ وَجْهُ التَّخْصِيصِ الْمُبَادَرَةَ إِلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى مَحْصُولِ هَذَا الْأَمْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذكَرْنَاهُ حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ هَذَا لَا يُشَكُّ فِي صِحَّتِهِ، وَيَلْتَفِتُ إِلَى كَوْنِ التِّرْمِذِيِّ جَعَلَهُ حَسَنًا، وَلَمْ يُصَحِّحْهُ، وَقَوْلُهُ فِي سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ رَاوِيهِ فَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيُّ طُرُقَهُ وَأَسْنَدَهُ عَنْ قَرِيبِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا رَوَوْهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ أَكْثَرُهُمْ ثِقَاتٌ حُفَّاظٌ، وَتَابَعَ سَعْدًا فِي رِوَايَتِهِ أَخَوَاهُ عَبَدُ رَبِّهِ وَيَحْيَى وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَثَوْبَانُ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - اهـ قَالَ مِيرَكُ: أَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: أَحَدُ طُرُقِهِ عِنْدَ الْبَزَّارِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، وَأَمَّا حَدِيثُ ثَوْبَانَ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ كَصِيَامِ السَّنَةِ» {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَأَمَّا لَفْظُ الْبَقِيَّةِ فَقَرِيبٌ مِنْهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا.

2048 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2048 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ نَهْيَ تَحْرِيمٍ (عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ) وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ (وَالنَّحْرِ) أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ أَيْ أَيَّامَ النَّحْرِ، وَفِيهِ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ صِيَامَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَيْضًا حَرَامٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ، وَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ نَحْرٌ فَقَطْ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ، وَيَوْمٌ بَعْدَهُمَا تَشْرِيقٌ فَقَطْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالَّذِي يَتْلُوهُ مَرْوِيٌّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ اهـ وَسَبَبُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْمَرْوِيَّيْنِ وَاحِدٌ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ لَكِنْ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ السَّمَاعِ، قَالَ: وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ قَوْلِهِ نَهَى عَنْ صَوْمِ الْعِيدَيْنِ إِلَى ذِكْرِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ هِيَ الْوَصْفُ بِكَوْنِهِ يَوْمَ فِطْرٍ وَيَوْمَ نَحْرٍ وَالصَّوْمُ يُنَافِيهِمَا اهـ وَفِيهِ أَنَّ الْعِيدَ أَيْضًا لَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يُفِيدَ ; فَإِنَّ الصَّوْمَ فِيهِ كَأَنَّهُ إِعْرَاضٌ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِخَلْقِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا مُحَافَظَةٌ عَلَى انْتِهَاءِ رَمَضَانَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَوْمَ الْعِيدِ لَا يَجُوزُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَتِهِ لِغَيْرِهِ اهـ وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ الْمُتَمَتِّعِ عِنْدَنَا إِلَّا قَبْلَ الْعِيدِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا الْمُتَمَتِّعُ الْمَذْكُورُ فَمُعْتَمَدُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ كَذَلِكَ، فَيَحْرُمُ صَوْمُهُ وَلَا يَصِحُّ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ إِنَّهُ يَصِحُّ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ اهـ وَفِيهِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَكَانَ مَذْهَبَهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْمَشْهُورِ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْعَقِدُ وَعَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ آخَرَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2049 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2049 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا صَوْمَ " أَيْ جَائِزٌ " فِي يَوْمَيْنِ ") أَيْ وَقْتَيْنِ أَوْ نَوْعَيْنِ مِنَ الْأَيَّامِ أَوْ عِيدَيْنِ " الْفِطْرِ " بَدَلٌ وَهُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ " وَالْأَضْحَى " وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2050 - وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2050 - (وَعَنْ نُبَيْشَةَ) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ فَشِينٌ مُعْجَمَةٌ فَهَاءٌ (الْهُذَلِيِّ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ") وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَلِي عِيدَ النَّحْرِ، كَانُوا يُشَرِّقُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَضَاحِي أَيْ يُقَدِّدُونَهَا وَيَبْسُطُونَهَا فِي الشَّمْسِ لِيَجِفَّ، لِأَنَّ لُحُومَ الْأَضَاحِي كَانَتْ تُشَرَّقُ فِيهَا بِمِنًى، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّ الْهَدْيَ وَالضَّحَايَا لَا تُنْحَرُ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، أَيْ تَطْلُعَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ " «أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» " وَفِيهِ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ أَيْضًا يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، بَلْ وَالْأَصْلُ، وَالْبَقِيَّةُ أَتْبَاعُهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ صَوْمِهَا، وَإِنَّمَا حُرِّمَ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ أَيَّامٍ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهَا، فَإِنْ وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَلَا بَأْسَ " وَذِكْرِ اللَّهِ " بِالْجَرِّ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] قَالَ الْأَشْرَفُ: وَإِنَّمَا عَقَّبَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ بِذِكْرِ اللَّهِ لِئَلَّا يَسْتَغْرِقَ الْعِيدُ فِي حُظُوظِ نَفْسِهِ، وَيَنْسَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ أَيَّامَ مِنًى صَائِحًا يَصِيحُ أَنْ لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ، أَيْ أَيَّامُ وِقَاعٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَاحِلَةٍ أَيَّامَ مِنًى أُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُمَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْحَجِّ وَإِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ بَعَثَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا يُنَادِي: أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» "، زَادَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ: وَذِكْرِ اللَّهِ اهـ مُلَخَّصًا.

2051 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2051 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ) نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ وَهُوَ لِلتَّنْزِيهِ " إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ " يَوْمٌ أَوْ أَكْثَرُ " أَوْ يَصُومُ بَعْدَهُ " وَلَوْ يَوْمًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا بَأْسَ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ سُئِلْتُ عَنْ وَجْهِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا، فَأَعْمَلْنَا الْفِكْرَ فِيهِ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ - تَعَالَى - فَرَأَيْنَا أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْرَهْ أَنْ يُصَامَ مُنْضَمًّا إِلَى غَيْرِهِ وَكَرِهَ أَنْ يُصَامَ وَحْدَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ لَيْسَتْ لِلتَّقَوِّي عَلَى إِتْيَانِ الْجُمُعَةِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ كَمَا رَآهُ بَعْضُ النَّاسِ، إِذْ لَا مَزِيَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ مَنْ صَامَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ، وَبَيْنَ مَنْ صَامَ الْجُمُعَةَ وَحْدَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ بِمَعْنًى آخَرَ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، عَلَى مَا تَبَيَّنَ لَنَا: أَحَدُهُمَا أَنْ نَقُولَ كَرِهَ تَعْظِيمَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِاخْتِصَاصِهِ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ الْيَهُودَ يَرَوْنَ اخْتِصَاصَ السَّبْتِ بِالصَّوْمِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَالنَّصَارَى يَرَوْنَ اخْتِصَاصَ الْأَحَدِ بِالصَّوْمِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَلَمَّا كَانَ مَوْقِعُ الْجُمُعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَوْقِعَ الْيَوْمَيْنِ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَحَبَّ أَنْ يُخَالِفَ هَدْيُنَا هَدْيَهُمْ فَلَمْ يَرَ أَنْ نَخُصَّهُ بِالصَّوْمِ، وَالْآخَرُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَجَدَ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَدِ اسْتَأْثَرَ الْجُمُعَةَ بِفَضَائِلَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِهَا غَيْرَهَا مِنَ الْأَيَّامِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَجَعَلَ الِاجْتِمَاعَ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فَرْضًا مَفْرُوضًا عَلَى الْعِبَادِ فِي الْبِلَادِ ثُمَّ غَفَرَ لَهُمْ مَا اجْتَرَحُوا مِنَ الْآثَامِ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْأُخْرَى وَفَضَّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَرَ فِي بَابِ فَضِيلَةِ الْأَيَّامِ مَزِيدًا عَلَى مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْجُمُعَةَ فَلَمْ يَرَ أَنْ يَخُصَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ سِوَى مَا خَصَّهُ بِهِ اهـ وَهُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةُ التَّدْقِيقِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْقُولُ لِأَنَّهُ عَلَى الْمَقْصُودِ أَوْلَى لَكِنْ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ نَهْيِ اخْتِصَاصِ لَيْلَتِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي بِالْقِيَامِ مَعَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَاخْتِصَاصِ يَوْمِهِ بِالصِّيَامِ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ لَا تَقْتَصِرَ أُمَّتُهُ عَلَى صِيَامِ نَهَارِهِ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، وَأَنْ لَا تَنْحَصِرَ هِمَّتُهُمْ عَلَى قِيَامِ لَيْلَتِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، فَإِنَّهُ كَانَ يَجُرُّ إِلَى هِجْرَانِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ عَنْ إِتْيَانِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، بَلْ أَرَادَ الشَّارِعُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ وَقْتٍ حَظَّهُمْ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَلَا يَخُصُّوا كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْعِبَادَةِ بِبَعْضِ الْأَيَّامِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْعَوَامِّ، هَذَا وَالِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحِكَمِ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْلَى وَالِاعْتِرَافُ لِلتَّعَبُّدِ بِالْأَخْذِ بِظَوَاهِرِ الْأَحْكَامِ أَعْلَى وَأَغْلَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2052 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2052 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ» ") قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ صَلَاةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقِيَامَ أَعَمُّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ " مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي " قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنْ تَخْصِيصِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالرَّغَائِبِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ مُصَنَّفَاتٍ فِي تَقْبِيحِهَا وَتَضْلِيلِ وَاضِعِهَا اهـ وَلَعَلَّ وَجْهَ النَّهْيِ عَنْ زِيَادَةِ الْعِبَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ إِبْقَاءٌ لِلْقَوِيِّ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ " وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ " قَالَ الطِّيبِيُّ: يَوْمَ نُصِبَ مَفْعُولٌ بِهِ كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ، وَالِاخْتِصَاصُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَفِي الْحَدِيثِ مُتَعَدٍّ، قَالَ الْمَالِكِيُّ: الْمَشْهُورُ فِي اخْتَصَّ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِ (خَصَّ) فِي التَّعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ، وَبِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105] وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَلَا يَخْتَصُّ قَوْمًا، وَقَدْ يَكُونُ اخْتَصَّ مُطَاوِعَ خَصَّ فَلَا يَتَعَدَّى كَقَوْلِكَ: خَصَصْتُكَ لَا لِشَيْءٍ فَاخْتَصَصْتَ بِهِ اهـ وَكَانَ مَحَلُّ هَذَا الْكَلَامِ صَدْرَ الْحَدِيثِ وَهُوَ لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ كَمَا لَا يَخْفَى لَكَ، لَكِنْ تَبِعْنَاهُ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، وَلَعَلَّ فِي نُسْخَةٍ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا فَيَكُونُ أَيْضًا مُحَافَظَةً عَلَى أَصْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَفْعُولٌ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَخَافُونَ يَوْمًا} [النور: 37] فَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيرَهُ عَذَابُ يَوْمٍ، لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يُخَافُ، وَقَوْلُهُمْ: يَوْمٌ مَخُوفٌ أَيْ مَخُوفٌ فِيهِ، أَوْ عَلَى الْمَجَازِ مُبَالَغَةً (إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ) تَقْدِيرُهُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَاقِعًا فِي يَوْمِ صَوْمٍ (يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ) أَيْ مِنْ نَذْرٍ أَوْ وِرْدٍ، الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَ ذِكْرَهُ لِلْمُقَايَسَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَبْلَ عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَاصِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هُنَا قِيلَ عِلَّةُ النَّهْيِ تَرْكُ مُوَافَقَةِ الْيَهُودِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِ الْأُسْبُوعِ، يَعْنِي عَظَّمَتِ الْيَهُودُ السَّبْتَ فَلَا تُعَظِّمُوا الْجُمُعَةَ خَاصَّةً بِصِيَامٍ وَقِيَامٍ، وَأَقُولُ: لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ لَكَانَ الصَّوْمُ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا يَسْتَرِيحُونَ فِيهِ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمِصْدَاقُهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وُجُودُ الْمُخَالَفَةِ لَهُمْ فِي تَعْظِيمِ يَوْمِهِمُ الْمُعَظَّمِ عِنْدَهُمْ بِأَيْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَاصِ، وَلَوْ كَانَ عِبَادَةً وَمُخَالَفَةً لَهُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ: لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ النَّهْيَ لِمُخَالَفَتِهِمْ وَلَعَلَّهُمْ طَائِفَتَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنَّ الْعِلَّةَ وُرُودُ النَّصِّ وَتَخْصِيصُ كُلِّ يَوْمٍ بِعِبَادَةٍ لَيْسَتْ لِيَوْمٍ آخَرَ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدِ اسْتَأْثَرَ الْجُمُعَةَ بِفَضَائِلَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِهَا غَيْرَهَا، فَجَعَلَ الِاجْتِمَاعَ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فَرْضًا عَلَى الْعِبَادِ فِي الْبِلَادِ، فَلَمْ يَرَ أَنْ يَخُصَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ سِوَى مَا خُصَّ بِهِ ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ الْأَيَّامِ بِعَمَلٍ دُونِ مَا خَصَّ بِهِ غَيْرَهُ لِيَخْتَصَّ كُلٌّ مِنْهَا بِنَوْعٍ مِنَ الْعَمَلِ لِيُظْهِرَ فَضِيلَةَ كُلِّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ اسْتِيثَارَ الْجُمُعَةِ بِفَضَائِلَ كَثِيرَةٍ لَا يَقْتَضِي مَنْعَ الصَّوْمِ فِيهَا، لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُطْلَقًا لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ نَهَاهُمْ تَهْوِينًا وَتَسْهِيلًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي كَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَوْ يُقَالُ تَشْبِيهًا بِيَوْمِ الْعِيدِ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ عِيدُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلِذَا سُمِّيَ فِي الْجَنَّةِ بِيَوْمِ الْمَزِيدِ لِحُصُولِ الْحُسْنَى وَالزِّيَادَةِ فِيهِ لِلْمُرِيدِ، لَكِنْ حَيْثُ اسْتَثْنَى الشَّارِعُ ضَمَّ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ تَحَيَّرَتِ الْأَفْكَارُ وَاضْطَرَبَتِ الْأَنْظَارُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَسْرَارِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَجَاءَ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّ جَابِرًا سُئِلَ: أَنْهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَوَرَدَ فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ، إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ، لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَيَتَحَصَّلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى تَهْوِينًا عَلَى أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالِمِينَ، وَلَمَّا كُلِّفُوا بِعِبَادَاتٍ فِيهِ خَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَضُمُّوا إِلَيْهَا الصَّوْمَ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْمِلَّةِ هِيَ السَّمْحَاءُ الْحَنِيفِيَّةُ، فَمَنَعَهُمْ عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ عِيدٌ لَهُمْ فَيُنَاسِبُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ الْمُنَافِي لِلْعِيدِ الْمُقْتَضِي لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْمُخَالِفِينَ كَمَا سَبَقَ، أَوْ لِذَا قِيلَ: الْعِلَّةُ فِيهِ أَنْ لَا يُبَالَغَ فِي تَعْظِيمِهِ كَالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ وَالنَّصَارَى فِي الْأَحَدِ، وَقِيلَ: لِئَلَّا يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ نَظِيرَ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، حَيْثُ لَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ وَافَقَ يَوْمًا اعْتَادَهُ، أَوْ ضَمَّ إِلَيْهِ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ يَكُونُ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ.

2053 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2053 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ) أَيْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَمَشَقَّةِ الْغَزْوِ، أَوْ مَعْنَاهُ مَنْ صَامَ يَوْمًا لِوَجْهِ اللَّهِ " بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ " أَيْ ذَاتَهُ " عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا " أَيْ مِقْدَارَ مَسَافَةِ سَبْعِينَ سَنَةً (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِي النِّهَايَةِ الْخَرِيفُ الزَّمَانُ الْمَعْرُوفُ مَا بَيْنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، يُرَادُ بِهِ السَّنَةُ لِأَنَّ الْخَرِيفَ لَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا انْقَضَى الْخَرِيفُ انْقَضَى السَّنَةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الْفُصُولِ لِأَنَّهُ زَمَانُ بُلُوغِ حُصُولِ الثِّمَارِ وَحَصَادِ الزَّرْعِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَأَنَّ قَائِلَ هَذَا فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَرِيفِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ فَصْلُ الصَّيْفِ دُونَ الْخَرِيفِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ، وَهُوَ مَا أَوَّلُهُ الْمِيزَانُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اهـ وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ إِذْ كَيْفَ يَخْفَى مِثْلُ هَذَا عَلَى الْفَاضِلِ الْعَلَّامَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي بِلَادِهِ فَلَّاحٌ وَلَا جِلْفٌ إِلَّا وَيَعْرِفُ الْخَرِيفَ مِنَ الصَّيْفِ، مَعَ أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الصَّيْفَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ظُهُورَ الْأَزْهَارِ وَالثِّمَارِ لَا يَكُونُ مُبْتَدَأً إِلَّا مِنْ أَوَّلِ الْحَمْلِ مُنْتَهِيًا إِلَى الصَّيْفِ، فَإِذَا دَخَلَ الْخَرِيفُ خَرَفَ الثِّمَارَ أَيْ جَنَى، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: خَرِيفٌ كَأَمِيرٍ، ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَيْنَ الْقَيْظِ وَالشِّتَاءِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الثِّمَارُ، فَهَذِهِ كُتُبُ لُغَةِ الْعَرَبِ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ الْخَرِيفَ عِنْدَهُمْ مَا أَوَّلُهُ الْمِيزَانُ، وَهُوَ زَمَانُ انْتِهَاءِ الْإِثْمَارِ وَالْفَوَاكِهِ، وَكَأَنَّهُ بِانْتِهَائِهِ يَنْتَهِي السَّنَةُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ لَيْسَ إِلَّا الْبَرْدُ وَهُوَ عَدُوٌّ لَا يُعَدُّ زَمَانُهُ مِنَ الْعُمْرِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْخَرِيفَ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ الصَّيْفُ فَلَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ، وَلَعَلَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ وَقْتُ كَثْرَةِ الْفَوَاكِهِ وَعَيْنُ زَمَانِ إِكْثَارِ الثِّمَارِ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَوْ صَحَّ، وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ مَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ الْعَجَمِيُّ لَوْ أَخْطَأَ فِي مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ لَيْسَ بِعَجِيبٍ، إِنَّمَا الْغَرِيبُ مِنَ الْعَرَبِيِّ أَنْ لَا يَفْهَمَ كَلَامَهُ وَلَا يُرَتِّبَ نِظَامَهُ، وَلِذَا مُدِحُوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ كَانَ الْعِلْمُ فِي الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسٍ» "، وَلَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَضَمِّنِ لِكَرَامَتِهِ أَنَّ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْفَضَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ انْتَهَتْ تَحْقِيقَاتُهَا إِلَى عُلَمَاءِ الْعَجَمِ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْعَقَائِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى قِيلَ: انْتَقَلَ الْعِلْمُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى الْعَجَمِ ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِمْ.

2054 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " فَلَا تَفْعَلْ ; صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ، صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صُمْ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ " قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: " صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ، صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2054 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَبْدَ اللَّهِ ") يَحْتَمِلُ الْعِلْمِيَّةَ وَالْوَصْفِيَّةَ " أَلَمْ أُخْبَرْ " عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ " أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ " أَيْ وَلَا تُفْطِرُ " وَتَقُومُ اللَّيْلَ " أَيْ جَمِيعَهُ وَلَا تَنَامُ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ " قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابٌ عَمَّا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَلَمْ أُخْبَرْ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا فَعَلَهُ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَمْ تَصُمِ النَّهَارَ أَلَمْ تَقُمِ اللَّيْلَ؟ فَقَالَ: بَلَى اهـ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الصَّحَابِيَّ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ أُخْبِرَ أَمْ لَا، فَكَيْفَ يَقُولُ بَلَى؟ فَإِنَّ مَعْنَاهُ بَلَى أُخْبِرْتَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّقْرِيرِ، وَحَمْلِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْإِقْرَارِ، فَقَالَ: بَلَى، سَوَاءٌ يَكُونُ الْمُخْبِرُ الْوَحْيَ أَوْ غَيْرَهُ لِمُطَابَقَتِهِ الْوَاقِعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (قَالَ: " فَلَا تَفْعَلْ ") فَإِنَّهُ مُضِرٌّ لَكَ لِأَنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَى ضَعْفِ الْبَدَنِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، وَلَوْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مِنَ الْعُمْرِ " صُمْ " وَقْتَ النَّشَاطِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، أَوْ وَقْتَ طُغْيَانِ النَّفْسِ لِتُنْكِرَ صُورَتُهَا " وَأَفْطِرْ " وَقْتَ السَّآمَةِ وَالْمَلَالَةِ وَجُمُودِ النَّفْسِ وَكَسْرِ شَهَوَاتِهَا، صُمْ أَيَّامَ الْفَوَاصِلِ لِإِدْرَاكِ الْفَضَائِلِ، وَأَفْطِرْ فِي غَيْرِهَا لِتَقْوِيَةِ الْبَدَنِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ الشَّمَائِلِ " وَقُمْ " أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ " وَنَمْ " مَا بَيْنَهُمَا وَاسْمَعْ نَصِيحَةَ الطَّبِيبِ الْحَبِيبِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ، فَكَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَهَا لِقَوْلِهِ " فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا " بِمُحَافَظَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالْقِيَامِ وَالنِّيَامِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِصِيَامِ الْأَيَّامِ وَقِيَامِ اللَّيَالِي عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ انْحِلَالٌ لِلْقُوَى، وَاخْتِلَالٌ لِلْبَدَنِ عَنِ النِّظَامِ، فَلَا يَجُوزُ لَكَ إِضَاعَتُهُ بِتَفْرِيطِهِ وَإِضْرَارِهِ بِإِفْرَاطِهِ، بِحَيْثُ تَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ فِي الْحَالَاتِ، وَالْحَاصِلُ اعْتَدِلْ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا " وَإِنَّ لِعَيْنِكَ " قِيلَ: لِبَاصِرَتِكَ، وَقِيلَ: لِذَاتِكَ

" عَلَيْكَ حَقًّا " وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَقْوَى مِنَ التَّأْكِيدِ ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ نُقْصَانُ قُوَّةِ الْبَاصِرَةِ مِنَ النَّوْمِ وَالسَّهَرِ " وَإِنَّ لِزَوْجِكَ " أَيْ لِامْرَأَتِكَ " عَلَيْكَ حَقًّا " أَيْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَيَفُوتُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ الِاضْطِجَاعُ وَالِانْتِفَاعُ " وَإِنَّ لِزَوْرِكَ " بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْوَاوِ أَيْ لِأَصْحَابِكَ الزَّائِرِينَ وَأَحِبَّائِكَ الْقَادِمِينَ " عَلَيْكَ حَقًّا " أَيْ وَتَعْجِزُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ عَنْ حُسْنِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ إِمَّا لِضَعْفِ الْبَدَنِ أَوْ لِقُوَّةِ سُوءِ الْخُلُقِ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الزَّوْرُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ كَصَوْمٍ وَنَوْمٍ بِمَعْنَى صَائِمٍ وَنَائِمٍ، وَقَدْ يَكُونُ الزَّوْرُ جَمْعًا لِزَائِرٍ، كَرَكْبٍ جَمْعِ رَاكِبٍ اهـ وَقِيلَ: الزَّوْرُ اسْمُ جَمْعٍ بِمَعْنَى الضَّيْفِ " لَا صَامَ " قَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَأَنْ يَكُونَ دُعَاءً كَمَا مَرَّ اهـ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ " مَنْ صَامَ الدَّهْرَ " لِعَدَمِ لُحُوقِ مَشَقَّةِ مَا يَجِدُهَا غَيْرُهُ بِاعْتِيَادِهِ الصَّوْمَ، قَالَ الْقَاضِي: فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَادَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيَاضَةً وَكُلْفَةً يَتَعَلَّقُ بِهَا مَزِيدُ ثَوَابٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا التَّأْوِيلُ يُخَالِفُ سِيَاقَ الْحَدِيثِ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي رَفْعِ التَّشْدِيدِ وَوَضْعِ الْإِصْرِ، أَلَّا تَرَى كَيْفَ نَهَاهُ أَوَّلًا عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ كُلِّهِ ثُمَّ حَثَّهُ عَلَى صَوْمِ دَاوُدَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْرِيَ لَا صَامَ عَلَى الْإِخْبَارِ لِأَنَّهُ مَا امْتَثَلَ أَمْرَ الشَّارِعِ وَلَا أَفْطَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْعَمْ شَيْئًا كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ اهـ وَالتَّعْلِيلُ بِصِيَامِهِ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّةَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ لِعَلَمِهِمْ بِحُرْمَةِ صِيَامِهَا، وَالشَّارِعُ مَا يَنْفِي صَوْمَ الدَّهْرِ مُطْلَقًا لِاحْتِمَالِ صِيَامِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَأَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ صِيَامِهَا بِالْخُصُوصِ، فَالْأَظْهَرُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنَ السِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ سَوَاءٌ كَانَ إِخْبَارًا أَوْ دُعَاءً أَنَّهُ لِلُحُوقِهِ ضَرَرَ الضَّعْفِ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي إِيجَابِ صَوْمِ شَهْرٍ فَقَطْ عَلَى الْأُمَّةِ، وَلِذَا قَالَ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَالَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَلَيْكُمْ بِالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ» " وَرُوِيَ: " «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ وَلَا تُشَدِّدُوا فَيُشَدِّدُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» "، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى مِنَ الْأَدِلَّةِ (صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ " مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (صَوْمُ الدَّهْرِ) لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا (كُلِّهِ) أَيْ حُكْمًا وَهُوَ بِالْجَرِّ تَأْكِيدٌ لِلدَّهْرِ (صُمْ) أَيْ أَنْتَ بِالْخُصُوصِ وَمَنْ هُوَ فِي الْمَعْنَى مِثْلُكَ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ تَوَهُّمُ التَّكْرَارِ الْمُسْتَفَادِ مِمَّا قَبْلَهُ (كُلَّ شَهْرٍ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) ظَرْفٌ، قِيلَ: هِيَ أَيَّامُ الْبِيضِ (وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ) أَيْ جَمِيعَهُ (فِي كُلِّ شَهْرٍ) أَيْ مَرَّةً (قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ وَخَتْمِ الشَّهْرِ ( «قَالَ: صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ» ) نَصَبَهُ عَلَى الْبَدَلِ أَوِ الْبَيَانِ أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ دُونَ جَرِّهِ بِفَسَادِ الْمَعْنَى (صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ) بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَاقْرَأِ) الْقُرْآنَ (فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً) أَيْ مَرَّةً مِنَ الْخَتْمِ، وَفِي اخْتِيَارِ اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَفْضَلِيَّتِهَا لِلْقِرَاءَةِ (وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ عَلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الصَّوْمِ وَالْخَتْمِ أَوْ لَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّؤَالِ وَدَعْوَى زِيَادَةِ الطَّاقَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2055 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2055 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ) أَيْ أَحْيَانًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ الِاثْنَيْنِ) بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى أَنَّ إِعْرَابَهُ بِالْحَرْفِ عَلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَبَرَةُ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا (وَالْخَمِيسَ) بِالنَّصْبِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَتَحَرَّى حُقُوقَهُمَا، قِيلَ: وَسُمِّيَ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ ثَانِي الْأُسْبُوعِ وَالْخَمِيسُ لِأَنَّهُ خَامِسُهُ كَذَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْأُسْبُوعِ الْأَحَدُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، لَكِنْ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ أَوَّلَ الْأُسْبُوعِ هُوَ السَّبْتُ وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً اهـ. فَعَلَيْهِ يُوَجَّهُ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ نَظِيرَ مَا لَحَظَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّ عَاشُورَاءَ تَاسِعُ الْمُحَرَّمِ عَلَى مَا مَرَّ فِيهِ، أَقُولُ: مَا مَرَّ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا مَرَّ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ مَا مَرَّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً هُنَا لِأَنَّهَا تُنَافِيهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ وَجْهَ إِطْلَاقِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ عَلَى الْيَوْمَيْنِ بِنَاءً عَلَى ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْعَالَمِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] وَقَدْ بَيَّنَهَا الشَّارِعُ فِي أَحَادِيثَ أَنَّ أَوَّلَهَا الْأَحَدُ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْخِلَافَ فِي الْأُسْبُوعِ أَنَّ أَوَّلَهُ الْأَحَدُ أَوِ السَّبْتُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ مَبْنِيٌّ عَلَى اللُّغَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلسُّنَّةِ وَالثَّانِي مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2056 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2056 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيِرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ) أَيْ عَلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ) بِالْجَرِّ (فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) أَيْ طَلَبًا لِزِيَادَةِ رِفْعَةِ الدَّرَجَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «يُرْفَعُ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ» " لِلْفَرْقِ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْعَرْضِ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تُجْمَعُ فِي الْأُسْبُوعِ وَتُعْرَضُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَدْ حَسَّنَهُ، وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: " «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءٌ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُنَافِي هَذَا رَفْعَهَا فِي شَعْبَانَ، فَقَالَ: " «إِنَّهُ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» " لِجَوَازِ رَفْعِ أَعْمَالِ الْأُسْبُوعِ مُفَصَّلَةً وَأَعْمَالِ الْعَامِ مُجْمَلَةً، قُلْتُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ شَعْبَانَ آخِرَ السَّنَةِ وَأَنَّ أَوَّلَهَا رَمَضَانُ عِنْدَ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ الْآخِرَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ تُزَخْرَفُ الْجَنَّةُ لِرَمَضَانَ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَالَّذِي يَلُوحُ لِي الْآنَ أَنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ هِيَ الَّتِي تُعْرَضُ فِيهَا أَعْمَالُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ كَمَا أَنَّهَا تُكْتَبُ فِيهَا جَمِيعُ مَا يَقَعُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَلِذَا قَالَ: " قُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا " وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ السَّنَةِ الْعِبَادِيَّةِ أَوَّلَ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَعْبَانَ وَهُوَ مُقَدِّمَةُ تَزْيِينِ رَمَضَانَ كَمَا هُوَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الزَّمَانِ حَيْثُ يُسَمُّونَ تِلْكَ الْأَيَّامَ أَيَّامَ النَّزَاهَةِ وَيَخْتَارُونَ التَّمْشِيَةَ وَالنَّزَاهَةَ، وَيَعُدُّونَ الصِّيَامَ مِنْ أَشَدِّ الْكَرَاهَةِ تَقْوِيَةً لِرَمَضَانَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

2057 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2057 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ) أَيْ أَرَدْتَ الصَّوْمَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ عَمَلًا بِمَا عَلِمْتُهُ مِنْ أَنَّ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ (مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ فِيهَا وَتُكْسَرُ وَهِيَ أَيَّامُ اللَّيَالِيِ الْبِيضِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَفْضَلِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ كَوْنِهَا ثَلَاثَةً وَكَوْنِهَا الْبِيضَ أَكْمَلُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

2058 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ الْجُمُعَةَ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2058 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ» ) أَيْ أَوَّلِهِ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) قِيلَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ لِأَنَّ هَذَا الرَّاوِي وَحَّدَ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَالِبِ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَدَّثَ بِمَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اطَّلَعَتْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ هَذَا الرَّاوِي فَحَدَّثَتْ بِمَا عَلِمَتْ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْغُرَّةُ مِنَ الْهِلَالِ طَلْعَتُهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كُلَّمَا طَلَعَ هِلَالٌ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِهِ فَيُوَافِقُ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ (وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ إِلَى مَا بَعْدَهُ أَوْ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْوِصَالِ، قَالَ الْقَاضِي: أَوْ أَنَّهُ كَانَ يُمْسِكُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا يَتَغَذَّى إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ اهـ. فَمَعْنَى الْإِفْطَارِ أَكْلُ الْفُطُورِ هُوَ مَا يُؤْكَلُ أَوَّلَ النَّهَارِ لَا الْإِفْطَارُ الَّذِي ضِدُّ الصَّوْمِ، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَالسِّبَاقِ، بَلْ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ الْمُؤَيِّدُ لِمَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إِفْرَادُ صَوْمِهِ إِذِ الِاخْتِصَاصُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) أَيْ تَمَامَ الْحَدِيثِ (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ إِلَى (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) .

2059 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَمِنَ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2059 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ) أَيْ مِنْ أَحَدِ الشُّهُورِ " السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِعْرَابَهُ بِالْحَرْفِ أَوِ الْحَرَكَةِ (وَمِنَ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَيُضَمُّ (وَالْأَرْبِعَاءَ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِفَتْحٍ وَيُضَمُّ وَكُلٌّ مَمْدُودٌ (وَالْخَمِيسَ) مُرَاعَاةً لِلْعَدَالَةِ بَيْنَ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ اللَّهِ - تَعَالَى، وَلَا يَنْبَغِي هِجْرَانُ بَعْضِهَا لِانْتِفَاعِنَا بِكُلِّهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ الْجُمُعَةَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فَكَانَ يَسْتَوْفِي أَيَّامَ الْأُسْبُوعِ بِالصِّيَامِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ سُنَّةَ صَوْمِ جَمِيعِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعَ هَذِهِ السُّنَّةِ مُتَوَالِيَةً كَيْلَا يَشُقَّ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ رَحْمَةً لَهُمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2060 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوَّلُهَا الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2060 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلُهَا» ) بِالرَّفْعِ (الِاثْنَيْنِ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا (وَالْخَمِيسُ) بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّبَعِيَّةِ، قَالَ الْأَشْرَفُ: الظَّاهِرُ الِاثْنَانِ، فَقِيلَ: أُعْرِبَ بِالْحَرَكَةِ لَا بِالْحَرْفِ، وَقِيلَ: الْمُضَافُ مَحْذُوفٌ مَعَ إِبْقَاءِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى حَالِهِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَوَّلُهَا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ اهـ وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَمٌ كَالْبَحْرَيْنِ، وَالْأَعْلَامُ لَا تَتَغَيَّرُ عَنْ أَصْلِ وَضْعِهَا، بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (أَوَّلَهَا) مَنْصُوبٌ لَكِنْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيِ اجْعَلْ أَوَّلَهَا الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، يَعْنِي وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ، وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ حَيْثُ قَالَ: صَوَابُهُ أَوِ الْخَمِيسُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تُجْعَلُ أَوَّلُ الْأَيَّامِ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةِ الِاثْنَيْنِ أَوِ الْخَمِيسَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّهْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ افْتِتَاحُهُ مِنَ الْأُسْبُوعِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي بَعْدَ الْخَمِيسِ فَتَفْتَحُ صَوْمَهَا فِي شَهْرِهَا ذَلِكَ بِالِاثْنَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقِسْمِ الَّذِي بَعْدَ الِاثْنَيْنِ فَتَفْتَحُ شَهْرَهَا ذَلِكَ بِالْخَمِيسِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ فِيمَا يَرْوِيهِ مِنْ كِتَابِ الطَّبَرَانِيِّ اهـ وَأَمَّا تَعْبِيرُ ابْنِ حَجَرٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَيْ أَوَّلُهَا أَوَّلُ اثْنَيْنِ يَلِي الْهِلَالَ إِنْ هَلَّ بِالْجُمُعَةِ أَوِ السَّبْتِ أَوِ الْأَحَدِ أَوْ أَوَّلُ خَمِيسٍ يَلِيهِ إِنْ هَلَّ بِالثُّلَاثَاءِ أَوِ الْأَرْبِعَاءَ، فَقَاصِرٌ عَنِ الْمَقْصُودِ لِخُرُوجِ مَا إِذَا هَلَّ بِالِاثْنَيْنِ أَوْ بِالْخَمِيسِ، فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ لِغَفْلَتِهِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى لِقُصُورِ تَصَوُّرِهِ فِي الْمَبْنَى، قَالَ: وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّ الْأَفْضَلَ صَوْمُ الْهِلَالِ، وَتَالِيَيْهِ إِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَدَ بَيَانَ فَضْلَيِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ بِجَعْلِ مُفْتَتَحِ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَارَةً وَالْخَمِيسِ أُخْرَى اهـ. وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الشُّرَّاحِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقَصْدُ، وَأَنَّهُ شَامِلٌ صَوْمَ الْهِلَالِ وَتَالِيَيْهِ أَيْضًا فَمَا صَحَّ الْقِيَاسُ وَلَا احْتِيَاجَ إِلَى الْجَوَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَجْعَلُ أَوَّلَهَا الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرٍ فَلَا احْتِيَاجَ إِلَى أَنْ يُقَالَ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

2061 - «وَعَنْ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: سُئِلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ، قَالَ: " إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. صُمْ رَمَضَانَ وَالَّذِي يَلِيهِ وَكُلَّ أَرْبِعَاءَ وَخَمِيسٍ فَإِذًا أَنْتَ قَدْ صُمْتَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2061 - (وَعَنْ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ) بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ نِسْبَةً إِلَى قُرَيْشٍ (قَالَ: سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ) بِالرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ " «إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» " هَذَا إِجْمَالٌ لِمَا سَبَقَ، وَفِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ إِشْعَارٌ بِأَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفَتِّرَ الْهِمَّةَ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، فَلِذَا كُرِهَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ صَوْمُهُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَبَيْنَ مَا فَعَلَهُ بَعْضُ السَّلَفِ الْكِرَامِ وَالْمَشَايِخِ الْعِظَامِ " صُمْ رَمَضَانَ وَالَّذِي يَلِيهِ " قِيلَ: أَرَادَ السِّتَّ مِنْ شَوَّالٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ شَعْبَانَ " وَكُلَّ أَرْبِعَاءَ " بِالْمَدِّ وَعَدَمِ الِانْصِرَافِ " وَخَمِيسٍ " بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ " فَإِذًا " بِالتَّنْوِينِ " أَنْتَ قَدْ صُمْتَ الدَّهْرَ " أَيْ مَرَّاتٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، وَالْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِنْ فَعَلْتَ مَا قُلْتُ لَكَ فَقَدْ صُمْتَ، وَإِذَنْ جَوَابُ حَتَّى لِتَأْكِيدِ الرَّبْطِ " كُلَّهُ " أَيْ حُكْمًا، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ حُصُولِ صَوْمِ الدَّهْرِ بِثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُخْبِرُ أَوَّلًا بِالْجُزْءِ الْقَلِيلِ ثُمَّ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ إِعْظَامًا لِلْمِنَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَيُقَارِبُ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَصِيرَ صَوْمُ الدَّهْرِ مَرَّتَيْنِ حُكْمًا، فَتَدَبَّرْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

2062 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2062 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى) أَيْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ (عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ) أَيْ فِي عَرَفَاتٍ لِئَلَّا يَضْعُفَ عَنِ الدُّعَاءِ وَلِئَلَّا يُسِيءَ خُلُقَهُ مَعَ الرُّفَقَاءِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَنْ يَكُونُ مِثْلَهُ، وَلَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَيْسَ هَذَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ، رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَصُومُهُ فِي الشِّتَاءِ وَلَا أَصُومُهُ فِي الصَّيْفِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَقَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

2063 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2063 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ السِّينِ (عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، اسْمُهَا بَهِيَّةُ، وَتُعْرَفُ بِالصَّمَّاءِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ» ") أَيْ وَحْدَهُ (إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ " عَلَيْكُمْ " أَيْ وَلَوْ بِالنَّذْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالُوا النَّهْيُ عَنِ الْإِفْرَادِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَالْمَقْصُودُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِيهِمَا، وَالنَّهْيُ فِيهِمَا لِلتَّنْزِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَا افْتُرِضَ يَتَنَاوَلُ الْمَكْتُوبَ وَالْمَنْذُورَ وَقَضَاءَ الْفَوَائِتِ وَصَوْمَ الْكَفَّارَةِ وَفِي مَعْنَاهُ مَا وَافَقَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، أَوْ وَافَقَ وِرْدًا، وَزَادَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَعَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ فِي خَيْرِ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ، فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَاجِبًا كَمَا تَفْعَلُهُ الْيَهُودُ، قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يُكَرِّرُ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ لِلتَّنْزِيهِ، بِمُجَرَّدِ الْمُشَابَهَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ وَالنَّهْيَ عَنْ إِفْرَادِ الْجُمُعَةِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ قِشْرَ حَبَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِنَبِ اسْتِعَارَةً مِنْ قِشْرِ الْعُودِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِنَبَةِ شَجَرَةُ الْعِنَبِ وَهِيَ الْحِيلَةُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اللِّحَاءُ مَمْدُودٌ وَهُوَ قِشْرُ الشَّجَرِ، وَالْعِنَبَةِ هِيَ الْحَبَّةُ مِنَ الْعِنَبِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْمُرَادُ شَجَرَةُ الْعِنَبِ لَا حَبَّتُهَا فَخَطَأٌ فَاحِشٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْيِ إِرَادَةِ الْحَبَّةِ مَعَ أَنَّهَا أَظْهَرُ فِي الْمُبَالَغَةِ لَا سِيَّمَا دَعْوَى الْمُرَادِ فِيمَا يُحْتَمَلُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَاطِلَةٌ وَالْقَوْلُ بِهَا مُجَازَفَةٌ، بَلْ لَوْ بُولِغَ فِي هَذِهِ الْمَقَامِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِنَبَةِ هِيَ الْحَبَّةُ مِنَ الْعِنَبِ لَا قِشْرَ الشَّجَرَةِ لَصَحَّ فَالْعِنَبَةُ هِيَ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْعِنَبُ مَعْلُومٌ وَاحِدَتُهُ عِنَبَةٌ وَلَمْ يُذْكَرْ أَصْلًا إِطْلَاقُ الْعِنَبِ، لَا بِالْجِنْسِ وَلَا بِالْوَحْدَةِ عَلَى الْحَبَّةِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ خُصُوصًا بَأَوْ قَوْلُهُ " أَوْ عُودُ شَجَرَةِ " عَطْفًا عَلَى لِحَاءٍ " فَلْيَمْضُغْهُ " بِفَتْحِ الضَّادِ وَيُضَمُّ، فِي الْقَامُوسِ: مَضَغَهُ كَمَنَعَهُ وَنَصَرَهُ: لَاكَهُ بِأَسْنَانِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ بِالْإِفْطَارِ لِنَفْيِ الصَّوْمِ وَإِلَّا فَشَرَطُ الصَّوْمِ النِّيَّةُ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ لَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ لَمْ يَأْكُلْ، وَنَظِيرُهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مَا فِي عِيدِ الْفِطْرِ تَأْكِيدًا لِانْتِفَاءِ الصَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: صَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ كَقَوْلِ مَالِكٍ: إِنَّهُ كَذِبٌ اهـ. وَهَذَا غَيْرُ مُجَازَفَةٍ مِنْهُ لِأَنَّهُمَا إِمَامَانِ جَلِيلَانِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا يَقُولَانِ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ ثَبْتٍ وَسَنَدٍ فَلَا يُرَدُّ قَوْلُهُمَا بِالْهُوَيْنَا، وَإِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهِمَا سَنَدُ الْمَنْعِ وُقُوعَهُ وَلَا مِنْ قِلَّةِ إِطْلَاعِنَا عَدَمُ عِلْمِهِمَا بِهِ، فَالتَّقْلِيدُ أَوْلَى لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحْقِيقِ، وَإِذَا لَمْ تَرَ الْهِلَالَ فَسَلِّمَ لِأُنَاسٍ رَأَوْهُ بِالْأَبْصَارِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الرَّدِّ مِنَ الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَالِكٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَكَيْفَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَلَمْ يَتَعَدَّ طَوْرَهُ.

2064 - وَعَنْ أَبَى أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2064 - (وَعَنْ أَبَى أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") أَيْ فِي الْجِهَادِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ " جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا " أَيْ حِجَابًا شَدِيدًا وَمَانِعًا بَعِيدًا بِمَسَافَةٍ مَدِيدَةٍ " كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " أَيْ مَسَافَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ عَنِ الْحَاجِزِ الْمَانِعِ، شَبَّهَ الصَّوْمَ بِالْحِصْنِ وَجَعَلَ لَهُ خَنْدَقًا حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ الَّتِي شُبِّهَتْ بِالْعَدُوِّ، ثُمَّ شَبَّهَ الْخَنْدَقَ فِي بُعْدِ غَوْرِهِ بِمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2065 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2065 - (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ، مَسْعُودٌ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ أَنَّهُ ابْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، يُقَالُ لَهُ صُحْبَةٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ فِي التَّابِعَيْنِ اهـ. وَذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: هُوَ عَامِرُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، رَوَى عَنْهُ نُمَيْرُ بْنُ عَرِيبٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الصَّوْمِ، وَقَالَ: وَهُوَ مُرْسَلٌ لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا صُحْبَةَ لَهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ» ") لِوُجُودِ الثَّوَابِ بِلَا تَعَبٍ كَثِيرٍ، وَفِي الْفَائِقِ: الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ هِيَ الَّتِي تَجِيءُ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصْطَلَى دُونَهَا بِنَارِ الْحَرِّ وَيُبَاشَرَ حَرُّ الْقِتَالِ فِي الْبِلَادِ، وَقِيلَ: هِيَ الْهَيْئَةُ الطَّيِّبَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَيْشِ الْبَارِدِ، وَالْأَصْلُ فِي وُقُوعِ الْبَرْدِ عِبَارَةٌ عَنِ الطِّيبِ، وَالْهَنَاةُ أَنَّ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ لَمَّا كَانَ طِيبُهُمَا بِبَرْدِهِمَا خُصُوصًا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ قِيلَ: مَاءٌ بَارِدٌ وَهَوَاءٌ بَارِدٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِطَابَةِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ: عَيْشٌ بَارِدٌ وَغَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ، وَبَرَدَ أَمَرُنَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالتَّرْكِيبُ مِنْ قَلْبِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ كَالْغَنِيمَةِ الْبَارِدَةِ وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ، أَنْ يُلْحَقَ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ، كَمَا يُقَالُ: زِيدٌ كَالْأَسَدِ، فَإِذَا عُكِسَ وَقِيلَ: الْأَسَدُ كَزَيْدٍ، يُجْعَلُ الْأَصْلُ كَالْفَرْعِ، وَالْفَرْعُ كَالْأَصْلِ يَبْلُغُ التَّشْبِيهُ إِلَى الدَّرَجَةِ الْقُصْوَى فِي الْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّائِمَ يَحُوزُ الْأَجْرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ حَرُّ الْعَطَشِ أَوْ يُصِيبَهُ أَلَمُ الْجُوعِ مِنْ طُولِ الْيَوْمِ اهـ فَجُعِلَ الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفَ الْأَدَاةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ الْمُفِيدَةَ لِلْحَصْرِ لِتَعْرِيفِ جُزْئَيْهَا، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ الْبَارِدَةَ هِيَ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ، وَقَدْ جَاءَ مُسْنَدُ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا " «الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ» "، وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ: " قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَ، وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَ "، (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ وَالِدُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَامِرٍ الْقُرَشِيِّ اهـ كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ اهـ. فَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ غَيْرُ صَوَابٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2066 - وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2066 - (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ) صِفَةُ أَيَّامٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْمَحَلِّ وَبِالنَّصْبِ عَلَى اللَّفْظِ، وَتَمَامُهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فَاعِلٌ لِأَحَبُّ لَهُ، أَيْ لِلَّهِ فِيهَا، أَيْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ (فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ) إِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ وَأَنَّهُ أَسْقَطَهُ لِتَكْرَارِهِ فَهَذَا اعْتِذَارٌ حَسَنٌ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَعْكِسَ الْأَمْرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ الْبَابِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ صَوَابٍ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2067 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةِ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ " فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ "، فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2067 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ) أَيْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ (فَوَجْدَ الْيَهُودَ) أَيْ صَادَفَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ قُدُومَهُ فِي الْأُولَى كَانَ بَعْدَ عَاشُورَاءَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ (صِيَامًا) أَيْ ذَوِي صِيَامٍ أَوْ صَائِمِينَ (يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يَصُومُونَهُ؟) أَيْ مَا سَبَبُ صَوْمِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْيَهُودَ يُؤَرِّخُونَ الشُّهُورَ عَلَى غَيْرِ مَا تُؤَرِّخُهُ الْعَرَبُ، الثَّانِي أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ مَطْلُوبَةٌ، وَالْجَوَابُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ كَوْنُ عَاشُورَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي نَجَّاهُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ فِرْعَوْنَ يَعْنِي مَعَ احْتِمَالِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ ابْتِدَاءً، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْإِنْجَاءَ وَقَعَ فِي عَاشُورَاءَ الْعَرَبِيِّ ثُمَّ وَقَعَ التَّغْيِيرُ مِنْهُمْ إِلَى تِلْكَ السَّنَةِ فَتَوَافَقَا أَيْضًا غَيْرُ مُتَّجِهٍ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ وَقَعَ التَّغْيِيرُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُمْ مَعَ كَمَالِ اعْتِقَادِهِمْ وَغُلُوِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ مَا يُغَيِّرُونَ عَاشُورَاءَ عَنْ زَمَانِهِ وَاخْتِلَافِ التَّارِيخِ بِنَاءً عَلَى تَغْيِيرِ لُغَتِهِمْ فِي مُغَايَرَةِ أَسْمَاءِ شُهُورِهِمْ، أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ وَأَمَّا نِسَاءُ الْحَيِّ غَيْرُ نِسَاءِهِمْ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مَطْلُوبَةٌ فِيمَا أَخَطَأُوا فِيهِ كَمَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَقَالَ - تَعَالَى - {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124] فَكَأَنَّ التَّعْظِيمَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ يَوْمَهُمُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، الْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلَ الْهِجْرَةِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَفَةِ بَلْ كَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَمِنْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ لَمَّا ثَبَّتَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمُ الْمُلَائِمَةُ وَظَهَرَ مِنْهُمُ الْعِنَادُ وَالْمُكَابَرَةُ اخْتَارَ مُخَالَفَتَهُمْ وَتَرَكَ مُؤَالَفَتَهُمْ، وَلِذَا لَمَّا قِيلَ لَهُ فِي عَاشُورَاءَ بَعْدَ صِيَامِهِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُعَظِّمُونَ هَذَا الْيَوْمَ وَأَنْتَ تُحِبُّ هَذَا الزَّمَانَ تَرَكَ التَّشَبُّهَ بِهِمْ فَقَالَ: " «لَئِنْ بَقِيتُ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» "، ثُمَّ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَقْدِيمِ أَنَّهُ صَامَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى قَوْلِ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا، بَلْ بِاخْتِبَارِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَوْ بِحُصُولِ التَّوَاتُرِ مِنْ قِبَلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي التَّوَاتُرِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِمَّا بِالْوَحْيِ أَوِ الِاجْتِهَادِ بِمَا يُوَافِقُهُ أَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ لَا يَصِحُّ تَرْدِيدُهُ بَأَوْ فِي الثَّانِيَةِ (فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ) أَيْ وَقَعَ فِيهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ تُوجِبُ تَعْظِيمَ مِثْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ) أَيِ الْمُؤْمِنُونَ وَ (غَرَّقَ) بِالتَّشْدِيدِ (فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: غَرَّقَهُ وَأَغْرَقَهُ بِمَعْنًى، وَفِي نُسْخَةٍ أَغْرَقَ وَفِي أُخْرَى بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ وَرَفْعِ الْمَنْصُوبَيْنِ (فَصَامَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوْ مِثْلَهُ (مُوسَى شُكْرًا) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى النِّعْمَتَيْنِ الْجَلِيلَتَيْنِ، وَقَالَ - تَعَالَى - {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] (فَنَحْنُ نَصُومُهُ) أَيْ شُكْرًا أَيْضًا لِأَنَّ بَقَاءَ الْآبَاءِ سَبَبُ وُجُودِ الْأَبْنَاءِ أَوْ مُتَابَعَةً لِمُوسَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ أَجَابَهُمْ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَنَحْنُ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَنَحْنُ (أَحَقُّ) أَيْ أَثْبَتُ (وَأَوْلَى) أَيْ أَقْرَبُ (بِمُوسَى) أَيْ بِمُتَابَعَتِهِ (مِنْكُمْ) فَإِنَّا مُوَافِقُونَ لَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَمُصَدِّقُونَ لِكِتَابِهِ فِي تَبْيِينِ الْيَقِينِ، وَأَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمَا فِي التَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَمْرِ الْمَشُوبِ بِالتَّزْيِيفِ (فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] فَتَعْظِيمُ مَا عَظَّمَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى جِهَةِ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِي شَرْعِهِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ مُوَافِقَةِ شَرْعِهِ لِشَرْعِهِ فِي ذَلِكَ أَوْ كَانَ صِيَامُهُ شُكْرًا لِخَلَاصِ مُوسَى كَمَا سَجَدَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ دَاوُدَ وَلِكَوْنِهِ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ هُنَا بِالصِّيَامِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، وَلِذَا نَادَى مُنَادِيهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ فِيهِ فَلْيَصُمْ وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكَ (وَأَمَرَ) أَيْ أَصْحَابَهُ (بِصِيَامِهِ) وَفِي هَذَا تَوَاضُعٌ عَظِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُوسَى الْكَلِيمِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» "، وَفِيهِ تَأَلُّفٌ لِقَوْمِهِ وَاسْتِئْنَاسٌ بِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ عِنَادِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَيُنَافِيهِ بِظَاهِرِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَصُومُوهُ أَنْتُمْ "، فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الصَّوْمَ كَانَ لِمُخَالَفَتِهِمْ، وَمَا سَبَقَ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ كَانَ لِمُوَافَقَتِهِمْ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا طَائِفَتَيْنِ أَوِ الْقَضِيَّتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، أَوْ يُقَالُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِّهِمْ إِيَّاهُ عِيدًا كَوْنُهُ عِيدًا حَقِيقَةً، أَوْ لَا يَمْتَنِعُ صَوْمُهُ عِنْدَهُمْ أَوْ صُومُوهُ أَنْتُمْ فَلَا تَجْعَلُوهُ عِيدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2068 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَقُولُ: " إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2068 - (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ) أَيِ الْأُخَرِ (وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ) السَّبْتُ لِلْيَهُودِ وَالْأَحَدُ لِلنَّصَارَى، وَإِنَّمَا سُمُّوا مُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِمْ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَإِمَّا لِلتَّغْلِيبِ، وَأَرَادَ مَنْ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُشْرِكُ الْكَافِرُ عَلَى أَيِّ مِلَّةٍ كَانَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُقَابِلِ أَهْلِ الْكِتَابِ اهـ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُشْرِكَ ضِدُّ الْمُوَحِّدِ بِأَنْ يُثْبِتَ شَرِيكًا لِلْبَارِي سَوَاءً كَانَ الصَّنَمَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوْكَبَ وَغَيْرَهَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى جِنْسِ الْكَافِرِ الشَّامِلِ لِلدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَيُقَابِلُ أَهْلَ الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] (فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ) أَيْ مَجْمُوعَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ أُمَّتِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ فَأَنَا أُحِبُّ وَإِلَى الثَّانِي قَوْلُهُ لَا تَصُومُوا، أَوِ الصِّيَامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَوْنُهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ، وَالصِّيَامُ الْمَحْبُوبُ كَوْنُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُخَالَفَةِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي وَقْتِ انْتِفَاعِهِمْ بِهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِفْرَادَ السَّبْتِ، وَفِي مَعْنَاهُ إِفْرَادُ الْأَحَدِ الْمُسْتَحَبِّ صَوْمُهُمَا جَمِيعًا مُتَوَالِيَيْنِ تَحْقِيقًا لِمُخَالَفَةِ الْفَرِيقَيْنِ، عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْطِرُونَ الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَلَفْظُهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ مَا كَانَ يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ، كَانَ يَقُولُ: " إِنَّهُمَا يَوْمُ عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» ".

2069 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ، وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ، وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2069 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ) أَيْ يَأْمُرُنَا أَمْرًا مُؤَكَّدًا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ أَيْ يُرَغِّبُنَا إِلَيْهِ (وَيَتَعَاهَدُنَا) أَيْ يَحْفَظُنَا وَيُرَاعِي حَالَنَا وَيَتَفَحَّصُ عَنْ صَوْمِنَا أَوْ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ (عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا) أَيْ بِهِ (وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ، وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا) أَيْ وَلَمْ يَتَفَقَّدْنَا (عِنْدَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي قَوْلِهِ يَأْمُرُ بِالصِّيَامِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ عَامَ حَجَّ خَطَبَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ» "، فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا اهـ. وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ مَا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ إِلَّا حِينَ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا كَوْنُ مَا بَعْدَهُ وَمَا قَبْلَهُ فَمَحَلُّ احْتِمَالٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ نَصًّا أَوْ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ رَجُلًا مَنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ» ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إِيجَابٍ قَبْلَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ، إِذْ لَا يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ بِإِمْسَاكٍ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ إِلَّا فِي يَوْمٍ مَفْرُوضِ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بِوُجُوبِهِ أَوَّلًا، وَنَسْخِهِ ثَانِيًا، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، هَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ " مِنْ كَلَامِهِ، وَإِلَّا فَالْحُفَّاظُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُعَاوِيَةَ مُدَرَّجٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ فَبَعِيدٌ عَنْ فَهْمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2070 - وَعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: «أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صِيَامُ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرِ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2070 - (وَعَنْ حَفْصَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: أَرْبَعٌ) أَيْ خِصَالٌ (لَمْ يَكُنْ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَدَعُهُنَّ) أَيْ يَتْرُكُهُنَّ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَاعِلٌ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ لَمْ تَكُنْ بِالتَّأْنِيثِ، وَفِي أُخْرَى مُجَمَّعَةً أَيْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْخِصَالُ مَتْرُوكَةً (صِيَامُ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرِ) بِالْجَرِّ وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ أَيْ صِيَامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَشْرِ تِسْعَةُ أَيَّامٍ مَجَازًا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] وَكَذَا يُقَالُ: اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَوْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، أَوِ اسْتِثْنَاءُ يَوْمِ الْعِيدِ لِثُبُوتِهِ الشَّرْعِيِّ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْعَقْلِيِّ (وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) بِالْوَجْهَيْنِ (مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ) أَرَادَتْ رَكْعَتَيْ سُنَّةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ فِي ظَاهِرِهِ يُنَاقِضُ مَا سَبَقَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَائِمًا فِي الْعَشْرِ» ، وَالْجَمْعُ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَتْ مَا رَأَتْ وَنَقَلَتْ مَا عَلِمَتْ فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) وَمِمَّا يُؤَكِّدُهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ: " «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» " يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: " وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ: «صِيَامُ يَوْمٍ مِنْهَا يَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ، وَقِيَامُ لَيْلَةٍ مِنْهَا كَقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» ، وَاخْتُلِفَ فِي أَفْضَلِ الْعِشْرِينَ، فَقِيلَ: عَشْرُ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ لَيَالِيهِ لِأَنَّ مِنْهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَهِيَ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ أَيَّامُهُ لِأَنَّ فِيهَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَذَهَبَ ابْنُ حِبَّانَ إِلَى تَسَاوِيهِمَا فِي الْفَضْلِ، وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فِيمَا ذُكِرَ عَشْرَ الْمُحَرَّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2071 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضَ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2071 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضَ» ) أَيْ أَيَّامَ اللَّيَالِيِ الْبِيضِ وَهِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ، لِأَنَّهَا الْمُقْمِرَاتُ مِنْ أَوَائِلِهَا إِلَى أَوَاخِرِهَا، فَنَاسَبَ صِيَامَهُمَا شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْأَيَّامِ الْبِيضِ فَقَدْ لَحَنُوهُ لِأَنَّ الْأَيَّامَ كُلَّهَا بِيضٌ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الْأَيَّامُ الْبِيضُ لَيَالِيهَا، أَوِ الْمُرَادُ أَيَّامُ صِيَامِهِنَّ مُكَفِّرَاتٌ لِلذُّنُوبِ مُبَيِّضَاتٌ لِلْقُلُوبِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا رُوِيَ: أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْوَدَّ أَعْضَاؤُهُ الْعِظَامُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْ دَارِ السَّلَامِ، فَأُمِرَ بِصِيَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَبِصَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ يَبْيَضُّ ثُلُثُ جَسَدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ أَقُولُ: يَتَعَيَّنُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ لِأَنَّ الْأَيَّامَ الْبِيضَ وَقَعَ فِيهَا أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ: وَالصَّوَابُ أَنْ لَا يُقَالَ أَيَّامُ الْبِيضِ لِأَنَّ الْبِيضَ مِنْ صِفَةِ اللَّيَالِي، فَمَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ) أَيْ وَلَا فِي سَفَرٍ وَ (لَا) مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَ مِيرَكُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ أَيَّامِ الْبِيضِ، قَالَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: حَاصِلُ الْخِلَافِ فِي تَقْرِيرِ أَيَّامِ الْبِيضِ تِسْعَةٌ أَحَدُهَا عَدَمُ التَّعْيِينِ، وَكُرِهَ التَّعْيِينُ، الثَّانِي الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مِنَ الشَّهْرِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، الثَّالِثُ: مِنَ الثَّانِي عَشَرَ إِلَى الرَّابِعَ عَشَرَ، الرَّابِعُ: مِنَ الثَّالِثَ عَشَرَ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، الْخَامِسُ أَوَّلُهُمَا أَوَّلُ سَبْتٍ مَنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ مِنْ أَوَّلِ الثُّلَاثَاءِ مِنَ الشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ وَهَكَذَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - السَّادِسُ: أَوَّلُهَا أَوَّلُ خَمِيسٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ مِنْ أَوَّلِ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ، وَهَكَذَا السَّابِعُ أَوَّلُ اثْنَيْنِ ثُمَّ خَمِيسٍ، ثُمَّ هَكَذَا الثَّامِنُ أَوَّلُ يَوْمٍ وَالْعَاشِرُ وَالْعِشْرُونَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا، التَّاسِعُ أَوَّلُ كُلِّ عَشْرٍ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ شَعْبَانَ الْمَالِكِيِّ، اهـ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بَقِيَ آخَرُ وَهُوَ آخِرُ ثَلَاثٍ مِنَ الشَّهْرِ، فَتِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلَةٌ اهـ. وَلَعَلَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ ذِكْرِهِ مَعَ كَمَالِ ظُهُورِهِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ ضَبْطِهِ وَتَقْدِيرِهِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَيَّامُ الْبِيضِ ثَالِثَ عَشْرَةَ وَرَابِعَ عَشْرَةَ وَخَامِسَ عَشْرَةَ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ شُذُوذُ أَقْوَالٍ تِسْعَةٍ أَوْ عِشْرَةٍ حَكَاهَا الْعِرَاقِيُّ فِي تَعْيِينِ الْبِيضِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، اهـ. وَهَذَا مُجَازَفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْهُ لِأَنَّ الْعِرَاقِيَّ بِنَفْسِهِ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَكَرَ الْبَقِيَّةَ عَلَى طَرِيقِ الشُّذُوذِ بَعْضُهَا مُسْنَدٌ إِلَى الْأَكَابِرِ وَبَعْضُهَا مَسْقُوطٌ عَنْهُ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ أَصْلًا، لِهَذَا تَبِعَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ، وَكَرَّرَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ بِوَاحِدَةٍ بِهَا صَارَتْ عَشْرَةً كَامِلَةً.

2072 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2072 - (وَعَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ) أَيْ نَمَاءٌ يُعْطَى بَعْضُهُ أَوْ طَهَارَةٌ يُطَهَّرُ بِهِ " «وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ» " فَإِنَّهُ يُذَابُ بَعْضُ الْبَدَنِ مِنْهُ وَيُنْقَصُ وَتُطَهَّرُ الذُّنُوبُ بِهِ، وَتُمَحَّصُ، فَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ، وَالصَّوْمُ طَاعَةٌ بَدَنِيَّةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ صَدَقَةُ الْجَسَدِ مَا يُخَلِّصُهُ مِنَ النَّارِ بِجُنَّةِ الصَّوْمِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

2073 - وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقَالَ: " إِنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا ذَا هَاجِرَيْنِ، يَقُولُ: دَعْهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2073 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) مُحْتَمَلُ إِعْرَابِهِ هُنَا أَنْ يَكُونَ بِالْحَرْفِ أَوِ الْحَرَكَةِ (وَالْخَمِيسَ) بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالْجَرِّ، وَاللَّامُ بَدَلٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَى يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الِاثْنَيْنِ (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَصُومُ) أَيْ كَثِيرًا (الِاثْنَيْنِ) بِكَسْرِ النُّونِ وَبِفَتْحٍ (وَالْخَمِيسِ) بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالْجَرِّ، وَأَرَادَ يَوْمَيْهِمَا، يَعْنِي فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِمَا (فَقَالَ: إِنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ) بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ (يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ) أَيْ صَائِمٍ فِيهِمَا (إِلَّا ذَا) ذَا مَزِيدَةٌ (هَاجِرَيْنِ) بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ قَاطِعَيْنِ أَيْ وَلَوْ كَانَا صَائِمَيْنِ (يَقُولُ) أَيِ اللَّهُ لِلْمَلِكَ الْمُوَكَّلِ عَلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ عِنْدَ ظُهُورِ آثَارِ الْمَغْفِرَةِ (دَعْهُمَا) أَيِ اتْرُكْهُمَا (حَتَّى يَصْطَلِحَا) أَيْ إِلَى أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا فَحِينَئِذٍ يُغْفَرُ لَهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَتْحِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلٌ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءٌ فَيُقَالُ: انْظُرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا، وَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُخَاطَبٍ يَقُولُ اتْرُكُوا أَوِ انْظُرُوا أَوْ دَعْهُمَا، كَأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا غَفَرَ لِلنَّاسِ سِوَاهُمَا قِيلَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا أَيْضًا، فَأَجَابَ أَوِ انْظُرُوا أَوِ اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا اهـ. وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَظْهَرُ، فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2074 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ بَعَّدَهُ اللَّهُ مِنْ جَهَنَّمَ كَبُعْدِ غُرَابٍ طَائِرٍ وَهُوَ فَرْخٌ حَتَّى مَاتَ هَرِمًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ (قَيْسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2074 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) نُصِبَ عَلَى الْعِلَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ أَيْ ذَاتِهِ وَطَلَبِ قُرْبِهِ أَوْ جِهَتِهِ الَّتِي رَضِيَ بِهَا مِنَ الرَّجَاءِ بِهِ أَوْ مِنْ خَوْفِ عِقَابِهِ، وَلِذَا يُفَسَّرُ عِنْدَ حَلِّ مُشْكِلَاتِهِ بِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ (بَعَّدَهُ اللَّهُ مِنْ جَهَنَّمَ كَبُعْدِ غُرَابٍ) أَيْ بُعْدًا مِثْلَ بُعْدِ غُرَابٍ (طَائِرٍ وَهُوَ فَرْخٌ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ صَغِيرٌ (حَتَّى مَاتَ هَرِمًا) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ كَبِيرًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: (طَائِرٍ) صِفَةُ (غُرَابٍ) ، (وَهُوَ فَرْخٌ) حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي طَائِرٍ، وَحَتَّى مَاتَ غَايَةُ الطَّيَرَانِ وَهَرِمًا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ مَاتَ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ وَهُوَ فَرْخٌ، وَقِيلَ: يُضْرَبُ الْغُرَابُ مَثَلًا فِي طُولِ الْعُمْرِ، شَبَّهَ بُعْدَ الصَّائِمِ عَنِ النَّارِ بِبُعْدِ غُرَابٍ طَارَ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ اهـ. قِيلَ: يَعِيشُ الْغُرَابُ أَلْفَ عَامٍ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ) : كَذَا فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ فِي الصَّحَابَةِ، وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي الْهَامِشِ بَدَلَ قَيْسٍ قَيْصَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ حِبْرًا، وَبِالتَّنْوِينِ حُمْرَةً وَفَوْقَهُ (ظ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَفِي الْمَعْنَى (قَيْصَرَ) بِمَفْتُوحَةٍ وَسُكُونِ يَاءٍ وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ، وَتَرْكِ صَرْفٍ قَالَهُ مِيرَكُ. وَرَوَاهُ الْبَرَّازُ، وَفَى سَنَدِهِ رَجُلٌ لَمْ يُسَمَّ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَلَامَةَ بْنِ قَيْصَرَ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فَسَمَّاهُ سَلَامَةَ بِزِيَادَةِ أَلْفٍ كَذَا قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ.

(7) وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ: سَلَمَةُ بْنُ قَيْصَرَ الْحَضْرَمِيُّ وَقَالَ: حَدِيثُهُ عِنْدَ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ لَهِيعَةَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ سَلَامَةَ بْنِ قَيْصَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَنْ يَصُومُ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ» ) إِلَخْ. قَالَ: وَلَا يُوجَدُ لَهُ سَمَاعٌ وَلَا إِدْرَاكٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَنْكَرَ أَبُو زُرْعَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ صُحْبَةٌ وَقَالَ: رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يُعَدُّ فِي أَهْلِ مِصْرَ اهـ. كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: سَلَمَةُ بْنُ قَيْصَرَ تَابِعِيٌّ أَرْسَلَ حَدِيثًا لَمْ يَصِحَّ حَدِيثُهُ اهـ. فَعُلِمَ مِنْ هُنَا أَنَّ مَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ: سَلَمَةُ بْنُ قَيْسٍ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ سَلَمَةُ بْنُ قَيْصَرَ، وَاللَّهُ الْهَادِي - جَلَّ جَلَالُهُ - وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ.

[باب في توابع لصوم التطوع]

[باب في توابع لصوم التطوع] بَابٌ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2075 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟) فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: (فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ) . ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: (أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا) فَأَكَلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (7) بَابٌ بِالتَّنْوِينِ، وَقِيلَ: بِالسُّكُونِ، وَفَى نُسْخَةٍ: فِي تَوَابِعَ لِصَوْمِ التَّطَوُّعِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2075 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ) : أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، أَوْ سَاعَةَ يَوْمٍ، أَوْ أَوْقَاتَ يَوْمٍ، أَوْ فِي نَهَارٍ. (فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟) : أَيْ: مِنَ الطَّعَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ؟ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مَا يُأْكَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ. (فَقُلْنَا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ (صَائِمٌ) وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِنِّي إِذَنْ أَصُومُ، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نِيَّةِ النَّفْلِ فِي النَّهَارِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُدُ: يَجِبُ التَّبْيِيتُ كَمَا فِي الْفَرْضِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَجْمَعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ. (ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُهْدِيَ لَنَا) : أَيْ أُرْسِلَ إِلَيْنَا بِطَرِيقِ الْهَدِيَّةِ (حَيْسٌ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ تَمْرٌ مَخْلُوطٌ بِسَمْنٍ وَأَقِطٍ، وَقِيلَ: طَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنَ الزُّبْدِ وَالتَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَقَدْ يُبْدَلُ الْأَقِطُ بِالدَّقِيقِ، وَالزُّبْدُ بِالسَّمْنِ، وَقَدْ يُبْدَلُ السَّمْنُ بِالزَّيْتِ، (فَقَالَ: أَرِينِيهِ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِرَاءَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَدْنِيهِ وَأَرِنِيهِ كِنَايَةٌ عَنْهَا، لِأَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا يَكُونُ مَرْئِيًّا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَمَّا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ فَغَيْرُ مَوْجُودَتَيْنِ، وَلَعَلَّهُمَا رِوَايَتَانِ أَوْ نُسْخَتَانِ لِلطِّيبِيِّ. (فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا) أَيْ: مُرِيدًا لِلصَّوْمِ (فَأَكَلَ) وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ كُنْتُ نَوَيْتُ الصَّوْمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَقْدِيرِ عُذْرٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِفْطَارِ النَّفْلِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ بِعُذْرٍ، وَأَمَّا بِدُونِهِ فَلَا، وَقَالَ الْقَاضِي: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّفْلِ لَا يَمْنَعُ الْخُرُوجَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ إِنْ أَفْطَرَ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي حَيْثُ لَا عُذْرَ لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْقَضَاءِ، وَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ لَا يُقَاوِمُ الصَّحِيحَ، عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَحْتَمِلُ الِاسْتِحْبَابَ كَالْأَصْلِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ هَذَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ النَّفْلُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا بَعْدَهُ لِمُضِيِّ مُعْظَمِ الْعِبَادَةِ بِلَا نِيَّةٍ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِهِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ التَّبْيِيتُ فِيهِ كَالْفَرْضِ بِحَدِيثِ: ( «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) فَالْإِمْسَاكُ أَوَّلُ النَّهَارِ عَمَلٌ بِلَا نِيَّةٍ، وَقِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ إِذْ نَفْلُهَا كَفَرْضِهَا فِي النِّيَّةِ. قَالَ: وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السُّؤَالِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْئُولَ مُعَدًّا لِلْإِفْطَارِ، حَتَّى تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ لِلْعِبَادَةِ، وَلَا يَتَكَلَّفَهُ لِتَحْصِيلِ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالُوا لَهُ أَيْ: إِنِّي صَائِمٌ كَمَا كُنْتُ، أَوْ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى الْفِطْرِ لِعُذْرٍ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: تَمِّمِ الصَّوْمَ، وَفِيهِ أَنَّ النِّيَّةَ اقْتِرَانُهَا بِهِ كَاقْتِرَانِهَا بِمَا قَبْلَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ رِوَايَةُ: إِذَنْ أَصُومُ، وَرِوَايَةُ: مِنْ غَدَاءٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ: فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا. قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَزَادَ النَّسَائِيُّ، وَلَكِنْ أَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَصَحَّحَ عَبْدُ الْحَقِّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَاسْتَبْدَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو يُوسُفَ عَلَى أَنَّ الْمُتَنَفِّلَ يُفْطِرُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَيَقْضِي، وَفِي الْهِدَايَةِ: وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ أَوْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إِذَا فَسَدَ عَنْ قَصْدٍ أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ، بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي نَفْسِ الْإِفْسَادِ هَلْ يُبَاحُ أَوْ لَا؟ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا إِلَّا بِعُذْرٍ، وَرِوَايَةُ الْمُنْتَقَى: يُبَاحُ بِلَا عُذْرٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَلِ الضِّيَافَةُ عُذْرٌ أَوْ لَا؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَقِيلَ:

لَا. وَقِيلَ: عُذْرٌ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا بَعْدَهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي عَدَمِ الْفِطْرِ عُقُوقٌ لِأَحَدِ الْوَالِدَيْنِ لَا غَيْرِهِمَا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ لَا يُبَاحُ الْفِطْرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُفْطِرُ، وَعِنْدِي أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى أَوْجَهٌ، قَالَ: وَأَحْسَنُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ لِلشَّافِعِيِّ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ، يَعْنِي الْحَدِيثَ السَّابِقَ، وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَقَالَ - تَعَالَى - {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] الْآيَةُ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ ذَمِّهِمْ عَلَى عَدَمِ رِعَايَةِ مَا الْتَزَمُوهُ مِنَ الْقُرَبِ الَّتِي لَمْ تُكْتَبُ عَلَيْهِمْ، وَالْقَدْرِ الْمُؤَدِّي عَمَلَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ عَنِ الْإِبْطَالِ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ، فَإِذَا أَفْطَرَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ تَفَادِيًا أَيْ تَبَعُّدًا عَنِ الْإِبْطَالِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي، وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَعَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ النَّفْلَيْنِ حَيْثُ يَجِبُ قَضَاؤُهَا إِذَا أُفْسِدَا.

2076 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، فَقَالَ: (أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ) ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2076 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، فَقَالَ: " «أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ ". ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلضَّيْفِ الصَّائِمِ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُضِيفِ، أَيْ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ مِنَ الدُّعَاءِ الْمُسْتَجَابِ دُعَاءَ الصَّائِمِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَهَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يُؤَيِّدُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضِّيَافَةَ غَيْرُ عُذْرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عُذْرٌ، وَلَكِنَّهُ مُخَيَّرٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَطْعَمْ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَالنَّهْيُ عَنِ التَّكَلُّفِ الْمُسْتَفَادِ بِمَا رُوِيَ: " «أَنَا وَصَالِحُو أُمَّتِي بَرَاءٌ مِنَ التَّكَلُّفِ» " إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ يَتَكَلَّفُ بِمَشَقَّةٍ، وَأَمَّا مَنْ أَتَى بِمَا عِنْدَهُ وَإِنْ شَرُفَ فَلَا يُسَمَّى مُتَكَلِّفًا اهـ. وَالْغَرَابَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَقَامَ لَا يَقْتَضِي هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ أَصْلًا، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

2077 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ) . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2077 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ ") أَيْ: نَفْلًا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَوْمَ قَضَاءٍ وَنَحْوَهُ. (فَلْيَقُلْ) أَيْ: نَدْبًا (إِنِّي صَائِمٌ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدْعُوَّ حِينَ لَا يُجِيبُ الدَّاعِي أَنْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي صَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَحِبُّ إِخْفَاءَ النَّوَافِلِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى عَدَاوَةٍ وَبُغْضٍ فِي الدَّاعِي. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ) : أَيِ الدَّعْوَةَ (فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ رَكْعَتَيْنِ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَقِيلَ: فَلْيَدْعُ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِالْبَرَكَةِ، أَقُولُ: ظَاهِرُ حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَالضَّابِطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِنْ تَأَذَّى الْمُضِيفُ بِتَرْكِ الْإِفْطَارِ أَفْطَرَ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَلَا (وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ) : أَيْ: فَلْيَأْكُلْ نَدْبًا، وَقِيلَ: وُجُوبًا، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجِبُ إِذَا كَانَ يَتَشَوَّشُ خَاطِرُ الدَّاعِي، وَيَحْصُلُ بِهِ الْمُعَادَاةُ إِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْلًا، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْرَحُ بِأَكْلِهِ وَلَمْ يَتَشَوَّشْ بِعَدَمِهِ فَيُسْتَحَبُّ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرَانِ مُسْتَوِيَيْنِ عِنْدَهُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي صَائِمٌ، سَوَاءً حَضَرَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَى أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: ( «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» ) . وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ. كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ.

وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ الْهُمَامِ حَيْثُ قَالَ: وَمَنَعَ الْمُحَقِّقُونَ كَوْنَ الضِّيَافَةِ عُذْرًا كَالْكَرْخِيِّ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وَاسْتَدَلَّا بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» ". أَيْ: فَلْيَدْعُ لَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: ثَبَتَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْتِدَاءٍ ثَبَتَ، ثُمَّ لَا يَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ سَلْمَانَ، يَعْنِي حَدِيثَ الْبُخَارِيِّ: «آخَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبَى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ: مَا آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ. قَالَ: فَصَلَّيْنَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنْ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: (صَدَقَ سَلْمَانُ) » . وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الضِّيَافَةَ عُذْرٌ، وَكَذَا مَا أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِلَى جَابِرٍ قَالَ: «صَنَعَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا، فَدَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا أَتَى بِالطَّعَامِ تَنَحَّى رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (مَا لَكَ؟) قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (تَكَلَّفَ أَخُوكَ وَصَنَعَ طَعَامًا ثُمَّ تَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ، كُلْ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ) » اهـ. قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظِ: ( «أَخُوكَ تَكَلَّفَ وَصَنَعَ لَكَ طَعَامًا وَدَعَاكَ، أَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» ) وَرَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي صَنَعَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

2078 - عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَجَلَسَتْ عَلَى يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمُّ هَانِئٍ عَنْ يَمِينِهِ، فَجَاءَتِ الْوَلِيدَةُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَنَاوَلَتْهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أُمَّ هَانِئٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ أَفْطَرْتُ وَكُنْتُ صَائِمَةً، فَقَالَ لَهَا: (أَكُنْتِ تَقْضِينَ شَيْئًا؟) قَالَتْ: لَا. قَالَ: (فَلَا يَضُرُّكِ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ ; وَالتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ. وَفِيهِ: «فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمَا إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، فَقَالَ: (الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2078 - (عَنْ أُمِّ هَانِئٍ) : بِهَمْزٍ بَعْدَ نُونٍ مَكْسُورَةٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ (قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ) أَيِ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ (فَتْحِ مَكَّةَ) : بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (جَاءَتْ فَاطِمَةُ) : أَيْ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (فَجَلَسَتْ عَلَى يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الْيَسَارِ كَانَ بِإِشَارَةٍ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى قَصْدِ تَوَجُّهِ قَلْبِهِ وَخَاطِرِهِ إِلَيْهَا بِحُسْنِ الْمُقَابَلَةِ وَالِالْتِئَامِ، وَإِمَّا تَوَاضُعًا مِنْهَا مَعَ بِنْتِ عَمِّهَا، وَأُخْتِ زَوْجِهَا، وَعَمَّةِ أَوْلَادِهَا، مَعَ إِمْكَانِ أَنَّهَا كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْهَا، وَإِمَّا لِشَغْلِ الْيَمِينِ أَوَّلًا بِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهَا: (وَأُمُّ هَانِئٍ عَنْ يَمِينِهِ) : فَإِنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ جَلَسَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا حَالٌ أَيْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ وَجَلَسَتْ عَلَى يَسَارِهِ، وَالْحَالُ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِمَّا عَطْفًا عَلَى تَقْدِيرِ: وَجَاءَتْ أُمُّ هَانِئٍ، فَجَلَسَتْ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: وَأَنَا جَالِسَةٌ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ جَلَسَتْ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّجْرِيدِ كَأَنَّهَا تَحْكِي عَنْ نَفْسِهَا بِذَلِكَ، أَوْ أَنَّ الرَّاوِيَ وَضَعَ كَلَامَهُ مَكَانَ كَلَامِهَا اهـ. يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ نَقَلَ بِالْمَعْنَى. (فَجَاءَتِ الْوَلِيدَةُ) : أَيِ: الْأَمَةُ (بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ) : أَيْ: مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (فَنَاوَلَتْهُ) : أَيِ الْجَارِيَةُ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مُقَدَّرٌ وَهُوَ الْإِنَاءُ (فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ) : أَيِ الْإِنَاءَ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: ثُمَّ نَاوَلَهَا أَيْ: بَقِيَّةَ الْمَشْرُوبِ (أُمَّ هَانِئٍ) : إِمَّا لِكَوْنِهَا عَنِ الْيَمِينِ، أَوْ لِسَبْقِهَا بِالْإِيمَانِ، أَوْ لِكِبَرِ سِنِّهَا أَوْ لِأَنَّهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُمِّ أَهْلِ الْبَيْتِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - (فَشَرِبَتْ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ أَفْطَرْتُ) : يَحْتَمِلُ الْمُضِيَّ وَالْحَالَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَا سَيَأْتِي (وَكُنْتُ صَائِمَةً) : أَيْ: فَمَا الْحُكْمُ؟ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا لَمْ تَذْكُرْ هَذَا قَبْلَ تَنَاوُلِهَا إِيثَارًا لِمَا آثَرَهَا بِهِ مِنَ التَّقَدُّمِ عَلَى بِنْتِهِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ عِنْدَهَا أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنَ الصَّوْمِ اهـ.

وَيُمْكِنُ أَنَّهُ حَدَثَ لَهَا السُّؤَالُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، ثُمَّ فِي التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ قَدْ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ الْمُنَاوَلَةِ أَوْ قَصَدَهَا، فَإِنَّمَا لَمْ تَذْكُرْ خَوْفًا عَنْ فَوْتِ سُؤْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (فَقَالَ لَهَا: أَكُنْتِ تَقْضِينَ) : أَيْ: بِهَذَا الصَّوْمِ (شَيْئًا؟) : أَيْ: مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْكِ. (قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَلَا يَضُرُّكِ) : أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكِ إِثْمٌ فِي فِطْرِكِ (إِنْ كَانَ) : صَوْمُكِ (تَطَوُّعًا) : وَهُوَ لِلتَّأَكُّدِ لِأَنَّ الْمُتَطَوِّعَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ بِعُذْرٍ بَلْ بِلَا عُذْرٍ، ثُمَّ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْقَضَاءِ وَعَدَمِهِ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَسَبَقَ عَلَى وَفْقِ الْمَذْهَبِ تَحْرِيرُهُ. وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ بِصَوْمٍ إِذَا أَبْطَلَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) : وَقَالَ: فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَكَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ. قَالَ: وَلَا يَثْبُتُ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ كَبِيرٌ أَشَارَ إِلَيْهِ النَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ مَعْنَاهُ (وَفِيهِ) : أَيْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْوُهُ (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، فَقَالَ: الصَّائِمُ) : أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ (الْمُتَطَوِّعُ) : احْتِرَازٌ مِنَ الْمُفْتَرِضِ أَدَاءً وَقَضَاءً (أَمِيرُ نَفْسِهِ) : أَيْ: حَاكِمُهَا ابْتِدَاءً، وَفِي رِوَايَةٍ أَمِينُ نَفْسِهِ بِالنُّونِ بَدَلًا مِنَ الرَّاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُفْهَمُ أَنَّ الصَّائِمَ غَيْرَ الْمُتَطَوِّعِ لَا تَخْيِيرَ لَهُ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ. (إِنْ شَاءَ صَامَ) : أَيْ: نَوَى الصِّيَامَ (وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ) : أَيِ: اخْتَارَ الْإِفْطَارَ، أَوْ مَعْنَاهُ أَمِيرٌ لِنَفْسِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ إِنْ شَاءَ صَامَ أَيْ: أَتَمَّ صَوْمَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ إِمَّا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَيَجِيءُ حُكْمُ الْقَضَاءِ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَرَّ أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى مَنْ حَرَّمَ الْخُرُوجَ عَنِ النَّفْلِ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ وَلَا حَسَنٌ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ، فَارْجِعْ إِلَى أَرْبَابِ الِاعْتِمَادِ فِي مَعْرِفَةِ الْإِسْنَادِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ مَرْدُودٌ. ثُمَّ قَوْلُهُ: أَوْ يُحْمَلُ عَلَى السَّنَدِ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَلَا يُنَافِي صِحَّتَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَرْدُودٌ أَيْضًا لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى ثُبُوتِ إِسْنَادٍ آخَرَ وَإِلَّا فَهُوَ مُجَازَفَةٌ وَجَرَاءَةٌ.

2079 - وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ، فَعَرَضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ، فَأَكَلَنَا مِنْهُ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ، فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ، فَأَكَلَنَا مِنْهُ. قَالَ (اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ) » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَذَكَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْحُفَّاظِ رَوَوْا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلًا، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ عُرْوَةَ، وَهَذَا أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2079 - (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ) : بِالرَّفْعِ (صَائِمَتَيْنِ) : أَيْ نَفْلًا (فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: عَرَضَهُ لَنَا أَحَدٌ أَيْ: عَلَى طَرِيقِ الْهَدِيَّةِ، وَلَفْظُ ابْنِ الْهُمَامِ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَدَرَتْ إِلَيْهِ حَفْصَةُ، وَكَانَتِ ابْنَةَ أَبِيهَا فَقَالَتْ: وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَيْ: فَظَهَرَ لَنَا طَعَامٌ (اشْتَهَيْنَاهُ، فَأَكَلَنَا مِنْهُ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ) أَيْ عَلَى طَرِيقِ الْهِدَايَةِ كَمَا سَيَأْتِي ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ، فَعُرِضَ لَنَا طَعْمٌ اشْتَهَيْنَاهُ، فَأَكَلَنَا مِنْهُ. قَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ» ) : أَيْ بَدَلَهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي التَّطَوُّعِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مَكَانَهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْقَضَاءُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ وَالِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّ قَضَاءَ شَيْءٍ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ، فَكَمَا أَنَّ فِي الْأَصْلِ كَانَ الشَّخْصُ فِيهِ مُخَيَّرًا، فَكَذَلِكَ فِي قَضَائِهِ. أَقُولُ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِذَا كَانَا نَفَلَيْنِ وَفَسَدَا، فَإِنَّ قَضَاءَهُمَا وَاجِبٌ اتِّفَاقًا. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَاهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ بَلْ مَحْفُوفٌ بِمَا يُوجِبُ مُقْتَضَاهُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَذَكَرَ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ (جَمَاعَةً مِنَ الْحُفَّاظِ) : أَيْ صِفَتُهُمْ أَنَّهُمْ (رَوَوْا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يُدْرِكْهَا اهـ. فَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ مُرْسَلًا أَيْ مُنْقَطِعًا (وَلَمْ يَذْكُرُوا) : أَيْ جَمَاعَةُ الْحُفَّاظِ (فِيهِ) : أَيْ: فِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ (عَنْ عُرْوَةَ) : بَيْنَ الزُّهْرِيِّ وَعَائِشَةَ (وَهَذَا) : أَيْ كَوْنُهُ مُرْسَلًا (أَصَحُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَعْمَلَهُ التِّرْمِذِيُّ بِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ فَقَالَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ عُرْوَةَ، وَهَذَا أَصَحُّ. ثُمَّ أَسْنَدَ أَيِ التِّرْمِذِيُّ إِلَى ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: أَحَدَّثَكَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا شَيْئًا، وَلَكِنْ سَمِعْنَاهُ فِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ نَاسٍ، عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ.

2080 - وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ زُمَيْلٍ مَوْلَى عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2080 - (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدِ بْنِ الْهَادِ (عَنْ زُمَيْلٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (مَوْلَى عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ) : قَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لِزُمَيْلٍ سَمَاعٌ مِنْ عُرْوَةَ وَلَا يَزِيدَ سَمَاعٌ مِنْ. . .، وَلَا يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَزُمَيْلٌ مَجْهُولٌ اهـ. وَزُمَيْلٌ بِضَمِّ الزَّايِ، وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبَّاسٌ مَوْلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: قُلْنَا: قَوْلُ الْبُخَارِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالْعِلْمِ بِالْمُعَاصِرَةِ، وَلَوْ سَلِمَ إِعْلَالُهُ وَإِعْلَالُ التِّرْمِذِيِّ، فَهُوَ قَاضٍ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ غَيْرِهَا، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَهِ مِنْ حَدِيثِ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِهَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَصْبَحَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. وَحَمَّادُ بْنُ الْوَلِيدِ لَيِّنُ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ غَيْرِ الْكُلِّ فِي الْأَوْسَطِ ثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الْجَمَالُ قَالَ: ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَكِّيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرَوَيْهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَهْدَيْتُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ هَدِيَّةً وَهُمَا صَائِمَتَانِ فَأَكَلَتَا مِنْهُ، وَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ وَلَا تَعُودَا» ) . فَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ. لَوْ كَانَ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ ضَعِيفًا لِتَعَدُّدِهَا، وَكَثْرَةِ مَجِيئِهَا. وَثَبَتَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَجْهُولَ فِي قَوْلِ الزُّهْرِيِّ فِيمَا أَسْنَدَ التِّرْمِذِيُّ إِلَيْهِ، عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ثِقَةٌ، أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ، فَكَيْفَ وَبَعْضُ طُرُقِهِ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ اهـ؟ وَبِهَذَا بَطَلَ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ. وَقَدْ بَسَطَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ الْكَلَامَ سَنَدَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَيُحْمَلُ كَرِوَايَةٍ. «خَبَّأْنَا لَكَ حَيْسًا. فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصَّوْمَ، وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ وَأَقْضِي يَوْمًا» عَلَى النَّدْبِ، لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ صَنَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ عَنْ نَفْسِهِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ) ثُمَّ قَالَ لَهُ (أَفْطِرْ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ إِنْ شِئْتَ) اهـ. وَهُوَ لَيْسَ نَصًّا فِي مَدْعَاهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الشَّرْطِيَّةِ مُتَعَلِّقَةً بَأَفْطِرْ، وَالْجُمْلَةُ بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَفَائِدَتُهَا الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ فِيهِ لِلْوُجُوبِ، وَبِأَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْإِفْطَارُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِفْطَارِ الْمَفْهُومِ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2081 - «وَعَنْ أُمِّ عُمَارَةَ بِنْتِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا، فَدَعَتْ لَهُ بِطَعَامٍ، فَقَالَ لَهَا: (كُلِي) فَقَالَتْ: إِنِّي صَائِمَةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الصَّائِمَ إِذَا أُكِلَ عِنْدَهُ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يَفْرَغُوا» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2081 - (وَعَنْ أُمِّ عُمَارَةَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَاسْمُهَا نُسَيْبَةُ (بِنْتِ كَعْبٍ) : أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا، فَدَعَتْ) : أَيْ: طَلَبَتْ (لَهُ بِطَعَامٍ، فَقَالَ لَهَا: كُلِي، فَقَالَتْ: إِنِّي صَائِمَةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: تَفْرِيحًا بِإِتْمَامِ صَوْمِهَا (إِنَّ الصَّائِمَ إِذَا أُكِلَ عِنْدَهُ) : أَيْ: وَمَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى الْمَأْكُولِ وَاشْتَدَّ صَوْمُهُ عَلَيْهِ (صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ) : أَيِ: اسْتَغْفَرَتْ لَهُ عِوَضًا عَنْ مَشَقَّةِ الْأَكْلِ (حَتَّى يَفْرَغُوا) : أَيِ: الْقَوْمُ الْآكِلُونَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مَوْلَاةٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهَا: لَيْلَى. عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ عُمَارَةَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ لَيْلَى مُرْسَلًا (وَالدَّارِمِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2082 - عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «دَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْغَدَاءَ يَا بِلَالُ!) قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نَأْكُلُ رِزْقَنَا، وَفَضْلُ رِزْقِ بِلَالٍ فِي الْجَنَّةِ، أَشْعَرْتَ يَا بِلَالُ أَنَّ الصَّائِمَ يُسَبِّحُ عِظَامُهُ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ مَا أَكَلَ عِنْدَهُ؟» ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2082 - (عَنْ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: دَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَغَدَّى) : أَيْ: يَأْكُلُ الْغَدَاءَ، وَهُوَ طَعَامُ أَوَّلِ النَّهَارِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْغَدَاءَ) : بِالنَّصْبِ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: أَحْضِرْهُ أَوِ ائْتِهِ (يَا بِلَالُ. قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَأْكُلُ رِزْقَنَا) : أَيْ: رِزْقَ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي أَعْطَانَا الْآنَ. (وَفَضْلُ رِزْقِ بِلَالٍ) : مُبْتَدَأٌ أَيِ: الرِّزْقُ الْفَاضِلُ عَلَى مَا نَأْكُلُ (فِي الْجَنَّةِ) : أَيْ: جَزَاءٌ لَهُ عَلَى صَوْمِهِ الْمَانِعِ مِنْ أَكْلِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَرِزْقُ بِلَالٍ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ (فَضْلُ) تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ رِزْقَهُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ زَائِدٌ عَلَيْهِ، وَدَلَّ آخِرُ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ لِلْوُجُوبِ، انْتَهَى. ثُمَّ زَادَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَرْغِيبِ بِلَالٍ فِي الصَّوْمِ بِقَوْلِهِ: (أَشْعَرْتَ) : اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: أَمَا عَلِمْتَ ( «يَا بِلَالُ أَنَّ الصَّائِمَ يُسَبِّحُ عِظَامُهُ» ) : لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بِفَضْلِهِ يَكْتُبُ لَهُ ثَوَابَ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ هُوَ نَاشِئٌ عَنْ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَهُوَ صَوْمُهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ إِذَا بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى فَضْلِهِ - تَعَالَى - كَمَا لَا يَخْفَى. (وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِتَأْنِيثِ الْفِعْلَيْنِ (مَا أَكَلَ) : ظَرْفٌ لِ يُسَبِّحُ وَيَسْتَغْفِرُ (عِنْدَهُ) : أَيْ: مَا دَامَ يُؤْكَلُ عِنْدَ الصَّائِمِ جَزَاءً عَلَى صَبْرِهِ حَالَ جُوعِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا مَجْهُولٌ، وَبَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ مُدَلِّسٌ، وَتَصْرِيحُهُ بِالْحَدِيثِ لَا يُفِيدُ مَعَ الْجَهَالَةِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، عَنِ الْمُنْذِرِيِّ.

[باب ليلة القدر]

[بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2083 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (8) بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ فَضِيلَتُهَا: وَبَيَانُ أَرْجَى أَوْقَاتِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا يَكْتُبُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْأَقْدَارِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ الَّتِي تَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ - سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4 - 5] وَمَعْنَاهُ يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ مَا سَيَكُونُ فِيهَا، وَيَأْمُرُهُمْ بِفِعْلِ مَا هُوَ مِنْ وَظِيفَتِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهِ وَتَقْدِيرُهُ لَهُ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِهَا لِعِظَمِ قَدْرِهَا وَشَرَفِ أَمْرِهَا، وَأَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى وُجُودِهَا وَدَوَامِهَا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ تَكُونُ مُنْتَقِلَةً فِي سَنَةٍ فِي لَيْلَةٍ، وَفِي سَنَةٍ أُخْرَى فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: إِنَّمَا تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لَا تَنْتَقِلُ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: هِيَ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: تَخْتَصُّ بِالْأَوْتَارِ مِنَ الْعَشْرِ اهـ. وَقِيلَ: تَخْتَصُّ بِالسَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِحْدَى لَيَالِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، وَهِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ لَيْلَةُ نِصْفِهِ، أَوْ لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: لَيْلَةُ نِصْفِ شَعْبَانَ، وَهَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ؟ فَالْأَصَحُّ نَعَمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَيُؤَيِّدُهُ سَبَبُ نُزُولِ سُورَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ حَيْثُ كَانَتْ تَسْلِيَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَصِيرَةِ الْعُمْرِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّمَا جَاءَ الْقَدْرُ بِتَسْكِينِ الدَّالِ، وَإِنْ كَانَ الشَّائِعُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ قَرِينُ الْقَضَاءِ فَتْحَ الدَّالِ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ سَبَقَ الزَّمَانَ، وَإِنَّمَا أُرِيدُ بِهِ تَفْصِيلُ مَا قَدْ جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ وَتَبْيِينِهِ وَتَحْدِيدِهِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَعْدَهَا إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْقَابِلِ، لِيَحْصُلَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ فِيهَا مِقْدَارًا بِمِقْدَارٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2083 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَحَرَّوْا) أَيِ: اطْلُبُوا (لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ) أَيْ فِي لَيَالِي الْوِتْرِ (مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) : فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: تَعَمَّدُوا طَلَبَهَا فِيهَا، وَاجْتَهِدُوا فِيهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2084 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَرَى رُؤْيَاكُمْ، قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2084 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرُوا) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ، وَأَصْلُهُ أُرِيُوا أَيْ: أَرَاهُمُ اللَّهُ (لَيْلَةَ الْقَدْرِ) : أَيْ: تَعْيِينَهَا (فِي الْمَنَامِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: خُيِّلَ لَهُمْ فِي الْمَنَامِ ذَلِكَ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ فِي أَنَّهُ مِنَ الرُّؤْيَا، فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إِلَى التَّجْرِيدِ لِيَسْتَقِيمَ قَوْلُهُ فِي الْمَنَامِ، فَتَنَبَّهْ، فَإِنَّهُ وَجْهٌ نَبِيهٌ. (فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) : أَيْ: مِنْ رَمَضَانَ (فَبَعْضُهُمْ رَآهَا فِي لَيْلَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ فِي لَيْلَةِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، وَكَذَلِكَ رَأَوْهَا جَمِيعُهُمْ) اهـ. وَلَعَلَّ أَخْذَ الْإِيتَارِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَأَرَادَ بِالسَّبْعِ السَّبْعَ الْمُحَقِّقَ، وَإِلَّا فَأَوَّلُ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ إِنَّمَا هُوَ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ، أَوِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ، بِنَاءً عَلَى دَوْرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَبْنِيٌّ عَلَى دَوْرِ آخِرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ السَّبْعَ الَّتِي تَلِي آخِرَ الشَّهْرِ، أَوْ أَرَادَ السَّبْعَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ قِيلَ: وَهَذَا أَوْلَى لِيَدْخُلَ فِيهَا الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ وَالثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ إِطْلَاقَ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ عَلَى السَّبْعِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ غَيْرُ مُنْطَبِقٍ، فَإِنَّ الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرِينَ آخِرُ السَّبْعِ الثَّالِثِ مِنَ الشَّهْرِ، وَأَوَّلُ السَّبْعِ الرَّابِعِ إِنَّمَا هُوَ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَأَوَّلُ أَوْتَارِهَا الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ، فَتَأَمَّلْ خَوْفًا مِنَ الزَّلَلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: السَّبْعُ إِنَّمَا يُذْكَرُ فِي لَيَالِي الشَّهْرِ فِي أَوَّلِ الْعَدَدِ، ثُمَّ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ ثُمَّ فِي سَبْعٍ وَعِشْرِينَ اهـ. فَلَعَلَّ جَمِيعَ الْأَوَاخِرِ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ السَّبْعِ، وَالتَّحَرِّي لِمُجَرَّدِ طَلَبِهَا، وَالِاجْتِهَادِ فِيهَا بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَى رُؤْيَاكُمْ، قَدْ تَوَاطَأَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: قَدْ تَوَاطَتْ بِلَا هَمْزَةٍ، وَكُتِبَتِ الْهَمْزَةُ فِي نُسْخَةٍ بِالْحُمْرَةِ بَيْنَ الطَّاءِ وَالتَّاءِ، قِيلَ: أَصْلُهُ تَوَاطَأَتْ بِالْهَمْزَةِ فَقُلِبَتْ أَلِفًا، وَحُذِفَتْ. وَقَدْ رُوِيَ بِالْهَمْزَةِ أَيْضًا، وَالتَّوَاطُؤُ التَّوَافُقُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ بِطَاءٍ ثُمَّ تَاءٍ وَهُوَ مَهْمُوزٌ، وَكَانَ يِنْبَغِي أَنْ يُكْتُبَ بِالْأَلِفِ بَيْنِ الطَّاءِ وَالتَّاءِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهِ مَهْمُوزًا. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] وَقَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمُوَاطَأَةُ الْمُوَافَقَةُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ بِرَجُلِهِ مَوْطِأَ صَاحِبِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ اهـ. أَيْ: تَوَافَقَتْ (فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) : أَيْ: عَلَيْهَا (فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا) : أَيْ: طَالِبًا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَقَاصِدَهَا، أَوْ مُرِيدًا طَلَبَهَا فِي أَحْرَى الْأَوْقَاتِ بِالطَّلَبِ مِنْ تَحَرَّى الشَّيْءِ إِذَا قَصَدَ حَرَاهُ، أَيْ: جَانِبُهُ أَوْ طَلَبُ الْأَحْرَى. (فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: السَّبْعُ الْأَوَاخِرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا السَّبْعُ الَّتِي تَلِي آخِرَ الشَّهْرِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا السَّبْعُ بَعْدَ الْعِشْرِينَ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَمْثَلُ لِتَنَاوُلِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثًا وَعِشْرِينَ. قُلْتُ: وَلِتَحَقُّقِ هَذَا السَّبْعِ يَقِينًا وَابْتِدَاءً، بِخِلَافِ ذَاكَ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ. وَقَوْلُهُ: (فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: (فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُحَدِّثْ بِمِيقَاتِهَا مَجْزُومًا، فَذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَا سَمِعَهُ وَرَآهُ هُوَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالَّذِي عِنْدِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا سُئِلَ عَنْهُ يُقَالُ لَهُ: نَلْتَمِسُهَا فِي لِيَلَةِ كَذَا؟ فَيَقُولُ: الْتَمِسُوهَا فِي لَيْلَةِ كَذَا. فَعَلَى هَذَا تَنَوَّعَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَذَكَرَ مِثْلَ مَا ذُكِرَ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ مَا يُحْفَظُ حَدِيثٌ وَرَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَلْفَاظِ النُّبُوَّةِ؟ ثُمَّ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالذَّاهِبُونَ إِلَى سَبْعٍ وَعِشْرِينَ هُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ عَلِمَ بِالتَّوْقِيتِ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْكَشْفِ عَنْهُ لِمَا كَانَ فِي حُكْمِ اللَّهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْمِيَتِهَا عَلَى الْعُمُومِ، لِئَلَّا يَتَّكِلُوا وَلِيَزْدَادُوا جِدًّا وَاجْتِهَادًا فِي طَلَبِهَا، وَلِهَذَا السِّرِّ أُرِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أُنْسِيَ اهـ.

وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لَا يَخْفَى مِنْ تَنَاقُضِ كَلَامِهِ الْأَخِيرِ مَقَالَهُ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ صَاحِبُ النُّبُوَّةِ أُنْسِيَ، فَالْعِلْمُ بِالتَّوْقِيتِ كَيْفَ أَلْغَى هَذَا إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ لِلصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْقَوْمِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ، فَفِي إِطْلَاقِ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْإِلْهَامِ، وَغَيْرِهِ مَحَلُّ تَوَقُّفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2085 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ: فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2085 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: (لَيْلَةَ الْقَدْرِ) . كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] وَلَيْسَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ هَذَا الضَّمِيرُ، أَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحَذْفُهَا فِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ مِنْ تَحْرِيفِ النَّاسِخِ، فَمَحَلُّ بَحْثٍ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةً، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَحْرِيفًا لَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّسْخُ، وَمُحْيِي السُّنَّةِ عَظِيمُ الْمَرْتَبَةِ، فَالْأَنْسَبُ نِسْبَةُ الْقُصُورِ فِي عَدَمِ الِاطِّلَاعِ إِلَيْنَا، فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي الصَّلَاةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَرَوَى نَصْرٌ عَنْهُ: الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا بِدُونِ الضَّمِيرِ عَلَى أَنَّ الْجُمْهُورَ جَوَّزُوا النَّقْلَ بِالْمَعْنَى إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا بِالْمَعْنَى. (فِي تَاسِعَةٍ) : بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ (تَبْقَى) : صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَدَدِ أَيْ: يُرْجَى بَقَاؤُهَا (وَسَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّاسِعَةَ وَالْعِشْرِينَ، وَالسَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ، وَالْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ، تَاسِعَةٌ مِنَ الْأَعْدَادِ الْبَاقِيَةِ، وَالرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ سَابِعَةٌ مِنْهَا، وَالسَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ خَامِسَةٌ مِنْهَا. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: تَبْقَى الْأُولَى هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَالثَّانِيَةُ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَالثَّالِثَةُ لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، هَكَذَا قَالَهُ مَالِكٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يَصِحُّ مَعْنَاهُ، وَيُوَافِقُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وِتْرًا مِنَ اللَّيَالِي إِذَا كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، فَإِنْ كَانَ كَامِلًا، فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي شَفْعٍ، فَتَكُونُ التَّاسِعَةُ الْبَقِيَّةُ لَيْلَةَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَالْخَامِسَةُ الْبَاقِيَةُ لَيْلَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَالسَّابِعَةُ الْبَاقِيَةُ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بَعْدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يُصَادِفُ وَاحِدٌ مِنْهُنَّ وِتْرًا، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي التَّارِيخِ إِذَا جَاوَزُوا نِصْفَ الشَّهْرِ، فَإِنَّمَا يُؤَرِّخُونَ بِالْبَاقِي مِنْهُ لَا بِالْمَاضِي. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2086 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: " إِنِّي أَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفْ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ) . قَالَ: فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى. وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ إِلَى قَوْلِهِ: (فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) وَالْبَاقِي لِلْبُخَارِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2086 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ كَذَا فِي النُّسَخِ، وَالظَّاهِرُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَلَعَلَّ إِفْرَادَهُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْعَشْرِ (مِنْ رَمَضَانَ) : بَيَانٌ لِلْعِشْرِ (ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ) : قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: كَانَ قِيَاسُهُ الْوُسْطَى، لِأَنَّ الْعَشْرَ مُؤَنَّثٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ، وَوَجْهُ الْأَوْسَطِ أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْعَشْرِ فَإِنَّ لَفْظَهُ مُذَكَّرٌ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ: الْوُسُطُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ وَاسِطٍ كَبَازِلٍ وَبُذُلٍ، وَبَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْوَاوِ وَفَتْحِ السِّينِ جَمْعُ وُسْطَى كَكُبَرٍ وَكُبْرَى اهـ. فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ الْوُسُطُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ وُسْطَى غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ فُعُلَ بِضَمَّتَيْنِ لَا يَكُونُ جَمْعًا لِفُعْلَى، بَلْ لِنَحْوِ فَاعِلٍ (فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ) : وَهِيَ قُبَّةٌ صَغِيرَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ مِنْ لُبُودٍ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ ضُرِبَتْ فِي الْمَسْجِدِ، يُقَالُ لَهَا الْخَرْقَانُ، وَتُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ خَرْكَاهْ. (ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ) : بِسُكُونِ الطَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ: أَخْرَجَهُ مِنَ الْقُبَّةِ (فَقَالَ: إِنِّي اعْتَكَفْتُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ تَصْوِيرًا لِلِاجْتِهَادِ فِي تَحَرِّيهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي نُسْخَةٍ: أَعْتَكِفُ (الْعَشْرَ الْأَوَّلَ أَلْتَمِسُ) : حَالٌ أَيْ: أَطْلُبُ (هَذِهِ اللَّيْلَةَ) : يَعْنِي: لَيْلَةَ الْقَدْرِ (ثُمَّ أَعْتَكِفُ) : بِالنُّسْخَتَيْنِ (الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي الِاسْتِعْمَالِ تَأْنِيثُ الْعَشْرِ، وَتَذْكِيرُهُ أَيْضًا

لُغَةٌ صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَيَّامِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ، وَيَكْفِي فِي صِحَّتِهَا ثُبُوتُ اسْتِعْمَالِهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثُمَّ أُتِيتُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ أَتَانِي آتٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ (فَقِيلَ لِي) : أَيْ: قَالَ لِي الْمَلَكُ (إِنَّهَا) : أَيْ: لَيْلَةَ الْقَدْرِ (فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خُولِفَ بَيْنَ الْأَوْصَافِ فَوَصَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ وَالْأَوْسَطَ بِالْمُفْرَدِ، وَالْأُخَرَ بِالْجَمْعِ؟ قُلْتُ: تَصَوَّرَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَجَمَعَهُ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْعِشْرِينَ، (فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ) : أَيْ: أَرَادَ الِاعْتِكَافَ (مَعِي) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: مَنْ أَرَادَ مُوَافَقَتِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالِاعْتِكَافِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ وَالْأَوْسَطِ لِئَلَّا يَضِيعَ سَعْيُهُمْ فِي الِاعْتِكَافِ وَالتَّحَرِّي. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ، بَلْ لِإِفْهَامِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَكِفًا مَعَهُ أَوْلَى، (فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ) : قِيلَ: فَائِدَةُ الْجَمْعِ هُنَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْهَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِخِلَافِ الْعَشْرِ الْأَوَّلِ وَالْأَوْسَطِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَمْرُ بِالِاعْتِكَافِ لِلدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ: فَلْيَثْبُتْ مِنَ الثُّبُوتِ، وَفِي بَعْضِهَا فَلْيَلْبَثْ مِنَ اللُّبْثِ، وَفِي أَكْثَرِهَا: فَلْيَبِتْ فِي مُعْتَكَفِهِ مِنَ الْمَبِيتِ، وَكُلُّهُ صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: " إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ " يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْآخِرَ، وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الْأَكْثَرُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْآخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، فَلَا يُدْرَى أَيَّةُ لَيْلَةٍ هِيَ، وَقَدْ تَتَقَدَّمُ أَوْ تَتَأَخَّرُ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ. هَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالشُّرُوحِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: وَفِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهَا تَدُورُ فِي السَّنَةِ تَكُونُ فِي رَمَضَانَ، وَتَكُونُ فِي غَيْرِهِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ رِوَايَةً، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنْ قَالَهُ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ عَتَقَ وَطُلِّقَتْ إِذَا انْسَلَخَ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ لَيْلَةٍ مِنْهُ فَصَاعِدًا لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ الْعَامَ الْقَابِلَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا إِذَا جَاءَ مِثْلُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ رَمَضَانَ الْآتِي قَالَ: وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ. قِيلَ: هِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: تِسْعَ عَشْرَةَ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَأَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِكَوْنِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي ذَلِكَ رَمَضَانَ الَّذِي كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْتَمَسَهَا فِيهِ، وَالسِّيَاقَاتُ تَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ وَأَلْفَاظِهَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَطْلُبُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ، وَمِنْ عَلَامَاتِهَا أَنَّهَا بَلْجَةٌ أَيْ مُشْرِقَةٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. سَاكِنَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا قَارَّةٌ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا بِلَا شُعَاعٍ كَأَنَّهَا طُمِسَتْ، كَذَا قَالُوا. وَإِنَّمَا أُخْفِيَتْ لِيُجْتَهَدَ فِي طَلَبِهَا فَيُنَالُ بِذَلِكَ أَجْرُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا أَخْفَى - سُبْحَانَهُ - السَّاعَةَ لِيَكُونُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْ قِيَامِهَا بَغْتَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَدْ أُرِيتُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ (هَذِهِ اللَّيْلَةَ) : أَيْ: مُعَيَّنَةً (ثُمَّ أُنْسِيتُهَا) : وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَوْ نُسِّيتَهَا بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، الْمُرَادُ نِسْيَانُ تَعْيِينِهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: قِيلَ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي نِسْيَانِهَا أَنْ لَا يَشْتَغِلَ النَّاسُ بِتَعْظِيمِهَا، وَيَتْرُكُوا تَعْظِيمَ سَائِرِ اللَّيَالِي. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ كَذَا، ثُمَّ أُنْسِيَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْمُخْبِرُ بِذَلِكَ جِبْرِيلُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ اطَّلَعَ عَلَيْهَا فَرَآهَا فَأَمْرٌ مُحْتَمَلٌ. قُلْتُ: إِذَا كَانَ مُحْتَمَلًا فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ، قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ الْقَفَّالَ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا، قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى مَنْ يَقُولُ لَهُ فِي النَّوْمِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَعَلَّهُ كَذَا، وَعَلَامَتُهَا كَذَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ نَفْسَهَا لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُنْسَى أَيْ فِي صَبِيحَتِهَا. (وَقَدْ رَأَيْتُنِي) : أَيْ: فِي الْمَنَامِ، وَمِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ اتِّحَادُ فَاعِلِهَا وَمَفْعُولِهَا (أَسْجُدُ) : بِالرَّفْعِ حَالٌ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ أَنْ أَسْجُدَ أَيْ سَاجِدًا (فِي مَاءٍ وَطِينٍ) : أَيْ: عَلَى أَرْضٍ رَطْبَةٍ، وَلَعَلَّ أَصْلَهُ فِي مَاءٍ وَتُرَابٍ، وَسُمِّيَ طِينًا لِمُخَالَطَتِهِ بِهِ مَآلًا، وَلِلْإِيمَانِ إِلَى غَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ لَا. وَمِنْهُ مَا رُوِيَ: كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ

الطِّينِ، مَعَ مَا فِي الْآيَةِ: خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَفِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ ( «خَمَّرْتُ طِينَةَ آدَمَ بِيَدَيَّ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» ) (مِنْ صَبِيحَتِهَا) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: فِي صَبِيحَتِهَا أَيْ: فِي صَبِيحَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَنُسِّيتُ أَيَّةَ لَيْلَةٍ كَانَتْ. (فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) : أَيْ: مِنْ رَمَضَانَ (وَالْتَمِسُوهَا مِنْ كُلِّ وِتْرٍ) : أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْعَشْرِ فَإِنَّهُ أَرْجَى لَيَالِيهَا. (قَالَ) : أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَمَطَرَتْ) : بِفَتْحَتَيْنِ (السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ) : أَيِ: الَّتِي أُرِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ بَيْتٌ سَقْفُهُ مِنْ أَغْصَانِ الشَّجَرِ، أَيْ: بُنِيَ عَلَى صَوْغِ عَرِيشٍ، وَهُوَ مَا يُسْتَظَلُّ بِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: عَلَى مِثْلِ الْعَرِيشِ، لِأَنَّ عُمُدَهُ كَانَتْ جُذُوعَ النَّخْلِ، فَلَا يَحْمِلُ ثِقَلًا عَلَى السَّقْفِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا، فَالْعَرْشُ هُوَ نَفْسُ سَقْفِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُظَلًّا بِالْجَرِيدِ، وَالْخُوصِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ شَيْءٍ آخَرَ يُكِنُّ مِنَ الْمَطَرِ الْكَثِيرِ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: فَالْعَرْشُ هُوَ نَفْسُ سَقْفِهِ، مُخَالِفٌ لِمَا فِي النِّهَايَةِ عِيدَانٌ تُنْصَبُ وَيُظَلَّلُ عَلَيْهَا. وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَرِيشُ الْبَيْتُ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ كَالْعَرْشِ، انْتَهَى. وَالْبَيْتُ جُدْرَانٌ أَرْبَعَةٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ خَشَبٍ. (فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ) : أَيْ: قَطَرَ سَقْفُهُ وَنَزَلَ مَاءُ الْمَطَرِ مِنْ سَقْفِهِ (فَبَصُرَتْ) : أَيْ: رَأَتْ (عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قِيلَ: يُقَالُ بَصُرَ بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ: عَلِمَ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ لَا بِمَعْنَى عَلِمْتُ، لِأَنَّهُ قَالَ: فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ، وَلَمْ يُورَدْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ بَصُرَ بِمَعْنَى رَأَى فَلَعَلَّهُ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ اهـ. يَعْنِي: أَنَّ الْبَصَرَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ، كَمَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا} [طه: 96] أَيْ: عَلِمْتُ أَوْ رَأَيْتُ. (وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ مِثْلُ قَوْلِكَ: أَخَذْتُ بِيَدَيْ وَنَظَرْتُ بِعَيْنِي، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي أَمْرٍ يَعِزُّ الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِظْهَارًا لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الْحَالِ الْغَرِيبَةِ، وَمِنْ ثَمَّ أَوْقَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَفْعُولًا وَعَلَى جَبْهَتِهِ حَالًا مِنْهُ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: كَانَ الْحُمَيْدِيُّ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُصَلِّي أَنْ لَا يَمْسَحَ جَبْهَتَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يَمْنَعُ مُبَاشَرَةَ بَشَرَةِ الْجَبْهَةِ لِلْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَصَانَهَا عَنِ الطِّينِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ كَيْفَ يَصُونُهَا عَنْهُ، وَسُجُودُهَا عَلَيْهِ جُعِلَ عَلَامَةً لَهُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ جَعَلَهُ عَلَّامَةً لَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ صِيَانَةِ الْجَبْهَةِ بِكُورِ عِمَامَةٍ أَوْ كُمٍّ أَوْ ذَيْلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُرَادُ الْبَغَوِيِّ، وَإِلَّا فَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْجَبْهَةِ وَاجِبٌ. قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: وَفِيهِ أَنَّ مَا رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ قَدْ يَكُونُ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ يَرَى مِثْلَهُ فِي الْيَقَظَةِ (مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ) : يَعْنِي اللَّيْلَةَ الَّتِي رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، كَذَا قِيلَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مِنْ) . بِمَعْنَى (فِي) وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَبَصُرَتْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى. وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَقِيلَ لِي: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْبَاقِي لِلْبُخَارِيِّ) : أَيْ: لَفْظًا.

2087 - وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ: ( «لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2087 - (وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ) : مُصَغَّرًا كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ الطِّيبِيِّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلِذَا قَالَ: وَلَوْ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ لَكَانَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدِيثٍ آخَرَ، بَلْ رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَالِاخْتِلَافُ فِي زِيَادَةِ لَيْلَةٍ، وَاخْتِلَافُ الْعَدَدِ بِأَنَّهُ سَبْعٌ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرُونَ. (قَالَ: لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ) : بِجَرِّ لَيْلَةٍ فِي النُّسَخِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عِوَضٌ مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقِيَامِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَيْلَةٌ مَرْفُوعَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : أَيْ: تِلْكَ الرِّوَايَةُ.

2088 - وَعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: «سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟ قَالَ بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ، لَا شُعَاعَ لَهَا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2088 - (وَعَنْ زِرِّ) بِكَسْرِ الزَّاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (بْنِ حُبَيْشٍ) مُصَغَّرًا (قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ) أَيْ أَرَدْتُ سُؤَالَهُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ (فَقُلْتُ) وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَقُلْتُ بَدَلٌ مِنْ سَأَلْتُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُودِ الْفَاءِ، عَلَى خِلَافٍ فِي جَوَازِ بَدَلِ الْفِعْلِ، ثُمَّ مِنَ الْقَرِيبِ أَنَّهُ قَالَ: وَعَجِيبٌ مِنْ قَوْلِ شَارِحِ الْمَعْنَى أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ فَقُلْتُ عَلَى حَدِّ {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98] إِذْ لَا حَاجَةَ لَمَّا قَدَّرَهُ، وَلَيْسَتِ الْآيَةُ نَظِيرَةً لِمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ خَطَأٌ فَاحِشٌ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ قَوْلَهُ - تَعَالَى - {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] وَاللَّهُ أَعْلَمُ (إِنَّ أَخَاكَ) أَيْ فِي الدِّينِ وَالصُّحْبَةِ (ابْنَ مَسْعُودٍ) بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ) أَيْ مَنْ يَقُمْ لِلطَّاعَةِ فِي بَعْضِ سَاعَاتِ كُلِّ لَيَالِي السَّنَةِ (يُصِبْ) أَيْ يُدْرِكْ (لَيْلَةَ الْقَدْرِ) أَيْ يَقِينًا لِلْإِبْهَامِ فِي تَبْيِينِهَا، وَلِلِاخْتِلَافِ فِي تَعْيِينِهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عَنْ إِمَامِنَا، إِذْ قَضِيَّتُهُ أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِرَمَضَانَ فَضْلًا عَنْ عَشْرِهِ الْأَخِيرِ، فَضْلًا عَنْ أَوْتَارِهِ، فَضْلًا عَنْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ (فَقَالَ) أَيْ أُبَيٌّ (رَحِمَهُ اللَّهُ) دُعَاءٌ لِابْنِ مَسْعُودٍ (أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ) أَيْ لَا يَعْتَمِدُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الصَّحِيحُ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ الَّذِي مَبْنَى الْفَتْوَى عَلَيْهِ فَلَا يَقُومُوا إِلَّا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَيَتْرُكُوا قِيَامَ سَائِرِ اللَّيَالِي، فَيَفُوتُ حِكْمَةُ الْإِبْهَامِ الَّذِي نَسِيَ سَبَبَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَمَا) التَّخْفِيفُ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُ) بِالْكَسْرِ أَيِ ابْنَ مَسْعُودٍ أَوَّلًا (قَدْ عَلِمَ) بِطَرِيقِ الظَّنِّ، وَلَفْظُهُ أَمَا إِنَّهُ سَاقِطٌ مِنْ نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ (أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ) أَيْ مُجْمَلًا (وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) أَيْ غَالِبًا (وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ) أَيْ عَلَى الْأَغْلَبِ (ثُمَّ حَلَفَ) أَيْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ (لَا يَسْتَثْنِي) حَالٌ أَيْ حَلَفَ حَلِفًا حَازِمًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ عُقَيْبَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ: لَأَفْعَلَنَّ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، وَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ جَزْمُ الْحَالِفِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، يُقَالُ حَلَفَ فُلَانٌ يَمِينًا لَيْسَ فِيهَا ثَنْيٌ وَلَا ثَنْوٌ وَلَا ثَنْيَةٌ وَلَا اسْتِثْنَاءٌ كُلُّهَا وَاحِدٌ وَأَصْلُهَا مِنَ الثَّنْيِ وَهُوَ الْكَفُّ وَالرَّدُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ غَيْرَهُ، فَقَدْ رَدَّ انْعِقَادَ ذَلِكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ جَزَمَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِلَيْلَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَحَمَلَ كَلَامَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ إِرَادَةِ الْخُصُوصِ، فَهَلْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ فَإِنَّ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ تَنَافِيًا؟ قُلْتُ: لَا، إِذَا ذَهَبَ إِلَى التَّعْرِيضِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي سَارَّةَ أُخْتِي تَعْرِيضًا بِأَنَّهَا أُخْتُهُ فِي الدِّينِ اهـ وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ التَّعْرِيضِ فَتَعْرِضُ لِمَا عَرَضْنَا (إِنَّهَا) مَفْعُولُ حَلَفَ أَيْ إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ (لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلْتُ) أَيْ لَهُ (بِأَيِّ شَيْءٍ) مِنَ الْأَدِلَّةِ (تَقُولُ ذَلِكَ) أَيِ الْقَوْلَ (يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟) كُنْيَةٌ لِكَعْبٍ (قَالَ: بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالْآيَةِ) أَوْ لِلشَّكِّ أَيْ بِالْأَمَارَةِ (الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ أَيْ أَنَّ الشَّمْسَ (تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ) أَيْ يَوْمَ إِذٍ تَكُونُ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَنَّهَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ الْبَيْضَاءُ فَضَمِيرُ أَنَّهَا لِلْقِصَّةِ (لَا شُعَاعَ لَهَا) وَهَذَا دَلِيلٌ أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ عَلَى مَا قُلْنَا إِنَّ عِلْمَهُ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ حَيْثُ بَنَى اجْتِهَادَهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَا شُعَاعَ لَهَا، وَقَدْ رَأَيْتُهَا صَبِيحَةَ لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ طَلَعَتْ كَذَلِكَ، إِذْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا إِلَّا بِانْضِمَامِهِ إِلَى كَلَامِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالشُّعَاعُ هُوَ مَا يُرَى مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ عِنْدَ حُدُورِهَا مِثْلُ الْجِبَالِ وَالْقُضْبَانُ مُقْبِلَةٌ إِلَيْكَ كُلَّمَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا، قِيلَ: مَعْنَى لَا شُعَاعَ لَهَا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لِكَثْرَةِ اخْتِلَافِهَا وَتَرَدُّدِهَا فِي لَيْلَتِهَا وَنُزُولِهَا إِلَى الْأَرْضِ وَصُعُودِهَا تَسْتُرُ بِأَجْنِحَتِهَا وَأَجْسَامِهَا اللَّطِيفَةِ ضَوْءَ الشَّمْسِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ الْأَجْسَامَ اللَّطِيفَةَ لَا تَسْتُرُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيفَةِ، نَعَمْ لَوْ قِيلَ: غَلَبَ نُورُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ضَوْءَ الشَّمْسِ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ الزَّمَانِيَّةِ مُبَالَغَةً فِي إِظْهَارِ أَنْوَارِهَا الرَّبَّانِيَّةِ لَكَانَ وَجْهًا وَجِيهًا وَتَنْبِيهًا نَبِيهًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفَائِدَةُ كَوْنِ هَذَا عَلَّامَةً مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ اللَّيْلَةِ لِأَنَّهُ يُسَنُّ إِحْيَاءُ يَوْمِهَا كَمَا يُسَنُّ إِحْيَاءُ لَيْلِهَا اهـ وَفِي قَوْلِهِ: يُسَنُّ إِحْيَاءُ يَوْمِهَا نَظَرٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَثَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فَائِدَةَ الْعَلَامَةِ أَنْ يَشْكُرَ عَلَى حُصُولِ تِلْكَ النِّعْمَةِ إِنْ قَامَ بِخِدْمَةِ اللَّيْلَةِ، وَإِلَّا فَيَتَأَسَّفُ عَلَى مَا قَالَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَيَتَدَارَكُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ عَلَامَةً فِي أَوَّلِ لَيْلِهَا إِبْقَاءً لَهَا عَلَى إِبْهَامِهَا، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2089 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2089 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» ) أَيْ يُبَالِغُ فِي طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِيهَا، كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي زِيَادَةِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ (مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ) أَيْ فِي غَيْرِ الْعَشْرِ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِيهِ أَوْ لِلِاغْتِنَامِ فِي أَوْقَاتِهِ وَالِاهْتِمَامِ فِي طَاعَتِهِ وَحُسْنِ الِاخْتِتَامِ فِي بَرَكَاتِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2090 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2090 - (وَعَنْهَا) أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ) أَيِ الْأُخَرُ فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ التَّصْرِيحُ بِالْأَخِيرِ (شَدَّ مِئْزَرَهُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ إِزَارِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى فِعْلٍ شَاقٍّ مُهِمٍّ كَتَشْمِيرِ الثَّوْبِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ زِيَادَةُ: وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّدِّ الْمُبَالَغَةُ فِي الْجِدِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ: مَعْنَى شَدَّ الْمِئْزَرَ الِاجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَاتِ زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِهِ، وَمَعْنَاهُ التَّشْمِيرُ فِي الْعِبَادَةِ، يُقَالُ: شَدَدْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِئْزَرِي أَيْ تَشَمَّرْتُ لَهُ وَتَفَرَّغْتُ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ، وَدَوَاعِيهِ وَأَسْبَابِهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّشْمِيرِ لِلْعِبَادَةِ وَالِاعْتِزَالِ مِنَ النِّسَاءِ مَعًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ أَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تُنَافِي إِرَادَةَ الْحَقِيقَةِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ، وَأَرَدْتَ طُولَ نِجَادِهِ مَعَ طُولِ قَامَتِهِ، كَذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُسْتَعْبَدُ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَدَّ مِئْزَرَهُ ظَاهَرًا، وَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ، وَاشْتَغَلَ بِهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَإِلَيْهِ يَرْمُزُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: دَنَيْتُ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا ... جُهْدَ النُّفُوسِ وَأَلْقَوْا حَوْلَهُ الْأُزُرَا اهـ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الْمُمْكِنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَرْطُ ذَلِكَ إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ لَهُمَا مَعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا، وَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ شَدِّ الْإِزَارِ حَقِيقَةً بَعِيدٌ عَنِ الْمُرَادِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَأَحْيَا لَيْلَهُ) أَيْ غَالِبَهُ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيِ اسْتَغْرَقَ بِالسَّهَرِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ قِيَامُ كُلِّ اللَّيْلِ فَمَعْنَاهُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُولُوا بِكَرَاهَةِ لَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ عَشْرٍ اهـ وَلَا يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مَبْنَاهُ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّمَا حَمَلْنَا اللَّيْلَ عَلَى غَالِبِهِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا سَهَرَ جَمِيعَ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ إِحْيَاءِ لَيَالِيِ الْعِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قُلْتُ: يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى إِحْيَاءِ أَكْثَرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي إِحْيَاءِ اللَّيْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهَا رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ الْعَابِدِ، فَإِنَّ الْعَابِدَ إِذَا اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ عَنِ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا نَفْسَهُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] وَثَانِيهُمَا أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ اللَّيْلِ فَإِنَّ لَيْلَهُ لَمَّا صَارَ بِمَنْزِلَةِ نَهَارِهِ فِي الْقِيَامِ فِيهِ كَانَ أَحْيَاهُ وَزَيَّنَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] فَمَنِ اجْتَهَدَ فِيهِ وَأَحْيَاهُ كُلَّهُ وَفَّرَ نَصِيبَهُ مِنْهَا، وَمَنْ قَامَ فِي بَعْضِهِ أَخَذَ نَصِيبَهُ بِقَدْرِ مَا قَامَ فِيهَا، وَإِلَيْهِ لَمَّحَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ بِقَوْلِهِ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ حَظَّهُ مِنْهَا اهـ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» "، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا، " «وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ عُثْمَانَ مَرْفُوعًا، وَهُوَ يُحْتَمَلُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِانْضِمَامِ الْعِشَاءِ كَإِحْيَاءِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصُّبْحُ مَزِيَّةً عَلَى الْعِشَاءِ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِيهِ أَصْعَبُ وَأَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) أَيْ أَمَرَ بِإِيقَاظِهِمْ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِهِ لِلْعِبَادَةِ وَطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132] وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2091 - «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعَفُ عَنِّي» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2091 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبَرَنِي (إِنْ عَلِمْتُ) جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ (أَيُّ لَيْلَةٍ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَالْجُمْلَةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لَعَلِمْتُ تَعْلِيقًا، قِيلَ: الْقِيَاسُ أَيَّةُ لَيْلَةٍ فَذُكِرَ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ كَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيُّ أَيَّةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ "، بِاعْتِبَارِ الْكَلَامِ وَاللَّفْظِ (مَا أَقُولُ) مُتَعَلِّقٌ بِأَرَأَيْتَ (فِيهَا) أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَا أَقُولُ فِيهَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكَانَ حَقُّ الْجَوَابِ أَنْ يُؤْتَى بِالْفَاءِ، وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ، أَقُولُ: شَرْطُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ الضَّبْطُ وَالْحِفْظُ، فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى السَّقْطِ وَالْغَلَطِ، وَالْمَدَارُ عَلَى الرِّوَايَةِ لَا عَلَى الْكِتَابَةِ، أَمَا تَرَى نَظِيرَهُ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: " أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ رِجَالٍ ". . . الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا " وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَافُوا " نَعَمْ حَذْفُ الْفَاءِ قَلِيلٌ وَالْأَكْثَرُ وَجُودُهَا فِي اللُّغَةِ وَالْكُلُّ جَائِزٌ (قَالَ: قُولِي: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفْوٌ ") أَيْ كَثِيرُ الْعَفْوِ " تُحِبُّ الْعَفْوَ " أَيْ ظُهُورَ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " مَا سَأَلَ اللَّهَ الْعِبَادُ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَيُعَافِيَهُمْ " " فَاعْفُ عَنِّي " فَإِنِّي كَثِيرُ التَّقْصِيرِ، وَأَنْتَ أَوْلَى بِالْعَفْوِ الْكَثِيرِ، فَهَذَا دُعَاءٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، حَازَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِذَا خَلَقْتَ الْمُذْنِبِينَ، أَوْ تُحِبُّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ غَيْرِكَ أَيْضًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

2092 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْتَمِسُوهَا - يَعْنَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ - فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي خَمْسٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2092 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْتَمِسُوهَا " يَعْنَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ) تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرِ مِنَ الرَّاوِي " فِي تِسْعٍ " أَيْ تِسْعِ لَيَالٍ " يَبْقَيْنَ " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ وَهِيَ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ " أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ " وَهِيَ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ " أَوْ فِي خَمْسٍ يَبْقَيْنَ " وَهِيَ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ " أَوْ ثَلَاثٍ " أَيْ يَبْقَيْنَ وَهِيَ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ " أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ " مِنْ رَمَضَانَ أَيْ مِنْ سَلْخِ الشَّهْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ التِّسْعُ أَوِ السَّلْخُ، رَجَّحْنَا الْأَوَّلَ بِقَرِينَةِ الْأَوْتَارِ، وَقَالَ مِيرَكُ: قِيلَ: فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ، أَوْ ثَلَاثٍ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ، (وَآخِرِ لَيْلَةٍ) مَحْمُولٌ عَلَى التَّاسِعَةِ وَالْعِشْرِينَ اهـ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا نَقَصَ الشَّهْرُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2093 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: " هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: رَوَاهُ سُفْيَانُ وَشُبْعَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2093 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أَهِيَ فِي كُلِّ السَّنَةِ أَوْ فِي رَمَضَانَ، أَوْ أَهَيِ كُلَّ رَمَضَانَ، أَوْ فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ وَيُؤَيِّدُهُ (قَالَ: " هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ ") قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بَلْ كُلُّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَحَدٌ لِامْرَأَتِهِ فِي نِصْفِ رَمَضَانَ أَوْ أَقَلِّ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، لَا تُطَلَّقُ حَتَّى يَأْتِيَ رَمَضَانُ السَّنَةَ الْمُقْبِلَةَ فَتُطَلَّقُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي عُلِّقَ فِيهَا الطَّلَاقُ اهـ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُصَوِّرَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ فِي رَمَضَانَ فَقَطْ، أَوْ يَزِيدُ بَعْدَ قَوْلِهِ (أَوْ أَقَلَّ، قَوْلَهُ: أَوْ أَكْثَرَ) ثُمَّ هَذَا التَّفْرِيعُ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ فِي الْمَذْهَبِ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ: وَلَيْسَ أَصْلُ الْحَدِيثِ نَصًّا فِي الْمَقْصُودِ لِلِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلِلِاخْتِلَافِ فِي رَفْعِ الْحَدِيثِ، وَوَقْفِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي كُلِّ رَمَضَانَ مِنَ الْأَعْوَامِ فَتَخْتَصُّ بِهِ فَلَا تَتَعَدَّى إِلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، وَثَانِيهُمَا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي كُلِّ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَلَا تَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ الَّذِي هُوَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ، لِأَنَّ الْبَعْضَ فِي مُقَابَلَةِ الْكُلِّ فَلَا يُنَافِي وُقُوعَهَا فِي سَائِرِ الْأَشْهُرِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَيَتَفَرَّعَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَا إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِدُخُولِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَا دُوَنَهَا إِلَى السَّلْخِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي عُلِّقَ الطَّلَاقُ فِيهِ بِخِلَافِ غُرَّةِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي السَّلْخِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ مَرْفُوعًا (وَقَالَ) أَيْ أَبُو دَاوُدَ (رَوَاهُ سُفْيَانُ) أَيِ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَوِ الثَّوْرِيُّ (وَشُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ) .

2094 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي بَادِيَةً أَكُونُ فِيهَا وَأَنَا أُصَلِّي فِيهَا فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُهَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: " انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ "، فَقِيلَ لِابْنِهِ: كَيْفَ كَانَ أَبُوكَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِحَاجَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ وَجَدَ دَابَّتَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَلَحِقَ بِبَادِيَتِهِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2094 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ) بِالتَّصْغِيرِ مُخَفَّفًا (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي بَادِيَةً أَكُونُ) أَيْ سَاكِنًا (فِيهَا) قَالَ مِيرَكُ: الْمُرَادُ بِالْبَادِيَةِ دَارُ إِقَامَةٍ بِهَا، فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي بَادِيَةً أَيْ إِنَّ لِي دَارًا بِبَادِيَةٍ أَوْ بَيْتًا أَوْ خَيْمَةً هُنَاكَ وَاسْمُ تِلْكَ الْبَادِيَةِ الْوَطَاءَةُ (وَأَنَا أُصَلِّي فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ أَعْتَكِفَ، وَفِيهِ أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ بِدُونِ الصَّوْمِ، وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ يَنْزِلُ فِي اللَّيْلِ وَيَخْرُجُ فِي الصُّبْحِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ إِدْرَاكَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ (فَمُرْنِي) أَمَرَ مِنْ أَمْرٍ مُخَفَّفًا (بِلَيْلَةٍ) زَادَ فِي الْمَصَابِيحِ: مِنْ هَذَا الشَّهْرِ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ (أَنْزِلُهَا) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ، وَقِيلَ: بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، أَيْ أَنْزِلْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ النُّزُولِ بِمَعْنَى الْحُلُولِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَنْزِلْ فِيهَا قَاصِدًا أَوْ مُنْتَهِيًا (إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ) إِشَارَةٌ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَلَعَلَّهُ قَصَدَ حِيَازَةَ فَضِيلَتَيِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ (فَقَالَ: " انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ) لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَزِمَ تَعْيِينُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ نُزُولَهُ لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَا مَحِيصَ عَنْهُ إِلَّا بِالْقَوْلِ بِانْتِقَالِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَوْ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، أَوْ فِي كُلِّ عَشْرٍ، أَوْ يَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، أَوْ يُقَالُ: نُزُولُهُ كَانَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَالتَّخْصِيصُ بِتِلْكَ اللَّيْلَةِ لِمُنَاسَبَةِ مَكَانِ السَّائِلِ أَوْ حَالِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قِيلَ لَابْنِهِ) أَيْ ضَمْرَةَ (كَيْفَ كَانَ أَبُوكَ يَصْنَعُ؟) أَيْ فِي نُزُولِهِ (قَالَ: كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ) أَيْ يَوْمَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ (فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِحَاجَةٍ) أَيْ مِنَ الْحَاجَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ اغْتِنَامًا لِلْخَيْرَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ أَوْ لِحَاجَةٍ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِحَاجَّةٍ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِالْحَاجَةِ الضَّرُورَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ فَلَا يَسْتَقِيمُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِالْحَاجَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَنْتَظِمُ ثُمَّ قَالَ مُسْتَشْعِرًا لِلِاعْتِرَاضِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ: وَقَوْلُهُ لِحَاجَةٍ يُحْتَمَلُ بَقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ وَيَبْقَى وَضَوْءُهُ مِنَ الْعَصْرِ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهَا مَا عَدَا حَاجَةَ الْإِنْسَانِ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصْبِرُ عَنْهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ إِلَّا فِي حَاجَةٍ أَيْ مَعْهُودَةٍ، إِذِ التَّنْكِيرُ قَدْ يَكُونُ لِلْعَهْدِ وَهِيَ أَحَدُ ذَيْنِكَ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّ (لِحَاجَةٍ) فِي الْأُولَى الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ ذَيْنِكَ، وَإِلَّا لِحَاجَةٍ فِي الثَّانِيَةِ الْمُرَادُ بِهَا هُمَا، بِخِلَافِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ ; فَإِنَّ بَيْنَهُمَا تَنَافِيًا، وَضَرُورَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ الْمُتَنَافِيَتَيْنِ يُعَيِّنُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِي دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اهـ وَهُوَ تَطْوِيلٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ بِالتَّنْكِيرِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي تَعْلِيلِهِ بِمَعْنَى اللَّامِ، فَلَا تَنَافِي فِي الرِّوَايَتَيْنِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ وُجُودٍ إِلَّا وَعَدَمِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَالْمَصَابِيحِ: فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا فِي حَاجَةٍ، وَالتَّنْكِيرُ فِي حَاجَةٍ لِلتَّنْوِيعِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلِاعْتِكَافِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ، فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَعَلَى الثَّانِي فَلَا يَخْرُجُ إِلَّا فِي حَاجَةٍ يَضْطَرُّ إِلَيْهَا الْمُعْتَكِفُ اهـ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِاعْتِكَافُ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ عَلَى الِاعْتِكَافِ النَّفْلِيِّ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ (حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ وَجَدَ دَابَّتَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَلَحِقَ بِبَادِيَتِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: بَادِيَتَهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ مِنْ طَرِيقِ ضَمْرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ، وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَحَدِيثُهُ يَصِحُّ إِذَا صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2095 - عَنْ عُبَادَةَ بْن ِ الصَّامِتِ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: " خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2095 - (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَنَازَعَ وَتَخَاصَمَ (رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قِيلَ: هُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، أَيْ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الَّتِي كَانَتْ فِي الدَّيْنِ الَّذِي لِلْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَضْعِ شَطْرِ دَيْنِهِ عَنْهُ فَوَضَعَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (فَقَالَ: " «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ» ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تَعْيِينًا عَنْ خَاطِرِي فَنَسِيتُ تَعْيِينَهَا لِاشْتِغَالِي بِالْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَاتَهَا رُفِعَتْ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ، إِذْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ الْآتِي " فَالْتَمِسُوهَا "، بَلْ مَعْنَاهُ: فَرُفِعَتْ مَعْرِفَتُهَا الَّتِي يُسْتَنَدُ إِلَيْهَا إِخْبَارُ " وَعَسَى أَنْ يَكُونَ " أَيِ الْإِبْهَامُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ الرَّفْعُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ رَفْعُهَا، وَلَكِنْ فِيهِ إِبْهَامٌ " خَيْرًا لَكُمْ " حَيْثُ يَحُثُّكُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ لَيَالِي الْأَيَّامِ، وَيُخَلِّصُكُمْ عَنِ الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ بَيْنَ الْأَنَامِ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ السُّبْكِيُّ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يُسَنُّ كَتْمُهَا لِمَنْ رَآهَا، لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدَّرَ لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهَا، وَالْخَبَرُ كُلُّهُ فِيمَا قَدَّرَهُ لَهُ، فَيُسْتَحَبُّ اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي هَذَا الْأَخْذِ وَقْفَةٌ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عَيْنِهَا، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي لَيْلَةِ كَذَا، ثُمَّ أُنْسِيَ هَذَا، فَالَّذِي أُنْسِيَهُ لَيْسَ لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يَنْسَى، بَلْ عَلِمَ عَيْنَهَا كَمَا تَقَرَّرَ اهـ وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عَيْنِهَا جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ الِاطِّلَاعُ أَوَّلًا وَآخِرًا؟ ثُمَّ إِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِنْبَاطُ وَالْأَخْذُ بِالْمُقَايَسَةِ عِنْدَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى عَيْنِهَا، بَلْ فِي نِسْيَانِ مَعْرِفَتِهَا، وَإِلَّا فَالْمُتَابَعَةُ عَلَى تَقْدِيرِ الِاطِّلَاعِ لِأَمْرِهِ بِالْإِخْفَاءِ، فَمِنْ أَيْنَ لِغَيْرِهِ الِاطِّلَاعُ الْمَجْزُومُ بِهَا؟ فَإِنَّ طَرِيقَ الْكَشْفِ ظَنِّيٌّ، وَوَجْهُ الْعَلَامَاتِ الظَّاهِرَةِ فِيهَا غَيْرُ قَطْعِيٍّ، مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، كَذَلِكَ فَيَسْتَوِي حِينَئِذٍ إِخْبَارُهُ وَإِخْفَاؤُهُ، وَمَعَ هَذَا كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ يُسَنُّ كَتْمُهَا، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. " فَالْتَمِسُوهَا " أَيْ فَبَالِغُوا فِي الْتِمَاسِهَا لَعَلَّكُمْ تَجِدُونَهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْتَمِسُوا وُقُوعَهَا فَلَا يُنَافِي رَفْعَ عِلْمِ عَيْنِهَا اهـ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِالْتِمَاسِ وُقُوعِهَا كَمَا لَا يَخْفَى إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا بِالْتِمَاسِهَا، وَلَا يَتَخَلَّفُ وُقُوعُهَا عَنْ عَدَمِ الْتِمَاسِهَا، ثُمَّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْتَمِسُوهَا " يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ عَيْنِهَا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، لِيُفَرِّعَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَلَا يُنَافِي رَفْعَ عِلْمِ عَيْنِهَا، فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ تَكَرَّرَ الزَّلَلُ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ تَبِعَ الطِّيبِيَّ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: رُفِعَتْ مَعْرِفَةُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِتَلَاحِي النَّاسِ، أَقُولُ: لَعَلَّ مُقَدِّرَ الْمُضَافِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ رَفْعَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَسْبُوقٌ بِوُقُوعِهَا وَحُصُولِهَا، فَإِذَا حَصَلَتْ لَمْ يَكُنْ لِرَفْعِهَا بِمَعْنًى، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِرَفْعِهَا أَنَّهَا شُرِّعَتْ أَنْ تَقَعَ فَلَمَّا تَلَاحَا ارْتَفَعَتْ، فَنَزَلَ الشُّرُوعُ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ فَالْتَمِسُوهَا أَيِ الْتَمِسُوا وُقُوعَهَا لَا مَعْرِفَتَهَا اهـ. وَلَعَلَّ الصَّوَابَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَعَلَّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ ارْتِفَاعُ عَيْنِهَا، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْحَقُّ نَقْلًا وَعَقْلًا، إِذِ الْمُلَاحَاةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِنِسْيَانِ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِارْتِفَاعِ وُقُوعِ شَيْءٍ، وَأَيْضًا إِذَا شَرَعَ فِي الْوُقُوعِ ثُمَّ ارْتَفَعَ لَا يَكُونُ مِمَّا يُنْسَى، مَعَ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْوُقُوعِ مِمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ مِنَ الْمَعْنَى، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ " فَالْتَمِسُوهَا " أَيِ الْتَمِسُوا وُقُوعَهَا لَا مَعْرِفَتَهَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى أَصْلِهِ، فَتَدَبَّرْ " فِي التَّاسِعَةِ " أَيِ الْبَاقِيَةِ، وَهِيَ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرُونَ " وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ " عَلَى مَا تَقَدَّمَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2096 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي كُبْكُبَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُصَلُّونَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدِهِمْ - يَعْنِي يَوْمَ فِطْرِهِمْ - بَاهَى بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، فَقَالَ: يَا مَلَائِكَتِي مَا جَزَاءُ أَجِيرٍ وَفَّى عَمَلَهُ؟ قَالُوا: رَبَّنَا جَزَاؤُهُ أَنْ يُوَفَّى أَجْرَهُ، قَالَ: مَلَائِكَتِي، عَبِيدِي وَإِمَائِي قَضَوْا فَرِيضَتِي عَلَيْهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا يَعُجُّونَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكَرَمِي وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَأُجِيبَنَّهُمْ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَبَدَّلْتُ سَيِّئَاتِكُمْ حَسَنَاتٍ "، قَالَ: " فَيَرْجِعُونَ مَغْفُورًا لَهُمْ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2096 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ نَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي كُبْكُبَةٍ ") بِضَمَّتَيْنِ، وَقِيلَ: بِفَتْحَتَيْنِ جَمَاعَةٌ مُتَضَامَّةٌ مِنَ النَّاسِ، وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ " مِنَ الْمَلَائِكَةِ " فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4] وَإِيمَاءٌ إِلَى تَفْسِيرِ الرُّوحِ بِجِبْرِيلَ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْمُشْعِرِ بِتَعْظِيمِهِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَقْدِيمِهِ فِي الْحَدِيثِ وَتَأْخِيرِهِ فِي الْآيَةِ " يُصَلُّونَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ "، أَيْ يَدْعُونَ لِكُلِّ عَبْدٍ بِالْمَغْفِرَةِ، أَوْ يُثْنُونَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ " قَائِمٍ " كَمُصَلٍّ وَطَائِفٍ وَغَيْرِهِمَا " أَوْ قَاعِدٍ يَذْكُرُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - " صِفَةً لِكُلٍّ " فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدِهِمْ "، أَيْ وَقْتَ اجْتِمَاعِ أَسْيَادِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ " يَعْنِي يَوْمَ فِطْرِهِمْ " احْتِرَازًا مِنْ عِيدِ الْأَضْحَى " بَاهَى "، أَيِ اللَّهُ - تَعَالَى - " بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ " فِي النِّهَايَةِ: الْمُبَاهَاةُ الْمُفَاخَرَةُ، وَالسَّبَبُ فِيهَا اخْتِصَاصُ الْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ الصَّوْمُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ وَإِحْيَاؤُهُ بِالذِّكْرِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ غِبْطَةُ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُبَاهَاةَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي بَنِي آدَمَ فَيَكُونُ بَيَانًا لِإِظْهَارِ قُدْرَتِهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ " فَقَالَ: يَا مَلَائِكَتِي " إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ " مَا جَزَاءُ أَجِيرٍ وَفَّى " بِالتَّشْدِيدِ وَتُخَفَّفُ " عَمَلَهُ، قَالُوا: رَبَّنَا " بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ (جَزَاؤُهُ أَنْ يُوَفَّى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا (أَجْرَهُ) ، أَيْ أَجْرَ عَمَلِهِ بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ: تُوَفِّي بِالْخِطَابِ " قَالَ: مَلَائِكَتِي " بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ " عَبِيدِي وَإِمَائِي " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ أَمَةٍ بِمَعْنَى الْجَارِيَةِ " قَضَوْا "، أَيْ أَدَّوْا " فَرِيضَتِي "، أَيِ الْمُخْتَصَّةَ الْمَخْصُوصَةَ بِي وَهِيَ الصَّوْمُ الشَّاقُّ " عَلَيْهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا "، أَيْ مِنْ بُيُوتِهِمْ إِلَى مُصَلَّى عِيدِهِمْ " يَعُجُّوُنَ " بِضَمِّ الْعَيْنِ وَيُكْسَرُ، وَبِالْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ " إِلَى الدُّعَاءِ " أَوْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ مُتَوَجِّهِينَ أَوْ مُنْتَهِينَ إِلَى الدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ لِذُنُوبِهِمْ " وَعِزَّتِي "، أَيْ ذَاتًا " وَجَلَالِي " صِفَةً " وَكَرَمِي " فِعْلًا " وَعُلُوِّي " فِي الْجَمِيعِ " وَارْتِفَاعِ مَكَانِي "، أَيْ مَكَانَتِي وَرُتْبَتِي مِنْ قُدْرَتِي وَإِرَادَتِي عَنْ شَوَائِبِ النُّقْصَانِ وَحَوَادِثِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَهُوَ تَسْبِيحٌ بَعْدَ تَحْمِيدٍ، وَتَقْدِيسٌ بَعْدَ تَمْجِيدٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ارْتِفَاعُ الْمَكَانِ كِنَايَةٌ عَنْ عَظَمَةِ شَأْنِهِ، وَعُلُوِّ سُلْطَانِهِ، وَإِلَّا فَاللَّهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ، وَمَا يُنْسَبُ مِنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ اهـ فَجَعَلَهُ عَطْفًا تَفْسِيرِيًّا، وَأَنْتَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ مَا أَلْقَيْتُ إِلَيْكَ أَقْرَبُ إِلَى التَّسْدِيدِ فَإِنَّ التَّأْسِيسَ أَنْسَبُ مِنَ الْعُلُوِّ بِالتَّأْكِيدِ " لَأُجِيبَنَّهُمْ "، أَيْ لَأَقْبَلَنَّ دَعْوَتَهُمْ " فَيَقُولُ "، أَيِ اللَّهُ - تَعَالَى - حِينَئِذٍ " ارْجِعُوا "، أَيْ مِنْ مُصَلَّاكُمْ إِلَى مَسَاكِنِكُمْ أَوْ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّكُمْ " فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ "، أَيِ التَّقْصِيرَاتِ " وَبَدَّلْتُ سَيِّئَاتِكُمْ حَسَنَاتٍ " بِأَنْ يَكْتُبَ بَدَلَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فِي صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُمَّ الصَّائِمِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْغُفْرَانُ لِلْعَاصِينَ، وَالتَّبْدِيلُ لِلْمُطِيعِينَ التَّائِبِينَ، وَهُوَ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وَلِذَا كَانَتْ تَقُولُ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ: تَاجُ الرِّجَالِ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصُّلَحَاءِ، وَإِبْدَالُ حَسَنَاتِي أَكْثَرُ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ، إِشْعَارًا إِلَى كَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنْهَا مِنَ الذُّنُوبِ، قَبْلَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى السُّلُوكِ وَتَتُوبَ " قَالَ "، أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فَيَرْجِعُونَ، أَيْ جَمِيعُهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ " مَغْفُورًا لَهُمْ " وَفِيهِ إِشَارَةٌ جَسِيمَةٌ وَبِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إِلَى رَجَاءِ أَنْ يَغْفِرَ مُسِيئَهُمْ وَيَقْبَلَ مُحْسِنَهُمْ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكُلَّ مُحْتَاجٌ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَمُفْتَقِرٌ إِلَى تَوْبَتِهِ وَأَوْبَتِهِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب الاعتكاف]

[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

بَابُ الِاعْتِكَافِ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2097 - عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الِاعْتِكَافِ) هُوَ فِي اللُّغَةِ الْإِقَامَةُ عَلَى الشَّيْءِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125] وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ - " يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ " بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا، وَفِي الشَّرْعِ: الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَصِحُ الِاعْتِكَافُ سَاعَةً وَاحِدَةً، فَيَنْبَغِي لِكُلِّ جَالِسٍ فِي الْمَسْجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أَوْ لِشُغْلٍ آخَرَ مِنْ آخِرَةٍ أَوْ دُنْيَا أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ، فَإِذَا خَرَجَ ثُمَّ دَخَلَ يُجَدِّدُ النِّيَّةَ اهـ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي اعْتِكَافِ النَّفْلِ، فَيَنْبَغِي إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يَقُولَ: نَوَيْتُ الِاعْتِكَافَ مَا دُمْتُ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْحَقُّ خِلَافُ كُلٍّ مِنَ الْإِطْلَاقَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الِاعْتِكَافُ يَنْقَسِمُ إِلَى وَاجِبٍ وَهُوَ الْمَنْذُورُ تَنْجِيزًا، أَوْ تَعْلِيقًا، وَإِلَى سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ، أَيْ وَهُوَ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِلَى مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ مَا سِوَاهُمَا. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2097 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ» ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذِهِ الْمُوَاظَبَةُ الْمَقْرُونَةُ بِعَدَمِ التَّرْكِ مَرَّةً لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَتْ دَلِيلَ السُّنِّيَّةِ، وَإِلَّا كَانَتْ دَلِيلَ الْوُجُوبِ، أَوْ نَقُولُ اللَّفْظُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّرْكِ ظَاهِرًا لَكِنْ وَجَدْنَا صَرِيحًا يَدُلُّ عَلَى التَّرْكِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدْوَةَ جَاءَ إِلَى مَكَانِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا، فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْغَدْوَةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ، فَقَالَ: " مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا؟ آلْبِرُّ؟ انْزَعُوهَا "، فَنُزِعَتْ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي أَحَدِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالَ» ، وَتَقَدَّمَ اعْتِكَافُهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاسِطِ (ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ) ، أَيْ فِي بُيُوتِهِنَّ لِمَا سَبَقَ مِنْ عَدَمِ رِضَائِهِ لِفِعْلِهِنَّ، وَلِذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَعْتَكِفْنَ فِي مَكَانِهِنَّ (مِنْ بَعْدِهِ) ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ إِحْيَاءً لِسُنَّتِهِ، وَإِبْقَاءً لِطَرِيقَتِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2098 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، كَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2098 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ) ، أَيْ دَائِمًا (بِالْخَيْرِ) اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ (وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ) بِرَفْعِ أَجْوَدَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، قَالَ الْمُظْهِرُ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَهُوَ جَمْعٌ، لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى جَمْعٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَانَ أَجْوَدَ أَوْقَاتِهِ وَقْتَ كَوْنِهِ (فِي رَمَضَانَ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْوَدُ مُبْتَدَأٌ وَفِي رَمَضَانَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَوْ يَكُونُ أَجْوَدُ اسْمَ كَانَ، وَفِي رَمَضَانَ حَالًا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ حَاصِلًا، وَإِلَّا يَلْزَمُ وُقُوعُ الْمَصْدَرِ تَقْدِيرًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ (أَمَّا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ كَمَا فِي مَقْدِمِ الْحَاجِّ، وَالتَّقْدِيرُ: كَانَ أَجْوَدُ أَوْقَاتِهِ وَقْتَ كَوْنِهِ فِي رَمَضَانَ، فَإِسْنَادُ الْجُودِ إِلَى أَوْقَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَإِسْنَادِ الصَّوْمِ إِلَى النَّهَارِ، وَالْقِيَامِ إِلَى اللَّيْلِ (كَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ) ، أَيْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ (كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ يَعْرِضُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ يَقْرَأُ (عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ) قِيلَ: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ عَلَى جِبْرِيلَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، بِتَجْوِيدِ اللَّفْظِ وَتَصْحِيحِ إِخْرَاجِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا، لِيَكُونَ سُنَّةً فِي الْأُمَّةِ، فَيَعْرِضُ التَّلَامِذَةُ قِرَاءَتَهُمْ عَلَى الشُّيُوخِ اهـ وَهُوَ أَحَدُ

طَرِيقَيِ الْأَخْذِ، وَالْآخَرُ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الشَّيْخِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ عَلَى جِهَةِ الْمُدَارَسَةِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ تَقْرَأَ عَلَى غَيْرِكَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا، ثُمَّ يَقْرَؤُهُ عَلَيْكَ، أَوْ يَقْرَأُ قَدْرَهُ مِمَّا بَعْدَهُ، وَهَكَذَا اهـ فَيَتَحَصَّلُ الطَّرِيقَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ) ، أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الَّتِي أُرْسِلَتْ بِالْبُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِشُمُولِ رُوحِهَا وَعُمُومِ نَفْعِهَا، قَالَ - تَعَالَى - {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] فَأَحَدُ الْوُجُوهِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الرِّيَاحَ الْمُرْسَلَاتِ لِلْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ، وَيَكُونُ انْتِصَابُ عُرْفًا بِالْمَفْعُولِ لَهُ، يَعْنِي هُوَ أَجْوَدُ مِنْ تِلْكَ الرِّيحِ فِي عُمُومِ النَّفْعِ وَالْإِسْرَاعِ فِيهِ، فَالْجِهَةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا إِمَّا الْأَمْرَانِ، وَإِمَّا أَحَدُهُمَا، وَلَفْظُ الْخَيْرِ شَامِلٌ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَا جَاءَتِ النَّاسُ بِهِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُودُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمَا يَسُدُّ خَلَّتَهُ وَيَشْفِي عِلَّتَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: شُبِّهَ نَشْرُ جُودِهِ بِالْخَيْرِ فِي الْعِبَادِ بِنَشْرِ الرِّيحِ الْقَطْرَ فِي الْبِلَادِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْأَثَرَيْنِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُحْيِيِ الْقُلُوبَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَالْآخَرَ يُحْيِيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فُضِّلَ جُودُهُ عَلَى جُودِ النَّاسِ، ثُمَّ فُضِّلَ جُودُهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى جُودِهِ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ فُضِّلَ جُودُهُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَعِنْدَ لِقَاءِ جِبْرِيلَ عَلَى جُودِهِ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ رَمَضَانَ، ثُمَّ شُبِّهَ بِالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ فِي التَّعْمِيمِ وَالسُّرْعَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ الْوَقْتَ إِذَا كَانَ أَشْرَفَ يَكُونُ الْجُودُ فِيهِ أَفْضَلُ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ كَانَ أَجْوَدُ أَكْوَانِهِ حَاصِلًا فِي رَمَضَانَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَطْبُوعًا عَلَى الْجُودِ مُسْتَغْنِيًا بِالْبَاقِيَاتِ عَنِ الْفَانِيَاتِ، إِذْ لَوْ وَجَدَ جَادَ وَعَادَ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ وَعَدَ وَلَمْ يُخْلِفِ الْمِيعَادَ وَكَانَ رَمَضَانُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ مَوْسِمُ الْخَيْرَاتِ، وَلِأَنَّهُ - تَعَالَى - يَتَفَضَّلُ فِيهِ عَلَى عِبَادِهِ مَا لَمْ يَتَفَضَّلْ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِهِ، فَأَرَادَ مُتَابَعَةَ سُنَّةِ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُصَادِفُ الْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ بِمُلَاقَاةِ أَمِينِ الْوَحْيِ، وَتَتَابُعِ أَمْدَادِ الْكَرَامَةِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ وَبَيَاضِ النَّهَارِ، فَيَجِدُ فِي مَقَامِ الْبَسْطِ حَلَاوَةَ الْوَجْدِ، وَبَشَاشَةَ الْوِجْدَانِ، فَيُنْعِمُ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ شُكْرًا لِنِعَمِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ الشَّيْخَ الْجَزَرِيَّ قَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ بِمَعْنَاهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ لِهَذَا الْبَابِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ غَايَةَ الْأَجْوَدِيَّةِ فِيهِ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ أَفْضَلَ أَوْقَاتِ مُدَارَسَةِ جِبْرِيلَ لَهُ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ، وَهُوَ فِي مُعْتَكَفٍ كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الْمُصَنِّفُ وَأَصْلُهُ يَقُولَانِ بِتَأْكِيدِ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ لِأَنَّ لَهُ غَايَاتٍ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ غَايَةَ جُودِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا كَانَتْ تَحْصُلُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ؟ وَأَبْدَى شَارِحٌ لِذَلِكَ مُنَاسَبَةً بَعِيدَةً جِدًّا فَقَالَ: قُلْتُ: مِنْ حَيْثُ إِتْيَانِ أَفْضَلِ مَلَائِكَةٍ إِلَى أَفْضَلِ خَلِيقَةٍ بِأَفْضَلِ كَلَامٍ مِنْ أَفْضَلِ مُتَكَلِّمٍ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتٍ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ بِقَاعٍ اهـ وَهُوَ كَذَا فِي أَصْلِ الشَّيْخِ، وَالصَّوَابُ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتٍ، أَقُولُ: الصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ، فَتَأَمَّلْ! ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ: وَقَوْلُهُ مِنْ أَفْضَلِ مُتَكَلِّمٍ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ خَطَأٌ قَبِيحٌ إِذْ لَا يُوصَفُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ أَفْضَلُ، فَكَيْفَ مِنْ أَفْضَلِ؟ قُلْتُ: عَدَمُ جَوَازِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مُتَكَلِّمٍ إِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ التَّوْقِيفِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ جَوَّزَ مِثْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ الطَّعْنُ فِيهِ حِينَئِذٍ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ، وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، لَا سِيَّمَا وَمَقَامُ الْمُشَاكَلَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ لِتَحْسِينِ الْعِبَارَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَكَيْفَ مِنْ أَفْضَلِ فَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ نَشَأَ مِنْ غَفْلَةٍ يَظُنُّ أَنَّ مِنْ هِيَ التَّبْعِيضِيَّةُ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِتْيَانٍ، وَالْمَعْنَى مِنْ عِنْدِ أَفْضَلِ مُتَكَلِّمٍ، فَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِأَخِيهِ وَقَعَ فِيهِ.

2099 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ، وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2099 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يُعْرَضُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هُوَ فِعْلٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ جِبْرِيلُ كَانَ يَعْرِضُ (عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً) ، أَيْ مِنَ الْخَتْمِ (فَعُرِضَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى النَّبِيِّ (مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ) ، أَيْ تُوُفِّيَ فِيهِ، وَفِيهِ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الْحَدِيثِ فِي أُصُولِنَا، ثُمَّ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْحَدِيثِ قَالَ مِيرَكُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الَّذِي تَوَفَّاهُ اللَّهُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي عَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقِيلَ: يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْقَلْبِ لِيُوَافِقَ هَذَا الْمَرْوِيُّ الْحَدِيثَ السَّابِقَ اهـ وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مُعَارَضَةً وَمُدَارَسَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَرَّةً هَذَا يَقْرَأُ وَمَرَّةً هَذَا يَقْرَأُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ

جِبْرِيلَ كَانَ يَقْرَأُ أَوَّلًا بَعْضًا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتِيَاطًا لِلْحِفْظِ، وَاعْتِمَادًا لِلضَّبْطِ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْرَأُ عَشْرًا مَثَلًا وَالْآخَرُ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُدَارَسَةُ الْمُتَعَارَفَةُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي النِّهَايَةِ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ، أَيْ يُدَارِسُهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الْمُقَابَلَةِ وَمِنْهُ عَارَضْتُ الْكِتَابَ بِالْكِتَابِ، أَيْ قَابَلْتُهُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَكَانَ) ، أَيْ غَالِبًا (يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا) ، أَيْ مِنْ آخِرِ رَمَضَانَ (فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا عَلَى التَّثْنِيَةِ (فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ) ، أَيْ تُوُفِّيَ فِيهِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّضْعِيفِ فِي الْعَامِ الْآخِرِ مِنَ الْعَرْضِ وَالِاعْتِكَافِ إِعْلَامُهُ بِقُرْبِ وَفَاتِهِ، وَتَنْبِيهٌ لِأُمَّتِهِ أَنْ يَتَأَكَّدَ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ فِي أَوَاخِرِ حَيَاتِهِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ تَعَالَى، وَالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ كُلُّ خَتْمٍ فِي عَشْرٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ جَعَلَ الْمُؤَلِّفُ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا حَدِيثَانِ، الْأَوَّلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ قَالَهُ الْجَزَرِيُّ.

2100 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اعْتَكَفَ أَدْنَى إِلَيَّ رَأَسَهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ،» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2100 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اعْتَكَفَ أَدْنَى) ، أَيْ قَرَّبَ (إِلَيَّ رَأْسَهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى حُجْرَتِي (وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ (فَأُرَجِّلُهُ) التَّرْجِيلُ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْمُشْطِ فِي الرَّأْسِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَوْ أَخْرَجَ بَعْضَ أَجْزَائِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَعَلَى أَنَّ التَّرْجِيلَ مُبَاحٌ لِلْمُعْتَكِفِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنْ غَسَلَهُ فِي إِنَاءٍ فِي الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ لَا يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ لَا بَأْسَ بِهِ (وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ) ، أَيْ بَيْتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ (إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) ، أَيْ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيسْ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ، كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، أَقُولُ: هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، إِذْ يُتَصَوَّرُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الْمَسْجِدِ بِخِلَافِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَدَفْعِ الْأَخْبَثَيْنِ اهـ وَهُوَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْوَاقِعِ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ ابْنُ الْخَطَّابِيِّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ، وَعَلَى مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فِيهِ فَقَطْ لَا يَحْنَثُ، وَعَلَى أَنَّ بَدَنَ الْحَائِضِ طَاهِرٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَعَلَّهُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ حَائِضًا، وَمَعَ هَذَا لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ، نَعَمْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُنَاوِلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُمْرَةُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْخُمْرَةُ شَيْءٌ مَنْسُوجٌ يُعْمَلُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، وَتُزْمَلُ بِالْخُيُوطِ، وَهُوَ صَغِيرٌ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَظُمَ كَفَى الرَّجُلَ لِجَسَدِهِ كُلِّهِ، فَهُوَ حَصِيرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَتَيْتُ بِخُمْرَةٍ، أَيْ سُتْرَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْهَا.

2101 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: " فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2101 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) ، أَيْ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ قَبْلَ بِعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا مَا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ نَذْرَ عُمَرَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ لِشِدَّةِ شَوْكَةِ قُرَيْشٍ وَمَنْعِهِمْ مِنْهُ (أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً) ، أَيْ بِيَوْمِهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: " فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ ") وَفِي رِوَايَةٍ: وَصُمْ، وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ إِنْ كَانَ نَذْرُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ فِي عُمْرِهِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ حَنِثَ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِالِاعْتِكَافِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ اهـ وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الصَّوْمِ فَقَالَ الشُّمُنِّيُّ: أَمَّا اعْتِكَافُ عُمَرَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ: «أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " اعْتَكِفْ وَصُمْ» "، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ وَيَصُومَ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا: عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا، فَقَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ "، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ اللَّيْلَةُ مَعَ يَوْمِهَا، أَوِ الْيَوْمُ مَعَ لَيْلَتِهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ فَيَجِبُ قَبُولُهَا اهـ مُخْتَصَرًا، وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِاعْتِكَافِ لَيْلَةٍ أَوْضَحُ تَصْرِيحٍ بِأَنَّهُ

(لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ صَوْمٌ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنِ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا رَوَدَ: لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صَوْمٌ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ فَأَوْفِ، أَيْ نَدْبًا لَا وُجُوبًا لِاسْتِلْزَامِهِ الصِّحَّةَ، وَنَذْرُ الْكَافِرِ لَا يَصِحُّ، وَأَمَّا قَوْلُ شَارِحٍ تَقْلِيدًا لِلْكِرْمَانِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ نَذْرَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عُمِلَ بِهِ، وَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَيَصِحُّ ظِهَارُهُ وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ اهـ فَهُوَ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِهِمَا بِالنِّسْبَةِ لِمَسْأَلَةِ النَّذْرِ وَغَيْرُ صَحِيحٍ فِيمَا بَعْدَهَا لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ الضَّعِيفِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْأَخِيرَيْنِ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَصَحَّا مِنْهُ بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2102 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ،» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2102 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا» ) لَعَلَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ (فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِقْبَالِ (اعْتَكَفَ عِشْرِينَ) بِالضَّبْطَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَفْسِيرٌ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّوَافِلَ الْمُؤَقَّتَةَ تُقْضَى إِذَا فَاتَتْ كَمَا تُقْضَى الْفَرَائِضُ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّشْبِيهَ لِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْفَوَاتِ وَإِلَّا فَقَضَاءُ الْفَرَائِضِ فَرْضٌ، وَقَضَاءُ النَّوَافِلِ نَفْلٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ عَنْ أَنَسٍ.

2103 - وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2103 - (وَرَوَاهُ أَبُو دُوَادَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) .

2104 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ فِي مُعْتَكَفِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2104 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ) ، أَيْ إِذَا نَوَى مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَنْ يَعْتَكِفَ وَبَاتَ فِي الْمَسْجِدِ (صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ فِي مُعْتَكَفِهِ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مَكَانِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الِاعْتِكَافِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَمَا قَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِنْ أَرَادَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ أَوْ عَشْرٍ، وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْمُعْتَكَفَ وَانْقَطَعَ وَتَخَلَّى بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَتَخَلَّى عَنِ النَّاسِ فِي مَوْضِعٍ يَسْتَتِرُ بِهِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ اتَّخَذَ فِي الْمَسْجِدِ حُجْرَةً مِنْ حَصِيرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الِاعْتِكَافِ كَانَ فِي النَّهَارِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا مُطَوَّلًا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي الصِّحَاحِ، وَقَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَفَاتَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ، أَقُولُ: بَلْ وَقَعَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ حَيْثُ عَزَا الْحَدِيثَ إِلَيْهِمَا مَعَ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

2105 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُ الْمَرِيضَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ فَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2105 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ (يَعُودُ الْمَرِيضَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ) ، أَيْ وَالْمَرِيضُ خَارِجٌ عَنِ الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ (فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَمَا مَوْصُولَةٌ وَلَفْظُ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ مَا، أَيْ يَمُرُّ مُرُورًا مِثْلَ الْهَيْئَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، فَلَا يَمِيلُ إِلَى الْجَوَانِبِ وَلَا يَقِفُ، وَقَوْلُهَا (فَلَا يُعَرِّجُ) ، أَيْ لَا يَمْكُثُ، بَيَانٌ لِلْمُجْمَلِ ; لِأَنَّ التَّعْرِيجَ الْإِقَامَةُ وَالْمَيْلُ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى جَانِبٍ، وَقَوْلُهَا (يَسْأَلُ عَنْهُ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يَعُودُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إِذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَاتَّفَقَ لَهُ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَمْ يَنْحَرِفْ عَنِ الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَقِفْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلِ الِاعْتِكَافُ، وَإِلَّا بَطَلَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَأَنَّهُمْ قَاسُوهَا عَلَى الْعِيَادَةِ بِجَامِعِ أَنَّهُمَا فَرْضَا كِفَايَةٍ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ الْعِيَادَةَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِلَا وُقُوفٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَلِذَا يَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالصَّلَاةِ خِلَافًا لِصَاحِبِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَوُادَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، رَوَى لَهُ الْأَرْبَعَةُ وَمُسْلِمٌ مَقْرُونًا، وَهُوَ ثِقَةٌ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِسُوءِ حِفْظِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ لَكِنَّ فِيهِ مَنِ اخْتَلَفُوا فِي تَوْثِيقِهِ، وَبِتَقْدِيرِ ضَعْفِهِ وَهُوَ مُنْجَبِرٌ بِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: «إِنِّي كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَفِيهِ الْمَرِيضُ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ» .

2106 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً وَلَا يَمَسُّ الْمَرْأَةَ وَلَا يُبَاشِرُهَا وَلَا يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2106 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتِ: السُّنَّةُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ الدِّينُ وَالشَّرْعُ اهـ وَالْأَظْهَرُ، أَيِ الطَّرِيقَةُ اللَّازِمَةُ (عَلَى الْمُعْتَكِفِ) وَلَفْظُ الشُّمُنِّيِّ: مَضَتِ السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ، أَيِ اعْتِكَافًا مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا (أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا) ، أَيْ بِالْقَصْدِ وَالْوُقُوفِ (وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً) ، أَيْ خَارِجَ مَسْجِدِهِ مُطْلَقًا (وَلَا يَمَسَّ الْمَرْأَةَ) ، أَيْ جِنْسَهَا بِشَهْوَةٍ (وَلَا يُبَاشِرَهَا) ، أَيْ لَا يُجَامِعُهَا وَلَوْ حُكْمًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْمُجَامَعَةُ وَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلِاعْتِكَافِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ قِيلَ: تُبْطِلُ، وَقِيلَ: لَا تُبْطِلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَقِيلَ: إِنْ أَنْزَلَ يَبْطُلُ وَإِلَّا فَلَا اهـ وَمَذْهَبُنَا التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ (وَلَا يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ) ، أَيْ دُنْيَوِيَّةٍ وَأُخْرَوِيَّةٍ (إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ) ، أَيْ إِلَّا لِحَاجَةٍ لَا فِرَاقَ فِيهَا وَلَا مَحِيصَ مِنَ الْخُرُوجِ لَهَا، وَهُوَ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِعْلُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلِذَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوْ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ وَالطَّهَارَةِ (وَلَا اعْتِكَافَ) قِيلَ: أَيْ لَا اعْتِكَافَ كَامِلًا أَوْ فَاضِلًا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَعِنْدَنَا، أَيْ لَا اعْتِكَافَ صَحِيحٌ (إِلَّا بِصَوْمٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ اهـ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَحَادِيثُ ذَكَرَهَا ابْنُ الْهُمَامِ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ» " وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ» ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَذَكَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الِاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ، قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَأَيْضًا لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ بِلَا صَوْمٍ، فَإِنْ قِيلَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا أَوْ مُفْطِرًا اهـ وَالْعَشْرُ يُطْلَقُ عَلَى التِّسْعِ، كَمَا يُقَالُ: صَامَ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ وَعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّهْرُ نَاقِصًا فَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ جُمْلَةِ الْعَشْرِ، وَيَحْرُمُ صَوْمُهُ ( «وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» )

أَيْ يَجْمَعُ النَّاسَ لِلْجَمَاعَةِ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: شَرْطُ الِاعْتِكَافِ مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ الَّذِي لَهُ مُؤَذِّنٌ وَإِمَامٌ، وَيُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، أَوْ بَعْضُهَا بِجَمَاعَةٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ اهـ وَقَالَ قَاضِيَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ عِنْدَهُ إِلَّا فِي الْجَامِعِ اهـ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: لَا تَعْجَبْ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَكِفُونَ؟ ! قَالَ: لَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْتَ، أَوْ حَفِظُوا وَنَسِيتَ، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبْغَضَ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - الْبِدَعُ، وَأَنَّ مِنَ الْبِدَعِ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الدُّورِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لِا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، وَتَقَدَّمَ مَرْفُوعًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إِمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصِحُّ» " وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ ذِكْرَ الْجَامِعِ لِلْأَوْلَوِيَّةِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ اهـ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ وُرُودَ الْحَدِيثِ لَا يُعَلَّلُ بِالْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْخِلَافِ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ أَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ مَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ مَسْجِدِ الْجَامِعِ، قِيلَ: إِذَا كَانَ يُصَلِّي فِيهِ بِجَمَاعَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي مَسْجِدِهِ أَفْضَلُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى الْخُرُوجِ، ثُمَّ كُلُّ مَا كَانَ أَهْلُهُ أَكْثَرَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ: وَغَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يَقُولُ قَالَتِ: السُّنَّةُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَلَيْسَ فِيهِ السُّنَّةُ، وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ أَيْضًا بِدُونِ لَفْظِ السُّنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ زَادَ لَفْظَ السُّنَّةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ قَالُوا مَنْ رَوَى الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَنْهُ لَا يُنْظَرُ لِلطَّاعِنِينَ فِيهِ، وَإِنْ كَثُرُوا اهـ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ زِيَادَتِهِ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ فَثَبَتَ كَوْنُهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْفُوعِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّارِحِ: إِنْ أَرَدْتَ بِكَوْنِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ السُّنَّةِ إِضَافَتَهَا إِلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهِيَ نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، أَوِ الْفُتْيَا بِمَا عَقِلْتَهُ مِنَ السُّنَّةِ، فَقَدْ خَالَفَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأُمُورِ، وَالصَّحَابَةُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ كَانَ سَبِيلُهَا النَّظَرَ اهـ فَهُوَ غَفْلَةٌ مِنَ الْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ السُّنَّةُ كَذَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2107 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ أَوْ يُوضَعُ لَهُ سَرِيرُهُ وَرَاءَ أُسْطُوَانَةِ التَّوْبَةِ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2107 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ وُضِعَ أَوْ فُرِشَ (لَهُ فِرَاشُهُ أَوْ يُوضَعُ لَهُ سَرِيرُهُ) الظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ (وَرَاءَ أُسْطُوَانَةِ التَّوْبَةِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِإِبْدَالِ السِّينِ صَادًا وَهِيَ مِنَ أُسْطُوَانَاتِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا لُبَابَةَ تِيبَ عَلَيْهِ عِنْدَهَا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

2108 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمُعْتَكَفِ: " هُوَ يَعْتَكِفُ الذُّنُوبَ وَيُجْرَى لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2108 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمُعْتَكِفِ) ، أَيْ فِي حَقِّهِ وَشَأْنِهِ (وَهُوَ) وَفِي نُسْخَةٍ هُوَ (يَعْتَكِفُ الذُّنُوبَ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ يَحْتَبِسُ عَنِ الذُّنُوبِ، بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْمُحْتَبِسِ فِي الْمَسْجِدِ الِانْحِبَاسُ عَنْ تَعَاطِي أَكْثَرِ الذُّنُوبِ وَلِذَا اخْتُصَّ الِاعْتِكَافُ بِالْمَسْجِدِ (وَيُجْرَى) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ مَجْهُولًا وَقِيلَ مَعْلُومًا، أَيْ يَمْضِي وَيَسْتَمِرُّ (لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ) ، أَيْ مِنْ ثَوَابِهَا (كَعَامِلِ الْحَسَنَاتِ) ، أَيْ كَأُجُورِ عَامِلِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ مَجْهُولًا، أَيْ يُعْطَى لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يَمْتَنِعُ عَنْهَا بِالِاعْتِكَافِ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ وَغَيْرِهَا، فَاللَّامُ فِي الْحَسَنَاتِ لِلْعَهْدِ (كُلِّهَا) تَأْكِيدٌ لِلْجِنْسِ الْمَعْهُودِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[كتاب فضائل القرآن]

[كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ]

(- كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2109 - عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ) عُمُومًا وَبَعْضِ سُوَرِهِ وَآيَاتِهِ خُصُوصًا، وَالْفَضِيلَةُ مَا يُفَضَّلُ بِهِ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ فَضِيلَةٌ، أَيْ خَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ كَمَا أَنَّ الْفُضُولَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَذْمُومِ اهـ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْفَضِيلَةُ فِي الصِّفَةِ الْقَاصِرَةِ وَالْفَاضِلَةِ فِي الْمُتَعَدِّيَةِ كَالْكَرَمِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْفَضِيلَةُ فِي الْعُلُومِ وَالْفَاضِلَةُ فِي الْأَخْلَاقِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ؟ فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ إِلَى الْمَنْعِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ وَلِئَلَّا يُوهِمَ التَّفْضِيلُ نَقْصَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مَالِكٍ، وَذَهَبَ آخَرُونَ وَهُمُ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّفْضِيلِ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَقَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: الْعَجَبُ فَمَنْ يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ مَعَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي التَّفْضِيلِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ: لَعَلَّكَ أَنْ تَقُولَ: قَدْ أَشَرْتَ إِلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ وَالْكَلَامُ كَلَامُ اللَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ نُورَ الْبَصِيرَةِ إِنْ كَانَ لَا يُرْشِدُكَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الْمُدَايَنَةِ وَبَيْنَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ تَبَّتْ، وَتَرْتَاعُ عَلَى اعْتِقَادِ الْفَرْقِ نَفْسُكَ الْخَوَّارَةُ الْمُسْتَغْرِقَةُ بِالتَّقْلِيدِ فَقَلِّدْ صَاحِبَ الرِّسَالَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَقَالَ: " يس " قَلْبُ الْقُرْآنِ، وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى اهـ كَلَامُهُ ثُمَّ قِيلَ: الْفَضْلُ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الْأَجْرِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ بِحَسَبِ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ وَخَشْيَتِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَفَكُّرِهَا عِنْدَ وُرُودِ أَوْصَافِ الْعَلِيِّ، وَقِيلَ: بَلْ يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ اللَّفْظِ وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] الْآيَةَ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ مَوْجُودًا مَثَلًا فِي تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا، فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ وَكَثْرَتِهَا؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْقُرْآنُ يُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِالذَّاتِ الْعَلِيِّ، وَعَلَى الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الثَّانِي وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَادِثٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي النَّفْسِيِّ فَهُمْ نَفَوْهُ لِقُصُورِ عُقُولِهِمُ النَّاقِصَةِ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا إِلَّا اللَّفْظِيَّ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِ - تَعَالَى - وَبَنُوا عَلَى هَذَا التَّعْطِيلِ قَوْلَهُمْ مَعْنَى كَوْنِهِ - تَعَالَى - مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَنَحْنُ أَثْبَتْنَاهُ عَمَلًا بِمَدْلُولِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ فِي النَّفْيِ وَحْدَهُ أَوْ بِالِاشْتِرَاكِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ كُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّفْظِيِّ وَالنَّفْسِيِّ، قَالَ تَعَالَى: مَا يَأْتِيهِمْ مُنْذِرٌ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٌ " {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] " وَاللَّفْظُ مُحَالٌ عَلَيْهِ - تَعَالَى - وَخَلْقُ الْكَلَامِ فِي الشَّجَرَةِ مَجَازٌ لَا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْقُرْآنَ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَوْ فِعْلَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ لِجَمْعِهِ السُّورَ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَأَنَّهُ مَهْمُوزٌ، وَقِرَاءَةُ ابْنُ كَثِيرٍ إِنَّمَا هِيَ بِالنَّقْلِ كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَنُقِلَ قُرْآنٌ وَالْقُرْآنُ دَوَاؤُنَا، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ قَرَنْتَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ لِقَرْنِ السُّورِ وَالْآيَاتِ فِيهِ، وَأَغْرَبَ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْقُرْآنُ اسْمُ عَلَمٍ لِكَلَامِ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَهْمُوزٍ وَلَا مَأْخُوذٍ مِنْ قَرَأْتَ، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَعَلَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَفْصَحِ وَالْأَشْهَرِ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْهَمْزِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَنَقْلُ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى الْهَمْزِ الْمَذْكُورِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْمُشْتَقَّاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى اقْرَأْ وَرَبُّكَ " {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2109 - (عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَيْرُكُمْ) ، أَيْ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ أَوْ يَا أَيُّهَا الْأُمَّةُ، أَيْ أَفْضَلُكُمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ (مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ) ، أَيْ حَقَّ تَعَلُّمِهِ (وَعَلَّمَهُ) ، أَيْ تَعْلِيمَهُ وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ هَذَا إِلَّا بِالْإِحَاطَةِ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا مَعَ زَوَائِدِ الْعَوَارِفِ الْقُرْآنِيَّةِ وَفَوَائِدِ الْمَعَارِفِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ يُعَدُّ كَامِلًا لِنَفْسِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وَلِذَا وَرَدَ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ عَلِمَ وَعَمَلَ

وَعِلْمٍ يُدْعَى فِي الْمَلَكُوتِ عَظِيمًا، وَالْفَرْدُ الْأَكْمَلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الْأَشْبَهُ فَالْأَشْبَهُ وَأَدْنَاهُ فَقِيهُ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ خَيْرُ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، وَقَالَ مِيرَكُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مِنْ خَيْرِكُمْ لِوُرُودِ ذَلِكَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ أَيْضًا، قُلْتُ: كُلُّ مَا وَرَدَ دَاخِلٌ فِي الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، كُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفِرَا، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَمَلَ خَارِجٌ عَنْهُمَا لِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُورِثًا لِلْعَمَلِ فَلَيْسَ عِلْمًا فِي الشَّرِيعَةِ، إِذْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ مَعَ أَنَّهُ قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِلَى مَتَى الْعِلْمُ فَأَيْنَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: عِلْمُنَا عَمَلٌ، ثُمَّ الْخِطَابُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابَةِ كَذَا قِيلَ، وَلَوْ خُصَّ بِهِمْ فَغَيْرُهُمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَالْقُرْآنُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّهِ وَبَعْضِهِ، وَيُصْبِحُ إِرَادَةَ الْمَعْنَى الثَّانِي هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ التَّعَلُّمُ وَالتَّعْلِيمُ وَلَوْ فِي آيَةٍ كَانَ خَيْرًا مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَوَجْهُ خَيْرِيَّتِهِ يُعْلَمُ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدْ أَدْرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ» " وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» " وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامَ اللَّهِ فَكَذَلِكَ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مَنْ يَتَعَلَّمِ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُهُ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ بِالْإِخْلَاصِ، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَتَاوَى: تَعَلُّمُ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ سَوَاءٌ فِي الْفَضْلِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ فَالْفِقْهُ أَفْضَلُ اهـ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ظَاهِرٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِسَاءَةِ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ تَعَلُّمَ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْقُرْآنِ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ وَمِنَ الْفِقْهِ ظَنِّيٌّ، فَكَيْفَ يَكُونَانِ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ وَالْفِقْهُ إِنَّمَا يَكُونُ أَفَضَلَ لِكَوْنِهِ مَعْنَى الْقُرْآنِ فَلَا يُقَابَلُ بِهِ، نَعَمْ لَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَعْنَى الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ مَعْرِفَةِ لَفْظِهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْقُرْآنِ تَعَلُّمُ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُ رُكْنٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَبِالْفِقْهِ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الرُّكُوعِ رُكْنًا مَثَلًا فَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2110 - «وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: " أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ فَيَأْتِي بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: " أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2110 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ) فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ أَهْلُ الصُّفَّةِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى مَوْضِعٍ مُظَلَّلٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَهْلُ الصُّفَّةِ كَانُوا أَضْيَافَ الْإِسْلَامِ يَبِيتُونَ فِي صُفَّةِ مَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِي حَاشِيَةِ السُّيُوطِيِّ عَلَى الْبُخَارِيِّ: عَدَّهُمْ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، وَالصُّفَّةُ مَكَانٌ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ أُعِدَّ لِنُزُولِ الْغُرَبَاءِ فِيهِ مَنْ لَا مَأْوَى لَهُ وَلَا أَهْلَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَتْ هِيَ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ مُعَدَّةٌ لِفُقَرَاءِ أَصْحَابِهِ الْغَيْرِ الْمُتَأَهِّلِينَ، وَكَانُوا يَكْثُرُونَ تَارَةً حَتَّى يَبْلُغُوا نَحْوَ الْمِائَتَيْنِ وَيَقِلُّونَ أُخْرَى لِإِرْسَالِهِمْ فِي الْجِهَادِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَفِي التَّعَرُّفِ إِنَّمَا سُمُّوا صُوفِيَّةً لِقُرْبِ أَوْصَافِهِمْ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الصُّفَّةِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِلِبْسِهُمُ الصُّوفَ أَوْ لِصَفَاءِ أَسْرَارِهِمْ أَوْ لِصَفَاءِ مُعَامَلَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مِنَ السَّابِقِينَ الْمُسَارِعِينَ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْمُبَادِرِينَ فِي الطَّاعَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ نَسَبَهُمْ إِلَى الصُّفَّةِ وَالصُّوفِ فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ تَرَكُوا الدُّنْيَا فَخَرَجُوا عَنِ الْأَوْطَانِ وَهَجَرُوا الْأَخْدَانَ وَسَاحُوا فِي الْبِلَادِ وَأَجَاعُوا الْأَكْبَادَ وَأَعْرَوُا الْأَجْسَادَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ سَتْرِ عَوْرَةٍ وَسَدِّ جَوْعَةٍ، فَلِخُرُوجِهِمْ عَنِ الْأَوْطَانِ سُمُّوا غُرَبَاءَ وَلِكَثْرَةِ أَسْفَارِهِمْ سُمُّوا سَيَّاحِينَ وَلِقِلَّةِ أَكْلِهِمْ سُمُّوا جَوْعِيَّةً وَمِنْ تَخْلِيَتِهِمْ عَنِ الْأَمْلَاكِ سُمُّوا فُقَرَاءً وَلِلِبْسِهِمُ الثَّوْبَ الْخَشِنَ مِنَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ سُمُّوا صُوفِيَّةً، ثُمَّ هَذِهِ كُلُّهَا أَحْوَالُ أَهْلِ الصُّفَّةِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا غُرَبَاءَ فُقَرَاءَ مُهَاجِرِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَوَصَفَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَا: كَانُوا يَخِرُّونَ مِنْ لَوَعٍ حَتَّى يَحْسَبَهُمُ الْأَعْرَابُ مَجَانِينَ وَكَانَ لِبَاسُهُمُ الصُّوفَ حَتَّى إِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لَيَعْرَقَ فِيهِ فَيُوجَدُ مِنْهُ رِيحُ الضَّأْنِ إِذَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ (فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ) ، أَيْ يَذْهَبُ فِي الْغُدْوَةِ وَهِيَ أَوَّلُ النَّهَارِ أَوْ يَنْطَلِقُ (كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ) بِضَمِّ الْمُوَحِّدَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ اسْمُ وَادٍ بِالْمَدِينَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسِعَتِهِ وَانْبِسَاطِهِ مِنَ الْبَطْحِ وَهُوَ الْبَسْطُ، وَضَبَطَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْضًا (أَوِ الْعَقِيقُ) قِيلَ: أَرَادَ الْعَقِيقَ الْأَصْغَرَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا أَسْوَاقُ الْإِبِلِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، لَكِنَّ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: أَوْ قَالَ إِلَى الْعَقِيقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَيَأْتِي بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ) تَثْنِيَةُ كَوْمَاءَ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ

وَاوًا وَأَصْلُ الْكَوْمِ الْعُلُوِّ، أَيْ فَيَحْصُلُ نَاقَتَيْنِ عَظِيمَتَيِ السَّنَامِ وَهِيَ مِنْ خِيَارِ مَالِ الْعَرَبِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَضُمُّ الْكَافَ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، وَكَأَنَّهُ وَهْمٌ مِنْهُ لِمَا وَقَعَ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: وَنَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ هُوَ بِالْفَتْحِ الْمَوَاضِعُ الْمُشْرِفَةُ وَاحِدُهَا كَوْمَةٌ وَمِنْهُ كَوْمَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَمِنْ طَعَامٍ، أَيْ صَبْرَةٌ وَبَعْضُهُمْ يَضُمُّ الْكَافَ، وَقِيلَ: هُوَ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِمَا كُوِّمَ وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَنَاقَةٌ كَوْمَاءٌ مُشْرِفَةُ السَّنَامِ عَالِيَتُهُ (فِي غَيْرِ إِثْمٍ) كَسَرِقَةٍ وَغَصْبٍ سُمِّيَ مُوجِبُ الْإِثْمِ إِثْمًا مَجَازًا (وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ) ، أَيْ فِي غَيْرِ مَا يُوجِبُهُ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ وَفِي لِلسَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ لُمْتُنَّنِي فِيهِ (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ) بِالنُّونِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: كُلُّنَا يُحِبُّ ذَلِكَ بِالْيَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي اخْتِيَارَهُمْ فَقْرَهُمْ فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا الدُّنْيَا لِلدِّينِ لَا لِلطِّينِ وَلِيَصْرِفُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِيَتَجَهَّزُوا وَيُجَهِّزُوا جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَقِّيَهُمْ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ فَإِنَّهُ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ الْعِظَامِ كَمَا قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " يَا طَالِبَ الدُّنْيَا لِتِبْرٍ تَرْكُكَ الدُّنْيَا أَبَرُّ " وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي حِجْرِهِ دَرَاهِمُ يُقَسِّمُهَا وَآخَرُ يَذْكُرُ اللَّهَ كَانَ الذَّاكِرُ لِلَّهِ أَفْضَلَ» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ وَالْعَالِمَ خَيْرٌ مِنَ الْعَابِدِ، وَأَمَّا مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يُنَافِي مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ لِأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَا بِهِ الْكِفَايَةُ وَلَا أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ لَا تُنَافِي الزُّهْدَ فَضْلًا عَنِ الْوَرَعِ، فَمَعَ كَوْنِ النَّاقَتَيْنِ زَائِدًا عَلَى الْكِفَايَةِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَا يُلَائِمُهُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ قَالَ (أَفَلَا يَغْدُو) ، أَيْ أَلَا يَتْرُكُ ذَلِكَ فَلَا يَغْدُو وَمَا أَبْعَدَ تَقْدِيرَ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ إِذَا كُنْتُمْ كَذَلِكَ أَفَلَا يَغْدُو (أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ) بِالتَّشْدِيدِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالتَّخْفِيفِ (أَوْ يَقْرَأُ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِيهِمَا، قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَرْضًا أَوْ نَفْيًا وَفِيهِ أَنَّ الْفَاءَ مَانِعَةٌ مِنْ كَوْنِهَا لِلْعَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ فَيَعْلَمَ أْو يَقْرَأَ مَنْصُوبَانِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ مَرْفُوعَانِ عَلَى الثَّانِي، قُلْتُ: وَيَجُوزُ نَصْبُهُمَا عَلَى الثَّالِثِ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَوَابُ النَّفْيِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَعْلَمُ مِنَ التَّعْلِيمِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ وَصَحَّحَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنَ الْعِلْمِ وَكَلِمَةُ أَوْ يَحْتَمِلُ الشَّكَّ وَالتَّنْوِيعَ اهـ وَفِي الشَّرْحِ أَنَّهُ صَحَّحَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ فَيَعْلَمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُون الْعَيْنِ، أَوْ شَكٍّ مِنَ الرَّاوِي دَفْعًا لِتَوَهُّمِ كَوْنِهِ مِنَ التَّعْلِيمِ فَيَكُونُ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَعَلَى التَّنْوِيعِ قَوْلُهُ (آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانُ وَقَوْلُهُ (خَيْرٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمَا أَوِ الْغُدُوِّ خَيْرٌ (لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٍ) ، أَيْ مِنَ الْآيَاتِ (خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ) ، أَيْ مِنَ الْإِبِلِ (وَأَرْبَعٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ) جَمْعُ عَدَدٍ (مِنَ الْإِبِلِ) بَيَانٌ لِلْأَعْدَادِ، قِيلَ: مِنْ أَعْدَادِهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَأَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ آيَاتٍ خَيْرٌ مِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ فَخَمْسُ آيَاتٍ خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ إِبِلٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ آيَتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَمِنْ أَعْدَادِهِمَا مِنَ الْإِبِلِ، وَثَلَاثًا خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَذَا أَرْبَعٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآيَاتِ تُفَضَّلُ عَلَى أَعْدَادِهِنَّ مِنَ النُّوقِ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُوَضِّحُهُ مَا قِيلَ: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بُقُولِهِ وَآيَتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ، وَمَجْرُورِ أَعْدَادِهِنَّ عَائِدٌ إِلَى الْأَعْدَادِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَمِنِ الْإِبِلِ بَدَلٌ مِنْ أَعْدَادِهِنَّ أَوْ بَيَانٌ لَهُ يَعْنِي آيَتَانِ خَيْرٌ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْإِبِلِ وَكَذَلِكَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْهُ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ تَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ نَفْعًا عَظِيمًا بِخِلَافِ الْإِبِلِ اهـ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرَادَ تَرْغِيبَهُمْ فِي الْبَاقِيَاتِ وَتَزْهِيدَهُمْ عَنِ الْفَانِيَاتِ فَذِكْرُهُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّقْرِيبِ إِلَى فَهْمِ الْعَلِيلِ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الدُّنْيَا أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُقَابَلَ بِمَعْرِفَةِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِثَوَابِهَا مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُ هَذَا لِشَيْخِ مَشَايِخِنَا أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السِّرِّيَّ؛ حَيْثُ الْتَمَسَ مِنْهُ أَصْحَابُهُ مِنَ التُّجَّارِ نُزُولَهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَنْدَرِ جُدَّةَ أَيْامَ إِتْيَانِ الْغُرَبَاءِ مِنْ سَفَرِ الْبِحَارِ مُعَلِّلِينَ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ حُصُولَ بَرَكَةِ نُزُولِهِ إِلَى تِجَارَتِهِمْ وَمُكَمِّنِينَ بِأَنْ يَحْصُلَ لِخَدَمِ الشَّيْخِ بَعْضُ مَنَافِعِ بِضَاعَتِهِمْ فَأَبَى وَأَتَى بِأَعْذَارٍ سَاتِرَةٍ لِلْأَسْرَارِ، فَمَا فَهِمُوا وَأَلَحُّوا وَبَالَغُوا فِي الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ، فَقَالَ الشَّيْخُ: مَا مِقْدَارُ مَائِدَةِ رِبْحِكُمْ فِي هَذَا السَّفَرِ؟ وَكَمْ أَكْثَرُ مَا يَحْصُلُ لَكُمْ فِيهِ مِنَ النَّتِيجَةِ وَالْأَثَرِ؟ فَقَالُوا: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَفَاوُتِ الْأَمْوَالِ، وَأَكْثَرُ الرِّبْحِ أَنْ يَصِيرَ الدِّرْهَمُ دِرْهَمَيْنِ وَيَكُونَ الْوَاحِدُ اثْنَيْنِ، فَتَبَسَّمَ الشَّيْخُ وَقَالَ: إِنَّكُمْ تَتْعَبُونَ هَذَا التَّعَبَ الشَّدِيدَ لِهَذَا الرِّبْحِ الزَّهِيدِ، فَنَحْنُ كَيْفَ نَتْرُكُ مُضَاعَفَةَ الْحَسَنَاتِ بِالْحَرَامِ وَهِيَ حَسَنَةٌ بِمِائَةِ أَلْفٍ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا عَنِ الْمَنَامِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2111 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ، إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟) قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: " فَثَلَاثُ آيَاتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2111 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ، إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟) قُلْنَا: نَعَمْ. أَيْ فِي رُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: أَيْ فِي طَرِيقِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ فِي أْهلِهِ يَعْنِي فِي مَحَلِّهِمْ (ثَلَاثُ خَلِفَاتٍ) ، أَيْ جَمْعُ خَلِفَةٍ بِفَتْحٍ فَكَسَرٍ مِنْ خَلَّفَتِ النَّاقَةُ، أَيْ حَمَلَتْ يَعْنِي حَامِلَاتٍ (عِظَامٍ) فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْمَاهِيَّةٍ (سِمَانٍ) فِي الْكَيْفِيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ (قُلْنَا: نَعَمْ) ، أَيْ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ أَوْ عَلَى وَفْقِ الشَّرِيعَةِ لِيَكُونَ لِلْآخِرَةِ ذَرِيعَةً (قَالَ) ؛ أَيْ فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ وَغَفَلْتُمْ عَمَّا هُوَ أَوْلَى (فَثَلَاثُ آيَاتٍ) ، أَيْ فَاعْلَمُوا أَنَّ قِرَاءَةَ ثَلَاثِ آيَاتٍ خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِذَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ ذَلِكَ فَثَلَاثُ آيَاتٍ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ السَّبَبِيَّةِ، وَلِذَا تَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْفَاءُ فِي " فَثَلَاثُ آيَاتٍ " جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ فَالْمَعْنَى: إِذَا تَقَرَّرَ مَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ مَا ذَكَرْتُ لَكُمْ فَقَدْ صَحَّ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهَا مَا أَذْكُرُهُ لَكُمْ مِنْ قِرَاءَةِ ثَلَاثِ آيَاتٍ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَتِلْكَ مِنَ الزَّائِدَاتِ الْفَانِيَاتِ (يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَوْ لِلْإِلْصَاقِ (فِي صَلَاتِهِ) بَيَانٌ لِلْأَكْمَلِ وَتَقْيِيدٌ لِلْأَفْضَلِ (خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ وَفِي الْأَوَّلِ لِلشُّيُوعِ فِي الْأَجْنَاسِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُعْرَفِ الثَّانِي (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2112 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2112 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ) ، أَيِ الْحَاذِقُ مِنَ الْمَهَارَةِ وَهِيَ الْحِذْقُ، جَازَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَوْدَةُ الْحِفْظِ أَوْ جَوْدَةُ اللَّفْظِ وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ كِلَيْهِمَا وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْكَامِلُ الْحِفْظِ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، قَالَ الْجَعِيِرِيُّ فِي وَصْفِ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ: كُلُّ مَنْ أَتْقَنَ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَأَدْمَنَ دَرْسَهُ وَأَحْكَمَ تَجْوِيدَ أَلْفَاظِهِ وَعَلِمَ مَبَادِيهِ وَمَقَاطِعِهِ وَضَبَطَ رِوَايَةَ قِرَاءَتِهِ وَفَهِمَ وُجُوهَ إِعْرَابِهِ وَلُغَاتِهِ وَوَقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ اشْتِقَاقِهِ وَتَصْرِيفِهِ وَرَسَخَ فِي نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَأَخَذَ حَظًّا وَافِرًا مِنْ تَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيلِهِ وَصَانَ نَقْلَهُ عَنِ الرَّأْيِ وَتَجَافَى عَنْ مَقَايِيسِ الْعَرَبِيَّةِ وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ وَجَلَّلَهُ الْوَقَارُ وَغَمَرَهُ الْحَيَاءُ وَكَانَ عَدْلًا مُتَيَقِّظًا وَرِعًا مُعْرِضًا عَنِ الدُّنْيَا مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ قَرِيبًا مِنَ اللَّهِ فَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَيُقْتَدَى بِأَقْوَالِهِ وَيُهْتَدَى بِأَفْعَالِهِ (مَعَ السَّفَرَةِ) جَمْعُ سَافِرٍ وَهُمُ الرُّسُلُ إِلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقِيلَ: السَّفَرَةُ الْكَتَبَةُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَيِ الْكَتَبَةُ جَمْعُ سَافِرٍ مِنَ السَّفَرِ، وَأَصْلُهُ الْكَشْفُ فَإِنَّ الْكَاتِبَ يُبَيِّنُ مَا يَكْتُبُ وَيُوَضِّحُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْكِتَابِ سِفَرٌ بِكَسْرِ السِّينِ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ الْحَقَائِقَ وَيُسْفِرُ عَنْهَا وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ حَمَلَةُ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ - كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15 - 16] سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ الْمُنَزَّلَةَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُمْ يَسْتَنْسِخُونَهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمْ كَوْنُهُ مِنْ خَزَنَةِ الْوَحْيِ وَأُمَنَاءِ الْكُتُبِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَا نَسَخُوا الْقُرْآنَ، وَقِيلَ: السَّفَرَةُ الْمَلَائِكَةُ الْكَاتِبُونَ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ أَوْ مِنَ السَّفَارِ بِمَعْنَى الْإِصْلَاحِ فَالْمُرَادُ هُمْ حِينَئِذٍ الْمَلَائِكَةُ النَّازِلُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْعِبَادِ مِنْ حِفْظِهِمْ عَنِ الْآفَاتِ وَالْمَعَاصِي وَإِلْهَامِهِمُ الْخَيْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنَازِلٌ يَكُونُ فِيهَا رَفِيقًا لِلْمَلَائِكَةِ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَتِهِمْ مِنْ حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ عَامِلٌ بِعَمَلِهِمْ وَسَالِكٌ مَسْلَكَهُمْ مِنْ كَوْنِهِمْ يَحْفَظُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَكْشِفُونَ لَهُمْ مَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ الْمَاهِرُ (الْكِرَامُ) جَمْعُ الْكَرِيمِ، أَيِ الْمُكْرَمِينَ عَلَى اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ مَوْلَاهُ لِعِصْمَتِهِمْ وَنَزَاهَتِهِمْ عَنْ دَنَسِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ (الْبَرَرَةِ) جَمْعُ بَارٍّ وَهُوَ الْمُحْسِنُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ الْمُطِيعُونَ مِنَ الْبِرِّ وَهُوَ الطَّاعَةُ يَعْنِي هُوَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَتِهِمْ مِن حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ عَامِلَ عَمَلَهُمْ وَسَالِكَ مَسْلَكَهُمْ فِي حِفْظِهِ وَأَدَائِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ (وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ) ، أَيْ يَتَرَدَّدُ وَيَتَبَلَّدُ عَلَيْهِ لِسَانُهُ وَيَقِفُ فِي قِرَاءَتِهِ لِعَدَمِ مَهَارَتِهِ، وَالتَّعْتَعَةُ فِي الْكَلَامِ التَّرَدُّدُ فِيهِ مِنْ حَصْرٍ أَوْ عِيٍّ، يُقَالُ: تَعْتَعَ لِسَانُهُ إِذَا تَوَقَّفَ فِي الْكَلَامِ وَلَمْ يُطِعْهُ لِسَانُهُ (وَهُوَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ، أَيْ حُصُولُهُ أَوْ تَرَدُّدُهُ فِيهِ (عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْقَارِئِ (شَاقٌّ) ، أَيْ شَدِيدٌ يُصِيبُهُ مَشَقَّةٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (لَهُ أَجْرَانِ) ، أَيْ أَجْرٌ لِقِرَاءَتِهِ وَأَجْرٌ لِتَحَمُّلِ مَشَقَّتِهِ وَهَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى تَحْصِيلِ الْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَتَتَعْتَعُ فِيهِ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاهِرِ بَلِ الْمَاهِرُ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا مَعَ السَّفَرَةِ وَلَهُ أُجُورٌ كَثِيرَةٌ حَيْثُ انْدَرَجَ فِي سِلْكِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَوِ الصَّحَابَةِ الْمُقَرَّبِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

2113 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2113 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا حَسَدَ) ، أَيْ لَا غِبْطَةَ (إِلَّا عَلَى اثْنَيْنِ) وَقِيلَ: لَوْ كَانَ الْحَسَدُ جَائِزًا لَجَازَ عَلَيْهِمَا (رَجُلٌ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ هُمَا أَوْ مِنْهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا (آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ) ، أَيْ مَنَّ عَلَيْهِ بِحِفْظِهِ لَهُ كَمَا يَنْبَغِي (فَهُوَ يَقُومُ بِهِ) ، أَيْ بِتِلَاوَتِهِ وَحِفْظِ مَبَانِيهِ أَوْ بِالتَّأَمُّلِ فِي أَحْكَامِهِ وَمَعَانِيهِ أَوْ بِالْعَمَلِ بِأَوَامِرِهِ وَمَنَاهِيهِ أَوْ يُصَلِّي بِهِ وَيَتَحَلَّى بِآدَابِهِ (آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ) ، أَيْ فِي سَاعَاتِهِمَا جَمْعُ إِنَى بِالْكَسْرِ بِوَزْنِ مِعَى وَإِنْوِ وَإِنْيٍ بِسُكُونِ النُّونِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْهُ إِلَّا فِي قَلِيلٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ (وَرَجُلٌ) بِالْوَجْهَيْنِ (آتَاهُ اللَّهُ مَالًا) ، أَيْ حَلَالًا (فَهُوَ يُنْفِقُ) ، أَيْ لِلَّهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْهُ (آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ) ، أَيْ فِي أَوْقَاتِهِمَا (سِرًّا وَعَلَانِيَةً) وَلَعَلَّ هَذِهِ نُكْتَةُ تَقْدِيمِ اللَّيْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَالَ مِيرَكُ: الْحَسَدُ قِسْمَانِ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ تَمَنِّي زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ، وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ فَهُوَ الْغِبْطَةُ وَهِيَ تَمَنِّي مِثْلَ النِّعْمَةِ الَّتِي عَلَى الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَمَنِّي زَوَالٍ عَنْ صَاحِبِهَا، أَيِ الْغِبْطَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَانَتْ مُبَاحَةً، وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ مَحْمُودَةً إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ اهـ يَعْنِي فِيهِمَا وَأَمْثَالِهِمَا، وَلِذَا قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ صَاحِبِ نِعْمَةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ النِّعْمَةُ مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْخَيِّرَاتِ اهـ يَعْنِي مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

2114 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طِيبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مَرٌّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2114 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) ، أَيْ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَكْرِيرِهِ لَهَا وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ دَأْبَهُ وَعَادَتَهُ كَفُلَانٍ يَقْرِي الضَّيْفَ وَيَحْمِي الْحَرِيمَ وَيُعْطِي الْيَتِيمَ (مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِنُونٍ سَاكِنَةٍ بَيْنَ الرَّاءِ وَالْجِيمِ الْمُخَفَّفَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأُتْرُجُّ وَالْأُتْرُجَّةُ وَالتُّرُنْجُ ووالتُّرُنْجَةُ مَعْرُوفٌ وَهِيَ أَحْسَنُ الثِّمَارِ الشَّجَرِيَّةِ وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ لِحُسْنِ مَنْظَرِهَا صَفْرَاءٌ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُفِيدُ طِيبَ النَّكْهَةِ وَدِبَاغَ الْمَعِدَةِ وَقُوَّةَ الْهَضْمِ، وَمَنَافِعُهَا كَثِيرَةٌ مَكْتُوبَةٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ الْقَارِئُ طَيِّبُ الطَّعْمِ لِثُبُوتِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَطَيِّبُ الرِّيحِ لِأَنَّ النَّاسَ يَسْتَرِيحُونَ بِقِرَاءَتِهِ وَيَحُوزُونَ الثَّوَابَ بِالِاسْتِمَاعِ عَلَيْهِ وَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ مِنْهُ ( «وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طِيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّمْثِيلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى مَعْقُولِ صَرْفٍ لَا يُبْرِزُهُ عَنْ مَكْنُونِهِ إِلَّا تَصْوِيرُهُ بِالْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، ثُمَّ إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ تَأْثِيرٌ فِي بَاطِنِ الْعَبْدِ وَظَاهِرِهِ، وَإِنَّ الْعِبَادَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ النَّصِيبُ الْأَوْفَرُ مِنْ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْقَارِئُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ الْبَتَّةَ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْحَقِيقِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَثَّرَ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ وَهُوَ الْمُرَائِي، أَوْ بِالْعَكْسِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَؤُهُ، وَإِبْرَازُ هَذِهِ الْمَعَانِي وَتَصْوِيرُهَا إِلَى الْمَحْسُوسَاتِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوَافِقُهَا وَيُلَائِمُهَا أَقْرَبُ وَلَا أَحْسَنُ وَلَا أَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَاتِ وَالْمُشَبَّهَ بِهَا وَارِدَةٌ عَلَى تَقْسِيمِ الْحَاصِلِ لِأَنَّ النَّاسَ إِمَّا مُؤْمِنٌ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، وَالثَّانِي إِمَّا مُنَافِقٌ صِرْفٌ أَوْ مُلْحَقٌ بِهِ وَالْأَوَّلُ إِمَّا مُوَاظِبٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَوْ غَيْرُ مُوَاظِبٍ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا فَقِسِ الْأَثْمَارَ الْمُشَبَّهَ بِهَا، وَوَجْهُ الشَّبَهِ فِي الْمَذْكُورَاتِ مُنْتَزَعٌ مِنْ أَمْرَيْنِ مَحْسُوسَيْنِ طَعْمٌ وَرِيحٌ، وَلَيْسَ بِمُفَرَّقٍ كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا ... لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي

(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ» ) قِيلَ: لَا يَدْخُلِ الْجِنُّ بَيْتًا فِيهِ أُتْرُجٌّ، وَمِنْهُ يَظْهَرُ زِيَادَةَ حِكْمَةِ تَشْبِيهِ قَارِئِ الْقُرْآنِ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: كُلُّ الْخِلَالِ الَّتِي فِيكُمْ مَحَاسِنُكُمْ ... تَشَابَهَتْ فِيكُمُ الْأَخْلَاقُ وَالْخُلُقُ كَأَنَّكُمْ شَجَرُ الْأُتْرُجِّ طَابَ مَعًا ... حَمْلًا وَنَوْرًا وَطَابَ الْعُودُ وَالْوَرَقُ ( «وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ» ) .

2115 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2115 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ) ، أَيْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ الْبَالِغُ فِي الشَّرَفِ وَظُهُورِ الْبُرْهَانِ مَبْلَغًا لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمَةِ (أَقْوَامًا) ، أَيْ دَرَجَةَ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِأَنْ يُحْيِيَهُمْ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا وَيَجْعَلَهُمْ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْعُقْبَى (وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ) ، أَيْ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ مَرَاتِبِ الْكَامِلِينَ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، قَالَ - تَعَالَى - {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] فَهُوَ مَاءٌ لِلْمَحْبُوبِينَ دِمَاءٌ لِلْمَحْجُوبِينَ، وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] قَالَ الطِّيبِيُّ: فَمَنْ قَرَأَهُ وَعَمِلَ بِهِ مُخْلِصًا رَفَعَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَرَأَهُ مُرَائِيًا غَيْرَ عَامِلٍ بِهِ وَضَعَهُ اللَّهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَذَكَرَ الْبَغْوَيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي الْمَعَالِمِ «أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، أَيْ أَهْلُ مَكَّةَ؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمُ ابْنُ أَبْزَى، فَقَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ عُمَرُ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ رَجُلٌ قَارِئُ الْقُرْآنَ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ قَاضٍ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا أَنَّ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَرْفَعُ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ".»

2116 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتْ، فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، وَلَمَّا أَخَّرَهُ رَفْعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ " قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ وَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ، فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لَا أَرَاهَا، قَالَ: " وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِي مُسْلِمٍ: عَرَّجْتُ فِي الْجَوِّ بَدَلٌ فَخَرَجْتُ عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2116 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَ) ، أَيْ يَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ (بَيْنَمَا هُوَ) ، أَيْ أُسَيْدُ (يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ) ، أَيْ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَسَاعَاتِهِ (سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ) وَقِيلَ: التَّأْنِيثُ فِي مَرْبُوطَةٍ عَلَى تَأْوِيلِ الدَّابَّةِ، وَصَوَابُهُ أَنَّ الْفَرَسَ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَذَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ (إِذْ) ظَرْفٌ لِيَقْرَأَ (جَالَتِ الْفَرَسُ) ، أَيْ دَارَتْ وَتَحَرَّكَتْ كَالْمُضْطَرِبِ الْمُنْزَعِجِ مِنْ مُخَوِّفٍ نَزَلَ بِهِ (فَسَكَتَ) ، أَيْ أُسَيْدٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ لِيَنْظُرَ مَا السَّبَبُ فِي جَوَلَانِهَا (فَسَكَنَتْ) ، أَيِ الْفَرَسُ عَنْ تِلْكَ الْحَرَكَةِ فَظَنَّ أَنَّ جَوَلَانَهَا أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ (فَقَرَأَ فَجَالَتْ فَسَكَتَ) ، أَيْ كَذَلِكَ (فَسَكَنَتْ) فَظَنَّ أَنَّهُ لِأَمْرٍ (ثُمَّ قَرَأَ) ، أَيْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ فِي أَمْرِهِ فَتَرَوَّى ثُمَّ قَرَأَ (فَجَالَتِ الْفَرَسُ) فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ أَزْعَجَهَا عَنْ قَرَارِهَا، قِيلَ: تَحَرُكُ الْفَرَسِ كَانَ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ خَوْفًا مِنْهُمْ وَسُكُونُهَا لِعُرُوجِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ لِعَدَمِ ظُهُورِهِمْ، أَوْ تَحَرُّكِ الْفَرَسِ لِوِجْدَانِ الذَّوْقِ بِالْقِرَاءَةِ وَسُكُونِهَا لِذَهَابِ ذَلِكَ الذَّوْقِ مِنْهَا بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ (فَانْصَرَفَ) ، أَيْ أُسَيْدٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ مِنَ الْقِرَاءَةِ (وَكَانَ ابْنُهُ) ، أَيِ ابْنُ أُسَيْدٍ (يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا) ، أَيْ مِنَ الْفَرَسِ (فَأَشْفَقَ) ، أَيْ خَافَ أُسَيْدٌ (أَنْ تُصِيبَهُ) ، أَيِ الْفَرَسُ ابْنَهُ فِي جَوَلَانِهَا فَذَهَبَ أُسَيْدٌ إِلَى ابْنِهِ لِيُؤَخِّرَهُ عَنِ الْفَرَسِ (وَلَمَّا أَخَّرَهُ) ، أَيْ أُسَيْدُ ابْنَهُ يَحْيَى عَنْ قُرْبِ الْفَرَسِ (رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا) هِيَ لِلْمُفَاجَأَةِ (مِثْلَ الظُّلَّةِ) وَهِيَ الضَّمُّ مَا يَقِي الرَّجُلَ مِنَ الشَّمْسِ كَالسَّحَابِ وَالسَّقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَيْ شَيْءٌ مِثْلَ السَّحَابِ عَلَى رَأْسِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (فِيهَا) ، أَيْ فِي الظُّلَّةِ (أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ) ، أَيْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ (فَلَمَّا أَصْبَحَ) ، أَيْ دَخَلَ

أُسَيْدٌ فِي الصَّبَاحِ (حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ حَكَاهُ بِمَا رَآهُ لِفَزَعِهِ مِنْهُ (فَقَالَ) ، أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُزِيلًا لِفَزَعِهِ وَمُعْلِمًا لَهُ بِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَمُؤَكِّدًا لَهُ فِيمَا يَزِيدُ فِي طُمَأْنِينَتِهِ (اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ) كَرَّرَ مَرَّتَيْنِ لَا ثَلَاثًا عَلَى مَا فِي شَرْحِ ابْنِ حَجْرٍ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ رَدِّدْ وَدَاوِمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي سَبَبٌ لِمِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُهَا إِنْ وَقْعَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا اسْتِمْتَاعًا بِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اقْرَأْ لَفْظُ أَمْرِ طَلَبٍ لِلْقِرَاءَةِ فِي الْحَالِ وَمَعْنَاهُ تَخْصِيصُ وَطَلَبُ الِاسْتِزَادَةِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَكَأَنَّهُ اسْتَحْضَرَ تِلْكَ الْحَالَةَ الْعَجِيبَةَ الشَّأْنِ فَأَمَرَهُ تَحْرِيضًا عَلَيْهِ اهـ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلَّا زِدْتَ، وَلِذَلِكَ (قَالَ: فَأَشْفَقْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ: أَشْفَقْتُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى) ، أَيْ خِفْتُ إِنْ دُمْتُ عَلَيْهَا أَنْ تَدُوسَ الْفَرَسُ وَلَدِي يَحْيَى (وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَانْصَرَفْتُ) ، أَيْ عَنِ الْقِرَاءَةِ (إِلَيْهِ) ، أَيْ إِلَى يَحْيَى تَرَحُّمًا عَلَيْهِ (وَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ) وَهَذَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ تَكْرَارٌ وَدَفَعَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِأَنَّهُ لَمَّا حَكَى لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَدْرَ الْقَضِيَّةِ وَهُوَ جَوَلَانُ الْفَرَسِ حِينَ الْقِرَاءَةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اقْرَأْ "، أَيْ كُنْتَ زِدْتَ فِي الْقِرَاءَةِ فَذَكَرَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِهَا (فَخَرَجْتُ) ، أَيْ مِنْ بَيْتِي (حَتَّى لَا أَرَاهَا) ، أَيِ الْمَصَابِيحُ لِغَايَةِ الْفَزَعِ (قَالَ) ، أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟) ، أَيْ تَعْلَمُ أَيَّ شَيْءٍ ذَاكَ الْمَرْئِيَّ (قَالَ: لَا، قَالَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ) ، أَيْ نَزَلَتْ وَقَرُبَتْ (لِصَوْتِكَ) ، أَيْ بِالْقِرَاءَةِ (وَلَوْ قَرَأْتَ) ، أَيْ إِلَى الصُّبْحِ (لَأَصْبَحَتْ) ، أَيِ الْمَلَائِكَةُ (يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ) ، أَيْ لَا تَغِيبُ وَلَا تَخْفَى الْمَلَائِكَةُ مِنَ النَّاسِ، وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ازْدَحَمُوا عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ حَتَّى صَارُوا كَالشَّيْءِ السَّاتِرِ الْحَاجِزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، وَكَأَنَّ تِلْكَ الْمَصَابِيحَ هِيَ وُجُوهُهُمْ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ الْأَجْسَامَ النُّورَانِيَّةَ إِذَا ازْدَحَمَتْ تَكُونُ كَالظُّلَّةِ وَلَا مِنْ أَنَّ بَعْضَهَا كَالْوَجْهِ أَضْوَأَ مِنْ بَعْضٍ كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ حَجَرٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِي مُسْلِمٍ: عَرَّجَتْ) ، أَيْ صَعَدَتِ الْمَلَائِكَةُ وَارْتَفَعَتْ فِيهِ لِكَوْنِهِ قَطَعَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي نَزَلَتْ لِسَمَاعِهَا (فِي الْجَوِّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، أَيْ فِي الْهَوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (بَدَلُ فَخَرَجْتُ) ، أَيْ مَكَانُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ (عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ) ، أَيْ فِي هَذِهِ وَعَلَى صِيغَةِ الْغَائِبَةِ فِي تِلْكَ.

2117 - وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2117 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ) ، أَيْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ (حِصَانٌ) بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْكَرِيمُ مِنْ فَحْلِ الْخَيْلِ مِنَ التَّحَصُّنِ أَوِ التَّحْصِينِ لِأَنَّهُمْ يُحَصِّنُونَهُ صِيَانَةً لِمَائِهِ فَلَا يَرَوْنَهُ إِلَّا عَلَى كَرِيمَةٍ ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى سَمَّوْا بِهِ كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الْخَيْلِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (مَرْبُوطٌ) ، أَيِ الْحِصَانُ (بِشَطَنَيْنِ) الشَّطَنُ بِفُتْحَتَيْنِ الْحَبْلُ الطَّوِيلُ الشَّدِيدُ الْفَتْلِ وَثَنَّاهُ دَلَالَةً عَلَى جُمُوحِهِ وَقُوَّتِهِ (فَتَغَشَّتْهُ) ، أَيِ الرَّجُلُ (سَحَابَةٌ) ، أَيْ سَتَرَتْهُ ظُلَّةٌ كَسَحَابَةٍ فَوْقَ رَأْسِهِ (فَجَعَلَتْ) ، أَيْ شَرَعَتِ السَّحَابَةُ (تَدْنُو) ، أَيْ تَقْرُبُ قَلِيلًا (وَتَدْنُو) ، أَيْ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ (وَجَعَلَ) ، أَيْ شَرَعَ (فَرَسُهُ يَنْفِرُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَرِ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: يَنْقُزُ بِالْقَافِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ يَثِبُ مِنْهَا (فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: تِلْكَ) ، أَيِ السَّحَابَةُ (السَّكِينَةُ) ، أَيِ السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ الَّتِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا الْقَلْبُ وَيَسْكُنُ بِهَا عَنِ الرُّعْبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ تَزْدَادُ طُمَأْنِينَتُهُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ إِذَا كُوشِفَ بِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: الْوَقَارُ، وَقِيلَ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ:، أَيِ الْمَلَائِكَةُ وَمِنْهُ السَّكِينَةُ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ (تَنَزَّلَتْ) ، أَيْ ظَهْرَ نُزُولُهَا (بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2118 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أُجِبْهُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، قَالَ: " أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] ؟ ". ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ " فَأَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2118 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ بْنِ الْمُعَلَّى) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ (قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِصَّتُهُ أَنَّهُ قَالَ: مَرَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقُلْتُ: لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، فَجَلَسْتُ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] " فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: تَعَالَ حَتَّى نَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمِنْبَرِ فَنَكُونُ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فَكُنْتُ أُصَلِّي (فَدَعَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أُجِبْهُ) ، أَيْ حَتَّى صَلَّيْتُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ) أَيِ اعْتِذَارًا (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي: قَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ " {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] ") وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ دَعْوَةَ اللَّهِ تُسْمَعُ مِنَ الرَّسُولِ، قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِجَابَةِ الطَّاعَةُ وَالِامْتِثَالُ وَبِالدَّعْوَةِ الْبَعْثُ وَالتَّحْرِيضُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - " لِمَا يُحْيِيكُمْ "، أَيْ مِنْ عُلُومِ الدِّيَانَاتِ وَالشَّرَائِعِ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةٌ كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ مَوْتٌ، قَالَ: لَا تُعْجَبْنَ الْجَهُولَ حُلَّتَهُ فَذَاكَ مَيِّتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ إِجَابَةَ الرَّسُولِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَمَا أَنَّ خِطَابَهُ بِقَوْلِكَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ لَا يُبْطِلُهَا اهـ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ: هَذَا لِأَنَّ إِجَابَتَهُ لَا تَقْطَعُ الصَّلَاةَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَيْضًا إِجَابَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ دُعَاءَهُ كَانَ لِأَمْرٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ وَلِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْطَعَ الصَّلَاةَ بِمِثْلِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُنَاسِبُ الْأَوَّلَ اهـ وَالْأَظْهَرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ مُطْلَقًا فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ أَيْضًا، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْبُطْلَانِ وَعَدَمِهِ وَلِأَصْلِ الْبُطْلَانِ لِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ) ، أَيْ أَفْضَلَ، وَقِيلَ: أَكْثَرُ أَجْرًا وَمَآلُهُ إِلَى الْأَوَّلِ (فِي الْقُرْآنِ) قِيلَ: السُّورَةُ مَنْزِلَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ وَمِنْهَا سُوَرُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ مَقْطُوعَةٍ عَنِ الْأُخْرَى، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَهِيَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُتَرْجَمَةُ الَّتِي أَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ وَبَسَطَ فِي اشْتِقَاقِهَا وَفِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ لِوَضْعِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ أَعْظَمَ سُورَةٍ اعْتِبَارًا بِعَظِيمِ قَدْرِهَا وَتَفَرُّدِهَا بِالْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهَا غَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى فَرَائِدَ وَمَعَانٍ كَثِيرَةٍ مَعَ وَجَازَةِ أَلْفَاظِهَا اهـ وَقَدْ قِيلَ: جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: جَمِيعُ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْقُرْآنِ وَجَمِيعُهُ فِي الْفَاتِحَةِ وَجَمِيعُهَا فِي الْبَسْمَلَةِ وَجَمِيعُهَا تَحْتَ نُقْطَةِ الْبَاءِ مُنْطَوِيَةٌ وَهِيَ عَلَى كُلِّ الْحَقَائِقِ وَالدَّقَائِقِ مُحْتَوِيَةٌ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى نُقْطَةِ التَّوْحِيدِ الَّذِي عَلَيْهَا مَدَارُ سُلُوكِ أَهْلِ التَّفْرِيدِ، وَقِيلَ: جَمِيعُهَا تَحْتَ الْبَاءِ وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ الْعُلُومِ وُصُولُ الْعَبْدِ إِلَى الرَّبِّ وَهَذِهِ الْبَاءُ بَاءُ الْإِلْصَاقِ فَهِيَ تُلْصِقُ الْعَبْدَ بِجَنَابِ الرَّبِّ وَذَلِكَ كَمَالُ الْمَقْصُودِ، ذَكَرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَابْنُ النَّقِيبِ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا وَأَخْرَجَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ شِئْتُ أُوقِرُ سَبْعِينَ بَعِيرًا مِنْ تَفْسِيرِ أُمِّ الْقُرْآنِ لَفَعَلْتُ (قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ) ، أَيْ أَنْتَ (مِنَ الْمَسْجِدِ) قِيلَ: لَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا ابْتِدَاءً لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لِتَفْرِيغِ ذِهْنِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهَا بِكُلِّيَّتِهِ (فَأَخَذَ بِيَدِي) عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ (فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ) سُمِّيَتْ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ أَعْظَمُ سُورَةٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَالتَّعَبُّدِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَذِكْرِ الْوَعْدِ لِأَنَّ فِيهِ ذِكْرُ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْلَغِ الْأَشْمَلِ، وَذِكْرِ الْوَعِيدِ لِدَلَالَةِ يَوْمِ الدِّينِ، أَيِ الْجَزَاءُ، وَلِإِشَارَةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ وَذِكْرِ تَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَعِبَادَةِ عِبَادِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِعَانَتِهِمْ بِولَاهُ وَسُؤَالِهِمْ مِنْهُ وَذِكْرِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَمَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَلَا سُورَةَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ أَعْظَمُ كَيْفِيَّةٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْهَا كَمِّيَّةً (قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، أَيْ هِيَ سُورَةُ الْحَمْدُ للَّهِ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) إِلَخْ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنْهَا أَمْ لَا (هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي) قِيلَ: اللَّامُ لِلْعَهْدِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] الْآيَةَ وَسُمِّيَتِ السَّبْعَ لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنِ الْكُوفِيِّ وَالْبَصْرِيِّ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهَا سَبْعُ آدَابٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا خَلَتْ عَنْ سَبْعَةِ أَحْرُفٍ الثَّاءِ وَالْجِيمِ وَالتَّاءِ وَالزَّايِ وَالشِّينِ وَالظَّاءِ وَالْفَاءِ، وَرَدَ بِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يُسَمَّى بِمَا فِيهِ دُونَ مَا فُقِدَ مِنْهُ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّهُ قَدْ

يُسَمَّى بِالضِّدِّ كَالْكَافُورِ لِلْأَسْوَدِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يُنَافِي أَنَّهَا الْآيَاتُ السَّبْعُ كَمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمَثَانِي لِتَكَرُّرِهَا فِي الصَّلَاةِ كَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُثَنَّى بِسُورَةٍ أُخْرَى أَوْ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً بِمَكَّةَ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ تَعْظِيمًا لَهَا وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا اسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى مَنْ قَبْلَهَا أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ مَفَاعِلٍ مِنْهُ جَمْعُ مَثْنَى لِجَمْعِ الثَّنَاءِ كَالْمُحَمَّدَةِ بِمَعْنَى الْحَمْدِ أَوْ مُثَنِّيَةٍ مُفَعِّلَةٍ مِنَ الثَّنْيِ بِمَعْنَى التَّثْنِيَةِ أَوِ اسْمِ مَفْعُولٍ مِنَ التَّثْنِيَةِ بِمَعْنَى التَّكْرَارِ (وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) عُطِفَ عَلَى السَّبْعِ عَطْفُ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ (الَّذِي أُوتِيَهُ) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ} [الحجر: 87] أَوْ خَصَصْتُهُ بِالْإِعْطَاءِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2119 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَجْعَلُوا بِيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2119 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ (مَقَابِرَ) ، أَيْ خَالِيَةٌ مِنَ الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ فَتَكُونُ كَالْمَقَابِرِ وَتَكُونُونَ كَالْمَوْتَى فِيهَا أَوْ مَعْنَاهُ: لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ فِيهَا، وَيَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ (إِنَّ الشَّيْطَانَ) اسْتِئْنَافٌ كَالتَّعْلِيلِ (يَنْفِرُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ يَخْرُجُ وَيَشْرُدُ (مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) وَالْمَعْنَى: يَيْأَسُ مِنْ إِغْوَاءِ أَهْلِهِ بِبَرَكَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ لِمَا يَرَى مِنْ جِدِّهِمْ فِي الدِّينِ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَلَبِ الْيَقِينِ وَخَصَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِذَلِكَ لِطُولِهَا وَكَثْرَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْأَحْكَامِ فِيهَا، وَقَدْ قِيلَ: فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ وَأَلْفُ نَهْيٍ وَأَلْفُ حُكْمٍ وَأَلْفُ خَبَرٍ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ أَنْ يُقَالَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ خِلَافًا لِمَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا يُقَالُ السُّورَةُ الَّتِي فِيهَا الْبَقَرَةُ أَوْ يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ آخِرُ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ الْبَقَرَةُ» .

2120 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «اقْرَأُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَأُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَأُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2120 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ) أَيِ اغْتَنِمُوا قِرَاءَتَهُ وَدَاوِمُوا عَلَى تِلَاوَتِهِ (فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا) ، أَيْ مُشَفَّعًا (لِأَصْحَابِهِ) ، أَيِ الْقَائِمِينَ بِآدَابِهِ (اقْرَءُوا) ، أَيْ عَلَى الْخُصُوصِ (الزَّهْرَاوَيْنِ) تَثْنِيَةُ الزَّهْرَاءِ تَأْنِيثُ الْأَزْهَرِ وَهُوَ الْمُضِيءُ الشَّدِيدُ الضَّوْءِ، أَيِ الْمُنِيرَتَيْنِ لِنُورِهِمَا وَهِدَايَتِهِمَا وَعِظَمِ أَجْرِهِمَا فَكَأَنَّهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَاعَدَاهُمَا عِنْدَ اللَّهِ مَكَانُ الْقَمَرَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَقِيلَ: لِاشْتِهَارِهِمَا شُبِّهَتَا بِالْقَمَرَيْنِ (الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِّيَةِ أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي وَيَجُوزُ رَفْعُهَا، وَسُمِّيَتَا زَهْرَاوَيْنِ لِكَثْرَةِ أَنْوَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الْعَلِيَّةِ، وَذِكْرُ السُّورَةِ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى لِبَيَانِ جَوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا (فَإِنَّهُمَا) ، أَيْ ثَوَابُهُمَا الَّذِي اسْتَحَقَّهُ التَّالِي الْعَامِلُ بِهِمَا أَوْ هُمَا يَتَصَوَّرَانِ وَيَتَجَسَّدَانِ وَيَتَشَكَّلَانِ (تَأْتِيَانِ) ، أَيْ تَحْضُرَانِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ) ، أَيْ سَحَابَتَانِ تُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا عَنْ حَرِّ الْمَوْقِفِ، قِيلَ: هِيَ مَا يَغُمُّ الضَّوْءَ وَيَمْحُوهُ لِشَدَّةِ كَثَافَتِهِ (أَوْ غَيَايَتَانِ) وَهِيَ بِالْيَاءَيْنِ مَا يَكُونُ أَدْوَنَ مِنْهُمَا فِي الْكَثَافَةِ وَأَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ صَاحِبِهِمَا كَمَا يُفْعَلُ بِالْمُلُوكِ فَيَحْصُلُ عِنْدَهُ الظِّلُّ وَالضَّوْءُ جَمِيعًا (أَوْ فِرْقَانِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ طَائِفَتَانِ (مِنْ طَيْرٍ) جَمْعُ طَائِرٍ (صَوَافَّ) جَمْعُ صَافَّةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى الصَّفِّ أَوِ الْبَاسِطَاتُ أَجْنِحَتُهَا مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مَا وَقَعَ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَ (أَوْ) يَحْتَمِلُ الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي وَالتَّخْيِيرُ فِي تَشْبِيهِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِتَقْسِيمِ التَّالِينَ لِأَنَّ أَوْ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مَنْ تَرَدَّدَ مِنَ الرُّوَاةِ لِاتِّسَاقِ الرُّوَاةِ عَلَيْهِ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ لِلتَّنْوِيعِ فَالْأَوَّلُ لِمَنْ يَقْرَأهُمَا وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُمَا وَالثَّانِي لِمَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَالثَّالِثُ لِمَنْ ضَمَّ إِلَيْهِمَا تَعْلِيمَ الْغَيْرِ (تُحَاجَّانِ) أَيِ السُّورَتَانِ تُدَافِعَانِ الْجَحِيمَ وَالزَّبَانِيَةَ أَوْ تُجَادِلَانِ وَتَخْصِمَانِ الرَّبَّ أَوِ الْخَصْمِ (عَنْ أَصْحَابِهِمَا) وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي

الشَّفَاعَةُ (اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ بَعْدَ تَعْمِيمٍ أَمَرَ أَوَّلًا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَّقَ بِهَا الشَّفَاعَةَ، ثُمَّ خَصَّ الزَّهْرَاوَيْنِ وَأَنَاطَ بِهِمَا التَّخَلُّصَ مِنْ حَرِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالْمُحَاجَّةِ، وَأَفْرَدَ ثَالِثًا الْبَقَرَةَ وَأَنَاطَ بِهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً حَيْثُ قَالَ (فَإِنَّ أَخْذَهَا) ، أَيِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى تِلَاوَتِهَا وَالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهَا وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا (بَرَكَةٌ) ، أَيْ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ (وَتَرْكَهَا) بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، أَيْ تَرْكُهَا وَأَمْثَالُهَا (حَسْرَةً) ، أَيْ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا وَرَدَ: " «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» " (وَلَا يَسْتَطِيعُهَا) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ، أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا (الْبَطَلَةُ) ، أَيْ أَصْحَابُ الْبَطَالَةِ وَالْكَسَالَةِ لِطُولِهَا، وَقِيلَ: أَيِ السَّحَرَةُ لِأَنَّ مَا يَأْتُونَ بِهِ بَاطِلٌ، سَمَّاهُمْ بِاسْمِ فِعْلِهِمُ الْبَاطِلِ، أَيْ لَا يُؤَهَّلُونَ لِذَلِكَ أَوْ لَا يُوَفَّقُونَ لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِهَا أَوْ عَلَى صَاحِبِهَا السَّحَرَةُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِيهَا {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] الْآيَةَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2121 - وَعَنِ النَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2121 - (وَعَنِ النَوَّاسِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ (بْنِ سَمْعَانَ) بِكَسْرِ السِّينِ وَبِفَتْحٍ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ مُتَصَوَّرًا أَوْ بِثَوَابِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ) عَطَفٌ عَلَى الْقُرْآنِ (الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ) دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَلَا يَكُونُ شَفِيعًا لَهُمْ بَلْ يَكُونُ الْقُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ (تَقْدُمُهُ) ، أَيْ تَتَقَدَّمُ أَهْلَهُ أَوِ الْقُرْآنَ (سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ) بِالْجَرِّ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي تَقَدُّمِهِ لِلْقُرْآنِ، أَيْ يَقْدُمُ ثَوَابُهُمَا ثَوَابَ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: يُصَوَّرُ الْكُلُّ بِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ كَمَا يُصَوَّرُ الْأَعْمَالُ لِلْوَزْنِ فِي الْمِيزَانِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ إِيمَانًا فَإِنَّ الْعَقْلَ يَعْجَزُ عَنْ أَمْثَالِهِ (كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ) بِضَمِّ الظَّاءِ، أَيْ سَحَابَتَانِ (سَوْدَاوَانِ) لِكَثَافَتِهِمَا وَارْتِكَامِ الْبَعْضِ مِنْهُمَا عَلَى بَعْضٍ وَذَلِكَ مِنَ الْمَطْلُوبِ فِي الظِّلَالِ، قِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَتَا كَالظُّلَّتَيْنِ لِتَكُونَا أَخْوَفُ وَأَشَدُّ تَعْظِيمًا فِي قُلُوبِ خُصَمَائِهِمَا لِأَنَّ الْخَوْفَ فِي الظُّلَّةِ أَكْثَرُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ إِظْلَالِ قَارِئِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (بَيْنَهُمَا شَرْقٌ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ وَقَدْ رُوِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، أَيْ ضَوْءُ وَنُورُ الشَّرْقِ هُوَ الشَّمْسِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمَا مَعَ الْكَثَافَةِ لَا يَسْتُرَانِ الضَّوْءَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالشَّرْقِ الشَّقَّ وَهُوَ الِانْفِرَاجُ، أَيْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ وَفَصْلٌ كَتَمَيُّزِهَا بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْمُصْحَفِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الضَّوْءَ لِاسْتِغْنَائِهِ بِقَوْلِهِ ظُلَّتَانِ عَنْ بَيَانِ الْبَيْنُونَةِ فَإِنَّهُمَا لَا تُسَمَّيَانِ ظُلَّتَيْنِ إِلَّا وَبَيْنَهُمَا فَاصِلَةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ فِيهِ تِبْيَانُ أَنَّهُ لَيْسَتْ ظُلَّةٌ فَوْقَ ظُلَّةٍ بَلْ مُتَقَابِلَتَانِ بَيْنَهُمَا بَيْنُونَةٌ مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا ظُلَّتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ فِي الْأَبْصَارِ مُنْفَصِلَتَيْنِ بِالِاعْتِبَارِ (أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ) ، أَيْ طَائِفَتَانِ (مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2122 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ؟ " قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2122 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ كُنْيَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مُعْرَبٌ لَازِمُ الْإِضَافَةِ وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ عِنْدَ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ) ، أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُصَاحِبًا لَكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَعَ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمَا كَانَ يَحْفَظُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ مَعَ كَلِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْمُصَاحَبَةِ اهـ وَكَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي عَمِّهِ (أَعْظَمُ؟) قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، أَيْ أَعْظَمُ ثَوَابًا وَأَجْرًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) فَوَّضَ الْجَوَابَ أَوَّلًا وَأَجَابَ ثَانِيًا لِأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ أَفْضَلِيَّةُ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ غَيْرَ الَّتِي كَانَ يَعْلَمُهَا، فَلَمَّا كَرَّرَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ وَالْمُعَادُ بِقَوْلِ (قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ؟) ظَنَّ أَنَّ مُرَادَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَلَبُ الْإِخْبَارِ عَمَّا عِنْدَهُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِ (قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] إِلَى آخِرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ

كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: فَوَّضَ أَوَّلًا أَدَبًا وَأَجَابَ ثَانِيًا طَلَبًا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدَبِ وَالِامْتِثَالِ كَمَا هُوَ دَأْبُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: سُؤَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الصَّحَابِيِّ قَدْ يَكُونُ لِلْحَثِّ عَلَى الْإِسْمَاعِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْكَشْفِ عَنْ مِقْدَارِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ، فَلَمَّا رَاعَى الْأَدَبَ أَوَّلًا وَرَأَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِهِ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِخْرَاجُ مَا عِنْدِهِ مِنْ مَكْنُونِ الْعِلْمِ فَأَجَابَ، وَقِيلَ: انْكَشَفَ لَهُ الْعِلْمُ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ مِنْ مَدَدِ رَسُولِهِ بِبَرَكَةِ تَفْوِيضِهِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ فِي جَوَابِ مُسَائَلَتِهِ، قِيلَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمَ آيَةٍ لِاحْتِوَائِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى بَيَانِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْأَذْكَارِ فِي تِلْكَ الْمَعَانِي أَبْلَغُ كَانَ فِي بَابِ التَّدَبُّرِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ (قَالَ) ، أَيْ أُبَيٌّ (فَضَرَبَ) ، أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي صَدْرِي) مَحَبَّةً وَتَعْدِيَتُهُ بِفِي نَظِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - وَاصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أَيْ وَقَعَ الصَّلَاحُ فِيهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مَحَلًّا لَهُ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِلَاءِ صَدْرِهِ عِلْمًا وَحِكْمَةً (وَقَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ) وَفِي نُسْخَةٍ: لِيَهْنِئْكَ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ النُّونِ عَلَى الْأَصْلِ فَحُذِفَ تَخْفِيفًا، أَيْ لِيَكُنِ الْعِلْمُ هَنِيئًا لَكَ (يَا أَبَا الْمُنْذِرِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ هَنَّأَنِي الطَّعَامُ يَهْنَأْنِي وَيُهْنِئَنِي وَهَنَأْتُ، أَيْ تَهَنَّأْتُ بِهِ وَكُلُّ أَمْرٍ أَتَاكَ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فَهُوَ هَنِيءٌ، وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ بِتَيْسِيرِ الْعِلْمِ وَرُسُوخِهِ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ الْإِخْبَارُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَبِي الْمُنْذِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2123 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ " فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: لَأَرْفَعَكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ " فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ إِنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ " {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] " حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظًا، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ " قُلْتُ: زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَ: " أَمَا إِنَّهُ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، وَتَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ؟ " قُلْتُ: لَا، قَالَ: " ذَاكَ شَيْطَانٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2123 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ) ، أَيْ بِجَمْعِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِيُفَرِّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ:، أَيْ فِي حِفْظِهَا، أَيْ فَوَّضَ إِلَيَّ ذَلِكَ، فَالْوِكَالَةُ بِمَعْنَاهَا اللُّغَوِيُّ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفْوِيضِ أَمْرٌ لِلْغَيْرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِجَبْرِ مَا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي صَوْمِهِ تَفْرِيطٌ فَهِيَ بِمَعْنَى اللَّامِ (فَأَتَانِي آتٍ) ، أَيْ فَجَاءَنِي وَاحِدٌ (فَجَعَلَ) ، أَيْ طَفِقَ وَشَرَعَ (يَحْثُو) ، أَيْ يَغْرِفُ وَيَأْخُذُ هَيْلًا لَا كَيْلَا (مِنَ الطَّعَامِ) وَيَجْعَلُ فِي وِعَائِهِ وَذَيْلِهِ كَحَثِيِ التُّرَابِ، وَالْمُرَادُ بِالطَّعَامِ الْبُرُّ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُزَّكَّى بِهِ فِي الْفِطْرَةِ (فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ) هُوَ مِنْ رَفْعِ الْخَصْمِ إِلَى الْحَاكِمِ، أَيْ وَاللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ بِكَ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ لِيَقْطَعَ يَدَكَ فَإِنَّكَ سَارِقٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ، وَفِيهِ أَنَّ الْقَطْعَ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ الْمَالُ مُحَرَّزًا وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنِ اسْتِحْقَاقًا مِنْهُ (قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ) ، أَيْ فَقِيرٌ فِي نَفْسِي (وَعَلَيَّ عِيَالٌ) ، أَيْ نَفَقَتُهُمْ إِظْهَارًا لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاجِ (وَلِي حَاجَةٌ) ، أَيْ حَادِثَةٌ زَائِدَةٌ (شَدِيدَةٌ) ، أَيْ صَعْبَةٌ كَمَوْتٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مُطَالَبَةِ دَيْنٍ أَوْ جُوعٍ مُهْلِكٍ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا اشْتَدَّ الْحَاجَةُ إِلَى مَا أَخَذْتُهُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ فَقِيرٌ وَقَدِ اضْطُرَّ الْآنَ إِلَى مَا فَعَلَ لِأَجَلِ الْعِيَالِ وَهَذَا لِلْمُحْتَاجِينَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ الْجِنِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] فَالْمَعْنَى إِنَّا لَا نَرَاهُمْ عَلَى صُوَرِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا لِبُعْدِ التَّبَايُنِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَجْسَامٌ نَارِيَّةٌ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ وَالِاشْتِبَاهِ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى الْجِنَّ عُزِّرَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَمَثَّلُوا بِصُوَرٍ أُخْرَى كَثِيفَةٍ (قَالَ) ، أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (فَخَلَّيْتُ) ، أَيْ سَبِيلَهُ (عَنْهُ) يَعْنِي تَرَكْتُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ الطَّعَامِ أَمْ لَا، بَلْ وَلَا أَنَّ الشَّيْطَانَ أَخَذَ أَوْ لَا أَيْضًا لِأَنَّ يَحْثُو يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يُرِيدُ أَنْ يَحْثُوَ لِيَحْتَاجَ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى مُعَالَجَةٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى تُطَابِقَ الْحَدِيثَ قَوَاعِدُ مَذْهَبِهِ (فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ (أَسِيرُكَ) ، أَيْ مَأْخُوذُكَ (الْبَارِحَةَ؟) ، أَيِ اللَّيْلَةُ الْمَاضِيَةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ: إِخْبَارُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْغَيْبِ وَتَمَكُّنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَخْذِهِ الشَّيْطَانَ وَرَدِّهِ خَاسِئًا وَهُوَ كَرَامَةٌ بِبَرَكَةِ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعْلَمُ مِنْهُ إِعْلَاءُ حَالِ الْمَتْبُوعِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ جَمْعِ زَكَاةِ فِطْرِهِمْ ثُمَّ تَوْكِيلِهِمْ أَحَدًا بِتَفْرِيقِهَا (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ) ، أَيْ

" النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ) بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ فِي إِظْهَارِ الْحَاجَةِ (وَسَيَعُودُ) ، أَيْ فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْهُ (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ) أَيِ انْتَظَرْتُهُ وَرَاقَبْتُهُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ثَانِي لَيْلَةٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَقْيِيدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَوْلُهُ: مَا فَعَلَ أَسِيرُكُ الْآتِي بِقَوْلِهِ الْبَارِحَةَ (فَجَاءَ يَحْثُوا) حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأَنَّ الْحَثْوَ عَقِبَ الْمَجِيءِ لَا مَعَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَجَاءَ فَجَعَلَ يَحْثُو اعْتِمَادًا عَلَى مَا سَبَقَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْخُذُ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ (مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: دَعْنِي) أَيِ اتْرُكْنِي (فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُه) لَعَلَّهُ لِقَوْلِهِ لَا أَعُودُ وَإِلَّا فَقَدْ تَحَقَّقَ كَذِبُهُ فِي إِظْهَارِ الْحَاجَةِ عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، وَقِيلَ: ظَنَّ أَنَّهُ تَابَ مِنْ كَذِبِهِ (وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً) ، أَيْ شَدِيدَةً كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ) ، أَيْ لِعَهْدِهِ بِعَدَمِ الْعَوْدِ وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ الرَّاوِي اخْتِصَارًا (فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ) ، أَيْ فِي عَدَمِ الْعَوْدِ (وَسَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَذَكَرَ لَهُ مَا يَقْطَعُ طَمَعَهُ فِي أَنَّهُ يُطْلِقُهُ فَقَالَ (وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ إِنَّكَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا الْمَجِيءُ الَّذِي جِئْتَهُ آخِرَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، إِنَّكَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُهُ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَآخِرَ بَدَلٌ مِنْهُ وَالْخَبَرُ أَنَّكَ (تَزْعُمُ) ، أَيْ تَظُنُّ أَوْ تَقُولُ (لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ) وَفِي نُسْخَةٍ: تَزْعُمُ أَنْ لَا تَعُوُدَ، أَيْ تَظُنُّ أَنْ لَا تَعُودَ ثُمَّ تَعُودَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ أَنَّكَ تَزْعُمُ صِفَةُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ مَوْصُوفَةُ هَذَا الْقَوْلِ الْبَاطِلِ وَالضَّمِيرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ فِيهَا اهـ فَقَوْلُهُ: هَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَيْضًا وَعَدَ بِعَدَمِ الْعَوْدِ وَهُوَ سَاقِطٌ اخْتِصَارًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَلَامُ الشَّارِحِ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ: وَلَا أَعُودُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الثَّانِيَةُ اهـ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْتِزَامَ عَدَمِ الْعَوْدِ مُحَقَّقٌ إِمَّا صَرِيحًا أَوْ ضِمْنًا، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَعُودُ (قَالَ: دَعْنِي) ، أَيْ خَلِّنِي (أُعَلِّمُكَ) بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ (كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا إِذَا أَوَيْتَ) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ، أَيْ إِذَا قَصَدْتَ (إِلَى فِرَاشِكَ) لِأَجْلِ النَّوْمِ وَنَزَلْتَ فِيهِ (فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ " {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] " حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ) ، أَيْ إِلَى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّ أَنَّ الْقَيُّومَ لَيْسَ رَأْسُ الْآيَةِ خِلَافًا لِلْبَصْرِيِّ (فَإِنَّكَ) ، أَيْ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ (لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ) ، أَيْ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ أَمْرِهِ (حَافِظًا) ، أَيْ مِنَ الْقُدْرَةِ أَوْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ (وَلَا يَقْرَبُكَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ (شَيْطَانٌ) لِأَذًى دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ (حَتَّى تُصْبِحَ) ، أَيْ تَدْخُلُ فِي الصَّبَاحِ غَايَةً لِمَا بَعْدَ لَنْ، قِيلَ: تُرِكَ الْإِسْنَادُ لِوُضُوحِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ كُوشِفَ لَهُ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قُلْتُ: لَكِنْ صَحَّ بِتَقْرِيرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا سَيَأْتِي وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: " مَنْ قَرَأَهَا - يَعْنِي آيَةَ الْكُرْسِيِّ - حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ أَمَّنَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى دَارِهِ وَدَارِ جَارِهِ وَأَهْلِ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ " (فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟) لَمْ يَقُلِ الْبَارِحَةَ هُنَا أَيْضًا لِمَا سَبَقَ (قُلْتُ: زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ صَدَقَكَ) ، أَيْ فِي التَّعْلِيمِ (وَهُوَ كَذُوبٌ) ، أَيْ فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِ أَوْ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِ، وَفِي الْأَمْثَالِ الْكَذُوبُ

قَدْ يُصَدَّقُ (تَعْلَمُ) ، أَيْ أَتَعْلَمُ (مَنْ تُخَاطِبُ) ، أَيْ التَّعْيِينُ الشَّخْصِيُّ (مُنْذُ ثَلَاثٍ) ، أَيْ لَيَالٍ (قُلْتُ: لَا، قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ) بِالتَّنْوِينِ مَرْفُوعًا وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ بِالنَّصْبِ لِأَنَّ السُّؤَالَ فِي قَوْلِهِ مَنْ تُخَاطِبُ عَنِ الْمَفْعُولِ، فَالْعُدُولُ إِلَى جُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَتَشْخِيصِهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِمَزِيدِ التَّعْيِينِ وَدَوَامِ الِاحْتِرَازِ عَنْ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ إِبْلِيسُ، وَوَجْهُ صَرْفِهِ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ شَطَنَ، أَيْ بَعُدَ قَالَ فِي الْقَامُوسِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ وَالشَّيْطَانُ مَعْرُوفٌ وَتَشَيْطَنَ فَعَلَ فِعْلَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ الشَّيْطَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِيذَانًا بِتَغَايُرِهِمَا عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ بِلَفْظِهَا كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، وَوَجْهُ تَغَايُرِهَا أَنَّ الْأَوَّلَ لِلْجِنْسِ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ نَفْيُ قُرْبَانِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ لَهُ، وَالثَّانِي لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، أَيْ شَيْطَانٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَلَوْ عَرَفَ لَا وَهْمَ خِلَافَ الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُشَارَ إِلَى السَّابِقِ أَوْ إِلَى الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ النَّاسِ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُرَادٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ جَائِزٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا يَقُولُ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلِمَ الْمُتَعَلِّمَ كَوْنَ مَا يَتَعَلَّمُهُ حَسَنًا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حُسْنَهُ وَقُبْحَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّمَ إِلَّا مِمَّنْ عَرَفَ دِيَانَتَهُ وَصَلَاحَهُ اهـ وَفِيهِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ كَثِيرَةٌ فِي مَعَانٍ حَسَنَةِ الظَّاهِرِ كَفَضِيلَةِ السُّوَرِ وَالْعِبَادَاتِ وَالدَّعَوَاتِ وَلَا يَجُوزُ التَّعَلُّمُ فِي أَمْثَالِهَا إِلَّا مِنَ الثِّقَاتِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2124 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَمَا جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: " هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ " فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: " هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2124 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَاعِدًا) وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي أَصْلِ الْحِصْنِ وَلَعَلَّ نَصْبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَانَ (عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ: أَيْ بَيْنَ أَوْقَاتٍ وَحَالَاتٍ هُوَ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ مِيرَكُ: بَيْنَا وَبَيْنَمَا وَبَيْنَ مَعْنَاهَا الْوَسَطُ، وَبَيْنَ ظَرْفٌ إِمَّا لِلْمَكَانِ كَقَوْلِكَ: جَلَسْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الدَّارِ، أَوْ لِلزَّمَانِ كَمَا هُنَا، أَيِ الزَّمَانُ الَّذِي كَانَ جِبْرِيلُ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (سَمِعَ) وَفِي نُسْخَةٍ: إِذْ سَمِعَ، أَيْ جِبْرِيلُ (نَقِيضًا) ، أَيْ صَوْتًا شَدِيدًا كَصَوْتِ نَقْضِ خَشَبِ الْبِنَاءِ عِنْدَ كَسْرِهِ، وَقِيلَ: صَوْتًا مِثْلَ صَوْتِ الْبَابِ (مِنْ فَوْقِهِ) ، أَيْ مَعَ جِهَةِ السَّمَاءِ أَوْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ (فَرَفَعَ) ، أَيْ جِبْرِيلُ (رَأْسَهُ فَقَالَ) ، أَيْ جِبْرِيلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ فِي جَمْعٍ وَرَفْعٍ وَقَالَ رَاجِعَةٌ إِلَى جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ إِطْلَاعًا عَلَى أَحْوَالِ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: إِلَّا وَلِأَنَّ رَاجِعَانِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالضَّمِيرُ فِي قَالَ لِجِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ حَضَرَ عِنْدَهُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ غَرِيبٍ وَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ الْمُخْتَارُ وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ (هَذَا) ، أَيْ هَذَا الصَّوْتُ (بَابٌ) ، أَيْ صَوْتُ بَابٍ (مِنَ السَّمَاءِ) ، أَيْ مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا (فُتِحَ الْيَوْمَ) ، أَيِ الْآنَ (لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ) هَذَا مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي فِي حِكَايَتِهِ لِحَالٍ سَمِعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَلَغَهُ مِنْهُ (فَقَالَ) ، أَيْ جِبْرِيلُ أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (هَذَا) ، أَيِ النَّازِلُ (مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ) ، أَيِ الْمَلَكُ (عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَقَالَ، أَيِ الْمَلَكُ (أَبْشِرْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ أَيِ افْرَحْ (بِنُورَيْنِ) سَمَّاهُمَا نُورَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نُورٌ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهِمَا أَوْ لِأَنَّهُمَا يُرْشِدَانِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، أَيْ بِمَا فِي آيَتَيْنِ مُنَوِّرَتَيْنِ (أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ يُعْطَهُمَا (نَبِيٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ) بِالْجَرِّ وَجَوَّزَ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ (وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمَقْرُأَةِ عِنْدَ الشَّيْخِ، وَكَذَا فِي أَصْلِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَآخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ اهـ وَالْمُرَادُ " آمَنَ الرَّسُولُ " كَذَا قِيلَ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: فَمَا لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَوَّلُ تِلْكَ الْخَوَاتِيمِ آمَنَ الرَّسُولُ وَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَوَّلُهَا " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ " (لَنْ تَقْرَأَ) الْخِطَابُ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمُرَادُ هُوَ وَأُمَّتُهُ إِذِ الْأَصْلُ مُشَارَكَتُهُمْ لَهُ فِي كُلِّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ إِلَّا مَا اخْتُصَّ بِهِ (بِحَرْفٍ مِنْهُمَا) ، أَيْ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَالْخَوَاتِيمِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ يُقَالُ: أَخَذْتُ بِزِمَامِ النَّاقَةِ وَأَخَذْتُ زِمَامَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ لِإِلْصَاقِ الْقِرَاءَةِ بِهِ وَأَرَادَ بِالْحَرْفِ الطَّرَفَ مِنْهَا فَإِنَّ حَرْفَ الشَّيْءِ طَرَفُهُ وَكَنَّى بِهِ عَنْ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَقَوْلُهُ (إِلَّا أُعْطِيتَهُ) حَالٌ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُقَدَّرٌ، أَيْ مُسْتَعِينًا بِهِمَا عَلَى قَضَاءِ مَا يَسِخُ مِنَ الْحَوَائِجِ إِلَّا أُعْطِيتَهُ، أَيْ أُعْطِيتَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِهِ " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] " كَقَوْلِهِ " {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] " وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا هُوَ حَمْدٌ وَثَنَاءٌ أُعْطِيتَ ثَوَابَهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَرْفِ حَرْفُ التَّهَجِّي وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُعْطِيتَهُ حِينَئِذٍ أُعْطِيتَ مَا تَسْأَلُ مِنْ حَوَائِجِكَ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حِكَايَةِ ذَلِكَ التَّوْقِيفِ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحَذْفُهُ الْإِسْنَادَ لِوُضُوحِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ كَشَفَ الْحَالَ وَتَمَثَّلَ لَهُ جِبْرِيلُ حَتَّى رَآهُ وَرَفَعَ الرَّأْسَ فَرَأَى الْمَلَكَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا تَمَثَّلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعَ ذَلِكَ النَّقِيضَ وَالْقَوْلَ اهـ وَلَا يَخْفَى بَعْدُ الثَّانِي.

2125 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْآيَتَانِ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2125 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) ، أَيِ الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْآيَتَانِ) أَيِ الْكَائِنَتَانِ (مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) ، أَيْ آمَنَ الرَّسُولُ إِلَى آخِرِهِ (مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) ، أَيْ دَفَعَتَا عَنْهُ الشِّرْكَ وَالْمَكْرُوهَ وَهُوَ مِنْ كَفَى يَكْفِي إِذَا دَفَعَ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَأَغْنَاهُ، وَقِيلَ: كَفَتَاهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ أَوْ كَفَتَاهُ عَنْ سَائِرِ الْأَوْرَادِ أَوْ أَرَادَ أَنَّهُمَا أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُنَاسِبُ لِنَظْمِهِمَا أَنَّهُمَا كَفَتَاهُ عَنْ تَجْدِيدِ الْإِيمَانِ وَبَسَطَ فِي تَوْجِيهِهِ لِأَنَّهُ مَعَ خَفَاءِ ظُهُورِهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ قَطْعًا، فَإِنَّ بِهِمَا يَحْصُلُ تَجْدِيدُ الْإِيمَانِ لَا أَنَّهُمَا تَكْفِيَانِ عَنْهُ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ إِذِ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّجْدِيدَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِارْتِدَادِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ اصْطِلَاحَ الصُّوفِيَّةِ فَمُرَادُهُمْ بِالتَّجْدِيدِ جَعْلُهُ مُجَدَّدًا وَمُؤَكَّدًا وَمُؤَبَّدًا بِاسْتِحْضَارِ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ وَرَفْعِ الْغَفْلَةِ فِي كُلِّ طَرْفَةٍ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ: وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتَ بِرِدَّتِي وَأَخَذَ السَّادَةُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] أَيْ دُومُوا عَلَى الْإِيمَانِ، وَمِنْ «قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: " أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

2126 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2126 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ) ، أَيْ حُفِظَ (مِنَ الدَّجَّالِ) ، أَيْ مِنْ شَرِّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ الْفِتْيَةَ عُصِمُوا مِنْ ذَلِكَ الْجَبَّارِ كَذَلِكَ يَعْصِمُ اللَّهُ الْقَارِئَ مِنَ الْجَبَّارِينَ، وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ، فَمَنْ تَدَبَّرَهَا لَا يُفْتَتَنُ بِالدَّجَّالِ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ بِالْخُصُوصِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَيَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ لِخَوَارِقَ تَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ كَقَوْلِهِ لِلسَّمَاءِ أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ لِوَقْتِهَا وَلِلْأَرْضِ انْبِتِي فَتُنْبِتُ لِوَقْتِهَا زِيَادَةً فِي الْفِتْنَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُوجَدْ فِتْنَةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَتِهِ، وَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا حَذَّرَهُ قَوْمَهُ، وَكَانَ السَّلَفُ يُعَلِّمُونَ حَدِيثَهُ الْأَوْلَادَ فِي الْمَكَاتِبِ، أَوْ لِلْجِنْسِ فَإِنَّ الدَّجَّالَ مَنْ يَكْثُرُ مِنْهُ الْكَذِبُ وَالتَّلْبِيسُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ» ، أَيْ مُمَوِّهُونَ، وَفِي حَدِيثٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالًا» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيَ كَمَا سَيَأْتِي: «مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» ، قِيلَ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ الْعَشْرِ أَنَّ حَدِيثَ الْعَشْرِ مُتَأَخِّرٌ وَمَنْ عَمِلَ بِالْعَشْرِ فَقَدْ عَمِلَ بِالثَّلَاثِ، وَقِيلَ: حَدِيثُ الثَّلَاثِ مُتَأَخِّرٌ وَمَنْ عُصِمَ بِثَلَاثٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعَشْرِ وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى أَحْكَامِ النَّسْخِ، قَالَ مِيرَكُ: بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ لَا يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ، وَأَنَا أَقُولُ: النَّسْخُ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَخْبَارِ، وَقِيلَ: حَدِيثُ الْعَشْرِ فِي الْحِفْظِ وَالثَّلَاثِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَمَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ وَقَرَأَ الثَّلَاثَ كُفِىَ وَعُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَقِيلَ: مَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ عُصِمَ مَنْ لَقْيِهِ وَمَنْ قَرَأَ الثَّلَاثَ عُصِمَ مِنْ فِتْنَتِهِ إِنْ لَمْ يَلْقَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْحِفْظِ الْقِرَاءَةُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِصْمَةِ الْحِفْظُ مِنْ آفَاتِ الدَّجَّالِ.

2127 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ " قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2127 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهِ (قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ) ، أَيْ أَحَدٌ (ثُلُثَ الْقُرْآنِ) لِأَنَّهُ يَصْعُبُ عَلَى الدَّوَامِ عَادَةً (قَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، أَيْ إِلَى آخِرِهِ أَوْ سُورَتِهِ (يَعْدِلُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، أَيْ يُسَاوِي (ثُلُثَ الْقُرْآنِ) لِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ آيِلَةٌ إِلَى تَعْلِيمِ ثَلَاثَةِ عُلُومٍ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَعِلْمُ الشَّرَائِعِ وَعِلْمُ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ تَشْتَمِلُ عَلَى الْقِسْمِ الْأَشْرَفِ مِنْهَا الَّذِي هُوَ كَالْأَصْلِ لِلْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ عَلَى أَبْيَنِ وَجْهٍ وَآكَدِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَنْ مُشَارِكٍ فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ قَصَصٍ وَأَحْكَامٍ وَصِفَاتِ اللَّهِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مُتَمَحِّضَةٌ لِلصِّفَاتِ فَهِيَ ثُلُثُ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: ثَوَابُهَا يُضَاعَفُ بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بِلَا تَضْعِيفٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَكَرُّرِهَا اسْتِيعَابُ الْقُرْآنِ وَخَتْمُهُ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ، قَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «جَزَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ جُزْأً مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ» ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الثَّلَاثَةَ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَقَالَ: مَعْنَى كَوْنِهَا ثُلُثُ الْقُرْآنِ ثَوَابُ قِرَاءَتِهَا يَحْصُلُ لِلْقَارِئِ مِثْلَ ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: مِثْلُهُ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ وَهِيَ دَعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهَلْ ذَلِكَ الثُّلُثُ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنٌ، أَيْ ثُلُثٌ فُرِضَ مِنْهُ، فِيهِ نَظَرٌ يَلْزَمُ مِنَ الثَّانِي أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا كَانَ كَمَنْ قَرَأَ خَتْمَةً كَامِلَةً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ عَمِلَ بِمَا تَضْمَنُهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ هَذَا الْحَدِيثَ أَخْلَصُ مِمَّنْ أَجَابَ بِالرَّأْيِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَهْوَيْهِ فَإِنَّهُمَا حَمَلَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهَا فَضْلًا فِي الثَّوَابِ تَحْرِيضًا عَلَى تَعَلُّمِهَا لَا أَنَّ قِرَاءَتَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَوْ قَرَأَهَا مِائَتَيْ مَرَّةٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، أَيْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.

2128 - وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2128 - (وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

2129 - وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ " فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2129 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا) ، أَيْ أَرْسَلَهُ أَمِيرًا (عَلَى سَرِيَّةٍ) ، أَيْ جَيْشٍ (وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ) لِأَنَّهُ كَانَ إِمَامَهُمْ (فِي صَلَاتِهِمْ) بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ (فَيَخْتِمُ) لَهُمْ، أَيْ قِرَاءَتَهُ (بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تَبَرُّكًا بِقِرَاءَتِهِ وَمَحَبَّةً لِتِلَاوَتِهِ، أَيْ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ هَذِهِ السُّورَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يَخْتِمُ قِرَاءَتَهُ لِلْفَاتِحَةِ أَوْ لِمَا يَقْرَؤُهُ بَعْدَهَا مِنَ الْقُرْآنِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اهـ وَلَا شَكَّ أَنَّ حَمْلَنَا أَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَعِبَارَةُ الطِّيبِيِّ يَعْنِي كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَقْرَأَهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مُحْتَمِلَةً لِلصِّوَرِ كُلِّهَا، وَسَيَأْتِي فِي صُورَةٍ أُخْرَى فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ وَهُوَ الْأَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ لِصِحَّةِ الْإِسْنَادِ (فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ) ، أَيْ فِعْلَهُ (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ) أَهْوَ لِلِاخْتِصَارِ أَوْ لِعَدَمِ حِفْظِ غَيْرِهَا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ (فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا) ، أَيْ إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا (صِفَةُ الرَّحْمَنِ) وَلَعَلَّهُ آثَرَ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ اسْتِشْعَارًا بِأَنَّ شُهُودَهُ لِذَلِكَ سَبَبٌ لِسَعَةِ رَجَائِهِ بِتَرَادُفِ مَظَاهِرِ رَحْمَتِهِ وَآلَائِهِ (وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَهَا) ، أَيْ لِذَلِكَ دَائِمًا، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَعَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَحْدَهُ وَهُوَ الصَّمَدُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ حَوَائِجُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ تُصُوِّرَ صَمَدٌ سِوَاهُ لَفَسَدَ نِظَامُ الْعَالَمِ، مِنْ ثَمَّةَ كَرَّرَ لَفْظَ اللَّهِ وَأَوْقَعَ الصَّمَدَ الْمُعَرَّفَ خَبَّرًا لَهُ وَقَطَعَهُ مُسْتَأْنَفًا عَلَى بَيَانِ الْمُوجِبِ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ هُنَا اللَّهَ هُوَ الْأَحَدُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ إِذْ لَوْ تُصُوِّرَ غَيْرُهُ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ فِيهَا وَهُوَ مُحَالٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ لَمْ يُولَدْ، أَوْ دُونَهُ فِيهَا فَلَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا وَإِلَيْهِ لَمَّحَ بِقَوْلِهِ لَمْ يَلِدْ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ وَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا وَإِلَيْهِ رَمَزَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ) ، أَيْ لِمَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا أَوْ لِهَذَا يُحِبُّهَا، قَالَ الْمَازِرِيُّ: مَحَبَّةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ إِرَادَةُ ثَوَابِهِمْ وَتَنْعِيمِهِمْ، وَقِيلَ: نَفْسُ الْإِثَابَةِ وَالتَّنْعِيمِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَعَلَى الثَّانِي مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْعِبَادِ لَهُ - تَعَالَى - فَلَا يَبْعُدُ فِيهَا الْمَيْلُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ - تَعَالَى - فَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنِ الْمَيْلِ، وَمَيْلُ مُحِبِّيهِمْ لَهُ - تَعَالَى - بِاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ ثَمَرَةُ الْمَحَبَّةِ وَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ مَيْلُهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى لِاسْتِحْقَاقِهِ - تَعَالَى - مَحَبَّتِهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى مَا يُلَائِمُهَا مِنَ اللَّذَّاتِ وَهِيَ فِي حَقِّهِ - تَعَالَى - مُحَالٌ، فَيَحْمِلُ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ إِمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْإِثَابَةِ أَوْ عَلَى الْإِثَابَةِ نَفْسِهَا، وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْعِبَادِ لَهُ - تَعَالَى - فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَيْلُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتُهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى إِيَّاهَا مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا وَأَنْ يُرَادَ بِهَا نَفْسُ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ - تَعَالَى - فَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ إِلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ ثَمَرَةُ الْمَحَبَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

2130 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، قَالَ: " إِنَّ حُبَّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2130 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا) قَالَ مِيرَكُ: اسْمُهُ كُلْثُومُ، وَقِيلَ: كَرْزَمٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ) ، أَيْ قِرَاءَتُهَا وَسَمَاعُهَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الفاتحة: 1 - 28894] تَفْسِيرٌ لَهَا أَوْ بَدَلٌ (قَالَ: إِنَّ حُبَّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ) ، أَيْ أَنَالَكَ أَفَاضِلَ دَرَجَاتِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ وَبَيْنَ الْجَوَابِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَخْبَرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ؟ قُلْتُ: هَذَا الْجَوَابُ ثَمَرَةُ ذَلِكَ الْجَوَابِ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إِذَا أَحَبَّهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَهَذَا مِنْ وَجِيزِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ، فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي الْأَوَّلِ عَلَى السَّبَبِ عَنِ الْمُسَبِّبِ وَفَى الثَّانِي عَكْسُهُ اهـ وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَظَنَّ شَارِحٌ أَنَّ الدُّخُولَ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا فِيهِ ثَمَرَةُ ذَاكَ إِذْ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ ثَمَرَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مَعْنَاهُ) فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْمُصَنِّفِ وَدَفْعٌ عَنْهُ، وَفَى الْحِصْنِ رَمَزَ بِالْخَاءِ وَالتَّاءِ، قَالَ مِيرَكُ: كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ بِسُورَةٍ يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ أُخْرَى فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَصَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: " يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ؟ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ " فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ: " حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ " ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَاهُ مُعَلَّقًا، وَقَدْ وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ حَسَنٌ.

2131 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2131 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَمْ تَرَ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ، أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الصَّالِحُ لِأَنْ يُخَاطِبَ اهـ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ خَاصٌّ لِلرَّاوِي وَالْمُرَادَ عَامٌّ (آيَاتٍ أُنْزِلَتْ) صِفَةُ الْآيَاتِ (اللَّيْلَةَ) نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ وَتَعْجِيبٍ، وَأَشَارَ إِلَى سَبَبِ التَّعَجُّبِ بِقَوْلِهِ (لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ) ، أَيْ فِي بَابِهِمَا وَهُوَ التَّعَوُّذُ وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَرَفْعُ مِثْلِهِنَّ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْخِطَابِ عَلَى صِيغَةِ الْفَاعِلِ وَنَصْبِ مِثْلِهِنَّ وَقَوْلُهُ (قَطُّ) لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي الْمَاضِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، أَيْ لَمْ تُوجَدْ آيَاتُ سُورَةٍ كُلُّهُنَّ تَعْوِيذٌ لِلْقَارِئِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ مِثْلَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ فِيهِمَا لَيْسَ مِنْ آيَاتِهِمَا، وَيُوَافِقُ مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ، وَوَرَدَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا، وَلَمَّا سُحِرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَشْفَى بِهِمَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ خِلَافًا لِلْبَعْضِ، أَيْ لِبَعْضٍ مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَفِي جَوَاهِرِ الْفِقْهِ: يَكْفُرُ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُؤَوَّلٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَفَرَ مُطْلَقًا أَوَّلَ أَوْ لَمْ يُؤَوِّلْ، وَفِى بَعْضِ الْفَتَاوَى فِي إِنْكَارِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كُفْرٌ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ قَالَ: الْمُعَوِّذَتَانِ لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ لَا يُكَفَّرُ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَكْفُرُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ لَا يَرْفَعُ الِاخْتِلَافَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِمَّا مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ عَلَى رَأْيٍ، وَإِمَّا صَحِيحٌ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ لَكِنَّهُ نُفِيَ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ نَفْيِهِ وَعَلَى أَنَّ لَفْظَ قُلْ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

2132 - وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَابِ الْمِعْرَاجِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2132 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَوَى) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ (إِلَى فِرَاشِهِ) ، أَيْ أَتَاهُ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ (كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا) قِيلَ: النَّفْثُ إِخْرَاجُ رِيحٍ مِنَ الْفَمِ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الرِّيقِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ: النَّفْثُ شَبِيهٌ بِالنَّفْخِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التَّفْلِ لِأَنَّ التَّفْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيقِ اهـ وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْهِدَايَةِ وَالْقَامُوسِ (فَقَرَأَ) ، أَيْ بَعْدَ النَّفْثِ وَعَقِبَيْهِ (فِيهِمَا) ، أَيْ فِي الْكَفَّيْنِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ النَّفْثَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَقِيلَ: خَالَفَ السَّحَرَةَ، أَوِ الْمَعْنَى: ثُمَّ أَرَادَ النَّفْثَ فَقَرَأَ فَنَفَثَ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ وَفَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: وَقُرِأَ بِالْوَاوِ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ النَّفْثِ عَلَى الْقِرَاءَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْوَاوِ بَلْ مِنَ الْفَاءِ وَلَعَلَّ الْفَاءَ سَهْوٌ مِنَ الْكَاتِبِ أَوِ الرَّاوِي، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَخْطِئَةُ الرُّوَاةِ الْعُدُولِ بِمَا عَرَضَ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ خَطَأٌ هَلَّا قَاسَوْا هَذِهِ الْفَاءَ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ " {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] " وَقَوْلِهِ " {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا} [البقرة: 54] " عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مُؤَخَّرَةٌ عَنِ الْقَتْلِ، فَالْمَعْنَى جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى النَّفْثِ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا اهـ وَهُوَ مَآلُ تَأْوِيلِ الطِّيبِيِّ وَقَوْلُهُ التَّوْبَةُ مُؤَخَّرَةٌ عَنِ الْقَتْلِ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ إِنَّمَا هُوَ عَلَامَةُ تَوْبَتِهِمْ أَوْ شَرْطُهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عُطِفَ بِثُمَّ لِتَرَتُّبِ النَّفْثِ فِيهِمَا عَلَى جَمْعِهِمَا ثُمَّ بِالْفَاءِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْثَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ نَفْخٍ مَعَ رِيقٍ بَلْ مَعَ قِرَاءَتِهِ فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى ابْتِدَاءِ النَّفْثِ مُقَارَنَةً لِبَقِيَّتِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَزَعَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِالْوَاوِ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ فِيهِ بِالْفَاءِ اهـ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي (ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ) بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ لِيَمْسَحَ (بِهِمَا) ، أَيْ بِمَسْحِهِمَا (عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ) ، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهُ (يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَابِ الْمِعْرَاجِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَهُوَ إِمَّا لِتَكَرُّرِهِ حَوْلَهُ إِلَيْهِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَنْسَبَ بِذَلِكَ الْبَابِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - وَهَا أَنَا هَا هُنَا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ بِشَرْحِهِ لِابْنِ الْمَلَكِ تَتْمِيمًا لِفَائِدَةِ الْكِتَابِ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْهُولُ أَسْرَى يَسْرِي إِذْ أَسْرَى لَيْلًا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ انْتَهَى بِهِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ شَجَرَةٌ فِي أَقْصَى الْجَنَّةِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَلَا يَتَعَدَّاهَا أَوْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ أَوْ نُفُوسُ السَّائِحِينَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ اجْتِمَاعَ النَّاسِ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا وَرَاءَهَا غَيْرُ اللَّهِ، فَأُعْطِيَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغُفِرَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِهِ. الْمُقْحِمَاتُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْخَفِيفَةِ الْمَكْسُورَةِ مَرْفُوعَةٌ بِغُفِرَ وَهِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي تُقْحِمُ أَصْحَابَهَا، أَيْ تُلْقِيهِمْ فِي النَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَدِّدُهَا مِنْ قَحْمٍ فِي الْأَمْرِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ يَعْنِي أُعْطِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ.

2133 - (الْفَصْلُ الثَّانِي) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «ثَلَاثَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْقُرْآنُ يُحَاجُّ الْعِبَادَ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَالْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ تُنَادِي أَلَا مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» " رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2133 - (الْفَصْلُ الثَّانِي) (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثَلَاثَةٌ) ، أَيْ أَشْيَاءٌ أَوْ أَعْمَالٌ (تَحْتَ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، أَيْ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (الْقُرْآنُ) قَدَّمَهُ فَإِنَّهُ أَجَلُّهَا رُتْبَةً وَأَعْظَمُهَا حُرْمهً، وَلِذَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (يُحَاجُّ الْعِبَادَ) ، أَيْ يُخَاصِمُهُمْ فِيمَا ضَيَّعُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَحُدُودِهِ أَوْ يُحَاجُّ لَهُمْ وَيُخَاصِمُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ مُحَافَظَتِهِمْ حُقُوقِهِ كَمَا تَقَدَّمَ يُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا وَكَمَا وَرَدَ الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ فَنَصَبَ الْعِبَادَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ (لَهُ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (ظَهْرٌ) ، أَيْ مَعْنًى ظَاهِرٌ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّأَمُّلِ يَفْهَمُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ أَدَوَاتُ فَهْمِهِ (وَبَطْنٌ) ، أَيْ مَعْنًى خَفِيٌّ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ مِنْ إِشَارَاتٍ خَفِيَّةٍ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا خَوَاصُّ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَالِمِينَ بِحَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ وَحُصُولِ الْإِمْدَادِ، وَقِيلَ: ظَهْرُهُ تِلَاوَتُهُ كَمَا أُنْزِلَ،

وَبَطْنُهُ التَّدَبُّرَ لَهُ، وَقِيلَ: ظَهْرُهُ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ، وَبَطْنُهُ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّفَاوُتُ فِي فَهْمِهِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا أَرْدَفَ قَوْلَهُ يُحَاجُّ الْعِبَادَ بِقَوْلِهِ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُطَالِبُ بِقَدْرِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ وَفَهْمِهِ، وَالْجُمْلَةُ خَالِيَةٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُحَاجُّ، أَيْ فَمَنِ اتَّبَعَ ظَوَاهِرَهُ وَبَوَاطِنَهُ فَقَدْ أَدَّى بَعْضَ حُقُوقِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقَامَ بِأَفْضَلِ وَظَائِفِهِ الْعُبُودِيَّةِ (وَالْأَمَانَةُ) وَهِيَ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ أَوِ الْخَلْقِ لَزِمَ أَدَاؤُهُ وَفُسِّرَتْ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] بِأَنَّهَا الْوَاجِبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ (وَالرَّحِمُ) اسْتُعِيرَتْ لِلْقَرَابَةِ بَيْنَ النَّاسِ (تُنَادِي) بِالتَّأْنِيثِ، أَيْ قَرَابَةُ الرَّحِمِ أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالرَّحِمِ، وَقِيلَ: كُلٌّ مِنَ الثَّلَاثَةِ (أَلَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ (مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ) ، أَيْ بِالرَّحْمَةِ (وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ) ، أَيْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ إِخْبَارًا وَدُعَاءً، قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ ثَلَاثَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ، أَيْ هِيَ بِمَنْزِلَةٍ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَضِيعُ أَجْرَ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يُهْمِلُ مُجَازَاةَ مَنْ ضَيَّعَهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا، كَمَا هُوَ حَالُ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ السَّلَاطِينَ الْوَاقِفِينَ تَحْتَ عَرْشِهِ فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إِلَيْهِمْ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَشُكْرَهُمْ وَشِكَايَتَهُمْ تَكُونُ مُؤَثِّرَةً تَأْثِيرًا عَظِيمًا، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَا يُحَاوِلُهُ الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَائِرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَامَّةِ النَّاسِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِ وَأَهْلِهِ، فَالْقُرْآنُ وَصْلَةٌ إِلَى أَدَاءِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَمَانَةُ تَعُمُّ النَّاسَ فَإِنَّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَسَائِرَ حُقُوقِهِمْ أَمَانَاتٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَمَنْ قَامَ بِهَا فَقَدْ أَقَامَ الْعَدْلَ وَمَنْ وَاصَلَ الرَّحِمَ وَرَاعَى الْأَقَارِبَ بِدَفْعِ الْمَخَاوِفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَقَدْ أَدَّى حَقَّهَا، وَقَدَّمَ الْقُرْآنَ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَعْظَمُ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَخِيرَيْنِ، وَعَقِبَهُ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنَ الرَّحِمِ وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَدَاءِ حَقِّ الرَّحِمِ، وَصَرَّحَ بِالرَّحِمِ مَعَ اشْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مُحَافَظَتِهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا أَحَقُّ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْحِفْظِ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَفَى إِسْنَادِهِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ وَاهٍ.

2134 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارَتْقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2134 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُقَالُ) ، أَيْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَتَوَجُّهِ الْعَامِلِينَ إِلَى مَرَاتِبِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَكَاسِبِهِمْ (لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ) ، أَيْ مَنْ يُلَازِمُهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ لَا مَنْ يَقْرَؤُهُ وَهُوَ يَلْعَنُهُ (اقْرَأْ وَارَتْقِ) ، أَيْ إِلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ أَوْ مَرَاتِبِ الْقُرْبِ (وَرَتِّلْ) ، أَيْ لَا تَسْتَعْجِلْ فِي قِرَاءَتِكَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ وَالشُّهُودِ الْأَكْبَرِ كَعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ (كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ) ، أَيْ قِرَاءَتُكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى وَفْقِ الْأَعْمَالِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (فِي الدُّنْيَا) مِنْ تَجْوِيدِ الْحُرُوفِ وَمَعْرِفَةِ الْوُقُوفِ النَّاشِئِ عَنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِ الْفُرْقَانِ (فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا) وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ عَلَى عَدَدِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ «مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ دَرَجَةٌ» فَالْقُرَّاءُ يَتَصَاعَدُونَ بِقَدْرِهَا، قَالَ الدَّانِيُّ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ آيِ الْقُرْآنِ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ، فَقِيلَ: وَمِائَتَا آيَةٍ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ، وَقِيلَ: وَأَرْبَعَ عَشَرَةَ، وَقِيلَ: وَتِسْعَ عَشَرَةَ، وَقِيلَ: وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: وَسِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ الدَّيْلَمَيِّ فِي سَنَدِهِ كَذَّابٌ: " «دَرَجُ الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ آيِ الْقُرْآنِ، بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةٌ، فَتِلْكَ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ وَمِائَتَا آيَةٍ وَسِتَّ عَشَرَةَ آيَةٍ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِقْدَارُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» " قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ التَّرَقِّيَ يَكُونُ دَائِمًا، فَكَمَا أَنَّ قِرَاءَتَهُ فِي حَالِ الِاخْتِتَامِ اسْتَدْعَتْ الِافْتِتَاحَ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ كَذَلِكَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَالتَّرَقِّي فِي الْمَنَازِلِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَهُمْ كَالتَّسْبِيحِ لِلْمَلَائِكَةِ لَا تَشْغَلُهُمْ مِنْ مُسْتَلَذَّاتِهِمْ بَلْ هِيَ أَعْظَمُ مُسْتَلَذَّاتِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَنَالُ هَذَا الثَّوَابَ الْأَعْظَمَ إِلَّا مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَأَتْقَنَ أَدَاءَهُ وَقِرَاءَتَهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّاحِبَ هُوَ الْحَافِظُ دُونَ الْمُلَازِمِ لِلْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ، قُلْتُ: الْأَصْلُ فِيمَا فِي الْجَنَّةِ أَنَّهُ يَحْكِي مَا فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ فِي الدُّنْيَا صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُلَازِمَ لَهُ نَظَرًا

لَا يُقَالُ لَهُ صَاحِبُ الْقُرْآنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يُفَارِقُ الْقُرْآنَ فِي حَالَةٍ مِنَ الْحَالَاتِ، وَأَيْضًا فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: " «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فَيَقْرَأُ وَيَصْعَدُ بِكُلِّ أَيْةٍ دَرَجَةً حَتَّى يَقْرَأَ شَيْئًا مَعَهُ» " فَقَوْلُهُ مَعَهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ حَافِظُهُ، وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ الرَّامَهُرْمُزِيِّ: فَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ بِقِرَاءَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ذَكَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ( «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَظْهِرَهُ أَتَاهُ مَلَكٌ يُعَلِّمُهُ فِي قَبْرِهِ وَيَلْقَى اللَّهَ وَقَدِ اسْتَظْهَرَهُ» ) وَفِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ ( «وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ يَتَفَلَّتُ مِنْهُ وَلَا يَدَعْهُ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَمَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَطِيعُهُ وَلَا يَدَعُهُ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَشْرَافِ أَهْلِهِ» ) وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ ( «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدْرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ، لَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ أَنْ يَجْهَلَ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ وَفِي جَوْفِهِ كَلَامُ اللَّهِ» ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَنْزِلَةُ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ هِيَ مَا يَنَالُهُ الْعَبْدُ مِنَ الْكَرَامَةِ عَلَى حَسَبِ مَنْزِلَتِهِ فِي الْحِفْظِ وَالتِّلَاوَةِ لَا غَيْرَ، وَذَلِكَ لِمَا عَرِفْنَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ أَنَّ الْعَامِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمُتَدَبِّرَ لَهُ أَفْضَلُ مِنَ الْحَافِظِ وَالتَّالِي لَهُ إِذَا لَمْ يَنَلْ شَأْنَهُ فِي الْعَمَلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْ الصِّدِّيقِ وَأَكْثَرُ تِلَاوَةً مِنْهُ وَكَانَ هُوَ أَفْضَلَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِسَبْقِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَتَدَبُّرِهِ لَهُ وَعَمَلِهِ بِهِ، وَإِنْ ذَهَبْنَا إِلَى الثَّانِي وَهُوَ أَحَقُّ الْوَجْهَيْنِ وَأَتَمُّهُمَا فَالْمُرَادُ مِنَ الدَّرَجَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِالْآيَاتِ سَائِرُهَا وَحِينَئِذٍ تُقَدَّرُ التِّلَاوَةُ فِي الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَتْلُوَ آيَةً إِلَّا وَقَدْ أَقَامَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَاسْتِكْمَالُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لِلْأُمَّةِ بَعْدَهُ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي الدِّينِ وَمَعْرِفَةِ الْيَقِينِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَقْرَأُ عَلَى مِقْدَارِ مُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ تَدَبُّرًا وَعَمَلًا اهـ وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ وَنِهَايَةِ الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ وَلَا عِبْرَةَ بِطَعْنِ ابْنِ حَجْرٍ فِيهِ وَتَضْعِيفِ كَلَامِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى التَّكْلِفَةِ وَالْمُنَافَاةِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ التَّحْقِيقَ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ يَقْرَؤُهُ دَائِمًا وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ وَإِنْ قَرَأَهُ دَائِمًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] فَمُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ وَالْحِفْظِ لَا يُعْتَبَرُ اعْتِبَارًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَرَاتِبُ الْعَلِيَّةُ فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ: حَسَنٌ وَفِيهِ: " «فَيَقُولُ: الْقُرْآنُ يَا رَبِّ حُلَّةً فَيَلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ فَيَلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ فَيَرْضَى عَنْهُ وَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ» ".

2135 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2135 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ) ، أَيْ قَلْبِهِ (شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ نُسْخَةٌ، أَيِ الْخَرَابُ لِأَنَّ عِمَارَةَ الْقُلُوبِ بِالْإِيمَانِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَزِينَةَ الْبَاطِنِ بِالِاعْتِقَادَاتِ الْحَقَّةِ وَالتَّفَكُّرِ فِي نَعْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أُطْلِقَ الْجَوْفُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَلْبُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] وَاحْتِيجَ لِذِكْرِهِ لِيَتِمَّ التَّشْبِيهُ لَهُ بِالْبَيْتِ الْخَرَابِ بِجَامِعِ أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كَانَ فِي الْجَوْفِ يَكُونُ عَامِرًا مُزَيَّنًا بِحَسَبِ قِلَّةِ مَا فِيهِ وَكَثْرَتِهِ، وَإِذَا خُلِّيَ عَمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالِاعْتِقَادِ الْحَقِّ وَالتَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَصِفَاتِهِ يَكُونُ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ الْخَالِي عَمَّا يُعَمِّرُهُ مِنَ الْأَثَاثِ وَالتَّجَمُّلِ اهـ وَكَأَنَّهُ عَدْلٌ عَنْ ظَاهِرِ الْمُقَابَلَةِ الْمُتَبَادِرِ إِلَى الْفَهْمِ، وَإِذَا خُلِّيَ عَنِ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ ظُهُورِ إِطْلَاقِ الْخَرَابِ عَلَيْهِ، وَغَفَلَ ابْنُ حَجْرٍ عَنْ مَلْحَظِهِ وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُنَاسِبُهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) .

2136 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَقُولُ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2136 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الْخُدْرِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ) ، أَيْ حِفْظُهُ وَعِلْمُ مَبَانِيهِ وَتَدَبُّرُ مَعَانِيهِ وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ (عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتَيْ أَعْطَيْتُهُ) ، أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ (أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، قِيلَ: شُغْلُ الْقُرْآنِ الْقِيَامُ بِمَوَاجِبِهِ وَحُقُوقِهِ، وَمَسْأَلَتِي عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، أَيْ لَا يَظُنُّ الْمَشْغُولُ بِهِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْأَلْ لَمْ يُعْطَ حَوَائِجَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْعَطَاءِ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ لَهُ.

وَعَنِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - شُغْلُ الْقُرْآنِ الْقِيَامُ بِمُوجِبَاتِهِ مِنْ إِقَامَةِ فَرَائِضِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَحَارِمِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ ذَكَرَهُ وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ، وَإِذَا عَصَاهُ فَقَدْ نَسِيَهُ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالذِّكْرِ وَالْمَسْأَلَةِ اللَّذَانِ لَيْسَا فِي الْقُرْآنِ كَالدَّعَوَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلَهِ (وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ) ، أَيْ الدَّالُ عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَشَرَّفَهُ بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِهِ (عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ) ، أَيْ وَكَذَلِكَ فَضْلُ الِاشْتِغَالِ وَالْمُشْتَغِلِ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ وَجْهُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ الذَّاكِرِينَ بِذِكْرِ السَّائِلِينَ أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ سَائِرِينَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ إِذْ لِسَانُ حَالِ كُلِّ مَخْلُوقٍ نَاطِقٍ بِالِافْتِقَارِ إِلَى نِعَمِ الْحَقِّ وَإِمْدَادِهِ بَعْدَ إِيجَادِهِ، ثُمَّ هَذَا الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِلَّا فَمَحَلُّهُ مَا لَمْ يَشْرَعْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى قِدَمِ الْقُرْآنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ رَدًّا عَلَى الْمُحَدِّثِينَ، قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَحِينَئِذٍ فِيهِ الْتِفَاتٌ كَمَا لَا يَخْفَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا أَظْهَرُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى ارْتِكَابِ الِالْتِفَاتِ، وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ أَبَى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا عَطِيَّةَ الْعَوْفِيَّ فَفِيهِ ضَعْفٌ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُ الدَّارِمِيِّ " «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسَائِلِي» " اهـ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِي الْمَعْنَى الْأَعَمُّ أَوِ الْأَخَصُّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْأَنْسَبُ لِلْجَمْعِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْإِضَافَةِ التَّشْرِيفِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] .

2137 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، أَلْفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2137 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا) ، أَيْ قَابِلًا لِلِانْفِصَالِ أَوِ الْمُرَادُ بِهِ مَثَلًا (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ) ، أَيْ عَطِيَّةٌ (وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) ، أَيْ مُضَاعَفَةٌ بِالْعَشْرِ وَهُوَ أَقَلُّ التَّضَاعُفِ الْمَوْعُودِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَلِلْحَرْفِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ وَالْحَرْفُ يُطْلَقُ عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ وَالْمَعَانِي وَالْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ وَالْكَلِمَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي قِرَاءَتِهَا وَعَلَى مُطْلَقِ الْكَلِمَةِ وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، أَلْفٌ) بِالسُّكُونِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَقِيلَ: بِالتَّنْوِينِ (حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مُسَمَّى أَلِفٍ حَرْفٌ وَالِاسْمُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ وَكَذَا مُسَمَّى مِيمٍ وَهُوَ حَرْفٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَفْظَةَ مِيمٍ اسْمٌ لِهَذَا الْمُسَمَّى، فَحُمِلَ الْحَرْفُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْمَذْكُورَاتِ مَجَازًا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فِي ضَرْبِ اللَّهِ مَثَلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ضَهٍ وَرَهٍ وَبِهِ وَعَلَى هَذَا إِنْ أُرِيدَ بِـ (الم) مُفْتَتَحُ سُورَةِ الْفِيلِ يَكُونُ عَدَدُ الْحَسَنَاتِ ثَلَاثِينَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مُفْتَتَحُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَشَبَهِهَا بَلَغَ الْعَدَدُ تِسْعِينَ اهـ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ بَعِيدٌ إِذِ الرِّوَايَةُ (ألم) بِالْمَدِّ لَا بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُنَاسِبِ أَنْ يُقَالَ: فَأُحَرِّفُ بَدَلِ مِيمٍ حَرْفٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَكَرَ مِنْ (ألم) مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ حَرْفًا وَأَنْ يُلَاحِظَ الْمُسَمَّيَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ (ألم) عِبَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ عَنْ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَدَاءَ نَفْسِ الْأَسْمَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنْ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ يَكُونُ عَدَدُ الْحَسَنَاتِ تِسْعِينَ وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْفِيلِ يَكُونُ عَدَدُهَا ثَلَاثِينَ كَمَا هُوَ عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ، وَلَا يُرِيدُ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُهُمَا لِأَنَّهُ جَاءَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيِّ ( «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، لَا أَقُولُ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَلَكِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْمِيمَ وَالذَّالَ وَاللَّامَ وَالْكَافَ» ) اهـ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحِسَابِ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ لَا الْمَلْفُوظَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ ( «لَا أَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ بَاءٌ وَسِينٌ وَمِيمٌ، وَلَا أَقُولُ الم وَلَكِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْمِيمَ» ) (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) ، أَيْ لِأُمَّتِنَا تَمْيِيزٌ عَنْ نِسْبَةِ غَرِيبٍ، وَقَالَ: وَوَقَفَهُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ.

2138 - «وَعَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ قَالَ: مَرَرْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الْأَحَادِيثِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ: أَوَقَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةً " قُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا هُوَ بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ. وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلِقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1 - 2] ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ وَفِي الْحَارِثِ مَقَالٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2138 - (وَعَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ) تَابِعِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ (قَالَ: مَرَرْتُ فِي الْمَسْجِدِ) ، أَيْ بِنَاسٍ جَالِسِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْمَسْجِدِ ظَرْفٌ، وَالْمُرُورُ بِهِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ) ، أَيْ يَدْخُلُونَ دُخُولَ مُبَالَغَةٍ (فِي الْأَحَادِيثِ) ، أَيْ أَحَادِيثِ النَّاسِ وَأَبَاطِيلِهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْحِكَايَاتِ وَالْقِصَصِ وَيَتْرُكُونَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْآثَارِ وَأَنْوَارِ الْبُرْهَانِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ ظُهُورِهَا أَوْ يُبَالِغُونَ فِي بَحْثِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَيَتْرُكُونَ التَّعَلُّقَ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخَوْضُ أَصْلُهُ الشُّرُوعُ فِي الْمَاءِ وَالْمُرُورُ فِيهِ وَيُسْتَعَارُ فِي الشُّرُوعِ، وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا يُذَمُّ الشُّرُوعُ فِيهِ (فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) خَصَّهُ إِمَّا لِكَوْنِهِ الْخَلِيفَةَ إِذْ ذَاكَ أَوْ لِتَمَيُّزِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ " «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا» " خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَلِمَنْ قَالَ: ضَعِيفٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ إِفْرَادِ طُرُقِهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (فَأَخْبَرْتُهُ) ، أَيِ الْخَبَرُ (فَقَالَ: أَوَقَدْ فَعَلُوهَا؟) ، أَيْ أَتَرَكُوا الْقُرْآنَ وَقَدْ فَعَلُوهَا، أَيْ وَخَاضُوا فِي الْأَحَادِيثِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: أَوَقَدْ فَعَلُوا الْمُنْكَرَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ ارْتَكَبُوا هَذِهِ الشَّنِيعَةَ وَخَاضُوا فِي الْأَبَاطِيلِ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ وَالْوَاوَ الْعَاطِفَةَ يَسْتَدْعِيَانِ فِعْلًا مُنْكَرًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، أَيْ فَعَلُوا هَذِهِ الْفِعْلَةَ الشَّنِيعَةَ (قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا) لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهَا) ، أَيِ الْقِصَّةُ وَبَيَانُهَا (سَتَكُونُ فِتْنَةً) ، أَيْ مِحْنَةً عَظِيمَةً وَبَلِيَّةً عَمِيمَةً، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِالْفِتْنَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ أَوْ خُرُوجَ التَّتَارِ أَوِ الدَّجَّالِ أَوْ دَابَّةِ الْأَرْضِ اهـ وَغَيْرَ الْأَوَّلِ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ كَمَا لَا يَخْفَى (قُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟) ، أَيْ مَا طَرِيقُ الْخُرُوجِ وَالْخَلَاصِ مِنَ الْفِتْنَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ:، أَيْ مَوْضِعُ الْخُرُوجِ أَوِ السَّبَبُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْفِتْنَةِ (قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ) ، أَيْ طَرِيقُ الْخُرُوجِ مِنْهَا تَمَسُّكٌ بِكِتَابِ اللَّهِ عَلَى التَّقْدِيرِ مُضَافٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: التَّقْدِيرُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا الْمَخْرَجُ، أَيِ السَّبَبُ الْمَانِعُ لِلْوُقُوعِ فِي الضَّلَالَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْفِتْنَةِ (فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ) ، أَيْ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ (وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ) وَهِيَ الْأُمُورُ الْآتِيَةُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَفِي الْعِبَارَةِ تَفَنُّنٌ (وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ، أَيْ حُكْمُ مَا وَقَعَ أَوْ يَقَعُ بَيْنَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِي الْأَحْكَامِ (وَهُوَ الْفَصْلُ) ، أَيِ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَوِ الْمَفْصُولِ وَالْمُمَيَّزِ فِيهِ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعَذَابُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةٌ (لَيْسَ بِالْهَزْلِ) ، أَيْ جِدٌّ كُلُّهُ وَحَقٌّ جَمِيعُهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَالْهَزْلُ فِي الْأَصْلِ الْقَوْلُ الْمُعَرَّى عَنِ الْمَعْنَى الْمَرْضِيِّ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْهُزَالِ ضِدُّ السِّمَنِ، وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ - وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13 - 14] أَيْ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى كَوْنِهِ فَاصِلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَآثَرَ الْمَصْدَرَ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَفْصُولٌ بِهِ أَوْ أَنَّهُ قَاطِعٌ فِي أَنَّهُ حَقٌّ وَيُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ أَوْ ذُو فَصْلٍ وَبَيَانٍ لِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] (مَنْ تَرَكَهُ) ، أَيِ الْقُرْآنَ إِيمَانًا وَعَمَلًا (مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ) ، أَيْ أَهْلَكَهُ أَوْ كَسَرَ عُنُقَهُ وَأَصْلُ الْقَصْمِ الْكَسْرُ وَالْإِبَانَةُ فَالْمَعْنَى قَطَعَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ عَنْ رَحْمَتِهِ أَوْ قَطَعَ حُجَّتَهُ بِخِلَافِ مَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ - تَعَالَى - وَصَّلَهُ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ وَأَعْلَى مَنَازِلِ الْجَمَالِ مِنَ الْوِصَالِ وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ أَوْ إِخْبَارٌ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَالطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَبِعَهُمَا ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا ضِدَّانِ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَبَيَّنَ التَّارِكَ بِمِنْ جَبَّارٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى التَّرْكِ إِنَّمَا هُوَ التَّجَبُّرُ وَالْحَمَاقَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِآيَةٍ أَوْ بِكَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ أَوْ تَرَكَ قِرَاءَتَهَا مِنَ التَّكَبُّرِ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَهُ عَجْزًا وَكَسَلًا وَضَعْفًا مَعَ اعْتِقَادِ تَعْظِيمِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، أَيْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ وَلَكِنَّهُ مَحْرُومٌ (وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى) ، أَيْ طَلَبَ الْهِدَايَةِ مِنَ الضَّلَالَةِ (فِي غَيْرِهِ) مِنَ الْكُتُبِ وَالْعُلُومِ الَّتِي غَيْرُ مَأْخُوذَةٍ مِنْهُ وَلَا مُوَافِقَةٍ مَعَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِلسَّبَبِيَّةِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لِلظَّرْفِيَّةِ أَبْلَغُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ مُنْحَصِرَةٌ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ (أَضَلَّهُ اللَّهُ) ، أَيْ

عَنْ طَرِيقِ الْهَدْيِ وَأَوْقَعَهُ فِي سَبِيلِ الرَّدَى وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ الضَّالَّةِ (وَهُوَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ) ، أَيِ الْمُحْكَمُ الْقَوِيُّ وَالْحَبْلُ مُسْتَعَارٌ لِلْوَصْلِ وَلِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ، أَيِ الْوَسِيلَةُ الْقَوِيَّةُ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَسَعَادَةِ قُرْبِهِ وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] (وَهُوَ الذِّكْرُ) ، أَيْ مَا يُذَّكِّرُ بِهِ الْحَقُّ - تَعَالَى - أَوْ مَا يَتَذَكَّرُ بِهِ الْخَلْقُ، أَيْ يَتَّعِظُ (الْحَكِيمُ) ، أَيْ ذُو الْحِكْمَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ أَوِ الْحَاكِمِ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ أَوْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ أَوِ الْمُحْكِمِ آيَاتِهِ الْقَوِيِّ بُنْيَانِهِ لَا يُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَقْدِرَ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَالَ - تَعَالَى - {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] أَوِ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الشَّرَفُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْمُذَكِّرِ فَالْمُرَادُ بِالْحَكِيمِ ذُو الْحِكْمَةِ وَأَمَّا تَفْسِيرُ الذِّكْرِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فَبَعِيدٌ (وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ) ، أَيْ الطَّرِيقُ الْقَوِيمُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مِنَ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْطِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّضْلِيلِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فَمَنْ سَلَكَهُ نَجَا وَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ غَوَى (هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ، أَيْ لَا تَمِيلُ عَنِ الْحَقِّ (بِهِ) ، أَيْ بِاتِّبَاعِهِ (الْأَهْوَاءُ) ، أَيِ الْهَوَى إِذَا وَافَقَ هَذَا الْهَدْيَ حُفِظَ مِنَ الرَّدَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مُبْتَدِعًا وَضَالًّا يَعْنِي لَا يَمِيلُ بِسَبَبِهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ لَا يُقَالُ قِيلَ لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْكَازَرُونِيِّ: إِنَّ أَهْلَ الْبِدْعَةِ أَيْضًا يَسْتَدِلُّونَ بِالْقُرْآنِ كَمَا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَحْتَجُّونَ بِهِ عِنْدَ الْبُرْهَانِ، قَالَ - تَعَالَى - {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] لِأَنَّا نَقُولُ سَبَبُ الْإِضْلَالِ عَدَمُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَإِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ تَرَكُوا الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقَاصِدِ الْقُرْآنِيَّةِ وَفَى الْقُرْآنِ " {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] " فَمَا عَرَفُوا الْقُرْآنَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَمَا قَلَّدُوا مَنْ هُوَ كَامِلٌ فِي مَعْرِفَةِ أَدِلَّتِهِ فَوَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا حَيْثُ أَنْكَرُوا الْحَدِيثَ وَدَفَعُوا، وَلِذَا قَالَ الْجُنَيْدُ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي طَرِيقِنَا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاسْتَمَرَّ قَانِعًا بِجَهْلِهِ فَهُوَ ضَحِكَةٌ لِلشَّيْطَانِ مَخْسَرَةٌ لَهُ لِأَنَّ عِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ:، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ عَلَى تَبْدِيلِهِ وَتَغْيِيرِ إِمَالَتِهِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ تَحْرِيفِ الْغَالِينَ وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقِيلَ: الرِّوَايَةُ مِنَ الْإِزَاغَةِ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ وَالْبَاءُ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، أَيْ لَا يُمِيلُهُ الْأَهْوَاءُ الْمُضِلَّةُ عَنْ نَهْجِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى الِاعْوِجَاجِ وَعَدَمِ الْإِقَامَةِ كَفِعْلِ الْيَهُودِ بِالتَّوْرَاةِ حِينَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ، قَالَ - تَعَالَى - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ) ، أَيْ لَا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ أَلْسِنَةُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ، قَالَ - تَعَالَى - {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 97 - 17] وَقِيلَ: لَا يَخْتَلِطُ بِهِ غَيْرُهُ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ وَيَلْتَبِسُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَحْفَظُهُ، أَوْ يُشْتَبَهُ كَلَامُ الرَّبِّ بِكَلَامِ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ كَلَامًا مَعْصُومًا دَالًّا عَلَى الْإِعْجَازِ وَلِذَا لَا يَجِدُونَ فِيهِ تَنَاقُضًا يَسِيرًا " {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] " (وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ) ، أَيْ لَا يَصِلُونَ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُنْهِهِ حَتَّى يَقِفُوا عَنْ طَلَبِهِ وُقُوفَ مَنْ يَشْبَعُ مِنْ مَطْعُومٍ، بَلْ كُلَّمَا اطَّلَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِهِ اشْتَاقُوا إِلَى آخَرَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا فَلَا شِبَعَ وَلَا سَآمَةَ (وَلَا يَخْلُقُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ مِنْ خَلِقَ الثَّوْبُ إِذَا بَلِيَ وَكَذَلِكَ أَخْلَقَ (عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ) ، أَيْ لَا تَزُولُ لَذَّةُ قِرَاءَتِهِ وَطَرَاوَةُ تِلَاوَتِهِ وَاسْتِمَاعُ أَذْكَارِهِ وَأَخْبَارِهِ مِنْ كَثْرَةِ تَكْرَارِهِ، وَعَنْ عَلِيٍّ بَابُهَا، أَيْ لَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ مِنْ كَثْرَةِ تَكْرَارِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كَلَامِ غَيْرِهِ - تَعَالَى - الْمَقُولِ فِيهِ: جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى مُعَادَاةِ الْمُعَادَاتِ بَلْ هَذَا مِنْ قَبِيلِ: أَعِدْ ذِكْرَ نُعْمَانَ لَنَا إِنَّ ذِكْرَهُ هُوَ الْمِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ وَلِذَا كُلَّمَا زَادَ الْعَبْدُ مِنْ تَكْرَارِ قِرَاءَتِهِ أَوْ سَمَاعِ تِلَاوَتِهِ ازْدَادَ فِي حَلَاوَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ لِحُصُولِ مُتَمَنَّاهُ، وَلِذَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَتِرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلًا وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ عَنْ بِمَعْنَى مَعَ (وَلَا يَنْقَضِي عَجَائِبُهُ) ، أَيْ لَا يَنْتَهِي غَرَائِبُهُ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْهَا، قِيلَ: كَالْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ لِلْقَرِيبَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجْرٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَجَائِبِ بِحَيْثُ لَا يَتَنَاهَى أَقْوَى مِنْ عَدَمِ شِبَعِ الْعُلَمَاءِ وَنَفْيِ الْبِلَى بَلْ أَعْلَى

وَأَغْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (هُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (إِذْ سَمِعَتْهُ) ، أَيِ الْقُرْآنُ، وَفَى نُسْخَةٍ: إِذَا سَمِعَتْهُ (حَتَّى قَالُوا) ، أَيْ لَمْ يَتَوَقَّفُوا وَلَمْ يَمْكُثُوا وَقْتَ سَمَاعِهِمْ لَهُ عَنْهُ، بَلْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ لِمَا بَهَرَهُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَبَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَاهَةِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَبَالَغُوا فِي مَدْحِهِ حَتَّى قَالُوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] ، أَيْ شَأْنُهُ مِنْ حَيْثِيَّةِ جَزَالَةِ الْمَبْنَى وَغَزَارَةِ الْمَعْنَى {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 2] ، أَيْ يَدُلُّ عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ أَوْ يَهْدِي اللَّهُ بِهِ النَّاسَ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ (فَآمَنَّا بِهِ) ، أَيْ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِيمَانُ بِرَسُولِ اللَّهِ (مَنْ قَالَ بِهِ) مَنْ أَخْبَرَ بِهِ (صَدَقَ) ، أَيْ فِي خَبَرِهِ أَوْ مَنْ قَالَ قَوْلًا مُلْتَبِسًا بِهِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى قَوَاعِدِهِ وَوَفْقَ قَوَانِينِهِ وَضَوَابِطِهِ صَدَقَ (وَمَنْ عَمِلَ بِهِ) ، أَيْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ (أُجِرَ) ، أَيْ أُثِيبَ فِي عَمَلِهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَسِيمًا لِأَنَّهُ لَا يَحُثُّ إِلَّا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَمَحَاسِنِ الْآدَابِ وَالْأَحْوَالِ (وَمَنْ حَكَمَ بِهِ) ، أَيْ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ بَيْنَ خَوَاطِرِهِ (عَدَلَ) ، أَيْ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ (وَمَنْ دَعَا) ، أَيِ الْخَلْقُ (إِلَيْهِ) ، أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ (هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ الْمَدْعُوُّ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَحْصِيلٌ حَاصِلٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَصِحُّ بِنَاؤُهُ لِلْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ اهـ وَهُوَ احْتِمَالٌ عَقْلِيٌّ وَإِلَّا فَالنُّسَخُ الْمُصَحَّحَةُ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، فَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: رُوِيَ مَجْهُولًا، أَيْ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ وُفِّقَ لِمَزِيد الِاهْتِدَاءِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ) الظَّاهِرُ فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ (وَفِي الْحَارِثِ) ، أَيِ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ (مَقَالٌ) ، أَيْ مُطْعَنٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَشَهِدَ أَنَّهُ كَاذِبٌ اهـ وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِصُحْبَةِ عَلِيٍّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: كَانَ أَفْقَهَ النَّاسِ وَأَفْرَضَ النَّاسِ وَأَحْسَبَ النَّاسِ اهـ. فَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ رَوَى عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَشَهِدَ أَنَّهُ كَذَبَ وَلِذَا لَمْ يَقُلْ كَذَّابٌ مَعَ أَنَّ الْكَذُوبَ قَدْ يَصْدُقُ وَلِذَا رَوَى عَنْهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَهُ ضَعِيفٌ إِسْنَادُهُ وَإِنْ كَانَ لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَاهُ مَعَ أَنَّ الضَّعِيفَ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ اتِّفَاقًا.

2139 - وَعَنْ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2139 - (وَعَنْ مُعَاذِ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ) ، أَيْ فَأَحْكَمَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، أَيْ فَأَتْقَنَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ:، أَيْ حَفِظَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ (وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلْبَسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ وَالسَّعَادَةِ اهـ وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ (ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ) اخْتَارَهُ عَلَى أَنْوَرَ وَأَشْرَقَ إِعْلَامًا بِأَنَّ تَشْبِيهَ التَّاجِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ بِالشَّمْسِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْإِشْرَاقِ وَالضَّوْءِ بَلْ مَعَ رِعَايَةٍ مِنَ الزِّينَةِ وَالْحُسْنِ (مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ) حَالَ كَوْنِهَا (فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا) فِيهِ تَتْمِيمُ صِيَانَةٍ مِنَ الْإِحْرَاقِ وكَلَالِ النَّظَرِ بِسَبَبِ أَشِعَّتِهَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ (لَوْ كَانَتْ) ، أَيِ الشَّمْسُ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ (فِيكُمْ) ، أَيْ فِي بُيُوتِكُمْ تَتْمِيمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ الشَّمْسَ مَعَ ضَوْئِهَا وَحُسْنِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي بُيُوتِنَا كَانَتْ آنَسَ وَأَتَمَّ مِمَّا لَوْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فِي دَاخِلِ بُيُوتِكُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ فِي بَيْتِ أَحَدِكُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيهِ (فَمَا ظَنُّكُمْ) ، أَيْ إِذَا كَانَ هَذَا جَزَاءُ وَالِدَيْهِ لِكَوْنِهِمَا سَبَبًا لِوُجُودِهِ (بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟) وَفِي رِوَايَةٍ: عَمِلَ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِقْصَارٌ لِلظَّنِّ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَةِ مَا يُعْطَى لِلْقَارِئِ الْعَامِلِ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُلْكِ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشَرٍ كَمَا أَفَادَتْهُ مَنِ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ الْمُؤَكِّدَةُ لِمَعْنَى تَحَيُّرِ الظَّانِّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

2140 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2140 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يَفْرِضُ تَجَسُّمَهُ إِذْ تَجَسَّمَ الْمَعْنَى جَائِزٌ وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِهِ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِصِحَّةِ فَرْضِ وَضْعِ الْمُصْحَفِ (فِي إِهَابٍ) ، أَيْ جِلْدٍ لَمْ يُدْبَغْ كَذَا قَالُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الْجِلْدِ إِمَّا عَلَى التَّجْرِيدِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا لَمْ يُدْبَغْ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْإِهَابِ وَهُوَ الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يُدْبَغُ لِأَنَّ الْفَسَادَ إِلَيْهِ أَسْرَعُ وَنَفْخُ النَّارِ فِيهِ أَنْفَذُ لِيُبْسِهِ وَجَفَافِهِ وَبِخِلَافِ الْمَدْبُوغِ لِلِينِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَارِئُ غَيْرَ مُرْتَاضٍ نَفَعَهُ الْقُرْآنُ (ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ لَيْسَ لِتَرَاخِي الزَّمَانِ بَلْ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ بَيْنَ الْجَعْلِ فِي الْإِهَابِ وَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ وَإِنَّهُمَا أَمْرَانِ مُتَنَافِيَانِ لِرُتْبَةِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ الثَّانِي أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: ثُمَّ عَلَى بَابِهَا وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَاءِ (مَا احْتَرَقَ) ، أَيِ الْإِهَابُ بِبَرَكَةِ الْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنْ يَنَابِيعِ الرَّحْمَةِ وَأَنْهَارِ الْحِكْمَةِ مَا يُخْمِدُ تِلْكَ النَّارَ وَيُطْفِئُهَا كَمَا وَرَدَ (جُزْ يَا مُؤْمِنُ فَإِنَّ نُورَكَ أَطْفَأَ لَهَبِي) وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ مَعَ هَذَا الْجِلْدِ الْحَقِيرِ الَّذِي جَاوَرَهُ فِي سَاعَةٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِجَوْفِ الْحَافِظِ لَهُ وَجَسَدِ الْعَامِلِ بِهِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِيهِ أَزْمِنَةً عَدِيدَةً وَمُدَدًا مَدِيدَةً؟ فَيَكُونُ حِفْظُهُ لِخَوْفِهِ مِنْ نَارِ الْبُعْدِ وَالْحِجَابِ، وَنَارُ جَهَنَّمَ أَحْرَى وأْولى وَأَبْلَغُ وَأَقْوَى، وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَرَجَّحَهُ الْقَاضِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْجِنْسَ أَقْرَبُ وَأَحْرَى، وَضُرِبَ الْمَثَلُ بِالْإِهَابِ لِلتَّحْقِيرِ أَحْرَى لِأَنَّ التَّمْثِيلَ وَارِدٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَوْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} [الكهف: 109] الْآيَةَ، قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ فِي التَّنْظِيرِ " {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] " أَيْ يَنْبَغِي وَيَحِقُّ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ فِي مِثَالِ هَذَا الشَّيْءِ الْحَقِيرِ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ بِهِ وَيُلْقَى فِي النَّارِ مَسَّتْهُ فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ أَكْرَمُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَفْضَلُهُمْ وَقَدْ وَعَاهُ فِي صَدْرِهِ وَتَفَكَّرَ فِي مَعَانِيهِ وَوَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهِ وَعَمِلَ فِيهِ بِجَوَارِحِهِ؟ فَكَيْفَ تَمَسُّهُ؟ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَحْرِقَهُ، قَالَ: وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ وَقَعَ التَّنَاسُبُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّ الْمَعْنَى مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلْبَسَ وَالِدَاهُ تَاجًا، فَكَيْفَ بِالْقَارِئِ الْعَامِلِ؟ وَلَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ مَسَّتْهُ النَّارُ، فَكَيْفَ بِالتَّالِي الْعَامِلِ؟ اهـ وَهَذَا تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ مَا وَقَعَتَا مُتَوَالِيَتَيْنِ فِي لَفْظِ النُّبُوَّةِ لِيَطْلُبَ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْكِتَابِ يَكْفِي كَوْنُهُمَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي فَضْلِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ فَضْلَهُ بِسَبَبِهِ مَعَ أَنَّ الْمُنَاسَبَة الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُ تَامَّةٍ لِأَنَّ الشُّرْطِيَّةَ الْأُولَى حَقِيقِيَّةٌ وَالثَّانِيَةَ فَرْضِيَّةٌ، فَقِيلَ: كَانَ هَذَا مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِ (لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ مَسَّتْهُ النَّارُ) وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَعَالِمِ بِسَنَدِهِ ثُمَّ قَالَ: قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ وَقَرَأَهُ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَرِوَايَةُ مَسَّتْهُ كَمَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ أَوْلَى مِنِ احْتَرَقَ اهـ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ أَبْلَغُ لَا أَنَّهُ أَصَحُّ لِأَنَّ النُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى لَفْظِ احْتَرَقَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَكْثَرَ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَكَذَا ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِالْمَعْنَى إِنَّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ لَمْ تَحْرِقْهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ جِسْمَ حَافِظِ الْقُرْآنِ كَالْإِهَابِ لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: " احْفَظُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ " (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ: «لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ مَا أَكَلَتْهُ النَّارُ» .

2141 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَشَفَّعَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلِّهِمْ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَحَفْصُ بْنُ سَلْمَانَ الرَّاوِي لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2141 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ (فَاسْتَظْهَرَهُ) أَيِ اسْتَظْهَرَ حِفْظَهُ بِأَنْ حَفِظَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ أَوِ اسْتَظْهَرَ طَلَبَ الْمُظَاهَرَةَ وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ أَوِ اسْتَظْهَرَ إِذَا احْتَاطَ فِي الْأَمْرِ وَبَالَغَ فِي حِفْظِهِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَطَلَبَ مِنْهُ الْقُوَّةَ أَوِ الْمُعَاوَنَةَ فِي الدِّينِ (فَأَحَلَّ حَلَالَهُ

وَحَرَّمَ حَرَامَهُ) أَوِ احْتَاطَ فِي حِفْظِ حُرْمَتِهِ أَوِ امْتِثَالِهِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُرَادَةٌ هُنَا بِدَلِيلِ الْفَاءَيْنِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ اعْتَقَدَهُمَا مَعَ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَتَرْكِهِ لِلثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهِ بِفِعْلِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ (أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) ، أَيْ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ (وَشَفَّعَهُ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ قَبِلَ شَفَاعَتَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جَعَلَهُ شَفِيعًا (فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلِّهُمْ) ، أَيْ كُلُّ الْعَشَرَةِ (قَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ) وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ لِلَفْظِ الْكُلِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي رَفْعِ الْمَنْزِلَةِ دُونَ حَطِّ الْوِزْرِ بِنَاءً عَلَى مَا افْتَرَوْهُ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ يَجِبُ خُلُودُهُ فِي النَّارِ وَلَا يُمْكِنُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَالْوُجُوبُ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاعَدَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَالدَّارِمِيُّ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَحَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّاوِي) بِإِسْكَانِ الْيَاءِ (لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ) ، أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَعَ هَذَا (يُضَعَّفُ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ يُنْسَبُ إِلَى الضَّعْفِ (فِي الْحَدِيثِ) ، أَيْ فِي رِوَايَتِهِ.

2142 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ " فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّورَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَى الدَّارِمِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أُنْزِلَتْ، وَلَمْ يَذْكُرْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2142 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَرَأَ» ) ، أَيْ أُبَيٌّ (أُمَّ الْقُرْآنِ) يَعْنِي الْفَاتِحَةَ وَسُمِّيَتْ بِهَا لِاحْتِوَائِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ إِجْمَالًا، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأُمِّ الْأَصْلُ فَهِيَ أَصْلُ قَوَاعِدِ الْقُرْآنِ وَيَدُورُ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِيمَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ هَذَا جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ كَيْفَ تَقْرَأُ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ حَالَةِ الْقِرَاءَةِ لَا نَفْسًا؟ قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ مُرَتِّلًا وَمُجَوِّدًا، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَأَلَ عَنْ حَالِ مَا يقَرَأُهُ فِي الصَّلَاةِ أَهِيَ سُورَةٌ جَامِعَةٌ حَاوِيَةٌ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ فَلِذَلِكَ جَاءَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ، أَيْ هِيَ جَامِعَةٌ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَأَصْلٌ لَهَا ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ» ) ، أَيْ فِي بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ سُورَةٌ (مِثْلُهَا وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانِيَّةً أَوْ تَبْعِيضَيَّةً (وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ لِلْمُبَالَغَةِ (الَّذِي أُعْطِيتُهُ) ، أَيْ وَلَمْ يُعْطَهُ نَبِيٌّ غَيْرِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ (وَرَوَى الدَّارِمِيُّ مِنْ قَوْلِ: مَا أُنْزِلَتْ، وَلَمْ يَذْكُرْ) ، أَيْ الدَّارِمِيُّ (أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ) ، أَيْ قِصَّتُهُ الْكَائِنَةُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

2143 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَاقْرَءُوهُ، فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَ فَقَرَأَ وَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا تَفُوحُ رِيحُهُ كُلَّ مَكَانٍ، وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِئَ عَلَى مِسْكٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2143 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ) ، أَيْ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: تَعَلُّمُ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيهِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَبْدِيلٌ وَتَحْرِيفٌ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرْيَةِ مَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ أَثِمُوا بِأَسْرِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ وَقْفَةٌ، إِذِ الْمُخَاطَبُ بِهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ فَحَيْثُ كَانَ فِيهِمْ عَدَدُ التَّوَاتُرِ مِمَّنْ يَحْفَظُهُ فَلَا إِثْمَ عَلَى أَحَدٍ، نَعَمْ يَتَعَيَّنُ فِي عَدَدِ التَّوَاتُرِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ أَوْ يُحَرِّفَ شَيْئًا مَنَعُوهُ اهـ وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّرْكَشِيِّ إِنَّ كُلَّ بَلَدٍ لَا بُدَّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ تَعَلُّمَ بَعْضِ الْقُرْآنِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْكُلِّ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَقْرَأُ أَثِمُوا جَمِيعًا، وَأَيْضًا لَا يَحْصُلُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ إِلَّا بِمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَإِلَّا فَكُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ يَقُولُ: لَيْسَ

عِلْمُ الْقُرْآنِ فَرْضًا عَلَيْنَا فَيَنْجَرُّ إِلَى فَسَادِ الْعَالِمِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّوَوِيِّ: وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَأَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِحِفْظِهِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ دُونَ فَرْضِ الْعَيْنِ مِنْهَا (فَاقْرَءُوهُ) ، أَيْ بَعْدَ التَّعَلُّمِ وَعَقِيبِهِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ أَمْرٌ بِالْأَكْمَلِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّعَلُّمِ وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّجْوِيدُ وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ " فَاقْرَءُوهُ " كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] أَيْ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَدَاوِمُوا تِلَاوَتَهُ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَ فَقَرَأَ وَقَامَ بِهِ) ، أَيْ دَاوَمَ عَلَى قِرَاءَتِهِ أَوْ دَاوَمَ بِهِ (كَمَثَلِ جِرَابٍ) بِالْكَسْرِ وَالْعَامَّةُ تَفْتَحُهُ، قِيلَ: لَا تَفْتَحِ الْجِرَابَ وَلَا تَكْسِرِ الْقِنْدِيلَ، وَخَصَّ الْجِرَابَ هُنَا بِالذِّكْرِ احْتِرَامًا لِأَنَّهُ مِنْ أَوْعِيَةِ الْمِسْكِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ لِأَجْلِ مَنْ تَعَلَّمَهُ كَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْجَوَابِ، فَمَثَلُ مُبْتَدَأٌ وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ وَاللَّامُ فِي لِمَنْ تَعَلَّمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ كَمَثَلٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْضًا وَالتَّشْبِيهُ إِمَّا مُفْرَدٌ وَإِمَّا مُرَكَّبٌ (مَحْشُوٌّ) ، أَيْ مَمْلُوءٌ مَلْأً شَدِيدًا بِأَنْ حُشِيَ بِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِغَيْرِهِ (مِسْكًا) نَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ (تَفُوحُ رِيحُهُ) ، أَيْ تَظْهَرُ وَتَصِلُ رَائِحَتُهُ (كُلَّ مَكَانٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي صَدْرَ الْقَارِئِ كَجِرَابٍ وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَالْمِسْكِ فَإِنَّهُ إِذَا قَرَأَ وَصَلَتْ بَرَكَتُهُ إِلَى تَالِيهِ وَسَامِعِيهِ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ إِطْلَاقَ الْمَكَانِ لِلْمُبَالَغَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَعَ أَنَّ التَّدْمِيرَ وَالْإِيتَاءَ خَاصٌّ (وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، أَيْ مَثَلُ رِيحِ مَنْ تَعَلَّمَهُ (فَرَقَدَ) ، أَيْ نَامَ عَنِ الْقِيَامِ وَغَفَلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ الْعَمَلِ (وَهُوَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (فِي جَوْفِهِ) ، أَيْ فِي قَلْبِهِ (كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِئَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ رُبِطَ (عَلَى مِسْكٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ شُدَّ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْأَوْعِيَةُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ تَصِلُ بَرَكَتُهُ مِنْهُ إِلَى بَيْتِهِ وَإِلَى السَّامِعِينَ وَيَحْصُلُ اسْتِرَاحَةٌ وَثَوَابٌ إِلَى حَيْثُ يَصِلُ صَوْتُهُ، فَهُوَ كَجِرَابٍ مَمْلُوءٍ مِنَ الْمِسْكِ إِذَا فَتَحَ رَأْسَهُ تَصِلُ رَائِحَتُهُ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ حَوْلَهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَقْرَأْ لَمْ تَصِلْ بَرَكَتُهُ مِنْهُ لَا إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَجِرَابٍ مَشْدُودٍ رَأْسُهُ وَفِيهِ مِسْكٌ فَلَا تَصِلُ رَائِحَتُهُ مِنْهُ إِلَى أَحَدٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ.

2144 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَرَأَ حم الْمُؤْمِنَ إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَ بِهِمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2144 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَرَأَ حم الْمُؤْمِنَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَجَرِّ الْمُؤْمِنِ وَنَصْبِهِ (إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يَعْنِي " {حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 1 - 3] " (وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ) وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا وَتَأْخِيرُهَا، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا تَقْدِيمُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فِي الْحِصْنِ (حِينَ يُصْبِحُ) ، أَيْ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ بَعْدَهَا وَهُوَ ظَرْفُ يَقْرَأُ (حُفِظَ بِهِمَا) ، أَيْ بِقِرَاءَتِهِمَا وَبَرَكَتِهِمَا (حَتَّى يُمْسِيَ) ، أَيْ يَدْخُلُ اللَّيْلِ لِأَنَّ الْإِمْسَاءَ ضِدُّ الْإِصْبَاحِ كَمَا أَنَّ الْمَسَاءَ ضِدُّ الصَّبَاحِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالصِّحَاحِ (وَمَنْ قَرَأَ بِهِمَا) قَرَأَهُ وَبِهِ لُغَتَانِ (حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ.

2145 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَا تُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا الشَّيْطَانُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2145 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ) بِضَمِّ النُّونِ (ابْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا) ، أَيْ أَمَرَ مَلَائِكَتَهُ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ: أَيْ أَثْبَتَ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنْ مَطَالِعِ الْعُلُومِ الْغَيْبِيَّةِ (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كِتَابَةُ مَقَادِيرِ الْخَلَائِقِ قَبْلَ خَلْقِهَا بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ كَمَا وَرَدَ لَا تُنَافِي كِتَابَةَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ بِأَلْفَيْ عَامٍ لِجَوَازِ اخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْكِتَابَةِ فِي اللَّوْحِ وَلِجَوَازِ أَنْ لَا يُرَادَ بِهِ التَّحْدِيدُ، بَلْ مُجَرَّدُ السَّبْقِ الدَّالِّ عَلَى الشَّرَفِ اهـ وَلِجَوَازِ مُغَايَرَةِ الْكِتَابَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَتَدَبَّرْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (أَنْزَلَ مِنْهُ) ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، وَفَى أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَنْزَلَ فِيهِ، وَالرِّوَايَةُ مِنْهُ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْخُلَاصَةَ أَنِ الْكَوَائِنَ كُتِبَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ عَامٍ وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْقُرْآنُ، ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ فَأَظْهَرَ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَأَنْزَلَهُمَا مَخْتُومًا بِهِمَا أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَنْزَلَ فِيهِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ، وَالرِّوَايَةُ أَنْزَلَ مِنْهُ (آيَتَيْنِ) هُمَا آمَنَ الرَّسُولُ إِلَى آخِرِهِ (خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَلَا تُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ) ، أَيْ مَكَانٍ مِنْ بَيْتٍ وَغَيْرِهِ (فَيَقْرَبُهَا الشَّيْطَانُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ نَصْبًا وَرَفْعًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا تُوجَدُ قِرَاءَةٌ يَعْقُبُهَا قُرْبَانٌ يَعْنِي أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ عَطْفًا عَلَى الْمَنْفِيِّ، وَالنَّفْيُ سُلِّطَ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجَمْعِيَّةِ، أَيْ لَا تَجْتَمِعُ الْقِرَاءَةُ وَقُرْبُ الشَّيْطَانِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ.

2146 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2146 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الثَّلَاثِ لِتَضَمُّنِهَا الْكِتَابَ الْمَحْفُوظَ مِنَ الْعِوَجِ الذى يُرِيدُهُ ذَلِكَ اللَّعِينُ وَمِنْ تَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَجْرِ الْحَسَنِ وَإِنْذَارِ الْكَافِرِينَ بِالْعَذَابِ الْمُؤَبَّدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

2147 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس، وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2147 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ) ، أَيْ لُبُّهُ وَخَالِصُهُ الْمُودَعُ فِيهِ الْمَقْصُودُ (يس) ، أَيْ سُورَتُهَا لِأَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ مَذْكُورَةٌ فِيهَا مُسْتَقْصَاةٌ بِحَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي سُورَةٍ سِوَاهَا مِثْلَ مَا فِيهَا، وَلِذَا خُصَّتْ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَوْتَى أَوْ لِكَوْنِ قِرَاءَتِهَا تُحْيِيِ قُلُوبَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَتُقَلِّبُهَا مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَلْبٌ لَكَانَ " يس " قَلْبُهُ، قُلْتُ: هَذَا قَلْبُ الْكَلَامِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، وَمَا أَطْيَبَ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَنَّهُ لِاحْتِوَائِهَا مَعَ قَصْرِهَا عَلَى الْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ وَالْآيَاتِ الْقَاطِعَةِ وَالْعُلُومِ الْمَكْنُونَةِ وَالْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ وَالْمَوَاعِيدِ الْفَائِقَةِ وَالزَّوَاجِرِ الْبَالِغَةِ اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحَقَائِقَ وَالْمَعَانِي، وَنَظَرُهُ الْمَحْسُوسُ مَحْصُورٌ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي أَنَّهُ سُمِّيَ قَلْبًا لِوُقُوعِهِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مَعَ السَّبْعِ الْمَثَانِي أَوْ لِكَوْنِ جُمْلَةٍ فِيهَا تُقْرَأُ طَرْدًا وَعَكْسًا وَهِيَ (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) وَلَا يَلْزَمُ الِاطِّرَادُ فِي وَجْهِ التَّسْمِيَةِ حَتَّى لِمُجَرَّدِ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا، وَالْأَحْسَنُ مَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِالِاعْتِرَافِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَهُوَ مُقَرَّرٌ فِيهَا بِأَبْلَغِ وَجْهٍ فَكَانَتْ قَلْبَ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْفَخْرُ الرَّازِّيُّ، وَقَالَ النَّسَفِيُّ: لِأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا تَقْرِيرُ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ

الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ وَهَذِهِ تَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ لَا غَيْرَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ وَالْأَرْكَانِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِهَا، فَلَمَّا كَانَ فِيهَا أَعْمَالُ الْقَلْبِ لَا غَيْرَ سُمِّيَتْ قَلْبًا، وَلِهَذَا أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقِرَاءَتِهَا عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ الْجَنَانُ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ وَالْأَعْضَاءُ سَاقِطَةً، لَكِنَّ الْقَلْبَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ وَرَجَعَ عَمَّا سِوَاهُ فَيُقْرَأُ عِنْدَهُ مَا يَزْدَادُ بِهِ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَيَشُدُّ بِهِ تَصْدِيقَهُ بِالْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ اهـ وَهُوَ غَايَةُ الْمُنَى، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ نَظَرٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَوْجُودٌ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ( «وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ» ) ، أَيْ ثَوَابَهَا (عَشْرَ مَرَّاتٍ) ، أَيْ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَخُصَّ مَا شَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِمَا أَرَادَ مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْحَرَمِ مِنَ الْأَمْكِنَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ رَاوِيَهُ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ مِنْ رِجَالِ الْحَدِيثِ فَهُوَ نَكِرَةٌ لَا يَتَعَرَّفُ اهـ وَفَى الْحِصْنِ ( «قَلْبُ الْقُرْآنِ يس لَا يَقْرَأُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ، اقْرَؤُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ اهـ وَفِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ مَوْصُولٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إِنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ دُونَ اللَّهِ، فَمَنْ وَقَّرَ الْقُرْآنَ فَقَدْ وَقَّرَ اللَّهَ، وَمَنْ لَمْ يُوَقِّرِ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِحَقِّ اللَّهِ، وَحُرْمَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللَّهِ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، فَمَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ شُفِّعَ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ صُدِّقَ، وَمَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَحَمَلَةُ الْقُرْآنِ هُمُ الْمَحْفُوفُونَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ الْمُكْتَسِبُونَ نُورَ اللَّهِ الْمُتَعَلِّمُونَ كَلَامَ اللَّهِ، مَنْ عَادَاهُمْ فَقَدْ عَادَى اللَّهَ، وَمَنْ وَالَاهُمْ فَقَدْ وَالَى اللَّهَ، يَا حَمَلَةَ كِتَابِ اللَّهِ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ بِتَوْقِيرِ كِتَابِهِ يَزِدْكُمْ حُبًّا وَيُحَبِّبْكُمْ إِلَى خَلْقِهِ، يَدْفَعُ عَنْ مُسْتَمِعِ الْقُرْآنِ سُوءَ الدُّنْيَا، وَيَدْفَعُ عَنْ تَالِيِ الْقُرْآنِ بَلْوَى الْآخِرَةِ، وَمُسْتَمِعِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَبْرٍ ذَهَبًا، وَتَالِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ لَسُورَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ يُدْعَى صَاحِبُهَا الشَّرِيفَ عِنْدَ اللَّهِ يَشْفَعُ صَاحِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَكْثَرِ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَهِيَ سُورَةُ يس» .

2148 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَرَأَ طه وَيس قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفِ عَامٍ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْقُرْآنَ قَالَتْ: طُوبَى لِأُمَّةٍ يَنْزِلُ هَذَا عَلَيْهَا وَطُوبَى لِأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا وَطُوبَى لِأَلْسِنَةٍ تَتَكَلَّمُ بِهَذَا» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2148 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَرَأَ طه وَيس» ) ، أَيْ أَظْهَرَ قِرَاءَتَهُمَا وَبَيَّنَ ثَوَابَ تِلَاوَتِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَفْهَمَهُمَا مَلَائِكَتَهُ وَأَلْهَمَهُمْ مَعْنَاهُمَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَرَ بَعْضَهُمْ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى الْبَقِيَّةِ إِعْلَامًا لَهُمْ بِشَرَفِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ بَقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ - تَعَالَى - أَسْمَعَهُمْ كَلَامَهُ النَّفْسِيَّ بِهِمَا إِجْلَالًا لَهُمَا بِذَلِكَ، وَهَذَا الْإِسْمَاعُ يُسَمَّى قِرَاءَةً كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ يُسَمَّى قُرْآنًا حَقِيقَةً، وَخُصَّتَا بِذَلِكَ لِافْتِتَاحِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّالَّةِ عَلَى غَايَةِ كَمَالِهِ وَنِهَايَةِ إِجْلَالِهِ (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفِ عَامٍ فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْقُرْآنَ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِزَمَانٍ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ الْقِرَاءَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا، أَيْ هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْقُرْآنِ وَسَمَّاهُ قُرْآنًا تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِمَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الْبَعْضِ (قَالَتْ) ، أَيِ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي سَمِعُوهَا (طُوبَى) ، أَيِ الْحَالَةُ الطَّيِّبَةُ وَالرَّاحَةُ الْكَامِلَةُ حَاصِلَةٌ (لِأُمَّةٍ يَنْزِلُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَوِ الْمَعْلُومِ (هَذَا) ، أَيِ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ أَوْ مَا ذَكَرَ مِنْ طَه وَيس خُصُوصًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ هَذَا وَنَحْوِهِ عُمُومًا (عَلَيْهَا) بِسَبَبِ إِيمَانِهَا بِهِمَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِطُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ فِي كُلِّ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْجَنَّةِ مِنْهَا غُصْنٌ، أَقُولُ: وَهَذِهِ طُوبَى مِنْ تِلْكَ الطُّوبَى قَالَ - تَعَالَى - {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29] (وَطُوبَى لِأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا) ، أَيْ بِالْحِفْظِ وَالْمُحَافَظَةِ (وَطُوبَى لِأَلْسِنَةٍ تَتَكَلَّمُ بِهَذَا) ، أَيْ تَقْرَؤُهُ غَيْبًا أَوْ نَظَرًا وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلْ وَطُوبَى لِآذَانٍ تَسْمَعُ بِهَذَا لِدُخُولِهِ فِي أُمَّةٍ نَزَلَ عَلَيْهَا (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

2149 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانِ فِي لَيْلَةٍ أَصْبَحَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي خَثْعَمٍ الرَّاوِي يُضَعَّفُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ -: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2149 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانِ) تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ (فِي لَيْلَةٍ) ، أَيُّ لَيْلَةٍ كَانَتْ (أَصْبَحَ) ، أَيْ يَدْخُلُ فِي الصَّبَاحِ أَوْ صَارَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ (يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ حِينِ قِرَاءَتِهَا إِلَى الصُّبْحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ دَائِمًا نَعَمْ فَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حديِثٌ غَرِيبٌ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي خَثْعَمٍ الرَّاوِي يُضَعَّفُ) ، أَيْ فِي الْحَدِيثِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) ، أَيْ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ (يَعْنِي) ، أَيْ يُرِيدُ التِّرْمِذِيُّ بِمُحَمَّدٍ (الْبُخَارِيَّ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ (هُوَ) ، أَيْ عُمَرُ بْنُ أَبِي خَثْعَمٍ (مُنْكَرُ الْحَدِيثِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ أَشَدُّ جَرْحًا مِنْ قَوْلِهِمْ ضَعِيفٌ.

2150 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ غُفِرَ لَهُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَهِشَامُ أَبُو الْمِقْدَامِ الرَّاوِي يُضَعَّفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2150 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ» ) بِضَمِّهِمَا وَيَسْكُنُ الثَّانِي (غُفِرَ لَهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْعَكْسِ، وَفَى نُسْخَةٍ: ضَعِيفٌ بَدَلَ غَرِيبٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْعَكْسِ (وَهِشَامُ أَبُو الْمِقْدَامِ الرَّاوِي يُضَعَّفُ) .

2151 - وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، يَقُولُ: " إِنَّ فِيهِنَّ آيَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2151 - (عَنِ الْعِرْبَاضِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (ابْنِ سَارِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ) بِكَسْرِ الْبَاءِ نِسْبَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَهِيَ السُّوَرُ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا سُبْحَانَ أَوْ سَبَّحَ بِالْمَاضِي أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ سَبِّحْ بِالْأَمْرِ وَهِيَ سَبْعَةٌ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: 1] وَالْحَدِيدُ وَالْحَشْرُ وَالصَّفُّ وَالْجُمْعَةُ وَالتَّغَابُنُ وَالْأَعْلَى (قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ) ، أَيْ يَنَامَ (يَقُولُ) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى قِرَاءَةِ تِلْكَ السُّوَرِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ (إِنْ فِيهِنَّ) ، أَيْ فِي الْمُسَبِّحَاتِ (آيَةٌ) ، أَيْ عَظِيمَةٌ (خَيْرٌ) ، أَيْ هِيَ خَيْرٌ (مِنْ أَلْفِ آيَةٍ) قِيلَ: هِيَ " لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ " وَهَذَا مِثْلُ اسْمِ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ فَعَلَى هَذَا فِيهِنَّ، أَيْ فِي مَجْمُوعِهِنَّ، وَعَنِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهَا " {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] " اهـ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا هِيَ الْآيَةُ الَّتِي صُدِّرَتْ بِالتَّسْبِيحِ، وَفِيهِنَّ بِمَعْنَى جَمِيعِهِنَّ، وَالْخَيْرِيَّةُ لِمَعْنَى الصِّفَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ الْمُلْتَزِمَةِ لِلنُّعُوتِ الْإِثْبَاتِيَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَخْفَى الْآيَةَ فِيهَا كَإِخْفَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي وَإِخْفَاءِ سَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ مُحَافَظَةً عَلَى قِرَاءَةِ الْكُلِّ لِئَلَّا تَشُذَّ تِلْكَ الْآيَةُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ عَنِ الْعِرْبَاضِ.

2152 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ مُرْسَلًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2152 - (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ (مُرْسَلًا) فَإِنَّهُ مِنَ التَّابِعِينَ، قَالَ: لَقِيتُ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حديِثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مَرْفُوعًا عَنِ الْعِرْبَاضِ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا مِنْ قَوْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ - أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ - وَهُوَ الْحَدِيدُ وَالْحَشْرُ وَالصَّفُّ وَالْجُمْعَةُ وَالتَّغَابُنُ وَالْأَعْلَى كَذَا فِي الْحِصْنِ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمُرَ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

2153 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2153 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ سُورَةً) ، أَيْ عَظِيمَةً (فِي الْقُرْآنِ) ، أَيْ كَائِنَةً فِيهِ، وَنَصْبَ صِفَةً لِاسْمِ إِنَّ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: فِي بِمَعْنَى مِنْ (ثَلَاثُونَ آيَةً) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ ثَلَاثُونَ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لَهَا أَيْضًا وَقَوْلُهُ (شَفَعَتْ) بِالتَّخْفِيفِ خَبَرُ إِنَّ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثُونَ خَبَرٌ لـ (إِنَّ) وَقَوْلُهُ شَفَعَتْ خَبَرٌ ثَانٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوِ اسْتِئْنَافٌ فَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ مَعْنًى قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: شُفِّعَتْ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا، أَيْ قُبِلَتْ شَفَاعَتُهَا، وَقِيلَ: عَلَى الْفَاعِلِ مُخَفَّفًا وَهَذَا أَقْرَبُ اهـ وَعَلَيْهِ النُّسَخُ الْمَقْرُوأَةُ الْمُصَحَّحَةُ، وَالشَّفَاعَةُ لِلسُّورَةِ إِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَإِمَّا عَلَى أَنَّهَا تَتَجَسَّمُ كَمَا مَرَّ، وَفِي سُوقِ الْكَلَامِ عَلَى الْإِبْهَامِ ثُمَّ التَّفْسِيرُ تَفْخِيمٌ لِلسُّورَةِ، إِذْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ سُورَةَ تَبَارَكَ شَفَعَتْ لَمْ تَكُنْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: الْبَسْمَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ السُّورَةِ وَآيَةٌ تَامَّةٌ مِنْهَا لِأَنَّ كَوْنَهَا ثَلَاثِينَ آيَةً إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً مِنْهَا، وَالْحَالُ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً مِنْهَا، فَهِيَ إِمَّا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْأَكْثَرِينَ، وَإِمَّا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى كَرِوَايَةٍ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ) مُتَعَلِّقٌ بِشَفَعَتْ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ فِي الْخَبَرِ يَعْنِي كَانَ رَجُلٌ يَقْرَؤُهَا وَيُعَظِّمُ قَدْرَهَا فَلَمَّا مَاتَ شَفَعَتْ لَهُ حَتَّى دُفِعَ عَنْهُ عَذَابُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ تَشْفَعُ لِمَنْ يَقْرَأُهَا فِي الْقَبْرِ أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ فِي رَجُلٍ لِلْإِفْرَادِ شَخْصًا، أَيْ شَفَعَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنْ شَفَعَتْ بِمَعْنَى تُشَفَّعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] وَ " {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} [الفتح: 1] " لَكَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ وَأَنَّ رَجُلًا مَا يَقْرَؤُهَا تَشْفَعُ لَهُ فَيَكُونُ تَحْرِيضًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى قِرَاءَتِهَا (وَهِيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] ، أَيْ إِلَى آخِرِهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: وَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ.

2154 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لَا يَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2154 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِبَاءَهُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ وَبَعْدَهُ ضَمِيرٌ، أَيْ خَيْمَتُهُ، وَفَى نُسْخَةٍ: خِبْأَةٌ عَلَى التَّنْكِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِبَاءُ أَحَدُ بُيُوتِ الْعَرَبِ مِنْ وَبَرٍ أَوْ صُوفٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ شَعْرٍ وَيَكُونُ عَلَى عَمُودَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَيْ خَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ (عَلَى قَبْرٍ) ، أَيْ عَلَى مَوْضِعِ قَبْرٍ (وَهُوَ) ، أَيِ الصَّحَابِيُّ (لَا يَحْسَبُ) بِفَتْحِ السِّينِ أَوْ كَسْرِهَا، أَيْ لَا يَظُنُّ (أَنَّهُ قَبْرٌ) ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ مَوْضِعُ قَبْرٍ (فَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ (فِيهِ) ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ (إِنْسَانٌ) ، أَيْ مَدْفُونٌ سَمِعَهُ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقَظَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُعَيَّنٌ وَأَنَّهُ مُبْهَمٌ (يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا) قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ هُوَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ هَذَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْمَاضِي وَإِلَّا كَانَ إِخْبَارًا بِالْغَيْبِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَمْوَاتِ يَصْدُرُ مِنْهُ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْأَحْيَاءِ (فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ صَاحِبُ الْخَيْمَةِ (فَأَخْبَرَهُ) ، أَيْ بِمَا سَمِعَهُ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هِيَ) ، أَيْ سُورَةُ الْمُلْكِ (الْمَانِعَةُ) ، أَيْ تَمْنَعُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوجِبُ عَذَابَ الْقَبْرِ أَوِ الْمَانِعَةُ لِقَارِئِهَا عَنْ أَنْ يَنَالَهُ مَكْرُوهٌ فِي الْمَوْقِفِ مَنْعًا كَامِلًا (هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ) ، أَيْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ أَوِ الثَّانِيَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأَوْلَى وَالْعَذَابُ مُطْلَقٌ أَوْ مُقَيَّدٌ بِالْقَبْرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ: هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوِ الثَّانِيَةُ مُفَسِّرَةٌ وَمِنْ ثَمَّةَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ " تُنْجِيهِ " ثُمَّ الْجُمْلَتَانِ مُبَيَّنَتَانِ لِلشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ)

2155 - وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2155 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ» ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ (وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى غَايَةَ لَا يَنَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِذَا دَخَلَ وَقْتُ النَّوْمِ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَهُمَا، وَأَنْ يَكُونَ لَا يَنَامُ مُطْلَقًا حَتَّى يَقْرَأَهُمَا، وَالْمَعْنَى: لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ النَّوْمُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَتَقَعُ الْقِرَاءَةُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ النَّوْمِ، أَيْ وَقْتَ كَانَ، وَلَوْ قِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُهُمَا بِاللَّيْلِ لَمْ يُفِدْ هَذِهِ الْفَائِدَةَ اهـ وَالْفَائِدَةُ هِيَ إِفَادَةُ الْقَبْلِيَّةِ، وَلَا يُشَكُّ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ أَظْهَرُ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى تَقْدِيرٍ يُفْضِي إِلَى تَضْيِيقٍ، وَمِنْ أَغْرَبِ الْغَرَائِبِ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: قَوْلُهُ لَا يَنَامُ، أَيْ لَا يُرِيدُ النَّوْمَ إِذَا دَخَلَ وَقْتُهُ لِيُفِيدَ مَا قَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ قِرَاءَةُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ مَعَ سُوَرٍ أُخْرَى كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ النَّوْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ النَّسَائِيِّ فِي الثَّانِيَةِ: إِنَّ مَنْ قَرَأَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ مَنَعَهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَمَا وَقَعَ لِشَارِحٍ هُنَا مِمَّا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ لَا يَنَامُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ بَلْ كَانَ يَقْرَأُهُمَا وَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ النَّوْمِ غَفْلَةً عَمَّا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ مِمَّا ذَكَرْتُهُ اهـ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَا فَهِمَ كَلَامَ الطِّيبِيِّ أَوْ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ وَإِلَّا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامِهِ وَكَلَامِهِمْ عِنْدَ ذَوِي الْأَفْهَامِ مَعَ غَرَابَةِ عِبَارَتِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْمَنَامَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا) ، أَيْ هُوَ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ غَرِيبٌ) ، أَيْ هُوَ غَرِيبٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ صَحِيحًا لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا اهـ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفَهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ كُلُّهُمْ عَنْ جَابِرٍ.

2156 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2156 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقُرْآنِ بَيَانُ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَإِذَا زُلْزِلَتْ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ فَقَطْ مُسْتَقِلَّةٌ بِبَيَانِ أَحْوَالِهِ إِجْمَالًا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الْمَعَاشِ وَأَحْوَالِ الْمَعَادِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَخِيرِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ مُحْتَوِيَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنِ الشِّرْكِ إِثْبَاتٌ لِلتَّوْحِيدِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبْعَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّسْوِيَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ فَضْلُ إِذَا زُلْزِلَتْ عَلَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ فَلَا بُدَّ فِيهَا أَيْضًا مِنَ التَّأْوِيلِ، ثُمَّ قِيلَ: هَذِهِ تَوْجِيهَاتٌ بِمَبْلَغِ عِلْمِنَا وَفَهْمِنَا فَلَا تَخْلُو عَنْ قُصُورٍ وَاحْتِمَالٍ، وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ الَّذِي يُنْتَهَى إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَالْكَشْفِ عَنْ خَفِيَّاتِ الْعُلُومِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَمَّا الْفَقْرَةُ الْأُولَى فَهِيَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ رُبْعِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْفَقْرَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَمَّا الْفَقْرَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.

2157 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2157 - (وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ) ، أَيْ يَدْخُلُ فِي الصَّبَاحِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ) ، أَيْ بِمَقَالِي (الْعَلِيمِ) بِحَالِي (مِنَ الشيِطانِ الرَّجِيمِ) ، أَيْ مِنْ إِغْوَائِهِ، وَالتَّكْرَارُ لِلْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ خَبَرٌ لَفْظًا دُعَاءٌ مَعْنًى، أَوِ التَثْلِيثُ لِمُنَاسَبَةِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ الْقَارِئُ عَنْ قِرَاءَتِهَا وَالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهَا وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ مَا فِيهَا (فَقَرَأَ) ، أَيْ بَعْدَ التَّعَوُّذِ الْمَذْكُورِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ أَخْذُ الظَّاهِرِيَّةِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ الْفَاءُ مُقَابِلَةٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ تَقَدُّمَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ ظَاهِرًا، وَالْحَدِيثُ بِخِلَافِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ، وَلَا يَحْسُنُ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي الْحَدِيثِ (ثَلَاثَ آيَاتٍ ثُمَّ آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ) ، أَيْ مِنْ قَوْلِهِ " {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ} [الحشر: 22] " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ عِنْدَ كَثِيرِينَ (وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ) ، أَيْ يَدْعُونَ لَهُ بِتَوْفِيقِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ أَوْ يَسْتَغْفِرُونَ لِذُنُوبِهِ (حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا) ، أَيْ حَكِيمًا (وَمَنْ قَالَهَا) ، أَيِ الْكَلِمَاتُ الْمَذْكُورَةُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ:، أَيِ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ (حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ) ، أَيْ بِالْمَرْتَبَةِ الْمَسْطُورَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى اقْتِصَارًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الصُّبْحَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ الْفَجْرُ أَوْ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلَ إِطْلَاقُ الشَّرْعِ وَالثَّانِي عُرْفُ الْمُنَجِّمِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمَسَاءُ وَالْإِمْسَاءُ ضِدُّ الصَّبَاحِ لُغَةً وَالْإِصْبَاحِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّبَاحِ فِيهِ أَوَائِلُ النَّهَارِ عُرْفًا وَبِالْمَسَاءِ أَوَائِلُ اللَّيْلِ عُرْفًا، وَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ ذِكْرٍ أُنِيطَ بِالصَّبَاحِ أَوْ بِالْمَسَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا اللُّغَوِيَّ إِذِ الصَّبَاحُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى الزَّوَالِ وَالْمَسَاءُ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ كَمَا قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَمَنْ تَبِعَهُ اهـ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَنْ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ يَكُونُ شَاذًّا فَلَا مَعْنَى لِلْعُدُولِ عَنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِلَى قَوْلِ ثَعْلَبٍ وَجَعْلِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لُغَةً، ثُمَّ لَا مَعْنَى لِلْعُدُولِ عَنِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ الْمُطَابِقِ لِلُّغَةِ إِلَى عُرْفِ الْعَامَّةِ سِيَّمَا فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ صَارِفٍ عَنِ الْأَوَّلِ وَبَاعِثٍ عَلَى الثَّانِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2158 - وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مُحِيَ عَنْهُ ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَفِي رِوَايَتِهِ: خَمْسِينَ مَرَّةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2158 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ قَرَأَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، أَيْ إِلَى آخِرِهِ أَوْ هَذِهِ السُّورَةَ (مُحِيَ عَنْهُ) ، أَيْ عَنْ كِتَابِ أَعْمَالِهِ (ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ) ، أَيْ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَنْبٌ يَكُونُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَمُطْلٍ فِي الْحَيَاةِ وَعَدَمِ وَصِيَّةٍ فِي الْمَمَاتِ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي وَهُوَ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ» ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ الذُّنُوبِ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ أَنَّهُ قَيَّدَ الذُّنُوبَ بِالصَّغَائِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَفِي رِوَايَتِهِ) ، أَيْ الدَّارِمِيُّ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارِمِيِّ (خَمْسِينَ مَرَّةً) ، أَيْ بَدَلَ مِائَتَيْ مَرَّةٍ وَهِيَ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَلَمْ يَذْكُرْ) ، أَيِ الدَّارِمِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ) لِمَا تَقَرَرَ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مِمَّا لَا مُسَامَحَةَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الدَّيْنُ وَلَوْ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَزَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ فَلَا يُمْحَى بِذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ شَائِبَةً قَوِيَّةً لِلْآدَمِيِّ لِأَنَّهُ الَّذِي يُصْرَفُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَمْحُهُ ذَلِكَ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالدَّيْنِ دَيْنُ الْعِبَادِ فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ دَيْنُ اللَّهِ فَمِنْ أَيْنَ الْجَزْمُ بِاسْتِثْنَاءِ هَذَا النَّوْعِ مِنْهُ.

2159 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ قَرَأَ مِائَةَ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: يَا عَبْدِي ادْخُلْ عَلَى يَمِينِكَ الْجَنَّةَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2159 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ عَنْ أَنَسٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَرَادَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ: قَالَ مَنْ أَرَادَ (أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَامَ) عَطْفٌ عَلَى أَرَادَ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ (عَلَى يَمِينِهِ) ، أَيْ عَلَى وَجْهِ السِّنَةِ (ثُمَّ قَرَأَ مِائَةَ مَرَّةٍ) ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ) الشَّرْطُ مَعَ جَزَائِهِ الَّذِي هُوَ يَقُولُ جَزَاءً يَقُولُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مَنْ، وَلَمْ يَعْمَلِ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي جَزَائِهِ أَعْنِي يَقُولُ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَاضٍ فَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ إِذًا فَلَا يَعْمَلُ فِي الْجَزَاءِ (يَا عَبْدِي) ، أَيِ الْمَخْصُوصُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي تَوْحِيدِي (ادْخُلْ عَلَى يَمِينِكَ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ ادْخُلْ فَطَابَقَ هَذَا قَوْلَهُ " فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ " يَعْنِي أَنْتَ إِذَا أَطَعْتَ رَسُولِي وَاضْطَجَعْتَ عَلَى يَمِينِكَ وَقَرَأْتَ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا صِفَاتِي فَأَنْتَ الْيَوْمَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَادْخُلْ مِنْ جِهَةِ يَمِينِكَ (الْجَنَّةُ) وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَسَاتِينَ الْجَنَّةِ وَقُصُورَهَا الَّتِي فِي جَانِبِ الْيَمِينِ أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي فِي جَانِبِ الْيَسَارِ، وَإِنْ كَانَتْ تَانِكَ الْجِهَتَانِ يَمِينًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ: مُقَرَّبُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ عِلِّيِّينَ وَأَبْرَارٌ وَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَعُصَاةٌ مَغْفُورُونَ أَوْ مُشَفَّعُونَ أَوْ مُطَهَّرُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْيَسَارِ، وَيُقْتَبَسُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ - جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 32 - 33] أَيِ الْعِبَادُ الْمُصْطَفُونَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا مُكَافَأَةٌ لِطَاعَتِهِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِاضْطِجَاعِ عَلَى الْيَمِينِ وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ الَّتِي فِيهَا صِفَاتُهُ - تَعَالَى - فَيَجْعَلُ مَنْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْجَانِبِ الْيَمِينِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَنْبَغِي لِمَنْ بَلَّغَهُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ شَيْءٌ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا لِأَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ اتِّفَاقًا.

2160 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ: " وَجَبَتْ " قُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: " الْجَنَّةُ» " رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2160 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ: وَجَبَتْ» ) ، أَيْ لَهُ (فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ؟) ، أَيْ وَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ جَزَاءً لِقِرَاءَتِهِ وَجَبَتْ أَوْ مَا فَاعِلُ وَجَبَتْ (قَالَ: الْجَنَّةُ) ، أَيْ بِمُقْتَضَى وَعْدِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ الَّذِي لَا يَخْلُفُهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31] (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .

2161 - وَعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي، فَقَالَ: " اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2161 - (وَعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ) فِي التَّقْرِيبِ: فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الصُّحْبَةَ لِأَبِيهِ وَهُوَ مِنَ الثَّالِثَةِ (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ، أَيْ هَوَيْتُ (إِلَى فِرَاشِي، قَالَ: اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، أَيْ إِلَى آخِرِهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا (فَإِنَّهَا) ، أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ (بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ) ، أَيْ وَمُفِيدَةٌ لِلتَّوْحِيدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2162 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَيَقُولُ: " يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2162 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْجُحْفَةِ) وَهِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ قَدِيمًا وَأَهْلُ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَتُسَمَّى فِي هَذَا الزَّمَانِ رَابِغَ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ السُّيُولَ أَجْحَفَتْهَا، وَهِيَ الَّتِي دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَقْلِ حِمَى الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا فَانْتَقَلَتْ إِلَيْهَا، وَكَانَ لَا يَمُرُّ بِهَا طَائِرٌ إِلَّا حُمَّ، وَلِإِبْهَامِ مَوْضِعِهَا الْآنَ أَوْ قِلَّةِ مَائِهَا وَكَثْرَةِ الْخَوْفِ لِلْجَائِي إِلَيْهَا اسْتَبْدَلَ النَّاسُ الْإِحْرَامَ مِنْ رَابِغَ بِمَحَلٍّ مَشْهُورٍ قَبِيلَهَا لِأَمْنِهِ وَكَثْرَةِ مَائِهِ (وَالْأَبْوَاءِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَالْمَدِّ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْفَرْعِ، وَبِهِ تُوُفِّيَتْ أُمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُمِّيَتْ بِهَا لِتَبَوُّئِ السُّيُولِ بِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُحْفَةِ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ مِيلًا (إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَعَلَ) ، أَيْ طَفِقَ وَشَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، أَيِ الْخَلْقِ أَوْ بِئْرٍ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ (وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، أَيْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ (وَيَقُولُ) الظَّاهِرُ: وَقَالَ، وَعَدَلَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ أَوْ لِمُشَاكَلَةِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وُقُوعَ التَّكْرَارِ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَثًّا لَهُ وَتَحْرِيضًا، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ فَقَالَ: أَيْ، وَالْحَالُ إِنَّهُ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِمَا يَقُولُ (يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا) ، أَيْ بَلْ هُمَا أَفْضَلُ التَّعَاوِيذِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سُحِرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَكَثَ مَسْحُورًا سَنَةً حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكَيْنِ يُعَلِّمَانِهِ أَنَّهُ يَتَعَوَّذُ بِهِمَا فَفَعَلَ فَزَالَ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنَ السِّحْرِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2163 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبِيبٍ قَالَ: «خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: " قُلْ " قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُصْبِحُ وَحِينَ تُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2163 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبِيبٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ) ، أَيْ وَفِي ظُلْمَةٍ (شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ لِعَجَلَتِهِ فِي سَيْرِهِ الَّذِي هُوَ ذَاهِبٌ إِلَيْهِ (فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ: قُلْ) أَيِ اقْرَأْ (قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟) ، أَيْ مَا أَقْرَأُ (قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مَحَلُّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ نُصِبَ بِاقْرَأْ مُقَدَّرًا وَقَوْلُهُ (وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَتُفْتَحُ عَطْفًا عَلَيْهِ (حِينَ تُصْبِحُ وَحِينَ تُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ) بِالتَّأْنِيثِ، أَيِ السُّوَرُ الثَّلَاثُ، وَبِالتَّذْكِيرِ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَوِ اللَّهِ - تَعَالَى - (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ تَدْفَعُ عَنْكَ كُلَّ سُوءٍ، فَمِنْ زَائِدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى مَذْهَبِ جَمَاعَةٍ وَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَيْضًا لِأَنَّ يَكْفِيكَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلنَّفْيِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَفْسِيرِهَا بِتَدْفَعُ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ تَدْفَعُ عَنْكَ مِنْ أَوَّلِ مَرَاتِبِ السُّوءِ إِلَى آخِرِهَا، أَوْ تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ بَعْضُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تُغْنِيكَ عَمَّا سِوَاهَا، وَيَنْصُرُ الْمَعْنَى الثَّانِي مَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ حَدِيثُ عُقْبَةَ لِقَوْلِهِ " فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهَا " وَقَدْ تَصَحَّفَ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ بِالْآتِي فَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْآتِيَ فِي قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَحْدَهَا، وَالْفَضَائِلُ لَا قِيَاسَ فِيهَا، فَالْوَجْهُ مَا سَأَذْكُرُهُ ثَمَّةَ، فَتَأَمَّلْ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ صَدَرَ عَنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

2164 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ أَوْ سُورَةَ يُوسُفَ؟ قَالَ: " لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2164 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ أَقْرَأُ) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ أَأَقْرَأُ؟ وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يُقْرَأَ الْمَرْسُومُ بِالْمَدِّ فَيُفِيدُ الِاسْتِفْهَامَ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ (سُورَةَ هُودٍ) بِالصَّرْفِ وَغَيْرِهِ (أَوْ سُورَةَ يُوسُفَ) ، أَيْ أَقْرَأُ إِحْدَاهُمَا لِدَفْعِ السُّوءِ عَنِّي (قَالَ: لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ) ، أَيْ أَتَمُّ فِي بَابِ التَّعَوُّذِ لِدَفْعِ السُّوءِ وَغَيْرِهِ (عِنْدَ اللَّهِ) ، أَيْ فِي سُوَرِ كَلَامِهِ أَوْ فِي حُكْمِهِ بِمُقْتَضَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (مِنْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، أَيْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَوَّذْ بِهِمَا إِلَخْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمُرَادُ التَّحْرِيضُ عَلَى التَّعَوُّذِ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ اهـ. وَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِإِحْدَى الْقَرِينَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى وَلِيَتَّفِقَ الْحَدِيثَانِ وَيُطَابِقَا مَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ لَمْ يُرَ مِثْلَهُنَّ، وَحِينَئِذٍ يُسْتَغْنَى عَمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ الزَّائِدَةِ والتَّعَسُّفَاتِ الْبَارِدَةِ وَجَعْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ بَعِيدًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) .

2165 - (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ وَاتَّبِعُوا غَرَائِبَهُ، وَغَرَائِبُهُ فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2165 - (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْرِبُوا) ، أَيْ أَيُّهَا الْعُلَمَاءُ (الْقُرْآنَ) ، أَيْ بَيِّنُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ غَرَائِبِ اللُّغَةِ وَبَدَائِعِ الْإِعْرَابِ وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ (وَاتَّبَعُوا غَرَائِبَهُ) ، أَيْ غَرَائِبُ اللُّغَةِ فِيهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، وَالَّذِي فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ (وَغَرَائِبَهُ فَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ) وَالْمُرَادُ بِالْفَرَائِضِ الْمَأْمُورَاتُ وَبِالْحُدُودِ الْمَنْهِيَّاتُ أَوِ الْفَرَائِضُ الْمِيرَاثِيَّةِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مُطْلَقُ الْفَرَائِضِ الْقُرْآنِيَّةِ وَمَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُودِ أَعْنِي الدَّقَائِقُ وَالرُّمُوزُ الْعِرْفَانِيَّةُ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى بَيِّنُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ مِنْ غَرَائِبِ الْأَحْكَامِ وَبَدَائِعِ الْحِكَمِ وَخَوَارِقِ الْمُعْجِزَاتِ وَمَحَاسِنِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ وَأَمَاكِنِ الْمَوَاعِظِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَأَوْضِحُوا ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْمُتَعَلِّمِينَ لِيَعْمَلُوا بِهِ وَيَبْلُغُوا سَوَابِقَ الْخَيِّرَاتِ وَسَوَابِقَ الْكَرَمَاتِ بِسَبَبِهِ، أَوْ بَيِّنُوا إِعْرَابَ مُشْكِلِ أَلْفَاظِهِ وَعِبَارَاتِهِ وَمَحَامِلِ مُجْمِلَاتِهِ وَمَكْنُونِ إِشَارَاتِهِ وَمَا يَرْتَبِطُ بِتِلْكَ الْإِعْرَبَاتِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِهَا لِأَنَّ الْمَعْنَى تَبَعٌ لِلْإِعْرَابِ كَمَا قِيلَ أَيْضًا لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِمَنْ سَأَلَهُ عَمَّنْ يَتَعَلَّمُ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ لِيُقِيمَ بِهَا قِرَاءَتَهُ: حَسَنٌ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فَتَعَلَّمْهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْرَأُ الْآيَةَ فَيَعِيَ وَجْهَهَا فَيَهْلَكُ فِيهَا، وَأَوَّلُ وَاجِبٌ عَلَى مُعْرِبِ الْقُرْآنِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى مَا يُرِيدُ إِعْرَابَهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بِحَسَبِ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فِيهَا، فَإِنَّ الْإِعْرَابَ فَرْعُ الْمَعْنَى وَلِهَذَا امْتَنَعَ إِعْرَابُ أَوَائِلِ السُّوَرِ الْمُتَشَابِهِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَشْهَرِ مِمَّا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ زَلَّتْ أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْرِبِينَ رَاعَوْا ظَاهِرَ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَأَوْرَدَ فِي كِتَابِهِ الْمُغْنِي أَمْثِلَةً كَثِيرَةً، مِنْ جُمْلَتِهَا مَنْ جَعَلَ قَيِّمًا صِفَةَ عِوَجًا فِي أَوَّلِ الْكَهْفِ، وَتَرَحَّمْ عَلَى حَفْصٍ حَيْثُ اخْتَارَ السَّكْتَ عَلَى عِوَجًا دَفَعًا لِفَهْمِ الْعِوَجِ.

2166 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2166 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ) لِكَوْنِهَا مُنْضَمَّةً إِلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى أَوْ لِكَوْنِهَا فِيهَا بِالْأَدَبِ أَقْرَبُ وَبِالْحُضُورِ أَحْرَى (أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ) لِطُرُوءِ الْأَشْغَالِ الْمَانِعَةِ غَالِبًا (وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ) ، أَيْ وَأَمْثَالُهُمَا مِنْ سَائِرِ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَهُ وَفِيهِ حُكْمُهُ وَأَحْكَامُهُ (وَالتَّسْبِيحُ) ، أَيْ وَنَحْوُهُ (أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ) ، أَيْ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالْخَيِّرَاتِ ذِكْرُ اللَّهِ (وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ) ، أَيِ النَّفْلُ لِأَنَّهَا نَفْعٌ مُتَعَدٍّ وَهُوَ قَاصِرٌ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّمَا يُفِيدُ الصَّوْمُ إِذَا تَصَدَّقَ بِغِذَائِهِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يُمْسِكَ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَأْكُلُهُ وَحْدَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ كُلَّ مِنْ ابْنِ آدَمَ يُضَاعِفُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمُ. الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى نَفْسِ الْعِبَادَةِ كَانَتِ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ وَإِذَا نَظَرَ إِلَى كُلٍّ مِنْهَا وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهَا مِنَ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَمْ يُشَارِكْهَا غَيْرُهُ فِيهَا كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ (وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ) ، أَيْ وِقَايَةٌ مِنَ النَّارِ، أَيْ مِمَّا يَجُرُّ إِلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْعُقْبَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ فَوَائِدِ الصَّوْمِ الْمَفْضُولِ فَمَا بَالُكَ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ مِنْهُ؟

2167 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قِرَاءَةُ الرَّجُلِ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفُ دَرَجَةٍ، وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَعَّفُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2167 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قِرَاءَةُ الرَّجُلِ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ) ، أَيْ مِنْ حِفْظِهِ (أَلْفُ دَرَجَةٍ) ، أَيْ ذَاتِ أَلْفِ دَرَجَةٍ أَوْ ثَوَابُهَا أَلْفُ دَرَجَةٍ فِي كُلِّ دَرَجَةِ حَسَنَاتٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَلْفُ دَرَجَةٍ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ قِرَاءَةُ الرَّجُلِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ ذَاتِ أَلْفِ دَرَجَةٍ لِيَصِحَّ الْحَمْلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران: 163] ، أَيْ ذَوُو دَرَجَاتٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَجَعَلَ الْقِرَاءَةَ عَنْ تِلْكَ الْأَلِفِ مَجَازًا كَرَجُلٍ عَدْلٍ، فَتَأَمَّلْ (وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَعَّفُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ مُشَدَّدُ الْعَيْنِ، أَيْ يُزَادُ (عَلَى ذَلِكَ) ، أَيْ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ (إِلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لِحَظِّ النَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ وَحَمْلِهِ وَمَسِّهِ وَتُمَكُّنِهِ مِنَ التَّفَكُّرِ فِيهِ وَاسْتِنْبَاطِ مَعَانِيهِ اهـ يَعْنِي أَنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّاتِ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَاهِرَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْبَرَرَةِ، وَرُبَّمَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ غَيْبًا عَلَى الْحَافِظِ حِفْظًا لِمَحْفُوظِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِلَى غَايَةٍ لِانْتِهَاءِ التَّضْعِيفِ أَلْفَيْ دَرَجَةٍ لِأَنَّهُ ضَمَّ إِلَى عِبَادَةِ الْقِرَاءَةِ عِبَادَةُ النَّظَرِ، أَيْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَلِاشْتِمَالِ هَذِهِ عَلَى عِبَادَتَيْنِ كَانَ فِيهَا أَلْفَانِ، وَمِنْ هَذَا أَخَذَ جَمْعٌ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ نَظَرًا فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ غَيْبًا أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَلَعَلَّهُ عَمَلًا بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْحَقُّ التَّوَسُّطُ فَإِنْ زَادَ خُشُوعُهُ وَتَدَبُّرُهُ وَإِخْلَاصُهُ فِي إِحْدَاهُمَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ وَإِلَّا فَالنَّظَرُ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي الْمَقْرُوءِ أَكْثَرَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالْغَيْبِ.

2168 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جِلَاؤُهَا؟ قَالَ: " كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ» " رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2168 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ) ، أَيْ الَّتِي هِيَ مَرَايَا لِمُطَالَعَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَمُشَاهِدَةِ الْأَحْوَالِ وَالْغُيُوبِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ هَذِهِ الْقُلُوبُ الْمَعْلُومُ أَنَّهَا فِي غَايَةِ الرِّفْعَةِ تَارَةً وَالْخِسَّةِ أُخْرَى لِأَنَّهَا لِأَبْدَانِهَا بِمَنْزِلَةِ السَّلَاطِينِ، فَإِذَا صَلَحَتْ صَلَحَتْ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَتْ (تَصْدَأُ) بِالْهَمْزِ، أَيْ يَعْرِضُ لَهَا دَنَسٌ بِتَرَاكُمِ الْغَفَلَاتِ وَتَزَاحُمِ الشَّهَوَاتِ (كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ) ، أَيْ يَتَوَسَّخُ (إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ) ، أَيِ اسْتِعْمَالُهُ الْمُشَبَّهُ بِاشْتِغَالِ الْقَوْلِ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ وَفِكْرِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الرَّانُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جِلَاؤُهَا؟) بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ آلَةُ جَلَاءِ صَدَأِ الْقُلُوبِ مِنْ وَسَخِ الْغُيُوبِ الْمَانِعِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمَحْبُوبِ وَمُطَالَعَةِ الْمَحْبُوبِ، فَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ» (قَالَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ) وَهُوَ الْوَاعِظُ الصَّامِتُ، وَيُوَافِقُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ» بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ، أَيْ قَاطِعُهَا أَوْ مُزِيلُهَا مِنْ أَصْلِهَا، وَفَسَّرَ قَوْلَهُ - تَعَالَى - {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] بِأَكْثَرِ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ (وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ) بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ جَرُّهُ وَهُوَ الْوَاعِظُ النَّاطِقُ، فَهُمَا بِلِسَانِ الْحَالِ وَبَيَانِ الْقَالِ يَبْرُدَانِ عَنْ قُلُوبِ الرِّجَالِ أَوْسَاخَ مَحَبَّةِ الْغَيْرِ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ) ، أَيِ الْمُتَقَدِّمَةُ (فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2169 - وَعَنْ أَيْفَعَ بْنِ عَبْدٍ الْكَلَاعِيِّ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ سُورَةِ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " قَالَ: فَأَيُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: " آيَةُ الْكُرْسِيِّ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " قَالَ: فَأَيُّ آيَةٍ يَا نَبِيَّ اللَّهِ تُحِبُّ أَنْ تُصِيبَكَ وَأُمَّتَكَ؟ قَالَ: " خَاتِمَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ تَحْتِ عَرْشِهِ أَعْطَاهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ، لَمْ تَتْرُكْ خَيْرًا مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2169 - (وَعَنْ أَيْفَعَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ (ابْنِ عَبْدٍ) بِالتَّنْوِينِ (الْكَلَاعِيِّ) بِفَتْحِ الْكَافِ كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفَى بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِالضَّمِّ كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: أَيْفَعَ ابْنُ نَاكُورَ مِنَ الْيَمَنِ الْمَعْرُوفُ بِذِي الْكَلَاعِ بِفَتْحِ الْكَافِ، نَاكُورَ بِالنُّونِ وَضَمِّ الْكَافِ كَانَ رَئِيسًا فِي قَوْمِهِ، أَسْلَمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّعَاوُنِ عَلَى قَتْلِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ، وَهَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ ذُو الْكَلَاعِ، فَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ لَهُ رِوَايَةً إِلَّا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ سُورَةِ الْقُرْآنِ) وَفِي نُسْخَةٍ: أَيُّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآن ِ (أَعْظَمُ) ، أَيْ فِي شَأْنِ التَّوْحِيدِ فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ فِي الْفَاتِحَةِ أَنَّهَا أَفْضَلُ سُورَةِ الْقُرْآنِ، وَفِي أُخْرَى أَعْظَمُ سُورَةٍ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ الْفَاتِحَةِ طُرُقُهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ بِخِلَافِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا أَعْظَمُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ (قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَأَيُّ آيَةٍ) ، أَيْ فِي الْقُرْآنِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (أَعْظَمُ؟) ، أَيْ فِي بَيَانِ صِفَاتِهِ - تَعَالَى - (قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ، أَيْ إِلَى آخِرِهَا (قَالَ: فَأَيُّ آيَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ (تُحِبُّ أَنْ تُصِيبَكَ وَأُمَّتَكَ) ثَوَابُهَا أَوْ فَائِدَتُهَا لَا نُزُولُهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَمْ تَتْرُكْ خَيْرًا إِلَى آخِرِهِ (قَالَ: خَاتِمَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) ، أَيْ مِنْ آمَنَ الرَّسُولُ، أَيْ هِيَ الَّتِي أُحِبُّ أَنْ تَنَالَنِي وَأُمَّتِي فَائِدَتُهَا قَبْلَ بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ (فَإِنَّهَا) ، أَيْ نَتَائِجُهَا أَوْ نَزَلَتْ (مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ تَحْتِ عَرْشِهِ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ نُزُولُهَا مِنْ تَحْتِ عَرْشِهِ أَوِ التَّقْدِيرُ: مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ الْكَائِنَةِ أَوْ كَائِنَةٍ مِنْ تَحْتِ عَرْشِهِ وَهَذَا بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَأَنَا عَلَى حَقِيقَةِ إِدْرَاكِهِ فِي حِجَابٍ (أَعْطَاهَا) ، أَيْ نَفْسُ الْآيَةِ أَوْ مَا فِيهَا مِنْ مَرَاتِبِ الْإِجَابَةِ (هَذِهِ الْأُمَّةُ) ، أَيْ بِخُصُوصِهَا تَشْرِيفًا لِكَاشِفِ الْغُمَّةِ (لَمْ تَتْرُكْ خَيْرًا مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا اشْتَمَلَتْ) ، أَيْ تِلْكَ الْخَاتِمَةُ (عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ عِبَارَةً وَإِشَارَةً (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

2170 - وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2170 - (وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (مُرْسَلًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ الشَّعْبِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ) ، أَيْ فِي آيَاتِهَا وَكَلِمَاتِهَا وَحُرُوفِهَا قِرَاءَةً وَكِتَابَةً لِلتَّعْلِيقِ وَلِلْحُسْنِ (شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ) دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ حِسِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَتَنَاوَلُ دَاءَ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالْأَمْرَاضَ الْبَدَنِيَّةَ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) ، أَيْ مَوْقُوفًا لَكِنَّهُ مَرْفُوعٌ حُكْمًا، وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ إِلَخْ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

2171 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2171 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ) ، أَيْ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (فِي لَيْلَةٍ) ، أَيْ أَوَّلُهَا أَوْ آخِرُهَا، وَقَدْ ثَبَتَ قِرَاءَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلَ مَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ مِنَ اللَّيْلِ (كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) ، أَيْ كُتِبَ مِنَ الْقَائِمِينَ بِاللَّيْلِ.

2172 - وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُمَا الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2172 - (وَعَنْ مَكْحُولٍ) تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، قِيلَ: مَوْقُوفٌ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ (قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ) ، أَيْ دَعَتْ لَهُ وَاسْتَغْفَرَتْ (إِلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُمَا) ، أَيِ الْحَدِيثَيْنِ (الدَّارِمِيُّ) .

2173 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أُعْطِيتُهُمَا مِنْ كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَعَلَّمُوهُنَّ وَعَلِّمُوهُنَّ نِسَاءَكُمْ، فَإِنَّهَا صَلَاةٌ وَقُرْبَانٌ وَدُعَاءٌ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2173 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) ، أَيِ الْخَضْرَمِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَهُوَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ، وَنُفَيْرٌ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَبِالرَّاءِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ فِي التَّابِعِينَ وَكَذَا ضَبَطَهُ الْمُغْنِي، فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِاللَّامِ بَدَلَ الرَّاءِ فَمِنْ تَصْحِيفِ النَّاسِخِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أُعْطِيتُهُمَا مِنْ كَنْزِهِ) ، أَيِ الْمَعْنَوِيِّ (الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَعَلَّمُوهُنَّ) ، أَيْ كَلِمَاتُهُمَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يُثَنَّ الضَّمِيرُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَجْمُوعُهُمَا، فَلَمَّا عَدَلَ عَنِ التَّثْنِيَةِ إِلَى الْجَمْعِيَّةِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُهُمَا لَا مَجْمُوعُهُمَا وَهَذَا نَظِيرُ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الحج: 19] وَ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] اهـ فِي دَعْوَى مُرَادِهِ مَعْنًى وَتَنْظِيرُهُ لَفْظًا نَظَرٌ لَا يَخْفَى (وَعَلِّمُوهُنَّ نِسَاءَكُمْ) وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُنَّ لِكَوْنِهِنَّ أَوْلَى بِتَعْلِيمِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ لَا لِأَنَّ غَيْرَهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ (فَإِنَّهَا) ، أَيْ كَلِمَاتُهُمَا أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ (صَلَاةٌ) ، أَيِ اسْتِغْفَارٌ أَوْ مَا يُصَلِّي بِهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ دُعَاءٌ فَيَتَكَرَّرُ (وَقُرْبَانٌ) بِضَمِّ الْقَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ، أَيْ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِمَّا فِيهَا مِنَ الْأَذْكَارِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِظْهَارِ (وَدُعَاءٌ) إِمَّا بِلِسَانِ الْحَالِ وَإِمَّا بِبَيَانِ الْمَقَالِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] إِلَخْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهَا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ مِنَ الْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفِ فِي قَوْلِهِ بِآيَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] وَلَمْ يُرَدْ بِالصَّلَاةِ الْأَرْكَانُ لِأَنَّهَا غَيْرُهَا وَلَا الدُّعَاءُ لِلتَّكْرَارِ، بَلْ أَرَادَ الِاسْتِغْفَارَ نَحْوَ غُفْرَانَكَ وَاغْفِرْ لَنَا، وَأَمَّا الْقُرْبَانُ فَإِمَّا إِلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ " وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ " وَإِمَّا إِلَى الرَّسُولِ كَقَوْلِهِ " {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] " (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا) ، أَيْ لِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا وَفِي رِوَايَتِهِ: قُرْآنٌ بَدَلُ قُرْبَانٍ، أَيْ فَإِنَّ جُمْلَةَ الْآيَتَيْنِ يُصَلِّي بِهِمَا وَيَتْلُو قُرْآنًا وَيَدْعِي بِهِمَا، وَزَادَ قَوْلُهُ وَأَبْنَاءَكُمْ بَعْدَ قَوْلِهِ نِسَاءَكُمْ.

2174 - وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اقْرَءُوا سُورَةَ هُودٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2174 - (وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اقْرَؤُا سُورَةَ هُودٍ» ) يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْكُلِّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ.

2175 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ نُورٌ مَا بَيْنَ الْجُمْعَتَيْنِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2175 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ أَضَاءَ لَهُ النُّورُ» ) ، أَيْ فِي قَلْبِهِ أَوْ قَبْرِهِ أَوْ يَوْمَ حَشْرِهِ فِي الْجَمْعِ الْأَكْبَرِ (مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ) ، أَيْ مِقْدَارُ الْجُمُعَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مِنَ الزَّمَانِ وَهَكَذَا كُلُّ جُمْعَةٍ تَلَا فِيهَا هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَضَاءَ إِمَّا لَازِمٌ وَبَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ ظَرْفٌ، فَيَكُونُ إِشْرَاقُ ضَوْءِ النُّورِ فِيمَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ إِشْرَاقِ النُّورِ نَفْسِهِ مُبَالَغَةً، وَإِمَّا مُتَعَدٍّ فَيَكُونُ مَا بَيْنَ مَفْعُولًا بِهِ، وَبِهِمَا أُعْرِبَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] اهـ وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الْحَدِيثِيِّ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُرْجَعًا، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ مِنْ قَوْلِهِ مَوْقُوفًا ( «مَنْ قَرَأَهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» ) وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَاللَّفْظُ لِلنَّسَائِيِّ وَقَالَ: رَفُعُهُ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ ( «مَنْ قَرَأَهَا كَمَا أُنْزِلَتْ كَانَتْ لَهُ نُورٌ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا فَخَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ» ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَاخْتَلَفَ أَيْضًا فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ ( «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ قَرَأَ بِعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يَضُرُّهُ» ) وَرَوَى الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا ( «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ عِنْدَ مَضْجَعِهِ كَانَ لَهُ نُورًا يَتَلَأْلَأُ فِي مَكَّةَ، حَشْوُ ذَلِكَ النُّورِ مَلَائِكَةً يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَضْجَعُهُ بِمَكَّةَ كَانَ لَهُ نُورًا يَتَلَأْلَأُ فِي مَضْجَعِهِ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، حَشْوُ ذَلِكَ النُّورِ مَلَائِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلْيِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» ) وَفِي الْمَدَارِكِ بِلَفْظِ ( «مَنْ قَرَأَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِلَخْ عِنْدَ مَضْجَعِهِ» ) وَذَكَرَ نَحْوَهُ، قُلْتُ: وَفِي هَذَا

الْحَدِيثُ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ وَبِشَارَةٌ شَرِيفَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ الْقَارِئُ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ فَبِقَدْرِ مَا يَنْقُصُ مِنَ الْمَسَافَةِ السُّفْلِيَّةِ لِامْتِلَاءِ النُّورِ يُزَادُ لَهُ مِنَ الْمَسَافَةِ الْعُلْوِيَّةِ، وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الرُّقِيُّ الْعُلْوِيُّ الزَّائِدُ حِسًّا وَشَرَفًا فَإِنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسَافَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، كَذَا مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ، وَكَذَا غِلَظُ كُلِّ سَمَاءٍ وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَغْوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ.

2176 - وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: «اقْرَءُوا الْمُنْجِيَةَ وَهِيَ الم تَنْزِيلُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقْرَؤُهَا مَا يَقْرَأُ شَيْئًا غَيْرَهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَايَا فَنَشَرَتْ جَنَاحَهَا عَلَيْهِ، قَالَتْ: رَبِّ اغْفِرْ لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَتِي، فَشَفَّعَهَا الرَّبُّ - تَعَالَى - فِيهِ وَقَالَ: اكْتُبُوا لَهُ بِكُلِّ خَطِيئَةٍ حَسَنَةٍ وَارْفَعُوا لَهُ دَرَجَةً، وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّهَا تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا فِي الْقَبْرِ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ مِنْ كِتَابِكَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْ كِتَابِكَ فَامْحُنِي عَنْهُ، وَإِنَّهَا تَكُونُ كَالطَّيْرِ تَجْعَلُ جَنَاحَهَا عَلَيْهِ فَتَشْفَعُ لَهُ فَتَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَقَالَ فِي تَبَارَكَ مِثْلَهَا، وَكَانَ خَالُهُ لَا يَبِيتُ حَتَّى يَقْرَأَهُمَا» ، وَقَالَ طَاوُوسُ: فُضِّلَتَا عَلَى كُلِّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِسِتِّينَ حَسَنَةً. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2176 - (وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ (قَالَ: اقْرَءُوا) ، أَيْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ كَمَا يُشْعَرُ بِهِ آخِرِ الْحَدِيثِ (الْمُنْجِيَةَ) ، أَيْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعِقَابِ الْحَشْرِ (وَهِيَ الم تَنْزِيلُ فَإِنَّهُ) ، أَيِ الشَّأْنُ (بَلَغَنِي) ، أَيْ عَنِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ لَقِيَ سَبْعِينَ مِنْهُمْ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ عَلَى قَوْلٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ الْكُلِّ، وَوَهَمَ ابْنُ حَجَرٍ فَظَنَّ أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا اعْتُرِضَ عَلَى الطِّيبِيِّ فِي كَلَامِهِ الْآتِي (أَنَّ رَجُلًا) ، أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ " قَالَ " يَشْعُرُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ اقْرَءُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا إِلَخْ إِخْبَارٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا أَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ شَفَعَتْ لِرَجُلٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي (كَانَ يَقْرَؤُهَا) ، أَيْ يَجْعَلُهَا وِرْدًا لَهُ (مَا يَقْرَأُ شَيْئًا غَيْرَهَا) ، أَيْ لَمْ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ وِرْدًا غَيْرَهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ مِمَّا عَدَا الْفَاتِحَةَ غَيْرَهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا (وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَايَا فَنُشِرَتْ) ، أَيْ بَعْدَمَا تُصُوِّرَتِ السُّورَةُ أَوْ ثَوَابُهَا عَلَى صُورَةِ طَيْرٍ (جَنَاحُهَا عَلَيْهِ) ، أَيْ لِتُظِلَّهُ أَوْ جَنَاحُ رَحْمَتِهَا عَلَى الرَّجُلِ الْقَارِئِ حِمَايَةً لَهُ (قَالَتْ) بِلِسَانِ الْقَائِلِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ وَهُوَ بَدَلُ بَعْضٍ أَوِ اشْتِمَالٍ مِنْ نُشِرَتْ لِأَنَّ النَّشْرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْحَاصِلَةِ بِقَوْلِهَا (رَبِّ اغْفِرْ لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَتِي فَشَفَّعَهَا) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ قَبِلَ شَفَاعَتَهَا (الرَّبُّ - تَعَالَى - فِيهِ) ، أَيْ فِي حَقِّهِ (وَقَالَ) ، أَيِ الرَّبُّ (اكْتُبُوا لَهُ بِكُلِّ خَطِيئَةٍ) ، أَيْ بَدَلَهَا (حَسَنَةً) ، أَيْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا وَكَرَمًا وَامْتِنَانًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، وَفِيهِ أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ التَّائِبُونَ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ} [الفرقان: 70] الْآيَةَ (وَارْفَعُوا لَهُ دَرَجَةً، وَقَالَ) ، أَيْ خَالِدٌ (أَيْضًا) ، أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ مَوْقُوفًا (إِنَّهَا) ، أَيِ السُّورَةُ الم تَنْزِيلُ (تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا) ، أَيْ مَنْ يُكْثِرُ قِرَاءَتَهَا (فِي الْقَبْرِ) ، أَيِ الشَّفَاعَةُ فِي تَسْدِيدِ سُؤَالِهِ وَتَخْفِيفِ عَذَابِهِ، أَوْ رَفْعِهِ أَوْ تَوَسِيعِ قَبْرِهِ وَتَنْوِيرِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ (تَقُولُ) بَيَانُ الْمُجَادَلَةِ، وَهَذِهِ الْمُجَادَلَةُ وَنَشْرُ الْجَنَاحِ عَلَى قَارِئِهَا كَالْمُحَاجَّةِ وَالتَّظْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الزَّهْرَاوَيْنِ (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ) ، أَيْ إِذَا كُنْتُ (مِنْ كِتَابِكَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ الْمَكْتُوبُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (فَشَفِّعْنِي) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ فَاقْبَلْ شَفَاعَتِي (فِيهِ) ، أَيْ فِي حَقِّهِ (وَإِنْ لَمْ أَكُنْ فِي كِتَابِكَ) ، أَيْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ (فَامْحُنِي) بِضَمِّ الْحَاءِ (عَنْهُ) ، أَيْ عَنْ كِتَابِكَ أَوْ عَنْ صَدْرِهِ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَنَظِيرُ ذَلِكَ تَدَلُّلُ بَعْضُ خَوَاصِّ الْمَلِكِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ إِنْ كُنْتُ عَبْدَكَ فَشَفِّعْنِي فِي كَذَا، وَإِلَّا فَبِعْنِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كَمَا يَقُولُ الْأَبُ لِابْنِهِ الَّذِي لَمْ يُرَاعِ حَقَّهُ: إِنْ كُنْتُ لَكَ أَبًا فَرَاعِ حَقِّي، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ لَكَ أَبًا فَلَنْ تُرَاعِيَ حَقِّي اهـ وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمُرَاعَاةَ لَازِمَةٌ وَاقِعَةٌ الْبَتَّةَ، فَلَا تَرْدِيدَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ مُرَاعَاةُ حَقِّ الْأَبِ أَلْزَمَ مِنْ مَرْعَاةِ الِابْنَ لَمْ يَقُلْ كَمَا يَقُولُ الِابْنُ لِأَبِيهِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَظْهَرَ فِي الْمُنَاسَبَةِ وَأَبْيَنَ فِي الْمُشَابَهَةِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ تَنْظِيرَ الطِّيبِيُّ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ بِمَا نَظَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ تَبَجَّحَ وَقَالَ فِي تَنْظِيرِهِ: هَذَا أَوْلَى مِمَّا نَظَرَ بِهِ شَارِحٌ كَمَا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ، فَتَأَمَّلْ (وَإِنَّهَا) ، أَيْ وَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّهَا (تَكُونُ) ، أَيْ فِي الْقَبْرِ (كَالطَّيْرِ) ، أَيْ كَمَا إِنَّهَا فِي الْمَوْقِفِ كَذَلِكَ الَّذِي مَرَّ أَوَّلًا، وَلَعَلَّ تَقْدِيمَهُ لِتَعْظِيمِهِ (تَجْعَلُ جَنَاحَهَا عَلَيْهِ) حِمَايَةً لَهُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هُنَا لِتَظُنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّ مَقَامَهُ فِي الْمَوْقِفِ فِي الْجُمْلَةِ (تَشْفَعُ لَهُ فَتَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَقَالَ) ، أَيْ خَالِدٌ (فِي تَبَارَكَ) ، أَيْ فِي فَضِيلَةِ سُورَتِهِ (مِثْلَهُ) ، أَيْ مِثْلَ مَا قَالَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ (وَكَانَ خَالِدٌ لَا يَبِيتُ) ، أَيْ لَا يَرْقُدُ (حَتَّى يَقْرَأَهُمَا، وَقَالَ طَاوُوسُ) وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ (فُضِّلَتَا) بِالتَّشْدِيدِ، أَيِ السَّجْدَةُ وَالْمُلْكُ (عَلَى كُلِّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِسِتِّينَ حَسَنَةً) وَهُوَ لَا يُنَافِي الْخَبَرَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْبَقَرَةَ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ ; إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَفْضُولِ مَزِيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، أَوْ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِزَمَانٍ أَوْ حَالٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْكَمَالِ، أَمَا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ سَبِّحْ وَالْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْوَتَرِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَذَا سُورَةُ السَّجْدَةِ وَالدَّهْرِ بِخُصُوصِ فَجْرِ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا، فَلَا يُحْتَاجُ فِي الْجَوَابِ إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ ذَاكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) ، أَيْ مَوْقُوفًا، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ الْمُرْسَلِ فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ.

2177 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ " يس " فِي صَدْرِ النَّهَارِ تَمَّتْ حَوَائِجُهُ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2177 - (وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كَانَ جَعْدَ الشَّعْرِ أَسْوَدَ أَفْطَسَ، أَشَلَّ أَعْوَرَ ثُمَّ عَمِيَ، وَكَانَ مِنْ أَجَلِّ الْفُقَهَاءِ، تَابِعِيٌّ مَكِّيٌّ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ أَرْضَى أَهْلِ الْأَرْضِ عِنْدَ النَّاسِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْعِلْمُ خَزَائِنٌ يُقَسِّمُهُ اللَّهُ لِمَنْ أَحَبَّ، لَوْ كَانَ يَخُصُّ بِالْعِلْمِ أَحَدًا لَكَانَ بِنَسَبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى، كَانَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ حَبَشِيًّا (قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ قَرَأَ يس ") بِالسُّكُونِ وَقِيلَ بِالْفَتْحِ (فِي صَدْرِ النَّهَارِ) ، أَيْ أَوَّلَهُ (قُضِيَتْ حَوَائِجُهُ) ، أَيْ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ أَوْ آخِرَةٌ أَوْ مُطْلَقًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا) .

2178 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ يس ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى - غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَاقْرَءُوهَا عِنْدَ مَوْتَاكُمْ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2178 - (وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفَ: هُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، الْمُزَنِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ مُزْيَنَةٍ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ يس ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى» ") ، أَيْ طَلَبًا لِرِضَاهُ لَا غَرَضًا سِوَاهُ " غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "، أَيِ الصَّغَائِرُ وَكَذَا الْكَبَائِرُ إِنْ شَاءَ " فَاقْرَءُوهَا عِنْدَ مَوْتَاكُمْ "، أَيْ مُشْرِفِي الْمَوْتِ أَوْ عِنْدَ قُبُورِ أَمْوَاتِكُمْ، فَإِنَّهُمْ أَحْوَجُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِذَا كَانَتْ قِرَاءَةُ يس بِالْإِخْلَاصِ تَمْحُو الذُّنُوبَ، فَاقْرَءُوهَا عِنْدَ مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ حَتَّى يَسْمَعَهَا وَيُجْرِيَهَا عَلَى قَلْبِهِ فَيُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَوْتَى الْجَهَلَةُ أَوْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.

2179 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا، وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابًا، وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلِ " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2179 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا) بِفَتْحِ السِّينِ، أَيْ رِفْعَةً، مُسْتَعَارٌ مِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ (وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) إِمَّا بِطُولِهَا وَاحْتِوَائِهَا عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَبِهِ الرِّفْعَةُ الْكَبِيرَةُ (وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ) ، أَيْ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ لُبٌّ (لُبَابًا) بِضَمِّ اللَّامِ، أَيْ خُلَاصَةٌ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ (وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلِ) لِأَنَّهُ فُصِّلَ فِيهَا مَا أُجْمِلَ فِي غَيْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِاعْتِبَارِ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ لَهُ مُشَابَهَةٌ مَا، بِخِلَافِ الْمُفَصَّلِ كَمَا أَفَادَهُ حَدِيثُ ( «وَأُوتِيتُ الْمُفَصَّلِ نَافِلَةً» ) ، أَيْ زَائِدَةٌ عَلَى بَقِيَّةِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَوَّلَ الْحَدِيثِ اهـ وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ كَوْنِهِ لُبًّا إِلَّا بِمَا قَرَّرْنَاهُ مَعَ زِيَادَةِ وَجْهِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ مِنَ الْحُجُرَاتِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَصَحِّ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) ، أَيْ مَوْقُوفًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِوُضُوحِهِ مَنْ صَدْرِ الْحَدِيثِ.

2180 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لِكُلِّ شَيْءِ عَرُوسٌ، وَعَرُوسُ الْقُرْآنِ الرَّحْمَنُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2180 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لِكُلِّ شَيْءٍ عَرُوسٌ ") ، أَيْ جَمَالٌ وَقُرْبَةٌ وَبَهَاءٌ وَزِينَةٌ " وَعَرُوسُ الْقُرْآنِ الرَّحْمَنُ " لِاشْتِمَالِهَا عَلَى النَّعْمَاءِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْآلَاءِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَلِاحْتِوَائِهَا عَلَى أَوْصَافِ الْحُورِ الْعِينِ الَّتِي مِنْ عَرَائِسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَنُعُوتِ حُلِيِّهِنَّ وَحُلَلِهِنَّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَرُوسُ يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عِنْدَ دُخُولِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَرَادَ الزِّينَةَ فَإِنَّ الْعَرُوسَ تُحَلَّى بِالْحُلِيِّ وَتُزَيَّنُ بِالثِّيَابِ، أَوْ أَرَادَ الزُّلْفَى إِلَى الْمَحْبُوبِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَطْلُوبِ.

2181 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا» " وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَأْمُرُ بَنَاتَهُ يَقْرَأْنَ بِهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ. رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2181 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا» ") ، أَيْ لَمْ يَضُرُّهُ فَقْرٌ لِمَا يُعْطَى مِنَ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ وَالْوَعْدِ الْجَزِيلِ، أَوْ لَمْ يُصِبْهُ فَقْرٌ قَلْبِيٌّ لِمَا يُعْطَى مِنْ سِعَةِ الْقَلْبِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالرَّبِّ وَالتَّوَكُّلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ لِمَا يَسْتَفِيدُ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَسْتَفِيضُ مِنْ بَيَانِ الْمَعَانِي فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَهَا، كَالْقَوَالِبِ فِي الصُّورَةِ، سِيَّمَا مَا يَتَعَلَّقُ فِيهَا بِخُصُوصِ ذِكْرِ الرِّزْقِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] (وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَأْمُرُ بَنَاتَهُ يَقْرَأْنَ بِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ) وَفِي نُسْخَةٍ: فِي كُلِّ لَيْلَةٍ (رَوَاهُمَا) ، أَيِ الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2182 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ سَبِّحِ اسْمِ رَبِّكَ الْأَعْلَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2182 - (وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» ) ، أَيْ مَحَبَّةٌ زَائِدَةٌ وَهِيَ نَظِيرُ مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا، قَالَ الْعَارِفُ الْجَامِعُ فِي شَمْسِ الْوُجُودِ: وَإِلَّا فَمَعْمُورَةُ الدُّنْيَا جَمِيعُهَا أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَجِيئَ فِي نَظَرِ الْحَبِيبِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» ) فَزِيَادَةُ الْمُحِبَّةِ فِي الْفَتْحِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِالْفَتْحِ، وَالْإِشَارَةِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى تَيْسِيرِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ مَعْسُورٍ، بِقَوْلِهِ " {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] " وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ رَكَعَاتِ الْوَتَرِ وَقِرَاءَةِ الْإِخْلَاصَيْنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحَبَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: " كَانَتْ أَمْثَالًا كُلَّهَا، أَيُّهَا الْمَلَكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، سَاعَةً يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةً يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَسَاعَةً يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاعِنًا إِلَّا لِثَلَاثٍ: تُزَوُّدٌ لِمُعَادٍ، أَوْ لِمَرَمَّةِ الْمَعَاشِ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ، وَمَنْ حَسَبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا كَانَ فِي صُحُفِ مُوسَى؟ قَالَ: " كَانَتْ عِبَرًا كُلَّهَا، عَحِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ هُوَ يَفْرَحُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ هُوَ يَضْحَكُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ، عَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَا يَعْمَلُ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: " أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ وَذُخْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " أَحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ تَحْتَكَ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرِيَ نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَكَ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " لِيَرُدَّكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَا تَجِدُ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي، وَكَفَى بِكَ عَيْبًا أَنَّ تَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا تَجْهَلُهُ مِنْ نَفْسِكَ، وَتَجِدُّ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي "، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» " (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

2183 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: " اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ الر " فَقَالَ: كَبُرَتْ سِنِّي وَاشْتَدَّ قَلْبِي وَغَلُظَ لِسَانِي، قَالَ: " فَاقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ حم " فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، قَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرِئْنِي سُورَةً جَامِعَةً، فَأَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا زُلْزِلَتْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِ أَبَدًا، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ» " مَرَّتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2183 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَقْرِئْنِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ عَلِّمْنِي (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: " اقْرَأْ ثَلَاثًا، أَيْ ثَلَاثَ سُوَرٍ - مِنْ ذَوَاتِ الر) وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ ذَوَاتِ الرَّاءِ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي صُدِّرَتْ بِالر " فَقَالَ: كَبُرَتْ " بِضَمِّ الْبَاءِ وَتُكْسَرُ (سِنِّي) ، أَيْ كَثُرَ عُمْرِي (وَاشْتَدَّ قَلْبِي) ، أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِ قِلَّةُ الْحِفْظِ وَكَثْرَةُ النِّسْيَانِ (وَغَلُظَ لِسَانِي) ، أَيْ ثَقُلَ بِحَيْثُ لَمْ يُطَاوِعْنِي فِي تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ لِأَتَعَلَّمَ السُّوَرَ الطِّوَالَ (قَالَ) ، أَيْ فَإِنْ كُنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ قِرَاءَتَهُنَّ (فَاقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ حم " فَإِنَّ أَقْصَرَ ذَوَاتِ حم أَقْصَرُ مِنْ أَقْصَرِ ذَوَاتِ الر (فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ) ، أَيِ الْأُولَى (قَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرِئْنِي سُورَةً جَامِعَةً) ، أَيْ بَيْنَ وَجَازَةِ الْمَبَانِي وَغَزَارَةِ الْمَعَانِي (فَأَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا زُلْزِلَتْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا) ، أَيِ النَّبِيُّ أَوِ الرَّجُلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ طَلَبَهُ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَلَّاحُ إِذَا عَمِلَ بِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ سُورَةً جَامِعَةً، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ آيَةٌ زَائِدَةٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] إِلَخْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ: " لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ» " {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] " " قَالَ الطِّيبِيُّ: وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ لِبَيَانِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي عَرْضِ الْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] (فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِ أَبَدًا) ، أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَقْرَأَتَنِيهِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ، وَلَعَلَّ الْقَصْدَ بِالْحَلِفِ تَأْكِيدُ الْعَزْمِ، وَتَأْيِيدُ الْجَزْمِ، لَا سِيَّمَا بِحُضُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي بِمَنْزِلَةِ الْمُبَايَعَةِ وَالْعَهْدِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مُرَادَ الرَّجُلِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ عُمُومُهَا الْجِنْسِيُّ لَا شُمُولُهُمَا الِاسْتِغْرَاقِيُّ، وَأَمَّا تَقْيِيدُ ابْنِ حَجَرٍ الْخَيْرَ بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ فَقَطْ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَهُوَ الْمُحَرَّمَاتُ فَقَطْ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَأَمَّا النَّوَافِلُ وَالْمَكْرُوهَاتُ فَقَدْ أَتْرُكُ لِكِبَرِ سِنِّي وَأَفْعَلُ هَذِهِ لِشِدَّةِ قَلْبِي، فَالْقَصْدُ مِنَ الْحَلِفِ إِنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْحَرَامِ لَا غَيْرَ فَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَسْبِي مَا سَمِعْتُ، وَلَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعَ غَيْرَهَا (ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، أَيْ وَلَّى دُبُرَهُ وَذَهَبَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفْلَحَ "، أَيْ فَازَ بِالْمَطْلُوبِ وَظَفِرَ بِالْمَحْبُوبِ " الرُّوَيْجِلُ " قَالَ الطِّيبِيُّ: تَصْغِيرُ تَعْظِيمٍ لِبُعْدِ غَوْرِهِ وَقُوَّةِ إِدْرَاكِهِ، وَهُوَ تَصْغِيرٌ شَاذٌّ إِذْ قِيَاسُهُ رُجَيْلٌ اهـ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرُ رَاجِلٍ بِالْأَلِفِ بِمَعْنَى الْمَاشِي (مَرَّتَيْنِ) إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ مَرَّةً لِلدُّنْيَا وَمَرَّةً لِلْأُخْرَى، وَقِيلَ: شِدَّةُ إِعْجَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

2184 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ " قَالُوا: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ قَالَ: " أَمَا يَسْتَطِعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْهَكُمُ التَّكَاثُرُ؟» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2184 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ " قَالُوا: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟» ) ، أَيْ لَا يَسْتَطِعُ كُلُّ أَحَدٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَلَى جِهَةِ الْمُوَاظَبَةِ (قَالَ: " «أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ؟» ") ، أَيْ إِلَى آخِرِهَا أَوْ هَذِهِ السُّورَةَ فَإِنَّهَا كَقِرَاءَةِ أَلْفِ آيَةٍ فِي التَّزْهِيدِ عَنِ الدُّنْيَا وَالتَّرْغِيبِ فِي عِلْمِ الْيَقِينِ بِالْعُقْبَى، وَقِيلَ: وَجْهُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ سِتَّةُ آلَافٍ وَكَسْرٍ، وَإِذَا تَرَكَ الْكَسْرَ كَانَتِ الْأَلْفُ سُدُسَهُ، وَمَقَاصِدُ الْقُرْآنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ، وَثَلَاثَةٌ مُتِمَّةٌ، وَاحِدُهَا مَعْرِفَةُ الْآخِرَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا السُّورَةُ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِأَلْفِ آيَةٍ أَفْخَمُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِسُدُسِ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ صَحَّ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2185 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشَرَ مَرَّاتٍ بُنِيَ لَهُ بِهَا قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ عِشْرِينَ مَرَّةً بُنِيَ لَهُ قَصْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً بُنِيَ لَهُ بِهَا ثَلَاثَةُ قُصُورٍ فِي الْجَنَّةِ "، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا لَنُكَثِّرَنَّ قُصُورَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2185 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) هُوَ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ، بَلْ قِيلَ: أَجَلُّهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ (مُرْسَلًا) بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَالَ مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ بُنِيَ لَهُ بِهَا قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ عِشْرِينَ مَرَّةً بُنِي لَهُ بِهَا قَصْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا» ") ، أَيِ السُّورَةُ " ثَلَاثِينَ مَرَّةً بُنِيَ لَهُ بِهَا ثَلَاثَةَ قُصُورٍ فِي الْجَنَّةِ " وَلَعَلَّهُ كَرَّرَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْحَصْرُ فِي عَدَدِ الْعَشْرِ، وَيُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا زَادَ مِنَ الْأَعْدَادِ زِيدَ لَهُ مِنَ الْإِمْدَادِ (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا) بِالتَّنْوِينِ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ (لَنُكَثِّرَنَّ قُصُورَنَا) مِنَ الْإِكْثَارِ وَيَجُوزُ التَّشْدِيدُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّ جَزَاءَ عَشْرِ مَرَّاتٍ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّا نُكَثِّرُ قُصُورَنَا بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَا حَدَّ لِلْقُصُورِ حِينَئِذٍ، وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الْجَنَّةِ شَيْءٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُ أَوْسَعُ ") ، أَيْ أَكْثَرُ عَطَاءً " مِنْ ذَلِكَ " أَوْ قُدْرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ فَلَا تَعْجَبْ، وَمِنَ الْعَجِيبِ خَلْطُ ابْنِ حَجْرٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَتَلْفِيقِهِمَا حَيْثُ قَالَ: أَيْ قُدْرَتُهُ أَكْثَرُ عَطَاءً (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

2186 - وَعَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَةَ آيَةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ الْقُرْآنُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَمَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَتَيْ آيَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ، وَمَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ خَمْسَمِائَةً إِلَى الْأَلْفِ أَصْبَحَ وَلَهُ قِنْطَارٌ مِنَ الْأَجْرِ " قَالُوا: وَمَا الْقِنْطَارُ؟ قَالَ: " اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2186 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) ، أَيِ الْبَصْرِيُّ (مُرْسَلًا) لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ حُذِفَ الصَّحَابِيُّ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَةَ آيَةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ الْقُرْآنُ» ) ، أَيْ لَمْ يُخَاصِمْهُ فِي تَقْصِيرِهِ (تِلْكَ اللَّيْلَةَ) ، أَيْ مِنْ جِهَتِهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَمْ يُخَاصِمْهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ جِهَةِ التَّقْصِيرِ فِي تَعَهُّدِهِ، لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ فِيهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ إِنْ لَمْ يَعْمَلْ لِمَا فِي حَدِيثِ أَنَّهُ يَقُولُ فِي مُخَاصَمَتِهِ لِبَعْضِ حُفَّاظِهِ: نَامَ عَنِّي وَلَمْ يَعْمَلْ بِي، الْمَعْلُومُ مِنْهُ أَنَّهُ يُخَاصِمُ مِنْ جِهَتَيْنِ: التَّقْصِيرُ فِي تَعَهُّدِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نِسْيَانِهِ، وَفِي الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِهْتَارًا بِحَقِّهِ اهـ وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْعَمَلِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ كَمَا هُوَ الْأَنْسَبُ الْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَازِمَةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ خَاصَمَهُ اللَّهُ وَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ، فَإِسْنَادُ الْمُحَاجَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ مَجَازٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي جَمِيعِهِ نَظَرٌ أَمَّا قَوْلُهُ لَازِمَةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ وَوَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَافِظٍ قَرَأَ مَا ذَكَرَ فَأَفْهَمُ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ لِحَافِظٍ لَمْ يَقْرَأْ مَا ذَكَرَ لَا لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ ذَلِكَ أَصْلًا وَلَا لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِالْكُلِّيَّةِ، قُلْتُ: مِنَ الْمَعْلُومِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ الْمَفْهُومِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ حِفْظُ الْقُرْآنِ مَعَ إِفَادَةِ زِيَادَةِ إِطْلَاقِهِ الْإِشَارَةَ إِلَى وُجُوبِ تَفَقُّدِ الْقُرْآنِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، كَمَا هُوَ مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَجُوزُ حَمْلُ الْمِائَةِ عَلَى تَكْرَارِهَا وَعَدَمِهِ، وَأَيْضًا فِي إِطْلَاقِهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ حَفِظَ الْقُرْآنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَيُخَاطَبُ بِهِ كُلُّ الْأُمَّةِ فِي كُلِّ زَمَنٍ، نَعَمْ إِنْ حَفِظَهُ جَمْعٌ مِنْهُمْ يَقُومُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِلَّا أَثِمُوا كُلُّهُمْ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُخَاصِمُهُ فَقَدْ مَرَّ رَدُّهُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِالْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ أَلْفَاظَ الشَّارِعِ حَيْثُ أَمْكَنَ بَقَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا لَمْ تُصْرَفْ عَنْهُ، وَهَذَا يُمْكِنُ بَقَاءُ مُحَاجَّةِ الْقُرْآنِ عَلَى ظَاهِرِهَا بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ صُورَةً نَاطِقَةً، وَفِيهِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ صُورَةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ فِي الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْحَقِيقَةِ إِمَّا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ، وَإِمَّا الْمَقْرُوءُ عَلَى أَلْسِنَتِنَا، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَقِيقَةِ، كَمَا أَنَّ الْكِنَايَةَ أَبْلَغُ مِنَ الصَّرِيحِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ وَأَصْحَابُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، بَلْ قَالَتِ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] نِسْبَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] هِيَ النِّسْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى كَلَامِهِ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى مَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلَيْلَةٌ ... وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمُسَاوَيَا

أَيْ تُبْدِي الْمَحَاسِنَ مَسَاوِيًا، وَنَظَرَ إِلَى إِفْرَادِ عَيْنِ الرِّضَا وَجَمْعِ عُيُونِ السُّخْطِ فَإِنَّهُ يَفْتَحُ لَكَ نُكْتَةً لَطِيفَةً وَحِكْمَةً شَرِيفَةً ظَاهِرِيَّةً وَبَاطِنِيَّةً " «وَمَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَتَيْ آيَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ» "، أَيْ طَاعَتُهَا أَوْ قِيَامُهَا " «وَمَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ خَمْسمِائَةً إِلَى الْأَلْفِ أَصْبَحَ وَلَهُ قِنْطَارٌ» "، أَيْ ثَوَابٌ بِعَدَدِهِ أَوْ بِوَزْنِهِ " مِنَ الْأَجْرِ، قَالُوا: وَمَا الْقِنْطَارُ؟ قَالَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا "، أَيْ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ -: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ «الْقِنْطَارَ أَلْفًا وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، وَالْأُوقِيَّةُ خَيْرٌ مِمَّا بَيْنُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، أَيْ مِنَ الْأَرْطَالِ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ أَوْ دَلِيلٍ صَرِيحٍ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2187 - عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهْوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ، وَيَسْكُنُ، وَهُوَ فِي تَوَابِعِ الْفَضَائِلِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي مُرَاعَاتُهَا مِنَ الْفَوَاضِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2187 - (عَنْ أَبَى مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ» ) ، أَيْ تَفَقَّدُوهُ وَرَاعُوهُ بِالْمُحَافَظَةِ وَدَاوِمُوهُ بِالتِّلَاوَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعَاهُدُ الْمُحَافَظَةُ وَتَجْدِيدُ الْعَهْدِ، أَيْ وَاظِبُوا عَلَى قِرَاءَتِهِ وَدَاوِمُوا عَلَى تَكْرَارِ دِرَاسَتِهِ لِئَلَّا يُنْسَى (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (أَشَدُّ تَفَصِّيًا) ، أَيْ فِرَارًا وَذَهَابًا وَتَخَلُّصًا وَخُرُوجًا (مِنَ الْإِبِلِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّفَصِّي التَّخَلُّصُ، يُقَالُ: تُفُصِّيَتِ الدُّيُونُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْهَا (فِي عُقُلِهَا) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْقَافِ جَمْعُ عِقَالٍ كَكُتُبٍ جَمْعُ كِتَابٍ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الْقَافِ لُغَةً، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ عَلَى ضَمِّهَا وَهُوَ الْحَبَلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ ذِرَاعُ الْبَعِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " اعْقِلْ وَتَوَكَّلْ " قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: عَقَلْتُ الْإِبِلَ إِذَا جَمَعْتَ وَظِيفَهُ إِلَى ذِرَاعِهِ فَتَشُدُّهَا مَعًا فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ، وَذَلِكَ الْعَقْلُ هُوَ الْحِبَالُ اهـ وَفِي فِيهِ بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ لَهُوَ أَشَدُّ ذَهَابًا مِنَ الْإِبِلِ إِذَا تَخَلَّصَتْ مِنَ الْعِقَالِ فَإِنَّهَا تَنْفَلِتُ حَتَّى لَا تَكَادُ تُلْحَقُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ قُلُوبِ الرِّجَالِ مِنَ الْإِبِلِ مِنْ عُقُلِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ بَلْ هُوَ كَلَامُ خَالِقِ الْقُوَى وَالْقَدَرِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَشَرِ مُنَاسَبَةٌ قَرِيبَةٌ لِأَنَّهُ حَادَثٌ وَهُوَ قَدِيمٌ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ - بِلُطْفِهِ الْعَمِيمِ وَكَرَمِهِ الْقَدِيمِ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَمَنَحَهُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَهُ بِالْحِفْظِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

2188 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ، وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: بِعُقُلِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2188 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ) مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَقَوْلُهُ (أَنْ يَقُولَ) مَخْصُوصٌ بِالذَّمِّ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 90] أَيْ بِئْسَ شَيْئًا كَائِنًا لِلرَّجُلِ قَوْلُهُ (نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ) بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بَلْ هُوَ نُسِّيَ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا تَلْقِينٌ وَتَعْلِيمٌ أَنْ يَقُولَ: نُسِّيتُ لَا نَسِيتُ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا بَلْ هُوَ نُسِّيَ» ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا بَلْ يَقُولُ أُنْسِيتُهَا اهـ وَفِي الْأَوَّلِ إِشْعَارٌ بِعَدَمِ التَّقْصِيرِ وَإِيمَاءٌ إِلَى فِعْلٍ يُخَالِفُ الْقَضَاءَ وَالتَّقْدِيرَ، وَفِي الثَّانِي نِسْبَةُ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ الْعِصْيَانُ إِلَى ذَاتِهِ مَعَ الْإِبْهَامِ إِلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَا تَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا لِأَنَّهُ لَمْ

يَنْسَ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ فِي النِّسْيَانِ بِوَجْهٍ مُطْلَقًا اهـ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ بِإِطْلَاقٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ بَلْ نَسِيَ إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ تَقْصِيرِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ لَكِنَّ اللَّهَ أَنْسَاهُ لِمَصْلَحَةٍ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] وَقَوْلُهُ نَسِيتُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَاهَدِ الْقُرْآنَ، وَقَالَ شَارِحٌ آخَرُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِزَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ نَسِيَ، أَيْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الضَّيَاعُ عَلَى مُحْكَمِ الْقُرْآنِ، فَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِمَا رَأَى فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ يَعْنِي نَسْخَ التِّلَاوَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الَّذِي أَنْسَاهَا لَهُ بِسَبَبٍ مِنْهُ تَارَةً بِأَنْ تَرَكَ تَعَهُّدَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ تَرْكَ تَعَهُّدِهِ سَبَبٌ فِي نِسْيَانِهِ عَادَةً لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ شَارِحَيْنِ قَرَّرَا هَذَا بِغَيْرِ مَا ذَكَرْتُهُ، لَكِنْ يَرُدُّهُ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا: يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا، وَإِنَّمَا يَقُولُ: أُنْسِيتُهَا أَوْ أُسْقِطْتُهَا لِمَا صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ بِاللَّيْلِ فَقَالَ: " يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَةً كُنْتُ أَسْقَطْتُهَا» وَفِي رِوَايَةً صَحِيحَةً: كُنْتُ أُنْسِيتُهَا اهـ وَهُوَ رَدٌّ غَرِيبٌ وَوَجْهٌ عَجِيبٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمَّا الْحَرِيصُ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي يَدْأَبُ فِي تِلَاوَتِهِ لَكِنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ، بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: مَعْنَى نَسِيَ عُوقِبَ بِالنِّسْيَانِ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ سُوءِ تَعَهُّدٍ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126] وَمِنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ( «عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ أَعْظَمَ ذَنْبًا مِنْ رَجُلٍ أُوتِيَ آيَةً فَنَسِيَهَا» ) ثُمَّ النِّسْيَانُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ سَوَاءٌ كَانَ حَافِظًا أَمْ لَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ) أَيِ اسْتَحْضِرُوهُ فِي الْقَلْبِ وَالْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَوْ لِعَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ أَيِ اطْلُبُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ذِكْرَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ " بِئْسَ " مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيْ لَا تُقَصِّرُوا فِي مُعَاهَدَةِ الْقُرْآنِ وَاسْتَذْكِرُوهُ (فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا) ، أَيْ تَشَرُّدًا (مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ) ، أَيِ الْحُفَّاظِ، وَمِنْ مُتَعَلِّقٌ بِتَفَصِّيًا (مِنَ النَّعَمِ) بِفَتْحَتَيْنِ، فِي الْقَامُوسِ: النَّعَمُ وَقَدْ يُكْسَرُ عَيْنُهُ الْإِبِلُ وَالشَّاةُ أَوْ خَاصٌّ بِالْإِبِلِ جَمْعُهُ أَنْعَامٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هِيَ الْمَالُ الرَّاعِيَةُ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْإِبِلِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَشَدَّ، أَيْ أَشَدُّ مِنْ تَفَصِّي النَّعَمِ الْمُعَقَّلَةِ، وَتَخْصِيصُ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ مِنْ شَأْنِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: بِعُقُلِهَا) بِضَمَّتَيْنِ.

2189 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2189 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ) ، أَيْ صِفَتُهُ الْغَرِيبَةُ الشَّأْنِ الْعَجِيبَةُ الْبُرْهَانِ (كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ) بِفَتْحِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيِ الْمَشْدُودَةِ بِالْعِقَالِ (إِنْ عَاهَدَ) ، أَيْ دَوَامَ وَتَفَقَّدْ وَحَافَظَ صَاحِبُهَا (عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا) ، أَيْ بِالْعِقَالِ وَنَحْوِهِ (وَإِنْ أَطْلَقَهَا) ، أَيْ أَرْسَلَهَا وَحَلَّهَا (ذَهَبَتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2190 - وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2190 - (وَعَنْ جُنْدُبٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَيُفْتَحُ (ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ» ) ، أَيْ مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَخَوَاطِرُكُمْ مَجْمُوعَةً لِذَوْقِ قِرَاءَتِهِ ذَاتُ نَشَاطٍ وَسُرُورٍ عَلَى تِلَاوَتِهِ (فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ) أَيِ اخْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ وَمَلِلْتُمْ وَتَفَرَّقَتْ خَوَاطِرُكُمْ وَكَسِلْتُمْ (فَقُومُوا عَنْهُ) ، أَيْ فَاتْرُكُوهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ حُضُورِ الْقَلْبِ أَوِ الْمُرَادُ اقْرَءُوا مَا دُمْتُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَصْحِيحِ قِرَاءَتِهِ وَتَحْقِيقِ أَسْرَارِ مَعَانِيهِ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي ذَلِكَ فَاتْرُكُوهُ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ يُفْضِي إِلَى الْجِدَالِ وَالْجِدَالُ إِلَى الْجُحُودِ وَتَلَبُّسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ مِنْ ذَلِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2191 - وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا. ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبَسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2191 - (وَعَنْ قَتَادَةَ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ: كَانَتْ (قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ عَلَى التَّرْتِيلِ أَوِ الْحَدْرِ (فَقَالَ) ، أَيْ أَنَسٌ (كَانَتْ) ، أَيْ قِرَاءَتُهُ (مَدًّا) ، أَيْ ذَاتُ مَدٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ: مَدَّاءُ بِالْمَدِّ فَعْلَاءُ تَأْنِيثُ أَمَدَّ، أَيْ كَثِيرَةُ الْمَدِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَمُدُّ مَا كَانَ فِي كَلَامِهِ مِنْ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ بِالْقَدْرِ الْمَعْرُوفِ وَبِالشَّرْطِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْوُقُوفِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ ذَاتُ مَدٍّ، وَفِي الْبُخَارِيِّ: يَمُدُّ مَدًّا، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ مَدًّا، أَيْ كَانَ يَمُدُّهُ مَدًّا، وَفَى أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: مَدَّاءُ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوْلٌ عَلَى التَّخْمِينِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَفُسِّرَتْ بِأَنَّ قِرَاءَتَهُ كَانَتْ كَثِيرَةَ الْمَدِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حُرُوفُ الْمَدِّ ثَلَاثَةٌ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ يُمَدُّ بِقَدْرِ أَلِفٍ، وَقِيلَ بِقَدْرِ أَلِفَيْنِ إِلَى خَمْسِ أَلِفَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِقَدْرِ الْأَلِفِ قَدَرُ صَوْتِكَ إِذَا قُلْتَ يَا أَوْتَارُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا تَشْدِيدٌ يُمَدُّ بِقَدْرِ أَرْبَعِ أَلِفَاتٍ اتِّفَاقًا مِثْلُ دَابَّةٍ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا يُمَدُّ بِقَدْرِ أَلِفَيْنِ اتِّفَاقًا نَحْوَ صَادٍ وَيَعْمَلُونَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا غَيْرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ لَمْ يُمَدُّ إِلَّا بِقَدْرِ خُرُوجِهَا مِنَ الْفَمِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَقُولُ: الْمُعْتَمَدُ هُوَ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ حَرْفُ الْمَدِّ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْمَدِّ وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ الْمُوجِبَيْنِ لِلزِّيَادَةِ وَهُمَا الْهَمْزُ وَالسُّكُونُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمَدِّ بِقَدْرِ أَلِفٍ اتِّفَاقًا، وَقُدِّرَ بِمِقْدَارِ قَوْلِكَ أَلِفٌ أَوْ كِتَابِكَ أَلِفًا أَوْ عَقْدِ أُصْبُعٍ، وَيُسَمَّى طَبِيعِيًّا وَذَاتِيًّا وَأَصْلِيًّا، وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ وَيُسَمَّى فَرَعِيًّا، ثُمَّ إِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْهَمْزُ فَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَصْلِ خِلَافٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي مَرَاتِبِ الْمُتَّصِلِ أَوِ الْمُنْفَصِلِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مُطْلَقِ الْمَدِّ فِي الْمُتَّصِلِ وَخِلَافِ بَعْضِهِمْ فِي الْمُنْفَصِلِ، وَأَقَلُّ الزِّيَادَةِ أَلِفٌ وَنِصْفٌ وَأَكْثَرُهُمْ أَرْبَعٌ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ السُّكُونُ فَإِنْ كَانَ لَازْمِيًّا سَوَاءٌ كَانَ يَكُونُ مُشَدَّدًا أَوْ مُخَفَّفًا نَحْوَ دَابَّةٍ وَصَادٍ فَكُلُّهُمْ يَقْرَءُونَ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَلِفَاتٍ، وَإِنْ كَانَ عَارِضِيًّا نَحْوَ يَعْمَلُونَ فَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَهُوَ قَدْرُ أَلِفٍ وَالتَّوَسُّطُ وَهُوَ أَلِفَانِ وَالْمَدُّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ يَجُرُّ بَسْطُهَا إِلَى مَلَالَةٍ وَتَثْقِيلٍ (ثُمَّ قَرَأَ) ، أَيْ أَنَسٌ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبَسْمِ اللَّهِ) ، أَيْ فِي أَلِفِ الْجَلَالَةِ مَدًّا أَصْلِيًّا قَدْرَ أَلِفٍ (وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ) ، أَيْ فِي أَلِفِهِ كَذَلِكَ (وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ) ، أَيْ فِي يَائِهِ مَدًّا أَصْلِيًّا أَوْ عَارِضِيًّا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي نَحْوِهِ حَالَةَ الْوَقْفِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الطُّولُ وَالتَّوَسُّطُ وَالْقَصْرُ مَعَ الْإِسْكَانِ، وَوَجْهٌ آخَرُ بِالْقَصْرِ وَالرَّوْمِ، أَيْ هُوَ إِتْيَانُ بَعْضِ الْحَرَكَةِ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2192 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2192 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ) مَا الْأُولَى نَافِيَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ مَا اسْتَمَعَ لِشَيْءٍ كَاسْتِمَاعِهِ لِصَوْتِ نَبِيٍّ، أَيِ اسْتِمَاعُ مَحَبَّةٍ وَرَحْمَةٍ لِتَنَزُّهِهِ - تَعَالَى - عَنِ السَّمْعِ بِالْحَاسَّةِ (يَتَغَنَّى) ، أَيْ يُحَسِّنُ صَوْتَهُ (بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ بِتِلَاوَتِهِ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ أَوِ الْمَقْرُوءِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقُرْآنِ مَا يُقْرَأُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ نَبِيٍّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: أَذِنَ إِذْنًا اسْتَمَعَ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَقْرِيبُهُ وَإِجْزَالُ ثَوَابِهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّغَنِّي تَحْسِينُ الصَّوْتِ تَرْقِيقُهُ وَتَحْزِينُهُ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنِ النَّاسِ، وَقِيلَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْكُتُبِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يَتَغَنَّى بِهِ يَجْهَرُ بِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَالْحَمْلُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ اهـ وَقَدْ أَخْطَأَ فِي التَّخْطِئَةِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ إِذْ فِي النِّهَايَةِ رَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا، أَيِ اسْتِغْنَاءً بِهَا عَنِ الطَّلَبِ مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ مَنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ وَتَرْقِيقُهَا، وَفِي الْقَامُوسِ: تَغَنَّيْتُ اسْتَغْنَيْتُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ لُغَةً، أَيْ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِ بِاللُّغَةِ بَلْ لَهُ لُغَةٌ مَخْصُوصَةٌ اهـ وَهُوَ مِمَّا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَقَالَ: وَلَوْ كَانَ مَعْنًى يَتَغَنَّى يَسْتَغْنِي لَقَالَ يَتَغَانَى، فَزَعَمَ عِيَاضُ أَنَّ يَتَغَنَّى وَيَتَغَانَى بِمَعْنَى يَسْتَغْنِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ يَتَغَنَّى مِنْ مَادَّةٍ مُغَايِرَةٍ لِمَادَّةِ يَتَغَانَى صِنَاعَةً وَمَعْنًى اهـ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ عِلْمِهِ بِالْمَادَّةِ لُغَةً وَصِنَاعَةً وَلَفْظًا وَمَعْنًى، فَإِنَّ مِنَ الْوَاضِحَاتِ أَنَّ مَادَّةَ يَتَقَطَّعُ وَيَتَقَاطَعُ وَاحِدَةٌ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ بِالْبَابِ كَمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2193 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسِنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2193 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ) ، أَيْ مَا اسْتَمَعَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَبُولِ (مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسِنِ الصَّوْتِ) صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ) ، أَيْ فِي صَلَاتِهِ أَوْ تِلَاوَتِهِ أَوْ حِينَ تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2194 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2194 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ مِنَّا) ، أَيْ خُلُقًا وَسِيرَةً أَوْ مُتَّصِلًا بِنَا وَمُتَابِعًا لَنَا فِي طَرِيقَتِنَا الْكَامِلَةِ، وَنَظِيرُ مَنِ الِاتِّصَالِيَّةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] وَحَدِيثُ " لَسْتُ مِنْ دَدٍّ وَلَا الدَّدُ مِنِّي "، أَيْ لَسْتُ مُتَّصِلًا بِاللَّهْوِ وَلَا اللَّهْوُ مُتَّصِلًا بِي (مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ لَمْ يُحَسِّنْ صَوْتَهُ بِهِ أَوْ لَمْ يَجْهَرْ أَوْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَتَرَنَّمْ أَوْ لَمْ يَتَحَزَّنْ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ بِهِ غِنَى النَّفْسِ أَوْ لَمْ يَرْجُ بِهِ غِنَى الْيَدِ، فَهَذِهِ سَبْعَةُ مَعَانٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي اسْتَخْرَجَهَا عَلَى الْقَارِئِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ لَمْ يَتَغَنَّ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّغَنِّي لِمَا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِلسَّابِقِ وَمُبَيِّنًا لِلَاحِقٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَالتُّورِبِشْتِيُّ رَجَّحَ جَانِبَ مَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ وَقَالَ: الْمَعْنَى: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَمِمَّنْ تَبِعَنَا فِي أَمْرِنَا وَهُوَ وَعِيدٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَارِئَ الْقُرْآنِ مُثَابٌ عَلَى قِرَاءَتِهِ مَأْجُورٌ مِنْ غَيْرِ تَحْسِينِ صَوْتِهِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعِيدِ وَهُوَ مُثَابٌ مَأْجُورٌ؟ اهـ وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2195 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " اقْرَأْ عَلَيَّ " قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: " إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي " فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ " {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] " قَالَ: " حَسْبُكَ الْآنَ " فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2195 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي) دَلَّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: اقْرَأْ عَلَيَّ) ، أَيْ حَتَّى أَسْتَمِعَ إِلَيْكَ (قُلْتُ: أَقْرَأُ) ، أَيْ أَأَقْرَأُ (عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ يَعْنِي جَرَيَانُ الْحِكْمَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ أَحْلَى، وَكَلَامُ الْمَحْبُوبِ عَلَى لِسَانِ الْحَبِيبِ أَوْلَى، وَهَذَا طَرِيقُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ، وَالطَّلَبَةُ يَسْتَمِعُونَ مِنْهُمْ وَيَأْخُذُونَ عَنْهُمْ بِالْوَجْهِ الْحَثِيثِ (قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ) ، أَيْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَحْصُلُ لِلْعَارِفِ فِيهِ الْكَلَالُ، كَمَا قِيلَ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ كَلَّ لِسَانُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: كَلِّمِينِي يَا حُمَيْرَاءُ، وَلَهُ حَالٌ أُخْرَى يُقَالُ فِيهَا: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ طَالَ لِسَانُهُ (أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) جَمْعًا بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ الِاسْتِمَاعَ أَفْضَلُ، وَلَكِنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلتَّعْلِيمِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَبِهَذَا أَخَذَ الْخَلَفُ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ حَيْثُ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ مِنَ التَّلَامِذَةِ وَالطَّالِبِينِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالْأَوَّلُونَ حَيْثُ كَانُوا فِي مَرْتَبَةِ الْأَعْلَى فَكَانُوا يُدْرِكُونَ بِالسَّمَاعِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ وَالنَّصِيبَ الْأَعْلَى، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " قَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ وَإِنْ كَانَ أُنْزِلَ عَلَيَّ فَإِنِّي أُحِبُّ " مُوهِمٌ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْفَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ بِلَا فَاءٍ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (فَقَرَأَتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ " فَكَيْفَ ") ، أَيْ يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِدٍ} [النساء: 41] ، أَيْ أَحْضَرْنَا مِنْهُمْ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ بِمَا فَعَلُوا وَهُوَ نَبِيُّهُمْ {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 41] ، أَيْ أُمَّتِكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ الْمُكَذِّبِينَ (شَهِيدًا، قَالَ: حَسْبُكَ) ، أَيْ كَافِيكَ مَا قَرَأَتَهُ (الْآنَ) ، أَيْ لَا تَقْرَأْ شَيْئًا آخَرَ فَإِنِّي مَشْغُولٌ بِالتَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجَاءَنِي الْبُكَاءُ وَالْحَالَةُ الْمَانِعَةُ مِنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ (فَالْتَفَتُّ) ، أَيْ إِلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ تَدْمَعَانِ وَتُسِيلَانِ دَمْعًا إِمَّا لِرَحْمَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَإِمَّا خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ عَظْمَتِهِ - تَعَالَى - وَجَلَالَتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَصُعِقَ جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَمَاتَ جَمَاعَةٌ بِسَبَبِهَا، وَلِمَا حُكِيَ فِي التِّبْيَانِ عَنْ جَمْعٍ إِنْكَارُ الصِّيَاحِ وَالصَّعْقِ قَالَ: الصَّوَابُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ إِلَّا عَلَى مَنِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ تَصَنُّعًا، وَقَالَ فِي الْأَذْكَارِ: فَإِنْ عَزَّ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ تَبَاكَى لِخَبَرِ أَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ ( «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ وَكَآبَةٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» ) . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2196 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ " قَالَ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: " نَعَمْ " فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا " " قَالَ: وَسَمَّانِي؟ قَالَ: " نَعَمْ " فَبَكَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2196 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» ) ، أَيْ بِالْخُصُوصِ مِنْ بَيْنِ الْأَقْرَانِ (قَالَ: آللَّهُ) بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى لِلِاسْتِفْهَامِ وَقُلِبَتِ الثَّانِيَةُ أَلِفًا إِبْقَاءً لِلِاسْتِفْهَامِ وَيَجُوزُ تَسْهِيلُهَا وَيَجُوزُ الْحَذْفُ لِلْعِلْمِ بِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ: آللَّهُ بِالْمَدِّ بِلَا حَذْفٍ وَبِالْحَذْفِ بِلَا مَدٍّ (سَمَّانِي لَكَ؟) ، أَيْ ذَكَرَنِي بِاسْمِي لَكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَقْصُودُ التَّعَجُّبُ إِمَّا هَضْمًا، أَيْ أَنَّى لِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ، وَإِمَّا اسْتِلْذَاذًا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرْتُ) ، أَيْ أَوَقَعَ ذَلِكَ وَالْحَالُ أَنِّي قَدْ ذُكِرْتُ عَلَى الْخُصُوصِ أَوْ بِهَذَا الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَقْرِيرٌ لِلتَّعَجُّبِ (عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟) ، أَيْ مَعَ عَظَمَتِهِ وَحَقَارَتِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعِنْدَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الَّذَّاتِ وَعَظَمَتِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ قُرْبِهِ وَمَزِيدِ رَحْمَتِهِ (قَالَ: نَعَمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ) ، أَيْ جَرَى دَمْعُ عَيْنَيْهِ، أَيْ سُرُورًا وَفَرَحًا بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ فِي أَمْرِ الْقِرَاءَةِ أَوْ خَوْفًا مِنَ الْعَجْزِ عَنْ قِيَامِ شُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ حَتَّى قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَقَرَؤُكُمْ أُبَيُّ» " وَلِمَا قَيَّضَ لَهُ مِنَ الْإِمَامَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ لِيَأْخُذَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التِّلَاوَةَ كَمَا أَخَذَهُ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جِبْرِيلَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْآخَرِ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَقَدْ أَخَذَ عَنْ أُبَيٍّ بَشَرٌ كَثِيرُونَ مِنَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ عَنْهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهَكَذَا فَسَرَى فِيهِ سِرُّ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ حَتَّى سَرَى سِرُّهُ فِي الْأُمَّةِ إِلَى السَّاعَةِ (وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» ") قِيلَ: لِأَنَّ فِيهِ قِصَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ أُبَيٌّ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَلِّمَهُ حَالَهُمْ وَخِطَابَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَيَتَقَرَّرُ إِيمَانُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَنُبُوَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَدَّ تَقَرُّرًا، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَضِيَّةً أُخْرَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ جَمَّةٌ مِنْهَا اسْتِحْبَابُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحُذَّاقِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَقْرُوءِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا الْمَنْقَبَةُ الشَّرِيفَةُ لِأُبَيٍّ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا شَارَكَهُ فِيهَا، وَأَمَّا تَخْصِيصُ قِرَاءَةٍ لَمْ يَكُنْ فَلِأَنَّهَا وَجِيزَةٌ جَامِعَةٌ لِقَوَاعِدَ كَثِيرَةٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَمُهِمَّاتٍ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ، وَكَانَ الْوَقْتُ يَقْتَضِي الِاخْتِصَارَ اهـ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْبَعْضِ إِذْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ (قَالَ: وَسَمَّانِي؟) ، أَيْ لَكَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: نَعَمْ، فَبَكَى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2197 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2197 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسَافَرَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ يُسَافِرُ أَحَدٌ (بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ بِالصُّحُفِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي نَابَ عَنِ الْفَاعِلِ وَلَيْسَتْ هِيَ كَمَا فِي قَوْلِهِ " لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ " فَإِنَّهَا حَالٌ، أَيْ حَالُ كَوْنِكُمْ مُصَاحِبِينَ لَهُ (إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ) ، أَيْ دَارُ الْحَرْبِ، وَقِيلَ: نَهْيُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ كَانَ مَحْفُوظًا عِنْدَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَلَوْ ذَهَبَ بَعْضٌ مِمَّنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَمَاتَ لَضَاعَ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذِهِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمُصْحَفَ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَنَقُولُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرْآنِ بَعْضُ مَا نُسِخَ وَكُتِبَ فِي عَهْدِهِ أَوْ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَمْلُ الْمُصْحَفِ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا إِذَا كَتَبَ كِتَابًا إِلَيْهِمْ فِيهِ آيَةٌ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ " {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] " الْآيَةُ تَمَامُهَا " {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] " وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِقُلْ فِي صَدْرِ الْآيَةِ وَلِوُجُوبِ التَّبْلِيغِ عَلَيْهِ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ فَيَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ أَنْ يُكَاتِبُوهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا

يَقْتَضِي الْمَقَامُ وَالْحَالُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْمَآلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ: مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ، وَجَعَلَهُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنِّي لَا آمَنُ» ) ، أَيْ لَيْسَتُ فِي أَمْنٍ (مِنْ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ) ، أَيْ يُصِيبُهُ الْكَافِرُ فَيُحَقِّرُهُ أَوْ يَحْرُقُهُ أَوْ يُلْقِيهِ فِي مَكَانٍ غَيْرِ لَائِقٍ بِهِ أَوْ لَا يَرُدُّوهُ إِلَيْكُمْ فَيَضِيعَ، فَلَا يَصِحُّ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ فِيهِ أَبْلَغُ رَدٍّ عَلَى مَا زَعَمَهُ شَارِحٌ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ كَانَ مَكْتُوبًا مُفَرَّقًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ، فَلَوْ ضَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُعَوَّضْ اهـ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ مُشْتَرِكَةٌ شَامِلَةٌ لَهُ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2198 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «جَلَسْتُ فِي عِصَابَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لِيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنَ الْعُرْيِ وَقَارِئٌ يَقْرَأُ عَلَيْنَا إِذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكَتَ الْقَارِئُ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ " قُلْنَا: كُنَّا نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ " قَالَ: فَجَلَسَ وَسَطَنَا لِيَعْدِلَ بِنَفْسِهِ فِينَا، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَتَحَلَّقُوا، وَبَرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لَهُ فَقَالَ: " أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2198 - (عَنْ أَبَى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَلَسْتُ فِي عِصَابَةٍ) بِالْكَسْرِ، أَيْ جَمَاعَةٌ (مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) يَعْنِي أَصْحَابَ الصُّفَّةِ (وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لِيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنَ الْعُرْيِ) ، أَيْ مِنْ أَجْلِهِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، أَيْ مَنْ كَانَ ثَوْبُهُ أَقَلَّ مِنْ ثَوْبِ صَاحِبِهِ كَانَ يَجْلِسُ خَلْفَ صَاحِبِهِ تَسَتُّرًا بِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ الْعُرْيِ مِمَّاعَدَا الْعَوْرَةَ فَالتَّسَتُّرُ لِمَكَانِ الْمُرُوءَةِ لَا تَسْمَحُ بِانْكِشَافِ مَا لَا يُعْتَادُ كَشْفُهُ (وَقَارِئٌ يَقْرَأُ عَلَيْنَا) حَالٌ أَيْضًا لِنَسْتَمِعْ وَنَتَعَلَّمْ (إِذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إِذْ لِلْمُفَاجَأَةِ (فَقَامَ) ، أَيْ وَقَفَ (عَلَيْنَا) ، أَيْ عَلَى رُءُوسِنَا، أَيْ كُنَّا غَافِلِينَ عَنْ مَجِيئِهِ فَنَظَرنَا فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَوْقَ رُءُوسِنَا يَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ (فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكَتَ الْقَارِئُ) ، أَيْ تَأَدُّبًا لِحُضُورِهِ وَانْتِظَارًا لِمَا يَقَعُ مِنْ أُمُورِهِ (فَسَلَّمَ) ، أَيِ الرَّسُولُ (ثُمَّ قَالَ) النَّبِيُّ (مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟) إِنَّمَا سَأَلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ لِيُجِيبَهُمْ بِمَا أَجَابَهُمْ مُرَتَّبًا عَلَى حَالِهِمْ وَكَمَالِهِمْ (قُلْنَا: نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ) ، أَيْ إِلَى قِرَاءَتِهِ أَوْ إِلَى قَارِئِهِ (فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَهُمْ» ) ، أَيْ جُعِلَ مِنْ جُمْلَةِ زُمْرَةِ الْفُقَرَاءِ الْمُلَازِمِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ مُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ بِحَيْثُ أَمَرَنِي بِالصَّبْرِ مَعَهُمْ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] شُكْرًا لِصَنِيعِهِمْ وَرَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ عَنْكَ حَتَّى نُجَالِسَكَ وَنُؤْمِنَ بِكَ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَمِلْتُ إِلَى مَا قَالُوا مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَذَا إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ لَوْ وَرَدَ لَكُنَّا نَحْمِلُ عَلَى أَنِّي قَارَبْتُ أَنْ أَمِيلَ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ قَوْلُهُ " وَاصْبِرْ " لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ كَمَالِ الصَّبْرِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] (قَالَ) ، أَيِ الرِّوَايَ (فَجَلَسَ) ، أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَسْطَنَا) بِسُكُونِ السِّينِ وَقَدْ يُفْتَحُ، أَيْ بَيْنَنَا لَا بِجَنْبِ أَحَدٍ مِنَّا (لِيَعْدِلَ بِنَفْسَهُ فِينَا) ، أَيْ يَكُونُ عَادِلًا بِإِجْلَاسِ نَفْسِهِ الْأَنْفُسَ فِينَا عَلَى وَجْهِ التَّسْوِيَةِ بِالْقُرْبِ إِلَى كُلٍّ مِنَّا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِيَجْعَلَ نَفْسَهُ عَدِيلًا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: بِجُلُوسِهِ فِينَا تَوَاضُعًا وَرَغْبَةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (ثُمَّ قَالَ) ، أَيْ أَشَارَ (بِيَدِهِ هَكَذَا) أَيِ اجْلِسُوا حِلَقًا (فَتَحَلَّقُوا) ، أَيْ قُبَالَةَ وَجْهِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَبَرَزَتْ) ، أَيْ ظَهَرَتْ (وُجُوهُهُمْ) لَهُ بِحَيْثُ يَرَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَجْهَ أَحَدٍ مِنْهُمُ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] أَيْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مُمِيلًا لِسَاعِدِهَا وَكُوعِهَا حَتَّى تَصِيرَ مُعْوَجَّةً عَلَى هَيْئَةِ الْحَلْقَةِ اهـ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ (فَقَالَ: أَبْشِرُوا) أَيِ افْرَحُوا (يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ) ، أَيْ جَمَاعَةُ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ جَمْعِ صُعْلُوكٍ (بِالنُّورِ التَّامِّ) ، أَيِ الْكَامِلِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نُورَ الْأَغْنِيَاءِ لَا يَكُونُ

تَامًّا، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، فَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» . (تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ (قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ) ، أَيِ: الشَّاكِرِينَ (بِنِصْفِ يَوْمٍ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُقَرَاءِ هُمُ الصَّالِحُونَ الصَّابِرُونَ، وَبِالْأَغْنِيَاءِ الصَّالِحُونَ الشَّاكِرُونَ الْمُؤَدُّونَ حُقُوقَ أَمْوَالِهِمْ بَعْدَ تَحْصِيلِهَا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَوَقَّفُونَ فِي الْعَرَصَاتِ لِلْحِسَابِ مِنْ أَيْنَ حَصَّلُوا الْمَالَ؟ وَفَى أَيْنَ صَرَفُوهُ فِي الْمَآلِ؟ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَظَّ الْفُقَرَاءِ فِي الْقِيَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الْأَغْنِيَاءِ ; لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا لَذَّةً وَرَاحَةً فِي الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ حَالُهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَأَغْلَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «أَجْوَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْبَعُكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ) وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ (وَذَلِكَ) ، أَيْ: نِصْفُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وَلَعَلَّ هَذَا الْمِقْدَارَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُخَفَّفُ عَلَى بَعْضِهِمْ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخَوَاصِّ كَوَقْتِ صَلَاةٍ أَوْ مِقْدَارِ سَاعَةٍ، وَوَرَدَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَأَفَادَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] أَنَّ غَايَةَ مَا يَطُولُ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الزَّوَالِ وَهُوَ نِصْفُ يَوْمٍ مِنْ أَيْامِ الْآخِرَةِ الْمُعَادِلِ لِأَلْفِ سَنَةٍ، الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فَمَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِينَ، فَهُوَ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2199 - وَعَنِ الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2199 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (زَيِّنُوا الْقُرْآنَ) ، أَيْ: قِرَاءَتَهُ (بِأَصْوَاتِكُمْ) ، أَيِ: الْحَسَنَةُ أَوْ أَظْهِرُوا زِينَةَ الْقُرْآنِ بِحُسْنِ أَصْوَاتِكُمْ، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ مِنَ الْقَلْبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِىَ عَنِ الْبَرَاءَ أَيْضًا عَكْسُهُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ تُزَيُّنُهُ بِالتَّرْتِيلِ وَالتَّجْوِيدِ وَتَلْيِينِ الصَّوْتِ وَتَحْزِينِهِ، وَأَمَّا التَّغَنِّي بِحَيْثُ يُخِلُّ بِالْحُرُوفِ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا فَهُوَ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ وَيَجِبُ إِنْكَارُهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْوَأِ الْبِدَعِ وَأَفْحَشِ الْإِبْدَاعِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) . وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَزَادَ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يُزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ (حُسْنُ الصَّوْتِ زِينَةُ الْقُرْآنِ) وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ ( «لِكُلِّ شَيْءٍ حِلْيَةٌ وَحِلْيَةُ الْقُرْآنِ الصَّوْتُ الْحَسَنُ» ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْحُلَلَ وَالْحُلِيَّ يُزِيدُ الْحَسْنَاءَ حُسْنًا وَهُوَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْعَكْسِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْقَلْبِ لَا الْعَكْسِ فَتَدَبَّرْ. وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ وَقَدْ ذَكَرَ سَيِّدُنَا وَسَنَدُنَا وَمَوْلَانَا الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ، وَالْغَوْثُ الصَّمَدَانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ - وَرَزَقَنَا فُتُوحَهُ فِي كِتَابِهِ الْغَنِيَّةُ الَّذِي لِلسَّالِكِينَ فِيهِ الْمُنْيَةُ، أَنَّهُ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ نَوَاحِي الْكُوفَةِ وَإِذَا الْفُسَّاقُ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَمَعَهُمْ مُغَنٍّ يُقَالُ لَهُ زَاذَانُ، كَانَ يَضْرِبُ بِالْعُودِ وَيُغَنِّي بِصَوْتٍ حَسَنٍ فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الصَّوْتَ لَوْ كَانَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَحْسَنَ، وَجَعَلَ رِدَاءَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَمَضَى فَسَمِعَ ذَلِكَ الصَّوْتَ زَاذَانُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا قَالُوا: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَايِشُ: قَالَ، قَالُوا: قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الصَّوْتَ لَوْ كَانَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِ اللَّهِ كَانَ أَحْسَنُ، فَدَخَلَتِ الْهَيْبَةُ فِي قَلْبِهِ فَقَامَ وَضَرَبَ بِالْعُودِ فَكَسَرَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ، وَجَعَلَ الْمَنْدِيلَ عَلَى عُنُقِ نَفْسِهِ، وَجَعَلَ يَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ، فَاعْتَنَقَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَجَعَلَ يَبْكِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَيْفَ لَا أُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ؟ فَتَابَ مَنْ ضَرْبِهِ بِالْعُودِ، وَجَعَلَ مُلَازِمًا عَبْدَ اللَّهِ حَتَّى تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَأَخَذَ الْحَظَّ الْوَافِرَ مِنَ الْعِلْمِ، حَتَّى صَارَ إِمَامًا فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِأَبِي مُوسَى (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» ) وَأَنَّهُ قَالَ: (لَقَدْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ) وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ «لَلَّهُ أَشَدُّ أُذْنًا، أَيْ إِقْبَالًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِمْ» ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ ( «أَحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَتَحَزَّنُ فِيهِ» ) وَأَبُو يَعْلَى ( «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِالْحُزْنِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْحُزْنِ» ) وَهُوَ مَا يُنَافِي خَبَرَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: (نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ) فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّعْظِيمُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجْرٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ وَلَا يُخْضِعُ الصَّوْتَ فَيَكُونَ مِثْلَ كَلَامِ النِّسَاءِ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنَ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2200 - وَعَنْ سَعْدِ ابْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَا مِنِ امْرِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2200 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَا مِنَ امْرِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ "، أَيْ بِالنَّظَرِ عِنْدَنَا، وَبِالْغَيْبِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، أَوِ الْمَعْنَى ثُمَّ يَتْرُكُ قِرَاءَتَهُ نَسِي أَوْ مَا نَسيَ (إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ) ، أَيْ: سَاقِطُ الْأَسْنَانِ، أَوْ عَلَى هَيْئَةِ الْمَجْذُومِ، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ، أَوْ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي عُذْرِ النِّسْيَانِ، أَوْ يُنَكِّسُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَيَاءً وَخَجَالَةً مِنْ نِسْيَانِ كَلَامِهِ الْكَرِيمِ وَكِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مَقْطُوعُ الْيَدِ مِنَ الْجَذْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ: وَقِيلَ: مَقْطُوعُ الْأَعْضَاءِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَجْذَمُ إِذَا تَسَاقَطَتْ أَعْضَاؤُهُ مِنَ الْجُذَامِ، وَقِيلَ: أَجْذَمُ الْحُجَّةِ، أَيْ: لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا لِسَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَقِيلَ: خَالِيَ الْيَدِ عَنِ الْخَيْرِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا» ) .

2201 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2201 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَمْ يَفْقَهْ) ، أَيْ: لَمْ يَفْهَمْ فَهْمًا تَامًّا (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ) ، أَيْ: خَتَمَهُ (فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ) ، أَيْ لَيَالٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مِنَ الْأَيْامِ وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّدَبُّرِ لَهُ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ بِسَبَبِ الْعَجَلَةِ وَالْمَلَالَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَمْ يَفْهَمْ ظَاهِرَ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا فَهْمُ دَقَائِقِهِ فَلَا تَفِي الْأَعْمَارُ بِأَسْرَارِ أَقَلِّ أَيْةٍ بَلْ كَلِمَةٍ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْفَهْمِ لَا نَفْيَ الثَّوَابِ، ثُمَّ يَتَفَاوَتُ الْفَهْمُ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَفْهَامِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا الثَّوَابُ عَلَى قِرَاءَتِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ لِمَنْ فَهِمَ وَلِمَنْ لَمْ يَفْهَمْ بِالْكُلِّيَّةِ لِلتَّعَبُّدِ بِلَفْظِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ فَإِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ فَهِمَ وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ نَفْيَ الثَّوَابِ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ مِنْ حَدِيثٍ، أَوْ كِتَابٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الثَّوَابِ وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوُتٌ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ مَنْ فَهِمَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الصُّلَحَاءِ مِنْ جَعْلِ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ وَغَيْرِهَا أَوْرَادًا وَيُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا، وَمَا حَسَّنَ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ، ثُمَّ جَرَى عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ فَكَانُوا يَخْتِمُونَ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ دَائِمًا وَكَرِهُوا الْخَتْمَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ آخَرُونَ نَظَرًا إِلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، فَخَتَمَهُ جَمَاعَةٌ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مُرَّةً وَآخَرُونَ مَرَّتَيْنِ، وَآخَرُونَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَخَتَمَهُ فِي رَكْعَةٍ مَنْ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَزَادَ آخَرُونَ عَلَى الثَّلَاثِ، وَخَتَمَهُ جَمَاعَةٌ مَرَّةً فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ، وَآخَرُونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَآخَرُونَ فِي كُلِّ عَشْرٍ، وَآخَرُونَ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: (اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» ) وَيُسَمَّى خَتْمُ الْأَحْزَابِ، وَتَرْتِيبُهُ الْأَصَحُّ ; بَلِ الْوَارِدُ فِي الْأَثَرِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلٍ مَنْسُوبٍ إِلَى عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - (فَمِي بِشَوْقٍ) أَشَارَ بِالْفَاءِ إِلَى الْفَاتِحَةِ الْمَفْتُوحَةِ بِهَا الْجُمُعَةُ، وَإِلَى مِيمِ الْمَائِدَةِ، ثُمَّ إِلَى يَاءِ يُونُسَ، ثُمَّ إِلَى بَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ إِلَى شِينِ الشُّعَرَاءِ، ثُمَّ إِلَى ق، ثُمَّ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ ; فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ اللَّطَائِفُ وَالْمَعَارِفُ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ يُحَصِّلُ كَمَالَ فَهْمِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِنَشْرِ الْعِلْمِ، أَوْ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْمَلَالَةِ، أَوِ الْهَذْرَمَةِ وَهِيَ سُرْعَةُ الْقِرَاءَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: كَانَ السَّيِّدُ الْجَلِيلُ ابْنُ كَاتِبٍ الصُّوفِيُّ يَخْتِمُ بِالنَّهَارِ أَرْبَعًا وَاللَّيْلِ أَرْبَعًا، أَقُولُ: يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَبَادِي طَيِّ اللِّسَانِ وَبَسْطِ الزَّمَانِ، وَقَدْ رُوِىَ عَنِ الشَّيْخِ مُوسَى السَّدْرَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ الْمَغْرِبِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سَبْعِينَ أَلْفَ خَتْمَةً، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ ابْتَدَأَ بَعْدَ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ وَخَتَمَ فِي مُحَاذَاةِ الْبَابِ بِحَيْثُ سَمِعَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ حَرْفًا حَرْفًا، وَبَسْطُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي كِتَابِ نَفَحَاتِ الْأُنْسِ فِي حَضَرَاتِ الْقُدْسِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) .

2202 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2202 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْجَاهِرُ) : أَيِ الْمُعْلِنُ (بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرِّ) :، أَيِ الْمَخْفِيِّ (بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: جَاءَ آثَارٌ بِفَضِيلَةِ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ وَآثَارٌ بِفَضِيلَةِ الْإِسْرَارِ بِهِ وَالْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ الْإِسْرَارُ أَفْضَلُ لِمَنْ يَخَافُ الرِّيَاءَ وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ لِمَنْ لَا يَخَافُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ غَيْرَهُ مِنْ مُصَلٍ، أَوْ نَائِمٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْجَهْرِ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَيْ: مِنِ اسْتِمَاعٍ، أَوْ تَعَلُّمٍ، أَوْ ذَوْقٍ، أَوْ كَوْنِهِ شِعَارًا لِلدِّينِ، وَلِأَنَّهُ يُوقِظُ قَلْبَ الْقَارِئِ، وَيَجْمَعُ هَمَّهُ، وَيَطْرُدُ النَّوْمَ عَنْهُ، وَيَنْشَطُ غَيْرُهُ لِلْعِبَادَةِ، فَمَنْ حَضَرَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّيَّاتِ فَالْجَهْرُ أَفْضَلُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ) .

2203 - وَعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقُوَيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2203 - (وَعَنْ صُهَيْبَ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ: بِحُكْمِهِ أَوْ فِي الْحَقِيقَةِ (مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ) جَمْعُ مَحْرَمٍ، بِمَعْنَى: الْحَرَامُ الَّذِي هُوَ الْمُحَرَّمُ، وَالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ فَرْدًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَنِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ مُطْلَقًا وَخُصَّ الْقُرْآنُ لِجَلَالَتِهِ، قُلْتُ: أَوْ لِكَوْنِهِ قَطْعِيًّا، أَوْ لِأَنَّ غَيْرَهُ بِهِ يَعْرِفُ دَلِيلًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) .

2204 - وَعَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مَلْكِيَّةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُمَلَّكٍ أَنَّهُ «سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هِيَ تَنْعَتُ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2204 - (وَعَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى وَاللَّامِ (أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هِيَ) أُمُّ سَلَمَةَ (تَنْعَتُ) ، أَيْ: تَصِفُ (قِرَاءَةً مُفَسِّرَةً) ، أَيْ: مُبَيِّنَةً (حَرْفًا حَرْفًا) ، أَيْ: كَانَ يَقْرَأُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ عَدُّ حُرُوفِ مَا يَقْرَأُ، وَالْمُرَادُ حُسْنُ التَّرْتِيلِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَى نَعْتِ التَّجْوِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ تَقُولَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَالثَّانِي أَنْ تَقْرَأَ مُرَتِّلَةً كَقِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةً أُرَتِّلُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِغَيْرِ تَرْتِيلٍ، وَرَوَى أَبُو يَعْلَى: ( «فِي أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ نَثْرَ الدَّقَلِ» ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي النَّشْرِ وَأَحْسَنَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا فَقَالَ: ثَوَابُ قِرَاءَةِ التَّرْتِيلِ أَجَّلُ قَدْرًا، وَثَوَابُ الْكَثْرَةِ أَكْثَرُ عَدَدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ الْكَيْفِيَّةِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ؛ إِذْ جَوْهَرَةٌ وَاحِدَةٌ تَعْدِلُ الْوَفَاءَ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

2205 - وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ يَقِفُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ لِأَنَّ اللَّيْثَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَحَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2205 - (وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ مِنَ التَّقْطِيعِ) ، أَيْ: يَقْرَأُ بِالْوَقْفِ عَلَى رُؤُوسِ الْآيَاتِ (يَقُولُ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يُقَطِّعُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، أَوِ اسْتِئْنَافًا، أَوْ حَالًا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقِفُ) قِيلَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ بِسَدِيدَةٍ، بَلْ هَذِهِ لَهْجَةٌ لَا يَرْتَضِيهَا أَهْلُ الْبَلَاغَةِ، وَالْوَقْفُ التَّامُّ عِنْدَ مَالِكٍ يَوْمِ الدِّينِ، وَلِهَذَا اسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَحَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ الْوَقْفَ الْمُسْتَحْسَنَ عَلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ: الْحَسَنُ، وَالْكَافِي، وَالتَّامُّ، فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْعِظَامِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الْجَزَرِيُّ بِقَوْلِهِ.

وَهِيَ لَمَّا تَمَّ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ تَعَلُّقٌ أَوْ كَانَ مَعْنًى فَابْتَدِ فَالتَّامُّ فَالْكَافِي وَلَفَظًا فَامْنَعْنَ إِلَّا رُءُوسَ الْآيِ جُوِّزَفَالْحَسَنُ وَشَرْحُهُ يَطُولُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْوُقُوفِ فِي الْوَقْفِ عَلَى رَأْسِ الْآيَةِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ تَعَلُّقٌ لَفْظِيٌّ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ: بِأَنَّ وَقْفَهُ كَانَ لِيُبَيِنَ لِلسَّامِعِينَ رُءُوسَ الْآيِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَصْلَ أَوْلَى فِيهَا، وَالْجَزَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالِانْفِصَالِ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ حَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ إِذْ لَا دَخْلَ لِلْمَبْحَثِ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَصَحَّ مِنْ بَعْضٍ مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْحَدِيثِ أَصَحُّ بِالِاتِّصَالِ يَقْوَى الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ بِالِانْفِصَالِ فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ) لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ لَمْ يَرَ أُمَّ سَلَمَةَ فَيَكُونُ حَدِيثُهُ مُنْقَطِعًا لِتَرْكِ الْوَاسِطَةِ (لِأَنَّ اللَّيْثَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى ابْنِ مَمْلَكٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ اللَّيْثِ) ، أَيْ: إِسْنَادُهُ، لِكَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِذِكْرِ ابْنِ مَمْلَكٍ (أَصَحُّ) ، أَيْ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ لِكَوْنِهِ مُنْقَطِعًا، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ لَيْثُ ابْنُ سَعْدٍ فَقِيهُ أَهْلِ مِصْرَ رُوِىَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ وِلَايَةَ مِصْرَ فَأَبَى وَاسْتَعْفَاهُ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَسْتَغِلُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَيَعْلَى بْنُ مَمْلَكٍ تَابِعِيٌّ، وَرَوَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَنْهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، هَذَا وَقَدْ تَبِعَ ابْنُ الْمَلَكِ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ، أَيِ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَصَحُّ مِنَ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِسَدِيدَةٍ سَنَدًا وَلَا مُرْضِيَةٍ لَهْجَةً ; لِأَنَّ فِيهَا فَصْلًا بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْوَقْفَ يُسَمَّى حَسَنًا، فَقَوْلُهُ غَيْرُ مُرْضِيَةٍ لَهْجَةً يَكُونُ قَبِيحًا، ثُمَّ لَيْسَ هُنَا رِوَايَتَانِ بَلْ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ مُسْنَدَةٌ بِسَنَدَيْنِ أَحَدُهُمَا مُنْقَطِعٌ وَالْآخَرُ مُتَّصِلٌ وَالثَّانِي أَصَحُّ وَيُقَابَلُ الْأَصَحُّ بِالصَّحِيحِ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ اتِّفَاقًا، فَقَوْلُهُ لَيْسَتْ بِسَدِيدَةٍ لَيْسَ بِسَدِيدٍ عَلَى الصَّوَابِ، وَالذُّهُولُ عَنِ اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْقُرَّاءِ أَوْقَعَهُمَا فِي خَطَأِ الْجَوَابِ، وَخَبْطِ الْعُجَابِ لَا يُقَالُ مُرَادُهُ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّا نَقُولُ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ احْتِرَازًا عَنِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2206 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ( «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِينَا الْأَعْرَابِيُّ وَالْأَعْجَمِيُّ. فَقَالَ اقْرَءُوا فَكُلٌّ حَسَنٌ، وَسَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ كَمَا يُقَامُ الْقِدْحُ يَتَعَجَّلُونَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2206 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِينَا) ، أَيْ: مَعْشَرُ الْقُرَّاءِ (الْأَعْرَابِيُّ) ، أَيِ: الْبَدَوِيُّ (وَالْعَجَمِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ وَالْأَعْجَمِيُّ، أَيْ: غَيْرُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْفَارِسِيِّ، وَالرُّومِيِّ، وَالْحَبَشِيِّ كَسُلَيْمَانَ وَصُهَيْبَ وَبِلَالٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَفِينَا إِلَخْ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّهُمْ مُنْحَصِرُونَ فِي هَذَيْنِ النِّصْفَيْنِ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ فِينَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِيمَا بَيْنَنَا تَانِكَ الطَّائِفَتَانِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَرَّقَ بَيْنَ الْأَعْرَابِيِّ وَالْعَرَبِيِّ بِمِثْلِ مَا فِي خُطْبَتِهِ كُلُّ مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيٍّ حَيْثُ جَعَلَ الْمُهَاجِرَ ضِدَّ الْأَعْرَابِيِّ، وَالْأَعْرَابُ سَاكِنُو الْبَادِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَارِ وَلَا يَدْخُلُونَهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ، وَالْعَرَبُ اسْمٌ لِهَذَا الْجِيلِ الْمَعْرُوفِ مِنَ النَّاسِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ سَوَاءٌ أَقَامَ بِالْبَادِيَةِ أَوِ الْمُدُنِ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَرَبَ أَعَمُّ مِنَ الْأَعْرَابِ وَهُمْ أَخَصُّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] .

(فَقَالَ اقْرَءُوا) ، أَيْ: كُلُّكُمْ (فَكُلٌّ حَسَنٌ) ، أَيْ: فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ قِرَاءَتِكُمْ حَسَنَةٌ مَرْجُوَّةٌ لِلثَّوَابِ إِذَا آثَرْتُمُ الْآجِلَةَ عَلَى الْعَاجِلَةِ، وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُقِيمُوا أَلْسِنَتَكُمْ إِقَامَةَ الْقِدْحِ وَهُوَ السَّهْمُ قَبْلَ أَنْ يُرَاشَ (وَسَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ) : أَيْ يُصْلِحُونَ أَلْفَاظَهُ وَكَلِمَاتِهِ وَيَتَكَلَّفُونَ فِي مُرَاعَاةِ مَخَارِجِهِ وَصِفَاتِهِ (كَمَا يُقَامُ الْقِدْحُ) : أَيْ يُبَالِغُونَ فِي عَمَلِ الْقِرَاءَةِ كَمَالَ الْمُبَالَغَةِ لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالشُّهْرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ رَفْعُ الْحَرَجِ، وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْمُسَاهَمَةِ فِي الظَّاهِرِ، وَتَحَرِّى الْحِسْبَةِ، وَالْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ، وَالتَّفْكِيرُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالْغَوْصُ فِي عَجَائِبِ أَمْرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ مَذْمُومُونَ لِأَنَّهُمْ رَاعَوْا هَذَا الْأَمْرَ السَّهْلَ، وَزَادُوا فِي الْقُبْحِ أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَى هَذِهِ الْغَفْلَةِ أَنَّهُمْ يَقْرَؤُونَهُ لِأَجْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا فَغَيْرُ مَحْمُودٍ إِذْ لَيْسَ الذَّمُّ عَلَى مُبَالَغَتِهِمْ فِي مُرَاعَاةِ الْأَمْرِ السَّهْلِ بَلِ الذَّمُّ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ (يَتَعَجَّلُونَهُ) ، أَيْ: ثَوَابَهُ فِي الدُّنْيَا (وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ) بِطَلَبِ الْأَجْرِ فِي الْعُقْبَى; بَلِ الذَّمُّ يُؤْثِرُونَ الْعَاجِلَةَ عَلَى الْآجِلَةِ وَيَتَوَكَّلُونَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2207 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا، وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْعِشْقِ وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَسَيَجِيءُ بِعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ مَفْتُونَهٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ» ) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2207 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، أَيْ: بِلَا تَكَلُّفِ النَّغَمَاتِ مِنَ الْمَدَّاتِ وَالسَّكَنَاتِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ بِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ السَّاذَجَةِ عَنِ التَّكَلُّفَاتِ (وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْعِشْقِ) : أَيْ: أَصْحَابُ الْفِسْقِ (وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ) ، أَيْ: أَرْبَابُ الْكُفْرِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اللُّحُونُ جَمْعُ لَحْنٍ وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَتَرْجِيعُ الصَّوْتِ، قَالَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا يَفْعَلُهُ الْقُرَّاءُ فِي زَمَانِنَا بَيْنَ يَدَيِ الْوُعَّاظِ مِنَ اللُّحُونِ الْعَجَمِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَسَيَجِيءُ) : أَيْ سَيَأْتِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ يُرَدِّدُونَ (بِالْقُرْآنِ) : أَيْ يُحَرِّفُونَهُ (تَرْجِيعَ الْغَنَاءِ) بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ بِمَعْنَى النَّغْمَةِ (وَالنَّوْحِ) بِفَتْحِ النُّونِ مِنَ النِّيَاحَةِ، وَالْمُرَادُ تَرْدِيدًا مُخْرِجًا لَهَا عَنْ مَوْضِعِهَا إِذَا لَمْ يَأْتِ تَلْحِينُهُمْ عَلَى أُصُولِ النَّغَمَاتِ إِلَّا بِذَلِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّرْجِيعُ فِي الْقُرْآنِ تَرْدِيدُ الْحُرُوفِ كَقِرَاءَةِ النَّصَارَى (لَا يُجَاوِزُ) : أَيْ قِرَاءَتُهُمْ (حَنَاجِرَهُمْ) : أَيْ طَوْقُهُمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ عَنْ مَقَامِ الْوُصُولِ، وَالتَّجَاوُزُ يَحْتَمِلُ الصُّعُودَ وَالْحُدُورَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا يَصْعَدُ عَنْهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَحَدَّرُ عَنْهَا إِلَى قُلُوبِهِمْ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ (مَفْتُونَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَيُرْفَعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ أُخْرَى لِقَوْمٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ: أَيْ مُبْتَلَى بِحُبِّ الدُّنْيَا وَتَحْسِينِ النَّاسِ لَهُمْ (قُلُوبُهُمْ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ) بِالْهَمْزِ وَيَعْدِلُ: أَيْ يَسْتَحْسِنُونَ قِرَاءَتَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ تِلَاوَتَهُمْ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ) وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ.

2208 - وَعَنِ الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يُزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا» ) . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2208 - (وَعَنِ الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: حَسِّنُوا الْقُرْآنَ) : أَيْ زَيِّنُوهُ (بِأَصْوَاتِكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ بِالتَّرْتِيلِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالتَّلْيِينِ وَالتَّحْزِينِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَحْتَمِلُ الْقَلْبَ كَمَا احْتَمَلَهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ لِقَوْلِهِ (فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يُزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا) رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

2209 - وَعَنْ طَاوُوسٍ مُرْسَلًا قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ أَحْسَنُ صَوْتًا لِلْقُرْآنِ وَأَحْسَنُ قِرَاءَةً قَالَ: (مَنْ إِذَا سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ أُرِيتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ» ) قَالَ طَاوُوسٌ: وَكَانَ طَلْقٌ كَذَلِكَ، رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2209 - وَعَنْ طَاوُوسٍ مُرْسَلًا قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ أَحْسَنُ صَوْتًا لِلْقُرْآنِ) قِيلَ: اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ (وَأَحْسَنُ قِرَاءَةً) ، أَيْ: تَرْتِيلًا وَأَدَاءً (قَالَ: مَنْ إِذَا سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ أُرِيتَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: حَسِبْتَهُ وَظَنَنْتَهُ (أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ) وَتَأَثَّرَ قَلْبَكَ مِنْهُ، أَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ الْخَشْيَةِ كَتَغَيُّرِ لَوْنِهِ، وَكَثْرَةِ بُكَائِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ الْجَوَابُ مِنْ أُسْلُوبِهِ الْحَكِيمِ حَيْثُ اشْتَغَلَ فِي الْجَوَابِ عَنِ الصَّوْتِ الْحَسَنِ بِمَا يُظْهِرُ الْخَشْيَةَ فِي الْقَارِيءِ وَالْمُسْتَمِعِ (قَالَ طَاوُوسٌ: وَكَانَ طَلْقٌ كَذَلِكَ) : أَيْ بِهَذَا الْوَصْفِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو عَلِيٍّ طَلْقُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ عَمْرٍو النَّخَعِيُّ الْيَمَامِيُّ، وَيُقَالُ أَيْضًا: طَلْقُ بْنُ يَمَامَةَ وَهُوَ وَالِدُ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ الْيَمَامِيِّ اهـ. وَذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ قَيْسٌ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

2210 - وَعَنْ عُبَيْدَةَ الْمُلَيْكِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ لَا تَتَوَسَّدُوا الْقُرْآنَ وَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَفْشُوهُ وَتَغَنُّوهُ وَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَلَا تَعْجَلُوا ثَوَابَهُ فَإِنَّ لَهُ ثَوَابًا» ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2210 - (وَعَنْ عَبِيدَةَ) بِفَتْح أَوَّلِهِ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفَى نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (الْمُلَيْكِيُّ) بِالتَّصْغِيرِ (وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ) ، أَيْ: بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ مِنْ كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ، أَوْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ) خُصُّوا بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْمُبَالَغَةُ فِي أَدَاءِ حُقُوقِهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِاخْتِلَاطِهِ بِلَحْمِهِمْ وَدَمِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ لِأَنَّهُمْ مَا يَخْلُونَ عَنْ بَعْضِ الْقُرْآنِ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا أَهْلَ الْبَقَرَةِ (لَا تَتَوَسَّدُوا الْقُرْآنَ) : أَيْ لَا تَجْعَلُوهُ وِسَادَةً لَكُمْ تَتْلُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهِ وَتَغْفَلُونَ عَنْهُ وَعَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَتَتَكَاسَلُونَ فِي ذَلِكَ; بَلْ قُومُوا بِحَقِّهِ لَفْظًا، وَفَهْمًا، وَعَمَلًا، وَعِلْمًا (وَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) : أَيِ اقْرَؤُوهُ حَقَّ قِرَاءَتِهِ أَوِ اتَّبِعُوه حَقَّ مُتَابَعَتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ وَأَقَرَّهُ: لَوْ قَرَأَ نَسْتَعِينُ بِوَقْفَةٍ لَطِيفَةٍ بَيْنَ السِّينِ وَالثَّاءِ حَرُمَ عَلَيْهِ؟ ! لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَقْفٍ، وَلَا مُنْتَهَى آيَةٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى اعْتِبَارِهِ مِنْ مَخْرَجٍ وَمَدٍّ وَغَيْرِهِمَا وَجَبَ تَعَلُّمُهُ وَحَرُمَ مُخَالَفَتُهُ (مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) : أَيِ اتْلُوهُ تِلَاوَةً كَثِيرَةً مُسْتَوْفِيَةً لِحُقُوقِهَا فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ حَالَ كَوْنِهَا فِي سَاعَاتِ هَذَا وَهَذَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: (لَا تَتَوَسَّدُوا) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً رَمْزِيَّةً عَنِ التَّكَاسُلِ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوهُ وِسَادَةً تَنَامُونَ عَنْهُ بَلْ قُومُوا وَاتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً عَنِ التَّغَافُلِ فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ وِسَادَةً يَلْزَمُ مِنْهُ النُّوَّمُ فَلْيَلْزَمَ مِنْهُ الْغَفْلَةُ، يَعْنِي: لَا تَغْفُلُوا عَنْ تَدَبُّرِ مَعَانِيهِ، وَكَشْفِ أَسْرَارِهِ، وَلَا تَتَوَانَوْا فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ حَقَّ تِلَاوَتِهِ " {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29] لِلْمَعْنَيَيْنِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَقَامُوا وَأَنْفَقُوا مَاضِيَانِ عَطْفًا عَلَى يَتْلُونَ، وَهُوَ مُضَارِعٌ دَلَالَةً عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ فِي التِّلَاوَةِ الْمُثْمِرَةِ لِتَجَدُّدِ الْعَمَلِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُ التِّجَارَةُ الْمُرْبِحَةُ اهـ. كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا بِذِكْرِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرْآنِ مِنْ تَحْرِيمِ تَوَسُّدِ الْمُصْحَفِ وَمُسْتَثْنَيَاتِهِ، وَتَحْرِيمِ مَدِّ الرِّجْلِ، وَوَضْعِ الشَّيْءِ فَوْقَهُ، وَاسْتِدْبَارِهِ، وَتَخَطِّيهِ، وَرَمْيهِ، وَتَصْغِيرِ لَفْظِهِ، وَجَوَازِ تَقْبِيلِهِ، وَكَرَاهَةِ أَخْذِ الْفَأْلِ مِنْهُ، وَنُقِلَ تَحْرِيمُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَإِبَاحَتُهُ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَحَلُّهُ فِي كُتُبِ الْفَتَاوَى وَالْخِلَافِيَّاتِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا، أَنَّهُ قَالَ

عَجِيبٌ مِنَ الشَّارِحِ; فَإِنَّهُ لِعَدَمِ اسْتِحْضَارِهِ لِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ تَرَدَّدَ فِي الْمُرَادِ بِلَا تَتَوَسَّدُوا تَرَدُّدًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ; فَإِنَّهُ لَمْ يُعَوِّلْ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَسَنٍ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ فَهْمِهِ كَلَامَ الطِّيبِيِّ وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ فِي الْفِقْهِ الْفَرْعِيِّ، وَالْمَرْءُ لَا يَزَالُ عَدُوًّا لِمَا جَهِلَ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَكُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، (وَأَفْشَوْهُ) : أَيْ بِالْجَهْرِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَبِالْعَمَلِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالتَّعْظِيمِ (وَتَغَنَّوْهُ) ، أَيِ: اسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ) : أَيْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالزَّوَاجِرِ الْبَالِغَةِ وَالْمَوَاعِيدِ الْكَامِلَةِ (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : أَيْ لِكَيْ تُفْلِحُوا أَوْ حَالَ كَوْنِهِمْ رَاجِينَ الْفَلَاحَ وَهُوَ الظُّفْرُ بِالْمَطْلُوبِ (وَلَا تُعَجِّلُوا) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلُوا ثَوَابَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا تَجْعَلُوهُ مِنَ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ (فَإِنَّ لَهُ ثَوَابًا) : أَيْ مَثُوبَةً عَظِيمَةً آجِلَةً (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

(بَابٌ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2211 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْسِلْهُ: اقْرَأْ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابٌ) بِالرَّفْعِ وَالْوَقْفِ، أَيْ فِي تَوَابِعَ أُخْرَى. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2211 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ قَبْلَ الزَّايِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قُرَشِيٌّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى عَامِ الْفَتْحِ، وَأَوْلَادُهُ صَحِبُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا) : أَيْ مِنَ الْقِرَاءَةِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَأَنِيهَا) : أَيْ سُورَةُ الْفُرْقَانِ (فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: قَارَبْتُ أَنْ أُخَاصِمَهُ وَأُظْهِرَ بَوَادِرَ غَضَبِي عَلَيْهِ بِالْعَجَلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ (ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ) : أَيْ عَنِ الْقِرَاءَةِ (ثُمَّ لَبَّبْتُهُ) بِالتَّشْدِيدِ (بِرِدَائِهِ) : أَيْ جَعَلْتُهُ فِي عُنُقِهِ وَجَرَرْتُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَبَّبْتُ الرَّجُلَ تَلْبِيبًا إِذَا جَمَعْتُ ثِيَابَهُ عِنْدَ صَدْرِهِ فِي الْخُصُومَةِ ثُمَّ جَرَرْتُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِنَائِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى لَفْظِهِ كَمَا سَمِعُوهُ بِلَا عُدُولٍ إِلَى مَا تُجَوِّزُهُ الْعَرَبِيَّةُ (فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ) ، أَيْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا) قِيلَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ فَلَمَّا عَسُرَ عَلَى غَيْرِهِمْ أُذِنَ فِي الْقِرَاءَةِ بِسَبْعِ لُغَاتٍ لِلْقَبَائِلِ الْمَشْهُورَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافَى زِيَادَةَ الْقِرَآتِ عَلَى سَبْعٍ لِلِاخْتِلَافِ فِي لُغَةِ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَلِلتَّمَكُّنِ بَيْنَ الِاخْتِلَافِ فِي اللُّغَاتِ، وَقِيلَ جَمِيعُ الْقِرَآتِ الْمَوْجُودَةِ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَسِتَّةٌ مِنْهَا قَدْ رُفِضَتْ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقِيلَ هُوَ الْقَوْلُ وَالْمُرَادُ بِالْحَرْفِ الْوَاحِدِ نَوْعٌ مُلَمَّعٌ مُجَمَّعٌ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ مُخْتَارٌ مِمَّا بَيْنَهَا مَنْسُوخٌ مَا عَدَاهَا وَهُوَ الَّذِي جُمِعَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَالْأَوَّلُ يُوَافِقُ جَمْعَ أَبَى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْسِلْهُ) : أَيْ يَا عُمَرُ، وَإِنَّمَا سُومِحَ فِي فِعْلِهِ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَ لُحْظَةَ نَفْسِهِ; بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّ عُمَرَ كَانَ بِالنِّسْبَةِ لِهِشَامٍ كَالْمُعَلِّمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَعَلِّمِ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُعَلِّمِ ابْتِدَاءٌ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ الْمُتَعَلِّمِ (اقْرَأْ) : أَيْ يَا هِشَامُ (فَقَرَأَ) : أَيْ هِشَامٌ (الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ) : أَيْ سَمِعْتُ هِشَامًا إِيَّاهَا عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي (يَقْرَأُ) : أَيْ يَقْرَؤُهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا أُنْزِلَتْ) : أَيِ السُّورَةُ أَوِ الْقِرَاءَةُ (ثُمَّ قَالَ

لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ) : أَيْ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ هَكَذَا عَلَى التَّخْيِيرِ أُنْزِلَتْ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ) : أَيْ جَمِيعُهُ (أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) : أَيْ لُغَاتٍ، أَوْ قِرَاءَاتٍ، أَوْ أَنْوَاعٍ، قِيلَ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ قَوْلًا مِنْهَا أَنَّهُ مِمَّا لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْحَرْفَ يَصْدُقُ لُغَةً عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ، وَعَلَى الْكَلِمَةِ، وَعَلَى الْمَعْنَى وَعَلَى الْجِهَةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْقِرَاءَاتِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى سَبْعٍ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ الْأُوَلِ: اخْتِلَافُ الْكَلِمَةِ فِي نَفْسِهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَنْشِزُهَا، وَنُنْشِزُهَا، وَقَوْلِهِ: سَارَعُوا، وَسَارِعُوا، الثَّانِي: التَّغْيِيرُ بِالْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ كَكُتُبِهِ، وَكِتَابِهِ، الثَّالِثُ: بِالِاخْتِلَافِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ كَمَا فِي يَكُنْ، وَتَكُنْ، الرَّابِعُ: الِاخْتِلَافُ التَّصْرِيفِيُّ كَالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ نَحْوَ يَكْذِبُونَ، وَيُكَذِّبُونَ، وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ نَحْوَ يَقْنُطُ، وَيَقْنَطُ، الْخَامِسُ: الِاخْتِلَافُ الْإِعْرَابِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ بِرَفْعِ الدَّالِ، وَجَرِّهَا، السَّادِسُ: اخْتِلَافُ الْأَدَاةِ نَحْوَ لَكِنَّ الشَّيَاطِينَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَتَخْفِيفِهَا، السَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ كَالتَّفْخِيمِ وَالْإِمَالَةِ، وَإِلَّا فَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا الْقَلِيلُ مِثْلُ عَبْدِ الطَّاغُوتِ، وَلَا تَقُلْ أُفٍّ لَهُمَا، وَهَذَا كُلُّهُ تَيْسِيرٌ عَلَى الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) : أَيْ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِرَاءَاتِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَعَمُّ مِنَ الْمِقْدَارِ، وَالْجِنْسِ، وَالنَّوْعِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَجَازَ بِأَنْ يَقْرَؤُا مَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوَاتُرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ " أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ " وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعَةِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ; فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ; لِأَنَّهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ كَيْفِيَّةُ النُّطْقِ بِكَلِمَاتِهَا مِنْ إِدْغَامٍ، وَإِظْهَارٍ، وَتَفْخِيمٍ، وَتَرْقِيقٍ، وَإِمَالَةٍ، وَمَدٍّ، وَقَصْرٍ، وَتَلْيِينٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ اللُّغَاتِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيَقْرَأَ كُلٌّ بِمَا يُوَافِقُ لُغَتَهُ وَيَسْهُلُ عَلَى لِسَانِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَإِنَّ الْإِدْغَامَ مَثَلًا فِي مَوَاضِعَ لَا يَجُوزُ الْإِظْهَارُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ اخْتِلَافَ اللُّغَاتِ لَيْسَ مُنْحَصِرًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِوُجُوهِ إِشْبَاعِ مِيمِ الْجَمْعِ وَقَصْرِهِ، وَإِشْبَاعِ هَاءِ الضَّمِيرِ وَتَرْكِهِ، مِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى بَعْضِهِ وَمُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهِ كَاخْتِلَافِ الْبُخْلِ وَالْبَخْلِ، وَيَحْسَبُ وَيَقْنَطُ، وَالصِّرَاطُ وَالسِّرَاطُ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَنَسَبَهُ إِلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ نَحْوَ أَقْبِلْ، وَتَعَالَ، وَعَجِّلْ، وَهَلُمَّ، وَأَسِرْ، فَيَجُوزُ إِبْدَالُ اللَّفْظِ بِمُرَادِفِهِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ لَا بِضِدِّهِ، وَحَدِيثُ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ صَرِيحٍ فِيهِ وَعِنْدَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا» " وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَهُ لِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَيْضًا " «الْقُرْآنُ كُلُّ صَوَابٍ مَا لَمْ يَجْعَلْ مَغْفِرَةً عَذَابًا، أَوْ عَذَابًا مَغْفِرَةً» " وَلِهَذَا كَانَ أُبَيُّ يَقْرَأُ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ سَعَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] ، بَدَلَ مَشَوْا فِيهِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَمْهِلُونَا أَخِّرُونَا، بَدَلَ انْظِرُونَا، وَفِيهِ أَنَّهُ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا مِنَ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا مِنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا يُبْدِلَانِ لَفْظًا مِنْ عِنْدِهِمَا بَدَلًا مِمَّا سَمِعَاهُ مِنْ لَفَظَ النُّبُوَّةِ وَأَقَامَاهُ مَقَامَهُ مِنَ التِّلَاوَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمَا، أَوْ سَمِعَا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْوُجُوهَ فَقَرَأَ مَرَّةً كَذَا وَمَرَّةً كَذَا كَمَا هُوَ الْآنَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الشَّأْنِ وَكَذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لِمَا كَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمُ التِّلَاوَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ وَالضَّبْطِ وَإِتْقَانِ الْحِفْظِ، ثُمَّ نُسِخَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ، وَتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ وَالْحِفْظِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَاقِلَّانِيُّ، وَآخَرُونَ، هَذَا وَكَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُشِفَ لَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ تَسْتَقِرُّ فِي أُمَّتِهِ عَلَى سَبْعٍ، وَهِيَ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَوَاتُرِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَهَا شَاذٌّ لَا يَحِلُّ الْقِرَاءَةُ بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : أَيْ مَعْنًى (وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) . وَحَدِيثُ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ادَّعَى أَبُو عُبَيْدَةَ تَوَاتُرَهُ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: ( «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيُزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ( «فَرَدَّدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَسَبَبُ إِنْزَالِهِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ التَّخْفِيفُ وَالتَّسْهِيلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " هَوِّنَ عَلَى أُمَّتِي " وَكَمَا صَرَّحَ بِهِ آخِرَ الْحَدِيثِ " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ".

2212 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ خِلَافَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهَةَ، فَقَالَ: (كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فَلَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2212 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ خِلَافَهَا) : أَيْ غَيْرَ قِرَاءَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَرَأَ (فَجِئْتُ بِهِ) : أَيْ أَحْضَرْتُهُ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ) : أَيْ بِمَا سَمِعْتُ مِنَ الْخِلَافِ (فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ: أَيْ آثَارَ الْكَرَاهِيَةِ خَوْفًا مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُتَشَابِهِ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ وَنَقْلُهُمْ صَحِيحٌ فَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ (فَقَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ) : أَيْ فِي رِوَايَةِ الْقِرَاءَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا الرَّجُلُ فَفِي قِرَاءَتِهِ، وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَفِي سَمَاعِهِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْكَرَاهَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِدَالِ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قِرَاءَتِهِ ثُمَّ يَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَرَأَ عَلَى قِرَاءَتِهِ لَمَا كَانَ مُتَوَاتِرًا بَلْ شَاذًّا آحَادًا، وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالشَّوَاذِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا كَرِهَ اخْتِلَافَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ ذَلِكَ الرَّجُلِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ جَائِزَةٍ ; فَإِنْكَارُ بَعْضِ تِلْكَ الْوُجُوهِ إِنْكَارٌ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، قُلْتُ: هَذَا وَقَعَ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ الْعِلْمِ بِجَوَازِهِ الْوُجُوهَ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِلَّا فَحَاشَاهُ أَنْ يُنْكِرَ بَعْدَ الْعِلْمِ مَا يُوجِبُ إِنْكَارَ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الصَّحَابَةِ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ وَأَفْقَهِهِمْ بِأَحْكَامِ الْفُرْقَانِ، وَهَذَا مِنْهُ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ قِرَاءَتِهِ أَمْهِلُونَا وَأَخِّرُونَا بَدَلَ انْظُرُونَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ ظُهُورِ الْكَرَاهِيَةِ فِي وَجْهِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِحْضَارُهُ الرَّجُلَ، فَإِنَّهُ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِ وَيَسْأَلَ - النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا وَقَعَ لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ ظَهَرَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَمَا صَنَعَ عُمَرُ أَيْضًا، لَكِنَّ عُمَرَ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ مَا شَعَرَ أَوْ حَلَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا رَأَى بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ، أَوْ تَعْظِيمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجِلَّةِ أَصْحَابِهِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ خِدْمَتِهِ عَلَى بَابِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِمَالِ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الطِّيبِيِّ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الْكَرَاهَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِدَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ (فَلَا تَخْتَلِفُوا) : أَيْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ أَوْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ وَصَدِّقُوا بَعْضَكُمْ بَعْضًا فِي الرِّوَايَةِ بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الدِّرَايَةِ (فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) : أَيْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (اخْتَلَفُوا) بِتَكْذِيبِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا (فَهَلَكُوا) بِتَضْيِيعِ كِتَابِهِمْ وَإِهْمَالِ خِطَابِهِمْ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2213 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ فَحَسَّنَ شَأْنَهُمَا فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْت عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فَرَقَا فَقَالَ لِي يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَوَاهُ مُسْلِمٌ» ـــــــــــــــــــــــــــــ 2213 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي) اسْتِئْنَافٌ، أَوْ حَالٌ (فَقَرَأَ قِرَاءَةً) : أَيْ فِي صَلَاتِهِ، أَوْ بَعْدَهَا (أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ) : أَيْ بِالْجَنَانِ، أَوْ بِاللِّسَانِ (ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ) : أَيْ فَأَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ أَيْضًا (فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ) دَلَّ عَلَى أَنَّ أُبَيًّا أَيْضًا كَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى، أَوْ نَحْوُهَا مِنَ النَّوَافِلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَلَمَّا قَضَيْنَا جَمِيعًا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي حَضَرْنَا لِأَجْلِهَا، وَيُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ مَا فِي نُسَخِةٍ (فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ) : أَيْ فَرَغْنَا عَنْهَا (دَخَلْنَا جَمِيعًا) : أَيْ كُلُّنَا أَوْ مُجْتَمِعُونَ (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ لِصَلَاتِهِ، أَوْ فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجُرَاتِهِ (فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ) : أَيْ أَنْكَرَتُهَا عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ (فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَآ) بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ: أَيْ كِلَاهُمَا (فَحَسَّنَ شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَلَكِنْ فِي سَمَاعِنَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْرُوفِ، قُلْتُ: يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا نَقَلَ شُرَّاحُ الْمَصَابِيحِ كَابْنِ الْمَلَكِ وَغَيْرِهِ: أَيْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَعْنَى كَمَا سَيَظْهَرُ لَكَ فَتَكُونُ مُطَابِقَةً بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى الثَّانِي حَيْثُ قَالَ: أَيْ وَقَعَ فِي خَاطِرِي أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا أَقْدِرُ

عَلَى وَصْفِهِ، وَحَذْفُ الْفَاعِلِ الْمَعْلُومِ جَائِزٌ، وَكَنَّى عَنْ خَطَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْمَعَانِي بِسَقَطَ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْأَجْسَامِ إِشْعَارًا بِشِدَّةِ هَذَا الْخَاطِرِ وَثِقَلِهِ اهـ. وَلَوْ زِيدَ وَقِيلَ لِسُقُوطِ هَذَا الْخَاطِرِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَلَسَقَطَ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ اعْتِبَارٍ لَكَانَ حَسَنًا عِنْدَ أُولِي الْأَبْصَارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي بَعْضِ النُّسَخِ سَقَطَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ: أَيْ نَدِمَ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ اهـ. فَكَأَنَّهُ وَهِمَ أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ يَأْبَاهُ فَتَدَبَّرْ (وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي وَقَعَ فِي خَاطِرِي مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَحْسِينِهِ بِشَأْنِهِمَا تَكْذِيبًا أَكْثَرَ تَكْذِيبِي إِيَّاهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ غَافِلًا، أَوْ مُشَكِّكًا، وَإِنَّمَا اسْتَعْظَمَ هَذِهِ الْحَالَةَ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ الَّذِي دَاخَلَهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى مَوْرِدِ الْيَقِينِ، وَقِيلَ: فَاعِلُ سَقَطَ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ مَا لَمْ أَقْدِرْ عَلَى وَصْفِهِ وَلَمْ أَعْهَدْ بِمِثْلِهِ وَلَا وَجَدْتُ مِثْلَهُ إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ أُبَيٌّ مَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مَا وَقَعَ لَهُ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، فَلَمَّا نَالَهُ بَرَكَةُ يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَالَ عِنْدَ الْغَفْلَةِ وَالْإِنْكَارِ وَصَارَ فِي مَقَامِ الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ اهـ. وَتَبِعَهُ فِي هَذَا ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ: وَتَبِعَتُهُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ آثَمُ وَآثَمُ أَيْ أَكْثَرُ إِثْمًا، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمَا - نَعُوذُ بِاللَّهِ - تَكْفِيرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذِهِ نَزْغَةٌ جَسِيمَةٌ وَجُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ عِبَارَةَ آحَادِ النَّاسِ إِذَا احْتَمَلَتْ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَجْهًا مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْكُفْرِ وَوَجْهًا وَاحِدًا عَلَى خِلَافِهِ لَا يَحِلُّ أَنْ يُحْكَمَ بِارْتِدَادِهِ فَضْلًا عَمَّا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ عُمُومًا وَمِنْ أَكْمَلِهِمْ فِي أَمْرِ الْقِرَاءَةِ خُصُوصًا، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَبِيَدِهِ أَزِمَّةُ التَّحْقِيقِ: إِنَّ لَفْظَ سَقَطَ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] بِالْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى الضَّمِّ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ؛ مُطَابَقَةً بَيْنِهِمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَيْدِيهِمْ وَقَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ " فِي نَفْسِي " بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُعَبَّرُ عَنِ النَّفْسِ بِالْأَيْدِي، إِلَّا أَنَّ الْبَلَاغَةَ الْقُرْآنِيَّةَ وَالْفَصَاحَةَ الْفُرْقَانِيَّةَ بَلَغَتْ غَايَةَ الْعُلْيَا فَعَبَّرَتْ بِالْعِبَارَةِ الْحُسْنَى، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اشْتِدَادِ نَدَمِهِمْ، قَالَ: الْمُتَحَسِّرُ يَعَضُّ يَدَهُ غَمًّا ; فَتَصِيرُ يَدُهُ مَسْقُوطًا فِيهَا، وَقُرِئَ: سَقَطَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى وَقَعَ الْعَضُّ فِيهَا، وَقِيلَ: سَقَطَ النَّدَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ اهـ. وَهُوَ غَايَةُ الْمُنَى، وَفِي الْقَامُوسِ سَقَطَ: وَقَعَ، وَبِالضَّمِّ: ذَلَّ وَنَدِمَ وَتَحَيَّرَ، فَعَلَى رِوَايَةِ الضَّمِّ مَعْنَاهُ: نَدِمْتُ مِنْ تَكْذِيبِي، وَإِنْكَارِ قِرَاءَتِهَا نَدَامَةً مَا نَدِمْتُ مِثْلَهَا لَا فِي الْإِسْلَامِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ مَعْنَاهُ: أَوْقَعَ النَّدَمُ فِي نَفْسِي مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِ قِرَاءَتِهِمَا نَدَمًا لَمْ أَنْدَمْ مِثْلَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ وَلَا حِينَ كُنْتُ فِي أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَالْعَاقِلُ لَا يُكَذِّبُ إِلَّا مَا يُنَافِي الْعَقْلَ أَوِ النَّقْلَ، وَقِرَاءَتُهُمَا مَا كَانَتْ مُنَافِيَةً لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْسِينِ الْقِرَاءَتَيْنِ فَسَادُ إِحْدَاهِمَا عَقَلًا وَنَقَلًا سِيَّمَا، وَأَخْبَرَ الصَّادِقُ: أَنَّهُمَا صَحِيحَتَانِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلشَّكِّ فِي النُّبُوَّةِ الثَّابِتَةِ، لَا بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَالْبَرَاهِينِ اللَّامِعَةِ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ وَالدَّقَائِقِ النَّقْلِيَّةِ، فَضْلًا عَنِ التَّكْذِيبِ مِمَّنْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِجَمَالِ التَّهْذِيبِ وَكَمَالِ التَّأْدِيبِ! ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ وَافَقَنِي وَقَالَ: أَيْ مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِي لِكُلٍّ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فِي قِرَاءَتِهِمَا. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا قَرَأَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْقُرْآنِ كُفْرٌ، فَلِذَا عَظُمَ عَلَيَّ الْأَمْرُ الْآنَ مَا لَمْ يَعْظُمْ عَلَيَّ غَيْرُهُ فِي زَمَنٍ مَضَى. " وَلَا إِذْ كُنْتُ " أَيْ: وَلَا فِي الزَّمَنِ الَّذِي كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا يُفْعَلُ فِيهَا مَرْفُوعٌ بِالْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا يُفْعَلُ بَعْدَهَا لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِيهِ تَكْذِيبٌ بِالْقُرْآنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، وَأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مَنْفِيٌّ، وَأَنَّ لَا لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّفْيِ كَهِيَ فِي " وَلَا غَرْبِيَّةٍ " وَهِيَ أَسَدُّ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جَعَلَ، " وَلَا إِذْ كُنْتُ " صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ مَانِعَةٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْحَالِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَهُ مُوهِمٌ بِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ تَكْذِيبٌ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً بِالتَّوَاتُرِ فَإِنْكَارُهَا لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا لِلْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ صُورَةَ التَّكْذِيبِ لَا حَقِيقَتَهُ، مَعَ أَنَّهُ خُطُورٌ لَيْسَ فِيهِ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ فِي وُقُوعِهِ مَعْذُورٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّوَوِيِّ: مَعْنَاهُ وَسْوَسَ إِلَيَّ الشَّيْطَانُ تَكْذِيبًا أَشَدَّ مِمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ غَافِلًا، أَوْ مُتَشَكِّكًا، وَحِينَئِذٍ دَخَلَ الشَّكُّ فِي الْيَقِينِ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِدُخُولِ الشَّكِّ دُخُولًا عَلَى وَجْهِ الْوَسْوَسَةِ لِيُلَائِمَ أَوَّلَ كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْوَسْوَسَةِ دُخُولُ الشَّكِّ عَلَى وَجْهِ الْحُصُولِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ إِدْرَاجُهُ مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرَّاحِ فِي الِاعْتِرَاضِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ (فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَدْ غَشِيَنِي) : أَيْ أَتَانِي مِنْ آثَارِ الْخَجَالَةِ وَعَلَامَاتِ النَّدَامَةِ، أَوْ لَمَّا عَلِمَ مَا فِي خَاطِرِي بِالْمُعْجِزَةِ مِنْ حُصُولِ الْوَسْوَسَةِ (ضَرَبَ صَدْرِي) إِمَّا لِلتَّأْدِيبِ، وَإِمَّا

لِإِخْرَاجِ الْوَسْوَسَةِ بِبَرَكَةِ يَدِهِ، وَإِمَّا لِلتَّلَطُّفِ، وَإِمَّا لِإِرَادَةِ الْحِفْظِ، أَوْ لِتَذَكُّرِ الْقَضِيَّةِ وَعَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهَا (فَفِضْتُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ الثَّانِيَةِ (عَرَقًا) تَمْيِيزٌ: أَيْ فَجَرَى عَرَقِي مِنْ جَمِيعِ بَدَنِي اسْتِحْيَاءً مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَنَدَامَةً عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَفَنَاءً عَنْ نَفْسِهِ وَإِغْمَاءً عَنْ حَالِهِ (وَكَأَنَّمَا) وَفَى نُسْخَةٍ فَكَأَنَّمَا (أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فَرَقَا) : أَيْ خَوْفًا قِيلَ: تَمْيِيزٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ: أَيْ فَكَأَنِّي لِأَجْلِ الْخَوْفِ عَلَى مَا فَعَلْتُ أُحْضِرْتُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْحُكْمِ فِيَّ بِمَا أَرَادَ (فَقَالَ لِي يَا أُبَيُّ) : أَيْ تَسْكِينًا وَتَبْيِينًا (أُرْسِلَ إِلَيَّ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ: أَيْ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، وَفَى نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ: أَيْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيَّ (أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَفَى نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ الْمُتَكَلِّمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ مُفَسِّرَةٌ، وَجَوَّزَ كَوْنَهَا مَصْدَرِيَّةً عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى الْأَمْرِ (عَلَى حَرْفٍ) : أَيْ قِرَاءَةً وَاحِدَةً (فَرَدَدْتُ) : أَيْ جِبْرِيلُ (إِلَيْهِ) أَوْ فَرَاجَعْتُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (أَنْ هَوِّنْ) : أَيْ سَهِّلْ وَيَسِّرْ (عَلَى أُمَّتِي) أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ مَدْخُولِهَا أَمْرًا؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، أَوْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي رَدَدْتُ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، يُقَالُ رَدَّ إِلَيْهِ إِذَا رَجَعَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ فَقُلْتُ لَهُ قَوْلًا مُتَكَرِّرًا، فَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ رِوَايَةً وَلَا دِرَايَةً (فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ) مَاضٍ مَجْهُولٌ، أَوْ مَعْلُومٌ رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ الرِّسَالَةَ الثَّانِيَةَ (اقْرَأْهُ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، أَوِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ بِدُونِ أَنْ كَمَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ خِلَافًا لِمَا تَوَهِمُهُ عِبَارَةُ ابْنِ حَجَرٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ رَدَّ وَرَدَّ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ مَسْبُوقًا لِسُؤَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ كَيْفِيَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّدِّ رَجْعُ الْكَلَامِ وَرَدُّ الْجَوَابِ (عَلَى حَرْفَيْنِ) : أَيْ نَوْعَيْنِ (فَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي) : أَيْ بِزِيَادَةِ التَّهْوِينِ (فَرَدَّ) بِالْوَجْهَيْنِ (إِلَيَّ الثَّالِثَةِ اقْرَأْهُ) بِالضَّبْطَيْنِ (عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا) : أَيْ لَكَ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ دَفْعَةٍ رَجَعَتْ إِلَيَّ وَرَدَدْتُكَهَا بِمَعْنَى أَرْجَعْتُكَ إِلَيْهَا بِحَيْثُ مَا هَوَّنْتُ عَلَى أُمَّتِكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ (مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ يَعْنِي مَسْأَلَةً مُسْتَجَابَةً قَطْعًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَنْبَغِي أَنْ تَسْأَلْنِيهَا فَأُجِيبَكَ إِلَيْهَا (فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي) لَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي) : أَيْ لِأَهْلِ الصَّغَائِرِ، وَعَكَسَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ شَارِحٌ: لَمَّا انْقَسَمَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَى مُفَرِّطٍ وَمُفْرِطٍ فِي اسْتَغْفَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُقْتَصِدِ الْمُفَرِّطِ فِي الطَّاعَةِ، وَأُخْرَى لِلظَّالِمِ فِي الْمَعْصِيَةِ، أَوِ الْأُولَى لِلْخَوَاصِّ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْصِيرٍ مَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] وَالثَّانِيَةُ لِلْعَوَامِّ، أَوِ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى فِي الْعُقْبَى (وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ) : أَيِ الْمَسْأَلَةَ الثَّالِثَةَ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الْكُبْرَى (لِيَوْمٍ) : أَيْ لِأَجْلِ يَوْمٍ، أَوْ إِلَى يَوْمٍ (يَرْغَبُ) : أَيْ يَحْتَاجُ (إِلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (الْخَلْقُ) : أَيِ الْمُكَلَّفُونَ (كُلُّهُمْ) حِينَ يَقُولُونَ نَفْسِي نَفْسِي (حَتَّى إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْخَلْقِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رِفْعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَفْضِيلِ نَبِيِّنَا عَلَى الْكُلِّ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2214 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ) قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ تَكُونُ وَاحِدًا لَا تَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2214 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ) : أَيْ أَوَّلًا (فَرَاجَعْتُهُ) : أَيِ اللَّهَ، أَوْ جِبْرِيلَ (فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ) : أَيْ أَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ الزِّيَادَةَ، أَوْ أَطْلُبُ مِنْ جِبْرِيلَ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ الزِّيَادَةَ بَعْدَ الْإِجَابَةِ (وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى) : أَيْ طَلَبُ الزِّيَادَةِ وَالْإِجَابَةِ، أَوْ أَمْرُ الْقُرْآنِ (إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) : أَيْ إِلَى إِعْطَائِهَا (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) : أَيِ الزُّهْرِيُّ (بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، وَقِيلَ بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ (إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ) أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَفَى الْحَقِيقَةِ (تَكُونُ) بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ (وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ) بِالْوَجْهَيْنِ (فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ) يَعْنِي أَنَّ مَرْجِعَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ فِي هَيْئَتِهِ وَأَمَّا

الِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَصِيرَ الْمُثْبَتُ مَنْفِيًّا، وَالْحَلَالُ حَرَامًا، فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وَهَذَا لَمَّا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا يَسِيرًا، وَكَأَنَّ ابْنَ شِهَابٍ قَصَدَ بِذَلِكَ رَدًّا لِقَوْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ فَقِيلَ: أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَحَلَالٌ، وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ، وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْحَاكِمِ، وَالْبَيْهَقِيِّ " «كَانَتِ الْكُتُبُ الْأُوَلُ تَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٌ، وَآمِرٌ، وَحَلَالٌ، وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ، وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ» " وَأَجَابَ عَنْهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّ سِيَاقَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ يَأْبَى حَمْلَهَا عَلَى هَذَا إِذْ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ يُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ إِلَى سَبْعَةٍ تَيْسِيرًا وَتَهْوِينًا، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَلَالًا وَحَرَامًا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: مَنْ أَوَّلَ تِلْكَ بِهَذِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَمِمَّنْ ضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّوْسِعَةَ لَمْ تَقَعْ فِي تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ وَلَا تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: زَاجِرٌ إِلَخْ اسْتِئْنَافٌ: أَيِ الْقُرْآنُ زَاجِرٌ وَآمِرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ زَاجِرًا بِالنَّصْبِ: أَيْ نَزَلَ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ حَالَ كَوْنِهِ زَاجِرًا إِلَخْ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ لِلْأَبْوَابِ لَا لِلْأَحْرُفِ، أَيْ: سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِهِ أَيْ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهَا عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ اهـ. وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَأَمَّا مَا قَالَ الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْأَصْنَافِ الْمُطْلَقُ، وَالْمُقَيَّدُ، وَالْعَامُّ، وَالْخَاصُّ، وَالنَّصُّ، وَالْمُؤَوَّلُ، وَالنَّاسِخُ، وَالْمَنْسُوخُ، وَالْمُجْمَلُ، وَالْمُفَسَّرُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَأَقْسَامُهُ، فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْقُرْآنِ مُنَزَّلَةً فِيهِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ وَلَا التَّبْدِيلَ الْمَفْهُومَ مِنْ سَبَبِ الْوُرُودِ فِي الْحَدِيثِ وَمِنْ مَنْطُوقِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ اللُّغَوِيُّونَ مَنْ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْحَذْفُ، وَالصِّلَةُ، وَالتَّقْدِيمُ، وَالتَّأْخِيرُ، وَالِاسْتِعَارَةُ، وَالتَّكْرَارُ، وَالْكِنَايَةُ، وَالْحَقِيقَةُ، وَالْمَجَازُ، وَالْمُجْمَلُ، وَالْمُفَسَّرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْغَرِيبُ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ مَا حَكَى النُّحَاةُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّذْكِيرُ، وَالتَّأْنِيثُ، وَالشَّرْطُ، وَالْجَزَاءُ، وَالتَّصْرِيفُ، وَالْإِعْرَابُ، وَالْأَقْسَامُ وَجَوَابُهَا، وَالْجَمْعُ، وَالْإِفْرَادُ، وَالتَّصْغِيرُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَاخْتِلَافُ الْأَدَوَاتِ، فَإِنَّ بَعْضَهَا ثَابِتٌ جَازَ تَغَيُّرُهَا عَلَى مَا وَرَدَ مِنَ التَّذْكِيرِ، وَالتَّأْنِيثِ، وَالْجَمْعِ، وَالْإِفْرَادِ، وَالْإِعْرَابِ، وَاخْتِلَافِ الْأَدَوَاتِ، وَأَمَّا سَائِرُ الصِّفَاتِ فَمَا وَرَدَ شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20] ، وَكَذَا مَا حُكِيَ عَنِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ أَنَّهَا الزُّهْدُ وَالْقَنَاعَةُ مَعَ الْيَقِينِ، وَالْحُرْمَةُ وَالْخِدْمَةُ مَعَ الرِّضَا، وَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ مَعَ الْمُحَاسَبَةِ، وَالْمَحَبَّةُ وَالشَّوْقُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ، لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ مَعَ زِيَادَةِ تَبْلُغُ أَلْفًا كَمَا حَقَّقَ فِي مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَمُقَدِّمَاتِ الْعَارِفِينَ، وَلَكِنَّ تَنْزِيلَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى كَوْنِهَا مُرَادَةً مِنَ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ بِالتَّخْيِيرِ مِمَّا لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلًّا عُرِفَ بِمَذْهَبِهِ وَعُرِفَ مِنْ مَشْرَبِهِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِلَفْظِ بَاقِي الْحَدِيثِ، وَلِسَبَبِ وُرُودِهِ فَتَكَلَّمُوا عَلَى مَعْنَى الْقُرْآنِ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2215 - عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ فَقَالَ: (يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَالْغُلَامُ، وَالْجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ، قَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» :) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ: ( «لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ» ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ قَالَ: ( «إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَتَيَانِي فَقَعَدَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِي وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِي، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، فَكُلُّ حَرْفٍ شَافٍ كَافٍ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2215 - (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ فَقَالَ: (يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ) : أَيْ لَا يُحْسِنُونَ الْقِرَاءَةَ وَلَوْ أَقْرَأْتُهُمْ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ جَرَى لِسَانُهُ عَلَى الْإِمَالَةِ أَوِ الْفَتْحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى لِسَانِهِ الْإِدْغَامُ أَوِ الْإِظْهَارُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا (مِنْهُمُ الْعَجُوزُ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ) وَهُمَا عَاجِزَانِ عَنِ التَّعَلُّمِ لِلْكِبَرِ (وَالْغُلَامُ، وَالْجَارِيَةُ) وَهُمَا غَيْرُ مُتَمَكِّنَيْنِ مِنَ الْقِرَاءَةِ لِلصِّغَرِ (وَالرَّجُلُ) : أَيْ وَمِنْهُمُ الرَّجُلُ الْمُتَوَسِّطُ (الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ قَالَ) : أَيْ بَعْدَ الْمُرَاجَعَاتِ (يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) : أَيْ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ فَلْيَقْرَأْ كُلٌّ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ جَوَازُ التَّرْكِيبِ وَالتَّلْفِيقِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلَكِنِ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَنْعِهِ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ مَنْعَ تَنْزِيهٍ، وَكَذَا قَالُوا بِمَنْعِ مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى مَنْعَ تَحْرِيمٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ

أُبَيٍّ عَنْ جِبْرِيلَ هَذَا الْإِجْمَالَ رِوَايَةٌ عَنْهُ بِالْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أُبَيًّا سَمِعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْكِي عَنْ جِبْرِيلَ مَا مَرَّ عَنْهُ مِنَ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّبْعَةِ فَرَوَى هُنَا حَاصِلُ ذَلِكَ فَهُوَ أَنَّهُ بَعْدَ تِلْكَ الِاسْتِزَادَةِ نَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا ذَكَرَ لِجِبْرِيلَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: ( «إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لَكِنَّهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى سُؤَالِكَ فَسَلْهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى تُعْطَاهَا كُلَّهَا» ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ) : أَيْ جِبْرِيلُ بَعْدَ الْأَحْرُفِ (لَيْسَ مِنْهَا) : أَيْ لَيْسَ حَرْفٌ مِنْ تِلْكَ الْأَحْرُفِ (إِلَّا شَافٍ) : أَيْ لِلْعَلِيلِ فِي فَهْمِ الْمَقْصُودِ (كَافٍ) لِلْإِعْجَازِ فِي إِظْهَارِ الْبَلَاغَةِ وَقِيلَ: أَيْ شَافٍ لِصُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ لِلِاتِّفَاقِ فِي الْمَعْنَى، وَكَافٍ فِي الْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَتَيَانِي فَقَعَدَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِي وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِي فَقَالَ) أَيْ لِي (جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِيدُهْ) : أَيِ اطْلُبْ زِيَادَةَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى حَرْفٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنْ جِبْرِيلَ لِيَعْرِضَ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ بِقَوْلِهِ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ وَيُجَابُ (حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، فَكُلُّ حَرْفٍ شَافٍ) : أَيْ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ لِلْمُؤْمِنِينَ (كَافٍ) فِي الْحُجَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ.

2216 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَاصٍّ يَقْرَأُ، ثُمَّ يَسْأَلُ فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2216 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَاصٍّ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ: أَيْ يَحْكِي الْقِصَصَ وَالْأَخْبَارَ (يَقْرَأُ) : أَيِ الْقُرْآنَ حَالٌ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ (ثُمَّ يَسْأَلُ) : أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ (فَاسْتَرْجَعَ) : أَيْ عِمْرَانُ يَعْنِي قَالَ: " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَظُهُورُ مَعْصِيَةٍ وَأَمَارَةُ الْقِيَامَةِ (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ عِمْرَانُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ) : أَيْ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ مَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا مِنَ النَّاسِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ فَلْيَسْأَلْهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِآيَةِ عُقُوبَةٍ فَيَتَعَوَّذُ إِلَيْهِ بِهَا مِنْهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ عَقِيبَ الْقِرَاءَةِ بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَإِصْلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ (فَإِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنُ (سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ) : أَيْ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2217 - عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَتَأَكَّلُ بِهِ النَّاسَ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ لَيْسَ عَلَيْهِ لَحْمٌ» ) . رَوَاهُ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2217 - (عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَتَأَكَّلُ بِهِ النَّاسَ) أَيْ يَطْلُبُ بِهِ الْأَكْلَ مِنَ النَّاسِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي يَسْتَأْكِلُ كَتَعَجَّلَ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ، وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلْآلَةِ أَيْ: أَمْوَالَهُمْ (جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ لَيْسَ عَلَيْهِ لَحْمٌ) لَمَّا جَعَلَ أَشْرَفَ الْأَشْيَاءِ وَأَعْظَمَ الْأَعْضَاءِ وَسِيلَةً إِلَى أَدْنَاهَا وَذَرِيعَةً إِلَى أَرْدَئِهَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ وَأَسْوَأِ حَالَةٍ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اسْتِجْرَارُ الْجِيفَةِ بِالْمَعَازِفِ أَهْوَنُ مِنَ اسْتِجْرَارِهَا بِالْمَصَاحِفِ، وَفَى الْأَخْبَارِ مَنْ طَلَبَ بِالْعِلْمِ الْمَالَ كَانَ كَمَنْ مَسَحَ أَسْفَلَ مَدَاسِهِ وَنَعْلِهِ بِمَحَاسِنِهِ لِيُنَظِّفَهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْبَهْلَوَانُ الَّذِي يَلْعَبُ فَوْقَ الْحِبَالِ أَحْسَنُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَمِيلُونَ إِلَى الْمَالِ ; لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا، وَهَؤُلَاءِ يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] وَقَدْ مَدَحَ الشَّاطِبِيُّ الْقُرَّاءَ السَّبْعَةَ وَرُوَاتَهُمْ بِقَوْلِهِ: تَخَيَّرَهُمْ نُقَّادُهُمْ كُلُّ بَارِعٍ وَلَيْسَ عَلَى قُرْآنِهِ مُتَأَكِّلَا (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2218 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2218 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ) بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ: أَيِ انْفِصَالَهَا وَانْقِضَاءِهَا، أَوْ فَصْلَهَا عَنْ سُورَةٍ أُخْرَى (حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تَعَلَّقَ بِهِ أَصْحَابُنَا حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِنْزَالَ مُكَرَّرٌ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهَا لِتَكْرَارِ نُزُولِ الْفَاتِحَةِ عَلَى قَوْلٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي سَيَرِدُ فِي آخِرِ الْبَابِ دَلِيلَانِ ظَاهِرَانِ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ جُزْءٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ مُكَرَّرَةً لِلْفَصْلِ، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْجُزْئِيَّةِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الْكُلِّيَّةِ، بَلْ فِيهَا دَلَالَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَجْزَاءِ الْفُرْقَانِيَّةِ، بَلْ قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ قُرْآنًا وَإِنَّمَا هِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، لَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّهَا آيَةٌ لِوَصْفِهَا بِالْإِنْزَالِ، وَلَعَلَّ الْغَزَالِيَّ لِهَذَا قَالَ: مَا مِنْ مُنْصِفٍ إِلَّا وَيَسْتَرِدُّهُ وَيُضْعِفُهُ لَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِسُورَةٍ سِوَى مَا فِي النَّمْلِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عَدَمُ كِتَابَتِهَا فِي أَوَّلِ التَّوْبَةِ بِنَاءً عَلَى التَّوْقِيفِ فِي مَحَلِّهَا، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ مِنَ النُّكْتَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي عَدَمِ إِشَارَةِ الشَّارِعِ إِلَى كِتَابَتِهَا فِي أَوَّلِهَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةُ رَحْمَةٍ وَالسُّورَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْبَرَاءَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّاطِبِيِّ: وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأْتَ بَرَاءَةً لِتَنْزِيلِهَا بِالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلَا وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَمِمَّا يَدُلُّ لِمَذْهَبِنَا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا غَيْرَ بَرَاءَةَ إِجْمَاعًا خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: (بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ أَنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ إِلَى آخِرِهَا) وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ بِالْبَسْمَلَةِ إِظْهَارًا بِفَصْلِ السُّورَةِ، أَوْ تَبَرُّكًا بِالتَّسْمِيَةِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا جُزْءُ السُّورَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً كَامِلَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَخَبَرُ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ» ) اهـ. وَهَذَا أَبْعَدُ دَلَالَةً لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمِثَالَ مَعَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ فِي النَّمْلِ إِجْمَاعًا، وَلِلْفَصْلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُ الْبَسْمَلَةِ وَلَا مُثْبِتُهَا إِجْمَاعًا خِلَافًا لِمَنْ غَلَطَ فِيهِ فِي الْجَانِبَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

2219 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: «كُنَّا بِحِمْصَ فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَقَرَأْتُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ فَقَالَ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2219 - (وَعَنْ عَلْقَمَةَ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ كُنَّا بِحِمْصَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، بَلْدَةٌ بِالشَّامِ (فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ) : أَيِ السُّورَةُ أَوِ الْقُرْآنُ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَقَرَأْتُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ فِي زَمَانِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَيَّ لِأَنِّي قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَلَى عَهْدِهِ: أَيْ حَضْرَتِهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ (فَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَحْسَنْتَ) : أَيْ أَنْتَ الْقِرَاءَةَ بِالتَّرْتِيلِ وَالتَّجْوِيدِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا افْتِخَارًا بَلْ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَاحْتِجَاجًا عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ (فَبَيْنَا) وَفَى نُسْخَةٍ فَبَيْنَمَا (هُوَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (يُكَلِّمُهُ) : أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَيُحْتَمَلُ الْعَكْسُ (إِذْ وَجَدَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (رِيحَ الْخَمْرِ، فَقَالَ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ) : أَيْ أَتُخَالِفُ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَحُكْمَهُ (وَتُكَذِّبُ الْكِتَابَ) : أَيْ بِقِرَاءَتِهِ، أَوْ أَدَائِهِ (فَضَرَبَهُ الْحَدَّ) : أَيْ لِكَوْنِهِ مُتَوَلِّيًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا تَغْلِيظٌ لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْكِتَابِ كُفْرٌ، وَإِنْكَارُ الْقِرَاءَةِ فِي جَوْهَرِ الْكَلِمَةِ كُفْرٌ دُونَ الْأَدَاءِ، وَلِذَا أَجْرَى عَلَيْهِ حَدَّ الشَّارِبِ لَا حَدَّ الرِّدَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ، إِنَّ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ مُتَوَاتِرٌ مُطْلَقًا فَيَكْفُرُ مُنْكِرُهُ، نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الَّذِي أَنْكَرَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا حِينَئِذٍ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ فَهُوَ لَا كُفْرَ بِهِ وَإِنْ صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَرَأَ بِهِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ ضَرَبَهُ حَدَّ الْخَمْرِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ شُرْبِهِ بِالرَّائِحَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ، وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ ; لِأَنَّ رِيحَ نَحْوِ التُّفَّاحِ الْحَامِضِ وَكَذَا السَّفَرْجَلِ يُشْبِهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ، وَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَهَا إِكْرَاهًا، أَوِ اضْطِرَارًا، وَقَدْ صَحَّ الْخَبَرُ: ( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبَهَاتِ» ) وَلَعَلَّهُ حَصَلَ مِنْهُ إِقْرَارٌ، أَوْ قَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحَدِّ التَّعْزِيرُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ لَمْ يُعَزِّرْهُ عَلَى قَوْلِهِ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِابْنِ مَسْعُودٍ لِكَوْنِهِ نَسَبَهُ إِلَى قِرَاءَةٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ فَعَفَا عَنْهُ فِي حَقِّهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2220 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنِ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ يَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ، وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ سُورَةَ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2220 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ) أَيْ أَحَدًا (أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ) نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ: عَقِيبَ زَمَانِ قَتْلِهِمْ وَهِيَ بِلَادٌ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْيَمَامَةُ: الْقَصْدُ كَالْيَمَامِ، وَجَارِيَةٌ زَرْقَاءُ كَانَتْ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَبِلَادُ الْجَوِّ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا؛ لِأَنَّهَا اكْثَرُ نَخِيلًا مِنْ سَائِرِ الْحِجَازِ، وَبِهَا تَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَهِيَ دُونَ الْمَدِينَةِ فِي وَسَطِ الشَّرْقِ عَنْ مَكَّةَ عَلَى سِتَّ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً مِنَ الْبَصْرَةِ وَعَنِ الْكُوفَةِ نَحْوَهَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَالْيَمَامَةُ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الطَّائِفِ يَوْمَانِ أَوْ يَوْمٌ كَذَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مَعَ جَيْشٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَمَامَةِ فَقَاتَلَهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ قِتَالًا لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهُ، وَقُتِلَ مِنَ الْقُرَّاءِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُمِائَةٍ، قِيلَ: وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ حَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ فَانْكَشَفُوا وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَقَتَلُوا مُسَيْلِمَةَ وَأَصْحَابَهُ، قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ قَاتِلُ حَمْزَةَ، فَقَالُوا لَهُ: هَذِهِ بِتِلْكَ (فَإِذَا عُمَرُ) : أَيْ قَالَ زَيْدٌ: فَجِئْتُهُ فَإِذَا عُمَرُ (ابْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، قِيلَ: وَسَبَبُ مَجِيئِهِ لِطَلَبِ جَمْعِهِ مَا جَاءَ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ آيَةٍ فَقِيلَ لَهُ كَانَتْ مَعَ فُلَانٍ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، وَأَتَى بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ فِي الْمُصْحَفِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَسَبَّبَ فِي جَمْعِهِ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : أَيْ لِزَيْدٍ (إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ) : أَيْ عُمَرُ (إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ) مِنَ الْحَرِّ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ أَيِ: اشْتَدَّ وَكَثُرَ (يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى إِنِ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ) بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنْ، وَتُكْسَرُ (بِالْقُرَّاءِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ، أَوِ الْقَتْلِ. (بِالْمَوَاطِنِ) ظَرْفِيَّةٌ أَيْ: فِي الْمَوَاطِنِ الْأُخَرِ مِنَ الْحُرُوبِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا لِدَفْعِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْكَثِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ أَخْشَى اسْتِحْرَارَهُ، وَالْمُرَادُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا كَانَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّا لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمَكَارِهِ، فَقَوْلُهُ إِنِ اسْتَحَرَّ: مَفْعُولُ أَخْشَى، وَالْفَاءُ فِي فَيَذْهَبُ: لِلتَّعْقِيبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنْ بِالْكَسْرِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ دَالَّةٌ عَلَى مَفْعُولِ أَخْشَى (فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى عَطْفًا عَلَى اسْتَحَرَّ، عَلَى أَنَّ أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوَءَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ بِالرَّفْعِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَنْ، فَقِيلَ: رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَإِذَا اسْتَحَرَّ فَيَذْهَبُ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ إِنِّي أَخْشَى، أَيْ: فَيَذْهَبُ حِينَئِذٍ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ بِذَهَابِ كَثِيرٍ مِنْ قُرَّاءِ الزَّمَانِ (وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ) مِنَ الرَّأْيِ أَيْ: أَذْهَبُ إِلَى أَنْ تَأْمُرَ كَتَبَةَ الْوَحْيِ (بِجَمْعِ الْقُرْآنِ) قَبْلَ تَفَرُّقِ قُرَّاءِ الدُّوَرَانِ (قُلْتُ) : أَيْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ (لِعُمَرَ كَيْفَ تَفْعَلُ) بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، وَقِيلَ بِالتَّكَلُّمِ: أَيْ: أَنْتَ، أَوْ نَحْنُ (شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ جُمِعَ الْقُرْآنُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهَا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ أَخْرَجَ بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ زَيْدٍ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ فِي الرِّقَاعِ، الْحَدِيثَ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ غَيْرُ الْجَمْعِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَأْلِيفَ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُفَرَّقَةِ فِي سُوَرِهَا وَجَمْعَهَا فِيهَا بِإِشَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ) : أَيْ هَذَا الْجَمْعُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لَكِنْ لِأَجْلِ الْحِفْظِ خَيْرٌ مَحْضٌ (فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي) : أَيْ يُرَاوِدُنِي فِي الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ (حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ) : أَيْ لِذَلِكَ الْجَمْعِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ (وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذَكَرَ مِنَ الْجَمْعِ، أَوِ الشَّرْحِ (الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : أَيْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ تَوْطِئَةٌ لِلْأَمْرِ بِالْجَمْعِ (إِنَّكَ رَجُلٌ) كَامِلٌ فِي الرُّجُولِيَّةِ (شَابٌّ عَاقِلٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةً إِلَى الْقُوَّةِ، وَحِدَّةِ النَّظَرِ، وَقُوَّةِ الضَّبْطِ، وَالْحِفْظِ، وَالْأَمَانَةِ، وَالدِّيَانَةِ (لَا نَتَّهِمُكَ) : أَيْ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، أَيْ: لَا نُدْخِلُ عَلَيْكَ التُّهْمَةَ لِعَدَالَتِكَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَنْقُلُهُ، فِي الْقَامُوسِ: اتَّهَمَهُ بِكَذَا اتِّهَامًا وَاتَّهَمَهُ كَافْتَعَلَهُ أَدْخَلَ عَلَيْهِ التُّهَمَةَ كَهُمَزَةٍ: أَيْ مَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ فَاتُّهِمْ هُوَ (وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ غَالِبًا لِأَنَّ كُتَّابَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلَغُوا أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ كَمَا

فِي الْمَوَاهِبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ فِي جَمْعِهِ وَكِتَابَتِهِ مُؤْتَمَنٌ (فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنِ) أَمْرٌ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ: أَيْ بَالِغْ فِي تَحْصِيلِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُتَفَرِّقَةِ (فَاجْمَعْهُ) : أَيْ جَمْعًا كُلِّيًّا فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُحَافَظَةً لِلْمُرَاجَعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ (فَوَاللَّهِ) : أَيْ قَالَ زَيْدٌ فَوَاللَّهِ (لَوْ كَلَّفُونِي) : أَيْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَنْ تَبِعَهُمَا، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَالْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ (نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ) : أَيْ وَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ نَقْلُهُ (مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقِرْآنِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعَبُ الْجُثَّةِ وَهَذَا فِيهِ تَعَبُ الرُّوحِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُبَاحٌ، وَكَانَ هَذَا بِزَعْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلِهَذَا (قَالَ) : أَيْ زَيْدٌ (فَقُلْتُ) : أَيْ لِأَبِي بَكْرٍ، أَوْ مَعَ عُمَرَ (كَيْفَ تَفْعَلُونَ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغْلِيبِ الْخِطَابِ (شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ مَا اكْتَفَى بِمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَنْشَرِحْ صَدْرُهُ بَعْدُ، وَلَمْ يَرْضَ بِالتَّقْلِيدِ، مَعَ اسْتِصْعَابِهِ الْقَضِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ (قَالَ) : أَيْ أَبُو بَكْرٍ (هُوَ) : أَيِ الْجَمْعُ (وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي) : أَيْ يَذْكُرُ أَبُو بَكْرٍ السَّبَبَ وَأَنَا أَدْفَعُ (حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ) : أَيِ اللَّهُ (لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) ، قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَجْمَعْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ لِمَا كَانَ يَتَرَقَّبُهُ مِنْ وُرُودِ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ أَوْ تِلَاوَتِهِ، فَلَمَّا انْقَضَى نُزُولُهُ بِوَفَاتِهِ، أَلْهَمَ اللَّهُ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ذَلِكَ وَفَاءً بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ بِضَمَانِ حِفْظِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقِ بِمَشُورَةِ عُمَرَ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ» " الْحَدِيثَ فَلَا يُنَافَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي كِتَابَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ كَانَ كُلُّهُ كُتِبَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَا مُرَتَّبِ السُّوَرِ، وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ فِي كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ: كِتَابَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ بِمُحْدَثَةٍ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي الْوُقُوعِ وَنَحْوِهَا، وَإِنَّمَا أَمَرَ الصِّدِّيقُ بِنَسْخِهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ مُجْتَمِعًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَوْرَاقٍ وُجِدَتْ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا الْقُرْآنُ مُنْتَشِرًا فَجَمَعَهَا جَامِعٌ وَرَبَطَهَا بِخَيْطٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ كَذَا فِي الْإِتْقَانِ (فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ) حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ (مِنَ الْعُسُبِ) بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ عَسِيبٍ جَرِيدَةٌ مِنَ النَّخْلِ وَهِيَ السَّعَفَةُ مِمَّا لَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْخُوصُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَزَادَ فِي الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: جَرِيدَةٌ مِنَ النَّخْلِ مُسْتَقِيمَةٌ دَقِيقَةٌ مُكْشَطٌ خُوصُهَا، وَالَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْخُوصُ مِنَ السَّعَفِ وَالسَّعَفُ مُحَرَّكَةٌ جَرِيدُ النَّخْلِ، أَوْ وَرَقُهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ إِذَا يَبِسَ (وَاللِّخَافِ) بِكَسْرِ اللَّامِ جَمْعُ لَخِفَةٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْبِيضُ الرِّقَاقُ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيْدِي الْقُرَّاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَفَّى رِوَايَةٍ: وَالرِّقَاعِ وَهِيَ جَمْعُ رُقْعَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِلْدٍ، أَوْ وَرَقٍ، وَفَى أُخْرَى وَقِطَعِ الْأَدِيمِ، وَفَى أُخْرَى وَالْأَكْتَافِ، وَفَى أُخْرَى وَالْأَضْلَاعِ، وَهُوَ جَمْعُ كَتِفٍ أَوْ ضِلْعٌ يَكُونُ لِلْبَعِيرِ وَالشَّاةِ كَانُوا إِذَا جَفَّ كَتَبُوا عَلَيْهِ، وَفِي أُخْرَى وَالْأَقْتَابِ جَمْعُ قَتَبٍ وَهُوَ الْخَشَبُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ لِيُرْكَبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي ذَلِكَ لِعِزَّةِ الْوَرَقِ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَوْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَلْوَاحِ لِيَحْفَظُوهَا ثُمَّ يَغْسِلُوهَا وَيَمْحُوهَا (وَصُدُورِ الرِّجَالِ) أَيْ: الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَتِ الثِّقَةُ بِأَصْحَابِ الرِّقَاعِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانَ يُبْدُونَ عَنْ تَأْلِيفٍ مُعْجِزٍ وَمُنَظَّمٍ مَعْرُوفٍ وَقَدْ شَاهَدُوا تِلَاوَتَهُ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِشْرِينَ سَنَةً فَكَانَ تَزْوِيرُ مَا لَيْسَ مِنْهُ مَأْمُونًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَوْفُ مِنْ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْ صَحِيحِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ بِأَنْ حَفِظُوهُ كُلَّهُ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ هَذَا، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَفَّى رِوَايَةٍ ذِكْرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْهُمْ (حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ (الْأَنْصَارِيِّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَذْكُورُ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنَ الصَّحَابَةِ: خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، وَأَبُو خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ الْخَزْرَجِيُّ فَتَأَمَّلْ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ إِلَّا خُزَيْمَةَ، وَلَعَلَّهُ يُقَالُ لَهُ خُزَيْمَةُ وَأَبُو خُزَيْمَةَ أَيْضًا (لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلَيَّةِ أَيْ: لَمْ أَجِدْهَا مَكْتُوبَةً مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتَفِي بِالْحِفْظِ دُونَ الْكِتَابَةِ، قَالَهُ الْحَافِظُ أَبُو شَامَةَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُنَافِي مَا رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً حَفِظُوا

الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، لِجَوَازِ النِّسْيَانِ بَعْدَ الْحِفْظِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْمُنَسَّى مِنْ غَيْرِهِمْ تَذَكَّرُوا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الْأَحْزَابِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ} [التوبة: 128] بَدَلٌ مِنْ " آخِرِ " {رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ) قَالَ فِي الْإِتْقَانِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: قَدِمَ عُمَرُ فَقَالَ: مَنْ كَانَ تَلَقَّى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ بِهِ وَكَانُوا يَكْتُبُونَ ذَلِكَ فِي الصُّحُفِ وَالْأَلْوَاحِ وَالْعُسُبِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا كَانَ لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِهِ مَكْتُوبًا حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ مَنْ تَلَقَّاهُ سَمَاعًا، مَعَ كَوْنِ زِيدٍ كَانَ يَحْفَظُهُ، فَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الِاحْتِيَاطِ، قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: الْمُرَادُ إِنَمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ كُتِبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوِ الْمُرَادُ يُشْهِدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ لَا يُكْتَبَ إِلَّا مِنْ عَيْنِ مَا كُتِبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَتَبَهُ زَيْدٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَكَانَ لَا يَكْتُبُ آيَةً إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَإِنَّ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةَ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، فَقَالَ: اكْتُبُوهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، فَكَتَبَ، وَإِنَّ عُمَرَ أَتَى بِآيَةِ الرَّجْمِ فَلَمْ يَكْتُبْهَا لِأَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ مَا جَمَعُوا إِلَّا بَعْدَ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ لَفْظُهُ، وَبِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ كِتَابَتُهُ (فَكَانَتِ الصُّحُفُ) أَيْ: بَعْدَ الْجَمْعِ (عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ: ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ فِي حَيَاتِهِ) أَيْ: أَيَّامَهُمَا (ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ) أَيْ: إِلَى أَنْ أَخَذَ مِنْهَا عُثْمَانُ فَجَمَعَ جَمْعًا ثَانِيًا، أَوْ ثَالِثًا لِلْقُرْآنِ، وَسَبَبُ وَضْعِ الصُّحُفِ عِنْدَهَا عَدَمُ خَلِيفَةٍ مُتَعَيِّنٍ فِي حَيَاتِهِ وَهِيَ بِنْتُهُ وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَخَصَّهَا بِهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَجَاءَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَعْظَمُ النَّاسِ فِي الْمَصَاحِفِ أَجْرًا أَبُو بَكْرٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا فِي أَثَرٍ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَيْتُ أَنْ لَا آخُذَ عَلَيَّ رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةِ جُمُعَةٍ حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ، فَجَمَعَهُ، لِأَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَمُرَادُهُ بِجَمْعِهِ حَفِظُهُ فِي صَدْرِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِجَمْعِهِ جَمْعُهُ بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ، وَالْمُرَادُ بِجَمْعِ أَبِي بَكْرٍ جَمْعُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِهَذَا الْجَمْعِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ الْأَوَّلُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ أَنَّهُ بَعْدَ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ قَدْ كَرِهَ بَيْعَتَكَ فَأَرْسِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كَرِهْتَ بَيْعَتِي، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: مَا أَقْعَدَكَ عَنِّي، قَالَ، رَأَيْتُ كِتَابَ اللَّهِ يُزَادُ فِيهِ فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنْ لَا أَلْبَسَ رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةِ جُمُعَةٍ حَتَّى أَجْمَعَهُ، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ، وَكَذَا مَا جَاءَ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي مُصْحَفٍ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، أَقْسَمَ لَا أَرْتَدِي بِرِدَاءٍ حَتَّى أَجْمَعَهُ، فَجَمَعَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ رِجَالُهَا ثِقَاتٌ لَكِنْ فِي سَنَدِهَا انْقِطَاعٌ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ وَلِزَيْدٍ: اقْعُدَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَمَنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَاكْتُبَاهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: كَانَ الْمُرَادُ بِشَاهِدَيْنِ الْحِفْظَ وَالْكِتَابَةَ، قَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فِي فَهْمِ السُّنَنِ: كِتَابَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مُحْدَثَةً لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فَجَمَعَهُ الصِّدِّيقُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَوْرَاقٍ وُجِدَتْ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا الْقُرْآنُ مُنْتَشِرًا فَجَمَعَهَا جَامِعٌ وَرَبَطَهَا بِخَيْطٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الثِّقَةُ بِهَذِهِ الرِّقَاعِ وَنَحْوِهَا وَصُدُورِ الرِّجَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبْدُونَ عَنْ تَأْلِيفٍ مُعْجِزٍ وَنَظْمٍ مَعْرُوفٍ، قَدْ شَاهَدُوا تِلَاوَتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِشْرِينَ سَنَةً، فَكَانَ تَزْوِيرُ مَا لَيْسَ مِنْهُ مَأْمُونًا وَإِنَّمَا كَانَ الْخَوْفُ مِنْ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْهُ، اهـ مُلَخَّصًا. وَفَى مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ فِي قَرَاطِيسَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدٍ: أَمَرَنِي أَبُو بَكْرٍ فَكَتَبْتُهُ فِي قِطَعِ الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ، فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ كُتِبَ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَتْ عِنْدَهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ إِنَّمَا كَانَ فِي الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُجْمَعَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ جُمِعَ فِي الْمُصْحَفِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَرَادِفَةُ، قُلْتُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ أَوَّلًا مُتَفَرِّقًا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرَ مُرَتَّبٍ فَجُمِعَ جَمْعًا مُرَتَّبًا بَيْنَ الْآيَةِ وَالسُّوَرِ، غَيْرَ أَنَّهُ كُتِبَ فِي قِطَعِ الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ وَكَانَ الْمَجْمُوعُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ جُمِعَ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي صُحُفٍ بِالْكِتَابَةِ عَلَى الْوَرَقِ أَوِ الرَّقِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2221 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2221 - (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (يُغَازِي) أَيْ: يُحَارِبُ (أَهْلَ الشَّامِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، فَيَكُونُ فِي كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَهُوَ الصَّوَابُ ; لِمَا قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي شَرْحِ الرَّائِيَّةِ فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ أَرْمِينِيَّةَ فِي بِلَادِ الْغَرْبِ، جُنْدُ الْعِرَاقِ وَجُنْدُ الشَّامِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْقُرْآنِ، يَسْمَعُ هَؤُلَاءِ قِرَاءَةَ هَؤُلَاءِ فَيُنْكِرُونَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ صَوَابٌ، وَنَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ (فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عِنْدَ ابْنِ سَمْعَانَ، وَبِكَسْرِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: مُثَلَّثٌ، وَبِسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُونٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ يَاءٌ خَفِيفَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَقَدْ تُثَقَّلُ، بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَبِيرَةٌ كَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَفَى الْقَامُوسِ بَلَدٌ بِأَذْرَبِيجَانَ، فَقَوْلُهُ (وَأَذْرَبِيجَانَ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَهُوَ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ وَفَتْحُ الذَّالِ وَسُكُونُ الرَّاءِ وَكَسْرُ الْبَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ جِيمٌ ; لَكِنْ قَالَ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ: هِيَ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ غَيْرُ مَمْدُودَةٍ، ثُمَّ ذَالٌ مُعْجَمَةٌ، ثُمَّ رَاءٌ مَفْتُوحَةٌ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتٍ، ثُمَّ جِيمٌ، ثُمَّ أَلِفٌ، ثُمَّ نُونٌ، هَكَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَكْثَرُ فِي ضَبْطِهَا، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَدْ تُمَدُّ الْهَمْزَةُ، وَقَدْ تُكْسَرُ، وَقَدْ تُحْذَفُ، وَقَدْ تُفْتَحُ الْمُوَحَّدَةُ، وَقَدْ يُزَادُ بَعْدَهَا أَلِفٌ مَعَ مَدِّ الْأُولَى، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ جِيمٌ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَضَبْطُهَا الْأَصِيلِيُّ بِالْمَدِّ، وَحَكَى أَيْضًا فَتْحَ الْمُوَحِّدَةِ (مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ) عَطْفٌ عَلَى كَانَ (حُذَيْفَةَ) بِالنَّصْبِ (اخْتِلَافُهُمْ) بِالرَّفْعِ، أَيْ: أَوْقَعَ فِي الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ اخْتِلَافُ النَّاسِ، أَوْ أَهْلُ الْعِرَاقِ الَّذِينَ كَانَ يُغَازِي مَعَهُمْ (فِي الْقِرَاءَةِ) أَيْ: قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حُذَيْفَةُ، مِثْلَ أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا اللَّفْظُ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْ لَا، وَضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِرَفْعِ حُذَيْفَةَ وَنَصْبِ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْقَلْبِ لَمْ يَقْبَلْهُ الْقَلْبُ (فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ) أَمْرٌ مِنَ الْإِدْرَاكِ بِمَعْنَى التَّدَارُكِ (قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ) أَيِ الْقُرْآنِ (اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) بِالنَّصْبِ، أَيْ: كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّوُرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَى أَنْ حَرَّفُوا وَزَادُوا وَنَقَصُوا، زَادَ السَّخَاوِيُّ: فَمَا كُنْتَ صَانِعًا إِذَا قِيلَ قِرَاءَةُ فُلَانٍ وَقِرَاءَةُ فُلَانٍ كَمَا صَنَعَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَاصْنَعْهُ الْآنَ فَجَمَعَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النَّاسَ وَعِدَّتُهُمْ حِينَئِذٍ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، قَالُوا: مَا تَرَى، قَالَ: أَرَى أَنْ نَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا يَكُونُ فُرْقَةً وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافٌ، قَالُوا: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ، فَعَزَمَ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ حُذَيْفَةُ وَالْمُسْلِمُونَ (فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخْهَا) بِالْجَزْمِ وَيُرْفَعُ (فِي الْمَصَاحِفِ) أَيْ: الْمَجْمُوعَةُ (ثُمَّ نَرُدُّهَا) بِضَمِّ الدَّالِّ، وَفَتْحِهَا (إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) أَيْ: مِنَ الْأَنْصَارِ (وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) أَيْ: مِنْ قُرَيْشٍ (فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ) أَيْ: الْمُتَعَدِّدَةُ (وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَ) أَيْ: مَاعَدَا زَيْدًا (إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ) أَيْ: بِلُغَاتِهِمْ (فَإِنَّمَا نَزَلَ) أَيْ: غَالِبًا (بِلِسَانِهِمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ نَزَلَ أَوَّلًا بِلِسَانِهِمْ، ثُمَّ رَخَّصَ أَنْ يُقْرَأَ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ، قَالَ السَّخَاوِيُّ: فَاخْتَلَفُوا فِي التَّابُوتِ، فَقَالَ زَيْدٌ: التَّابُّوهُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: التَّابُوتُ، فَرَجَعُوا إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: اكْتُبُوهُ بِالتَّاءِ فَإِنَّهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَسَأَلُوا عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِهِ لَمْ يَتَسَنَّ، فَقَالَ: اجْعَلُوا فِيهَا الْهَاءَ، فَإِنْ قِيلَ، فَلِمَ أَضَافَ عُثْمَانُ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ إِلَى زَيْدٍ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ؟ قُلْتُ: كَانَ غَرَضُ

الصِّدِّيقِ جَمْعُ الْقُرْآنِ بِجَمِيعِ أَحْرُفِهِ وَوُجُوهِهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ غَرَضُ عُثْمَانَ تَجْرِيدُ لُغَةِ قُرَيْشٍ مِنْ تِلْكَ الْقُرْآنِ، فَجَمْعُ أَبِي بَكْرٍ غَيْرُ جَمْعِ عُثْمَانَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا قَصَدَ بِإِحْضَارِ تِلْكَ الصُّحُفِ وَقَدْ كَانَ زَيْدُ وَمَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ حَفَظَةٌ، قُلْتُ: الْغَرَضُ بِذَلِكَ سَدُّ بَابِ الْمَقَالِ وَأَنْ يَزْعُمَ زَاعِمٌ أَنَّ فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنًا لَمْ يُكْتَبْ، وَلِئَلَّا يَرَى إِنْسَانٌ فِيمَا كَتَبُوهُ شَيْئًا مِمَّا لَمْ يُقْرَأْ بِهِ فَيُنْكِرُهُ، فَالصُّحُفُ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ جَمِيعِ مَا كَتَبُوهُ (فَفَعَلُوا) أَيْ: الْجَمْعُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ (حَتَّى إِذَا نَسَخُوا) أَيْ: كَتَبُوا (الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ) بِضَمَّتَيْنِ، أَيْ: طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْآفَاقِ (بِصُحُفٍ مِمَّا نَسَخُوا) قَالَ السَّخَاوِيُّ: سَيَّرَ مِنْهَا مُصْحَفًا إِلَى الْكُوفَةَ، وَمُصْحَفًا إِلَى الْبَصْرَةَ، وَمُصْحَفًا إِلَى الشَّامِ، وَأَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ مُصْحَفًا، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَيَّرَ أَيْضًا إِلَى الْبَحْرِينِ مُصْحَفًا، وَإِلَى مَكَّةَ مُصْحَفًا، وَإِلَى الْيَمَنِ مُصْحَفًا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ سَبْعَةُ مَصَاحِفَ، وَالرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ تَخْتَلِفُ، فَقِيلَ: أَنَّهُ كَتَبَ خَمْسَ نُسَخٍ، الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَمُصْحَفُ مَكَّةَ، وَأَمَّا مُصْحَفُ الْبَحْرِينِ، وَمُصْحَفُ الْيَمَنِ فَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمَا خَبَرٌ، قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ مِنَ الْمَصَاحِفِ كُتِبَتْ أَوَّلًا عَلَى أَيْدِي الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْكِتَابِ فَأَرْسَلَ الثَّلَاثَةَ إِلَى الْبُلْدَانِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرَكَ وَاحِدًا فِي الْمَدِينَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الَّذِي كَتَبَهُ زَيْدٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَجَلِّ كَتَبَةِ الْوَحْيِ، فَخَطُّهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَصْلًا مَحْفُوظًا فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ اسْتَكْتَبَهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَصَاحِفَ أُخَرَ فَأَرْسَلَ إِلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ، حَتَّى قِيلَ: أَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى كُلِّ جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ مُصْحَفًا (وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ) أَيْ: الْمَنْسُوخُ (فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ، أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، مِنَ الْإِحْرَاقِ، قَدْ يُرْوَى بِالْمُعْجَمَةِ، أَيْ: يَنْقَضُّ وَيُقْطَعُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ أَنْ يُخْرَقَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَلِلْمَرْوَزِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ، وَرَوَاهُ الْأَصِيلِيُّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَفَّى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُهْمِلَةِ، قَالَ السَّخَاوِيُّ: فَلَمَّا فَرَغَ عُثْمَانُ مِنْ أَمْرِ الْمَصَاحِفِ حَرَقَ مَا سِوَاهَا، وَرَدَّ تِلْكَ الصُّحُفَ الْأُولَى إِلَى حَفْصَةَ فَكَانَتْ عِنْدَهَا، فَلَمَّا وَلِيَ مَرْوَانُ الْمَدِينَةَ طَلَبَهَا لِيَحْرِقَهَا فَلَمْ تُجِبْهُ حَفْصَةُ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَبْعَثْ بِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَتْ حَضَرَ مَرْوَانُ فِي جِنَازَتِهَا وَطَلَبَ الصُّحُفَ مِنْ أَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهَا، فَسَيَّرَهَا إِلَيْهِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ فَحَرَقَهَا خَشْيَةَ أَنْ تَظْهَرَ فَيَعُودُ النَّاسُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَرَقِ الْمُصْحَفِ الْبَالِي إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَفْعٌ أَنَّ الْأَوْلَى هُوَ الْغَسْلُ، أَوِ الْإِحْرَاقُ؟ فَقِيلَ: الثَّانِي لِأَنَّهُ يَدْفَعُ سَائِرَ صُوَرِ الِامْتِهَانِ، بِخِلَافِ الْغَسْلِ فَإِنَّهُ تُدَاسُ غُسَالَتَهُ، وَقِيلَ الْغَسْلُ وَتُصَبُّ الْغُسَالَةُ فِي مَحَلٍّ طَاهِرٍ لِأَنَّ الْحَرْقَ فِيهِ نَوْعُ إِهَانَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِعْلُ عُثْمَانُ يُرَجِّحُ الْإِحْرَاقَ، وَحَرْقُهُ بِقَصْدِ صِيَانَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا امْتِهَانَ فِيهِ بِوَجْهٍ، وَمَا وَقَعَ لِأَئِمَّتِنَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ حُرْمَةِ الْحَرْقِ يُحْمَلُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ فِيهِ إِضَاعَةُ مَالٍ بِأَنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِيهِ لَهُ قِيمَةٌ يُذْهِبُهَا الْحَرْقُ، قُلْتُ: هَذَا تَأْوِيلٌ غَرِيبٌ وَتَفْرِيعٌ عَجِيبٌ فَإِنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ وَالْقِيَاسُ عَلَى فِعْلِ عُثْمَانَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ صَنِيعَهُ كَانَ بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِمَّا اخْتَلَطَ بِهِ اخْتِلَاطًا لَا يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْإِحْرَاقَ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّكَّ فِي كَوْنِهِ تَرَكَ بَعْضَ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَمْ يُجَوِّزْ مُسْلِمٌ أَنَّهُ يَحْرِقُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِحِفْظِ رَمَادِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي النَّجَاسَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الِاسْتِحَالَةِ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِيمَا هُوَ الثَّابِتُ قَطْعًا فَمَعَ وُجُودِ الْفَرْقِ وَحُصُولِ ظَاهِرِ الْإِهَانَةِ يَتَعَيَّنُ الْغَسْلُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَبَ مَاؤُهُ فَإِنَّهُ دَوَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَاقٍ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا، فَمَا دَعْوَاكُمُ الِاتِّفَاقُ؟ قُلْتُ: الْقِرَآتُ الَّتِي نُعَوِّلُ عَلَيْهَا الْآنَ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْمَصَاحِفِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَمَا كَانَ مِنَ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إِلَى شَكْلٍ أَوْ نَقْطٍ فَلَا يَخْرُجُ أَيْضًا عَنْهَا، لِأَنَّ خُطُوطَ الْمَصَاحِفِ كَانَتْ مُهْمَلَةً مُحْتَمِلَةً لِجَمِيعِ ذَلِكَ، كَمَا يُقْرَأُ فَصُرْهُنَّ: بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، وَكُلُّهُ لِلَّهِ: بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَيَضُرُّكُمْ وَبِضُرِّكُمْ، وَيَقُضُّ وَيَقُصُّ الْحَقَّ، وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ: فِي الرَّائِيَةِ الْمَعْمُولَةِ فِي رَسْمِ الْمَصَاحِف الْعُثْمَانِيَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الْقُرْآنُ يُكْتَبُ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ لَا مُسْتَحْدَثًا مُسَطَّرًا، قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي عُقَيْبَ قَوْلِ مَالِكٍ: وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي ذَلِكَ (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) أَيِ الزُّهْرِيِّ (فَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً

مِنَ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا) أَيْ: أَنَا وَالْقُرَشِيُّونَ (الْمُصْحَفَ) أَيْ: الْمَصَاحِفُ (قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا، فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ) أَيْ: مَكْتُوبَةً لِمَا تَقَدَّمَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو عِمَارَةَ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صِفِّينَ، فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ جَرَّدَ سَيْفَهُ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] أَيْ: الْآيَةَ (فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ) فِيهِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْمُصْحَفِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، فَالصَّوَابُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُصْحَفِ الصُّحُفُ الْأُولَى الَّتِي كُتِبَتْ فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ بِالنُّونِ تَعْظِيمًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَمَعُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ أَنْ زَادُوا أَوْ نَقَصُوا مِنْهُ شَيْئًا بِاتِّفَاقٍ مِنْ جَمِيعِهِمْ خَوْفَ ذَهَابِ بَعْضِهِ بِذَهَابِ حَفَظَتَهُ، وَكَتَبُوهُ كَمَا جَمَعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَقِّنُ أَصْحَابَهُ وَيُعَلِّمُهُمْ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي هُوَ الْآنَ فِي مَصَاحِفِنَا بِتَوْقِيفٍ مِنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِعْلَامِهِ عِنْدَ نُزُولِ كُلِّ آيَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُكْتَبُ عَقِبَ آيَةَ كَذَا فِي سُورَةِ كَذَا، رُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

2222 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٍ وَهِيَ مِنَ الْمَئِينِ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يَنْزِلُ علَيْهِ السُّورُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ، فَيَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلِمَ أَكْتُبْ سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2222 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ) أَيْ: مَا الْبَاعِثُ وَالسَّبَبُ لَكُمْ (عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، أَيْ: قَصَدْتُمْ (إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي) أَيْ: مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي، وَهِيَ السَّبْعُ الطُّوَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمَثَانِي مِنَ الْقُرْآنِ مَا كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْمَئِينَ، وَيُسَمَّى جَمِيعُ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ ; لِاقْتِرَانِ آيَةِ الرَّحْمَةِ بِآيَةِ الْعَذَابِ، وَتُسَمَّى الْفَاتِحَةُ مَثَانِيَ أَيْ: لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ، أَوْ ثُنِّيَتْ فِي النُّزُولِ (وَإِلَى بَرَاءَةَ) أَيْ: سُورَتِهِمَا (وَهِيَ) لِكَوْنِهَا مِائَةً وَثَلَاثِينَ آيَةً (مِنَ الْمَئِينَ) جَمْعُ الْمِائَةِ، وَأَصْلُ الْمِائَةِ: مَائِيٌّ كَمَعِيٍّ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ، وَإِذَا جَمَعْتَ الْمِائَةَ قُلْتَ: مِئُونَ، وَلَوْ قُلْتَ مِئَاتٍ جَازَ (فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟) وَفَى نُسْخَةٍ عَلَى ذَلِكُمْ، وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَوْجِيهُ السُّؤَالِ: إِنَّ الْأَنْفَالَ لَيْسَ مِنَ السَّبْعِ الطُّوَلِ لِقَصَرِهَا عَنِ الْمَئِينَ؛ لِأَنَّهَا سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً، وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا لِعَدَمِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَرَاءَةَ (قَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ) أَيِ: الزَّمَانُ الطَّوِيلُ وَلَا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَرُبَّمَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ (وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (تَنْزِلُ) بِالتَّأْنِيثِ مَعْلُومًا، وَبِالتَّذْكِيرِ مَجْهُولًا (عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْقَصَصِ (دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ) أَيِ: الْوَحْيَ، كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَغَيْرِهِمَا (فَيَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا) كَقِصَّةِ هُودٍ، وَحِكَايَةِ يُونُسَ (فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ: صُفُّوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا) كَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ، وَهَذَا زِيَادَةُ جَوَابٍ تَبَرَّعَ بِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ تَوْقِيفِيٌّ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَالنُّصُوصُ الْمُتَرَادِفَةُ، وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا فِي الْإِتْقَانِ (وَكَانَ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَتْ) وَفَى نُسْخَةٍ نَزَلَ (بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا) أَيْ: فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا وَبَيْنَهُمَا النِّسْبَةُ التَّرْتِيبِيَّةُ بِالْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ، فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ

فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، وَكَانَ هَذَا مُسْتَنَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ دَوْقٍ، وَأَبُو يَعْلَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ وَابْنِ لَهِيعَةَ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ بَرَاءَةَ مِنَ الْأَنْفَالِ، وَلِهَذَا لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ اشْتِبَاهِ طُرُقِهِمَا، وَرُدَّ بِتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَاسِمٍ مُسْتَقِلٍّ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَنْزِلْ بِهَا فِيهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ فِي بَرَاءَةَ ; لِأَنَّهَا أَمَانٌ، وَبَرَاءَةُ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ، وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ أَوَّلَهَا لَمَّا سَقَطَ سَقَطَتْ مَعَهُ الْبَسْمَلَةُ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ لِطُولِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا ثَابِتَةٌ، أَوَّلُهَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى ذَلِكَ (وَكَانَتْ قِصَّتُهَا) أَيِ: الْأَنْفَالِ (شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا) أَيْ: بَرَاءَةَ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ، وَلَعَلَّ الْمُشَابَهَةَ فِي قَضِيَّةِ الْمُقَاتَلَةِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 14] وَنَحْوِهِ، وَفِي نَبْذِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ فِي الْأَنْفَالِ: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ لِأَنَّ الْأَنْفَالَ بَيَّنَتْ مَا وَقَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَبَرَاءَةُ بَيَّنَتْ مَا وَقَعَ لَهُ مَعَ مُنَافِقِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِمَّا ظَهَرَ لِي فِي أَمْرِ الِاقْتِرَانِ بَيْنَهُمَا (فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا) أَيِ: التَّوْبَةُ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْأَنْفَالِ، أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا (فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أَيْ: لِمَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ تَبْيِينِهِ وُجُوهَ مَا ظَهَرَ لَنَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَيْ: لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ; لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفَصْلِ وَلَمْ تَنْزِلْ، وَلَمْ أَكْتُبْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ الْحِكْمَةِ فِي عَدَمِ نُزُولِ الْبَسْمَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَ لَمْ تَكْتُبْ؟ قَالَ: لِأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ أَمَانٌ وَلَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ أُنْزِلَتْ بِالسَّيْفِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَكْتُبُهَا أَوَّلَ مُرَاسَلَاتِهِمْ فِي الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ وَالْهُدْنَةِ، فَإِذَا نَبَذُوا الْعَهْدَ وَنَقَضُوا الْأَمَانَ لَمْ يَكْتُبُوهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ فَصَارَتْ عَلَامَةُ الْأَمَانِ وَعَدَمُهَا عَلَّامَةَ نَقْضِهِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَمَانٌ: وَقَوْلُهُمْ: آيَةُ رَحْمَةٍ، وَعَدَمُهَا عَذَابٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ (وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمَا نُزِّلَتَا مَنْزِلَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُمِّلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ بِهَا، ثُمَّ قِيلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ هِيَ: الْبَقَرَةُ وَبَرَاءَةُ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ ; لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْبَقَرَةُ وَالْأَعْرَافُ وَمَا بَيْنَهُمَا، قَالَ الرَّاوِي: وَذَكَرَ السَّابِعَةَ فَنَسِيتُهَا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاتِحَةَ فَإِنَّهَا مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي، أَوْ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَنَزَلَتْ سَبْعَتُهَا مَنْزِلَةَ الْمَئِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَنْفَالُ بِانْفِرَادِهَا أَوْ بِانْضِمَامِ مَا بَعْدَهَا إِلَيْهَا، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا يُونُسُ، وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْأَنْفَالَ وَمَا بَعْدَهَا مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا مِنَ الْمَثَانِي، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُورَةٌ، أَوْ هُمَا سُورَةٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا، قَالَ: أَيْ عُثْمَانُ: فَمَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ، وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا؟ قُلْتُ: فَمَا تَرَى، قَالَ: أَرَى أَنْ يُجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا يَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، قُلْنَا: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ وَجَمْعِ عُثْمَانَ أَنَّ جَمْعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لِذَهَابِ حَمَلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَجَمْعُهُ فِي صَحَائِفِهِ مُرَتَّبًا لِآيَاتِ سُوَرِهِ عَلَى مَا وَقَّفَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَمْعُ عُثْمَانَ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ حِينَ قَرَءُوا بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ ; فَأَدَّى ذَلِكَ بَعْضَهُمْ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ ; فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ

فِي ذَلِكَ فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفَ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ، مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَسِعَ فِي قِرَاءَتِهِ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَرَأَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ فَاقْتَصَرَعَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ، قَلْتُ: هَذَا يُوهِمُ أَنَّهُ تَرَكَ مَا ثَبَتَ كَوْنُهُ قُرْآنًا، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ فِي جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ الْمَنْسُوخَاتِ وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي مَا حَصَلَ فِيهَا التَّوَاتُرُ جَمْعًا كُلِّيًّا مِنْ غَيْرِ تَهْذِيبٍ وَتَرْتِيبٍ، فَتَرَكَ عُثْمَانُ الْمَنْسُوخَاتِ، وَأَبْقَى الْمُتَوَاتِرَاتِ، وَحَرَّرَ رُسُومَ الْكَلِمَاتِ، وَقَرَّرَ تَرْتِيبَ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ عَلَى وَفْقِ الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْعَرْضَاتِ الْمُطَابِقَةِ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ نُزُولُهَا مَنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِي الْحَالَاتُ وَالْمَقَامَاتُ، وَلِذَا قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: لَمْ يَقْصِدْ عُثْمَانُ قَصْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي نَفْسِ الْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ جَمْعَهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلْغَاءَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَخَذَهُمْ بِمُصْحَفٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُتَعَالِ بِالْوَجْهِ الْمُتَوَاتِرُ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَقَالِ، فَمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئًا كَفَرَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيِ تَوْقِيفِيٌّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ آخِرَ الْآيَاتِ نُزُولًا {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ أَنْ يَضَعَهَا بَيْنَ آيَتَيِ الرِّبَا وَالْمُدَايَنَةِ وَلِذَا حَرَّمَ عَكْسَ تَرْتِيبِهَا، بِخِلَافِ تَرْتِيبِ السُّوَرِ فَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ كُرِهَتْ مُخَالَفَتُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ النِّسَاءَ قَبْلَ آلِ عِمْرَانَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ نِسْيَانًا لِيُعْلِمَ الصُّحْبَةَ بِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ تَوْقِيفِيٌّ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ مَصَاحِفُهُمْ مُخْتَلِفَةً فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ جَمْعِ عُثْمَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَتَّبَهَا عَلَى النُّزُولِ وَهُوَ مُصْحَفُ عَلِيٍّ أَوَّلُهُ اقْرَأْ، فَالْمُدَّثِّرُ، فَنُونٌ، فَالْمُزَّمِّلُ، فَتَبَّتْ، فَالتَّكْوِيرُ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ كَوْنُ الْحَوَامِيمِ رُتِّبَتْ وَلَاءً، وَكَذَلِكَ الطَّوَاسِينُ، وَلَمْ يُرَتِّبِ الْمُسَبِّحَاتِ وَلَاءً بَلْ فَصَلَ بَيْنَ سُوَرِهَا، وَكَذَا اخْتِلَاطُ الْمَكِّيَّاتِ بِالْمَدَنِيَّاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[كتاب الدعوات]

[كِتَابُ الدَّعَوَاتِ]

[9]- كِتَابُ الدَّعَوَاتِ الْفَصْلُ الْأَوَّلِ 2223 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي إِلَى يَوْمِ الْقَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلِلْبُخَارِيِّ أَقْصَرُ مِنْهُ) . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [9] كِتَابُ الدَّعَوَاتِ جَمْعُ الدَّعْوَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَهُوَ طَلَبُ الْأَدْنَى بِالْقَوْلِ مِنَ الْأَعْلَى شَيْئًا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِكَانَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْفَتَاوَى فِي الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الزُّهَّادِ، وَأَهْلِ الْمَعَارِفِ إِلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ اسْتِسْلَامًا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنْ دَعَا لِلْمُسْلِمِينَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ خَصَّ نَفْسَهُ فَلَا. وَقِيلَ: إِنْ وَجَدَ بَاعِثًا لِلدُّعَاءِ اسْتُحِبَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَدَلِيلُ الْفُقَهَاءِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2223 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ» ) أَيْ: فِي حَقِّ مُخَالِفِي أُمَّتِهِ جَمِيعِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، (فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ) : أَيِ: اسْتَعْجَلَ فِي دَعْوَتِهِ، كَمَا أَنَّ نُوحًا دَعَا عَلَى أُمَّتِهِ بِالْهَلَاكِ، حَتَّى غَرِقُوا بِالطُّوفَانِ، وَصَالِحًا دَعَا عَلَى أُمَّتِهِ، حَتَّى هَلَكُوا بِالصَّيْحَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُتَيَقَّنَةَ الْإِجَابَةِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ دَعَوَاتِهِ، فَإِنَّهَا عَلَى طَمَعِ الْإِجَابَةِ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ لِنَفْسِهِ، (وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي) : أَيِ: ادَّخَرْتُهَا وَجَعَلْتُهَا خَبِيئَةً مِنَ الِاخْتِبَاءِ، وَهُوَ الِاخْتِفَاءُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ؛ لِأَنِّي بُعِثْتُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، (شَفَاعَةً لِأُمَّتِي) : أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، يَعْنِي: لِأَجْلِ أَنْ أَصْرِفَهَا لَهُمْ خَاصَّةً بَعْدَ الْعَامَّةِ، وَفِي جِهَةِ الشَّفَاعَةِ أَوْ حَالَ كَوْنِهَا شَفَاعَةً (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أَيْ: مُؤَخَّرَةً إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَفِي نُسْخَةٍ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِلشَّفَاعَةِ (فَهِيَ) : أَيِ: الشَّفَاعَةُ (نَائِلَةٌ) : أَيْ: وَاصِلَةٌ حَاصِلَةٌ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " مَعَ حُصُولِهَا لَا مَحَالَةَ أَدَبًا وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَالَ لِلتَّبَرُّكِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ فِي الدُّنْيَا، لَا الْأَخْبَارُ الْكَائِنَةُ فِي الْعُقْبَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: (مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي) : إِعْلَامًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ خِلَافُهُ لَفْظِيٌّ، فَمَنْ نَوَى التَّعْلِيقَ فِي الْحَالِ كَفَرَ اتِّفَاقًا، أَوِ التَّبَرُّكَ الْمَحْضَ، أَوْ نَصًّا لِلْمَآلِ فَلَا اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِلْإِيهَامِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِنَائِلَةٍ، وَمِنْ بَيَانِ (مِنْ) وَقَوْلُهُ: (لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ مَاتَ (شَيْئًا) : أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوْ مِنَ الْإِشْرَاكِ. وَهِيَ أَقْسَامٌ: عَدَمُ دُخُولِ قَوْمٍ النَّارَ، وَتَخْفِيفُ لُبْثِهِمْ فِيهَا، وَتَعْجِيلُ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَرَفْعُ دَرَجَاتٍ فِيهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ أَقْصَرَ مِنْهُ) .

2224 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2224 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا ": أَيْ: أَخَذْتُ مِنْكَ وَعْدًا أَوْ أَمَانًا (لَنْ تُخْلِفَنِيهِ) : مِنَ الْإِخْلَافِ؛ لِأَنَّ الْكَرِيمَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، قِيلَ أَصْلُ الْكَلَامِ إِنِّي طَلَبْتُ مِنْكَ حَاجَةً أَسْعِفْنِي بِهَا وَلَا تُخَيِّبْنِي فِيهَا، فَوَضَعَ الْعَهْدَ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهَا مَقْضِيَّةً، وَوَضَعَ لَنْ تُخْلِفَنِيهِ مَوْضِعَ لَا تُخَيِّبْنِي، وَقِيلَ: مَوْضِعُ الْعَهْدِ مَوْضِعُ الْوَعْدِ مُبَالَغَةً وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُ وَعْدٌ، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْخُلْفُ

كَالْعَهْدِ، وَلِذَلِكَ اسْتَعْمَلَ فِيهِ الْخُلْفَ لَا النَّقْضَ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعَهْدِ الْأَمَانَ أَيْ: أَسْأَلُكَ أَمَانًا لَنْ تَجْعَلَهُ خِلَافَ مَا أَتَرَقَّبُهُ وَأَرْتَجِيهِ، أَيْ: لَا تَرُدَّنِي بِهِ فَإِنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُرَدُّ، وَوَضَعَ الِاتِّخَاذَ مَوْضِعَ السُّؤَالِ تَحْقِيقًا لِلرَّجَاءِ بِأَنَّهُ حَاصِلٌ، أَوْ كَانَ مَوْعُودًا بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، أَحَلَّ الْمَسْئُولَ الْمَعْهُودَ مَحَلَّ الشَّيْءِ الْمَوْعُودِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْخُلْفُ بِقَوْلِهِ: لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، (فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) : أَيْ: مِثْلُهُمْ، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ تَمْهِيدًا لِمَعْذِرَتِهِ فِيمَا يَنْدُرُ عَنْهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ شَتْمٍ، فَإِنَّ الْغَضَبَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِشَارَةٌ إِلَى ظَلُومِيَّةِ الْبَشَرِ وَجَهُولِيَّتِهِ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ أَنَّهُ، لَا يَكِلْهُ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا وَرَدَ عَنْهُ: " «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ» " ثُمَّ يَطْلُبُ مِنْ مَوْلَاهُ أَنَّهُ إِنْ صَدَرَ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا لَا يَلِيقُ مِنْهُ بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَأَنْ يُعَوِّضَ مِنْ خُصَمَائِهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرْبَةِ (فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ) : بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ، لِمَا كَانَ يَلْتَمِسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا (آذَيْتُهُ) : أَيْ: بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى (شَتَمْتُهُ) : بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: آذَيْتُهُ، وَلِذَا لَمْ يَعْطِفْ (لَعَنْتُهُ) : أَيْ: سَبَبْتُهُ (جَلَدْتُهُ) : أَيْ: ضَرَبْتُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ بِلَا تَنْسِيقٍ، وَقَابَلَهَا بِأَنْوَاعِ الْأَلْطَافِ مُتَنَاسِقَةً لِيَجْمَعَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ (فَاجْعَلْهَا) : أَيْ: تِلْكَ الْأَذِيَّةَ الَّتِي صَدَرَتْ بِمُقْتَضَى ضَعْفِ الْبَشَرِيَّةِ لَهُ أَيْ: لِمَنْ آذَيْتُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (صَلَاةً) أَيْ: رَحْمَةً وَتَلَطُّفًا وَإِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا وَتَعَطُّفًا، تُوصِلُهُ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ، (وَزَكَاةً) : أَيْ: طَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمَعَائِبِ، وَنَمَاءَ بِرْكَةٍ فِي الْأَعْمَالِ وَالْمَنَاقِبِ (وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ) : أَيْ: تَجْعَلُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ مُقَرَّبًا (بِهَا) : أَيْ: لِتِلْكَ الْقُرْبَةِ، أَوْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ وَأُخْتَيْهَا (إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جُمْلَةُ تُقَرِّبُهُ بِهَا صِفَةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأُخْتَيْهِ أَيْ: تُقَرِّبُهُ بِتِلْكَ الْأَذِيَّةِ، رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمًا مِنْ حُجْرَتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِ عَائِشَةُ، وَالْتَمَسَتْ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَجَذَبَتْ ذَيْلَهُ فَقَالَ لَهَا: " قَطَعَ اللَّهُ يَدَكِ " فَتَرَكَتْهُ، وَجَلَسَتْ فِي حُجْرَتِهَا مُغْضَبَةً ضَيِّقَةَ الصَّدْرِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا وَرَآهَا كَذَلِكَ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا " إِلَخْ. تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا، فَالسُّنَةُ لِمَنْ دَعَا عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ جَبْرًا لِفِعْلِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2225 - وَعَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَلِيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا مُكْرِهَ لَهُ» " (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2225 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ» ": قِيلَ: مَنَعَ عَنْ قَوْلِهِ: إِنْ شِئْتَ؛ لِأَنَّهُ شَكٌّ فِي الْقَبُولِ، وَاللَّهُ تَعَالَى كَرِيمٌ لَا بُخْلَ عِنْدَهُ، فَلْيَسْتَيْقِنْ بِالْقَوْلِ، (وَلِيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ) : أَيْ: لِيَطْلُبْ جَازِمًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ (إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَبَرَةِ مَفْعُولًا لَهُ لِلْعَزْمِ أَيْ: لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، أَوْ مَفْعُولًا بِهِ لِلْمَسْأَلَةِ أَيْ لِيَجْزِمْ مَسْأَلَتَهُ فَعَلَ مَا شَاءَ اهـ. وَكَوْنُهُ مَفْعُولًا بِهِ غَيْرُ صَحِيحِ الْمَعْنَى فَتَأَمَّلْ (لَا مُكْرِهَ لَهُ) : أَيْ: لِلَّهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى فِعْلٍ أَرَادَ تَرْكَهُ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْيِيدِ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ مُوهِمٌ لِعَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ لِاسْتِعْظَامِهِ عَلَى الْفَاعِلِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2226 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ، وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 2226 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ» ": أَيْ: مَثَلًا (وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ) : أَيْ: لِيَجْزِمْ عَلَى الْمَسْأَلَةِ (وَلْيُعَظِّمْ) : بِالتَّشْدِيدِ عَلَى (الرَّغْبَةَ) : أَيِ: الْمَيْلَ فِيهِ بِالْإِلْحَاحِ وَالْوَسَائِلِ. (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ) : يُقَالُ: تَعَاظَمَ زَيْدٌ هَذَا الْأَمْرَ أَيْ: كَبُرَ عَلَيْهِ وَعَسُرَ، أَيْ: لَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ إِعْطَاءُ شَيْءٍ، بَلْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَمْرِهِ يَسِيرٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «لَوِ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ كُلٌّ مَسْأَلَتَهُ وَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2227 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2227 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ ": أَيْ: بَعْدَ شُرُوطِ الْإِجَابَةِ " مَا ": ظَرْفُ يُسْتَجَابُ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ أَيْ: مُدَّةَ كَوْنِهِ " لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ ": مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ قَدِّرْنِي عَلَى قَتْلِ فُلَانٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، أَوِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي الْخَمْرَ، أَوِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِفُلَانٍ وَهُوَ مَاتَ كَافِرًا يَقِينًا، أَوِ اللَّهُمَّ خَلِّدْ فُلَانًا الْمُؤْمِنَ فِي النَّارِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ، كَرُؤْيَةِ اللَّهِ يَقَظَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فِي تَخْلِيدِ الْمُؤْمِنِ وَالرُّؤْيَةِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْخِلَافَ شَهِيرٌ فِي ذِي الْكَبِيرَةِ إِذَا مَاتَ مُصِرًّا، وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَطْلُبْهَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَرْدُودٌ، إِذْ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَلِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ مُسْتَحِيلَةٌ شَرْعًا، وَطَلَبُ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ عَقْلًا، فَلَمَّا أَفَاقَ وَعَلِمَ بِاسْتِحَالَتِهِ شَرْعًا قَالَ: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. أَيْ: بِأَنْ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: وَمِنْهُ أَخْفِ زَلَلَنَا عَنِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، نَعَمْ إِنْ قَصَدَ التَّوْفِيقَ لِلتَّوْبَةِ عَقِبَ الزَّلَّةِ حَتَّى لَا يَكْتُبَهَا الْمَلَكُ جَازَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَسَاكِرَ: «إِذَا تَابَ الْعَبْدُ أَنْسَى اللَّهُ تَعَالَى الْحَفَظَةَ ذُنُوبَهُ، وَأَنْسَى ذَلِكَ جَوَارِحَهُ وَمَعَالِمَهُ مِنَ الْأَرْضِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ بِذَنْبٍ» ، وَمِنْهُ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْأُحَادِيُّ عَلَى ثُبُوتِهِ، كَاللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ ذُنُوبِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ النَّارَ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُمُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ مَحَلَّهُ إِذَا أَرَادَ مُطْلَقَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ عُمُومَ الْمَغْفِرَةِ لَهُ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُكَذِّبٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ جَهِلَ مَعْنَاهُ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ لَمْ يَظْلِمْهُ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَزْيَدَ مِمَّا ظَلَمَهُ، وَلَا يُنَافِيهِ قِصَّةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، حَيْثُ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَكْثَرَ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ، وَمَعَ حِلِّهِ يَذْهَبُ أَجْرُهُ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: " «مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ فَقَدِ انْتَصَرَ» ". وَاخْتَلَفُوا فِي الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ وَنَحْوِهِ فَقِيلَ: يُبَاحُ كَمَا قَالَ نُوحٌ: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} [نوح: 24] وَقَالَ مُوسَى: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] ، «وَدَعَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ كَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ وَشَجَّ وَجْهَهُ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ لَا تُحِلْ عَلَيْهِ الْحَوْلَ حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا فَكَانَ كَذَلِكَ» "، وَقِيلَ يُمْنَعُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مُتَمَرِّدٍ عَمَّ ظُلْمُهُ، وَالثَّانِي عَلَى غَيْرِهِ، وَأَقُولُ: الصَّوَابُ أَنَّ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَافِرِ وَالثَّانِي عَلَى الْمُسْلِمِ. " أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ": نَحْوَ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ " مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ ": قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ ذِكْرُ الْعَاطِفِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، لَكِنَّهُ تُرِكَ تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الْقَيْدَيْنِ أَيْ: يُسْتَجَابُ مَا لَمْ يَدَعْ، يُسْتَجَابُ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ) : أَيِ: الدَّاعِي (قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ) : أَيْ: مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى يَعْنِي مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، أَوْ طَلَبْتُ شَيْئًا وَطَلَبْتُ آخَرَ (فَلَمْ أَرَ) : أَيْ: فَلَمْ أَعْلَمْ أَوْ أَظُنَّ دُعَائِي وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ. كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُسْتَجَابَ بِتَقْدِيرِ أَنْ أَوْ بِدُونِ أَنْ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى لَمْ أَرَ آثَارَ اسْتِجَابَةِ دُعَائِي " يُسْتَجَابُ لِي ": وَهُوَ إِمَّا اسْتِبْطَاءٌ أَوْ إِظْهَارُ يَأْسٍ، وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، كَمَا وَرَدَ: إِنَّ بَيْنَ دُعَاءِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَمَّا الْقُنُوطُ، فَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، مَعَ أَنَّ الْإِجَابَةَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا تَحْصِيلُ عَيْنِ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَقْتِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْهَا: وُجُودُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهُ، وَمِنْهَا: دَفْعُ شَرٍّ بَدَلَهُ، أَوْ إِعْطَاءُ خَيْرٍ آخَرَ خَيْرٍ مِنْ مَطْلُوبِهِ. وَمِنْهَا: ادِّخَارُهُ لِيَوْمٍ يَكُونُ أَحْوَجَ إِلَى ثَوَابِهِ، " فَيَسْتَحْسِرُ ": أَيْ: يَنْقَطِعُ وَيَمِيلُ وَيَفْتُرُ، اسْتِفْعَالٌ مِنْ حَسَرَ إِذَا عَيِيَ وَتَعِبَ " عِنْدَ ذَلِكَ ": أَيْ: عِنْدَ رُؤْيَتِهِ عَدَمَ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْحَالَةِ " وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ": أَيْ: يَتْرُكُهُ مُطْلَقًا، أَوْ ذَلِكَ الدُّعَاءَ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَمَلَّ مِنَ الدُّعَاءِ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَتَأْخِيرُ الْإِجَابَةِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ وَقْتُهُ ; لِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ وَقْتًا مُقَدَّرًا فِي الْأَزَلِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدَّرْ فِي الْأَزَلِ قَبُولُ دُعَائِهِ فِي الدُّنْيَا فَيُعْطَى فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ عِوَضَهُ، أَوْ يُؤَخَّرُ دُعَاؤُهُ لِيُلِحَّ وَيُبَالِغَ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَعَلَّ عَدَمَ قَبُولِ دُعَائِهِ بِالْمَطْلُوبِ الْمُخَصَّصِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَحْصِيلِهِ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2228 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 2228 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ ": أَيِ: الشَّخْصِ الشَّامِلِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ " لِأَخِيهِ ": أَيِ: الْمُؤْمِنِ " بِظَهْرِ الْغَيْبِ ": الظَّهْرُ مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ: فِي غَيْبَةِ الْمَدْعُوِّ لَهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ بِأَنْ دَعَا لَهُ بِقَلْبِهِ حِينَئِذٍ أَوْ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ " مُسْتَجَابَةٌ ": لِخُلُوصِ دُعَائِهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَوْضِعُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى فَاعِلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْمَصْدَرِ، وَقَوْلُهُ مُسْتَجَابَةٌ خَبَرٌ لَهَا " عِنْدَ رَأْسِهِ ": أَيِ: الدَّاعِي " مَلَكٌ " جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلِاسْتِجَابَةِ " مُوَكَّلٌ " أَيْ: بِالدُّعَاءِ لَهُ عِنْدَ دُعَائِهِ لِأَخِيهِ " كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ ": أَيْ: أَوْ دَفْعِ شَرٍّ " قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ ": أَيِ: اسْتَجِبْ لَهُ يَا رَبِّ دُعَاءَهُ لِأَخِيهِ فَقَوْلُهُ: " وَلَكَ ": فِيهِ الْتِفَاتٌ أَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ فِي حَقِّ أَخِيكَ وَلَكَ " بِمِثْلٍ ": بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحُكِيَ فَتْحُهُمَا فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ أَيْ: وَلَكَ مُشَابِهُ هَذَا الدُّعَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمُبْتَدَأِ كَمَا فِي: بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ، قِيلَ: كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ يَدْعُو لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ لِيَدْعُوَ لَهُ الْمَلَكُ بِمِثْلِهَا، فَيَكُونَ أَعْوَنَ لِلِاسْتِجَابَةِ. قُلْتُ: لَكِنْ هَذَا بِظَاهِرِهِ مُخَالِفٌ لِمَا سَيَأْتِي عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2229 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: " اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ " فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2229 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَدْعُوا ": أَيْ: دُعَاءَ سُوءٍ " عَلَى أَنْفُسِكُمْ ": أَيْ: بِالْهَلَاكِ، وَمِثْلُهُ " «وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ» ": أَيْ: بِالْعَمَى وَنَحْوِهِ، " «وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ» ": أَيْ: مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ " لَا تُوَافِقُوا ": نَهْيٌ لِلدَّاعِي، وَعِلَّةٌ لِلنَّهْيِ أَيْ: لَا تَدْعُوا عَلَى مَنْ ذُكِرَ لِئَلَّا تُوَافِقُوا " مِنَ اللَّهِ سَاعَةً ": أَيْ: سَاعَةَ إِجَابَةٍ " يُسْأَلُ ": أَيِ: اللَّهُ " فِيهَا عَطَاءً ": بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ لِيُسْأَلَ، أَيْ: مَا يُعْطَى مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ " فَيَسْتَجِيبُ ": بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يُسْأَلُ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَسْتَجِيبُ " لَكُمْ ": أَيْ: فَتَنْدَمُوا بِخَطِّ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِالرَّفْعِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ: لِئَلَّا تُصَادِفُوا سَاعَةَ إِجَابَةٍ فَتُسْتَجَابُ دَعْوَتُكُمُ السُّوءُ، وَفِي يُسْأَلُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ صِفَةُ سَاعَةٍ، وَكَذَا فَيَسْتَجِيبَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ جَوَابُ لَا تُوَافِقُوا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ النَّهْيِ مِنْ قَبِيلِ: لَا تَدْنُ مِنَ الْأَسَدِ فَيَأْكُلَكَ عَلَى مَذْهَبٍ أَيْ: مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَيْ: فَهُوَ يَسْتَجِيبُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: " اتَّقِ ": أَيِ: احْذَرْ " دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ": أَيْ: لَا تَظْلِمْ أَحَدًا بِأَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا ظُلْمًا، أَوْ تَمْنَعَ أَحَدًا حَقَّهُ تَعَدِّيًا، أَوْ تَتَكَلَّمَ فِي عِرْضِهِ افْتِرَاءً حَتَّى لَا يَدْعُوَ عَلَيْكَ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ: " فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ " أَيْ: إِذَا دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ يَقْرُبُ مِنَ الْإِجَابَةِ (وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ) : لِكَوْنِهِ فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ هُنَاكَ، فَأَسْقَطَهُ لِلتَّكْرَارِ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ لَا لِكَوْنِ الْحَدِيثِ أَنْسَبَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، حَتَّى يَرِدَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2230 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] » ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2230 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» أَيْ: هُوَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَسْتَأْهِلُ أَنْ تُسَمَّى عِبَادَةً لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ، بِحَيْثُ لَا يَرْجُو وَلَا يَخَافُ إِلَّا إِيَّاهُ قَائِمًا بِوُجُوبِ الْعُبُودِيَّةِ، مُعْتَرِفًا بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، عَالِمًا بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ، طَالِبًا لِمَدَدِ الْإِمْدَادِ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ، وَتَوْفِيقِ الْإِسْعَادِ. " ثُمَّ قَرَأَ ": {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] : قِيلَ: اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: اسْتَشْهَدَ بِالْآيَةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَيَكُونُ أَتَمَّ الْعِبَادَاتِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ " مُخُّ الْعِبَادَةِ " أَيْ: خَالِصُهَا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعُبُودِيَّةُ: إِظْهَارُ التَّذَلُّلِ، وَلَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا غَايَةُ التَّذَلُّلِ، وَلَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ لَهُ غَايَةُ الْإِفْضَالِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْعِبَادَةُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ غَايَةُ التَّذَلُّلِ وَالِافْتِقَارِ وَالِاسْتِكَانَةِ، وَمَا شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْخُضُوعِ لِلْبَارِئِ، وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، وَيَنْصُرُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا بَعْدَ الْآيَةِ الْمَتْلُوَّةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] حَيْثُ عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ الِافْتِقَارِ وَالتَّذَلُّلِ بِالِاسْتِكْبَارِ، وَوَضَعَ عِبَادَتِي مَوْضِعَ دُعَائِي، وَجَعَلَ جَزَاءَ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارِ الْهَوَانَ وَالصَّغَارَ. وَقَالَ مِيرَكُ: أَتَى بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَالْخَبَرِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، لِيَدُلَّ عَلَى الْحَصْرِ فِي أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ غَيْرَ الدُّعَاءِ مُبَالَغَةً، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الدُّعَاءَ مُعْظَمُ الْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» " أَيْ: مُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، سَوَاءٌ اسْتُجِيبَ أَوْ لَمْ يُسْتَجَبْ؛ لِأَنَّهُ إِظْهَارُ الْعَبْدِ الْعَجْزَ وَالِاحْتِيَاجَ مِنْ نَفْسِهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِجَابَتِهِ، كَرِيمٌ لَا بُخْلَ لَهُ وَلَا فَقْرَ، وَلَا احْتِيَاجَ لَهُ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى يَدَّخِرَ لِنَفْسِهِ وَيَمْنَعَهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الْعِبَادَةُ بَلْ مُخُّهَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ شَارِحٌ: الْعِبَادَةُ لَيْسَتْ غَيْرَ الدُّعَاءِ مَقْلُوبٌ، وَصَوَابُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ لَيْسَ غَيْرَ الْعِبَادَةِ اهـ. وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ الدَّالُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِطَرِيقِ الْحَصْرِ الْمَطْلُوبَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَإِتْيَانِ الْخَبَرِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ. (قَالَ التِّرْمِذِيُّ) : وَاللَّفْظُ لَهُ (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) : وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ.

2231 - وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2231 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» ) : أَيْ: لُبُّهَا، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ وُجُودِهَا. قِيلَ: مُخُّ الشَّيْءِ خَالِصُهُ وَمَا يَقُومُ بِهِ، كَمُخِّ الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ نَقِيُّهُ، وَمُخُّ الْعَيْنِ، وَمُخُّ الْعَظْمِ شَحْمُهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالدُّعَاءِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالْمُخِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2232 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2232 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَيْسَ شَيْءٌ ": أَيْ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْعِبَادَاتِ، فَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] حَتَّى يُتَكَلَّفَ لِلْجَوَابِ عَنْهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطِّيبِيُّ، وَإِنْ كَانَ مَآلُ جَوَابِهِ إِلَى مَا قُلْنَا حَيْثُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَتَشَرَّفُ فِي بَابِهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ هُنَا بَعْضُهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَبَعْضُهُ لَا يُطَابِقُ مَا نَحْنُ فِيهِ اهـ. وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَعَلَى عَدَمِ فَهْمِ كَلَامِهِ مَحْمُولٌ. " أَكْرَمَ ": خَبَرُ لَيْسَ " عَلَى اللَّهِ ":

أَيْ: أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ " مِنَ الدُّعَاءِ " أَيْ: مِنْ حُسْنِ السُّؤَالِ بِلِسَانِ الْحَالِ، أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِظْهَارَ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ وَالتَّذَلُّلِ وَالِانْكِسَارِ، وَالِاعْتِرَافِ بِقُوَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَغِنَاهُ وَإِغْنَائِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَجَبْرِ كَسْرِ خَوَاطِرِ أَعْدَائِهِ، فَضْلًا عَنْ فُضَلَاءِ أَحْبَابِهِ وَأَوْلِيَائِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

2233 - وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2233 - (وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتُسَكَّنُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ» ": الْقَضَاءُ: هُوَ الْأَمْرُ الْمُقَدَّرُ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَضَاءِ مَا يَخَافُهُ الْعَبْدُ مِنْ نُزُولِ الْمَكْرُوهِ بِهِ وَيَتَوَقَّاهُ، فَإِذَا وُفِّقَ لِلدُّعَاءِ دَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَسْمِيَتُهُ قَضَاءً مَجَازٌ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُتَوَقِّي عَنْهُ، يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّقْيِ: هُوَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِالتَّدَاوِي وَالدُّعَاءِ مَعَ أَنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ لِخَفَائِهِ عَلَى النَّاسِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرُ الشَّامَ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بِهَا طَاعُونًا رَجَعَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَتَفِرُّ مِنَ الْقَضَاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ إِلَى قَضَاءِ اللَّهِ، أَوْ أَرَادَ بِرَدِّ الْقَضَاءِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ حَقِيقَتَهُ تَهْوِينَهُ وَتَيْسِيرَ الْأَمْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ. يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: «الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ» ، وَقِيلَ: الدُّعَاءُ كَالتُّرْسِ، وَالْبَلَاءُ كَالسَّهْمِ، وَالْقَضَاءُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ مُقَدَّرٌ فِي الْأَزَلِ " وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ": بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ " إِلَّا الْبِرُّ ": بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالطَّاعَةُ. قِيلَ: يُزَادُ حَقِيقَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] وَقَالَ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] . وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّهُ لَا يَطُولُ عُمْرُ إِنْسَانٍ وَلَا يَقْصُرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ إِنْ لَمْ يَحُجَّ فُلَانٌ أَوْ يَغْزُ فَعُمْرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَإِنْ حَجَّ وَغَزَا فَعُمْرُهُ سِتُّونَ سَنَةً، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَبَلَغَ السِتِّينَ فَقَدْ عُمِّرَ، وَإِذَا أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَتَجَاوَزْ بِهِ الْأَرْبَعِينَ فَقَدْ نَقَصَ مِنْ عُمُرِهِ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ وَهُوَ السِتُّونَ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا بَرَّ لَا يَضِيعُ عُمْرُهُ فَكَأَنَّهُ زَادَ، وَقِيلَ: قَدَّرَ أَعْمَالَ الْبِرِّ سَبَبًا لِطُولِ الْعُمْرِ، كَمَا قَدَّرَ الدُّعَاءَ سَبَبًا لِرَدِّ الْبَلَاءِ، فَالدُّعَاءُ لِلْوَالِدَيْنِ وَبَقِيَّةِ الْأَرْحَامِ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ، إِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُبَارِكُ لَهُ فِي عُمْرِهِ فَيُيَسِّرُ لَهُ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا لَا يَتَيَسَّرُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ، فَالزِّيَادَةُ مَجَازِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي الْآجَالِ الزِّيَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا يَمُوتُ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ اسْتَحَالَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، فَاسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ الْآجَالُ الَّتِي عَلَيْهَا عِلْمُ اللَّهِ تَزِيدُ أَوْ تَنْقُصُ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الزِّيَادَةِ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ وُكِّلَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ آجَالٍ مَحْدُودَةٍ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ أَوْ يُثْبِتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ يَنْقُصُ مِنْهُ أَوْ يَزِيدُ عَلَى مَا سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَعَلَى مَا ذُكِرَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] فَالْإِشَارَةُ بِالْأَجَلِ الْأَوَّلِ إِلَى مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمَا عِنْدَ مَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ، وَبِالْأَجَلِ الثَّانِي إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَضَاءَ الْمُعَلَّقَ يَتَغَيَّرُ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ الْمُبْرَمُ فَلَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَلْمَانَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ثَوْبَانَ، وَفِي رِوَايَتَيْهِمَا: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُذْنِبُهُ» .

2234 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2234 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ» ": أَيْ مِنْ بَلَاءٍ نَزَلَ بِالرَّفْعِ إِنْ كَانَ مُعَلَّقًا، وَبِالصَّبْرِ إِنْ كَانَ مُحْكَمًا، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ فَيُصَبِّرُهُ عَلَيْهِ، أَوْ يُرْضِيهِ بِهِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي نُزُولِهِ مُتَمَنِّيًا خِلَافَ مَا كَانَ، بَلْ يَتَلَذَّذُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَتَلَذَّذُ أَهْلُ الدُّنْيَا بِالنَّعْمَاءِ " وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ " بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْهُ وَيَدْفَعَهُ مِنْهُ، أَوْ يَمُدَّهُ قَبْلَ النُّزُولِ بِتَأْيِيدٍ مِنْ عِنْدِهِ، يَخِفُّ مَعَهُ أَعْبَاءُ ذَلِكَ إِذَا نَزَلَ بِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الدُّعَاءِ مَعَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا مَرَدَّ لَهُ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقَضَاءِ رَدُّ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ، فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ لِرَدِّ الْبَلَاءِ وَوُجُودِ الرَّحْمَةِ، كَمَا أَنَّ التُّرْسَ سَبَبٌ لِدَفْعِ السِّلَاحِ، وَالْمَاءَ سَبَبٌ لِخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، فَكَمَا أَنَّ التُّرْسَ يَدْفَعُ السَّهْمَ فَيَتَدَافَعَانِ، كَذَلِكَ الدُّعَاءُ وَالْبَلَاءُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِرَافِ بِالْقَضَاءِ أَنْ لَا يَحْمِلَ السِّلَاحَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] فَقَدَّرَ اللَّهُ الْأَمْرَ وَقَدَّرَ سَبَبَهُ وَفِي الدُّعَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ مِنْ حُضُورِ الْقَلْبِ وَالِافْتِقَارِ، وَهُمَا نِهَايَةُ الْعِبَادَةِ وَغَايَةُ الْمَعْرِفَةِ " فَعَلَيْكُمْ ": أَيْ إِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الدُّعَاءِ فَالْزَمُوا عِبَادَ اللَّهِ: أَيْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ " بِالدُّعَاءِ ": لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَامُ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

2235 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2235 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2236 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . 2237 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2236 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ» ": أَيْ: إِنْ جَرَى فِي الْأَزَلِ تَقْدِيرُ إِعْطَائِهِ مَا سَأَلَ. " أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ " أَيْ: دَفَعَ عَنْهُ مِنَ الْبَلَاءِ عِوَضًا مِمَّا مَنَعَ قَدْرَ مَسْئُولِهِ إِنْ لَمْ يَجْرِ التَّقْدِيرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ مَثَّلَ جَلْبَ النَّفْعِ بِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَمَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ؟ قُلْتُ: الْوَجْهُ مَا هُوَ السَّائِلُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، وَمَا هُوَ لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ سُوءًا تَكُونُ الرَّاحَةُ فِي دَفْعِهِ بِقَدْرِ الرَّاحَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ لَوْ أُعْطِيَ ذَلِكَ الْمَسْئُولَ، فَالْمِثْلِيَّةُ بِاعْتِبَارِ الرَّاحَةِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ وَجَلْبِ هَذَا، ثُمَّ تَبَجَّحَ، وَقَالَ: وَمَنْ ذَكَرْتُهُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ أَوْضَحُ، بَلْ أَصْوَبُ مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ، قُلْتُ: إِطْلَاقُ الْأَصْوَبِيَّةِ خَطَأٌ لِأَنَّ مُرَادَهُ الْمِثْلِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْقَضَاءِ الْمُعَلَّقِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ دِينَارٌ مَثَلًا مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دِينَارًا زَائِدًا عَلَى مَا لَهُ، فَإِمَّا أَنَّهُ تَعَالَى يَزِيدُ مِنْ فَضْلِهِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ السَّارِقَ، أَوِ الظَّالِمَ عَنْهُ حَتَّى لَا يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ الدِّينَارَ، وَالرَّاحَةُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهَا مَفْهُومَةٌ مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ، مَعَ أَنَّ الرَّاحَةَ فِي دَفْعِ السُّوءِ مَجَازِيَّةٌ، وَلِذَا قِيلَ: الْيَأْسُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ. " مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ ": أَيْ: بِمَعْصِيَةٍ " أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ": تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . 2237 - وَهَّابٌ، مُعْطٍ، غَنِيٌّ، مُغْنٍ، بَاسِطٌ " يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ " أَيْ: مِنْ فَضْلِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عَدْلِهِ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ ": أَيِ: ارْتِقَابُ ذَهَابِ الْبَلَاءِ وَالْحَزَنِ بِتَرْكِ الشِّكَايَةِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، وَكَوْنُهُ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ الصَّبْرَ فِي الْبَلَاءِ انْقِيَادٌ لِلْقَضَاءِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2238 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2238 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» ": لِأَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ تَكَبُّرٌ وَاسْتِغْنَاءٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ، وَالْمُرَادُ بِالْغَضَبِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْعُقُوبَةِ، وَنِعْمَ مَا قِيلَ: اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ مِنْ فَضْلِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَبْغَضُهُ، وَالْمَبْغُوضُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ» " وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» ". وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السُّؤَالَ بِلِسَانِ الْحَالِ أَدْعَى إِلَى وُصُولِ الْكَمَالِ مِنْ بَيَانِ الْمَقَالِ، وَلِذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي، وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَزَّارُ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي.

2239 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا - يَعْنِي أَحَبَّ إِلَيْهِ - مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2239 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ» ": أَيْ بِأَنْ وُفِّقَ لِأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ كَثِيرًا مَعَ وُجُودِ شَرَائِطِهِ وَحُصُولِ آدَابِهِ " فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَإِخْبَارًا، وَعَلَى الثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي جَزَاءً لِلْأَوَّلِ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ عَلَامَةً لِلثَّانِي، وَالْمَعْنَى: أَنْ يُجَابَ لِمَسْئُولِهِ تَارَةً، وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِثْلُهُ مِنَ السُّوءِ أُخْرَى، كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْإِجَابَةِ. وَفِي بَعْضِهَا: فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، أَيْ: نِعَمُهَا الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ. " وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا - يَعْنِي أَحَبَّ إِلَيْهِ - " قَالَ الطِّيبِيُّ: " أَحَبَّ إِلَيْهِ " تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ بِـ " يَعْنِي "، وَفِي الْحَقِيقَةِ صِفَةُ " شَيْئًا " ا. هـ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ (يَعْنِي) هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُذْكَرُ إِلَّا فِي كَلَامٍ تَامٍّ مُفِيدٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ فِي اللَّفْظِ، أَوْ تَفْسِيرٍ فِي الْمَعْنَى، وَهُنَا لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ إِلَّا بِمَا بَعْدَهُ: وَهُوَ أَحَبَّ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قُلْنَا أَنَّ لَفْظَ (يَعْنِي) غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَكْثَرِ كُتُبِ الْحَدِيثِ، كَالْحِصْنِ وَغَيْرِهِ، فَقِيلَ: " شَيْئًا " مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، " وَأَحَبَّ إِلَيْهِ " صِفَتُهُ وَأَنْ فِي قَوْلِهِ: " مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ " مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مَا سُئِلَ اللَّهُ سُؤَالًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ سُؤَالِ الْعَافِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " شَيْئًا " مَفْعُولًا بِهِ أَيْ: مَا سُئِلَ اللَّهُ مَسْئُولًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ، وَزِيدَ أَنْ يُسْأَلَ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْمَسْئُولِ وَلِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْأَحَبَّ إِلَيْهِ سُؤَالُ الْعَافِيَةِ لَا ذَاتُهَا، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَزَادَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، وَفِي تَعْلِيلِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ السُّؤَالَ أَحَبُّ، فَإِنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلِافْتِقَارِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَظُهُورِ كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْمِحَنَ وَالْبَلَايَا الظَّاهِرِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ، وَلَوْ كَانَتِ الْعَافِيَةُ نَفْسُهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ لَمَا خَلَقَ أَضْدَادَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَصْلُ الْكَلَامِ: مَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ، فَأَقْحَمَ الْمُفَسِّرُ لَفْظَ أَنْ يُسْأَلَ اعْتِنَاءً اهـ. وَقَوْلُهُ: فَأَقْحَمَ الْمُفَسِّرُ، فَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ يُسْأَلَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَغَايَةُ تَوْجِيهِهِ أَنَّ مَا بَعْدَ يَعْنِي يَكُونُ نَقْلًا بِالْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدَّمَ (يَعْنِي) عَلَى مَحَلِّهَا فَفَصَلَ بِهِ بَيْنَ " شَيْئًا " وَصِفَتِهِ، وَالْأَصْلُ، وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ. يَعْنِي مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ، لِمَا يَصْلُحُ لِلتَّفْسِيرِ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي خَبَرِهَا

قُلْتُ: مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمُنَاقَشَةِ فِي الْعِبَارَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ (مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ) لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ بِدُونِهِ لَا يَتِمُّ وَلَا يَصِحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، ثُمَّ اتَّفَقَ الشُّرَّاحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَافِيَةِ الصِّحَّةُ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ الطِّيبِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَافِيَةُ أَحَبَّ لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ جَامِعَةٌ لِخَيْرِ الدَّارَيْنِ مِنَ الصِّحَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّلَامَةِ فِيهَا وَفِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ الْعَافِيَةَ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْبَلَايَا، وَهِيَ الصِّحَّةُ عِنْدَ الْمَرَضِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَافِيَةِ السَّلَامَةُ مِنَ الْبَلَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، سَوَاءٌ يَكُونُ مَعَهُ صِحَّةُ الْبَدَنِ أَمْ لَا. قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: دَخَلَ عَلَيَّ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيُّ، وَكَانَ بِهِ أَلَمٌ فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: عَافَاكَ اللَّهُ يَا سَيِّدِي فَسَكَتَ وَلَمْ يُجَاوِبْهُ، ثُمَّ أَعَادَ الْكَلَامَ، فَقَالَ: أَنَا مَا سَأَلْتُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، قَدْ سَأَلْتُهُ الْعَافِيَةَ، وَالَّذِي أَنَا فِيهِ هُوَ الْعَافِيَةُ، وَقَدْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَافِيَةَ وَقَالَ: " «مَا زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فَالْآنَ قَطَعَتْ أَبْهَرِي» "، وَأَبُو بَكْرٍ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَسْمُومًا، وَعُمَرُ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَطْعُونًا، وَعُثْمَانُ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَذْبُوحًا، وَعَلِيٌّ سَأَلَ الْعَافِيَةَ وَمَاتَ مَقْتُولًا، فَإِذَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَسَلْهُ الْعَافِيَةَ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَكَ عَافِيَةٌ اهـ. وَنُقِلَ عَنِ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ مَتَى رَأَى وَاحِدًا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْعَافِيَةُ دَفْعُ الْعَفَاءِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ كَفَافٌ مِنَ الْقُوتِ، وَقُرَّةٌ لِلْبَدَنِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَاشْتِغَالٌ بِأَمْرِ الدِّينِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَتَرْكُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، وَلَا كَلِمَةَ أَجْمَعُ لِذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الْعَافِيَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمُّهُ الْعَبَّاسُ أَنْ يُعَلِّمَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ اخْتَارَ لَفْظَهَا فَقَالَ: يَا عَمِّ إِنِّي أُحِبُّكَ، سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2240 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2240 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَرَّهُ ": أَيْ: أَعْجَبَهُ، وَفَرَّحَ قَلْبَهُ وَجَعَلَهُ مَسْرُورًا " أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ ": جَمْعُ الشَّدِيدَةِ وَهِيَ الْحَادِثَةُ الشَّاقَّةُ، وَفِي الْحِصْنِ زِيَادَةُ: وَالْكَرْبُ جَمْعُ الْكُرْبَةِ، وَهِيَ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ " فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ ": بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ فِي حَالَةِ السِّعَةِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ وَالْعَافِيَةِ. قِيلَ: مِنْ شِيمَةِ الْمُؤْمِنِ الشَّاكِرِ الْحَازِمِ أَنْ يَرِيشَ لِلسَّهْمِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَيَلْتَجِئَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ مَسِّ الِاضْطِرَارِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْغَبِيِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2241 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2241 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ ": أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ " مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ ": أَيْ: كُونُوا عِنْدَ الدُّعَاءِ عَلَى حَالَةٍ تَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْإِجَابَةَ مِنْ إِتْيَانِ الْمَعْرُوفِ، وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرِ، وَرِعَايَةِ شُرُوطِ الدُّعَاءِ كَحُضُورِ الْقَلْبِ، وَتَرَصُّدِ الْأَزْمِنَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالْأَمْكِنَةِ الْمَنِيفَةِ، وَاغْتِنَامِ الْأَحْوَالِ اللَّطِيفَةِ، كَالسُّجُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى تَكُونَ الْإِجَابَةُ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَغْلَبَ مِنَ الرَّدِّ، أَوْ أَرَادَ وَأَنْتُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَيِّبُكُمْ لِسِعَةِ كَرَمِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، لِتَحَقُّقِ صِدْقِ الرَّجَاءِ وَخُلُوصِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ مَا لَمْ يَكُنْ رَجَاؤُهُ وَاثِقًا لَمْ يَكُنْ دُعَاؤُهُ صَادِقًا. " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً ": أَيْ غَالِبًا، أَوِ اسْتِجَابَةً كَامِلَةً " مِنْ قَلْبِ غَافِلٍ ": بِالْإِضَافَةِ، وَتَرْكِهَا، أَيْ: مُعْرِضٍ عَنِ اللَّهِ أَوْ عَمَّا سَأَلَهُ " لَاهٍ ": مِنَ اللَّهْوِ، أَيْ: لَاعَبٍ. مِمَّا سَأَلَهُ أَوْ مُشْتَغِلٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا عُمْدَةُ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَلِذَا خُصَّ بِالذِّكْرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2242 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ يَسَارٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ، وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2242 - (وَعَنْ مَالِكِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ ": أَيْ: شَيْئًا مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ " فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ ": جَمْعُ الْكَفِّ أَيْ: مَعَ رَفْعِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَالْبَاءُ لِلْآلَةِ. وَقِيلَ: لِلْمُصَاحَبَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ هَذِهِ هَيْئَةُ السَّائِلِ الطَّالِبِ الْمُنْتَظِرِ لِلْأَخْذِ فَيُرَاعَى مُطْلَقًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ يَجْعَلُ ظَهْرَ الْكَفِّ فَوْقَ بَطْنِهَا تَفَاؤُلًا وَلِرِعَايَةِ صُورَةِ الدَّفْعِ اهـ. وَهُوَ تَعْلِيلٌ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ فَلَا يُقْبَلُ، سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ: " وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا ": قَالَ الطِّيبِيُّ: رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَشَارَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ رَفْعًا بَلِيغًا حَتَّى ظَهَرَ بَيَاضُ إِبِطِهِ، وَصَارَتْ كَفَّاهُ مُحَاذِيَيْنِ لِرَأْسِهِ مُلْتَمِسًا أَنْ يَغْمُرَهُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ.

2243 - وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " «سَلُوا اللَّهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا، فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2243 - (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «سَلُوا اللَّهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا» ": قَالَ ابْنُ حَجَرٍ لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالطَّلَبِ لِشَيْءٍ يَنَالُهُ أَنْ يَمُدَّ كَفَّهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَيَبْسُطَهَا مُتَضَرِّعًا لِيَمْلَأَهَا مِنْ عَطَائِهِ الْكَثِيرِ الْمُؤْذِنِ بِهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إِلَيْهِ جَمِيعًا، أَمَّا مَنْ سَأَلَ رَفْعَ شَيْءٍ وَقَعَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْفَعَ إِلَى السَّمَاءِ ظَهْرَ كَفَّيْهِ اتِّبَاعًا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَحِكْمَتُهُ التَّفَاؤُلُ فِي الْأَوَّلِ بِحُصُولِ الْمَأْمُولِ، وَفِي الثَّانِي بِدَفْعِ الْمَحْذُورِ، وَعَجِيبٌ مِنَ الشَّارِحِ حَيْثُ أَوَّلَ هَذَا بِمَا يُخَالِفُ كَلَامَ أَئِمَّتِهِ، وَتَفْصِيلَهُمُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ، وَسَبَبُهُ عَدَمُ إِمْعَانِهِ النَّظَرَ فِي كَلَامِهِمْ اهـ. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الْإِشَارَةُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا مَخْصُوصَةٌ بِالِاسْتِسْقَاءِ، كَقَلْبِ الرِّدَاءِ، مَعَ أَنَّهُ مُئَوَّلٌ أَيْضًا، وَفِي الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ السُّؤَالُ بِظُهُورِ الْأَصَابِعِ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، وَلَا بِدْعَ مِنَ الْمُحَقِّقِ الْمُنْصِفِ أَنْ يَذْكُرَ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الدَّلِيلِ، وَيَخْرُجَ عَنْ دَائِرَةِ التَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْعَلِيلِ، فَلَا يُنَاسِبُ نِسْبَتَهُ وَلَوْ مَعَ احْتِمَالِ ذُهُولِهِ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ نَادِرَةٍ إِلَى التَّجْهِيلِ. " فَإِذَا فَرَغْتُمْ ": أَيْ مِنَ الدُّعَاءِ " فَامْسَحُوا ": أَيْ: بِأَكُفِّكُمْ (وُجُوهَكُمْ) فَإِنَّهَا تَنْزِلُ عَلَيْهَا آثَارُ الرَّحْمَةِ فَتَصِلُ بَرَكَتُهَا إِلَيْهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ وَهُوَ، الْإِفَاضَةُ عَلَيْهِ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى تَفَاؤُلًا بِتَحَقُّقِ الْإِجَابَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا يُسَنُّ مَسْحُ الْوَجْهِ بِهِمَا ضَعِيفٌ، إِذْ ضَعْفُ حَدِيثِ الْمَسْحِ لَا يُؤَثِّرُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الضَّعِيفَ حُجَّةٌ فِي الْفَضَائِلِ اتِّفَاقًا اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْجَزَرِيَّ عَدَّ فِي الْحِصْنِ مِنْ جُمْلَةِ آدَابِ الدُّعَاءِ مَسْحَ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: اسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إِلَى السَّمَاءِ فِي كُلِّ دُعَاءٍ وَصَحَّتْ بِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَنِ ادْعِي حَصْرَهَا فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لِكَوْنِهَا مُثْبِتَةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْإِيصَالُ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُبَالِغُ فِي رَفْعِ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا الِاسْتِسْقَاءَ اهـ. وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: مِنْهَا: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَالَّذِي قَبْلَهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّفْعِ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، نَعَمْ حَدِيثُ عُمَرَ الْآتِي صَرِيحٌ فِي الْمَدَّعَى، وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فِي كُلِّ دُعَاءٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَمِنْهَا: أَنَّ تَخْطِئَةَ قَائِلِ الْحَصْرِ مُجَازَفَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْإِفَادَةِ، كَيْفَ تُقَدَّمُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهَا عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ أُصُولِ الْمُحَدِّثِينَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّفْعِ.

2244 - وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرَةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2244 - (وَعَنْ سَلْمَانَ) : أَيِ الْفَارِسِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ ": فَعِيلٌ أَيْ: مُبَالِغٌ فِي الْحَيَاءِ، وَفُسِّرَ فِي حَقِّ اللَّهِ بِمَا هُوَ الْغَرَضُ وَالْغَايَةُ وَعَرْضُ الْحَيِيِّ مِنَ الشَّيْءِ تَرْكُهُ، وَالْإِبَاءُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْحَيَاءَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ تَخَوُّفِ مَا يُعَابُ وَيُذَمُّ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ غَايَتُهُ فِعْلُ مَا يَسُرُّ وَتَرْكُ مَا يَضُرُّ، أَوْ مَعْنَاهُ عَامَلَ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَحْيِي. " كَرِيمٌ ": وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، فَكَيْفَ بَعْدَهُ؟ " يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ " أَيِ: الْمُؤْمِنِ " إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ": بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ: فَارِغَتَيْنِ خَالِيَتَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

2245 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2245 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ) قِيلَ: حِكْمَةُ الرَّفْعِ إِلَى السَّمَاءِ أَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ، وَمَهْبِطُ الرِّزْقِ، وَالْوَحْيِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْبَرَكَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ لِخَبَرٍ فِيهِ وَسَاقَهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ لَهُ لِأَنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِحَالَةِ الرَّفْعِ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّجَهَ تَرْجِيحُ ابْنِ الْعِمَادِ سَنَّ الرَّفْعِ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ يَكْفِي لِلْغَزَالِيِّ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِيهَامُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَكَانًا وَجِهَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَاخِلِ الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا، ثُمَّ الْعَجِيبُ تَرْجِيحُ سَنِّ الرَّفْعِ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي حَدِيثٍ. وَقَدْ عَدَّ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ: أَنْ لَا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ مَحَلَّ سَنِّ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِنْ كَانَتَا ظَاهِرَتَيْنِ وَإِلَّا فَإِنَّ رَفْعَهُمَا بِلَا حَائِلٍ كُرِهَ أَوْ بِهِ فَلَا عَلَى الْأَوْجَهِ، وَهُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمُنَاقَشَةِ التَّفْصِيلِيَّةِ خِلَافَ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. " لَمْ يَحُطَّهُمَا ": أَيْ: لَمْ يَضَعْهُمَا " حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ": قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، فَكَأَنَّ كَفَّيْهِ قَدْ مُلِئَتَا مِنَ الْبَرَكَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ اهـ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِكَأَنَّ لَا يُلَائِمُ إِلَّا فِي حَقِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا التَّفَاؤُلُ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ، وَلَا رَيْبَ فِي حَقِّهِ مِنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ وَنُزُولِ الْبَرَكَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2246 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2246 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ» ": وَهِيَ الَّتِي تَجْمَعُ الْأَغْرَاضَ الصَّالِحَةَ، أَوْ تَجْمَعُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَآدَابَ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هِيَ مَا لَفْظُهُ قَلِيلٌ، وَمَعْنَاهُ كَثِيرٌ، شَامِلٌ لِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قِيلَ: مِثْلَ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] وَنَحْوَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، وَكَذَا: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» ، وَنَحْوَ سُؤَالِ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ. " وَيَدَعُ ": أَيْ يَتْرُكُ " مَا سِوَى ذَلِكَ ": أَيْ: مِمَّا لَا يَكُونُ جَامِعًا بِأَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِطَلَبِ أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ، كَارْزُقْنِي زَوْجَةً حَسَنَةً، فَإِنَّ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى مِنْهُ ارْزُقْنِي الرَّاحَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ ; فَإِنَّهُ يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2247 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ أَسْرَعَ الدُّعَاءِ إِجَابَةً دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2247 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ أَسْرَعَ الدُّعَاءِ إِجَابَةً: تَمْيِيزٌ " دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ " لِخُلُوصِهِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ وَبُعْدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

2248 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: " «اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لِي، وَقَالَ: أَشْرِكْنَا يَا أُخَيُّ فِي دُعَائِكَ وَلَا تَنْسَنَا " فَقَالَ كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِيَ بِهَا الدُّنْيَا» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ " وَلَا تَنْسَنَا) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2248 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمْرَةِ) : أَيْ مِنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي قَضَاءِ عُمْرَةٍ كَانَ نَذَرَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، (فَأَذِنَ لِي) : أَيْ: فِيهَا. (وَقَالَ: " أَشْرِكْنَا ": يَحْتَمِلُ نُونُ الْعَظَمَةِ وَأَنْ يُرِيدَ نَحْنُ وَأَتْبَاعَنَا (يَا أُخَيَّ) : بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ، وَهُوَ تَصْغِيرُ تَلْطِيفٍ وَتَعَطُّفٍ لَا تَحْقِيرٍ، وَيُرْوَى بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ (فِي دُعَائِكَ) : فِيهِ إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالْمَسْكَنَةِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالْتِمَاسِ الدُّعَاءِ مِمَّنْ عُرِفَ لَهُ الْهِدَايَةُ، وَحَثٌّ لِلْأُمَّةِ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي دُعَاءِ الصَّالِحِينَ، وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَخُصُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالدُّعَاءِ، وَلَا يُشَارِكُوا فِيهِ أَقَارِبَهُمْ وَأَحِبَّاءَهُمْ، لَا سِيَّمَا فِي مَظَانِّ الْإِجَابَةِ، وَتَفْخِيمٌ لِشَأْنِ عُمَرَ، وَإِرْشَادٌ إِلَى مَا يَحْمِي دُعَاءَهُ مِنَ الرَّدِّ (وَلَا تَنْسَنَا) : تَأْكِيدٌ، أَوْ أَرَادَ بِهِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ (فَقَالَ) عَطْفٌ عَلَى قَالَ: أَشْرِكْنَا التَّعْقِيبُ الْمُبَيَّنُ بِالْمُبَيِّنِ أَيْ قَالَ عُمَرُ: فَقَالَ: بِمَعْنَى تَكَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَةً) : وَهِيَ أَشْرِكْنَا، أَوْ يَا أُخَيُّ، أَوْ لَا تَنْسَنَا، أَوْ غَيْرُ مَا ذَكَرَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ تَوَقِّيًا عَنِ التَّفَاخُرِ، أَوْ نَحْوِهِ مِنْ آفَاتِ النُّفُوسِ (مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا) : الْبَاءُ لِلْبَدَلِيَّةِ وَمَا نَافِيَةٌ وَإِنَّ مَعَ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا فَاعِلُ يَسُرُّنِي، أَيْ: لَا يُعْجِبُنِي وَلَا يُفْرِحُنِي كَوْنُ جَمِيعِ الدُّنْيَا لِي بَدَلَهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ) : أَيِ التِّرْمِذِيِّ (عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَا تَنْسَنَا) : وَلَعَلَّهُ نَسِيَ.

2249 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2249 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةٌ: أَيْ أَشْخَاصٍ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ مِنَ الرِّجَالِ، وَذَكَرَهُمْ لِلْغَالِبِ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: قِيلَ: سُرْعَةُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ لِصَلَاحِ الدَّاعِي، أَوْ لِتَضَرُّعِهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى: (الصَّائِمُ) أَيْ: مِنْهُمْ، أَوْ أَحَدُهُمُ الصَّائِمُ (حِينَ يُفْطِرُ) : لِأَنَّهُ بَعْدَ عِبَادَةٍ وَحَالِ تَضَرُّعٍ وَمَسْكَنَةٍ (وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ) : إِذْ عَدْلُ سَاعَةٍ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَاعَةً كَمَا فِي حَدِيثِ (وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ) : كَانَ حَالٌ كَذَا قِيلَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَيْ: يَرْفَعُهَا خَبَرًا لِقَوْلِهِ: وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَقَطَعَ هَذَا الْقَسَمَ عَنْ أَخَوَيْهِ لِشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَلَوْ فَاجِرًا أَوْ كَافِرًا وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الرَّبُّ عَلَى قَوْلِهِ، وَيَفْتَحُ فَإِنَّهُ لَا يُلَائِمُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ ضَمِيرَ يَرْفَعُهَا لِلدَّعْوَةِ حِينَئِذٍ، لَا لِدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَإِنَّمَا بُولِغَ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَتْهُ نَارُ الظَّالِمِ وَاحْتَرَقَتْ أَحْشَاؤُهُ، خَرَجَ مِنْهُ الدُّعَاءُ بِالتَّضَرُّعِ وَالِانْكِسَارِ، وَحَصَلَ لَهُ حَالَةُ الِاضْطِرَارِ، فَيُقْبَلُ دُعَاؤُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] ، وَمَعْنَى (يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ) : أَيْ: تُجَاوِزُ الْغَمَامَ أَيِ: السَّحَابَ (وَيَفْتَحُ) : أَيِ اللَّهُ لَهَا) : أَيْ لِدَعْوَتِهِ (أَبْوَابَ السَّمَاءِ) : وَرُوِيَ بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَالرَّفْعِ وَالْفَتْحِ كِنَايَتَانِ عَنْ سُرْعَةِ الْقَبُولِ وَالْحُصُولِ إِلَى الْوُصُولِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَرَفْعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ، وَفَتْحُ أَبْوَابِ السَّمَاءِ لَهَا، مَجَازٌ عَلَى إِثَارَةِ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ، وَجَمْعِ الْأَسْبَابِ السَّمَاوِيَّةِ عَلَى انْتِصَارِهِ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الظَّالِمِ وَإِنْزَالِ الْبَأْسِ

عَلَيْهِ (وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ) بِفَتْحِ الْكَافِ أَيْ: أَيُّهَا الْمَظْلُومُ، وَبِكَسْرِهَا أَيْ: أَيَّتُهَا الدَّعْوَةُ. (وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) : وَالْحِينُ يُسْتَعْمَلُ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ، وَالْمَعْنَى لَا أُضَيِّعُ حَقَّكَ وَلَا أَرُدُّ دُعَاءَكَ، وَلَوْ مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ لِأَنِّي حَلِيمٌ لَا أُعَجِّلُ عُقُوبَةَ الْعِبَادِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الظُّلْمِ وَالذُّنُوبِ إِلَى إِرْضَاءِ الْخُصُومِ وَالتَّوْبَةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ الظَّالِمَ وَلَا يُهْمِلُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2250 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2250 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (مُسْتَجَابَاتٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَدِيثُ السَّابِقُ ثَلَاثَةٌ، وَفِي هَذَا ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي شَأْنِ الدَّاعِي، وَتَحَرِّيهِ فِي طَرِيقِ الِاسْتِجَابَةِ، وَمَا هِيَ مَنُوطَةٌ بِهِ مِنَ الصَّوْمِ وَالْعَدْلِ، بِخِلَافِ الْوَالِدِ وَالْمُسَافِرِ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِمَا الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ اهـ. وَهُوَ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَحِكْمَةٌ شَرِيفَةٌ وَصَلَتْ بَلَاغَتُهَا الْغَايَةَ، وَفَصَاحَتُهَا النِّهَايَةَ. وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ذَكَرَ هُنَا " ثَلَاثٌ " وَأَنَّثَهُ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ ثَمَّةَ عَلَى مُذَكَّرٍ، وَهُنَا عَلَى مُؤَنَّثٍ، وَعَجِيبٌ مِمَّنْ فَرَّقَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَفَاءِ وَالتَّكَلُّفِ. قُلْتُ: أَمَّا الْخَفَاءُ فَكَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا عَلَى الْعُلَمَاءِ مِنَ الْبُلَغَاءِ وَالْفُصَحَاءِ، وَأَمَّا زَعْمُ أَنَّ الطِّيبِيَّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثَةٍ بِاعْتِبَارِ الْمَعْدُودِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فَفَسَادُهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّهُ إِمَامٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَجَبَلٌ فِي حَلِّ الْعِبَارَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ، وَمَا يَضُرُّهُ عَدَمُ اشْتِهَارِهِ بِالْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ (لَا شَكَّ فِيهِنَّ) : أَيْ فِي اسْتِجَابَتِهِنَّ، وَهُوَ آكَدُ مِنْ حَدِيثِ: لَا تُرَدُّ، وَإِنَّمَا أَكَّدَ بِهِ لِالْتِجَاءِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصِدْقِ الطَّلَبِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ وَانْكِسَارِ الْخَاطِرِ، (دَعْوَةُ الْوَالِدِ) : أَيْ لِوَلَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَالِدَةَ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا أَكْثَرُ، فَدُعَاؤُهَا أَوْلَى بِالْإِجَابَةِ، أَوْ لِأَنَّ دَعْوَتَهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَجَابَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَرْحَمُهُ وَلَا تُرِيدُ بِدُعَائِهَا عَلَيْهِ وُقُوعَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ، وَفِيهِ أَنَّ الْوَالِدَ كَذَلِكَ لَا يَدْعُو لَهُ عَلَى نَعْتِ الشَّفَقَةِ وَالرِّقَّةِ التَّامَّةِ، وَكَذَا دَعْوَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْعُو عَلَيْهِ إِلَّا عَلَى نَعْتِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ إِسَاءَتِهِ عَلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَنْقَاسَ عَلَيْهِ دَعْوَةُ الْوَالِدَةِ بِالْأَوْلَى، كَمَا يَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ: إِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ وَلَهُ ثُلُثَهُ لِأَنَّ مَا تُقَاسِيهِ مِنْ تَعَبِ الْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ، فَوْقَ مَا يُقَاسِيهِ الْوَالِدُ مِنْ تَعَبِ تَحْصِيلِ مُؤْنَتِهِ وَكُسْوَتِهِ بِنَحْوِ الضَّعْفِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] حَيْثُ أَوْقَعَ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِ أَعْنِي: (أَنِ اشْكُرْ لِي) ، وَالْمُفَسَّرِ أَعْنِي: (وَصَّيْنَا) ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّوْكِيدُ فِي الْوَصِيَّةِ فِي حَقِّهِمَا خُصُوصًا فِي حَقِّ الْوَالِدَةِ، لِمَا تُكَابِدُ مِنْ مَشَاقِّ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعَةِ، وَلِأَنَّ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَبِالشَّرِّ لِمَنْ آذَاهُ وَأَسَاءَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ دُعَاءَهُ لَا يَخْلُو مِنَ الرِّقَّةِ. (وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ) : أَيْ: لِمَنْ يُعِينُهُ وَيَنْصُرُهُ أَوْ يُسَلِّيهِ وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2251 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2251 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ» ": مَفْعُولٌ ثَانٍ (كُلَّهَا) : تَأْكِيدٌ لَهَا أَيْ: جَمِيعَ مَقْصُودَاتِهِ إِشْعَارًا بِالِافْتِقَارِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ (حَتَّى يَسْأَلَ) : أَيِ: اللَّهَ وَفِي

نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، حَتَّى يَسْأَلَ بِلَا ضَمِيرٍ (شِسْعَ نَعْلِهِ) : بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: شِرَاكَهَا لَا إِذَا انْقَطَعَ: قَالَ الطِّيبِيُّ: الشِّسْعُ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ جِيءَ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَمَا بَعْدَهُ الْمُتَمِّمَاتُ.

2252 - زَادَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ مُرْسَلًا: " «حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَهُ إِذَا انْقَطَعَ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2252 - (زَادَ فِي رِوَايَةٍ) : حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَفِي رِوَايَةٍ، أَوْ يَقُولَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: (عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مُرْسَلًا) : أَيْ: مَرْفُوعًا بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ) : وَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الزَّائِدُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَحَتَّى يَسْأَلَهُ) : كَرَّرَهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى لَا مَنْعَ هُنَاكَ وَلَا رَدَّ لِلسَّائِلِ عَمَّا طَلَبَ، لِكَمَالِ تَلَطُّفِ الْمَسْئُولِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَأْمُولِ، حَتَّى لَا يَلْتَجِئَ الْعَبْدُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يَعْتَمِدَ إِلَّا عَلَيْهِ (شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ) : فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى مَوْضِعِ الزَّائِدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2253 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2253 - (وَعَنْ أَنَسٍ) : إِنَّمَا عَدَلَ عَنْ عَنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، لِئَلَّا يُوهِمَ رَجْعَ الضَّمِيرِ إِلَى ثَابِتٍ. (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ» ) : يَعْنِي: فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ (حَتَّى يَرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُبْصِرَ (بَيَاضَ إِبِطِهِ) : لَعَلَّ الْمُرَادَ: بَيَاضُ طَرَفَيْ إِبِطَيْهِ، وَلَا يُنَافِيهِ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ: الْمَسْأَلَةُ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حُدُودَ مَنْكِبَيْكَ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ فِي الرَّفْعِ، أَوْ عَلَى أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الدُّعَاءِ.

2254 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ، قَالَ: " «كَانَ يَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ حِذَاءَ مِنْكِبَيْهِ، وَيَدْعُو» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2254 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) : أَيِ: ابْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجَيِّ، لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " كَانَ يَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ ": أَيْ: رُءُوسَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ مُرْتَفِعَةً (حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ) : دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى الْقَصْدِ وَالتَّوَسُّطِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ عَلَى الزِّيَادَةِ وَهِيَ حَالَةُ الْمُبَالَغَةِ وَالْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ. (وَيَدْعُو) : أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ.

2255 - وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا دَعَا، رَفَعَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2255 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا دَعَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ» ) : عَطْفًا عَلَى دَعَا (مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: جَوَابُ إِذَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَإِذَا ظَرْفٌ لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَمْسَحْ، وَهُوَ قَيْدٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو كَثِيرًا، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ، وَعِنْدَ النَّوْمِ، وَبَعْدَ الْأَكْلِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، لَمْ يَمْسَحْ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا أَفَادَهُ لَفْظُ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا دَعَا وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ لَمْ يَمْسَحْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ دُعَاءٍ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ

بِهِمَا فِي كُلِّ دُعَاءٍ، فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّيَّةِ أَصْلًا، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

2256 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: الْمَسْأَلَةُ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، وَالِابْتِهَالُ أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا. وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: وَالِابْتِهَالُ هَكَذَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ ظُهُورَهَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2256 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى السُّؤَالِ وَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ لِيَصِحَّ الْحَمْلُ أَيْ: آدَابُهُمَا (أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ نَحْوَهُمَا) : أَيْ: قَرِيبًا مِنْهُمَا، لَكِنْ إِلَى مَا فَوْقَ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، (وَالِاسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَدَبُ الِاسْتِغْفَارِ الْإِشَارَةُ بِالسَّبَّابَةِ سَبًّا لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ، وَالشَّيْطَانِ، وَالتَّعَوُّذُ مِنْهُمَا، وَقَيَّدَهُ بِوَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِشَارَةُ بِأُصْبُعَيْنِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى رَجُلًا يُشِيرُ بِهِمَا فَقَالَ لَهُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، (وَالِابْتِهَالُ) : أَيِ: التَّضَرُّعُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الدُّعَاءِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ عَنِ النَّفْسِ، أَدَبُهُ (أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا) : أَيْ: حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْكَ. (وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: وَالِابْتِهَالُ هَكَذَا) : تَعْلِيمٌ فِعْلِيٌّ، وَتَفْسِيرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ ظُهُورَهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ) : أَيْ: رَفَعَ يَدَيْهِ رَفْعًا كُلِّيًّا حَتَّى ظَهَرَ بَيَاضُ الْإِبِطَيْنِ جَمِيعًا وَصَارَتْ كَفَّاهُ مُحَاذِيَيْنِ لِرَأْسِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالِابْتِهَالِ دَفْعَ مَا يَتَصَوَّرُهُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْعَذَابِ، فَيَجْعَلُ يَدَيْهِ التُّرْسَ لِيَسْتُرَهُ عَنِ الْمَكْرُوهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2257 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَفْعَكُمْ أَيْدِيَكُمْ بِدْعَةٌ، مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا - يَعْنِي إِلَى الصَّدْرِ - (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2257 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَقُولُ: (إِنَّ رَفْعَكُمْ أَيْدِيَكُمْ) : أَيْ: مُبَالَغَتُكُمْ فِي الرَّفْعِ (بِدْعَةٌ، مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: غَالِبًا (عَلَى هَذَا - يَعْنِي) : أَيْ: يُرِيدُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ (إِلَى الصَّدْرِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي: تَفْسِيرٌ لِمَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلَى الصَّدْرِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ غَالِبَ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّعَاءِ، وَعَدَمَ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ الْحَالَاتِ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى الصَّدْرِ لِأَمْرٍ، وَفَوْقَهُ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَفَوْقَهُمَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا جَمْعٌ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، فَبَطَلَ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَنَدَ فِي قَوْلِهِ: مَا زَادَ إِلَى عِلْمِهِ فَهُوَ نَافٍ، وَغَيْرُهُ أَثْبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّفْعَ إِلَى حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنَ تَارَةً وَإِلَى أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أُخْرَى، وَالْحُجَّةُ لِلْمُثْبِتِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُ قَالَ مُتَبَجِّحًا بِكَلَامِهِ: وَقَرَّرَ شَارِحُ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ وَإِبْهَامٌ فَاجْتَنِبْهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ جَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ، وَجَعَلَهُمَا مُقَابِلَ صَدْرِهِ كَاسْتِطْعَامِ الْمِسْكِينِ.

2258 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2258 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ) : عَطْفٌ عَلَى ذَكَرَ أَيْ: فَأَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ (بَدَأَ بِنَفْسِهِ) : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّهِ أَحَدٌ، وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُبِلَ دُعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يُرَدُّ دُعَاؤُهُ لِغَيْرِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) .

2259 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا " قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: " اللَّهُ أَكْثَرُ» " (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2259 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ» ": أَيْ: مَعْصِيَةٌ قَاصِرَةٌ (وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ) : أَيْ: سَيِّئَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ (إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا) : أَيْ: بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ

(إِحْدَى ثَلَاثٍ) : أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ) أَيْ: بِخُصُوصِهَا، أَوْ مِنْ جِنْسِهَا فِي الدُّنْيَا فِي وَقْتٍ أَرَادَهُ إِنْ قَدَّرَ وُقُوعَهَا فِي الدُّنْيَا (وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا) : أَيْ: تِلْكَ الْمَطْلُوبَةَ، أَوْ مِثْلَهَا، أَوْ أَحْسَنَ مِنْهَا، أَوْ ثَوَابَهَا وَبَدَّلَهَا لَهُ: أَيْ: لِلدَّاعِي فِي الْآخِرَةِ أَيْ: إِنْ لَمْ يُقَدِّرْ وُقُوعَهَا فِي الدُّنْيَا (وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ) : أَيْ: يَدْفَعَ (عَنْهُ مِنَ السُّوءِ) : أَيْ: الْبَلَاءِ النَّازِلِ أَوْ غَيْرِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ بَدَنِهِ (مِثْلَهَا) : أَيْ: كَمِّيَّةً وَكَيْفَيَّةً إِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ وُقُوعَهَا فِي الدُّنْيَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا الثَّوَابُ الْمُدَّخَرُ، وَإِمَّا دَفْعُ قَدْرِهَا مِنَ السُّوءِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدَّرْ يُدْفَعُ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلُهُ (قَالُوا) : أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (إِذَا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُخَيَّبُ الدَّاعِي فِي شَيْءٍ مِنْهُ (نُكْثِرُ) أَيْ: مِنَ الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ فَوَائِدُهُ. أَقُولُ: كَانَ ظَاهِرُهُ النَّصْبَ، لَكِنْ ضُبِطَ بِالرَّفْعِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُقَابَلَةِ مِنْ نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ وَغَيْرِهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّفْعِ إِرَادَةُ مَعْنَى الْحَالِ مِنَ الْفِعْلِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ إِذًا، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ إِذِ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ: (نُكْثِرُ) أَيِ: الدُّعَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ جَعَلَ الِاسْتِقْبَالَ فِي مَعْنَى الْحَالِ مُبَالَغَةً فِي الِاسْتِعْجَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. وَمِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِتَحْقِيقِ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مَا ذَكَرَهُ حَسَن حَلَبِي فِي حَاشِيَةِ الْمُطَوَّلِ، أَنَّ الْحَالَ هُوَ أَجْزَاءٌ مِنْ أَوَاخِرِ الْمَاضِي، وَأَوَائِلِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَعْيِينُ مِقْدَارِ الْحَالِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْعَوْدِ بِحَسَبِ الْأَفْعَالِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مِقْدَارٌ مَخْصُوصٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: زَيْدٌ يَأْكُلُ وَيَمْشِي وَيَحُجُّ وَيَكْتُبُ الْقُرْآنَ، وَيُعَدُّ كُلُّ ذَلِكَ حَالًا، وَلَا يُشَكُّ فِي اخْتِلَافِ مَقَادِيرِ أَزْمِنَتِهَا اهـ. وَلَا يَخْفَى بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ حَالَ التَّكَلُّمِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ تُوجَدُ مُبَاشَرَةُ الدُّعَاءِ فَضْلًا عَنِ الْإِكْثَارِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تُعْتَبَرَ نِيَّةُ الْفِعْلِ مَقَامَ الْفِعْلِ نَفْسِهِ. (قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اللَّهُ أَكْثَرُ) : بِالْمُثَلَّثَةِ فِي الْأَكْثَرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ، فَمَعْنَاهُ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَكْثَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ: اللَّهُ أَكْثَرُ إِجَابَةً مِنْ دُعَائِكُمْ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ فَضْلُ اللَّهِ أَكْثَرُ، أَيْ: مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِهِ وَسِعَةِ كَرَمِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ فِي مُقَابَلَةِ دُعَائِكُمْ، أَوِ اللَّهُ أَغْلَبُ فِي الْكَثْرَةِ يَعْنِي فَلَا تُعْجِزُونَهُ فِي الِاسْتِكْثَارِ، فَإِنَّ خَزَائِنَهُ لَا تَنْفَدُ، وَعَطَايَاهُ لَا تَفْنَى. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ وَافَقَنِي لِبَعْضِ الْمُوَافَقَةِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ: اللَّهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَعَطَاءً مِمَّا فِي نُفُوسِكُمْ، فَأَكْثِرُوا مَا شِئْتُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُقَابِلُ أَدْعِيَتَكُمْ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا وَأَجَلُّ، ثُمَّ قَالَ: وَبِمَا قَرَّرْتُهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ لِقَوْلِ الشَّارِحِ: اللَّهُ أَكْثَرُ إِجَابَةً مِنْ دُعَائِكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَابِهَا أَكْثَرُ وَأَبْلَغُ مِنْ دُعَائِكُمْ فِي بَابِهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَالصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِأَكْثَرِ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ (نُكْثِرُ) اهـ. فَقَوْلِي: مِمَّا فِي نُفُوسِكُمُ انْدَفَعَ بِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ. قُلْتُ: فِيهِ إِيهَامَانِ لَا يُلَائِمَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي نُفُوسِهِمْ عَدَمَ إِكْثَارِ اللَّهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَكْثَرِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ، وَالْحَالُ أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا غَايَةَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

2260 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَمْسُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِرَ، وَدَعْوَةُ الْحَاجِّ حَتَّى يَصْدُرَ، وَدَعْوَةُ الْمُجَاهِدِ حَتَّى يَقْعُدَ، وَدَعْوَةُ الْمَرِيضِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَدَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ " ثُمَّ قَالَ: وَأَسْرَعُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ إِجَابَةً دَعْوَةُ الْأَخِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ» " (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2260 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَمْسُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ» " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ " دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِرَ ": أَيْ: إِلَى أَنْ يَنْتَقِمَ مِنَ الظَّالِمِ بِلِسَانِهِ أَوْ بِيَدِهِ، لِأَنَّهُ إِنِ انْتَقَمَ بِمِثْلِ حَقِّهِ شَرْعًا، فَقَدِ اسْتَوْفَى، أَوْ أَنْقَصَ فَوَاضِحٌ، أَوَّلًا بِمِثْلِهِ شَرْعًا أَوْ بِأَزْيَدَ صَارَ ظَالِمًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: (حَتَّى) فِي الْقَرَائِنِ الْأَرْبَعِ. بِمَعْنَى (إِلَى) كَقَوْلِكَ: سَرْتُ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَا قَبْلَهَا.

(وَدَعْوَةُ الْحَاجِّ) : أَيِ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ أَوِ الْأَصْغَرُ (حَتَّى يَصْدُرَ) : بِضَمِّ الدَّالِّ أَيْ: إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ وَأَهْلِهِ، أَوْ يَنْصَرِفَ وَيَفْرُغَ عَنْ حَجِّهِ وَعَمَلِهِ، (وَدَعْوَةُ الْمُجَاهِدِ) : أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ الْمُجْتَهِدِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، (حَتَّى يَقْعُدَ) : بِسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ الْعَيْنِ. أَيْ: عَنِ الْجِهَادِ أَوِ الْمُجَاهَدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: " يَفْقِدَ " مَا يَسْتَتِبُّ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَتِهِ، أَيْ: حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا اهـ. وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ أَيْ: تَهَيَّأَ وَاسْتَقَامَ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى الثَّانِي، وَقَالَ: هُوَ مِنْ: فَقَدَ يَفْقِدُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ أَيْ: إِلَى أَنْ يَجِدَ أُهْبَةَ جِهَادِهِ لِفَرَاغِهَا، أَوْ سَرِقَتِهَا، أَوْ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ جِهَادِهِ اهـ. فَحِينَئِذٍ الصَّحِيحُ الْآخَرُ ; إِذِ الْأَوَّلَانِ لَا يَمْنَعَانِ الْإِجَابَةَ، بَلْ يُقَوِّيَانِهَا، وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي هَامِشِ الْمِشْكَاةِ: حَتَّى يَقْفُلَ بِسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ الْفَاءِ بِمَعْنَى: يَرْجِعَ، وَمِنْهُ الْقَافِلَةُ تَفَاؤُلًا، وَرَمَزَ عَلَيْهِ بِالظَّاءِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى الظَّاهِرِ، سِيَّمَا وَالرِّوَايَتَانِ ثَابِتَتَانِ، وَمَعْنَاهُمَا ظَاهِرَانِ (وَدَعْوَةُ الْمَرِيضِ حَتَّى يَبْرَأَ) : أَيْ: يَتَعَافَى أَوْ يَمُوتَ (وَدَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ) : أَيْ: فِي غَيْبَةِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَلْقَاهُ (ثُمَّ قَالَ: وَأَسْرَعُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ إِجَابَةً دَعْوَةُ الْأَخِ) : أَيْ: لِأَخِيهِ (بِظَهْرِ الْغَيْبِ) : لِدَلَالَتِهَا عَلَى خُلُوصِ النِّيَّةِ، وَصَفَاءِ الطَّوِيَّةِ، وَالْبَقِيَّةُ لَا تَخْلُو دَعْوَتُهُمْ عَنْ حُظُوظِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَأَغْرَاضِهِمُ الطَّبِيعِيَّةِ، وَلِذَا وَرَدَ: إِنَّ اللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

[باب ذكر الله عز وجل والتقرب إليه]

[بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2261 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَيْمَنْ عِنْدَهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1 - بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ الْجَزَرِيُّ: لَيْسَ فَضْلُ الذَّكَرِ مُنْحَصِرًا فِي التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، بَلْ كُلُّ مُطِيعٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِي عَمَلٍ، فَهُوَ ذَاكِرٌ، وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ الْقُرْآنُ، إِلَّا فِيمَا شُرِعَ لِغَيْرِهِ أَيْ: كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ ذِكْرٍ مَشْرُوعٌ أَيْ: مَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مُسْتَحَبًّا، لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ وَيُسْمِعَ بِهِ نَفْسَهُ اهـ. وَمَقْصُودُهُ الْحُكْمُ الْفِقْهِيُّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ فِي بَاطِنِهِ حَالَةَ الْقِرَاءَةِ، أَوْ سَبَّحَ بِلِسَانِ قَلْبِهِ حَالَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لَا يَكُونُ آتِيًا بِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ وَسُنَّةِ التَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ الْأُخْرَوِيُّ، لِمَا أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَفَضْلُ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ الْحَفَظَةُ سَبْعُونَ ضِعْفًا. إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَجَمَعَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ لِحِسَابِهِمْ، وَجَاءَتِ الْحَفَظَةُ بِمَا حَفِظُوا وَكَتَبُوا، قَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا هَلْ بَقِيَ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَيَقُولُونَ: مَا تَرَكْنَا شَيْئًا مِمَّا عَلِمْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَيْنَاهُ وَكَتَبْنَاهُ فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لَكَ عِنْدِي حَسَنًا لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنَا أَجْزِيكَ بِهِ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ» " ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْبُدُورِ السَّافِرَةِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ (وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ) : أَيِ: التَّقَرُّبُ بِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، أَوِ التَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى هَذَا بَابٌ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي شَأْنِهِمَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2261 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ» : إِنْ أُرِيدَ بِالْقُعُودِ ضِدُّ الْقِيَامِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ هَيْئَاتِ الذَّاكِرِ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى جَمْعِيَّةِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَإِنْ كَانَ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِمْرَارِ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مُدَاوَمَةِ الْأَذْكَارِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: التَّعْبِيرُ بِهِ لِلْغَالِبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ مَعَ الدُّخُولِ فِي عِدَادِ الذَّاكِرِينَ لِتَعُودَ عَلَيْهِ بَرَكَةُ أَنْفَاسِهِمْ وَلَحْظُ

إِينَاسِهِمْ اهـ. فَلَا يُنَافِيهِ قِيَامُهُ لِطَاعَةٍ، كَطَوَافٍ وَزِيَارَةٍ وَصَلَاةِ جِنَازَةٍ وَطَلَبِ عِلْمٍ وَسَمَاعِ مَوْعِظَةٍ (إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ) : أَيْ: أَحَاطَتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ (وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ) : أَيْ: غَطَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْخَاصَّةُ بِالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، (وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ) : أَيْ: الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] (وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ) : أَيْ: مُبَاهَاةً وَافْتِخَارًا بِهِمْ بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ عَلَيْهِمْ، وَبِوَعْدِ الْجَزَاءِ الْجَزِيلِ لَهُمْ (فِيمَنْ عِنْدَهُ) : أَيْ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهِيَ عِنْدِيَّةُ مَكَانَةٍ لَا مَكَانٍ، لِتَعَالِيهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَسَائِرِ سِمَاتِ الْحَدَثَانِ وَالنُّقْصَانِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

2262 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ، فَقَالَ: " سِيرُوا، هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ " قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2262 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ) : أَيْ: سَيْرًا ظَاهِرًا، وَفِي طَرِيقِ رَبِّ الْكَعْبَةِ سَيْرًا بَاطِنًا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَاهِبًا إِلَى مَكَّةَ، أَوْ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، (فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ) : عَلَى لَيْلَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ (يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفِي آخِرِهِ نُونٌ، وَهُوَ مَعَ جَمَادِيَّتِهِ يَشْعُرُ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَيَسْتَبْشِرُ بِمَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَابِ الْعِرْفَانِ، كَمَا وَرَدَ: «أَنَّ الْجَبَلَ يُنَادِي الْجَبَلَ بِاسْمِهِ، أَيْ: فُلَانُ هَلْ مَرَّ بِكَ أَحَدٌ ذَكَرَ اللَّهَ؟ فَإِذَا قَالَ: نَعَمِ اسْتَبْشَرَ» ، الْحَدِيثَ. (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) . وَفِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَبَاحٍ وَلَا رَوَاحٍ إِلَّا وَبِقَاعُ الْأَرْضِ يُنَادِي بَعْضُهَا بَعْضًا: هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ صَلَّى عَلَيْكَ أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ عَلَيْكَ؟ فَمِنْ قَائِلَةٍ نَعَمْ، وَمِنْ قَائِلَةٍ لَا. فَإِذَا قَالَتْ نَعَمْ عَلِمَتْ أَنَّ لَهَا بِذَلِكَ فَضْلًا عَلَيْهَا» . (فَقَالَ: " سِيرُوا) : أَيْ: سَيْرًا حَسَنًا مَقْرُونًا بِذِكْرٍ وَحُضُورٍ وَشُكْرٍ وَسُرُورٍ " هَذَا جُمْدَانُ ": مُتَحَرِّكٌ بِالسَّيَرَانِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَهُ سَاكِنًا كَالْحَيْرَانِ، سُئِلَ الْجُنَيْدُ، لِمَ تَرَكْتَ السَّمَاعَ؟ فَقَالَ: قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88] (سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَسْكُورَةِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: الْمُفَرِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ أَقْرَانِهِمْ، الْمُمَيِّزُونَ أَحْوَالَهُمْ عَنْ إِخْوَانِهِمْ بِنَيْلِ الزُّلْفَى وَالْعُرُوجِ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى؛ لِأَنَّهُمْ أَفْرَادٌ بِذِكْرِ اللَّهِ عَمَّنْ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ أَوْ جَعَلُوا رَبَّهُمْ فَرْدًا بِالذِّكْرِ، وَتَرَكُوا ذِكْرَ مَا سِوَاهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّفْرِيدِ هُنَا. (قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ!) : قِيلَ: السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَةِ أَعْنِي التَّفْرِيدَ، أَوِ الْإِفْرَادَ، لِأَنَّهُ مَا يُسْأَلُ بِهِ عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ يُسْأَلُ بِهِ عَنْ وَصْفِهِ أَيْضًا نَحْوَ سُؤَالِ فِرْعَوْنَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] وَجَوَابِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشعراء: 24] فِي وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا: وَمَنْ هُمْ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ التَّفْرِيدَ الْحَقِيقِيَّ الْمُعْتَدَّ لَهُ هُوَ تَفْرِيدُ النَّفْسِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا صِفَةُ الْمُفَرِّدِينَ حَتَّى نَتَأَسَّى بِهِمْ فَنَسْبِقَ إِلَى مَا سَبَقُوا إِلَيْهِ وَنَطَّلِعَ عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ؟ (قَالَ: " الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا) : أَيْ: ذِكْرًا كَثِيرًا. قِيلَ: فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا يَدُلُّ لَهُ تَفْسِيرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ

آخَرَ: (وَالذَّاكِرَاتُ) : أَيِ: اللَّهَ، وَحَذْفُهُ لِلِاكْتِفَاءِ، أَوْ لِأَنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ تُوجَدُ كَثِيرًا فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: الذَّاكِرَاتُهُ، فَحَذَفَ الْهَاءَ كَمَا حُذِفَ فِي التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، وَلِأَنَّهُ مَفْعُولٌ وَحَذْفُهُ شَائِعٌ اهـ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ صَحِيحٌ، وَالذَّاكِرُ الْكَثِيرُ هُوَ أَنْ لَا يَنْسَى الرَّبَّ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا الذِّكْرُ بِكَثْرَةِ اللُّغَاتِ، وَالْمُرَادُ هُمُ الْمُسْتَخْلَصُونَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، الْمُسْتَغْنُونَ لِذِكْرِهِ، الْمُولَعُونَ بِفِكْرِهِ، الْقَائِمُونَ بِوَظِيفَةِ شُكْرِهِ، الْمُعْتَزِلُونَ عَنْ غَيْرِهِ، هَجَرُوا الْخِلَّانَ، وَتَرَكُوا الْأَوْطَانَ، وَقَطَعُوا الْأَسْبَابَ، وَلَازَمُوا الْبَابَ، وَانْفَصَلُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَانْفَطَمُوا عَنِ اللَّذَّاتِ، لَا لَذَّةَ لَهُمْ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا نِعْمَةَ لَهُمْ إِلَّا بِشُكْرِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ مَقَامُ التَّفْرِيدِ بَعْدَ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] أَيِ: انْقَطِعْ إِلَيْهِ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " مَا " بِمَعْنَى " مِنْ "، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ " مَا " هَاهُنَا تَغْلِيبُ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى ذَوِي الْعُقُولِ لِقِلَّتِهِمْ، لِمَا عَرَفْتَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَهَا حَظٌّ مِنَ الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَمَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَالْخَشْيَةِ مِنْهُ عَلَى مَا حَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا قَرُبُوا أَيِ: الصَّحَابَةُ مِنَ الْمَدِينَةِ اشْتَاقُوا إِلَى الْأَوْطَانِ، فَتَفَرَّدَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَسَبَقُوا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُتَخَلِّفِينَ: " سِيرُوا فَقَدْ قَرُبَ الدَّارُ، وَهَذَا جُمْدَانُ، وَسَبَقَكُمُ الْمُفَرِّدُونَ " يُقَالُ فَرَّدَ بِرَأْيِهِ وَأَفْرَدَ وَفَرَدَ بِمَعْنَى انْفَرَدَ بِهِ، وَيُقَالُ: فَرَّدَ نَفْسَهُ إِذَا تَبَتَّلَ لِلْعِبَادَةِ، وَأَمَّا جَوَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سُؤَالِهِمْ، فَمِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: دَعُوا سُؤَالَكُمْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ، وَسَلُوا عَنِ السَّابِقِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ الَّذِينَ أَفْرَدُوا أَنْفُسَهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَرَجٍّ لَا يُدْرَكُ أَهُوَ الْوَاقِعُ أَمْ لَا. حَيْثُ قَالَ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَلَمَّا قَرَبُوا إِلَخْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ فِي الْجَوَابِ: قَالَ الْمُسْتَهْتَرُونَ: بِفَتْحِ التَّاءَيْنِ أَيْ: الْمُبَالِغُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ: يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا.

2263 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2263 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ ": أَيْ: رَبَّهُ سَوَاءٌ ذَكَرَ غَيْرَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ " مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ": لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، فَالْحَيُّ يُزَيِّنُ ظَاهِرَهُ بِنُورِ الْحَيَاةِ وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ فِيمَا يُرِيدُ، وَبَاطِنَهُ بِنُورِ الْعِلْمِ وَالْإِدْرَاكِ، وَكَذَا الذَّاكِرُ مُزَيَّنٌ ظَاهِرُهُ بِنُورِ الطَّاعَةِ، وَبَاطِنُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ، وَغَيْرُ الذَّاكِرِ ظَاهِرُهُ عَاطِلٌ وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ، وَقِيلَ: مَوْقِعُ التَّشْبِيهِ النَّفْعُ لِمَنْ يُوَالِيهِ، وَالضُّرُّ لِمَنْ يُعَادِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُدَاوَمَةَ ذِكْرِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ تُورِثُ الْحَيَاةَ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي لَا فَنَاءَ لَهَا كَمَا قِيلَ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا يَمُوتُونَ وَلَكِنْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ: ( «الْبَيْتُ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» ) فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَثَلُ بَيْتِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ الْقَلْبُ، فَإِنَّهُ بَيْتُ الرَّبِّ، فَطُوبَى لِمَنْ أَحْيَاهُ وَعَمَّرَهُ، وَيَا حَسْرَتَى عَلَى مَنْ أَخْرَبَهُ وَغَمَرَهُ.

2264 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2264 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي ": أَيِ: الْمُؤْمِنِ (بِي) : وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: إِنْ ظَنَّ خَيْرًا، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَظُنَّ بِي إِلَّا خَيْرًا، وَالْمَعْنَى أَنِّي عِنْدَ يَقِينِهِ لِي فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى فَضْلِي، وَالِاسْتِيثَاقِ بِوَعْدِي، وَالرَّهْبَةِ مِنْ وَعِيدِي، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدِي. أُعْطِيهِ إِذَا سَأَلَنِي، وَأَسْتَجِيبُ لَهُ إِذَا دَعَانِي. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّنُّ لَمَّا كَانَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْيَقِينِ وَالشَّكِّ، اسْتُعْمِلَ تَارَةً بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَذَلِكَ إِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُهُ، وَبِمَعْنَى الشَّكِّ إِذَا ضَعُفَتْ عَلَامَاتُهُ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] أَيْ: يُوقِنُونَ وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} [القصص: 39]

أَيْ: تَوَهَّمُوا. وَالظَّنُّ فِي الْحَدِيثِ يَجُوزُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَا أُعَامِلُهُ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِ بِي، وَأَفْعَلُ بِهِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنِّي مِنْ ضُرٍّ أَوْ شَرٍّ، وَالْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى تَغْلِيبِ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» " وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالظَّنِّ الْيَقِينُ، وَالْمَعْنَى، أَنَا عِنْدَ يَقِينِهِ بِي، وَعِلْمِهِ بِأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَيَّ وَحِسَابَهُ عَلَيَّ، وَأَنَّ مَا قَضَيْتُ بِهِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتُ. أَيْ: إِذَا رَسَخَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ، وَتَمَكَّنَ فِي الْإِيمَانِ وَالْوُثُوقِ بِاللَّهِ قَرُبَ مِنْهُ وَرَفَعَ لَهُ الْحِجَابَ بِحَيْثُ إِذَا دَعَاهُ أَجَابَ، وَإِذَا سَأَلَهُ اسْتَجَابَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: " «إِذَا عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لَهُ» ". وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَحْسَنَ عَبْدٌ ظَنَّهُ بِاللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَعْطَاهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِيَدِهِ، فَإِذَا أَعْطَاهُ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ، فَقَدْ أَعْطَاهُ مَا يَظُنُّهُ لِأَنَّ الَّذِي حَسُنَ ظَنُّهُ بِهِ هُوَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَهُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: إِنْ لَمْ تُحْسِنْ ظَنَّكَ بِهِ لِأَجْلِ حُسْنِ وَصْفِهِ، حَسِّنْ ظَنَّكَ بِهِ لِأَجْلِ مُعَامَلَتِهِ مَعَكَ، فَهَلْ عَوَّدَكَ إِلَّا حَسَنًا؟ وَهَلْ أَسْدَى إِلَيْكَ إِلَّا مِنَنًا؟ . قَالَ شَارِحٌ الْحَكَمُ بْنُ عَبَّادٍ: حُسْنُ الظَّنِّ يُطْلَبُ مِنَ الْعَبْدِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ، وَفِي أَمْرِ آخِرَتِهِ، أَمَّا أَمْرُ دُنْيَاهُ: فَأَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي إِيصَالِ الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا سَعْيٍ، أَوْ بِسَعْيٍ خَفِيفٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَمَأْجُورٍ عَلَيْهِ، وَبِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ فَرْضٍ وَلَا نَفْلٍ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ سُكُونًا وَرَاحَةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ، فَلَا يَسْتَفِزُّهُ طَلَبٌ وَلَا يُزْعِجُهُ سَبَبٌ، وَأَمَّا أَمْرُ آخِرَتِهِ: فَأَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الرَّجَاءِ فِي قَبُولِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَتَوْفِيَةِ أُجُورِهِ عَلَيْهَا فِي دَارِ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ الْمُبَادَرَةَ لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالتَّكْثِيرِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ بِوِجْدَانِ حَلَاوَةٍ وَاغْتِبَاطٍ، وَلَذَاذَةٍ وَنَشَاطٍ، وَمِنْ مَوَاطِنِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُفَارِقَهُ فِيهَا: أَوْقَاتُ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَحُلُولِ الْمَصَائِبِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْبَدَنِ، لِئَلَّا يَقَعَ بِسَبَبِ عَدَمِ ذَلِكَ فِي الْجَزَعِ وَالسُّخْطِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: مَنْ ظَنَّ انْفِكَاكَ لُطْفِهِ عَنْ قَدْرِهِ، فَذَاكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ. وَإِنَّمَا بَسَطْتُ الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَنَامِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْغُرُورِ وَحُسْنِ الظَّنِّ. (وَأَنَا مَعَهُ) : أَيْ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْحِفْظِ وَالْمَعُونَةِ أَوْ أَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ، أَوْ عَالِمٌ بِحَالِهِ لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ مَقَالِهِ (إِذَا ذَكَرَنِي) : أَيْ: بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ (فَإِنْ ذَكَرَنِي) : تَفْرِيعٌ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ الذَّاكِرِ، سَوَاءٌ ذَكَرَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ (فِي نَفْسِهِ) : أَيْ: سِرًّا وَخُفْيَةً أَوْ تَثْبِيتًا وَإِخْلَاصًا (ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي) : أَيْ: أُسِرُّ بِثَوَابِهِ عَلَى مِنْوَالِ عَمَلِهِ، وَأَتَوَلَّى بِنَفْسِي إِثَابَتَهُ لَا أَكِلْهُ إِلَى غَيْرِي (وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ) : أَيْ: مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ فِي حَضْرَتِهِمْ (ذَكَرْتُهُ) : أَيْ: بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَإِعْطَاءِ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ وَحُسْنِ الْقَبُولِ وَتَوْفِيقِ الْوُصُولِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُجَازَاةُ الْعَبْدِ بِأَحْسَنِ مِمَّا فَعَلَهُ وَأَفْضَلِ مِمَّا جَاءَ بِهِ (فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ) : أَيْ: مِنْ مَلَأِ الذَّاكِرِينَ مِنْ حَيْثُ عِصْمَتُهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَشِدَّةُ قُوَّتِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَمَالُ إِطِّلَاعِهِمْ عَلَى أَسْرَارِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَمُشَاهَدَتُهُمْ أَنْوَاعَ أَنْوَارِ الْمَلَكُوتِيَّةِ، وَلَفْظُ الْحِصْنِ: خَيْرٌ مِنْهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْمَلَأِ. قَالَ مِيرَكُ فِي حَاشِيَةِ الْحِصْنِ: كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ السَّمَاعِ وَجَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ مِنْهُ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ، وَالَّذِي فِي الْأُصُولِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْهُمْ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَرْوَاحِ الْمُرْسَلِينَ، فَلَا دَلَالَةَ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلَ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اخْتُلِفَ هَلِ الْبَشَرُ خَيْرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ رَجَّحَ كُلًّا مُرَجِّحُونَ، قِيلَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ خَوَاصَّ الْبَشَرِ كَالْأَنْبِيَاءِ خَيْرٌ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ كَجِبْرِيلَ، وَأَمَّا عَوَامُّ الْبَشَرِ فَلَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَصْلًا، فَقَوْلُهُ: " فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ " أَيْ: خَيْرٌ مِنْهُمْ حَالًا: فَإِنَّ حَالَ الْمَلَائِكَةِ خَيْرٌ مِنْ حَالِ الْإِنْسِ فِي الْجِدِّ وَالطَّاعَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] وَأَحْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ طَاعَةٍ، وَمَعْصِيَةٍ، وَجِدٍّ، وَفَتْرَةٍ اهـ.

وَمُرَادُ الطِّيبِيِّ أَنَّ جِنْسَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يُنَافِيهِ التَّفْصِيلُ الْمَشْهُورُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَالْمَلَأُ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ الَّذِينَ تَقَرَّرَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّنَا، وَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافٍ مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ رَدُّ قَوْلِ الشَّارِحِ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّ مَلَأَ الذَّاكِرِ قَدْ يَكُونُ فِيهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ الطِّيبِيِّ، أَوْ مِنْ حَمْلِ الْخَيْرِيَّةِ عَلَى الْأَمْرِ الْإِضَافِيِّ أَوِ الِاسْتِغْرَاقِيِّ أَوِ الْغَالِبِيِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: " «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا ذَكَرْتَنِي خَالِيًا ذَكَرْتُكَ خَالِيًا وَإِذَا ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنَ الَّذِينَ تَذْكُرُنِي فِيهِمْ» " وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

2265 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاءُهُ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2265 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ " أَيْ: غَيْرَ مُبْطَلَةٍ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ مَنْ فَعَلَ الْحَسَنَةَ، وَالْحَسَنَةُ الْمَعْهُودَةُ هُنَا الْمُرَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] أَيْ: بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا أَيَّ فَرْدٍ كَانَ (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالٍ) : أَيْ ثَوَابُ عَشْرِ حَسَنَاتٍ أَمْثَالِهَا حُذِفَ الْمُمَيَّزُ الْمَوْصُوفُ، وَأُقِيمَ الصِّفَةُ مَقَامَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَهُ عَشْرَ مَثُوبَاتٍ كُلٌّ مِنْهَا مِثْلُ تِلْكَ الْحَسَنَةِ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَهَذَا أَقَلُّ الْمُضَاعَفَةِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ، وَلِذَا قَالَ: (وَأَزِيدُ) : أَيْ: لِمَنْ أُرِيدُ الزِّيَادَةَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ عَلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ ضِعْفٍ، وَإِلَى مِائَةِ أَلْفٍ، وَإِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ (وَمَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ) : أَيْ: غَيْرَ مُكَفَّرَةٍ وَهِيَ الْمَعْهُودَةُ كَمَا سَبَقَ (فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا) أَيْ: عَدْلًا (أَوْ أَغْفِرُ) : فَضْلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: اخْتَصَّ ذِكْرَ الْجَزَاءِ بِالثَّانِيَةِ، لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ كُلُّهُ إِفْضَالٌ وَإِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ، وَمَا يُقَابِلُ السَّيِّئَةَ فَهُوَ عَدْلٌ وَقِصَاصٌ، فَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ كَالثَّوَابِ، فَخُصَّ بِالْجَزَاءِ. وَأَمَّا إِعَادَةُ السَّيِّئَةِ نَكِرَةً فَلِتَنْصِيصِ مَعْنَى الْوَحْدَةِ الْمُبْهَمَةِ فِي السَّيِّئَةِ الْمُعَرَّفَةِ الْمُطْلَقَةِ وَتَقْرِيرِهَا، وَأَمَّا مَعْنَى الْوَاوِ فِي (وَأَزِيدُ) ، فَلِمُطْلَقِ الْجَمْعِ إِنْ أُرِيدَ بِالزِّيَادَةِ الرُّؤْيَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَضْعَافُ، فَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوِ التَّنْوِيعِيَّةِ، كَمَا هِيَ قَوْلُهُ: " أَوْ أَغْفِرُ " وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ أَنَّ الْعَشْرَ وَالزِّيَادَةَ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا، بِخِلَافِ جَزَاءِ مِثْلِ السَّيِّئَةِ وَمَغْفِرَتِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَوَجَبَ ذِكْرُ " أَوْ " الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ (وَمَنْ تَقَرَّبَ) : أَيْ: طَلَبَ الْقُرْبَةَ (مِنِّي) : أَيْ: بِالطَّاعَةِ (شِبْرًا) : أَيْ: مِقْدَارًا قَلِيلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: شِبْرًا وَذِرَاعًا وَبَاعًا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ مِقْدَارَ شِبْرٍ تَقَرَّبْتُ) أَيْ: الرَّحْمَةُ (مِنْهُ ذِرَاعًا) قِيلَ: أَيْ: أَوْصَلْتُ رَحْمَتِي إِلَيْهِ مِقْدَارًا أَزْيَدَ مِنْهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مُجَازَاتُهُ وَإِثَابَتُهُ بِأَضْعَافِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَسُمِّيَ الثَّوَابُ تَقَرُّبًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِ وَبِسَبَبِهِ، وَقِيلَ: تَقَرُّبُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ وَشَرْحِ صَدْرِهِ لِمَا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْمَعْنَى إِذَا قَصَدَ ذَلِكَ وَعَمِلَهُ أَعَنْتُهُ عَلَيْهِ وَسَهَّلْتُهُ لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَيَسْتَحِيلُ إِرَادَةُ ظَاهِرِهِ، فَمَعْنَاهُ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِطَاعَتِي تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بِرَحْمَتِي (وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا) : وَهُوَ قَدْرُ مَدِّ الْيَدَيْنِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبَدَنِ، وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَ الْعَبْدُ قُرْبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى زَادَ اللَّهُ رَحْمَتَهُ بِهِ، فَذِكْرُ الذِّرَاعِ لِلتَّمْثِيلِ وَالتَّصْوِيرِ لِإِفْهَامِهِمْ لِمُجَازَاةِ الْعَبْدِ فِيمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ بِمُضَاعَفَةِ لُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ (وَمَنْ أَتَانِي) : حَالَ كَوْنِهِ (يَمْشِي) : أَيْ: فِي طَاعَتِي (أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) : وَهِيَ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ دُونَ الْعَدْوِ، أَيْ: صَبَبْتُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةَ، وَقِيلَ: أَيْ: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي بِسُهُولَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَتِي بِسُرْعَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهِيَ حَالٌ أَيْ: مُهَرْوِلًا، أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ؛ لِأَنَّ الْهَرْوَلَةَ نَوْعٌ مِنَ الْإِتْيَانِ، فَهُوَ كَرَجَعْتُ الْقَهْقَرَى، لَكِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ يَمْشِي حَالٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا كَالشَّرْحِ لِمَا أَفْهَمَهُ إِعْطَاءُ الْعَشْرِ، وَالزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَسَنَةِ مِنْ أَنَّ سِعَةَ تَفَضُّلِهِ عَلَى عِبَادِهِ بَلَغَتِ الْغَايَةَ الَّتِي مَا وَرَاءَهَا غَايَةٌ.

قُلْتُ: كَمَا يَدُلُّ عَلَى سِعَةِ مَغْفِرَتِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: " أَوْ أَغْفِرُ " قَوْلُهُ: " وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ ": بِضَمِّ الْقَافِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: بِمِثْلِهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرْبِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: بِمَا يَقْرُبُ مِلْأَهَا مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ (خَطِيئَةً) : تَمْيِيزٌ (لَا يُشْرِكُ بِي) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَقِيَنِي الْعَائِدِ إِلَى مَنْ، (شَيْئًا) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116] (لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً) : أَيْ: إِنْ أَرَدْتُ ذَلِكَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] وَنُكْتَةُ حَذْفِهِ فِي الْحَدِيثِ اسْتِغْنَاءٌ بِعِلْمِهِ مِنْهَا، وَمُبَالَغَةٌ فِي سِعَةِ بَابِ الرَّجَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ دَفْعُ الْيَأْسِ بِكَثْرَةِ الذُّنُوبِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَطَايَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَيِّهِمْ اهـ. أَيْ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى الذَّنَبِ الْكَبِيرِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الذَّنْبِ الْحَقِيرِ، أَوْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّنُوبَ الْكَثِيرَةَ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى السَّيِّئَةِ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ آخِرِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا أَوَّلُهُ: فَفِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْثِيثُ عَلَى الْمُجَاهَدَةِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ دَفْعًا لِلْفُتُورِ وَالتَّكَاسُلِ وَالْقُصُورِ، فَالْحَدِيثُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ نَافِعٌ لِأَمْرَاضِ قُلُوبِ السَّالِكِينَ، وَمُحَرِّكٌ لِشَوْقِ الطَّالِبِينَ، وَمُقَوٍّ لِصُدُورِ الْمُذْنِبِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْأَحَادِيثِ حَدِيثٌ أَرْجَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَتَّبَ قَوْلَهُ: " لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً " عَلَى عَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَغْتَرَّ وَيَقُولَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُكْثِرُ الْخَطِيئَةَ حَتَّى يُكْثِرَ اللَّهُ الْمَغْفِرَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ كَيْلَا يَيْأَسَ الْمُذْنِبُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلَّهِ مَغْفِرَةً وَعُقُوبَةً، وَمَغْفِرَتُهُ أَكْثَرُ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَنَّهُ مِنَ الْمَغْفُورِينَ، أَوْ مِنَ الْمُعَاقَبِينَ لِإِبْهَامِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] فَإِذًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى، وَصَارَ كَالْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - وَلِذَا كَفَرَ مُنْكِرُهُ أَنَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ جَمَاعَةٍ مِنْ مُوَحِّدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ النَّارَ، ثُمَّ خُرُوجُهُمْ عَنْهَا، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَهِيَ حَالَةٌ مُبْهَمَةٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، كَمَا فِي النُّسْخَةِ الْمُعْتَمَدَةِ: وَاغْتَرَّ شَارِحٌ بِنُسْخَةٍ سَقِيمَةٍ وَحْدَهَا مُخَالِفَةٍ لِذَلِكَ، فَاعْتَرَضَ بِسَبَبِهَا عَلَى الْمَصَابِيحِ بِمَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ اهـ. وَلَمْ يَعْرِفِ الشَّارِحُ وَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ فَهُوَ تَجْهِيلُ مَجْهُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، إِذْ لَيْسَ تَحْتَهُ مَحْصُولٌ.

2266 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» " (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2266 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى) : أَيْ: آذَى (لِي وَلِيًّا) : أَيْ: وَاحِدًا مِنْ أَوْلِيَائِي فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ: مَنْ تَوَلَّى اللَّهُ أَمْرَهُ فَلَا يَكِلْهُ إِلَى نَفْسِهِ لَحْظَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] أَوْ لِمُبَالَغَةِ فَاعِلٍ، وَهُوَ الْمُتَوَلِّي عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ عَلَى التَّوَالِي بِلَا تَخَلُّلِ عِصْيَانٍ، وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى: مُرَادًا وَمَجْذُوبًا سَالِكًا، وَالثَّانِي: مُرِيدًا وَسَالِكًا مَجْذُوبًا، وَاخْتُلِفَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كُلُّ مُرَادٍ مُرِيدٌ، وَكُلُّ مُرِيدٍ مُرَادٌ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَالْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ (فَقَدْ آذَنْتُهُ) : بِالْمَدِّ أَيْ: أَعْلَمْتُهُ (بِالْحَرْبِ) : أَيْ: بِمُحَارَبَتِي إِيَّاهُ لِأَجْلِ وَلِيِّي، أَوْ بِمُحَارَبَتِهِ أَيْ يَعْنِي: فَكَأَنَّهُ مُحَارِبٌ لِي، قَالَ تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ مِنْ عِظَمِ الْخَطَرِ، إِذْ مُحَارَبَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى سُوءِ خَاتِمَتِهِ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا. (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي) : أَيِ: الْمُؤْمِنُ وَآثَرَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَبْدِ التَّقَرُّبَ إِلَى سَيِّدِهِ لِأَنْوَاعِ خِدْمَتِهِ وَأَصْنَافِ طَاعَتِهِ (بِشَيْءٍ) : مِنَ الْأَعْمَالِ (أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ) : أَيْ: مِنْ أَدَاءِ مَا أَوْجَبْتُ (عَلَيْهِ)

أَيْ: مِنَ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ، وَقَوْلُهُ: (أَحَبَّ) يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ وَسَائِلُ الْقُرْبِ كَثِيرَةً، وَأَحَبُّهَا إِلَى اللَّهِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا النَّوَافِلُ وَلِذَا قَالَ: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي) : أَيِ: الْقَائِمُ بِقُرْبِ الْفَرَائِضِ (يَتَقَرَّبُ) : أَيْ: يَطْلُبُ زِيَادَةَ الْقُرْبِ (إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ) أَيْ: بِقُرْبِ الطَّاعَاتِ الزَّوَائِدِ عَلَى الْفَرَائِضِ (حَتَّى أَحْبَبْتُهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: حَتَّى أُحِبَّهُ، أَيْ: حُبًّا كَامِلًا لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، خِلَافَ مَا يُوهِمُ كَلَامُ الطِّيبِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا يَزَالُ بَيَانُ أَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ النَّافِلَةُ هَذِهِ الْمَثَابَةُ، فَمَا الظَّنُّ بِالْمُفَضَّلِ الَّذِي هُوَ الْفَرَائِضُ؟ (فَكُنْتُ سَمْعَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِي فِي الْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ: حَتَّى أَحْبَبْتُهُ فَكُنْتُ سَمْعَهُ، (الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ) : بِضَمِّ الْيَاءِ (وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ: يَأْخُذُ (بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ: يَسَّرْتُ عَلَيْهِ أَفْعَالَهُ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى هَذِهِ الْآلَاتِ، وَوَفَّقْتُهُ فِيهَا، حَتَّى كَأَنِّي نَفْسُ هَذِهِ الْآلَاتِ، وَقِيلَ: أَيْ: يَجْعَلُ اللَّهُ حَوَاسَّهُ وَآلَاتِهِ وَسَائِلَ إِلَى رِضَائِهِ فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، فَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ بِهِ إِلَخْ. وَقِيلَ: أَيْ: يَجْعَلُ اللَّهُ سُلْطَانَ حُبِّهِ غَالِبًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَرَى إِلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يُحِبُّهُ، وَلَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا يُحِبُّهُ، وَيَكُونُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ لَهُ يَدًا وَعَوْنًا وَوَكِيلًا يَحْمِي سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ عَمَّا لَا يَرْضَاهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُنْتُ أَسْرَعَ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ مِنْ سَمْعِهِ فِي الِاسْتِمَاعِ، وَبَصَرِهِ فِي النَّظَرِ، وَيَدِهِ فِي اللَّمْسِ، وَرِجْلِهِ فِي الْمَشْيِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَزَادَ فِي التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ الْمُكَمِّلَاتِ لِلْفَرَائِضِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا دَوَامُ الذِّكْرِ الْمُوَصِّلِ إِلَى حُضُورِ الْوُصُولِ، وَسُرُورِ الْحُصُولِ، وَمَقَامِ الْفَنَاءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْبَقَاءِ بِرَبِّهِ، ظَهَرَ لَهُ آثَارُ مَحَبَّتِهِ الْأَزَلِيَّةُ وَانْكَشَفَ لَهُ أَنْوَارُ قُرْبَتِهِ الْأَبَدِيَّةُ، فَرَأَى أَنَّ مَا بِهِ مِنَ الْكَمَالِ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَقُوَّةِ الْقُوَى إِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَأَمَّا هُوَ فَعَدَمٌ مَحْضٌ فَلَا يُرَى فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَلَا يَسْمَعُ شَيْئًا وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَبْطِشُ وَلَا يَمْشِي، إِلَّا وَشَهِدَ أَنِّي الْمُوجِدُ لِذَلِكَ وَالْمُقَدِّرُ لَهُ، فَيَصْرِفُ جَمِيعَ مَا أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنْ طَاعَتِي، فَلَا يَسْتَعْمِلُ سَمْعَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ مَشَاعِرِهِ إِلَّا فِيمَا يُرْضِينِي وَيُقَرِّبُهُ مِنِّي، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِشَيْءٍ إِلَّا وَأَنَا مِنْهُ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ، فَأَنَا لَهُ عَيْنٌ وَيَدٌ وَرِجْلٌ وَعَوْنٌ وَوَكِيلٌ وَحَافِظٌ وَنَصِيرٌ، كَمَا هُوَ جَلِيٌّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْعِرْفَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ، إِذْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِمْ لِضِيقِ الْعِبَادَةِ عَمَّا يُوهِمُ لِغَيْرِ ذَوِي الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَغَالِيطِ الَّتِي هِيَ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ وَالِانْحِلَالُ عَنْ رَابِطَةِ الشَّرْعِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى مَضَايِقِ الضَّلَالِ. وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ لَكَ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ وَهِيَ: أَنَّ مَا أُشْكِلَ عَلَيْكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهَا فَبَادِرْ إِلَيْهِ كَقَوْلِ أَبِي يَزِيدَ: لَيْسَ فِي الْجُبَّةِ غَيْرُ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَإِنْ صَدَرَتْ فِي مَقَامِ غَيْبَةٍ فَلَا حَرَجَ عَلَى قَائِلِهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلِّفٍ حِينَئِذٍ، وَكَذَا إِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ صَدَرَتْ مَعَ تَحَقُّقِ صَحْوِهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ حُكْمُهَا الشَّرْعِيُّ، إِذِ الْوَلِيُّ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، وَالْمَحْفُوظُ رُبَّمَا فَرَطَ مِنْهُ مَا عُوتِبَ بِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ حَالُهُ (وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ) : بِالتَّأْكِيدِ، وَفِي التَّعْبِيرِ (بِأَنْ) دُونَ (إِذَا) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَقَامٍ يَتْرُكُ فِيهِ السُّؤَالَ اتِّكَالًا عَلَى عِلْمِهِ بِالْحَالِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ غَيْرَ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ (وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ الْأَشْهُرُ بِالنُّونِ بَعْدَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَالثَّانِي بِالْمُوَحَّدَةِ (لَأُعِيذَنَّهُ) : أَيْ: مِمَّا يَخَافُ مِنَ الْبُعْدِ (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ قَبْضِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَمَا فِي رِوَايَةٍ قِيلَ: التَّرَدُّدُ هُوَ التَّخَيُّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَصْلَحُ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَأَوَّلُوهُ عَلَى تَرْدِيدِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِطِ، وَجَعَلُوا قِصَّةَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ مَلَكِ الْمَوْتِ سَنَدًا لِقَوْلِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ التَّرَدُّدِ إِزَالَةُ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ عَنِ الْمُؤْمِنِ. مِمَّا يَبْتَلِيهِ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَاقَةِ وَغَيْرِهَا، فَأَخْذُهُ الْمُؤْمِنَ عَمَّا تَشَبَّثَ بِهِ مِنْ حُبِّ الْحَيَاةِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِالْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا يُشْبِهُ فِعْلَ الْمُتَرَدِّدِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّرَدُّدِ. وَقَالَ الْقَاضِي: التَّرَدُّدُ تَعَارُضُ الرَّأْيَيْنِ وَتَرَادُفُ الْخَاطِرَيْنِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُحَالًا فِي حَقِّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ وَمُنْتَهَاهُ الَّذِي هُوَ التَّوَقُّفُ وَالتَّأَنِّي فِي الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتٍ

الْمَخْلُوقِينَ كَالْغَضَبِ وَالْحَيَاءِ وَالْمَكْرِ، وَالْمَعْنَى مَا أَخَّرْتُ وَمَا تَوَقَّفْتُ تَوَقُّفَ الْمُتَرَدِّدِ فِي أَمْرٍ أَنَا فَاعِلُهُ إِلَّا فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ، أَتَوَقَّفُ فِيهِ وَأُرِيهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ النِّعَمِ وَالْكَرَامَاتِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِ وَيَمِيلَ قَلْبُهُ إِلَيْهِ شَوْقًا إِلَى أَنْ يَنْخَرِطَ فِي سِلْكِ الْمُقَرَّبِينَ، وَيَتَبَوَّأَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ (يَكْرَهُ الْمَوْتَ) : اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ: مَا سَبَبُ التَّرَدُّدِ؟ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ الْبَشَرِيِّ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَوْتِ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ يُوصِلُهُ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَكْرَهُهُ الْمُؤْمِنُ؟ (وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: إِيذَاءُهُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ صُعُوبَةِ الْمَوْتِ وَكَرْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أَكْرَهُ مَا يَسُوءُهُ؛ لِأَنِّي أَرْحَمُ بِهِ مِنْ وَالِدَيْهِ، لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِيَنْتَقِلَ مِنْ دَارِ الْهُمُومِ وَالْكُدُورَاتِ إِلَى دَارِ النَّعِيمِ وَالْمَسَرَّاتِ، فَعَلْتُهُ بِهِ إِيثَارًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى وَالْمَسَرَّةِ الْكُبْرَى، كَمَا أَنَّ الْأَبَ الشَّفُوقَ يُكَلِّفُ الِابْنَ بِمَا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ نَظَرًا لِكَمَالِهِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اهـ. وَهُوَ خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ إِضَافَةَ الْمُسَاءَةِ مَزْجُ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَرِهَهُ تَعَالَى لَمَا وُجِدَ فِي الْخَارِجِ، إِذْ وُجُودُ الْأَشْيَاءِ بِقُدْرَتِهِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا مُكْرِهَ لَهُ تَعَالَى فِي إِبْدَاءِ مَصْنُوعَاتِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِسَاءَةَ مُضَافَةٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي إِرَادَتَهُ، كَمَا حَقَّقَ فِي مَحَلِّهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالرِّضَا وَالْكَرَاهَةِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُرَادِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، بِالْمَعْنَى أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ لِكَرَاهَتِهِ الْمَوْتَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْرَهَ الْمَوْتَ بَلْ يُحِبُّهُ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَكَذَا فِي أَصْلِ مِيرَكَ، وَهُوَ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ لِابْنِ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ: وَالْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْمَوْتِ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ، أَوْ وَلِهَذَا لَا أَدْفَعُ عَنْهُ الْمَوْتَ، قَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قِيلَ: آخِرُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا: (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ) كَمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَلَا زِيَادَةُ لِفْظِ (قَبْضِ) عِنْدَ قَوْلِهِ: عَنْ قَبْضِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، وَلَا قَوْلُهُ: وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَالْمَذْكُورَاتُ وَرَدَتْ فِي حَدِيثٍ رَوَى أَنَسٌ نَحْوَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

2267 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ ": قَالَ: " فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا " قَالَ: " فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ: " يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُحَمِّدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ " قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ: " فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ " قَالَ: فَيَقُولُونَ: " لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا " قَالَ: فَيَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: " يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ: " فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ " قَالَ ": " يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَعُوذُونَ؟ " قَالَ: " يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ " قَالَ: " يَقُولُ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ " قَالَ: " يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا؟ " قَالَ: " يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً " قَالَ: فَيَقُولُ: " فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ". قَالَ: " يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ» " (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ: " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضْلًا يَبْتَغُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ، حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادِكَ فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ. قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا، أَيْ رَبِّ قَالَ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ. قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: يَسْتَغْفِرُونَكَ " قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا قَالَ: يَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، وَإِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2267 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ ": أَيْ: يَدُورُونَ فِي الطُّرُقِ) : أَيْ: طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي نُسْخَةٍ. بِالطُّرُقِ (يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ) : أَيْ: يَطْلُبُونَهُمْ لِيَزُورُوهُمْ وَيَسْتَمِعُوا ذِكْرَهُمْ (فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ) : بِأَيِّ ذِكْرٍ كَانَ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّمْجِيدُ، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّهْلِيلَ لِدَلَالَةِ التَّمْجِيدِ عَلَيْهِ، وَيَنْصُرُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ التَّهْلِيلَ بَدَلَ التَّمْجِيدِ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَخْذِهِ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَعَمُّ وَالْمَذْكُورَاتُ تَمْثِيلَاتٌ، أَوْ يَرْجِعُ جَمِيعُ مَعْنَى الْأَذْكَارِ إِلَى الْمَوْرُودَاتِ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ ذِكْرٍ أَفْضَلُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَذْكَارِ الْأَدْعِيَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ مَزِيَّةً وَمَرْتَبَةً (تَنَادَوْا) : أَيْ: نَادَى بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ بَعْضًا قَائِلِينَ: (هَلُمُّوا) : أَيْ: تَعَالَوْا مُسْرِعِينَ (إِلَى حَاجَتِكُمْ) : أَيْ: مِنَ اسْتِمَاعِ الذِّكْرِ وَزِيَارَةِ الذَّاكِرِ وَإِطَاعَةِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَعْمَلَ (هَلُمَّ) هُنَا عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ أَنَّهَا تُثَنَّى وَتُجْمَعُ وَتُؤَنَّثُ، وَلُغَةُ الْحِجَازِيِّينَ بِنَاءُ لَفْظِهَا عَلَى الْفَتْحِ وَبَقَاؤُهُ بِحَالِهِ مَعَ الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] . (قَالَ: أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ ": قِيلَ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: يُدِيرُونَ أَجْنِحَتَهُمْ حَوْلَ الذَّاكِرِينَ، وَقِيلَ لِلِاسْتِعَانَةِ أَيْ: يَطُوفُونَ وَيَدُورُونَ حَوْلَهُمْ لِأَنَّ حَقَّهُمُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى السَّمَاءِ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِالْأَجْنِحَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْآتِيَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ فَيَحُفُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِاسْتِعَانَتِهَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُمْ يَحُفُّونَ الذَّاكِرِينَ ثُمَّ يَحُفُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَوَجَّهُونَ (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَقِفُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَتَسْبِقُ مِنْهُمْ فِرْقَةٌ، فَيُحِيطُونَ بِهِمْ وَيَسْتُرُونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ، ثُمَّ تَلْحَقُهَا فِرْقَةٌ أُخْرَى فَتَحُفُّهُمْ

وَتَسْتُرُهُمْ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَصِلُوا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَمَوْقُوفٌ صِحَّتُهُ عَلَى نَقْلٍ مَرْفُوعٍ، وَإِلَّا فَهُوَ مَدْفُوعٌ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ فِي صِحَّةِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَنَقَلَ عَنِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلِاسْتِعَانَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَوْنُ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِيهِ وَقْفَةٌ انْتَهَى. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ (وَيَسْتُرُونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ) صَرِيحٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ دُونَ التَّعْدِيَةِ فَفِي مُعَارَضَتِهِ مُنَاقَضَةٌ. (قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ) : أَيْ: مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَهُوَ أَعْلَمُ) : حَالٌ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً أَوْ تَتْمِيمًا صِيَانَةً عَنِ التَّوَهُّمِ، يَعْنِي لِتَوَهُّمِ أَنْ تَكُونَ الْحَالُ مُنْتَقِلَةً، وَالْحَالُ أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّدْقِيقِ وَغَايَةٍ فِي التَّحْقِيقِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا التَّوَهُّمِ لَوْ سَلِمَ، كَيْفَ وَالْمَقْصُودُ رَفْعُ إِيهَامٍ فَيَسْأَلُهُمْ، انْتَهَى فَتَأَمَّلْ. (مَا يَقُولُ عِبَادِي؟) الْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَفَائِدَةُ السُّؤَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمَسْئُولِ التَّعْرِيضُ لِلْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِمْ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] الْآيَةَ قَالَ: أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَقُولُونَ) : أَيِ: الْمَلَائِكَةُ: (يُسَبِّحُونَكَ) : أَيْ: عِبَادُكَ يُسَبِّحُونَكَ (وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ) : بِالتَّخْفِيفِ (وَيُمَجِّدُونَكَ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يَذْكُرُونَكَ بِالْعَظَمَةِ أَوْ يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْمَجْدِ، وَهُوَ الْكَرَمُ، وَقِيلَ: ذِكْرُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْآتِيَةِ: ذَكَرَ التَّهْلِيلَ بَدَلَ التَّمْجِيدِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ لَيْسَ لِلِاشْتِرَاطِ، بَلْ لِلتَّمْثِيلِ بِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِبَعْضِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَالْغَرَضُ مِنَ الْكُلِّ إِفَادَةُ التَّهْلِيلِ الَّذِي هُوَ لُبُّ التَّوْحِيدِ وَخُلَاصَةُ التَّفْرِيدِ (قَالَ: فَيَقُولُ) : أَيِ: اللَّهُ (هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ) : أَقْسَمُوا زِيَادَةً فِي مَدْحِ الذَّاكِرِينَ (مَا رَأَوْكَ) : فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَسْبِيحَ بَنِي آدَمَ وَتَقْدِيسَهُمْ أَعْلَى وَأَشْرَفُ؛ لِأَنَّهُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مَعَ وُجُودِ الْمَوَانِعِ وَتَقْدِيسُ الْمَلَائِكَةِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ بِلَا صَارِفٍ (قَالَ: فَيَقُولُ) : أَيِ: اللَّهُ (كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ !) : تَعَجُّبٌ وَتَعْجِيبٌ وَجَوَابٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَيْفَ؟ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ أَيْ: لَوْ رَأَوْنِي مَا يَكُونُ حَالُهُمْ فِي الذِّكْرِ؟ (قَالَ: فَيَقُولُونَ) : وَفِي نُسْخَةٍ، يَقُولُونَ: (لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا) : أَيْ: تَعْظِيمًا (وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَحَمُّلَ مَشَقَّةِ الْخِدْمَةِ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ (قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونَ؟) : أَيْ: مِنِّي (قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سُؤَالَ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ فَإِنَّهَا دَارُ الْجَزَاءِ وَاللِّقَاءِ، وَإِنَّمَا ذُمَّ مَنْ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ إِلَّا لِرَجَاءِ الْجَنَّةِ أَوْ لِخَوْفِ النَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ. (قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ حِسِّيَّةٌ (فَيَقُولُونَ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: فَيَقُولُونَ (لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا: قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: (لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا) وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً) لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْمُعَايَنَةِ (قَالَ) : أَيِ: اللَّهُ (فَمِمَّ) : أَيْ: فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ (يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ مِنَ النَّارِ) : لِأَنَّهَا أَثَرُ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابُهُ وَمَحِلُّ أَصْحَابِ بُعْدِهِ وَحِجَابِهِ (قَالَ: فَيَقُولُ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: (يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا) : بِفِرَارِهِمْ عَمَّا يَجُرُّ إِلَيْهَا (وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً) : أَيْ: خَوْفًا فِي قُلُوبِهِمْ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا، وَهَذَا بَسْطٌ عَظِيمٌ فِي السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ اقْتَضَاهُ كَثْرَةُ ذِكْرِ رَبِّ الْأَرْبَابِ فِي جَمْعِ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِأَفْضَلِيَّةِ الْعِبَادَةِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِيمَانِ بِالشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا قِيلَ: الْمُكَاشَفَةُ التَّامَّةُ لِأَوْلِيَاءِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ مَا ذُكِرَ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَكَمَا

قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] (قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ) : أَيْ: بِذِكْرِهِمْ ; فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. (قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ) : كِنَايَةً عَنِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ (لَيْسَ مِنْهُمْ) : أَيْ: مِنَ الذَّاكِرِينَ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ، وَقِيلَ: مِنْ فُلَانٍ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ (إِنَّمَا جَاءَ) : أَيْ: إِلَيْهِمْ (لِحَاجَةٍ) : أَيْ: دُنْيَوِيَّةٍ لَهُ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ يُرِيدُ الْمَلَكُ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ، (قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ) : أَيِ: الْكَامِلُونَ (لَا يَشْقَى) : بِفَتْحِ الْيَاءِ (جَلِيسُهُمْ) : أَيْ: مُجَالِسُهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: هُمْ جُلَسَاءُ لَا يَخِيبُ جَلِيسُهُمْ عَنْ كَرَامَتِهِمْ فَيَشْقَى انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ تَرْغِيبٌ فِي مُخَالَطَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ. قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اصْحَبُوا مَعَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا فَاصْحَبُوا مَعَ مَنْ يَصْحَبُ مَعَ اللَّهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . (وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً) : أَيْ: كَثِيرَةَ السَّيْرِ، وَمِنْهُ أُخِذَ سِيَاحَةُ الصُّوفِيَّةِ (فُضْلًا) : صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَهُوَ بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِي تَخْفِيفًا؟ جَمْعُ فَاضِلٍ كَبُزْلٍ وَبَازِلٍ وَنُشْرٍ وَنَاشِرٍ، وَهُوَ مَنْ فَاقَ أَصْحَابَهُ وَأَقْرَانَهُ عِلْمًا وَشَرَفًا. وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَفِي نُسْخَةٍ " فُضَلَاءَ " عَلَى وَزْنِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: رِوَايَتُنَا فِي الْمِشْكَاةِ " فُضْلًا " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَالضَّادِ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ مَمْدُودًا. وَفِي الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ بِالنَّصْبِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: فُضْلًا ضَبَطْنَاهُ عَلَى أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ أَرْجَحُهَا وَأَشْهَرُهَا فِي بِلَادِنَا فُضُلًا بِضَمِّ الْفَاءِ وَالضَّادِ، وَالِثَانِي: بِضَمِّ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ، وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَادْعَى أَنَّهُ أَكْثَرُ وَأَصْوَبُ، وَالثَّالِثُ: بِفَتْحِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ. قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا الرِّوَايَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ مَشَايِخِنَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَالرَّابِعُ: بِضَمِّ الْفَاءِ وَالضَّادِ، وَرَفْعِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْخَامِسُ: فُضَلَاءُ بِالْمَدِّ جَمْعُ فَاضِلٍ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ زَائِدُونَ عَلَى الْحَفَظَةِ وَغَيْرِهِمْ، لَا وَظِيفَةَ لَهُمْ إِلَّا حِلَقُ الذِّكْرِ اهـ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيَّ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ فُضْلًا عَنْ كِتَابِ النَّاسِ (يَبْتَغُونَ) : أَيْ: يَطْلُبُونَ (مَجَالِسَ الذِّكْرِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: يَتَّبِعُونَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَفَتْحِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ يَتَتَبَّعُونَ مِنَ التَّفَعُّلِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ضَبَطُوهُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ التَّتَبُّعِ، وَهُوَ الْبَحْثُ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّفْتِيشُ، وَالثَّانِي: يَبْتَغُونَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الِابْتِغَاءِ وَهُوَ الطَّلَبُ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَبْتَغُونَ مِنَ الِابْتِغَاءِ، وَيُرْوَى يَتَتَبَّعُونَ مِنَ التَّتَبُّعِ. (فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ) : أَيْ: غَالِبًا (قَعَدُوا مَعَهُمْ) : أَيِ: الذَّاكِرِينَ (وَحَفَّ بَعْضُهُمْ) : أَيْ: بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ (بَعْضًا) : أَيْ: بَعْضًا آخَرَ مِنْهُمْ (بِأَجْنِحَتِهِمْ) : أَيْ: بِاسْتِعَانَتِهَا (حَتَّى يَمْلَئُوا) أَيِ: الْمَلَائِكَةُ (مَا بَيْنَهُمْ) : أَيْ: بَيْنَ الذَّاكِرِينَ (وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا) : أَيْ: أَهْلُ الذِّكْرِ (عَرَجُوا) : أَيِ: الْمَلَائِكَةُ (وَصَعِدُوا) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعُوا (إِلَى السَّمَاءِ) : أَيِ: السَّابِعَةِ (قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ) : أَيْ: بِهِمْ أَوْ بِحَالِهِمْ كَمَا فِي نُسْخَتَيْنِ (مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادِكِ) : فِيهِ غَايَةُ تَشْرِيفٍ لِبَنِي آدَمَ حَالَ كَوْنِهِمْ (فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ [وَيُمَجِّدُونَكَ] وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتُخَفَّفُ (قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ) قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا يَا رَبِّ! قَالَ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ !) قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ (لَوْ) مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَيْفَ؛ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ أَيْ: لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي مَا يَكُونُ حَالُهُمْ فِي الذِّكْرِ.

فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَجِيءِ جَوَابِ الْمَلَائِكَةِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا إِلَخْ، وَبَيْنَ عَدَمِ ذِكْرِ الْجَوَابِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ؟ قُلْتُ: (كَيْفَ) فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لِمُجَرَّدِ السُّؤَالِ عَنِ الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لِلتَّعْجِيبِ وَالتَّعَجُّبِ مَثَلًا (قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ) : عَطْفٌ عَلَى " وَيَسْأَلُونَكَ " وَالْجُمْلَةُ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ أَيْ: يَسْتَعِيذُونَكَ (قَالَ: وَمِمَّا يَسْتَجِيرُونِي؟) : بِالْوَجْهَيْنِ (قَالُوا: مِنْ نَارِكَ قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: يَسْتَغْفِرُونَكَ) : أَيْ: أَيْضًا. وَفِي نُسْخَةٍ: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ بِالْعَطْفِ (قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا) : لَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْوَاوِ إِلَى الْفَاءِ لِتَرْتِيبِ الْإِعْطَاءِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ (وَأَجَرْتُهُمْ) : مِنْ أَجَارَهُ يُجِيرُهُ إِذَا أَمَّنَهُ مِنَ الْخَوْفِ (مِمَّا اسْتَجَارُوا) : أَيْ: طَلَبُوا الْأَمَانَ (قَالَ: يَقُولُونَ: " رَبِّ!) : أَيْ: يَا رَبِّ (فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ) : أَيْ: كَثِيرُ الذُّنُوبِ أَوْ مُلَازِمٌ لِلذَّنْبِ، بَدَلٌ مِنْ فُلَانٍ (إِنَّمَا مَرَّ) : أَيْ: لِحَاجَةٍ (فَجَلَسَ مَعَهُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ إِلَّا الْمُرُورَ وَالْجُلُوسَ عَقِيبَهُ أَيْ مَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى اهـ أَيْ: مَا ذَكَرَ اللَّهَ قَصْدًا أَوْ إِخْلَاصًا وَإِلَّا فَسَمَاعُ الذِّكْرِ ذِكْرٌ (قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ) : أَيْ: أَيْضًا أَوْ بِطُفَيْلِهِمْ يَعْنِي غَفَرْتُ لِهَذَا الْعَبْدِ أَيْضًا بِبَرَكَةِ الذَّاكِرِينَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: غَفَرْتُ لَهُمْ وَلَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَ غَفَرْتُ تَأْكِيدًا أَوْ تَقْرِيرًا (وَهُمُ الْقَوْمُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْرِيفُ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ أَيْ: هُمُ الْقَوْمُ الْكَامِلُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ (لَا يَشْقَى) : أَيْ: لَا يَتْعَبُ أَوْ لَا يَصِيرُ شَقِيًّا (بِهِمْ) : أَيْ: بِسَبَبِهِمْ وَبِبَرَكَتِهِمْ (جَلِيسُهُمْ) : أَيْ: مُجَالِسُهُمْ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ كَالنَّكِرَةِ، أَوْ حَالٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ مَزِيدِ كَمَالِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لَا يُحْرَمُ مِنَ الثَّوَابِ بَلْ يَجِدُ مِنْ بَرَكَتِهِمْ نَصِيبًا. وَفِي هَذَا تَرْغِيبُ الْعِبَادِ فِي مُجَالَسَةِ الصُّلَحَاءِ لِيَنَالُوا نَصِيبًا مِنْهُمْ.

2268 - وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّبِيعِ الْأُسَيْدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟ ! قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا ذَاكَ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ! سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2268 - (وَعَنْ حَنْظَلَةَ) : هَذَا كَاتِبُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا حَنْظَلَةَ بْنَ مَالِكٍ غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ (بْنِ الرَّبِيعِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ الرَّبِيعُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، كَذَا بِخَطِّ الْكِرْمَانِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُقَدِّمَةِ ابْنِ حَجَرٍ: الرَّبِيعُ كَثِيرٌ وَبِالتَّصْغِيرِ امْرَأَتَانِ اهـ. فَيَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا (الْأُسَيْدِيِّ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. (قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ) : وَلَعَلَّهُ لَمَّا كَانَ مَغْلُوبًا لَمْ يَقُلْ لَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْأَدَبِ (فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟) : سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ أَيْ: كَيْفَ اسْتِقَامَتُكَ عَلَى مَا تَسْمَعُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهِيَ مَوْجُودَةٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَتَسْتَقِيمُ عَلَى الطَّرِيقِ أَمْ لَا؟ (فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ) : عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ لِغَيْبَتِهِ عَنْهَا بِالْغِيبَةِ أَيْ: صَارَ مُنَافِقًا وَأَرَادَ نِفَاقَ الْحَالِ لَا نِفَاقَ الْإِيمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَجْرِيدٌ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ نَافَقْتُ، فَجَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا آخَرَ مِثْلَهُ، فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ نَفْسِهِ مَا لَا يَرْضَى لِمُخَالَفَةِ السِّرِّ الْعَلَنَ، وَالْحُضُورِ الْغَيْبَةَ. (قَالَ) : أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (سُبْحَانَ اللَّهِ) : تَعَجُّبٌ أَوْ تَبْرِئَةٌ وَتَنْزِيهٌ (مَا تَقُولُ؟ !) : أَيْ: بَيِّنْ مَعْنَى مَا تَقُولُ: قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: تَقُولُ هُوَ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ يَعْنِي: عَجِبْتُ مِنْ قَوْلِكَ هَذَا الَّذِي حَكَمْتَ فِيهِ بِالنِّفَاقِ عَلَى نَفْسِكَ. (قُلْتُ: نَكُونُ) : أَيْ: جَمِيعًا عَلَى وَصْفِ الْجَمْعِيَّةِ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَالْمَعْنَى: لَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَكُونُ عِنْدَهُ، وَأَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْحَاضِرِينَ مَنْ يُشَابِهُ حَنْظَلَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ نَافَقْنَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْعُمُومُ الشَّامِلُ لِلْخُصُوصِ (يُذَكِّرُنَا) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يَعِظُنَا (بِالنَّارِ) : أَيْ: بِعَذَابِهَا تَارَةً (وَالْجَنَّةِ) : أَيْ: بِنَعِيمِهَا أُخْرَى تَرْهِيبًا وَتَرْغِيبًا، أَوْ يُذَكِّرُنَا اللَّهَ بِذِكْرِهِمَا، أَوْ بِقُرْبِهِمَا، أَوْ بِكَوْنِهِمَا مِنْ آثَارِ صِفَتَيِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، (كَأَنَّا) : أَيْ: حَتَّى صِرْنَا كَأَنَّا (رَأْيَ عَيْنٍ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: كَأَنَّا نَرَى اللَّهَ، أَوِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ رَأْيَ عَيْنٍ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بِإِضْمَارِ نَرَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: كَأَنَّا راَؤُنَا بِالْعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، وَيَصِحُّ

كَوْنُهُ الْخَبَرَ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ (فَإِذَا خَرَجْنَا) : أَيْ: فَارَقْنَاهُ عَلَى وَصْفِ التَّفْرِقَةِ (مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ) : أَيْ: خَالَطْنَاهُمْ وَلَاعَبْنَاهُمْ وَعَالَجْنَا أُمُورَهُمْ وَاشْتَغَلْنَا بِمَصَالِحِهِمْ (وَالضِّيعَاتِ) : أَيِ: الْأَرَاضِي وَالْبَسَاتِينَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضَيْعَةُ الرَّجُلِ مَا يَكُونُ مَعَاشُهُ بِهِ كَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا (نَسِينَا) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ عَافَسْنَا، أَوْ عَلَى جَوَابِ إِذَا، وَجُمْلَةُ عَافَسْنَا بِتَقْدِيرِ قَدْ حَالٌ، وَالْمَعْنَى نَسِينَا كَثِيرًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْ: مَا ذُكِّرْنَا بِهِ وَقِيلَ: أَيْ: نِسْيَانًا كَثِيرًا. (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ وَذَكَرْتَ بَيَانَهُ (فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى) : أَيْ: كُلُّنَا (مِثْلَ هَذَا) : أَيْ: مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْحَالِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ تَأْثِيرِ صُحْبَةِ أَهْلِ الْكَمَالِ (فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَا ذَاكَ؟) : أَيْ: وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ الْقَوْلِ؟ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَثِيرًا مِمَّا ذَكَّرْتَنَا بِهِ، أَوْ نِسْيَانًا كَثِيرًا كَأَنَّا مَا جَمَعْنَا مِنْكَ شَيْئًا قَطُّ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: رَأَيَ عَيْنٍ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ) : أَيْ: فِي حَالِ غَيْبَتِكُمْ مِنِّي (عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي) : أَيْ: مِنْ صَفَاءِ الْقَلْبِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ مِنْ دَوَامِ الذِّكْرِ وَتَمَامِ الْحُضُورِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (وَفِي الذِّكْرِ) : مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: " عَلَى مَا تَكُونُونَ " عَطْفَ تَفْسِيرٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى خَبَرِ كَانَ الَّذِي هُوَ عِنْدِي، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا تَكُونُونَ، أَوْ عَلَى عِنْدِي أَيْ لَوْ تَدُومُونَ فِي الذِّكْرِ، أَوْ عَلَى مَا تَكُونُونَ فِي الذِّكْرِ وَأَنْتُمْ بُعَدَاءُ مِنِّي مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ، (لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ) : قِيلَ: أَيْ: عَلَانِيَةً، وَإِلَّا فَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ يُصَافِحُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ حَاصِلٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: عَيَانًا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ كُنْتُمْ (عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ) : أَيْ: فِي حَالَتَيْ فَرَاغِكُمْ وَشُغْلِكُمْ، وَفِي زَمَانِ أَيَّامِكُمْ وَلَيَالِيكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ دَائِمًا، وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ مَعَ الْمَوَانِعِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْقَوَاطِعِ النَّفْسِيَّةِ يَرَى الْمَلَائِكَةَ مُتَبَرِّكِينَ بِهِ، مُعَظِّمِينَ لَهُ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ الدَّوَامُ. (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةٌ) : أَيْ: كَذَا يَعْنِي الْمُنَافَسَةَ (وَسَاعَةٌ) : أَيْ: كَذَا يَعْنِي الْمُعَافَسَةَ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: سَاعَةٌ فَسَاعَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْفَاءُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ إِحْدَى السَّاعَتَيْنِ مُعَقَّبَةٌ بِالْأُخْرَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْوَاوِ اهـ. يَعْنِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُنَافِقًا بِأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ عَلَى الْحُضُورِ وَفِي وَقْتٍ عَلَى الْفُتُورِ، فَمِنْ سَاعَةِ الْحُضُورِ تُؤَدُّونَ حُقُوقَ رَبِّكُمْ، وَفِي سَاعَةِ الْفُتُورِ تَقْضُونَ حُظُوظَ أَنْفُسِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ لِلتَّرْخِيصِ أَوْ لِلتَّحَفُّظِ لِئَلَّا تَسْأَمَ النَّفْسُ عَنِ الْعِبَادَةِ. وَحَاصِلُهُ أَنْ يَا حَنْظَلَةُ هَذِهِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ مَشَقَّةٌ لَا يُطِيقُهَا كُلُّ أَحَدٍ فَلَمْ يُكَلَّفْ بِهَا، وَإِنَّمَا الذِّكْرُ يُطِيقُهُ الْأَكْثَرُونَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ سَاعَةً، وَلَا عَلَيْهِ بِأَنْ يَصْرِفَ نَفْسَهُ لِلْمُعَافَسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا سَاعَةً أُخْرَى، وَأَنْتَ كَذَلِكَ فَأَنْتَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْكَ نِفَاقٌ قَطُّ كَمَا تَوَهَّمْتَهُ، فَانْتَهِ عَنِ اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِمَّا يُدْخِلُهُ الشَّيْطَانُ عَلَى السَّالِكِينَ، حَتَّى يُغَيِّرَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يُغَيِّرُهُمْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَتْرُكُوا الْعَمَلَ رَأْسًا (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : أَيْ: قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالذِّكْرُ إِلَخْ. أَوْ قَوْلُهُ: وَلَكِنِ إِلَخْ. أَوْ قَوْلُهُ: سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الطِّيبِيُّ الْأَخِيرَ لِتَحَقُّقِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِهِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرِ، وَتَعْيِينُ الشَّارِحِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. أَقُولُ: وَنَظِيرُ هَذَا الْمَبْحَثِ وُقُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ الْجَمْلِ، فَإِنَّهُ رَاجِعٌ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الْمُحَقِّقِينَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، بِخِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، كَمَا حَقَّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 4 - 5] فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ عِنْدَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ: أَبَدًا يُؤَيِّدُ أَنَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ وَلِإِزَالَةِ مَا اهْتَمَّ بِهِ نَفْسُ حَنْظَلَةَ عَنْهُ، وَلِبَيَانِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَوَامِ الْحُضُورِ مِنْ غَيْرِ الْفُتُورِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ سَاعَةً يَكُونُ فِي الذِّكْرِ وَالْحُضُورِ، وَسَاعَةً فِي مُعَافَسَةِ الْأَزْوَاجِ وَغَيْرِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرٌ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ حَنْظَلَةُ عَلَيْهَا وَأَنْكَرَهَا، وَمِنْ ثَمَّةَ نَادَاهُ بِاسْمِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَا نَافَقَ قَطُّ أَيِ: النِّفَاقَ الْعُرْفِيَّ وَهُوَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِبِطَانُ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، إِمَّا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَالَةٍ وَعِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى، وَإِمَّا التَّشْبِيهَ الْحَالِيَّ؛ لِأَنَّ حَالَهُ يُشْبِهُ حَالَ الْمُنَافِقِ لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى مَقَامِ الْمَوَاقِفِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

[الْفَصْلُ الثَّانِي] 2269 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ؟ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ وَخَيْرٍ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ " ذِكْرُ اللَّهِ» ) رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَقَفَهُ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [الْفَصْلُ الثَّانِي] 2269 - (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: رَجُلٌ أَدْرَدُ لَيْسَ فِي فِيهِ سِنٌّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ) : أَيْ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ (بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ) : أَيْ: أَفْضَلِهَا (وَأَزْكَاهَا) : أَيْ: أَنْمَاهَا وَأَنْقَاهَا (عِنْدَ مَلِيكِكُمْ؟) : أَيْ: فِي حُكْمِ رَبِّكُمْ (وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَيُسَكَّنُ أَيِ: الْفِضَّةِ، فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ (وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ) : أَيْ: خَيْرٍ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَنْ تُجَاهِدُوا الْكُفَّارَ (تَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ) : أَيْ: أَعْنَاقَ بَعْضِهِمْ (وَيَضْرِبُوا) : أَيْ: بَعْضُهُمْ (أَعْنَاقَكُمْ؟) وَهَذَا تَصْوِيرٌ لِأَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُجَاهَدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: " وَخَيْرٍ " مَجْرُورٌ عَطْفًا عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَذْلِ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَطْفٌ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَيْرُ الْأَعْمَالِ مُطْلَقًا، وَهَذَا خَيْرٌ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، أَوْ عَطْفٌ مُغَايِرٌ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَعْمَالِ الْأَعْمَالُ اللِّسَانِيَّةُ، فَيَكُونُ ضِدَّ هَذَا، لِأَنَّ بَذْلَ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْفِعْلِيَّةِ اهـ. وَمُرَادُهُ بِضِدِّهِ مُغَايِرُهُ. (قَالُوا: بَلَى. قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْمَنْزِلَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ نَفْسِيٌّ، وَفِعْلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ، بَلْ هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ، لَا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى صِيَاحٍ وَانْزِعَاجٍ وَشِدَّةِ تَحْرِيكِ الْعُنُقِ وَاعْوِجَاجٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ زَاعِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ جَالِبٌ لِلْحُضُورِ، وَمُوجِبٌ لِلسُّرُورِ، - حَاشَا لِلَّهِ - بَلْ سَبَبُ الْغَيْبَةِ وَالْغُرُورِ اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الذِّكْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَنَانِيِّ وَعَلَى اللِّسَانِيِّ، وَأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْقَلْبِ الَّذِي يَتَقَلَّبُ بِسَبَبِ ذِكْرِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، وَإِنَّمَا اللَّفْظِيُّ وَسِيلَةٌ، وَلِحُصُولِ الْوُصُولِ وَصَلَةٌ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبْتَدِئِ؟ وَإِنْ كَانَ يَنْتَهِي الْمُنْتَهِي أَيْضًا إِلَى الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْبِدْعِيَّةُ وَالْأَغْرَاضُ الدُّنْيَوِيَّةُ، فَخَارِجَةٌ عَنِ الْأَنْوَاعِ الذِّكْرِيَّةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَكْمَلُ، وَفِي تَحْصِيلِ الْمَثُوبَةِ أَفْضَلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ الْمَذْكُورَ وَالْمُقَاتِلَ الْمَشْكُورَ لَا يَخْلُو عَنِ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ ذِكْرَهُ الْقَلْبِيَّ الَّذِي هُوَ الْجِهَادُ الْبَاطِنِيُّ أَفْضَلُ مِنْ مُضَارَبَتِهِ الَّتِي هِيَ الْجِهَادُ الظَّاهِرِيُّ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ نَظِيرَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي حِجْرِهِ دَرَاهِمُ يُقَسِّمُهَا وَآخَرَ يَذْكُرُ كَانَ الذَّاكِرُ لِلَّهِ أَفْضَلَ " كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، فَانْدَفَعَ مَا تَحَيَّرَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَكَوْنُ الذِّكْرِ الشَّامِلِ لِلْقُرْآنِ خَيْرًا مِنْ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ اللِّسَانِيَّةِ ظَاهِرٌ، وَمِنْ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَبَذْلِ النُّفُوسِ لِلَّهِ مُشْكِلٌ إِذْ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا الْعَكْسُ اهـ. وَلِدَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَامِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، بَلْ قَدْ يَأْجُرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَلِيلِ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْجُرُ عَلَى كَثِيرِهَا، فَإِذًا الثَّوَابُ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَاوُتِ الرُّتَبِ فِي الشَّرَفِ اهـ. وَهُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ جَرَى عَلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مَعَ قَطْعِ النَّصِّ عَنْ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، فَهُوَ تَقْلِيدٌ مُطْلَقٌ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَقَالَ: الْإِنْفَاقُ يَقْطَعُ دَاءَ الْبُخْلِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ يَقْطَعُ دَاءَ الْجُبْنِ، وَإِدْمَانُ الذِّكْرِ لَا يَقْطَعُ شَيْئًا مِنْ هَذَيْنِ الدَّاءَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا، بَلْ لَا يُجْدِي إِلَّا حَدُّ الْمَقْصُودِ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى غَفْلَتِهِ عَنْ مَعْنَى الذِّكْرِ وَحَقِيقَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ جَمِيعُ الْعِلَلِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إِلَّا بِالذِّكْرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ سُلْطَانُ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ بَذْلُ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَغَيْرِهَا، وَبِدُونِهِ إِنَّمَا هُوَ خَسَارَةُ مَالٍ وَضَيَاعُ نَفْسٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِمَا، حَيْثُ لَا تَقَرُّبَ بِهِمَا. وَلِهَذَا قَالَ شَارِحٌ: وَلَعَلَّ الْخَيْرِيَّةَ وَالْأَرْفَعِيَّةَ فِي الذِّكْرِ لِأَجْلِ أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ وَالْمُقَاتَلَةِ مَعَهُمْ، إِنَّمَا هِيَ وَسَائِلُ وَوَسَائِطُ يَتَقَرَّبُ الْعِبَادُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وَأَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، الْحَدِيثَ. وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَمَا دَخَلَ فِي مَقَامِ الذِّكْرِ: ضَيَّعْتُ قِطْعَةً مِنَ الْعُمْرِ فِي الْوَجِيزِ وَالْوَسِيطِ وَالْبَسِيطِ، بَلْ يَعُدُّ الْعَارِفُونَ الْغَفْلَةَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّدَّةِ وَلَوْ خَطْرَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالَ: وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي ثُمَّ لَا ارْتِيَابَ أَنَّ أَفْضَلَ الذِّكْرِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا أَرْكَانُ الدِّينِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا، وَهِيَ الْقُطْبُ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا رَحَى الْإِسْلَامِ، وَهِيَ الشُّعْبَةُ الَّتِي أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَلْ هُوَ الْكُلُّ وَلَيْسَ غَيْرُهُ {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108] ، إِذِ الْوَحْيُ مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْوَحْيِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَسَائِرُ التَّكَالِيفِ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِأَمْرٍ مَا تَجِدُ الْعَارِفِينَ وَأَرْبَابَ الْقُلُوبِ وَالْيَقِينِ يَسْتَأْثِرُونَهَا عَلَى سَائِرِ الْأَذْكَارِ، لَمَّا رَأَوْا فِيهَا خَوَاصَّ لَيْسَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا الْوِجْدَانُ وَالذَّوْقُ اهـ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّ السَّيِّدَ عَلِيَّ بْنَ مَيْمُونٍ الْمَغْرِبِيَّ لَمَّا تَصَرَّفَ فِي الشَّيْخِ عُلْوَانَ الْحَمَوِيِّ، وَهُوَ كَانَ مُفْتِيًا مُدَرِّسًا، فَنَهَاهُ عَنِ الْكُلِّ، وَأَشْغَلَهُ بِالذِّكْرِ فَطَعَنَ الْجُهَّالُ فِيهِ بِأَنَّهُ أَضَلَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ، وَمَنَعَهُ عَنْ نَفْعِ الْأَنَامِ، ثُمَّ بَلَغَ السَّيِّدَ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَحْيَانًا، فَمَنَعَهُ مِنْهُ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ زِنْدِيقٌ يَمْنَعُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ قُطْبُ الْإِيمَانِ، وَغَوْثُ الْإِيقَانِ، لَكِنْ طَاوَعَهُ الْمُرِيدُ إِلَى أَنْ حَصَلَ لَهُ الْمَزِيدُ، وَانْجَلَتْ مِرْآةُ قَلْبِهِ، وَحَصَلَ لَهُ مُشَاهَدَةُ رَبِّهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا فَتَحَ الْمُصْحَفَ فُتِحَ عَلَيْهِ الْفُتُوحَاتُ الْأَزَلِيَّةُ وَالْأَبَدِيَّةُ، وَظَهَرَ لَهُ كُنُوزُ الْمَعَارِفِ وَالْعَوَارِفِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: أَنَا مَا كُنْتُ أَمْنَعُكَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَمْنَعُكَ عَنْ لَقْلَقَةِ اللِّسَانِ وَالْغَفْلَةِ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَقَفَهُ) : بِالتَّخْفِيفِ (عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ) : يَعْنِي: وَالْبَاقُونَ رَفَعُوهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَضُرُّ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ وَصَلَ لَا لِمَنْ وَقَفَ؛ لِأَنَّ مَعَ الْأَوَّلِ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِالْوَصْلِ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَوَقْفُهُ كَرَفْعِ غَيْرِهِ.

2270 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ فَقَالَ: " طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» " (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2270 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَفِي نُسْخَةٍ " نُمَيْرٍ " اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ (قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟) : أَيْ: أَفْضَلُ حَالًا وَأَطْيَبُ مَآلًا (فَقَالَ: طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ) : فُعْلَى مَنِ الطِّيبِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِطِيبِ حَالِهِ فِي الدَّارَيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِي جَوَابِ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ طُوبَى الْجَنَّةَ، أَوْ شَجَرَةً فِي الْجَنَّةِ تَعُمُّ أَهْلَهَا وَتَشْمَلُ مَحَلَّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: ظَاهِرُ الْجَوَابِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: غَيْرُ خَافٍ أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ مَنْ ذُكِرَ، وَالْمُهِمُّ أَنْ تَدْعُوَ لَهُ فَتُصِيبَ مَنْ بَرَكَتِهِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ طِيبِ حَالِهِ وَحُسْنِ مَآلِهِ، فَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِلْجَوَابِ بِبَلَاغَةِ مَقَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا عَدَلَ فِي الْجَوَابِ إِلَى أَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَى حَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنْ سَعَادَتِهِ فِي الدَّارَيْنِ إِذَا طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ، بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنَ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا. اهـ. وَإِذَا فَتَّشْتَ هَذَا الْكَلَامَ تَرَى هَبَاءً مَنْثُورًا بِلَا بَقَاءٍ وَنِظَامٍ، ثُمَّ خَطَرَ بِبَالِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلَّهُ زَادَ كَلِمَةَ (طُوبَى) لِتَكُونَ كَلِمَةً جَامِعَةً، وَحِكْمَةً رَابِعَةً مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ تَابِعَةٍ لِلسُّؤَالِ الْمَانِعِ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِ الْوُرُودِ. (قَالَ: يَا رَسُولَ اللِّهِ! أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ) : الْوَاوُ لِلْحَالِيَّةِ (رَطْبٌ) : أَيْ: قَرِيبُ الْعَهْدِ أَوْ مُتَحَرِّكٌ طَرِيٌّ (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) : وَالذِّكْرُ يَشْمَلُ الْجَلِيَّ وَالْخَفِيَّ، وَاللِّسَانُ يَحْتَمِلُ الْقَلْبِيَّ وَالْقَالَبِيَّ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، بَلْ هُوَ أَدْعَى إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ مَا يُخْتَمُ بِهِ الْأَحْوَالُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِمُفَارَقَةِ الدُّنْيَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَبِرَطْبِ اللِّسَانِ بَلِ الْقَلْبِ بِذِكْرِ الْمَوْلَى، فَإِنَّ الْإِنَاءَ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ ذِكْرَهُ بِفِيهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: رُطُوبَةُ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ سُهُولَةِ جَرَيَانِهِ، كَمَا أَنَّ يُبْسَهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَسُهُولَةُ الْجَرَيَانِ بِالْمُدَاوَمَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مُدَاوَمَةُ الذِّكْرِ، فَإِنَّ الذِّكْرَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ وَسَائِلُ إِلَيْهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: آخِرُ كَلَامٍ فَارَقْتُ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قُلْتُ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: ( «أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» ) وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَوْصِنِي. قَالَ: ( «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَا عَمِلْتَ مِنْ سُوءٍ فَأَحْدِثْ لِلَّهِ فِيهِ تَوْبَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ» ) اهـ. قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَ هَذَا حِينَ أَرْسَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاكِمًا إِلَى الْيَمَنِ فِي آخِرِ وَدَاعِهِ.

2271 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا " قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " حِلَقُ الذِّكْرِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2271 - (وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ) : مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ، أَوْ بِمَا يُوصِلُ إِلَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ (فَارْتَعُوا) : كِنَايَةً عَنْ أَخْذِ الْحَظِّ الْأَوْفَرِ وَالنَّصِيبِ الْأَوْفَى (قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتُفْتَحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، جَمْعُ الْحَلَقَةِ مِثْلَ قَصْعَةٍ وَقِصَعٍ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ يَسْتَدِيرُونَ كَحَلْقَةِ الْبَابِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَمْعُ الْحَلْقَةِ بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَحَكَى ابْنُ عَمْرٍو: أَنَّ الْوَاحِدَ حَلَقَةٌ بِالتَّحْرِيكِ وَالْجَمْعُ حَلَقٌ بِالْفَتْحِ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَمْعِ الْجِنْسَ. قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فِي الْمَكَانِ وَالذِّكْرِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيِّدِ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ الْمَسَاجِدِ، وَالذِّكْرُ هُوَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَخْ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ: هِيَ مَجَالِسُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَذِكْرُ الْفَرْدِ الْأَكْمَلِ بِالْخُصُوصِ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْمَنْصُوصِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى، إِذَا مَرَرْتُمْ بِجَمَاعَةٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَاذْكُرُوهُ أَنْتُمْ مُوَافَقَةً لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يُسْتَحَبُّ الذِّكْرُ يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ فِي حَلَقِ أَهْلِهِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَأَفْضَلُ مِنْهُمَا مَا كَانَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ جَمِيعًا، فَإِنِ اقْتُصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَالْقَلْبُ أَفْضَلُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ بِالْإِخْلَاصِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الرِّيَاءُ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْفُضَيْلِ: تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ. وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُخَلِّصَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا، لَكِنْ لَوْ فَتَحَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مُلَاحَظَةِ النَّاسِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ طُرُقِ ظُنُونِهِمُ الْبَاطِلَةِ لَانْسَدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ اهـ.

وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُرِيدِينَ قَالَ لِشَيْخِهِ: أَنَا أَذْكُرُ اللَّهَ وَقَلْبِي غَافِلٌ. فَقَالَ لَهُ: اذْكُرْ وَاشْكُرْ أَنْ شَغَلَ عُضْوًا مِنْكَ بِذِكْرِهِ، وَاسْأَلْهُ أَنْ يُحْضِرَ قَلْبَكَ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا قَالَ لَا ثَوَابَ فِي الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْبَلْقِينِيَّ قَالَ: وَهُوَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ اهـ. وَلَعَلَّ كَلَامَهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى ذِكْرِ عَيَّنَ الشَّارِعُ تَلَفُّظَهُ وَسَمَاعَ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ: كُلُّ ذِكْرٍ مَشْرُوعٍ أَيْ مَأْمُورٍ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مُسْتَحَبًّا، لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ وَيُسْمِعَ نَفْسَهُ اهـ. فَالْإِطْلَاقُ غَيْرُ صَوَابٍ فَقَدْ رَوَى أَبُو يُعْلَى، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " «لَفَضْلُ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ الْحَفَظَةُ سَبْعُونَ ضِعْفًا، إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ لِحِسَابِهِمْ، وَجَاءَتِ الْحَفَظَةُ بِمَا حَفِظُوا وَكَتَبُوا، قَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا هَلْ بَقِيَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ؟ فَيَقُولُونَ: مَا تَرَكْنَا شَيْئًا مِمَّا عَلِمْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَيْنَاهُ وَكَتَبْنَاهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لَكَ عِنْدِي حَسَنًا لَا تَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا أَجْزِيكَ بِهِ وَهُوَ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ» " اهـ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) " الذِّكْرُ الْخَفِيُّ خَيْرٌ مِنَ الذِّكْرِ الْجَلِيِّ " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: ( «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا) قُلْتُ: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: (الْمَسَاجِدُ) . قُلْتُ: وَمَا الرَّتْعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ) .

2272 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " «مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ، وَمَنِ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2272 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا) : أَيْ: مَجْلِسًا أَوْ قُعُودًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ) : أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْجُلُوسِ (كَانَتْ) : أَيْ: الْقَعْدَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ: كَانَ أَيْ: الْقُعُودُ (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى الْقَاعِدِ (مِنَ اللَّهِ) : أَيْ: مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (تِرَةٌ) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ: تَبِعَةٌ وَمُعَاتَبَةٌ، أَوْ نُقْصَانٌ وَحَسْرَةٌ، مِنْ وَتَرَهُ حَقَّهُ: نَقَصَهُ، وَهُوَ سَبَبُ الْحَسْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] وَالْهَاءُ عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ مِثْلَ عُدَّةٍ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الْكَوْنَ تَامٌّ (وَمَنِ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا) : أَيْ: مَكَانَ ضِجْعَةٍ وَافْتِرَاشٍ (لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ) : أَيِ: الِاضْطِجَاعَةُ، أَوْ كَانَ أَيِ: الِاضْطِجَاعُ الْمَذْكُورُ، أَوْ عَدَمُ ذِكْرِ اللَّهِ (عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ) : بِالْوَجْهَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ رُوِيَتْ عَلَى التَّأْنِيثِ فِي أَبِي دَاوُدَ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِهِ عَلَى التَّذْكِيرِ فِيهِمَا. أَقُولُ: فَعَلَى رِوَايَةِ التَّأْنِيثِ فِي كَانَتْ وَرَفْعِ تِرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يُئَوَّلَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي كَانَتْ مُؤَنَّثًا إِلَى الْقَعْدَةِ، أَوِ الِاضْطِجَاعَةِ، فَيَكُونُ تِرَةٌ مُبْتَدَأً، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرَ كَانَ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ التَّذْكِيرِ وَنَصْبِ تِرَةٍ كَمَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ فَظَاهِرٌ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِتِرَةٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ بَعْدُ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَأْنِيثُ كَانَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْمَكَانَيْنِ اسْتِيعَابُ الْأَمْكِنَةِ كَذِكْرِ الزَّمَانَيْنِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا لِاسْتِيعَابِ الْأَزْمِنَةِ، يَعْنِي: مَنْ فَتَرَ سَاعَةً مِنَ الْأَزْمِنَةِ، وَفِي مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ، وَفِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَرُقُودٍ، كَانَ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ، لِأَنَّهُ ضَيَّعَ عَظِيمَ ثَوَابِ الذِّكْرِ، كَمَا وَرَدَ: «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ أَتَى " بِلَمْ " فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَبِلَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ تَفَنُّنًا، وَكَذَا غَايَرَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِيثَيْنِ الْآتِيَيْنِ لِذَلِكَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ، فِي قَوْلِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " لَمْ تُرَاعُوا " مَعْنَاهُ لَا تَخَافُوا، وَالْعَرَبُ تُوقِعُ " لَمْ " مَوْقِعَ " لَا " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2273 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» " (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2273 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ» ": أَيْ: مَا يَقُومُونَ قِيَامًا إِلَّا هَذَا الْقِيَامُ، وَضَمَّنَ قَامُوا مَعْنَى تَجَاوَزُوا

وَبَعُدُوا، فَعُدِّيَ بِعَنْ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. أَيْ: لَا يُوجَدُ مِنْهُمْ قِيَامٌ عَنْ مَجْلِسِهِمْ إِلَّا كَقِيَامِ الْمُتَفَرِّقِينَ عَنْ أَكْلِ الْجِيفَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةٌ فِي الْقَذَرِ وَالنَّجَاسَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَتَخْصِيصُ جِيفَةِ الْحِمَارِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْوَنُ الْجِيَفِ مِنْ بَيْنِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُخَالِطُنَا اهـ. أَوْ لِكَوْنِهِ أَبْلَدَ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مُخَالِطًا لِلشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا يُتَعَوَّذُ عِنْدَ نَهِيقِهِ بِالرَّحْمَنِ. (وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) : بِالْوَجْهَيْنِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَلَفْظُهُمَا: ( «مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا وَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَأَنَّمَا تَفَرَّقُوا عَنْ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا مَشَى أَحَدٌ مَمْشًى لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً، وَمَا أَوَى أَحَدٌ إِلَى فِرَاشِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً» ) هَذَا وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا: " «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ - يَعْنِي - يَوْمَ الْقِيَامَةِ " كَمَا فِي رِوَايَةٍ: " إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» " (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ) .

2274 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2274 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ» ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (إِلَّا كَانَ) : أَيْ: ذَلِكَ الْمَجْلِسُ (عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ) : أَيْ: بِذُنُوبِهِمُ السَّابِقَةِ وَتَقْصِيرَاتِهِمُ اللَّاحِقَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّرَةِ التَّبِعَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: (فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ) مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ مِنْ حَصَائِدِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّسُولِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَلْمِيحٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] (وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ) : أَيْ: فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا اللَّهَ لَمْ يُعَذِّبْهُمْ حَتْمًا، بَلْ يَغْفِرُ لَهُمْ جَزْمًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

2275 - وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " «كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2275 - (وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ) : أَيْ: ضَرَرُهُ وَوَبَالُهُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يُكْتَبُ عَلَيْهِ (لَا لَهُ) : أَيْ: لَيْسَ لَهُ نَفْعٌ فِيهِ، أَوْ لَا يُكْتَبُ لَهُ ذِكْرٌ، تَأْكِيدًا (إِلَّا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ) : مِمَّا فِيهِ نَفْعُ الْغَيْرِ مِنَ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ (أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ) : مِمَّا فِيهِ مَوْعِظَةُ الْخَلْقِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْهِيَّةِ (أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ) : أَيْ: مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ مِنَ الْأَذْكَارِ الْإِلَهِيَّةِ كَالتِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالدُّعَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي الْكَلَامِ نَوْعٌ يُبَاحُ لِلْأَنَامِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي لَيْسَ بِسَدِيدٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَفْظُ (عَلَيْهِ) غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَعَلَيْهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَيَظْهَرُ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ (لَا لَهُ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: (عَلَيْهِ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُبَاحَ لَيْسَ لَهُ نَفْعٌ فِي الْعُقْبَى، أَوْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ حَسْرَةٌ عَلَيْهِ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ إِلَّا الْمَذْكُورَاتِ وَأَمْثَالَهَا، فَيُرَافِقُ بَقِيَّةَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وَبِهِ يَرْتَفِعُ اضْطِرَابُ الشُّرَّاحِ فِي أَمْرِ الْمُبَاحِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2276 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2276 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ» ": فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْكَلَامِ مُبَاحٌ وَهُوَ مَا يَعْنِيهِ ( «فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ» ) : أَيْ: سَبَبُ قَسَاوَةٍ (لِلْقَلْبِ) : وَهِيَ النُّبُوُّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، وَالْمَيْلُ إِلَى مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ وَقِلَّةُ الْخَشْيَةِ وَعَدَمُ الْخُشُوعِ وَالْبُكَاءِ، وَكَثْرَةُ الْغَفْلَةِ عَنْ دَارِ الْبَقَاءِ (وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ) : أَيْ: مِنْ نَظَرِ رَحْمَتِهِ وَعَيْنِ عِنَايَتِهِ (الْقَلْبُ الْقَاسِي) : أَيْ: صَاحِبُهُ، أَوِ التَّقْدِيرُ: أَبْعَدُ قُلُوبِ النَّاسِ الْقَلْبُ الْقَاسِي، أَوْ أَبْعَدُ النَّاسِ مَنْ لَهُ الْقَلْبُ الْقَاسِي. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالْقَلْبِ عَنِ الشَّخْصِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ كَمَا قِيلَ: الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ أَيْ: بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِذًا إِلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ مَعَ بَعْضِ الصِّلَةِ. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] الْآيَةَ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2277 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: نَزَلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؟ فَقَالَ " أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2277 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: نَزَلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) : أَيْ: مَا نَزَلَتْ أَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعَرَفْنَا حُكْمَهُمَا وَمَذَمَّتَهَا (لَوْ عَلِمْنَا) : " لَوْ " لِلتَّمَنِّي (أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِعَلِمْنَا تَعْلِيقًا (فَنَتَّخِذَهُ؟) : مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ جَوَابًا لِلتَّمَنِّي، قِيلَ: السُّؤَالُ وَإِنْ كَانَ عَنْ تَعْيِينِ الْمَالِ ظَاهِرًا، وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا مَا يُنْتَفَعُ بِهِ عِنْدَ تَرَاكُمِ الْحَوَائِجِ، فَلِذَلِكَ أَجَابَ عَنْهُ بِمَا أَجَابَ، فَفِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. (فَقَالَ: " أَفْضَلُهُ) : أَيْ: أَفْضَلُ الْمَالِ أَوْ أَفْضَلُ مَا يَتَّخِذُهُ الْإِنْسَانُ قُنْيَةً (لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي أَفْضَلِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَالِ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالنَّافِعِ، أَيْ: لَوْ عَلِمْنَا أَفْضَلَ الْأَشْيَاءِ نَفْعًا فَنَقْتَنِيهِ، وَلِهَذَا السِّرِّ اسْتَثْنَى اللَّهُ مَنْ أَتَى بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مِنْ قَوْلِهِ: {مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [الشعراء: 88] ، وَالْقَلْبُ إِذَا سَلِمَ مِنْ آفَاتِهِ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى، فَسَرَى ذَلِكَ إِلَى لِسَانِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِفَرَاغِ الْقَلْبِ وَمُعَاوَنَةِ رَفِيقٍ يُعِيِنُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ. وَلِهَذَا قَالَ: " تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ) : أَيْ: عَلَى دِينِهِ بِأَنْ تُذَكِّرَهُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَتَمْنَعَهُ مِنَ الزِّنَا وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَجَابَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا ذَكَرَ ; لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَنْفَعُ مَالِكَهُ، وَلَا شَيْءَ لِلرَّجُلِ أَنْفَعُ مِمَّا ذَكَرَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ: أَنَّ الْقَلْبَ مُقَدَّمٌ عَلَى اللِّسَانِ فِي نُسْخَتِهِ فَبَنَى عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ، وَإِلَّا فَيُقَالُ: إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ سَرَى ذَلِكَ إِلَى جَنَانِهِ فَشَكَرَ عَلَى إِحْسَانِهِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مُؤْنِسَةً تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ، وَهَذَا طَرِيقُ الْمُرِيدِينَ وَمَسْلَكُ أَكْثَرِ السَّالِكِينَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ طَرِيقَةُ الْمُرَادِينَ الْمَجْذُوبِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2278 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ. قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا غَيْرُهُ. قَالَ: أَمَّا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: " وَمَا أَجْلَسَكُمْ هَاهُنَا؟) قَالُوا: " جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: " آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ " قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ. قَالَ: " أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثِ 2278 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَتُفْتَحُ أَيْ: جَمَاعَةٍ مُتَحَلِّقَةٍ (فِي الْمَسْجِدِ) مُتَقَابِلِينَ عَلَى الذِّكْرِ بِالِاجْتِهَادِ (فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟) : أَيْ: مَا السَّبَبُ الدَّاعِي إِلَى جُلُوسِكُمْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ هَاهُنَا، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ. (قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ) : أَيِ: الَّذِي أَجْلَسَنَا هُوَ غَرَضُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ، (قَالَ: آللَّهِ) : بِالْمَدِّ وَالْجَرِّ (مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟) : مَا هَذِهِ نَافِيَةٌ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قِيلَ: الصَّوَابُ بِالْجَرِّ لِقَوْلِ الْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ فِي حَاشِيَتِهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَقَعَتْ بَدَلًا عَنْ حَرْفِ الْقَسَمِ وَيَجِبُ الْجَرُّ مَعَهَا اهـ. وَكَذَا صُحِّحَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مِنَ الْمِشْكَاةِ، وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِالنَّصْبِ اهـ. كَلَامُهُ، وَهُوَ مَشْهُورٌ لِأَنَّ خُلَاصَةَ الطِّيبِيِّ حَاشِيَةٌ مِنَ السَّيِّدِ الشَّرِيفِ عَلَى الْمِشْكَاةِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي أَسَامِي مُؤَلَّفَاتِهِ، وَثَانِيًا: أَنَّهُ مَعَ جَلَالَتِهِ كَيْفَ يَخْتَصِرُ كَلَامَ الطِّيبِيُّ اخْتِصَارًا مُجَرَّدًا لَا يَكُونُ لَهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ أَبَدًا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْبَ فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ عَفِيفِ الدِّينِ، قَالَ الطِّيبِيُّ، قِيلَ: اللَّهَ بِالنَّصْبِ أَيْ: أَتُقْسِمُونَ بِاللَّهِ؟ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَأَوْصَلَ الْفِعْلَ ثُمَّ حَذَفَ الْفِعْلَ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا يَخْلُو عَنِ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ. (قَالُوا: آللَّهِ) : تَقْدِيرُهُ أَيْ: أَوْ نَعَمْ فَنُقْسِمُ بِاللَّهِ (مَا أَجْلَسَنَا غَيْرُهُ) : فَوَقْعُ الْهَمْزَةِ مَوْقِعَهَا مُشَاكَلَةً وَتَقْرِيرًا لِذَلِكَ، كَمَا قَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْهَمْزَةَ وَقَعَتْ بَدَلَ حَرْفِ الْقَسَمِ فَلَا وَجْهَ لِلْمُشَاكَلَةِ، نَعَمْ أَطْنَبُوا فِي الْجَوَابِ حَيْثُ عَدَلُوا عَنْ أَيْ أَوْ نَعَمْ تَأْكِيدًا لِرَفْعِ الْحِجَابِ. (قَالَ) : أَيْ: مُعَاوِيَةُ (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنِّي) : بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَمَّا اسْتِفْتَاحِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى حَقًّا عَلَى رَأْيٍ، وَإِنِّي بِالْكَسْرِ عَلَى الْأَوَّلِ وَبِالْفَتْحِ عَلَى الثَّانِي، فَمَحْمُولٌ عَلَى تَجْوِيزٍ عَقْلِيٍّ مِنْهُ عَلَى أَنَّ كَوْنَ أَمَّا بِمَعْنَى حَقًّا لَا يُنَافِي الْكَسْرَ، (لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ) : بِسُكُونِ الْهَاءِ وَيُفْتَحُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: التُّهْمَةُ وَقَدْ تُفْتَحُ الْهَاءُ فُعْلَةٌ مِنَ الْوَهْمِ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، اتَّهَمْتُهُ ظَنَنْتُ فِيهِ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَفِي الْقَامُوسِ أَدْخَلَ عَلَيْهِ التُّهْمَةَ كَهُمَزَةٍ أَيْ مَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ أَيْ: مَا أَسْتَحْلِفُكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ بِالْكَذِبِ، لَكِنْ أَرَدْتُ الْمُتَابَعَةَ الْمُشَابِهَةَ فِيمَا وَقَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الصَّحَابَةِ، وَقَدَّمَ بَيَانَ قُرْبِهِ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقِلَّةِ نَقْلِهِ مِنْ أَحَادِيثِهِ الْكِرَامِ دَفْعًا لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا يَنْقُلُهُ مِنَ الْكَلَامِ، فَقَالَ: (وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي) : أَيْ: بِمَرْتَبَةِ قُرْبِي (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : لِكَوْنِهِ مَحْرَمًا لِأُمِّ حَبِيبَةَ أُخْتِهِ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْهُ الْمَوْلَوِيُّ فِي الْمَثْنَوِيِّ بِخَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِكَوْنِهِ مِنْ أَجِلَّاءِ كَتَبَةِ الْوَحْيِ (أَقَلَّ) : خَبَرُ كَانَ (عَنْهُ) : أَيْ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَدِيثًا مِنِّي) : أَيْ: لِاحْتِيَاطِي فِي الْحَدِيثِ، وَإِلَّا كَانَ مُقْتَضَى مَنْزِلَتِهِ أَيْ: يَكُونُ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُجَوِّزِ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى. (وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ) : هَذَا مَا سَنَحَ لِي مِنْ حَمْلِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ، وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانَ أَحَدٌ: مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَالْمُسْتَدْرَكِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْسَهُ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إِنِّي أَسْتَحْلِفُكُمْ اتِّصَالَ الِاسْتِدْرَاكِ بِالْمُسْتَدْرَكِ اهـ. فَتَأَمَّلْ (فَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا أَجْلَسَكُمْ هَاهُنَا؟ " قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ) : أَيْ: بِذِكْرِهِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ (عَلَيْنَا) : أَيْ: مِنْ بَيْنِ الْأَنَامِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَقُولِ أَهْلِ دَارِ السَّلَامِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]

لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا (قَالَ: " آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟) : لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ الْإِخْلَاصَ (قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ) : لِأَنَّهُ خِلَافُ حُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ (وَلَكِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنُ، وَفَى نُسْخَةٍ وَلَكِنِّي (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ) : نَقْلٌ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا كَانَ الظَّاهِرُ بِهِمْ، قِيلَ: مَعْنَى الْمُبَاهَاةِ بِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبِيدِي هَؤُلَاءِ كَيْفَ سُلِّطَتْ عَلَيْهِمْ نُفُوسُهُمْ، وَشَهَوَاتُهُمْ، وَأَهْوِيَتُهُمْ، وَالشَّيْطَانُ، وَجُنُودُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ قَوِيَتْ هِمَّتُهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ هَذِهِ الدَّوَاعِي الْقَوِيَّةِ إِلَى الْبَطَالَةِ وَتَّرَكِ الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ، فَاسْتَحَقُّوا أَنْ يُمْدَحُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ لَا تَجِدُونَ لِلْعِبَادَةِ مَشَقَّةً بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْكُمْ كَالتَّنَفُّسِ مِنْهُمْ، فَفِيهَا غَايَةُ الرَّاحَةِ وَالْمُلَاءَمَةِ لِلنَّفْسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَحَقَّقَ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ، فَالتَّحْلِيفُ لِمَزِيدِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ لَا التُّهْمَةِ، كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي وَضْعِ التَّحْلِيفِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يُتَّهَمُ لَا يَحْلِفُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2279 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: " لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2279 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّرِيعَةُ مَوْرِدُ الْإِبِلِ عَلَى الْمَاءِ الْجَارِي، وَالْمُرَادُ مَا شَرَعَ اللَّهُ، وَأَظْهَرَهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا هُنَا النَّوَافِلُ لِقَوْلِهِ: (قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَيُفْتَحُ أَيْ: غَلَبَتْ عَلَى الْكَثْرَةِ حَتَّى عَجَزْتُ عَنْهَا لِضَعْفِي (فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ) : قِيلَ: أَيْ: بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مُوجِبٍ لِجَزَاءٍ جَزِيلٍ أَسْتَغْنِي بِهِ عَمَّا يَغْلِبُنِي وَيَشُقُّ عَلَيَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ فِي بِشَيْءٍ لِلتَّقْلِيلِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] وَمَعْنَاهُ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مُسْتَجْلِبٍ لِثَوَابٍ كَثِيرٍ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّنْوِينَ لِمُجَرَّدِ التَّنْكِيرِ أَيْ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ (أَتَشَبَّثُ: أَيْ: أَتَعَلَّقُ (بِهِ) : مِنْ عِبَادَةٍ جَامِعَةٍ غَيْرِ شَاقَّةٍ مَانِعَةٍ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَحَالٍ دُونَ حَالٍ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَمُخَالَطَةٍ وَاعْتِزَالٍ، وَشَبَابٍ وَهِرَمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَكُونُ جَابِرًا عَنْ بَقِيَّتِهَا مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّيَّتِهَا. (قَالَ: " لَا يَزَالُ) : أَيْ: هُوَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ (لِسَانُكَ) : أَيِ: الْقَالَبِيُّ أَوِ الْقَلْبِيُّ (رَطْبًا) : أَيْ: طَرِيًّا مُشْتَغِلًا قَرِيبَ الْعَهْدِ (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ.

2280 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ وَأَرْفَعُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ) . قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِنَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا، فَإِنَّ الذَّاكِرَ لِلَّهِ أَفْضَلُ مِنْهُ دَرَجَةً» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2280 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ) : أَيْ: أَكْثَرُ ثَوَابًا (وَأَرْفَعُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ) : أَيِ: اللَّهَ كَثِيرًا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَالذَّاكِرَاتُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُدَاوِمُونَ عَلَى ذِكْرِهِ وَفِكْرِهِ، وَالْقَائِمُونَ بِالطَّاعَةِ، الْمُوَاظِبُونَ عَلَى شُكْرِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ هُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ فِي السُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، وَهَذَا مُرَادِفٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِضَبْطِهِ بِشَغْلِ أَغْلَبِ أَوْقَاتِهِ بِالذِّكْرِ. (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا ذَلِكَ تَعَجُّبًا قَالَ: " لَوْ ضَرَبَ) : أَيْ: الْغَازِي (بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ) : مِنْ قَبِيلِ: بِجُرْحٍ فِي عَرَاقِيبِهَا نُصَلِّي. حَيْثُ جَعَلَ الْمَفْعُولَ بِهِ مَفْعُولًا فِيهِ مُبَالَغَةَ أَنْ يُوجِدَ فِيهِمُ الضَّرْبَ وَيَجْعَلَهُمْ مَكَانًا لِلضَّرْبِ بِالسَّيْفِ، وَيُوَضِّحُهُ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ جَعْلَهُمْ مَكَانًا وَظَرْفًا لِلضَّرْبِ أَبْلَغُ مِنْ جَعْلِهِمْ مَضْرُوبِينَ بِهِ فَقَطْ، (وَالْمُشْرِكِينَ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ فَإِنَّهُمْ ضِدُّ

الْمُوَحِّدِينَ (حَتَّى تَنْكَسِرَ) : أَيْ: سَيْفُهُ (وَيَخْتَضِبَ) : أَيْ: هُوَ، أَوْ سَيْفُهُ (دَمًا) : وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّهَادَةِ (فَإِنَّ الذَّاكِرَ) : تَكْرِيرُ تَأْكِيدٍ وَتَقْرِيرٍ (لِلَّهِ) : أَيْ: لَا غَيْرُهُ (أَفْضَلُ مِنْهُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: مِنَ الْغَازِي (دَرَجَةً) : وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ أَيْ: بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَحْتَمِلُ الْجِنْسَ أَيْ: بِدَرَجَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ أَفْضَلَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ [حَسَنٌ] غَرِيبٌ) .

2281 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2281 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ) : أَيْ: لَازِمُ الْجُلُوسِ وَدَائِمُ اللُّصُوقِ (عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ) : أَيِ: ابْنُ آدَمَ بِقَلْبِهِ، أَوْ ذَكَرَ قَلْبُهُ اللَّهَ (خَنَسَ) : أَيِ: انْقَبَضَ الشَّيْطَانُ وَتَأَخَّرَ عَنْهُ وَاخْتَفَى، فَتَضْعُفُ وَسْوَسَتُهُ وَتَقِلُّ مَضَرَّتُهُ، (وَإِذَا غَفَلَ) : أَيْ: هُوَ، أَوْ قَلْبُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (وَسْوَسَ) : أَيْ: إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَتَمَكَّنَ تَمَكُّنًا تَامًّا مِنْهُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَفْلَةَ سَبَبُ الْوَسْوَسَةِ لَا الْعَكْسُ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا) : أَيْ: بِلَا ذِكْرِ سَنَدٍ. وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ: «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَلِقَلْبِهِ بَيْتَانِ فِي أَحَدِهِمَا الْمَلَكُ، وَفِي الْآخَرِ الشَّيْطَانُ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ وَضَعَ الشَّيْطَانُ مِنْقَارَهُ فِي قَلْبِهِ وَوَسْوَسَ لَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَظَاهِرُ إِيرَادِ الشَّيْخِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا ; لَكِنْ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ السِّلَاحِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَرَوَاهُ فِي مُصَنَّفِهِ وَرِجَالُهُ وَرِجَالُ الصَّحِيحِ اهـ. فَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي مُصَنَّفِهِ يَكُونُ مَرْفُوعًا، وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لَهُ مَوْقُوفًا، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، بِلَفْظِ: " «إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خُرْطُومَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ» ". أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُؤَيِّدُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ، أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ لَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لِلْقَلْبِ، فَرَآهُ جَاثِمًا تَحْتَ غُضْرُوفِ الْكَتِفِ الْأَيْسَرِ، كَالْبَعُوضِ لَهُ خُرْطُومٌ طَوِيلٌ يَدُسُّهُ ثُمَّ إِلَى أَنْ يَصِلَ الْقَلْبَ، فَإِنْ رَآهُ ذَاكِرًا خَنَسَ وَكَفَّ عَنْهُ، أَوْ غَافِلًا مَدَّ خُرْطُومَهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى فِيهِ مِنْ جِنَايَتِهِ مَا أَرَادَ اللَّهُ، ثُمَّ لَا يَزَالُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ خَيْرٌ قَطُّ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» " فَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ قُوَّةً وَقُدْرَةً عَلَى أَنَّهُ يَجْرِي فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ وَعُرُوقِهِ مَجْرَى الدَّمِ فِي مَسَامَّ لَطِيفَةٍ مِنَ الْبَدَنِ فَتَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ.

2282 - وَعَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ " «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ كَالْمُقَاتِلِ خَلْفَ الْفَارِّينَ، وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ كَغُصْنٍ أَخْضَرَ فِي شَجَرٍ يَابِسٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2282 - وَعَنْ مَالِكٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: الذَّاكِرُ اللَّهَ فِي الْغَافِلِينَ ": أَيْ: عَنِ الذِّكْرِ (كَالْمُقَاتِلِ) : أَيْ: لِلْكُفَّارِ (خَلْفَ الْفَارِّينَ) : أَيِ: الْمُنْهَزِمِينَ (وَذَاكِرُ اللَّهِ) : وَكَرَّرَهُ لِيُنِيطَ بِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ غَيْرَ مَا أَنَاطَ بِهِ فِي الْأُخْرَى إِعْلَامًا بِأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، لَهُ فَوَائِدُ مُتَعَدِّدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. (فِي الْغَافِلِينَ) : أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا فِي الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ، فَالْجَارُّ ظَرْفٌ أَيْ: بَيْنَهُمْ كَمَا هُوَ ظَاهِرُهُ، أَوْ مَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ الذَّاكِرُ الْكَائِنُ فِي الْغَافِلِينَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ذَاكِرُ اللَّهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْغَافِلِينَ أَيْ: بَيْنَهُمْ، فَهُوَ مَعَ تَنَاقُضِ كَلَامِهِ ظَاهِرًا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْحَالِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَيُضَعِّفُهُ أَيْضًا مُنَاسَبَةُ مُوَافِقَةِ لَفْظِ خَلْفَ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (كَغُصْنٍ أَخْضَرَ فِي شَجَرٍ يَابِسٍ) : أَيْ: بِجَنْبِ الْأَشْجَارِ الْيَابِسَةِ.

2283 - وَفِي رِوَايَةٍ: " «مَثَلُ الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي وَسَطِ الشَّجَرِ، وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مَثَلُ مِصْبَاحٍ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ، وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ يُرِيهِ اللَّهُ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ حَيٌّ، وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ يُغْفَرُ لَهُ بِعَدَدِ كُلِّ فَصِيحٍ وَأَعْجَمٍ» " وَالْفَصِيحُ: بَنُو آدَمَ، وَالْأَعْجَمُ: الْبَهَائِمُ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2283 - (وَفِي رِوَايَةٍ: " مَثَلُ الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: كَغُصْنٍ (فِي وَسَطِ الشَّجَرَةِ) : بِفَتْحِ الشِّينِ وَيَسْكُنُ أَيِ: الشَّجَرُ الْيَابِسُ، وَهُوَ مَعْنَى مَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ (وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مَثَلُ مِصْبَاحٍ) : بِالْوَجْهَيْنِ أَيْ: شَبِيهُ سِرَاجٍ (فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ) : فَإِنَّ الذِّكْرَ نُورٌ وَحُضُورٌ وَسُرُورٌ، وَالْغَفْلَةَ ظُلْمَةٌ وَغَيْبَةٌ وَنُفُورٌ (وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ يُرِيهِ اللَّهُ مَقْعَدَهُ) : أَيْ وَمَا أَعَدَّهُ لَهُ (مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ حَيٌّ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَلَعَلَّ الْإِرَادَةَ بِالْمُكَاشَفَةِ أَوْ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ النَّزْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] (وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ يُغْفَرُ لَهُ) : أَيْ: ذُنُوبُهُ (بِعَدَدِ كُلِّ فَصِيحٍ وَأَعْجَمَ) : فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (وَالْفَصِيحُ: بَنُو آدَمَ وَالْأَعْجَمُ: الْبَهَائِمُ. رَوَاهُ رَزِينٌ) : وَرَوَى الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «ذَاكِرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْغَافِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ» ".

2284 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «مَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2284 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلًا) : أَيْ: قَوِيًّا مَنْدُوبًا، أَوْ مُطْلَقًا (أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) مِنَ الْأُولَى صِلَةٌ، وَالثَّانِيَةُ تَفْضِيلِيَّةٌ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيٌّ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ " قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ ! قَالَ: " وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ " قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» .

2285 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2285 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي) : أَيْ: بِالْإِعَانَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالرَّحْمَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَقِيلَ الْمَعِيَّةُ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّرَفِ وَالْقُرْبَةِ لِمَا وَرَدَ: أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جَلِيسُ السُّلْطَانِ أَيْ: مُقَرَّبٌ مُشَرَّفٌ عِنْدَهُ، وَالْحَدِيثُ أَبْلَغُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ هُوَ جَلِيسٌ. (إِذَا ذَكَرَنِي) : أَيْ: بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ (وَتَحَرَّكَتْ بِي) أَيْ: بِذِكْرِي (شَفَتَاهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا ذَكَرَنِي بِاللِّسَانِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلْعَطْفِ، فَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ النَّافِعَ هُوَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبُ لَاهٍ فَهُوَ قَلِيلُ الْجَدْوَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2286 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " «لِكُلِّ شَيْءٍ صِقَالَةٌ، وَصِقَالَةُ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ " قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: " وَلَا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2286 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " لِكُلِّ شَيْءٍ) : أَيْ: يَصْدَأُ أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا (صِقَالَةٌ) : أَيْ: تَجْلِيَةٌ وَتَخْلِيَةٌ وَتَزْكِيَةٌ وَتَصْفِيَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: آلَةٌ يُصْقَلُ بِهَا صَدَؤُهُ وَيُزَالُ وَسَخُهُ، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ لَفْظًا (وَصِقَالَةُ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللَّهِ) فَإِنَّهُ بِذِكْرِهِ يَنْجَلِي غُبَارُ الْأَغْيَارِ وَيَصِيرُ الْقَلْبُ مِرْآةً لِمُطَالَعَةِ الْآثَارِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصَدَأُ الْقُلُوبِ الرَّيْنُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] بِمُتَابَعَةِ الْهَوَى الْمَعْنِيِّ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] فَكَلِمَةُ لَا إِلَهَ تُخَلِّيهَا، وَكَلِمَةُ إِلَّا اللَّهُ تُجَلِّيهَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ صَفَا قَلْبُهُ وَحَضَرَ سِرُّهُ، فَيَكُونُ وُرُودُ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ عَلَى قَلْبٍ مُنَقًّى وَسِرٍّ مُصَفًّى. قَالُوا: (وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَى) : أَيْ: لَهُ (مِنْ عَذَابِ اللَّهِ) : أَيْ: عِقَابِهِ وَحِجَابِهِ (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ". قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ ! قَالَ: " وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قَالَ: " وَلَا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ) : أَيْ هُوَ أَوْ سَيْفُهُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي: الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

[كتاب أسماء الله تعالى]

[كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى]

(2) - كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2287 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (2) كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى اسْمُهُ تَعَالَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ كَاللَّهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ سَلْبِيَّةٍ كَالْقُدُّوسِ، وَالْأَوَّلِ أَوْ حَقِيقِيَّةٍ ثُبُوتِيَّةٍ كَالْعَلِيمِ وَالْقَادِرِ، أَوْ إِضَافِيَّةٍ كَالْحَمِيدِ وَالْمَلِيكِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ كَالرَّازِقِ وَالْخَالِقِ، وَالِاسْمُ هُوَ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ لُغَةً، وَالْمُسَمَّى هُوَ: الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ الِاسْمُ، وَالتَّسْمِيَةُ وَضْعُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ لِإِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْمُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى، فَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ هُوَ الْمُسَمَّى عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي، وَغَيْرُ الْمُسَمَّى عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الِاسْمُ هُوَ التَّسْمِيَةُ دُونَ الْمُسَمَّى. وَقَالَ مَشَايِخُنَا: التَّسْمِيَةُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى، وَالِاسْمُ هُوَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَكُونُ عَيْنَ الْمُسَمَّى كَاللَّهِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهُ كَالْخَالِقِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ عَيْنَهُ وَلَا غَيْرَهُ كَالْعَالِمِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ عَيْنَ ذَاتِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا غَيْرَهُ عَلَى أَنَّ الْغَيْرَ مَا يُمْكِنُ انْفِكَاكُهُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَيْسَتْ عَيْنَ ذَاتِهِ، لِمَا أَنَّ الْمَعَانِيَ تُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ لُغَةً وَعَقْلًا، فَهِيَ إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ نَقْصًا؛ لِأَنَّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً كَانَتْ زَائِدَةً بِالضَّرُورَةِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ يَمْتَنِعُ قِيَامُهَا بِذَاتِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا أَيْضًا، لِأَنَّ الْغِيَرَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ يُمْكِنُ انْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَذَهَبَ الْفَلَاسِفَةُ إِلَى كَوْنِهَا عَيْنَ الذَّاتِ، وَيَقْرُبُ مِنْ قَوْلِهِمْ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ لَا بِالْعِلْمِ، بَلْ بِالذَّاتِ، وَمَحَلُّ هَذَا الْمَبْحَثِ كُتُبُ الْعَقَائِدِ، وَلَمْ يَتَكَلَّفِ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، وَلَا فِي التِّلَاوَةِ وَالْمَتْلُوِّ تَوَرُّعًا وَطَلَبًا لِلسَّلَامَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلِ 2287 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ لِلَّهِ) : زِيدَ فِي نُسْخَةٍ " تَعَالَى " (تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا) : أَيْ: صِفَةً (مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا) وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَّا وَاحِدَةً. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: جَاءَ فِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ: إِلَّا وَاحِدَةً، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ إِلَّا وَاحِدَةً نَظَرًا إِلَى الْكَلِمَةِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ التَّسْمِيَةِ (مَنْ أَحْصَاهَا) : أَيْ: مَنْ آمَنَ بِهَا، أَوْ عَدَّهَا وَقَرَأَهَا كَلِمَةً كَلِمَةً عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيلِ تَبَرُّكًا وَإِخْلَاصًا، أَوْ حَفِظَ مَبَانِيهَا وَعَلِمَ مَعَانِيهَا وَتَخَلَّقَ بِمَا فِيهَا (دَخَلَ الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ دُخُولًا مُعَظَّمًا، أَوْ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ: «مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» أَيِ: الْجَنَّةَ الْحِسِّيَّةَ فِي الْعُقْبَى وَالْمَعْنَوِيَّةَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: قَوْلُهُ: " مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً " بَدَلُ الْكُلِّ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ اسْمِ إِنَّ، أَوْ مَنْصُوبٍ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ عَنِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَلِئَلَّا يَلْتَبِسَ " تِسْعَةً وَتِسْعِينَ " بِسَبْعَةٍ وَتِسْعِينَ بِتَقَدُّمِ السِّينِ فِي الْأَوَّلِ، أَوْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ بِتَقْدِيمِ السِّينِ فِيهِمَا، أَوْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ بِتَقَدُّمِ السِّينِ فِي الثَّانِي مِنْ زَلَّةِ الْكَاتِبِ وَهَفْوَةِ الْقَلَمِ، فَيَنْشَأُ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَسْمُوعِ مِنَ الْمَسْطُورِ، فَأَكَّدَهُ بِهِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْخِلَافِ وَإِرْشَادًا لِلِاحْتِيَاطِ فِي هَذَا الْبَابِ، أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . قَالَ فِي الْمَعَالِمِ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] الْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى تَسْمِيَتُهُ بِمَا لَا يَنْطِقُ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَسْمَاءُ اللَّهِ تُوجَدُ تَوْقِيفًا وَيُرَاعَى فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَكُلُّ اسْمٍ وَرَدَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ وَجَبَ إِطْلَاقُهُ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى، وَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهَا لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ فِي وَصْفِهِ وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ. قَالَ الرَّاغِبُ: ذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ اسْمٌ يَصِحُّ مَعْنَاهُ فِيهِ، وَالْأَفْهَامُ الصَّحِيحَةُ الْبَشَرِيَّةُ لَهَا سِعَةٌ وَمَجَالٌ فِي اخْتِيَارِ الصِّفَاتِ. قَالَ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ كَالْمُعْتَزِلَةِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: نَقَلَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنِ الْقُشَيْرِيِّ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَكَانَتِ الْأَسْمَاءُ لِغَيْرِهِ، وَلَخَّصَ هَذَا الْمَعْنَى الْقَاضِي وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الِاسْمُ عَيْنَ الْمُسَمَّى لَزِمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا الْحُكْمُ بِتَعَدُّدِ الْإِلَهِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِاسْمِ هَاهُنَا اللَّفْظُ، وَلَا خِلَافَ فِي وُرُودِ الِاسْمِ بِهَذَا الْمَعْنَى، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى عَيْنُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ تَعَدُّدُ الْمُسَمَّى. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ حَقِيقَةٍ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي التَّعَدُّدَ فِي الِاعْتِبَارَاتِ وَالصِّفَاتِ دُونَ الذَّاتِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: تِسْعَةً وَتِسْعِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ إِذْ ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ الرَّبُّ الْمَوْلَى النَّصِيرُ الْمُحِيطُ الْكَافِي الْعَلَّامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَفِي السُّنَّةِ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ الدَّائِمُ الْجَمِيلُ، وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَشْهَرَ لَفْظًا وَأَظْهَرَ مَعْنًى، وَلِأَنَّهَا غُرَرُ أَسْمَائِهِ وَأُمَّهَاتُهَا الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَعَانِي غَيْرِهَا. وَقِيلَ: مَنْ أَحْصَاهَا صِفَةٌ لَهَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ مِثْلَ: لِفُلَانٍ أَلْفُ شَاةٍ أَعَدَّهَا لِلْأَضْيَافِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِلْبُخَارِيِّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ فِي حَاشِيَةِ الْحِصْنِ (وَهُوَ) : أَيْ: ذَاتُهُ تَعَالَى: (وِتْرٌ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: فَرْدٌ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ ( «يُحِبُّ الْوِتْرَ» ) : أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَذْكَارِ، يَعْنِي يُحِبُّ مِنْهَا مَا كَانَ عَلَى صِفَةِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّفَرُّدِ لَهُ تَعَالَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ أَيْ: يُثِيبُ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي أَتَى بِهِ وِتْرًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَعَانِي الْفَرْدِيَّةِ قَلْبًا، وَلِسَانًا، وَإِيمَانًا، وَإِخْلَاصًا إِثَابَةً كَامِلَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «لَا يَحْفَظُهُ أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ".

2288 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ، الْغَفَّارُ، الْقَهَّارُ، الْوَهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الْفَتَّاحُ، الْعَلِيمُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ، الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْحَكَمُ، الْعَدْلُ، اللَّطِيفُ، الْخَبِيرُ، الْحَلِيمُ، الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ، الشَّكُورُ، الْعَلِيُّ، الْكَبِيرُ، الْحَفِيظُ، الْمُمِيتُ، الْحَسِيبُ، الْجَلِيلُ، الْكَرِيمُ، الرَّقِيبُ، الْمُجِيبُ، الْوَاسِعُ، الْحَكِيمُ، الْوَدُودُ، الْمَجِيدُ، الْبَاعِثُ، الشَّهِيدُ، الْحَقُّ، الْوَكِيلُ، الْقَوِيُّ، الْمَتِينُ، الْوَلِيُّ، الْحَمِيدُ، الْمُحْصِي، الْمُبْدِئُ، الْمُعِيدُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْوَاجِدُ، الْمَاجِدُ، الْوَاحِدُ، الصَّمَدُ، الْقَادِرُ، الْمُقْتَدِرُ، الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ، الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْوَالِي، الْمُتَعَالِي، الْبَرُّ، التَّوَّابُ، الْمُنْتَقِمُ، الْعَفُوُّ، الرَّءُوفُ، مَالِكُ الْمُلْكِ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمُقْسِطُ، الْجَامِعُ، الْغَنِيُّ، الْمُغْنِي، الْمَانِعُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، النُّورُ، الْهَادِي، الْبَدِيعُ، الْبَاقِي، الْوَارِثُ، الرَّشِيدُ، الصَّبُورُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكُبْرَى " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2288 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَشْهَرَ أَسْمَائِهِ تَعَالَى هُوَ: (اللَّهُ) ، لِإِضَافَةِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، وَقَالَ الْمَالِكِيُّ النَّحْوِيُّ: اللَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لَيْسَ بِصِفَةٍ، وَقِيلَ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى سِوَاهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ إِلَيْهِ يُنْسَبُ كُلُّ اسْمٍ لَهُ وَيُقَالُ الْكَرِيمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ مِنْ أَسْمَاءِ الْكَرِيمِ اللَّهُ. (مَنْ أَحْصَاهَا) : أَيْ حَفِظَهَا كَمَا فَسَّرَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. فَإِنَّ الْحِفْظَ يَحْصُلُ بِالْإِحْصَاءِ وَتَكْرَارِ مَجْمُوعِهَا فَالْإِحْصَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِفْظِ، أَوْ ضَبَطَهَا حَصْرًا وَتَعْدَادًا، وَعِلْمًا، وَإِيمَانًا، أَوْ أَطَاقَهَا بِالْقِيَامِ بِمَا هُوَ حَقُّهَا وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْتَبِرَ مَعَانِيَهَا، فَيُطَالِبَ نَفْسَهُ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ فَيَتَخَلَّقُ بِهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، فَكَفَّ لِسَانَهُ وَسَمْعَهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي بَاقِي الْأَسْمَاءِ اهـ. وَأَمَّا التَّخَلُّقُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، فَبَسَطَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى، وَقِيلَ: كُلُّ اسْمٍ لِلتَّخَلُّقِ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لِلتَّعَلُّقِ (دَخَلَ الْجَنَّةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَتَنَافَى أَنَّ مَنْ زَادَ فِيهَا زَادَ مَرْتَبَةً فِي الْجَنَّةِ، إِذْ قَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، كَالتَّامِّ، وَالْقَدِيمِ، وَالْوِتْرِ، وَالشَّدِيدِ، وَالْكَافِي وَالْأَبَدِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَيْضًا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ: الْمَجِيدُ، الرَّبُّ، الْأَكْرَمُ، الْأَعْلَى، أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ذُو الطَّوْلِ، ذُو الْقُوَّةِ، ذُو الْمَعَارِجِ، ذُو الْعَرْشِ، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ اهـ. وَمِنْهَا: رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَذَكَرَ الْجَزَاءَ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَحْقِيقًا (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) : الِاسْمُ الْمَعْدُودُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ أَسْمَائِهِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ مَنْ هُوَ وَإِلَهٌ، وَالْجُمْلَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ وَالتَّحْقِيقَ لِإِلَهِيَّتِهِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ عَنْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ إِمَّا بَيَانٌ لِكَمِّيَّةِ تِلْكَ الْأَعْدَادِ أَنَّهَا مَا هِيَ فِي قَوْلَةِ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إِلَى الْخَبَرِ، وَإِمَّا بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِحْصَاءِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يُحْصَى فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسَمَّى الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: " لِلَّهِ " كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى سُئِلَ: وَمَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ؟ فَأُجِيبَ: هُوَ اللَّهُ، أَمَّا

لَمَّا قِيلَ: مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ سُئِلَ: كَيْفَ أَحْصَاهَا؟ فَأَجَابَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ مُبْتَدَأٌ، أَوِ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ، وَالْمَوْصُولُ مَعَ الصِّلَةِ صِفَةُ اللَّهِ، وَلِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَرَاتِبُ الْأُولَى: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الْمُنَافِقُ مُجَرَّدًا عَنِ التَّصْدِيقِ، وَذَلِكَ يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا بِحَقْنِ دَمِهِ وَحِرْزِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا عَقْدُ قَلْبٍ بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ، وَفِي صِحَّتِهَا خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صَحِيحٌ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا اعْتِقَادٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَمَارَاتِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى اعْتِبَارِهَا. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا اعْتِقَادٌ حَازِمٌ مِنْ جِهَةٍ قَاطِعَةٍ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا. وَالْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ مُكَاشِفًا بِمَعْنَاهَا مُعَايِنًا بِبَصِيرَتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ إِيمَانِ الْعَوَّامِّ كَذِبٌ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ غَيْرُ مُقَلِّدٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَرْتِيبِ الْبُرْهَانِ بِذَلِكَ عَلَى قَوَاعِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَوْلَى مِنْ هَذَا مَنْ لَهُ اعْتِقَادٌ نَشَأَ مِنْ ظَنِّيٍّ، ثُمَّ مَنْ نَشَأَ اعْتِقَادُهُ عَنْ قَطْعِيٍّ وَاعْتَرَفَ بِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي كَمَالِ إِيمَانِهِ وَنَفْعِهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِالْقَلْبِ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ اللِّسَانِ بِنَحْوِ خَرَسٍ نَفَعَتْ فِيهِمَا اتِّفَاقًا أَيْضًا، أَوْ لَا لِعُذْرٍ لَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، لَكِنْ ذَهَبَ الْغَزَالِيُّ، وَتَبِعَهُ جَمْعٌ مُحَقِّقُونَ إِلَى نَفْعِهَا فِيهِمَا. قُلْتُ: لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ طَلَبِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ، إِنَّهُ إِنْ أَبَى بَعْدَ ذَلِكَ فَكَافِرٌ إِجْمَاعًا لِقَضِيَّةِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَةِ: إِذَا كَانَ مُخْلِصًا فِي مَقَالَتِهِ كَانَ دَاخِلًا فِي الْجَنَّةِ فِي حَالَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] قِيلَ: جَنَّةٌ مُعَجَّلَةٌ وَهِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ وَلَذَّةُ الْمُنَاجَاةِ، وَجَنَّةٌ مُؤَجَّلَةٌ وَهِيَ قَبُولُ الْمَثُوبَةِ وَعُلُوُّ الدَّرَجَةِ اهـ. قَالَ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ لِلْإِشَارَةِ وَهُوَ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إِخْبَارٌ عَنْ نِهَايَةِ التَّحْقِيقِ، فَإِذَا قِيلَ هُوَ لَا يَسْبِقُ إِلَى قُلُوبِهِمْ غَيْرُ الْحَقِّ، فَيَكْتَفُونَ عَنْ كُلِّ بَيَانٍ يَتْلُوهُ لِاسْتِهْلَاكِهِمْ فِي حَقَائِقِ الْقُرْبِ، وَاسْتِيلَاءِ ذِكْرِ الْحَقِّ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، وَانْمِحَائِهِمْ عَنْ شُهُودِهِمْ، فَضْلًا عَنْ إِحْسَاسِهِمْ بِمَنْ سِوَاهُ. قِيلَ: اللَّهُ أَصْلُهُ لَاهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَعُرِّبَ، وَقِيلَ عَرَبِيٌّ وُضِعَ فِي أَصْلِهِ، لِأَنَّ ذَاتَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِلَا اعْتِبَارٍ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِلْبَشَرِ، فَلَا يُمْكِنُهُ وَضْعُ اللَّفْظِ وَلَا الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَصَارَ كَالْعَلَمِ أُجْرِيَ مَجْرَاهُ فِي إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعِ الْوَصْفِ بِهِ وَعَدَمِ تَطَرُّقِ احْتِمَالِ الشَّرِكَةِ إِلَيْهِ وَمَعْنَاهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، ثُمَّ قِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ كَعَبَدَ وَزْنًا وَمَعْنًى وَتَصَرُّفًا، فَالْإِلَهُ بِمَعْنَى الْمَأْلُوهِ، وَقِيلَ: مِنْ لَاهَ يَلِيهِ لَيْهًا وَلَاهًا أَيْ: احْتَجَبَ وَارْتَفَعَ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ مُرْتَفِعٌ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَقِيلَ: مِنْ أَلِهَ أَيْ: تَحَيَّرَ وَوَلِهَ وَزْنًا وَمَعْنًى لِتَحَيُّرِ الْعُقُولِ فِي مَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ، فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ، وَقِيلَ: مِنْ أَلِهَ أَيْ فَزِعَ إِذْ يَفْزَعُ النَّاسُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَقِيلَ: مِنْ أَلَهْتُ إِلَى كَذَا أَيْ: سَكَنْتُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَطْمَئِنُّ بِذِكْرِهِ، وَالْأَرْوَاحَ تَسْكُنُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَهَذَا الِاسْمُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَعْظَمُ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِصِفَاتِ الْإِلَهَيَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ قَالَ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ السَّيِّدُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ: الِاسْمُ الْأَعْظَمُ هُوَ اللَّهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَقُولَ: (اللَّهُ) وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ سِوَى اللَّهِ. قِيلَ: هَذَا الِاسْمُ لِلْعَوَامِّ إِجْرَاؤُهُ عَلَى اللِّسَانِ وَالذِّكْرُ بِهِ عَلَى مَوْجُودٍ فَائِضِ الْجُودِ، جَامِعٍ لِلصِّفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَمَنْعُوتٍ بِنُعُوتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِخَوَاصِّ الْخَوَاصِّ أَنْ يَسْتَغْرِقَ قَلْبُهُمْ بِاللَّهِ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَحَدٍ سِوَاهُ، وَلَا يَرْجُو وَيَخَافُ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ إِلَّا إِيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ » . ثُمَّ قِيلَ: إِنْ أُرِيدَ بِالْإِلَهِ الْأَعَمُّ كَانَ التَّقْدِيرُ، لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ إِلَّا هُوَ أَوِ الْأَخَصُّ وَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، فَالتَّقْدِيرُ لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ إِلَّا هُوَ، وَعَلَى كُلٍّ فَمَحْمِلٌ هُوَ الرَّفْعُ وَيَجُوزُ النَّصْبُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مُفَادُ هَذَا النَّفْيِ وَمَا بَعْدَهُ غَايَةُ الْإِثْبَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ: لَا أَخَ لِي سِوَاكَ آكَدُ مِنْ: أَنْتَ أَخِي، فَمُفَادُهَا نَفْيُ مَا اسْتَحَالَ وُجُودُهُ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ الشَّرِيكُ، وَإِثْبَاتُ مَا اسْتَحَالَ عَدَمُهُ وَهُوَ الذَّاتُ الْعَلِيُّ، وَالْمُرَادُ

إِظْهَارُ اعْتِقَادِ ذَلِكَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُشْتَرَطِ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ الْمَطْلُوبِ لِظُهُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِتْقَانِ. ( «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا اسْمَانِ بُنِيَا لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهِيَ لُغَةً رِقَّةُ الْقَلْبِ، وَانْعِطَافٌ وَرَأْفَةٌ تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ وَالْإِحْسَانَ عَلَى مَنْ رَقَّ لَهُ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ إِنَّمَا تُوجَدُ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ الْمَبَادِئِ الَّتِي تَكُونُ انْفِعَالَاتٍ، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُمَا أَنْ يَتَوَجَّهَ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى جَنَابِ قُدُسِهِ، وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَيَلْتَجِئَ فِيمَا يَعِنُّ لَهُ إِلَيْهِ وَيَشْغَلَ سِرَّهُ بِذِكْرِهِ، وَالِاسْتِمْدَادِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ لِمَا فُهِمَ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمُولِي لِلنِّعَمِ كُلِّهَا عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا، وَيَرْحَمُ عِبَادَ اللَّهِ فَيُعَاوِنُ الْمَظْلُومَ وَيَصْرِفُ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ، وَيُنَبِّهُ الْغَافِلَ وَيَنْظُرُ إِلَى الْعَاصِي بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ دُونَ الِازْدِرَاءِ وَيَجْتَهِدُ فِي إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَإِزَاحَتِهِ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَسْتَطِيعُهُ، وَيَسْعَى فِي سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِينَ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ، فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ. إِمَّا إِرَادَةُ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَدَفْعُ الضُّرِّ عَنْهُمْ فَيَكُونُ الِاسْمَانِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، أَوْ نَفْسُ الْإِنْعَامِ وَالدَّفْعِ، فَيَعُودَانِ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ صِفَةَ الذَّاتِ عَدَمُهَا يُوجِبُ نَقْصًا، وَلَا كَذَلِكَ صِفَةُ الْأَفْعَالِ. وَالرَّحْمَنُ: أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ تَارَةً تُوجَدُ بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ، وَأُخْرَى بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ قِيلَ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ، وَعَلَى الثَّانِي قِيلَ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ النِّعَمَ الْأُخْرَوِيَّةَ بِأَسْرِهَا تَامَّةٌ، وَالنِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، وَقَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَتَامٍّ وَغَيْرِ تَامٍّ، وَكَانَ مَعْنَى الرَّحْمَنِ هُوَ الْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ تَامُّ الرَّحْمَةِ عَمِيمُ الْإِحْسَانِ، وَلِذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، وَيُقَالُ لَهُ خَاصُّ اللَّفْظِ عَامُّ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ الرَّحِيمِ فَإِنَّهُ عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمَعْنَى. (الْمَلِكُ) : أَيْ: ذُو الْمُلْكِ التَّامِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِكَذَا إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ كَالْقَادِرِ، وَقِيلَ: الْمُتَصَرِّفُ فِي الْأَشْيَاءِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِفْنَاءِ وَالْإِمَاتِهِ وَالْإِحْيَاءِ، فَيَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ كَالْخَالِقِ، وَقِيلَ: وَمَوْقِعُ الْمَلِكِ فِي الْحَدِيثِ كَمَوْقِعِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى أُسْلُوبِ التَّكْمِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى النِّعَمِ وَالْأَلْطَافِ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالْقُوَّةِ، وَأَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقِيقِيُّ، وَأَنَّهُ لَا مَالِكَ سِوَاهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مُحْتَاجٌ فِي الْوُجُودِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَالِاحْتِيَاجُ مِمَّا يُنَافِي الْمُلْكَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُلْكٌ مُطْلَقٌ، بَلْ يُضَافُ إِلَيْهِ مَجَازًا. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُ بِمَا قَدْ يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ، وَكَانَ مَظِنَّةً لِلتَّشْبِيهِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: (الْقُدُّوسُ) : وَهَلُمَّ جَرًّا بِتَتَابُعِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الثَّنَاءِ، وَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيِ: الطَّاهِرُ الْمُنَزَّهُ فِي نَفْسِهِ عَنْ سِمَاتِ النُّقْصَانِ، ثُمَّ وَظِيفَةُ الْعَارِفِ مِنَ اسْمِ الْمَلِكِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَغْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا عَدَاهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ وَجُودُهُ وَبَقَاؤُهُ وَمُسَخَّرٌ لِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ، فَيَسْتَغْنِي عَنِ النَّاسِ رَأْسًا وَيَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَمْلَكَتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي هِيَ قَلْبُهُ وَقَالَبُهُ، وَالتَّسَلُّطِ عَلَى جُنُودِهِ وَرَعَايَاهُ مِنَ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِيهِ خَيْرُ الدَّارَيْنِ، وَفِي مَعْنَاهُ قِيلَ: مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَالْعَبْدُ مَنْ يَمْلِكُهُ هَوَاهُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقُدُّوسُ تَسْمُو هِمَّتُهُ إِلَى أَنْ يُطَهِّرَهُ الْحَقُّ مِنْ عُيُوبِهِ وَآفَاتِهِ، وَيُقَدِّسَهُ عَنْ دَنَسِ آثَامِهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، فَيَحْتَالُ فِي تَصْفِيَةِ وَقْتِهِ عَنِ الْكُدُورَاتِ، وَيَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ بِحُسْنِ اسْتِعَانَتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّ مَنْ طَهَّرَ اللَّهُ لِسَانَهُ عَنِ الْغِيبَةِ طَهَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَنِ الْغِيبَةِ، وَمَنْ طَهَّرَ اللَّهُ سِرَّهُ عَنِ الْحَجْبَةِ مِنَ الْقُرْبَةِ

الْقَرِيبَةِ. حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ مَرَّ بِسَكْرَانٍ مَطْرُوحٍ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَقَيَّأَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: بِأَيِّ لِسَانٍ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الْآفَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَغَسَلَ فَمَهُ؟ فَلَمَّا أَنْ أَفَاقَ السَّكْرَانُ أُخْبِرَ بِمَا فَعَلَهُ فَخَجِلَ وَتَابَ، فَرَأَى إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: غَسَلْتَ لِأَجْلِنَا فَمَهُ غَسَلْنَا لِأَجْلِكَ قَلْبَهُ. (السَّلَامُ) : مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: ذُو السَّلَامَةِ عَنْ عُرُوضِ الْآفَاتِ مُطْلَقًا ذَاتًا وَصِفَةً وَفِعْلًا، فَهُوَ الَّذِي سَلِمَ ذَاتُهُ عَنِ الْعَيْبِ وَالْحُدُوثِ، وَصِفَاتُهُ عَنِ النَّقْصِ، وَأَفْعَالُهُ عَنِ الشَّرِّ الْمَحْضِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَالِكُ تَسْلِيمِ الْعَابِدِ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَهَالِكِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْقُدْرَةِ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقِيلَ: ذُو السَّلَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجِنَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] فَيَكُونُ مَرْجِعُهُ إِلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُدُّوسِ أَنَّ الْقُدُّوسَ يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الشَّيْءِ مِنْ نَقْصٍ يَقْتَضِيهِ ذَاتُهُ وَيَقُومُ بِهِ، فَإِنَّ الْقُدُّوسَ طَهَارَةُ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعُلَ بِالضَّمِّ، وَالسَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى نَزَاهَتِهِ عَنْ نَقْصٍ يَعْتَرِيهِ لِعُرُوضِ آفَةٍ، أَوْ صُدُورِ فِعْلٍ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا قِيلَ: الْقُدُّوسُ فِيمَا لَمْ يَزَلْ، وَالسَّلَامُ فِيمَا لَا يَزَالُ، وَوَظِيفَةُ الْعَارِفِ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ بِحَيْثُ يَسْلَمُ قَلْبُهُ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْخِيَانَةِ وَإِرَادَةِ الشَّرِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْخَيْرِ فِي ضِمْنِهِ وَجَوَارِحِهِ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْآثَامِ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَمُسَلِّمًا عَلَى كُلٍّ مَنْ يَرَاهُ عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: السَّلِيمُ مِنَ الْعِبَادِ مِنْ سَلِمَ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ سِرًّا وَعَلَنًا، وَبَرِئَ مِنَ الْعُيُوبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمِنْ آدَابِ مَنْ تَخَلَّقَ بِهَذَا الِاسْمِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَوْلَاهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا كَانَ السَّلَامُ مِنَ السَّلَامَةِ كَانَ الْعَارِفُ بِهَذَا الِاسْمِ طَالِبًا لِلسَّلَامَةِ، وَمُتَلَبِّسًا بِالِاسْتِسْلَامِ، لِيَجْمَعَ لَهُ كَمَالَ التَّنْزِيهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَالتَّخَلُّقُ بِهِ أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، بَلْ يَكُونُ بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَأَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنَّا قَالَ: هُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنِّي طَاعَةً وَأَسْبَقُ مِنِّي إِيمَانًا وَمَعْرِفَةً، وَإِنْ رَأَى أَصْغَرَ مِنْهُ، قَالَ: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنِّي؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنِّي مَعْصِيَةً، وَإِذَا ظَهَرَ مِنْ أَخِيهِ مَعْصِيَةٌ طَلَبَ لَهُ سَبْعِينَ مَعْذِرَةً، فَإِنِ اتَّضَحَ لَهُ عُذْرُهُ وَإِلَّا عَادَ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّوْمِ، وَيَقُولُ: بِئْسَ الرَّجُلُ أَنْتَ حَيْثُ لَمْ تَقْبَلْ سَبْعِينَ عُذْرًا مِنْ أَخِيكَ. (الْمُؤْمِنُ) : أَيْ: مَنْ أُمِنَ خُلُقُهُ بِإِفَادَةِ آلَاتِ دَفْعِ الْمَضَارِّ، أَوْ أَمِنَ الْأَبْرَارَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ يَوْمَ الْعَرْضِ، أَوْ أَمِنَ عِبَادَهُ مِنَ الظُّلْمِ، بَلْ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ إِمَّا فَضْلٌ وَإِمَّا عَدْلٌ، فَهُوَ مِنَ الْأَمَانِ وَمَرْجِعُهُ إِلَى أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، أَوْ صَدَّقَ أَنْبِيَاءَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْكَلَامِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ فِي الْأَسْمَاءِ لَا تَقْتَضِي الْمُشَابَهَةَ فِي الذَّوَاتِ، فَيُصْبِحُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُؤْمِنًا، وَلَا تَقْضِي الْمُشَابَهَةُ مُشَابَهَةَ الْعَبْدِ الرَّبَّ اهـ. وَلَا تَقْتَضِي الْمُشَابَهَةَ فِي الصِّفَاتِ فَإِنَّ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ بَوْنًا بَيِّنًا، قِيلَ: وَوَظِيفَةُ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يُصَدِّقَ الْحَقَّ وَيَسْعَى فِي تَقْرِيرِهِ، وَيَكُفَّ عَنِ الْإِضْرَارِ وَالْحَيْفِ، وَيَكُونُ بِحَيْثُ يَأْمَنُ النَّاسُ بَوَائِقَهُ، وَيَعْتَضِدُونَ بِهِ فِي دَفْعِ الْمَخَاوِفِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ الصَّادِقُ فِي وَعْدِهِ الْمُصَدِّقُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لَمْ يَسْكُنْ فِي تَصْدِيقِهِ لِغَيْرِهِ، وَعُطِفَ عَلَى السَّلَامِ لِمَزِيدِ مَعْنَى التَّأْمِينِ عَلَى السَّلَامِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَبُولِ وَالْإِقْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمُهَيْمِنُ) : أَيِ: الرَّقِيبُ الْمُبَالِغُ فِي الْمُرَاقَبَةِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ هَيْمَنَ الطَّائِرُ إِذَا نَشَرَ جَنَاحَهُ عَلَى فِرَاخِهِ صِيَانَةً لَهُ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: الشَّاهِدُ أَيِ: الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ، وَقِيلَ: الَّذِي يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] أَيْ: شَاهِدًا، وَقِيلَ: الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْخَلْقِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَآجَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مُؤَيْمِنٌ أُبْدِلَتِ الْهَاءُ مِنَ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ مُفَيْعِلٌ مِنَ الْأَمَانَةِ بِمَعْنَى الْأَمِينِ الصَّادِقِ الْوَعْدِ، فَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُهَيْمِنُ اسْمٌ لِمَنِ اسْتَجْمَعَ ثَلَاثَ صِفَاتٍ: الْعِلْمُ مَجَالُ الشَّيْءِ، وَالْقُدْرَةُ الْعَامَّةُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَصَالِحِهِ، وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يُرَاقِبَ قَلْبَهُ، وَيُقَوِّمَ أَحْوَالَهُ، وَيَحْفَظَ الْقُوَى

وَالْجَوَارِحَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِمَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ عَنْ جَنَابِ الْقُدُسِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ الْمُهَيْمِنُ خَضَعَ تَحْتَ جَلَالِهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ. (الْعَزِيزُ) : وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] وَقِيلَ: عَدِيمُ الْمِثَالِ فَمَرْجِعُهُ إِلَى التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَتَعَذَّرُ الْإِحَاطَةُ بِوَصْفِهِ، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يُعِزَّ نَفْسَهُ، وَلَا يَسْتَهِينَهَا بِالْمَطَالِبِ الدَّنِيَّةِ، وَلَا يُدَنِّسَهَا بِالسُّؤَالِ مِنَ النَّاسِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِمْ، وَيَجْعَلَهَا بِحَيْثُ يَشْتَدُّ إِلَيْهَا احْتِيَاجُ الْعِبَادِ فِي الْإِرْفَاقِ وَالْإِرْشَادِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيُّ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ الْعِزَّ إِلَّا فِي رَفْعِ الْهِمَّةِ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَعْرِفُ اللَّهَ عَزِيزًا مَنْ أَعَزَّ أَمْرَهُ وَطَاعَتَهُ، فَأَمَّا مَنِ اسْتَهَانَ بِأَوَامِرِهِ، فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَقِّقًا بِعِزَّتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] . (الْجَبَّارُ) : بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ إِصْلَاحُ الشَّيْءِ بِضَرْبٍ مِنَ الْقَهْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِصْلَاحِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ: يَا جَابِرَ كُلِّ كَسِيرٍ، وَعَلَى الْقَهْرِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ مَا وَرَدَ: لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ، ثُمَّ تَجَوَّزَ بِهِ لِلْعُلُوِّ الْمُسَبَّبِ عَنِ الْقَهْرِ فَقِيلَ لِمَكَّةَ جَبَّارَةٌ فَقِيلَ الْجَبَّارُ هُوَ الْمُصْلِحُ لِأُمُورِ الْعِبَادِ يُغْنِي الْمُؤْمِنَ مِنْ فَقْرِهِ، وَيُصْلِحُ عَظْمَهُ مِنْ كَسْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: الْمُتَعَالِي عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ كَيْدُ الْكَائِدِينَ، وَأَنْ يَنَالَهُ قَصْدُ الْقَاصِدِينَ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ حَامِلُ الْعِبَادِ عَلَى مَا أَرَادَ قَهْرًا مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، أَوْ عَلَى مَا أَرَادَ صُدُورَهُ عَنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْبَارِ، فَصَارُوا حَيْثُ أَرَادَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ. قِيلَ: وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْ هَذَا الِاسْمِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى النَّفْسِ فَيَجْبُرَ نَقَائِصَهَا بِاسْتِكْمَالِ الْفَضَائِلِ، وَيَحْمِلَهَا عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى مِنَ الرَّذَائِلِ، وَيَكْسِرَ فِيهَا الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ، وَيَرْتَفِعَ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْخَلْقِ فَيَتَخَلَّقُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ بِحَيْثُ لَا يُزَلْزِلُهُ تَعَاوُرُ الْحَوَادِثِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَعَاقُبُ النَّوَازِلِ، بَلْ يَقْوَى عَلَى التَّأْثِيرِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ بِالْإِرْشَادِ وَالْإِصْلَاحِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الِاسْمُ إِذَا احْتَمَلَ مَعَانِيَ مِمَّا يَصِحُّ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى، فَمَنْ دَعَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ، فَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمَعَانِي فَهُوَ الْجَبَّارُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَزِيزٌ مُتَكَبِّرٌ مُحْسِنٌ إِلَى عِبَادِهِ، لَا يَجْرِي فِي سُلْطَانِهِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مُرَادِهِ، مِنْ آدَابِ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي لِعُلُوِّ قُدْرَتِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَلَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْهُ إِلَّا لُطْفُهُ وَإِحْسَانُهُ الْيَوْمَ عِرْفَانُهُ وَغَدًا غُفْرَانُهُ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُجْبِرُ الْخَلْقَ عَلَى مُرَادِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي سُلْطَانِهِ مَا يَأْبَاهُ وَيَكْرَهُهُ تَرَكَ مَا يَهْوَاهُ وَانْقَادَ لِمَا يَحْكُمُ بِهِ مَوْلَاهُ، فَيَسْتَرِيحُ عَنْ كَدِّ الْفِكْرِ وَتَعَبِ التَّدْبِيرِ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: عَبْدِي تُرِيدُ وَأُرِيدُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ، فَإِنْ رَضِيتَ بِمَا أُرِيدُ كَفَيْتُكَ فِيمَا تُرِيدُ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِمَا أُرِيدُ أَتْعَبْتُكَ فِيمَا تُرِيدُ، ثُمَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ اهـ. وَلِذَا قِيلَ لِأَبِي يَزِيدَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَلَّا أُرِيدَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: هَذِهِ إِرَادَةٌ أَيْضًا، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، مَا حَاصِلُهُ: الْجَبَّارُ مِنَ الْعِبَادِ مَنِ ارْتَفَعَ عَنِ الِاتِّبَاعِ، وَنَالَ دَرَجَةَ الِاسْتِتْبَاعِ، وَتَفَرَّدَ بِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ بِحَيْثُ يُجْبِرُ الْخَلْقَ هَيْئَتُهُ وَصُورَتُهُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَمُتَابَعَتِهِ فِي سَمْتِهِ وَسِيرَتِهِ، فَيُفِيدُ الْخَلْقَ وَلَا يَسْتَفِيدُ، وَيُؤَثِّرُ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَلَمْ يَكْمُلْ هَذَا الْمَقَامُ إِلَّا لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ: " «لَوْ أَنَّ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي، وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» ". (الْمُتَكَبِّرُ) : أَيْ ذُو الْكِبْرِيَاءِ وَهُوَ الرَّبُّ الْمَلِكُ، أَوْ هُوَ الْمُتَعَالِي عَنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةُ عَنْ كَمَالِ الذَّاتِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَرَى غَيْرَهُ حَقِيرًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَاتِهِ، فَيَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ نَظَرَ الْمَالِكِ إِلَى عَبْدِهِ وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا لَهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ. هَذَا اللَّفْظُ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَوَضَعَهُ لِلتَّكَلُّفِ فِي إِظْهَارِ مَا لَا يَكُونُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: لَمَّا تَضَمَّنَ التَّكَلُّفَ بِالْفِعْلِ مُبَالَغَةً فِيهِ أُطْلِقُ اللَّفْظُ، وَأُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدُ الْمُبَالَغَةِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، مَعَ أَنَّ التَّفَعُّلَ جَاءَ لِغَيْرِ التَّكَلُّفِ كَثِيرًا كَالتَّعَمُّمِ وَالتَّقَمُّصِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ عُلُوَّهُ تَعَالَى وَكِبْرِيَاءَهُ لَازَمَ طَرِيقَ التَّوَاضُعِ، وَسَلَكَ سَبِيلَ التَّذَلُّلِ، وَقَدْ قِيلَ: هَتَكَ سِتْرَهُ مَنْ جَاوَزَ قَدْرَهُ، وَقَدْ قِيلَ: الْفَقِيرُ فِي خَلْقِهِ أَحْسَنُ مِنْهُ فِي جَدِيدِ غَيْرِهِ، وَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ عَلَى الْخَدَمِ مِنَ التَّوَاضُعِ بِحَضْرَةِ السَّادَةِ، وَقِيلَ: كُلٌّ مَنْ أَخْلَصَ فِي وُدِّهِ وَصَدَقَ فِي حُبِّهِ كَانَ اسْتِلْذَاذُهُ بِمَنْعِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْتِلْذَاذِهِ بِعَطَائِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا شَاهَدْتَ كِبْرِيَاءَهُ تَعَالَى تَكَبَّرْتَ عَلَى الرُّكُونِ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَالسُّكُونِ إِلَى الْمَأْلُوفَاتِ، فَإِنَّ الْبَهَائِمَ تُسَاهِمُكَ فِيهَا، بَلْ عَنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُ سِرَّكَ عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتَحْقَرْتَ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى الْوُصُولِ إِلَى جَنَابِ الْقُدُسِ مِنْ مُسْتَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَزَالَتْ عَنْكَ جَمِيعُ دَعَاوَى الْكِبْرِ وَمَهَاوِيهِ، لِصَفَاءِ نَفْسِكَ وَانْطِبَاعِهَا لِلْحَقِّ، حَتَّى سَكَنَ وَهَجُهَا، وَانْمَحَتْ رُسُومُهَا، فَلَمْ يَبْقَ لَهَا اخْتِيَارٌ، وَلَا مَعَ غَيْرِ اللَّهِ قَرَارٌ. (الْخَالِقُ) : مِنَ الْخَلْقِ، وَأَصْلُهُ التَّقْدِيرُ الْمُسْتَقِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] أَيِ الْمُقَدِّرِينَ. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] أَيْ تُقَدِّرُونَ كَذِبًا، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْإِبْدَاعِ، وَإِيجَادِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 164] فَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُقَدِّرُهُ أَوْ مُوجِدُهُ مِنْ أَصْلٍ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ. (الْبَارِئُ) : بِالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ، أَيِ: الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التَّفَاوُتِ. (الْمُصَوِّرُ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: مُبْدِعُ صُوَرِ الْمُخْتَرَعَاتِ وَمُزَيِّنُهَا وَمُرَتِّبُهَا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ الشَّيْءَ عَلَى هَيْئَةٍ يَتِمُّ بِهَا خَوَاصُّهُ وَأَفْعَالُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. بِمَعْنَى أَنَّهُ مُقَدِّرُهُ، أَوْ مُوجِدُهُ مَنْ أَصْلٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَبَارِئُهُ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَسَبَقَتْ بِهِ كَلِمَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَاخْتِلَالٍ، وَمُصَوِّرُهُ بِصُورَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَوَاصُّهُ، وَيَتِمُّ بِهِ كَمَالُهُ، وَثَلَاثَتُهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ اهـ. وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مُتَرَادِفَةٌ وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهَا أَنْ لَا يَرَى شَيْئًا، وَلَا يَتَصَوَّرَ أَمْرًا إِلَّا وَيَتَأَمَّلُ فِيمَا فِيهِ مِنْ بَاهِرِ الْقُدْرَةِ وَعَجَائِبِ الصُّنْعِ، وَلِيَتَرَقَّى مِنَ الْمَخْلُوقِ إِلَى الْخَالِقِ، وَيَنْتَقِلَ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمَصْنُوعِ إِلَى الصَّانِعِ، حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ كُلَّمَا نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَلَا عَيْنًا، فَحَوَّلَهُ اللَّهُ شَيْئًا وَجَعَلَهُ عَيْنًا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يَعْجَبَ بِحَالِهِ، وَلَا يَدِلَّ بِأَفْعَالِهِ، وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَآلِهِ، وَكَيْفَ لَا يَتَوَاضَعُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ نُطْفَةٌ، وَفِي الِانْتِهَاءِ جِيفَةٌ، وَفِي الْحَالِ صَرِيعُ جُوعِهِ وَأَسِيرُ شِبَعِهِ، فَفِيهِ مِنَ النَّقَائِصِ مَا إِنْ تَأَمَّلَهُ عَرَفَ بِهِ جَلَالَ رَبِّهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُتَقَدِّمَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، سِوَى الْجَلَالَةِ، وَكُلُّهَا دَائِرَةٌ عَلَى مَعَانِيهَا مَعَ إِفَادَةِ كُلٍّ مِنْهَا زِيَادَةً عَلَى مَعْنَى مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ جَاءَ كَذَلِكَ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ، مَعَ زِيَادَةِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ قَالُوا: آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْغَفَّارُ) : أَيِ الَّذِي يَسْتُرُ الْعُيُوبَ وَالذُّنُوبَ فِي الدُّنْيَا بِإِسْبَالِ السِّتْرِ عَلَيْهَا، وَفِي الْعُقْبَى بِتَرْكِ الْمُعَاتَبَةِ لَهَا، وَهُوَ لِزِيَادَةِ بِنَائِهِ أَبْلَغُ مِنَ الْغَفُورِ، وَقِيلَ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْغَفَّارِ بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ، وَفِي الْغَفُورِ بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ، وَأَصْلُ الْغَفْرِ السَّتْرُ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا هُوَ، وَأَنْ تَسْتُرَ عَلَى عِبَادِهِ، وَتَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَتُلَازِمَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ خُصُوصًا فِي الْأَسْحَارِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] " ثُمَّ " تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ رَخَى عَمْرَهُ فِي الزَّلَّاتِ، وَأَفْنَى حَيَاتَهُ فِي الْمُخَالَفَاتِ، وَأَبْلَى شَبَابَهُ فِي الْبَطَّالَاتِ، ثُمَّ نَدِمَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَجَدَ مِنَ اللَّهِ الْعَفْوَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَ " مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا " إِخْبَارٌ عَنِ الْفِعْلِ، وَ " يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ " إِخْبَارٌ عَنِ الْقَوْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ زَلَّاتُهُمْ حَالَةٌ، وَتَوْبَتُهُمْ قَالَةٌ، وَلَقَدْ سَهَّلَ عَلَيْكَ الْأَمْرَ مَنْ رَضِيَ عَنْكَ بِقَالَةٍ، وَقَدْ عَمِلْتَ مَا عَمِلْتَ، فَالِاسْتِغْفَارُ يَسْتَدْعِي مُجَرَّدَ الْغُفْرَانِ، فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِ: " يَجِدِ اللَّهَ " نَظَرًا إِلَى حَالِ الْمُذْنِبِ كَيْفَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ فَوَجَدَ اللَّهَ.

(الْقَهَّارُ) : أَيِ: الَّذِي لَا مَوْجُودَ إِلَّا وَهُوَ مَقْهُورٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ مُسَخَّرٌ لِقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أَذَلَّ الْجَبَابِرَةَ وَقَصَمَ ظُهُورَهُمْ بِالْإِهْلَاكِ نَحْوِهِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: هُوَ مَنِ اضْمَحَلَّتْ عِنْدَ صَوْلَتِهِ صَوْلَةُ كُلِّ مُتَمَرِّدٍ أَوْ جَبَّارٍ، وَبَادَتْ عِنْدَ سَطْوَتِهِ قُوَى الْمُلُوكِ وَأَرْبَابِ التَّفَاخُرِ وَالِاسْتِكْبَارِ، لَاسِيَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] فَأَيْنَ الْجَبَابِرَةُ الْأَكَاسِرَةُ عِنْدَ ظُهُورِ هَذَا الْخِطَابِ؟ وَأَيْنَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فِي هَذَا الْعِتَابِ؟ وَأَيْنَ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِرْشَادِ؟ وَأَيْنَ آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ وَإِبْلِيسُ وَشِيعَتُهُ، وَكَأَنَّهُمْ بَادُوا وَانْقَرَضُوا، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَغْنَوْا، زَهَقَتِ النُّفُوسُ، وَبَلَغَتِ الْأَرْوَاحُ، وَتَبَدَّدَتِ الْأَجْسَامُ وَالْأَشْبَاحُ، وَبَقِيَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَمَا عَدَاهُ بَادُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَتَفَرَّقَتْ مِنْهُمُ الْأَعْضَاءُ وَالْأَوْصَالُ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَ نُفُوسَ الْعَابِدِينَ بِحُقُوقِ عُبُودِيَّتِهِ، وَقُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِسَطْوَةِ قُرْبَتِهِ، وَأَرْوَاحَ الْوَاجِدِينَ بِكَشْفِ حَقِيقَتِهِ، فَالْعَابِدُ بِلَا نَفْسٍ لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ أَفْعَالِهِ عَلَيْهِ، وَالْعَارِفُ بِلَا قَلْبٍ، لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَالْوَاحِدُ بِلَا رُوحٍ لِاسْتِيلَاءِ كَشْفِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، فَمَتَى أَرَادَ الْعَابِدُ خُرُوجَهُ عَنْ قَيْدِ مُجَاهَدَتِهِ، قَهَرَتْهُ سَطْوَةُ الْعِتَابِ فَرَدَّتْهُ إِلَى بَذْلِ الْمُهْجَةِ، وَمَتَى أَرَادَ الْعَارِفُ خُرُوجَهُ عَنْ مُطْلَبَاتِ الْقُرْبَةِ، قَهَرَتْهُ بِوَادِي الْهَيْبَةِ فَرَدَّتْهُ إِلَى تَوْدِيعِ الْمُهْجَةِ، فَشَتَّانَ بَيْنِ عَبْدِ مَقْهُورِ أَفْعَالِهِ، وَعَبْدٍ هُوَ مَقْهُورُ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ. (الْوَهَّابُ) : أَيْ: كَثِيرُ النِّعْمَةِ دَائِمُ الْعَطِيَّةِ: قَالَ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ - وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 53 - 34] وَالْهِبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، هِيَ الْخَالِيَةُ عَنْ غَرَضِ الْأَعْرَاضِ وَالْأَغْرَاضِ، فَإِنَّ الْمُعْطِيَ لِغَرَضٍ مُسْتَعِيضٌ، وَلَيْسَ بِوَاهِبٍ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ. تَنْبِيهٌ: الْفَتَّاحُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الرَّزَّاقِ. (الْفَتَّاحُ) : أَيْ: الْحَاكِمُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، مِنَ الْفَتْحِ، بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] لِأَنَّ الْحَكَمَ يَفْتَحُ الْأَمْرَ الْمُغْلَقَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْحَقَّ وَأَوْضَحَهُ، وَبَيَّنَ الْبَاطِلَ وَأَدْحَضَهُ بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَنَصْبِ الْحُجَجِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْعِلْمِ. وَقِيلَ: الَّذِي يَفْتَحُ خَزَائِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى أَصْنَافِ الْبَرِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] وَقِيلَ الْمِفْتَاحُ مِنَ الْفَتْحِ وَهُوَ الْإِفْرَاجُ مِنَ الضِّيقِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، كَالَّذِي يُفَرِّجُ تَضَايُقَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْحَقِّ بِحُكْمِهِ، وَعَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ: الْفَتَّاحُ هُوَ الَّذِي لَا يُغْلِقُ وُجُوهَ النِّعْمَةِ بِالْعِصْيَانِ، وَلَا يَتْرُكُ إِيصَالَ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ بِالنِّسْيَانِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَعْرِفَتِهِ، وَفَتَحَ عَلَى الْعَاصِينَ أَبْوَابَ مَغْفِرَتِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي فَتَحَ عَلَى النُّفُوسِ بَابَ تَوْفِيقِهِ، وَعَلَى الْأَسْرَارِ بَابَ تَحْقِيقِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَسْعَى فِي الْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنْ تَنْصُرَ الْمَظْلُومِينَ، وَأَنْ تَهْتَمَّ بِتَيْسِيرِ مَا تَعَسَّرَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، حَتَّى يَكُونَ لَكَ حَظٌّ مِنْ هَذَا الِاسْمِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ الْفَتَّاحُ لِلْأَبْوَابِ، الْمُيَسِّرُ لِلْأَسْبَابِ، الْكَافِي لِلْحُضُورِ، الْمُصْلِحُ لِلْأُمُورِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ قَلْبُهُ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِدُونِهِ فِكْرُهُ لَا يَزِيدُ بَلَاءٌ إِلَّا وَيَزِيدُ بِرَبِّهِ ثِقَةً وَرَجَاءً، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْتَحُ لِلنُّفُوسِ بَرَكَاتِ التَّوْفِيقِ، وَلِلْقُلُوبِ دَرَجَاتِ التَّحْقِيقِ، فَبِتَوْفِيقِهِ تُزَيَّنُ النُّفُوسُ بِالْمُجَاهَدَاتِ، وَبِتَحْقِيقِهِ تُزَيَّنُ الْقُلُوبُ بِالْمُشَاهَدَاتِ، وَمِنْ آدَابِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ الْفَتَّاحُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الِانْتِظَارِ لِنَيْلِ كَرَمِهِ، مُسْتَدِيمَ التَّطَلُّعِ لِوُجُودِ لُطْفِهِ، سَاكِنًا تَحْتَ جَرَيَانِ حُكْمِهِ، عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ، قَالَ رَجُلٌ وَهُوَ مُؤْذِنٌ عَلَى الْجَارِيَةِ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: إِنِّي أُحِبُّكِ، فَذَكَرَتْهُ لَعَلِيٍّ، فَقَالَ، قَوْلِي لَهُ: وَأَنَا أَيْضًا أُحِبُّكَ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَتْ ذَلِكَ. فَقَالَ: إذًا نَصْبِرُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنِ الْقِصَّةِ فَأَخْبَرَهُ بِالصِّدْقِ، فَقَالَ: خُذْهَا فَهِيَ لَكَ قَدْ حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَكُمَا، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: مُبْدِعُ الْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]

(الرَّزَّاقُ) : أَيْ: خَالِقُ الْأَرْزَاقِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا. وَالرِّزْقُ هُوَ الْمُنْتَفَعُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الرِّزْقُ هُوَ الْمِلْكُ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ رِزْقًا لَهُ وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنْ يَدِرَّ عَلَى الْبَهَائِمِ رِزْقَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَلَيْسَ مِلْكًا لَهَا، وَهُوَ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ لِلْأَبْدَانِ كَالْأَقْوَاتِ وَالْأَمْتِعَةِ، وَبَاطِنٌ لِلْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ كَالْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الرَّزَّاقُ مَنْ رَزَقَ الْأَشْبَاحَ فَوَائِدَ لُطْفِهِ، وَالْأَرْوَاحَ عَوَائِدَ كَشْفِهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: الرَّزَّاقُ مَنْ غَذَّى نُفُوسَ الْأَبْرَارِ بِتَوْفِيقِهِ، وَجَلَا قُلُوبَ الْأَخْيَارِ بِتَصْدِيقِهِ، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يَتَحَقَّقَ مَعْنَاهُ لِيَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا يَنْظُرُ الرِّزْقَ وَلَا يَتَوَقَّعُهُ إِلَّا مِنْهُ، فَيَكِلُ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ فِيهِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُ يَدَهُ خِزَانَةَ رَبِّهِ، وَلِسَانَهُ وَصْلَةً بَيْنَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ فِي وُصُولِ الْأَرْزَاقِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجُسْمَانِيَّةِ إِلَيْهِمْ بِالْإِرْفَادِ وَالتَّعْلِيمِ، وَصَرْفِ الْمَالِ وَدُعَاءِ الْخَيْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِيَنَالَ حَظًّا وَافِرًا مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أَفْرَدَهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِدَوَامِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: مُنْذُ عَرَفْتُ خَالِقِي مَا شَكَكْتُ فِي رِزْقِي، وَقِيلَ لِعَارِفٍ: إِيشِ الْقُوتُ؟ فَقَالَ: ذِكْرُ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَقَدْ يَقَعُ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنْ يَسْأَلَ الْحَقِيرَ مِنَ الْحَقِيرِ لِيُعْطِيَهُ الْخَطِيرَ. قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] كَمَا وَقَعَ لِلشِّبْلِيِّ أَنَّهُ أَرْسَلَ لِغَنِيٍّ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَلْ دُنْيَاكَ مِنْ مَوْلَاكَ؟ فَأَجَابَهُ: بِأَنَّ الدُّنْيَا حَقِيرَةٌ وَأَنْتَ حَقِيرٌ، وَإِنَّمَا أَسْأَلُ الْحَقِيرَ مِنَ الْحَقِيرِ، وَلَا أَطْلُبُ مِنْ مَوْلَايَ غَيْرَ مَوْلَايَ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ: «يَا مُوسَى سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ عَجِينِكَ» ، لِأَنَّ سُؤَالَ الْخَلْقِ فِيمَا أَجْرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ لَا يُنَافِي سُؤَالَهُ تَعَالَى فِي تَيْسِيرِ أَسْبَابِ وُصُولِ ذَلِكَ. (الْعَلِيمُ) : أَيِ: الْعَالِمُ الْبَالِغُ فِي الْعِلْمِ الْمُحِيطُ عِلْمُهُ، السَّابِقُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا، كُلِّيَّاتِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَاءَهُ، وَيَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا لَا يَكُونُ مِنَ الْجَائِزَاتِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، وَيَعْلَمُ الْمُسْتَحِيلَ مِنْ حَيْثُ اسْتِحَالَتُهُ وَانْتِفَاءُ كَوْنِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ، مِنْ ثَمَّةَ قَالَ عَزَّ قَائِلًا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلِذَا قِيلَ مَا مِنْ عَامٍّ إِلَّا وَخُصَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] وَأَمْثَالِهِ قِيلَ: هَذَا أَيْضًا عَامٌّ ثُمَّ خُصَّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِحَالَتِهِ صَبَرَ عَلَى بَلِيَّتِهِ وَشَكَرَ عَلَى عَطِيَّتِهِ وَاسْتَغْفَرَ مِنْ خَطِيئَتِهِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالْخَفِيَّاتِ خَبِيرٌ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ مِنَ الْخَطَرَاتِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ مَوَاضِعِ اطِّلَاعِهِ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِجَمِيلِ سَتْرِهِ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أَنِّي أَرَاكُمْ، فَالْخَلَلُ فِي إِيمَانِكُمْ، وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَرَاكُمْ فَلِمَ جَعَلْتُمُونِي أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكُمْ؟ . (الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ) : أَيْ: مُضَيِّقُ الرِّزْقِ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ وَمُوَسِّعُهُ. وَقِيلَ: قَابِضُ الْأَرْوَاحِ عَنِ الْأَجْسَادِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَنَاشِرُهَا فِيهَا عِنْدَ الْحَيَاةِ، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَاهُمَا أَنَّهُ يَقْبِضُ الْقُلُوبَ، وَيَبْسُطُهَا تَارَةً بِالضَّلَالَةِ وَالْهُدَى، وَأُخْرَى بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَقِيلَ: الْقَابِضُ الَّذِي يُكَاشِفُكَ بِجَلَالِهِ فَيُفْنِيكَ، وَيُكَاشِفُكَ بِجَمَالِهِ فَيُغْنِيكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] أَيْ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْأَشْبَاحِ وَالْأَرْوَاحِ، إِذَا قَبَضَ فَلَا طَاقَةَ، وَإِذَا بَسَطَ فَلَا فَاقَةَ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إِطْلَاقُهُمَا مَعًا لِيَدُلَّا عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الْحِكْمَةِ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنْ تُرَاقِبَ الْحَالَيْنِ، فَلَا تَعِيبُ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ فِيهِ إِقْبَالٌ وَلَا إِدْبَارٌ، وَلَا تَيْأَسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ، وَلَا تَأْمَنُ عَلَى عَطَاءٍ وَتَرَى الْقَبْضَ عَدْلًا مِنْهُ فَتَصْبِرُ، وَالْبَسْطَ فَضْلًا فَتَشْكُرُ، فَتَكُونُ رَاضِيًا بِقَضَائِهِ حَالًا وَمَآلًا.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: هُمَا صِفَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ، فَإِذَا غَلَبَ الْخَوْفُ انْقَبَضَ، وَإِذَا غَلَبَ الرَّجَاءُ انْبَسَطَ. وَيُحْكَى عَنِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ قَالَ: الْخَوْفُ يَقْبِضُنِي، وَالرَّجَاءُ يَبْسُطُنِي، وَالْحَقُّ يَجْمَعُنِي، وَالْحَقِيقَةُ تُفَرِّقُنِي، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُوحِشُنِي غَيْرُ مُؤْنِسُنِي، ثُمَّ قَالَ: وَالْقَبْضُ يُوجِبُ إِيحَاشَهُ وَالْبَسْطُ يُوجِبُ إِينَاسَهُ اهـ. وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنَّ يَجْتَنِبَ الضَّجَرَ حَالَ قَبْضِهِ، وَيَتْرُكَ الِانْبِسَاطَ وَتَرْكَ الْأَدَبِ وَقْتَ بَسْطِهِ، وَمِنْ هَذَا خَشِيَ الْأَكَابِرُ. " الْخَافِضُ، الرَّافِعُ ": أَيْ: يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، أَوْ يَخْفِضُ الْكُفَّارَ بِالْخِزْيِ وَالصَّغَارِ، وَيَرْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنُّصْرَةِ وَالِاعْتِبَارِ، أَوْ يَخْفِضُ أَعْدَاءَهُ بِالْإِبْعَادِ، وَيَرْفَعُ أَوْلِيَاءَهُ بِالْإِسْعَادِ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنْ لَا تَثِقَ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِكَ، وَلَا تَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عُلُومِكَ وَأَعْمَالِكَ، وَالتَّخَلُّقُ بِهِمَا أَنْ تَخْفِضَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِخَفْضِهِ كَالنَّفْسِ وَالْهَوَى، وَتَرْفَعَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِرَفْعِهِ كَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ، رُؤِيَ رَجُلٌ فِي الْهَوَاءِ فَقِيلَ لَهُ: بِمَ هَذَا؟ فَقَالَ: جَعَلْتُ هَوَايَ تَحْتَ قَدَمِي فَسَخَّرَ اللَّهُ لِيَ الْهَوَاءَ. (الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ) : الْإِعْزَازُ جَعْلُ الشَّيْءِ ذَا كَمَالٍ يَصِيرُ بِسَبَبِهِ مَرْغُوبًا إِلَيْهِ قَلِيلَ الْمِثَالِ، وَالْإِذْلَالُ ضِدُّهُ، وَالْإِعْزَازُ الْحَقِيقِيُّ تَخْلِيصُ الْمَرْءِ عَنْ ذُلِّ الْحَاجَةِ، وَاتِّبَاعِ الشَّهْوَةِ، وَجَعْلُهُ غَالِبًا عَلَى مُرَادِهِ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْمُعِزُّ الَّذِي أَعَزَّ أَوْلِيَاءَهُ بِعِصْمَتِهِ، ثُمَّ غَفَرَ لَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، ثُمَّ أَكْرَمَهُمْ بِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، وَالْمُذِلُّ الَّذِي أَذَلَّ أَعْدَاءَهُ بِحِرْمَانِ مَعْرِفَتِهِ، وَارْتِكَابِ مُخَالَفَتِهِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى دَارِ عُقُوبَتِهِ، وَأَهَانَهُمْ بِطَرْدِهِ وَلَعْنَتِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنَّكَ لَمْ تَتَعَزَّزْ بِغَيْرِهِ، وَلَمْ تَتَذَلَّلْ لِسِوَاهُ، وَأَنْ تُعِزَّ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلَّ الْبَاطِلَ وَحِزْبَهُ، وَتَسْأَلَ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِمُوجِبَاتِ عِزِّهِ، وَتَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ قَطِيعَةِ ذُلِّهِ. وَقَالَ الْمَشَايِخُ: مَا أَعَزَّ اللَّهُ عَبْدًا بِمِثْلِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَى ذُلِّ نَفْسِهِ، وَمَا أَذَلَّ اللَّهُ عَبْدًا بِمِثْلِ مَا يَرِدُ إِلَى تَوَهُّمِ عِزٍّ. قِيلَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] تُعِزُّ كُلَّ قَوْمٍ مِنَ الزُّهَّادِ، وَالْعُبَّادِ، وَالْمُرِيدِينَ، وَالْعَارِفِينَ، وَالْمُحِبِّينَ، وَالْمُوَحِّدِينَ، بِمَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِمْ، فَاللَّهُ يُعِزُّ الزَّاهِدَ بِعُزُوفِ نَفْسِهِ عَنِ الدُّنْيَا، وَيُعِزُّ الْعَابِدَ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى وَتَرْكِ الْهَوَى، وَيُعِزُّ الْمُرِيدِينَ بِزَهَادَتِهِمْ عَنْ صُحْبَةِ الْوَرَى، وَيُعِزُّ الْعَارِفَ بِتَأْهِيلِهِ لِمَقَامِ النَّجْوَى، وَيُعِزُّ الْمُحِبَّ بِالْكَشْفِ وَاللِّقَاءِ وَبِالْغِنَى عَنْ كُلِّ مَا سِوَى، وَيُعِزُّ الْمُوَحِّدَ بِشُهُودِ جَلَالَةِ مَنْ لَهُ الْبَقَاءُ وَالْعَظَمَةُ وَالْبَهَاءُ. (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) : السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، إِدْرَاكُ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ انْكِشَافًا تَامًّا، فَهُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الثَّمَانِيَةِ، وَهُمَا غَيْرُ صِفَةِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَصَّتَانِ بِإِدْرَاكِ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْعِلْمُ يَعُمُّهُمَا وَغَيْرَهَا كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ الِانْكِشَافَ بِهِمَا أَتَمُّ فَنُقْصَانٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ وَلَيْسَتَا زَائِدَتَيْنِ عَلَيْهِ، لِمَا قَرَّرُوا أَنَّ الرُّؤْيَةَ نَوْعُ عِلْمٍ، وَالسَّمْعُ كَذَلِكَ. غَايَتُهُ أَنَّهُمَا وَإِنْ رَجَعَا إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، فَإِثْبَاتُ صِفَةِ الْعِلْمِ إِجْمَالًا لَا يُغْنِي فِي الْعَقِيدَةِ عَنْ إِثْبَاتِهِمَا تَفْصِيلًا بِلَفْظِهِمَا الْوَارِدَيْنِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّا مُتَعَبّدُونَ بِمَا وَرَدَ فِيهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْحَمْلِ مَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ مِنْ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى الْعِلْمِ، فَيُقَالُ: لَمَّا وَرَدَ النَّقْلُ بِهِمَا آمَنَّا بِذَلِكَ، وَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ بِالْآلَتَيْنِ الْمَعْرُوفَتَيْنِ، وَاعْتَرَفْنَا بِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَمَنْ جَعَلَهُمَا مُرَادِفَيْنِ لِلْعِلْمِ، فَقَدْ وَهِمَ، فَمُسَلَّمٌ إِذِ الْعِلْمُ أَعَمُّ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَوَهَّمُ تَرَادُفَهُمَا لَهُ، لَا فِي حَقِّ اللَّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، نَعَمْ أَتَمِّيَّتُهَا مَقْصُورَةٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ الْخَالِقِ، بَلْ لَا يَتَحَقَّقُ الْعِلْمُ الْيَقِينُ فِي حَقِّنَا إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَى الْحِسِّ، فَمَنْ لَمْ يَذُقْ لَمْ يَعْرِفْ، وَأَمَّا عِلْمُهُ تَعَالَى فَمُحِيطٌ بِالْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْمُرِّيَّاتِ وَالْحُلْوِيَّاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ، مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِي الصِّفَاتِ، ثُمَّ حَظُّكَ مِنَ الِاسْمَيْنِ الْمُعَظَّمَيْنِ، وَالْوَصْفَيْنِ الْمُكَرَّمَيْنِ أَنْ تَتَحَقَّقَ أَنَّكَ بِمَسْمَعٍ وَمَرْأًى مِنْهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكَ، وَنَاظِرٌ إِلَيْكَ، رَقِيبٌ لِجَمِيعِ أَحْوَالِكَ مِنْ أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ، فَاحْذَرْ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ أَخْفَى عَنْ غَيْرِ اللَّهِ مَا لَا يُخْفِيهِ عَنِ اللَّهِ، فَقَدِ اسْتَهَانَ بِنَظَرِ اللَّهِ، فَمَنْ قَارَفَ مَعْصِيَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ، فَمَا أَجْرَأَهُ وَمَا أَجْسَرَهُ، وَمَا ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَاهُ، فَمَا أَكْفَرَهُ وَمَا أَكْفَرَهُ، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا عَصَيْتَ مَوْلَاكَ فَاعْصِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَرَاكَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمَقَالِ تَعْلِيقٌ بِالْمُحَالِ، وَمِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ أَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ سَمْعَهُمْ وَبَصَرَهُمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ.

وَمِنَ الْآدَابِ أَيْضًا: أَنْ تَكْتَفِيَ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ تَعَالَى عَنِ انْتِقَامِكَ وَانْتِصَارِكَ لِنَفْسِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} [الحجر: 97] ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ سَلَّاهُ وَخَفَّفَ عَلَيْهِ بِحَمْلِ أَثْقَالِ بَلْوَاهُ حَيْثُ أَثْقَالُ بَلْوَاهُ حَيْثُ أَشْغَلَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 98] . . إِلَخْ. أَيْ: فَاتَّصِفْ أَنْتَ بِمَدْحِنَا وَثَنَائِنَا، وَسُجُودِنَا وَشُهُودِنَا، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا تَأَذَّيْتَ بِسَمَاعِ السُّوءِ مِنْهُمْ، فَاسْتَرْوِحْ بِرَوْحِ ثَنَائِكَ عَلَيْنَا. (الْحَكَمُ) : أَيِ: الْحَاكِمُ الَّذِي لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَمَرْجِعُهُ إِمَّا إِلَى الْقَوْلِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُبَيِّنُ لِكُلِّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِمَّا إِلَى الْمُمَيِّزِ بَيْنَ الشَّقِيِّ وَالسَّعِيدِ بِالْعِقَابِ وَالْإِثَابَةِ، وَإِمَّا إِلَى الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ بِنَصْبِ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ الْحَكَمُ اسْتَسْلَمْتَ لِحُكْمِهِ، وَانْقَدْتَ لِأَمْرِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْضَ بِقَضَائِهِ اخْتِيَارًا أَمْضَاهُ فِيكَ إِجْبَارًا، وَإِنْ رَضِيتَ بِهِ طَوْعًا قَلْبِيًّا لَطَفَ بِكَ لُطْفًا خَفِيًّا، وَتَعِيشُ رَاضِيًا مَرْضِيًّا، وَلَا تَحْتَاجُ أَنْ تُحَاكِمَ إِلَى غَيْرِهِ حَيْثُ حَصَلَ لَكَ الرِّضَا بِحُكْمِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ( «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ» ) فَالتَّقَرُّبُ بِهِ تَعَلُّقًا بِالشَّكْوَى فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَبِالِاعْتِمَادِ فِي كُلِّ أَمْرٍ عَلَيْهِ. وَتَخَلُّقًا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا بَيْنَ قَلْبِكَ وَنَفْسِكَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْأَزَلِ لِعِبَادِهِ بِمَا شَاءَ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، وَقَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، فَمَنْ حَكَمَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ لَا يَشْقَى أَبَدًا، وَمَنْ حَكَمَ لَهُ بِالشَّقَاوَةِ لَا يَسْعَدُ أَبَدًا، وَلِذَا قَالُوا: مَنْ أَقْصَتْهُ السَّوَابِقُ لَمْ تُدِنْهِ الْوَسَائِلُ. وَقَالُوا: مَنْ قَعَدَ بِهِ جِدُّهُ لَمْ يَنْهَضْ بِهِ جَدُّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَصْحَابُ سَوَابِقَ، فَتَكُونُ فِكْرَتُهُمْ أَبَدًا فِيمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الرَّبِّ فِي الْأَزَلِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: أَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا يُخْتَمُ بِهِ أَمْرُهُمْ، فَإِنَّ الْأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْعَاقِبَةُ مَسْتُورَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ: لَا يَغُرَّنَّكَ صَفَاءُ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ، فَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لَاحَتْ عَلَيْهِ أَنْوَارُ الْإِرَادَةِ، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ آثَارُ السَّعَادَةِ، وَانْتَشَرَ صِيتُهُ فِي الْآفَاقِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَوْلِيَائِهِ بِالْإِطْلَاقِ، بُدِّلَ بِالْوَحْشَةِ صَفَاؤُهُ وَبِالْغَيْبَةِ ضِيَاؤُهُ وَأَنْشَدُوا: أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ ... وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا ... وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ وَالثَّالِثُ: أَصْحَابُ الْوَقْتِ وَهُمْ لَا يَشْتَغِلُونَ بِالتَّفَكُّرِ فِي السَّوَابِقِ وَاللَّوَاحِقِ، بَلْ بِمُرَاعَاةِ وَقَتِهِ، وَأَدَاءِ مَا كُلِّفُوا لَهُ مِنْ حُكْمِهِ، وَقِيلَ: الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ. وَالرَّابِعُ: أَصْحَابُ الشُّهُودِ، وَهُمُ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْحَقِّ، فَهُمْ مَأْخُوذُونَ بِشُهُودِ الْحَقِّ عَنْ مُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَفَرَّغُونَ إِلَى مُرَاعَاةِ وَقْتٍ وَزَمَانٍ، وَلَا يَتَطَلَّعُونَ لِشُهُودِ حِينٍ: وَأَوَانٍ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْمَنْعُ، وَسَمَّى الْعُلُومَ حِكَمًا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنْ شِيَمِ الْجُهَّالِ. (الْعَدْلُ) : أَيِ: الْبَالِغُ فِي الْعَدَالَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا لَهُ فِعْلُهُ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ خِلَافُ الْجَوْرِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الصِّفَةِ، وَهُوَ الْعَادِلُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُسَمَّى نَفْسَهُ عَدْلًا، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْبَرِئُ مِنَ الظُّلْمِ فِي أَحْكَامِهِ، الْمُنَزَّهُ عَنِ الْجَوْرِ فِي أَفْعَالِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي أُقْضِيَتِهِ، فَلَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ جَزَعًا مِنْ أَحْكَامِهِ، وَلَا حَرَجًا مِنْ نَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ، فَتَسْتَرِيحَ بِالِاسْتِسْلَامِ إِلَيْهِ، وَبِالتَّوَكُّلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَتَرَى الْكُلَّ مِنْهُ حَقًّا وَعَدْلًا، وَتَسْتَعْمِلُ كُلَّ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ مِنْهُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَتَخَافُ سَطْوَةَ عَدْلِهِ، وَتَرْجُو رَأْفَةَ فَضْلِهِ، وَلَا تَأْمَنُ مِنْ مَكْرِهِ، وَلَا تَيْأَسُ مِنْ فَضْلِهِ، وَتَجْتَنِبُ فِي مَجَامِعِ أُمُورِكَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، كَالْفُجُورِ وَالْخُمُودِ فِي الْأَفْعَالِ الشَّهَوِيَّةِ، وَالتَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ فِي الْأَفْعَالِ الْغَضَبِيَّةِ، وَتُلَازِمُ أَوْسَاطَهَا الَّتِي هِيَ الْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ، وَالْحِكْمَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْ مَجْمُوعِهَا بِالْعَدَالَةِ لِتَنْدَرِجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .

(اللَّطِيفُ) : أَيْ: الْبَرُّ بِعِبَادِهِ الَّذِي يُوصِلُ إِلَيْهِمْ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَيُهَيِّئُ لَهُمْ مَا يَسْعَوْنَ بِهِ إِلَى الْمَصَالِحِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَحْتَسِبُونَ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْجَمِيلِ بِمَعْنَى: الْمُجْمِلُ، وَقِيلَ: الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ وَمَا لَطُفَ مِنْهَا، وَقِيلَ: هُوَ الْخَفِيُّ عَنِ الْإِدْرَاكِ. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي حِكَمِهِ: مَنْ ظَنَّ انْفِكَاكَ لُطْفِهِ عَنْ قَدْرِهِ فَذَلِكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ، وَمِنَ التَّخَلُّقِ بِهَذَا الِاسْمِ أَنْ يَتَلَطَّفَ بِالْخَلْقِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19] قِيلَ: مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ فَوْقَ الْكِفَايَةِ وَكَلَّفَهُمْ دُونَ الطَّاقَةِ، وَمِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى تَوْفِيقُ الطَّاعَاتِ، وَتَيْسِيرُ الْعِبَادَاتِ، وَحِفْظُ التَّوْحِيدِ فِي الْقُلُوبِ وَصِيَانَتُهُ مِنَ الْعُيُوبِ. (الْخَبِيرُ) : أَيْ: الْعَالِمِ بِبَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْخِبْرَةِ، وَهِيَ الْعِلْمُ بِالْخَفَايَا الْبَاطِنَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَمَّا عَلِمَهُ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا شَهِدْتَ أَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى سِرِّكَ الْعَلِيمُ بِبَوَاطِنِ أَمْرِكَ اكْتَفَيْتَ بِعِلْمِهِ، وَنَسِيتَ غَيْرَهُ فِي جَنْبِ ذِكْرِهِ، وَكُنْتَ بِزِمَامِ التَّقْوَى مَشْدُودًا، وَعَنْ طَرِيقِ الْغَيِّ مَصْدُودًا، وَتَعَيَّنَ عَلَيْكَ تَرْكُ الرِّيَاءِ وَلُزُومُ الْإِخْلَاصِ، لِتَصِلَ إِلَى مَقَامِ أَهْلِ الِاخْتِصَاصِ، وَأَنْ لَا تَتَغَافَلَ عَنْ بَوَاطِنِ أَحْوَالِكَ، وَتَشْتَغِلَ بِإِصْلَاحِهَا، وَتُلَافِيَ مَا يَظْهَرُ لَكَ مِنْهَا مِنَ الْقَبَائِحِ بِصَرْفِهَا إِلَى فَلَاحِهَا، وَأَنْ تَكُونَ فِي أَمْرِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ خَبِيرًا، وَبِمَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَوْ يُنْدَبُ لَكَ بَصِيرًا. (الْحَلِيمُ) : أَيِ: الَّذِي لَا يُعَجِّلُ عُقُوبَةَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يُؤَخِّرُهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ غَضَبٌ، وَلَا يَحْمِلُهُ غَيْظٌ عَلَى تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ، فَالتَّقَرُّبُ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ تَشْكُرَ مِنَّتَهُ فِي حِلْمِهِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ اغْتِرَارٍ بِكَرَمِهِ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَكْظِمَ الْغَيْظَ وَتُطْفِئَ نَارَ الْغَضَبِ بِالْحِلْمِ، وَكَمَالُهُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَإِذَا سَتَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَالِ بِفَضْلِهِ، فَالْمَأْمُولُ مِنْهُ أَنْ يَعْفُوَ فِي الْمَآلِ بِلُطْفِهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّنْزِيهِ. (الْعَظِيمُ) : أَصْلُهُ مِنْ عَظُمَ الشَّيْءُ إِذَا كَبُرَ عَظْمُهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ جِسْمٍ كَبِيرِ الْمِقْدَارِ كِبَرًا يَمْلَأُ الْعَيْنَ كَالْجَمَلِ وَالْفِيلِ، أَوْ كِبَرًا يَمْنَعُ إِحَاطَةَ الْبَصَرِ بِجَمِيعِ أَقْطَارِهِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ثُمَّ لِكُلِّ شَيْءٍ كَبِيرِ الْقَدْرِ عَلَى الْمَرْتَبَةِ، فَالْعَظِيمُ الْمُطْلَقُ الْبَالِغُ إِلَى أَقْصَى مَرَاتِبِ الْعَظَمَةِ، هُوَ الَّذِي لَا يَتَصَوَّرُهُ عَقْلٌ وَلَا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ بَصِيرَةٌ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَرْجِعُهُ إِلَى التَّنْزِيهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَظِيمُ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اسْتِحْقَاقِ عُلُوِّ الْوَصْفِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْقِدَمِ، وَوُجُودِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِيجَادِ، وَشُمُولِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَنُفُوذِ الْإِرَادَةِ فِي الْمُتَنَاوَلَاتِ، وَإِدْرَاكِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ بِجَمِيعِ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمَرْئِيَّاتِ، وَتَنَزُّهِ ذَاتِهِ عَنْ قَبُولِ الْمُحْدَثَاتِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا شَهِدْتَ عَظَمَتَهُ صَغُرَ فِي عَيْنِكَ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا مَا لَهُ نِسْبَةٌ مِنْ تَعْظِيمِهِ تَعَالَى، وَاسْتَحْقَرْتَ نَفْسَكَ وَذَلَّلْتَهَا لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهِ تَعَالَى بِكُلِّيَّتِهَا بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ مَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا؛ لِأَنَّ تَلَازُمَ التَّذْلِيلِ وَالِافْتِقَارِ عَلَى الدَّوَامِ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَتَعَاظَمَ عَنِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ وَارْتِكَابِ الْآثَامِ. (الْغَفُورُ) : أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَهِيَ صِيَانَةُ الْعَبْدِ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعِقَابِ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ ذُنُوبِهِ مِنَ الْغَفْرِ وَالسَّتْرِ وَإِلْبَاسِ الشَّيْءِ مَا يَصُونُهُ عَنِ الدَّنَسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْغَفَّارَ أَبْلَغُ مِنْهُ لِزِيَادَةِ بِنَائِهِ، وَالْأَحْسَنُ مَا قِيلَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَفَّارِ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْكَيْفِيَّةِ، وَفِي الْغَفَّارِ بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ، وَلَعَلَّ إِيرَادَ كُلٍّ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ فِي الْأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا، وَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَظِيمُ الرَّحْمَةِ عَمِيمُهَا، كَبِيرُ الْمَغْفِرَةِ كَثِيرُهَا، وَالْإِشْعَارُ بِأَنَّ رَحْمَتَهُ أَغْلَبُ مِنْ غَضَبِهِ، وَغُفْرَانَهُ أَكْثَرُ مِنْ عِقَابِهِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَصْفُ الْكَامِلِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ صِفَةٌ عَلَى وَصْفِ النُّقْصَانِ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي جَوَابِ الْإِشْكَالِ: الْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ تَعَالَى، لِمَا أَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُحَالُ عَلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أُورِدَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهِ لَكَانَ مَوْصُوفًا عَلَى وَجْهِ الْأَبْلَغِيَّةِ، فَلَزِمَ مِنْ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ لِعَدَمِ انْفِكَاكِ وَصْفِهِ تَعَالَى عَنِ الْمُبَالَغَةِ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ السَّامِعِ عَلَيْهِ تَعَالَى بِمَعْنَى السَّمِيعِ لِفَوَاتِ الْمُبَالَغَةِ وَأَمَّا قَوْلُ الْجَزَرِيِّ:

يَقُولُ رَاجِي عَفْوَ رَبٍّ سَامِعٍ، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مُجِيبٌ لِمَنْ دَعَاهُ، وَغَيْرُ مُخَيِّبٍ لِمَنْ رَجَاهُ، ثُمَّ التَّقَرُّبُ بِهِ تَعَالَى تَعَلُّقًا بِلُزُومِ الِاسْتِغْفَارِ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ، خُصُوصًا أَوْقَاتَ الْأَسْحَارِ وَتَخَلُّقًا بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ آذَاكَ. (الشَّكُورُ) : أَيِ الَّذِي يُعْطِي الْأَجْرَ الْجَزِيلَ عَلَى الْأَمْرِ الْقَلِيلِ، فَيَرْجِعُ إِلَى صِفَاتِ الْفِعْلِ. حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: حَاسَبَنِي فَخَفَّتْ كِفَّةُ حَسَنَاتِي، فَوُضِعَ فِيهَا صُرَّةٌ فَثَقُلَتْ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَفُّ تُرَابٍ أَلْقَيْتَهُ فِي قَبْرِ مُسْلِمٍ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَقِيلَ: هُوَ الْمُثْنِي عَلَى الْمُطِيعِينَ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ، الْمُجَازِي عِبَادَهُ عَلَى شُكْرِهِمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْزِيلِ مَنْزِلَةَ الْمُعَامَلَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَعْرِفَ نِعَمَ اللَّهِ، وَيَقُومَ بِمَوَاجِبِ شُكْرِهِ، وَيُوَاظِبَ عَلَى وَظَائِفِ أَمْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ شَاكِرًا لِلنَّاسِ مَعْرُوفَهُمْ، فَفِي الْحَدِيثِ ( «لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» ) بِنَصْبِهِمَا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِرَفْعِهِمَا وَنَصْبِهِمَا، وَرَفْعِ أَحَدِهِمَا وَنَصْبِ الْآخَرِ، وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ الْوَاسِطَةِ، مَعَ أَنَّ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَالْمَشْهُورُ فِي حَدِّ الشُّكْرِ بِأَنَّهُ: صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ نِعَمِهِ إِلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] أَيْ: قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَشْهَدُ أَنَّ النِّعْمَةَ مِنِّي، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ الْغَيْبَةُ عَنْ شُهُودِ النِّعْمَةِ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ، وَلَا دَخْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِمَبْحَثِ تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ عِنْدَ كَثِيرِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَوْلِيَاءُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. (الْعَلِيُّ) : بِتَشْدِيدٍ، فَعِيلٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْبَالِغُ فِي عُلُوِّ الرُّتْبَةِ بِحَيْثُ لَا رُتْبَةَ إِلَّا وَهِيَ مُنْحَطَّةٌ عَنْ رُتْبَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الَّذِي عَلَا عَنِ الْإِدْرَاكِ ذَاتُهُ وَكَبُرَ عَنِ التَّصَوُّرِ صِفَاتُهُ. وَقَالَ آخَرُ: هُوَ الَّذِي تَاهَتِ الْقُلُوبُ فِي جَلَالِهِ، وَعَجَزَتِ الْعُقُولُ عَنْ وَصْفِ كَمَالِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا شَاهَدْتَ عُلُوَّهُ سَمَتْ هِمَّتُكَ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتَهَا فِي كُلِّ أَحْوَالِكَ وَاقِفَةً عَلَيْهِ، وَذَلَّلْتَ نَفْسَكَ فِي طَاعَتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَبَذَلْتَ رُوحَكَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، حَتَّى تَبْلُغَ الْغَايَةَ فِي الْكَمَالَاتِ الْأُنْسِيَّةِ، وَالْحَالَاتِ الْقُدُسِيَّةِ، وَالْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، مِنَ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ: ( «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا» ) . وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْهِمَّةِ وَالْخِدْمَةِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْخِدْمَةَ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنَ الْهِمَّةِ، فَلَا خِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنْ عُلُوِّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِتَكْبِيرِ الْعِبَادِ لَهُ كَبِيرًا وَلَا جَلِيلًا بِإِجْلَالِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ كَثِيرًا، بَلْ مَنْ وَفَّقَهُ لِإِجْلَالِهِ فَبِتَوْفِيقِهِ أَجَلَّهُ، وَمَنْ أَيَّدَهُ بِتَكْبِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ فَقَدْ رَفَعَ مَحَلَّهُ، وَمِنْ حَقِّ مَنْ عَرِفَ عَظَمَتَهُ أَنْ لَا يَذِلَّ لِخَلْقِهِ، بَلْ يَتَوَاضَعَ لَهُمْ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ مَنْ تَذَلَّلَ لِلَّهِ فِي نَفْسِهِ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ لَيْسَ لَهُ الْكِبْرُ وَلَهُ الْعِزَّةُ وَلَهُ التَّوَاضُعُ لَا الْمَذَلَّةُ. (الْكَبِيرُ) : وَضِدُّهُ الصَّغِيرُ، يُسْتَعْمَلَانِ بِاعْتِبَارِ مَقَادِيرِ الْأَجْسَامِ، وَلِاعْتِبَارِ الرُّتَبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ وَأَشْرَفُهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا سِوَاهُ حَادِثٌ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَبِيرٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْحَوَاسِّ وَإِدْرَاكِ الْعُقُولِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ التَّنْزِيهِ، قِيلَ فِي مَعْنَى (اللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَكْبَرُ، أَوْ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُدْرِكَ غَيْرُهُ كُنْهَ كِبْرِيَائِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَشْهَدَ كِبْرِيَاءَهُ دَائِمًا حَتَّى تَنْسَى كِبْرِيَاءَ غَيْرِهِ، وَتَجْتَهِدَ فِي تَكْمِيلِ نَفْسِكَ عِلْمًا وَعَمَلًا بِحَيْثُ يَتَعَدَّى كَمَالُكَ إِلَى غَيْرِكَ، فَيَقْتَدِي بِآثَارِكَ، وَيَقْتَبِسُ مِنْ أَنْوَارِكَ، وَتَقَرُّبُكَ بِهَذَا الِاسْمِ تَعَلُّقًا أَنْ تُبَالِغَ فِي التَّوَاضُعِ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَحْتَرِزَ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ بِلُزُومِ الْخِدْمَةِ وَحِفْظِ الْحُرْمَةِ، فَفِي الصَّحِيحِ: ( «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمًا قَصَمْتُهُ» ) . أَيْ: أَهْلَكْتُهُ وَكَسَرْتُ عُنُقَهُ، وَاخْتُصَّتِ الْعَظَمَةُ بِالْإِزَارِ، وَالْكِبْرِيَاءُ بِالرِّدَاءِ، لِأَنَّ فِي الْكَبِيرِ مِنَ الْفَخَامَةِ فَوْقَ الْعَظِيمِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا لَهُ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا، وَمِنْ ثَمَّ قَصَمَ الْمُنَازِعَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

(الْحَفِيظُ) : أَيِ: الْبَالِغُ فِي الْحِفْظِ يَحْفَظُ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الزَّوَالِ وَالِاخْتِلَالِ مُدَّةَ مَا شَاءَ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] أَيِ: السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ يَحْفَظُ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107] وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَحْفَظَ جَوَارِحَكَ عَنِ الْأَوْزَارِ، وَبَاطِنَكَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأَغْيَارِ، وَتَكْتَفِيَ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ بِتَدْبِيرِهِ، وَتَرْضَى بِحُسْنِ قَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ. قِيلَ: مَنْ حَفِظَ لِلَّهِ جَوَارِحَهُ حَفِظَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وَمَنْ حَفِظَ لِلَّهِ قَلْبَهُ حَفِظَ عَلَيْهِ حَظَّهُ. وَحُكِيَ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ بَصَرُهُ يَوْمًا عَلَى مَحْظُورٍ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّمَا أُرِيدُ بَصَرِي لِأَجْلِكَ، فَإِذَا صَارَ سَبَبًا لِمُخَالَفَةِ أَمْرِكَ، فَاسْلُبْنِيهِ. فَعَمِيَ، وَكَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَاحْتَاجَ الْمَاءَ لِلطَّهَارَةِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّمَا قُلْتُ خُذْ بَصَرِي لِأَجْلِكَ، فَفِي اللَّيْلِ أَحْتَاجُهُ لِأَجْلِكَ. فَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ. (الْمُقِيتُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ. أَيْ: خَالِقُ الْأَقْوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْأَرْزَاقِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَمُوَصِّلُهَا إِلَى الْأَشْبَاحِ وَمُعْطِيهَا لِلْأَرْوَاحِ، مِنْ أَقَاتَهُ يُقِيتُهُ: إِذَا أَعْطَاهُ قُوتَهُ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ( «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضِيِّعَ مَنْ يُقِيتُ» ) . فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُقْتَدِرُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ هُوَ الشَّاهِدُ الْمُطَّلِعُ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ أَقَاتَ الشَّيْءَ: إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَهُمَا أَنْسَبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُقِيتُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَعْنَى الِاقْتِدَارِ عَلَى حُكْمِ الْمُوَازَنَةِ مِنْ حَيْثُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ وَإِقَامَةُ الْكَفَافِ بِالْقُوتِ الْمُقَدَّرِ لِلْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِيهِ مَا فِيهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مَا فِيهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرِفْتَ أَنَّهُ الْمُقِيتُ نَسِيتَ ذِكْرَ الْقُوتِ بِذِكْرِهِ، كَمَا اتَّفَقَ لِسَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُوتِ، فَقَالَ: هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلَعَلَّهُ انْتَقَلَ مِنَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبِّبِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ عَنِ الْقِوَامِ فَقَالَ: الْقِوَامُ الْعِلْمُ، فَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ قِوَامِ الْأَشْبَاحِ إِلَى قِوَامِ الْأَرْوَاحِ، فَإِنَّ كُلَّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ عَنْ طُعْمَةِ الْجَسَدِ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَالْجَسَدَ دَعْ مَنْ تَوَلَّاهُ أَوَّلًا يَتَوَلَّاهُ آخِرًا، أَمَا رَأَيْتَ الصَّنْعَةَ إِذَا عِيبَتْ رُدَّتْ لِصَانِعِهَا لِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِإِصْلَاحِهَا، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّنَا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِإِصْلَاحِ الْبَاطِنِ مَكْفِيُّونَ عَنْ إِصْلَاحِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمُصْلِحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ: ( «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ) . وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ لَا تَطْلُبَ الْقُوتَ وَالْقُوَّةَ إِلَّا مِنْ مَوْلَاكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] وَتَخَلُّقًا أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِكَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْقُوتِ، فَفِي الْحَدِيثِ " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " فَيَكُونُ دَأْبُكَ النَّفْعَ وَالْهَدِايَةَ، وَإِطْعَامَ الْجَائِعِ، وَإِرْشَادَ الْغَاوِي. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَاتُ فَمِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَجْعَلُ قُوتَ نَفْسِهِ تَوْفِيقَ الْعِبَادَاتِ، وَقُوتَ قَلْبِهِ تَحْقِيقَ الْمُكَاشَفَاتِ، وَقُوتَ رُوحِهِ مُدَاوَمَةَ الْمُشَاهَدَاتِ، وَمُلَازَمَةَ الْمُؤْنِسَاتِ، خَصَّ كُلًّا بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ، وَإِذَا شَغَلَ اللَّهُ عَبْدًا بِطَاعَتِهِ أَقَامَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِشُغْلِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى مُتَابَعَةِ شَهْوَتِهِ، وَكَلَهُ إِلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَرَفَعَ عَنْهُ ظِلَّ عِنَايَتِهِ وَحِمَايَتِهِ. (الْحَسِيبُ) : أَيِ: الْكَافِي مِنَ الْحَسْبِ بِسُكُونِ السِّينِ، وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ أَوِ الْكِفَايَةُ، مِنْ أَحْسَبَنِي: إِذَا كَفَانِي. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَأَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَبَدِيعٍ بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، أَيِ: الْمُعْطِي لِعِبَادِهِ كِفَايَتَهُمْ، أَوِ الْكَافِي لَهُمْ فِي أُمُورِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَسْبِي: يَكْفِينِي، وَهَذَا أَتَمُّ مَبْنًى وَأَعَمُّ مَعْنًى، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَسَبِ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ، وَالْحَسِيبُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْصُلَ الْكِفَايَةُ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ، وَكَمَالِهِ الْجِسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ بِأَحَدٍ سِوَاهُ

فَمَرْجِعُهُ إِلَى الْفِعْلِ وَلَا أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ إِلَى شَرَفٍ وَسُؤْدُدٍ بِغَيْرِ إِرَادَةِ مَوْلَاهُ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الشَّرِيفُ فَمَرْجِعُهُ إِلَى الصِّفَةِ، وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَيْ: هُوَ الْمُحَاسِبُ لِلْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى: مُفَاعِلٍ كَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى: الْمُجَالِسِ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى الْفِعْلِ أَيْضًا إِنْ جُعِلَتِ الْمُحَاسَبَةُ عِبَارَةً عَنِ الْمُكَافَأَةِ، وَإِلَى الْقَوْلِ إِنْ أُرِيدَ بِهَا السُّؤَالُ وَالْمُعَاتَبَةُ وَتَعْدَادُ مَا عَمِلُوا مِنَ الْحِسَابِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ أَنْفَاسَ الْخَلَائِقِ، وَبَعْضُهُمْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَالَ: الْحَسِيبُ مَنْ يَعُدُّ عَلَيْكَ أَنْفَاسَكَ وَيَصْرِفُ عَنْكَ بِفَضْلِهِ بَأْسَكَ. وَقِيلَ: فِي مَعْنَى الْحَسِيبِ، إِنْ كَانَ اللَّهُ مَعَكَ فَمَنْ تَخَافُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ فَمَنْ تَرْجُو، وَلِذَا قَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَقَالَ: {حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: كِفَايَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَكْفِيَهُ جَمِيعَ أَحْوَالِهِ وَأَشْغَالِهِ، وَأَجَلُّ الْكِفَايَاتِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِرَادَةَ الشَّيْءِ، فَإِنَّ سَلَامَتَهُ عَنْ إِرَادَةِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَا يُرِيدَ شَيْئًا أَتَمُّ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَتَحْقِيقِ الْمَأْمُولِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَافِيهِ لَا يَسْتَوْحِشُ مِنْ إِعْرَاضِ الْخَلْقِ عَنْهُ ثِقَةً بِأَنَّ الَّذِي قُسِمَ لَهُ لَا يَفُوتُهُ وَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَالَّذِي لَمْ يُقْسَمْ لَهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ وَإِنْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ، وَمَنِ اكْتَفَى بِحُسْنِ تَوْلِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَحْوَالِهِ، فَعَنْ قَرِيبٍ يُرْضِيهِ مَوْلَاهُ مِمَّا يَخْتَارُ لَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْثِرُ الْعَدَمَ عَلَى الْوُجُودِ، وَالْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى، وَيَسْتَرْوِحُ إِلَى عَدَمِ الْأَسْبَابِ. بِمُشَاهَدَةِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى. قِيلَ: رَجَعَ فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ لَيْلَةً إِلَى بَيْتِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ عَشَاءً وَلَا سِرَاجًا فَبَالَغَ فِي الْحَمْدِ وَالتَّضَرُّعِ وَقَالَ: إِلَهِي بِأَيِّ سَبَبٍ وَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ وَاسْتِحْقَاقٍ عَامَلْتَنِي بِمَا تُعَامِلُ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ؟ . (الْجَلِيلُ) : أَيِ: الْمَنْعُوتُ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَالْحَاوِي لِجَمِيعِهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدَانِيَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُسَاوِيَهُ، قَالُوا وَمِنْهُمُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى كَمَالِ الصِّفَاتِ، كَمَا أَنَّ الْكَبِيرَ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الذَّاتِ، وَالْعَظِيمَ إِلَيْهِمَا، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْجَلِيلَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ خَاصَّةً، كَالْمُنْتَقِمِ وَالْقَهَّارِ وَشَدِيدِ الْعِقَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] حَيْثُ قُوبِلَ بَيْنَهُمَا، فَالْكَرِيمُ وَالْعَفُوُّ وَالْغَفُورُ، وَنَحْوُهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ. وَالْكَمَالُ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ. وَالْكَمَالُ وَالْكَوْنُ كُلُّهَا مَظَاهِرُ لِلصِّفَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ، وَمَجَالٌ لِمُشَاهَدَةِ النَّعْتَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ، وَبَسْطُ هَذَا الْمَبْحَثِ يَطُولُ، فَيَتَعَيَّنُ عَنْهُ الْعُدُولُ، وَلِذَا نَقُولُ: وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ جَلَالُهُ ظَهَرَ لَكَ فِي الْعَوَالِمِ كُلِّهَا إِجْلَالُهُ، فَعَظُمَتْ هَيْبَتُكَ مِنْهُ وَمَحَبَّتُكَ لَهُ وَأُنْسُكَ بِهِ وَاحْتِرَامُكَ لِكِتَابِهِ وَأَحِبَّائِهِ، وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ لَا تُحِبَّ سِوَاهُ، وَلَا تُرْضِيَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تُخَلِّيَ نَفْسَكَ عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَالْمُحَقَّرَاتِ، لِأَنَّكَ أَجَلُّ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: جَعَلَكَ فِي الْعَالَمِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ لِيُعْلِمَكَ جَلَالَةَ قَدْرِكَ بَيْنَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّكَ جَوْهَرَةٌ تَنْطَوِي عَلَيْكَ أَصْدَافُ مَكْنُونَاتِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَقَلُّبَ قُلُوبِ الْعَابِدِينَ بَيْنَ شُهُودِ ثَوَابِهِ وَإِفْضَالِهِ، وَشُهُودِ عَذَابِهِ وَإِنْكَالِهِ، فَإِذَا فَكَّرُوا فِي إِفْضَالِهِ ازْدَادُوا رَغْبَتَهُمْ، وَإِذَا فَكَّرُوا فِي عَذَابِهِ وَنَكَالِهِ ازْدَادُوا رَهْبَتَهُمْ، وَجَعَلَ تَنَزُّهَ أَسْرَارِ الْعَارِفِينَ فِي شُهُودِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ إِذَا كُوشِفُوا بِنَعْتِ الْجَلَالِ، فَأَحْوَالُهُمْ طَمْسٌ فِي طَمْسٍ، وَإِذَا كُوشِفُوا بِوَصْفِ الْجَمَالِ فَأَحْوَالُهُمْ أُنْسٌ فِي أُنْسٍ، فَكَشْفُ الْجَلَالِ يُوجِبُ صَحْوًا، وَكَشْفُ الْجَمَالِ يُوجِبُ قُرْبَةً، فَالْعَارِفُونَ كَاشَفَهُمْ بِجَلَالِهِ فَغَابُوا، وَالْمَحْبُوبُونَ كَاشَفَهُمْ بِجِمَالِهِ فَتَابُوا، وَالْحَقَائِقُ إِذَا اصْطَلَمَتِ الْقُلُوبَ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، وَالْمَعَانِي إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْأَسْرَارِ فَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ. (الْكَرِيمُ) : أَيِ: كَثِيرُ الْجُودِ وَالْعَطَاءِ الَّذِي لَا يَنْفَدُ عَطَاؤُهُ وَلَا تَفْنَى خَزَائِنُهُ، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ. وَقِيلَ: الْمُتَفَضِّلُ بِلَا مَسْأَلَةٍ وَلَا وَسِيلَةٍ. وَقِيلَ: الْمُتَجَاوِزُ الَّذِي لَا يَسْتَقْصِي فِي الْعِقَابِ، وَلَا يَسْتَقْصِي فِي الْعِتَابِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي إِذَا قَدَرَ عَفَا وَإِذَا وَعَدَ وَفَى، وَإِذَا أَعْطَى زَادَ عَلَى الْمُتَمَنَّى، وَلَا يُبَالِي كَمْ أَعْطَى وَلِمَنْ أَعْطَى، وَإِذَا رُفِعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى غَيْرِهِ لَا يَرْضَى، وَيَقُولُ: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل: 13] . وَقِيلَ: الْمُقَدَّسُ عَنِ النَّقَائِصِ، الْمَوْصُوفُ

بِالنَّفَائِسِ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَرَائِمُ الْأَمْوَالِ لِنَفَائِسِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: ( «إِيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِكُمْ» ) وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ سُمِّيَ شَجَرُ الْعِنَبِ كَرْمًا، لِأَنَّهُ أَطْيَبُ الثَّمَرَةِ، قَرِيبُ التَّنَاوُلِ سَهْلُ الْمَأْخَذِ بِخِلَافِ النَّخْلِ. وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِهِ، فَيُعْطِي مِنْ غَيْرِ مُوعِدَةٍ، وَيَعْفُو عَنْ مَقْدِرَةٍ، وَيَتَجَنَّبُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمُرْدِيَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُؤْذِيَةِ. (الرَّقِيبُ) : أَيِ: الْحَفِيظُ الَّذِي يُرَاقِبُ الْأَشْيَاءَ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ أَحْوَالَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ، وَيُحْصِي عَدَدَ أَنْفَاسِهِمْ، وَيَعْلَمُ آجَالَهُمْ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى صِفَةِ الذَّاتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تُرَاقِبَهُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلَا تَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِهِ فِي سُؤَالٍ، وَتَكُونَ رَقِيبًا خُصُوصًا عَلَى مَنْ جَعَلَكَ رَاعِيًا عَلَيْهِ، فَتَكُونُ مُرَاعِيًا وَمُتَوَجِّهًا فِي أَحْوَالِهِ إِلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ ( «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعَيِّتِهِ» ) . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْمُرَاقَبَةُ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَنْ يَصِيرَ الْغَالِبَ عَلَى الْعَبْدِ ذِكْرُهُ لِرَبِّهِ بِقَلْبِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ، وَيَخَافُ سَطَوَاتِ عُقُوبَتِهِ فِي كُلِّ نَفَسٍ، وَيَهَابُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَصَاحِبُ الْمُرَاقَبَةِ يَدَعُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ وَهَيْبَةً لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَتْرُكُ مِنْ بِدَعِ الْمَعَاصِي لِخَوْفِ عُقُوبَتِهِ، وَإِنَّ مَنْ رَاعَى قَلْبَهُ عَدَّ مَعَ اللَّهِ أَنْفَاسَهُ فَلَا يُضَيِّعُ مَعَ اللَّهِ نَفَسًا، وَلَا يَخْلُو عَنْ طَاعَتِهِ لَحْظَةً، كَيْفَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُ عَلَى كُلِّ مَا قَلَّ وَجَلَّ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي وَأَحْسَنَ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّهُ حَاسَبَنِي حَتَّى طَالَبَنِي بِيَوْمٍ كُنْتُ صَائِمًا، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْإِفْطَارِ أَخَذْتُ حِنْطَةً مِنْ حَانُوتِ صَدِيقٍ لِي، فَكَسَرْتُهَا فَذَكَرْتُهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ لِي، فَأَلْقَيْتُهَا عَلَى حِنْطَتِهِ، فَأُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِي مِقْدَارُ أَرْشِ كَسْرِهَا. وَمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ لَمْ يُزْجِ فِي الْبَطَالَاتِ عُمْرَهُ وَلَمْ يَمْحَقْ فِي الْغَفَلَاتِ وَقْتَهُ. اهـ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] وَفِي الْخَبَرِ: ( «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا» ) . (الْمُجِيبُ) : هُوَ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ، وَيُسْعِفُ الْمُضْطَرَّ إِلَى مَا اسْتَدْعَاهُ وَتَمَنَّاهُ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنَّهُ يُجِيبُ مَوْلَاهُ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلِيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186] ثُمَّ يَتَلَقَّى عِبَادَهُ بِإِسْعَافِ سُؤَالِهِمْ وَإِلْطَافِ جَوَابِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فِي الْخَبَرِ: ( «إِنَّ اللَّهَ يَسْتَحِي أَنْ يَرُدَّ يَدَيْ عَبْدِهِ صِفْرًا» ) وَأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ مَنْ أَحْضَرَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ حَاجَتَهُمْ بِبَالِهِمْ يُحَقِّقُ لَهُمْ مُرَادَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوهُ بِلِسَانِهِمْ، وَرُبَّمَا يُضَيِّقَ عَلَيْهِمُ الْحَالَ، حَتَّى إِذَا يَئِسُوا وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُمْ يَتَدَارَكُهُمْ بِحُسْنِ إِيجَادِهِ وَجَمِيلِ إِمْدَادِهِ. اهـ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] وَفِي هَذَا الِاسْمِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ) أَيْ: أَجَابَهُ، وَأَحْسَنَ خِطَابَهُ، لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: ضَمِنَ سُبْحَانَهُ لَكَ الْإِجَابَةَ فِيمَا يَخْتَارُهُ لَكَ لَا فِيمَا تَخْتَارُهُ لِنَفَسِكَ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ لَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُرِيدُهُ، فَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ لَا تَسْأَلَ سِوَاهُ، وَأَنْ تَطْلُبَ مِنْهُ حَتَّى مِلْحَ عَجِينِكَ، وَمِنْ دُعَاءِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ سُجُودِ غَيْرِكَ فَصُنْ وَجْهِي عَنْ مَسْأَلَةِ غَيْرِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» ) لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ إِمَّا فِي الْمُعَجَّلِ وَإِمَّا فِي الْمَآلِ، وَمِنْ بَابِ التَّخَلُّقِ بِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ» ) وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ نَحْوُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، أَوْ كُرَاعِ الْغَنَمِ لَأَجَبْتُ. وَقَوْلُهُ: ( «مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» ) . (الْوَاسِعُ) : هُوَ الَّذِي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ وَسِيعُ الْمُلْكِ وَالْمِلْكِ، وَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالْعَطَاءِ، لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ عَطَائِهِ لَا فِي مَبْدَئِهِ وَلَا فِي مُنْتَهَاهُ، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، فَهُوَ الْعَالِمُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْلُومَاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، لَا نِهَايَةَ لِبُرْهَانِهِ، وَلَا غَايَةَ لِسُلْطَانِهِ، وَلَا حَدَّ لِإِحْسَانِهِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَسْعَى فِي سَعَةِ مَعَارِفِهِ وَأَخْلَاقِهِ، وَيَكُونَ جَوَادًا بِالطَّبْعِ غَنِيَّ النَّفْسِ لَا يَضِيقُ قَلْبُهُ بِفَقْدِ الْفَائِتِ، وَلَا يَهْتَمُّ بِتَحْصِيلِ الْمَآرِبِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إِنْعَامِهِ انْتِظَامَ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَالتَّمَكُّنَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُنَى، وَالْوُصُولَ إِلَى الْهَوَى، بَلْ أَلْطَافُ اللَّهِ فِيمَنْ يَزْوِي عَنْهُمُ الدُّنْيَا أَكْبَرُ، وَإِحْسَانُهُ إِلَيْهِمْ أَوْفَرُ وَإِنَّ قُرْبَ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ عَلَى حَسَبِ تَبَاعُدِهِ مِنَ الدُّنْيَا. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: إِنَّ أَهْوَنَ مَا أَصْنَعُ بِالْعَالِمِ إِذَا مَالَ فِي الدُّنْيَا أَنْ أَسْلُبَهُ حَلَاوَةَ مُنَاجَاتِي وَلَذَّةَ طَاعَاتِي. (الْحَكِيمُ) : أَيْ: ذُو الْحِكْمَةِ، وَهِيَ كَمَالُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ، أَوْ فَعَيْلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَهُوَ مُبَالَغَةُ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ أَيِ الَّذِي يُحْكِمُ الْأَشْيَاءَ وَيُتْقِنُهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] ، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ فِي التَّخَلُّقِ بِهِ وَالتَّعَلُّقِ بِكِتَابِهِ بِأَنْ تَسْعَى فِي تَكْمِيلِ قُوَاكَ النَّظَرِيَّةِ بِتَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَاسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِتَخْلِيَةِ النَّفْسِ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَتَحْلِيَتِهَا بِالْفَضَائِلِ، وَتَجْلِيَتِهَا بِتَحْسِينِ الشَّمَائِلِ بِمَا يُوجِبُ الزُّلْفَى إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالْقُرْبَ إِلَى الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَالْحِكْمَةُ هِيَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا عُلُومُ الْفَلَاسِفَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنْ حِكَمِهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ تَخْصِيصُهُ قَوْمًا بِحُكْمِ السَّعَادَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَسَبَبٍ، وَلَا جُهْدٍ وَلَا طَلَبٍ، بَلْ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ بِإِسْعَادِهِ، وَسَبَقَ الْحُكْمُ الْأَزَلِيُّ بِإِيجَادِهِ، وَخَصَّ قَوْمًا بِطَرْدِهِ وَإِبْعَادِهِ، وَوَضَعَ قَدْرَهُ مِنْ بَيْنِ عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ سَلَفَ، وَلَا ذَنْبٍ اقْتَرَفَ، بَلْ حَقَّتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ بِشَقَاوَتِهِ وَنَفَذَتِ الْمَشِيئَةُ بِجَحْدِ قَلْبِهِ وَقَسَاوَتِهِ، فَالَّذِي كَانَ شَقِيًّا فِي حُكْمِهِ أَبْرَزَهُ فِي نِطَاقِ أَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَمِّهِ حَيْثُ قَالَ: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] وَالَّذِي كَانَ سَعِيدًا فِي حُكْمِهِ خَلَقَهُ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْكَلْبِ، ثُمَّ حَشَرَهُ فِي زُمْرَةِ أَوْلِيَائِهِ، وَذَكَرَهُ فِي جُمْلَةِ أَصْفِيَائِهِ فَقَالَ: {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] . اهـ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يَسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وَوَرَدَ أَنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُ النَّارَ بَلْعَمَ بْنَ بَاعُورَا عَلَى صُورَةِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ كَلْبَهُمْ عَلَى صُورَةِ بَلْعَمَ، فَلَا تَغْتَرَّ بِالظَّوَاهِرِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالسَّرَائِرِ. (الْوَدُودُ) : مُبَالَغَةُ الْوَادِّ مِنَ الْوُدِّ، وَهُوَ الْحُبُّ أَيِ الَّذِي يُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْخَلَائِقِ، وَقِيلَ الْمُحِبُّ لِأَوْلِيَائِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى إِرَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقِيلَ: فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَاللَّهُ مَحْبُوبٌ فِي قُلُوبِ مَخْلُوقَاتِهِ، مَطْلُوبٌ لِجَمِيعِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي نَظَرِ أَرْبَابِ الشُّهُودِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَوْنِ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ، فَهُوَ الْوَادُّ وَهُوَ الْوَدُودُ، كَمَا أَنَّهُ الْحَامِدُ وَالْمَحْمُودُ، وَالشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ، لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يُرِيدَ لِلْخَلْقِ مَا يُرِيدُ فِي حَقِّهِ وَيُحْسِنَ إِلَيْهِمْ حَسَبَ قُدْرَتِهِ وَوُسْعِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ( «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ) . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَعْنَى الْوَدُودِ فِي وَصْفِهِ أَنَّهُ يَوَدُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَوَدُّونَهُ قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَمَعْنَى الْمَحَبَّةِ فِي صِفَةِ الْحَقِّ لِعِبَادِهِ: رَحْمَتُهُ عَلَيْهِمْ وَإِرَادَتُهُ لِلْجَمِيلِ لَهُمْ وَمَدْحُهُ لَهُمْ، وَمَحَبَّةُ الْعِبَادِ لِلَّهِ تَعَالَى تَكُونُ بِمَعْنَى طَاعَتِهِمْ لَهُ وَمُوَافَقَتِهِمْ لِأَمْرِهِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى تَعْظِيمِهِمْ لَهُ وَهَيْبَتِهِمْ مِنْهُ. اهـ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنَ وُدًّا} [مريم: 96] أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، أَوْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَفِي الْأَثَرِ الْقُدُسِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: «إِنَّ أَوَدَّ الْأَوَدِّ إِلَيَّ مَنْ يَعْبُدُنِي لِغَيْرِ نَوَالٍ، لَكِنْ لِيُعْطِيَ الرُّبُوبِيَّةَ حَقَّهَا» . (الْمَجِيدُ) : هُوَ مُبَالَغَةُ الْمَاجِدِ مِنَ الْمَجْدِ، وَهُوَ سَعَةُ الْكَرَمِ، فَهُوَ الَّذِي لَا تُدْرَكُ سَعَةُ كَرَمِهِ، وَلَا يَتَنَاهَى تَوَالِي إِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حِفْظُهُ عَلَيْهِمْ تَوْحِيدَهُمْ وَدِينَهُمْ، حَتَّى لَا

يَزِيغُوا وَلَا يَزُولُوا، إِذْ لَوْلَا لُطْفُهُ وَإِحْسَانُهُ لَغَوَوْا وَضَلُّوا، وَمِنْ وُجُوهِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ حِفْظُهُ عَلَيْهِمْ قُلُوبَهُمْ، وَتَصْفِيَتُهُ لَهُمْ أَوْقَاتَهُمْ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ الْعُظْمَى نِعَمُ الْقُلُوبِ، كَمَا أَنَّ الْمِحْنَةَ الْكُبْرَى مِحَنُ الْقُلُوبِ، أَوْ مِنَ الْمَجْدِ وَهُوَ نِهَايَةُ الشَّرَفِ، فَهُوَ الَّذِي لَهُ شَرَفُ الذَّاتِ وَحُسْنُ الصِّفَاتِ. وَقِيلَ: هُوَ الْعَظِيمُ الرَّفِيعُ الْقَدِيرُ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يُعَامِلَ النَّاسَ بِالْكَرَمِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، فَيَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَاجِدًا وَلِخَيْرِ مَا عِنْدَهُ تَعَالَى وَاجِدًا. (الْبَاعِثُ) : أَيْ: بَاعِثُ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ بِالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ، أَوِ الَّذِي يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لِلْحَشْرِ وَالنُّشُورِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ الْأَرْزَاقَ إِلَى عَبْدِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكْتَسِبْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَقِيلَ: هُوَ بَاعِثُ الْهِمَمِ إِلَى التَّرَقِّي فِي سَاحَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنَقِّي مِنْ ظُلْمِ صِفَاتِ الْعَبِيدِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يُؤْمِنَ أَوَّلًا بِمَعَانِيهِ، وَيَكُونَ مُقْبِلًا بِشَرَاشِرِهِ لِاسْتِصْلَاحِ الْمَعَادِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ التَّنَادِ، وَالتَّخَلُّقُ بِهِ إِحْيَاءُ النُّفُوسِ الْجَاهِلَةِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّزْهِيدِ فِي الْأُمُورِ الْعَاجِلَةِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي النِّعَمِ الْآجِلَةِ، فَيَبْدَأُ بِنَفَسِهِ، ثُمَّ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ مَنْزِلَةً وَرُتْبَةً. (الشَّهِيدُ) : مُبَالَغَةُ الشَّاهِدِ مِنَ الشُّهُودِ، وَهُوَ الْحُضُورُ، وَمَعْنَاهُ الْعَلِيمُ بِظَاهِرِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا يُمْكِنُ مُشَاهَدَتُهَا، كَمَا أَنَّ الْخَبِيرَ هُوَ الْعَالِمُ بِبَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] أَوْ مُبَالَغَةُ الشَّاهِدِ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَالْمَعْنَى يَشْهَدُ عَلَى الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. مِمَّا عَلِمَ وَشَاهَدَ مِنْهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَطْلُبُوا مَعَ اللَّهِ مُؤْنِسًا سِوَاهُ، بَلْ رَضُوا بِهِ شَهِيدًا لِأَحْوَالِهِمْ عَلِيمًا بِأُمُورِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَكَيْفَ لَا، وَهُوَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَيَسْمَعُ النَّجْوَى، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ وَالْبَلْوَى وَيُجْزِلُ الْحُسْنَى، وَيَصْرِفُ الرَّدَى (وَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) . قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تُرَاقِبَهُ حَتَّى لَا يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَلَا يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ، وَأَنْ تَكْتَفِيَ بِعِلْمِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ عَنْ أَنْ تَرْفَعَ حَوَائِجَكَ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ أَنْ تَمِيلَ إِلَى طَلَبِ الْغَيْرِ مِنْ بِرِّهِ وَخَيْرِهِ، وَتَخَلُّقُكَ أَنْ تَكُونَ شَاهِدًا بِالْحَقِّ مُرَاعِيًا لِلصِّدْقِ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . (الْحَقُّ) : هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي تَحَقَّقَ بِتَيَقُّنِ وَجُودِهِ، وَلَا تَحَقُّقَ لِغَيْرِهِ إِلَّا مِنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَضِدُّهُ الْبَاطِلُ الَّذِي هُوَ الْمَعْدُومُ أَوِ الْمَوْجُودُ الَّذِي فِي مُقَابِلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْهُومِ، إِذِ الثَّابِتُ مُطْلَقًا هُوَ اللَّهُ، وَسَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُمْكِنَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَلَا ثُبُوتَ لَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهَا، بَلِ الْكُلُّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، فَكُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا فِي ذَاتِهِ فَضْلًا عَنْ ثَبَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] بِتَغْلِيبِ ذَوِي الْعُقُولِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ أَوْلَى بِالْأُفُولِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ فِيمَا شَهِدَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ. أَيْ: قَابِلٌ لِلْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ، بَلْ فِي نَظَرِ أَرْبَابِ الشُّهُودِ دَائِمًا فِي مَرْتَبَةِ الِاضْمِحْلَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، كَمَا حَرَّرْتُهُ وَبَسَطْتُهُ فِي شَرْحِ حِزْبِ الْفَتْحِ، وَيَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ لَبِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ لَمْ يَقُلْ شِعْرًا وَقَالَ: يَكْفِينِي الْقُرْآنُ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْمُحِقُّ أَيِ: الْمُظْهِرُ لِلْحَقِّ، أَوِ الْمُوجِدُ لِلشَّيْءِ حَسْبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ الْحَقُّ نَسِيتَ فِي حُبِّهِ ذِكْرَ الْخَلْقِ وَتَخَلُّقُكَ بِهِ أَنْ تَلْزَمَ الْحَقَّ فِي سَائِرِ أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ وَأَحْوَالِكَ.

(الْوَكِيلُ) : الْقَائِمُ بِأُمُورِ عِبَادِهِ الْمُتَكَفِّلُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَقِيلَ: الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ تَدْبِيرُهُمْ إِقَامَةً وَكِفَايَةً، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْوَكِيلُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِحُكْمِ إِقَامَتِهِ لَهُ، وَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ أَمْرَيْنِ، أَحَدِهِمَا: عَجْزُ الْخَلْقِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَجَامِعِ أُمُورِهِمْ كَمَا يَنْبَغِي إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى غَيْرِهِ إِذَا تَعَسَّرَ أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتُهُ بِنَفْسِهِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِحَالِهِمْ قَادِرٌ عَلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ رَحِيمٌ بِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَجْمِعْ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَحْسُنُ تَوْكِيلُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81] ، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ - وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 58 - 217] وَالتَّخَلُّقُ بِهِ أَنْ تَقُومَ بِأُمُورِ عِبَادِهِ وَمَطَالِبِهِمْ وَتَسْعَى فِي إِسْعَافِ مَآرِبِهِمْ. (الْقَوِيُّ) : الْقُوَّةُ تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مُرَتَّبَةٍ أَقْصَاهَا الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْبَالِغَةُ السَّابِغَةُ الْوَاصِلَةُ إِلَى الْكَمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَوِيٌّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَا قُوَّةَ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِهِ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلُ مَا يُوجَدُ فِي بَاطِنِهِ مِنْ إِحْسَاسِ الْعَمَلِ يُسَمَّى حَوْلًا، ثُمَّ مَا يُحِسُّ بِهِ فِي الْأَعْضَاءِ مِنْ إِطَاقَتِهَا لَهُ يُسَمَّى قُوَّةً، ثُمَّ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِصُورَةِ الْبَطْشِ وَالتَّنَاوُلِ يُسَمَّى قُدْرَةً، وَلِهَذَا كَانَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى رُجُوعِ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ عَنْ غَيْرِهِ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَأَوْلَى أَنْ تَنْفِيَ عَنْهُ الثَّالِثَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الثَّالِثَةَ وَهِيَ الْقُدْرَةُ لَمَّا كَانَتْ ظَاهِرَةَ النَّفْيِ عَنْ غَيْرِهِ مَا احْتَاجَ فِي النَّفْيِ إِلَى ذِكْرِهِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ السُّفَهَاءِ، فَضْلًا عَنِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَتَوَهَّمْ أَنَّ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً بِخِلَافِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ حَيْثُ قَدْ يَنْشَأُ عَنِ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ نِسْبَتُهُمَا إِلَى أَنْفُسِهِمْ، كَمَا زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فَدَفَعَ وَهْمَهُمْ وَأَبْطَلَ فَهْمَهُمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُرْجِئَةُ وَقَعُوا فِي التَّعْطِيلِ، وَبِمُطْلَقِ التَّنْزِيهِ ضِدَّ وُقُوعِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي التَّشْبِيهِ أَثْبَتَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ (إِلَّا بِاللَّهِ) لِتَكُونَ الْحُجَّةُ لِلَّهِ، وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْجَمْعِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] كَمَا يُومِئُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَتَقَرُّبُكَ مِنْهُ تَعَلُّقًا أَنْ تُسْقِطَ التَّدْبِيرَ وَتَتْرُكَ مُنَازَعَةَ التَّقْدِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، وَلَا تَحُومُ حَوْلَ الدَّعْوَى، وَلَا تُبَالِي مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَكُونَ قَوِيًّا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا تَخَافَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. (الْمَتِينُ) : مِنَ الْمَتَانَةِ وَالشِّدَّةِ، وَمَرْجِعُ هَذَيْنِ إِلَى الْوَصْفِ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَشِدَّةِ الْقُوَّةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَالِغُ الْقُدْرَةِ وَدَائِمُهَا قَوِيٌّ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَدِيدُ الْقُوَّةِ مَتِينٌ، وَقِيلَ: الْمَتِينُ مِنَ الْمَتَانَةِ، وَهِيَ اسْتِحْكَامُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَثَّرُ أَيْ: هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَالْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُغْلَبُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي قُوَّتِهِ إِلَى مَادَّةٍ وَسَبَبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وَهُوَ تَعَالَى إِنْ أَرَادَ إِهْلَاكَ عَبْدٍ أَهْلَكَهُ بِيَدِهِ إِمَّا ذَبْحًا وَخَنْقًا، وَإِمَّا حَرْقًا وَغَرَقًا، وَلِهَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: خَفْ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عَوْنٍ عَلَيْكَ، بَلْ لَوْ شَاءَ إِتْلَافَكَ أَخْرَجَكَ عَنْ نَفْسِكَ حَتَّى يَكُونَ هَلَاكُكَ عَلَى يَدَيْكَ وَأَنْشَدَ: إِلَى حَتْفِي أَرَى قَدَمِي أَرَاقَ دَمِي. وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَمُسْتَنِدًا إِلَيْهِ. (الْوَلِيُّ) : أَيِ: الْمُحِبُّ لِأَوْلِيَائِهِ النَّاصِرُ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْوِيَتِهِمْ وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَى غَيْرِ لِقَائِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] ، {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28] . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ جَمِيعِ خَلِيقَتِهِ يَفْعَلُ فِيهِمْ مَا يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ بِعِزَّتِهِ، أَوْ لِأُمُورِ عِبَادِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْتَصِّينَ بِاجْتِبَائِهِ وَإِسْعَادِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] . وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَتَوَلَّ غَيْرَهُ وَغَيْرَ مَنْ يُحِبُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]

فَتَحَقَّقْ بِدَرَجَةِ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63] وَمِنْ كَلَامِ الْقُشَيْرِيِّ: مِنْ أَمَارَاتِ وَلَايَتِهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ أَنْ يُدِيمَ تَوْفِيقَهُ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ سُوءًا أَوْ قَصَدَ مَحْظُورًا عَصَمَهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَلَوْ جَنَحَ إِلَى تَقْصِيرٍ فِي طَاعَتِهِ أَبَى إِلَّا تَوْفِيقًا لَهُ وَتَأْيِيدًا. وَهَذَا مِنْ أَمَارَاتِ السَّعَادَةِ، وَعَكْسُ هَذَا مِنْ أَمَارَاتِ الشَّقَاوَةِ، وَمِنْ أَمَارَاتِ وَلَايَتِهِ أَنْ يَرْزُقَهُ مَوَدَّةً فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِذَا رَأَى فِي قُلُوبِهِمْ لِعَبْدٍ مَحَلًّا يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِاللُّطْفِ، وَإِذَا رَأَى هِمَّةَ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ لِشَأْنِ عَبْدٍ، أَوْ سَمِعَ دُعَاءَ وَلِيٍّ فِي شَأْنِ شَخْصٍ يَأْبَى إِلَّا الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَجْرَى بِذَلِكَ سُنَّتَهُ الْكَرِيمَةَ. وَسَمِعَتُ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَوْ أَنَّ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَرَّ بِبَلْدَةٍ لَنَالَ بَرَكَةَ مُرُورِهِ أَهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، وَمِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْوِلَايَةِ أَنَّ أَهْلَهَا مُنَزَّهُونَ عَنِ الذُّلِّ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا مُسْتَغْرِقُونَ فِي عِزِّ مَوْلَاهُمْ فِي دُنْيَاهِمْ وَأُخْرَاهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَعَلَنَا مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. (الْحَمِيدُ) : أَيِ: الْمَحْمُودُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّنَاءِ، فَإِنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ وَالْمُولِي لِكُلِّ نَوَالٍ، الْمَشْكُورُ بِكُلِّ فِعَالٍ فَهُوَ الْمَحْمُودُ الْمُطْلَقُ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] بِبَيَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَقِيلَ: حَمَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ بِالثَّنَاءِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ أَزَلًا، وَيَحْمَدُهُ عِبَادُهُ بِمَا أَلْهَمَهُمْ بِهِ أَبَدًا، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ سَرْمَدًا، بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْحَامِدُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفَعِيلِ الْمُحْتَمِلِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَلِذَا قَالَ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ: ( «سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ) . وَحَظُّكَ مِنْهُ مَا قَالَ صَاحِبُ الْحِكَمِ: الْمُؤْمِنُ يَشْغَلُهُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ شَاكِرًا، وَتَشْغَلُهُ حُقُوقُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِحُقُوقِهِ ذَاكِرًا، فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا كَثْرَةُ حَمْدِكَ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَتَخَلُّقًا بِأَنْ تَجْتَهِدَ فِي التَّحَلِّي بِمَحَامِدِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: حَمْدُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ شُكْرُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى شُهُودِ الْمُنْعِمِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ هِيَ الْغَيْبَةُ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ عَنْ شُهُودِ النِّعْمَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ: إِلَهِي كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَشُكْرِي لَكَ نِعْمَةٌ مِنْكَ عَلَيَّ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّكَ الْآنَ قَدْ شَكَرْتَنِي، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ شُكْرٌ، كَمَا قِيلَ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ، ثُمَّ كَمْ مِنْ عَبْدٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ فِي نِعْمَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ شُكْرُهَا، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي مِحْنَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنْهَا، فَإِنَّ حَقِيقَةَ النِّعْمَةِ مَا يُوصِلُكَ إِلَى الْمُنْعِمِ لَا مَا يَشْغَلُكَ عَنْهُ، فَالنِّعَمُ لَا تَكُونُ إِلَّا دِينِيَّةً، نَعَمْ إِذَا كَانَ مَعَهَا رَاحَاتٌ دُنْيَوِيَّةٌ فَهُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ وَسُرُورٌ عَلَى سُرُورٍ، وَمِنْهُ دُعَاءُ السَّيِّدِ الشَّاذِلِيِّ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ أُمُورَنَا مَعَ الرَّاحَةِ لِقُلُوبِنَا وَأَبْدَانِنَا، ثُمَّ إِنْ وَجَدَ التَّوْفِيقَ لِلشُّكْرِ بِصَرْفِ النِّعْمَةِ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ فِيهَا وَنُعِمَتْ، وَإِلَّا انْقَلَبَتِ الْمِنْحَةُ مِحْنَةً، وَلِذَا فُسِّرَ الْبَلَاءُ بِالنِّعْمَةِ وَالنِّقْمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] فَهُوَ كَالنِّيلِ مَاءٌ لِلْمَحْبُوبِينَ وَدِمَاءٌ لِلْمَحْجُوبِينَ. (الْمُحْصِي) : أَيِ: الْعَالِمُ الَّذِي يُحْصِي الْمَعْلُومَاتِ وَيُحِيطُ بِالْمَوْجُودَاتِ إِحَاطَةَ الْعَادِّ بِمَا يَعُدُّهُ، وَالضَّابِطُ بِمَا يَضْبِطُهُ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ إِحْصَاءُ بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْوُصُولُ إِلَى بَعْضِ الْمَعْدُودَاتِ، لَكِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ إِحْصَاءِ أَكْثَرِهَا وَضَبْطِ غَالِبِهَا، فَجَهْلُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَلَمِهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْصِيَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْصَى، وَيَتَلَافَى مَقَابِحَ أَعْمَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَقْصَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ أَوِ الْقُدْرَةِ وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْكَ غَفْلَةٌ فِي سُكُونٍ وَحَرَكَةٍ وَلَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ. وَتَقَرُّبُكَ مِنْهُ تَعَلُّقًا أَنْ تَحَاسِبَ نَفْسَكَ فِي جَمِيعِ أَنْفَاسِكَ بِأَنْ لَا يُوجَدَ فِيهَا

نَفَسٌ إِلَّا فِي طَاعَةٍ، لِمَا وَرَدَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا، وَلِمَا قِيلَ: الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَاجْعَلْهَا طَاعَةً. وَتَخَلُّقًا أَنْ تَتَكَلَّفَ عَدَّ النِّعَمِ الَّتِي أَوْصَلَهَا إِلَيْكَ لِتَعْرِفَ عَجْزَكَ عَنْ شُكْرِ مَا عَلَيْكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أَيْ: لَا تُطِيقُوا عَدَّهَا فَضْلًا عَنْ شُكْرِهَا. رَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَعُدُّ تَسْبِيحًا لَهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَعُدُّ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَعُدُّ لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ أَيَّامَهُ، وَيَعُدَّ آثَامَهُ، فَيَشْكُرَ جَمِيلَ مَا يُوَلِّيهِ، وَيَتَعَذَّرَ عَنْ قُبْحِ مَا يَأْتِيهِ، وَيَذْكُرَ الْأَيَّامَ الْخَالِيَةَ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَيَتَأَسَّفَ عَلَى الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي الْغَفَلَاتِ. وَقَدْ قِيلَ: لَا أَنْفَسَ مِنَ الْوَقْتِ إِذْ مَا مِنْ نَفِيسِ غَيْرِهِ إِلَّا وَيُمْكِنُ تَعْوِيضُهُ بِخِلَافِهِ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُمُ: الْوَقْتُ سَيْفٌ قَاطِعٌ، وَالْوَقْتُ كَالسَّيْفِ إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ قَطَعَكَ، إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ بِالْعِبَادَةِ قَطَعَكَ بِالْبَطَالَةِ، وَقَوْلُهُمُ: الصُّوفِيُّ ابْنُ الْوَقْتِ وَأَبُو الْوَقْتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ، وَبِغَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ حَقِيقٌ. (الْمُبْدِئُ) : بِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَقْفًا، وَهُوَ الْمُظْهِرُ لِلْكَائِنَاتِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ بَابِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْخَالِقِ، أَوْ هُوَ الْمُنْشِئُ لِلْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعُهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: (الْمُعِيدُ) : أَيِ الَّذِي يُعِيدُ الْخَلْقَ بَعْدَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَمَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى الْحَيَاةِ فِي الْأُخْرَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْمُعِيدُ لِلْمُحْدَثَاتِ بَعْدَ انْعِدَامِ جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: الْإِعَادَةُ خَلْقُ مِثْلِهِ لَا إِعَادَةُ عَيْنِهِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَقْدُورًا قَبْلَ أَنْ خَلَقَهُ، فَإِذَا عَدِمَ بَعْدَ وُجُودِهِ أَعَادَهُ إِلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِعَادَةُ جَمْعَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، فَإِذَا بَعَثَ الْخَلْقَ وَحَشَرَهُمْ فَقَدْ أَعَادَهُمْ. اهـ. وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَنْعَدِمُ بَلْ تَتَفَرَّقُ، ثُمَّ يَجْمَعُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَيُؤَلِّفُهَا عَلَى الْمِنْهَاجِ الْأَوَّلِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا تَنْعَدِمُ إِلَّا بَعْضًا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، ثُمَّ تُعَادُ بِعَيْنِهَا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَفْنَى إِلَّا عَجَبَ الذَّنَبِ» ". وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْحَقُّ إِعَادَةُ مَا انْعَدَمَ بِعَيْنِهِ وَتَأْلِيفُ مَا تَفَرَّقَ. اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فَالْإِعَادَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ إِعَادَةُ أَرْوَاحِهِمْ إِلَى أَشْبَاحِهِمْ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُمَا اسْمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ يَتِمُّ بِالثَّانِي وَمَرْجِعُهُمَا إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ بَيْنَهُمَا تَعْلِيقًا لَا يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَسْمَاءِ، كَالْخَافِضِ وَالرَّافِعِ، وَكَذَا الْمُعِزُّ وَالْمُذِلُّ، وَالْقَابِضُ وَالْبَاسِطُ، وَشَبِيهُ مَا سَيَأْتِي مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ كَالْمُحْيِي وَالْمُمِيتِ، وَالْمُقَدِّمِ وَالْمُؤَخِّرِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ قَوْلَهُ: هُمَا اسْمٌ وَاحِدٌ يُنَافِي النَّصَّ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنَّكَ إِذَا شَهِدْتَ أَنَّهُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ رَجَعْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ أَوَّلًا وَثَانِيًا، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ظُهُورِ كُلِّ مَوْجُودٍ: فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَاهِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ. وَتَقَرُّبُكَ بِهِمَا تَعَلُّقًا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَرْمًى، وَالتَّعَوُّذُ بِهِ مِنْ كُلِّ مَهْوًى، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَعُودَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْبِدَايَةِ، وَتَرُدَّ النَّفْسَ مِنْهَا إِلَى الْهِدَايَةِ وَلِذَا قِيلَ: النِّهَايَةُ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبِدَايَةِ. (الْمُحْيِي الْمُمِيتُ) : هُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى صِفَةِ الْأَفْعَالِ. قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19] ، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31] وَقَرَأَ عَلَيْهِ - الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ عِنْدَ تَشَرُّفِهِ بِالْإِسْلَامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحْيِي الْقُلُوبَ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، كَمَا أَنَّهُ يُمِيتُهَا بِالْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَاللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» " وَمِنْ كَلَامِهِمْ: هُوَ مَنْ أَحْيَا قُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ، وَأَرْوَاحَهُمْ بِأَلْطَافِ مُشَاهَدَتِهِ، وَأَمَاتَ الْقُلُوبَ بِالْغَفْلَةِ، وَالنُّفُوسَ بِالشَّهْوَةِ فَهُوَ تَعَالَى خَالِقُ الْحَيَاةِ وَمُدِيمُهَا، وَمُقَدِّرُ الْمَوْتَ الَّذِي هُوَ عَدِيمُهَا، وَمِنَ الْمَجَازِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ» ".

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِحْيَاءُ خَلْقُ الْحَيَاةِ فِي الْجِسْمِ، وَالْإِمَاتَةُ إِزَالَتُهَا عَنْهُ. فَإِنْ قُلْتَ: الْمَوْتُ عَدَمُ الْحَيَاةِ، وَالْعَدَمُ لَا يَكُونُ بِالْفَاعِلِ. قُلْتُ: الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمُتَجَدِّدُ فَهُوَ بِالْفَاعِلِ، وَلَكِنَّ الْفَاعِلَ لَا يَفْعَلُ الْهَدْمَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة: 28] أُسْنِدَ الْمَوْتُ الثَّانِي إِلَى فِعْلِهِ دُونَ الْمَوْتِ الْأَوَّلِ الْمُرَادِ بِهِ الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنْ لَا تَهْتَمَّ بِحَيَاةٍ وَلَا مَوْتٍ، بَلْ تَكُونَ مُفَوِّضًا مُسْتَسْلِمًا لِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ قَائِلًا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتُوفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» " قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَحْيَاهُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أَمَاتَهُ وَأَفْنَاهُ، وَمَنْ قَرَّبَهُ أَحْيَاهُ وَمَنْ غَيَّبَهُ أَمَاتَهُ وَأَفْنَاهُ، ثُمَّ أَنْشَدَ: أَمُوتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ ثُمَّ أَحْيَا ... فَكَمْ أَحْيَا عَلَيْكَ وَكَمْ أَمُوتُ. (" الْحَيُّ) : أَيْ ذُو الْحَيَاةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَبَدِيَّةِ، وَهُوَ الْفَعَّالُ الدَّرَّاكُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهَا صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا لِأَجْلِهَا صَحَّ لِذَاتِهِ أَنْ يُعْلَمَ وَيُقَدَّرَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ أَنْ يُعْلَمَ وَيُقَدَّرَ هَذَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِي حَقِّنَا فَعِبَارَةٌ عَنِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ الْمَخْصُوصِ بِجِنْسِ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: هِيَ الْقُوَّةُ التَّابِعَةُ لَهُ الْمُعَدَّةُ لِقَبُولِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ حَيًّا بِاللَّهِ حَتَّى لَا يَمُوتَ لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا يَمُوتُونَ، وَلَكِنْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] الْآيَةَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ تَعَالَى حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَعَالِمٌ وَقَدِيرٌ صَحَّحَ تَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] لِأَنَّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَخْلُوقٍ وَاتَّكَلَ عَلَيْهِ لِيَوْمِ حَاجَتِهِ احْتَمَلَ وَفَاتَهُ وَقْتَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَيَضِيعُ رَجَاؤُهُ وَأَمَلُهُ لَدَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِيِ الْغَاسِلِ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تُحْيِيَ الْقُلُوبَ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَتِكَ، وَالْأَرْوَاحَ بِأَسْرَارِ مُشَاهَدَتِكَ. (الْقَيُّومُ) : أَيِ: الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ قِوَامَهُ بِذَاتِهِ لَا يَتَوَقَّفُ بِوَجْهٍ مَا عَلَى غَيْرِهِ، وَقِوَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ لِلْأَشْيَاءِ وُجُودٌ وَدَوَامٌ إِلَّا بِوُجُودِهِ تَعَالَى، وَلِلْعَبْدِ فِيهِ مَدْخَلٌ بِقَدْرِ اسْتِغْنَائِهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَإِمْدَادِهِ لِلنَّاسِ، وَكَانَ مَفْهُومُهُ مُرَكَّبًا مِنْ نُعُوتِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الِأَفْعَالِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرِفَ أَنَّهُ الْقَيُّومُ اسْتَرَاحَ عَنْ كَدِّ التَّدْبِيِرِ وَتَعَبِ الْأَشْغَالِ، وَعَاشَ بِرَاحَةِ التَّفْوِيضِ، فَلَمْ يَضِنَّ بِشَيْءٍ بِتَكْرِيمِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِي قَلْبِهِ لِلدُّنْيَا كَثْرَةَ قِيمَةٍ، وَهُوَ (فَيْعُولٌ) لِلْمُبَالَغَةِ كَالدَّيُّومِ. قَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ: قَيُّومٌ لَا يَعْتَرِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالتَّغَيُّرُ فَالزِّيَادَةُ لِقُصُورٍ عَنِ الْغَايَةِ، وَالنُّقْصَانُ لِتَخَلُّفٍ عَنِ النِّهَايَةِ، وَهُوَ خَالِقُ الْغَايَاتِ وَالنِّهَايَاتِ. (الْوَاجِدُ) : بِالْجِيمِ أَيِ: الَّذِي يَجِدُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ وَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْغَنِيُّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوُجْدِ. قَالَ تَعَالِيَ: {أَسْكَنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذَا مُرَادِفٌ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا مُغَايِرَ لَهُ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الشَّارِحِ - فَوَهْمٌ مِنْهُ وَسَهْوٌ عَنْهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْوَجْدُ عِنْدَ الْقَوْمِ مَا يُصَادِفُونَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَطَلُّبٍ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: الْوَجْدُ لَهِيبٌ يَنْشَأُ فِي الْأَسْرَارِ وَيَنْسَلِخُ عَنِ الشَّوْقِ فَتَضْطَرِبُ الْجَوَارِحُ طَرَبًا أَوْ حُزْنًا عِنْدَ ذَلِكَ الْوَارِدِ، وَقِيلَ: الْوَجْدُ وُجُودُ نَسِيمِ الْحَبِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] قُلْتُ: وَكَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الصُّوفِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ أَرَهُ فِي الْكُتُبِ الْحَدِيثِيَّةِ، وَإِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(الْمَاجِدُ) : مِنَ الْمَجْدِ وَهُوَ سِعَةُ الْكَرَمِ وَنِهَايَةُ الشَّرَفِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ بِمَعْنَى الْمَجِيدِ إِلَّا أَنَّ فِي الْمَجِيدِ مُبَالَغَةً لَيْسَتْ فِي هَذَا مِنَ الْمَجْدِ. اهـ. وَفِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ مَا لِا يَخْفَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ صِفَاتِهِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْكَمَالِ، سَوَاءٌ تَكُونُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كَمَجِيدٍ وَعَلِيمٍ أَوْ لَا، كَمَاجِدٍ وَعَالِمٍ. نَعَمْ مَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَبْنَى لَا مِنْ حَيْثِيَّةِ أَصْلِ الْمَعْنَى، بَقِيَ أَنَّ ظَاهِرَهُ التَّكْرَارُ، وَالْمُحَقِّقُونَ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ، وَالَّذِي خَطَرَ بِبَالِي أَنَّ نُكْتَةَ إِعَادَتِهِ أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِلِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِذَا وَرَدَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى جِبْرِيلَ مُتَشَبِّثًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ قَائِلًا: " يَا وَاجِدُ يَا مَاجِدُ لَا تُزِلْ عَنِّي نِعْمَةً أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ» ". (الْوَاحِدُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ الْأَحَدِ بَعْدَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: لَفَظُ الْأَحَدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَالدَّعَوَاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَلَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَمَعْنَى الْوَاحِدِ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي ذَاتِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي فِعَالِهِ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: الْوَاحِدُ الْمُتَفَرِّدُ بِالذَّاتِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْأَحَدُ الْمُتَفَرِّدُ بِالصِّفَاتِ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي صِفَاتِهِ، وَقِيلَ: الْوَحْدَةُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا عَدَمُ التَّجْزِئَةِ وَالِانْقِسَامِ، وَيَكْثُرُ إِطْلَاقُ الْوَاحِدِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ التَّعَدُّدِ وَالْكَثْرَةِ، وَيَكْثُرُ إِطْلَاقُ الْأَحَدِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فَيَتَطَرَّقُ إِلَى ذَاتِهِ التَّعَدُّدُ وَالِاشْتِرَاكُ أَحَدٌ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّرْكِيبِ وَالْمَقَادِيرِ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ وَالِانْقِسَامَ وَاحِدٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَاحِدُ الْأَحَدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَحْدَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ أَحَدٍ وَاحِدٌ بِفَتْحَتَيْنِ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحَدًا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، فَيُقَالُ: اللَّهُ أَحَدٌ، وَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَحَدٌ، كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ وَاحِدٌ، وَكَأَنَّهُ بُنِيَ لِنَفْيِ مَا يُذْكَرُ مَعَهُ مِنَ الْعَدَدِ، وَالثَّانِي: أَنَّ نَفْيَهُ يَعُمُّ، وَنَفْيَ الْوَاحِدِ قَدْ لَا يَعُمُّ، وَلِذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي الدَّارِ وَاحِدٌ بَلْ فِيهَا اثْنَانِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي أَحَدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاحِدَ يُفْتَحُ بِهِ الْعَدَدُ فَيُقَالُ: وَاحِدٌ اثْنَانِ الْخَ. وَلَا كَذَلِكَ أَحَدٌ، فَلَا يُقَالُ أَحَدٌ اثْنَيْنِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْوَاحِدَ يَلْحَقُهُ التَّاءُ بِخِلَافِ الْأَحَدِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحَدًا مِنْ حَيْثُ الْبِنَاءُ أَبْلَغُ مِنْ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُشَبَّهَةِ الَّتِي بُنِيَتْ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَحْدَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا عَدَمُ التَّجْزِئَةِ تَارَةً وَيُرَادُ بِهَا عَدَمُ التَّثَنِّي وَالنَّظِيرِ أُخْرَى، كَوَحْدَةِ الشَّمْسِ، وَالْوَاحِدُ يَكْثُرُ إِطْلَاقُهُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْأَحَدُ يَغْلُبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي، وَلِذَا يُجْمَعُ أَحَدٌ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى عَنِ الْآحَادِ أَنَّهُ جَمْعُ أَحَدِ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ لَيْسَ لِلْأَحَدِ جَمْعٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ جَمْعُ وَاحِدٍ كَالْأَشْهَادِ فِي جَمْعِ شَاهِدٍ، وَلَا يُفْتَحُ بِهِ الْعَدَدُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مَنْ قَالَ: الْوَاحِدُ لِلْوَصْلِ، وَالْأَحَدُ لِلْفَصْلِ، فَمِنَ الْوَاحِدِ وَصَلَ إِلَى عِبَادِهِ مَا وَصَلَ مِنَ النِّعَمِ، وَمِنَ الْأَحَدِ فَصَلَ عَنْهُمْ مَا فَصَلَ مِنَ النِّقَمِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ الِاكْتِفَاءِ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّ فَصْلَ النِّقَمِ يَنْدَرِجُ فِي وَصْلِ النِّعَمِ. وَالثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ، وَالْأَحَدُ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ، يَعْنِي بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا شَبِيهَ فِي صِفَاتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا سَبَبَ عَدَمِ ذِكْرِهِ، لِأَنَّهُ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي تَعَدُّدَ الْأَسْمَاءِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى لِلِاكْتِفَاءِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ أَنْ يَغُوصَ لُجَّةَ التَّوْحِيدِ، وَيَسْتَغْرِقَ فِي بَحْرِ التَّفْرِيدِ، حَتَّى لَا يَرَى مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ غَيْرَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: التَّوْحِيدُ ثَلَاثَةٌ: تَوْحِيدُ الْحَقِّ تَعَالَى نَفْسَهُ، وَهُوَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَكَذَا إِخْبَارُهُ. قُلْتُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] وَتَوْحِيدُ الْحَقِّ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ إِعْطَاؤُهُ التَّوْحِيدَ لَهُ وَالتَّوْفِيقَ بِهِ، قُلْتُ: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] وَتَوْحِيدُ الْعَبْدِ لِلْحَقِّ، وَهُوَ أَنْ لَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا. قُلْتُ: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الحشر: 22] .

وَقَالَ الْجُنَيْدِيُّ: التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْقِدَمِ مِنَ الْحَدَثِ، وَقِيلَ: التَّوْحِيدُ إِسْقَاطُ الْإِضَافَاتِ بِنُورِ الْخَلْقِ لِظُهُورِ الْحَقِّ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تُفْرِدَ قَلْبَكَ لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» ". قِيلَ: الْوِتْرُ هُنَا الْقَلْبُ الْمُنْفَرِدُ لَهُ تَعَالَى، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ فِي الْحُسْنِ وَاحِدًا ... فَكُنْ وَاحِدًا فِي الْحُبِّ إِنْ كُنْتَ تَهْوَاهُ. (الصَّمَدُ) : أَيِ: السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ السُّؤْدُدُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، فَهُوَ الَّذِي يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ حَاجَةٌ أَوْ يَعْتَرِيَهُ آفَةٌ، وَقِيلَ: الْبَاقِي الَّذِي لَا يَزُولُ، وَقِيلَ: الدَّائِمُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقِيلَ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الرَّغَائِبِ وَيُقْصَدُ إِلَيْهِ فِي النَّوَائِبِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَمَنْ كَانَ يَقْصِدُهُ النَّاسُ فِيمَا يَعِنُّ لَهُمْ مِنْ مَهَامِّ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَلَهُ حَظٌّ مِنَ الْوَصْفِ، وَمَنْ رَسَخَ فِي التَّوْحِيدِ وَصَارَ مُتَصَلِّبًا فِي الدِّينِ لَا يَتَزَلْزَلُ بِتَقَادُمِ الشُّبُهَاتِ وَتَعَاقُبِ الْبَلِيَّاتِ، فَقَدْ حَظِيَ مِنْهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ حَقِّ مَنْ عَرَفَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ بِالْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ وَشَدِّ الِارْتِحَالِ وَيُلَاحِظَ الْكَوْنَ بِعَيْنِ الْفَنَاءِ وَالِانْتِقَالِ فَيَزْهَدَ فِي حُطَامِهَا، وَلَا يَرْغَبَ فِي حَلَالِهَا، فَضْلًا عَنْ حَرَامِهَا. وَمِنْ حَقِّ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ أَنْ يُوَجِّهَ رَغَبَاتَهُ عِنْدَ مَآرِبِهِ إِلَيْهِ، وَيَصْدُقُ تَوَكُّلُهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ. فَلَا يَهْتَمُّ فِي رِزْقِهِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعِنْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ كَذَلِكَ لَا يُشَارِكُهُ فِي رِزْقِهِ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّهُ يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ شَكَا إِلَيْهِ حَاجَتَهُ وَفَاقَتَهُ وَرَفَعَ إِلَيْهِ، وَتَعَلَّقَ بِجَمِيلِ تَصَرُّفِهِ وَتَقَرَّبَ بِصُنُوفِ تَوَسُّلِهِ. (الْقَادِرُ، الْمُقْتَدِرُ) : مَعْنَاهُمَا ذُو الْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُقْتَدِرَ أَبْلَغُ لِمَا فِي الْبِنَاءِ مِنْ مَعْنَى التَّكَلُّفِ وَالِاكْتِسَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنِ امْتَنَعَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، لَكِنَّهُ يُفِيدُ الْمَعْنَى مُبَالَغَةً، فَمَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الِاسْمَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ حَقَّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبَالِغُ فِي الْقُدْرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: زَعْمُ اسْتِوَاءِ الِاسْمَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بَعِيدٌ، فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَعْنَى، وَالِاخْتِلَافَ فِي الْمَبْنَى، مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ بِنَفْسِهِ أَنَّ مَعْنَى التَّكْلِفَةِ وَالِاكْتِسَابِ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ مُنَاقَضَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِهِ تَعَالَى بِهِمَا: نَفْيُ الْعَجْزِ عَنْهُ فِيمَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوصَفَ بِالْقُدْرَةِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْ حَقِّهِمَا أَنْ لَا يُوصَفَ بِهِمَا مُطْلَقًا غَيْرُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ بِالذَّاتِ، وَالْمُقْتَدِرُ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَمَا عَدَاهُ فَإِنَّمَا يَقْدِرُ بِإِقْدَارِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَحَقِيقٌ بِهِ أَنْ لَا يُقَالَ لَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ إِلَّا مُقَيَّدًا، أَوْ عَلَى قَصْدِ التَّقْيِيدِ. (الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ) : مَعْنَاهُمَا هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ وَيُبْعِدُ، وَمَنْ قَرَّبَهُ فَقَدْ قَدَّمَهُ، وَمَنْ أَبْعَدَهُ فَقَدْ أَخَّرَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ الْأَشْيَاءَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، إِمَّا بِالذَّاتِ كَتَقَدُّمِ الْبَسَائِطِ عَلَى الْمُرَكَّبَاتِ، وَإِمَّا بِالْوُجُودِ كَتَقْدِيمِ الْأَسْبَابِ عَلَى الْمُسَبَّبَاتِ، أَوْ بِالشَّرَفِ وَالْقُرْبَةِ كَتَقَدُّمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ، أَوْ بِالْمَكَانِ كَتَقَدُّمِ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ عَلَى السُّفْلِيَّةِ، أَوْ بِالزَّمَانِ كَتَقَدُّمِ الْأَطْوَارِ وَالْقُرُونِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الْمُقَدِّمُ مَنْ قَدَّمَ الْأَبْرَارَ بِفُنُونِ الْمَبَارِّ، وَالْمُؤَخِّرُ مَنْ أَخَّرَ الْفَجَرَةَ وَشَغَلَهُمْ بِالْأَغْيَارِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَهُمَّ بِأَمْرِهِ فَيُقَدِّمُ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. (الْأَوَّلُ) : أَيِ: الَّذِي لَا بِدَايَةَ لِأَوَّلِيَّتِهِ. (الْآخِرُ) : أَيِ: الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلِيقَتِهِ، وَلَا نِهَايَةَ لِآخِرِيَّتِهِ، فَمِنْهُ الْأَمْرُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي مَرَاتِبِ الْوُجُودِ. (الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ) : أَيِ: الَّذِي ظَهَرَ ظَاهِرُ وُجُودِهِ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَاحْتَجَبَ كُنْهُ ذَاتِهِ عَنِ الْعُقُولِ الْمَاهِرَةِ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ الَّذِي ظَهَرَتْ شَوَاهِدُ وَجُودِهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي ظَهَرَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي عُرِفَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ بِمَا ظَهَرَ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِهِ وَأَوْصَافِهِ. وَالْبَاطِنُ: هُوَ الْمُحْتَجِبُ عَنْ بَصَرِ الْخَلْقِ وَنَظَرِ الْعَقْلِ بِحُجُبِ كِبْرِيَائِهِ، فَلَا يُدْرِكُهُ بَصَرٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ وَهْمٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَالِمُ بِمَا بَطَنَ يُقَالُ: بَطِنْتُ الْأَمْرَ: إِذَا عَرَفْتَ بَاطِنَهُ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ بِنِعْمَتِهِ الْبَاطِنُ بِرَحْمَتِهِ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ لِقَوْمٍ فَلِذَلِكَ وَحَّدُوهُ، وَالْبَاطِنُ عَنْ قَوْمٍ فَلِذَلِكَ جَحَدُوهُ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ بِالْقُدْرَةِ وَالْبَاطِنُ عَنِ الْفِكْرَةِ وَقِيلَ الْأَوَّلُ بِلَا مَطْلَعٍ وَالْآخِرُ بِلَا مَقْطَعٍ وَالظَّاهِرُ بِلَا اقْتِرَابٍ وَالْبَاطِنُ بِلَا احْتِجَابٍ، وَلَعَلَّ الْإِتْيَانَ بِهَا فِي الْآيَةِ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْجَمْعِيَّةِ، وَإِشْعَارٌ بِرَفْعِ وَهْمِ التَّنَاقُضِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا خَفِيَ تَعَالَى مَعَ ظُهُورِهِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، فَظُهُورُهُ سَبَبٌ لِبُطُونِهِ، وَنُورُهُ حِجَابُ نُورِهِ، وَكُلُّ مَا جَاوَزَ عَنْ حَدِّهِ انْعَكَسَ عَلَى ضِدِّهِ، وَفِي الْحُكْمِ أَظْهَرَ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ الْبَاطِنُ، وَطَوَى وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّهُ الظَّاهِرُ.

(الْوَالِي) : أَيِ الَّذِي تَوَلَّى الْأُمُورَ وَحَكَمَهَا بِالْأَحْزَانِ وَالسُّرُورِ. (الْمُتَعَالِي) : بِمَعْنَى الْعَلِيِّ بِنَوْعٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: الْبَالِغُ فِي الْعُلُوِّ، وَالْمُرْتَفِعُ عَنِ النَّقَائِصِ. (الْبَرُّ) : أَيِ الْمُحْسِنُ الْبَالِغُ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَارًّا بِهِ عَصَمَ عَنِ الْمُخَالَفَةِ نَفْسَهُ، وَأَدَامَ بِفُنُونِ اللَّطَائِفِ أُنْسَهُ، وَطَيَّبَ فُؤَادَهُ، وَحَصَّلَ مُرَادَهُ وَجَعَلَ التَّقْوَى زَادَهُ، وَأَغْنَاهُ عَنْ إِشْكَالِهِ بِإِفْضَالِهِ، وَحَمَاهُ عَنْ مُخَالَفَتِهِ بِيُمْنِ إِقْبَالِهِ، فَهُوَ مَلِكٌ لَا يَسْتَظْهِرُ بِجَيْشٍ وَعَدَدٍ، وَغِنَيٌّ لَا يَتَمَوَّلُ بِمَالٍ وَعَدَدٍ، وَفِي الْحِكَمِ: مَتَى أَعْطَاكَ أَشْهَدَكَ بِرَّهُ، وَمَتَى مَنَعَكَ أَشْهَدَكَ قَهْرَهُ، فَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَتَعَرَّفُ إِلَيْكَ، وَيُقْبِلُ بِوُجُودِ لُطْفِهِ عَلَيْكَ. (التَّوَّابُ) : أَيِ: الَّذِي يَرْجِعُ بِالْإِنْعَامِ عَلَى كُلِّ مُذْنِبٍ رَجَعَ إِلَى الْتِزَامِ الطَّاعَةِ، بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ مِنَ التَّوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُيَسِّرُ لِلْمُذْنِبِينَ أَسَاسَ التَّوْبَةِ، وَيُوَفِّقُهُمْ لَهَا، فَسُمِّيَ الْمُسَبِّبُ لِلشَّيْءِ بِاسْمِ الْمُبَاشِرِ لَهُ. وَقِيلَ: الَّذِي يَقْبَلُ تَوْبَةَ عِبَادِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمِنْ حَظِّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، غَيْرَ آيِسٍ مِنْ زَوَالِ الرَّحْمَةِ، وَيَصْفَحُ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، وَيَقْبَلُ عُذْرَ الْمُتَعَذِّرِينَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ، فَإِذَنِ ابْتِدَاءُ التَّوْبَةِ وَأَصْلُهَا مِنَ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِتْمَامُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنِظَامُهَا بِاللَّهِ نِظَامُهَا فِي الْحَالِ، وَتَمَامُهَا فِي الْمَآلِ. وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَى الْعَبْدِ مَتَى كَانَ لِلْعَبْدِ تَوْبَةٌ. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] . (الْمُنْتَقِمُ) : أَيِ: الْمُعَاقِبُ لِلْعُصَاةِ عَلَى مَكْرُوهَاتِ أَفْعَالِهِمُ، افْتِعَالٌ مِنْ نَقِمَ الشَّيْءَ: إِذَا كَرِهَهُ غَايَةَ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ لَا يُحْمَدُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا إِذَا كَانَ انْتِقَامُهُ لِلَّهِ، وَمِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَأَحَقُّ أَعْدَاءٍ بِالِانْتِقَامِ نَفْسُهُ، فَيَنْتَقِمُ مِنْهَا مَهْمَا قَارَفَتْ مَعْصِيَةً أَوْ تَرَكَتْ طَاعَةً، بِأَنْ يُكَلِّفَهَا خِلَافَ مَا حَمَلَهَا عَلَيْهِ. (الْعَفُوُّ) : فَعَوْلٌ مِنَ الْعَفْوِ، وَهُوَ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَيَتَجَاوَزُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْغَفُورِ لِأَنَّ الْغُفْرَانَ يُنْبِئُ عَنِ السِّتْرِ، وَالْعَفُوُّ يُنْبِئُ، عَنِ الْمَحْوِ، وَأَصْلُ الْعَفْوِ الْقَصْدُ لِتَنَاوُلِ الشَّيْءِ، سُمِّيَ بِهِ الْمَحْوُ لِأَنَّهُ قَصْدٌ لِإِزَالَةِ الْمَمْحُوِّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى عَفُوٌ طَلَبَ عَفْوَهُ، وَمَنْ طَلَبَ عَفْوَهُ تَجَاوَزَ عَنْ خَلْقِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ أَدَّبَهُمْ وَإِلَيْهِ نَدَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] . (الرَّءُوفُ) : أَيْ: ذُو الرَّأْفَةِ، وَهِيَ شِدَّةُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ بِمَرْتَبَةٍ، وَمِنَ الرَّاحِمِ بِمَرْتَبَتَيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَصَحَّفَ ابْنُ حَجَرٍ الرَّاحِمَ بِالرَّحْمَنِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ عَجِيبٌ مِنَ الشَّارِحِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي عَلَى أَنَّ الرَّحِيمَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ. حُكِيَ أَنَّ إِنْسَانًا تَجَنَّبَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى جَارٍ لَهُ مَاتَ لِكَوْنِهِ كَانَ شِرِّيرًا، فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي وَقَالَ: قُلْ لِفُلَانٍ: {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذَا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الإسراء: 100] . (مَالِكُ الْمُلْكِ) : هُوَ الَّذِي يُنْفِذُ مَشِيئَتَهُ فِي مُلْكِهِ، وَيُجْرِي الْأُمُورَ فِيهِ عَلَى مَا يَشَاءُ إِيجَادًا وَإِعْدَامًا وَإِبْقَاءً وَفَنَاءً، لَا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. قَالَ الشَّاذِلِيُّ: قِفْ بِبَابٍ وَاحِدٍ لِيُفْتَحَ لَكَ الْأَبْوَابُ، وَاخْضَعْ لِمَلِكٍ وَاحِدٍ لِيُخْضِعَ لَكَ الرِّقَابَ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] . (ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) : قِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا شَرَفَ وَلَا كَمَالَ إِلَّا وَهُوَ لَهُ، وَلَا كَرَامَةَ وَلَا مَكْرُمَةَ إِلَّا وَهِيَ مِنْهُ، فَالْجَلَالُ فِي ذَاتِهِ، وَالْإِكْرَامُ مِنْهُ فَائِضٌ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» ". قِيلَ: لِأَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ. (الْمُقْسِطُ) : يُقَالُ: قَسَطَ: إِذَا جَارَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] وَأَقْسَطَ: إِذَا عَدَلَ وَأَزَالَ الْجَوْرَ، فَهُوَ الَّذِي يَنْتَصِفُ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَيَدْفَعُ بَأْسَ الظَّلَمَةِ عَنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9] أَيْ: بِالْعَدْلِ، فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِأَقْسَطَ لَا مَصْدَرٌ لِقَسَطَ لِتَضَادِّ مَعْنَيْهِمَا.

(الْجَامِعُ) : أَيِ: الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ أَشْتَاتِ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمُتَضَادَّةِ مُتَجَاوِرَةً وَمُتَمَازِجَةً فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ. وَقِيلَ: الْجَامِعُ لِأَوْصَافِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَأَقُولُ: هُوَ كَمَا قَالَ: {جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9] فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَوَافَقَ الْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ بِالْآدَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَلَهُ حَظٌّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ يَجْمَعُ الْيَوْمَ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ إِلَى شُهُودِ تَقْدِيرِهِ، حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْبَابِ التَّفْرِقَةِ فَيَطِيبُ عَيْشُهُ، إِذْ لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ، فَلَا يَرَى الْوَسَائِطَ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى الْحَادِثَاتِ بِعَيْنِ التَّقْدِيرِ فَإِنْ كَانَ نِعَمٌ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُعْطِي لَهَا وَمَنِيحُهَا، وَإِنْ كَانَ شِدَّةٌ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْكَاشِفَ لَهَا وَمُزِيحَهَا. (الْغَنِيُّ) : أَيِ: الْمُسْتَغْنِي بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] . (الْمُغْنِي) : أَيِ الَّذِي يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أَغْنَى خَوَاصَّ عِبَادِهِ عَمَّا سِوَاهُ، بِأَنْ لَمْ يُبْقِ لَهُمْ حَاجَةً إِلَّا إِلَيْهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يُغْنِي عِبَادَهُ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْحَوَائِجَ لَا تَكُونُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أَشَارَ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ رَجَعَ عِنْدَ حَوَائِجِهِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ الْحَاجَةَ إِلَى الْخَلْقِ، ثُمَّ يَنْزِعُ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَمَنْ شَهِدَ مَحَلَّ افْتِقَارِهِ إِلَى اللَّهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ بِحُسْنِ الْعِرْفَانِ، أَغْنَاهُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَأَعْطَاهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرْتَقِبُ، وَإِغْنَاءُ اللَّهِ الْعِبَادَ عَلَى قِسْمَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُغْنِيهِ بِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْنِيهِ بِتَصْفِيَةِ أَحْوَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الْغِنَى الْحَقِيقِيُّ. (الْمَانِعُ) : أَيِ الدَّافِعُ لِأَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَنَعَةِ أَيْ يُحَوِّطُ أَوْلِيَاءَهُ وَيَنْصُرُ أَصْفِيَاءَهُ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَنْعِ أَيْ: يَمْنَعُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَنْعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ» ". وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: رُبَّمَا أَعْطَاكَ فَمَنَعَكَ، وَرُبَّمَا مَنَعَكَ فَأَعْطَاكَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ: الْمُعْطِي الْمَانِعُ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْمَانِعُ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى يَكُونُ بِمَعْنَى مَنْعِ الْبَلَاءِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى مَنْعِ الْعَطَاءِ عَمَّنْ شَاءَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَقَدْ يَمْنَعُ الْمَنِيَّ وَالشَّهَوَاتِ عَنْ نُفُوسِ الْعَوَامِّ، وَيَمْنَعُ الْإِرَادَاتِ وَالِاخْتِيَارَاتِ عَنْ قُلُوبِ الْخَوَاصِّ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي يَخُصُّ بِهَا عِبَادَهُ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكْرِمُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ الْعَارِفِينَ. (الضَّارُّ، النَّافِعُ) : هُمَا بِمَنْزِلَةِ وَصْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ الشَّامِلَةُ لِلضُّرِّ وَالنَّفْعِ، أَوْ خَالِقُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، أَوِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ النَّفْعُ وَالضُّرُّ إِمَّا بِوَاسِطٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي مَعْنَى الْوَصْفَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ شَيْءٌ فِي مُلْكِهِ إِلَّا بِإِيجَادِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِهِ فَهُوَ عَائِشٌ فِي الرَّاحَةِ، وَمَنْ آثَرَ اخْتِيَارَ نَفْسِهِ وَقَعَ فِي كُلِّ آفَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ الْحَقِّ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: ( «أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مَنِ اسْتَسْلَمَ لِقَضَائِي وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِي وَشَكَرَ عَلَى نَعْمَائِي كَانَ عَبْدِي حَقًّا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِقَضَائِي وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلَمْ يَشْكُرْ عَلَى نَعْمَائِي فَلْيَطْلُبْ رَبًّا سِوَايَ» ) . (النُّورُ) : أَيِ: الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ الْمُظْهِرُ لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بِنُورِهِ ذُو الْعَمَايَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] يُنَوِّرُ الْآفَاقَ بِالنُّجُومِ، وَالْقُلُوبَ بِفُنُونِ الْمَعَارِفِ وَصُنُوفِ الْعُلُومِ، وَالْأَبْدَانَ بِآثَارِ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ زِينَةُ النُّفُوسِ، وَالْأَشْبَاحَ وَالْمَعَارِفَ زِينَةُ الْقُلُوبِ، وَالْأَرْوَاحَ وَالتَّأْيِيدَ بِالْمُوَافِقَاتِ نُورُ الظَّوَاهِرِ، وَالتَّوْحِيدَ بِالْمُوَاصَلَاتِ نُورُ السَّرَائِرِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَزِيدُ قَلْبَ الْعَبْدِ نُورًا عَلَى نُورٍ. قَوْلُهُ: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] أَيْ: يَهْدِي اللَّهُ الْقُلُوبَ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بِنُورِ الْحَقِّ وَيَصْطَفِيهِ، وَيَتْرُكُ الْبَاطِلَ وَيَدَعُ مَا يَسْتَدْعِيهِ. (الْهَادِي) : هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى خَاصَّةَ خَلْقِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ فَاطَّلَعُوا بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ مَصْنُوعَاتِهِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَعْرِفَتِهِمْ بِاللَّهِ، ثُمَّ يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ بِهِ، وَهَدَى عَامَّةَ خَلْقِهِ إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ، فَاسْتَشْهَدُوا بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَفْعَالِ ثُمَّ يَرْتَفِعُونَ بِهَا إِلَى الْفَاعِلِ، فَالثَّانِي مُرِيدٌ، وَالْأَوَّلُ مُرَادٌ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، وَإِلَى الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] خِطَابًا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَقْوِيَاءِ مِنْ خَوَاصِّ عِبَادِهِ الْأَصْفِيَاءِ، وَإِلَيْهَا الْإِيمَاءُ بِقَوْلِهِ: عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبِّي، وَلَوْلَا رَبِّي مَا عَرَفْتُ رَبِّي، وَلَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا. وَإِلَى الثَّانِيَةِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] قَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ} [يونس: 9] يُكْرِمُ أَقْوَامًا. مِمَّا يُلْهِمُهُمْ مِنْ جَمِيلِ

الْأَخْلَاقِ، وَيَصْرِفُ قُلُوبَهُمْ إِلَى ابْتِغَاءِ مَا فِيهِ رِضَا الْخَلَّاقِ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى اسْتِصْغَارِ قَدْرِ الدُّنْيَا حَتَّى لَا يَسْتَرِقَّهُمْ ذُلُّ الطَّمَعِ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى غَيْرِ بَابِ الْمَوْلَى، وَالْهِدَايَةُ إِلَى حُسْنِ الْخُلُقِ ثَانِي الْهِدَايَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ، لِأَنَّ الدِّينَ صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ وَخُلُقٌ مَعَ الْخَلْقِ. (الْبَدِيعُ) : أَيِ: الْمُبْدِعُ الَّذِي أَتَى بِمَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، أَوِ الَّذِي أَبْدَعَ الْأَشْيَاءَ أَيْ أَوْجَدَهَا مِنَ الْعَدَمِ، أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، فَاللَّهُ هُوَ الْبَدِيعُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ. قِيلَ: مَنْ أَمَرَّ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَصْلُ مَذْهَبِنَا ثَلَاثَةٌ. الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَصِدْقِ الْمَقَالِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ دَاهَنَ مُبْتَدِعًا سَلَبَ اللَّهُ حَلَاوَةَ السُّنَنِ مِنْ عَمَلِهِ، وَمَنْ ضَحِكَ إِلَى مُبْتَدِعٍ نَزَعَ اللَّهُ نُورَ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ. (الْبَاقِي) : أَيِ: الدَّائِمُ الْوُجُودِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْفَنَاءَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: حَقِيقَةُ الْبَاقِي مَنْ لَهُ الْبَقَاءُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَاقِيًا بِبَقَاءِ غَيْرِهِ، وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ تَشْتَدَّ بِهِ الْعِنَايَةُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْعَبْدُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ ذَاتِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِعِلْمِ الْحَقِّ، وَلَا قَادِرًا بِقُدْرَتِهِ، وَلَا سَمِيعًا بِسَمْعِهِ، وَلَا بَصِيرًا بِبَصَرِهِ، وَلَا بَاقِيًا بِبَقَائِهِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ الْقَدِيمَةَ لَا يَجُوزُ قِيَامُهَا بِالذَّاتِ الْحَادِثَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ قِيَامُ الصِّفَةِ الْحَادِثَةِ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ، وَحِفْظُ هَذَا الْبَابِ أَصْلُ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا تَحْصِيلَ لَهُ وَلَا تَحْقِيقَ زَعَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ بَاقِيًا بِبَقَاءِ الْحَقِّ، سَمِيعًا بِسَمْعِهِ، وَبَصِيرًا بِبَصَرِهِ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ، وَانْسِلَاخٌ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا فِي نُصْرَةِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ بِمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا، بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ» ، وَلَا احْتِجَاجَ لَهُمْ فِي ظَاهِرِهِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِسَمْعِي وَيُبْصِرُ بِبَصَرِي، بَلْ قَالَ: بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ. قَالَ النَّصْرُ آبَاذِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى بَاقٍ بِبَقَائِهِ وَالْعَبْدُ بَاقٍ بِإِبْقَائِهِ، وَلَقَدْ حَقَّقَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحَصَّلَ وَأَخَذَ عَنْ كَمِّيَّةِ الْمَسْأَلَةِ وَفَصَّلَ. (الْوَارِثُ) : الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْعِبَادِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ حِينَ يَقُولُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم: 40] وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ الْأَمْلَاكُ بَعْدَ فَنَاءِ الْمُلَّاكِ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ الْعَامِّيِّ، وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَهُوَ الْمَلِكُ الْمَالِكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا قِيلَ: الْوَارِثُ الَّذِي يَرِثُ بِلَا تَوْرِيثِ أَحَدٍ وَالْبَاقِي الَّذِي لَيْسَ لِمُلْكِهِ أَمَدٌ. (الرَّشِيدُ) : أَيِ الَّذِي تَنْسَاقُ تَدَابِيرُهُ إِلَى غَايَتِهَا عَلَى سُنَنِ السَّدَادِ بِلَا اسْتِشَارَةٍ وَإِرْشَادٍ، فَهُوَ الَّذِي أَرْشَدَ الْخَلْقَ إِلَى مَصَالِحِهِمْ أَيْ: هَدَاهُمْ إِلَيْهَا، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ بِمَعْنَى الْهَادِي، فَيَكُونُ إِرْشَادُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ هِدَايَةَ نَفْسِهِ إِلَى طَاعَتِهِ وَقَلْبِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَرُوحِهِ إِلَى مَحَبَّتِهِ وَسِرِّهِ إِلَى قُرْبَتِهِ، وَأَمَارَةُ مَنْ أَرْشَدَهُ الْحَقُّ لِإِصْلَاحِ نَفْسِهِ أَنْ يُلْهِمَهُ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالتَّفْوِيضَ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ إِلَيْهِ. جَاعَ ابْنُ أَدْهَمَ يَوْمًا فَأَمَرَ رَجُلًا بِرَهْنِ شَيْءٍ مَعَهُ عَلَى مَا يَأْكُلُهُ، فَخَرَجَ فَإِذَا بِإِنْسَانٍ مَعَهُ بَغْلَةٌ عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: هَذَا مِيرَاثُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَأَنَا غُلَامُهُ فَأْتِيَ بِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ وَمَا مَعَكَ وَهَبْتُهُ لَكَ، فَانْصَرِفْ عَنِّي، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: يَا رَبِّ كَلَّمْتُكَ فِي رَغِيفٍ فَصَبَبْتَ عَلَيَّ الدُّنْيَا، فَوَحَقِّكَ لَئِنْ أَمَتَّنِي جُوعًا لَمْ أَتَعَرَّضْ لِطَلَبِ شَيْءٍ. (الصَّبُورُ) : أَيِ: الَّذِي لَا يَعْجَلُ فِي مُؤَاخَذَةِ الْعُصَاةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَلِيمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَأْمَنُ الْعُقُوبَةَ فِي صِفَةِ الصَّبُورِ كَمَا يَأْمَنُهَا فِي صِفَةِ الْحَلِيمِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا تَحْمِلُهُ الْعَجَلَةُ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْفِعْلِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَلِيمِ أَنَّ الصَّبُورَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يُعَاقِبُ فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْحَلِيمِ. وَأَصْلُ الصَّبْرِ حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْمُرَادِ، فَاسْتُعِيرَ لِمُطْلَقِ التَّأَنِّي فِي الْفِعْلِ لِأَنَّهُ غَايَتُهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى عَدَدَ تِلْكَ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، لَكِنْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ، وَاخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِي أَنَّ سَرْدَهَا هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الرَّاوِي، أَوْ مَرْفُوعٌ وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ تَعْدَادَهَا إِنَّمَا هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، لَكِنَّ الْمَوْقُوفَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : قِيلَ: مَا مِنِ اسْمٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ غَيْرَ لَفْظِ الصَّبُورِ، فَإِنَّهُ مَا وُجِدَ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ» ".

2289 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فَقَالَ: " دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2289 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : أَيِ: ابْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ، أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا، وَبَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ تُحَوَّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ غَازِيًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) : تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ (الْأَحَدُ) : أَيْ: بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ (الصَّمَدُ) : أَيِ: الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ وَالْمَطْلُوبُ الْحَقِيقِيُّ (الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) : الْمُنَزَّهُ عَنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ وَالْحُدُوثِ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا) : أَيْ: مِثْلًا فِي ذَاتِهِ وَشَبِيهًا فِي صِفَاتِهِ وَنَظِيرًا فِي أَفْعَالِهِ (أَحَدٌ) : وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَسْئُولَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ (فَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دَعَا) : أَيِ الرَّجُلُ (اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ) قِيلَ الْأَعْظَمُ هُنَا يَعْنِي الْعَظِيمَ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ عَظِيمٌ، وَقِيلَ: كُلُّ اسْمٍ هُوَ أَكْثَرُ تَعْظِيمًا لَهُ تَعَالَى، فَهُوَ أَعْظَمُ مِمَّا هُوَ أَقَلُّ تَعْظِيمًا، فَالرَّحْمَنُ أَعْظَمُ مِنَ الرَّحِيمِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، وَلَفْظَةُ (اللَّهَ) أَعَمُّ مِنَ الرَّبِّ، لِأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي تَسْمِيَتِهِ لَا بِالْإِضَافَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا بِخِلَافِ الرَّبِّ (الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ) : إِجَابَةُ الدُّعَاءِ تَدُلُّ عَلَى وَجَاهَةِ الدَّاعِي عِنْدَ الْمُجِيبِ، فَيَتَضَمَّنُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ بِخِلَافِ الْإِعْطَاءِ، فَالْأَخِيرُ أَبْلَغُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى اسْمًا أَعْظَمَ إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ. وَأَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ هَاهُنَا، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ بِإِخْلَاصٍ تَامٍّ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، إِذْ لَا شَرَفَ لِلْحُرُوفِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَفِيهَا أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ اللَّهِ مَذْكُورٌ فِي الْكُلِّ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ. اهـ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَتَقَدَّمَ شَرْطُهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

2290 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ وَرَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أَسْأَلُكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2290 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ وَرَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ) : لَعَلَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمَسْئُولِ (بِأَنَّ لَكَ) : تَقْدِيمُ الْجَارِّ لِلِاخْتِصَاصِ (الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ) : أَيْ كَثِيرُ الْعَطَاءِ مِنَ الْمِنَّةِ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، أَوِ النِّعْمَةِ الثَّقِيلَةِ. وَالْمِنَّةُ مَذْمُومَةٌ مِنَ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا. قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: مَنَّ عَلَيْهِ مَنًّا أَيْ أَنْعَمَ، وَالْمَنَّانُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى. اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمِنَّةِ أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَثِيرُ الِامْتِنَانِ عَلَى عِبَادِهِ بِإِيجَادِهِمْ وَإِمْدَادِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: الْحَنَّانُ قَبْلَ الْمَنَّانِ، هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَفَاتِيحِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْحَنَّانُ أَيِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَنَّانُ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَالْمَنَّانُ: مَنْ يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، مِنْ كِتَابِ ابْنِ الصَّلَاحِ، كَذَا وَجَدْتُهُ بِخَطِّ مَوْلَانَا إِسْمَاعِيلَ الشُّرْوَانِيِّ. (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) : يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الْمَنَّانِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ أَوْ أَنْتَ، وَهُوَ أَظْهَرُ. وَالنَّصْبُ عَلَى النِّدَاءِ، وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ الْوَاحِدِيِّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ لَهُ: يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْجَزَرِيِّ عَلَى الْمَصَابِيحِ، أَيْ: مُبْدِعُهُمَا، وَقِيلَ: بَدِيعُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: أَبْدَعْتُ الشَّيْءَ: اخْتَرَعْتَهُ لَا عَلَى مِثَالٍ سَبَقَ (يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) : أَيْ: صَاحِبَ الْعَظَمَةِ وَالْمِنَّةِ (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ أَسْأَلُكَ) : أَيْ: وَلَا أَسْأَلُ غَيْرَكَ، وَلَا أَطْلُبُ سِوَاكَ، أَوْ أَسْأَلُكَ كُلَّ مَا أَسْأَلُ. أَوْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْحِصْنِ.

(فَقَالَ النَّبِيُّ " «دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ: وَالدَّارِمِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمَصَابِيحِ: رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَفْظَةُ أَحْمَدَ: «بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ» ، وَلَفْظُ الْبَاقِينَ: «بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ» ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ بَعْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ: «وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» ، وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ: (الْحَنَّانُ) قَبْلَ الْمَنَّانِ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» .

2291 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] وَفَاتِحَةِ (آلِ عِمْرَانَ) : {الم} [آل عمران: 1] ، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2291 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) : أَيِ ابْنِ السَّكَنِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَسْمَاءِ. أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] (وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ) » : بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا وَمَا قَبْلَهَا بَدَلَانِ، وَجُوِّزَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَوَجْهُهُمَا ظَاهِرٌ (الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) : (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) : وَرَوَى الْحَاكِمُ: اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَعْظَمُ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَطه. قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّامِيُّ التَّابِعِيُّ، رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيتُ مِائَةَ صَحَابِيٍّ، فَالْتَمَسْتُهَا أَيِ السُّوَرَ الثَّلَاثَ، فَوَجَدْتُ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَرَّرَهُ الْإِمَامُ فَخَرُّ الدِّينِ الرَّازِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، مَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا كَدَلَالَتِهِمَا. وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَنَقَلَ الْفَخْرُ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ أَرْبَابِ الْكَشْفِ أَنَّهُ: (هُوَ) وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كَلَامِ مُعَظَّمٍ بِحَضْرَتِهِ لَمْ يَقُلْ أَنْتَ بَلْ يَقُولُ: (هُوَ) . اهـ. وَهُنَا أَقْوَالٌ أُخَرُ فِي تَعْيِينِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ. مِنْهَا: أَنَّهُ رَبٌّ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُمَا قَالَا: اسْمُ اللَّهِ الْأَكْبَرُ رَبِّ رَبِّ. وَمِنْهَا: اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، نُقِلَ هَذَا عَنِ الْإِمَامِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، أَنَّهُ رَأَى فِي النَّوْمِ. وَمِنْهَا: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٍ، عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَمِنْ ثَمَّ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْلِمَهَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَلَمْ يَفْعَلْ فَصَلَّتْ وَدَعَتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْعُوكَ اللَّهَ، وَأَدْعُوكَ الرَّحْمَنَ، وَأَدْعُوكَ الرَّحِيمَ، وَأَدْعُوكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ» إِلَخْ. وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهَا " «إِنَّهَا هِيَ الْأَسْمَاءُ الَّتِي دَعَوْتِ بِهَا» ". قُلْتُ: سَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَا لَا يَخْفَى، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ السُّيُوطِيُّ الْأَقْوَالَ فِي رِسَالَتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَخْفِيُّ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ. وَأَنْكَرَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَرْجِيحَ بَعْضِ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِاعْتِقَادِ نُقْصَانِ الْمَفْضُولِ عَنِ الْأَفْضَلِ، وَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْظَمِ الْعَظِيمُ، إِذْ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا عَظِيمَةٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرَانِيُّ: اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ فِي تَعْيِينِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ، إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي خَبَرٍ مِنْهَا أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى يَجُوزُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ

أَعْظَمَ، فَيَرْجِعُ لِمَعْنَى عَظِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْأَعْظَمِيَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَخْبَارِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا مَزِيدُ الدَّاعِي فِي ثَوَابِهِ إِذَا دَعَا بِهَا، كَمَا أُطْلِقَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ لَهُ مَزِيدُ الثَّوَابِ لِلْقَارِئِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى دَعَا بِهِ الْعَبْدُ مُسْتَغْرِقًا، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي خَاطِرِهِ وَفِكْرِهِ حَالَتَئِذٍ غَيْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ. عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ آخَرُونَ: اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَثْبَتَهُ آخَرُونَ، وَاضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْنَا بَعْضَهَا. وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ.

2292 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا رَبَّهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2292 - (وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعْوَةُ ذِي النُّونِ ": أَيْ: صَاحِبِ الْحُوتِ، وَهُوَ سَيِّدُنَا يُونُسَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (إِذْ دَعَا) : أَيْ " رَبَّهُ " كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي التِّرْمِذِيِّ، لَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْأَذْكَارِ، كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ وَهُوَ ظَرْفُ دَعْوَةٍ (وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . بَدَلٌ مِنَ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ الْمَرَّةُ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيُرَادُ هُنَا الْمَدْعُوُّ بِهِ مَعَ التَّوَسُّلِ فِيهِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِجَابَتِهِ (لَمْ يَدْعُ بِهَا) : أَيْ: بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ، أَوْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ (رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ) : أَيْ: مِنَ الْحَاجَاتِ (إِلَّا اسْتَجَابَ) أَيِ: " اللَّهُ " (لَهُ) : وَلَعَلَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَمُخْتَصَرُ قِصَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَخَرَجَ يُونُسُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ بَيْنِهِمْ، فَظَهَرَ سَحَابٌ أَسْوَدُ وَدَنَا حَتَّى وَقَفَ فَوْقَ بَلَدِهِمْ، فَظَهَرَ مِنْهُ دُخَانٌ، فَلَمَّا أَيْقَنُوا أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ خَرَجُوا مَعَ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْأُمَّهَاتِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ، وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّضَرُّعِ وَالْبُكَاءِ، وَآمَنُوا وَتَابُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَقَالُوا: يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَدَنَا يُونُسُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ بَلَدِهِمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَعْلَمَ كَيْفَ حَالُهُمْ، فَرَأَى مِنَ الْبَعِيدِ أَنَّ الْبَلَدَ مَعْمُورٌ كَمَا كَانَ وَأَهْلَهُ أَحْيَاءٌ فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ قُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ الْعَذَابَ يَنْزِلُ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَنْزِلْ، فَذَهَبَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَرُفِعَ عَنْهُمْ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى سَفِينَةً وَرَكِبَهَا، فَلَمَّا رَكِبَهَا وَقَفَتِ السَّفِينَةُ فَبَالَغُوا فِي إِجْرَائِهَا فَلَمْ تَجْرِ، فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هُنَا عَبْدٌ آبِقٌ فَقَرَعُوا بَيْنَ أَهْلِ السَّفِينَةِ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ: أَنَا الْآبِقُ فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْفَظَهُ، فَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ وَسَارَ بِهِ إِلَى النِّيلِ ثُمَّ إِلَى بَحْرِ فَارِسٍ، ثُمَّ إِلَى دِجْلَةَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، أَيْ: أَنَا مِنَ الظَّالِمِينَ بِخُرُوجِي مِنْ بَيْنِ قَوْمِي قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي بِهِ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَأَمَرَ الْحُوتَ بِإِلْقَائِهِ إِلَى أَرْضِ نَصِيبِينِ بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2293 - «عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ عِشَاءً، فَإِذَا رَجُلٌ يَقْرَأُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَقُولُ: هَذَا مُرَاءٍ؟ قَالَ: " بَلْ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ " قَالَ: وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يَقْرَأُ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ جَلَسَ أَبُو مُوسَى يَدْعُو، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَحَدًا، صَمَدًا، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخْبِرُهُ بِمَا سَمِعْتُ مِنْكَ؟ قَالَ " نَعَمْ " فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: أَنْتَ الْيَوْمَ لِي أَخٌ صَدِيقٌ، حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2293 - (عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ عِشَاءً) : أَيْ: وَقْتَ عِشَاءٍ، أَوْ لِصَلَاةِ عِشَاءٍ (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (رَجُلٌ يَقْرَأُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَقُولُ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:

أَيْ أَتُرَى؟ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ. أَيْ: أَتَعْتَقِدُ أَوْ أَتَحْكُمُ، لِرِوَايَةِ شَرْحِ السُّنَّةِ أَتَرَاهُ مُرَائِيًا؟ اهـ وَفِيهِ أَنْ تَرَى أَيْضًا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرِ الشَّارِحِ كَمَا تَرَى، فَهُوَ فِي بَابِ الْإِيضَاحِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى. (هَذَا) : أَيْ هَذَا الرَّجُلَ (مُرَاءٍ؟) : أَيْ: مُنَافِقٌ يَقْرَأُ لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ بِقَرِينَةِ رَفْعِ صَوْتِهِ الْمُحْتَمِلِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، (قَالَ: " بَلْ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ) : أَيْ رَاجِعٌ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ، لِأَنَّ الْإِنَابَةَ تَوْبَةُ الْخَوَاصِّ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنْ تَوْبَةِ الْعَوَامِّ الَّتِي هِيَ الرُّجُوعُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ. (قَالَ) : أَيْ بُرَيْدَةُ (وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يَقْرَأُ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ) : أَيْ أَيْضًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قِيلَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: وَالْحَالُ أَنَّ أَبَا مُوسَى إِلَخْ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ قَالَ بُرَيْدَةُ، قَلَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَأَبُو مُوسَى أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ الَّذِي يَقْرَأُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ بَعِيدٌ مِنَ الْمَرَامِ، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّقْدِيرِ فِي تَقْرِيرِ الْكَلَامِ وَتَحْرِيرِ النِّظَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْأَوَّلَ مُنْكَرٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَلِهَذَا اسْتَفْهَمَ حَالَهُ وَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَمِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ، فَظَنُّ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ بِهِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا إِلَّا إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ هُوَ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي رِوَايَةِ شَرْحِ السُّنَّةِ بَعْدَ هَذَا، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ هُوَ أَبُو مُوسَى. اهـ. فَمَحْمَلُ قَوْلِ بُرَيْدَةَ عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَسَمَّعُ لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ جَلَسَ أَبُو مُوسَى) : لَعَلَّهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ بَعْدَ الصَّلَاةِ (يَدْعُو) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ قِرَاءَتَهُ مَعَ رَفْعِ صَوْتِهِ كَانَتْ وَهُوَ قَائِمٌ (فَقَالَ) أَيْ: أَبُو مُوسَى فِي دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكُ) : أَيْ: أَعْتَقِدُ فِيكَ (أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَحَدًا صَمَدًا) ، مَنْصُوبَانِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] إِلَى قَوْلِهِ: قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ مُعَرَّفَانِ مَرْفُوعَانِ عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِلَّهِ (لَمْ يَلِدْ) : أَيْ: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ الْحَادِثِ (وَلَمْ يُولَدْ) : أَيْ: لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَوَالِدَةٌ، فَإِنَّهُ قَدِيمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُدُوثِ وَالتَّوَالُدِ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَفُّوا) : أَيْ: شَبِيهًا وَنَظِيرًا (أَحَدٌ) . أَيْ: مِنَ الْخَلَائِقِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ سَأَلَ) : أَيْ: أَبُو مُوسَى (اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ) : وَهُوَ تَعْرِيفُ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخْبِرُهُ) : بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ (بِمَا سَمِعْتُ مِنْكَ؟) : أَيْ: مِنْ مَدْحِ دُعَائِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّارِحِينَ أَيْ: مِنْ مَدْحِهِ بِقَوْلِهِ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ. (قَالَ: نَعَمْ " فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي) : أَيْ أَبُو مُوسَى فَرِحًا بِمَا ذَكَرْتُهُ لَهُ: (أَنْتَ الْيَوْمَ لِي) : أَيْ: فِي هَذَا الزَّمَانِ (أَخٌ صَدِيقٌ) ، أَيِ: الْجَامِعُ بَيْنَ الْأُخُوَّةِ وَالصَّدَاقَةِ (حَدَّثْتَنِي) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

[ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير]

[ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ]

(3) ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2294 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (3) بَابُ ثَوَابِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ تَخْصِيصٌ - بَعْدَ تَعْمِيمٍ مِنْ بَابِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ تَقْدِيمُ التَّهْلِيلِ عَلَى التَّحْمِيدِ سَهْوًا وَتَكَلَّفَ فِي تَوْجِيهِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2294 - (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) : مَرَّ مِرَارًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ) أَيْ: أَفْضَلُ كَلَامِ الْبَشَرِ، لِأَنَّ الرَّابِعَةَ لَمْ تُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا يُفَضَّلُ مَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «هِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَهِيَ مِنَ الْقُرْآنِ» " أَيْ: غَالِبُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ كَلَامَ اللَّهِ أَيْضًا فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِيهِ لَفْظًا إِلَّا الرَّابِعَةَ، فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ مَعْنًى وَأَفْضَلِيَّتُهَا مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا هِيَ الْجَامِعَةُ لِمَعَانِي التَّنْزِيهِ وَالتَّوْحِيدِ وَأَقْسَامِ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهَا مَعْدُودَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَعْنَى مَا وَرَدَ: وَهِيَ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ: كُلُّهَا، وَأَمَّا الْمَأْثُورُ فِي وَقْتٍ أَوْ حَالٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ الْمُطْلَقِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ: " سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» " وَالْمُوجِبُ لِأَفْضَلِيَّتِهَا اشْتِمَالُهَا عَلَى جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ إِجْمَالًا، وَوَرَدَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَسْمِيَتِهَا بِالْبَاقِيَاتِ، مَعَ أَنَّ كُلَّ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ كَذَلِكَ: مُقَابَلَتُهَا لِلْفَانِيَاتِ الْفَاسِدَاتِ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ فِي الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ قَبْلَهَا إِشْعَارًا بِأَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ مِنْ أَكْمَلِ أَسْبَابِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا، فَالْمَذْكُورُ مِنْ أَفَضَلِ عِبَادَاتِ أَصْحَابِ الْعُقْبَيِّ، فَإِنَّهَا زُبْدَةُ صِفَاتِ اللَّهِ، وَعُمْدَةُ كَلِمَاتِ اللَّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْقَائِلُ بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ ; فَسَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ; وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْكُلَّ تَامٌّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي مَذْهَبِنَا لَا حِنْثَ لِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ فِيهَا التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَغَيْرُهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. . اهـ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا تُعَدُّ فِي الْعُرْفِ كَلَامًا، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ. (سُبْحَانَ اللَّهِ) : تَنْزِيهٌ عَنِ النَّقْصِ وَنَعَتِ الْحَدَثَانِ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) : تَوْحِيدٌ بِالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ. (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : تَوْحِيدٌ لِلذَّاتِ وَتَفْرِيدٌ لِلصِّفَاتِ (وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : إِثْبَاتُ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ مَعَ اعْتِرَافٍ بِالْقُصُورِ عَنِ الْمَحْمَدَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» ، (وَفِي رِوَايَةٍ) : لِمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ ( «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ» ) أَيْ: أَعْتِقَدُ تَنَزُّهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَمَالِ ذَاتِهِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّحْلِيَةِ، وَلِذَا أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، الْمُسْتَحِقُّ لِإِظْهَارِ الشُّكْرِ، وَإِبْدَاءِ الثَّنَاءِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّحْلِيَةِ، وَلِذَا قَالَ: ( «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ مُتَوَحِّدٌ فِي صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ وَنُعُوتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ، ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ كُنْهُ كِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَةُ إِزَارِهِ وَرِدَائِهِ بِقَوْلِهِ: (وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ كَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ هُوَ مُقْتَضَى مَفْهُومِ أَهْلِ التَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ لَكِنْ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنَّ التَّرْتِيبَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَالْبَاقِي رُخْصَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي بَدَأْتَ بِسُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ أَوْ بِاللَّهِ أَكْبَرُ جَازَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ لَا يَجِبُ ذِكْرُهَا عَلَى نَظْمِهَا الْمَذْكُورِ ; لَكِنَّ مُرَاعَتَهَا أَوْلَى ; لِأَنَّ الْمُنْدَرِجَ فِي الْمَعَارِفِ يُعَرِّفُهُ أَوَّلًا بِنُعُوتِ جَلَالِهِ أَعْنِي تَنْزِيهَ ذَاتِهِ عَمَّا يُوجِبُ نَقْصًا، ثُمَّ بِصِفَاتِ كَمَالٍ، وَهِيَ صِفَاتُهُ الثُّبُوتِيَّةُ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ، ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ مِنْ هَذَا صِفَتَهُ لَا مُمَاثِلَ لَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُلُوهِيَّةَ غَيْرُهُ، فَيُكْشَفُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَكْبَرَ إِذْ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. اهـ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنُ الْمُبْتَدَأِ وَالْمُنْتَهَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2295 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2295 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ» " مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ وَاجِبٍ إِضْمَارُهُ أَيْ: أُسَبِّحُ سُبْحَانَ اللَّهِ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: ثَابِتٌ ; سَوَاءً حَمِدَ أَوْ لَمْ يَحْمَدْ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: مَوْجُودٌ، أَوْ مَعْبُودٌ، أَوْ مَقْصُودٌ، أَوْ مَشْهُودٌ (وَاللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: مِنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُ كِبْرِيَائِهِ ( «أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ) أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا كَذَا قِيلَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَأَحَبَّ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَحَبُّ إِلَيَّ بِاعْتِبَارِ ثَوَابِهَا الْكَثِيرِ الْبَاقِي مِنَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لِزَوَالِهَا وَفَنَائِهَا، وَهَذَا نَحْوُ حَدِيثِ: " «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» " وَقَالَ الْعَارِفُ الْجَامِيُّ أَيْ: شَمْسُ الْوُجُودِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَطْلَقَ الْمُفَاضَلَةَ بَيْنَ قَوْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَبَيْنَ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُفَاضَلَةِ اسْتِوَاءُ الشَّيْئَيْنِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، ثُمَّ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ: بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ إِلَّا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَأَخْرَجَ الْخَيْرَ مَنْ ذَكَرَ الشَّيْءَ بِذِكْرِ الدُّنْيَا، إِذْ لَا شَيْءَ سِوَاهَا إِلَّا الْآخِرَةُ. وَأَجَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْفِعْلِ لَا الْمُفَاضَلَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] وَلَا مُفَاضَلَةَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوِ الْخِطَابُ وَاقِعٌ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فِي نَفْسِ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّنْيَا لَا شَيْءَ مِثْلُهَا، وَأَنَّهَا الْمَقْصُودُ، فَأَخْبَرَ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ خَيْرٌ مِمَّا تَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِيَ الدُّنْيَا فَأَتَصَدَّقُ بِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الثَّوَابَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ مَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «لَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي حِجْرِهِ دَرَاهِمُ يُقَسِّمُهَا وَآخَرَ يَذْكُرُ اللَّهَ كَانَ الذَّاكِرُ لِلَّهِ أَفْضَلَ» " وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَمْعِ الدُّنْيَا وَاقْتِنَائِهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَفْتَخِرُونَ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عَوَانَةَ.

2296 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2296 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» ) : الْبَاءُ فِيهِ لِلْمُقَارَنَةِ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، أَيْ: أُسَبِّحُهُ تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِحَمْدِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ عَطَفَ الْجُمْلَةَ عَلَى الْأُخْرَى مَعْنَاهُ: وَأَبْتُدِئَ بِحَمْدِهِ أَوْ أَثْنَى بِثَنَائِهِ (فِي يَوْمٍ) أَيْ: فِي أَجْزَائِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فِي يَوْمٍ مُطْلَقٍ لَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ فَلَا يُقَيَّدُ بِشَيْءٍ مِنْهَا (مِائَةَ مَرَّةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمِعَةً، فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ آخِرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى جَمْعُهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. اهـ. وَلَعَلَّ أَوْلَوِيَّةَ أَوَّلِ النَّهَارِ لِلْمُبَادَرَةِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْأَوْرَادِ وَالْأَذْكَارِ، وَإِلَّا فَيَأْتِي تَقْيِيدُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بِالصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ (حُطَّتْ) أَيْ: سَقَطَتْ وَأُزِيلَتْ عَنْهُ (خَطَايَاهُ) أَيِ الصَّغِيرَةُ، وَيُحْتَمَلُ الْكَبِيرَةُ ( «وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» ) أَيْ: كَمِّيَّةٌ أَوْ كَيْفِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ كِنَايَةٌ يُعَبِّرُ بِهَا عَنِ الْكَثْرَةِ عُرْفًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الشَّيْخَ الْجَزَرِيَّ نَسَبَ الْحَدِيثَ إِلَى أَبِي عَوَانَةَ فِي الْحِصْنِ.

2297 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2297 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ» " أَيْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، ( «وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ) أَيْ: فِيهِمَا بِأَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي هَذَا وَبِبَعْضِهَا فِي هَذَا، أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَلَكِنَّ كَلَامَ النَّوَوِيِّ الْآتِي يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ، وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ

الْمُتَيَقَّنَ الَّذِي هُوَ الْأَقَلُّ ( «لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ» ) أَيِ: الْقَائِلُ (بِهِ) : وَهُوَ قَوْلُ الْمِائَةِ الْمَذْكُورَةِ ( «إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» ) : وَأُجِيبَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْمَشْهُورِ: بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ أَوْ كَلِمَةُ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: يَكُونُ مَا جَاءَ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ، إِلَّا مِمَّا جَاءَ بِهِ مَنْ قَالَ مِثْلَهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ، قِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، لَكِنْ رَجُلٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَهُ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمُسَاوَاتِهِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ وَقِيلَ: بِتَقْدِيرِ: لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ أَوْ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَخْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ زَادَ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ الْمَذْكُورُ وَالزِّيَادَةُ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ تَحْدِيدًا لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَمَا فِي عَدَدِ الطَّهَارَةِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ. اهـ. وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْأَوَّلَ لِلتَّشْرِيعِ وَالثَّانِي لِلتَّرْغِيبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْيَوْمِ كَانَ لَهُ هَذَا الْأَجْرُ الْمَذْكُورُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2298 - وَعَنْهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2298 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (كَلِمَتَانِ) أَيْ: جُمْلَتَانِ مُفِيدَتَانِ (خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ) : أَيْ تَجْرِيَانِ عَلَيْهِ بِالسُّهُولَةِ (ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ) أَيْ: بِالْمَثُوبَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلسُّهُولَةِ، شَبَّهَ سُهُولَةَ جَرَيَانِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا يَخِفُّ عَلَى الْحَامِلِ مِنْ بَعْضِ الْحُمُولَاتِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ وَأَرَادَ الْمُشَبَّهَ بِهِ، وَأَمَّا الثِّقَلُ فَعَلَى حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَجَسَّمُ عِنْدَ الْمِيزَانِ. اهـ. وَقِيلَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ وَالسِّجِلَّاتِ. رُوِيَ فِي الْآثَارِ أَنَّهُ «سُئِلَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَا بَالُ الْحَسَنَةِ تَثْقُلُ وَالسَّيِّئَةِ تَخِفُّ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَسَنَةَ حَضَرَتْ مَرَارَتُهَا وَغَابَتْ حَلَاوَتُهَا، وَلِذَلِكَ ثَقُلَتْ عَلَيْكُمْ فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ ثِقَلُهَا عَلَى تَرْكِهَا، فَإِنَّ بِذَلِكَ ثَقُلَتِ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالسَّيِّئَاتُ حَضَرَتْ حَلَاوَتُهَا وَغَابَتْ مَرَارَتُهَا، فَلِذَلِكَ خَفَّتْ عَلَيْكُمْ فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ عَلَى فِعْلِهَا خِفَّتُهَا، فَإِنَّ بِذَلِكَ خَفَّتِ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: تَثْنِيَةُ حَبِيبَةٍ وَهِيَ الْمَحْبُوبَةُ، لِأَنَّ فِيهِمَا الْمَدْحَ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا التَّنْزِيهُ وَبِالصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْحَمْدُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ قَائِلَهَا مَحْبُوبُ اللَّهِ ; وَمَحَبَّةُ اللَّهَ لِلْعَبْدِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ لَهُ، وَخُصَّ الرَّحْمَنُ بِالذِّكْرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ; حَيْثُ يُجَازِي عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ آخِرُ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2299 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2299 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (أَيَعْجِزُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ (أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ) أَيْ: يُحَصِّلَ (كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ) أَيِ: الْمَخْصُوصِينَ مِنْ نُدَمَائِهِ (كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟) أَيْ: بِسُهُولَةٍ بِلَا عَجْزٍ (قَالَ: يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ) : لِأَنَّ الْحَسَنَةَ الْوَاحِدَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَهُوَ أَقَلُّ الْمُضَاعَفَةِ الْمَوْعُودَةِ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] وَمِنْهُ حَسَنَةُ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ (أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ) أَيْ: صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، وَذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَذْكَارِ: كَذَا فِي عَامَّةِ نُسَخِ مُسْلِمٍ (وَيُحَطُّ) بِالْوَاوِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ (بِالْوَاوِ) . (وَفِي كِتَابِهِ) أَيْ: كِتَابِ مُسْلِمٍ (فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ: أَوْ يُحَطُّ) أَيْ: بِالْأَلِفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهْنِيُّ، الْكُوفِيُّ، سَمِعَ مُجَاهِدًا وَمُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ، رَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.

(قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِكَسْرِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَوَارِزْمِيُّ الْبَرْقَانِيُّ، بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ وَالْقَافِ، (وَرَوَاهُ شُعْبَةُ وَأَبُو عَوَانَةَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ مُوسَى) أَيِ: الْمَذْكُورِ (فَقَالُوا) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالضَّمِيرُ لِشُعْبَةَ وَأَخَوَيْهِ وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ: أَيْ مُوسَى (وَيُحَطُّ بِغَيْرِ أَلِفٍ) أَيْ: بِالْوَاوِ (هَكَذَا) : الْمُشَارُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ. وَفِي كِتَابِهِ إِلَى آخِرِهِ (فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) : وَهُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمْعًا وَإِفْرَادًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْوَاوِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهَا التَّنْوِيعُ فَهُمَا سِيَّانِ فِي الْقَصْدِ. اهـ. وَقَدْ تَأْتِي الْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ قَالَهَا يُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ فَيُحَطُّ بَعْضٌ وَيُكْتَبُ بَعْضٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بِمَعْنَى (بَلْ) فَحِينَئِذٍ يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَهُمَا، وَفَضْلُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ.

2300 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2300 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْكَلَامِ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَذْكَارِ (أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ) أَيِ: الَّذِي اخْتَارَهُ مِنَ الذِّكْرِ لِلْمَلَائِكَةِ وَأَمَرَهُمْ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ لِغَايَةِ فَضِيلَتِهِ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّحَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] وَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا تَقَدَّمَ، أَعْنِي الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعَ، فَإِنَّ التَّسْبِيحَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الشَّرِيكِ الَّذِي هُوَ التَّهْلِيلُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهُ أَكْبَرَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2301 - «وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، قَالَ: مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ " قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَاءَ نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2301 - (وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً) أَيْ: أَوَّلَ نَهَارِهِ (حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ) ، أَيْ: أَرَادَ صَلَاةَ الصُّبْحِ) (وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ: مَوْضِعِ سُجُودِهَا لِلصَّلَاةِ (ثُمَّ رَجَعَ) أَيْ: إِلَيْهَا (بَعْدَ أَنْ أَضْحَى) أَيْ: دَخَلَ فِي الضَّحْوَةِ، وَهِيَ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ قَدْرَ رُمْحٍ وَقِيلَ: أَيْ صَلَّى صَلَاةَ الضُّحَى (وَهِيَ جَالِسَةٌ) أَيْ: فِي مَوْضِعِهَا (قَالَ: مَازِلْتِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ (عَلَى الْحَالِ) : وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ، وَلِذَا قَالَ (الَّتِي فَارَقَتُكِ عَلَيْهَا؟) أَيْ: مِنَ الْجُلُوسِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكِ (أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ) : نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: تَكَلَّمْتُ بَعْدَ مُفَارَقَتِكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (لَوْ وُزِنَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ عَلَى الْأَصَحِّ أَيْ: قُوبِلَتْ (بِمَا قُلْتِ) أَيْ: بِجَمِيعِ مَا قُلْتِ مِنَ الذِّكْرِ (مُنْذُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ (الْيَوْمِ) : بِالْجَرِّ، هُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْقَامُوسِ أَيْ: فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، (لَوَزَنَتْهُنَّ) أَيْ: لَتَرَجَّحَتْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ عَلَى جَمِيعِ أَذْكَارِكِ وَزَادَتْ عَلَيْهِنَّ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، يُقَالُ وَازَنَهُ فَوَزَنَهُ: إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَزَادَ فِي الْوَزْنِ، كَمَا يُقَالُ: حَاجَجْتُهُ فَحَجَجْتُهُ. أَوْ لَسَاوَتْهُنَّ، يُقَالُ: هَذَا يَزِنُ دَرَهِمًا أَوْ يُسَاوِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ " وَهَذَا تَوْضِيحُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ، أَيْ: سَاوَتْهُنَّ أَوْ غَلَبَتْهُنَّ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى لَا إِلَى لَفْظَةِ (مَا) فِي قَوْلِهِ (مَا قُلْتِ) وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا كَلِمَاتٌ كَثِيرَةُ الْمَعْنَى لَوْ قُوبِلَتْ بِمَا قُلْتِ لَسَاوَتْهُنَّ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) أَيْ: وَبِحَمْدِهِ أَحْمَدُهُ (عَدَدَ خَلْقِهِ) ، مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: بِعَدَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ: قَدْرِ عَدَدِ خَلْقِهِ (وَرِضَاءَ نَفْسِهِ) أَيْ: أَقُولُ لَهُ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ بِقَدْرِ مَا يُرْضِيهِ خَالِصًا مُخْلِصًا لَهُ، فَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ ذَاتُهُ، وَالْمَعْنَى ابْتِغَاءُ وَجْهِهِ (وَزِنَةَ عَرْشِهِ) أَيْ: أُسَبِّحُهُ وَأَحْمَدُهُ بِثِقَلِ عَرْضِهِ أَوْ بِمِقْدَارِ عَرْضِهِ

(وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ) : الْمِدَادُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْمَدَدِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْكَثْرَةُ، أَيْ: بِمِقْدَارِ مَا يُسَاوِيهَا فِي الْكَثْرَةِ بِمِعْيَارٍ أَوْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، أَوْ مَا أَشْبَهُهُ مِنْ وُجُوهِ الْحَصْرِ، وَالتَّقْدِيرِ: وَهَذَا تَمْثِيلٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيبُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَدْخُلُ فِي الْكَيْلِ، وَكَلِمَاتُهُ تَعَالَى هُوَ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ لَا تَعُدُّ وَلَا تَنْحَصِرُ، فَإِذَا الْمُرَادُ الْمَجَازُ مُبَالَغَةً فِي الْكَثْرَةِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَحْصُرُهُ الْعَدَدُ الْكَثِيرِ مِنْ عَدَدِ الْخَلْقِ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ أَيْ: مَا لَا يُحْصِيهِ عَدٌّ كَمَا لَا تُحْصَى كَلِمَاتُ اللَّهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: نَصْبُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: أَعِدُّ تَسْبِيحَهُ الْمَقْرُونَ بِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَأُقَدِّرُ مِقْدَارَ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِقْدَارَ كَلِمَاتِهِ، وَمِدَادُ الشَّيْءِ وَمَدَدُهُ مَا يُمَدُّ بِهِ وَيُزَادُ وَيَكْثُرُ، وَالْمُرَادُ الْمِقْدَارُ أَيْ: أُسَبِّحُهُ وَأَحْمَدُهُ بِمِقْدَارِ كَلِمَاتِهِ أَيْ: كُتُبِهِ وَصُحُفِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَكَلِمَاتُهُ أَيْضًا تُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَمْرِهِ، وَعَلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. أَقُولُ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ فِي الذِّكْرِ بِاعْتِبَارِ تَصَوُّرِ الْمَذْكُورِ فِي ذِهْنِ الذَّاكِرِ أَرْجَحُ عَلَى الْكَمِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْحُضُورِ وَالتَّذَكُّرِ، وَلَوْ فِي آيَةٍ تُفَضَّلُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْكَثِيرَةِ الْخَالِيَةِ عَمَّا ذُكِرَ، فَالْمُرَادُ حَثُّ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرْغِيبُهَا عَلَى التَّذَكُّرِ فِي الذِّكْرِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْوَارِدَةَ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.

2302 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2302 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ " أَيْ: مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ (إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) : حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ (لَا شَرِيكَ لَهُ) أَيْ: فِي صِفَاتِهِ (لَهُ الْمُلْكُ) أَيْ: مَلِكُ الْمَلَكُوتِ، وَمَلِكُ الْأَمْلَاكِ، وَمَلِكُ الْعِلْمِ، وَمَلِكُ الْقَنَاعَةِ وَأَمْثَالِهَا، يَعْنِي: بِتَصَرُّفِهِ وَتَقْرِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ، مَلَكَ جَمِيعَ الْأُمُورِ، (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيِ: الثَّنَاءُ الْجَزِيلُ عَلَى وَجْهِ الْجَمِيلِ لَهُ تَعَالَى حَقِيقَةً وَغَيْرُهُ قَدْ يُحْمَدُ مَجَازًا وَصُورَةً (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: شَاءَهُ وَأَرَادَهُ، أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (قَدِيرٌ) أَيْ: بَالِغٌ فِي الْقُدْرَةِ كَامِلٌ فِي الْقُوَّةِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَجْزِ وَالْفَتْرَةِ (فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ) أَيْ: مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً (كَانَتْ) أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَوِ التَّهْلِيلَةُ، وَفِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ: كَانَ أَيْ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِآخِرِ الْحَدِيثِ: وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا. فَتُدَبَّرْ. (لَهُ) أَيْ: لِلْقَائِلِ بِهَا (عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا بِمَعْنَى الْمَثَلِ أَيْ: ثَوَابُ عِتْقِ عَشْرِ رِقَابٍ وَهُوَ جَمْعُ رَقَبَةٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الْعُنُقُ فَجُعِلَتْ كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْإِنْسَانِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِبَعْضِهِ أَيْ: يُضَاعَفُ ثَوَابُهَا حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ أَصْلِ ثَوَابِ الْعِتْقِ الْمَذْكُورِ (وَكُتِبَتْ) أَيْ: ثُبِتَتْ (لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ) : بِالرَّفْعِ (وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ) أَيْ: أُزِيلَتْ (وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا) أَيْ: حِفْظًا وَمَنْعًا (وَمِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي قَالَهَا فِيهِ (حَتَّى يُمْسِيَ) : وَظَاهِرُ التَّقَابُلِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ فِي اللَّيْلِ كَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ لَيْلِهِ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَارًا مِنَ الرَّاوِي، أَوْ تَرْكٌ لِوُضُوحِ الْمُقَابَلَةِ وَتَخْصِيصُ النَّهَارِ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ فِيهِ إِلَى الْحِفْظِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَجْرُ الْمِائَةِ، وَلَوْ زَادَ عَلَيْهَا لَزَادَ الثَّوَابُ، وَهَذِهِ الْمِائَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَوَالِيَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، لَكِنَّ الْفَضْلَ أَنْ تَكُونَ مُتَوَالِيَةً، وَأَنْ تَكُونَ أَوَّلَ النَّهَارِ لِيَكُونَ حِرْزًا فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ، (وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ (بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ) أَيْ: بِأَيِّ عَمَلٍ كَانَ مِنَ الْحَسَنَاتِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَكْثَرَ مِنَ الذِّكْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ فَلَا يَصْلُحُ فِي مَقَامِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ (إِلَّا رَجُلٌ عَمَلَ أَكْثَرَ مِنْهُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ ذَلِكَ أَيْ: مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو عَوَانَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّهْلِيلَ مَاحِيًا مِنَ السَّيِّئَاتِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا، وَفِي حَدِيثِ التَّسْبِيحِ: جَعَلَ التَّسْبِيحَ مَاحِيًا لَهَا مِقْدَارَ زَبَدِ الْبَحْرِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ أَفْضَلَ، وَقَدْ قَالَ فِي حَدِيثِ التَّهْلِيلِ: وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، أَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّ التَّهْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَفَضَلُ لِأَنَّ جَزَاءَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَحْوِ السَّيِّئَاتِ، وَعَلَى عِتْقِ عَشْرِ رِقَابٍ، وَعَلَى إِثْبَاتِ مِائَةِ حَسَنَةٍ، وَالْحِرْزِ مِنَ الشَّيْطَانِ.

2303 - «وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا، وَهُوَ مَعَكُمْ، وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ " قَالَ أَبُو مُوسَى: وَأَنَا خَلْفَهُ أَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ ، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2303 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ) ، أَيْ: فِي الْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ السُّنَّةُ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْبِيرُ وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَذْكَارِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ سَفَرَ غَزْوٍ، فَيُنَاسِبُهُ تَخْصِيصُ التَّكْبِيرِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ فَيَشْمَلُ التَّكْبِيرَ وَغَيْرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّهَا النَّاسُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِحَرْفِ النِّدَاءِ (ارْبَعُوا) : بِفَتْحِ الْبَاءِ (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَيِ: ارْفُقُوا بِهَا وَأَمْسِكُوا عَنِ الْجَهْرِ الَّذِي يَضُرُّكُمْ (إِنَّكُمْ) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ (لَا تَدْعُونَ) أَيِ: اللَّهَ بِالتَّكْبِيرِ، أَوْ لَا تَذْكُرُونَ. وَظَنَّ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ مَعْنَى تَدْعُونَ تَسْأَلُونَ وَتَطْلُبُونَ، فَقَالَ أَيْ: تَعْبُدُونَ لِأَنَّ الصَّادِرَ مِنْهُمْ مُجَرَّدُ (اللَّهُ أَكْبَرُ) ، كَمَا أَفَادَهُ اللَّفْظُ، وَهَذَا لَا دُعَاءَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلدُّعَاءِ، كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الَّذِي كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْغِي إِلَى أَشْعَارِهِ، وَقَالَ فِي حَقِّهِ (كَادَ أَنْ يُسْلِمَ) لَمَّا اسْتَرْفَدَ بَعْضَ الْمُلُوكِ: إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضَهِ الثَّنَاءُ (أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ) : تَأْكِيدٌ (تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ فَمَا فَائِدَةُ الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ بَصِيرًا؟ قُلْتُ: السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَشَدُّ إِدْرَاكًا وَأَكْثَرُ إِحْسَاسًا مِنَ الضَّرِيرِ وَالْأَعْمَى، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: سَمِيعًا مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ أَصَمَّ، وَبَصِيرًا أُتِيَ بِهِ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلسَّمِيعِ فِي الذِّكْرِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَاسُبِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ يَشْمَلُ الْعِبَادَةَ الْفِعْلِيَّةَ وَالْقَوْلِيَّةَ أَتَى بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَحَقُّ أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ ثَابِتَتَانِ لَازِمَتَانِ لَا تَنْفَكُّ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى، بِخِلَافِ غَيْرِهِ تَعَالَى دَفْعًا لِوَهْمِ الْوَاهِمِ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ، أَوْ يُقَالُ أَتَى بِالْبَصِيرِ تَذْيِيلًا وَتَتْمِيمًا، وَلِهَذَا أَتَى بِالْمَعِيَّةِ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الْعِلْمُ الْأَعَمُّ مِنْهُمَا تَكْمِيلًا وَتَعْمِيمًا بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أَيْ: حَاضِرٌ بِالْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى حَالِكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، سَوَاءٌ أَعْلَنْتُمْ أَوْ أَخْفَيْتُمْ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: (وَلَا غَائِبًا) ثُمَّ زَادَ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْعَظَمَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ) : بَلْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، فَهُوَ بِحَسْبِ مُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ إِلَى فَهْمِ اللَّبِيبِ، وَالْمَعْنَى قُرْبُ الْقَرِيبِ فَيَكُونُ تَرَقِّيًا مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ. (قَالَ أَبُو مُوسَى: وَأَنَا خَلْفَهُ أَقُولُ لَا حَوْلَ) أَيْ: لَا حَرَكَةَ فِي الظَّاهِرِ (وَلَا قُوَّةَ) أَيْ: لَا اسْتِطَاعَةَ فِي الْبَاطِنِ (إِلَّا بِاللَّهِ) : أَوْ لَا تَحْوِيلَ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَقِيلَ: الْحَوْلُ الْحِيلَةُ إِذْ لَا دَفْعَ وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ كَلِمَةُ اسْتِسْلَامٍ وَتَفْوِيضٍ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا قُوَّةٌ فِي جَلْبِ خَيْرٍ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ. وَالْأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِيهِ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: " تَدْرِي مَا تَفْسِيرُهَا؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ» " أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ مُهِمَّانِ فِي الدِّينِ (فِي نَفْسِي) ، مُتَعَلِّقٌ بِأَقُولُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ أَقُولُ فِي قَلْبِي أَوْ بِلِسَانِي مِنْ غَيْرِ ارْتِفَاعِ صَوْتِي، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِمُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ لِغَيْرِهِ، فَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْكَشَفَ لَهُ مَا فِي خَاطِرِهِ وَسَمِعَ مِنْهُ فِي تَكْرَارِهِ، (فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ) : وَهُوَ اسْمُ أَبِي مُوسَى (بْنَ قَيْسٍ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ) أَيْ: عَظِيمٍ (مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟) سَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَنْزًا لِأَنَّهَا كَالْكَنْزِ فِي نَفَاسَتِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ أَنَّهَا مِنْ ذَخَائِرِ الْجَنَّةِ، أَوْ مِنْ مُحَصِّلَاتِ نَفَائِسِ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهَا يُحَصِّلُ ثَوَابًا نَفِيسًا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْجَنَّةِ (قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: دُلَّنِي فَإِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ (قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أُمَّتَكَ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ نَتَائِجِهَا بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ قَائِلِهَا. 5

الْفَصْلُ الثَّانِي 2304 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2304 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ) : قِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ أَيْ: تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِحَمْدِهِ (غُرِسَتْ) أَيْ: بِكُلِّ مَرَّةٍ (لَهُ نَخْلَةٌ) عَظِيمَةٌ (فِي الْجَنَّةِ) أَيِ: الْمُعَدَّةِ لِقَائِلِهَا، خُصَّتْ لِكَثْرَةِ مَنْفَعَتِهَا وَطِيبِ ثَمَرَتِهَا، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَثَلَ الْمُؤْمِنِ وَإِيمَانِهِ بِهَا وَثَمَرَتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم: 24] وَهِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وَهِيَ النَّخْلَةُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَزَّارُ وَزَادَ: " فَإِنَّهَا عِبَادَةُ الْخَلْقِ وَبِهَا تُقَطَّعُ أَرْزَاقُهُمْ " أَيْ تُعَيَّنُ.

2305 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ صَبَاحٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مُنَادٍ يُنَادِي: سَبِّحُوا الْمَلِكَ الْقُدُّوسَ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2305 - (وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا مِنْ صَبَاحٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ ": قَالَ الطِّيبِيُّ: (صَبَاحٍ) نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَضُمَّتْ إِلَيْهَا (مِنْ) الْاسْتِغْرَاقِيَّةُ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ، ثُمَّ جِيءَ بِقَوْلِهِ: (يُصْبِحُ) صِفَةً مُؤَكِّدَةً لِمَزِيدِ الْإِحَاطَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] (إِلَّا مُنَادٍ يُنَادِي: سَبِّحُوا) أَيْ: نَزِّهُوا (الْمَلِكَ الْقُدُّوسَ) أَيْ: عَمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى اعْتَقِدُوا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِنْشَاءَ تَنْزِيهٍ، لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ أَزَلًا وَأَبَدًا، أَوِ اذْكُرُوهُ بِالتَّسْبِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: قُولُوا: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، أَوْ قُولُوا: سُبُوحٌ قُدُّوسُ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، أَيْ: وَنَحْوِهَا مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2306 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2306 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ: هِيَ أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ التَّهْلِيلَ أَفْضَلَ الذِّكْرِ، لِأَنَّ لِلتَّهْلِيلِ تَأْثِيرًا فِي تَطْهِيرِ الْبَاطِنِ عَنِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي هِيَ مَعْبُودَاتٌ فِي بَاطِنِ الذَّاكِرِ. قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] فَيُفِيدُ نَفْيَ عُمُومِ الْآلِهَةِ بِقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ، وَيُثْبِتُ الْوَحْدَةَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ، وَيَعُودُ الذِّكْرُ عَنْ ظَاهِرِ لِسَانِهِ إِلَى بَاطِنِ قَلْبِهِ، فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ وَيَسْتَوْلِي عَلَى جَوَارِحِهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ هَذَا مَنْ ذَاقَ ( «وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» ) : لِأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ حَاجَتَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَشْمَلُهُمَا فَإِنَّ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ يَحْمَدُهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَالْحَمْدُ عَلَى النِّعْمَةِ طَلَبُ الْمَزِيدِ وَهُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ. اهـ. قَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وَلِذَا جَعَلَ الْفَاتِحَةَ أُمَّ الْقُرْآنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِطْلَاقُ الدُّعَاءِ عَلَى الْحَمْدِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَلَعَلَّهُ جُعِلَ أَفْضَلَ الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سُؤَالٌ لَطِيفٌ يَدِقُّ مَسْلَكُهُ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ حِينَ خَرَجَ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ يَطْلُبُ نَائِلَتَهُ:

إِذَا أَثْنَى عَلَيْكُمُ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مِنْ بَابِ التَّلْمِيحِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وَأَيُّ دُعَاءٍ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَأَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2307 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ، مَا شَكَرَ اللَّهَ عَبْدٌ لَا يَحْمَدُهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2307 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْحَمْدُ) أَيْ: لِلَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (رَأْسُ الشُّكْرِ) فَكَأَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ (مَا شَكَرَ اللَّهَ عَبْدٌ لَا يَحْمَدُهُ) : فَكَانَ التَّارِكُ لَهُ كَالْمُعْرِضِ عَنِ الشُّكْرِ رَأْسًا. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْحَمْدُ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ وَالشُّكْرُ بِهِ وَبِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، فَهُوَ إِحْدَى شُعَبِ الشُّكْرِ، وَرَأْسُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بَعْضُ الشُّكْرِ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ بِاللِّسَانِ وَالثَّنَاءَ عَلَى مُولِيهَا أَشْيَعُ لَهَا، وَأَدَلُّ عَلَى مَكَانِهَا لِخَفَاءِ الِاعْتِقَادِ، وَلِمَا فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ عَمَلِ اللِّسَانِ وَهُوَ النُّطْقُ الَّذِي يُفْصِحُ عَنِ الْكُلِّ.

2308 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» " (رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2308 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى ": أَيْ بِالدُّخُولِ (إِلَى الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أَيْ: فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، أَوِ الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، أَوِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، يَعْنِي: الَّذِينَ يَرْضَوْنَ عَنْ مَوْلَاهُمْ بِمَا أَجْرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُكْمِ غِنًى كَانَ أَوْ فَقْرًا شِدَّةً كَانَ أَوْ رَخَاءً، فَالْمُرَادُ الدَّوَامُ فَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَدِيعِ الْغَرِيبَةِ (رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2309 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ، وَأَدْعُوكَ بِهِ. فَقَالَ: يَا مُوسَى قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ، يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وُضِعْنَ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ لَمَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ". رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2309 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْأَذْكَارِ (أَذْكُرُكَ بِهِ) : بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ اسْتِئْنَافًا أَيْ: أَنَا أَذْكُرُكَ بِهِ، كَذَا قِيلَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ صِفَةٌ وَلَيْسَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (أَوْ أَدْعُوكَ) بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَهُوَ: " أَوْ " عَلَى الْأَصَحِّ الْأَكْثَرِ، وَبِالْوَاوِ عَلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ الْجَزْمُ وَعَطْفُ أَدْعُوكَ بِالْجَزْمِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ: [وَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدِ] . اهـ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ نُسْخَةِ الْجَزْمِ عَلَى لُغَةٍ حُمِلَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ عَلَى قِرَاءَةِ إِثْبَاتِ الْيَاءِ - وَجَزْمِ (يَصْبِرْ) اتِّفَاقًا ثُمَّ (أَوْ) فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرُهُ التَّنْوِيعُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْوَاوِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّكِّ أَوِ التَّقْدِيرِ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ دُعَاءٍ ذِكْرٌ وَكُلُّ ذِكْرٍ دُعَاءٌ، وَلِأَنَّهُ سُؤَالٌ لَطِيفٌ، أَوِ الدُّعَاءُ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ أَيْ: أَعْبُدُكَ بِذِكْرِهِ أَوْ بِمَضْمُونِهِ. (فَقَالَ: يَا مُوسَى، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : فَإِنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِكُلِّ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ سِوَاهُ مَعَ زِيَادَةِ دَلَالَةٍ عَلَى تَوْحِيدِ ذَاتِهِ وَتَفْرِيدِ صِفَاتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: طَلَبَ مُوسَى مَا بِهِ يَفُوقُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ، فَمَا مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ؟ قُلْتُ: كَأَنَّهُ قَالَ: طَلَبْتَ شَيْئًا مُحَالًا إِذْ لَا ذِكْرَ وَلَا دُعَاءَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. (فَقَالَ: يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ) أَيْ:

الْمُوَحِّدِينَ (يَقُولُ) أُفْرِدَ رِعَايَةً لِلَفْظِ (كُلُّ) دُونَ مَعْنَاهُ (هَذَا) أَيْ: هَذَا الْكَلَامَ، أَوْ هَذَا الذِّكْرَ (إِنَّمَا أُرِيدَ شَيْئًا تَخُصُّنِي) أَيْ: أَنْتَ (بِهِ) أَيْ: بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ عِبَادِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَفْرَحَ فَرَحًا شَدِيدًا إِلَّا إِذَا اخْتُصَّ بِشَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ جَوْهَرَةٌ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ غَيْرِهِ، وَكَذَا مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالدَّعَوَاتِ وَالْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ وَالصَّنَائِعِ الْعَجِيبَةِ، مَعَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي بِهَا جَرَتِ الْعَادَةُ، وَهِيَ مِنْ رَحْمَتِهِ الشَّامِلَةِ وَرَأْفَتِهِ الْكَامِلَةِ أَنَّ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ أَكْثَرُهَا وُجُودًا، كَالْعُشْبِ وَالْمِلْحِ وَالْمَاءِ دُونَ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَمِثْلَ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ، وَهُوَ أَعَزُّ الْكُتُبِ يُوجَدُ أَكْثَرَ وَأَرْخَصَ مِنْ غَيْرِهِ، وَعِلْمُ الْكِيمْيَاءِ وَنَحْوُهُ مِمَّا هُوَ خَيَالَاتٌ فَاسِدَةٌ، وَصَاحِبُهَا مِنْ جَهْلِهِ يَفْرَحُ بِهِ مَا لَا يَفْرَحُ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ الَّذِي يَمِينُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ قَدَمُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْعَوَامُّ الْآنَ يَفْرَحُونَ بِزِيَارَةِ الْمَقَامِ أَكْثَرَ مِنِ اسْتِلَامِ الرُّكْنِ الْأَسْعَدِ. وَمِنْهَا: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكَلِمَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْكَلِمَاتِ، وَأَنْفَسُ الْعِبَادَاتِ، وَأَفْضَلُ الْأَذْكَارِ، وَأَكْمَلُ الْحَسَنَاتِ، وَهِيَ أَكْثَرُ وُجُودًا وَأَيْسَرُ حُصُولًا، وَالْعَوَامُّ يَتْرُكُونَهَا وَيَتَّبِعُونَ مُوَاظَبَةَ الْأَسْمَاءِ الْغَرِيبَةِ، وَالدَّعَوَاتِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي غَالِبُهَا لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا الْكَلِيمِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْجَوَابِ مِنَ الرَّبِّ الْعَظِيمِ لِتَظْهَرَ جَلَالَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِ، وَيَعْتَنُونَ بِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَقَامٍ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَالْمَرَامِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهَا قُطْبُ دَائِرَةِ الْأَذْكَارِ وَمَرْكَزُ نُقْطَةِ الْأَسْرَارِ، وَلِهَذَا وَرَدَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا حِجَابٌ دُونَ اللَّهِ حَتَّى تَخْلُصَ إِلَيْهِ (قَالَ يَا مُوسَى: لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتَ السَّبْعَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ مَا طَلَبْتَ مِنْ أَمْرٍ مُخْتَصٍّ بِكَ فَائِقٍ عَلَى الْأَذْكَارِ كُلِّهَا مُحَالٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُرَجَّحُ عَلَى الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَسُكَّانِهَا، وَالْأَرَضِينَ وَقُطَّانِهَا. اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ حَاصِلَ الْجَوَابِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنَّمَا خُصُوصِيَّةُ الْخَوَاصِّ بِاعْتِبَارِ فَهْمِ مَبَانِيهَا، وَتَحْقِيقِ مَبَانِيهَا، وَالتَّحَقُّقِ بِمَا فِيهَا وَالتَّخَلُّقِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَالْإِخْلَاصِ فِي ذِكْرِهَا، وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهَا، وَالتَّلَذُّذِ وَالسُّرُورِ بِهَا. وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ بِصَاحِبِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِهَا (وَعَامِرَهُنَّ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى السَّمَاوَاتِ، قِيلَ: عَامِرُ الشَّيْءِ حَافِظُهُ وَمُصْلِحُهُ وَمُدَبِّرُهُ الَّذِي يُمْسِكُهُ مِنَ الْخَلَلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ سَاكِنُ الْبَلَدِ وَالْمُقِيمُ بِهِ عَامِرَهُ مِنْ عَمَّرْتُ الْمَكَانَ: إِذَا أَقَمْتَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِيَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ تَعَالَى مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (غَيْرِي) : قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ سَاكَنَهُنَّ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَوْ مُمْسِكَهُنَّ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41] وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا جِنْسُ مَنْ يُعَمِّرُهَا مِنَ الْمَلَكِ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَامِرُهَا خَلْقًا وَحِفْظًا، وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صَلَاحُهَا تَوَقُّفَهُنَّ عَلَى السَّاكِنِ، وَلِذَا اسْتَثْنَى وَقَالَ: غَيْرِي أَوْ يُرَادُ بِالْعَامِرِ حَاضِرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَاضِرٌ فِيهِنَّ عِلْمًا وَاطِّلَاعًا (وَالْأَرَضِينَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ (السَّبْعَ) أَيِ: الطِّبَاقَ، وَقِيلَ: الْأَقَالِيمُ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وَلِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهَا طِبَاقٌ. (وُضِعْنَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِي كِفَّةٍ) : بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مِنْ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ يُطْلَقُ لِكُلِّ مُسْتَدِيرٍ، (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: مَفْهُومُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَوْ ثَوَابُهَا وُضِعَ (فِي كِفَّةٍ) : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ (لَمَالَتْ بِهِنَّ) أَيْ: لَرَجَحَتْ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَتْهُنَّ، لِأَنَّ جَمِيعَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ إِلَى وُجُودِهِ تَعَالَى كَالْمَعْدُومِ، إِذْ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَالْمَعْدُومُ لَا يُوَازِنُ الثَّابِتَ الْمَوْجُودَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ: " وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ " (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : وَهُوَ مِنْ بَابِ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعَجُّبِ أَوْ تَكْرِيرًا لِلتَّلْقِينِ

(رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِمْ» ) أَيْ: لَرَجَحَتْ وَزَادَتْ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَمَالَتْهُنَّ، وَكَانَ التَّفْسِيرُ بِالرُّجْحَانِ وَالزِّيَادَةِ تَفْسِيرًا بِاللَّازِمِ، وَضَمِيرُ ذَوِي الْعُقُولِ تَشْرِيفًا لَهُمْ كَمَا أَنَّ عَكْسَهُ تَغْلِيبًا لِكَثْرَتِهِنَّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْرَحُ صَرِيحٍ عَلَى أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفْضَلُ الذِّكْرِ، إِذْ لَا ثَوَابَ أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِهَا.

2310 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، صَدَّقَهُ رَبُّهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُ اللَّهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي، لَا شَرِيكَ لِي، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الْمَلِكُ وَلَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِيَ الْمُلْكُ وَلِيَ الْحَمْدُ، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي " وَكَانَ يَقُولُ: " مَنْ قَالَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2310 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، صَدَّقَهُ رَبُّهُ. قَالَ) أَيْ: رَبُّهُ بَيَانًا لِتَصْدِيقِهِ أَيْ: قَرَّرَهُ بِأَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ) : وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: صَدَقْتَ (وَإِذَا قَالَ) أَيِ: الْعَبْدُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُ اللَّهُ أَيْ: تَصْدِيقًا لِعَبْدِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي) أَيْ: فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَحَذْفُ (صَدَّقَهُ رَبُّهُ) هُنَا لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَعَبَّرَ هُنَا بِيَقُولُ وَثَمَّةَ، وَفِيمَا يَأْتِي بِقَالَ تَفَنُّنًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَجْهُهُ اسْتِحْضَارُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ أَزَلًا وَأَبَدًا لِلْإِيمَاءِ إِلَى خُصُوصِيَّةِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ مِمَّا بَيْنَ أَخَوَاتِهَا بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَالتَّفْرِيدِ الصِّرْفِ (وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ كَمَا أَفْهَمَهُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ. وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ (قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِيَ الْمُلْكُ وَلِيَ الْحَمْدُ) أَيْ: كَمَا قَالَ عَبْدِي: (وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) : وَالْوَاوُ فِي (وَلَا حَوْلَ) إِمَّا لِلْعَطْفِ أَوْ لِلْحَالِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَلِذَا تُرِكَ فِي قَوْلِهِ: (قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا حَوْلَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: (وَلَا حَوْلَ) مُطَابِقًا لِمَا قَبْلَهُ (وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي) أَيْ: كَمَا أَقَرَّ بِهِ عَبْدِي (وَكَانَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَقُولُ: مَنْ قَالَهَا) أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ دُونِ الْجَوَابَاتِ (فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ (لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ) أَيْ: لَمْ تَمَسَّهُ أَوْ لَمْ تَحْرِقْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَمْ تَأْكُلْهُ، اسْتَعَارَ الطُّعْمَ لِلْإِحْرَاقِ مُبَالَغَةً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2311 - «وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى، تُسَبِّحُ بِهِ فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2311 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى امْرَأَةٍ) أَيْ: مَحْرَمٍ لَهُ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الدُّخُولِ الرُّؤْيَةُ، وَلَا مِنْ وُجُودِ الرُّؤْيَةِ حُصُولُ الشَّهْوَةِ (وَبَيْنَ يَدَيْهَا) : الْوَاوُ لِلْحَالِ (نَوًى) : جَمْعُ نَوَاةٍ وَهِيَ عَظْمُ التَّمْرِ (أَوْ حَصًى) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (تُسَبِّحُ) أَيِ: الْمَرْأَةُ (بِهِ) أَيْ: بِمَا ذَكَرَ مِنَ النَّوَى أَوِ الْحَصَى، وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ لِتَجْوِيزِ السِّبْحَةِ بِتَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ فِي مَعْنَاهَا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ فِيمَا يُعَدُّ بِهِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِ مَنْ عَدَّهَا بِدْعَةً، وَقَدْ قَالَ الْمَشَايِخُ: إِنَّهَا سَوْطُ الشَّيْطَانِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رُئِيَ مَعَ الْجُنَيْدِ سُبْحَةٌ فِي يَدِهِ حَالَ انْتِهَائِهِ، فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: شَيْءٌ وَصَلْنَا بِهِ إِلَى اللَّهِ كَيْفَ نَتْرُكُهُ؟ وَلَعَلَّ هَذَا أَحَدُ مَعَانِي قَوْلِهِمُ: النِّهَايَةُ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبِدَايَةِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ) أَيْ: أَسْهَلُ

وَأَخَفُ (عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا) أَيْ: مِنْ هَذَا الْجَمْعِ وَالتَّعْدَادِ (أَوْ أَفْضَلُ؟) قِيلَ " أَوْ " لِلشَّكِّ مِنْ سَعْدٍ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى (بَلْ) وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ: وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ بِالْقُصُورِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْصِيَ ثَنَاءَهُ، وَفِي الْعَدِّ بِالنَّوَى إِقْدَامٌ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْصَاءِ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَدِّ هَذَا الْإِقْدَامُ، وَلَا يَقْدُمُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْعَوَامُّ كَالْأَنْعَامِ، بَلِ الْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَقِّيَهَا مِنْ عَالَمِ كَثْرَةِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي إِلَى وَحْدَةِ الْحَقَائِقِ وَالْمَعَانِي، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْأَعْدَادِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَدَدِ الْأَمْدَادِ، أَوِ الْعَدُّ فِي الْأَذْكَارِ يَجْعَلُ شَأْنًا لَهَا فِي الْبَالِ، وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ فِي كُلِّ حَالٍ، هَذَا مُعَابٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِمَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ بِالْعَدَدِ: تَذْكُرُ اللَّهَ بِالْحِسَابِ، وَتُذْنِبُ بِالْجُزَافِ وَتَعْصِيهِ بِلَا كِتَابٍ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ بِالنِّعْمَةِ بِلَا إِحْصَاءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] فَيَنْبَغِي حُسْنُ الْمُقَابَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ أَنْ يَذْكُرَهُ السَّالِكُ بِغَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ، أَوْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَقَامِ الْمُكَاشَفَةِ بِتَسْبِيحِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1] . (سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ لِكَثْرَةِ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ الْمَلْحُوظَةِ فِي الْمَقَامِ (فِي السَّمَاءِ) أَيْ: فِي عَالَمِ الْعُلْوِيَّاتِ جَمِيعِهَا (وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ: فِي عَالَمِ السُّفْلِيَّاتِ كُلِّهَا، كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ الْمَعْهُودَتَانِ لِقَوْلِهِ: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ) أَيْ: مَا بَيْنَ مَا ذَكَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْهَوَاءِ وَالْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَغَيْرِهَا، (وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ) أَيْ: خَالِقُهُ أَوْ خَالِقٌ لَهُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَهُوَ أَظْهَرُ، لَكِنَّ الْأَدَقَّ الْأَخْفَى مَا قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: مَا هُوَ خَالِقٌ لَهُ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ وَالْمُرَادُ الِاسْتِمْرَارُ فَهُوَ إِجْمَالٌ بَعْدَ التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ إِلَى الْأَبَدِ، كَمَا تَقُولُ: اللَّهُ قَادِرٌ عَالِمٌ. فَلَا تَقْصِدُ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ (وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْصُوبٌ نَصْبَ عَدَدٍ فِي الْقَرَائِنِ السَّابِقَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِنَصْبِ مِثْلَ، أَيِ: اللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقُهُ أَيْ بِعَدَدِهِ، فَجَعَلَ مَرْجِعَ الْإِشَارَةِ أَقْرَبَ مَا ذُكِرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ اللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى هَذَا الْحَالِ (وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: كَذَلِكَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنِ اخْتِصَارِ الرَّاوِي، فَنَقَلَ آخِرَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى خَشْيَةً لِلْمَلَالِهِ بِالْإِطَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا بَعْضُ الْآثَارِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ. حَسَنٌ غَرِيبٌ.

2312 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; كَانَ كَمَنْ حَجَّ مِائَةَ حَجَّةٍ، وَمَنْ حَمِدَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; كَانَ كَمَنْ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ هَلَّلَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ بِأَكْثَرِ مِمَّا أَتَى بِهِ إِلَّا مَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ زَادَ عَلَى مَا قَالَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2312 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ مِائَةً) أَيْ: مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مِائَةَ مَرَّةٍ (بِالْغَدَاةِ) : بِفَتْحَتَيْنِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَيَجُوزُ ضَمُّ الْأَوَّلِ وَسُكُونُ الثَّانِي وَبَعْدَهُ " وَاوٌ " (وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ) أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَأَوَّلَ اللَّيْلِ، أَوْ فِي الْمَلَوَيْنِ (كَانَ كَمَنْ حَجَّ مِائَةَ حَجَّةٍ) أَيْ: نَافِلَةٍ. دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ بِشَرْطِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ بِسُهُولَتِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ بِغَفْلَتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ

يَكُونَ الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ مُبَالَغَةً فِي التَّرْغِيبِ، أَوْ يُرَادُ التَّسَاوِي بَيْنَ التَّسْبِيحِ الْمُضَاعَفِ بِالْحِجَجِ الْغَيْرِ مُضَاعَفَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمَنْ حَمِدَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حَمَلَ) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: رَكَّبَ مِائَةَ نَفْسٍ (عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: فِي نَحْوِ الْجِهَادِ إِمَّا صَدَقَةٌ أَوْ عَارِيَةٌ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ لِلذَّاكِرِ فِي الذِّكْرِ لِئَلَّا يَلْتَفِتَ إِلَى الدُّنْيَا، وَيَجْمَعَ هِمَّتَهُ عَلَى الْحُضُورِ مَعَ الْمَوْلَى، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَالْمُرَكَّبِ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ لَا غَيْرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَسِيلَةِ. (وَمَنْ هَلَّلَ اللَّهَ) أَيْ: قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ) : وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلذَّاكِرِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْعَاجِزِينَ عَنِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا الْأَغْنِيَاءُ، (مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ) : بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِفَتْحِهِمَا، يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ مِنْ أَوْلَادِ إِسْمَاعِيلَ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأَصْنَافِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَقَارِبِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ تَتْمِيمٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي مَعْنَى الْعِتْقِ. (وَمِنْ كَبَّرَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ (بِأَكْثَرَ) أَيْ: بِثَوَابٍ أَكْثَرَ، أَوِ الْمُرَادُ بِعَمَلٍ أَفْضَلَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِأَكْثَرَ لِأَنَّهُ مَعْنَى أَفْضَلَ (مِمَّا أَتَى بِهِ) أَيْ: جَاءَ بِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، وَالَّذِي دَلَّتِ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ أَنَّ أَفْضَلَ هَذَا: التَّهْلِيلُ فَالتَّحْمِيدُ فَالتَّكْبِيرُ فَالتَّسْبِيحُ، فَحِينَئِذٍ يُئَوَّلُ بِأَنْ يُقَالَ: لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ غَيْرُ الْمُهَلِّلِ وَالْحَامِدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَتَى بِهِ. (إِلَّا مَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ زَادَ عَلَى مَا يُقَالُ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

2313 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَمْلَؤُهُ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا حِجَابٌ دُونَ اللَّهِ حَتَّى تَخْلُصَ إِلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2313 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ) أَيْ: ثَوَابُهُ بَعْدَ تَجَسُّمِهِ يَمْلَأُ نِصْفَ الْمِيزَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِحْدَى كِفَّتَيْهِ الْمَوْضُوعَةِ لِوَضْعِ الْحَسَنَاتِ فِيهَا، (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَمْلَؤُهُ) أَيِ: الْمِيزَانُ أَوْ نِصْفُهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْأَذْكَارَ تَنْحَصِرُ فِي نَوْعَيْنِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّحْمِيدُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَيَكُونُ الْحَمْدُ نِصْفَهُ الْآخَرَ، فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ. وَيُلَائِمُهُ حَدِيثُ: " ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ " وَيُحْتَمَلُ تَفْضِيلُ الْحَمْدِ بِأَنَّهُ يَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَحْدَهُ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى التَّنْزِيهِ ضِمْنًا لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْكَمَالِ مُتَضَمِّنٌ نَفْيَ النُّقْصَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا حِجَابٌ دُونَ اللَّهِ) : فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّحْمِيدَ وَالتَّنْزِيهَ، وَلِذَا صَارَتْ مُوجِبَةً لِلْقُرْبِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (حَتَّى تَخْلُصَ) : بِضَمِّ اللَّامِ (إِلَيْهِ) أَيْ: تَصِلُ عِنْدَهُ، وَتَنْتَهِي إِلَى مَحَلِّ الْقَبُولِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا وَأَمْثَالِهِ سُرْعَةُ الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ، وَكَثْرَةُ الْأَجْرِ وَالْإِثَابَةِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) أَيْ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، لَكِنْ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.

2314 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا قَالَ عَبْدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا قَطُّ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْعَرْشِ مَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2314 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا قَالَ عَبْدٌ) أَيْ: مُسْتَشْعِرًا لِعُبُودِيَّتِهِ وَحُدُوثِ وَجُودِهِ، وَمُسْتَذْكِرًا لِأُلُوهِيَّةِ رَبِّهِ وَتَوْحِيدِ مَعْبُودِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا) أَيْ: مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ أَوْ مُؤْمِنًا غَيْرَ مُنَافِقٍ (قَطُّ إِلَّا فُتِحَتْ) : بِالتَّخْفِيفِ وَتُشَدَّدُ (لَهُ) أَيْ: لِهَذَا الْكَلَامِ أَوِ الْقَوْلِ (أَبْوَابُ السَّمَاءِ

حَتَّى يُفْضِيَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: يَصِلَ (إِلَى الْعَرْشِ مَا اجْتَنَبَ) أَيْ: صَاحِبُهُ (الْكَبَائِرَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الْكَبَائِرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ السَّابِقُ دَلَّ عَلَى تَجَاوُزِهِ مِنَ الْعَرْشِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ سُرْعَةُ الْقَبُولِ وَالِاجْتِنَابُ عَنِ الْكَبَائِرِ شَرْطٌ لِلسُّرْعَةِ، لَا لِأَجْلِ الثَّوَابِ وَالْقَبُولِ. اهـ. أَوْ لِأَجْلِ كَمَالِ الثَّوَابِ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ الْقَبُولِ لِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَا تُحْبِطُ الْحَسَنَةَ، بَلِ الْحَسَنَةُ تُذْهِبُ السَّيِّئَةَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِهَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَيْ: لِرُوحِهِ عَقِبَ مَوْتِهِ. تَقْدِيرٌ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ، ثُمَّ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ يُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، بِخِلَافِ الْكُفَّارِ لَا يُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِتَقْيِيدِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: " مَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ " عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.

2315 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2315 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ: الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا فِي نُسْخَةٍ (لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي) : بِالْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِ (لَيْلَةً) أَيْ: لَيْلَةً أُسْرِيَ فِيهَا بِي، وَهِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ (فَقَالَ) أَيْ: إِبْرَاهِيمُ، وَهُوَ فِي مَحَلِّهِ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ) أَيْ: أَوْصِلْهُمْ وَبَلِّغْهُمْ (مِنِّي السَّلَامَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: " اقْرَأَ أُمَّتَكَ مِنِّي " أَيْ: مِنْ جَانِبِي، وَمِنْ عِنْدِي السَّلَامَ. فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ: اقْرَأْ فَلَانًا السَّلَامَ، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامَ كَأَنَّهُ حِينَ يُبَلِّغُهُ سَلَامَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ وَيَرُدَّهُ. وَفِي الْمُقَدِّمَةِ نَحْوُهُ، لَكِنْ فِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ: أَنَّ قَرَأَهُ السَّلَامَ وَأَقْرَأَهُ السَّلَامَ بِمَعْنًى، وَعَلَى كُلٍّ فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. (وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ) وَهِيَ التُّرَابُ، فَإِنَّ تُرَابَهَا الْمِسْكُ وَالزَّعْفَرَانُ، وَلَا أَطْيَبَ مِنْهُمَا (عَذْبَةُ الْمَاءِ) أَيْ: لِلنُّمُوِّ، وَحُلْوٌ لَذِيذٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] أَيْ: غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ بِمُلُوحَةٍ وَلَا غَيْرِهَا (وَأَنَّهَا) : بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ أَيِ: الْجَنَّةَ (قِيعَانٌ) : بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قَاعٍ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْخَالِيَةُ مِنَ الشَّجَرِ (وَأَنَّ) : بِالْوَجْهَيْنِ (غِرَاسَهَا) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، جَمْعُ غَرْسٍ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ مَا يُغْرَسُ أَيْ: يَسْتُرُ تُرَابَ الْأَرْضِ مِنْ نَحْوِ الْبَذْرِ لِيَنْبُتَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ التُّرْبَةُ طَيِّبَةً وَمَاؤُهَا عَذْبًا كَانَ الْغِرَاسُ أَطْيَبَ، لَا سِيَّمَا وَالْغَرْسُ الْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ. (سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : وَالْمَعْنَى أَعْلِمْهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَحْوَهَا سَبَبٌ لِدُخُولِ قَائِلِهَا الْجَنَّةَ وَلِكَثْرَةِ أَشْجَارِ مَنْزِلِهِ فِيهَا، لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَرَّرَهَا نَبَتَتْ لَهُ أَشْجَارٌ بِعَدَدِهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تُورِثُ قَائِلَهَا الْجَنَّةَ، فَأَطْلَقَ السَّبَبَ وَأَرَادَ الْمُسَبَّبَ. اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَقُولُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَرْضَ الْجَنَّةِ خَالِيَةٌ عَنِ الْأَشْجَارِ وَالْقُصُورِ، وَيَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ خَالِيَةٍ عَنْهَا، لِأَنَّهَا إِنَّمَا سُمِّيَتْ جَنَّةً لِأَشْجَارِهَا الْمُتَكَاثِفَةِ الْمُظِلَّةِ بِالْتِفَافِ أَغْصَانِهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا كَانَتْ قِيعَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَ بِفَضْلِهِ فِيهَا أَشْجَارًا وَقُصُورًا، بِحَسَبِ أَعْمَالِ الْعَامِلِينَ لِكُلِّ عَامِلٍ مَا يَخْتَصُّ بِهِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا يَسَّرَهُ لِمَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ لِيَنَالَ بِذَلِكَ الثَّوَابَ جَعَلَهُ كَالْغَارِسِ لِتِلْكَ الْأَشْجَارِ مَجَازًا إِطْلَاقًا لِلسَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْخُلُوِّ الْكُلِّيِّ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْقُصُورِ، لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهَا قِيعَانًا أَنَّ أَكْثَرَهَا مَغْرُوسٌ، وَمَا عَدَاهُ مِنْهَا أَمْكِنَةٌ وَاسِعَةٌ بِلَا غَرْسٍ لِيَنْغَرِسَ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ، وَيَتَمَيَّزَ غَرْسُهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي بِلَا سَبَبٍ، وَغَرْسُهَا الْمُسَبَّبُ عَنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَهَا مَغْرُوسٌ لِيَكُونَ مُقَابِلًا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ غَيْرَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، وَبَقِيَّتُهَا تَغْرَسُ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ لِيَمْتَازَ ثَوَابُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِعِظَمِ فَضْلِهَا، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ عَنْ ثَوَابِ غَيْرِهَا. اهـ. وَفِي كَوْنِ هَذَا حَاصِلَ الْجَوَابِينَ أَوْ أَحَدِهِمَا نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَتَأَمَّلْ، وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَقَلَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ جَنَّتَانِ، كَمَا قَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَيُقَالُ: جَنَّةٌ فِيهَا أَشْجَارٌ وَأَنْهَارٌ وَحُورٌ وَقُصُورٌ خُلِقَتْ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ، وَجَنَّةٌ يُوجَدُ فِيهَا مَا ذُكِرَ بِسَبَبِ حُدُوثِ الْأَعْمَالِ وَالْأَذْكَارِ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا، وَجَنَّةٌ فِي الْعُقْبَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، غَرِيبٌ إِسْنَادًا) : وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " يُغْرَسُ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ ".

2316 - وَعَنْ يُسَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ، قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ، فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2316 - (وَعَنْ يُسَيْرَةَ) : - بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ - وَيُقَالُ أُسَيْرَةَ بِالْهَمْزِ، أُمُّ يَاسِرٍ صَحَابِيَّةٌ مِنَ الْأَنْصَارِيَّاتِ، وَيُقَالُ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: كَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ: (وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ) : وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: إِنَّهَا بِنْتُ يَاسِرٍ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ. (قَالَتْ: قَالَ لَنَا) أَيْ: مَعْشَرِ النِّسَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عَلَيْكُنَّ) : اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمْنَ وَأَمْسِكْنَ (بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّقْدِيسِ) أَيْ: قَوْلِ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، أَوْ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّقْدِيسِ التَّكْبِيرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فِي الْمَعْدُودَاتِ عَلَى وَفْقِ نَظَائِرِهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا تَكَرَّرَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمُ اخْتَصَرُوهَا لِيَسْهُلَ تَكَرُّرُهَا بِضَمِّ بَعْضِ حُرُوفِ إِحْدَاهَا إِلَى الْأُخْرَى، كَالْحَوْقَلَةِ وَالْحَيْعَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ وَكَالتَّهْلِيلِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُقَالُ: هَيْلَلَ الرَّجُلُ وَهَلَّلَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ. اهـ. وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَصْنُوعَةِ لَا الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُسَلَّمٌ فِي الْحَوْقَلَةِ وَالْحَيْعَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ، وَأَمَّا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ فَمَصْدَرَانِ قِيَاسِيَّانِ، وَكَذَا التَّقْدِيسُ، وَمَعْنَاهَا جَعْلُ اللَّهِ مُسَبَّحًا وَمُقَدَّسًا أَيْ: مُنَزَّهًا بِالذِّكْرِ وَالِاعْتِقَادِ عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَمُهَلِّلًا أَيْ: مَرْفُوعَ الصَّوْتِ بِذِكْرِ تَوْحِيدِهِ وَإِثْبَاتِ تَفْرِيدِهِ، نَعَمْ هَيْلَلَ مِنْ قَبِيلِ بَسْمَلَ، وَكَذَا سَبْحَلَ، وَكَذَا قَدْسَلَ، لَوْ سُمِعَ أَوْ بُنِيَ لِوُجُودِ دَلَالَةِ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى كَلِمَةٍ فِي مُقَابَلَتِهَا، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ مَصَادِرُ بَابِ التَّفْعِيلِ عَلَى طِبْقِ الْمَوْضُوعِ. وَالْمَصْدَرُ الْمَصْنُوعُ مُخْتَصٌّ بِبَابِ الْفَعْلَلَةِ مُلْحَقٌ بِهِ فِي التَّصْرِيفِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ وَمُحَقَّقٌ، وَلَا يَضُرُّنَا تَفْسِيرُهُمُ التَّسْبِيحَ بِسُبْحَانَ اللَّهِ وَالتَّهْلِيلَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالتَّقْدِيسَ بِسُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، فَإِنَّهُ تَفْسِيرٌ مَعْنَوِيٌّ مُجَزَّأٌ مِنْ مَعْنًى كُلِّيٍّ هُوَ الْمَفْهُومُ الْمَصْدَرِيُّ (وَاعْقِدْنَ) : بِكَسْرِ الْقَافِ أَيِ: اعْدُدْنَ عَدَدَ مَرَّاتِ التَّسْبِيحِ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ (بِالْأَنَامِلِ) أَيْ: بِعَقْدِهَا أَوْ بِرُءُوسِهَا يُقَالُ: عَقْدُ الشَّيْءِ بِالْأَنَامِلِ عَدُّهُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ عَدُّهُنَّ، أَوِ التَّقْدِيرُ: اعْدُدْنَ. لَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَرَّضَهُنَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ يُحْصِينَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِأَنَامِلِهِنَّ لِيَحُطَّ عَنْهَا بِذَلِكَ مَا اجْتَرَحَتْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ يَعْرِفْنَ عَقْدَ الْحِسَابِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى مَذْهَبِ جَمَاعَةٍ. وَهُوَ وَهْمٌ، وَانْتِقَالٌ مِنْهُ مِنَ الْبَاءِ إِلَى " مِنْ " وَإِلَّا فَزِيَادَةُ الْبَاءِ فِي الْمَفْعُولِ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ اتِّفَاقًا عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] ، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] ، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25] ، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ} [ص: 33] ، {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَقَوْلِهِ: فَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ عَيَّرَنَا حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا، وَالْأَنَامِلُ جَمْعُ أُنْمُلَةٍ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ وَالْهَمْزِ تِسْعُ لُغَاتٍ فِيهَا الظُّفْرُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْأَصَابِعُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ عَكْسُ مَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] لِمُبَالَغَةٍ، وَفِيهِ

جَوَازُ عَدِّ الْأَذْكَارِ وَمَأْخَذُ سُبْحَةِ الْأَبْرَارِ، وَقَدْ كَانَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ خَيْطٌ فِيهِ عُقَدٌ كَثِيرَةٌ يُسَبِّحُ بِهَا، وَزَعْمُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُودِ أَصْلِهَا فِي السُّنَّةِ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْعَقْدَ بِالْأَنَامِلِ دَلَالَةً عَلَى الْأَفْضَلِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّهُنَّ) أَيِ: الْأَنَامِلَ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ (مَسْئُولَاتٌ) أَيْ: يُسْأَلْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا اكْتَسَبْنَ وَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتُعْمِلْنَ، (مُسْتَنْطَقَاتٌ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ: مُتَكَلِّمَاتٌ بِخَلْقِ النُّطْقِ فِيهَا فَيَشْهَدْنَ لِصَاحِبِهِنَّ أَوْ عَلَيْهِ بِمَا اكْتَسَبَهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] ، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} [فصلت: 22] وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَعْضَاءِ فِيمَا يُرْضِي الرَّبَّ تَعَالَى وَتَعْرِيضُ التَّحَفُّظِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ. (وَلَا تَغْفُلْنَ) : بِضَمِّ الْفَاءِ، وَالْفَتْحِ لَحْنٌ أَيْ: عَنِ الذِّكْرِ يَعْنِي لَا تَتْرُكْنَ الذِّكْرَ، (فَتَنْسَيْنَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: فَتَتْرُكْنَ (الرَّحْمَةَ) : بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ، وَالْمُرَادُ بِنِسْيَانِ الرَّحْمَةِ نِسْيَانُ أَسْبَابِهَا أَيْ: لَا تَتْرُكْنَ الذِّكْرَ، فَإِنَّكُنَّ لَوْ تَرَكْتُنَّ الذِّكْرَ لَحُرِمْتُنَّ ثَوَابَهُ، فَكَأَنَّكُنَّ تَرَكْتُنَّ الرَّحْمَةَ. قَالَ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَيْ: بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ أَيْ: بِالرَّحْمَةِ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِصِيغَةٍ مَجْهُولَةٍ مِنَ الْإِنْسَاءِ، أَيْ: إِنَّكُنَّ اسْتُحْفِظْتُنَّ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ وَأُمِرْتُنَّ بِسُؤَالِهَا، فَإِذَا غَفَلْتُنَّ فَقَدْ ضَيَّعْتُنَّ مَا اسْتُودِعْتُنَّ فَتُرِكْتُنَّ سُدًى عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: (لَا تَغْفُلْنَ) نَهْيٌ لِأَمْرَيْنِ أَيْ: لَا تَغْفُلْنَ عَمَّا ذَكَرْتُ، لَكِنْ مِنَ اللُّزُومِ عَلَى الذِّكْرِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ وَالْعَقْدِ بِالْأَصَابِعِ تَوْثِيقًا، وَقَوْلُهُ: فَتَنْسَيْنَ جَوَابُ " لَوْ " أَيْ: إِنَّكُنَّ لَوْ تَغْفُلْنَ عَمَّا ذَكَرْتُ لَكُنَّ لَتُرِكْتُنَّ سُدًى عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] أَوْ لَا يَكُنْ مِنْكُنَّ الْغَفْلَةُ فَيَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَرْكُ الرَّحْمَةِ، فَعَبَّرَ بِالنِّسْيَانِ عَنْ تَرْكِ الرَّحْمَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2317 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ، قَالَ: " قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ". فَقَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي، فَمَا لِي؟ فَقَالَ: " قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي» ". شَكَّ الرَّاوِي فِي " عَافِنِي ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2317 - (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلَامًا) أَيْ: ذِكْرًا (أَقُولُهُ) أَيْ: أَذْكُرُهُ وِرْدًا (قَالَ: " قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) بَدَأَ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى وَجْهِ التَّفْرِيدِ، فَإِنَّهُ مَبْدَأُ كُلِّ عِبَادَةٍ وَمَخْتَمُ كُلِّ سَعَادَةٍ لِلْمُرَادِ وَالْمُرِيدِ (اللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ أَوْ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِكُنْهِ كِبْرِيَائِهِ وَهُوَ الْأَوْلَى (كَبِيرًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَبَّرْتُ كَبِيرًا، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُؤَكِّدَةً (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا) أَيْ: حَمْدًا كَثِيرًا (سُبْحَانَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَسُبْحَانَ اللَّهِ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَتَغْلِيبُ ذَوِي الْعِلْمِ لِشَرَفِهِمْ (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) : وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ بِلَفْظِ: " الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ " وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِي الصَّحِيحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمْ يَرِدْ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ أَرْدَفَهَا بِقَوْلِهِ: " الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ". (قَالَ) أَيِ: الْأَعْرَابِيُّ (فَهَؤُلَاءِ) أَيِ: الْكَلِمَاتُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: هَؤُلَاءِ (لِرَبِّي) أَيْ: مَوْضُوعَةٌ لِذِكْرِهِ (فَمَا لِي؟) أَيْ مِنَ الدُّعَاءِ لِنَفْسِي (فَقَالَ: " قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) أَيْ: بِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ (وَارْحَمْنِي) أَيْ: بِتَوْفِيقِ الطَّاعَاتِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ (وَاهْدِنِي) أَيْ: لِأَحْسَنِ الْأَحْوَالِ (وَارْزُقْنِي) أَيِ: الْمَالَ الْحَلَالَ (وَعَافِنِي) أَيْ: مِنَ الِابْتِلَاءِ بِمَا يَضُرُّ فِي الْمَآلِ (شَكَّ الرَّاوِي

فِي " عَافِنِي) أَيْ: فِي إِثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ، وَالْأَوْلَى الْإِثْبَاتُ لِعَدَمِ مَضَرَّتِهِ بَعْدَ تَمَامِ دَعْوَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: شَكَّ الرَّاوِي فِي لَفْظِ " عَافِنِي " هَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لَا فَهُوَ بِظَاهِرِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ هُوَ الصَّحَابِيُّ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الرُّوَاةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: فَيُؤْتَى بِهِ احْتِيَاطًا لِرِعَايَةِ احْتِمَالِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ، مُسَلَّمٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا إِلَخْ. رُوِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ، فَيُسَنُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولَ كَبِيرًا كَثِيرًا لِيَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْوَارِدِ يَقِينًا ; فَمُعْتَرَضٌ بِأَنَّ الْجَمْعَ بِهَذَا الْمِنْوَالِ غَيْرُ وَارِدٍ، وَالصَّحِيحُ فِي الْجَمْعِ أَنْ يَقُولَ: كَبِيرَا مَرَّةً وَكَثِيرًا أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2318 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى شَجَرَةٍ يَابِسَةِ الْوَرَقِ، فَضَرَبَهَا بِعَصَاهُ، فَتَنَاثَرَ الْوَرَقُ، فَقَالَ: " إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، تُسَاقِطُ ذُنُوبَ الْعَبْدِ كَمَا تَسَاقَطَ وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2318 - (وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى شَجَرَةٍ يَابِسَةِ الْوَرَقِ، فَضَرَبَهَا) أَيْ: أَغْصَانَ الشَّجَرَةِ (بِعَصَاهُ، فَتَنَاثَرَ الْوَرَقُ) أَيْ: تَسَاقَطَ (فَقَالَ: " إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ أَوْ عَلَى الِابْتِدَائِيَّةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ (وَسُبْحَانَ اللَّهِ) : وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ كُلُّهَا بِالنَّصْبِ عَلَى اسْمِ إِنَّ: وَخَبَرُهَا (تُسَاقِطُ) : بِضَمِّ التَّاءِ (ذُنُوبَ الْعَبْدِ) أَيِ: الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَالْمُغَالَبَةُ لِلْمُبَالَغَةِ (كَمَا يَتَسَاقَطُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: تُسَاقِطُ فَتَسَاقَطَ كَمَا يَتَسَاقَطُ (وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) : وَقَوْلُهُ كَمَا يَتَسَاقَطُ إِنْ جُعِلَ صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ لَمْ تَبْقَ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الْمَصْدَرَيْنِ، وَلَوْ جُعِلَ حَالًا مِنَ الذُّنُوبِ اسْتَقَامَ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ تُسَاقِطُ الذُّنُوبَ مُشَبَّهًا تَسَاقُطُهَا بِتَسَاقُطِ الْوَرَقِ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الْأَصَحُّ أَنَّ " مَا " زَائِدَةٌ، وَالْكَافُ بِمَعْنَى مِثْلِ، حَالٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالتَّقْدِيرُ حَالَ كَوْنِ تَسَاقُطِ الذُّنُوبِ مِثْلَ تَسَاقُطِ وَرَقِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا سَلَكَهُ الشَّارِحُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ بِعَيْنِهِ فِي التَّقْدِيرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2319 - وَعَنْ مَكْحُولٍ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ» ". قَالَ مَكْحُولٌ: فَمَنْ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مَنْجًى مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ; كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الضُّرِّ، أَدْنَاهَا الْفَقْرُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ، وَمَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2319 - (وَعَنْ مَكْحُولٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، كَانَ مِنَ السُّودَانِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ بِالْمَدِينَةِ، وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَالْحَسَنُ بِالْبَصْرَةِ، وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ، كَانَ مُفْتِيًا بِالشَّامِ، وَكَانَ لَا يُفْتِي حَتَّى يَقُولَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَأَبِي هِنْدٍ الْوَزَّانِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَمِعَ مِنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْعَسَّالُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ) أَيْ: عَنْ دَفْعِ الضُّرِّ (وَلَا قُوَّةَ) أَيْ: عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ (إِلَّا بِاللَّهِ) أَيْ: بِحِفْظِهِ وَقُدْرَتِهِ (فَإِنَّهَا مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ ذَخَائِرِهَا وَنَفَائِسِهَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. (قَالَ مَكْحُولٌ) أَيْ: مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (فَمَنْ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مَنْجَا) : بِالْأَلِفِ أَيْ: لَا مَهْرَبَ وَلَا مَخْلَصَ (مِنَ اللَّهِ) : أَيْ: مِنْ سُخْطِهِ وَعُقُوبَتِهِ (إِلَّا إِلَيْهِ) أَيْ: بِالرُّجُوعِ إِلَى رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ (كَشَفَ اللَّهُ) أَيْ: دَفَعَ (عَنْهُ سَبْعِينَ بَابًا) أَيْ: نَوْعًا (مِنَ الضُّرِّ) : بِضَمِّ الضَّادِ وَتُفْتَحُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّحْدِيدَ وَالتَّكْثِيرَ (أَدْنَاهُ) أَيْ: أَقَلُّ الضَّرَرِ بِمَعْنَى جِنْسِهِ (الْفَقْرُ) أَيْ: ضَرَرُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (أَدْنَاهَا) أَيْ: أَحَطُّ السَبْعِينَ، وَأَدْنَى مَرَاتِبِ الْأَنْوَاعِ نَوْعُ مَضَرَّةِ الْفَقْرِ، وَالْمُرَادُ الْفَقْرُ الْقَلْبِيُّ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، لِأَنَّ قَائِلَهَا إِذَا تَصَوَّرَ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ، وَتَيَقَّنَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا نَفْعَ وَلَا ضُرَّ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا عَطَاءَ وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِهِ، فَصَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَشَكَرَ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَرَضِيَ بِالْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ فَصَارَ مِنْ زُبْدَةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَعُمْدَةِ الْأَصْفِيَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا) أَيْ: صَدْرُ الْحَدِيثِ (حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ) :

وَبَيَّنَ عَدَمَ الِاتِّصَالِ بِقَوْلِهِ: (وَمَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا فِي السَّمْعِ، وَالْمَشْهُورُ " مِنْ ". قُلْتُ الْمَشْهُورُ تَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ إِلَى وَاحِدٍ، وَقِيلَ: إِلَى اثْنَيْنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَمْ يَسْمَعْ مَكْحُولٌ الْحَدِيثَ نَاقِلًا أَوْ رَاوِيًا عَنْ (أَبِي هُرَيْرَةَ) : وَهَذَا نُكْتَةُ ذِكْرِ مَكْحُولٍ فِي عُنْوَانِ الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ جَرْيِ عَادَةِ الْمُؤَلِّفِ، لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الِانْقِطَاعِ، لَكِنْ يُقَوِّيهِ أَنَّهُ وَرَدَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا: " «قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ السِّتَّةُ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مَعَ لَا مَنْجَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» ".

2320 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ دَوَاءٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاءً أَيْسَرُهَا الْهَمُّ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2320 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ دَوَاءٌ) أَيْ: مَعْنَوِيٌّ تَأْثِيرُهُ قَوِيٌّ (مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاءً) أَيْ: مِنَ الْأَدْوَاءِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (أَيْسَرُهَا) أَيْ: أَقَلُّهَا وَأَسْهَلُهَا (الْهَمُّ) أَيْ: جِنْسُ الْهَمِّ الْمُتَعَلِّقُ بِالدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، أَوْ هَمُّ الْمَعَاشِ وَغَمُّ الْمَعَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْهَمَّ مُوجِبٌ لِغَمِّ النَّفْسِ وَضِيقِ النَّفَسِ، وَسَبَبٌ لِضَعْفِ الْقُوَى وَاخْتِلَالِ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْ ثَمَّ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ يُونُسَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمُعَافَاتِهِ مِنَ الْغَمِّ حَيْثُ قَالَ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] .

2321 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَسْلَمَ عَبْدِي، وَاسْتَسْلَمَ» ". رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2321 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ صِفَةُ كَلِمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً أَيْ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ نَاشِئَةٌ كَائِنَةٌ مِنْ تَحْتِهِ، وَ (مِنْ) فِي: " مِنْ كَنَزِ الْجَنَّةِ " بَيَانِيَّةٌ، وَإِذَا جُعِلَ الْعَرْشُ سَقْفَ الْجَنَّةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ. اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنَ الْكُنُوزِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْعَرْشِيَّةِ، وَذَخَائِرِ الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ الْعُلْوِيَّةِ، لَا مِنَ الْكُنُوزِ الْفَانِيَةِ الْحِسِّيَّةِ السُّفْلِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: كَلِمَةٌ أُنْزِلَتْ مِنَ الْكَنْزِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ تَحْتَهُ كَنْزًا، وَأَنَّ أَوَاخِرَ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْكَنْزِ، وَهِيَ أَيْضًا مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ، فَـ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ حَدِيثُ مَكْحُولٍ. (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أَيْ: فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ وَفَضْلِ قَائِلِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا قَالَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لِمَلَائِكَتِهِ مُعْلِمًا لَهُمْ بِكَمَالِ قَائِلِهَا الْمُتَحَلِّي بِمَعْنَاهَا: (أَسْلَمَ عَبْدِي) أَيِ: انْقَادَ وَتَرَكَ الْعِنَادَ، أَوْ أَخْلَصَ فِي الْعُبُودِيَّةِ بِالتَّسْلِيمِ لِأُمُورِ الرُّبُوبِيَّةِ، (وَاسْتَسْلَمَ) أَيِ: انْقَادَ انْقِيَادًا كَامِلًا، أَوْ بَالَغَ فِي الِانْقِيَادِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْعِبَادِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَوَّضَ أُمُورَ الْكَائِنَاتِ إِلَى اللَّهِ بِأَسْرِهَا وَانْقَادَ هُوَ بِنَفْسِهِ لِلَّهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: وَرَوَى الْأَوَّلَ مِنْهُمَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ.

2322 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ هِيَ صَلَاةُ الْخَلَائِقِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ الشُّكْرِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَسْلَمَ وَاسْتَسْلَمَ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2322 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ) أَيْ: مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (سُبْحَانَ اللَّهِ هِيَ صَلَاةُ الْخَلَائِقِ) أَيْ: عِبَادَتُهَا وَانْقِيَادُهَا. قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وَالتَّسْبِيحُ إِمَّا بِالْقَالِ أَوْ بِالْحَالِ، حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ الشُّكْرِ) أَيْ: عُمْدَتُهُ وَرَأْسُهُ كَمَا سَبَقَ، (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ) أَيْ: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ الْمُوجِبَةُ خَلَاصَ قَائِلِهَا مِنَ النَّارِ، أَوْ كَلِمَةٌ لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَقْرُونَةً بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، (وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَمْلَأُ) : بِالتَّأْنِيثِ بِاعْتِبَارِ الْكَلِمَةِ، وَتُذَكَّرُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ أَيْ: يَمْلَأُ ثَوَابُهَا أَوْ عَظَمَتُهُ (مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) : إِذْ لَا كَبِيرَ فِيهِمَا إِلَّا حَقِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ (وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أَيْ: وَتَصَوَّرَ مَبْنَاهُ وَتَحَقَّقَ بِمَعْنَاهُ (قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: أَسْلَمَ) أَيْ: إِسْلَامًا كَامِلًا (وَاسْتَسْلَمَ) أَيِ: انْقَادَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

[باب الاستغفار والتوبة]

[بَابُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2323 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَاللَّهِ إِنِّي لِأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الِاسْتِغْفَارِ) أَيْ: طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَهُوَ قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ وَقَدْ لَا يَتَضَمَّنُ، وَلِذَا قَالَ: (وَالتَّوْبَةُ) : أَوِ: الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّوْبَةُ بِالْجَنَانِ، وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ، وَمِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، ثُمَّ هِيَ أَهَمُّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَوَّلُ مَقَامَاتِ سَالِكِي الْآخِرَةِ، وَالْمَغْفِرَةُ مِنْهُ تَعَالَى لِعَبْدِهِ سَتْرُهُ لِذَنْبِهِ فِي الدُّنْيَا، بِأَنْ لَا يُطْلِعَ عَلَيْهِ أَحَدًا، وَفِي الْآخِرَةِ بِأَنْ لَا يُعَاقِبَهُ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالتَّوْبَةُ فِي الشَّرْعِ تَرْكُ الذَّنْبِ لِقُبْحِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَالْعَزِيمَةُ عَلَى تَرْكِ الْمُعَاوَدَةِ وَتَدَارُكِ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَدَارَكَ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالْإِعَادَةِ. هَذَا كَلَامُ الرَّاغِبِ، وَزَادَ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: إِنْ كَانَ الذَّنْبُ مُتَعَلِّقًا بِبَنِي آدَمَ، فَلَهَا شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ رَدُّ الْمَظْلَمَةِ إِلَى صَاحِبِهَا أَوْ تَحْصِيلُ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ كَقَضَاءِ صَلَاةٍ فَلَا يُسَامَحُ بِصَرْفِ وَقْتٍ فِي نَفْلٍ وَفَرْضِ كِفَايَةٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْفِسْقِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ، فَمَتَى تَنَفَّلَ مَثَلًا كَانَ بَاقِيًا فِي الْفِسْقِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَالْبَقَاءُ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ فِسْقٌ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. قُلْتُ: كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] قَالَ: يَتَسَامَحُ فِي صَرْفِ الْوَقْتِ إِلَى كَسْبِ مَا يَقُومُ بِمُؤَنِهِ وَمُؤَنِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورِيٌّ لَا فِي أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكُنْتُ أَعْتَقِدُ بِمَضْمُونِهِ وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2323 - (عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " وَاللَّهِ) : قَسَمٌ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ (إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) أَيْ: مِنْ تَقْصِيرِي فِي الطَّاعَةِ، أَوْ مِنْ رُؤْيَةِ نَفْسِي فِي الْعِبَادَةِ، وَلِذَا كَانَ يُعَقِّبُ صَلَاتَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عَلَى طَرِيقِ التَّرْجِيعِ وَالتَّكْرَارِ (وَأَتُوبُ إِلَيْهِ) أَيْ: أَرْجِعُ إِلَى أَحْكَامِهِ بَعْدَ إِحْكَامِ شَرَائِعِهِ وَإِعْلَامِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْفَارُ إِيمَاءً إِلَى التَّفْرِقَةِ وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى الْجَمْعِ، أَوِ الِاسْتِغْفَارُ اشْتِغَالٌ بِالْخَلْقِ، وَالتَّوْبَةُ الْتِفَاتٌ إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ مَرْتَبَةٌ لِجَمْعِ الْجَمْعِ، أَوِ الِاسْتِغْفَارُ مُرَاقَبَةٌ وَالتَّوْبَةُ مُشَاهَدَةٌ، أَوِ الِاسْتِغْفَارُ فَنَاءٌ وَالتَّوْبَةُ بَقَاءٌ. (فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ

سَبْعِينَ مَرَّةً) : يَحْتَمِلُ التَّحْدِيدَ لِلرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا جَمِيعًا التَّكْثِيرُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَوْبَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً وَاسْتِغْفَارُهُ لَيْسَ لِذَنْبٍ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ، بَلْ لِاعْتِقَادِ قُصُورِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ عَمَّا يَلِيقُ بِحَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَحَثٌّ لِلْأُمَّةِ عَلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ كَوْنِهِ مَعْصُومًا، وَكَوْنِهِ خَيْرَ الْمَخْلُوقَاتِ إِذَا اسْتَغْفَرَ وَتَابَ إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَكَيْفَ بِالْمُذْنِبِينَ، وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْمَقَالِ وَالْفِعَالِ جَمِيعًا، وَالْمَغْفِرَةُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَصُونَ الْعَبْدَ مِنْ أَنْ يَمَسَّهُ عَذَابٌ. قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ فِي الْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَرُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ الْآخَرَ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ. أَمَّا الْمَرْفُوعُ، فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا الْبَاقِي مِنْهُمَا فَالِاسْتِغْفَارُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] أَقُولُ: إِذَا كَانَ الِاسْتِغْفَارُ يَنْفَعُ الْكُفَّارَ، فَكَيْفَ لَا يُفِيدُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارَ، وَقِيلَ: اسْتِغْفَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَّةِ فَهُوَ كَالشَّفَاعَةِ لَهُمْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2324 - وَعَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2324 - (عَنِ الْأَغَرِّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (الْمُزَنِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ مُزَيْنَةَ مُصَغَّرًا، وَقِيلَ الْجُهَنِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَيُغَانُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: يُطْبِقُ وَيَغْشَى، أَوْ يَسْتُرُ وَيُغَطِّي (عَلَى قَلْبِي) أَيْ: عِنْدَ إِرَادَةِ رَبِّي (وَإِنِّي لِأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) أَيْ: لِذَلِكَ الْغَيْنِ عَنْ نَظَرِ الْعَيْنِ بِحِجَابِ الْبَيْنِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْأَيْنِ (فِي الْيَوْمِ) أَيِ: الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَ أَوِ الْوَقْتِ الَّذِي يَغِيبُ الْمُرِيدُ فِي الْمُرَادِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الصُّوفِيَّةُ بِقَوْلِهِمُ: الصُّوفِيُّ ابْنُ الْوَقْتِ أَوْ أَبُو الْوَقْتِ، وَقَدْ رُئِيَ لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَلَكِ جِبْرِيلُ، وَالنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ نَفْسُهُ الْجَلِيلُ (مِائَةَ مَرَّةٍ) : أُرِيدَ بِهِ الْكَثْرَةُ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بَسْطَ الزَّمَانِ وَطَيَّ اللِّسَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: تُطْبِقُ إِطْبَاقَ الْغَيْنِ وَهُوَ الْغَيْمُ، يُقَالُ: غَيِنَتِ السَّمَاءُ تَغَانُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْغَيْنُ هُوَ الْغَيْمُ، يُقَالُ: غَيَّنَ عَلَيْهِ كَذَا أَيْ: غَطَّى عَلَيْهِ، وَعَلَى قَلْبِي: مَرْفُوعٌ عَلَى نِيَابَةِ الْفِعْلِ، يَعْنِي لَيَغْشَى عَلَى قَلْبِهِ، مَا لَا يَخْلُو بَشَرٌ عَنْهُ مِنْ سَهْوٍ وَالْتِفَاتٍ إِلَى حُظُوظِ النَّفْسِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَنْكُوحٍ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ كَحِجَابٍ وَغَيْمٍ يُطْبِقُ عَلَى قَلْبِهِ، فَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى حَيْلُولَةً مَا، فَيَسْتَغْفِرُ تَصْفِيَةً لِلْقَلْبِ وَإِزَاحَةً لِلْغَاشِيَةِ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَنْبًا، لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ أَحْوَالِهِ نَقْصٌ وَهُبُوطٌ إِلَى حَضِيضِ الْبَشَرِيَّةِ يُشَابِهُ الذَّنْبَ فَيُنَاسِبُهُ الِاسْتِغْفَارُ. قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ فَتَرَاتٌ وَغَفَلَاتٌ فِي الذِّكْرِ الَّذِي شَأْنُهُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَتَرَ أَوْ غَفَلَ عَنْهُ عَدَّهُ ذَنْبًا وَاسْتَغْفَرَ، وَقِيلَ هَمُّهُ بِسَبَبِ أُمَّتِهِ وَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، وَقِيلَ: اشْتِغَالُهُ بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِ أُمَّتِهِ وَمُحَارَبَةِ أَعْدَائِهِ وَتَأْلِيفِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مُعَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْجُبُهُ عَنْ عِظَمِ مَقَامِهِ، وَهُوَ حُضُورُهُ فِي حَضِيرَةِ الْقُدُسِ فَيَعُدُّهُ ذَنْبًا وَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ، وَقِيلَ: كَمَا أَنَّ إِطْبَاقَ الْجَفْنِ عَلَى الْبَاصِرَةِ مِصْقَلَةٌ لَهَا وَحِفْظٌ عَنِ الْغُبَارِ وَالدُّخَانِ وَمَا يَضُرُّهَا، كَذَلِكَ مَا كَانَ يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ وِقَايَةً لَهُ وَحِفْظًا لَهُ عَنْ غُبَارِ الْأَغْيَارِ وَصِقَالَةً لَهُ، فَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَالًا، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ كَإِطْبَاقِ الْجَفْنِ، وَبَعْدَ الصَّقْلِ كَانَ يَرَى قُصُورَاتٍ لَازِمَةً لِلْبَشَرِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ: لَمَّا كَانَ أَتَمَّ الْقُلُوبِ صَفَاءً وَأَكْثَرَهَا ضِيَاءً، وَكَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ النُّزُولِ إِلَى الرُّخَصِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَى حُظُوظِ النَّفْسِ مِنْ مُعَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهَا، وَكَانَ إِذَا أَعْطَى شَيْئًا نَفْسَهُ أَسْرَعَ كُدُورَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ لِكَمَالِ رِقَّتِهِ وَفَرْطِ نُورَانِيَّتِهِ، فَكَانَ إِذَا أَحَسَّ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَلُومُ نَفْسَهُ بِتَرْكِ كَمَالِ الْحُضُورِ وَيَعُدُّهُ تَقْصِيرًا وَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ. اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ فَسَّرَ فِي مَقَالِهِ بِمُقْتَضَى حَالِهِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ وَتَحْقِيقِ مَعَانِيهِ، فَكُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُحَقِّقِينَ أَنْ لَا يُقَاسَ الْمُلُوكُ بِالْحَدَّادِينَ، فَكَذَا لَا يُقَاسُ أَحْوَالُ الْقَلْبِ السَّلِيمِ بِمَا يَجْرِي عَلَى الْقَلْبِ السَّقِيمِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُنَزِّهَ قَلْبَهُ عَنِ الذُّنُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَيُئَوِّلَ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ فِي حَقِّهِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ تَأْوِيلًا حَسَنًا، وَتَفْصِيلُ أَحْوَالِهِ وَبَيَانُ انْتِقَالِهِ مِنْ نُقْصَانِهِ إِلَى كَمَالِهِ يُوكَلُ إِلَى خَالِقِ الْقُلُوبِ وَعَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: عَنْ قَلْبِ مَنْ تَرْوُونَ هَذَا؟ فَقَالُوا: عَنْ قَلْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَنْ قَلْبِ غَيْرِهِ لَكُنْتُ أُفَسِّرُهُ لَكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلِلَّهِ دَرُّهُ فِي انْتِهَاجِهِ مَنْهَجَ الْأَدَبِ وَإِحْلَالِ الْقَلْبِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ مَوْقِعَ وَحْيِهِ، وَمَنْزِلَةَ تَنْزِيلِهِ، وَبَعْدُ فَإِنَّ قَلْبَهُ مَشْرَبٌ سُدَّ عَنْ أَهْلِ اللِّسَانِ مَوَارِدُهُ، وَفُتِحَ لِأَهْلِ السُّلُوكِ مَسَالِكُهُ. اهـ. فَالْمُخْتَارُ مَا قَالَ بَعْضُ الْأَخْيَارِ مِنْ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُخَاضُ فِي مَعْنَاهُ، وَمُجْمَلُ الْكَلَامِ مَا قَالَهُ الْقُطْبُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ غَيْنُ أَنْوَارٍ لَا غَيْنُ أَغْيَارٍ، وَأَقُولُ: هُوَ غَيْنُ الْعَيْنِ لَا غَيْنُ الْغَيْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2325 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2325 - (وَعَنْهُ) أَيْ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ» ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] وَفِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ دَلِيلٌ وَشَاهِدٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ فِي مَقَامِهِ وَحَالِهِ يَحْتَاجُ إِلَى الرُّجُوعِ لِتَرْقِيَةِ كَمَالِهِ، وَأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُقَصِّرٌ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ كَمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ. قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: (فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ) أَيْ: أَرْجِعُ رُجُوعًا يَلِيقُ بِهِ إِلَى شُهُودِهِ أَوْ سُؤَالِهِ أَوْ إِظْهَارِ الِافْتِقَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ (فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) : فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَنْ تَرْجِعُوا إِلَيْهِ فِي سَاعَةٍ أَلْفَ مَرَّةٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2326 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِي عَنِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: " «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ ; فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ ; فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ ; فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ; مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ; مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ. وَمِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2326 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِي) أَيْ: بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، يَقَظَةً أَوْ مَنَامًا، بِاللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى (عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ) أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُهُ وَظَهَرَ فِي هَذَا الْخَيْرِ بَعْضُ أَثَرِهِ، (وَتَعَالَى) أَيْ: عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ فِي الرِّوَايَةِ وَغَيْرِهَا (أَنَّهُ) : ضُبِطَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا، فَتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا (قَالَ: " يَا عِبَادِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِطَابُ لِلثَّقَلَيْنِ لِتَعَاقُبِ التَّقْوَى وَالْفُجُورِ فِيهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُمَّ الْمَلَائِكَةَ فَيَكُونُ ذِكْرُهُمْ مُدْرَجًا فِي الْجِنِّ لِشُمُولِ الِاجْتِنَانِ لَهُمْ، وَتَوَجُّهُ هَذَا الْخِطَابِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صُدُورِ الْفُجُورِ، وَلَا عَلَى إِمْكَانِهِ. اهـ. وَكَذَا الْجُوعُ وَالْعُرْيُ، لَكِنَّ الْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْخِطَابِ التَّغْلِيبِيِّ ( «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» ) أَيْ: تَقَدَّسْتُ عَنْهُ وَتَعَالَيْتُ، فَهُوَ فِي حَقِّي كَالْمُحَرَّمِ فِي حَقِّ النَّاسِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ ظُلْمٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، أَوْ أَنَّهُ التَّعَدِّي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، لِأَنَّ فِعْلَهُ إِمَّا عَدْلٌ، وَإِمَّا فَضْلٌ. (وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ تَحْرِيمًا غَلِيظًا جِدًّا، فَهُوَ آكَدُ مِنْ حُرْمَتِهِ عَلَيْكُمْ، فَلِذَا عَدَلَ إِلَيْهِ. اهـ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعُدُولَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْمُشَارَكَةَ فِي مَعْنَى التَّحْرِيمِ السَّابِقِ، (فَلَا تَظَالَمُوا) : بِفَتْحِ التَّاءِ حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا أَيْ: لَا يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَإِنِّي أَنْتَقِمُ لِلْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ لَأَنْتَصِرَنَّ لِلْمَظْلُومِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» ". وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] فَهُوَ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ (يَا عِبَادِي) : كَرَّرَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى فَخَامَتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ. قَالَهُ

ابْنُ حَجَرٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِيمَاءٌ إِلَى مُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى مُرَاعَاةِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ (كُلُّكُمْ ضَالٌّ) أَيْ: عَنْ كُلِّ كَمَالٍ وَسَعَادَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ (إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ) : قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ وَصْفُهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا أَنَّهُمْ خُلِقُوا فِي الضَّلَالَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا بِمَا فِي طِبَاعِهِمْ لَضَلُّوا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ» "، وَهُوَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ التَّوْحِيدُ، وَالْمُرَادَ بِالضَّلَالَةِ جَهَالَةُ تَفْصِيلِ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ وَحُدُودِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى: 7] وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَاشِقًا (فَاسْتَهْدُونِي) أَيِ: اطْلُبُوا الْهِدَايَةَ مِنِّي أَيَّ نَوْعٍ مِنْهَا (أَهْدِكُمْ) : إِذْ لَا هَادِيَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ شَرَعَ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ تَكْمِيلًا لِلْمَرْتَبَتَيْنِ، مُقْتَصِرًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ الْأَهَمَّيْنِ مِنْهَا، وَهُوَ الْأَكْلُ وَاللُّبْسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 - 119] وَلَعَلَّ تَرْكَ الظَّمَأِ اكْتِفَاءٌ بِدَلَالَةِ الْمُقَابَلَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ: وَالْبَرْدَ، وَتَرْكُ الْمَأْوَى لِشُمُولِ الْكُسْوَةِ الَّتِي هِيَ السُّتْرَةُ لَهُ إِيمَاءٌ أَوْ إِشَارَةٌ (يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ) أَيْ: مُحْتَاجٌ إِلَى الطَّعَامِ (إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ) أَيْ: مَنْ أَطْعَمْتُهُ وَبَسَطْتُ عَلَيْهِ الرِّزْقَ وَأَغْنَيْتُهُ، فَلَا يَشْكُلُ أَنَّ الْإِطْعَامَ عَامٌّ لِلْجَمِيعِ، فَكَيْفَ يَسْتَثْنِي (فَاسْتَطْعِمُونِي) أَيِ: اطْلُبُوا الطَّعَامَ مِنْ جَنَابِي وَتَيْسِيرَ الْقُوتِ وَالْقُوَّةَ مِنْ بَابِي، (أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ) أَيْ: مُحْتَاجٌ إِلَى سَتْرِ عَوْرَتِهِ وَإِلَى التَّنَعُّمِ بِأَنْوَاعِ لِبَاسِهِ وَزِينَتِهِ (إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي) أَيِ: اطْلُبُوا مِنِّي الْكُسْوَةَ (أَكْسُكُمْ) : بِضَمِّ السِّينِ أَيْ: أُيَسِّرْ لَكُمْ حَالَاتِكُمْ، وَأُزِيلُ عَنْكُمْ مَسَاوِئَ كَشْفِ سَوْآتِكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ وَكَسَوْتُهُ، إِذْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَحْرُومًا مِنْهُمَا قُلْتُ: الْإِطْعَامُ وَالْكُسْوَةُ لَمَّا كَانَا مُعَبِّرَيْنِ عَنِ النَّفْعِ التَّامِّ وَالْبَسْطِ فِي الرِّزْقِ وَعَدَمُهُمَا عَنِ التَّقْتِيرِ وَالتَّضْيِيقِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 26] سَهَّلَ التَّخَيُّلَ عَنِ الْجَوَابِ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِثْبَاتِ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَفْيَ الشِّبَعِ وَالْكُسْوَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْمُسْتَثْنَى إِثْبَاتُ الشِّبَعِ وَالْكُسْوَةِ مُطْلَقًا، بَلِ الْمُرَادُ بَسْطُهُمَا وَتَكْثِيرُهُمَا، وَيُوَضِّحُهُ الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي، أَنَّهُ وَضَعَ قَوْلَهُ: كُلُّكُمْ فُقَرَاءُ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُهُ فِي مَوْضِعِهِ. اهـ. وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبَهَاءِ، وَهُوَ عَيْنُ مَا أَخَذَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْهُ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَقَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْتُهُ أَوْلَى مِمَّا سَلَكَهُ شَارِحٌ فَتَأَمَّلْهُ. (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِهِمَا، وَقِيلَ يَجُوزُ ضَمُّهُمَا تَخْفِيفًا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ. فِي الْقَامُوسِ: خَطَأَ فِي ذَنْبِهِ وَأَخْطَأَ: سَلَكَ سَبِيلَ الْخَطَأِ عَامِدًا أَوْ غَيْرَهُ، أَوِ الْخَاطِئُ مُتَعَمِّدُهُ، وَأَخْطَيْتُ لُغَةٌ أَوْ لُثْغَةٌ، هِيَ تَحَوُّلُ اللِّسَانِ مِنْ حَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ، وَالْمَعْنَى تُذْنِبُونَ بِالْفِعْلِ، بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِهِمْ، وَبِالْقُوَّةِ بِاعْتِبَارِ أَقَلِّهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: غَيْرُ الْمَعْصُومِينَ إِذْ لَيْسُوا مُرَادِينَ بِهَذَا فَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ لِعُمُومِ عِبَادِي الشَّامِلِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، نَعَمْ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ غَيْرُ اسْتِغْفَارِ الْمُذْنِبِينَ. (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أَيْ: فِي هَذَيْنِ الزَّمَانَيْنِ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ النَّهَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] لِغَلَبَةِ الذَّنْبِ فِيهِ. (وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) أَيْ: بِالتَّوْبَةِ أَوْ مَا عَدَا الشِّرْكَ إِنْ شَاءَ جَمْعًا بَيْنَ آيَتِي الزُّمَرِ وَالنِّسَاءِ، أَوْ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْأَذْكَارِ وَنَحْوِهِمَا. (فَاسْتَغْفِرُونِي) أَيِ: اطْلُبُوا الْمَغْفِرَةَ مِنِّي (أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي) : بِفَتْحِ الضَّادِ وَضَمِّهِ (فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي) : حَذْفُ نُونِ الْإِعْرَابِ مِنْهُمَا فِي نَصْبِهِمَا عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ، أَيْ: لَا يَصِحُّ مِنْكُمْ ضُرِّي وَلَا نَفْعِي، فَإِنَّكُمْ لَوِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى عِبَادَتِي أَقْصَى مَا يُمْكِنُ مَا نَفَعْتُمُونِي فِي مُلْكِي، وَلَوِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى عِصْيَانِي أَقْصَى مَا يُمْكِنُ لَمْ تَضُرُّونِي، بَلْ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ

أَسَأْتُمْ فَلَهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ) أَيْ: مِنَ الْمَوْجُودِينَ (وَآخِرَكُمْ) : مِمَّنْ سَيُوجَدُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُكُمْ (وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ تَفْصِيلٌ وَتَبْيِينٌ (كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ) أَيْ: لَوْ كُنْتُمْ عَلَى غَايَةِ التَّقْوَى بِأَنْ تَكُونُوا جَمِيعًا عَلَى تَقْوَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ: عَلَى تَقْوَى أَتْقَى أَحْوَالِ قَلْبِ رَجُلٍ، أَيْ: كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ لِيَسْتَقِيمَ أَنْ يَقَعَ أَتْقَى خَبَرًا لِكَانَ، ثُمَّ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ كُلَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ هُوَ أَتْقَى النَّاسِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمْعِ بِمَنْزِلَتِهِ لِأَنَّ هَذَا أَبْلَغُ كَقَوْلِكَ: رَكِبُوا فَرَسَهُمْ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] فِي وَجْهِ إِضَافَةِ أَفْعَلَ إِلَى نَكِرَةٍ مُفْرَدَةٍ تَدُلُّ أَنَّكَ لَوْ تَقَصَّيْتَ قَلْبَ رَجُلٍ مِنْ كُلِّ الْخَلَائِقِ لَمْ تَجِدْ أَتْقَى قَلْبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ. اهـ. وَلِهَذَا فُسِّرَ بِقَلْبِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَلْبُ الْأَشْقَى بِقَلْبِ إِبْلِيسَ. (مَا زَادَ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ (فِي مُلْكِي شَيْئًا) : إِمَّا مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مَصْدَرٌ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى (لَنْ يَبْلُغُوا) فَفِي (فَتَنْفَعُونِي) نَشْرٌ مُشَوَّشٌ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ، وَلِمُقَارَبَةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُتَوَسِّطِينَ وَيُسَمَّى تَرَقِّيًا وَتَدَلِّيًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ. (يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ) أَيْ: فُجُورِ أَفْجَرِ، أَوْ عَلَى أَفْجَرِ أَحْوَالِهِمْ (قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ) : بِالتَّخْفِيفِ (ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ (مِنْ مُلْكِي شَيْئًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ. إِنْ قُلْنَا: إِنَّ (نَقَصَ) مُتَعَدٍّ، وَمَفْعُولًا مُطْلَقًا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَازِمٌ أَيْ نَقَصَ نُقْصَانًا قَلِيلًا، وَالتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّحْقِيرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَدَلَهُ: (جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَنْ يَبْلُغُوا ضُرِّي فَيَضُرُّونِي، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: (نَقَصَ) مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي الْأَفْصَحِ، وَ (شِيئًا) مَفْعُولُهُ الثَّانِي نَحْوُ: لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا. اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَفْعُولٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ (شَيْئًا) مَفْعُولَهُ الثَّانِي، وَلَعَلَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَهُوَ خَطَأٌ لِفَسَادِ الْمَعْنَى، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ فَاعِلُ نَقَصَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعَيَّنَ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، مَعَ أَنَّ اسْتِدْلَالَهُ بِالْآيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ (شَيْئًا) فِيهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَيْ: شَيْئًا مِنَ النَّقْصِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ: شَيْئًا مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ، وَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ كَوْنُ (يَنْقُصُوكُمْ) مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ: لَمْ يَنْقُصُوا مِنْكُمْ أَيْ مِنْ عُهُودِكُمْ شَيْئًا. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْجُمْهُورُ بِالصَّادِ، وَقُرِئَ بِالضَّادِ أَيْ: عُهُودُكُمْ فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَ (شَيْئًا) فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا) أَيْ: وَقَفُوا أَوِ اسْتَمَرُّوا (فِي صَعِيدٍ) أَيْ: مَقَامٍ (وَاحِدٍ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الصَّعِيدُ يُطْلَقُ عَلَى التُّرَابِ وَعَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. قُلْتُ: فَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا مُطَابَقَةً لِمَا بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ بَعْضَهُمَا يُفَسِّرُ بَعْضًا (فَسَأَلُونِي) أَيْ: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَيَّدَ السُّؤَالَ بِالِاجْتِمَاعِ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ تَزَاحُمَ السُّؤَالِ وَازْدِحَامَهُمْ مِمَّا يُدْهِشُ الْمَسْئُولَ وَيُهِمُّ وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ إِنْجَاحُ مَآرِبِهِمْ وَإِسْعَافُ مَطَالِبِهِمْ، (فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ) أَيْ: فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَفِي مَكَانٍ وَاحِدٍ (مَا نَقَصَ ذَلِكَ) أَيِ: الْإِعْطَاءُ (مِمَّا عِنْدِي) : قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] (إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ) أَيْ: كَالنَّقْصِ أَوِ الشَّيْءِ الَّذِي يَنْقُصُهُ (الْمِخْيَطُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ أَيِ: الْإِبْرَةُ (إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلْإِدْخَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا يَنْقُصُهُ الْمِخْيَطُ مَحْسُوسًا وَلَا مُعْتَدًّا بِهِ عِنْدَ الْعَقْلِ، بَلْ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ كَانَ أَقْرَبَ الْمَحْسُوسَاتِ وَأَشْبَهَهَا بِإِعْطَاءِ حَوَائِجِ الْخَلْقِ كَافَّةً، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْئًا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ يُقَالُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، يَعْنِي لَوْ فُرِضَ النَّقْصُ فِي مُلْكِ اللَّهِ لَكَانَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ (يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ) أَيِ: الْقِصَّةُ (أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا) أَيْ: أَحْفَظُهَا وَأَكْتُبُهَا (عَلَيْكُمْ) : كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِلَفْظِ: عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ

ابْنِ حَجَرٍ: لَكُمْ. وَقَالَ وَفِي نُسْخَةٍ: عَلَيْكُمْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ جَزَاءُ أَعْمَالِكُمْ، تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرِ الْمُبْهَمِ، وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ، وَعَلَى أَفْجَرَ قَلْبِ رَجُلٍ، وَهُوَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَالطَّالِحَةُ، أَيْ: لَيْسَ نَفْعُ أَعْمَالِكُمْ رَاجِعًا إِلَيَّ بَلْ إِلَيْكُمْ (ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا) : التَّوْفِيَةُ إِعْطَاءُ حَقٍّ وَاحِدٍ عَلَى التَّمَامِ أَيْ: أُعْطِيكُمْ جَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ وَافِيًا تَامًّا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌ. (فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا) أَيْ: تَوْفِيقَ خَيْرٍ مِنْ رَبِّهِ وَعَمَلَ خَيْرٍ مِنْ نَفْسِهِ (فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ) أَيْ: عَلَى تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُ لِلْخَيْرِ لِأَنَّهُ الْهَادِي (وَمِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ) أَيْ: شَرًّا أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ (فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ) : لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى ضَلَالِهِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كُلُّكُمْ ضَالٌّ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ، وَالشَّرَّ مِنَ النَّفْسِ. وَهَذَا غَرِيبٌ وَعَجِيبٌ مِنْهُ إِذْ تَقَرَّرَ فِي الْمُعْتَقَدِ، وَتَحَرَّرَ فِي الْمُعْتَمَدِ، أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كُلَّهُ مِنَ اللَّهِ خَلْقًا، وَمِنَ الْعَبْدِ كَسْبًا، خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ، نَعَمْ يُنْسَبُ الشَّرُّ إِلَى النَّفْسِ أَدَبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» ". وَكَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ إِذَا حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ تَعْظِيمًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2327 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فَأَتَى رَاهِبًا، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: أَلَهَ تَوْبَةٌ؟ قَالَ: لَا ; فَقَتَلَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَإِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2327 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ) أَيْ: مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ (قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا) أَيْ: ظُلْمًا (ثُمَّ خَرَجَ) أَيْ: مِنْ بَيْنِهِمْ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْهُمْ مُتَرَدِّدًا (يَسْأَلُ) أَيْ: يَسْتَفْتِي النَّاسَ عَنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ (فَأَتَى رَاهِبًا) أَيْ: عَابِدًا زَاهِدًا مُعْتَزِلًا عَنِ الْخَلْقِ مُقْبِلًا عَلَى الْحَقِّ غَالِبًا عَلَيْهِ الْخَوْفُ. قَالَ: وَمَنْ لَازِمِهِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا (فَسَأَلَهُ، فَقَالَ) أَيِ: الْقَاتِلُ (أَلَهَ) أَيْ: لِهَذَا الْفِعْلِ أَوْ لِهَذَا الْفَاعِلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ لَهُ: أَيْ: بَعْدَ أَنْ قَصَّ الْقِصَّةَ غَيْرَ مُسْنِدِهَا لِنَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَتَلَ إِلَخْ. أَلَهَ أَيِ الْقَاتِلِ الْمَذْكُورِ (تَوْبَةٌ؟) أَيْ: صَحِيحَةٌ. قِيلَ: لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ الْهَمْزَةُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَهُ تَوْبَةٌ حُذِفَ مِنْهُ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِيهِ تَجْرِيدٌ لِأَنَّ حَقَّ الْقِيَاسِ أَنْ يَقُولَ: أَلِي تَوْبَةٌ؟ وَرَوَى هَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ وَفِي نُسْخَةٍ كَمَا فِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ: أَلِي تَوْبَةٌ؟ (قَالَ) أَيِ: الرَّاهِبُ فِي جَوَابِهِ (لَا) أَيْ: لَا تَوْبَةَ لَهُ، أَوْ لَكَ ; إِمَّا جَهْلًا مِنْهُ بِعِلْمِ التَّوْبَةِ، وَإِمَّا لِغَلَبَةِ الْخَشْيَةِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا لِتَصَوُّرِ عَدَمِ إِمْكَانِ إِرْضَاءِ خُصُومِهِ عَنْهُ. (فَقَتَلَهُ) : لَعَلَّهُ لِكَوْنِهِ أَوْهَمَهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهَا وَإِنْ رَضِيَ مُسْتَحِقُّوهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا: لَا، فَقَدْ خَالَفْنَا نُصُوصًا، أَوْ نَعَمْ خَالَفْنَا أَيْضًا أَصْلَ الشَّرْعِ، فَإِنَّ حُقُوقَ بَنِي آدَمَ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، بَلْ تَوْبَتُهَا أَدَاؤُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا أَوِ الِاسْتِحْلَالُ مِنْهَا. فَالْجَوَابُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا رَضِيَ عَنْهُ وَقَبِلَ تَوْبَتَهُ يُرْضِي خَصْمَهُ. (وَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ (يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا) : بِاسْمِهَا (وَكَذَا) : بِوَصْفِهَا أَيِ: الْقَرْيَةُ الْفُلَانِيَّةُ الَّتِي أَهْلُهَا صُلَحَاءُ وَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ فَقَصَدَ تِلْكَ الْقَرْيَةَ. (فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ) أَيْ: أَمَارَاتُهُ وَسَكَرَاتُهُ، فَالْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: فَقَصَدَهَا وَسَارَ نَحْوَهَا وَقَرُبَ مِنْ وَسَطِ طَرِيقِهَا (فَنَاءَ) أَيْ: نَهَضَ وَمَالَ (بِصَدْرِهِ) : لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ فَجَعَلَهُ (نَحْوَهَا) أَيْ: نَحْوَ الْقَرْيَةِ الْفُلَانِيَّةِ (فَاخْتَصَمَتْ) أَيْ: تَخَاصَمَتْ (فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ) : يَعْنِي: قَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: نَحْنُ نَذْهَبُ بِهِ إِلَى الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُ تَائِبٌ لِتَوَجُّهِهِ إِلَى هَذِهِ الْقَرْيَةِ لِلتَّوْبَةِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: نَحْنُ نَذْهَبُ بِهِ إِلَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ وَلَمْ يَتُبْ بَعْدُ. (فَأَوْحَى اللَّهُ) أَيْ: أَلْهَمَ (إِلَى هَذِهِ) أَيِ الْقَرْيَةِ الَّتِي تَوَجَّهَ إِلَيْهَا لِلتَّوْبَةِ وَأَمَرَهَا (أَنْ تَقَرَّبِي) : بِفَتْحِ التَّاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: تَقَرَّبِي إِلَى الْمَيِّتِ (وَإِلَى هَذِهِ) أَيِ: الْقَرْيَةِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا. قَالَهُ الطِّيبِيُّ: أَوِ الْقَرْيَةِ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا

الرَّاهِبَ وَهُوَ الظَّاهِرُ، (أَنْ تَبَاعَدِي) : بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: عَنِ الْمَيِّتِ، فَهَذَا فَضْلٌ فِي صُورَةِ عَدْلٌ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَمَنْ قَالَ هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَدْ خَالَفَ الرِّوَايَةَ وَالدِّرَايَةَ. (فَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قِيسُوا) : الْخِطَابُ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُتَخَاصِمِينَ أَيْ قَدِّرُوا (مَا بَيْنَهُمَا) أَيْ: بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ، فَإِلَى أَيِّ قَرْيَةٍ أَقْرَبَ فَإِلْحَاقُهُ بِأَهْلِهَا أَوْجَبُ. (فَوُجِدَ) أَيِ: الْمَيِّتُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ (إِلَى هَذِهِ) أَيِ: الْقَرْيَةِ الَّتِي تَوَجَّهَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قَرْيَةُ الصَّالِحِينَ (أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ) : دَلَّ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِطَالِبِ التَّوْبَةِ، فَضْلًا عَنِ التَّائِبِ، رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى تَوْبَةً نَصُوحًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْ عَبْدِهِ أَرْضَى عَنْهُ خُصُومَهُ، وَرَدَّ مَظَالِمَهُ، فَفِي الْحَدِيثِ تَرْغِيبٌ فِي التَّوْبَةِ، وَمَنْعُ النَّاسِ عَنِ الْيَأْسِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ: «فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلَقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ ; فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» . اهـ. وَفِيهِ تَفْضِيلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ.

2328 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ - " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2328 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَيْ: إِيجَادُهَا وَإِمْدَادُهَا بِقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ (لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا) أَيْ: أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ، أَوْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ (لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ) أَيْ: آخَرِينَ مِنْ جِنْسِكِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ (يُذْنِبُونَ) أَيْ: يُمْكِنُ وُقُوعُ الذَّنْبِ مِنْهُمْ وَيَقَعُ بِالْفِعْلِ عَنْ بَعْضِهِمْ (فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ) أَيْ: فَيَتُوبُونَ، أَوْ يَطْلُبُونَ الْمَغْفِرَةَ مُطْلَقًا (فَيَغْفِرُ لَهُمْ) : لِاقْتِضَاءِ صِفَةِ الْغَفَّارِ وَالْغَفُورِ ذَلِكَ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى اسْتِيلَاءِ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ الْحَدِيثُ تَسْلِيَةً لِلْمُنْهَمِكِينَ فِي الذُّنُوبِ، كَمَا يَتَوَهَّمُهُ أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاللَّهِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - إِنَّمَا بُعِثُوا لِيَرْدَعُوا النَّاسَ عَنْ غِشْيَانِ الذُّنُوبِ، بَلْ بَيَانٌ لِعَفْوِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَجَاوُزِهِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ لِيَرْغَبُوا فِي التَّوْبَةِ، وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ كَمَا أَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْسِنِينَ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنِ الْمُسِيئِينَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَسْمَائِهِ: الْغَفَّارُ، الْحَلِيمُ، التَّوَّابُ، الْعَفُوُّ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْعَلَ الْعِبَادَ شَأْنًا وَاحِدًا، كَالْمَلَائِكَةِ مَجْبُولِينَ عَلَى التَّنَزُّهِ مِنَ الذُّنُوبِ، بَلْ يَخْلُقُ فِيهِمْ مَنْ يَكُونُ بِطَبْعِهِ مَيَّالًا إِلَى الْهَوَى مُتَلَبِّسًا بِمَا يَقْتَضِيهِ، ثُمَّ يُكَلِّفُهُ التَّوَقِّي عَنْهُ، وَيُحَذِّرُهُ عَنْ مُدَانَاتِهِ، وَيُعَرِّفُهُ التَّوْبَةَ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، فَإِنْ وَفَّى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ فَالتَّوْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ أَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ مَجْبُولِينَ عَلَى مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ الذَّنْبُ، فَيَتَجَلَّى عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، فَإِنَّ الْغَفَّارَ يَسْتَدْعِي مَغْفُورًا، كَمَا أَنَّ الرَّزَّاقَ يَسْتَدْعِي مَرْزُوقًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَصْدِيرُ الْحَدِيثِ بِالْقَسَمِ رَدٌّ لَمْ يُنْكِرْ صُدُورَ الذَّنْبِ عَنِ الْعِبَادِ وَيَعُدُّهُ نَقْصًا فِيهِمْ مُطْلَقًا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنَ الْعِبَادِ صُدُورَهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ، فَنَظَرُوا إِلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى سِرِّهِ أَنَّهُ مُسْتَجْلِبٌ لِلتَّوْبَةِ الَّتِي هِيَ تُوقِعُ مَحَبَّةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَلَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، الْحَدِيثَ. وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي هَذَا إِظْهَارُ صِفَةِ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ وَالْغُفْرَانِ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ لَانْثَلَمَ طَرَفٌ مِنْ ظُهُورِ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا هُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ يَتَجَلَّى لَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْقَهْرِ وَاللُّطْفِ وَالْإِنْعَامِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَمَّا نَظَرُوا إِلَى الْقَهْرِ وَالْجَلَالِ قَالُوا: {أَتُجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] .

(وَاللَّهُ تَعَالَى حِينَ نَظَرَ إِلَى صِفَةِ اللُّطْفِ وَالْإِكْرَامِ قَالَ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُلْمِحُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ " وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: " وَلَمْ يُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ". اهـ. فَهُوَ نَظِيرُ مَا وَرَدَ: " كُلُّكُمْ خَطَّاءُونَ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2329 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» ،. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2329 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ) : قِيلَ: بَسْطُ الْيَدِ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّلَبِ، لِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِنْ أَحَدٍ بَسَطَ إِلَيْهِ كَفَّهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْبَسْطُ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَعَرْضِهَا، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ إِلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ إِلَخْ. فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادًا، إِذْ قَبُولُ التَّوْبَةِ بِاللَّيْلِ لَيْسَ عِلَّةً لِتَوْبَةِ النَّهَارِ وَعَكْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَبُولِهِ التَّوْبَةَ قَبْلَ وُجُودِهَا، فَالْمَعْنَى يَدْعُو الْمُذْنِبِينَ إِلَى التَّوْبَةِ (بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ) أَيْ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، يُمْهِلُهُمْ لِيَتُوبُوا (وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ) وَقِيلَ: الْبَسْطُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَسُّعِ فِي الْجُودِ وَالْعَطَاءِ وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْمَنْعِ. وَفِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَكَثْرَةِ تَجَاوُزِهِ عَنِ الذُّنُوبِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَمْثِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مَطْلُوبَةٌ عِنْدَهُ مَحْبُوبَةٌ لَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَتَقَاضَاهَا مِنَ الْمُسِيءِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) : فَحِينَئِذٍ يُغْلَقُ بَابُهَا. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَشْبَاهِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُقْبَلُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: هَذَا مَخْصُوصٌ لِمَنْ شَاهَدَ طُلُوعَهَا، فَمَنْ وُلِدَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ بَلَغَ وَكَانَ كَافِرًا وَآمَنَ، أَوْ مُذْنِبًا فَتَابَ يُقْبَلُ إِيمَانُهُ وَتَوْبَتُهُ لِعَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2330 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -: " «إِنَّ الْعَبَدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ ; تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2330 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ) أَيْ: أَقَرَّ بِكَوْنِهِ مُذْنِبًا وَعَرَفَ ذَنْبَهُ (ثُمَّ تَابَ) : أَتَى بِأَرْكَانِ التَّوْبَةِ مِنَ النَّدَمِ وَالْخَلْعِ وَالْعَزْمِ وَالتَّدَارُكِ (تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ: قَبِلَ تَوْبَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَحَقِيقَتُهُ، أَنَّ اللَّهَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2331 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2331 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا حَدٌّ لِقَبُولِ التَّوْبَةِ. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] وَلِقَبُولِهَا حَدٌّ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ أَنْ يُغَرْغِرَ وَيَرَى بَأْسَ اللَّهِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2332 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ، كَانَتْ رَاحِلَتُهُ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ ; أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2332 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَلَّهُ) : بِفَتْحِ لَامِ الِابْتِدَاءِ أَوِ الْقَسَمِ (أَشَدُّ فَرَحًا) أَيْ: رِضًا يَعْنِي: أَرْضَى (بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ) أَيْ: مِنْ فَرَحِ أَحَدِكُمْ وَسُرُورِهِ وَرِضَاهُ، يَعْنِي

تَقَعُ التَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَبُولِ وَالرِّضَا مَوْقِعًا يَقَعُ فِي مِثْلِهِ مَا يُوجِبُ فَرْطَ الْفَرَحِ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ كَمَالُ الرِّضَا، لِأَنَّ الْفَرَحَ الْمُتَعَارَفَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَهِمُوا مِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ مَا يُرَغِّبُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَيَكْشِفُ عَنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَمْ يُفَتِّشُوا عَنْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَهَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ السَّلِيمَةُ، وَقَلَّمَا يَزِيغُ عَنْهُ قَدَمُ الرَّاسِخِ. (كَانَ رَاحِلَتُهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: كَانَتْ رَاحِلَتُهُ (بِأَرْضِ فَلَاةٍ) : بِالْإِضَافَةِ وَبِنُونٍ أَيْ: مَفَازَةٌ (فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ) أَيْ: نَفَرَتْ (وَعَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى ظَهْرِهَا (طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ) : خُصَّا لِأَنَّهُمَا سَبَبَا حَيَاتِهِ (فَأَيِسَ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ وِجْدَانِ الرَّاحِلَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا (فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا) : حَالَ كَوْنِهِ (وَقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ) أَيْ: مِنْ حُصُولِهَا وَوُصُولِهَا (فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ) أَيْ: فِي هَذَا الْحَالِ مُنْكَسِرُ الْبَالِ (وَإِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ) أَيْ: إِذَا الرَّجُلُ حَاضِرٌ بِتِلْكَ الرَّاحِلَةِ حَالَ كَوْنِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَلَا تَعَبٍ (فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا) أَيْ: زِمَامِهَا فَرِحًا بِهَا فَرَحًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، ( «ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ» ) : أَيْ: بِسَبْقِ اللِّسَانِ عَنْ نَهْجِ الصَّوَابِ وَهُوَ: أَنَا عَبْدُكَ وَأَنْتَ رَبِّي (مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ) كَرَّرَهُ لِبَيَانِ عُذْرِهِ وَسَبَبِ صُدُورِهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْفَرَحِ وَالْحُزْنِ رُبَّمَا يَقْتُلُ صَاحِبَهُ وَيُدْهِشُ عَقْلَهُ، حَتَّى مَنَعَ صَاحِبَهُ مِنْ إِدْرَاكِ الْبَدِيهِيَّاتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2333 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْهُ ; فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْهُ ; فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، قَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي ; فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2333 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ عَبْدًا) أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ (أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى أَذْنَبَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: خَبَرُ إِنَّ إِذَا كَانَ اسْمُهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً (رَبِّ) أَيْ: يَا رَبِّ (أَذْنَبْتُ) أَيْ: ذَنْبًا (فَاغْفِرْهُ) أَيِ: الذَّنْبَ. الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ جَعَلَ اعْتِرَافَهُ بِالذَّنْبِ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ حَيْثُ أَوْجَبَ اللَّهُ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِينَ الْمُعْتَرِفِينَ بِالسَّيِّئَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ، وَيَصِحُّ الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ سَأَلَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ (فَقَالَ رَبُّهُ) أَيْ: لِلْمَلَائِكَةِ (أَعَلِمَ عَبْدِي) : بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَفِعْلٍ مَاضٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قِيلَ: إِمَّا اسْتِخْبَارٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ لِلْمُبَاهَاةِ، وَإِمَّا اسْتِفْهَامٌ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّعْجِيبِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَعَلِمْتَ عَبْدِي إِلَى الْغَيْبَةِ شُكْرًا لِصَنِيعِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَإِحْمَادًا لَهُ عَلَى فِعْلِهِ (أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ) أَيْ: إِذَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ (وَيَأْخُذُ بِهِ؟) أَيْ: يُؤَاخِذُ وَيُعَاقِبُ فَاعِلَهُ إِذَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ (غَفَرْتُ لِعَبْدِي) أَيْ: ذَنْبُهُ (ثُمَّ مَكَثَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا (مَا شَاءَ اللَّهُ) أَيْ: لَبِثَ مُطِيعًا مُدَّةَ مَشِيئَةِ اللَّهِ (ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا) أَيْ: آخَرَ فَاغْفِرْهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّوْبَةِ وَبِدُونِهَا (فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا) أَيْ: عَظِيمًا (يَغْفِرُ الذَّنْبَ) أَيِ: الْعَظِيمَ أَوْ جِنْسَ الذَّنْبِ تَارَةً (وَيَأْخُذُ بِهِ؟) أَيْ: أُخْرَى (غَفَرْتُ لِعَبْدِي) أَيْ: لِتَوْبَتِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ (ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ) أَيْ: مِنَ الزَّمَانِ (ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا) : تُفِيدُ (ثُمَّ) تَرَاخِيَ الذُّنُوبِ، وَالثَّانِيَةُ يُؤَكِّدُهَا، هَذَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْمُذْنِبِ وَأَنَّ طَاعَتَهُ تَغْلِبُ مَعْصِيَتَهُ وَأَنَّهُ سَرِيعُ الرُّجُوعِ إِلَى طَلَبِ مَغْفِرَتِهِ (فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ) أَيْ: مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ (فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ) أَيْ: بِالِاسْتِغْفَارِ.

(وَيَأْخُذُ بِهِ؟) أَيْ: عَلَى الْإِصْرَارِ (غَفَرْتُ لِعَبْدِي) أَيْ: لِأَنَّهُ عَبْدِي بِقَوْلِهِ فِي كُلِّ ذَنْبٍ: رَبِّي (فَلْيَفْعَلْ) : وَفِي نُسْخَةٍ، وَهِيَ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ: فَلْيَعْمَلْ (مَا شَاءَ) أَيْ: إِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْحَالِ بِهَذَا الْمِنْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مَا شَاءَ مِنَ الذَّنْبِ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْعِبَادِ، ثُمَّ لْيَتُبْ وَهُوَ تَقْيِيدٌ بِلَا دَلِيلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، ثُمَّ هَذِهِ الصِّيغَةُ لِلتَّلَطُّفِ وَإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ وَالشَّفَقَةِ أَيْ: إِنْ فَعَلْتَ أَضْعَافَ مَا كُنْتَ تَفْعَلُ، وَاسْتَغْفَرْتَ مِنْهُ غَفَرْتُ لَكَ، فَإِنِّي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ". وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ هُنَا: أَيْ مَا دُمْتَ تَتُوبُ وَتَسْتَغْفِرُ عَنْهَا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ. اهـ. لِأَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ شَرْطًا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ مَا دُمْتَ تُذْنِبُ ثُمَّ تَتُوبُ فَسَوْفَ أَغْفِرُ لَكَ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ السُّخْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] مُرَادًا هُنَا، وَفِي مَقَامِ الْحَفَاوَةِ يَعْنِي مَقَامَ التَّلَطُّفُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: " «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ". وَكَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُحِبُّهُ وَيُؤْذِيكَ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ فَلَسْتُ بِتَارِكٍ لَكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْحَثُّ عَلَى الْفِعْلِ بَلْ إِظْهَارِ الْحَفَاوَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَائِدَةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الذَّنْبِ وَإِنْ كَانَ أَقْبَحَ مِنَ ابْتِدَائِهِ، لِأَنَّهُ أَضَافَ إِلَى مُلَابَسَةِ الذَّنْبِ نَقْضَ التَّوْبَةِ، لَكِنَّ الْعَوْدَ إِلَى التَّوْبَةِ أَحْسَنُ مِنَ ابْتِدَائِهَا، لِأَنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهَا مُلَازِمَةَ الطَّلَبِ مِنَ الْكَرِيمِ وَالْإِلْحَاحِ فِي سُؤَالِهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ لَا غَافِرَ لِلذَّنْبِ سِوَاهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الذُّنُوبَ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ مِائَةَ مَرَّةٍ بَلْ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ وَتَابَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. وَلَوْ تَابَ مِنَ الْجَمِيعِ تَوْبَةً وَاحِدَةً صَحَّتْ تَوْبَتُهُ. قُلْتُ: هَذَا الْأَخِيرُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَنْ خَالَفَ إِذَا تَابَ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ، أَوْ إِذَا نَقَضَ التَّوْبَةَ، وَالصَّحِيحٌ صِحَّتُهَا. وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: الِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ أَوْ بِهِمَا. الْأَوَّلُ فِيهِ نَفْعٌ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ السُّكُوتِ، وَلِأَنَّهُ يَعْتَادُ فِعْلَ الْخَيْرِ، وَالثَّانِي نَافِعٌ جِدًّا، وَالثَّالِثُ أَبْلَغُ مِنْهُ، لَكِنَّهُمَا لَا يُمَحِّصَانِ الذَّنْبَ حَتَّى تُوجَدَ التَّوْبَةُ، فَإِنَّ الْعَاصِيَ الْمُصِرَّ يَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنْهُ. قُلْتُ: قَوْلُهُ لَا يُمَحِّصَانِ الذَّنْبَ حَتَّى تُوجَدَ التَّوْبَةُ، مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُمَحِّصَانِهِ قَطْعًا وَجَزْمًا، لَا أَنَّهُ لَا يُمَحِّصَانِهِ أَصْلًا، لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ دُعَاءٌ، وَقَدْ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ دُعَاءَ عَبْدِهِ فَيُمَحِّصُ ذَنْبَهُ، وَلِأَنَّ التَّمْحِيصَ قَدْ يَكُونُ بِفَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ بِطَاعَةٍ مِنَ الْعَبْدِ، أَوْ بِبَلِيَّةٍ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ غَيْرُ مَعْنَى التَّوْبَةِ هُوَ بِحَسَبِ وَضْعِ اللَّفْظِ، لَكِنَّهُ غَلَبَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ لَفْظَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مَعْنَاهُ التَّوْبَةُ، فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَقَدَهُ فَهُوَ يُرِيدُ التَّوْبَةَ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالِاسْتِغْفَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الشُّرَّاحِ هُنَا حَمَلُوا الِاسْتِغْفَارَ عَلَى التَّوْبَةِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِذَلِكَ سَبَبٌ لِلْغُفْرَانِ، وَلَا مُوجِبَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ، بَلْ فِي الْحَدِيثِ تَعْرِيضٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

2334 - وَعَنْ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَ: " «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنِّي لَا أَغْفِرُ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» ". أَوْ كَمَا قَالَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2334 - (وَعَنْ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَ) أَيْ: حَكَى لِأَصْحَابِهِ (أَنَّ رَجُلًا) : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ (قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ) : قَالَهُ اسْتِكْثَارًا، أَوِ اسْتِكْبَارًا لِذَنْبِهِ، أَوْ تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ حِينَ جَنَى عَلَيْهِ، كَمَا يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ جَهَلَةِ الصُّوفِيَّةِ (وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: وَحَدَّثَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وَبِكَسْرِهَا. أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ:

يَتَحَكَّمُ عَلَيَّ وَيَحْلِفُ بِاسْمِي (أَنِّي لَا أَغْفِرُ لِفُلَانٍ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ) أَيْ: رَغْمًا لِأَنْفِكَ (وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: أَبْطَلْتُ قَسَمَكَ وَجَعَلْتُ حَلِفَكَ كَاذِبًا، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «مَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكَذِّبْهُ» " فَلَا مُتَمَسَّكَ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ ذَا الْكَبِيرَةِ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِحْلَالِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، كَالْكُفْرِ يُحْبِطُ عَمَلَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: أَنْتَ الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ أَوَّلًا شِكَايَةً لِصَنِيعِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِعْرَاضًا عَنْهُ عَلَى عَكْسِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْجَزْمُ بِالْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلَّا لِمَنْ وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ، كَالْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ مِنْ هَذَا كُفْرٌ فَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ، ظَاهِرٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَكَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى التَّغْلِيظِ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَبْعُدُ كَوْنُهُ كُفْرًا، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَقَوْلُهُ ظَاهِرٌ أَيْ: عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ لِلْإِحْبَاطِ مَوْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ، لَا يَعْرِفُ فِي مَذْهَبِهِ الْمُعْتَزِلِيِّ أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ تُحْبِطُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّغْلِيظِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (أَوْ كَمَا قَالَ) : شَكَّ الرَّاوِي أَيْ: قَالَ الرَّسُولُ أَوْ غَيْرُهُ مَا ذَكَرْتُهُ، أَوْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى النَّقْلِ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الْأَوْلَى لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ نَقْلُ اللَّفْظِ أَيْضًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2335 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعَتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ". قَالَ: " وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2335 - (وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتُعِيرَ لَفْظُ السَّيِّدِ مِنَ الرَّئِيسِ الْمُقَدَّمِ الَّذِي يُعْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ لِهَذَا الَّذِي هُوَ جَامِعٌ لِمَعَانِي التَّوْبَةِ كُلِّهَا، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ التَّوْبَةَ غَايَةُ الِاعْتِذَارِ. اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِغْفَارِ إِنَّمَا هُوَ التَّوْبَةُ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ الْإِطْلَاقُ، مَعَ أَنَّ جَامِعِيَّتَهُ لِمَعَانِي التَّوْبَةِ مَمْنُوعَةٌ كَمَا لَا يَخْفَى، إِذَ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ النَّاشِئُ عَنِ النَّدَامَةِ، وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ لِلَّهِ وَالْعِبَادِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَصْلًا (أَنْ تَقُولَ) أَيْ: أَيُّهَا الرَّاوِي، أَيْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًّا (اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي) : أَيْ: وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ بِالْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) أَيْ: لِلْعِبَادِ (خَلَقْتَنِي) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلتَّرْبِيَةِ (وَأَنَا عَبْدُكَ) أَيْ: مَخْلُوقُكَ وَمَمْلُوكُكَ، وَهُوَ حَالٌ كَقَوْلِهِ: (وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ) أَيْ: أَنَا مُقِيمٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِ الْمِيثَاقِ، وَأَنَا مُوقِنٌ بِوَعْدِكَ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالتَّلَاقِ (مَا اسْتَطَعْتُ) أَيْ: بِقَدْرِ طَاقَتِي، وَقِيلَ: أَيْ عَلَى مَا عَاهَدْتُكَ وَوَعَدْتُكَ مِنَ الْإِيمَانِ بِكَ، وَالْإِخْلَاصُ مِنْ طَاعَتِكَ، وَأَنَا مُقِيمٌ عَلَى مَا عَهِدْتَ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِكَ وَمُتَمَسِّكٌ بِهِ وَمُنْجِزٌ وَعْدَكَ فِي الْمَثُوبَةِ وَالْأَجْرِ عَلَيْهِ، وَاشْتِرَاطُ الِاسْتِطَاعَةِ اعْتِرَافٌ بِالْعَجْزِ وَالْقُصُورِ عَنْ كُنْهِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، أَيْ: لَا أَقْدِرُ أَنْ أَعْبُدَكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، لَكِنْ أَشْهَدُ بِقَدْرِ طَاقَتِي. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَاسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: مَا اسْتَطَعْتُ مَوْضِعَ الْقَدْرِ السَّابِقِ لِأَمْرِهِ أَيْ: إِنْ كَانَ قَدْ جَرَى الْقَضَاءُ عَلَى أَنْ أَنْقُضَ الْعَهْدَ يَوْمًا، فَإِنِّي لَا أَمِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى الِاعْتِذَارِ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي دَفْعِ مَا قَضَيْتُ. (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ) أَيْ: مِنْ أَجْلِ شَرِّ صُنْعِي بِأَنْ لَا تُعَامِلَنِي بِعَمَلِي (أَبُوءُ لَكَ) أَيْ: أَلْتَزِمُ وَأَرْجِعُ وَأُقِرُّ (بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: الذَّنْبِ الْعَظِيمِ الْمُوجِبِ لِلْقَطِيعَةِ لَوْلَا وَاسِعُ عَفْوِكَ وَجَامِعُ فَضْلِكَ. اهـ. وَهُوَ ذُهُولٌ وَغَفْلَةٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا لَفْظُ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ مَعْصُومٌ حَتَّى عَنِ الزَّلَّةِ. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ طَعَنَ فِي عِبَارَةِ الطِّيبِيِّ، مَعَ كَمَالِ حُسْنِهَا حَيْثُ قَالَ: اعْتَرَفَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ لِيَشْمَلَ كُلَّ الْإِنْعَامِ، ثُمَّ اعْتَرَفَ بِالتَّقْصِيرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِأَدَاءِ شُكْرِهَا، وَعَدَّهُ ذَنْبًا مُبَالَغَةً فِي هَضْمِ النَّفْسِ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ (فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) أَيْ: مَا عَدَا الشِّرْكَ (إِلَّا أَنْتَ ". قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَمَنْ قَالَهَا) أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَاتِ (مِنَ النَّهَارِ) أَيْ: فِي بَعْضِ

أَجْزَائِهِ (مُوقِنًا بِهَا) : نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُعْتَقِدًا لِجَمِيعِ مَدْلُولِهَا إِجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا (فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ) : احْتِيجَ إِلَيْهِ مَعَ كَوْنِ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ، لِأَنَّ تَعْقِيبَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ كَتَزَوَّجَ فَوُلِدَ لَهُ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ قَوْلَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ) أَيْ تَغْرُبَ شَمْسُهُ، فَهُوَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ وَتَأْكِيدٍ (فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ: يَمُوتُ مُؤْمِنًا فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَا مَحَالَةَ، أَوْ مَعَ السَّابِقِينَ ( «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ) . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْحِصْنِ: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ إِذَا جَلَسَ فِي صَلَاتِهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2336 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2336 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي) : " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أَيْ: مَا دُمْتَ تَدْعُونِي وَتَرْجُونِي يَعْنِي فِي مُدَّةِ دُعَائِكَ وَرَجَائِكَ (غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ) أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ مُسْتَمِرًّا عَلَى مَا وَجَدْتُهُ فِيكَ مِنَ الذَّنْبِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ الشِّرْكُ لِخَبَرِهِ تَعَالَى وَلِمَا سَيَأْتِي، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَلَوْ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَلَا أُبَالِي) أَيْ: وَالْحَالُ أَنِّي لَا أَتَعَظَّمُ مَغْفِرَتَكَ عَلَيَّ وَإِنْ كَانَ ذَنْبًا كَبِيرًا أَوْ كَثِيرًا، فَإِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ أَوْ غَلَبَتْ غَضَبِي. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَلَا أُبَالِي مَعْنَى: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ (ابْنَ آدَمَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: يَا ابْنَ آدَمَ أَيْ هَذَا الْجِنْسَ فَيَشْمَلُ آدَمَ، (لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: سَحَابَهَا، وَقِيلَ: مَا عَلَا مِنْهَا أَيْ: ظَهَرَ لَكَ مِنْهَا إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَنَانُ: السَّحَابُ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى السَّمَاءِ تَصْوِيرٌ لِارْتِفَاعِهِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغَ السَّمَاءِ، وَيُرْوَى أَعْنَانَ السَّمَاءِ أَيْ: نَوَاحِيَهَا جَمْعُ عَنَنٍ، وَقِيلَ: إِضَافَتُهُ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: السَّمَاءُ تُطْلَقُ عَلَى الْجِرْمِ الْمَعْهُودِ، وَعَلَى كُلِّ مَا ارْتَفَعَ كَالسَّحَابِ، فَالْإِضَافَةُ حِينَئِذٍ بَيَانِيَّةٌ أَيْ: سَحَابٌ هُوَ السَّمَاءُ. فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِمَعْنَى " مِنَ " الْبَيَانِيَّةِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُضَافِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ أَيْضًا صَادِقًا عَلَى غَيْرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ كَخَاتَمِ فِضَّةٍ، وَالْمَعْنَى: لَوْ تَجَسَّمَتْ ذُنُوبُكَ وَمَلَأَتْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. (ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ) أَيْ: إِنْ شِئْتُ (وَلَا أُبَالِي) أَيْ: مِنْ أَحَدٍ وَفِيهِ مَعَ تَكْرِيرِهِ رَدٌّ بَلِيغٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ (ابْنَ آدَمَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: يَا ابْنَ آدَمَ (إِنَّكَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ) : بِضَمِّ الْقَاف ِ وَيُكْسَرُ أَيْ: بِمِثْلِهَا (خَطَايَا) : تَمْيِيزُ قُرَابِ أَيْ: بِتَقْدِيرِ تَجَسُّمِهَا (ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ لِعَدَمِ الشِّرْكِ وَقْتَ اللُّقِيِّ (لَأَتَيْتُكَ) : وَفِي رِوَايَةٍ. لَآتِيكَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُتَكَلِّمِ (بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) : تَمْيِيزٌ أَيْضًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: (ثُمَّ) هَذِهِ لِلتَّرَاخِي فِي الْأَخْبَارِ، وَإِنَّ عَدَمَ الشِّرْكِ مَطْلُوبٌ أَوْلَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَقِيتَنِي وَقُيِّدَ بِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ: خَطَايَا لَا تُشْرِكُ بِي. أَقُولُ: فَائِدَةُ التَّقَيُّدِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ عَلَى التَّوْحِيدِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ.

2337 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2337 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ) . (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

2338 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي، مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا» ". رَوَاهُ فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2338 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْتُ لَهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَلَّ عَلَى أَنَّ اعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِذَلِكَ سَبَبٌ لِلْغُفْرَانِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ": فِي قَوْلِهِ: " ذُو قُدْرَةٍ " تَعْرِيضٌ " بِالْوَعِيدِيَّةِ " لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّعْرِيضِ قَوْلُهُ: (وَلَا أُبَالِي) : وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: (مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا) : فَهُوَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَإِلَّا فَلَا مَانِعَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَكَمَالِ الْفَضْلِ، وَلَعَلَّهَا اقْتِضَاءُ الْأَسْمَاءِ الْجَلَالِيَّةِ وَالصِّفَاتِ الْجَبَرُوتِيَّةِ مِنَ الْقَهَّارِ وَالْمُنْتَقِمِ وَشَدِيدِ الْعِقَابِ وَأَمْثَالِهَا، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْمَظَاهِرِ لِآثَارِ السُّخْطِ وَالْغَضَبِ، كَمَا أَنَّ لِلْأَسْمَاءِ الْجَمَالِيَّةِ وَالنُّعُوتِ " الرَّحَمُوتِيَّةِ " مَظَاهِرُ، " وَلِلْغَفَّارِيَّةِ وَالْغَفُورِيَّةِ " مَظَاهِرُ مِمَّنْ يُذْنِبُ وَيَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرُ، وَلِحُصُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفَضْلِ وَالْعَدْلِ. . . رُوِيَ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ عَادَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: أَتُرَى اللَّهَ يَغْفِرُ لِمِثْلِي؟ فَقَالَ حَمَّادٌ: لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ إِيَّايَ وَبَيْنَ مُحَاسَبَةِ أَبَوَيَّ لَاخْتَرْتُ مُحَاسَبَةَ اللَّهِ عَلَى مُحَاسَبَةِ أَبَوَيَّ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ بِي مِنْ أَبَوَيَّ. اهـ. وَهُوَ جَوَابٌ فِي ضِمْنِ فَصْلِ الْخِطَابِ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ) : بِإِسْنَادِهِ.

2339 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2339 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَمَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ) أَيْ: عِنْدَ صُدُورِ مَعْصِيَةٍ وَظُهُورِ بَلِيَّةٍ، أَوْ مَنْ دَاوَمَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي كُلِّ نَفَسٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ صَحِيحٍ، (جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ) أَيْ: شَدَّةٍ وَمِحْنَةٍ (فَرَجًا) أَيْ: طَرِيقًا وَسَبَبًا يُخْرِجُ إِلَى سِعَةٍ وَمِنْحَةٍ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ وَكَذَا، (وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ) أَيْ: لَا: هَمٌّ يُهِمُّهُ (فَرَجًا) أَيْ: خَلَاصًا (وَرَزَقَهُ) أَيْ: حَلَالًا طَيِّبًا (مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) أَيْ: لَا يَظُنُّ وَلَا يَرْجُو وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الْمَعْلُومَ شُؤْمٌ، وَلَعَلَّهُ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، ولَا يَنْبَغِي التَّعَلُّقُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى الْحَيِّ الْمُطْلَقِ، وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 - 3] فَتَأَمَّلْ فِي الْآيَةِ فَإِنَّ فِيهَا كُنُوزًا مِنَ الْأَنْوَارِ وَرُمُوزًا مِنَ الْأَسْرَارِ، وَالْحَدِيثُ إِمَّا تَسْلِيَةٌ لِلْمُذْنِبِينَ، فَنَزَلُوا مَنْزِلَةَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ أَرَادَ بِالْمُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ، فَهُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ لِأَنَّ الْمُلَازِمَيْنِ لِلِاسْتِغْفَارِ لَمَّا حَصَلَ لَهُمْ مَغْفِرَةُ الْغَفَّارِ، فَكَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْ " دَاوَمَ الِاسْتِغْفَارَ " وَأَقَامَ بِحَقِّهِ كَانَ مُتَّقِيًا وَنَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا - يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10 - 11] الْآيَةَ. رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَيْهِ الْجَدْبَ فَقَالَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَشَكَا إِلَيْهِ آخَرُ الْفَقْرَ، وَآخَرُ قِلَّةَ النَّسْلِ، وَآخَرُ قِلَّةَ رِيعِ أَرْضِهِ، فَأَمَرَهُمْ كُلَّهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ ; فَقِيلَ لَهُ: شَكَوْا إِلَيْكَ أَنْوَاعًا، فَأَمَرْتَهُمْ كُلَّهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَتَلَا الْآيَةَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.

2340 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنَّ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2340 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا أَصَرَّ) : " مَا " نَافِيَةٌ أَيْ: مَا دَامَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (مَنِ اسْتَغْفَرَ) أَيْ: مِنْ كُلِّ سَيِّئَةٍ (وَإِنْ عَادَ) : أَيْ: وَلَوْ رَجَعَ إِلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ أَوْ غَيْرِهِ (فِي الْيَوْمِ) : أَوِ اللَّيْلَةِ (سَبْعِينَ مَرَّةً) : ظَاهِرُهُ التَّكْثِيرُ وَالتَّكْرِيرُ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: الْمُصِرُّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْفِرْ وَلَمْ يَنْدَمْ عَلَى الذَّنْبِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ إِكْثَارُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْإِصْرَارُ: الثَّبَاتُ وَالدَّوَامُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، يَعْنِي مَنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً ثُمَّ اسْتَغْفَرَ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُصِرًّا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الِاسْتِغْفَارُ يَرْفَعُ الذُّنُوبَ، وَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، فَقَدْ قِيلَ: حَدُّ الْإِصْرَارِ أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ تَكْرَارًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ، وَحِينَئِذٍ فَنَفْيُ الْإِصْرَارِ ظَاهِرٌ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ لَفْظُهُ مَعَ الذِّلَّةِ وَالِاسْتِصْغَارِ، لِأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَمْحُو الذَّنْبَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ وَيَشْعُرُ بِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ كَإِشْعَارِ الْكَبِيرَةِ، وَكَذَا إِذَا اجْتَمَعَتْ صَغَائِرُ مُخْتَلِفَةُ الْأَنْوَاعِ بِحَيْثُ يُشْعِرُ مَجْمُوعُهَا بِمَا يُشْعِرُ بِهِ أَصْغَرُ الْكَبَائِرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .

2341 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2341 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ) أَيْ: كَثِيرُ الْخَطَأِ، أَفْرَدَ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْكُلِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: خَطَّاءُونَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْكُلِّ. قِيلَ: أَرَادَ الْكُلَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَإِمَّا مَخْصُوصُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ صَغَائِرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى، أَوْ مِنْ قَبِيلِ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ يُقَالُ: الزَّلَّاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ بَعْضِهِمْ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْعِصْيَانِ. ( «وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» ) أَيِ: الرَّجَّاعُونَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ بِالْإِنَابَةِ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ، أَوْ بِالْأَوْبَةِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ.

2342 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكُمُ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2342 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ) أَيْ: ذَنْبًا وَاحِدًا (كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ) أَيْ: حَدَثَتْ فَهِيَ تَامَّةٌ، وَالنُّكْتَةُ: الْأَثَرُ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى السَّيِّئَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِالذَّنْبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ كَانَتْ نُكْتَةٌ أَيِ: الذَّنْبُ بِتَأْوِيلِ السَّيِّئَةِ، وَرُوِيَ بِرَفْعِ نُكْتَةٍ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ فَيُقَدَّرُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الذَّنْبِ. (فِي قَلْبِهِ) أَيْ: كَقَطْرَةِ مِدَادٍ تَقْطُرُ فِي الْقِرْطَاسِ، وَيَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ الْمَعْصِيَةِ وَقَدْرِهَا، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ حَيْثُ قِيلَ: شَبَّهَ الْقَلْبَ بِثَوْبٍ فِي غَايَةِ النَّقَاءِ وَالْبَيَاضِ، وَالْمَعْصِيَةَ بِشَيْءٍ فِي غَايَةِ السَّوَادِ أَصَابَ ذَلِكَ الْأَبْيَضَ، فَبِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ يَذْهَبُ ذَلِكَ الْجَمَالُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِذَا أَصَابَ الْمَعْصِيَةَ صَارَ كَأَنَّهُ حَصَلَ ذَلِكَ السَّوَادُ فِي ذَلِكَ الْبَيَاضِ، (فَإِنْ تَابَ) أَيْ: مِنَ الذَّنْبِ (وَاسْتَغْفَرَ) أَيْ: أَنَابَ إِلَى الرَّبِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لَفْظَ الِاسْتِغْفَارِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ كَمَالٌ فِيهَا (صُقِلَ قَلْبُهُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نَظُفَ وَصَفِيَ مِرْآةُ قَلْبِهِ لِتَجَلِّيَاتِ رَبِّهِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْقَلَةِ تَمْحُو وَسَخَ الْقَلْبِ وَسَوَادَهُ حَقِيقِيًّا أَوْ تَمْثِيلِيًّا. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ بِلَا شَكٍّ. (وَإِنْ زَادَ) أَيْ: فِي

الذَّنْبِ أَيْ: بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ (زَادَتْ) أَيِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ أَوْ يَظْهَرُ لِكُلِّ ذَنْبٍ نُكْتَةٍ (حَتَّى تَعْلُوَ) أَيِ: النُّكَتُ (قَلْبَهُ) أَيْ: تُطْفِئُ نُورَ قَلْبِهِ فَتُعْمِي بَصِيرَتَهُ، فَلَا يُبْصِرُ شَيْئًا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْحِكَمِ الرَّائِعَةِ، وَتَزُولُ عَنْهُ الشَّفَقَةُ وَالرَّحْمَةُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأُمَّةِ، وَيَثْبُتُ فِي قَلْبِهِ آثَارُ الظُّلْمَةِ وَالْفِتْنَةِ وَالْجَرَاءَةِ عَلَى الْأَذِيَّةِ وَالْمَعْصِيَةِ (فَذَلِكُمُ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ: فِي كِتَابِهِ (كَلَّا) أَيْ: حَقًّا (بَلْ رَانَ) أَيْ: غَلَبَ وَاسْتَوْلَى (عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أَيْ: مِنَ الذُّنُوبِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا خَيْرٌ قَطُّ. قِيلَ: الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ. أَيْ: فَذَلِكُمُ الْأَثَرُ الْمُسْتَقْبَحُ الْمُسْتَعْلِي، وَإِدْخَالُ اللَّامِ عَلَى رَانَ، وَهُوَ فِعْلٌ إِمَّا لِقَصْدِ حِكَايَةِ اللَّفْظِ وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى الِاسْمِ، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ، وَالرَّانُ: بِمَعْنَى الرَّيْنِ وَهُوَ الطَّبْعُ وَالتَّغْطِيَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّانُ وَالرَّيْنُ سَوَاءٌ كَالْعَابِ وَالْعَيْبِ، وَالْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِارْتِكَابِ الذَّنْبِ يُشْبِهُهُمْ فِي اسْوِدَادِ الْقَلْبِ، وَيَزْدَادُ ذَلِكَ بِازْدِيَادِ الذَّنْبِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذِهِ الْآيَةُ مَذْكُورَةٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، لَكِنْ ذَكَرَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْوِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْ يَحْتَرِزُوا عَنْ كَثْرَةِ الذَّنْبِ كَيْلَا تَسْوَدَّ قُلُوبُهُمْ كَمَا اسْوَدَّتْ قُلُوبُ الْكُفَّارِ، وَلِذَا قِيلَ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

2343 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2343 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ) : ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْكَافِرِ (مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) أَيْ: مَا لَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ، يَعْنِي: مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْمَوْتِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18] قِيلَ: وَأَمَّا تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ حُضُورَهُ بِمُعَايَنَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَحُكْمٌ أَغْلَبِيٌّ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَرَاهُ، وَكَثِيرًا يَرَاهُ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرَاهُ فَمُدَّعِي الْعَدَمَ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَالْمَانِعُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ الدَّلِيلُ، نَعَمْ لَوْ قِيلَ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُعَايِنِ الرَّجُلُ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَمَوْقُوفُهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّ مِثْلَهُ مَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، أَوْ كَلَامُهُ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ بِظَاهِرِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] وَتُشِيرُ الْآيَةُ الْمَاضِيَةُ بِأَنَّ الْحُضُورَ حَقِيقَةً لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمَلَكِ، وَأَمَّا لِلْمَوْتِ فَمَجَازٌ، وَالنِّسْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازِيَّةِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَالتَّقْدِيرُ حَضَرَ أَحَدَهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَخْصِيصُ غَيْرِهِ بِدَعْوَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَرَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ كَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، قِيلَ: جَعَلَ ابْتِدَاءَ قَبْضِ الرُّوحِ مِنَ الرِّجْلِ لِيَبْقَى الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ ذَاكِرًا، وَلِيَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَلِيَسْتَحِلَ مِنَ النَّاسِ عَنِ الْمَظَالِمِ، وَلِيُوَصِّيَ بِالْخَيْرِ، وَلِيَكُونَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْغَرْغَرَةُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَشْرُوبُ فِي الْفَمِ، وَيُرَدَّدَ إِلَى أَصْلِ الْحَلْقِ وَلَا يُبْتَلَعَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ الْعَزْمَ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ الْمَتُوبِ مِنْهُ وَعَدَمِ الْمُعَاوَدَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَمَكُّنِ التَّائِبِ مِنْهُ وَبَقَاءِ أَوَاَنِ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا تَيَقَّنَ الْمَوْتَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، لَكِنَّ لَوِ اسْتَحَلَّ مِنْ مَظْلَمَةٍ صَحَّ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ أَوْ نَصَّبَ وَلِيًّا عَلَى طِفْلِهِ أَوْ عَلَى خَيْرٍ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ. اهـ. وَجَعْلُهُ عَدَمَ الْمُعَاوَدَةِ شَرْطُ التَّوْبَةِ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ الْمَسْطُورِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لَوْ أَوْصَى إِلَخْ. فَإِنَّهُ تَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْأَحْكَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

2344 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2344 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الشَّيْطَانَ) أَيْ: إِبْلِيسَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ: (قَالَ: بِعِزَّتِكَ يَا رَبِّ) ! أَيْ: أُقْسِمُ بِعِزَّتِكَ الَّتِي لَا تُرَامُ، وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ وَجَلَالِكَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ رَئِيسُ الضَّلَالِ وَمَظْهَرُ " الْجَلَالِ "، كَمَا أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَظْهَرُ الْعِنَايَةِ وَالْجَمَالِ، وَسَيِّدُ أَهْلِ الْهِدَايَةِ وَالْكَمَالِ (لَا أَبْرَحُ) أَيْ: لَا أَزَالُ (أُغْوِي عِبَادَكَ) : بَنِي آدَمَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: أُضِلُّهُمْ. (مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي) أَيْ: عُلُوِّ مَرْتَبَتِي وَرِفْعَةِ مَكَانِي (لَا أَزَالُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: لَا أَبْرَحُ، وَالْأُولَى أَوْلَى لِلتَّفَنُّنِ وَلِلتَّبْيِينِ (أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي) . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ - قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82 - 85] فَإِنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُخْلَصِينَ هُمُ النَّاجُونَ فَحَسْبُ، وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُخْلَصِينَ هُمْ أَيْضًا نَاجُونَ. قُلْتُ: قَيْدُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّنْ تَبِعَكَ أَخْرَجَ الْعَاصِينَ الْمُسْتَغْفِرِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي اتَّبَعَكَ: اسْتَمَرَّ عَلَى الْمُتَابَعَةِ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَغْفِرِ. اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى التَّوْبَةِ. وَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُقَالَ فِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ الَّذِي مِنْ أَصْلِهِ لِأَهْلِ الِاعْتِزَالِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخْلَصِينَ الْمُوَحِّدُونَ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي إِيرَادِ لَفْظِ الْمُخْلَصِينَ تَحْصِينُ الْخَوْفِ فِي قُلُوبِ الْمُخْلَصِينَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ مَعَ الْكَافِرِينَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَكَذَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ.

2345 - وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا، عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ، لَا يُغْلَقُ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158] » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2345 - (وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، صَحَابِيٌّ مَعْرُوفٌ، نَزَلَ الْكُوفَةَ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا) أَيْ: حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا (عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا) أَيْ: فَكَيْفَ طُولُهُ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي تَوْسِعَتِهِ (لِلتَّوْبَةِ) أَيْ: مَفْتُوحَةٌ لِأَصْحَابِ التَّوْبَةِ، أَوْ عَلَامَةٌ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ وَقَبُولِهَا (لَا يُغْلَقُ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ) أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْبَابِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَفَائِدَةُ إِغْلَاقِهِ إِعْلَامُ الْمَلَائِكَةِ بِسَدِّ بَابِ التَّوْبَةِ وَأَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ فِي فُسْحَةٍ وَوُسْعَةٍ عَنْهَا مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ سُدَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ إِيمَانٌ وَلَا تَوْبَةٌ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا ذَلِكَ وَاضْطَرُّوا إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ، فَلَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَنْفَعُ الْمُحْتَضِرَ، وَلَمَّا كَانَ سُدَّ الْبَابُ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ جُعِلَ فَتْحُ الْبَابِ مَنْ قِبَلِهِ أَيْضًا، وَقَوْلُ: مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا مُبَالَغَةٌ فِي التَّوْسِعَةِ، أَوْ تَقْدِيرٌ لِعَرْضِ الْبَابِ بِمِقْدَارِ مَا يَسُدُّهُ جِرْمُ الشَّمْسِ الطَّالِعُ مِنَ الْمَغْرِبِ. (وَذَلِكَ) أَيْ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ (قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ: مَعْنَى قَوْلِهِ:

{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] أَيْ: بَعْضُ عَلَامَاتٍ يُظْهِرُهَا رَبُّكَ إِذَا قَرُبَتِ الْقِيَامَةُ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] أَيْ: حِينَئِذٍ حَالَ كَوْنِهَا {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158] أَيْ: مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِ بَعْضِ آيَاتِهِ وَهُوَ الطُّلُوعُ الْمَذْكُورُ، وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] عَطْفًا عَلَى آمَنَتْ أَيْ: أَوْ لَمْ تَكُنِ النَّفْسُ كَسَبَتْ فِي حَالِ إِيمَانِهَا تَوْبَةً مِنْ قَبْلُ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ التَّامَّةُ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ، وَيَكُونُ مُعَايَنَةُ طُلُوعِ الشَّمْسِ نَظِيرَ مُعَايَنَةِ حُضُورِ الْمَوْتِ فِي عَدَمِ نَفْعِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ عِنْدَ حُصُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ اسْتِدْلَالُ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْأَعْمَالِ لَا يَنْفَعُ شَيْئًا فِي الْمَآلِ، فَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ لِلْكَشَّافِ: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158] صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: (نَفْسًا) وَقَوْلُهُ: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] عَطْفٌ عَلَى (آمَنَتْ) وَالْمَعْنَى أَنَّ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ إِذَا جَاءَتْ وَهِيَ آيَاتٌ لِمَجِيئِهِ ذَهَبَ أَوَانُ التَّكْلِيفِ عِنْدَهَا، فَلَمْ يَنْفَعِ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ نَفْسًا غَيْرَ مُقَدِّمَتِهِ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْآيَاتِ، أَوْ مُقَدِّمَةِ إِيمَانِهَا غَيْرَ كَاسِبَةٍ خَيْرًا فِي إِيمَانِهَا، فَلَمْ يُفَرِّقْ كَمَا تَرَى بَيْنَ النَّفْسِ الْكَافِرَةِ، إِذَا آمَنَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْإِيمَانِ، وَبَيْنَ النَّفْسِ الَّتِي آمَنَتْ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا، لِيُعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 82] جَمْعٌ بَيْنَ قَرِينَتَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْفَكَّ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى، حَتَّى يَفُوزَ صَاحِبُهَا وَيُسْعَدَ، وَإِلَّا فَالشَّقَاوَةُ وَالْهَلَاكُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا قَالَ لَمْ يُفِدْ قَوْلُهُ: (فِي إِيمَانِهَا) لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى (آمَنَتْ) حُصُولُ الْكَسْبِ فِي الْإِيمَانِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اللَّفِّ التَّقْدِيرِيِّ بِأَنْ يُقَالَ: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا حِينَئِذٍ أَوْ كَسْبُهَا فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا حِينَئِذٍ لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا مِنْ قَبْلُ، وَالْإِيجَازُ مِنْ حِلْيَةِ التَّنْزِيلِ. اهـ. وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ هِشَامٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ تَقْرِيرِي وَتَحْرِيرِي أَيْضًا الْحَدِيثُ الْآتِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2346 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2346 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَنْقَطِعُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ (الْهِجْرَةُ) أَيْ: مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى التَّوْبَةِ (حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ) أَيْ: صِحَّتُهَا بِأَنْ يُغَرْغِرَ صَاحِبُهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِالْهِجْرَةِ هُنَا الِانْتِقَالَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى التَّوْبَةِ. قُلْتُ: الْأَخِيرُ تَعْمِيمٌ يَشْمَلُ الْكُلَّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يُرِدِ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّهَا انْقَطَعَتْ، وَلَا الْهِجْرَةَ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا وَرَدَ: وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا لِأَنَّهَا نَفْسُ التَّوْبَةِ. قُلْتُ: لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْكَمَالِ لَا تَنْقَطِعُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَالَ: بَلِ الْهِجْرَةُ مِنْ مَكَانٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً، وَفِيهِ أَنَّ كَوْنَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مَعَ كَوْنِ خُرُوجِهِ عَنْهُ مِنَ الْإِمْكَانِ مَعْصِيَةً خَاصَّةً، وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُلَائِمُ الْغَايَةَ لِقَوْلِهِ: حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَالِاسْتِشْهَادُ بِالْآيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّهُ نَزَلَ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: لَمْ تَنْقَطِعْ وُجُوبًا حَتَّى يَنْقَطِعَ قَبُولُهَا. (وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ) أَيْ: صِحَّتُهَا أَوْ قَبُولُهَا (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) .

2347 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَحَابَّيْنِ، أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْآخَرُ يَقُولُ: مُذْنِبٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَقْصِرْ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ، فَيَقُولُ: خَلِّنِي وَرَبِّي. حَتَّى وَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ. فَقَالَ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّيَ، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَدًا، وَلَا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا مَلَكًا، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْظِرَ عَلَى عَبْدِي رَحْمَتِي؟ فَقَالَ: لَا يَا رَبِّ. قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2347 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ: مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ (مُتَحَابَّيْنِ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا أَوْ لِأَمْرٍ مَا، لَا فِي اللَّهِ لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ. قَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] وَيُمْكِنُ أَنَّهُمَا كَانَا مُتَحَابَّيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ وَقَعَ أَحَدُهُمَا فِي الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، ثُمَّ تَمَّ عَقْدُ الْأُخُوَّةِ وَالْعَمَلِ بِالنَّصِيحَةِ، وَهُوَ أَوْلَى عِنْدَ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ قَطْعِ الْحَصْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ مِنْكُمْ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْكُمْ مُقَدِّرًا، وَمِمَّا تَعْمَلُونَ عِلَّةٌ لِلْبَرَاءَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَدِيثِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ، وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الِابْتِدَاءِ خِلَافُ ظَاهِرِ الْإِطْلَاقِ. (أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدٌ) أَيْ: مُبَالِغٌ (فِي الْعِبَادَةِ، وَالْآخَرُ يَقُولُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ أَيِ: الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مُذْنِبٌ) أَيْ: هُوَ مُذْنِبٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلْمُظْهِرِ أَيْ: يَقُولُ الْآخَرُ: أَنَا مُذْنِبٌ أَيْ مُعْتَرِفٌ بِالذَّنْبِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: (يَقُولُ) فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حِسِّهِ الْمُقَابَلَةِ بِأَنْ يُقَالَ أَيْ مُجْتَهِدٌ فِي الْمَعْصِيَةِ، حَيْثُ قَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى وَالْآخَرُ مُنْهَمِكٌ فِي الذَّنْبِ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ: مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ كَثِيرًا مَا يُعَبَّرُ بِهِ فِي الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَخْلَ لِلْقَوْلِ حِينَئِذٍ فِي الْمَقَامِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ قَوْلِهِ: وَالْآخَرُ مُذْنِبٌ بِإِدْخَالِ (يَقُولُ) بَيْنَهُمَا، لِأَنْ يُنْسَبُ الْقَوْلُ إِلَيْهِ مُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ مَعَهُ، لِعِلْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَنَّهُ سَعِيدٌ عِنْدَ رَبِّهِ فِي غُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ بِعَيْنِهَا قَالَ: مُجْتَهِدٌ وَلَمْ يَقُلْ صَالِحٌ أَوْ عَابِدٌ. (فَجَعَلَ) أَيْ: طَفِقَ وَشَرَعَ الْمُجْتَهِدُ (يَقُولُ) أَيْ: لِلْمُذْنِبِ (أَقْصِرْ) : أَمْرٌ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ أَيْ أَمْسِكْ وَامْتَنِعْ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَقْصِرْ أَقْصِرْ (عَمَّا أَنْتَ فِيهِ) أَيْ: مِنَ الذَّنْبِ (فَيَقُولُ:) أَيِ: الْآخَرُ (خَلِّنِي وَرَبِّي) أَيِ: اتْرُكْنِي مَعَهُ، فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَتَكَرَّرَ هَذَا الْكَلَامُ وَالْجَوَابُ (حَتَّى وَجَدَهُ) أَيِ: الْمُجْتَهِدُ الْمُذْنِبَ (يَوْمًا) أَيْ: وَقْتًا مَا (عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ) أَيِ: الْمُجْتَهِدُ ذَلِكَ الذَّنْبَ (فَقَالَ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَيْ أَرْسَلَكَ اللَّهُ (عَلَيَّ رَقِيبًا؟) أَيْ: حَافِظًا (فَقَالَ) أَيِ الْمُجْتَهِدُ مِنْ كَمَالِ غُرُورِهِ وَعُجْبِهِ، وَحَقَارَةِ صَاحِبِهِ لِارْتِكَابِ عَظِيمِ ذَنَبِهِ ( «وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَدًا، وَلَا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ» ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عُقُوبَةٍ، فَهُوَ مُبَالَغَةٌ غَايَةَ الْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ عَدَمَ الْغُفْرَانِ لَازِمٌ لِعَدَمِ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُذْنِبَ قَدْ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ فَيُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ. (فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا مَلَكًا، فَقَبَضَ) أَيْ: أَرْوَاحَهُمَا (عِنْدَهُ) أَيْ: فِي مَحَلِّ حُكْمِهِ، وَهُوَ الْبَرْزَخُ أَوْ تَحْتَ عَرْشِهِ (فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي) أَيْ: جَزَاءً لِحُسْنِ ظَنِّكَ بِي (وَقَالَ لِلْآخَرِ) : وَفِي الْعُدُولِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالْمُجْتَهِدِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى، وَهِيَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي الْعِبَادَةِ ضَاعَ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِصِفَاتِ رَبِّهِ، فَانْقَلَبَ الْأَمْرُ وَصَارَ فِي الذَّنْبِ كَالْآخَرِ، وَالْمُذْنِبُ بِحُسَنِ عَقِيدَتِهِ وَاعْتِرَافِهِ بِالتَّقْصِيرِ فِي مَعْصِيَتِهِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمُجْتَهِدِ (أَتَسْتَطِيعُ) : الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ أَيْ: أَتَقْدِرُ (أَنْ تَحْظُرَ) : بِضَمِّ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: تَمْنَعُ وَتَحْرِمُ (عَلَى عَبْدِي رَحْمَتِي؟) أَيِ: الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا، وَخُصَّتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْعُقْبَى (فَقَالَ: لَا يَا رَبِّ) : اعْتَرَفَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ الِاعْتِرَافُ (قَالَ) أَيِ: الرَّبُّ (اذْهَبُوا بِهِ) : خِطَابًا لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالنَّارِ، أَوْ لِذَلِكَ الْمَلَكِ، وَالْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِكِبَرِهِ كَأَنَّهُ جُمِعَ (إِلَى النَّارِ) : حَتَّى يَذُوقَ الْعَذَابَ جَزَاءً عَلَى غُرُورِهِ وَعُجْبِهِ

بِالْعُجَابِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى كُفْرِهِ، لِيَكُونَ مُخَلَّدًا فِي النَّارِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: إِدْخَالُهُ النَّارَ كَانَ مُجَازَاةً لَهُ عَلَى قَسَمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِلْمُذْنِبِ ذَنْبَهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّاسَ آيِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَحَكَمَ بِأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ غَفُورٍ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَالِغٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَصَدَرَ هَذَا الْكَلَامُ عَنْهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ، وَلَوْ كَانَ لِلَّهُ لَسُومِحَ بِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَغْرُورًا بِاجْتِهَادِهِ مُحْتَقِرًا لِلْمُذْنِبِ لِأَجْلِ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبِهِ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، وَلِذَا قِيلَ: مَعْصِيَةٌ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَاسْتِصْغَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْجَبَتْ عُجْبًا وَاسْتِكْبَارًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: " لَا يَا رَبِّ " أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَحَلِفَهُ فَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ لِأَنَّهُ آيَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْهَا كُفْرٌ لِمَنِ اسْتَحَلَّهُ كَهَذَا الرَّجُلِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَلِفُهُ السَّابِقُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْحُكْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَعَلَى صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ يَئِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ يَأْسِ الْمُجْتَهِدِ وَاسْتِحْلَالِهِ وَكُفْرِهِ، غَيْرُ صَحِيحٍ، مَعَ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْزِيلِ يَكُونُ عَلَى مُعْتَقَدِ الْمُعْتَزِلِيِّ مِنْ عَدَمِ تَجْوِيزِ غُفْرَانِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ، وَعَلَيْهِ ظَوَاهِرُ كَثِيرَةٌ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْوَعِيدِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِتَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. نَعَمْ فِي الْحَدِيثِ رَدٌّ بَلِيغٌ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ، حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ لِلْمُذْنِبِ وَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ بِرَحْمَتِهِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعِ الْمُذْنِبِ وَتَوْبَتِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَرَوَى الْبَغَوِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي الْمَعَالِمِ، عَنْ ضَمْضَمَ بْنِ جَوْسٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، فَنَادَانِي شَيْخٌ فَقَالَ لِي: يَا يَمَامِيٌّ تَعَالَ. وَمَا أَعْرِفُهُ، فَقَالَ: لَا تَقُولَنَّ لِرَجُلٍ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَدًا وَلَا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وَمَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ. قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَقُولُهَا أَحَدُنَا لِبَعْضِ أَهْلِهِ إِذَا غَضِبَ أَوْ لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِخَادِمَتِهِ. قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ رَجُلَيْنِ " الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ بِدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ. اهـ. وَتَعْلِيلُ ابْنِ حَجَرٍ هُنَا بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا صَيَّرَتْهُ إِلَى النَّارِ الْمُؤَبَّدَةِ عَلَيْهِ خَطَأٌ ظَاهِرٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

2348 - «وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا " وَلَا يُبَالِي» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ " " يَقُولُ " بَدَلَ: " يَقْرَأُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2348 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَيِ: ابْنِ السَّكَنِ ( «قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ: يَا عِبَادِيَ» : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] أَيْ: بِالْمَعَاصِي لَا تَقْنَطُوا: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا أَيْ لَا تَيْأَسُوا {مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} [الزمر: 53] : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] أَيْ: ذُنُوبَ الْكُفَّارِ بِالتَّوْبَةِ، وَذُنُوبَ الْأَبْرَارِ بِهَا وَبِالْمَشِيئَةِ (وَلَا يُبَالِي) أَيْ: مِنْ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْوَعِيدِيَّةِ، وَهُوَ يَحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْآيَةِ فَنُسِخَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً مِنْ عِنْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالتَّفْسِيرِ لِلْآيَةِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً، فَنَزَلَتْ» هَذِهِ الْآيَةُ. اهـ. فَالْخِطَابُ لِلْكَفَّارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَبِهِ انْدَفَعَ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الْإِضَافَةَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " يَقُولُ) أَيْ: يَا عِبَادِي إِلَخْ (بَدَل َ " يَقْرَأُ) أَيِ: السَّابِقَ فِي رِوَايَةِ الْأَوَّلِينَ، فَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ.

2349 - «- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2349 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] أَيْ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} [النجم: 32] قِيلَ: مِنْ كُلِّ ذَنَبٍ فِيهِ حَدٌّ، وَالْفَوَاحِشُ مَا فِيهِ وَعِيدٌ أَوْ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا أَوِ الْبُخْلِ {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] بِفُتْحَتَيْنِ أَيِ الصَّغَائِرَ: فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْتَنِبُوهَا لِأَنَّ اللَّمَمَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنْهُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنَّهَا

تُغْفَرُ لَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ. اهـ. وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلتَّوْبَةِ بِاللَّمَمِ، وَأَيْضًا آخِرُ الْحَدِيثِ يَأْبَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، فَإِنَّ اللَّمَمَ مَا قَلَّ وَمَا صَغُرَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَلَمَّ بِالْمَكَانِ: إِذَا قَلَّ لُبْثُهُ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (اللَّمَمَ) صِفَةً، وَ (إِلَّا) بِمَعْنَى غَيْرِ، فَقِيلَ: هُوَ النَّظْرَةُ وَالْغَمْزَةُ وَالْقُبْلَةُ، الْخَطْرَةُ مِنَ الذَّنْبِ، وَقِيلَ: كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِيهِ حَدًّا وَلَا عَذَابًا. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيِ: اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنَ اللَّمَمِ: ( «إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا» ) : بِأَلِفٍ بَعْدَ مِيمٍ مُشَدَّدَةٍ أَيْ كَثِيرًا كَبِيرًا (وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا) : فِعْلٌ مَاضٍ مُفْرَدٌ، وَالْأَلِفُ لِلْإِطْلَاقِ أَيْ: لَمْ يُلِمَّ بِمَعْصِيَةٍ يُقَالُ: لَمَّ؛ أَيْ: نَزَلَ، وَأَلَمَّ إِذَا فَعَلَ اللَّمَمَ، وَمَعْنَى بَيْتِ أُمَيَّةَ أَنَّ: إِنْ تَغْفِرْ ذُنُوبَ عِبَادِكَ، فَقَدْ غَفَرْتَ ذُنُوبًا كَثِيرَةً، فَإِنَّ عِبَادَكَ كُلَّهُمْ خَطَّاءُونَ، وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32] وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] إِنْشَاؤُهُ لَا إِنْشَادُهُ لِأَنَّهُ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مُتَمَثِّلًا بِشِعْرِ أُمَيَّةَ، لَا قَصْدًا لِأَنَّهُ حَرُمَ عَلَيْهِ إِنْشَاءُ الشِّعْرِ، وَكَذَا رِوَايَتُهُ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ غَفْلَةً عَنْ كَلَامِ أَئِمَّتِهِ، فَمَحَلُّ ذَلِكَ إِنْ قَالَهُ عَلَى قَصْدِ الرِّوَايَةِ. اهـ. وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ، وَيَتَمَثَّلُ بِقَوْلِهِ: وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ وَقَدْ قَالَ: أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: " أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ " نَعَمْ وَرَدَ أَنَّهُ أَصَابَ حَجَرٌ أُصْبُعَهُ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ فَقَالَ: هَلْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ وَهُوَ إِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَنْ شِعْرِ غَيْرِهِ وَتَمَثَّلَ بِهِ، لَكِنْ لَمَّا تَتَبَّعُوا وَلَمْ يَجِدُوا قَائِلَهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الرَّجَزِ الَّذِي جَرَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَوْقَاتِهِ، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الشِّعْرَ، إِذْ لَمْ يَقْصِدْ صُدُورَهُ عَنْ نِيَّةٍ لَهُ وَرَوِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّفَاقُ كَلَامٍ يَقَعُ أَحْيَانًا وَقَدْ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَيْتُ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ أَنْشَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: مِنْ شَأْنِكَ اللَّهُمَّ أَنْ تَغْفِرَ غُفْرَانًا كَثِيرًا لِلذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ، وَأَمَّا الْجَرَائِمُ الصَّغِيرَةُ، فَلَا تُنْسَبُ إِلَيْكَ لِأَنَّهَا لَا يَخْلُو عَنْهَا أَحَدٌ، وَإِنَّهَا مُكَفَّرَةٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ انْتَهَى. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّكْفِيرَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَ (إِنْ) لَيْسَ لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ لَا تَهِنُوا، فَالْمَعْنَى لِأَجْلِ أَنَّكَ غَفَّارٌ اغْفِرْ جَمًّا كَمَا تَقُولُ لِلسُّلْطَانِ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَأَعْطِ الْجَزِيلَ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: (إِنْ) بِمَعْنَى: (إِذْ) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] فَسَقَطَ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُؤَدَّى وَاحِدٌ، فَإِنَّ (إِذْ) لِلتَّعْلِيلِ أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزخرف: 39] فَلِكُلِّ سَاقِطٍ لَاقِطٌ. انْتَهَى. وَعَلَى تَقْدِيرِ تَقْرِيرِ صِحَّةِ الظَّرْفِيَّةِ فِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لَا يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ التَّعْلِيلِ أَيْضًا، فَلَا وَجْهَ لِلسُّقُوطِ مَعَ أَنَّ الظَّرْفِيَّةَ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ فِي الْبَيْتِ لِعَدَمِ تَقْيِيدِ " غَفَّارِيَّتِهِ " تَعَالَى بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلِذَا قَالَ بِنَفْسِهِ نَاقِضًا لِكَلَامِهِ تَابِعًا لِلطِّيبِيِّ فِي مَرَامِهِ: فَالْمَعْنَى لِأَجْلِ أَنَّكَ غَفَّارٌ إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ: وَالْبَيْتُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَحَاسِنَ. مِنْهَا: اتِّحَادُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَغَفْلَةٌ مَا عَنْ تَقْيِيدِهِ بِجَمًّا، وَكَانَ أُمَيَّةُ هَذَا مُتَعَبِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمُتَدَيِّنًا وَمُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ، أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُسْلِمْ، وَلَمَّا كَانَ فِي شِعْرِهِ يَنْطِقُ بِالْحَقَائِقِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِ: " «كَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) .

2350 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُ ; فَاسْأَلُونِي الْهُدَى أَهْدِكُمْ. وَكُلُّكُمْ فُقَرَاءُ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ ; فَاسْأَلُونِي أُرْزَقْكُمْ، وَكُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ ; فَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَحَيَّكُمْ، وَمَيِّتَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ، وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ، وَحَيَّكُمْ، وَمَيِّتَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ، وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَشْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي ; مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ، وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ، وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْكُمْ ; مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إِلَّا كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً، ثُمَّ رَفَعَهَا ; ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ، عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ، فَيَكُونُ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2350 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي) : خِطَابٌ عَامٌّ يَشْمَلُ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، وَفِيهِ تَأْنِيسٌ تَامٌّ (كُلٌّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُ) : كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64] ، {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] ، {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] (فَاسْأَلُونِي) : بِالْهَمْزِ وَحَذْفِهِ (الْهُدَى) أَيِ: اطْلُبُوا الْهِدَايَةَ مِنِّي لَا مِنْ غَيْرِي وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ (أَهْدِكُمْ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فِي طَلَبِ الْهِدَايَةِ هَدَاهُ اللَّهُ (وَكُلُّكُمْ فُقَرَاءُ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ) : وَهُوَ أَيْضًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ لَمْحَةً لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ كُلَّ لَحْظَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38] (فَاسْأَلُونِي أُرْزَقْكُمْ) أَيْ: حَلَالًا طَيِّبًا إِذِ الرِّزْقُ الْمَضْمُونُ يُنَالُ بِلَا سُؤَالٍ (وَكُلُّكُمْ مُذْنِبٌ) أَيْ: يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الذَّنْبُ (إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ) أَيْ: مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ أَيْ: عَصَمْتُ وَحَفِظْتُ، وَإِنَّمَا قَالَ: (عَافَيْتُ) تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ مَرَضٌ ذَاتِيٌّ وَصِحَّتُهُ عِصْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحِفْظُهُ مِنْهُ، أَوْ كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ بِالْفِعْلِ وَذَنْبُ كُلٍّ بِحَسَبِ مَقَامِهِ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالْأَوْبَةِ، ( «فَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ» ) أَيْ: جَمِيعَ ذُنُوبِهِ وَلَوْ بِلَا تَوْبَةٍ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِثْنَاءِ الشِّرْكِ لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ إِلَّا مِنَ الْمُؤْمِنِ (وَلَا أُبَالِي) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلِيِّ (وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ) : يُرَادُ بِهِ الْإِحَاطَةُ وَالشُّمُولُ (وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ) : تَأْكِيدٌ لِإِرَادَةِ الِاسْتِيعَابِ كَقَوْلِهِ: (وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمْ) أَيْ: شَبَابَكُمْ وَشُيُوخَكُمْ، أَوْ عَالِمَكُمْ وَجَاهِلَكُمْ، أَوْ مُطِيعَكُمْ وَعَاصِيَكُمْ. وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ فَقَالَ: أَرَادَ بِالرَّطْبِ النَّبَاتَ وَالشَّجَرَ، وَبِالْيَابِسِ الْمَدَرَ وَالْحَجَرَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْبَحْرُ وَالْبَرُّ أَيْ: أَهْلُهُمَا، أَوْ لَوْ صَارَ كُلُّ مَا فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ مِنَ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ وَالْحِيتَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ آدَمِيًّا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا عِبَارَتَانِ عَنِ الِاسْتِيعَابِ التَّامِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وَالْإِضَافَةُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِيعَابُ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِلشُّمُولِ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، وَتَقْرِيرًا بَعْدَ تَقْرِيرٍ. انْتَهَى. وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِإِدْخَالِ الْمَلَائِكَةِ وَعِصْمَتِهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (اجْتَمَعُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي) : وَهُوَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا زَادَ ذَلِكَ) أَيِ: الِاجْتِمَاعُ (فِي مُلْكِي) وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ مُلْكِي (جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) أَيْ: قَدْرِهِ، وَفِيهِ إِظْهَارُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَكَمَالِ الْغِنَى وَالِاسْتِغْنَاءِ ( «وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَحَيَّكُمْ، وَمَيِّتَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ، وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَشْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي» ) وَهُوَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ (مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) : فَإِنَّ قَبُولَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ نَقْصٌ لِقَبُولِ الْحَدَثَانِ ( «وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَحَيَّكُمْ، وَمَيِّتَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ، وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ) أَيْ: مَحِلٍّ (وَاحِدٍ، فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ» ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: مُشْتَهَاهُ، وَجَمْعُهَا الْمُنَى وَالْأَمَانِي يَعْنِي كُلَّ حَاجَةٍ تَخْطُرُ بِبَالِهِ (فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْكُمْ) أَيْ: مَقَاصِدَهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ

(مَا نَقَصَ ذَلِكَ) أَيِ: الْإِعْطَاءُ أَوْ قَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ (مِنْ مُلْكِي) أَيْ: شَيْئًا أَوْ نَقْصًا (إِلَّا كَمَا) أَيْ: إِلَّا مِثْلَ نَقْصٍ فَرْضِيٍّ (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَغَمَسَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ أَدْخَلَ (فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] وَهُوَ نَظِيرُ مَا فِي حَدِيثِ الْخَضِرِ لَمَّا رَكِبَ هُوَ وَمُوسَى السَّفِينَةَ، فَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى طَرَفِهَا ثُمَّ نَقَرَ مِنَ الْبَحْرِ نَقْرَةً فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، وَاتَّفَقَ الشُّرَّاحُ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّنْزِيلِ، أَيْ: لَوْ فُرِضَ النَّقْصُ، لَكَانَ مِقْدَارُهُ مِقْدَارَ الْمُمَثَّلِ بِهِ، فَإِنْ وُجِدَ هُنَا نَقْصٌ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُ مُتَنَاهٍ، لَكِنَّهُ نَقْصٌ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَسَّ لِقِلَّتِهِ الْبَالِغَةِ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْقِلَّةِ، وَأَقُولُ، وَبِحَوْلِهِ أَجُولُ: إِنَّ النَّقْصَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ إِلَّا صُورَةً وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ انْتِقَالُ شَيْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْجِنْسِ الْكَثِيرِ إِلَى طَرَفٍ آخَرَ، فَلَا نَقْصَ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ زِيَادَةَ إِفَادَةِ حَيَاةِ ذَلِكَ الْعُصْفُورِ بِتِلْكَ الْقَطْرَةِ، وَحُصُولُ وُصُولِ بَعْضِ الْعُلُومِ مِنَ الشَّرْعِيِّ وَاللَّدُنِّيِّ إِلَى مُوسَى وَالْخَضِرِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَتَمَّ الْكَلَامُ بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا نَوْعًا مِنَ الْبَدِيعِ، وَيُسَمَّى بَابَ تَأْكِيدِ الْحُكْمِ بِمَا يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا} [البروج: 8] وَفِي قَوْلِهِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] وَفِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَجَعَلُوهُ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (ذَلِكَ) أَيْ: عَدَمُ نَقْصِ الْمُلْكِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: قَضَاءُ الْحَوَائِجِ (بِأَنِّي جَوَادٌ) أَيْ: كَثِيرُ الْجُودِ (مَاجِدٌ) أَيْ: وَاسِعُ الْعَطَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَاجِدُ أَبْلَغُ مِنَ الْجَوَادِ لِأَنَّ الْمَجْدَ سِعَةُ الْكَرَمِ فَهُوَ تَرَقٍّ (أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ) أَيْ: لَا مَا يُرِيدُ الْخَلْقُ، وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: (يُرِيدُ وَأُرِيدُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ) ، وَقِيلَ لِأَبِي يَزِيدَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ، قَالَ نَدِيمٌ الْبَارِي شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: هَذَا أَيْضًا إِرَادَةٌ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ. ( «عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ» ) : يَعْنِي لَا يَنْقُصُ مِنْ خَزَائِنِي شَيْءٌ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ الْأَمْرُ ( «إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُ» ) أَيْ: إِيجَادَهُ (أَنْ أَقُولَ لَهُ) : إِمَّا تَحْقِيقٌ أَوْ تَمْثِيلٌ (كُنْ فَيَكُونُ) : بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ أَيْ: مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ عَنْ أَمْرِي، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: عَطَائِي كَلَامٌ وَعَذَابِي كَلَامٌ. قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي مَا أُرِيدُ إِيصَالَهُ إِلَى عَبْدٍ مِنْ عَطَاءٍ أَوْ عَذَابٍ لَا أَفْتَقِرُ إِلَى كَدٍّ وَمُزَاوَلَةِ عَمَلٍ، بَلْ يَكْفِي لِحُصُولِهِ وَوُصُولِهِ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِهِ. الْكَشَّافُ: كُنْ مِنْ (كَانَ) التَّامَّةِ أَيِ: احْدُثْ فَيَحْدُثُ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا قَضَاهُ مِنَ الْأُمُورِ وَأَرَادَ كَوْنَهُ، فَإِنَّمَا يَكُونُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعٍ وَلَا تَوَقُّفٍ، كَالْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ الَّذِي يُؤْمَرُ فَيَمْتَثِلُ وَلَا يَكُونُ مِنْهُ الْإِبَاءُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

2351 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَرَأَ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] قَالَ: قَالَ رَبُّكُمْ: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَمَنِ اتَّقَانِي فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2351 - (وَعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَرَأَ) أَيْ: قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] قَالَ أَيِ النَّبِيُّ (فَقَالَ رَبُّكُمْ) أَيْ: حَدِيثًا قُدُسِيًّا، أَوْ مَعْنًى تَفْسِيرِيًّا (أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى) : بِإِضَافَةِ أَهْلٍ، وَصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أَنَا حَقِيقٌ وَجَدِيرٌ، بِأَنْ يُتَّقَى مِنَ الشِّرْكِ لِي (فَمَنِ اتَّقَانِي) : زَادَ التِّرْمِذِيُّ، فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا (فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ) أَيْ: لِمَنِ اتَّقَى فَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: أَغْفِرُ لَهُ مَا فَرَّطَ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ مِنْ جَنْبِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَمِنْ ثَمَّ مَا وَرَدَ: إِنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ مُكَفِّرٌ لِارْتِكَابِ الصَّغَائِرِ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَوْلِهِ مَا وَرَدَ إِلَخْ. مَعْلُولٌ لِأَنَّهُ مَا وَرَدَ، بَلْ كَمَا نَبَّهْنَا سَابِقًا أَنَّهُ مَذْهَبٌ مُعْتَزِلِيٌّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

2352 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَجْلِسِ يَقُولُ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ " مِائَةَ مَرَّةٍ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2352 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنْ) : مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ (كُنَّا لَنَعُدُّ) : اللَّامُ فَارِقَةٌ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : مُتَعَلِّقٌ بِنَعُدُّ (فِي الْمَجْلِسِ) أَيِ: الْوَاحِدِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْحِصْنِ (يَقُولُ) : بِالرَّفْعِ، وَيُنْصَبُ بِتَقْدِيرِ إِنَّ أَيْ قَوْلُهُ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي) : كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَحْضُرُ الْوَغَى (وَتُبْ عَلَيَّ) أَيِ: ارْجِعْ عَلَيَّ بِالرَّحْمَةِ، أَوْ وَفِّقْنِي لِلتَّوْبَةِ، أَوْ " اقْبَلْ " تَوْبَتِي (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ) : صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ (مِائَةَ مَرَّةٍ) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِنَعُدُّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ " إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ، وَابْنَ حِبَّانَ بِلَفْظِ ": " الرَّحِيمُ " بَدَلِ " الْغَفُورُ ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.

2353 - وَعَنْ بِلَالِ بْنِ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، لَكِنَّهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: هِلَالُ بْنُ يَسَارٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2353 - (وَعَنْ بِلَالٍ) : بِالْمُوَحَّدَةِ (ابْنِ يَسَارٍ) : بِالتَّحْتِيَّةِ (ابْنِ زَيْدٍ مَوْلَى النَّبِيِّ) : بَيَانٌ لِزَيْدٍ، وَفِي نُسْخَةٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: لَيْسَ زَيْدٌ هَذَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَالِدَ أُسَامَةَ، بَلْ هُوَ أَبُو يَسَارٍ. رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ يَسَارٌ هَذَا الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لَهُ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: زَيْدٌ وَالِدُ يَسَارٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثٌ، وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَكَانَ عَبْدًا نُوبِيًّا (قَالَ) أَيْ: بِلَالٌ (حَدَّثَنِي أَبِي) أَيْ: يَسَارٌ (عَنْ جَدِّي) أَيْ: زَيْدٍ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ» ) : رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْوَصْفِ لِلَفْظِ اللَّهِ، وَبِالرَّفْعِ لِكَوْنِهِمَا بَدَلَيْنِ، أَوْ بَيَانَيْنِ لِقَوْلِهِ هُوَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَشْهَرُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِي الْحَيِّ الْقَيُّومِ النَّصْبُ صِفَةً لِلَّهِ أَوْ مَدْحًا، وَالرَّفْعُ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. (وَأَتُوبُ إِلَيْهِ) : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَلَفَّظَ بِذَلِكَ إِلَّا إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَإِلَّا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَاذِبًا مُنَافِقًا، وَلِذَا رُوِيَ: إِنَّ الْمُسْتَغْفِرَ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ. (غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " قَدْ فَرَّ " وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْحِصْنِ أَيْ: هَرَبَ (مِنَ الزَّحْفِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الزَّحْفُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الَّذِي يُرَى لِكَثْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَزْحَفُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: مِنْ زَحْفِ الصَّبِيِّ إِذَا دَبَّ عَلَى " اسْتِهِ " قَلِيلًا قَلِيلًا. قَالَ الْمُظْهِرُ: هُوَ اجْتِمَاعُ الْجَيْشِ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ أَيْ: مِنْ حَرْبِ الْكُفَّارِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ بِأَنْ لَا يَزِيدَ الْكُفَّارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَوَى التَّحَرُّفَ وَالتَّحَيُّزَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ تُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. اهـ. وَهُوَ إِجْمَاعٌ بِلَا نِزَاعٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، لَكِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ) : بَدَّلَ بِلَالَ بْنَ يَسَارٍ (هِلَالُ بْنُ يَسَارٍ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْإِعْرَابِ، وَبِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) أَيْ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَعْنِي طَرِيقَ بِلَالِ بْنِ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ مُتَّصِلٌ، فَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ بِلَالًا سَمِعَ أَبَاهُ يَسَارًا، وَهُوَ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ زَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي يَسَارٍ وَالِدِ بِلَالٍ أَنَّهُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، أَوْ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُهَا ثَلَاثًا. اهـ.

وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ بِزِيَادَةِ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدٍ الْمَذْكُورِ، وَالطَّبَرَانِيِّ مَوْقُوفًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ صَاحِبُ السِّلَاحِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَالَ فِيهِ: ثَلَاثُ مَرَّاتٍ. اهـ. أَقُولُ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: " «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا» "، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِيرَادِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2354 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2354 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْفَعُ الدَّرَجَةَ) أَيِ: الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ بِلَا عَمَلٍ (لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ) أَيِ: الْمُسْلِمِ (فِي الْجَنَّةِ) : مُتَعَلِّقٌ بِيَرْفَعُ (فَيَقُولُ) أَيِ: الْعَبْدُ (يَا رَبِّ أَنَّى لِي) أَيْ: كَيْفَ حَصَلَ، أَوْ مِنْ أَيْنَ حَصَلَ لِي (هَذِهِ؟) أَيِ الدَّرَجَةُ (فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ) : حَصَلَ بِاسْتِغْفَارِ (وَلَدِكَ لَكَ) : الْوَلَدُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

2355 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهِ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا الْمَيِّتُ فِي الْقَبْرِ إِلَّا كَالْغَرِيقِ الْمُتَغَوِّثِ، يَنْتَظِرُ دَعْوَةً تَلْحَقُهُ مِنْ أَبٍ، أَوْ أُمٍّ، أَوْ أَخٍ، أَوْ صَدِيقٍ، فَإِذَا لَحِقَتْهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُدْخِلُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ مِنْ دُعَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، وَإِنَّ هَدِيَّةَ الْأَحْيَاءِ إِلَى الْأَمْوَاتِ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي: " شُعَبِ الْإِيمَانِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2355 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا الْمَيِّتُ فِي الْقَبْرِ) أَيْ: فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الشِّدَّةِ (إِلَّا كَالْغَرِيقِ) أَيِ: الْمُشْرِفِ عَلَى الْغَرَقِ (الْمُتَغَوِّثِ) أَيِ: الْمُسْتَغِيثِ الْمُسْتَعِينِ الْمُسْتَجِيرِ، الرَّافِعِ صَوْتَهُ بِأَقْصَى مَا عِنْدَهُ بِالنِّدَاءِ لِمَنْ يُخَلِّصُهُ، الْمُتَعَلِّقِ بِكُلِّ شَيْءٍ رَجَاءً لِخَلَاصِهِ، وَفِي الْمَثَلِ: الْغَرِيقُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ حَشِيشٍ. (يَنْتَظِرُ دَعْوَةً تَلْحَقُهُ) أَيْ: مِنْ وَرَائِهِ (مِنْ أَبٍ) أَيْ: مِنْ جِهَةِ أَبٍ (أَوْ أُمٍّ، أَوْ أَخٍ، أَوْ صَدِيقٍ) أَيْ: صَاحِبٍ أَوْ مُحِبٍّ أَوْ رَفِيقٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَلَدُ، (فَإِذَا لَحِقَتْهُ) أَيْ: وَصَلَتْهُ الدَّعْوَةُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِأَنْ دُعِيَ لَهُ بِهَا " فَإِنَّهُ " تَصِلُ إِلَيْهِ. بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ إِجْمَاعًا (كَانَ) أَيْ: لُحُوقُهَا إِيَّاهُ (أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) أَيْ: مِنْ مُسْتَلَذَّاتِهَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: لَوْ عَادَ إِلَيْهَا (وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُدْخِلُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ) أَيْ: مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ الْأَرْضِ (مِنْ دُعَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ) أَيْ: مِمَّنْ هُوَ حَيٌّ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَمِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ (أَمْثَالَ الْجِبَالِ) أَيْ: مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ لَوْ تَجَسَّمَتْ، (وَإِنَّ هَدِيَّةَ الْأَحْيَاءِ إِلَى الْأَمْوَاتِ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ " (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2356 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ فِي " عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2356 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طُوبَى) أَيِ: الْحَالَةُ الطَّيِّبَةُ، وَالْعِيشَةُ الرَّاضِيَةُ، أَوِ الشَّجَرَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ (لِمَنْ وَجَدَ) أَيْ: صَادَفَ (فِي صَحِيفَتِهِ) أَيْ: فِي الْآخِرَةِ (اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا) أَيْ: مَقْبُولًا لِأَنَّ اسْتِغْفَارَنَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ كَثِيرٍ كَمَا قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ طُوبَى لِمَنِ اسْتَغْفَرَ كَثِيرًا؟ وَمَا فَائِدَةُ الْعُدُولِ؟ قُلْتُ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْهُ، فَيَدُلُّ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ جَزْمًا عَلَى الْإِخْلَاصِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخْلِصًا فِيهِ كَانَ هَبَاءً مَنْثُورًا، فَلَمْ يَجِدْ فِي صَحِيفَتِهِ إِلَّا مَا

يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَوَبَالًا لَهُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . أَيْ: بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَالْمَعْنَى رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. (وَرَوَى النَّسَائِيُّ) : كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَعْطِفَ وَيَقُولَ: وَالنَّسَائِيُّ، أَوْ يَقُولُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ (فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَرْجَمَةُ كِتَابٍ صَنَّفَهُ فِي الْأَعْمَالِ الْيَوْمِيَّةِ وَاللَّيْلِيَّةِ. اهـ. وَرَوَى الْبَزَّارُ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إِلَى اللَّهِ فِي يَوْمٍ صَحِيفَةً فَيَرَى - أَيِ اللَّهُ - فِي أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ وَفِي آخِرِهَا اسْتِغْفَارًا إِلَّا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: غَفَرْتُ لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفَيِ الصَّحِيفَةِ ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرَّهُ صَحِيفَتُهُ، فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ» " أَيْ: لَعَلَّهُ يَقْبَلُ وَاحِدًا مِنْهَا.

2357 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2357 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ إِذَا أَحْسَنُوا) أَيِ: الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ (اسْتَبْشَرُوا) أَيْ: فَرِحُوا بِالتَّوْفِيقِ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] (وَإِذَا أَسَاءُوا) أَحَدُهُمَا: قَصَّرُوا فِي " أَحَدِهِمَا " (اسْتَغْفَرُوا) : كَانَ ظَاهِرُ الْمُقَابَلَةِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا أَسَاءُوا حَزِنُوا، فَعَدَلَ عَنِ الدَّاءِ إِلَى الدَّوَاءِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْحُزْنِ لَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا أَنْجَزَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ الْمُزِيلِ لِلْإِصْرَارِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: الدَّعَوَاتِ) .

2358 - وَعَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخِرُ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا - أَيْ بِيَدِهِ - فَذَبَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ، نَزَلَ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ، مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، فَطَلَبَهَا حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ ; فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ، عَلَيْهَا زَادُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ» "، رَوَى مُسْلِمٌ الْمَرْفُوعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ فَحَسْبُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْمَوْقُوفَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2358 - (وَعَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ: قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَثِقَاتِهِمْ (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ) : نَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي (أَحَدَهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: يَرْوِي عَنْهُ (وَالْآخَرَ عَنْ نَفْسِهِ) أَيْ: مَرْوِيٌّ مِنْ قَوْلِهِ. (قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذُنُوبُهُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ أَيْ: كَالْجِبَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: كَذُبَابٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْ: عَظِيمَةً ثَقِيلَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ) : وَهُوَ تَشْبِيهُ تَمْثِيلٍ شَبَّهَ حَالَهُ بِالْقِيَامِ إِلَى ذُنُوبِهِ، وَأَنَّهُ يَرَى أَنَّهَا مُهْلِكَةٌ لَهُ بِحَالِهِ إِذَا كَانَ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُهُ، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ " وَالِاحْتِرَازِ " مِنَ الذُّنُوبِ، وَلَا يُنَافِيهِ " الِاعْتِدَالُ " الْمَطْلُوبُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي الْمَحْبُوبِ، لِأَنَّ رَجَاءَ الْمُؤْمِنِ وَحُسْنَ ظَنِّهِ فِي رَبِّهِ فِي غَايَةٍ وَنِهَايَةٍ. (وَإِنَّ الْفَاجِرَ) أَيِ: الْمُنَافِقَ أَوِ الْفَاسِقَ يَتَسَاهَلُ حَيْثُ (يَرَى ذُنُوبَهُ) أَيْ: سَهْلَةً خَفِيفَةً (كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ) أَيْ: أَشَارَ إِلَيْهِ أَوْ فَعَلَ بِهِ (هَكَذَا - أَيْ بِيَدِهِ -) : تَفْسِيرٌ لِلْإِشَارَةِ أَيْ: دَفَعَ الذُّبَابَ بِيَدِهِ (فَذَبَّهُ عَنْهُ،) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ أَيْ: دَفَعَ الذُّبَابَ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِهِ سُمِّيَ الذُّبَابُ ذُبَابًا لِأَنَّهُ كُلَّمَا ذُبَّ آبَ أَيْ: كُلَّمَا دُفِعَ رَجَعَ. (ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَلَّهُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ (أَفْرَحُ) أَيْ: أَرْضَى (بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ) أَيْ: مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا صَوَّرَ حَالَ الْمُذْنِبِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ الْفَظِيعَةِ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمَلْجَأَ هُوَ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. اهـ. يَعْنِي فَحَصَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مِنَ الْمَوْقُوفِ وَالْمَرْفُوعِ. (مِنْ رَجُلٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَفْرَحَ (نَزَلَ بِأَرْضٍ دَوِّيَّةٍ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ نِسْبَةٌ لِلدَّوِّ أَيِ: الْهَلَاكِ وَفِي رِوَايَةٍ (دَاوِيَةٍ) بِقَلْبِ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ أَلِفًا، وَالدَّوَّةُ الْمَفَازَةُ الْخَالِيَةُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ جَمِيعًا، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْضًا، هِيَ الْأَرْضُ الْقَفْرُ وَالْمَفَازَةُ الْخَالِيَةُ، فَالدَّوِّيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الدَّوِّ، وَأَمَّا الدَّاوِيَّةُ فَبِإِبْدَالِ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ أَلِفًا كَالطَّائِيِّ. أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ مُسَامَحَةٌ إِذْ يُنَافِيهَا الْإِبْدَالُ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ الزِّيَادَةَ اللُّغَوِيَّةَ لَا الصَّرْفِيَّةَ الْوَزْنِيَّةَ.

وَقَوْلُهُ: كَالطَّائِيِّ نَظِيرٌ لَا مَثِيلٌ، فَفِي الْقَامُوسِ الطَّاءَةُ كَالطَّاعَةِ، الْإِبْعَادُ فِي الْمَرْعَى، وَمِنْهُ طَيِّئٌ أَبُو الْقَبِيلَةِ، أَوْ مِنْ طَاءَ يَطُوءُ إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَالنِّسْبَةُ طَائِيٌّ، وَالْقِيَاسُ كَطَيِيِّ حَذَفُوا الْيَاءَ الثَّانِيَةَ فَبَقَى طَيِّئٌ، فَقَلَبُوا الْيَاءَ السَّاكِنَةَ أَلِفًا، وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ (مَهْلَكَةٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ وَكَسْرِهَا، مَوْضِعُ خَوْفِ الْهَلَاكِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ: تُهْلِكُ مَنْ يَحْصُلُ بِهَا وَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ (مَعَهُ رَاحِلَتُهُ) أَيْ: دَابَّتُهُ الَّتِي يَرْحَلُ بِهَا (عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ) أَيْ: مَحْمُولَانِ عَلَيْهَا، (فَوَضَعَ رَأْسَهُ) أَيْ: لِلِاسْتِرَاحَةِ (فَنَامَ نَوْمَةً) أَيْ: خَفِيفَةً (فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، فَطَلَبَهَا) أَيِ: اسْتَمَرَّ عَلَى طَلَبِهَا (حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ) أَيِ: الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْجُوعَ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ (أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، أَوْ قَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ تَنْوِيعٌ أَيِ: اشْتَدَّ الْحَرُّ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ. اهـ. كَلَامُهُ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ " أَوْ ". بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، أَيْ: وَمَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذِ الْقَوْلُ بِالتَّنْوِيعِ يُوهِمُ أَنَّ الْحَرَّ وَالْعَطَشَ خَارِجَانِ مِمَّا شَاءَ اللَّهُ وَحَاشَا اللَّهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ قَالَ إِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ غَيْرَ الْحَرِّ وَالْعَطَشِ. اهـ. فَمُخْتَصَرُهُ مُخِلٌّ. (قَالَ) : جَوَابُ إِذَا، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ مُتَلَفِّظًا بِذَلِكَ أَوْ مُضْمِرَهُ (أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ) : لِاحْتِمَالِ أَنْ تَعُودَ الرَّاحِلَةُ إِلَيْهِ لِإِلْفِهَا لَهُ أَوْ لَا. (فَأَنَامُ) أَيِ: اضْطَجِعَ لِأَسْتَرِيحَ مِمَّا حَصَلَ لِي وَلَا أَزَالُ مُضْطَجِعًا (حَتَّى أَمُوتَ) أَيْ: أَوْ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ رَاحِلَتِي، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا ذَكَرَ اسْتِبْعَادًا لِجَانِبِ الْحَيَاةِ وَيَأْسًا عَنْ رُجُوعِ الرَّاحِلَةِ. (فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ) : عَلَى هَيْئَةِ الْمُحْتَضِرِ (لِيَمُوتَ) أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ (فَاسْتَيْقَظَ) أَيْ: فَنَامَ فَاسْتَنْبَهَ (فَإِذَا) : لِمُفَاجَأَةٍ (رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ) أَيْ: حَاضِرَةٌ أَوْ وَاقِفَةٌ (عَلَيْهَا زَادُهُ وَشَرَابُهُ) : الَّذِي هُوَ أَهَمُّ أَنْوَاعِ أَسْبَابِهِ (فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا) أَيْ: مِنْ فَرَحِ هَذَا الرَّجُلِ (بِرَاحِلَتِهِ وَشَرَابِهِ) : فَهَذَا " فَذْلَكَةُ " الْقِصَّةِ أُعِيدَتْ لِتَأْكِيدِ الْقَضِيَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] وَإِنَّهُمْ بِمَكَانٍ عَظِيمٍ عِنْدَ رَبٍّ كَرِيمٍ رَءُوفٍ رَحِيمٍ. قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - نَوَّرَ اللَّهُ مَرْقَدَهُ الْعَالِي -: بَلَغَنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الْعَامِلِينَ بِهِ أَنَّهُ قَالَ: دَعَوْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَلَاثِينَ سَنَةً أَنْ يَرْزُقَنِي تَوْبَةً نَصُوحَةً فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي، ثُمَّ تَعَجَّبْتُ فِي نَفْسِي وَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! حَاجَةٌ دَعَوْتُ اللَّهَ فِيهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا قُضِيَتْ لِي إِلَى الْآنِ، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لِي: أَتَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ؟ أَتَدْرِي مَاذَا تَسْأَلُ؟ إِنَّمَا تَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُحِبَّكَ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] أَهَذِهِ حَاجَةٌ هَيِّنَةٌ. اهـ. وَخَطَرَ بِالْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا بِالْحَالِ أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَاتٍ لَطِيفَةً فِي طَيِّ عِبَارَاتٍ مُنِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ رُوحُ إِنْسَانٍ نَزَلَ مِنْ جِهَةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعُلْيَا إِلَى جِهَةِ الْبَدَنِيَّةِ السُّفْلَى فِي أَرْضِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، وَهِيَ الْمَفَازَةُ الْمُهْلِكَةُ الرَّدِيَّةُ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ مِنْ قَالَبِ الْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مَرْحَلُ الْفَرَحِ وَالْحُزْنِ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ أَيْ: تَعَبُ تَحْصِيلِهِمَا وَكَدُّ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا، فَنَامَ نَوْمَةً غَفْلَةً عَمَّا خُلِقَ لَهُ، فَاسْتَيْقَظَ مِنْ غَفْلَتِهِ وَاسْتَنْبَهَ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَهَذِهِ الْيَقَظَةُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَأَوَّلُ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ أَيْ: مَرْكِبُهُ وَدَابَّتُهُ الْبَدَنِيَّةُ إِلَى مَرْعَى الشَّهَوَاتِ النَّفْسِيَّةِ، فَطَلَبَهَا الرُّوحُ غَايَةَ الطَّلَبِ، لِيَرُدَّهَا مِنَ التَّعَبِ إِلَى الْمَطْلَبِ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ حَرُّ الشَّوْقِ وَعَطَشُ الذَّوْقِ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأَهْوَالِ الْمُسْتَقِلَّةِ كَالْجِبَالِ. قَالَ الرُّوحُ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْ مَرْكِبِ الْبَدَنِ، أَنْ يَرْجِعَ إِلَى طَرِيقِ الْوَطَنِ. (أَرْجِعُ) إِلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ مِنْ مَحَلِّ (الِاجْتِمَاعِ) ، فَأَنَامُ عَلَى طَرِيقِ الْإِتِّبَاعِ، لِأَنَّ الرُّوحَ الْمُجَرَّدَ لَا يَأْتِي مِنْهُ الْعَمَلُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى الْجَسَدِ حَتَّى أَمُوتَ وَأَهْلِكَ بِالْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ، لِأَجْلِ مَعْصِيَةِ الْبَدَنِ الْمُرْقَدِ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ يَفُوتُ، فَاسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمَةِ الْغَفْلَةِ، وَتَعْبِيَةِ الْبَدَنِ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ حَاضِرَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى رَبِّهِ نَاظِرَةٌ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ حَاصِلَانِ، وَلِمَطْلُوبِهِمَا وَاصِلَانِ، فَإِنَّهُمَا لَا يَنْقُصَانِ بِطَاعَةٍ، وَلَا يَزِيدَانِ بِمَعْصِيَةٍ، فَطُوبَى لَهُ ثُمَّ طُوبَى. (رَوَى مُسْلِمٌ الْمَرْفُوعَ) أَيِ: الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ) أَيْ: مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْمَوْقُوفِ وَالْمَرْفُوعِ (فَحَسْبُ) أَيْ: فَقَطْ (وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْمَوْقُوفَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا) : وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِلَخْ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَالْمَوْقُوفَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ.

2359 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2359 - (وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ) أَيِ: الْكَامِلَ فِي الْعُبُودِيَّةِ (الْمُؤْمِنَ) أَيِ: الْمُصَدِّقَ وَالْمُقِرَّ بِأَوْصَافِ الْعُبُودِيَّةِ (الْمُفَتَّنَ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيِ: الْمُبْتَلَى كَثِيرًا بِالسَّيِّئَاتِ، أَوْ بِالْغَفَلَاتِ، أَوْ بِالْحَجْبِ عَنِ الْحَضَرَاتِ، لِئَلَّا يُبْتَلَى بِالْعُجْبِ وَالْغُرُورِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، وَأَكْثَرِ الْعُيُوبِ. (التَّوَّابَ) أَيْ: كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَتَارَةً بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَأُخْرَى بِالْأَوْبَةِ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ، وَأُخْرَى مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُفَتَّنُ الْمُمْتَحَنُ يَمْتَحِنُهُ اللَّهُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ يَتُوبُ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ، وَهَكَذَا هُوَ صَرِيحٌ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ مَعَ وُقُوعِ الْعَوْدَةِ.

2360 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا} [الزمر: 53] الْآيَةَ. فَقَالَ رَجُلٌ: فَمَنْ أَشْرَكَ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَلَا وَمَنْ أَشْرَكَ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2360 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي الدُّنْيَا) أَيْ: جَمِيعَ مَا فِيهَا بِأَنْ أَتَصَدَّقَ بِخَيْرَاتِهَا، أَوْ أَتَلَذَّذَ بِلَذَّاتِهَا (بِهَذِهِ الْآيَةِ) أَيْ: بَدَلَهَا فَإِنَّ الْآيَةَ مُشْعِرَةٌ بِحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ التَّامَّةِ وَالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ (يَا عِبَادِيَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا (الَّذِينَ أَسْرَفُوا) أَيْ: بِالْمَعَاصِي (عَلَى أَنْفُسِهِمْ) : لِأَنَّ وَبَالَهَا عَلَيْهِمْ، وَفِي نُسْخَةٍ (لَا تَقْنَطُوا) : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا (الْآيَةَ) : بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا وَحْشِيٌّ قَاتِلُ حَمْزَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دُونَ سَائِرِ الْآيَاتِ. اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ إِلَى وَحْشِيٍّ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كَيْفَ تَدْعُونِي إِلَى دِينِكَ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ مَنْ قَتَلَ أَوْ زَنَى أَوْ أَشْرَكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ، وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ هَذَا كُلَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70] فَقَالَ وَحْشِيٌّ: هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ لَعَلِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَهَلْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَقَالَ وَحْشِيٌّ: أَرَانِي بَعْدُ فِي شُبْهَةٍ، فَلَا أَدْرِي يُغْفَرُ لِي أَمْ لَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] قَالَ وَحْشِيٌّ: نَعَمْ هَذَا. فَجَاءَ وَأَسْلَمَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ: بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» . (فَقَالَ رَجُلٌ: فَمَنْ أَشْرَكَ؟) أَيْ: أَهْوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ أَمْ خَارِجٌ عَنْهَا؟ (فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: أَدَبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَانْتِظَارًا لِأَمْرِهِ، أَوْ تَفْكِيرًا وَتَأَمُّلًا فِي أَدَاءِ جَوَابِهِ، (ثُمَّ قَالَ) : إِمَّا بِالْوَحْيِ أَوْ بِالِاجْتِهَادِ (أَلَا) : بِالتَّخْفِيفِ (وَمَنْ أَشْرَكَ) أَيْ: بِالتَّوْبَةِ. كَذَا قِيلَ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ إِذْ هَذَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَجَابَ بِأَنَّهُ دَاخِلٌ، فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنِ الْقُنُوطِ، وَالْوَاوُ فِي (وَمَنْ) مَانِعَةٌ مِنْ حَمْلِ الْأَعْلَى عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَمُوجِبَةٌ لِحَمْلِهَا عَلَى التَّنْبِيهِ. اهـ. وَفِي كَلَامِهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّائِبِ مِنَ الشِّرْكِ، فَهَذَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ عِنْدَهُمْ، فَكَيْفَ يَسْأَلُونَ عَنْهُ؟ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِ التَّائِبِ فَبِظَاهِرِهِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ فِي السُّؤَالِ: فَمَنْ أَشْرَكَ مِنَ الْمَوْجُودِينَ مَا حُكْمُهُ؟ فَقَالَ: أَلَا وَمَنْ أَشْرَكَ فَحُكْمُهُ مُبْهَمٌ الْآنَ، إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ أَوْ يُعَذِّبُهُ بِالطُّغْيَانِ. وَأَشَارَ بِعَدَمِ الْحُكْمِ إِمَّا إِلَى إِبْهَامِهِ، وَإِمَّا بِعَدَمِ الْجَوَابِ إِلَى إِعْظَامِهِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يَنْزِلَ السُّؤَالُ عَلَى قَوْلِهِ: يَا عِبَادِيَ يَعْنِي الْمُشْرِكَ أَدَاخَلٌ فِي هَذَا الْمَفْهُومِ وَيُنَادَى بِيَا عِبَادِي؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، أَوْ عَلَى الَّذِينَ أَسْرَفُوا أَيْ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ أَوْ عَلَى لَا تَقْنَطُوا فَيُنْهَوْنَ عَنِ الْقُنُوطِ. فَقِيلَ: نَعَمْ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنِ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] فَقِيلَ: نَعَمْ. اهـ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ احْتِمَالَاتٍ: الْأَوَّلُ وَالرَّابِعُ مِنْهَا يَحْتَاجُ كُلٌّ إِلَى تَأْوِيلٍ أَيْضًا، وَالثَّانِي غَيْرُ لَائِقٍ بِالسُّؤَالِ، وَالثَّالِثُ هُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ " الِاحْتِمَالِ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : ظَرْفٌ لِقَالَ، وَالتَّكْرَارُ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِلَافِ الْحَالَاتِ.

2361 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ لَيَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْحِجَابُ؟ قَالَ: " أَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ» ". رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ أَحْمَدُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَخِيرَ فِي كِتَابِ: " الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2361 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَزَّ وَجَلَّ (لَيَغْفِرُ) : بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ لِلتَّأْكِيدِ (لِعَبْدِهِ) أَيْ: مَا شَاءَ مِنَ الذُّنُوبِ (مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ) أَيِ: الْإِثْنَيْنِيَّةُ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] (قَالَ: وَأَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ) : وَفِي مَعْنَى الشِّرْكِ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ. (رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ) أَيْ: جَمِيعَهَا (أَحْمَدُ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَخِيرَ) أَيِ: الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ (فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

2362 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يَعْدِلُ بِهِ شَيْئًا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلَ جِبَالٍ ذُنُوبٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ: " الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2362 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ) أَيْ: مَنْ مَاتَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الدُّنْيَا، وَغَفَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ إِذِ الْإِشْرَاكُ إِنَّمَا يَكُونُ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَكُلُّ النَّاسِ فِيهَا مُؤْمِنُونَ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعِ الْكُفَّارَ إِيمَانُهُمْ. اهـ. وَفِيهِ إِيهَامٌ، وَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ لَمْ يَنْفَعِ الْكُفَّارَ إِيمَانُهُمْ. (لَا يَعْدِلُ بِهِ) أَيْ: لَا يُسَاوِي بِاللَّهِ (شَيْئًا فِي الدُّنْيَا) أَيْ: لَا يَتَجَاوَزُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَنَصَبَ شَيْئًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ (ثُمَّ كَانَ عَلَيْهِ) أَيْ: بَعْدَ الْمَوْتِ (مِثْلَ جِبَالٍ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَاسْمُهُ قَوْلُهُ: (ذُنُوبٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ) أَيْ: إِيَّاهَا يَعْنِي: جَمِيعَهَا إِنْ شَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

2363 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ النَّهْرَانَيُّ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " رَوَى عَنْهُ مَوْقُوفًا. قَالَ: " النَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَالتَّائِبُ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2363 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ) أَيْ: تَوْبَةٌ صَحِيحَةٌ (كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) أَيْ: فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، بَلْ قَدْ يَزِيدُ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذُنُوبَ التَّائِبِ تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا جَاءَ عَنْ رَابِعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهَا كَالسُّفْيَانَيْنِ وَالْفُضَيْلِ، وَتَقُولُ: إِنْ ذُنُوبِي بَلَغَتْ مِنَ الْكَثْرَةِ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ طَاعَاتُكُمْ، فَتَوْبَتِي مِنْهَا بُدِّلَتْ حَسَنَاتٍ فَصِرْتُ أَكْثَرَ حَسَنَاتٍ مِنْكُمْ. اهـ. وَفِيهِ: أَنَّ هَذِهِ حَسَنَاتٌ تَقْدِيرِيَّةٌ، فَأَيْنَ هِيَ مِنْ حَسَنَاتٍ تَحْقِيقِيَّةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الزِّيَادَةُ الْمُضَاعَفَةُ، وَعِنْدِي أَنَّ حَسَنَةً وَاحِدَةً مِنَ السُّفْيَانَيْنِ

مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِنَقْلِ السُّنَّةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَزِيدُ عَلَى جَمِيعِ حَسَنَاتِ رَابِعَةَ، وَإِنَّمَا كَانَا يَتَوَاضَعَانِ لَهَا فِي الْحُضُورِ عِنْدَهَا، وَطَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْهَا اقْتِدَاءٌ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ رُبَّمَا كَانَا يَنْفَعَانَهَا فِيمَا تَكُونُ جَاهِلَةً فِي أَمْرِ دِينِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مِنْ قَبِيلِ إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ مُبَالَغَةً، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ كَالْأَسَدِ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُشْرِكَ التَّائِبَ لَيْسَ كَالنَّبِيِّ الْمَعْصُومِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ، بِأَنَّ الْمُرَادَ. مِمَّنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مَنْ هُوَ عُرْضَةٌ لَهُ لَكِنَّهُ حَفِظَ مِنْهُ، فَخَرَجَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ، فَلَيْسُوا مَقْصُودِينَ بِالتَّشْبِيهِ. قُلْتُ: فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ عَمِلَ ذُنُوبًا وَتَابَ مِنْهَا، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْهَا أَصْلًا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقِيلَ: الْأَوَّلُ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ بَعْدَ أَنْ ذَاقَ لَذَّاتَ الْمَعْصِيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَى صِدْقًا وَأَقْوَى أَيْمَانًا، لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْمَانِعَ، ثُمَّ تَرَكَهُ بِخِلَافِ الثَّانِي، وَقِيلَ: الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَنَّسْ بِالْمَعَاصِي بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِمَّا عِصْمَةٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِمَّا تَوْبَةٌ فِي الْآخَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَشْبَهُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ الْمَعْصُومِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ الْمَحْفُوظَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّهُ الْعَبْدُ الْأَكْمَلُ، فَإِنَّهُ وَلَوْ غَفَرَ لَهُ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَيَاءِ وَالْخَجْلَةِ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ) أَيِ: الْبَيْهَقِيُّ (تَفَرَّدَ بِهِ) أَيْ: بِنَقْلِ هَذَا الْحَدِيثِ (النَّهْرَانِيُّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ (وَهُوَ مَجْهُولٌ) : إِمَّا عَيْنُهُ أَوْ حَالُهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعَ هَذَا لَا يَضُرُّ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ. (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ رَوَى) أَيِ: الْبَغَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي نُسْخَةٍ رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (مَوْقُوفًا) : لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ (قَالَ: النَّدَمُ تَوْبَةٌ) أَيْ: رُكْنٌ أَعْظَمُهَا النَّدَامَةُ، إِذْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ الْأَرْكَانِ مِنَ الْقَلْعِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَتَدَارُكِ الْحُقُوقِ مَا أَمْكَنَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَجُّ عَرَفَةُ إِلَّا أَنَّهُ عَكْسُ مُبَالَغَةٍ، وَالْمُرَادُ النَّدَامَةُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَا غَيْرَ، (وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) . وَرَوَى الْقُشَيْرِيُّ فِي الرِّسَالَةِ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظٍ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِذْ أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ يَضُرَّهُ ذَنْبٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظٍ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، الْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ، وَمَنْ أَذَى مُسْلِمًا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ مِثْلَ مَنَابِتِ النَّخْلِ. كَذَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ: حَدِيثُ التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِشَوَاهِدِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِذَا وُجِدَتْ بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ، فَلَا شَكَّ فِي قَبُولِهَا وَتَرَتُّبِ الْمَغْفِرَةِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] وَلَا يَجُوزُ الْخُلْفُ فِي إِخْبَارِهِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَأَمَّا " الِاسْتِغْفَارُ " عَلَى وَجْهِ " الِافْتِقَارِ " " وَالِانْكِسَارِ " بِدُونِ تَحَقُّقِ التَّوْبَةِ، فَقَدْ يَكُونُ مَاحِيًا لِذُنُوبٍ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَاحِيًا، لَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَسْأَلَةَ فِي الْبَحْثِ مَعَ بَعْضِ مُعَاصِرِيهِ، وَأَطْنَبَ كُلٌّ فِي ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ، وَقَيَّدَهَا ابْنُ حَجَرٍ، وَأَطْلَقَهَا الْآخَرُ، وَأَلْحَقَ التَّفْصِيلَ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

[باب رحمة الله]

[بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ]

(5) بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2364 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي. وَفِي رِوَايَةٍ: " غَلَبَتْ غَضَبِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [5] بَابٌ [رَحْمَةُ اللَّهِ] بِالرَّفْعِ مُنَوَّنًا، وَبِالْوَقْفِ مُسَكَّنًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُنْوَانَ، وَغَالِبُ أَحَادِيثِهِ فِي: (رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ) الْبَاعِثَةُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الْعِصْيَانِ، وَالْمُوجِبَةُ لِلرَّجَاءِ وَعَدَمِ الْيَأْسِ مِنَ الْغُفْرَانِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2364 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ) أَيْ: حِينَ قَدَّرَ اللَّهُ خَلْقَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَحَكَمَ بِظُهُورِ الْمَوْجُودَاتِ، أَوْ حِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْمِيثَاقِ بَدَأَ خَلْقَهُمْ (كَتَبَ كِتَابًا) أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِأَمْرِهِ لِلْمَلَائِكَةِ أَنْ يَكْتُبُوا، أَوْ لِلْقَلَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: جَفَّ الْقَلَمُ. مِمَّا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوِ الْكِتَابَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِثْبَاتِ وَالْإِبَانَةِ (فَهُوَ) أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ أَوْ عِلْمِهِ (عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدِيَّةُ الْمَكَانَةِ لَا عِنْدِيَّةَ الْمَكَانِ لِتَنَزُّهِهِ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثَانِ (فَوْقَ عَرْشِهِ) : فِيهِ تَنْبِيهٌ " نَبِيهٌ " عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِ ذَلِكَ الْكِتَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ تَحْتَ الْعَرْشِ، زَادَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّهُ فِي جَبْهَةِ إِسْرَافِيلَ رَئِيسِ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَالْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ فَوْقَ الْعَرْشِ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْعَرْشِ عَالَمُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَاللَّوْحُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَقَضِيَّةُ هَذَا الْعَالَمِ: هُوَ عَالَمُ الْعَدْلِ، وَإِلَيْهِ أَشَارٌ لِقَوْلِهِ: بِالْعَدْلِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِثَابَةَ الْمُطِيعِ وَعِقَابَ الْعَاصِي، حَسَبُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَمَلُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي غَلَبَةَ الْغَضَبِ وَالرَّحْمَةِ لِكَثْرَةِ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61] فَيَكُونُ سِعَةُ الرَّحْمَةِ شُمُولَهَا عَلَى الْبَرِّيَّةِ، وَقَبُولُ إِبَانَةِ التَّائِبِ وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُشْتَغِلِ بِذَنْبِهِ الْمُنْهَمِكِ فِيهِ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ أَمْرًا خَارِجًا عَنْهُ، مُتَرَقِّبًا مِنْهُ إِلَى عَالَمِ الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ الْعَرْشُ وَفِي أَمْثَالِ هَذَا الْحَدِيثِ أَسْرَارٌ إِفْشَاؤُهَا بِدْعَةٌ، فَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ دُونَ السَّامِعِينَ لِلْخَبَرِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ إِمَّا الْقَضَاءُ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ وَأَوْجَبَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، أَيْ: فَعِلْمُهُ عِنْدَهُ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ لَا يَنْسَى وَلَا يَنْسَخُهُ وَلَا يُبَدِّلُهُ، وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الْمَذْكُورُ فِيهِ الْخَلْقُ وَبَيَانُ أَحْوَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمُ وَالْأَقْضِيَةِ النَّافِذَةِ فِيهِمْ وَأَحْوَالِ عَوَاقِبِ أُمُورِهِمْ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَاهَا فَذِكْرُهُ عِنْدَهُ (إِنَّ رَحْمَتِي) بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِفَتْحِ أَنَّ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنَ الْكِتَابِ وَبِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهَا حِكَايَةٌ بِمَضْمُونِ الْكِتَابِ، قُلْتُ يُؤَيِّدُ الثَّانِي رِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ بِلَفْظِ أَنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي (سَبَقَتْ غَضْبَى، وَفِي رِوَايَةٍ غَلَبَتْ غَضَبِي) أَيْ غَلَبَتْ آثَارُ رَحْمَتِي عَلَى آثَارِ غَضَبِي، وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بَيَانُ سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَشُمُولِهَا عَلَى الْخَلْقِ حَتَّى كَأَنَّهَا السَّابِقُ وَالْغَالِبُ، وَإِلَّا فَهُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ رَاجِعَتَانِ إِلَى إِرَادَتِهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، تُوصَفُ صِفَاتُهُ بِالسَّبْقِ وَالْغَلَبَةِ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَيْ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ حَكَمَ حُكْمًا جَازِمًا وَوَعَدَ وَعْدًا لَازِمًا لَا خَلْفَ فِيهِ بِأَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ; فَإِنَّ الْمُبَالِغَ فِي حُكْمِهِ إِذَا أَرَادَ إِحْكَامَهُ عَقَدَ عَلَيْهِ سِجِلًّا وَحَفَظَهُ ; فَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ قَضَاءِ الْخَلْقِ وَسَبْقِ الرَّحْمَةِ أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلْعِبَادَةِ شُكْرًا لِلنِّعَمِ الْفَائِضَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَدَاءِ حَقِّ الشُّكْرِ، وَبَعْضُهُمْ يُقَصِّرُونَ فِيهِ، فَسَبَقَتْ رَحْمَتُهُ فِي حَقِّ الشَّاكِرِ بِأَنْ وَفَّى جَزَاءَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، وَفِي حَقِّ الْمُقَصِّرِ إِذَا تَابَ وَرَجَعَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزِ، وَمَعْنَى سَبَقَتْ رَحْمَتِي تَمْثِيلٌ لِكَثْرَتِهَا وَغَلَبَتِهَا عَلَى الْغَضَبِ بِفَرَسَيْ رِهَانٍ تَسَابَقَتَا فَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2365 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2365 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ) أَيْ غَايَتَهَا، وَهِيَ النِّعْمَةُ لِاسْتِحَالَةِ حَقِيقَةِ الرَّحْمَةِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى وَتَعَدُّدِهَا (أَنْزَلَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْمِائَةِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ (رَحْمَةً وَاحِدَةً) أَيْ: تَعَطُّفًا رُوحَانِيًّا وَمَيَلَانًا نَفْسَانِيًّا، وَحُمِلَتِ الرَّحْمَةُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لِإِمْكَانِهَا فَهِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى، وَالْإِنْزَالُ تَمْثِيلٌ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ بَلْ هِيَ مِنَ الْأُمُورِ السَّمَاوِيَّةِ مَقْسُومَةً بِحَسَبِ قَابِلِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ لِمَظَاهِرِ آثَارِ صِفَةِ الرَّحْمَانِيَّةِ الْوَاقِعَةِ (بَيْنَ الْجِنِّ) أَيْ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ (وَالْإِنْسِ) كَذَلِكَ (وَالْبَهَائِمِ) أَيْ: مَعَ أَوْلَادِهَا (وَالْهَوَامِّ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، جَمْعُ هَامَّةٍ، وَهِيَ كُلُّ ذَاتِ سُمٍّ وَقَدْ يَقَعُ عَلَى مَا يَدِبُّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ كَالْحَشَرَاتِ وَالْقَمْلِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِرَحْمَتِهَا فِيمَا لَا تَوَالُدَ فِيهَا، وَأَمَّا أَكْلُ الْهِرِّ لِوَلَدِهَا أَحْيَانًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَزِيدِ خَوْفِهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهَا فَتَرَى أَنْ لَا مَلْجَأَ إِلَّا أَكْلُهُ ; فَهُوَ مِنْ مَزِيدِ رَحْمَتِهَا فِي تَخَيُّلِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُوعِهَا كَمَا يُوجَدُ لَدَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ غَيْرُ طَبِيعِيَّةٍ فَإِذَا سَلَبَتِ ارْتَفَعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ (فَبِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ الْوَاحِدَةِ وَبِسَبَبِ خَلْقِهَا فِيهِمْ (يَتَعَاطَفُونَ) أَيْ يَتَمَايَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ) أَيْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ) أَيْ تُشْفِقُ وَتَحِنُّ (عَلَى وَلَدِهَا) أَيْ حِينَ صِغَرِهَا وَلَعَلَّ التَّخْصِيصَ بِالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ لَا تَعَاطُفَ فِيمَا بَيْنَهَا حَتَّى لَا تَعْطِفَ أَوْلَادُهَا عَلَى وَالِدَيْهَا، وَلَعَلَّهَا مَوْجُودَةٌ فِيهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ (أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} [البقرة: 74] وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ظُهُورُ النَّبَاتَاتِ، وَخَوَاصُّ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُتْعَةُ بِالنَّارِ، وَالْهَوَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ (وَأَخَّرَ اللَّهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَأَظْهَرَ الْمَسْتَكِنَّ بَيَانًا لِشِدَّةِ الْعِنَايَةِ لِرَحْمَةِ اللَّهِ الْأُخْرَوِيَّةِ (تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ) أَيِ الْمُؤْمِنِينَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَعْدِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا نِهَايَةَ لَهَا لَمْ يُرِدْ بِمَا ذَكَرَهُ تَحْدِيدًا بَلْ تَصْوِيرًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ قِسْطِ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ وَقِسْطِ كَافَّةِ الْمَرْبُوبِينَ فِي الدُّنْيَا. اهـ. وَهُوَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْحُسْنَى، وَلَا يُنَافِي تَفْسِيرَ الرَّحْمَةِ بِالنِّعْمَةِ فَإِنَّ نِعَمَهُ لَا تُحْصَى دُنْيَا وَعُقْبَى، وَلَا يُعَارِضُهُ تَقْسِيمُ الرَّحْمَةِ بِمَعْنَى الْمَثُوبَةِ الْعُظْمَى عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ نُزُولِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ رَحْمَةً كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْكَعْبَةِ سِتِّينَ لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعِينَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرِينَ لِلنَّاظِرِينَ، فَانْدَفَعَ بِهِ مَا تَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى الطِّيبِيِّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سَعَةِ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2366 - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ نَحْوُهُ، وَفِي آخِرِهِ قَالَ: فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2366 - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ نَحْوُهُ) أَيْ بِمَعْنَاهُ (وَفِي آخِرِهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا) أَيْ: أَتَمَّ الرَّحْمَةَ الْوَاحِدَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي الدُّنْيَا (بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ) أَيِ: الَّتِي أَخَّرَهَا، حَتَّى يَصِيرَ الْمَجْمُوعُ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ.

2367 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ وَلَوْ يُعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3367 - (وَعَنْهُ) وَفِي نُسْخَةٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِإِيهَامِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ أَنْ يَكُونَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ سَلْمَانُ، وَأَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى الْعُنْوَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ) اللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ (مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ) بَيَانٌ لِمَا (مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ) أَيِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنِ الْكَافِرِينَ وَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ عَلَى إِطْلَاقِهِ مِنْ إِفَادَةِ الْعُمُومِ إِذْ تَصَوُّرُ ذَلِكَ وَحْدَهُ يُوجِبُ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفِيهِ بَيَانُ كَثْرَةِ عُقُوبَتِهِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ مُؤْمِنٌ بِطَاعَتِهِ، أَوِ اعْتِمَادًا عَلَى رَحْمَتِهِ فَيَقَعُ فِي الْأَمْنِ وَلَا

يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ) أَيْ: كُلُّ كَافِرٍ (مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَيُكْسَرُ (مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ) : أَيْ مِنَ الْكَافِرِينَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ: إِذَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حُسْنِ الْمُقَابَلَةِ عَدَمُ التَّقْيِيدِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ مَعَ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةَ غَيْرُ لَازِمَةِ الْوُقُوعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ فِي بَيَانِ صِفَتَيِ الْقَهْرِ وَالرَّحْمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ; فَكَمَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ لَا يَبْلُغُ كُنْهَ مَعْرِفَتِهَا أَحَدٌ، كَذَلِكَ عُقُوبَتَهُ وَرَحْمَتَهُ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَقَفَ عَلَى كُنْهِ صِفَتِهِ الْقَهَّارِيَّةِ لَظَهَرَ مِنْهَا مَا يُقَنِّطُ مِنْ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ فَلَا يَطْمَعُ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا مَعْنَى وَضْعِ أَحَدٍ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْمِنَ الْجِنْسُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ ; فَالتَّقْدِيرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدِ اخْتُصَّ لِأَنْ يَطْمَعَ بِالْجَنَّةِ فَإِذَا انْتَفَى الطَّمَعُ مِنْهُ فَقَدِ انْتَفَى عَنِ الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ مُخْتَصٌّ بِالْقُنُوطِ فَإِذَا انْتَفَى الْقُنُوطُ عَنْهُ فَقَدِ انْتَفَى عَنِ الْكُلِّ، وَوَرَدَ الْحَدِيثُ فِي بَيَانِ كَثْرَةِ رَحْمَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ كَيْلَا يَغْتَرَّ مُؤْمِنٌ بِرَحْمَتِهِ فَيَأْمَنَ مِنْ عَذَابِهِ، وَلَا يَيْأَسَ كَافِرٌ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَتْرُكَ بَابَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ بِمُطَالَعَةِ صِفَاتِ الْجَمَالِ تَارَةً، وَبِمُلَاحَظَةِ نُعُوتِ الْجَلَالِ أُخْرَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ نُودِيَ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا، وَكَذَا فِي النَّارِ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُغَلِّبَ الْخَوْفَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالرَّجَاءَ عِنْدَ الْمَمَاتِ.

2368 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2368 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ» ) بِكَسْرِ الشِّينِ، أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ضَرَبَ الْعَرَبُ مَثَلًا بِالشِّرَاكِ ; لِأَنَّ سَبَبَ حُصُولِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِنَّمَا هُوَ بِسَعْيِ الْعَبْدِ، وَيُجْرَى السَّعْيُ بِالْأَقْدَامِ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ بِوَعْدِهِ، وَمَنْ عَمِلَ شَرًّا اسْتَحَقَّ النَّارَ بِوَعِيدِهِ، وَمَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ مُنْجَزَانِ فَكَأَنَّهُمَا حَاصِلَانِ. اهـ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ فِي دَفْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلَّهُ لَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَلَعَلَّهُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الشِّرَاكَ يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ بِخِلَافِ الْعَمَلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] فَالْمُعَلَّقُ بِالْعُنُقِ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنَ الْمُعَلَّقِ تَحْتَ الرِّجْلِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِإِشَارَاتِ كَلَامِ سَيِّدِ الْأَنَامِ (وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ) إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيِ: النَّارُ مِثْلُ الْجَنَّةِ فِي كَوْنِهَا أَقْرَبَ مِنْ شِرَاكِ النَّعْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي، ثُمَّ قِيلَ هَذَا لِأَنَّ سَبَبَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَعَ الشَّخْصِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالسَّيِّئُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ إِذْ هُوَ مُجَاوِرٌ لَهُ وَالْعَمَلُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ هِيَ نَفْسُهَا بِاعْتِبَارِ سُرْعَةِ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي يَلِيهَا دُخُولُهَا، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لَكِنْ بِظَاهِرِهِ مِنْ كَوْنِهِ أَقْرَبَ مِنَ الشِّرَاكِ غَيْرُ صَحِيحٍ إِلَّا مُبَالَغَةً وَادِّعَاءً كَمَا لَا يَخْفَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ نَزَلَ الْوَعْدُ بِهَا النَّاجِزُ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مَنْزِلَةَ حُصُولِهَا نَفْسِهَا فَهُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2369 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2369 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رَجُلٌ) أَيْ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَنَا (لَمْ يَعْمَلْ) صِفَةُ رَجُلٍ (خَيْرًا قَطُّ) أَيْ عَمَلًا صَالِحًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَمْ يَعْمَلْ، وَخَوْفُهُ مِنْ عَذَابِهِ وَغُفْرَانِهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ (لِأَهْلِهِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ يَتَعَدَّى مِنْهُ لِأَهْلِهِ وَذَوِي قَرَابَتِهِ، وَأَنَّهُ يَعْمَلُ خَيْرًا لِنَفْسِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَوْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَتَعَدَّى مِنْهُ إِلَيْهِمُ اهـ، وَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَهْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بَقَالَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الطِّيبِيُّ فِيمَا سَيَأْتِي لَا بِلَمْ يَعْمَلْ كَمَا فَهِمَ هَذَا الْقَائِلُ، تَأَمَّلْ (وَفِي رِوَايَةٍ أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ: بَالَغَ فِي فِعْلِ الْمَعَاصِي فَمُؤَدَّى الرِّوَايَتَيْنِ وَاحِدٌ (فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَقُولُ قَالَ

عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَمَعْمُولُ أَوْصَى عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَدْ تَنَازَعَا فِيهِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ. اهـ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَفِي رِوَايَةٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَوْصَى) بِنْيَةُ جُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى هَكَذَا: رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ قَطُّ خَيْرًا لِأَهْلِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِلَخْ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَكُونُ ابْتِدَاءُ قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ: أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَكْثَرَ مِنَ الذُّنُوبِ. اهـ، ثُمَّ الْأَصْلُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَحَرِّقُونِي. وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْلَامًا بِعَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَدَّمَ مَا غَابَ بِهِ عَنْ مَرَاتِبِ السُّعَدَاءِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فِي مَذْهَبِ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ حُكِيَ مَا تَلَفَّظَ بِهِ الرَّجُلُ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِذَا مُتُّ فَحَرِّقُونِي ثُمَّ لْيَذْرُوا نِصْفِي، وَلَوْ نَقَلَ مَعْنَى مَا تَلَفَّظَ بِهِ الرَّجُلُ لَقَالَ: إِذَا مَاتَ فَلْيَحْرِقْهُ قَوْمُهُ ثُمَّ لْيَذْرُوا، فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَائِبِ تَحَاشِيًا عَنْ وَصْمَةِ نِسْبَةِ التَّحْرِيفِ وَتَوَهُّمِ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ إِلَى نَفْسِهِ. اهـ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكَلَامِي أَوْلَى مِمَّا قِيلَ عَدَلَ إِلَخْ، لِأَنَّ هَذَا الْعُدُولَ لَا يَمْنَعُ إِيهَامَ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَغَفْلَةٌ وَذُهُولٌ عَنْ أَنَّ الْعُدُولَ وَقَعَ عَنْ قَوْلِهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ إِلَى قَوْلِهِ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الطِّيبِيُّ تَحَامِيًا أَيْضًا (ثُمَّ اذْرُوا) هَمْزَةُ وَصْلٍ مِنَ الذَّرْيِ: بِمَعْنَى التَّذْرِيَةِ، وَيَجُوزُ قَطْعُهَا يُقَالُ ذَرَتْهُ الرِّيحُ وَأَذْرَتْهُ: إِذَا أَطَارَتْهُ، أَيْ: فَرِّقُوا (نِصْفَهُ) أَيْ نِصْفَ رَمَادِهِ إِلَى الْبَرِّ (وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ) اللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ (قَدَرَ) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَيُشَدَّدُ أَيْ: ضَيَّقَ (اللَّهُ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيَّ، وَاعْتَمَدَهَا النَّوَوِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوُ قَلَمٍ مِنْ بَعْضِ الْكُتَّابِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ تَحْرِيفُ الْكِتَابِ وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ قَوْلُهُ (لَيُعَذِّبَنَّهُ) إِذْ لَمْ يُعْهَدِ الِالْتِفَافُ بَيْنَ أَجْزَاءِ جُمْلَتِي الشَّرْطِيَّةِ وَالْقَسَمِيَّةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ دَهِشًا (عَذَابًا) أَيْ تَعْذِيبًا (لَا يُعَذِّبُهُ) أَيِ ذَلِكَ الْعَذَابَ (أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) قِيلَ مَعْنَاهُ لَئِنْ ضَيَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَنَاقَشَهُ فِي الْحِسَابِ مِنَ الْقَدْرِ بِمَعْنَى التَّضْيِيقِ لَا مِنَ الْقُدْرَةِ ; لِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْقَدْرِ كُفْرٌ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ (خَشْيَتُكَ) وَغَفَرَ لَهُ، وَالْكَافِرُ لَا يَخْشَاهُ وَلَا يُغْفَرُ لَهُ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ (قَدَرَ) بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى ضِيَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَقَوْلُهُ: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] وَالثَّانِي لَئِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ أَيْ: قَضَاهُ مِنْ قَدَرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ ; وَلَكِنْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَلَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ أَيْ: أَفُوتُهُ، وَهَذَا يُنْبِئُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّمَنُّعَ بِالتَّحْرِيقِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِغُفْرَانِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَجْهٍ يُمْكِنُ الْقَوْلُ مَعَهُ بِإِيمَانِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ ظَنَّ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا الصَّنِيعَ تُرِكَ، فَلَمْ يُنْشَرْ وَلَمْ يُعَذَّبْ، وَأَمَّا تَلَفُّظُهُ بِقَوْلِهِ: لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ، وَبِقَوْلِهِ فَلَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ ; فَلِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مِثْلِهِ هَلْ يَكْفُرُ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الْجَاحِدِ لِلصِّفَةِ، وَقِيلَ هَذَا وَرَدَ مَوْرِدَ التَّشَكُّكِ فِيمَا لَا يُشَكُّ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ بِتَجَاهُلِ الْعَارِفِ كَقَوْلِهِ {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] الْآيَةَ. وَقِيلَ لَقِيَ مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ مَا أَدْهَشَهُ وَسَلَبَ عَقْلَهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمْهِيدِ الْقَوْلِ وَتَخْمِيرِهِ ; فَبَادَرَ بِسَقْطٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَأَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجًا لَمْ يَعْتَقِدْ حَقِيقَتَهُ، وَهَذَا أَسْلَمُ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ كَلَامٌ صَدَرَ عَنْ غَلَبَةِ حَيْرَةٍ وَدَهْشَةٍ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ فِي كَلَامِهِ كَالْغَافِلِ وَالنَّاسِي فَلَا يُؤَاخَذُ فِيمَا قَالَ، أَقُولُ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ ذَلِكَ لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ، وَنَحْوَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ وَاجِدِ الضَّالَّةِ (أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ نَصٌّ إِذْ قَوْلُ الْوَاجِدِ وَقَعَ سَهْوًا وَخَطَأً بِخِلَافِ هَذَا فَكَيْفَ يَكُونُ مَقِيسًا، وَقِيلَ إِنْكَارُ وَصْفٍ وَاحِدٍ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِمَا عَدَاهُ لَا يُوجِبُ كُفْرًا، قُلْتُ: جَهْلُ وَصْفٍ وَاحِدٍ عُذْرٌ عِنْدَ بَعْضٍ لَا إِنْكَارُهُ، وَبَوْنٌ بَيْنَ الْإِنْكَارِ لِلشَّيْءِ وَالْجَهْلِ بِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ قَالَ: قِيلَ إِنَّهُ جَهِلَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ جَاهِلِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَمِمَّنْ كَفَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَوَّلًا، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُكَفَّرُ بِهِ بِخِلَافِ جَحْدِهَا، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ اعْتِقَادًا يَقْطَعُ بِصَوَابِهِ وَيَرَاهُ دِينًا شَرْعًا، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مَقَالَتَهُ حَقٌّ، وَقَالُوا لَوْ سُئِلَ النَّاسُ عَنْ

الصِّفَاتِ لَوُجِدَ الْعَارِفُ بِهَا قَلِيلًا، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ بَدِيعِ اسْتِعْمَالَاتِ الْعَرَبِ، وَيُسَمَّى مَزْجَ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ، وَالْمُرَادُ الْيَقِينُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس: 94] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُقَرِّرَهُ عِنْدَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشُكَّ فِيهِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا قَالَ تَهْيِيجًا وَإِلْهَابًا لَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ مَزِيدُ ثَبَاتٍ وَرُسُوخِ قَدَمٍ فِيهِ، كَذَلِكَ هَذَا الرَّجُلُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَنْشُرَهُ وَيَبْعَثَهُ وَيُعَذِّبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (وَإِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَنِي) فَأَرَادَ أَنْ يُحَرِّضَ الْقَوْمَ عَلَى إِنْفَاذِ وَصِيَّتِهِ ; فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ التَّشْكِيكِ لَهُمْ لِئَلَّا يَتَهَاوَنُوا فِي وَصِيَّتِهِ فَيَقُومُوا بِهَا حَقَّ الْقِيَامِ. اهـ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مَبْنِيًّا عَلَى فَرْضِهِ وَتَقْدِيرِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ شَكٌّ فِي وُقُوعِهِ، وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ "، وَالْحَدِيثُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِ مَعْصُومٍ خِطَابًا لِمَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الشَّكُّ ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، وَلَا تَأْيِيدَ لِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ مُبَايِنٌ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهَا مُوهِمَةٌ، نَعَمْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَيَحْتَاجُ كَلَامُهُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَإِنَّ أَحْسَنَ التَّأْوِيلِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] وَرِوَايَةُ (أُضِلُّ اللَّهَ) تُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى: أُضَيِّعُ طَاعَتَهُ، وَ (لَعَلَّ) لِلْإِشْفَاقِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ " لَا أَنَّهُ لِلتَّرَجِّي كَمَا حَمَلُوا عَلَيْهِ وَأَشْكَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَنَسَبُوا الْكُفْرَ إِلَيْهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَتَى بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَلَا مَحْظُورَ لَدَيْهِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ فِي زَمَانِ فَتْرَةٍ حِينَ يَنْفَعُ مُجَرَّدُ التَّوْحِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ لِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَكْلِيفٌ، وَالتَّوْحِيدُ مُتَحَقِّقٌ فَلَا مَعْنَى لِلْخَوْفِ، مَعَ أَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ لَيْسَ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ بِتَوْحِيدٍ وَغَيْرِهِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ (فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا) أَيْ أَهْلُهُ أَوْ بَنُوهُ (مَا أَمَرَهُمْ) مِنَ التَّحْرِيقِ وَالتَّذْرِيَةِ (فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ) أَيْ: مِنْ أَجْزَاءِ الرَّجُلِ ; إِظْهَارًا لِلْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالْقُوَّةِ الشَّامِلَةِ (ثُمَّ قَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا) أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الْوَصِيَّةِ (قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ) قِيلَ: إِنَّمَا وَصَّى بِذَلِكَ تَحْقِيرًا لِنَفْسِهِ وَعُقُوبَةً لَهَا بِعِصْيَانِهَا رَجَاءَ أَنْ يَرْحَمَهُ اللَّهُ فَيَغْفِرَ لَهُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ قَوْلَهُ: (لَئِنْ قَدَرَ) بِمَعْنَى ضَيَّقَ ; فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَنَّ تَحْقِيرَ النَّفْسِ لَا يُبِيحُ مِثْلَ ذَلِكَ (فَغَفَرَ لَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ وَجَدَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ مَا فُعِلَ ; فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ، وَرَفَعَ عَنْهُ أَعْبَاءَ ذَنْبِهِ ; لَعَذَّبَهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، أَوْ لَئِنْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ وَنَاقَشَهُ فِي الْحِسَابِ لَعَذَّبَهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَفِيهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنِ السِّبَاقِ وَاللِّحَاقِ، وَعَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلَامِ الرَّجُلِ يَأْبَاهُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَوَاللَّهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْمُرَادُ لَئِنْ بَعَثَنِي، وَإِنْ هُنَا بِمَعْنَى إِذَا، أَوْ إِنْ عَلَى حَدِّ {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ اللَّامَ الْمُوطِئَةَ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ لِلْقَسَمِ، وَيَسُدُّ مَسَدَّ الشَّرْطِ مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَةِ الْمَعْنَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ، ثُمَّ أَغْرَبَ بِقَوْلِهِ وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَجْوِبَةِ عِنْدِي، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ " فَلَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ " أَيْ: أَغِيبُ عَنْهُ، قِيلَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَمُّدِهِ لِحَقِيقَةِ مَدْلُولِ قَوْلِهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. اهـ، وَيُرَدُّ بِمَنْعِ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّهِشَ يَتَخَيَّلُ غَيْرَ الْوَاقِعِ كَثِيرًا. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ سَنَدًا لِلْمَنْعِ ; بَلْ دَلِيلٌ عَلَى تَحَقُّقِهِ، وَدَلَالَتُهُ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ قَدْ يُعْتَبَرُ عُذْرًا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَا مَنْعًا، فَإِنْ قُلْتَ تُعَارِضُ رِوَايَةُ " لَئِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ " رِوَايَةَ " وَأَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَنِي " قُلْتُ: هَذِهِ لَا تُقَاوِمُ تِلْكَ وَبِفَرْضِ صِحَّتِهَا فَيُجْمَعُ عَلَى قَضِيَّتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوْصَى مَرَّتَيْنِ مَرَّةً كَانَ فِيهَا ثَابِتَ الْعَقْلِ، وَأُخْرَى مَدْهُوشَ الْعَقْلِ مَذْهُوبَ الْقَلْبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2370 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْيٌ ; فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبَ ثَدْيُهَا تَسْعَى إِذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ فَقُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2370 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْيٌ) هُوَ: مَا يُسْبَى مِنَ الْعَدُوِّ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ (فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبَ) مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ أَيْ: مَالَ (ثَدْيُهَا) أَيْ: يَبُسَ ثَدْيُهَا

لِكَثْرَتِهِ لِعَدَمِ وَلَدِهَا مَعَهَا (تَسْعَى) أَيْ: تَعْدُو فِي طَلَبِ الْوَلَدِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ فَقَالَ: أَيْ تَسْعَى بِمَا تُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ، وَرُوِيَ تَسْقِي أَيْ: تُرْضِعُ الْوَلَدَ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: بِسَقْيٍ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَتَنْوِينِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَلِلْبَاقِينَ تَسْعَى بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ السَّعْيِ، قَالَ شَارِحٌ: أَيْ تَعْدُو، وَرُوِيَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ تَبْتَغِي أَيْ: تَطْلُبُ وَلَدَهَا، وَأَمَا تَسْقِي عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِلْمَصَابِيحِ وَالْبُخَارِيِّ أَيْضًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، قُلْتُ: نِسْبَتُهُ إِلَى الْبُخَارِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْعَسْقَلَانِيِّ مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ مُنْحَصِرَةٌ فِي الصِّيغَتَيْنِ، لَكِنْ فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قَالَ الْقَاضِي: الصَّوَابُ مَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تَسْقِي بِالْقَافِ مِنَ السَّقْيِ، أَقُولُ: قَوْلُهُ: وَفِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ تَسْقِي، كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ إِنْ كَانَ رَدًّا لِلرِّوَايَةِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ مِنْ حَيْثُ الدِّرَايَةُ فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّ (تَسْقِي) إِذَا جُعِلَ حَالًا مُقَدَّرَةً مِنْ ضَمِيرِ الْمَرْأَةِ بِمَعْنَى قَدْ تَحَلَّبَ ثَدْيُهَا مُقَدِّرَةً السَّقْيَ فَأَيُّ بُعْدٍ فِيهِ. اهـ كَلَامُهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْقَاضِي: الصَّوَابُ مَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تَسْقِي بِالْقَافِ مِنَ السَّقْيِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ بِقَوْلِهِ: الصَّوَابُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ تَسْقِي بِالسِّينِ مِنَ السَّقْيِ هُوَ رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِيُطَابِقَ نَقْلَ الْعَسْقَلَانِيِّ، وَقَوْلُهُمَا مِنَ السَّقْيِ بِالْقَافِ احْتِرَازٌ مِنَ السَّعْيِ بِالْعَيْنِ وَلَا دَلَالَةَ فِي كَلَامِهِمَا عَلَى أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ الْمَدْخُولِ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ ; فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِمَا عَلَى الْأَوَّلِ جَمْعًا بَيْنَ النُّقُولِ، وَأَمَّا الشَّارِحُ الَّذِي زَيَّفَ مَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَكِتَابِ الْبُخَارِيِّ فَهُوَ تَسْقِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنَ السَّقْيِ بِالْقَافِ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ، وَانْدَفَعَ بِهِ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ، وَعَجِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْجَسَارَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ وَرَدِّهَا بِمُجَرَّدِ مُخَيَّلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ (إِذْ وَجَدَتْ) أَيْ: فَاجَأَتْ (صَبِيًّا فِي السَّبْيِ) أَيْ: فِي جُمْلَةِ صِبْيَانِ السَّبْيِ (أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا، وَأَرْضَعَتْهُ) أَيْ: مَحَبَّةً لِوَلَدِهَا وَرَحْمَةً وَشَفَقَةً عَلَى وَلَدِ غَيْرِهَا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُرَوْنَ) بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ: أَتَظُنُّونَ (هَذِهِ) أَيِ: الْمَرْأَةَ مَعَ مَا عِنْدَهَا مِنْ عِظَمِ الرَّحْمَةِ حَتَّى عَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهَا (طَارِحَةً) أَيْ: مُلْقِيَةً (وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ فَقُلْنَا: لَا) أَيْ: لَا نَظُنُّ أَنَّهَا طَارِحَةٌ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: لَا تَطْرَحُهُ (وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ) الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ أَنَّهَا إِنِ اضْطُرَّتْ يُمْكِنُ طَرْحُهَا، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاضْطِرَارِ فَلَا يَطْرَحُ عَبْدَهُ فِي النَّارِ أَلْبَتَّةَ (فَقَالَ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ) أَيِ: الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مُطْلَقًا (مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) وَهُنَا يُفْتَحُ بَابُ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ، وَيَمُوجُ بَحْرُ السِّرِّ الْإِلَهِيِّ الَّذِي يَضِيقُ فِيهِ الْقَضَاءُ فَالتَّسْلِيمُ فِيهِ أَسْلَمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِابْنِ حَجَرٍ هُنَا اعْتِرَاضٌ وَكَلَامٌ مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فِي الْمَقَامِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2371 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا، وَرُوحُوا بِشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2371 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنْ يُنْجِيَ) أَيْ: مِنَ النَّارِ وَلَنْ لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ، وَقِيلَ لِتَوْكِيدِهِ، وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهَا لِتَأْبِيدِهِ، وَالْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ هُنَا (أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ) يَعْنِي بَلْ فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ ; فَإِنَّ لَهُ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ الطَّائِعَ وَيُثِيبَ الْعَاصِيَ، وَأَيْضًا فَالْعَمَلُ وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّقْصِيرِ الْمُقْتَضِي لِرَدِّهِ لَوْلَا تَفَضُّلُ اللَّهِ بِقَبُولِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَوْهِينَ أَمْرِ الْعَمَلِ وَنَفْيَهُ، بَلْ تَوْقِيفَ الْعِبَادِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ كَيْلَا يَتَكَلَّمُوا عَلَى أَعْمَالِهِمُ اغْتِرَارًا بِهَا، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: يَعْنِي أَنَّ النَّجَاةَ وَالْفَوْزَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْعَمَلُ فِيهَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِمَا إِيجَابًا، وَالْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ وَالْمُرَادُ مَعْشَرُ بَنِي آدَمَ، أَوِ الْمُكَلَّفِينَ تَغْلِيبًا (قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ وَلَا إِيَّاكَ، أَيْ لِلْعَطْفِ عَلَى (أَحَدًا) فَعَدَلَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ أَيْ مِنَ الْفِعْلِيَّةِ الْمُقَدَّرَةِ مُبَالَغَةً، أَيْ: وَلَا أَنْتَ مِمَّنْ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ: اسْتِبْعَادٌ عَنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ فَهِمُوا قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَنْ يُنْجِيَ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا التَّثْبِيتَ فِيمَا فَهِمُوهُ وَحَيْثُ يَتَأَيَّدُ بِهِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ، وَأَنَّ خِطَابَ الْأُمَّةِ يَشْمَلُهُ، وَهُمَا مَسْئَلَتَانِ مَذْكُورَتَانِ فِي الْأُصُولِ (قَالَ وَلَا أَنَا) مُطَابِقُ وَلَا أَنْتَ، أَيْ: وَلَا أَنَا مِمَّنْ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ (إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ) أَيْ: يَسْتُرَنِي (مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ) وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَيْ: إِلَّا أَنْ يُلْبِسَنِي لِبَاسَ رَحْمَتِهِ فَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ

وَالتَّغَمُّدُ السَّتْرُ أَيْ: يَسْتُرُنِي بِرَحْمَتِهِ وَيَحْفَظُنِي كَمَا يُحْفَظُ السَّيْفُ بِالْغِمْدِ بِكَسْرِ الْغَيْنِ، وَهُوَ الْغِلَافُ، وَيَجْعَلُ رَحْمَتَهُ مُحِيطَةً بِي إِحَاطَةَ الْغِلَافِ لِلسَّيْفِ، وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُجَرَّدَ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْفَوْزُ بِالثَّوَابِ لِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْعَمَلُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يُعِدُّ الْعَامِلَ لِأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ وَيُقَرِّبَ الرَّحْمَةَ إِلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ: (فَسَدِّدُوا) أَيْ: بَالِغُوا فِي التَّسْدِيدِ وَإِصَابَةِ الصَّوَابِ، وَفِعْلِ السَّدَادِ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] أَيْ: صَوَابًا وَعَدْلًا (وَقَارِبُوا) أَيْ: حَافِظُوا الْقَصْدَ فِي الْأُمُورِ بِلَا غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، أَوْ تَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بِكَثْرَةِ الْقُرُبَاتِ ; لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ لَكُمُ الْمَلَالَةُ فِي الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ (وَاغْدُوا وَرُوحُوا) أَيِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاذْكُرُوهُ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ) بِضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ اللَّامِ كَذَا فِي النُّسَخِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الدُّلْجَةُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: سَيْرُ اللَّيْلِ: وَفِي الْقَامُوسِ: الدُّلْجَةُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ: السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَقَدْ أَدْلَجُوا فَإِنْ سَارُوا مِنْ آخِرِهِ فَادَّلَجُوا بِالتَّشْدِيدِ، وَشَيْءٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مُقَدَّرٌ أَيِ: اعْمَلُوا فِيهِ، أَوْ مَطْلُوبٌ عَمَلُكُمْ فِيهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَلْيَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَجْرُورٌ لِعَطْفِهِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيِ: اعْمَلُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: (شَيْئًا) مَنْصُوبٌ لِمَحْذُوفٍ أَيِ: افْعَلُوا. اهـ. لَكِنْ يُسَاعِدُهُ رَسْمُ الْكِتَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَوَجُّهٌ إِلَى مَقْصِدٍ وَسَعْيٌ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ بِالسُّلُوكِ وَالسَّيْرِ وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ (وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ) أَيِ: الْزَمُوا التَّوَسُّطَ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقِيلَ: أَيِ الْزَمُوا الْقَصْدَ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا غُلُوَّ وَلَا تَقْصِيرَ (يَبْلُغُوا) أَيِ: الْمَنْزِلَ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُنْجِي إِيجَابًا لِئَلَّا يَتَّكِلُوا عَلَيْهِ، وَحَثَّ آخِرًا عَلَى الْعَمَلِ لِئَلَّا يُفَرِّطُوا فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ ; بَلِ الْعَمَلُ أَدْنَى إِلَى النَّجَاةِ فَكَأَنَّهُ مُعِدٌّ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2372 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا أَنَا إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2372 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُدْخِلُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ) فَاعِلُهُ (الْجَنَّةَ، وَلَا يُجِيرُهُ) أَيْ: لَا يُخَلِّصُهُ وَلَا يُنَجِّيهِ (مِنَ النَّارِ وَلَا أَنَا) أَيْ: إِيَّايَ (إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ) أَيْ: إِلَّا عَمَلًا مَقْرُونًا بِرَحْمَتِهِ ; فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، فَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، وَدَرَجَاتُهَا عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِ أَصْحَابِهَا بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2373 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ ; يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ الْقِصَاصِ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2373 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ) أَيْ: بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مُنَافِقًا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ اسْتَقَامَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَدَّى حَقَّهُ وَأَخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ; لِإِيهَامِهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ لَا يُكَفِّرُ فَإِنَّهُ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ (يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَّفَهَا) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: قَدَّمَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْقُرْبُ وَالتَّقَدُّمُ (وَكَانَ بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ: بَعْدَ الْإِسْلَامِ، أَوْ بَعْدَ التَّكْفِيرِ بِهِ (الْقِصَاصُ) بِالرَّفْعِ أَيِ: الْمُجَازَاةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوِ اتِّبَاعُ كُلِّ عَمَلِهِ بِمِثْلِهِ، وَاخْتِصَاصُ الْحَسَنَةِ بِالزِّيَادَةِ مِنْ فَضْلِهِ، وَأُخِذَ الْقِصَاصُ مِنَ الْقَصَصِ الَّذِي هُوَ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، وَهُوَ رُجُوعُ الرَّجُلِ مِنْ حَيْثُ جَاءَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] وَسُمِّيَ الْقَوَدُ قصَاصًا لِمُجَازَاةِ الْجَانِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِإِضَافَةِ (بَعْدُ) إِلَى الْقِصَاصِ وَسَيَأْتِي وَجْهُهُ (الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)

الْجُمْلَةُ بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِلْقِصَاصِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَالْحَسَنَةُ) بِوَاوِ الْعَطْفِ يَعْنِي: وَكَانَتِ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَخْ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ يُعْطَى لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثَوَابَ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ. اهـ. وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَبُرْهَانٍ لِأَنَّ الْكَافِرَ حَالَ كُفْرِهِ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ حَسَنَةٌ إِلَّا صُورَةً (إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ) أَيْ: تَنْتَهِي إِلَى ذَلِكَ وَتَمْتَدُّ (إِلَى أَضْعَافٍ) أَيْ: أَمْثَالٍ (كَثِيرَةٍ) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً (وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا) عَدْلًا وَرَحْمَةً ; وَلَوْ بِالْحَرَمِ خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ (إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا) أَيْ: بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، أَوْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْجَرِيمَةِ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي بَعْضِ النُّسَخِ (بَعْدُ) بِالْبِنَاءِ، وَالْقِصَاصُ بِالرَّفْعِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْإِضَافَةِ، وَفِي بَعْضِهَا وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَاوُ الْعَطْفِ وَفِي بَعْضِهَا بِدُونِهَا، فَمَعْنَى الْأَوَّلِ مَعَ الْعَطْفِ وَكَانَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَيْ: يَثْبُتُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ الْقِصَاصُ إِنْ جَنَى عَلَى أَحَدٍ، أَوْ كَانَ بَعْدُ الْقِصَاصُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ حَقٌّ مَالِيٌّ، وَيُثْبِتُ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، وَمَعْنَاهُ بِدُونِ الْعَطْفِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْحَسَنَةَ إِلَخْ يَكُونُ بَيَانًا لِلْقِصَاصِ، أَيِ: الْمُجَازَاةِ وَالتَّتَبُّعِ الَّذِي يُفْعَلُ مَعَهُ فِي حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، وَمَعْنَى الثَّانِي مَعَ الْعَطْفِ: وَكَانَ أَيِ الْمَذْكُورُ مِنْ تَكْفِيرِ اللَّهِ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا بَعْدَ الْقِصَاصِ أَيِ: الْإِسْلَامِ، وَعَقِيبَهُ دُونَ التَّمَهُّلِ وَالتَّرَاخِي إِلَى ظُهُورِ حَسَنٍ، وَكَانَ لَهُ أَيْضًا عَقِيبَ إِسْلَامِهِ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ; فَالْحَسَنَةُ عَلَى هَذَا عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي كَانَ، وَجَازَ بِدُونِ تَوْكِيدِهِ بِمُنْفَصِلٍ لِلْفَصْلِ بِالظَّرْفِ، وَمَعْنَاهُ بِدُونِ الْعَاطِفِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ فَاعِلُ (كَانَ) وَالْقِصَاصُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ كَمَا مَرَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَوَدُ أَيْضًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2374 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنِ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2374 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) أَيْ: أَثْبَتَهَا فِي سَابِقِ عِلْمِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِكَتْبِهِمَا فِي اللَّوْحِ أَوْ بَيَّنَهُمَا وَعَيَّنَهُمَا فِي كِتَابِهِ، أَوْ قَضَاهُمَا وَقَدَّرَهُمَا أَوْ أَمَرَ الْحَفَظَةَ بِكِتَابَتِهِمَا لِيُوَازِنَهُمَا، أَوْ صُحُفُهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَاتِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَرْبَعِينَ " ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ " أَيْ: مِقْدَارَهُمَا، وَعَيَّنَ مَبْلَغَهُمَا لِلسَّفَرَةِ الْكِرَامِ بِأَنَّ بَعْضَهَا يُجَازَى بِعَشْرٍ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ سَبْعِمِائَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ بَيَّنَهُ فِي التَّنْزِيلِ، أَوْ فَصَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْإِجْمَالَ بِمَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَذِكْرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ (فَمَنْ هَمَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ مُجْمَلٌ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ كَيْفِيَّةَ الْكِتَابَةِ أَيْ: فَمَنْ قَصَدَ (بِحَسَنَةٍ) وَصَمَّمَ عَلَى فِعْلِهَا (فَلَمْ يَعْمَلْهَا) أَيْ: لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ عَمَلُهَا لِعُذْرٍ (كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) مَفْعُولٌ ثَانٍ بِاعْتِبَارِ تَضْمِينِ مَعْنَى التَّصْبِيرِ، أَوْ حَالٍ مُوطِئَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالنِّيَّةِ وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ ; فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى النِّيَّةِ بِدُونِ الْعَمَلِ وَلَا يُثَابُ عَلَى الْعَمَلِ بِدُونِ النِّيَّةِ، لَكِنْ لَا يُضَاعَفُ ثَوَابُ الْحَسَنَةِ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ (فَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا) بِأَنْ جَمْعَ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ (كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ) أَيْ: لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي الْعَمَلِ إِخْلَاصًا وَمُرَاعَاةً بِشَرَائِطِهِ وَآدَابِهِ، قَالَ السَّيِّدُ: إِنَّ هَذَا التَّضْعِيفَ لَا يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ هُوَ وَمَا هُوَ، وَإِنَّمَا أَبْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُبْهَمِ مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِ الْمَحْدُودِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) (وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) جُوزِيَ بِحَسَنَةٍ كَامِلَةٍ لِأَنَّهُ مِمَّنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهَا بَعْدَ أَنْ هَمَّ بِهَا مُرَاقَبَةً لِلَّهِ وَحَذَرًا مِنْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، لَا إِنْ هَمَّ فَلَمْ يَعْمَلْ لِلْعَجْزِ (فَإِنْ هُوَ) أَيِ: الشَّأْنُ أَوْ مُرِيدُ الْعَمَلِ (هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا) أَيْ: جَمَعَ بَيْنَ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ احْتِرَازًا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَلَيْسَ لَفْظُ (هُوَ) فِي الْأَرْبَعِينَ بَلْ لَفْظُهُ (وَإِنْ)

هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا (كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ غَضَبِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا مُؤَاخَذَةَ بَالْهَمِّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ، وَالْكَلَامُ كَمَا عَلِمْتَ مِنَ الْحَدِيثِ فِي الْهَمِّ الَّذِي لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ تَصْمِيمٌ، أَمَّا الْمُنْضَمُّ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَهُوَ سَيِّئَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ أَيْضًا. اهـ. وَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلِ التَّحْقِيقُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ فِيمَا لَا اخْتِيَارَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّمَا يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» ) وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ إِلَّا أَنْ يَمْتَنِعَ لِأَجْلِهِ تَعَالَى فَيَمْحُوَهُ، أَوْ يُبَاشِرَهُ فَيُكْتَبَ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فَانْظُرْ يَا أَخِي - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إِلَى عِظَمِ لُطْفِ اللَّهِ، وَتَأَمُّلْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ. وَقَوْلُهُ: (عِنْدَهُ) إِشَارَةٌ إِلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَقَوْلُهُ: (كَامِلَةً) لِلتَّوْكِيدِ وَشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهَا، وَقَالَ فِي السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا ثُمَّ تَرَكَهَا: كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَأَكَّدَهَا بِكَامِلَةٍ، وَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَأَكَّدَ تَقْلِيلَهَا بِوَاحِدَةٍ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2375 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ ثُمَّ عَمِلَ أُخْرَى فَانْفَكَّتْ أُخْرَى حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ» " رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2375 - (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ) أَيْ صِفَتَهُ (كَمَثَلِ رَجُلٍ) قُيِّدَ بِهِ لِمُنَاسَبَتِهِ بِالدِّرْعِ (كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ) أَيْ: عَصَرَتْ حَلْقَهُ، فَإِنَّهُ بِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ يَضِيقُ صَدْرُهُ، وَيُحَيِّرُهُ فِي الْأُمُورِ، وَيُبَغِّضُهُ إِلَى النَّاسِ، وَبِعَمَلِ الْحَسَنَاتِ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ، وَتَتَيَسَّرُ أُمُورُهُ، وَيَصِيرُ مَحْبُوبًا فِي قُلُوبِ النَّاسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً) أَيْ: أَيَّ حَسَنَةٍ كَانَتْ، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّنْكِيرِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ أَوْصَلَ نِعْمَةً لِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى فَكِّ حِلَقِ تِلْكَ الدِّرْعِ فَجَازَاهُ بِفَكِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَمُوهِمٌ لِلتَّخْصِيصِصِ، وَمُخْرِجٌ لِلْحَدِيثِ مِنَ التَّمْثِيلِ الْمَعْنَوِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْحِسِّيِّ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَمَا قَرَّرْتُهُ فِي عَمَلِ حَسَنَةٍ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ تَرْتِيبُ الْحَدِيثِ وَيَتَّضِحُ بِهِ التَّمْثِيلُ، بِخِلَافِ مَا أَوْهَمَ كَلَامُ شَارِحٍ مِنْ بَقَاءِ الْحَسَنَةِ عَلَى مَعْنَاهَا مِنْ مُجَرَّدِ عَمَلِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ عَمَلِهَا وَفَكِّ تِلْكَ الْحَلَقِ فَتَأَمَّلْهُ. اهـ. فَتَأَمَّلْنَا فَوَجَدْنَا كَلَامَهُ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى شَخْصٍ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِأَنْ يَفُكَّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَلَقَةً مِنْ حِلَقِ الدِّرْعِ مُتَعَسِّرٌ، بَلْ مُتَعَذِّرٌ عَادَةً، وَأَيْضًا الَّذِي لَبِسَ دِرْعًا ضَيِّقَةً تَخَنَّقَتْ يَقْدِرُ عَلَى خَلْعِهَا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ أَنْوَاعًا مِنَ الْإِحْسَانِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَزْمَانِ حَتَّى يُخَلِّصَهُ مِنَ اخْتِنَاقِ دِرْعِهِ (فَانْفَكَّتْ) أَيِ: انْحَلَّتْ (حَلْقَةٌ) بِسُكُونِ اللَّامِ وَيُفْتَحُ (ثُمَّ عَمِلَ أُخْرَى) أَيْ: حَسَنَةً (فَانْفَكَّتْ أُخْرَى) أَيْ: حَلْقَةٌ، وَهَكَذَا تَنْفَكُّ وَاحِدَةٌ بِوَاحِدَةٍ بَعْدَ أُخْرَى (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ: حَتَّى تُسْقِطَ الدِّرْعَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ حَتَّى تَنْحَلَّ وَتَنْفَكَّ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَخْرُجَ صَاحِبُهَا مِنْ ضِيقِهَا، فَقَوْلُهُ: تَخْرُجُ إِلَى الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنْ سُقُوطِهَا. اهـ. وَالْحَدِيثُ تَمْثِيلٌ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

2376 - «وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُصُّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الثَّانِيَةَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ، فَقُلْتُ الثَّانِيَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَقُلْتُ الثَّالِثَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَإِنْ، رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2376 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُصُّ) أَيِ: النَّاسَ وَيَعِظُهُمْ (عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ إِنَّهُ (يَقُولُ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) أَيْ: مَوْقِفَهُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ الْعِبَادُ لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ أَيْ: وَلِمَنْ خَافَ مِنَ الْقِيَامِ بِحَضْرَةِ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَائِمٌ عَلَيْهِ أَيِ: حَافِظٌ مُهَيْمِنٌ مِنْ قَوْلِهِ {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} [الرعد: 33] الْآيَةَ فَهُوَ يُرَاقِبُ ذَلِكَ وَلَا يَجْرُأُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي مَوْقِفَ عَرْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (جَنَّتَانِ) أَيْ: جَنَّتَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ إِلَى آخِرِ صِفَاتِهِمَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّهُمَا أَعْلَى مِنَ الْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَعْدَهَا مِنَ الْجِنَانِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ وَمِنْ دُونِهِمَا أَيْ: فِي الْمَرْتَبَةِ وَالنَّعِيمِ وَالشَّرَفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ خَوْفَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى دَوَامِ مُرَاقَبَةِ الْحَقِّ وَإِدْمَانِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُوصِلَةِ لَهُ إِلَى مَقَامَيْنِ عَالِيَيْنِ، قِيلَ: جَنَّةٌ لِعَمَلِ الطَّاعَةِ وَجَنَّةٌ لِتَرْكِ السَّيِّئَةِ، وَقِيلَ: جَنَّةٌ لِلثَّوَابِ بِطَرِيقِ الْعَدْلِ، وَجَنَّةٌ لِلِاقْتِرَابِ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: جَنَّةٌ مُعَجَّلَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالْحُضُورِ مَعَ الْمَوْلَى وَجَنَّةٌ مُؤَجَّلَةٌ فِي الْآخِرَةِ بِلِقَاءِ الْمَوْلَى وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ جَنَّةٌ مِنَ الذَّهَبِ آنِيَتُهَا وَقُصُورُهَا وَحُلِيُّهَا وَغَيْرُهَا، وَجَنَّةٌ مِنَ الْفِضَّةِ كَذَلِكَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَنَّةٌ لِلسَّابِقِينَ وَجَنَّةٌ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، أَوْ جَنَّةٌ عَنْ يَمِينِهِمْ وَجَنَّةٌ عَنْ يَسَارِهِمْ (قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) (إِنْ) وَصَلْيَةٌ أَيْ: وَلَوْ زَنَى وَسَرَقَ، الْخَائِفُ لَهُ جَنَّتَانِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَإِنْ سَبَقَ مِنْهُ قَبْلَ هَذَا الْخَوْفِ نَحْوُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَيَصِحُّ عَلَى بُعْدٍ وَإِنْ فَعَلَهَا مَعَ هَذَا الْخَوْفِ وَوَجَّهَ بَعْدَهُ اجْتِمَاعَ هَذَا الْخَوْفِ وَفِعْلَ ذَيْنِكَ وَأَمْثَالِهِمْ. اهـ. وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ الْمُفِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ ; فَإِنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى الرُّجُوعِ وَالتَّوْبَةِ لَا يُسْأَلُ عَنْهُ وَلَا يُسْتَغْرَبُ مِنْهُ (فَقَالَ الثَّانِيَةَ) أَيْ: فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّأْكِيدِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ، فَقُلْتُ الثَّانِيَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ الثَّالِثَةَ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَقُلْتُ الثَّالِثَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَإِنَّ، رَغِمَ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ، أَيْ: لَصِقَ بِالتُّرَابِ ذُلًّا وَهَوَانًا (أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ) وَضُبِطَ بِفَتْحِهَا، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ ذَلَّ، وَقِيلَ اضْطَرَبَ، وَقِيلَ غَضِبَ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَائِفِ الْمُؤْمِنُ، فَيَكُونُ نَظِيرَ حَدِيثٍ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا ( «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» ) كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا يَعْنِي مَنْ خَافَ اللَّهَ فِي مَعْصِيَةٍ فَتَرَكَهَا يُعْطِيهُ اللَّهُ أَجْرَ غَفْرِ تِلْكَ الزَّنْيَةَ وَالسَّرِقَةَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

2377 - وَعَنْ عَامِرٍ الرَّامِ قَالَ: «بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ يَعْنِي عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَرْتُ بَغِيضَةِ شَجَرٍ فَسَمِعْتُ فِيهَا أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ، فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ فِي كِسَائِي، فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ فَاسْتَدَارَتْ عَلَى رَأْسِي، فَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِنَّ فَلَفَفْتُهُنَّ بِكِسَائِي فَهُنَّ أُولَاءِ مَعِي، قَالَ: ضَعْهُنَّ، فَوَضَعْتُهُنَّ، وَأَبَتْ أُمُّهُنَّ إِلَّا لُزُومَهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَعْجَبُونَ لِرُحْمِ أُمِّ الْأَفْرَاخِ فِرَاخَهَا، فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ، فَرَجَعَ بِهِنَّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2377 - (وَعَنْ عَامِرٍ الرَّامِ) أَيِ: الرَّامِي (قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ يَعْنِي عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي عَنِ الرَّامِي (إِذْ أَقْبَلَ) أَيْ: تَوَجَّهَ (رَجُلٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ) بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: خِرْقَةٌ (وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ) بِكِسَاءٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: ذَلِكَ الْكِسَاءُ وَلَا وَجْهَ لِلْجَزْمِ بِهِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ (فَقَالَ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ مَا هَذَا الشَّيْءُ فَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَرْتُ بَغِيضَةِ شَجَرٍ) الْغَيْضَةُ: الْغَابَةُ وَهُوَ مُجْتَمَعُ الْأَشْجَارِ أَضَافَهَا إِلَى الشَّجَرِ إِمَّا لِمَزِيدِ الْبَيَانِ: أَوْ يُرَادُ بِالشَّجَرِ الْمَرْعَى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.

وَنَأَى بِي الشَّجَرُ أَيْ: بَعُدَ الْمَرْعَى وَالشَّجَرُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَيْ: بِغَيْضَةٍ هِيَ شَجَرٌ مُلْتَفٌّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لِكَثْرَتِهِ ; فَمَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ الْغَيْضَةَ هِيَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَلِمَا كَانَتِ الْبَيَانِيَّةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِيَ عَامٌّ، أَوْرَدَ سُؤَالًا وَجَوَابًا فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لَيْسَتِ الْغَيْضَةُ اسْمًا لِمُطْلَقِ الشَّجَرِ بَلْ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ فَلَا تَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً، قُلْتُ: تَنْوِينُهَا لِلتَّنْكِيرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَغِيضَةٌ وَهِيَ شَجَرٌ كَبِيرٌ وَمَنْ لَازَمَهُ الِالْتِفَافُ غَالِبًا اهـ وَقَوْلُهُ: لِلتَّنْكِيرِ صَوَابُهُ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى مَا ادَّعَى كَمَا لَا يَخْفَى، وَمَعَ هَذَا قَيْدُ الْغَالِبِيَّةِ لَا يُصَحِّحُ الْبَيَانِيَّةَ بَلْ بِدُونِهَا أَيْضًا، كَمَا حُقِّقَ فِي خَاتَمِ فِضَّةٍ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَالصَّوَابُ مَا اخْتَرْنَاهُ مُطَابِقًا لِلْقَامُوسِ أَنَّ الْغَيْضَةَ بِالْفَتْحِ: الْأَجَمَةُ وَمُجْتَمَعُ الشَّجَرِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِ النِّهَايَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّجَرِ الْجِنْسُ، وَبِالْمُلْتَفِّ أَنْ يَلْتَفَّ بَعْضُ الْأَشْجَارِ إِلَى بَعْضِهَا لَا الْمُفْرَدُ الْمُعَيَّنُ الْمُلْتَفُّ بَعْضُ أَغْصَانِهِ إِلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الْغَيْضَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَوْضِعٍ تَكْثُرُ فِيهِ السِّبَاعُ وَالطُّيُورُ (فَسَمِعْتُ فِيهَا) أَيْ: فِي الْغَيْضَةِ (أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ) بِكَسْرِ الْفَاءِ: جَمْعُ كَثْرَةٍ لِلْفَرْخِ وَهُوَ وَلَدُ الطَّيْرِ، وَجَمْعُهُ لِلْقِلَّةِ أَفْرَاخٌ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِيثِ إِمَّا اتِّسَاعًا أَوِ اسْتِعْمَالًا لِكُلٍّ مِنَ الْجَمْعَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] " وَإِمَّا إِشْعَارًا بِأَنَّ تِلْكَ الْقِلَّةَ كَانَتْ خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ، وَبَالِغَةً إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَيَشْهَدُ لَهُ الضَّمَائِرُ الْمُتَعَاقِبَةُ فِي قَوْلِهِ (فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ فِي كِسَائِي، فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ) كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ (فَاسْتَدَارَتْ) أَيْ: دَارَتْ (عَلَى رَأْسِي فَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ) أَيْ: فَرَفَعْتُ الْكِسَاءَ عَنْ وَجْهِ الْفِرَاخِ لِأَجْلِ أُمِّهِنَّ حَتَّى رَأَتْهُنَّ (فَوَقَعَتْ) أَيْ: نَزَلَتْ وَسَقَطَتْ (عَلَيْهِنَّ فَلَفَفْتُهُنَّ) أَيْ: جَمِيعَهُنَّ (بِكِسَائِي، فَهُنَّ) أَيْ: عَنْهُنَّ وَأُمُّهُنَّ (أُولَاءِ) اسْمُ إِشَارَةٍ (مَعِي) أَيْ: تَحْتَ كِسَائِي (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ضَعْهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ) أَيْ: وَكَشَفْتُ عَنْهُنَّ وَعَنْ أُمِّهِنَّ (وَأَبَتْ أُمُّهُنَّ) أَيِ: امْتَنَعَتْ (إِلَّا لُزُومَهُنَّ) أَيْ: عَدَمَ مُفَارَقَتِهِنَّ، اسْتِثْنَاءٌ مُفْرِغٌ لِمَا فِي (أَبَتْ) مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: مَا فَارَقَتْهُنَّ بَعْدَ كَشْفِ الْكِسَاءِ بَلْ ثَبَتَتْ مَعَهُنَّ مِنْ غَايَةِ رَحْمَتِهَا بِهِنَّ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَعْجَبُونَ لِرُحْمِ أُمِّ الْأَفْرَاخِ) أَيْ: لِشَفَقَتِهَا. وَالرُّحْمُ بِالضَّمِّ مَصْدَرٌ كَالرَّحْمَةِ، وَيَجُوزُ تَحْرِيكُ الْحَاءِ بِالضَّمِّ مِثْلَ عُسْرٍ وَعُسُرٍ، وَقَوْلُهُ (فِرَاخَهَا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ بِفِرَاخِهَا (فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا) لِأَنَّ رَحْمَتَهُ حَقِيقِيَّةٌ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ لَا تَنْقَطِعُ، وَرَحْمَتَهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ (ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ) (مِنْ) بِمَعْنَى: (فِي) نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلِابْتِدَاءِ أَيْ: حَتَّى تَجْعَلَ ابْتِدَاءَ وَضْعِهِنَّ مَكَانًا أَخَذْتَهُنَّ مِنْهُ بِأَنْ لَا تَضَعَهُنَّ مَكَانًا آخَرَ: وَقِيلَ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ (وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَرَجَعَ بِهِنَّ) أَيْ: وَوَضَعَهُنَّ حَيْثُ أَخَذَهُنَّ مَعَ أُمِّهِنَّ لِأُلْفَتِهِنَّ بِمَكَانِهِنَّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)

الفصل الثالث 2378 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَمَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ: " مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ وَامْرَأَةٌ تَحْضِبُ بِقِدْرِهَا وَمَعَهَا ابْنٌ لَهَا، فَإِذَا ارْتَفَعَ وَهَجٌ تَنَحَّتْ بِهِ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَلَيْسَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: أَلَيْسَ اللَّهُ أَرْحَمَ بِعِبَادِهِ مِنَ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: إِنَّ الْأُمَّ لَا تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ، فَأَكَبَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الْمَارِدَ الْمُتَمَرِّدَ الَّذِي يَتَمَرَّدُ عَلَى اللَّهِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2378 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَمَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ مَنِ الْقَوْمُ) أَيْ أَنْتُمْ أَوْ هُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْكَافِرِينَ أَوِ الْأَحِبَّاءِ الْمُسْلِمِينَ (قَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ) وَتَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ وَتَبِعَهُ

ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: كَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ نَحْنُ مُضَرِيُّونَ أَوْ قُرَشِيُّونَ أَوْ طَائِيُّونَ، فَعَدَلُوا عَنِ الظَّاهِرِ، أَوْ عَرَّفُوا الْخَبَرَ حَصْرًا، أَيْ: نَحْنُ قَوْمٌ لَا نَتَجَاوَزُ الْإِسْلَامَ تَوَهُّمًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَنَّ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْلِمِينَ (وَامْرَأَةٌ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ امْرَأَةً مَعَهُمْ (تَحْضِبُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: تُوقِدُ (بِقِدْرِهَا، وَمَعَهَا ابْنٌ لَهَا) أَيْ: صَغِيرٌ (فَإِذَا ارْتَفَعَ وَهَجٌ) بِفَتْحِ الْهَاءِ: حَرُّ النَّارِ، وَبِالسُّكُونِ مَصْدَرٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَفِي نُسْخَةٍ ارْتَفَعَتْ بِاكْتِسَابِ التَّأْنِيثِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (تَنَحَّتْ بِهِ) أَيْ: تَبَعَّدَتِ الْأُمُّ بِالْوَلَدِ عَنِ النَّارِ (فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّفْرِيعِ أَنَّهَا لَمَّا رَأَتْ مَا عِنْدَهُ مِنْ مَزِيدِ الرَّحْمَةِ لِوَلَدِهَا خُصُوصًا وَلِلْعَالَمِينَ عُمُومًا تَذَكَّرَتْ رَحْمَةَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ خُصُوصًا لِعِبَادِهِ فَسَأَلَتْ عَنْهَا (فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟) اسْتِفْهَامٌ بِحَذْفِ أَدَاتِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ حَقِيقِيٌّ، وَلَا يُنَافِي إِسْلَامَهَا قَبْلَ ذَلِكَ لِعِلْمِهَا بِهِ إِجْمَالًا وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ ذَاتَهُ بِعَيْنِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلتَّقْرِيرِ وَالِاسْتِلْذَاذِ بِخِطَابِهِ بِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ، وَخَلِيفَتَهُ عَلَى خَلِيقَتِهِ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) أَيْ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي (أَلَيْسَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ؟) أَيْ: عُمُومًا (قَالَ: بَلَى) عَلَى وِزَانِ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى (قَالَتْ: أَلَيْسَ اللَّهُ أَرْحَمَ بِعِبَادِهِ مِنَ الْأُمِّ لِوَلَدِهَا) أَيْ: خُصُوصًا (قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: إِنَّ الْأُمَّ لَا تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ، فَأَكَبَّ) أَيْ: شَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: طَأْطَأَ رَأْسَهُ (يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ) أَيْ: عَذَابًا مُخَلَّدًا أَوِ التَّعْذِيبَ لِلْكَافِرِينَ، وَالتَّهْذِيبَ لِلْعَاصِينَ (مِنْ عِبَادِهِ) أَيْ: مِنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ فَالْإِضَافَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَغَفَلَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (إِلَّا الْمَارِدَ) أَيِ: الْعَارِيَ مِنَ الْخَيْرَاتِ (الْمُتَمَرِّدَ) مُبَالَغَةٌ لَهُ (الَّذِي يَتَمَرَّدُ عَلَى اللَّهِ) أَيْ: يَتَجَرَّأُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ (وَأَبَى) عَطْفٌ عَلَى يَتَمَرَّدُ، أَوْ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، التَّقْدِيرُ وَقَدْ أَبَى أَيِ امْتَنَعَ (أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ وَلَدٍ يَقُولُ لِأُمِّهِ: لَسْتِ أُمِّي وَأُمِّي غَيْرُكِ وَيَعْصِيهَا، وَتَتَصَوَّرُ لَهُ بِصُورَةِ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا حِينَئِذٍ تَتَبَرَّأُ عَنْهُ وَتُعَذِّبُهُ إِنْ قَدَرَتْ عَلَيْهِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

2379 - وَعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مَرْضَاةَ اللَّهِ فَلَا يَزَالُ بِذَلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِجِبْرِيلَ إِنَّ فُلَانًا عَبْدِي يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُ، حَتَّى يَقُولُهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ تَهْبِطُ لَهُ إِلَى الْأَرْضِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2379 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ) أَيِ: الصَّالِحَ (لَيَلْتَمِسُ) أَيْ: يَطْلُبُ (مَرْضَاةَ اللَّهِ) أَيْ: بِأَصْنَافِ الطَّاعَاتِ (فَلَا يَزَالُ بِذَلِكَ) أَيْ: مُلْتَبِسًا أَيْ بِذَلِكَ الِالْتِمَاسِ (فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِجِبْرِيلَ إِنَّ فُلَانًا) كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِهِ وَوَصْفِهِ (عَبْدِي) أَيِ: الْمُؤْمِنُ، إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ (يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي) أَيْ: لِأَنْ أَرْحَمَهُ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (وَإِنَّ رَحْمَتِي) أَيِ الْكَامِلَةَ (عَلَيْهِ) أَيْ: وَاقِعَةٌ عَلَيْهِ وَنَازِلَةٌ إِلَيْهِ (فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ) خَبَرٌ، أَوْ دُعَاءٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (وَيَقُولُهَا) أَيْ هَذِهِ الْجُمْلَةَ (حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُمْ) أَيْ: جَمِيعًا (حَتَّى يَقُولُهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ يَهْبِطُ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ وَرُوِيَ مَجْهُولًا أَيْ: تُنَزَّلُ الرَّحْمَةُ (لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِهِ (إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ: إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، يَعْنِي مَحَبَّةَ اللَّهِ إِيَّاهُ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِيهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَحَدِيثُ الْمَحَبَّةِ مُتَقَارِبَانِ اهـ وَيُرِيدُ بِحَدِيثِ الْمَحَبَّةِ مَا وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنِ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، فَيُبْغِضُوهُ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ» ) وَالْحَدِيثُ

يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ أَفْضَلُ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ قَوْلَ الشَّارِعِ ثُمَّ تَهْبِطُ لَهُ أَيِ: الرَّحْمَةُ لِأَجْلِهِ إِلَى الْأَرْضِ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِنْ صَحَّ أَنْ تَهْبِطَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَإِلَّا فَالسِّيَاقُ وَالْمَعْنَى مَعًا قَاضِيَانِ بِأَنَّهُ الْمُثَنَّاةُ التَّحْتِيَّةُ وَأَنَّ ضَمِيرَهُ لِجِبْرِيلَ غَيْرُ مُوَجَّهٍ، فَإِنَّ النُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ وَالْأُصُولَ الْمُعْتَمَدَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى خِلَافٍ تَقَدَّمَ فِي ضَبْطِهَا، وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ إِلَّا بَعْدَ تَصْحِيحِ لَفْظِهِ وَرِوَايَتِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ: إِنْ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ بَيْنَ مَلَائِكَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيَقُولُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ فِي الْأَرْضِ الْأُولَى وَيَقُولُهَا مَلَائِكَتُهَا ثُمَّ يَقُولُهَا فِي الثَّانِيَةِ وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، هَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ الْعُلْيَا فَقَطْ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّصَرُّفِ لَا يَجُوزُ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْأَظْهَرُ وَمَا بَنَاهُ عَلَى دَلَالَةِ السِّيَاقِ مَعَ أَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مُطَابِقٌ فِي الْإِجْمَالِ لِرِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

2380 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] قَالَ: " كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2380 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَمِنْهُمْ) الْفَاءُ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ} [فاطر: 32] وَقِيلَ: مِنَ الْعِبَادِ {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] أَيْ: بِارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر: 32] أَيْ: يَخْلِطُ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] أَيْ: بِالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ) إِيذَانٌ بِأَنَّ: جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا مُبْتَدَأُ خَبَرِ الضَّمِيرِ لِلثَّلَاثَةِ أَوْ لِلْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْجِنْسُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيرَاثِ أَوِ الِاصْطِفَاءِ أَوِ السَّابِقِ فَإِنَّ الْمُرَادَ مَا قَرَّرَهُ الْقَاضِي، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْكَشَّافُ مِنْ أَنَّ (جَنَّاتٍ) بَدَلٌ مِنَ الْفَضْلِ الْكَبِيرِ الْمَعْنِيِّ بِهِ السَّبْقُ وَأُخْرِجَ الظَّالِمُ وَالْمُقْتَصِدُ مِنْ هَذَا الْعَامِّ وَمِنَ الْفَضْلِ الْكَبِيرِ وَالْجَنَّاتِ، وَيُطَابِقُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُمْ: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] أَيْ: كَثِيرُ الْغُفْرَانِ لِلظَّالِمِ وَكَثِيرُ الشُّكْرِ أَيِ: الْإِثَابَةِ لِلسَّابِقِ فَالْتَأَمَ السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي الْبَعْثِ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: «سَابِقُنَا سَابِقٌ وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ» ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِثَوْبَانَ: أَمَّا السَّابِقُ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنِ اتَّبَعَ أَثَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى لَحِقَ بِهِ، وَأَمَّا الظَّالِمُ فَمِثْلِي وَمِثْلُكَ، وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - الظَّالِمُ أَنَا وَالْمُقْتَصِدُ أَنَا وَالسَّابِقُ أَنَا، فَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنَا الظَّالِمُ بِمَعْصِيَتِي وَمُقْتَصِدٌ بِتَوْبَتِي وَسَابِقٌ بِمَحَبَّتِي، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: السَّابِقُ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَالْمُقْتَصِدُ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ وَالظَّالِمُ الَّذِي تَرَجَّحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: فِرَقُ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثُ فِرَقٍ، ثُمَّ سَمَّاهُمْ. (عِبَادُنَا) أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَكَرَمًا وَجَعَلَهُمْ أَصْفِيَاءَ مَعَ عِلْمِهِ بِتَفَاوُتِ مُعَامَلَاتِهِمْ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ فَقَالَ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33] وَبَدَأَ بِالظَّالِمِينَ إِخْبَارًا بِأَنَّهُ لَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَحْضِ كَرَمِهِ، وَأَنَّ الظُّلْمَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الِاصْطِفَائِيَّةِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمُقْتَصِدِينَ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، ثُمَّ خَتَمَ بِالسَّابِقِينَ لِئَلَّا يَأْمَنَ أَحَدٌ مَكْرَهُ وَلَا يَقْنَطُ مِنْ كَرْمِهِ، وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِحُرْمَةِ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَقَالَ الْجُنَيْدُ: لَمَّا ذَكَرَ الْمِيرَاثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ خَاصٌّ وَعَامٌّ، وَأَنَّ الْمِيرَاثَ لِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ نَسَبًا، وَأَصَحُّ أَدَبًا فَتَصْحِيحُ النِّسْبَةِ هُوَ الْأَصْلُ فَالظَّالِمُ الَّذِي يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُحِبُّهُ لَهُ، وَالسَّابِقُ الَّذِي أَسْقَطَ عَنْهُ مُرَادَهُ بِمُرَادِ الْحَقِّ فِيهِ فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ طَلَبًا وَلَا مُرَادًا لِغَلَبَةِ سُلْطَانِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يَجْزَعُ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَالسَّابِقُ الَّذِي يَشْكُرُ عَلَى الْبَلَاءِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

[باب ما يقول عند الصباح والمساء والمنام]

[بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالْمَنَامِ]

(بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالْمَنَامِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2381 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمْسَى قَالَ: " أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَسُوءِ الْكِبَرِ وَفِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " «رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ) يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا طَرَفَا النَّهَارِ، وَأَنْ يُقْصَدَ بِهِمَا النَّهَارُ وَاللَّيْلُ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ (وَالْمَنَامِ) أَيْ: فِي مَكَانِ النَّوْمِ أَوْ زَمَانِهِ أَوِ الْمَنَامِ، مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ: عِنْدَ إِرَادَةِ النَّوْمِ أَيْ: دَخَلَ فِي الْمَسَاءِ وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2381 - (عَنْ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمْسَى قَالَ: أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ» ) أَيْ: دَخَلْنَا فِي الْمَسَاءِ وَدَخَلَ فِيهِ الْمُلْكُ كَائِنًا لِلَّهِ وَمُخْتَصًّا بِهِ، أَوِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ أَوْ بِدُونِهِ أَيْ: أَمْسَيْنَا وَقَدْ صَارَ، بِمَعْنَى: كَانَ وَدَامَ الْمُلْكُ لِلَّهِ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ أَيْ: صِرْنَا نَحْنُ وَجَمِيعُ الْمُلْكِ وَجَمِيعُ الْحَمْدِ لِلَّهِ. اهـ أَيْ: عَرَفْنَا فِيهِ أَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَأَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ مُسْتَقِلَّةً وَالتَّقْدِيرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) عَلَى تَأْوِيلٍ وَأَمْسَى الْفَرْدَانِيَّةُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ مُخْتَصَّيْنِ بِاللَّهِ (وَحْدَهُ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، أَيْ: مُنْفَرِدًا بِالْأُلُوهِيَّةِ (لَا شَرِيكَ لَهُ) أَيْ: فِي صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلِذَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ (لَهُ الْمُلْكُ) أَيْ: جِنْسُهُ مُخْتَصٌّ لَهُ (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيْ: بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: مَشِيءٍ أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَاءَ (قَدِيرٌ) كَامِلُ الْقُدْرَةِ تَامُّ الْإِرَادَةِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ) أَيْ: نَصِيبًا وَأَمْرًا وَحَظًّا وَافِيًا (مِنْ خَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ) أَيْ: ذَاتِهَا عَيْنِهَا (وَخَيْرِ مَا فِيهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مِنْ خَيْرِ مَا يَنْشَأُ فِيهَا وَخَيْرِ مَا يَسْكُنُ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ} [الأنعام: 13] وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مِمَّا أَرَدْتَ وُقُوعَهُ فِيهَا لِخَوَاصِّ خَلْقِكَ مِنَ الْكَمَالَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَخَيْرُ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا فِيهَا، أَوِ الْمُرَادُ خَيْرُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي قَارَنَ وَجُودُهَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَخَيْرُ كُلِّ مَوْجُودٍ الْآنَ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا) فِي الْحَدِيثِ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى تَصْرِيفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ بِيَدِ اللَّهِ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ لِيَتَعَلَّمُوا آدَابَ الدُّعَاءِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ مَسْأَلَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرَ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مَجَازٌ عَنْ قَبُولِ طَاعَاتٍ قِدَّمَهَا فِيهَا، وَاسْتِعَاذَتُهُ مِنْ شَرِّهَا مَجَازٌ عَنْ طَلَبِ الْعَفْوِ عَنْ ذَنْبٍ قَارَفَهُ فِيهَا ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ» ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: التَّثَاقُلِ فِي الطَّاعَةِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَسَلُ التَّثَاقُلُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي التَّثَاقُلُ عَنْهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِعَدَمِ انْبِعَاثِ النَّفْسِ لِلْخَيْرِ مَعَ ظُهُورِ الِاسْتِطَاعَةِ (وَالْهَرَمِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: كِبَرِ السِّنِّ الْمُؤَدِّي إِلَى تَسَاقُطِ بَعْضِ الْقُوَّةِ وَضَعْفِهَا وَهُوَ الرَّدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ; لِأَنَّهُ يَفُوتُ فِيهِ الْمَقْصُودُ بِالْحَيَاةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5] فَانْدَفَعَ بِهِ مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ سَبَبَ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ كَوْنُهُ لَا دَوَاءَ لَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ (وَسُوءِ الْكِبَرِ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ الْأَصَحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً أَيْ: مَا يُورِثُهُ الْكِبَرُ مِنْ ذَهَابِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَاطِ الرَّأْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوءُ بِهِ الْحَالُ، وَرُوِيَ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَطَرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالدِّرَايَةُ تُسَاعِدُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى ; لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَطَرِ وَالْهَرَمِ بِالْعَطْفِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضَّبِّ وَالنُّونِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ أَيْ: أَشْهَرُ رِوَايَةً، وَأَمَّا دِرَايَةً فَالثَّانِي يُفِيدُ مَا لَا يُفِيدُهُ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ الْهَرَمُ فَهُوَ تَأْسِيسٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُفِيدُ ضَرْبًا مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ. اهـ وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ غَايَةَ الظُّهُورِ عَلَى الطِّيبِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا بَيْنَ الضَّبِّ وَالنُّونِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْمُنَاسَبَةِ وَالْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ كَمَا اعْتَبَرَهُ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي، مَعَ أَنَّ الطِّيبِيَّ لَمْ يَقُلْ بِالتَّأْكِيدِ بَلْ

فَسَّرَ سُوءَ الْكِبَرِ بِمَا يَنْشَأُ مِنَ الْهَرَمِ، فَالتَّغَايُرُ ظَاهِرٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ لَفَظُ (سُوءِ) الْمُنَاسِبِ لِلْكِبَرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ ; فَإِنَّ الْكِبْرَ بِسُكُونِ الْبَاءِ يُذَمُّ مُطْلَقًا (وَفِتْنَةِ الدُّنْيَا) أَيْ: مِنَ الِافْتِتَانِ بِهَا وَمَحَبَّتِهَا أَوِ الِابْتِلَاءِ بِفِتْنَةٍ فِيهَا (وَعَذَابِ الْقَبْرِ) أَيْ: نَفْسِ عَذَابِهِ، أَوْ مِمَّا يُوجِبُهُ (وَإِذَا أَصْبَحَ) أَيْ: دَخَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الصَّبَاحِ (قَالَ ذَلِكَ) أَيْ مَا يَقُولُ فِي الْمَسَاءِ (أَيْضًا) أَيْ: لَكِنْ يَقُولُ بَدَلَ أَمْسَيْنَا وَأَمْسِي الْمُلْكُ لِلَّهِ ( «أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ» ) وَيُبَدِّلُ الْيَوْمَ بِاللَّيْلَةِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ» ، وَيَذْكُرُ الضَّمَائِرَ بَعْدَهُ (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ يَقُولُ بَعْدَ قَوْلِهِ سُوءِ الْكِبَرِ: ( «رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ» ) وَالتَّنْكِيرُ فِيهِمَا لِلتَّقْلِيلِ لَا لِلتَّفْخِيمِ كَمَا وَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2382 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: " «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 2383 - وَمُسْلِمٌ عَنِ الْبَرَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2382 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: أَتَى فِرَاشَهُ وَمَرْقَدَهُ (مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ: فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، وَتَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ أَخَذَ حَظَّهُ مِنَ اللَّيْلِ إِذْ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُ حَظٌّ بِالسُّكُونِ وَالنَّوْمِ وَالرَّاحَةِ قَالَ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص: 73] وَالْمَضْجَعُ مَصْدَرٌ. اهـ. فَفِي الْقَامُوسِ: ضَجَعَ كَمَنَعَ ضَجْعًا وَضُجُوعًا: وَضَعَ جَنْبَهُ بِالْأَرْضِ، وَالْمَضْجَعُ كَمَقْعَدٍ مَوْضِعُهُ (وَضَعَ يَدَهُ) أَيْ: كَفَّهُ الْيُمْنَى (تَحْتَ خَدِّهِ) وَفِي رِوَايَةٍ تَحْتَ رَأْسِهِ ; إِشْعَارًا بِوَضْعِهِ فِي قَبْرِهِ وَمَنْ تَذَكَّرَ ذَلِكَ خَفَّ نَوْمُهُ وَطَابَ يَوْمُهُ (ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ) قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى، وَقِيلَ: الِاسْمُ قَائِدٌ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ (إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا) ، أَيْ: بِكَ (أَمُوتُ وَأَحْيَا) أَيْ: أَنَامُ وَأَسْتَيْقِظُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِاسْمِكَ الْمُمِيتِ أَمُوتُ وَبِاسْمِكَ الْمُحْيِي أَحْيَا، أَوْ بِذِكْرِ اسْمِكَ أَحْيَا مَا حَيِيتُ وَعَلَيْهِ أَمُوتُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: (بِاسْمِكَ أَمُوتُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى أَيْ: أَنْتَ تُمِيتُنِي وَأَنْتَ تُحْيِينِي وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ، هَكَذَا قَالَ جُلُّ الشَّارِحِينَ، نَقَلَهُ مِيرَكُ ( «وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا» ) أَيْ: رَدَّ عَلَيْنَا الْقُوَّةَ وَالْحَرَكَةَ بَعْدَ مَا أَزَالَهُمَا مِنَّا بِالنَّوْمِ (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أَيِ: الرُّجُوعُ بَعْدَ الْمَمَاتِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ نُشِرَ الْمَيِّتُ نُشُورًا: إِذَا عَاشَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَنْشَرَهُ اللَّهُ، كَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّشُورِ هُوَ التَّفَرُّقُ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ الْهُدُوءِ وَالسُّكُونِ بِالنَّوْمِ وَهُمَا الْمُشَبَّهَانِ بِالْمَوْتِ وَالْبَعْثِ بَعْدَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِأَمَاتَنَا النَّوْمُ، وَأَمَّا النَّشْرُ فَهُوَ الْإِحْيَاءُ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَنَبَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعَادَةِ الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ كَالْمَوْتِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: النَّفْسُ الَّتِي تُفَارِقُ الْإِنْسَانَ عِنْدَ النَّوْمِ هِيَ الَّتِي لِلتَّمْيِيزِ، وَالَّتِي تُفَارِقُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ هِيَ الَّتِي لِلْحَيَاةِ وَهِيَ الَّتِي يَزُولُ مَعَهَا التَّنَفُّسُ، وَسُمِّيَ النَّوْمُ مَوْتًا لِأَنَّهُ يَزُولُ مَعَهُ الْعَقْلُ وَالْحَرَكَةُ تَمْثِيلًا وَتَشْبِيهًا، وَقَدْ يُسْتَعَارُ الْمَوْتُ لِلْأَحْوَالِ الشَّاقَّةِ كَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالسُّؤَالِ وَالْهِرَمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْجَهْلِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: النَّوْمُ وَالْمَوْتُ يَجْمَعُهُمَا انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا وَهُوَ النَّوْمُ، وَلِذَا قِيلَ: النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَبَاطِنًا وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِطْلَاقُ الْمَوْتِ عَلَى النَّوْمِ يَكُونُ مَجَازًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي انْقِطَاعِ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي إِطْلَاقِ الْمَوْتِ عَلَى النَّوْمِ أَنَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِالْحَيَاةِ إِنَّمَا هُوَ بِتَحَرِّي رِضَا اللَّهِ عَنْهُ وَقَصْدِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ، فَمَنْ زَالَ عَنْهُ هَذَا الِانْتِفَاعُ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ كَالْمَيِّتِ فَحَمْدًا لِلَّهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَزَوَالِ ذَلِكَ الْمَانِعِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُطَابِقُ السَّابِقَ مِنْ قَوْلِهِ: «أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ» ، وَيُوَافِقُ اللَّاحِقَ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا إِلَخْ وَعَلَى هَذَا يَنْتَظِمُ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَيْ: وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ فِي نَيْلِ الثَّوَابِ بِمَا يُكْتَسَبُ فِي الْحَيَاةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَحِكْمَةُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ النَّوْمِ وَالْيَقْظَةِ أَنْ تَكُونَ خَاتِمَةُ أَعْمَالِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَوَّلُ أَفْعَالِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ 2383 - (وَمُسْلِمٌ عَنِ الْبَرَاءِ) فَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْخِلَافُ فِي الصَّحَابِيِّ، وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2384 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ ; فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» " وَفِي رِوَايَةٍ " «ثُمَّ لْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ لْيَقُلْ بِاسْمِكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَإِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2384 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَوَى) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ أَيْ: نَزَلَ (أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ) أَيْ: مَرْقَدِهِ، وَتَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ أَوَى بِجَاءَ لَا يُلَائِمُهُ إِلَى (فَلْيَنْفُضْ) بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ: فَلْيُحَرِّكْ (فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ) وَهِيَ حَاشِيَتُهُ الَّتِي تَلِي الْجَسَدَ وَتَمَاسَّهُ، وَقِيلَ: هِيَ طَرَفُهُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: مِمَّا يَلِي طَوْقَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: طَرَفُهُ الَّذِي عَلَى الْجَسَدِ الْأَيْمَنِ، قَيَّدَ النَّفْضَ بِإِزَارِهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَرَبِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ثَوْبٌ غَيْرَ مَا هُوَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، وَقُيِّدَ بِدَاخِلِ الْإِزَارِ لِيَبْقَى الْخَارِجُ نَظِيفًا، وَلِأَنَّ هَذَا أَيْسَرُ، وَلِكَشْفِ الْعَوْرَةِ أَقَلُّ وَأَسْتَرُ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ رَسْمَ الْعَرَبِ تَرْكُ الْفِرَاشِ فِي مَوْضِعِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلِذَا عَلَّلَهُ وَقَالَ: (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ أَوِ الْمُرِيدَ لِلنَّوْمِ (لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ) بِالْفَتَحَاتِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ: مِنَ الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَاتِ، أَوْ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَالْعِظَامِ وَالنَّجَاسَاتِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ قَامَ مَقَامَهُ بَعْدَهُ مِنْ تُرَابٍ أَوْ قَذَاةٍ أَوْ هَامَّةٍ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً مُعَلَّقَةً بِيَدْرِي، أَوْ مَوْصُولَةً (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْفِرَاشِ، وَقِيلَ: أَمَرَهُ بِدَاخِلَةِ الْإِزَارِ دُونَ خَارِجَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ وَأَجْدَى وَأَجْدَرُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْخَبَرِ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمُؤْتَزِرَ إِذَا ائْتَزَرَ يَأْخُذُ أَحَدَ طَرَفَيْ إِزَارِهِ بِيَمِينِهِ وَالْآخَرَ بِشِمَالِهِ فَيَرُدُّ مَا أَمْسَكَهُ بِشِمَالِهِ عَلَى جَسَدِهِ وَذَلِكَ دَاخِلَةُ الْإِزَارِ، فَإِذَا صَارَ إِلَى فِرَاشِهِ فَحَلَّ بِيَمِينِهِ خَارِجَةَ الْإِزَارِ وَتَبْقَى الدَّاخِلَةُ مُعَلَّقَةً وَبِهَا يَقَعُ النَّفْضُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يُقَدَّرُ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْعَكْسِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ تِلْكَ الْهَيْئَةَ هِيَ صَنِيعُ ذَوِيِ الْآدَابِ فِي عَقْدِ الْإِزَارِ، وَرُوِيَ بِصَنِفَةِ إِزَارِهِ بِكَسْرِ النُّونِ وَهِيَ: جَانِبُهُ الَّذِي لَا هُدْبَ لَهُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَانِبَ يُجْعَلُ دَاخِلَةَ الْإِزَارِ (ثُمَّ يَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ النَّفْضِ وَوَضْعِ الْجَنْبِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ ثُمَّ لْيَضْطَجِعْ ثُمَّ لْيَقُلْ (بِاسْمِكَ رَبِّي) أَيْ: بِاسْمِكَ الْقَوِيِّ وَالْقَادِرِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِاسْمِ اللَّهِ (وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ) أَيْ: بِاسْمِكَ أَوْ بِمَعُونَتِكَ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَإِرَادَتِكَ وَقُدْرَتِكَ (أَرْفَعُهُ) أَيْ حِينَ أَرْفَعُهُ، فَلَا أَسْتَغْنِي عَنْكَ بِحَالٍ (إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي) أَيْ: قَبَضْتَ رُوحِي فِي النَّوْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِنْ أَمَتَّهَا (فَارْحَمْهَا) أَيْ: بِالْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ فَاغْفِرْ لَهَا (وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا) بِأَنْ رَدَدْتَ الْحَيَاةَ إِلَيَّ وَأَيْقَظْتَنِي مِنَ النَّوْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ " وَإِنْ رَدَدْتَهَا " أَيْ رُوحِي الْمُمَيَّزَةَ بِرَدِّ تَمْيِيزِهَا الزَّائِلِ عَنْهَا بِنَوْمِهَا (فَاحْفَظْنِي) أَيْ: مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ (بِمَا تَحْفَظُ بِهِ) أَيْ: مِنَ التَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ وَالْأَمَانَةِ (عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) أَيِ: الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَعِبَادِهِ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] جَمَعَ النَّفْسَيْنِ فِي حُكْمِ التَّوَفِّي، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ جِهَتِيِ التَّوَفِّي بِالْحُكْمِ بِالْإِمْسَاكِ وَهُوَ قَبْضُ الرُّوحِ، وَبِالْإِرْسَالِ وَهُوَ رَدُّ الْحَيَاةِ أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي تُقْبَضُ وَالَّتِي لَا تُقْبَضُ فَيَمْسِكُ الْأَوْلَى وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى، وَالْبَاءُ فِي (بِمَا تَحْفَظُ) مِثْلُهَا فِي كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ مُبْهَمَةٌ وَبَيَانُهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ صِلَتُهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يَحْفَظُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ مِنَ الْمَعَاصِي وَمِنْ أَنْ لَا يَتَهَاوَنُوا فِي طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ بِتَوْفِيقِهِ وَلُطْفِهِ وَرِعَايَتِهِ وَحِمَايَتِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ «ثُمَّ يَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ» ) قِيلَ: أَنْفَعُ هَيْآتِ النَّوْمِ الِابْتِدَاءُ بِالْأَيْمَنِ ثُمَّ الِانْقِلَابُ إِلَى الْيَسَارِ ثُمَّ إِلَى الْيَمِينِ، وَفِيهِ نَدْبُ الْيَمِينِ فِي النَّوْمِ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ إِلَى الِانْتِبَاهِ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْقَلْبِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، فَيُعَلَّقُ فَلَا يَسْتَغْرِقُ فِي النَّوْمِ بِخِلَافِ النَّوْمِ عَلَى الْأَيْسَرِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ يَسْتَقِرُّ فَتَكُونُ الِاسْتِرَاحَةُ لَهُ أَبْطَأَ لِلِانْتِبَاهِ، ثُمَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا دُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَا يَنَامُ قَلْبُهُ، فَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَ النَّوْمِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَالْأَيْسَرِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُؤْثِرُ الْأَيْمَنَ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، وَلِتَعْلِيمِ أُمَّتِهِ، وَلِمُشَابَهَتِهِ بِحَالِ الْمَوْتِ وَوَضْعِهِ فِي الْقَبْرِ (ثُمَّ لْيَقُلْ بِاسْمِكَ إِلَخْ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ (فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ النُّونِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ أَيْ: بِطَرَفِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ

بِحَاشِيَةِ إِزَارِهِ الَّتِي تَلِي الْجَسَدَ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِلَّا فَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ صَنِفَةُ إِزَارِهِ بِكَسْرِ النُّونِ: طَرَفُهُ مِمَّا يَلِي طُرَّتَهُ، قُلْتُ: زَادَ الْفَارِسِيُّ وَقِيلَ: جَانِبُهُ الَّذِي لَا هُدْبَ لَهُ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ صَنِفَةُ الثَّوْبِ كَفَرِحَةِ، وَصِنِفَتُهُ بِكَسْرِهِمَا حَاشِيَتُهُ أَيَّ جَانِبٍ كَانَ أَوْ جَانِبُهُ الَّذِي لَا هُدْبَ لَهُ أَوِ الَّذِي فِيهِ الْهُدْبُ اهـ. وَفِي الْمَشَارِقِ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ النُّونِ، فَقِيلَ: طَرَفُهُ، وَقِيلَ: حَاشِيَتُهُ، وَقِيلَ: هِيَ النَّاحِيَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْهُدْبُ، وَقِيلَ: الطُّرَّةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا طَرَفُهُ. فَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالْفَاءِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالرِّوَايَةِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) مُبَالَغَةٌ فِي النَّظَافَةِ ( «وَإِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا» ) أَيْ: بَدَلَ قَوْلِهِ فَارْحَمْهَا.

2385 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفَسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ قَالَهُنَّ ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ» "، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ " يَا فُلَانُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفَسِي إِلَيْكَ، إِلَى قَوْلِهِ أَرْسَلْتَ، وَقَالَ: فَإِنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيْرًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2385 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ» ) بِكَسْرِ الشِّينِ أَيْ: جَانِبِهِ (الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ) أَيْ: أَخْلَصْتُ (نَفْسِي) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْ: ذَاتِي (إِلَيْكَ) أَيْ: مَائِلَةً إِلَى حُكْمِكَ (وَوَجَّهْتُ وَجْهِي) أَيْ: وَجْهِي وَقَصْدَ قَلْبِي (إِلَيْكَ) وَجَعَلْتُ وَجْهِي إِلَى قِبْلَتِكَ، وَقِيلَ: النَّفْسُ وَالْوَجْهُ هُنَا بِمَعْنَى الذَّاتِ، يَعْنِي جَعَلْتُ ذَاتِي طَائِعَةً لِحُكْمِكَ وَمُنْقَادَةً لَكَ، وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: إِنَّ أَسْلَمْتُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَوَارِحَهُ مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، مُسْتَقِيمٌ غَايَةَ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَمَّا اعْتِرَاضُ ابْنِ حَجَرٍ بِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ نَوْمٍ وَهُوَ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الطِّيبِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُرِيدُ حِينَ تَحَقَّقَ النَّوْمُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ; بَلْ مُرَادُهُ إِمَّا قَبْلَ النَّوْمِ مُطْلَقًا، أَوْ حِينَ إِرَادَةِ النَّوْمِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّخْصَ يَنْبَغِي أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ الْوَقْتَ لِيَنَامَ مُطِيعًا، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُ الطِّيبِيِّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أُمُورَهُ الْخَارِجَةَ وَالدَّاخِلَةَ مُفَوَّضَةٌ إِلَيْهِ، لَا مُدَبِّرَ لَهَا غَيْرُهُ اهـ. وَالْمَعْنَى: تَوَكَّلْتُ فِي أَمْرِي كُلِّهِ عَلَيْكَ (وَأَلْجَأْتُ) أَيْ أَسْنَدْتُ (ظَهْرِي إِلَيْكَ) أَيْ: إِلَى حِفْظِكَ لِمَا عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا سَنَدَ يُتَقَوَّى بِهِ سِوَاكَ وَلَا يَنْفَعُ أَحَدًا إِلَّا حِمَاكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بَعْدَ تَفْوِيضِ أُمُورِهِ الَّتِي هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهَا وَبِهَا مَعَاشُهُ وَعَلَيْهَا مَدَارُ أَمْرِهِ، مُلْتَجِئٌ إِلَيْهِ مِمَّا يَضُرُّهُ وَيُؤْذِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الدَّاخِلَةِ وَالْخَارِجَةِ (رَغْبَةً وَرَهْبَةً) قِيلَ: مَفْعُولٌ لَهُمَا لِأَلْجَأْتُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْصُوبَانِ عَلَى الْعِلَّةِ بِطَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ أَيْ: فَوَّضْتُ أُمُورِي طَمَعًا فِي ثَوَابِكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي مِنَ الْمَكَارِهِ إِلَيْكَ مَخَافَةً مِنْ عَذَابِكَ اهـ. وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ ; بَلْ صَنْعَةُ بَدِيعٍ، وَأَبْدَعَ ابْنُ حَجَرٍ بِالتَّعَرُّضِ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا تَحَكُّمٌ، وَالْوَجْهُ بَلِ الصَّوَابُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ مُعَلَّلٌ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ نَصْبَهُمَا عَلَى الْحَالِيَّةِ أَيْ: رَاغِبًا وَرَاهِبًا، أَوِ الظَّرْفِيَّةِ أَيْ: فِي مَجَالِ الطَّمَعِ وَالْخَوْفِ، يَتَنَازَعُ فِيهِمَا الْأَفْعَالُ الْمُتَقَدِّمَةُ كُلُّهَا، وَقَوْلُهُ: (إِلَيْكَ) إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِرَغْبَةً وَهِيَ السِّعَةُ فِي الْإِرَدَاةِ، وَمُتَعَلِّقُ رَهْبَةً مَحْذُوفٌ أَيْ: مِنْكَ وَهِيَ الْمَخَافَةُ مَعَ التَّحَرُّزِ وَالِاضْطِرَابِ وَإِمَّا بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ مُتَوَجِّهًا بِهِمَا إِلَيْكَ، قَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ: أَيْ طَمَعًا فِي ثَوَابِكَ وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِكَ، وَإِلَيْكَ مُتَعَلِّقٌ بِرَغْبَةً كَقَوْلِهِمْ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا اهـ. وَمَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَنَازَعَا فِي إِلَيْكَ أَيْ: رَغْبَتِي إِلَيْكَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَرَهْبَتِي إِلَيْكَ، بِمَعْنَى إِنِّي حَالَةَ الْخَوْفِ لَا أَرْجِعُ إِلَّا إِلَيْكَ، فَإِنَّهُ ( «لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ» ) مَلْجَأٌ مَهْمُوزٌ وَمَنْجَا مَقْصُورٌ، وَقَدْ يُهْمَزُ مَنْجَا لِلِازْدِوَاجِ وَقَدْ يُعْكَسُ أَيْضًا لِذَلِكَ، وَالْمَعْنَى لَا مَهْرَبَ وَلَا مَلَاذَ وَلَا مَخْلَصَ مِنْ عُقُوبَتِكَ إِلَّا إِلَى رَحْمَتِكَ وَهَذَا مَعْنَى مَا وَرَدَ " أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ " وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا مَنْجَا مَقْصُورٌ وَإِعْرَابُهُ كَإِعْرَابِ عَصَا، فَإِنْ قُلْتَ: فَهُوَ يُقْرَأُ بِالتَّنْوِينِ أَوْ بِغَيْرِهِ، قُلْتُ: فِي هَذَا التَّرْكِيبِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ لِأَنَّهُ مِثْلُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَصْبِهِ وَفَتْحِهِ بِالتَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ، وَعِنْدَ التَّنْوِينِ تَسْقُطُ الْأَلِفُ، قَالَ: وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا إِنْ كَانَا مَصْدَرَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِي مِنْكَ، وَإِنْ كَانَا مَكَانَيْنِ فَلَا، إِذِ اسْمُ الْمَكَانِ لَا يَعْمَلُ، وَتَقْدِيرُهُ لَا مَلْجَأَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا إِلَيْكَ وَلَا مَنْجَا إِلَّا إِلَيْكَ (آمَنْتُ) اسْتِئْنَافٌ فِيهِ تَعْلِيلٌ (بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ) أَيْ: عَلَيَّ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْحَاثُّ عَلَى التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْبَهِيَّةِ وَسَائِرِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْحَالَاتِ السَّنِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَنْتُ بِكِتَابِكَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وَلَمَّا غَفَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الْمَعْنَى الْعَامِّ اعْتَرَضَ عَلَى الطِّيبِيِّ بِقَوْلِهِ: لَا تَعْمِيمَ فِيمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي حِينِ ثَبَاتٍ لَا عُمُومَ فِيهِ كَالنَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ، فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ

الْخَلَلِ (وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِنَبِيِّكَ، وَإِنَّمَا آمَنَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ رَسُولًا حَقًّا فَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ: " وَأَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ " وَلَمَّا تَضَمَّنَ الْإِيمَانُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعُلُومَ الْخَاصَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَخْصِيصٌ مِنَ التَّخْصِيصِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ مَا قَرَّرَهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوْضَحِ عِنْدَهُ، وَقَالَ: كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَأَمُّلِ مَا قَالَهُ وَمَا قُلْتُهُ، قُلْتُ: لَوْ تَأَمَّلَ مَا احْتَاجَ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّأَمُّلِ فَتَأَمَّلْ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلْ (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَالَهُنَّ) أَيِ: الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَةَ (ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ) أَيْ تَحْتَ حَادِثَةٍ فِيهَا، وَمِنْ أَعْجَبِ الْعُجَابِ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: أَيْ عَقِبَ طُلُوعِ فَجْرِهَا، وَهُوَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْحَدِيثِ الْآتِي (فَإِنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، أَوْ فِي لَيْلَتِكَ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيْرًا) اعْتَرَضَ عَلَى الطِّيبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَمَعْنَى تَحْتَ لَيْلَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَنْهُ إِلَى النَّهَارِ ; لِأَنَّ اللَّيْلَ يُسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارُ فَهُوَ تَحْتَهُ، أَوْ يَكُونُ بِمَعْنَى إِنْ مِتَّ تَحْتَ نَازِلَةٍ عَلَيْكَ مِنْ لَيْلَتِكَ أَيْ: مِنْ أَجْلِ مَا يَحْدَثُ مِنْ لَيْلَتِكَ بِقَوْلِهِ، وَفِي جَمِيعِهِ نَظَرٌ وَكَوْنُ اللَّيْلِ سُلِخَ مِنْهُ النَّهَارُ لَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي مَعْنَى التَّحْتِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، أَوْ يَكُونُ إِلَخْ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَالتَّكَلُّفِ، وَالْأَحْسَنُ عِنْدَهُ أَنَّ سَبَبَ التَّعْبِيرِ بِالتَّحْتِ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللَّيْلَ لِبَاسًا فَالنَّاسُ مَغْمُورُونَ وَمَسْتُورُونَ تَحْتَهُ كَالْمَسْتُورِ تَحْتَ ثِيَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَهَذَا مَعْنًى وَاضِحٌ جِدًّا ; فَالْعُدُولُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ السَّابِقَيْنِ عُدُولٌ عَنِ الْجَوْهَرِ إِلَى الصُّدَفِ، قُلْتُ: هَذَا الْمَعْنَى هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَوَّلًا، وَهُوَ مَعْنَى يُسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارُ، فَالْجِلْدُ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِاللِّبْسِ فَمُؤَدَّى مَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، مَعَ أَنَّ كَلَامَ ابْنِ حَجَرٍ آخِرًا يُنَاقِضُ تَفْسِيرَهُ أَوَّلًا، وَكَانَ سَبَبُ الِاعْتِرَاضَاتِ: عَجَبَهُ وَغُرُورَهُ بِالْفِقْهِيَّاتِ، وَجَهْلَهُ بِدَقَائِقِ الصِّنَاعَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَعَدَمَ فَهْمِهِ بِحَقَائِقِ الِاعْتِبَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ قَالَ فِي حَقِّ الطِّيبِيِّ: سَبَبُ وُقُوعِهِ فِيمَا عَلِمَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي رَدَدْتُهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَوَّلَ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ فِيهِ غَرَائِبَ وَعَجَائِبَ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الثِّقَاتُ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ تَبَجُّحًا فَلَمْ يُصِبِ الْجَادَّةَ الْوَاضِحَةَ فِي أَكْثَرِ شَرْحِهِ كَمَا يُعْلَمُ بِتَأَمُّلِ مَا ذَكَرَهُ وَمَا ذَكَرْتُهُ اهـ. وَبِتَأَمُّلِ كَلَامَيْهِمَا ظَهَرَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَيْثُ مَا بَلَغَ فَهْمَ الْمُتَعَقَّبِ وَهْمُ عَقِبِهِ مِنْ تَحْقِيقِ أَرَبِهِ وَتَدْقِيقِ أَدَبِهِ لَوْلَا شَرْحُهُ - شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ، وَفَتَحَ قَبْرَهُ - لَمَا فَهِمَ أَحَدٌ مِنْ بَعْدِهِ مَا قَبْلَهُ، وَالْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ، وَالْأَجْرُ الْكَامِلُ لَهُ، وَمَا وَقَعَ مِنْهُ كَانَ تَحَدُّثًا لَا تَبَجُّحًا، وَعَلَامَةُ صِدْقِهِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِمَّنْ زَيَّنَ كَلَامَهُ وَبَيَّنَ مَرَامَهُ رَاجِيًا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي سِلْكِ مَنْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِ ( «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْحَافِظُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ، هَذَا وَلَوْ تُتُبِّعَ شَرْحُ ابْنِ حَجَرٍ وَتُفُحِّصَ مِنْهُ الْعُجَرُ وَالْبُجَرُ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا فُرُوعٌ فِقْهِيَّةٌ أَوْ كَلِمَاتٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْصَافِ نِسْبَةُ الْحَلَوِيَّاتِ إِلَى نَفْسِهِ وَإِسْنَادُ الْمُرِّيَاتِ عَلَى زَعْمِهِ لِأَخِيهِ ; بَلْ لِنَفْسِهِ، وَمَعَ هَذَا نَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ فِي رَمْسِهِ (مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ) أَيِ: الْإِسْلَامِ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ) أَيِ: الْبَرَاءُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ:) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ (يَا فُلَانُ إِذَا أَوَيْتَ) أَيْ: قَصَدْتَ الْمَأْوَى (إِلَى فِرَاشِكَ) أَيْ: لِلنَّوْمِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَيْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَجْعَلَ فِرَاشَكَ مَكَانَ نَوْمِكَ (فَتَوَضَّأْ) أَمْرُ نَدْبٍ (وُضُوءَكَ) أَيْ: وُضُوءً كَامِلًا مِثْلَ وُضُوئِكَ لِلصَّلَاةِ، ( «ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ» ) فَإِنَّهُ مِنَ السُّنَنِ ( «ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفَسِي إِلَيْكَ، إِلَى قَوْلِهِ: أَرْسَلْتَ» ، وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ الْبَرَاءِ، عُطِفَ عَلَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ الْبَرَاءُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى قَالَ لَكِنَّهُ مُوهِمٌ لِلْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ مَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَيُؤَيَّدُ الرَّفْعَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلصَّحَابِيِّ، وَلَيْسَ لِلصَّحَابِيِّ أَنْ يُخَاطِبَ مِثْلَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ (فَإِنْ مِتَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا (مِنْ لَيْلَتِكَ) وَفِي نُسْخَةٍ فِي لَيْلَتِكَ (مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ) أَيْ: عَلَى التَّوْحِيدِ (وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيْرًا) أَيْ خَيْرًا كَثِيرًا، أَوْ خَيْرًا فِي الدَّارَيْنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي بَعْضِ طُرُقِهِ

عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قُلْتُ: وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَقَالَ وَنَبِيِّكَ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ وَرَسُولِكَ لَمْ يَبْقَ يُفِيدُ قَوْلُهُ: الَّذِي أَرْسَلْتَ، إِلَّا مَحْضَ التَّأْكِيدِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِأَنَّ الْبَيَانَ صَارَ مُكَرَّرًا مِنْ غَيْرِ إِفَادَةِ زِيَادَةٍ فِي الْمَعْنَى وَذَلِكَ مِمَّا يَأْبَاهُ الْبَلِيغُ اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ فَائِدَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِأَنْ يُقَالَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ إِلَيْنَا أَوْ أَرْسَلْتَهُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً مَعَ أَنَّ التَّأْكِيدَ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ - فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 38 - 26] وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا مِنْ صُبْحٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ) فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ خِلَافًا لِمَا وَهِمَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِي وَجْهِ الرَّدِّ أَنَّ الْأَدْعِيَةَ الْوَارِدَةَ لَا تُغَيَّرُ عَنْ أَلْفَاظِهَا وَكَذَا الْأَحَادِيثُ، وَفِي مَعْنَاهَا التَّصَانِيفُ، وَإِنَّمَا جَازَ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ بِنِسْيَانِ لَفْظِهِ فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَأَمَّا نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى مَعَ حِفْظِهِ لَفْظَهُ فَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ) وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَلَابُدَّ أَيْضًا مِنْ مُرَاعَاةِ الْقَوَاعِدِ النَّحْوِيَّةِ وَمُحَافَظَةِ الْمَخَارِجِ وَالصِّفَاتِ الْحَرْفِيَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: النَّبِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ النَّبَأِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ، وَيَجُوزُ فِيهِ تَحْقِيقُ الْهَمْزِ وَتَخْفِيفُهُ النَّبِيُّ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّبَاوَةِ وَهِيَ الشَّيْءُ الْمُرْتَفِعُ، وَرَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْبَرَاءِ حِينَ قَالَ وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ بِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ لِيَخْتَلِفَ اللَّفْظَانِ وَيَجْتَمِعَ الثَّنَاءُ بَيْنَ مَعْنَى الِارْتِفَاعِ وَالْإِرْسَالِ، وَيَكُونَ تَعْدِيدًا لِلنِّعْمَةِ فِي الْحَالَيْنِ، وَتَعْظِيمًا لِلْمِنَّةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ اهـ وَعَلَّلَ النَّهْيَ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ كَانَ رَسُولًا، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ النَّوَوِيَّ اسْتَحْسَنَ قَوْلَ الْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِ: سَبَبُ النَّهْيِ أَنَّ الْأَذْكَارَ تَعَبُّدِيَّةٌ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ بِحُرُوفِهِ وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الْجَزَاءُ، وَلَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَتَعَيَّنَ أَدَاؤُهَا كَمَا هِيَ اهـ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّوَارُدِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَارِدِ، وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ وَلْيَجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ.

2386 - وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمْنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُئْوِيَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2386 - (وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا» ) أَيْ: دَفَعَ عَنَّا شَرَّ الْمَوْذِيَاتِ، أَوْ كَفَى مُهِمَّاتِنَا وَقَضَى حَاجَاتِنَا (وَآوَانَا) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ وَأَوَيْتُ مَقْصُورٌ، وَأَمَّا آوَانَا فَمَمْدُودٌ هَذَا هُوَ الْفَصِيحُ الْمَشْهُورُ، وَحُكِيَ الْقَصْرُ فِيهِمَا وَحُكِيَ الْمَدُّ فِيهِمَا اهـ. أَيْ: رَزَقَنَا مَسَاكِنَ وَهَيَّأَ لَنَا الْمَأْوَى، وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ تَيْسِيرِ الْخَدَمِ وَتَوَفُّرِ الْمُؤَنِ فِي السَّلَامَةِ خَالِيًا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْمِحَنِ اهـ وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا لَا يَخْفَى (فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْهَمْزِ فَهُوَ سَهْوٌ (وَلَا مُئْوِيَ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَلَهُ مُقَدَّرٌ أَيْ: فَكَمْ شَخْصٍ لَا يَكْفِيهِمُ اللَّهُ شَرَّ الْأَشْرَارِ ; بَلْ تَرَكَهُمْ وَشَرَّهُمْ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ وَلَا يُهَيِّئُ لَهُمْ مَأْوًى ; بَلْ تَرَكَهُمْ يَهِيمُونَ فِي الْبَوَادِي وَيَتَأَذَّوْنَ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَلِكَ قَلِيلٌ نَادِرٌ فَلَا يُنَاسِبُ كَمِ الْمُقْتَضِي لِلْكَثْرَةِ عَلَى أَنَّهُ افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] فَالْمَعْنَى: أَنَّا نَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى أَنْ عَرَّفَنَا نِعَمَهُ وَوَفَّقَنَا لِأَدَاءِ شُكْرِهِ فَكَمْ مِنْ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَلَا يَشْكُرُونَ، وَكَذَلِكَ اللَّهُ مَوْلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ ; لَكِنَّهُ نَاصِرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُحِبٌّ لَهُمْ، فَالْفَاءُ فِي فَكَمْ لِلتَّعْلِيلِ، وَقَالَ مَوْلَانَا عِصَامُ الدِّينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْلَى كُلِّ أَحَدٍ أَيْ: لَا يَعْرِفُونَ مَوْلًى لَهُمْ فَلِمَ لَمْ يَتَفَرَّعْ عَلَى كَفَانَا ; بَلْ عَلَى مَعْرِفَةِ الْكَافِي الَّتِي يُسْتَفَادُ مِنَ الِاعْتِرَافِ، وَإِنَّمَا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الطَّعَامِ وَالسَّقْيِ وَكِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ فِي وَقْتِ الِاضْطِجَاعِ ; لِأَنَّ النَّوْمَ فَرْعُ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ وَفَرَاغِ الْخَاطِرِ عَنِ الْمُهِمَّاتِ وَالْأَمْنِ مِنَ الشُّرُورِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى أَوَانَا هُنَا: رَحِمَنَا، فَقَوْلُهُ: كَمْ مِمَّنْ لَا مُئْوِيَ لَهُ أَيْ: لَا رَاحِمَ وَعَاطِفَ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

2387 - وَعَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ: " عَلَى مَكَانِكُمَا "، فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ عَلَى بَطْنِي، فَقَالَ: " أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؛ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضْجَعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2387 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: بَيْتَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْحَدِيثِ (تَشْكُو إِلَيْهِ) إِمَّا مَفْعُولٌ لَهُ بِحَذْفِ أَنْ تَخْفِيفًا أَيْ: أَتَتْ إِلَيْهِ إِرَادَةَ أَنْ تَشْكُوَ، أَوْ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ مِنْ فَاعِلِ أَتَتْ أَيْ: مُقَدِّرَةً الشَّكْوَى (مَا تَلْقَى) أَيْ: مِنَ الْمَشَقَّةِ الْكَائِنَةِ (فِي يَدِهَا) وَفِي نُسْخَةٍ فِي يَدَيْهَا (مِنَ الرَّحَى) أَيْ: مِنْ أَثَرِ إِدَارَةِ الرَّحَى (وَبَلَغَهَا) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَتَتْ أَيْ: وَقَدْ بَلَغَ فَاطِمَةَ (أَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (جَاءَهُ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَقِيقٌ) مِنَ السَّبْيِ وَالرَّقِيقِ الْمَمْلُوكِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ (فَلَمْ تُصَادِفْهُ) أَيْ: لَمْ تَجِدْ فَاطِمَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ (فَذَكَرَتْ) عَطْفٌ عَلَى أَتَتْ (ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ) كَذَا نُسَخُ الْمُتُونِ خِلَافُ نُسَخِ الشَّرْحِ (قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا) أَيْ: جَاءَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ كَوْنِنَا مُضْطَجِعِينَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بَعْدَ فَجَاءَانَا أَيْ: هُوَ وَهِيَ، غَيْرُ مُطَابِقٍ لِظَاهِرِ الْعَرَبِيَّةِ (فَذَهَبْنَا نَقُومُ) أَيْ: شَرَعْنَا وَقَصَدْنَا لِنَقُومَ لَهُ (فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا) أَيِ: اثْبُتَا عَلَى مَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ مِنَ الِاضْطِجَاعِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيِ: الْزَمَاهُ وَلَا تَقُومَا مِنْهُ، وَالْمُرَادُ دَوْمًا وَاثْبُتَا عَلَى مَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ، فَانْعِكَاسٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى (فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ قَدَمَيْهِ (عَلَى بَطْنِي) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا كَانَا تَحْتَ لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ عُرْيَانًا مَاعَدَا الْعَوْرَةَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ وَضَعَ قَدَمَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ مِنْ أَنَّهُ وَضَعَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِهِمَا لِيَسْرِيَ إِلَيْهِمَا إِلَخْ (فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا) أَيْ: طَلَبْتُمَا مِنَ الرَّقِيقِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَلَبٍ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوِ الْحَالِ أَوْ، نَزَلَ رِضَاهُ مَنْزِلَةَ السُّؤَالِ، أَوْ لِكَوْنِ حَاجَةِ النِّسَاءِ حَاجَةَ الرِّجَالِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ تَأْتِ لِلسُّؤَالِ إِلَّا بِإِذْنِ عَلِيٍّ فَيُحْتَمَلُ لَا يُجْزَمُ بِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى تَقْدِيرِ قَالَا نَعَمْ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ ; فَإِنَّ أَلَا تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْهَمْزَةَ لِلِاسْتِفْهَامِ لِمَا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ مَيْلُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ. فَقَالَ قَبْلَ الْجَوَابِ ( «إِذَا أَخَذْتُمَا مَضْجَعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ» ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْمَصَابِيحِ: فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ التَّكْبِيرُ أَوَّلًا، وَكَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ يُرَجِّحُهُ وَيَقُولُ: تَقَدُّمُ التَّسْبِيحِ يَكُونُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَتَقَدُّمُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ النَّوْمِ، أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ تَارَةً وَيُؤَخَّرُ أُخْرَى عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى وَأَحْرَى مِنْ تَرْجِيحِ الصَّحِيحِ عَلَى الْأَصَحِّ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْصِيلُ هَذَا الْعَدَدِ وَبِأَيِّهِنَّ بُدِئَ لَا يَضُرُّ كَمَا وَرَدَ فِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدِ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ، وَفِي تَخْصِيصِ الزِّيَادَةِ بِالتَّكْبِيرِ إِيمَاءٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الصِّفَاتِ التَّنْزِيهَيَّةَ وَالثُّبُوتِيَّةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَهُوَ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنَ الذِّكْرِ (خَيْرٌ) أَيْ: أَفْضَلُ (لَكُمَا) أَيْ خَاصَّةً لِأَنَّكُمَا مِنْ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، وَكَذَا لِأَتْبَاعِكُمَا مِنْ أَصْحَابِ الْحَالِ (مِنْ خَادِمٍ) الْخَادِمُ وَاحِدُ الْخَدَمِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَهَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَشَقَّةِ الدُّنْيَا وَمَكَارِهِهَا مِنَ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَفْضَلِيَّةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ عَلَى الْغَنِيِ الشَّاكِرِ فَهُوَ عَلَى بَابِهِ خِلَافًا لِابْنِ حَجَرٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ مَعَ وُجُودِ مِنَ التَّفْضِيلِيَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.

2388 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَقَالَ: (أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ خَادِمٍ، تُسَبِّحِينَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَعِنْدَ مَنَامِكِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2388 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ خَادِمًا» ) أَيْ: رَقِيقًا، وَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهَا جَاءَهَا ( «فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ خَادِمٍ، تُسَبِّحِينَ اللَّهَ تَعَالَى ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ» ) تَكْمِلَةً لِلْمِائَةِ (عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ) أَيْ، بَعْدَ كُلِّ مَفْرُوضَةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ (وَعِنْدَ مَنَامِكِ) وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهَا بِالْخِطَابِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّهَا الْبَاعِثُ الْأَصْلِيُّ فِي طَلَبِ الْخَادِمِ، أَوْ هَذَا الْحَدِيثُ نُقِلَ بِالْمَعْنَى، أَوْ بِالِاخْتِصَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَأَنَّ قِرَاءَةَ هَذِهِ الْأَذْكَارِ عِنْدَ الْمَنَامِ تُزِيلُ تَعَبَ خِدْمَةِ النَّهَارِ وَالْآلَامَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2389 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: (اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، وَإِذَا أَمْسَى قَالَ: اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا وَبِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2389 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَصْبَحَ) أَيْ: دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ (قَالَ: اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا) الْبَاءُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ خَبَرُ أَصْبَحْنَا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ: أَصْبَحْنَا مُلْتَبِسِينَ بِحِفْظِكَ، أَوْ مَغْمُورِينَ بِنِعْمَتِكَ، أَوْ مُشْتَغِلِينَ بِذِكْرِكَ، أَوْ مُسْتَعِينِينَ بِاسْمِكَ، أَوْ مَشْمُولِينَ بِتَوْفِيقِكَ، أَوْ مُتَحَرِّكِينَ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، وَمُتَقَلِّبِينَ بِإِرَادَتِكَ وَقُدْرَتِكَ (وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ) أَيْ: بِاسْمِكَ الْمُحْيِي (نَحْيَا، وَبِكَ) أَيْ: بِاسْمِكَ الْمُمِيتِ (نَمُوتُ) قِيلَ: هُوَ حِكَايَةُ الْحَالِ الْآتِيَةِ بِمَعْنَى: يَسْتَمِرُّ حَالُنَا عَلَى هَذَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَسَائِرِ الْحَالَاتِ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا «اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا» أَيْ: لَا أَنْفَكُّ عَنْهُ وَلَا أَهْجُرُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنْتَ تُحْيِينِي وَأَنْتَ تُمِيتُنِي (وَإِلَيْكَ) أَيْ: إِلَى حُكْمِكَ (الْمَصِيرُ) أَيِ: الْمَرْجِعُ فِي الدُّنْيَا وَالْمَآبُ فِي الْعُقْبَى (وَإِذَا أَمْسَى) عَطْفٌ عَلَى إِذَا أَصْبَحَ (قَالَ: «اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا وَبِكَ أَصْبَحْنَا» ) بِتَقَدُّمِ أَمْسَيْنَا (وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ وَإِلَيْكَ النُّشُورُ) أَيِ: الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالتَّفَرُّقُ بَعْدَ الْجَمْعِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو عَوَانَةَ وَلَفْظُهُمْ فِي الصَّبَاحِ النُّشُورُ وَفِي الْمَسَاءِ الْمَصِيرُ، وَجَاءَ فِي أَبِي دَاوُدَ فِيهِمَا النُّشُورُ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ فِيهِمَا الْمَصِيرُ اهـ وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ وَارِدٌ عَلَى الْمُصَنِّفِ حَيْثُ عَكَسَ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ مَعَ أَنَّهَا الْمُنَاسِبَةُ لِلطَّرَفَيْنِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَرَكَّبَ تَرْكِيبًا خَاصًّا لَمْ يَرِدْ بِهِ رِوَايَةٌ.

2390 - وَعَنْهُ «قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ: (قُلِ اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2390 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ) أَيْ: دَائِمًا لِطَرِيقِ الْوِرْدِ ( «إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ» ) أَيْ مَا غَابَ مِنَ الْعِبَادِ وَظَهَرَ لَهُمْ (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ: مُخْتَرِعَهَا وَمُوجِدَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، وَقُدِّمَ الْعِلْمُ هُنَا لِأَنَّهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ قَائِمَةٌ، وَقُدِّمَ الْفَاطِرُ فِي التَّنْزِيلِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ (رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ) فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ كَالْقَدِيرِ بِمَعْنَى الْقَادِرِ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) أَيْ: وَلَا يَجِيءُ مِنْكَ إِلَّا الْخَيْرُ، وَلَا أَكِلُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِي إِلَى الْغَيْرِ ( «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي» ) لِأَنَّهَا مَنْبَعُ الْأَشْرَارِ كَمَا أَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْأَسْرَارِ

(وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ) أَيْ: وَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ وَإِضْلَالِهِ (وَشِرْكِهِ) بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي الرِّوَايَةِ وَأَظْهَرُ فِي الدِّرَايَةِ، أَيْ: مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، وَيُرْوَى بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مَصَائِدِهِ وَحَبَائِلِهِ الَّتِي يَفْتَتِنُ بِهَا النَّاسُ، وَالْإِضَافَةُ عَلَى الْأَوَّلِ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَعَلَى الثَّانِي مَحْضَةٌ، وَالْعَطْفُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لِلتَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ (قُلْهُ) أَيْ: قُلْ هَذَا الْقَوْلَ (إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ) أَيْ: كَمَا الْتَزَمْتَ (وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ) أَيْ: أَيْضًا لِزِيَادَةِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2391 - «وَعَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرَّهُ شَيْءٌ) فَكَانَ أَبَانُ قَدْ أَصَابَهُ طَرَفُ فَالَجٍ فَجَعَلَ الرَّجُلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: مَا تَنْظُرُ إِلَيَّ أَمَا إِنَّ الْحَدِيثَ كَمَا حَدَّثْتُكَ، وَلَكِنِّي لَمْ أَقُلْهُ يَوْمَئِذٍ لِيُمْضِيَ اللَّهُ عَلَيَّ قَدَرَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ " «لَمْ تُصِبْهُ فُجَاءَةُ بَلَاءٍ ". حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ تُصِبْهُ فُجَاءَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2391 - (وَعَنْ أَبَانَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ يُصْرَفُ لِأَنَّهُ فَعَالٌ وَيُمْنَعُ لِأَنَّهُ أَفْعَلُ، وَالصَّحِيحُ الْأَشْهَرُ الصَّرْفُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَزَيَنُ الْعَرَبِ وَتَبِعَهُمُ ابْنُ حَجَرٍ (ابْنِ عُثْمَانَ) أَيِ: ابْنِ عَفَّانَ (قَالَ) أَيْ: أَبَانُ (سَمِعْتُ أَبِي) أَيْ: عُثْمَانَ (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ) أَيْ: فِي أَوَائِلِهِمَا، وَأَمَّا نَقْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ خِلَافُ مَا صَرَّحُوا بِهِ، ثُمَّ تَوْجِيهُهُ - فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ (بَاسِمِ اللَّهِ) أَيْ: أَسْتَعِينُ أَوْ أَتَحَفَّظُ مِنْ كُلِّ مُؤْذٍ بِاسْمِ اللَّهِ (الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ) أَيْ: مَعَ ذِكْرِ اسْمِهِ بِاعْتِقَادٍ حَسَنٍ وَنِيَّةٍ خَالِصَةٍ (شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) أَيْ: مِنَ الْبَلَاءِ النَّازِلِ مِنْهَا (وَهُوَ السَّمِيعُ) أَيْ: بِأَقْوَالِنَا (الْعَلِيمُ) أَيْ: بِأَحْوَالِنَا (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) ظَرْفُ يَقُولُ (فَيَضُرَّهُ شَيْءٌ) بِالنَّصْبِ، جَوَابُ مَا مِنْ عَبْدٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَبِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَقُولُ، عَلَى أَنَّ الْفَاءَ هُنَا كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: ( «لَا يَمُوتُ لِمُؤْمِنٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» ) أَيْ: لَا يَجْتَمِعُ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ الْمَضَرَّةِ كَمَا لَا يَجْتَمِعُ مَسُّ النَّارِ مَعَ مَوْتِ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْوَلَدِ بِشَرْطِهِ اهـ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنَّ الرَّفْعَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّكْلِفَاتِ الْمَذْكُورَةِ (فَكَانَ أَبَانُ) بِالْوَجْهَيْنِ (قَدْ أَصَابَهُ طَرَفُ فَالَجٍ) أَيْ: نَوْعٌ مِنْهُ، وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ اسْتِرْخَاءٌ لِأَحَدِ شِقَّيِ الْبَدَنِ لِانْصِبَابِ خَلْطٍ بَلْغَمِيٍّ تَنْسَدُّ مِنْهُ مَسَالِكُ الرُّوحِ (فَجَعَلَ الرَّجُلُ) أَيِ: الْمُسْتَمِعُ (يَنْظُرُ إِلَيْهِ) أَيْ: تَعَجُّبًا (فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: مَا تَنْظُرُ إِلَيَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَصِلَتُهَا مَحْذُوفَةٌ وَتَنْظُرُ إِلَيَّ حَالٌ أَيْ: مَالَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ (أَمَا) لِلتَّنْبِيهِ وَقِيلَ: بِمَعْنَى حَقًّا (إِنَّ الْحَدِيثَ كَمَا حَدَّثْتُكَ ; وَلَكِنِّي لَمْ أَقُلْهُ) أَيْ، مَا قَدَّرَ اللَّهُ لِي أَنْ أَقُولَهُ (يَوْمَئِذٍ لِيُمْضِيَ اللَّهُ عَلَيَّ قَدَرَهُ) بِفَتْحِ الدَّالِّ أَيْ: مَقْدُورَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ لِيُمْضِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْقَوْلِ وَلَيْسَ بِغَرَضٍ لَهُ كَمَا فِي قَعَدْتُ عَنِ الْحَرْبِ جُبْنًا، وَقِيلَ اللَّامُ فِيهِ لِلْعَاقِبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ) وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: اللَّامُ لَيْسَتْ بِمَعْنَى الْغَرَضِ الْبَاعِثِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَبْعَثَهُ شَيْءٌ عَلَى شَيْءٍ ; وَإِنَّمَا هِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ بِالنِّسْبَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فَخَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ إِمْضَاءَ اللَّهِ لَا مَحْذُورَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَسَبَبًا لِعَدَمِ قَوْلِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا النَّفْيُ فِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ وَلَيْسَ بِغَرَضٍ لَهُ أَيْ: لِلْعَمْدِ، لَا لِلَّهِ كَمَا يُوهِمُ الْمُعْتَمِدُ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ لَا تُعَلَّلُ بِالْأَغْرَاضِ بَلْ بِالْحِكَمِ الْمُقْتَضِيَةِ لِأَفْعَالِ الْعَبْدِ مِنَ الْعَمَلِ وَتَرْكِهِ وَتَذَكُّرِهِ وَنِسْيَانِهِ. غَايَتُهُ أَنَّ هُنَا لَيْسَ غَرَضُ الْعَبْدِ وَبَاعِثُهُ مِنْ تَرَكَ قَوْلِ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ إِمْضَاءَ الرَّبِّ قَدَرَهُ وَقَضَاءَهُ، وَلِذَا جَعَلَهُ الطِّيبِيُّ عِلَّةً سَبَبِيَّةً حَقِيقِيَّةً، أَوْ عِلَّةً غَائِيَّةً مَجَازِيَّةً، فَتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقَامَاتِ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الزَّلَلِ مِنَ الْخَيَالَاتِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْخَبَاطَاتِ الْقَدَرِيَّةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ (وَفِي رِوَايَتِهِ) أَيْ: رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ (لَمْ تُصِبْهُ فُجَاءَةُ بَلَاءٍ) بِالْإِضَافَةِ بَيَانِيَّةٌ، وَهُوَ بِضَمِّ الْفَاءِ مَمْدُودًا وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ

الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: فَجَأَهُ الْأَمْرُ وَفَجِئَهُ فُجَاءً بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ، وَفَجْأَةً بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْجِيمِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ، وَفَاجَأَهُ مُفَاجَأَةً إِذَا جَاءَهُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ اهـ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَجْأَةِ مَا يُفَجَأُ بِهِ، وَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِّ وَغَيْرِهِ، فَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: قَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ عَلَى الْمَرَّةِ، مُرَادُهُ ضَبْطُ اللَّفْظَةِ لَا حَقِيقَةُ مَعْنَاهَا مِنَ الْوَحْدَةِ فَتَنَبَّهْ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، ثُمَّ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاءُ التَّدْرِيجِ بِالْأَوْلَى هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى إِذْ لَا دَلِيلَ فَهُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا لِأَنَّهُ أَفْظَعُ وَأَعْظَمُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ تُصِبْهُ بَلِيَّةٌ عَامَّةٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو عَنْ عِلَّةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ ذِلَّةٍ، هَذَا وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِمَضَرَّةِ الْفَجْأَةِ مُفَسِّرَةً وَمُبَيِّنَةً لِمَفْهُومِ الْمَضَرَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْمَضَرَّةِ عَدَمُ الْجَزَعِ وَالْفَزَعِ فِي الْبَلِيَّةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ (حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهُ) أَيْ: تِلْكَ الْكَلِمَاتِ (حِينَ يُصْبِحُ لَمْ تَمَسَّهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ) بِالْوَجْهَيْنِ (حَتَّى يُمْسِيَ) وَفِي الْغَايَتَيْنِ، أَعْنِي: حَتَّى يُصْبِحَ وَحَتَّى يُمْسِيَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحِفْظِ مِنَ الْفَجْأَةِ وَالْمَضَرَّةِ عَقِيبَ قَوْلِ الْقَائِلِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ أَوَائِلِ اللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ بَلْ وَفِي سَائِرِ أَثْنَائِهِمَا، وَدَعْوَى ابْنِ حَجَرٍ وَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَثْنَاءَ النَّهَارِ أَوِ اللَّيْلِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ أَوَّلِ النَّهَارِ لَا يَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ الْفَائِدَةُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْإِثْبَاتَ فِي وَقْتٍ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ فِي آخَرَ.

2392 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَى (أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، رَبِّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَمِنْ سُوءِ الْكِبَرِ، أَوِ الْكُفْرِ» ) وَفِي رِوَايَةٍ ( «مِنْ سُوءِ الْكِبَرِ وَالْكِبْرِ، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَتِهِ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ سُوءِ الْكُفْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2392 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَى (أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ) سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِعْرَابًا وَمَعْنًى ( «رَبِّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ» ) أَيْ: مِنَ التَّقْدِيرَاتِ الْإِلَهِيَّةِ (وَخَيْرَ مَا بَعْدَهَا) أَيْ: مِنَ اللَّيَالِي أَوْ مُطْلَقًا ( «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ» ) أَيِ: الْقَضَايَا السُّبْحَانِيَّةِ (وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ) أَيْ: فِي صَالِحِ الْعَمَلِ (وَمِنْ سُوءِ الْكِبَرِ) بِكَسْرِ الْكَافِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِهَا أَيْ: مِنْ سُقُوطِ الْقُوَى وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ، أَوْ مَا يَنْشَأُ مِنْهُ مِنَ التَّكَبُّرِ (أَوِ الْكُفْرِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَيْ: مِنْ شَرِّ الْكُفْرِ وَإِثْمِهِ وَشُؤْمِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ الْكُفْرَانُ (وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ سُوءِ الْكِبَرِ) بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: كِبَرِ السِّنِّ (وَالْكِبْرِ) بِسُكُونِهَا أَيِ: التَّكَبُّرِ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا خَبْطُ ابْنِ حَجَرٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَبِكَسْرٍ فَفَتْحٍ فَخِلَافُ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ ( «رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ» ) أَيْ: عَذَابٍ كَائِنٍ فِي النَّارِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى سُهُولَةِ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، فَتَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ بِهَا غَيْرُ مُلَائِمٍ، وَلِأَنَّ الْعَذَابَ فِيهَا يَكُونُ فِيهَا وَبِغَيْرِهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهَا، وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى فِي لَا أَنْ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ بَقَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأُرِيدَ بِالْعَذَابِ الَّذِي فِيهَا مَزِيدُ الْبُعْدِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ - فَخَطَأٌ فَاحِشٌ إِذْ مَطْلُوبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُرَادُهُ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ مُطْلَقِ الْبُعْدِ، فَإِرَادَةُ الزِّيَادَةِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ وَكَمَالُ نُقْصَانٍ مِنْ قَائِلِهِ (وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ تَعَالَى مِنْهُمَا: التَّحَفُّظُ وَالتَّوَقِّي مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي تَجُرُّ إِلَيْهِمَا (وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَذْكَارِ (أَيْضًا) أَيْ: إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: " «أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ» " بَدَلَ " «أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ) أَيِ: التِّرْمِذِيِّ (لَمْ يُذْكَرْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرُوِيَ مَعْلُومًا (مِنْ سُوءِ الْكُفْرِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ.

2393 - وَعَنْ بَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّمُهَا فَيَقُولُ: ( «قُولِي حِينَ تُصْبِحِينَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، فَإِنَّهُ مَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ حَتَّى يُصْبِحَ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2393 - (وَعَنْ بَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّمُهَا) أَيْ: مَا يَنْفَعُهَا أَيْ مِنْ جُمْلَتِهَا (فَيَقُولُ) الْفَاءُ عَاطِفَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ تَفْسِيرِيَّةً، أَيْ: فَيَقُولُ (قُولِي حِينَ تُصْبِحِينَ سُبْحَانَ اللَّهِ) عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ (وَبِحَمْدِهِ) أَيْ: أُنَزِّهُهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَأَبْتَدِئُ بِحَمْدِهِ، وَفِي الْمُغْرِبِ أَيْ: سُبْحَانَكَ بِجَمِيعِ آلَائِكَ وَبِحَمْدِكَ سَبَّحْتُكَ (لَا قُوَّةَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَلَا قُوَّةَ (إِلَّا بِاللَّهِ) أَيْ: عَلَى التَّسْبِيحِ أَوِ التَّحْمِيدِ وَغَيْرِهِمَا (مَا شَاءَ اللَّهُ) أَيْ: وُجُودَهُ (كَانَ) أَيْ: وُجِدَ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَرَادَهُ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ وُجِدَ فَوْرًا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِحَاطَةِ الْمَشِيئَةِ بِالْأَشْيَاءِ الْكَائِنَةِ، وَبِقَيْدِهِ يَخْرُجُ الْكَائِنَاتُ التَّدْرِيجِيَّةُ، أَوْ يَلْزَمُ مِنْهُ قِدَمُ الْأَشْيَاءِ الْمُرَادِيَّةِ أَزَلِيَّةً، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ إِجْمَاعًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ وَإِنْ عَرِيَتْ مِنْهُمَا الْفَتَاوَى الْفِقْهِيَّةُ (وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ: لَمْ يُوجَدْ أَبَدًا (أَعْلَمُ) أَيْ: أَعْتَقِدُ أَنَا (أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: شَاءَهُ (قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَانِ الْوَصْفَانِ) عَنِ الْقُدْرَةِ الشَّامِلَةِ وَالْعِلْمِ الْكَامِلِ هُمَا عُمْدَةُ أُصُولِ الدِّينِ وَبِهِمَا يَتِمُّ إِثْبَاتُ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَرَدُّ الْمَلَاحِدَةِ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَحَشْرَ الْأَجْسَادِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالِي إِذَا عَلِمَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَعَلَى الْإِحَاطَةِ عَلِمَ الْأَجْزَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ الْمُتَلَاشِيَةَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى جَمْعِهِمَا أَحْيَاهَا فَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ اهـ وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ التَّامِّ، وَأَمَّا طَعْنُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَيْهِ فَمِنْ غَفْلَةٍ نَشَأَتْ عَنْ فَهْمِ الْمَرَامِ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِي. (مَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ) أَيْ: مِنَ الْبَلَايَا وَالْخَطَايَا مِنْ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ ( «حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ حَتَّى يُصْبِحَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَفِي الْحِصْنِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، قَالَ مِيرَكُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ أُمِّهِ عَنْ بَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: أُمُّ عَبْدِ الْحَمِيدِ لَا أَعْرِفُهَا، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا وَكَأَنَّهَا صَحَابِيَّةٌ.

2394 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] ، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] إِلَى قَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] ، أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2394 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ) أَيْ: نَزَّهُوهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ، وَفِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي قَوْلِ الْعَبْدِ سُبْحَانَ اللَّهِ: ( «إِنَّهَا بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنَ السُّوءِ» ) لَا يُقَالُ النَّفْيُ لَا يَكُونُ مَدْحًا إِلَّا إِذَا تَضَمَّنَ ثُبُوتًا لِأَنَّ نَفْيَ النَّقْصِ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ الْكَمَالِ إِذَا الْكَمَالُ مُسَلَّمٌ لَهُ تَعَالَى عِنْدَ الْكُلِّ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فَثُبُوتُ الْكَمَالِ مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ لَهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَإِنَّمَا أُمِرَ الْخَلْقُ بِالتَّنْزِيهِ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَلِهَذَا مَا جَاءَتِ الرُّسُلُ إِلَّا لِلْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْرِيدِ، أَوْ صَلُّوا لِلَّهِ وَأَعْطُوا حَقَّ عُبُودِيَّتِهِ (حِينَ تُمْسُونَ) أَيْ: تَدْخُلُونَ فِي الْمَسَاءِ وَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أَيْ: تَدْخُلُونَ فِي الصَّبَاحِ وَهُوَ وَقْتُ الصُّبْحِ (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيْ: ثَابِتٌ (فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لِأَنَّهُمَا نِعْمَتَانِ عَامَّتَانِ عَظِيمَتَانِ لِأَهْلِهِمَا فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ حَمْدُهُ، وَقِيلَ: يُحْمَدُ عِنْدَ أَهْلِهِمَا، وَقِيلَ: بِحَمْدِهِ أَهْلَهُمَا لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وَهُوَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ (وَعَشِيًّا) عَطْفٌ عَلَى حِينَ وَأُرِيدَ بِهِ وَقْتُ الْعَصْرِ (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أَيْ: تَدْخُلُونَ فِي الظَّهِيرَةِ وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَلَمَّا كَانَ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ مَحَلَّ ظُهُورِ هَذِهِ الْحَالَاتِ يُنَاسِبُهَا التَّنْزِيهُ عَنِ الْحُدُوثِ وَالْآفَاتِ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ قَالَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَرَأَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ جَمَعَتِ الْآيَةُ

الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَمَوَاقِيتَهَا اهـ وَاخْتَارَ الطِّيبِيُّ عُمُومَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ التَّنْزِيهِ فَإِنَّهُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ الْأَوْلَى مِنَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ مِنْ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ مَعَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْأَعَمِّ أَتَمُّ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَقِّبَ قَوْلَهُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِقَوْلِهِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَقَوْلَهُ وَعَشِيًّا بِقَوْلِهِ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، فَمَا فَائِدَةُ الْفَصْلِ؟ وَلِمَ خُصَّ التَّسْبِيحُ بِظَرْفِ الزَّمَانِ؟ وَالتَّحْمِيدُ بِالْمَكَانِ؟ قُلْتُ: قَدْ مَرَّ أَنَّ الْحَمْدَ أَشْمَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ فَقَدَّمَ التَّسْبِيحَ وَعَلَّقَ بِهِ الْإِصْبَاحَ وَالْإِمْسَاءَ، وَأَخَّرَ التَّحْمِيدَ وَعَلَّقَ بِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِيَجْمَعَ فِي الْحَمْدِ بَيْنَ ظَرْفَيِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، إِذِ اقْتِرَانُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ تَعَلُّقٌ مَعْنَوِيٌّ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ تَعَلُّقٌ لَفْظِيٌّ، وَلَوْ قُدِّمَ الْحَمْدُ لَاشْتَرَكَا فِي الظَّرْفَيْنِ، وَلَوْ أُخِّرَ لَخُصَّ الْحَمْدُ بِالْمَكَانِ اهـ وَمَنْ فَهِمَ حُسْنَ كَلَامِهِ وَطِيبَ مَرَامِهِ لَا يَطْعَنُ فِيهِ بِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَكَادُ يَفْهَمُ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِمَّا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا يَعْلَمُ مَنْ تَأَمَّلَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ شَهَادَةٌ مِنْ نَفْسِهِ عَلَيْهِ بِقِلَّةِ الْفَهْمِ لَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَرْجِعُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ إِلَيْهِ (إِلَى قَوْلِهِ) أَيْ: تَعَالَى كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْمَعْلُومِ وَهَذَا اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي وَتَمَامُهُ (يُخْرِجُ الْحَيَّ) كَالْجَنِينِ وَالْفَرْخِ (مِنَ الْمَيِّتِ) كَالْمَنِيِّ وَالْبَيْضَةِ {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31] رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيِّ الْمُؤْمِنُ، وَمِنَ الْمَيِّتِ الْكَافِرُ، وَفِي مَعْنَاهُمَا الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَالصَّالِحُ وَالْفَاسِقُ، وَالذَّاكِرُ وَالْغَافِلُ، وَيُحْيِي الْأَرْضَ أَيْ: بِالْإِنْبَاتِ، بَعْدَ مَوْتِهَا أَيْ: يُبْسِهَا (وَكَذَلِكَ) أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ (تُخْرَجُونَ) مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً لِلْحِسَابِ وَالْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ وَحُسْنِ الْمَآبِ (أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ) أَيْ: مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ: حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ مَا فَاتَهُ مِنْ وِرْدٍ وَخَيْرٍ (فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ) أَيْ: تِلْكَ الْكَلِمَاتِ أَوِ الْآيَاتِ (حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ) . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.

2395 - وَعَنْ أَبِي عَيَّاشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَانَ لَهُ عَدْلُ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ فِي حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ قَالَهَا إِذَا أَمْسَى كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ) فَرَأَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرَى النَّائِمُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا عَيَّاشٍ يُحَدِّثُ عَنْكَ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ: (صَدَقَ أَبُو عَيَّاشٍ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2395 - (وَعَنْ أَبِي عَيَّاشٍ) بِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَدْ صُحِّفَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ قَالَ) شَرْطِيَّةٌ (إِذَا أَصْبَحَ) ظَرْفِيَّةٌ ( «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ» ) أَيْ: أَبَدًا (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيْ: سَرْمَدًا (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ) أَيْ: دَائِمًا (كَانَ) جَوَابُ الشَّرْطِ (لَهُ) أَيْ: لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ الْمَقَالَ (عَدْلُ رَقَبَةٍ) أَيْ: مِثْلُ عِتْقِهَا وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا بِمَعْنَى الْمِثْلِ، وَقِيلَ بِالْفَتْحِ: الْمِثْلُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَبِالْكَسْرِ مِنَ الْجِنْسِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ (مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ) صِفَةُ رَقَبَةٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ وَبِضَمٍّ وَسُكُونٍ أَيْ: أَوْلَادُهُ وَالتَّخْصِيصُ لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ مَنْ سُبِيَ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ ضَرْبِ الرِّقِّ عَلَى الْعَرَبِ وَلَا عَلَى نَفْيِهِ خِلَافًا لِمَا فَهِمَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ الْجَوَازِ وَقَالَ، وَالْقَوْلُ بِمَنْعِهِ عَجِيبٌ (وَكُتِبَ) أَيْ: أُثْبِتَ مَعَ هَذَا (لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَحُطَّ) أَيْ: وُضِعَ وَمُحِيَ (عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ) أَيْ: مِنْ دَرَجَاتِ الْجِنَانِ (وَكَانَ فِي حِرْزٍ) أَيْ: حِفْظٍ رَفِيعٍ وَحِصْنٍ مَنِيعٍ (مِنَ الشَّيْطَانِ) أَيْ: مِنْ شَرِّ إِغْوَائِهِ (حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ قَالَهَا إِذَا أَمْسَى كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَزَاءِ (حَتَّى يُصْبِحَ، قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (فَرَأَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرَى) أَيْ: فِي الْحَالِ أَوِ الْوَصْفِ الَّذِي يَرَاهُ (النَّائِمُ) قَالَ

الطِّيبِيُّ: وَضَعَهُ مَوْضِعَ فِي النَّوْمِ تَنْبِيهًا عَلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الرُّؤْيَا وَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَاللَّامُ فِي النَّائِمِ لِلْعَهْدِ يَعْنِي الذِّهْنِيَّ، أَيِ: النَّائِمُ الصَّادِقُ الرُّؤْيَا، وَلَوْ قَالَ فِي النَّوْمِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ (فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ فِي النَّوْمِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا عَيَّاشٍ يُحَدِّثُ عَنْكَ بِكَذَا) وَفِي نُسْخَةٍ كَذَا (وَكَذَا) وَلَعَلَّ التَّكْرَارَ بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ (قَالَ: صَدَقَ أَبُو عَيَّاشٍ) وَهُوَ زَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيُّ وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَكَفَى بِهِ مَنْقَبَةً فِي حَقِّهِ وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ: " «يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ» " هَذَا وَقَوْلُهُ: فَرَأَى رَجُلٌ، ذُكِرَ اسْتِظْهَارًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَنَامِ لَا يُعْمَلُ بِهَا لَا لِلشَّكِّ فِي الرُّؤْيَا لِأَنَّهَا حَقٌّ بِالنَّصِّ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بَلْ لِأَنَّ النَّائِمَ لَا يَضْبُطُ فَرُبَّمَا نَقَلَ خِلَافَ مَا سَمِعَ، أَوْ كَلَامُهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَعْبِيرٍ وَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ، وَلِأَنَّهَا إِذَا وَافَقَتْ مَا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ فَالْعِبْرَةُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا عِبْرَةَ بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا خَالَفَتْهُ لَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بِهَا.

2396 - وَعَنِ الْحَارِثِ بْنِ مُسْلِمٍ التَّمِيمِيِّ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهِ، فَقَالَ: (إِذَا انْصَرَفْتَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ; فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ ثُمَّ مِتَّ فِي لَيْلَتِكَ كُتِبَ لَكَ جَوَازٌ مِنْهَا، وَإِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فَقُلْ كَذَلِكَ فَإِنَّكَ إِذَا مِتَّ فِي يَوْمِكَ كُتِبَ لَكَ جَوَازٌ مِنْهَا» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2396 - (وَعَنِ الْحَارِثِ بْنِ مُسْلِمٍ التَّمِيمِيِّ) عَدَّهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهِ) أَيْ: تَكَلَّمَ مَعَهُ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَالْإِسْرَارُ الْإِعْلَانُ وَالْإِخْفَاءُ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْهَمْزَةَ قَدْ تَكُونُ لِلسَّلْبِ فَيَصِيرُ مَعْنَاهُ الْإِعْلَانَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ تَكَلَّمَ مَعَهُ خِفْيَةً، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْإِسْرَارِ تَرْغِيبُهُ فِيهِ حَتَّى يَتَلَقَّاهُ وَيَتَمَكَّنَ فِي قَلْبِهِ تَمَكُّنَ السِّرِّ الْمَكْنُونِ لَا الضِّنَّةِ أَيِ: الْبُخْلِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ (فَقَالَ إِذَا انْصَرَفْتَ) أَيْ: فَرَغْتَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ: أَيْ رَجَعْتَ (مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ) أَيْ: بِكَلَامِ الدُّنْيَا (أَحَدًا) فَإِنَّكَ حِينَئِذٍ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّدَبُّرِ فَيَقَعُ الدُّعَاءُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فِي الثَّنَاءِ (اللَّهُمَّ أَجِرْنِي) أَيْ: خَلِّصْنِي (مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ) ظَرْفٌ لِقُلْ أَيْ: كَرِّرْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي هَذَا الْعَدَدِ مُرَاعَاةُ سَبْعَةِ أَبْوَابِ النَّارِ وَطَبَقَاتِهَا، أَوْ سَبْعَةِ أَعْضَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا (فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ) أَيِ: الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ سَبْعًا (ثُمَّ مِتَّ) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ (فِي لَيْلَتِكَ كُتِبَ) أَيْ: قُدِّرَ (لَكَ جَوَازٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: خَلَاصٌ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ النَّارِ، أَيْ: دُخُولِهَا أَوْ خُلُودِهَا فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ مِنَ النَّارِ مَوْضِعَ مِنْهَا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالْجَوَازُ فِي الْأَصْلِ الْبَرَاءَةُ الَّتِي تَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى لَا يَمْنَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُرُورِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَدْفَعُهُ إِلَّا تَحِلَّةُ الْقَسَمِ (وَإِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ) أَيْ: وَانْصَرَفْتَ (فَقُلْ) أَيْ: هَذَا الذِّكْرُ سَبْعًا (كَذَلِكَ) أَيْ: قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا (فَإِنَّكَ إِذَا مِتَّ فِي يَوْمِكَ كُتِبَ لَكَ جَوَازٌ مِنْهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، قَالَ مِيرَكُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَارِثِ، وَيُقَالُ الْحَارِثُ بْنُ مُسْلِمٍ التَّمِيمِيُّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ اهـ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

2397 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدِي وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي يَعْنِي الْخَسْفَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2397 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَعُ) أَيْ: يَتْرُكُ (هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَانَ نَاقِصَةٌ، وَجُمْلَةَ يَدَعُ خَبَرٌ لَهَا، أَيْ: يَكُنْ تَارِكًا لَهُنَّ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بَلْ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا فِيهِمَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ (يَكُنْ) تَامَّةٌ، وَأَنَّ يَدَعُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ

(الْفَاعِلِ أَيْ: لَمْ يُوجَدْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ كَوْنِهِ تَارِكًا لَهُ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ رَكَاكَةِ الْمَعْنَى مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ظُهُورِ نُقْصَانِ الْكَوْنِ وَخَفَاءِ تَمَامِهِ، ثُمَّ مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُ نَاقَضَ كَلَامَهُ الْمُصَرَّحَ الدَّالَّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاعْتِرَاضِ عَلَى الطِّيبِيِّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ الشَّارِحُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْكَشَّافِ: لَمْ يَكُنْ يَدَعُ هَؤُلَاءِ أَيْ: لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ وَلَا يَلِيقُ بِحَالِهِ أَنْ يَدَعَهَا اهـ وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ بَلْ يَتَأَتَّى مِنْهُ تَرْكُهَا، وَيَلِيقُ بِحَالِهِ لِبَيَانِ جَوَازِ تَرْكِهَا الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَلِلِاشْتِغَالِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا اهـ اعْتِرَاضُهُ الثَّابِتُ بِهِ انْتِقَاضُهُ، وَأَقُولُ لَيْسَ مُرَادُ الشَّارِحِ إِلَّا الْمُبَالَغَةَ فِي الْمُوَاظَبَةِ كَمَا هِيَ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ قِرَاءَتَهُ هَذَا الدُّعَاءَ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا حَتَّى يُقَالَ بَلْ يَتَأَتَّى مِنْهُ تَرْكُهَا إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُوهَمِ مِنْهُ تَسْلِيمُ كَوْنِهِ وَاجِبًا، وَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ لِبَيَانِ جَوَازِ التَّرْكِ لِغَيْرِهِ أَوْ لِلِاشْتِغَالِ بِالْأَهَمِّ مِنْهُ، ثُمَّ تَرَكْتُ مَا أَطْنَبَهُ مِنْ إِيرَادِ كَلَامِ الشَّارِحِ وَكَلَامِ صَاحِبِ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} [غافر: 85] لِعَدَمِ تَعَلُّقِ النَّفْعِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ» ) أَيِ: السَّلَامَةَ مِنَ الْآفَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْحَادِثَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِتَحَمُّلِهَا وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا وَالرِّضَا بِقَضَائِهَا (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) وَقِيلَ: دِفَاعَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ الْأَسْقَامَ وَالْبَلَايَا، وَهِيَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى فَاعِلَةٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ سَيِّئَ الْأَسْقَامِ كَالْبَرَصِ وَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ» ) أَيِ: التَّجَاوُزَ عَنِ الذُّنُوبِ (وَالْعَافِيَةَ) أَيِ: السَّلَامَةَ مِنَ الْعُيُوبِ (فِي دِينِي وَدُنْيَايَ) أَيْ: فِي أُمُورِهِمَا (وَأَهْلِي وَمَالِي) أَيْ: فِي حَقِّهِمَا ( «اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي» ) أَيْ: عُيُوبِي، أَوِ امْحُ ذُنُوبِي (وَآمِنْ رَوْعَاتِي) أَيْ: مَخُوفَاتِي فِي جُمْلَةِ حَالَاتِي، وَإِيرَادُهُمَا لِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَتِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَوْرَةُ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ وَيَسُوءُ صَاحِبُهُ أَنْ يُرَى، وَالرَّوْعَةُ الْفَزْعَةُ (اللَّهُمَّ احْفَظْنِي) أَيِ: ادْفَعِ الْبَلَاءَ عَنِّي (مِنْ بَيْنِ يَدِي) أَيْ: أَمَامِي (وَمِنْ خَلْفِي) أَيْ: وَرَائِي (وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] : إِنَّمَا عُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْأَوَّلَيْنِ بِحَرْفِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ مِنْهُمَا مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ، وَإِلَى الْأَخِيرَيْنِ بِحَرْفِ الْمُجَاوَزَةِ فَإِنَّ الْآتِيَ مِنْهُمَا كَالْمُنْحَرِفِ عَنْهُمُ الْمَارِّ عَلَى عُرْضِهِمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ جَلَسْتُ عَنْ يَمِينِهِ (وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ) وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ أَنْ (أُغْتَالَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُوخَذَ بَغْتَةً وَأَهْلِكَ غَفْلَةً (مِنْ تَحْتِي) قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الِاغْتِيَالُ هُوَ أَنْ يُخْدَعَ وَيُقْتَلَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَرَاهُ فِيهِ أَحَدٌ (قَالَ وَكِيعٌ) أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (يَعْنِي الْخَسْفَ) أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاغْتِيَالِ مِنَ الْجِهَةِ التَّحْتَانِيَّةِ الْخَسْفَ، فِي الْقَامُوسِ خَسَفَ اللَّهُ بِفُلَانٍ الْأَرْضَ: غَيَّبَهُ فِيهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَمَّ الْجِهَاتِ لِأَنَّ الْآفَاتِ مِنْهَا، وَبَالَغَ فِي جِهَةِ السُّفْلِ لِرَدَاءَةِ الْآفَةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ لَا حِيلَةَ فِي دَفْعِ مَا يُخْشَى وُقُوعُهُ فِيهَا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْجِهَاتِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِيهَا الْحِيلَةُ حَتَّى جِهَةِ الْفَوْقِ فَمِمَّا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2398 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ أَصْبَحْنَا نُشْهِدُكَ وَنُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا أَصَابَهُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ، وَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا أَصَابَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ ذَنْبٍ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2398 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ أَصْبَحْنَا نُشْهِدُكَ) أَيْ: نَجْعَلُكَ شَاهِدًا عَلَى إِقْرَارِنَا بِوَحْدَانِيَّتِكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ إِقْرَارٌ لِلشَّهَادَةِ وَتَأْكِيدٌ لَهَا وَتَجْدِيدٌ لَهَا فِي كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ وَعَرْضٌ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (وَنُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ) بِالنَّصْبِ: عَطْفٌ عَلَى الْحَمَلَةِ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ (وَجَمِيعَ خَلْقِكَ) أَيْ: مَخْلُوقَاتِكَ تَعْمِيمٌ آخَرُ (أَنَّكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: عَلَى شَهَادَتِي وَاعْتِرَافِي بِأَنَّكَ (أَنْتَ اللَّهُ) أَيِ: الْوَاجِبُ الْوُجُودِ صَاحِبُ الْكَرَمِ وَالْجُودِ (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) أَيْ: مَوْجُودٌ

(وَحْدَكَ) أَيْ: مُنْفَرِدًا بِالذَّاتِ (لَا شَرِيكَ لَكَ) أَيْ: فِي الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ) سَيِّدُ الْمَخْلُوقَاتِ وَسَنَدُ الْمَوْجُودَاتِ (إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِمَّا هُوَ جَوَابٌ مَحْذُوفٌ لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ أَيِ: الَّذِي قَالَ فِيهِ ذَلِكَ الذِّكْرَ، تَقْدِيرُهُ مَا قَالَ قَائِلٌ هَذَا الدُّعَاءَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ (مَا أَصَابَهُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ) أَوْ يُقَدَّرُ نَفْيٌ أَيْ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا هَذِهِ الْحَالَةَ الْعَظِيمَةَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ الْجَسِيمَةِ (مِنْ ذَنْبٍ) فَعَلَى هَذَا مَنْ فِي مَنْ قَالَ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا زَائِدَةً وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ( «وَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا أَصَابَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ» ) وَفِي نُسْخَةٍ فِي لَيْلَتِهِ تِلْكَ (مِنْ ذَنْبٍ) أَيْ: أَيِّ ذَنَبٍ كَانَ، وَاسْتَثْنَى الْكَبَائِرَ وَكَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَالْإِطْلَاقُ لِلتَّرْغِيبِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي الْحَدِيثِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2399 - وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ إِذَا أَمْسَى وَإِذَا أَصْبَحَ ثَلَاثًا رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2399 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ) التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ: كَامِلٍ فِي إِسْلَامِهِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّنْوِينَ لِمُجَرَّدِ التَّنْكِيرِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ زِيَادَةِ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْعُمُومِ (يَقُولُ إِذَا أَمْسَى وَإِذَا أَصْبَحَ ثَلَاثَةً) أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِحُصُولِ الْجَمْعِيَّةِ فَنَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ: يَقُولُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ بِمَعْنَى جُمَلٍ مُفِيدَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ ثَلَاثًا وَيُؤَيِّدُهُ عَدَمُ وُجُودِهَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بَيْنَهَا بِقَوْلِهِ: ( «رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا» ) تَمْيِيزٌ: وَهُوَ يَشْمَلُ الرِّضَاءَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَضَايَا الْكَوْنِيَّةِ (وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا) وَفِيهِ التَّبَرُّؤُ عَنْ نَحْوِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ (وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا) وَيَلْزَمُ مِنْهُ قَبُولُ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ الْإِجْمَالِيَّةِ (إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ) أَيْ: حَقِيقَةَ التَّفَضُّلِ وَالتَّكَرُّمِ، وَهُوَ خَبَرُ كَانَ وَاسْمُهَا قَوْلُهُ (أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ مَا وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَفِي الْحِصْنِ أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي رَضِينَا وَبِلَفْظِ رَسُولًا مَكَانَ نَبِيًّا وَبِدُونِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَ مِيرَكُ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَامٍ خَادِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ثَوْبَانُ، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي الْحِصْنِ رَضِيتُ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ وَنَبِيًّا وَثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ رَسُولًا وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ نَبِيًّا فَيُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: " نَبِيًّا وَرَسُولًا " وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ عَامِلًا بِالْحَدِيثِ، وَقَدَّمَ نَبِيًّا عَلَى رَسُولًا مَعَ أَنَّ الْأَخِيرَ رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ لِتَقَدُّمِ وَصْفِ النُّبُوَّةِ عَلَى الرِّسَالَةِ فِي الْوُجُودِ، أَوْ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2400 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَجْمَعُ عِبَادَكَ أَوْ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2400 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَضَعَ يَدَهُ» ) أَيِ: الْيُمْنَى كَمَا فِي رِوَايَةٍ (تَحْتَ رَأْسِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ: تَحْتَ خَدِّهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فَعَبَّرَ كُلُّ رَاوٍ عَنْ رُؤْيَتِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْيَدِ تَحْتَ خَدِّهِ وَبَعْضَهَا تَحْتَ رَأْسِهِ فَعَبَّرَ كُلُّ رَاوٍ عَنْ بَعْضِ مَا تَبِيَّنَ لَهُ، وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْغَلَبَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ تَشَبُّهًا بِالْمُحْتَضِرِ وَالْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ قِنِي) أَيِ: احْفَظْنِي ( «عَذَابَكَ يَوْمَ تَجْمَعُ عِبَادَكَ، أَوْ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَتَفْسِيرٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ عَنْ حُذَيْفَةَ.

2401 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ الْبَرَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2401 - (وَأَحْمَدُ) أَيْ: رَوَاهُ أَحْمَدُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (عَنِ الْبَرَاءِ) .

2402 - وَعَنْ حَفْصَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2402 - (وَعَنْ حَفْصَةَ) وَهِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ) أَيْ: يَنَامَ (وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ) وَفِي رِوَايَةٍ رَبِّ ( «قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» ) وَفِي رِوَايَةٍ تَجْمَعُ عِبَادَكَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وَفِي نُسْخَةٍ مِرَارًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ.

2403 - وَعَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ مَضْجَعِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ تَكْشِفُ الْمَغْرَمَ وَالْمَأْثَمَ لَا يُهْزَمُ جُنْدُكَ وَلَا يُخْلَفُ وَعْدُكَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2403 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ مَضْجَعِهِ» ) اسْمُ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَصْدَرٍ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ» ) أَيِ: الشَّرِيفِ الَّذِي يَدُومُ نَفْعُهُ وَيَسْهُلُ تَنَاوُلُهُ، وَالْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الذَّاتِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] (وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّاتِ) أَيِ: الْكَامِلَاتِ فِي إِفَادَةِ مَا يَنْبَغِي وَهِيَ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ أَوْ آيَاتُهُ الْقُرْآنِيَّةُ وَدَلَالَاتُهُ الْفُرْقَانِيَّةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: خَصَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِالذَّاتِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْكُلَّ تَابِعٌ لِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ أَعْنِي قَوْلَهُ كُنْ (مِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ) أَيْ: هُوَ فِي قَبْضَتِكَ وَتَصَرُّفِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] وَقِيلَ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ أَيْ: مِنْ شَرِّ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنْ الِاسْتِيلَاءِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ، وَقِيلَ: كَنَّى بِالْأَخْذِ بِالنَّاصِيَةِ عَنْ فَظَاعَةِ شَأْنِ مَا تَعَوَّذَ مِنْهُ، إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ إِيمَاءً بِأَنَّهُ الْمُسَبِّبُ لِكُلِّ مَا يَضُرُّ وَيَنْفَعُ وَالْمُرْسِلُ لَهُ، لَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ، وَلَا شَيْءَ يَنْفَعُ فِي دَفْعِهِ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ تَكْشِفُ) أَيْ: تُزِيلُ وَتَدْفَعُ (الْمَغْرَمَ) مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ، وَالْمُرَادُ مَغْرَمُ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: مَا اسْتُدِينَ فِيمَا كَرِهَ اللَّهُ، أَوْ فِيمَا يَجُوزُ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ (وَالْمَأْثَمَ) أَيْ: مَا يَأْثَمُ بِهِ الْإِنْسَانُ، أَوْ هُوَ الْإِثْمُ نَفْسُهُ وَضْعًا لِلْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الِاسْمِ ( «اللَّهُمَّ لَا يُهْزَمُ جُنْدُكَ» ) أَيْ: لَا يُغْلَبُ وَلَوْ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ (وَلَا يُخْلَفُ وَعْدُكَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعِ وَعْدِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْخِطَابِ وَالنَّصْبِ وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ: الْإِخْبَارُ الشَّامِلُ لِلْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ وَعْدُكَ بِإِثَابَةِ الطَّائِعِ بِخِلَافِ تَعْذِيبِ الْعَاصِي فَإِنَّ خُلْفَ الْوَعِيدِ كَرَمٌ وَخُلْفَ الْوَعْدِ بُخْلٌ - فَقَوْلٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا الْفَرْقَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَلِذَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لِمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي وَلَكِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ عَقْلًا أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا وَإِنَّمَا عُلِمَ عَدَمُهُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَقْلًا ; لِأَنَّ قَضِيَّةَ الْحِكْمَةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ، وَالْكُفْرُ نِهَايَةٌ فِي الْجِنَايَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ، وَرَفْعُ الْحُرْمَةِ أَصْلًا فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَدَفْعَ الْغَرَامَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الْأَخِيرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 35 - 154] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] أَيْ: بِعُقُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَظُنُونِهِمُ الْكَاسِدَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ صَاحِبَ الْعُمْدَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: تَخْلِيدُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ وَالْكَافِرِينَ فِي الْجَنَّةِ يَجُوزُ عَقْلًا عِنْدَهُمْ أَيِ: الْأَشَاعِرَةِ إِلَّا أَنَّ السَّمْعَ وَرَدَ بِخِلَافِهِ

فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ لِدَلِيلِ السَّمْعِ، وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ أَيْ: عَقْلًا أَيْضًا فَإِنْ قُلْتَ: لَعَلَّ مُرَادَ ابْنِ حَجَرٍ مَا عَدَا الْكُفْرَ فَإِنَّهُ مُسْتَثْنًى شَرْعًا وَعَقْلًا، قُلْتُ: مَا عَدَاهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ فَلَا يُقَالُ فِيهِ جَوَازُ خُلْفِ الْوَعِيدِ، مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ تَظَاهَرَتْ بَلْ فِي الْمَعْنَى تَوَاتَرَتْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يُخْرَجُونَ بِشَفَاعَةِ الْأَبْرَارِ أَوْ بِمَغْفِرَةِ الْغَفَّارِ، هَذَا وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ خُلْفُ الْوَعِيدِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] أَيْ: بِوُقُوعِ الْخُلْفِ فِيهِ فَلَا تَطْمَعُوا أَنْ أُبَدِّلَ وَعِيدِي، وَعَفْوُ الْمُذْنِبِينَ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ لَيْسَ مِنَ التَّبْدِيلِ، فَإِنَّ دَلَائِلَ الْعَفْوِ تَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْوَعِيدِ اهـ يَعْنِي بِمَنْ شَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ فَصَّلْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ الْأَدِلَّةِ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ سَمَّيْتُهَا: " الْقَوْلُ السَّدِيدُ فِي خُلْفِ الْوَعِيدِ " (وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ (مِنْكَ الْجَدُّ) فُسِّرَ الْجَدُّ بِالْغِنَى فِي أَكْثَرِ الْأَقَاوِيلِ أَيْ: لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى غِنَاهُ مِنْكَ أَيْ: بَدَلَ طَاعَتِكَ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مِنْكَ مَعْنَاهُ: عِنْدَكَ، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] وَقِيلَ الْجَدُّ هُوَ: الْحَظُّ وَالْبَخْتُ، رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: جَدِّي فِي النَّخْلِ، وَقَالَ الْآخَرُ: جَدِّي فِي الْإِبِلِ، وَآخَرُ قَالَ: جَدِّي فِي كَذَا فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ هَذَا الدُّعَاءَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُنْجِيهُ حَظُّهُ مِنْكَ ; إِنَّمَا يُنْجِيهُ فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ، وَقِيلَ، الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ أَيْ: لَا يَنْفَعُ مُجَرَّدُ النَّسَبِ بَلْ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَرُوِيَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَأُرِيدَ الْجِدُّ فِي أُمُورِ الدِّينِ، أَوْ مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُهُ الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ وَرَحْمَتُهُ وَفَتْحُهُ وَبَرَكَتُهُ قَالَ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] (سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ) أَيْ: أَجْمَعُ بَيْنَ تَنْزِيهِكَ وَتَحْمِيدِكَ وَتَقْدِيسِكَ وَتَمْجِيدِكَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2404 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ أَوْ عَدَدَ رَمْلِ عَالَجٍ أَوْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ أَوْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2404 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ) يَجُوزُ فِيهِمَا النَّصْبُ صِفَةً لِلَّهِ أَوْ مَدْحًا، وَالرَّفْعُ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَفْعُهُمَا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِهُوَ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ نُسِبَ إِلَى الْكِسَائِيِّ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لَا يُوصَفُ (وَأَتُوبُ إِلَيْهِ) أَيْ أَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ وَأُرِيدُ التَّوْبَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَوَفِّقْنِي لِلتَّوْبَةِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) ظَرْفُ قَالَ (غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ) أَيِ: الصَّغَائِرَ، وَيَحْتَمِلُ الْكَبَائِرَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَالْمُرَادُ الصَّغَائِرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَمُرَادِ رَسُولِهِ فَلَا يُقَالُ فِي كَلَامِهِمَا أَنَّ هَذَا مُرَادُهُمَا مَعَ احْتِمَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّ الْكَبَائِرَ قَابِلَةٌ أَنْ تَكُونَ مُرَادَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] (وَإِنْ كَانَتْ) أَيْ: وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ فِي الْكَثْرَةِ (مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ (عَدَدَ رَمْلِ عَالَجٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ مُنْصَرِفٌ، وَقِيلَ: لَا يَنْصَرِفُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَوْضِعٌ بِالْبَادِيَةِ فِيهِ رَمْلٌ كَثِيرَةٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَالَجُ مَا تَرَاكَمَ مِنَ الرَّمْلِ وَدَخَلَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَجَمْعُهُ عَوَالِجُ، فَعَلَى هَذَا لَا يُضَافُ الرَّمْلُ إِلَى عَالَجٍ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ نَصَبَ كَلَامَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ إِلَى الشَّارِحِ مَعَ قَوْلِهِ: فَعَلَى هَذَا لَا يُضَافُ الرَّمْلُ إِلَى عَالَجٍ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ أَيْ: رَمْلٌ يَتَرَاكَمُ، وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ وَمَا يَحْوِيهِ عَوَالِجُ الرِّمَالِ اهـ. وَيَرُدُّهُ إِضَافَةُ الرَّمْلِ إِلَى عَالَجٍ وَعَلَى مَا قَالَهُ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ وَعَلَى أَنَّهُ مَوْضِعٌ مَخْصُوصٌ فَيُضَافُ كَلَامُهُ، فَتَأَمَّلْ فِي تَقْرِيرِهِ وَحُسْنِ تَحْرِيرِهِ، وَفِي التَّحْرِيرِ: عَالَجُ مَوْضِعٌ مَخْصُوصٌ فَيُضَافُ، قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ بِالْإِضَافَةِ فَعَلَى

قَوْلِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، أَوِ الْإِضَافِيَّةُ بَيَانِيَّةٌ، وَقِيلَ: اسْمُ وَادٍ بَعِيدِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ كَثِيرِ الرَّمْلِ مِنْ أَرْضِ الْمَغْرِبِ، وَعَدَدَ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى مِثْلَ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ عَطْفًا عَلَى الزَّبَدِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (أَوْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ، أَوْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَوْقَاتُهَا وَسَاعَاتُهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2405 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ بِقِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا فَلَا يَقْرَبُهُ شَيْءٌ يُؤْذِيهِ حَتَّى يَهُبَّ مَتَى هَبَّ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2405 - (وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ) أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: وَأَبُو الدَّرْدَاءِ كَانَ شَدَّادُ مِمَّنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ يَقْرَأُ سُورَةً) وَفِي رِوَايَةٍ: (مَا مِنْ رَجُلٍ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ فَيَقْرَأُ سُورَةً) قَالَ مِيرَكُ فِي حَاشِيَةِ الْحِصْنِ: كَذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ ; لَكِنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِلَفْظِ بِقِرَاءَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مُفْتَتِحًا بِقِرَاءَةِ سُورَةٍ، وَقِيلَ: أَيْ مُلْتَبِسًا بِهَا (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) أَيِ: الْقُرْآنِ الْحَمِيدِ وَالْفَرْقَانِ الْمَجِيدِ (إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا) أَيْ: أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْرُسَهُ، مِنَ الْمُضَارِعِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ (فَلَا يَقْرَبُهُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ (شَيْءٌ يُؤْذِيهِ) وَفِي رِوَايَةِ الْحِصْنِ: ( «إِلَّا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا يَحْفَظُهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِي» ) (حَتَّى يَهُبَّ) بِضَمِّ الْهَاءِ (مَتَّى هَبَّ) أَيْ: يَسْتَيْقِظُ مَنِ اسْتَيْقَظَ بَعْدَ طُولِ الزَّمَانِ، أَوْ قُرْبِهِ مِنَ النَّوْمِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَفِي الْحِصْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ( «إِذَا وَضَعْتَ جَنْبَكَ عَلَى الْفِرَاشِ وَقَرَأْتَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَدْ أَمِنْتَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْمَوْتَ» ) وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مَوْقُوفًا: ( «مَا كُنْتُ أَرَى أَحَدًا يَعْقِلُ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ الْأَوَاخِرَ مِنَ الْبَقَرَةِ» ) .

2406 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «خَلَّتَانِ لَا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ أَلَا وَهُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ، يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَيَحْمَدُهُ عَشْرًا، وَيُكَبِّرُهُ عَشْرًا» ) قَالَ: «وَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ قَالَ: (فَتِلْكَ خَمْسُونَ، وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ، وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ يُسَبِّحُهُ وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ مِائَةً فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ فِي الْمِيزَانِ، فَأَيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ سَيِّئَةٍ؟ ! قَالُوا: وَكَيْفَ لَا نُحْصِيهَا؟ ! قَالَ: يَأْتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ وَهُوَ فِي صِلَاتِهِ فَيَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا حَتَّى يَنْفَتِلَ فَلَعَلَّهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَيَأْتِيهِ فِي مَضْجَعِهِ فَلَا يَزَالُ يُنَوِّمُهُ حَتَّى يَنَامَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: (خَصْلَتَانِ أَوْ خَلَّتَانِ لَا يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا فِي رِوَايَتِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ قَالَ: ( «وَيُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ وَيَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» ) وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2406 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ وَجَوَازِ إِثْبَاتِهَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَلَّتَانِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ أَيْ: خَصْلَتَانِ (لَا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ) أَيْ: لَا يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (أَوْ لَا يَأْتِي بِهِمَا) عَبَّرَ عَنِ الْمُأْتَى بِهِ بِالْإِحْصَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْدُودَاتِ، أَوْ لَا يُطِيقُهُمَا، أَوْ لَا يَأْتِي عَلَيْهِمَا بِالْإِحْصَاءِ كَالْعَادِّ لِلشَّيْءِ (إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ) أَيْ: مِنَ النَّاجِينَ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ (أَلَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ (وَهُمَا) أَيِ: الْخَصْلَتَانِ وَهُمَا الْوَصْفَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (يَسِيرٌ) أَيْ: سَهْلٌ خَفِيفٌ لِعَدَمِ صُعُوبَةِ الْعَمَلِ بِهِمَا عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ (وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا) أَيْ: عَلَى وَصْفِ الْمُدَاوَمَةِ (قَلِيلٌ) أَيْ: نَادِرٌ لِعِزَّةِ التَّوْفِيقِ قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْمَعْنَى كَبِيرٌ فِي الْمَبْنَى، وَجُمْلَةُ التَّنْبِيهِ مُعْتَرِضَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّحْضِيضِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِمَا وَالتَّرْغِيبِ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَهُمَا لِلْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى التَّنْبِيهِ، فَتَنْبِيهُ (يُسَبِّحُ اللَّهَ) بَيَانٌ لِإِحْدَى الْخَلَّتَيْنِ، وَالضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ (فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) أَيْ: عَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ (مَفْرُوضَةٍ عَشْرًا، وَيَحْمَدُهُ عَشْرًا، وَيُكَبِّرُهُ عَشْرًا، قَالَ) أَيْ: ابْنُ عَمْرٍو (فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْقِدُهَا) أَيِ الْعَشَرَاتِ (بِيَدِهِ) أَيْ: بِأَصَابِعِهَا أَوْ بِأَنَامِلِهَا أَوْ بِعُقُدِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مَرَّ الْأَمْرُ بِالْعَقْدِ بِالْأَنَامِلِ فِي حَدِيثٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدِ الْأَنَامِلُ وَيُحْتَمَلُ الْعَكْسُ، فَفِيهِ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى لَا سِيَّمَا

وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ الْمَجَازِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْأَنَامِلِ وَإِرَادَةَ الْيَدِ بَعِيدٌ جِدًّا عَنِ الْمَقْصُودِ فَتَأَمَّلْ (قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَتِلْكَ) أَيِ: الْعَشَرَاتُ الثَّلَاثُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (خَمْسُونَ وَمِائَةٌ) أَيْ: فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ ثَلَاثِينَ فِي خَمْسَةٍ أَيْ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ حَسَنَةً (بِاللِّسَانِ) أَيْ: بِمُقْتَضَى نُطْقِهِ فِي الْعَدَدِ (وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ) لِأَنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا عَلَى أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْمُضَاعَفَةِ الْمَوْعُودِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ) بَيَانٌ لِلْخَلَّةِ الثَّانِيَةِ: وَإِذَا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ أَيْ: وَحِينَ يَأْخُذُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ مَرْقَدَهُ (يُسَبِّحُهُ) أَيْ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ (وَيُكَبِّرُهُ) أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ (وَيَحْمَدُهُ) أَيْ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ. فَقَوْلُهُ (مِائَةٌ) عَدَدُ الْمَجْمُوعِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ تَوَسُّطِ التَّكْبِيرِ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ التَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَالتَّحْمِيدَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ تَكْمِلَةً لِلْمِائَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (فَتِلْكَ) أَيِ: الْمِائَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ (مِائَةٌ) أَيْ: مِائَةُ حَسَنَةٍ (بِاللِّسَانِ) وَفِي نُسْخَةٍ فِي اللِّسَانِ (وَأَلْفٌ) أَيْ: أَلْفُ حَسَنَةٍ عَلَى جِهَةِ الْمُضَاعَفَةِ (فِي الْمِيزَانِ فَأَيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ سَيِّئَةٍ؟ !) الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ نَوْعُ إِنْكَارٍ يَعْنِي إِذَا حَافَظَ عَلَى الْخَصْلَتَيْنِ وَحَصَلَ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ حَسَنَةٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَيُعْفَى عَنْهُ بِعَدَدِ كُلِّ حَسَنَةٍ سَيِّئَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَأَيُّكُمْ يَأْتِي بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا مِنَ السَّيِّئَاتِ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ حَتَّى لَا يَصِيرَ مَعْفُوًّا عَنْهُ؟ ! فَمَا لَكُمْ لَا تَأْتُونَ بِهِمَا وَلَا تُحْصُونَهُمَا؟ ! (قَالُوا: وَكَيْفَ لَا نُحْصِيهَا؟ !) أَيِ: الْمَذْكُورَاتِ، وَفِي نُسْخَةٍ لَا نُحْصِيهِمَا أَيِ: الْخَصْلَتَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ كَيْفَ لَا نُحْصِي الْمَذْكُورَاتِ فِي الْخَصْلَتَيْنِ وَأَيُّ شَيْءٍ يَصْرِفُنَا، فَهُوَ اسْتِبْعَادٌ لِإِهْمَالِهِمْ فِي الْإِحْصَاءِ فَرَدَّ اسْتِبْعَادَهُمْ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُوَسْوِسُ لَهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَغْفُلَ عَنِ الذِّكْرِ عَقِيبَهَا وَيُنَوِّمُهُ عِنْدَ الِاضْطِجَاعِ كَذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَأْتِي أَحَدَكُمْ) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (الشَّيْطَانُ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ فَيَقُولُ) أَيْ: يُوَسْوِسُ لَهُ وَيُلْقِي فِي خَاطِرِهِ (اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) مِنَ الْأَشْغَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ النَّفْسِيَّةِ الشَّهَوِيَّةِ، أَوْ مَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالصَّلَاةِ وَلَوْ مِنَ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ (حَتَّى يَنْفَتِلَ) أَيْ: يَنْصَرِفَ عَنِ الصَّلَاةِ (فَلَعَلَّهُ) أَيْ: فَعَسَى (أَنْ لَا يَفْعَلَ) أَيِ: الْإِحْصَاءَ، قِيلَ: الْفَاءُ فِي فَلَعَلَّهُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ يَعْنِي إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَفْعَلُ كَذَا فَعَسَى الرَّجُلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَإِدْخَالُ أَنْ فِي خَبَرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَعَلَّ هُنَا بِمَعْنَى عَسَى وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَغْلِبُهُ الشَّيْطَانُ عَنِ الْحُضُورِ الْمَطْلُوبِ الْمُؤَكَّدِ فِي صَلَاتِهِ، فَكَيْفَ لَا يَغْلِبُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ عَنِ الْأَذْكَارِ الْمَعْدُودَةِ مِنَ السُّنَنِ فِي حَالِ انْصِرَافِهِ عَنْ طَاعَتِهِ؟ (وَيَأْتِيهِ) أَيِ: الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ (مَضْجَعَهُ فَلَا يَزَالُ يُنَوِّمُهُ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: يُلْقِي عَلَيْهِ النَّوْمَ (حَتَّى يَنَامَ) أَيْ: بِدُونِ الذِّكْرِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: خَصْلَتَانِ أَوْ خَلَّتَانِ) أَيْ: عَلَى الشَّكِّ (لَا يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ) أَيْ: بَدَلَ لَا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ (وَكَذَا فِي رِوَايَتِهِ) أَيْ: رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ. (بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ، قَالَ: وَيُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ وَيَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) أَيْ: بِدُونِ الْوَاوِ.

2407 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: (اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2407 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَهُوَ الْبَيَاضِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي) أَيْ: حَصَلَ لِي فِي الصَّبَاحِ (مِنْ نِعْمَةٍ) أَيْ: دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ، ظَاهِرَةٍ أَوْ بَاطِنَةٍ (أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَالْمُرَادُ التَّعْمِيمُ (فَمِنْكَ وَحْدَكَ) حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي قَوْلِهِ فَمِنْكَ أَيْ: فَحَاصِلٌ مِنْكَ مُنْفَرِدًا لَا شَرِيكَ لَكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وَمِنْ شَرْطِ الْجَزَاءِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلشَّرْطِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي الْآيَةِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْإِخْبَارِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقُومُونَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَكْفُرُونَهَا بِالْمَعَاصِي فَقِيلَ لَهُمْ: إِنِّي أُخْبِرُكُمْ بِأَنَّ مَا الْتَبَسَ بِكُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْتُمْ لَا تَشْكُرُونَهَا سَبَبٌ لِأَنْ أُخْبِرَكُمْ بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَقُومُوا بِشُكْرِهَا، وَالْحَدِيثُ بِعَكْسِ الْآيَةِ أَيْ: إِنِّي أُقِرُّ وَأَعْتَرِفُ بِأَنَّ كُلَّ النِّعَمِ الْحَاصِلَةِ الْوَاصِلَةِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْحَيَاةِ إِلَى انْتِهَاءِ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَمِنْكَ وَحْدَكَ فَأَوْزِعْنِي أَنْ أَقُومَ بِشُكْرِهَا وَلَا أَشْكُرَ غَيْرَكَ فِيهَا اهـ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى عَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَهْمِ عِبَارَتِهِ (فَلَكَ الْحَمْدُ) أَيِ: الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ (وَلَكَ الشُّكْرُ) أَيْ: عَلَى الْإِنْعَامِ الْجَزِيلِ، قِيلَ: هَذَا تَقْرِيرٌ لِلْمَطْلُوبِ وَلِذَلِكَ قُدِّمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْمُفِيدِ لِلْحَصْرِ، يَعْنِي: إِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ مُخْتَصَّةً بِكَ فَهَا أَنَا أَنْقَادُ إِلَيْكَ، وَأَخُصُّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ لَكَ قَائِلًا: لَكَ الْحَمْدُ لَا لِغَيْرِكَ وَلَكَ الشُّكْرُ لَا لِأَحَدٍ سِوَاكَ ( «فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي» ) لَكِنْ يَقُولُ أَمْسَى بَدَلَ أَصْبَحَ (فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ هُوَ الِاعْتِرَافُ بِالْمُنْعِمِ الْحَقِيقِيِّ، وَرُؤْيَةُ كُلِّ النِّعَمِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا مِنْهُ، وَكَمَالُهُ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّ النِّعَمِ وَيَصْرِفَهَا فِي مَرْضَاةِ الْمُنْعِمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ غَنَّامٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

2408 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ: (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2408 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ) وَفِي الْحِصْنِ يَقُولُ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ) زِيدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ لَفْظَةُ السَّبْعِ (وَرَبَّ الْأَرْضِ) أَيْ: خَالِقَهُمَا، وَمُرَبِّي أَهْلِهِمَا، وَزِيدَ فِي الْحِصْنِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ بِالْجَرِّ وَالنَّصْبِ (وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (فَالِقَ الْحَبِّ) الْفَلْقُ بِمَعْنَى الشَّقِّ (وَالنَّوَى) جَمْعُ النَّوَاةِ وَهِيَ عَظْمُ النَّخْلِ وَفِي مَعْنَاهُ عَظْمُ غَيْرِهَا، وَالتَّخَصُّصُ لِفَضْلِهَا أَوْ لِكَثْرَةِ وَجُودِهَا فِي دِيَارِ الْعَرَبِ، يَعْنِي: يَا مَنْ شَقَّهَا فَأَخْرَجَ مِنْهُمَا الزَّرْعَ وَالنَّخِيلَ (وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ) مِنَ الْإِنْزَالِ، وَقِيلَ مِنَ التَّنْزِيلِ (وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) وَفِي الْحِصْنِ الْفُرْقَانِ بَدَلَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يُفْرَقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَعَلَّ تَرْكَ الزَّبُورِ لِأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مَوَاعِظَ لَيْسَ فِيهِ أَحْكَامٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا وَجْهُ النَّظْمِ بَيْنَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ؟ قُلْتُ: وَجْهُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَالِكُهُمَا وَمُدَبِّرُ أَهْلِهِمَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى لِيَنْتَظِمَ مَعْنَى الْخَالِقِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31] تَفْسِيرٌ لِفَالِقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمَعْنَاهُ يُخْرِجُ الْحَيَوَانَ النَّامِيَ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالْحَبَّ مِنَ النَّوَى، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أَيْ: يُخْرِجُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّامِي، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِخْرَاجُ الْأَشْيَاءِ مِنْ كَتْمِ الْعَدَمِ إِلَى فَضَاءِ الْوُجُودِ إِلَّا لِيُعْلَمَ وَيُعْبَدَ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِكِتَابٍ يُنْزِلُهُ وَرَسُولٍ يَبْعَثُهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا مَالِكُ يَا مُدَبِّرُ يَا هَادِي أَعُوذُ بِكَ، وَهَذَا كَلَامٌ طَيِّبٌ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهَبِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا

يَلِيقُ أَنْ يُغْسَلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ حَتَّى يَذْهَبَ (أَعُوذُ) ثُمَّ فِي نُسْخَةٍ وَأَعُوذُ بِوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهَا مِنْ عَدَمِ الْمُلَاطَفَةِ، وَالْمَعْنَى أَعْتَصِمُ وَأَعُوذُ (بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ) وَفِي الْحِصْنِ: مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ (أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: مِنْ شَرِّ كُلِّ دَآبَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا (أَنْتَ الْأَوَّلُ) وَفِي الْحِصْنِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ أَيِ: الْقَدِيمُ بِلَا ابْتِدَاءٍ (فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ) قِيلَ: هَذَا تَقْرِيرٌ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ الْأَوَّلُ مُفِيدٌ لِلْحَصْرِ بِقَرِينَةِ الْخَبَرِ بِاللَّامِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْتَ مُخْتَصٌّ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَعَلَى هَذَا مَا بَعْدَهُ (وَأَنْتَ الْآخِرُ) أَيِ: الْبَاقِي بِلَا انْتِهَاءٍ (فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ) أَيْ: بَعْدَ آخِرِيَّتِكَ الْمُعَبَّرِ بِهَا عَنِ الْبَقَاءِ شَيْءٌ يَكُونُ لَهُ بَقَاءٌ لِذَاتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَكَ بِمَعْنَى غَيْرِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ غَيْرَكَ فَإِنَّ فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَلَوْ كَانَ لَهُ بَقَاءٌ مَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] وَ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِهِ الْآنَ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ الْمُسْتَحْسَنُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ، قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: تَمَسَّكَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: " لَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ " عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ تَفْنَى بَعْدَ الْمَوْتِ وَتَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِخِلَافِهِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْفَانِيَ هُوَ الصِّفَاتُ، وَالْأَجْزَاءَ الْمُتَلَاشِيَةُ بَاقِيَةٌ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ بَقَاءِ عَجْبِ الذَّنَبِ، وَمَا صَحَّ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ (وَأَنْتَ الظَّاهِرُ) أَيِ: الْأَفْعَالُ وَالصِّفَاتُ، أَوِ الْكَامِلُ فِي الظُّهُورِ (فَلَيْسَ فَوْقَكَ) أَيْ: فَوْقَ ظُهُورِكَ (شَيْءٌ) يَعْنِي: لَيْسَ شَيْءٌ أَظْهَرَ مِنْكَ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ عَلَيْكَ، وَقِيلَ: لَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ فِي الظُّهُورِ، أَوْ أَنْتَ الْغَالِبُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ غَالِبٌ (وَأَنْتَ الْبَاطِنُ) أَيْ: بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ (فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) أَيْ: لَيْسَ شَيْءٌ أَبْطَنَ مِنْكَ، وَدُونَ يَجِيءُ بِمَعْنَى غَيْرٍ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ - غَيْرَكَ - فِي الْبُطُونِ شَيْءٌ أَبْطَنَ مِنْكَ، وَقَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى قَرِيبٍ، فَالْمَعْنَى: لَيْسَ شَيْءٌ فِي الْبُطُونِ قَرِيبًا مِنْكَ، وَقِيلَ: مَعْنَى الظُّهُورِ وَالْبُطُونِ تَجَلِّيهِ لِبَصَائِرِ الْمُتَفَكِّرِينَ وَاحْتِجَابُهُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاظِرِينَ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: ظَاهِرٌ فِي عَيْنِ الْبَاطِنِ وَبَاطِنٌ فِي عَيْنِ الظَّاهِرِ (اقْضِ عَنِّي) وَفِي رِوَايَةٍ عَنَّا (الدَّيْنَ) يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حُقُوقُ اللَّهِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ جَمِيعًا، وَلَمَّا «قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُكَ تَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَعِيذُ مِنَ الدَّيْنِ،» بَيَّنَ لَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الدَّيْنَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ كَخُلْفِ الْوَعْدِ وَتَعَمُّدِ الْكَذِبِ، وَلِذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الدَّيْنِ " «هَمٌّ بِاللَّيْلِ مَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ» " (وَاغْنِنِي) وَفِي رِوَايَةٍ وَاغْنِنَا (مِنَ الْفَقْرِ) أَيْ: الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْمَخْلُوقِ، أَوْ مِنَ الْفَقْرِ الْقَلْبِيِّ، لِمَا وَرَدَ: " كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ. وَابْنُ أَبِي شَيْبَهَ (وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ) كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.

2409 - وَعَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ الْأَنْمَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: (بَاسِمِ اللَّهِ وَضَعْتُ جَنْبِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَاخْسَأْ شَيْطَانِي وَفُكَّ رِهَانِي، وَاجْعَلْنِي فِي النَّدِيِّ الْأَعْلَى» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2409 - (وَعَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ الْأَنْمَارِيِّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَهُ صُحْبَةٌ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ، بِاسْمِ اللَّهِ» ) أَيْ: أَرْقُدُ، وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ إِنْ أُرِيدَ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى، أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ (وَضَعْتُ جَنْبِي لِلَّهِ) وَفِي الْحِصْنِ بِدُونِ لِلَّهِ فَوَضَعْتُ مُتَعَلِّقُ الْجَارِ: وَيَحْتَمِلُ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَضَعْتُ أَيْ: بِاسْمِ اللَّهِ وَضَعْتُ جَنْبِي حَالَ كَوْنِ وَضْعِهِ لِلَّهِ أَيْ: لِلتَّقْوَى عَلَى عِبَادَتِهِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي) الْمُرَادُ بِهِ ذَنْبُهُ اللَّائِقُ بِهِ، أَوْ ذَنْبُ أُمَّتِهِ أَوْقَعُ تَسْلِيمًا أَوْ تَعْلِيمًا (وَاخْسَأْ شَيْطَانِي) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلَهُ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ آخِرَهُ أَيْ: أَبْعِدْهُ، مِنْ خَسَأَ الْكَلْبُ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] .

وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ مِنْ خَسَأْتُ الْكَلْبَ أَيْ: طَرَدْتُهُ، فَهُوَ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى أَيِ: اجْعَلْهُ مَطْرُودًا عَنِّي وَمَرْدُودًا عَنْ إِغْوَائِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِضَافَةٌ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَرَادَ قَرِينَةً مِنَ الْجِنِّ أَوْ مَنْ قَصَدَ إِغْوَاءَهُ أَيْ: مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (وَفُكَّ رِهَانِي) أَيْ: خَلِّصْ رَقَبَتِي عَنْ كُلِّ حَقٍّ عَلَيَّ، وَالرِّهَانُ الرَّهْنُ وَجَمْعُهُ وَمَصْدَرُ رَاهَنَهُ وَهُوَ مَا يُوضَعُ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ، وَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ بِعَمَلِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنِهِ» ) أَيْ: مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ، وَفَكُّ الرَّهْنِ تَخْلِيصُهُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، يَعْنِي: خَلِّصْ نَفْسِي عَنْ حُقُوقِ الْخَلْقِ وَمِنْ عِقَابِ مَا اقْتَرَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَرْضَاهَا بِالْعَفْوِ عَنْهَا، أَوْ خَلِّصْهَا مِنْ ثِقَلِ التَّكَالِيفِ بِالتَّوْفِيقِ لِلْإِتْيَانِ بِهَا، وَزَادَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: " وَثَقِّلْ مِيزَانِي " أَيْ: بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ( «وَاجْعَلْنِي فِي النَّدِيِّ الْأَعْلَى» ) وَرُوِيَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِلَفْظِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَالنَّدِيُّ بِفَتْحٍ ثُمَّ الْكَسْرِ ثُمَّ التَّشْدِيدِ هُوَ: النَّادِي وَهُوَ الْمَجْلِسُ الْمُجْتَمِعُ، قِيلَ: النَّدِيُّ أَصْلُهُ الْمَجْلِسُ، وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ أَيْضًا، وَيُرِيدُ بِالْأَعْلَى الْمَلَأَ الْأَعْلَى وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَوْ أَهْلَ النَّدِيِّ إِذَا أَرَادَ الْمَجْلِسَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: النَّدِيُّ يُطْلَقُ عَلَى الْمَجْلِسِ إِذَا كَانَ فِيهِ الْقَوْمُ فَإِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يَكُنْ نَدِيًّا، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَوْمِ، وَأَرَادَ الْمَلَأَ الْأَعْلَى، أَوْ مَجْلِسَهُمْ، وَالْمَعْنَى: اجْعَلْنِي مِنَ الْمُجْتَمِعِينِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَقَامِ الْأَعْلَى الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ وَمَقَامُ الْوَسِيلَةِ الَّذِي قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِعَبْدٍ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ) أَيْ: ذَلِكَ الْعَبْدُ، قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: وَيُرْوَى فِي النِّدَاءِ الْأَعْلَى وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَالنِّدَاءُ مَصْدَرُ نَادَيْتُهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ يُنَادَى بِهِ لِلتَّنْوِيهِ وَالرَّفْعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نِدَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمُ الْأَعْلَوْنَ رُتْبَةً وَمَكَانًا عَلَى أَهْلِ النَّارِ كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} [الأعراف: 44] وَالنِّدَاءُ الْأَسْفَلُ هُوَ نِدَاءُ أَهْلِ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: اجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَعَبَّرَ بِفِي لِأَنَّهَا أَبْلَغُ مِنْ مِنْ وَنَظِيرُ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أَيِ: اجْعَلْنِي مُنْدَرِجًا فِي جُمْلَتِهِمْ مَغْمُورًا فِي بَرَكَتِهِمْ، بِخِلَافِ اجْعَلْنِي مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ عَدَدِهِمْ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ فَخْرٍ اهـ وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّدِيِّ الْقَوْمُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ الْمَجْلِسُ فَيَتَعَيَّنُ وُجُودُ فِي، وَلَعَلَّ إِيرَادَ فِي لِيَقْبَلَ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَأَمَّا دَعْوَاهُ الْأَبْلَغِيَّةَ فَمَمْنُوعَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ وَاحِدًا مِنْهُمْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِيهِمْ، بَلِ الْأَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ أَنْ يُقَالَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ فِيهِمْ وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ إِلَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّوَاضُعِ بِفِي أَكْثَرُ مِمَّا فِي التَّوَاضُعِ بِمِنْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» " إِذْ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَالَغَةِ مِنَ التَّوَاضُعِ مَا لَا يَخْفَى، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ (اجْعَلْ) مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40] وَ {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] فَيُرَادُ فِي لِتَضْمِينِ الْجَعْلِ مَعْنَى الْإِيقَاعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي، وَبِهَذَا بَطَلَ قَوْلُهُ: وَنَظِيرُهُ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ؛ إِذْ لَيْسَ نَظِيرَهُ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ.

2410 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانِي وَآوَانِي وَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي، وَالَّذِي مَنَّ عَلَيَّ فَأَفْضَلَ، وَالَّذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ، أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2410 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ» ) أَيْ: مِنَ اللَّيْلِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانِي» ) أَيْ: عَنِ الْخَلْقِ أَغْنَانِي (وَآوَانِي) بِالْمَدِّ أَيْ: جَعَلَ لِي مَسْكَنًا يَدْفَعُ عَنِّي حَرِّي وَبَرْدِي وَسَتَرَنِي عَنْ أَعْدَائِي (وَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي) أَيْ: أَشْبَعَنِي وَأَرْوَانِي (وَالَّذِي مَنَّ) أَيْ: أَنْعَمَ (عَلَيَّ فَأَفْضَلَ) بِالْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْوَاوِ أَيْ: زَادَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَحْسَنَ (وَالَّذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ) أَيْ: فَأَعْظَمَ، أَوْ أَعْظَمَ مِنَ النِّعْمَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ لِتَرْتِيبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَقَوْلِكَ خُذِ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ، فَالْإِعْطَاءُ حَسَنٌ وَكَوْنُهُ جَزِيلًا أَحْسَنَ وَهَكَذَا الْمُعَنْوَنُ، وَقَدَّمَ الْمَنَّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِعَمَلِ الْعَبْدِ بِخِلَافِ

الْإِعْطَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَسْبُوقًا بِهِ ( «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» ) أَيْ: وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَائِرَ الْحَالَاتِ مِنَ الْمِحَنِ وَالْبَلِيَّاتِ مِمَّا يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا إِمَّا رَافِعَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَإِمَّا رَافِعَةٌ لِلدَّرَجَاتِ، بِخِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُمْ فِي حَالِ الْمَعْصِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَفِي حَالِ الْعُقُوبَةِ فِي الْعُقْبَى، فَلَيْسَ هُنَاكَ شُكْرٌ بَلْ صَبْرٌ عَلَى حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَرِضًا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَهُوَ مَحْمُودٌ بِذَاتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَبِصِفَاتِهِ فِي كُلِّ فِعَالٍ ( «اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ» ) أَيْ: مُرَبِّيهِ وَمُصْلِحَهُ (وَمَلِيكَهُ) أَيْ: مَلِكَهُ وَمَالِكَهُ (وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: مَعْبُودَهُ وَمَقْصُودَهُ وَمَطْلُوبَهُ وَمَحْبُوبَهُ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ بَيَانِ قَالِهِ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ( «أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ» ) أَيْ: مِمَّا يُقَرِّبُ إِلَيْهَا مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ حَالٍ يُوجِبُ الْعَذَابَ وَيَقْتَضِي الْحِجَابَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.

2411 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «شَكَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنَ الْأَرَقِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الْأَرَضِينَ وَمَا أَقَلَّتْ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ، كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَنْ يَبْغِيَ، عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَالْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ الرَّازِيُّ قَدْ تَرَكَ حَدِيثَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2411 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ شَكَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) أَيِ: السَّهَرَ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِي الْقَامُوسِ: شَكَا أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ شَكْوَى وَيُنَوَّنُ، وَشِكَايَةً بِالْكَسْرِ، وَشَكَيْتُ لُغَةٌ فِي شَكَوْتُ اهـ فَعَلَى اللُّغَةِ الْأَوْلَى الَّتِي هِيَ الْفُصْحَى يُكْتَبُ شَكَا بِالْأَلِفِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ بِالْيَاءِ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي عِلْمِ الْخَطِّ ( «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنَ الْأَرَقِ» ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مِنْ أَجْلِ السَّهَرِ، وَهُوَ مُفَارَقَةُ الرَّجُلِ النَّوْمَ مِنْ وَسْوَاسٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا أَوَيْتَ) بِالْقَصْرِ ( «إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظَلَّتْ» ) أَيْ: وَمَا أَوْقَعَتْ ظِلَّهَا عَلَيْهِ (وَرَبَّ الْأَرَضِينَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيِ: السَّبْعِ (وَمَا أَقَلَّتْ) أَيْ: حَمَلَتْ وَرَفَعَتْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ (وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ) أَيْ: وَمَا أَضَلَّتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَمَا هُنَا بِمَعْنَى: مَنْ، وَفِيمَا قَبْلُ غُلِّبَ فِيهَا غَيْرُ الْعَاقِلِ، وَيُمْكِنُ أَنَّ (مَا) هُنَا لِلْمُشَاكَلَةِ، أَوْ تَنْزِيلًا لِلْمَنْزِلَةِ، أَوْ أَنَّهَا فِي الْكُلِّ بِمَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ (كُنْ لِي جَارًا) مِنِ اسْتَجَرْتُ فَلَانًا فَأَجَارَنِي وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88] أَيْ: كُنْ لِي مُعِينًا وَمَانِعًا وَمُجِيرًا وَحَافِظًا (مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعًا) حَالٌ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ أَجْمَعِينَ (أَنْ يَفْرُطَ) بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: مِنْ أَنْ يَفْرُطَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ شَرِّهِمْ، أَوْ لِئَلَّا يَفْرُطَ، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْرُطَ أَيْ: يَسْبِقَ (عَلَيَّ أَحَدٌ) أَيْ: بِشَرِّهِ (مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ خَلْقِكَ، وَفِي الْمَفَاتِيحِ أَيْ: يَقْصِدُ بإذَائِي مُسْرِعًا (أَوْ أَنْ يَبْغِيَ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ أَيْ: يَظْلِمَ عَلَيَّ أَحَدٌ (عَزَّ جَارُكَ) أَيْ: غَلَبَ مُسْتَجِيرُكَ وَصَارَ عَزِيزًا كُلُّ مَنِ الْتَجَأَ إِلَيْكَ وَعَزَّ لَدَيْكَ (وَجَلَّ) أَيْ: عَظُمَ (ثَنَاؤُكَ) يُحْتَمَلُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُثَنَّى غَيْرَهُ أَوْ ذَاتَهُ فَيَكُونَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ (وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) تَأْكِيدٌ لِلتَّوْحِيدِ وَتَأْيِيدٌ لِلتَّفْرِيدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَالْحَكَمُ) بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي أَصْلِ السَّيِّدِ الْحَكِيمُ بِالْيَاءِ، وَفِي الْهَامِشِ صَوَابُهُ الْحَكَمُ (ابْنُ ظُهَيْرٍ) كَمَا فِي الْكَاشِفِ وَالتَّقْرِيبِ (الرَّاوِي) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ (قَدْ تَرَكَ حَدِيثَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ) وَفِي الْحِصْنِ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ إِلَّا أَنَّ فِيهَا " وَتَبَارَكَ اسْمُكَ " بَدَلَ " جَلَّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ " قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ أَيْضًا وَفِيهِ " «عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» ".

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2412 - عَنْ أَبِي مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الْيَوْمِ فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُورَهُ وَبِرْكَتَهُ وَهُدَاهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَمِنْ شَرِّ مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ إِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2412 - (عَنْ أَبِي مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ) أَيْ: خَالِقِهِمْ وَسَيِّدِهِمْ وَمُصْلِحِهِمْ وَمُرَبِّيهِمْ، وَفِيهِ تَغْلِيبُ ذَوِي الْعُقُولِ لِشَرَفِهِمْ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الْيَوْمِ فَتْحَهُ» ) أَيِ: الظَّفَرَ عَلَى الْمَقْصُودِ (وَنَصْرَهُ) أَيِ: النُّصْرَةَ عَلَى الْعَدُوِّ (وَنُورَهُ) بِتَوْفِيقِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (وَبَرَكَتَهُ) بِتَيْسِيرِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ (وَهُدَاهُ) أَيِ: الثَّبَاتَ عَلَى مُتَابَعَةِ الْهُدَى وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ فَتْحَهُ وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ خَيْرَ هَذَا الْيَوْمِ، وَالْفَتْحُ هُوَ الظَّفَرُ بِالتَّسَلُّطِ صُلْحًا وَقَهْرًا، وَالنَّصْرُ الْإِعَانَةُ وَالْإِظْهَارُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَهَذَا أَصْلُ مَعْنَاهُمَا، وَيُمْكِنُ التَّعْمِيمُ فِيهِمَا يَعْنِي: فَيُفِيدُ التَّأْكِيدَ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ) أَيْ: فِي هَذَا الْيَوْمِ (وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ) وَاكْتَفَى بِهِ عَنْ سُؤَالِ خَيْرِ مَا بَعْدَهُ إِشْعَارًا بِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ (ثُمَّ إِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ) بِأَنْ يَقُولَ: أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ. . . . . وَخَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ. . . . . وَيُؤَنِّثَ الضَّمَائِرَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ وَلَمْ يُضَعِّفْهُ.

2413 - «وَعَنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ أَسْمَعُكَ تَقُولُ كُلَّ غَدَاةٍ: اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، تُكَرِّرُهَا ثَلَاثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلَاثًا حِينَ تُمْسِي، قَالَ: يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو بِهِنَّ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2413 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: الْبَصْرِيِّ الثَّقَفِيِّ، وُلِدَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ حَيْثُ نَزَلَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ بِهَا لِلْمُسْلِمِينَ، تَابِعِيٌّ كَثِيرُ الْحَدِيثِ سَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيًّا وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ (ابْنِ أَبِي بَكْرَةٍ) بِالتَّاءِ، وَاسْمُهُ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُقَالُ إِنَّ أَبَا بَكْرَةَ تَدَلَّى يَوْمَ الطَّائِفِ بِبَكْرَةٍ وَأَسْلَمَ فَكَنَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي بَكْرَةٍ وَأَعْتَقَهُ فَهُوَ مِنْ مَوَالِيهِ (قَالَ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ) بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا (أَسْمَعُكَ) أَيْ: أَسْمَعُ مِنْكَ، أَوْ أَسْمَعُ كَلَامَكَ حَالَ كَوْنِكَ (تَقُولُ كُلَّ غَدَاةٍ) أَيْ: صَبَاحٍ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي ( «اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي» ) أَيْ: لِأَقْوَى عَلَى طَاعَتِكَ وَنُصْرَةِ دِينِكَ ( «اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي» ) خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْبَصَرَ يُدْرِكُ آيَاتِ اللَّهِ الْمُثْبَتَةَ فِي الْآفَاقِ، وَالسَّمْعَ لِإِدْرَاكِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، فَهُمَا جَامِعَانِ لِدَرْكِ الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَفِي تَقَدُّمِ السَّمْعِ إِيمَاءٌ إِلَى أَفْضَلِيَّتِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنَّا» " (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) إِقْرَارٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَاعْتِرَافٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ كَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ (تُكَرِّرُهَا) أَيْ: هَذِهِ الْجُمَلَ، أَوْ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ، بَدَلٌ مِنْ تَقُولُ، أَوْ حَالٌ (ثَلَاثًا حِينَ تُصْبِحُ) ظَرْفٌ لِتَقُولَ (وَثَلَاثًا حِينَ تُمْسِي) أَيْ: أَيْضًا (فَقَالَ: يَا بُنَيَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالتَّصْغِيرُ لِلشَّفَقَةِ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو بِهِنَّ) أَيْ: كَذَلِكَ (فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ) أَيْ: أَقْتَدِي (بِسُنَّتِهِ) وَأَتَتَبَّعَ سِيرَتَهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ.

2414 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: (أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْكِبْرِيَاءُ وَالْعَظَمَةُ لِلَّهِ، وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَمَا سَكَنَ فِيهِمَا لِلَّهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوَّلَ هَذَا النَّهَارِ صَلَاحًا وَأَوْسَطَهُ نَجَاحًا وَآخِرَهُ فَلَاحًا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ) » . ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ بِرِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2414 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْكِبْرِيَاءُ» ) أَيِ: الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ (وَالْعَظَمَةُ) أَيِ: الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ (لِلَّهِ) أَيْ: وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ " «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصَمْتُهُ» ". (وَالْخَلْقُ) أَيِ: الْإِيجَادُ التَّدْرِيجِيُّ (وَالْأَمْرُ) أَيِ: الْإِيجَادُ الْآتِي، أَوْ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، أَوْ وَاحِدُ الْأُمُورِ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّصَرُّفُ وَالْحُكْمُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ الْإِيجَادُ وَبِالْأَمْرِ الْإِمْدَادُ، وَقَدْ يُشَارُ بِالْأَوَّلِ لِعَالَمِ الصُّورِ وَبِالثَّانِي لِعَالَمِ الْمَعَانِي وَمِنْهُ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] (وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) أَيْ: زَمَانُهُمَا وَمَكَانُهُمَا (وَمَا سَكَنَ فِيهِمَا) أَيْ: وَتَحَرَّكَ، أَوْ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ نَحْوَ: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ: وَالْبَرْدَ، أَوْ سَكَنَ بِمَعْنَى ثَبَتَ (لِلَّهِ) أَيْ: لَا شَرِيكَ لَهُ وَفِيهِ رَمْزٌ

إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] وَفِي رِوَايَةٍ: " وَمَا يُضْحِي فِيهِمَا لِلَّهِ " (وَحْدَهُ) أَيْ: وَمَا يَدْخُلُ فِي وَقْتِ الضَّحْوَةِ، أَوْ مَا يَظْهَرُ وَيَبْرُزُ فِيهِ، لَا صُنْعَ لِغَيْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا فِي الصُّورَةِ ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوَّلَ هَذَا النَّهَارِ صَلَاحًا» ) أَيْ: فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا (وَأَوْسَطَهُ نَجَاحًا) أَيْ: فَوْزًا بِالْمَطَالِبِ الْمُنَاسِبَةِ لِصَلَاحِ الدَّارَيْنِ (وَآخِرَهُ فَلَاحًا) أَيْ: ظَفَرًا بِمَا يُوجِبُ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ وَعُلُوَّ الْمَرْتَبَةِ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَالْأَوْسَطِ اسْتِيعَابُ الْأَوْقَاتِ وَالسَّاعَاتِ فِي صَرْفِهَا إِلَى الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِحُصُولِ حُسْنِ الْحَالَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَوُصُولِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْأُخْرَى، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صَلَاحًا فِي دِينِنَا بِأَنْ يَصْدُرَ مِنَّا مَا نَتَخَرَّطُ بِهِ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكَ، ثُمَّ اشْغَلْنَا بِقَضَاءِ مَآرِبِنَا فِي دُنْيَانَا لِمَا هُوَ صَلَاحٌ فِي دِينِنَا، فَأَنْجِحْنَا وَاحْمِلْ خَاتِمَةَ أَمْرِنَا بِالْفَوْزِ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَنَنْدَرِجُ فِي سِلْكِ مَنْ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] اهـ وَلِذَا قَالُوا: أَجْمَعُ كَلِمَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ كَلِمَةُ الْفَلَاحِ، أَقُولُ: وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، ثُمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 10 - 11] (يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ) خَتَمَ بِهَذَا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِسُرْعَةِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ، وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِمَنْ يَقُولُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إِنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكَ فَسَلْ» ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَيْدَ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا حَضَرَ قَلْبُهُ وَرَحِمَهُ رَبُّهُ (ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَإِثْبَاتِهِ (فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ بِرِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ) وَذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ " وَفِيهِ «وَأَوْسَطَهُ فَلَاحًا وَآخِرَهُ نَجَاحًا، أَسْأَلُكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ".

2415 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ: (أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2415 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى) بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَسُكُونٍ مُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا زَايٌ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّى خَلْفَهُ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ: أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ» ) أَيْ: خِلْقَتُهُ، قِيلَ: الْفِطْرَةُ الْخِلْقَةُ مِنَ الْفَطْرِ كَالْخِلْقَةِ مِنَ الْخَلْقِ فِي أَنَّهَا اسْمٌ لِلْحَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهَا جُعِلَتِ اسْمًا لِلْخِلْقَةِ الْقَابِلَةِ لِدِينِ الْحَقِّ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] وَحَدِيثُ ( «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» ) (وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ) أَيِ: التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمُخَلِّصِ مِنَ الْحِجَابِ فِي الدُّنْيَا وَمِنِ الْعِقَابِ فِي الْعُقْبَى، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّ مِلَلَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ تُسَمَّى إِسْلَامًا عَلَى الْأَشْهَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وَلِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] وَلِوَصِيَّةِ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَذَا فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ جَهْرًا لِيَسْمَعَهُ غَيْرُهُ فَيَتَعَلَّمَ، أَقُولُ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ: لَعَلَّ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى السَّمَاعِ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْجَهْرِ (وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَبُو الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ، أَوِ الْأَنْبِيَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْآبَاءِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وَفِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ " وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ " وَإِنَّمَا احْتِيجَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] أَيْ: فِي أُصُولِ الدِّينِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ كَالْخِتَانِ وَبَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ مِنَ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ (حَنِيفًا) أَيْ: مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى الْمِلَّةِ الثَّابِتَةِ الْعَادِلَةِ، وَضِدُّهُ الْمُلْحِدُ، وَالْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقُ الْمَيْلِ، قِيلَ: الْحَنِيفُ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَقِيمُ، وَغَلَبَ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ (مُسْلِمًا) أَيْ: مُنْقَادًا كَامِلًا بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى حَتَّى قَالَ: لِجِبْرِيلَ " أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا " وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] فِيهِ رَدٌّ عَلَى كُفَّارِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ عَلَى دِينِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ، وَتَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، ثُمَّ هُوَ مَعَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَدَاخِلَةِ أَتَى بِهَا تَقْرِيرًا وَصِيَانَةً لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ تَحْقِيقًا عَمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (حَنِيفًا) حَالًا مُنْتَقِلَةً، فَرُدَّ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُوَحِّدًا، وَأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ لِأَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي الصَّبَاحِ فَقَطْ، كَذَا نَقَلَهُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ صَاحِبُ السِّلَاحِ: أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ

[باب الدعوات في الأوقات]

[بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ]

(بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2416 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الدَّعَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي الْأَوْقَاتِ) أَيِ: الْمُخْتَلِفَةِ مِمَّا قَدَّرَ لَهَا الشَّارِعُ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ مِنَ الشَّارِعِ فِي زَمَنٍ أَوْ حَالٍ مَخْصُوصٍ يُسَنُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً لِلِاتِّبَاعِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَلْ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى الْقُرْآنِ، وَإِنْ وَرَدَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ فَضْلٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا ; لِأَنَّ فِي الِاتِّبَاعِ مَا يَرْبُو عَلَى غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَخْتَصُّ بِهِ اهـ وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الدَّعَوَاتِ وَالْأَذْكَارَ الْمَسْنُونَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي حَالٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأَمْثَالِهَا لَا شَكَّ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ حِينَئِذٍ، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ سَوَاءٌ تَكُونُ مُعَيَّنَةً أَوْ مُطْلَقَةً فَلَا نَقُولُ إِنَّهَا أَفْضَلُ مِنَ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ ( «مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذَكَرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» ) . (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2416 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَحَدَهُمْ، وَلَوْ إِمَّا شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ أَيْ: لَنَالَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَإِمَّا لِلتَّمَنِّي وَجَزَاؤُهَا (قَالَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ) أَيْ: يُجَامِعَ (أَهْلَهُ) أَيِ: امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ أَيْ: جِمَاعًا مُبَاحًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَيَلُوحُ إِلَيْهِ أَهْلُهُ، وَإِذَا شَرْطِيَّةٌ وَحِينَئِذٍ لَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ أَيْ: تَمَنَّيْتُ ثُبُوتَ هَذَا لِأَحَدِكُمْ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: لَوْ لِلتَّمَنِّي وَجَزَاؤُهَا تَقْدِيرُهُ لَوْ ثَبَتَ حِينَ أَرَادَ أَحَدُهُمْ إِتْيَانَ أَهْلِهِ لَكَانَ حَسَنًا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ لِأُمَّتِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا خَبَرُ إِنَّ، أَوْ ظَرْفٌ لِخَبَرِهَا (قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ) أَيْ: مُسْتَعِينًا بِهِ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ (اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا) أَيْ: بَعِّدْنَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: أَيْ بَعِّدْ أَنَا وَهِيَ (الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا) أَيْ: حِينَئِذٍ مِنَ الْوَلَدِ وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَنِّبِ (فَإِنَّهُ) تَعْلِيلٌ أَيِ: الشَّأْنَ (إِنْ يُقَدَّرَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ) أَيِ: الْوَقْتِ أَوِ الْإِتْيَانِ أَيْ: بِسَبَبِهِ (لَمْ يَضُرَّهُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا أَيْ: يَضُرَّ دِينَ ذَلِكَ الْوَلَدِ (شَيْطَانٌ) أَيْ: مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَوْ مِنْ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (أَبَدًا) وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى حُسْنِ خَاتِمَةِ الْوَلَدِ بِبَرَكَةِ ذِكْرِ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ وُجُودِ نُطْفَتِهِ فِي الرَّحِمِ، فَالضُّرُّ مُخْتَصٌّ بِالْكُفْرِ فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ كَثِيرًا يَقَعُ ذِكْرُ ذَلِكَ وَيَكُونُ الْوَلَدُ غَيْرَ مَحْفُوظٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُخْلِصًا، أَوْ مُتَّصِفًا بِشُرُوطِ الدُّعَاءِ، أَوْ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ شَيْطَانٌ بِالْجُنُونِ وَالصَّرَعِ وَنَحْوِهِمَا، وَقِيلَ: نَكَّرَهُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَرَادَ فِي الْأَوَّلِ الْجِنْسَ وَفِي الْآخِرِ إِفْرَادَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعُمُومِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَوَّلِ إِبْلِيسُ وَبِالثَّانِي أَعَمُّ، أَوْ بِالثَّانِي سَائِرُ أَعْوَانِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ إِلَخْ، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ أَبَدًا) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: أَيْ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ، وَلَمْ يُظْهِرْ مَضَرَّتَهُ فِي حَقِّهِ بِنِسْبَةِ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَصْرَعْهُ، وَقِيلَ: لَمْ يَطْعَنْ فِيهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. أَقُولُ: لَعَلَّ مُرَادَهُ لَمْ يَطْعَنْ طَعْنًا شَدِيدًا لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى الْمُطْلَقَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ عِيسَى وَأُمُّهُ، وَأَيْضًا هُوَ خَلَاصُ الْمُشَاهَدِ مِنْ أَثَرِ الطَّعْنِ وَهُوَ صِيَاحُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَحْمِلْ أَحَدٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الضَّرَرِ وَالْإِغْوَاءِ وَالْوَسْوَسَةِ اهـ وَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى الْوَسْوَسَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا مَعْصُومٌ؟ ! لَكِنَّ الصَّادِقَ قَدْ أَخْبَرَ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ ظَاهِرٌ وَإِلَّا فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ، وَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ بِالْعَمَلِ بِهَذَا فَرَأَى مِنَ الْبَرَكَةِ فِي وَلَدِهِ تَحَقَّقَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا أَنَّهُ إِذَا أَنْزَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ فِيمَا رَزَقْتَنِي نَصِيبًا، وَلَعَلَّهُ يَقُولُهَا فِي قَلْبِهِ أَوْ عِنْدَ انْفِصَالِهِ لِكَرَاهَةِ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ فِي حَالِ الْجِمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ.

2417 - وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2417 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ» ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيِ: الْغَمِّ الَّذِي يَأْخُذُ النَّفْسَ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَقِيلَ: الْكَرْبُ أَشَدُّ الْغَمِّ قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَا يَدْهَمُ الْمَرْءَ مِمَّا يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ فَيَغُمُّهُ وَيُحْزِنُهُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ) أَيْ: ذَاتًا وَصِفَةً فَلَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ (الْحَلِيمُ) الَّذِي لَا يَعْجَلُ بِالْعُقُوبَةِ، فَلَمْ يُعَاجِلْ بِنِقْمَتِهِ عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِي خِدْمَتِهِ بَلْ يَكْشِفُ الْمَضَرَّةَ عَنْهُ بِرَحْمَتِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) بِالْجَرِّ وَيُرْفَعُ أَيْ: فَلَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَلَا يُسْأَلُ إِلَّا عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الْكَرْبَ الْعَظِيمَ إِلَّا الرَّبُّ الْعَظِيمُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) بِالْوَجْهَيْنِ، وَهَذَا إِطْنَابٌ مَرْغُوبٌ وَإِلْحَاحٌ مَطْلُوبٌ، نَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ بِرَفْعِ الْعَظِيمِ، وَكَذَا بِرَفْعِ الْكَرِيمِ عَلَى أَنَّهُمَا نَعْتَانِ لِلرَّبِّ، وَالَّذِي ثَبَتَ فِيهِ رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ بِالْجَرِّ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، وَجَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ شَاذًّا وَأَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ، وَأُعْرِبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّفْعِ نَعْتًا لِلْعَرْشِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قُطِعَ عَمَّا قَبْلَهُ لِلْمَدْحِ، وَرُجِّحَ لِحُصُولِ تَوَافُقِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَرَجَّحَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ الْأَوَّلَ لِأَنَّ وَصْفَ الرَّبِّ بِالْعَظِيمِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ الْعَرْشِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ وَصْفَ مَا يُضَافُ إِلَى الْعَظِيمِ بِالْعَظِيمِ أَقْوَى فِي تَعْظِيمِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ نَعَتَ الْهُدْهُدُ عَرْشَ بِلْقِيسَ بِأَنَّهُ عَرْشٌ عَظِيمٌ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - ثُمَّ فِي هَذَا الذَّكَرِ إِشَارَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِزَالَةِ الْغَمِّ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا ذِكْرٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الْكَرْبِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ذِكْرٌ وَلَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ ; فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ يَسْتَفْتِحُ بِهِ الدُّعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ مَا شَاءَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَالثَّانِي: هُوَ كَمَا وَرَدَ: " «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِيَ السَّائِلِينَ» " اهـ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ: " ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَ ذَلِكَ " أَوْ يُقَالُ: إِنَّ الثَّنَاءَ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ تَعْرِيضًا بِأَلْطَفِ إِيمَاءٍ كَمَدْحِ السَّائِلِ وَالشَّاعِرِ وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ مَادِحًا لِبَعْضِ الْمُلُوكِ مِمَّنْ يُرِيدُ جَائِزَتَهُ: [ إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ ] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: " «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ» إِلَخْ " أَوْ يُقَالُ: الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ وَالدُّعَاءُ بِالْجَنَانِ أَوْ بِالِاتِّكَالِ عَلَى الْمَلِكِ الْمَنَّانِ، كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ «قِيلَ لِلْخَلِيلِ لِمَ لَا تَسْأَلُ رَبَّكَ الْجَلِيلَ؟ فَقَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

2418 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ قَالَ: «اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: لَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2418 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ) بِضَمٍّ وَفَتْحٍ (قَالَ اسْتَبَّ رَجُلَانِ) افْتِعَالٌ مِنَ السَّبِّ أَيْ: شَتَمَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ (عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بِمَحْضَرٍ مِنْهُ (وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ) أَيْ: لَا قِيَامٌ لِمَنْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: (لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ) وَقَوْلِهِ: ( «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ) (وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ) أَيْ: سَبًّا شَدِيدًا (مُغْضَبًا) بِفَتْحِ الضَّادِ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَسُبُّ (قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ) أَيْ: مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ لِأَنَّهُ يُثِيرُ فِي الْقَلْبِ حَرَارَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ تَقْتُلُ صَاحِبَهَا بِإِطْفَائِهَا، وَقَدْ لَا تَقْتُلُ لِانْتِشَارِهَا فِي الْأَعْضَاءِ خُصُوصًا الْوَجْهَ لِأَنَّهُ أَلْطَفُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى الْقَلْبِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً) أَيْ: بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِلِ لِلْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ (لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ) أَيْ: زَالَ (عَنْهُ مَا يَجِدُ) أَيْ: مَا يَجِدُهُ مِنَ الْغَضَبِ بِبَرَكَتِهَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ وَلَا تَنْفَعُ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا الْمُتَّقِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف: 201] أَيْ: مَا أَمَرَهُمْ بِهِ تَعَالَى وَنَهَاهُمْ عَنْهُ (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) لِطَرِيقِ

السَّدَادِ وَدَفَعُوا مَا وَسْوَسَ بِهِ إِلَيْهِمْ (فَقَالُوا لِلرَّجُلِ) أَيْ: بَعْدَ سُكُونِهِ لِكَمَالِ غَضَبِهِ (لَا تَسْمَعُ) وَفِي نُسْخَةٍ أَلَا تَسْمَعُ (مَا يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) أَيْ: فَتَمْتَثِلُ وَتَقُولُ ذَلِكَ (قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يُهَذَّبْ بِأَنْوَارِ الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ بِالدِّينِ، وَتَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْجُنُونِ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَلِذَا يَخْرُجُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ اعْتِدَالِ حَالِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ وَيَفْعَلُ الْمَذْمُومَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ قَالَ لَهُ أَوْصِنِي ( «لَا تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِرَارًا فَقَالَ: (لَا تَغْضَبْ» ) وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى لَا تَغْضَبْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ مَفْسَدَةِ الْغَضَبِ وَمَا يَنْشَأُ مِنْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَوْ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى غَيْرَ أَنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ، «فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَالَ: أَتَرَى بِي بَأْسًا؟ أَمْجَنُونٌ أَنَا؟ اذْهَبْ» ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هُوَ مُعَاذٌ، فَهَذَا أَيْضًا نَشَأَ عَنْ غَضَبٍ وَقِلَّةِ احْتِمَالٍ وَسُوءِ أَدَبٍ اهـ وَكَوْنُهُ مُعَاذًا إِنْ صَحَّ وَأَنَّهُ ابْنُ جَبَلٍ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ قُرْبَ إِسْلَامِهِ اهـ أَيْ: وَصَدَرَ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَدِيدِ الْفَرَحِ وَكَثِيرِ الْخَوْفِ ; لِأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي آخِرِ الْأَمْرِ صَارَ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ بِبَرَكَةِ تَرْبِيَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الَّذِي هُوَ الْحَبِيبُ وَالطَّبِيبُ لِلْعُشَّاقِ وَالْمَجَانِينِ، إِلَى أَنْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّهِ: " «أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» " وَوَلَّاهُ الْيَمَنَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا مُعَاذُ إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ صَلَاتِكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» " وَيُؤَيِّدُ مَا تَقَرَّرَ فِيهِ قَوْلُهُ وَطَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوصِيَهُ، «فَقَالَ لَهُ: لَا تَغْضَبْ، فَأَعَادَ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا تَغْضَبْ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

2419 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2419 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ» ) بِكَسْرِ الدَّالِّ وَفَتْحِ الْيَاءِ جَمْعُ دِيكٍ كَقِرَدَةٍ جَمْعُ قِرْدٍ وَفِيَلَةٍ جَمْعُ فِيلٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْجَمْعِ لِأَنَّ سَمَاعَ وَاحِدٍ كَافٍ (فَاسْأَلُوا) بِالْهَمْزِ وَنَقَلَهُ، أَيْ: فَاطْلُبُوا (اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا) قَالَ الْقَاضِيَ عِيَاضٌ: سَبَبُهُ رَجَاءُ تَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الدُّعَاءِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ بِالتَّضَرُّعِ وَالْإِخْلَاصِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُضُورِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ، فَضْلًا عَنْ وُجُودِهِمْ وَحُضُورِهِمْ (وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ) وَفِي رِوَايَةٍ نَهِيقَ الْحَمِيرِ أَيْ: صَوْتَهُ (فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ) وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ الرَّجِيمِ (فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا) وَوَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّمَا رَأَتْ شَيْطَانًا عَلَى تَأْوِيلِ الدَّابَّةِ وَرِعَايَةِ الْمُقَابَلَةِ، قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ عِنْدَ حُضُورِ أَهْلِ الصَّلَاحِ فَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ ذَلِكَ طَلَبُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى نُزُولِ الْغَضَبِ وَالْعَذَابِ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ فَيُسْتَحَبُّ الِاسْتِعَاذَةُ عِنْدَ مُرُورِهِمْ خَوْفًا أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ شُرُورِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الدِّيكُ أَقْرَبُ الْحَيَوَانَاتِ صَوْتًا إِلَى الذَّاكِرِينَ اللَّهَ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ غَالِبًا أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ، وَأَنْكَرُ الْأَصْوَاتِ صَوْتُ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ صَوْتًا إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ وَلِذَا شَبَّهَ صَوْتَ الْحِمَارِ بِصِيَاحِ الْكُفَّارِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِذَا سَمِعَ نُبَاحَ الْكِلَابِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

2420 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى السَّفَرِ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ - وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13 - 14] ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ لَنَا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ آئِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2420 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ) أَيِ: اسْتَقَرَّ عَلَى ظَهْرِ مَرْكُوبِهِ (خَارِجًا) أَيْ: مِنَ الْبَلَدِ مَائِلًا أَوْ مُنْتَهِيًا (إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا) وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ عُلُوٍّ وَفِيهِ نَوْعُ عَظَمَةٍ فَاسْتَحْضَرَ عَظَمَةَ خَالِقِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا صَعِدَ عَالِيًا كَبَّرَ وَإِذَا نَزَلَ سَبَّحَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ لِلتَّعَجُّبِ مِنَ التَّسْخِيرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إِذَا وَضَعَ رَحْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ) فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: اقْرَأْ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أَيْ: قَالَ بِنِيَّةِ الْقِرَاءَةِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ - لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ} [الزخرف: 12 - 13] أَيْ: ذَلَّلَ (لَنَا هَذَا) أَيِ: الْمَرْكُوبَ فَانْقَادَ لِأَضْعَفِنَا (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أَيْ: مُطِيقِينَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوِ الْمَعْنَى وَلَوْلَا تَسْخِيرُهُ مَا كُنَّا جَمِيعًا مُقْتَدِرِينَ عَلَى رُكُوبِهِ، مِنْ أَقْرَنَ لَهُ إِذَا أَطَاقَهُ وَقَوِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِعَجْزِهِ وَأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ بِأَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا) أَيْ: لَا إِلَى غَيْرِهِ (لَمُنْقَلِبُونَ) أَيْ: رَاجِعُونَ، وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اسْتِيلَاءَهُ عَلَى مَرْكَبِ الْحَيَاةِ كَهُوَ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَلَابُدَّ مِنْ زَوَالِهَا عَنْ قُرْبٍ حَتَّى يَسْتَعِدَّ لِلِقَائِهِ تَعَالَى لَا سِيَّمَا وَالرُّكُوبُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْمَوْتِ بِتَنْفِيرِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا الدُّعَاءُ يُسَنُّ عِنْدَ رُكُوبِ أَيِّ دَابَّةٍ كَانَتْ لِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ) الْمُرَادُ بِهِ الْإِبِلُ لِغَالِبِ الْوَاقِعِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَوْلُ الرَّاوِي خَارِجًا إِلَى السَّفَرِ حِكَايَةٌ لِلْحَالِ وَدَلَالَةٌ عَلَى ضَبْطِ الْمَقَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الِانْقِلَابُ إِلَيْهِ هُوَ السَّفَرُ الْأَعْظَمُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّدَ لَهُ (اللَّهُمَّ) وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ: اللَّهُمَّ (إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا) أَيِ: السَّفَرِ الْحِسِّيِّ (الْبِرَّ) أَيِ: الطَّاعَةَ (وَالتَّقْوَى) أَيْ: عَنِ الْمَعْصِيَةِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْبَرِّ الْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ، أَوْ مِنَ اللَّهِ إِلَيْنَا، وَمِنَ التَّقْوَى ارْتِكَابُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الزَّوَاجِرِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] (وَمِنَ الْعَمَلِ) أَيْ: جِنْسِهِ (مَا تَرْضَى) أَيْ: بِهِ عَنَّا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ قَبْلَهُ تُحِبُّ، أَقُولُ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، قَالَ: فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الرَّدِيفِ عِنْدَنَا مَعْشَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ إِذِ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا مُتَرَادِفَانِ وَهُمَا غَيْرُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ أَيْضًا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ عَطْفَ الرَّدِيفِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُمَا مُرَادِفَانِ لِلْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، أَوْ مُغَايِرَانِ لَهُمَا، أَوْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَظْهَرُ لَكَ، فَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَلَازُمِ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْأَمْرِ أَيْضًا وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] وَ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] وَقَوْلُ السَّلَفِ قَاطِبَةً قَبْلَ ظُهُورِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَهُنَا مَبْحَثٌ يَطُولُ فِيهِ الْكَلَامُ، وَلَيْسَ هُنَا مَحَلُّ تَحْقِيقِ الْمَرَامِ، وَمُجْمَلُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ أَنَّ كُتُبَ أَهْلِ السُّنَّةِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ مَنْ حَقَّقَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ بِمَحَبَّتِهِ، وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَاهُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ لِتَقَارُبِ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شَيْئًا أَوْ شَاءَهُ فَقَدْ رَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ خِلَافُ كَلِمَةِ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ اهـ وَقَالَ شَارِحُ الْعَقِيدَةِ الْمَنْظُومَةِ لِلْيَافِعِيِّ: إِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَشِيئَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا مَعْنَاهَا وَاحِدٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمُ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ: إِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَشِيئَةَ مُتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى، وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا غَيْرُهُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] وَبُقُولِهِ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُفْرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ لَهُمْ، وَيَرْضَاهُ لِلْكُفَّارِ لِأَنَّهُ أَرَادَهُ لَهُمْ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ شَرْعًا وَدِينًا يُثِيبُ عَلَيْهِ، وَيَرْضَاهُ مَعْصِيَةً وَمُخَالَفَةً يُعَاقَبُ عَلَيْهَا اهـ وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ وَارِدَانِ عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِالْحَيْثِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا قِيلَ فِي الْإِشْكَالِ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، مَعَ أَنَّ الْكُفْرَ بِالْقَضَاءِ مُجِيبًا بِأَنَّهُ يَرْضَى بِالْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَلَا يَرْضَى بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ، وَقَالَ أُسْتَاذُنَا الشَّيْخُ عَطِيَّةُ السُّلَمِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الثَّوَابُ يُقَالُ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ رَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا أَرَادَهُ وَشَاءَهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِقَابُ

يُقَالُ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ وَشَاءَهُ وَلَا يُقَالُ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ بَلْ يُقَالُ كَرِهَهُ وَنَهَى عَنْهُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُثِيبُ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ قَهْرًا كَسَائِرِ مَكْرُوهَاتِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَكْرُوهُ عَلَيْهِ قَهْرًا وَلَوْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهِ دَفَعَهُ، وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا رَضِيَ اللَّهُ لَعَبْدٍ ضَلَالَةً وَلَا أَمَرَهُ بِهَا وَلَا دَعَاهُ إِلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى الْكُفْرَ لِلْكَافِرِينَ كَمَا يَرْضَى الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ اهـ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا) مَفْعُولٌ لِهَوِّنْ أَوْ ظَرْفُهُ وَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ أَيْ: يَسِّرْ أُمُورَنَا مَعَ الرَّاحَةِ لِقُلُوبِنَا وَأَبْدَانِنَا فِي سَفَرِنَا (هَذَا) أَيْ: بِالْخُصُوصِ لِأَنَّ الصُّوفِيَّ ابْنُ الْوَقْتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى السَّفَرِ الظَّاهِرِيِّ وَفِي الْبَاطِنِ إِيمَاءً إِلَى السَّيْرِ الْبَاطِنِ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ) وَأَشَارَ الشَّاطِبِيُّ بِقَوْلِهِ: قَرِيبًا غَرِيبًا، وَفِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِكَائِنٍ بَائِنٍ وَعَرِشٍ فَرِشٍ وَلَاهُوتِيٍّ نَاسُوتِيٍّ (وَاطْوِ لَنَا بُعْدَهُ) أَمْرٌ مِنَ الطَّيِّ أَيْ: قَرِّبْ لَنَا بُعْدَ هَذَا السَّفَرِ وَاجْعَلْ هَذَا السَّفَرَ مَقْضِيَّ الْوَطَرِ، وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى طَيِّ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاللِّسَانِ عَلَى مُصْطَلَحِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، اطْوِ لَنَا بُعْدَهُ حَقِيقَةً إِذْ وَرَدَ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطْوُونَ الْأَرْضَ لِلْمُسَافِرِ كَمَا تُطْوَى الْقَرَاطِيسُ، أَوِ الْمُرَادُ: خَفِّفْ عَلَيْنَا مَشَاقَّهُ (اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ) أَيِ: الْمُحَافِظُ وَالْمُعِينُ، وَالصَّاحِبُ فِي الْأَصْلِ الْمُلَازِمُ، وَالْمُرَادُ مُصَاحَبَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْعِنَايَةِ وَالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ، فَنَبَّهَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهِ عَنْ كُلِّ مُصَاحِبٍ سِوَاهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: أَنَا يَدُكَ اللَّازِمُ فَلَازِمْ يَدَكَ (وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ) الْخَلِيفَةُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ أَحَدٍ فِي إِصْلَاحِ أَمْرِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى أَنْتَ الَّذِي أَرْجُوهُ وَأَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي بِأَنْ يَكُونَ مُعِينِي وَحَافِظِي، وَفِي غَيْبَتِي عَنْ أَهْلِي أَنْ تَلُمَّ شَعَثَهُمْ وَتُدَاوِيَ سُقْمَهُمْ وَتَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَأَمَانَتَهُمْ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ» ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ أَيْ: مَشَقَّتِهِ وَشِدَّتِهِ (وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ) بِالْمَدِّ أَيْ: سُوءِ الْحَالِ وَتَغَيُّرِ النَّفْسِ فِي النِّهَايَةِ لِكَآبَةٍ تُغَيُّرُ النَّفْسَ بِالِانْكِسَارِ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَالْمَنْظَرُ بِفَتْحِ الظَّاءِ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْ: مِنْ تَغَيُّرِ الْوَجْهِ بِنَحْوِ مَرَضٍ وَالنَّفْسِ بِالِانْكِسَارِ مِمَّا يَعْرِضُ لَهَا فِيمَا يُحِبُّهُ مِمَّا يُورِثُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَالْمَنْظِرُ بِكَسْرِ الظَّاءِ مَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَكَ، وَيَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمُخَالَفَتِهِ الرِّوَايَةَ وَالدِّرَايَةَ، مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْظَرَ وَالْمَنْظَرَةَ مَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَكَ أَوْ سَاءَكَ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْكَسْرِ فِي اللَّفْظِ وَعَمَّمَ فِي الْمَعْنَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ) بِفَتْحِ اللَّامِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ: مِنْ سُوءِ الرُّجُوعِ بِأَنْ يُصِيبَنَا حَزْنٌ أَوْ مَرَضٌ (فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ) مِثْلَ أَنْ يَعُودَ غَيْرَ مَقْضِيِّ الْحَاجَةِ أَوْ لِنَائِبَةٍ أَصَابَتْهُ فِي النَّفْسِ كَمَرَضٍ أَوِ الْمَالِ كَسَرِقَةِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَالْأَهْلُ أَيِ: الزَّوْجَةُ وَالْخَدَمُ وَالْأَقَارِبُ كَمَرَضِ أَحَدِهِمْ أَوْ فَقْدِهِ، وَفِي الْفَائِقِ: كَآبَةُ الْمُنْقَلَبِ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى وَطَنِهِ فَيَلْقَى مَا يَكْتَئِبُ مِنْهُ مِنْ أَمْرٍ أَصَابَهُ فِي سَفَرِهِ أَوْ فِيمَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ (وَإِذَا رَجَعَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرِهِ (قَالَهُنَّ) أَيِ: الْكَلِمَاتِ وَالْجُمَلَ الْمَذْكُورَاتِ وَهِيَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِلَخْ (وَزَادَ فِيهِنَّ) أَيْ: فِي جُمْلَتِهِنَّ بِأَنْ قَالَ بِعْدَهُنَّ (آئِبُونَ) هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، اسْمُ فِعْلٍ مِنْ آبَ يَئُوبُ إِذَا رَجَعَ أَيْ: رَاجِعُونَ مِنَ السَّفَرِ بِالسَّلَامَةِ إِلَى أَوْطَانِنَا، أَوْ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، أَوْ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ (تَائِبُونَ) أَيْ: مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ نَحْنُ آئِبُونَ تَائِبُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَقَصْدِ الثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ خُصُوصًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ فِي تَائِبُونَ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: (عَابِدُونَ) وَقَوْلِهِ: وَكَذَا عَابِدُونَ أَيْ: وُفِّقْنَا فِي رُجُوعِنَا هَذَا لِلْعِبَادَةِ - تَكَلُّفٌ بَلْ تَعَسُّفٌ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ (لِرَبِّنَا) مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ عَابِدُونَ أَوْ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ (حَامِدُونَ) وَيُحْتَمَلُ التَّنَازُعُ أَيْ: مُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ لِرَبِّنَا شَاكِرُونَ لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ وَغَيْرِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِرَبِّنَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ عَابِدُونَ لِأَنَّ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ ضَعِيفٌ فَيَقْوَى بِهِ أَوْ بِحَامِدُونَ لِيُفِيدَ التَّخْصِيصَ أَيْ: نَحْمَدُ رَبَّنَا لَا نَحْمَدُ غَيْرَهُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ كَالْخَاتِمَةِ لِلدُّعَاءِ اهـ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَنَاقَضَ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: هُنَا لِرَبِّنَا لَا غَيْرِهِ حَامِدُونَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ اهـ. وَفِيهِ خَطَرٌ آخَرُ لِأَنَّ حَامِدُونَ لَيْسَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ لِرَبِّنَا مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ كَمَا تَوَهَّمَ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ مَعَ أَنَّ صَرِيحَ كَلَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِرَبِّنَا لَا لِغَيْرِهِ رُدَّ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ (تَائِبُونَ) وَمَا بَعْدَهَا أَخْبَارٌ لِمُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ نَحْنُ بِحَذْفِ الْعَاطِفِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالِي: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ - ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ - فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 14 - 16] وَهَذِهِ اللَّامُ نَظِيرُهَا إِلَّا أَنَّهَا قُدِّمَتْ فِي الْحَدِيثِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَأُخِّرَتْ فِي الْآيَةِ لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى - وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ: وَمَا قَرَّرْتُهُ فِي لِرَبِّنَا أَوْلَى وَأَظْهَرُ مِنْ تَعْلِيقِ بِعَابِدُونَ لِأَنَّ خَاتِمَةَ الدُّعَاءِ بِالْحَمْدِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَتَعْلِيقُهُ بِعَابِدُونَ بَعِيدٌ عَنِ السِّيَاقِ اهـ. وَوَجْهُ التَّعَجُّبِ أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ قَرَّرَهُ هُوَ بِعَيْنِهِ قَوْلُ الطِّيبِيِّ فَالْعَجَبُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى مَذْهَبٍ مَا حَصَّلَ فِيهِ إِلَّا التَّعَبَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2421 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2421 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى وَزْنِ نَرْجِسَ، وَقِيلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ مَصْرُوفًا (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ» ) أَيْ: بِاللَّهِ (مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ) أَيْ: مَشَقَّتِهِ الشَّاغِلَةِ عَنِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَشِدَّتِهِ الْمَانِعَةِ مِنْ حُضُورِ الْقَلْبِ مَعَ الرَّبِّ، قِيلَ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ سَقَرَ، وَفِيهِ تَعْمِيَةٌ لَطِيفَةٌ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابَةِ وَالْحِسَابِ فَتَأَمَّلْ تُدْرِكْهُمَا عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ " «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ» " أَيْ: نَوْعٌ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17] أَيْ: سَأُكَلِّفُهُ عَقَبَةً شَاقَّةَ الْمِصْعَدِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُوَ مَثَلٌ لِمَا يَلْقَى مِنَ الشَّدَائِدِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: (إِنَّهُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَصْعَدُ فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ثُمَّ يَهْوِي فِيهِ كَذَلِكَ أَبَدًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ (وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ) فِي الْفَائِقِ: وَهُوَ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى وَطَنِهِ فَيَلْقَى مَا يَكْتَئِبُ مِنْهُ مِنْ أَمْرٍ أَصَابَهُ فِي سَفَرِهِ أَوْ فِيمَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَفَرِ الدُّنْيَا إِلَى وَطَنِ الْأُخْرَى، وَهُوَ بِالِاسْتِعَاذَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] (وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فِيهِمَا وَالْحَاءُ مُهْمَلَةٌ أَيِ: النُّقْصَانِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ وَالتَّفَرُّقِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَقِيلَ: مِنْ فَسَادِ الْأُمُورِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، وَقِيلَ: الرُّجُوعِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِيهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْكَوْرِ فِي جَمَاعَةِ الْإِبِلِ خَاصَّةً وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي الْبَقَرِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ بَابَ الِاسْتِعَارَةِ غَيْرُ مَسْدُودٍ فَإِنَّ الْعَطَنَ مُخْتَصٌّ بِالْإِبِلِ فَيُكَنُّونَ عَنْ ضَيِّقِ الْخُلُقِ بِضِيقِ الْعَطَنِ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ أَلْفَاظًا مُقَيَّدَةً فِيمَا لَا قَيْدَ لَهُ كَالْمَرْسَنِ لِأَنْفِ الْإِنْسَانِ، وَالْمِشْفَرِ لِلشَّفَةِ اهـ. وَيُسَمُّونَهُ التَّجْرِيدَ، وَأَصْلُ الْحَوْرِ نَقْضُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ لَفِّهَا، وَأَصْلُ الْكَوْرِ مِنْ كَوَّرَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ يُكَوِّرُهَا كَوْرًا أَيْ: لَفَّهَا، وَكُلُّ دَوْرٍ كَوْرٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] وَقَوْلُهُ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] إِذَا لُمَّتْ وَأُلْقِيَتْ فِي النَّارِ زِيَادَةً فِي نَكَالِ عَابِدِيهَا، قَالَ الْمُظْهِرُ: الْحَوْرُ النُّقْصَانُ وَالْكَوْرُ الزِّيَادَةُ أَيْ: نَعُوذُ بِكَ مِنْ نُقْصَانِ الْحَالِ وَالْمَالِ بَعْدَ زِيَادَتِهِمَا وَتَمَامِهِمَا أَيْ: مِنْ أَنْ يَنْقَلِبَ حَالُنَا مِنَ السَّرَّاءِ إِلَى الضَّرَّاءِ وَمِنَ الصِّحَّةِ إِلَى الْمَرَضِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْ: مِنَ التَّنَزُّلِ بَعْدَ التَّرَقِّي، أَوْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، أَوْ إِلَى الْغَفْلَةِ بَعْدَ الذِّكْرِ، أَوْ إِلَى الْغَيْبَةِ بَعْدَ الْحُضُورِ، وَلِذَا قَالَ الْعَارِفُ ابْنُ الْفَارِضِ: وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي وَرُوِيَ وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ بِالنُّونِ فِي الثَّانِي أَيِ: الرُّجُوعِ فِي الْحَالَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلَيْهَا، وَالْكَوْنُ الْحُصُولُ عَلَى هَيْئَةٍ جَمِيلَةٍ، يُرِيدُ التَّرَاجُعَ بَعْدَ الْإِقْبَالِ، قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ مُسْلِمٍ بِالنُّونِ وَكَذَا ضَبَطَهُ الْحَافِظُ لَعَلَّهُ الْمُنْذِرِيُّ وَرُوِيَ بِالرَّاءِ وَمَعْنَاهُ النُّقْصَانُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَقِيلَ مِنَ الشُّذُوذِ بَعْدَ الْجَمَاعَةِ، أَوْ مِنَ الْفَسَادِ بَعْدَ الصَّلَاحِ، أَوْ مِنَ الْقِلَّةِ بَعْدَ الْكَثْرَةِ، أَوْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ كَارَ عِمَامَتَهُ إِذْ لَفَّهَا عَلَى رَأْسِهِ فَاجْتَمَعَتْ وَإِذَا نَقَضَهَا فَانْفَرَقَتْ، وَبِالنُّونِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مِنْ قَوْلِهِمْ حَارَ بَعْدَ مَا كَانَ أَيْ: إِنَّهُ كَانَ عَلَى حَالَةٍ جَمِيلَةٍ فَرَجَعَ عَنْهَا، وَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ رِوَايَةَ النُّونِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ) أَيْ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يُحْتَرَزُ عَنْهَا سَوَاءً كَانَتْ فِي الْحَضَرِ أَوِ السَّفَرِ، قُلْتُ: كَذَلِكَ الْحَوْرُ بَعْدَ الْكَوْرِ ; لَكِنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ فَخُصَّتْ بِهِ اهـ. وَيُرِيدُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ مَظِنَّةٌ لِلنُّقْصَانِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَبَاعِثٌ عَلَى التَّعَدِّي فِي حَقِّ الرُّفْقَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا سِيَّمَا فِي مَضِيقِ الْمَاءِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي سَفَرِ الْحَجِّ فَضْلًا مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَا كَانَ يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ السَّنَةَ الَّتِي عَصَيْتُ اللَّهَ فِيهَا وَقَدْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ عَنْ طَرِيقِ مَكَّةَ لِهَذَا، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ مُعْتَرِضًا عَلَى الطِّيبِيِّ بِقَوْلِهِ وَهُوَ عَجِيبٌ لِأَنَّ جَوَابَهُ لَا يُلَاقِي السُّؤَالَ أَصْلًا فَتَأَمَّلْ، أَوْ يُقَالُ إِنَّ الْمَظْلُومَ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا يَكُونُ دُعَاؤُهُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ لِاجْتِمَاعِ الْكُرْبَةِ وَالْغُرْبَةِ (وَسُوءِ الْمَنْظَرِ) بِفَتْحِ الظَّاءِ (فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ) أَيْ: مِنْ أَنْ يَطْمَعَ ظَالِمٌ أَوْ فَاجِرٌ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

2422 - عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2422 - (وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ) أَيِ: امْرَأَةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَكَانَتْ صَالِحَةً فَاضِلَةً، ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابِيَّاتِ وَلَيْسَ لَهَا فِي الْكُتُبِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي سَفَرِهِ، أَقُولُ: وَكَذَا فِي حَضَرِهِ ; إِذْ لَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ مَعَ التَّنْكِيرِ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ) أَيِ: الْكَامِلَاتِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ، وَقِيلَ: النَّافِعَةُ الشَّافِيَةُ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ: أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ، أَوْ كُتُبُهُ فَإِنَّهَا قَدِيمَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا، وَقِيلَ: أَيْ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ أَقْضِيَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ بِشُئُونِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِكُلِّ يَوْمٍ أَيْ: وَقْتَ هُوَ فِي شَأْنٍ - فَغَيْرُ صَحِيحٍ لَفْظًا لِعَدَمِ إِطْلَاقِ الْكَلِمَةِ عَلَى الشَّأْنِ، وَمَعْنًى لِأَنَّ مِنْ شُئُونِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَعَوَّذُ بِالْقَدِيمِ لَا بِالْمُحْدَثِ، وَقَدْ قَالُوا: شُئُونٌ يُبْدِيهَا وَلَا يَبْتَدُّ بِهَا فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَأَيْضًا لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَخْلُوقٌ لَا يَخْلُو مِنْ شَرٍّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ مِنْهُ الشَّرُّ، وَغَفَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: الْمَعْنَى مِمَّا فِيهِ شَرٌّ (لَمْ يَضُرَّهُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا (شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ حَيْثُ تَعَوَّذَ بِالْخَالِقِ، وَالْحَمْلُ عَلَى التَّعْمِيمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ تَنْكِيرِ شَيْءٍ الْمُفِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْلَى مِنْ تَقْيِيدِ ابْنِ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ (حَتَّى يَرْتَحِلَ) أَيْ: يَنْتَقِلَ (مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ) وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَوْنِهِمْ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا قَالُوا: نَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي وَيَعْنُونَ بِهِ كَبِيرَ الْجِنِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجِنِّ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى حَقِيقَةِ التَّفْرِيدِ وَحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّ غَيْرَهُ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا وَلَا يَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاتًا وَلَا نُشُورًا، بَلْ فِي نَظَرِ الْعَارِفِ لَيْسَ فِي الدَّارِ - غَيْرَهُ - دَيَّارٌ، وَإِنَّمَا السِّوَى فِي عَيْنِ أَهْلِ الْهَوَى كَالْهَبَاءِ فِي الْهَوَاءِ، وَلِذَا قَالَ عَارِفٌ آخَرُ: سِوَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا فِي الْوُجُودِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2423 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ: قَالَ: (أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2423 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ؟) مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ لَقِيتُ؟ أَيْ: وَجَعًا شَدِيدًا، أَوْ لِلتَّعَجُّبِ أَيْ: أَمْرًا عَظِيمًا، أَوْ مَوْصُولَةٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: الَّذِي لَقِيتُهُ لَمْ أَصِفْهُ لِشَدَّتِهِ، وَالْمَعْنَى لَقِيتُ شِدَّةً عَظِيمَةً (مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ) أَيِ: اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَذَغَتْنِي بِالذَّالِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْغَيْنِ الْمُصَحَّحَةِ وَلَذَغَتْنِي النَّارُ بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ فَإِنَّهُ مَضْبُوطٌ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُصَحَّحَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ كَالْقَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَهْوَ قَلَمٍ مِنْ صَاحِبِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَمَا) لِلتَّنْبِيهِ، وَ (لَوْ قُلْتَ) شَرْطِيَّةٌ (حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّكَ) أَيِ: الْعَقْرَبُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ (مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ حُمَّةٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَيُمْسِي، وَفِي رِوَايَةٍ حِينَ يُمْسِي) فَقَطْ كَالْجَمَاعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ وَابْنِ السُّنِّيِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2424 - وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ: (سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2424 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ) أَيْ: عَادَتُهُ وَدَأْبُهُ وَمِنْ آدَابِهِ (إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ) أَيْ: دَخَلَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ وَهُوَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ (يَقُولُ: سَمِعَ) بِالتَّخْفِيفِ (سَامِعٌ) أَيْ: لِيَسْمَعْ سَامِعٌ وَلْيَشْهَدْ مَنْ سَمِعَ أَصْوَاتَنَا (بِحَمْدِ اللَّهِ) أَيْ: بِحَمْدِنَا لِلَّهِ تَعَالَى (وَحُسْنِ بَلَائِهِ) أَيْ: وَبِاعْتِرَافِنَا بِحُسْنِ إِنْعَامِهِ (عَلَيْنَا) وَبِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَيْنَا فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْحَمْلُ عَلَى الْخَبَرِ أَوْلَى لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى سَمِعَ مَنْ كَانَ لَهُ سَمْعٌ بِأَنَّا نَحْمَدُ اللَّهَ وَنُحْسِنُ نِعَمَهُ وَأَفْضَالَهُ عَلَيْنَا، وَالْمَعْنَى إِنَّ حَمْدَنَا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْنَا أَشْهَرُ وَأَشْيَعُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى ذَوِي سَمْعٍ، وَسَامِعٌ نَكِرَةٌ قُصِدَ بِهِ الْعُمُومُ كَمَا فِي: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَالْبَلَاءُ هُنَا النِّعْمَةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَبْلُو عِبَادَهُ مَرَّةً بِالْمِحَنِ لِيَصْبِرُوا وَطَوْرًا بِالنِّعَمِ لِيَشْكُرُوا، فَالْمِحْنَةُ وَالْمِنْحَةُ جَمِيعًا بَلَاءٌ لِمَوَاقِعِ الِاخْتِبَارِ قَالَ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قِيلَ: سَمَّعَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِهَا فِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ أَيْ: بَلَّغَ سَامِعٌ قَوْلِي هَذَا إِلَى غَيْرِهِ وَقَالَ مِثْلَهُ؛ تَنْبِيهًا عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَضَبَطَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْبَاءُ فِي بِحَمْدِ اللَّهِ زَائِدَةٌ عَلَى التَّشْدِيدِ وَبِمَعْنَى عَلَى عَلَى التَّخْفِيفِ اهـ. وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ بَلَّغَ النَّاسَ بِكَذَا وَسَمِعَ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ شَهِدَ فَيَتَعَيَّنُ وُجُودُ الْبَاءِ لِأَنَّهُ يُقَالُ شَهِدَ بِكَذَا سَوَاءً الْمَشْهُودُ لَهُ أَوِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: الْبَلَاءُ النِّعْمَةُ أَوْ الِاخْتِبَارُ بِالْخَيْرِ لِيَتَبَيَّنَ الشُّكْرُ أَوْ بِالشُّكْرِ لِيَظْهَرَ الصَّبْرُ فَكَلَامٌ حَسَنٌ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ هُنَا فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ الْحَمْدَ يُؤْذِنُ بِالنِّعْمَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ الْبَلَاءِ عَلَى الِاخْتِبَارِ لِيَجْمَعَ الْعَبْدُ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] أَيْ: لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ نِصْفُهُ صَبْرٌ وَنِصْفُهُ شُكْرٌ، وَنُكْتَةُ اخْتِيَارِ (عَلَى) تَغْلِيبٌ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّا مَقْهُورُونَ تَحْتَ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وَالتَّكْلِيفُ وَاقِعٌ عَلَيْنَا لِقَوْلِهِ: " {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: 72] " فَانْدَفَعَ بِهَذَا اعْتِرَاضُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى الطِّيبِيِّ أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ الْمَعْنَى الثَّانِي لَقِيلَ لَنَا، مَعَ أَنَّ مُنَاوَبَةَ حُرُوفِ الْجَرِّ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ شَائِعٌ سَائِغٌ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمُنَاقَشَاتِ مِنَ النَّفْسِيَّاتِ لَا مِنَ الْمُنَافَسَاتِ ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَبْحَثِ وَجَوَّزَ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَحُسْنِ بَلَائِهِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَيْنَا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ بِسَمِعَ، بَلِ الْمُلَائِمُ لَهُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ الْحَمْدِ مُضَافًا إِلَى مَفْعُولِهِ أَيْ: سَمِعَ بِحَمْدِنَا إِيَّاهُ وَحُسْنِ إِنْعَامِهِ الْمُوجِبِ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ عَلَيْنَا، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ فَبَطَلَ مَقُولُهُ، وَمِمَّا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَحُسْنِ بَلَائِهِ يَصِحُّ كَوْنُهَا لِلْعَطْفِ وَبِمَعْنَى مَعَ عَلَى رِوَايَةِ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَوْلِ الشَّارِحِ: هِيَ عَلَى التَّشْدِيدِ لِلْعَطْفِ وَعَلَى التَّخْفِيفِ بِمَعْنَى مَعَ لِأَنَّ حُسْنَ الْبَلَاءِ غَيْرُ مُسَمَّعٍ بَلْ مُبَلَّغٍ اهـ. يَرُدُّهُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُخَفَّفَةِ إِنَّهُ بِمَعْنَى شَهِدْتُمْ كَلَامَهُ، وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَهُ إِذَا كَانَ السَّمْعُ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمُتَبَادِرِ إِلَى الْفَهْمِ لَا مُطْلَقًا لِيَرِدَ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ (رَبَّنَا) مُنَادًى بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ (صَاحِبْنَا) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيْ: أَعِنَّا وَحَافِظْنَا (وَأَفْضِلْ) أَيْ: تَفَضَّلْ (عَلَيْنَا) بِإِدَامَةِ النِّعْمَةِ مَزِيدِهَا وَالتَّوْفِيقِ لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا (عَائِذًا بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ) قِيلَ: تَعَوَّذَ كَقَوْلِهِمْ قُمْ قَائِمًا أَيْ: قِيَامًا، أُقِيمَ اسْمُ فَاعِلٍ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، أَوْ مِنْ فَاعِلِ يَقُولُ، أَوْ أَسْحَرَ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَرُوِيَ عَائِذٌ بِالرَّفْعِ أَيْ: أَنَا عَائِذٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: أَعُوذُ عَوْذًا بِاللَّهِ، أَوْ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَيُرِيدُ أَنَّ عَائِذًا إِذَا كَانَ مَصْدَرًا فَهُوَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا كَانَ حَالًا فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَجَوَّزَ النَّوَوِيُّ أَنْ يَكُونَ حَالًا وَأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: إِنِّي أَقُولُ هَذَا فِي حَالِ اسْتِعَاذَتِي مِنَ النَّارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِئَلَّا يَنْخَرِمَ النَّظْمُ وَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَمِدَ اللَّهَ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ الْخَطِيرَةِ وَأَمَرَ بِاسْتِمَاعِهَا كُلَّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ السَّمَاعُ لِفَخَامَتِهِ وَطَلَبِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ - قَالَهُ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَتَوَاضُعًا لِلَّهِ وَلِيَضُمَّ الْخَوْفَ مَعَ الرَّجَاءِ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ اهـ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ نَسَبَ النَّوَوِيَّ إِلَى نَفْسِهِ وَفَضِيلَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِأَصْلِ الْكَلَامِ وَفَصْلِهِ فَقَالَ: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَقُولُ أَيْ: أَقُولُ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِي مُسْتَعِينًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يَقُولُ، أَوْ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَإِذَا قِيلَ أَيْ: أَقُولُ ذَلِكَ إِلَخْ فَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالصَّوَابُ أَنَّ النَّوَوِيَّ يَقُولُ فِي فَاعِلِ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ هُوَ أَقُولُ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الطِّيبِيِّ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا زَعْمُ شَارِحٍ أَنَّ عَائِذًا إِنْ كَانَ مَصْدَرًا أَيْ: أَعُوذُ عِيَاذًا أُقِيمَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَإِنْ كَانَ حَالًا كَانَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي فَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا غَفْلَةٌ عَمَّا تَقَرَّرَ فِي الْحَالِ الرَّافِعِ لِتَأْوِيلِهِ بِالْمَصْدَرِ، وَلِزَعْمِهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي اهـ. فَتَأَمَّلْ فِيهِ يَظْهَرْ لَكَ عَجَائِبُ وَغَرَائِبُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ وَالْحَاكِمُ وَزَادَ يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.

2425 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آئِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2425 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَفَلَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: رَجَعَ (مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) كَأَنَّهُ قَصَدَ اسْتِيعَابَ أَنْوَاعِ سَفَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ (يُكَبِّرُ) أَيْ: يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ (عَلَى كُلِّ شَرَفٍ) أَيْ: مَوْضِعٍ عَالٍ (مِنَ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَوَجْهُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْعَالِيَةِ هُوَ اسْتِحْبَابُ الذِّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ الْأَحْوَالِ وَالتَّقَلُّبِ فِي التَّارَاتِ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَاعِي ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْسَى فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ اهـ. يَعْنِي أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ يُذْكَرُ مَا يَقْتَضِيهِ وَكُلَّ مَكَانٍ يُذْكَرُ مَا يُوجِبُهُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الْهُبُوطِ الْمُنَاسِبِ لِلتَّنْزِيهِ وَيُكَبِّرُ فِي الْعُلُوِّ الْمُلَائِمِ لِلْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ وَادِيًا سَبَّحَ» ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ وَالذِّكْرُ أَعَمُّ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ اخْتِلَافُ الْحَالَاتِ وَتَجَدُّدُ الْمَقَامَاتِ (ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مَرَّ مَرَّاتٍ (آئِبُونَ) أَيْ: نَحْنُ آئِبُونَ أَيْ: رَاجِعُونَ إِلَى بِلَادِنَا (تَائِبُونَ) أَيْ: إِلَى رَبِّنَا (عَابِدُونَ) أَيْ: لِمَعْبُودِنَا (سَاجِدُونَ) أَيْ: لِمَقْصُودِنَا، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ سَائِحُونَ بَدَلَ سَاجِدُونَ، جَمْعُ سَائِحٍ مِنْ سَاحَ الْمَاءُ يَسِيحُ إِذَا جَرَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَيْ: سَائِرُونَ لِمَطْلُوبِنَا وَدَائِرُونَ لِمَحْبُوبِنَا (لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَيْنَا (صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ) أَيْ: فِي وَعْدِهِ بِإِظْهَارِ الدِّينِ (وَنَصَرَ عَبْدَهُ) أَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ النَّفِيسَةَ (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ) أَيِ: الْقَبَائِلَ الْمُجْتَمِعَةَ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُخْتَلِفَةَ لِحَرْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحِزْبُ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ لَغَطٌ (وَحْدَهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] وَكَانُوا اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفًا تَوَجَّهُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهَا سِوَى مَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَضَى عَلَيْهِمْ قَرِيبٌ مَنْ شَهَرٍ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ إِلَّا التَّرَامِي بِالنَّبْلِ أَوِ الْحِجَارَةِ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُطِيقُوا مُقَابَلَتَهُمْ فَلَا بُدَّ أَنَّهُمْ يَهْرُبُونَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا لَيْلَةً سَفَّتِ التُّرَابَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَأَطْفَأَتْ نِيرَانَهُمْ وَقَلَّعَتْ أَوْتَادَهُمْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَبَّرَتْ فِي مُعَسْكَرِهِمْ فَهَاصَتِ الْخَيْلُ وَقُذِفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبُ فَانْهَزَمُوا وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلَنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] وَمِنْهُ يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَهُوَ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَحْزَابُ الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

2426 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2426 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ» :) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ دَعَا، أَوْ دَعَا بِمَعْنَى أَرَادَ الدُّعَاءَ (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ) مِنَ الْإِنْزَالِ، وَقِيلَ: مِنَ التَّنْزِيلِ وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسُهُ أَوِ الْقُرْآنُ (سَرِيعَ الْحِسَابِ) أَيْ: مُسْرِعَ حِسَابِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا وَرَدَ (اللَّهُمَّ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ) تَأْكِيدٌ وَتَعْمِيمٌ (وَزَلْزِلْهُمْ) أَيْ: فَرِّقْهُمْ وَاجْعَلْ أَمْرَهُمْ مُضْطَرِبًا مُتَقَلْقِلًا غَيْرَ ثَابِتٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2427 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: «نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، وَفِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ يُلْقِي النَّوَى عَلَى ظَهْرِ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ، فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ اللَّهَ لَنَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2427 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ السِّينِ (قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: ضَيْفًا (عَلَى أَبِي) أَيْ: وَالِدِي (فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً) بِوَاوَيْنِ وَطَاءٍ سَاكِنَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ بِلَا عَاطِفَةٍ، قَالَ شَارِحٌ: الْوَطْبَةُ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتِ بِنُقْطَةٍ وَهِيَ سِقَاءُ اللَّبَنِ مِنَ الْجِلْدِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهَا تَصْحِيفٌ وَإِنَّمَا هِيَ وَطِيئَةٌ عَلَى وَزْنِ وَثِيقَةٍ وَهِيَ طَعَامٌ كَالْحَيْسِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُوطَأُ بِالْيَدِ أَيْ: يَمْرُسُ، وَيَدُلُّكَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاوِي: فَأَكَلَ مِنْهَا، وَالْوَطْبَةُ لَا يُؤْكَلُ مِنْهَا بَلْ يُشْرَبُ، وَكَذَا قَوْلُهُ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَهِيَ صِفَةُ طَعَامٍ وَرُوِيَ بِوَاوَيْنِ فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الطَّعَامُ عَلَى الْخُبْزِ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْوَطْبَةُ بِالْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ الْحَيْسُ بِجَمْعِ التَّمْرِ الْبَرْنِي وَالْأَقِطِ الْمَدْقُوقِ وَالسَّمْنِ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ هُوَ بِرَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَطَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ مِنَ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْوَاوِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: رَوَاهُ أَكْثَرُونَ بِوَاوٍ فَطَاءٍ سَاكِنَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ وَآخِرُونَ بَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَطَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَالَّذِي فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ هُوَ الْأَوَّلُ - غَلَطٌ لِمَا عَرَفْتَ مِنْ كَلَامِ الْحُمَيْدِيِّ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَطِئَةً: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، وَادَّعَى أَنَّهُ الصَّحِيحُ، وَقَالَ هِيَ طَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ كَالْحَيْسِ، وَقِيلَ سِقَاءُ اللَّبَنِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُشْرَبُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ غَلَبَ الْأَكْلُ عَلَى الشُّرْبِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ يَرُدُّهُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَاءُ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: الْوَطِئَةُ بِالْهَمْزَةِ الْغِرَارَةُ يَكُونُ فِيهَا الْكَعْكُ وَالْقَدِيدُ وَغَيْرُهَا وَطَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ كَالْحَيْسِ وَرُوِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ: هُوَ تَصْحِيفٌ وَالْوَطْبُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ السَّمْنُ وَاللَّبَنُ اهـ وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَطِيئَةُ بِالْهَمْزِ كَسَفِينَةٍ تَمْرٌ يَخْرُجُ نَوَاهُ وَيُعْجَنُ بِلَبَنٍ وَالْغِرَارَةُ فِيهَا الْقَدِيدُ وَالْكَعْكُ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ الْخُبْزُ وَبِالْوَطِئَةِ وِعَاءٌ فِيهِ بَعْضُ الْإِدَامِ وَبِهِ يَلْتَئِمُ اخْتِلَافُ الْمَقَامِ (فَأَكَلَ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْوَطْبَةِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهُ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] فِي رَجْعِ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ مَا ذُكِرَ وَتَرْكِ الْآخَرِ لِلْوُضُوحِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ (ثُمَّ أُتِيَ) أَيْ: جِيءَ (بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (النَّوَى) جِنْسُ النَّوَاةِ (بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ) بِتَثْلِيثِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ فَفِيهِ تِسْعُ لُغَاتٍ وَالْأَشْهَرُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ وَفَتْحُ الْبَاءِ (وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ) أَيِ: الْمُسَبِّحَةَ (وَالْوُسْطَى، وَفِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ يُلْقِي النَّوَى عَلَى ظَهْرِ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْأُولَى - مَرْدُودٌ بِأَنَّ تِلْكَ تَدُلُ عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ وَهَذِهِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ عَلَى ظَهْرِهَا فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ تَارَةً كَذَا وَتَارَةً كَذَا، نَعَمِ الثَّانِيَةُ تَوْمِيءُ إِلَى أَنَّ الصُّورَتَيْنِ مَحْمُولَتَانِ عَلَى الظَّهْرِ، مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْأَدَبِ الْبَاعِثِ عَلَى عَدَمِ تَلَوُّثِ بَاطِنِ الْيَدِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالنَّظَافَةِ مِنْ ظَاهِرِهَا، وَالْمُرَادُ أَصَابِعُ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَعْلِيمُ أُمَّتِهِ أَدَبَ أَكْلِ التَّمْرِ وَنَحْوَهُ بِأَنْ يُلْقَى عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ حَتَّى لَا يَمَسَّهُ بَاطِنُ الْأَصَابِعِ فَتَعَافُ النَّفْسُ عَوْدَهَا إِلَى الطَّعَامِ لِمَا فِيهَا مِنْ أَثَرِ الرِّيقِ - فَغَفْلَةٌ عَنْ أَدَبِ الْأَكْلِ أَنَّهُ بِالْيَمِينِ دُونَ الْيَسَارِ (ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ) أَيْ: مَاءٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ (فَشَرِبَهُ، فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ) أَيْ: وَقَدْ أَخَذَ (بِلِجَامِ دَابَّتِهِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْمَقُولِ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ يُسَنُّ أَخْذُ رِكَابِ الْأَكَابِرِ وَلِجَامِهِ والضَّيْفِ تَوَاضُعًا وَاسْتِمَالَةً، وَكَذَا يُسَنُّ تَشْيِيعُهُ إِلَى الْبَابِ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَخْذِ اللِّجَامِ وَالرِّكَابِ (ادْعُ اللَّهَ لَنَا) وَلَيْسَ طَلَبُ الدُّعَاءِ لِمُقَابَلَةِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ هَذَا لَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ أَصْحَابِ الْكَرَمِ وَالْمُرُوءَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ اللُّطْفِ وَنَظَرِ الْمَرْحَمَةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ طَلَبَ الدُّعَاءَ عِنْدَ رُكُوبِهِ لَا عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَكْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ لِئَلَّا تَكُونَ صَدَقَتُهُ فِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ فَيَفُوتَ الْإِخْلَاصُ لِأَنَّ الضِّيَافَةَ آكُدُ مِنَ الصَّدَقَةِ لِقَوْلِ كَثِيرِينَ بِوُجُوبِهَا فَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ - فَمَرْدُودٌ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّهُ يُسَنُّ إِذَا دَعَا الْفَقِيرُ لِلْمُتَصَدِّقِ كَمَا هُوَ مِنَ الْأَدَابِ يَرُدُّهُ الْمُتَصَدِّقُ لِيَكُونَ الدُّعَاءُ فِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ وَيَتَخَلَّصُ لَهُ ثَوَابُ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ يُسَنُّ عَدَمُ طَلَبِ الدُّعَاءِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ طَلَبُ الدُّعَاءِ يُفَوِّتُ الْإِخْلَاصَ الْكَامِلَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالضِّيَافَةِ، مَعَ أَنَّ

كُلًّا مِنْهُمَا يَشْمَلُ النَّافِلَةَ وَالْوَاجِبَةَ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَى كَمَالِ الْإِخْلَاصِ، وَمِنْهَا أَنَّ كَوْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الضِّيَافَةِ الْوَاجِبَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّفْلَ قَدْ يُتَخَيَّلُ فِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ، وَلِذَا قِيلَ الْفَرْضُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الرِّيَاءُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ جَعَلُوا هَذَا الدُّعَاءَ سُنَّةً لِمَنْ أَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَطْلُبَهُ أَوْ لَا يَطْلُبَهُ فَبَطَلَ قَوْلُهُ: إِنَّ مِنْ هَذَا يُؤْخَذُ أَنَّ الْمُضِيفَ إِذَا سَأَلَ مِنَ الضَّيْفِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ سُنَّ لِلضَّيْفِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ ; لِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْأَلْهُ لَا يَسْأَلُهُ لَا يُسَنُّ لَهُ، وَأَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِلْمُضِيفِ أَنْ يَسْأَلَ الدُّعَاءَ مِنَ الضَّيْفِ لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَتَقْرِيرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَمِنْهَا أَنَّ طَلَبَ الدُّعَاءِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَطْلُوبٌ فَمَا الْبَاعِثُ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ الْمَذْمُومِ وَأَمْثَالِهِمَا (فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ) وَعَلَامَةُ الْبَرَكَةِ الْقَنَاعَةُ وَتَوْفِيقُ الطَّاعَةِ (وَاغْفِرْ لَهُمْ) أَيْ: ذُنُوبَهُمْ (وَارْحَمْهُمْ) بِالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ بِالْوَاوِ فِيهِمَا، قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي جَمِيعِ أُصُولِ مُسْلِمٍ فَاغْفِرْ لَهُمْ بِالْفَاءِ وَكَذَلِكَ فَارْحَمْهُمْ فِي أَكْثَرِهَا، وَلَيْسَ رِوَايَةُ فَجَعَلَ يُلْقِي النَّوَى عَلَى ظَهْرِ إِصْبَعَيْهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بَلْ هِيَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْحِصْنِ وَلَفْظُهُ: " فَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ " بِالْفَاءِ فِي الْأَوَّلِ وَبِالْوَاوِ فِي الثَّانِي.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2428 - عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: (اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2428 - (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ) وَهُوَ يَكُونُ مِنَ اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ثُمَّ هُوَ قَمَرٌ (قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَمْرٌ مِنَ الْإِهْلَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرْوَى مُدْغَمًا وَمَفْكُوكًا أَيْ: أَطْلِعْهُ (عَلَيْنَا) مُقْتَرِنًا (بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ) وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيِ: اجْعَلْهُ سَبَبَ أَمْنِنَا، وَفِيهِ أَنَّ مَدْخُولَ الْبَاءِ يَكُونُ سَبَبًا لَا مُسَبَّبًا، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا: الْإِهْلَالُ فِي الْأَصْلِ رَفْعُ الصَّوْتِ نُقِلَ مِنْهُ إِلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ إِذَا رَأَوْهُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْهِلَالُ هِلَالًا، نُقِلَ مِنْهُ إِلَى طُلُوعِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِرُؤْيَتِهِ وَمِنْهُ إِلَى إِطْلَاعِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ: أَطْلِعْهُ عَلَيْنَا وَأَرِنَا إِيَّاهُ مُقْتَرِنًا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ أَيْ: بَاطِنًا (وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ) أَيْ: ظَاهِرًا، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ عَلَى طَلَبِ دَفْعِ كُلِّ مَضَرَّةٍ، وَبِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى جَلْبِ كُلِّ مَنْفَعَةٍ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ وَأَوْجَزِ عِبَارَةٍ (رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ) خِطَابٌ لِلْهِلَالِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَفِيهِ تَنْزِيهٌ لِلْخَالِقِ عَنْ مُشَارِكٍ فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَتَقَلُّبِ الْحَالَاتِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَزَادَ " وَالتَّوْفِيقُ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ".

2429 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا إِلَّا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ كَائِنًا مَا كَانَ» ) . . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 2430 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الرَّاوِي لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2429 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مُبْتَلًى) أَيْ: فِي أَمْرٍ بَدَنِيٍّ كَبَرَصٍ وَقِصَرٍ فَاحِشٍ أَوْ طُولٍ مُفْرِطٍ أَوْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ أَوِ اعْوِجَاجِ يَدٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ دِينِيٍّ بِنَحْوِ فِسْقٍ وَظُلْمٍ وَبِدْعَةٍ وَكُفْرٍ وَغَيْرِهَا (فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ) فَإِنَّ الْعَافِيَةَ أَوْسَعُ مِنَ الْبَلِيَّةِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْجَزَعِ وَالْفِتْنَةِ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مِحْنَةً أَيَّ مِحْنَةٍ: «وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» كَمَا وَرَدَ، وَلَعَلَّ مَأْخَذَ الشَّافِعِيَّةِ لِسُجُودِ الشُّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَحَلٌّ آخَرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إِذَا كَانَ مُبْتَلًى بِالْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ لَا يُحْسِنُ الْخِطَابَ أَقُولُ:

الصَّوَابُ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ إِلَى إِخْفَائِهِ فِي غَيْرِ الْفَاسِقِ بَلْ فِي حَقِّهِ أَيْضًا إِذَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ، وَلِذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَى صَاحِبَ بَلَاءٍ يَتَعَوَّذُ وَيَقُولُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُسْمِعُ صَاحِبَ الْبَلَاءِ اهـ. وَيُسْمِعُ صَاحِبَ الْبَلَاءِ الدِّينِيِّ إِذَا أَرَادَ زَجْرَهُ وَيَرْجُو انْزِجَارَهُ، وَكَانَ الشِّبْلِيُّ إِذَا رَأَى أَحَدًا مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا دَعَا هَذَا الدُّعَاءَ (وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا) أَيْ: فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْقَلْبِ وَالْقَالَبِ (إِلَّا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ كَائِنًا مَا كَانَ) أَيْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ أَيَّ شَيْءٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْهَاءِ فِي لَمْ يُصِبْهُ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ وَذَهَبَ الْمُظْهِرُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَفْعُولِ وَقَالَ أَيْ فِي حَالِ ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ مَا كَانَ أَيْ: مَادَامَ بَاقِيًا فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ: الْحَالُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ كَقَوْلِكَ لَأَفْعَلَنَّهُ كَائِنًا مَا كَانَ أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا أَوْ إِنْ كَانَ هَذَا، كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ: لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍ فَاعْلَمْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا أَيْ لَيْسَ جَمَالُكَ بِمِئْزَرٍ مُرْدًى مَعَهُ بِرِدَاءٍ، قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمَعْنَى إِنْ كَانَ هَذَا أَوْ كَانَ هَذَا، وَلَيْسَ فِي الْحِصْنِ كَائِنًا مَا كَانَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ عَنْ عُمَرَ. 2430 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بِلَا وَاوٍ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الرَّاوِي) أَيْ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (لَيْسَ بِالْقَوِيِّ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ بِمَعْنَاهُ وَضَعَّفَهُ اهـ فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ عَلَى بَابِهِ.

2431 - وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ " مَنْ قَالَ فِي سُوقٍ جَامِعٍ يُبَاعُ فِيهِ " بَدَلَ مَنْ دَخَلَ السُّوقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2431 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ دَخَلَ السُّوقَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ فِيهِ عَلَى سُوقِهِمْ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِاخْتِلَافِ مَادَّتِهِمَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُعْتَلُّ الْعَيْنِ وَالثَّانِي مَهْمُوزُ الْعَيْنِ وَلَكِنَّهُ خُفِّفَ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَسُوقُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْتِعَتَهُمْ إِلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَحَلُّ السُّوقَةِ وَهِيَ الرَّعِيَّةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَكَانُ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ سَلْطَنَةِ الشَّيْطَانِ وَمَجْمَعُ جُنُودِهِ فَالذَّاكِرُ هُنَاكَ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ وَيَهْزِمُ جُنُودَهُ فَهُوَ خَلِيقٌ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الثَّوَابِ اهـ. أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إِلَى عِبَادِهِ نَظَرَ الرَّحْمَةِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ فَيُحْرَمُ عَنْهَا أَهْلُ الْغَفْلَةِ وَيَنَالُهَا أَهْلُ الْحَضْرَةِ، وَلِذَا اخْتَارَ السَّادَةُ النَّقْشَبَنْدِيَّةُ الْخُلْوَةَ فِي الْجَلْوَةِ وَشُهُودِ الْوَحْدَةِ (فَقَالَ) أَيْ: سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَمَا فِي رِوَايَةٍ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالثَّانِي لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ لِكَوْنِهِ مُذَكِّرًا لِلْغَافِلِينَ وَلَكِنَّهُ إِذَا أَمِنَ مِنَ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ) أَيْ: بِتَصَرُّفِهِ (الْخَيْرُ) وَكَذَا الشَّرُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْأَدَبِ فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: مَشِيءٍ (قَدِيرٌ) تَامُّ الْقُدْرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فِيهِ دَخَلَ فِي زُمْرَةِ مَنْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّ أَهْلَ الْأَسْوَاقِ قَدِ افْتَرَصَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ حِرْصَهُمْ وَشُحَّهُمْ فَنَصَبَ كُرْسِيَّهُ فِيهَا وَرَكَّزَ رَايَتَهُ وَبَثَّ جُنُودَهُ فِيهَا، وَجَاءَ أَنَّ الْأَسْوَاقَ مَحَلُّ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّ إِبْلِيسَ بَاضَ فِيهَا وَفَرَّخَ كِنَايَةً عَنْ مُلَازَمَتِهِ لَهَا، فَرَغَّبَ أَهْلَهَا فِي هَذَا الْفَانِي وَصَيَّرَهَا عُدَّةً وَسِلَاحًا لِفِتَنِهِ بَيْنَ مُطَفِّفٍ فِي كَيْلٍ وَطَايِشٍ فِي مِيزَانٍ وَمُنْفِقٍ لِلسِّلْعَةِ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً فَهَزَمَهُمْ إِلَى الْمَكَاسِبِ الرَّدِيَّةِ وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ، فَمَا دَامُوا فِي هَذِهِ الْغَفْلَةِ فَهُمْ

عَلَى خَطَرٍ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَالذَّاكِرُ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَرُدُّ غَضَبَ اللَّهِ وَيَهْزِمُ جُنْدَ الشَّيْطَانِ وَيَتَدَارَكُ لِدَفْعِ مَا حَثَّ عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] فَيُدْفَعُ بِالذَّاكِرِ عَنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ، وَفِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ فَسْخٌ لِأَفْعَالِ أَهْلِ السُّوقِ ; فَبِقَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُفْسَخُ وَلَهُ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْقُلُوبَ مِنْهُمْ وَلِهَتْ بِالْهَوَى قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وَبِقَوْلِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يُفْسَخُ مَا تَعَلَّقَ بِقُلُوبِهِمْ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي نَوَالٍ أَوْ مَعْرُوفٍ، وَبِقَوْلِهِ لَهُ الْمُلْكُ يُفْسَخُ مَا يَرَوْنَ مِنْ تَدَاوُلِ أَيْدِي الْمَالِكِينَ، وَبِقَوْلِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ يُفْسَخُ مَا يَرَوْنَ مِنْ صُنْعِ أَيْدِيهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي الْأُمُورِ، وَبِقَوْلِهِ يُحْيِي وَيُمِيتُ تُفْسَخُ حَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ لِلتَّبَايُعِ فَإِنَّ تَمَلُّكَ الْحَرَكَاتِ تَمَلُّكٌ وَاقْتِدَارٌ، وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ يَنْفِي عَنِ اللَّهِ مَا يُنْسَبُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، ثُمَّ قَالَ: بِيَدِهِ الْخَيْرُ أَيْ: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَطْلُبُونَهَا مِنَ الْخَيْرِ فِي يَدِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَمَثَلُ أَهْلِ الْغَفْلَةِ فِي السُّوقِ كَمَثَلِ الْهَمَجِ وَالذُّبَابِ مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَزْبَلَةٍ يَتَطَايَرُونَ فِيهَا عَلَى الْأَقْذَارِ فَعَمَدَ هَذَا الذَّاكِرُ إِلَى مِكْنَسَةٍ عَظِيمَةٍ ذَاتِ شُعُوبٍ وَقُوَّةٍ فَكَنَسَ هَذِهِ الْمَزْبَلَةَ وَنَظَّفَهَا مِنَ الْأَقْذَارِ وَرَمَى بِهَا وَجْهَ الْعَدُوِّ وَطَهَّرَ الْأَسْوَاقَ مِنْهُمْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} [الإسراء: 46] أَيْ: بِالْوَحْدَانِيَّةِ " وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا " فَجَدِيرٌ بِهَذَا النَّاطِقِ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ أُلُوفُ الْحَسَنَاتِ وَيُمْحَى عَنْهُ أُلُوفُ السَّيِّئَاتِ وَيُرْفَعَ لَهُ أُلُوفُ الدَّرَجَاتِ اهـ. كَلَامُ الطِّيبِيِّ - طَيَّبَ اللَّهُ مَضْجَعَهُ - (كَتَبَ اللَّهُ لَهُ) أَيْ: أَثْبَتَ لَهُ، أَوْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ لِأَجْلِهِ (أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ) أَيْ، بِالْمَغْفِرَةِ، أَوْ أَمَرَ بِالْمَحْوِ عَنْ صَحِيفَتِهِ (أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ) أَيْ: مُقَامٍ وَمَرْتَبَةٍ (وَبَنَى لَهُ بَيْتًا) أَيْ: عَظِيمًا (فِي الْجَنَّةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ السُّنِّيِّ، إِلَّا أَنَّ وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ مِنْ مُخْتَصَّاتِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ السُّنِّيِّ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: لِصَاحِبِ الْمَصَابِيحِ (مَنْ قَالَ فِي سُوقٍ جَامِعٍ يُبَاعُ فِيهِ بَدَلَ مَنْ دَخَلَ السُّوقَ) وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ جَاءَ رَاوِي الْحَدِيثِ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ فَقَالَ لَهُ أَتَيْتُكَ بِهَدِيَّةٍ وَحَدَّثَهُ بِالْحَدِيثِ فَكَانَ قُتَيْبَةُ يَرْكَبُ فِي مَرْكَبِهِ حَتَّى يَأْتِيَ السُّوقَ فَيَقُولُهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ.

2432 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ «سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَمَامَ النِّعْمَةِ، فَقَالَ: (أَيُّ شَيْءٍ تَمَامُ النِّعْمَةِ؟) قَالَ: دَعْوَةٌ أَرْجُو بِهَا خَيْرًا، فَقَالَ: (إِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَالْفَوْزَ مِنَ النَّارِ) وَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَقَالَ: (قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ، فَسَلْ) وَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ، فَقَالَ: (سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ فَاسْأَلْهُ الْعَافِيَةَ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2432 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَدْعُو يَقُولُ) بَدَلٌ أَوْ حَالٌ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَمَامَ النِّعْمَةِ فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُؤَالُ امْتِحَانٍ (أَيُّ شَيْءٍ تَمَامُ النِّعْمَةِ؟ قَالَ: دَعْوَةٌ) أَيْ: مُسْتَجَابَةٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ هُوَ دَعْوَةٌ أَوْ مَسْأَلَةُ دَعْوَةٍ (أَرْجُو بِهَا خَيْرًا) أَيْ: مَالًا كَثِيرًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجْهُ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ السُّؤَالَ هُوَ أَنَّ جَوَابَ الرَّجُلِ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ أَيْ: أَسْأَلُهُ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً فَيَحْصُلُ مَطْلُوبِي مِنْهَا، وَلِمَا صَرَّحَ بِقَوْلِهِ خَيْرًا، فَكَانَ غَرَضُهُ الْمَالَ الْكَثِيرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] فَرَدَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ إِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ إِلَخْ وَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الرَّجُلَ حَمَلَ النِّعْمَةَ عَلَى النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ الْفَانِيَةِ، وَتَمَامُهَا عَلَى مَدْعَاةٍ فِي دُعَائِهِ فَرَدَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ وَدَلَّهُ عَلَى أَنْ لَا نِعْمَةَ إِلَّا النِّعْمَةَ الْبَاقِيَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ ( «فَقَالَ: إِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولَ الْجَنَّةِ» ) أَيْ: ابْتِدَاءً (وَالْفَوْزَ) أَيِ: الْخَلَاصَ وَالنَّجَاةَ (مِنَ النَّارِ) أَيْ: وَلَوِ انْتِهَاءً، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا نَقَدَهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150]

تَمَامُ النِّعْمَةِ الْمَوْتُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، وَفِي إِيرَادِ مِنَ التَّبْعِيضَيَّةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ إِنَّمَا هِيَ مُشَاهَدَةُ الذَّاتِ الْحَقِّيَّةِ (وَسَمِعَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) أَيْ: يَا صَاحِبَ الْعَظَمَةِ وَالْمَكْرُمَةِ (قَالَ: قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ) أَيْ: مَا تُرِيدُ، هُوَ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ (وَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ، فَقَالَ: سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ) لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (فَاسْأَلْهُ الْعَافِيَةَ) أَيْ: فَإِنَّهَا أَوْسَعُ، وَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَمَحَلُّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا مَنْعَ مِنْ سُؤَالِ الصَّبْرِ بَلْ مُسْتَحَبٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة: 250] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ حَسَنٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

2433 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2433 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا) أَيْ: مَا جَلَسَ شَخْصٌ مَجْلِسًا (فَكَثُرَ فِيهِ) بِضَمِّ الثَّاءِ (لَغَطُهُ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: تَكَلَّمَ بِمَا فِيهِ إِثْمٌ لِقَوْلِهِ، غُفِرَ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيُّ كَلَامٍ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَقِيلَ: لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّغَطُ بِالتَّحْرِيكِ الصَّوْتُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْهُزْءُ مِنَ الْقَوْلِ وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَكَأَنَّهُ مُجَرَّدُ الصَّوْتِ الْعَرِيِّ عَنِ الْمَعْنَى (فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ) وَلَعَلَّهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] وَاللَّهُمَّ مُعْتَرِضٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَبِحَمْدِكَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَكَ إِمَّا بِالْعَطْفِ أَيْ: أُسَبِّحُ وَأَحْمَدُ، أَوْ بِالْحَالِ أَيْ: أُسَبِّحُ حَامِدًا لَكَ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) إِقْرَارٌ بِالتَّوْحِيدِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ (أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) اعْتِرَافٌ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْعُبُودِيَّةِ (إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ) أَيْ: مِنَ اللَّغَطِ (فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ حِبَّانَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَمِلْتُ سُوءً وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ.

2434 - «وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثًا وَاللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقِيلَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَقُولُ: يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2434 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ) أَيْ: جِيءَ (بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ) أَيْ: أَرَادَ وَضْعَ رِجْلِهِ (فِي الرِّكَابِ، قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: عَلَى نِعْمَةِ الرُّكُوبِ وَغَيْرِهَا (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: قَرَأَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] أَيْ: ذَلَّلَهُ {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] أَيْ: مُطِيقِينَ {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] أَيْ: رَاجِعُونَ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَرَاجِعُونَ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ، وَنَاسَبَ ذِكْرَهُ لِأَنَّ الدَّابَّةَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ حَامِلًا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فِي رُكُوبِهِ وَمَسِيرِهِ (ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثًا، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّةً سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ) أَيْ، عَلِيٌّ

(فَقِيلَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: يَرْضَى (مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَرْتَضِي هَذَا الْقَوْلَ وَيَسْتَحْسِنُهُ اسْتِحْسَانَ الْمُعْجِبِ، وَقَالَ شَارِحٌ: التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ اسْتِعْظَامُ الشَّيْءِ وَمَنْ ضَحِكَ مِنْ أَمْرٍ إِنَّمَا يَضْحَكُ مِنْهُ إِذَا اسْتَعْظَمَهُ، فَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَافَقَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ وَافَقَ الرَّبَّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ (يَعْلَمُ) وَفِي نُسْخَةٍ يَقُولُ أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ يَعْلَمُ أَيْ: عَبْدِي (أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ غَيْرُهُ بَدَلَ غَيْرِي (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

2435 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا وَدَّعَ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَلَا يَدَعُهَا حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ يَدَعُ يَدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُ: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَآخِرَ عَمَلِكَ) » . وَفِي رِوَايَةٍ: " وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَفِي رِوَايَتِهِمَا لَمْ يُذْكَرْ وَآخِرَ عَمَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2435 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا وَدَّعَ رَجُلًا) أَيْ: مُسَافِرًا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ لِإِرَادَتِهِ السَّفَرَ مُوَهَمٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْمَقْصُودِ (أَخَذَ بِيَدِهِ فَلَا يَدَعُهَا) أَيْ: فَلَا يَتْرُكُ يَدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنْ غَايَةِ التَّوَاضُعِ وَغَايَةِ إِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ (حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِيهِ كَمَالُ الِاسْتِسْلَامِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ الْأَنَامِ (وَيَقُولُ) أَيْ: لِلْمُوَدَّعِ (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ) أَيْ: أَسْتَحْفِظُ وَأَطْلُبُ مِنْهُ حِفْظَ دِينِكَ، وَالدِّينُ شَامِلٌ لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَتَوَابِعِهِمَا، فَإِلْقَاؤُهُ عَلَى حَالِهِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ السَّفَرَ لِمَشَقَّتِهِ وَخَوْفِهِ قَدْ يَصِيرُ سَبَبًا لِإِهْمَالِ بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ (وَأَمَانَتَكَ) أَيْ: حِفْظَ أَمَانَتِكَ فِيمَا تُزَاوِلُهُ مِنَ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَمُعَاشَرَةِ النَّاسِ فِي السَّفَرِ إِذْ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ هُنَاكَ خِيَانَةٌ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَمَانَةِ الْأَهْلُ وَالْأَوْلَادُ الَّذِينَ خَلَفَهُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ التَّكَالِيفُ كُلُّهَا كَمَا فُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ (وَآخِرَ عَمَلِكَ) أَيْ: فِي سَفَرِكَ، أَوْ مُطْلَقًا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُسْنُ الْخَاتِمَةِ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهَا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ التَّقْصِيرَ فِيمَا قَبْلَهَا مَجْبُورٌ بِحُسْنِهَا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَفِي رِوَايَةٍ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ) وَهُوَ جَمْعُ خَاتَمٍ أَيْ: مَا يُخْتَمُ بِهِ عَمَلُكَ أَيْ: أَخِيرَهُ، وَالْجَمْعُ لِإِفَادَةِ عُمُومِ أَعْمَالِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هُوَ طَلَبُ حِفْظِ الْوَدِيعَةِ وَفِيهِ نَوْعُ مُشَاكَلَةٍ لِلتَّوْدِيعِ وَجَعَلَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ لِأَنَّ السَّفَرَ يُصِيبُ الْإِنْسَانَ فِيهِ الْمَشَقَّةُ وَالْخَوْفُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِهْمَالِ بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ فَدَعَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَلَا يَخْلُو الرَّجُلُ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْمُعَاشَرَةِ مَعَ النَّاسِ ; فَدَعَا لَهُ بِحِفْظِ الْأَمَانَةِ وَالِاجْتِنَابِ عَنِ الْخِيَانَةِ، ثُمَّ إِذَا انْقَلَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَكُونُ مَأْمُونَ الْعَاقِبَةِ عَمَّا يَسُوءُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ (وَفِي رِوَايَتِهِمَا) أَيْ: أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ (لَمْ يُذْكَرْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَآخِرَ عَمَلِكَ) أَيْ: بَلْ ذَكَرَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْحِصْنِ.

2436 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيِّ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ الْجَيْشَ قَالَ: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2436 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيِّ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْأَوْسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو مُوسَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حُصَيْنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ خُطَمَةَ بْنِ خَثْعَمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، حَضَرَ الْحُدَيْبِيَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ الْجَيْشَ) أَيِ: الْعَسْكَرَ الْمُتَوَجِّهَ إِلَى الْعَدُوِّ (قَالَ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ) فِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2437 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي فَقَالَ: (زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى) قَالَ: زِدْنِي قَالَ: (وَغَفَرَ ذَنْبَكَ) قَالَ: زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: (وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُ كُنْتَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2437 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي) مِنَ التَّزْوِيدِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الزَّادِ، وَالزَّادُ هُوَ الْمُدَّخَرُ الزَّائِدُ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْوَقْتِ، وَالتَّزَوُّدُ أَخْذُ الزَّادِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] أَيِ: التَّحَرُّزُ عَنِ السُّؤَالِ وَعَنِ الِاتِّكَالِ عَلَى غَيْرِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ يَعْنِي: ادْعُ لِي فَإِنَّ دُعَاءَكَ خَيْرُ الزَّادِ (فَقَالَ: زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى) أَيِ: الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الْمَخْلُوقِ، أَوِ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ النَّوَاهِي (قَالَ: زِدْنِي) أَيْ: مِنَ الزَّادِ، أَوْ مِنَ الدُّعَاءِ (قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، قَالَ: زِدْنِي) أَيْ: مِنَ الْمَدَدِ فِي الْمَدَدِ (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) أَيْ: أَفْدِيكَ بِهِمَا وَأَجْعَلُهُمَا فِدَاءَكَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا (قَالَ: وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ) أَيْ: سَهَّلَ لَكَ خَيْرَ الدَّارَيْنِ (حَيْثُمَا كُنْتَ) أَيْ: فِي أَيِّ مَكَانٍ حَلَلْتَ، وَمِنْ لَازِمِهِ فِي أَيِّ زَمَانٍ نَزَلْتَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّجُلَ طَلَبَ الزَّادَ الْمُتَعَارَفَ فَأَجَابَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا أَجَابَهُ عَلَى طَرِيقَةِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: زَادُكَ أَنْ تَتَّقِيَ مَحَارِمَهُ وَتَجْتَنِبَ مَعَاصِيَهُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا طَلَبَ الزِّيَادَةَ قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا زَعَمَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَّقِي اللَّهَ وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ تَقْوَى تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَغَفَرَ ذَنْبَكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاتِّقَاءُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ، ثُمَّ تَرْقَى مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْخَيْرِ لِلْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

2438 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي، قَالَ: (عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ) ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ: (اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ الْبُعْدَ وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2438 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ» ) وَهَذِهِ كَلِمَةٌ كَامِلَةٌ فِي نَصِيحَةٍ شَامِلَةٍ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّقْوَى مِنْ تَرْكِ الشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالشُّبْهَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَاجَةِ وَالْغَفْلَةِ وَخُطُورِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهِيَ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقَوُا اللَّهَ} [النساء: 131] وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَإِخْلَاصٍ، وَبَحْثُهَا يَطُولُ (وَالتَّكْبِيرِ) أَيْ: بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ (عَلَى كُلِّ شَرَفٍ) أَيْ: مَكَانٍ عَالٍ (فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ) أَيْ: أَدْبَرَ (قَالَ) أَيْ: دَعَا لَهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ (اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ الْبُعْدَ) أَيْ: قَرِّبْهُ لَهُ وَسَهِّلْ لَهُ، وَالْمَعْنَى ارْفَعْ عَنْهُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ بِتَقْرِيبِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ لَهُ حِسًّا أَوْ مَعْنًى (وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ) أَيْ: أُمُورَهُ وَمَتَاعِبَهُ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

2439 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ فَأَقْبَلَ اللَّيْلُ قَالَ: (يَا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْكِ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأَسْودَ وَمِنَ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَمِنْ شَرِّ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2439 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ فَأَقْبَلَ اللَّيْلُ) أَيْ: أَمْسَى (قَالَ: يَا أَرْضُ) خَاطَبَ الْأَرْضَ وَنَادَاهَا عَلَى الِاتِّسَاعِ وَإِرَادَةِ الِاخْتِصَاصِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا فِي حَقِّهِ لِأَنَّ الْجَمَادَاتِ تُكَلِّمُهُ وَتُخَاطِبُهُ فَهِيَ صَالِحَةٌ لِخِطَابِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ لَهُ بِالِاتِّسَاعِ فَإِنَّ وَضْعَ النِّدَاءِ حَقِيقَةً لِأُولِي الْعِلْمِ فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ يَكُونُ مَجَازًا وَاتِّسَاعًا أَمَا تَرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكَ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] قَالُوا: نُودِيَا بِمَا يُنَادَى بِهِ أُولُو الْعِلْمِ تَمْثِيلًا لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَةَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَ إِلَّا وَقْتَ خَرْقِ الْعَادَةِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي الْمَقَامِ (رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ) يَعْنِي: إِذَا كَانَ خَالِقِي وَخَالِقُكِ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ تَلْجَأَ إِلَيْهِ وَيُتَعَوَّذَ بِهِ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ) أَيْ: مِنْ شَرِّ مَا حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْخَسْفِ وَالزَّلْزَلَةِ وَالسُّقُوطِ عَنِ الطَّرِيقِ وَالتَّحَيُّرِ فِي الْفَيَافِي ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَلَا أَعْثُرُ بِكِ أَنَا وَلَا دَابَّتِي، فَبَعِيدٌ أَنَّهُ مِنْ شَرِّ مَا حَصَلَ مِنْ ذَاتِهَا بَلْ يَحْصُلُ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ دَابَّتِهِ، وَعَلَى ظَنَّيِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ فَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ حَتَّى عَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلَ، بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ نِسْبَةُ الشَّرِّ إِلَى ذَاتِ الْأَرْضِ مَجَازِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْخَسْفُ وَنَحْوُهُ كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (وَشَرِّ مَا فِيكِ) أَيْ: مِنَ الضَّرَرِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْكِ مَا يُهْلِكُ أَحَدًا مِنْ مَاءٍ أَوْ نَبَاتٍ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ أَيْ: مَا اسْتَقَرَّ فِيكِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْخَاصَّةِ بِطَبَائِعِكِ أَيِ: الْعَادِيَّةِ كَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَأَغْرَبَ فَقَالَ: وَضِدِّهِمَا وَالصَّوَابُ وَغَيْرِهِمَا وَإِلَّا فَمَذْهَبُ الطَّبِيعِيِّينَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ (وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ) أَيْ: مِنَ الْهَوَامِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَلَذَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتِهَا وَمَا يَعِيشُ مِنَ الثُّقُبِ وَأَجْوَافِهَا (وَشَرِّ مَا يَدِبُّ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: يَمْشِي وَيَتَحَرَّكُ (عَلَيْكِ) أَيْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْحَشَرَاتِ مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ (وَأَعُوذُ بِاللَّهِ) وَفِي الْمَصَابِيحِ وَأَعُوذُ بِكَ، قَالَ شَارِحٌ لَهُ: الْخِطَابُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ انْتِقَالٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ لِلْمُبَالَغَةِ وَمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ وَفَرْطِ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَوْذِ مِمَّا يَعُدُّهُ بَعْدُ وَلِذَلِكَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ، وَهِيَ مُنْدَرِجَةٌ فِيمَا خُلِقَ فِي الْأَرْضِ (مِنْ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ) بِلَا انْصِرَافٍ قِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: حُكِيَ فِي أَسْوَدَ هُنَا وَجْهَانِ الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَسْوَدُ هُنَا مُنْصَرِفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهَا الِاسْمِيَّةُ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ وَلِذَا يُجْمَعُ عَلَى أَسَاوِدَ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ وَالْمَضْبُوطُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِالْفَتْحِ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ، وَعَنْ بَعْضِهِمُ الْوَجْهُ أَنْ لَا يَنْصَرِفُ لِأَنَّ وَصْفِيَّتَهُ أَصْلِيَّةٌ وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْمَيَّةُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَالْقِيَاسُ جَوَازُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَظِيرَ مَا قَالُوهُ فِي الرَّحْمَنِ لِتَعَارُضِ الْأَصْلِ وَهُوَ الصَّرْفُ وَالْغَالِبِ وَهُوَ عَدَمُهُ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الرَّحْمَنَ بَاقٍ عَلَى وَصْفِيَّتِهِ عِنْدَ الْكُلِّ، وَالْقَوْلُ بِعَلَمِيَّتِهِ ضَعِيفٌ جِدًّا، مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى اشْتِرَاطِ وُجُودٍ فِعْلِيٍّ، أَوِ انْتِفَاءِ فَعْلَانَةٍ فِي وَصْفٍ زِيدَ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْعَلَمِيَّةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ كَسَلْمَانَ وَعُثْمَانَ، وَهُوَ الْحَيَّةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي فِيهَا سَوَادٌ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ وَجَعَلَهَا جِنْسًا آخَرَ بِرَأْسِهَا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا الْحَيَّةَ لِأَنَّهَا أَخْبَثُ الْحَيَّاتِ، وَذَكَرَ أَنَّهَا تُعَارِضُ الرَّكْبَ وَتَتْبَعُ الصَّوْتَ إِلَى أَنْ تَظْفَرَ بِصَاحِبِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ اللِّصُّ لِمُلَابَسَتِهِ اللَّيْلَ، أَوْ لِمُلَابَسَتِهِ السَّوَادَ مِنَ اللِّبَاسِ، أَوْ لِأَنَّ غَالِبَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي بِلَادِ الْغَرْبِ هُمُ السُّودَانُ (وَمِنَ الْحَيَّةِ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْحَيَّةِ بَيَانِيَّةٌ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ دَاخِلَةً عَلَيْهَا وَلَكِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَدَّةِ (وَالْعَقْرَبِ) وَفِي مَعْنَاهَا سَائِرُ الْهَوَامِّ السُّمِّيَّاتِ (وَمِنْ شَرِّ سَاكِنِ الْبَلَدِ) قِيلَ: السَّاكِنُ هُوَ الْإِنْسُ سَمَّاهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَسْكُنُونَ الْبِلَادَ غَالِبًا، أَوْ لِأَنَّهُمْ بَنَوُا الْبُلْدَانَ وَاسْتَوْطَنُوهَا، وَقِيلَ: الْجِنُّ، وَالْمُرَادُ بِالْبَلَدِ الْأَرْضُ قَالَ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] وَفِي نُسْخَةٍ سَاكِنِي الْبَلَدِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مُضَافًا (وَمِنْ وَالِدٍ) أَيْ: آدَمَ أَوْ إِبْلِيسَ (وَمَا وَلَدَ) أَيْ: ذُرِّيَّتِهِمَا، وَقِيلَ: هُمَا عَامَّانِ لِجَمِيعِ مَا يُوجَدُ فِي التَّوَالُدِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِيَاذَ إِنَّمَا يُفِيدُ وَيَحْسُنُ إِذَا كَانَ بِمَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَفُّوًا أَحَدٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ.

2440 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا غَزَا قَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2440 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا غَزَا قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي» ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَضَمِّ مُعْجَمَةٍ أَيْ: مُعْتَمَدِي فَلَا أَعْتَمِدُ عَلَى غَيْرِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَضُدُ كِنَايَةٌ عَمَّا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيَثِقُ الْمَرْءُ بِهِ فِي الْخَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْقُوَّةِ اهـ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَضُدِ الْعُضْوُ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ لِمَا فِي الْقَامُوسِ: الْعَضُدُ بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ وَبِالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ وَنَدُسٍ وَعَنَقٍ مَا بَيْنَ الْمِرْفَقِ إِلَى الْكَتِفِ، وَالْعَضُدُ النَّاصِرُ وَالْمُعِينُ وَهُمْ عَضُدِي وَأَعْضَادِي (وَنَصِيرِي) أَيْ: مُعِينِي وَمُغِيثِي عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ (بِكَ أَحُولُ) أَيْ: أَصْرِفُ كَيْدَ الْعَدُوِّ وَأَحْتَالُ لِدَفْعِ مَكْرِهِمْ، مِنْ حَالَ يَحُولُ حِيلَةً بِالْكَسْرِ وَأَصْلُهُ حِوْلَةٌ، أَبْدَلَ الْوَاوَ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مِنْ حَالَ يَحُولُ حِيلَةً أَيْ: أَتَحَيَّلُ حِيلَةً نَافِعَةً فِي دَفْعِ كَيْدِ الْعَدُوِّ وَاسْتِئْصَالِهِمْ - فَمَعْنًى صَحِيحٌ وَلَكِنَّ الْمَأْخَذَ غَيْرُ صَرِيحٍ ; فَإِنَّ أَحُولُ وَاوِيٌّ وَالَّذِي ذَكَرَهُ يَائِيٌّ فَتَأَمَّلْ، وَقِيلَ: أَتَحَرَّكُ وَأَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، أَوْ أَحُولُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ أُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ حَالَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا مَنَعَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ (وَبِكَ أَصُولُ) أَيْ: أَحْمِلُ عَلَى الْعَدُوِّ حَتَّى أَغْلِبَهُ وَأَسْتَأْصِلَهُ، وَمِنْهُ الصَّوْلَةُ بِمَعْنَى الْحَمْلَةِ (وَبِكَ) أَيْ: بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَعَوْنِكَ وَنُصْرَتِكَ (أُقَاتِلُ) أَيْ: أَعْدَاءَكَ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عَوَانَةَ.

2441 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ (اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2441 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ) جَمْعُ النَّحْرِ وَهُوَ الصَّدْرُ يُقَالُ: جَعَلْتُ فُلَانًا فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ أَيْ: قُبَالَتَهُ وَحِذَاءَهُ، وَخُصَّ النَّحْرُ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَسْتَقْبِلُ بِنَحْرِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ، أَوْ لِلتَّفَاؤُلِ بِنَحْرِهِمْ إِلَى قَتْلِهِمْ (وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) وَالْمَعْنَى: نَسْأَلُكَ أَنْ تَصُدَّ صُدُورَهُمْ وَتَدْفَعَ شُرُورَهُمْ وَتَكْفِيَ أُمُورَهُمْ وَتَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى نَسْأَلُكَ أَنْ تَتَوَلَّانِي فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُرِيدُونَ أَنْ يَأْتُوا مِنْهَا، وَقِيلَ نَجْعَلُكَ فِي إِزَاءِ أَعْدَائِنَا حَتَّى تَدْفَعَهُمْ عَنَّا فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَنَا، وَحَاصِلُهُ نَسْتَعِينُ بِكَ فِي دَفْعِهِمْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَفِي الْحِصْنِ: " وَإِنْ خَافَ مِنْ عَدُوٍّ وَغَيْرِهِ فَقِرَاءَةُ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] أَمَانٌ مِنْ كُلِّ سُوءٍ مُجَرَّبٍ " قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَذْكَارِ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْقَزْوِينِيِّ الْإِمَامِ السَّيِّدِ الْجَلِيلِ وَالْفَقِيهِ الشَّافِعِيِّ صَاحِبِ الْكَرَامَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَحْوَالِ الْبَاهِرَةِ وَالْمَعَارِفِ الْمُتَظَاهِرَةِ، وَفِي الْحِصْنِ: وَإِنْ أَرَادَ عَوْنًا فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُونِي ثَلَاثًا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «إِذَا ضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُونِي فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ» " قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُونَ، وَرُوِيَ عَنِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ مُجَرَّبٌ قُرِنَ بِهِ التَّبَجُّحُ.

2442 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ أَوْ نَضِلَّ أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ، أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، «قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: مَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2442 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ) : وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: مُعَلِّمًا لِأُمَّتِهِ مَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ مُعَاشَرَةِ النَّاسِ، (" بِسْمِ اللَّهِ ") : أَيْ: خَرَجْتُ أَوْ أَسْتَعِينُ بِهِ وَبِذِكْرِهِ فِي حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، (" تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ") : أَيِ: اعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِي، وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِعْلَاءُ هُنَا مَجَازٌ، وَالْمَقْصُودُ طَلَبُ الِاسْتِعْلَاءِ بِاللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْأَغْرَاضِ اهـ. لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِعَلَى لَا يُقَالُ فِيهَا إِنَّهَا لِلِاسْتِعْلَاءِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلِاسْتِعْلَاءِ فِي فِعْلٍ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً بِعَلَى وَتَارَةً بِغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] وَقَوْلِهِ: " {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] " وَنَظِيرُهُ كَوْنُ (عَلَى) لِلضَّرَرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ، كَمَا يُقَالُ: دَعَوْتُ لَهُ وَدَعَوْتُ عَلَيْهِ، وَشَهِدْتُ

لَهُ وَعَلَيْهِ، وَحَكَمْتُ لَهُ وَعَلَيْهِ، لَا فِي كُلِّ فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِعَلَى، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ السَّؤَالَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالِي: " صَلُّوا عَلَيْهِ " وَتَرَدُّدُهُ لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهَا مِثْلُهُ، وَلَمْ يَفْهَمِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْمُتَرَادِفَيْنِ فِي التَّعْدِيَةِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ بِخَيْرٍ فِي اللُّغَةِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْمُتَعَلِّقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّعَاءِ الْمُطْلَقِ فَتَأَمَّلْ وَتَحَقَّقْ (" اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ ") : أَيْ: عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الزَّلَّةِ، وَهِيَ ذَنْبٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ تَشْبِيهًا بِزَلَّةِ الرِّجْلِ. وَفِي الْحِصْنِ زِيَادَةٌ: أَوْ نُزَلَّ مِنَ الْإِزْلَالِ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ ضَمُّ النُّونِ مَعَ كَسْرِ الزَّايِ وَمَعَ فَتْحِهَا، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ ضَبْطِ الْكِتَابِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، (أَوْ نَضِلَّ) : مِنَ الضَّلَالَةِ أَيْ: عَنِ الْهُدَى. وَفِي الْمَصَابِيحِ زِيَادَةُ: أَوْ نُضَلَّ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُضِلَّنَا أَحَدٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: نَضِلَّ مِنْ ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا غَابَ، فَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ سَابِقًا وَلَاحِقًا مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: ضَلَّ يَضِلُّ وَبِفَتْحِ الضَّادِ ضَاعَ وَمَاتَ وَصَارَ تُرَابًا وَعِظَامًا وَخَفِيَ وَغَابَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ هُنَا الضَّمُّ مَعَ الْكَسْرِ وَالْفَتْحِ عَلَى وَزْنِ مَا مَرَّ فِي (نَزِلَّ) ثُمَّ قَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَّةَ جَاءَ فِي رِوَايَةِ: (أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ) بِفَتْحِ هَمْزَتِهِ، وَالثَّانِي: بِضَمٍّ فَكَسْرٍ، أَوْ فَتْحٍ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَتَدَبَّرْ. (" أَوْ نَظْلِمَ ") : أَيْ: أَحَدًا (" أَوْ نُظْلَمَ ") : أَيْ: مِنْ أَحَدٍ (" أَوْ نَجْهَلَ ") : عَلَى بِنَاءِ الْمَعْرُوفِ أَيْ: أُمُورَ الدِّينِ، أَوْ حُقُوقَ اللَّهِ، أَوْ حُقُوقَ النَّاسِ، أَوْ مَعْرِفَةَ اللَّهِ، أَوْ فِي الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَ الْأَصْحَابِ، أَوْ نَفْعَلَ بِالنَّاسِ فِعْلَ الْجُهَّالِ مِنَ الْإِيذَاءِ وَإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِمْ (" أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَفْعَلُ النَّاسُ بِنَا أَفْعَالَ الْجُهَّالِ مِنْ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْنَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الزَّلَّةُ السَّيِّئَةُ بِلَا قَصْدٍ، اسْتَعَاذَ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ ذَنْبٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ أَوْ قَصْدٍ، وَمِنْ أَنْ يَظْلِمَ النَّاسَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، أَوْ يُؤْذِيَهُمْ فِي الْمُخَالَطَاتِ، أَوْ يَجْهَلَ أَيْ: يَفْعَلَ بِالنَّاسِ فِعْلَ الْجُهَّالِ مِنَ الْإِيذَاءِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَابْنُ السُّنِّيِّ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ) : أَيْ: فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: مَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْتِي) وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ بَيْتِهِ (قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: نَظَرَهُ (إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ) : أَيْ: عَنِ الْحَقِّ، مِنَ الضَّلَالِ، وَهُوَ ضِدُّ الرَّشَادِ وَالْهِدَايَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: غَيْرِي وَهُوَ خَطَأٌ مَعْنًى صَوَابٌ لَفْظًا أَوْ (" أَوْ أُضَلَّ ") : مَجْهُولٌ مِنَ الْإِضْلَالِ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّسَخِ أَيْ: يُضِلَّنِي أَحَدٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِضَمٍّ فَكَسْرٍ أَوْ بِفَتْحٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" أَوْ أَظْلِمَ ") عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ أَيْ: أَحَدًا (" أَوْ أُظْلَمَ ") : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَظْلِمَنِي أَحَدٌ (" أَوْ أَجْهَلَ ") : عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ وَمَعْنَاهُ سَبَقَ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: غَيْرِي غَيْرُ صَحِيحٍ (" أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ") عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَابُدَّ أَنْ يُعَاشِرَ النَّاسَ، وَيُزَاوِلَ الْأَمْرَ، فَيَخَافُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَلَا يَخْلُو مَنْ يَضِلُّ أَوْ يُضَلُّ، وَإِمَّا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا فَإِمَّا بِسَبَبِ جَرَيَانِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ بِأَنْ يَظْلِمَ أَوْ يُظْلَمَ، وَإِمَّا بِسَبَبِ الِاخْتِلَاطِ وَالْمُصَاحِبَةِ فَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ، فاَسْتُعِيذَ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوُلِ كُلِّهَا بِلَفْظٍ سَلِسٍ مُوجَزٍ، وَرُوعِي الْمُطَابَقَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَالْمُشَاكَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الْآتِي. فَقَوْلُهُ: هُدِيتَ مُطَابَقٌ بِقَوْلِهِ: (" أَوْ أُضَلَّ ") وَقَوْلُهُ: كُفِيتَ لِقَوْلِهِ: (" أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ ") وَقَوْلُهُ: وُقِيتَ لِقَوْلِهِ: (" أَنْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا ") .

2443 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ فَيَتَنَحَّى لَهُ الشَّيْطَانُ. وَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ، وَوُقِيَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: " لَهُ الشَّيْطَانُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2443 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا خَرَجَ رَجُلٌ ") : فِي نُسْخَةٍ (الرَّجُلُ) وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ (" مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ ") : أَيْ: يُنَادِيهِ مَلَكٌ يَا عَبْدَ اللَّهِ (" هُدِيتَ ") : أَيْ طَرِيقَ الْحَقِّ (" وَكُفِيتَ ") : أَيْ: هَمَّكَ (" وَوُقِيتَ ") : أَيْ: حُفِظْتَ مِنَ الْأَعْدَاءِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ (حُمِيتَ) قَبْلَ الثَّلَاثَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَشَارَ الطِّيبِيُّ إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا حَيْثُ قَالَ: هُدِيَ بِوَاسِطَةِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَكُفِيَ مُهِمَّاتِهِ بِوَاسِطَةِ التَّوَكُّلِ، وَوُقِيَ بِوَاسِطَةِ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ أَيْ: إِذَا اسْتَعَانَ الْعَبْدُ بِاللَّهِ وَبِاسْمِهِ الْمُبَارَكِ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَرْشَدَهُ وَأَعَانَهُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَإِذَا تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَكُونُ حَسْبَهُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، وَمَنْ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ، (فَتَنَحَّى لَهُ الشَّيْطَانُ) : أَيْ: يَبْتَعِدُ عَنْهُ إِبْلِيسُ أَوْ شَيْطَانُهُ الْمُوكَّلُ عَلَيْهِ، فَيَتَنَحَّى لَهُ عَنِ الطَّرِيقِ (وَيَقُولُ) : أَيْ: لِلْمُتَنَحِّي (شَيْطَانٌ آخَرُ) : تَسْلِيَةً لِلْأَوَّلِ أَوْ تَعَجُّبًا مِنْ تَعَرُّضِهِ (كَيْفَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَكَيْفَ (لَكَ بِرَجُلٍ) : أَيْ: بِإِضْلَالِ رَجُلٍ (قَدْ هُدِيَ، وَكُفِيَ، وَوُقِيَ) : أَيْ: مِنَ الشَّيَاطِينِ أَجْمَعِينَ بِبَرَكَةِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَإِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذِهِ تَسْلِيَةٌ، أَيْ: كَيْفَ يَتَيَسَّرُ لَكَ الْإِغْوَاءُ مُلْتَبِسًا بِرَجُلٍ إِلَخْ. أَيْ: مَعْذُورٍ فِي تَرْكِ إِغْرَائِهِ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ فَقَوْلُهُ: لَكَ مُتَعَلِّقٌ بِيَتَيَسَّرُ، وَبِرَجُلٍ حَالٌ اهـ. فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ عَلِمَ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟ قُلْتُ: لَعَلَّهُ مِنْ هُبُوطِ الْأَنْوَارِ النَّازِلَةِ عَلَيْهِ، أَوْ مِنَ الْحُجُبِ الْكَائِنَةِ لَدَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَلِمَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا هَذَا الدُّعَاءَ الْمُرَغَّبَ مِنْ حَضَرْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتُجِيبَ لَهُ، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: بِتَمَامِهِ (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: لَهُ الشَّيْطَانُ) : رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ السُّنِّيِّ.

2444 - وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلِجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2444 - (وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِذَا وَلَجَ الرَّجُلُ) : أَيْ: أَدْخَلَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ (بَيْتَهُ) : قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ لِلْغَلَبَةِ (فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (إِنِّي أَسْأَلُكَ) (خَيْرَ الْمَوْلِجِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ كَالْمَوْعِدِ وَيُفْتَحُ (وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ) : بِالْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى تَعْلِيمًا لَهُ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ دُخُولٍ وَخُرُوجٍ حَتَّى الدُّخُولَ فِي الْقَبْرِ وَالْخُرُوجَ عَنْهُ، وَإِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، نَعَمْ تَقْدِيمُ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ مَا وَرَدَ فِيهَا، وَسَبَبُ تَقَدُّمِ الْخُرُوجِ فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ عَلَى مَا فِي الْخُلَاصَةِ: الْمَوْلِجُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَمِنَ الرُّوَاةِ مَنْ فَتَحَهَا وَالْمُرَادُ الْمَصْدَرُ، أَيِ الْوُلُوجُ وَالْخُرُوجُ، أَوِ الْمَوْضِعُ أَيْ: خَيْرَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُولَجُ فِيهِ، وَيُخْرَجُ مِنْهُ. قَالَ مِيرَكُ: الْمَوْلِجُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ، لِأَنَّ مَا كَانَ فَاؤُهُ يَاءً أَوْ وَاوًا سَاقِطَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَالْمَفْعِلُ مِنْهُ مَكْسُورُ الْعَيْنِ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ جَمِيعًا، وَمَنْ فَتَحَ هُنَا فَإِمَّا أَنَّهُ سَهَا أَوْ قَصَدَ مُزَاوَجَتَهُ لِلْمَخْرَجِ، وَإِرَادَةُ الْمَصْدَرِ بِهَمَا أَتَمُّ مِنْ إِرَادَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْخَيْرُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ قِبَلِ الْوُلُوجِ وَالْخُرُوجِ اهـ. وَتَوْضِيحُهُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ: أَنَّ مَنْ فَتَحَهَا مِنَ الرُّوَاةِ لَمْ يُصِبْ لِأَنَّ مَا كَانَ فَاءُ الْفِعْلِ مِنْهُ وَاوًا، ثُمَّ سَقَطَتْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَحْوَ: يَعِدُ وَيَزِنُ وَيَهَبُ، فَإِنَّ الْمَفْعِلَ مِنْهُ مَكْسُورٌ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ جَمِيعًا وَلَا يُفْتَحُ - مَفْتُوحًا كَانَ يَفْعَلُ مِنْهُ أَوْ مَكْسُورًا - بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مِنْهُ ذَاهِبَةً إِلَّا أَحْرُفًا جَاءَتْ نَوَادِرَ، فَالْمَوْلِجُ مَكْسُورُ اللَّامِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قُدِّرَ، وَلَعَلَّ الْمَصْدَرَ مِنْهُ جَاءَ عَلَى الْمَفْعِلِ، وَأُخِذَ بِهِ مَأْخَذَ الْقِيَاسِ، أَوْ رُوعِيَ فِيهِ طَرِيقُ الِازْدِوَاجِ فِي الْمَخْرَجِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ خَيْرَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَلِجُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يُرَادُ أَيْضًا بِالْمَخْرَجِ مَوْضِعُ الْخُرُوجِ يُقَالُ: خَرَجَ مَخْرَجًا حَسَنًا وَهَذَا مَخْرَجُهُ اهـ.

وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ هُنَا: وَيَرُدُّهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ تُفِيدُ إِثْبَاتَ هَذَا مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ أَيْضًا، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ، بَلْ هِيَ نُسْخَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا وَلَوْ رِوَايَةً يَكُونُ تَوْجِيهُهَا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ لِيُطَابِقَ الْقَوَاعِدَ الْعَرَبِيَّةَ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ مَرْدُودًا وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَغَايَةِ الْقَبُولِ عِنْدَ أَهْلِ التَّدْقِيقِ؟ . (بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا) : أَيْ: دَخَلْنَا: وَفِي الْحِصْنِ زِيَادَةُ: وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا. (وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا) : بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (تَوَكَّلْنَا) : أَيِ: اعْتَمَدْنَا (ثُمَّ لْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ) : أَيْ: أَهْلِ بَيْتِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2445 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَفَّأَ الْإِنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ، قَالَ (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكُمَا، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2445 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَفَّأَ الْإِنْسَانَ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزٌ أَيْ: أَرَادَ دُعَاءً لِلْمُتَزَوِّجِ مِنَ التَّرْفِئَةِ مَهْمُوزِ اللَّامِ بِمَعْنَى التَّهْنِئَةِ، وَإِذَا شَرْطِيَّةٌ وَقَوْلُهُ: (إِذَا تَزَوَّجَ: ظَرْفِيَّةٌ مَحْضَةٌ أَيْ: إِذَا هَنَّأَ لَهُ دَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ حِينَ تَزَوُّجِهِ، وَالتَّرْفِئَةُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُتَزَوِّجِ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، وَالرِّفَاءِ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ الِالْتِئَامُ وَالِاتِّفَاقُ، مِنْ رَفَأْتُ الثَّوْبَ أَيْ أَصْلَحْتُهُ، وَقِيلَ: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ قَوْلِهِمْ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ الْبَنَاتِ وَالتَّقْرِيرِ لِبُغْضِهِنَّ فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ، لِكَوْنِهِ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَلَهُ وَنِعْمَ الْبَدَلُ فَإِنَّهُ أَتَمُّ فَائِدَةً، وَأَعَمُّ عَائِدَةً مَا رَوَاهُ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: قَالَ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ) : أَيْ: بِالْخُصُوصِ، أَيْ أَكْثَرَ لَكَ الْخَيْرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْإِمْدَادِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وَبِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُغْنِيَهُمْ) ذَكَرَ مِنْهُمُ الْمُتَزَوِّجَ يُرِيدُ الْعَفَافَ، (" وَبَارَكَ عَلَيْكُمَا ") بِنُزُولِ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالرِّزْقِ وَالْبَرَكَةِ فِي الذُّرِّيَّةِ، (وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ) : أَيْ: فِي طَاعَةٍ وَصِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ وَسَلَامَةٍ وَمُلَاءَمَةٍ وَحُسْنِ مُعَاشَرَةٍ وَتَكْثِيرِ ذَرِّيَّةٍ صَالِحَةٍ. قِيلَ: قَالَ أَوَّلًا بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، لِأَنَّهُ الْمَدْعُوُّ لَهُ أَصَالَةً أَيْ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، ثُمَّ تَرَقَّى مِنْهُ وَدَعَا لَهُمَا، وَعَدَّاهُ بِعَلَى بِمَعْنَى بَارَكَ عَلَيْهِ بِالذَّرَارِيِّ وَالنَّسْلِ، لِأَنَّهُ الْمَطْلُوبُ مِنَ التَّزَوُّجِ، وَأَخَّرَ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُرَافَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْأَوَّلَ هُوَ النَّسْلُ، وَهَذَا تَابِعٌ لَهُ. ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَتَى بِقَوْلِهِ: رَفَّأَ وَقَيَّدَهُ بِالظَّرْفِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ التَّرْفِيَةَ مُحْتَرَزٌ عَنْهَا وَأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ شَارِحٍ أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا ثُمَّ نُسِخَ بِمَا قَالَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَحْتَاجُ إِلَى سَنَدٍ صَحِيحٍ يُصَرِّحُ بِذَلِكَ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : الْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، وَأَنَّ الْمَجْمُوعَ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

2446 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، أَوِ اشْتَرَى خَادِمًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا، فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ، وَيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ: (ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2446 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، أَوِ اشْتَرَى خَادِمًا) : أَيْ: جَارِيَةً أَوْ رَقِيقًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَيَكُونُ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ فِيمَا سَيَأْتِي بِاعْتِبَارِ النَّفْسِ أَوِ النَّسَمَةِ (" فَلْيَقُلْ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَهِيَ الشَّعْرُ الْكَائِنُ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مُطْلَقُ الرَّأْسِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: (" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا ") : أَيْ: خَيْرَ ذَاتِهَا وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ خَيْرِهَا (" وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا ") : أَيْ: خَلَقْتَهَا وَطَبَعْتَهَا (" عَلَيْهِ ") : أَيْ: مِنَ الْأَخْلَاقِ الْبَهِيَّةِ، وَفِعْلُ الْأَوَّلِ عَامٌّ،

وَالثَّانِي خَاصٌّ (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا، فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ ") : بِكَسْرِ الذَّالِ وَيُضَمُّ وَيُفْتَحُ أَيْ بِأَعْلَاهُ (" وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ ") . (وَفِي رِوَايَةِ الْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ) : قَالَ الْجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَكَذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُؤَلِّفِ كَيْفَ تَرَكَهَا (" ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ ") : الْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّهُ يَدْعُو بِالدُّعَاءِ السَّابِقِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ تَرْكِهَا مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : الْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ الْأُولَى رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ وَالْحَاكِمُ. وَالشَّرْطِيَّةُ الثَّانِيَةُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِذَا اشْتَرَى مَمْلُوكًا قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَاجْعَلْهُ طَوِيلَ الْعُمْرِ، كَثِيرَ الرِّزْقِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا.

2447 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2447 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : بِالتَّاءِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ ") : أَيِ: الْمَفْهُومِ الْمَغْمُومِ، وَسَمَّاهُ دَعَوَاتٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعَانٍ جَمَّةٍ (" اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو ") : أَيْ: لَا أَرْجُو إِلَّا رَحْمَتَكَ (" فَلَا تَكِلْنِي ") : أَيْ: لَا تَتْرُكْنِي (" إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ ") : أَيْ: لَحْظَةً وَلَمْحَةً، فَإِنَّهَا أَعْدَى لِي مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِي وَإِنَّهَا عَاجِزَةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي (فَلَا تَكِلْنِي) مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: رَحْمَتَكَ أَرْجُو. فَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لِيُفِيدَ الِاخْتِصَاصَ، وَالرَّحْمَةُ عَامَّةٌ، فَيَلْزَمُ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِذَا فَوَّضْتَ أَمْرِي إِلَيْكَ فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، لِأَنِّي لَا أَدْرِي مَا صَلَاحُ أَمْرِي وَمَا فَسَادُهُ، وَرُبَّمَا زَاوَلْتُ أَمْرًا وَاعْتَقَدْتُ أَنَّ صَلَاحَ أَمْرِي، فَانْقَلَبَ فَسَادًا، وَبِالْعَكْسِ. وَلَمَّا فَرَغَ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ تَفْوِيضَ أَمْرِهِ إِلَى الْغَيْرِ وَيُثْبِتَهُ لِلَّهِ قَالَ: (" وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي ") : أَيْ: أَمْرِي (" كُلَّهُ ") : تَأْكِيدٌ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ (" لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ") : وَهَذِهِ فَذْلَكَةُ الْمَقْصُودُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ وَحْدَةَ الْمَعْبُودِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ إِلَّا أَنَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: (كُلَّهُ) .

2448 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: (أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟) قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ (قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ) . قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2448 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: هُمُومٌ) : جَمْعُ الْهَمِّ وَحَذْفُ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: (لَزِمَتْنِي) : عَلَيْهِ (وَدُيُونٌ) : عَطْفٌ عَلَى هُمُومٍ، أَيْ: وَدُيُونٌ لَزِمَتْنِي، فَلَزِمَتْنِي صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ مُخَصِّصَةٌ لَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَقُولُ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ أَيْ: هُمُومٌ عَظِيمَةٌ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا، وَدُيُونٌ جَمَّةٌ نَهَّضَتْنِي وَأَثْقَلَتْنِي اهـ. وَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِبَيَانِ أَنَّ تِلْكَ الْهُمُومَ هَمُّ تِلْكَ الدُّيُونِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ: (الدَّيْنُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ مَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ) . قُلْنَا: لَا مُنَاقَشَةَ فِي أَنَّ الدَّيْنَ هَمٌّ، بَلْ وَرَدَ: لَا هَمَّ إِلَّا هَمُّ الدَّيْنِ، وَلَكِنَّ بَقَاءَ الْهُمُومِ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ الْعَطْفَ بِالْخُصُوصِ أَوْلَى مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ وَأَبْلَغُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ) . (يَا رَسُولَ اللَّهِ!) : كَأَنَّ فِيهِ اسْتِغَاثَةً بِهِ إِيمَاءً إِلَى عَظَمَةِ مِحْنَتِهِ الَّتِي لَا يَدْفَعُهَا إِلَّا مَنْزِلَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَامِعَةُ لِمَرْتَبَتَيِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ اللَّتَيْنِ هُمَا التَّوَسُّطُ وَالتَّعَلُّقُ وَالتَّوَسُّلُ إِلَى الْحَقِّ تَعَالَى (قَالَ: (أَفَلَا أُعَلِّمُكَ) ، عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: أَلَا أُرْشِدُكَ فَلَا أُعَلِّمُكَ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ فَأَلَا أُعَلِّمُكَ، ثُمَّ قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَظْهَرُ لِبُعْدِهِ عَنِ التَّكَلُّفِ بَلِ التَّعَسُّفِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى لِلْفَاءِ فَائِدَةٌ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ

وَقَالَ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ، وَلَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ نَظِيرُ: " مَا مَنَعَكَ أَلَا تَسْجُدَ " وَالتَّقْدِيرُ: أَتَمْتَثِلُ مَا آمُرُكَ بِهِ فَأُعَلِّمُكَ؟ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ جَوَابُهُ بِقُلْتُ: بَلَى، وَفِي قَوْلِ الطِّيبِيِّ إِيهَامٌ أَنَّ (لَا) أَصِيلَةٌ وَلَيْسَ مُرَادًا اهـ. وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ (لَا) أَصْلِيَّةٌ وَلِذَا أَعَادَهَا حَيْثُ قَالَ: أَلَا أُرْشِدُكَ فَلَا أُعَلِّمُكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ تَدْخُلُ عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهَا لَكَانَ مُرَادًا لِلْمُشَارَكَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ، فَغَايَتُهُ أَنَّ (لَا) الثَّانِيَةَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَمَّا فِي تَقْدِيرِهِ: أَتَمْتَثِلُ مَا آمُرُكَ بِهِ فَأُعَلِّمُكَ لَمْ يُوجَدْ نَفْيٌ حَتَّى تَكُونَ (لَا) مُؤَكِّدَةً وَكَذَا فِيمَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ النَّظِيرُ، وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الْآيَةِ أَيْ: أَنْ يَسْجُدَ كَمَا فِي (صاد) وَلَا صِلَةَ مِثْلَهَا فِي لِئَلَّا يَعْلَمَ مُؤَكِّدَةٌ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ (لَا) هِيَ النَّافِيَةُ فَإِذَا كَانَتْ زَائِدَةً كَيْفَ يُؤَكَّدُ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ (كَلَامًا) : أَيْ: دُعَاءً (" إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟ ") : أَيْ: جِنْسَهُمَا (قَالَ: قُلْتُ: بَلَى) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ قَالَ: قَالَ: بَلَى: لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمْ يَرْوِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، بَلْ شَاهَدَ الْحَالَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ، وَيُقَالَ: تَقْدِيرُهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ. قَالَ لِي رَجُلٌ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي. (قَالَ: " قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْوَقْتَانِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِمَا الدَّوَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِفَتْحٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَمُّ فِي الْمُتَوَقَّعِ وَالْحُزْنُ فِيمَا فَاتَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: لَيْسَ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى، كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ، بَلِ الْهَمُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ الْمُتَوَقَّعِ، وَالْحُزْنُ فِيمَا قَدْ وَقَعَ، أَوِ الْهَمُّ هُوَ الْحُزْنُ الَّذِي يُذِيبُ الْإِنْسَانَ، فَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْحُزْنِ، وَهُوَ خُشُونَةٌ فِي النَّفْسِ لِمَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْغَمِّ فَافْتَرَقَا مَعْنًى، وَقِيلَ: الْهَمُّ الْكَرْبُ يَنْشَأُ عِنْدَ ذِكْرِ مَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ، وَالْغَمُّ مِمَّا يَحْدَثُ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ، وَالْحُزْنُ مَا يَحْصُلُ لِفَقْدِ مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ فَقْدُهُ، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ ") : هُوَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ، وَأَصْلُهُ التَّأَخُّرُ عَنِ الشَّيْءِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَجُزِ وَهُوَ مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ، وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْقُصُورِ عَنْ فِعْلِ الشَّيْءِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مُقَابَلَةِ الْقُدْرَةِ وَاشْتُهِرَ فِيهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَعَنْ تَحَمُّلِ الْمُصِيبَةِ وَالْمِحْنَةِ، (" وَالْكَسَلِ ") : أَيِ: التَّثَاقُلِ عَنِ الْأَمْرِ الْمَحْمُودِ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِعَادَةُ أَعُوذُ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا يَلِيقُ بِالِاسْتِعَاذَةِ اسْتِقْلَالًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ لِتَلَازُمِهِمَا غَالِبًا، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ ") : بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَبِفَتْحِهِمَا، وَهُوَ تَرْكُ أَدَاةِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَبَاقِي الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ وَرَدِّ السَّائِلِ وَتَرْكِ الضِّيَافَةِ، وَمَنْعِ الْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" وَالْجُبْنِ ") : بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ضِدُّ الشَّجَاعَةِ وَهُوَ الْخَوْفُ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَمِنْهُ عَدَمُ الْجَرَاءَةِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْهُ عَدَمُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ سُكُونُ الْبَاءِ هِيَ الثَّابِتَةُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّهُ جَاءَ بِضَمَّتَيْنِ أَيْضًا (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ ") : أَيْ: كَثْرَتِهِ وَهِيَ أَنْ يَفْدَحَهُ الدَّيْنُ وَيُثْقِلَهُ، وَفِي مَعْنَاهُ ضَلَعُ الدَّيْنِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أَيْ: ثِقْلُهُ الَّذِي يَمِيلُ صَاحِبُهُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، وَالضَّلَعُ بِالتَّحْرِيكِ الِاعْوِجَاجُ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ (الدَّيْنُ ضَلَعُ الدِّينِ) وَفِي رِوَايَةٍ، (الدَّيْنُ شَيْنُ الدِّينِ) . (" وَقَهْرُ الرِّجَالِ ") : أَيْ: غَلَبَتُهُمْ. كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ هَيَجَانَ النَّفْسِ مِنْ شِدَّةِ الشَّبَقِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ: مِنْ غَلَبَةِ النَّفْسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَهْرِ الْغَلَبَةُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. وَقِيلَ: قَهْرُ الرِّجَالِ هُوَ جَوْرُ السُّلْطَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجَالِ الدَّائِنُونَ. اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الدَّائِنِينَ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْأَدَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ مُشْتَمَلِ الدُّعَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْجُبْنِ يَتَعَلَّقُ بِإِزَالَةِ الْهَمِّ، وَالْآخَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: غَلَبَةِ الرِّجَالِ إِمَّا إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: قَهْرِ الدَّائِنِينَ إِيَّاهُ وَغَلَبَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالتَّقَاضِي، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَقْضِي، أَوْ إِلَى الْمَفْعُولِ بِأَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ يُعَاوِنُهُ عَلَى قَضَاءِ دُيُونِهِ مِنْ رِجَالٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُزَكِّي عَلَيْهِ اهـ.

وَفِي تَفْسِيرِهِ الثَّانِي نَظَرٌ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْإِضَافَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ، بَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى آخَرَ لِإِضَافَةِ الْفَاعِلِ. (قَالَ) : أَيِ: الرَّجُلُ أَوْ أَبُو سَعِيدٍ (فَفَعَلْتُ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ (فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي) : أَيْ: وَحُزْنِي (وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ) .

2449 - «وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَاءَهُ مُكَاتَبٌ فَقَالَ: إِنِّي عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي. قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلٍ كَبِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ. قُلْ: (اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) . وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ: " إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ " فِي بَابِ: " تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2449 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَاءَهُ مُكَاتَبٌ) : أَيْ: لِغَيْرِهِ وَهُوَ عَبْدٌ عَلَّقَ سَيِّدُهُ عِتْقَهُ عَلَى إِعْطَائِهِ كَذَا بِشُرُوطٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْفِقْهِ، (فَقَالَ: إِنِّي عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي) : أَيْ: عَنْ بَدَلِهَا، وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي كَاتَبَ بِهِ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ، يَعْنِي بَلَغَ وَقْتَ أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ وَلَيْسَ لِي مَالٌ (فَأَعِنِّي) : أَيْ: بِالْمَالِ أَوْ بِالدُّعَاءِ بِسِعَةِ الْمَالِ (فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَلَا لِلتَّنْبِيهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَلَا لِلنَّفْيِ، وَسَقَطَ الْجَوَابُ بِبِلَى اخْتِصَارًا أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَالْمَعْنَى أَلَا أُخْبِرُكَ بِكَلِمَاتٍ أَوْ بِفَضِيلَةِ دَعَوَاتٍ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّهُ (لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلٍ كَبِيرٍ دَيْنًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: دَيْنًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا عَنِ اسْمِ كَانَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ، وَعَلَيْكَ خَبَرُهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ (دَيْنًا) خَبَرَ كَانَ وَعَلَيْكَ حَالًا مِنَ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ، وَالْعَامِلُ هُوَ الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ فِي الْخَبَرِ، وَمَنْ جَوَّزَ إِعْمَالَ كَانَ فِي الْحَالِ فَظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِ، (أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: اكْتَفَى بِالتَّعْلِيمِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ يُعْطِيهِ، فَرَدَّهُ أَحْسَنَ رَدٍّ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ} [البقرة: 263] الْآيَةَ. وَإِمَّا لِأَنَّ الْأَوْلَى بِحَالِهِ ذَلِكَ. (قُلْ) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: (اللَّهُمَّ اغْنِنِي) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ فِي الِابْتِدَاءِ مَكْسُورَةً وَتَسْقُطُ فِي الدَّرَجِ، وَضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ إِذْ هُوَ أَمْرٌ مِنْ كَفَى يَكْفِي (بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ) : أَيْ: مُتَجَاوِزًا أَوْ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ (وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا. (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ: (إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ) : بِضَمِّ النُّونِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ: صِيَاحَهَا وَتَمَامُهُ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ: (وَنَهِيقَ الْحِمَارِ بِاللَّيْلِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فَإِنَّهُنَّ أَيِ: الْكِلَابُ وَالْحَمِيرُ يَرَيْنَ مَا لَا تَرَوْنَ أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ لِتُحْفَظُوا مِنْ شُرُورِهَا. (فِي بَابِ: تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ نَقْلِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِلَى ذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2450 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ، «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا أَوْ صَلَّى بِكَلِمَاتٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ: (إِنْ تُكُلِّمَ بِخَيْرٍ كَانَ طَابَعًا عَلَيْهِنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تُكُلِّمَ بِشَرٍّ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» ) . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2450 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسَهُ أَوْ صَلَّى) : أَيْ: صَلَاةً (تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ) : أَيْ: عِنْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهَا، أَوْ قِيَامِهِ عَنْهُ (فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلِمَاتِ) : أَيْ: عَنْ

فَائِدَتِهَا (فَقَالَ: إِنْ تُكُلِّمَ بِخَيْرٍ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فَنَائِبُهُ الْجَارُّ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ أَيْ: إِنْ تَكَلَّمَ مُتَكَلِّمٌ بِخَيْرٍ أَيْ طَاعَةٍ قَبْلَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا، (كَانَ) : أَيِ: الذِّكْرُ الْآتِي وَهُوَ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ، وَقِيلَ: أَيْ: تِلْكَ الْكَلِمَاتُ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْكَلَامِ (طَابَعًا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتُكْسَرُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ طَابَعًا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ الْخَتْمُ - سَهْوُ قَلَمٍ إِذِ الطَّابَعُ مَا يُخْتَمُ بِهِ، الْخَتْمُ مَصْدَرٌ، فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِهِ لَا الطَّابَعُ، أَيْ: خَتْمًا (عَلَيْهِنَّ) : أَيْ: عَلَى كَلِمَاتِ الْخَيْرِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تُكُلِّمَ) بِالْوَجْهَيْنِ (بِشَرٍّ) : أَيْ: بِإِثْمٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ حُكْمَ الْمُبَاحِ، وَلَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُكْتَبُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] إِلَّا أَنَّهُ يُمْحَى عِنْدَ الْحِسَابِ أَوْ قَبْلَهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةٌ يُخَافُ مِنْهَا. (كَانَ كَفَّارَةً لَهُ) : أَيْ: لِمَا تُكُلِّمَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَجَمَعَهُ أَوَّلًا وَأَفْرَدَهُ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ نَظَرًا لِلَفْظِهِ تَفَنُّنًا - خَطَأٌ، إِذْ لَيْسَ لَهُمَا مَرْجِعٌ مَذْكُورٌ بِلَفْظٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا وَجَمْعًا، بَلْ جَمَعَ بِاعْتِبَارِ كَلِمَاتِ الْخَيْرِ، وَأَفْرَدَ بِاعْتِبَارِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا جُمِعَ تَعْظِيمًا لِلْكَلِمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَسَنَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ": تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ بِكَلِمَاتٍ أَيْ تَكَلَّمَ: سُبْحَانَكَ إِلَخْ. فَسَأَلْتُهُ عَنْ فَائِدَتِهَا. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَضَمِيرُ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: سُبْحَانَكَ فِي الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى، وَفِي تَقَدُّمِ الْفَائِدَةِ عَلَيْهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ وَلِعِظَمِ فَائِدَةِ الْجَزَاءِ. (وَبِحَمْدِكَ) : عَطْفٌ أَيْ: أُسَبِّحُ وَأَحْمَدُ، أَوْ بِنِعْمَتِكَ أُسَبِّحُ، أَوْ حَالٌ أَيْ: أُسَبِّحُ حَامِدًا لَكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: مِنَ الْكَلِمَاتِ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ قَوْلُهُ كَلِمَاتٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يُضْمَرَ شَيْءٌ فَيَكُونَ الْكَلِمَاتُ الْجُمْلَتَيْنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ، وَاسْمُ كَانَ فِيهِمَا مُبْهَمٌ تَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ فَمَا فَائِدَةُ الْكَلِمَاتِ؟ فَعَلَى هَذَا الْكَلِمَاتُ هِيَ قَوْلُهُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَالْمُضْمَرُ فِي كَانَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يُسَاعِدُ الْأَوَّلَ، وَقَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ) مُعْتَرِضٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَبِحَمْدِكَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: (سُبْحَانَكَ) إِمَّا بِالْعَطْفِ أَيْ: أُسَبِّحُ وَأَحْمَدُ، أَوْ بِالْحَالِ أَيْ: أُسَبِّحُ حَامِدًا لَكَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، أَوْ بِمَعْنَى " مَعَ " وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) : أَيْ: أَنْتَ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نُقْصَانٍ، وَأَنْتَ الْمَحْمُودُ بِكُلِّ إِحْسَانٍ (أَسْتَغْفِرُكَ) : أَيْ: مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ (وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) : أَيْ: مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَالْمَعْنَى أَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي وَأَنْ تَتُوبَ عَلَيَّ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

2451 - وَعَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: (هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا، وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2451 - (وَعَنْ قَتَادَةَ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (بَلَغَهُ) : أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ) : أَيْ: بَعْدَ قَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ. مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. (هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ) : أَيْ: هِلَالُ بَرَكَةٍ فِي الرِّزْقِ وَهِدَايَةٍ إِلَى الْقِيَامِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مِيقَاتُ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهَا. قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أَنْتَ هِلَالٌ لِلشَّهْرِ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْنَا. أَقُولُ: أَوْ هُوَ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ الْتِفَاتًا وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، فَلَعَلَّ التَّقْدِيرَ أَهَلَّهُ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ. (هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ) : كَرَّرَهُ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَيَصِحُّ بَقَاؤُهُ عَلَى خَبَرِيَّتِهِ تَفَاؤُلًا بِأَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، (آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ عَبَدَ الْقَمَرَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ يَقُولُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا ") : أَيْ: صَفَرٍ مَثَلًا (" وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا ") أَيْ: رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مَثَلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرَادُ بِهِ الثَّنَاءُ عَلَى قُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ مِثْلُ هَذَا الْإِذْهَابِ الْعَجِيبِ، وَهَذَا الْمَجِيءُ الْغَرِيبُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى،

يُرَادُ بِهِ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَوْلَى الْعِبَادَ بِسَبَبِ الِانْتِقَالِ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَلَفْظُهُ: (هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذَا الشَّهْرِ وَخَيْرِ الْقَدَرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَيْرَهُ وَنَصْرَهُ وَبَرَكَتَهُ وَفَتْحَهُ وَنُورَهُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ.

2452 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ كَثُرَ هَمُّهُ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ وَفِي قَبْضَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَلْهَمْتَ عِبَادَكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي مَكْنُونِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَجِلَاءَ هَمِّي. مَا قَالَهَا عَبْدٌ قَطُّ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ غَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ فَرَحًا» ) . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2452 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ كَثُرَ هَمُّهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ. أَيْ: ابْنُ جَارِيَتِكَ، وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِالْعُبُودِيَّةِ (وَفِي قَبْضَتِكَ) : أَيْ: فِي تَصَرُّفِكَ وَتَحْتَ قَضَائِكَ وَقَدَرِكَ، وَلَا حَرَكَةَ لِي وَلَا سُكُونَ إِلَّا بِأَقْدَارِكَ وَهُوَ إِقْرَارٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ، (نَاصِيَتِي بِيَدِكَ) : أَيْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] (مَاضٍ) : أَيْ: ثَابِتٌ وَنَافِذٌ (فِيَّ) : أَيْ: فِي حَقِّي (حُكْمُكَ) : أَيِ: الْأَمْرِيُّ أَوِ الْكَوْنِيُّ كَإِهْلَاكٍ وَإِحْيَاءٍ وَمَنْعٍ وَعَطَاءٍ، (عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ) : أَيْ: مَا قَدَّرْتَهُ عَلَيَّ لِأَنَّكَ تَصَرَّفْتَ فِي مُلْكِكَ عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِكَ. (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ) : أَيْ: ذَاتَكَ وَهُوَ مُجْمَلٌ، وَمَا بَعْدَهُ تَفْصِيلٌ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيعِ الْخَاصِّ أَعْنِي قَوْلَهُ: (أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ) : أَيْ: فِي جِنْسِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، (أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ) : أَيْ: خُلَاصَتِهِمْ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ، أَوْ أَلْهَمْتَهُ عِبَادَكَ،: بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهِيَ أَسْمَاؤُهُ فِي اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهَذَا سَاقِطٌ مِنْ بَعْضِ النُّسَخِ، وَالصَّحِيحُ وُجُودُهُ كَمَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْحِصْنُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْحُ الطِّيبِيِّ، وَكَانَ ابْنُ حَجَرٍ بَنَى عَلَى النُّسْخَةِ السَّاقِطَةِ حَيْثُ قَالَ: سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَلْهَمْتَهُ لِخَوَاصِّ أَوْلِيَائِكَ. (أَوِ اسْتَأْثَرْتَ) : أَيْ: اخْتَرْتَ (بِهِ) : وَتَفَرَّدْتَ بِهِ وَاحْتَفَظْتَهُ فِي مَكْنُونِ الْغَيْبِ) : أَيْ: مَسْتُورِهِ، وَرِوَايَةُ الْحِصْنِ: فِي عِلْمِ الْغَيْبِ (عِنْدَكَ) : أَيْ: لَمْ تُلْهِمْهُ أَحَدًا وَلَمْ تُنْزِلْهُ فِي كِتَابٍ، فَ (عِنْدَ) عَلَى بَابِهِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِنَّ الْعِنْدِيَّةَ هُنَا عِنْدِيَّةُ شَرَفٍ وَمَكَانَةٍ، فَإِنَّهُ بِمَا يُقَالُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55] (أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) : مَفْعُولُ أَسْأَلُكَ (رَبِيعَ قَلْبِي) : أَيْ: رَاحَتَهُ، وَزِيدَ فِي الْحِصْنِ: وَنُورَ بَصَرِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ وَالسَّابِقُ وَسَائِلٌ إِلَيْهِ، فَأَظْهَرَ أَوَّلًا غَايَةَ ذِلَّتِهِ وَصَغَارِهِ وَنِهَايَةَ عَجْزِهِ وَافْتِقَارِهِ، وَثَانِيًا: بَيَّنَ عَظَمَةَ شَأْنِهِ وَجَلَالَةَ اسْمِهِ سُبْحَانَهُ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ بَقِيَّةٌ، وَأَلْطَفَ فِي الْمَطْلُوبِ حَيْثُ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ وَسِيلَةً إِلَى إِزَالَةِ الْهَمِّ الْمَطْلُوبِ وَجَعْلِ الْقُرْآنِ رَبِيعَ الْقَلْبِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَرَحِ، لِأَنَّهُ الْإِنْسَانُ يَرْتَاعُ قَلْبُهُ فِي الرَّبِيعِ مِنَ الْأَزْمَانِ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَأَقُولُ: كَمَا أَنَّ الرَّبِيعَ سَبَبُ ظُهُورِ أَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، كَذَلِكَ الْقُرْآنُ سَبَبُ ظُهُورِ تَأْثِيرِ لُطْفِ اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْمَعَارِفِ، وَزَوَالِ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْهَرَمِ، (وَجِلَاءَ هَمِّي وَغَمِّي) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: إِزَالَتَهُمَا، وَسَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَفَسَّرَ الْقَامُوسُ الْغَمَّ بِالْكَرْبِ وَالْحُزْنِ، وَالْهَمَّ بِالْحُزْنِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْغَمَّ أَعَمُّ، وَفِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ: وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي. (مَا قَالَهَا) : أَيِ: الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَةَ (عَبْدٌ قَطُّ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ غَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ بِهِ فَرَجًا) : بِالْجِيمِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِالْجِيمِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي الْحِصْنِ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا بِالْحَاءِ (رَوَاهُ رَزِينٌ: وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

2453 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2453 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا) : أَيْ: فِي سَفَرِنَا (إِذَا صَعِدْنَا) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعْنَا مَكَانًا عَالِيًا (كَبَّرْنَا) : أَيْ: قُلْنَا: اللَّهُ أَكْبَرُ، (وَإِذَا نَزَلْنَا) : أَيْ: هَبَطْنَا مَنْزِلًا وَاطِئًا (سَبَّحْنَا) : أَيْ: قُلْنَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَعَلَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَكَانِيِّ إِلَى عُلُوِّ الْمَكَانَةِ فِي التَّكْبِيرِ، وَمِنَ النُّزُولِ الْمُشِيرِ إِلَى الْحُدُوثِ وَالنُّقْصَانِ إِلَى تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثَانِ فِي التَّسْبِيحِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

2454 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ يَقُولُ: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2454 - (وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ) : أَيْ: أَصَابَهُ كَرْبٌ وَشِدَّةٌ (يَقُولُ: يَا حَيُّ) : أَيْ: أَزَلًا وَأَبَدًا وَحَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ مُؤَبَّدًا (يَا قَيُّومُ) : أَيْ: قَائِمٌ بِذَاتِهِ يَقُومُ غَيْرُهُ بِقُدْرَتِهِ (بِرَحْمَتِكَ) : أَيِ: الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (أَسْتَغِيثُ) : أَيْ: أَطْلُبُ الْإِغَاثَةَ، وَأَسْأَلُ الْإِعَانَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَيْسَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَيْسَ (بِمَحْفُوظٍ) : وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُمَا: وَيُكَرِّرُ وَهُوَ سَاجِدٌ: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ) وَقِيلَ: هُمَا اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: لِعِزَّتِهِمَا فِي الْقُرْآنِ، لَمْ يُذْكَرَا فِيهِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَتُعُقِّبَ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ بَعْضَ الْأَسْمَاءِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إِلَّا مَرَّةً، وَلَمْ يُقَلْ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ.

2455 - (وَعَنْ) أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ) : يَا رَسُولَ اللَّهِ) هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ؟ فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. قَالَ: (نَعَمْ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا) . قَالَ: فَضَرَبَ اللَّهُ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ وَهَزَمَ اللَّهُ بِالرِّيحِ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ.) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2455 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ) أَيْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي الْمَدِينَةِ، وَسَبَبُ حَفْرِ الْخَنْدَقِ، أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ تَحَزَّبُوا لِحَرْبِهِ، وَجَمَعُوا مِنْ مُشْرِكِيِ الْعَرَبِ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَأَشَارَ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَفْرِهِ، كَمَا هُوَ عُرْفُ بِلَادِهِمْ إِذَا قَصَدَهُمُ الْعَدُوُّ الَّذِي لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، لِيَمْنَعَهُمْ دُخُولَهَا بَغْتَةً، وَيَسْتَأْمِنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَحَفَرَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَرَأَوْا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْجُوعِ وَالْمُعْجِزَاتِ مَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي مَحَلِّهِ. (يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ؟) : أَيْ: فِي حَالَةِ الشِّدَّةِ الشَّدِيدَةِ (فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) : كِنَايَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْأَمْرِ فِي الشِّدَّةِ غَايَتَهَا، وَفِي الْمِحْنَةِ نِهَايَتَهَا، فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ، أَيْ: فَزَالَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا حَتَّى بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ مِنَ الْفَزَعِ، وَالْحَنْجَرَةُ فَوْقَ الْحُلْقُومِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. (قَالَ: " نَعَمْ ") أَيْ قُولُوا (اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا) : أَيْ: فَزَعَاتِ قُلُوبِنَا، (وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا. قَالَ) : أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَضَرَبَ اللَّهُ) : أَيْ: بَعْدَمَا قَالَ لَهُمْ وَقَالُوا دَفَعَ اللَّهُ وَصَرَفَ عَنْ مُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُقَابَلَتِهِمْ (وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ) : بِأَنْ جَعَلَهَا مُسَلَّطَةً عَلَيْهِمْ حَتَّى كَفَأَتْ قُدُورَهُمْ وَأَلْقَتْ خِيَامَهُمْ، وَوَقَعُوا فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ وَظُلْمَةٍ عَظِيمَةٍ. (وَهَزَمَ اللَّهُ) : بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَرْكِهَا، وَالْمَعْنَى هَزَمَهُمْ، فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا لِضَرَبَ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، (بِالرِّيحِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: فَانْهَزَمُوا بِهَا، فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ سَبَبًا لِإِنْزَالِ الرِّجْزِ، وَأَقْحَمَ لَفْظَ اللَّهِ يَدُلُّ بِهِ عَلَى قُوَّةِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

2456 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ السُّوقَ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ السُّوقِ، وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُصِيبَ فِيهَا صَفْقَةً خَاسِرَةً» ) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2456 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ السُّوقَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ خَرَجَ إِلَيْهِ (قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ) : أَيْ: عِنْدَ وَضْعِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى فِيهِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ السُّوقِ) : يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، (وَخَيْرَ مَا فِيهَا) : أَيِ: الْأُمُورِ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى الدِّينِ، أَوْ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ السُّوقِ بِتَيْسِيرِ رِزْقٍ حَلَالٍ وَعَمَلٍ رَابِحٍ وَبَرَكَةٍ فِي الْوُقُوفِ بِهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا مِنَ النَّاسِ وَالْعُقُودِ وَالْأَمْتِعَةِ. (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا) أَيْ: مِنَ التَّعَلُّقِ بِهَا وَالْحِرْصِ عَلَى دُخُولِهَا. (وَشَرِّ مَا فِيهَا) : أَيْ: أَيٍّ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالْكَسَادِ وَأَصْحَابِ الْفَسَادِ، (" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُصِيبَ ") : أَيْ: أُدْرِكَ (فِيهَا صَفْقَةً) : أَيْ: بَيْعَةً (خَاسِرَةً) : أَيْ: دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّفْقَةُ الْمَرَّةُ مِنَ التَّصْفِيقِ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْعَقْدِ فَإِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَضَعُ أَحَدُهُمَا يَدَهُ عَلَى يَدِ الْآخَرِ، وَوَصْفُ الصَّفْقَةِ بِالْخَاسِرَةِ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ صَاحِبَهَا خَاسِرٌ بِالْحَقِيقَةِ اهـ. فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِيهِمَا ذَاتَ خَسَارَةٍ وَذَاتَ رِضًا، أَوْ فَاعِلَةٌ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ السُّنِّيِّ وَلَفْظُهُمَا: أُصِيبُ فِيهَا يَمِينًا فَاجِرَةً، أَوْ صَفْقَةً خَاسِرَةً، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ. وَالْفَاجِرَةُ بِمَعْنَى الْكَاذِبَةِ.

[باب الاستعاذة]

[بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2457 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [8]- بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ أَيْ أَنْوَاعِ الدَّعَوَاتِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الْعَوْذِ وَهُوَ الِالْتِجَاءُ وَاللَّوْذُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2457 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَعَوَّذُوا ") أَمْرُ نَدْبٍ (بِاللَّهِ) : أَيْ: لَا بِغَيْرِهِ (مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتُضَمُّ أَيْ: مَشَقَّتِهِ إِلَى الْغَايَةِ وَشِدَّتِهِ إِلَى النِّهَايَةِ. وَقِيلَ: الْجَهْدُ مَصْدَرُ اجْهَدْ جَهْدَكَ أَيِ: ابْلُغْ غَايَتَكَ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَشَقَّةِ أَيْضًا، وَهِيَ الْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ، وَيَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهَا، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى وُقُوعِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُرَادُ بِجَهْدِ الْبَلَاءِ الْحَالَةُ الَّتِي يُمْتَحَنُ بِهَا الْإِنْسَانُ حَتَّى يَخْتَارَ حِينَئِذٍ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيَتَمَنَّاهُ اهـ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَشَدَّ أَنْوَاعِهِ، وَلِذَا وَرَدَ: (كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا) . (وَدَرَكِ الشَّقَاءِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا أَيْ: مِنَ الْإِدْرَاكِ لِمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَبِعَتِهِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: الدَّرَكُ هُوَ اللُّحُوقُ وَالْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَدْرَكْتُهُ إِدْرَاكًا وَدَرَكًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَتِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ السِّلَاحِ: الدَّرَكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ اسْمٌ وَبِالسُّكُونِ الْمَصْدَرُ، وَالشَّقَاءُ بِفَتْحِ الشِّينِ بِمَعْنَى الشَّقَاوَةِ نَقِيضُ السَّعَادَةِ، وَيَجِيءُ بِمَعْنَى التَّعَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [طه: 1 - 2] لِتَشْقَى وَقِيلَ: هُوَ وَاحِدُ دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ، وَمَعْنَاهُ مِنْ مَوْضِعِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَهِيَ جَهَنَّمُ أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ يَحْصُلُ لَنَا فِيهِ شَقَاوَةٌ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ إِمَّا مُضَافٌ إِلَيْهِ الْمَفْعُولُ أَوْ إِلَى الْفَاعِلِ: أَيْ: مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ إِيَّانَا، أَوْ مِنْ دَرَكِنَا الشَّقَاءَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّقَاءِ الْهَلَاكُ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّبَبِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ. (وَسُوءِ الْقَضَاءِ) : أَيْ: مَا يَنْشَأُ عَنْهُ سُوءٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْبَدَنِ وَالْمَالِ وَالْخَاتِمَةِ، فَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ) وَيُوقِعُهُ فِي الْمَكْرُوهِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَى أَنَّ لَفْظَ السُّوءِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: مِنْ شَرِّ مَا قَضَيْتَ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ الْمَقْضِيُّ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ كُلَّهُ حَسَنٌ لَا سُوءَ فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقَضَاءُ الْحُكْمُ بِالْكُلِّيَّاتِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فِي الْأَزَلِ، وَالْأَقْدَرُ الْحُكْمُ بِوُقُوعِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي لِتِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. (وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ) : وَهِيَ فَرَحُ الْعَدُوِّ بِبَلِيَّةٍ تَنْزِلُ بِمَنْ يُعَادِيهِ أَيْ: قُولُوا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تُصِيبَنَا مُصِيبَةٌ فِي دِينِنَا أَوْ دُنْيَانَا حَيْثُ يَفْرَحُ أَعْدَاؤُنَا، وَكَذَا عُلِمَ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعَةَ جَامِعَةٌ مَانِعَةٌ لِصَرْفِ الْبَلَاءِ، وَأَنَّ بَيْنَهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، كَمَا فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ وَالْفُصَحَاءِ وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَلِكَوْنِهِ مَقَامَ الْإِطْنَابِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ تَدَاخُلُ بَعْضِ مَعَانِي أَلْفَاظِهِ وَإِغْنَاءُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ اهـ. وَأَنْتَ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ، بَلْ قَارَبَ مَحَلًّا مِنَ الْإِعْجَازِ، فَقَوْلُهُ: مَقَامُ الْإِطْنَابِ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَلَى مَا فِي الْحِصْنِ: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ) إِلَخْ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثُ جُمَلٍ مِنَ الْجُمَلِ الْأَرْبَعَةِ، وَالرَّابِعَةُ زَادَهَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهَا أَنَّهَا مَا هِيَ، وَقَدْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ نَقْلًا عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَزِيدَةَ الَّتِي زَادَهَا سُفْيَانُ مِنْ قِبَلِهِ هِيَ جُمْلَةُ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ.

2458 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2458 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي ") بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا (أَعُوذُ بِكَ) : أَيْ: أَلْتَجِئُ إِلَيْكَ (مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ) : تَقَدَّمَ مَبْنَاهَا وَسَبَقَ مَعْنَاهَا (وَضَلَعِ الدَّيْنِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَتُسَكَّنُ اللَّامُ أَيْ: ثِقَلُهُ وَشِدَّتُهُ، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَجِدُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَفَاءَهُ، لَا سِيَّمَا مَعَ الْمُطَالَبَةِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا دَخَلَ هَمُّ الدَّيْنِ قَلْبًا إِلَّا أَذْهَبَ مِنَ الْعَقْلِ مَا لَا يَعُودُ إِلَيْهِ، وَلِذَا وَرَدَ: الدَّيْنُ شَيْنُ الدِّينِ. (وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) : أَيْ: قَهْرِهِمْ وَشِدَّةِ تَسَلُّطِهِمْ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالرِّجَالِ الظَّلَمَةُ أَوِ الدَّائِنُونَ، وَاسْتَعَاذَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ أَنْ يَغْلِبَهُ الرِّجَالُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَهْنِ فِي النَّفْسِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا الدُّعَاءُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، لِأَنَّ أَنْوَاعَ الرَّذَائِلِ ثَلَاثَةٌ: نَفْسَانِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ وَخَارِجِيَّةٌ، فَالْأُولَى بِحَسَبِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَالشَّهَوِيَّةِ، فَالْهَمُّ وَالْحُزْنُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَقْلِيَّةِ، وَالْجُبْنُ بِالْغَضَبِيَّةِ، وَالْبُخْلُ بِالشَّهَوِيَّةِ، وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ بِالْبَدَنِيَّةِ، وَالثَّانِي يَكُونُ عِنْدَ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَتَمَامِ الْآلَاتِ وَالْقُوَى، وَالْأَوَّلُ عِنْدَ نُقْصَانِ عُضْوٍ وَنَحْوِهِ، وَالضَّلَعُ وَالْغَلَبَةُ بِالْخَارِجِيَّةِ، فَالْأَوَّلُ مَالِيٌّ وَالثَّانِي جَاهِيٌّ، وَالدُّعَاءُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

2459 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2459 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ) : أَيِ: التَّثَاقُلِ فِي الطَّاعَةِ (وَالْهَرَمِ) : الْمُرَادُ بِهِ صَيْرُورَةُ الرَّجُلِ خَرِفًا مِنْ كِبَرِ السِّنِّ (وَالْمَغْرَمِ) : أَيِ: الْغَرَامَةِ، وَهِيَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْإِنْسَانُ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يُلْزَمُ الشَّخْصُ أَدَاءَهُ كَالدَّيْنِ (وَالْمَأْثَمِ) : أَيِ: الْإِثْمِ أَوْ مَا يُوجِبُهُ، ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ» ) : أَيْ: مِنْ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُمُ الْكُفَّارُ، فَإِنَّهُمُ الْمُعَذَّبُونَ، وَأَمَّا الْمُوَحِّدُونَ فَإِنَّهُمْ مُؤَدَّبُونَ وَمُهَذَّبُونَ بِالنَّارِ لَا مُعَذَّبُونَ بِهَا. (وَفِتْنَةِ النَّارِ) : أَيْ: فِتْنَةٍ تُؤَدِّي إِلَى النَّارِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِفِتْنَةِ النَّارِ سُؤَالُ الْخَزَنَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] (وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ) : أَيِ: التَّحَيُّرِ فِي جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ (وَعَذَابِ الْقَبْرِ: وَهُوَ ضَرْبُ مَنْ لَمْ يُوَفَّقْ لِلْجَوَابِ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَبْرِ الْبَرْزَخُ، وَالتَّعْبِيرُ بِهِ لِلْغَالِبِ، أَوْ كُلُّ مَا اسْتَقَرَّ

أَجْزَاؤُهُ فِيهِ فَهُوَ قَبْرُهُ (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى) : وَهِيَ الْبَطَرُ وَالطُّغْيَانُ، وَتَحْصِيلُ الْمَالِ مِنَ الْحَرَامِ، وَصَرْفُهُ فِي الْعِصْيَانِ، وَالتَّفَاخُرُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ) : وَهِيَ الْحَسَدُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَالطَّمَعُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّذَلُّلُ بِمَا يُدَنِّسُ الْعِرْضَ، وَيَثْلِمُ الدِّينَ، وَعَدَمُ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ، وَنَاهِيكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا) . وَقِيلَ: الْفِتْنَةُ هُنَا الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ أَيْ: مِنْ بَلَاءِ الْغِنَى وَبَلَاءِ الْفَقْرِ، أَيْ: مِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ الَّذِي يَكُونُ بَلَاءً وَمَشَقَّةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى لِذَاتِهِمَا مَحْمُودَانِ، وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَسْلَمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30] فَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ أَفْضَلُ، وَأَنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ وَتَضْيِيقَهُ كُلُّ وَاحِدٍ يُنَاسِبُ بَعْضَ عِبَادِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ. فَمِنْ شَرْطِ الْفَقْرِ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا وَمِنْ شَرْطِ الْغِنَى أَنْ يَكُونَ شَاكِرًا، فَإِذَا لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِتْنَةً لَهُمَا. وَمُجْمَلُ الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ، وَكُلَّ مَا يُبْعِدُكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ شُؤْمٌ عَلَيْكَ، سَوَاءً يَكُونُ فَقْرًا أَوْ غِنًى. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قُيِّدَ فِيهِمَا بِالشَّرِّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ خَيْرٌ بِاعْتِبَارٍ وَشَرٌّ بِاعْتِبَارٍ، فَالتَّقْيِيدُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ بِالشَّرِّ يُخْرِجُ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، سَوَاءً قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ فُسِّرَتِ الْفِتْنَةُ بِالْمِحْنَةِ وَالْمُصِيبَةِ فَشَرُّهَا أَنْ لَا يَصْبِرَ الرَّجُلُ عَلَى لَأْوَاهَا وَيَجْزَعَ مِنْهَا، وَإِنْ فُسِّرَتْ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ فَشَرُّهَا أَنْ لَا يَحْمَدَ فِي السَّرَّاءِ وَلَا يَصْبِرَ فِي الضَّرَّاءِ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ -: فِتْنَةُ الْغِنَى الْحِرْصُ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَالْحُبُّ عَلَى أَنْ تَكْسِبَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ وَاجِبَاتِ إِنْفَاقِهِ وَحُقُوقِهِ، وَفِتْنَةُ الْفَقْرِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ الَّذِي لَا يَصْحَبُهُ خَيْرٌ وَلَا وَرَعٌ، حَتَّى يَتَوَرَّطَ صَاحِبُهُ بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ، وَلَا يُبَالِي بِسَبَبِ فَاقَتِهِ عَلَى أَيِّ حَرَامٍ وَثَبَ. (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ) : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَرُوِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ لِأَنَّهُ مَمْسُوخُ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ كُلِّهَا، وَبَعْضِ الْأُخْرَى، وَنُسَخُ الْمِشْكَاةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَعِبَارَةُ ابْنِ حَجَرٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ مُوهِمٌ فَلَا تَغْتَرَّ بِهَا، وَلَا تَظُنَّ أَنَّهَا نُسْخَةٌ، بَلْ هِيَ رِوَايَةٌ. (الدَّجَّالِ) : أَيْ: كَثِيرِ الْفَسَادِ بِدِينِ الْعِبَادِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِنَّمَا تَعَوَّذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَّنَهُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ عِيَاضٌ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَرَادَ التَّعَوُّذَ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ بِأُمَّتِهِ اهـ. أَوِ الْمُرَادُ إِظْهَارُ الِافْتِقَارِ وَالْعُبُودِيَّةِ ; نَظَرًا إِلَى اسْتِغْنَائِهِ وَكِبْرِيَائِهِ تَعَالَى فِي مَرَاتِبِ الرُّبُوبِيَّةِ. (اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ بِأَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ كَمَا تَظْهَرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمُطَهَّرَةُ مِنَ الدَّنَسِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عُبِّرَ بِذَلِكَ عَنْ غَايَةِ الْمَحْوِ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ بِالْمُنَقِّي يَكُونُ فِي غَايَةِ النُّقِيِّ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: كَأَنَّهُ جَعَلَ الْخَطَايَا بِمَنْزِلَةِ جَهَنَّمَ لِكَوْنِهَا مُسَبَّبَةً عَنْهَا، عُبِّرَ عَنْ إِطْفَاءِ حَرَارَتِهَا بِالْغَسْلِ، وَبَالَغَ فِيهِ بِاسْتِعْمَالِ الْمِيَاهِ الْبَارِدَةِ غَايَةَ الْبُرُودَةِ، (وَنَقِّ قَلْبِي) : أَيْ: مِنَ الْخَطَايَا الْبَاطِنِيَّةِ وَهِيَ الْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ وَالشَّمَائِلُ الرَّدِيَّةُ (كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ أَيِ: الْوَسَخِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْقَلْبَ بِمُقْتَضَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ سَلِيمٌ وَنَظِيفٌ وَأَبْيَضُ وَظَرِيفٌ وَإِنَّمَا يَتَسَوَّدُ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَبِالتَّخَلُّقِ بِالْعُيُوبِ (وَبَاعِدْ) مُبَالَغَةُ أَبْعِدْ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُغَالَبَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ فِي قُوَّةِ التَّكْرِيرِ أَيْ: بَعِّدْ (بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمُبَاعَدَةِ مَحْوُ مَا حَصَلَ مِنْهَا وَالْعِصْمَةُ عَمَّا سَيَأْتِي وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمُبَاعَدَةِ إِنَّمَا هِيَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَوْقِعُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْتِقَاءَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُسْتَحِيلٌ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ لَا يُبْقِي لَهُ مِنْهَا أَثَرًا أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كُرِّرَ لَفْظُ بَيْنَ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ يُعَادُ فِيهِ الْخَافِضُ، وَقَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعَوَاتِ الثَّلَاثِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، فَالْغَسْلُ لِلْمَاضِي وَالتَّنْقِيَةُ لِلْحَالِ وَالْمُبَاعَدَةُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَجَازٌ عَنْ صِفَةٍ يَقَعُ بِهَا الْمَحْوُ كَقَوْلِهِ " وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

2460 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2460 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ» ) أَيْ: عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَدَمِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ (وَالْكَسَلِ) أَيِ: التَّثَاقُلِ عَنِ الْخَيْرِ (وَالْجُبْنِ) أَيْ: عَدَمِ الْإِقْدَامِ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ (وَالْبُخْلِ) أَيِ: الْإِمْسَاكِ عَنْ صَرْفِ الْمَالِ فِي مَرْضَاةِ الْمَوْلَى (وَالْهَرَمِ) أَيِ: الْخَرْقُ أَرْذَلَ الْعُمُرِ كَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا (وَعَذَابِ الْقَبْرِ) مِنَ الضِّيقِ وَالظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ وَضَرْبِ الْمِقْمَعَةِ وَلَدْغِ الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَأَمْثَالِهَا، أَوْ مِمَّا يُوجِبُ عَذَابَهُ مِنَ النَّمِيمَةِ وَعَدَمِ التَّطْهِيرِ وَنَحْوِهَا (اللَّهُمَّ آتِ) أَيْ: أَعْطِ (نَفْسِي تَقْوَاهَا) أَيْ: صِيَانَتَهَا عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ تُفَسَّرَ التَّقْوَى بِمَا يُقَابِلُ الْفُجُورَ فِي قَوْلِهِ " فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " وَهِيَ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَارْتِكَابِ الْفُجُورِ وَالْفَوَاحِشِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ كَالتَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ لِلْآيَةِ فَدَلَّ قَوْلُهُ آتِ عَلَى أَنَّ الْإِلْهَامَ فِي الْآيَةِ هُوَ خَلْقُ الدَّاعِيَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنِ الْمَذْكُورَاتِ وَقَوْلُهُ: (وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا) دَلَّ عَلَى أَنَّ إِسْنَادَ التَّزْكِيَةِ إِلَى النَّفْسِ فِي الْآيَةِ هُوَ نِسْبَةُ الْكَسْبِ إِلَى الْعَبْدِ لَا خَلْقُ الْفِعْلِ لَهُ كَمَا زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّ الْخَيْرِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَخَلْقِ الْقُدْرَةِ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُقَابَلَةِ التَّقْوَى لِلْفُجُورِ قَصْرُهَا عَلَى ضِدِّ الْفُجُورِ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَهُ، فَمُكَابَرَةٌ صَرِيحَةٌ لِأَنَّ الْمُقَابِلَةَ صَرِيحَةٌ (أَنْتَ وَلِيُّهَا) أَيْ: نَاصِرُهَا هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ (آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا) كَأَنَّهُ يَقُولُ انْصُرْهَا عَلَى فِعْلِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِرِضَاهُ عَنْهَا لِأَنَّكَ نَاصِرُهَا (وَمَوْلَاهَا) هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ زَكِّهَا يَعْنِي: طَهِّرْهَا بِتَأْدِيبِكَ إِيَّاهَا كَمَا يُؤَدِّبُ الْمَوْلَى عَبِيدَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا اسْتِئْنَافٌ عَلَى بَيَانِ الْمُوجِبِ وَأَنَّ إِيتَاءَ التَّقْوَى وَتَحْصِيلَ التَّزْكِيَةِ فِيهَا إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ هُوَ مُتَوَلِّي أُمُورَهَا وَمَالِكُهَا، فَالتَّزْكِيَةُ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى تَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّقْوَى مَظَاهِرَ مَا كَانَ مُكَمَّنًا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى الْإِنْمَاءِ وَالْإِعْلَاءِ بِالتَّقْوَى كَانَتْ تَحْلِيَةً بَعْدَ التَّخْلِيَةِ لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ - شَرْعًا - مَنِ اجْتَنَبَ النَّوَاهِيَ وَأَتَى بِالْأَوَامِرِ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ، تَقْوَى الْبَدَنِ الْكَفُّ عَمَّا لَا يُتَيَقَّنُ حِلُّهُ، وَتَقْوَى الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ فِي الدَّارَيْنِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ عِلْمٍ لَا أَعْمَلُ بِهِ وَلَا أُعَلِّمُ النَّاسَ وَلَا يُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ وَالْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ، أَوْ عِلْمٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ أَوْ لَا يَرِدُ فِي تَعَلُّمِهِ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: الْعِلْمُ لَا يُذَمُّ لِذَاتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لِأَسْبَابٍ ثَلَاثَةٍ إِمَّا لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِ أَوِ الشَّرِّ إِلَى غَيْرِهِ كَعِلْمِ السِّحْرِ وَالطَّلْسَمَاتِ فَإِنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ إِلَّا لِلْإِضْرَارِ بِالْخَلْقِ وَالْوَسِيلَةِ لِلشَّرِّ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُضِرًّا لِصَاحِبِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَعِلْمِ النُّجُومِ فَإِنَّهُ كُلَّهُ مُضِرٌّ وَأَقَلُّ مَضَارِّهِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَتَضْيِيعُ الْعُمُرِ الَّذِي هُوَ أَنْفَسُ بِضَاعَةِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ غَايَةُ الْخُسْرَانِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ دَقِيقًا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْخَائِضُ فِيهِ كَالتَّعْلِيقِ بِدَقِيقِ الْعُلُومِ قَبْلَ جَلِيلِهَا وَكَالْبَاحِثِ عَنِ الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ إِذْ تَطَلَّعَ الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَسْتَقِلُّوا بِهَا وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَا وَالْوُقُوفِ عَلَى طَرَفِ بَعْضِهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ فَيَجِبُ كَفُّ النَّاسِ عَنِ الْبَحْثِ عَنْهَا وَرَدُّهُمْ إِلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ اهـ. وَبِهِ يُعْلَمُ فَسَادُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَا قَالَ الْإِمَامُ: لِجَلَالَةِ الْمَقَامِ لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا وَالْوُقُوفِ عَلَى طَرَفِ بَعْضِهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ) أَيْ: لَا يَسْكُنُ وَلَا يَطْمَئِنُّ بِذِكْرِ اللَّهِ (وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ) بِمَا آتَاهَا اللَّهُ وَلَا تَقْنَعُ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ وَلَا تَفْتُرُ عَنْ جَمْعِ الْمَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ، أَوْ مِنْ نَفْسٍ تَأْكُلُ كَثِيرًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ حَرِيصَةٍ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَتَحْصِيلِ الْمَنَاصِبِ، وَقِيلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِمَّا لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الدُّنْيَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْكُلَ قَدْرَ مَا يُشْبِعُ جَوْعَتَهُ، وَإِمَّا اسْتِيلَاءُ الْجُوعِ الْبَقَرِيِّ عَلَيْهِ وَهُوَ جُوعُ الْأَعْضَاءِ مَعَ شِبَعِ الْمَعِدَةِ عَكْسُ الشَّهْوَةِ الْكَلْبِيَّةِ (وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي لَهَا عَائِدٌ إِلَى الدَّعْوَةِ وَاللَّامٌ زَائِدَةٌ وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: وَدَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَفِي أُخْرَى وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ السَّجْعَ إِذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ الطَّبْعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَلَا مَنْعَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2461 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ «كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2461 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بِلَا وَاوٍ (قَالَ: «كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ» ) أَيْ: نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَمِنْحَةِ الْإِحْسَانِ وَالْعِرْفَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ " مَا بَطَرَ أَحَدٌ النِّعْمَةَ فَعَادَتْ إِلَيْهِ " (وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ) بِضَمِّ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: انْتِقَالِهَا مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، قَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّوَالِ وَالتَّحَوُّلِ؟ قُلْتُ: الزَّوَالُ يُقَالُ فِي شَيْءٍ كَانَ ثَابِتًا فِي شَيْءٍ ثُمَّ فَارَقَهُ، وَالتَّحَوُّلُ: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ وَانْفِصَالُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَمَعْنَى زَوَالِ النِّعْمَةِ ذَهَابُهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَتَحَوُّلُ الْعَافِيَةِ إِبْدَالُ الصِّحَّةِ بِالْمَرَضِ وَالْغِنَى بِالْفَقْرِ: وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَيْ تَبَدُّلِ مَا رَزَقْتَنِي مِنَ الْعَافِيَةِ إِلَى الْبَلَاءِ وَالدَّاهِيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ " وَتَحْوِيلِ عَافِيَتِكَ " مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ (وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْمَدِّ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بِمَعْنَى الْبَغْتَةِ، وَالنِّقْمَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِفَتْحٍ مَعَ سُكُونِ الْقَافِ وَكَفَرْحَةٍ: الْمُكَافَأَةُ بِالْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامُ بِالْغَضَبِ وَالْعَذَابِ، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ (وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) أَيْ: مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ أَوْ جَمِيعِ آثَارِ غَضَبِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَجَمِيعِ جُزْئِيَّاتِ سَخَطِكَ، فَخَطَأٌ فَاحِشٌ إِذِ الصِّفَةُ لَا تَتَجَزَّأُ كَمَا لَا يَخْفَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

2462 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2462 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ» ) أَيْ: فَعَلْتُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنْ شَرِّ عَمَلٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ (وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ) اسْتَعَاذَ مِنْ شَرِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَا يَرْضَاهُ بِأَنْ يَحْفَظَهُ مِنْهُ، أَوْ مِنْ شَرِّ أَنْ يَصِيرَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ فِي تَرْكِ الْقَبَائِحِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ، أَوْ لِئَلَّا يُصِيبَهُ شَرُّ عَمَلِ غَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ اهـ. وَكُلٌّ مِنْهَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْبَهَاءِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ لَمْ يُفَسِّرْ قَوْلَهُ مِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ بِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَأَنَّهُ حَمَلَ عَلَى أَنَّهُ لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ، ثُمَّ قَالَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَقْرَبُ بَلْ فِي الْأَوَّلِ مِنَ الْبُعْدِ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ مَا لَا يَخْفَى اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ إِلَى الْآنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنِّي فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهَا أَيْضًا " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ» ".

2463 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2463 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَكَ) أَيْ: لَا لِغَيْرِكَ (أَسْلَمْتُ) أَيِ: انْقِيَادًا ظَاهِرًا (وَبِكَ آمَنْتُ) أَيْ: تَصْدِيقًا بَاطِنًا (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أَيِ: اعْتَمَدْتُ فِي أُمُورِي أَوَّلًا وَآخِرًا، أَوْ مَعْنَاهُ أَسْلَمْتُ جَمِيعَ أُمُورِي لِتُدَبِّرَهَا فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ نَفْعَهَا وَلَا ضُرَّهَا (وَبِكَ آمَنْتُ) أَيْ: بِتَوْفِيقِكَ آمَنْتُ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ فِي سَائِرِ أُمُورِي، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ فِي عَلَيْكَ تَجُوزُ وَإِنْ ضُمِّنَ تَوَكَّلْتُ بِاعْتَمَدْتُ لِتَعَذُّرِ تَعَدِّيهِ بِعَلَى بِدُونِ التَّضْمِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ مِمَّا يَرْجِعُ الْفَطِنُ إِلَيْهِ وَمُجْمَلُهُ: أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا بِعَلَى عَلَى مَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَدَفَاتِرُ اللُّغَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاعْتِمَادِ فِي التَّعْدِيَةِ وَالِاسْتِنَادِ، فَلَا وَجْهَ لِتَضْمِينِهِ. فَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ يُفِيدُ الِاسْتِعْلَاءَ عَلَى زَعْمِهِ وَإِنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّضْمِينُ لَوْ كَانَ الْغَالِبُ اسْتِعْمَالَهُ بِغَيْرِ عَلَى ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بِعَلَى فَيَحْتَاجُ إِلَى تَضْمِينِ فِعْلٍ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِعَلَى كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ النُّهَى وَأَصْحَابِ الْعُلَا (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ أَوْ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ أَوْ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ (وَبِكَ) بِإِعَانَتِكَ (خَاصَمْتُ) أَيْ:

حَارَبْتُ أَعْدَاءَكَ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ) أَيْ: بِغَلَبَتِكَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) فَلَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْبُودَ وَلَا مَقْصُودَ إِلَّا أَنْتَ وَلَا سُؤَالَ إِلَّا مِنْكَ وَلَا اسْتِعَاذَةَ إِلَّا بِكَ (أَنْ تُضِلَّنِي) مُتَعَلِّقٌ بِأَعُوذُ، وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ مُعْتَرِضَةٌ لِتَأْكِيدِ الْعِزَّةِ أَيْ: أَعُوذُ مِنْ أَنْ تُضِلَّنِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي وَوَفَّقْتَنِي لِلِانْقِيَادِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي حُكْمِكَ وَقَضَائِكَ وَلِلْإِنَابَةِ إِلَى جَنَابِكَ وَالْمُخَاصِمَةِ مَعَ أَعْدَائِكَ وَالِالْتِجَاءِ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَى عِزَّتِكَ وَنُصْرَتِكَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] (أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) بِالْغِيبَةِ، وَفِي الْحِصْنِ أَنْتَ الْحَيُّ لَا تَمُوتُ بِالْخِطَابِ وَبِدُونِ الْمَوْصُولِ وَفِيهِ تَأْكِيدُ الْعِزَّةِ أَيْضًا، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ أَنْ تُضِلَّنِي أَيْ: تُغَيِّبَنِي عَنْ حَضْرَتِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ بَلِ اجْعَلْنِي دَائِمَ الشُّهُودِ لَكَ، أَوْ عَنِ الْقِيَامِ بِأَوَامِرِكَ وَنَوَاهِيكَ بَلِ اجْعَلْنِي دَائِمَ التَّعَبُّدِ لَكَ، أَوْ عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ بَلِ اجْعَلْنِي دَائِمَ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ تُضِلَّنِي لَيْسَ مِنْ مَادَّةِ الْإِضْلَالِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْهِدَايَةِ بَلْ مُتَعَدِّي ضَلَّ بِمَعْنَى غَابَ كَمَا تَوَهَّمَ فِيمَا سَبَقَ، ثُمَّ أَخْطَأَ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ فِقْرَاتِ كَلَامِهِ إِذْ يَجِبُ تَقَدُّمُ الْإِيمَانِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ عَلَى مَا عَرَفَهُ أَهْلُ الْعِرْفَانِ، ثُمَّ قَالَ وَلَمَّا كَانَ فِي الْإِضْلَالِ بِكُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ نَوْعٌ مِنَ الْأَمَانَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَقَّبَ بِمَا يُوجِبُ ضِدَّهُ مِنَ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فَقَالَ: أَنْتَ الْحَيُّ إِلَخْ. وَفِيهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَكَلُّفِهِ وَتَعَفُّفِهِ أَنَّ الْأَمَانَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ ضِدُّهَا الْحَيَاةُ الْحَقِيقَةُ وَضِدُّ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ وَإِنَّمَا تُبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ بِأَضْدَادِهَا (وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ) خُصَّا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا الْمُكَلَّفَانِ الْمَقْصُودَانِ بِالتَّبْلِيغِ فَكَأَنَّهُمَا الْأَصْلُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2464 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْأَرْبَعِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمَنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2464 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْأَرْبَعِ» ) أَيِ: الْمَعْهُودَةِ فِي الذِّهْنِ، أَوْ هُوَ إِجْمَالٌ وَتَفْصِيلٌ فَيُفِيدُ تَقْرِيرَ التَّعَوُّذِ (مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ) أَيْ: لَا يُسْتَجَابُ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، يُقَالُ اسْمَعْ دُعَائِي أَيْ أَجِبْ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السَّمَاعِ هُوَ الْإِجَابَةُ وَالْقَبُولُ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: قَدِ اسْتَعَاذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعُلُومِ كَمَا اسْتَعَاذَ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ. وَالْعِلْمُ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ التَّقْوَى فَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الدُّنْيَا وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْهَوَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنَ الْقَرَائِنِ الْأَرْبَعِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ وُجُودَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى غَايَتِهِ وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ تِلْكَ الْغَايَةُ وَذَلِكَ أَنَّ تَحْصِيلَ الْعُلُومِ إِنَّمَا هُوَ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فَإِذَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ كَفَافًا بَلْ يَكُونُ وَبَالًا وَلِذَلِكَ اسْتَعَاذَ، وَأَنَّ الْقَلْبَ إِنَّمَا خُلِقَ لِأَنْ يَخْشَعَ لِبَارِئِهِ وَيَنْشَرِحَ لِذَلِكَ الصَّدْرُ وَيُقْذَفُ النُّورُ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ قَاسِيًا فَيَجِبُ أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] وَأَنَّ النَّفْسَ يُعْتَدُّ بِهَا إِذَا تَجَافَتْ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَأَنَابَتْ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَهِيَ إِذَا كَانَتْ مَنْهُومَةً لَا تَشْبَعُ حَرِيصَةً عَلَى الدُّنْيَا كَانَتْ أَعْدَى عَدُوِّ الْمَرْءِ فَأَوْلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُسْتَعَاذُ مِنْهُ هِيَ أَيِ: النَّفْسُ، وَعَدَمُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَلَمْ يَخْشَعْ قَلْبُهُ وَلَمْ تَشْبَعْ نَفْسُهُ وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

2465 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُمَا) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2465 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُمَا) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَمْرٍو.

2466 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَسُوءِ الْعُمُرِ وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2466 - (وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْسٍ) وَهُوَ لَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ (مِنَ الْجُبْنِ) أَيْ: فِي الْقِتَالِ (وَالْبُخْلِ) أَيْ: فِي بَذْلِ الْمَالِ (وَسُوءِ الْعُمُرِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: سُوءِ الْكِبَرِ فِي آخِرِ الْحَالِ أَوْ مُضِيِّهِ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي الْمَآلِ (وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ) أَيْ: مِنْ قَسَاوَةِ الْقَلْبِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَقِيلَ هُوَ مَوْتُهُ وَفَسَادُهُ، وَقِيلَ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْحِقْدِ وَالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِتْنَةُ الصَّدْرِ هُوَ الضِّيقُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] فَهِيَ الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْغُرُورِ الَّتِي هِيَ سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْخُلُودِ الَّتِي هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ اهـ. وَهُوَ ضِدُّ شَرْحِ الصَّدْرِ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] وَلَمَّا سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَلَامَتِهِ قَالَ: التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ (وَعَذَابِ الْقَبْرِ) أَيِ: الْبَرْزَخِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ.

2467 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2467 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ» ) أَيْ: فَقْرِ الْقَلْبِ، أَوْ مِنْ قَلْبٍ حَرِيصٍ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ، أَوْ مِنَ الْفَقْرِ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ فِي الْمَآلِ وَنِسْيَانِ ذِكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُتَعَالِ، أَوْ يَدْعُوهُ إِلَى سَدِّ الْخَلَّةِ بِمَا يَتَدَنَّسُ بِهِ عِرْضُهُ وَيَنْثَلِمُ بِهِ دِينُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ فَقْرَ النَّفْسِ أَعْنِي الشَّرَّ الَّذِي يُقَابِلُ غِنَى النَّفْسِ الَّذِي هُوَ قَنَاعَتُهَا، أَوْ أَرَادَ قِلَّةَ الْمَالِ، وَالْمُرَادُ الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الْفِتْنَهُ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَيْهَا كَالْجَزَعِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَالْقِلَّةِ) الْقِلَّةِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ وَخِصَالِ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤْثِرُ الْإِقْلَالَ فِي الدُّنْيَا وَيَكْرَهُ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْفَانِيَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ أَرَادَ قِلَّةَ الْعَدَدِ أَوِ الْعُدَدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ قِلَّةُ الصَّبْرِ وَقِلَّةُ الْأَنْصَارِ أَوْ قِلَّةُ الْمَالِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ كَفَافٌ مِنَ الْقُوتِ فَيَعْجِزُ عَنْ وَظَائِفِ الْعِبَادَةِ، وَفِي الْحِصْنِ: الْفَاقَةِ بَدَلَ الْقِلَّةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْفَقْرِ (وَالذِّلَّةِ) أَيْ، مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ بِحَيْثُ يَسْتَخِفُّونَهُ وَيُحَقِّرُونَ شَأْنَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الذِّلَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ أَوِ التَّذْلِيلِ لِلْأَغْنِيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْمَسْكَنَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَدْعِيَةِ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ وَكَشْفُ الْغُمَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُ الْفَقْرِ كَسْرُ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَالْفَقْرُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: وُجُودُ الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ وَذَلِكَ عَامٌّ لِلْإِنْسَانِ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا بَلْ عَامٌّ فِي الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] وَالثَّانِي: عَدَمُ الْمُقْتَنَيَاتِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] وَ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَالثَّالِثُ: فَقْرُ النَّفْسِ وَهُوَ الْمُقَابَلُ بِقَوْلِهِ (الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) وَالْمَعْنَى بِقَوْلِهِمْ: مَنْ عَدِمَ الْقَنَاعَةَ لَمْ يُفِدْهُ الْمَالُ غِنًى، الرَّابِعُ: الْفَقْرُ إِلَى اللَّهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْنِنِي بِالِافْتِقَارِ إِلَيْكَ وَلَا تُفْقِرْنِي بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْكَ وَإِيَّاهُ عَنَى تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفَقْرِ الَّذِي هُوَ فَقْرُ النَّفْسِ لَا قِلَّةُ الْمَالِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ تَكُونُ اسْتِعَاذَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفَقْرِ وَالْمُرَادُ الْفِتْنَةُ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِهِ وَقِلَّةِ الرِّضَا بِهِ وَلِذَا قَالَ: (وَفِتْنَةِ الْفَقْرِ) وَلَمْ يَقُلِ الْفَقْرَ، كَيْفَ وَقَدْ صَحَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ الْفَقْرِ اهـ. وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَقُلِ الْفَقْرَ أَيْ: فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعِ فِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفَقْرَ الْأَوَّلَ عَامٌّ اضْطِرَارِيٌّ وَالرَّابِعَ خَاصٌّ

اخْتِيَارِيٌّ أَوْ شُهُودُ ذَلِكَ الِاضْطِرَارِ وَدَوَامُ حُضُورِ ذَلِكَ الِافْتِقَارِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَفَرْقُهُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَهَذَا عَلَى عَدَمِ فِقْهِهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ (وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ) مَعْلُومٌ وَمَجْهُولٌ، وَالظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوِ التَّعَدِّي فِي حَقِّ غَيْرِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ.

2468 - (وَعَنْهُ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2468 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ) أَيْ: مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2] وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: الشِّقَاقُ الْعَدَاوَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) لَا يَخْفَى عَنْ بُعْدٍ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: قِيلَ فِي مَعْنَى الشِّقَاقِ الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْمَذْمُومُ وَبِالثَّانِي الْعَدَاوَةُ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَحِينَئِذٍ فَهُمَا قَوْلٌ وَاحِدٍ لَا قَوْلَانِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مُصَوَّرَةٌ بِدُونِ الْعَدَاوَةِ، وَالْعَدَاوَةُ قَدْ تُوجَدُ بِدُونِ الْمُخَالَفَةِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا عَدَاوَةُ أَهْلِ الْحَقِّ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَقَعَ الْمُخَالَفَةُ الصُّورِيَّةُ أَمْ لَا؟ وَمِنِ الْخِلَافِ مُخَالَفَةُ الْحَقِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُغَايَرَةِ أَوْ مُخَالِفَةُ أَهْلِ الْحَقِّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهَا الْعَدَاوَةُ، أَلَا تَرَى إِلَى أَبِي طَالِبٍ كَانَ يُخَالِفُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ يُعَادِيهِ بَلْ كَانَ يُدَافِعُ عَنْهُ وَيُحَامِيهِ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُعَادُونَ الشَّيْطَانَ وَغَالِبُهُمْ مَا يُخَالِفُونَهُ، وَقِيلَ الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ يَكُونُ فِي شِقٍّ أَيَّ نَاحِيَةٍ أَوْ يُرِيدُ مَشَقَّةَ الْآخَرِ (وَالنِّفَاقِ) أَيْ: إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَإِبِطَانِ الْكُفْرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَنَّ تُظْهِرَ لِصَاحِبِكَ خِلَافَ مَا تُضْمِرُهُ، وَقِيلَ النِّفَاقُ فِي الْعَمَلِ بِكَثْرَةِ كَذِبِهِ وَخِيَانَةِ أَمَانَتِهِ وَخُلْفِ وَعْدِهِ وَالْفُجُورِ فِي مُخَاصَمَتِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِهِ فَلَا مَعْنَى لِمَنْ رَجَّحَ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ عَلَى بَعْضٍ وَطَعَنَ عَلَى غَيْرِهِ كَابْنِ حَجَرٍ عَلَى الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ جَمِيعًا (وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ) مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمَذْكُورَيْنِ أَوَّلًا أَعْظَمُ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ لِأَنَّهُ يَسْرِي ضَرَرُهُمَا إِلَى الْغَيْرِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَوْصَافُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةُ كَالزِّنَا وَالْحَسَدِ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ ذَانِكَ أَعْظَمَهَا بِمُقْتَضَى مَا فَسَّرَهُمَا بِهِ مِمَّا رَدَدْتُهُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُرَادَ بِهَا كُلُّ خُلُقٍ ذَمَّهُ الشَّرْعُ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ كَكَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا إِشْعَارَ فِيهِ بِمَا ذُكِرَ عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَ ذَيْنِكَ أَعْظَمَهَا بَلْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَيْنِكَ كَالْحَسَدِ وَالْجَبَرُوتِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَهَتْكُ الْأَعْرَاضِ بِنَحْوِ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالْأَمْوَالُ بِنَحْوِ السَّرِقَةِ، قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ قَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَوْصَافُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةُ دُونَ مُطْلَقِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ كَالزِّنَا خَطَأٌ فَاحِشٌ فَإِنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا مِنَ الْأَخْلَاقِ وَكَذَا كَثْرَةُ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَكَأَنَّهُ مَا قَرَأَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْأَخْلَاقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى جَمِيعِهَا الْإِحْيَاءُ فِي الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُهْلِكَاتِ وَلَوْ عَرَفَهَا لَفَهِمَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُحَرَّمَةَ وَالْمَكْرُوهَةَ كُلَّهَا تَنْشَأُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ فَإِنَّهُ يَنْشَأُ مِنْهَا الْأَفْعَالُ الذَّمِيمَةُ كَقَتْلِ النَّفْسِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ ظُلْمًا وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ بَلْ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ كَالْحَسَدِ وَالْجَبَرُوتِ وَغَيْرِهِمَا، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» " وَأَشَارَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ صَادِقًا لَوْلَا الْوِئَامُ وَرُوحُهُ لَطَاحَ الْأَنَامُ الْكُلُّ فِي الْخُلْفِ وَالْقِلَى إِيمَاءً إِلَى الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ " لَوْلَا الْوِئَامُ لَهَلَكَ الْأَنَامُ " وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ إِيذَاءُ أَهْلِ الْحَقِّ وَإِيذَاءُ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَتَغْلِيظُ الْكَلَامِ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ وَعَدَمُ التَّحَمُّلِ عَنْهُمْ وَعَدَمُ الْعَفْوِ عَنْهُمْ إِذَا صَدَرَتْ خَطِيئَةٌ مِنْهُمْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

2469 - (وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2469 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ» ) أَيِ: الْأَلَمِ الَّذِي يَنَالُ الْحَيَوَانَ مِنْ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ عَنِ الْغِذَاءِ وَيُؤَدِّي تَارَةً إِلَى الْمَرَضِ وَتَارَةً إِلَى الْمَوْتِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ) أَيِ: الْمُضَاجِعُ وَهُوَ مَا يُلَازِمُ صَاحِبَهُ فِي الْمَضْجَعِ إِلَى أَنَّهُ جُوعٌ يَمْنَعُ مِنَ الْهُجُوعِ وَوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ كَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجُوعُ يُضْعِفُ الْقُوَى وَيُشَوِّشُ الدِّمَاغَ فَيُثِيرُ أَفْكَارًا رَدِيَّةً وَخَيَالَاتٍ فَاسِدَةً فَيُخِلُّ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُرَاقَبَاتِ وَلِذَلِكَ خُصَّ بِالضَّجِيعِ الَّذِي يُلَازِمُهُ لَيْلًا وَمِنْ ثَمَّ حُرِمَ الْوِصَالُ اه. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْجُوعَ الْمُجَرَّدَ لَا ثَوَابَ فِيهِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ) وَهِيَ ضِدُّ الْأَمَانَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هِيَ مُخَالَفَةُ الْحَقِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي السِّرِّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا (فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ) أَيِ: الْخَصْلَةُ الْبَاطِنَةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ ضِدُّ الظِّهَارَةِ وَأَصْلُهَا فِي الثَّوْبِ فَاسْتُعِيرَ لِمَا يَسْتَبْطِنُهُ الْإِنْسَانُ، وَقِيلَ: أَيْ بِئْسَ الشَّيْءُ الَّذِي يَسْتَبْطِنُهُ مِنْ أَمْرِهِ وَيَجْعَلُهُ بِطَانَةَ حَالِهِ فِي الْمُغْرِبِ بِطَانَةً لِمُلَابَسَةٍ بَيْنَهُمَا كَالْإِنْسَانِ يُلَابِسُهُ ضَجِيعُهُ وَبِطَانَتُهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2470 - (وَعَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2470 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ) بِفَتْحَتَيْنِ بَيَاضٌ يَحْدُثُ فِي الْأَعْضَاءِ (وَالْجُذَامِ) بِضَمِّ الْجِيمِ عِلَّةٌ يَذْهَبُ مَعَهَا شُعُورُ الْأَعْضَاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْجُذَامُ كَغُرَابٍ عِلَّةٌ تَحْدُثُ مِنِ انْتِشَارِ السَّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ فَيُفْسِدُ مِزَاجَ الْأَعْضَاءِ وَهَيْئَاتِهَا وَرُبَّمَا انْتَهَى إِلَى تَآكُلِ الْأَعْضَاءِ وَسُقُوطِهَا عَنْ تَقَرُّحٍ (وَالْجُنُونِ) أَيْ: زَوَالِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَنْشَأُ الْخَيْرَاتِ (وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ) كَالِاسْتِسْقَاءِ وَالسُّلِّ وَالْمَرَضِ الْمُزْمِنِ الطَّوِيلِ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يُتَعَوَّذْ مِنَ الْأَسْقَامِ مُطْلَقًا فَإِنَّ بَعْضَهَا مِمَّا يَخِفُّ مُؤْنَتُهُ وَتَكْثُرُ مَثُوبَتُهُ عِنْدَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ إِزْمَانِهِ كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ وَالرَّمَدِ، وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنَ السِّقَمِ الْمُزْمِنِ فَيَنْتَهِي بِصَاحِبِهِ إِلَى حَالَةٍ يَفِرُّ مِنْهَا الْحَمِيمُ وَيَقِلُّ دُونَهَا الْمُؤَانِسُ وَالْمُدَاوِي مَعَ مَا يُورِثُ مِنَ الشَّيْنِ فَمِنْهَا الْجُنُونُ الَّذِي يُزِيلُ الْعَقْلَ فَلَا يَأْمَنُ صَاحِبُهُ الْقَتْلَ وَمِنْهَا الْبَرَصُ وَالْجُذَامُ وَهُمَا الْعِلَّتَانِ الْمُزْمِنَتَانِ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْقَذَارَةِ وَالْبَشَاعَةِ وَتَغْيِيرِ الصُّورَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمَا مُعْدِيَانِ إِلَى الْغَيْرِ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِحِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُهُ غَالِبًا عِنْدَ نَحْوِ مُلَامَسَةِ أَصْحَابِهِمَا، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا مُعْدِيَانِ بِطَبْعِهِمَا بَاطِلٌ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ " وَقَالَ: " لَا عَدْوَى " أَيْ بِطَبْعِ الْمُعْدِي وَلَا يُنَافِي الْخَبَرَ الصَّحِيحَ " فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ " فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِئَلَّا يَقَعَ شَيْءٌ مِنْهُ بِخَلْقِ اللَّهِ فَيُنْسَبُ إِلَى الْإِعْدَاءِ بِالطَّبْعِ لِيَقَعَ فِي مَحْذُورِ اعْتِقَادِ التَّأْثِيرِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ عَمِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَمْرَيْنِ لِيُشِيرَ إِلَى الْجَوَابَيْنِ عَنْ قَضِيَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ جَاءَهُ مَجْذُومٌ فَأَكَلَ مَعَهُ قَائِلًا: بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَجَاءَهُ مَجْذُومٌ آخَرُ لِيُبَايِعَهُ فَلَمْ يَمُدَّ إِلَيْهِ يَدَهُ وَقَالَ: قَدْ بَايَعْتُ، فَأَوَّلًا نَظَرَ إِلَى الْمُسَبَّبِ وَثَانِيًا نَظَرَ إِلَى السَّبَبِ فِي مَقَامِ الْفَرْقِ وَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَقَامَيْنِ حَقٌّ، نَعَمِ الْأَفْضَلُ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّوَكُّلُ أَوْ وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِغَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَرَضٍ يَحْتَرِزُ النَّاسُ مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَلَا يَنْتَفِعُونَ مِنْهُ وَلَا يَنْتَفِعُ مِنْهُمْ وَيَعْجِزُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَرَضِ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ يُسْتَحَبُّ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَالْإِضَافَةُ لَيْسَتْ بِمَعْنَى مِنْ كَقَوْلِكَ خَاتَمُ فِضَّةٍ بَلْ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أَيِ: الْأَسْقَامِ السَّيِّئَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2471 - (وَعَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاءِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2471 - (وَعَنْ قُطْبَةَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (بْنِ مَالِكٍ) أَيِ: الثَّعْلَبِيِّ وَقِيلَ الذُّبْيَانِيِّ (قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ» ) الْمُنْكَرُ مَا لَا يُعْرَفُ حُسْنُهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَوْ مَا عُرِفَ قُبْحُهُ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَخْلَاقِ الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ (وَالْأَعْمَالِ) أَيِ: الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ (وَالْأَهْوَاءِ) جَمْعُ الْهَوَى مَصْدَرُ هَوَاهُ إِذَا أَحَبَّهُ ثُمَّ سُمِّيَ بِالْهَوَى الْمُشْتَهَى مَحْمُودًا كَانَ أَوْ مَذْمُومًا ثُمَّ غَلَبَ عَلَى غَيْرِ الْمَحْمُودِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِضَافَةُ فِي الْقَرِينَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَفِي الثَّالِثَةِ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ الْأَهْوَاءَ كُلَّهَا مُنْكَرَةٌ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِضَافَاتِ كُلَّهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَيُحْمَلُ الْهَوَى عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] وَلِذَا قِيلَ: الْهَوَى إِذَا وَافَقَ الْهُدَى يَكُونُ كَالزُّبْدَةِ مَعَ الْعَسَلِ يَعْنِي فَيَحْلَى بِهِمَا الْعَمَلُ، وَقَالَ الشَّاذِلِيُّ: إِذَا شَرِبْتُ الْحُلْوَ الْبَارِدَ أَحْمَدُ رَبِّي مِنْ وَسَطِ قَلْبِي، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حُبِّ الْمَاءِ الْبَارِدِ» ) أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا تَخْتَارُهُ النَّفْسُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] فَالْمُرَادُ بِالْأَهْوَاءِ مُطْلَقًا الِاعْتِقَادَاتُ، وَبِالْمُنْكَرَاتِ الْأَهْوِيَةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي غَيْرُ مَأْخُوذَةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَهْوَاءُ الْمُنْكَرَةُ هِيَ الِاعْتِقَادَاتُ الْفَاسِدَةُ الْمُخَالِفَةُ لِمَا عَلَيْهِ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ وَزَادَ فِي الْحِصْنِ: وَالْأَدْوَاءِ، وَهِيَ جَمْعُ الدَّاءِ بِمَعْنَى سَيِّئِ الْأَسْقَامِ، وَقَالَ مِيرَكُ فِي حَاشِيَةِ الْحِصْنِ: اعْلَمْ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ السِّلَاحِ أَنَّ زِيَادَةَ (وَالْأَدْوَاءِ) فِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ لَا فِي التِّرْمِذِيِّ، حَيْثُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَالْأَهْوَاءِ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَالْأَدْوَاءِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَالْآرَاءِ، وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ فَتَأَمَّلْ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لِلتِّرْمِذِيِّ رِوَايَاتٍ وَطُرُقًا مُتَعَدِّدَةً وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

2472 - (وَعَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلِّمْنِي تَعْوِيذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي وَشَرِّ بَصَرِي وَشَرِّ لِسَانِي وَشَرِّ قَلْبِي وَشَرِّ مَنِيِّي» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2472 - (وَعَنْ شُتَيْرِ) تَصْغِيرُ شَتْرٍ (بْنِ شَكَلٍ) بِفَتْحَتَيْنِ (بْنِ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ أَيِ: الْعَبْسِيِّ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: شَكَلٍ وَهُوَ صَحَابِيٌّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلِّمْنِي تَعْوِيذًا) أَيْ: مَا يُتَعَوَّذُ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعَوْذُ وَالْمَعَاذُ وَالتَّعْوِيذُ بِمَعْنَى (أَعُوذُ بِهِ) أَيْ: لِخَاصَّةِ نَفْسِي (قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي) حَتَّى لَا أَسْمَعَ بِهِ مَا تَكْرَهُهُ (وَشَرِّ بَصَرِي) حَتَّى لَا أَرَى شَيْئًا لَا تَرْضَاهُ (وَشَرِّ لِسَانِي) حَتَّى لَا أَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِينِي (وَشَرِّ قَلْبِي) حَتَّى لَا أَعْتَقِدَ اعْتِقَادًا فَاسِدًا وَلَا يَكُونَ فِيهِ نَحْوُ حِقْدٍ وَحَسَدٍ وَتَصْمِيمِ فِعْلٍ مَذْمُومٍ أَبَدًا (وَشَرِّ مَنِيِّي) وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ فِي الزِّنَا أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ، فِي سِلَاحِ الْمُؤْمِنِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ يَعْنِي فَرَحَهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَنِيُّ جَمْعُ الْمَنِيَّةِ وَهِيَ طُولُ الْأَمَلِ، أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَنِيَّةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ إِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْمَوْتِ وَبِمَعْنَى الْمَنِيِّ أَيْضًا وَأَمَّا بِمَعْنَى مُنْيَةٍ فَهِيَ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ الْمَنِيَّةِ أَيْ مِنْ شَرِّ الْمَوْتِ أَيْ: قَبْضِ رُوحِهِ عَلَى عَمَلٍ قَبِيحٍ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِجَمْعِ الْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ.

2473 - (وَعَنْ أَبِي الْيَسَرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ مِنَ التَّرَدِّي، وَمِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَالْغَمِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2473 - (وَعَنْ أَبِي الْيَسَرِ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ» ) بِسُكُونِ الدَّالِ وَهُوَ سُقُوطُ الْبِنَاءِ وَوُقُوعُهُ عَلَى الشَّيْءِ، وَرُوِيَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ اسْمُ مَا انْهَدَمَ مِنْهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: أَيِ الْمَهْدُومِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ مَا اسْتَعَاذَ مِنَ الْمَهْدُومِ بَلْ مِنَ الْهَدْمِ نَفْسِهِ) وَمِمَّا يَنْفَصِلُ عَنْهُ حِينَ هَدْمِهِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي) أَيِ: السُّقُوطِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ كَالْجَبَلِ وَالسَّطْحِ أَوِ الْوُقُوعُ فِي مَكَانٍ سُفْلِيٍّ كَالْبِئْرِ (وَمِنَ الْغَرَقِ) بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ غَرَقَ فِي الْمَاءِ (وَالْحَرَقِ) بِالتَّحْرِيكِ أَيْضًا أَيْ: بِالنَّارِ وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنَ الْهَلَاكِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ نَيْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا مِحَنٌ مُجْهِدَةٌ مُقْلِقَةٌ لَا يَكَادُ الْإِنْسَانُ يَصْبِرُ عَلَيْهَا وَيَثْبُتُ عِنْدَهَا، فَلَعَلَّ الشَّيْطَانَ انْتَهَزَ فُرْصَةً مِنْهُ فَيَحْمِلُهُ عَلَى مَا يُخِلُّهُ وَيَضُرُّ بِدِينِهِ، وَلِأَنَّهُ يَقَعُ فَجْأَةً وَهِيَ أَخْذَةُ أَسَفٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَاذَ مِنْهَا لِأَنَّهَا فِي الظَّاهِرِ أَمْرَاضٌ وَمَصَائِبُ وَمِحَنٌ وَبَلَايَا كَالْأَمْرَاضِ السَّابِقَةِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهَا، وَأَمَّا تَرَتُّبُ ثَوَابِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا فَلِلْبِنَاءِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثِيبُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْمَصَائِبِ كُلِّهَا حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُّهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعَافِيَةُ أَوْسَعُ، وَلِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ الْحَقِيقَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ أَنَّهَا مُتَمَنَّى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمَطْلُوبُهُ، وَقَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَوَخِّي الشَّهَادَةِ وَالتَّجَزُّؤُ فِيهَا بِخِلَافِ التَّرَدِّي وَالْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا وَلَوْ سَعَى فِيهَا عَصَى (وَالْهَرَمِ) أَيْ: سُوءِ الْكِبَرِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْخَوْفِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ حُفِظَ مِنْهُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَفِي نُسْخَةٍ (وَالْهَرَمِ) وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ) أَيْ: إِبْلِيسُ أَوْ أَحَدُ أَعْوَانِهِ، قِيلَ التَّخَبُّطُ الْإِفْسَادُ وَالْمُرَادُ إِفْسَادُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَتَخْصِيصُهُ بِقَوْلِهِ (عِنْدَ الْمَوْتِ) لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْخَاتِمَةِ وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ: مِنْ أَنْ يَمَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنَزَعَاتِهِ الَّتِي تُزِلُّ الْأَقْدَامَ وَتُصَارِعُ الْعُقُولَ وَالْأَوْهَامَ، وَأَصْلُ التَّخَبُّطِ أَنْ يَضْرِبَ الْبَعِيرُ الشَّيْءَ بِخُفِّ يَدِهِ فَيَسْقُطُ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا) أَيْ: مُرْتَدًّا أَوْ مُدْبِرًا عَنْ ذِكْرِكَ وَمُقْبِلًا عَلَى غَيْرِكَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَارًّا وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: إِدْبَارًا مُحَرَّمًا أَوْ مُطْلَقًا وَفِيهِ أَنَّ قَيْدَ الْمَوْتِ لَا يُلَائِمُهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ يُفِيدُ إِخْرَاجَ التَّائِبِ، قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْلِيمِ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمِنَ التَّخَبُّطَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا) فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ اللَّدْغِ وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَوَاتِ السُّمِّ مِنَ الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَقُيِّدَ بِالْمَوْتِ مِنَ اللَّدْغِ فَلَا يُنَافِيهِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصَّغِيرِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ «لَدَغَتِ النَّبِيَّ عَقْرَبُ وَهُوَ يُصَلِّي فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تَدْعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا " أَيْ: عَلَى مَوْضِعِ لَدْغِهَا وَيَقْرَأُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ (وَزَادَ) أَيِ النَّسَائِيُّ (فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَالْغَمِّ) أَيْ كَلِمَةَ وَالْغَمِّ أَيِ: الْهَمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يَغُمُّ نَفْسَ النَّفْسِ، أَوْ هَمِّ الدُّنْيَا أَوْ مُطْلَقِ الْهَمِّ، فَالْمُرَادُ التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ الْأَسْلَمُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

2474 - (وَعَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ يَهْدِي إِلَى طَبَعٍ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2474 - (وَعَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ) وَهُوَ نُزُوعُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ شَهْوَةً لَهُ (يَهْدِي) أَيْ: يُدْنِي وَيُوَصِّلُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهِدَايَةُ الْإِرْشَادُ إِلَى الشَّيْءِ وَالدَّلَالَةُ إِلَيْهِ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْإِدْنَاءِ مِنَ الشَّيْءِ وَالْإِيصَالِ إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذِكْرُ الْهِدَايَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى خَيْرٍ أَوِ الْإِيصَالِ إِلَيْهِ فِيهِ تَهَكُّمٌ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْهِدَايَةَ هُنَا بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ وَبِالتَّجْرِيدِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْهِدَايَةُ مُتَعَدٍّ تَارَةً بِنَفْسِهِ " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " وَتَارَةً بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ: " {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] "

وَتَارَةً بِإِلَى كَقَوْلِهِ: " {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] " فَلَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا بِمَعْنَى الْإِدْنَاءِ وَالْإِيصَالِ (إِلَى طَبَعٍ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: عَيْبٍ وَأَصْلُهُ الدَّنَسُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلسَّيْفِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِيمَا يُشْبِهُ الدَّنَسَ مِنَ الْآثَامِ، وَالْمَعْنَى أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ يَسُوقُنِي إِلَى مَا يَشِينُنِي وَيُزْرِي بِي مِنَ الْمَقَابِحِ كَالْمَذَلَّةِ لِلسَّفَلَةِ وَالتَّوَاضُعِ لِأَرْبَابِ الدُّنْيَا وَإِظْهَارِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّمَعِ، وَلِذَا قِيلَ: الطَّمَعُ فَسَادُ الدِّينِ وَالْوَرَعُ صَلَاحُهُ، وَلَمَّا كَانَ الْحِرْصُ مَنْشَأَ الطَّمَعِ وَمَنْبَعَ الطَّبَعِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي مِنَ الْحِرْصِ الَّذِي يَجُرُّ صَاحِبَهُ إِلَى الذُّلِّ وَالْعَيْبِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الطَّمَعُ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ أَوْ مَسْكُهُ عَنْ حَقِّهِ بُخْلًا بِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ) فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ.

2475 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2475 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ) وَهُوَ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنَ الْهِلَالِ (فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ) أَيْ: إِذَا وَقَبَ قِيلَ الْغَاسِقُ هُوَ اللَّيْلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَقَوِيَ ظَلَامُهُ مِنْ غَسَقَ يَغْسِقُ إِذَا أَظْلَمَ، وَوُقُوبُهُ دُخُولُ ظَلَامِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مِنْ شَرِّ اللَّيْلِ يَعْنِي لِأَنَّهُ أَدْهَى فِي الْوَيْلِ وَلِذَا قِيلَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ لِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنِ انْبِثَاثِ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِمَّا فِي غَيْرِهِ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمُؤَوَّلٌ عَلَيْهِ لِيُوَافِقَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْقَمَرِ أَنَّ يَكُونَ مُرَادَهُ، وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ يَحْتَمِلُ إِشَارَةً إِلَى الظَّلَامِ حَيْثُ دَخَلَ فِي الْمَغِيبِ، وَلِذَا قِيلَ أُطْلِقَ الْغَاسِقُ هُنَا عَلَى الْقَمَرِ لِأَنَّهُ يُظْلِمُ إِذَا خَسَفَ وَوُقُوبُهُ دُخُولُهُ فِي الْخُسُوفِ يَعْنِي ذَا خَسَفٍ، اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنْ كُسُوفِهِ لِأَنَّهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِ بَلِيَّةٍ وَنُزُولِ نَازِلَةٍ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ " وَلِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي الْحَدِيثِ كَوَضْعِ الْيَدِ فِي التَّعْيِينِ، وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَبَرِ الْمُعَرَّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الْقَمَرُ لَا غَيْرَ، قُلْتُ: قَدْ يَرِدُ مِثْلُ هَذَا ادِّعَاءً وَإِرَادَةً لِلْمُبَالَغَةِ وَقَصْدًا لِلتَّخْصِيصِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ أَفْرَادِ نَوْعِهِ وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُدْفَعُ قَوْلُهُ، وَتَفْسِيرُ الْغَاسِقِ بِاللَّيْلِ يَأْبَاهُ سِيَاقُ الْحَدِيثِ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِأَنَّ دُخُولَ اللَّيْلِ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَمَنِّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ قَالَ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ - فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 67 - 76] فَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الِامْتِنَانِ، وَأَمَّا الْأُولَى فَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ نِعْمَةٌ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا - وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا - وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 9 - 11] لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نِعْمَةً أَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ نِقْمَةً، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي صَدْرِ السُّورَةِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ - مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 1 - 2] تَعْمِيمًا، ثُمَّ قَالَ: " {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] " إِلَخْ تَخْصِيصًا ثُمَّ مَا يُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ مِنْ شَرِّ الذِّكْرِ إِذَا قَامَ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الظُّلْمَةِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي قَدْ تَجُرُّ إِلَى ظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا سَلْبُ كَمَالِ نُورِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَتُرْدِي إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ بَلْ إِلَى ظُلُمَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَأَطْنَبَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ بَلْ بَيْنَ كَلَامِهِ تَعَارُضٌ وَتَدَافُعٌ وَلِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ.

2476 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي: يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ إِلَهًا؟ قَالَ أَبِي: سَبْعَةً سِتًّا فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ، فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَالَ يَا حُصَيْنُ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ، قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حَصِينٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2476 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ، سَكَنَ الْبَصْرَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي) أَيْ: حَالَ كُفْرِهِ (يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ) اللَّامُ لِلْمَعْهُودِ الْحَاضِرِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] (إِلَهًا) مَفْعُولُ تَعْبُدُ وَحُذِفَ مُمَيِّزُهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهُ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَجَرٍ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِكَمِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، قَالَ: وَلَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ لِأَنَّهُ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ وَفِيهِ تَوَقُّفٌ. (قَالَ أَبِي: سَبْعَةً) أَيْ: عَبَدَ سَبْعَةً مِنَ الْآلِهَةِ (سِتًّا فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ) أَيْ: عَلَى زَعْمِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَذْكُورُ فِي التَّنْزِيلِ يَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرُ وَاللَّاتُ وَالْمَنَاةُ وَالْعُزَّى كُلُّهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ سَبْعَةً لِدُخُولِ اللَّهِ فِيهَا فَغَلَّبَ جَانِبَ التَّذْكِيرِ ثُمَّ أَنَّثَ سِتًّا وَذَكَّرَ وَاحِدًا اه. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ أَنَّ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَ مِنْ أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى تَأْنِيثِهَا، وَإِنَّمَا الْعَرَبُ كَانَتْ لَهُمْ آلِهَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي التَّنْزِيلِ وَمِنْهَا مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَوْلَ الْبَيْتِ الْمُبَارَكِ حِينَ فَتْحِ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ كَانَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا كُلَّمَا مَرَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِصَنَمٍ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَضِيبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: " {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] " فَيَقَعُ الصَّنَمُ لِوَجْهِهِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ رَأَى شَخْصٌ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّهُ يَبُولُ عَلَى صَنَمِهِ الثَّعْلَبُ قَالَ: أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ وَأَسْلَمَ، وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبَعْضِ الْمُجَدِّدِينَ فِي الْإِسْلَامِ: هَلْ نَفَعَكَ أَصْنَامُكَ؟ وَرُبَّمَا قَالَ: نَعَمْ نَفَعَنِي صَنَمٌ عَمِلْتُهُ مِنَ الْحَيْسِ فَوَقَعَ الْقَحْطُ فَنَفَعَنِي أَكْلُهُ فَتَبَسَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . (قَالَ: فَأَيُّهُمْ) بِضَمِّ الْيَاءِ (تَعُدُّ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: تَعُدُّهُ إِلَهًا (لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، أَوْ تُهَيِّئُهُ لِيَنْفَعَكَ حِينَ تَرْجُو وَتَخَافُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّهُمْ تَخُصُّهُ وَتَلْتَجِئُ إِلَيْهِ إِذَا نَابَتْكَ نَائِبَةٌ، قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ) أَيْ: مَعْبُودٌ فِيهَا أَوْ قَالَهُ عَلَى زَعْمِهِ وَلَعَلَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأَلُّفًا بِهِ (قَالَ: يَا حُصَيْنُ أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّكَ) بِالْكَسْرِ (لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ) أَيْ: دَعْوَتَيْنِ (تَنْفَعَانِكَ) أَيْ: فِي الدَّارَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا مِنْ بَابِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ وَكَلَامِ الْمُنْصِفِ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ لَهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ أَسْلِمْ وَلَا تُعَانِدْ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِرْخَاءِ بَلْ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاءِ عَلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، قُلْتُ: عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ ... فَكُلٌّ إِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشِيرُ لِأَنَّ مُؤَدَّى الْعِبَارَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ بَيَانُ الْهِدَايَةِ بِلُطْفِ الْعِبَارَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] (قَالَ) أَيْ: عِمْرَانُ (فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي) أَيْ: بِتَعْلِيمِهِمَا (قَالَ: قُلْ) أَيِ: ادْعُ هَذَا الدُّعَاءَ مَتَى مَا شِئْتَ وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَبَعِيدٌ جِدًّا (اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: وَفِّقْنِي إِلَى الرُّشْدِ وَهُوَ الِاهْتِدَاءُ إِلَى الصَّلَاحِ (وَأَعِذْنِي) أَيْ: أَجِرْنِي وَاحْفَظْنِي (مِنْ شَرِّ نَفْسِي) فَإِنَّهَا مَنْبَعُ الْفَسَادِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَ تِلْكَ الْآلِهَةِ لَيْسَ الْأَهْوَى لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَإِنَّ الرُّشْدَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ هُوَ الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ.

2477 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونَ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ كَتَبَهَا فِي صَكٍّ ثُمَّ عَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2477 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا فَزِعَ) بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: خَافَ (أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ) أَيْ: فِي حَالِ النَّوْمِ أَوْ عِنْدَ إِرَادَتِهِ (فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ) أَيِ: الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ الْفَاضِلَةِ وَهِيَ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ وَآيَاتُ كُتُبِهِ (مِنْ غَضَبِهِ) أَيْ: مِنْ آثَارِهِ (وَعِقَابِهِ) أَيْ: عَذَابِهِ وَحِجَابِهِ (وَشَرِّ عِبَادِهِ) مِنَ الظُّلْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَنَحْوِهِمَا (وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ) أَيْ: خَطَرَاتِهِمْ وَوَسَاوِسِهِمْ وَإِلْقَائِهِمِ الْفِتْنَةَ وَالْعَقَائِدَ الْفَاسِدَةَ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِعِبَادِهِ الْمَخْصُوصِينَ أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُبَالَغَةً لِلتَّنْفِيرِ عَنْ جِنْسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر: 6]

(وَأَنْ يَحْضُرُونَ) بِحَذْفِ الْيَاءِ وَإِبْقَاءِ الْكَسْرَةِ دَلِيلًا عَلَيْهَا أَيْ: وَمِنْ أَنْ يَحْضُرُونِي فِي صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي وَذِكْرِي وَدَعْوَتِي وَمَوْتِي (فَإِنَّهَا) أَيِ: الْهَمَزَاتِ (لَنْ تَضُرَّهُ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِذَا دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَزَعَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (يُعَلِّمُهَا) أَيِ: الْكَلِمَاتِ (مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ) أَيْ: لِيَتَعَوَّذَ بِهِ (وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ كَتَبَهَا فِي صَكٍّ) أَيْ: كِتَابٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْقَامُوسِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ لُغَةً وَعُرْفًا فِي تَفْسِيرِ الصَّكِّ بِكَتِفٍ مِنْ عَظْمٍ (ثُمَّ عَلَّقَهَا) أَيْ: عَلَّقَ كِتَابَهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ (فِي عُنُقِهِ) أَيْ: فِي رَقَبَةِ وَلَدِهِ وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَعْلِيقِ التَّعْوِيذَاتِ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا) أَيِ: الْمَذْكُورُ (لَفْظُهُ) أَيْ: لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَخِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً قَالَ: (إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ) فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَصَابَهُ أَرَقٌ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ عِنْدَ مَنَامِهِ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ إِلَخْ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ قَالَ «حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَهَاوِيلَ يَرَاهَا بِاللَّيْلِ حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا خَالِدُ بْنَ الْوَلِيدِ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ لَا تَقَوُّلُهُنَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى يُذْهِبَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْكَ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَإِنَّمَا شَكَوْتُ هَذَا إِلَيْكَ رَجَاءَ هَذَا مِنْكَ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ إِلَخْ) قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا لَيَالِيَ حَتَّى جَاءَ خَالِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَتْمَمْتُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي عَلَّمْتَنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى أَذْهَبَ اللَّهُ عَنِّي مَا كَانَ بِي» ، إِنِّي لَوْ دَخَلْتُ عَلَى أَسَدٍ فِي خِيسَتِهِ بِلَيْلٍ، فِي الْقَامُوسِ الْخِيسُ بِالْكَسْرِ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ مَوْضِعُ الْأَسَدِ كَالْخِيسَةِ.

2478 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَمَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2478 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ) بِأَنْ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أَيْ: كَرَّرَهُ فِي مَجَالِسَ أَوْ فِي مَجْلِسٍ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاحِ عَلَى مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ ثَلَاثَ أَوْقَاتٍ وَهِيَ عِنْدَ امْتِثَالِ الطَّاعَةِ وَانْتِهَاءِ الْمَعْصِيَةِ وَإِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ، أَوْ عِنْدَ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ (قَالَتِ الْجَنَّةُ) بِبَيَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْقَالِ لِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ، أَوِ الْمُرَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ وَخَزَنَتِهَا (اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ لُحُوقًا آخِرِيًّا (وَمَنِ اسْتَجَارَ) أَيِ: اسْتَحْفَظَ (مِنَ النَّارِ) بِأَنْ قَالَ اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ) أَيِ: احْفَظْهُ أَوْ أَنْقِذْهُ (مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ دُخُولِهِ أَوْ خُلُودِهِ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي وَضْعِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ تَجْرِيدٌ وَنَوْعٌ مِنْ الِالْتِفَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً وَلَا بُعْدَ فِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً شَبَّهَ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي تَحَقُّقِهِمَا وَثُبُوتِهِمَا بِنُطْقِ النَّاطِقِ كَأَنَّ الْجَنَّةَ مُشْتَاقَةٌ إِلَيْهِ سَائِلَةٌ دَاعِيَةٌ دُخُولَهُ وَالنَّارَ نَافِرَةٌ مِنْهُ دَاعِيَةٌ لَهُ بِالْبُعْدِ مِنْهَا فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ وَأَرَادَ التَّحَقُّقَ وَالثُّبُوتَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ أَيْ: قَالَ خَزَنَتُهُمَا فَالْقَوْلُ إِذًا حَقِيقِيٌّ، أَقُولُ: لَكِنَّ الْإِسْنَادَ مَجَازِيٌّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحَمْلُ عَلَى لِسَانِ الْحَالِ وَتَقْدِيرِ الْمُضَافِ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرِّرَةِ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَحُلِ الْعَقْلُ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يُصْرَفْ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَنُطْقُ الْجَمَادَاتِ بِالْعُرْفِ وَاقِعٌ كَتَسْبِيحِ الْحَصَى فِي يَدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَغَيْرِهِ اهـ. أَقُولُ: هَذِهِ قَاعِدَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى الْقَوَاعِدِ الظَّوَاهِرِيَّةِ فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى تَأْوِيلِ (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ يُمْكِنُ بِطَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ سُؤَالُ الْقَرْيَةِ وَجَوَانِبُهَا مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَظَرًا إِلَى الْمَأْلُوفِ الْمُعْتَادِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ أَطْوَارُ الْآخِرَةِ وَالْأَسْرَارُ الْإِلَهِيَّةُ كُلُّهَا الثَّابِتَةُ بِالنَّقْلِ مِنْ وَرَاءِ طَوْرِ الْعَقْلِ، وَلِذَا أَنْكَرَهَا الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِمَّنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَعْقَلُ الْعُقَلَاءِ وَأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا الْأَنْبِيَاءُ مُرْسَلُونَ إِلَى الْأَغْبِيَاءِ بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ أَنْكَرُوا بَعْضَ الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَالرُّؤْيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَقَابَلَهُمْ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ فَحَمَلُوا الْقُرْآنَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ وَجَعَلُوا لَهُ الْجَوَارِحَ كَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالْأَصَابِعِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُحَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَعَارَضَهُمْ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ فَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَصَرَفُوهُمَا عَنْ ظَوَاهِرِهِمَا وَقَالُوا الْمُرَادُ بِمُوسَى الْقَلْبُ وَبِفِرْعَوْنَ النَّفْسُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَالْحَقُّ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، الْكَامِلُونَ الْمُعْطُونَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2479 - (عَنِ الْقَعْقَاعِ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَارًا. فَقِيلَ لَهُ: مَا هُنَّ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ) . رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2479 - (عَنِ الْقَعْقَاعِ) بِالْقَافَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ، أَيِ ابْنِ حَكِيمٍ الْمَدَنِيِّ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ (أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ; أَيْ عُلَمَائِهِمْ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْلَمَ زَمَنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ) أَيْ أَدْعُو بِهِنَّ (لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ) أَيْ مِنَ السِّحْرِ (حِمَارًا) أَيْ بَلِيدًا أَوْ ذَلِيلًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَحَرَةٌ، وَقَدْ أَغْضَبَهُمْ إِسْلَامِي، فَلَوْلَا اسْتِعَاذَتِي بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَتَمَكَّنُوا مِنِّي وَغَلَبُوا عَلَيَّ، وَجَعَلُونِي بَلِيدًا، وَأَذَلُّونِي كَالْحِمَارِ، فَإِنَّهُ مِثْلُ الذِّلَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْيَهُودَ سَحَرَتْهُ، وَلَوْلَا اسْتِعَاذَتِي بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَتَمَكَّنُوا مِنْ أَنْ يَقْلِبُوا حَقِيقَتِي اهـ. وَفِيهِ أَنَّ قَلْبَ الْحَقَائِقِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65] وَقَالَ {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ سِحْرِهِمُ الَّذِي أُجْمِعَ عَلَيْهِ كَيْدُ السَّحَرَةِ فِي زَمَانِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِذَا لَمْ يَقْدِرُوا فِي حَقِّهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى سَيِّدِ الْخَلْقِ وَمُظْهِرِ الْحَقِّ أَنْ يَقْلِبُوا حَقِيقَتَهُ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالسِّحْرِ مَا يُسْتَعَانُ فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَتِبُّ إِلَّا لِمَنْ يُنَاسِبُهُ فِي الشَّرَارَةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ، فَإِنَّ التَّنَاسُبَ شَرْطٌ فِي التَّضَامِّ وَالتَّعَاوُنِ، وَبِهَذَا تَمَيَّزَ السَّاحِرُ عَنِ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ، وَأَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِمَعُونَةِ الْآلَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ فَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلَى التَّجَوُّزِ اهـ. فَإِذَا كَانَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حِمَارًا حَقِيقَةً فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ لِلْمُتَوَسِّلِ إِلَى قُرْبِهِ أَنْ يَقْلِبَ الْحَقِيقَةَ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمَدَارِكِ: وَلِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ - كَثَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ خَذَلَهُمُ اللَّهُ فَمَعْنَاهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السِّحْرُ حَقٌّ ; أَيْ ثَابِتٌ وَاقِعٌ لَا أَنَّهُ خَيَالٌ فَاسِدٌ كَرُؤْيَةِ الْأَحْوَالِ شَيْئًا وَاحِدًا شَيْئَيْنِ، وَكَتَخَيُّلِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ خَلَلِ الدِّمَاغِ وَحُصُولِ الْأَفْكَارِ الْفَاسِدَةِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] وَقَوْلِهِ {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] أَيْ عِلْمَ السِّحْرِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ عِنْدَهُ النُّشُوزَ وَالْخِلَافَ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي سِحْرِ الْيَهُودِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ السِّحْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمْوِيهِ وَالتَّخْيِيلِ، وَالسِّحْرُ وُجُودُهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُمَمِ، حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: السِّحْرُ يَخْبِلُ وَيُمْرِضُ وَقَدْ يَقْتُلُ حَتَّى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ فَيَجْعَلُ الْآدَمِيَّ عَلَى صُورَةِ الْحِمَارِ وَيَجْعَلُ الْحِمَارَ عَلَى صُورَةِ الْكَلْبِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ قَالَ تَعَالَى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] لَكِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْأَبْدَانِ بِالْأَمْرَاضِ وَالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ اهـ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ بَعْدَ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ عَلَى خِلَافِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا أَبَدًا فِي الْكَوْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ، فَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكَوْنُ السِّحْرِ يَقْلِبُ الْآدَمِيَّ حِمَارًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ لَا الْحَقِيقَةِ أَوْ وَالْحَقِيقَةِ، عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ، أَمْرٌ وَاقِعٌ شُوهِدَ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي كَصَعِيدِ مِصْرَ، كَمَا شُوهِدَ فِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ عَنْ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهَا فَطَالَ ذَكَرُهُ وَصَارَ كُلَّمَا مَشَى طَالَ، فَأَخَذَهُ وَلَفَّ عَلَى رَقَبَتِهِ فَطَالَ، فَلَفَّهُ إِلَى أَنْ أَعْجَزَهُ حَمْلُهُ عَنِ الْمَشْيِ فَوَقَفَ عَيًّا، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مُخَلِّصًا إِلَّا رُجُوعَهُ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَخَفَّ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَخِفُّ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَحَلِّهَا، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ اهـ. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَلْبِ الصُّورَةِ فَضْلًا عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا تَخْيِيلُ السِّحْرِ وَتَمْوِيهُهُ الْحَاصِلُ مِنْ ثُبُوتِ أَثَرِ السِّحْرِ، إِذْ رُجُوعُهُ إِلَى حَالَةِ الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَلْبِ صَرِيحًا، فَإِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ الْقَلْبُ لَبَقِيَ ذَكَرُهُ فِي حَلْقِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذْ لَمْ يَقَعْ حِينَئِذٍ سِحْرٌ آخَرُ قَلَبَهُ ثَانِيًا، مَعَ أَنَّ دَعْوَى الْمُشَاهَدَةِ بَاطِلَةٌ إِذْ هِيَ مُجَرَّدُ حِكَايَةٍ فَاسِدَةٍ مِمَّا

يَسْتَمْرِهَا النَّاسُ وَيَحْكُونَهَا فِي بُيُوتِ الْقَهْوَةِ، وَتَجُوزُ فِي عُقُولِ النِّسَاءِ وَبَعْضِ الرِّجَالِ مِمَّنْ سَخُفَ عَقْلُهُ وَسَخُفَ قَلْبُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ (فَقِيلَ لَهُ: مَا هُنَّ) أَيْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ (قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ) أَيْ ذَاتِهِ (الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ) وَلَا مُسَاوِيًا لِعَظَمَتِهِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهَا بَلْ وَلَا عَظَمَةَ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدُهُ بَلْ وَلَيْسَ فِي الْكَوْنِ وُجُودٌ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ صِفَةً لِلْمُضَافِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَالْمُؤَدَّى وَاحِدٌ (وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزْهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ) إِعَادَةٌ لَا لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ عِلْمُ اللَّهِ الَّذِي يَنْفَدُ الْبَحْرُ قَبْلَ نَفَادِهِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ الِاسْتِيعَابَ كَقَوْلِهِ: رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ، فَإِنَّ تَكْرِيرَ حَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاسْتِيعَابِ، وَأَرَادَ بِالْكَلِمَاتِ التَّامَّاتِ الْقُرْآنَ فَيُئَوَّلُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْمُطِيعُ وَالْعَاصِي لَا يَتَجَاوَزَانِ حَالَهُمَا وَمَا عَلَيْهِمَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] لِأَنَّ الصِّدْقَ مُلَائِمٌ لِلْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْخَبَرِ مِنَ الْقِصَصِ وَنَبَأِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِمَّا سَبَقَ وَمِمَّا سَيَأْتِي، وَالْبَدَلُ مُوَافِقٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذَا مِمَّا يُوجَبُ فِيهِ تَكْرِيرُ لَا وَمَعَ وُجُوبِهِ لَا يُنَافِي تَسْمِيَتَهَا مُؤَكَّدَةً، كَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ شَارِحٍ هُنَا كَمَا هُوَ مُحَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ مِنْ حَوَاشِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهَا فِي: " لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ "، " لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ "، " لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ " اهـ. فَغَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ مَحَلَّ الْوُجُوبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ إِنَّمَا هُوَ: إِذَا كَانَ الْوَصْفُ نَفْيًا بِلَا فَإِنَّهُ لَزِمَ تَكْرَارَهُ كَمَا فِي مَرَرْتُ بِرَجُلٍ لَا كِرِيمٍ وَلَا شُجَاعٍ قَالَ تَعَالَى: {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44] وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ تَكْرَارِ لَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَتَفْسِيرِي الْمُجَاوَزَةَ بِالْإِحْصَاءِ غَيْرُ بَعِيدٍ، لِأَنَّهُ مِنْ أَحْصَى الشَّيْءَ فَقَدْ جَاوَزَهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ عُلُومَهُ تَعَالَى فَلَا يُجَاوِزُهُ أَحَدٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْ مَخْلُوقٍ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ الْمُجَاوَزَةُ وَالْمُخَالَفَةُ لِمَعْلُومَاتِهِ تَعَالَى وَمَعَ صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى لَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ إِلَى مَعْنَى الْإِحْصَاءِ اللَّازِمِ مِنْهُ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى زَعْمِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: لَا يُحْصِي عِلْمَهُ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، إِذْ لَا يُفِيدُ التَّأْكِيدُ حِينَئِذٍ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَيْضًا تَفْسِيرُ الْمُجَاوَزَةِ بِالْإِحْصَاءِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الثَّانِي بِالْكَلِمَاتِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، ثُمَّ مِنَ الْعَجِيبِ تَبَجُّحُهُ وَعَلَى زَعْمِهِ تُرَجِّحُهُ بِقَوْلِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: الَّتِي إِلَخْ أَحْسَنُ وَأَوْضَحُ مِمَّا ذَكَرَهُ شَارِحٌ فَتَأَمَّلَ هَذَا. وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَعَاذَ بِهِ كَمَا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ كَرَبِّ النَّاسِ وَبِعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَعِيذُ بِمَخْلُوقٍ (وَبِأَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْكَلِمَاتِ وَالْأَسْمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ (وَمَا لَمْ أَعْلَمْ) أَيْ مِنْهَا وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) أَيْ أَنْشَأَ وَقَدَّرَ (وَذَرَأَ) بِالْهَمْزِ أَيْ بَثَّ وَنَشَرَ (وَبَرَأَ) أَيْ أَوْجَدَ مُبَرَّأً عَنِ التَّفَاوُتِ فَخَلَقَ كُلَّ عُضْوٍ عَلَى مَا يَنْبَغِي قَالَ تَعَالَى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

2480 - ( «وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَ أَبِي يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، فَكُنْتُ أَقُولُهُنَّ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا؟ قُلْتُ: عَنْكَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُهُنَ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ، وَرَوَى أَحْمَدُ لَفْظَ الْحَدِيثِ وَعِنْدَهُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2480 - (وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ) تَابِعِيٌّ وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ (قَالَ كَانَ أَبِي يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ) أَيِ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ جِنْسِ الصَّلَاةِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ آخِرَهَا وَعَقِبَهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.

(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ) أَيْ مِنْ أَنْوَاعِهِ (وَالْفَقْرِ) أَيْ فِتْنَتِهِ أَوْ فَقْرِ الْقَلْبِ الْمُؤَدِّي إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَفِي اقْتِرَانِهِ بِالْكُفْرِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ وَشَاكِرًا لِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ (وَعَذَابِ الْقَبْرِ) أَيِ الَّذِي مَنْشَأُهُ الْكُفْرُ وَالْكُفْرَانُ (فَكُنْتُ أَقُولُهُنَّ) أَيْ تَقْلِيدًا لِأَبِي (فَقَالَ أَيْ بُنَيَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَكَسْرِهَا وَالتَّصْغِيرُ لِلشَّفَقَةِ (عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا) أَيْ هَذَا الدُّعَاءَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَلْيَقَ لِلسَّالِكِ أَنْ يَدْعُوَ بِالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ وَلَمْ يَخْتَرِعْ مِنْ عِنْدِهِ (قُلْتُ عَنْكَ) أَيْ أَخَذْتُهُ (قَالَ) تَرْقِيَةً لَهُ مِنَ الْمَقَامِ الْأَدْنَى إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْأَعْلَى، وَتَنْبِيهًا لَهُ عَلَى تَحْصِيلِ السَّنَدِ إِلَى رَسُولِ الْمَوْلَى (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُهُنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ) بِضَمِّ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ وَالرِّوَايَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الْمُطَرِّزِيُّ: دَبُرُ كُلِّ شَيْءٍ بِفَتْحِ الدَّالِّ ; أَيْ آخِرُ أَوْقَاتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا قَالَ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا الْجَارِحَةُ فَبِالضَّمِّ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: دُبُرُ الشَّيْءِ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ آخِرُ أَوْقَاتِهِ وَالصَّحِيحُ الضَّمُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوْهَرِيُّ وَآخَرُونَ غَيْرَهُ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الدُّبُرُ بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ نَقِيضُ الْقُبُلِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ عَقِبُهُ وَمُؤَخِّرُهُ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ التِّرْمِذِيَّ (لَمْ يَذْكُرْ لِي دُبُرَ الصَّلَاةِ وَرَوَى أَحْمَدُ لَفْظَ الْحَدِيثِ) أَيْ دُونَ الْقِصَّةِ (وَعِنْدَهُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) وَفِي الْحِصْنِ أَنَّهُ رَوَى الْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ السُّنِّيِّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ رَوَوُا الْقِصَّةَ أَمْ لَا.

2481 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالدَّيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْدِلُ الْكُفْرَ بِالدَّيْنِ قَالَ: نَعَمْ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ قَالَ رَجُلٌ: وَيُعْدَلَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2481 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالدَّيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْدِلُ الْكُفْرَ) أَيْ تُسَاوِيهِ وَتُقَارِنُهُ (بِالدَّيْنِ قَالَ نَعَمْ) فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يُخَافُ عَلَيْهِ فِي دَيْنِهِ مِنَ الشَّيْنِ، حَيْثُ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِهِ وَيَخْلِفُ فِي وَعْدِهِ فَيَكُونُ كَالْمُنَافِقِ (وَفِي رِوَايَةٍ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: وَيُعْدَلَانِ؟ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَيْ يُعْدَلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، أَيْ يَسْتَوِيَانِ (قَالَ نَعَمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ نَعَمْ أُسَاوِي الدَّائِنَ بِالْمُنَافِقِ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَمْ يَصْبِرْ عَلَى فَقْرِهِ أَسْوَءُ حَالًا مِنَ الدَّائِنِ وَقَدْ رُويَ كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا اهـ. وَلِأَنَّ الدَّائِنَ رُبَّمَا يَكُونُ مُتَحَمِّلًا وَعَلَى رَبِّهِ مُتَوَكِّلًا، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

[باب جامع الدعاء]

[بَابُ جَامِعِ الدُّعَاءِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2482 - (عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جَدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي، اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ) . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ جَامِعِ الدُّعَاءِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيِ الدُّعَاءُ الْجَامِعُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِلَفْظِ الدَّعَوَاتِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، وَقَوْلُهُ: قُمْ قَوْلُهُ أَيِ الدَّعَوَاتُ الْجَامِعَةُ فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ غَيْرُ مُطَابِقٍ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ فَتَأَمَّلَ لِيَظْهَرَ لَكَ الْخِلَافُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2482 - (عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي» ) أَيْ سَيِّئَتِي (وَجَهْلِي) أَيْ فِيمَا يَجِبُ عَلَيَّ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ (وَإِسْرَافِي) أَيْ تَقْصِيرِي وَتَجَاوُزِي عَنْ حَدِّي (فِي أَمْرِي) قَالَ مِيرَكُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَطِيئَةُ الذَّنْبُ، وَيَجُوزُ تَسْهِيلُ الْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: خَطِّيَّةٌ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْجَهْلُ ضِدُّ الْعِلْمِ، وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ فِي أَمْرِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ (وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ وَاعْتِرَافٌ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى وَإِقْرَارُهُ بِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِهِ، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي) هُوَ نَقِيضُ الْهَزْلِ (وَهَزْلِي) وَهُوَ الْمِزَاحُ أَيْ مَا وَقَعَ مِنِّي فِي الْحَالَيْنِ، أَوْ هُوَ التَّكَلُّمُ بِالسُّخْرِيَةِ وَالْبُطْلَانِ (وَخَطَئِي) مِمَّا يَقَعُ فِيهِ تَقْصِيرٌ مِنِّي، فِي الصِّحَاحِ الْخَطَأُ نَقِيضُ الصَّوَابِ وَقَدْ يُمَدُّ وَالْخَطَأُ الذَّنْبُ (وَعَمْدِي) أَيْ وَتَعَمُّدِي فِي ذَنْبِي (وَكُلَّ ذَلِكَ) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْعُيُوبِ (عِنْدِي) أَيْ مَوْجُودٌ مُمْكِنٌ وَهُوَ كَالتَّذْيِيلِ لِلسَّابِقِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَنَا مُتَّصِفٌ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَاغْفِرْ لِي، قَالَهُ تَوَاضُعًا وَهَضْمًا، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ عَدَّ تَرْكَ الْأَوْلَى وَفَوَاتَ الْكَمَالِ ذَنْبًا، وَقِيلَ: أَرَادَ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَحِكَايَتُهُ هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مَعَ سُكُوتِهِ عَلَيْهِمَا عَجِيبَةٌ، فَإِنَّ الْأَصَحَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَصَغَائِرِهَا عَمْدِهَا وَسَهْوِهَا اهـ. وَتَعَجُّبُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَجَائِبِ لِأَنَّ النَّوَوِيَّ قَدَّمَ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بِقَوْلِهِ: قَالَهُ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَقُوَاهُ بِنَقْلِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خِلَافُ الْأَوْلَى، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ غَيْرِ الْمُخْتَارِ بِقِيلَ، وَقِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى ضَعْفِهِمَا عِنْدَهُ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ سُكُوتًا عَلَيْهِ حَتَّى يَتَعَجَّبَ مِنْهُ، ثُمَّ مِنَ الْغَرَائِبِ قَوْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي أَيْ أَنَا مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا أُرِيدُ بِمَا سَبَقَ التَّجَوُّزَ، بَلْ لَعَلَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَوْ نُسْخَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَيَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِأَحَدِهِمَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْحَقِيقَةُ، أَيْ بِأَحَدِ الِاعْتِبَارَاتِ السَّابِقَةِ فَهَذَا كَالتَّذْيِيلِ لِمَا سَبَقَهُ اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ الْمُنَاقَضَةُ وَالْمُعَارَضَةُ بَيْنَ كَلَامِهِ سَابِقًا وَتَمَامِهِ لَاحِقًا، هَذَا وَاعْلَمْ مُجْمَلًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَذِبِ خُصُوصًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الشَّرَائِعِ، أَمَّا عَمْدًا فَبِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا سَهْوًا فَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَفِي عِصْمَتِهِمْ عَنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكُفْرِ قَبْلَ الْوَحْيِ وَبَعْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا عَنْ تَعَمُّدِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ أَوِ الْعَقْلِ، فَعِنْدَنَا بِالسَّمْعِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْعَقْلِ، وَأَمَّا سَهْوًا فَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَتَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجِبَائِيِّ، وَتَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، لَكِنِ الْمُحَقِّقُونَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبِّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنْهُ وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْوَحْيِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ صُدُورِ الْكَبِيرَةِ قَبْلُ يُوجِبُ النَّفْرَةَ كَعُهْرِ الْأُمَّهَاتِ، وَالصَّغَائِرِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخِسَّةِ، وَمَنَعَ الشِّيعَةُ صُدُورَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى امْتِنَاعِهَا لِأَنَّهَا تُوجِبُ النَّفْرَةَ الْمَانِعَةَ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْبَعْثَةِ، وَالْحَقُّ مِنْهُ مَا الْوَحْيُ وَبَعْدَهُ لَكِنَّهُمْ جَوَّزُوا الْكُفْرَ تُقْيَةً قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِمَّا يُشْعِرُ بِكَذِبٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، فَمَا كَانَ مَنْقُولًا بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَمَرْدُودٌ، وَمَا كَانَ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ فَمَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ إِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَمَحْمُولٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، أَوْ كَوْنِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ، وَقِيلَ: تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ أَوِ اسْتِغْفَارًا لَهُمْ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ) أَيْ مِنَ الذُّنُوبِ أَوْ مِنْ

التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ، (وَمَا أَخَّرْتُ) أَيْ وَمَا يَقَعُ مِنِّي بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِأَنَّ الْمُتَوَقَّعَ كَالْمُتَحَقَّقِ أَوْ مَعْنَاهُ مَا تَرَكْتُ مِنَ الْعَمَلِ، أَوْ قُلْتُ سَأَفْعَلُ أَوْ سَوْفَ أَتْرُكُ، (وَمَا أَسْرَرْتُ) أَيْ أَخْفَيْتُ مِنَ الذُّنُوبِ، (وَمَا أَعْلَنْتُ) أَيْ أَظْهَرْتُ مِنَ الْعُيُوبِ، (وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ) أَيْ أَنْتَ تُقَدِّمُ مَنْ تَشَاءُ بِتَوْفِيقِكَ إِلَى رَحْمَتِكَ، (وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ أَرَدْتَهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ مُوهِمٌ فَتَنَبَّهْ، (قَدِيرٌ) كَامِلُ الْقُدْرَةِ تَامُّ الْإِرَادَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ إِلَى قَوْلِهِ مِنِّي مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

2483 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2483 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي) أَيْ عَنِ الْخَطَأِ (دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي) أَيْ مَا يَعْتَصِمُ بِهِ فِي الصِّحَاحِ، الْعِصْمَةُ الْمَنْعُ وَالْحِفْظُ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] أَيْ بِعَهْدِهِ وَهُوَ الدِّينُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الدِّينَ حَافَظُ جَمِيعِ أُمُورِي فَإِنَّ مَنْ فَسَدَ دِينُهُ فَسَدَتْ جَمِيعُ أُمُورِهِ وَخَابَ وَخَسِرَ فِي غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ وَخَزْلِهِ وَسُرُورِهِ (وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ) أَيْ مَنْ يُعِينُنِي عَلَى الْعِبَادَةِ (الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي) قِيلَ مَعْنَاهُ: احْفَظْ مِنَ الْفَسَادِ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا (وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي) مَصْدَرُ عَادَ إِذَا رَجَعَ، أَيْ وَفِّقْنِي لِلطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ إِصْلَاحُ مَعَادِي (وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً) أَيْ سَبَبَ زِيَادَةٍ (لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) أَيْ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى شَهَادَةٍ وَاعْتِقَادٍ حَسَنٍ وَتَوْبَةٍ، حَتَّى يَكُونَ مَوْتِي سَبَبَ خَلَاصِي عَنْ مَشَقَّةِ الدُّنْيَا وَحُصُولِ رَاحَةٍ فِي الْعُقْبَى قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِصْلَاحُ الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكَفَافِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ حَلَالًا وَمُعِينًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِصْلَاحُ الْمَعَادِ اللُّطْفُ وَالتَّوْفِيقُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَطَلَبُ الرَّاحَةِ بِالْمَوْتِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ وَهَذَا هُوَ النُّقْصَانُ الَّذِي يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ فِي الْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2484 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2484 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى» ) أَيِ الْهِدَايَةَ الْكَامِلَةَ (وَالتُّقَى) أَيِ التَّقْوَى الشَّامِلَةَ (وَالْعَفَافَ) بِالْفَتْحِ أَيِ الْكَفَافَ، وَقِيلَ: الْعِفَّةُ عَنِ الْمَعَاصِي، يُقَالُ: عَفَّ عَنِ الْحَرَامِ يَعِفُّ عَفًّا وَعِفَّةً وَعَفَافًا أَيْ كَفَّ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْفُتُوحِ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْعَفَافُ إِصْلَاحُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ، (وَالْغِنَى) أَيْ غِنَى الْقَلْبِ أَوِ الِاسْتِغْنَاءِ عَمَّا فِي أَيْدِ النَّاسِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَطْلَقَ الْهُدَى وَالتُّقَى لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكُلَّ مَا يَجِبُ أَنْ يُتَّقَى مِنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَطَلَبُ الْعَفَافِ وَالْغِنَى تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

2485 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَبِالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2485 - (وَعَنْ عَلِيَّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي) أَيْ ثَبِّتْنِي عَلَى الْهُدَى أَوْ دُلَّنِي عَلَى الْكَمَالَاتِ الزَّائِدَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، (وَسَدِّدْنِي) أَيِ اجْعَلْنِي مُسْتَقِيمًا، قِيلَ السَّدَادُ إِصَابَةُ الْقَصْدِ فِي الْأَمْرِ وَالْعَدْلُ فِيهِ، يَعْنِي أَسْأَلُ غَايَةَ الْهُدَى وَنِهَايَةَ السَّدَادِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} [الفاتحة: 6] أَيِ اهْدِنِي هِدَايَةً لَا أَمِيلُ بِهَا إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ

(وَاذْكُرْ) عُطِفَ عَلَى قُلْ أَيِ اقْصِدْ، (وَتَذَكَّرْ) يَا عَلِيُّ، (بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ) أَيِ الْمُسْتَقِيمَ، (وَبِالسَّدَادِ) بِفَتْحِ السِّينِ (سَدَادَ السَّهْمِ) أَيِ الْقَوِيمِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: كُنْ فِي سُؤَالِكَ الْهِدَايَةَ وَالسَّدَادَ كَالسَّهْمِ الْمُسَدَّدِ وَالرَّاكِبِ مَتْنَ الْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ، وَفِيهِ تَصْوِيرُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ وَأَنْ يَكُونَ فِي ذِكْرِهِ مُخْطِرًا بِبَالِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ فِي سُؤَالِهِ طَالِبًا غَايَةَ الْعَدْلِ وَنِهَايَةَ السَّدَادِ إِذِ الْمَطْلُوبُ هِدَايَةٌ كَهِدَايَةِ مَنْ رَكِبَ مَتْنَ الطَّرِيقِ، وَسَدَادًا يُشْبِهُ سَدَادَ السَّهْمِ نَحْوَ الْغَرَضِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2486 - (وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ عَلَّمُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2486 - (وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ» ) أَيْ جِنْسَ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ مِنْ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا أَوِ الصَّلَاةَ الَّتِي تَحْضُرُهُ فَإِنَّهُ فَرْضُ عَيْنِهِ، (ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) أَيْ بِمَحُو ذُنُوبِي (وَارْحَمْنِي) أَيْ بِسَتْرِ عُيُوبِي (وَاهْدِنِي) أَيْ إِلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ أَوْ ثَبِّتْنِي عَلَى نَهْجِ الِاسْتِقَامَةِ (وَعَافِنِي) أَيْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْخَطَايَا (وَارْزُقْنِي) أَيْ رِزْقًا حَلَالًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2487 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2487 - (وَعَنْ أَنَسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ لِكَوْنِهِ دُعَاءً جَامِعًا وَلِكَوْنِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مُقْتَبَسًا وَجَعَلَ اللَّهُ دَاعِيَهُ مَمْدُوحًا (اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا) أَيْ قَبْلَ الْمَوْتِ (حَسَنَةً) أَيْ كُلَّ مَا يُسَمَّى نِعْمَةً وَمِنْحَةً عَظِيمَةً وَحَالَةً مُرْضِيَةً (وَفِي الْآخِرَةِ) أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ (حَسَنَةً) أَيْ مَرْتَبَةً مُسْتَحْسَنَةً (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أَيِ احْفَظْنَا مِنْهُ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا اتِّبَاعُ الْهُدَى وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ مُوَافَقَةُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَعَذَابُ النَّارِ حِجَابُ الْمَوْلَى، لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكْثِرُ هَذَا الدُّعَاءَ لِأَنَّهُ مِنَ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَحُوزُ جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَّرَ الْحَسَنَةَ وَنَكَّرَهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، فَالْمَطْلُوبُ فِي الْأُولَى الْحَسَنَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْوَسَائِلِ إِلَى اكْتِسَابِ الطَّاعَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ بِحَيْثُ تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالرِّضْوَانِ فِي الْعُقْبَى اهـ. وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنْهَا، قَوْلُ بَعْضِهِمْ: فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً أَيِ الطَّاعَةَ وَالْقَنَاعَةَ أَوِ الْعَافِيَةَ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً أَيْ تَخْفِيفَ الْحِسَابِ وَرَفْعَ الْعَذَابِ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ وَحُصُولَ الرُّؤْيَةِ، وَلَعَلَّ الِاكْتِفَاءَ فِي طَلَبِ الْحِفْظِ بِعَذَابِ النَّارِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ أَمْرٌ سَهْلٌ بَلْ يَكُونُ سَبَبًا لِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ أَوْ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ وَقِنَا كُلَّ سَيِّئَةٍ فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ الْحَسَنَةِ الشَّامِلَةِ فِي الدُّنْيَا الْعُقْبَى، عَبَّرَ عَنِ السَّيِّئَةِ بِقَوْلِهِ عَذَابَ النَّارِ، وَالْمُرَادُ سَيِّئَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عَذَابُ النَّارِ احْتِرَازًا مِنْ سَيِّئَةٍ تَمْحُوهَا التَّوْبَةُ أَوِ الشَّفَاعَةُ أَوِ الْمَغْفِرَةُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ تَتْمِيمٌ، أَيْ إِنْ صَدَرَ مِنَّا مَا يُوجِبُهُ مِنَ التَّقْصِيرِ وَالْعِصْيَانِ فَاعْفُ عَنَّا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَذَابُ النَّارِ أَيِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَهِيَ الْحِجَابُ وَالشُّمُولُ، النَّارُ لِهَذَا تَغْلِيبًا وَمَجَازًا مَشْهُورًا، يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ اهـ. وَهُوَ خَطَأٌ سَبَبُهُ عَدَمُ الْفَهْمِ الْمُسْتَقِيمِ فِي مَعْنَى التَّتْمِيمِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ التَّعْمِيمِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ بَعْدَ حُصُولِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَوُصُولِ الْحَسَنَةِ فِي الْعُقْبَى عَذَابُ النَّارِ لَا يَبْقَى لَا بِمَعْنَى الْعِقَابِ وَلَا بِمَعْنَى الْحِجَابِ، فَمَا بَقِيَ الْكَلَامُ إِلَّا تَتْمِيمًا يَعْنِي عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ لَوْ وَقَعَ الذَّنْبُ وَالتَّقْصِيرُ فَلَا تُؤَاخِذْنَا بِالتَّعْذِيبِ وَالتَّعْزِيرِ وَهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنَ التَّقْرِيرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَلَفْظُ الْحِصْنِ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا إِلَخْ، وَقَالَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ وَلَعَلَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَوْ نُسْخَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَوْلَى وَيَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِأَحَدِهِمَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2488 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو يَقُولُ: رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي شَاكِرًا لَكَ، ذَاكِرًا لَكَ، رَاهِبًا لَكَ، مِطْوَاعًا لَكَ، مُخْبِتًا إِلَيْكَ، أَوَّاهًا مُنِيبًا. رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2488 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو يَقُولُ) بَدَلٌ أَوْ حَالٌ، (رَبِّ أَعِنِّي) أَيْ وَفِّقْنِي لِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، (وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ) أَيْ لَا تُغَلِّبْ عَلَيَّ مَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ طَاعَتِكَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، (وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ) أَيِ أَغْلِبْنِي عَلَى الْكُفَّارِ وَلَا تُغْلِبْهُمْ عَلَيَّ أَوِ انْصُرْنِي عَلَى نَفْسِي فَإِنَّهَا أَعْدَى أَعْدَائِي وَلَا تَنْصُرِ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ عَلَيَّ بِأَنْ أَتَّبِعَ الْهَوَى وَأَتْرُكَ الْهُدَى، (وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمَكْرُ الْحِيلَةُ، وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ فَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّايَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] يُظْهِرُ لَهُمُ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ وَغِرَّةٍ وَيُمِيتُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ، (وَاهْدِنِي) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ أَوْ عَلَى عُيُوبِ نَفْسِي، (وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي) أَيْ وَسَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ لِي حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الْعِبَادَةِ، (وَانْصُرْنِي) أَيْ بِالْخُصُوصِ، (عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ قَالَ تَأْكِيدٌ لِأَعِنِّي إِلَخْ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِقَوْلِهِ: وَانْصُرْنِي فِي الْأَوَّلِ، (رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ) قُدِّمَ الْمُتَعَلِّقِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ، (شَاكِرًا) أَيْ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ (لَكَ ذَاكِرًا) فِي الْأَوْقَاتِ وَالْآنَاءِ (لَكَ رَاهِبًا) أَيْ خَائِفًا فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَفِي الْحِصْنِ لَكَ شَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ مُنْقَطِعًا عَنِ الْخَلْقِ وَفِيهِ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ الْأَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ هُوَ بِإِشَارَةِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهُ، وَأَمَّا مَعْنَى الْعِبَارَةِ فَمَا قَدَّمْنَاهُ مَعَ أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمُرَادُ الصُّوفِيَّةِ بِالِانْقِطَاعِ إِنَّمَا هُوَ انْصِرَافُ الْهِمَّةِ عَنِ الْخَلْقِ وَالتَّعَلُّقُ بِالْحَقِّ وَهَذَا تَارَةً يَصْدُرُ وَيَنْشَأُ مِنْ غَايَةِ الرَّهْبَةِ وَتَارَةً يَصْدُرُ مِنْ غَايَةِ الرَّغْبَةِ. وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْعُزْلَةَ بِوَصْفٍ مِنْ جِهَةِ الرَّجَاءِ وَالتَّرْغِيبِ أَفْضَلُ مِنْ حُصُولِ الْخَوْفِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَهُمْ مَقَامٌ فَوْقَ ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسِ مَشْرَبَهُمْ وَكُلُّ قَوْمٍ فِي مِنْهَاجِ مَذْهَبِهِمْ، وَمَرْتَبَةُ الْجَامِعِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ هِيَ أَكْمَلُ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْحَالَاتِ السَّنِّيَّةِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّعَوَاتُ الْإِلَهِيَّةُ وَالتَّضَرُّعَاتُ الْبَهِيَّةُ الَّتِي تُنْبِئُ عَنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ عِنْدَ التَّجَلِّيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، (لَكَ مِطْوَاعًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرُ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مُطِيعًا أَيْ مُنْقَادًا، (لَكَ مُخْبِتًا) أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْخَبْتِ وَهُوَ الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ يُقَالُ أَخْبَتَ الرَّجُلُ إِذَا نَزَلَ الْخَبْتَ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الْخَبْتُ اسْتِعْمَالَ اللِّينِ وَالتَّوَاضُعِ قَالَ تَعَالَى: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23] أَيِ اطْمَأَنُّوا إِلَى ذِكْرِهِ أَوْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى أَمْرِهِ، وَأُقِيمَ اللَّامُ مَقَامَ إِلَى لِتُفِيدَ الِاخْتِصَاصَ قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34 - 35] (إِلَيْكَ أَوَّاهًا) أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ: أَوَّهْ، أَيْ قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوَّهْ، وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ، أَيِ اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ، أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ، وَقِيلَ: الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ (مُنِيبًا) أَيْ رَاجِعًا، قِيلَ: التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْإِنَابَةُ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ وَالْأَوْبَةُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اكْتُفِيَ فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75] اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يَصِحُّ ذِكْرُهُ.

(رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي) يَجْعَلُهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: تَكُونُ نَصُوحًا فَلَا أَنْكُثُهَا أَبَدًا فَمُوهِمٌ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ النَّصُوحِ عَدَمُ النِّكْثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] بِفَتْحِ النُّونِ، أَيْ بَالِغَةً فِي النُّصْحِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةُ التَّائِبِ فَإِنَّهُ يَنْصَحُ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ وُصِفَتْ بِهِ التَّوْبَةُ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ مُبَالَغَةً، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِضَمِّ النُّونِ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى النُّصْحِ، وَتَقْدِيرُهُ ذَاتَ نُصُوحٍ أَوْ تَنْصَحُ نُصْحًا لِأَنْفُسِكُمْ، وَفُسِّرَ نَصُوحًا بِصَادِقَةٍ وَخَالِصَةٍ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصُوحِ تَائِبٌ مَشْهُورٌ فَغَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ إِجْمَاعًا لِلْمُفَسِّرِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ لَا عَدَمِ النِّكْثِ عَلَى الصَّحِيحِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مَرْفُوعًا أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ فَمَحْمُولٌ عَلَى كَمَالِهِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ حُسْنُ خَاتِمَتِهِ وَمَآلِهِ (وَاغْسِلْ حَوْبَتِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيَضُمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي قِيلَ هِيَ مَصْدَرُ حُبْتُ أَيْ أَثِمْتُ، تَحَوَّبَ حُوبَةً وَحُوبًا وَحَابَةً وَالْحُوبُ بِالضَّمِّ، وَالْحَابُ الْإِثْمُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَزْجُورًا عَنْهُ، إِذِ الْحُوبُ فِي الْأَصْلِ لِزَجْرِ الْإِبِلِ، وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ دُونَ الِاسْمِ وَهُوَ الْحُوبُ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مِنْ فِعْلِ الذَّنْبِ أَبْلَغُ مِنْهُ مِنْ نَفْسِ الذَّنْبِ كَذَا قِيلَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ " {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] " ثُمَّ ذَكَرَ الْغَسْلَ لِيُفِيدَ إِزَالَتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَالتَّنَزُّهُ وَالتَّقَصِّي عَنْهُ كَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْقَذِرِ الَّذِي يَسْتَنْكِفُ عَنْ مُجَاوَرَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ أَزِلْ آثَامِي بِتَبْدِيلِهَا حَسَنَاتٍ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ اللُّغَةِ وَمَفْهُومِ الْحَدِيثِ، (وَأَجِبْ دَعْوَتِي) أَيْ دُعَائِي، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ ذُكِرَ لِأَنَّهُ مِنْ فَوَائِدَ قَبُولُ التَّوْبَةِ فَمُوهِمٌ أَنَّهُ لَا تُجَابُ دَعْوَةُ غَيْرِ التَّائِبِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا، وَفِي رِوَايَةٍ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، (وَثَبِّتْ حُجَّتِي) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى أَوْ ثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ، (وَسَدِّدْ) أَيْ صَوِّبْ وَقَوِّمْ، (لِسَانِي) حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ، (وَاهْدِ قَلْبِي) أَيْ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّي، (وَاسْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ (سَخِيمَةَ صَدْرِي) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ وَحَسَدَهُ وَنَحْوَهَا، مِمَّا يَنْشَأُ مِنَ الصَّدْرِ وَيَسْكُنُ فِي الْقَلْبِ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَلْبِي بَدَلَ صَدْرِي قِيلَ السَّخِيمَةُ الضَّغَنُ وَالْحِقْدُ مِنَ السُّخْمَةِ وَهُوَ السَّوَادُ وَمِنْهُ سُخَامُ الْقِدْرِ وَقِيلَ السَّخِيمَةُ الضَّغِينَةُ وَإِضَافَتُهَا إِلَى الصَّدْرِ لِأَنَّ مَبْدَأَهَا الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ الَّتِي فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ فِي الصَّدْرِ، وَسَلُّهَا إِخْرَاجُهَا وَتَنْقِيَةُ الصَّدْرِ مِنْهَا مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ الْعَاطِفِ فِي قَوْلِهِ رَبِّ اجْعَلْنِي إِلَى مُنِيبًا وَفِي الْإِتْيَانِ بِهِ فِي الْقَرَائِنِ اللَّاحِقَةِ قُلْتُ: أَمَّا التُّرْكُ فَلِلتَّعْدَادِ وَالْإِحْصَاءِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لِلَّهِ غَيْرَ مَعْدُودٍ وَلَا دَاخِلٍ تَحْتَ مَحْدُودٍ فَيَنْعَطِفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلِذَا قَدَّمَ الصِّلَةَ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِالْعَاطِفِ فِيمَا كَانَ لِلْعَبْدِ فَلِانْضِبَاطِهِ اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ عِنْدَ تَأَمُّلِهِ وَإِنْ قَالَ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِتَأَمُّلِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَالَ الْجَزَرِيُّ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2489 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ. فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2489 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى) قِيلَ إِنَّمَا بَكَى لِأَنَّهُ عَلِمَ وُقُوعَ أُمَّتِهِ فِي الْفِتَنِ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَتَحْصِيلِ الْجَاهِ فَأَمَرَهُمْ بِطَلَبِ الْعَفْوِ وَالْعَافِيَةِ لِيَعْصِمَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ (فَقَالَ سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ) أَيْ مَحْوَ الذُّنُوبِ وَسَتْرَ الْعُيُوبِ، (وَالْعَافِيَةَ) قِيلَ هُوَ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ وَيُعَافِيَهُمْ مِنْكَ، وَقِيلَ أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَعْفُوا عَنْكَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ السَّلَامَةُ فِي الدِّينِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَفِي الْبَدَنِ مِنْ

سَيِّئِ الْأَسْقَامِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ مَعْنَى الْمُعَافَاةِ كَمَا لَا يَخْفَى (فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ) أَيْ عِلْمَ الْيَقِينِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْبَصِيرَةُ فِي الدِّينِ، (خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهِيَ السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ فَيَنْدَرِجُ فِيهَا الْعَفْوُ اهـ. يَعْنِي وَلِعُمُومِ مَعْنَى الْعَافِيَةِ الشَّامِلَةِ لِمَعْنَى الْعَفْوِ اكْتَفَى بِذِكْرِهَا عَنْهُ وَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ سَابِقًا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ أَهَمُّ أَنْوَاعِهِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ خُلَاصَةَ كَلَامِ الطِّيبِيِّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ أَفْرَدَ الْعَافِيَةَ بَعْدَ جَمْعِهَا: قُلْتُ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ مَحْوُ الذُّنُوبِ وَمَعْنَى الْعَافِيَةِ السَّلَامَةُ عَنِ الْأَسْقَامِ وَالْبَلَايَا فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْعَفْوِ بِهَا لِشُمُولِهَا لَهُ وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّ أَخْذَ الذُّنُوبِ مِنَ الْبَلَايَا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ بَابِ التَّعَارُفِ وَإِنْ كَانَتِ الصُّوفِيَّةُ قَدْ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِالْبَلِيَّةِ وَلَكِنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْعِبَارَاتِ لَا مِنْ أَرْبَابِ الْإِشَارَاتِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) أَيْ غَرِيبٌ إِسْنَادُهُ لَا مَتْنُهُ وَفِي الْحِصْنِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ الصِّدِّيقِ قَالَ مِيرَكُ وَلَفْظُ الْحَاكِمِ سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ.

2490 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ قَالَ: سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2490 - (وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ قَالَ سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ» ) أَيْ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ، (وَالْمُعَافَاةَ) أَيْ مِنَ الْخَلْقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَطَتِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْعَافِيَةِ الْمُسَامَحَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَمِنَ الْمُعَافَاةِ الْمُسَامَحَةُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَيَحْصُلُ الضَّرَرُ فِيهِمَا، (ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ فَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، (ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ) أَيْ مُبَيِّنًا لَهُ أَفْضَلِيَّةَ الدُّعَاءِ، (فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ) أَيْ خَلُصْتَ مِنْ خَوْفِكَ وَظَفِرْتَ بِمَقْصُودِكَ قِيلَ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ كَلِمَةٌ أَجْمَعَ مِنَ الْفَلَاحِ إِلَّا الْعَافِيَةَ وَكَذَا النَّصِيحَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) تَمْيِيزٌ عَنِ الثَّانِي فَإِنَّ الْغَرَابَةَ تَارَةً تَكُونُ فِي الْمَتْنِ وَأُخْرَى فِي الْإِسْنَادِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا الْحَسَنُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِهِ فَلَيْسَ فِيهِ إِيهَامٌ لِيَحْتَاجَ إِلَى رَفْعِهِ بِالتَّمْيِيزِ فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَمْيِيزٌ عَنْ حَسَنٍ وَغَرِيبٍ وَكَذَا فِي نَظَائِرِهِمَا إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ كَثْرَةِ غَفْلَةٍ أَوْ قِلَّةِ تَمْيِيزٍ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَدْعُو اللَّهَ بِهِ فَقَالَ سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ فَمَكَثْتُ أَيْامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقَلْتُ يَا رَسُولَ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ يَا عَمِّ سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ يَا عَمِّ أَكْثِرِ الدُّعَاءَ بِالْعَافِيَةِ، أَيْ لِأَنَّهَا لِتَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ وَلِدَفْعِ الْبَلَايَا كَافِيَةٌ.

2491 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ. وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2491 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمَيِّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ أَنْصَارِيٌّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً ( «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ» ) يَحْتَمِلُ إِضَافَتَهُ

إِلَى الْفَاعِلِ وَإِلَى الْمَفْعُولِ وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ وَهُوَ الْأَصْلُ مَعَ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ قَالَ تَعَالَى: " {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] "، وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَزَلِيٌّ وَلَا يَتَعَلَّقُ الدُّعَاءُ إِلَّا بِالْحَادِثِ وَلِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ (وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ) عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُ وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِيَنْفَعُنِي، وَكَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ وَهُوَ: مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِحُبِّهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْكَ مُوهِمٌ فَتَأَمَّلْهُ، (اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي) وَلَفْظُ الْحِصْنِ كَمَا رَزَقْتَنِي، (مِمَّا أُحِبُّ) أَيِ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أُحِبُّهَا مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ وَقُوَّتِهِ وَأَمْتِعَةِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأُمْنِيَةِ وَالْفَرَاغِ، (فَاجْعَلْهُ قُوَّةً) أَيْ عُدَّةً، (لِي فِيمَا تُحِبُّ) بِأَنْ أَصْرِفَهُ فِيمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، (اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ) فِي الْحِصْنِ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ مِنَ الزَّيِّ بِمَعْنَى الْقَبْضِ وَالْجَمْعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ ازْوِ لَنَا الْأَرْضَ وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ» أَيِ اطْوِهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَيْ مَا قَبَضْتَهُ وَنَحَّيْتَهُ وَبَعَّدْتَهُ (عَنِّي) بِأَنْ مَنَعْتَنِي وَلَمْ تُعْطِنِي (مِمَّا أُحِبُّ) أَيْ مِمَّا أَشْتَهِيهِ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْأَوْلَادِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ (فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا) أَيْ سَبَبَ فَرَاغِ خَاطِرِي (فِيمَا تُحِبُّ) أَيْ مِنَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي مَا صَرَفْتَ عَنِّي مِنْ مَحَابِّي فَنَحِّهِ عَنْ قَلْبِي وَاجْعَلْهُ سَبَبًا لِفَرَاغِي لِطَاعَتِكَ وَلَا تَشْغَلْ بِهِ قَلْبِي فَيُشْغَلَ عَنْ عِبَادَتِكَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اجْعَلْ مَا نَحَّيْتَهُ عَنِّي مِنْ مَحَابِّي عَوْنًا لِي عَلَى شُغْلِي بِمَحَابِّكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَرَاغَ خِلَافُ الشُّغْلِ فَإِذَا زَوَى عَنْهُ الدُّنْيَا لِيَتَفَرَّغَ بِمَحَابِّ رَبِّهِ كَانَ ذَلِكَ الْفَرَاغُ عَوْنًا لَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَجِبْتُ لِمَا زَوَى اللَّهُ عَنْكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2492 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيْبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2492 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ) أَيْ قَلَّ تَرْكُهُ لَهُمْ (اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا) أَيِ اجْعَلْ لَنَا قِسْمًا وَنَصِيبًا (مِنْ خَشْيَتِكَ) وَهُوَ خَوْفٌ مَعَ التَّعْظِيمِ (مَا تَحُولُ بِهِ) أَيْ مِقْدَارًا تَحْجُبُ أَنْتَ بِسَبَبِهِ (بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ) فَإِنَّهُ لَا أَمْنَعَ لَهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِي الْحَدِيثِ نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ مُبَالَغَةٌ فِي كَمَالِهِ، بِأَنَّ تَرْكَ عِصْيَانِهِ نَشَأَ عَنِ الْمَحَبَّةِ لَا عَنِ الرَّهْبَةِ مَعَ الْخَشْيَةِ أَخَصُّ مِنَ الْخَوْفِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَفِي نُسْخَةٍ يَحُولُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَتَرَكَ بِهِ أَيْ قَدْرًا يَمْنَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِنْ حَالَ يَحُولُ حَيْلُولَةً، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ هِيَ بَاءُ الْآلَةِ وَكِلَاهُمَا مَجَازٌ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مَعَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْآلَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَطَأٌ فَاحِشٌ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَجَازِ ضِدُّ الْحَقِيقَةِ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ فَقَدْ صَرَّحَ أَرْبَابُهَا بِأَنَّهُمَا حَقِيقَتَانِ فِي مَعْنَيَيْهِمَا فَفِي الْقَامُوسِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ " فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ " " {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] " وَلِلِاسْتِعَانَةِ نَحْوَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَنَجَرْتُ بِالْقُدُومِ وَمِنْهُ بَاءُ الْبَسْمَلَةِ اهـ. وَفِي إِيرَادِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ تَنْبِيهٌ وَتَوْجِيهٌ وَجِيهٌ لِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ إِطْلَاقِ السَّبَبِيَّةِ فِي فِعْلِهِ تَعَالَى وَفِي فِعْلِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْآلَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ ذَلِكَ (وَمِنْ طَاعَتِكَ) بِإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَالتَّوْفِيقِ لَهَا (مَا تُبَلِّغُنَا) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ تَوَصِّلُنَا أَنْتَ (بِهِ جَنَّتَكَ) أَيْ دَرَجَاتِهَا الْعَلِيَّةَ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: (مَا) أَيْ نَصِيبًا وَافِرًا يَحْصُلُ لَنَا تُبَلِّغُنَا فَظَاهِرُهُ أَنَّ تُبَلِّغُنَا بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَطَأِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، ثُمَّ قَوْلُهُ بِأَنْ تُدْخِلَنَا مَعَ النَّاجِينَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمَقَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْكِرَامِ مِنْ أَرْبَابِ الْفُهُومِ عَلَى الْكَلَامِ، (وَمِنَ الْيَقِينِ) أَيِ الْيَقِينِ بِكَ وَبِأَنْ لَا مَرَدَّ لِقَضَائِكَ وَبِأَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبْتَهُ عَلَيْنَا وَبِأَنَّ مَا قَدَّرْتَهُ لَا يَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الْمَثُوبَةِ، (مَا تُهَوِّنُ بِهِ) أَيْ تُسَهِّلُ أَنْتَ بِذَلِكَ الْيَقِينِ، (عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا) وَفِي رِوَايَةٍ مَصَائِبَ الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا مُثَوَّبَاتُ الْأُخْرَى لَا يَغْتَمُّ بِمَا أَصَابَهُ وَلَا يَحْزَنُ بِمَا نَابَهُ، وَرُويَ مَا يُهَوِّنُ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ بِهِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يُهَوِّنُ بِالْيَاءِ آخِرَ الْحُرُوفِ وَإِثْبَاتُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ، (وَمَتِّعْنَا) أَيِ اجْعَلْنَا مُتَمَتِّعِينَ مُنْتَفِعِينَ، (بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا) بِأَنْ نَسْتَعْمِلَهَا فِي طَاعَتِكَ لِيَكُونَ لَنَا بِهَا.

نَفَعًا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّمَتُّعُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ إِبْقَاؤُهُمَا صَحِيحَيْنِ إِلَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالسَّمْعِ مَا يُسْمَعُ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَبِالْبَصَرِ اعْتِبَارَ مَا يُرَى وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْقُوَى، (مَا أَحْيَيْتَنَا) أَيْ مُدَّةَ حَيَاتِنَا قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا خُصُّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ بِالتَّمَتُّعِ مِنَ الْحَوَاسِّ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوصِلَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ طَرِيقِهِمَا، لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ إِنَّمَا تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنَ الْآيَاتِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ السَّمْعِ، أَوْ مِنَ الْآيَاتِ الْمَنْصُوبَةِ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ، فَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْبَصَرِ فَسَأَلَ التَّمَتُّعَ بِهِمَا حَذَرًا مِنَ الِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ الَّذِينَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، وَلَمَّا حَصَلَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْأَوَّلِينَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعِبَادَةُ، فَسَأَلَ الْقُوَّةَ لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ اهـ. وَبِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ إِشَارَةً إِلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، خُصُوصًا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ حَتَّى فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْفِعْلِ مَعَ وُجُودِ الْآيَاتِ الْآفَاقِيَّةِ وَالْأَنْفُسِيَّةِ حِينَئِذٍ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا خُلِقَ أَبْكَمَ فَيَبْعُدُ أَنْ يَعَرِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ، وَكَذَا بَعْدَ الْبَعْثَةِ لَا شَكَّ أَنَّ الِانْتِفَاعَ الدِّينِيَّ بِالسَّمْعِ أَكْثَرُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْبَصَرِ، وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ بِخِلَافِ إِيمَانِ صَاحِبِ الْفَتْرَةِ ; فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ فَقَطْ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، هَذَا وَالْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ قُوَّةُ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْحَوَاسِّ أَوْ جَمِيعِهَا فَيَكُونُ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ وَجْهُ ذِكْرِ هَذَيْنِ دُونَ بَقِيَّةِ الْحَوَاسِّ، ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّارِحَ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْتُهُ فَقَالَ: وَإِنَّمَا خُصُّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ فَمَرْدُودٌ ; لِأَنَّ مُرَادَ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا خُصُّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ سَابِقًا مَعَ دُخُولِهِمَا فِي تَعْمِيمِ قُوَّتِنَا لَاحِقًا لَا أَنَّهُ إِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهَا مِنَ الْقُوَى الظَّاهِرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، فَقَالَ لِأَنَّ الْفَرْقَ دَقِيقٌ وَبِالتَّأَمُّلِ حَقِيقٌ، (وَاجْعَلْهُ) أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَعْنِي اجْعَلْ مَا مُتِّعْنَا بِهِ، (الْوَارِثَ) أَيِ الْبَاقِيَ (مِنَّا) بِأَنْ يَبْقَى مَا مَتَّعْتَنَا بِهِ إِلَى الْمَوْتِ قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ الزَّمَخْشَرِيُّ أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ أَيِ اجْعَلِ الْجَعْلَ أَوْ جَعَلًا الْوَارِثَ مِنْ عَشِيرَتِنَا، فَمِنَّا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ الضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ أَيِ اجْعَلِ الْجَعْلَ، وَالْوَارِثُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَمِنَّا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَيِ اجْعَلِ الْوَارِثَ مِنْ نَسْلِنَا لَا كَلَالَةً خَارِجَةً عَنَّا قَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الْكَشَّافِ وَهُوَ مَعْنًى مَقْصُودٌ لِلْعُقَلَاءِ حَكَاهُ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5 - 6] وَهَذَا أَوْلَى لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْفَائِدَةِ فَإِنَّ فِي قَوْلِنَا مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا مَا يُغْنِي عَنْ جَعْلِهَا كَالْوَارِثِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأْوِيلِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] وَأَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَعَقُّبِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ وَعَنْ جَوَابِ اعْتِرَاضَاتِهِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلتَّمْتِيعِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالْوَارِثُ هُوَ الثَّانِي وَمِنَّا صِلَتُهُ، أَيِ اجْعَلِ التَّمْتِيعَ بَاقِيًا مِنَّا وَمَأْثُورًا فِيمَنْ بَعْدَنَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَفِّقْنَا لِحِيَازَةِ الْعِلْمِ لَا الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الَّذِي يَبْقَى مِنَّا، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُوَّةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَيِ اجْعَلِ الْمَذْكُورَ بَاقِيًا لَازِمًا عِنْدَ الْمَوْتِ لُزُومَ الْوَارِثِ قَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ: يُرِيدُ اجْعَلْهَا سَالِمَةً لَازِمَةً مَعَنَا إِلَى الْمَوْتِ، وَبُولِغَ فِيهِ فَقِيلَ: اجْعَلْهَا كَأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَهُ ; لِأَنَّ الْوَارِثَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ لِلتَّمْتِيعِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ التَّمْتِيعُ وَالْمَعْنَى اجْعَلْ تَمَتُّعَنَا بَاقِيًا مِنَّا مَحْفُوظًا لَنَا إِلَى يَوْمِ الْحَاجَةِ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُبْقِيَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ إِذَا أَدْرَكَهُ الْكِبَرُ، وَضَعُفَ مِنْهُ سَائِرُ الْقُوَى ; لِيَكُونَا وَارِثَيْ سَائِرِ الْقُوَى وَالْبَاقِينَ بَعْدَهَا اهـ. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قُوَّةُ السَّامِعَةِ وَالْبَاصِرَةِ أَنْفَعَ الْقُوَى خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ أَوَّلًا ثُمَّ عَمَّمَ، وَقِيلَ الْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ هَذَا الْفَيْضُ الْإِلَهِيُّ عَنْهُ وَعَنِ أَتْبَاعِهِ لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَهُدًى لِلْمُتَّقِينَ (وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا) بِالْهَمْزِ بَعْدَ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيْ إِدْرَاكَ ثَأْرِنَا مَقْصُورًا (عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا) وَلَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ تَعَدَّى فِي طَلَبِ ثَأْرِهِ فَأَخَذَ بِهِ غَيْرَ الْجَانِي كَمَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنَرْجِعَ ظَالِمِينَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا مَظْلُومِينَ، وَأَصْلُ الثَّأْرِ الْحِقْدُ وَالْغَضَبُ، يُقَالُ ثَأَرْتُ الْقَتِيلَ وَبِالْقَتِيلِ أَيْ قَتَلْتُ قَاتِلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مِنَ الثَّوَرَانِ يُقَالُ ثَارَ أَيْ هَاجَ غَضَبُهُ فَخَطَأٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مَهْمُوزُ الْعَيْنِ وَالَّذِي قَالَهُ مُعْتَلُّ الْعَيْنِ فَلَا اتِّحَادَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَادَّةِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَامُوسُ وَالنِّهَايَةُ، وَلَعَلَّهُ قَرَأَ ثَارَنَا بِالْأَلْفِ أَوْ كَانَ فِي نُسْخَتِهِ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ السَّاكِنَةَ جَازَ إِبْدَالُهَا عِنْدَ الْكُلِّ، أَوِ اجْعَلْ إِدْرَاكَ ثَأْرِنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا فَنُدْرِكَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ (وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا)

أَيْ لَا تُصِبْنَا بِمَا يُنْقِصُ دِينَنَا مِنِ اعْتِقَادِ السُّوءِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَالْفَتْرَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا، (وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا) أَيْ لَا تَجْعَلْ طَلَبَ الْمَالِ وَالْجَاهِ أَكْبَرَ قَصْدِنَا أَوْ حُزْنِنَا، بَلِ اجْعَلْ أَكْبَرَ قَصْدِنَا أَوْ حُزْنِنَا مَصْرُوفًا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْهَمِّ فِيمَا لَابُدَ مِنْهُ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ مُرَخَّصٌ فِيهِ ; بَلْ مُسْتَحَبٌّ ; بَلْ وَاجِبٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَخَرَجَ بِأَكْبَرَ مَا لَوْ سَاوَى هَمَّ الْخَيْرِ وَهَمَّ الدُّنْيَا، أَوْ نَقُصَ الثَّانِي إِذْ صَاحِبُهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يُنَاسِبُ الدُّعَاءَ سِيَّمَا مِنْ صَاحِبِ الْحَالَةِ الْقَوِيَّةِ، وَالْمَرْتَبَةِ الْعَلِيَّةِ وَتَعْلِيمِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ فِي الْأُمُورِ الْمَرْوِيَّةِ، ثُمَّ أَغْرَبَ حَيْثُ تَرَجَّحَ وَتَعَبَّثَ، كَلَامُ الطِّيبِيِّ تَبَجُّحٌ، (وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا) أَيْ غَايَةَ عِلْمِنَا، أَيْ تَجْعَلْنَا حَيْثُ لَا نَعْلَمُ وَلَا نَتَفَكَّرُ إِلَّا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلِ اجْعَلْنَا مُتَفَكِّرِينَ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، مُتَفَحِّصِينَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمَبْلَغُ الْغَايَةُ الَّتِي يَبْلُغُهُ الْمَاشِي وَالْمُحَاسَبُ فَيَقِفُ عِنْدَهُ قَالَ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29 - 30] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] وَفِي الْحَدِيثِ مَدْحُ مَنْ يَكُونُ بِعَكْسِ حَالِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ ; أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أُمُورَ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ عَالِمُونَ مُوقِنُونَ، (وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا) أَيْ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، أَوْ مِنَ الْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ، أَوْ مِنَ السُّفَهَاءِ الْجَاهِلِينَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا تَجْعَلْنَا مَغْلُوبِينَ لِلْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ، وَلَا تَجْعَلِ الظَّالِمِينَ عَلَيْنَا حَاكِمِينَ فَإِنَّ الظَّالِمَ لَا يَرْحَمُ الرَّعِيَّةَ، ثُمَّ قَالَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ مَنْ لَا يَرْحَمُنَا عَلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ فِي الْقَبْرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ مَعَ قَوْلِهِ وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا اهـ. وَالْأُولَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ فَيَكُونُ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ لِأَنَّهُ عَلَى فَرْضِ التَّخْصِيصِ لَا تَخْلِيصَ عَنِ التَّكْرَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ طَلَبِ الْأُمُورِ السَّابِقَةِ مِنَ الْخَشْيَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مَنْ لَا يَرْحَمُنَا لِكُفْرٍ، أَوْ عُتُوٍّ، أَوْ بِدْعَةٍ، أَوْ مِحْنَةٍ، نَحْوَ مَالٍ يُرِيدُهُ مِنَّا بِأَنْ تُجْعَلَ لَهُ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ يَتَمَكَّنُ بِهَا عَلَى مَا يُرِيدُهُ مِنَّا، فَكُلُّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَنْ عَادَانَا، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ وَبِمَا قَرَّرْتُهُ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا لَا يُغْنِي عَنْ هَذَا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ. ثُمَّ قَوْلُهُ وَإِنَّمَا سَأَلُوا ذَلِكَ لِضَعْفِهِمْ عَنِ احْتِمَالِ فِتْنَةِ الصَّبْرِ عَنِ الْأَذِيَّةِ، خَطَأٌ فَاحِشٌ فَإِنَّ السَّائِلَ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ الْكَامِلُونَ النَّازِلُ فِي حَقِّهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالصَّابِرِينَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] وَإِنَّمَا سَأَلَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْعَافِيَةَ أَوْسَعُ مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالْبَلِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ وَأَمَّا بَعْدُهُ فَيُحْكَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] خِطَابًا لَهُ {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] فَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِطَلَبِ التَّحَمُّلِ، وَيَدْعُونَ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِمْ {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

2493 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَزِدْنِي عِلْمًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2493 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ) أَيْ فِي دُعَائِهِ (اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي) أَيْ بِالْعَمَلِ بِعِلْمِي، (وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي) أَيْ عِلْمًا يَنْفَعُنِي هُوَ أَوِ الْعَمَلُ بِهِ فِي دِينِي وَآخِرَتِي، (وَزِدْنِي عِلْمًا) أَيْ لَدُنَّيًّا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِكَ وَأَسْمَائِكَ وَصِفَاتِكَ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِفَضِيلَةِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اجْعَلْنِي عَامِلًا بِعِلْمِي وَعَلِّمْنِي عِلْمًا أَعْمَلُ بِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ثُمَّ طَلَبَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ السُّلُوكِ وَهُوَ أَنْ يُوصِّلَ إِلَى مَخْدَعِ الْوِصَالِ قِيلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ) أَيْ مُلَائِمٍ لِلنَّفْسِ وَغَيْرِهَا حَمْدًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَوْلَاهُ اسْتِجْلَابًا لِلْمَزِيدِ قَالَ تَعَالَى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ، وَاسْتَعَاذَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْقَطِيعَةِ وَالْبُعْدِ فَقَالَ (وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ) مِنَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْعُقْبَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُمَا: اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِهِ.

2494 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ سُمِعَ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً، فَسُرِّيَ عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2494 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ إِذَا أُنْزِلَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِنْزَالِ، (سُمِعَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، (عِنْدَ وَجْهِهِ) أَيْ عِنْدَ قُرْبِ وَجْهِهِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ (كَدَوِيِّ النَّحْلِ) أَيْ مِثْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَالدَّوِيُّ صَوْتٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا الصَّوْتُ هُوَ صَوْتُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَبْلُغُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيَ، وَلَا يَفْهَمُ الْحَاضِرُونَ مِنْ صَوْتِهِ شَيْئًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ سُمِعَ مِنْ جَانِبِ وَجْهِهِ وَجِهَتِهِ صَوْتٌ خَفِيٌّ كَانَ الْوَحْيُ كَانَ يُؤَثِّرُ فِيهِمْ وَيَنْكَشِفُ لَهُمُ انْكِشَافًا غَيْرَ تَامٍّ، فَصَارُوا كَمَنْ يَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتٍ وَلَا يَفْهَمُهُ، أَوْ أَرَادَ لِمَا جَمَعُوهُ مِنْ غَطِيطِهِ وَشِدَّةِ تَنَفُّسِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ وَجْهِهِ، وَادَّعَى أَنَّ هَذَا أَوْضَحُ وَهُوَ غَيْرُ وَاضِحٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْضَحَ، مَعَ أَنَّ الطِّيبِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ حَاصِلَ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا أَحَدَ يَقْرُبُ مِنْ وَجْهِهِ الشَّرِيفِ لِيَسْمَعَ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَكَانَ يَحْصُلُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ سَمَاعِ الْوَحْيِ مِنَ الْغَطِيطِ وَشِدَّةِ التَّنَفُّسِ وَتَوَاتُرِ النَّفَسِ النَّاشِئِ عَنْ مَجِيءِ الْمَلَكِ لَهُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ إِذْ لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ الْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ مَا، وَكَانَ يَتَفَصَّدُ عَرَقًا مِنْ ثِقَلِ الْوَحْيِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] عَلَى مَا قِيلَ وَلَوْ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ يُؤْخَذُ عَنِ الدُّنْيَا حَتَّى يُمَكِنَهُ التَّلَقِّي مِنَ الْمَلَكِ إِذَا أَتَاهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ التَّلَقِّي مَعَهَا، (فَأُنْزِلْ عَلَيْهِ) أَيِ الْوَحْيُ، (يَوْمًا) أَيْ نَهَارًا أَوْ وَقْتًا، (فَمَكَثْنَا) فَتْحُ الْكَافِ وَضَمُّهَا أَيْ لَبِثْنَا، (سَاعَةً) أَيْ زَمَنًا يَسِيرًا نَنْتَظِرُ الْكَشْفَ عَنْهُ، (فَسُرِّيَ) بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ كُشِفَ، (عَنْهُ) وَزَالَ عَنْهُ مَا اعْتَرَاهُ مِنْ بَرْحَاءِ الْوَحْيِ وَشِدَّتِهِ، (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) أَيْ جِهَةَ الْكَعْبَةِ، (وَرَفَعَ يَدَيْهِ) إِيمَاءً إِلَى طَلَبِ الدَّارَيْنِ، (وَقَالَ اللَّهُمَّ زِدْنَا) أَيْ مِنَ الْخَيْرِ وَالتَّرَقِّي أَوْ كَثِّرْنَا، (وَلَا تَنْقُصْنَا) أَيْ خَيْرَنَا وَمَرْتَبَتَنَا وَعَدَدَنَا قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَتْ هَذِهِ النَّوَاهِي عَلَى الْأَوَامِرِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، وَحَذُفُ الْمَفْعُولَاتِ لِلتَّعْمِيمِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَبَعًا لِلطِّيبِي أَنَّهُ أَفَادَ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي هُنَا، وَفِيمَا يَأْتِي إِجْرَاءٌ لِهَذَا مَجْرَى فُلَانٍ يُعْطَى مُبَالَغَةً وَتَعْمِيمًا اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ قَالَ الشَّارِحُ وَلَا تَنْقُصْنَا وَنَحْوُهُ تَأْكِيدٌ، وَهُوَ عَجِيبٌ إِذِ الْمُرَادُ اللَّهُمَّ زِدْنَا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ وَقْتَ هَذَا الطَّلَبِ، وَلَا تَنْقُصْنَا عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَالزِّيَادَةُ الْمَسْئُولَةُ أَوَّلًا غَيْرُ عَدَمِ النَّقْصِ الْمَسْئُولِ ثَانِيًا فَلَا تَأْكِيدَ هُنَا اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ إِذِ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ بِعِيدٌ غَيْرُ قَرِيبٍ، وَعَلَى فَرْضِهِ إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْأَمْرِ مُقَيَّدًا بِزَمَانِهِ ; فَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالنَّهْيِ، فَرَجَعَ إِلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ الْمَفْهُومُ الْمُخَالِفُ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ بِالتَّقْيِيدِ فِي الْقَرِينَتَيْنِ، (وَأَكْرِمْنَا) بِقَضَاءِ مَأْرَبِنَا فِي الدُّنْيَا وَرَفْعِ مَنَازِلِنَا فِي الْعُقْبَى، (وَلَا تُهِنَّا) أَيْ لَا تُذِلَّنَا، أَيْ بِضِدِّ ذَلِكَ وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِأَنْ تُنْزِلَنَا إِلَى هُوَّةِ غَضَبِكَ هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ فِيمَا سَيَأْتِي ارْضَ عَنَّا فَبَطَلُ قَوْلُهُ، وَكَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَأْكِيدَ هُنَا أَيْضًا لِاخْتِلَافِ الْمَطْلُوبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ وَأَصْلُهُ وَلَا تُهْوِنْنَا فَنُقِلَتْ كَسْرَةُ الْوَاوِ إِلَى الْهَاءِ فَالْتَقَتْ سَاكِنَةً مَعَ النُّونِ الْأُولَى السَّاكِنَةِ فَحُذِفَتْ وَأُدْغِمَتِ النُّونُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ اهـ. (وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا) بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ تَمْنَعْنَا أَوْ لَا تَجْعَلْنَا مَحْرُومِينَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّأْكِيدُ هُنَا وَاضِحٌ، قُلْتُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ عَلَيْهِمَا فَتَدَبَّرْ، (وَآثِرْنَا) أَيِ اخْتَرْنَا بِرَحْمَتِكَ وَعِنَايَتِكَ وَحَسْنِ رِعَايَتِكَ، (وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا) أَيْ غَيْرَنَا بِلُطْفِكَ وَحِمَايَتِكَ ; وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ لَا تُغَلِّبْ عَلَيْنَا أَعْدَاءَنَا، (وَأَرْضِنَا) مِنَ الْإِرْضَاءِ ; أَيْ بِمَا قَضَيْتَ عَلَيْنَا بِإِعْطَاءِ الصَّبْرِ وَتَوْفِيقِ الشُّكْرِ وَتَحَمُّلِ الطَّاعَةِ، (وَارْضَ عَنَّا) أَيْ بِالطَّاعَةِ الْيَسِيرَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي فِي جُهْدِنَا وَلَا تُؤَاخِذْنَا بِسُوءِ أَعْمَالِنَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ رِضًا لَا سُخْطَ بَعْدَهُ اهـ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّأْكِيدَ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّقْيِيدَ فَخَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّ الرِّضَا صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تَغَيُّرَ فِيهَا بَعْدَ تَعَلُّقِهَا، (ثُمَّ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَيَّ) أَيْ آنِفًا، (عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ) أَيْ قَامَ بِهِنَّ، (دَخَلَ الْجَنَّةَ) أَيْ مَعَ الْأَبْرَارِ، (ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أَيْ فَازُوا فَوْزًا عَظِيمًا، (حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ) تَمَامَهَا {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] أَيْ خَاضِعُونَ قَلْبًا وَقَالِبًا {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ} [المؤمنون: 3] أَيْ عَمَّا لَا يَعْنِيهِمْ قَوْلًا وَفِعْلًا {مُعْرِضُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ} [المؤمنون: 3 - 4] أَيْ لِأَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ بَعْدَ قِيَامِهِمْ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَتَرْكِهِمُ الْأَخْلَاقَ الرَّدِيَّةَ {فَاعِلُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 4 - 6] أَيْ مِنَ النِّسَاءِ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] أَيْ مِنَ السَّرَارِي {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] قِيلَ لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَأَلْفُ سَرِيَّةٍ ثُمَّ اشْتَرَى سَرِيَّةً

فَلَامَهُ أَحَدٌ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 7] ، كَالِاسْتِمْنَاءِ عَلَى قَصْدِ الشَّهْوَةِ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] ، أَيِ الْمُتَجَاوِزُونَ عَنْ حَدِّ الْحَلَالِ الْوَاقِعُونَ فِي حَدِّ الْحَرَامِ، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] ، أَيْ وَمُحَافِظُونَ، {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ} [المعارج: 33] أَيْ بِأَدَائِهَا، {قَائِمُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ} [المؤمنون: 33 - 9] ، أَيْ بِشُرُوطِهَا وَآدَابِهَا {يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] خَتَمَ بِمَا بَدَأَ بِهِ اهْتِمَامًا بِأَمْرِ الصَّلَاةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهَذِهِ عَشْرُ آيَاتٍ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ} [المؤمنون: 61] أَيِ الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ {هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 10 - 11] وَهُوَ أَعْلَى الْجَنَّةِ {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] أَيْ بَاقُونَ دَائِمُونَ بِبَقَائِهِ، مُتَلَذِّذُونَ بِنِعْمَةِ لِقَائِهِ، رَزَقَنَا اللَّهُ مَعَ أَوْلِيَائِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2495 - عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ (إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) . قَالَ: فَادْعُهُ. قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ الْوُضُوءَ وَيَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي لِيَقْضِيَ لِي فِي حَاجَتِي هَذِهِ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ لِي» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2495 - (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ) : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ) : أَيْ: ضَعِيفَ النَّظَرِ، أَوْ أَعْمًى ( «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي» ) : أَيْ: مِنْ ضَرَرِي فِي نَظَرِي [فَقَالَ: (إِنْ شِئْتَ) : أَيْ: اخْتَرْتَ الدُّعَاءَ (دَعَوْتُ) : أَيْ: لَكَ (وَإِنْ شِئْتَ) : أَيْ: أَرَدْتَ الصَّبْرَ وَالرِّضَا (صَبَرْتَ فَهُوَ) : أَيْ: الصَّبْرُ (خَيْرٌ لَكَ) : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: «إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ ثُمَّ صَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَوْ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فِيهِ نَظَرٌ لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْحَدِيثِ، وَلِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الْكَامِلَةِ فِي فَقْدِ إِحْدَاهُمَا لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، (قَالَ) : أَيِ: الرَّجُلُ (فَادْعُهُ) بِالضَّمِيرِ: أَيِ: ادْعُ اللَّهَ أَوِ اسْأَلِ الْعَافِيَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَارَ الدُّعَاءَ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ الْأَمْرَيْنِ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْجَمْعِ، بَلْ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْخُلُوِّ فِيهِ أَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَاخْتَارَ الْمَفْضُولَ مِنْهُمَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ يَحْتَمِلَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ ظَنَّ أَنَّ فِي عَوْدِ بَصَرِهِ إِلَيْهِ مَصَالِحَ دِينِيَّةً يَفُوقُ ثَوَابُهَا ثَوَابَ الصَّبْرِ. قُلْتُ: عَلَى هَذِهِ لِلضَّرَرِ، لِأَنَّهُ كَيْفَ يَظُنُّ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: أَسْنَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدُّعَاءَ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَذَا طَلَبَ الرَّجُلُ أَنْ يَدْعُوَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوَ هُوَ، أَيِ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْضَ مِنْهُ اخْتِيَارَهُ الدُّعَاءَ لَمَّا قَالَ: الصَّبْرُ خَيْرٌ لَكَ، لَكِنْ فِي جَعْلِهِ شَفِيعًا لَهُ وَوَسِيلَةً فِي اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ مَا يُفْهَمُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِيكٌ فِيهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ: وَكَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ الشَّارِحِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ رَدَّهُ بِقَوْلِهِ لَكِنْ فِي جَعْلِهِ إِلَخْ. فَحَصَلَ مِنْهُ خَبَاطَاتٌ عَجِيبَةٌ وَخَيَالَاتٌ غَرِيبَةٌ. (فَأَمَرَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: قَالَ: أَيْ عُثْمَانُ فَأَمَرَهُ (أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ الْوُضُوءَ) : أَيْ: يَأْتِي بِكَمَالَاتِهِ مِنْ سُنَنِهِ وَآدَابِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَيْ يَأْتِي بِوَاجِبَاتِهِ أَوْ وَمُكَمِّلَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ لَقَالَ فَيَتَوَضَّأَ، فَلَا بُدَّ فِي قَوْلِهِ فَيُحْسِنَ الْوُضُوءَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُكَمِّلَاتِ لِيَكُونَ فِي الزِّيَادَةِ إِفَادَةٌ حَسَنَةٌ، أَيْ: وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. [وَيَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ) : أَيْ: أَطْلُبُكَ مَقْصُودِي فَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَدْعُوكَ فَيَكُونُ أَلْطَفَ سُؤَالٍ إِلَى أَشْرَفِ نَوَالٍ (وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ) : أَيْ: دَافَعِ الرَّحْمَةِ وَكَاشِفِ الْغُمَّةِ، وَشَفِيعِ الْأُمَّةِ الْمَنْعُوتِ بِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، الْمُرْسَلِ إِلَى أُمَّةٍ مَرْحُومَةٍ مِنْ عِنْدِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ،

وَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَ الرَّحْمَةِ فِي مَوْضِعِ كَشْفِ الْغُمَّةِ وَمَوْقِعِ الشَّفَاعَةِ لِلْأُمَّةِ (إِنِّي تَوَجَّهْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَتَوَجَّهُ (بِكَ) : وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَاءِ الْأُولَى حَيْثُ جَعَلَهَا لِلتَّعْدِيَةِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمُتَوَجَّهَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَتَعَيَّنُ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ، وَفِي الثَّانِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَصْرُ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِعَانَةِ فِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا، وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْفَرْقُ الْجَلِيُّ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ اعْتَرَضَ عَلَى الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَشَارَ أَنَّهَا لِلتَّعْدِيَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي رِوَايَةٍ يَا مُحَمَّدُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنِّي تَوَجَّهْتُ (إِلَى رَبِّي لِيَقْضِيَ) : بِالْغَيْبَةِ أَيْ رَبِّي، وَقِيلَ بِالْخِطَابِ أَيْ: لِتَوَقُّعِ الْقَضَاءِ (لِي فِي حَاجَتِي هَذِهِ) : وَجَعَلَهَا مَكَانًا لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي. وَيَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي وَ (لِي) لِلْإِجْمَالِ حَتَّى يَفْصِلَ لِيَكُونَ أَوْقَعَ عَلَى طَرِيقَةِ: " اشْرَحْ لِي صَدْرِي "، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَكَانَ ابْنُ حَجَرٍ مَا فَهِمَ كَلَامَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ. وَقَالَ: اللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَفِي لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ مُبَالَغَةً وَكَلَامُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاخْتِصَاصِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ تَضْيِيقُ الْوَاسِعِ كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ قَالَ أَعْرَابِيٌّ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَغْفِرْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ: (لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا» ) أَيْ: ضَيَّقْتَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ فَخَصَصْتَ بِهِ نَفْسَكَ دُونَ غَيْرِكَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمَحَلُّ الْإِشْكَالِ فِيهِ أَنَّ الْقَضَاءَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي زِيَادَةٍ فِي؟ فَأَجَابُوا فِيهِ وَأَمْثَالِهِ: أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِفِي إِنَّمَا هُوَ لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِيقَاعِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَّا بِفِي، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِي مَكَانٍ حَقِيقِيٍّ حَتَّى يُقَالَ هُنَا لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ لِلْمَجَازِيِّ كَمَا فِي قَوْلِكَ: نَظَرْتُ فِي الْكِتَابِ فَأَيُّ مُبَالَغَةٍ فِيهِ، فَتَأَمَّلَ فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ. وَفِي أَصْلِ الْحِصْنِ: وَأَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِيَقْضِيَ لِي عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، (اللَّهُمَّ) : الْتِفَاتٌ ثَانٍ (فَشَفِّعْهُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: اقْبَلْ شَفَاعَتِي (فِي) : أَيْ: فِي حَقِّي. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَتَوَجَّهُ أَيْ: اجْعَلْهُ شَفِيعًا لِي (" فَشَفِّعْهُ ") وَقَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ) : مُعْتَرِضَةٌ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] سَأَلَ اللَّهَ أَوَّلًا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ، ثُمَّ تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقَةِ الْخِطَابِ ثَانِيًا، ثُمَّ ذَكَرَ إِلَى خِطَابِ اللَّهِ طَالِبًا مِنْهُ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) : رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

2496 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَمَالِي وَأَهْلِي، وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ» ) قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَكَرَ دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْهُ: يَقُولُ: ( «كَانَ أَعْبَدَ الْبَشَرِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2496 -[وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ) : اسْمُ كَانَ بِحَذْفِ إِنَّ كَمَا فِي: أَحْضُرَ الْوَغَى أَيْ قَوْلُهُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ» ) : مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، إِذْ فِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: حُبِّي إِيَّاكَ، فَإِنَّهُ فَاتِحَةُ كُلِّ كَمَالٍ فَغَفْلَةٌ عَنِ اصْطِلَاحِ أَرْبَابِ الْحَالِ، ( «وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ» ) : كَمَا سَبَقَ، أَمَّا الْإِضَافَةُ إِلَى الْمَفْعُولِ فَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَحَبَّتِكَ لِلْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إِلَى الْفَاعِلِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ أَيْضًا، كَمَا

وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ: «وَحَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا وَحَبِّبْ صَالِحِي أَهْلِهَا إِلَيْنَا» . وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ مِنْ سُؤَالِ حُبِّ الْمَسَاكِينِ فَمُحْتَمَلٌ، (وَالْعَمَلَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ أَيْ: وَحُبَّ الْعَمَلِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ فَقَطْ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدِهِ لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: الصَّالِحِ فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي يُبَلِّغُنِي) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ يُوصِلُنِي وَيُحَصِّلُ لِي (حُبَّكَ) : يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ» ) : أَيْ: حُبِّي إِيَّاكَ ( «أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَمَالِي وَأَهْلِي» ) : أَيْ: مِنْ حُبِّهِمَا حَتَّى أُوثِرَهُ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْقَاضِي عَدَلَ عَنِ اجْعَلْ نَفْسَكَ مُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ، حَيْثُ لَمْ يَرِدْ أَنْ يُقَابِلَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَدَلَ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: بَلْ إِطْلَاقٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ مُشَاكَلَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُشَاكَلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الثَّانِي لَا فِي الْأَوَّلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ، لَكِنِّي وَجَدْتُ الْمُشَاكَلَةَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ: «وَثَبَتَ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقْتُلُوهَا) فَذَهَبَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهًا» ) . وَأَمَّا قَوْلُ السُّيُوطِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ يَتَقَدَّمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] نَعَمْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ مُشَاكَلَةٍ أَيْضًا: أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِ بِمَعْنَى الذَّاتِ يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ بِمَعْنَى التَّنَفُّسِ فَلَا يُطْلَقُ، وَحَيْثُ أَنَّ اللَّفْظَ مُوهِمٌ، فَجَوَازُ الْإِطْلَاقِ تَوْقِيفِيٌّ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَتَجْوِيزُ الشَّارِحِ هَذِهِ الْمُشَاكَلَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُوهِمٌ نَقْصًا لَا يَجُوزُ إِلَّا بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَأَمَّا اخْتِرَاعُ لَفْظٍ آخَرَ وَذِكْرُهُ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ قُلْنَا بِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْبَاقِلَّانِيُّ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا فِيمَا لَا يُوهِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ فَمُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ، وَهَذَا أَبْلَغُ رَادٍّ لِكَلَامِ الشَّارِحِ، فَأَعْرِضْ عَنْهُ وَلَا تَلْفِتْ إِلَيْهِ، فَأَمْرٌ غَرِيبٌ وَنَهْيٌ عَجِيبٌ وَمَنْشَؤُهُ عَدَمُ فَهْمِهِ، وَاقْتِصَارُ عِلْمِهِ عَلَى فِقْهِهِ فَإِنَّ كَلَامَ الشَّارِحِ أَنَّ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي كَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُقَالَ اجْعَلْ حُبَّ نَفْسِكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَلَ إِلَيْهِ تَأَدُّبًا مِنْ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُقَابِلًا لِنَفْسِهِ تَعَالَى، وَإِلَّا فَلَوْلَا هَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ وَأَطْلَقَ فَرْضًا، لَكَانَ هَذَا الْإِطْلَاقُ جَائِزًا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ الشَّارِعُ، وَحِينَئِذٍ كَانَ يَصِحُّ كَلَامُهُ بِالْمُشَاكَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى إِلَخْ. تَطْوِيلٌ عَبَثٌ، إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ أَمَّا اخْتِرَاعُ لَفْظٍ آخَرَ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ الشَّارِعِ، فَهَذَا كُفْرٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ مُشَاكَلَةٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ فَحَشْوٌ، إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَذْهَبِ الْغَزَالِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: فَخَارِجٌ عَنِ الْمَبْحَثِ أَيْضًا إِذْ بَحْثُ الْمُشَاكَلَةِ أَعَمُّ مِنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَأَيْضًا مَذْهَبُهُمَا فِي الْمُخْتَرَعِ لَا فِيمَا وَرَدَ مِنَ الشَّارِعِ، وَلَوْ وَرَدَ مِنْهُ فَرْضًا، فَلَهَذَا أَبْلَغُ رَادٍّ لِكَلَامِهِ وَفَهْمِ مَرَامِهِ، فَأَعْرِضْ عَنْهُ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ (وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ) : دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ مَحْبُوبًا جِدًّا أَعَادَ مِنْ هَاهُنَا لِبَدَلِ اسْتِقْلَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي كَوْنِهِ مَحْبُوبًا، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَإِنَّهُ يَعْدِلُ بِالرُّوحِ. وَعَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: لَيْسَ لِلْمَاءِ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَى إِذَا وُجِدَ، وَلَا يُبَاعُ إِذَا فُقِدَ. وَعَنْ بَعْضِ الْعُرَفَاءِ إِذَا شَرِبْتُ الْمَاءَ الْبَارِدَ أَحْمَدُ رَبِّي مِنْ صَمِيمِ قَلْبِي، وَيُمْكِنُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ رُوحِهِ، لِأَنَّ حَيَاتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ نَفْسِي مُرَادَاتُهَا وَمُشْتَهَيَاتُهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَجِيبٌ قَوْلُ الشَّارِحِ وَعَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: لَيْسَ لِلْمَاءِ قِيمَةٌ إِلَخْ. فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لِلْمَاءِ كَانَ بَاطِلًا بَلْ هُوَ مِثْلِيٌّ تَارَةً وَمُتَقَوِّمٌ أُخْرَى، وَإِنْ كُنِيَ بِذَلِكَ عَنْ نَفَاسَةِ الْمَاءِ كَانَتِ الْعِبَارَةُ قَاصِرَةً، وَكَانَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الشَّرْبَةَ قَدْ تُسَاوِي دَنَانِيرَ، لَا لِكَوْنِ

ذَلِكَ قِيمَةً لَهُ، بَلْ لِتُوَقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ الْبَاطِلِ مِنْ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْفِقْهِ مُنْحَصِرَةٌ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ، إِذِ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمِثْلِيِّ وَالْقِيمِيِّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْجُهَلَاءِ فَضْلًا عَنِ الْفُضَلَاءِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَاضِلَ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفَاسَةَ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْمَاءِ عِنْدَ أَحَدٍ لَا يَشْتَرِيهِ، فَلَا يَكُونُ قِيمَةً لَهُ عِنْدَهُ، وَإِذَا فُقِدَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ عِنْدَ أَحَدٍ بِالْبَيْعِ صَحَّ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي بِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ قُصُورُ عِبَارَةِ فُقَهَائِهِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الشَّرْبَةَ قَدْ تُسَاوِي دَنَانِيرَ لَا لِكَوْنِ ذَلِكَ قِيمَةً لَهُ، فَإِنَّهُ ظَاهِرُ الْمُنَاقَضَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ يُسَاوِي شَيْئًا سَوَاءً كَانَ مَاءً أَوْ حَجَرًا أَوْ طَعَامًا أَوْ شَجَرًا، لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ قِيمَةً لَهُ، فَتَصْحِيحُ كَلَامِهِمْ نَفْيُ الْقِيمَةِ الْعَادِيَّةِ ثُمَّ قَوْلُهُ: بَلْ لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ، لَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَوْ مِنْ كَلَامِهِ، مَعَ أَنَّهُ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ مُتَعَلِّقِ اللَّامِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ لَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ سَاوَى دَنَانِيرَ عَلَى خِلَافِ جَرْيِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِي لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ، لَا لِكَوْنِهِ يُسَوَّى بِالدَّنَانِيرِ، وَلَا لِكَوْنِهَا قِيمَةً لَهُ، وَهَذَا سَفْسَافٌ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ حَجَرًا إِذَا سَوَى أُلُوفًا مِنَ الدَّنَانِيرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، لَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ قِيمَةً لَهُ، فَإِذَا كَانَ يَشْتَرِي الْمَاءَ بِالدَّنَانِيرِ لِتَوُقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ كَيْفَ يُقَالُ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ قِيمَةً لَهُ؟ وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُخَالَفَةُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِلْفُقَهَاءِ حَيْثُ قَالُوا: الْمَاءُ إِذَا تَجَاوَزَ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ جَازَ التَّيَمُّمُ، وَأَبَى الْحَسَنُ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدِي جَمِيعُ مَالِ الدُّنْيَا فَأَدْفَعُهُ إِلَى الْمَاءِ وَأَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَصِحُّ لِيَ التَّيَمُّمُ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ اخْتَارَ مَذْهَبَ الْخَوَاصِّ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى الْحَرَجِ الْعَامِّ رَحْمَةً عَلَى الْعَوَامِّ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمُعْتَرِضَ مَا فَهِمَ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا حَقَّ التَّفَهُّمِ، بَلْ أَخَذَ عَنْهُمْ تَقْلِيدًا، وَتَوَهَّمَ التَّقَدُّمَ. وَمِمَّا يُلَائِمُ قَضِيَّةَ عِزَّةِ الْمَاءِ مَا حُكِيَ أَنَّ مَلِكًا وَقَعَ فِي صَحْرَاءَ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَظَهَرَ لَهُ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ شَخْصٌ مَعَهُ مَاءٌ، فَطَلَبَ مِنْهُ فَأَبَى، فَعَرَضَ عَلَيْهِ نِصْفَ مُلْكِهِ، فَأَعْطَاهُ ثُمَّ حَصَلَ لَهُ بَعْدَ الشُّرْبِ عُسْرُ الْبَوْلِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّبْرَ عَلَيْهِ فَقَالَ لِلشَّخْصِ: إِنْ دَاوَيْتَهُ فَأُعْطِيكَ مُلْكِي كُلَّهُ، فَدَعَا لَهُ فَحَصَلَ لَهُ الْفَرَجُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمُلْكَ فَقَالَ: مُلْكٌ يَسْوِي نِصْفُهُ لِدُخُولِ شَرْبَةٍ، وَنِصْفُهُ لِخُرُوجِهَا لَا قِيمَةَ لَهُ. فَكَيْفَ أَخْتَارُهُ؟ وَكَذَا يَتَبَيَّنُ مَا وَرَدَ عَنْهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» ) يَعْنِي: فَالْحِكْمَةُ فِي إِطْعَامِهِمْ وَإِسْقَائِهِمْ وَإِبْقَائِهِمْ وَزِيَادَةِ إِنْعَامِهِمْ أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو الدَّرْدَاءِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَكَرَ) : أَيْ: هُوَ (دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْهُ) : أَيْ: يَحْكِي (يَقُولُ) : بَدَلٌ مِنْ يُحَدِّثُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُحَدِّثُ، (كَانَ) : أَيْ: دَاوُدُ (أَعْبَدَ الْبَشَرِ) : أَيْ: فِي زَمَانِهِ، كَذَا قَيَّدَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِطْلَاقِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، إِلَّا لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَعْبَدِيَّةِ الْأَعْلَمِيَّةُ فَضْلًا مِنَ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ أَكْثَرُهُمْ شُكْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] أَيْ بَالِغْ فِي شُكْرِي، وَابْذُلْ وُسْعَكَ فِيهِ، كَذَا وَذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ الْبَشَرِ شُكْرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] نَعَمْ يُفْهَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَبِيًّا أَنَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ زَمَنِهِ شُكْرًا، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] حَيْثُ اكْتَفَى مِنْ آلِ دَاوُدَ بِمُطْلَقِ عَمَلِ الشُّكْرِ، ثُمَّ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الشَّكُورِ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَبِقَدْرِ مُتَابَعَتِهِمْ حَاصِلَةٌ لِلْأَصْفِيَاءِ، وَبِهَذَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: أَيْ بَالِغْ فِي شُكْرِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنْ قَوْلِهِ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: يُحَدِّثُ يُرْوَى مَرْفُوعًا جَزَاءً لِلشَّرْطِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا وَالْجَزَاءُ مُضَارِعًا يَسُوغُ فِيهِ الْوَجْهَانِ اهـ. وَمُرَادُهُ أَنَّ الرَّفْعَ مُتَعَيِّنٌ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ إِذَا يَجْزِمُ كَمَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَحَمَّلِ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْجَازِمَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا وَالْجَزَاءُ مُضَارِعًا يَسُوغُ فِيهِ الْوَجْهَانِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ جَازِمًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ لِعَدَمِ وُرُودِهِ رِوَايَةً. لَكِنْ لَوْ وَرَدَ لَهُ وَجْهٌ فِي الدِّرَايَةِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَقْلًا وَاعْتِرَاضًا، حَيْثُ قَالَ بِالرَّفْعِ وَالسُّكُونِ، كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِي كُلِّ جَزَاءٍ شَرْطُهُ مَاضٍ، كَذَا قَالَهُ الشَّارِحُ وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي الشَّرْطِ الْجَازِمِ وَمَا هُنَا إِذَا وَهُوَ غَيْرُ جَازِمٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

2497 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ صَلَاةً، فَأَوْجَزَ فِيهَا. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَقَدْ خَفَّفْتَ وَأَوْجَزْتَ الصَّلَاةَ. فَقَالَ. أَمَا عَلَيَّ ذَلِكَ، لَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ هُوَ أَبِي، غَيْرَ أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ الْقَوْمَ: (اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِينِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ. وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زِيِّنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ» ) . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2497 - (وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وُلِدَ السَّائِبُ السَّنَةَ الثَّالِثَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ حَضَرَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ أَبِيهِ يَزِيدَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. (قَالَ: صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ صَلَاةً) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَكْتُوبَةً أَوْ نَافِلَةً، (فَأَوْجَزَ: أَيْ: اقْتَصَرَ، (فِيهَا) : أَيْ: مَعَ تَمَامِ أَرْكَانِهَا وَسُنَنِهَا، (فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ) : أَيْ: مِمَّنْ حَضَرَهَا (لَقَدْ خَفَّفْتَ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: الْأَرْكَانَ بِأَنْ فَعَلْتَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا الرُّكْنُ (وَأَوْجَزْتَ) : أَيْ: اقْتَصَرْتَ بِأَنْ أَتَيْتَ أَقَلَّ مَا يُؤَدَّى بِهِ السُّنَنُ، وَقَوْلُهُ: (الصَّلَاةُ) : تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، (فَقَالَ: أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ (عَلَيَّ) : بِالتَّشْدِيدِ (ذَلِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْهَمْزَةُ فِي أَمَا لِلْإِنْكَارِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَقُولُ هَذَا أَيْ: اسْكُتْ مَا عَلَيَّ ضَرَرٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِلنِّدَاءِ، وَالْمُنَادَى بَعْضُ الْقَوْمِ أَيْ: يَا فُلَانُ! لَيْسَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةَ تَنْبِيهٍ ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ ذَلِكَ بَيَانَهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَا يُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِلِاسْتِفْتَاحِ عَلَى ذَلِكَ التَّخْفِيفِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ» ) وَقَوْلُهُ: لَقَدْ إِلَخْ. بَيَانٌ لِكَوْنِهِ مَعَ أَنَّهُ أَوْجَزَ أَتَى بِهَذَا الدُّعَاءِ الطَّوِيلِ لِنَفَاسَتِهِ وَالِاتِّبَاعِ فِيهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنِ احْتِمَالَاتِ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ كُلَّهَا تَكَلُّفٌ وَمَا ذَكَرْتُهُ أَخَفُّ تَكَلُّفًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ اهـ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ مَا ظَهَرَ لَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ وُجُوهٍ: أَمَّا أَوَّلًا: فَقَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ التَّخْفِيفِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَإِنَّ عَلَى لِلْوُجُوبِ وَالتَّخْفِيفُ بِالِاتِّفَاقِ مَنْدُوبٌ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِمَامًا لِيَسْتَدِلَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ تَطْوِيلَهُ بِالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ مُخَالِفٌ لِلتَّخْفِيفِ الْمَسْطُورِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ كَانَ مُنْفَرِدًا وَخَفَّفَ فِي بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَطَوَّلَ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ إِمَامٌ وَخَفَّفَ فِي الْأَرْكَانِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَطُوَّلَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ السُّنَنِ الْمَرْوِيَّةِ. (لَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا) : أَيْ: فِي آخِرِهَا أَوْ سُجُودِهَا (بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ) : أَيْ: دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا (فَلَمَّا قَامَ) : أَيْ عَمَّارٌ: (تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ هُوَ أَبِي) هَذَا مِنْ كَلَامِ عَطَاءٍ أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ أَبِي (غَيْرَ أَنَّهُ) : أَيْ: أَبِي (كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ) : أَيْ: بِرَجُلٍ وَلَمْ يَقُلْ تَبِعْتُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَقْدِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ إِلَّا أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ بِالرَّجُلِ اهـ. وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ التَّصْرِيحِ مُبَالَغَةُ الْإِخْفَاءِ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: كَنَّى بِهِ تَوَاضُعًا إِذْ لَوْ قَالَ: فَتَبِعْتُهُ لَرُبَّمَا تُوُهِّمَ مِنْهُ أَنَّ فِيهِ مَدْحًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ السَّائِبُ: (فَسَأَلَهُ) : أَيْ: الرَّجُلُ عَمَّارًا (عَنِ الدُّعَاءِ) : أَيْ: فَأَخْبَرَهُ (ثُمَّ جَاءَ) : أَيْ: الرَّجُلُ (فَأَخْبَرَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَأَخْبَرَ (بِهِ) : أَيْ: بِالدُّعَاءِ [الْقَوْمَ: (اللَّهُمَّ) : أَيْ: وَهُوَ هَذَا (بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ) : الْبَاءُ لِلِاسْتِعْطَافِ أَيْ: أَنْشُدُكَ بِحَقِّ عِلْمِكَ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْ خَلْقِكَ (وَقُدْرَتِكَ) : أَيْ: بِقُدْرَتِكَ (عَلَى الْخَلْقِ) : أَيْ: عَلَى خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَشِيئَتُكَ، أَوْ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ بِأَنْ تَفْعَلَ فِيهِمْ مَا تَقْضِي إِرَادَتُكَ (أَحْيِنِي) : أَيْ: أَمِدَّنِي بِالْحَيَاةِ (مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ) : (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ (خَيْرًا لِي) : بِأَنْ يَغْلِبَ خَيْرِي عَلَى شَرِّي ( «وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي» ) : بِأَنْ تَغْلِبَ سَيِّئَاتِي عَلَى حَسَنَاتِي، أَوْ بِأَنْ تَقَعَ الْفِتَنُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، (اللَّهُمَّ) : اعْتِرَاضٌ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْأَوَّلِ بِحَذْفِ الْعَاطِفِ، كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الدَّعَوَاتِ الْحَدِيثِيَّةِ، وَمِنْهُ تَكْرَارُ رَبِّنَا مِنْ غَيْرِ عَاطِفٍ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَلَا يَضُرُّهُ الْوَاوُ

فِي قَوْلِهِ: وَأَسْأَلُكَ، لِأَنَّهَا نَظِيرَةُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَآتِنَا} [آل عمران: 194] (وَأَسْأَلُكَ) : عَطْفٌ عَلَى أَنْشُدُكَ الْمُقَدَّرِ (خَشْيَتَكَ) : أَيْ: الْخَوْفَ مِنْ مُخَالَفَتِكَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مُعَاقَبَتِكَ (فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) : أَيْ: فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ( «وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ» ) : أَيْ: فِي حَالِ رِضَا الْخَلْقِ وَغَضَبِهِمْ، أَوْ فِي حَالِ رِضَائِي وَغَضَبِي، أَيْ أَكُونُ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي وَأَوْقَاتِي. وَزَادَ فِي الْحِصْنِ: وَكَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِكَلِمَةِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14] أَيْ: دَعْوَةُ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ وَالشَّرْعِ الْمُحَقَّقِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ، وَبِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ التَّوْحِيدُ أَوِ النَّصِيحَةُ الْخَالِصَةُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتَنَازَعَانِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَلِمَةَ الْحَقِّ بِمَا لَا إِثْمَ فِيهِ، فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، بَلْ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ اللَّهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: ( «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ) . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] . (وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ) : أَيْ: الِاقْتِصَادَ وَهُوَ التَّوَسُّطُ (فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى) : وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: الْكَفَافُ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَتْرُوكَةٌ مِنَ الْحِصْنِ. وَذَهَبَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ تَوْفِيقُ الْقَصْدِ، وَقَالَ: لِأَنَّ غَيْرَ الْقَصْدِ مَذْمُومٌ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] الْآيَةَ. وَالظَّاهِرَةُ أَنَّ الْمَقَامَ بِأَبِيٍّ عَنِ الْحَمْلِ عَلَيْهِ سَابِقًا وَلَاحِقًا، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي امْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى بِالذِّكْرِ كَثِيرٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ مَأْمُورٍ وَلَا مُبَاشَرَةُ مَحْظُورٍ. ( «وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ» ) : بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: لَا يَفْنَى وَلَا يَنْقُصُ، وَهُوَ نُعَيْمُ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ. ( «وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ» ) : وَلَفْظُ الْحِصْنِ: وَقُرَّةَ عَيْنٍ بِالْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْفِعْلِ (لَا تَنْقَطِعُ) : وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَا يَتَلَذَّذُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ طَلَبُ نَسْلٍ لَا يَنْقَطِعُ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] وَقِيلَ: أَرَادَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَرَدَ: وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ. ( «وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا» ) : وَهُوَ مَقْصُورٌ مَصْدَرٌ مَحْضٌ، وَالِاسْمُ الرِّضَا الْمَمْدُودُ كَذَا وَذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. (بَعْدَ الْقَضَاءِ) : فَإِنَّهُ الْمَقَامُ الْأَفْخَمُ وَبَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، قِيلَ فِي وَجْهِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ طَلَبَ الرِّضَا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْقَضَاءِ وَتُقَرِّرِهِ، وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» ، عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ قَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَهُوَ الرِّضَا، كَذَا فِي الْغُنْيَةِ لِلْقُطْبِ الرَّبَّانِيِّ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ الْبَارِي. ( «وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ» ) : أَيْ: طِيبَهُ وَحُسْنَهُ، وَفِي الْحِصْنِ: وَبَرْدَ الْعَيْشِ (بَعْدَ الْمَوْتِ) لِأَنَّهُ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ. ( «وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ» ) : وَفِي الْحِصْنِ: بِالْعَطْفِ بِدُونِ أَسْأَلُكَ (إِلَى وَجْهِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَيَّدَ النَّظَرَ بِاللَّذَّةِ، لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا نَظَرُ هَيْبَةٍ وَجَلَالٍ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا نَظَرُ لُطْفٍ وَجَمَالٍ فِي الْجَنَّةِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هَذَا، (وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ) : أَيْ: أَبَدًا سَرْمَدًا (فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ) : أَيْ: شِدَّةٍ (مُضِرَّةٍ) : الْجَارُّ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِكَ أَيْ: أَسْأَلُكَ شَوْقًا لَا يُؤَثِّرُ فِي سَيْرِي وَسُلُوكِي، بِحَيْثُ يَمْنَعُنِي عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يَضُرَّنِي مَضَرَّةً، وَإِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِأَحْيِنِي، الثَّانِي أَظْهَرُ مَعْنًى، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لَفْظًا، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي كَوْنُهُ فِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مُتَعَلِّقُ الظَّرْفِ مُشْكِلٌ، وَلَعَلَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْقَرِينَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، سَأَلَ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ ضَرَّاءَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ أَيْ: شَوْقًا لَا يُؤَثِّرُ فِي سَيْرِي وَسُلُوكِي، وَإِنْ ضَرَّنِي مَضَرَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ: أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَمَعْنَى ضَرَّاءَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ الضُّرُّ الَّذِي يُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» ) اهـ.

وَقَوْلُهُ: بِحَيْثُ يَكُونُ " ضَرَّاءَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ " غَيْرَ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ لَيْسَ شَوْقًا بِحَيْثُ يَكُونُ ضَرَّاءَ، وَلِذَا دَخَلَ غَيْرُ عَلَيْهَا ثُمَّ وَصَفَهَا بِمُضِرَّةٍ لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ الضَّرَّاءُ إِذْ لَمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَإِنْ ضَرَّنِي مُضِرَّةٌ) وَيُمْكِنُ حَمْلُ عِبَارَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ بِأَدْنَى عِنَايَةٍ وَحَاصِلُ الْمَعْنَى إِنِّي أَسْأَلُكَ شَوْقًا لَا يَضُرُّنِي فِي بَدَنِي بِأَنْ أَفْعَلَ مَا لَا طَاقَةَ لِي بِهِ وَلَا فِي قَلْبِي بِأَنْ تَغْلِبَ عَلَيَّ الْجَذْبَةُ بِحَيْثُ أَخْرُجُ عَنْ طَوْرِ عَقْلِي، فَيَفُوتُنِي مَرْتَبَةُ الْجَمْعِ، وَلِذَا قَالَ: (وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ) : لِأَنَّ الْفِتْنَةَ تَعُمُّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَالْمُضِلَّةُ مَا يُوجِبُ الِانْحِرَافَ عَنِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، ( «اللَّهُمَّ زِيِّنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ» ) : أَيْ: بِثَبَاتِهِ وَزِيَادَةِ ثَمَرَاتِهِ مِنْ حُسْنِ الْعَمَلِ وَإِتْيَانِ الْعِرْفَانِ، (وَاجْعَلْنَا هُدَاةً) : جَمْعُ هَادٍ أَيْ: هَادِينَ إِلَى الدِّينِ (مَهْدِيِّينَ) : وَفِي الْحِصْنِ: مُهْتَدِينَ أَيْ: ثَابِتِينَ عَلَى الْهِدَايَةِ وَطَرِيقِ الْيَقِينِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصَفَ الْهُدَاةَ بِالْمَهْدِيِّينَ لِأَنَّ الْهَادِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَهْدِيًّا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْخَلْقَ فِي الضَّلَالِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. قُلْتُ: وَمِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَيْضًا. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ.

2498 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2498 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الْفَجْرِ) : أَيْ: فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَعِبَارَةُ الْأَذْكَارِ: إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا» ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مَقْبُولًا (وَرِزْقًا طَيِّبًا) : أَيْ: حَلَالًا فِي مُخْتَصَرِ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّهُ أُسٌّ لَهُمَا وَلَا يُعْتَدُّ بِهِمَا دُونَهُ. أَقُولُ وَلِهَذَا قُدِّمَ عَلَيْهِمَا فِي رِوَايَةِ الْحِصْنِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنِ السُّنِّي وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ قُلْتَ كَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَدِّمَ الرِّزْقَ الْحَلَالَ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ الرِّزْقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ طَيِّبًا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ نَافِعًا، وَالْعَمَلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عِلْمٍ نَافِعٍ لَمْ يَكُنْ مُتَقَبَّلًا قُلْتُ: أَخَّرَهُ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ إِنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِمَا إِذَا تَأَسَّسَا عَلَى الرِّزْقِ الْحَلَالِ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا، وَلَوْ قَدَّمَ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ، كَمَا إِذَا سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ؟ فَقِيلَ لَكَ: هُوَ عَالِمٌ عَامِلٌ، فَقُلْتَ: مِنْ أَيْنَ مَعَاشُهُ؟ فَقِيلَ: لَكَ مِنْ أَوْزَارِ السُّلْطَانِ اسْتَنْكَفْتَ مِنْهُ، وَلَمْ تَنْظُرْ إِلَى عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَتَجْعَلْهُمَا هَبَاءً مَنْثُورًا اهـ. وَحَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّ تَقْدِيمَ الرِّزْقِ هُوَ الْمُقَدَّمُ حِسًّا لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِتَحْصِيلِهِمَا، وَلِذَا قَدَّمَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] . وَلِذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: الطَّاعَةُ مَخْزُونَةٌ فِي خَزَائِنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِفْتَاحُهَا الدُّعَاءُ، وَأَسْنَانُهُ الْحَلَالُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ فِي جَوْفِهِ حَرَامٌ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ نَتِيجَةُ الرِّزْقِ الْحَلَالِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ لِلتَّرَقِّي لَا لِلتَّدَلِّي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَيْدٌ لِكَمَالِ مَا قَبْلَهُ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ مَعَاشُهُ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ قَدَّمَ الْعِلْمَ إِيمَاءً بِأَنَّهُ الْأَسَاسُ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الدِّينِ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَالْأَحْوَالِ، وَصِحَّةِ الْأَعْمَالِ وَمَعْرِفَةِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، ثُمَّ أَتَى بِنَتِيجَةِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْعَمَلُ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ فَكَأَنَّهُ جَاهِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] فَإِنَّ الْبَغَوِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: أَجْمَعَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ جَاهِلٌ. وَأَقُولُ: بَلْ أَشَدُّ مِنْهُ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» ) . وَوَرَدَ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلْعَالِمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ أَقَلَّ الْعِلْمِ بَلْ أَدْنَى الْإِيمَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ وَالْعُقْبَى بَاقِيَةٌ، وَنَتِيجَتُهُ أَنْ يُؤْثِرَ الْبَاقِي عَلَى الْفَانِي، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ خُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَالْأَسَاسِ الظَّاهِرِيِّ فِي نَتِيجَةِ الْعِلْمِ وَصِحَّتِهِ، وَتَرَتُّبِ الْعَمَلِ وَإِخْلَاصِهِ وَقَبُولِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدَّمَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ أَنْ يُنَوِّرَ الْقَلْبَ، وَيَزِيدَ فِي الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا أَظْلَمَ الْقَلْبَ، وَنَقَصَ مِنَ الْعِلْمِ. وَالثَّالِثِ أَنَّهُ يُظْلِمُ الْقَلْبَ وَيُبْعِدُ مِنَ اللَّهِ وَيُوجِبُ مَقْتَهُ وَخِذْلَانَهُ، فَمَعَ رَكَاكَةِ لَفْظِهِ وَغَلَاقَةِ مَعْنَاهُ لَا يُلَائِمُ أَرْبَابَ الْعِبَارَاتِ، وَلَا يُنَاسِبُ مَرَامَ أَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ (رَوَاهُ) : أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ [أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) ،: وَزَادَ فِي الْأَذْكَارِ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، فَلَعَلَّهُ لَهُ رِوَايَتَانِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

2499 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دُعَاءٌ حَفِظْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا أَدَعُهُ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أُعْظِمُ شُكْرَكَ، وَأُكْثِرُ ذِكْرَكَ، وَأَتَّبِعُ نُصْحَكَ، وَأَحْفَظُ وَصِيَّتَكَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2499 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دُعَاءٌ) : مُبْتَدَأٌ (حَفِظْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ مُسَوِّغٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: (لَا أَدَعُهُ) : أَيْ: لَا أَتْرُكُهُ لِنَفَاسَتِهِ. (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أُعْظِمُ) : بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَرَفْعِ الْمِيمِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ بِتَقْدِيرِ أَنْ أَوْ بِغَيْرِهِ مُعْظِمًا (شُكْرَكَ) : أَيْ: بَعْدَ تَعْظِيمِ نِعْمَتِكَ اللَّازِمِ مِنْهَا تَعْظِيمُ الْمُنَعَّمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اجْعَلْنِي. بِمَعْنَى صَيِّرْنِي، وَلِذَلِكَ أَتَى بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي فِعْلًا، لِأَنَّهُ صَارَ مَنْ دَوَاخِلِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ اهـ. وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّ جَعْلَ مَتَى يَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ يُؤْتَى بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي فِعْلًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ جَعَلَ لَيْسَ بِمَعْنَى خَلَقَ كَمَا يُسْتَعْمَلُ تَارَةً نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] فَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَيُسْتَعْمَلُ مَرَّةً بِمَعْنَى صَارَ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: أَعُدُّهُ عَظِيمًا أَوْ آتِي بِهِ عَظِيمًا، فَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبِ عُدُولِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ. (وَأُكْثِرُ) : مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا (ذِكْرَكَ) : أَيْ: لِسَانًا وَجِنَانًا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: تَصْرِيحٌ مِمَّا عُلِمَ قَبْلَهُ إِطْنَابًا وَاسْتِلْذَاذًا بِالْخِطَابِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِيمَا يَكُونُ الثَّانِي مَفْهُومَ مَنْطُوقِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. (وَأَتَّبِعَ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْأَوْلَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ (نُصْحَكَ) بِضَمِّ النُّونِ أَيْ: نَصِيحَتَكَ (وَأَحْفَظُ وَصِيَّتَكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: النَّصِيحَةُ وَالْوَصِيَّةُ مُتَقَارِبَانِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، فَإِنَّ النَّصِيحَةَ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، فَيُرَادُ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَبِالْوَصِيَّةِ مُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2500 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَّةَ، وَالْعِفَّةَ، وَالْأَمَانَةَ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَالرِّضَى بِالْقَدَرِ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2500 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: بِالْوَاوِ [قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَّةَ» ) : أَيْ: صِحَّةَ الْبَدَنِ مِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ أَوْ صِحَّةِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ (وَالْعِفَّةَ) : أَيْ: التَّحَرُّزَ عَنِ الْحَرَامِ، وَالِاجْتِنَابَ عَنِ الْآثَامِ (وَالْأَمَانَةَ) : بِتَرْكِ خِيَانَةِ الْأَنَامِ (وَحُسْنَ الْخُلُقِ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا أَيْ: حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، (وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ) : أَيْ: بِمَا جَرَى بِهِ الْإِقْلَاعُ.

2501 - وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ، وَعَمَلِي مِنَ الرِّيَاءِ، وَلِسَانِي مِنَ الْكَذِبِ، وَعَيْنِي مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ» ) رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي: (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2501 - (وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ» ) : أَيْ: بِتَحْصِيلِ الْيَقِينِ فِي الدِّينِ، وَتَسْوِيَةِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. (وَعَمَلِي مِنَ الرِّيَاءِ) : بِالْهَمْزِ وَقَدْ يُبَدَّلُ أَيْ: مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ بِتَوْفِيقِ الْإِخْلَاصِ، (وَلِسَانِي مِنَ الْكَذِبِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَيَجُوزُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ، وَخُصَّ مِنْ مَعَاصِي اللِّسَانِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُهُ وَأَقْبَحُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْخَلْقِ، (وَعَيْنِي مِنَ الْخِيَانَةِ) : أَيْ: بِأَنْ يَنْظُرَ بِهَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، أَوْ

يُشِيرُ بِهَا إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ الْفَسَادُ عَلَيْهِ، ( «فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ» ) : قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19] الْخَائِنَةُ صِفَةُ النَّظْرَةِ كَالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمُحَرَّمِ، وَاسْتِرَاقُ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الرِّيَبِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَادَ الْخَائِنَةُ مِنَ الْأَعْيُنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ قَوْلُهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) : أَيْ: وَمَا تُسِرُّهُ مِنْ أَمَانَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ بِشَهْوَةٍ مُسَارَقَةً، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ بِقَلْبِهِ فِي جَمَالِهَا، وَلَا يَعْلَمُ بِنَظْرَتِهِ وَفِكْرَتِهُ مَنْ بِحَضْرَتِهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ. فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: الْخَائِنَةُ مِنْهَا وَهِيَ الَّتِي تَتَعَمَّدُ ذَلِكَ النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ مَعَ اسْتِرَاقِهِ، حَتَّى لَا يَفْطِنَ أَحَدٌ لَهُ مَرْدُودٌ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُرَادُ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ كَأَنْ يُشِيرَ بِطَرَفِ عَيْنِهِ إِلَى قَتْلِ إِنْسَانٍ، مَعَ أَنَّهُ يُظْهِرُ لَهُ الرِّضَا عَنْهُ قُلْتُ: هَذِهِ عِبَارَةٌ غَرِيبَةٌ وَإِشَارَةٌ عَجِيبَةٌ، مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِلْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْحُجَّةِ الْمَسْطُورَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَيْ: «مِمَّنْ أُهْدِرُ دَمُهُمْ يَوْمَئِذٍ جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَفَعَ فِيهِ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَكَتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُنَيْهَةً ثُمَّ شَفَعَ عُثْمَانُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: (هَلَّا بَادَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى قَتْلِهِ حِينَ سَكَتُّ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَّا أَشَرْتَ إِلَيْنَا بِقَتْلِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يِكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» ) وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَئِمَّتُنَا: مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ، وَهِيَ أَنْ يُبْطِنَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ إِلَّا فِي التَّوْرِيَةِ بِالْحَرْبِ أَوْ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ قَالَ: قَوْلُهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) أَيْ تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ وَتُضْمِرُهُ الْأَفْئِدَةُ مِنْ تَوَالِي خَطِرَاتِهَا الْمُتَنَافِيَةِ، وَفِي تَرَقٍّ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَطِرَاتِ أَقْبَحُ مِنْ تِلْكَ النَّظَرَاتِ. قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْخَطِرَاتِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا بِخِلَافِ النَّظَرَاتِ الْمُعْتَمَدِ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْكَشَّافِ: وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَادَ الْخَائِنَةُ مِنَ الْأَعْيُنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ اهـ. فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ أَيْ تَفْسِيرَ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ. بِمَا مَرَّ عَنِ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ وَاضِحٌ لِأَنَّ خَائِنَتَهَا حِينَئِذٍ مِمَّا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ مِنَ التَّغَايُرِ الْحَقِيقِيِّ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ تَفْسِيرِهَا بِمَا مَرَّ أَوَّلًا كَانَ مُنْدَفِعًا بِمَا قَرَّرْتُهُ مِنَ التَّرَقِّي الْمَذْكُورِ، وَبِهَذَا الْفَرْقِ الَّذِي قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَهُ مِنْ إِيضَاحِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَانْدِفَاعِهِ عَلَى الثَّانِي يُعْلَمُ مَا فِي كَلَامِ الشَّارِحِ هُنَا فَتَأَمَّلْهُ اهـ. وَقَدْ تَأَمَّلْنَا، فَوَجَدْنَا أَنَّ الْكَشَّافَ وَالطِّيبِيَّ إِمَامَانِ مُحَقِّقَانِ مُدَقِّقَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ، عَارِفَانِ بِجَوَازِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَهُوَ فِي الْكِتَابِ كَثِيرٌ فَالْمُرَادُ مِنْ كَلَامِهِمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] يَعْلَمُ الْأَحْوَالَ الْمُخْتَلِفَةَ فِي الصُّدُورِ، وَحُسْنُ التَّقَابُلِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى " خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ " الْأَحْوَالَ الْكَامِنَةَ الْكَائِنَةَ فِي الْأَعْيُنِ، إِذْ هِيَ ذَاتٌ فِي مُقَابَلَةِ الصَّدْرِ، وَالْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، فَتَعَلُّقُهُ بِالْأَسْقَامِ الْمَخْفِيَّةِ أَبْلَغُ وَأَفْيَدُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّرَقِّي مِنَ الدَّقِيقِ إِلَى الْأَدَقِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُمَا) : أَيْ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ [الْبَيْهَقِيُّ فِي: (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

2502 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ، فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ) ؟ ! . قَالَ نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: (اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (سُبْحَانَ اللَّهِ! لَا تُطِيقُهُ وَلَا تَسْتَطِيعُهُ: أَفَلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ؟) قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ بِهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2502 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ) : مِنَ الْعِيَادَةِ أَيْ: زَارَ (رَجُلًا) : أَيْ مَرِيضًا (مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ ضَعُفَ مِنْ خَفَتَ إِذَا ضَعُفَ وَسَكَنَ (فَصَارَ) : أَيْ: بِسَبَبِ الضَّعْفِ (مِثْلَ الْفَرْخِ!) : وَهُوَ وَلَدُ الطَّيْرِ أَيْ مِثْلُهُ فِي كَثْرَةِ النَّحَافَةِ، وَقِلَّةِ الْقُوَّةِ. [فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ» ؟) : قِيلَ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْ: هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي يُسْأَلُ فِيهَا مَكْرُوهٌ، أَوْ هَلْ سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ؟ وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْبَلَاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَالُ، وَيُنْبِئُ عَنْهُ خَفَتَ، فَيَكُونُ قَدْ عَمَّ أَوَّلًا وَخَصَّ ثَانِيًا، وَجَعَلَ ابْنُ حَجَرٍ: (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَجَعَلَ الدُّعَاءَ مُخْتَصًّا بِالتَّلْوِيحِ، وَالسُّؤَالَ بِالتَّصْرِيحِ وَهُوَ وَجْهٌ وَجِيهٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: وَانْدَفَعَ بِهِ مَا لِلشَّارِحِ هُنَا مِنَ التَّكَلُّفِ الْبَعِيدِ، وَالتَّأْوِيلِ الْغَرِيبِ فَمَدْفُوعٌ، فَإِنَّ الشَّارِحَ أَيْضًا جَعَلَ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ حَمَلَ الدُّعَاءَ وَالسُّؤَالَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَفَرَّقَ فِي مَفْعُولَيْهِمَا بِأَنْ جَعَلَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ عَامًّا وَالْمَفْعُولَ الثَّانِيَ خَاصًّا، فَتَقَرَّبْ وَلَا تَبْعُدْ فَتُسْتَبْعَدَ، ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ ذَكَرَ وَرَقَتَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ فِي تَصْحِيحِ قَوْلِهِ: وَانْتَقَلَ انْتِقَالَاتٍ عَجِيبَةً لَا دَخْلَ لِلْمَقْصُودِ فِيهَا أَبَدًا. (قَالَ: نَعَمْ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ (أَوْ) لِلشَّكِّ مِنَ الْرَاوِي لَا لِلتَّرْدِيدِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ( «كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ» ) :

شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ [فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (سُبْحَانَ اللَّهِ!) : تَنْزِيهٌ لَهُ تَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ وَعَنِ الْعَجْزِ، أَوْ تَعَجُّبٌ مِنَ الدَّاعِي فِي هَذَا الْمَطْلَبِ وَهُوَ أَقْرَبُ. (لَا تُطِيقُهُ) : أَيْ فِي الدُّنْيَا (وَلَا تَسْتَطِيعُهُ) : فِي الْعُقْبَى أَوْ كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ، فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فَمَآلُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ اخْتِلَافُهُمَا بِخِلَافِ تَعَلُّقِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: (لَا تُطِيقُهُ) بَعْدَ مَا صَارَ الرَّجُلُ كَالْفَرْخِ، وَبَعْدَ قَوْلِهِ: كُنْتُ أَقُولُ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ الْحَالُ وَالِاسْتِقْبَالُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَيْ لَا تُطِيقُ هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي سَأَلْتَهُ لَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا، وَلَا فِيمَا سِوَاهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ النَّفْيِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ الطِّيبِيِّ إِلَخْ فَتَأَمَّلْ. فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ، وَالْغَافِلَ لَا تَنْفَعُهُ كَثْرَةُ الْعِبَارَةِ. (أَفَلَا قُلْتَ) : أَيْ بَدَلَ مَا قُلْتَ: ( «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً» ) : أَيْ عَافِيَةً (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) : أَيْ مُعَافَاةً (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ؟) قَالَ،: أَيْ: أَنَسٌ (فَدَعَا) : أَيِ الرَّجُلُ (اللَّهَ بِهِ) : أَيْ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْجَامِعِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَبِسًا بِقَوْلِهِ هَذَا الدُّعَاءَ، أَوْ مُسْتَغْنًى عَنْهُ نَشَأَ عَنِ الْغَفْلَةِ عَنْ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «هَلْ دَعَوْتَ اللَّهَ بِشَيْءٍ» ؟) فَإِنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ أَيِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي (فَشَفَاهُ اللَّهُ) : أَيْ: بِالدَّوَاءِ النَّافِعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2503 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) . قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2503 -[وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا يَنْبَغِي) : أَيْ: لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) : أَيْ: بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ عِلَّةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ ذِلَّةٍ قَالُوا: (وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟) : وَجْهُ اسْتِبْعَادِهِمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ إِعْزَازِ نَفْسِهِ، (قَالَ (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ) : بَيَانٌ لِمَا لَا يُطِيقُ، الظَّاهِرَةُ أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِهَا وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ قِيلَ: بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ: فِي سُنَنِهِمَا. [وْالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ] .

2504 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (قُلْ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَرِيرَتِي خَيْرًا مِنْ عَلَانِيَتِي، وَاجْعَلْ عَلَانِيَتِي صَالِحَةً، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ صَالِحِ مَا تُؤْتِي النَّاسَ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ غَيْرِ الضَّالِّ وَلَا الْمُضِلِّ» ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2504 - (وَعَنْ عُمَرَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ دُعَاءً (قَالَ) : بَيَانُ عَلَّمَنِي (قُلِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَرِيرَتِي) ، هِيَ وَالسِّرُّ بِمَعْنًى، وَهُوَ مَا يُكْتَمُ (خَيْرًا مِنْ عَلَانِيَتِي) : بِالتَّخْفِيفِ ( «وَاجْعَلْ عَلَانِيَتِي صَالِحَةً» ) : طَلَبَ أَوَّلًا سَرِيرَةً خَيْرًا مِنَ الْعَلَانِيَةِ، ثُمَّ عَقَّبَ بِطَلَبِ عَلَانِيَةٍ صَالِحَةٍ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ السَّرِيرَةَ رُبَّمَا تَكُونُ خَيْرًا مِنْ عَلَانِيَةٍ غَيْرِ صَالِحَةٍ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ صَالِحِ مَا تُؤْتِي النَّاسَ» ) : قِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَقَوْلُهُ (مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ) : بَيَانُ (مَا) وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ (غَيْرِ الضَّالِّ) ، أَكِيدٌ بِنَفْسِهِ (وَلَا الْمُضِلِّ) : أَيْ لِغَيْرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَجْرُورٌ بَدَلٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّالُّ بِمَعْنَى النِّسْبَةِ أَيْ غَيْرِ ذِي ضَلَالٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَأَجْمَعُ مَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ لِي خَيْرًا» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا. وَقَدْ جَمَعْتُ الدَّعَوَاتِ النَّبَوِيَّةَ بَعْدَ الدَّعَوَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَخَتَمْتُهَا بِالصَّلَوَاتِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ فِي كَرَارِيسَ لَطِيفَةٍ مُرْضِيَّةٍ هِيَ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مِنْ سَائِرِ الْأَحْزَابِ وَالْأَوْرَادِ كَأَوْرَادِ الْفَتْحِيَّةِ، وَأَحْزَابِ الْزَيْنِيَّةِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ جَامِعَةٌ لِلشَّمَائِلِ السَّنِيَّةِ وَمَانِعَةٌ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيَّةِ، فَهِيَ زُبْدَةُ رَسَائِلِ الصُّوفِيَّةِ الصَّفِيَّةِ.

[كتاب المناسك]

[كِتَابُ الْمَنَاسِكِ]

(كِتَابُ الْمَنَاسِكِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2505 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2505 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا) أَيْ وَعَظَنَا أَوْ خَطَبَ لَنَا عَامَ فُرِضَ الْحَجُّ فِيهِ، أَوْ ذَكَرَ لَنَا فِي أَثْنَاءِ خِطْبَةٍ لَهُ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا) فَحَجَّ بِالنَّاسِ ثَمَانٍ، وَهِيَ عَامُ الْفَتْحِ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَحَجَّ بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ حَجَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ عَشْرٍ كَذَا وَذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، أَوْ سَنَةَ خَمْسٍ، أَوْ سَنَةَ سِتٍّ وَتَأْخِيرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ تَعْرِيضُ الْفَوَاتِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَوْرِ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعِيشُ حَتَّى يَحُجَّ وَيُعَلِّمَ النَّاسَ مَنَاسِكَهُمْ تَكْمِيلًا لِلتَّبْلِيغِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخَّرَهُ عَنْ سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ لِعَدَمِ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ عَنْ سَنَةِ ثَمَانٍ فَلِأَجْلِ النَّسِيءِ، وَأَمَّا تَأَخُّرُهُ عَنْ سَنَةِ تِسْعٍ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي رِسَالَةٍ مُسَمَّاةٍ بِالتَّحْقِيقِ فِي مَوْقِفِ الصِّدِّيقِ. هَذَا وَقِيلَ وَجَبَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ حَتَّى تَحَصَّلَ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ» ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ حَجَّ حِجَجًا لَا يُعْلَمُ عَدَدُهَا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ حِجَجًا» ، وَأَمَّا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ حَجَّتَيْنِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ ثَلَاثًا فَمَبْنِيٌّ عَلَى عِلْمِهِ وَلَا يُنَافِي إِثْبَاتَ زِيَادَةِ ذِكْرِهِ (فَقَالَ رَجُلٌ) يَعْنِي الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ (أَكُلَّ عَامٍ) بِالنَّصْبِ لِمُقَدَّرٍ: أَيْ تَأْمُرُنَا أَنْ نَحُجَّ بِكُلِّ عَامٍ، أَوْ أَفُرِضَ عَلَيْنَا أَنْ نَحُجَّ كُلَّ عَامٍ؟ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) قِيلَ: إِنَّمَا صَدَرَ هَذَا السُّؤَالُ عَنْهُ لِأَنَّ الْحَجَّ فِي تَعَارُفِهِمْ هُوَ الْقَصْدُ بَعْدَ الْقَصْدِ، فَكَانَتِ الصِّيغَةُ مُوهِمَةً لِلتَّكْرَارِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَبْنَى السُّؤَالِ قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَزَكَاةِ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ تَكْرَارَهُ كُلَّ عَامٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَالِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْكَمَالِ. (فَسَكَتَ) أَيْ عَنْهُ أَوْ عَنْ جَوَابِهِ أَوْ لِأَنَّ السُّكُوتَ جَوَابُ الْجَاهِلِ فَإِنَّ حُسْنَ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ (حَتَّى قَالَهَا) أَيِ الْأَقْرَعُ الْكَلِمَةَ الَّتِي تَكَلَّمَهَا (ثَلَاثًا) قِيلَ: إِنَّمَا سَكَتَ زَجْرًا لَهُ عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي كَانَ السُّكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ عَمَّا تَحْتَاجُ الْأُمَّةُ إِلَى كَشْفِهَا، فَالسُّؤَالُ عَنْ مِثْلِهِ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ نَهَوْا عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مِنَ الْجَهْلِ، ثُمَّ لَمَّا رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْزَجِرُ وَلَا يَقْنَعُ إِلَّا بِالْجَوَابِ الصَّرِيحِ صَرَّحَ بِهِ (فَقَالَ: لَوْ قَلْتُ نَعَمْ) أَيْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ أَوِ الْإِلْهَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ كَانَ مُفَوَّضًا إِلَيْهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ قَلْتُ نَعَمْ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بِوَحْيٍ نَازِلٍ أَوْ بِرَأْيٍ يَرَاهُ إِنْ جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ - ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - وَفِيهِ أَنَّ التَّفْوِيضَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَعَمُّ فَلَا يَكُونُ مَرْدُودًا مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مُجَرَّدًا عَنْ وَحْيٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ مَرْدُودٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] (لَوَجَبَتْ) أَيْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ أَوْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: فُرِضَ، أَوِ الْحَجَّةُ كُلَّ عَامٍ أَوْ حَجَّاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَوَجَبَ، بِغَيْرِ تَاءٍ أَيْ لَوَجَبَ الْحَجُّ كُلَّ عَامٍ (وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ) أَوْ مَا قَدَرْتُمْ كُلُّكُمْ إِتْيَانَ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي) أَيِ اتْرُكُونِي (مَا تَرَكْتُمْ) أَيْ مُدَّةَ تَرْكِي إِيَّاكُمْ مِنَ التَّكْلِيفِ (فَإِنَّمَا هَلَكَ) وَفِي نُسْخَةٍ أُهْلِكَ، بِالْهَمْزِ، عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أَيْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ) كَسُؤَالِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ وَقَضِيَّةِ الْبَقَرَةِ (وَاخْتِلَافِهِمْ) عَطْفٌ عَلَى الْكَثْرَةِ لَا عَلَى السُّؤَالِ لِأَنَّ نَفْسَ الِاخْتِلَافِ مُوجِبٌ لِلْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ الْكَثْرَةِ (عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) يَعْنِي إِذَا أَمَرَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ السُّؤَالِ أَوْ

قَبْلَهُ وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا وَاسْتَحَقُّوا الْإِهْلَاكَ (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْفَرَائِضِ (فَأْتُوا مِنْهُ) أَيِ افْعَلُوهُ (مَا اسْتَطَعْتُمْ) فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا مِنْ أَجْلِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْأَحْكَامِ كَالصَّلَاةِ بِأَنْوَاعِهَا فَإِنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا يَأْتِي بِالْبَاقِي مِنْهَا (وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ (فَدَعُوهُ) أَيِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ حَتَّى قِيلَ إِنَّ التَّوْبَةَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي غَيْرُ صَحِيحَةٍ مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ صِحَّتُهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2506 - عَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2506 - وَعَنْهُ أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْعَمَلِ) أَيِ الْأَعْمَالِ (أَفْضَلُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي مُفَاضَلَةِ الْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ يُشْكِلُ التَّوْفِيقَ بَيْنَهَا وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ (قَالَ إِيمَانٌ) التَّنْكِيرُ لِلتَّفْخِيمِ (بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْبَاطِنِ (قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ الْجِهَادُ) التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ الْخَالِصُ، وَفِي نُسْخَةٍ جِهَادٌ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُصَلِّيًا وَصَائِمًا (قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ) أَيْ مَقْبُولٌ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بَرَّهُ أَيْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ يُقَالُ بَرَّ اللَّهُ عَمَلَهُ أَيْ قَبِلَهُ كَأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَى عَمَلِهِ بِقَبُولِهِ، وَقِيلَ أَيْ مُقَابَلٌ بِالْبَرِّ وَهُوَ الثَّوَابُ أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَآثِمِ وَفِي الدُّرِّ لِلسُّيُوطِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، أَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ قَالَ أَنْ يَرْجِعَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ اهـ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ وَجْهُ التَّرْتِيبِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا ثُمَّ الْجِهَادُ إِذْ لَا يَكُونُ عَادَةً إِلَّا مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَزِيَادَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ بِالسَّعْيِ إِلَى وَسِيلَةِ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ الْحَجُّ الْجَامِعُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَمُفَارَقَةِ الْوَطَنِ الْمَأْلُوفِ وَتَرْكِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ أَوْ يُقَالُ ذَكَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَرْتِيبِ فَرْضِيَّتِهَا فَوَجَبَ الْجِهَادُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ثُمَّ فُرِضَ الْحَجُّ تَكْمِلَةً لِلْأَرْكَانِ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2507 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2507 - وَعَنْهُ أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ حَجَّ لِلَّهِ) أَيْ خَالِصًا لَهُ تَعَالَى (فَلَمْ يَرْفُثْ) أَيْ فِي حَجِّهِ بِتَثْلِيثِ الْفَاءِ وَالضَّمُّ أَشْهَرُ قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرَّفَثُ يُطْلَقُ عَلَى الْجِمَاعِ، وَعَلَى التَّعْرِيضِ، وَعَلَى الْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَفَاؤُهُ مُثَلَّثَةٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَالْأَفْصَحُ الْفَتْحُ فِي الْمَاضِي وَالضَّمُّ فِي الْمُضَارِعِ (وَلَمْ يَفْسُقْ) بِضَمِّ السِّينِ أَيْ لَمْ يَفْعَلْ فِيهِ كَبِيرَةٌ، وَلَا أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ تَرَكُ التَّوْبَةِ عَنِ الْمَعَاصِي قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] ( «رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقِيلَ بِالْجَرِّ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ مُشَابِهًا فِي الْبَرَاءَةِ عَنِ الذُّنُوبِ لِنَفْسِهِ فِي يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فِيهِ، وَالرَّفَثُ التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ هُوَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَقِيلَ الرَّفَثُ فِي الْحَجِّ إِتْيَانُ النِّسَاءِ، وَالْفُسُوقُ السِّبَابُ، وَالْجِدَالُ الْمُمَارَاةُ مَعَ الرُّفَقَاءِ وَالْخَدَمِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجِدَالَ فِي الْحَدِيثِ اعْتِمَادًا عَلَى الْآيَةِ، أَوْ لِدُخُولِهِ فِي الْفِسْقِ أَوِ الرَّفَثِ، وَقِيلَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ لَا النَّفْيُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ الرَّفَثُ الْفُحْشُ مِنَ الْقَوْلِ، وَكَلَامُ الْجِمَاعِ عِنْدَ النِّسَاءِ وَالْفِسْقُ هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الِاسْتِقَامَةِ يَعْنِي الْعِصْيَانَ، وَيَوْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، قِيلَ رَجَعَ بِمَعْنَى صَارَ خَبَرُهُ كَيَوْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ كَيَوْمَ حَالًا أَيْ رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ مُشَابِهًا يَوْمَهُ بِيَوْمِ وِلَادَتِهِ فِي خُلُوِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ، لَكِنْ عَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمَكِّيُّ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ اهـ. وَقَدْ بُنِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] عَلَى خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ هُنَا، فَنَقُولُ فِي الْحَدِيثِ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَكِّيُّ فَتَأَمَّلْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يُفِيدُ غُفْرَانَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ السَّابِقَةِ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْمُكَفِّرَاتِ مُخْتَصَّةٌ بِالصَّغَائِرِ عَنِ السَّيِّئَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ الْعِبَادِ مِنَ التَّبِعَاتِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى

إِرْضَائِهِمْ مَعَ أَنَّ مَا عَدَا الشِّرْكَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَقَدْ كَتَبْتُ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ حَجَّ بِقَصْدِ الْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ كَانَ ثَوَابُهُ دُونَ ثَوَابِ التَّخَلِّي عَنِ التِّجَارَةِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحَاجِّ التَّاجِرِ ثَوَابٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ حَجَّ لِلَّهِ أَيْ خَالِصًا لِرِضَاهُ إِلَّا أَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّاسَ تَحَرَّجُوا مِنَ التِّجَارَةِ وَهُمْ حُرُمٌ بِالْحَجِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَنْ يَكْرِيَ جِمَالَهُ لِلْحَجِّ وَيَحُجَّ، وَأَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ لَهُ لَا حَجَّ لَكَ، فَقَالَ إِنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ لَكَ حَجٌّ» وَجَاءَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ لَوْ آجَرُ نَفْسِي مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَأَنْسَكُ أَلِيَ أَجْرٌ قَالَ أُولَئِكَ لَهُمْ نُصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَاللَّهُ الْمُلْهِمُ بِالصَّوَابِ.

2508 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2508 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعُمْرَةُ) أَيِ الْمُنْضَمَّةُ أَوِ الْمَوْصُولَةُ أَوِ الْمُنْتَهِيَةُ (إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا) أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ (وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ) أَيْ ثَوَابٌ (إِلَّا الْجَنَّةُ) بِالرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ وَهُوَ نَحْوُ: لَيْسَ الطِّيبُ إِلَّا الْمِسْكُ، فَإِنَّ بَنِي تَمِيمٍ يَرْفَعُونَهُ حَمْلًا لَهَا عَلَى مَا فِي الْإِهْمَالِ عِنْدَ انْتِقَاضِ النَّفْيِ، كَمَا حَمَلَ أَهْلُ الْحِجَازِ مَا عَلَى لَيْسَ كَذَا فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَالْعُمْرَةُ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ عَلَى مَا تَوَاتَرَ فِي الْقِرَاءَاتِ وَثَبَتَ فِي اللُّغَاتِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ الْعُمْرَةُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَوْ ضَمٍّ وَبِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهِيَ لُغَةً الزِّيَارَةُ وَشَرْعًا قَصَدُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ.

2509 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2509 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ» ) أَيْ كَائِنَةً ( «تَعْدِلُ حَجَّةً» ) أَيْ تُعَادِلُ وَتُمَاثِلُ فِي الثَّوَابِ، وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ حَجَّةً مَعِي وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ تَرْغِيبًا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ الْعِبَادَةِ تَزِيدُ بِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ فَيَشْمَلُ يَوْمَهُ وَلَيْلَهُ أَوْ بِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فَيَخْتَصُّ بِنَهَارِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قِيلَ الْمُرَادُ عُمْرَةٌ آفَاقِيَّةٌ، وَلَا تَجُوزُ الْعُمْرَةُ الْمَكِّيَّةُ عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُمْ سَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ وَهُوَ «أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخَلُّفَهَا عَنِ الْحَجِّ مَعَهُ، فَقَالَ لَهَا اعْتَمِرِي، وَكَانَ مِيقَاتُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ» . وَأَيْضًا لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيقَاعُهَا فِي رَمَضَانَ: مَعَ إِدْرَاكِهِ أَيْامًا مِنْهُ فِي مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا: مَعَ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ بِهَا وَإِنَّمَا وَقَعَ عُمَرُهُ كُلُّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَقِيلَ قَدِ اعْتَمَرَ مَرَّةً فِي رَجَبٍ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ وَتَبِعَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا وَالشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ الْعُمْرَةُ بِوُقُوعِ أَفْعَالِهَا فِي رَمَضَانَ لَا إِحْرَامُهَا كَمَا مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ.

2510 - وَعَنْهُ قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ، قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِ أَجَرٌ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2510 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَقِيَ رَكْبًا» ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ جَمْعُ رَاكِبٍ أَوِ اسْمُ جَمْعٍ كَصَاحِبٍ، وَهُمُ الْعَشَرَةُ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِبِلِ فِي السَّفَرِ دُونَ بَقِيَّةِ الدَّوَابِّ ثُمَّ اتَّسَعَ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ (بِالرَّوْحَاءِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ مَوْضِعٌ مِنْ أَعْمَالِ الْفَرْعِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْهَا، (فَقَالَ مَنِ الْقَوْمُ) بِالِاسْتِفْهَامِ (قَالُوا) أَيْ بَعْضُهُمْ (الْمُسْلِمُونَ) أَيْ نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ (فَقَالُوا مَنْ أَنْتَ قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ (رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ أَنَا (فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا) أَيْ أَخْرَجَتْهُ مِنَ الْهَوْدَجِ رَافِعَةً لَهُ عَلَى يَدَيْهَا (فَقَالَتْ أَلِهَذَا) أَيْ يَحْصُلُ لِهَذَا الصَّغِيرِ (حَجٌّ) أَيْ ثَوَابُهُ (قَالَ نَعَمْ) أَيْ لَهُ حَجُّ النَّفْلِ (وَلَكِ أَجْرٌ) أَيْ أَجْرُ السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ تَعْلِيمُهُ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَوْ أَجْرُ النِّيَابَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَالرَّمْيِ وَالْإِيقَافِ وَالْحَمْلِ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2511 - وَعَنْهُ قَالَ: «إِنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2511 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ إِنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، أَبُو قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ سُمُّوا بِهِ وَيَجُوزُ مَنْعُهُ وَصَرْفُهُ (قَالَتْ) فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ «أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، وَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ بَصَرَهُ إِلَّا مِنْ حَقٍّ، وَسَمْعَهُ إِلَّا مِنْ حَقٍّ وَلِسَانَهُ إِلَّا مِنْ حَقٍّ: غُفِرَ لَهُ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، كَذَا فِي الدُّرِّ لِلسُّيُوطِيِّ. فَقَالَتْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ) أَيْ فِي أَمْرِهِ وَشَأْنِهِ، وَيُمْكِنُ فِي بِمَعْنَى مِنَ الْبَيَانِيَّةِ (أَدْرَكَتْ) أَيِ الْفَرِيضَةُ (أَبِي) مَفْعُولٌ (شَيْخًا) حَالٌ (كَبِيرًا) نَعْتٌ لَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ أَسْلَمَ شَيْخًا وَلَهُ الْمَالُ، أَوْ حَصَلَ لَهُ الْمَالُ فِي هَذَا الْحَالِ (لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ) نَعْتٌ آخَرُ أَوِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى رُكُوبِهَا قَالَ ابْنُ الْمَلِكَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الزَّمِنِ، وَالشَّيْخِ الْعَاجِزِ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اهـ، يَعْنِي خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي إِذَا لَمْ يَسْبِقِ الْوُجُوبُ حَالَةَ الشَّيْخُوخَةِ بِأَنْ لَمْ يَمْلِكْ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَّا بَعْدَهَا، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِ، إِذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَمُؤْنَةَ مَنْ يَرْفَعُهُ وَيَضَعُهُ وَيَقُودُهُ إِلَى الْمَنَاسِكِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِذَا عَجَزَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ لِلُزُومِهِ الْأَصْلَ وَهُوَ الْحَجُّ بِالْبَدَنِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَلُ وَهُوَ الْإِحْجَاجُ وَجَّهَ قَوْلَهُمَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ «إِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ، قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قَيَّدَ الْإِيجَابَ بِهِ، وَالْعَجْزُ لَازِمٌ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا الِاسْتِطَاعَةِ، (أَفَأَحُجُّ عَنْهُ) أَيْ أَيَصِحُّ مِنْ أَنْ أَكُونَ نَائِبَةً عَنْهُ فَأَحُجُّ عَنْهُ (قَالَ نَعَمْ) دَلَّ عَلَى أَنَّ حَجَّ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ عَنِ الرَّجُلِ، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْبَسُ فِي الْإِحْرَامِ مَا لَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَجُّ عَنِ الْحَيِّ، سَوَاءً وَجَدَ الْمَالَ قَبْلَ الْعَجْزِ أَوْ بَعْدَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ هُوَ أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي وَهُوَ عَاجِزٌ أَيَصِحُّ مِنِّي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ تَبَرُّعًا قَالَ نَعَمْ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنِ الْآمِرِ وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَمْعٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. (وَذَلِكَ) أَيِ الْمَذْكُورُ جَرَى (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَقِيلَ بِكَسْرِهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَهَا، وَكَانَتْ فِي سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2512 - وَعَنْهُ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكَنْتَ قَاضِيَهُ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَاقْضِ دَيْنَ اللَّهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2512 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( «قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا) بِالْكَسْرِ (مَاتَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ» ) بِالْإِضَافَةِ (قَالَ نَعَمْ) قِيلَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ وَرِثَ مِنْهَا، فَسَأَلَ مَا سَأَلَ، فَقَاسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ الْعِبَادِ ( «قَالَ فَاقْضِ دَيْنَ اللَّهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» ) أَيْ مِنْ دِينِ الْعِبَادِ وَهَذَا الْإِجْمَالُ لَا يُنَافِي التَّفْصِيلَ الْفِقْهِيَّ عِنْدَنَا، أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ الْإِحْجَاجُ عَلَى الْوَارِثِ إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ وَإِلَّا فَيَكُونُ تَبَرُّعًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ حُجِّي عَنْهَا» ، وَصَحَّ أَيْضًا «أَنَّ رَجُلًا مِنْ خَثْعَمٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدٍ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ تَقْضِيهِ عَنْهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاحْجُجْ عَنْهُ» .

2513 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلَا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً قَالَ: اذْهَبْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِكَ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2513 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْلُوَنَّ) أَكَّدَ النَّهْيَ مُبَالَغَةً (رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ) أَيْ أَجْنَبِيَّةٍ (وَلَا تُسَافِرَنَّ) أَيْ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيْامٍ بِلَيَالِيهَا عِنْدَنَا (امْرَأَةٌ) أَيْ شَابَّةٌ أَوْ عَجُوزَةٌ (إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ)

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ «لَا تَحُجُّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْحَجِّ عَلَيْهَا إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا جَمَاعَةُ النِّسَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ ثِقَةٌ اهـ. وَقَالَ الشُّمُنِّيُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِذَا وَجَدَتِ الْمَرْأَةُ صُحْبَةً مَأْمُونَةً لَزِمَهَا الْحَجُّ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مَفْرُوضٌ كَالْهِجْرَةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِذَا وَجَدَتْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَحُجَّ مَعَهُنَّ، ثُمَّ قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَرْأَةِ أَيْضًا أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةً، وَالْمُرَادُ بِالْمَحْرَمِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ: بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ رِضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا لَيْسَ بِمَجُوسِيٍّ وَلَا غَيْرِ مَأْمُونٍ. (فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْتُتِبْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ (فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ كُتِبَ وَأُثْبِتَ اسْمِي فِيمَنْ يَخْرُجُ فِيهَا يُقَالُ اكْتَتَبْتُ الْكِتَابَ أَيْ كَتَبْتُهُ، وَيُقَالُ اكْتَتَبَ الرَّجُلُ إِذَا كَتَبَ نَفْسَهُ فِي دِيوَانِ السُّلْطَانِ، وَاكْتَتَبَ أَيْضًا إِذَا طَلَبَ أَنْ يُكْتَبَ فِي الزَّمْنَى وَلَا يُنْدَبُ لِلْجِهَادِ (وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي) أَيْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ (حَاجَّةً) أَيْ مُحْرِمَةً لِلْحَجِّ، أَوْ قَاصِدَةً لَهُ يَعْنِي وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمَحَارِمِ (قَالَ اذْهَبْ فَاحْجُجْ) بِضَمِّ الْجِيمِ الْأُولَى (مَعَ امْرَأَتِكَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ «قَالَ ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَهَا» قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ إِذْ فِي الْجِهَادِ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2514 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2514 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجِهَادِ قَالَ جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ لَا جِهَادَ عَلَيْكُنَّ وَعَلَيْكُنَّ الْحَجُّ إِذَا اسْتَطَعْتُنَّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2515 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2515 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ» ) نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ النَّهْيِ ( «مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ) فِي الْهِدَايَةِ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» ، وَأَخْرَجَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ وَفِي لَفْظٍ: يَوْمٍ وَفِي لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ بَرِيدًا يَعْنِي فَرْسَخَيْنِ وَاثَّنَيْ عَشَرَ مِيلًا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ قِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ، فَقَالَ: وَهِمُوا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ لَيْسَ فِي هَذِهِ تَبَايُنٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهَا فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ الْأَسْئِلَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمْثِيلًا لِأَقَلِّ الْأَعْدَادِ وَالْيَوْمُ الْوَاحِدُ أَوَّلُ الْعَدَدِ وَأَقَلُّهُ وَالِاثْنَانِ أَوَّلُ الْكَثِيرِ وَأَقَلُّهُ وَالثَّلَاثَةُ أَوَّلُ الْجَمْعِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذَا فِي قِلَّةِ الزَّمَنِ لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ فَكَيْفَ إِذَا زَادَ؟ ! اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ نَبَّهَ بِمَنْعِ الْخُرُوجِ أَقَلَّ كُلِّ عَدَدٍ عَلَى مَنْعِ خُرُوجِهَا عَنِ الْبَلَدِ مُطْلَقًا إِلَّا بِمَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا أَنَّ حَمْلَ السَّفَرِ عَلَى اللُّغَوِيِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» ، وَالسَّفَرُ لُغَةً يُطْلَقُ عَلَى دُونِ ذَلِكَ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمَحْرَمُ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَالْمُسَافِرَةُ مَعَهَا كُلُّ مَنْ حَرُمَ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لِحُرْمَتِهَا فَخَرَجَتْ بِالتَّأْبِيدِ أُخْتُ الزَّوْجَةِ وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا وَخَرَجَتْ بِسَبَبٍ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَبِنْتُهَا فَإِنَّهُمَا يُحَرَّمَانِ أَبَدًا، وَلَيْسَتَا مُحَرَّمَيْنِ لِأَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ لَا يُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا لِحُرْمَتِهَا الْمُلَاعَنَةُ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا عُقُوبَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ التَّحْدِيدَ، بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ شَابَّةً أَوْ كَبِيرَةً نَعَمْ لِلْمَرْأَةِ الْهِجْرَةُ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ بِلَا مَحْرَمٍ اهـ. وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يُوشِكُ أَنَّ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ لَا جِوَارَ مَعَهَا لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَفِي مَعْنَاهَا الْمَأْسُورَةُ إِذَا خَلُصَتْ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ إِلَّا الْهِجْرَةَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ إِقَامَتَهَا فِي دَارِ الْكُفْرِ إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ إِظْهَارَ الدِّينِ حَرَامٌ اهـ. وَتَسْتَوِي فِيهَا الشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ إِذْ لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2516 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَكَذَاكَ وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2516 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَقَّتَ) بِتَشْدِيدِ الْقَافِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قِيلَ الْوَقْتُ نِهَايَةُ الزَّمَانِ الْمَفْرُوضِ وَالْمِيقَاتُ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِلْفِعْلِ وَالْمَوْضِعِ أَيْضًا، يُقَالُ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْرِمُونَ مِنْهُ، وَمَعْنَى وَقَّتَ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِيقَاتَ الْإِحْرَامِ أَيْ بَيَّنَ حَدَّ الْإِحْرَامِ وَعَيَّنَ مَوْضِعَهُ، (لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ) عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَشْرُ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي جُشْمٍ، وَالْحُلَيْفَةُ تَصْغِيرُ الْحَلَفَةِ مِثَالُ الْقَصَبَةِ وَهِيَ نَبْتٌ فِي الْمَاءِ وَجَمْعُهَا حُلَفَاءُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ الْآنَ بِبِئْرِ عَلِيٍّ وَلَمْ يُعْرَفْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ، وَمَا قِيلَ إِنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَاتَلَ الْجِنَّ فِي بِئْرٍ فِيهَا كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ (وَلِأَهْلِ الشَّامِ) أَيْ مِنْ طَرِيقِهِمُ الْقَدِيمِ لِأَنَّهُمُ الْآنَ يَمُرُّونَ عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِذَا لَمْ يَمُرُّوا بِطَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَّا لَزِمَهُمُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْحُلَيْفَةِ إِجْمَاعًا عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، أَقُولُ: وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ وَعَجِيبٌ، فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَأَبَا ثَوْرٍ يَقُولُونَ بِأَنَّ لَهُ التَّأْخِيرَ إِلَى الْجُحْفَةِ، وَعِنْدَنَا مَعْشَرَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْمَدَنِيِّ أَيْضًا تَأْخِيرُهُ إِلَى الْجُحْفَةِ فَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ بَاطِلَةٌ مَعَ وُقُوعِ النِّزَاعِ، ثُمَّ زَادَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَتِهِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ (الْجُحْفَةَ) وَهِيَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّامِيِّ يُحَاذِي ذَا الْحُلَيْفَةِ عَلَى خَمْسِينَ فَرْسَخًا مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَكَانَ اسْمُهُ مَهْيَعَةُ فَأَجْحَفَ السَّيْلُ بِأَهْلِهَا فَسُمِّيَتْ جُحْفَةً، يُقَالُ: أَجْحَفَ إِذَا ذُهِبَ بِهِ وَسَيْلٌ جُحَافٌ إِذَا جَرَفَ الْأَرْضَ وَذَهَبَ بِهِ وَالْآنَ مَشْهُورٌ بِالرَّابِغِ (وَلِأَهْلِ نَجْدٍ) أَيْ نَجْدِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ (قَرْنَ الْمَنَازِلِ) بِسُكُونِ الْوَاوِ وَتَحْرِيكِهَا خَطًّا جَبَلٌ مُدَوَّرٌ أَمْلَسُ كَأَنَّهُ بَيْضَةٌ مُشْرِفٌ عَلَى عَرَفَاتٍ (وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ) جَبَلٌ بَيْنَ جِبَالِ تِهَامَةَ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَيُقَالُ أَلَمْلَمُ بِالْهَمْزَةِ (فَهُنَّ) أَيْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ (لَهُنَّ) أَيْ لِأَهْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبَعًا لِلطِّيبِي: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ أَيْ لِأَهْلِهَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ( «وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ» ) أَيْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهِنَّ الْمُقِيمِينَ بِهِنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ اهـ. وَهَذَا غَيْرُ صَوَابٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْفَاءَ فِي فَهُنَّ تَفْرِيعٌ لِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ ذَكَرَهُ إِجْمَالًا بَعْدَ تَفْصِيلٍ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ حُكْمَ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنَ الْمَوَاضِعِ اسْتِيفَاءً لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ مَوَاقِيتٌ لِهَذِهِ الْبُلْدَانِ أَيْ لِأَهْلِهِنَّ الْمَوْجُودِينَ سَوَاءً الْمُقِيمُونَ وَالْمُسَافِرُونَ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ أَيْ مَرَّ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْبُلْدَانِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرُويَ هُنَّ لَهُمْ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ إِنَّمَا هِيَ لِلْآفَاقِيِّينَ بِأَنْ لَا يَتَجَاوَزُوا عَنْهَا وُجُوبًا مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ الَّذِي يُرِيدُونَ دَاخِلَهُ وَأَمَّا أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ نَفْسِهَا فَحُكْمُهُمْ كَمَنْ دَاخِلِهَا مِنْ أَرْضِ الْحِلِّ فِي أَنَّ مِيقَاتَهُمُ الْحِلُّ وَلَهُمْ تَجَاوُزُ مِيقَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ إِذَا لَمْ يُرِيدُوا النُّسُكَ، فَإِنْ أَرَادُوهُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا مُحْرِمِينَ (لِمَنْ كَانَ) بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ لِإِعَادَةِ الْجَارِ (يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أَيْ مَكَانَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَهُوَ الْحَرَمُ عِنْدَنَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ أَقْوَالٌ وَتَفْصِيلٌ وَأَحْوَالٌ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِي تَقْيِيدِ لُزُومِ الْإِحْرَامِ بِإِرَادَةِ النُّسُكِ أَظْهَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا تَخْفَى (فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ مَنْ كَانَ بَيْتُهُ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ أَيْ بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ نَفْسِهَا: بَيْنَ الْحَرَمِ وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ نَفْسِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ خِلَافًا لِلطَّحَاوِيِّ حَيْثُ جَعَلَ حُكْمَهَا حُكْمَ الْآفَاقِيِّ (فَمُهَّلُهُ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ مَوْضِعُ إِحْرَامِهِ (مِنْ أَهْلِهِ) أَيْ مِنْ بَيْتِهِ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَوَاقِيتِ وَلَا يَلْزَمُهُ الذَّهَابُ إِلَيْهَا (وَكَذَاكَ وَكَذَاكَ) أَيِ الْأَدْوَنُ فَالْأَدْوَنُ إِلَى آخَرِ الْحِلِّ (حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ) بِالرَّفْعِ وَالْجَرِّ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ.

أَيْ حَتَّى أَهْلُ الْحَرَمِ (يُهِلُّونَ) أَيْ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ (مِنْهَا) أَيْ مِنْ مَكَّةَ تَوَابِعِهَا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُهَّلُ مَوْضِعُ الْإِهْلَالِ وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ أَيْ مَوْضِعُ الْإِحْرَامِ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ مِيقَاتُهُ مَكَّةُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمْرَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِالْخُرُوجِ فَهَذَا الْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِالْحَجِّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَأَفْضَلُ بِقَاعِ الْحِلِّ الْجِعْرَانَةُ: لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَحْرَمَ بِهَا مِنْهَا فِي رُجُوعِهِ مِنْ حُنَيْنٍ ثَانِي عَشَرَ الْقَعْدَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ لَيْلًا وَرَجَعَ لَيْلًا خِفْيَةً» ، وَمِنْ ثَمَّ أَنْكَرَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ. فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي أُصُولِهِ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ، خِلَافَ مَذْهَبِنَا الْمَبْنِيِّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَقَعُ اتِّفَاقِيًّا بِخِلَافِ الْقَوْلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا قَصْدِيًّا، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ: وَالْجِعْرَانَةُ عَلَى طَرِيقِهِ، فَإِحْرَامُهُ مِنْهُ كَانَ مُتَعَيِّنًا، نَعَمْ لَوْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَأَحْرَمَ مِنْهُ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ فِي كَوْنِهِ أَفْضَلَ وَنَظِيرُهُ إِحْرَامُ عَلِيٍّ مِنْ يَلَمْلَمَ، حَيْثُ كَانَ عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْيَمَنِ وَالشِّيعَةُ يَخْرُجُونَ مِنْ مَكَّةَ إِلَيْهِ، وَيُحْرِمُونَ لَدَيْهِ وَهُوَ عَكْسُ الْمَوْضُوعِ، بَلْ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ إِحْرَامَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ كَانَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ، بَلْ كَانَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَذَا كَانَ إِحْرَامُهُ مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ هَمَّ بِالِاعْتِمَارِ مِنْهَا فَقَدْ وَهِمَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2517 - وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 2517 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» ) أَيْ مَوْضِعُ إِحْرَامِهِمُ اسْمُ مَكَانٍ هُنَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ أَيْ إِحْرَامُهُمْ، وَأَصْلُهُ مَوْضِعُ إِهْلَالِهِمْ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الزَّمَنِ وَالْمَصْدَرُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى، إِذِ اسْمُ الْمَفْعُولِ الْمَزِيدُ فِيهِ مُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَاسْمِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ مِنْ مُتُونِ عِلْمِ الصَّرْفِ (مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) أَيْ مِنْ طَرِيقِهِ (وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ) بِالرَّفْعِ أَيْ مُهَلُّ الطَّرِيقِ الْآخَرِ لَهُمْ (الْجُحْفَةُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ إِذَا جَاءُوا مِنْ طَرِيقِ الْجُحْفَةِ فَهِيَ مُهَلُّهُمُ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ وَقْتَهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ ثُمَّ أَتَى وَقْتًا آخَرَ وَأَحْرَمَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ مِنْ وَقْتِهِ كَانَ أَحَبَّ، وَقِيلَ التَّأْخِيرُ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ التَّأْخِيرُ أَنْسَبُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، الشَّافِعِيُّ (إِذْ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الْمُجَاوَزَةُ إِلَى الْمِيقَاتِ الْآخَرِ، وَلِذَا تَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ فِي حِلِّهِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ وَمُهَلُّ أَهْلِ الطَّرِيقِ الْآخَرِ الَّذِي لَا يَمُرُّ سَالِكُهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَا يُجَاوِزُهَا يُمْنَةً أَوْ يُسْرَةً هُوَ الْجُحْفَةُ (وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ) وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ وَهِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَوْضِعٌ فِيهِ عِرْقٌ وَهُوَ الْجَبَلُ الصَّغِيرُ وَقِيلَ كَوْنُ ذَاتِ عِرْقٍ مِيقَاتًا ثَبَتَ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَمَّا فُتِحَ الْمِصْرَانِ الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْ أُسِّسَا حِينَئِذٍ إِذْ هُمَا إِسْلَامِيَّتَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ قَرْنًا يَشُقُّ عَلَيْنَا قَالَ فَانْظُرُوا حُدُودَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ، فَاجْتَهَدَ فِيهِ فَأَصَابَ، وَوَافَقَ السُّنَّةَ فَهُوَ مِنْ عَادَاتِهِ فِي مُوَافَقَاتِهِ، وَلِهَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِرَاقَ لَمْ يُفْتَحْ إِلَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُفْتَحُ فَوَقَّتَ لِأَهْلِهِ ذَلِكَ، كَمَا وَقَّتَ لِأَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ مَا مَرَّ قَبْلَ فَتْحِهِمَا أَيْضًا، ثُمَّ كَأَهْلِ الْعِرَاقِ أَهْلُ خُرَاسَانَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَمُرُّ بِذَاتِ عِرْقٍ وَلَا يُنَافِيهِ أَيْضًا خَبَرُ التِّرْمِذِيَّ وَحَسَّنَهُ، وَإِنِ اعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ ضَعْفًا مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ فَإِنَّ عِرْقًا جَبَلٌ مُشْرِفٌ عَلَى الْعَقِيقِ وَقَرْيَةُ ذَاتِ عِرْقٍ خُرِّبَتْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ يَجِبُ عَلَى الْعِرَاقِيِّ أَنْ يَتَحَرَّاهَا وَيَطْلُبَ آثَارَهَا الْقَدِيمَةَ لِيُحْرِمَ مِنْهَا. وَأَقُولُ إِذَا أَحْرَمَ مِنَ الْعَقِيقِ يَكُونُ أَحْوَطَ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ الْجُحْفَةُ وَرَابِغٌ فَإِنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا، فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِحْرَامِ بِالسَّابِقِ (وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ) بِسُكُونِ الرَّاءِ وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَإِنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ يُنْسَبُ إِلَيْهَا أُوَيْسٌ الْقَرْنِيُّ (وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

2518 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ: إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةً مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2518 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمَرٍ» ) عَلَى زِنَةِ عُمَرَ لَكِنَّهُ مَصْرُوفٌ جَمْعُ عُمْرَةٍ (كُلُّهُنَّ) أَيْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ (فِي ذِي الْقَعْدَةِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَيُكْسَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَرَّةِ أَوِ الْهَيْئَةِ (إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا (عُمْرَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ (مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ أَحَدُ حُدُودِ الْحَرَمِ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ (فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ) وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ (فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنَ الْجِعْرَانَةِ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ أَوْ تِسْعَةِ أَمْيَالٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ (حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ) أَيْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ (فِي ذِي الْقَعْدَةِ) أَيْ كَانَتْ فِيهَا (وَعُمْرَةً) أَيْ مَقْرُونَةً مَعَ حَجَّتِهِ وَهِيَ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ إِحْرَامِهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فَإِنَّهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَفْعَالِهَا، وَحِينَئِذٍ يُرَدُّ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَدَاخُلِ الْأَفْعَالِ لِلْقَارِنِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهَا حَقِيقَةً بَلْ حُكْمًا، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، ثُمَّ قَوْلُ أَنَسٍ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ هَمَّ بِالدُّخُولِ مُحْرِمًا بِهَا، إِلَّا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صُدَّ عَنْهُ وَأُحْصِرَ مِنْهُ، فَفِي الْجُمْلَةِ إِطْلَاقُ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا مَعَ عَدَمِ أَفْعَالِهَا، بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا الْمَثُوبَةُ. ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ بَيْنَ حِدَّةٍ بِالْمُهْمَلَةِ وَمَكَّةَ، تُسَمَّى الْآنَ بِئْرَ شُمَيْسٍ بِالتَّصْغِيرِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ سِتَّةُ فَرَاسِخَ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ ثَلَاثُ فَرَاسِخَ وَكَذَا كَانَ إِحْرَامُ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَتَأْوِيلُ الشَّافِعِيَّةِ الْقَضَاءَ بِالْقَضِيَّةِ مِنَ الْمُقَاضَاةِ وَالتَّقَاضِي وَهُوَ الصُّلْحُ نَشَأَ مِنَ الْمَادَّةِ التَّعَصُّبِيَّةِ، وَبَحْثُهُ يَطُولُ فَأَعْرَضْنَا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ فِي قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مُحْرِمًا، وَأَنَّهُمْ يُمَكِّنُونَهُ مِنْ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ حَتَّى يَقْضِيَ عُمْرَتَهُ: حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَبَيِّنَةٌ بَاهِرَةٌ عَلَيْهِ وَمَنْ مَالَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَمَّا قَدِمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الطَّائِفِ، نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ وَقَسَّمَ فِيهَا الْغَنَائِمَ، ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْهَا وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ» ، فَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمُحَدِّثِينَ مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2519 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2519 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ» ) لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ أَفْعَالَهَا لِكَوْنِهِ مُحْصَرًا وَالْعُمْرَةُ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ لَمْ تَكُنْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ إِحْرَامِهَا، وَأَمَّا أَفْعَالُهَا فَكَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَتَأْوِيلُنَا هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ لِمَا مَرَّ فِيهَا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَهَا لِخَفَائِهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2520 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ لَوْ قُلْتُهَا نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا. وَالْحَجُّ مَرَّةٌ فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2520 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ) خِطَابٌ عَامٌّ يَخْرُجُ مِنْهُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ) أَيْ فَرَضَ (عَلَيْكُمُ الْحَجَّ) أَيْ بِقَولِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] (فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ أَفِي كُلِّ عَامٍ) أَيِ أَكُتِبَ فِي كُلِّ عَامٍ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَالثَّانِي طَاعَةٌ مَالِيَّةٌ وَالْحَجُّ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا (قَالَ لَوْ قُلْتُهَا) أَيْ فِي جَوَابِ كَلِمَةِ الْأَقْرَعِ (نَعَمْ) أَيْ بِالْوَحْيِ أَوِ الِاجْتِهَادِ (لَوَجَبَتْ) أَيِ الْحَجَّةُ فِي كُلِّ عَامٍ (وَلَوْ وَجَبَتْ) أَيْ بِالْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ ابْتِدَاءً أَوْ بِنَاءً عَلَى الْجَوَابِ (لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا) أَيْ لِكَمَالِ الْمَشَقَّةِ فِيهَا (وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا) أَيْ وَلَمْ تُطِيقُوا لَهَا وَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا فَهُوَ إِمَّا عَطْفُ تَفْسِيرٍ

وَالْخِطَابُ إِجْمَالِيٌّ لِلْأُمَّةِ أَوْ لِلْحَاضِرِينَ وَالْبَاقُونَ عَلَى التَّبَعِيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا أَيْ كُلُّكُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ وَإِمَّا عَطْفُ تَغَايُرٍ وَعَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْحَرَمِ، وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ أُرِيدَ بِهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْفِعْلِ، وَالِاسْتِطَاعَةُ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ لَوْ قُلْتُهَا نَعَمْ إِنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ لِمَا عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ وَهُوَ حَجَّةٌ كُلَّ عَامٍ فَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ، لَا بِحَسَبِ الْمَبْنَى وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى (الْحَجُّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَالْحَجُّ (مَرَّةٌ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ وُجُوبُهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ (وَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ) أَيْ وَمَنْ زَادَ عَلَى مَرَّةٍ فَحَجَّتُهُ أَوْ فَزِيَادَتُهُ تَطَوُّعٌ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا الْحَجُّ فَرْضُ كِفَايَةٍ بَعْدَ أَدَاءِ فَرْضِ الْعَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ، نَعَمْ يُنْدَبُ لِلْقَادِرِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْحَجَّ فِي كُلِّ خَمْسِ سِنِينَ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " «قَالَ إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ يَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَا يَفِدُ إِلَيَّ فَهُوَ مَحْرُومٌ» " وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ خَمْسِ سِنِينَ وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا زَعْمُ وُجُوبِهِ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى مَا نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ فَمِنَ الْمُحَالِ إِمْكَانُهُ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ فِي مُسْنَدِهِ (وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَقَالَ الشُّمُنِّيُّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

2521 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] » (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2521 - (وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً» ) أَيْ وَلَوْ بِالْإِجَارَةِ (تُبَلِّغُهُ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ تَوَصِّلُهُ، وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ لِلرَّاحِلَةِ وَتَقْيِيدُهَا يُغْنِي عَنْ تَقْيِيدِ الزَّادِ أَوِ الْمَجْمُوعِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ (إِلَى بَيْتِ اللَّهِ) أَيْ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْمَوَاقِفِ الْعِظَامِ، وَتَرَكَ ذِكْرَ نَفَقَةِ الْعُودِ لِلظُّهُورِ أَوْ لِعَدَمِ لُزُومِ الرُّجُوعِ (وَلَمْ يَحُجَّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا وَكَأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَكُنْ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ فَقَدَّرَ ثُمَّ تَرَكَ الْمَجِيءَ إِلَيْهِ لِلْحَجِّ (فَلَا عَلَيْهِ) أَيْ فَلَا بَأْسَ وَلَا مُبَالَاةَ وَلَا تَفَاوُتَ عَلَيْهِ (أَنْ يَمُوتَ) أَيْ فِي أَنْ يَمُوتَ أَوْ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ (يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا) فِي الْكُفْرِ إِنِ اعْتَقَدَ عَدَمَ الْوُجُوبِ وَفِي الْعِصْيَانِ إِنِ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ، وَقِيلَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ الشَّدِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْوَعِيدِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا خَصَّ الطَّائِفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمَا بِالْحَجِّ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَاصَّةً اهـ. وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ ظَاهِرَةٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ عَامِلَيْنِ بِهِ فَشُبِّهَ بِهِمَا مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ حَيْثُ لَمْ يَعْمَلْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمَعْنَى أَنَّ وَفَاتَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ: وَوَفَاتَهُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ سَوَاءٌ، وَالْمَقْصُودُ التَّغْلِيظُ فِي الْوَعِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَنْ كَفَرَ " اهـ. يَعْنِي حَيْثُ إِنَّهُ وَقَعَ مَوْضِعَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ حَيْثُ عَدَلَ عَنْ (عَنْهُ) إِلَى عَنِ الْعَالَمِينَ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: غَنِيٌّ عَنْهُ وَعَنْهُمْ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا هُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ إِيجَادًا وَإِمْدَادًا وَنَفْعُ الطَّاعَةِ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَالْقِيَامُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ. هَذَا وَقَدْ قَدَّرَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ فَلَا تَفَاوُتَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْحَجِّ، وَأَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَيْ كَافِرًا لِاسْتِوَاءِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ حَقِيقَةً: إِنْ تَرَكَ الْحَجَّ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَحِلًّا لِعَدَمِ وُجُوبِهِ وَجَعَلَهُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْأَكِيدِ وَلَا يَخْفَى عَدَمُ صِحَّتِهِ، وَتَقْرِيرُهُ مَعَ التَّكَلُّفِ فِي تَقْدِيرِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي تَحْرِيرِهِ، وَلَمْ يُفِدْ فَائِدَةً فِي تَعْبِيرِهِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَبْلَغُ فِي مَقَامِ تَحْذِيرِهِ، وَأَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْحَجِّ الْمُوجِبِ لِتَكْفِيرِهِ بَعْدَ تَكْفِيرِهِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ: فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، يُبْطِلُ تَقْدِيرَ ابْنِ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ صَحِيحًا بِدُونِ التَّغْيِيرِ، (وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ شَرْطِ الزَّادِ

وَالرَّاحِلَةِ وَالْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ (تَبَارَكَ) أَيْ تَكَاثَرَ خَيْرُهُ وَبِرُّهُ عَلَى بَرِيَّتِهِ (وَتَعَالَى) عَظَمَتُهُ وَغِنَاهُ عَلَى خَلِيقَتِهِ (يَقُولُ) أَيْ فِي كِتَابِهِ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران: 97] أَيْ وَاجِبٌ {حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَيُبْدَلُ مِنَ النَّاسِ {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] أَيْ طَرِيقًا وَفَسَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ. كَذَا فِي الْجَلَالَيْنِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا وَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَمَامِهَا، لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِدْلَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِهَا وَكَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الطِّيبِيُّ وَبَيَّنَ وَجْهَهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ) قِيلَ: قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي أَمُامَةَ، وَالْحَدِيثُ إِذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا يَقْوَى عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ) قَالَ الذَّهَبِيُّ قَدْ جَاءَ بِإِسْنَادٍ أَصَحَّ مِنْهُ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ قَدْ أَخْطَأَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِالْوَضْعِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَهْلِ الرَّاوِي وَضْعُ الْحَدِيثِ (وَالْحَارِثُ يُضْعَفُ) أَيْ يُنْسَبُ إِلَى الضَّعْفِ (فِي الْحَدِيثِ) قَالَ الْقَاضِي لَا الْتِفَاتَ إِلَى حُكْمِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِالْوَضْعِ كَيْفَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَقَدْ قَالَ إِنَّ كُلَّ حَدِيثٍ فِي كِتَابِهِ مَعْمُولٌ بِهِ إِلَّا حَدِيثَيْنِ وَلَيْسَ هَذَا أَحَدَهُمَا، هَذَا فِي رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

2522 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2522 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ» ) وَهُوَ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ قَطُّ أَيْ: مَنْ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَدَلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَمْ يَحُجَّ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ كَامِلٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالصَّرُورَةِ التَّبَتُّلُ وَتَرْكُ النِّكَاحِ أَيْ: لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الصَّرِّ وَهُوَ الْحَبْسُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا أَنَّ يُقَالَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةٌ، فَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَذَكَرَهُ بِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرًا إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ.

2523 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2523 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ» ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ فَلْيَغْتَنِمِ الْفُرْصَةَ وَقِيلَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ اهـ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِدُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَقَصَدَ التَّزَوُّجَ أَنَّهُ يَحُجُّ بِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي إِلَّا أَنْ يَظُنَّ فَوَاتَهُ لَوْ أَخَّرَهُ لِأَنَّ الْحَجَّ وَقْتُهُ الْعُمْرُ نَظَرًا إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ فِي بَقَاءِ الْإِنْسَانِ، فَكَانَ كَالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ كَمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، إِلَّا أَنَّ جَوَازَ تَأْخِيرِهِ مَشْرُوطٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِأَنْ لَا يَفُوتُ يَعْنِي لَوْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَثِمَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَجَّ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِنَ السَّنَةِ وَالْمَوْتُ فِيهَا لَيْسَ بِنَادِرٍ، فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ لَا لِانْقِطَاعِ التَّوَسُّعِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَوْ حَجَّ فِي الْعَامِ الثَّانِي كَانَ مُؤَدِّيًا بِاتِّفَاقِهِمَا، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْعَامِ الثَّانِي كَانَ آثِمًا بِاتِّفَاقِهِمَا، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ تَفْسِيقِ الْمُؤَخِّرِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْفَوْرِ وَعَدَمِ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّرَاخِي، كَذَا حَقَّقَهُ الشُّمُنِّيُّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ. وَقَدْ وَرَدَ «حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا» ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَحْدُثَ بَاعِثٌ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آخِرُ الْحَدِيثِ، «فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى حَبَشِيٍّ أَصْمَعَ أَفْدَعَ بِيَدِهِ مِعْوَلٌ يَهْدِمُهَا حَجَرًا حَجَرًا» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَالْأَصْمَعُ الصَّغِيرُ الْأُذُنِ وَالْأَفْدَعُ مَنْ فِي يَدِهِ وَرِجْلِهِ زَيْغٌ وَاعْوِجَاجٌ.

2524 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2524 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» ) أَيْ قَارِبُوا بَيْنَهُمَا إِمَّا بِالْقِرَانِ أَوْ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا اعْتَمَرْتُمْ فَحُجُّوا، وَإِذَا حَجَجْتُمْ فَاعْتَمِرُوا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بِحَيْثُ يُسَمَّى مُتَابِعًا لَهُ عُرْفًا، فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لُغَةً وَلَا شَرْعًا (فَإِنَّهُمَا) أَيِ الْحَجَّ وَالِاعْتِمَارَ (يَنْفِيَانِ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَجْوِيزِ جَمْعِهِمَا (الْفَقْرَ) أَيْ يُزِيلَانِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْفَقْرَ الظَّاهِرَ بِحُصُولِ غِنَى الْيَدِ، وَالْفَقْرَ الْبَاطِنَ بِحُصُولِ غِنَى الْقَلْبِ (وَالذُّنُوبَ) أَيْ يَمْحُوَانِهَا، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الصَّغَائِرُ وَلَكِنْ يَأْبَاهُ قَوْلُهُ (كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ) وَهُوَ مَا يَنْفُخُ فِيهِ الْحَدَّادُ لِاشْتِعَالِ النَّارِ لِلتَّصْفِيَةِ (خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) أَيْ وَسَخَهَا الْمُشَبَّهَ بِوَسَخِ الْمَعْصِيَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى صُدُورِهِمَا مِنَ التَّائِبِ، أَوْ يُقَالُ: مَحْوُ الذُّنُوبِ عَلَى قَدْرِ الِاشْتِغَالِ فِي إِزَالَةِ الْعُيُوبِ ( «وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) أَيْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِكَمَالِهِ.

2525 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ إِلَى قَوْلِهِ خَبَثَ الْحَدِيدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2525 - رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ إِلَى قَوْلِهِ: خَبَثَ الْحَدِيدِ) وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُنْذِرِيُّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ جَاءَ حَاجًّا يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَشُفِّعَ فِيمَنْ دَعَا لَهُ» ، وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَضَى نُسُكَهُ وَسَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» ، وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا خَرَجَ الْحَاجُّ مِنْ بَيْتِهِ كَانَ فِي حِرْزِ اللَّهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ نُسُكَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَإِنْفَاقُ الدِّرْهَمِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ يَعْدِلُ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِيمَا سِوَاهُ» .

2526 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ قَالَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2526 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ» ) أَيْ مَا شَرْطُ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَإِلَّا فَالْمُوجَبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) يَعْنِي: الْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ وَجَدَهُمَا ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَاقْتَصَرَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّرُوطِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْأَهَمُّ الْمُقَدَّمُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا عَنْ أَحَدٍ فِي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ اهـ. وَالْمُرَادُ بِالرَّاحِلَةِ مَحْمَلٌ أَوْ شِقُّ مَحْمَلٍ أَوْ زَامِلَةٌ، لَا قَدْرُ مَا يُكْتَرَى عُقْبَةً وَيُمْشِي الْبَاقِيَ، وَالْحَدِيثُ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْمَكِّيَّ وَغَيْرَهُ خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَهُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ أَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَعَلَى الْشَحْذَةِ أَوِ الْكَسْبِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الْحَاكِمُ «عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَبَاقِي الْأَحَادِيثِ بِطُرُقِهَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ عِنْدَ التِّرْمِذِيَّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ لَا تَسْلَمُ مِنْ ضَعْفٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ طُرُقٌ صَحِيحَةٌ ارْتَفَعَ بِكَثْرَتِهَا إِلَى الْحَسَنِ فَكَيْفَ وَمِنْهَا الصَّحِيحُ اهـ. وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِي سَنَدِهِ ضَعِيفٌ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، فَإِنَّهُ حَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ، وَقَدْ يُحْمَلُ ضِعْفُ الْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيِّ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ فَهُوَ حُسْنٌ لِغَيْرِهِ وَالْحَسَنُ قَدْ يُوصَفُ بِالصِّحَّةِ أَيْضًا فَارْتَفَعَ النِّزَاعُ.

2527 - وَعَنْهُ قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا الْحَاجُّ. قَالَ: الشَّعِثُ التَّفِلُ فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ قَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ قَالَ: زَادٌ وَرَاحِلَةٌ» (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2527 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا الْحَاجُّ» ) أَيِ الْكَامِلُ، وَالْمَعْنَى مَا صِفَةُ الْحَاجِّ الَّذِي يَحُجُّ، أَوْ يَكُونُ مَا بِمَعْنَى مَنْ قَالَ الطِّيبِيُّ يُسْأَلُ بِمَا عَنِ الْجِنْسِ وَعَنِ الْوَصْفِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الثَّانِي بِجَوَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (قَالَ: الشَّعِثُ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيِ الْمُغَبَّرُ الرَّأْسِ مِنْ عَدَمِ الْغَسْلِ، مُفَرَّقُ الشَّعْرِ مِنْ عَدَمِ الْمَشْطِ، وَحَاصِلُهُ تَارِكُ الزِّينَةِ، (التَّفِلُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ تَارِكُ الطِّيبِ، فَيُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ تَفَلَ الشَّيْءَ مِنْ فِيهِ إِذَا رَمَى بِهِ مُتَكَرِّهًا لَهُ، (فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحَجِّ) أَيْ أَعْمَالِهِ أَوْ خِصَالِهِ بَعْدَ أَرْكَانِهِ، (أَفْضَلُ) أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا، (قَالَ الْعَجُّ وَالثَّجُّ) بِتَشْدِيدِهِمَا وَالْأَوَّلُ رَفَعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّانِي سَيَلَانُ دِمَاءِ الْهَدْيِ، وَقِيلَ دِمَاءِ الْأَضَاحِي. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ نَفْسِ الْحَجِّ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مَا فِيهِ الْعَجُّ وَالثَّجُّ، وَقِيلَ عَلَى هَذَا يُرَادُ بِهِمَا الِاسْتِيعَابُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَهُ الَّذِي هُوَ الْإِحْرَامُ، وَآخِرَهُ الَّذِي هُوَ التَّحَلُّلُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، اقْتِصَارًا بِالْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، أَيِ الَّذِي اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، (فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ) أَيِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وَقَوْلُ ابْنِ مَالِكٍ أَيْ مَا اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ غَيْرُ صَحِيحٍ، (قَالَ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ) أَيْ بِحَسَبِ مَا يَلِيقَانِ بِكُلِّ أَحَدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْوَسَطُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ الْحَاجِّ، (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ، (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيِ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ مُسْنَدًا، (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ) أَيِ الْحَدِيثَ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ (فِي سُنَنِهِ إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ ابْنَ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرِ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ) أَيْ مِنَ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْآخَرُ مِنْ قَوْلِهِ فَقَامَ آخَرُ، وَالْفَصْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْفِقْرَةِ فِي الْكَلَامِ فَتَدَبَّرْ.

2528 - وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ قَالَ: حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2528 - (وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الْعَقِيلِيِّ) «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ» ) أَيْ أَفْعَالَهُمَا، (وَلَا الظَّعْنَ) أَيِ الرِّحْلَةَ إِلَيْهِمَا وَهُوَ بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ السَّفَرُ، وَالْمَعْنَى انْتَهَى بِهِ كِبَرُ السِّنِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى السَّيْرِ وَلَا عَلَى الرُّكُوبِ، (قَالَ: حِجَّ) بِالْحَرَكَاتِ فِي الْجِيمِ وَالْفَتْحُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، (عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ) دَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ إِنَّهَا فَرْضٌ لِقِرَانِهَا بِالْحَجِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَلِمَا رَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَدِيثَ، وَلَنَا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ قَالَ لَا وَأَنْ تَعْتَمِرُوا هُوَ أَفْضَلُ» ، وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْقِرَانَ فِي الذِّكْرِ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الْحُكْمِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقِرَانُهَا بِالْحَجِّ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْإِتْمَامِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ. وَعَنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَنْ أَبِيهِ وَحَجُّهُ وَاعْتِمَارُهُ عَنْ أَبِيهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي رَزِينٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَى أَبِيهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ لِلِاسْتِحْبَابِ، كَذَا وَذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمَيِّتِ، فَغَيْرُ مُتَوَجِّهٍ، بَلِ الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ دَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ عَنِ الْحَيِّ فَعَنِ الْمَيِّتِ بِالْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى.

2529 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي قَالَ: أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2529 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ» ) بِضَمِّ الشِّينِ وَالرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ( «قَالَ مَنْ شُبْرُمَةُ قَالَ أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي» ) شَكَّ الرَّاوِي، (قَالَ أَحَجَجْتَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، (عَنْ نَفْسِكَ) أَيْ أَوَّلًا، ( «قَالَ لَا. قَالَ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّرُورَةَ لَا يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ عَنْ غَيْرِهِ يَنْقَلِبُ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ يَحُجُّ اهـ. إِلَّا أَنَّهُ يُغَيِّرُهُ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى النَّدْبِ وَالْعَمَلُ بِالْأَوْلَى، (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا إِسْنَادٌ لَيْسَ فِي الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا لَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيُّ لِلصَّرُورَةِ، قُلْنَا هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ فِي وَقْفِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَفْعِهِ، وَقَدْ بُسِطَ بَسْطًا وَسِيعًا، ثُمَّ قَالَ وَلِأَنَّ ابْنَ الْمُفْلِسِ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ بِالْبَصْرَةِ، فَيَجْعَلُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ كَانَ بِالْكُوفَةِ يُسْنِدُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يُفِيدُ اشْتِبَاهَ الْحَالِ عَلَى سَعِيدٍ، وَقَدْ عَنْعَنَهُ قَتَادَةُ وَنُسِبَ إِلَيْهِ تَدْلِيسٌ فَلَا تُقْبَلُ عَنْعَنَتُهُ، وَلَوْ سُلِّمَ فَحَاصِلُهُ أَمْرُهُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّدْبَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ وَهُوَ إِطْلَاقُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَوْلَهُ لِلْخَثْعَمِيَّةِ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا عَنْ حَجِّهَا لِنَفْسِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَدِيثُ شُبْرُمَةَ يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ تَقْدِيمِ حَجَّةِ نَفْسِهِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْجَمْعُ وَيَثْبُتُ أَوْلَوِيَّةُ تَقَدُّمِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ مَعَ جَوَازِهِ اهـ. مُلَخَّصًا لَكِنْ بَقِيَ فِيهِ إِشْكَالٌ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِنَا مِنْ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا تَلَبَّسَ بِإِحْرَامٍ عَنْ غَيْرِهِ: لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْتِقَالِ عَنْهُ إِلَى الْإِحْرَامِ عَنْ نَفْسِهِ لِلُّزُومِ الشَّرْعِيِّ بِالشُّرُوعِ، وَعَدَمِ تَجْوِيزِ الِانْقِلَابِ بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ فِي إِطَاعَةِ الْأَمْرِ سَوَاءً قُلْنَا إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ، فَلَا مُخَلِّصَ عَنْهُ إِلَّا بِتَضْعِيفِ الْحَدِيثِ أَوْ نَسْخِهِ، لِأَنَّ حَدِيثَ الْخَثْعَمِيَّةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَوْ بِتَخْصِيصِ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

2530 - وَعَنْهُ قَالَ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2530 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، (قَالَ وَقَّتَ) أَيْ عَيَّنَ وَحَدَّ وَبَيَّنَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ) أَيْ لِإِحْرَامِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ مَنْزِلُهُ خَارِجَ الْحَرَمِ مِنْ شَرْقِيَّ مَكَّةَ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الشَّرْقِ وَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، (الْعَقِيقَ) وَهُوَ مَوْضِعٌ بِحِذَاءِ ذَاتِ الْعِرْقِ مِمَّا وَرَاءَهُ، وَقِيلَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ ذَاتِ الْعِرْقِ، وَأَصْلُهُ كُلُّ مَسِيلٍ شَقَّهُ السَّيْلُ فَوَسَّعَهُ مِنَ الْعَقِّ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِيهِ ضَعْفًا.

2531 - وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2531 - (وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَيَّنَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ مِيقَاتَيْنِ الْعَقِيقَ وَذَاتَ عِرْقٍ، فَمَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْعَقِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ جَاوَزَهُ فَأَحْرَمَ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ جَازَ: وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ أَمَّا تَوْقِيتُ ذَاتِ عِرْقٍ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَحْسَبُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، إِلَى أَنْ قَالَ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ» ، وَفِيهِ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي فِي رَفْعِهِ هَذِهِ الْمَرَّةَ، وَرَوَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى مَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَشُكَّ، وَلَفْظُهُ: «وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّرْقِ ذَاتُ عِرْقٍ» إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ الْخُوزِيَّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» وَزَادَ فِيهِ النَّسَائِيُّ بَقِيَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ لَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ عِرْقٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ شَرْقٍ حِينَئِذٍ فَوَقَّتَ النَّاسُ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا كَمَا قَالَ طَاوُسٌ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا فُتِحَ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهِيَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِذَا أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا قَالَ انْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ، الْمِصْرَانِ هُمَا الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ، وَحَذْوُهَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا قَالَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مُجْتَهَدٌ فِيهِ: لَا مَنْصُوصَةٌ اهـ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ تَوْقِيتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ عِرْقٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَوْقِيتِهِ حَسَنَةً، فَقَدْ وَافَقَ اجْتِهَادُهُ تَوْقِيتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِلَّا فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ.

2532 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2532 - (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، (قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَنْ أَهَلَّ» ) أَيْ أَحْرَمَ، (بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، (مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) قِيلَ إِنَّمَا خَصَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لِفَضْلِهِ، وَبِرَغْمِ الْمِلَّةِ الَّتِي مَحَجُّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ، ( «إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» ) أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ وَيُرْجَى الْكَبَائِرِ، (أَوْ وَجَبَتْ) أَيْ ثَبَتَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) أَيِ ابْتِدَاءً، وَأَوْ لِلشَّكِّ قِيلَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ مَتَى كَانَ أَبْعَدَ كَانَ الثَّوَابُ أَكْثَرَ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ وَمِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الَّذِي صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ بِأَنْ لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ، وَإِلَّا فَالتَّأْخِيرُ إِلَى الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ بِخِلَافِ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ عُمْرَةً وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَوَى الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّفْسِيرِ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُرِّيِّ قَالَ سُئِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَقَالَ أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ اهـ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ «أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِنَحْوِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَابْنَ عَبَّاسٍ مِنَ الشَّامِ، وَابْنَ مَسْعُودٍ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ وَهِيَ قَرِيبُ الْكُوفَةِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ الْمَتْنِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْحَسَنَ لِغَيْرِهِ يُقَالُ فِيهِ إِنَّ إِسْنَادَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ لَا يَصِحُّ تَقَدُّمُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2533 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ فَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2533 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ) أَيْ يَقْصِدُونَ الْحَجَّ قَصْدًا مُعَظَّمًا بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ، (فَلَا يَتَزَوَّدُونَ) أَيْ لَا يَأْخُذُونَ الزَّادَ مَعَهُمْ مُطْلَقًا، أَوْ يَأْخُذُونَ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْبَرِّيَّةِ، (وَيَقُولُونَ) بِطَرِيقِ الدَّعْوَى لَيْسَ تَحْتَهَا الْمَعْنَى، (نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ) وَالْحَالُ أَنَّهُمُ الْمُتَأَكِّلُونَ، أَوِ الْمُعْتَمِدُونَ عَلَى النَّاسِ، زَادَ الْبَغَوِيُّ يَقُولُونَ نَحُجُّ بَيْتَ اللَّهِ وَلَا يُطْعِمُنَا؟ ! ، (فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ) أَيْ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُمْ حَيْثُ فَرَغَتْ زُوَادَتُهُمْ، أَوْ سَأَلُوا فِي مَكَّةَ كَمَا سَأَلُوا فِي الطَّرِيقِ، زَادَ الْبَغَوِيُّ وَرُبَّمَا يُفْضِي بِهِمُ الْحَالُ إِلَى النَّهْبِ وَالْغَصْبِ، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَزَوَّدُوا) أَيْ خُذُوا زَادَكُمْ مِنَ الطَّعَامِ، وَاتَّقُوا الِاسْتِطْعَامَ وَالتَّثْقِيلَ عَلَى الْأَنَامِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ أَيْ مَا تَبْلُغُونَ بِهِ وَتَكُفُّونَ بِهِ وُجُوهَكُمْ، وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْكَعْكَ، وَالزَّبِيبَ، وَالسَّوِيقَ، وَالتَّمْرَ وَنَحْوَهَا {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] أَيْ مِنَ السُّؤَالِ وَالنَّهْبِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ كَالزَّادِ إِلَى سَفَرِ الْآخِرَةِ، فَمَفْعُولُ تَزَوَّدُوا مَحْذُوفٌ هُوَ التَّقْوَى، وَلَمَّا حَذَفَ مَفْعُولَهُ أَتَى بِخَبَرِ إِنَّ ظَاهِرًا لِيَدُلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَمِنَ التَّقْوَى الْكَفُّ عَنِ السُّؤَالِ وَالْإِبْرَامُ، كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ مَعِينُ الدِّينِ الصَّفَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. فَفِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ارْتِكَابَ الْأَسْبَابِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ مِنَ الْكَمَلِ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ التَّوَكُّلَ الْمُجَرَّدَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا فِي حَالِهِ، غَيْرَ مُضْطَرِبٍ فِي مَالِهِ، حَيْثُ لَا يَخْطُرُ الْخَلْقُ بِبَالِهِ، وَإِنَّمَا ذَمَّ مَنْ ذَمَّ لِأَنَّهُمْ مَا قَامُوا فِي طَرِيقِ التَّوَكُّلِ حَقَّ الْقِيَامِ، حَيْثُ اعْتَمَدُوا عَلَى جِرَابِ اللِّئَامِ، وَغَفَلُوا عَنْ أَنَّهُ قَسَمَ الْقِسَامَ وَالنَّاسُ نِيَامٌ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2534 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ قَالَ: نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2534 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ» ) بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ، ( «قَالَ نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ» ) بَلْ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَمَشَقَّةُ سَفَرٍ، وَتَحَمُّلُ زَادٍ، وَمُفَارَقَةُ أَهْلٍ وَبِلَادٍ كَمَا فِي الْجِهَادِ، (الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ) بَدَلٌ مِنْ جِهَادٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَيَجُوزُ نَصْبُهُمَا بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ أَحَدُهَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2535 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2535 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ» ) أَيْ فَقْدُ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ شَرْطُ الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ، (أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ) أَيْ ظَالِمٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْعَهُ بِطَرِيقِ الْجَوْرِ وَالْعُنْفِ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَنْعِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَحَبَّةِ وَاللُّطْفِ. وَأَيْضًا مِنَ الْمَوَانِعِ لِلْوُجُوبِ إِذَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ سُلْطَانٌ جَائِرٌ بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، فَالسَّلَامَةُ مِنْهُمَا مِنْ شُرُوطِ الْأَدَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، نَعَمْ إِذَا كَانَ الْأَمْنُ غَالِبًا فَيَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ، (أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ) أَيْ مَانِعٌ مِنَ السَّفَرِ لِشِدَّتِهِ، فَسَلَامَةُ الْبَدَنِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَحَسْبُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ شَرْطُ الْأَدَاءِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ الْحَجُّ، وَلَا الْإِحْجَاجُ، وَلَا الْإِيصَاءُ بِهِ عَلَى الْأَعْمَى، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَفْلُوجِ، وَالزَّمِنِ وَالْمَقْطُوعِ الرِّجْلَيْنِ، وَالْمَرِيضِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، ( «فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» ) أَيْ شَبِيهًا بِهِمَا، حَيْثُ يَتْرُكَانِ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَتِلَاوَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِمَوَاضِعِ الْخِطَابِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ الْعِقَابِ، (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَفِي نُسْخَةِ التِّرْمِذِيِّ بَدَلُهُ.

2536 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْحَاجُّ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوا غَفَرَ لَهُمْ» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2536 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ الْحَاجُّ) أَيِ الْفَرِيقُ الْحَاجُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، (وَالْعُمَّارُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ جَمْعُ الْعَامِرِ بِمَعْنَى الْمُعْتَمِرِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ نَسْمَعْ عَمَرَ بِمَعْنَى اعْتَمَرَ، وَلَكِنْ عَمَرَ اللَّهَ بِمَعْنَى عَبَدَهُ، وَلَعَلَّ غَيْرَنَا سَمِعَهُ وَاسْتَعْمَلَ بَعْضَ تَصَارِيفِهِ دُونَ بَعْضٍ، (وَفْدُ اللَّهِ) الْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ وَالْمُرَادُ وَفْدُ حَرَمِهِ، أَيْ كَجَمَاعَةٍ قَادِمُونَ عَلَيْهِ، وَنَازِلُونَ لَدَيْهِ، وَمُقَرَّبُونَ إِلَيْهِ، ( «إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوا غَفَرَ لَهُمْ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَجْهُ إِفْرَادِ الْحَاجِّ وَجَمْعِ مَا بَعْدَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى تَمَيُّزِ الْحَجِّ بِأَنَّ الْمُتَلَبِّسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ: يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ الْوَفْدِ الْكَثِيرِينَ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّهَا لِتَرَاخِي مَرْتَبَتِهَا عَنِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ الْمُتَلَبِّسُ بِهَا وَحْدَهُ قَائِمًا مَقَامَ أُولَئِكَ اهـ. وَهُوَ وَجْهٌ وَجِيهٌ كَمَا لَا يَخْفَى وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ، وَإِلَّا عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّفَاوُتِ فِي الْفَرِيضَةِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ وَالظَّنِّيَّةِ، وَلِاسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَهُمَا مُسْتَوَيَانِ فِي اقْتِضَاءِ الْآمِرِيَّةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ إِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ إِنَّ هَذَا مِنْ إِطْلَاقِ الْمُفْرِدِ عَلَى الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى لِلْجِنْسِ مَجَازٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ تَبِعَهُ فِي قَوْلِهِ الْحَاجُّ مُفْرَدُ الْحُجَّاجِ وَأُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ بِدَلِيلِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ مَا تَنَبَّهَ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ، وَدَوْرٌ عَلَى الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَهُوَ كَالْمُنَادَى فِيمَا لَدَيْهِ.

2537 - وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «وَفْدُ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ الْغَازِي وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ» (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2537 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «وَفْدُ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ» ) أَيْ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ أَوْ أَجْنَاسٍ، (الْغَازِي) أَيِ الْمُجَاهِدُ مَعَ الْكُفَّارِ لِإِعْلَاءِ الدِّينِ، (وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ) الْمُتَمَيِّزُونَ عَنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْمَالِيَّةِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِينَ، وَفِي النِّهَايَةِ الْوَفْدُ الْقَوْمُ يَجْتَمِعُونَ وَيَرِدُونَ الْبِلَادَ، أَوْ يَقْصِدُونَ الرُّؤَسَاءَ لِلزِّيَارَةِ، أَوِ اسْتِرْفَادًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ مُعَظَّمُونَ عِنْدَ الْكُرَمَاءِ، وَمُكَرَّمُونَ عِنْدَ الْعُظَمَاءِ، تُعْطَى مَطَالِبُهُمْ وَتُقْضَى مَآرِبُهُمْ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَفِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2538 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا لَقِيتَ الْحَاجَّ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَصَافِحْهُ، وَمُرْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَإِنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2538 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَقِيتَ الْحَاجَّ) أَيِ الْفَارِغَ مِنَ الْحَجِّ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُعْتَمِرَ وَالزَّائِرَ وَالْغَازِيَ وَطَالِبَ الْعِلْمِ، (فَسَلِّمْ عَلَيْهِ) أَيْ مُبَادَرَةً إِلَيْهِ، (وَصَافِحْهُ) أَيْ تَوَاضُعًا إِلَيْهِ، (وَمُرْهُ) أَمْرٌ مِنْ أَمَرَ وَحَذَفَ هَمْزَتَهُ تَخْفِيفًا، أَيِ الْتَمِسْ مِنْهُ، (أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ) وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي حَقِّهِ، حَيْثُ تُرْجَى مَغْفِرَةُ غَيْرِهِ بِاسْتِغْفَارِهِ، (قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ) وَيَشْتَغِلَ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِهِ وَيَتَلَوَّثَ بِمُوجِبَاتِ غَفْلَتِهِ، (فَإِنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ) وَمَنْ دَعَا لَهُ مَغْفُورٌ لَهُ غُفِرَ لَهُ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَأَمَّا حَدِيثُ مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ مَوْضُوعٌ.

2539 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ غَازِيًا ثُمَّ مَاتَ فِي طَرِيقِهِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ الْغَازِي وَالْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ» (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2539 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ غَازِيًا» ) أَيْ قَاصِدًا لِلْغَزْوِ، (ثُمَّ مَاتَ فِي طَرِيقِهِ) أَيْ قَبْلَ الْعَمَلِ ( «كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ الْغَازِي وَالْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ» ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] قِيلَ فَمَنْ قَالَ إِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَأَخَّرَهُ ثُمَّ قَصَدَ بَعْدَ زَمَانٍ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ كَانَ عَاصِيًا، فَقَدْ خَالَفَ هَذَا النَّصَّ، وَذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِيهِ بَحْثٌ، إِذْ لَيْسَ نَصٌّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَطْلُوبِهِ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا إِذَا خَرَجَ حَاجًّا فِي أَوَّلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَخَرَجَ أَهْلُ بَلَدِهِ لِلْحَجِّ، أَوْ عَلَى مَا إِذَا تَأَخَّرَ لِحُدُوثِ عَارِضٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ عَدَمِ أَمْنٍ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ خَرَجَ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يَمُوتُ مُطِيعًا، وَأَمَّا إِذَا تَأَخَّرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، عَلَى اخْتِلَافٍ فِي أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ وَمَعَ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ لَهُ أُجِرُ الْحَاجِّ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا مِنْ وَجْهٍ، وَمُطِيعًا مِنْ وَجْهٍ، وَاللَّهُ وَلِي التَّوْفِيقِ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا مِنْ سُوءِ أَدَبِهِ عَلَى إِمَامِهِ الشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ مَذْهَبِهِ، وَعَلَى مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَفُضَلَاءِ الْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب الإحرام والتلبية]

[بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ]

(بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2540 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ) حَقِيقَةُ الْإِحْرَامِ الدُّخُولُ فِي الْحُرْمَةِ، وَالْمُرَادُ الدُّخُولُ فِي حُرُمَاتٍ مَخْصُوصَةٍ أَيِ الْتِزَامُهَا وَالْتِزَامُهَا شَرْطُ الْحَجِّ شَرْعًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَعَطْفُ التَّلْبِيَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ مَبْنِيُّ عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِحْرَامَ هُوَ النِّيَّةُ فَقَطْ أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّلْبِيَةِ غَيْرِ الْمَقْرُونَةِ بِالنِّيَّةِ مِنْ بَيَانِ أَلْفَاظِهَا وَأَحْوَالِهَا وَفَضَائِلِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِجْمَاعًا، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ قَوْلًا بِأَنَّهُ شَرْطٌ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَقَعْ فِي خُصُوصِ الرُّكْنِيَّةِ بَلْ عَلَى مُطْلَقِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ، إِذْ هُوَ الَّذِي مِنَ الْأَرْكَانِ لِخَبَرِ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ اهـ. وَفِيهِ أَبْحَاثٌ لَا تَخْفَى مِنْهَا دَعْوَاهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْأَرْكَانِ إِجْمَاعًا، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ إِجْمَاعَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، بَلْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ دَأْبِهِمْ تَبْيِينُ الرُّكْنِ مِنَ الشَّرْطِ وَنَحْوِهِمَا هُنَاكَ، وَإِنْ كَانَ إِجْمَاعُ الْخَلَفِ فَنَاهِيكَ بِقَوْلِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْهُمَامِ الْأَقْدَمِ بِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ، ثُمَّ جَوَابُهُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَقَعْ عَلَى خُصُوصِ الرُّكْنِيَّةِ بَلْ عَلَى مُطْلَقِ الْوُجُوبِ: فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْغَرَابَةِ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرُّكْنِ وَمُطْلَقِ الْوَاجِبِ فِي الْأَحْكَامِ فَإِنَّ كُلَّ رُكْنٍ وَاجِبٌ وَلَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ رُكْنًا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ وَمُحَرَّرٌ فِي الْمَحْصُولِ، ثُمَّ تَفْسِيرُهُ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مَرْدُودٌ عَلَيْهِ: بِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2540 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ) أَيْ: أُعَطِّرُ، (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ) أَيْ لِأَجْلِ دُخُولِهِ فِي الْإِحْرَامِ، أَوْ لِأَجْلِ إِحْرَامِ حَجِّهِ، (قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْهُ أَخَذَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يُسَنُّ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الشَّابَّةِ وَغَيْرِهَا إِلَّا الْمُحِدَّةِ: أَنْ يَتَطَيَّبَ بَعْدَ الْغُسْلِ إِلَّا فِي بَدَنِهِمَا، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ التَّطَيُّبُ عِنْدَ خُرُوجِهِنَّ لِنَحْوِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِضِيقِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُهُنَّ اجْتِنَابُ الرِّجَالِ بِخِلَافِ ذَلِكَ هُنَا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمُدَّعَى، (وَلِحِلِّهِ) أَيْ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْإِحْرَامِ، (قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) أَيْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحِلِّهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطِّيبَ يَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِمَنْ أَلْحَقَهُ بِالْجِمَاعِ (بِطِيبٍ) مُتَعَلِّقٌ بِأُطَيِّبُ، (فِيهِ مِسْكٌ) يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ ذَرِيرَةٌ وَلَا تَنَافِي، إِذْ لَا مَانِعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْلِطُونَ الذَّرِيرَةَ بِالْمِسْكِ وَفِي الْقَامُوسِ الذُّرُورُ عِطْرٌ كَالذَّرِيرَةِ، (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ) أَيْ لَمَعَانِهِ وَبَرِيقِهِ، (فِي مَفَارِقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ مَفْرِقٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَهُوَ وَسَطُ الرَّأْسِ الَّذِي يُفْرَقُ فِيهِ شَعْرُ الرَّأْسِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ تَعْمِيمًا لِسَائِرِ جَوَانِبِ الرَّأْسِ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كَأَنَّهُمْ سَمَّوْا كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَفْرِقًا وَفِي بَعْضِ طُرُقِ مُسْلِمٍ مَفْرِقٌ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (وَهُوَ مُحْرِمٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَلَّ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ أَثَرِ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَا يَضُرُّ، وَلَا يُوجِبُ فِدْيَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَثَرِ اهـ. وَقَدْ سَبَقَ أَبُو حَنِيفَةَ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، هَذَا وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمُرَادُ بِوَبِيصِ الطِّيبِ فِيهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَنَّ فُتَاتَ الطِّيبِ كَانَ يَبْقَى عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِحَيْثُ يَلْمَعُ فِيهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ الْبَرِيقَ قَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْأَثَرِ وَإِنْ لَمْ تَبْقَ عَيْنُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَيُؤَيِّدُهُ طَيَّبْتُهُ طِيبًا لَا يُشْبِهُ طِيبَكُمْ، فَوَجْهُهُ لَا يَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا «طَيَّبْتُهُ عِنْدَ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا يَنْضَحُ طِيبًا» ، وَفِي أُخْرَى لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ تَأْوِيلُ رِوَايَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِأَنَّ التَّطَيُّبَ لَمْ يَكُنْ لِلْإِحْرَامِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَمِمَّا يَدْفَعُهُ أَيْضًا قَوْلُهَا كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَخْ. فَظَاهِرُ الدَّفْعِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَذَا قَوْلُهُ وَزَعَمَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ أَثَرٌ لَا جِرْمٌ لِذَهَابِهِ بِالْغُسْلِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ اهـ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ، فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ وَاحِدَةٌ مِنَّا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اسْتَدَامَتَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَيْسَ كَاسْتِدَامَةِ لُبْسِ الْمَخِيطِ، خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَ النَّصَّ الْوَارِدَ وَقَاسَ هَذَا الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَطَيُّبِ النِّسَاءِ لَا مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا وَمَنْ لَمْ يَرَ التَّطَيُّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِطِيبٍ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ فَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالطِّيبِ الدُّهْنُ الْمُطَيِّبُ، أَوِ الطِّيبُ الَّذِي لَا يَبْقَى جِرْمُهُ وَتَبْقَى رَائِحَتُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَطَيُّبِ ثِيَابِهِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ نَدْبِهِ بَلْ كَرَاهَتُهُ فَيَتَأَكَّدُ تَرْكُهُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ الَّذِي هُوَ مُسْتَحَبٌّ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ حَرَّمَهُ بَعْضُهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَدَلِيلُ مَالِكٍ وَمُحَمَّدٍ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ» ، وَمِنْ هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ حِلَّ الطِّيبِ كَانَ خَاصًّا بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَنَعَ غَيْرَهُ، وَدُفِعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ لِحُرْمَةِ الطِّيبِ وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ لِخُصُوصِ ذَلِكَ الطِّيبِ بِأَنْ كَانَ خَلُوقًا، فَلَا يُفِيدُ مَنْعُهُ الْخُصُوصِيَّةَ، فَنَظَرْنَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مُصَفِّرٌ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ وَقَدْ نُهُوْا عَنِ التَّزَعْفُرِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُقَدَّمٌ» عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُدَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ» ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْقَطَّانِ صَحَّحَهُ لِأَنَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَقْوَى خُصُوصًا وَهُوَ مَانِعٌ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُبِيحِ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ اغْسِلْ عَنْكَ هَذَا الزَّعْفَرَانَ، وَلِلِاخْتِلَافِ اسْتَحَبُّوا أَنْ يُذِيبَ جِرْمَ الْمِسْكِ إِذْ تَطَيَّبَ بِهِ بِمَاءِ وَرْدٍ وَنَحْوِهِ.

2541 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهِلُّ مُلَبِّدًا، يَقُولُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2541 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهِلُّ» ) أَيْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، (مُلَبِّدًا) بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا، أَيْ شَعْرَهَ بِالصَّمْغِ أَوِ الْحِنَّاءِ أَوِ الْخِطْمِيِّ وَلَعَلَّهُ كَانَ بِهِ عُذْرٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: التَّلْبِيدُ هُوَ إِلْصَاقُ شَعْرِ الرَّأْسِ بِالصَّمْغِ أَوِ الْخِطْمِيِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَيْ لَا يَتَخَلَّلَهُ الْغُبَارُ، وَلَا يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ، وَيَقِيَهَا مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَنَا يَلْزَمُهُ دَمٌ إِنْ لَبَّدَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ لِأَنَّهُ كَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَدَمَانِ إِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا ذَكَرَهُ رَشِيدُ الدِّينِ الْبَصْرِيُّ: وَحَسَنٌ أَنْ يُلَبِّدَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِصْحَابُ التَّغْطِيَةِ الْكَائِنَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الطِّيبِ اهـ. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ مَعَ الْحَدِيثِ عَلَى التَّلْبِيدِ اللُّغَوِيِّ مِنْ جَمْعِ الشَّعْرِ وَلَفِّهِ وَعَدَمِ تَخْلِيَتِهِ مُتَفَرِّقًا، فَفِي الْقَامُوسِ تَلَبَّدَ الصُّوفُ وَنَحْوَهُ تَدَاخَلَ وَلَزِقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، (يَقُولُ) بَدَلٌ مِنْ يُهِلُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّاطِبِيِّ فِي مَسَائِلِ النَّحْوِ، (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) أَيْ أَلْبَبْتُ يَا رَبِّ بِخِدْمَتِكَ إِلْبَابًا بَعْدَ إِلْبَابٍ، مَنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ، أَيْ أَقَمْتُ عَلَى طَاعَتِكَ إِقَامَةً، وَقِيلَ أَيْ أَجَبْتُ إِجَابَتَكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، وَالْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أَيْ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، وَحَذَفَ الزَّوَائِدَ لِلتَّخْفِيفِ وَحَذَفَ النُّونَ لِلْإِضَافَةِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّلْبِيَةَ جَوَابُ الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الدَّاعِي مَنْ هُوَ، فَقِيلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ هُوَ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. أَقُولُ وَالصَّوَابُ أَنَّ خِطَابَ الْجَوَابِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ الدَّاعِي إِمَّا حَقِيقَةً، وَإِمَّا حُكْمًا، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الْقَوْلِ بِالتَّفَاوُتِ، ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُنَادِيَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قِيلَ وَقَفَ عَلَى مَقَامِهِ أَوْ بِالْحَجُونِ أَوْ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، (لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ) فَالتَّلْبِيَةُ الْأُولَى الْمُؤَكَّدَةُ بِالثَّانِيَةِ لِإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهَذِهِ بِطَرَفَيْهَا لِنَفْيِ الشَّرِكَةِ النِّدِّيَّةِ وَالْمِثْلِيَّةِ فِي وُجُوبِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ (إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ) وَإِنَّ بِالْكَسْرِ هُوَ الْمُخْتَارُ رِوَايَةً وَدِرَايَةً وَقَدْ رُوِيَ بِالْفَتْحِ وَالْمَعْنَى أُلَبِّي لِأَنَّكَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَتْحُ رِوَايَةُ الْعَامَّةِ وَهُمَا مَشْهُورَانِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ الْكَسْرُ أَجْوَدُ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَتْحِ لَبَّيْكَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَمَعْنَى الْكَسْرِ مُطْلَقٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ النِّعْمَةَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْأَفْصَحِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيِ الْإِنْعَامُ، أَوْ أَثَرُهُ الْوَاصِلُ إِلَى الْأَنَامِ، فَغَفْلَةٌ عَنْ قَوَاعِدِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْأَعْلَامِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْخَبَرِ فَتَدَبَّرْ، (وَالْمُلْكَ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الْحَمْدِ، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْمُلْكَ وَيُبْتَدَأُ، (لَا شَرِيكَ لَكَ) أَيْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ، وَإِيصَالِ النِّعْمَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وَفِي تَقْدِيمِ الْحَمْدِ عَلَى النِّعْمَةِ إِيمَاءٌ إِلَى عُمُومِ مَعْنَى الْحَمْدِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بِذَاتِهِ يَسْتَحِقُ الْحَمْدَ سَوَاءً أَنْعَمَ أَوْ لَمْ يُنْعِمْ، هَذَا وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُلْكُ مَرْفُوعًا وَخَبَرُهُ لَا شَرِيكَ لَكَ، أَيْ فِيهِ وَأَمَّا تَعْلِيلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَقْفَةَ اللَّطِيفَةَ بِأَنَّ إِيصَالَهَا بِلَا الَّتِي بَعْدَهَا رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا نَفْيٌ لِمَا قَبْلَهَا وَذَلِكَ كُفْرٌ، فَوَهْمٌ نَشَأَ مِنَ الذُّهُولِ عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَاخْتُلِفَ فِي التَّلْبِيَةِ فَعِنْدَنَا أَنَّهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَجِبُ لَكِنْ فِي تَرْكِهَا دَمٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُنَّةٌ لَا دَمَ بِتَرْكِهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَاجِبَةٌ يُجْبَرُ بِتَرْكِهَا بِدَمٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّلْبِيَةَ أَثْنَاءَ النُّسُكِ وَاجِبَةٌ. (لَا يَزِيدُ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، ثُمَّ النَّقْصُ عَنْهَا مَكْرُوهٌ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَالْمُخْتَارُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تُغَيِّرُهُ، بَلْ تَحْسُنُ أَوْ تُسْتَحَبُّ لِمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بِأَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، وَالْعَمَلُ لَكَ لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا، لَبَّيْكَ تَعَبُّدًا وَرِقًّا، لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفَعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَأَخَذَ دَاوُدُ مِنْ خَبَرِ مُسْلِمٍ «إِذَا تَوَجَّهْتُمْ إِلَى مِنًى فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ» ، وَالْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، يُدْفَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ فَأَهِلُّوا أَيْ أَحْرِمُوا بِالْحَجِّ، وَالْإِحْرَامُ يَكُونُ بِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَبِالنِّيَّةِ فَقَطْ كَمَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.

2542 - وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمَةً، أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2542 - (وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ» ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ، أَيِ الرِّكَابِ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خَشَبٍ، (وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ) أَيْ رَفَعَتْهُ مُسْتَوِيًا عَلَى ظَهْرِهَا، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَقِيلَ بِهِ حَالٌ وَكَذَا قَوْلُهُ، (قَائِمَةً أَهَلَّ) أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ وَنَوَى أَحَدَ النُّسُكَيْنِ أَوْ بِهِمَا، (مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ بَدَأَ بِإِهْلَالٍ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْهُ خِلَافٌ لِلْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ وَيُصَلِّيَ عَقِبَ رَكْعَتَيِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ جَالِسٌ اهـ. وَقَوْلُهُ خِلَافٌ لِلْمَذْهَبِ خِلَافَ مُرَاعَاةِ الْأَدَبِ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالِ إِهْلَالِهِ، وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهَا بِقَوْلِهِ أَهَلَّ فِي مُصَلَّاهُ ثُمَّ رَكِبَ نَاقَتَهُ، فَأَهَلَّ أَيْضًا ثُمَّ أَهَلَّ لَمَّا اسْتَقْبَلَتْ بِهِ الْبَيْدَاءُ اهـ. وَلِذَا قَالُوا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَجَاءَ فِي خَبَرٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَهَلَّ مِنْ دُبُرِ الصَّلَاةِ» ، وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ حَسَّنَهُ، وَمَالَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي ذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِأَنَّهُ «أَحْرَمَ عَقِبَ صِلَاتِهِ فَسَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَامٌ فَحَفِظُوهُ، ثُمَّ رَكِبَ وَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ فَسَمِعَهُ أَقْوَامٌ فَحَفِظُوهُ، وَقَالُوا إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَئِذٍ ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا عَلَا الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ فَسَمَّعَهُ أَقْوَامٌ فَقَالُوا إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَئِذٍ» ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ إِرْسَالًا، وَأَجَابَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ هَذَا بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ لِمَذْهَبِهِ بِخَبَرِ مُسْلِمٍ إِذَا رُحْتُمْ إِلَى مِنًى مُتَوَجِّهِينَ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَفِي أَنَّ التَّقْدِيرَ إِذَا أَرَدْتُمُ الرَّوَاحَ إِلَيْهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى عَرَفَاتٍ.

2543 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2543 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصْرُخُ» ) بِالضَّمِّ حَالٌ أَيْ نَرْفَعُ أَصْوَاتَنَا بِالتَّلْبِيَةِ (بِالْحَجِّ صُرَاخًا) بِضَمِّ الصَّادِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ، أَوْ لِأَنَّهُ الْمَبْدُوءُ بِهِ ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا حَالُ الرَّاوِي وَمَنْ وَافَقَهُ وَأَمَّا حَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ يُعْرَفُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، فَلَا يُنَافِي مَا سَيَأْتِي (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَذْكُرُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فِي أَوَّلِ تَلْبِيَتِهِ فَقَطْ.

2544 - وَعَنْ أَنَسٍ: قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2544 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ) أَيْ رَاكِبًا خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ وَزَوْجُ أُمِّهِ (وَإِنَّهُمْ) أَيِ الصَّحَابَةَ وَالنَّبِيَّ مَعَهُمْ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِمَا، وَالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُمَا، وَالنَّصْبُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ أَوِ الرَّاوِي عَنْهُ قَالَ ابْنُ الْمَلِكَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ، وَبِهِ قُلْنَا لِأَنَّهُ يَبْعُدُ مُخَالَفَةُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ مَعَهُ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2545 - وَعَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2545 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ» ) أَيْ لَبَّى بِهَا بِأَنْ قَالَ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مِمَّنْ حَجَّ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى صَرَفَ سَفَرَهُ هَذَا إِلَى الْعُمْرَةِ، أَوْ عَمِلَ بِالْجَوَازِ أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهَا ( «وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ» ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ سَمِعَهُ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَخَفِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَعُمْرَةٍ، فَحَكَى أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا، وَسَمِعَهُ آخَرُ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ: فَقَالَ: كَانَ قَارِنًا وَلَا تُنْكَرُ الزِّيَادَاتُ فِي الْأَخْبَارِ كَمَا لَا تُنْكَرُ فِي الشَّهَادَاتِ، وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ تَئُولُ إِلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَقُولُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَارِنَا وَيَقُولُ تَارَةً لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَتَارَةً لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَتَارَةً لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَكُلٌ حَكَى مَا سَمِعَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَوْلِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَعُمْرَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لِلشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الْحَجِّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: وَفِيهِ نَظَرٌ وَكَيْفَ يَتَأَتَّى الْقَطْعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْإِشَارَاتِ وَنَحْنُ عَلَى عُلَالَةٍ فِي الصَّرَائِحِ مِنَ الْعِبَارَاتِ (فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ) أَيْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ (فَحَلَّ) أَيْ خَرَجَ مِنَ الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ طَافَ وَسَعَى حَلَّ لَهُ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ (وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أَيْ فِي نِيَّتِهِ أَوْ بِإِدْخَالِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى (فَلَمْ يَحِلُّوا) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ لَمْ يَخْرُجُوا مِنَ الْإِحْرَامِ (حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ) فَفِي يَوْمِ النَّحْرِ بِرَمْيِهِمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقِ حَلَّ لَهُمْ كُلُّ الْمَحْظُورَاتِ إِلَّا مُبَاشَرَةَ النِّسَاءِ، فَحَلَّ لَهُمْ ذَلِكَ بِطَوَافِ الرُّكْنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2546 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، بَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2546 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ» ) حَالٌ مِنَ الْعُمْرَةِ أَيْ تَمَتَّعَ بِهَا مُنْضَمَّةً إِلَى الْحَجِّ (بَدَأَ) أَيِ ابْتَدَأَ النُّسُكَ (فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: تَمَتَّعَ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَتَى بِأَفْعَالِهَا، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَرُويَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ، وَرُويَ أَنَّهُ قَرَنَ، قُلْنَا فِي التَّوْفِيقِ: إِنَّهُ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ، فَمَضَى فِيهَا مُتَمَتِّعًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ قَبْلَ طَوَافِهِ وَأَفْرَدَ لَهَا الْإِحْرَامَ فَصَارَ بِهِ قَارِنَا، كَذَا رُويَ عَنِ الطَّحَاوِيُّ، انْتَهَى وَكَلَامُهُ الْأَخِيرُ يُنَاقِضُ حَمْلَهُ الْأَوَّلَ فَتَأَمَّلْ.

(وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيِ اسْتَمْتَعَ بِالْعُمْرَةِ مُنْضَمَّةً إِلَى الْحَجِّ وَانْتَفَعَ بِهَا، وَقِيلَ إِذَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ يَنْتَفِعُ بِاسْتِبَاحَةِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ. وَكَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَنْهَيَانِ عَنِ التَّمَتُّعِ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ يِعْنِي أَوَّلَ الْقِرَانِ، وَقَالَ عَلَيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ» ، قِيلَ دَلَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُفْرِدًا، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ قَارِنَا حَيْثُ قَالَ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا، وَأَرَادَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ. وَفِّي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» ، وَدَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ الْفِعْلَ يُنْسَبُ إِلَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِمْ بَنَى فُلَانٌ دَارًا إِذَا أَمَرَ بِهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ بِنَفْسِهِ إِلَّا نَوْعًا وَاحِدًا، وَكَانَ فِي أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَارِنٌ، وَمُفْرِدٌ، وَمُتَمَتِّعٌ، كُلُّ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَازَ نِسْبَةُ الْكُلِّ إِلَيْهِ وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِيهِ بَحْثٌ، إِذْ لَمْ يُحْفَظْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ أَحَدًا بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَصْنَافِ الْحَجِّ، نَعَمْ أَقَرَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا عَلَى صَنِيعِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا أَوَّلًا: ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَارَ قَارِنًا، وَمَنْ رَوَى التَّمَتُّعَ أَرَادَ التَّمَتُّعَ اللُّغَوِيَّ، فَإِنَّ الْقَارِنَ يَرْتَفِقُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ اهـ. أَوْ سَفْرٍ وَاحِدٍ قَالَ الشُّمُنِّيُّ وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ حَزْمٍ كِتَابًا فِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ قَارِنًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَتَأَوَّلَ بَاقِي الْأَحَادِيثِ وَالْقِرَانُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا وَقَالَ، أَحْمَدُ التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ إِنَّمَا يَكُونُ أَفْضَلَ إِذَا أَتَى بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ بَعْدَهُ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ أَفْرَدَ ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنَ التَّنْعِيمِ غَلَطٌ فَاحِشٌ مِنْهُ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ أَحْرَمَ مُتَمَتِّعًا تَمَتُّعًا حَلَّ مِنْهُ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، لَكِنْ غَلَّطُوا رِوَايَةَ مُعَاوِيَةَ فِيهِ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ، فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَدْخُلُهُ الْوَهْمُ، وَلَا الْغَلَطُ بِخِلَافِ خَبَرِ غَيْرِهِ عَنْهُ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2547 - عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2547 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَجَرَّدَ) أَيْ عَنِ الْمَخِيطِ وَلَبِسَ إِزَارًا وَرِدَاءً، (لِإِهْلَالِهِ) أَيْ لِإِحْرَامِهِ كَمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، (وَاغْتَسَلَ) أَيْ لِلْإِحْرَامِ وَهُوَ مِنْ سُنَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ تَفَاؤُلًا عَنْ غَسْلِ الْآثَامِ، وَقَالَ بِوُجُوبِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ إِنْ كَانَ يُحْرِمُ مِنْ دَارِهِ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ ارْتِفَاقٌ لَهُ أَوْ لَهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَسْنَدَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَطُوفُ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا» .

2548 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَّدَ رَأْسَهُ بِالْغِسْلِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2548 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَّدَ رَأْسَهُ بِالْغِسْلِ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ: مَا يُغْسَلُ بِهِ مِنَ الْخِطْمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأْوِيلُهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِذِكْرِهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا، لِابْتِنَائِهِ عَلَى فَهْمِهِ وَفِقْهِهِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَيُوَافِقُهُ خَبَرُ الدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَيْضًا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «- كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بِأُشْنَانٍ وَخِطْمِيٍّ» .

2549 - وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ أَوِ التَّبِعَةِ، (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2549 - (وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ) صَحَابِيَّانِ، (عَنْ أَبِيهِ) أَيِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ الْخَزْرَجَيِّ، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنَّ آمُرَ أَصْحَابِي) أَيْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، (أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ أَوِ التَّلْبِيَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَكَذَا فِي النُّسَخِ كُلِّهَا، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، أَقُولُ بَلْ هُوَ تَحْرِيفٌ وَمَنْشَؤُهُ وَهْمٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِهْلَالَ كَثِيرًا مَا يَأْتِي بِمَعْنَى الْإِحْرَامِ، فَوَهِمَ النَّاسِخُ وَنَقَلَ بِالْمَعْنَى، وَغَفَلَ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَعْنَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَجُرِّدَ هُنَا عَنِ الرَّفْعِ أَوْ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ سُنَّةٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يُبَالِغُ فِيهِ فَيُجْهِدَ نَفْسَهُ كَيْلَا يَتَضَرَّرَ، ثُمَّ قَالَ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِنَا لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ بِشِدَّةِ رَفْعِ الصَّوْتِ: وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِشِدَّةٍ، إِذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْإِجْهَادِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ عَالِيَهُ طَبْعًا: فَيَحْصُلُ الرَّفْعُ الْعَالِي مَعَ عَدَمِ تَعَبِهِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ: وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى يَعْقِرُوا حُلُوقَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ حَتَّى لَا يَكَادُ يُسْمَعُ، وَالسُّنَّةُ فِي ذَلِكَ التَّوَسُّطُ اهـ. وَالْمُرَادُ لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بَلْ تُسْمِعُ نَفْسَهَا لَا غَيْرَ، كَذَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ، (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ وَيُسَنُّ لِلْمُلَبِّي أَنْ يَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ.

2550 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2550 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ» ) مِنْ بَيَانُ مَنْ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا نَسَبَ التَّلْبِيَةَ إِلَيْهِ عَبَّرَ عَنْهَا بِمَا يُعَبِّرُ عَنْ أُولِي الْعَقْلِ اهـ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَا عَنْ يَمِينِهِ فَلَا إِشْكَالَ، (حَتَّى تَنْقَضِيَ الْأَرْضُ) أَيْ تَنْتَهِي، (مِنْ هَاهُنَا) أَيْ شَرْقًا، (وَهَاهُنَا) أَيْ غَرْبًا، إِلَى مُنْتَهَى الْأَرْضِ مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، مِمَّا يَبْلُغُ صَوْتُهُ، وَتَخْصِيصُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، فَلَا يُنَافِي الْقُدَّامَ وَالْوَرَاءَ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ يُوَافِقُهُ فِي التَّلْبِيَةِ جَمِيعُ مَا فِي الْأَرْضِ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى إِدْرَاكِ الْجَمَادَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ الْأُمُورَ الْوَاقِعَةَ فِي الْكَائِنَاتِ، وَعِلْمِهَا بِرَبِّهَا مِنْ تَوْحِيدِ الذَّاتِ وَكَمَالِ الصِّفَاتِ، وَأَنَّ تَلْبِيَتَهَا وَتَسْبِيحَهَا بِلِسَانِ الْقَالِ كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَالِ، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّسْبِيحَ يَأْبَى عَنْهُ التَّلْبِيَةُ بِالتَّصْرِيحِ، فَيَكُونُ بِلِسَانِ الْقَالِ هُوَ الصَّحِيحُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2551 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَيَقُولُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2551 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْكَعُ) أَيْ يُصَلِّي، (بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ) أَيْ سُنَّةَ الْإِحْرَامِ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، يَقْرَأُ فِيهِمَا الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصَ، وَيَنْوِي وَيُلَبِّي عَقِيبَهُمَا، (ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ) أَيْ رَفَعَ صَوْتَهَ، (بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) يَعْنِي التَّلْبِيَةَ الْمَشْهُورَةَ، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ يَأْتِ التَّلْبِيَةَ السَّابِقَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ فِيهَا لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، (وَيَقُولُ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زِيَادَةً عَلَيْهَا، وَذَهَبَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إِرْجَاعِ ضَمِيرِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ أَبِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخَانِ بِالْأَمْرَيْنِ، فَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْ نَافِعٍ وَلَفْظُهُمَا عَنْهُ أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ» ، وَفِي

رِوَايَةٍ لَهُمَا بَعْدَ ذِكْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَتَى بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ كَانَ عُمَرُ يُهِلُّ بِإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَيَقُولُ لَبَّيْكَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا يُعْلِمُ أَنَّهُ سَقَطَ مِنْ أَصْلِ الْمُصَنِّفِ نَحْوَ سَطْرٍ، إِنْ كَانَتْ نُسْخَتُهُ مُوَافِقَةً لِهَذِهِ النُّسْخَةِ الَّتِي شَرَحْتُ عَلَيْهَا. قُلْتُ النُّسَخُ كُلُّهَا تُوَافِقُهَا، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَصَرَ الْحَدِيثَ اخْتِصَارًا مُخِلًّا، حَيْثُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَرْفُوعَةٌ، (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ) كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ، (وَسَعْدَيْكَ) أَيْ سَاعَدْتَ عَلَى طَاعَتِكَ مُسَاعَدَةً: وَإِسْعَادًا بَعْدَ إِسْعَادٍ، وَهُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَصْدَرِ كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، فَسَعْدَيْكَ مُثَنًّى مُضَافٌ قُصِدَ بِهِ التَّكْرِيرُ لِلتَّكْفِيرِ كَمَا فِي لَبَّيْكَ، أَيْ أُسْعِدُ إِجَابَتَكَ سَعَادَةً بَعْدَ سَعَادَةٍ بِإِطَاعَتِكَ عِبَادَةً بَعْدَ عِبَادَةٍ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَلَمْ يُسْمَعْ مُفْرَدًا عَنْ لَبَّيْكَ، وَالْإِسْعَادُ الْمُسَاعَدَةُ فِي النِّيَاحَةِ خَاصَّةَ، (وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ) أَيْ مُنْحَصِرٌ فِي قَبْضَتِكَ، مِنْ صِفَتَيِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، أَوْ مِنْ نَعْتِي الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَحْمُودٌ فِي كُلِّ الْفِعَالِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ كُلُّهُ بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ، أَوْ مِنْ بَابِ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْإِضَافَةِ وَالنَّسَبِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وَمِنْ هُنَا وَرَدَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَيْ لَا يُنْسَبُ إِلَيْكَ أَدَبًا، وَقَدْ أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ: إِنَّ التَّثْنِيَةَ هُنَا وَفِي " يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ " لَمْ يُقْصَدْ بِهَا حَقِيقَتُهَا، بَلِ التَّكْثِيرُ إِلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ كَمَا فِي لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقْدُورَاتِهِ الْمَكْنِيَّ عَنْهُمَا بِذَلِكَ لَا تُحْصَى، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا تَخْفَى، لِأَنَّ مَآلَ كَلَامِهِ إِلَى اعْتِبَارِ التَّثْنِيَةِ، إِلَّا أَنَّهُمَا مِنْ حَيْثِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ، مَعَ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ ذَهَبُوا إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، (لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ) يُرْوَى بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالرُّغْبَى بِضَمِّ الرَّاءِ مَعَ الْقَصْرِ، وَنَظِيرُهُ الْعُلْيَا وَالْعُلَى، وَالنَّعْمَاءُ وَالنُّعْمَى، وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَتْحُ مَعَ الْقَصْرِ: أَيِ الطَّلَبُ وَالْمَسْأَلَةُ وَالرَّغْبَةُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ مُنْتَهٍ إِلَيْهِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَالْعَمَلُ لَكَ: أَيْ لِوَجْهِكَ وَرِضَاكَ، أَوِ الْعَمَلُ بِكَ أَيْ بِأَمْرِكَ وَتَوْفِيقِكَ، أَوِ الْمَعْنَى: أَمْرُ الْعَمَلِ رَاجِعٌ إِلَيْكَ فِي الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، وَأَغْرَبَ الطَّحَاوِيُّ حَيْثُ ذَكَرَ كَرَاهَةَ الزِّيَادَةِ عَلَى التَّلْبِيَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ سَعْدٍ ثُمَّ قَالَ وَبِهَذَا نَأْخُذُ قَالَ فِي الْبَحْرِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيُّ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مِنَ الْكَرَاهَةِ أَنَّ يَزِيدَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ عَلَى التَّلْبِيَةِ الْمَأْثُورَةِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَحَبَّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، أَوْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ فِي خِلَالِ التَّلْبِيَةِ الْمَسْنُونَةِ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا إِنْ زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ قَالَ صَاحِبُ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: هَذَا بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِهَا، أَمَّا فِي خِلَالِهَا فَلَا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ) أَيْ وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ، وَفِي النَّسَائِيِّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى الظُّهْرَ أَيْ قَصَرَ ثُمَّ رَكِبَ، قِيلَ فَيَكُونُ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الْحَدِيثِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ رَكِبَ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْجَمِيعَ اسْتَحَبُّوا كَوْنَهُ إِثْرَ صَلَاةِ نَافِلَةٍ أَوْ فَرِيضَةٍ، وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا بَعْدَ صَلَاةِ فَرْضٍ، لِأَنَّهُ جَاءَ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ كَانَتَا صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَالصَّوَابُ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. فَهَذَا اعْتِرَاضً عَلَى الْبَغَوِيِّ، حَيْثُ خَالَفَ اصْطِلَاحَهُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، لَكِنْ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيرِهِ لِأَحَادِيثِ الْمِشْكَاةِ أُسْنِدَ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَحْمَدَ لَفْظًا وَالْبُخَارِيِّ مَعْنًى، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَعْنِي التَّلْبِيَةَ: فَعَلَى هَذَا لَا اعْتِرَاضَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَزِيدُ لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ، لَبَّيْكَ مَرْغُوبًا وَمَرْهُوبًا إِلَيْكَ. وَصَحَّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَزِيدُونَ فِيهَا ذَا الْمَعَارِجِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ شَيْئًا. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مَرْفُوعًا ( «لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا» ) هَذَا عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَصَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ ( «لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ» ) مَرَّةً فِي أَسَرِّ أَحْوَالِهِ وَهُوَ بِعَرَفَةٍ، وَأُخْرَى فِي أَشَدِّ أَهْوَالِهِ وَهُوَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِمَا عَدَمُ الِاغْتِرَارِ بِمَا يَسُرُّ وَيُكَدِّرُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعُقْبَى.

2552 - وَعَنْ عِمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ سَأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعْفَاهُ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2552 - (وَعَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، (ابْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، يُعْرَفُ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، كَانَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ جَرَّدَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ سَأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا أَيْ رِضَاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، (وَالْجَنَّةَ) أَيِ الْعُقْبَى، فَإِنَّهَا مَرْضَى الْمَوْلَى، (وَاسْتَعْفَاهُ) أَيْ طَلَبَ عَفْوَهُ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى سَأَلَ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَرَوَى اسْتِغْفَارَهُ فَيَكُونُ عَنْ عَطْفًا عَلَى رِضْوَانِهِ اهـ. وَفِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ اسْتَعْتَقَهُ، (بِرَحْمَتِهِ) أَيْ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى، لَا بِكَسْبِ نَفْسِهِ، (مِنَ النَّارِ) أَيْ نَارِ الْعَذَابِ أَوْ نَارِ الْحِجَابِ، فَإِنْهُ أَشَدُّ الْعِقَابِ قَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ، وَيَخْفِضَ صَوْتَهُ بِذَلِكَ، وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَيَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ أَحَبَّ، وَيَسْتَحِبُّ أَنْ يُكَرِّرَ التَّلْبِيَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى الْوَلَاءِ، وَلَا يَقْطَعَهَا بِكَلَامٍ، وَلَوْ رَدَّ السَّلَامَ فِي خِلَالِهَا جَازَ وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ قَالَ (لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ) ثُمَّ التَّلْبِيَةُ مَرَّةً شَرْطٌ عِنْدَنَا، وَالزِّيَادَةُ سُنَّةٌ حَتَّى يَلْزَمَ الْإِسَاءَةُ بِتَرْكِهَا، (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ تَلْبِيَتِهِ، وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ كَالَّذِي قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَوْتُهُ بِهِ أَخْفَضَ مِنَ التَّلْبِيَةِ لِتَظْهَرَ الْمَزِيَّةُ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2553 - عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ الْحَجَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فَاجْتَمَعُوا، فَلَمَّا أَتَى الْبَيْدَاءَ أَحْرَمَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2553 - (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ الْحَجَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الْآيَةَ أَيْ نَادَى بَيْنَهُمْ بِأَنْ أُرِيدُ الْحَجَّ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّهُ أَمَرَ مُنَادِيًا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ الْحَجَّ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، (فَاجْتَمَعُوا) أَيْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْمَدِينَةِ، (فَلَمَّا أَتَى الْبَيْدَاءَ) وَهِيَ الْمَفَازَةُ الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا، وَهِيَ هُنَا اسْمُ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ عِنْدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، (أَحْرَمَ) أَيْ كَرَّرَ إِحْرَامَهُ أَوْ أَظْهَرَهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَحْرَمَ ابْتِدَاءً فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ بَعْدَ رَكْعَتِي الْإِحْرَامِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي رِوَايَةٍ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا عَلَا عَلَى جَبَلِ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «مَا أَهَلَّ إِلَّا عِنْدَ الْمَسْجِدِ» ، يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَهَلَّ إِلَّا عِنْدَ الْمَسْجِدِ حِينَ قَامَ بِهِ بِعِيرُهُ، وَفِي أُخْرَى حِينَ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمًا: أَهَلَّ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ لَمَّا أَرَادَ الْحَجَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فَاجْتَمَعُوا لَهُ فَلَمَّا أَتَى الْبَيْدَاءَ أَحْرَمَ.

2554 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيْلَكُمْ قَدْ قَدْ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2554 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيْلَكُمْ قَدْ قَدْ) بِسُكُونِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا مَعَ التَّنْوِينِ فِيهِمَا، أَيْ كَفَاكُمْ هَذَا الْكَلَامُ فَاقْتَصِرُوا عَلَيْهِ وَلَا تَقُولُوا، (إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ) مَا نَافِيَةٌ: وَقِيلَ مَوْصُولَةٌ قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ (لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ) فَإِذَا انْتَهَى كَلَامُهُمْ إِلَى لَا شَرِيكَ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَدْ أَيِ اقْتَصِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَتَجَاوَزُوا عَنْهُ إِلَى مَا بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ إِلَّا شَرِيكًا الظَّاهِرُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْمَحَلِّ كَمَا فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، فَاخْتِيرَ فِي الْكَلِمَةِ السُّفْلَى اللُّغَةُ السَّافِلَةُ، كَمَا اخْتِيرَ فِي الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا الْعَالِيَةُ، (يَقُولُونَ) أَيِ الْمُشْرِكُونَ، وَهُوَ مَقُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ (هَذَا) أَيْ هَذَا الْقَوْلُ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِلَّا شَرِيكًا مَعَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ (وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

[باب قصة حجة الوداع]

[بَابُ قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ]

(بَابُ قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2555 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَكَثَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ: اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ. قَالَ جَابِرٌ: لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَطَافَ سَبْعًا، فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ «قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ وَمَشَى إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي ثُمَّ سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدْنَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ نَادَى وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ تَحْتَهُ فَقَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى وَقَالَ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ قَالَ: قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنَّى أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ قَالَ: فَإِنَّ مَعِي الْهَدْيَ فَلَا تَحِلَّ قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةً قَالَ: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ. كِتَابَ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ. وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَدَفَعَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ ابْنَ عَبَّاسٍ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ. فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى عَلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ( بَابٌ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ مَصْدَرُ وَدَّعَ تَوْدِيعًا، كَسَلَّمَ سَلَامًا، وَكَلَّمَ كَلَامًا، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْوَاوِ، فَيَكُونُ مَصْدَرُ الْمُوَادَعَةِ، وَهُوَ إِمَّا لِوَدَاعِهِ النَّاسَ أَوِ الْحَرَمَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا قَالَ الشُّمُنِّيُّ لَمْ يُسْمَعْ فِي حَاءِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا الْكَسْرُ قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ الْحَجَّةَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَهُوَ مِنَ الشَّوَاذِّ لِأَنَّ الْقَيَّاسَ الْفَتْحُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2555 - (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَثَ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا أَيْ لَبَثَ، (بِالْمَدِينَةِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ) أَيْ لَكِنَّهُ اعْتَمَرَ كَمَا مَرَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ اهـ. وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ كَمَا سَبَقَ. (ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ) أَيْ أَمَرَ بِأَنْ يُنَادَى بَيْنَهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ نَادَى مُنَادِيًا بِإِذْنِهِ، (فِي الْعَاشِرَةِ) أَيِ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، (أَنَّ) أَيْ بِأَنَّ، (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجٌّ) أَيْ مُرِيدٌ لِلْحَجِّ وَقَاصِدُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ وَإِنَّمَا أَذَّنَ لِيَكْثُرُوا: فَيُشَاهِدُوا مَنَاسِكَهُ: فَيَنْقُلُوا إِلَى غَيْرِهِمْ، (فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ) تَحْقِي

قَالَ ابْنُ الْعَجَمِيِّ فِي مَنْسِكِهِ: يَنْبَغِي إِنْ كَانَ فِي الْمِيقَاتِ مَسْجِدٌ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا فِيهِ، وَلَوْ صَلَّاهُمَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَلَا بَأْسَ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ صَلَاةٍ جَازَ، وَلَا يُصَلِّي فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَتُجْزِئُ الْمَكْتُوبَةُ عَنْهُمَا كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ صَلَّى الظُّهْرَ وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى لِلْإِحْرَامِ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ فَرْضِ الظُّهْرِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ» أَهَلَّ اهـ. وَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى (ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ) بِالْمَدِّ مَعَ فَتْحِ الْقَافِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ وَهُوَ خَطَأٌ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ اسْمٌ لِنَاقَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ كُلُّ مَا قُطِعَ أُذُنُهُ فَهُوَ جَدْعٌ فَإِذَا بَلَغَ الْقَطْعُ الرُّبْعَ فَهُوَ قَصْوٌ وَإِنْ جَاوَزَ فَهُوَ عَضْبٌ، وَقِيلَ هِيَ الَّتِي قُطِعَ طَرَفُ أُذُنِهَا، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِهَا لِسَبْقِهَا أَيْ كَانَ عَدْوُهَا أَقْصَى السَّيْرِ وَغَايَةَ الْجَرْيِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ التَّابِعِيُّ: إِنَّ الْقَصْوَاءَ وَالْجَدْعَاءَ اسْمٌ لِنَاقَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ (أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَحْرَمَ رَافِعًا صَوْتَهُ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَجَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إِفْرَادًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ رَفْعُ صَوْتِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَبَيَانُهُ (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ) وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اشْتِرَاطِهِ صِحَّةَ نِيَّةِ الْإِحْرَامِ بِانْضِمَامِ التَّلْبِيَةِ إِلَيْهَا، فَالتَّلْبِيَةُ بِمَنْزِلَةِ تَكْبِيرِ التَّحْرِيمَةِ الْمُقَارَنِ بِالنِّيَّةِ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَلِذَا أُقِيمَ كُلُّ ذِكْرٍ مَقَامَهَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَفْظُهَا مَصْدَرٌ مُثَنًّى تَثْنِيَةً يُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أَيْ كَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَهُوَ مَلْزُومُ النَّصْبِ وَالْإِضَافَةِ كَمَا تَرَى، وَالنَّاصِبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ تَقْدِيرُهُ أَجَبْتُ إِجَابَتَكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكَأَنَّهُ مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَيُعْرَفُ بِهَذَا مَعْنَاهُ فَيَكُونُ مَصْدَرًا مَحْذُوفَ الزَّوَائِدِ وَهِيَ إِجَابَةٌ: فَقِيلَ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ رَبِّ فَرَغْتُ، فَقَالَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَالَ رَبِّي وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ قَالَ رَبِّي كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ) حَجُّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَأَخْرَجَهُ غَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ. وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ قَامَ عَلَى الْمَقَامِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى مَا تَحْتَهُ الْحَدِيثَ، وَأُخْرِجَ عَنْ مُجَاهِدٍ (قَامَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَقَالُوا لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَهُوَ مِمَّنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَئِذٍ (إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ) قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لَا بِفَتْحِهَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي فِي الْوَجْهِ الْأَوْجَهِ، وَأَمَّا فِي الْجَوَازِ فَيَجُوزُ وَالْكَسْرُ عَلَى اسْتِئْنَافِ الثَّنَاءِ، وَتَكُونُ التَّلْبِيَةُ لِلَذَّاتِ وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلتَّلْبِيَةِ، أَيْ لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، وَلَا يَخْفَى تَعْلِيقُ الْإِجَابَةِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا إِلَّا بِالذَّاتِ أَوْلَى مِنْهُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ هَذَا، وَإِنْ كَانَ اسْتِئْنَافُ الثَّنَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ مَعَ الْكَسْرِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ تَعْلِيلًا مُسْتَأْنَفًا كَمَا فِي قَوْلِكَ: عَلِّمِ ابْنَكَ الْعِلْمَ إِنَّ الْعِلْمَ نَافِعُهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، لَكِنْ لَمَّا جَازَ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَوْلَوِيَّتِهِ بِخِلَافِ الْفَتْحِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ (لَا شَرِيكَ لَكَ) أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ جَابِرٌ: وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ شَيْئًا وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلْبِيَتَهُ. قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا رَوَى مِنْ زِيَادَةِ النَّاسِ فِي التَّلْبِيَةِ مِنَ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.

(قَالَ جَابِرٌ لَسْنَا نَنْوِي) أَيْ شَيْئًا مِنَ النِّيَّاتِ (إِلَّا الْحَجَّ) أَيْ نِيَّتَهُ (لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ) أَيْ مَعَ الْحَجِّ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْحَصْرِ السَّابِقِ قَبْلَ، أَيْ لَا نَرَى الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَوْنِ الْعُمْرَةِ مَحْظُورَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، وَقِيلَ مَا قَصَدْنَاهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي ذِكْرِنَا، وَالْمَعْنَى لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ مَقْرُونَةً بِالْحَجَّةِ، أَوِ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ الصَّحَابَةَ خَرَجُوا مَعَهُ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْحَجَّ، فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ وُجُوهَ الْإِحْرَامِ، وَجَوَّزَ لَهُمُ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ (حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ) أَيْ وَصَلْنَاهُ بَعْدَ مَا نَزَلْ بِذِي طُوًى بَاتَ بِهَا، وَاغْتَسَلَ فِيهَا، وَدَخَلَ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا صَبِيحَةَ الْأَحَدِ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَصَدَ الْمَسْجِدَ مِنْ شَقِّ بَابِ السَّلَامِ، وَلَمْ يُصَلِّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ تَحِيَّةَ الْبَيْتِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ الطَّوَافُ، فَمِنْ ثَمَّ اسْتَمَرَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مُرُورِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ حَتَّى (اسْتَلَمَ الرُّكْنَ) أَيِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَالِاسْتِلَامُ افْتِعَالٌ مِنَ السَّلَامِ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الرُّكْنَ بِالْمُحَيَّا لِأَنَّ النَّاسَ يُحَيُّونَهُ بِالسَّلَامِ، وَقِيلَ: مِنَ السِّلَامِ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ، يُقَالُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ إِذَا لَثَمَهُ وَتَنَاوَلَهُ، وَالْمَعْنَى وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَقَبَّلَهُ، وَقِيلَ: وَضَعَ الْجَبْهَةَ أَيْضًا عَلَيْهِ (فَرَمَلَ) أَيْ أَسْرَعَ يَهُزُّ مَنْكِبَيْهِ (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ السَّبْعَةِ (وَمَشَى) أَيْ عَلَى السُّكُونِ وَالْهَيْنَةِ (أَرْبَعًا) أَيْ فِي أَرْبَعِ مَرَّاتٍ وَكَانَ مُضْطَبِعًا فِي جَمِيعِهَا (ثُمَّ تَقَدَّمَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْ نُسَخِ مُسْلِمٍ نَفَذَ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ تَوَجَّهَ (إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مَوْضِعِ قِيَامِهِ فَقَرَأَ وَاتَّخِذُوا بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْأَمْرِ وَبِفَتْحِهَا عَلَى الْخَبَرِ {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 125] أَيْ بَعْضِ حَوَالَيْهِ مُصَلًّى بِالتَّنْوِينِ أَيْ مَوْضِعَ صَلَاةِ الطَّوَافِ (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ) أَيْ صَلَّى خَلْفَهُ بَيَانًا لِلْأَفْضَلِ (وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ) أَيْ بَعْدِ الْفَاتِحَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أَيْ إِلَى آخِرِهَا فِي إِحْدَاهُمَا وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَيْ بِتَمَامِهَا فِي الْأُخْرَى وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا إِشْكَالَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِ السُّنَّةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرِ تَقْدِيمُ سُورَةِ " الْكَافِرُونَ " كَمَا فِي رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ مُقَدِّمَةَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَسُورَةَ " الْكَافِرُونَ " لِلْبَرَاءَةِ عَنِ الشِّرْكِ، فَقَدَّمَ الْإِشْرَاكَ اهْتِمَامًا لِشَأْنِهِ لِانْدِرَاسِ آَثَارِ الْأَضْدَادِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ سُورَةِ " الْكَافِرُونَ " عَلَى الْإِخْلَاصِ: فَبِنَاءً عَلَى تَقْدِيمِ نَفْيِ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ عَلَى إِثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ كَكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ فِي مَقَامِ الشُّهُودِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ الْمُقَامِ الْآنَ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَتَضَيَّقُوا أَخَّرَهُ عُمَرُ إِلَى مَحَلِّهِ الْآنَ فَهُوَ غَرِيبٌ وَإِنْ أَخَذَ بِهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَافَ بِالْبَيْتِ فَرَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَلَاثًا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَرَأَ فِيهِمَا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ) كَالْمُوَدِّعِ لَهُ» فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَأَنَّهُ قَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ، بَلْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ ذَهَبَ إِلَى زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهَا وَصَبَّ مِنْهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ (ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ) أَيْ بَابِ الصَّفَا (إِلَى الصَّفَا) أَيْ إِلَى جَانِبِهِ

(فَلَمَّا دَنَا) أَيْ قَرُبَ مِنَ الصَّفَا قَرَأَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] جَمْعُ شَعِيْرَةٍ وَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي جُعِلَتْ لِلطَّاعَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الْحَجِّ عِنْدَهَا كَالْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ (أَبْدَأُ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ وَقَالَ أَبْدَأُ (بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ) أَيِ ابْتِدَاءً بِالصَّفَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَهُ بِذِكْرِهِ فِي كَلَامِهِ، فَالتَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ لَهُ اعْتِبَارٌ فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إِمَّا وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فِي الْآيَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ابْدَءُوا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ لَا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ قَالُوا بِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ لَمَّا سَأَلَهَا عُرْوَةُ فَقَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَكَذَا لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْ يَخَافُونَ الْحَرَجَ فِيهِ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ( «اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي الْمَسْعَى وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ) وَأَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ السَّكَنِ فِي صِحَاحِهِ فَإِنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ دُونَ الرُّكْنِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي سَنَدِهِ، وَإِنْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ كِلَاهُمَا ظَنِّيَّةٌ لَا يُفِيدُ الرُّكْنِيَّةَ، (فَبَدَأَ) أَيْ فِي سَعْيِهِ (بِالصَّفَا فَرَقِيَ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ صَعِدَ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الصَّفَا (حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ) أَيْ إِلَى أَنْ رَآهُ (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ قَبْلَهُ: وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لَا خُصُوصُ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، وَهُوَ الْآنَ يُرَى بِلَا رُقِيٍّ فِي قَدْرٍ يَسِيرٍ، وَقِيلَ قَدْرُ الْقَامَةِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَاشِي دُونَ الرَّاكِبِ (فَوَحَّدَ اللَّهَ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (وَكَبَّرَهُ) أَيْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ (وَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) إِمَّا تَفْسِيرٌ لِمَا سَبَقَ وَالتَّكْبِيرُ مُسْتَفَادٌ مِنْ مَعْنَاهُ، وَإِمَّا قَوْلٌ آخَرُ غَيْرُ مَا سَبَقَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَوْلٌ آخَرُ وَكَأَنَّهُ إِجْمَالٌ وَتَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ (وَحْدَهُ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، أَيْ مُنْفَرِدًا بِالْأُلُوهِيَّةِ أَوْ مُتَوَحِّدًا بِالذَّاتِ (لَا شَرِيكَ لَهُ) فِي الْأُلُوهِيَّةِ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا، أَوْ فِي الصِّفَاتِ فَيَكُونُ تَأْسِيسًا وَهُوَ الْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (لَهُ الْمُلْكُ) أَيْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيِ الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ ثَابِتٌ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ حَقِيقَةً فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ يُحْيِي وَيُمِيتُ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ (قَدِيرٌ) أَيْ كَامِلُ الْقُدْرَةِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) أَيْ مُنْفَرِدًا بِالْأَفْعَالِ وَخَلْقِ الْأَعْمَالِ (أَنْجَزَ وَعْدَهُ) أَيْ وَفَّى بِمَا وَعَدَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ (وَنَصَرَ عَبْدَهُ) أَيْ عَبْدَهُ الْخَاصَّ، أَيْ فِي مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ نَصْرًا عَزِيزًا وَفَتْحًا مُبِينًا (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ قِتَالٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ أَنْوَاعُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ غُلِبُوا بِالْهَزِيمَةِ وَالْفِرَارِ (ثُمَّ) لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ دُونَ التَّرَاخِي (دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اهـ. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ بَوْنٌ بَيِّنٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَلِمَةُ ثُمَّ تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ الدُّعَاءِ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ، وَكَلِمَةُ بَيْنَ تَقْتَضِي تَوَسُّطَهُ بَيْنَ الذِّكْرِ: كَأَنْ يَدْعُوَ مَثَلًا بَعْدَ قَوْلِهِ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ دَعَا بِمَا شَاءَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الذِّكْرِ، ثُمَّ عَادَ مَرَّةً ثَالِثَةً اهـ. وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْجَوَابِ فَنَقُولُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ: أَنَّ قَوْلَهُ (قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ هَذَا الذِّكْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ نَقُولُ جَاءَ بَيْنَ بِمَعْنَى الْوَصْلِ وَالْفُرْقَةِ، أَيْ دَعَا وَاصِلًا ذَلِكَ أَوْ مُفَارِقًا ذَلِكَ، يَعْنِي الذِّكْرَ السَّابِقَ بِالدُّعَاءِ اللَّاحِقِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ دَعَا بَعْدَ فَرَاغِ الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنَ الذِّكْرِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ (ثُمَّ نَزَلَ وَمَشَى إِلَى الْمَرْوَةِ) أَيْ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا وَقَاصِدًا جِهَتَهَا (حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ) أَيِ انْحَدَرَتْ مَجَازٌ مِنْ قَوْلِهِمْ صَبَّ الْمَاءَ فَانْصَبَّ (فِي بَطْنِ الْوَادِي) أَيِ الْمَسْعَى وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْرَجٌ بَيْنَ جِبَالٍ

أَوْ تِلَالٍ أَوْ آكَامٍ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، يَعْنِي انْحَدَرَتَا بِالسُّهُولَةِ فِي صَيِّبٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُنْحَدَرُ الْمُنْخَفِضُ مِنْهَا، وَالِانْصِبَابُ الِانْسِكَابُ أَيْ حَتَّى بَلَغَتَا عَلَى وَجْهِ السُّرْعَةِ إِلَى أَرْضٍ مُنْخَفِضَةٍ (ثُمَّ سَعَى) أَيْ عَدَا يَعْنِي سَعَى سَعْيًا شَدِيدًا، كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ الْمِشْكَاةِ، وَلَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي بَعْضِ نُسَخٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ إِسْقَاطُ كَلِمَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا وَهِيَ رَمَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي بَطْنِ الْوَادِي، كَمَا فِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَفِي الْمُوَطَّأِ سَعَى بَدَلَ رَمَلَ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ بِمَعْنَى رَمَلَ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ رَمَلَ بِمَعْنَى سَعَى، لَا أَنَّ سَعَى بِمَعْنَى رَمَلَ (حَتَّى إِذَا صَعِدْنَا) بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَأَمَّا مَا فِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ فَتَصْحِيفٌ، أَيِ ارْتَفَعَتْ قَدَمَاهُ عَنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَفِي نُسْخَةٍ أَصْعَدَتَا بِالْهَمْزِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: إِذَا صَعِدَتْ قَدَمَاهُ قَالَ شَارِحٌ: أَيْ أَخَذَتْ قَدَمَاهُ فِي الصُّعُودِ وَالْإِصْعَادُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ وَالْإِبْعَادُ فِي صُعُودٍ أَوْ حُدُورٍ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ صَعِدَ فِي السُّلَّمِ كَسَمِعَ وَصَعِدَ فِي الْجَبَلِ، وَعَلَيْهِ تَصْعِيدًا وَلَمْ يُسْمَعْ صَعِدَ فِيهِ، وَأَصْعَدَ فِي الْأَرْضِ مَضَى، وَفِي الْوَادِي انْحَدَرَ وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِصْعَادُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ مُطْلَقًا، وَمَعْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ ارْتِفَاعُ الْقَدَمَيْنِ عَنْ بَطْنِ الْوَادِي إِلَى الْمَكَانِ الْعَالِي، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ أَيْ دَخَلَتْ فِي الْحُدُورِ اهـ. وَبِهَذِهِ النُّقُولِ يَتَبَيَّنُ تَرْجِيحُ نُسْخَةِ أَصْعَدَتَا بِالْهَمْزِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، (مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ) أَيْ مِثْلَ فِعْلِهِ (عَلَى الصَّفَا) مِنَ الرُّقِيِّ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ مَشَى وَمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْعَ رَاكِبًا، وَهُوَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ حَيْثُ لَا عُذْرَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " وَأَمَّا رُكُوبُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ: ( «إِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّكُوبَ فِي السَّعْيِ سُنَّةٌ، فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، إِنَّ مُحَمَّدًا كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ هَذَا مُحَمَّدٌ هَذَا مُحَمَّدٌ حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنَ الْبُيُوتِ، وَكَانَ لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرُوا عَلَيْهِ رَكِبَ، وَالْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ» ) فَلَا يُنَافِي مَا قَدَّمْنَاهُ: بَلْ يُسَاعِدُهُ وَيُعَاضِدُهُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى سَعْيِهِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَافَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ رَاكِبًا لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ، وَيَرَوْا مَكَانَهُ، وَلَا تَمَسُّهُ الْأَيْدِي لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا لَا يَدْفَعُونَ عَنْهُ (حَتَّى إِذَا كَانَ) تَامَّةٌ أَيْ وَجَدَ (آخِرُ طَوَافٍ) أَيْ سَعْيٍ (عَلَى الْمَرْوَةِ) مُتَعَلِّقٌ بَكَانَ (قَالَ) جَوَابُ إِذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَقَالَ) بِزِيَادَةِ الْفَاءِ، وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (نَادَى وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ تَحْتَهُ فَقَالَ) فَلَا أَصْلَ لَهُ (لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ) أَيْ لَوْ عَلِمْتُ فِي قَبْلُ (مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) أَيْ مَا عَلِمْتُهُ فِي دُبُرٍ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى لَوْ ظَهَرَ لِي هَذَا الرَّأْيُ الَّذِي رَأَيْتُهُ الْآنَ: لَأَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِي، وَابْتِدَاءِ خُرُوجِي (لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ) بِضَمِّ السِّينِ يَعْنِي لَمَا جَعَلْتُ عَلَيَّ هَدْيًا وَأَشْعَرْتُهُ وَقَلَّدْتُهُ وَسُقْتُهُ بَيْنَ يَدَيَّ، فَإِنَّهُ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ، وَلَا يَنْحَرُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَسُقْ إِذْ يَجُوزُ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ، قِيلَ: إِنَّمَا قَالَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الِاقْتِدَاءِ بِفِعْلِهِ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَجْعَلُ التَّمَتُّعَ أَفْضَلَ، وَقِيلَ: رُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَا أَمَرَهُمْ لِلْإِفْضَاءِ إِلَى النِّسَاءِ قَبْلَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (قَالُوا: نَأْتِي عَرَفَةَ وَتَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا (وَجَعَلْتُهَا) أَيِ الْحَجَّةَ (عُمْرَةً) أَيْ جَعَلْتُ إِحْرَامِي بِالْحَجِّ مَصْرُوفًا إِلَى الْعُمْرَةِ: كَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مُوَافَقَةً (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ) الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنْ أَفْرَدْتُ الْحَجَّ وَسُقْتُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ (لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْهَدْيُ بِإِسْكَانِ الدَّالِّ وَكَسْرِهَا، وَتُشَدَّدُ الْيَاءُ مَعَ الْكَسْرَةِ، وَتُخَفَّفُ مَعَ الْفَتْحِ (فَلْيَحِلَّ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ لِيَصِرْ حَلَالًا، وَلِيَخْرُجْ مِنْ إِحْرَامِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ (وَلْيَجْعَلْهَا) أَيِ الْحَجَّةَ (عُمْرَةً) إِذْ قَدْ أُبِيحَ لَهُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ لِلْحَجِّ، وَالْوَاوُ لِمُطْلِقِ الْجَمْعِ، إِذِ الْجَعْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخُرُوجِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَعْلِ الْفَسْخُ، وَهُوَ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ وَيَقْطَعَ أَفْعَالَهُ وَيَجْعَلَ إِحْرَامَهُ وَأَفْعَالَهُ لِلْعُمْرَةِ، أَوِ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَعَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَنْ أَحْرَمَ لِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ. إِنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ بِمُجَرَّدِ فَرَاغِ أَعْمَالِهَا وَإِنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَاحْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى حَلِّ الْحَاجِّ مِنْ حَجِّهِ وَإِنْ لَمْ يَنْحَرْ، وَفِيهِ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ مُمْتَنِعٌ، وَأَمَّا جَوَابُهُمْ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْآتِيَةِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَقِبَ رِوَايَةِ جَابِرٍ هَذِهِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهَلِّلْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) قَالُوا وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ فِي تِلْكَ مَحْذُوفًا: أَيْ وَمَنْ أَحْرَمَ لِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ، وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، أَيْ نَدْبًا لِأَنَّ هَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ لِاتِّحَادِ الْقِصَّةِ وَالرَّاوِي فَفِيهِ نَصٌّ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْأَمْرَ أَصْلُهُ لِلْوُجُوبِ وَلَا يُصْرَفُ عَنْهُ إِلَى النَّدْبِ إِلَّا لِمُوجَبٍ صَارِفٍ عَنِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ) فَفِيهِ أَنَّ فَسْخَ الْعُمْرَةِ بِالْحَجِّ لَا قَائِلَ بِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: لَمَّا أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِجَعْلِ الْحَجِّ عُمْرَةً، وَالْإِهْلَالِ بِأَعْمَالِهَا تَأْسِيسًا بِالتَّمَتُّعِ، وَتَقْرِيرًا لِجَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِمَاطَةً لِمَا أَلِفُوا مِنَ التَّحَرُّجِ عَنْهَا، قَدَّمَ الْعُذْرَ فِي اسْتِمْرَارِهِ عَلَى مَا أَهَلَّ بِهِ، وَتَرَكَ مُوَافَقَتَهُمْ فِي الْإِهْلَالِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَإِظْهَارًا لِلرَّغْبَةِ فِي مُوَافَقَتِهِمْ، وَإِزَاحَةً لِمَا عَرَاهُمْ مِنَ الْغَضَاضَةِ وَكَرَاهَةِ الْمُخَالَفَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَنْعِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ خَاصَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ كَانَ صَرْفَهُمْ عَنْ سُنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُمْكِنُ جَوَازُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي نُفُوسِهِمْ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ: ( «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟ قَالَ: لَكُمْ خَاصَّةً» ) (فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ) بِضَمِّ السِّينِ (ابْنِ جُعْشُمٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالشِّينِ وَيُفْتَحُ (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلِعَامِنَا هَذَا؟) يَعْنِي الْإِتْيَانَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ مَعَ الْحَجِّ يَخْتَصُّ هَذِهِ السَّنَةَ (أَمْ لِأَبَدٍ) أَيْ مِنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ (فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً) أَيْ جَعَلَ أَوْ أَدْخَلَ وَاحِدَةً (فِي الْأُخْرَى) مَنْصُوبٌ لِعَامِلٍ مُضْمِرٍ، وَالْحَالُ مُؤَكَّدَةٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْ أَرَادَ أَصَابِعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ، لَا وَاحِدَةً مِنَ الْأَصَابِعِ، فَيَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهَا عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ أَصَابِعِهِ (وَقَالَ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ) أَيْ جَوَازُهَا (فِي الْحَجِّ أَيْ فِي أَشْهُرِهِ (مَرَّتَيْنِ) أَيْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ (لَا) أَيْ لَيْسَ لِعَامِنَا هَذَا فَقَطْ (بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ) كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَجُوزُ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ مَا زَعَمَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجُوزُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ مَعْنَى دُخُولِهَا فِي الْحَجِّ أَنَّ فَرْضَهَا سَاقِطٌ بِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَتَى فُرِضَتْ حَتَّى يُقَالَ سَقَطَتْ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ جَوَازُ الْقِرَانِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ دَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ، وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ الصَّوَابِ. وَقِيلَ جَوَازُ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ أَقُولُ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَسِبَاقِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْفَسْخِ، هَلْ هُوَ خَاصٌّ لِلصَّحَابَةِ، أَمْ لِتِلْكَ السَّنَةِ، أَمْ بَاقٍ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَيْسَ خَاصًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ: أَنْ يَقْلِبَ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً وَيَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَشَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اهـ. وَيَحْتَاجُ الْكَلَامُ فِي سَنَدِ الْمَنْعِ وَبَيَانِ الْمُخَصِّصِ لِإِلْزَامِ الْخِصَامِ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يَدُلُّ لِلْجُمْهُورِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (كَانَتِ الْمُتْعَةُ أَيِ الْفَسْخُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً) وَحَدِيثُ النَّسَائِيِّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لِلْعُمْرَةِ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَنَا خَاصَّةً) هَذَا وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَا نَزَلَ بِسَرِفَ حَاضَتْ عَائِشَةُ بَعْدَ مَا سَمِعَتْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ « (مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً: فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلَا» ) فَبَكَتْ فَقَالَ (مَا يُبْكِيكِ) فَذَكَرَتْ لَهُ مَا سَمِعَتْهُ وَأَنَّهَا بِسَبَبِهِ مُنِعَتِ الْعُمْرَةَ لِحَيْضِهَا، فَقَالَ (لَا «يَضُرُّكِ إِنَّمَا أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ فَكُونِي فِي حَجِّكِ» ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ ( «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» ) وَمَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ تُعَارِضُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْهَا: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، زَادَ أَحْمَدُ (وَلَمْ أَسُقْ هَدْيًا) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا ( «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُلَبِّي لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً» ) وَجُمِعَ بِأَنَّهَا أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً كَبَعْضِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَفَعَلَتْ، فَصَارَتْ مُتْعَةً ثُمَّ لَمَّا دَخَلَتْ مَكَّةَ حَائِضًا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا الطَّوَافُ أَمَرَهَا أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَرَدَّ

مَالِكٌ رِوَايَةَ إِحْرَامِهَا بِالْعُمْرَةِ وَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَسْخَ الْعُمْرَةِ وَجَعْلَهَا حَجًّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بِخِلَافِ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ إِلَى الْآنَ، عَلَى أَنَّ رَفْضَهَا لِعُمْرَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَمْرَهُ لَهَا بِرَفْضِ عُمْرَتِهَا تَرْكُ التَّحَلُّلِ مِنْهَا، وَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا حَتَّى تَصِيرَ قَارِنَةً، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَهَا بِنَقْضِ شَعْرِهَا وَمَشْطِ رَأْسِهَا، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ فَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ أَيْ عَنْ أَعْمَالِهَا لِأَجْلِ رَفْضِهَا. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّهَا قَالَتْ: وَارْجِعْ بِحَجٍّ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ إِفْرَادَ الْعُمْرَةِ بِالْعَمَلِ، أَفْضَلُ وَرُدَّ هَذَا التَّأْوِيلُ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ لَيْسَ مَعَهَا عُمْرَةٌ، وَهَذَا صَرِيحٌ لِقَوْلِ أَئِمَّتِنَا إِنَّهَا تَرَكَتِ الْعُمْرَةَ وَحَجَّتْ مُفْرِدَةً، وَأَخَذُوا مِنْهُ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ إِذَا أَهَلَّتْ بِالْعُمْرَةِ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ أَنْ تَتْرُكَ الْعُمْرَةَ، وَتُهِلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً، وَكَذَا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ، وَوَقَفَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ، فَيَقْضِيهَا وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِرَفْضِهَا، وَلَا يُنَافِيهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ فَحَاضَتْ بِسَرِفَ فَقَالَ لَهَا أَهِلِّي بِالْحَجِّ، فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ وَسَعَتْ أَيْ بَعْدَ الْوُقُوفِ قَالَ لَهَا قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا رَفَضَتْ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لَا أَنَّهَا فَسَخَتِ الْعُمْرَةَ بِالْحَجِّ، إِذْ لَا قَائِلَ بِهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، ثُمَّ لَمَّا شَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَجِدُ فِي نَفْسِهَا أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ إِلَّا بَعْدَ الْحَجِّ وَالنَّاسُ يَرْجِعُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ كَامِلَةٍ أَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: «طَوَافُكَ يَسَعُكِ لِحَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ» . أَيْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ. (وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعُ بَدَنَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُتَقَرَّبُ بِذَبْحِهِ مِنَ الْإِبِلِ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ (مَاذَا قُلْتَ) لَهَا، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ (فَوَجَدَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِيمَنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: قُلْنَا ظَنًّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْعِرَاقِ يَقُولُ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ (حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ) أَيْ أَلْزَمْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ بِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] (قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ إِحْرَامِ الرَّجُلِ عَلَى إِحْرَامِ غَيْرِهِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَإِنَّ مَعِي) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْ إِذَا عَلَّقْتَ إِحْرَامَكَ بِإِحْرَامِي، فَإِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ وَمَعِي (الْهَدْيُ) وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْعُمْرَةِ بِالتَّحَلُّلِ (فَلَا تَحِلَّ) نَهْيٌ أَوْ نَفْيٌ أَيْ لَا تَحِلَّ أَنْتَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْإِحْرَامِ كَمَا لَا أَحِلُّ، حَتَّى تَفْرُغَ مِنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ. (قَالَ) أَيْ جَابِرٌ (فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ) أَيْ مِنَ الْإِبِلِ (الَّذِي قَدِمَ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْهَدْيِ (عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ) أَيْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةً) أَيْ مِنَ الْهَدْيِ (قَالَ) أَيْ جَابِرٌ (فَحَلَّ النَّاسُ) أَيْ خَرَجَ مِنَ الْإِحْرَامِ مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا (كُلُّهُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمْ تَحِلَّ وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ، أَقُولُ لَعَلَّهَا مَا أُمِرَتْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ أَوْ كَانَتْ مُعْتَمِرَةً وَأُمِرَتْ بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَيْهَا لِتَكُونَ قَارِنَةً كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا (وَقَصَّرُوا) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا قَصَّرُوا مَعَ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ لِأَنْ يَبْقَى لَهُمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الشَّعَرِ حَتَّى يُحْلَقَ فِي الْحَجِّ اهـ. وَلِيَكُونَ شَعَرُهُمْ فِي مِيزَانِ حَجَّتِهِمْ أَيْضًا سَبَبًا لِزِيَادَةِ أَجْرِهِمْ، وَلِيَكُونُوا دَاخِلِينَ فِي الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُحَلِّقِينَ، جَامِعِينَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ (إِلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ حَلُّوا (وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ) عَطْفًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ يَرْتَوُونَ وَيَشْرَبُونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ وَيَسْقُونَ الدَّوَابَّ لِمَا بَعْدَهُ، وَقَيْلَ لِأَنَّ الْخَلِيلَ تَرَوَّى فِيهِ أَيْ تَفَكَّرَ فِي ذَبْحِ

إِسْمَاعِيلَ وَأَنَّهُ كَيْفَ يَصْنَعُ حَتَّى جَزَمَ عَزْمَهُ يَوْمَ الْعَاشِرِ بِذَبْحِهِ (تَوَجَّهُوا) أَيْ أَرَادُوا التَّوَجُّهَ (إِلَى مِنًى) يُنَوَّنُ وَقِيلَ لَا يُنَوَّنُ فَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهُ يُمْنَى الدِّمَاءُ فِي أَيَّامِهَا، أَيْ يُرَاقُ وَيُسْفَكُ أَوْ لِأَنَّهُ يُعْطَى الْحُجَّاجُ مُنَاهُمْ بِإِكْمَالِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهَا (فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ) أَيْ أَحْرَمَ بِهِ مَنْ كَانَ خَرَجَ عَنْ إِحْرَامِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ (وَرَكِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ حِينَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَسَارَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى (فَصَلَّى بِهَا) أَيْ بِمِنًى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ (الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ وَالْفَجْرَ) أَيْ فِي أَوْقَاتِهَا (ثُمَّ مَكَثَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، أَيْ لَبَثَ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَجْرِ (قَلِيلًا) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِسْفَارِ الْفَجْرِ (حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ) عَطْفٌ عَلَى رَكِبَ أَوْ حَالٌ، أَيْ وَقَدْ أَمَرَ بِضَرْبِ خَيْمَةٍ (مِنْ شَعَرٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا (تُضْرَبُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِنَمِرَةَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، مَوْضِعٌ عَنْ يَمِينِ الْخَارِجِ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إِذَا أَرَادَ الْمَوْقِفَ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: جَبَلٌ قَرِيبٌ مِنْ عَرَفَاتٍ وَلَيْسَ مِنْهَا (فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ مِنْ مِنًى إِلَيْهَا (وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ) أَيْ لِلْحَجِّ (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ وَلَمْ يَشُكُّوا فِي أَنَّهُ يُخَالِفُهُمْ فِي الْمَنَاسِكِ: بَلْ تَيَقَّنُوا بِهَا إِلَّا فِي الْوُقُوفِ فَإِنَّهُمْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ يُوَافِقُهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ كَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَهُوَ جَبَلٌ فِي الْمُزْدَلِفَةِ يُقَالُ لَهُ قُزَحٌ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينِ وَقِيلَ إِنَّهُ كُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَقِيلَ بِكَسْرِهَا، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) وَيَقُولُونَ نَحْنُ حَمَامُ الْحَرَمِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَافِقُهُمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صَرِيحًا أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ مَعَ عَامَّةِ النَّاسِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ (فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ جَاوَزَ الْمُزْدَلِفَةَ وَلَمْ يَقِفْ بِهَا، وَسَارَ مِنْ طَرِيقِ ضَبَّ وَهُوَ جَبَلٌ مُتَّصِلٌ بِثَبِيرٍ وَهِيَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فِي أَصْلِ الْمَأْزِمَيْنِ عَلَى يَمِينِكَ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى عَرَفَةَ (حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ) أَيْ قَارَبَهَا (فَوَجَدَ الْقُبَّةَ) أَيِ الْخَيْمَةَ الْمَعْهُودَةَ (قَدْ ضُرِبَتْ) أَيْ بُنِيَتْ (لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا) أَيْ بِالْخَيْمَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِظْلَالِ الْمُحْرِمِ بِالْخَيْمَةِ وَنَحْوِهَا، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي مِثْلِ هَوْدَجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (حَتَّى إِذَا زَاغَتِ) أَيْ نَزَلَ بِهَا وَاسْتَمَرَّ فِيهَا حَتَّى إِذَا مَالَتِ (الشَّمْسُ) وَزَالَتْ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِ (أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ) أَيْ بِإِحْضَارِهَا (فَرُحِلَتْ لَهُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا، أَيْ شُدَّ الَّذِي عَلَيْهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَأَتَى) أَيْ فَرَكِبَهَا فَأَتَى (بَطْنَ الْوَادِي) مَوْضِعٌ بِعَرَفَاتٍ يُسَمَّى عُرَنَةَ وَلَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَمِنْهَا بَعْضُ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْجُودِ الْيَوْمَ، وَاخْتُلِفَ فِي مُحْدِثِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَهُ مُصَلًّى، وَقِيلَ إِبْرَاهِيمُ الْقُبَيْسِيُّ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ أَحَدُ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ فِي أَوَّلِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ أَيْ فَنُسِبَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ بَانِيَهُ أَوْ مُجَدِّدَهُ (فَخَطَبَ النَّاسَ) أَيْ وَعَظَهُمْ وَخَطَبَ خُطْبَتَيْنِ الْأُولَى لِتَعْرِيفِهِمُ الْمَنَاسِكَ وَالْحَثِّ عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ بِعَرَفَةَ، وَالثَّانِيَةُ قَصِيرَةٌ جِدًّا لِمُجَرَّدِ الدُّعَاءِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: إِذَا قَامَ إِلَيْهَا شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ لِيَفْرَغَا مَعًا كَمَا بَيَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ (وَقَالَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ) أَيْ تَعَرُّضَهَا (حَرَامٌ عَلَيْكُمْ) أَيْ لَيْسَ لِبَعْضِكُمْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِبَعْضٍ فَيُرِيقَ دَمَهُ أَوْ يَسْلُبَ مَالَهُ (كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا) يَعْنِي تَعَرُّضَ بَعْضِكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَأَمْوَالِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيْامِ كَحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَهُمَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ (فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) أَيْ ذِي الْحِجَّةِ (فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) أَيْ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ حُرْمَةِ الزَّمَانِ وَاحْتِرَامِ الْمَكَانِ فِي تَشْبِيهِ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَفًّا وَنَشْرًا مُشَوَّشًا بِأَنْ تَكُونَ حُرْمَةُ النَّفْسِ كَحُرْمَةِ الْبَلَدِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَكَانِهِ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ غَادٍ وَرَائِحٍ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قُوَّةِ حُرْمَةٍ النَّفْسِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْبَلَدِ مُؤَبَّدَةٌ وَحُرْمَةَ الزَّمَانِ مُؤَقَّتَةٌ، وَمَعَ هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِهَا نَسْخُهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ تَابِعَةٍ لَهَا بَلْ مُشَبَّهَةٌ بِهَا، وَالتَّشْبِيهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَلِهَذَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: شَبَّهَ فِي التَّحْرِيمِ بِيَوْمِ عَرَفَةَ وَذِي الْحِجَّةِ وَالْبَلَدِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ أَشَدَّ التَّحْرِيمِ

لَا يُسْتَبَاحُ فِيهِمْ شَيْءٌ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (كُلُّ شَيْءٍ) أَيْ فَعَلَهُ أَحَدُكُمْ (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ (تَحْتَ قَدَمَيَّ) بِالتَّثْنِيَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ وَالْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ (مَوْضُوعٌ) أَيْ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ الْقَدَمِ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ إِبْطَالِهِ، وَالْمَعْنَى عَفَوْتُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَعَلَهُ رَجُلٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَتَجَافَيْتُ عَنْهُ، حَتَّى صَارَ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ الْقَدَمِ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَا تَكَادُ تُرَاجِعُهُ وَتَذْكُرُهُ: جَعَلْتُ ذَلِكَ دُبُرَ أُذُنِي وَتَحْتَ قَدَمَيَّ (وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ) أَيْ مَتْرُوكَةٌ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ، أَعَادَهَا لِلِاهْتِمَامِ أَوْ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ (وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ) أَيْ أَضَعُهُ وَأَتْرُكُهُ (مِنْ دِمَائِنَا) أَيِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، كَذَا قِيلَ وَالظَّاهِرُ مِنْ دِمَائِنَا أَنَّ الْمُرَادَ دِمَاءُ أَقَارِبِنَا وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: ابْتَدَأَ فِي وَضْعِ الْقَتْلِ وَالدِّمَاءِ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ: لِيَكُونَ أَمْكَنَ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ، وَأَسَدَّ لِبَابِ الطَّمَعِ بِتَرَخُّصٍ فِيهِ (دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ) اسْمُهُ إِيَاسُ (ابْنِ الْحَارِثِ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى عَنْهُ وَكَانَ أَسَنَّ مِنْهُ، تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، أَيْ كَانَ لِابْنِهِ ظِئْرٌ تُرْضِعُهُ (فِي بَنِي سَعْدٍ) وَصَحَّ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ خَطَّأَهُمْ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّوَابَ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ إِضَافَةُ الدَّمِ إِلَى رَبِيعَةَ لِأَنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ دَمُ قَتِيلِ رَبِيعَةَ اعْتِمَادًا عَلَى اشْتِهَارِ الْقِصَّةِ (فَقَتَلَهُ) أَيِ ابْنَ رَبِيعَةَ (هُذَيْلٌ) وَكَانَ طِفْلًا صَغِيرًا يَحْبُو بَيْنَ الْبُيُوتِ فَأَصَابَهُ حَجَرٌ فِي حَرْبِ بَنِي سَعِدٍ مَعَ قَبِيلَةِ هُذَيْلٍ فَقَتَلَهُ هُذَيْلٌ (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ) يُرِيدُ أَمْوَالَهُمُ الْمَغْصُوبَةَ وَالْمَنْهُوبَةَ، وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا تَأْكِيدًا لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ مَعْقُولٌ فِي صُورَةِ مَشْرُوعٍ، وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (وَأَوَّلُ رِبًا) أَيْ زَائِدٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ (أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) قِيلَ إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ رِبَانَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ الْخَبَرُ وَقَوْلُهُ (فَإِنَّهُ) أَيِ الرِّبَا أَوْ رِبَا عَبَّاسٍ (مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، وَالْمُرَادُ الزَّائِدُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] وَلِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ (فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ) أَيْ فِي حَقِّهِنَّ وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ بِالْوَاوِ وَكِلَاهُمَا سَدِيدٌ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ فِي اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ وَفِي نَهْبِ الْأَمْوَالِ وَفِي النِّسَاءِ (فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ وَفِي بَعْضِهَا (بِأَمَانَةِ اللَّهِ) أَيْ بِعَهْدِهِ مِنَ الرِّفْقِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ (وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ) أَيْ بِشَرْعِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ " فَانْكِحُوا "، وَقِيلَ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ: أَيْ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَفِي نُسْخَةٍ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ (وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ) أَيْ مِنَ الْحُقُوقِ (أَنْ لَا يُوطِئْنَ) بِهَمْزَةٍ أَوْ بِإِبْدَالِهَا مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ (فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ مَنَازِلَ الْأَزْوَاجِ، وَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ (فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ) أَيِ الْإِيطَاءَ الْمَذْكُورَ (فَاضْرِبُوهُنَّ) قِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ، فَيَتَحَدَّثُ إِلَيْهِنَّ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ انْتَهَوْا عَنْهُ، وَلَيْسَ هَذَا كِنَايَةً عَنِ الزِّنَا وَإِلَّا كَانَ عُقُوبَتَهُنَّ الرَّجْمُ دُونَ الضَّرْبِ (ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مُجَرِّحٍ أَوْ شَدِيدٍ شَاقٍّ (وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ) مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَفِي مَعْنَاهُ سُكْنَاهُنَّ (وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) بِاعْتِبَارِ حَالِكُمْ فَقْرًا وَغِنًى أَوْ بِالْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ مِنَ التَّوَسُّطِ الْمَمْدُوحِ (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا) أَيْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ (لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ تَرْكِي إِيَّاهُ فِيكُمْ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْ بَعْدَ التَّمَسُّكِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ كَمَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ (إِنَّ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ) أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ

(كِتَابَ اللَّهِ) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِمَا فِي التَّفْسِيرِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ، وَبِهَا اقْتَصَرَ عَلَى الْكِتَابِ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَيَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ الْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ هُوَ الْكِتَابُ (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ عَنْ تَبْلِيغِي وَعَدَمِهِ (فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ) أَيْ فِي حَقِّي (قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ) أَيِ الرِّسَالَةَ (وَأَدَّيْتَ) أَيِ الْأَمَانَةَ (وَنَصَحْتَ) أَيِ الْأُمَّةَ (فَقَالَ) أَيْ أَشَارَ (بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ) بِالْجَرِّ وَأُخْتَيْهِ مِنَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (يَرْفَعُهَا) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَالَ أَيْ رَافِعًا إِيَّاهَا أَوْ مِنَ السَّبَّابَةِ أَيْ مَرْفُوعَةً (إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا) بِضَمِّ الْكَافِ وَالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، أَيْ يُشِيرُ بِهَا (إِلَى النَّاسِ) كَالَّذِي يَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ، وَالنَّكْتُ ضَرْبُ رَأْسِ الْأَنَامِلِ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ فِي النِّهَايَةِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ يُمِيلُهَا إِلَيْهِمْ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَهُوَ بَعِيدُ الْمَعْنَى قَالَ: قِيلَ صَوَابُهُ يَنْكُبُهَا بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ قَالَ: وَرُوِّينَاهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) أَيْ عَلَى عِبَادِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِأَنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنْتَ إِذْ كَفَى بِكَ شَهِيدًا (اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يَتَلَفَّظَ الرَّاوِي بِاللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ مَرَّةً ثُمَّ يَقُولَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ) أَيْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَهَذَا الْجَمْعُ كَجَمْعِ الْمُزْدَلِفَةِ جَمْعُ نُسُكٍ عِنْدَنَا، وَجَمْعُ سَفَرٍ عَنْدَ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ (وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) أَيْ مِنَ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ كَيْلَا يُبْطِلَ الْجَمْعَ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَاجِبَةٌ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي عِبَارَتِهِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ فِعْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَلِيلًا لِلْمُوَالَاةِ لَا مُعَلِّلًا بِبُطْلَانِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ (ثُمَّ رَكِبَ) أَيْ وَسَارَ (حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ) أَيْ أَرْضَ عَرَفَاتٍ، أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ مَوْقِفُهُ الْخَاصُّ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ) بِالْجَرِّ وَأُخْتَيْهِ (إِلَى الصَّخَرَاتِ) بِفَتْحَتَيْنِ الْأَحْجَارِ الْكِبَارِ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُنَّ حَجَرَاتٌ مُفْتَرِشَاتٌ فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ، فَهَذَا هُوَ الْمَوْقِفُ الْمُسْتَحَبُّ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَلْيَقْرُبْ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ بَيْنَ الْعَوَامِّ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِصُعُودِ الْجَبَلِ وَتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُقُوفُ إِلَّا فِيهِ فَغَلَطٌ، وَالصَّوَابُ جَوَازُ الْوُقُوفِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ، وَأَمَّا وَقْتُ الْوُقُوفِ فَهُوَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَدْخُلُ وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ (وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَرُوِيَ بِالْجِيمِ وَفَتَحِ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْحَدِيثِ، وَحَبْلُ الْمُشَاةِ مُجْتَمَعُهُمْ وَحَبْلُ الرَّمْلِ مَا طَالَ مِنْهُ، وَأَمَّا بِالْجِيمِ فَمَعْنَاهُ طَرِيقُهُمْ وَحَيْثُ تَسْلُكُ الرَّجَّالَةُ اهـ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بِالْحَاءِ، أَيْ طَرِيقُهُمُ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ فِي الرَّمْلِ. وَقَالَ التُّورِبِشِتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: حَبْلُ الْمُشَاةِ مَوْضِعٌ، وَقِيلَ: اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ رَمْلٍ مُرْتَفِعٍ كَالْكُثْبَانِ، وَقِيلَ: الْجَبَلُ الرَّمْلُ الْمُسْتَطِيلُ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَى الْمُشَاةِ لِأَنَّهَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهَا إِلَّا الْمَاشِي، أَوْ لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهَا تَرَقِّيًا مِنْهُ مَوَاقِفَ الرُّكَّابِ، وَدُونَ حَبْلِ الْمُشَاةِ وَدُونَ الصَّخَرَاتِ اللَّاصِقَةِ بِسَفْحِ الْجَبَلِ مَوْقِفُ الْإِمَامِ، وَبِهِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى الْوُقُوفَ (وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا) أَيْ قَائِمًا بِرُكْنِ الْوُقُوفِ رَاكِبًا عَلَى النَّاقَةِ (حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ) أَيْ أَكْثَرُهَا أَوْ كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ (وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا) أَيْ ذَهَابًا قَلِيلًا (حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ) أَيْ جَمِيعُهُ، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، قِيلَ صَوَابُهُ: حِينَ غَابَ الْقُرْصُ وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِقَوْلِهِ ذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حِينَ غَابَ الْقُرْصُ وَكَأَنَّ الْقَائِلَ غَفَلَ عَنْ قَيْدِ

الْعِلَّةِ وَذُهِلَ عَنِ الرِّوَايَةِ الَّتِي تُطَابِقُ الدِّرَايَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكُونَ بَيَانًا لِلْغَيْبُوبَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تُطْلَقُ عَلَى مُعْظَمِ الْقُرْصِ (وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ) أَيْ أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَهُ (وَدَفَعَ) أَيِ ارْتَحَلَ وَمَضَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيِ ابْتَدَأَ السَّيْرَ وَدَفَعَ نَفْسَهُ وَنَحَّاهَا أَوْ دَفَعَ نَاقَتَهُ وَحَمَلَهَا عَلَى السَّيْرِ (حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ) وَفِي رِوَايَةٍ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ شَنَقَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ أَيْ ضَمَّ (وَضَيَّقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى أَنَّ رَأْسَهَا لِيُصِيبَ مَوْرِكَ رِجْلِهِ) بِالْجِيمِ مَعَ كَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْحَاءِ وَفَتْحِهَا، وَالْمَوْرِكُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَثْنِي الرَّاكِبُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ قُدَّامَ وَاسِطَةِ الرَّحْلِ إِذَا مَلَّ مِنَ الرُّكُوبِ، وَضَبَطَهُ الْقَاضِي بِفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ: وَهُوَ قِطْعَةُ أَدَمٍ يَتَوَرَّكُ عَلَيْهَا الرَّاكِبُ، تُجْعَلُ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ شِبْهُ الْمِخَدَّةِ الصَّغِيرَةِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَقُولُ: بِيَدِهِ الْيُمْنَى أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمُوهَا (كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيِ التَّلِّ اللَّطِيفِ مِنَ الرَّمْلِ (أَرْخَى لَهَا) أَيْ لِلنَّاقَةِ (قَلِيلًا) أَيْ إِرْخَاءً قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا (حَتَّى تَصْعَدَ) بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَضَمِّهَا يُقَالُ صَعِدَ فِي الْجَبَلِ وَأَصْعَدَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تُصْعِدُونَ} [آل عمران: 153] ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، قِيلَ سُمِّيَتْ بِهَا لِمَجِيءِ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ سَاعَاتٍ قَرِيبَةٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 13] أَيْ قَرُبَتْ، وَأَمَّا ازْدِحَامُ النَّاسِ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ فَبِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَفَاسِدُ صَرِيحَةٌ (فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) أَيْ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ (بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ) وَبِهِ قَالَتِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا سَيَأْتِي (وَلَمْ يُسَبِّحْ) أَيْ لَمْ يُصَلِّ (بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (شَيْئًا) أَيْ مِنَ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَهُمَا سُنَّةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَالْوِتْرَ لِقَوْلِهِ (ثُمَّ اضْطَجَعَ) أَيْ لِلنَّوْمِ بَعْدَ رَاتِبَةِ الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ (حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ) تَقْوِيَةً لِلْبَدَنِ وَرَحْمَةً لِلْأُمَّةِ، وَلِأَنَّ فِي نَهَارِهِ عِبَادَاتٍ كَثِيرَةً يَحْتَاجُ إِلَى النَّشَاطِ فِيهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ ( «مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْعِيدِ أَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ» ) فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْيِيَهُ بِالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ دُونَ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ مُطَابِقًا لِلسُّنَّةِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ إِحْيَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ أَكْثَرِهَا، ثُمَّ الْمَبِيتُ عِنْدَنَا سُنَّةٌ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقِيلَ وَاجِبٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ كَالْوُقُوفِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَجِلَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: النُّزُولُ وَاجِبٌ وَالْمَبِيتُ سُنَّةٌ، وَكَذَا الْوُقُوفُ بَعْدَهُ ثُمَّ الْمَبِيتُ بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بِحُضُورِ لَحْظَةٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ (فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ) أَيْ طَلَعَ الْفَجْرُ (بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ) أَيْ بِغَلَسٍ (ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ) مَوْضِعٌ خَاصٌّ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بِبِنَاءٍ مَعْلُومٍ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ لِلْعِبَادِ، وَالْمَشَاعِرُ الْمَعَالِمُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهَا وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ فِيهَا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقَدْ يُكْسَرُ وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى رَقِيَ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُقَدِّمُ ضَعْفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ هِيَ (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ فَكَبَّرَهُ) أَيْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ (وَهَلَّلَهُ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (وَوَحَدَهُ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. . . إِلَخْ. (فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا) أَيْ أَضَاءَ الْفَجْرُ إِضَاءَةً تَامَّةً (فَدَفَعَ) أَيْ ذَهَبَ إِلَى مِنًى (قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ) أَيْ بَدَلَ أُسَامَةَ (حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى، وَالتَّحَسُّرُ الْإِعْيَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] سُمِّيَ لِأَنَّ فِيلَ أَصْحَابِ الْفِيلِ حَسَرَ فِيهِ أَيْ أَعْيَا، وَكُلٌّ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ الْحَرَمَ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهُ وَإِنَّمَا أَصَابَهُمُ الْعَذَابُ قُبَيْلَ الْحَرَمِ قُرْبَ عَرَفَةَ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا وَاحِدٌ أَخْبَرَ مَنْ وَرَاءَهُمْ، فَقِيلَ حِكْمَةُ الْإِسْرَاعِ فِيهِ نُزُولُ نَارٍ فِيهِ عَلَى مَنِ اصْطَادَ فِيهِ، وَلِذَا يُسَمِّي أَهْلُ مَكَّةَ هَذَا الْوَادِي وَادِي النَّارِ. وَصَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَتَى دِيَارَ ثَمُودَ أَسْرَعَ وَأَمَرَهُمْ بِالْإِسْرَاعِ خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، أَوْ مُخَالَفَةَ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقِفُونَ فِيهِ، فَأُمِرْنَا بِمُخَالَفَتِهِمْ وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقِفُونَ فِيهِ بَدَلَ الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ بَعْدَهُ زِيَادَةً عَلَيْهِ

وَفِي الْجُمْلَةِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَخْصِيصِ الْإِسْرَاعِ بِالرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَةَ دُونَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا، عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَهَبَ إِلَى عَرَفَاتٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّبِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسْتَحَبَّ الْإِسْرَاعُ فِيهِ لِكُلِّ مَارٍّ مِنْ حَاجٍّ وَغَيْرِهِ ذَاهِبًا وَآيِبًا لِكَوْنِهِ مَحَلَّ نُزُولِ الْعَذَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ إِنَّمَا سُمِّيَ لِإِسْرَاعِ الرُّكَّابِ وَالْمُشَاةِ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ وَإِنَّمَا يُسْرِعُ لِأَجْلِ نُزُولِ الْعَذَابِ فِيهِ (فَحَرَّكَ) أَيْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ (قَلِيلًا) أَيْ تَحْرِيكًا قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا أَوْ مَكَانًا قَلِيلًا أَيْ يَسِيرًا، وَصَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَتَى مُحَسِّرًا أَسْرَعَ نَاقَتَهُ حَتَّى جَاوَزَ الْوَادِي قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ. وَأَمَّا مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَرَكَهُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مِنًى فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ عِنْدَ الزَّحْمَةِ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ مُقَدَّمٌ لَا سِيَّمَا وَهُوَ أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَصَحُّ إِسْنَادًا، وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَسْرَعَ فِي بَعْضِهِ وَتَرَكَ الْإِسْرَاعَ فِي كُلِّهِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ اسْتِبْقَاؤُهُ خَشْيَةَ الْمُزَاحَمَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْوَحْشَةِ مَعَ وُجُودِ الْكَثْرَةِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ الْمَارُّ بِهِ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بَعْضَهُ مَرْفُوعًا. إِلَيْكَ تَغْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا قَدْ ذَهَبَ الشَّحْمُ الَّذِي يَزِينُهَا الْوَضِينُ بِطَّانٌ عَرِيضٌ يُنْسَجُ مِنْ سُيُورٍ أَوْ شَعَرٍ أَوْ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِلْدٍ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ (ثُمَّ سَلَكَ) أَيْ دَخَلَ (الطَّرِيقَ الْوُسْطَى) وَهِيَ غَيْرُ طَرِيقِ ذَهَابِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ بَلْ إِنَّمَا هِيَ (الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى) أَيْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (حَتَّى أَتَى) عَطْفٌ عَلَى سَلَكَ، أَيْ حَتَّى وَصَلَ (الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ) أَيِ الْعَقَبَةِ، وَلَعَلَّ الشَّجَرَةَ إِذْ ذَاكَ كَانَتْ مَوْجُودَةً هُنَاكَ (فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ) بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ الرَّمْيُ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بَدَلٌ مِنَ الْحَصَيَاتِ وَهُوَ بِقَدْرِ حَبَّةِ الْبَاقِلَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا قَوْلُهُ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ اهـ. كَلَامُ النَّوَوِيُّ. وَعِنْدِي أَنَّ اتِّصَالَ حَصَى الْخَذْفِ بِقَوْلِهِ: مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا حَصَى الْخَذْفِ، فَهَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ وَكَذَا نَقْلَهُ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ مُعْظَمِ النُّسَخِ قَالَ: وَصَوَابُهُ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ. هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قُلْتُ: وَالَّذِي فِي النُّسَخِ مِنْ غَيْرِ لَفْظَةِ " مِثْلَ " هُوَ الصَّوَابُ بَلْ لَا يَتَّجِهُ غَيْرُهُ وَلَا يَتِمُّ الْكَلَامُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: حَصَى الْخَذْفِ مُتَعَلِّقٌ بِحَصَيَاتٍ أَيْ رَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَصَى الْخَذْفِ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَحَصَى الْخَذْفِ مُتَّصِلٌ بِحَصَيَاتٍ وَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ أَقْرَبُ لَفْظًا وَأَنْسَبُ مَعْنًى وَمَعَ هَذَا لَا اعْتِرَاضَ وَلَا تَخْطِئَةَ عَلَى إِحْدَى النُّسْخَتَيْنِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِحَصَاةٍ أَوْ حَصَيَاتٍ لَا يُنَافِي وُجُودَ " مِثْلَ " لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا غَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا فَهُوَ وَاضِحٌ مَعْنًى وَإِلَّا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ حَذْفُ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ كَحَصَى الْخَذْفِ، بَلْ لَا يَظْهَرُ لِلتَّعَلُّقِ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى، فَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ وَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْهُ بِلَفْظِ (رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) يُرَجِّحُ وُجُودَ الْمِثْلِ وَيُؤَيِّدُهُ تَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَفِي نُسْخَةٍ (رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فَرَمَاهَا، أَوِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يُفِيدُ جَوَازَ الرَّمْيِ مِنْ فَوْقِهَا وَقِيَاسًا عَلَى بَقِيَّةِ الْجَمَرَاتِ حَيْثُ يَجُوزُ مِنْ جَوَانِبِهَا وَإِنْ كَانَ الْجَانِبُ الْمُسْتَحَبُّ وَاحِدًا، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِأَنَّهُ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا إِلَى أَسْفَلِهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي لَا إِلَى ظَهْرِهَا فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقِيَاسُ الدِّرَايَةِ فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ فَوْقِهَا بَاطِلٌ لَيْسَ تَحْتَهُ طَائِلٌ (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ رَجَعَ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (إِلَى الْمَنْحَرِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مَوْضِعِ

النَّحْرِ وَالْآنَ يُقَالُ لَهُ الْمَذْبَحُ لِعَدَمِ النَّحْرِ أَوْ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ كَمَا غَلَبَ فِي الْأَوَّلِ، فَلَا فَضْلَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ مِنْ صُورَةِ مَسْجِدٍ بُنِيَ قَرِيبٍ مِنَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى مُنْحَرِفٍ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ، وَبُنِيَ بِإِزَائِهِ عَلَى الطَّرِيقِ مَسْجِدٌ تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ مَسْجِدَ النَّحْرِ: فَلَيْسَ هُوَ بَلِ الْأَصَحُّ أَنَّ مَنْحَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مِعْوَلِهِ الَّذِي بِقُرْبِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ مُتَقَدِّمًا عَلَى قِبْلَةِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ (فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةَ) بِعَدَدِ سِنِي عُمْرِهِ (بِيَدِهِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ الْمِشْكَاةِ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ بِدُونِ لَفْظِ بَدَنَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ جَمِيعِ الرُّوَاةِ سِوَى ابْنِ مَاهَانَ فَإِنَّهُ رَوَاهُ بَدَنَةً قَالَ: وَكِلَاهُمَا صَوَابٌ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ (ثُمَّ أَعْطَى) أَيْ بَقِيَّةَ الْبُدْنِ (عَلِيًّا فَنَحَرَ) أَيْ عَلِيٌّ (مَا غَبَرَ) أَيْ بَقِيَ مِنَ الْمِائَةِ (وَأَشْرَكَهُ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا (فِي هَدْيِهِ) بِأَنْ أَعْطَاهُ بَعْضَ الْهَدَايَا لِيَنْحَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ الْبُدْنِ أَيْضًا وَيَكُونُ عَدَدَ سِنِي عُمْرِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِي نَفْسِ الْهَدْيِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَشْرِيكًا حَقِيقَةً بَلْ أَعْطَاهُ قَدْرًا يَذْبَحُهُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَعْطَى عَلِيًّا الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْيَمَنِ، وَهِيَ تَمَامُ الْمِائَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَشْرَكَ عَلِيًّا فِي ثَوَابِ هَدْيِهِ لِأَنَّ الْهَدْيَ يُعْطَى حُكْمَ الْأُضْحِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا يُؤَخَّرُ بَعْضُهَا إِلَى أَيْامِ التَّشْرِيقِ. (ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ (فَجُعِلَتْ) أَيِ الْقِطَعُ (فِي قِدْرٍ) فِي الْقَامُوسِ الْقِدْرُ بِالْكَسْرِ مَعْلُومٌ، أُنْثَى أَوْ يُؤَنَّثُ (فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا) الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْقِدْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْهَدَايَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا) أَيْ مِنْ مَرَقِ الْقِدْرِ أَوْ مَرَقِ لُحُومِ الْهَدَايَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ اهـ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَقِيلَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة: 58] (ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَاضَ) أَيْ أَسْرَعَ (إِلَى الْبَيْتِ) أَيْ بَيْتِ اللَّهِ لِطَوَافِ الْفَرْضِ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَالرُّكْنِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَوِّزُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ بِنِيَّةِ غَيْرِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَوْ نَوَى غَيْرَهُ كَنَذْرٍ أَوْ وَدَاعٍ وَقَعَ عَنِ الْإِفَاضَةِ (فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ، فَحَذَفَ ذِكْرَ الطَّوَافِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا فِي أَحَادِيثِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى بِأَصْحَابِهِ حِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَةِ بِمِنًى. أَقُولُ إِنَّهُ لَا يُحْمَلُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَلَفِ فِي جَوَازِهِ، فَيُؤَوَّلُ بِأَنَّهُ صَلَّى بِمَكَّةَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَقْتَ الظُّهْرِ، وَرَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى الظُّهْرَ بِأَصْحَابِهِ، أَوْ يُقَالُ الرِّوَايَتَانِ حَيْثُ تَعَارَضَتَا فَقَدْ تَسَاقَطَتَا، فَتَتَرَجَّحُ صَلَاتُهُ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهَا فِيهَا أَفْضَلَ، وَيُؤَيِّدُهُ ضِيقُ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَجَعَ قُبَيْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْعَرِ، وَرَمَى بِمِنًى، وَنَحَرَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ وَطَبَخَ لَحْمَهَا وَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى، فَشَكَّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ بِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ أَخَّرَهَا عَنْ وَقْتِ الْمُخْتَارِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَغَيْرِهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ الزِّيَارَةَ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى اللَّيْلِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَادَ لِلزِّيَارَةِ مَعَ نِسَائِهِ، لَا لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. قُلْتُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، لَكِنْ لَا مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، مَعَ الْغَرَابَةِ فِي عَرْضِ كَلَامِهِ إِلَى أَنَّهُ عَادَ لِلزِّيَارَةِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ جَوَّزَ تَأْخِيرَ الزِّيَارَةِ مُطْلَقًا إِلَى اللَّيْلِ أَوْ أَمَرَ بِتَأْخِيرِ زِيَارَةِ نِسَائِهِ إِلَى اللَّيْلِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ (فَذَهَبَ مَعَهُنَّ) غَيْرُ صَحِيحٍ إِذْ لَمْ يَثْبُتُ عَوْدُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَهُنَّ فِي اللَّيْلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(فَأَتَى عَلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) وَهُمْ أَوْلَادُ الْعَبَّاسِ وَجَمَاعَتُهُ لِأَنَّ سِقَايَةَ الْحَاجِّ كَانَتْ وَظِيفَةً (يَسْقُونَ) أَيْ مَرَّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَنْزِعُونَ الْمَاءَ مِنْ زَمْزَمَ وَيَسْقُونَ النَّاسَ (عَلَى زَمْزَمَ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ يَغْرِفُونَ بِالدِّلَاءِ وَيَصُبُّونَهُ فِي الْحَوْضِ وَنَحْوِهَا فَيَسْلُبُونَهُ (فَقَالَ انْزِعُوا) أَيِ الْمَاءَ أَوِ الدِّلَاءَ (بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) يَعْنِي الْعَبَّاسَ، وَمُتَعَلِّقِيهِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: دَعَا لَهُمْ بِالْقُوَّةِ عَلَى النَّزْعِ وَالِاسْتِقَاءِ، يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ أَيِ النَّزْعَ عَمَلٌ صَالِحٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ لِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لَهُمْ (فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ) أَيْ لَوْلَا مَخَافَةَ كَثْرَةِ الِازْدِحَامِ عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ تُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِكُمْ عَنْ رَغْبَةٍ فِي النَّزْعِ (لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ) وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ لَوْلَا خَوْفِي أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ: فَيَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَغْلِبُونَكُمْ وَيَدْفَعُونَكُمْ عَنِ الِاسْتِقَاءِ لَاسْتَقَيْتُ مَعَكُمْ لِكَثْرَةِ فَضِيلَةِ هَذَا الِاسْتِقَاءِ (فَنَاوَلُوهُ) أَيْ أَعْطَوْهُ (دَلْوًا) رِعَايَةً لِلْأَفْضَلِ (فَشَرِبَ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الدَّلْوِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَشَرِبَ مِنْهَا، وَفِي الْقَامُوسِ الدَّلْوُ مَعْرُوفٌ وَقَدْ يُذَكَّرُ، قِيلَ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ قَائِمًا وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شُرِبَهُ قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِعُذْرٍ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مِنَ الطِّينِ أَوِ الِازْدِحَامِ، فَإِنَّهُ صَحَّ نَهْيُهُ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا بَلْ أَمَرَ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَتَقَيَّأَ مَا شَرِبَهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا بِدُونِ الْعُذْرِ حَرَامٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَيْ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ كَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبَى دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَعَبَدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَالدَّارِمِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ فَقُلْتُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي، سَلْ عَمَّا شِئْتَ فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْمَلَاحِفِ مَنْسُوجَةٍ، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ مُلْتَحِفًا بِهَا كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهَا مِنْ صِغَرِهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّيْنَا، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، الْحَدِيثَ وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ وَأَجْمَعُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ.

2556 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيَحْلِلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ قَالَتْ: فَحِضْتُ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وَأَمْتَشِطَ، وَأُهِلَّ بِالْحَجِّ وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ: فَفَعَلْتُ حَتَّى قَضَيْتُ حَجِّي، بَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكَانَ عُمْرَتِي مِنَ التَّنْعِيمِ قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2556 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ خَرَجْنَا) أَيْ مَعَاشِرُ الصَّحَابَةِ أَوْ جَمَاعَةُ النِّسَاءِ (مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ) أَيْ مُفْرَدَةٍ، وَالْمَعْنَى أَحْرَمَ بِهَا أَوْ لَبَّى بِهَا مَقْرُونَةً بِالنِّيَّةِ (وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) أَيْ مُفْرَدٍ أَوْ مَقْرُونٍ بِعُمْرَةٍ (فَلَمَّا قَدِمْنَا) أَيْ كُلُّنَا (مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ وَهُوَ الظَّاهِرُ (مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ) أَيْ مِنَ الْإِهْدَاءِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ (فَلْيَحْلِلْ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ فَلْيَخْرُجْ مِنَ الْإِحْرَامِ بِحَلْقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى) أَيْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ (فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ) أَيْ مُنْضَمًّا مَعَهَا، وَالْمَعْنَى فَلْيُدْخِلِ الْحَجَّ فِي الْعُمْرَةِ لِيَكُونَ قَارِنًا (ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا) يَعْنِي لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، حَتَّى يُتِمَّ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ جَمِيعًا (وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَحِلُّ) بِالنَّفْيِ وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ (حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ) أَيْ يَوْمَ الْعِيدِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نَحْرُ الْهَدْيِ قَبْلَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى مَعَ قَوْلِهِ: فِي رِوَايَةٍ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى لَا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) : يَحِلُّ إِذَا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَعْنِي قَوْلَهُ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الْمُعْتَمِرَ بِأَنْ يَقْرِنَ الْحَجَّ بِالْعُمْرَةِ، فَلَا يَحِلُّ إِلَّا بِنَحْرِ هَذَا الْهَدْيِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُخْرَى لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ اهـ. وَلَوْ صَحَّ جَعْلُ قَوْلِهِ: (وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَحِلُّ) بَدَلَ قَوْلِهِ (ثُمَّ لَا يَحِلُّ) لَانْحَلَّ الْإِشْكَالُ، وَلِلْحَنَفِيَّةِ وُجُوهٌ أُخَرُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى قَابِلَةٌ أَنَّ تُحْمَلَ عَلَى الثَّانِيَةِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، كَمَا لَا يَخْفَى وَتَحْقِيقُهُ تَقَدَّمَ وَاللَّهُ تَعَالَى

أَعْلَمُ (وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) سَاقَ الْهَدْيَ أَوَّلًا قَرَنَ مَعَهُ عُمْرَةً أَوْ لَا (فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ) أَيْ إِلَّا مَنْ أُمِرَ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ (قَالَتْ: فَحِضْتُ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ) أَيْ لِلْعُمْرَةِ (وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أَيْ وَلَمْ أَسْعَ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا يَصِحُّ السَّعْيُ إِلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ، وَإِلَّا فَالْحَيْضُ لَا يَمْنَعُ مِنَ السَّعْيِ (فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَلَمْ أُهِلَّ) أَيْ: لَمْ أُحْرِمْ أَوَّلًا (إِلَّا بِعُمْرَةٍ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي) أَيْ شَعَرَهُ (وَأَمْتَشِطَ وَأُهِلَّ بِالْحَجِّ) أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أُحْرِمَ بِالْحَجِّ (وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ) أَيْ أَرْفُضَهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَأَتْرُكَهَا بِاسْتِبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ مِنَ التَّمْشِيطِ وَغَيْرِهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهَا بِسَبَبِ الْحَيْضِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَأَسْتَبِيحَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَأُحْرِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْتُ مِنْهُ أُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ، أَيْ قَضَاءً وَهَذَا ظَاهِرٌ (فَفَعَلْتُ حَتَّى قَضَيْتُ حَجِّي بَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيلَ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُمْكِنُ أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَوْلُهُ فَقَالَ بِالْفَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ عَطْفٌ (وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكَانَ عُمْرَتِي) أَيْ بَدَلَهَا، نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ عُمْرَتِي الَّتِي رَفَضْتُهَا (مِنَ التَّنْعِيمِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَعْتَمِرَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَرْسَخٌ، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا بِتَرْكِ الْعُمْرَةِ رَأْسًا، بَلْ أَمَرَهَا بِتَرْكِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَإِدْخَالِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ لِتَكُونَ قَارِنَةً، أَقُولُ: الْقَارِنُ لَا يَسْتَبِيحُ بِالْمَحْظُورِ فَانْقَلَبَ الْمَحْظُورُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا عُمْرَتُهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ فَكَانَتْ تَطَوُّعًا لِتَطِبْ نَفْسُهَا لِئَلَّا تَظُنَّ خَوْفَ نُقْصَانٍ بِتَرْكِ أَعْمَالِ عُمْرَتِهَا، أَقُولُ: حَاشَاهَا أَنَّ تَظُنَّ هَذَا الظَّنَّ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ بِتَدَاخُلِ الْأَفْعَالِ (قَالَتْ: فَطَافَ) أَيْ طَوَافَ الْعُمْرَةِ (الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ) أَيِ الَّذِينَ أَفْرَدُوا الْعُمْرَةَ عَنِ الْحَجِّ (بِالْبَيْتِ) مُتَعَلِّقٍ بِطَافَ (وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) وَالطَّوَافُ يُرَادُ بِهِ الدَّوْرُ الَّذِي يَشْمَلُ السَّعْيَ فَصَحَّ الْعَطْفُ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ، وَجَعْلُهُ نَظِيرَ: " عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ". (ثُمَّ حَلُّوا) أَيْ خَرَجُوا مِنَ الْإِحْرَامِ (ثُمَّ طَافُوا طَوَافَهَا) أَيْ لِلْحَجِّ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ (بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى) أَيْ إِلَى مَكَّةَ (وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أَيِ ابْتِدَاءً أَوْ إِدْخَالًا لِأَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ (فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) أَيْ يَوْمَ النَّحْرِ لَهُمَا جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَنَا يَلْزَمُ الْقَارِنُ طَوَافَانِ: طَوَافٌ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافٌ بَعْدَهُ لِلْحَجِّ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا كَمَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ طَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ لِلزِّيَارَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَكَيْفَ يَكُونُ طَوَافُهُمْ وَاحِدًا وَهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ) أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا لِلْحَجِّ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ مِنًى لِمَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ طَوَافٍ آخَرَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ (وَاحِدًا) تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ تَعَدُّدِ الطَّوَافِ لِلْقَارِنِ بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَيَكُونُ مُرَادُهَا - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - بِالطَّوَافِ طَوَافَ الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالتَّحِيَّةِ وَهُوَ سُنَّةٌ إِجْمَاعًا، أَوْ طَوَافَ فَرَضِ عُمْرَةٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ عِنْدَنَا لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى بِسَعْيَيْنِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ الْقَارِنُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2557 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ - اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ؛ فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2557 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بَنْ عُمَرَ قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) قِيلَ: الْمُرَادُ التَّمَتُّعُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ الْقِرَانُ آخِرًا، وَمَعْنَاهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، فَصَارَ قَارِنًا فِي آخِرِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كَمَا مَرَّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَبَدَأَ، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ) ، وَهَذَا الْإِدْخَالُ أَفْضَلُ مِنْ عَكْسِهِ، مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ صَرِيحًا فِي أَحَادِيثَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، فَكَيْفَ يُصَارُ إِلَيْهِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مُعَارَضًا، فَالَّذِي أَذِنَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَبْتَدِئُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ، وَقَدِ اعْتَمَرَ مِرَارًا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا أَوَّلًا وَمَعْنَى قَوْلِهِ (فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ) أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ قَدَّمَ ذِكْرَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ الْوَجْهُ الْمَسْنُونُ فِي الْقِرَانِ دُونَ الْعَكْسِ، ثُمَّ كَانَ أَكْثَرُ مَا يَذْكُرُ فِي إِحْرَامِهِ الْحَجَّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْمَفْرُوضُ، وَالْعُمْرَةَ سُنَّةٌ تَابِعَةٌ، وَلَاشَكَّ أَنَّ حَمْلَ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ، (فَتَمَتَّعَ النَّاسُ) أَيْ أَكْثَرُهُمْ، هَذَا التَّمَتُّعُ اللُّغَوِيُّ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ (مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أَيْ بِضَمِّهَا إِلَيْهِ (فَكَانَ مِنَ النَّاسِ) أَيِ: الَّذِينَ أَحْرَمُوا بِالْعُمْرَةِ (مَنْ أَهْدَى) أَيْ: سَاقَ الْهَدْيَ (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ) أَيِ: الْمُعْتَمِرِينَ ( «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ» ) ، وَفِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ( «وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ» ) أَيْ: طَوَافَ الْعُمْرَةِ (وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ) أَيْ: إِبْقَاءً لِلشَّعْرِ لِتَحَلُّلِ الْحَجِّ (وَلْيَحْلِلْ) أَيْ: لِيَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِاسْتِمْتَاعِ الْمَحْظُورَاتِ (ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ) أَيْ: لِيُحْرِمَ بِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ (وَلْيُهْدِ) أَيْ: لِيَذْبَحِ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ، قَبْلَ الْحَلْقِ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أَيْ: فِي أَشْهُرِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ (وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ) تَوْسِعَةً، وَلَوْ صَامَ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمَكَّةَ جَازَ عِنْدَنَا. (فَطَافَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ) أَيْ: طَوَافَ الْعُمْرَةِ (وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ) أَيِ: الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ (أَوَّلَ شَيْءٍ) أَيْ: مِنْ أَفْعَالِ الطَّوَافِ بَعْدَ النِّيَّةِ (ثُمَّ خَبَّ) أَيْ: رَمَلَ (ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ) أَيْ: فِي ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالرُّجُولِيَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَفِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَيْلَا يَظُنَّ الْكُفَّارُ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ ضُعَفَاءُ، قُلْتُ: هَذَا كَانَ عِلَّةَ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّتِ السُّنَّةُ بَعْدَ زَوَالِ الْعِلَّةِ (وَمَشَى) أَيْ: بِسُكُونٍ، وَهَيْنَةٍ (أَرْبَعًا) أَيْ: فِي أَرْبَعِ مَرَّاتٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ (فَرَكَعَ) أَيْ: صَلَّى (حِينَ قَضَى) أَيْ: أَدَّى، وَأَتَمَّ (طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ " رَكَعَ " (رَكْعَتَيْنِ) أَيْ: صَلَاةَ الطَّوَافِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (ثُمَّ سَلَّمَ) أَيْ: مِنْ صَلَاتِهِ، أَوْ عَلَى الْحَجَرِ، بِأَنِ اسْتَلَمَهُ (فَانْصَرَفَ) أَيْ: عَنِ الْبَيْتِ، أَوْ عَنِ الْمَسْجِدِ (فَأَتَى الصَّفَا) ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَالْمَرْوَةَ (فَطَافَ) أَيْ: سَعَى (بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ) أَيْ: أَشْوَاطٍ (ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ) ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِالْحَلْقِ فِيمَا عَدَا الْجِمَاعَ (وَأَفَاضَ) أَيْ: إِلَى مَكَّةَ (فَطَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ: طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ) وَهُوَ التَّحَلُّلُ الثَّانِي الْمُحَلِّلُ لِلنِّسَاءِ (وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ) أَيْ: مُطْلَقًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: " «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّاجًا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَزَلْنَا، فَجَلَسَتْ عَائِشَةُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ زَامِلَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَامِلَةُ أَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً مَعَ غُلَامٍ لِأَبِي بَكْرٍ، فَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ، فَطَلَعَ، وَلَيْسَ مَعَهُ بَعِيرُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَيْنَ بَعِيرُكَ؟ فَقَالَ: أَضْلَلْتُهُ الْبَارِحَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَعِيرٌ وَاحِدٌ تُضِلُّهُ، وَطَفِقَ يَضْرِبُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْتَسِمُ وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ، وَمَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَبْتَسِمُ» " وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: تَمَامُ الْحَجِّ ضَرْبُ الْجَمَّالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سُنَّةِ الصِّدِّيقِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَرَّرَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ، وَلَمَّا بَلَغَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَبْوَاءَ، وَوَدَّانَ أَهْدَى لَهُ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى فِي وَجْهِهِ أَيْ: مِنَ التَّغَيُّرِ لَا مِنَ الْغَضَبِ - كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " «أَنَّهُ بَعْضُ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ يَقْطُرُ دَمُهُ» " وَعَيَّنَ بَعْضٌ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ الْعَجُزُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ شِقُّهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا، وَبَعْضَ مَذْبُوحٍ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا أَنَّهُ رُدَّ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: «أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ عَجُزَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ، وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، فَأَكَلَ مِنْهُ» ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا، فَلَعَلَّهُ رَدَّ الْحَيَّ، وَقَبِلَ اللَّحْمَ، وَإِنَّمَا رَدَّ الْحَيَّ لِكَوْنِهِ صَيْدًا، وَرَدَّ اللَّحْمَ تَارَةً لِكَوْنِهِ ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ، وَقَبِلَ أُخْرَى حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِهِ، وَيَحْتَمِلُ حَمْلُ قَبُولِهِ عَلَى حَالِ رُجُوعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْجُحْفَةِ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ أَنَّهُ حَالَ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ عَدَمُ قَبُولِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحْضَرَ الْحِمَارَ مَذْبُوحًا، ثُمَّ قَطَعَ مِنْهُ جُزْءًا بِحَضْرَتِهِ، فَقَدَّمَهُ لَهُ، فَمَنْ قَالَ: أَهْدَى حِمَارًا أَرَادَ ابْتِدَاءً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ مَا قَدَّمَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَهْدَاهُ لَهُ حَيًّا، فَلَمَّا رَدَّهُ ذَكَّاهُ، وَأَتَاهُ بِبَعْضِهِ ظَانًّا أَنَّ الرَّدَّ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِجُمْلَتِهِ، فَأَعْلَمَهُ بِامْتِنَاعِهِ أَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَالْجَمْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ تَوْهِيمِ بَعْضِ الرُّوَاةِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ حَيًّا مُغَايِرٌ لِلْجُزْءِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ صَيْدٌ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ، وَأَمَّا الْجُزْءُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ فَيَحِلَّ، أَوْ صِيدَ لَهُ فَيَحْرُمُ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لَحْمُ الصَّيْدِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَخْذًا بِقَضِيَّةِ الصَّعْبِ، وَالْجُمْهُورُ أَخَذُوا بِخَبَرِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي الصَّيْدِ الَّذِي صَادَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِينَ: هُوَ حَلَالٌ فَكُلُوهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: " «هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَهَا» .

2558 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الْهَدْيُ فَلْيَحِلَّ الْحِلَّ كُلَّهُ، فَإِنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2558 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا) الِاسْتِمْتَاعُ هُنَا تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ، وَالْفَرَاغُ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُتَمَتِّعًا، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ اسْتَمْتَعَ بِأَنْ قَدَّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، وَاسْتَبَاحَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُحْرِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ، أَقُولُ: هَذَا خَطَأٌ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا اسْتَبَاحَ الْمَحْظُورَاتِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا أَوَّلَ قَوْلَهُ: " اسْتَمْتَعْنَا " بِأَنِ اسْتَمْتَعَ مَنْ أَمَرْتُهُ مِنْ أَصْحَابِي بِتَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَأَضَافَ فِعْلَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ اهـ. وَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ لُغَوِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ (فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الْهَدْيُ فَلْيَحِلَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ (الْحِلَّ) نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَوْلُهُ: (كُلَّهُ) تَأْكِيدٌ لَهُ أَيِ: الْحِلَّ التَّامَّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: فَلْيَجْعَلْ حَلَالًا عَلَى نَفْسِهِ جَمِيعَ مَا حَلَّ لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِهَا. اهـ كَلَامُهُ. وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ " فَلْيُحِلَّ " بِضَمِّ الْيَاءِ، وَهُوَ كَذَا فِي نُسْخَةٍ (فَإِنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ) أَيْ: فِي أَشْهُرِهِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي أَنَّ دُخُولَهَا فِيهِ فِي أَشْهُرِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ السَّنَةِ، بَلْ يَجُوزُ فِي جَمِيعِ السِّنِينَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ) أَيْ: فِي الْمَصَابِيحِ (عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَنْ تَرْكِهِ، وَلِئَلَّا يُشْكِلَ قَوْلُهُ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2559 - عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي نَاسٍ مَعِي قَالَ: «أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: فَقَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ: حِلُّوا، وَأَصِيبُوا النِّسَاءَ، قَالَ عَطَاءٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، فَقُلْنَا: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نُفْضِيَ إِلَى نِسَائِنَا، فَنَأْتِيَ عرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ، قَالَ: يَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ بِيَدِهِ يُحَرِّكُهَا، قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا، فَقَالَ: قَدْ " عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ، وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ فَحِلُّوا، فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا. قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ: فَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ سِعَايَتِهِ، فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ، قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَهْدِ، وَامْكُثْ حَرَامًا، قَالَ: وَأَهْدَى لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا، فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَقَالَ: لِأَبَدٍ» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2559 - (عَنْ عَطَاءٍ) أَيِ: ابْنِ رَبَاحٍ - تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ مَكِّيٌّ - (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي نَاسٍ مَعِي قَالَ: أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ " يَعْنِي " أَوْ أَعْنِي، أَيْ: أَحْرَمْنَا (بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ) أَيْ: عَلَى زَعْمِ جَابِرٍ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، أَوْ أَرَادَ بِالْأَصْحَابِ أَكْثَرَهُمْ، أَوْ بَعْضَهُمْ، أَوْ مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ حَجِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا (قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَقَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ لَا غَيْرَ (فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ) أَيْ: نَفْسَخَ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ (قَالَ عَطَاءٌ) أَيْ: رَاوِيًا عَنْ جَابِرٍ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حِلُّوا) بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ (وَأَصِيبُوا النِّسَاءَ) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلِاهْتِمَامِ، وَتَنْصِيصٌ لِدَفْعِ الْإِيهَامِ مِنَ الْإِبْهَامِ. (قَالَ عَطَاءٌ وَلَمْ يَعْزِمْ) أَيْ: يُوجِبِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ) يَعْنِي لَمْ يَجْعَلِ الْجِمَاع عَزِيمَةً عَلَيْهِمْ، بَلْ جَعَلَهُ رُخْصَةً لَهُمْ، بِخِلَافِ الْفَسْخِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَزِيمَةً، فَأَمْرُ (حِلُّوا) لِلْوُجُوبِ (وَأَصِيبُوا) لِلْإِبَاحَةِ، أَوْ لِلِاسْتِحْبَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: قَالَ عَطَاءٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ جَابِرٍ: " فَأَمَرَنَا " ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا التَّفْسِيرَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ جَزْمًا (فَقُلْنَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ) أَيْ: حِينَ لَمْ يَبْقَ (بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا خَمْسٌ) أَيْ: مِنَ اللَّيَالِي بِحِسَابِ لَيْلَةِ عَرَفَةَ، أَوْ مِنَ الْأَيَّامِ بِحِسَابِ يَوْمِ الْأَحَدِ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ (أَمَرَنَا) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (أَنْ نُفْضِيَ) مِنَ الْإِفْضَاءِ أَيْ: نَصِلْ (إِلَى نِسَائِنَا) ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] (فَنَأْتِي) بِالرَّفْعِ أَيْ: فَنَحْنُ حِينَئِذٍ نَأْتِي (عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قُرْبِ الْجِمَاعِ، وَكَانَ هَذَا عَيْبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ يَعُدُّونَهُ نَقْصًا فِي الْحَجِّ. (قَالَ) أَيْ: عَطَاءٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (يَقُولُ) أَيْ: يُشِيرُ (جَابِرٌ بِيَدِهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ) أَيْ: إِشَارَتِهِ (بِيَدِهِ يُحَرِّكُهَا) أَيْ: يَدَهُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ تَحْرِيكِ الْمَذَاكِيرِ بِتَشْبِيهِ الْيَدِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَرَفَةَ، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّأَسُّفِ لَدَيْهِمْ (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا) أَيْ: خَطِيبًا (فَقَالَ قَدْ عَلِمْتُمْ) أَيِ اعْتَقَدْتُمْ (أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ) أَيْ: أَدْيَنُكُمْ، أَوْ أَخْشَاكُمْ (وَأَصْدَقُكُمْ) أَيْ: قَوْلًا (وَأَبَرُّكُمْ) أَيْ: عَمَلًا (وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) مَا مَوْصُولَةٌ مَحَلُّهَا النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ) وَكُنْتُ حَلَلْتُ مَعَكُمْ أَرَادَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطْيِيبَ قُلُوبِهِمْ، وَتَسْكِينَ نُفُوسِهِمْ فِي صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ بِفِعْلِهِ، وَهُمْ يُحِبُّونَ مُتَابَعَتَهُ، وَكَمَالَ مُوَافَقَتِهِ وَلِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَمُقَارَبَةِ النِّسَاءِ قُرْبَ عَرَفَةَ (فَحِلُّوا) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَمْرٌ لِلتَّأْكِيدِ (فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا) أَيْ: مُنْشَرِحِينَ، مُنْبَسِطِينَ حَيْثُ ظَهَرَ لَنَا عُذْرُ الْمُخَالَفَةِ، وَحِكْمَةُ عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ. (قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ سِعَايَتِهِ) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: مِنْ عَمَلِهِ مِنَ الْقَضَاءِ، وَغَيْرِهِ فِي الْيَمَنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: مِنْ تَوْلِيَةِ اسْتِخْرَاجِ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَرْبَابِهَا، وَبِهِ سُمِّيَ عَامِلُ الزَّكَاةِ السَّاعِيَ، وَلَا

مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَهْدِ) أَيْ: فِي وَقْتِ الْهَدْيِ دَمَ الْقِرَانِ (وَامْكُثْ) أَيِ: الْآنَ (حَرَامًا) أَيْ: مُحْرِمًا (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ (وَأَهْدَى) أَيْ: أَتَى بِالْهَدْيِ (لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا) أَيْ: مِنَ الْيَمَنِ كَمَا سَبَقَ، أَوْ ذَبَحَ لِنَفْسِهِ هَدْيًا فِي نُسُكِهِ (فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا) أَيْ: جَوَازُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوْ جَوَازُ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ السَّنَةِ (أَمْ لِأَبَدٍ؟ قَالَ: لِأَبَدٍ) ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَحْمَدَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2560 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَوْ خَمْسٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقُلْتُ: مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ، قَالَ: أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ، فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَحِلَّ كَمَا حَلُّوا» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2560 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَرْبَعٍ) أَيْ: لَيَالٍ (مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ خَمْسٍ) شَكٌّ مِنْهَا، أَوْ مِنَ الرَّاوِي عَنْهَا (فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَانُ) أَيْ: مَلْآنُ مِنَ الْغَضَبِ حِينَ تَأَخَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ لِإِحْدَى الْعِلَلِ الْمُشْتَهِرَةِ (فَقُلْتُ: مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ) دُعَاءٌ، أَوْ إِخْبَارٌ (قَالَ: أَوَ مَا شَعَرْتِ) أَيْ: أَوَ مَا عَلِمْتِ (أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ) أَيْ: بَعْضَهُمْ (بِأَمْرٍ) ، وَهُوَ فَسْخُ الْحَجِّ (فَإِذَا هُمْ) أَيْ: بَعْضُهُمْ (يَتَرَدَّدُونَ) أَيْ: فِي طَاعَةِ الْأَمْرِ وَمُسَارَعَتِهِ، أَوْ فِي أَنَّ هَذِهِ الْإِطَاعَةَ هَلْ هِيَ نُقْصَانٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَجِّهِمْ ( «وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي حَتَّى أَشْتَرِيَهُ» ) أَيِ: الْهَدْيَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ (ثُمَّ أَحِلَّ) أَيْ: بِالْفَسْخِ (كَمَا حَلُّوا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى -.

[باب دخول مكة والطواف]

[بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ وَالطَّوَافِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2561 - عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: «إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ، فَيَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا، وَإِذَا نَفَرَ مِنْهَا مَرَّ بِذِي طُوًى، وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (3) بَابٌ: دُخُولُ مَكَّةَ أَيْ: آدَابُ دُخُولِهَا (وَالطَّوَافُ) عَطْفٌ عَلَى الْمُضَافِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2561 - (عَنْ نَافِعٍ) أَيْ: مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ) بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: لَا يَجِيئُهَا (إِلَّا بَاتَ) أَيْ: نَزَلَ فِي اللَّيْلِ (بِذِي طُوًى) بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَضَمِّهَا، وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ، وَأَشْهَرُ، ثُمَّ الضَّمُّ أَكْثَرُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَيُصْرَفُ، وَلَا يُصْرَفُ، مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ دَاخِلَ الْحَرَمِ، وَقِيلَ: اسْمُ بِئْرٍ عِنْدَ مَكَّةَ فِي طَرِيقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَغْتَسِلَ، وَيُصَلِّيَ، فَيَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ (رَحِمَهُ اللَّهُ) : فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْخُلَهَا نَهَارًا لِيَرَى الْبَيْتَ مِنَ الْبُعْدِ اهـ. وَقِيلَ: لِيَسْلَمَ عَنِ الْحَرَامِيَّةِ بِمَكَّةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَلِلِاغْتِسَالِ، وَالنَّظَافَةِ (وَإِذَا نَفَرَ) أَيْ: خَرَجَ (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ مَكَّةَ (مَرَّ بِذِي طُوًى وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ) ، انْتِظَارًا لِأَصْحَابِهِ، وَاهْتِمَامًا لِجَمْعِ أَسْبَابِهِ (وَيَذْكُرُ) عَطْفٌ عَلَى " لَا يَقْدَمُ " أَيْ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَذْكُرُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذَكَرَ فِي وَقْتَيِ الْوُلُوجِ وَالْخُرُوجِ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: وَسَنَا بَرْقٍ نَفَى عَنِّي الْكَرَى لَمْ يَزَلْ يَلْمَعُ بِي مِنْ ذِي طَوَى مَنْزِلٌ سَلْمَى بِهِ نَازِلَةٌ طَيِّبُ السَّاحَةِ مَعْمُورُ الْفَنَا فِي " النِّهَايَةِ ": لَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمَّا رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَخَلَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، دَخَلَهَا فِي حَجِّهِ نَهَارًا، وَلَيْلًا فِي عُمْرَتِهِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنِ الدُّخُولِ لَيْلًا، فَلَيْسَ تَقْرِيرًا لِلسُّنَّةِ، بَلْ شَفَقَةً عَلَى الْحَاجِّ مِنَ السُّرَّاقِ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانُوا يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ مُشَاةً حُفَاةً، وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَيَقْضُونَ الْمَنَاسِكَ حُفَاةً مُشَاةً، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ حَجَّ الْبَيْتَ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَضَعُونَ نِعَالَهُمْ بِالتَّنْعِيمِ، وَيَدْخُلُونَهَا حُفَاةً تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2562 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2562 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ: عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعَهُ حِينَئِذٍ (لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ) أَيْ: وَصَلَ إِلَى قُرْبِهَا (دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا) وَكَذَا دَخَلَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ مِنْهَا (وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا) أَيْ: لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ بِأَعْلَاهَا ثَنِيَّةُ كَدَاءٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ وَالتَّنْوِينِ، وَعَدَمُهُ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ عَلِمَ الْمَكَانَ، أَوِ الْبُقْعَةَ، وَهِيَ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا إِلَى الْمَقْبَرَةِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْمَعْلَاةِ، وَتُسَمَّى بِالْحَجُونِ عَنِ الْخَاصَّةِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الثَّنِيَّةِ الَّتِي قَبْلَهُ بِيَسِيرٍ، وَالثَّنِيَّةُ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَبِأَسْفَلِهَا ثَنِيَّةُ كُدًى بِضَمِّ الْكَافِ وَالْكَسْرِ، وَالتَّنْوِينِ، وَتَرْكِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ بِبَابِ الشَّبِيكَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ دُخُولُ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَالْخُرُوجُ مِنَ السُّفْلَى، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الثَّنِيَّةُ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ كَالْمَدَنِيِّ، أَوْ لَا كَالْيَمَنِيِّ، قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ فِي الطَّرِيقِ دَاخِلًا، أَوْ خَارِجًا لِلْفَأْلِ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ إِلَى أَكْمَلَ مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ فِي الْعِيدِ، وَلِيَشْهَدَ لَهُ الطَّرِيقَانِ، وَلِيَتَبَرَّكَ بِهِ أَهْلُهُمَا اهـ. أَوْ لِمُنَاسَبَةِ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا لِلدَّاخِلِ الْمُقْبِلِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْنِ، وَلِمُنَاسَبَةِ السُّفْلَى لِمُوَدِّعِهِ بِالذَّهَابِ إِلَى قَفَاهُ، أَوْ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ إِلَى مَكَّةَ يُنَاسِبُهُ الظُّهُورُ، وَالْإِعْلَانُ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ يُلَائِمُهُ الْخَفَاءُ، وَالْكِتْمَانُ، فَإِنَّ الدُّخُولَ فِيهِ حَسَنَةٌ، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا فِي صُورَةٍ سَيِّئَةٌ، وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ عَلَى الْعُلْيَا حِينَ قَالَ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] كَمَا رَوَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ نَادَى عَلَى حَجَرِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَقَامِ، وَعَلَى الْعُلْيَا أَيْضًا: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ بَنَى لَكُمْ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَأَجَابَتْهُ النُّطَفُ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ: لَبَّيْكَ. وَكُلُّ مَنْ كُتِبَ لَهُ تَكْرِيرُ النُّسُكِ تَكَرَّرَتْ إِجَابَتُهُ بِقَدْرِ مَا كُتِبَ لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَجَابَتْهُ الْأَرْوَاحُ، وَالْأَشْبَاحُ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقُضِيَ أَنْ تَشْرُفَ بِزِيَارَةِ بَيْتِ اللَّهِ، وَتَسْمَعَ نِدَاءَ مَنْ نَادَاهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2563 - وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدْ «حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَإِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ مِثْلَ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2563 - (وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ) أَيْ: جَدَّدَ الْوُضُوءَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ، أَوِ الْمُرَادُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، وَعَلَى كُلٍّ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ بِدُونِهَا، فَعِنْدَنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» " إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ النُّطْقَ فَمَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، مَعَ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَدْعِي الْمُشَارَكَةَ مَعَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فِي الطَّوَافِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِهِمَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَنْظُرِ الْجُمْهُورُ إِلَى ضَعْفِ إِسْنَادِ رَفْعِهِ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حُجَّتِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ إِفَادَةٌ شَرْطِيَّةٌ (ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ: طَوَافَ الْعُمْرَةِ لِكَوْنِهِ قَارِنًا، أَوْ مُتَمَتِّعًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ طَوَافَ الْقُدُومِ لِتَدَاخُلِ الْأَفْعَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِلْقَارِنِ، وَهَذَا وَهْمٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُفْرِدِ، وَالْقَارِنِ يُسَنُّ لَهُ طَوَافُ الْقُدُومِ اتِّفَاقًا، بَلْ قَالَ مَالِكٌ: بِوُجُوبِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ طَوَافُ الرُّكْنِ حِينَئِذٍ مِنْهُمَا، إِذْ هُوَ فِي حَقِّهِمَا إِنَّمَا يَدْخُلُ وَقْتُهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ إِجْمَاعًا، وَطَوَافُ الْقُدُومِ يَفُوتُ بِالْوُقُوفِ إِجْمَاعًا (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) بِالتَّأْنِيثِ، وَالتَّذْكِيرِ (عُمْرَةً) أَيْ: ثُمَّ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ عُمْرَةٌ، فَإِنَّهُ اكْتَفَى بِالْعُمْرَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْحَجِّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: يَعْنِي إِفْرَادَ الْحَجَّ،

وَفِيهِ أَنَّهُ إِفْرَادُ الْحَجِّ بِدُونِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ خِلَافِ الْأَفْضَلِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ عُمْرَةً حَتَّى يُوَفِّيَ أَعْمَالَهَا مِنَ السَّعْيِ وَالْحَلْقِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الطَّوَافِ، كَمَا تُفِيدُهُ رِوَايَةُ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، أَيِ: الطَّوَافُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَوَافَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِلْقُدُومِ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا لِلْمُفْرِدِ، وَلِلْقَارِنِ أَفْعَالٌ تَتَدَاخَلُ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا. (ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ) بِالرَّفْعِ (بَدَأَ بِهِ) الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مِثْلَ ذَلِكَ) بِالنَّصْبِ أَيْ: فَعَلَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، أَيْ: فِعْلُهُمَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ عُمْرَةٌ مُفْرَدَةٌ بَعْدَ حَجِّهِمْ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِضَرُورَةِ رَفْضِ عُمْرَتِهَا، ثُمَّ إِتْيَانِ قَضَائِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ لِلْمَصَابِيحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، كَذَا فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَمَعْنَاهُ لَمْ يَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ نَسَقُ الْكَلَامِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى تَمَامِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ لِمَا فِي سِيَاقِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرِوَايَتُهُ: أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ، وَبِهِ انْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّوَابُ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِلَّا أَنْ يَصِحَّ بِذَلِكَ نَقْلٌ مِنْ خَارِجٍ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ: " ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ " مَكَانَ: " ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عُمْرَةً " وَمَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَحَلُّلٌ بِالطَّوَافِ مِنَ الْإِحْرَامِ، بَلْ أَقَامُوا عَلَى إِحْرَامِهِمْ حَتَّى نَحَرُوا هَدْيَهُمْ.

2564 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2564 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْحَجِّ (أَوْ بِالْعُمْرَةِ) الظَّاهِرُ أَنَّ: " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ لِيَسْتَقِيمَ قَوْلُهُ (كَانَ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ) ظَرْفُ (سَعَى) جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفَ " طَافَ " أَيْ: رَمَلَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ: (ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ) أَيْ: أَشْوَاطٍ، وَنَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ فِيهِ، لَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمُرَادُ بِالرَّمَلِ: الْخَبَبُ، وَهُوَ أَنْ يُقَارِبَ خُطَاهُ بِسُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ عَدْوٍ، وَلَا وَثْبٍ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دُونَ الْخَبَبِ،، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ (وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ) أَيْ: صَلَّى (سَجْدَتَيْنِ) أَيْ: رَكْعَتَيْنِ لِلطَّوَافِ (ثُمَّ يَطُوفُ) أَيْ: يَسْعَى (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِيهِ، وَفِي " يَقْدَمُ " لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2565 - وَعَنْهُ قَالَ: «رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2565 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَ: رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَجَرِ) أَيِ: الْأَسْوَدِ (إِلَى الْحَجَرِ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْمُلْ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ (ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، وَمَنْ يَسْعَى) أَيْ: يُسْرِعُ، وَيَشْتَدُّ عَدْوًا (بِبَطْنِ الْمَسِيلِ) : اسْمُ مَوْضِعٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَجَعَلَ عَلَامَتَهُ بِالْأَمْيَالِ الْخُضْرِ (إِذَا طَافَ) أَيْ: سَعَى (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) . وَالسَّعْيُ: وَاجِبٌ عِنْدَنَا رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْإِسْرَاعُ سُنَّةٌ اتِّفَاقًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، اعْلَمْ أَنَّ رَمَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ، وَكَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، فَلِذَا قَدَّمُوهُ عَلَى خَبَرِ مُسْلِمٍ أَيْضًا الْوَاقِعِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا لِيَفْعَلُوهَا قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ فِيهِمْ: إِنَّ حُمَّى يَثْرِبَ

وَهَنَتْهُمْ، وَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ، فَأَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا فِيمَا يَلِي الْحَجَرَ فَقَطْ، فَتَعَجَّبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ بَقَاءِ جَلَدِهِمْ، وَقُوَّتِهِمْ، وَلِذَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ (كَأَنَّهُمُ الْغِزْلَانُ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ: لَمْ يَمْنَعْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَمَرَّ شَرْعُهُ بِدَلِيلِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَعَ زَوَالِ سَبَبِهِ مِنْ إِظْهَارِ الْقُوَّةِ لِلْكُفَّارِ لِيَسْتَحْضِرَ فَاعِلُهُ سَبَبَهُ، وَهُوَ ظُهُورُ الْكُفَّارِ، لَا سِيَّمَا بِذَلِكَ الْمَحَلَّ الْأَشْرَفَ، ثُمَّ انْطِفَاءَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَزِيدُ شُكْرَهُ لِرَبِّهِ عَلَى إِعْزَازِ دِينِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي الْخِدْمَةِ. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: فِيمَا الرَّمَلُ وَكَشْفُ الْمَنَاكِبِ فِي الِاضْطِبَاعِ، وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَتْرُكُ شَيْئًا نَصْنَعُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

2566 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2566 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ) أَيِ: الْأَسْوَدَ الْأَسْعَدَ (فَاسْتَلَمَهُ) أَيْ: لَمَسَهُ، وَقَبَّلَهُ، وَلَيْسَ فِي الْمَشَاهِيرِ السَّجْدَةُ عَلَيْهِ، وَلَا التَّثْلِيثُ لَدَيْهِ (ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ) أَيْ: يَمِينِ نَفْسِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ، وَقِيلَ: عَلَى يَمِينِ الْحَجَرِ، وَالْمَعْنَى يَدُورُ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ عَلَى يَسَارِهِ، لِيَكُونَ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ بَيْتُ الرَّبِّ مُحَاذِيًا لِبَيْتِ اللَّهِ فِي مَقَامِ الْقُرْبِ. (فَرَمَلَ ثَلَاثًا) أَيْ: فِي ثَلَاثِ مَرَّاتٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ (وَمَشَى أَرْبَعًا) أَيْ: بِالسُّكُونِ وَالْهَيْنَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2567 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2567 - (وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا فِي " الْكَاشِفِ " وَالْمَذْكُورُ فِي " جَامِعِ الْأُصُولِ " أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ عَدِيٍّ مِنَ التَّابِعِينَ اهـ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: إِنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ عَدِيٍّ كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَرَبِيِّ تَابِعِيٌّ بَصْرِيٌّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - اهـ. فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ " الْكَاشِفِ " وَ " الْجَامِعِ " عَلَى مَا يُوهِمُهُ نَقْلُ الطِّيبِيِّ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي " الْكَاشِفِ " لِأَنَّهُ مَنْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ. (قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ) أَهُوَ سُنَّةٌ؟ (فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُهُ) أَيْ: بِاللَّمْسِ، وَوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ (وَيُقَبِّلُهُ) . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2568 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «لَمْ أَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2568 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ) : أَيْ: مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ مِنْ أَجْزَائِهِ (إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْأُولَى، وَيُشَدَّدُ: قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَالْيَمَانِي، وَالْآخَرَانِ يُسَمَّيَانِ الشَّامِيَّيْنِ اهـ. فَفِيهِمَا تَغْلِيبٌ، وَإِنَّمَا اسْتَلَمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمَا بَقِيَا عَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاسْتِلَامُ الْحَجَرِ: لَمْسُهُ إِمَّا بِالْيَدِ، أَوْ بِالْقُبْلَةِ، أَوْ بِهِمَا، وَأَمَّا اسْتِلَامُ الْيَمَانِي، فَبِالْيَدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِنَا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْبَيْتِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ؛ الْأَوَّلُ: لَهُ فَضِيلَتَانِ: كَوْنُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالثَّانِي: كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقَطْ، وَلَيْسَ لَلْآخَرَانِ شَيْءٌ مِنْهُمَا، وَلِذَلِكَ يُقَبَّلُ الْأَوَّلُ، وَيُسْتَلَمُ الثَّانِي، وَلَا يُقَبَّلُ الْآخَرَانِ، وَلَا يُسْتَلَمَانِ، هَذَا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ تَقْبِيلَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي اهـ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قِيَاسًا عَلَى الرُّكْنِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2569 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2569 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ) : وَهَذَا فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِمَّا لِخُصُوصِيَّةٍ، أَوْ لِعُذْرِيَّةٍ، فَإِنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ عِنْدَنَا وَاجِبٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا طَافَ رَاكِبًا مَعَ أَنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ، لِيَرَاهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَذَلِكَ لِازْدِحَامِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ. (يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ) : أَيْ: يُشِيرُ إِلَيْهِ بِعَصًا مُعْوَجَّةِ الرَّأْسِ كَالصَّوْلَجَانِ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْرَجَ السِّتَّةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ، لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ، وَلِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ جَابِرٍ إِلَى قَوْلِهِ: " لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ» ، وَهُنَا إِشْكَالٌ حَدِيثِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِلَا شُبْهَةٍ أَنَّهُ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَهَذَا يُنَافِي طَوَافَهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَإِنْ أُجِيبَ بِحَمْلِ حَدِيثِ الرَّاحِلَةِ عَلَى الْعُمْرَةِ دَفَعَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي مُسْلِمٍ (طَافَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ عَنْهُ) وَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِيهِ أَنَّهُ احْتَمَلَ كَوْنَهُ لِلرُّكْنِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ طَافَ مَاشِيًا لَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنِ الْحَجَرِ كُلَّمَا مَرَّ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْقِيرًا لَهُ أَنْ يُزَاحِمَ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَ مَرْجِعِهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي لَوْ لَمْ يَرْكَبْ لَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَامَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ لِسُؤَالٍ، أَوْ لِرُؤْيَةٍ، أَوْ لِاقْتِدَاءٍ لَا يَقْدِرُ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ حَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ حَاجَتِهِ، فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِمُوَافَقَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَحْصُلُ اجْتِمَاعُ الْحَدِيثَيْنِ دُونَ تَعَارُضِهِمَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي الْحَجِّ لِلْآفَاقِيِّ طَوْفَةً، فَيُمْكِنُ كَوْنُ الْمَرْوِيِّ مِنْ رُكُوبِهِ كَانَ فِي طَوَافِ الْفَرْضِ يَوْمَ النَّحْرِ لِيُعَلِّمَهُمْ، وَمَشْيُهُ كَانَ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ؛ لِأَنَّهُ حُكِيَ فِي طَوَافِهِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ أَوَّلَ دُخُولِ مَكَّةَ، كَمَا يُفِيدُهُ سَوْقُهُ لِلنَّاظِرِ فِيهِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ إِنَّمَا طَافَ رَاكِبًا لِيُشْرِفَ، وَيَرَاهُ النَّاسُ، فَيَسْأَلُونَهُ، وَبَيْنَ مَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ إِنَّمَا طَافَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَكِي، كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، أَنَّهُ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَعَ عِكْرِمَةَ، فَجَعَلَ حَمَّادٌ يَصْعَدُ الصَّفَا، وَعِكْرِمَةُ لَا يَصْعَدُهَا، فَقَالَ حَمَّادٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَا تَصْعَدُ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ؟ فَقَالَ: هَكَذَا كَانَ طَوَافُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ حَمَّادٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنٍ، فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَمَنْ أَحَلَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْعَدْ. اهـ. فَالْجَوَابُ: نَعَمْ؛ بِأَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْعُمْرَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَمَلَ بِالْبَيْتِ؟ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ، وَهَذَا لَازِمٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْعُمْرَةِ إِذْ لَا مُشْرِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ، فَالْجَوَابُ: يُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى عُمْرَةٍ غَيْرِ الْأُخْرَى، وَالْمُنَاسِبُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَوْنُهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ; لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تُفِيدُهُ، فَلْيَكُنْ ذَلِكَ الرُّكُوبُ لِلشِّكَايَةِ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ عُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ اهـ. وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِلَلِ، لِرُكُوبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَقُولُ: حَمَلَ الْمُطَّلِعُ عَلَى الشِّكَايَةِ رُكُوبَهُ لِعُذْرِ الْمَرَضِ، وَغَيْرُ الْمَطَّلِعِ حَمَلَهُ عَلَى مَا رَأَى مِنْ رَأْيِهِ، وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْجَوَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ حَمَلَ رُكُوبَهُ عَلَى أَنْ لَا يَنْصَرِفَ النَّاسُ عَنِ الرُّكْنِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً عَنِ الْأَمْرِ الْأَفْضَلِ، فَضْلًا عَنِ الْوَاجِبِ، فَتَأَمَّلْ، وَاخْتَرْ أَحْسَنَ الْعِلَلِ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الزَّلَلِ، وَالْخَطَلِ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْجَمْعَ الذَّي اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيْرَ مَنْطَبِقٍ عَلَى مَا فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْآتِي عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعِرَّانَةِ، فَهَلُّوا بِالْبَيْتِ، وَحَمَلَهُ عَلَى فِعْلِ الصَّحَابَةِ دُونَ فِعْلِهِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: طَافَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَاكِبًا، فَلَمْ يَكُنْ يَمَسُّ بِمَا فِي يَدِهِ الْحَجَرَ، بَلْ مَا فَوْقَهُ مِنَ الرُّكْنِ الْمُحَاذِي لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الرَّاكِبَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِشَارَةِ يَدِهِ إِلَى مُحَاذَاةِ الرُّكْنِ حَقِيقَةً، فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَجَازِ فِي صَنْعَتِهِ؟ وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ فَوْقِ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، وَنَحْوِهِ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ كَمَا لَا يَخْفَى.

2570 - وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2570 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ) أَيِ: الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ (أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الِاسْتِلَامِ، كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا. (وَكَبَّرَ) أَيْ: قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: كَانَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ قَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ " وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ قَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " بِلَفْظِ: " وَقُولُوا «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ إِيمَانًا بِاللَّهِ، وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - " وَصَحَّ عَنْ عَلَيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ: " بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ: عَهْدُ الْمِيثَاقِ. وَفِي خَبَرِ الطَّبَرَانِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الرُّكْنَيْنِ.

2571 - وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2571 - (وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطُوفُ بِالْبَيْتِ) أَيْ: رَاكِبًا (وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ) أَيْ: يُشِيرُ إِلَيْهِ (بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ) أَيْ: بَدَلَ الْحَجَرِ لِلْمَاشِي (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2572 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ طَمِثْتُ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: (لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " فَإِنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ؟ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2572 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَذْكُرُ) أَيْ: فِي تَلْبِيَتِنَا، أَوْ فِي مُحَاوَرَتِنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ: لَا تَقْصِدُ (إِلَّا الْحَجَّ) فَإِنَّهُ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ، فَإِنَهَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهَا فِي اللَّفْظِ عَدَمُ وُجُودِهَا فِي النِّيَّةِ (فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ) أَيْ: نَازِلِينَ بِهَا، أَوْ وَاصِلِينَ إِلَيْهَا، وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ مَمْنُوعًا، وَمَصْرُوفًا بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، أَوِ الْمَكَانِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ، أَوِ اثْنَى عَشَرَ، كَذَا قِيلَ، وَالْأَخِيرَانِ لَا يَصِحَّانِ. (طَمِثْتُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ: حِضْتُ (فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَبْكِي) أَيْ: ظَنًّا مِنِّي أَنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ الْحَجَّ (فَقَالَ: لَعَلَّكِ نُفِسْتِ؟) بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ أَيْ: حِضْتِ، وَأَمَّا الْوِلَادَةُ، فَيُقَالُ فِيهِ: نُفِسْتِ بِالضَّمِّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " فَإِنَّ ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: نِفَاسَكِ بِمَعْنَى حَيْضِكِ (شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ) أَيْ: قَدَّرَهُ (عَلَى بَنَاتِ آدَمَ) تَبَعًا لِأُمِّهِنَّ حَوَّاءَ لَمَّا أَكَلَتْ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَأَدْمَتْهَا، فَقَالَ - تَعَالَى - لَهَا: لَئِنْ أَدْمَتْهَا لَأُدْمِيَنَّكِ وَبَنَاتِكِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لَهَا إِذِ الْبَلِيَّةُ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ. ( «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ، و " لَا " زَائِدَةٌ. (حَتَّى تَطْهُرِي) أَيْ: بِالِانْقِطَاعِ، وَالِاغْتِسَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: " حَتَّى تَغْتَسِلِي ". وَهَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي قَوْلَهَا السَّابِقَ: وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهَا: لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ أَيْ: مَا كَانَ قَصْدُنَا الْأَصْلِيُّ مِنْ هَذَا السَّفَرِ إِلَّا الْحَجَّ بِأَحَدِ أَنْوَاعِهِ مِنَ الْقِرَانِ، وَالتَّمَتُّعِ، وَالْإِفْرَادِ، فَمِنَّا مَنْ أَفْرَدَ وَمِنَّا مَنْ قَرَنَ، وَمِنَّا مَنْ تَمَتَّعَ، وَأَنِّي قَصَدْتُ التَّمَتُّعَ فَاعْتَمَرْتُ، ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ لِي عُذْرُ الْحَيْضِ، وَاسْتَمَرَّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وَوَقْتِ وُقُوفِ الْحَجِّ، أَمَرَنِي أَنْ أَرْفُضَهَا وَأَفْعَلَ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْحَجِّ إِلَّا الطَّوَافَ، وَكَذَلِكَ السَّعْيُ إِذْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ ابْنِ حَجْرٍ، " فَدَخَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: أَهِلِّي بِالْحَجِّ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ ثَانِيًا، وَأَنَا أَبْكِي " فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا مَرَّ " فَتَدَبَّرْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2573 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ، أَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ: ( «أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2573 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: أَرْسَلَنِي (فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: جَعَلَهُ أَمِيرَ قَافِلَةِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ (عَلَيْهَا) مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرِهِ أَيْ: عَلَى الْحَجَّةِ (قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) أَيْ: بِسَنَةٍ (يَوْمَ النَّحْرِ) ظَرْفُ " بَعَثَ " (فِي رَهْطٍ) أَيْ: فِي جُمْلَةِ رَهْطٍ، أَيْ: مَعَ رَهْطٍ (أَمَرَهُ) بِالتَّخْفِيفِ (يُؤَذِّنَ) بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ: (أَنْ يُؤْذِنَ) ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الرَّهْطِ، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الِالْتِفَاتِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قُلْتُ: أَوْ عَلَى التَّجْرِيدِ، أَوِ التَّقْدِيرِ، أَمَرَ أَحَدَ الرَّهْطِ أَنْ يُنَادِيَ (فِي النَّاسِ: " أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (لَا يَحُجُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ نَهْيٌ، أَوْ نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ، وَيُفْتَحُ، وَيُكْسَرُ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: لَا يَحُجَّنَّ (بَعْدَ الْعَامِ) أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ (مُشْرِكٌ) أَيْ: كَافِرٌ، أَيْ: لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] (وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) أَيْ: مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِعَامٍ دُونَ عَامٍ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَلَ رَدًّا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ مَعَ الْعُرْيِ، يَعْنِي زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبُوا فِيهَا، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى كَمَالِ التَّجْرِيدِ عَنِ الذُّنُوبِ، أَوْ تَفَاؤُلًا بِالتَّعَرِّي مِنَ الْعُيُوبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2574 - عَنِ الْمُهَاجِرِ الْمَكِّيِّ، قَالَ: «سُئِلَ جَابِرٌ عَنِ الرَّجُلِ يَرَى الْبَيْتَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ نَكُنْ نَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2574 - (وَعَنِ الْمُهَاجِرِ الْمَكِّيِّ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ. (قَالَ: سُئِلَ جَابِرٌ عَنِ الرَّجُلِ يَرَى الْبَيْتَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَرَى الْبَيْتَ (يَرْفَعُ يَدَيْهِ) أَيْ: هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا؟ (فَقَالَ: قَدْ حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ نَكُنْ نَفْعَلُهُ) أَيْ: رَفْعَ الْيَدِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّعَاءِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى، خِلَافًا لِأَحْمَدَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّهُ يُسَنُّ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ، أَوْ وَصَلَ لِمَحَلٍّ يَرَى مِنْهُ الْبَيْتَ، إِنْ لَمْ يَرَهُ لِعَمًى، أَوْ فِي ظُلْمَةٍ أَنْ يَقِفَ، وَيَدْعُوَ رَافِعًا يَدَيْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَلِمَةً مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ سَمِعَهَا غَيْرِي، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِذَا رَأَى الْبَيْتَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، فَحَيِّنَا بِالسَّلَامِ. وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا، وَتَعْظِيمًا، وَتَكْرِيمًا، وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ، وَكَرَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ، وَاعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا، وَتَكْرِيمًا، وَتَعْظِيمًا، وَبِرًّا) » . وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ مُرْسَلٍ مُعْضَلٍ، وَيُعَضِّدُهُ الْخَبَرُ الضَّعِيفُ بِرَفْعِ الْأَيْدِي فِي اسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَأَمَّا خَبَرُ التِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا، أَيِ: الرَّفْعَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ إِلَّا الْيَهُودَ. قَدْ حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَكُنَّا نَفْعَلُهُ، أَوْ لَا؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمُثْبِتِينَ لِلرَّفْعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعَهُمْ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رِوَايَةُ غَيْرِ جَابِرٍ: فِي إِثْبَاتِ الرَّفْعِ أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْقَوْلُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ. أَقُولُ: الْأَوْلَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ الْإِثْبَاتُ عَلَى أَوَّلِ رُؤْيَةٍ، وَالنَّفْيُ عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ.

2575 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ مَكَّةَ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَاهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ مَا شَاءَ وَيَدْعُو» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2575 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: تَوَجَّهَ مِنَ الْمَدِينَةِ (فَدَخَلَ مَكَّةَ) أَيْ: لِلْحَجِّ، أَوْ لِلْعُمْرَةِ (فَأَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ) أَيْ: تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، أَوْ (إِلَى) بِمَعْنَى (عَلَى) (فَاسْتَلَمَهُ) أَيْ: بِاللَّمْسِ، وَالتَّقْبِيلِ (ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ: سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ (ثُمَّ أَتَى الصَّفَا) أَيْ: بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ (فَعَلَاهُ) أَيْ: صَعِدَهُ (حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْبَيْتِ) ، وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرٍ، فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، وَأَنَّهُ فَعَلَ فِي الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا كَانَ فِي الصَّفَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الزَّمَنِ، وَأَمَّا الْآنَ، فَالْبَيْتُ يُرَى مِنْ بَابِ الصَّفَا قَبْلَ رَقْيَةٍ، لِمَا حَدَثَ مِنِ ارْتِفَاعِ الْأَرْضِ ثَمَّةَ حَتَّى انْدَفَنَ كَثِيرٌ مِنْ دَرَجِ الصَّفَا، وَقِيلَ: بِوُجُوبِ الرُّقِيِّ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الرُّقِيُّ الْآنَ فِي الْمَرْوَةِ، فَلَا يُمْكِنُ كَمَا أَنَّ رُؤْيَةَ الْبَيْتِ مِنْهَا لَا تُمْكِنُ، لَكِنْ يَصْدُرُ الْعَقْدُ الْمُشْرِفُ عَلَيْهَا دَكَّةً، فَيُسْتَحَبُّ رُقِيُّهَا عَمَلًا بِالْوَارِدِ مَا أَمْكَنَ (فَرَفَعَ يَدَيْهِ) أَيْ: لِلدُّعَاءِ عَلَى الصَّفَا لَا لِرُؤْيَةِ الْبَيْتِ لِمَا سَبَقَ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَعَ التَّكْبِيرِ عَلَى هَيْئَةِ رَفْعِهِمَا فِي صَلَاةٍ، فَلَا أَصْلَ لَهُ (فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ مَا شَاءَ) أَيْ: مِنَ التَّكْبِيرِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّوْحِيدِ (وَيَدْعُو) : أَيْ: بِمَا شَاءَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنْ لَا تَعْيِينَ فِي دَعَوَاتِ الْمَنَاسِكِ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ خُشُوعَ النَّاسِكِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِأَنَّ تَوْقِيتَهَا يَذْهَبُ بِالرِّقَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَمَنْ يُكَرِّرُ مَحْفُوظَهُ، وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَأْثُورِ فَحَسَنٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2576 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ جَمَاعَةً وَقَفُوهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2576 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ) احْتِرَازٌ مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ (مِثْلُ الصَّلَاةِ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَجُوِّزَ النَّصْبُ أَيْ: نَحْوَهَا (إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ) أَيْ: تَعْتَادُونَ الْكَلَامَ فِيهِ، إِمَّا مُتَّصِلٌ أَيْ مِثْلُهَا فِي كُلِّ مُعْتَبَرٍ فِيهَا وَجُودًا وَعَدَمًا إِلَّا التَّكَلُّمَ يَعْنِي: وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُنَافِيَاتِ مِنَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ، وَإِمَّا مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنْ رُخِّصَ لَكُمْ فِي الْكَلَامِ، وَفِي الْعُدُولِ - عَنْ قَوْلِهِ: " إِلَّا الْكَلَامَ " إِلَى مَا قَالَ - نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لَا تَخْفَى، وَيُعْلَمُ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَدَمُ شَرْطِيَّةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَيْسَ لِأَصْلِ الطَّوَافِ وَقْتٌ مَشْرُوطٌ، وَبَقِيَ بَقِيَّةُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَالْحَقِيقِيِّةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، كَالصَّلَاةِ وَوَاجِبَاتٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مِثْلِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنَ الْآحَادِ، وَهُوَ ظَنِّيٌّ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْفَرْضِيَّةُ، مَعَ الِاتِّفَاقِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الَّتِي بِالْمَطَافِ إِذَا شَقَّ اجْتِنَابُهَا؛ لِأَنَّ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَزَمَنِ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ نَزَلَ فِيهِ نَجَاسَةُ ذَرَقِ الطُّيُورِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنَ الطَّوَافِ بِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلَا أَمَرَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ بِتَطْهِيرِ مَا هُنَالِكَ. (فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ) : أَيْ: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِفَادَةِ عِلْمٍ اسْتَفَادَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُشَوِّشُ عَلَى الطَّائِفِينَ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِمَّا يَتَكَلَّمُ الْعَوَامُّ فِي طَوَافِهِمْ هَذِهِ الْأَيَّامَ مِنْ كَلَامِ الدُّنْيَا، بَلْ مِنْ مُوجِبَاتِ الْآثَامِ، فَالنَّهْيُ الْمُؤَكَّدُ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، أَوِ التَّنْزِيهِ، وَفِي قَوْلِ: " مِثْلُ الصَّلَاةِ " تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الطَّوَافِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : أَيْ: مَرْفُوعًا، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ، فَمَنْ نَطَقَ لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِخَيْرٍ. (وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ جَمَاعَةً) : أَيْ: مِنَ الرُّوَاةِ (وَقَفُوهُ) : أَيِ: الْحَدِيثَ (عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) : أَيْ: وَلَمْ يَرْفَعُوهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.

2577 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ (بَيَاضًا) مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2577 - وَعَنْهُ: أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ» " جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ) أَيْ: صَارَتْ ذُنُوبُ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ

يَمْسَحُونَ الْحَجَرَ سَبَبًا لِسَوَادِهِ، وَالْأَظْهَرُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، إِذْ لَا مَانِعَ نَقْلًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: هَذَا الْحَدِيثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَنْظِيمِ شَأْنِ الْحَجَرِ، وَتَفْظِيعِ أَمْرِ الْخَطَايَا، وَالذُّنُوبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَجَرَ لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّرَفِ، وَالْكَرَامَةِ، وَالْيُمْنِ، وَالْبَرَكَةِ شَارَكَ جَوَاهِرَ الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ نَزَلَ مِنْهَا، وَأَنَّ خَطَايَا بَنِي آدَمَ تَكَادُ تُؤَثِّرُ فِي الْجَمَادِ، فَتَجْعَلُ الْمُبَيَّضَ مِنْهُ أَسْوَدَ، فَكَيْفَ بِقُلُوبِهِمْ؟ أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَفِّرٌ لِلْخَطَايَا مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ كَأَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمِنْ كَثْرَةِ تَحَمُّلِهِ أَوْزَارَ بَنِي آدَمَ صَارَ كَأَنَّهُ ذُو بَيَاضٍ شَدِيدٍ، فَسَوَّدَتْهُ الْخَطَايَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ نُقَطٌ بِيضٌ، ثُمَّ لَا زَالَ السَّوَادُ يَتَرَاكَمُ عَلَيْهَا حَتَّى عَمَّهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ جَمِيعُهُ، وَيَصِيرُ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] » . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَجَرَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ الْبَيْضَاءِ فِي غَايَةٍ مِنَ الصَّفَاءِ، وَيَتَغَيَّرُ بِمُلَاقَاةِ مَا لَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ حَتَّى يَسْوَدَّ لَهَا جَمِيعُ الْأَجْزَاءِ، وَفَى الْجُمْلَةِ الصُّحْبَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) . وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ أَنَسٍ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسٍ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ حِجَارَةِ الْجَنَّةِ. وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَابْنِ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ حِجَارَةِ الْجَنَّةِ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجَنَّةِ غَيْرُهُ، وَكَانَ أَبْيَضَ كَالْمَاءِ، وَلَوْلَا مَسَّهُ مِنْ رِجْسِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ.

2578 - وَعَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَجَرِ: " وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2578 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَجَرِ) : أَيْ: فِي شَأْنِهِ، وَوَصْفِهِ (وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ: لَيُظْهِرَنَّهُ حَوْلَ كَوْنِهِ (لَهُ عَيْنَانِ) : أَيْ: ظَاهِرَانِ (يُبْصِرُ بِهِمَا) : وَيَعْرِفُ الْمُبْطِلَ مِنَ الْمُحِقِّ، وَالْمُتَأَدِّبَ مِنْ غَيْرِهِ (وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ) : أَيْ: يُثْنِي ثَنَاءً جَمِيلًا (عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ) : وَقِيلَ: (عَلَى) بِمَعْنَى اللَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ التَّوْحِيدُ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ الْأَكِيدِ، وَلِذَا يُقَالُ: اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَالْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

2579 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ " «إِنَّ الرُّكْنَ وَالْمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهُمَا لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2579 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ الرُّكْنَ) أَيِ: الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ (وَالْمَقَامَ) : أَيْ: مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ( «يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ» ) : الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ (طَمَسَ اللَّهُ) أَيْ: أَذْهَبَ (نُورَهُمَا) : أَيْ: بِمِسَاسِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمَا، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي طَمْسِهِمَا لِيَكُونَ الْإِيمَانُ غَيْبِيًّا لَا عَيْنِيًّا (وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ) : عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَيَجُوزُ الْمَفْعُولِ (نُورَهُمَا لَأَضَاءَا) : بِالتَّثْنِيَةِ ( «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ، وَالْمَغْرِبِ» ) : فَأَضَاءَهُ مُتَعَدٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، أَيْ: لَأَضَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِمَا أَعْلَمُ، أَوْ هِيَ لَازِمٌ أَيْ: لَاسْتَنَارَ بِهِمَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.

(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا صَحَّ أَيْضًا، وَلَوْلَا مَا مَسَّهُمَا مِنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا مَسَّتْهُمَا تِلْكَ الْخَطَايَا طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الرُّكْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَتْهُ الْكَفَرَةُ الْقَرَامِطَةُ بَعْدَ أَنْ غَلَبُوا بِمَكَّةَ حَتَّى مَلَئُوا الْمَسْجِدَ، وَزَمْزَمَ مِنَ الْقَتْلَى، وَضَرَبَ الْحَجَرَ بَعْضُهُمْ بِدَبُّوسٍ، قَالَ: إِلَى كَمْ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ ثُمَّ ذَهَبُوا بِهِ إِلَى بِلَادِهِمْ نِكَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَكَثَ عِنْدَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا صُولِحُوا بِمَالٍ كَثِيرٍ عَلَى رَدِّهِ قَالُوا: إِنَّهُ اخْتَلَطَ بَيْنَ حِجَارَةٍ عِنْدَنَا، وَلَمْ نُمَيِّزْهُ الْآنَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكُمْ عَلَامَةٌ تُمَيِّزُهُ فَأْتُوا بِهَا وَمَيِّزُوهُ، فَسُئِلَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنْ عَلَامَةٍ تُمَيِّزُهُ؟ فَقَالُوا: إِنَّ النَّارَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَذَكَرُوا لَهُمْ ذَلِكَ، فَامْتَحَنُوا وَصَارَ كُلُّ حَجَرٍ يُلْقُونَهُ فِي النَّارِ يَنْكَسِرُ حَتَّى جَاءُوا إِلَيْهِ، فَلَمْ تَقْدِرِ النَّارُ عَلَى أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِيهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ هُوَ فَرَدُّوهُ. قِيلَ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُ فِي الذَّهَابِ مَاتَ تَحْتَهُ مِنْ شِدَّةِ ثِقَلِهِ إِبِلٌ كَثِيرَةٌ، وَفِي الْعَوْدِ حَمَلَهُ جَمَلٌ أَجْوَبُ إِلَى مَكَّةَ، وَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ.

2580 - وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُزَاحِمُ عَلَى الرُّكْنَيْنِ زِحَامًا مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُزَاحِمُ عَلَيْهِ. قَالَ: إِنْ أَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ مَسْحَهُمَا كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا، فَأَحْصَاهُ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " لَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا أَحَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً وَكَتَبَ لَهُ حَسَنَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2580 - (وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عَاصِمٍ اللَّيْثِيَّ الْحِجَازِيَّ قَاضِيَ أَهْلِ مَكَّةِ، وُلِدَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَالُ: رَآهُ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَاتَ قَبْلَ ابْنِ عُمَرَ. أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُزَاحِمُ) : أَيْ: يُغَالِبُ النَّاسَ (عَلَى الرُّكْنَيْنِ زِحَامًا) : أَيْ: غَيْرَ مُؤْذٍ وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: زِحَامًا عَظِيمًا، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ الْأَشْوَاطِ، أَوْ فِي أَوَّلِهِ، وَأَخِرِهِ، فَإِنَّهُمَا آكَدُ أَحْوَالِهَا، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ": وَلَا أُحِبُّ الزِّحَامَ فِي الِاسْتِلَامِ إِلَّا فِي بَدْءِ الطَّوَافِ، وَآخِرِهِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ ازْدِحَامٌ لَا يَحْصُلُ فِيهِ أَذًى لِلْأَنَامِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَعُمَرَ: «إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ، وَهَلِّلْ، وَكَبِّرْ» ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ. (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُزَاحِمُ عَلَيْهِ ": أَيْ: عَلَى مَا ذَكَرَ، أَوْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ رُبَّمَا دَمِيَ أَنْفُهُ مِنْ شِدَّةِ تَزَاحُمِهِ، وَكَأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى، فَالِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِهِمْ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْلَى. (قَالَ) : ابْنُ عُمَرَ اسْتِدْلَالًا لِفِعْلِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيِ: اعْتِذَارًا، وَلَا يَخْفَى (إِنْ أَفْعَلْ) : أَيْ: هَذَا الزِّحَامَ فَلَا أُلَامُ، فَإِنْ شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَزَاءُ مُقَدَّرٌ، وَدَلِيلُ الْجَوَابِ قَوْلُهُ: (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ مَسْحَهُمَا) : أَيْ: لَمْسَهُمَا (كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا) : أَيْ: مِنَ الصَّغَائِرِ. (وَسَمِعْتُهُ) : أَيْ: رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: قَالَ الرَّاوِي: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الثَّانِي، وَالثَّالِثُ مَوْقُوفَيْنِ، عَلَى أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؛ فَتَدَبَّرْ. (يَقُولُ: مَنْ طَافَ هَذَا الْبَيْتَ أُسْبُوعًا) : أَيْ: سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَأَحْصَاهُ ") : بِأَنْ يُكْمِلَهُ، وَيُرَاعِيَ مَا يُعْتَبَرُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الشُّرُوطِ، وَالْآدَابِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: يُحْصِيهِ أَيْ: يَعُدُّهُ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ بِحَيْثُ يَعُدُّهَا، وَلَا يَتْرُكُ بَيْنَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ يَوْمًا اهـ. وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَكَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ، وَسَمِعْتُهُ) : أَيْ: أَيْضًا (يَقُولُ: " لَا يَضَعُ) : أَيِ: الطَّائِفُ. (قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى) : الظَّاهِرُ لَا يَرْفَعُهَا، فَكَأَنَّهُ عَدَّ أُخْرَى بِاخْتِلَافِ وَصْفِ الْوَضْعِ، وَالرَّفْعِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَضَعُ قَدَمًا مَرَّةً وَلَا يَرْفَعُ قَدَمًا مَرَّةً أُخْرَى (إِلَّا حَطَّ اللَّهُ) : أَيْ: وَضَعَ، وَمَحَا (عَنْهُ بِهَا) : أَيْ: بِكُلِّ قَدَمٍ، أَوْ بِكُلِّ مَرَّةٍ مِنَ الْوَضْعِ، وَالرَّفْعِ (خَطِيئَةً، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً) : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفًّا وَنَشْرًا، فَبِوَضْعِ الْقَدَمِ وَضْعُ السَّيِّئَةِ، وَبِرَفْعِهَا إِثْبَاتُ الْحَسَنَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِرَفْعِ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ هَذَا الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِالْآدَابِ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ مِنَ الزِّحَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَذَى الْأَنَامِ كَالْمُدَافَعَةِ، وَالْمُسَابَقَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَهُوَ مُوجِبٌ لِزِيَادَةِ الْآثَامِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2581 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2581 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ) هُوَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، أَخَذَ عَنْهُ أَهْلُ مَكَّةَ الْقِرَاءَةَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ) : أَيْ: يَدْعُو، وَيَقْرَأُ (رَبَّنَا) : مَنْصُوبٌ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ (آتِنَا) : أَيْ: أَعْطِنَا (فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) : أَيِ: الْعِلْمَ، وَالْعَمَلَ، أَوِ الْعَفْوَ، وَالْعَافِيَةَ، وَالرِّزْقَ الْحَسَنَ، أَوْ حَيَاةً طَيِّبَةً، أَوِ الْقَنَاعَةَ، أَوْ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) : أَيِ: الْمَغْفِرَةَ، وَالْجَنَّةَ، وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ، أَوْ مُرَافَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ الرِّضَاءَ، أَوِ الرُّؤْيَةَ، أَوِ اللِّقَاءَ (وَقِنَا) : أَيِ: احْفَظْنَا (عَذَابَ النَّارِ) أَيْ: شَدَائِدَ جَهَنَّمَ مِنْ حَرِّهَا، وَزَمْهَرِيرِهَا، وَسَمُومِهَا، وَجُوعِهَا، وَعَطَشِهَا، وَنَتْنِهَا، وَضِيقِهَا، وَعَقَارِبِهَا، وَحَيَّاتِهَا، وَفَسَّرَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَسَنَةَ الْأُولَى بِالْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ، وَالثَّانِيَةَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَعَذَابَ النَّارِ بِالْمَرْأَةِ السَّلِيطَةِ، وَذَكَرَ شَيْخُنَا السَّيِّدُ زَكَرِيَّا، عَنْ شَيْخِهِ قُطْبِ الْبَارِي أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ: أَنَّ فِي الْآيَةِ سَبْعِينَ قَوْلًا، أَحْسَنُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ الْأُولَى اتِّبَاعُ الْمَوْلَى، وَالثَّانِيَةِ الرَّفِيقُ الْأَعْلَى، وَبِعَذَابِ النَّارِ حِجَابُ الْمَوْلَى. وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَسَنَةِ أَيُّ حَسَنَةٍ كَانَتْ، وَالنَّكِرَةُ قَدْ تُفِيدُ الْعُمُومَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] وَكَذَلِكَ يُرَادُ بِالْعَذَابِ أَنْوَاعُ الْعِقَابِ، وَأَصْنَافُ الْعِتَابِ، وَإِنْ كَانَ أَشَدُّ الْعَذَابِ هُوَ الْحِجَابَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2582 - وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي بِنْتُ أَبِي تُجْرَاةَ قَالَتْ: دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أَبِي حُسَيْنٍ، نَنْظُرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَرَأَيْتُهُ يَسْعَى، وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ( «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ) . رَوَاهُ فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مَعَ اخْتِلَافٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2582 - (وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ) : أَيِ: الْحَجَبِيِّ، اخْتُلِفَ فِي رُؤْيَتِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي بِنْتُ أَبَى تُجْرَاةَ) : بِضَمِّ التَّاءِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَقِيلَ: بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ، فَجِيمٍ سَاكِنَةٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: اسْمُهَا: حَبِيبَةُ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. (قَالَتْ: دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أَبِي حُسَيْنٍ، نَنْظُرُ (إِلَى) رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) : أَيْ: لِنَتَشَرَّفَ بِرُؤْيَتِهِ، وَلِنَسْتَفِيدَ مِنْ عِلْمِهِ، وَبَرَكَتِهِ (فَرَأَيْتُهُ يَسْعَى) : أَيْ: يُسْرِعُ (وَإِنَّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (مِئْزَرَهُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَيُبْدَلُ (لَيَدُورُ) : أَيْ: حَوْلَ رِجْلَيْهِ (مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ) : يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَاشِيًا. وَجَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَعَى رَاكِبًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَا مَكَانَ الْجَمْعِ، بِأَنَّ مَشْيَهُ كَانَ فِي سَعْيِ عُمْرَةٍ مِنْ عُمَرِهِ، أَوْ كَانَ مَشْيُهُ فِي سَعْيِ الْحَجِّ بَعْدَ مَشْيِهِ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَرُكُوبُهُ فِي سَعْيِ عُمْرَتِهِ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ رَاكِبًا، وَأَمَّا الْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْعَى مَاشِيًا، فَتَزَاحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَرَكِبَ فِيمَا بَقِيَ، فَبَعِيدٌ جِدًّا، وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةَ الرُّكُوبِ بِلَا عُذْرٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَوْلُ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ الرُّكُوبَ بِلَا عُذْرٍ خِلَافُ الْأُولَى، لَا مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُوَجَّهٍ. (وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ) : أَيْ: فِي السَّعْيِ ( «اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: فَرَضَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فَرْضٌ؛ مَنْ لَمْ يَسْعَ بَطَلَ حَجُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - اهـ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ: السَّعْيُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ ظَنِّيٌّ، وَكَذَا الْمَشْيُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَبِتَرْكِ الْوَاجِبِ يَجِبُ دَمٌ. (رَوَاهُ) : أَيِ: الْمُصَنِّفُ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ: بِإِسْنَادِهِ (وَرَوَاهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَرَوَى (أَحْمَدُ مَعَ اخْتِلَافٍ) : فِي لَفْظِهِ.

وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ: إِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي الْمَسْعَى وَقَالَ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ". وَقَدْ قَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَسٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إِنَّ السَّعْيَ تَطَوُّعٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158] الْآيَةَ. فَالْأَوْسَطُ الْأَعْدَلُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لَا فَرْضٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَالْجَوَابُ: إِنَّا قُلْنَا بِمُوجَبِهِ إِذْ مِثْلُهُ لَا يَزِيدُ عَلَى إِفَادَةِ الْوُجُوبِ، وَقَدْ قُلْنَا بِهِ. وَأَمَّا الرُّكْنُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ بِهِ، فَإِثْبَاتُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّعْيِ الْمَكْتُوبِ الْجَرْيُ الْكَائِنُ فِي بَطْنِ الْوَادِي إِذَا رَجَعْتَهُ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّعْيِ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا، اتَّفَقَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لَهُمْ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْجَرْيِ الشَّدِيدِ الْمَسْنُونِ، لَمَّا وَصَلَ إِلَى مَحَلِّهِ شَرْعًا أَعْنِي بَطْنَ الْوَادِي، وَلَا يُسَنُّ جَرْيٌ شَدِيدٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ، بِخِلَافِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ إِنَّمَا هُوَ مَشْيٌ فِيهِ شِدَّةٌ وَتَصَلُّبٌ، ثُمَّ قِيلَ فِي سَبَبِ شَرْعِيَّةِ الْجَرْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي: أَنَّ هَاجَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا تَرَكَهَا إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَطِشَتْ، فَخَرَجَتْ تَطْلُبُ الْمَاءَ وَهِيَ تُلَاحِظُ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَوْفًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى بَطْنِ الْوَادِي، تَغَيَّبَ عَنْهَا، فَسَعَتْ لِتُسْرِعَ الصُّعُودَ مِنْهُ فَتَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ نُسُكًا إِظْهَارًا لِتَشَرُّفِهِمَا، وَتَفْخِيمًا لِأَمْرِهِمَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ الشَّيْطَانُ لَهُ عِنْدَ السَّعْيِ، فَسَابَقَهُ فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا سَعَى سَيِّدُنَا وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِظْهَارًا لِلْمُشْرِكِينَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ فِي الْوَادِي الْجَلَدَ، وَمَحْمَلُ هَذَا الْوَجْهِ مَا كَانَ مِنَ السَّعْيِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَهُ كَالرَّمَلِ، إِذْ لَمْ يَبْقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُشْرِكٌ بِمَكَّةَ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنْ لَا يُشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ، وَفِي نَظَائِرِهِ مِنَ الرَّمْيِ، وَغَيْرِهِ، بَلْ هِيَ أُمُورٌ تَوْقِيفِيَّةٌ يُحَالُ الْعِلْمُ فِيهَا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْمَسْعَى: هُوَ الْمَكَانُ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَيْهِ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَلَا يُنَافِيهِ كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ أَنَّ أَكْثَرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَتَدَبَّرْ.

2583 - وَعَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَعِيرٍ، لَا ضَرْبَ، وَلَا طَرْدَ، وَلَا إِلَيْكَ إِلَيْكَ» ، رَوَاهُ فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2583 - (وَعَنْ قُدَامَةَ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَعِيرٍ» ) : أَيْ: فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ (لَا ضَرْبَ وَلَا طَرْدَ) : بِالْفَتْحِ، وَالرَّفْعِ مُنَوَّنًا فِيهِمَا (وَلَا إِلَيْكَ) : أَيْ: ابْعُدْ (إِلَيْكَ) : أَيْ: تَنَحَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مَا كَانَ يَضْرِبُونَ النَّاسَ، وَلَا يَطْرُدُونَهُمْ، وَلَا يَقُولُونَ: تَنَحَّوْا عَنِ الطَّرِيقِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُلُوكِ، وَالْجَبَابِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينِ كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ اهـ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ أَوَّلَ بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ قَوْلُ النَّاسِ: الطَّرِيقَ الطَّرِيقَ. أَقُولُ: قَدْ رَضِينَا فِي هَذَا الزَّمَانِ بِإِلَيْكَ وَإِلَيْكَ، وَبِ (الطَّرِيقَ الطَّرِيقَ) عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ نَشَأَ نَاسٌ يَدْفَعُونَ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلِهِمْ، وَيَدُوسُونَ بِدَوَابِّهِمْ، وَهُمْ سَاكِتُونَ. {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] . (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

2584 - وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2584 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا) : بِكَسْرِ الْبَاءِ (بِبُرْدٍ) : أَيْ: يَمَانِيٍّ (أَخْضَرَ) : أَيْ: فِيهِ خُطُوطٌ خُضْرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّبْعُ وَسَطُ الْعَضُدِ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِبِطِ، وَالِاضْطِبَاعُ: أَنْ يَجْعَلَ وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ الْإِبِطِ الْأَيْمَنِ، وَيُلْقِيَ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ مِنْ جِهَتَيْ صَدْرِهِ، وَظَهْرِهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِبْدَاءِ الضَّبْعَيْنِ.

قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَهُ إِظْهَارًا لِلتَّشْجِيعِ كَالرَّمَلِ اهـ. وَهُوَ وَالرَّمَلُ سُنَّتَانِ فِي كُلِّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَالِاضْطِبَاعُ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْوَاطِ، بِخِلَافِ الرَّمَلِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الِاضْطِبَاعُ فِي غَيْرِ الطَّوَافِ، وَمَا يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ مِنَ الِاضْطِبَاعِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ حَجًّا، أَوْ عُمْرَةً لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ يُكْرَهُ حَالَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَسْقُطُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِذَا كَانَ لَابِسًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.

2585 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2585 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعِرَّانَةِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَفْصَحُ التَّخْفِيفُ. فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا، وَجَعَلُوا) : أَيْ: حِينَ أَرَادُوا الشُّرُوعَ فِي الطَّوَافِ (أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ) : بِالْأَلِفِ مَمْدُودَةً جَمْعُ إِبِطٍ (ثُمَّ قَذَفُوهَا) : أَيْ: طَرَحُوهَا (عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى) : أَيِ: اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ فَرَغُوا مِنَ الطَّوَافِ: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ أَغْرَبَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ: يُسَنُّ الِاضْطِبَاعُ فِي السَّعْيِ قِيَاسًا عَلَى الطَّوَافِ، مَعَ تَرْكِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الِاضْطِبَاعَ فِي السَّعْيِ، وَعَدَمِ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ طَارِحًا رِدَاءَهُ، فَغَرِيبٌ، وَمَسْلَكٌ عَجِيبٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعَى كَمَا لَا يَخْفَى.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2586 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «مَا تَرَكْنَا اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِي وَالْحَجَرِ فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2586 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا تَرَكْنَا اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِي) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَتَشْدِيدِهَا مَجْرُورًا (وَالْحَجَرِ) : أَيِ: الْأَسْوَدِ (فِي شِدَّةٍ) : أَيْ: زِحَامٍ (وَلَا رَخَاءٍ) : أَيْ: خَلَاءٍ (مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُهُمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي خَبَرِ الْبَيْهَقِيِّ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَى الْحَجَرَ فَقَبَّلَهُ، وَاسْتَلَمَ الْيَمَانِيَ، فَقَبَّلَ يَدَهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ خَبَرَ أَحْمَدَ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبَّلَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا غَيْرُ ثَابِتٍ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، أَوْ ضَعِيفٌ، وَإِنْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ الْبَيْهَقِيِّ مَعَ ضَعْفِهِ لَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَحْمَدَ مَعَ تَقْوِيَتِهِ بِتَصْحِيحِ الْحَاكِمِ لِسَنَدِهِ، فَالْأَوْلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى وُقُوعِهِ حَالَ نُدْرَتِهِ، ثُمَّ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَا قَائِلَ بِهِ غَفْلَةً عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّهُ قَالَ: حُكْمُ الرُّكْنَيْنِ سَوَاءٌ، ثُمَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَتِمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» ، وَهُمَا الشَّامِيَّانِ، وَيُسَمَّيَانِ الْعِرَاقِيَّيْنِ وَالْغَرْبِيَّيْنِ، وَأَمَّا اسْتِلَامُ جَمْعٍ مِنْهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاوِيَةُ لَهُمَا، فَهُوَ مَذْهَبٌ لَهُمْ خَالَفُوا فِيهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَهُمَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا. فَأَجَابَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ اسْتِلَامَهُمَا هَجْرًا لِلْبَيْتِ، وَلَكِنْ يُسْتَلَمُ مَا اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُمْسَكُ عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ انْقَرَضَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُسْتَلَمَانِ، وَفِي هَذَا الْإِجْمَاعِ خِلَافٌ لِلْأُصُولِيِّينَ، كَذَا حَقَّقَهُ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ.

2587 - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: قَالَ نَافِعٌ: «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ، وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2587 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (قَالَ نَافِعٌ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ) : وَلَعَلَّ هَذَا فِي وَقْتِ الزِّحَامِ. قَالَ فِي " الْبِدَايَةِ ": وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَمَسَّ الْحَجَرُ شَيْئًا فِي يَدِهِ، أَوْ يَمَسَّهُ بِيَدِهِ، وَيُقَبِّلَ مَا مَسَّ بِهِ فَعَلَ، وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ مَسْحَ الْوَجْهِ بِالْيَدِ مَكَانَ تَقْبِيلِ الْيَدِ. (وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ) : أَيْ: الِاسْتِلَامُ الْمُطْلَقُ، أَوِ الْمَخْصُوصُ. إِذْ ثَبَتَ الِاسْتِلَامُ، وَالتَّقْبِيلُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مُسْنَدِهِ «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبَّلَهُ، وَسَجَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ هَكَذَا» ، فَفَعَلْتُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَجَدَ عَلَى الْحَجَرِ حِينَ قَبَّلَهُ بِجَبْهَتِهِ» ، وَشَذَّ مَالِكٌ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ عِيَاضٌ، وَغَيْرُهُ فِي إِنْكَارِهِ نَدْبَ تَقْبِيلِ الْيَدِ: وَقَوْلُهُ: إِنَّ السُّجُودَ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ.

2588 - «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَشْتَكِي. فَقَالَ: " طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ " فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِـ الطُّورِ {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2588 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَشْتَكِي) : أَيْ: شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي مَرِيضَةٌ، وَالشِّكَايَةُ: الْمَرَضُ. (فَقَالَ: " «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ رَاكِبًا لَيْسَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي) : أَيْ: صَلَاةَ الصُّبْحِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ) : أَيْ: مُتَّصِلًا إِلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا مُتَحَلِّقِينَ حَوْلَهَا (يَقْرَأُ " {وَالطُّورِ - وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1 - 2] أَيْ: بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا هُوَ عَادَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ. وَكَانَ الْأَوْلَى لِلرَّاوِي أَنْ يَقُولَ: يَقْرَأُ " الطُّورَ " وَيَكْتَفِي بِالطُّورِ، وَلَمْ يَقُلْ: " {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَقَدْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَكِبَ، وَأَنَّهُ مَشَى، وَجُمِعَ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى طَوَافِ الرُّكْنِ، وَالثَّانِي عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَوْلَى عَكْسُ هَذَا الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الرُّكْنِ أَنْسَبُ وَالرُّكُوبَ فِي الْقُدُومِ أَقْرَبُ.

2589 - وَعَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «رَأَيْتُ عُمَرَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2589 - (وَعَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: (لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ) أَيْ: فِي حَدِّ الذَّاتِ (وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ فَنَفْعَلُ، وَعَنْ عِلَّتِهِ لَا نَسْأَلُ، وَإِيمَاءٌ إِلَى التَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْعَمَلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ مِمَّنْ أَلِفُوا عِبَادَةَ الْأَحْجَارِ، فَيَعْتَقِدُونَ نَفْعَهُ، وَضُرَّهُ بِالذَّاتِ، فَبَيَّنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ لِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ امْتِثَالُ مَا شُرِعَ فِيهِ يَنْفَعُ بِاعْتِبَارِ الْجَزَاءِ، وَلِيَشِيعَ فِي الْمَوْسِمِ، فَيَشْتَهِرَ ذَلِكَ فِي الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَقْبِيلِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنْ لَا يُظَنَّ بِأَرْبَابِ الْعُقُولِ - وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا - أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْأَحْجَارَ، أَوْ يَعْبُدُونَهَا، مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَهُمْ كَانُوا

يَمْسَحُونَهَا، وَيُقَبِّلُونَهَا تَسَبُّبًا لِلنَّفْعِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْأَشْيَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى الْكَعْبَةِ بِنَاءً عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ، وَيُقَبِّلُونَ الْحَجَرَ بِنَاءً عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ فِي حَدِّ الذَّاتِ، وَلَا فِي نَظَرِ الْعَارِفِ بِالْمَوْجُودَاتِ بَيْنَ بَيْتٍ وَبَيْتٍ، وَلَا بَيْنَ حَجَرٍ وَحَجَرٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَظَّمَ مَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَيَوَانِيَّةِ كَنَاقَةِ اللَّهِ، وَالْجَمَادِيَّةِ ; كَبَيْتِ اللَّهِ، وَالْمَكَانِيَّةِ كَحَرَمِ اللَّهِ، وَالزَّمَانِيَّةِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ، وَخَلَقَ خَوَاصَّ الْأَشْيَاءِ فِي مَكْتُوبَاتِهِ، وَجَعَلَ التَّفَاوُتَ وَالتَّمَايُزَ بَيْنَ أَجْزَاءِ أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَوَى الْحَاكِمُ حَدِيثَ عُمَرَ، وَزَادَ فِيهِ: فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَلَوْ عَلِمْتَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَقُلْتَ كَمَا أَقُولُ ; {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] فَلَمَّا أَقَرُّوا أَنَّهُ الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُمُ الْعَبِيدُ كَتَبَ مِيثَاقَهُمْ فِي رَقٍّ، وَأَلْقَمَهُ فِي هَذَا الْحَجَرِ، وَأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُ عَيْنَانِ، وَلِسَانٌ، وَشَفَتَانِ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ، فَهُوَ أَمِينُ اللَّهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَقَالَ لَهُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا أَبْقَانِي اللَّهُ بِأَرْضٍ لَسْتَ بِهَا يَا أَبَا الْحَسَنِ. وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَحْتَجَّا بِأَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، وَمِنْ غَرَائِبِ الْمُتُونِ مَا فِي ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي آخِرِ مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَجُلٌ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُقَبِّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ» " فَلْيُرَاجَعْ إِسْنَادُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَإِنْ صَحَّ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ حَدِيثِ الْحَاكِمِ لِبُعْدِ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ عَلِيٍّ، أَعْنِي قَوْلَهُ: " بَلْ يَضُرُّ، وَيَنْفَعُ " بَعْدَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ " ; لِأَنَّهُ صُورَةُ مُعَارَضَةٍ، لَا جَرَمَ أَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنِ الْعَبْدِيِّ: إِنَّهُ سَاقِطٌ، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِزَالَةً لِوَهْمِ الْجَاهِلِيَّةِ عَنِ اعْتِقَادِ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ أَصْنَامٌ اهـ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ( «لَوْلَا أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُقَبِّلَكَ لَمَا قَبَّلْتُكَ» ) إِيمَاءً إِلَى الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ التَّعَبُّدِيَّةِ، وَالتَّنَزُّلِ وَالتَّوَاضُعِ تَحْتَ الْأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ يَتَحَيَّرُ فِي تَقْبِيلِ سَيِّدِ الْكَوْنَيْنِ - الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا خُلِقَ الْأَفْلَاكُ - لِحَجَرٍ مِنَ الْأَحْجَارِ الَّذِي مِنْ جِنْسِ الْجَمَادَاتِ الَّذِي مِنْ أَحْقَرِ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ أَنَّهُ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ حَقِيقَةً، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ، وَفِي جَوْفِهِ مِيثَاقُ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَنَزُّلَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالتَّجَلِّيَاتِ السُّبْحَانِيِّةِ حَيْثُ جَعَلَ لِعَبِيدِهِ حَرَمًا يَأْوُونَ إِلَيْهِ، وَيَلْتَجِئُونَ لَدَيْهِ، وَيَتَوَجَّهُونَ، وَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ صَلَاتِهِمْ، وَسَائِرِ عِبَادَاتِهِمْ، وَحَلَالَاتِهِمْ، وَيَمِينًا يُقَبِّلُونَهَا، وَيَمْسَحُونَ أَيْدِيَهُمْ، وَيَضَعُونَ وُجُوهَهُمْ عَلَيْهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ» ". رَوَاهُ الْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ جَابِرٍ، مَرْفُوعًا. وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ( «الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فَمَنْ مَسَحَهُ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ» ) ، وَهَذَا كُلُّهُ تَأْنِيسٌ لِعِبَادِهِ حَيْثُ غَلَبَ عَلَى أَغْلَبِهِمُ التَّعَلُّقُ بِالْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ فِي بِلَادِهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ أَنَّ هَذَا التَّقْبِيلَ لَا يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ عَقِيبَ التَّقْبِيلِ؟ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُهُ، وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ بِجَبْهَتِهِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ قَبَّلَهُ، ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ، فَفَعَلْتُهُ» . رَوَاهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، إِلَّا أَنَّ الشَّيْخَ قِوَامَ الدِّينِ الْكَاكِيَّ قَالَ: وَعِنْدَنَا الْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لِعَدَمِ الرِّوَايَةِ فِي الْمَشَاهِيرِ، وَنَقَلَ السُّجُودَ عَنْ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي مَنَاسِكِهِ اهـ. أَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يَسْجُدَ بَعْضَ الْأَيَّامِ عِنْدَ عَدَمِ الزِّحَامِ، أَوْ فِي أَوَّلِهِ، وَأَخِرِهِ تَبَرُّكًا بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، وَلَوْ ضَعِيفًا، فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّحُوهُ؟ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَرَ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَهُ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي، فَقَالَ: " يَا عُمَرُ، هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ» ".

2590 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «وُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ مَلَكًا - يَعْنِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ - فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - قَالُوا: آمِينَ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2590 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ (وُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ مَلَكًا يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ بِمَرْجِعِ الضَّمِيرِ (الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ) : بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْقَائِلُ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَوْ غَيْرُهُ بِطَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى طَرِيقِ التَّفْسِيرِ. " «فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ» ) : أَيْ: عَنِ الذُّنُوبِ (وَالْعَافِيَةَ) أَيْ: عَنِ الْعُيُوبِ (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَفًّا وَنَشْرًا مُشَوَّشًا (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قَالُوا: أَمِينَ) : وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ ; لِأَنَّهُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي، وَشَرَعَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ وَهُوَ مَارٌّ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَقَعُ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ لِلدُّعَاءِ فِي الطَّوَافِ كَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْعَوَامِّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْأَدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ عَنِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَوْفِيَ مَا أُثِرَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ، وَالْأَذْكَارِ فِي الطَّوَافِ كَانَ وُقُوفُكَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ أَكَثَرَ مِنْ مَشْيِكَ بِكَثِيرٍ، وَإِنَّمَا أَثَرْتَ هَذِهِ بِتَأَنٍّ، وَمُهْلَةٍ لَا رَمَلٍ، ثُمَّ وَقَعَ لِبَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْطِنِ كَذَا كَذَا، وَلِآخَرَ فِي آخَرَ كَذَا، وَلِآخَرَ فِي نَفْسِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا آخَرَ، فَجَمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْكُلَّ، لَا أَنَّ الْكُلَّ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ الْوَاحِدِ، بَلِ الْمَعْرُوفُ فِي الطَّوَافِ مُجَرَّدُ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ نَعْلَمْ خَبَرًا رُوِيَ فِيهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَقْرَأْ فِي الطَّوَافِ شَيْئًا: الْقُرْآنَ بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ لِيُعْلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الطَّوَافِ، فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ: " الطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، إِلَّا أَنَّهُ مَقْبُولٌ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " «مَا انْتَهَيْتُ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي قَطُّ إِلَّا وَجَدْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَهُ، قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: قُلْ: وَمَا أَقُولُ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَاقَةِ، وَمَوَاقِفِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ: " إِنَّ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ هَذَا قَالُوا: آمِينَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " سَبْعُونَ " بِالْوَاوِ، وَعَلَى الْإِهْمَالِ لُغَةٌ فِي الْأَعْمَالِ، أَوْ عَلَى أَنَّ فِي (أَنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَلَيْسَ نَظِيرُهُ: " «إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي مُلْهَمُونَ» " كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا مَكَانَ كَوْنِ كَانَ تَامَّةً أَيْ: إِنْ وُجِدَ فِي أُمَّتِي مُلْهَمُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ: " «مَا مَرَرْتُ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِي إِلَّا وَعِنْدَهُ مَلَكٌ يُنَادِي يَقُولُ: آمِينَ آمِينَ؟ فَإِذَا مَرَرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: " «عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضَ ; فَإِذَا مَرَرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: {رَبَّنَا آتِنَا} [البقرة: 200] الْآيَةَ. فَإِنَّهُ يَقُولُ: آمِينَ آمِينَ» ". وَرَوَى الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَقُولُ بَيْنَ الْيَمَانِيَيْنِ: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ فِيهِ، وَاخَلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ» ". وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِي قَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ وَمَوَاقِفِ الْخِزْي فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] ، وَجَاءَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا لِابْنِ الْمُسَيَّبِ، لَكِنْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ زَادَ بَعْضُهُمْ لَهُ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُولُ هَذَا، وَإِنْ كُنْتُ مُسْرِعًا؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ أَسْرَعَ مِنْ بَرْقِ الْخُلَّبِ» وَهُوَ سَحَابٌ لَا مَطَرَ فِيهِ.

2591 - وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِـ " سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، مُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَمَنْ طَافَ فَتَكَلَّمَ، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ - خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ بِرِجْلَيْهِ كَخَائِضِ الْمَاءِ بِرِجْلَيْهِ» ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2591 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا) أَيْ: سَبْعَ مَرَّاتٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ (وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِسُبْحَانَ اللَّهِ) أَيِ: الْمُنَزَّهِ عَنِ الْمَكَانِ، وَهُوَ وَاجِبُ النَّصْبِ فَمَحَلُّهُ مَجْرُورٌ. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: فِي نَظَرِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ فِي كُلِّ آنٍ (اللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: مِنْ أَنْ يُعْرَفَ لَهُ شَأْنٌ (وَلَا حَوْلَ) : عَنْ مَعْصِيَتِهِ (وَلَا قُوَّةَ) عَلَى طَاعَتِهِ (إِلَّا بِاللَّهِ) ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ (مُحِيَتْ) بِتَاءِ التَّأْنِيثِ - فِي جَمِيعِ النُّسَخِ - (عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ) أَيْ: بِكُلِّ خُطْوَةٍ، أَوْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ، أَوْ بِالْمَجْمُوعِ (وَكُتِبَ) - بِالتَّذْكِيرِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ: أَيْ: أُثْبِتَ (لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ) : عَلَى وَجْهِ التَّبْدِيلِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّوْفِيقِ. (وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ) - بِالتَّذْكِيرِ أَيْضًا: أَيْ: فِي الْجَنَّاتِ الْعَالِيَاتِ. (وَمَنْ طَافَ فَتَكَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ (وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ) أَيْ: فِي حَالِ الطَّوَافِ (خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ) : أَيْ: دَخَلَ فِي بَحْرِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ (بِرِجْلِيْهِ كَخَائِضِ الْمَاءِ بِرِجْلَيْهِ) وَإِنَّمَا كَرَّرَ الْكَلَامَ لِيُنَاطَ بِهِ غَيْرُ مَا يُنَطْ بِهِ أَوَّلًا، الْمَعْقُولُ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مَنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الذِّكْرِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ بِأَنَّ الثَّوَابَ الْحَاصِلَ دُونَ الْأَوَّلِ بِوَاسِطَةِ تَكَلُّمِهِ فِي طَوَافِهِ بِغَيْرِ الذِّكْرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِكَمَالِ الْأَدَبِ، وَإِيقَاعِ الْعِبَادَةِ بِغَيْرِ وَجْهِهَا اهـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ بِقَوْلِهِ: " «فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَيَكُونَ مَكْرُوهًا» ". قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْكَلَامُ الْمُبَاحُ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ، يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ اهـ. فَكَيْفَ فِي الطَّوَافِ، وَهُوَ حُكْمًا فِي الصَّلَاةِ، وَالْكَرَاهَةُ تُنَافِي أَصْلَ الثَّوَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَيْضًا يَلْزَمُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ شَيْءٍ، وَتَقَرُّرِهِ، بَلْ مَعَ زِيَادَةِ تَفْرِيعِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الثَّوَابَ حَاصِلٌ لِأَصْلِ الطَّوَافِ، فَيُئَوَّلُ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ مَنْ طَافَ فَتَكَلَّمَ بِالْمُبَاحِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْقَيْدِ ; بَلِ الْإِطْلَاقُ، أَوْ نَفْيُ الْكَلَامِ مُطْلَقًا أَوْلَى. وَأَقُولُ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ: إِنَّ الظَّاهِرَ فِي مَعْنَاهُ - مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فِي مَبْنَاهُ - أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ طَافَ فَتَكَلَّمَ أَيْ: بِغَيْرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ مِنْ أَخْبَارِ الْعُلَمَاءِ الْأَبْرَارِ، وَأَسْرَارِ الْمَشَايِخِ الْأَخْيَارِ - فَيُفِيدُ التَّقْيِيدُ حِينَئِذٍ زِيَادَةَ مَثُوبَاتِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَإِنَّهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَافَ بِالْبَيْتِ فَلَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، فَصَافَحَتْهُ وَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: بَرَّ حَجُّكَ يَا آدَمُ، طُفْ بِهَذَا الْبَيْتِ، فَإِنَّا قَدْ طُفْنَا قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، قَالَ لَهُمْ آدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَمَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي طَوَافِكُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ آدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَنَا أَزِيدُ فِيهَا: وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ نَحْوُهُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب الوقوف بعرفة]

[بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ]

[4] بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2592 - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ مِنَّا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [4] بَابٌ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ أَيِ: الْحُضُورُ (بِعَرَفَةَ) أَيْ: وَلَوْ سَاعَةً فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ اسْمٌ لِبُقْعَةٍ مَعْرُوفَةٍ اهـ. فَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهَا وَأَمَاكِنِهَا. قَالَ الرَّاغِبُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَعَرُّفِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ بِالْعِبَادَاتِ هُنَاكَ، وَقِيلَ: لِلتَّعَارُفِ فِيهِ بَيْنَ آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَقِيلَ: لِأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرَى إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنَاسِكَ أَيْ: مَوَاضِعَ النُّسُكِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ: أَعَرَفْتَ هَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفَ أَهْلُ الْحَجِّ، وَقِيلَ: يُعَرِّفُهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - يَوْمَئِذٍ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالْكَرَامَةِ، أَيْ: يُطَيِّبُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6] أَيْ: طَيَّبَهَا، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ قَالَ فِي غَرِيبِ " الْمُوَطَّأِ " لَهُ: سُمِّيَتْ عَرَفَةَ: لِخُضُوعِ النَّاسِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَقِيلَ: لِصَبْرِهِمْ عَلَى الْقِيَامِ، وَالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَارِفَ يَصْبِرُ اهـ. إِذْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ شَيْءٍ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَشَقَّتِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2592 - (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ) نِسْبَةً إِلَى ثَقِيفٍ - بِالْمُثَلَّثَةِ، وَالْقَافِ - قَبِيلَةٌ بِالطَّائِفِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ (أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا) وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (غَادِيَانِ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْغُدُوِّ، أَيْ: ذَاهِبَانِ أَوَّلَ النَّهَارِ (مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ) أَيْ: لِلْوُقُوفِ (كَيْفَ كُنْتُمْ؟) أَيْ: مَعَاشِرَ الصَّحَابَةِ (تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ) أَيْ: يَوْمِ عَرَفَةَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ؟ إِذِ الْعِبْرَةُ بِتِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَقْرُونَةِ بِالْمَعِيَّةِ (فَقَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (كَانَ يُهِلُّ) أَيْ: يُلَبِّي (مِنَّا الْمُهِلُّ) : أَيِ: الْمُلَبِّي، أَوِ الْمُحْرِمُ (فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ; فَيُفِيدُ التَّقْرِيرَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ (وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ مِنَّا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا رُخْصَةٌ، وَلَا حَرَجَ فِي التَّكْبِيرِ، بَلْ يَجُوزُ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَلَكِنْ لَيْسَ التَّكْبِيرُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةَ الْحُجَّاجِ، بَلِ السُّنَّةُ لَهُمُ التَّلْبِيَةُ إِلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الْحَاجِّ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ التَّكْبِيرُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ وَاجِبَةٌ فِي الْمَذْهَبِ، أَوْ سُنَّةٌ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَدَلِيلُ السُّنَّةِ أَنْهَضُ ; وَهُوَ مُوَاظَبَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] فَالظَّاهِرُ مِنْهَا ذِكْرُ اسْمِهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ نَسْخًا لِذِكْرِهِمْ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; بِدَلِيلِ {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] اهـ. فَالْأَوْلَى الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ (فَأَخَذَا) أَيْ: صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: " كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ

أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ " قَالَ: وَأَمَّا جَعْلُ التَّكْبِيرَاتِ ثَلَاثًا فِي الْأُولَى، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يَثْبُتُ لَهُ، وَيَبْدَأُ الْمُحْرِمُ بِالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ اهـ. وَيَجِبُ التَّكْبِيرُ عِنْدَ أَبَى حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِشَرْطِ الْإِقَامَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالذُّكُورَةِ، وَكَوْنِ الصَّلَاةِ فَرِيضَةً بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فِي مِصْرَ، وَعِنْدَهَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنَّا الْمُلَبِّي، وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ» ".

2593 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ؛ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2593 - (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " نَحَرْتُ هَاهُنَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِشَارَةً إِلَى مِنًى اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مَوْضِعٌ مَخْصُوصٌ مِنْ مَوَاضِعِ مِنًى لِقَوْلِهِ: (وَمِنًى) : مُبْتَدَأٌ (كُلُّهَا) : أَيْ: كُلُّ مَوَاضِعِهَا تَأْكِيدٌ (مَنْحَرٌ) : أَيْ: مَحَلُّ نَحْرٍ، وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّحْرَ لَا يَخْتَصُّ بِمَنْحَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ كَمَا سَيَأْتِي قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: (نَحَرْتُ هَاهُنَا) أَيْ: فِي مَحَلِّ مَنْحَرِهِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ بُنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى: مَسْجِدَ النَّحْرِ، أَحَدُهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، وَالْآخَرُ مُنْحَرِفٌ عَنْهَا، قِيلَ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بِمَحَلِّ نَحْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ) : أَيْ: مَنَازِلِكُمْ (وَوَقَفْتُ هَاهُنَا) أَيْ: قُرْبَ الصَّخَرَاتِ (وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ) : أَيْ: إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ (وَوَقَفْتُ هَاهُنَا) أَيْ: عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَهُوَ الْبِنَاءُ الْمَوْجُودُ بِهَا الْآنَ (وَجَمْعٌ) أَيِ: الْمُزْدَلِفَةُ (كُلُّهَا مَوْقِفٌ) أَيْ: إِلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ، قِيلَ: (جَمْعٌ) عَلَمٌ لِمُزْدَلِفَةَ ; لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهِ، وَقِيلَ ; لِاقْتِرَابِهَا مِنْ مِنًى، مِنَ الِازْدِلَافِ: الِاقْتِرَابِ، وَالدَّالُ مُبْدَلَةٌ مِنَ التَّاءِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 13] وَقَوْلِهِ {لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أَيْ: قُرْبَى. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ صَادِرَةً فِي بُقْعَةٍ أُخْرَى، وَأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ بِنَاءً عَلَى اسْتِحْضَارِ الْبُقْعَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَالَ الْإِشَارَةِ فِي خَيَالِ الْمُخَاطَبِ، فَلِذَا قَالَ (هَاهُنَا) فِي الْكُلِّ وَلَمْ يَقُلْ (هُنَاكَ) أَوْ (ثَمَّةَ) اهـ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي ; فَالْبُقْعَةُ الْوَاحِدَةُ إِنَّمَا هِيَ مِنًى لِقَوْلِهِ: " نَحَرْتُ " وَالْأَوَامِرُ فِي الْحَدِيثِ لِلرُّخْصَةِ، وَإِلَّا فَالْأَفْضَلُ مُتَابَعَةُ السُّنَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2594 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2594 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ) بِالنَّصْبِ وَقِيلَ بِالرَّفْعِ (مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ) أَيْ: يُخَلِّصَ وَيُنْجِيَ (اللَّهُ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ) أَيْ: بِعَرَفَاتٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: (مَا) بِمَعْنَى (لَيْسَ) وَاسْمُهُ يَوْمٌ، وَ (مِنْ) زَائِدَةٌ أَيْضًا اهـ. فَتَقْدِيرُهُ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ إِعْتَاقًا فِيهِ اللَّهُ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. (وَإِنَّهُ) أَيْ: سُبْحَانَهُ (لَيَدْنُو) أَيْ: يَقْرُبُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ (ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ) أَيْ: بِالْحُجَّاجِ (الْمَلَائِكَةَ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ يُظْهِرُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَضْلَ الْحُجَّاجِ، وَشَرَفَهُمْ، أَوْ يُحِلُّهُمْ مِنْ قُرْبِهِ، وَكَرَامَتِهِ مَحَلَّ الشَّيْءِ الْمُبَاهَى بِهِ، وَالْمُبَاهَاةُ الْمُفَاخَرَةُ (فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ هَؤُلَاءِ حَيْثُ تَرَكُوا أَهْلَهُمْ، وَأَوْطَانَهُمْ، وَصَرَفُوا أَمْوَالَهُمْ، وَأَتْعَبُوا أَبْدَانَهُمْ، أَيْ: مَا أَرَادُوا إِلَّا الْمَغْفِرَةَ، وَالرِّضَا، وَالْقُرْبَ، وَاللِّقَاءَ، وَمَنْ جَاءَ هَذَا الْبَابَ لَا يَخْشَى الرَّدَّ، أَوِ التَّقْدِيرُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ فَهُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ، وَدَرَجَاتُهُمْ عَلَى قَدْرِ مُرَادَاتِهِمْ، وَنِيَّاتِهِمْ، أَوْ أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ هَؤُلَاءِ أَيْ: شَيْئًا سَهْلًا يَسِيرًا عِنْدَنَا إِذَا مَغْفِرَةُ كَفٍّ مِنَ التُّرَابِ لَا يَتَعَاظَمُ عِنْدَ رَبِّ الْأَرْبَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2595 - عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ خَالٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ شَيْبَانَ، قَالَ: «كُنَّا فِي مَوْقِفٍ لَنَا بِعَرَفَةَ يُبَاعِدُهُ عَمْرٌو مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ جِدًّا، فَأَتَانَا ابْنُ مِرْبَعٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْكُمْ ; يَقُولُ لَكُمْ: " قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2595 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ) أَيِ: الْجُمَحِيِّ الْقُرَشِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ (عَنْ خَالٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ شَيْبَانَ) أَيِ: الْأَزْدِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَرِوَايَةٌ، وَيُذْكَرُ فِي " الْوُحْدَانِ ". (قَالَ) أَيْ: يَزِيدُ (كُنَّا فِي مَوْقِفٍ لَنَا) أَيْ: أَسْلَافُنَا كَانُوا يَقِفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (بِعَرَفَةَ يُبَاعِدُهُ عَمْرٌو) أَيْ: يَصِفُهُ بِالْبُعْدِ (مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ جِدًّا) أَيْ: يَجِدُّ جِدًّا فِي التَّبْعِيدِ، أَيْ: بُعْدًا كَثِيرًا، فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: " يُبَاعِدُهُ " مُتَأَخِّرٌ عَنْ مُتَعَلِّقِهِ، فَإِمَّا عَلَى كَوْنِهِ مَصْدَرًا أَيْ: يُبْعِدُهُ تَبْعِيدًا جِدًّا، أَيْ: كَثِيرًا، أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ أَيْ: بِقَوْلِهِ: هُوَ بَعِيدٌ مِنْهُ جِدًّا، أَوْ بِذِكْرِهِ حُدُودَ مِوْقَفِهِمْ - بِكَسْرِ الْمِيمِ - الْمَعْلُومِ مِنْهُ أَنَّهُ بِعِيدٌ اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: " مِوْقَفِهِمْ " بِكَسْرِ الْمِيمِ لَا يَصِحُّ رِوَايَةً وَلَا دِرَايَةً. قِيلَ: عَمْرٌو هُوَ الرَّاوِي، يَعْنِي: قَالَ عَمْرٌو: كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَبَيْنَ مَوْقِفِ إِمَامِ الْحَاجِّ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ. (فَأَتَانَا ابْنُ مِرْبَعٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ: اسْمُهُ زَيْدٌ، وَقِيلَ: يَزِيدُ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. (الْأَنْصَارِيُّ) صِفَةُ الْمُضَافِ (فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْكُمْ) وَفِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ: سَقَطَ (رَسُولِ) الثَّانِي، فَتَحَذَّرْ (يَقُولُ) : أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكُمْ: " قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ " أَيِ: اثْبُتُوا فِي مَوَاقِفِكُمْ، وَاجْعَلُوا وُقُوفَكُمْ فِي أَمَاكِنِكُمْ، جَمْعُ الْمَشْعَرِ، وَهُوَ الْعَلَمُ أَيْ: مَوْضِعُ النُّسُكِ، وَالْعِبَادَةِ (وَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثِ) : أَيْ: مُتَابَعَةٍ (مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ) : (مِنْ) لِلْبَيَانِ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ (إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَقْصُودُ دَفْعُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَوْقِفَ مَا اخْتَارَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَطْيِبُ خَاطِرِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى إِرْثِ أَبِيهِمْ، وَسُنَّتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

2596 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2596 - (وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " كُلُّ عَرَفَةَ) أَيْ: أَجْزَائِهَا، وَمَوَاضِعِهَا، وَوُجُوهِ جِبَالِهَا (مَوْقِفٌ) أَيْ: مَوْضِعُ وُقُوفٍ لِلْحَجِّ (وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ) أَيْ: مَوْضِعُ نَحْرٍ، وَذَبْحٍ لِلْهَدَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَجِّ (وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ) أَيْ: لِوُقُوفِ صُبْحِ الْعِيدِ (وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ فَجٍّ: وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ (طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ) أَيْ: يَجُوزُ دُخُولُ مَكَّةَ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهَا، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ أَفْضَلُ، وَيَجُوزُ النَّحْرُ فِي جَمِيعِ نَوَاحِيهَا لِأَنَّهَا مِنَ الْحَرَمِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْحَرَجِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ ذَبْحُ جَمِيعِ الْهَدَايَا فِي أَرْضِ الْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ، إِلَّا أَنَّ مِنًى أَفْضَلُ لِدِمَاءِ الْحَجِّ، وَمَكَّةَ لَاسِيَّمَا الْمَرْوَةَ لِدِمَاءِ الْعُمْرَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) .

2597 - وَعَنْ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ، قَائِمًا فِي الرِّكَابَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2597 - (وَعَنْ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ) أَيْ: يَعِظُهُمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْمَنَاسِكَ (يَوْمَ عَرَفَةَ) يُحْتَمَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَبَعْدَهُ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ (عَلَى بَعِيرٍ قَائِمًا فِي الرِّكَابَيْنِ) حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ، وَقَوْلُهُ: " قَائِمًا " أَيْ: وَاقِفًا لَا أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى الدَّابَّةِ ; بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ حَالَ كَوْنِ الرِّجْلَيْنِ دَاخِلَيْنِ فِي الرِّكَابَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ.

2598 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2598 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ) ; لِأَنَّهُ أَجْزَلُ إِثَابَةً، وَأَعْجَلُ إِجَابَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِضَافَةُ فِيهِ إِمَّا بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ: دُعَاءٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ ( «وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) بَيَانًا لِذَلِكَ الدُّعَاءِ ; فَإِنْ قُلْتَ هُوَ ثَنَاءٌ، قُلْتُ: فِي الثَّنَاءِ تَعْرِيضٌ بِالطَّلَبِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى " فِي " لِيَعُمَّ الْأَدْعِيَةَ الْوَاقِعَةَ فِيهِ اهـ. وَأُجِيبُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ الذِّكْرُ الدُّعَاءَ فِي أَنَّهُ جَالِبٌ لِلْمَثُوبَاتِ، وَوَصْلَةٌ إِلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبَاتِ، سَاغَ عَدُّهُ مِنْ جُمْلَةِ الدَّعَوَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ فِي قَضَاءِ الْحَاجَاتِ، فَإِنَّ التَّلْوِيحَ أَوْلَى مِنَ التَّصْرِيحِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي ابْنِ جُدْعَانَ: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِذِكْرِ الْمَوْلَى، وَيَعْرِضَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأُخْرَى اعْتِمَادًا عَلَى كَرَمِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَامْتِنَانِهِ، فَقَدْ وَرَدَ: " «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» ". وَفِي هَذَا الْمَقَامِ كَمَالُ التَّفْوِيضِ، وَالتَّسْلِيمِ بِالْقَضَاءِ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا كَمَا قِيلَ: وَكَّلْتُ إِلَى الْمَحْبُوبِ أَمْرِي كُلَّهُ فَإِنْ شَاءَ أَحْيَانِي وَإِنْ شَاءَ أَتْلَفَا فَقَدْ وَرَدَ: " «اللَّهُمَّ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا، فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» " " «وَاللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» " وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ مِنَ الذِّكْرِ الدُّعَاءُ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الرِّضَا، وَإِرَادَتُهُ لِقَاءَ الْمَوْلَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: خَيْرُ مَا قُلْتُ مِنَ الذِّكْرِ ; فَيَكُونُ عَطْفٌ مُغَايِرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءٌ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ مِنَ الذِّكْرِ، وَفِي غَيْرِهِ، أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". (وَحْدَهُ) : أَيْ: يَنْفَرِدُ مُنْفَرِدًا قَالَهُ عِصَامُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي أَنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَأَوَّلَهُ بِالنَّكِرَةِ رِعَايَةً لِلْبَصْرِيَّةِ. (لَا شَرِيكَ لَهُ) أَيْ: فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَالرُّبُوبِيَّةِ، أَوْ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، أَوْ تَأْكِيدٌ ثَانٍ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ الذَّاتِيَّ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ، سِيَّمَا فِي الْجَمْعِ الْأَفْخَمِ (وَلَهُ الْمُلْكُ) : أَيْ: جِنْسُ الْمُلْكِ مُخْتَصٌّ لَهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِمُلْكِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمُلْكِ الْعِلْمِ، وَالْحِكْمَةِ، وَمُلْكِ الْعَمَلِ، وَالزَّهَادَةِ، وَالْقَنَاعَةِ (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيْ: فِي الْأُولَى، وَالْأُخْرَى، أَوِ الْحَمْدُ ثَابِتٌ لَهُ حُمِدَ أَوْ لَمْ يُحْمَدْ، أَوْ لَهُ الْحَامِدِيَّةُ وَالْمَحْمُودِيَّةُ، فَهُوَ الْحَامِدُ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) : شَاءَهُ، وَأَرَادَهُ (قَدِيرٌ) أَيْ: تَامُّ الْقُدْرَةِ فَالْقُدْرَةُ تَابِعَةٌ، وَأُرِيدَ بِالشَّيْءِ الْمَشِيءَ، مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: عَنْ عَمْرٍو.

2599 - وَرَوَى مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ " لَا شَرِيكَ لَهُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2599 - (وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ) وَفِي أَصْلِ الْعَفِيفِ، وَرَوَاهُ بِالضَّمِيرِ وَهُوَ أَظْهَرُ " عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ": وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (إِلَى قَوْلِهِ: لَا شَرِيكَ لَهُ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ: " «أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " إِلَخْ. وَسَنَدُهُ حَسَنٌ جَيِّدٌ، كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ.

2600 - وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ، وَلَا أَدْحَرُ، وَلَا أَحْقَرُ، وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ» " [فَقِيلَ: مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ] " فَإِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ، رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا، وَفِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ " بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2600 - (وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِالتَّصْغِيرِ عَلَى الصَّحِيحِ - (ابْنِ كَرِيزٍ) - بِفَتْحِ الْكَافِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَزَايٍ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَطَلْحَةُ هَذَا مِنْ تَابِعِي الشَّامِ، وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَ " عُبَيْدُ اللَّهِ " فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَكَانَ " عَبْدِ اللَّهِ " وَهُوَ غَلَطٌ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ هُوَ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ الْفَرْقُ بِالِاسْتِدْلَالِ ; لِعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرْدِ الْكَامِلِ، أَوِ الْمَشْهُودِ، وَلِذَا اصْطَلَحَ الْمُحَدِّثُونَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنَ الْمُطْلَقَ إِلَى الْبَصْرِيِّ، وَأَمَّا هَهُنَا فَحَيْثُ قَيَّدَهُ ابْنُ كَرِيزٍ ارْتَفَعَ الِالْتِبَاسُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ تَابِعِي الشَّامِ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمِشْكَاةِ ذَكَرَ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ كَرِيزٍ الْخُزَاعِيَّ، تَابِعِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بِغَيْرِ التَّصْغِيرِ ابْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْجُودِ، رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرِهِ اهـ. وَذَكَرَ فِي " الْمُغْنِي " أَنَّ " كَرِيزًا " بِالْفَتْحِ فِي خُزَاعَةَ، وَبِالضَّمِّ فِي غَيْرِهِمْ، وَفِي " الْمَشَارِقِ " لِابْنِ عِيَاضٍ: طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، بِالْفَتْحِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يُقَيِّدُهُ بِقَوْلِهِ: التَّكْبِيرُ مَعَ التَّصْغِيرِ، وَالتَّصْغِيرُ مَعَ التَّكْبِيرِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ " مُصَغَّرٌ " و " عُبَيْدُ اللَّهِ " مُصَغَّرٌ " بْنُ كَرِيزٍ " مُكَبَّرٌ، لَكِنْ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ فِي " الْمُوَطَّأِ " فِيهِمَا " كُرَيْزٌ " بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ خَطَأٌ: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا» " أَيْ: فِي يَوْمٍ، " هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ ": الْجُمْلَةُ صِفَةُ " يَوْمًا " أَيْ: أَذَلُّ، وَأَحْقَرُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّغَارِ، وَهُوَ الْهَوَانُ، وَالذُّلُّ (وَلَا أَدْحَرُ) اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الدَّحْرِ هُوَ الطَّرْدُ، وَالْإِبْعَادُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ - دُحُورًا} [الصافات: 8 - 9] ، وَقَوْلُهُ: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف: 18] . وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الدَّحْرُ الدَّفْعُ بِعُنْفٍ وَإِهَانَةٍ (وَلَا أَحْقَرُ) أَيْ: أَسْوَأُ حَالًا (وَلَا أَغْيَظُ) أَيْ: أَكْثَرُ غَيْظًا (مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: " يَوْمَ عَرَفَةَ ": قَالَ شَارِحُهُ: نُصِبَ ظَرْفًا لِأَصْغَرَ، أَوْ لِأَغْيَظَ، أَيِ: الشَّيْطَانُ فِي عَرَفَةَ أَبْعَدُ مُرَادًا مِنْهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَتَكْرَارُ الْمَنْفِيَّاتِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَقَامِ (وَمَا ذَاكَ) أَيْ: وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ لَهُ (إِلَّا لِمَا يَرَى) أَيْ: لِأَجْلِ مَا يَعْلَمُ (مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ) أَيْ: عَلَى الْخَاصِّ، وَالْعَامِّ (وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ) ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى غُفْرَانِ الْكَبَائِرِ (إِلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ فِي يَوْمٍ أَسْوَأَ حَالًا مِنْهُ فِيمَا عَدَا يَوْمَ بَدْرٍ، " فَإِنَّهُ " أَيِ: الشَّيْطَانُ (قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْ: يَوْمَ بَدْرٍ (يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ) : أَصْلُهُ يُوَزِّعُ أَيْ: يَكُفُّهُمْ، فَيَحْبِسُ أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَمِنْهُ الْوَازِعُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الصَّفَّ فَيُصْلِحُهُ، وَيُقَدِّمُ فِي الْجَيْشِ، وَيُؤَخِّرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: يُرَتِّبُهُمْ وَيُسَوِّيهِمْ، وَيَكُفُّهُمْ عَنِ الِانْتِشَارِ، وَيَصُفُّهُمْ لِلْحَرْبِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) : وَالدَّيْلَمِيُّ مُتَّصِلًا، وَالْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا، وَمُتَّصِلًا (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ) الْمُغَايِرِ لِبَعْضِ مَا هُنَا.

2601 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي، أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاجِّينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَيَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ! فُلَانٌ كَانَ يُرَهَّقُ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانَةُ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ» . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ» ". رَوَاهُ فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2601 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانُ يَوْمُ عَرَفَةَ إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ) : أَيْ أَمْرُهُ، أَوْ يَتَجَلَّى بِإِنْزَالِ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) : وَلَعَلَّ وَجْهُ التَّخْصِيصِ زِيَادَةُ اطِّلَاعِ أَهْلِهَا بِأَهْلِ الدُّنْيَا (فَيُبَاهِي بِهِمْ) أَيْ: بِالْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ (الْمَلَائِكَةَ) : أَيْ: مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدُّنْيَا، أَوِ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ (فَيَقُولُ: انْظُرُوا) أَيْ: نَظَرَ اعْتِبَارٍ، وَإِنْصَافٍ (إِلَى عِبَادِي) الْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ (أَتَوْنِي) أَيْ: جَاءُوا مَكَانَ أَمْرِي (شُعْثًا) - جَمْعُ أَشْعَثَ - وَهُوَ الْمُتَفَرِّقُ مِنَ الشَّعْرِ (غُبْرًا) : جَمْعُ أَغْبَرَ، وَهُوَ الَّذِي الْتَصَقَ الْغُبَارُ بِأَعْضَائِهِ، وَهُمَا حَالَانِ (ضَاجِّينَ) . بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنْ ضَجَّ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ، أَيْ: رَافِعِينَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي " الْمَشَارِقِ " أَيْ: أَصَابَهُمْ حَرُّ الشَّمْسِ، وَفِي " الْقَامُوسِ " ضَحَى بَرَزَ لِلشَّمْسِ - وَكَسَعَى، وَرَضِيَ - أَصَابَتْهُ الشَّمْسُ (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) مُتَعَلِّقٌ بِأُمُورٍ، أَيْ: مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بِعِيدٍ (أُشْهِدُكُمْ) أَيْ: أُظْهِرُ لَكُمْ (لَهُمْ، فَيَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، فُلَانٌ كَانَ يُرَهَّقُ) - بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ، وَفَتْحِهِ، وَيُخَفَّفُ، أَيْ: يُتَّهَمُ بِالسُّوءِ، وَيُنْسَبُ إِلَى غِشْيَانِ الْمَحَارِمِ (وَفُلَانٌ، وَفُلَانَةُ) أَيْ: كَذَلِكَ يَفْعَلَانِ الْمَعَاصِيَ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَعَجُّبًا مِنْهُمْ بِعِظَمِ الْجَرِيمَةِ، وَاسْتِبْعَادًا لِدُخُولِ صَاحِبِ مِثْلِ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ فِي عِدَادِ الْمَغْفُورِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ إِمَّا اسْتِعْلَامُ حَالِ الْمُرَهَّقِ، وَإِمَّا تَعْجُّبٌ، وَفِيهِ مِنَ الْأَدَبِ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِالْمَعَائِبِ، وَالْفُجُورِ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ) أَيْ: لِهَؤُلَاءِ أَيْضًا، وَقَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ جَمِيعًا، وَهَؤُلَاءُ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَوْمٌ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَفِيهِ تَحْقِيقٌ ذَكَرْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَمَا مِنْ يَوْمٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ (أَكْثَرَ) - بِالنَّصْبِ - خَبَرُ (مَا) بِمَعْنَى " لَيْسَ " وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى اللُّغَةِ التَّمِيمِيَّةِ (عَتِيقًا) : تَمْيِزٌ (مِنَ النَّارِ) : مُتَعَلِّقٌ بِعَتِيقٍ (مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَكْثَرَ (رَوَاهُ) : أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي فَضْلِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِيهِ: " «أَمَّا الْوُقُوفُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَهْبِطُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا يَرْجُونَ رَحْمَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، وَكَعَدَدِ الْقَطْرِ، أَوِ الشَّجَرِ لَغَفَرْتُهَا لَكُمْ، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ» ".

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2602 - «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ قُرَيْشٌ، وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، فَإِنَّ سَائِرَ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ، فَيَقِفُ بِهَا، ثُمَّ يَفِيضُ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2602 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا) أَيْ: تَبِعَهُمْ وَاتَّخَذَ دِينَهُمْ دِينًا (يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) أَيْ: حِينَ يَقِفُ النَّاسُ بِعَرَفَةَ (وَكَانُوا) أَيْ: قُرَيْشٌ (يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ) : جَمْعُ أَحْمَسَ مِنَ الْحَمَاسَةِ بِمَعْنَى الشَّجَاعَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِشَجَاعَتِهِمْ، وَجَلَادَتِهِمْ، مُمَيِّزِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، وَأَهْلِ جِلْدَتِهِمْ، وَقَائِلِينَ: بِأَنَّا أَهْلُ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ كَالْحَمَامِ، فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ لِلْوُقُوفِ كَالْعَوَامِّ (فَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ) يَعْنِي: بَقِيَّتَهُمْ (وَيَقِفُونَ بِعَرَفَةَ) عَلَى الْعَادَةِ الْقَدِيمَةِ وَالطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ،

(فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ) مُتَابَعَةً لِلْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ (فَيَقِفَ بِهَا ثُمَّ يَفِيضَ مِنْهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِفَاضَةُ الزَّحْفُ وَالدَّفْعُ فِي السَّيْرِ، وَأَصْلُهَا الصَّبُّ فَاسْتُعِيرَ لِلدَّفْعِ فِي السَّيْرِ، وَأَصْلُهُ أَفَاضَ نَفْسَهُ، أَوْ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ تَرَكَ الْمَفْعُولَ رَأْسًا حَتَّى صَارَ كَاللَّازِمِ. (فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ (ثُمَّ أَفِيضُوا) أَيِ: ادْفَعُوا وَارْجِعُوا (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) : أَيْ: عَامَّتُهُمْ، وَهُوَ عَرَفَةُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى خُرُوجِ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ كَوْنِهِمْ نَاسًا، فَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ، وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ وَضَعَهُ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخِطَابُ مَعَ قُرَيْشٍ، أُمِرُوا بِأَنْ يُسَاوُوا النَّاسَ بَعْدَ مَا كَانُوا يَتَرَفَّعُونَ عَنْهُمْ، وَ " ثُمَّ " لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ، يَعْنِي: أَنَّ أَحَدَهُمَا صَوَابٌ، وَالْآخَرَ غَلَطٌ، وَقِيلَ: مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ شَرْعٌ قَدِيمٌ فَلَا تُغَيِّرُوهُ اهـ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخِطَابَ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَعْظِيمًا لَهُ، أَوْ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2603 - وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ، فَأُجِيبَ: " إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ، فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ " قَالَ: " أَيْ: رَبِّ، إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ " فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ تَبَسَّمَ - قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا، فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ - أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ؟ قَالَ: " إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اسْتَجَابَ دُعَائِي، وَغَفَرَ لِأُمَّتِي، أَخَذَ التُّرَابَ، فَجَعَلَ يَحْثُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي: كِتَابِ " الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ " نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2603 - (وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ) - بِكَسْرِ الْمِيمِ - يُكَنَّى: أَبَا الْهَيْثَمِ السُّلَمِيَّ الشَّاعِرَ، وَعِدَادُهُ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لِأُمَّتِهِ) : الظَّاهِرُ لِأُمَّتِهِ الْحَاجِّينَ مَعَهُ مُطْلَقًا، لَا مُطْلَقِ الْأُمَّةِ، فَتَأَمَّلْ. (عَشِيَّةَ عَرَفَةَ) أَيْ: وَقْتَ الْوَقْفَةِ (بِالْمَغْفِرَةِ) أَيِ: التَّامَّةِ الْعَامَّةِ (فَأُجِيبَ: إِنِّي) أَيْ: بِأَنِّي (قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ) أَيْ: مَا عَدَا حُقُوقَ الْعِبَادِ (فَإِنِّي آخُذُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ الْفَاعِلِ (لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الظَّالِمِ إِمَّا بِالْعَذَابِ، وَإِمَّا بِأَخْذِ الثَّوَابِ إِظْهَارًا لِلْعَدْلِ. (قَالَ: أَيْ رَبِّ، إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ) أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ (الْمَظْلُومَ مِنَ الْجَنَّةِ) أَنْ: مَا يُرْضِيهِ مِنْهَا، أَوْ بَعْضَ مَرَاتِبِهَا الْعَلِيَّةِ (وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ) : فَضْلًا (فَلَمْ يُجَبْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَشِيَّتَهُ) أَيْ: فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ، وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ، أَوِ الْمَكَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. (فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) أَيْ: وَوَقَفَ بِهَا (أَعَادَ الدُّعَاءَ) أَيِ: الْمَذْكُورُ (فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ) أَيْ: إِلَى مَا طَلَبَهُ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ سَمِعَ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَوَاهَا كَأَنَّهُ عَلِمَهَا. (قَالَ) أَيِ: الْعَبَّاسُ " (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ تَبَسَّمَ) وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي عَنِ الْعَبَّاسِ لِقَوْلِهِ: قَالَ [أَوْ قَالَ] (فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ) أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا) أَيْ: فِي مِثْلِهَا (فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ) أَيْ: فَمَا السَّبَبُ الَّذِي جَعَلَكَ ضَاحِكًا (أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ) أَيْ: أَدَامَ اللَّهُ لَكَ السُّرُورَ الَّذِي سَبَّبَ ضَحِكَكَ (قَالَ: " إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اسْتَجَابَ دُعَائِي، وَغَفَرَ لِأُمَّتِي: أَخَذَ التُّرَابَ، فَجَعَلَ يَحْثُوهُ) أَيْ: يَكُبُّهُ (عَلَى رَأْسِهِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْلِيَةِ التُّرَابِ، وَغَلَبَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ (وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ) أَيِ: الْعَذَابِ (وَالثُّبُورِ) - بِضَمِّ الثَّاءِ - أَيِ: الْهَلَاكِ؛ يَعْنِي يَقُولُ: وَا وَيْلَاهْ، وَيَا ثُبُورَاهْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي تَهْلُكَةٍ دَعَا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، أَيْ: يَا هَمِّي، وَعَذَابِي احْضُرْ، فَهُنَا أَوَانُكَ. (فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ) أَيْ: مِمَّا صَدَرَ مِنْ فَضْلِ رَبِّي عَلَيَّ [رَغْمَهُ] . وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عُمُومُ الْمَغْفِرَةِ، وَشُمُولُهَا حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ الْعِبَادِ، إِلَّا أَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّقْيِيدِ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ السَّنَةِ، أَوْ بِمَنْ قُبِلَ حَجُّهُ، بِأَنْ لَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْفِسْقِ الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَعَدَمُ التَّوْبَةِ، وَمِنْ شَرْطِهَا: أَدَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ الْفَائِتَةِ ; كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَقَضَاءُ حُقُوقِ الْعِبَادِ الْمَالِيَّةِ، وَالْبَدَنِيَّةِ، وَالْعِرْضِيَّةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حُقُوقٍ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، أَوْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ أَدَائِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَبْحَثُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مُفَصَّلًا فَرَاجِعْهُ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ مُجْمَلًا مَعَ اعْتِقَادٍ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]

لِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَيْ رَبِّ، إِنْ شِئْتَ " فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ» ، وَقَدْ جُمِعَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ بِلَفْظِ، «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَ عَرَفَةَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُطَوِّلُ لَكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَغَفَرَ لَكُمْ إِلَّا التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ، فَادْعُوا " فَلَمَّا كَانَ بِجَمْعٍ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِصَالِحِكُمْ، وَشَفَّعَ صَالِحَكُمْ فِي طَالِحِكُمْ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ فَتَعُمُّهُمْ، ثُمَّ يُفَرِّقُ الرَّحْمَةَ فِيهِ فَتَقَعُ عَلَى كُلِّ غَائِبٍ مِمَّنْ حَفِظَ لِسَانَهُ وَيَدَهُ، وَإِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ عَلَى جِبَالِ عَرَفَاتٍ يَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ اللَّهُ بِهِمْ، فَإِذَا نَزَلَتِ الْمَغْفِرَةُ دَعَا هُوَ وَجُنُودُهُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ يَقُولُ: كُنْتُ أَسْتَفِزُّهُمْ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْمَغْفِرَةُ فَغَشِيَتْهُمْ فَيَتَفَرَّقُونَ وَهُمْ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ» " وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ بِلَفْظِ: " «إِنَّ اللَّهَ يُطَوِّلُ عَلَى أَهْلِ عَرَفَاتٍ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، أَقْبَلُوا إِلَيَّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنَهُمْ جَمِيعَ مَا سَأَلُونِي غَيْرَ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، فَإِذَا أَفَاضَ الْقَوْمُ إِلَى جَمْعٍ، وَوَقَفُوا، وَعَادُوا فِي الرَّغْبَةِ، وَالطَّلَبِ إِلَى اللَّهِ فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي، عِبَادِي، وَقَفُوا، وَعَادُوا فِي [الرَّغْبَةِ] ، وَالطَّلَبِ ; فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَشَفَعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ [جَمِيعَ] مَا سَأَلُونِي، وَتَحَمَّلْتُ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ» ". وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي " الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ " قَالَ بَعْضٌ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا يَصْلُحُ مُتَمَسَّكًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَجَّ يُكَفِّرُ التَّبِعَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ؟ بَلْ ذَهَبَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إِلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي الْمُدَّعَى لِاحْتِمَالِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ أَنْ يُذِيقَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ خَاصًّا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، يَعْنِي: فَفَائِدَةُ الْحَجِّ حِينَئِذٍ التَّخْفِيفُ مِنْ عَذَابِ التَّبِعَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ النَّجَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا، وَنَصُّ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى، وَحَاصِلُ هَذَا الْأَخِيرِ أَنَّهُ بِفَرْضِ عُمُومِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ تَحَمُّلَهُ - تَعَالَى - التَّبِعَاتِ مِنْ قَبِيلِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، وَهَذَا لَا تَكْفِيرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَاعِلُهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْحُكْمِ بِتَكْفِيرِ الذَّنْبِ، وَتَوَقُّفِهِ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَلَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَغُرَّ نَفْسَهُ بِأَنَّ الْحَجَّ يُكَفِّرُ التَّبِعَاتِ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ شُؤْمٌ، وَخِلَافُ الْجَبَّارِ فِي أَوَامِرِهِ، وَنَوَاهِيهِ عَظِيمٌ، وَأَحَدُنَا لَا يَصْبِرُ عَلَى حُمَّى يَوْمٍ، أَوْ وَجَعِ سَاعَةٍ، فَكَيْفَ يَصْبِرُ عَلَى عِقَابٍ شَدِيدٍ، وَعَذَابٍ أَلِيمٍ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ نِهَايَتِهِ إِلَّا اللَّهُ؟ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ خَبَرُ الصَّادِقِ بِنِهَايَتِهِ دُونَ بَيَانِ غَايَتِهِ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِيمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، إِنَّ هَذَا عَامٌّ يُرْجَى أَنْ يُغْفَرَ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ صَغَائِرِهَا وَكَبَائِرِهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْوَعْدِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ. وَقَدْ أَلَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَارِي تَأْلِيفًا سَمَّاهُ: " قُوتَ الْحُجَّاجِ فِي عُمُومِ الْمَغْفِرَةِ لِلْحَاجِّ " رَدَّ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَدِيثَ مَوْضُوعٌ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَيُعَضَّدُ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ طَرَفًا مِنْهُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ صَالِحٌ عِنْدَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ مِمَّا لَيْسَ فِي [الصَّحِيحَيْنِ] . وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، فَإِنْ صَحَّ شَوَاهِدُهُ، فَفِيهِ الْحُجَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَظُلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا دُونَ الشِّرْكِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا [ظَنِّيَّةً] ، فَمَا بَالُكَ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ! وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَسَائِلَ الِاعْتِقَادِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، نَعَمْ، يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ رَجَاءُ عُمُومِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ حَجَّ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَأَيْنَ مَنْ يَجْزِمُ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَوْ صَالِحًا فِي عُلُوِّ مَقَامِهِ هُنَالِكَ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ غَيْرَ الْمَعْصُومِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ الْمَقْرُونَةِ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَحُسْنَ الْعَمَلِ الْمُوجِبِ لِلْمَثُوبَةِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ الْعُقُوبَةِ.

[باب الدفع من عرفة والمزدلفة]

[بَابٌ الدَّفْعُ مِنْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ]

(5) بَابٌ: الدَّفْعُ مِنْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2604 - عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [5] بَابٌ: الدَّفْعُ مِنْ عَرَفَةَ أَيِ: الرُّجُوعُ مِنْهَا. (وَالْمُزْدَلِفَةِ) عَطْفٌ عَلَى الدَّفْعِ أَيْ: وَالنُّزُولُ فِيهَا، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَيَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى عَرَفَةَ، أَيْ: وَبَابُ الدَّفْعِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ نُسْخَةُ: وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2604 - (وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَأَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. (قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) أَيْ: خُصَّ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّهُ كَانَ رَدِيفَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ. (كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ) أَيِ: انْصَرَفَ مِنْ عَرَفَةَ، قِيلَ: وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الدَّفْعُ فِي الْإِفَاضَةِ لِأَنَّ النَّاسَ فِي مَسِيرِهِمْ ذَلِكَ يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ: حَقِيقَةُ دَفْعٍ أَيْ دَفَعَ نَفْسَهُ عَنْ عَرَفَةَ وَنَحَّاهَا. (قَالَ) أَيْ: أُسَامَةُ (كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: السَّيْرَ السَّرِيعَ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ انْتِصَابُ الْقَهْقَرَى، أَوِ الْوَصْفِيَّةِ أَيْ: يَسِيرُ السَّيْرَ الْعَنَقَ (فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً) بِفَتْحٍ، أَيْ: سَعَةً وَمَكَانَهَا خَالِيًا عَنِ الْمَارَّةِ لِوُقُوعِ الْفُرْجَةِ بَيْنَ الْمَارَّةِ، وَالْفَجْوَةُ: الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ (نَصَّ) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: سَارَ سَيْرًا أَسْرَعَ، قِيلَ: أَصْلُ النَّصِّ الِاسْتِقْصَاءُ، وَالْبُلُوغُ إِلَى الْغَايَةِ، أَيْ: سَاقَ دَابَّتَهُ سَوْقًا شَدِيدًا حَتَّى اسْتَخْرَجَ أَقْصَى مَا عِنْدَهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعَنَقُ: الْمَشْيُ، وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ الْمُبَادَرَةُ، وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى الْعِبَادَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَالطَّاعَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2605 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2605 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ دَفَعَ) أَيْ: أَفَاضَ (مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَرَفَةَ) أَيْ: مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ لَا كَمَا وَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: أَيْ: مِنْ مِنًى إِلَيْهَا، أَوْ مِنْ مَحَلِّ الْخُطْبَةِ إِلَى مَحَلِّ الْوُقُوفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحَمَةَ إِلَّا بَعْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَأَنَّهُ جَاءَ الْوَهْمُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ عَرَفَةَ (فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: أَحَسَّ (وَرَاءَهُ) أَيْ: خَلْفَهُ (زَجْرًا شَدِيدًا) أَيْ: سَوْقًا لِلدَّوَابِّ، بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ (وَضَرْبًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ) لِيَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ وَيَسْمَعُوا قَوْلَهُ (وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ) وَفِي نُسْخَةٍ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمُ بِالسَّكِينَةِ» " أَيِ: الطُّمَأْنِينَةِ وَالسُّكُونِ مَعَ اللَّهِ، وَتَرْكِ الْحَرَكَةِ الْمُشَوِّشَةِ لِقُلُوبِ خَلْقِ اللَّهِ. (فَإِنَّ الْبِرَّ) فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ (لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ) : وَهُوَ حَمْلُ الْإِبِلِ عَلَى سُرْعَةِ السَّيْرِ، أَيْ: لَيْسَ يَحْصُلُ الْبِرُّ بِذَلِكَ فَقَطْ، بَلْ بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وَاجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسَارَعَةَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَالْمُبَادَرَةَ إِلَى الْمَبَرَّاتِ مَطْلُوبَةٌ، لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهٍ يَجُرُّ إِلَى الْمَكْرُوهَاتِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذِيَّاتِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2606 - وَعَنْهُ، «أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زِيدٍ كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، فَكِلَاهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2606 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ) بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الدَّالِ - أَيْ: رَدِيفَهُ، وَهُوَ الرَّاكِبُ خَلْفَهُ (مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ) أَيِ: ابْنَ عَبَّاسٍ، يَعْنِي جَعَلَهُ رَدِيفَهُ (وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، فَكِلَاهُمَا قَالَ: " الضَّمِيرُ رَاجِعٌ لِلَّفْظِ، فَإِنَّهُ مُفْرَدٌ لَفْظًا، وَمُثَنًى مَعْنًى، وَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ أَنْ يُقَالَ فَكِلَاهُمَا قَالَا: قَالَ - تَعَالَى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] أَوِ الْمَعْنَى: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ: (لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مِنْ أَوَّلِ إِحْرَامِهِ، أَوْ مِنْ عَرَفَةَ (يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) أَيْ: فَقَطَعَ التَّلْبِيَةَ بِرَمْيِ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَاهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2607 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " «جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ، كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ - وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2607 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ) أَيْ: بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ (كُلَّ وَاحِدَةٍ) - بِالرَّفْعِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ) أَيْ: عَلَى حِدَةٍ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ (وَلَمْ يُسَبِّحْ) أَيْ: وَلَمْ يُصَلِّ سُبْحَةً أَعْنِي النَّافِلَةَ (بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ، فَسُكُونٍ أَيْ: عَقِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ (مِنْهُمَا) : وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ مَا بَيْنَهُمَا، وَتَصْرِيحٌ لِنَفْيِ مَا بَعْدَهُمَا مِنَ النَّفْلِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي فِعْلَ السُّنَّةِ، وَالْوَتْرِ فِيمَا بَعْدَهُمَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «أَفَضْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا بَلَغْنَا جَمْعًا صَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: هَكَذَا صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ، وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» ، فَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِي هَذَا مِنَ التَّعَارُضِ، فَإِنْ لَمْ يُرَجَّحْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحِيحَانِ عَلَى مَا أَنْفَرَدَ بِهِ صَحِيحُ مُسْلِمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ حَتَّى تَسَاقَطَا، كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْإِقَامَةِ بِتَعَدُّدِ الصَّلَاةِ، كَمَا فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ، بَلْ أَوْلَى ; لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هُنَا وَقْتِيَّةٌ، فَإِذَا أُقِيمَ لِلْأُولَى الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ وَقْتِهَا الْمَعْهُودِ ; كَانَتِ الْحَاضِرَةُ أَوْلَى أَنْ يُقَامَ لَهَا بَعْدَهَا.

2608 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا، إِلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلِ مِيقَاتِهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2608 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا) أَيْ: فِي وَقْتِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا إِلَخْ، عَلَى مَنْعِ الْجَمْعِ مِنَ السَّفَرِ. وَقَالَ الْعَيْنِيُّ: وَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ، فَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِعْلًا لَا وَقْتًا، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (إِلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ) نَصْبُهُ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، أَيْ: أَعْنِي بِهِمَا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ (الْعِشَاءِ بِجَمْعٍ) أَيْ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، أَيْ: وَصَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَلَعَلَّهُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِمُزْدَلِفَةِ، وَلِذَا اكْتَفَى عَنْ ذِكْرِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِمَا، أَوْ تَرَكَ ذِكْرَهُمَا لِظُهُورِهِمَا عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، إِذْ وَقَعَ ذَلِكَ الْجَمْعُ فِي مَجْمَعٍ عَظِيمٍ فِي النَّهَارِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ فِي الِاسْتِشْهَادِ، بِخِلَافِ جَمْعِ الْمُزْدَلِفَةِ، فَإِنَّهُ بِاللَّيْلِ فَاخْتَصَّ بِمَعْرِفَتِهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْعِبَارَةِ مُسَامَحَةً، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: إِلَّا الصَّلَاتَيْنِ، الْمُرَادُ بِهِمَا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، سَوَاءٌ اتَّصَلَ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَدَاءِ، أَوِ انْقَطَعَ كَمَا بَنَى عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبِنَاءَ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي مِيقَاتِهَا الْمُقَدَّرِ شَرْعًا إِجْمَاعًا. (وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ) أَيْ: بِمُزْدَلِفَةَ (قَبْلَ مِيقَاتِهَا) أَيْ: بِغَلَسٍ قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ، وَهُوَ الْإِسْفَارُ، لَكِنْ بَعْدَ الْفَجْرِ، إِذِ التَّقْدِيمُ عَلَى مِيقَاتِهَا الْمُقَدَّرِ شَرْعًا لَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا، وَقَدْ صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ، «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ " صَلَّى الْفَجْرَ بَعْدَ الصُّبْحِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَقَالَ: الْفَجْرُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

2609 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2609 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: قَدَّمَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ النَّبِيِّ، فَالتَّقْدِيرُ أَيْ: مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ، أَيْ: عَلَيْهِ (لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ) أَيْ: إِلَى مَنْ (فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ) بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ ضَعِيفٍ، أَيْ: مِنَ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُسْتَحَبُّ تَقَدُّمُ الضَّعَفَةِ لَيْلًا لِئَلَّا يَتَأَذَّوْا بِالزِّحَامِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رُخْصَةٌ بِالْعُذْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّ سَوْدَةَ لِشَحَامَتِهَا، وَثِقَلِ بَدَنِهَا، أَفَاضَتْ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ بِإِذْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالدَّمِ، وَلَا النَّفَرَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ بِعُذْرٍ مُسْقِطٌ لِلدَّمِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَاجِبَ وُجُودُهُ بِمُزْدَلِفَةَ فِي جُزْءٍ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَأَنَّ الْمَبِيتَ وَاجِبٌ لَا رُكْنٌ خِلَافًا لِجَمْعٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ، فَيُجْبَرُ بِدَمٍ، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

2610 - «وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ، وَغَدَاةِ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا: " عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ " وَهُوَ كَافٌّ نَاقَتَهُ حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا، وَهُوَ مِنْ مِنًى، قَالَ " عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةَ ". وَقَالَ لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ؛» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2610 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ الْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ: أَخِيهِ شَقِيقِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ (وَكَانَ) أَيِ: الْفَضْلُ (رَدِيفَ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ: مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ (أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ) أَيْ: بِنَاءً عَلَى مَا سَمِعَهُ وَهُوَ غَيْرُ رَدِيفِهِ (وَغَدَاةَ جَمْعٍ) أَيْ: مِنْ مُزْدَلِفَةَ يَعْنِي حَالَ كَوْنِهِ رَدِيفًا لَهُ (لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا) أَيِ: انْصَرَفُوا مِنْ عَرَفَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةِ (عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ) : مَقُولُ الْقَوْلِ، أَيْ: الْزَمُوهَا (وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَافٌّ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: مَانِعٌ مِنَ السُّرْعَةِ بِالْفِعْلِ (نَاقَتَهُ) أَيْ: حِينَ الزِّحَامِ (حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: يُحَرِّكُ دَابَّتَهُ فِيهِ (وَهُوَ) أَيِ: الْمُحَسِّرُ (مِنْ مِنًى) أَيْ: مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ مِنًى فِي آخِرِ الْمُزْدَلِفَةِ، قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: فِي حَدِّ مِنًى مَا بَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَوَادِي مُحَسِّرٍ، وَلَيْسَتْ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، وَعَقَبَتُهَا، وَوَادِي مُحَسِّرٍ مِنْ مِنًى، بَلْ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جِبَالِ مِنًى مِنْهَا دُونَ مَا أَدْبَرَ، وَقِيلَ: الْعَقَبَةُ مِنْ مِنًى، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ) بِالْخَاءِ، وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، أَيْ: بِحَصًى يُمْكِنُ أَنْ يُخْذَفَ بِالْخَذْفِ، وَهُوَ قَدْرُ الْبَاقِلَاءِ تَقْرِيبًا. رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَدَاةَ جَمْعٍ: " الْقُطْ لِي " فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: " نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» . وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ: " الْتَقِطْ لِي حَصًى ". قَالَ: فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: السُّنَّةُ الْتِقَاطُ هَذِهِ السَّبْعِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَعَلَّلُوهُ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَذْفُ رَمْيُكَ حَصَاةً أَوْ نَوَاةً بِالْأَصَابِعِ، تَأْخُذُهَا بَيْنَ سَبَّابَتَيْنِ، وَتَرْمِي بِهَا، وَهُوَ مَا اعْتَمَدَهُ الرَّافِعِيُّ، لَكِنِ اعْتَرَضَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الصَّحِيحَيْنِ نَهَى عَنْ هَيْئَةِ الْخَذْفِ بِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَلَا يَنْكَا الْعَدُوَّ، وَأَنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ، وَيَكْسِرُ السِّنَّ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ رَمْيَ الْجِمَارِ، وَغَيْرَهُ، وَاخْتَارَ أَنَّ هَيْئَةَ الْخَذْفِ هُنَا أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى بَطْنِ إِبْهَامِهِ، وَيَرْمِيَهَا بِرَأْسِ السَّبَّابَةِ، وَمُخْتَارُ ابْنِ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّهُ يَرْمِي بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ مِنَ الْإِبْهَامِ، وَالسَّبَّابَةِ، فَإِنَّهُ أَحْسَنُ، وَأَيْسَرُ، فَتَدَبَّرْ. (الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي أَوْ يَعْنِي، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذَا فِي غَيْرِ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ، أَمَّا رَمْيُهُ فِيهِ، فَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَلْتَقِطَهُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ - فَوَهْمٌ غَرِيبٌ، إِذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الرَّمْيَ فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ يَكُونُ بِالَّذِي رَمَى بِهِ الْجَمْرَةَ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى كَرَاهَةِ الرَّمْيِ بِمَا رَمَى بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَغَيْرَهُ، لِمَا صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا يُقْبَلُ مِنْهَا رُفِعَ، لَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَيْتَهَا مِثْلَ الْجِبَالِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " تَسُدُّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ " وَفِي رِوَايَةٍ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، هُوَ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ، لَكِنْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَلَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ. (وَقَالَ) أَيْ: فَضْلٌ (لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ) أَيْ: حَتَّى رَمَى أَوَّلَ حَصَاةٍ مِنْ حَصَيَاتِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِيهِ: " «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ» " وَيُشِيرُ بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِفُ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ لِلْإِيضَاحِ، وَالْبَيَانِ لِحَصَى الْخَذْفِ، وَإِلَّا أَنَّهُ عَلَى هَيْئَةِ الْخَذْفِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

2611 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَفَاضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَمْعٍ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَأَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ، وَأَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ. وَقَالَ: " لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا» ". لَمْ أَجِدْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا فِي: " جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ " مَعَ تَقْدِيمٍ، وَتَأْخِيرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2611 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَفَاضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَمْعٍ) أَيِ: الْمَشْعَرِ (وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَأَمَرَهُمْ) أَيِ: النَّاسَ (بِالسَّكِينَةِ، وَأَوْضَعَ) أَيْ: أَسْرَعَ (وَفِي وَادِي مُحَسِّرٍ) أَيْ: قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْحَذْفِ) أَيْ: بِقَدْرِهِ (وَقَالَ: " «لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا» ) : لَعَلَّ هَهُنَا لِلْإِشْفَاقِ، وَفِيهِ

تَحْرِيضٌ عَلَى أَخْذِ الْمَنَاسِكِ مِنْهُ، وَحِفْظِهَا وَتَبْلِيغِهَا عَنْهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَعَسَى اهـ. أَيْ: تَعَلَّمُوا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنْ لَا أَرَاكُمْ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَقَدْ كَانَ كَمَا ظَنَّهُ، فَإِنَّهُ فَارَقَ الدُّنْيَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ (لَمْ أَجِدْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحَيْنِ) هَذَا مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ نَوْعٌ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، حَيْثُ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ مَوْجُودًا فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ (إِلَّا فِي: جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ) أَيْ: لَكِنْ وَجَدْتُهُ فِيهِ (مَعَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ) : وَهَذَا أَيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِاعْتِرَاضٍ آخَرَ، فَتَدَبَّرْ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2612 - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ حِينَ تَكُونُ الشَّمْسُ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ، وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حِينَ تَكُونُ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ. وَإِنَّا لَا نَدْفَعُ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَنَدْفَعُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، هَدْيُنَا مُخَالِفٌ لِهَدْيِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَالشِّرْكِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ فِيهِ: " خَطَبَنَا " وَسَاقَهُ بِنَحْوِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2612 - (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ، فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ. (قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: غَيْرَ قُرَيْشٍ (كَانُوا يَدْفَعُونَ) أَيْ: يَرْجِعُونَ (مِنْ عَرَفَةَ حِينَ تَكُونُ الشَّمْسُ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ) الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ " تَكُونُ " وَجُمْلَةُ التَّشْبِيهِ مُعْتَرِضَةٌ قَبْلَ (قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ، ظَرْفٌ لِـ " يَدْفَعُونَ " أَوْ بَدَلٌ مِنْ " حِينَ ". قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَيْ: حِينَ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي وُجُوهِهِمْ، كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقَعَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي تُحَاذِي وُجُوهَهُمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ عَلَى رُءُوسِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي مُوَاجَهَةِ الشَّمْسِ وَقْتَ الْغُرُوبِ إِنَّمَا يَقَعُ ضَوْءُهَا عَلَى مَا يُقَابِلُهَا، وَلَمْ تَعُدْ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِنَ الرَّأْسِ لِانْحِطَاطِهَا، وَكَذَا وَقْتَ الطُّلُوعِ، وَإِنَّمَا شَبَّهَهَا بِعَمَائِمِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ بَيْنَ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، لَمْ يُصِبْهُ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِلَّا الشَّيْءُ الَّذِي يَلْمَعُ فِي جَبِينِهِ لَمَعَانَ بَيَاضِ الْعِمَامَةِ، وَالظِّلُّ يَسْتُرُ بَقِيَّةَ وَجْهِهِ، وَبَدَنِهِ، فَالنَّاظِرُ إِلَيْهِ يَجِدُ ضَوْءَ الشَّمْسِ فِي وَجْهِهِ مِثْلَ كَوْرِ الْعِمَامَةِ فَوْقَ الْجَبِينِ، وَالْإِضَافَةُ فِي عَمَائِمَ لِمَزِيدِ التَّوْضِيحِ كَمَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نِسَاءِ الْأَعْرَابِ، فَإِنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مَا يُشْبِهُ الْعَمَائِمَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ) أَيْ: يَرْجِعُونَ (بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حِينَ تَكُونُ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: شَبَّهَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّوْءِ عَلَى الْوَجْهِ طَرَفَيِ النَّهَارِ حِينَ مَا دَنَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْأُفُقِ بِالْعِمَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْمَعُ فِي وَجْهِهِ لَمَعَانَ بَيَاضِ الْعِمَامَةِ (وَإِنَّا لَا نَدْفَعُ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ) ، فَيُكْرَهُ النَّفْرُ قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاجِبٌ (وَنَدْفَعُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ) أَيْ: عِنْدَ الْإِسْفَارِ ; فَيُكْرَهُ الْمُكْثُ بِهَا إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ اتِّفَاقًا (هَدْيُنَا) أَيْ: سِيرَتُنَا وَطَرِيقَتُنَا (مُخَالِفٌ لِهَدْيِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ) أَيِ: الْأَصْنَامِ (وَالشِّرْكِ) أَيْ: أَهْلِهِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: لِهَدْيِ الْأَوْثَانِ، وَالشِّرْكِ. قَالَ شَارِحُهُ: الْمُرَادُ سِيرَةُ أَهْلِهِمَا، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا ; كَالْآمِرِينَ لَهُمْ بِمَا فَعَلُوهُ، وَاتَّخَذُوهُ سَبِيلًا اهـ. وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي الْمُخَالَفَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَرْكِ الْمُوَافَقَةِ حُصُولُ الْإِطَالَةِ لِلْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّهُ رُكْنٌ بِالْإِجْمَاعِ دُونَ وُقُوفِ الْمُزْدَلِفَةِ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَسُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) . كَذَا فِي الْأَصْلِ بَيَاضٌ هُنَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ كَتَبَ فِي الْهَامِشِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْ: فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ، وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ: " خَطَبَنَا " وَسَاقَهُ بِنَحْوِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَكُونُ اعْتِرَاضًا عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ.

2613 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ - أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - عَلَى حُمُرَاتٍ، فَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَنَا، وَيَقُولُ: " أُبَيْنِيَّ، لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2613 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: أَرْسَلَنَا قُدَّامَهُ، أَوْ أَمَرَنَا بِالتَّقَدُّمِ إِلَى مِنًى (لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَلَّ عَلَى جَوَازِ تَقَدُّمِ النِّسْوَانِ، وَالصِّبْيَانِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ الِانْتِصَافِ اهـ. وَكَوْنُهُ بَعْدَ الِانْتِصَافِ فِي مَحَلِّ الِاحْتِمَالِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ. (أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) أَيْ: صِبْيَانَهُمْ، وَفِيهِ تَغْلِيبُ الصِّبْيَانِ عَلَى النِّسْوَانِ، وَهُوَ تَصْغِيرٌ شَاذٌّ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ غِلْمَةٍ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ - غُلَيْمَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ تَصْغِيرُ أَغْلِمَةٍ جَمْعِ غُلَامٍ قِيَاسًا، وَإِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ، وَالْمُسْتَعْمَلُ غِلْمَةٌ فِي الْقِلَّةِ، وَالْغِلْمَانُ فِي الْكَثْرَةِ، وَنَصْبُهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ ضَمِيرِ " قَدَّمَنَا " وَ (عَلَى حُمُرَاتٍ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حُمُرٍ جَمْعِ حِمَارٍ رَاكِبِينَ عَلَيْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْحِمَارِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ فِي السَّفَرِ الْقَرِيبِ (فَجَعَلَ) أَيْ: فَشَرَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَلْطَحُ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ: يَضْرِبُ (أَفْخَاذَنَا) : وَاللَّطْحُ: الضَّرْبُ بِبَاطِنِ الْكَفِّ لَيْسَ بِالتَّشْدِيدِ تَلَطُّفًا (وَيَقُولَ: أُبَيْنِيَّ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَكَسْرِ النُّونِ، وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَيُكْسَرُ - تَصْغِيرُ ابْنٍ، مُضَافٌ إِلَى النَّفْسِ، أَوْ بَعْدَ جَمْعِهِ جَمْعَ السَّلَامَةِ، إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ هَمْزَتَهُ هَمْزَةُ وَصْلٍ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ التَّصْغِيرَ يَرُدُّ الشَّيْءَ إِلَى أَصْلِهِ مِثْلَ الْجَمْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف: 46] فَأَصْلُ ابْنٍ بَنُو، فَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الْعَجُزِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: بَنِيَّ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَلْتَبِسُ بِالْمُفْرَدِ زِيدَ الْهَمْزَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: تَصْغِيرُ ابْنَا يَعْنِي كَانَ مُفْرَدُهُ مَقْطُوعَ الْأَلِفِ، فَصُغِّرَ عَلَى أُبَيْنٍ، ثُمَّ جُمِعَ جَمْعَ السَّلَامَةِ، وَقِيلَ: ابْنَى بِوَزْنِ أَعْمَى، قُلِبَتْ أَلِفُهُ يَاءً لِكَسْرِ مَا بَعْدَ يَاءِ التَّصْغِيرِ، وَأُضِيفَتْ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: تَصْغِيرُ ابْنَى: بِفَتْحٍ، فَسُكُونٍ، فَفَتْحٍ، فَتَشْدِيدٍ، كَمَا أَنَّ تَصْغِيرَ أَعْمَى أُعَيْمَى، وَفِي " النِّهَايَةِ ": قِيلَ ابْنٌ يُجْمَعُ عَلَى أَبْنَاءٍ مَقْصُورًا، وَمَمْدُودًا، وَقِيلَ: تَصْغِيرُ ابْنٍ وَفِيهِ نَظَرٌ اهـ. وَجْهُ النَّظَرِ أَنَّ هَمْزَتَهُ وَصْلِيَّةٌ، وَالتَّصْغِيرُ يُرْجِعُ الشَّيْءَ إِلَى أَصْلِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، أَوْ وَجْهُ النَّظَرِ أَنَّهُ مُفْرَدٌ، مَا بَعْدَهُ جَمْعٌ، فَيُجَابُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، أَوِ النِّدَاءُ لِلْأَشْرَفِ أَصَالَةً، وَالْخِطَابُ لِلْبَقِيَّةِ تَبَعًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] الْآيَةَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرِّوَايَةَ فِي لَفْظَةٍ مُتَّحِدَةٍ، وَالدِّرَايَةَ مُخْتَلِفَةٌ، فَقَوْلُ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ التَّقْدِيرَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِي لَفْظِهِ، مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي تَحْقِيقِ مُقْتَضَاهُ، وَتَدْقِيقِ فَحْوَاهُ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْمُرَادُ: يَا وُلَيْدَاتِي، أَوْ يَا أَبْنَائِي، أَوْ يَا بَنِيَّ (لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ) أَيْ: جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) : وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الرَّمْيِ فِي اللَّيْلِ، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَكْثَرُونَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالتَّقْيِيدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ حِينَئِذٍ سُنَّةٌ، وَمَا قَبْلَهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

2614 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ فِي الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْيَوْمَ الَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2614 - (عَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمِّ سَلَمَةَ) أَيْ: وَمَنْ مَعَهَا مِنَ الضَّعَفَةِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ (لَيْلَةَ النَّحْرِ) أَيْ: مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى (فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ فِي الْفَجْرِ) أَيْ: طُلُوعِ الصُّبْحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ عَلَى مَا فَهِمَهُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، فَلَا دَلَالَةَ لِلشَّافِعِيِّ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهَا: (ثُمَّ مَضَتْ) أَيْ: ذَهَبَ مِنْ مِنًى (فَأَفْضَتْ) أَيْ: طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ ;

(وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ) أَيِ: الْيَوْمُ الَّذِي فَعَلَتْ فِيهِ مَا ذَكَرَ مِنَ الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ (الْيَوْمَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ (وَالَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهَا) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي أُرْسِلَتْ مِنَ اللَّيْلِ رَمَتْ قَبْلَ طُلُوعٍ فِي النَّهَارِ، بِخِلَافِ سَائِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ أَفَضْنَ فِي اللَّيْلَةِ الْآتِيَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ رَمْيَ الْجَمْرَةِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرَهُ عَنْهُ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا رُخْصَةٌ لِأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إِلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ فِي " الْهِدَايَةِ ": لِلشَّافِعِيِّ مَا رَوَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي مُصَنَّفِهِ، عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَزَادَ فِيهِ " وَأَيَّةُ سَاعَةٍ شَاءَ مِنَ النَّهَارِ " وَحَمَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ، لِمَا عَرَفَ أَنَّ وَقْتَ رَمْيِ كُلِّ رَمْيٍ إِذَا دَخَلَ مِنَ النَّهَارِ امْتَدَّ إِلَى آخِرِ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَتْلُو ذَلِكَ النَّهَارَ، فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، فَاللَّيَالِي فِي الرَّمْيِ تَابِعَةٌ لِلْأَيَّامِ السَّابِقَةِ لَا اللَّاحِقَةِ، بِدَلِيلِ مَا فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَدِّمُ ضُعَفَاءَ أَهْلِهِ بِغَلَسٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ ضَعَفَةَ بَنِي هَاشِمٍ أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ، وَيَقُولُ: " «أُبَيْنِيَّ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» ". وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ، وَثَقَلَهُ صَبِيحَةَ جَمْعٍ أَنْ يُفِيضُوا مَعَ أَوَّلِ الْفَجْرِ بِسِوَارٍ، وَلَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ إِلَّا مِصْبِحِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ فِي الثَّقَلِ، وَقَالَ: " «لَا تَرْمُوا الْجِمَارَ حَتَّى تُصْبِحُوا» " فَأَثْبَتْنَا الْجَوَازَ بِهَذَيْنِ، وَالْفَضِيلَةَ بِمَا قَبْلَهُ.

2615 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ " يُلَبِّي الْمُقِيمُ، أَوِ الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2615 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُلَبِّي الْمُقِيمُ) أَيْ: بِمَكَّةَ مِنَ الْمُعْتَمِرِينَ (أَوِ الْمُعْتَمِرُ) أَيْ: مِنَ الْقَادِمِينَ، فَـ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُعْتَمِرُ مُطْلَقًا، فَـ (أَوْ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. (حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: (وَرُوِيَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) أَقُولُ: كَأَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَاهُ مَرْفُوعًا، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ مَوْقُوفًا، فَيَكُونُ الِاقْتِصَارُ الْمُخِلُّ مِنَ الْمُصَنِّفِ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ أَوَّلًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَفِي الْمَصَابِيحِ: يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ إِلَى أَنْ يَفْتَتِحَ قَالَ شَارِحُهُ: أَيْ: يُلَبِّي الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ وَقْتِ إِحْرَامِهِ إِلَى أَنْ يَبْتَدِئَ بِالطَّوَافِ، ثُمَّ يَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ قِيلَ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَفَعَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَفِي " الْهِدَايَةِ " قَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُ الْمُعْتَمِرُ التَّلْبِيَةَ، كَمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ، وَعَنْهُ كَمَا رَأَى بُيُوتَ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَنَا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُمْسِكُ عَنِ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا اسْتَلَمَ» ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» " اهـ. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُصُورَ إِنَّمَا هُوَ فِي نَقْلِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِعُنْوَانِ الْبَابِ اسْتِطْرَادٌ لِحُكْمِ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ لِلْمُعْتَمِرِ، كَمَا ذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَقْتُ قَطْعِ تَلْبِيَةِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2616 - عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ الشَّرِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: " «أَفَضْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا مَسَّتْ قَدَمَاهُ الْأَرْضَ حَتَّى أَتَى جَمْعًا» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2616 - (عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ) أَيِ: ابْنِ مِسْعَرٍ - الثَّقَفِيِّ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ (أَنَّهُ) أَيْ: يَعْقُوبُ (سَمِعَ الشَّرِيدَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ شَرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ، كَانَ اسْمُهُ مَالِكًا، فَقَتَلَ قَتِيلًا مِنْ قَوْمِهِ، فَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَسْلَمَ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّرِيدَ (يَقُولُ: أَفْضْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ مِنْ عَرَفَاتٍ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا مَسَّتْ قَدَمَاهُ الْأَرْضَ حَتَّى أَتَى جَمْعًا) أَيْ: مُزْدَلِفَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عِبَارَةٌ عَنِ الرُّكُوبِ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْجَمْعِ، يَعْنِي: فَمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلَ لِنَقْصِ الطَّهَارَةِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَاءَ الْوُضُوءِ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، وَقِيلَ: تَوَضَّأَ وُضُوءًا ثُمَّ رَكِبَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2617 - وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ " أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ: كَيْفَ نَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ. فَقُلْتُ لِسَالِمٍ: أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ سَالِمٌ: وَهَلْ تَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلَّا سُنَّتَهُ؟ ! رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2617 - (وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أَيِ: الزُّهْرِيِّ (قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ) أَيِ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (أَنَّ الْحَجَّاجَ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ: كَثِيرَ الْحُجَجِ بِضَمِّ الْحَاءِ (ابْنَ يُوسُفَ) أَيِ: الثَّقَفِيَّ قَاتِلَ الْأَنْفُسِ، قِيلَ: قَتَلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا قَتْلَ صَبْرٍ (عَامَ نَزَلَ) أَيْ: بِجَيْشٍ كَثِيرٍ (بِابْنِ الزُّبَيْرِ) أَيْ: سَنَةَ بَارَزَ، وَقَاتَلَ فِيهَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْخَلِيفَةِ بِمَكَّةَ، وَالْعِرَاقِيِّينَ، وَغَيْرِهَا مَا عَدَا نَحْوَ الشَّامِ، حَتَّى فَرَّ مَنْ مَعَهُ، وَبَقِيَ صَابِرًا مُجَاهِدًا بِنَفْسِهِ إِلَى أَنْ ظَفِرُوا بِهِ، فَقَتَلُوهُ، وَصَلَبُوهُ، ثُمَّ أَمَّرَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ تِلْكَ السَّنَةَ عَلَى الْحَاجِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ نُسُكِهِ بِأَقْوَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَنْ يَسْأَلَهُ، وَلَا يُخَالِفَهُ، فَحِينَئِذٍ (سَأَلَ) أَيِ: الْحَجَّاجُ (عَبْدَ اللَّهِ) أَيِ: ابْنَ عُمَرَ، وَهُوَ أَبُو سَالِمٍ الرَّاوِي (كَيْفَ نَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟) أَيْ: فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْوُقُوفِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، هَلْ نُقَدِّمُهُمَا عَلَى الْوُقُوفِ، أَوْ نُوَسِّطُهُمَا فِيهِ، أَوْ نُؤَخِّرُهُمَا عَنْهُ؟ (فَقَالَ سَالِمٌ) أَيِ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَفِيهِ تَجْرِيدٌ، أَوْ نَقْلٌ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ، فَقُلْتُ، وَإِنَّمَا أَجَابَ قَبْلَ أَبِيهِ تَخْفِيفًا، فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَإِهَانَةً لِلْحَجَّاجِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُتَكَبِّرًا نَكِيرًا. (إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ) أَيْ: مُتَابَعَةَ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْكَلَامِ (فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ) أَيِ: الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (يَوْمَ عَرَفَةَ) : فِي " النِّهَايَةِ ": التَّهْجِيرُ التَّبْكِيرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَالْمَعْنَى صَلِّ الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ جَمْعًا أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَجَّاجَ، وَابْنَ عُمَرَ، وَوَلَدَهُ كَانُوا مُقِيمِينَ، فَيُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ جَمْعُ نُسُكٍ لَا جَمْعُ سَفَرٍ. (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: صَدَقَ) أَيْ: سَالِمٌ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ وَلَدِهِ، وَدَفْعٌ لِمَا فِي قَلْبِ الْحَجَّاجِ مِنْ تَرَدُّدِهِ (إِنَّهُمْ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيُفْتَحُ أَيْ: إِنَّ الصَّحَابَةَ (كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ) حَالٌ، أَيْ: مُتَوَغِّلِينَ فِي السُّنَّةِ مُتَمَسِّكِينَ بِهَا، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْحَجَّاجِ، قَالَهُ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (فَقُلْتُ لِسَالِمٍ) : قَائِلُهُ ابْنُ شِهَابٍ (أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟) : بِإِثْبَاتِ الِاسْتِفْهَامِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْأَعْلَامِ، خِلَافًا لِمَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ بِحَذْفِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ لِظُهُورٍ فِي الْمَقَامِ. (فَقَالَ سَالِمٌ: وَهَلْ يَتَّبِعُونَ) : بِالتَّشْدِيدِ (ذَلِكَ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ (إِلَّا سُنَّتَهُ) : أَوْ لَا يَتَّبِعُونَ التَّهْجِيرَ فِي الْجَمْعِ لِشَيْءٍ إِلَّا لِسُنَّةٍ، فَنَصْبُ سُنَّةٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالْمَعْنَى يَتَّبِعُونَ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مُهْمَلَةً، كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ بِمُثَنَّاتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ، وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الِابْتِغَاءِ، وَهُوَ الطَّلَبُ، وَبِذَلِكَ بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلٌ " وَفِي " اهـ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ، تَفْسِيرٌ لِـ يَبْتَغُونَ مِنَ الِابْتِغَاءِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَغْلَبِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَأَكْثَرِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ اتَّفَقَ نَسْخُ الْمِشْكَاةِ عَلَى ذَلِكَ بِدُونِ الْبَاءِ، وَبِغَيْرِ " فِي " فَتَأَمَّلْ. وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتِدَاءً لِيَكُونَ الدَّلِيلُ حُجَّةً إِجْمَاعِيَّةً لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا الْحَجَّاجُ. وَذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَا مَاتَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، أَوْ زَادَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ أَمَرَ رَجُلًا، فَسَمَّ زَجَّ رُمْحِهِ، وَزَاحَمَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَوَضَعَ الزَّجَّ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ يَوْمًا، وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْتَظِرُكَ.

فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحَرِّكَ الَّذِي فِي عَيْنَيْكَ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّكَ سَفِيهٌ مُسَلَّطٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخْفَى قَوْلَ ذَلِكَ عَنِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يُسْمِعْهُ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُهُ فِي الْمَوَاقِفِ بِعَرَفَةَ، وَغَيْرِهَا إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ فِيهَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَعِزُّ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ حَالِ عَبْدِ الْمَلِكِ ; فَأَجَابَ بِأَنَّ الْحَجَّاجَ سَيِّئَةٌ مِنْ سَيِّئَاتِهِ، فَيَكْفِيهِ سَبَبًا فِي تَسَفُّلِ دَرَكَاتِهِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ جَوْرِهِ، وَتَعَدِّيهِ لِلْحُدُودِ أَلْزَمَ الْحَجَّاجَ مَعَ فَظَاظَتِهِ، وَجَبَرُوتِهِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِأَمْرِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُهُ: وَيَقْتَدِي بِفِعْلِهِ فِي جَمِيعِ نُسُكِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ظَاهِرًا، وَكَمَنَ قَتَلَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ أَحَدٌ، فَأَمَرَ أَتْبَاعَهُ بِسَمِّ أَسِنَّةِ رِمَاحِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَسَرَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْظُرَ ابْنَ عُمَرَ حَتَّى يَخْرُجَ لِلْمَسْجِدِ، فَيَمْشِيَ بِإِزَائِهِ، ثُمَّ يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ يَتَشَاغَلُ بِالزَّحْمَةِ، فَيُسْقِطُ رُمْحَهُ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ عَلَى رِجْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَأَصَابَهَا سِنَانُهُ الْمَسْمُومُ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ شَعَرَ ابْنُ عُمَرَ بِذَلِكَ، وَشَافَهَ بِهِ الْحَجَّاجَ لَمَّا عَادَهُ، وَقَالَ لَهُ: لَوْ عَلِمْنَا مَنْ فَعَلَ بِكَ ذَلِكَ قَتَلْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ: فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ أَمَرَ النَّاسَ بِسَمِّ أَسِنَّةِ رِمَاحِهِمْ، اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى، فَإِنَّ أَمْرَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ ثَانِيًا إِنَّمَا كَانَ عَلَى مَكِيدَةٍ بَاطِنِيَّةٍ دَفْعًا لِلْفِتْنَةِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ خَائِفًا لِخُرُوجِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَبُولِ الْخِلَافَةِ مِنَ الْخَاصَّةِ، وَالْعَامَّةِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَقَتَلُوهُ كَمَا قَتَلُوا سَائِرَ الصَّحَابَةِ، وَأَكَابِرَ السَّادَةِ، وَالتَّابِعِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

[باب رمي الجمار]

[بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2618 - «عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: " لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (6) بَابٌ: رَمْيُ الْجِمَارِ بِكَسْرِ الْجِيمِ، جَمْعُ الْجَمْرَةِ، وَهِيَ الْحَصَى الصِّغَارُ، وَتَقَيُّدُ ابْنِ حَجَرٍ بِيَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ فِي الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَعَمِّ، وَلَمْ يُفَسِّرِ الْجِمَارَ بِالْجَمَرَاتِ لِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّهُ بَوَّبَ لِرَمْيِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2618 - «عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ» ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَصَلَ مِنًى رَاكِبًا أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا، وَمَنْ وَصَلَهَا مَاشِيًا أَنْ يَرْمِيَهَا مَاشِيًا، وَفِي الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنَ التَّشْرِيقِ يَرْمِي جَمِيعَ الْجَمَرَاتِ مَاشِيًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَاكِبًا. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يُسْتَحَبُّ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَرْمِيَ مَاشِيًا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَفَتَحَ عَيْنَهُ، وَقَالَ: الرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا أَفْضَلُ؟ فَمَا لَيْسَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ، فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَمَا انْتَهَيْتُ إِلَى بَابِ الدَّارِ حَتَّى سَمِعْتُ الصَّرْخَ بِمَوْتِهِ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الرَّمْيُ كُلُّهُ رَاكِبًا أَفْضَلُ اهـ. لِأَنَّهُ رُوِيَ رُكُوبُهُ - عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ كُلِّهِ، وَكَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَحْمِلُ مَا رُوِيَ مِنْ رُكُوبِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي رَمْيِ الْجِمَارِ كُلِّهَا عَلَى أَنَّهُ لِيُظْهِرَ فِعْلَهُ فَيُقْتَدَى بِهِ، وَيُسْأَلَ، وَيُحْفَظَ عَنْهُ الْمَنَاسِكُ، كَمَا ذَكَرَ فِي طَوَافِهِ رَاكِبًا فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَطْلَقَ اسْتِحْبَابَ الْمَشْيِ. قَالَ: يُسْتَحَبُّ الْمَشْيُ إِلَى الْجِمَارِ، وَإِنْ رَكِبَ إِلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ، وَتَظْهَرُ أَوْلَوِيَّتُهُ لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا رُكُوبَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا قُلْنَا يَبْقَى كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا عِبَادَةً، وَأَدَاؤُهَا مَاشِيًا أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَالْخُشُوعِ، وَخُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُشَاةٌ فِي جَمِيعِ الرَّمْيِ، فَلَا يَأْمَنُ مِنَ الْأَذَى بِالرُّكُوبِ مِنْهُمْ بِالزَّحْمَةِ اهـ. كَلَامُهُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ. (وَيَقُولُ) : عَطْفٌ عَلَى يَرْمِي، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

أَوِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (لِتَأْخُذَا) : وَاللَّامُ لَامُ أَمْرٍ، أَيْ: خُذُوا (عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) : وَاحْفَظُوهَا وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ عَلَى طَرِيقَةِ: فَلْتَفْرَحُوا بِالْخِطَابِ شَاذًّا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمُعَلَّلُ مَحْذُوفٌ أَيْ: يَقُولُ: إِنَّمَا فَعَلْتُ لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (فَإِنِّي لَا أَدْرِي) مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَا أَعْلَمُ مَاذَا يَكُونُ (لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي) : بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَهِيَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى السُّنَّةِ (هَذِهِ) أَيِ: الَّتِي أَنَا فِيهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَمَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَاشِيًا، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَحَسْبُكَ مَا رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنِ مُحَمَّدٍ: مِنْ فِعْلِ النَّاسِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَفَ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا، وَرَمَى الْجَمْرَ مَاشِيًا، وَذَلِكَ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ اهـ. وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ، كَمَا لَا يَخْفَى.

2619 - وَعَنْهُ قَالَ: " «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2619 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجَمْرَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» ) : وَهُوَ قَدْرُ الْبَاقِلَاءِ، أَوِ النَّوَاةِ، أَوِ الْأُنْمُلَةِ، فَيُكْرَهُ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْبَرُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِلنَّهْيِ عَنِ الثَّانِي فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، " «بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ، وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ» " وَمِنْ هُنَا تَعَجَّبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: الْأَكْبَرُ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ أَعْجَبُ إِلَيَّ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَلَا وَجْهَ لِلتَّعَجُّبِ لِأَنَّ مَالِكًا رَجَّحَ الْأَكْبَرَ مِنْ جُمْلَةِ حَصَى الْخَذْفِ عَلَى أَصْغَرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْغُلُوِّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ، فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الزَّلَلِ، ثُمَّ وَجْهُهُ إِمَّا لِأَنَّهُ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَاخْتِيَارُ الشَّارِعِ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ دُونَ الْأَكْبَرِ مِنْهُ رَحْمَةً لِلْأُمَّةِ فِي حَالِ الزَّحْمَةِ. فِي " الْهِدَايَةِ ": كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إِبْهَامِهِ وَيَسْتَعِينَ بِالْمُسَبِّحَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا التَّفْسِيرُ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ تَفْسِيرَيْنِ قِيلَ بِهِمَا. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضَعَ طَرَفَ إِبْهَامِهِ الْيُمْنَى عَلَى وَسَطِ السَّبَّابَةِ، وَيَضَعَ الْحَصَى عَلَى ظَهْرِ الْإِبْهَامِ كَأَنَّهُ عَاقِدُ سَبْعِينَ فَيَرْمِيَهَا، وَعُرِفَ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي كَوْنِ الرَّمْيِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَالْآخَرُ: أَنْ يُلْحِقَ سَبَّابَتَهُ، وَيَضَعَهَا عَلَى مَفْصِلِ إِبْهَامِهِ كَأَنَّهُ عَاقِدُ عَشَرَةٍ، وَهَذَا فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّمْيِ بِهِ مَعَ الزَّحْمَةِ، وَالْوَهْجَةِ عَسِيرٌ، وَقِيلَ: يَأْخُذُهَا بِطَرَفَيْ إِبْهَامِهِ، وَسَبَّابَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّهُ أَيْسَرُ، وَهُوَ الْمُعْتَادُ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ سِوَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَارْمُوا مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ» ". وَهَذَا لَا يَدُلُّ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ الْمَطْلُوبَةِ كَيْفِيَّةَ الْخَذْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْيِينٌ ضَابِطٌ مِقْدَارَ الْحَصَاةِ إِذَا كَانَ مِقْدَارُ مَا يَخْذِفُ بِهِ مَعْلُومًا، وَأَمَّا مَا زَادَ فِي رِوَايَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ، مِنْ قَوْلِهِ. وَيُشِيرُ بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِفُ الْإِنْسَانُ يَعْنِي عِنْدَمَا نَطَقَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ، وَأَشَارَ بِصُورَةِ الْخَذْفِ بِيَدِهِ، فَلَيْسَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبُ كَوْنِ الرَّمْيِ بِصُورَةِ الْخَذْفِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِيُؤَكِّدَ كَوْنَ الْمَطْلُوبِ حَصَى الْخَذْفِ، كَأَنَّهُ قَالَ: خُذُوا حَصَى الْخَذْفِ الَّذِي هُوَ هَكَذَا ; لِيُشِيرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي كَوْنِهِ حَصَى الْخَذْفِ ; وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي خُصُوصِ وَضْعِ الْحَصَاةِ فِي الْيَدِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَجْهُ قُرْبَةٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ مُجَرَّدُ صِغَرِ الْحَصَاةِ اهـ. كَلَامُهُ. وَلَوْ رَمَى بِحَصًى أَخَذَهُ مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ لَا يُغَيِّرُ صِفَةَ الْحَجَرِ رَأْسًا؛ لِأَنَّ مَا عِنْدَهَا حَصَى مَنْ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ الْجِمَارُ الَّتِي نَرْمِي بِهَا كُلَّ عَامٍ، فَنَحْسَبُ أَنَّهَا تَنْقُصُ، فَقَالَ: " إِنَّهُ مَا يُقْبَلُ مِنْهَا رُفِعَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَيْتَهَا أَمْثَالَ الْجِبَالِ» ". كَذَا فِي " شَرْحِ النِّقَابَةِ " لِلشُّمُنِّيِّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2620 - وَعَنْهُ قَالَ: " «رَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2620 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: رَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَمْرَةَ) فِي " الْهِدَايَةِ ": وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِأَنَّ مُسَمَّى الرَّمْيِ لَا يَنْتَفِي فِي الطَّرْحِ رَأْسًا، بَلْ إِنَّمَا فِيهِ مَعَ قُصُورٍ ; فَتَثْبُتُ الْإِسَاءَةُ بِهِ، بِخِلَافِ وَضْعِ الْحَصَاةِ وَضْعًا، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الرَّمْيِ الْكُلِّيَّةِ. (يَوْمَ النَّحْرِ) أَيْ: يَوْمَ الْعِيدِ (ضُحًى) أَيْ: وَقْتَ الضَّحْوَةِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ (وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ: بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ (فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: فَرَمْيٌ بَعْدَ الزَّوَالِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَفَادَ أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَدْخُلُ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَفِي رِوَايَةٍ غَيْرِ مَشْهُورَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ، حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَحَمَلَ الْمَرْوِيَّ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى اخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ، وَجْهُ الظَّاهِرِ اتِّبَاعُ الْمَنْقُولِ، لِعَدَمِ الْمَعْقُولِيَّةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ تَحْقِيقٍ فِيهَا بِتَجْوِيزِ التَّرْكِ لِيَنْفَتِحَ بَابُ التَّخْفِيفِ بِالتَّقْدِيمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ رَمْيِ يَوْمٍ عَلَى زَوَالِهِ إِجْمَاعًا عَلَى مَا زَعَمَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ حِكَايَةُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَغَيْرِهِ الْجَوَازَ عَنِ الْأَئِمَّةِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، يَبْلُغُ بِهِ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ آخِرِ يَوْمٍ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، يَعْنِي: يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ» ؛ الْحَدِيثَ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قُلْتُ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِي الْجُمْلَةِ يُسَنُّ تَقْدِيمُ الرَّمْيِ عَلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ إِنْ لَمْ يُخَفْ فَوْتُهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي " الْهِدَايَةِ ": وَأَمَّا الْيَوْمُ الرَّابِعُ، فَيَجُوزُ الرَّمْيُ قَبْلَ الزَّوَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ: إِذَا انْتَفَخَ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ النَّفْرِ، فَقَدْ حَلَّ الرَّمْيُ، وَالصَّدْرُ، وَالِانْتِفَاخُ: الِارْتِفَاعُ، وَفِي سَنَدِهِ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِلرَّمْيِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ لَيْسَ إِلَّا فِعْلُهُ كَذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي فَعَلَهُ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا لَا يُفْعَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي رَمَى فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا رَمَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الرَّابِعِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يُرْمَى قَبْلَهُ.

2621 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2621 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ انْتَهَى) أَيْ: وَصَلَ أَوِ انْتَهَى وُصُولُهُ يَوْمَ النَّحْرِ، كَمَا بَيَّنَتْهُ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ (إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى) أَيِ: الْعَقَبَةُ، وَوَهِمَ الطِّيبِيُّ، فَقَالَ أَيِ: الْجَمْرَةُ الَّتِي عِنْدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَا لِقَوْلِهِ: (فَجَعَلَ الْبَيْتَ) أَيِ: الْكَعْبَةَ (عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ) وَفِي سَائِرِ الْجَمَرَاتِ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ اسْتَجَابًا، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُهَا، وَيَسْتَدْبِرُ الْكَعْبَةَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: يَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ، وَالْجَمْرَةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثٍ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْجُمْهُورُ أَخَذُوا بِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورِ. (وَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ؛ لِأَنَّ التَّعْقِيبِيَّةَ لَا تُنَافِي الْمَعِيَّةَ، كَمَا حَقَّقَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ بِلْقِيسَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ وَفِي " الدُّرِّ " لِلسُّيُوطِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ رَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا، وَعَمَلًا مَشْكُورًا. وَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ يَقُولُ مِثْلَ مَا قُلْتُ. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (هَكَذَا رَمَى) : بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَصْدَرِ (الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعُدُولُهُ عَنْ تَسْمِيَتِهِ، وَالْوَصْفِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْوِهِ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَصِلَتِهِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِ الْفِعْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} [يوسف: 23] اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ ضَمِيرُ " قَالَ " لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا قَرَّرْنَا هُنَالِكَ (سُورَةُ الْبَقَرَةِ) . خَصَّهَا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَنَاسِكِ مَذْكُورٌ فِيهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2622 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الِاسْتِجْمَارُ تَوٌّ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَوٌّ، وَالطَّوَافُ تَوٌّ، وَإِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بِتَوٍّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2622 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الِاسْتِجْمَارُ) أَيْ: الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ (تَوٌّ) - بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ - فَرْضٌ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَحْثِ الِاسْتِنْجَاءِ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالْفَرْضِيَّةُ هُنَا بِالثَّلَاثَةِ، وَفِي الْبَوَاقِي السَّبْعَةِ (وَرَمْيُ الْجِمَارِ تَوٌّ) وَكُلُّهَا وَاجِبَةٌ (وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَوٌّ) وَكُلُّهَا وَاجِبَةٌ (وَالطَّوَافُ تَوٌّ) كُلُّهَا فَرَائِضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَنَا أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ فَرْضٌ، الْبَاقِي وَاجِبٌ. (وَإِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بِتَوٍّ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِجْمَارِ هُنَا هُوَ التَّبَخُّرُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِوَضْعِ الْعُودِ عَلَى جَمْرَةِ النَّارِ فَيَرْتَفِعُ التَّكْرَارُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي عِيَاضٍ، وَتَبِعَهُ الطِّيبِيُّ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ: الْفِعْلُ، وَبِالثَّانِي: عَدَدُ الْأَحْجَارِ، وَتَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، بَلْ تَعَسَّفَ حَيْثُ قَدَّرَ: إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ، وَأَنْقَى بِشَفْعٍ فَلْيَسْتَجْمِرْ بِتَوٍّ ; فَيَضُمَّ إِلَى الشَّفْعِ وَاحِدَةً حَتَّى يَحْصُلَ فَضِيلَةُ الْوَتْرِ، ثُمَّ تَبَجَّحَ بِهِ فِي تَخْلِيصِهِ مِنَ التَّكْرَارِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2623 - عَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ، لَيْسَ ضَرْبٌ، وَلَا طَرْدٌ، وَلَيْسَ قِيلُ: إِلَيْكَ إِلَيْكَ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2623 - (وَعَنْ قُدَامَةَ) - بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ) أَسْلَمَ قَرِيبًا، وَسَكَنَ مَكَّةَ، وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَشَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي الْجَمْرَةَ) أَيْ: جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ) وَهِيَ: الَّتِي يُخَالِطُ بَيَاضَهَا حُمْرَةٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْمَرَّ أَعْلَى الْوَبَرِ وَتَبْيَضَّ أَجْوَافُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّيْهَبَةُ كَالشُّقْرَةِ (لَيْسَ) أَيْ: هُنَاكَ (ضَرْبٌ) أَيْ: مَنْعٌ بِالْعُنْفِ (وَلَا طَرْدٌ) دَفْعٌ بِاللُّطْفِ (وَلَيْسَ) أَيْ: ثَمَّةَ (قِيلُ) بِكَسْرِ الْقَافِ، وَرَفْعِ اللَّامِ مُضَافًا إِلَى (إِلَيْكَ إِلَيْكَ) أَيْ: قَوْلُ " إِلَيْكَ " أَيْ: تَنَحَّ، وَتَبَعَّدْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ قِيلَ لِوَاحِدٍ: إِلَيْكَ إِلَيْكَ، وَالظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُقَالُ لِلنَّاسِ: إِلَيْكَ، وَهُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى تَنَحَّ عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِ مُتَعَلِّقٍ، كَمَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: ضُمَّ إِلَيْكَ ثَوْبَكَ، وَتَنَحَّ عَنِ الطَّرِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

2624 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2624 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ) أَيْ: لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُتَبَرَّكَةِ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ: هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا فِعْلٌ لَا تَظْهَرُ فِيهِمَا الْعِبَادَةُ، وَإِنَّمَا فِيهِمَا التَّعَبُّدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ حَوْلَ بَيْتِ اللَّهِ وَالْوُقُوفِ لِلدُّعَاءِ، فَإِنَّ أَثَرَ الْعِبَادَةِ لَائِحَةٌ فِيهِمَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةً لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ، يَعْنِي: التَّكْبِيرُ سُنَّةٌ مَعَ كُلِّ حَجَرٍ، وَالدَّعَوَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي السَّعْيِ سُنَّةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنَ الرَّمْيِ، وَالسَّعْيِ حِكْمَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَنُكْتَةٌ بَاهِرَةٌ، غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّعَبُّدِ، وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَمَى إِبْلِيسَ بِمِنًى، فَأَجْمَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ: أَسْرَعَ فَسُمِّيَ الْجِمَارِيَّةَ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا أَرَادَ ذَبْحَ وَلَدِهِ بِمِنًى، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى يُرَاوِدُهُ أَنْ لَا يَذْبَحَهُ، فَحَصَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ حِكْمَةُ الِاكْتِفَاءِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِالْعَقَبَةِ، حَمْلًا لِفِعْلِهِ مَعَ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَفِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ تَبَعًا لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ تَبَعًا لَهُ وَلِوَلَدِهِ، وَامْرَأَتِهِ هَاجَرَ، حَيْثُ وَسْوَسَ اللَّعِينُ لَهُمْ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ وَجْهُ تَكْرِيرِ الْجَمَرَاتِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَفِي " الْإِحْيَاءِ " أَنَّهُ لَا يُلَاحِظُ كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا رَمْيُ الْجِمَارِ فَاقْصِدْ بِهِ الِانْقِيَادَ لِلْأَمْرِ إِظْهَارًا لِلرِّقِّ، وَالْعُبُودِيَّةِ، وَانْتِهَاضًا لِمُجَرَّدِ الِامْتِثَالِ لِلرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ قَصَدَ بِهِ التَّشَبُّهَ بِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَيْثُ عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ لِيُدْخِلَ عَلَيْهِ فِي حَجِّهِ شُبْهَةً، أَوْ فِي نَفْسِهِ مَعْصِيَةً، فَأَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِرَمْيِهِ بِحِجَارَةٍ طَرْدًا لِقَوْلِهِ، وَقَطْعًا لِأَمَلِهِ اهـ. وَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِ السَّعْيِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى أَنَّ فِيهِ إِحْيَاءَ مَأْثَرِ هَاجَرَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَاءَ بِهِمَا إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ تَرَكَهُمَا، وَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ قَالَتْ لَهُ: إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا، اللَّهُ أَمَرَكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَهُوَ إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ نَفَدَ مَاؤُهَا، فَخَشِيَتْ عَلَى ابْنِهَا الْهَلَاكَ مِنَ الظَّمَأِ، فَتَرَكَتْهُ عِنْدَ مَحَلِّ بِئْرِ زَمْزَمِ، وَذَهَبَتْ تَنْظُرُ أَحَدًا يَمُرُّ بِمَاءٍ، فَرَقَتِ الصَّفَا، فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَنَزَلَتْ تَسْعَى إِلَى الْمَرْوَةِ، فَرَقَتْهَا فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَنَزَلَتْ تَسْعَى إِلَى الصَّفَا، وَهَكَذَا سَبْعًا، ثُمَّ ذَهَبَتْ لِوَلَدِهَا فَرَأَتْ عِنْدَهُ مَاءً مِنْ أَثَرِ جَنَاحِ جِبْرِيلَ، أَوْ مِنْ قَدَمِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَجَعَلَتْ تَجْمَعُهُ وَتَقُولُ: زِمْ زِمْ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَوْ تَرَكَتْهُ لَصَارَ عَيْنًا مَعِينًا ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

2625 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ألَا نَبْنِي لَكَ بِنَاءً يُظِلُّكَ بِمِنًى؟ قَالَ: " لَا، مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2625 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قُلْنَا) أَيْ: مَعْشَرُ الصَّحَابَةِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَبْنِي) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ ( «لَكَ بِنَاءً يُظِلُّكَ بِمِنًى؟» ) أَيْ: يُوقِعُ الظِّلَّ عَلَيْكَ، وَلِيَكُونَ لَكَ أَبَدًا، أَوْ يُظِلُّ ظِلًّا ظَلِيلًا بِالْعِمَارَةِ؛ لِأَنَّ الْخَيْمَةَ ظِلُّهَا ضَعِيفٌ لَا يَمْنَعُ تَأْثِيرَ الشَّمْسِ بِالْكُلِّيَّةِ. (وَقَالَ: «لَا، مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» ) بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: مَوْضِعُ الْإِنَاخَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الِاخْتِصَاصَ فِيهِ بِالسَّبْقِ لَا بِالْبِنَاءِ فِيهِ، أَيْ: هَذَا مَقَامُ لَا اخْتِصَاصَ فِيهِ لِأَحَدٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: أَتَأْذَنُ أَنْ نَبْنِيَ لَكَ بَيْتًا فِي مِنًى لِتَسْكُنَ فِيهِ؟ فَمَنَعَ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ مِنًى مَوْضِعٌ لِأَدَاءِ النُّسُكِ مِنَ النَّحْرِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَالْحَلْقِ يَشْرِكُ فِيهِ النَّاسُ، فَلَوْ بَنَى فِيهَا لَأَدَّى إِلَى كَثْرَةِ الْأَبْنِيَةِ تَأَسِّيًا بِهِ، فَتَضِيقُ عَلَى النَّاسِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الشَّوَارِعِ، وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرْضُ الْحَرَمِ مَوْقُوفَةٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا أَحَدٌ اهـ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْبِنَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُهَاجِرِينَ، لِأَنَّهَا دَارٌ هَاجَرُوا مِنْهَا إِلَى اللَّهِ، فَلَمْ يَخْتَارُوا أَنْ يَعُودُوا إِلَيْهَا وَيَبْنُوا فِيهَا اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يُخَالِفُ تَعْلِيلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّ مِنًى لَيْسَتْ دَارًا هَاجَرُوا مِنْهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2626 - عَنْ نَافِعٍ قَالَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وُقُوفًا طَوِيلًا يُكَبِّرُ اللَّهَ، وَيُسَبِّحُهُ، وَيَحْمَدُهُ، وَيَدْعُو اللَّهَ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2626 - (عَنْ نَافِعٍ) أَيْ: مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقِفُ) أَيْ: بَعْدَ الرَّمْيِ (عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيِ: الْعُظْمَى، وَالْوُسْطَى. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ أَيِ: الْأُولَى وَالْوُسْطَى، لِقَوْلِهِ: (الْأُولَيَيْنِ) : وَفِيهِ تَغْلِيبٌ، وَالْمُرَادُ بِالْأُولَى الَّتِي تَقْرُبُ مِنْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَأَمَّا الْعُظْمَى وَالْكُبْرَى، فَمِنْ أَوْصَافِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِذَا اخْتَصَّتْ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ هُوَ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ، وَأَكْثَرُهَا. (وُقُوفًا طَوِيلًا) قِيلَ: قَدْرَ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ. (يُكَبِّرُ اللَّهَ، وَيُسَبِّحُهُ، وَيَحْمَدُهُ، وَيَدْعُو اللَّهَ) أَيْ: رَافِعًا يَدَيْهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَهُ غَيْرَهُ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (وَلَا يَقِفُ) أَيْ: لِلدُّعَاءِ (عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ) : وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الدُّعَاءِ رَأْسًا، كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْعَامَّةُ. (رَوَاهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .

[باب الهدي]

[بَابُ الْهَدْيِ]

(7) - بَابُ الْهَدْيِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2627 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ، فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَّتَ الدَّمَ عَنْهَا، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (7) - بَابُ الْهَدْيِ بِفَتْحٍ، فَسُكُونٍ، وَهُوَ مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ النَّعَمِ شَاةً كَانَ، أَوْ بَقَرَةً، أَوْ بَعِيرًا. الْوَاحِدَةُ هَدْيَةٌ. وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَهْدَى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ بَدَنَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ أَهْدَى فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً. وَفِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ عَقِبَهَا سِتِّينَ بَدَنَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقَالُ مَالِي هُدًى إِنْ كَانَ كَذَا وَهُوَ يَمِينٌ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2627 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) أَيْ: رَكْعَتَيْنِ لِكَوْنِهِ مُسَافِرًا، وَاكْتَفَى بِهِمَا عِوَضًا عَنْ رَكْعَتَيِ الْإِحْرَامِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ سُنَّةَ الْإِحْرَامِ (ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ) قِيلَ: لَعَلَّهَا كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ رَوَاحِلِهِ، فَأَضَافَهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: بِنَاقَتِهِ الَّتِي أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا هَدْيًا، فَاخْتَصَرَ الْكَلَامَ يَعْنِي فَلِإِضَافَةٍ جِنْسِيَّةٍ (فَأَشْعَرَهَا) أَيْ: طَعَنَهَا (فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا) : بِفَتْحِ السِّينِ (الْأَيْمَنِ) : مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى؛ أَيِ: الْجَانِبِ، وَالْإِشْعَارُ: أَنْ يَشُقَّ جَانِبَ السَّنَامِ بِحَيْثُ يَخْرُجُ الدَّمُ إِشْعَارًا وَإِعْلَامًا، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، إِذَا ضَلَّ رُدَّ، وَكَانَ عَادَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَرَّرَهُ الشَّارِعُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْأَغْرَاضِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَقِيلَ: الْإِشْعَارُ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَيَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَلَيْسَ بِمُثْلَةٍ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ، وَالْخِتَانِ، وَالْكَيِّ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُشْعَرَ فِي الصَّفْحَةِ الْيُمْنَى، وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْيُسْرَى، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِيهِ: أَنَّهُ جَاءَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى بِلَفْظِ الْأَيْسَرِ، وَقَدْ كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِشْعَارَ، وَأَوَّلُوهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ إِشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِيهِ حَتَّى يُخَافَ السِّرَايَةُ مِنْهُ. (وَسَلَّتَ) أَيْ: مَسَحَ وَأَمَاطَ (الدَّمَ عَنْهَا) أَيْ: عَنْ صَفْحَةِ سَنَامِهَا (وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ) أَيْ: غَيْرَ الَّتِي أَشْعَرَهَا (فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ) مَحَلٌّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ (أَهَلَّ) أَيْ: (بِالْحَجِّ) : وَكَذَا بِالْعُمْرَةِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي بِالْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ يَقُولُ: " لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» " اهـ. وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ الرَّاوِيَ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ الْأَضَلُّ، أَوْ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بَيَانُ وَقْتِ الْإِحْرَامِ، وَالتَّلْبِيَةِ، أَوْ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ أَوَّلًا، أَوْ لِنِسْيَانِهِ آخِرًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2628 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ «أَهْدَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا، فَقَلَّدَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2628 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ أَهْدَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ) : أَيْ: بَيْتِ اللَّهِ (غَنَمًا) أَيْ: قِطْعَةً مِنَ الْغَنَمِ (فَقَلَّدَهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا إِشْعَارَ فِي الْغَنَمِ، وَتَقْلِيدَهَا سُنَّةٌ خِلَافًا لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْبَقَرُ يُشْعَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2629 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2629 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَائِشَةَ) أَيْ: لِعَائِشَةَ، وَلِسَائِرِ نِسَائِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي. (بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ) وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذَبَحَ عَنْ عَائِشَةَ وَحْدَهَا بَقَرَةً، وَجَعَلَ بَقَرَةً أُخْرَى عَنِ الْكُلِّ تَمْيِيزًا لَهَا، وَلَعَلَّ إِيثَارَ الْبَقَرِ لِأَنَّهُ الْمُتَيَسِّرُ حِينَئِذٍ، وَإِلَّا فَالْإِبِلُ أَفْضَلُ مِنْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَالِي وَالدُّونِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي رِوَايَةٍ: وَضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرَةِ أَيْ: ذَبَحَهَا فِي وَقْتِ الضُّحَى.

2630 - وَعَنْهُ، قَالَ: «نَحَرَ النَّبِيُّ عَنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً فِي حَجَّتِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2630 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: «نَحَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً فِي حَجِّهِ» ) أَيْ: قِيلَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُنَّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ عَنِ الْغَيْرِ لَا تَجُوزُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَطَوُّعًا، كَمَا ضَحَّى عَنْ أُمَّتِهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا أُضْحِيَّةً مَعَ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْحَاجِّ لَا سِيَّمَا الْمُسَافِرِينَ عِنْدَنَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2631 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «فَتَلْتُ قَلَائِدَ بُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا، وَأَشْعَرَهَا، وَأَهْدَاهَا، فَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2631 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «فَتَلْتُ قَلَائِدَ بُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) الْقَلَائِدُ: جَمْعُ قِلَادَةٍ، وَهِيَ مَا تُعَلَّقُ بِالْعُنُقِ، وَالْبُدْنُ: جَمْعُ الْبَدَنَةِ، وَهِيَ نَاقَةٌ، أَوْ بَقَرَةٌ تُنْحَرُ بِمَكَّةَ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمِّنُونَهَا (بِيَدَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ ( «ثُمَّ قَلَّدَهَا، وَأَشْعَرَهَا، وَأَهْدَاهَا» ) مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ (فَمَا حَرُمَ) - بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَضَمِّ الرَّاءِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (شَيْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ) سَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ بَلَغَهَا فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِيمَنْ بَعَثَ هَدْيًا إِلَى مَكَّةَ، أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَغَيْرِهِ، حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ بِمَكَّةَ، فَقَالَتْ ذَلِكَ رَدًّا عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، كَذَا رَدَّ عَلَيٌّ مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّ بَاعِثَ الْهَدْيِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَجْتَنِبُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَهَكَذَا حَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَنِسْبَةُ الْخَطَّابِيِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى أَرْبَابِ الرَّأْيِ الثَّاقِبِ خَطَأٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْهَا «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهَدْيِ، وَأَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا بِيَدَيَّ مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدَنَا، ثُمَّ أَصْبَحَ فِينَا حَلَالًا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ» ، وَفِي لَفْظِهِ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَبْعَثُ بِهِ، ثُمَّ يُقِيمُ فِينَا حَلَالًا» ، وَأَخْرَجَا وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، «عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَجُلًا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إِلَى الْكَعْبَةِ، يَجْلِسُ فِي الْعَصْرِ فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بُدْنُهُ، فَلَا يَزَالُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ. قَالَ: فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا أُحِلَّ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ» اهـ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَجِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: " لَيْسَ كَمَا قَالَ، أَنَا «فَتَلْتُ قَلَائِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ» " فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يُخَالِفَانِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ صَرِيحًا، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِهِ اهـ. وَمُرَادُهُ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا. وَقَالَ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا قَلَّدَ، فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ أَحْرَمَ، وَوَرَدَ مَعْنَاهُ مَرْفُوعًا. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَيْ جَابِرٍ يُحَدِّثَانِ، عَنْ أَبِيهِمَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ، إِذْ شَقَّ قَمِيصَهُ حَتَّى خَرَجَ فَسُئِلَ، فَقَالَ: " وَاعَدْتُهُمْ يُقَلِّدُونَ هَدْيِي الْيَوْمَ فَنَسِيتُ» " اهـ. ثُمَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ عَدَمِ التَّوَجُّهِ مَعَهَا لَا يُوجِبُ الْإِحْرَامَ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنَ الْآثَارِ مُطْلَقَةً فِي إِثْبَاتِ الْإِحْرَامِ، فَقَيَّدْنَاهَا بِهِ حَمْلًا لَهَا عَلَى مَا إِذَا كَانَ مُتَوَجِّهًا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

2632 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2632 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا) أَيْ: قَلَائِدَ بُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنْ عِهْنٍ) أَيْ: صُوفٍ مُلَوَّنٍ، أَوْ مَصْبُوغٍ (كَانَ عِنْدِي) : صِفَةُ عِهْنٍ (ثُمَّ بَعَثَ بِهَا) أَيْ: بِالْبُدْنِ الْمُقَلَّدَةِ (مَعَ أَبِي) أَيْ: حِينَ صَارَ أَمِيرَ الْحَاجِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2633 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: " ارْكَبْهَا ". فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: " ارْكَبْهَا ". فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: " ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ " فِي الثَّانِيَةِ، أَوِ الثَّالِثَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2633 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً» ) أَيْ: نَاقَةً (فَقَالَ: " ارْكَبْهَا " فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ) أَيْ: هَدْيٌ ظَنًّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رُكُوبُ الْهَدْيِ مُطْلَقًا. (قَالَ: " ارْكَبْهَا ". فَقَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ " ارْكَبْهَا وَيْلَكَ " فِي الثَّانِيَةِ، أَوِ الثَّالِثَةِ) أَيْ: فِي إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بَـ " قَالَ " وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الرُّكُوبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2634 - وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2634 - (وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " «سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ» ) أَيْ: بِوَجْهٍ لَا يَلْحَقُهَا ضَرَرٌ (إِذَا أُلْجِئْتَ) أَيْ: إِذَا اضْطُرِرْتَ (إِلَيْهَا) أَيْ: رُكُوبِهَا (حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا) أَيْ: مَرْكُوبًا آخَرَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً. فَقَالَ: " ارْكَبْهَا ". قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: " ارْكَبْهَا ". قَالَ: فَرَأَيْتُهُ رَاكِبًا يُسَايِرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ فِي " شَرْحِ الْعُمْدَةِ ": لَمْ يُرَاسِمْ هَذَا الْمُبْهَمَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رُكُوبِ الْبَدَنَةِ الْمُهْدَاةِ، فَعَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ وَاجِبٌ لِإِطْلَاقِ هَذَا الْأَمْرِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ سِيرَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ مُجَانَبَةُ السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِ، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَرْكَبْ هَدْيَهُ، وَلَا أَمَرَ النَّاسَ بِرُكُوبِ هَدَايَاهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تَمَسُّكًا بِإِطْلَاقِهِ هَذَا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا، وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَرْكَبُهَا إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ حَمْلًا لِلْأَمْرِ الْمَذْكُورِ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِمَا رَأَى مِنْ حَاجَةِ الرَّجُلِ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ، فَاحْتَمَلَ الْحَاجَةَ بِهِ، وَاحْتَمَلَ عَدَمَهَا، فَإِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ يُفِيدُ أَحَدَهُمَا حُمِلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنَ الْمَعْنَى مَا يُفِيدُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَهَا كُلَّهَا لِلَّهِ - تَعَالَى، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ مِنْهَا شَيْئًا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، فَيُجْعَلَ مَحْمَلَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، ثُمَّ رَأَيْنَا اشْتِرَاطَ الْحَاجَةِ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ. فَالْمَعْنَى يُفِيدُ مَنْعَ الرُّكُوبِ مُطْلَقًا، وَالسَّمَعُ وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ رُخْصَةً، فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْمَنْعِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْمَعْنَى، لَا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ. وَفِي " الْكَافِي " لِلْحَاكِمِ: فَإِنْ رَكِبَهَا أَوْ حَمَلَ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا ذَلِكَ ضَمِنَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ سَاقَ هَدْيًا جَازَ لَهُ رُكُوبُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِهَا، وَلَهُ الْحَمْلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْكَبُهَا إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ، فَمَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ دَلَالَةِ الرِّوَايَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالضَّرُورَةِ، وَثَانِيهِمَا: مِنْ حَيْثُ الدِّرَايَةِ الْمُنَافِيَةِ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الضَّرُورَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ خِلَافَ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي مَجْمُوعِهِ.

2635 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةَ عَشَرَ بَدَنَةً مَعَ رَجُلٍ، وَأَمَّرَهُ فِيهَا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا أُبْدِعَ عَلَيَّ مِنْهَا؟ قَالَ (انْحَرْهَا، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَيْهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اجْعَلْهَا عَلَى صَفْحَتِهَا، وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2635 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةَ عَشَرَ بَدَنَةً» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ لِأَنَّ ; الْبَدَنَةَ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (مَعَ رَجُلٍ) أَيْ: نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ (وَأَمَّرَهُ) - بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ - أَيْ: جَعَلَهُ أَمِيرًا (فِيهِ) أَيْ: لِيَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ. (" «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا أُبْدِعَ» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَيَّ) أَيْ: بِمَا حُبِسَ عَلَيَّ مِنْ كَلَالٍ (مِنْهَا؟) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْبُدْنِ، يُقَالُ: أَبْدَعَتِ الرَّاحِلَةُ إِذَا كَلَّتْ، وَأُبْدِعَ بِالرَّجُلِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ إِذَا انْقَطَعَتْ رَاحِلَتُهُ بِهِ لِكَلَالٍ، أَوْ هُزَالٍ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ أُبْدِعَ بِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ رَاكِبًا، لِأَنَّهَا كَانَتْ بَدَنَةً يَسُوقُهَا، بَلْ قَالَ: أُبْدِعَ عَلَيَّ لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْحَبْسِ، كَمَا ذَكَرْنَا، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: عَطِبَ، يُقَالُ: أُبْدِعَ بِالرَّجُلِ أَيِ: انْقَطَعَ بِهِ، وَوَقَفَتْ دَابَّتُهُ عَنِ السَّيْرِ. (قَالَ: انْحَرْهَا، ثُمَّ اصْبُغْ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَكَسْرُهَا أَيِ: اغْمِسْ (نَعْلَيْهَا) أَيِ: الَّتِي قَلَّدْتَهَا فِي عُنُقِهَا (فِي دَمِهَا) : لِئَلَّا يَأْكُلَ مِنْهَا الْأَغْنِيَاءُ (ثُمَّ اجْعَلْهَا) أَيِ: النَّعْلَ (عَلَى صَفْحَتِهَا) أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ النَّعْلَيْنِ عَلَى صَفْحَةٍ مِنْ صَفْحَتَيِ سَنَامِهَا، وَلَفْظُهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ مَعَ أَبِي قَبِيصَةَ بِالْبُدْنِ، ثُمَّ يَقُولُ " إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَخَشِيتَ عَلَيْهَا مَوْتًا، فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَيْهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ صَفْحَتَهَا» " الْحَدِيثَ (وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ) : لِلتَّأْكِيدِ (وَلَا أَحَدٌ) أَيْ: وَلَا يَأْكُلُ أَحَدٌ (مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الرُّفْقَةُ مُثَلَّثَةٌ أَيْ: رُفَقَاؤُكَ، فَأَهْلُ زَائِدٌ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: سَوَاءٌ كَانَ فَقِيرًا، أَوْ غَنِيًّا، وَإِنَّمَا مَنَعُوا ذَلِكَ قَطْعًا لِأَطْمَاعِهِمْ لِئَلَّا يَنْحَرَهَا أَحَدٌ، وَيَتَعَلَّلُ بِالْعَطَبِ، هَذَا إِذَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا ; فَلَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ وَيَأْكُلَ مِنْهُ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ التَّقْلِيدِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا لَمْ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنَ الرُّفْقَةِ أَيِ: الْقَافِلَةُ كَانَ ضَائِعًا. قُلْتُ: أَهْلُ الْبَوَادِي يَسِيرُونَ خَلْفَهُمْ، فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ، وَقَالَ: " إِنْ عَطِبَ فَانْحَرْهُ، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ» ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ فِيهِ: " لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا رُفْقَتَكَ ". وَقَدْ أَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ فِي أَوَّلِ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهَا: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَعْمَلَ عَلَى هَدْيِهِ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ بِهَا، قَالَ: كَانَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، فَذَكَرَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: «عَطِبَ مَعِي بَعِيرٌ مِنَ الْهَدْيِ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَبْوَاءِ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: " انْحَرْهَا، وَاصْبُغْ قَلَائِدَهَا فِي دَمِهَا، وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِكَ مِنْهَا شَيْئًا، وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ» ". وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سِنَانِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ ذُؤَيْبًا الْخُزَاعِيَّ أَبَا قَبِيصَةَ، حَدَّثَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ بِالْبُدْنِ مَعَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: " إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَهَا، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِكَ» ) . وَاعْلَمْ بِأَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يُدْرِكْ سِنَانًا، وَالْحَدِيثُ مُعَنْعَنٌ فِي مُسْلِمٍ، وَابْنِ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا ذَكَرَ لَهُ شَوَاهِدَ وَلَمْ يُسَمِّ ذُؤَيْبًا، بَلْ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا. وَإِنَّمَا نَهَى نَاجِيَةَ، وَمَنْ ذَكَرَ عَنِ الْأَكْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ: وَلَا دَلَالَةَ لِحَدِيثِ نَاجِيَةَ عَلَى الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ ذَلِكَ فِيمَا عَطِبَ مِنْهَا فِي الطَّرِيقِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا إِذْ بَلَغَ الْحَرَمَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ أَوْ لَا؟ اهـ. وَقَدْ أَوْجَبْنَا فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ إِذَا ذُبِحَ فِي الطَّرِيقِ امْتِنَاعَ أَكْلِهِ مِنْهُ وَجَوَازَهُ، بَلِ اسْتِحْبَابَهُ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ اهـ. وَقَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَمَا عَطِبَ أَيْ: هَلَكَ مِنَ الْهَدْيِ، أَوْ تَعَيَّبَ بِفَاحِشٍ، وَهُوَ مَا يَمْنَعُ إِجْزَاءَ الْأُضْحِيَّةِ؟ كَذَهَابِ ثُلُثِ الْأُذُنِ، أَوِ الْعَيْنِ، فَفِي الْوَاجِبِ أَبْدَلَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَتَأَذَّى بِالْمَعِيبِ، وَالْمَعِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِتَعْيِينِهِ لِتِلْكَ الْجِهَةِ عَنْ مِلْكِهِ، وَقَدِ امْتَنَعَ صَرْفُهُ فِيهَا، فَلَهُ صَرْفُهُ فِي غَيْرِهَا، وَفِي التَّطَوُّعِ نَحْرُهُ، وَصَبْغُ نَعْلِهِ، وَضَرْبُ صَفْحَتِهِ لِحَدِيثِ نَاجِيَةَ. وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ الْقِلَادَةُ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إِعْلَامُ النَّاسِ أَنَّهُ هَدْيٌ، فَيَأْكُلُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، هَذَا وَنَقْلُ الْوَاقِدِيِّ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مُخْتَصٌّ بِخِدْمَةِ نَاجِيَةَ لَهُ، وَالْبَاقِي لِغَيْرِهِ مِنْ رُفَقَائِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَمَّرَهُ فِيهَا.

2636 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2636 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ» ) : بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْأَصَحِّ (الْبَدَنَةَ) أَيِ: الْإِبِلَ (عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ) : ظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَقَرَةَ لَا تُسَمَّى بَدَنَةً، وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِغَالِبِ اسْتِعْمَالِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ، الْبَدَنَةُ مُحَرَّكَةً مِنَ الْإِبِلِ، الْبَقَرَةُ كَالْأُضْحِيَّةِ مِنَ الْغَنَمِ، تُهْدَى إِلَى مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ - لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَفِي " النِّهَايَةِ ": الْبَدَنَةُ وَاحِدَةُ الْإِبِلِ سُمِّيَتْ بِهَا لِعِظَمِهَا، وَسِمَنِهَا، وَتَقَعُ عَلَى الْجَمَلِ، وَالنَّاقَةِ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْبَقَرَةِ اهـ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: تُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ، وَالشَّاةِ، فَمُخَالِفٌ لِكُتُبِ اللُّغَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا كَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاكُ السَّبْعَةِ فِي بَدَنَةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ إِذَا كَانَ كُلُّهُمْ مُتَقَرِّبِينَ، سَوَاءٌ يَكُونُ قُرْبَةً مُتَّحِدَةً كَالْأُضْحِيَّةِ، وَالْهَدْيِ، أَوْ مُخْتَلِفَةً كَأَنْ أَرَادَ بَعْضُهُمُ الْهَدْيَ، وَبَعْضُهُمُ الْأُضْحِيَّةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: وَلَوْ أَرَادَ بَعْضُهُمُ اللَّحْمَ، وَبَعْضُهُمُ الْقُرْبَةَ جَازَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْوَاجِبِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الِاشْتِرَاكُ فِي الْغَنَمِ فَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا.

7637 -

2637 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بِدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2637 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (أَتَى) أَيْ: مَرَّ (عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ يُرِيدُ نَحْرَهَا (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (ابْعَثْهَا) أَيْ: أَقِمْهَا (قِيَامًا) : حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، أَيْ: قَائِمَةً، وَقَدْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَا، وَعَامِلُهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ أَيِ: انْحَرْهَا قَائِمَةً لَا ابْعَثْهَا ; لِأَنَّ الْبَعْثَ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ الْقِيَامِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهَا حَالًا مُقَدَّرَةً، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112] أَيِ: ابْعَثْهَا مُقَدَّرًا قِيَامُهَا. وَلَا يَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، لَا بَعْثُهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّقَارُبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَقِمْهَا قِيَامًا لِخُلُوِّ الْكَلَامِ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَقْيِيدُ النَّحْرِ بِالْقِيَامِ. (مُقَيَّدَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: السُّنَّةُ أَنْ يَنْحَرَهَا قَائِمَةً مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ تُذْبَحُ مُضْطَجِعَةً عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مُرْسَلَةَ الرِّجْلِ، فَمُقَيَّدَةً حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَوْ صِفَةٌ لِـ " قَائِمَةً ". (سُنَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ: فَاعِلًا بِهَا سُنَّةَ مُحَمَّدٍ، أَوْ أَصَبْتَ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى، قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا» ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا سَنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّحْرَ قِيَامًا عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] وَالْوُجُوبُ السُّقُوطُ، وَتَحَقُّقُهُ فِي حَالِ الْقِيَامِ. أَظْهَرُ، أَقُولُ: الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] أَظْهَرُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: قِيَامًا عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِعَقْلِ الرُّكْبَةِ، وَالْأَوْلَى كَوْنُهَا الْيُسْرَى، لِلِاتِّبَاعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: نَحَرْتُ بَدَنَةً قَائِمَةً، فَكِدْتُ أُهْلِكُ قِيَامًا مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهَا نَفَرَتْ، فَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا أَنْحَرَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا بَارِكَةً مَعْقُولَةً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَلُ، فَإِنْ لَمْ يَتَسَهَّلْ، فَالْقُعُودُ أَفْضَلُ مِنَ الِاضْطِجَاعِ، نَعَمْ، ذَبْحُ نَحْرِ الْإِبِلِ خِلَافُ الْأُولَى إِنْ ثَبَتَ عَنْ مَالِكٍ مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْإِبِلَ لَا يَحِلُّ ذَبْحُهَا، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ ثُبُوتِهِ عَنْهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا حَرَّمَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ مَالِكٌ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّ نَحْرَ الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ يَحْرُمُ إِجْمَاعًا فَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ الْعَبْدَرِيُّ، وَغَيْرُهُ يَجُوزُ إِجْمَاعًا.

2638 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا قَالَ: " نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2638 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ» ) - بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعُ بَدَنَةٍ، وَالْمُرَادُ بُدْنُهُ الَّتِي أَهْدَاهَا إِلَى مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمَجْمُوعُهَا مِائَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِنَابَةِ فِي نَحْرِ الْهَدْيِ، وَتَفْرِقَتِهِ ( «وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا» ) - بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ جَمْعُ جِلَالٍ، وَهِيَ جَمْعُ جُلٍّ لِلدَّوَابِّ. (وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ) أَيْ: شَيْئًا (مِنْهَا قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ، أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ (وَنَحْنُ نُعْطِيهِ) أَيْ: أُجْرَتَهُ (مِنْ عِنْدِنَا " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأُقَسِّمَ جُلُودَهَا، وَجِلَالَهَا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا. وَقَالَ: " نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» ". وَفِي لَفْظٍ: «وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِجُلُودِهَا، وَجِلَالِهَا» ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ الْبُخَارِيُّ، " وَنَحْنُ نُعْطِيهُ مِنْ عِنْدِنَا ". وَفِي لَفْظِهِ: وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا ; لُحُومَهَا وَجِلَالَهَا، وَجُلُودَهَا فِي الْمَسَاكِينِ، وَلَا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ السَّرَقُسْطِيُّ: جِزَارَتُهَا بِضَمِّ الْجِيمِ، وَكَسْرِهَا، فَالْكَسْرُ الْمَصْدَرُ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ لِلْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْعُنُقِ، وَكَانَ الْجَزَّارُونَ يَأْخُذُونَ فِي أُجْرَتِهِمْ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَإِسْحَاقَ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ جِلْدِ هَدْيِهِ وَالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِهِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْغُرْبَالَ، وَالْمُنْخُلَ، وَالْفَأْسَ، وَالْمِيزَانَ وَنَحْوَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - عَلَيْهِ رَحْمَةُ الْبَارِي: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الْجَزَّارَ الْجِلْدَ يَعْنِي إِذَا أَجَّرَهُ، وَأَمَّا عَطَاؤُهُ لَهُ تَطَوُّعًا فَجَائِزٌ إِجْمَاعًا.

2639 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَرَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " كُلُوا وَتَزَوَّدُوا " فَأَكَلْنَا، وَتَزَوَّدْنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2639 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا) أَيِ: الَّتِي نُضَحِّي بِهَا (فَوْقَ ثَلَاثٍ) أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ (فَرَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: نَهَى أَوَّلًا أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُ الْهَدْيِ، وَالْأُضْحِيَّةِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ رَخَّصَ (فَقَالَ: كُلُوا وَتَزَوَّدُوا) أَيِ: ادَّخِرُوا مَا تَزَوَّدُونَهُ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ مُسَافِرِينَ، أَوْ مُجَاوِرِينَ (فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا كَانَ وَاجِبًا بِأَصْلِ الشَّرْعِ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ، وَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَهْدِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِي الشُّمُنِّيِّ: وَيَأْكُلُ اسْتِحْبَابًا مِنْ هَدْيِ تَطَوُّعٍ، وَمُتْعَةٍ، وَقِرَانٍ فَقَطْ، لِمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَأَكَلَا مَنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا» ، وَلِأَنَّهَا دِمَاءُ نُسُكٍ كَالْأُضْحِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْهَدَايَا، لِأَنَّهَا دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا عَلَى مَا رَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ أَيِ: النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَدْيُ الْقِرَانِ لَا يَسْتَغْرِقُ مِائَةَ بَدَنَةٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ هَدْيِ الْقِرَانِ، وَالتَّطَوُّعِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا أَكَلَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ مَا صَارَ إِلَى الْحَرَمِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْلُغْ بِأَنْ عَطِبَ وَذَبَحَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَرَمِ تَتَيَسَّرُ الْقُرْبَةُ فِيهِ بِالْإِرَاقَةِ، وَفِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَا تَحْصُلُ بِهِ، بَلْ بِالتَّصَدُّقِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّصَدُّقِ لِتَحْصُلَ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ ضَمِنَ مَا أَكَلَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ أَكَلَ لُقْمَةً ضَمِنَهُ كُلَّهُ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ، فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا، أَوْ أَعْطَى الْجَزَّارَ أُجْرَةً مِنْهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ، وَحَيْثُ مَا جَازَ الْأَكْلُ لِلْمُهْدِي ; جَازَ أَنْ يَأْكُلَ الْأَغْنِيَاءُ، وَأَيْضًا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا وَيُهْدِيَ ثُلُثَهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الِادِّخَارِ مِنْ أَجْلِ الرَّأْفَةِ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالسَّعَةِ، فَادَّخِرُوا مَا بَدَا لَكُمْ» " وَهَلْ يَعُودُ التَّحْرِيمُ بِعَوْدِ السَّنَةِ وَالْقَحْطِ؟ فِيهِ نَصَّانِ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ عَوْدِهِ، ثُبُوتَ نُسْخَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2640 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَلًا كَانَ لِأَبِي جَهْلٍ فِي رَأْسِهِ بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ ذَهَبٍ - يَغِيظُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2640 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ» ) : بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْأَفْصَحِ، وَهِيَ السَّنَةُ السَّادِسَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ، تَوَجَّهَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ، فَأَحْصَرَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ أَطْرَافِ الْحِلِّ وَقَضِيَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَحَلَّلُونَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ يَقْضُونَ عُمْرَتَهُمْ، ثُمَّ يَأْتُونَ فِي الْعَامِ الْآتِي ; وَيَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ، فَكَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى أَنَهُمْ يَقْضُونَ عُمْرَتَهُمْ فَقَطْ دُونَ أَنْ يَحُجُّوا، وَأَيْضًا كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ أَنْ يُخْلُوا مَكَّةُ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى طَالَبُوا خُرُوجَهُ بَعْدَ مُضِيِّهَا. (فِي هَدَايَا) : أَيْ: فِي جُمْلَةِ هَدَايَا (رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَلًا) : نُصِبَ بِأَهْدَى، وَفِي " هَدَايَا " صِلَةٌ لَهُ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: فِي هَدَايَاهُ، فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْقِعَ الْمُضْمَرَ، وَالْمَعْنَى جَمَلًا كَائِنًا فِي هَدَايَاهُ (كَانَ لِأَبِي جَهْلٍ) : أَيْ: عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، اغْتَنَمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ (فِي رَأْسِهِ) : أَيْ: أَنْفِهِ (بُرَةٌ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَصْلُهَا بَرْوَةٌ، لِأَنَّهَا تُجْمَعُ عَلَى بُرَاتٍ، وَبُرُونٍ، كَثُبَانٍ وَثُبُونٍ أَيْ: حَلْقَةٌ (مِنْ فِضَّةٍ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: وَفِي رَأْسِهِ بُرَةُ فِضَّةٍ بِالْإِضَافَةِ، قَالَ شَارِحٌ: أَيْ: فِي أَنْفِهِ حَلْقَةُ فِضَّةٍ، فَإِنَّ الْبُرَةَ حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ، وَنَحْوُهُ تُجْعَلُ فِي لَحْمِ أَنْفِ الْبَعِيرِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الْمِنْخَرَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَنْفُ مِنَ الرَّأْسِ قَالَ فِي رَأْسِهِ عَلَى الِاتِّسَاعِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَجَازٌ لِمُجَاوَرَةٍ مِنْ حَيْثُ قُرْبِهِ مِنَ الرَّأْسِ لَا مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ. (وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ ذَهَبٍ) : وَيُمْكِنُ التَّعَدُّدُ بِاعْتِبَارِ الْمِنْخَرَيْنِ.

(يَغِيظُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ) : بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ أَيْ: يُوَصِّلُ الْغَيْظَ إِلَى قُلُوبِهِمْ فِي نَحْرِ ذَلِكَ الْجَمَلِ. قُلْتُ: خَاتِمَةُ جُمْلَةٍ أَجْمَلُ مِنْهُ، فَإِنَّهَا نُحِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَكَلَ مِنْهَا رَسُولُهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُ، ثُمَّ نَظِيرُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2641 - وَعَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنَ الْبُدْنِ؟ قَالَ: " انْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَ النَّاسِ، وَبَيْنَهَا فَيَأْكُلُونَهَا» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2641 - ( «وَعَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ» ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ: عَيِيَ، وَعَجَزَ عَنِ السَّيْرِ، وَوَقَفَ عَنِ الطَّرِيقِ، وَقِيلَ: أَنْ: قَرُبَ مِنَ الْعَطَبِ، وَهُوَ الْهَلَاكُ. فَفِي الْقَامُوسِ: عَطِبَ كَـ " نَصَرَ " لَانَ، وَكَـ " فَرِحَ " هَلَكَ، وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي (مِنَ الْبُدْنِ؟) : الْمُهْدَاةُ إِلَى الْكَعْبَةِ بَيَانٌ لَهَا. ( «قَالَ: " انْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا» ) : أَيِ: الْمُقَلَّدَةَ بِهَا (فِي دَمِهَا) : أَيْ: ثُمَّ اجْعَلْهَا عَلَى صَفْحَتِهَا (ثُمَّ خَلِّ بَيْنَ النَّاسِ) : أَيِ: الْفُقَرَاءِ (وَبَيْنَهَا) : وَالْمَعْنَى: اتْرُكِ الْأَمْرَ، وَبَيِّنْهَا وَلَا تَمْنَعْ أَحَدًا مِنْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْقَافِلَةَ أَوْ جَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ مِنْ قَافِلَةٍ أُخْرَى اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّفْصِيلُ. (فَيَأْكُلُونَهَا) : أَيْ: فَهُمْ يَأْكُلُونَهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] وَإِلَّا لَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: فَيَأْكُلُوهَا. كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا} [الحجر: 3] (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ: عَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ.

2642 - وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ نَاجِيةَ الْأَسْلَمِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2642 - (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ) : قَالَ فِي " التَّقْرِيبِ ": نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْأَسْلَمِيُّ، صَحَابِيٌّ: وَنَاجِيَةُ بْنُ الْخُزَاعِيِّ أَيْضًا صَحَابِيٌّ، تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ عُرْوَةُ، وَوَهِمَ مَنْ خَلَطَهُمَا. وَقَالَ فِي " تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ ": نَاجِيَةُ الصَّحَابِيُّ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ، وَهُوَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبِ بْنِ كَعْبِ بْنِ جُنْدُبٍ، وَقِيلَ: نَاجِيَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ يَعْمَرَ الْأَسْلَمِيُّ، صَاحِبُ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُسْنَدِهِ صَاحِبَ الْبُدْنِ نَاجِيَةَ بْنَ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّ الْمُصْطَلِقِيَّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيُّ، صَاحِبُ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَالُ: إِنَّهُ نَاجِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ اسْمُهُ زَكْوَانَ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاجِيَةَ نَجَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ الْقَلِيبَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ بِسَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا قَالَ: رَوَى عَنْهُ عُرْوَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُهُ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيَّ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ تَبِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمُصَنِّفَ تَبِعَ الْجُمْهُورَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

2643 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» ". قَالَ ثَوْرٌ: وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي. قَالَ: «وَقُرِّبَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَنَاتٌ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قَالَ: فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ: مَا قَالَ، قَالَ: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذَكَرَ حَدِيثَا ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي " بَابِ الْأُضْحِيَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2643 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ) : بِضَمِّ قَافٍ وَسُكُونِ رَاءٍ، وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، أُرْدِيٌّ. كَانَ اسْمُهُ شَيْطَانًا، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ» ) : أَيْ: أَيَّامِ عِيدِ الْأَضْحَى، فَلَا يُنَافِي مَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَرَفَةَ، أَوْ أَيَّامُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ بَحْثٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: مِنْ أَعْظَمِ الْأَيَّامِ لِأَنَّ الْعَشْرَ أَفْضَلُ مِمَّا عَدَاهَا اهـ. وَأَرَادَ بِالْعَشْرِ عَشْرَ رَمَضَانَ، أَوْ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ» ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ الصَّرِيحَةِ، بِأَنَّ أَيَّامَ الْعَشَرَةِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ بِأَيَّامِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ،

وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْأَفْضَلِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ بِاعْتِبَارِ الْحَيْثِيَّةِ، أَوِ الْإِضَافِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ " مِنَ " التَّبْعِيضِيَّةِ. (عِنْدَ اللَّهِ) : أَيْ: فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الزَّمَانِ، كَمَا أَنَّهُ مُقَدَّسٌ عَنِ الْمَكَانِ (يَوْمُ النَّحْرِ) : أَيْ: أَوَّلُ أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ الْعِيدُ الْأَكْبَرُ، وَيُعْمَلُ فِيهِ أَكْبَرُ أَعْمَالِ الْحَجِّ، حَتَّى قَالَ - تَعَالَى - فِيهِ: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3] " ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ ": بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ: أَيْ: يَوْمُ الْقَرَارِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ حَيْثُ الِانْتِشَارِ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَقَرُّونَ يَوْمَئِذٍ فِي مَنَازِلِهِمْ بِمِنًى، وَلَا يَنْفِرُونَ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَلَعَلَّ الْمُقْتَضِيَ لِفَضْلِهِمَا فَضْلُ مَا يَخُصُّهُمَا مِنْ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَنَّ عَرَفَةَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، فَالْمُرَادُ هَهُنَا أَيْ: مِنْ أَفْضَلِ الْأَيَّامِ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ أَعْقَلُ النَّاسِ، أَيْ: مِنْ أَعْقَلِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الْأَيَّامِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ. قَالَ ثَوْرٌ: يَعْنِي أَحَدَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (وَهُوَ) : أَيْ: يَوْمُ الْقَرِّ هُوَ (الْيَوْمُ الثَّانِي) : أَيْ: مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، أَوْ مِنْ أَيَّامِ الْعِيدِ، فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ أَوَّلُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (قَالَ) : أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ (وَقُرِّبَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَجْهُولًا (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَنَاتٌ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، أَوْ تَرْدِيدٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ يُرِيدُ تَقْرِيبَ الْأَمْرِ، أَيْ: بَدَنَاتٌ مِنْ بُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَطَفِقْنَ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ الثَّانِيَةِ أَيْ: شَرَعْنَ (يَزْدَلِفْنَ) : أَيْ: يَتَقَرَّبْنَ، وَيَسْعَيْنَ (إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: مُنْتَظِرَاتٌ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ لِلتَّبَرُّكِ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَحْرِهِنَّ اهـ. قِيلَ: وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ (قَالَ) : أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ (فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) : أَيْ: سَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ (قَالَ) : أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ؛ كَذَا قِيلَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيِ: الرَّاوِي (فَتَكَلَّمَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الطِّيبِيُّ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ بِزِيَادَةِ الْفَاءِ، وَعِنْدِي أَنَّ ضَمِيرَ " قَالَ " رَاجِعٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ: فَتَكَلَّمَ (بِكَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ) : عَطْفٌ تَفْسِيرٌ لِـ " قَالَ " (لَمْ أَفْهَمْهَا) : أَيْ: لِخَفَاءِ لَفْظِهَا (فَقُلْتُ) : أَيْ: لِلَّذِي يَلِيهِ، أَوْ يَلِينِي (مَا قَالَ؟) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) : أَيِ: الْمَسْئُولُ، وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": فَقَالَ (قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَنْ شَاءَ) : أَيْ: مِنَ الْمُحْتَاجِينَ (اقْتَطَعَ) : أَيْ: أَخَذَ قِطْعَةً مِنْهَا، أَوْ قَطَعَ مِنْهَا لِنَفْسِهِ، وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": فَلْيَقْتَطِعْ مِنْهُ أَيْ: مِنْ لَحْمِهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . (وَذَكَرَ حَدِيثَا ابْنِ عَبَّاسٍ) : أَيْ: قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ (وَجَابِرٍ) : أَيِ: الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ (فِي: بَابِ الْأُضْحِيَّةِ) : وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اعْتِذَارٌ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ بِأَنَّهُ أَسْقَطَهَا مِنْ تَكْرَارٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بِأَنَّهُ حَوَّلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ الْبَابِ، لِأَنَّهُمَا أَنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2644 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ، فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ ". فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا الْعَامَ الْمَاضِي؟ قَالَ: " كُلُوا، وَأَطْعِمُوا، وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهِمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2644 - (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ضَحَّى» ) : بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ أَيْ: فَعَلَ الْأُضْحِيَّةَ ( «مِنْكُمْ، فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ» ) : أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ، أَوْ بَعْدَ لَيْلَةٍ ثَالِثَةٍ (وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ) : أَيْ: مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ (شَيْءٌ) : لِحُرْمَةِ ادِّخَارِ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الْأَضَاحِيِّ فِي هَذَا الْعَامِ، لِأَجْلِ الْقَحْطِ الشَّدِيدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ حَتَّى امْتَلَأَتِ الْمَدِينَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَأَمَرَ أَهْلَهَا بِإِخْرَاجِ جَمِيعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ الَّتِي اعْتَادُوا ادِّخَارَ مِثْلِهَا فِي

كُلِّ عَامٍ (فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ) : أَيِ: الْآتِي بَعْدَهُ (قَالُوا) : أَيْ: بَعْضُ الْأَصْحَابِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَفْعَلُ) : بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ (كَمَا فَعَلْنَا الْعَامَ الْمَاضِيَ؟ قَالَ: " كُلُوا ": اسْتِحْبَابًا (وَأَطْعِمُوا) : أَيْ: نَدْبًا (وَادَّخِرُوا) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيِ: اجْعَلُوا ذَخِيرَةً أَمْرُ إِبَاحَةٍ (فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ) : عِلَّةُ تَحْرِيمِ الِادِّخَارِ السَّابِقِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا (كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَضَمِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بِالضَّمِّ: الْجُوعُ؛ وَبِالْفَتْحِ: الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ لُغَتَانِ. (فَأَرَدْتُ) : أَيْ: بِالنَّهْيِ عَنِ الِادِّخَارِ (أَنْ تُعِينُوا فِيهِمْ) : أَيْ: تُعِينُوهُمْ أَيِ: الْفُقَرَاءَ، جَعَلَ الْمُتَعَدِّيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ، وَعَدَّاهُ بِـ " فِي " مُبَالَغَةً، كَذَا قِيلَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، أَيْ: تُوقِعُوا الْإِعَانَةَ فِيهِمْ، اهـ. فَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: بِجُرْحٍ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْ تُعِينُونِي فِي حَقِّهِمْ، فَإِنَّ فَقْرَهُمْ كَانَ صَعْبًا إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : لَا يَظْهَرُ وَجْهُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِمَا تَفْسِيرًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

2645 - وَعَنْ نُبَيْشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّا كُنَّا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ لُحُومِهَا أَنْ تَأْكُلُوهَا فَوْقَ ثَلَاثٍ لِكَيْ تَسَعَكُمْ. جَاءَ اللَّهُ بِالسَّعَةِ، فَكُلُوا، وَادَّخِرُوا وَائْتَجِرُوا. أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، [وَبِعَالٍ] وَذِكْرِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2645 - (وَعَنْ نُبَيْشَةَ) : بِضَمِّ النُّونِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ نُبَيْشَةُ الْخَيْرِ الْهُذَلِيُّ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ. ( «قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِنَّا كُنَّا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ لُحُومِهَا» ) : أَيِ: الْأَضَاحِيِّ أَوِ الْهَدَايَا، فَيَظْهَرُ وَجْهُ الْمَنَاسِكِ لِلْبَابِ (أَنْ تَأْكُلُوهَا) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ (فَوْقَ ثَلَاثٍ) : أَيْ: لَيَالٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: ثَلَاثَةٍ؛ أَيْ: أَيَّامٍ (لِكَيْ تَسَعَكُمْ) : أَيْ: لِتَكْفِيَكُمْ وَفُقَرَاءَكُمْ (جَاءَ اللَّهَ بِالسَّعَةِ) : بِفَتْحِ السِّينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِتَغْيِيرِ الْحُكْمِ أَيْ: أَتَى اللَّهُ بِالْخِصْبِ، وَسَعَةِ الْخَيْرِ، وَأَتَى بِالرَّخَاءِ، وَكَثْرَةِ اللَّحْمِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ (فَكُلُوا، وَادَّخِرُوا، وَائْتَجِرُوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَجْرِ أَيِ: اطْلُبُوا بِالتَّصَدُّقِ، وَلَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ مُشَدَّدًا، وَأَيْضًا لَا يَصِحُّ بَيْعُ لُحُومِهَا، بَلْ يُؤَكِّدُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ. (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (وَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ) : أَيْ: أَيَّامَ مِنًى وَهِيَ أَرْبَعَةٌ (أَيَّامُ أَكْلٍ) : فَيَحْرُمُ الصِّيَامُ فِيهَا (وَشُرْبٍ) : بِضَمِّ الشِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعَةِ (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) : وَجُوِّزَ كَسْرُهَا فِي رِوَايَةٍ (. " وَبِعَالٍ) : أَيْ: جِمَاعٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِحُرْمَةِ الصَّوْمِ فِيهَا، لِكَوْنِ الْخَلْقِ حِينَئِذٍ أَضْيَافُ الْحَقِّ. (وَذِكْرِ اللَّهِ " أَيْ: كَثْرَةِ ذِكْرِهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] وَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] : وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الْهَدَايَا حِينَ ذَبْحِهَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَأْخَذُ لِتَحْرِيمِ الصِّيَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِذِكْرِ اللَّهِ مَا يُذْكَرُ عِنْدَ الرَّمْيِ، أَوْ تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ، وَقَدْ سَبَقَ التَّحْقِيقُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ (رَوَاهُ) أَبُو دَاوُدَ.

[باب الحلق]

[بَابُ الْحَلْقِ]

(8) بَابُ الْحَلْقِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2646 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (8) بَابُ الْحَلْقِ أَيْ: وَالْقَصْرِ، اكْتُفِيَ بِأَفْضَلِهِمَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2646 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ رَأْسَهُ» ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: أَمَرَ بِحَلْقِهِ (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) : أَيْ: حَلَقُوا، وَ " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَقِيلَ: بِتَخْفِيفِهَا أَيْ: بَعْضُ النَّاسِ، أَوْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ أَيْ: عُمْرَتَهُمْ قَبْلَ حَجَّتِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَّرَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ» ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا، إِلَّا أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَالسَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «خُذُوا عَنَّي مَنَاسِكَكُمْ» " وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ الِاكْتِفَاءُ بِبَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَسْحَ فِيهَا فِيهِ الْبَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّبْعِيضِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ النَّاصِيَةِ الْمُشْعِرُ بِجَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالْبَعْضِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى مَنْعِ مَسْحِ الْبَعْضِ، بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي بَابِ الْحَلْقِ، فَإِنَّهُ قَالَ - تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] وَلَا تَحْلِقُوا رَأْسَكُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ - وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ قَطُّ أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِحَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ، أَوْ تَقْصِيرِهِ، بَلْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقَزَعَةِ حَتَّى لِلصِّغَارِ، وَهِيَ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَتَخْلِيَةُ بَعْضِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِحْرَامِ إِلَّا بِالِاسْتِيعَابِ كَمَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ مِمَّا خَطَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّحْقِيقِ النَّاشِئِ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ التَّدْقِيقِ، أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي قَوْلِهِ {مُحَلِّقِينَ} [الفتح: 27] : لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَا تَحْلِقُوا بِدُونِهَا أَنَّ الْفِعْلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ يَشْمَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مُطْلَقًا.

2647 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ: إِنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْمَرْوَةَ بِمِشْقَصٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2647 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ) : أَيِ: ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ ( «إِنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ» ) : أَيْ: شَعْرِ رَأْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ: نَصْلٍ طَوِيلٍ عَرِيضٍ، أَوْ غَيْرِ عَرِيضٍ لَهُ حِدَّةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمِقَصُّ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُقَصِّرْ فِي حَجَّتِهِ، بَلْ حَلَقَ، فَيَكُونُ التَّقْصِيرُ الَّذِي رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ فِي عُمْرَتِهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، فَلَوْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجًّا لَقَالَ بِمِنًى. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ ذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ، اعْتَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ مِنْهَا فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، أَوْ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ إِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَسْلَمْتُ عَامَ الْقَضِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَأَنَّهُ أَحَلَّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، «قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ» ، قَالُوا: وَمُعَاوِيَةُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا فِي الْفَتْحِ، فَلَزِمَ كَوْنُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَوْنُهُ عَنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: " عِنْدَ الْمَرْوَةِ " وَالتَّقْصِيرُ فِي الْحَجِّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مِنًى، فَدَفَعَهُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَمِ إِحْلَالِهِ جَاءَتْ مَجِيئًا مُتَظَافِرًا يَقْرُبُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ

الشُّهْرَةِ الَّتِي هِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ التَّوَاتُرِ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ، وَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَتْحِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ، وَلَوِ انْفَرَدَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، فَكَيْفَ وَالْحَالُ مَا أَعْلَمْنَاكَ، فَلَزِمَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الشُّذُوذُ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، فَإِمَّا هُوَ خَطَأٌ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ إِذْ ذَاكَ، وَهِيَ عُمْرَةٌ خَفِيَتْ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ لَيْلًا عَلَى مَا فِي التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَرَجَ إِلَى الْجِعِرَّانَةِ لَيْلًا مُعْتَمِرًا، فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا فَقَضَى عُمْرَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ؛ الْحَدِيثَ: قَالَ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خَفِيَتْ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْحُكْمُ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، بِالْخَطَأِ، وَلَوْ كَانَتْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِمَّا لِلنِّسْيَانِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ عَنْهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِ، قَوْلُهُ: " عِنْدَ الْمَرْوَةِ " لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، بَلْ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ.

2648 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2648 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ هَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا طَمَعًا فِي دُخُولِ مَكَّةَ. قُلْتُ: لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. ( «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ» ) : حَيْثُ عَمِلُوا بِالْأَفْضَلِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] أَكْمَلُ، وَقَضَاءَ التَّفَثِ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] يَكُونُ بِهِ أَجْمَلَ، وَبِكَوْنِهِ فِي مِيزَانِ الْعَمَلِ أَثْقَلَ (قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) : عَطْفٌ تَلْقِينِيٌّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] بَعْدَ قَوْلِهِ {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] : أَيْ: وَاجْعَلْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّلْقِينِ، كَمَا وَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ مُسْتَقِلٌّ لَا مُتَفَرِّعٌ عَنْ كَلَامٍ سَابِقٍ، وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ: وَجَاعِلٌ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى كَافِ " جَاعِلُكَ " فَلَا وَجْهَ لَهُ، نَعَمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّلْقِينِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة: 126] بَعْدَ قَوْلِهِ {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126] فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّقْدِيرُ: وَارْزُقْ مَنْ كَفَرَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَأَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ " مَنْ كَفَرَ " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ " فَأُمَتِّعُهُ " (قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ) : وَتَغَافَلَ عَنِ الْعَطْفِ عَلَى وَجْهِ الْعَطْفِ دُونَ الْعُنْفِ (قَالُوا) : تَأْكِيدٌ لِلِاسْتِدْعَاءِ، وَهَلْ هُوَ قَوْلُ الْمُحَلِّقِينَ، أَوِ الْمُقَصِّرِينَ، أَوْ قَوْلُهُمَا جَمِيعًا، احْتِمَالَاتٌ ثَلَاثٌ: أَظْهَرُهَا بَعْضُ الْكُلِّ مِنَ النَّوْعَيْنِ (وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ) : أَيْ: فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. (وَالْمُقَصِّرِينَ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَذَكَرَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ (وَالْمُقَصِّرِينَ) ، ثُمَّ قَالَ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ: " وَالْمُقَصِّرِينَ " اهـ. فَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ إِمَّا تَقْصِيرٌ مِنْهُ، أَوْ رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، وَيَدُلُّ الْأَوَّلُ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

2649 - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2649 - (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهِ) : أَيْ: أُمِّ الْحُصَيْنِ بِنْتِ إِسْحَاقَ الْأَحْمَسِيَّةِ شَهِدَتْ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. ( «أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً» ) : وَهِيَ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، عَلَى عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، أَوْ يُحْمَلُ كَلَامُ كُلِّ رَاوٍ عَلَى مَا سَمِعَ بِهِ، وَتَحَقَّقَ عِنْدَهُ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُحَلِّقِينَ أَوَّلًا بِالدُّعَاءِ دُونَ الْمُقَصِّرِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا مِنْ أَطْرَافِ شُعُورِهِمْ، وَلَمْ يَحْلِقُوا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ أَحْرَمَ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَمَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْلِقُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، فَلَمَّا أَمَرَ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَحْلِقَ وَيَحِلَّ، وَوَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِمْ حَتَّى يُكْمِلُوا الْحَجَّ، وَكَانَتْ طَاعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى لَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ الْإِحْلَالِ كَانَ التَّقْصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ أَخَفَّ مِنَ الْحَلْقِ، فَمَالَ أَكْثَرُهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ بَادَرَ إِلَى الطَّاعَةِ وَحَلَقَ، وَلَمْ يُرَاجِعْ، فَلِذَا قَدَّمَ الْمُحَلِّقِينَ، وَأَخَّرَ الْمُقَصِّرِينَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ لَا بِخُصُوصِ الْحَلْقِ، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا الْقَصْرَ لِقُرْبِ الزَّمَانِ مِنَ الْوُقُوفِ إِبْقَاءً لِلشَّعْرِ لِلْحَلْقِ، أَوِ الْقَصْرِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَجَمْعًا بَيْنَ الْعَمَلَيْنِ، وَهُمَا الرُّخْصَةُ، وَالْعَزِيمَةُ، وَالرُّخْصَةُ أَوْلَى بِعْدَ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا الْمُقَصِّرِينَ فِي الْحَجِّ، فَعَمِلُوا بِالرُّخْصَةِ إِبْقَاءً فِي شَعْرِهِمْ لِلزِّينَةِ، بِخِلَافِ الْمُحَلِّقِينَ، فَإِنَّهُمُ اخْتَارُوا الْعَزِيمَةَ فِي الْقَضِيَّةِ، فَاسْتَحَقُّوا الْأَفْضَلِيَّةَ، وَلِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النِّيَّةِ، وَحُسْنِ الطَّوِيَّةِ، وَالتَّذَلُّلِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: وَوَجْهُ أَفْضَلِيَّةِ الْحَلْقِ أَنَّ الْمُقَصِّرَ أَبْقَى عَلَى نَفْسِهِ الزِّينَةَ لِشَعْرِهِ، وَالْحَاجَّ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ الزِّينَةِ، فَغَرِيبٌ مِنْهُ، وَكَذَا اسْتِحْسَانُ ابْنِ حَجَرٍ مِنْهُ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الْحَاجَّ لَيْسَ مَأْمُورًا بِتَرْكِ الزِّينَةِ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجَّةِ، أَوِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ لَا يُنَافِي مَا حَكَاهُ عِيَاضٌ، عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا طَمَعًا بِدُخُولِ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ: " «أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ» " فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ، فَاخْتَارَ بَعْضُهُمُ الْحَلْقَ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ الْقَصْرَ حَتَّى يُحَلِّقُوا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ جَمْعًا بَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ، وَحِيَازَةً لِلْفَضِيلَتَيْنِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «حَلَقَ رِجَالُ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَصَّرَ آخَرُونَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُحَلِّقِينَ بِمَا ذَكَرَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ مَا بَالُ الْمُحَلِّقِينَ ظَاهَرْتَ لَهُمْ بِالتَّرَحُّمِ؟ قَالَ: " لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا» ، يَعْنِي لَمْ يَطْمَعُوا فِي دُخُولِ مَكَّةَ، يَوْمَئِذٍ مُسْتَدِلِّينَ " بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] وَقَدْ أَجَابَ الصِّدِّيقُ مِنْ أَرْبَابِ التَّحْقِيقِ عَنْهُ، بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَقْيِيدٌ بِهَذِهِ السُّنَّةِ، ثُمَّ نَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهَذَا الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، هَذَا، وَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْحَلْقَ، أَوِ التَّقْصِيرَ نُسُكٌ، إِمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا رُكْنٌ، لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ مِنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ إِلَّا بِهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - قَوْلٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِاسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ، كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَالصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ.

2650 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ، فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى، وَنَحَرَ نُسُكَهُ، ثُمَّ دَعَا بِالْحَلَّاقِ، وَنَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ،. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ، فَقَالَ: " احْلِقْ " فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ: " اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2650 - (عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ) : أَيْ: جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى بِمَنْزِلِهِ بِمِنًى) : وَهُوَ الْآنَ يُسَمَّى مَسْجِدَ الْخَيْفِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَا بَيْنَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَمَحَلِّ نَحْرِهِ الْمَشْهُورِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَةَ (وَنَحَرَ نُسُكَهُ) : بِسُكُونِ السِّينِ، وَيُضَمُّ جَمْعُ نَسِيكَةٍ، وَهِيَ الذَّبِيحَةُ، وَالْمُرَادُ بُدْنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ نَحَرَ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَنْحَرَ بَقِيَّةَ الْمِائَةِ (ثُمَّ دَعَا بِالْحَلَّاقِ) : وَهُوَ الْمُزَيِّنُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، وَقِيلَ: غَيْرُهُ (وَنَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ) : أَيْ: جَانِبَهُ (الْأَيْمَنَ) : أَيْ: مِنَ الرَّأْسِ (فَحَلَقَهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الِابْتِدَاءُ بِالْأَيْمَنِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْأَيْسَرُ اهـ. أَيْ: لِيَكُونَ أَيْمَنَ الْحَالِقِ، وَنُسِبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ قَاسَ أَوَّلًا يَمِينَ الْفَاعِلِ، كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ التَّيَامُنِ، وَلِمَا بَلَغَهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اعْتَبَرَ يَمِينَ الْمَفْعُولِ، رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمَعْقُولِ إِلَى صَرِيحِ الْمَنْقُولِ، إِذَا لَحِقَ بِالِاتِّبَاعِ أَحَقُّ، وَلَوْ وَقَفَ الْحَالِقُ خَلْفَ الْمَحْلُوقِ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَيْمَنَيْنِ. (ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ) : هُوَ عَمُّ أَنَسٍ وَزَوْجُ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَكَانَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَبِي طَلْحَةَ، وَأَهْلِهِ مَزِيدُ خُصُوصِيَّةٍ وَمَحَبَّةٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَبْرَارِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ الَّذِي حَفَرَ قَبْرَهُ الشَّرِيفَ وَلَحَدَ لَهُ وَبَنَى فِيهِ اللَّبِنَ، وَخَصَّهُ بِدَفْنِهِ لِبِنْتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ وَزَوْجُهَا عُثْمَانُ حَاضِرٌ،

(فَأَعْطَاهُ) : أَيْ: أَبَا طَلْحَةَ (إِيَّاهُ) : أَيِ: الشَّعْرَ الْمَحْلُوقَ (ثُمَّ نَاوَلَ) : أَيِ: الْحَالِقَ (شِقَّهُ الْأَيْسَرَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: الشِّقَّ الْأَيْسَرَ (فَقَالَ) : بِلِسَانِ الْقَالِ، أَوِ الْحَالِ (احْلِقْ " فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ: " اقْسِمْهُ ": أَيِ: الْمَجْمُوعَ (بَيْنَ النَّاسِ) دَلَّ عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ، وَأَنْ يُتَبَرَّكَ بِأَشْعَارِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبَاقِي أَثَارِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ، فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى، فَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ: خُذْ، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْحَلْقِ: الْبُدَاءَةُ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَذْهَبِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ اهـ. وَقَالَ السُّرُوجِيُّ: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ، وَذَكَرَ كَذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَمْ يَعْزُ إِلَى أَحَدٍ، وَالسُّنَّةُ أَوْلَى، وَقَدْ أَخَذَ الْإِمَامُ بِقَوْلِ الْحَلَّاقِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَلَوْ كَانَ مَذْهَبُهُ خِلَافَهُ لَمَا وَافَقَهُ، وَفِي مَنْسَكِ ابْنِ الْعَجَمِيِّ وَالْبَحْرِ: هُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ فِي " النُّخْبَةِ ": هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ رُوِيَ رُجُوعُ الْإِمَامِ عَمَّا نَقَلَ عَنْهُ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَخْطَأْتُ فِي الْحَجِّ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَ مِنْهُ الْبُدَاءَةَ بِيَمِينِ الْحَالِقِ، فَصَحَّ تَصْحِيحُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُقَلِّمَ بَعْدَ الْحَلْقِ، أَوِ التَّقْصِيرِ أَظْفَارَهُ لِلِاتِّبَاعِ، كَمَا صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ. أَقُولُ: وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] .

2651 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ (بِطِيبٍ) فِيهِ مِسْكٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2651 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» ) : أَيْ: بِالْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ، أَوْ بِهِمَا (وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) " أَيْ: بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ بِالْحَلْقِ (بِطِيبٍ) مُتَعَلِّقٍ بِـ " أُطَيِّبُ " (فِيهِ) : أَيْ: فِي أَجْزَائِهِ (مِسْكٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الطِّيبَ تَابِعًا لِلْجِمَاعِ.

2652 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2652 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ) : أَيْ: نَزَلَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِهِ وَذَبْحِهِ، فَطَافَ طَوَافَ الْفَرْضِ وَقْتَ الضُّحَى (ثُمَّ رَجَعَ) : أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ السُّنَنِ خِلَافُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَهْمٌ، وَإِذَا تَعَارَضَا؛ وَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ، فَفِي مَكَّةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِثُبُوتِ مُضَاعَفَةِ الْفَرَائِضِ فِيهِ أَوْلَى اهـ. وَالْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ أَعَادَ الظُّهْرَ - بِمَعْنَى مُقْتَدِيًا عَلَى مَذْهَبِنَا، أَوْ إِمَامًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالظُّهْرِ حِينَ انْتَظَرُوهُ - أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْوَهْمِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، فَلْيُحْمَلْ عَلَى يَوْمٍ آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَوْجِيهَاتٌ أُخَرُ، فَتَدَبَّرْ، وَأَمَّا خَبَرُ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي حَسَّنَهُ، «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ طَوَافَهُ إِلَى اللَّيْلِ» ، فَمُئَوَّلٌ بِأَنَّهُ أَخَّرَ طَوَافَ نِسَائِهِ إِلَى اللَّيْلِ، أَوْ جَوَّزَ تَأْخِيرَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إِلَى اللَّيْلِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَخَّرَ طَوَافَهُ الْكَائِنَ مَعَ نِسَائِهِ إِلَى اللَّيْلِ لِرِوَايَةِ: ( «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - زَارَ مَعَ نِسَائِهِ لَيْلًا» ) ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ: رَمْيُهُ وَحَلْقُهُ قَبَلَ الظُّهْرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَوْنُهُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى، إِذِ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالْإِفَاضَةِ مُعْتَبَرٌ، فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْبَابِ، وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَتَدَبَّرْ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى -.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2653 - عَنْ عَلِيٍّ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَا: «نَهَى رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2653 - (عَنْ عَلِيٍّ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» ) : أَيْ: فِي التَّحَلُّلِ، أَوْ مُطْلَقًا إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِنَّ حَلْقَهَا مِثْلُهُ كَحَلْقِ اللِّحْيَةِ لِلرَّجُلِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

2654 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ الْحَلْقُ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. [وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ] ـــــــــــــــــــــــــــــ 2654 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ الْحَلْقُ» ) : أَيْ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ الْحَلْقُ فِي التَّحَلُّلِ ( «إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ الْتَقْصِيرُ» ) أَيْ: إِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَحَدُهُمَا، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ، ثُمَّ قِيلَ: أَقَلُّ التَّقْصِيرِ ثَلَاثُ شُعَيْرَاتٍ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَعِنْدَنَا: التَّقْصِيرُ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رُءُوسِ شَعْرِ رَأْسِهِ مِقْدَارَ أُنْمُلَةٍ، رَجُلًا كَانَ، أَوِ امْرَأَةً، وَيَجِبُ مِقْدَارُ الرُّبْعِ عَلَى مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي الْمَذْهَبِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ: وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ، وَادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا تَقَدَّمَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ: وَالتِّرْمِذِيُّ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ: بِلَا وَاوٍ بَدَلَ الدَّارِمِيِّ. وَفِي نُسْخَةٍ: وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِذَارِ، وَلَعَلَّهُ لِدَفْعٍ وَهُوَ الْإِسْقَاطُ.

[باب في تقديم وتأخير بعض المناسك]

[بَابٌ فِي تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2655 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ. فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: " اذْبَحْ، وَلَا حَرَجَ ". فَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: " ارْمِ، وَلَا حَرَجَ ". فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ، وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: " افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (9) [بَابٌ فِي تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ] بِالتَّنْوِينِ، وَالسُّكُونِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بَابُ جَوَازِ التَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ فِي بَعْضِ أُمُورِ الْحَجِّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بَابٌ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْحَلْقِ، فَلِذَا لَمْ يُؤْتَ بِالتَّرْجَمَةِ فَغَرِيبٌ، مَعَ أَنَّ الْبَابَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ الْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ، وَالذَّبْحِ، وَالْإِفَاضَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2655 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْوَاوِ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا (بِمِنًى لِلنَّاسِ) : أَيْ: لِأَجْلِهِمْ (يَسْأَلُونَهُ) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ " وَقَفَ " أَوْ مِنَ " النَّاسِ " أَوِ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ عِلَّةِ الْوُقُوفِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُؤَيِّدُ الْأَخِيرَ رِوَايَةُ: " وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ "؛ (فَجَاءَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَجَاءَهُ بِالضَّمِيرِ (رَجُلٌ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ) : أَيْ: مَا عَرَفْتُ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ وَتَأْخِيرَهَا، فَيَكُونُ جَاهِلًا

لِقُرْبِ وُجُوبِ الْحَجِّ، أَوْ فَعَلْتُ مَا ذَكَرْتُ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ ; فَيَكُونُ مُخْطِئًا ( «فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: " اذْبَحْ» ) : أَيِ: الْآنَ " وَلَا حَرَجَ ": أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَيْكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْفِدْيَةِ ( «فَجَاءَ آخَرُ، قَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: " ارْمِ وَلَا حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: وَحَقُّهُ التَّأْخِيرُ (وَلَا أُخِّرَ) : أَيْ: وَلَا عَنْ شَيْءٍ حَقُّهُ التَّقْدِيمُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ " لَا " فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] . وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، وَهِيَ أَنَّ " لَا " إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا فِعْلًا مَاضِيًا وَجَبَ تَكْرَارُهَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31] وَمِنْهَا: أَنَّ الْآيَةَ أَيْضًا خَارِجَةٌ عَنْهَا لِمَا فِي الْمَعْنَى وَغَيْرِهِ أَنَّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ " لَا " إِنْ كَانَ فِعْلًا مُضَارِعًا لَمْ يَجِبْ تَكْرَارُهَا نَحْوُ {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148] وَ {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ إِيرَادِهِ الْآيَةَ؛ نَظِيرُ الْوُجُودِ تَكْرَارُ " مَا " النَّافِيَةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ عِبَارَتِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ " مَا " فِي مَا يَفْعَلُ لَيْسَتْ بِنَافِيَةٍ، بَلْ هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَوْ مَوْصُولَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَاءَ تَرْكُ التَّكْرَارِ فِي: لَا شُلَّتْ يَدَاكَ، بِلَا تَكْرَارٍ، وَكَذَا لَا فَضَّ اللَّهُ فَاكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ، فَالْفِعْلُ مُسْتَقْبَلٌ فِي الْمَعْنَى، وَمِنْهَا: أَنَّهُ شَذَّ تَرْكُ التَّكْرَارِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ فَاغْفِرْ جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا وَمِنْهَا: أَنَّ تَقْدِيرَ " لَا " فِي الْأَوَّلِ، أَوِ الْآخِرِ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ. (إِلَّا قَالَ: " افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ " قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَفْعَالُ يَوْمِ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ الذَّبْحُ، ثُمَّ الْحَلْقُ، ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، فَقِيلَ: هَذَا التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، لِهَذَا الْحَدِيثِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهِ دَمٌ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: " وَلَا حَرَجَ " عَلَى دَفْعِ الْإِثْمِ لِجَهْلِهِ دُونَ الْفِدْيَةِ اهـ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَوْجَبَ الدَّمَ، فَلَوْلَا أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ لَمَا أَمَرَ بِخِلَافِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: " ارْمِ، وَلَا حَرَجَ " وَأَتَاهُ آخَرُ، قَالَ: أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: (ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» ) : اعْلَمْ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الرَّمْيِ، وَالذَّبْحِ، وَالْحَلْقِ لِلْقَارِنِ، وَالْمُتَمَتِّعِ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسُنَّةٌ عِنْدَهُمَا، وَكَذَا تَخْصِيصُ الذَّبْحِ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الذَّبْحِ بِالْحَرَمِ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَلَا يَسْقُطُ مَا لَمْ يَذْبَحْ فِي الْحَرَمِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالطَّوَافِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَكَذَا بَيْنَ الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ، فَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ، وَالطَّوَافِ وَاجِبٌ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.

2656 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، فَيَقُولُ: لَا حَرَجَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ. فَقَالَ: " لَا حَرَجَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2656 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى» ) : أَيْ: عَنِ التَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ ( «فَيَقُولُ: " لَا حَرَجَ " فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: " لَا حَرَجَ» : أَيْ: بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: بَعْدَ الْعَصْرِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ تَقْصِيرٍ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ فَاتَ وَقْتُ الرَّمْيِ، وَلَزِمَهُ دَمٌ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ اهـ. وَأَمَّا مَذْهَبُنَا، فَفِي أَيَّامِ الرَّمْيِ تَفْصِيلٌ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ: إِنَّ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ، وَمَا بَعْدُ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ وَقْتٌ مَسْنُونٌ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ وَقْتُ

الْجَوَازِ بِلَا إِسَاءَةٍ، وَاللَّيْلُ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مَحَلِّ ثُبُوتِ الْإِسَاءَةِ عَدَمَ الْعُذْرِ، حَتَّى لَا يَكُونَ رَمْيُ الضَّعَفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَرَمْيُ الرِّعَاءِ لَيْلًا يُلْزِمُهُمُ الْإِسَاءَةَ، وَكَيْفَ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّرْخِيصِ اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الرِّعَاءِ، وَأَمَّا فِي الضَّعَفَةِ، فَضَعِيفٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّهِمْ: " «لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» " ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ أَخَّرَهُ إِلَى غَدِهِ رَمَاهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لَهُمْ. اهـ. فَقَوْلُهُ: أَمْسَيْتُ ضِدُّ أَصْبَحْتُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ فَغَرِيبٌ، ثُمَّ الْوَقْتُ الْمَسْنُونُ فِي الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ، وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْإِمَامِ خِلَافًا لَهُمَا، وَبَقِيَ وَقْتُ الْقَضَاءِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2657 - عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَفَضْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ، فَقَالَ: " احْلِقْ، أَوْ قَصِّرْ، وَلَا حَرَجَ ". وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: " ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2657 - (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَاهُ) : أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَفَضْتُ) : أَيْ: طُفْتُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ، قَالَ: " احْلِقْ، أَوْ قَصِّرْ) : " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ (وَلَا حَرَجَ) : أَيْ: لَا إِثْمَ، وَلَا فِدْيَةَ (وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: " ارْمِ وَلَا حَرَجَ) : أَيْ: لَا إِثْمَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمُفْرِدِ، وَأَمَّا الْقَارِنُ، وَالْمُتَمَتِّعُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا الْإِثْمُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عَمْدٍ لَكِنْ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2658 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجًّا، فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ، فَمِنْ قَائِلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ، أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا، أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا، فَكَانَ يَقُولُ: " لَا حَرَجَ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ مُسْلِمٍ وَهُوَ ظَالِمٌ، فَذَلِكَ الَّذِي حَرَجَ وَهَلَكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2658 - (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ) : بِفَتْحِ الشِّينِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ (قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجًّا) : أَيْ: مُرِيدَ الْحَجِّ (فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَمِنْ قَائِلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعَيْتُ) : أَيْ: لِلْحَجِّ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ طَوَافِ قُدُومِ الْآفَاقِيِّ، أَوْ طَوَافِ نَفْلٍ لِلْمَكِّيِّ (قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ) : أَيْ: طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُهُ يَشْمَلُ الْآفَاقِيَّ، وَالْمَكِّيَّ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي أَفْضَلِيَّةِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَيَّدَهُ بِالْأَفَاقِيِّ (أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا، أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا) : أَيْ: فِي أَفْعَالِ أَيَّامِ مِنًى (فَكَانَ يَقُولُ: لَا حَرَجَ ": أَيْ: لَا إِثْمَ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ) : الِاسْتِثْنَاءُ يُؤَيِّدُ أَنَّ مَعْنَى الْحَرَجِ هُوَ: الْإِثْمُ (اقْتَرَضَ) : بِالْقَافِ أَيِ: اقْتَطَعَ (عِرْضَ مُسْلِمٍ) : أَيْ: نَالَ مِنْهُ وَقَطَعَهُ بِالْغِيبَةِ، أَوْ غَيْرِهَا (وَهُوَ) : أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ (ظَالِمٌ) : فَيَخْرُجُ حَرَجُ الرُّوَاةِ، وَالشُّهُودِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ (فَذَلِكَ الَّذِي) : أَيِ: الرَّجُلُ الْمَوْصُوفُ (حَرِجَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: وَقَعَ مِنْهُ حَرَجٌ (وَهَلَكَ) : أَيْ: بِالْإِثْمِ، وَالْعَطْفُ تَفْسِيرِيٌّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ: " إِنَّ سِتًّا وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً بِالْأُمِّ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ أَهْوَنُ مِنْ عِرْضِ مُسْلِمٍ ".

[باب خطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق والتوديع]

[بَابٌ خُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالتَّوْدِيعُ]

(10) بَابٌ: خُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ، وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالتَّوْدِيعُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2659 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: " إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) . وَقَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: " أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟ " قُلْنَا: بَلَى. قَالَ " أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ؟ ". قُلْنَا بَلَى. قَالَ: " فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: " أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ " قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ. عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بِعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [10] بَابُ خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ الْخُطْبَةُ: الْمُرَاجَعَةُ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ: الْخُطْبَةُ وَالْخِطْبَةُ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِالضَّمِّ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَوْعِظَةِ، وَالْخِطْبَةِ بِالْكَسْرِ بِطَلَبِ الْمَرْأَةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) : عَطْفٌ عَلَى خُطْبَةٍ (وَالتَّوْدِيعُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: عَطْفٌ عَلَى " التَّشْرِيقِ " أَيِ: الْأَيَّامِ الَّتِي تَسْتَتْبِعُ طَوَافَ الْوَدَاعِ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ: عَطْفٌ عَلَى " رَمْيُ " أَوْ " خُطْبَةُ " فَإِنَّهُ مَا وَقَعَ طَوَافُ وَدَاعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَّا فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَ أَيَّامٍ، وَلِلِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِهِ فِي أَيَّامٍ، وَمَا بَعْدَهَا، بَلِ الْأَوْلَى عِنْدَ الْكُلِّ تَأْخِيرُهُ إِلَى حِينِ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ، فَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِهِ بِأَيَّامٍ، مَعَ أَنَّهُ تَكْرَارٌ مَحْضٌ لَا إِفَادَةَ فِي إِعَادَتِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2659 - (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : أَيِ: الثَّقَفِيِّ (قَالَ: خَطَبَنَا) : أَيْ: وَعَظَنَا (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ) : يُسْتَحَبُّ الْخُطْبَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَعِنْدَنَا فِي الثَّانِي مِنْ أَيَّامِهِ، وَتَقْيِيدُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا، وَبِهِ اسْتَشْكَلَ النَّوَوِيُّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ، أَوْ نَائِبُهُ النَّاسَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى خُطْبَةً فَرْدَةً، يُعَلِّمُ فِيهَا الْمَنَاسِكَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَوْلُهُمْ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تُضَحِّي اهـ. فَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ كَانَتْ خُطْبَةَ مَوْعِظَةٍ، وَأَنَّ الْخُطْبَةَ الْمَعْرُوفَةَ كَانَتْ ثَانِيَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ) : هُوَ اسْمٌ لِقَلِيلِ الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا السَّنَةُ. (قَدِ اسْتَدَارَ) : أَيْ: دَارَ (كَهَيْئَتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْهَيْئَةُ صُورَةُ الشَّيْءِ وَشَكْلُهُ وَحَالَتُهُ، وَالْكَافُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: اسْتَدَارَ اسْتِدَارَةً مِثْلَ حَالَتِهِ (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) : أَيْ: وَمَا فِيهَا مِنَ النَّيِّرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تُعْرَفُ الْأَيَّامُ، وَاللَّيَالِي، وَالسَّنَةُ وَالْأَشْهُرُ، وَفِي نُسْخَةٍ: " كَهَيْئَةِ يَوْمٍ " بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ خِلَافُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ (وَالْأَرْضَ) : أَيْ: عَادَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ، يَعْنِي: الزَّمَانَ فِي انْقِسَامِهِ إِلَى الْأَعْوَامِ، وَالْأَعْوَامَ إِلَى الْأَشْهُرِ عَادَ إِلَى أَصْلِ الْحِسَابِ، وَالْوَضْعِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَوَضَعَهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا: أَيْ: دَارَ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ، وَوَضَعَهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَامٍ اثْنَى عَشَرَ شَهْرًا، وَكُلُّ شَهْرٍ مَا بَيْنَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ إِلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ غَيَّرُوا ذَلِكَ ; فَجَعَلُوا عَامًا اثْنَى عَشَرَ شَهْرًا، وَعَامًا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْسِئُونَ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامَيْنِ مِنْ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَيَجْعَلُونَ الشَّهْرَ الَّذِي أَنْسَئُوهُ مُلْغًى، فَتَصِيرُ تِلْكَ السَّنَةُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَتَتَبَدَّلُ أَشْهُرُهَا، فَيُحِلُّونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَيُحَرِّمُونَ غَيْرَهَا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الْآيَةَ. فَأَبْطَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ، وَقَرَّرَهُ عَلَى مَدَارِهِ الْأَصْلِيِّ، فَالسَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ هِيَ السَّنَةُ الَّتِي وَصَلَ ذُو الْحِجَّةِ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ) يَعْنِي أَمَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ ذُو الْحِجَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَاحْفَظُوهُ، وَاجْعَلُوا الْحَجَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَا تُبَدِّلُوا شَهْرًا بِشَهْرٍ كَعَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ اهـ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: كَانُوا إِذَا جَاءَ شَهْرٌ حَرَامٌ، وَهُمْ مُحَارِبُونَ أَحَلُّوهُ، وَحَرَّمُوا مَكَانَهُ شَهْرًا آخَرَ، حَتَّى رَفَضُوا خُصُوصَ الْأَشْهُرِ، وَاعْتَبَرُوا مُجَرَّدَ الْعَدَدِ اهـ. فَكَأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي النَّسِيءِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) : قَالَ - تَعَالَى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) .

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: بِهَتْكِ حُرْمَتِهَا، وَارْتِكَابِ حَرَامِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُقَاتَلَةِ فِيهَا مَنْسُوخَةٌ، وَأَوَّلُوا الظُّلْمَ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فِيهِنَّ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ وِزْرًا كَارْتِكَابِهَا فِي الْحَرَمِ، وَحَالَ الْإِحْرَامِ. وَعَنْ عَطَاءٍ: لَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاصَرَ الطَّائِفَ، وَغَزَا هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ (ثَلَاثٌ) : أَيْ: لَيَالِي (مُتَوَالِيَاتٌ) : أَيْ: مُتَتَابِعَاتٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْتَبَرَ ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ مِنَ اللَّيَالِي، فَحَذَفَ التَّاءَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَغْلِيبٌ لِلَّيَالِي هُنَا كَمَا فِي " أَرْبَعَةٌ " تَغْلِيبٌ لِلْأَيَّامِ. (ذُو الْقَعْدَةِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ، وَيُكْسَرُ (وَذُو الْحِجَّةِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَدْ يُحْذَفُ مِنْهَا ذُو (وَالْمُحَرَّمُ) : عَطْفٌ عَلَى " ذُو الْقَعْدَةِ " كَانَ الْعَرَبُ يُؤَخِّرُونَ الْمُحَرَّمَ إِلَى صَفَرٍ مَثَلًا، لِيُقَاتِلُوا فِيهِ، وَهُوَ النَّسِيءُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَيَدُورُ الْمُحَرَّمُ فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ، فَفِي سَنَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَادَ الْمُحَرَّمُ إِلَى أَصْلِهِ قَبْلُ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ إِلَى تِلْكَ السَّنَةِ اهـ. لَكِنْ يُشْكِلُ حَيْثُ أَمَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ، وَأَمَرَهُ بِالْحَجِّ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَعَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يُصْبِحُ فِي غَيْرِ الْحَجَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَتَبْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَافَقَنِي فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَمِمَّا يَتَعَيَّنُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَجَّ سَنَةَ ثَمَانٍ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ أَمِيرُ مَكَّةَ، وَسَنَةَ تِسْعٍ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ، إِنَّمَا كَانَتْ فِي الْحِجَّةِ، كَانَ الزَّمَانُ اسْتَدَارَ فِيهِمَا لِاسْتِحَالَةِ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ الْحِجَّةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " قَدِ اسْتَدَارَ " صَادِقٌ بِهَذِهِ الْحِجَّةِ وَمَا قَبْلَهَا، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَامِلِينَ قَبْلَهَا أَيْضًا، كَمَا قَطَعَتْ بِهِ الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ. (وَرَجَبُ مُضَرَ) : عَلَى وَزْنِ عُمَرَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ. قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَرَبِ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ فَوْقَ مَا يُعَظِّمُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَشْهُرِ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، وَلَا يُوَافِقُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فِي اسْتِحْلَالِهِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى " ثَلَاثٌ " وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَبَعْدَهُ أَلِفٌ، وَرَسْمُهُ بِالْيَاءِ (وَشَعْبَانَ) : فَلِإِزَاحَةِ الِارْتِيَابِ الْحَادِثِ فِيهِ مِنَ النَّسِيءِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ (وَقَالَ: " أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟) : أَرَادَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنْ يُقَرِّرَ فِي نُفُوسِهِمْ حُرْمَةَ الشَّهْرِ، وَالْبَلْدَةِ، وَالْيَوْمِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ (قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) : رِعَايَةً لِلْأَدَبِ، وَتَحَرُّزًا عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَوَقُّفًا فِيمَا لَا يُعْلَمُ الْغَرَضُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهُ (فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: أَلَيْسَ) : أَيْ: هَذَا الشَّهْرُ أَوِ اسْمُهُ (ذَا الْحِجَّةِ) قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: " أَيُّ بَلَدٍ هَذَا " قُلْنَا: (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ) : بِلَا فَاءٍ (أَلَيْسَ) : أَيِ: الْبَلَدُ (الْبَلْدَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: غَلَبَتِ الْبَلْدَةُ عَلَى مَكَّةَ كَالْبَيْتِ عَلَى الْكَعْبَةِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيِ: الْبَلْدَةَ الَّتِي تَعْلَمُونَهَا مَكَّةَ، وَقِيلَ: هِيَ اسْمُ مَكَّةَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ الْأَرْضُ بِقَرِينَةِ الْإِشَارَةِ بِهَذَا فِي مِنًى، وَالْبَلْدَةُ وَإِنْ كَانَتِ اسْمَ مَكَّةَ لَكِنْ قَدْ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا أَرْضُ الْحَرَمِ كُلُّهَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ، وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَعُمُّ مَوَاضِعَ الْحَرَمِ كُلَّهَا (وَقُلْنَا: بَلَى. قَالَ: " فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: " أَلَيْسَ) : أَيْ: هَذَا الْيَوْمُ (يَوْمَ النَّحْرِ؟) قُلْنَا: (بَلَى) : وَلَعَلَّ فَائِدَةَ السُّؤَالِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مَعَ تَكَرُّرِ الْحَالِ ; لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي الْقَلْبِ، وَأَحْفَظَ فِي النَّفْسِ (قَالَ: " فَإِنَّ دِمَائَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ) : أَيْ: تَعَرُّضَكُمْ لِبَعْضِكُمْ فِي دِمَائِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَأَعْرَاضِكُمْ:

الْعِرْضُ - بِالْكَسْرَةِ - مَوْضِعُ الْمَدْحِ، وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ سَلَفِهِ (عَلَيْكُمْ حَرَامٌ) : أَيْ: مُحَرَّمٌ حُرْمَةً شَدِيدَةً (كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا) : وَالْمُشَبَّهُ بِهِ قَدْ لَا يَكُونُ أَقْوَى بَأَنْ يَكُونَ أَشْهَرَ، وَأَظْهَرَ، وَكَانَ كَذَلِكَ سُنَّةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ (وَفِي بَلَدِكُمْ هَذَا) : فَالْمَعْصِيَةُ بِهِ عَظِيمَةٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَمْعٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ بِمُضَاعَفَةِ السَّيِّئَاتِ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ بِهَا، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ السَّيِّئَةَ بِهَا تُضَاعَفُ كَيْفِيَّةً لَا كَمِّيَّةً، لِئَلَّا يُخَالِفَ حَصْرَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] : وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِلتَّعَدُّدِ الَّذِي ادَّعُوهُ، بَلْ لِلْعِظَمِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ (فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) : إِنَّمَا شَبَّهَهَا فِي الْحُرْمَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ اسْتِبَاحَةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَانْتِهَاكَ حُرْمَتِهَا بِحَالٍ (وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ) : أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ (فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ) : أَيِ: الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي) : أَيْ: لَا تَصِيرُوا بَعْدَ وَفَاتِي (ضُلَّالًا) : بِضَمِّ الضَّادِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ جَمْعُ ضَالٍّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُرْوَى كُفَّارًا أَيْ: مُشَبَّهِينَ بِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ (يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ أَوْ حَالٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (هَلْ بَلَّغْتُ؟) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، أَيْ: أَعْلَمْتُكُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي؟ (قَالُوا) : نَعَمْ قَالَ: " اللَّهُمَّ اشْهَدْ) : أَيْ: لِي وَعَلَيْهِمْ (فَلْيُبَلِّغِ) : بِالتَّشْدِيدِ، وَيُخَفَّفُ، أَيْ: لِيُخْبِرِ (الشَّاهِدُ) : أَيِ: الْحَاضِرُ (الْغَائِبَ) : أَيْ: حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيْ: مَنْ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ (أَوْعَى) أَيْ: أَحْفَظُ لِمَبْنَاهُ، وَأَفْهَمُ لِمَعْنَاهُ (مِنْ سَامِعٍ) : فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْغَائِبِينَ، وَتَقْوِيَةٌ لِلتَّابِعِينَ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ بَابَ اللَّهِ مَفْتُوحٌ لِلسَّالِكِينَ، وَلَا يَطْرُدُ عَنْ بَابِهِ إِلَّا الْهَالِكِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2660 - وَعَنْ وَبَرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهِ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2660 - (وَعَنْ وَبَرَةَ) : بِفَتَحَاتٍ، وَقِيلَ: بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ وَهُوَ: ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّابِعِيُّ (قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ: مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ؟) : أَيْ: فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ (قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ) : أَيِ: اقْتَدِ فِي الرَّمْيِ بِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِوَقْتِ الرَّمْيِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ تَبِعَ عَالِمًا لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيِ: الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ إِنْ حَضَرَ الْحَجَّ، وَإِلَّا فَأَمِيرُ الْحَجِّ، فَفِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي زَمَانِنَا. (فَارْمِهِ) : بِهَاءِ الضَّمِيرِ، أَوِ السَّكْتِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَقْدِيرُهُ: " ارْمِ " مَوْضِعَ " الْجَمْرَةِ " أَوِ ارْمِ الرَّمْيَ أَوِ الْحَصَى (فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ) : أَرَدْتُ تَحْقِيقَ وَقْتِ رَمْيِ الْجَمْرَةِ (فَقَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ) : أَيْ: نَطْلُبُ الْحِينَ وَالْوَقْتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: نَنْتَظِرُ دُخُولَ وَقْتِ الرَّمْيِ (فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا) : بِلَا ضَمِيرٍ أَيِ: الْجَمْرَةَ، وَفِي نُسْخَةٍ: رَمَيْنَاهُ أَيِ: الْحَصَى، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2661 - وَعَنْ سَالِمٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي جَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ إِثْرَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ طَوِيلًا، وَيَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِذَاتِ الشِّمَالِ، فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2661 - (وَعَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) : أَيْ: أَبِيهِ (أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي جَمْرَةَ الدُّنْيَا) : أَيِ: الْبُقْعَةَ الْقُرْبَى، وَهِيَ الْجَمْرَةُ الْأُولَى لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَنَازِلِ النَّازِلِينَ عِنْدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَهُنَاكَ كَانَ مُنَاخُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) : فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِفَتْحِهِمَا، أَيْ: عَقِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَصَى، وَفِي رِوَايَةٍ " كُلِّ حَصَاةٍ " وَفِي رِوَايَةٍ " عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ " وَهُوَ أَعَمُّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ: خُرُوجُ الْجَمْرَةِ مِنَ الْيَدِ، فَهُوَ مَعَ الرَّمْيِ بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ، أَوْ أَثَرِهِ بِاعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ. قَالَهُ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ، وَظَاهِرُ الْمَرْوِيَّاتِ مِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ عَلَى " اللَّهُ أَكْبَرُ " يَعْنِي وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ: بِسْمِ.

اللَّهِ، وَفِي بَعْضِهَا رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ، وَرِضًا لِلرَّحْمَنِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا. (ثُمَّ يَتَقَدَّمُ) : أَيْ: يَذْهَبُ قَلِيلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (حَتَّى يُسْهِلَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الْهَاءِ، أَيْ: يَدْخُلَ الْمَكَانَ السَّهْلَ، وَهُوَ اللَّيِّنُ ضِدَّ الْحَزْنِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ أَيِ: الصَّعْبِ (فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُقَابِلَ الْكَعْبَةِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْقِبْلَةِ إِشْعَارٌ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ (فَيَقُومُ) : مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى " يَتَقَدَّمُ " (طَوِيلًا) : أَيْ: قِيَامًا، أَوْ زَمَانًا طَوِيلًا، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ (وَيَدْعُو) : أَيْ: (قَدْرَ) سُورَةِ الْبَقَرَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ) : خِلَافًا لِمَالِكٍ (ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى) : أَيِ: الْجَمْرَةَ الَّتِي بَيْنَ الْأُولَى وَالْأُخْرَى (بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَلْ هَذَا التَّرْتِيبُ مُتَعَيَّنٌ، أَوْ أَوْلَى؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالَّذِي يَقْوَى عِنْدِي اسْتِنَانُ التَّرْتِيبِ لَا تَعْيِينُهُ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. أَقُولُ: وَالْأَحْوَطُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوَالَاةَ سُنَّةٌ كَمَا فِي الْوُضُوءِ، أَوْ وَاجِبٌ وَفْقَ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَالِكَ (يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ) : ظَاهِرُهُ تَأْخِيرُ التَّكْبِيرِ عَنِ الرَّمْيِ، لَكِنْ يُئَوَّلُ بِمَا تَقَدَّمَ (ثُمَّ يَأْخُذُ بِذَاتِ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ) : أَيْ: يَذْهَبُ عَلَى شِمَالِ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَوْضِعٍ سَهْلٍ (وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا) كَمَا تَقَدَّمَ (ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ) : بِإِضَافَةِ الْجَمْرَةِ (مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) : فِي " الْهِدَايَةِ ": لَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ، إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَفِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ أَسْفَلِهَا سُنَّةٌ لَا أَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ، وَلِذَا ثَبَتَ رَمْيُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَعْلَاهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَا أَعْلَنُوا بِالنِّدَاءِ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَكَانَ وَجْهُ اخْتِيَارِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِذَلِكَ هُوَ وَجْهُ اخْتِيَارِهِ حَصَى الْخَذْفِ، فَإِنَّهُ يُتَوَقَّعُ الْأَذَى إِذَا رَمَوْا مِنْ أَعْلَاهَا لِمَنْ أَسْفَلَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مُرُورِ النَّاسِ فَيُصِيبُهُمْ، بِخِلَافِ الرَّمْيِ مِنْ أَسْفَلَ مَعَ الْمَارِّينَ مِنْ فَوْقِهَا اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ جَوَازُ الرَّمْيِ مِنَ الْجَوَانِبِ سَائِرَ الْجِهَاتِ، مَعَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا رَمَى إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ (يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَلَا يَقِفُ) : أَيْ: لِلدُّعَاءِ (عِنْدَهَا) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ تَظْهَرْ حِكْمَةُ تَخْصِيصِ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ بِغَيْرِهَا مِنَ الْجَمْرَتَيْنِ، فَإِنْ تَخَايَلَ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِكَثْرَةِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الشُّغْلِ كَالذَّبْحِ، وَالْحَلْقِ، وَالْإِفَاضَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَهُوَ مُنْعَدِمٌ فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الْوُقُوفِ يَقَعُ فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي الطَّرِيقِ، فَيُوجِبُ قَطْعَ سُلُوكِهَا عَلَى النَّاسِ وَشِدَّةَ ازْدِحَامِ الْوَاقِفِينَ، وَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى ضَرَرٍ عَامٍّ بِخِلَافِهِ فِي بَاقِي الْجِمَارِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الطَّرِيقِ، بَلْ بِمَعْزِلٍ مُعْتَصَمٍ عَنْهُ (ثُمَّ يَنْصَرِفُ) : أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى -.

2662 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2662 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ» ) : أَيِ: الَّتِي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، الْمَمْلُوءَةِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ الْمَنْدُوبِ الشُّرْبُ مِنْهَا عَقِبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرِ الشُّرْبُ مِنَ الْبِئْرِ لِلْخَلْقِ الْكَثِيرِ، وَهِيَ الْآنَ بِرْكَةٌ، وَكَانَتْ حِيَاضًا فِي يَدِ قُصَيٍّ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ مَنَافٍ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ هَاشِمٍ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَلِيٍّ، وَهَكَذَا إِلَى الْآنَ، لَكِنْ لَهُمْ نُوَّابٌ يَقُومُونَ بِهَا. قَالُوا: وَهِيَ لِآلِ عَبَّاسٍ أَبَدًا (فَأَذِنَ لَهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: يَجُوزُ لِمَنْ هُوَ مَشْغُولٌ بِالِاسْتِقَاءِ مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ لِأَجْلِ النَّاسِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى، وَيَبِيتَ بِمَكَّةَ، وَلِمَنْ لَهُ عُذْرٌ شَدِيدٌ أَيْضًا اهـ. فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ السُّنَّةِ إِلَّا بِعُذْرٍ، وَمَعَ الْعُذْرِ تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِسَاءَةُ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيَجِبُ الْمَبِيتُ فِي أَكْثَرِ اللَّيَالِي، وَمِنَ الْأَعْذَارِ: الْخَوْفُ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ ضَيَاعُ مَرِيضٍ، أَوْ حُصُولُ مَرَضٍ لَهُ يَشُقُّ مَعَهُ الْمَبِيتُ مَشَقَّةً لَا تُحْتَمَلُ عَادَةً.

2663 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ، فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ: " اسْقِنِي " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ. قَالَ: " اسْقِنِي " فَشَرِبَ فِيهِ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ، وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ: " اعْمَلُوا، فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ " ثُمَّ قَالَ: " لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا، لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ ". وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2663 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ» ) : أَيْ: سِقَايَةِ الْحَاجِّ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ (فَاسْتَسْقَى) : أَيْ: طَلَبَ الْمَاءَ بِلِسَانِ الْقَالِ، أَوْ بَيَانِ الْحَالِ (فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ، فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرَابٍ) : أَيْ: مَاءٍ خَالِصٍ خَاصٍّ مَا وَصَلَهُ اسْتِعْمَالٌ (مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (اسْقِنِي) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، أَوْ قَطْعٍ، أَيْ: مِنْ هَذَا الْمَاءِ الْحَاضِرِ فِي السِّقَايَةِ (فَقَالَ) : أَيِ: الْعَبَّاسُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ) : أَيِ النَّاسَ (يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ) : أَيْ: فِي هَذَا الْمَاءِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ عَدَمُ النَّظَافَةِ. (قَالَ: " اسْقِنِي " فَشَرِبَ مِنْهُ) : وَيُوَافِقُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُحِبُّ الشُّرْبَ مِنْ فَضْلِ وُضُوءِ النَّاسِ تَبَرُّكًا بِهِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْإِفْرَادِ " مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، عَنْ أَنَسٍ: " «مِنَ التَّوَاضُعِ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ مِنْ سُؤْرِ أَخِيهِ» ". وَأَمَّا حَدِيثُ «سُؤْرِ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ» ، فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ. (ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ) : أَيِ: النَّاسَ عَلَيْهَا (وَيَعْمَلُونَ) : أَيْ: يَكْدَحُونَ (فِيهَا) : أَيْ: بِالْجَذْبِ، وَالصَّبِّ (فَقَالَ: " اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ) : أَيْ: قَائِمُونَ، أَوْ ثَابِتُونَ أَيْ: تَسْعَوْنَ عَلَى عَمَلٍ (صَالِحٍ) : أَيْ: خَيْرٍ لِأَنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (ثُمَّ قَالَ: " لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا) : أَيْ: لَوْلَا كَرَاهَةُ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ، وَيَأْخُذُوا هَذَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنْ أَيْدِيكُمْ (لَنَزَلْتُ) : أَيْ: عَنْ نَاقَتِي (حَتَّى أَضَعَ) : بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ (الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ ". وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ) : وَهُوَ أَحَدُ طَرَفَيْ رَقَبَتِهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى زَمْزَمَ، فَنَزَعْنَا لَهُ دَلْوًا فَشَرِبَ، ثُمَّ مَجَّ فِيهَا، ثُمَّ أَفْرَغْنَهَا فِي زَمْزَمَ، ثُمَّ قَالَ: " لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا عَلَيْهِ لَنَزَعْتُ بِيَدِي» " وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَمَّا أَفَاضَ نَزَعَ الدَّلْوَ) أَيْ: مِنْ زَمْزَمَ، وَلَمْ يَنْزِعْ مَعَهُ أَحَدٌ، فَشَرِبَ، ثُمَّ أَفْرَغَ بَاقِيَ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ لَا يَخْفَى.

2664 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعَشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2664 - (وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً» ) : أَيْ: نَامَ نَوْمَةً خَفِيفَةً (بِالْمُحَصَّبِ) : بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ، تَنَازَعَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ صَلَّى وَرَقَدَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَوْضِعٍ كَثُرَ حَصَاؤُهُ، وَالْمُرَادُ الشِّعْبُ الَّذِي أَحَدُ طَرَفَيْهِ مِنًى، وَالْآخَرُ مُتَّصِلٌ بِالْأَبْطَحِ. وَيَنْتَهِي عِنْدَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقِ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا، فَرُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُحَصَّبِ، وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ صَلَّى بِالْأَبْطَحِ، وَيُقَالُ لَهُ الْبَطْحَاءُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى، وَهُوَ إِلَى مِنًى أَقْرَبُ، وَهَذَا لَا تَحْدِيدَ فِيهِ أَيْ: لَا تَحْقِيقَ لَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ فِنَاءُ مَكَّةَ وَحْدَهُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الْمُتَّصِلَيْنِ بِالْمَقَابِرِ إِلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ لِذَلِكَ مُصْعِدًا فِي الشِّقِّ الْأَيْسَرِ، وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مِنًى مُرْتَفِعًا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَيْسَتِ الْمَقْبَرَةُ مِنَ الْمُحَصَّبِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا خَيْفَ بَنِي كِنَانَةَ، وَأَصْلُ الْخَيْفِ مَعْنَاهُ سَفْحُ الْجَبَلِ مُطْلَقًا. (ثُمَّ رَكِبَ) : أَيْ: مِنَ الْمُحَصَّبِ مُتَوَجِّهًا (إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ) : أَيْ: طَوَافَ الْوَدَاعِ يُحْتَمَلُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّحْصِيبُ هُوَ أَنَّهُ إِذَا نَفَرَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ لِلتَّوْدِيعِ ; يَنْزِلُ بِالشِّعْبِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ إِلَى الْأَبْطَحِ، وَيَرْقُدُ فِيهِ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُ سُنَّةً، وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَحْتَرِزُ بِهِ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ قَصْدًا، فَلَا يَكُونُ سُنَّةً لِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى، وَلَكِنْ جِئْتُ، وَضَرَبْتُ قُبَّتَهُ فَجَاءَ فَنَزَلَ، وَوَجْهُ الْمُخْتَارِ مَا أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِكَ؟ فَقَالَ: " هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا " ثُمَّ قَالَ: " «نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ " يَعْنِي: الْمُحَصَّبَ» ، الْحَدِيثَ.

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ بِمِنًى: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ " وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ» اهـ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ نَوَاهُ قَصْدًا لِيَرَى لُطْفَ صُنْعِ اللَّهِ بِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ فِيهِ نِعَمَهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَيْهِ عِنْدَ مُقَايَسَتِهِ نُزُولَهُ بِهِ الْآنَ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، أَعْنِي حَالَ انْحِصَارِهِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي ذَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ، ثُمَّ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي شَمِلَتْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ النَّصْرِ، وَالِاقْتِدَارِ عَلَى إِقَامَةِ التَّوْحِيدِ، وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي دَعَا اللَّهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِ عِبَادَهُ ; لِيَنْتَفِعُوا بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ، وَمَعَادِهِمْ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا النِّعْمَةُ الْعُظْمَى عَلَى أُمَّتِهِ، لِأَنَّهُمْ مَظَاهِرُ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤَيَّدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَدِيرٌ بِتَفَكُّرِهَا، وَالشُّكْرِ التَّامِّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَكَانَ سُنَّةً فِي حَقِّهِمْ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي هَذَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا، وَعَنْ هَذَا حَصَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْأَبْطَحَ، وَأُخْرِجَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً، وَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْمُحَصَّبِ، قَالَ نَافِعٌ: قَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ اهـ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ كَالرَّمَلِ، وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِرَاءَةَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُرَادَ بِهَا إِرَاءَةُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مُشْرِكٌ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، بَلِ الْمُرَادُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِالْحَالِ الْأَوَّلِ.

2665 - وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، قَالَ: «سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى؟ [قَالَ] : فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالْأَبْطَحِ. ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2665 - (وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، أَسَدِيٌّ مَكِّيٌّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، وَثِقَاتِهِمْ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قُلْتُ) : بَدَلٌ مِنْ " سَأَلْتُ " أَوْ بَيَانٌ (أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ) : بِفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ: عَلِمْتَهُ، وَحَفِظْتَهُ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟) : أَيِ: الْيَوْمَ الثَّامِنَ (قَالَ: بِمِنًى، قَالَ) : فِيهِ الْتِفَاتٌ، إِذْ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: [قَالَ] : " فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟) أَيِ: الثَّانِيَ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. (قَالَ: بِالْأَبْطَحِ) : الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فِي الْأَبْطَحِ هُوَ الْعَصْرُ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ السَّابِقُ عَلَيْهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ الظُّهْرُ، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَقْدِيمِ الظُّهْرِ عَلَى الرَّمْيِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَمْيَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الزَّوَالِ، وَإِنَّ جَوَازَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ ظُهْرِهِ حِينَ نَفَرَ إِظْهَارُ الرُّخْصَةِ بَعْدَ بَيَانِ الْعُزْلَةِ، وَالْإِيمَاءُ إِلَى السُّرْعَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ نَوْعٍ مِنَ التَّعْجِيلِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الْآيَةِ اللَّامِعَةِ. (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ: أَنَسٌ (افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ) : أَيْ: لَا تُخَالِفْهُمْ، فَإِنْ نَزَلُوا بِهِ فَانْزِلْ بِهِ، وَإِنْ تَرَكُوهُ فَاتْرُكْهُ حَذَرًا مِمَّا يَتَوَلَّدُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَيُفِيدُ أَنَّ تَرْكَهُ لِعُذْرٍ لَا بَأْسَ بِهِ، لَا كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِنُسُكٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْكَ فِعْلُهُ، نَعَمْ غَيْرُ وَاجِبٍ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ سُنَّةً أَمْ لَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2666 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: نُزُولُ الْأَبْطَحِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إِنَّمَا «نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ إِذَا خَرَجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2666 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نُزُولُ الْأَبْطَحِ) : أَيِ: النُّزُولُ فِيهِ (لَيْسَ بِسُنَّةٍ) : أَيْ: قَصْدِيَّةٍ، أَوْ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ، بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ عَنْهَا لَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهَا لَيْسَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ (إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ) : أَيْ: أَسْهَلَ (لِخُرُوجِهِ) : أَيْ: إِلَى الْمَدِينَةِ (إِذَا خَرَجَ) : أَيْ: إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ، وَقِيلَ: أَسْهَلَ لِخُرُوجِهِ وَقْتَ الْخُرُوجِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ فِيهِ ثِقَلَهُ وَمَتَاعَهُ، أَيْ: كَانَ نُزُولُهُ بِالْأَبْطَحِ لِيَتْرُكَ ثِقَلَهُ وَمَتَاعَهُ هُنَاكَ، وَيَدْخُلَ مَكَّةَ، فَيَكُونُ خُرُوجُهُ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ أَسْهَلَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَا يُنَافِيهِ قَصْدُ النُّزُولِ بِهِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَقَدْ وَافَقَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُ عَبَّرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، لَكِنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ، أَوْ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَلْزَمُ، وَخَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، فَكَانَ يَرَاهُ سُنَّةً، وَيَسْتَدِلُّ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ يَنْزِلُونَ بِهِ.

2667 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «أَحْرَمْتُ مِنَ التَّنْعِيمِ بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْتُ، فَقَضَيْتُ عُمْرَتِي، وَانْتَظَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى فَرَغْتُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، فَخَرَجَ، فَمَرَّ بِالْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ» ". هَذَا الْحَدِيثُ مَا وَجَدْتُهُ بِرِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، بَلْ بِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ فِي آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2667 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: أَحْرَمْتُ مِنَ التَّنْعِيمِ، بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْتُ) : أَيْ: مَكَّةَ (فَقَضَيْتُ عُمْرَتِي) : أَيِ: الْعُمْرَةَ الَّتِي تَحَلَّلْتُ مِنْهَا بِسَبَبِ حَيْضِهَا (وَانْتَظَرَنِي) بِالنُّونِ، وَفِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ بِاللَّامِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَى تَأْوِيلِ " انْتَظَرَ لِأَجْلِي " (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَبْطَحِ حَتَّى فَرَغْتُ) : أَيْ: مِنَ الْعُمْرَةِ (فَأَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، فَخَرَجَ) : أَيْ: مِنَ الْأَبْطَحِ (فَمَرَّ بِالْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ) : أَيْ: طَوَافَ الْوَدَاعِ (قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، أَوْ بَعْدَهَا. (هَذَا الْحَدِيثُ مَا وَجَدْتُهُ بِرِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ) : أَيْ: أَحَدِهِمَا (بَلْ) : أَيْ: وَجَدْتُهُ (بِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ) : أَيْ: بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ (فِي آخِرِهِ) : فِيهِ اعْتِرَاضَانِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ حَيْثُ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَحَيْثُ خَالَفَ لَفْظَ أَبِي دَاوُدَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

2668 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2668 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ) : أَيْ: بَعْدَ حَجِّهِمْ (يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ) : أَيْ: طَرِيقٍ طَائِفًا، وَغَيْرِ طَائِفٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَنْفِرَنَّ أَحَدُكُمْ) : أَيِ: النَّفْرَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، أَوْ لَا يَخْرُجْنَّ أَحَدُكُمْ مِنْ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْآفَاقِيُّ (حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتَ) : أَيْ: بِالطَّوَافِ بِهِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ عَلَى وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَخَالَفَ فِيهِ مَالِكًا (إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: طَوَافُ الْوَدَاعِ (عَنِ الْحَائِضِ) : وَفِي مَعْنَاهَا النُّفَسَاءُ، وَعَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَهُ آخِرَ طَوَافِهِ فِي " الْكَافِي " لِلْحَاكِمِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ حِينَ يَخْرُجُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَالْحَسَنِ، وَإِذَا اشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِعَمَلٍ بِمَكَّةَ يُعِيدُهُ لِلصَّدْرِ، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِ إِذَا فَعَلَهُ حِينَ يَصْدُرُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَدِمَ مَكَّةَ لِلنُّسُكِ، فَحِينَ تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهُ جَاءَ أَوَانُ السَّفَرِ، فَطَوَافُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ إِذِ الْحَالُ أَنَّهُ عَلَى عَزْمِ الرُّجُوعِ. نَعَمْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إِذَا طَافَ لِلصَّدْرِ، ثُمَّ أَقَامَ إِلَى الْعِشَاءِ قَالَ: أُحِبُّ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ كَيْلَا يَكُونَ بَيْنَ طَوَافِهِ، وَنَفْرِهِ حَائِلٌ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ تَحْصِيلًا لِمَفْهُومِ الِاسْمِ عَقِيبَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَتْمٍ إِذْ لَا يُسْتَغْرَبُ فِي الْعُرْفِ تَأْخِيرُ السَّفَرِ عَنِ الْوَدَاعِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ، وَكَذَا مَنِ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا، ثُمَّ بَدَا لَهُ الْخُرُوجُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ طَوَافُ صَدْرٍ، وَكَذَا فَائِتُ الْحَجِّ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُعْتَمِرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُعْتَمِرِ طَوَافُ الصَّدْرِ - ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ. وَفِي إِثْبَاتِهِ عَلَى الْمُعْتَمِرِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي " الْبَدَائِعِ " قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَطُوفَ الْمَكِّيُّ طَوَافَ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لَخَتْمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ وَفِي أَهْلِ مَكَّةَ.

2669 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فَقَالَتْ: مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتَكُمْ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَقْرَى حَلْقَى، أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ " قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَانْفِرِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2669 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ) : أَيْ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْيَهُودِيِّ الْخَيْبَرِيِّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَيْلَةَ النَّفْرِ) : أَيْ: لَيْلَةَ يَوْمِ النَّفْرِ؛ لِأَنَّ النَّفْرَ لَمْ يُشْرَعْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بَلْ فِي يَوْمِهَا، وَالنَّفْرُ يَحْتَمِلُ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ، فَتَدَبَّرْ. (فَقَالَتْ) : أَيْ: صَفِيَّةُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الْكِرَامِ: (مَا أُرَانِي) : بِصِيغَةُ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ أَيْ: مَا أَظُنُّ نَفْسِي (إِلَّا حَابِسَتَكُمْ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَفَتْحِ التَّاءِ نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي

نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ: مَانِعَتُكُمْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، بَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَى أَنْ أَظْهَرَ، فَأَطُوفَ طَوَافَ الْوَدَاعِ، ظَنًّا مِنْهَا أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ كَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْأَعْذَارِ، وَلَمَّا ظَنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَلَغَهُ حَدِيثُهَا أَنَّهَا قَالَتْ قَوْلَهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَطُفْ لِلزِّيَارَةِ ( «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَقْرَى حَلْقَى» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا رُوِيَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى بِلَا تَنْوِينٍ، وَالظَّاهِرُ عَقْرًا، وَحَلْقًا بِالتَّنْوِينِ، أَيْ: عَقَرَهَا وَحَلَّقَهَا اللَّهُ حَلْقًا، يَعْنِي قَتَلَهَا وَجَرَحَهَا، أَوْ أَصَابَ حَلْقَهَا بِوَجَعٍ، وَهَذَا دُعَاءٌ لَا يُرَادُ وُقُوعُهُ، بَلْ عَادَةُ الْعَرَبِ: التَّكَلُّمُ بِمِثْلِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ، وَقِيلَ: هُمَا صِفَتَانِ لِلْمَرْأَةِ، يَعْنِي أَنَّهَا تُحَلِّقُ قَوْمَهَا، وَتَعْقِرُهُمْ، أَيْ: تَسْتَأْصِلُهُمْ مِنْ شُؤْمِهَا اهـ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا مَصْدَرَانِ، وَالْعَقْرُ الْجَرْحُ وَالْقَتْلُ وَقَطْعُ الْعَصَبِ، وَالْحَلْقُ إِصَابَةُ وَجَعٍ فِي الْحَلْقِ أَوِ الضَّرْبُ عَلَى الْحَلْقِ، أَوِ الْحَلْقُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ عِنْدَ شِدَّةِ الْمُصِيبَةِ، وَحَقُّهُمَا أَنْ يُنَوَّنَا، لَكِنْ أُبْدِلَ التَّنْوِينُ بِالْأَلِفِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُسَاعِدُهُ رَسْمُهَا بِالْيَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَأْنِيثُ فَعْلَانَ، أَيْ: جَعَلَهَا عَقْرَى، أَيْ: عَاقِرًا أَيْ: عَقِيمًا، وَحَلْقَى أَيْ: جَعَلَهَا صَاحِبَةَ وَجَعِ الْحَلْقِ، ثُمَّ هَذَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِثْلُ: تَرِبَتْ يَدَاهُ، وَثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، مِمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَهْوِيلِ الْخَبَرِ، وَأَنَّ مَا سَمِعَهُ لَا يُوَافِقُهُ لَا لِلْقَصْدِ إِلَى وَقُوعِ مَدْلُولِهِ الْأَصْلِيِّ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْتِمَاسِهِ (أَطَافَتْ) : أَيْ: صَفِيَّةُ (يَوْمَ النَّحْرِ) أَيْ: طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَلَمَّا أَعْرَضَ عَنْهَا، وَسَأَلَ مِنْ غَيْرِهَا ظَنًّا أَنَّهَا قَصَّرَتْ فِي تَأْخِيرِ طَوَافِ فَرْضِهَا (قَالَ: نَعَمْ) : فِي جَوَابِهِ ثُمَّ لَمَّا الْتَفَتَ إِلَيْهَا حِينَ تَبَيَّنَ عَدَمَ تَقْصِيرِهَا (قَالَ) : إِذَا كُنْتِ طُفْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (فَانْفِرِي) : بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيِ اخْرُجِي إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّ وُجُوبَهُ سَاقِطٌ بِالْعُذْرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2670 - عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. قَالَ: " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا، وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2670 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) : أَيْ: يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا سَبَقَ (أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) : قَالَ - تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} [التوبة: 3] أَيْ: إِعْلَامٌ {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: يَوْمَ الْعِيدِ لِأَنَّ فِيهِ تَمَامُ الْحَجِّ، وَمُعْظَمُ أَفْعَالِهِ، وَلِأَنَّ الْإِعْلَامَ كَانَ فِيهِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (فَقَالَ: " وَهَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ". وَقِيلَ: يَوْمُ عَرَفَةَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْحَجُّ عَرَفَةُ) ، وَوَصَفَ الْحَجَّ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَجِّ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَعْمَالِهِ، فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ بَاقِي الْأَعْمَالِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ أَعْيَادُ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ فِيهِ عِزُّ الْمُسْلِمِينَ، وَذُلُّ الْمُشْرِكِينَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، إِذْ مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، أَوْ يُسَمَّى بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ حَجُّ الْمَسَاكِينِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ حَجُّ الْمُسْلِمِينَ - ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - أَوْ لِأَنَّهُ وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الْمُشْتَهِرُ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَقِّهِ: إِنَّ حَجَّهُ كَسَبْعِينَ حَجَّةً، وَفِيهِ: كَتَبْتُ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي جَوَابَهُمُ السَّابِقَ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَلَعَلَّ هَذَا فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، أَوْ أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ. (قَالَ: " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ) : احْتِرَازٌ عَنِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ (حَرَامٌ) : أَيْ: مُحَرَّمٌ مَمْنُوعٌ (كَحُرْمَةِ يَوْمِكِمْ هَذَا فِي بَلَدِكِمْ) : أَيْ: حَرَمِكُمْ (هَذَا) : وَلَعَلَّ تَرْكَ الشَّهْرِ اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي.

(أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أَيْ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ كَمَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ، وَهُوَ نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ نَحْوُ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَنَظِيرُهُ الدُّعَاءُ: بِغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنِ اغْفِرْهُ وَارْحَمْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ، يَعْنِي كَأَنَّهُ نَهَاهُ، فَقَصَدَ أَنْ يَنْتَهِيَ فَأَخْبَرَهُ بِهِ، وَالْمُرَادُ الْجِنَايَةُ عَلَى الْغَيْرِ، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْذَرَهَا فِي صُورَتِهَا لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الِامْتِنَاعِ، وَيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ خَبَرًا بِحَسْبِ الْمَعْنَى. (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ ( «لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ» ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ قُبْحٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَأْكِيدَ " لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ "، فَإِنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَقَارِبَ الشَّخْصِ بِجِنَايَتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا ظُلْمٌ يُؤَدِّي إِلَى ظُلْمٍ آخَرَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا نَفْيٌ فَيُوَافِقُ قَوْلَهُ - تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَإِنَّمَا خُصَّ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ الْأَقَارِبِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِفِعْلِهِ فَغَيْرُهُمَا أَوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيمَةِ أَبِيهِ وَضُبِطَ بِالْوَجْهَيْنِ (أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ) : وَهُوَ إِبْلِيسُ الرَّئِيسُ، أَوِ الْجِنْسُ الْخَسِيسُ (قَدْ يَئِسَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَيِسَ أَيْ قَنَطَ (أَنْ يُعْبَدَ) : أَيْ: مِنْ أَنْ يُطَاعَ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ عَبَدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ (فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) : أَيْ: مَكَّةَ (لَا أَبَدًا) : أَيْ: عَلَانِيَةً إِذْ قَدْ يَأْتِي الْكُفَّارُ مَكَّةَ خِفْيَةً (وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ) : أَيِ انْقِيَادٌ أَوْ إِطَاعَةٌ (فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) : أَيْ: مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْكَبَائِرِ وَتَحْقِيرِ الصَّغَائِرِ، (فَسَيَرْضَى) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَجْهُولِ أَيِ: الشَّيْطَانُ (بِهِ) : أَيْ: بِالْمُحْتَقَرِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الذَّنْبُ الْأَكْبَرُ، وَلِهَذَا تَرَى الْمَعَاصِيَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِهِمَا تُوجَدُ كَثِيرًا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَلِيلًا فِي الْكَافِرِينَ، لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْكُفْرِ فَلَا يُوَسْوِسُ لَهُمْ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَحَيْثُ لَا يَرْضَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِالْكُفْرِ فَيَرْمِيهِمْ فِي الْمَعَاصِي. وَرُويَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصَّلَاةُ الَّتِي لَيْسَ لَهَا وَسْوَسَةٌ إِنَّمَا هِيَ صَلَاةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِنَ الْأَمْثَالِ: لَا يَدْخُلُ اللِّصُّ فِي بَيْتٍ إِلَّا فِيهِ مَتَاعٌ نَفِيسٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: (فِيمَا تَحْتَقِرُونَ) أَيْ مِمَّا يَتَهَجَّسُ فِي خَوَاطِرِكُمْ، وَتَتَفَوَّهُونَ عَنْ هَنَّاتِكُمْ وَصَغَائِرِ ذُنُوبِكُمْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى هَيْجِ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحَرُّشِ بَيْنَهُمْ " (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

2671 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَعَلِيٌّ يُعَبِّرُ عَنْهُ، وَالنَّاسُ بَيْنَ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2671 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ مُزَيْنَةَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى) : أَيْ: أَوَّلَ النَّحْرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ) : أَيْ: بَيْضَاءَ يُخَالِطُهَا قَلِيلُ سَوَادٍ، وَلَا يُنَافِيهِ حَدِيثُ قُدَامَةَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ. (وَعَلِيٌّ يُعَبِّرُ عَنْهُ) : أَيْ: يُبَلِّغُ حَدِيثَهُ مَنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنِ النَّبِيِّ، فَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَفَ حَيْثُ يَبْلُغُهُ صَوْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَفْهَمُهُ فَيُبَلِّغُهُ لِلنَّاسِ وَيُفْهِمَهُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بِزِيَادَةِ بَيَانٍ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ (وَالنَّاسُ بَيْنَ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ) : أَيْ بَعْضُهُمْ قَاعِدُونَ وَبَعْضُهُمْ قَائِمُونَ، وَهُمْ كَثِيرُونَ حَيْثُ بَلَغُوا مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)

2672 - وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2672 - (وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) : أَيْ: جَوَّزَ تَأْخِيرَهُ (يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى اللَّيْلِ) : إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ لِلنِّسَاءِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوَّلُ وَقْتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ الْعِيدِ وَآخِرُهُ مَتَى طَافَ جَازَ اهـ. لَكِنْ يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَقَعَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا لَزِمَهُ دَمٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

2673 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2673 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْمُلْ) : بِضَمِّ الْمِيمِ (فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ) : أَيْ: فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِتَقَدُّمِ السَّعْيِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

2674 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» " رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2674 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) : أَيْ: وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ (فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ: أَيْ: جِمَاعَهُنَّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنِكَاحُهُنَّ (رَوَاهُ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ: بِسَنَدِهِ " وَقَالَ: إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ ".

2675 - وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2675 - (وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا (قَالَ: إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ) : أَيْ: جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَحَلَقَ وَلَوْ قَبْلَ الذَّبْحِ (فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ) : أَيْ: جِمَاعَهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَلَوْ قَبْلَ السَّعْيِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ فِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ آخَرَ هُوَ فِيهِ أَيْضًا. وَقَالَ: " «إِذَا رَمَيْتَ وَحَلَقْتُمْ وَذَبَحْتُمْ» ". وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ» ، فَلَا يُعَارِضُهُ مَا اسْتَدَلَّ لِمَالِكٍ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ إِنْ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ حَتَّى يَزُورَ الْبَيْتَ» وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا اهـ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السَّنَةِ حُكْمُهُ الرَّفْعُ، وَكَذَا مَا عَنْ عُمَرَ بِطْرِيقٍ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مَا حُرِّمَ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، ذَكَرَهُ وَانْقِطَاعُهُ فِي الْإِمَامِ، كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السَّمْعِيَّاتِ يُفِيدُ أَنَّهُ أَيِ: الرَّمْيُ هُوَ السَّبَبُ لِلتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَعَنْ هَذَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ التَّحَلُّلَ وَالْوَاجِبَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهِ، وَيَحْمِلُونَ مَا ذَكَرْنَا عَلَى إِضْمَارِ الْحَلْقِ أَيْ: إِذَا رَمَى وَحَلَقَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي بَعْضِ نُسَخِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الشَّرْطِ. وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: قَوْلُهُ - تَعَالَى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] هُوَ الْحَلْقُ وَاللُّبْسُ عَلَى مَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِنَّهُ الْحَلْقُ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ} [الفتح: 27] الْآيَةَ. أَخْبَرَ بِدُخُولِهِمْ مُحَلِّقِينَ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ الْمُحَلِّقِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَالَةَ الدُّخُولِ فِي الْعُمْرَةِ، لِأَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، ثُمَّ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْوُجُوبِ الْحَامِلِ عَلَى الْوُجُودِ، فَيُوجَدُ الْمُخْبَرُ بِهِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، لِيُطَابِقَ الْأَخْبَارَ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ ظَنِّيٌ، فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ لَا الْقَطْعُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: يُسَنُّ تَأْخِيرُ الْوَطْءِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا قَالُوهُ فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «أَيَّامُ مِنًى أَكْلٌ وَشُرْبٌ وَبِعَالٌ» " أَيْ جِمَاعٌ.

2676 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، كُلَّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَيُطِيلُ الْقِيَامَ وَيَتَضَرَّعُ، وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ فَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2676 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ ( «قَالَتْ: أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ» ) : أَيْ: طَافَ لِلزِّيَارَةِ فِي آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ النَّحْرِ (حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى ثُمَّ أَفَاضَ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ لِاتِّفَاقِهَا عَلَى أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بَعْدَ الطَّوَافِ مَعَ اخْتِلَافِهَا أَنَّهُ صَلَّاهَا بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى. نَعَمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى يَوْمٍ آخَرَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، بِأَنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى وَنَزَلَ فِي آخِرِ يَوْمِهِ مَعَ نِسَائِهِ لِطَوَافِ زِيَارَتِهِنَّ. وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ: حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ: (وَالْعَصْرَ مَعًا) فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَوَقَفَ، ثُمَّ أَفَاضَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا سَبَقَ اهـ. وَبَعَّدَهُ حَيْثُ لَيْسَ هَذَا فِي مَحَلِّهِ لَا يَخْفَى، بَلْ لَا يَصِحُّ كَمَا يُعْلَمُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ لِقَوْلِهَا: (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ لَبِثَ وَبَاتَ (بِهَا) : أَيْ: بِمِنًى ( «لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، كُلَّ جَمْرَةٍ» ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَائِيَّةِ (وَبِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى) أَيْ: أُولَى الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ (وَالثَّانِيَةِ) : وَهِيَ الْوُسْطَى (فَيُطِيلُ الْقِيَامَ) : لِلْأَذْكَارِ مِنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّمْجِيدِ. (وَيَتَضَرَّعُ) : أَيْ: إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الدَّعَوَاتِ وَعَرْضِ الْحَاجَاتِ (وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ) : وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ (فَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) : أَيْ: لِلدُّعَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْعُو عِنْدَهَا أَوْ بَعْدَهَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِضِيقِ الْمَقَامِ وَازْدِحَامِ الْأَنَامِ، وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ انْسَبُ بَعْدَ الِاخْتِتَامِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: تَفَاؤُلًا بِقَبُولِ الْوَقُوفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ حَبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ.

2677 - وَعَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ: أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَرْمُوهُ فِي أَحَدِهِمَا» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2677 - (وَعَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ فَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ (ابْنِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ: عَاصِمٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَقِيلَ هُوَ ابْنُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَأَبُو الْبَدَّاحِ لَقَبٌ غَلَبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كُنْيَتُهُ أَبُو عَمْرٍو، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ فَقِيلَ: لَهُ إِدْرَاكٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الصُّحْبَةَ لِأَبِيهِ وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. (قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرِعَاةِ الْإِبِلِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ، جَمْعُ رَاعٍ أَيْ: لِرِعَاتِهَا (فِي الْبَيْتُوتَةِ) : أَيْ: فِي تَرْكِهَا (أَنْ يَرْمُوا) : أَيْ: جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (يَوْمَ النَّحْرِ) : أَيْ: فِي أَوَّلِ أَيَّامِهِ (ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَرْمُوهُ) : أَيْ: رَمْيَ الْيَوْمَيْنِ (فِي أَحَدِهِمَا) : أَيْ: فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ لِأَنَّهُمْ مَشْغُولُونَ بِرَعْيِ الْإِبِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ لَا يَبِيتُوا بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَنْ يَرْمُوا يَوْمَ الْعِيدِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَطْ، ثُمَّ لَا يَرْمُوا فِي الْغَدِ، بَلْ يَرْمُوا بَعْدَ الْغَدِ رَمْيَ الْيَوْمَيْنِ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ، وَلَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُقَدِّمُوا الرَّمْيَ فِي الْغَدِ اهـ. هُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا. (وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَغَيْرُهُمْ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ أَنْ يَتْرُكُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى، وَأَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا ثُمَّ يَتَدَارَكُونَهُ» .

[باب ما يجتنبه المحرم]

[بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ]

(11) بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2678 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: " لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَيَلْبَسُ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: " «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ (11) بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ أَيْ: مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، يَعْنِي: وَمَا لَا يَجْتَنِبُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2678 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ» ) : مِنْ لَبِسَ بِكَسْرِ الْبَاءِ يَلْبَسُ بِفَتْحِهَا لُبْسًا بِضَمِّ اللَّامِ، لَا مِنْ لَبَسَ بِفَتْحٍ يَلْبِسُ بِكَسْرِهَا لَبْسَا بِالْفَتْحِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْخَلْطِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ مَعَ كَمَالِ وُضُوحِهِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الطَّلَبَةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فَيَقَعُونَ فِي اللَّبْسِ لِلِالْتِبَاسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: عَمَّا يَلْبَسُ، أَوْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ (سَأَلَ) يَتَعَدَّى إِلَى الثَّانِي بِعَنْ وَإِلَى الْأَوَّلِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ يَنْعَكِسُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] وَ {عَنِ الْمَحِيضِ - عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 222 - 1] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " مَا " اسْتِفْهَامِيَّةً أَيْ: سَأَلْتُهُ مَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] (مِنَ الثِّيَابِ) ؟ أَيْ: مِنْ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ وَهُوَ بَيَانٌ وَالْمَعْنَى سُئِلَ عَمَّا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ مِنَ اللِّبَاسِ وَمَا يَحْرُمُ (فَقَالَ: " لَا تَلْبَسُوا) : أَيْ: أَيُّهَا الْمُحْرِمُونَ أَوْ مُرِيدُو الْإِحْرَامِ مِنَ الرِّجَالِ (الْقُمُصَ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ قَمِيصٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَجَابَ بِمَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ لِأَنَّهُ مُنْحَصِرٌ (وَلَا الْعَمَائِمَ) : جَمْعُ الْعِمَامَةِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ (وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ) : جَمْعٌ أَوْ جَمْعُ الْجَمْعِ (وَلَا الْبَرَانِسَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ الْبُرْنُسِ بِضَمِّهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ كَانَ يَلْبَسُهَا النُّسَّاكُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ: ثَوْبٌ يَكُونُ رَأْسُهُ مُلْتَزِقًا مِنْ جُبَّةٍ أَوْ ذِرَاعِهِ اهـ. وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْقَلَنْسُوَةِ، وَكُلُّ مَا يُغَطِّي الرَّأْسَ إِلَّا مَا لَا يُعَدُّ مِنَ اللُّبْسِ عُرْفًا كَوَضْعِ الْإِجَّانَةِ، وَحَمْلِ الْعِدْلِ عَلَى الرَّأْسِ. (وَلَا الْخِفَافَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ جَمْعُ خُفٍّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ لُبْسِ شَيْءٍ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. (إِلَّا أَحَدٌ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ وَاوِ الضَّمِيرِ ( «لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَيَلْبَسُ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» ) : أَيِ: اللَّذَيْنِ وَسَطَ الْقَدَمَيْنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْكَعْبَيْنِ هُنَا الْمُرَادُ بِهِمَا فِي الْوُضُوءِ " وَلَا تَلْبَسُوا ": نُكْتَةُ الْإِعَادَةِ - وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ - اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي هَذَا الْحُكْمِ إِمَّا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ أَوْ عَلَى التَّبَعِيَّةِ. (مِنَ الثِّيَابِ) : بَيَانٌ قُدِّمَ عَلَى الْمُبَيَّنِ هُوَ (شَيْئًا) : صِفَتُهُ (مَسَّهُ) : أَيْ: صَبَغَهُ (زَعْفَرَانٌ) : لِمَا فِيهِ مِنَ الطِّيبِ (وَلَا وَرْسٌ) : وَهُوَ نَبْتٌ أَصْفَرُ مُشَابِهٌ لِلزَّعْفَرَانِ يُصْبَغُ بِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْعُصْفُرُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: " وَلَا تَنْتَقِبُ) : نَفِيٌ أَوْ فِي مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ أَو الِافْتِعَالِ أَيْ: لَا تَسْتُرْ وَجْهَهَا بِالْبُرْقُعِ وَالنِّقَابِ (الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ) وَلَوْ سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا شَيْئًا مُجَافِيًا جَازَ، وَتَغْطِيَةُ وَجْهِ الرَّجُلِ حَرَامٌ كَالْمَرْأَةِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا تَلْبَسْ) : بِالْوَجْهَيْنِ أَيِ: الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ (الْقُفَّازَيْنِ) : الْقُفَّازُ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَبِالزَّايِ، شَيْءٌ تَلْبَسُهُ نِسَاءُ الْعَرَبِ فِي أَيْدِيهِنَّ يُغَطِّي الْأَصَابِعَ وَالْكَفَّ وَالسَّاعِدَيْنِ مِنَ الْبَرْدِ، وَيَكُونُ فِيهِ قُطْنٌ مَحْشُوٌّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقِيلَ: يَكُونُ لَهُ أَزْرَارٌ يُزَرُّ عَلَى السَّاعِدِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ؟ قَالَ: (لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ

أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ نَعْلَانِ فَيَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ، فَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنَ (الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» ) . زَادُوا إِلَّا مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ: " «وَلَا تَنْتَقِبِ " الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ» قِيلَ: قَوْلُهُ: وَلَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ إِلَى آخِرِهِ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ، إِذْ قَدْ يُفْتِي الرَّاوِي بِمَا يَرْوِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ أَحْيَانًا، مَعَ أَنَّ هُنَا قَرِينَةً عَلَى الرَّفْعِ، وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ إِفْرَادُ النَّهْيِ عَنِ النِّقَابِ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُحْرِمَةُ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» ". وَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُمَا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ اللِّبَاسِ الْمَذْكُورِ وَإِبَاحَةِ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ ; هِيَ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ التَّرَفُّهِ وَيَتَّصِفَ بِصِفَةِ الْخَاشِعِ الذَّلِيلِ، وَلِيَكُونَ عَلَى ذِكْرِهِ دَائِمًا أَنَّهُ مُحَرِمٌ، فَيُكْثِرُ الدُّعَاءَ، وَلَا يَفْتُرُ عَنِ الْأَذْكَارِ، وَيَصُونُ نَفْسَهَ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِيَتَذَكَّرْ بِهِ الْمَوْتَ وَلُبْسَ الْأَكْفَاءِ، وَالْبَعْثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الطِّيبِ وَالنِّسَاءِ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ التَّنَعُّمِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا وَمَلَاذِّهَا، إِذِ الْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ، وَأَنْ يَجْمَعَ هَمَّهُ لِمَقَاصِدِ الْآخِرَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ تَعْظِيمُ بَيْتِ اللَّهِ وَحُرْمَةُ مَنْ قَتَلَ صَيْدَهَ وَقَطَعَ شَجَرَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ قَالَ أَحْمَدُ: يَجُوزُ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ بِحَالِهِمَا، وَلَا يَجِبُ قَطْعُهُمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَزْعُمُونَ نَسْخَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُصَرِّحِ بِقَطْعِهِمَا، وَزَعَمُوا إِلَى قَطْعِهِمَا إِضَاعَةَ مَالٍ، وَقَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ لُبْسُهُمَا إِلَّا بَعْدَ قَطْعِهِمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مُقَيَّدٌ، وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ إِضَاعَةُ مَالٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْإِضَاعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَلَيْسَ بِإِضَاعَةٍ، بَلْ حَقٌّ يَجِبُ الْإِذْعَانُ لَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي لَابِسِ الْخُفَّيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمَنْ وَافَقَهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِهِ فِيهِ لِبَيَّنَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَمَا إِذَا احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ الرَّأْسِ فَيَحْلِقُهُ وَيَفْدِي، وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. ثُمَّ نَحْوَ الْهَوْدَجِ إِنْ مَسَّ الرَّأْسَ فَمَحْظُورٌ وَإِلَّا فَلَا. وَكَذَا أَسْتَارُ الْكَعْبَةِ وَسَقْفُ الْخَيْمَةِ. وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَا ضَرَبَ فُسْطَاطًا فِي سَفَرِ حَجِّهِ، وَعَنِ ابْنِهِ أَنَّهُ أَمَرَ مَنِ اسْتَظَلَّ عَلَى بَعِيرٍ بِأَنْ يَبْرُزَ لِلشَّمْسِ، وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَا مِنْ مُحْرِمٍ يَضْحَى لِلشَّمْسِ حَتَّى تَغْرُبَ إِلَّا غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» "، فَلَا مُتَمَسِّكَ فِي ذَلِكَ لِمَنْعِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ الِاسْتِظْلَالَ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ جُلُوسِهِ فِي خَيْمَةٍ وَتَحْتَ سَقْفٍ، وَلِأَنَّ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا نَهْيَ فِيهِ، أَوْ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ، وَالْخَبَرُ ضَعِيفٌ مَعَ أَنَّهُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَلَى أَنَّ خَبَرَ مُسْلِمٍ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَا خَالَفَهُ، وَهُوَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُتِرَ بِثَوْبٍ مِنَ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» ، فَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ صَرَاحَةً أَنَّهُ كَانَ حَالَ إِحْرَامِهِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ.

2679 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: " إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ نَعْلَيْنِ لَبَسَ خُفَّيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبَسَ سَرَاوِيلَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2679 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: " إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ نَعْلَيْنِ لَبَسَ الْخُفَّيْنِ» ) : أَيْ: بَعْدَ قَطْعِهِمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ " «وَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبَسَ سَرَاوِيلَ» ": وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَيْسَ لَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ، فَقِيلَ: يَشُقُّهُ وَيَأْتَزِرُ بِهِ وَلَوْ لَبَسَهُ مِنْ غَيْرِ فَتْقٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: يَجُوزُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ مِنْ غَيْرِ فَتْقٍ عِنْدَ عَدَمِ الْإِزَارِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ لُزُومِ الدَّمِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ لِلضَّرُورَةِ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، كَالْحَالِقِ لِلْأَذَى، وَلُبْسِ الْمَخِيطِ لِلْعُذْرِ، وَقَدْ صَرَّحَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْآثَارِ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. فَقَالَ بَعْدَ مَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ: ذَهَبَ إِلَى هَذِهِ الْآثَارِ قَوْمٌ فَقَالُوا: مَنْ لَمْ يَجِدْهُمَا لَبَسَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ فَقَالُوا: أَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ لُبْسِ الْمُحْرِمِ الْخُفَّيْنِ وَالسَّرَاوِيلِ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ، فَنَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ، وَنُبِيحُ لَهُ لُبْسَهُ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي هِيَ بِهِ وَلَكِنْ نُوجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ

الْكَفَّارَةَ، وَلَيْسَ فِيمَا رَأَيْتُمُوهُ نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلَا فِيهِ وَلَا فِي قَوْلِنَا خِلَافُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ: لَا يَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، وَلَا السَّرَاوِيلَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، وَلَوْ قُلْنَا ذَلِكَ كُنَّا مُخَالِفِينَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ قَدْ أَبَحْنَا لَهُ اللِّبَاسَ، كَمَا أَبَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الْكَفَّارَةَ بِالدَّلَائِلِ الْقَائِمَةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَبَ هَذَا أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - اهـ. وَفِي مَنْسَكِ ابْنِ جَمَاعَةَ: وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ الْخُفَّيْنِ مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَلَبَسَهُمَا وَلَا فِدْيَةَ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ اهـ، وَأَغْرَبَ الطَّبَرَيُّ، وَالنَّوَوِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَحَكَوْا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِذَا لَبَسَ الْخُفَّيْنِ بَعْدَ الْقَطْعِ عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، بَلْ قَالَ فِي مَطْلَبِ الْفَائِقِ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَ لَهَا وُجُودٌ فِي الْمَذْهَبِ بَلْ هِيَ مُنْتَقَدَةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فَتْقُ السَّرَاوِيلِ، حَتَّى يَصِيرَ غَيْرَ مَخِيطٍ كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيَاسًا عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا اعْتِرَاضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ مَالٍ فَمَرْدُودٌ بِمَا تَقَدَّمَ، نَعَمْ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ بَعْدَ الْفَتْقِ لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ مِنْ غَيْرِ فَتْقٍ، بَلْ هُوَ مُتَعَيِّنٌ وَاجِبٌ إِلَّا أَنَّهُ يَفْدِي، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: امْتِنَاعُ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ عَلَى هَيْئَتِهِ مُطْلَقًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ عَنْهُمَا.

2680 - وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجِعْرَانَةِ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ، وَهَذِهِ عَلَيَّ. فَقَالَ: " أَمَا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2680 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجِعْرَانَةِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ عَلَى الصَّحِيحِ، مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ مِنْ حُدُودِ الْحَرَمِ، أَحْرَمَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعُمْرَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْعِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَوْلِيَّ أَقْوَى عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ قَصْدِهِ، وَالْفِعْلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اتِّفَاقِيًّا لَا قَصْدِيًّا، وَقَدْ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْ تَعْتَمِرَ مِنَ التَّنْعِيمِ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ مِنَ الْحَرَمِ. (إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَعْرَابِ، وَهُمْ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ، أَيْ بَدَوِيٌّ (عَلَيْهِ جُبَّةٌ) : ثَوْبٌ مَعْرُوفٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جُبَّةُ الْبَرْدِ، جَنَّةُ الْبَرْدِ. (وَهُوَ) : أَيِ الرَّجُلُ (مُتَمَضِّحٌ بِالْخَلُوقِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ يُتَّخَذُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ حَتَّى كَادَ يَتَقَاطَرَ الطِّيبُ مِنْ بَدَنِهِ، ( «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ وَهَذِهِ» ) : أَيْ: الْجُبَّةُ (عَلَيَّ. فَقَالَ: " أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ) : أَيْ: لُصِقَ بِبَدَنِكَ مِنَ الْجُبَّةِ ( «فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا» ) : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيِ: اقْلَعْهَا فَوْرًا وَأَخْرِجْهَا، ذِكْرُ الثَّلَاثِ إِنَّمَا هُوَ لِتَوَقُّفِ إِزَالَةِ الْخَلُوقِ عَلَيْهَا غَالِبًا، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ إِزَالَةُ الْعَيْنِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبَسَ جَاهِلًا فِدْيَةٌ عَلَيْهِ، إِذْ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " فَانْزِعْهَا " رَدٌّ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ فِي قَمِيصٍ أَوْ جُبَّةٍ مُزِّقَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا اعْتِذَارُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الْمُتَعَمَّدِ لِتَعَدِّيهِ، وَالَّذِي فِي الْخَبَرِ فِي جَاهِلٍ مَعْذُورٍ فَلَا يَصِحُّ، إِذِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. ( «ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ» ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّاءِ أَيِ اجْتَنِبْ فِي الْعُمْرَةِ مَا تَجْتَنِبُ مِنْهُ فِي الْحَجِّ، أَوِ افْعَلِ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ وَالْحَلْقَ، وَبِالْجُمْلَةِ الْأَفْعَالَ الْمُشْتَرِكَةَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَفْعَلُهَا فِي الْحَجِّ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ عَالِمًا بِصِفَةِ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالتَّشْبِيهِ زِيَادَةُ الْإِفَادَةِ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ مَا يَجْتَنِبُ فِي الْعُمْرَةِ، لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ الِاشْتِرَاكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى إِذَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ عِبَارَةُ بَعْضِهِمْ: يَغْسِلُ فَمَهُ بِمِيَاهٍ كَأَنْفِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَأَمَّا الِاكْتِحَالُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ ; فَإِنْ كَانَ لِلزِّينَةِ فَمَكْرُوهٌ وَمَنَعَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ إِذَا ارْتُكِبَتْ عَمْدًا يَجِبُ فِيهَا الْفِدْيَةُ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمَنْ تَبِعَهُمَا.

2681 - وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2681 - (وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ» ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَتَحْرِيكِ الْحَاءِ بِالْكَسْرِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ النُّسَخِ، أَيْ: لَا يَتَزَوَّجُ لِنَفْسِهِ امْرَأَةً مِنْ نَكَحَ (وَلَا يُنْكَحْ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ مَجْزُومًا، أَيْ: لَا يُزَوَّجُ الرَّجُلُ امْرَأَةً إِمَّا بِالْوِلَايَةِ أَوْ بِالْوِكَالَةِ مِنْ أَنْكَحَ (وَلَا يَخْطُبْ) : بِضَمِّ الطَّاءِ مِنَ الْخِطْبَةِ بِكَسْرِ الْخَاءِ، أَيْ: لَا يَطْلُبُ امْرَأَةً لِنِكَاحٍ، وَرَوَى الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثَ بِالنَّفْيِ وَالنَّهْيِ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهَا عَلَى صِيغَةِ النَّهْيِ أَصَحُّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْضًا، بَلْ أَبْلَغُ، وَالْأَوَّلَانِ لِلتَّحْرِيمِ، وَالثَّالِثُ لِلتَّنْزِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ وَلَا إِنْكَاحُهُ عِنْدَهُ، وَالْكُلُّ لِلتَّنْزِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيُّ. زَادَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ: وَلَا يَخْطُبُ. وَزَادَ ابْنُ حَبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو عِيسَى، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي كُتُبِهِمْ، وَالَّذِي وَجَدْنَاهُ الْأَكْثَرُ فِيمَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْإِثْبَاتُ، وَهُوَ الرَّفْعُ فِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ.

2682 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2682 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ) : وَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَكَانَتْ أُخْتُهَا أَمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ الْكُبْرَى تَحْتَ الْعَبَّاسِ، وَأُخْتُهَا لِأُمِّهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ تَحْتَ جَعْفَرٍ، وَسَلْمَى بِنْتُ عُمَيْسٍ تَحْتَ حَمْزَةَ، وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ، فَأَنْكَحَهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَمَّا رَجَعَ بَنَى بِهَا بِسَرِفَ حَلَالًا. وَمِنْ غَرِيبِ التَّارِيخِ أَنَّهَا دُفِنَتْ بِسَرِفَ أَيْضًا، وَهُوَ مِنَ الْمَشَاهِدِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ قَرِيبَ مَكَّةَ دُونَ الْوَادِي الْمَشْهُورِ بِوَادِي فَاطِمَةَ. قَالَ الطَّبَرَيُّ: وَهُوَ عَلَى عَشْرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ: وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفَ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: وَهُوَ مُحْرِمٌ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ ; فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، وَلَيْسَ نَظِيرُهُ قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا . أَيْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ الصَّارِفَ عَنِ الْمَعْنَى الْمُتَعَارَفِ ظَاهِرٌ، مَعَ احْتِمَالِ تَحَقُّقِهِ ; لِيَنَالَ ثَوَابَ الْمُتَلَبِّسِ بِالنُّسُكِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَخَاتِمَةِ أَمْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا حَرْفَ لِلْمَدِينَةِ عِنْدَنَا فِي مَعْنَى حَرَمِ مَكَّةَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، مَعَ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْحَرَمِ بَلْ كَانَ ثَابِتًا فِيهِ، نَعَمْ لَوْ أُوِّلَ بِمُرِيدِ الْإِحْرَامِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَرُدُّهُ مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ بَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ.

2683 - وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، ابْنِ أُخْتِ مَيْمُونَةَ «عَنْ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِ السُّنَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَظَهَرَ أَمْرُ تَزْوِيجِهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ بِسَرِفَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2683 - (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، ابْنِ أُخْتِ مَيْمُونَةَ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا) : أَيْ: دَخَلَ بِهِمَا أَوْ أَظْهَرَ زَوَاجَهَا (وَهُوَ حَلَالٌ) أَيْ غَيْرُ مُحْرِمٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى أَحَادِيثَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ: يَصِحُّ نِكَاحُهُ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ. (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ) : أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْأَكْثَرُونَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ، يَعْنِي الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ وَأَتْبَاعَهُمْ (عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا وَظَهَرَ أَمْرُ تَزْوِيجِهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ بَنَى) : أَيْ دَخَلَ بِهَا (وَهُوَ حَلَالٌ بِسَرِفَ) : عَلَى وَزْنِ كَتِفٍ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَقِيلَ مُنْصَرِفٌ (فِي طَرِيقِ مَكَّةَ) : أَيْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ لَمْ يَقْوَ قُوَّةَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، فَإِنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السِّتَّةُ، وَحَدِيثُ زَيْدٍ: لَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا النَّسَائِيُّ، وَأَيْضًا لَا يُقَاوَمُ بِابْنِ عَبَّاسٍ حِفْظًا وَاتِّفَاقًا، وَلِذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لِلزُّهْرِيِّ: وَمَا يُدْرِي ابْنُ الْأَصَمِّ أَعْرَابِيُّ كَذَا وَكَذَا بِشَيْءٍ. قَالَ: أَتَجْعَلُهُ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولُ بَيْنَهُمَا، لَمْ يُخَرَّجْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَإِنْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حَبَّانَ، فَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلِ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ سِوَى: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ حَمَّادٍ عَنْ مُطَرِّفٍ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، فَمُنْكَرٌ عَنْهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا اشْتُهِرَ إِلَى أَنْ كَادَ أَنْ يَبْلُغَ الْيَقِينَ عَنْهُ فِي خِلَافِهِ، وَلِذَا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ ذَلِكَ عَارَضَهُ بِأَنْ أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ طَرِيقًا. أَنَّهُ «تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» ، وَفِي لَفْظٍ: «وَهُمَا مُحْرِمَانِ» . وَقَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ قَامَ رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثَيْ عُثْمَانَ وَابْنِ الْأَصَمِّ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْوَى مِنْهُمَا سَنَدًا، فَإِنْ رَجَّحْنَا بِاعْتِبَارِهِ كَانَ التَّرْجِيحُ مَعْنًى أَوْ بِقُوَّةِ ضَبْطِ الرُّوَاةِ وَفِقْهِهِمْ، فَإِنَّ الرُّوَاةَ عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ لَيْسُوا كَمَنْ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ فِقْهًا وَضَبْطًا، كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ وَإِنْ تَرَكْنَاهَا أَيِ الْأَدِلَّةَ تَسَاقَطَ لِلتَّعَارُضِ وَصِرْنَا إِلَى الْقِيَاسِ، فَهُوَ مَعْنِيٌّ لِأَنَّهُ عَقْدٌ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي يُتَلَفَّظُ بِهِمَا مِنْ شِرَاءِ الْأُمَّةِ لِلتَّسَرِّي وَغَيْرِهِ، وَلَا يَمْنَعُ شَيْءٌ مِنَ الْعُقُودِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ حُرِّمَ لَكَانَ غَايَتُهُ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَةَ نَفْسِ الْوَطْءِ وَأَثَرِهِ فِي فَسَادِ الْحَجِّ، لَا فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ رَجَّحْنَا مِنْ حَيْثُ الْمَتْنِ كَانَ مَعْنِيٌّ لِأَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ نَافِيَةٌ، وَرِوَايَةُ يَزِيدَ مُثْبِتَةٌ لِمَا عُرِفَ، وَأَنَّ الْمُثْبِتَ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُ أَمْرًا عَارِضًا عَلَى الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْحَلُّ طَارِئٌ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَالنَّافِي هُوَ أَرْجَحُ لِمَنْعِهَا لِأَنَّهُ يَنْفِي طَرُوَ طَارِئٍ، وَلَا يَشُكُّ أَنَّ الْإِحْرَامَ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَلِّ الطَّارِئِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَهُ كَيْفِيَّاتٌ خَاصَّةٌ مِنَ التَّجَرُّدِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، فَكَانَ نَفْيًا مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ، فَيُعَارَضُ الْإِثْبَاتُ وَيُرَجَّحُ بِخَارِجٍ، وَهُوَ زِيَادَةُ قُوَّةِ السَّنَدِ، وَفِقْهُ الرَّاوِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَلِّ اللَّاحِقِ، وَأَمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْحَلِّ السَّابِقِ عَلَى الْإِحْرَامِ كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، كَذَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِلْمُسْتَغْفَرِيِّ، فَابْنُ عَبَّاسٍ مُثْبِتٌ وَيَزِيدُ نَافٍ، وَيُرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَاتِ الْمَتْنِ لِتَرَجُّحِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي، وَإِنْ وُفِّقْنَا لِدَفْعِ التَّعَارُضِ ; فَيَحْمِلُ لَفْظَ التَّزَوُّجِ فِي حَدِيثِ ابْنِ الْأَصَمِّ عَلَى الْبِنَاءِ بِهَا مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ الْعَادِيَّةِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ» " إِمَّا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَالنِّكَاحِ الْوَطْءِ. وَالْمُرَادُ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ التَّمْكِينُ مِنَ الْوَطْءِ، وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ، أَيْ: لَا تُمَكِّنُ الْمُحْرِمَةُ مِنَ الْوَطْءِ زَوْجَهَا، أَوْ عَلَى نَهْيِ الْكَرَاهَةِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ فِي شُغُلٍ عَنْ مُبَاشَرَةِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ عَنِ الْإِحْسَانِ فِي الْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ خِطْبَةِ مُرَاوِدَاتٍ وَدَعْوَةٍ وَاجْتِمَاعَاتٍ، وَيَتَضَمَّنُ تَنْبِيهَ النَّفْسِ لِطَلَبِ الْجِمَاعِ، وَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِهِ: (وَلَا يَخْطُبْ) وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاشَرَ الْمَكْرُوهَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: الْكَرَاهَةُ هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَلَا بَعْدُ لِاخْتِلَافِ حُكْمٍ فِي حَقِّهِ وَحَقِّنَا لِاخْتِلَافِ الْمَنَاطِ فِيهِ وَفِينَا، كَالْوِصَالِ نَهَانَا عَنْهُ وَفَعَلَهُ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ مُخْتَصَرًا. وَيُمْكِنُ حَمْلُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، بَلْ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِرْسَالِ جَمَاعَةٍ إِلَى أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ لِيَحْضُرَ نِكَاحَ مُحْرِمَيْنِ فَامْتَنَعَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ، فَسَكَتُوا عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَجْمَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا.

2684 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2684 - (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ) : يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ غَسْلُ رَأْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْتِفُ شَعْرًا بِلَا خِلَافٍ، أَمَّا لَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ، فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَا: صَدَقَةُ: لَوْ غَسَلَ بِأُشْنَانٍ فِيهِ طِيبٌ، فَإِنْ كَانَ مَنْ رَآهُ سَمَّاهُ أُشْنَانًا فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ سَمَّاهُ طِيبًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ، كَذَا فِي قَاضِي خَانَ. وَلَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْحُرْضِ وَالصَّابُونِ وَالسِّدْرِ وَنَحْوِهِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ «كَانَ يَغْتَسِلُ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِنَا شَيْئًا، يَعْنِي: فَلَيْسَ فِيهِ فِدْيَةٌ، فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَالِكٍ أَنَّ فِي إِزَالَةِ الْوَسَخِ صَدَقَةٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْصِدَ بِغَسْلِهِ إِزَالَةَ الْوَسَخِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ» ".

2685 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2685 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رَخَّصَ الْجُمْهُورُ فِي الْحِجَامَةِ إِذَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنِ الْمُحْرِمِ أَيَحُكُّ جَسَدَهُ؟ قَالَتْ: فَلْيَحُكَّ وَلْيُسَدِّدْ.

2686 - وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلِ إِذَا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ضَمَّدَهَا بِالصَّبِرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2686 - (وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلِ) : أَيْ فِي حَقِّهِ وَشَأْنِهِ، وَكَذَا حُكْمُ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ (إِذَا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ) : أَيْ: حِينَ شَكَا وَجَعَهُمَا أَوْ ضَعْفَ نَظَرِهِمَا (وَهُوَ مُحْرِمٌ ضَمَّدَهَا) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي مُشَدَّدًا، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْأَمْرِ لِلْإِبَاحَةِ (بِالصَّبْرِ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَهُوَ دَوَاءٌ مَعْرُوفٌ، أَيِ: اكْتَحَلَ عَيْنَيْهِ بِالصَّبْرِ كَذَا فَسَّرُوا التَّضْمِيدَ، وَأَوْرَدَ فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ فِي بَابِ التَّفْعِيلِ فِي الْحَدِيثِ ضَمَّدَ عَيْنَيْهِ أَيْ: وَضَعَ عَلَيْهِمَا الدَّوَاءَ. قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: هُوَ شَيْءٌ أَحْمَرُ يُجْعَلُ فِي الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكُحْلِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الصَّبْرُ كَكَتِفٍ وَلَا يُسَكَّنُ إِلَّا فَضَرُورَةُ شِعْرٍ، عُصَارَةُ شَجَرٍ، مَنْ ضَمَّدَ الْجُرْحَ يُضَمِّدُهُ، وَضَمَّدَهُ شَدَّهُ بِالضِّمَادِ وَهِيَ الْعِصَابَةُ كَالضِّمَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْلُ الضَّمْدِ الشَّدُّ، يُقَالُ: ضَمَّدَ رَأْسَهُ وَجَرَحَهُ إِذَا شَدَّهُ بِالضِّمَادِ، وَهُوَ خِرْقَةٌ يُشَدُّ بِهَا الْعُضْوُ الْمَأْفُوفُ أَيِ الْمُصَابُ بِالْآفَةِ، ثُمَّ قِيلَ: لِوَضْعِ الدَّوَاءِ عَلَى الْجُرْحِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يُشَدَّ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِنِ اكْتَحَلَ الْمُحْرِمُ بِكُحْلٍ فِيهِ طِيبٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَوِ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ عَصَبَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ سِوَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ، وَأَمَّا لَوْ غَطَّى رُبُعَ رَأْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ فَصَاعِدًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَفِي أَقَلَّ مِنَ الرُّبُعِ صَدَقَةٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: فِي الْإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ زِينَةٌ، نَحْنُ نَكْرَهُهُ وَلَا نُحَرِّمُهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى حِلِّهِ حَيْثُ لَا طِيبَ فِيهِ، وَأَمَّا الْحِنَّاءُ فَهُوَ طِيبٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا. وَرُوِيَ أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، أَيْ: مُرِيدَاتٌ لِلْإِحْرَامِ.

2687 - «وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: رَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ، يَسْتُرُهُ فِي الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2687 - (وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ، قَالَتْ: رَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدَهُمَا) : أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ أَحَدَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِلَالٌ (آخِذٌ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَالْخِطَامُ بِكَسْرِ الْخَاءِ بِمَعْنَى الزِّمَامِ وَالْمِهَارُ كَكِتَابٍ (وَالْآخَرُ) : وَهُوَ أُسَامَةُ (رَافِعٌ) : بِالتَّنْوِينِ (ثَوْبَهُ) : أَيْ ثَوْبًا فِي يَدِهِ (يَسْتُرُهُ) : أَيْ: يُظِلُّهُ بِثَوْبٍ مُرْتَفِعٍ عَنْ رَأْسِهِ، بِحَيْثُ لَمْ يَصِلِ الثَّوْبُ إِلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنَ الْحَرِّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِظْلَالِ لِلْمُحْرِمِ، وَفِيهِ أَنَّ دَلَالَتَهُ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ، وَقَوْلُهُ (حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) : نَصًّا فِي كَوْنِهِ أَوَّلَ أَيَّامٍ، فَالْأَوْلَى لِلِاسْتِدْلَالِ الِاسْتِظْلَالُ بِالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فِي عَرَفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2688 - «وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهِ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَهُوَ يُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ، وَالْقَمْلُ تَتَهَافَتُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: " أَتُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: " فَاحْلِقْ رَأْسَكَ وَأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ - وَالْفَرَقُ: ثَلَاثَةُ آصُعٍ - " أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2688 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهِ) : فِيهِ تَجْرِيدٌ أَوِ الْتِفَاتٌ أَوْ نَقْلٌ بِالْمَعْنَى (وَهُوَ) أَيْ كَعْبٌ (بِالْحُدَيْبِيَةِ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ) : أَيْ: وَهُوَ يَتَوَقَّعُ دُخُولَهَا حِينَ لَمْ يَقَعْ مَنْعٌ عَنْ وُصُولِهَا (وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَهُوَ يُوقِدُ) : مِنَ الْإِيقَادِ (تَحْتَ قِدْرٍ، وَالْقَمْلُ) : أَيْ: جِنُّهُ (تَتَهَافَتُ) : بِالتَّاءَيْنِ أَيْ: تَتَسَاقَطُ مِنْ رَأْسِهِ (عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَيُؤْذِيكَ) : بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (هَوَامُّكَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ جَمْعُ هَامَّةٍ، وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي تَسِيرُ عَلَى السُّكُونِ كَالنَّمْلِ وَالْقَمْلِ (قَالَ) أَيْ: كَعْبٌ (نَعَمْ) : وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَوَامَّ الرَّأْسِ عُذْرٌ مَعَ أَنَّهَا لَا تُؤْذِي غَالِبًا، ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ. (قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَكَ) : أَمَرَ أَمْرَ إِبَاحَةٍ (وَأَطْعِمْ) : وُجُوبٌ (فَرْقًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بِالتَّحْرِيكِ مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مُدًّا أَوْ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَفِي الْمَفَاتِيحِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمُحْدَثُونَ عَلَى السُّكُونِ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى التَّحْرِيكِ، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْقُتَيْبِيُّ، فَقَالَ: الْفَرْقُ بِسُكُونِ الرَّاءِ مِنَ الْأَوَانِي وَالْمَقَادِيرِ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وَبِالْفَتْحِ مِكْيَالٌ يَسَعُ ثَمَانِينَ رِطْلًا اهـ. وَالْمُعْتَمَدُ مَا يَأْتِي فِي الْأَصْلِ. (بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ صَاعٍ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الْأَطْعِمَةِ. قُلْتُ: إِنَّهُ مُطْلَقٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَرْدِ الْأَكْمَلِ وَهُوَ الْبُرُّ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. (وَالْفَرَقُ) : بِالتَّحْرِيكِ وَيُسَكَّنُ (ثَلَاثَةُ آصُعٍ) : كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ. وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أُصُوعٍ وَكِلَاهُمَا جَمْعُ أَصَاعٍ، أَوْ خَطَأَ مَنْ قَالَ: آصُعٍ لَحْنٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: صَحَّ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْقَلْبِ وَأَصْلُهُ أَصُوعُ اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْقَلْبِ قَلْبُ الْمَكَانِيِّ بِأَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ مَكَانَ الصَّادِ، وَعَكْسُهُ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَةِ الْوَاوِ إِلَى الصَّادِ، ثُمَّ تُقْلَبُ الْوَاوُ أَلْفًا لِتَحَرُّكِهَا فِي الْأَصْلِ وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ جُمْلَةٌ مُعْتَرَضَةٌ. (أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً) أَيِ: اذْبَحْ ذَبِيحَةً، وَالْحَدِيثُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ فِيهِمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: احْلِقْ ثُمَّ اذْبَحْ نُسُكًا، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2689 - «عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، مُعَصْفَرٍ، أَوْ خَزٍّ، أَوْ حُلِيٍّ، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ قَمِيصٍ، أَوْ خُفٍّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2689 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ) : أَيْ: عَنْ لُبْسِهِمَا فِي أَيْدِيهِنَّ (وَالنِّقَابِ) : أَيْ: الْبُرْقُعِ فِي وُجُوهِهِنَّ بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى بَشْرَتِهِنَّ (وَمَا مَسَّ) أَيْ: وَعَمَّا صَبَغَهُ (الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَأَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا تَلْبَسُ النِّسَاءُ الْقُفَّازَيْنِ وَلْتَلْبَسْ (بَعْدَ ذَلِكَ) : أَيْ ذَكَرَ (مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ) أَيْ: أَنْوَاعِهَا (مُعَصْفَرٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ أَيِ الْمَصْبُوغِ بِالْعُصْفُرِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُعَصْفَرِ، وَأَمَّا الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَذْهَبِ، فَهُوَ الْعُمُومُ، فَفِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ وَالْوَالِجِيِ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّهُ لَوْ لَبَسَ الْمُحْرِمُ مَصْبُوغًا بِعُصْفُرٍ أَوْ وَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ مُشَبَّعًا يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ فَصَدَقَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى مُعَصْفَرٍ مَغْسُولٍ لَا يُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةٌ، أَوْ يُفَسَّرُ الْمُعَصْفَرُ بِمَا يُصْبَغُ بِالطَّبْنِ الْأَرْمَنِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْعُصْفُرُ لَيْسَ بِطِيبٍ فَيُكَذِّبُهُ رِيحُهُ. (أَوْ خَزٍّ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ، ثَوْبٌ مِنْ إِبْرِيسِمٍ وَصُوفٍ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْخَزُّ اسْمُ دَابَّةٍ، سُمِّيَ الْمُتَّخَذُ مِنْ وَبَرِهَا خَزًّا (أَوْ حُلِيٍّ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، مَا يَلْبَسُهُ النِّسَاءُ مِنْ آلَاتِ الزِّينَةِ، كَالْخُرْصِ فِي الْأُذُنِ، وَالْحَجْلِ فِي الرِّجْلِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: جُعِلَ الْحُلِيُّ مِنَ الثِّيَابِ تَغْلِيبًا، أَوْ أُدْخِلَ فِي الثِّيَابِ مَجَازًا لِعَلَاقَةِ إِطْلَاقِ اللُّبْسِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] (أَوْ سَرَاوِيلَ) : اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ جَمْعٌ أَوْ مُفْرَدٌ (أَوْ قَمِيصٌ أَوْ خُفٌّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ الْمُنْذِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ مَا خَلَا ابْنَ إِسْحَاقَ اهـ. وَأَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ حُجَّةٌ - قَالَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، فَالْحَدِيثُ حَسَنٌ.

2690 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا جَاوَزُوا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ» . رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلِابْنِ مَاجَهْ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2690 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ، جَمْعُ الرَّكْبِ (يَمُرُّونَ) : أَيْ: مَارِّينَ (بِنَا) : أَيْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ (وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمَاتٌ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ أَيْ: مَكْشُوفَاتُ الْوُجُوهِ (فَإِذَا جَاوَزُوا) : أَيْ: مَرُّوا (بِنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: جَاوَزُونَا كَذَا كَتَبَهُ السَّيِّدُ عَلَى الْهَامِشِ، وَجَعَلَهُ ظَاهِرًا مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ مَعْنًى، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ الْإِرْسَالُ حِينَ الْمُجَاوَزَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى الْمُرُورِ، وَلَكِنْ: لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْأَظْهَرِيَّةِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ إِذَا أَرَادُوا الْمُجَاوَزَةَ وَالْمُرُورَ بِنَا، وَكُتِبَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى كَذَلِكَ بِلَفْظِ حَاذَوْنَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَفِي نُسْخَةٍ: فَإِذَا جَاوَزْنَا، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ فَإِذَا جَاوَزُوا بِنَا، هَكَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي الْمَصَابِيحِ حَاذَوْنَا اهـ. وَهُوَ بِفَتْحِ الذَّالِ مِنَ الْمُحَاذَاةِ. بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مَعْنًى مِنَ الْكُلِّ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (سَدَلَتْ) : أَيْ أَرْسَلَتْ (إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ بُرْقُعَهَا أَوْ طَرْفَ ثَوْبِهَا (مَنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا) : بِحَيْثُ لَمْ يَمَسُّ الْجِلْبَابُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: سَدَلَتْ لَيْسَ هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَلَا لَفْظُ ابْنِ مَاجَهِ اهـ. فَكَأَنَّ لَفْظَهُمَا دُلَّتْ مِنَ التَّدْلِيَةِ كَمَا هُوَ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ، فَتَكُونُ رِوَايَتُهُ بِالْمَعْنَى (فَإِذَا جَاوَزُونَا) : أَنْ تَعَدَّوا عَنَّا وَتَقَدَّمُوا عَلَيْنَا (كَشَفْنَاهُ) : أَيْ: أَزَلْنَا الْجِلْبَابَ، وَرَفَعْنَا النِّقَابَ، وَتَرَكْنَا الْحِجَابَ، وَلَوْ جُعِلَ الضَّمِيرُ إِلَى الْوَجْهِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ فَلَهُ وَجْهٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ (وَلِابْنِ مَاجَهْ مَعْنَاهُ) .

2691 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ وَهُوَ مُحْرِمٌ غَيْرَ الْمُقَتَّتِ " يَعْنِي غَيْرَ الْمُطَيَّبِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2691 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدَّهِنُ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ (بِالزَّيْتِ وَهُوَ مُحْرِمٌ غَيْرِ الْمُقَتَّتِ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْأُولَى حَالٌ مِنَ الزَّيْتِ أَوْ صِفَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مَا يُطْبَخُ فِيهِ الرَّيَاحِينُ حَتَّى تُرِيحَهُ (يَعْنِي) : هُوَ كَلَامُ بَعْضِ الرُّوَاةِ يَعْنِي يُرِيدُ ابْنُ عُمَرَ بِغَيْرِ الْمُقَتَّتِ (غَيْرِ الْمُطَيَّبِ) : اعْلَمْ أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا ادَّهَنَ بِدُهْنٍ مُطَيَّبٍ كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ وَالْوَرْدِ وَسَائِرِ الْأَدْهَانِ الَّتِي فِيهَا الطِّيبُ عُضْوًا كَامِلًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنِ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ أَوْ خَلٍّ وَهُوَ الشَّيْرَجُ، أَيْ: دُهْنُ السِّمْسِمِ غَيْرَ مَخْلُوطَيْنِ بِطِيبٍ وَأَكْثَرَ مِنْهُ ; فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَدَقَةٌ عِنْدَهُمَا، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَا خَالِصَيْنِ عَنِ الطِّيبِ غَيْرَ مَطْبُوخَيْنِ، أَمَّا الْمُطَيَّبُ مِنْهُ وَهُوَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ الْأَنْوَارُ كَالْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، فَيَجِبُ الدَّمُ بِاسْتِعْمَالِهِ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إِذَا كَانَ الزَّيْتُ مَطْبُوخًا فَفِيهِ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَيْضًا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا اسْتَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِنِ اسْتَقَلَّ مِنْهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ اتِّفَاقًا، ثُمَّ هَذَا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2692 - «عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَجَدَ الْقُرَّ، فَقَالَ: أَلْقِ عَلَيَّ ثَوْبًا يَا نَافِعُ ; فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ بُرْنُسًا. فَقَالَ: تُلْقِي عَلَيَّ هَذَا وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْبَسَهُ الْمُحْرِمُ» ؟ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2692 - (عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَجَدَ الْقُرَّ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيِ الْبَرَدَ مُطْلَقًا وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالشِّتَاءِ (فَقَالَ: أَلْقِ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِلْقَاءِ، أَيِ: اطْرَحْ (عَلِيَّ ثَوْبًا يَا نَافِعُ ; فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ بُرْنُسًا) أَيْ: ثَوْبًا مُلْتَزِقَ الرَّأْسِ (فَقَالَ: تُلْقِي عَلِيَّ) : بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ (هَذَا) : أَيِ: الثَّوْبَ الْمَخِيطَ (وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْبَسَهُ الْمُحْرِمُ) : فَجَعَلَ طَرْحَهُ عَلَيْهِ لُبْسًا، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسُ الْمَخِيطِ، وَتَغْطِيَةُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ بِالْمَخِيطِ، وَغَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، وَالْمَخِيطُ هُوَ الْمَلْبُوسُ الْمَعْمُولُ عَلَى قَدْرِ الْبَدَنِ، أَوْ قَدْرِ عُضْوٍ مِنْهُ بِحَيْثُ يُحِيطُ بِهِ سَوَاءٌ بِخِيَاطَةٍ أَوْ نَسْجٍ أَوْ لَصْقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَتَفْسِيرُ لُبْسِ الْمَخِيطِ عَلَى وَجْهِ الْمُعْتَادِ أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي حِفْظِهِ إِلَى تَكَلُّفٍ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالْعَمَلِ، وَضِدُّهُ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلُبْسُ الْمَخِيطِ أَنْ يَجْعَلَ بِوَاسِطَةِ الْخِيَاطَةِ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْبَدَنِ وَاسْتِمْسَاكَهُ، فَأَيُّهُمَا انْتَفَى لُبْسُ الْمَخِيطِ، فَإِنْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ الْقَبَاءَ دُونَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ، أَوْ لَبَسَ الطَّيْلَسَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُزَرَّ عَلَيْهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ الِاسْتِمْسَاكِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ زَرَّ الْقَبَاءَ أَوِ الطَّيْلَسَانَ يَوْمًا لَزِمَ دَمٌ لِحُصُولِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالزَّرِّ مَعَ الِاشْتِمَالِ بِالْخِيَاطَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَقَدَ الرِّدَاءَ أَوْ شَدَّ الْإِزَارَ بِحَبَلٍ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِلتَّشَبُّهِ بِالْمَخِيطِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِانْتِفَاءِ الِاشْتِمَالِ بِوَاسِطَةِ الْخِيَاطَةِ اهـ. وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَرِهَ ذَلِكَ لِلتَّشَبُّهِ بِالْمَخِيطِ، وَأَطْلَقَ اللُّبْسَ عَلَى الطَّرْحِ مَجَازًا، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَلْقَى عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ: غَطَّى رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ أَلْقَى هَذَا الْإِلْقَاءَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الْمُحْرِمَ عَنْ سَتْرِ الرَّأْسِ وَتَغْطِيَتِهِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَنَقَلَ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ عَنْ تَصْرِيحِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاقْتِضَاءُ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بِزَوَالِ الْعُذْرِ يَجِبُ النَّزْعُ فَوْرًا.

2693 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2693 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُونٌ بَعْدَهَا هَاءٌ ; اسْمُ أُمِّهِ، وَلِذَا كُتِبَتْ أَلِفٌ فِي ابْنِ بُحَيْنَةَ (قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، مَوْضِعٌ (مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ) : أَيْ: إِلَى الْمَدِينَةِ (فِي وَسَطِ رَأْسِهِ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَيُسَكَّنُ، وَهَذَا الِاحْتِجَامُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ إِزَالَةِ الشَّعْرِ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ - وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ: كَرَاهَةٌ الْحِجَامَةِ حَالَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ قَطْعَ شَعْرٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيهَا الْفِدْيَةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2694 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2694 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ) : وَهَذَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ قَطْعِ الشَّعْرِ، فَلَا إِشْكَالَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْعُذْرِ، ثُمَّ يُمْكِنُ تَعَدُّدُ الِاحْتِجَامِ فِي إِحْرَامٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي إِحْرَامَيْنِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ إِطْلَاقَ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ كَرَاهَتَهَا، وَكَذَا إِطْلَاقُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ فِيهَا الْفِدْيَةُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

2695 - «وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2695 - (وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ) : مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا» ) : أَيْ: دَخَلَ عَلَيْهَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الزِّفَافِ (وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولُ) : أَيْ: الْوَاسِطَةُ (بَيْنَهُمَا) : تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنَ ابْنِ الْهُمَامِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) .

[باب المحرم يجتنب الصيد]

[بَابُ الْمُحْرِمِ يَجْتَنِبُ الصَّيْدَ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2696 - «عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا. وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِيهِ وَجْهَهُ قَالَ: " إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [12] بَابُ الْمُحْرِمِ يَجْتَنِبُ الصَّيْدَ يَجُوزُ سُكُونُهُ عَلَى الْوَقْفِ وَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ الْإِضَافَةُ (الْمُحْرِمُ يَجْتَنِبُ الصَّيْدَ) : أَيِ: اصْطِيَادَهُ وَقَتْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ، وَأَكْلُهُ وَإِنْ ذَكَّاهُ مُحْرِمٌ آخَرُ، وَالْمُرَادُ بِالصَّيْدِ حَيَوَانٌ مُتَوَحِّشٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ بِأَنْ كَانَ تَوَالُدُهُ وَتَنَاسُلُهُ فِي الْبَرِّ، أَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ، فَيَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ جَمِيعًا مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] وَالْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا النَّصِّ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي الْحَرَمِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، وَأَمَّا صَيْدُ الْحَرَمِ فَلَا خُصُوصِيَّةَ لَهُ بِالْحَرَمِ، فَإِدْرَاجُ ابْنِ حَجَرٍ إِيَّاهُ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، ثُمَّ تَخَصُّصُهُ بِالْحَرَمِ الْمَكِّيِّ. وَقَوْلُهُ: وَقِيسَ لِمَكَّةَ بَاقِي الْحَرَمِ غَرِيبٌ جِدًّا - وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ - ثُمَّ الْبَرِّيُّ الْمَأْكُولُ حَرَامٌ اصْطِيَادُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَقَسَمَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَكُونُ مُؤْذِيًا طَبْعًا مُبْتَدِئًا بِالْأَذَى غَالِبًا، فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ نَحْوُ: الْأَسَدِ، وَالذِّئْبِ، وَالنِّمِرِ، وَالْفَهْدِ. وَنَوْعٌ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا، كَالضَّبْعِ وَالثَّعْلَبِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ عَدَا عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ وَإِنْ لَمْ يَعْدُ عَلَيْهِ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2696 - (عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ) : بِتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ (أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا) : أَيْ:

حَيًّا، وَقِيلَ: أَيْ بَعْضُهُ كَمَا بَيَّنَتْهُ رِوَايَاتٌ أُخَرُ لِمُسْلِمٍ، إِذْ فِي بَعْضِهَا لَحْمَهُ، وَفِي بَعْضِهَا عَجُزُهُ، وَفِي بَعْضِهَا رِجْلُهُ، وَفِي بَعْضِهَا شِقُّهُ، وَفِي بَعْضِهَا " عُضْوًا " مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ، فَرِوَايَةُ لَحْمِهِ أَيْ: بَعْضِهِ. وَرِجْلِهِ أَيْ مَعَ الْعَجُزِ، وَهُوَ الشِّقُّ الْمَذْكُورُ فِي الْأُخْرَى، وَرِوَايَةُ " عُضْوًا " هُوَ الرِّجْلُ وَمَا اتَّصَلَ بِهَا، فَاجْتَمَعَتِ الرِّوَايَاتُ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَهْدَاهُ حَيًّا أَوَّلًا ثُمَّ أَهْدَى بَعْضَهُ مَذْبُوحًا، (وَهُوَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِالْأَبْوَاءِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ; قَرْيَةٌ مِنْ عَمَلِ الْفَرْعِ عَلَى عَشْرَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْمَدِينَةِ، يَمُرُّ بِهَا سَالِكُ الطَّرِيقِ الْقَدِيمَةِ الشَّرْقِيَّةِ الَّتِي كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَسْلُكُهَا، وَهِيَ غَيْرُ الْمَسْلُوكَةِ الْيَوْمَ، يَفْتَرِقَانِ قَرِيبَ الْجُحْفَةِ، وَيَجْتَمِعَانِ قُرْبَ الْمَدِينَةِ. (أَوْ بِوَدَّانَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَرِيبَةٍ جَامِعَةٍ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْأَبْوَاءِ، وَهِيَ بَيْنَ الْأَبْوَاءِ وَالْجُحْفَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَوْضِعَانِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، (فَرَدَّ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى الصَّعْبِ صَيْدَهُ، (فَلَمَّا رَأَى) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا فِي وَجْهِهِ) : أَيْ: فِي وَجْهِ الصَّعْبِ مِنَ التَّغَيُّرِ النَّاشِئِ مِنْ أَثَرِ التَّأَذِّي مِنْ رَدِّهِ عَلَيْهِ الصَّيْدَ. (قَالَ) : أَيِ: اعْتِذَارًا وَتَسْلِيَةً لَهُ (إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ وَضَمِّهَا أَيِ: الصَّيْدَ (عَلَيْكَ) : أَيْ: لِشَيْءٍ (إِلَّا أَنَّا) : أَيْ: لِأَنَّا (حُرُمٌ) : بِضَمَّتَيْنِ أَيْ مُحْرِمُونَ، وَالْحُرُمُ جَمْعُ حَارِمٍ وَهُوَ مِنْ أَحْرَمَ بِنُسُكٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ الصَّيْدِ إِذَا كَانَ حَيًّا، وَإِنْ جَازَ لَهُ قَبُولُهُ لَحْمَةً، وَقِيلَ: الْمُهْدَى كَانَ لَحْمُ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ صَيْدٌ لِأَجْلِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اهـ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ «أَهْدَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمَ حِمَارٍ» وَفِي لَفْظٍ: رِجْلَ حِمَارٍ، وَفِي لَفْظٍ: عَجُزَ حِمَارٍ، وَفِي لَفْظٍ: شِقَّ حِمَارٍ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ أَكَلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صِيدَ لَهُ أَوْ بِأَمْرِهِ أَمْ لَا. وَهُوَ مَذْهَبٌ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَلَيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَخْرَجَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ، لَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ مِمَّا يَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ، وَيَكُونُ مَيْتَةً إِنْ صَادَهُ أَوْ صِيدَ لَهُ، أَوْ دَلَّ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ. قَالُوا: وَزَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ الصَّعْبِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَيَكُونُ نَاسِخًا لِحَدِيثِ أَنَّ قَتَادَةَ الْآتِي غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ شَرْطَ النَّسْخِ تَعَذُّرُ الْجَمْعِ، وَتَعْلِيلُ الرَّدِّ بِكَوْنِهِمْ حُرُمًا إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ، وَيَأْتِي حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ حَيْثُ «أَكَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا اصْطَادَهُ تَارَةً، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ أُخْرَى» لَوْ صَحَّ ذَلِكَ، وَصَحَّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَى بِالْعَرَجِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِحِمَارٍ عَقِيرَةٍ فَأَبَاحَهُ لَهُ صَاحِبُهُ فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ» ، وَصَحَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتُفْتِيَ فِي أَكْلِ مُحْرِمٍ مِنْ لَحْمِ مَا صَادَهُ حَلَالٌ، فَأَفْتَى بِحِلِّهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عُمَرُ فَقَالَ: لَوْ أَفْتَيْتَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ.

2697 - «وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَخَلَّفَ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَوْا حِمَارًا وَحْشِيًّا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ تَرَكُوهُ حَتَّى رَآهُ أَبُو قَتَادَةَ فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا، فَتَنَاوَلَهُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ، فَعَقَرَهُ، ثُمَّ أَكَلَ فَأَكَلُوا، فَنَدِمُوا، فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلُوهُ قَالَ " هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ " قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: «فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا؟ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ " قَالُوا: لَا قَالَ: " فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2697 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : سَنَةَ الْحُدَيْبِيَةِ (فَتَخَلَّفَ) : أَيْ: تَأَخَّرَ أَبُو قَتَادَةَ (مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ) : الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى أَبِي قَتَادَةَ، أَوِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَهُمْ) : أَيِ: الْبَعْضُ (مُحْرِمُونَ، وَهُوَ) : أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ (غَيْرُ مُحْرِمٍ) : وَفِي رِوَايَةِ الْمَالِكِيِّ: أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، وَأَبُو قَتَادَةَ مُبْتَدَأٌ وَلَمْ يُحْرِمْ خَبَرُهُ، وَإِلَّا بِمَعْنَى لَكِنَّ نَظِيرُهُ: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ} [هود: 81] بِالرَّفْعِ فِي قِرَاءَةِ أَبِي كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ امْرَأَتَكَ بَدَلًا مِنْ أَحَدٍ لِأَنَّهَا تُسِرُّ مَعَهُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ النَّصْبِ. (فَرَأَوْا حِمَارًا وَحْشِيًّا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ أَبُو قَتَادَةَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ تَرَكُوهُ) : أَيِ: الْحِمَارَ أَوْ أَبَا قَتَادَةَ بِأَنْ لَمْ يَقُولُوا: هَذَا حِمَارٌ بَلْ سَكَتُوا. (حَتَّى رَآهُ أَبُو قَتَادَةَ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: حَتَّى رَآهُ فَقَطْ، أَيْ: حَتَّى رَأَى أَبُو قَتَادَةَ الْحِمَارَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الدَّلَالَةُ عَلَى الصَّيْدِ وَلَا الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، (فَرَكِبَ) : أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ بَعْدَ مَا رَأَى الْحِمَارَ (فَرَسًا لَهُ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوهُ) : أَيْ: يُعْطُوهُ (سَوْطَهُ، فَأَبَوْا) : لِعَدَمِ جَوَازِ الْمُعَاوَنَةِ، (فَتَنَاوَلَهُ) : أَيْ: أَخْذَهُ بِيَدِهِ (فَحَمَلَ عَلَيْهِ) : أَيْ:

وَجْهُ الْفَرَسِ نَحْوُهُ فَأَدْرَكَهُ (فَعَقَرَهُ) : أَيْ: قَتَلَهُ، وَأَصْلُ الْعَقْرِ الْجَرْحُ (ثُمَّ) : أَيْ: بَعْدَ طَبْخِهِ (أَكَلَ) : أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ مِنْهُ (فَأَكَلُوا) : تَبَعًا لَهُ (فَنَدِمُوا) : لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ الصَّيْدِ مُطْلَقًا، (فَلَمَّا أَدْرَكُوا) : أَيْ: لَحِقُوا (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلُوهُ) : أَيْ: عَنْهُ هَلْ يَجُوزُ أَكْلُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ: " هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا) : أَيْ: رِجْلَهُ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَهَا) : إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْجَوَابَ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، وَلَا تَنَافِي لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ جَرَى لِأَبِي قَتَادَةَ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ قَضِيَّتَانِ، وَلِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ حَرَّمَهُ مُطْلَقًا - ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ امْتَنَعَ أَوَّلًا خَشْيَةَ أَنَّ أَحَدًا أَمْرَهُ أَوْ أَعَانَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَمْرُهُ أَكَلَ مِنْهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) : أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ الْمَعْلُومُ مِنْ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ (فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ) : أَيْ: بِالصَّرِيحِ أَوِ الدَّلَالَةِ (أَنْ يَحْمِلَ) : أَيْ: بِالْقَصْدِ (وَعَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى الْحِمَارِ أَوِ الصَّيْدِ وَتَأْنِيثُهُ، بِاعْتِبَارِ الدَّابَّةِ (أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا) : عَطْفٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْأُولَى بِاللِّسَانِ وَالثَّانِيَةَ بِالْيَدِ، وَقِيلَ: الْأُولَى فِي الْغَائِبِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْحُضُورِ، وَقِيلَ: كِلْتَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَعَلَى الْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ، ثُمَّ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَرَائِطٌ مَحَلُّهَا كُتُبُ الْفِقْهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ «عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسِيرٍ لَهُمْ، بَعْضُهُمْ مُحْرِمٌ وَبَعْضُهُمْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَدْ رَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَأَخَذْتُ الرُّمْحَ فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَاخْتَلَسْتُ سَوْطًا مِنْ بَعْضِهِمْ، وَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَأَصَبْتُهُ، فَأَكَلُوا مِنْهُ، وَاسْتَبْقَوْا قَالُوا: فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ؟ " (قَالُوا: لَا قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» ) : وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: " «هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: " فَكُلُوا» ) اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُمْ رَأَوْهَا ; فَضَحِكُوا، فَأَبْصَرَهَا، فَاسْتَعَانَهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُوهُ» ، وَفِي أُخْرَى «رَآهُمْ يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ، فَوَقَعَ السَّوْطُ، فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ بِشَيْءٍ إِنَّا مُحْرِمُونَ، وَفِي أُخْرَى: فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي بِهِ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ، فَقُلْتُ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ. فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ» . وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحَةٌ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا بِضَحِكِهِمْ، وَلَا بِتَرَائِيهِمْ إِلَيْهِ إِعْلَامَهُ، وَإِلَّا لِحَرُمَ، فَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ اتِّفَاقًا.

2698 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ: الْفَأْرَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2698 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خَمْسٌ) : أَيْ: مِنَ الدَّوَابِّ كَمَا فِي رِوَايَةِ (لَا جُنَاحَ) : أَيْ: لَا إِثْمَ وَلَا جَزَاءَ، وَالْمَعْنَى لَا حَرَجَ (عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ) : أَيْ: فِي أَرْضِهِ (وَالْإِحْرَامِ) : أَيْ: فِي حَالِهِ (الْفَأْرَةُ) : بِالْهَمْزِ، وَيُبَدَّلُ أَيِ الْوَحْشِيَّةُ وَالْأَهْلِيَّةُ (وَالْغُرَابُ) : أَيِ: الْأَبْقَعُ الْأَبْلَقُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ، وَخَرَجَ الزَّاغُ وَهُوَ أَسْوَدُ مُحْمَرُّ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَيُسَمَّى غُرَابُ الزَّرْعَ لِأَنَّهُ يَأْكُلُهُ (وَالْحِدَأَةُ) : عَلَى وَزْنِ الْعِنَبَةِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ الْحِدَأَةَ فِعَلَةٍ بِالْكَسْرِ وَكَذَا الْحِدَا، وَقَدْ يُفْتَحُ، وَهُوَ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ. وَالْحُدَيَّا تَصْغِيرُ حِدٍّ لُغَةٌ فِي الْحِدَأِ، أَوْ تَصْغِيرُ حِدَأَةٍ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ بَعْدَ يَاءِ التَّصْغِيرِ يَاءً، وَأُدْغِمَ يَاءُ التَّصْغِيرِ فِيهِ فَصَارَ حُدَيَّةً، ثُمَّ حُذِفَتِ التَّاءُ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْأَلْفُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّأْنِيثِ أَيْضًا، (وَالْعَقْرَبُ) : وَفِي مَعْنَاهَا الْحَيَّةُ بَلْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. (وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) : وَفِي حُكْمِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ السَّبْعُ الصَّائِلُ عِنْدَنَا، وَيُؤَيِّدُنَا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ الَّتِي حَسَّنَهَا، وَلَوْ ضَعَّفَهَا غَيْرَ زِيَادَةِ السَّبْعِ الْعَادِيِّ، وَأَمَّا زِيَادَةُ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَرَى الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْغُرَابِ الْأَسْوَدِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: لَا يَتَأَكَّدُ نَدْبُ قَتْلِهِ تَأَكُّدَهُ فِي الْحَيَّةِ وَنَحْوِهَا فَغَيْرُ مُوَجَّهٍ، وَيَحْرُمُ قَتْلُ كَلْبٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ اتِّفَاقًا، وَكَذَا مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا مَضَرَّةَ، وَفَسَّرَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكَلْبَ الْعَقُورَ بِالسَّبْعِ الَّذِي يُعْقَرُ وَيُقْتَلُ، كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : نَقْلُهُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الصَّحِيحَيْنِ، لَكِنْ بِلَفْظِ: " «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ» " اهـ. وَصَحَّ: «أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا» .

2699 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2699 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خَمْسٌ) : بِالتَّنْوِينِ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: (فَوَاسَقُ) أَيْ: مُؤْذِيَاتٌ صِفَتُهُ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِتَنْوِينِهِمَا خَطَأٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ بِنَصْبِ فَوَاسَقَ عَلَى الذَّمِّ. بِمُخَالَفَةِ الرِّوَايَةِ وَضَعْفِ الدِّرَايَةِ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: (يُقْتَلْنَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَرُوِيَ بِلَا تَنْوِينٍ مُضَافًا إِلَى فَوَاسِقَ قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ جَمْعُ فَاسِقَةٍ، وَأَرَادَ بِفِسْقِهِنَّ خَبَثَهُنَّ وَكَثْرَةَ الضَّرَرِ مِنْهُنَّ (فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ) : أَيْ: حَلَالًا كَانَ أَوْ مُحْرِمًا (الْحَيَّةُ) : بِأَنْوَاعِهَا، وَفِي مَعْنَاهَا الْعَقْرَبُ (وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ) : أَيِ: الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ، لَا مَا خَالَطَ بَيَاضُهُ لَوْنًا آخَرَ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ - فَتَدَبَّرْ. (وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا) : تَصْغِيرُ حِدَّا وَاحِدُهُ حِدَأَةٌ، تَصْغِيرُهَا حُدَيَّاةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " «خَمْسٌ مِنَ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» ". وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: الْحَيَّةُ عِوَضُ الْعَقْرَبِ، وَقَالَ، أَيْ فِي مُسْلِمٍ: الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2700 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ فِي الْإِحْرَامِ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2700 - (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ فِي الْإِحْرَامِ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ) : أَيْ: بِأَنْفُسِكُمْ مُبَاشَرَةً (أَوْ يُصَادُ لَكُمْ) : رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَبِالنَّصْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الظَّاهِرُ الْجَزْمُ، وَغَايَةُ التَّوْجِيهِ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ، اهـ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ وَأَوْ بِمَعْنَى (إِلَّا) يَعْنِي لَحْمَ صَيْدٍ ذَبْحُهُ حَلَالٌ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ الْمُحْرِمِ وَإِعَانَتِهِ حَلَالٌ لَكُمْ، إِلَّا أَنْ يُصَادَ لِأَجْلِكُمْ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى حُرْمَةِ لَحْمِ مَا صَادَهُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يُهْدَى إِلَيْكُمُ الصَّيْدُ دُونَ اللَّحْمِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْ يُصَادَ بِأَمْرِكُمْ، فَلَا يَحْرُمُ لَحْمُ صَيْدٍ ذَبَحَهُ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ دَلَالَتِهِ اهـ. وَتَحْقِيقُ النَّصْبِ مَا فِي الْمَفَاتِيحِ أَنْ " أَوْ " بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ، وَمَا لَمْ تَصِيدُوهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ فِي الْإِحْرَامِ حَلَالٌ إِلَّا أَنْ تَصِيدُوهُ إِلَّا أَنْ يُصَادَ لَكُمُ اهـ. فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي مِنْ مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لُغَةٌ شَهِيرَةٌ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَرَفْعِ يَصْبِرُ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَخْبَارُ تُنَمَّى اهـ. وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللُّغَةَ الْمَشْهُورَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي حَرْفِ الْعِلَّةِ مَقَامَ لَامِ الْفِعْلِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ خِلَافُهُ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَرَفْعِ (يَصْبِرُ) قِرَاءَةً شَاذَّةً، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مَنْ مَوْصُولَةً لَا جَازِمَةً، وَالْكَلَامُ فِي الْمَجْزُومِ فَذِكْرُهُ مُخِلٌّ بِالْمَرَامِ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ بِرِوَايَةِ بَعْضِ السَّبْعَةِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَجَزْمِ يَصْبِرُ، فَحُمِلَ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ، أَوْ عَلَى تَوَلُّدِ الْيَاءِ مِنْ إِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ كَمَا فِي لُغَةِ: ضَرَبْتِيهِ خِطَابًا لِلْمُؤَنَّثِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَوْ ذَبَحَ مُحْرِمٌ صَيْدًا أَوْ حَلَالٌ صَيْدَ الْحَرَمِ صَارَ مِيتَةً اتِّفَاقًا بَلْ إِجْمَاعًا.

2701 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2701 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ) : قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا عَدَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ صَيْدَ الْبَحْرِ مِنْ حَيْثُ مِيتَتِهِ، وَلِمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الْجَرَادَ يَتَوَلَّدُ مِنَ الْحِيتَانِ كَالدِّيدَانِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتَلُ الْجَرَادِ، وَلَزِمَهُ بِقَتْلِهِ قِيمَتُهُ اهـ. وَلَا يَصِحُّ التَّفْرِيعُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الثَّانِي.

وَفِي الْهِدَايَةِ: أَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةٍ أَوْ غَزْوَةٍ، فَاسْتَقْبَلَنَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَجَعَلْنَا نَضْرِبُهُ بِسِيَاطِنَا وَقِسِيِّنَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُوهُ، فَإِنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ» ". وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا، لَكِنْ تَظَاهَرَ عَنْ عُمَرَ إِلْزَامُ الْجَزَاءِ فِيهَا. فِي الْمُوَطَّأِ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ عَنْ جَرَادَةٍ قَتَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: - تَعَالَى - حَتَّى تَحْكُمَ، فَقَالَ كَعْبٌ: دِرْهَمٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكَ لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ لَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِقِصَّتِهِ، وَتَبِعَ عُمَرُ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ - وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ اهـ. أَقُولُ لَوْ صَحَّ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ الْمَذْكُورُ سَابِقًا، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْجَرَادَ عَلَى نَوْعَيْنِ: بِحْرِيٌّ وَبَرِّيٌّ، فَيُعْمَلُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ بِالِاتِّفَاقِ.

2702 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِيَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2702 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِيَ» ) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِالْقَتْلِ وَالْجِرَاحَةِ، كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَغَيْرِهِمَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

2703 - «وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِيِ عَمَّارٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هِيَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: أَيُؤْكَلُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2703 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ (قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) : أَيِ: الْأَنْصَارِيَّ (عَنِ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هِيَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: أَيُؤْكَلُ؟) : بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: سَمِعْتَهُ) : أَيْ: أَسَمِعْتَهُ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ) : بِهَذَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَيَأْتِي دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (رَوَاهُ، التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

2704 - «وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الضَّبُعِ قَالَ: " هُوَ صَيْدٌ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشًا إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2704 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الضَّبُعِ قَالَ: هُوَ صَيْدٌ) : تَذْكِيرُهُ بِاعْتِبَارِ خَبَرِهِ أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ وَفِي رِوَايَةٍ: هِيَ صَيْدٌ. (وَيَجْعَلُ) : أَيْ: قَاتِلُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (فِيهِ) : أَيْ: فِي جَزَاءِ قَتْلِهِ (كَبْشًا إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ) : بِالِاصْطِيَادِ أَوِ الِاشْتِرَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَيْنَا إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ كَوْنِهِ حَرَامًا كُلَّهَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ صَيْدًا، وَيَلْزَمُ الْكَبْشُ فِي قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ دَلِيلًا لِلْخَصْمِ حَيْثُ إِنَّهُ يَخُصُّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ. بِمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَانْفَرَدَ بِزِيَادَةِ فِيهِ كَبْشٌ، وَالْبَاقُونَ رَوَوْهُ وَلَمْ يَذْكُرُوهَا فِيهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

الضَّبُعُ صَيْدٌ فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَيُؤْكَلُ» ". وَهَذَا دَلِيلُ أَكْلِهِ عِنْدَ الْخَصْمِ وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. (وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

2705 - وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ جَزِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الضَّبُعِ. قَالَ: أَوَيَأْكُلُ الضَّبُعَ أَحَدٌ؟ ". وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَكْلِ الذِّئْبِ. قَالَ: " أَوَيَأْكُلُ الذِّئْبَ أَحَدٌ فِيهِ خَيْرٌ؟» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2705 - (وَعَنْ خُزَيْمَةَ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الزَّايِ (ابْنُ جَزِيٍّ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، وَقِيلَ بِسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ، وَقِيلَ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ (قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الضَّبُعِ قَالَ: " أَوَ يَأْكُلُ الضَّبُعَ أَحَدٌ؟) : دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ أَكْلِ الضَّبُعِ، كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - (وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَكْلِ الذِّئْبِ) : بِالْهَمْزِ وَيُبَدَّلُ (قَالَ: " أَوَ يَأْكُلُ) : أَيْ: أَجْهِلْتَ حُكْمَهُ وَيَأْكُلُ (الذِّئْبَ أَحَدٌ فِيهِ خَيْرٌ) : أَيْ: إِيمَانٌ أَوْ تَقْوًى أَوْ عِرْفَانٌ ; صِفَةُ أَحَدٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَفِي الذِّئْبِ خَيْرٌ، وَهُوَ مِنَ الضَّوَارِي، فَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةٌ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ بَلْ تَعَسُّفٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) : وَفِيهِ أَنَّ الْحَسَنَ أَيْضًا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُسْتَنِدِ إِلَيْهِ سَابِقًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِسْنَادِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ: " «وَمَنْ يَأْكُلُ ضَبُعَ» ": وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ، وَمَعَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي التَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ فَالْأَحْوَطُ حُرْمَتُهُ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " «الضَّبُعُ لَسْتُ آكِلَهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» " كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، فَيُفِيدُ مَا اخْتَارَهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ، إِذِ الْمَكْرُوهُ عِنْدَهُ مَا أَثَّمَ أَكْلُهُ، وَلَا يُقْطَعُ بِتَحْرِيمِهِ، وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ أَئِمَّتِنَا أَنَّ أَكْلَهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، لَا أَنَّهُ حَرَامٌ مَحْضٌ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مَعَ اخْتِلَافٍ فِقْهِيٍّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2706 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: «كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَحْنُ حُرُمٌ، فَأُهْدِيَ لَهُ طَيْرٌ وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ، فَمِنَّا مَنْ أَكَلَ، وَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ قَالَ: فَأَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2706 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) : وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (وَنَحْنُ) : أَيْ: كُلُّنَا (حُرُمٌ) : بِضَمَّتَيْنِ أَيْ: مُحْرِمُونَ (فَأُهْدِيَ لَهُ) : أَيْ: لِطَلْحَةَ (طَيْرٌ) : أَيْ: مَشْوِيٌّ أَوْ مَطْبُوخٌ (وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ فَمِنَّا مَنْ أَكَلَ) : اعْتِمَادًا عَلَى الصَّدَاقَةِ، وَتَجْوِيزًا لِلْمُحْرِمِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ (وَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ) : ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ، (فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ) : أَيْ: بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِطَيْرٍ إِمَّا جِنْسٌ وَكَانَ مُتَعَدِّدًا، وَإِمَّا طَيْرٌ كَبِيرٌ كَفَى جَمَاعَةً (قَالَ) : أَيْ: طَلْحَةُ (فَأَكَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَأَكَلْنَاهُ أَيْ نَظِيرَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

[باب الإحصار وفوت الحج]

[بَابُ الْإِحْصَارِ وَفَوْتِ الْحَجِّ]

(13) بَابُ الْإِحْصَارِ وَفَوْتِ الْحَجِّ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2707 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَلَقَ رَأَسَهُ وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [13] بَابُ الْإِحْصَارِ أَيِ: الْمَنْعُ أَوِ الْحَبْسُ لُغَةً، وَالْمَنْعُ عَنِ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ شَرْعًا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ عِنْدَنَا بِالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ، كَالْمَرَضِ، وَهَلَاكِ النَّفَقَةِ، مَوْتِ مَحْرَمِ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فِي الطَّرِيقِ اهـ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ خُصَّ الْإِحْصَارُ بِالْعَدُوِّ الْكَافِرِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، عَلَى أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْإِحْصَارَ الْمَنْعُ بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ أَوْ حَبْسٍ، وَالْحَصْرُ التَّضْيِيقُ، ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ مُعْتَرِضًا عَلَى النَّوَوِيِّ، حَيْثُ نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ الْإِحْصَارَ فِي الْعَدُوِّ أَشْهَرُ، وَالْحَصْرُ فِي الْمَرَضِ أَكْثَرُ فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ، خُذْ مَا صَفَا وَدَعْ مَا كَدِرَ. (وَفَوْتُ الْحَجِّ) بِأَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا وَلَمْ يُدْرِكْ مَكَانَ الْوُقُوفِ، وَهُوَ عَرَفَةُ فِي زَمَانِهِ، وَهُوَ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إِلَى طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَوْ سَاعَةً، وَهُنَا فَرْعٌ غَرِيبٌ وَأَمْرٌ عَجِيبٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْعِشَاءَ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَخَافَ لَوْ ذَهَبَ إِلَى عَرَفَاتٍ تَفُوتُ الْعِشَاءُ، وَلَوِ اشْتَغَلَ بِالْعِشَاءِ يَفُوتُ الْوُقُوفُ فَقِيلَ: يَشْتَغِلُ بِالْعِشَاءِ وَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ، وَقِيلَ يَدَعُ الصَّلَاةَ وَيَذْهَبُ إِلَى عَرَفَةَ. وَقَالَ صَاحِبُ النُّخْبَةِ: يُصَلِّي الْفَرْضَ فِي الطَّرِيقِ مَاشِيًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ ثُمَّ يَقْضِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ احْتِيَاطًا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2707 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ مُنِعَ عَنْ عُمْرَتِهِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ (فَحَلَقَ رَأْسَهُ) : أَيْ: بِنِيَّةِ التَّحَلُّلِ (وَجَامَعَ نِسَاءَهُ) : أَيْ: بَعْدَ تَحَلُّلِهِ الْكَامِلِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَنَحَرَ هَدْيَهُ) : إِذِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَحَلَّلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا رَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ فَنَحَرَ ثُمَّ حَلَقَ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا. وَفِي الْهِدَايَةِ: ثُمَّ تَحَلَّلَ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الذَّبْحِ حَتَّى لَوْ ظَنَّ الْمُحْصَرُ أَنَّ الْهَدْيَ قَدْ ذُبِحَ فِي يَوْمِ الْمُوَاعَدَةِ، فَفَعَلَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَدَمُ الذَّبْحِ إِذْ ذَاكَ كَانَ عَلَيْهِ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ، وَكَذَا لَوْ ذَبَحَ فِي الْحِلِّ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ ذُبِحَ فِي الْحَرَمِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقَالُ أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ أَوِ السُّلْطَانُ إِذَا مَنَعَهُ، فَإِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِعَدُوٍّ فَلَهُ التَّحَلُّلُ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَيَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ الْمُحْرِمِ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ بَاقِي الْهَدَايَا إِلَّا فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُرَاقُ هَدْيُ الْمُحْصَرِ أَيْضًا إِلَّا فِي الْحَرَمِ، (حَتَّى اعْتَمَرَ) : غَايَةٌ لِلْمَجْمُوعِ أَيْ: تَحَلَّلَ حَتَّى اعْتَمَرَ أَيْ قَضَى (عَامًا قَابِلًا) : أَيْ: آتِيًا يَعْنِي السَّنَةَ السَّابِعَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي اعْتَمَرَ فِيهَا قَضَاءً لِعُمْرَةٍ حَلَّ مِنْهَا، وَقَضَاؤُهَا كَانَ وَاجِبًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ يُسَمُّونَ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَقِيلَ أَكْثَرَ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ هَذِهِ الْعُمْرَةَ إِلَّا نَحْوُ نِصْفِهِمْ، وَلَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ لَقَضَى الْكُلُّ أَوِ الْأَكْثَرُ اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ فَوْرًا، وَلَا بِكَوْنِهِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَكُونُ الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، فَيَحُوزُ وُقُوعُهُ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2708 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَالَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدَايَاهُ وَحَلَقَ وَقَصَّرَ أَصْحَابُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2708 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ مُعْتَمِرِينَ (فَحَالَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ) أَيْ مَنَعُونَا عَنْ طَوَافِهِ (فَنَحَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدَايَاهُ وَحَلَقَ) أَيْ ثُمَّ حَلَقَ كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ (وَقَصَّرَ أَصْحَابُهُ) أَيْ بَعْضُهُمْ وَحَلَقَ الْبَاقُونَ وَفِي شَرْحِ الْآثَارِ لِلطَّحَّاوِيِّ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الْمُحْصَرِ إِذَا نَحَرَ هَدْيَهُ هَلْ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَحْلِقُ وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. اهـ. وَمَالَ الطَّحَّاوِيُّ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَلْقُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَلِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2709 - وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2709 - (وَعَنِ الْمِسْوَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْوَاوِ (ابْنِ مَخْرَمَةَ) بِخَاءٍ مُعْجَمَهٍ سَاكِنَةٍ بَيْنَ فَتْحَتَيْنِ (قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ» ) أَيْ بِالنَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2710 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: " «أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا، فَيَهْدِيَ، أَوْ يَصُومَ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2710 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: أَلَيْسَ) : اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ (حَسْبُكُمْ) : أَيْ: كَافِيكُمْ (سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ) : أَيْ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ إِنْ) : شَرْطِيَّةٌ (حُبِسَ أَحَدُكُمْ) : أَيْ: مَنَعَ مَانِعٌ (عَنِ الْحَجِّ) : أَيْ: رُكْنِهِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَلَمْ يُمْنَعِ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ (وَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) وَسَعَى بَيْنَهُمَا (ثُمَّ حَلَّ) : أَيْ: بِالْحَلْقِ وَنَحْوِهِ (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا) : أَيْ: قَضَاءً لِمَا فَاتَهُ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ لِاسْتِوَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] مَعَ اتِّفَاقِ الشَّافِعِيَّةِ لَنَا فِي أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِيهِمَا تَطَوُّعًا لَزِمَ إِتْمَامُهُمَا وَقَضَاؤُهُمَا إِنْ أَفْسَدَهَا، وَعِنْدَنَا يَلْزَمُ النَّفْلُ بِالشُّرُوعِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِمَرَضٍ أَوْ عُذْرٍ غَيْرِ الْعَدُوِّ ; يُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ وَفَاتَ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ كَمَا فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْآتِي: " مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ " إِلَخْ (فَيُهْدِي، أَوَيَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا) : اعْلَمْ أَنَّ الْفَائِتَ إِذَا كَانَ مُفْرَدًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ مَنْ قَابِلٍ، وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ، وَلَا دَمَ، بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: عَلَيْهِ الدَّمُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَأَشَارَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ إِلَى اسْتِحْبَابِ الدَّمِ لِلْفَائِتِ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الْفَائِتُ قَارِنًا فَإِنَّهُ يَطُوفُ لِلْعُمْرَةِ وَيَسْعَى، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِفَوَاتِ الْحَجِّ، وَيَسْعَى لَهُ وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَقَدْ بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا بَطَلَ تَمَتُّعُهُ وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُهُ، وَإِنْ سَاقَهُ مَعَهُ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ، وَعَلَى الْكُلِّ لَا يَجِبُ فِي عَامِ الْقَضَاءِ إِلَّا الْحَجُّ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2711 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا: " لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟ " قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً. فَقَالَ لَهَا: " حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2711 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضُبَاعَةَ) : بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، بِنْتِ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِنْتِ الزُّبَيْرِ) : أَيِ: ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَزَوْجَةِ الْمِقْدَادِ، وَزَعْمُ أَنَّهَا أَسْلَمِيَّةٌ غَلَطٌ فَاحِشٌ (فَقَالَ) : أَيْ: وَهِيَ فِي الْمَدِينَةِ (لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟) : أَيْ: مَعَنَا فَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَتَوَجَّهِي لِلْحَجِّ مَعَنَا (قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُنِي) : أَيْ: نَفْسِي (إِلَّا وَجِعَةً) : بِكَسْرِ الْجِيمِ تَعْنِي أَجِدُ فِي نَفْسِيَ ضَعْفًا مِنَ الْمَرَضِ، لَا أَدْرِي أَقْدِرُ عَلَى تَمَامِ الْحَجِّ أَمْ لَا. (قَالَ لَهَا: حُجِّي) : أَيْ: أَحْرِمِي بِالْحَجِّ (وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي) : عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ (اللَّهُمَّ مَحِلِّي) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ مَحِلُّ خُرُوجِي مِنَ الْحَجِّ، وَمَوْضِعُ حَلَالِي مِنَ الْإِحْرَامِ يَعْنِي: زَمَانُهُ أَوْ مَكَانُهُ (حَيْثُ حَبَسْتَنِي) أَيْ: مَنَعْتَنِي يَا اللَّهُ، يَعْنِي مَكَانَ مَنْعِي فِيهِ مِنَ الْحَجِّ لِلْمَرَضِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَهَذَا تَفْسِيرُ الِاشْتِرَاطِ، يَعْنِي: اشْتَرِطِي أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْإِحْرَامِ حَيْثُ مَرِضْتُ وَعَجَزْتُ عَنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَرَ الْإِحْصَارَ بِالْمَرَضِ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْمَرَضُ يُنْتِجُ التَّحَلُّلَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالِاشْتِرَاطِ لِعَدَمِ الْإِفَادَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ، وَمَنْ يَرَى الْإِحْصَارَ بِالْمَرَضِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ.

الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ الْآتِي، وَبِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ وَيَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ؟ وَيَقُولُ: فَائِدَةُ الِاشْتِرَاطِ تَعْجِيلُ التَّحَلُّلِ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُشْتَرَطْ لَتَأَخَّرَ تُحَلُّلُهَا إِلَى حِينِ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلِّهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمُحْصَرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ بِالْحَرَمِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ اهـ. وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ فَإِنَّ عِنْدَنَا اشْتِرَاطَ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ، وَلَا يُفِيدُ شَيْئًا. وَهَذَا هُوَ الْمَسْطُورُ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ بِإِحْصَارِ الْمَرَضِ بِدُونِ الشَّرْطِ وَمَعَ الشَّرْطِ قِيلَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ، وَجَعَلَ هَذَا الْحُكْمَ مَخْصُوصًا بِضُبَاعَةَ، كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ فِي رَفْضِ الْحَجِّ وَلَيْسَ يَضُرُّهُمْ ذَلِكَ اهـ. وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا كَمَا لَا يَخْفَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2712 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُبَدِّلُوا الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2712 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ) : أَيْ: بَعْضَ أَصْحَابِهِ (أَنْ يُبَدِّلُوا) : بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، أَيْ: يَعْرِضُوا (الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ) : يَعْنِي: أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَنْحَرُوا بَدَلَ مَا نَحَرُوا فِي السَّنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ; لِعَدَمِ إِجْزَاءِ الْأَوَّلِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي الْحَرَمِ، كَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُحْصَرِ إِذَا حَلَّ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَمَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لَا يُذْبَحُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِبْدَالِ، لِأَنَّهُمْ نَحَرُوا هَدَايَاهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةَ خَارِجَ الْحَرَمِ اهـ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ تَبِعَهُ ذَبَحُوا دَمَ إِحْصَارِهِمْ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (رَوَاهُ) : هُنَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ أَلْحَقَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ فِي نُسْخَةٍ: وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، الْفَصْلُ الثَّالِثُ. كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ غَلَطٌ إِذِ الْحَدِيثُ الْآتِي وَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِ: مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ أَوْ مَرِضَ، وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ زِيَادَةِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ.

2713 - وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كُسِرَ، أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " أَوْ مَرِضَ ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2713 - (وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كُسِرَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (أَوْ عَرِجَ) : بِكَسْرٍ وَبِفَتْحٍ فِي الْقَامُوسِ: عَرَجَ أَصَابَهُ شَيْءٌ فِي رِجْلِهِ وَلَيْسَ بِخِلْقَةٍ، فَإِذَا كَانَ خِلْقَهً فَعَرِجَ كَفَرِحَ أَوْ بِثُلُثٍ فِي غَيْرِ الْخِلْقَةِ، وَزَادَ فِي الْمَصَابِيحِ أَوْ مَرِضَ، يَعْنِي مَنْ حَدَثَ لَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ مَانِعٌ غَيْرُ إِحْصَارِ الْعَدُوِّ (فَقَدْ حَلَّ) : أَيْ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِحْرَامَ وَيَرْجِعَ إِلَى وَطَنِهِ. (وَعَلَيْهِ مِنْ قَابِلٍ) : أَيْ: يَقْضِي ذَلِكَ الْحَجَّ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّحَلُّلِ بِوَاسِطَةِ الْمَرَضِ، وَقِيلَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ وَمَعَ اشْتِرَاطٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ضُبَاعَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " أَوْ مَرِضَ " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ: وَقَالَ غَيْرُهُ: صَحِيحٌ (وَفِي " الْمَصَابِيحِ ". ضَعِيفٌ) . أَقُولُ: يُحْمَلُ عَلَى سَنَدِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ سَنَدِهِ ضِعْفُ سَنَدِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعَارُضِ وَرُجِّحَ تَحْسِينُ التِّرْمِذِيِّ عَلَى تَضْعِيفِ الْبَغَوَيِّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا: صَدَقَ.

رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَفِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ عَلْقَمَةَ. قَالَ: لُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ، فَذَكَرْنَاهُ لِأَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَيُوَاعِدُ أَصْحَابَهُ مَوْعِدًا فَإِذَا نَحَرَ عَنْهُ حَلَّ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ.

2714 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ. أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2714 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ) : غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ (الدِّيلِيِّ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ الدَّالِّ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَكَانَ الْيَاءِ، وَحِينَئِذٍ تُكْتَبُ بِصُورَةِ الْوَاوِ (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْحَجُّ عَرَفَةُ) : أَيْ: مَلَاكُ الْحَجِّ وَمُعْظَمُ أَرْكَانِهِ وُقُوفُ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ (مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ) أَيِ: الْوُقُوفَ بِهَا (لَيْلَةَ جَمْعٍ) : أَيْ: وَلَوْ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ لَيْلَةُ الْعِيدِ (قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوُقُوفَ يَفُوتُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ وَقْتَهُ يَمْتَدُّ إِلَى مَا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ (فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ) : أَيْ: لَمْ يَفُتْهُ وَأَمِنَ مِنَ الْفَسَادِ إِذَا لَمْ يُجَامِعْ قَبْلَ الْوُقُوفِ، وَأَمَّا إِذَا فَاتَهُ الْوُقُوفُ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ إِحْرَامِهِ إِلَى قَابِلٍ، كَمَا نُقِلَ الْإِجْمَاعُ فِي ذَلِكَ إِلَّا رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، فَإِنِ اسْتَدَامَ إِحْرَامُهُ إِلَى قَابِلٍ لَمْ يُجْزِئْهُ الْحَجُّ. (أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ) : أَرَادَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ (فَمَنْ تَعَجَّلَ) : أَيْ: لِلنَّفْرِ (فِي يَوْمَيْنِ) : أَيِ: الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) : وَسَقَطَ عَنْهُ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، وَرَمَى الْيَوْمَ الثَّالِثِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَتَعَجَّلَ جَاءَ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَهُنَا لَازِمٌ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: (وَمَنْ تَأَخَّرَ) : أَيْ: لِرَمْيِ يَوْمِ الثَّالِثِ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) : وَهُوَ أَفْضَلُ لِكَوْنِ الْعَمَلُ فِيهِ أَكْمَلَ لِعِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا فِئَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا تَرَى الْمُتَعَجِّلَ آثِمًا، وَأُخْرَى تَرَى الْمُتَأَخِّرَ آثِمًا فَوَرَدَ التَّنْزِيلُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُمَا، وَدَلَّ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ.

[باب حرم مكة]

[بَابُ حَرَمِ مَكَّةَ] َ - حَرَسَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2715 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتُهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ حَرَمِ مَكَّةَ) أَيْ: حُرْمَةِ حَزْمِهَا (حَرَسَهَا اللَّهُ - تَعَالَى -) أَيْ حَمَاهَا وَحَفِظَهَا مِنَ الْآفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَاهَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2715 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ) نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (لَا هِجْرَةَ) مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَفْرُوضَةً (بَعْدَ الْفَتْحِ) كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) أَيْ بَقِيَ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ، يَعْنِي الْإِخْلَاصَ فِي الْعَمَلِ الشَّامِلِ لِلْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: أَيُّ قَصْدٍ وَعَزْمٍ عَلَى إِعْلَاءِ الدِّينِ بِالْهِجْرَةِ عَنِ الْمَعَاصِي قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَتِ الْهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ انْقَطَعَتْ تِلْكَ الْهِجْرَةُ الْمَفْرُوضَةُ، فَلَا تُنَالُ بِالْهِجْرَةِ تِلْكَ الدَّرَجَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِلْمُهَاجِرِينَ، لَكِنْ يُنَالُ الْأَجْرُ بِالْجِهَادِ وَإِحْسَانِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا الْهِجْرَةُ الَّتِي تَكُونُ لِصَلَاحِ دِينِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ مَدَى الدَّهْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ

أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ إِخْبَارُهُ أَنَّ مَكَّةَ تَدُومُ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا هِجْرَةٌ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ إِذَا طُلِبْتُمْ لِلنَّفْرِ وَهُوَ الْخُرُوجُ إِلَى الْجِهَادِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ: فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ. بِالْفَاءِ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ الْمُتَعَمَّدَةِ فَتُكَلَّفَ بِقَوْلِهِ مُقَدِّرًا وَإِذَا وَجَبَ الْجِهَادُ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ (فَانْفِرُوا) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيِ اخْرُجُوا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] (وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ) أَعَادَهُ تَأْكِيدًا، أَوْ إِشَارَةً إِلَى وُقُوعِ هَذَا الْقَوْلِ وَقْتًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ - وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ) أَيْ مَكَّةَ يَعْنِي حَرَمَهَا، أَوِ الْمُرَادُ بِالْبَلَدِ أَرْضُ الْحَرَمِ جَمِيعُهَا (حُرْمَةُ اللَّهِ) أَيْ حَرُمَ عَلَى النَّاسِ هَتْكُهُ وَأَوْجَبَ تَعْظِيمَهُ (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أَيْ تَحْرِيمُهُ شَرِيعَةٌ سَالِفَةٌ، مُسْتَمِرَّةٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَيُحْرِمُ مَكَّةَ، وَالتَّحْقِيقُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ أَظْهَرَ حُرْمَتَهَا، وَحَدَّدَ بُقْعَتَهَا، وَرَفَعَ كَعْبَتَهَا، بَعْدَمَا انْدَرَسَتْ بِسَبَبِ الطُّوفَانِ الَّذِي هَدَمَ بِنَاءَ آدَمَ وَبَيَّنَ حُدُودَ الْحَرَمِ (فَهُوَ) أَنَّ الْبَلَدَ (حَرَامٌ) أَيْ مُحَرَّمٌ مُحْتَرَمٌ (بِحُرْمَةِ اللَّهِ) أَيْ بِتَحْرِيمِهِ - تَعَالَى - (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ نَسْخِهِ (وَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (لَنْ يَحِلَّ) أَيْ لَمْ يَحِلَّ (الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِيَ، وَلَمْ يَحِلَّ) أَيِ الْقِتَالُ لِي (إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) دَلَّ عَلَى أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ عُنْوَةً وَقَهْرًا كَمَا هُوَ عِنْدَنَا، أَيْ أُحِلَّ لِي سَاعَةَ إِرَاقَةِ الدَّمِ دُونَ الصَّيْدِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ (فَهُوَ) أَيِ الْبَلَدُ (حَرَامٌ) أَيْ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَعْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ (بِحُرْمَةِ اللَّهِ) أَيِ الْمُؤَبَّدَةِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أَيِ النَّفْخَةِ الْأُولَى (لَا يُعَضَدُ) أَيْ لَا يُقْطَعُ (شَوْكُهُ) أَيْ وَلَوْ يَحْصُلُ التَّأَذِّي بِهِ وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ قَطْعُ الشَّوْكِ الْمُؤْذِي فَمُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَلِذَا جَرَى جَمْعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ عَلَى حُرْمَةِ قَطَعِهِ مُطْلَقًا، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَاخْتَارَهُ فِي عِدَّةِ كُتُبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَّابِ: كُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ قَطْعِ الشَّوْكِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْظُورُ مِنْهُ الشَّوْكَ الَّذِي يَرْعَاهُ الْإِبِلُ وَهُوَ مَا دَقَّ دُونَ الصُّلْبِ الَّذِي لَا تَرْعَاهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَطَبِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِأَهْلِ الْعِلْمِ عُلَمَاءَ الْمَالِكِيَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - (وَلَا يُنَفَّرُ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ (صَيْدُهُ) أَيْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِالِاصْطِيَادِ وَالْإِيحَاشِ وَالْإِيهَاجِ (وَلَا يُلْتَقَطُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لُقَطُهُ) بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ لَا تُؤْخَذُ سَاقِطَتُهُ (إِلَّا مِنْ عَرَّفَهَا) بِالتَّشْدِيدِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِذَا التَّقْدِيرُ لَا يَلْتَقِطُهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَأْخُذْهَا لِنَفْسِهِ وَانْتِفَاعِهَا، قِيلَ: أَيْ لَيْسَ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ إِلَّا التَّعْرِيفُ فَلَا يَتَمَلَّكُهَا أَحَدٌ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقِيلَ: حُكْمُهَا كَحُكْمِ غَيْرِهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا أَنْ لَا يُتَوَهَّمُ تَخْصِيصُ تَعْرِيفِهَا بِأَيَّامِ الْمَوْسِمِ وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ (وَلَا يُخْتَلَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (خَلَاهَا) . بِفَتْحِ الْخَاءِ مَقْصُورًا، أَيْ: لَا يُقْتَطَعُ نَبَاتُهَا وَحَشِيشُهَا. قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: الْخَلَا مَقْصُورًا الرَّطْبُ مِنَ النَّبَاتِ، كَمَا أَنَّ الْحَشِيشَ هُوَ الْيَابِسُ مِنْهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ فِي حُرْمَةِ الْقَطْعِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. اهـ. وَهَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ. قَالَ الشَّمَنِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَكَذَا إِنْ ذَبَحَ الْحَلَالُ صَيْدَ الْحَرَمِ أَيْ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ وَيُهْدِي بِهَا أَوْ يُطْعِمُ وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ، أَوْ قَطَعَ حَشِيشَةً أَوْ شَجَرَةً إِلَّا مَمْلُوكًا ; أَيْ: لِلْقَاطِعِ أَوْ مُنْبِتًا أَوْ جَافًّا ; أَيْ: يَابِسًا. (فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ) بِالنَّصْبِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالرَّفْعِ وَهُوَ تَلْقِينٌ وَالْتِمَاسٌ ; أَيْ: قُلْ إِلَّا الْإِذْخِرَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَيْنَهُمَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ نَبْتٌ عَرِيضُ الْأَوْرَاقِ (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الْإِذْخِرُ نَافِعٌ وَمُحْتَاجٌ إِلَيْهِ (لِقَيْنِهِمْ) : الْقَيْنُ الْحَدَّادُ، وَكَذَا الصَّيَّاغُ فَإِنَّهُمْ يَحْرِقُونَهُ بَدَلَ الْحَطَبَ وَالْفَحْمَ. (وَلِبُيُوتِهِمْ) أَيْ لِسَقْفِهَا وَكَذَا لِسَقْفِ قُبُورِهِمْ، وَالْمَعْنَى لِبُيُوتِهِمْ حَالَ حَيَاتِهِمْ وَمَمَاتِهِمْ، (فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخِرَ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2716 - وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَةُ إِلَّا مُنْشِدٌ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2716 - (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (وَلَا يَلْتَقِطُ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: لَا يَأْخُذُ (سَاقِطَتَهَا إِلَّا مُنْشِدٌ) أَيْ: مُعَرِّفٌ. قَالَ الشَّمَنِيُّ: رَوَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعَضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ " فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا. فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " إِلَّا الْإِذِخِرَ» . وَالْخَلَا بِالْقَصْرِ: الْحَشِيشُ الرَّطْبُ، وَاخْتِلَاؤُهُ قَطْعُهُ وَلَا يُرْعَى الْحَشِيشُ، وَجَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَفَعًا لِلْحَرَجِ عَنِ الزَّائِرِينَ وَالْمُقِيمِينَ اهـ كَلَامُهُ. وَهُوَ تَعْلِيلٌ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ فَلَا يَتِمُّ مَرَامُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيَجُوزُ رَعْيُ نَبَاتِ الْحَرَمِ وَشَجَرِهِ، لِأَنَّ الْبَهَائِمَ كَانَتْ تُسَاقُ فِيهِ غَيْرَ مَرْبُوطَةِ الْأَفْوَاهِ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَنِ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْبَهَائِمَ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الرَّاعِي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي اسْتِثْنَاءِ الدَّوَابِّ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ " وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ نَقْلُ تُرَابِ الْحَرَمِ وَحَجَرِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ إِلَى حَرَمِ الْمَدِينَةِ "، كَمَا يُمْنَعُ نَقْلُ تُرَابِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَحَجَرِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَلَوْ إِلَى حَرَمِ مَكَّةَ، وَيُكْرَهُ نَقْلُ تُرَابِ الْحِلِّ إِلَيْهِ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ أَنَّ إِهَانَةَ الشَّرِيفِ أَقْبَحُ مِنْ رِفْعَةِ الْوَضِيعِ، وَأَمَّا نَقْلُ مَاءِ زَمْزَمَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ فَمَنْدُوبٌ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَهْدَاهُ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمُزَادَتَيْنِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَمَلَهُ فِي الْأَدَاوِي وَالْقِرَبِ، وَكَانَ يَصُبُّ عَلَى الْمَرِيضِ وَيَسْتَشْفِيهِمْ بِهِ» ، وَصَحَّ «عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تَنْقُلُهُ وَتُخْبِرُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَنْقُلُهُ» .

2717 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2717 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ) . أَيْ بِلَا ضَرُورَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمُطْلَقًا عِنْدَ الْحَسَنِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ دُخُولُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِمَا شَرَطَهُ مِنَ السِّلَاحِ فِي الْقِرَابِ، وَدُخُولُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَامَ الْفَتْحِ مُتَهَيِّئًا لِلْقِتَالِ، كَذَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَتَبِعَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ، إِذِ الْمُرَادُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ ظَاهِرًا بِحَيْثُ يَكُونُ سَبَبًا لِرُعْبِ مُسْلِمٍ أَوْ أَذْيِ أَحَدٍ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ الْيَوْمَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْنَعُ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْحُجَّاجِ، وَأَمَّا عَامُ الْفَتْحِ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ كَانَ أُبِيحَ لَهُ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ حَمْلِ السِّلَاحِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2718 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: " اقْتُلْهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2718 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، شِبْهُ قَلَنْسُوَةٍ مِنَ الدِّرْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ عَلَى جَوَازِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِمَنْ لَا يُرِيدُ النُّسُكَ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الشَّمَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تُجَاوِزُوا الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ» ". وَأَيْضًا الْإِحْرَامُ لِتَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا، وَدُخُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: " «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِيَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا» . يَعْنِي فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حِلِّ الدُّخُولِ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِقِتَالٍ. (فَلَمَّا نَزَعَهُ) : أَيِ: الْمِغْفَرَ مِنْ رَأْسِهِ (جَاءَ رَجُلٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ فَضْلُ بْنُ عُبَيْدٍ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ. (وَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ (مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: " اقْتُلْهُ) .

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلَ مُسْلِمًا كَانَ يَخْدِمُهُ وَاتَّخَذَ جَارِيَتَيْنِ تُغَنِّيَانِ بِهَجْوِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ وَأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ يَعْنِي قِصَاصًا، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْحَرَمَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ جَنَى خَارِجَهُ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ، أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ لِارْتِدَادِهِ انْفِرَادًا، أَوْ مَعَ انْضِمَامِ قَتْلِ النَّفْسِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ قَتَلَهُ قِصَاصًا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقِصَاصِ عَدَمُ وُجُودِ شُرُوطِهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَتَأْوِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أُحِلَّتْ لَهُ، وَحِينَئِذٍ مَكَّةُ كَغَيْرِهَا بِخِلَافِهَا بَعْدَهَا مَرْدُودٌ بِوَضْعِ الْمِغْفَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَضْعِهِ نَقَضُ أَمْرِهِ، وَنَهْيُهُ فِي حُكْمِهِ مِنْ يَوْمِهِ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ أَذِنَ فِي قَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِنْ كَانُوا مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، مِنْهُمْ هَذَا وَهُوَ أَشَدُّهُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2719 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2719 - (وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ» ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ (سَوْدَاءُ) : قِيلَ: إِنَّهُ بِسَبَبِ الْمِغْفَرِ (بِغَيْرِ إِحْرَامٍ) : تَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَلَعَلَّ دُخُولَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عُرِفَ مِنْ عَدَمِ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ، وَإِلَّا فَالْإِحْرَامُ هُوَ النِّيَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالتَّلْبِيَةُ مَعَهَا عِنْدَنَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي اللُّبْسَ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَظَاهِرُهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ كَانَ جَامِعًا بَيْنَ لُبْسِ الْمِغْفَرِ وَالْعِمَامَةِ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنْ عِيَاضٍ وَأَقَرَّهُ مِنْهُ، وَتَبِعَهُمَا الطَّيْبِيُّ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ دَخَلَ أَوَّلًا وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، ثُمَّ بَعْدَ إِزَالَتِهِ عَنْ رَأْسِهِ وَضَعَ الْعِمَامَةَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ كَانَتْ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ» اهـ. وَفِي جَمْعِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، إِذْ لَا مَانِعَ أَنَّهُ حَالَ الدُّخُولِ كَانَ بِهِمَا ثُمَّ قَلَعَ الْمِغْفَرَ وَأَبْقَى الْعِمَامَةَ، هَذَا وَفِي الْجُمْلَةِ جَازَ لُبْسُ السَّوَادِ فِي الْعِمَامَةِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّ الْأَفْضَلَ الْبَيَاضُ نَظَرًا إِلَى أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِعْلًا وَأَمْرًا، وَأَغْرَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمْ: لُبْسُ الْخَطِيبِ السَّوَادَ بِدْعَةٌ فَلْيَتْرُكْهُ وَيَلْبَسِ الْأَبْيَضَ إِلَّا أَنْ أُكْرِهَ بِخُصُوصِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْعَبَّاسِيُّونَ، وَمَا أَحْسَنَ عِبَارَةُ الطِّيبِيِّ فِيهِ جَوَازُ لُبْسِ السَّوَادِ فِي الْخُطْبَةِ وَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ أَفْضَلَ.

2720 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2720 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَغْزُو) : أَيْ: يَقْصِدُ (جَيْشٌ) : أَيْ: عَسْكَرٌ عَنْ عَظِيمٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (الْكَعْبَةَ) : أَيْ: لِيُخَرِّبَهَا (فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ) : أَيْ بُقْعَةٍ فَيْحَاءَ وَمَفَازَةٍ وَسْعَاءَ مِنْهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَعْرُوفِ قُرْبَ الْمَدِينَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ (يُخْسَفُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ) . أَيْ: يُخْسَفُ بِكُلِّهِمُ الْأَرْضَ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ) : أَيِ: الْحَالُ وَهُوَ مِنْ حُسْنِ السُّؤَالِ (يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ كَانَ جَمْعَ سُوقٍ، فَالتَّقْدِيرُ: أَهْلُ أَسْوَاقِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جَمْعَ سُوقَةٍ، وَهِيَ الرَّعَايَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ. (وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟) : أَيْ: فِي الْكُفْرِ وَالْقَصْدِ بِتَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ، عَطْفٌ عَلَى أَسْوَاقِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مَنْ لَا يَقْصِدُ تَخْرِيبَ الْكَعْبَةِ، بَلْ هُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْأُسَارَى. (قَالَ: " يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ) ، فَيَدْخُلُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ لِأَنَّهُمْ كَثَّرُوا فِي سَوَادِهِمْ وَأَعَانُوهُمْ عَلَى فَسَادِهِمْ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] (ثُمَّ يُبْعَثُونَ) : أَيْ: كُلُّهُمْ (عَلَى نِيَّاتِهِمْ) . أَيْ: يُبْعَثُ مَنْ كَانَ نِيَّتَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ كَانَ نِيَّتَهُ الْكُفْرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2721 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2721 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا (ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ) : وَإِنَّمَا صُغِّرَ سَاقَاهُ لِأَنَّ سَاقَيْهِ قَصِيرَتَانِ (مِنَ الْحَبَشَةِ) : أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2722 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2722 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَأَنِّي بِهِ) : أَيْ: مُلْتَبِسٌ إِلَيْهِ وَانْظُرُ إِلَيْهِ، يُرِيدُ بِهِ مَنْ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ، وَكَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَكَرَهُ بَعْدَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ أَحَدٌ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، إِذْ لَمْ يُعْرَفِ اتِّصَالُ الْحَدِيثَيْنِ لَا سِيَّمَا مَعَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: كَأَنِّي بِرَجُلٍ أَسْوَدَ أَفْحَجَ إِلَخْ. (أَسْوَدَ) : وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْمَصَابِيحِ، ثُمَّ هُوَ إِمَّا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ، أَوْ حَالٌ عَنْهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (أَفْحَجَ) : بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى الْجِيمِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَدَانَى صُدُورُ قَدَمَيْهِ وَيَتَبَاعَدُ عَقِبَاهُ، وَيَتَفَحَّجُ سَاقَاهُ، وَمَعْنَاهُ يَتَفَرَّجُ، وَالْفُحْجُ بِجِيمَيْنِ فَتْحُ مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ أَقْبَحُ مِنَ الْفَحْجِ (يَقْلَعُهَا) : أَيْ: بِنَاءَ الْكَعْبَةِ (حَجَرًا حَجَرًا) : حَالَانِ نَظِيرُ بَوَّبْتُهُ بَابًا بَابًا، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا بَدَلَانِ عَنْ ضَمِيرِ الْكَعْبَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا بِنَاؤُهَا، وَأَيْضًا الْحَجَرُ جَامِدٌ، وَالْبَابُ مُشْتَقٌّ فَلَا يُقَالُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قِيلَ: وَيَرْمُونَهَا فِي الْبَحْرِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُهَنْدِسُونَ أَنَّ بَقَاءَهُمَا الْمُدَّةَ الْمَدِيدَةَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ الْعَدِيدَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2723 - عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحَادٌ فِيهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2723 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ) : وَهُوَ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ فِي حَالَةِ الْغَلَاءِ لِيُبَاعَ إِذَا اشْتَدَّ غَلَاهُ، وَهُوَ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَفِي الْحَرَمِ أَشَدُّ (إِلْحَادٌ فِيهِ) : أَيْ: مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ فِي الْحَرَمِ قَالَ - تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2724 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَّةَ: " «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2724 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَّةَ) : أَيْ: خِطَابًا لَهَا حِينَ وَدَاعِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَهْمِهَا وَسَمَاعِهَا، وَذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ) : صِيغَةُ تَعَجُّبٍ (وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ) ، عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَالْأُولَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَدِّ ذَاتِهَا أَوْ لِلْإِطْلَاقِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّخْصِيصِ (وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي) : أَيْ صَارُوا سَبَبًا لِخُرُوجِي (مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ) . وَهَذَا دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ صَنَّفَ السُّيُوطِيُّ رِسَالَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) : تَمْيِيزٌ.

2725 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ، فَقَالَ: " «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2725 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَى وَزْنِ الْقَسْوَرَةِ مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ، وَبَعْضُهُمْ شَدَّدَهَا أَيِ: الرَّاءَ، وَالْحَزْوَرَةُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى التَّلِّ الصَّغِيرِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ هُنَاكَ كَانَ تَلًّا صَغِيرًا، وَقِيلَ: لِأَنَّ وَكِيعَ بْنَ سَلَمَةَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ إِيَادٍ كَانَ وَلِيَ أَمْرَ الْبَيْتِ بَعْدَ جُرْهُمٍ فَبَنَى صَرْحًا هُنَاكَ، وَجَعَلَ فِيهَا أُمَّهُ، يُقَالُ: لَهَا حَزْوَرَةُ فَسُمِّيَتْ مَكَّةُ بِهَا اهـ. وَقِيلَ: اسْمُ سُوقٍ بِمَكَّةَ وَهُوَ الْآنَ مَعْرُوفٌ بِالْغَرْوَرَةِ، وَهُوَ بَابُ الْوَدَاعِ. (فَقَالَ) : أَيْ: مُخَاطِبًا لِلْكَعْبَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنْ حَرَمِهَا، وَفِيهِ تَأْنِيسٌ فِي الْجُمْلَةِ لِقَوْلِ أَئِمَّتِنَا الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُوَدِّعِ أَنْ يَكُونَ مُلْتَفِتًا إِلَى مَا وَرَاءَهُ، كَالْمُتَنَدِّمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، بَلْ كَالْكُرْهِ فِي الِانْصِرَافِ عَنْهَا، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْأَدَبِ فِي مُفَارَقَةِ بَيْتِ الرَّبِّ، وَأَمَّا الْقَهْقَرَى وَإِنْ كَانَتْ بِدْعَةً إِلَّا أَنَّهَا لَا تُزَاحِمُ سُنَّةً، وَلَا تَدْفَعُهَا مَرَّةً فَهِيَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بَلْ رَفَعَهُ أَنَّ مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. ( «وَاللَّهِ إِنَّكِ لِخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ» ) : فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ إِلَّا الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، بَلْ مِنَ الْعَرْشِ إِجْمَاعًا وَتَمَحَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي رَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، أَنَّهُ تَشَبُّثٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُمْ عَارَضُوا هَذَا الْحَدِيثَ الثَّابِتَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ; بَلْ مَوْضُوعَةٍ مِنْهَا: «اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ» ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ دِحْيَةَ، بَلْ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ قَالُوا: مِنْ كَمَالِ تَسَاهُلِهِ فِي كِتَابِهِ عُطِّلَ تَمَامُ النَّفْعِ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ بَعْدَ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَيْضًا لِمَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَوِ الْبَحْرِينِ، أَوْ قِنَّسْرِينَ، فَدَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ لِيَخْتَارَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ خَيْرَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَحْفَظَهَا مِنَ الْفِتَنِ وَالْفَسَادِ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ. (وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ) : أَيْ: بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ (مَا خَرَجْتُ) : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَهُوَ الضَّرُورَةُ الدِّينِيَّةُ أَوِ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَلِذَا قِيلَ: الدُّخُولُ فِيهَا سَعَادَةٌ، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا شَقَاوَةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَغَيْرُهُمَا وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَأَمَّا خَبَرُ الطَّبَرَانِيِّ: الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ فَضَعِيفٌ ; بَلْ مُنْكَرٌ وَأَنَّهُ كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى زَمَانِهِ لِكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ فِي حَضْرَتِهِ، وَمُلَازِمَةِ خِدْمَتِهِ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِذَاتِهِ، بَلْ بِوُجُودِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ، وَنُزُولِهِ مَعَ بَرَكَاتِهِ، وَنَاهِيكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبُقْعَتَيْنِ أَنَّ السَّفَرَ إِلَى مَكَّةَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِلَى الْمَدِينَةِ سُنَّةٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَيْضًا نَفْسُ الْمَدِينَةِ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنْ مَكَّةَ اتِّفَاقًا، إِذَا لَا تَضَاعُفَ فِيهِ أَصْلًا، بَلِ الْمُضَاعَفَةُ فِي الْمَسْجِدَيْنِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ: " «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» ". وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِثْلُهُ بِالرَّأْيِ: صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَةِ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَعَدَمِهَا، فَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُخْتَارَ اسْتِحْبَابًا إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي الْمَحْذُورِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إِلَى كَرَاهَتِهَا، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ هِجْرَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ: مَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا عَلَى الْحَجِّ وَالرُّجُوعِ، وَهُوَ أَيِ الْأَوَّلُ أَعْجَبُ، وَهَذَا أَيِ: الثَّانِي أَحْوَطُ لِمَا فِي خِلَافِهِ مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ عَلَى الْخَطَرِ، إِذْ طَبْعُ الْإِنْسَانِ التَّبَرُّمُ وَالْمَلَلُ مِنْ تَوَارُدِ مَا خَالَفَ هَوَاهُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَزِيَادَةُ الِانْبِسَاطِ الْمُخِلِّ بِمَا يَجِبُ مِنْ

الِاحْتِرَامِ لِمَا يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ عَلَيْهِ وَمُدَاوَمَةُ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ مَحَلُّ الْخَطَأِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَؤُهُ الْمُضَاعَفُ يُضَاعَفُ» " أَيْ: كَمِّيَّةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنْ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهَا فِي حَرَمِ اللَّهِ أَفْحَشُ وَأَغْلَظُ، أَيْ تُضَاعَفُ كَيْفِيَّةً فَتَنْهَضُ سَبَبًا لِغِلْظِ الْمُوجَبِ وَهُوَ الْعِقَابُ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ هَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْمَرْوِيِ مِنَ التَّضَاعُفِ كَيْلَا يُعَارِضَ قَوْلَهُ - تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] أَعْنِي أَنَّ السَّيِّئَةَ تَكُونُ فِيهِ سَبَبًا لِمِقْدَارٍ مِنَ الْعِقَابِ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِهِ عَنْهَا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مِقْدَارِ سَيِّئَاتٍ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ سَبَبٌ لِمَقْتِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ سَجِيَّةَ الْبَشَرِ، فَالسَّبِيلُ التَّرَوُّحُ عَنْ سَاحَتِهِ، وَقَلَّ مَنْ يَطْمَئِنُّ إِلَى نَفْسِهِ فِي دَعْوَاهَا الْبَرَاءَةَ هَذِهِ الْأُمُورَ - إِلَّا وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَغْرُورٌ، أَلَا تَرَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَبَّبِينَ إِلَيْهِ الْمَدْعُوِّ لَهُ، كَيْفَ اتَّخَذَ الطَّائِفَ دَارًا وَقَالَ: لَأَنْ أُذْنِبَ خَمْسِينَ ذَنْبًا بِرَكِيَّةٍ - وَهُوَ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الطَّائِفِ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُذْنِبَ ذَنْبًا وَاحِدًا بِمَكَّةَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ بَلْدَةٍ يُؤْخَذُ الْعَبْدُ فِيهَا بِالْهِمَّةِ قَبْلَ الْعَمَلِ إِلَّا مَكَّةَ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِلَّذِي جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ: ارْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّا نَسْمَعُ أَنَّ سَاكِنَ مَكَّةَ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَكُونَ الْحَرَمُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِلِّ ; لِمَا يُسْتَحَلُّ مِنْ حَرَمِهَا. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطِيئَةٌ أُصِيبُهَا بِمَكَّةَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ سَبْعِينَ خَطِيئَةً بِغَيْرِهَا. نِعْمَ أَفْرَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ اسْتَخْلَصَهُمْ وَخَلَّصَهُمْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الطِّبَاعِ، فَأُولَئِكَ هُمْ أَهْلُ الْجَوَازِ الْفَائِزُونَ بِفَضِيلَةِ مَنْ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَالصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ مَا يُحْبِطُهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ فِي مَسْجِدِهِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْتُهُ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ طَافَ أُسْبُوعًا يُحْصِيهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ ". قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَا رَفَعَ رَجُلٌ قَدَمًا وَلَا وَضَعَهَا إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ» ". وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ، وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهُ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَبِكُلِّ لَيْلَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَكُلِّ يَوْمٍ حِمْلَانِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» "، وَلَكِنَّ الْفَائِزَ بِهَذَا مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ إِحْبَاطِهَا أَقَلُّ الْقَلِيلِ، فَلَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِمْ وَلَا بِذِكْرِ حَالِهِمْ قَيْدًا فِي جَوَازِ الْجِوَارِ، لِأَنَّ شَأْنَ النُّفُوسِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةُ، وَالْمُبَادِرَةُ إِلَى الدَّعْوَةِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَتَطَلَّبَهُ، وَإِنَّهَا لَأَكْذَبُ مَا يَكُونُ إِذَا حَلَفَتْ، فَكَيْفَ إِذَا ادَّعَتْ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ كَوْنُ الْجِوَارُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ تَضَاعُفَ السَّيِّئَاتِ وَتَعَاظُمَهَا وَإِنْ فُقِدَ فِيهَا، فَمُخَالِفَةُ السَّلَامَةِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ إِلَى الْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ التَّوْقِيرِ، وَالْإِحْلَالُ قَائِمٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَيْضًا مَانِعٌ إِلَّا لِلْأَفْرَادِ ذَوِي الْمَلَكَاتِ، فَإِنَّ مَقَامَهُمْ وَمَوْتَهُمْ فِيهَا السَّعَادَةُ الْكَامِلَةُ. فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي ; إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ شَهِيدًا» ". وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ غَيْرَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا» " اهـ. وَلَوْ أَدْرَكَ الْأَوَّلُونَ مَا انْتَهِي إِلَيْهِ الْآخَرُونَ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِنَا الْغَافِلُونَ، لَحَكَمُوا بِحُرْمَةِ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِنْ شُيُوعِ الظُّلْمِ، وَكَثْرَةِ الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، وَظُهُورِ الْمُنْكَرَاتِ، وَفُشُوِّ الْبِدَعِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَالشُّبَهَاتِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسُوا بِمُجَاوِرِينَ، بَلْ لَهُمْ مَقَاصِدُ فَاسِدَةٌ صَارُوا بِهَا مُقِيمِينَ غَيْرَ مُسَافِرِينَ، مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ جِرَايَةٍ أَوْ " جَامَكِيَّةٍ " أَوْ صُرَّةٍ أَوْ شُهْرَةٍ، غَالِبُهُمْ يَأْكُلُونَهَا، غَيْرَ اسْتِحْقَاقٍ لِحَالَتِهِمْ وَمِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِوَظَائِفِ خِدْمَتِهِمْ، وَمِنْ غَيْرِ رِعَايَةٍ لِشُرُوطِ الْأَوْقَافِ فِي مُدَاخَلَاتِهِمْ، لَكِنَّ هَذِهِ الْبَلِيَّةَ حَيْثُ عَمَّتِ الْبِلَادَ وَطَمَّتِ فِي الْبِلَادِ " طَابَتْ "، حَتَّى عَلَى الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ. قَالَ - تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. قَالَ - تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، " وَلَعَلَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِالْفِعْلِ وَالْإِحْسَانِ ".

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2726 - عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعُدُوِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَدٍ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا. فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالُ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ! أَنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ: الْخَرْبَةُ: الْخِيَانَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2726 - (وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعُدُوِيِّ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ (أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ) أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيِّ الْقُرَشِيِّ، كَانَ أَمِيرًا بِالْمَدِينَةِ نَائِبًا عَنِ ابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْخَلِيفَةِ بِالْحَقِّ فِي مَكَّةَ وَأَعْمَالِهَا وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا لَا الشَّامَ، فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا (وَهُوَ) : أَيْ: عَمْرُو (يَبْعَثُ الْبُعُوثَ) : أَيْ: يُرْسِلُ الْجُيُوشَ (إِلَى مَكَّةَ) وَالْبَعْثُ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ يُرْسِلُهَا الْأَمِيرُ إِلَى قِتَالِ فِرْقَةٍ وَفَتْحِ بِلَادٍ. (ائْذَنْ لِي) : بِفَتْحِ الذَّالِ وَتُبَدَّلُ هَمْزَتُهُ الثَّانِيَةُ بِالْيَاءِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْإِذْنِ. بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ (أَيُّهَا الْأَمِيرُ! أُحَدِّثْكَ) : بِالْجَزْمِ وَقِيلَ بِالرَّفْعِ (قَوْلًا) : أَيْ: حَدِيثًا (قَامَ بِهِ) : أَيْ: بِذَلِكَ الْقَوْلِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ خَطِيبًا، وَالْمَعْنَى حَدَّثَ بِهِ (الْغَدَ) أَيِ: الْيَوْمَ الثَّانِي (مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ) : بِضَمِّ الذَّالِ وَسُكُونِهَا (وَوَعَاهُ قَلْبِي) ، أَيْ: حَفِظَهُ (وَأَبْصَرَتْهُ) : أَيْ: قَائِلَهُ (عَيْنَايَ) : فِيهِ تَأْكِيدَاتٌ لَا تَخْفَى (حِينَ تَكَلَّمَ حَمِدَ اللَّهَ) : جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ أَيْ: شَكَرَ اللَّهَ شُكْرًا جَزِيلًا (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) ، أَيْ: ثَنَاءً جَمِيلًا (ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ) : أَنْ جَعَلَهَا مُحَرَّمَةً مُعَظَّمَةً وَأَهْلُهَا تَبَعٌ لَهَا فِي الْحُرْمَةِ (وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ) ، أَيْ: مِنْ عِنْدِهِمْ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ حَرَّمَهَا إِبْرَاهِيمُ بِأَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - (فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأُخَرِ) : اكْتَفَى بِطُرُقَيِ الْمُؤْمِنِ بِهِ عَنْ بَقِيَّتِهِ (أَنْ يَسْفِكَ) : أَيْ: يَسْكُبَ (بِهَا دَمًا) أَيْ: بِالْجُرْحِ وَالْقَتْلِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ دَمًا مُهْدَرًا وَفْقُ قَوَاعِدِنَا، وَإِلَّا فَالدَّمُ الْمَعْصُومُ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَرَمُ وَغَيْرُهُ فِي حُرْمَةِ سَفْكِهِ (وَلَا يَعْضِدَ) : بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا أَيْ: وَلَا يَقْطَعَ (بِهَا شَجَرَةً) ، وَفِي مَعْنَاهَا النَّبَاتُ وَالْحَشِيشُ (لِأَنْ) : شَرْطِيَّةٌ (أَحَدٌ) : فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا يُفَسِّرُهُ (تَرَخَّصَ) : نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6] وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] ، (بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (فِيهَا. فَقُولُوا: لَهُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ) : أَيْ: أَجَازَ (لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ) . وَبِهِ تَمَّ جَوَابُ الْمُتَرَخِّصِ ثُمَّ ابْتَدَأَ عَطَفَ عَلَى الشَّرْطِ فَقَالَ: (وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) : الْتِفَاتٌ فِي الْكَلَامِ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ (وَقَدْ عَادَتْ) : أَيْ: رَجَعَتْ (حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ) : أَيْ: يَوْمَ الْخُطْبَةِ الْمَذْكُورَةِ (كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ) : أَيْ: مَا عَدَا تِلْكَ السَّاعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْسِ الزَّمَنُ الْمَاضِي (وَلْيُبْلِّغِ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ اللَّامِ (الشَّاهِدُ) : أَيِ: الْحَاضِرُ (الْغَائِبَ " فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ (قَالَ) : أَيْ: أَبُو شُرَيْحٍ (قَالَ) : أَيْ: عَمْرٌو (أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ) . أَيِ الْحَدِيثَ أَوِ الْحُكْمَ (مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ تَتِمَّةً: لِمَا قَبْلَهُ أَوْ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ (إِنَّ الْحَرَمَ) : أَيْ مَكَّةَ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ (لَا يُعِيذُ) : أَيْ: لَا يُجِيرُ (عَاصِيًا) : أَيْ: بِنَحْوِ الْخُرُوجِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، زَعْمًا مِنْهُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ هُوَ الْخَلِيفَةُ بِحَقٍّ، وَالْحَالُ أَنَّهُ بَاطِلٌ (وَلَا فَارًّا) : أَيْ: هَارِبًا (بِدَمٍ) ، أَيْ قَتْلٍ بِالْكُلِّيَّةِ بِمُجَرَّدِ الِالْتِجَاءِ إِلَى الْحَرَمِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِجَاءِ، فَإِنَّهُ يَطْلُبُ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ وَلَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُبَاعُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ، لِيَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ مُضْطَرًّا فَيُقْتَصُّ مِنْهُ، فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ فِيهِ دَلِيلًا لِمَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مَنْ فِي الْحَرَمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ قَوَدٍ أَوْ حَدٍّ، عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى مَنْصِبِهِ عَدَمُ اعْتِبَارِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ إِجْمَاعًا، فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ اتِّفَاقًا (وَلَا فَارًّا) أَيْ شَارِدًا (بِخَرْبَةٍ) . بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَقَدْ يُقَالُ بِضَمِّ الْخَاءِ أَيْ بِجِنَايَةٍ وَأَصْلُهَا سَرِقَةُ الْإِبِلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي الْبُخَارِيِّ: الْخَرْبَةُ: الْجِنَايَةُ) . وَفِي نُسْخَةٍ: الْخِيَانَةُ ضِدَّ الْأَمَانَةِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: عِنْدَ الْخَرْبَةِ الْبَلِيَّةُ.

2727 - وَعَنْ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ حَقَّ تَعْظِيمِهَا، فَإِذَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ هَلَكُوا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2727 - (وَعَنْ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ) أَخُو أَبِي جَهْلٍ إِلَّا أَنَّهُ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَزَالُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ (هَذِهِ الْأُمَّةُ) : أَيْ: أُمَّةُ الْإِجَابَةِ (بِخَيْرٍ) : التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ (مَا عَظَّمُوا) : أَيْ: مُدَّةَ تَعْظِيمِهِمْ (هَذِهِ الْحُرْمَةَ) : أَيْ: حَرَمَهَا مَكَّةَ وَحَرَمَهُ الْمَعْهُودَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِأَجْمَعِهَا (حَقَّ تَعْظِيمِهَا، فَإِذَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ) : أَيِ التَّعْظِيمَ، أَوْ مَا ذَكَرَهُ: مِنَ الْحُرْمَةِ (هَلَكُوا) أَيْ: بِالْإِهَانَةِ وِفَاقًا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب حرم المدينة]

[بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ] (15) بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2728 - عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا كَتَبْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ [15] بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ عُلِمَ أَنَّ لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةً، عَنْدَنا لَا حَرَمَ لِمَكَّةَ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، فَعِنْدَهُمْ يَحْرُمُ صَيْدُهَا وَقَطْعُ شَجَرِهَا، وَعِنْدَنَا لَا يَحْرُمُ ذَلِكَ. قَالَ فِي الْكَافِي: لِأَنَّ حِلَّ الِاصْطِيَادِ عُرِفَ بِالنُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ، فَلَا يَحْرُمُ إِلَّا بِبَرَاهِنَ سَاطِعَةٍ وَمَرْوِيُّهُمْ مُحْتَمَلٌ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً (حَرَسَهَا اللَّهُ - تَعَالَى -) . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2728 - (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ) : أَيْ عَلِيٌّ: تَفْسِيرًا لِمَا فِي الصَّحِيفَةِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمَدِينَةُ حَرَامٌ) : أَيْ: مُحْتَرَمٌ مَمْنُوعٌ مِمَّا يَقْتَضِي إِهَانَةَ الْمَوْضِعِ الْمُكَرَّمِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْحَرَامُ بِمَعْنَى الْحَرَمِ (مَا بَيْنَ عَيْرٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْيَاءِ (وَثَوْرٍ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، جَبَلَانِ عَلَى طَرَفَيِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ بِمَكَّةَ، وَفِيهِ الْغَارُ الَّذِي تَوَارَى فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي رِوَايَةٍ: مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَأُحُدٍ، فَيَكُونُ ثَوْرٌ غَلَطًا مِنَ الرَّاوِي، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَشْهَرُ فِي الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ عَيْرًا جِبَلٌ بِمَكَّةَ أَيْضًا، فَالْمَعْنَى أَنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ بِمِقْدَارِ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَثَوْرٍ حَرَمٌ كَحُرْمَةِ مَا بَيْنَهُمَا، وَبِمَكَّةَ جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ: عَيْرُ عَدْوِي، وَجَبَلٌ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ أَطْحَلُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمَا الْحُرْمَتَيْنِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: " «حُرِّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي» " فَشَبَّهَ إِحْدَى الْحُرْمَتَيْنِ بِعَيْرٍ لِنُتُوٍّ وَسَطَهُ وَنُشُوزِهِ، وَالْأُخْرَى بِثَوْرٍ لِامْتِنَاعِهِ تَشْبِيهًا بِثَوْرِ الْوَحْشِ، أَوْ أَرَادَ بِهِمَا مَأْزِمَيِ الْمَدِينَةِ فَشَبَّهَهُمَا بِعَيْرٍ وَثَوْرٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: " «حَرَامٌ مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا» " وَمَا شُعْبَتَانِ تَكْتَنِفَانِهَا، فَشَبَّهَهُمَا بِالْجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِمَكَّةَ، كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ. (فَمَنْ أَحْدَثَ) : أَيْ: أَظْهَرَ (فِيهَا) : أَيْ فِي الْمَدِينَةِ (حَدَثًا) : أَيْ: مُنْكَرًا أَوْ بِدْعَةً، وَهِيَ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ (أَوْ آوَى) : بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ (مُحْدِثًا) : بِكَسْرِ الدَّالَّةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَيْ: مُبْتَدِعًا، وَقِيلَ: أَيْ: جَانِبًا بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، وَيُرْوَى بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ أَمْرًا مُبْتَدَعًا وَإِيوَاؤُهُ الرِّضَاءُ بِهِ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ (فَعَلَيْهِ) : أَيْ: فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا (لَعْنَةُ اللَّهِ) : أَيْ: طَرْدُهُ وَإِبْعَادُهُ (وَالْمَلَائِكَةِ) : أَيْ: دُعَاؤُهُمْ عَلَيْهِ عَنْ رَحْمَتِهِ (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) : أَيْ: مِمَّنْ عَدَّ الْمُحْدِثَ وَالْمُؤْوِيَ، أَوْ هُمَا دَاخِلَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا مِمَّنْ يَقُولُ:

أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَالظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ. (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ) : أَيْ قَبُولًا كَامِلًا (صَرْفٌ) : أَيْ فَرْضٌ أَوْ نَافِلَةٌ أَوْ تَوْبَةٌ أَوْ شَفَاعَةٌ (وَلَا عَدْلٌ) ، أَيْ نَافِلَةٌ أَوْ فَرْضَةٌ أَوْ فِدْيَةٌ، لِأَنَّهَا تُعَادِلُ الْمُفْدَى، وَقِيلَ: شَفَاعَةٌ، وَقِيلَ: تَوْبَةٌ (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ) : أَيْ: عَهْدُهُمْ وَأَمَانُهُمْ (وَاحِدَةٌ) : أَيْ: إِنَّهَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ، وَلَا الْعَاقِدِ بِهَا، وَكَانَ الَّذِي يَنْقُضُ ذِمَّةَ أَخِيهِ كَالَّذِي يَنْقُضُ ذِمَّةَ نَفْسِهِ، وَهِيَ مَا يُذَمُّ الرَّجُلُ عَلَى إِذَاعَتِهِ مِنْ عَهْدٍ وَأَمَانٍ، كَأَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ الَّذِي إِذَا اشْتَكِي بَعْضُهُ اشْتَكِي كُلُّهُ. (يَسْعَى بِهَا) : أَيْ: يَتَوَلَّاهَا وَيَلِي أَمْرَهَا (أَدْنَاهُمْ) أَيْ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ مَرْتَبَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ شَرِيفٍ أَوْ وَضِيعٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِذَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آوَى كَافِرًا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤْوَى عَبْدًا، وَأَمَّا إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ فَلَمْ يَعْتَبِرْ أَمَانَ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فَمَحَلُّهُ الْأَهَمُّ. (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَأَمَانَهُ لِلْكَافِرِ، بِأَنْ قَتَلَ ذَلِكَ الْكَافِرَ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ، وَحَقِيقَتُهُ إِزَالَةُ خَفْرَتِهِ أَيْ: عَهْدِهِ وَأَمَانِهِ (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ) : أَيِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، أَوْ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ لِكَرَاهَتِهِمُ الْعَاصِينَ (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) : وَكَذَا عَلَى مَنِ اقْتَدَى بِهِ أَوْ رَضِيَ بِفِعْلِهِ، فَتَكُونُ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى، (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمُخْفِرِ (صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ) : كَمَا تَقَدَّمَ (وَمَنْ وَالَى قَوْمًا) : بِأَنْ يَقُولَ مُعْتَقٌ لِغَيْرِ مُعْتِقِهِ: أَنْتَ مَوْلَايَ (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) ، لَيْسَ لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الْإِذْنِ وَقَصْرِهِ عَلَيْهِ، بَلْ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْذَنَ مَوَالِيَهُ لَمْ يَأْذَنُوا لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: أَرَادَ بِهِ وَلَاءَ الْمُوَلَّاةِ لَا وَلَاءَ الْعِتْقِ، كَمَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَانِعِ، وَهُوَ إِبْطَالُ حَقِّهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ، وَإِيرَادُ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ لَا تَقْيِيدَ حَتَّى يَجُوزَ الِانْتِسَابُ بِالْإِذْنِ. (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) هُوَ يُفِيدُ أَنَّ عَلِيًّا مَا كَتَبَ شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ فَيُؤْتَى، فَيُقَالُ: قَدْ فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْأَشْتَرُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقُولُ تَفَشَّغَ فِي النَّاسِ، أَهُوَ شَيْءٌ عَهَدَهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ النَّاسِ إِلَّا شَيْئًا جَمَعْتُهُ مِنْهُ فَهُوَ فِي صَحِيفَةٍ فِي قِرَابِ سَيْفِي. قَالَ: فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخْرَجَ الصَّحِيفَةَ، فَإِذَا فِيهَا: " «مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا» ": الْحَدِيثَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ عَلِيٍ بِإِبْطَالِ مَا يَزْعُمُهُ الشِّيعَةُ وَيَفْتَرُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ عَلِيًّا أَوْصَى إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخِلَافَةِ وَأَسْرَارٍ أُخَرَ، وَخَصَّ أَهْلَ الْبَيْتِ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَهَذِهِ دَعَاوِي بَاطِلَةٌ وَاخْتِرَاعَاتٌ فَاسِدَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، وَيَكْفِي فِي إِبْطَالِهِ قَوْلُ عَلِيٍّ هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ، وَمَعْنَى تَفَشَّغَ بِالْفَاءِ وَالشِّينِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ ; أَيْ: ظَهَرَ وَانْتَشَرَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " مَنِ ادَّعَى) : أَيِ انْتَسَبَ (إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ) ، أَيِ: الْمَعْرُوفِ (أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ) : هَذَا الْعَطْفُ يُؤَيِّدُ مَنْ فَسَّرَ الْمُوَالَاةَ بِوَلَاءِ الْعِتَاقَةِ (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ) جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْوَعِيدِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لِحْمَةٌ كَلِحْمَةِ النَّسَبِ، فَإِذَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ كَانَ كَالدَّعِيِّ الَّذِي يَتَبَرَّأُ عَمَّنْ هُوَ مِنْهُ، وَأَلْحَقَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، فَيَسْتَحِقُّ بِهِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ عَنِ الرَّحْمَةِ.

2729 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ: أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا " وَقَالَ: " الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ بِهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2729 - (وَعَنْ سَعْدٍ) : أَيِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي أُحَرِّمُ) : أَيْ أُعَظِّمُ أَوْ أَمْنَعُ (مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ) : أَيْ: جَانِبَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ، قِيلَ: اللَّابَةُ الْحَرَّةُ وَهِيَ الْأَرْضُ ذَاتُ الْحِجَارَةِ السُّودِ كَأَنَّهَا أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ، وَأَرَادَ بِهِمَا حَرَّتَيْنِ تَكْتَنِفَانِهَا (أَنْ يُقْطَعَ) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَفْعُولِ

(عِضَاهُهَا) : جَمْعُ عِضَةٍ بِحَذْفِ الْهَاءِ الْأَصْلِيَّةِ، كَمَا فِي شَفَةٍ، وَهِيَ كُلُّ شَجَرٍ عَظِيمٍ لَهُ شَوْكٌ (أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا) : حَمَلَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى النَّهْيِ التَّنْزِيهِيِّ كَمَا سَيَجِيءُ (وَقَالَ: " الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) : أَيْ لِأَهْلِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَذَلِكَ مُطْلَقٌ إِنْ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَمُقَيَّدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِنْ كَانَ بَعْدَهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ بَرَكَةِ الْمَعِيشَةِ، فَلَا يُنَافِي بَرَكَةَ الْفَضِيلَةِ الزَّائِدَةِ الثَّابِتَةِ لِمَكَّةَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، (وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) : أَيْ: مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ لَمَا فَارَقُوهَا وَمَا اخْتَارُوا غَيْرَهَا عَلَيْهَا، وَمَا تَجَوَّلُوا لِلتَّوْسِعَةِ فِي الدُّنْيَا. (لَا يَدَعُهَا) اسْتِئْنَافٌ مُبِيِّنٌ، أَيْ لَا يَتْرُكُهَا (أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا) : إِعْرَاضًا، احْتِرَازًا مِنْ تَرْكِهَا ضَرُورَةً (إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ) ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْمَدِينَةَ عَدَمُهُ، بَلْ يَنْفَعُهَا فَقْدُهُ، وَذَهَبَ إِلَى غَيْرِهَا شَرُّهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] قِيلَ: هَذَا الْإِبْدَالُ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطْلَقٌ وَشَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَيَّامِ (وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ) : أَيْ: بِالصَّبْرِ (عَلَى لَأْوَائِهَا) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَيُبَدَّلُ أَيْ: شِدَّةِ جُوعِهَا (وَجُهْدِهَا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا أَيْ: مَشَقَّتِهَا مِمَّا يَجِدُ فِيهِ مِنْ شِدَّةَ الْحَرِّ وَكُرْبَةِ الْغُرْبَةِ وَأَذِيَّةِ مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّأْوَاءُ: الشِّدَّةُ ; لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا ضِيقُ الْمَعِيشَةِ وَالْقَحْطُ لِمَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي مَعْنَاهَا وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ تَفْسِيرِيًّا وَتَأْكِيدًا لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى، وَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ. (إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا) : قِيلَ: أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَوَوْهُ كَذَلِكَ، وَيَبْعُدُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الشَّكِّ، وَقِيلَ: تَقْسِيمٌ أَيْ: شَفِيعًا لِلْعَاصِي شَهِيدًا لِلْمُطِيعِ، أَوْ شَهِيدًا لِمَنْ مَاتَ فِي زَمَانِهِ شَفِيعًا لِمَنْ مَاتَ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِلْمُذْنِبِينَ عَامَّةً، وَعَلَى شَهَادَتِهِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ " «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ» "، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُمْ بِذَلِكَ مَزِيَّةَ مَرْتَبَةٍ وَرِفْعَةَ مَنْزِلَةٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا، بَلْ شَاكِرًا عَلَى إِقَامَتِهِ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا فِيمَا عَدَاهُمَا مِنَ النِّعَمِ الصُّورِيَّةِ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالنِّعَمِ الْحَقِيقِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ لِحَدِيثِ: " «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ» ". وَلِحَدِيثِ: " «مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مَكَّةَ سَاعَةً تَبَاعَدَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ مِائَتَيْ سَنَةٍ» ". وَنِعْمَ مَا قَالَ: إِذَا لَمْ يَطِبْ فِي طِيبِهِ عِنْدَ طَيِّبٍ تَطِيبُ بِهِ الدُّنْيَا فَأَيْنَ تَطِيبُ وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَعَلَا: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] وَأَصْلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي وُصُولِ الرِّزْقِ وَحُصُولِ الْأَمْنِ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الرِّفْقِ.

2730 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2730 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا» ) أَيْ: مِنَ الْجُوعِ وَالْحَرِّ (أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : قِيلَ مَخْصُوصٌ بِزَمَانِ حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: عَامٌّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2731 - وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرَةِ جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا أَخَذَهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَأَنَا أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ". ثُمَّ قَالَ: يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ، فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2731 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: كَانَ النَّاسُ) : أَيِ الصَّحَابَةُ (إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرَةِ) : وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْبَاكُورَةَ وَالْأُنْمُوذَجَ (جَاءُوا بِهِ) : أَيْ: بِأَوَّلِ التَّمْرِ وَفِي نُسْخَةٍ " بِهَا " وَالتَّأْنِيثُ اكْتُسِبَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ طَلَبًا لِلْبَرَكَةِ فِيمَا حَدَّدَ اللَّهُ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ (فَإِذَا أَخَذَهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا) أَيْ بَرَكَةً حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً (وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا) ، أَيْ فِي ذَاتِهَا مِنْ جِهَةِ سَعَتِهَا وَسَعَةِ أَهْلِهَا، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَنْ وَسَّعَ نُفُوسَ الْمَسْجِدِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَثَّرَ الْخَلْقَ فِيهَا ; حَتَّى عُدَّ مِنَ الْفَرَسِ الْمُعَدِّ لِلْقِتَالِ الْمُهَيَّأِ بِهِمَا فِي زَمَنِ عُمَرَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ فَرَسٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَرَكَةِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ. (وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا) أَيْ: فِيمَا يُكَالُ بِهِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا) ;: وَهُوَ كَيْلٌ دُونَ الصَّاعِ (اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ) : آثَرَهُ عَلَى رَسُولِكَ ; لِأَنَّ مَقَامَ النُّبُوَّةِ يَخْتَصُّ بِالْحَقِّ - تَعَالَى - وَلِذَا فَضَّلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى مَقَامِ الرِّسَالَةِ، يَعْنِي أَنَّ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ أَفْضَلُ مِنْ رِسَالَتِهِ ; لِأَنَّ تِلْكَ تَتَعَلَّقُ بِالْحَقِّ وَهَذِهِ بِالْخَلْقِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ غَيْرِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّ هَذَا فِيهِ مَا فِيهِ ذَاكَ، وَزِيَادَةُ خَطَأٍ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي تَعْلِيلِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَعَارُضٍ وَتَنَاقُضٍ بَيْنَ نَقْلِيَّةِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ الَّذِي هُوَ غَيْرُ رَسُولٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ هُوَ الَّذِي أُوْحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ سَوَاءٌ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ أَمْ لَا. وَالرَّسُولُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالتَّبْلِيغِ، فَالرَّسُولُ جَامِعٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مِنَ الْكَمَالِ فِي نَفْسِهِ وَالْإِكْمَالِ لِغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّكْمِيلَ أَكْبَرُ مَرْتَبَةً مِنَ الْكَمَالِ فِي مَقَامِ التَّحْصِيلِ، نَعَمِ النُّبُوَّةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَخْذُ الْفَيْضِ مِنَ الْحَقِّ أَفْضَلُ مِنَ الرَّحْمَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِيصَالٌ لَهُ إِلَى الْخَلْقِ ; وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: الْوِلَايَةُ أَفْضَلُ مِنَ النُّبُوَّةِ بِتَأْوِيلِ أَنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ، وَهُوَ مَعْنَى النُّبُوَّةِ أَشْرَفُ مِنْ رِسَالَتِهِ، وَالتَّحْقِيقُ - وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ - أَنَّ مَرْتَبَةَ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ مَقَامُ جَمْعِ الْجَمْعِ حَيْثُ لَا تَحْجُبُهُ الْكَثْرَةُ عَنِ الْوَحْدَةِ، وَلَا تَحْجِزُهُ الْوَحْدَةُ عَنِ الْكَثْرَةِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ مِنَ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ مَقَامُ الْجَمْعِ الصِّرْفِ الْمُتَخَلَّصِ عَنْ مَقَامِ التَّفْرِقَةِ، بَلْ قَدْ يُقَالُ: النَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْعَابِدِ الْمُشْتَغِلِ بِحَالِ نَفْسِهِ، وَالرَّسُولُ فِي مَرْتَبَةِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ غَيْرِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ) . وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» " وَإِنْ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِهِ، وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي الْقَوْلِ بِالتَّرَادُفِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، فَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] وَحَدِيثُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ إِنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا (وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ) : وَلَعَلَّهُ تَرَكَ وَحَبِيبَكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ نَسِيَانًا مِنَ الرَّاوِي، أَوْ وَقَعَ هَذَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَبِيبٌ (وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ) : أَيْ: بِقَوْلِهِ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] (وَأَنَا أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ) : أَيْ: بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمِثْلِ (مَعَهُ) : وَالْمَعْنَى بِضِعْفِ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (يَدْعُو) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي الْمَصَابِيحِ قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو، وَأَظُنُّهُ الصَّوَابَ (أَصْغَرَ وَلِيدٍ) : أَيْ مَوْلُودٍ وَلَوْ قِنًّا. رُوِيَ مُكَبَّرًا وَقِيلَ مُصَغَّرًا أَيْ وَلَدٍ صَغِيرٍ (لَهُ) قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ، يَعْنِي إِذَا فَرَغَ مِنَ الدُّعَاءِ يَدْعُو أَصْغَرُ طِفْلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، أَوْ قِيلَ مَنْ أُمَّتِهِ (فَيُعْطِيهِ) : أَيِ الْوَلَدَ (ذَلِكَ الثَّمَرَ) : لِيَفْرَحَ ذَلِكَ الطِّفْلُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي رِوَايَةٍ: " «ثُمَّ يُعْطِي أَصْغَرَ وَلِيدٍ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ» " اهـ.

وَهُوَ قَابِلُ التَّقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعَدُّدِ، قِيلَ: تَخْصِيصُ الصَّغِيرِ لِشِدَّةِ فَرَحِ الْوِلْدَانِ بِالْبَاكُورَةِ، وَفِي أَنَّهَا حَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِيجَادِ، وَقِيلَ: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ النُّفُوسَ الْكَامِلَةَ لَا يَنْبَغِي لَهَا تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاكُورَةِ إِلَّا بَعْدَمَا يَعُمُّ وُجُودُهَا وَيَتِمُّ شُهُودُهَا، وَيَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى أَكْلِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُطْلَقَةٌ، مَا فِي الْمَتْنِ مُقَيَّدٌ، فَإِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ مَا فِي الْمَتْنِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ، أَوْ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَقَالَ عِصَامُ الدِّينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الشَّائِلِ، وَقَوْلُهُ: يَدْعُو أَصْغَرُ وَلِيدٍ لِيَسْتَمِدَّ بِسُرُورِ قَلْبِهِ عَلَى إِجَابَةِ دُعَائِهِ، وَهَذَا أَلْطَفُ مِمَّا قَالُوا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِشِدَّةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْبَاكُورَةِ وَالْوَلِيدِ فِي قُرْبِ عَهْدِهِمَا مِنَ الْإِيجَادِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ قَالَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرُ وَلِيدٍ لَهُ، وَلَعَلَّ قَوْلَهَ " لَهُ " مُتَعَلِّقٌ بِيَدْعُو، وَلَيْسَ قَيْدًا لِلْوَلِيدِ أَيْ: يَدْعُو لِلتَّمْرِ فَلَا يُخَالِفُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ اهـ. وَبَعْدَهُ لَا يَخْفَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولَتَانِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَلِيدٌ لَهُ أَعْطَاهُ، أَوْ وَلِيدٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ أَعْطَاهُ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّهُمَا لَوِ اجْتَمَعَا لَشَارَكَ بَيْنَهُمَا، نَعَمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ حَاضِرًا عِنْدَهُ فَلَا شُبْهَةَ أَنَّهُ يُنَادِي أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِبِرِّهِ مِنْ غَيْرِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2732 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَرَامًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أَنْ لَا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلَفٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2732 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : أَيِ الْخِدْرِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنْ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ) أَيْ أَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا (فَجَعَلَهَا حَرَامًا) ، أَيْ بَيَّنَهَا وَعَيَّنَهَا بَعْدَ انْدِرَاسِهَا (وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا) نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ إِمَّا " لِحَرَّمْتُ " عَلَى غَيْرِ لَفْظِهِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ أَيْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: حَرَّمْتُ فَحُرِّمَتْ (مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا) : مَفْعُولٌ ثَانٍ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ الْعَكْسُ، وَالْمَأْزِمُ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبَدَّلُ وَبِكَسْرِ الزَّايِ، الْمَوْضِعُ الضَّيِّقُ بَيْنَ الْجِبَالِ، حَيْثُ يَلْتَقِي بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَيَتَّسِعُ مَا وَرَاءَهُ، وَالْمُرَادُ مَا بَيْنَ جَانِبَيِ الْمَدِينَةِ وَطَرَفَيْهَا (أَنْ لَا يُهَرَاقَ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ بِأَنْ لَا يُرَاقَ (فِيهَا دَمٌ) ، لِأَنَّ إِرَاقَةَ دَمِ الْمُسْلِمِ فِيهَا أَقْبَحُ مِنْ غَيْرِهَا. قِيلَ: إِنَّهُ مَفْعُولُ حَرَّمْتُ عَلَى زِيَادَةِ لَا مِثْلَ: فَلَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْكِتَابِ) أَيْ لِكَيْ يَعْلَمَ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ: لِئَلَّا يُهْرَاقَ أَوْ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِمَا حُرِّمَ أَيْ: هُوَ أَنْ لَا يُسْفَكَ بِهَا دَمٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ نَهْيِ إِرَاقَةِ الدَّمِ النَّهْيُ عَنِ الْقِتَالِ الْمُفْضِي إِلَى إِرَاقَةِ الدَّمِ، لِأَنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ، الْحَرَامِ مَمْنُوعٌ عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْمُبَاحُ مِنْهُ لَمْ نَجِدْ فِيهِ اخْتِلَافًا يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا فِي حَرَمِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: لَا يُسْفَكُ دَمٌ ; حَرَامٌ لِأَنَّ سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا. ( «وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ» ) : هَذَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي ; لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ (وَلَا تُخْبَطَ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ أَيْ لَا تُقْطَعُ (فِيهَا شَجَرَةٌ) : وَقِيلَ: لَا تُضْرَبُ لِيَسْقُطَ أَوْرَاقُهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: (إِلَّا لِعَلَفٍ) : بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَإِسْكَانِهَا. فِي النِّهَايَةِ: بِإِسْكَانِ اللَّامِ مَصْدَرُ عَلَفْتُ عَلَفًا، وَبِالْفَتْحِ اسْمُ الْحَشِيشِ وَالتِّبْنِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهَا، وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ لِلْعَلَفِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ، صَاحِبُ شَرْحِ مُسْلِمٍ، أَوَّلُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ» "، أَرَادَ بِذَلِكَ تَحْرِيمَ التَّعْظِيمِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَرَمِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: " «لَا يُتَخَبَّطُ مِنْهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلَفٍ» " وَأَشْجَارُ حَرَمِ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ خَبْطُهَا بِحَالٍ، وَأَمَّا صَيْدُ الْمَدِينَةِ وَإِنْ رَأَى تَحْرِيمَهُ نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ مِنْهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا اصْطِيَادَ الطُّيُورِ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهْيٌ مِنْ طَرِيقٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. اهـ. كَلَامُهُ. وَأَيْضًا قَالَ أَصْحَابُنَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " أُحَرِّمُ " مِنَ الْحُرْمَةِ لَا مِنَ التَّحْرِيمِ ; بِمَعْنَى أُعَظِّمُ الْمَدِينَةَ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَبِهِ نَقُولُ فَنُعَظِّمُهَا وَنُوَقِّرُهَا أَشَدَّ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ ; لَكِنْ لَا نَقُولُ بِالتَّحْرِيمِ ; لِعَدَمِ الْقَاطِعِ احْتِرَازًا عَنِ الْجَرَاءَةِ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ - تَعَالَى -. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ شِبْهُ التَّحْرِيمِ بِمَكَّةَ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى التَّعْظِيمِ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّشْبِيهَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ; فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى مَا حَمَلْتُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: " كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ " فَقُلْتُمْ فِي الْحُرْمَةِ فَقَطْ لَا فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلَا نُسَلِّمُ؟ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِلَّا عَنْ سَعْدٍ فَقَطْ، وَعَنْ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ سَلْبُ الْقَاطِعِ وَالصَّائِدِ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ، فَكَيْفَ يَجِبُ هُنَاكَ؟ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَمَا حَمَلْتُمْ عَلَى شَيْءٍ سَاغَ لَنَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى آخَرَ، وَهَذَا لِأَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِهُهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] يَعْنِي: مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَخْلِيقُهُ بِغَيْرِ أَبٍ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ تَشْبِيهَهُ بِمَكَّةَ فِي تَحْرِيمِ التَّعْظِيمِ فَقَطْ لَا فِي التَّحْرِيمِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ أُخَرُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَبِالْحَمْلِ عَلَى مَا قُلْنَا يُدْفَعُ، وَدَفْعُهُ هُوَ الْمَطْلُوبُ مَهْمَا أَمْكَنَ بِالْإِجْمَاعِ، فَصَارَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَوْلَى وَأَرْجَحَ بِلَا نِزَاعٍ، مَا أَبْعَدَ مَنِ اسْتَبْعَدَ وَهَذَا الْحَمْلُ مَعَ وُجُودِ فِعْلِ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَمِنْهَا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ - غَيْرُ الشَّافِعِيِّ - فِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ صَيْدُوجَ وَعِضَاهَةً حَرَمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الثَّلَاثَةُ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ صَيْدِ وَجٍّ وَقَطْعِ شَجَرِهِ، مَعَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَأَوَّلُوهُ أَوْ حَمَلُوهُ عَلَى النَّسْخِ، فَكَذَا هَذَا مِثْلُهُ. فَالْجَوَابُ الَّذِي لَهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ جَوَابُنَا فِي هَذَا. وَلِنُورِدَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نَتَمَسَّكُ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهَا. فَمِنْهَا: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ لِأَبِي طَلْحَةَ ابْنٌ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَاحِكُهُ إِذَا دَخَلَ، وَكَانَ لَهُ طَيْرٌ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى أَبَا عُمَيْرٍ حَزِينًا فَقَالَ: " مَا شَأْنُ أَبِي عُمَيْرٍ؟ " فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ نُغَيْرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» " قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فَهَذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ صَيْدِهَا حُكْمُ صَيْدِ مَكَّةَ لَمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبْسَ النُّغَيْرِ، وَلَا اللَّعِبَ بِهِ كَمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ بِمَكَّةَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يَسْكُتْ عَنْهُ فِي وَضْعِ الْحَاجَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِقَبَاءَ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْحَرَمِ. قِيلَ لَهُ: هَبْ أَنَّهُ كَمَا ذَكَرْتَهُ ; وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ أَنَّ قَبَاءَ لَيْسَتْ مِنَ الْحَرَمِ ; لِأَنَّهُ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ فِي تَحْدِيدِ حَرَمِهَا بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ، وَالْبَرِيدُ: أَرْبَعُ فَرَاسِخَ، وَقَبَاءُ لَا تَبْلُغُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَرْسَخًا. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ حَدِيثَ النُّغَيْرِ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، أَوْ أَنَّهُ صَادَ مِنَ الْحِلِّ. قِيلَ لَهُ: هَذَا احْتِمَالُ تَأْوِيلٍ، وَتَأْوِيلُ الرَّاوِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَكَيْفَ تَأْوِيلُ غَيْرِهِ؟ وَقَوْلُهُ: أَوْ صَادَهُ مِنَ الْحِلِّ لَا يَلْزَمُنَا عَلَى أَصْلِنَا، لِأَنَّ صَيْدَ الْحِلِّ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحَرَمِ عِنْدَنَا، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْنَا بَلْ عَلَيْهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: طَاعِنًا فِينَا، وَلَكِنَّ أَصْلَهُمْ هَذَا ضَعِيفٌ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمُ اهـ.

وَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ هَذَا، مَعَ أَنَّ اسْتِدْلَالَنَا بِالنَّصِّ وَاسْتِدْلَالَهُمْ بِالْقِيَاسِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يُقَدَّمَ النَّصُّ عَلَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَاسُوا حُكْمَ الصَّيْدِ عَلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْقَاقِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُهُ وَلَا يَرْفَعُهُ، حَتَّى إِذَا ثَبَتَ حَالُ الْكُفْرِ ثُمَّ طَرَأَ إِسْلَامٌ لَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ حَقُّ الشَّرْعِ، وَلَنَا: أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ صَارَ مِنْ صَيْدِهِ، فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُ، كَمَا إِذَا دَخَلَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّعَرُّضُ بِالنَّصِّ ; لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِصَيْدِ الْحَرَمِ إِلَّا مَا كَانَ حَالًّا فِيهِ، وَهَذَا فِيهِ فَوَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الرِّقِّ. وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً، وَتَقْلِيدُهُمْ أَوْلَى مِنَ الْقِيَاسِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، فَعَلِمْنَا مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ دَلِيلَهُمْ أَضْعَفُ أَصْلًا. وَمِنْهَا: فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا أَخَذَهُ كَانَ نَخْلٌ وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَخُرِّبَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ» . . الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: أَخَذَهُ أَيْ مَكَانَ الْمَسْجِدِ، فَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ قَطْعُ نَخْلِ الْحَرَمِ، فَلَوْ كَانَ حَرَمًا لَمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ عَلَى أَصْلِهِمْ. وَمِنْهَا: مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ زَبَالَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمَسْلَمَةَ: " «أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ تَصِيدَهُ بِالْعَقِيقِ لَشَيَّعْتُكَ إِذًا ذَهَبْتَ وَتَلَقَّيْتُكَ إِذَا جِئْتَ فَإِنِّي أُحِبُّ الْعَقِيقَ» " رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَّنَهُ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ فِي النُّخْبَةِ: وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَازُ صَيْدِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَقِيقَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مُخَالِفٌ، وَزِيَادَةُ تَرْغِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَيْدِهَا عَنْ غَيْرِهَا وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ لِكَوْنِ لَحْمِهَا تَرَبَّى مِنْ نَبَاتِ الْمَدِينَةِ فَكَانَ لِلَحْمِهَا مَزِيَّةٌ عَلَى لُحُومِ الصَّيْدِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهَا، كَمَا أَنَّ لِثَمَرِهَا مَزِيَّةً عَلَى بَقِيَّةِ الْأَثْمَارِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيْنَ كُنْتَ " قُلْتُ فِي الصَّيْدِ قَالَ: " أَيْنَ " فَأَخْبَرْتُهُ بِالنَّاحِيَةِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فَكَأَنَّهُ كَرِهَ تِلْكَ النَّاحِيَةَ وَقَالَ: " لَوْ كُنْتَ تَذْهَبُ إِلَى الْعَقِيقِ» " الْحَدِيثَ، وَمِنْهَا مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَفِيهِ كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ فَإِذَا جِئْتُمُوهُ فَكُلُوا مِنْ شَجَرَةٍ وَلَوْ مِنْ عِضَاهِهِ» ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِثْلَهُ وَالْأَكْلُ مِنْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَطْعٍ أَوْ قَلْعٍ، وَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَنْعِ فِي غَيْرِ أُحُدٍ مَنْعُ اسْتِحْبَابٍ لَا تَحْرِيمٍ، أَوْ كَانَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ لَا لِلْأَكْلِ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ وَلِتَتَوَفَّرَ الصُّيُودُ بِهَا فَنَهَاهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ إِرَادَةً لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ فِي الِاصْطِيَادِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، كَمَا قَالَ الْمُنَازِعُونَ فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ صَيْدِ وَجٍّ وَأَشْجَارِهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: حَمَاهُ أَيْ وَادِي وَجٍّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْعُ الْكَلَأِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ: وَلَا أَعْلَمُ لِتَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجًّا مَعْنًى إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْحُمَّى لِنَوْعٍ مِنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى أَنْ قَالَ مَا حَاصِلُهُ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ ثُمَّ نُسِخَ، فَكَمَا أَوَّلُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَنَا أَنْ نُئَوِّلَ هَذَا، ثُمَّ إِنْ صَحَّ مُرَادُ التَّحْرِيمِ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا كَوْنَ الْهِجْرَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةً فَكَانَ يَفْعَلُهُ بَقَاءً لِزِينَتِهَا لِيَسْتَطِيبُوهَا وَيَأْلَفُوهَا، لِأَنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ فِي زِينَتِهَا وَيَدْعُو إِلَيْهَا كَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ هَضْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهَا مِنْ زِينَتِهَا، فَلَمَّا انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ زَالَ ذَلِكَ، فَكَذَا هَذَا» ، فَإِنْ قِيلَ فَصَارَ الْأَمْرُ مُحْتَمِلًا؛ أُجِيبُ فَعَادَ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا أَطْنَبْنَا الْكَلَامَ مَعَ إِنَّهُ خِلَافُ الْمُرَادِ رَدًّا لِلْجَاهِلِ بِعِلْمِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْمُجْتَهِدِ الْأَعْلَمِ الَّذِي صَارَ عِيَالُهُ فِي الْفِقْهِ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِكَوْنِهِ تَابِعِيًّا مِنْ بَيْنِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ قَالَ فِي حَقِّهِ: لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ الْمَنْعِ أَوْ بَلَغَهُ فَخَالَفَهُ بِالرَّأْيِ وَالدَّفْعِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.

2733 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ سَعْدًا رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطُهُ فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامٍ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2733 - (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (أَنَّ سَعْدًا) فَهُوَ أَبُوهُ (رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ) أَيْ مَوْضِعٍ هَيَّأَهُ لَهُ (بِالْعَقِيقِ) اسْمُ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَكَأَنَّهُ مِنْ طُرُقِهَا (فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا) أَيْ شَجَرَ حَرَمِ الْمَدِينَةِ (أَوْ يَخْبِطُهُ) بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ يَخْبِطُ وَرَقَ شَجَرٍ بِضَرْبٍ أَوْ رَمْيِ حَجَرٍ (فَسَلَبَهُ) أَيْ أَخَذِ ثِيَابِهِ وَالسَّلَبُ بِفَتْحَتَيْنِ الْمَسْلُوبُ (فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ) أَيْ إِلَى الْمَدِينَةِ (جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ) شَكَّ الرَّاوِي (مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ أُعُوذُ بِاللَّهِ مَعَاذًا (أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ ثَمَنَهُ» ، وَفِي أُخْرَى إِنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ فَيَجِدُ الْحَاطِبَ مَعَهُ شَجَرٌ رَطْبٌ فَيَسْأَلُهُ فَيُكَلِّمُ فِيهِ فَيَقُولُ: لَا أَدَعُ غَنِيمَةً غَنَّمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ مَالًا. هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ، أَوْ قَوْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِي صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا، بَلْ ذَلِكَ حَرَامٌ بِلَا ضَمَانٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَجِبُ الْجَزَاءُ كَحَرَمِ مَكَّةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحْرُمُ أَيْضًا اهـ. وَهُوَ مَذْهَبُنَا إِلَّا إِنَّهُ يُكْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

2734 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ " «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2734 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وُعِكَ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ هُمْ (أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَعْكُ الْحُمَّى، وَقِيلَ أَلَمُهَا وَقِيلَ نَعْتُ الْحُمَّى وَهُوَ مُمَارَسَتُهَا الْمُحْرِمَ حَتَّى تَصْرَعَهُ (فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ) أَيْ بِمَا صَدَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قُلْتُ لَهُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَقَدْ أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصْبِحٍ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَبِمَا قَالَ بِلَالٌ إِذَا قَلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَيَقُولُ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَعِنْدِي إِذْخَرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ وَهُمَا جَبَلَانِ، وَالْجَلِيلُ وَمِيَاهُ مِجَنَّةَ عَيْنٌ بِقُرْبِ مَكَّةَ، وَالْحَاصِلُ إِنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ مَكَّةَ وَصِحَّةَ هَوَائِهَا، وَعُذُوبَةَ مَائِهَا، وَلَطَافَةَ جِبَالِهَا وَنَبَاتِهَا، وَنَفْخَةَ رِيَاحِ نَبَاتِهَا الَّذِي بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِهَا وَأَبْنَائِهَا (فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ وَأَشَدَّ» ) أَيْ بَلْ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فِي رِوَايَةٍ وَأَشَدَّ وَأَمَّا تَجْوِيزُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ يَكُونُ أَوْ لِلشَّكِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَبَعِيدٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَرَامِ فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ الْكَلَامُ كَحُبِّنَا أَشَدَّ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ عِنْدَ الْأَعْلَامِ ثُمَّ لَا يُنَافِي هَذَا مَا سَبَقَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِمَكَّةَ «إِنَّكِ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّكِ أَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكِ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ مُجَاوِرَةَ الْمَدِينَةِ وَتَّرْكَ التَّوَطُّنِ وَالسُّكُونَ بِمَكَّةَ السَّكِينَةِ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزِيدَ مَحَبَّةَ الْمَدِينَةِ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهِ ; لِئَلَّا يَمِيلُوا بِأَدْنَى الْمَيْلِ غَرَضًا، إِذِ الْمُرَادُ بِالْمَحَبَّةِ الزَّائِدَةِ الْمُلَائِمَةُ لِمَلَاذِ النَّفْسِ، وَنَفْيُ مَشَاقِّهَا لَا الْمَحَبَّةُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى كَثْرَةِ الْمَثُوبَةِ، فَالْحَيْثِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ وَيُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا حَرَّرْنَاهُ قَوْلُهُ (وَصَحِّحْهَا) أَيِ اجْعَلْ هَوَاءَهَا وَمَاءَهَا صَحِيحًا (وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا) وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ» ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مُضَاعَفَةَ الْمَثُوبَةِ بِمَكَّةَ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا دُونَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (وَانْقُلْ) أَيْ حَوِّلْ (حُمَّاهَا) أَيْ وَبَاءَهَا وَشِدَّتَهَا وَكَثْرَتَهَا (فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ كَانَ سَاكِنُوا الْجُحْفَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَهُودًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَإِنَّ الْحُمَّى انْتَقَلَتْ إِلَيْهَا حَتَّى مَنْ شَرِبَ مِنْ مَائِهَا حُمَّ بَلْ لَوْ مَرَّ الطَّيْرُ فِي هَوَائِهِ حُمَّ.

2735 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ «رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَتْ مَهْيَعَةَ، فَتَأَوَّلْتُهَا أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَى مَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2735 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ قَالَ فِي حَدِيثِ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ الْمَدِينَةِ رَأَيْتُ، فَيَكُونُ رَأَيْتُ حِكَايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثَائِرَةَ الرَّأْسِ) أَيْ مُنْتَشِرَةَ شَعْرِ الرَّأْسِ (خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَتْ مَهْيَعَةَ) بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْبَقِيَّةِ الْأَرْضُ الْمَبْسُوطَةُ الْوَاسِعَةُ (فَتَأَوَّلْتُهَا) أَيْ أَوَّلْتُهَا وَالتَّأْوِيلُ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ (أَنَّ وَبَاءً بِالْمَدِينَةِ) وَهُوَ بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ؛ مَرَضٌ عَامٌّ، أَوْ مَوْتٌ ذَرِيعٌ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْأَرْضِ الْوَخْمَةِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الْأَمْرَاضُ لَا سِيَّمَا لِلْغُرَبَاءِ، أَيْ حُمَّاهَا وَأَمْرَاضِهَا (نُقِلَ إِلَى مَهْيَعَةَ) يُقَالُ: أَرْضٌ مَهْيَعَةٌ، أَيْ مَبْسُوطَةٌ وَبِهَا كَانَتْ تُعَرَفُ فَلَمَّا ذَهَبَ السَّيْلُ بِأَهْلِهَا سُمِّيَتْ جُحْفَةٌ فَقَوْلُهُ (وَهِيَ الْجُحْفَةُ) تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَمْ يَلِدْ بِغَدِيرِ خُمٍّ أَخَذَ فَعَاشَ إِلَى أَنْ يَحْتَلِمَ إِلَّا أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا، وَغَدِيرُ خُمٍّ مَوْضِعٌ بِالْجُحْفَةِ، وَاسْتَشْكَلَ كَيْفَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مَعَ كَوْنِهَا وَبِيَّةً، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ نَهَى عَنِ الْقُدُومِ إِلَى الْوَبَاءِ، فَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَهُوَ: أَنَّ هَذَا الْقُدُومَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقُدُومِ عَلَى الْوَبَاءِ الذَّرِيعِ وَالطَّاعُونِ، وَمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُجَرَّدَ حُمَّى تَشْتَدُّ وَتَطُولُ مُدَّتُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغُرَبَاءِ، وَلَا يَغْلِبُ الْمَوْتُ بِسَبَبِهَا.

2736 - وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَيُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2736 - (وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يُفْتَحُ الْيَمِينُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (فَيَأْتِي قَوْمٌ) أَيْ فَيَذْهَبُونَ إِلَى الْيَمَنِ فَيَعْجِبُ بَعْضًا بِلَادُهُمْ، وَهَنِيَّةُ عِيشَتِهِمْ فَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ إِلَيْهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ فَيَأْتُونَ (يَبُسُّونَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَبِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَالسِّينُ مُشَدَّدَةً، يُقَالُ: أَبْسَسْتُ الدَّابَّةَ وَبَسَسْتُهَا: أَيْ سُقْتُهَا أَيْ يَسِيرُونَ سَيْرًا شَدِيدًا (فَيَتَحَمَّلُونَ) أَيْ يَرْتَحِلُونَ (بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ) أَيِ انْقَادَ لَهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ فِي السَّفَرِ مَعَهُمْ (وَالْمَدِينَةُ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْمَدِينَةَ (خَيْرٌ لَهُمْ) مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا حَرَمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ وَمَنْزِلُ الْبَرَكَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (لَوْ كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ أَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ لَهُمْ لِمَا فَارَقُوهَا، وَلِمَا اخْتَارُوا عَلَيْهَا غَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ لَوْ لِلتَّمَنِّي، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَرْتَحِلُ قَوْمٌ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ بَعْدَ فَتْحِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى يَكْثُرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ مِنَ الْبِلَادِ (وَيُفْتَحُ الشَّامُ) بِالْوَجْهَيْنِ (فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ) بِالتَّذْكِيرِ فَقَطْ (فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) أَيْ مِنَ الْيَمَنِ، وَلَا الشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وَفِي الْحَدِيثِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ الْوَاقِعَاتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2737 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَأُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى» . يَقُولُونَ يَثْرِبَ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2737 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرْتُ) أَيْ فِي الْهِجْرَةِ (بِقَرْيَةٍ) أَيْ بِنُزُولِهَا أَوِ اسْتِيطَانِهَا (تَأْكُلُ الْقُرَى) أَيْ تَغْلِبُهَا وَتَظْهَرُ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى يَغْلِبُ أَهْلُهَا وَهُمُ الْأَنْصَارُ بِالْإِسْلَامِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ قُرَى وَالْأَنْصَارِ، وَفِي الْفَائِقِ أَيْ يَفْتَحُ أَهْلُهَا الْقُرَى وَيَقْتَسِمُونَ أَمْوَالَهَا، فَجَعَلَ ذَلِكَ أَكْلًا مِنْهَا لِلْقُرَى عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى الْقُرَى كَقَوْلِهِمْ: هَذَا حَدِيثٌ يَأْكُلُ الْأَحَادِيثَ أَيْ يُفَضِّلُهَا، وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْوَاقِعَةِ فِي زَمَانِنَا أَنَّ شَخْصًا جَاوَبَ الْقَصِيدَةَ الْبُرْدَةَ بِشِعْرٍ سَخِيفٍ، وَنَظْمٍ ضَعِيفٍ، وَكَانَ قَرَأَ قَصِيدَتَهُ وَيَمْدَحُهَا فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ وَيَقُولُ: هَذَا الْبَيْتُ يَبْلُعُ الْبُرْدَةَ، وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الظُّرَفَاءِ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَلَمَّا أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا يَبْلُعُ.

الْبُرْدَةَ قَالَ: يَا فُلَانُ إِنَّا لَمْ نَرِدِ الْبَالُوعَةَ، فَخَجِلَ الشَّاعِرُ وَبَهَتَ الْفَاجِرُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُ الْأَكْلِ لِلشَّيْءِ الْإِفْنَاءُ لَهُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِافْتِتَاحِ الْبِلَادِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ يَأْكُلُ أَهْلُهَا الْقُرَى، أَوْ أَضَافَ الْأَكْلَ إِلَيْهَا لِأَنَّ أَمْوَالَ تِلْكَ الْبِلَادِ تُجْمَعُ إِلَيْهَا وَتُفْنَى فِيهَا (يَقُولُونَ) أَيِ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لَهَا (يَثْرِبَ) أَوْ هِيَ يَثْرِبُ (وَهِيَ الْمَدِينَةُ) أَيْ يُسَمُّونَهَا هَذَا الِاسْمَ وَالِاسْمُ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ هُوَ الْمَدِينَةُ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّعْظِيمِ، وَأَمَّا التَّثْرِيبُ فَهُوَ اللَّوْمُ وَالتَّوْبِيخُ قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] (تَنْفِي النَّاسَ) أَيِ الْخَبِيثِينَ (كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ يَثْرِبُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُدُنِ، وَقِيلَ هُوَ اسْمُ أَرْضِهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِ رَجُلٍ مِنَ الْعَمَالِقَةِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ نَزَلَهَا وَبِهِ كَانَتْ تُسَمَّى قَبْلَ الِاسْمِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ غَيَّرَ هَذَا الِاسْمَ فَقَالَ بَلْ هِيَ طَابَةُ، وَجَعَلَ الْمَدِينَةَ مَكَانَهَا وَكَأَنَّهُ كَرِهَ هَذَا الِاسْمَ لِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنَ التَّثْرِيبِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ أَيْ مِنْ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ مِنَ الْعَمَالِقَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ يَقُولُونَ يَثْرِبَ وَهِيَ الْمَدِينَةُ ; أَيِ الِاسْمُ الْحَقِيقِيُّ بِأَنْ تُدْعَى بِهِ هِيَ الْمَدِينَةُ فَإِنَّهَا يَلِيقُ بِأَنْ تُتَّخَذَ دَارَ إِقَامَةٍ مِنْ مُدُنٍ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، تَنْفِي النَّاسَ أَيْ شِرَارَهُمْ وَهَمَجَهُمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ بِالْكِيرِ فَإِنَّهُ يَنْفِي خَبَثَ الْحَدِيدِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْبَاءِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ رَدِيئَهُ، ثُمَّ كُورُ الْحَدَّادِ بِضَمِّ الْكَافِ تَوَقُّدُ النَّارِ مِنَ الطِّينِ وَالْكِيرُ زِقُّهُ الَّذِي يُنْفُخُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ مَا بُنِيَ مِنَ الطِّينِ اهـ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ حُكِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ مَنْ سَمَّاهَا يَثْرِبَ كُتِبَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا فِي الْقُرْآنِ بِيَثْرِبَ فَهِيَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ تَحْرِيمُ تَسْمِيَةِ الْمَدِينَةِ بِيَثْرِبَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا: «مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هِيَ طَابَةُ هِيَ طَابَةُ» قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ يُحَقِّرُ شَأْنَ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَصَفَ مَا سَمَّاهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ ; يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى عَاصِيًا، بَلْ هُوَ كَافِرٌ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: أُسْنِدَ تَسْمِيَتُهَا بِيَثْرِبَ إِلَى النَّاسِ تَحَاشِيًا عَنْ مَعْنَى التَّثْرِيبِ، وَكَانَ يُسَمِّيهَا طَابَةَ وَطِيبَةَ وَيَقُولُونَ صِفَةً لِلْقَرْيَةِ وَالرَّاجِعُ مِنْهَا إِلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَالْأَصْلُ يَقُولُونَ لَهَا.

2738 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2738 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةَ» ) وَفِي رِوَايَةٍ طِيبَةَ، وَكَثْرَةُ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى عَظْمَةِ مُسَمَّاهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُسَمِّيَهَا بِهَا رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِيَثْرِبَ ; إِيمَاءً إِلَى تَثْرِيبِهِمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهَا، وَكَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ هِيَ طَابَةُ فِي ذَاتِهَا يِسْتَوِي فِي الطِّيبَةِ دُخُولُهَا وَخُرُوجُهَا، لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا الْحَادِثَةِ عَلَيْهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2739 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعَكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى. ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2739 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا) أَيْ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مِمَّنْ هَاجَرَ (بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَهُ (فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعَكٌ) وَأَحَبَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا أَوْ تَشَاءَمَ بِالْبَيْعَةِ لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمِحْنَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] الْآيَةَ (فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَقِلْنِي بَيْعَتِي) اسْتِعَارَةٌ مِنْ إِقَالَةِ الْبَيْعِ وَهُوَ إِبْطَالُهُ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنَّمَا أَبَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقَالَةُ بَيْعَةِ الْإِسْلَامِ وَلَا إِقَالَةُ بَيْعَةِ الْإِقَالَةِ مَعَهُ اهـ. وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ لِتَضَمُّنِهِ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالتَّسَبُّبِ لَهُ، وَالثَّانِي لِاشْتِمَالِهِ عَلَى هُجْرَانِ الْمُهَاجَرَةِ (ثُمَّ جَاءَهُ) أَيْ ثَانِيًا (فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي) ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ قِيَاسًا لَهُ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِقَالَةَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي الْبَيْعِ، وَلِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (فَأَبَى) لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ

(ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ) أَيْ مِنَ الْمَدِينَةِ (الْأَعْرَابِيُّ) مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا) بِفَتْحَتَيْنِ يَعْنِي مَا تُبْرِزُهُ النَّارُ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمَعْدِنِيَّةِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلطَّبْعِ فَتُخَلِّصُهَا بِمَا تُبْرِزُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ يَعْنِي بِهِ الشَّيْءَ الْخَبِيثَ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِمُنَاسَبَةِ الْكِيرِ (وَيَنْصَعُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ، أَيْ يَصْفُو وَيَخْلُصُ وَيَتَمَيَّزُ (طِيبُهَا) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الطَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ أَقْوَمُ مَعْنًى، لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي مُقَابَلَةِ الْخَبِيثِ، وَأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْكِيرِ وَالطِّيبِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: رُوِيَ بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَهِيَ أَشَدُّ الرِّوَايَاتِ لَفْظًا وَمَعْنًى مِنْ نَصَعَ لَوْنُهُ نُصُوعًا إِذَا اشْتَدَّ بَيَاضُهُ وَخَلْعِي، وَأَنْصَعَهُ غَيْرُهُ عَلَى اللُّغَةِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَفِي مَعْنَاهُ مُنَصَّعٌ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَالرِّوَايَةُ بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ، وَطَيَّبَهَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ ; جَعَلَ مَثَلَ الْمَدِينَةِ وَمَا يُصِيبُ سَاكِنِيهَا مِنَ الْجُهْدِ وَالْبَلَاءِ كَمَثَلِ الْكِيرِ وَمَا يُوقَدُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ، فَيُمَيَّزُ بِهِ الْخَبِيثُ مِنَ الطِّيبِ فَيَذْهَبُ الْخَبِيثُ وَيَبْقَى الطَّيِّبُ فِيهِ أَزْكَى مَا كَانَ وَأَخْلَصُ، كَمَا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ أَخْرَجَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ، وَفِي التَّنْزِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي حَقِّ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جَفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2740 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2740 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ) أَيْ تُخْرِجَ (شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ) أَيْ يُذْهِبُ (خَبَثَ الْحَدِيدِ) أَيْ وَسَخَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّ بِعْثَتَهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ حِينَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَقَصْدِهِ الْمَدِينَةَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2741 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2741 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ) جَمْعُ نَقْبٍ بِسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ الطَّرِيقُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الطَّرِيقِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْأَنْقَابِ الْأَبْوَابُ وَالْمُرَادُ مَلَائِكَةُ حَرَسِهِ (لَا يَدْخُلُهَا) أَيِ الْمَدِينَةَ أَوْ أَنِقَابَهَا (الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ) وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا مُسْتَقِلًّا، وَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْقَابِ بِمَنْزِلَةِ الْحُجَّابِ، وَاقِفِينَ عَلَى بَابِهِ تَعْظِيمًا لِجَنَابِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حُكْمًا مُرَتَّبًا عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنْ يَكُونُوا مَانِعِينَ دُخُولَ الْجِنِّ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِمْ وَطَعْنِهِمْ ظُهُورُ الطَّاعُونِ وَدُخُولُ الدَّجَّالِ الَّذِي هُوَ مَسْحُورٌ وَمُسَخَّرٌ لَهُمْ، أَوْ هُمْ مُسَخَّرُونَ لَهُ ابْتِلَاءً مِنْهُ - تَعَالَى - عَلَى عِبَادِهِ فَحَفِظَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْهُ أَهْلَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ بِبَرَكَةِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْبُقْعَتَيْنِ الْمَنِيعَتَيْنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2742 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَئُوهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنِقَابِهَا إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا فَيَنْزِلُ السَّبِخَةَ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا. ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2742 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَئُوهُ الدَّجَّالُ) أَيْ يَدُوسُهُ وَيَدْخُلُهُ وَيُفْسِدُهُ (إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ (لَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنِقَابِهَا) أَيْ أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ أَوْ أَنَقَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ النَّقْبِ، وَفِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهَا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَتَكَلُّفٌ لَهُ بِقَوْلِهِ أَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الطَّرِيقُ وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا) أَيْ يَحْفَظُونَ أَهْلَهَا (فَيَنْزِلُ) أَيِ الدَّجَّالُ بَعْدَ أَنْ مَنَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ (السَّبِخَةَ) بِكَسْرِ الْبَاءِ صِفَةٌ، وَهُوَ الْأَرْضُ الَّتِي تَعْلُوهَا الْمُلُوحَةُ وَلَا تَكَادُ تُنْبِتُ إِلَّا بَعْضَ الشَّجَرِ، وَبِفَتْحِهَا اسْمٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ (فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ) بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ تَضْطَرِبُ (بِأَهْلِهَا)

أَيْ مُلْتَبِسَةٌ بِهِمْ وَقِيلَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ تُحَرِّكُهُمْ وَتُزَلْزِلُهُمْ (ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ (فَخَرَجَ إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى الدَّجَّالِ (كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبَاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تَتَزَلْزَلُ وَتَضْطَرِبُ بِسَبَبِ أَهْلِهَا لِيَنْفَضَّ إِلَى الدَّجَّالِ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ تَرْجُفُ مُلْتَبِسَةً ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْمُظْهِرِ: تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا أَيْ تَحَرِّكُهُمْ وَتُلْقِي مَيْلَ الدَّجَّالِ فِي قَلْبِ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ خَالِصِ الْعَقْلِ قَالَ: فَعَلَى هَذَا الْبَاءُ صِلَةُ الْفِعْلِ اهـ. قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ عَلَى هَذَا لِلتَّعْدِيَةِ، قُلْتُ لَا يَظْهَرُ غَيْرُ هَذَا الظَّاهِرِ وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ صِلَةَ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2743 - وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2743 - (وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكِيدُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ) أَيْ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ (إِلَّا انْمَاعَ) أَيْ ذَابَ وَهَلَكَ (كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2744 - وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَانِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَّهَا مِنْ حُبِّهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2744 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَانِ الْمَدِينَةِ) بِضَمِّ الْأُولَيَيْنِ جَمْعُ جُدُرٍ جَمْعُ جِدَارٍ (أَوْضَعَ) أَيْ أَسْرَعَ (رَاحِلَتَهُ) الْإِيضَاعُ مَخْصُوصٌ بِالْبَعِيرِ وَالرَّاحِلَةِ النَّجِيبِ وَالنَّجِيبَةِ مِنَ الْإِبِلِ، فِي الْحَدِيثِ «النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» (وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ) كَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ (حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا) تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ أَيْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهَا أَوْ أَهْلَهَا أَوْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُنْشِدَ فِي مَعْنَاهُ:. إِذَا دَنَتِ الْمَنَازِلُ زَادَ شَوْقِي ... فَلَمْحُ الْعَيْنِ دُونَ الْحَجَرِ شَهْرُ وَلَا سِيَّمَا إِذَا بَدَتِ الْخِيَامُ ... فَرَجْعُ الطَّرْفِ دُونَ الشَّهْرِ عَامُ وَقَوْلُهُ: وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ... إِذَا دَنَتِ الْخِيَامُ مِنَ الْخِيَامِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2745 - وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2745 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ النَّبِيِّ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَعَ) أَيْ ظَهَرَ (لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) قِيلَ مَحَبَّةُ الْحَيِّ لِلْجَمَادِ إِعْجَابُهُ وَسُكُونُ النَّفْسِ إِلَيْهِ وَالْمُؤَانَسَةُ بِهِ ; لِمَا يُرَى فِيهِ مِنْ نَفْعِ وَمَحَبَّةِ الْجَمَادِ لِلْحَيِّ ; مَجَازٌ عَنْ كَوْنِهِ نَافِعًا إِيَّاهُ سَادًّا مَانِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُؤْذِيهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَهْلَ أُحُدٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالْأَحْيَاءِ حَوَالَيْهِ، وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: الْأَوْلَى إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا يُنْكَرُ وَصْفُ الْجَمَادَاتِ بِحُبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ ; كَمَا حَنَّتِ الْأُسْطُوَانَةُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ حَتَّى سَمِعَ الْقَوْمُ حَنِينَهَا، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ جَبَلُ أُحُدٍ وَجَمِيعُ أَجْزَاءِ الْمَدِينَةِ كَانَتْ تُحِبُّهُ وَتَحِنُّ إِلَى لِقَائِهِ حَالَ مُفَارَقَتِهِ (اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ) أَيْ أَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا (وَإِنِّي أُحَرِّمُ) أَيْ أُعَظِّمُ (مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) أَيْ طَرَفَيِ الْمَدِينَةِ أَوْ أُحَرِّمُ تَخْرِيبَ مَا بَيْنَهُمَا أَوْ تَضْيِيعَ مَا فِيهِمَا مِنْ زِينَةِ الْبَلَدِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِثْلَ تَحْرِيمِ مَكَّةَ بِالْإِجْمَاعِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2746 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2746 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» ) وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ لِتَحَرُّكِهِ بِهِ سُرُورًا لَمَّا رَقَى عَلَيْهِ مَعَ أَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ ; فَقَالَ لَهُ: «اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ سُوَيْدِيِّ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي عُمَيْسِ بْنِ جُبَيْرٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ بِلَفْظِ: «أُحُدٌ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَإِنَّهُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا عَيْرٌ جَبَلٌ يُبْغِضُنَا وَنُبْغِضُهُ وَإِنَّهُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أُحُدٌ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْجَنَّةِ» .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2747 - «عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَخَذَ رَجُلًا يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ الَّذِي حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ فَجَاءَ مَوَالِيهِ فَكَلَّمُوهُ فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ هَذَا الْحَرَمَ ; وَقَالَ مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فِيهِ فَلْيَسْلُبْهُ، فَلَا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ ثَمَنَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2747 - (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) بِالتَّكْبِيرِ (قَالَ رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَخَذَ رَجُلًا) أَيْ عَبْدًا (يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ الَّذِي حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ حَدَّهُ (فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ (فَجَاءَ مَوَالِيهِ فَكَلَّمُوهُ فِيهِ) أَيْ فِي شَأْنِ الْعَبْدِ وَرَدِّ سَلَبِهِ (قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ هَذَا الْحَرَمَ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ تَحْرِيمَهَا كَتَحْرِيمِ مَكَّةَ اهـ. لَا يَظْهَرُ وَجْهُ دَلَالَتِهِ لَا مِنْ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَلَا مِنْ أَخْذِ السَّلَبِ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَالْحَرَمُ بِمَعْنَى الْمُحْتَرَمِ الْمُعَظَّمِ، وَإِنَّ أَخْذَ السَّلَبِ يُنَافِي كَوْنَ تَحْرِيمِهَا كَتَحْرِيمِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حَرَمٍ سَلْبُ الثِّيَابِ فِي جَزَاءِ الْعِقَابِ إِجْمَاعًا، مَعَ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ (وَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فِيهِ فَلْيَسْلُبْهُ) هَذَا آخِرُ الْحَدِيثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ (فَلَا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً) أَيْ بِالضَّمِّ أَيْ رِزْقًا (أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ عَيَّنَهُ وَلَا أُبَالِي (وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ ثَمَنَهُ) أَيْ تَبَرُّعًا قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوِ احْتِيَاطِيًّا لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2748 - وَعَنْ صَالِحٍ مَوْلًى لِسَعْدٍ «أَنَّ سَعْدًا وَجَدَ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الْمَدِينَةِ يَقْطَعُونَ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ، فَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ وَقَالَ: - يَعْنِي لِمَوَالِيهِمْ - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى أَنْ يُقْطَعَ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ شَيْءٌ وَقَالَ: مَنْ قَطَعَ مِنْهُ شَيْئًا فَلِمَنْ أَخَذَهُ سَلَبُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2748 - (وَعَنْ صَالِحٍ مَوْلًى لِسَعْدٍ) صَوَابُهُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ مَوْلًى لَسَعِدٍ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ مَوْلًى لِسَعْدٍ، وَمَوْلَى سَعْدٍ مَجْهُولٌ، وَصَالِحٌ مُوَثَّقٌ رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِالْقَوَيِّ، وَقَالَ أَحْمَدُ: صَالِحُ الْحَدِيثِ اهـ. فَعَلَى هَذَا أُسْقِطَ لَفْظَةٌ عَنْ مِنْ قَلَمِ نُسَّاخِ الْمِشْكَاةِ أَوْ وَقَعَ سَهْوٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ قَالَ مِيرَكُ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ إِنَّ مَنْ صَنَّفَ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْكُتُبِ لَمْ يَذْكُرْ لِسَعْدٍ مَوْلًى يُقَالُ لَهُ صَالِحٌ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (إِنَّ سَعْدًا وَجَدَ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الْمَدِينَةِ يَقْطَعُونَ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ) أَيْ مِنْ بَعْضِ) أَشْجَارِهَا (فَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ) أَيْ ثِيَابَهُمْ (وَقَالَ يَعْنِي لِمَوَالِيهِمْ) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّوَاي عَنْهُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى أَنْ يُقْطَعَ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ) أَيْ بَعْضِ أَشْجَارِهَا (شَيْءٌ وَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَطَعَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ شَجَرِهَا (شَيْئًا فَلِمَنْ) أَيْ لِلَّذِي (أَخَذَهُ) أَيِ الْقَاطِعُ (سَلَبُهُ) أَيْ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2749 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ وَعِضَاهَهُ حِرْمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: وَجٌّ ذَكَرُوا أَنَّهَا مِنْ نَاحِيَةِ الطَّائِفِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنَّهُ بَدَلُ أَنَّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2749 - (وَعَنِ الزُّبَيْرِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، فِي النِّهَايَةِ: مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ الطَّائِفِ، وَفِي الْقَامُوسِ: اسْمُ وَادٍ بِالطَّائِفِ لَا بَلَدَ بِهِ، وَغَلَطَ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ مَا بَيْنَ جَبَلِ الْمُعْتَرِقِ ولأميعدين وَمِنْهُ آخِرُ وَطْأَةٍ وَطْأَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ يُرِيدُ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ لَا الطَّائِفِ، وَغَلَطَ الْجَوْهَرِيُّ، وَحُنَيْنٌ وَادٍ قَبْلَ وَجٍّ، وَأَمَّا غَزْوَةُ الطَّائِفِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ (وَعِضَاهَهَ) أَيْ أَشْجَارُ شَوْكِهِ (حِرْمٌ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: حِرْمٌ وَحَرَامٌ لُغَتَانِ كَحِلٍّ وَحَلَالٍ، قُلْتُ: وَقُرِئَ بِهِمَا قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] (مُحَرَّمٌ) تَأْكِيدٌ لِحَرَمٍ

(لِلَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمُحَرَّمٍ أَيْ لِأَمْرِهِ أَوْ لِأَجْلِ أَوْلِيَائِهِ، إِذْ رُوِيَ أَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى سَبِيلِ الْحُمَّى لِأَفْرَاسِ الْغُزَاةِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، ثُمَّ نُسِخَ، ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِنَّهُ لَا يُصَادُ فِيهِ وَلَا يُقْطَعْ شَجَرُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ضَمَانًا وَفِي مَعْنَاهُ النَّقِيعُ أَيْ بِالنُّونِ، وَتَقَدَّمَ نَقْلُ شَرْحِ السُّنَّةِ وَحَاصِلُهُ مَا يُوَافِقُ مَذْهَبَنَا مِنْ أَنَّ النَّقِيعَ حَمَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى حَلِّ صَيْدِهِ وَقَطْعِ نَبَاتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَنْعُ الْكَلَإِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّقِيعِ وَلَا بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ أَشْجَارِهِ كَالْمَوْقُوفِ، وَقَالَ شَارِحٌ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ عَلَى سَبِيلِ الْحُرْمَةِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ لِيَصِيرَ حِمًى لِلْمُسْلِمِينَ أَيْ مَرْعًى لِأَفْرَاسِ الْمُجَاهِدِينَ لَا يَرْعَاهَا غَيْرُهَا، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ إِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُرِيدُ غَزْوَةَ الطَّائِفِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَعَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ فَرَأَى ذَلِكَ التَّحْرِيمَ لِيَرْتَفِقَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ الزُّبَيْرِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِيهِ قِصَّةٌ وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانَ الطَّائِفِيُّ وَأَبُوهُ، وَقَدْ سُئِلَ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَفِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ: لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَقَالَ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثُهُ وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَبَّانَ. اهـ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ عَدَمُ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حُكْمٍ عَظِيمٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى تَحْرِيمٍ (وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ (وَجٌّ، ذَكَرُوا) أَيِ الْعُلَمَاءُ (أَنَّهَا مِنْ نَاحِيَةِ الطَّائِفِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ نَاحِيَةٌ هِيَ الطَّائِفُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الطَّائِفِ حَرَمٌ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَقْوَالِ اللُّغَوِيِّينَ، وَمُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ أَيْضًا فِي بَيَانِ سَبَبِ جَعْلِهِ حَرَمًا ; إِنَّهُ جَاءَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَةِ الطَّائِفِ أَنَّ جِبْرِيلَ اقْتَلَعَ تِلْكَ الْأَرْضَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ثُمَّ حَمَلَهَا عَلَى جَنَاحِهِ وَأَتَى بِهَا مَكَّةَ، فَطَافَ بِهَا بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ وَضَعَهَا ثَمَّةَ، وَلَا بُعْدَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ قِطْعَةً مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ لِيُتَذَكَّرَ سَبَبُ تَحْرِيمِهَا فَيَسْتُرَ تَعْظِيمَ الطَّائِفِ جَمِيعَهَا، وَلَمْ يُحَرَّمْ كُلُّهُ لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً عَلَى النَّاسِ لِشِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى نَبَاتِهِ وَصَيْدِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ وَكَذَا الْمُعَارَضَةُ بِمَا فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ إِجْمَاعًا، وَتَحْرِيمُ الْمَدِينَةِ عِنْدَهُمْ إِذَا الْمَشَقَّةُ عَامَّةٌ بَلْ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ أَكْثَرُ فَتَدَبَّرْ (وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ) أَيْ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ (أَنَّهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (بَدَلَ أَنَّهَا) وَهُوَ أَمْرٌ سَهْلٌ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِاعْتِبَارِ الْمَوْضِعِ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ.

2750 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا ; فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2750 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ) أَيْ يُقِيمُ بِهَا حَتَّى يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ ثَمَّةَ (فَلْيَمُتْ بِهَا) أَيْ فَلْيُقِمْ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ بِهَا (فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا) أَيْ فِي مَحْوِ سَيِّئَاتِ الْعَاصِينَ، وَرَفْعِ دَرَجَاتِ الْمُطِيعِينَ، وَالْمَعْنَى: شَفَاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِأَهْلِهَا لَمْ تُوجَدْ لِمَنْ لَمْ يَمُتْ بِهَا، وَلِذَا قِيلَ الْأَفْضَلُ لِمَنْ كَبُرَ عُمُرُهُ أَوْ ظَهَرَ أَمْرُهُ بِكَشْفٍ وَنَحْوِهِ مَنْ قُرْبِ أَجَلِهِ ; أَنْ يَسْكُنَ الْمَدِينَةَ لِيَمُوتَ فِيهَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عُمَرَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي بِبَلَدِ رَسُولِكَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صُحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) وَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا فِي أَفْضَلِيَّةِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ مُطْلَقًا، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَفْضُولِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْفَاضِلِ مِنْ حَيْثِيَّةٍ، وَتِلْكَ بِسَبَبِ تَفْضِيلِ بُقْعَةِ الْبَقِيعِ عَلَى الْحَجُونِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ تُرْبَةَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، أَوْ لِقُرْبِ ضَجِيعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ فَإِنَّهُ ذَمَّ لَهُمُ الْمَوْتَ بِمَكَّةَ كَمَا قَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ.

2751 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آخِرُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْإِسْلَامِ خَرَابًا الْمَدِينَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2751 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آخِرُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْإِسْلَامِ خَرَابًا الْمَدِينَةُ» ) خَبَرٌ، وَآخِرُ مُبْتَدَأٌ وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عِمَارَةَ الْإِسْلَامِ مَنُوطَةٌ بِعِمَارَتِهَا وَهَذَا بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ فِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

2752 - «وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَيَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ نَزَلْتَ، فَهِيَ دَارُ هِجْرَتِكَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْبَحْرَيْنِ أَوْ قِنَّسْرِينَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2752 - (وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبَجَلِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَيَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ) مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِقَوْلِهِ (نَزَلْتَ) أَيْ لِلْإِقَامَةِ بِهَا وَالِاسْتِيطَانِ فِيهَا وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاسْتِفْهَامِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَأَغْرَبَ فِي قَوْلِهِ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ وَهُوَ عَجِيبٌ لِأَنَّهَا هُنَا لَيْسَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً كَمَا هُوَ وَاضِحٌ اهـ. وَالْخَطَأُ فِي كَلَامِهِ لَائِحٌ (فَهِيَ دَارُ هِجْرَتِكَ الْمَدِينَةِ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الثَّلَاثَةِ (أَوِ الْبَحْرِينِ) وَهُوَ مَوْضِعٌ مَشْهُورٌ إِلَى الْآنَ، وَقِيلَ: مَوْضِعٌ بَيْنَ بَصْرَةَ وَعُمَانَ، وَقِيلَ: بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْيَمَنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: جَزِيرَةٌ بِبَحْرِ عُمَانَ (أَوْ قِنَّسْرِينَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى الْمُشَدَّدِ وَيُكْسَرُ، بَلَدٌ بِالشَّامِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ضَبْطُ الْمَدِينَةِ بِالنَّصْبِ فَيَكُونُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَفِي أُخْرَى بِرَفْعِهَا عَلَى تَقْدِيرِ هِيَ وَفِي الْبَحْرِينِ لُغَاتٌ تَقَدَّمَتْ وَقِنَّسْرِينَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَهُوَ مُشْكِلٌ فَإِنَّ الَّتِي رَآهَا وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهَا دَارُ هِجْرَتِهِ، وَأَمَرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا هِيَ الْمَدِينَةُ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَصَحُّ مِنْ هَذَا، وَقَدْ يُجْمَعُ بِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ عُيِّنَ لَهُ إِحْدَاهَا وَهِيَ أَفْضَلُهَا.

2753 - (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2753 - (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَيُضَمُّ أَيْ خَوْفُهُ (لَهَا) أَيْ لِسُورِهَا (يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) أَيْ طُرُقٍ وَأَنْقَابٍ (عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ) أَيِ اثْنَانِ أَوْ نَوْعَانِ يَمِينًا وَشِمَالًا يَحْفَظَانِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2754 - وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2754 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ» ) أَيْ مِثْلَيْهِ فِي الْأَقْوَاتِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ مَكَّةَ أَفْضَلَ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ ; فَإِنَّ الْأَوَّلَ ارْتِفَاقٌ حِسِّيٌّ دُنْيَوِيٌّ، وَالثَّانِي أُخْرَوِيٌّ مَعْنَوِيٌّ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ. بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2755 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ الْخَطَّابِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ زَارَنِي مُتَعَمِّدًا كَانَ فِي جِوَارِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَكَنَ الْمَدِينَةَ وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِهَا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا وَشَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2755 - (وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ الْخَطَّابِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ، وَكَتَبَ مِيرَكُ عَلَى الْهَامِشِ آلَ حَاطِبٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمِلَةِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَوَضَعَ عَلَيْهِ الظَّاهِرَ وَكَتَبَ تَحْتَهُ كَذَا فِي التَّرْغِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ زَارَنِي مُتَعَمِّدًا) أَيْ لَا يَقْصِدُ غَيْرَ زِيَارَتِي مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُقْصَدُ فِي إِتْيَانِ الْمَدِينَةِ مِنَ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْمَعْنَى لَا يَكُونُ مَشُوبًا بِسُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ وَأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ، بَلْ يَكُونُ عَنِ احْتِسَابٍ وَإِخْلَاصِ ثَوَابٍ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْهُ، وَقَالَ أَتَجَرَّدُ لِلزِّيَارَةِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَبَقِيَّةُ الْعُلَمَاءِ وَسَائِرُ الْعُرَفَاءِ نَظَرُوا إِلَى خُلَاصَةِ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا اسْتُحِبَّ لِلزَّائِرِ أَنْ يَنْوِيَ زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ النَّبَوِيِّ وَمَقْبَرَةِ الْبَقِيعِ وَقُبُورِ الشُّهَدَاءِ وَسَائِرِ الْمَشَاهِدِ، إِذْ لَا تَنَافِي بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، أَمَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَشُكْرِ الْوُضُوءِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُنَّةٍ أَوْ فَرْضٍ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» ، وَمَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى قَوْلِهِ الْعَارِفِ وَقَالَ: الْأَوْلَى تَجْرِيدُ النِّيَّةِ لِلزِّيَادَةِ، ثُمَّ إِنْ حَصَلَ لَهُ إِذَا قَدِمَ زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ، أَوْ يَسْتَفْتِحْ فَضْلَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي مَرَّةٍ أُخْرَى يَنْوِيهِمَا فِيهَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ تَعْظِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(كَانَ فِي جِوَارِي) بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ فِي مُجَاوَرَتِي أَوْ مُحَافَظَتِي (يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَكَنَ الْمَدِينَةَ) أَيْ أَقَامَ أَوِ اسْتَوْطَنَ بِهَا (وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِهَا) مِنْ حَرِّهَا وَضِيقِ عَيْشِهَا، وَفِتْنَةِ مَنْ يَسْكُنُهَا مِنَ الرَّوَافِضِ الَّتِي فِيهَا نَظِيرُ مَا كَانَ يَقَعُ لِلصَّحَابَةِ مِنْ مُنَافِقِيهَا (كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا) أَيْ لِطَاعَتِهِ (وَشَفِيعًا) لِمَعْصِيَتِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ (وَمَنْ: مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ) أَيْ مُؤْمِنًا (بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْآمِنِينَ) أَيْ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ أَوْ مِنْ كُلِّ كُدُورَةٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .

2756 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي» . رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2756 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِيَ بَعْدَ مَوْتِي) الْفَاءُ التَّعْقِيبِيَّةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْسَبَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَارَةُ بَعْدَ الْحَجِّ ; كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ تَقْدِيمِ الْفَرْضِ عَلَى السُّنَّةِ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْصِيلًا حَسَنًا وَهُوَ أَنَّهُ: إِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا فَالْأَحْسَنُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يُثْنِي بِالزِّيَارَةِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالزِّيَارَةِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ فَيَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْحَجِّ أَوْلَى لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَلِتَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ عَلَى حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا تُقَدَّمَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى زِيَارَةِ الْمَشْهَدِ الْمُصْطَفَى (كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ يُرْزَقُ وَيُسْتَمَدُّ مِنْهُ الْمَدَدُ الْمُطْلَقُ (رَوَاهُمَا) أَيِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفَضَائِلُ الزِّيَارَةِ شَهِيرَةٌ، وَمَنْ أَنْكَرَهَا إِنَّمَا أَنْكَرَ مَا فِيهَا مِنْ بِدَعٍ نَكِيرَةٍ غَالِبُهَا كَبِيرَةٌ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَقَامِ بِهِ يَتِمُّ نِظَامُ الْمَرَامِ.

2757 - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جَالِسًا وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ، فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ فَقَالَ بِئْسَ مَضْجَعِ الْمُؤْمِنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَمَا قُلْتَ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا، إِنَّمَا أَرَدْتُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا مِثْلَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2757 - (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جَالِسًا) أَيْ فِي الْمَقْبَرَةِ (وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ فَاطَّلَعَ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ نَظَرَ (رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ فَقَالَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ مَرْقَدُهُ وَمَدْفَنُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ هَذَا الْقَبْرُ، يَعْنِي: الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى كَوْنُ الْمُؤْمِنِ يَضَّجِعُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ لَيْسَ مَحْمُودًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِئْسَ مَا قُلْتَ) أَيْ حَيْثُ أَطْلَقْتَ الذَّمَّ عَلَى مَضْجَعِ الْمُؤْمِنِ مَعَ أَنَّ قَبْرَهُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ (قَالَ الرَّجُلُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا) أَيْ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ هَذَا الْإِطْلَاقَ (وَإِنَّمَا أَرَدْتُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ لَهُ، أَوْ أَرَدْتُ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَوْتِ عَلَى الْفِرَاشِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) تَقْرِيرًا لِمُرَادِهِ (لَا مِثْلَ الْقَتْلِ) بِالنَّصْبِ، أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلَ الْقَتْلِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ثُمَّ ذَكَرَ فَضِيلَةَ مَنْ يَمُوتُ وَيُدْفَنُ فِي الْمَدِينَةِ سَوَاءٌ يَكُونُ بِشَهَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَقَالَ (مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ) بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ (أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْمَدِينَةِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) ظَرْفٌ لِجَمِيعِ الْمَقُولِ الثَّانِي، أَوْ لِلْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْكَلَامِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ بِالْمَدِينَةِ أَفَضَلُ، بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ إِنَّ الْمُجَاوِرَةَ بِمَكَّةَ أَفَضَلُ أَوْ بِالْمَدِينَةِ أَكَمَلُ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي بِبَلَدِ رَسُولِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ إِنِّي مَا أَرَدْتُ أَنَّ الْقَبْرَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ مُطْلَقًا، بَلْ أَرَدْتُ أَنَّ مَوْتَ الْمُؤْمِنِ فِي الْغُرْبَةِ شَهِيدًا خَيْرٌ مِنْ مَوْتِهِ فِي فِرَاشِهِ وَبَلَدِهِ، وَأَجَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ لَا مِثْلَ الْقَتْلِ أَيْ لَيْسَ الْمَوْتُ بِالْمَدِينَةِ مِثْلَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيِ الْمَوْتِ فِي الْغُرْبَةِ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ، فَوُضِعَ قَوْلُهُ (مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ إِلَخْ) مَوْضِعَ قَوْلِهِ (بَلْ هُوَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ) فَإِذًا لَا بِمَعْنَى لَيْسَ، وَاسْمُهُ مَحْذُوفٌ وَالْقَتْلُ خَبَرُهُ. اهـ. وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدُ الْمَوْتِ بِالْمَدِينَةِ، بَلْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى

أَنَّ الْمَوْتَ فِي الْغُرْبَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَوْتِ بِالْمَدِينَةِ فَتَكُونُ الْفَضِيلَةُ الْكَامِلَةُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ ثَوَابُ الْغُرْبَةِ وَالشَّهَادَةِ بِالدَّفْنِ بِالْمَدِينَةِ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) . لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، وَهُوَ مَنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَالسَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ وَخَلْقًا سِوَاهُمَا وَرَوَى عَنْهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَشُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُمْ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ، وَإِذَا حُذِفَ التَّابِعِيُّ وَذُكِرَ الصَّحَابِيُّ يُسَمَّى الْحَدِيثُ مُرْسَلًا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمَدِينَةِ بَلْ لِأَفْضَلِيَّةِ الْبُقْعَةِ الْمَكِينَةِ، وَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، بَلْ مِنَ الْكَعْبَةِ، بَلْ مِنَ الْعَرْشِ الْأَعْظَمِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

2758 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ وَفِي رِوَايَةٍ وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2758 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ) أَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِوَادِيِ الْعَقِيقِ) مَحَلٌّ قَرِيبٌ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ وَمَوْضِعٌ آخَرُ فِي غَيْرِهَا، وَفِي النِّهَايَةِ وَادٍ بِالْمَدِينَةِ وَمَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ (يَقُولُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ مِنْ رَبِّي آتٍ) أَيْ جَاءَنِيَ الْبَارِحَةَ تِلْكَ مِنْ عِنْدِهِ (فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةٌ) بِالرَّفْعِ أَيْ حُسِبَتْ (فِي حَجَّةٍ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيِ احْسَبْ صَلَاتَكَ هَذِهِ وَأَعِدْ لَهَا بِعُمْرَةٍ دَاخِلَةٍ فِي حَجَّةٍ، وَالْقَوْلُ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ كَمَا مَرَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ لِلْإِحْرَامِ، وَقَارِنْ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ اهـ. وَهَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ حَقٌّ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ فَضْلًا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَالصَّوَابُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ ثَوَابَ الصَّلَاةِ فِيهِ يَعْدِلُ ثَوَابَ عُمْرَةٍ فِي ضِمْنِ حَجَّةٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ إِذَا كَانَتْ مَقْرُونَةً فِي الْحَجَّةِ بِأَنْ يَكُونَ سَفَرُهُمَا وَاحِدًا خَيْرٌ مِنَ الْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى مَعَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةٍ وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ) بِالرَّفْعِ أَيْ صَلَاةٌ فِيهِ لِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ لِإِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ مُبَالَغَةً وَوَجْهُ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مُفَوَّضٌ إِلَى صَاحِبِ الشَّرِيعَةْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالظَّاهِرُ أَنَّ هُنَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ حَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مِنَ اللَّهِ تَعْجِيلَ الْعُمْرَةِ وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَقِيلَ لَهُ: صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَكَ فِي مُقَابَلَتِهَا ثَوَابُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ بِنِيَّتِكَ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ وَعُلَمَاءِ الْأَنَامِ عَدُّهُ مِنَ الْمَشَاهِدِ الْعِظَامِ الَّتِي يَزُورُوهَا الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْفَارِسِيَّ ذَكَرَ فِي مَنْسَكِهِ إِنَّهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَخْبَارِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ قَالَ «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» وَلَا كَانَ مُفْرَدًا لَأَنَّ الْهَدْيَ كَانَ مَعَهُ وَاجِبًا كَمَا قَالَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْقَارِنِ وَلِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ قَدْ تَكَاثَرَتْ بِأَنَّهُ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا فَكَانَ مِنْ زَادٍ أَوْلَى قَالَ: وَوَجْهُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَقَدَ إِحْرَامَهُ جَعَلَ يُلَبِّي تَارَةً بِالْحَجِّ وَتَارَةً بِالْعُمْرَةِ وَتَارَةً بِهِمَا جَمِيعًا لَعَلَّهُ أَنْ يَتَبَيَّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَقْصِدُ الْحَجَّ وَيَطْلُبُ كَيْفِيَّةَ الْعَمَلِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي وَادِي الْعَقِيقِ فَقَالَ لَهُ قُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ فَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَتَبَيَّنَ الْمَطْلُوبُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ وُجُوبَ الْهَدْيِ لَمْ يَمْنَعْ كَوْنَهُ مُفْرَدًا بَلْ يَمْنَعْ فَسْخَ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ؛ إِذْ مُقْتَضَاهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْإِحْرَامِ وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ (لَعَلَّهُ أَنْ يَتَبَيَّنَ) مَعْلُولٌ إِذْ لَا تَصِحُّ النِّيَّةُ مَعَ التَّرَدُّدِ فِي الْكَيْفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْحَجِّ وَقَدْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ مِرَارًا فَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِمَّا أَنْ نَوَى بِهِمَا أَوَّلًا، أَوْ نَوَى الْحَجَّ ثُمَّ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] عَلَى قِرَاءَةِ وَأَقِيمُوا، وَمِنْهَا أَنَّ وَادِيَ الْعَقِيقِ قَرِيبٌ الْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا، وَإِحْرَامُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ إِجْمَاعًا، فَالتَّحْقِيقُ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا الْوَادِي بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا يَدْخُلُ فِي فَضْلِهَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

[كتاب البيوع]

[كِتَابُ الْبُيُوعِ] [بَابُ الْكَسْبِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ]

كِتَابُ الْبُيُوعِ بَابُ الْكَسْبِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2759 - عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الْبُيُوعِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: بِعْتُ بِمَعْنَى مَا كُنْتُ مَلَكْتُهُ، وَبِعْتُ بِمَعْنًى لِاشْتَرَيْتُ، وَكَذَلِكَ شَرَيْتُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَبِيعٌ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عَرَفَ أَنَّ مَشْرُوعَاتِ الشَّارِعِ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - خَالِصَةٌ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ خَالِصَةٌ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ، وَحَقُّهُ - تَعَالَى - غَالِبٌ وَمَا اجْتَمَعْنَا فِيهِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ غَالِبٌ،، فَحُقُوقُهُ - تَعَالَى - عِبَادَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ، فَابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِحُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْخَالِصَةِ، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ شَرَعَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ، ثُمَّ الْبَيْعُ مَصْدَرٌ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ فَيُجْمَعُ كَالْجَمْعِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ، فَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ: فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ سَلَمًا، وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَقَلْبُهُ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ، وَصَرْفًا: وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ، وَمُقَابَضَةً: وَهُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَبِخِيَارٍ وَمُنْجَزًا، وَمُؤَجَّلَ الثَّمَنِ وَمُرَابَحَةً، وَتَوْلِيَةً، وَوَضِيعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَالْبَيْعُ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: بَاعَ إِذَا أَخْرَجَ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِهِ إِلَيْهِ، وَبَاعَهُ إِذَا اشْتَرَاهُ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِالْحَرْفِ يُقَالُ: بَاعَ زَيْدٌ الثَّوْبَ وَبَاعَهُ مِنْهُ. وَأَمَّا مَفْهُومُهُ لُغَةً وَشَرْعًا فَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: الْبَيْعُ لُغَةً مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَكَذَا فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّ زِيدَ فِيهِ قَيْدُ التَّرَاضِي، وَشَرْعِيَّةُ الْبَيْعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَالسُّنَّةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَقْرَهُمْ عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهِ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَعْلُومِ فِيهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى وَجْهٍ جَمِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوِ اسْتَقَلَّ بِابْتِدَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ مِنْ حَرْثِ الْأَرْضِ، ثُمَّ بَذْرِ الْقَمْحِ وَخِدْمَتِهِ وَحِرَاثَتِهِ وَحَصْدِهِ وَدِرَاسَتِهِ ثُمَّ تَذْرِيَتِهِ ثُمَّ تَنْظِيفِهِ وَطَحْنِهِ بِيَدِهِ وَعَجْنِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. وَفِي الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ لُبْسُهُ، وَبِنَاءُ مَا يُظِلُّهُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَدْفَعَهُ الْحَاجَةُ إِلَى أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مُزَاوَلَةَ شَيْءٍ، فَلَوْ لَمْ يُشْرَعِ الْبَيْعُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى التَّغَالُبِ وَالْمُقَاهَرَةِ، أَوِ السُّؤَالِ، وَالشِّحَاذَةِ أَوْ يَصْبِرَ حَتَّى يَمُوتَ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْفَسَادِ، وَفِي الثَّانِي مِنَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَيُزْرِي بِصَاحِبِهِ، فَكَانَ فِي شَرْعِيَّتِهِ بَقَاءُ الْمُكَلَّفِينَ الْمُحْتَاجِينَ وَدَفْعُ حَاجَاتِهِمْ عَلَى النِّظَامِ الْحَسَنِ. [1] بَابُ الْكَسْبِ أَيْ تَبْيِينُ فَضْلِهِ وَتَعْيِينُ طَيِّبِهِ وَخَبِيثِهِ (وَطَلَبِ الْحَلَالِ) : أَيْ: وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ الَّذِي مِنْ لَوَازِمِهِ، وَكَوْنُهُ فَرْضًا بَعْدَ الْفَرْضِ أَوْ قَبْلَهُ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2759 - (عَنِ الْمِقْدَامِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (ابْنِ مَعْدِي كَرِبَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ أَبْدًا (خَيْرًا) : أَيْ: أَفْضَلَ أَوْ أَحَلَّ أَوْ أَطْيَبَ (مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ) : بِالثَّنْيَةِ لِأَنَّ غَالِبَ الْمُزَاوِلَةِ بِهِمَا (وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) : وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِتَعْلِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] . (كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْكَسْبِ الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً. مِنْهَا: إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى الْمُكْتَسِبِ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ لِغَيْرِهِ،

وَبِحُصُولِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ تِجَارَةً: وَمِنْهَا: إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى النَّاسِ بِتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِمْ مِنْ حَوْلِ ثِيَابِهِمْ وَخِيَاطَتِهِمْ وَنَحْوِهَا، مِمَّا يَحْصُلُ بِالسَّعْيِ، كَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَزَرْعِ الْأَقْوَاتِ وَالثِّمَارِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَغِلَ الْكَاسِبُ بِهِ فَيَسْلَمَ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ. وَمِنْهَا: كَسْرُ النَّفْسِ بِهِ فَيَقِلُّ طُغْيَانُهَا وَمَرَحُهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى الْغَيْرِ، وَشَرْطُ الْمُكْتَسِبِ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ الزِّرْقَ مِنَ الْكَسْبِ، بَلْ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ الرَّزَّاقِ ذِي الْقُوَّةِ الْمَتِينِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: " وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ " الْخَ. تَوْكِيدٌ لِلتَّحْرِيضِ، وَتَقْرِيرٌ لَهُ يَعْنِي: الِاكْتِسَابُ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَعْمَلُ السَّرْدَ وَيَبِيعُهُ لِقُوتِهِ فَاسْتَنُّوا بِهِ. اهـ. وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ فِي خِلَافَتِهِ يَتَجَسَّسُ النَّاسَ فِي أَمْرِهِ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ كَيْفَ سِيرَةُ دَاوُدَ فِيكُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ دَاوُدُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ دَاوُدُ إِلَّا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَسَأَلَ دَاوُدُ رَبَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، وَيَبِيعُ كُلَّ دِرْعٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: كَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعًا وَيَبِيعُهُ بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيُنْفِقُ أَلْفَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى فُقَرَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُبَاحٌ إِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْفَخْرَ وَالتَّكَاثُرَ، وَقِيلَ: الِاشْتِغَالُ بِهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ الْمَعْرِفَةُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي الْكَسْبَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا فَالْمُرَادُ بِهَا الْمَفْرُوضَةُ، وَهِيَ أَيْضًا غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لَهُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَغْرِقُ الْأَوْقَاتَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2760 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ، أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ !» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2760 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ) : أَيْ: مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، وَمُتَّصِفٌ بِالْكِمَالَاتِ مِنَ النُّعُوتِ (لَا يَقْبَلُ) : أَيْ: مِنَ الصَّدَقَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ (إِلَّا طَيَّبًا) : أَيْ: مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ فِي النِّيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الطَّيِّبُ ضِدُّ الْخَبِيثِ، فَإِذَا وُصِفَ بِهِ - تَعَالَى - أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ، مُقَدَّسٌ عَنِ الْآفَاتِ، وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْعَبْدُ مُطْلَقًا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ الْمُتَعَرِّي عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَقَبَائِحِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُتَحَلِّي بِأَضْدَادِ ذَلِكَ، وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْأَمْوَالُ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُهُ حَلَالًا مِنْ خِيَارِ الْأَمْوَالِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنِ الْعُيُوبِ، فَلَا يُقْبَلُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَا يُنَاسِبُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ خِيَارُ أَمْوَالِكُمُ الْحَلَالِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَكْلُ الْحَلَالِ وَتَحْسِينُ الْأَمْوَالِ (فَقَالَ) : ابْتِدَاءٌ بِمَا خَتَمَ بِهِ رِعَايَةً لِتَقَدُّمِ الْمُرْسَلِينَ وَتَقَدُّمُهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وُجُودًا وَرُتْبَةً {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] : آخِرُهُ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَهَذَا النِّدَاءُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لَا عَلَى أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِذَلِكَ دُفْعَةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، بَلْ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ خُوطِبَ بِهِ فِي زَمَانِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النِّدَاءُ يَوْمَ الْمِيثَاقِ لِخُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَيْسَ عِنْدَهُ صَبَاحٌ وَلَا مَسَاءٌ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ إِبَاحَةَ الطَّيِّبَاتِ شَرْعٌ قَدِيمٌ، وَاعْتِرَاضٌ عَلَى الرَّهْبَانِيَّةِ فِي رَفْضِهِمُ اللَّذَّاتِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ مُوَرِّثٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -. (وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا} [البقرة: 172] : الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ أَوْ لِلْوُجُوبِ، كَمَا لَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ أَوْ لِلنَّدْبِ كَمُوَافَقَةِ الضَّيْفِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] : أَيْ: حَلَالَاتِهِ أَوْ مُسْتَلَذَّاتِهِ وَتَتِمَّتِهِ: {وَاشْكُرُوا لِلَّهَ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ

- تَعَالَى - خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِعَبِيدِهِ، كَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَأَنَّهُ خَلَقَ عَبِيدَهُ لِمَعْرِفَةٍ وَطَاعَةٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدَ مِنْهُمْ مَنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56 - 57] (ثُمَّ ذَكَرَ ": أَيِ: الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الرَّجُلَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ لِلْمَفْعُولِيَّةِ (يُطِيلُ السَّفَرَ) : أَيْ: زَمَانَهُ وَيُكْثِرُ مُبَاشَرَتَهُ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ. (أَشْعَثَ، أَغْبَرَ) : حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ، أَوْ مُتَرَادِفَانِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (يَمُدُّ يَدَيْهِ) : أَيْ مَادًّا يَدَيْهِ رَافِعًا بِهِمَا (إِلَى السَّمَاءِ) : لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ قَائِلًا مُكَرِّرًا (يَا رَبِّ! يَا رَبِّ!) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِجَابَةِ لِإِيذَانِهِ بِالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ وَجُودَهُ فَائِضٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلِذَا قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ فَقَالَ خَمْسَ مَرَّاتٍ: رَبَّنَا نَجَّاهُ اللَّهُ مِمَّا يَخَافُ، وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَكَى عَنْهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ: أَنَّهُمْ قَالُوا خَمْسًا (] فَاسْتَجَابَ [لَهُمْ رَبُّهُمْ) (وَمَطْعَمُهُ) : مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ، طَعَامُهُ (حَرَامٌ) : وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْضًا، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ) : بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُخَفَّفَةِ، كَذَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: وَقَعَتْ مُقَيَّدَةً بِالتَّشْدِيدِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ وَالْمَعْنَى رُبِّيَ (بِالْحَرَامِ) : أَيْ: مِنْ صِغَرِهِ إِلَى كِبَرِهِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: ذُكِرَ قَوْلُهُ: " وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ " بَعْدَ قَوْلِهِ " وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ " إِمَّا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِمَّنْ كَوْنُ الْمَطْعَمُ حَرَامًا التَّغْذِيَةُ بِهِ، وَإِمَّا تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى اسْتِوَاءِ حَالَيْهِ، أَعْنِي كَوْنَهُ مُنْفِقًا فِي حَالِ كِبَرِهِ وَمُنْفَقًا عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ فِي وُصُولِ الْحَرَامِ إِلَى بَاطِنِهِ، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: " مَطْعَمُهُ حَرَامٌ " إِلَى حَالِ كِبَرِهِ وَبِقَوْلِهِ: " وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ " إِلَى حَالِ صِغَرِهِ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنْ لَا تَرْتِيبَ فِي الْوَاوِ، وَذَهَبَ الْمُظْهِرُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ عَدَمَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ مُصِرًّا عَلَى تَلَبُّسِ الْحَرَامِ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: " يُطِيلُ " مَحَلُّهُ نَصْبُ صِفَةٍ لِلرَّجُلِ، لِأَنَّ جِنْسَ الْمَعْرِفَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ: ( وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ) قُلْتُ: وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ - يُرِيدُ الرَّاوِي - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّبَ كَلَامَهُ بِذِكْرِ الرَّجُلِ الْمَوْصُوفِ اسْتِبْعَادًا، أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقْبَلُ دُعَاءَ آكِلِ الْحَرَامِ لِبُغْضِهِ الْحَرَامَ، وَبُعْدِ مُنَاسَبَتِهِ عَنْ جَنَابِهِ الْأَقْدَسِ، فَأَوْقَعَ فِعْلَهُ عَلَى الرَّجُلِ وَنَصَبَهُ، وَلَوْ حَكَى لَفْظَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ الرَّجُلَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ يُطِيلُ، وَقَوْلُهُ: أَشْعَثَ وَأَغْبَرَ حَالَانِ مُرَادِفَتَانِ مِنْ فَاعِلِ يَمُدُّ أَيْ يَمُدُّ يَدَيْهِ قَائِلًا: يَا رَبِّ، وَقَوْلُهُ: وَمَطْعَمُهُ، وَمَشْرَبُهُ، وَمَلْبَسُهُ، وَغُذِّيَ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَائِلًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْحَالَاتِ دَالَّةٌ عَلَى غَايَةِ اسْتِحْقَاقِ الدَّاعِي لِلْإِجَابَةِ، وَدَلَّتْ تِلْكَ الْخَيْبَةُ عَلَى أَنَّ الصَّارِفَ قَوِيٌّ وَالْحَاجِزَ مَانِعٌ شَدِيدٌ. اهـ. وَفِي قَوْلِهِ: وَكُلُّ هَذِهِ الْحَالَاتِ تَوَسُّعٌ لِخُرُوجِ مَطْعَمِهِ الْخَ. فَإِنَّهَا حَالَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الدَّاعِي عَدَمَ الْإِجَابَةِ كَمَا قَالَ: (فَأَنَّى) : أَيْ: فَكَيْفَ أَوْ فَمِنْ أَيْنَ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِبْعَادِ مِنْ أَنْ (يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟) : أَيْ: لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَوْ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ. قَالَ الْأَشْرَفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ حِلَّ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ مِمَّا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّ لِلدُّعَاءِ خَبًّا حِينَ أَكَلَ الْحَلَالَ وَصَدَقَ الْمَقَالَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: أَرَادَ بِالرَّجُلِ الْحَاجَّ الَّذِي أَثَّرَ فِيهِ السَّفَرُ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْجَهْدُ، وَأَصَابَهُ الشَّعَثُ، وَعَلَاهُ الْغَبَرَةُ فَطَفِقَ يَدْعُو اللَّهَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُمَا مِنْ مَظَانِّ الْإِجَابَةِ، فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ، وَلَا يُعْبَأُ بِبُؤْسِهِ وَشَقَائِهِ لِأَنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِالْحَرَامِ صَارِفُ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِذَا كَانَ حَالُ الْحَاجِّ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ هَذَا فَمَا بَالُ غَيْرِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَمْرُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُوبَى لِعَبْدٍ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغَبَّرَةٍ قَدَمَاهُ» ". اهـ

وَاعْلَمْ أَنَّ طِيبَ الْمَطْعَمِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَتَأْكِيدُ اسْتِعْدَادِهِ لِقَبُولِ أَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بِنَاءَ الْأَمْرِ بَعْدَ حِفْظِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ كُلِّ صَاحِبٍ يُفْسِدُ الْوَقْتَ، وَكُلِّ سَبَبٍ يَفْتِنُ الْقَلْبَ عَلَى صَوْنِ الْيَدِ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِمَّا حَرَّمَهُ فَتْوَى الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ وَرَعُ الْعَامَّةِ، ثُمَّ يَمْتَنِعَ عَمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ أَفْتَى الْمُفْتِي بِحِلِّهِ، وَهُوَ وَرَعُ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ تَرَكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ مَخَافَةَ مَا فِيهِ بَأْسٌ، وَهُوَ وَرَعُ الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ الْحَذَرُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرَادُ بِتَنَاوُلِهِ الْقُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ يَتَطَرَّقُ إِلَى بَعْضِ أَسْبَابِهِ مَعْصِيَةٌ أَوْ كَرَاهَةٌ، وَهُوَ وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ. هَذَا وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُوجَدُ الْحَلَالُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَلْيَكْتَفِ السَّالِكُ مِنْ غَيْرِهِ بِمَا يَحْفَظُ رَوْعًا لِئَلَّا يَمُوتَ جُوعًا قَالَ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ: يَقُولُ لِيَ الْجَهُولُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... دَعِ الْمَالَ الْحَرَامَ وَكُنْ قَنُوعًا فَلَمَّا لَمْ أَجِدْ مَالًا حَلَالًا ... وَلَمْ آكُلْ حَرَامًا مِتُّ جُوعًا لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُرَاعَى دَرَجَاتُ الْحَرَمِ وَالشُّبْهَةِ فَمَهْمَا وَجَدَ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْحَلَالِ لَا يَتَنَاوَلُ مِمَّا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: الْمُضْطَرُّ إِذَا وَجَدَ غَنَمًا مَيْتًا فَلَا يَأْكُلْ مِنَ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ، وَإِذَا وَجَدَ الْحِمَارَ فَلَا يَتَنَاوَلُ مِنَ الْكَلْبِ، وَإِذَا وَجَدَ الْكَلْبَ لَا يَقْرَبُ مِنَ الْخِنْزِيرِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ كَسُفَهَاءِ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ يَقُولُونَ: الْحَلَالُ مَا حَلَّ بِنَا، وَالْحَرَامُ مَا حَرُمَ مِنَّا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2761 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَأْتِي عَلَى الْمَرْءِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2761 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ " أَيْ: فِيهِ (مَا أَخَذَ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ (أَمِنَ الْحَلَالِ) : أَيْ: هُوَ (أَمْ مِنَ الْحَرَامِ) : فَضَمِيرُ مِنْهُ رَاجِعٌ إِلَى الزَّمَانِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ الْمَالُ، وَإِنَّمَا أُبْهِمَ لِيَشْتَمِلَ أَنْوَاعَ الْمَأْخُوذِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا. قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي " مِنْهُ " ضَمِيرُ شَيْءٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ هُنَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى، وَفِيهَا لَفْظُ: الْمَالِ، يَعْنِي لَا يُبَالِي بِمَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَالِ، وَبِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْمَالِ أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ لَا تَفَاوُتَ بَيْنِهِمَا. ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مَا " مَوْصُولَةً أَوْ مَوْصُوفَةً، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ رَاجِعٌ إِلَيْهَا، وَمِنْ زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَمَا مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: لَا يُبَالِي. بِمَا أَخَذَ مِنَ الْمَالِ وَأَمْ مُتَّصِلَةٌ وَمُتَعَلِّقٌ مِنْ مَحْذُوفٍ، وَالْهَمْزَةُ قَدْ سُلِبَ عَنْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَجُرِّدَتْ لِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فَقَوْلُهُ: مِنَ الْحَلَالِ أَخَذَ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ، وَلَا يُبَالِي خَبَرٌ مُقَدَّمٌ يَعْنِي الْأَخْذَ مِنَ الْحَلَالِ. وَمِنَ الْحَرَامِ مُسْتَوٍ عِنْدَهُ، (وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا أَخَذَ) ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرَتْهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] أَيْ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2762 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2762 - وَعَنِ النُّعْمَانِ: بِضَمِّ النُّونِ (ابْنِ بَشِيرٍ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: لِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَلَالُ بَيِّنٌ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: وَاضِحٌ لَا يَخْفَى حَدُّهُ بِأَنْ وَرَدَ نَصٌّ عَلَى حِلِّهِ أَوْ مُهِّدَ أَصْلٌ يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْجُزَيْئَاتِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فَإِنَّ اللَّامَ لِلنَّفْعِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَضَرَّةٌ (وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ) : أَيْ: ظَاهِرٌ لَا تَخْفَى حُرْمَتُهُ بِأَنْ وَرَدَ

نَصٌّ عَلَى حُرْمَتِهِ، كَالْفَوَاحِشِ وَالْمَحَارِمِ وَمَا فِيهِ حَدٌّ وَعُقُوبَةٌ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهَا، أَوْ مُهِّدَ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ نَحْوُ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " (وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أُمُورٌ مُلْتَبِسَةٌ غَيْرُ مُبَيَّنَةٍ لِكَوْنِهَا ذَاتَ جِهَةٍ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، (لَا يَعْلَمُهُنَّ) : أَيْ: حَقِيقَتَهُنَّ (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) : لِتَعَارُضِ الْأَمَارَتَيْنِ، وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِقُوَّةِ تَرْجِيحِ إِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: جُمْلَةُ الشُّبَهَاتِ الْمُعَارِضَةِ فِي الْأُمُورِ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ فِي تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ، فَالْوَرَعُ تَرْكُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فَعَلَيْهِ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ، وَلَا يَنْحَرِفُ عَنْهُ إِلَّا بِيَقِينِ عِلْمٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ، قِيلَ: هِيَ ثَلَاثٌ: حَدِيثُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ، وَحَدِيثُ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرَكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَسَبَبُ عِظَمِ مَوْقِعِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبَّهَ فِيهِ عَلَى صَلَاحِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَغَيْرِهَا بِأَنْ يَكُونَ حَلَالًا، وَأَرْشَدَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ بِأَنْ أَوْضَحَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْحِمَى، وَأَتَمَّ ذَلِكَ بَيَانُ مَنْبَعِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَمَعْدِنِهِمَا، فَقَوْلُهُ: " الْحَلَالُ بَيِّنٌ " الْخَ. مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: حَلَالٌ بَيِّنٌ كَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالنَّظَرُ وَالنِّكَاحُ وَالْمَشْيُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ. وَحَرَامٌ بَيِّنٌ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا وَالْكَذِبُ وَالْغَيْبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالنَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ، وَإِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، فَاشْتُبِهَ عَلَى النَّاظِرِ بِأَيِّهِمَا يَلْحَقُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: " لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ "، وَفِيهِ أَنَّهُ يَعْلَمُهَا قَلِيلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِصْحَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَرَدَّدَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ اجْتَهَدَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهَا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِهِ صَارَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، فَإِذَا فَقَدَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ فَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ) : أَيِ: اجْتَنَبَهَا (اسْتَبْرَأَ) : أَيْ: بَالَغَ فِي الْبَرَاءَةِ أَوْ حَصَّلَ الْبَرَاءَةَ بِالصِّيَانَةِ (لِدِينِهِ) : مِنَ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ (وَعِرْضِهِ) : مِنْ كَلَامِ الطَّاعِنِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَخْرَجٌ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي حُكْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يُحْكُمَ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ وَلَا إِبَاحَةٍ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُ التَّحْرِيمُ، وَالثَّالِثُ الْإِبَاحَةُ. (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ) : أَيْ: هَجَمَ عَلَيْهَا وَتَخَطَّى خُطَطَهَا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ دُونَهَا (وَقَعَ فِي الْحَرَامِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْوُقُوعُ فِي الشَّيْءِ السُّقُوطُ فِيهِ، وَكُلُّ سُقُوطٍ شَدِيدٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ يُكْثِرُ تَعَاطِي الشُّبَهَاتِ يُصَادِفُ الْحَرَامَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَدْهُ، وَقَدْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ إِذَا قَصَّرَ فِي التَّحَرِّي، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْتَادُ التَّسَاهُلَ، وَيَتَمَرَّنُ عَلَيْهِ، وَيَجْسُرُ عَلَى شُبْهَةٍ ثُمَّ شُبْهَةٍ أَغْلَظَ مِنْهَا وَهَلُمَّ جَرَّا، إِلَى أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ عَمْدًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمُ: الْمَعَاصِي تَسُوقُ إِلَى الْكُفْرِ، (كَالرَّاعِي) : ضَرْبُ مَثَلٍ، وَفَائِدَتُهُ تَجْلِيَةُ الْمَعَانِ الْمَعْقُولَةِ بِصُوَرِ الْمَحْسُوسَاتِ لِزِيَادَةِ الْكَشْفِ، وَلَهُ شَأْنٌ عَجِيبٌ فِي إِبْرَازِ الْحَقَائِقِ، وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنْ وُجُوهِ الدَّقَائِقِ، وَلِذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَالْمَعْنَى: حَالُ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ حَيْثُ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، كَحَالِ الرَّاعِي أَيِ: الرَّاتِعِ (يَرْعَى) : صِفَةُ الرَّاعِي لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا (حَوْلَ الْحِمَى) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ مِيمٍ مُخَفَّفَةٍ، وَهُوَ الْمَرْعَى الَّذِي يَحْمِيهِ السُّلْطَانُ مِنْ أَنْ يَرْتَعَ مِنْهُ غَيْرُ رُعَاةِ دَوَابِّهِ، وَهَذَا الْمَنْعُ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ " «لَا حِمًى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» " (يُوشِكُ) : أَيْ: يَقْرُبُ وَيَسْرُعُ (أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ) : أَيْ: فِي نَفْسِ الْحِمَى بِنَاءً عَلَى تَسَاهُلِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ، وَجَرَاءَتِهِ عَلَى الرَّعْيِ، وَعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَيَسْتَحِقُّ عِقَابَ الْمَلِكِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَفِي لَفْظِ: أَنْ يُوَاقِعَهُ، فَالرَّاعِي يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى مَنْ يَرْعَى الْغَنَمَ وَالْإِبِلَ وَنَحْوَهَا. (أَلَا) : مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفِ النَّفْيِ، لِإِعْطَاءِ مَعْنَى التَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهَا (وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ) : أَيْ: عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، أَوْ إِخْبَارٌ عَمَّا

يَكُونُ عَلَيْهِ ظُلَمَةُ الْإِسْلَامِيَّةِ (حِمًى) : يَمْنَعُ النَّاسَ عَنْهُ وَيُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ الَّتِي تَسَمَّى النُّحَاةُ الِاسْتِئْنَافِيَّةَ عَلَى انْقِطَاعِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا فِي الْجُلِّ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِهِ: (أَلَا) أُنَبِّهَ، وَمِنْ قَوْلِهِ: (إِن لِكُلِّ مَلِكٍ) (حَقًّا) ، فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ الْعَطْفُ، إِذْ عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاعْتِبَارِ أَنْ يَتَضَمَّنَ الْمُفْرَدُ مَعْنَى الْفِعْلِ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96] (أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ) : وَهِيَ أَنْوَاعُ الْمَعَاصِي، فَمَنْ دَخَلَهُ بِارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْهَا اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا، فَمِنْهَا مَا لَا يُغْفَرُ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ بِالتَّوْبَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ شَبَّهَ الْمَحَارِمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَمْنُوعٌ التَّبْسِيطُ فِيهَا بِحِمَى السُّلْطَانِ، وَلَمَّا كَانَ التَّوَرُّعُ وَالتَّهَتُّكُ مِمَّا يَسْتَتْبِعُ مَيَلَانَ الْقَلْبِ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ) وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ بِهَا لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْجَسَدِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ تَصْغِيرُ الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْجَسَدِ، مَعَ أَنَّ صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ تَابِعَانِ لَهُ. (إِذَا صَلَحَتْ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، فَالْأَوَّلُ أَوْ صَحَّ أَيْ: إِذَا تَنَوَّرَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَالْإِيقَانِ (صَلُحَ الْجَسَدُ) : أَيْ: أَعْضَاؤُهُ (كُلُّهُ) : بِالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ " وَإِذَا فَسَدَتْ " بِفَتْحِ السِّينِ وَقِيلَ ضَمُّهَا أَيْضًا أَيْ: (إِذَا تَلَفَتْ وَأَظْلَمَتْ بِالْجُحُودِ وَالشَّكِّ وَالْكُفْرَانِ (فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ) : أَيْ: بِالْفُجُورِ وَالْعِصْيَانِ، فَعَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهَا وَيَمْنَعَهَا عَنِ الِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ، حَتَّى لَا يُغَادِرَ إِلَى الشُّبَهَاتِ، وَلَا يَسْتَعْمِلَ جَوَارِحَهُ بِاقْتِرَافِ الْمُحَرَّمَاتِ. (وَأَلَا وَهِيَ) : أَيِ الْمُضْغَةُ الْمَوْصُوفَةُ (الْقَلْبُ) : فَهُوَ كَالْمَلِكِ، وَالْأَعْضَاءُ كَالرَّعِيَّةِ، فَأَهَمُّ الْأُمُورِ مُرَاعَاتُهُ، فَإِنْ صَدَرَ عَنْهُ إِرَادَةٌ صَالِحَةٌ تَحَرَّكُ الْجَسَدُ حَرَكَةً صَالِحَةً وَبِالْعَكْسِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا قِيلَ: النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ، وَالْإِنَاءُ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَالْقَلْبُ لُغَةً صَرْفُ الشَّيْءِ إِلَى عَكْسِهِ، وَمِنْهُ الْقَلْبُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ حَدِيثُ: «إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» ". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «مَثَلُ الْقَلْبِ كَرِيشَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» ". وَلِهَذَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ". وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا مِنْ تَقَلُّبِهِ ... فَاحْذَرْ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ وَلَهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُضْغَةُ الصُّنُوبَرِيَّةُ الْمُودَعَةُ فِي التَّجْوِيفِ الْأَيْسَرِ مِنَ الصَّدْرِ، وَهُوَ مَحَلُّ اللَّطِيفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَلِذَا نُسِبَ إِلَيْهِ الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ، وَبَاطِنٌ وَهُوَ اللَّطِيفَةُ النُّورَانِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الْعَالِمَةُ الَّتِي هِيَ مَهْبِطُ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَبِهَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا، وَبِهَا يَسْتَعِدُّ لِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَبِهَا صَلَاحُ الْبَدَنِ وَفَسَادُهُ، وَهِيَ خُلَاصَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنَ الرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ. قَالَ - تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] وَالرُّوحُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وَهُوَ مَقَرُّ الْإِيمَانِ " {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22] "، كَمَا أَنَّ الصَّدْرَ مَحَلُّ الْإِسْلَامِ {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22] وَالْفُؤَادُ مَقَرُّ الْمُشَاهَدَةِ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] " وَاللُّبُّ مَقَامُ التَّوْحِيدِ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19] الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ قِشْرِ الْوُجُودِ الْمُجَازَيِّ، وَبَقُوا بِلُبِّ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ، لَكِنَّ مَعْرِفَتَهُ كَمَا هِيَ مُتَعَذَّرَةٌ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى حَقِيقَتِهَا عَلَى أَرْبَابِ الْحَقَائِقِ مُتَعَسِّرَةٌ، هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلَاحَهُ إِنَّمَا هُوَ بِأَنْ يَتَغَذَّى بِالْحَلَالِ فَيَصْفُو، وَيَتَأَطَّرُ الْقَلْبُ بِصَفَائِهِ وَيَتَنَوَّرُ، فَيَنْعَكِسَ نُورُهُ إِلَى الْجَسَدِ فَيَصْدُرُ مِنْهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِصَلَاحِهَا، وَإِذَا تَغَذَّى بِالْحَرَامِ يَصِيرُ مَرْتَعًا لِلشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ، فَيَتَكَدَّرُ وَيَتَكَدَّرُ الْقَلْبُ فَيُظْلِمُ، وَتَنْعَكِسُ ظُلْمَتُهُ إِلَى الْبَدَنِ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الْمَعَاصِي، وَهُوَ الْمُرَادُ بِفَسَادِهَا. هَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، وَخُلَاصَةُ تَحْقِيقِ بَعْضِ الْمُدَقِّقِينَ.

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْوَرَعِ، وَهُوَ أَنَّ مَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ مُتَقَدِّمٌ، فَالْوَرَعُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَجْتَنِبَهُ، فَإِنَّهُ إِذْ لَمْ يَتْرُكْهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ وَاعْتَادَهُ جَرَّ ذَلِكَ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، فَلَوْ وَجَدَ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ هُوَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَالْوَرَعُ أَنْ يَجْتَنِبَهُ، وَلَا عَلَيْهِ إِنْ تَنَاوَلَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَامَلَةُ مَنْ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ أَوْ خَالَطَهُ رِبًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهَا وَيَتْرُكَهَا، وَلَا يَحْكُمَ بِفَسَادِهَا مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ عَيْنَهُ حَرَامٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهَنَ دِرْعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ بِشَعِيرٍ أَخْذَهُ لِقُوتِ أَهْلِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ يُرْبُونَ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَيَسْتَحِلُّونَ أَثْمَانَ الْخُمُورِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْأَلُ السَّلَاطِينَ فَإِنْ أَعْطَوْكَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُصِيبُونَ مِنَ الْحَلَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطُونَكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَأْخُذُ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ لَمْ يَقْبَلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، فَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ؟ قَالَ: قَدْ رَدَّهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي عَلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدٌ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ السَّلَاطِينَ فِي زَمَانِنَا هَذَا ظُلَمَةٌ، قَلَّمَا يَأْخُذُونَ شَيْئًا عَلَى وَجْهِهِ بِحَقِّهِ، فَلَا تَحِلُّ مُعَامَلَتُهُمْ وَلَا مُعَامَلَةُ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ حَتَّى الْقَاضِي، وَلَا التِّجَارَةُ الَّتِي فِي الْأَسْوَاقِ الَّتِي بَنَوْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْوَرَعُ اجْتِنَابُ الرُّبَطِ وَالْمَدَارِسِ وَالْقَنَاطِرِ الَّتِي بَنَوْهَا بِالْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مَالِكُهَا. وَرَوَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنْتُ لَيْلَةً مَعَ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ فَرَأَى نَارًا مِنْ بَعِيدٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْتُ: نَارُ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِنَا فِي طَرِيقٍ آخَرَ لِأَنَّهُ يَسْتَضِيءُ بِنَارِهِمْ، قُلْتُ: وَمَا أَنْسَبُ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

2763 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2763 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ) : اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْكَلْبِ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَأَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ لَفْظَ الْخَبِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ لِمَا فِي الْخَبَرِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ اتِّفَاقًا فَقَوْلُهُ: خَبِيثٌ أَيْ: لَيْسَ بِطَيِّبٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ، وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حُصُولِهِ بِأَدْنَى الْمَكَاسِبِ، (وَمَهْرُ الْبَغِيِّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهُوَ فَعَوْلٌ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْفَاعِلَةِ مِنْ بَغَتِ الْمَرْأَةُ بِغَاءً بِالْكَسْرِ إِذَا زَنَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] وَالْمَعْنَى مَهْرُ الزَّانِيَةِ (خَبِيثٌ) أَيْ: حَرَامٌ إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا تَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنِ الزِّنَا الْمُحَرَّمِ، وَوَسِيلَةُ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَسَمَّاهُ مَهْرًا مَجَازًا لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ (وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ) : أَيْ: مَكْرُوهٌ لِدَنَاءَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: الْخَبِيثُ فِي الْأَصْلِ مَا يُكْرَهُ لِرَدَاءَتِهِ وَخِسَّتِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَرَامِ مِنْ حَيْثُ كَرِهَهُ الشَّارِحُ وَاسْتَرْذَلَهُ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الطَّيِّبُ لِلْحَلَالِ. قَالَ - تَعَالَى: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2] أَيِ الْحَرَامَ بِالْحَلَالِ، وَلَمَّا كَانَ مَهْرُ الزَّانِيَةِ وَهُوَ مَا تَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنِ الزِّنَا حَرَامًا ; كَانَ الْخَبِيثُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِمَعْنَى الْحَرَامِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الثَّانِي، وَأَمَّا نَهْيُ بَيْعِ الْكَلْبِ، فَمَنْ صَحَّحَهُ كَالْحَنَفِيَّةِ فَسَّرَهُ بِالدَّنَاءَةِ، وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْهُ كَأَصْحَابِنَا فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ حَرَامٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2764 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2764 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» ) : هُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ يَوْمَئِذٍ مُحَرَّمًا، ثُمَّ رُخِّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَقَضَى فِي كَلْبِ مَاشِيَةٍ بِكَبْشٍ، ذَكَرَهُ

ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَأَنْ لَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُعَلَّمًا أَوْ لَا. وَسَوَاءٌ كَانَ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ أَمْ لَا. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْعَ الْكَلْبِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَأَوْجَبَ الْقِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ. وَعَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَاتٌ. الْأُولَى: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ، وَالثَّانِيَةُ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالثَّالِثَةُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. (وَمَهْرُ الْبَغِيِّ) : سَبَقَ بَيَانُهُ (وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، مَا يُعْطَاهُ عَلَى كَهَانَتِهِ قَالَ الْهَرَوِيُّ: أَصْلُهُ مِنَ الْحَلَاوَةِ شَبَّهُ الْمُعْطَى بِالشَّيْءِ الْحُلْوِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَأْخُذُهُ سَهْلًا بِلَا كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَالْكَاهِنُ هُوَ الَّذِي يَتَعَاطَى الْأَخْبَارَ عَنِ الْكَائِنَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَدَّعِي مَعْرِفَةَ الْأَسْرَارِ، وَكَانَتْ فِي الْعَرَبِ كَهَنَةٌ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ تَابِعَةً مِنَ الْجِنِّ تُلْقِي إِلَيْهِمُ الْأَخْبَارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ يُدْرِكُ الْأُمُورَ بِفَهْمٍ أُعْطِيَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْأُمُورَ بِمُقَدِّمَاتٍ وَأَسْبَابٍ يَسْتَدِلُّ بِهِمَا عَلَى مَوَاقِعِهَا ; كَالشَّيْءِ يُسْرَقُ فَيَعْرِفُ الْمَظْنُونَ بِهِ لِلسَّرِقَةِ، وَمِنْهُمُ الْمَرْأَةُ بِالزَّنْيَةِ فَيَعْرِفُ مَنْ صَاحَبَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُنَجِّمَ كَاهِنًا حَيْثُ إِنَّهُ يُخْبِرُ عَنِ الْأُمُورِ كَإِتْيَانِ الْمَطَرِ، وَمَجِيءِ الْوَبَاءِ وَظُهُورِ الْقِتَالِ، وَطَالِعِ نَحْسٍ أَوْ سَعِيدٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ الْكَاهِنِ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَعَلَى النَّهْيِ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2765 - وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَالْمُصَوِّرَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2765 - (وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) : مُصَغَّرًا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: بَيْعُ الدَّمِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ نَجِسٌ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ نَهْيَهُ عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ عَلَى أَجْرِ الْحَجَّامِ، وَجَعَلَهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ (وَثَمَنِ الْكَلْبِ) : وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ (وَكَسْبِ الْبَغِيِّ) أَيْ: مَكْسُوبِهَا (وَلَعَنَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (آكِلَ الرِّبَا) : أَيْ: آخِذَهُ (وَمُؤْكِلَهُ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَاوًا. أَيْ: مُعْطِيَهُ، وَمُطْعِمَهُ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُغْتَبِطًا وَالْآخَرُ مُهْتَضِمًا (وَالْوَاشِمَةَ) أَيِ: الْمَرْأَةُ الَّتِي تَشِمُ، فِي النِّهَايَةِ: الْوَشْمُ أَنْ يُغْرَزَ الْجِلْدُ بِإِبْرَةٍ، ثُمَّ يُحْشَى بِكُحْلٍ أَوْ نِيلٍ فَيَزْرَقُّ أَوْ يَخْضَرُّ (وَالْمُسْتَوْشِمَةَ) : أَيِ: الَّتِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا: وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْفُسَّاقِ وَالْجُهَّالِ، وَلِأَنَّهُ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ، وَفِي الرَّوْضَةِ: لَوْ شَقَّ مَوْضِعًا مِنْ بَدَنِهِ وَجَعَلَ فِيهِ وِعَاءً أَوْ وَشَمَ يَدَهُ أَوْ غَيْرَهَا، فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ عِنْدَ الْغَرْزِ، وَفِي تَعْلِيقِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ يُزِيلُ الْوَشْمَ بِالْعِلَاجِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا بِالْجِرَاحِ لَا يُجْرَحُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، (وَالْمُصَوِّرَ) : أَرَادَ بِهِ الَّذِي يُصَوِّرُ صُوَرَ الْحَيَوَانِ دُونَ مَنْ يُصَوِّرُ صُوَرَ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ كَانَتْ عَلَى صُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ كُلُّ صُورَةٍ مُصَوَّرَةٍ فِي رِقٍّ أَوْ قِرْطَاسٍ مِمَّا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الصُّورَةَ وَكَانَ الرِّقُّ تَبَعًا لَهُ، فَأَمَّا الصُّوَرُ الْمُصَوَّرَةُ فِي الْأَوَانِي وَالْقِصَاعِ، فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِتِلْكَ الظُّرُوفِ بِمَنْزِلَةِ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ عَلَى جُدُرِ الْبُيُوتِ وَالسُّقُوفِ وَفِي الْأَنْمَاطِ وَالسُّتُورِ، فَبَيْعُهَا صَحِيحٌ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2766 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ: فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟ فَإِنَّهُ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: " لَا، هُوَ حَرَامٌ " ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ " قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2766 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: وَهُوَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: عَامَ الْفَتْحِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَأَخَذْتُهُ بِيَدِي اهـ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي قَوْلِهِ عَامَ الْفَتْحِ أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، نَعَمْ. الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا تَحْقِيقُ السَّمَاعِ، وَتَقْرِيرُهُ (أَنَّ اللَّهَ) : أَيْ بِالْحَقِيقَةِ (وَرَسُولُهُ) أَيْ: بِالْمَجَازِ وَالتَّبَعِيَّةِ (حَرَّمَ بِيعَ الْخَمْرِ) : أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَجَعَلَهَا رِجْسًا وَحَرَّمَ بَيْعَهَا، وَرَسُولُهُ أَيْضًا بَيَّنَ حُرْمَتَهَا فِي أَحَادِيثِهِ وَكَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ) : أَيْ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - قَبْلَ ذِكْرِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْطِئَةً لِذِكْرِهِ إِيذَانًا بِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّسُولِ بَيْعَ الْمَذْكُورَاتِ لِتَحْرِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهُ رَسُولُهُ وَخَلِيفَتُهُ، (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبِرْنِي

(شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟) : أَيْ: حُكْمَهَا (فَإِنَّهَا) : أَيْ: شُحُومُهَا، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْقَضِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِنَّهُ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ (تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ السَّفِينَةِ أَيْ أَخْشَابَهَا (وَيُدَّهَنُ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ تَشْدِيدِ الْهَاءِ، (بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يُنَوِّرُ (بِهَا النَّاسُ) : الْمِصْبَاحَ أَوْ بُيُوتَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالطَّلَبِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ السِّينِ أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ التَّنْوِيرِ يَسْعَوْنَ فِي تَحْصِيلِهَا مَا أَمْكَنَ، وَيَجُوزُ كَوْنُ السِّينِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ (فَقَالَ " لَا) : أَيْ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ (هُوَ) : أَيِ الِانْتِفَاعُ بِهِ (حَرَامٌ) : أَيْ: مَمْنُوعٌ: قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعٌ إِلَى مُقَدَّرٍ بَعْدَ كَلِمَةِ الِاسْتِخْبَارِ، وَكَلِمَةُ (لَا) رَدٌّ لِذَلِكَ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَخْبِرْنِي أَيَحِلُّ انْتِفَاعُ شُحُومِ الْمَيْتَةِ، وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَادُ: قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: " لَا هُوَ حَرَامٌ " لَا تَبِيعُوهَا فَإِنَّ بَيْعَهَا حَرَامٌ، فَالضَّمِيرُ فِي (هُوَ) يَعُودُ إِلَى الْبَيْعِ لَا الِانْتِفَاعِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا لِعُمُومِ النَّهْيِ ; إِلَّا مَا خُصَّ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ، فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِالْأَدْهَانِ الْمُنَجَّسَةِ مِنَ الْخَارِجِ كَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَغَيْرِهَا بِالِاسْتِصْبَاحِ وَنَحْوِهِ، بِأَنْ يَجْعَلَ الزَّيْتَ صَابُونَ أَوْ يَطْعَمَ الْعَسَلَ الْمُتَنَجِّسَ النَّحْلِ وَالْمِيتَةَ وَالْكِلَابَ وَالطَّعَامَ وَالدَّوَابَّ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُ بِيعَ الزَّيْتِ النَّجِسِ إِذَا بَيَّنَهُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَفِي عُمُومِ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ أَنَّهُ يُحَرَّمُ بَيْعُ جُثَّةِ الْكَافِرِ الْمَقْتُولِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ نَوْفَلًا الْمَخْزُومِيَّ قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَبَذَلَ الْكُفَّارُ فِي جَسَدِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . (ثُمَّ قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عِنْدَ ذَلِكَ) : مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ أَرَأَيْتَ الْخَ (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ) : أَيْ: أَهْلَكَهُمْ وَلَعَنَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ إِخْبَارٌ وَدُعَاءٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ عَاقَبْتُ اللِّصَّ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: عَادَاهُمْ، وَقِيلَ: قَتَلَهُمْ، فَأُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْمُغَالَبَةِ (إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا) : بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي نُسَخِ الْمِشَكَاةِ: وَقَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: قَوْلُهُ: شُحُومَهُمَا أَيْ: بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمَنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] وَرُوِيَ (شُحُومَهُا) ، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ اسْمُ جِنْسٍ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى (أَجْمَلُوهُ) : بِالْجِيمِ أَيْ أَذَابُوهُ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الشُّحُومِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الشَّحْمِ الْمَفْهُومِ مِنَ الشُّحُومِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الشُّحُومِ، إِذْ لَوْ قِيلَ حَرَّمَ شُحُومَهَا لَمْ يَخِلَّ بِالْمَعْنَى فَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} [المنافقون: 10] اهـ. وَفِي النِّهَايَةِ: جَمَّلْتُ الشَّحْمَ وَأَجْمَلْتُهُ أَذَبْتُهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: جَمَّلَ الشَّحْمَ أَذَابَهُ كَأَجْمَلَهُ وَاجْتَمَلَهُ، فَقَوْلُ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: جَمَّلْتُ أَفْصَحُ مِنْ أَجْمَلْتُ لَيْسَ مِنَ الْجَمِيلِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا فَصِيحَانِ بَلِ الْأَجْمَلُ، أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَجْمَلَ أَبْلَغُ لِإِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي هَذَا الْفِعْلِ وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْهُ (ثُمَّ بَاعُوهُ) أَيْ: صُورَةً، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ حَقِيقَةً (فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) : فِيهِ زِيَادَةُ تَوْبِيخٍ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ كُلِّ حَيْدَةٍ تَحْتَالُ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مُحَرَّمٍ وَأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ هَيْئَاتِهِ وَتَبْدِيلِ اسْمِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2767 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2767 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: أَذَابُوهَا بِالنَّارِ لِيَزُولَ عَنْهَا اسْمُ الشُّحُومِ وَيَصِيرَ وَدَكًا (فَبَاعُوهَا) ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

2768 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2768 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمَكْسُورَةِ وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَهُوَ الْهِرُّ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا يَنْفَعُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِكَيْ يَعْتَادَ النَّاسُ هِبَتَهُ وَإِعَارَتَهُ وَالسَّمَاحَةَ بِهِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، فَإِنْ كَانَ نَافِعًا وَبَاعَهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَكَانَ ثَمَنُهُ حَلَالًا، هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ غَيْرُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ غَلَطٌ، لِأَنَّ مُسْلِمًا قَدْ رَوَاهُ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَهُمَا ثِقَتَانِ. اهـ. وَالْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي تَجْوِيزِهِمْ بِيعَ الْكَلْبِ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَةَ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي النَّهْيِ تُوجِبُ ذَلِكَ: قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَرِهَ بَعْضٌ بَيْعَ السِّنَّوْرِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَحَمَلَهُ الْأَكْثَرُونَ عَلَى الْوَحْشِيِّ مِنْهَا لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ رُبِطَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَأَنَّ نَفْعَهُ صَيْدُ الْفَأْرَةِ، وَلَوْ لَمْ يُرْبَطْ لَرُبَّمَا يَنْفِرُ فَيَضِيعُ الْمَالُ الْمَصْرُوفُ فِي ثَمَنِهِ.

2769 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2769 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ) : بِفَتْحِ مُهْمِلَةٍ فَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ; عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ اسْمُهُ نَافِعٌ أَوْ دِينَارٌ أَوْ مَسِيرَةُ أَقْوَالٌ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ) : أَيْ: سَادَاتِهِ (أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: شَيْئًا مِمَّا وُظِّفُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمُقَاطَعَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ مُخَارَجَةِ الْعَبْدِ بِرِضَاهُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: اكْتَسِبْ وَأَعْطِنِي مِنْ كَسْبِكَ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا وَالْبَاقِي لَكَ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: رَضِيتُ بِهِ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ نَفْسِ الْحِجَامَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَدْوِيَةِ، وَإِبَاحَةُ التَّدَاوِي، وَإِبَاحَةُ الْأَجْهِزَةِ عَلَى الْمُعَالَجَةِ لِلطَّبِيبِ وَفِيهِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ بِالتَّخْفِيفِ إِلَى أَصْحَابِ الْحُقُوقِ وَالدُّيُونِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2770 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارِمِيِّ " «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2770 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ) أَيْ: أَحَلَّهُ، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ (مِنْ كَسْبِكُمْ) : أَيِ: الْحَاصِلُ مِنْ وِجْهَةِ الْوَاصِلِ مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ زِرَاعَةٍ (وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مَنْ كَسْبِكُمْ) : أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا بِوَاسِطَةِ تَزَوُّجِكُمْ، فَيَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مَنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مُحْتَاجِينَ وَإِلَّا فَلَا، إِلَّا أَنْ طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ - هَكَذَا قَرَّرَهُ عُلَمَاؤُنَا - وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ عَاجِزَيْنِ عَنِ السَّعْيِ، عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارِمِيِّ: ( «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: تَسْمِيَةُ الْوَلَدِ بِالْكَسْبِ مَجَازٌ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْقَطَّانِ

وَالْمُنْذِرِيُّ، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَأَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِيَ قَالَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» " وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَصْغَرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَعَنْ جَابِرٍ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِيَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " ادْعُهُ لِي "، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " إِنَّ ابْنَكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ تَأْخُذُ مَالَهُ " فَقَالَ " سَلْهُ هَلْ لِعَمَّتِهِ وَقَرَابَاتِهِ أَوْ لِمَا أُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِي وَعِيَالِي؟ قَالَ: فَهَبَطَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الشَّيْخَ قَالَ فِي نَفْسِهِ شِعْرًا لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ ; فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (قُلْتَ فِي نَفْسِكَ شِعْرًا لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاكَ ; فَهَاتِهِ " فَقَالَ: لَا نَزَالُ يَزِيدُنَا اللَّهُ بِكَ بَصِيرَةً وَيَقِينًا ثُمَّ أَنَشَأَ يَقُولُ: غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا ... تَعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ إِذَا لَيْلَةٌ ضَاقَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ ... لِسُقْمِكَ إِلَّا سَامَرًا أَتَمَلْمَلُ تَخَافُ الْوَرَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا ... لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ مُوَكَّلُ كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي ... طَرَقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَاكَ تُهْمِلُ كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي ... إِلَيْكَ مَرَامًا فِيكَ قَدْ كُنْتُ آمُلُ جَعَلْتَ جَزَائِيَ غِلْظَةً وَفَظَاظَةً ... كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنَعِمُ الْمُتَفَضِّلُ فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي ... فَعَلْتَ كَمَا جَارُ الْمُجَاوِرِ يَفْعَلُ قَالَ: فَبَكَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ أَخَذَ بِتَلَابِيبِ ابْنِهِ وَقَالَ: " اذْهَبْ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» " وَرُوِيَ حَدِيثُ جَابِرٍ الْأَوَّلُ فِي طُرُقٍ كَثِيرَةٍ.

2771 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا حَرَامًا فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ فَيُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُنْفِقُ مِنْهُ ; فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَكَذَا فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2771 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا حَرَامًا فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ) : بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى يَكْسِبُ وَقَوْلُهُ: (فَيُنْفَقُ مِنْهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَرْفُوعٌ أَيْضًا، عَطْفٌ عَلَى فَيُتَصَدَّقُ يَعْنِي لَا يُوجَدُ الْكَسْبُ الْحَرَامُ الْمُسْتَعْقِبُ لِلتَّصَدُّقِ (فَالْقَبُولُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَيُقْبَلَ، بِالنَّصْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ النَّصُّ جَوَابًا لِلنَّفْيِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ أَيْ: فَلَا يَكُونُ اجْتِمَاعُ الْكَسْبِ وَالتَّصَدُّقِ سَبَبًا لِلْقَبُولِ، وَقَوْلُهُ: (وَلَا يُنْفَقُ مِنْهُ) : بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَيُتَصَدَّقُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَعْطُوفِ لَا الِانْسِحَابِ، وَقَوْلُهُ: (فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْجَوَابِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَلَا يَتْرُكُهُ) : عَطْفٌ عَلَى فَيُتَصَدَّقُ، وَقَوْلُهُ (خَلْفَ ظَهْرِهِ) : كِنَايَةٌ عَنِ الْمَوْتِ (إِلَّا كَانَ) : أَيِ الْمَتْرُوكُ أَوْ ذَلِكَ الْكَسْبُ الْحَرَامُ (زَادَهُ) : أَيْ زِوَادَتَهُ مُنْتَهِيًا (إِلَى النَّارِ) لِأَنَّهُ لَمَّا عَصَى بِجَمْعِ الْمَالِ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٍ، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَهُ لِوَرَثَةٍ كَانَ عَلَيْهِ إِثْمُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْ: مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي ارْتِكَابِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةً حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ، وَزَادَهُ بِزَايٍ مُعْجَمَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ حَالَ كَوْنِهِ مُوَصِّلًا لَهُ إِلَى النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَرُوِيَ بِمُهْمَلَةٍ مِنَ الرَّوْدِ مَانِعُهُ عَنِ الْجَنَّةِ، وَمُلْجِئُهُ إِلَى النَّارِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحَدِيثُ مِنَ التَّقْسِيمِ الْحَاضِرِ لِأَنَّ مَنِ اكْتَسَبَ الْمَالَ إِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لِلْآخِرَةِ فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ أَوَّلًا. وَالثَّانِي إِمَّا أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ أَوَّلًا. وَالثَّانِي هُوَ مَا يَدَّخِرُهُ لِدُنْيَاهُ وَأَخْذُهُ كَذَا لِنَفْسِهِ فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْحَرَامَ لَا يُجْدِيهِ وَلَا يَنْفَعُهُ فِيمَا قَصَدَهُ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُوَ السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَعْلِيلِ عَدَمِ الْقَبُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْمَالِ الْحَرَامِ سَيِّئَةٌ، وَلَا يَمْحُوَ اللَّهُ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالٍ حَرَامٍ وَرَجَا الثَّوَابَ كَفَرَ، وَلَوْ عَرَفَ الْفَقِيرُ وَدَعَا لَهُ كَفَرَ (وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ) أَيِ: التَّصَدُّقِ بِالْحَلَالِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَهَذِهِ الْجُمَلُ كُلُّهَا مُقَدِّمَةٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ (إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ) : أَيِ: النَّجِسُ لَا يُطَهِّرُ النَّجِسَ بَلِ الطَّهُورُ يُطَهِّرُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيِ الْمَالُ الْحَرَامُ لَا يُجْدِيَ الْبَتَّةَ فَعَبَّرَ عَنْ عَدِيمِ النَّفْعِ بِالْخَبِيثِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : لِصَاحِبِ الْمَصَابِيحِ بِإِسْنَادِهِ

2772 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2772 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا مَعَ النَّاجِينَ ; بَلْ بَعْدَ عَذَابٍ بِقَدْرِ أَكْلِهِ لِلْحَرَامِ مَا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، أَوْ لَا يَدْخُلُ مَنَازِلَهُ الْعَلِيَّةَ، أَوِ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَبَدًا إِنِ اعْتَقَدَ حِلَّ الْحَرَامِ، وَكَانَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، وَلِذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِنَوْعٍ مِنَ التَّقْيِيدِ (لَحْمٌ) : أَيْ صَاحِبُ لَحْمٍ (نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ) : بِضَمِّ السِّينِ وَالْحَاءِ وَسُكُونِهَا الْحَرَامُ ; لِأَنَّهُ يُسْحِتُ الْبَرَكَةَ أَيْ يُذْهِبُهَا، وَأُسْنِدَ عَدَمُ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَى اللَّحْمِ لَا إِلَى صَاحِبِهِ إِشْعَارًا بِالْعِلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ خَبِيثٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ الطَّيِّبَ ; لِأَنَّ الْخَبِيثَ لِلْخَبِيثِ، وَلِذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ كَانَتِ النَّارُ) وَفِي نُسْخَةٍ كَانَ النَّارُ (أَوْلَى بِهِ) أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ لِتُطَهِّرَهُ النَّارُ عَنْ ذَلِكَ بِإِحْرَاقِهَا إِيَّاهُ، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ الِاسْتِحْقَاقِ، أَمَّا إِذَا تَابَ أَوْ غُفِرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَأَرْضَى خُصُومَهُ، أَوْ نَالَتْهُ شَفَاعَةُ شَفِيعٍ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2773 - وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَرَوَى الدَّارِمِيُّ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2773 - (وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ (دَعْ) : أَيِ: اتْرُكْ (مَا يَرِيبُكَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ، وَالرَّيْبُ الشَّكُّ وَقِيلَ: هُوَ الشَّكُّ مَعَ التُّهْمَةِ " إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ": قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ: مَا اعْتَرَضَ لَكَ الشَّكُّ فِيهِ مُنْقَلِبًا عَنْهُ إِلَى مَا لَا شَكَّ فِيهِ، يُقَالُ: دَعْ ذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ أَيِ: اسْتَبْدِلْهُ بِهِ. اهـ. وَالْمَعْنَى: اتْرُكْ مَا تَشُكُّ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْهُ أَوَّلًا أَوْ سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ، وَأَعْدِلْ إِلَى مَا لَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَبْنِيَ الْمُكَلَّفُ أَمْرَهُ عَلَى الْيَقِينِ الْبَحْتِ وَالتَّحْقِيقِ الصِّرْفِ، وَيَكُونُ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ (فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ ضَبَطَهُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَفْصَحُ الْوَاقِعُ فِي الْقُرْآنِ وَالثَّانِي لُغَةٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ إِذَا قُوبِلَ بِالصِّدْقِ فَهُوَ أَوْلَى لِحُسْنِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَهُمَا، (رِيبَةٌ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَحَقِيقَتُهَا قَلَقُ النَّفْسِ وَاضْطِرَابُهَا، فَإِنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ مَشْكُوكًا فِيهِ مِمَّا يَقْلَقُ لَهُ النَّفْسُ، وَكَوْنُهُ صَحِيحًا صَادِقًا مِمَّا تَطْمَئِنُّ لَهُ، وَمِنْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ أَيْ مَا يُقْلِقُ النُّفُوسَ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ، وَقِيلَ الْمَوْتُ هَذَا، وَقَدْ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَاءَ هَذَا الْقَوْلُ مُمَهِّدًا لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَمَعْنَاهُ إِذَا وَجَدْتَ نَفْسَكَ تَرْتَابُ فِي الشَّيْءِ فَاتْرُكْهُ، فَإِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ تَطْمَئِنُّ إِلَى الصِّدْقِ وَتَرْتَابُ مِنَ الْكَذِبِ، فَارْتِيَابُكَ فِي الشَّيْءِ مُنْبِئٌ عَنْ كَوْنِهِ بَاطِلًا أَوْ مَظَنَّةً لِلْبَاطِلِ فَاحْذَرْهُ، وَاطْمِئْنَانُكَ إِلَى الشَّيْءِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهِ حَقًّا فَاسْتَمْسِكْ بِهِ، وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْمَقَالِ وَالْفِعَالَ وَمَا يَحِقُّ أَوْ يَبْطُلُ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا الْأَمْرُ مَخْصُوصٌ بِذَوِي النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ الْقُدْسِيَّةِ الطَّاهِرَةِ مِنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ وَأَوْسَاخِ الْآثَامِ. اهـ

وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَاهُ إِذَا كُنْتَ صَحِيحَ الْخَاطِرِ طَاهِرَ الْبَاطِنِ، مُرَاقِبًا لِلْغَيْبِ وَتَعْرِفُ لَمَّةَ الْمَلَكِ مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ، وَالْإِلْهَامَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَكُنْتَ مُمَيِّزًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ وَصَفَاءِ الْقَلْبِ. دَعْ مَا يَرِيبُكَ مِنَ الْأُغْلُوطَاتِ وَالشُّبَهَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالشَّيْطَانِيَّةِ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ مِمَّا يَنْزِلُ بِقَلْبِكَ وَعَقْلِكَ وَرُوحِكَ مِنَ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ وَالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ الْمُطَابِقِ لِلْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَكَمَا أَنَّ تَرْكَ مَا يَرِيبُكَ مَأْمُورٌ، فَتَرْكُ مَا يُرِيبُ مَأْمُورٌ، فَتَرْكُ مَا يُرِيبُ الْغَيْرَ مِمَّا يَصْعُبُ عَلَى أَفْهَامِ الْعَامَّةِ أَوْلَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ الْأَعْلَى -: إِنِّي لَأَكَتْمُ مِنْ عِلْمِي جَوَاهِرَهُ ... كَيْلَا يَرَى الْحَقَّ ذُو جَهْلٍ فَيَفْتِنَنَا يَا رُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أَبُوحُ بِهِ ... لَقِيلَ لِي أَنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْوَثَنَا وَلَاسْتَحَلَّ رِجَالٌ مُسْلِمُونَ دَمِي ... يَرَوْنَ أَقْبَحَ مَا يَرَوْنَهُ حَسَنًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) ، أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (وَرَوَى الدَّارِمِيُّ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ) أَيِ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فَقَطْ وَهِيَ: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ) وَسَمَّاهُ فَصْلًا لِأَنَّ الْأَخِيرَ مُفَرَّعٌ وَالْأَوَّلُ: مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ، فَصَارَا كَالْفَصْلَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ تَامٌّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

2774 - «وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَا وَابِصَةُ جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ، فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ وَقَالَ: (اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ) ثَلَاثًا. الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2774 - (وَعَنْ وَابِصَةَ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (ابْنِ مَعْبَدٍ) أَيِ الْأَسَدِيِّ، أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ، كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ لَا يَمْلِكُ دَمْعَتَهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَا وَابِصَةُ جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ) : بِالْكَسْرِ أَيِ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ كُلِّهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189] (وَالْإِثْمِ) : (أَيِ الذَّنْبِ وَحَاصِلُهُمَا الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ، (فَقُلْتُ: نَعَمْ) ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَمَّا أَضْمَرَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، (قَالَ) : أَيْ وَابِصَةُ (فَجَمَعَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَصَابِعَهُ) ، أَيْ أَصَابِعَ يَدِهِ فَضَرَبَ بِهِ صَدْرَهُ) ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ صَدْرِهِ إِلَى وَابِصَةَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي صَدْرِهِ يَعُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَوْهَمَهُ قَوْلُهُ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي غَيْرَ وَابِصَةَ وَهُوَ أَوْلَى بِسِيَاقِ الْمَعْنَى كَمَا أَمَرَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ وَضَعَهَا عَلَيْهِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي الصَّدْرِ، يَعْنِي بِإِزَائِهِ وَجَانِبِهِ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْسَرِ، وَلِيَحْصُلَ لَهُ بِمَمَاسَّةِ الْيَدِ الْكَرِيمَةِ النَّهْيُ التَّامُّ لِفَهْمِ تَلَقِّي الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ نَظِيرَ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ: أَنَّ التَّقْوَى هَا هُنَا وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَقَالَ: اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ) وَاقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الثَّانِي، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِتَأْكِيدٍ أَيِ: اطْلُبِ الْفَتْوَى مِنْ قَلْبِكَ، لِأَنَّهُ بَلَغَ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْكَمَالِ وَطَلَبِ الْوُصُولِ بِعَيْنِ الْوِصَالِ إِلَى مَقَامِ الْقَلْبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سَيْرَ الْإِنْسَانِ إِلَى الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ بِالْبَاطِنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ اسْتِعَانَةِ الظَّاهِرِ لِصُعُودِ الْهَيْئَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إِلَى خَيْرِ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ، وَهُبُوطِ الْهَيْئَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ إِلَى الظَّاهِرِ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا، وَاشْتِقَاقِ الْفَتْوَى مِنَ الْفَتْوِ لِأَنَّهَا جَوَابٌ فِي حَادِثَةٍ أَوْ إِحْدَاثُ حُكْمٍ، أَوْ تَقْوِيَةُ مُشْكِلٍ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ يَعْنِي أَنَّهُ حَظٌّ فِي الْفَتْوَى مَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْفَتْوُ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْحُدُوثِ، (ثَلَاثًا) : ظَرْفٌ لِقَالَ تَأْكِيدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ: اسْتَفْتِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَكَرُّرِ الِاسْتِخَارَةِ (الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ) . قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا أَشْكَلَ عَلَى السَّالِكِ وَالْتَبَسَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلَيْنِ هُوَ، فَلْيَتَأَمَّلْ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلْيَسْأَلِ الْمُجْتَهِدِينَ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُهُ، وَيَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُهُ، فَلْيَأْخُذْ بِهِ وَلْيَخْتَرْهُ لِنَفْسِهِ، وَإِلَّا فَلْيَدَعْهُ وَلْيَأْخُذْ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَا رِيبَةَ، وَهَذَا

طَرِيقَةُ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا عَطَفَ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ عَلَى اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَرَدَّدَتْ فِي أَمْرٍ وَتَحَيَّرَتْ فِيهِ، وَزَالَ عَنْهَا الْقَرَارُ اسْتَتْبَعَ ذَلِكَ خَفَقَانًا لِلْقَلْبِ لِلْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْأَوَّلِ لَهَا، فَتُنْقِلُ الْعَلَاقَةُ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْهَيْئَةِ أَثَرًا فَيَحْدُثُ فِيهِ خَفَقَانٌ وَاضْطِرَابٌ، ثُمَّ رُبَّمَا يَسْرِي هَذَا الْأَثَرُ إِلَى سَائِرِ الْقُوَى، فَتَحُسُّ بِهَا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَنِ النَّفْسِ وَحَدَثَ لَهَا قَرَارٌ وَطُمَأْنِينَةٌ انْعَكَسَ الْأَمْرُ، وَتَبَدَّلَتِ الْحَالُ عَلَى مَا لَهَا مِنَ الْفُرُوعِ وَالْأَعْضَاءِ وَقِيلَ: الْمَعْنِيُّ بِهَذَا الْأَمْرِ أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْفِكَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَأَصْحَابُ الْفِرَاسَاتِ مَنْ ذَوِي النُّفُوسِ الْمُرْتَاضَةِ وَالْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ، فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ بِالطَّبْعِ تَصْبُو إِلَى الْخَيْرِ وَتَنْبُو عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يَنْجَذِبُ إِلَى مَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفِرُ عَمَّا يُخَالِفُهُ، وَيَكُونُ مَلْهَمَةً لِلصَّوَابِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَبْعَدٍ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَنْ يَجْمَعُهُمْ كَلِمَةُ التَّقْوَى وَتُحِيطُ بِهِمْ دَائِرَةُ الدِّينِ أَحَقُّ وَأَهْدَى. اهـ. وَقِيلَ: النَّفْسُ لُغَةً حَقِيقَةُ الشَّيْءِ، وَاصْطِلَاحًا لَطِيفَةٌ فِي الْجَسَدِ تَوَلَّدَتْ مِنِ ازْدِوَاجِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ وَاتِّصَالِهِمَا مَعًا (وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ) : مِنْ حَاكَ يَحِيكُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَكَّ بِكَافٍ مُشَدَّدَةٍ (فِي النَّفْسِ) أَيْ أَثَّرَ فِيهَا وَلَمْ يَسْتَقِرَّ، وَفِي الْمَفَاتِيحِ: أَيْ أَثَرٌ فِي قَلْبِكَ أَوْهَمَكَ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: إِنَّ الْإِثْمَ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ. (وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ) أَيْ: وَلَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ، وَهَذَا لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ (وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ) أَيْ: وَإِنْ قَالُوا لَكَ إِنَّهُ حَقٌّ فَلَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ يُوقِعُ فِي الْغَلَطِ وَأَكْلِ الشُّبْهَةِ، كَأَنْ تَرَى مَنْ لَهُ مَالٌ حَلَالٌ وَحَرَامٌ، فَلَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتِي مَخَافَةَ أَنْ تَأْكُلَ الْحَرَامَ، لِأَنَّ الْفَتْوَى غَيْرُ التَّقْوَى، وَهُوَ شَرْطِيَّةٌ قُطِعَتْ عَنِ الْجَزَاءِ تَتْمِيمًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ وَتَقْرِيرًا لَهُ سَبِيلَ الْمُبَالَغَةِ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ الْأَرْبَعِينَ قَوْلُهُ: (وَأَفْتَوْكَ) تَأْكِيدًا وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْشَدَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْمَعْنَى: اتَّخِذْ طَاعَةَ الْإِلَهِ سَبِيلًا ... تَجِدِ الْفَوْزَ بِالْجِنَانِ وَتَنْجُو وَاتْرُكِ الْإِثْمَ وَالْفَوَاحِشَ طُرًّا ... يُؤْتِكَ اللَّهُ مَا يَدُومُ وَيَنْجُو (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

2775 - وَعَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَالَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2775 - (وَعَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ بَنِي سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ) : أَيْ: لَا يَصِلُ كَوْنُهُ وَحُصُولُهُ وَثُبُوتُهُ (مِنَ الْمُتَّقِينَ) أَيِ: الْكَامِلِينَ (حَتَّى يَدَعَ) : أَيْ يَتْرُكَ (مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بِأَسٌ) مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: خَوْفًا مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا فِيهِ بَأْسٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: (أَنْ يَكُونَ) ظَرْفُ (يَبْلُغُ) عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ، وَالْمُتَّقِي فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَقَاهُ فَاتَّقَى، وَالْوِقَايَةُ فَرْطُ الصِّيَانَةِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: الَّذِي يَقِي نَفْسَهُ تَعَاطَى مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ، وَقِيلَ: التَّقْوَى عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ؛ الْأُولَى: التَّقْوَى عَنِ الْعَذَابِ الْمُخَلِّدِ بِالتَّبَرُّئِ مِنَ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] " وَالثَّانِيَةُ: التَّجَنُّبُ عَنْ كُلِّ مَا يُؤْثِمُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ حَتَّى الصَّغَائِرِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ بِالتَّقْوَى فِي الشَّرْعِ وَالْمَعْنَى بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96] ، وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَنَزَّهَ عَمَّا يَشْغَلُ سِرَّهُ عَنِ الْحَقِّ وَيُقْبِلُ بِشَرَاشِرِهِ إِلَى اللَّهِ، وَهِيَ التَّقْوَى الْحَقِيقِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {اتَّقُوُا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وَالْحَدِيثُ وَإِنِ اسْتُشْهِدَ بِهِ لِلْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَبْلَغُ وَأَجْمَعُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2776 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِي لَهَا، وَالْمُشْتَرَى لَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2776 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ) : ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ أَوْ تَعْلِيلِيَّةٌ؛ أَيْ فِي شَأْنِهَا أَوْ لِأَجْلِهَا (عَشَرَةً) : أَيْ عَشَرَةَ أَشْخَاصٍ (عَاصِرَهَا) ، بِالنَّصْبِ بَدَلًا مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ مَنْ يَعْصِرُهَا بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ (وَمُعْتَصِرَهَا) أَيْ مِنْ يَطْلُبُ عَصْرَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ (وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) أَيْ: مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَحْمِلَهَا أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ الْمَحْمُولَةُ هِيَ، وَحَذْفُهُ إِعْلَامٌ بِجَوَازِ حَذْفِهِ عِنْدَ عَدَمِ الِالْتِبَاسِ (وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا) ، بِالْهَمْزَةِ ; أَيْ: عَاقِدَهَا وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا أَوْ دَلَّالًا (وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِيَ) : أَيْ لِلشُّرْبِ وَالتِّجَارَةِ بِالْوَكَالَةِ وَغَيْرِهَا (لَهَا) أَيْ لِلْخَمْرِ، وَاللَّامُ - لِلتَّعْدِيَةِ أَوْ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ لِلتَّقْوِيَةِ (وَالْمُشْتَرَى لَهُ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ ; أَيِ: الَّذِي اشْتُرِيَ لَهُ بِالْوَكَالَةِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ، لَكِنَّ حَذْفَ التَّاءِ مِنَ الْمُشْتَرَى لَهُ لُغَةٌ عَلَى مَا فِي التَّسْهِيلِ وَغَيْرِهِ وَعَلَيْهِ: إِنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِيرُ الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ مُرَادِفِهَا ; وَهُوَ الْعَقَارُ أَوِ الرَّاحُ أَوِ الْمُدَامُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا وَهُوَ الْمَشْرُوبُ، وَقِيلَ: تَذْكِيرُ الْخَمْرِ لُغَةٌ، وَالْعَجَبُ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا بِوَجْهٍ مَا مَعَ أَنَّهُ هَكَذَا مَضْبُوطٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَعَنَ مَنْ سَعَى فِيهَا سَعْيًا مَا عَلَى مَا عَدَّدَ مِنَ الْعَاصِرِ وَالْمُعْتَصِرِ وَمَا أَرْدَفَهُمَا، وَإِنَّمَا أَطْنَبَ فِيهِ لِيَسْتَوْعِبَ مَنْ زَاوَلَهَا مُزَاوَلَةً مَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَمَنْ بَاعَ الْعِنَبَ مِنَ الْعَاصِرِ وَمَا أَخَذَ ثَمَنَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِاللَّعْنِ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْخَمْرُ وَبَاعُوا مَا هُوَ أَصْلٌ لَهَا مِمَّنْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَتَّخِذُهَا خَمْرًا، لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ قِيلَ فِيهِمْ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2777 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقَيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2777 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ) أَيْ ذَاتَهَا لِأَنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ مُبَالَغَةً فِي التَّنَفُّرِ عَنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا أَكْلَ ثَمَنِهَا (وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا) وَأُخِّرَ لِتَأَخُّرِ مَرْتَبَتِهِ فِي الْفِعْلِ (وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا) أَيْ مُشْتَرِيَهَا (وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

2778 - «وَعَنْ مَحِيصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُجْرَةِ الْحَجَّامِ، فَنَهَاهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَأْذِنُهُ حَتَّى قَالَ: (اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ، وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ) » ، رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2778 - (وَعَنْ مُحَيِّصَةَ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ (أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُجْرَةِ الْحَجَّامِ) ، أَيْ فِي أَخْذِهَا أَوْ أَكْلِهَا (فَنَهَاهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِلِارْتِفَاعِ عَنْ دَنِيءِ الِاكْتِسَابِ، وَلِلْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَعَالِي الْأُمُورِ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطْعِمَ عَبْدَهُ مَا لَا يَحِلُّ (فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَأْذِنُهُ) أَيْ فِي أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي أَكْلِهَا، فَإِنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ كَانَتْ لَهُمْ أَرِقَّاءُ كَثِيرُونَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ خَرَاجِهِمْ وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ مِنْ أَطْيَبِ الْمَكَاسِبِ، فَلَمَّا سَمِعَ مُحَيِّصَةُ نَهْيَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى أَكْلِ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ تَكَرَّرَ فِي أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ (حَتَّى قَالَ) : - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اعْلِفْهُ) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَكَسْرِ لَامٍ، أَيْ أَطْعِمْ بِهِ الْعَلَفَ (نَاضِحَكَ) ، وَهُوَ الْجَمَلُ الَّذِي يُسْقَى بِهِ الْمَاءُ (وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ) أَيْ عَبِيدَكَ وَإِمَائِكَ، لِأَنَّ هَذَيْنِ لَيْسَ لَهُمَا شَرَفٌ يُنَافِيهِ دَنَاءَةُ هَذَا الْكَسْبِ بِخِلَافِ الْحُرِّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي حُرْمَتِهِ عَلَى الْحُرِّ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى حِلِّ تَنَاوُلِ الْحُرِّ لَهُ، فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى التَّنْزِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2779 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الزَّمَّارَةِ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2779 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الزَّمَّارَةِ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيِ: الزَّانِيَةِ، إِمَّا مِنْ زَمَّرْتُ فُلَانًا بِكَذَا أَيْ أَغْرَيْتُهُ ; لِأَنَّهَا تُغْرِي الرِّجَالَ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَتُولِعُهُمْ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، أَوْ مِنْ زَمَّرْتُ الْقِرْبَةَ أَيْ مَلَأْتُهَا، فَالزَّانِيَةُ تَمْلَأُ رَحِمَهَا بِنُطَفٍ شَتَّى، أَوْ لِأَنَّهَا تُبَاشِرُ زُمَرًا مِنَ النَّاسِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ تَفْسِيرَهُ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهَا الزَّانِيَةُ، وَلَمْ أَسْمَعْ هَذَا الْحَرْفَ إِلَّا فِيهِ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أُخِذَ، وَقَدْ نَقَلَ الْهُورِيُّ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيٌ عَنْ كَسْبِ الْمَرْأَةِ الْمُغَنِّيَةِ، يُقَالُ: غِنَاءٌ زَمِيرٌ أَيْ حَسَنٌ، وَيُقَالُ: زَمَّرَ أَيْ غَنَّى، وَزَمَّرَ الرَّجُلُ إِذَا زَمَّرَ الْمِزْمَارَ فَهُوَ زَمَّارٌ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: زَامِرَةٌ، وَقِيلَ الزَّمَّارَةُ الَّتِي تُزَمِّرُ بِالنَّايِ، وَهُوَ حَرَامٌ ; لِأَنَّ النَّايَ مِنْ صَنِيعِ شَارِبِي الْخَمْرِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَسْمِيَةُ الزَّانِيَةِ زَمَّارَةً، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الزَّوَانِي الَّتِي اشْتَهَرَتْ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الْفَاحِشِ، وَاتَّخَذَتْهُ حِرْفَةً كَوْنُهُنَّ مُغَنِيَاتٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ تَقْدِيمُ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الزَّايِ، وَهِيَ الَّتِي تُومِي بِشَفَتَيْهَا وَعَيْنَيْهَا وَالزَّوَانِي يَفْعَلْنَ ذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ: رَمَزَتْ إِلَيَّ مَخَافَةً مِنْ بَعْلِهَا ... مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْدُوَ هُنَاكَ كَلَامُهَا (رَوَاهُ) : أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ.

2780 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ، وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، وَفِي مِثْلِ هَذَا نَزَلَتْ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] » رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الرَّاوِي يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ: نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ فِي بَابِ " مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2780 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ (وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ) : فِي الصِّحَاحِ: الْقَيْنُ الْأَمَةُ مُغَنِّيَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ يُرَادُ بِهَا الْمُغَنِّيَةُ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُغْنِيَةً فَلَا وَجْهَ لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا (وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ) أَيِ الْغِنَاءَ فَإِنَّهَا رُقْيَةُ الزِّنَا (وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ) قِيلَ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُنَّ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْقَاضِي: النَّهْيُ مَقْصُورٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَجْلِ التَّغَنِّي، وَحُرْمَةُ ثَمَنِهَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ بَيْعِهَا، وَالْجُمْهُورُ صَحَّحُوا بَيْعَهَا، وَالْحَدِيثُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ، لِلطَّعْنِ فِي رِوَايَتِهِ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّ أَخْذَ الثَّمَنِ عَلَيْهِنَّ حَرَامٌ كَأَخْذِ ثَمَنِ الْعِنَبِ مِنَ النَّبَّاذِ ; لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ وَتَوَصَّلٌ إِلَى حُصُولِ مُحَرَّمٍ، لَا لِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ صَحِيحٍ. اهـ. وَوَافَقَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (وَفِي مِثْلِ هَذَا) : أَيِ الشِّرَاءِ لِأَجْلِ الْغِنَاءِ (نَزَلَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أُنْزِلَتْ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] : أَيْ يَشْتَرِي الْغِنَاءَ وَالْأَصْوَاتَ الْمُحَرَّمَةَ الَّتِي تُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْإِضَافَةُ فِيهِ بِمَعْنَى " مِنْ " لِلْبَيَانِ نَحْوُ: جُبَّةٌ خَزٍّ وَبَابُ سَاجٍ ; أَيْ يَشْتَرِي اللَّهْوَ مِنَ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ اللَّهْوَ يَكُونُ مِنَ الْحَدِيثِ: وَمِنْ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْمُنْكَرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ نَحْوُ السَّمَرِ بِالْأَسَاطِيرِ، وَبِالْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا، وَالتَّحَدُّثِ بِالْخُرَافَاتِ وَالْمَضَاحِيكِ وَالْغِنَاءِ وَتَعَلُّمِ الْمُوسِيقَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، يَعْنِي مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ، نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ يَشْتَرِي الْمُغَنِّيَاتِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى " مِنْ " وَهِيَ تَبْيِينِيَّةٌ إِنْ أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ: الْمُنْكَرُ، وَتَبْعِيضِيَّةٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَعَمُّ مِنْهُ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ

اشْتَرَى كُتُبَ الْأَعَاجِمِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشًا، وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ، فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ رُسْتُمَ وَإِسْفَنْدَيَارَ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَقِيلَ: كَانَ يَشْتَرِي الْقَيْنَاتِ وَيَحْمِلُهُنَّ عَلَى مُعَاشَرَةِ مَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ وَمَنَعَهُ عَنْهُ، لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ دِينِهِ، أَوْ قِرَاءَةِ كِتَابِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ بِمَعْنَى لِيَثْبُتَ عَلَى ضَلَالِهِ، وَيَزِيدَ فِيهِ، وَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ، بِغَيْرِ عِلْمٍ: أَيْ بِحَالِ مَا يَشْتَرِي أَوْ بِالتِّجَارَةِ، حَيْثُ اسْتَبْدَلَ اللَّهْوَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيَتَّخِذُهَا - أَيِ السَّبِيلَ - هُزُوًا أَيْ سُخْرِيَةً وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى يَشْتَرِي، وَنَصَبَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَطْفًا عَلَى لِيُضِلَّ، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6] لِإِهَانَتِهِمُ الْحَقَّ بِإِيثَارِ الْبَاطِلِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الرَّاوِي يُضَعَّفُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ يُنْسَبُ إِلَى الضَّعْفِ (فِي الْحَدِيثِ) : أَيْ فِي رِوَايَتِهِ. (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ) أَيِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ (نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ فِي بَابِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ) : لِأَنَّهُ أَنْسَبُ لَهُ مَعْنًى (إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2781 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «طَلَبُ كَسْبِ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2781 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) : أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (طَلَبُ كَسْبِ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ) : أَيْ عَلَى مَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ يَلْزَمُ مُؤْنَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَلَالِ غَيْرُ الْحَرَامِ الْمُتَيَقَّنِ لِيَشْمَلَ الْمُشْتَبَهِ لِمَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ: أَنَّ التَّنَزُّهَ عَنِ الْمُشْتَبَهِ احْتِيَاطٌ لَا فَرْضٌ، ثُمَّ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ لَا يُخَاطَبُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ (بَعْدَ الْفَرِيضَةِ) : كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ فَرْضِيَّةَ طَلَبِ كَسْبِ الْحَلَالِ لَا تَكُونُ فِي مَرْتَبَةِ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ الْعَامَّةِ الْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ فَرِيضَةٌ مُتَعَاقِبَةٌ يَتْلُو بَعْضُهَا الْبَعْضَ لَا غَايَةٌ لَهَا، إِذْ كَسْبُ الْحَلَالِ أَصْلُ الْوَرِعِ وَأَسَاسُ التَّقْوَى (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ".

2782 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أُجْرَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إِنَّمَا هُمْ مُصَوِّرُونَ، وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ مِنْ عَمَلِ أَيْدِيهِمْ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2782 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أُجْرَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ) أَيْ عَنْ أَخْذِهَا مَعَ كَوْنِ الْقُرْآنُ صِفَةَ اللَّهِ الْقَدِيمِ (فَقَالَ: لَا بَأْسَ) لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مِنَ النُّقُوشِ ; فَهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ النُّقُوشِ الدَّالَّةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلِذَا قَالَ (إِنَّمَا مُصَوِّرُونَ) أَيْ يَنْقُشُونَ صُوَرَ الْحُرُوفِ (وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ مِنْ عَمَلِ أَيْدِيهِمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الصُّورَةُ الْهَيْئَةُ وَالنَّقْشُ، وَالْمُرَادُ هَا هُنَا النَّقْشُ، وَفِي (إِنَّمَا) إِشْعَارٌ بِالْمَجْمُوعِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ النَّقْشَ وَنَفَى الْمَنْقُوشَ، وَالْقُرْآنُ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنِ الْمَجْمُوعِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْمَقْرُوءِ أَوِ الْكِتَابَةِ وَالْمَكْتُوبِ، فَالْمَكْتُوبُ وَالْمَقْرُوءُ هُوَ الْقَدِيمُ، وَالْكِتَابَةُ وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتَا مِنَ الْقَدِيمِ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْقَارِئِ وَالْكَاتِبِ، فَلَمَّا نَظَرَ السَّائِلُ عَلَى تَمَيُّزِ مَعْنَى الْمَقْرُوءِ وَالْمَكْتُوبِ، وَأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ جَوَّزَهَا (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

2783 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: " عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2783 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْكَسْبِ) : أَيْ أَنْوَاعِهِ (أَطْيَبُ) ؟ أَيْ أَحَلُّ وَأَفْضَلُ (قَالَ: " عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ) ، أَيْ مِنْ زِرَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ (وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) : بِالْجَرِّ صِفَةُ بَيْعٍ وَ (كُلُّ) عَطْفٌ عَلَى (عَمَلٍ) ، وَالْمُرَادُ بِالْمَبْرُورِ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنْ غِشٍّ وَخِيَانَةٍ، أَوْ مَقْبُولًا فِي الشَّرْعِ بِأَنْ لَا يَكُونَ فَاسِدًا وَلَا خَبِيثًا أَيْ رَدِيًّا، أَوْ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ بِأَنْ يَكُونَ مُثَابًا بِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَكَذَا الْبَزَّارُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ

2784 - وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَتْ لِمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ جَارِيَةٌ تَبِيعُ اللَّبَنَ، وَيَقْبِضُ الْمِقْدَامُ ثَمَنَهُ، فَقِيلَ لَهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَتَبِيعُ اللَّبَنَ؟ وَتَقْبِضُ الثَّمَنَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2784 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ (قَالَ: كَانَتْ لِمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ جَارِيَةٌ) : أَيْ مَمْلُوكَةٌ (تَبِيعُ اللَّبَنَ وَيَقْبِضُ الْمِقْدَامُ ثَمَنَهُ، فَقِيلَ لَهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ!) : تَعَجُّبًا وَتَنْزِيهًا (أَتَبِيعُ) : أَيِ الْجَارِيَةُ (اللَّبَنَ؟) بِحَضْرَتِكَ وَأَنْتَ وَاقِفٌ عِنْدَهَا كَالْحَارِسِ لَهَا (وَتَقْبِضُ) : أَيْ أَنْتَ (الثَّمَنَ؟) وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (تَبِيعُ) مُسْنَدًا إِلَى الْجَارِيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَنْكَرَ بَيْعَ الْجَارِيَةِ وَقَبْضَ الْمِقْدَامِ ثَمَنَهُ، فَالْإِنْكَارُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَعْنَى الدَّنَاءَةِ أَيْ: أَتَرْتَضِي بِفِعْلِ الْجَارِيَةِ الدَّنِيَّةِ شَيْئًا دَنِيًّا فَتَقْبِضُهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى الْمِقْدَامِ عَلَى الْمَجَازِ، فَالْإِنْكَارُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ (فَقَالَ: نَعَمْ!) أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ (وَمَا بَأْسٌ) : أَيْ لَيْسَ بَأْسٌ (بِذَلِكَ) لِعَدَمِ نَقْصٍ شَرْعِيٍّ إِذْ لَا حُرْمَةَ فِيهِ، وَلَا كَرَاهَةَ بِنَاءً عَلَى أَنْ لَا بَأْسَ لِنَفْيِهِمَا، وَ (مَا) : بِمَعْنَى لَيْسَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِهِ وَلَمْ يَجِئْ مَا بِمَعْنَى لَا الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ» ) . أَيْ بِالْمَالِ الْمُعَبِّرِ بِهِمَا عَنْهُ، فَإِنَّهُمَا الْأَصْلُ وَالْمُرَادُ كَسْبُهُمَا وَجَمْعُهُمَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ، فَإِنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِمُ النَّقْصُ صَارُوا لَا يَعْتَدُّونَ بِأَرْبَابِ الْكَمَالِ، وَيَخْدِمُونَ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ، وَأَمَّا أَهْلُ اللَّهِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَّا الْكَسْبُ، إِذْ لَوْ تَرَكُوهُ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَامِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ التَّكَسُّبَ يُدْنِيكَ مِنَ الدُّنْيَا قَالَ: لَيْسَ أَدْنَانِي مِنَ الدُّنْيَا، لَقَدْ صَانَنِي عَنْهَا، وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: اتَّجِرُوا وَاكْسِبُوا فَإِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ إِذَا احْتَاجَ أَحَدُكُمْ كَانَ أَوَّلَ مَا يَأْكُلُ دِينَهُ، وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ وَكَانَتْ لَهُ بِضَاعَةٌ يُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ: لَوْلَا هَذِهِ لَتَمَنْدَلَ بِي بَنُو الْعَبَّاسِ: أَيْ: لَجَعَلُونِي كَالْمِنْدِيلِ يَمْسَحُونَ بِي أَوْسَاخَهُمْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

2785 - وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ أُجَهِّزُ إِلَى الشَّامِ، وَإِلَى مِصْرَ. فَجَهَّزْتُ إِلَى الْعِرَاقِ فَأَتَيْتُ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! كُنْتُ أُجَهِّزُ إِلَى الشَّامِ فَجَهَّزْتُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَتْ: لَا تَفْعَلْ! مَا لَكَ وَلِمَتْجَرِكَ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِذَا سَبَّبَ اللَّهُ لِأَحَدِكُمْ رِزْقًا مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدَعْهُ حَتَّى يَتَغَيَّرَ لَهُ أَوْ يَتَنَكَّرَ لَهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2785 - (وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ أُجَهِّزُ) : بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ أَيْ أُهَيِّئُ التِّجَارَةَ (إِلَى الشَّامِ) ، أَيْ تَارَةً (وَإِلَى مِصْرَ) أُخْرَى وَمَا كُنْتُ أَتَعَدَّى عَنْهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ كُنْتُ أُجَهِّزُ وُكَلَائِي بِبِضَاعَتِي وَمَتَاعِي إِلَى الشَّامِ وَإِلَى مِصْرَ (فَجَهَّزْتُ إِلَى الْعِرَاقِ) ، أَيْ مَائِلًا إِلَى سَفَرِهِ (فَأَتَيْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (عَائِشَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! كُنْتُ) : أَيْ: قَبْلَ هَذَا (أُجَهِّزُ إِلَى الشَّامِ) : أَيْ وَإِلَى مِصْرَ، إِنَّمَا اخْتَصَرَ لِلْوُضُوحِ أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَجْهِيزَهُ إِلَى مِصْرَ كَانَ قَلِيلًا نَادِرًا (فَجَهَّزْتُ إِلَى الْعِرَاقِ) أَيِ الْآنَ (فَقَالَتْ: لَا تَفْعَلْ!) أَيْ هَذَا التَّجْهِيزَ وَالتَّبْدِيلَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، لَا سِيَّمَا وَالْمَسَافَةُ بَعِيدَةٌ وَهِيَ مُشْعِرَةٌ إِلَى الْحِرْصِ الْمَذْمُومِ. (مَا لَكَ وَلِمَتْجَرِكَ؟) : اسْمٌ لِمَكَانٍ مِنَ التِّجَارَةِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ لَكَ وَمَا حَصَلَ لِمَتْجَرِكَ مِنَ الْبَاعِثِ عَلَى الْعُدُولِ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ؟ أَوَصَلَ إِلَيْكَ خُسْرَانٌ مِنْهُ، حَتَّى يَصُدَّكَ فِي مَحَلِّ تِجَارَتِكَ الَّذِي عَوَّدَكَ اللَّهُ الرِّبْحَ فِيهِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِذَا سَبَّبَ اللَّهُ لِأَحَدِكُمْ رِزْقًا مِنْ وَجْهٍ) : بِأَنْ جَعَلَ رِزْقَ أَحَدِكُمْ مُسَبَّبًا عَنْ وُصُولِ تِجَارَتِهِ إِلَى مَحَلٍّ مَثَلًا (فَلَا يَدَعْهُ) أَيْ: لَا يَتْرُكْ ذَلِكَ السَّبَبَ أَوِ الرِّزْقَ (حَتَّى يَتَغَيَّرَ لَهُ) أَيْ بِعَدَمِ الرِّبْحِ (أَوْ يَتَنَكَّرَ لَهُ) : بِخُسْرَانِ رَأْسِ الْمَالِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقِيلَ أَوْ لِلشَّكِّ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَصَابَ مَنْ أَمْرٍ مُبَاحٍ خَيْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ مُلَازَمَتُهُ، وَلَا يَعْدِلُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِصَارِفٍ قَوِيٍّ لِأَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2786 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غُلَامٌ يُخْرِّجُ لَهُ الْخَرَاجَ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ، يَأْكُلُ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: تَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكَهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، قَالَتْ: فَأَدْخَلَ! أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2786 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غُلَامٌ) : أَيْ عَبْدٌ (يُخَرِّجُ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يُعْطِي (لَهُ الْخَرَاجَ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، أَيْ يَكْسَبُ لَهُ مَالَ الْخَرَاجِ، وَالْخَرَاجُ هُوَ الضَّرِيبَةُ عَلَى الْعَبْدِ مِمَّا يَكْسِبُهُ فَيَجْعَلُ لِسَيِّدِهِ شَطْرًا مِنْ ذَلِكَ، (فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ) ، أَيْ: مِنَ الْمَأْكُولِ (فَأَكَلَ) : أَيْ فَشَرَعَ فِي الْأَكْلِ (مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ الْغُلَامُ: تَدْرِي) أَيْ: تَعْلَمُ (مَا هَذَا؟) أَيِ: الشَّيْءُ الْمَأْكُولُ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟) : أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ (قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) : أَيْ: أَخْبَرْتُ بِمَغِيبٍ مُوهِمًا أَنِّي مُسْتَنِدٌ فِي إِخْبَارِي إِلَى الْكَهَانَةِ (وَمَا أُحْسِنُ الْكَهَانَةَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَيُكْسَرُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ: مَا أَعْرِفُهَا بِالْوَجْهِ الْحَسَنِ (إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَمْ أَكُنْ أُجِيدُ الْكَهَانَةَ لَكِنْ خَدَعْتُهُ (فَلَقِيَنِي) : أَيِ الْآنَ (فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ) أَيْ بِمُقَابَلَةِ كَهَانَتِي هَذَا الشَّيْءَ، وَقِيلَ الْبَاءُ زَائِدَةٌ (فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، قَالَتْ: فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ) : أَيْ: لِلْوَرَعِ (كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ) : لِغِلَظِ حُرْمَتِهِ حَيْثُ اجْتَمَعَتِ الْكَهَانَةُ وَالْخَدِيعَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لِكَوْنِهِ حُلْوَانًا لِلْكَاهِنِ لَا لِلْخِدَاعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَخَذَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ أَوْ جَاهِلٌ، ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ أَنْ يَتَقَيَّأَ جَمِيعَ مَا أَكَلَهُ فَوْرًا. اهـ. وَقَدْ جَعَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ مِنْ بَابِ الْوَرَعِ حَيْثُ قَالَ: وَحُكْمُ الْوَرِعِ أَنْ لَا تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَحَدٍ حَتَّى تَبْحَثَ عَنْهُ غَايَةَ الْبَحْثِ، فَتَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ بِحَالٍ، وَإِلَّا فَتَرُدَّهُ، فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ غُلَامًا لَهُ أَتَاهُ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ، فَقَالَ الْغُلَامُ: كُنْتُ إِذَا جِئْتُكَ بِشَيْءٍ تَسْأَلُنِي عَنْهُ، وَلَمْ تَسْأَلْنِي عَنْ هَذَا اللَّبَنِ؟ قَالَ: وَمَا قِصَّتُهُ؟ قَالَ: رَقَيْتُ قَوْمًا رُقَى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعْطَوْنِي هَذَا، فَتَقَيَّأَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَذِهِ مَقْدِرَتِي فَمَا بَقِيَ فِي الْعُرُوقِ فَأَنْتَ حَسْبُهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2787 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَسَدٌ غُذِّيَ بِحَرَامٍ» ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2787 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) : أَيْ بِسَلَامٍ مَعَ أَهْلِ الْكِرَامِ (جَسَدٌ) : أَيْ لِآدَمِيٍّ (غُذِّيَ) أَيْ رُبِّيَ (بِالْحَرَامِ) وَفِي نُسْخَةٍ: بِحَرَامٍ أَيْ بِنَوْعٍ مِنَ الْحَرَامِ.

2788 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَبَنًا، وَأَعْجَبَهُ، وَقَالَ لِلَّذِي سَقَاهُ: مَنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَا قَدْ سَمَّاهُ، فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَهُمْ يَسْقُونَ، فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهَا، فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِيَ، وَهُو هَذَا. فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ فَاسْتَقَاءَهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2788 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّهُ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَنًا، وَأَعْجَبَهُ قَالَ لِلَّذِي سَقَاهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ) : أَيْ: مَرَّ عَلَى بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ (قَدْ سَمَّاهُ) ، أَيْ زَيْدٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِاسْمِهِ الْمُعَيَّنِ (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (نَعَمٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ (مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ) أَيْ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمَأْخُوذَةِ لِلزَّكَاةِ مِنَ الْإِبِلِ أَوِ الْغَنَمِ، (وَهُمْ) : أَيْ رُعَاةُ النَّعَمِ (يَسْقُونَ) ، أَيْ إِبِلَهُمْ أَوْ لِلْفُقَرَاءِ مِنَ اللَّبَنِ (فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَجَعَلْتُهُ) : أَيْ لَبَنَهَا الْمَحْلُوبَ (فِي سِقَائِي) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (وَهُوَ) : أَيِ اللَّبَنُ (هَذَا) أَيِ الَّذِي أَعْجَبَكَ (فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ) : أَيْ فِي فِيهِ (فَاسْتَقَاءَهُ) أَيْ طَلَبَ إِخْرَاجَهُ وَاسْتِفْرَاغَهُ (رَوَاهُمَا) : أَيِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُوجَدْ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَكَانَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مَكْتُوبًا فِي الْحَاشِيَةِ، وَالصَّوَابُ حَذْفُهُ. اهـ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ بِعَيْنِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الطِّيبِيَّ مَا عَدَّهُ مِنْ أَحَادِيثِ هَذَا الْفَصْلِ، بَلْ جَعَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ هُوَ السَّادِسُ، وَحَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ هُوَ السَّابِعُ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هُوَ الثَّامِنُ، وَإِذَا كَانَ الصَّوَابُ حَذْفُهُ، فَالصَّوَابُ نُسْخَةُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ كَمَا لَا يَخْفَى.

2789 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهَ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ» : رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2789 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ يَشْتَرِي ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ) : أَيْ مَثَلًا (وَفِيهِ) : أَيْ فِي ثَمَنِهِ (دِرْهَمٌ) : أَيْ شَيْءٌ قَلِيلٌ (حَرَامٌ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ صَلَاةً) : أَيْ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا كَمَالَ الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ مُثَابًا بِأَصْلِ الثَّوَابِ، وَأَمَّا أَصْلُ الصَّلَاةِ فَصَحِيحَةٌ بِلَا كَلَامٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُ، لَكِنِ الْمَعْنَى لَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً مَقْبُولَةً مَعَ كَوْنِهَا مُجْزِئَةً مُسْقِطَةً لِلْقَضَاءِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ اهـ. وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] وَالثَّوَابُ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَبُولِ، كَمَا أَنَّ الصِّحَّةَ مُتَرَتِّبَةُ عَلَى حُصُولِ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ، وَالتَّقْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّاعَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (مَا دَامَ) : أَيْ ذَلِكَ الثَّوْبُ (عَلَيْهِ. ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ) : أَيِ الْمُسَبِّحَتَيْنِ (أُذُنَيْهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فِي أُذُنَيْهِ بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ (وَقَالَ: صُمَّتَا) : بِضَمِّ مُهْمِلَةٍ وَشَدِّ مِيمٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالضَّمِيرُ لِلْأُذُنَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ مَفْتُوحَةَ الصَّادِ، وَإِنْ صَحَّ ضَمُّهَا فَالْمَعْنَى سُدَّتَا مِنْ صَمَمْتُ الْقَارُورَةَ سَدَّدْتُهَا، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَى أُذُنَيْهِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا لِإِثْبَاتِ السَّمَاعِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِمْ: سَمِعْتُهُ بِأُذُنِي اهـ. يَعْنِي أَنَّهُ نَظِيرُهُ لَا أَنَّهُ مِثْلُهُ فَتَأَمَّلْ (إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْتُهُ) : أَيْ مَسْمُوعًا لِي مِنْهُ (يَقُولُهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْمُ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَبَرُهُ سَمِعْتُهُ نَحْوَ: زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ وَزَيْدٌ انْطَلَقَ أَبُوهُ، وَهُوَ مِنَ الْإِسْنَادِ السَّبَبِيِّ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْنَدٌ إِلَى مُتَعَلِّقِ الْمُبْتَدَأِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: صُمَّتَا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ لَوْ قِيلَ إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ. قَالُوا: زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ أَبْلَغُ مَنْ ضَرَبْتُ زِيْدًا، فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا الْمَفْعُولَ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُنَا لَيْسَ ذِكْرَ الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ الْمَفْعُولِ فَقُدِّمَ عِنَايةً بِذِكْرِهِ، ثُمَّ لَمْ يُقْنَعْ بِذَلِكَ حَتَّى أَزَالُوهُ عَنْ لَفْظِ الْفَضْلَةِ وَجَعَلُوهُ رَبَّ الْجُمْلَةِ لَفْظًا، فَرَفَعُوهُ بِالِابْتِدَاءِ وَصَارَ قَوْلُهُ: ضَرَبْتُهُ ذَيْلًا لَهُ وَفَضْلَةً وَمُلْحَقَةً بِهِ اهـ. كَلَامُهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْقَصْدُ صُدُورُ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْمُهْتَمُّ بِشَأْنِهِ وَسَمَاعُهُ مِنْهُ تَابِعٌ لَهُ، وَعَلَى عَكْسِ هَذَا لَوْ قِيلَ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ) .

[باب المساهلة في المعاملة]

[بَابُ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2790 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (2) بَابُ الْمُسَاهَلَةِ أَيِ: الْمُسَامَحَةِ وَالْمُجَامَلَةِ (فِي الْمُعَامَلَةِ) : فَإِنَّهُ مِنَ الصَّدَقَةِ الْخَفِيَّةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2790 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَحِمَ اللَّهُ!) : دُعَاءٌ أَوْ خَبَرٌ (رَجُلًا) أَيْ شَخْصًا (سَمْحًا) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ سَهْلًا وَجَوَادًا، يَتَجَاوَزُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ (إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى) : أَيْ إِذَا طَلَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى غَرِيمٍ يَطْلُبُهُ بِالرِّفْقِ وَاللُّطْفِ لَا بِالْخُرْقِ وَالْعُنْفِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ: رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا قَضَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى» .

2791 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ مَنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ. قِيلَ لَهُ: انْظُرْ. قَالَ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ، فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2791 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ ") بِحَذْفِ صَدْرِ الصِّلَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنَّ الصِّلَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً (" أَتَاهُ الْمَلَكُ ") : أَيْ: عِزْرَائِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ، وَجُمِعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ قَدْ يَتَوَلَّاهَا هُوَ وَقَدْ يَتَوَلَّاهَا أَتْبَاعُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ وَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَوِ الْعَذَابِ يَتَنَاوَلُونَهَا مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] وَأَمَّا الْقَابِضُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] (" فَقِيلَ لَهُ ") : أَيْ قَالَهُ سُبْحَانَهُ أَوْ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: أَوْ بَعْضُ النَّاسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَبْلَ قَبْضِ رُوحِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ أَوَّلُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا السُّؤَالُ مِنْهُ كَانَ فِي الْقَبْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِيَامَةِ. (" هَلْ عَمِلْتَ مِنْ شَيْءٍ ") وَفِي نُسْخَةٍ بِتَقْدِيمِ اللَّامِ أَيْ: هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ عَلِمْتَ بِهِ. (" قَالَ: مَا أَعْلَمُ. قِيلَ لَهُ: انْظُرْ ") : أَيْ: تَفَكَّرْ وَتَدَبَّرْ (" قَالَ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ ") : أَيْ قَبْلَ ذَلِكَ (" أُبَايِعُ النَّاسَ ") : أَيْ أُعَامِلُهُمْ (فِي الدُّنْيَا) : أَيْ فِي أُمُورِهَا (وَأُجَازِيهِمْ) : أَيْ أَحْسِنُ إِلَيْهِمْ حِينَ أَتَقَاضَاهُمْ (فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ) : مِنَ الْإِنْظَارِ، أَيْ أُمْهِلُ الْغَنِيَّ (وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ) : أَيْ أَعْفُو عَنِ الْفَقِيرِ وَإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ عَنِ الدَّيْنِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ (فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ فَضْلُ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَالْوَضْعِ عَنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَفَضْلُ الْمُسَامَحَةِ فِي الِاقْتِضَاءِ مِنَ الْمُوسِرِ، وَفِيهِ عَدَمُ احْتِقَارِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ، فَلَعَلَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِلسَّعَادَةِ وَالرَّحْمَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2792 - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ نَحْوَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ: " «فَقَالَ اللَّهُ أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2792 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ نَحْوَهُ) : أَيْ بِمَعْنَاهُ (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) : قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ - عَلَيْهِ رَحْمَةُ الْبَارِي، قُلْتُ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَوْقُوفًا، عَلَى حُذَيْفَةَ، وَمَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، كَذَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ وَهْمٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ لَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ رِوَايَةٌ. قَالُوا: وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ وَحْدَهُ، وَلَعَلَّهُ هَذَا مِمَّا تَصَرَّفَ فِيهِ النُّسَّاخُ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (فَقَالَ اللَّهُ أَنَا أَحَقُّ بِذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِذَلِكَ أَيْ بِالتَّجَاوُزِ (" مِنْكَ ") : أَيْ لِأَنِّي قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي) : أَيِ الْمَوْصُوفِ بِصِفَتِي، وَالْمُتَخَلِّقِ بِخُلُقِي كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْإِضَافَةِ التَّشْرِيفِيَّةِ.

2793 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2793 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ ") أَيِ: اتَّقُوا كَثْرَتَهَا وَلَوْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ كَذِبًا، وَلِذَا وَرَدَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» ، وَيُؤَيِّدَهُ حَدِيثُ: الرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى، فَقَيَّدَ الْكَثْرَةَ احْتِرَازًا عَنِ الْقِلَّةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُ التَّحْذِيرُ، وَلِذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ: رَجُلٌ جَعَلَ اللَّهُ بِضَاعَتَهُ لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا بَيْعٌ إِلَّا بِيَمِينِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِيَّاكُمْ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّحْذِيرِ، أَيْ: قُوا أَنْفُسَكُمْ عَنْ إِكْثَارِ الْحَلِفِ، وَإِكْثَارُ الْحَلِفِ عَنْ أَنْفُسِكُمْ كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّنْفِيرِ، وَالنَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ فِيهِ لَا تَقْتَضِي جَوَازَ قِلَّتِهَا، لِأَنَّ النَّهْيَ وَارِدٌ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ وَعَادَتُهُمْ كَثْرَةُ الْحَلِفِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَّفَةً} [آل عمران: 130] اهـ. وَفِيهِ أَنَّ جَوَازَ قِلَّتِهَا مَعَ صِدْقِهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، (فَإِنَّهُ) : أَيْ إِكْثَارُ الْحَلِفِ (يُنَفِّقُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِهَا، وَنَقَلَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ فِي شَرْحِهِ قَالَ شَارِحٌ: وَيُنَفِّقُ مِنَ التَّنْفِيقِ أَيِ

التَّرْوِيجِ، لَا مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَنَصَّ الشَّارِحُ الْأَوَّلُ عَلَى الرَّاوِيَةِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ، أَيْ يُرَوِّجُ الْمَتَاعَ وَيُكْثِرُ الرَّغَبَاتِ فِيهِ. (ثُمَّ يَمْحَقُ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ أَيْ: يُذْهِبُ الْبَرَكَةَ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ أَيْ: يُنَفِّقُ حَالًا وَيَمْحَقُ مَآلًا، كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276] وَإِنْ كَثُرَ أَوْ قَلَّ، أَوْ فِي الرُّتْبَةِ أَيْ فَمَحْقَةٌ أَبْلَغُ وَأَقْوَى، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَحْقِ عَدَمُ انْتِفَاعِهِ دِينًا وَدُنْيَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

2794 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2794 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْحَلِفُ ") : أَيْ إِكْثَارُهُ أَوِ الْكَاذِبُ مِنْهُ (مَنْفَقَةٌ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَكَذَا مَمْحَقَةٌ. ذَكَرَهُ مِيرَكُ (" لِلسِّلْعَةِ ") : بِالْكَسْرِ أَيْ مَظِنَّةٌ وَسَبَبٌ لِنِفَاقِهَا أَيْ: رَوَاجِهَا فِي ظَنِّ الْحَالِفِ (" مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ ") : أَيْ: سَبَبٌ لِذَهَابِ بَرَكَةِ الْمَكْسُوبِ إِمَّا بِتَلَفٍ يَلْحَقَهُ فِي مَالِهِ، أَوْ بِإِنْفَاذِهِ فِي غَيْرِ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَيْهِ فِي الْعَاجِلِ، أَوْ ثَوَابُهُ فِي الْآجِلِ، أَوْ بَقِيَ عِنْدَهُ وَحَرُمَ نَفْعُهُ، أَوْ وَرِثَهُ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

2795 - «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ". قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانٌ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2795 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " ثَلَاثَةٌ ") : أَيْ: أَشْخَاصٌ (" لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : أَيْ كَلَامَ لُطْفٍ وَعِنَايَةٍ (" وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ") : أَيْ نَظَرَ رَحْمَةٍ وَرِعَايَةٍ (" وَلَا يُزَكِّيهِمْ ") : أَيْ لَا يُنَمِّي أَعْمَالَهُمْ وَلَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الْخَبَائِثِ (" وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ") : أَيْ مُؤْلِمٌ (قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا) : أَيْ: حُرِمُوا مِنَ الْخَيْرِ (وَخَسِرُوا) : أَيْ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ (مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الْمُسْبِلُ ") : أَيْ إِزَرَاهُ عَنْ كَعْبَيْهِ، وَالْمُطَوِّلُ سِرْوَالَهُ إِلَى الْأَرْضِ كِبْرًا وَاخْتِيَالًا، (وَالْمَنَّانُ) : أَيِ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَقِيلَ: أَيْ يَمُنُّ بِمَا يُعْطِيهِ لِغَيْرِهِ بِأَنَّهُ يَذْكُرُ وَلَوْ لِوَاحِدٍ، فَالْمُبَالَغَةُ غَيْرُ شَرْطٍ كَأَعْطَيْتُ فُلَانًا كَذَا وَفُلَانٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ اهـ. فَهِيَ مِنَ الْمِنَّةِ الَّتِي هِيَ الِاعْتِدَادُ بِالصَّنِيعَةِ، وَهِيَ إِنْ وَقَعَتْ فِي الصَّدَقَةِ أَبْطَلَتِ الْمَثُوبَةَ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْمَعْرُوفِ كَدَّرَتِ الصَّنِيعَةَ. " وَالْمُنَفِّقُ ": بِالتَّشْدِيدِ فِي أُصُولِنَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بِالتَّخْفِيفِ أَيِ الْمُرَوِّجِ " سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ": وَفِي رِوَايَةٍ بِالْحَلِفِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَهُوَ يَقُولُ لِلْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ هَذَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَاللَّهِ ; لِيَظُنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ ذَلِكَ الْمَتَاعَ يُسَاوِي مِائَةَ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَيَرْغَبُ فِي شِرَائِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2796 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2796 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " التَّاجِرُ ") أَيِ: الْمُشْتَغِلُ بِنَحْوِ بَيْعٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ الْبُنُّ ثُمَّ الْعِطْرُ (" الصَّدُوقُ ") : أَيْ كَثِيرُ الصِّدْقِ قَوْلًا وَفِعْلًا (" الْأَمِينُ ") : أَيِ الْمَوْصُوفُ بِالْأَمَانَةِ الْمَحْفُوظُ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَالصِّيغَتَانِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَمَنِ اتَّصَفَ بِهِمَا اتَّصَفَ بِسَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْشَرَ أَوْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ. (مَعَ النَّبِيِّينَ) : أَيْ لِإِطَاعَتِهِمْ (وَالصَّدِيقِينَ ") : لِمُوَافَقَتِهِمْ فِي صِفَتِهِمْ (" وَالشُّهَدَاءِ ") لِشَهَادَتِهِمْ عَلَى صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ) .

2797 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2797 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) : بِلَا وَاوٍ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

2798 - وَعَنْ قَيْسِ بنِ أَبِي غَرَزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا نُسَمَّى فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّمَاسِرَةَ، فَمَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2798 - (وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ) : بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ وَزَايٍ مَفْتُوحَاتٍ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَكَذَا الْمُصَنِّفُ وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي ذِكْرِ التِّجَارَةِ (قَالَ: كُنَّا) : أَيْ نَحْنُ مَعَاشِرَ التُّجَّارِ (نُسَمَّى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نُدْعَى (فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّمَاسِرَةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَهُمُ الْآنَ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ جَمْعُ السِّمْسَارِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْقَيِّمُ عَلَى الشَّيْءِ الْحَافِظُ لَهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْمُتَوَسِّطِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُقَوِّمِ (فَمَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ) : أَيْ مِنِ اسْمِنَا الْأَوَّلِ، قِيلَ: لِأَنَّ اسْمَ التَّاجِرِ أَشْرَفُ مِنِ اسْمِ السِّمْسَارِ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ. وَلَعَلَّ وَجْهَ الْأَحْسَنِيَّةِ أَنَّ السَّمَاسِرَةَ تُطْلَقُ الْآنَ عَلَى الْمَكَّاسِينَ، أَوْ لَعَلَّ هَذَا الِاسْمَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ فِيهِ نَقْصٌ اهـ. وَالْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَذَلِكَ أَنَّ التِّجَارَةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي رَأْسِ الْمَالِ طَلَبًا لِلرِّبْحِ، وَالسَّمْسَرَةُ كَذَلِكَ، لَكِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ التِّجَارَةَ فِي كِتَابِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} [الصف: 10] وَقَوْلُهُ {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] وَقَوْلُهُ: {تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29] اهـ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَيْضًا قَوْلُهُ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهُمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37] تَنْبِيهًا لَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ النُّعُوتِ خُصُوصًا، وَفِي هَذَا الِاسْمِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الْآيَةَ. (فَقَالَ: " «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ» ) : أَيْ غَالِبًا، وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُورَدُ لَا عَنْ رَوِيَّةٍ وَفِكْرٍ، فَيَجْرِي مَجْرَى اللَّغْوِ وَهُوَ صَوْتُ الْعَصَافِيرِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْقَبِيحِ كَالشَّتْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] وَعَلَى الْفِعْلِ الْبَاطِلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] . (" وَالْحَلِفُ ") : أَيْ إِكْثَارُهُ أَوِ الْكَاذِبُ مِنْهُ (" فَشُوبُوهُ ") بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَيِ اخْلُطُوا مَا ذَكَرَهُ مِنَ اللَّغْوِ وَالْحَلِفِ (" بِالصَّدَقَةِ) : فَإِنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، كَذَا قِيلَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102] . وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُبَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْكَلَامِ السَّاقِطِ وَكَثْرَةِ الْحَلِفِ كُدُورَةٌ فِي النَّفْسِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِزَالَتِهَا وَصَفَائِهَا، فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ لِتَنْزِيلِ تِلْكَ الْكُدُورَةِ وَتَصْفِيَتِهَا. وَقَالَ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِكَثْرَةِ التَّصَدُّقِ، فَإِنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ الصَّافِي لَا يَكْتَسِبُ مِنَ الْكُدُورَةِ إِلَّا كُدُورَةً اهـ. وَلَكِنْ وَرَدَ: أَنَّهُ سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَفِي التَّنْزِيلِ:

2799 - وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «التُّجَّارُ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنِ اتَّقَى وَبَرَّ وَصَدَقَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2799 - (وَعَنْ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ رِفَاعَةَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ (عَنْ أَبِيهِ) ، أَيْ: رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " التُّجَّارُ ") : بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ جَمْعُ تَاجِرٍ (" يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا ") : جَمْعُ فَاجِرٍ مِنَ الْفُجُورِ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْقَصْدِ، وَالْكَاذِبُ فَاجِرٌ لِمَيْلِهِ عَنِ الصِّدْقِ (" إِلَّا مَنِ اتَّقَى ") ، أَيِ: اللَّهَ - تَعَالَى - بِأَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ كَبِيرَةً وَلَا صَغِيرَةً مِنْ غِشٍّ وَخِيَانَةٍ، أَيْ: أَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ فِي تِجَارَتِهِ، أَوْ قَامَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ (" وَبِرَّ وَصَدَقَ ") ، أَيْ: فِي يَمِينِهِ وَسَائِرِ كَلَامِهِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمَّا كَانَ مِنْ دَيْدَنِ التُّجَّارِ التَّدْلِيسُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتَّهَالُكُ عَلَى تَرْوِيجِ السِّلَعِ بِمَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ وَنَحْوِهَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفُجُورِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنِ اتَّقَى الْمَحَارِمَ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ وَصَدَقَ فِي حَدِيثِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّارِحُونَ، وَحَمَلُوا الْفُجُورَ عَلَى اللَّغْوِ وَالْحَلِفِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) . أَيْ عَنْهُ.

2800 - وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " عَنِ الْبَرَاءِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2800 - (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ الْبَرَاءِ) . (وَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ (التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

[باب الخيار]

[بَابُ الْخِيَارِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2801 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَّفَرَقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «إِذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ، فَإِذَا كَانَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ قَدْ وَجَبَ» ". وَفَى رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ " «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَخْتَارَا» " وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ " أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ " بَدَلَ " أَوْ يَخْتَارَا ". ـــــــــــــــــــــــــــــ (3) بَابُ الْخِيَارِ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الِاسْمُ مِنَ الِاخْتِيَارِ، وَهُوَ طَلَبُ خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا إِمْضَاءُ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخُهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2801 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُتَبَايِعَانِ ") أَيِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ ") خَبَرٌ لِقَوْلِهِ كُلُّ وَاحِدٍ، أَيْ مَحْكُومٌ بِالْخِيَارِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: الْمُتَبَايِعَانِ أَيْ خِيَارُ الْقَبُولِ لَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - (عَلَى صَاحِبِهِ) ، أَيِ: الْآخَرِ مِنْهُمَا وَالْجَارُ مُتَعَلِّقٌ بِالْخِيَارِ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: الْمُرَادُ بِالْخِيَارِ هُنَا هُوَ بَيْنَ قَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ وَبَيْنَ قَوْلِ صَاحِبِهِ: قَبِلْتُ مِنْكَ اهـ. وَبَيَانُهُ، أَنَّهُ إِذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْبَيْعِ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَقْبَلْ، وَلِلْمُوجِبِ خِيَارُ الرُّجُوعِ عَمَّا قَالَ قَبْلَ قَوْلِ صَاحِبِهِ قَبِلْتُ، وَهَذَا الْخِيَارُ ثَابِتٌ (مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) ، أَيْ: قَوْلًا، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَوْلًا بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: بِعْتُ، وَقَالَ الْآخَرُ: اشْتَرَيْتُ لَمْ يَبْقَ الْخِيَارُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى خُيِّرَ الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ بَيْعِهِمَا، وَمَا قِيلَ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ ابْنَ عُمَرَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ حَمَلَ التَّفَرُّقَ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ فَيَتَعَيَّنُ طَرْحُ التَّأْوِيلِ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ، فَفَقِهَ أَنَّ تَأْوِيلَ الرَّاوِي لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ رَدًّا لِلِاحْتِمَالِ مَعَ تَأْيِيدِهِ بِرِوَايَةِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ بَيْعِهِمَا، وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ جَمْعٌ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. وَقَوْلُهُ: (إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ) : اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَيْ

كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، فَأَثْبَتُوا لَهُمَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ، وَقَالُوا: سَمَّاهُمَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ أَفْعَالِ الْفَاعِلِينَ، وَهِيَ لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ بَعْدَ الضِّدِّ تَفَرُّقٌ إِلَّا التَّمْيِيزَ بِالْأَبْدَانِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُمَا إِذَا تَعَاقَدَا صَحَّ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لَهُمَا إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا وَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ التَّفَرُّقِ هُوَ التَّفَرُّقُ بِالْأَقْوَالِ، وَنَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُمَا بِالْمُتَبَايِعَيْنِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يُؤَوَّلُ إِلَيْهِ أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُ قَالَ الْقَاضِي: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَفْهُومِ الْغَايَةِ، وَالْمَعْنَى: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِذَا تَفَرَّقَا سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ إِلَى بَيْعِ الْخِيَارِ، أَيْ بَيْعًا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ، فَإِنَّ الْجَوَازَ بَعْدُ بَاقٍ إِلَى أَنْ يَمْضِيَ الْأَمَدُ الْمَضْرُوبُ لِلْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ، وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَصْلِ الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ إِلَّا فِي بَيْعِ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَنَفْيِهِ أَيْ: فِي بَيْعٍ شُرِطَ فِيهِ نَفْيُ الْخِيَارِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ نَشَأَ الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ شَرْطِ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِيمَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِعِلَّةِ الْإِضْمَارِ وَإِيلَاءِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا بَيْعًا جَرَى التَّخَايُرُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ، يَقُولُ: اخْتَرْتُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يُلْزَمُ بِهِ وَيَسْقُطُ الْخِيَارُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا بَعْدُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ " أَوْ " فِي قَوْلِهِ أَيِ الْآتِي أَوْ يَخْتَارُ مِثْلَهَا فِي قَوْلِكِ: لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِينِي حَقِّي، أَيْ إِلَّا أَنْ يَخْتَارَا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهُ إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ الْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى خِيَارَ الْمَجْلِسِ خِيَارَ الشَّرْطِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَصَرَّحَ بِالْقَوْلِ بِفَسَادِهِ وَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَالْأَوَّلُ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا اسْتَثْنَى عَنْهُ إِثْبَاتًا مِثْلَهُ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى نَفْيِ الْخِيَارِ بَعْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ، فَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ عَنِ الْمَعْنَى الْمَنْفِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا النَّصُّ فَلَا يُسَاعِدُهُ إِلَى وُجُوبِ الْبَيْعِ وَنَفْيِ الِاخْتِيَارِ، إِمَّا بِالشَّرْطِ أَوْ بِلَفْظِ اخْتَرْ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ التَّالِيَةَ بَيَانٌ لَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفَّى رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " إِذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ ") ، أَيْ: قَارَبَ عَقْدُهُمَا أَوْ شَرَعَ أَحَدُهُمَا فِي الْعَقْدِ (" فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ ") ، أَيْ: مِنْ إِتْمَامِ عَقْدِهِ (مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) ، أَيْ: قَوْلًا أَوْ بَدَنًا (أَوْ يَكُونَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ) ، أَيْ: خِيَارِ شَرْطٍ، وَيَكُونُ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ " أَوْ " بِمَعْنَى إِلَّا وَأَنْ مُقَدَّرَةٌ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَوْ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، كَذَا ذَكَرُهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمِدُ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ أَنَّ وَجْهَ الرَّفْعِ عَلَى مَا قَالَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَفَرَّقَا، وَلَمْ يُجْزَمِ الثَّانِي بَعْدَ جَزْمِ الْأَوَّلِ جَمْعًا بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يُحْمَلُ أَنِ الْمُقَدَّرَةَ عَلَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ، إِذْ قَدْ يَرْتَفِعُ الْفِعْلُ بَعْدَ أَنْ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ قَوْلَهُ - تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] بِرَفْعِ الْفِعْلِ عَلَى مَا فِي الْمَعْنَى، (فَإِذَا كَانَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ) ، أَيِ: الْعَقْدُ أَوْ ثَبَتَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّفَرُّقِ (وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: " «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَخْتَارَا» ") ، أَيْ: إِلَّا أَنْ يَخْتَارَا الشَّرْطَ (وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: " أَوْ يَقُولَ ") : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى مَا سَبَقَ (أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ ") : بَدَلَ بِالنَّصْبِ أَيْ: وَقَعَ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، أَوْ يَقُولَ الخ (بَدَلَ " أَوْ يَخْتَارَا ") فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاعْتِرَاضِ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، حَيْثُ أَوْهَمَ لِذِكْرِهِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ رِوَايَةَ: أَوْ يَخْتَارَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ الْمَقَامِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.

2802 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُوِرَكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2802 - (وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) : بِكَسْرِ مُهْمَلَةٍ فَزَايٍ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا» ") ، أَيْ: فِي صِفَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا (" وَبَيَّنَا ") ، أَيْ: عَيْبَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ (" بُورِكَ ") ، أَيْ: كَثُرَ النَّفْعُ (" لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا ") ، أَيْ: وَشِرَائِهِمَا، أَوِ الْمُرَادُ فِي عَقْدِهِمَا (" وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُزِيلَتْ وَذَهَبَتْ (" بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ

2803 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ: " إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ " فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2803 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُخْدَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ (فِي الْبُيُوعِ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَيُكْسَرُ قَالَ الْقَاضِي: ذَلِكَ الرَّجُلُ حِبَّانُ ابْنُ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْمَازِنِيُّ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (فَقَالَ: " (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ ") : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِلَامٍ مُخَفَّفَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ: لَا غَبْنَ وَلَا خَدِيعَةَ لِي فِي هَذَا الْبَيْعِ. قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي بَيْعِهِ كَانَ لَهُ الرَّدُّ إِذَا غُبِنَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا رَدَّ لَهُ مُطْلَقًا، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَهْلِ الْبَصَارَةِ فَيَحْتَرِزُ صَاحِبُهُ عَنْ مَظَانِّ الْغَبْنِ وَيَرَى لَهُ كَمَا يَرَى لِنَفْسِهِ، وَكَانَ النَّاسُ أَحِقَّاءَ بِرِعَايَةِ الْإِخْوَانِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ قِيلَ: زَادَ فِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا، فَيُفِيدُ الْحَدِيثُ أَنَّ لَا خِلَابَةَ لَفْظٌ وُضِعَ شَرْعًا لِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَوْ جُعِلَ مَعْنَاهُ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ خَاصٌّ بِمَنْ خَاطَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِذَاكَ إِذْ لَا بُدَّ لِلْخُصُوصِيَّةِ مِنْ دَلِيلٍ اهـ وَفِي كَوْنِ (خِلَابَةَ) لَفْظًا وُضِعَ شَرْعًا لِمَا ذُكِرَ مَحَلُّ مَبْحَثٍ يَخْفَى. قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَبْنَ لَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، لِأَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَ الْبَيْعَ أَوْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لَنَبَّهَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالشَّرْطِ. أَقُولُ: الْغَبْنُ الْفَاحِشُ يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَيُثْبِتُ الْخِيَارَ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، وَالرَّجُلُ أَرَادَ مُطْلَقَ الْغَبْنِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي ذَا بَصِيرَةٍ فَلَهُ الْخِيَارُ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا كَانَ الْغَبْنُ فَاحِشًا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْعَقْدِ ثُمَّ ظَهَرَتْ فِيهِ غَبِينَةٌ وَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ وَكَأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ غَيْرَ زَائِدٍ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، فَيُضَاهِي مَا إِذَا شَرَطَا وَصَفْاً مَقْصُودًا فِي الْمَبِيعِ فَبَانَ خِلَافُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ هَذَا اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ بِالْغَبْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَ الْحَدِيثَ بِحِبَّانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَتَصْدِيرِ الشَّرْطِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ تَحْرِيضًا لِلْمُعَامِلِ عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَةِ وَالتَّحَرُّزِ عَنِ الْخِلَابَةِ. فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ " «قُلْ لَا خِلَابَةَ، وَاشْتَرِطِ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ» " وَعَلَى هَذَا لَمْ يُخْتَصَّ الْخِيَارُ بِالْغَبْنِ، بَلْ لِلشَّارِطِ فَسْخُهُ فِي الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ غَبْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ مُضِيِّهَا، وَإِنْ ظَهَرَ الْغَبْنُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَقَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْقَوْلَ لِيَتَلَفَّظَ بِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ لِيُنَبِّهَ بِهِ صَاحِبَهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوِي الْبَصَائِرِ فِي مَعْرِفَةِ السِّلَعِ وَمَقَادِيرِ الْقِيمَةِ فِيهَا، فَيَمْتَنِعُ بِذَلِكَ عَنْ مَظَانِّ الْغَبْنِ وَيَرَى لَهُ كَمَا يَرَى لِنَفْسِهِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَحِقَّاءَ بِأَنْ يُعِينُوا أَخَاهُمُ الْمُسْلِمَ وَيَنْظُرُوا لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْظُرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ وَلَا خِلَابَةَ لِنَفْيِ الْجِنْسِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ عَلَى الْحِجَازِ أَيْ: لَا خِدَاعَ فِي الدِّينِ لِأَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2804 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2804 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَى أَنْ يَكُونَ صَفْقَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ» ") : يَعْنِي إِذَا تَفَرَّقَا بَطَلَ خِيَارُهُمَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَيْعَ خِيَارٍ أَيْ بَيْعًا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ: قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْبَيْعِ أَوِ الْعَهْدِ: فِي النِّهَايَةِ: هُوَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ، وَيَضَعُ أَحَدُهُمَا يَدَهُ فِي يَدِ الْآخَرِ كَمَا يَفْعَلُ، وَهَى الْمَرَّةُ مِنَ التَّصْفِيقِ بِالْيَدَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُمَا بِالتَّفَرُّقِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَيْعًا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ كَمَا مَرَّ اهـ وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ أَمْرٌ غَالِبِيٌّ عُرْفِيٌّ، لَا أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ شَرْعِيٌّ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالتَّفَرُّقِ تَفَرُّقُ الْأَيْدِي فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَبِهِ يَتَقَوَّى مَذْهَبُنَا حَيْثُ يَشْمَلُ التَّفَرُّقَ الْقَوْلِيَّ وَالْبَدَنِيَّ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَفْهُومُ مِنَ التَّفَرُّقِ هُوَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، وَعَلَيْهِ إِطْبَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الطَّلَاقُ تَفَرُّقًا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سِعَتِهِ} [النساء: 130] لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَفَرُّقَهُمَا بِالْأَبْدَانِ اهـ مَعَ أَنَّهُ يُدْفَعُ أَيْضًا بِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِالْقَوْلِ أَيْضًا يُوجِبُ تَفَرُّقَهُمَا بِالْأَبْدَانِ وَيَثْبُتُ جَوَازُهُ لَهُمَا فَأَمَّا الْإِيجَابُ الشَّرْعِيُّ فَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يُؤَيِّدُ الْمَرَامَ. (وَلَا يَحِلُّ) ، أَيْ: فِي الْوَرَعِ (" لَهُ ") ، أَيْ: لِأَحَدِهِمَا (" أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ ") أَيْ بِالْبَدَنِ بِأَنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ وَيَخْرُجَ (" خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ ") ، أَيْ: يَطْلُبُ مِنْهُ الْإِقَالَةَ، وَهُوَ إِبْطَالُ الْبَيْعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ صَرِيحٌ لِمَذْهَبِنَا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لَمَا طَلَبَ مِنْ صَاحِبِهِ الْإِقَالَةَ. قَالَ الْمُظْهِرُ: إِبْطَالُ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ أَيِ الْفَسْخُ، وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِقَالَةِ أَنْ يَرْفَعَ الْعَاقِدُ أَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَ لُزُومِهِ بِتَرَاضِيهِمَا، وَالْفَسْخُ يُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْعِقْدِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ أَيْ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُتَّقِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَيَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَفْسِخَ الْعَاقِدُ الْآخَرُ الْبَيْعَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، لِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ الْخَدِيعَةَ اهـ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ تَأْوِيلَ الْإِقَالَةِ بِالْفَسْخِ الْمُقَيَّدِ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا مَا رُوِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِذَا بَايَعَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ يَمْشِي هُنَيْهَةً، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِالْأَبْدَانِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ اهـ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ اعْتِبَارَهُ فِي رَأْيِ صَحَابِيٍّ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

2805 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَتَفَرَّقَنَّ اثْنَانِ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2805 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَتَفَرَّقَنَّ اثْنَانِ) ، أَيْ: مُتَبَايِعَانِ (إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ) : هُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْله - تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَبَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِصِدْقِ تِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَقَدْ أَبَاحَ - تَعَالَى - أَكْلَ الْمُشْتَرَى قَبْلَ التَّخْيِيرِ، فَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَتَفَارَقَانِ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ بَيْنَهُمَا، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِعْطَاءِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَحْصُلُ الضَّرَرُ وَالضِّرَارُ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ فِي الشَّرْعِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُشَاوِرَ مُرِيدُ الْفِرَاقِ صَاحِبَهُ،

أَلَكَ رَغْبَةٌ فِي الْمَبِيعِ؟ فَإِنْ أُرِيدَ الْإِقَالَةَ أَقَالَهُ، فَيُوَافِقُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مَعْنًى، وَهَذَا فِي تَنْزِيهٍ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حِلِّ الْمُفَارَقَةِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ وَلَا عِلْمِهِ، وَيُرِيدُ مَذْهَبُنَا أَيْضًا إِطْلَاقَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَهَذَا عَقْدٌ قَبْلَ التَّخْيِيرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] أَمْرٌ بِالتَّوَثُّقِ بِالشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يَقَعَ التَّجَاحُدُ لِلْبَيْعِ وَالْبَيْعُ يُصَدَّقُ قَبْلَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ وَعَدَمُ اللُّزُومِ قَبْلَهُ كَانَ إِبْطَالًا لِهَذِهِ النُّصُوصِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَلِكُ الْمُسْتَعَانُ: وَأَمَّا حَدِيثُ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا ابْتَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ» ) فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ وَأَخَّرَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِيَارَ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالِاشْتِرَاطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لَا أَصْلِ الْخِيَارَ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّفَرُّقُ الَّذِي هُوَ غَايَةُ قَبُولِ الْخِيَارِ بِتَفَرُّقِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْآخَرُ بَعْدَ الْإِيجَابِ: لَا أَشْتَرِي أَوْ يَرْجِعُ الْمُوجِبُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَإِسْنَادُ التَّفَرُّقِ إِلَى النَّاسِ مُرَادًا تَفَرُّقُ أَقْوَالِهِمْ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ: قَالَ - تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «افْتَرَقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» " وَحِينَئِذٍ فَيُرَادُ بِأَحَدِهِمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرِ الْمُوجِبَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ إِيجَابِهِ لِلْآخَرِ اخْتَرْ أَتَقْبَلُ أَوْ لَا؟ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: اخْتَرْ يَلْزَمُ الْبَيْعُ، بَلْ حَتَّى يَخْتَارَ الْبَيْعَ بَعْدَ قَوْلِهِ: اخْتَرْ فَكَذَا اخْتِيَارُ الْقَبُولِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتِمُّ بِلَا خِيَارِ الْمَجْلِسِ، بَلْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا فَكَذَا الْبَيْعُ اهـ مُلَخَّصًا. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: عَنْ تَرَاضٍ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ أَيْ: لَا يَتَفَرَّقَنَّ اثْنَانِ إِلَّا تَفَرُّقًا صَادِرًا عَنْ تَرَاضٍ. قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ بَيْنَ الْعَاقِدِينَ لِانْقِطَاعِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ إِلَّا بِرِضَاهُمَا اهـ، وَتَقَدَّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ إِجْمَاعًا وَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لَهُمَا، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْقَوْلِ حِينَئِذٍ اهـ وَأَنْتَ عَلِمْتَ مَعْنَى الْقَوْلِ فِيمَا سَبَقَ وَتُحِقِّقَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2806 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْبَيْعِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2806 - (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ أَعْرَابِيًا) ، أَيْ: بَدَوِيًّا (بَعْدَ الْبَيْعِ) أَيْ: بَعْدَ تَحَقُّقِهِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ثَابِتًا بِالْعَقْدِ كَانَ التَّخْيِيرُ عَبَثًا، وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُطْلَقٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا نَصٌّ دَافِعٌ لِلْمُتَنَازَعِ فِيهِ أَوَّلَ الْبَابِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَحَسَنٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي بَعْضِ النُّسَخِ.

[باب الربا]

[بَابُ الرِّبَا] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2807 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: (هُمْ سَوَاءٌ) » رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (4) بَابُ الرِّبَا وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، لَكِنْ خُصَّ فِي الشَّرِيعَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَبِاعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ قَالَ - تَعَالَى - {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] ، إِنَّ الزِّيَادَةَ الْمَعْقُولَةَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْبَرَكَةِ مُرْتَفِعَةٌ عَنِ الرِّبَا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الرِّبَا مَقْصُورٌ مِنْ رَبَا يَرْبُو، فَيُكْتَبُ بِالْأَلْفِ وَتُثَنِّيهُ بِالْيَاءِ لِكَسْرَةِ أَوَّلِهِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَتَبُوهُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لِأَنَّ أَهْلَ

الْحِجَازِ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَلُغَتُهُمُ الرِّبُو فَعَلِمُوا صُورَةَ الْخَطِّ عَلَى لُغَتِهِمْ. قَالَ: وَكَذَا قَرَأَهَا أَبُو سُلَيْمَانَ الْعَدَوِيُّ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْإِمَالَةِ لِكَسْرَةِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ لِفَتْحَةِ الْبَاءِ قَالَ: فَيَجُوزُ كَتْبُهُ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: لِلرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا، أَصْغَرُهَا كَمَنْ أَتَى أَمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَدِرْهَمٌ مِنَ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ زِنْيَةً: قَالَ: وَيَأْذَنُ اللَّهُ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْقِيَامِ إِلَّا لِآكِلِ الرِّبَا، فَعَنْهُ لَا يَقُومُ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطْهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2807 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكِلَ الرِّبَا» ) ، أَيْ: آخِذَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] (وَمُؤَكِّلَهُ) : بِهَمْزَةٍ وَيُبْدَلُ أَيْ: مُعْطِيهِ لِمَنْ يَأْخُذُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ هُوَ الْأَغْلَبُ أَوِ الْأَعْظَمُ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: سَوَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ آكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، إِذْ كُلٌّ لَا يَتَوَصَّلُ إِلَى أَكْلِهِ إِلَّا بِمُعَاوَنَتِهِ وَمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ، فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الْإِثْمِ كَمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُغْتَبِطًا بِفِعْلِهِ لَمْ يَسْتَفْضِلْهُ مِنَ الْبَيْعِ، وَالْآخَرُ مُنْهَضِمًا لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ النَّقْصِ، وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حُدُودٌ فَلَا تُتَجَاوَزُ وَقْتَ الْوُجُودِ مِنَ الرِّبْحِ وَالْعَدَمِ وَعِنْدَ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالضَّرُورَةُ لَا تَلْحَقُهُ بِوَجْهٍ فِي أَنْ يُوكِلَهُ الرِّبَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى حَاجَةٍ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُبَايَعَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ هَذَا الِاضْطِرَارَ يَلْحَقُ بِمَوَكَّلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ صَرِيحِ الرِّبَا فَيَثْبُتُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمُبَايِعَةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] لَكِنْ مَعَ وَجَلٍ وَخَوْفٍ شَدِيدٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُ وَلَا كَذَلِكَ الْآكِلُ (وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَحْرِيمِ كِتَابَةِ الْمُتَرَابِيَيْنِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا وَبِتَحْرِيمِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبَاطِلِ (وَقَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (هُمْ سَوَاءٌ) ، أَيْ: فِي أَصْلِ الْإِثْمِ، وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي قَدْرِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَأَخْرَجَهُ هُوَ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ عَنْهُ سِوَى " «آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ» " وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: " «لَعَنَ اللَّهُ الرِّبَا وَآكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهَدَهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ".

2808 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2808 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ ") بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ يُبَاعُ وَنَصْبٍ بِتَقْدِيرِ بِيعُوا بِالذَّهَبِ (" وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ ") : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ الْحِنْطَةُ (بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سِوَاءً بِسَوَاءٍ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي السُّنَّةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا جِنْسَيِ الْأَثْمَانِ، فَلَا يَتَعَدَّى الرِّبَا مِنْهُمَا إِلَى غَيْرِ مَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِهِمَا، لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَعْنَى، وَالْعِلَّةُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ كَوْنُهَا مَطْعُومَةً فَيَتَعَدَّى الرِّبَا مِنْهَا إِلَى كُلِّ مَطْعُومٍ، سَوَاءٌ كَانَ قُوتًا أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا كَالْأِهِلِيلَجِ وَالسَّقْمُونْيَا، وَمَا أُكِلَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ فَيَجْرِي الرِّبَا فِي الزَّعْفَرَانِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْأَرْبَعَةِ الْعِلَّةُ فِيهَا كَوْنُهَا تُدَّخَرُ لِلْقُوتِ، فَعَدَّاهُ إِلَى الزَّبِيبِ لِأَنَّهُ كَالتَّمْرِ، وَإِلَى السَّلْتِ لِأَنَّهُ كَالْبُرِّ

وَالشَّعِيرِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: الْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْوَزْنُ فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَوْزُونٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي الْأَرْبَعَةِ الْكَيْلُ فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَكِيلٍ كَالْجِصِّ وَالْأَسْنَانِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَدِيمِ: الْعِلَّةُ فِي الْأَرْبَعَةِ الدَّمُ وَالْوَزْنُ وَالْكَيْلُ، فَمَعْنَى هَذَا لَا رِبَا فِي الْبَطِّيخِ وَالسَّفَرْجَلِ وَنَحْوِهِمَا، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي الْقَدْرِ بِخِلَافِ الْمُسَاوَاةِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقَدْرِ مَقْبُوضَيْنِ (" يَدًا بِيَدٍ ") : وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَمَا مِنَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْمُمَاثَلَةُ بِالْوَزْنِ وَالْكَيْلِ، وَبِالثَّانِي اتِّحَادُ مَجْلِسِ تَقَابُضِ الْعِوَضَيْنِ بِشَرْطِ عَدَمِ افْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ، وَبِالثَّالِثِ الْحُلُولُ لَا النَّسِيئَةُ (فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجَدْنَا فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ قَدْ ضَرَبَ عَلَى الْأَصْنَافِ وَأَثْبَتَ مَكَانَهَا الْأَجْنَاسَ. وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: الْأَصْنَافُ لَا غَيْرَ، وَأَرَى ذَلِكَ تَصَرُّفًا مِنْ بَعْضِ النُّسَّاخِ عَنْ ظَنٍّ مِنْهُ أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ الْأَجْنَاسُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى حِدَتِهِ جِنْسٌ، وَالصِّنْفُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْأَصْنَافَ أَقْوَمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ الْجِنْسِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، فَعَدَّ أَصْنَافَهُ مَعَ أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَقَارِبَةِ فِي الْمَعْنَى مَكَانَ بَعْضِهَا اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ شَيْءٌ مِنْهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، لَكِنْ يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، فَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ) : لَكِنْ بِشَرْطِ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِقَوْلِهِ: (" إِذَا كَانَ ") ، أَيِ: الْبَيْعُ (يَدًا بِيَدٍ) ، أَيْ: حَالًا مَقْبُوضًا فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ افْتِرَاقِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ.

2809 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2809 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ "، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ) : قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الرِّبَوِيَّاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِتٌّ، لَكِنْ لَا يَخْتَصُّ بِهِمَا، وَإِذَا ذُكِرَتْ لِيُقَاسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا (لِمَنْ زَادَ) ، أَيْ: أَعْطَى الزِّيَادَةَ وَقَدَّمَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِاخْتِيَارِهِ أَوْلَى (" أَوِ اسْتَزَادَ ") ، أَيْ: طَلَبَ الزِّيَادَةَ (" فَقَدْ أَرْبَى ") ، أَيْ: أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الرِّبَا، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: طَلَبَ الرِّبَا وَتَعَاطَاهُ وَمَعْنَى اللَّفْظِ أَخَذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ، مِنْ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ يُقَالَ إِلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ، لِأَنَّ مَنِ اشْتَرَى الْفِضَّةَ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ بِمِثْقَالٍ مِنْ ذَهَبٍ فَالْمُشْتَرِي أَخَذَ الزِّيَادَةَ وَلَيْسَ بِرِبًا (" الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ ") ، أَيْ: فِي أَصْلِ إِثْمِ الرِّبَا (" سَوَاءٌ ") . رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2810 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلٌ بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفَى رِوَايَةٍ " «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2810 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ» .) ، أَيْ: مَضْرُوبًا أَوْ غَيْرَهُ (إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) ، أَيْ: مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ (" وَلَا تُشِفُّوا ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ وَتَشْدِيدٍ فَإِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ أَيْ: لَا تُفَضِّلُوا (" بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّمِيرُ لِلذَّهَبِ، الْجَوْهَرِيُّ: مَعْرُوفٌ وَرُبَّمَا أُنِّثَ اهـ وَفِي الْقَامُوسِ: الذَّهَبُ التِّبْرُ وَيُؤَنَّثُ وَاحِدَتُهُ بَهَاءٍ اهـ

وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ بِالذَّهَبِ مَا يَشْمَلُ التِّبْرَ وَغَيْرَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّأْنِيثَ لِلْجِنْسِ إِشْعَارًا بِأَنَّ أَصْنَافَ الذَّهَبِ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا تَمْيِيزُهَا، أَوِ الْمَعْنَى لَا تَزِيدُوا فِي الْبَيْعِ بَعْضَ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ الَّتِي هِيَ الذَّهَبُ عَلَى بَعْضٍ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ حُلِيًّا مِنْ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ لَا يَجُوزُ إِلَّا وَلَا يَجُوزُ طَلَبُ الْفَضْلِ لِلصَّنْعَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ. (" وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ ") : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيِ: الْفِضَّةَ (بِالْوَرِقِ) : وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تِبْرًا وَغَيْرَهُ (إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا) ، أَيْ: بَعْضَ الْوَرِقِ: وَأُنِّثَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْفِضَّةِ (" عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا ") أَيْ: مِنْ كُلٍّ (غَائِبًا) ، أَيْ: نَسِيئَةً (" بِنَاجِزٍ ") ، أَيْ: بِحَاضِرٍ وَنَقْدٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ: " «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ» ") : بِزِيَادَةِ لَا لِلتَّأْكِيدِ (إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ) ، أَيْ: مَوْزُونَيْنِ وَزْنًا مُقَابِلًا وَمُمَاثِلًا بِوَزْنٍ.

2811 - وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2811 - (وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ (الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ) : هُوَ اسْمُ مَا يُؤْكَلُ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْبُرِّ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبُرَّ قِيسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يُطْعَمُ يَعُمُّ الْمَشْرُوبَ أَيْضًا، فَيُحْمَلُ عَلَى اتِّفَاقِ الْجِنْسِ لِقَوْلِهِ: (" مِثْلًا بِمِثْلٍ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

2812 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» . مُتَفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2812 - (وَعَنْ عُمَرَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ") ، أَيْ: وَلَوْ مُتَسَاوِيَيْنِ (" رِبًا إِلَّا هَاءَ ") : بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى خُذْ وَالْمَدُّ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَالْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةٌ، وَيُقَالُ: بِالْكَسْرِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْلُهُ هَاكَ أَيْ: خُذْ فَحَذَفَ الْكَافَ وَعَوَّضَ عَنْهَا بِالْمَدِّ وَالْهَمْزَةِ اهـ. وَفِيهِ مُسَامَحَةٌ لَا تَخْفَى (" وَهَاءَ ") ، أَيْ: مَقْبُوضَيْنِ وَمَأْخُوذَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: خُذْ هَذَا فَيَقُولُ الْآخَرُ مِثْلَهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُمَا خُذْ وَأَعْطِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ حَتَّى فِي النَّفِيسِ، وَفِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ، قَالَ أَبُو مُعَاذٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رَأَيْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ جَاءَ إِلَى صَاحِبِ الزَّمَانِ فَوَضَعَ عِنْدَهُ فِلْسًا وَأَخَذَ رُمَّانَةً وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَمَضَى (" «وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» ) فِي الْفَائِقِ هَاءَ صَوْتٌ بِمَعْنَى خُذْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: قَالَ الْمَالِكِيُّ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] وَحَقُّ هَاءَ أَنْ لَا يَقَعَ بَعْدَ إِلَّا كَمَا لَا يَقَعُ بَعْدَهَا خُذْ وَبَعْدَ أَنْ وَقَعَ يَجِبُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ قَبْلَهُ يَكُونُ بِهِ مَحْكِيًّا فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَلَا الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ إِلَّا مَقُولًا عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ هَاءَ وَهَاءَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِذَنْ مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُقَدَّرٌ يَعْنَي بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ رِبًا فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ إِلَّا حَالَ الْحُضُورِ وَالتَّقَابُضِ، فَكُنِّيَ عَنِ التَّقَابُضِ بِهَاءَ وَهَاءَ لِأَنَّهُ لَازِمَةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2813 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» ". وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2813 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا أَيْ جَعَلَهُ عَامِلًا (عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ) بِالْإِضَافَةِ وَعَدِمِهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ بِفَتْحِ جِيمٍ وَكَسْرِ نُونٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ نَوْعٌ جَيِّدٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّمْرِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا) أَيْ مِثْلُ هَذَا الْجَيِّدِ (قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ) أَي مِنْ غَيْرِهِ تَارَةً (وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثِ) أَيْ تَارَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِاخْتِلَافِ قِلَّةِ وَجُودِهِ وَكَثْرَتِهِ أَوْ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ (قَالَ لَا تَفْعَلْ) أَيْ مِثْلَ هَذَا وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِمَا وَقَعَ لِأَنَّهُ جَهِلَ حُرْمَتَهُ، وَالصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَوْنِهِمْ مَنْ أَهْلِ إِنْشَاءِ الشَّرَائِعِ مَعْذُورُونَ بِمَا جَهِلُوهُ مِنْ بَعْضِ الْفُرُوعِ الْخَفِيَّةِ كَمَا هُنَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي نَسِيَهُ أَوْ حَذَفَهُ اقْتِصَارًا وَالْمَعْنَى أَنَّكَ لَا تَشْتَرِ الْجَنِيبَ بِتَمْرِ الْآخَرِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ مِنَ الْآخَرِ، بَلْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَبِيعَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا (بِعِ الْجَمْعَ) وَهُوَ كُلُّ نَوْعٍ مِنَ التَّمْرِ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ أَوْ تَمْرٌ رَدِيءٌ أَوْ تَمْرٌ مُخْتَلِطٌ مِنْ أَنْوَاعٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَيْسَ مَرْغُوبًا فِيهِ وَمَا يَخْتَلِطُ إِلَّا لِرِدَاءَتِهِ (بِالدَّرَاهِمِ) أَيْ مِثْلًا وَالْمُرَادُ مَالًا يَكُونُ مَالًا رِبَوِيًّا (ثُمَّ ابْتَعْ) أَيِ اشْتَرِ (بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا وَقَالَ:) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي الْمِيزَانِ) أَيْ فِيمَا يُوزَنُ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ إِذَا احْتِيجَ إِلَى بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ (مِثْلُ ذَلِكَ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَفَى بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَالَ فِيهِ قَوْلًا مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي قَالَهُ فِي الْكَيْلِ مِنْ أَنَّ غَيْرَ الْجَيِّدِ يُبَاعُ ثُمَّ يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ الْجَيِّدُ وَلَا يُؤْخَذُ جَيِّدٌ بِرَدِيءٍ مَعَ تَفَاوُتِهِمَا فِي الْوَزْنِ وَاتِّحَادِهِمَا فِي الْجِنْسِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُبَدِّلَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ وَيَأْخُذَ فَضْلًا فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يُغَيِّرَ جِنْسَهُ وَيَقْبِضَ مَا اشْتَرَاهُ ثُمَّ يَبِيعَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا دُفِعَ إِلَيْهِ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَوْجِيهُ اسْتِدْلَالِهمْ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ لَا الطَّعْمُ وَالنَّقْدُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ التَّمْرِ وَهُوَ الْمَكِيلُ أَلْحَقَ بِهِ حُكْمَ الْمِيزَانِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ النَّقْدِيَّةَ وَالْمَطْعُومِيَّةَ لَقَالَ: وَفِي النَّقْدِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا إِرْشَادٌ لِمَنْ ضَلَّ السَّبِيلَ وَوَقَعَ فِي الرِّبَا فَهَدَاهُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْعَمَلِ، وَالْمَفْهُومُ فِيهِ مَسْدُودٌ وِفَاقًا اهـ وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا الْجَوَابَ ظَهَرَ لَكَ إِنَّهُ عُدُولٌ عَنْ سَبِيلِ الصَّوَابِ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ يُؤَسَّسُ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحِيلَةَ الَّتِي يَعْمَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ تَوَسُّلًا إِلَى مَقْصُودِ الرِّبَا لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْنِ فَيَبِيعَهُ ثَوْبًا بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِمِائَةٍ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَذَا وَاشْتَرِ بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَهُوَ لَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: هُوَ حَرَامٌ اهـ وَالْأَوَّلُ هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ وَتَبِعَهُ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَنْصُرُ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ مَا رَوَاهُ رَزِينُ بْنُ أَرْقَمَ فِي كِتَابِهِ عَنْ أُمِّ يُونُسَ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ وَلَدِ رَزِينِ ابْنِ أَرْقَمَ إِلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ: بِعْتُ جَارِيَةً مِنْ زَيْدٍ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ، وَكُنْتُ شَرَطْتُ عَلَيْهِ أَنَّكَ إِنْ بِعْتَهَا فَأَنَا أَشْتَرِيهَا مِنْكَ. فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ، أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ. قَالَتْ: فَمَا يَصْنَعُ؟ قَالَتْ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ. فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَى عَائِشَةَ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَفِّرُونَ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَقَدْ تَكُونُ عَائِشَةُ عَابَتِ الْبَيْعَ إِلَى الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ أَجَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ أَوْ لِكَوْنِهِ بَاعَ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَزَيْدٌ صَحَابِيٌّ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَمَذْهَبُنَا الْقِيَاسُ، وَهُوَ مَعَ زَيْدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُمْنَعَ تَجْهِيلُ الْأَجَلِ فَإِنَّ الْعَطَاءَ هُوَ مَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِيِّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً أَوْ

مَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ في أَجَلٍ مُسَمًّى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ. قُلْتُ: وَمَعَ هَذَا لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ جَهَالَةٍ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي زَمَانِنَا هَذَا قَالَ. وَأَمَّا تَرْجِيحُ فِعْلِ زِيدٍ بِالْقِيَاسِ فَمُشْكِلٌ لِبُعْدِ الْجَامِعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ رَاجِحٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَلِمَا رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا تَبَايَعْتُمُ الْعَيْنَةَ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» " وَالْعَيْنَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَفَتَحِ النُّونِ هُوَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2814 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ فَقَالَ: " أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِيهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2814 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ) بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ فِي آخِرِهِ يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ التَّمْرِ (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَيْنَ هَذَا) أَيْ لَكَ (قَالَ كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ) فَعِيلٌ مِنَ الرَّدَاءَةِ فَيَجُوزُ الْهَمْزُ وَالْإِدْغَامُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ (فَبِعْتُ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الرَّدِيءِ (صَاعَيْنِ بِصَاعٍ فَقَالَ: أَوَّهْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْهَاءِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَهِيَ كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وَنَدَامَةٍ عَلَى لُحُوقِ ضَرَرٍ بِأَحَدٍ وَمَلَامَةٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. فِي النِّهَايَةِ: هِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الرَّجُلُ عِنْدَ الشِّكَايَةِ وَالتَّوَجُّعِ وَهِيَ سَاكِنَةُ الْوَاوِ مَكْسُورَةُ الْهَاءِ، وَرُبَّمَا قَلَبُوا الْوَاوَ أَلِفًا فَقَالُوا آهٍ مِنْ كَذَا وَرُبَّمَا شَدَّدُوا الْوَاوَ وَكَسَرُوهَا وَسَكَّنُوا الْهَاءَ وَبَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالتَّشْدِيدِ وَقَوْلُهُ (عَيْنُ الرِّبَا) أَيْ حَقِيقَةُ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ (عَيْنُ الرِّبَا) كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا (لَا تَفْعَلْ) أَيْ كَذَا (وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ) أَيِ الْبَرْنِيَّ سَالِمًا مِنَ الرِّبَا (فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِيهِ) أَيْ بِثَمَنِهِ الْبَرْنِيَّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ كَالَّذِي قَبْلَهُ صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الْحِيلَةِ فِي الرِّبَا الَّذِي قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالْجَيِّدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْصِلَ فِي أَمْرِهِ فِي كَوْنِ الشِّرَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بَلْ ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ وَإِلَّا لَبَّيْنَهُ لَهُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الْقَوْلِيَّةِ الْمُحْتَمَلَةِ مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَنَالِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2815 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ عَبْدٌ فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعْنِيهِ فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ وَلَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا بَعْدَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَعَبْدٌ هُوَ أَوْ حُرٌّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2815 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: (جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْهِجْرَةِ) ضُمِّنَ بَاعَ مَعْنَى عَاهَدَ فَعَدَّاهُ بِعَلَى (وَلَمْ يَشْعُرْ) أَيْ: وَلَمْ يَدْرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّهُ عَبْدٌ فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ) أَيْ يَطْلُبُهُ أَوْ يُرِيدُ خِدْمَتَهُ (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعْنِيهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْإِحْسَانِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَرُدَّ الْعَبْدَ خَائِبًا مِمَّا قَصَدَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَمُلَازِمَةِ الصُّحْبَةِ (فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ) دَلَّ عَلَى أَنَّ بَيْعَ غَيْرِ مَالِ الرِّبَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِمْ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ حَيَوَانٍ بِحَيَوَانَيْنِ نَقْدًا سَوَاءٌ كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا. اشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فَأَعْطَاهُ أَحَدُهُمَا وَقَالَ: آتِيكَ بِالْآخَرِ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إِنْ كَانَا مَأْكُولَيِ اللَّحْمِ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ لِلذَّبْحِ وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً فَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَمَّا كَانَ نَسِيئَةً فِي الطَّرَفَيْنِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الَّذِي فِي آخِرِ الْبَابِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً إِنَّمَا أَنْ يَكُونَ نَسَأً فِي الطَّرَفَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَرَخَصَّ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُجَهَّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتِ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ

قَلَائِصِ الصَّدَقَةِ وَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ (وَلَمْ يُبَايِعْ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَحَدًا بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ هَذَا الْعَبْدِ (حَتَّى يَسْأَلَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْأَحَدَ (أَعَبْدٌ هُوَ أَوْ حُرٌّ) هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ فِي نُسَخِ مُسْلِمٍ وَالْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، لَكِنْ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِلَفْظِ: أَوْ حُرٌّ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَمْ حُرٌّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَوْ هُنَا أَوْقَعُ لِأَنَّ أَمْ يُؤْتَى بِهَا إِذَا ثَبَتَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَيَحْصُلُ التَّرَدُّدُ فِي التَّعْيِينِ، وَأَوْ سُؤَالٌ عَنْ نَفْسِ الثُّبُوتِ، يَعْنِي عَبْدِيَّتُهُ ثَابِتَةٌ أَوْ حُرِّيَّتُهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2816 - وَعَنْهُ قَالَ: " «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ لَا يُعْلَمُ مَكِيلَتُهَا بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2816 - (وَعَنْهُ أَيْ جَابِرٍ) (قَالَ: قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ» ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ وَهِيَ الطَّعَامُ الْمُجْتَمِعُ كَالْكُومَةِ (مِنَ التَّمْرِ) حَالٌ مِنْهُ (لَا يَعْلَمُ مَكِيلَتُهَا) أَيْ مِقْدَارَ كَيْلَتِهَا حَالٌ أُخْرَى (بِالْكَيْلِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْبَيْعِ (الْمُسَمَّى) أَيِ: الْمَعْلُومِ وَهُوَ صِفَةُ الْكَيْلِ (مِنَ التَّمْرِ) حَالٌ مِنْهُ أَيْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ الْمَجْهُولِ مَكِيلَتُهَا بِالصُّبْرَةِ الْمَعْلُومَةِ مَكِيلَتُهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ جُزَافًا لِلْجَهْلِ بِالتَّمَاثُلِ حَالَةَ الْعَقْدِ فَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ صُبْرَتِي هَذِهِ مِنَ الْحِنْطَةِ بِمَا يُقَابِلُهَا مِنْ صُبْرَتِكَ، أَوْ دِينَارِي بِمَا يُوَازِنُهُ مِنْ دِينَارِكَ جَازَ إِذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ، وَالْفَضْلُ مِنَ الدِّينَارِ الْكَبِيرِ وَالصُّبْرَةِ الْكَبِيرَةِ لِبَائِعِهَا، فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ جُزَافًا لِأَنَّ الْفَضْلَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ حَرَامٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2817 - «وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ فَفَصَّلْتُهَا فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ " لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2817 - (وَعَنْ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ (ابْنِ عُبَيْدٍ) مُصَغَّرًا (قَالَ: اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ) أَيْ فِي عَامِهَا (قِلَادَةً) بِكَسْرِ الْقَافِ مَا يُقَلَّدُ فِي الْعُنُقِ وَنَحْوَهُ (بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ فَزَايٍ مَعْرُوفٌ (فَفَصَّلْتُهَا) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ مَيَّزْتُ ذَهَبَهَا وَخَرَزَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ (فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تُبَاعُ) أَيِ الْقِلَادَةُ بَعْدَ هَذَا نَفْيٌ بِمَعْنَى نَهْيٍ (حَتَّى تُفَصَّلَ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَيُرْوَى حَتَّى أَرَادَ بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْخَرَزِ وَالذَّهَبِ فِي الْعَقْدِ لَا تَمْيِيزَ عَيْنِ الْمَبِيعِ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا شَيْءٌ آخَرُ مِثْلَ إِنْ بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ بِدِينَارَيْنِ أَوْ بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمَيْنِ وَثَوْبٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ فِي أَحَدِ شِقَّيِ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ تَوْزِيعَ مَا مُقَابَلَتُهُمَا عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَالتَّقْوِيمُ تَقْدِيرٌ وَجَهْلٌ لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةً فِي الرِّبَا اهـ. كَلَامُهُ وَفِيهِ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ إِنَّمَا هِيَ كَوْنُ مُقَابَلَةِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَزِيَادَةِ الْفَضْلِ الْمُوجِبَةِ لِحُصُولِ الرِّبَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ ذَهَبُ الْمَبِيعِ أَنْقَصَ مِنْ ذَهَبِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ حِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ صَرْفُهَا إِلَى مَا عَدَا الذَّهَبَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِنَا، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِنِصْفِهِ وَفُلُوسٍ أَوْ طَعَامٍ لِلضَّرُورَةِ، وَمَنَعَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ مُكَايَلَةً وَمُجَازَفَةً أَيْ بِلَا كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ بَلْ بِقِرَاءَةِ الصُّبْرَةِ، وَالْجَزْفُ فِي الْأَخْذِ بِكَثْرَةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ جَزَفَ لَهُ فِي الْكَيْلِ إِذَا كَثُرَ وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْمُسَاهَلَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَهَذَا يَعْنِي الْبَيْعَ مُجَازَفَةً مُقَيِّدٌ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ إِذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا، فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ إِذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا فَلَا تَجُوزُ مُجَازَفَةً لِاحْتِمَالِ الرِّبَا وَهُوَ مَانِعٌ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا أَيْضًا مُقَيَّدٌ بِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ مِنْهَا وَأَمَّا مَا لَا يَدْخُلُ كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ فَيَجُوزُ، وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّمْرَةَ وَالتَّمْرَتَيْنِ فَقَالَ: مَا حَرُمَ فِي الْكَثِيرِ حَرُمَ فِي الْقَلِيلِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2818 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا أَكَلَ الرِّبَا فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ بُخَارِهِ وَيُرْوَى مِنْ غُبَارِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2818 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا أَكَلَ الرِّبَا» ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَثْنَى صِفَةٌ (لِأَحَدٍ) وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ لَهُ وَصْفٌ إِلَّا وَصْفَ كَوْنِهِ أَكَلَ الرِّبَا فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِشَارِهِ فِي النَّاسِ بِحَيْثُ أَنَّهُ يَأْكُلُهُ كُلُّ أَحَدٍ (فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ بُخَارِهِ وَيُرْوَى مِنْ غُبَارِهِ) أَيْ يَصِلُ إِلَيْهِ أَثَرُهُ بِأَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِي عَقْدِ الرِّبَا أَوْ كَاتِبًا أَوْ آكِلًا مِنْ ضِيَافَةِ آكِلِهِ أَوْ هَدِيَّتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ أَحَدًا سَلِمَ مِنْ حَقِيقَتِهِ لَمْ يَسْلَمْ مَنْ آثَارِهِ، وَإِنْ قَلَّتْ جِدًّا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ: عَامُّ الْأَوْصَافِ نَفَى جَمِيعَ الْأَوْصَافِ إِلَّا الْأَكْلَ وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَمْ يَأْكُلْهُ حَقِيقَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْرَى عَلَى عُمُومِ الْمَجَازِ فَيَشْمَلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ التَّفْصِيلِيِّ فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ حَقِيقَةً يَأْكُلْهُ مَجَازًا، وَالْبُخَارُ وَالْغُبَارُ مُسْتَعَارَانِ بِمَا يُشَبَّهُ الرِّبَا بِهِ مِنَ النَّارِ وَالتُّرَابِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2819 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ» ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2819 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ) أَيْ مِثْلًا بِمِثْلٍ فِي الْوَزْنِ أَوِ الْكَيْلِ (عَيْنًا) أَيْ حَاضِرًا (بِعَيْنٍ) أَيْ نَاجِزٍ يَعْنِي لَا بِنَسِيئَةٍ (يَدًا بِيَدٍ) أَيْ مَقْبُوضَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ تَفَرُّقِ الْأَبْدَانِ (وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ) أَيْ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ (كَيْفَ شِئْتُمْ) أَيْ فِي التَّفَاضُلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَكِنْ حَقُّهُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا أَيْ لَا تَبِيعُوا النَّقْدَيْنِ وَلَا الْمَطْعُومَاتِ إِذَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ وَلَكِنْ بِيعُوا إِذَا اخْتَلَفَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ " إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ " كَالِاسْتِطْرَادِ لِبَيَانِ التَّرْخِيصِ وَقَوْلُهُ: (يَدًا بِيَدٍ) تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: (عَيْنًا بِعَيْنٍ) مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا كَانَ (سَوَاءً بِسَوَاءٍ) تَأْكِيدًا لِ (مِثْلًا بِمِثْلٍ) فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ -) .

2820 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: " «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ شِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ " فَقَالَ " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ "؟ فَقَالَ نَعَمْ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنِّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2820 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ شِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فَقَالَ أَيَنْقُصُ التَّمْرُ إِذَا يَبِسَ؟» ) مِنْ نَقْصِ اللَّازِمِ وَيَجُوزُ مِنَ الْمُتَعَدِّي (فَقَالَ) أَيِ السَّائِلُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ سُئِلَ (نَعَمْ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ) قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ اسْتِعْلَامَ الْقَضِيَّةِ فَإِنَّهَا جَلِيَّةٌ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ الِاسْتِكْشَافِ بَلِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ تَحَقُّقُ الْمُمَاثِلَةِ حَالَ الْيُبُوسَةِ فَلَا يَكْفِي تَمَاثُلُ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ عَلَى رُطُوبَتِهِ وَلَا عَلَى فَرْضِ الْيُبُوسَةِ لِأَنَّهُ تَخْمِينٌ وَخَرْصٌ لَا تَعَيُّنَ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ إِذَا تَسَاوَيَا كَيْلًا، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الْبَيْعِ نَسِيئَةً لِمَا رُوِيَ عَنْ هَذَا الرَّاوِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً اهـ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ بَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ وَاللَّحْمِ الرَّطِبِ بِالْقَدِيدِ (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2821 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» " قَالَ سَعِيدٌ: كَانَ مِنْ مَيْسِرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2821 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ (مُرْسَلًا) أَيْ بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ وَهُوَ حُجَّةٌ عَنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيمَا لَمْ يَعْتَضِدْ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» ) بِالْحَرَكَاتِ الْحَيَوَانُ أَصْلُهُ الْحَيَيَانُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّوْعُ (قَالَ سَعِيدٌ) أَيِ الرَّاوِي (كَانَ) أَيْ هَذَا الْبَيْعُ (مِنْ مَيْسِرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ قِمَارُهُمْ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَيْسِرُ اللَّعِبُ بِالْقِدَاحِ أَوِ النَّرْدِ أَوْ كُلُّ قِمَارٍ، وَيَفْتَحُ السِّينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلًّا فِيهِ أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَإِنْ كَانَتْ طَرِيقَةُ الْأَكْلِ فِيهَا مُخْتَلِفَةً فَتِلْكَ بِلَعِبٍ وَهَذِهِ بِعَقْدٍ. وَقَوْلُ الْخَطَابِيِّ: إِذَا امْتُنِعَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً فَأَوْلَى، هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا رِبًا فِي الْحَيَوَانِ أَصْلًا كَمَا سَبَقَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اشْتِقَاقُ الْمَيْسِرِ مِنَ الْيُسْرِ ; لِأَنَّهُ أَخْذُ مَالِ الرَّجُلِ بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَتَعَبٍ أَوْ مِنَ الْيَسَارِ ; لِأَنَّهُ سَلْبُ يَسَارِهِ. قَالُوا: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَةِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ اللَّحْمُ مَنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَيَوَانُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اهـ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ مَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَسِيئَةً ; لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

2822 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2822 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) بِضَمِّ الدَّالِّ وَفَتْحِهَا (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَهَمْزَةٍ فَهَاءٍ أَيْ بَيْعَ نَسِيئَةٍ أَوْ بِطْرِيقِ النَّسِيئَةِ وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

2823 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتِ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلَائِصِ الصَّدَقَةِ فَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2823 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا) أَيْ يُهَيِّئُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَسْكَرُ مِنْ مَرْكُوبٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِهِمَا (فَنَفِدَتْ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَبِالدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ أَيْ فَنِيَتْ أَوْ نَقَصَتْ (الْإِبِلُ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ جَمَلًا وَبَقَى بَعْضُ الرِّجَالِ بِلَا مَرْكُوبٍ وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ فَبَعُدَتْ (بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَعْنَى قَرِيبٌ (فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ) أَيْ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ إِبِلٌ دَيْنًا (عَلَى قَلَائِصِ الصَّدَقَةِ) جَمْعُ قَلُوصٍ وَهُوَ الْفَتِيُّ مِنَ الْإِبِلِ (فَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ) أَيْ مُؤَجَّلًا إِلَى أَوَانِ حُصُولِ قَلَائِصِ الصَّدَقَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَسْتَقْرِضُ عَدَدًا مِنَ الْإِبِلِ حَتَّى يُتِمَّ ذَلِكَ الْجَيْشَ لِيَرُدَّ بَدَلَهَا مِنْ إِبِلِ الزَّكَاةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ إِشْكَالَانِ أَحَدُهُمَا: بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً. وَثَانِيهِمَا: عَدَمُ تَوْقِيتِ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى اهـ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَهُنَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ سَلَمِ الْحَيَوَانِ لَهُ مُتَفَاضِلًا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ سَمُرَةَ قَبْلَهُ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى أَنْ يَكُونَ كِلَا الْحَيَوَانَيْنِ نَسِيئَةً، وَعِنْدَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ أَنْ يُحَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فَنُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ اهـ. وَتَصْوِيرُ مَسْأَلَةِ كِلَا الْحَيَوَانَيْنِ نَسِيئَةً أَنْ يَقُولَ: بِعْتُ مِنْكَ فَرَسًا صِفَتُهُ كَذَا بِفَرَسٍ أَوْ جَمَلٍ صِفَتُهُ كَذَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2824 - (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ " لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2824 - (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الرِّبَا) التَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ أَيِ الرِّبَا الَّذِي عُرِفَ كَوْنُهُ فِي النَّقْدَيْنِ وَالْمَطْعُومِ أَوِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ عَلَى اخْتِلَافٍ ثَابِتٍ (فِي النَّسِيئَةِ) ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ " لَا " رِبًا) بِالتَّنْوِينِ وَتَرَكَهُ وَالْأَوَّلُ: عَلَى إِلْغَاءِ كَلِمَةِ " لَا " وَجَعْلِهَا مُبْتَدَأً وَالثَّانِي: عَلَى أَنَّ اسْمَ لَا مُفْرَدٌ (كَانَ يَدًا بِيَدٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي بِشَرْطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمُتَّفَقِ وَاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فِي التَّفَاضُلِ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا رِبًا فِيمَا قُبِضَ فِيهِ الْعِوَضَانِ فِي الْمَجْلِسِ بِشَرْطِ التَّسَاوِي فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَمَعَ التَّفَاضُلِ فِي الْمُخْتَلِفِ. قِيلَ: وَأُرِيدَ بِالْحَصْرِ الْإِضَافِيِّ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ عَنِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ جِنْسَيْنِ فَكَأَنَّهُ فَاللَّهِ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ لَا رِبًا فِيهِ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ أَيْضًا، وَأَيْضًا رِبَا النَّسِيئَةِ كَانَ مَشْهُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ رِبَا النَّسَاءِ أَيِ التَّأْخِيرَ يَكْفُرُ، اخْتَلَفُوا فِي رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا كَانَ يَرَى الرِّبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ لَكِنْ صَحَّ رُجُوعُهُ عَنْهُ لَمَّا شَدَّدَ عَلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ: أَسَمِعْتَ وَشَهِدْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ نَسْمَعْ وَنَشْهَدْ؟ ثُمَّ رَوَى لَهُ الْحَدِيثَ الصَّرِيحَ بِتَحْرِيمِ الْكُلِّ، فَقَالَ: اشْهَدُوا أَنِّي حَرَّمْتُهُ وَبَرِئْتُ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2825 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زِنْيَةً» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ وَقَالَ: " «مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2825 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ) فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَقِصَّتُهُ مَضَتْ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَمُجْمَلُهَا: أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الصَّارِخَ إِلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ كَانَ مَعَ أَهْلِهِ فَأَفْرَطَ فِي الِاسْتِعْجَالِ فِي اسْتِجَابَةِ نَفِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى خَرَجَ جُنُبًا فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَأُرِيدُ دَفْنُهُ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: فَدُفِنَ بِلَا غَسْلٍ لِأَنَّهُ شَهِيدٌ، لَكِنْ كَرَّمَهُ رَبُّهُ بِأَنْ أَنْزَلَ لَهُ مَلَائِكَةً غَسَّلُوهُ قَبْلَ دَفْنِهِ؛ فَلِذَا سُمِّيَ غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ) أَيِ الشَّخْصُ (وَهُوَ يَعْلَمُ) أَيْ أَنَّهُ رِبًا وَكَذَا إِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَكِنَّهُ قَصَّرَ فِي التَّعَلُّمِ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ أَلْحَقُوا الْمُقَصِّرَ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ عَيْنًا بِالْعَالِمِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهُ فِي الْإِثْمِ (أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زِنْيَةً) بِكَسْرِ الزَّايِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ زَجْرًا عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَحَثًّا عَلَى طَلَبِ الْحَلَالِ وَاجْتِنَابِ حَقِّ الْعِبَادِ، وَحِكْمَةُ الْعَدَدِ الْخَاصِّ مُفَوَّضٌ إِلَى الشَّارِعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَشَدِيَّةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَتَكُونُ الْمَرَّةُ مِنَ الرِّبَا أَشَدَّ إِثْمًا مِنْ تِلْكَ السِّتَّةِ وَالثَلَاثِينَ زِنْيَةً لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَدْ يُطْلِعُ عَلَيْهِ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ قِيلَ: لِأَنَّ الرِّبَا يُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى خَاتِمَةِ السُّوءِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا أَخَذَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا فَمَنِ احْتَضَرَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا بِأَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ يَكُونُ ذَلِكَ مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى إِغْوَائِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى أَنْ يُعْطِيَهُ، فَيَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ تِلْكَ الْمُحَارَبَةُ، وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] إِلَى قَوْلِهِ {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] إِيذَانٌ أَيْضًا بِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ) أَيْ عَنْهُ (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ) أَيِ الْبَيْهَقِيُّ أَوِ ابْنُ عَبَّاسٍ (وَقَالَ أَيْ مَرْفُوعًا (مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ) أَيْ تَرَبَّى وَتَقَوَّى عَظْمُهُ (مِنَ السُّحْتِ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْحَاءِ وَسُكُونِهَا أَيِ الْحَرَامِ الشَّامِلِ لِلرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تُعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ (فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) أَيْ بِلَحْمِهِ أَوْ بِصَاحِبِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى وَجْهِ الْأَشَدِيَّةِ أَنَّ الرِّبَا إِذَا رَبَا عَلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يَسْرِي إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِصْيَانِ أَوْ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الرِّبَا غَامِضَةٌ فَرُبَّمَا يَسْتَحِلُّ الْجَاهِلُ فَيَكْفُرُ بِخِلَافِ أَمْرِ الزِّنَا فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ.

2826 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الرِّبَا سَبْعُونَ جُزْءًا أَيْسَرُهَا إِثْمًا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2826 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّبَا) أَيْ إِثْمُهُ (سَبْعُونَ جُزْءًا) أَيْ بَابًا أَوْ حُوبًا كَمَا جَاءَ بِهِمَا الرِّوَايَةُ (أَيْسَرُهَا) أَيْ أَهْوَنُ السَبْعِينَ (إِثْمًا) وَأَدْنَاهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ) أَيْ يَطَأُهَا وَفِي رِوَايَةٍ: " «الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَيْسَرُهَا مِثْلَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهَ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ» " رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. رِوَايَةُ: " «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا مِثْلَ إِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ» " رَوَاهُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ الْبَرَاءِ. فَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ وَجْهَ زِيَادَةِ الرِّبَا عَلَى مَعْصِيَةِ الزِّنَا إِنَّمَا هُوَ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ الزِّنَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِرِضَا الزَّانِيَةِ وَلِذَا قَدَّمَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] وَإِلَّا فَأَيُّ عِرْضٍ يَكُونُ فَوْقَ هَتْكِ الْحُرْمَةِ وَمَرْتَبَةِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا دُونَ مَعْصِيَةِ الزِّنَا وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

2827 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنِ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ» " رَوَاهَا ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَرَوَى أَحْمَدُ الْأَخِيرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2827 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ الرِّبَا) أَيْ مَالَهُ (وَإِنْ كَثُرَ) أَيْ صُورَةً وَعَاجِلَةً (فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ) أَيْ آجِلَتَهُ وَحَقِيقَتَهُ (تَصِيرُ) أَيْ تَرْجِعُ وَتَئُولُ (إِلَى قُلٍّ) بِضَمِّ قَافٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ: فَقْرٍ وَذُلٍّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقُلُّ وَالْقِلَّةُ كَالذُّلِّ وَالذِّلَّةِ يَعْنِي أَنَّهُ مَمْحُوقُ الْبَرَكَةِ (رَوَاهُمَا) أَيِ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا (ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَرَوَى أَحْمَدُ) أَيْ وكَذَا الْحَاكِمُ (الْأَخِيرَ) أَيِ الْحَدِيثَ الْآخِرَ مِنْهُمَا.

2828 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2828 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَيْتُ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ مَرَرْتُ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ مُرَّ بِي (لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي) بِالْإِضَافَةِ عَلَى الصَّحِيحِ (عَلَى قَوْمٍ) مُتَعَلِّقٌ بَأَتَيْتُ لَا بِأُسْرِيَ كَمَا يُتَوَهَّمُ (بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّهَا، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ قَوْمٍ (فِيهَا) أَيْ فِي بُطُونِهِمْ (الْحَيَّاتُ) جَمْعُ حَيَّةٍ (تُرَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تُبْصَرُ الْحَيَّاتُ (مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ) تَشْنِيَةً لِحَالِهِمْ وَفَضِيحَةً لِمَآلِهِمْ (فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا) وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ أُمَّتِكَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2829 - وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ النَّوْحِ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2829 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ» ) أَيْ مُطْلَقًا أَوْ مَعْنَاهُ تَارِكُ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ (وَكَانَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَنْهَى عَنِ النَّوْحِ) أَيْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ مَعَ نَحْوِ: وَاكَهْفَاهُ وَاجَبَلَاهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

2830 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إِنَّ آخِرَ مَا نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ وَلَمْ يُفَسِّرْهَا لَنَا، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2830 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّ آخِرَ ما نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا) أَيْ آخِرُ آيَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْمُعَامَلَاتِ لَا مُطْلَقًا لِأَنَّ آخِرَ الْآيَاتِ نُزُولًا عَلَى الْإِطْلَاقِ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] (وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ وَبِفَتْحِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى إِنَّ. وَقَوْلُهُ: (قُبِضَ) أَيْ مَاتَ (وَلَمْ يُفَسِّرْهَا لَنَا) . أَيْ تَفْسِيرًا مُفَصَّلًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا إِلَّا قَلِيلًا مَعَ اشْتِغَالِهِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ تَفْسِيرِهَا لَا سِيَّمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ وَاضِحٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ عَلَى تَفْسِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ اللَّطَائِفِ وَالدَّقَائِقِ لَكِنْ مِثْلَ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ يَفِيضُهَا اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ حَضْرَتِهِ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ بِحَيَاتِهِ وَوَارِثِيهِ وَلَوْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيِ الْآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} [البقرة: 275] الْآيَاتُ إِلَى قَوْلِهِ {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ صَرِيحَةٌ غَيْرُ مُشْتَبِهَةٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يُفَسِّرْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجْرَوْهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلَا تَرْتَابُوا فِيهَا وَاتْرُكُوا الْحِيلَةَ فِي حِلِّهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ (فَدَعُوا) أَيْ أَيُّهَا النَّاسُ (الرِّبَا وَالرِّيبَةَ) أَيْ شُبْهَةَ الرِّبَا أَوِ الشَّكَّ فِي شَيْءٍ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ أَوِ الْأَحَادِيثُ فَإِنَّ الشَّكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ رُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

2831 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَي إِلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يَرْكَبْهُ وَلَا يَقْبَلْهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ» (رَوَاهُ ابْنَ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2831 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ) أَيْ شَخْصًا (قَرْضًا) هُوَ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرُ فِي الْحَقِيقَةِ الْإِقْرَاضُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَقْرُوضِ فَيَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِأَقْرَضَ وَالْأَوَّلُ مُقَدَّرٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] (فَأَهْدَى) أَيْ ذَلِكَ الشَّخْصُ (إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى الْمُقْرِضِ شَيْئًا مِنَ الْهَدَايَا (أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ) أَيْ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ أَوْ دَابَّةِ الْمُقْرِضِ (فَلَا يَرْكَبْهُ) أَيِ الْمَرْكُوبَ وَفِي نُسْخَةٍ فَلَا يَرْكَبْهَا أَيِ الدَّابَّةَ (وَلَا يَقْبَلْهَا) أَيِ الْهَدِيَّةَ وَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ غَيْرُ مُرَتَّبٍ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي: " فَأَهْدَى " عَائِدٌ إِلَى الْمَفْعُولِ الْمُقَدَّرِ: وَالضَّمِيرُ فِي " لَا يَقْبَلْهَا " رَاجِعٌ إِلَى مَصْدَرِ أَهْدَى وَقَوْلُهُ فَأَهْدَى عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ فَلَا يَرْكَبْهُ وَلَا يَقْبَلْهَا (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) أَيِ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَالْإِهْدَاءِ (جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ) أَيْ بَيْنَ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَالْمُقْرِضِ (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيِ الْإِقْرَاضِ لِمَا وَرَدَ " كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا ". قَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ هَدِيَّةُ الْمَدْيُونِ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهَا قَبْلُ أَوْ حَدَثَ مُوجِبٌ لَهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَظِيرُهُ الْإِهْدَاءُ لِلْقَاضِي وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَوْلَى أَنْ يُثِيبَهُ بِقَدْرِ هَدِيَّتِهِ أَوْ أَكْثَرَ وَلَقَدْ بَالَغَ إِمَامُ الْمُتَوَرِّعِينَ فِي زَمَنِهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ جَاءَ إِلَى دَارِ مَدِينِهِ لِيَتَقَاضَاهُ دَيْنَهُ وَكَانَ وَقْتَ شِدَّةِ الْحَرِّ وَلِجِدَارِ تِلْكَ الدَّارِ ظِلٌّ فَوَقَفَ فِي الشَّمْسِ إِلَى أَنْ خَرَجَ الْمَدِينُ بَعْدَ أَنْ طَالَ الْإِبْطَاءُ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الشَّمْسِ صَابِرٌ عَلَى حَرِّهَا غَيْرُ مُرْتَفِقٍ بِتِلْكَ الظِّلِّ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ رِفْقٌ مِنْ جِهَةِ مَدِينِهِ، وَفِيهِ أَنَّ مَذْهَبَ ذَلِكَ الْإِمَامِ أَنَّ قَبُولَ رِفْقِ الْمَدِينِ حَرَامٌ كَالرِّبَا، وَمَذْهَبُنَا كَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إِلَّا إِنْ كَانَ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ الَّذِي وَجَبَ ذَلِكَ الدَّيْنُ بِسَبَبِهِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

2832 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلَا يَأْخُذُ هَدِيَّةً» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، هَكَذَا فِي الْمُنْتَقَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2832 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَنَسٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ أَحَدَكُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ: الرَّجُلَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (فَلَا يَأْخُذْ) أَيِ الْمُقْرِضُ مِنْ مَدِينِهِ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ النَّفْيِ (هَدِيَّةً) وَتَنْوِينُهُ لِلتَّنْكِيرِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ هَكَذَا فِي الْمُنْتَقَى) وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقٍ بِنُقْطَتَيْنِ وَالْقَافِ كِتَابٌ أَلَّفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى تَرْتِيبِ الْفِقْهِ.

2833 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَقَالَ: " «إِنَّكَ بِأَرْضٍ فِيهَا الرِّبَا فَاشٍ، فَإِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2833 - (وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَقَالَ:) أَيِ ابْنُ سَلَامٍ (إِنَّكَ بِأَرْضٍ فِيهَا الرِّبَا فَاشٍ) أَيْ كَثِيرٌ (فَإِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ) أَيْ قَدْرَ مَا يَحْمِلُهُ حِمَارٌ أَوْ بَغْلٌ مَثَلًا (أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ) . بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَشْدُودٍ بِالْحَبَلِ، وَالْقَتُّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ مِنْ أَشْرَفِ مَا يَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ يُسَمَّى الرُّطْبَةُ، وَفَى النِّهَايَةِ: الْحَبَلُ مُحَرَّكَةً مَصْدَرٌ يُسَمَّى بِهِ الْمَفْعُولُ اهـ وَفِي نُسْخَةٍ: بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيِ الْمَرْبُوطِ بِهِ (فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا خَصَّ الْهَدِيَّةَ بِمَا تُعْلَفُ بِهِ الدَّوَابُّ مُبَالِغَةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْلَفَ الدَّوَابُّ بِالْحَرَامِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

[باب المنهي عنها من البيوع]

[بَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ الْبُيُوعِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2834 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُزَابَنَةِ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلًا بِتَمْرٍ كَيْلَا وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلَا أَوْ كَانَ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ نَهَى» عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُ وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِقَوْلِهِ (مِنَ الْبُيُوعِ) فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2834 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُزَابَنَةِ» ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْمُزَابَنَةُ التَّمْرُ عَلَى الشَّجَرِ بِجِنْسِهِ مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الزَّبْنِ، وَهُوَ الدَّفْعُ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا وَقَفَ عَلَى غَبْنٍ فِيمَا اشْتَرَاهُ أَرَادَ فَسْخَ الْعَقْدِ وَأَرَادَ الْآخَرُ إِمْضَاءَهُ وَتَزَابَنَا أَيْ تَدَافَعَا وَكُلُّ وَاحِدٍ يَدْفَعُ صَاحِبَهُ عَنْ حَقِّهِ لِمَا يَزْدَادُ مِنْهُ وَخَصَّ بَيْعَ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِجِنْسِهِ بِهَذَا الِاسْمِ ; لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ وَمَا عَلَى الشَّجَرِ لَا يُحْصَرُ بِكَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُقَدَّرًا بِالْخَرْصِ وَهُوَ حَدْسٌ وَظَنٌّ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ مِنَ التَّفَاوُتِ، وَبَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ لَا بِالْكَيْلِ وَلَا بِالْوَزْنِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الرُّطَبُ عَلَى رَأْسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ. قَالَ: وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِتَمْرٍ بِكَيْلٍ مُسَمًّى إِنْ زَادَ فَلِي وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَى النَّخْلَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الرُّطَبُ عَلَى رَأْسِ النَّخْلَةِ وَيَبِيعُهُ بِالتَّمْرِ فَهُوَ الْعَرَايَا وَيَأْتِي بَحْثُهُ (أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ) أَيْ بُسْتَانَهُ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِلْمُزَابَنَةِ (وَإِنْ كَانَ) أَيِ الثَّمَرُ (نَخْلًا) أَيْ رُطَبًا أَوْ تَمْرَ نَخْلٍ (وَإِنْ كَانَ) أَيِ الثَّمَرُ (كَرْمًا) أَيْ عِنَبًا (أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشُّرُوطُ كُلُّهَا تَفْصِيلٌ لِلْبَيَانِ وَيُقَدَّرُ جَزَاءُ الشَّرْطِ الثَّانِي نَهْيٌ لِقَرِينَةِ السِّيَاقِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً وَكَذَا فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ يُقَدَّرُ فِي أَنْ يَبِيعَهُ لِقَرِينَةِ الشَّرْطِ الثَّانِي أَوْ كَانَ وَعِنْدَ مُسْلِمٌ وَإِنْ كَانَ زَرْعًا) أَيْ بَدَلٌ أَوْ كَانَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَكَانَ زَرْعًا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ زَرْعًا (أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ) بِالْإِضَافَةِ، وَالْمُرَادُ بِالطَّعَامِ الْحِنْطَةُ (نَهَى عَنْ ذَلِكَ) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ (كُلِّهِ) تَأْكِيدٌ لِشُمُولِ إِفْرَادِهِ، وَالْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ السَّابِقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا (أَيْ لِلشَّيْخَيْنِ) نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ قَالَ: وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ) أَيْ عَلَيْهَا عَلَى حَدٍّ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ (بِتَمْرٍ) مُتَعَلِّقٌ بِيُبَاعُ (بِكَيْلٍ) بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِ (مُسَمًّى) أَيْ مُعَيَّنٍ صِفَةٌ لِكَيْلٍ (إِنْ زَادَ) حَالٌ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ مِنَ الْبَائِعِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ يُبَاعُ أَيْ يَبِيعُ قَائِلًا إِنْ زَادَ. أَيِ: التَّمْرُ عَلَى ذَلِكَ الْكَيْلِ الْمُسَمَّى (فَلِي) أَيْ فَالزَّائِدُ لِي أَفْوَزُ (وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَى) أَيْ يُكْمِلُهُ لَكَ أَيُّهَا الْمُشْتَرِي.

2835 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الزَّرْعَ بِمِائَةِ فَرَقٍ حِنْطَةً، وَالْمُزَابَنَةُ: أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِمِائَةِ فَرَقٍ، وَالْمُخَابَرَةُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2835 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُخَابَرَةِ) بِالْخَاء الْمُعْجَمَةِ قِيلَ هِيَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى نَصِيبٍ مُعَيَّنٍ كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَقِيلَ إِنَّ أَصْلَ الْمُخَابَرَةِ مِنْ خَيْبَرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ مَحْصُولِهَا، فَقِيلَ خَابَرَهُمْ أَيْ عَامَلَهُمْ فِي خَيْبَرَ، وَقِيلَ: مِنَ الْخِيَارِ وَهِيَ الْأَرْضُ اللَّيِّنَةُ كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَفِي النِّهَايَةِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: «عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ فَتَرَكْنَاهَا» (وَالْمُحَاقَلَةُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ فِي الْفَالِقِ مِنَ الْحَقْلِ الْقِرَاحُ مِنَ الْأَرْضِ وَهَى الطَّيِّبَةُ التُّرْبَةِ الْخَالِصَةُ مِنْ شُرْبِ السَّبَخِ الصَّالِحَةُ لِلْأَرْضِ وَمِنْهُ حَقَلَ يَحْقُلُ إِذَا زَرَعَ، وَالْحَاقِلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ ذَلِكَ (وَالْمُزَابَنَةُ) تَقَدَّمَتْ (وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الزَّرْعَ) أَيْ بَعْدَ خُرُوجِ حَبِّهِ (بِمِائَةِ فَرَقٍ) بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَسْكِينِ الرَّاءِ وَهُوَ تَصْوِيرٌ لَا تَقْدِيرٌ (حِنْطَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ وَفِي نُسْخَةٍ بِإِضَافَةِ مَا قَبْلَهَا إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ التَّمَاثُلِ بَيْنَ الْحِنْطَةِ الْيَابِسَةِ وَالرَّطْبَةِ. فِي النِّهَايَةِ: الْفَرَقُ بِالتَّحْرِيكِ مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا. وَهَى اثْنَا عَشَرَ مُدًّا وَثَلَاثَةُ آصُعٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَفِي الْفَرَقِ خَمْسَةُ أَقْسَاطٍ وَالْقِسْطُ نِصْفُ صَاعٍ، فَأَمَّا الْفَرْقُ بِالسُّكُونِ فَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أَدْرَى مَنِ الْمُفَسِّرُ، غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: مِائَةَ فَرَقٍ حِنْطَةً كَلَامٌ سَاقِطٌ، وَكَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ التَّفْسِيرِ، وَكَانَ مَنْ حَقَّ الْبَلَاغَةِ أَنْ تَأْتِيَ بِالْمِثَالِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فِي الْعَدَدِ، فَإِنَ قَوْلَهُ بِمِائَةِ فَرَقٍ مُوهِمٌ بِأَنَّهُ إِذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ عَنِ الْمِقْدَارِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَاقَلَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رُبَّمَا يَأْتُونَ فِي الْمِثَالِ بِمَا يُصَوِّرُهُ عِنْدَ السَّامِعِ مَعَ زِيَادَةِ تَوْضِيحٍ، نَعَمْ لَوْ قَالَ بِمِائَةٍ مَثَلًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَقَالٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ (وَالْمُزَابِنَةُ أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ) أَيِ الْكَائِنَ أَوْ كَائِنًا (فِي رُءُوسِ النَّخْلِ) أَيْ عَلَيْهَا (بِمِائَةِ فَرَقٍ) أَيْ مِنَ التَّمْرِ فِي الْأَرْضِ (وَالْمُخَابَرَةُ كِرَاءُ الْأَرْضِ) أَيْ إِجَازَتُهَا (بِالثُّلُثِ) بِضَمِّهِمَا وَسُكُونِ الثَّالِثِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَالرُّبُعِ) وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْمَعْنَى أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ لِغَيْرِهِ لِيَزْرَعَهَا وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ مِنَ الزَّارِعِ لِيَأْخُذَ صَاحِبُ الْأَرْضِ رُبُعَ الْغَلَّةِ أَوْ ثُلُثَهَا، مِنَ الْخُبُرِ بِالضَّمِّ أَيِ النَّصِيبُ، وَإِنَّمَا فَسَدَ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ وَلِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً اهـ وَلَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصَحَّتْ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ وَبِهِ يُفْتَى لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2836 - وَعَنْهُ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَعَنِ الثُّنْيَا وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2836 - (وَعَنْهُ أَيْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ» ) وَقَدْ سَبَقَ مَعَانِيهَا (وَالْمُعَاوَمَةُ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَعَنِ الْمُعَاوَمَةِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعَامِ كَالْمُسَانَهَةِ مِنَ السَّنَةِ وَالْمُشَاهَرَةِ مِنَ الشَّهْرِ فِي النِّهَايَةِ هِيَ بَيْعُ ثَمَرِ النَّخْلِ أَوِ الشَّجَرِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَصَاعِدًا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ ثِمَارُهُ وَهَذَا الْبَيْعُ باطِلٌ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ فَهُو كَبَيْعِ الْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ. يُقَالُ: عَاوَمَتِ النَّخْلَةُ إِذَا حَمَلَتْ سَنَةً وَلَمْ تَحْمِلْ أُخْرَى وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعَامِ بِمَعْنَى السَّنَةِ (وَعَنِ الثُّنْيَا) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَبِالنَّتِيجَةِ اسْمٌ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْهِدَايَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «مَنِ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثَنَيَاهُ» " عَلَى وَزْنِ الدُّنْيَا أَيْ مَا اسْتَثْنَاهُ. قَالَ مُحِبُّ السُّنَّةِ: الثُّنْيَا أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطٍ وَيَسْتَثْنِي مِنْهُ جُزْءًا غَيْرَ مَعْلُومِ الْقَدْرِ فَيَفْسَدُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُقْتَضَى لِلنَّبِيِّ فِيهِ إِفْضَاؤُهُ إِلَى جَهَالَةِ قَدْرِ الْمَبِيعِ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ لَوْ قَالَ بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ إِلَّا صَاعًا وَكَانَتْ مَجْهُولَةَ الصِّيعَانِ فَسَدَ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ خَرَّجَ الْمَبِيعَ عَنْ كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ عِيَانًا أَوْ تَقْدِيرًا أَمَّا لَوْ بَاعَهَا وَاسْتَثْنَى مِنْهَا سَهْمًا مُعَيَّنًا كَالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ صَحَّ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بقَدْرِهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ (وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا) جَمْعُ عَرَيَّةٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فِي الْفَالِقِ الْعَرِيَّةُ النَّخْلَةُ الَّتِي يُعَرِّيهَا الرَّجُلُ مُحْتَاجًا أَيْ يَجْعَلُ لَهُ ثَمَرَتَهَا فَرَخَّصَ لِلْمُعَرِّي أَنْ يَبْتَاعَ ثَمَرَتَهَا لِثَمَرٍ لِمَوْضِعِ حَاجَتِهِ مِنَ الْمُعَرِّي سُمِّيَتْ عَرِيَّةً لِأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَ

ثَمَرُهَا فَكَأَنَّهُ جَرَّدَهَا مِنَ الثَّمَرَةِ وَعَرَّاهَا مِنْهَا ثُمَّ اشْتُقَّ مِنْهَا الْإِعْرَاءُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْعَرِيَّةَ أَنْ يَخْرُصَ الْخَارِصُ نَخَلَاتٍ يَقُولُ هَذَا الرُّطَبَ إِذَا يَبِسَ يَحْصُلُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ مَثَلًا فَيَبِيعُهُ لِغَيْرِهِ بِثَلَاثَةِ أَوْسُقٍ تَمْرًا وَيَتَقَابَضَانِ فِي الْمَجْلِسِ فَيُسَلِّمُ الْمُشْتَرَى الثَّمَرَ وَيُسَلِّمُ الْبَائِعُ النَّخْلَ، وَهَذَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَفِي جَوَازِهِ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَجَاءَ فِي الْعَرَايَا رُخْصَةٌ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ لِلْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَفَى غَيْرِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ مِنَ الثِّمَارِ وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْفُقَرَاءِ اهـ. رُوِيَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمَدِينَةِ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ نَهَيْتَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَنَشْتَرِي الرُّطَبَ وَنَشْتَهِيهِ، فَرَخَصَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَكَانُوا يَشْتَرُونَ الرُّطَبَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ثَمَرٍ بَقِيَ مِنْ قُوتِ سَنَتِهِمْ. لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2837 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالثَّمَرِ إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2837 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ (قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ» ) بِالْمُثَلَّثَةِ أَيِ الرُّطَبِ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ (بِالتَّمْرِ) بِالْفَوْقِيَّةِ هَكَذَا ضُبِطَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ بِالْمُثَلَّثَةِ فِي الْأَوَّلِ وَبِالْفَوْقَانِيَّتَيْنِ فِي الثَّانِي، وَكَذَا ضَبَطَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْأَوَّلُ بِالْمُثَنَّاةِ وَالثَّانِي بِالْمُثَلَّثَةِ وَعَكْسَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (إِلَّا أَنَّهُ رَخَصَّ فِي الْعَرِيَّةِ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مِنَ التَّعَرِّي وَهُوَ التَّجَرُّدُ وَهِيَ لُغَةً النَّخْلَةُ فَعْلِيَّةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهَا عَرِيَتْ بِإِعْرَاءِ مَالِكِهَا عَنْ بَاقِي النَّخْلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا يُشْعِرُ بَأَنَّ الْعَرَايَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْمُزَابَنَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ هُوَ الْمُزَابَنَةُ قَالَ الْقَاضِي: الْعَرِيَّةُ فَعِلِيَّةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَالتَّاءُ فِيهَا لِنَقْلِ اللَّفْظِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ فَنُقِلَ مِنْهَا إِلَى الْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَيْهَا الْمُتَضَمِّنِ لِإِعْرَائِهَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: سُمِّيَتْ عَرِيَّةً لِأَنَّهَا عَرِيَتْ مِنْ جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ أَيْ خَرَجَتْ فَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ وَقِيلَ لِأَنَّهَا عَرِيَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَائِطِ بِالْخَرْصِ وَالْبَيْعِ فَعَرِيَتْ عَنْهَا أَيْ خَرَجَتْ (أَنْ تُبَاعَ) أَيِ الْعَرِيَّةُ يَعْنِي مَا عَلَيْهَا مِنَ الرُّطَبِ (بِخَرْصِهَا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ بِقَدْرِهَا يَعْنِي بِمَخْرُوصِهَا كَيْلًا حَالَ كَوْنِ الْمَخْرُوصِ (تَمْرًا) يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْرًا تَمْيِيزًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً يُؤَيدُهُ قَوْلُهُ: (يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا) فَإِنَّ رُطَبًا حَالٌ وَهَذَا غَيْرُ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: الْحَالُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًا إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مُؤَوَّلًا لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا هُوَ الْوَصْفُ لَا الذَّاتُ وَإِلَّا كَانَ الْإِبْدَالُ عَبَثًا اهـ وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ تَمْرًا تَمْيِيزًا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ. الْخَرْصُ وَالْحَزْرُ وَالِاسْمُ بِالْكَسْرِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَفِي الْمَشَارِقِ: الْخِرْصُ بِالْكَسْرِ اسْمُ الشَّيْءِ الْمُقَدَّرِ وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْفِعْلِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: الْخِرْصُ وَالْخَرْصُ لُغَتَانِ فِي الشَّيْءِ الْمَخْرُوصِ. وَفَى حَاشِيَةِ الزَّرْكَشِيِّ: قَالَ النَّوَوِيُّ: بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ. وَقَالَ الْقُرَبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرِّوَايَةُ بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ الشَّيْءِ الْمَخْرُوصِ، وَمَنْ فَتَحَ جَعَلَهُ اسْمَ الْفِعْلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2838 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» شَكَّ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2838 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْخَصَ) وَفِي نُسْخَةٍ رَخَّصَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ جَوَّزَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعَزِيمَةِ (فِي بَيْعِ الْعَرَايَا) أَيْ ثَمَرِهَا (بِخَرْصِهَا) أَيْ بِسَبَبِ حَزْرِهَا وَتَخْمِينِهَا (مِنَ التَّمْرِ) مَظَاهِرٌ أَنَّ مِنْ بَيَانِيَّةٌ تَمْيِيزٌ لِلْمَخْرُوصِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِبَيْعِ الْعَرَايَا، وَالْبَاءُ فِي بِخَرْصِهَا لِنِسْبِيَّةٍ أَيْ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ رُطَبِهَا مِنَ التَّمْرِ بِوَاسِطَةِ خَرْصِهَا (فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) جَمْعُ وَسْقٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا وَالصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ بِالْبَغْدَادِيِّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ (أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِأَقَلَّ وَهُوَ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَقٍ فَيَبْقَى الْخَمْسَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا كَمَا سَبَقَ (شَكَّ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ) شَيْخُ مَالِكٍ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَقِيلَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَقِيلَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2839 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِي» . مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2839 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ» ) بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ ثَمَرٍ بِفَتْحَتَيْنِ (حَتَّى يَبْدُوَ) بِضَمِّ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ أَيْ يَظْهَرَ (صَلَاحُهَا) وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ كَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ عَلَى الشَّجَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ، يُرْوَى فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ هَلَاكِ الثِّمَارِ بِوُرُودِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا لِصِغَرِهَا وَضَعْفِهَا وَإِذَا تَلِفَتَ لَا يَبْقَى لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ (نَهَى الْبَائِعَ) أَيْ عَنْ هَذَا الْبَيْعِ كَيْلَا يَكُونَ أَخْذَ مَالِ الْمُشْتَرِي بِلَا مُقَابَلَةِ شَيْءٍ (وَالْمُشْتَرِي) أَيْ عَنْ هَذَا الشِّرَاءِ كَيْلَا يَتْلَفَ ثَمَنُهُ بِتَقْدِيرِ تَلَفِ الثِّمَارِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ) أَيْ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَرِ (حَتَّى تَزْهُوَ) بِالتَّأْنِيثِ لِأَنَّ النَّخْلَ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ. قَالَ - تَعَالَى - {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وَ {نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] مِنْ زَهَا النَّخْلُ إِذَا ظَهَرَتْ ثَمَرَتُهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَكَذَا يُرْوَى وَالصَّوَابُ فِي الْعَرَبِيَّةِ تَزْهَى مَنْ أَزْهَى النَّخْلُ احْمَرَّ وَاصْفَرَّ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الصَّلَاحِ فِيهِ وَخَلَاصِهِ مِنَ الْآفَةِ اهـ وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي اللُّغَةِ: زَهَتِ النَّخْلُ وَأَزْهَتْ فَفِي الْقَامُوسِ زَهَا النَّخْلُ طَالَ كَأَزْهَى وَالْبُسْرُ تَلَوَّنَ كَأَزْهَى وَزَهَى كَعَنَى وَكَدَعَا قَلِيلَةً (وَعَنِ السُّنْبُلِ) جِنْسٌ مُفْرَدُهُ سُنْبُلَةٌ أَيْ وَنَهَى عَنْ بَيْعِ حَبِّهِ (حَتَّى يَبْيَضَّ) بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَشْتَدُّ حَبُّهُ (وَيَأْمَنُ الْعَاهَةَ) أَيِ الْآفَةَ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ بَابِ عَطْفِ التَّفْسِيرِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ جَوَازُ بِيْعِ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ وَبِهِ قُلْنَا تَشْبِيهًا بِالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ يُبَاعَانِ فِي قِشْرِهِمَا.

2840 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: " «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الْهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهَى. قِيلَ: وَمَا تَزْهَى؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ. وَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2840 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهَى» ) مِنْ أَزْهَى (قِيلَ وَمَا تَزْهَى) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَفَى نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ مَا مَعْنَى قَوْلِكَ حَتَّى تَزْهَى أَوْ مِنْ بَابِ تَسْمَعَ بِالْمُعَيْدِيِّ، أَيْ قِيلَ مَا الزَّهْوُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ لِقَوْلِهِ (قَالَ) أَيْ فِي الْجَوَابِ (حَتَّى تَحْمَرَّ وَقَالَ) أَيْ أَيْضًا إِشَارَةً إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ وَالْحِكْمَةِ رَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ (أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ بِالْخِطَابِ الْعَامِّ (إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ) أَيْ بِإِرْسَالِ الْآفَةِ عَلَيْهَا وَإِيصَالِ الْعَاهَةِ لُبَّهَا (بِمَ يَأْخُذُ) حُذِفَ أَلِفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ أَيْ كَيْفَ بِأَيِّ وَجْهٍ وَبِمُقَابَلَةِ أَيِّ شَيْءٍ يَأْخُذُ (أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ) أَيْ مِنْ ثَمَّ الْمُشْتَرِي اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَيْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَالْمَعْنَى لَا يَحِلُّ أَحَدٌ مَا هُنَالِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2841 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَأَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2841 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ» ) بِكَسْرِ السِّينِ جَمْعُ السَّنَةِ بِفَتْحِهَا أَيِ الْمُعَاوَمَةُ وَقَدْ مَرَّتْ وَالْمُرَادُ بَيْعُ مَا تَحْمِلُهُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ مَثَلًا سَنَةً فَأَكْثَرَ (وَأَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ جَائِحَةٍ وَهِيَ الْآفَةُ الْمُسْتَأْصِلَةُ تُصِيبُ الثِّمَارَ وَنَحْوَهَا بَعْدَ الزَّهْوِ فَتُهْلِكُهَا بِأَنْ يَتْرُكَ الْبَائِعُ ثَمَنَ مَا يَتْلَفُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا أَمْرُ نَدْبٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِأَنَ مَا أَصَابَ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَهُوَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي خِلَافًا لِمَالِكٍ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هَذَا فِي الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ وَحُكْمُهَا إِلَي الْإِمَامِ لِوَضْعِ الْجَوَائِحِ عَنْهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بِبَقَاءِ الْعِمَارَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2842 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ» ؟ ". رُوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2842 - وَعَنْهُ أَيْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا) بِالْمُثَلَّثَةِ (فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِنْ كَانَ التَّلَفُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَالْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَكَ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فَلَا يَحِلُّ جَوَابُ لَوْ فِيمَا يُتَمَحَلُّ وَيُقَالُ أَنَّ لَوْ بِمَعْنَى إِنْ وَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ الْجَوَابُ وَفَلَا يَحِلُّ عَطْفٌ عَلَيْهِ أَيْ لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَهَلَكَ لَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا فَلَا يَحِلُّ لَكَ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّقْرِيرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر: 9] (بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الْحَقُّ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ مَعَ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا قَبْلَ الزَّهْوِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2843 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِي أَعْلَى السُّوقِ فَيَبِيعُونَهُ فِي مَكَانٍ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِهِ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقِلُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2843 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانُوا) أَيِ النَّاسُ (يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ) أَيْ يَشْتَرُونَهُ (فِي أَعْلَى السُّوقِ) أَيْ فِي النَّاصِيَةِ الْعُلْيَا مِنْهَا فَيَبِيعُونَهُ) أَيِ الطَّعَامَ (فِي مَكَانِهِ) أَيْ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مَا تُفِيدُهُ الْفَاءُ التَّعْقِيبِيَّةُ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي (فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِهِ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقِلُوهُ) فَإِنَّ الْقَبْضَ فِيهِ بِالنَّقْلِ عَنْ مَكَانِهِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِيهِ أَنَّ قَبْضَ الْمَنْقُولِ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ) أَيْ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْبَغَوِيِّ.

2844 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2844 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا) أَيِ اشْتَرَاهُ (فَلَا يَبِيعُهُ) نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ (حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ) أَيْ يَقْبِضَهُ وَافِيًا كَامِلًا وَزْنًا أَوْ كَيْلًا.

2845 - وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَتَّى يَصِلَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2845 - (وَفَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى يَكْتَالَهُ) أَيْ يَأْخُذَهُ بِالْكَيْلِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا مُكَايَلَةً فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الشِّرَاءَ بِالْمُكَايَلَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَازَفَةً لَا يُشْتَرَطُ الْكَيْلُ وَفُهِمَ مِنْ قَيْدِ الِاشْتِرَاءِ أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْمَكِيلَ بِهِبَةٍ أَوِ إِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْكَيْلِ وَمِنْ قَوْلِهِ " فَلَا يَبِعْهُ " أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ جَازَا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْكَيْلِ لَأَنَّ الْكَيْلَ فِيمَا بِيعَ مُكَايَلَةً مِنْ تَمَامِ قَبْضِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِهِ، فَكَمَا أَنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ مَنْهِيًّا صَارَ قَبْلَ تَمَامِهِ مَنْهِيًّا أَيْضًا، وَاسْتَدَلَّ بَعْضٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ كَالَهُ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرَى كِيلَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا ذَكَرْتَ مُخَالِفٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» . قُلْتُ: الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى اجْتِمَاعِ الصَّفْقَتَيْنِ فِي بَابِ السَّلَمِ وَهُوَ مَا إِذَا اشْتَرَى الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَيِ الْبَائِعُ مِنْ رَجُلٍ كَذَا كَيْلًا وَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ أَيِ الْمُشْتَرِي بِقَبْضِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِصَاعَيْنِ لِاجْتِمَاعِ الصَّفْقَتَيْنِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ أَحَدُهُمَا شِرَاءُ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ وَثَانِيهُمَا قَبْضُ رَبِّ السَّلَمِ وَهُوَ كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2846 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَمَّا الَّذِي «نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ» " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2846 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الطَّعَامُ) أَيْ جِنْسُ الْحُبُوبِ (أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَا أَحْسِبُ) بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ لَا أَظُنُّ (كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ) أَيْ مِثْلَ الطَّعَامِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2847 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَلَقُّوُا الرُّكْبَانَ لِبَيْعٍ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمِنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظِرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ لَا سَمْرَاءَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2847 - (وَعَنْ) أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا تَلَقَّوُا) بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ وَالْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَقْفًا وَضَمِّهَا وَصْلًا، وَأَصْلُهُ لَا تَتَلَقَّوُا (الرُّكْبَانَ) بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ رَاكِبٍ أَيِ الْقَافِلَةَ (لِبَيْعٍ) أَيْ لِأَجْلِ بَيْعٍ وَالْمَعْنَى إِذَا وَقَعَ الْخَبَرُ بِقُدُومِ قَافِلَةٍ فَلَا تَسْتَقْبِلُوهَا لِتَشْتَرُوا مِنْ مَتَاعِهَا أَرْخَصَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِمُوا السُّوقَ وَيَعْرِفُوا سِعْرَ الْبَلَدِ نَهَى عَنْهُ لِلْخَدِيعَةِ وَالضَّرَرِ (وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ) بِأَنْ تَقُولَ لِمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا بِالْخِيَارِ: افْسَخْ هَذَا الْبَيْعَ وَأَنَا أَبَيِعُكَ مِثْلَهُ بِأَرْخَصَ مِنْ ثَمَنِهِ أَوْ أَجْوَدَ مِنْهُ بِثَمَنِهِ. قِيلَ: النَّهْيُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَيْبٌ فَإِذَا كَانَ فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الْفَسْخِ لِيَبِيعَ مِنْهُ بِأَرْخَصَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ (وَلَا تَنَاجَشُوا) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالنَّجْشُ هُوَ الزِّيَادَةُ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ فِيهَا لِتَخْدِيعِ الْمُشْتَرِي وَتَرْغِيبِهِ وَنَفْعِ صَاحِبِهَا (وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ) أَيْ بَلَدِيٌّ (لِبَادٍ) أَيْ لِبَدَوِيٍّ كَمَا إِذَا جَاءَ الْبَدَوِيُّ بِطَعَامٍ إِلَى بَلَدٍ لِيَبِيعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ وَيَرْجِعَ فَيَتَوَكَّلُ الْبَلَدِيُّ عَنْهُ لِيَبِيعَهُ بِالسِّعْرِ الْغَالِي عَلَى التَّدْرِيجِ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِأَنَّ فِيهِ سَدَّ بَابِ الْمَرَافِقِ عَلَى ذَوِيِ الْبِيَاعَاتِ ( «وَلَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ» ) بِضَمِّ التَّاءِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ بِوَزْنِ تُزَكُّوا وقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَانِيهِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ اهـ وَهُوَ مَنْ صَرَيْتُ الشَّاةَ (إِذَا لَمْ تَحْلِبْهَا أَيَّامًا حَتَّى اجْتَمَعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنَ التَّصْرِيَةِ وَهِيَ أَنْ يُشَدَّ الضَّرْعُ قَبْلَ الْبَيْعِ أَيَّامًا لِيَظُنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا لَبُونٌ فَيَزِيدُ فِي الثَّمَنِ وَالنَّهْيُ لِلْخِدَاعِ (فَمَنِ ابْتَاعَهَا) أَيِ اشْتَرَى الْإِبِلَ أَوِ الْغَنَمَ الْمُصَرَّاةَ (بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّصْرِيَةِ (فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظِرَيْنِ) أَيْ مِنَ الْإِمْسَاكِ وَالرَّدِّ (بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا) بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ فَهُوَ مُخَيَّرٌ (إِنْ رَضِيَهَا) أَيْ أَحَبَّهَا وَأَعْجَبَهَا (أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ كَرِهَهَا (رَدَّهَا وَصَاعًا) أَيْ مَعَ صَاعٍ (مَنْ تَمْرٍ) أَيْ عِوَضًا عَنْ لَبَنِهَا لِأَنَّ بَعْضَ اللَّبَنِ حَدَثَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَبَعْضَهُ كَانَ مَبِيعًا، فَلِعَدَمِ تَمَيُّزِهِ امْتَنَعَ رَدُّهُ وَرَدَّ قِيمَتَهُ، فَأَوْجَبَ الشَّارِعُ صَاعًا قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ مِنْ كُلِّ نَظَرٍ إِلَى قِلَّةِ اللَّبَنِ وَكَثْرَتِهِ كَمَا جَعَلَ دِيَةَ النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ مَعَ تَفَاوُتِ الْأَنْفُسِ، وَعَمِلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْحَدِيثِ وَأَثْبَتَ الْخِيَارَ فِي الْمُصَرَّاةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا خِيَارِ فِيهَا، وَالْحَدِيثُ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَهُوَ إِيجَابُ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْعَيْنِ أَوْ يُقَالُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِأَنْ جُوِّزَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَمْثَالَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ. كَذَا فِي السِّيَرِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ) أَيْ تَمْرٍ (لَا سَمْرَاءَ) أَيْ لَا حِنْطَةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُ التَّمْرِ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ لِأَنَّ طَعَامَهُمْ كَانَ التَّمْرَ وَاللَّبَنَ غَالِبًا، فَأَقَامَ التَّمْرَ مَقَامَ اللَّبَنِ لِذَلِكَ قِيلَ: وَيَجُوزُ غَيْرُهُ بِرِضَا الْبَائِعِ، فَكَأَنَّهُ اسْتَبْدَلَ عَنْ حَقِّهِ.

2848 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2848 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ الْمَجْلُوبَ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ وَعَبْدٍ يُجَلَبُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ لِلتِّجَارَةِ (فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ) أَيْ صَاحِبُ الْجَلَبِ السُّوقَ أَيْ وَعَرَفَ السِّعْرَ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ) أَيْ فِي الِاسْتِيرَادِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ إِذِ الْفَاسِدُ لَا خِيَارَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَّا إِذَا كَانَ سِعْرُهُ أَعْلَى أَوْ كَسِعْرِ الْبَلَدِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: فِي وَجْهٍ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ لِعَدَمِ الْغَبْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2849 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2849 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا تَلَقَّوُا السِّلَعَ " بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ السِّلْعَةِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَهِيَ الْمَتَاعُ وَمَا يُتَّجَرُ بِهِ (حَتَّى يُهْبَطَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُنْزَلَ (بِهَا إِلَى السُّوقِ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَّةِ وَالْمَعْنَى حَتَّى يُسْقِطَهَا عَنْ ظَهْرِ الدَّوَابِّ فِي السُّوقِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2850 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطِبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2850 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَبْعِ الرَّجُلُ) بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَفِي نُسْخَةٍ يَبِيعُ بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَالْمُرَادُ الرَّجُلُ " عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطِبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِلَّا يَأْذَنَ لَهُ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ. بِالرَّجُلِ الشَّخْصِ الشَّامِلِ لِلْمَرْأَةِ (عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ) بِأَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَيَزِيدَ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فَإِطْلَاقُ الْبَيْعِ مَجَازٌ أَوَّلٌ يُرَادُ بِهِ السَّوْمُ (وَلَا يَخْطِبْ) بِالْجَزْمِ، وَنُسْخَةٌ بِالرَّفْعِ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرِّوَايَةُ بِرَفْعِ يَبِيعُ وَيَخْطِبُ فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ (عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ بَعْدَ التَّوَافُقِ عَلَى الصَّدَاقِ (إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ) أَيْ أَخُوهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْحُكْمَيْنِ أَوِ الْأَخِيرِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2851 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَسُمِ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2851 - (وَعَنْ) أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا يَسُمِ الرَّجُلُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ السِّينِ وَجَزْمِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَصْلًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَالْمُسَاوَمَةُ الْمُحَادَثَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ. وَلَكِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ (الْمُسْلِمِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَا الذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَذَكَرَ الْأَخَ الْمُسْلِمَ لِلرِّقَّةِ لَا لِلتَّقْيِيدِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2852 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2852 - (وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:، لَا يَبِيعُ) بِصِيغَةِ النَّفْيِ (حَاضِرٌ لِبَادٍ) أَيْ بَلَدِيٌّ لِبَدَوِيٍّ (دَعُوا النَّاسَ) أَيِ اتْرُكُوهُمْ لِيَبِيعُوا مَتَاعَهُمْ رَخِيصًا (يَرْزُقُ اللَّهُ) بِكَسْرِ الْقَافِ عَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، وَبِضَمِّهَا عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ (بعَضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2853 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ، نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ» . وَالْمُلَابَسَةُ: لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ وَبِالنَّهَارِ وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَالْمُنَابَذَةُ: أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ بِثَوْبِهِ وَيَنْبِذَ الْآخَرُ ثَوْبَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَرَاضٍ وَاللِّبْسَتَيْنِ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ، وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُوَ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاللِّبْسَةُ الْأُخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2853 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لِبْسَتَيْنِ) بِكَسْرِ اللَّامِ (وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِعَادَةِ الْجَارِّ لِإِفَادَةِ أَنَّ النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ (نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ) تِبْيَانٌ لِبَيْعَتَيْنِ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ. وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ) بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (وَلَا يَقْبَلُهُ) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ لَا يَقْبَلُ الرَّجُلُ الثَّوْبَ (إِلَّا بِذَلِكَ) أَيْ لَا يَلْمِسُهُ إِلَّا بِسَبَبِ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا إِيجَابٌ وَقَبُولٌ فِي اللَّفْظِ وَلَا تَعَاطٍ فِي الْفِعْلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَيْسَ قَلْبُهُ لِلثَّوْبِ إِلَّا بِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ أَيْ حَقُّهُ أَنْ يَقْلِبَهُ وَقَدِ اكْتَفَى بِاللَّمْسِ (وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَضُبِطَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِضَمِّهَا بِالْحُمْرَةِ وَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ لِمُخَالَفَتِهِ كُتُبَ اللُّغَةِ (إِلَى الرَّجُلِ بِثَوْبِهِ) أَيْ يُلْقِيَهُ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ (وَيَنْبِذَ الْآخَرُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ (ثَوْبَهُ) بِلَا بَاءٍ

(وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ) أَيْ نَبْذِ كُلٍّ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إِلَى آخَرَ (بَيْعَهُمَا) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْخَبَرُ (عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ) وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ أَيْ بِالْبَصَرِ مَنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثَوْبَ الْآخَرِ وَقِيلَ بِلَا تَأَمُّلٍ وَتَفَكُّرٍ (وَلَا تَرَاضٍ) أَيْ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَوْ بِالتَّعَاطِي وَزِيَادَةُ لَا لِلتَّأْكِيدِ (وَاللِّبْسَتَيْنِ) بِالْيَاءِ عَلَى الْحِكَايَةِ وَرُوِيَ وَاللِّبْسَتَانِ عَلَى الْأَصْلِ (اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ مَمْدُودَةٍ (وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُوَ) أَيْ يَظْهَرُ (أَحَدُ شِقَّيْهِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ جَانِبَيْهِ (لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (وَاللِّبْسَةُ الْأُخْرَى) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ خَبَرُهُ قَوْلُهُ (احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ جَالِسٌ) حَالٌ وَكَذَا (لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ) أَيْ عَلَى عَوْرَتِهِ الشَّامِلَةِ لِفَخِذِهِ (مِنْهُ) أَيْ مِنَ الثَّوْبِ (شَيْءٌ) أَيْ مِمَّا يَسْتُرُهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2854 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2854 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ) بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: إِذَا نَبَذْتُ إِلَيْكَ الْحَصَاةَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، أَوْ يَقُولُ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ مِنَ السِّلَعِ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ حَصَاتُكَ إِذَا رَمَيْتَ بِهَا أَوْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى حَيْثُ تَنْتَهِي حَصَاتُكَ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ (وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْأُولَى أَيْ مَا لَا يُعْلَمُ عَاقِبَتُهُ مِنَ الْخَطَرِ الَّذِي لَا يُدْرى أَيَكُونُ أَمْ لَا كَبَيْعِ الْآبِقِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالْغَائِبِ الْمَجْهُولِ، وَمُجْمَلُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا أَوْ مَعْجُوزًا عَنْهُ مِمَّا انْطَوَى بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ الثَّوْبِ أَيْ طَيِّهِ أَوْ مِنَ الْغِرَّةِ بِالْكَسْرِ أَيِ الْغَفْلَةِ أَوْ مِنَ الْغُرُورِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا بَيْعٌ فَاسِدٌ لِلْجَهْلِ بِالْمَبِيعِ وَالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِهِ اهـ وَالْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَاحِدٌ، وَتَحْرِيرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعِوَضَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُونَا قَابِلَيْنِ لِلْبَيْعِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَا قَابِلَيْنِ لَكِنِ اشْتَمَلَا عَلَى مُقْتَضَى عَدَمِ الصِّحَّةِ كَالرِّبَا فَفَاسِدٌ وَيُفِيدُ بِالْقَبْضِ الْمِلْكَ الْخَبِيثَ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ قَابِلٍ فَقَطْ أَوِ الثَّمَنُ غَيْرَ قَابِلٍ فَقَطْ، وَالصَّحِيحُ إِلْحَاقُ الْأَوَّلِ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالثَّانِي. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

2855 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ» ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتِجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتِجَ الَّتِي فِي بَطْنِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2855 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ) بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا مَصْدَرٌ سُمِّي بِهِ الْمَجْهُولُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْإِشْعَارِ بِالْأُنُوثَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَبِيعَ مَا سَوْفَ يَحْمِلُهُ الْجَنِينُ الَّذِي فِي بَطْنِ النَّاقَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيلَ مَعْنَاهُ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ إِلَى أَنْ يَحْبَلَ مَا فِي بَطْنِ النَّاقَةِ وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ الرَّاوِيَ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ إِذَا وَلَدَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ فَقَدْ بَاعَهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ فَهُوَ بَيْعٌ مَعْدُومٌ وَالْأَوَّلُ تَأْجِيلٌ إِلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ (وَكَانَ) أَيْ هَذَا الْبَيْعُ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى نَهَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ نَهَى عَنْ بَيْعٍ كَانَ (بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ) أَيْ يَشْتَرِي الْبَعِيرَ (إِلَى أَنْ تُنْتِجَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ التَّاءِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ أَيْ تَلِدُ (النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتِجَ) بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الضَّبْطَيْنِ (الَّتِي فِي بَطْنِهَا) أَيْ وَلَدِهَا، وَهَذَا الْبَيْعُ وَنَظَائِرُهُ دَاخِلٌ فِي بَيْعِ الْغَرَرِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَنْ بَيَاعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَى الْجُمْلَةَ الْأُولَى أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ أَيْضًا.

2856 - وَعَنْهُ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2856 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ أَيْ كِرَاءِ ضِرَابِهِ وَأُجْرَةِ مَائِهِ نَهَى عَنْهُ لِلْغَرَرِ لِأَنَّ الْفَحْلَ قَدْ يَضْرِبُ وَقَدْ لَا يَضْرِبُ وَقَدْ لَا يُلَقِّحُ الْأُنْثَى وَبِهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى تَحْرِيمِهِ وَأَمَّا الْإِعَارَةُ فَمَنْدُوبٌ ثُمَّ لَوْ أَكْرَمَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِشَيْءٍ جَازَ قَبُولُ كَرَامَتِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ.

2857 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَاءِ وَالْأَرْضِ لِتُحْرَثَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2857 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ) بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَأَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا (وَعَنْ بَيْعِ الْمَاءِ وَالْأَرْضِ لِتُحْرَثَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لِتُزْرَعَ بِأَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ وَالْمَاءَ الَّذِي لِتِلْكَ الْأَرْضِ أَحَدًا لِيَكُونَ مِنْهُ الْأَرْضُ وَالْمَاءُ وَمِنَ الْآخَرِ الْبَذْرُ وَالْحِرَاثَةُ لِيَأْخُذَ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْضَ الْخُرُوجِ مِنَ الْحُبُوبِ وَهِيَ الْمُخَابَرَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

2858 - وَعَنْهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2858 - (وَعَنْهُ) عَنْ جَابِرٍ (قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ) أَيْ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَهُ أَوْ يَسْقِيَهُ دَابَّتَهُ فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهُ الزَّرْعَ أَوِ النَّخْلَ جَازَ لِصَاحِبِ الْمَاءِ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ إِلَّا بِعِوَضٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى الْإِمِامُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدٍ.

2859 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُبَاعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُبَاعَ بِهِ الْكَلَامُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2859 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُبَاعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُبَاعَ بِهِ) أَيْ بِسَبَبِ بَيْعِهِ (الْكَلَأُ) بِفَتْحَتَيْنِ مَقْصُورًا فَفِي الْقَامُوسِ الْكَلَا كَجَبَلٍ الْعُشْبُ رَطْبُهُ وَيَابِسُهُ، أَيْ لَا يَبِعْ ذُو بِئْرٍ مَا فَضَلَ مِنْ مَائِهَا عَنْ حَاجَتِهِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي يَشْتَدُّ بِذَلِكَ الْمَاءِ حِينَئِذٍ عَلَى أَصْحَابِ الْمَوَاشِي الْمُحْتَاجَةِ إِلَى الرَّعْيِ فِي كَلَأِ تِلْكَ الْأَرْضِ فَيَضْطَرُّهُمْ ذَلِكَ إِلَى شِرَاءِ الْمَاءِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْكَلَأِ بَأَنْ يَتَجَاوَزَ ظُلْمَ ذِي الْمَاءِ إِلَى أَنْ لَا يُمَكِّنَهُمْ مِنْهُ حَتَّى يَشْتَرُوا الْمَاءَ وَالْكَلَأَ مُبَالَغَةً فِي الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي أَوْ أَنَّهُ نَزَّلَ شِرَاءَ الْمَاءِ مَنْزِلَةَ شِرَاءِ الْكَلَأِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ مَا بَذَلَهُ أَهْلُ الْمَاشِيَةِ مِنَ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَاءِ إِنَّمَا هُوَ لِيَتَمَكَّنَ مَوَاشِيهُمْ مِنَ الشُّرْبِ فَيَتَمَكَّنَ مِنَ الرَّعْيِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَأْوِيلُهُ أَنَّ رَجُلًا إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مَرَّاتٍ فَيَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ فَإِذَا قَوْمٌ يَنْزِلُونَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لِلْمَوَاتِ وَيَرْعُونَ نَبَاتَهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ مَاءٌ إِلَّا تِلْكَ الْبِئْرَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ الْقَوْمَ مِنْ شُرْبِ ذَلِكَ الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُمْ مِنْهُ لَا يُمْكِنُهُمْ رَعْيُ ذَلِكَ فَكَانَ مَنْعُهُمْ عَنْهُ عِنَادًا وَذَا لَا يَجُوزُ، فَالْمَعْنَى لَا يُبَاعُ مَا فَضَلَ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْبِئْرِ لِيَصِيرَ بِهِ كَالْبَائِعِ لَلْكَلَأِ لِأَنَّ الْوَارِدَ حَوْلَ مَا أُعِدَّ لِلرَّعْيِ إِذَا مَنَعَهُ عَنْ عَمَلِ الْوُرُودِ إِلَّا بِعِوَضٍ اضْطُرَّ إِلَى شِرَائِهِ فَيَصِيرُ كَمَنِ اشْتَرَى الْكَلَأَ لِأَجْلِ الْمِلْكِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَبِيعُ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَكُونَ الْقَصْدُ فِي بَيْعِهِ وَعَدَمِ بَذْلِهِ بَيْعَ الْكَلَأِ الْحَاصِلِ بِهِ، ثُمَّ قِيلَ: هَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ وَقِيلَ لِلتَّنْزِيهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي نُسْخَةٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وِيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

2860 - وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: " مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2860 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ) بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ مَا جُمِعَ مِنَ الطَّعَامِ بِلَا كَيْلٍ وَوَزْنٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُرَادُ بِالطَّعَامِ جِنْسُ الْحُبُوبِ الْمَأْكُولِ (فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا) أَيْ فِي الصُّبْرَةِ (فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ) أَيْ أَدْرَكَتْ (بَلَلًا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَاللَّامِ (فَقَالَ مَا هَذَا) أَيِ الْبَلَلُ الْمُنْبِئُ غَالِبًا عَلَى الْغِشِّ مِنْ غَيْرِهِ (يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ) أَيْ بَائِعَهُ (قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ) أَيِ الْمَطَرُ لِأَنَّهَا مَكَانُهُ وَهُوَ نَازِلٌ مِنْهَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا (يَا رَسُولَ اللَّهِ) اعْتِرَافٌ بِالْإِيمَانِ وَإِقْرَارٌ بِالْإِذْعَانِ (قَالَ أَفَلَا جَعَلْتَهُ) قَالَ أَسَتَرْتَ عَيْنَهُ أَفَلَا جَعَلْتَ الْبَلَلَ (فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ) فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْتَحِنَ بَضَائِعَ السُّوقَةِ لِيَعْرِفَ الْمُشْتَمِلَ مِنْهَا عَلَى الْغِشِّ مِنْ غَيْرِهِ. (مَنْ غَشَّ) أَيْ خَانَ وَهُوَ ضِدُّ النُّصْحِ (فَلَيْسَ مِنِّي) أَيْ لَيْسَ هُوَ عَلَى سُنَّتِي وَطَرِيقَتِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنِ اتِّصَالِيَّةٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ بِلَفْظِ " «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا» " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ " «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ» ".

2861 - (الْفَصْلُ الثَّانِي) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الثُّنْيَا إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2861 - (الْفَصْلُ الثَّانِي) (عَنْ جَابِرٍ قَالَ إِنَّ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الثُّنْيَا) أَيِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا أَفْضَتْ إِلَى الْجَهَالَةِ (إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ) أَيْ مِقْدَارُهُ كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مَثَلًا وَقَدْ سَبَقَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الثُّنْيَا بِيعُ ثَمَرِ حَائِطٍ مَثَلًا وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ جُزْءٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَسَبَبُ الْبُطْلَانِ مَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ بِالْجَهْلِ بِالْمَبْلَغِ، وَمِنْ ثَمَّ لَوِ اسْتَثْنَى جُزْءًا شَائِعًا مَعْلُومًا كَالرُّبُعِ أَوْ ثَمَرَةَ نَخْلٍ مُعَيَّنَةً جَازَ لِانْتِفَاءِ الْجَهْلِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2862 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» . هَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ، وَالزِّيَادَةُ الَّتِي فِي الْمَصَابِيحِ وَهِيَ قَوْلُهُ " «نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ حَتَّى تُزْهِرَ» " إِنَّمَا ثَبَتَتْ فِي رِوَايَتِهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2862 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ (وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ) هَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي فِي الْمَصَابِيحِ وَهِيَ قَوْلُهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ) بِالْفَوْقِيَّةِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ الثَّمَرِ بِالْمُثَلَّثَةِ (حَتَّى تَزْهُوَ) وَلَعَلَّ التَّأْنِيثَ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ (إِنَّمَا ثَبَتَتْ) أَيْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ (فِي رِوَايَتِهِمَا) أَيِ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) أَيْ لَا عَنْ أَنَسٍ فَفِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْبَغَوِيِّ (قَالَ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ (نَهَى) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ) أَيْ ثَمَرِهَا فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ أُسْنِدَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ إِلَى الْفِعْلِ فَأُنِّثَ (وَحَتَّى) غَايَةٌ لِلنَّهْيِ الْمَخْصُوصِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ آخَرُ فِي نَقْلِ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ حَتَّى (تَزْهُوَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ تَحْمَرَّ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَرِوَايَةِ تَبْيَضَّ أَوْ تَحْمَرَّ وَرِوَايَةِ حَتَّى تَسْوَدَّ وَحَتَّى يَشْتَدَّ بَيَانُ مَا يَحْصُلُ بِهِ بُدُوُّ الصَّلَاحِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ جَوَازُ الْبَيْعِ مِنْ كُلِّ شَرْطِ الْقَطْعِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

2863 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2863 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ) بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ (بِالْكَالِئِ) أَيِ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، وَلَفْظُ بَيْعِ مَوْجُودٌ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ سَاقِطٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ وَكَذَا فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ فِي نُسْخَةِ عَفِيفِ الدِّينِ الصَّفَوِيِّ وَنُورِ الدِّينِ الْإِيجِيِّ فِي النِّهَايَةِ وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ شَيْئًا إِلَى أَجَلٍ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَجِدْ مَا يَقْضِي يَقُولُ: بِعْنِيهِ إِلَى أَجَلٍ آخَرَ بِزِيَادَةِ شَيْءٍ فَيَبِيعُهُ مِنْهُ، وَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا تَقَابُضٌ، وَبَعْضُ الرُّوَاةِ لَا يَهْمِزُ الْكَالِئِ تَخْفِيفًا وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ دَيْنَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَدَيْنٍ آخَرَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى ثَالِثٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ.

2864 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2864 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) أَيِ ابْنِ عَمْرٍو عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ (قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَمُوَحَّدَةٍ اسْمٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَدْفُوعِ وَكَانَ بَيْعَ الْعَرَبِ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: فِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ: عُرْبَانُ وَأُرْبَانُ وَعَرْبُونٌ وَأَرْبُونٌ بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ فِيهِنَّ وَفَتْحِ الْأَوَّلِ فِي الْأَخِيرَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيِ الْبَيْعُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْعُرْبَانِ فِي النِّهَايَةِ هُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ وَيَدْفَعَ إِلَى صَاحِبِهَا شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَمْضَى الْبَيْعَ حَسَبَ وَإِنْ لَمْ يُمْضِ الْبَيْعَ كَانَ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ وَلَمْ يَرْتَجِعْهُ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ بَيْعٌ بَاطِلٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ وَالْغَرَرِ، وَأَجَازَهُ أَحْمَدُ وَرَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِجَازَتَهُ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ مُنْقَطِعٌ. (رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ.

2865 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2865 - (وَعَنْ عَلِيٍّ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ» ) (مُفْتَعَلٌ) مِنَ الضُّرِّ وَأَصْلُهُ مُضْتَرُّ فَأُدْغِمَتِ الرَّاءُ وَقُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً لِأَجْلِ الضَّادِ. فِي النِّهَايَةِ: هَذَا يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى الْعَقْدِ مِنْ طَرِيقِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ وَهَذَا بَيْعٌ فَاسِدٌ لَا يَنْعَقِدُ، وَالثَّانِي أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى الْبَيْعِ لِدَيْنٍ رَكِبَهُ أَوْ مُؤنَةٍ تُرْهِقُهُ فَيَبِيعُ مَا فِي يَدَيْهِ بِالْوَكْسِ لِلضَّرُورَةِ وَهَذَا سَبِيلُهُ فِي حَقِّ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ أَنْ لَا يُبَايِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ يُعَارُ وَيُقْرَضُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ أَوْ يَشْتَرِي إِلَى الْمَيْسَرَةِ أَوْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ بِقِيمَتِهَا فَإِنْ عُقِدَ الْبَيْعُ مَعَ الضَّرُورَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ مَعَ كَرَاهَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ، وَمَعْنَى الْبَيْعِ هَا هُنَا الشِّرَاءُ أَوِ الْمُبَايَعَةُ أَوْ قَبُولُ الْبَيْعِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمُرَادُ بِالْمُكْرَهِ الْمُكْرَهُ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ بِحَقٍّ فَلَا كَمَنْ أَكْرَهَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِوَفَاءِ دَيْنٍ وَنَحْوَهُ بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ (وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ) هُوَ مَا كَانَ لَهُ ظَاهِرٌ يُغْرِي الْمُشْتَرِي وَبَاطِنٌ مَجْهُولٌ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْغَرَرُ مَا كَانَ عَلَى غَيْرِ عَهْدٍ وَثِقَةٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبُيُوعُ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِكُنْهِهَا الْمُتَبَايِعَانِ مِنْ كُلِّ مَجْهُولٍ وَتَقَدَّمَتْ أَمْثِلَتُهُ (وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2866 - «وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِلَابٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ فَنَهَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُطْرِقُ الْفَحْلَ فَنُكْرَمُ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي الْكَرَامَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2866 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِلَابٍ) بِكَسْرِ الْكَافِ، قَبِيلَةٌ (سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ) أَيْ (إِجَارَةِ مَائِهِ وَضِرَابِهِ (فَنَهَاهُ) أَيْ نَهْيَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُطْرِقُ الْفَحْلَ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الرَّاءِ نُعِيرُهُ لِلضِّرَابِ، فِي النِّهَايَةِ: وَفِي الْحَدِيثِ: وَمِنْ حَقِّهَا إِطْرَاقُ فَحْلِهَا أَيْ إِعَارَتُهُ لِلضِّرَابِ، وَالطَّرْقُ فِي الْأَصْلِ مَاءُ الْفَحْلِ، وَقِيلَ هُوَ الضِّرَابُ ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الْمَاءُ (فَنُكْرَمُ) عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُعْطِينَا صَاحِبُ الْأُنْثَى شَيْئًا بِطَرِيقِ الْهَدِيَّةِ وَالْكَرَامَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ (فَرَخَّصَ لَهُ فِي الْكَرَامَةِ) أَيْ فِي قَبُولِ الْهَدِيَّةِ دُونَ الْكِرَاءِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَعَارَهُ الْفَحْلَ لِلْإِنْزَاءِ فَأَكْرَمَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِشَيْءٍ جَازَ لَهُ قَبُولُهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَخَذُ الْكِرَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

2867 - «وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَبِيعَ مَا لَيْسَ عِنْدِي. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ وَلَيْسَ عِنْدِي فَأَبْتَاعُ لَهُ مِنَ السُّوقِ. قَالَ: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2867 - (وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَزَايٍ بَعْدَهَا (قَالَ «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَبِيعَ مَا لَيْسَ عِنْدِي» ) كَعَبْدٍ آبِقٍ وَلَمْ يُدْرَ مَحَلَّهُ وَطَائِرٍ فِي الْهَوَاءِ وَسَمَكٍ فِي الْمَاءِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ لِلتِّرْمِذِيِّ (وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ) أَيْ أَيْضًا (قَالَ) أَيْ حَكِيمٌ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ) أَيِ الْمَبِيعَ كَالصَّيْدِ بِمَعْنَى الْمَصِيدِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] أَيْ مِصْيَدُهُ (لَيْسَ عِنْدِي) حَالٌ مِنَ الْبَيْعِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالْوَاوِ (فَأَبْتَاعُ) أَيْ أَشْتَرِي (لَهُ مِنَ السُّوقِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ أَحَدٍ مَتَاعًا فَيَكُونُ حَلَالًا وَهَذَا يَصِحُّ، وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ مَتَاعًا لَا يَمْلِكُهُ ثُمَّ يَشْتَرِيهِ مِنْ مَالِكِهِ وَيَدْفَعُهُ إِلَيْهِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: قَالَ (لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) أَيْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مِلْكِكَ حَالَ الْعَقْدِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ هَذَا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ دُوَنَ بُيُوعِ الصِّفَاتِ، فَلِذَا قِيلَ: السَّلَمُ فِي شَيْءٍ مَوْصُوفٍ عَامِّ الْوُجُودِ عِنْدَ الْمَحَلِّ الْمَشْرُوطِ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ حَالَ الْعَقْدِ، وَفِي مَعْنَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فِي الْفَسَادِ بَيْعُ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَبَيْعُ الْمَبيِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَفِي مَعْنَاهُ بَيْعُ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يُجِيزُ مَالِكُهُ أَمْ لَا؟ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ جَمَاعَةٌ يَكُونُ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.

2868 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ» . رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2868 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ» ) أَيْ صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَقْدٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ نَقْدًا أَوْ بِعِشْرِينَ نَسِيئَةً إِلَى شَهْرٍ، فَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا جَعَلَ الثَّمَنَ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي جَارِيَتَكَ بِكَذَا، فَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَشَرْطٌ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِبَيْعِ الْجَارِيَةِ لَا يَجِبُ، وَقَدْ جَعَلَهُ مِنَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ فَهُوَ شَرْطٌ لَا يَلْزَمُ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ بَطَلَ بَعْضُ الثَّمَنِ فَيَصِيرُ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَبْلَغِ فِي مُقَابَلَةِ الثَّانِي مَجْهُولًا. (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

2869 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2869 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ» ) الصَّفْقَةُ الْبَيْعُ، سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ عِنْدَ الْبَيْعِ ضَرْبُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدِينَ يَدَهُ عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ إِلَى شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ.

2870 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2870 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَحِلُّ سَلَفٌ) بِفَتْحَتَيْنِ (وَبَيْعٌ) أَيْ مَعَهُ يَعْنِي مَعَ السَّلَفِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَشْرُوطًا فِي الْآخَرِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: السَّلَفُ يُطْلَقُ عَلَى السَّلَمِ وَالْقَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا شَرْطُ الْقَرْضِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ لَا يَحِلُّ بَيْعٌ مَعَ شَرْطِ سَلَفٍ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي عَشَرَةً، نَفَى الْحِلَّ اللَّازِمَ لِلصِّحَّةِ لِيَدُلَّ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ طَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ وَفَى كُلِّ عَقْدٍ تَضَمَّنَ شَرْطًا لَا يَثْبُتُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ السَّالِفِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُقْرِضَهُ قَرْضًا وَيَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ ; لِأَنَّ قَرْضَهُ رَوَّجَ مَتَاعَهُ بِهَذَا الثَّمَنِ، وَكُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا حَرَامٌ (وَلَا شَرْطَانَ فِي بَيْعٍ) فُسِّرَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا لِلْبَيْعَتَيْنِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا بِشَرْطَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ بِكِذَا عَلَى أَنْ أُقَصِّرَهُ وَأَخِيطَهُ، وَكَبَيْعٍ بِشَرْطِ أَنْ يُؤَجِّرَ دَارَهُ وَيُعِيرَ عَبْدَهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ، وَبَنَى عَلَى مَفْهُومِهِ جَوَازَ الشَّرْطِ الْوَاحِدِ وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذْ لَا فَرْفَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْوَاحِدِ وَالشَّرْطَيْنِ فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّهُ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الشَّرْطَيْنِ لِلْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، هَذَا وَمَفْهُومُ الْمُخَالِفِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا مُطْلَقًا، وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ غَيْرُ حُجَّةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمَفْهُومَ أَيْضًا، ثُمَّ الْمُرَادُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ) يُرِيدُ بِهِ الرِّبْحَ الْحَاصِلَ مِنْ بَيْعِ مَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَيَنْتَقِلَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ إِلَى ضَمَانِهِ فَإِنَّ بَيْعَهُ فَاسِدٌ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الرِّبْحَ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا يَحِلُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخُسْرَانُ عَلَيْهِ كَالْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا تَلِفَ فَإِنَّ ضَمَانَهُ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَرِدَّ مَنَافِعَهُ الَّتِي انْتَفَعَ بِهَا الْبَائِعُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَدْخُلْ بِالْقَبْضِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَحِلُّ لَهُ رَبِحُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بَيْعُهُ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالرِّبْحِ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الرِّبْحِ الشَّامِلِ لِلزَّوَائِدِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الْمَبِيعِ كَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ (وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) سَبَقَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) .

2871 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ بِالدَّنَانِيرِ فَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدِّرْهَمِ فَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّنَانِيرَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ " قَالَ: «لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2871 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ) فِي النِّهَايَةِ وَكَذَا فِي شَرْحِ التُّورِبِشْتِيِّ: هُوَ بِالنُّونِ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَسْتَنْقِعُ فِيهِ الْمَاءُ أَيْ يَجْتَمِعُ اهـ قِيلَ ثُمَّ يَنْضَبُ وَيَنْبُتُ الْعُشْبُ، وَحَكَمَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بِالْبَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ السُّوقَ فِي الْغَرْقَدِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ، وَقَوْلُهُ: كُنْتُ أَبِيعُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَأَمَّا الْنَقِيعُ بِالنُّونِ فَهُوَ حِمًى عَلَى بُعْدِ عِشْرِينَ فَرْسَخًا فَلَا يُنَاسِبُ الِاسْتِمْرَارَ اهـ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ كَانَ لَهُ سُوقٌ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فَلَا يُنَافِيهِ الِاسْتِمْرَارُ وَالدَّوَامُ (بِالدَّنَانِيرِ) أَيْ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِهَا تَارَةً (فَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ) أَيْ تَارَةً أُخْرَى (" فَآخُذُ ") بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ (مَكَانَهَا الدَّنَانِيرَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ) قِيلَ كَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَأْتِيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ إِرَادَتِهِ وَقَبْلَ فِعْلِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَمُجْتَهِدِيهِمْ فَاجْتَهَدَ فَرَأَى جَوَازَهُ فَفَعَلَهُ ثُمَّ سَأَلً لِيَظْهَرَ لَهُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ مُطَابِقٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ وَبِحَضْرَتِهِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالظُّنُونِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْيَقِينِ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْمَظْنُونِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (فَقَالَ لَا بَأْسَ) أَيْ لَا حُرْمَةَ وَلَا كَرَاهَةَ (أَنْ تَأْخُذَهَا) أَيْ فِي أَخْذِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ ضُبِطَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ ثُمَّ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى الْبَدَلِ كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ (بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا) أَيْ عَنِ الْمَجْلِسِ (وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ) أَيْ مِنْ عَمَلِ الْوَاجِبِ بِحُكْمِ عَقْدِ الصَّرْفِ وَهُوَ قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: شَيْءٌ مِنْ عُلْقَةِ الِاسْتِبْدَالِ وَهُوَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ وَلَوْ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ اهـ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ حَتَّى لَوْ أَرَاهُ دِرْهَمًا اشْتَرَى بِهِ فَبَاعَهُ ثُمَّ حَبَسَهُ وَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا آخَرَ جَازَ إِذَا كَانَا مُتَّحِدِي الْمَالِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا نَكَّرَهُ أَيْ لَفْظَ (شَيْءٌ) وَأَبْهَمَهُ لِلْعِلْمِ بِالْمُرَادِ وَأَنَّ تَقَابُضَ النَّقْدَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بَأَسَ فِي الْجَوَابِ ثُمَّ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ أَنْ تَأْخُذَهَا إِلَخْ مِنْ بَابِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَ بَدَلَ الدَّنَانِيرِ الدَّرَاهِمَ وَبِالْعَكْسِ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ بِسِعْرِ الْيَوْمِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ يَشْتَرَطُ السَّنَةَ، يَشْتَرِطُ قَبْضَ مَا يُسْتَبْدَلُ فِي الْمَجْلِسِ سَوَاءٌ اسْتَبْدَلَ عَلَيْهِ مَا يُوَافِقُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا وَإِنَّمَا شَرَطَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُمَا أَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِمَّا يُوَافِقَانِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، وَالتَّقَابُضُ فِي أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ شَرْطٌ، وَلَوِ اسْتَبْدَلَ عَنِ الدَّيْنِ شَيْئًا مُؤَجَّلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ كَالِئٍ بِكَالِئٍ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) .

2872 - وَعَنِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ أَخْرَجَ كِتَابًا: هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا وَأَمَةً لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2872 - (وَعَنِ الْعَدَّاءِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ آخِرُهُ هَمْزٌ، صَحَابِيٌّ قَلِيلُ الْحَدِيثِ أَسْلَمَ بَعْدَ حُنَيْنٍ وَهُوَ مِنْ أَعْرَابِ الْبَصْرَةِ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ (ابْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَذَالٍ مُعْجَمَةٍ (أَخْرَجَ كِتَابًا) أَيْ مَكْتُوبًا (هَذَا) بَدَلٌ (مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى) تَفْسِيرٌ بَعْدَ إِجْمَالٍ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ مُحَمَّدٍ (عَبْدًا أَوْ أَمَةً) شَكٌّ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (لَا دَاءَ) أَيْ فِيهِ مِنْ جُنُونٍ وَجُذَامٍ وَبَرَصٍ وَنَحْوَهَا (وَلَا غَائِلَةَ) كَزِنًا وَسَرِقَةٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ (وَلَا خِبْثَةَ) بِكَسْرِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ فَمُثَلَّثَةٍ أَيْ لَا خَبَاثَةَ فِي أَصْلِهِ يَنْشَأُ عَنْهَا أَفْعَالٌ قَبِيحَةٌ وَأَخْلَاقٌ شَنِيعَةٌ كَكَوْنِهِ ابْنِ الزِّنَا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُقَامِرًا أَوْ كَذَّابًا أَوْ فِي مِلْكَةٍ يَنْشَأُ عَنْهَا شُبْهَةٌ أَوْ حُرِّيَّةٌ فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ كَكَوْنِهِ مَسْبِيًّا مِمَّنْ يَشُكُّ فِي سَبْيِهِ أَوْ مِمَّنْ يَتَيَقَّنُ فِي حُرْمَتِهِ كَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِالدَّاءِ الْعَيْبُ الْمُوجِبُ لِلْخِيَارِ وَبِالْغَائِلَةِ مَا فِيهِ اغْتِيَالُ مَالِ الْمُشْتَرِي مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ سَارِقًا أَوْ آبِقًا. وَبِالْخِبْثَةِ أَنْ يَكُونَ خَبِيثَ الْأَصْلِ لَا يَطِيبُ لِلْمُلَّاكِ أَوْ مُحَرَّمًا كَالْمُسْبَئِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُعَاهَدِينَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ فَعَبَّرَ عَنِ الْحُرْمَةِ بِالْخِبْثَةِ أَنْ يَكُونَ خَبِيثًا كَمَا عَبَّرَ عَنِ الْحِلِّ بِالطَّيِّبِ (بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ) نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ إِنَّمَا بَاعَهُ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ وَنُصِبَ بِهِ الْمَفْعُولُ، ذَكَرُهُ الطِّيبِيِّ. وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ (بَيْعُ) عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ أَوْ هَذَا أَوْ عَكْسُهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا بَايَعَ الْمُسْلِمَ يَرَى لَهُ مِنَ النُّصْحِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرَى لِغَيْرِهِ بَلْ أَرَادَ بِذَلِكَ بَيَانَ حَالِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَعَاقَدَا فَإِنَّ مِنْ حَقِّ الدِّينِ وَوَاجِبِ النَّصِيحَةِ أَنْ يُصَدِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَبِمَنْ لَهُ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بَاعَهُ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ وَاشْتَرَاهُ شِرَاءَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ عَنِ الْآخَرِ اهـ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ بَيْعًا مُشْتَمِلًا لِجَمِيعِ شَرَائِحِ الْبَيْعِ كَبَيْعِ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ فِي شَرَائِطِهِ إِشَارَةً بِذَلِكَ إِلَى رِعَايَةِ حُقُوقِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَيْعِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعٌ مِنَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ بَيْعَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِاشْتَرَى إِذْ هُوَ يُطْلَقُ عَلَى بَيْعٍ كَعَكْسِهِ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ اشْتَرَى، فَانْدَفَعَ قَوْلُ شَارِحٍ: التَّقْدِيرُ بَاعَهُ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ أَوِ اشْتَرَاهُ شِرَاءَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ إِلَخْ. . . فَبَعِيدٌ عَنِ التَّحْقِيقِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

2873 - وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ حِلْسًا وَقَدَحًا فَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْحِلْسَ وَالْقَدَحَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: آخُذُهَا بِدِرْهَمٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ دِرْهَمَيْنِ فَبَاعَهُمَا مِنْهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2873 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ حِلْسًا) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ كِسَاءً يُوَضْعُ عَلَى الْبَعِيرِ تَحْتَ الْقَتْبِ لَا يَفْرُقُهُ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: بِسَاطٌ يُفْتَرَشُ (وَقَدَحًا أَيْ أَرَادَ بَيْعَهُمَا وَقَضِيَّتُهُ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةً قَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ شَيْءٌ؟ قَالَ لَيْسَ لِي إِلَّا حِلْسٌ وَقَدَحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعْهُمَا وَكُلْ بِثَمَنِهِمَا، ثُمَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَكَ شَيْءٌ فَسَلِ الصَّدَقَةَ» فَبَاعَهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْحِلْسَ وَالْقَدَحَ؟ قَالَ رَجُلٌ: آخُذُهُمَا) أَيْ أَنَا (بِدِرْهَمٍ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ) فِيهِ جَوَازُ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ إِذَا لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِمَا عَيَّنَ الطَّالِبُ فَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَيْسَ بِسَوْمٍ لِأَنَّ السَّوْمَ هُوَ أَنْ يَقِفَ الرَّاغِبُ وَالْبَائِعُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَمْ يَعْقِدَاهُ فَيَقُولُ الْآخَرُ لِلْبَائِعِ: أَنَا أَشْتَرِيهِ وَهَذَا حَرَامٌ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ، وَأَمَّا السَّوْمُ بِالسِّلْعَةِ الَّتِي تُبَاعُ لِمَنْ يُرِيدُ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ (فَأَعْطَاهُ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَجُلٌ دِرْهَمَيْنِ فَبَاعَهُمَا مِنْهُ) ظَاهِرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعَاطَاةَ كَافِيَةٌ فِي الْبَيْعِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2874 - عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ بَاعَ عَيْبًا عَنْهُ لَمْ يُنَبِّهْ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ أَوْ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ» . " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2874 - (عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ بَاعَ عَيْبًا) أَيْ مَعِيبًا قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا وُضِعَ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ رَجُلٍ عَدْلٍ أَيْ هُوَ مُجَسَّمٌ مِنَ الْعَدْلِ، جَعَلَ الْمَعِيبَ نَفْسَ الْعَيْبِ دَلَالَةً عَلَى شَنَاعَةِ هَذَا الْبَيْعِ وَأَنَّهُ عَيَّنَ الْعَيْبَ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» " وَيُقَدِّرُ ذَا عَيْبٍ وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْرِيرِ (لَمْ يُنَبِّهْ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ لَمْ يَذْكُرِ الْبَائِعُ عَيْبَهُ لِلْمُشْتَرِي (لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ) فِيهِ مُبَالَغَتَانِ فَإِنَّ الْمَقْتَ أَشَدُّ الْغَضَبِ وَجَعَلَهُ ظَرْفًا لَهُ (أَوْ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ) أَوْ لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2875 - (بَابٌ) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2875 - (بَابٌ) بِالرَّفْعِ وَالسُّكُونِ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِ ابْتَاعَ) أَيِ اشْتَرَى (نَخْلًا) أَيْ فِيهِ ثَمَرٌ (بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ التَّأْبِيرُ تَلْقِيحُ النَّخْلِ وَهُوَ أَنْ يُوضَعَ شَيْءٌ مِنْ طَلْعِ فَحْلِ النَّخْلِ فِي طَلْعِ الْأُنْثَى إِذَا انْشَقَّ فَتَصْلُحُ ثَمَرَتُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ - تَعَالَى - (فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) أَيِ الْمُشْتَرِي بِأَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْتُ النَّخْلَةَ بِثَمَرَتِهَا هَذِهِ وَكَذَا فِي غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ: تَكُونُ الثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ أَخْذًا بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنَ الْحَدِيثِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى إِنْ بَاعَ نَخْلًا مُثْمِرَةً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا تَبْقَى لَهُ إِلَّا إِذَا اشْتُرِطَ دُخُلُوهَا فِي الْعَقْدِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَذَا إِنِ انْشَقَّ وَلَمْ يُؤَبَّرْ بَعْدُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْإِفْرَازِ هُوَ الظُّهُورُ الْمُمَاثِلُ لِانْفِصَالِ الْجَنِينِ وَلَعَلَّهُ عَبَّرَ عَنِ الظُّهُورِ بِالتَّأْبِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْهُ غَالِبًا أَمَّا لَوْ بَاعَ قَبْلَ أَوَانِ الظُّهُورِ تَتْبَعُ الْأَصْلَ وَتَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي قِيَاسًا عَلَى الْجَنِينِ وَأَخْذًا مِنْ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبْقَى الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ بِكُلِّ حَالٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الثَّمَرَةُ تَتْبَعُ الْأَصْلَ وَتَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِكُلِّ حَالٍ (وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا) أَيْ قَنًّا (وَلَهُ) أَيْ لِلْعَبْدِ (مَالٌ) وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا مِلْكَ لَهُ خِلَافًا لِمَالِكٍ (فَمَالُهُ) بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ فَمَا فِي يَدِ الْعَبْدِ (لِلْبَائِعِ) أَيْ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِلْكًا لِلْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ (إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) . فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا مِلْكَ لَهُ بِحَالٍ فَإِنَّ السَّيِّدَ لَوْ مَلِكَهُ لَا يُمْلَكُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالِكٌ كَالْبَهَائِمِ، وَقَوْلُهُ: وَلَهُ مَالٌ إِضَافَةُ مَجَازٍ لَا إِضَافَةُ مَلِكٍ كَمَا يُضَافُ السَّرْجُ إِلَى الْفَرَسِ، وَالْأُكَافُ إِلَى الْحِمَارِ، وَالْغَنَمُ إِلَى الرَّاعِي، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، أَصْنَافُ الْمِلْكِ إِلَيْهِ وَإِلَى الْبَائِعِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ كُلُّهُ مِلْكًا لِلِاثْنَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ إِضَافَةَ الْمَالِ إِلَى الْعَبْدِ مَجَازٌ أَيْ لِلِاخْتِصَاصِ وَإِلَى الْمَوْلَى حَقِيقَةٌ أَيِ الْمِلْكِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ مَالًا مَلَكَهُ لَكِنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الْمَالُ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْعَبْدِ وَتِلْكَ الدَّرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَكَذَا إِنْ كَانَ الدَّنَانِيرُ أَوِ الْحِنْطَةُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمَا بِذَهَبٍ أَوْ حِنْطَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ إِنِ اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ وَالثَّمَنُ دَرَاهِمُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ثِيَابَ الْعَبْدِ الَّتِي عَلَيْهِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا لِأَنَّهُ مَالٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تَدْخُلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَاتِرُ الْعَوْرَةِ فَحَسْبُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الثِّيَابَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ) أَيِ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ مِنَ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ (وَحْدَهُ) أَيْ دُونَ الْفَصْلِ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى.

2876 - وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَمَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ، فَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ ثُمَّ قَالَ: " بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ " قَالَ: فَبِعْتُهُ فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ وَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: " «اقْضِهِ وَزِدْهُ " فَأَعْطَاهُ، وَزَادَهُ قِيرَاطًا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2876 - (وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ) أَيْ فِي مَسِيرِ سَفَرِهِ (عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا) أَيْ أَصَابَهُ الْعَيَاءُ وَصَارَ ذَا عَيَاءٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَعْيَا يَجِيءُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا أَيْ صَارَ ذَا عِيٍّ عَنِ السَّيْرِ أَوْ أَصَابَهُ الْعِيُّ وَالْعَجْزُ (فَمَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ) أَيْ بِجَابِرٍ أَوْ عَلَى الْجَمَلِ (فَضَرَبَهُ) أَيِ الْجَمَلَ (فَسَارَ) أَيْ بِبَرَكَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (سَيْرًا لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ) أَيْ فِي الْعَادَةِ (ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فِي النِّهَايَةِ هِيَ بِغَيْرِ أَلِفٍ لُغَةٌ عَامِرِيَّةٌ وَغَيْرُ الْعَامِرِيَّةِ أُوقِيَّةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَوَزْنُهَا أُفْعُولَةٌ وَالْأَلِفُ زَائِدَةٌ وَالْجَمْعُ الْأَوَاقِيُّ مُشَدَّدًا وَقَدْ يُخَفَّفُ اهـ.

وَالدِّرْهَمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا وَالْقِيرَاطُ خَمْسُ شُعَيْرَاتٍ مُتَوَسِّطَاتٌ، وَفِي الْقَامُوسِ الْأُوقِيَّةُ بِالضَّمِّ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ كَالْوُقِيَّةِ بِالضَّمِّ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدَّدَةً وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا جَمْعُهُ أَوَاقِيُّ وَأَوَاقٍ وَوَقَايَا، وَفِي الْمِصْبَاحِ: الْأُوقِيَّةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالتَّشْدِيدِ وَهِيَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَهِيَ فِي تَقْدِيرِ أُفْعُولَةٍ كَالْأُعْجُوبَةِ وَالْأُحْدُوثَةِ وَالْجَمْعُ الْأَوَاقِيُّ بِالتَّشْدِيدِ وَلِلتَّخْفِيفِ لِلتَّخْفِيفِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: فِي بَابِ الْمَضْمُومِ أَوَّلِهِ وَهِيَ الْأُوقِيَّةُ وَالْوُقِيَّةُ لُغَةً وَهِيَ بِضَمِّ الْوَاوِ هَكَذَا مَضْبُوطَةٌ فِي كِتَابِ ابْنِ السِّكِّيتِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَالَ اللَّيْثُ: الْوُقِيَّةُ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ وَهِيَ مَضْبُوطَةٌ بِالضَّمِّ أَيْضًا. قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: هَكَذَا مَضْبُوطَةٌ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَجَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ لُغَةٌ حَكَاهَا بَعْضُهُمْ وَجَمْعُهَا وَقَايَا كَعَطِيَّةٍ وَعَطَايَا وَفِي " الْحَدِيثِ " أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِطَلَبِ الْبَيْعِ مِنْ مَالِكِ السِّلْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِضْهَا لِلْبَيْعِ (قَالَ فَبِعْتُهُ فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ رُكُوبَهُ مَصْدَرُ حَمَلَ يَحْمِلُ حُمْلَانًا أَيْ شَرَطْتُ أَنْ أَحْمِلَهُ رَحْلِي وَمَتَاعِي (إِلَى أَهْلِي) فَرَضِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الشَّرْطِ. احْتَجَّ أَحْمَدُ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ دَابَّةٍ وَاسْتِثْنَاءِ ظَهْرِهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةً مَعَ لُزُومِ الشُّرُوطِ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ خَاصٌّ بِجَابِرٍ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ وُجُودِ الْبَيْعِ فَوَعَدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةَ بَيْعٍ إِذْ لَا قَبْضَ وَلَا تَسْلِيمَ وَإِنَّمَا أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْفَعَهُ بِشَيْءٍ فَاتَّخَذَ بَيْعَهُ الْجَمَلَ ذَرِيعَةً إِلَى ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ إِعْطَاءِ الْوُقِيَّةِ: مَا كُنْتُ لِآخُذَ جَمَلَكَ فَخُذْ جَمَلَكَ فَخُذْ جَمَلَكَ " ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى جَوَازِ بِيْعِ دَابَّةٍ يَشْتَرِطُ الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ رُكُوبَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ قَرِيبَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ سَوَاءٌ بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ أَوْ قَرُبَتْ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا وَبِالْحَدِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا احْتِمَالَاتٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ الشَّرْطُ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَلَعَلَّ الشَّرْطَ كَانَ سَابِقًا فَلَمْ يُؤَثِّرْ ثُمَّ تَبَرَّعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِرْكَابِهِ (فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ وَنَقَدَنِي) أَيْ أَعْطَانِي (وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ) أَيِ الْجَمَلَ (عَلَيَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: اقْضِهِ وَزِدْهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَاسْتِحْبَابِ أَدَاءِ الدَّيْنِ وَإِرْجَاحِ الْوَزْنِ. (فَأَعْطَاهُ وَزَادَ قِيرَاطًا) وَهُوَ نِصْفُ دَانَقٍ وَهُوَ سُدُسُ دِرْهَمٍ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ جَوَازُ هِبَةِ الْمَشَاعِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيرَاطِ هِبَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ عَنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ. الْقِيرَاطُ الَّذِي زَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُفَارِقُنِي أَبَدًا فَجَعَلْتُهُ، فَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَعْطَاهُ قِيرَاطًا لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا كِيسٌ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدِي حَتَّى جَاءَ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الْحَرَّةِ فَأَخَذُوهُ فِيمَا أَخَذُوا.

2877 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي كَاتَبْتُ عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ وُقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عُدَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ وَيَكُونُ وَلَاؤُكِ لِي. فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " خُذِيهَا وَأَعْتِقِيهَا " ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ " أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ رِجَالٍ " يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ فَقَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2877 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ) وَهِيَ جَارِيَةٌ حَبَشِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ صَحَابِيَّةٌ (فَقَالَتْ إِنِّي كَاتَبْتُ) أَيِ اشْتَرَيْتُ نَفْسِي وَقَبِلْتُ الْكِتَابَةَ (عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ وُقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي) أَيْ فِي أَدَاءِ الْكِتَابَةِ (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ) أَيْ رَضُوا (أَنْ أَعُدَّهَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ أُعْطِيَهَا وَالضَّمِيرُ لِلتِّسْعِ الْأَوَاقِ (لَهُمْ عُدَّةً وَاحِدَةً) أَيْ جُمْلَةً حَاضِرَةً (وَأُعْتِقَكِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ (فَعَلْتُ وَيَكُونُ) بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (وَلَاؤُكِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ (لِي فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا) أَيْ عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ لِأَنَّ فِي أَبَى مَعْنَى النَّفْيِ. الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] قَدْ أُجْرِيَ أَبَى مَجْرَى لَمْ يُرِدْ، أَلَا

تَرَى كَيْفَ قُوبِلَ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: 8] بِقَوْلِهِ {وَيَأْبَى اللَّهُ} [التوبة: 32] وَأَوْقَعَهُ مَوْقِعَ لَمْ يُرِدْ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذِيهَا) أَيِ اشْتَرِيهَا (وَأَعْتِقِيهَا) ظَاهِرُهُ جَوَازُ بَيْعِ رَقَبَةِ الْمُكَاتِبِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَجَوَابُهُ: أَنْ بَرِيرَةَ بِيعَتْ بِرِضَاهَا وَذَلِكَ فَسْخُ الْكِتَابَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ أَوْ أَنَّهَا عَجَزَتْ نَفْسُهَا عَنْ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ فَوَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الرَّقَبَةِ دُونَ الْمُكَاتَبِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهَا: فَأَعِينِينِي. قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ مُقَدِّمَةِ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَقَالُوا: يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَكِنْ لَا تَنْفَسِخُ كِتَابَتُهُ حَتَّى لَوْ أَدَّى النُّجُومَ إِلَى الْمُشْتَرِي عَتَقَ وَوَلَاؤُهُ لِلْبَائِعِ الَّذِي كَاتَبَهُ. وَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ جَرَى بِرِضَاهَا وَكَانَ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْكِتَابَةِ مِنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ عَاجِزَةً عَنِ الْأَدَاءِ فَلَعَلَّ السَّادَةَ عَجَّزُوهَا وَبَاعُوهَا، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ مَعَ نُجُومِ الْكِتَابَةِ فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيُّ وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ، وَأَوَّلَ قَوْمٌ حَدِيثَ بَرِيرَةَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَعُدَّهَا لَهُمْ، وَالضَّمِيرُ لِتِسْعِ أَوَاقٍ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْكِتَابَةُ وَبِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَكِ " وَيَرُدُّهُ عِتْقُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إِيَّاهَا وَمَا رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «ابْتَاعِي وَأَعْتِقِي» " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ «اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا» وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ فَدَلِيلٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ النُّجُومِ لَا يَعُدُّهَا وَلَا يُؤَدِّيهَا وَإِنَّمَا يُعْطِي بَدَلَهَا وَأَمَا مُشْتَرِي الرَّقَبَةِ إِذَا اشْتَرَاهَا بِمِثْلِ مَا انْعَقَدَتْ بِهِ الْكِتَابَةُ فَإِنَّهُ يَعُدُّهُ، وَفَحْوَى الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الرَّقَبَةِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ شَرَطُوا الْوَلَاءَ لِأَنْفُسِهِمْ وَشَرْطُ الْوَلَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِشَرْطِ الْعِتْقِ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي إِجَابَتِهِمْ بِالشِّرَاءِ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَلَمْ يُقَرِّرِ الْعَقْدَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى فَسَادِهِ، وَالْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ اخْتَلَفُوا فِي الشَّرْطِ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَسَدَ لَانْفَسَدَ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ وَلَمْ يَثْبُتْ فَيُفْسِدُ الْعَقْدَ لِلنَّصِّ وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورَيْنِ قِيلَ مِنْهُمْ مَنْ أَلْغَاهُ كَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْوَلَاءِ وَفَسَادِ الشَّرْطِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَّرَ الْعَقْدَ وَأَنْفَذَهُ وَحَكَمَ بِبُطْلَانِ الشَّرْطِ وَقَالَ " «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنِ اعْتَقَ» " وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى فَسَادِ الْعَقْدِ لِمَا سَبَقَ مِنَ النَّصِّ وَالْمَعْنَى وَقَالُوا: مَا جَرَى الشَّرْطُ فِي بَيْعِ بَرِيرَةَ وَلَكِنَّ الْقَوْمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ طَمَعًا فِي وَلَاتِهَا جَاهِلِينَ بِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمُعْتِقِ وَمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ قَالَ " خُذِيهَا وَاشْتَرِطِيهَا " زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا، وَالتَّارِكُونَ لَهَا كَابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ: عَنْ عَائِشَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُمَا أَكْثَرُ عَدَدًا أَوْ أَشَدُّ اعْتِبَارًا فَلَا تَسْمَعْ لِأَنَّ السَّهْوَ عَلَى وَاحِدٍ أَجْوَزُ مِنْهُ عَلَى جَمَاعَةٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ كَيْفَ يَجُوزُ فِي صِفَةِ الرَّسُولِ وَمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى النَّاسِ شَرْطًا بَاطِلًا وَيَأْمُرَ أَهْلَهُ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى الْبَاطِلِ، وَهُوَ عَلَى أَهْلِهِ فِي اللَّهِ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَلَي هَذَا التَّقْدِيرِ وَالِاحْتِمَالِ يَنْهَدِمُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شَرْطِ الْعِتْقِ فِي الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ. (ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ) أَيْ خَطِيبًا (فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ عَلَى نِعَمِهِ (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أَيْ فِي كَرَمِهِ (ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ) فَصْلًا لِلْخِطَّابِ وَقَصْدًا لِلْعِتَابِ (فَمَا بَالُ رِجَالٍ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنَ الْمِشْكَاةِ بِالْفَاءِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ بِلَا فَاءٍ. قَالَ الْمَالِكِيُّ أَمَّا حَرْفٌ قَائِمٌ مَقَامَ أَدَاةِ الشَّرْطِ وَالْفِعْلِ الَّذِي عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ يُقَدِّرُهَا النَّحْوِيُّونَ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ وَحَقُّ الْمُتَّصِلِ بِالْمُتَّصِلِ بِهَا أَنْ تَصْحَبَهُ الْفَاءُ نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} [فصلت: 15] وَلَا تُحْذَفُ هَذِهِ الْفَاءُ غَالِبًا إِلَّا فِي شِعْرٍ أَوْ مَعَ يَشْتَرِطُونَ قَوْلَ أَغْنَى عَنْهُ مَقُولَةً نَحْوَ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ أَكَفَرْتُمْ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ» وَقَوْلُ

عَائِشَةَ: وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا، فَقَدْ خُولِفَتِ الْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَيُعْلَمُ بِالتَّحْقِيقِ عَدَمُ التَّضْيِيقِ وَأَنَّ مَنْ خَصَّهُ بِالشِّعْرِ أَوْ بِالصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ النَّثْرِ مُقَصِّرٌ فِي فَتْوَاهُ وَعَاجِزٌ عَنْ نُصْرَةِ دَعْوَاهُ. (يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ) أَيْ تِلْكَ الشُّرُوطِ (فِي كِتَابِ اللَّهِ) أَيْ عَلَى وَفْقِ حُكْمِ كِتَابِهِ وَمُوجِبِ قَضَائِهِ أَوِ الْمُرَادُ بِكِتَابِ اللَّهِ حُكْمُ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنَ ; لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَوِ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوبُ أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْوَاشِمَةِ: مَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ اسْتُدِلَّ عَلَى كَوْنِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] (مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ) مَا شَرْطِيَّةٌ وَمِنْ زَائِدَةٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُوجِبٍ وَالْجَزَاءُ قَوْلُهُ (فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ) إِنْ وَصْلِيَّةٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا مَفْهُومَ لِلْعَدَدِ. قَالَ الطَّيِبِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَلَوْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَهُوَ مِنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُتْبَعُ بِهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ بِلَا جَزَاءٍ مُبَالَغَةً وَتَقْرِيرًا (فَقَضَاءُ اللَّهِ) أَيْ حُكْمُهُ (أَحَقُّ) أَيْ بِالِاتِّبَاعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَاءُ فِيهِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ وَلَفْظُ الْقَضَاءِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ " لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ " قَضَاؤُهُ وَحُكْمُهُ (وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ) أَيْ بِالْعَمَلِ بِهِ يُرِيدُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظْهَرُهُ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ لَا لِلْجِنْسِ، فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مِنْ بُطْلَانِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ بِإِرَدَاةِ اللَّامِ لِلْجِنْسِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي هَذَا الشَّرْطِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْبَيْعَ وَكَيْفَ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْخِدَاعِ وَالتَّغْرِيرِ أَمْ كَيْفَ أَذِنَ لِأَهْلِهِ مَا لَا يَصِحُّ؟ وَلِهَذَا الْأَشْكَالِ أَنْكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ " «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» " وَقَالَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ صَحِيحَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا فَقِيلَ " لَهُمْ " بِمَعْنَى " عَلَيْهِمْ " كَمَا قَالَ تَعَالَي {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] أَيْ عَلَيْهِمْ {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أَيْ فَعَلَيْهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ الِاشْتِرَاطَ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ لَمْ يُنْكِرْهُ وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَنْكَرَ مَا أَرَادُوا اشْتِرَاطَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَالْأَصَحُّ فِي تَأْوِيلِهِ مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ خَاصٌّ فِي قَضِيَّةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَاحْتَمَلَ هَذَا الْأُذُنُ وَإِبْطَالُهُ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْخَاصَّةَ وَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا. قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِي إِذْنِهِ ثُمَّ إِبْطَالِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي قَطْعِ عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ وَزَجْرِهِمْ عَلَى مِثْلِهِ كَمَا أَذِنَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِنَسْخِهِ وَجَعْلِهِ عُمْرَةً لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي زَجْرِهِمْ وَقَطْعِهِمْ عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَدْ تُحْتَمَلُ الْمَفْسَدَةُ الْيَسِيرَةُ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الشَّرْطُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوَهُ أَقْسَامٌ مِنْهَا شَرْطٌ يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ بِأَنَّ شَرْطَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي أَوْ تَبْقِيَةَ الثَّمَرَةِ عَلَى الشَّجَرِ إِلَى أَوَانِ الْجُذَاذِ، وَمِنْهَا شَرْطٌ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَتَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ كَاشْتِرَاطِ التَّضْمِينِ وَالْخِيَارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَانَ شَرْطَانِ جَائِزَانِ وَلَا يُؤَثِّرَانِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِلَا خَوْفٍ، وَمِنْهَا اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ تَرْغِيبًا فِي الْعِتْقِ لِقُوَّتِهِ وَسِرَايَتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2878 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2878 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ» ) لِأَنَّهُ كَالنَّسَبِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ النَّسَبُ إِلَى غَيْرِهِ كَذَلِكَ الْوَلَاءُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِ الْمُعْتِقِ ; لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِتْقِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بَيْعُ الْوَلَاءِ وَهِبَتُهُ لَا يَصِحَّانِ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ فَإِنَّهُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَأَجَازَ بَعْضُ السَّلَفِ نَقْلَهُ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْحَدِيثُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَلَفْظُهُ: " «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» " وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2879 - عَنْ مَخْلَدِ بْنِ خُفَافٍ قَالَ: ابْتَعْتُ غُلَامًا فَاسْتَغْلَلْتُهُ ثُمَّ ظَهَرْتُ مِنْهُ عَلَى عَيْبٍ، فَخَاصَمْتُ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَضَى لِي بِرَدِّهِ، وَقَضَى عَلَيَّ بِرَدِّ غَلَّتِهِ، فَأَتَيْتُ عُرْوَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: أَرُوحُ إِلَيْهِ الْعَشِيَّةَ فَأُخْبِرُهُ «أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي مِثْلِ هَذَا: " أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» " فَرَاحَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ فَقَضَى لِي أَنْ آخُذَ الْخَرَاجَ مِنَ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَيِّ لَهُ. رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2879 - (عَنْ مَخْلَدِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ الْمُعْجَمَةِ، غِفَارِيٌّ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (ابْنِ خُفَافٍ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ الْأُولَى كَذَا فِي التَّقْرِيبِ. وَيُقَالُ إِنَّ لِخُفَافٍ وَلِأَبِيهِ وَلِجَدِّهِ صُحْبَةً كَذَا فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ. (قَالَ: ابْتَعْتُ غُلَامًا) أَيِ اشْتَرَيْتُهُ (فَاسْتَغْلَلْتُهُ) أَيْ أَخَذْتُ مِنْهُ غَلَّتَهُ يَعْنِي كِرَاءَهُ وَأُجْرَتَهُ، فِي النِّهَايَةِ: الْغَلَّةُ الدَّاخِلُ الَّذِي يَحْصُلُ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّتَاجِ وَنَحْوَ ذَلِكَ (ثُمَّ ظَهَرْتُ) أَيِ اطَّلَعْتُ (مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْغُلَامِ (عَلَى عَيْبٍ) أَيْ قَدِيمٍ (فَخَاصَمْتُ فِيهِ) أَيْ حَاكَمْتُ فِي حَقِّ الْغُلَامِ أَوْ فِي عَيْبِهِ بَائِعَهُ (إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَضَى) أَيْ حَكَمَ (لِي بِرَدِّهِ) أَيْ عَلَيْهِ (وَقَضَى عَلَيَّ بِرَدِّ غَلَّتِهِ) أَيْ إِلَيْهِ (فَأَتَيْتُ عُرْوَةَ فَأَخْبَرْتُهُ) أَيْ بِمَا جَرَى (فَقَالَ: أَرُوحُ إِلَيْهِ) ، أَيْ: أَذْهَبُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (الْعَشِيَّةَ) ، أَيْ: آخِرَ النَّهَارِ أَوْ أَوَّلَ اللَّيْلِ (فَأُخْبِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ الْخَرَاجَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (بِالضَّمَانِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَاءُ فِي بِالضَّمَانِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْخَرَاجُ مُسْتَحَقٌّ بِالضَّمَانِ أَيْ بِسَبَبِهِ وَقِيلَ الْبَاءُ لِلْمُقَابَلَةِ، وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَنَافِعُ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ تَبْقَى لِلْمُشْتَرِي فِي مُقَابَلَةِ الضَّمَانِ اللَّازِمِ عَلَيْهِ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ وَنَفَقَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ " مَنْ عَلَيْهِ غُرْمُهُ فَعَلَيْهِ غُنْمُهُ " وَالْمُرَادُ بِالْخَرَاجِ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَلَّةِ الْعَيْنِ الْمُبْتَاعَةِ عَبْدًا كَانَ أَوْ أَمَةٍ أَوْ مِلْكًا وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَسْتَغِلَّهُ زَمَانًا ثُمَّ يَعْثُرُ مِنْهُ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ لَمْ يُطْلِعْهُ الْبَائِعُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَلَهُ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَعِيبَةِ وَأَخْذُ الثَّمَنِ وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مَا اسْتَغَلَّهُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ شَيْءٌ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا يَحْدُثُ فِي يَدِ الْمَشْتَرِي مِنْ نِتَاجِ الدَّابَّةِ وَوَلَدِ الْأَمَةِ وَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ وَصُوفِهَا وَثَمَرِ الشَّجَرَةِ أَنَّ الْكُلَّ يَبْقَى لِلْمُشْتَرِي وَلَهُ رَدُّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ حُدُوثَ الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ رَدًّا لِأَصْلٍ بِالْعَيْبِ بَلْ يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرُدُّ الْوَلَدَ مَعَ الْأَصْلِ وَلَا يَرُدُّ الصُّوفَ، وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوُطِئَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِالشُّبْهَةِ أَوْ وَطِئِهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا رَدَّهَا وَالْمَهْرُ لِلْمُشْتَرِي وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ هُوَ الْوَاطِئَ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَافْتُضَّتْ فَلَا رَدَّ لَهُ لِأَنَّ زَوَالَ الْبَكَارَةِ نَقْصٌ حَدَثَ فِي يَدِهِ بَلْ يَسْتَرِدُّ مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ الْعَيْبُ مِنْ قِيمَتِهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (فَرَاحَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ فَقَضَى) ، أَيْ: عُمَرُ (لِي أَنْ آخُذَ الْخَرَاجَ مِنَ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَيَّ لَهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ الْقَاضِي إِذَا أَخْطَأَ فِي الْحُكْمِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ يَقِينًا لَزِمَهُ النَّقْضُ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِخَبَرِ عُرْوَةَ. (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ.

2880 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ الْبَيْعَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2880 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّة الْمَكْسُورَةِ أَيِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوِ الْأَجَلِ وَغَيْرِهَا مِنَ الشُّرُوطِ وَصِفَاتِ الْعَقْدِ (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ (وَالْمُبْتَاعُ) أَيِ الْمُشْتَرِي (بِالْخِيَارِ) أَيْ إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ، وَإِنْ شَاءَ حَلَفَ هُوَ أَيْضًا بِأَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ بِكَذَا بَلْ بِكَذَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ إِذَا تَحَالَفَا فَإِنْ رَضِيَ

أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ الْآخَرِ فَذَلِكَ وَإِلَّا فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَاقِيًا كَانَ الْمَبِيعُ أَوْ لَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ لَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ بَلِ الْقَوْلُ حِينَئِذٍ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ، وَرِوَايَةُ (الْمَبِيعُ قَائِمٌ) تُقَوِّي مَذْهَبَهُمَا كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ قَالَ: الْبَيِّعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ) أَيْ بَاقٍ (بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ) أَيْ شُهُودٌ (فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ) أَيْ بِحَلِفِهِ فَإِذَا حَلَفَ فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ كَمَا سَبَقَ (أَوْ يَتَرَادَّانِ الْبَيْعَ) وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ بَاقِيًا عِنْدَ النِّزَاعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَلَمْ يَحْلِفِ الْبَائِعُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

2881 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ " عَنْ شُرَيْحٍ الشَّامِيِّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2881 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا) أَيْ بَيْعَهُ (أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ) أَيْ غَفَرَ زَلَّتَهُ وَخَطِيئَتَهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فِيهِ إِيذَانٌ بِنُدْبِيَّةِ الْإِقَالَةِ إِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ جَائِزَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَهِيَ فَسْخُ الْبَيْعِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ مُتَّصِلًا، وَكَذَا الْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْهُ بِلَفْظِ: " «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ) بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ " وَهُوَ: " «مَنْ أَقَالَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ صَفْقَةً كَرِهَهَا أَقَالَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (عَنْ شُرَيْحٍ) بِالتَّصْغِيرِ (الشَّامِيِّ مُرْسَلًا) فِيهِ اعْتِرَاضٌ لِلْمُصَنِّفِ عَلَى الْبَغَوِيِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَرَكَ الْأَوْلَى حَيْثُ ذَكَرَ الْمُرْسَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُتَّصِلَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2882 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اشْتَرَى رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ عَقَارًا مِنْ رَجُلٍ فَوَجَدَ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ عَنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ الْعَقَارَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ. فَقَالَ بَائِعُ الْأَرْضِ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلَامٌ وَقَالَ الْآخَرُ لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقُوا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2882 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَرِي رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ عَقَارًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْأَرْضُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا (مِنْ رَجُلٍ) مُتَعَلِّقٌ بِاشْتَرَى وَمِنَ الْأُولَي بَيَانِيَّةٌ أَوْ بَعْضِيَّةٌ (فَوَجَدَ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ) فِيهِ وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ (فِي عَقَارِهِ جَرَّةً) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ) أَيْ لِلْبَائِعِ (الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ) فِيهِ مَا سَبَقَ (خُذْ ذَهَبَكَ عَنِّي) أَيْ مِنِّي أَوْ مُوَلِّيًا عَنِّي (إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ الْعَقَارَ وَلَمْ أَبْتَعْ) أَيْ لَمْ أَشْتَرِ (مِنْكَ الذَّهَبَ فَقَالَ بَائِعُ الْأَرْضِ إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا) أَيْ تَبَعًا لَهَا (فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ) قِيلَ إِنَّهُ دَاوُدُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (قَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلَامٌ) أَيْ صَبِيٌّ (وَقَالَ الْآخَرُ لِي جَارِيَةٌ) أَيْ بِنْتٌ (فَقَالَ أَنْكِحُوا) أَيْ زَوِّجُوا (الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقُوا) أَيْ بَعْضَهُ أَوْ مَا زَادَ عَلَى نَفَقَتِهِمَا. قَالَ النَّوَوِيُّ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا كَمَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

[باب السلم والرهن]

[بَابُ السَّلَمِ وَالرَّهْنِ]

بَابُ السَّلَمِ وَالرَّهْنِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2883 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ، فَقَالَ: " مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ السَّلَمِ وَالرَّهْنِ) السَّلَمُ بِفَتْحَتَيْنِ أَنْ تُعْطِيَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فِي سِلْعَةٍ مَعْلُومَةٍ إِلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ فَكَأَنَّكَ قَدْ أَسْلَمْتَ الثَّمَنَ إِلَى صَاحِبِ السِّلْعَةِ وَسَلَّمْتَهُ إِلَيْهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرَّهْنُ مَا يُوضَعُ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ وَالرِّهَانُ مِثْلُهُ لَكِنْ يَخْتَصُّ بِمَا يُوضَعُ فِي الْخِطَارِ وَأَصْلُهُمَا مَصْدَرٌ يُقَالُ. رَهَنْتُ الرَّهْنُ وَأَرْهَنْتُهُ رِهَانًا فَهُوَ رَهِينٌ وَمَرْهُونٌ وَيُقَالُ فِي جَمْعِ الرَّهْنِ رِهَانٌ وَرُهُنٌ وَرُهُونٌ وَارْتَهَنْتُ أَخَذْتُ الرَّهْنَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2883 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ) أَيْ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ (وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَالْإِسْلَافُ إِعْطَاءُ الثَّمَنِ فِي مَبِيعٍ إِلَى مُدَّةٍ أَيْ يَشْتَرُونَ الثَّمَنَ فِي الْحَالِ وَيَأْخُذُونَ السِّلْعَةَ فِي الْمَالِ (السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ) مَنْصُوبَاتٌ إِمَّا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ يَشْتَرُونَ إِلَى السَّنَةِ وَإِمَّا عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ إِسْلَافُ السَّنَةِ (فَقَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَتَعْيِينِ الْأَجَلِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إِنَّ جَهَالَةَ أَحَدِهِمَا مَفْسَدَةٌ لِلْبَيْعِ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيَكُنْ كَيْلُهُ مَعْلُومًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا اشْتِرَاطُ كَوْنِ السَّلَمِ مُؤَجَّلًا بَلْ يَجُوزُ حَالًا لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ مُؤَجَّلًا جَازَ مَعَ الْفَوْرِ فَجَوَازُ الْحَالِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْغَرَرِ وَلَيْسَ ذِكْرُ الْأَجَلِ فِي الْحَدِيثِ لِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ بَلْ مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ حَالًا فَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَأَجْمَعُوا عَلَى اشْتِرَاطِ وَصْفِهِ بِمَا ضُبِطَ بِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

2884 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتِ: «اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2884 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: «اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ» ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ، وَعَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ وَعَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْخُضَرِ وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ قَيَّدَهُ بِالسَّفَرِ وَعَلَى جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ مَالُهُمْ لَا يَخْلُو عَنِ الرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّقَلُّلِ فِي الدُّنْيَا وَمُلَازِمَةِ الْفَقْرِ وَفِيهِ جَوَازُ رَهْنِ آلَةِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَمْلَاكِهِمْ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَإِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] مُبَيَّنٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِذْ دَلِيلُ خِطَابِهِ مَتْرُوكٌ بِهِ وَأَمَّا مُعَامَلَتُهُ مَعَ الْيَهُودِيِّ وَرَهْنُهُ عِنْدَهُ دُونَ الصَّحَابَةِ فَقِيلَ فَعَلَهُ بَيَانًا لِجَوَازِ ذَلِكَ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ إِلَّا عِنْدَهُ وَقِيلَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَا يَأْخُذُونَ رَهْنَهُ وَلَا يَتَقَاضُونَهُ الثَّمَنَ فَعَدَلَ إِلَى الْيَهُودِيِّ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مُعَامَلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْكُفَّارِ إِذَا لَمْ يَتَحَقَقْ تَحْرِيمُ مَا مَعَهُمْ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ بَيْعُ السِّلَاحِ وَمَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَلَا بَيْعُ الْمُصْحَفِ وَلَا عَبْدٍ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ مُطْلَقًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍ وَمُؤَجَّلٍ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَمَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ بَيْعٌ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ وَفِي لَفْظِ الصَّحِيحَيْنِ: طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ، وَقَدْ سُمِّيَ هَذَا الْيَهُودِيُّ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَخْرَجَهُ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَهَنَ دِرْعًا عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ» ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي ظَفَرَ فِي شَعِيرِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ فِي التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَهَذَا يُطَالِبُهُ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ وَذَلِكَ فِي بَعِيدِهَا، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَوْضِعِ شَرْطِ الْأَجَلِ وَهُوَ السَّلَمُ أَوْجَبَ فِيهِ التَّعْيِينَ حَيْثُ قَالَ: " «مَنْ أَسْلَفَ فِي ثَمَرَةٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» " وَعَلَى كُلِّ ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ.

2885 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِرْعُهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2885 - (وَعَنْهَا) أَيْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (قَالَتْ تُوُفِّيَ) بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ «قُبِضَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةَ السَّابِقَةَ بِعَيْنِهَا وَأَنْ تَكُونَ غَيْرَهَا وَأَمَّا خَبَرُ: " «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» " كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقِيلَ: أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: أَيْ: أَمْرُهَا مَوْقُوفٌ لَا يُحْكَمُ لَهَا بِنَجَاةٍ وَلَا هَلَاكٍ حَتَّى يُنْظَرَ، أَهَلْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ أَمْ لَا؟ اهـ. وَسَوَاءٌ أَتَرَكَ الْمَيِّتُ وَفَاءً أَمْ لَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَشَذَّ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً. كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ لَمْ يَشِذَّ إِذْ وَافَقَهُ جَمَاعَةٌ حَيْثُ حَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ لَمْ يَتْرُكْ عِنْدَ صَاحِبِ الدَّيْنِ مَا يَحْصُلُ بِهِ وَفَاءٌ وَأَيْضًا الْأَنْبِيَاءُ مُسْتَثْنَوْنَ، وَأَيْضًا قَالُوا: مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا اسْتَدَانَ لِمَعْصِيَةٍ أَوْ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَرُدَّهَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَضَى عِدَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمْعُ عِدَةٍ بِمَعْنَى وَعْدٍ، وَأَنَّ عَلِيًّا قَضَى دُيُونَهُ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ فَكَّ الدِّرْعَ وَأَسْلَمَهَا إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2886 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2886 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الظَّهْرُ ") أَيْ ظَهْرُ الدَّابَّةِ وَقِيلَ: الظَّهْرُ الْإِبِلُ الْقَوِيُّ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَلَعَلَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ لِرُكُوبِ الظَّهْرِ (يُرْكَبُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِنَفَقَتِهِ) أَيْ بِسَبَبِهَا أَوْ بِمِقْدَارِهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ جَازَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْكَبَهُ وَيَحْمِلَ عَلَيْهِ حَمْلَهُ بِسَبَبِ أَنَّ عَلَفَهُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ كَفَّنَهُ الْمَالِكُ (وَلَبَنُ الدَّرِّ) أَيْ ذَاتِ الدَّرِّ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّبَنَ (يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ) أَيْ يَشْرَبُهُ الْمُنْفِقُ عَلَيْهَا (إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ دَوَامَ قَبْضِ الْمَرْهُونِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَا يَرْكَبُهُ الْمَالِكُ إِلَّا وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ قَبْضِ الْمَرْهُونِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرْهُونَ لَا يَحْمِلُ وَمَنَافِعَهُ لَا تُعَطَّلُ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ غُنْمُهُ عَلَيْهِ غُرْمُهُ، وَالْعُلَمَاءُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ مُطْلَقًا وَنَفَقَتَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَهُ، وَالْفُرُوعُ تَتْبَعُ الْأُصُولَ، وَالْغُرْمُ بِالْغُنْمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَبْدًا فَمَاتَ كَانَ كَفَنُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ رَوَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» " وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنَ الْمَرْهُونِ بِحَلْبٍ وَرُكُوبٍ دُونَ غَيْرِهِمَا وَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ، وَاحْتَجَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنْ يُقَالَ: دَلَّ الْحَدِيثُ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْفَاقِ، وَانْتِفَاعُ الرَّاهِنِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إِبَاحَتَهُ مُسْتَفَادَةٌ لَهُ مِنْ تَمَلُّكِ الرَّقَبَةِ لَا مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ مَقْصُورٌ عَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَجَوَازُ انْتِفَاعِ الرَّاهِنِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا، فَإِذًا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ مِنَ الْمَرْهُونِ بِالنَّفَقَةِ، وَأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَزِمَهُ النَّفَقَةُ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِأَنَّهُ مِنَ الرِّبَا فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى انْتِفَاعِ الْمُرْتَهِنِ بِمَنَافِعِ الْمَرْهُونِ بِدَيْنِهِ، وَكُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْبَاءَ فِي بِنَفَقَتِهِ لَيْسَتْ لِلْبَدَلِيَّةِ بَلْ لِلْمَعِيَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الظَّهْرَ يُرْكَبُ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ فَلَا يَمْنَعُ الرَّهْنُ الرَّاهِنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَرْهُونِ، وَلَا يُسْقِطُ عَنْهُ الْإِنْفَاقُ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2887 - (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2887 - (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا يَغْلَقُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لَا يَمْنَعُ (الرَّهْنُ) أَيْ عَقْدُهُ (الرَّهْنَ) أَيِ الْمَرْهُونَ (مِنْ صَاحِبِهِ) أَيْ مَالِكِ الْمَرْهُونِ (الَّذِي رَهَنَهُ) أَيْ صَاحِبُهُ بِحَيْثُ يَزُولُ عَنْهُ مَنْفَعَتُهُ بَلْ يَكُونُ الْمَرْهُونُ كَالْبَاقِي فِي مِلْكِ الرَّاهِنِ وَفَى النِّهَايَةِ أَيْ لَا يَسْتَفِكُّهُ صَاحِبُهُ وَكَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الرَّاهِنَ. إِذَا لَمْ يَرُدَّ مَا عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ مَلَكَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَأَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّهْنُ الْأَوَّلُ مَصْدَرٌ وَالثَّانِي مَفْعُولٌ فِي الْغَرِيبَيْنِ أَيْ لَا يَسْتَحِقُّهُ مُرْتَهِنُهُ إِذَا لَمْ يَرُدَّ الرَّاهِنُ - مَا رَهَنَهُ بِهِ فِي الْفَائِقِ: يُقَالُ غَلِقَ الرَّهْنُ غُلُوقًا إِذَا بَقَى فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَلْقِ الرَّهْنِ؟ فَقَالَ: يَقُولُ إِنْ لَمْ أَفُكُّهُ إِلَى غَدٍ فَهُوَ لَكَ، وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقَالُ غَلِقَ الْبَابُ وَانْغَلَقَ وَاسْتَغْلَقَ إِذَا عَسُرَ فَتْحُهُ وَالْغَلْقُ فِي الرَّهْنِ ضِدَّ الْفَكِّ فَإِذَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَلْقِ الرَّهْنِ فَقَالَ: يَقُولُ إِنْ لَمْ أَفُكُّهُ إِلَى غَدٍ فَهُوَ لَكَ وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقَالُ غَلِقَ الْبَابُ وَانْغَلَقَ وَاسْتَغْلَقَ إِذَا عَسُرَ فَتْحُهُ وَالْغَلْقُ فِي الرَّهْنِ ضِدَّ الْفَكِّ فَإِذَا فَكَّ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ فَقَدْ أَطْلَقَهُ مِنْ وَثَاقِهِ (لَهُ) أَيْ لِلرَّاهِنِ (غُنْمُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ فَوَائِدُهُ وَنَمَاؤُهُ (وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَدَاءُ مَا يَفُكُّ بِهِ الرَّهْنَ وَمَنْ لَا يَرَى الرَّهْنَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ يُفَسِّرُهُ بِأَنَّ عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ وَضَمَانَهُ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ كَذَا ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: غُنْمُهُ زِيَادَتُهُ وَغُرْمُهُ هَلَاكُهُ وَنَقْصُهُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّوَائِدَ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهُ تَكُونُ لِلرَّاهِنِ وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ وَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَوَامَ الْقَبْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الرَّهْنِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَرْكَبُهَا إِلَّا وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ. قَالَ فِي الْمُغْرِبِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُرْجِعُ الرَّهْنَ إِلَى رَبِّهِ فَيَكُونُ غُنْمُهُ لَهُ وَيَرْجِعُ رَبُّ الْحَقِّ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ فَيَكُونُ غُرْمُهُ عَلَيْهِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ: مِنْ صَاحِبِهِ، قِيلَ: الْمُرَادُ لِصَاحِبِهِ، وَقِيلَ: مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ ضَمِنَ، غَلَقَ مَنَعَ أَيْ: لَا يَمْنَعُ الرَّهْنُ الْمَرْهُونَ مِنْ تَصَرُّفِ مَالِكِهِ مَا ثُمَّ جِيءَ بِمَا بَعْدَهُ بَيَانًا لِذَلِكَ، وَقُدِّمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ تَخْصِيصًا يَعْنِي لَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِهِ فَلَهُ نَفْعُهُ لَا لِغَيْرِهِ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ. لَا عَلَى غَيْرِهِ وَفِيهِ أَنْ لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنَ الرَّهْنِ إِلَّا تَوْثِقَةُ دَيْنِهِ، وَإِنْ نَقَصَ وَهَلَكَ فَلَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الرَّاهِنِ (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا) أَيْ عَنْ سَعِيدٍ التَّابِعِيِّ بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ.

2888 - وَرُوِيَ مِثْلُهُ أَوْ مِثْلُ مَعْنَاهُ لَا يُخَالِفُهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُتَّصِلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2888 - (وَرُوِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ لَفْظِ الْحَدِيثِ (أَوْ مِثْلُ مَعْنَاهُ) وَفِي نُسْخَةٍ رَوَى بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ فَالضَّمِيرُ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَبِنَصْبِ مِثْلَ (لَا يُخَالِفُهُ) وَفِي نُسْخَةٍ وَلَا يُخَالِفُهُ (عَنْهُ) أَيْ عَنْ سَعِيدٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) مُتَعَلِّقٌ بِرَوَى وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يُخَالِفُهُ يَعُودُ إِلَى الْفَاعِلِ الْمَتْرُوكِ مِنْ رُوِيَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَجْهُولًا أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَعْلُومًا فَقَوْلُهُ " لَا يُخَالِفُ " حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: " مِثْلَهُ أَوْ مِثْلَ مَعْنَاهُ " وَضَمِيرُ " عَنْهُ " لِسَعِيدٍ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي " لَا يُخَالِفُ " لِلرَّاوِي الْمَتْرُوكِ كَمَا مَرَّ وَعَلَى الثَّانِي أَيْ عَلَى كَوْنِ رَوَى مَعْلُومًا لِلشَّافِعِيِّ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا يُخَالِفُ الْمُرْوَى أَوِ الرَّاوِي الْمَرْوِيَّ فَتَأَمَّلْ (مُتَّصِلًا) حَالٌ مِنَ الْحَدِيثِ أَوْ إِسْنَادُهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَحَّدْنَاهُ فِي الْكِتَابِ أَيِ الْمَصَابِيحِ مَوْصُولًا مُسْنَدًا إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ بِهِ فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَلَى هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يُوصِلْهُ غَيْرُ ابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ.

2889 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2889 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولَ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمِكْيَالُ) أَيِ الْمُعْتَبَرُ (مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ زِرَاعَاتٍ فَهُمْ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ الْمَكَايِيلِ (وَالْمِيزَانُ) أَيِ الْمُعْتَبَرُ (مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ) لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تِجَارَاتٍ فَعَهْدُهُمْ بِالْمَوَازِينِ وَعِلْمُهُمْ بِالْأَوْزَانِ أَكْثَرُ، كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْحَدِيثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الدَّرَاهِمِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ مَكَّةَ، وَالصَّاعُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كُلُّ صَاعٍ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

2890 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ " إِنَّكُمْ قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ هَلَكَتْ فِيهِمَا الْأُمَمُ السَّابِقَةُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2890 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ إِنَّكُمْ) مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ جَمِيعًا أَوِ الْمُرَادُ بِأَصْحَابِ الْكَيْلِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَبِأَصْحَابِ الْمِيزَانِ أَهْلُ مَكَّةَ، وَخَاطَبَ كُلًّا مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِهِ، وَجَمَعَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ فَيَكُنْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] (قَدْ وُلِّيتُمْ) بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ (أَمْرَيْنِ) أَيْ جُعِلْتُمْ حَاكِمًا فِي أَمْرَيْنِ وَإِنَّمَا قَالَ أَمْرَيْنِ، أَبْهَمَهُ وَنَكَّرَهُ لِيَدُلَّ عَلَى التَّفْخِيمِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] (هَلَكَتْ فِيهِمَا الْأُمَمُ السَّابِقَةُ قَبْلَكُمْ) كَقَوْمِ شُعَيْبٍ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَ النَّاسِ تَامًّا وَإِذَا أَعْطَوْهُمْ أَعْطَوْهُمْ نَاقِصًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2891 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2891 - (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ» ) بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَقِيلَ بِالنَّفْيِ وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ إِلَى شَيْءٍ (إِلَى غَيْرِهِ) أَيْ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ (قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي غَيْرِهِ إِلَى " مَنْ " فِي قَوْلِهِ " مَنْ أَسْلَفَ " يَعْنِي لَا يَبِيعُهُ مَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ إِلَى شَيْءٍ أَيْ لَا يُبَدِّلُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِشَيْءٍ آخَرَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

[باب الاحتكار]

[بَابُ الِاحْتِكَارِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2892 - عَنْ مَعْمَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " «كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ فِي بَابِ الْفَيْءِ» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الِاحْتِكَارِ) هُوَ حَبْسُ الطَّعَامِ حِينَ احْتِيَاجِ النَّاسِ بِهِ حَتَّى يَغْلُوَ 2892 - (عَنْ مَعْمَرٍ) بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ مَعَ سُكُونِ مُهْمَلَةٍ بَيْنَهُمَا أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» ) بِالْهَمْزِ أَيْ عَاصٍ آثِمٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الِاحْتِكَارُ الْمُحَرَّمُ هُوَ فِي الْأَقْوَاتِ خَاصَّةً بِأَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ وَلَا يَبِيعُهُ فِي الْحَالِ بَلْ يَدَّخِرُهُ لِيَغْلُوَ، فَأَمَّا إِذَا جَاءَ مِنْ قَرْيَتِهِ أَوِ اشْتَرَاهُ فِي وَقْتِ الرُّخْصِ وَادَّخَرَهُ وَبَاعَهُ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ فَلَيْسَ بِاحْتِكَارٍ وَلَا تَحْرِيمَ فِيهِ وَأَمَّا غَيْرُ الْأَقْوَاتِ فَلَا يَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ فِيهِ بِكُلِّ حَالٍ اهـ. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الِاحْتِكَارَ حَرَامٌ مِنَ الْمَطْعُومِ وَغَيْرِهِ، كَذَا

ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ لَا يَحْتَكِرُ. (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ فِي بَابِ الْفَيْءِ ") : أَيِ: الْغَنِيمَةِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : لِأَنَّ مُنَاسَبَتَهُ بِالْفَيْءِ ظَاهِرَةٌ وَكَانَ الْبَغَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَا نَظَرًا إِلَى أَنَّ لَهُ تَعَلُّقًا بِالْبَابِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ بَيَانَ أَنَّ حَبْسَ الطَّعَامِ لِنَفَقَةِ الْعِيَالِ لَيْسَ بِاحْتِكَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2893 - عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2893 - (عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْجَالِبُ ") أَيِ: التَّاجِرُ (مَرْزُوقٌ) : أَيْ: يَحْصُلُ الرِّبْحُ مِنْ غَيْرِ إِثْمٍ (وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ) : أَيْ: آثِمٌ بَعِيدٌ عَنِ الْخَيْرِ مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ وَلَا تَحْصُلُ لَهُ الْبَرَكَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " قُوبِلَ الْمَلْعُونِ بِالْمَرْزُوقِ وَالْمُقَابِلُ الْحَقِيقِيُّ مَرْحُومٌ أَوْ مَحْرُومٌ لِيَعُمَّ، فَالتَّقْدِيرُ التَّاجِرُ مَرْحُومٌ وَمَرْزُوقٌ لِتَوْسِعَتِهِ عَلَى النَّاسِ وَالْمُحْتَكِرُ مَحْرُومٌ وَمَلْعُونٌ لِتَضْيِيقِهِ عَلَيْهِمْ ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» ".

2894 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ، بِدَمٍ وَلَا مَالٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2894 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَلَا السِّعْرُ) : أَيِ: ارْتَفَعَتِ الْقِيمَةُ (عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: فِي زَمَانِهِ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! سَعِّرْ لَنَا) : أَمْرٌ مِنَ التَّسْعِيرِ وَهُوَ مِنْ وَضْعِ السِّعْرِ عَلَى الْمَتَاعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " السِّعْرُ الْقِيمَةُ لِيَشِيعَ الْبَيْعُ فِي الْأَسْوَاقِ بِهَا ". قِيلَ: " سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَرْتَفِعُ وَالتَّرْكِيبُ لِمَا ارْتَفَعَ وَالتَّسْعِيرُ تَقْدِيرُهَا ". (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ) : بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ الْمَكْسُورَةِ (الْقَابِضُ الْبَاسِطُ) : سَبَقَ مَعْنَاهُمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى (الرَّازِقُ) : وَفِي نُسْخَةٍ " الرَّزَّاقٌ " بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ " إِلَخْ جَوَابٌ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيلِ لِلِامْتِنَاعِ عَنِ التَّسْعِيرِ جِيءَ بِإِنِّ، وَضَمِيرِ الْفَصْلِ مِنِ اسْمِ إِنَّ، وَالْخَبَرِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ لِيَدُلَّ عَلَى التَّوْكِيدِ وَالتَّخْصِيصِ، ثُمَّ رُتِّبَ هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْأَخْبَارِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَوَالِيَةِ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَكَوْنُهُ قَابِضًا عِلَّةٌ لِغَلَاءِ السِّعْرِ، وَكَوْنُهُ بَاسِطًا لِرُخْصِهِ، وَكَوْنُهُ رَازِقًا يُقَتِّرُ الرِّزْقَ عَلَى الْعِبَادِ وَيُوَسِّعُهُ، فَمَنْ حَاوَلَ التَّسْعِيرَ فَقَدْ عَارَضَ اللَّهَ وَنَازَعَهُ فِيمَا يُرِيدُهُ وَيَمْنَعُ الْعِبَادَ حُقُوقَهَمْ مِمَّا أَوْلَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ وَإِلَى الْمَعْنَى الْأَخِيرِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (بِمَظْلِمَةٍ) : بِكَسْرِ اللَّامِ ; مَا أُخِذَ مِنْكَ ظُلْمًا كَذَا ذَكَرَهُ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْمَظْلِمَةُ: الظُّلْمُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: " وَهَذَا مَظْلِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ " اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ فِي قَوْلِهِمْ: عِنْدَ فُلَانٍ مَظْلِمَتِي وَظَلَامِي، أَيْ: حَقِّي الَّذِي أُخِذَ مِنِّي ظُلْمًا (بِدَمٍ) : بَدَلٌ مِنْ مَظْلِمَةٍ (وَلَا مَالٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: جِيءَ بِلَا النَّافِيَةِ لِلتَّوْكِيدِ مِنْ غَيْرِ تَكْرِيرٍ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَالِ هَذَا التَّسْعِيرُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَظْلُومِ وَهُوَ كَأَرْشِ جِنَايَةٍ، وَإِنَّمَا أُتِيَ بِمَظْلِمَةٍ تَوْطِئَةً لَهُ، قَالَ الْقَاضِي: " قَوْلُهُ: إِنِّي لَأَرْجُو إِلَخْ ; إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ لَهُ مِنَ التَّسْعِيرِ مَخَافَةُ أَنْ يَظْلِمَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَإِنَّ التَّسْعِيرَ تَصَرُّفٌ فِيهَا بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا فَيَكُونُ ظُلْمًا، وَمِنْ مَفَاسِدِ التَّسْعِيرِ تَحْرِيكُ الرَّغَبَاتِ وَالْحَمْلُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنِ الْبَيْعِ وَكَثِيرًا مَا يُؤَدِّي إِلَى الْقَحْطِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: " «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ أَلْقَى وَلَا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلِمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2895 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ» . " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2895 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ» ) : أَضَافَ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلْمُحْتَكِرِ إِيذَانًا بِأَنَّهُ قُوتُهُمْ وَمَا بِهِ مَعَاشُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يُقِيمُ بِهِ النَّاسُ مَعَايِشَهُمْ (ضَرَبَهُ اللَّهُ) : أَيْ: أَلْصَقَهُ وَأَلْزَمَهُ (بِالْجُذَامِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: بِعَذَابِ الْجُذَامِ وَهُوَ تَشَقُّقُ الْجِلْدِ وَتَقَطُّعُ اللَّحْمِ وَتَسَاقُطُهُ (وَالْإِفْلَاسُ) : فِيهِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَدْنَى مَضَرَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ ابْتَلَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُمْ أَصَابَهُ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ خَيْرًا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ: فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ) : وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ.

2896 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُرِيدُ بِهِ الْغَلَاءَ، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2896 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا) : لَمْ يُرِدْ بِأَرْبَعِينَ التَّوْقِيتَ وَالتَّحْدِيدَ ; بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ الِاحْتِكَارَ حِرْفَتَهُ وَيُرِيدَ بِهِ نَفْعَ نَفْسِهِ وَضَرَّ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (يُرِيدُ بِهِ الْغَلَاءَ) : لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يَتَمَرَّنُ فِيهِ الْمَرْءُ فِي حِرْفَتِهِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَقَوْلُهُ (فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ) : أَيْ: نَقَضَ مِيثَاقَ اللَّهِ وَعَهْدَهُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ بَرَاءَتَهُ عَلَى بَرَاءَةِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ إِيفَاءَ عَهْدِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِيفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَهْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وَهَذَا تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ وَتَهْدِيدٌ جَسِيمٌ فِي الِاحْتِكَارِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) : وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " «مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغَلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ".

2897 - وَعَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «بِئْسَ الْعَبْدُ الْمُحْتَكِرُ: إِنْ أَرْخَصَ اللَّهُ الْأَسْعَارَ حَزِنَ، وَإِنْ أَغْلَاهَا فَرِحَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2897 - (وَعَنْ مُعَاذٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «بِئْسَ الْعَبْدُ الْمُحْتَكِرُ» ") : أَيْ: فِي حَالَيْهِ (إِنْ أَرْخَصَ اللَّهُ الْأَسْعَارَ حَزِنَ) : بِكَسْرِ الزَّايِ لَازِمٌ وَبِفَتْحِهَا مُتَعَدٍّ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ (وَإِنْ أَغْلَاهَا) : أَيِ: اللَّهُ (فَرِحَ) : رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ.

2898 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَصَدَّقَ بِهِ ; لَمْ يَكُنْ لَهُ كَفَّارَةً» ". رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2898 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَصَدَّقَ» ") : أَيْ: بِذَلِكَ الطَّعَامِ يَعْنِي فَرْضًا وَتَقْدِيرًا أَوْ بِمِقْدَارِهِ (لَمْ يَكُنْ) : أَيِ: التَّصَدُّقُ (لَهُ) : أَيْ لِذَنْبِهِ (كَفَّارَةً) : بِالنَّصْبِ خَبَرٌ وَلَهُ ظَرْفٌ لَغْوٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ " كَانَ " نَاقِصَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الطَّعَامِ، وَالطَّعَامُ الْمُحْتَكَرُ لَا يُتَصَدَّقُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ تُقَدَّرَ الْإِرَادَةُ فَيُفِيدُ مُبَالَغَةً، فَإِنَّ مَنْ نَوَى الِاحْتِكَارَ هَذَا شَأْنُهُ فَكَيْفَ بِمَنْ فَعَلَهُ؟ " (رَوَاهُ رَزِينٌ) : وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاذٍ بِلَفْظِ: " «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَتَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ» ".

[باب الإفلاس والإنظار]

[بَابُ الْإِفْلَاسِ وَالْإِنْظَارِ]

(بَابُ الْإِفْلَاسِ وَالْإِنْظَارِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 2899 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَأَدْرَكَ رَجُلٌ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْإِفْلَاسِ وَالْإِنْظَارِ) فِي النِّهَايَةِ: أَفْلَسَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ أَوْ مَعْنَاهُ صَارَتْ دَرَاهِمُهُ فُلُوسًا، وَقِيلَ: صَارَ إِلَى حَالٍ يُقَالُ لَيْسَ مَعَهُ فَلْسٌ، وَالْإِنْظَارُ التَّأْخِيرُ وَالْإِمْهَالُ. 2899 - (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَأَدْرَكَ) : أَيْ: لَقِيَ (رَجُلٌ) : أَيْ: عِنْدَ الْمُفْلِسِ (مَالَهُ بِعَيْنِهِ) : أَيْ: بِذَاتِهِ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا لَكَ حِسًّا أَوْ مَعْنًى بِالتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلِ الْهِبَةِ وَالْوَقْفِ (فَهُوَ) : أَيِ: الرَّجُلُ (أَحَقُّ بِهِ) : أَيْ: بِمَالِهِ (مِنْ غَيْرِهِ) : أَيْ: مِنَ الْغُرَمَاءِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ وَالْأَخْذُ، بَلْ هُوَ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ عَلَى الْعَقْدِ بِالْخِيَارِ، أَيْ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَظَهَرَ لَهُ فِي مُدَّتِهِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُفْلِسٌ، فَالْأَنْسَبُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْفَسْخَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَوَجَدَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ، فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ بَعْضَ الثَّمَنِ وَأَفْلَسَ بِالْبَاقِي أَخَذَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ. قَضَى بِهِ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا نَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2900 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتَصَّدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغُرَمَائِهِ: " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2900 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أُصِيبَ) : أَيْ: بِآفَةٍ (رَجُلٌ) : قَالَ الْأَكْمَلُ: هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ (فِي عَهْدِ النَّبِيِّ) : أَيْ: فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي ثِمَارٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِأُصِيبَ (ابْتَاعَهَا) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَحِقَهُ خُسْرَانٌ بِسَبَبِ إِصَابَةِ آفَةٍ فِي ثِمَارٍ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَنْقُدْ ثَمَنَهَا (فَكَثُرَ دَيْنُهُ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ، أَيْ: فَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِثَمَنِ تِلْكَ الثَّمَرَةِ، وَكَذَا طَالَبَهُ بَقِيَّةُ غُرَمَائِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ يُؤَدِّيهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: لِأَصْحَابِهِ أَوْ لِقَوْمِ الرَّجُلِ (تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ) : أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (فَتَصَّدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ (وَفَاءَ دَيْنِهِ) : أَيْ: لِكَثْرَتِهِ ( «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغُرَمَائِهِ خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ» ) : أَيْ: بِالتَّوْزِيعِ عَلَى السَّوِيَّةِ (وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ) : أَيْ: مَا وَجَدْتُمْ وَالْمَعْنَى لَيْسَ لَكُمْ إِلَّا أَخْذُ مَا وَجَدْتُمْ وَالْإِمْهَالُ بِمُطَالَبَةِ الْبَاقِي إِلَى الْمَيْسَرَةِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: " أَيْ لَيْسَ لَكُمْ زَجْرُهُ وَحَبْسُهُ ; لِأَنَّهُ ظَهَرَ إِفْلَاسُهُ. وَإِذَا ثَبَتَ إِفْلَاسُ الرَّجُلِ لَا يَجُوزُ حَبْسُهُ بِالدَّيْنِ بَلْ يُخْلَى وَيُمْهَلُ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَالٌ فَيَأْخُذَهُ الْغُرَمَاءُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ إِلَّا مَا وَجَدْتُمْ وَبَطَلَ مَا بَقِيَ مِنْ دُيُونِكُمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2901 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا تَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا. قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2901 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ» ) : أَيْ: يُعَامِلُهُمْ بِالدَّيْنِ أَوْ يُعْطِيهِمْ دَيْنًا (فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ) : أَيْ: لِخَادِمِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: " أَيْ لِغُلَامِهِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. " (إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا) : أَيْ: فَقِيرًا (تَجَاوَزْ عَنْهُ) : أَيْ: سَامِحْ فِي الِاقْتِضَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَقَبُولِ مَا فِيهِ نَقْصٌ يَسِيرٌ (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " لَعَلَّ هُنَا بِمَعْنَى عَسَى، وَلِذَلِكَ أَتَى بِأَنْ أَيْ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ، بَلْ يَتَجَاوَزُ (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلَقِيَ) : أَيِ: الرَّجُلُ (اللَّهَ) : أَيْ مَاتَ (جَاوَزَ) : أَيْ: عَفَا (عَنْهُ) : فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: فَتَجَاوَزَ عَنْهُ؟ قُلْتُ: أَرَادَ الْقَائِلُ نَفْسَهُ وَلَكِنْ جَمَعَ الضَّمِيرِ إِرَادَةَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَمَّنْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لِيَدْخُلَ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَلِذَلِكَ اسْتُحِبَّ لِلدَّاعِي أَنْ يَعُمَّ فِي الدُّعَاءِ وَلَا يَخُصَّ نَفْسَهُ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى بِبَرَكَتِهِمْ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " فِي الْحَدِيثِ فَضْلُ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَالْوَضْعِ عَنْهُ إِمَّا كُلُّ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضُهُ وَفَضْلُ الْمُسَامِحَةِ فِي الِاقْتِضَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ سَوَاءٌ عَنِ الْمُعْسِرِ وَالْمُوسِرِ وَلَا يُحْتَقَرُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ فَلَعَلَّهُ سَبَبُ السَّعَادَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ تَوْكِيلِ الْعَبِيدِ وَالْإِذْنِ لَهُمْ فِي التَّصَرُّفِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا اهـ كَلَامُهُ، وَأَقُولُ: لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا ; لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحْسَنَهُ الشَّارِعُ وَقَرَّرَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.

2902 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2902 - (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ سَرَّهُ) : أَيْ: أَحَبَّهُ وَأَعْجَبَهُ (أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ يُخَلِّصَهُ (مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ الْكُرْبَةِ وَهِيَ الْمِحْنَةُ الشَّدِيدَةُ وَالْمَشَقَّةُ الْأَكِيدَةُ (فَلْيُنَفِّسْ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ فَلْيُؤَخِّرْ مُطَالَبَتَهُ (عَنْ مُعْسِرٍ) : أَيْ: إِلَى مُدَّةٍ يَجِدُ مَالًا فِيهَا (أَوْ يَضَعْ) : بِالْجَزْمِ أَيْ يَحُطَّ وَيَتْرُكْ عَنْهُ أَيْ عَنِ الْمُعْسِرِ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ. فَائِدَةٌ: الْفَرْضُ أَفْضَلُ مِنَ النَّفْلِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً إِلَّا فِي مَسَائِلَ، الْأُولَى: إِبْرَاءُ الْمُعْسِرِ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ إِنْظَارِهِ الْوَاجِبِ. الثَّانِيَةُ: ابْتِدَاءُ السَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ جَوَابِهِ. الثَّالِثَةُ: قَبْلَ الْوَقْتِ مَنْدُوبٌ أَفْضَلُ مِنَ الْوُضُوءِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَهُوَ فَرْضٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2903 - وَعَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ ; أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2903 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي قَتَادَةَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا» ) : أَيْ: أَمْهَلَ مَدْيُونًا فَقِيرًا (أَوْ وَضَعَ عَنْهُ) : أَيْ: قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. ( «أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2904 - وَعَنْ أَبِي الْيَسَرِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2904 - (وَعَنْ أَبِي الْيَسَرِ) : بِفَتْحَتَيْنِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» ) : أَيْ: وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَرِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ أَوْ أَوْقَفَهُ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " الْمُرَادُ مِنْهُ الْكَرَامَةُ وَالْحِمَايَةُ عَنْ مَكَارِهِ الْمَوْقِفِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي ظِلِّ فُلَانٍ أَيْ كَنَفِهِ وَرِعَايَتِهِ. " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ عَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ ( «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ» ) .

2905 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكْرًا فَجَاءَتْهُ إِبِلٌ مِنَ الصَّدَقَةِ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ. فَقُلْتُ: لَا أَجِدُ إِلَّا جَمَلًا خِيَارًا رَبَاعِيًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْطِهِ إِيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2905 - (عَنْ أَبِي رَافِعٍ) : أَيْ: مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: اسْتَقْرَضَ (بَكْرًا) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ كَافٍ فَتًى مِنَ الْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ الْغُلَامِ مِنَ الْإِنْسَانِ (فَجَاءَتْهُ) : أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِبِلٌ مِنَ الصَّدَقَةِ) : أَيْ: قِطْعَةُ إِبِلٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ (قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَقُلْتُ: لَا أَجِدُ إِلَّا جَمَلًا خِيَارًا) : يُقَالُ جَمَلٌ خِيَارٌ وَنَاقَةٌ خِيَارَةٌ أَيْ مُخْتَارَةٌ (رَبَاعِيًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ، وَهُوَ مِنَ الْإِبِلِ مَا أَتَى عَلَيْهِ سِتُّ سِنِينَ وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ حِينَ طَلَعَتْ رَبَاعِيَتُهُ ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْطِهِ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ اسْتِسْلَافِ الْإِمَامِ لِلْفُقَرَاءِ إِذَا رَأَى بِهِمْ خَلَّةً وَحَاجَةً ثُمَّ يُؤَدِّيهِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ إِنْ كَانَ قَدْ أَوْصَلَ إِلَى الْمَسَاكِنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ وَثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا يَرُدُّ مِثْلَ مَا اقْتَرَضَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ مِنْ ذَاتِ الْقِيَمِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَدِّ الْمِثْلِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا فَرَدَّ أَحْسَنَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِهِ كَانَ مُحْسِنًا وَيَحِلُّ ذَلِكَ لِلْمُقْرِضِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُ الزِّيَادَةِ سَوَاءٌ زَادَ فِي الصِّفَةِ أَوْ فِي الْعَدَدِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْعَدَدِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَحُجَّةُ أَصْحَابِنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» "، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَدَّ الْأَجْوَدِ فِي الْقَرْضِ أَوْ فِي الدَّيْنِ سُنَّةٌ وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً ; لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ قَضَى مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ أَجْوَدَ مِنَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْغَرِيمُ مَعَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي الصَّدَقَاتِ لَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهُ مِنْهَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَرَضَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ اشْتَرَى فِي الْقَضَاءِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ بَعِيرًا وَأَدَّاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ " اشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ " وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقْتَرِضَ كَانَ بَعْضَ الْمُحْتَاجِينَ اقْتَرَضَ لِنَفْسِهِ فَأَعْطَاهُ مِنَ الصَّدَقَةِ حِينَ جَاءَتْ وَأَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ، قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ إِقْرَاضِ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ، إِلَّا الْجَارِيَةَ لِمَنْ يَمْلِكُ وَطْأَهَا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالْأَحَادِيثُ

الصَّحِيحَةُ تَرِدُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَى النَّسْخِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، قَالَ أَكْمَلُ الدِّينِ: قِيلَ فِيهِ جَوَازُ اسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ وَثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَدَاءً بِقِيمَةِ مَا اشْتَرَى بِهِ الْبَعِيرَ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَرْضًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ بِلَفْظِ " «خَيْرُ النَّاسِ خَيْرُهُمْ قَضَاءً» ".

2906 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: " دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، قَالُوا: لَا نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ. قَالَ: " اشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2906 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ بَعِيرًا أَوْ قِيمَتَهُ. وَفِي النِّهَايَةِ: تَقَاضَى أَيْ طَالَبَهُ بِهِ وَأَرَادَ قَضَاءَ دَيْنِهِ. اهـ وَلَعَلَّهُ وَقَعَ التَّعَلُّلُ بِأَنَّهُ لَمْ يَوْجَدْ مِثْلُهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ ثَمَنُهُ (فَأَغْلَظَ) : أَيْ عَنَّفَ الرَّجُلُ (فِي الْقَوْلِ لَهُ) : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِغْلَاظُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَدْحٌ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ كَافِرًا مِنَ الْيَهُودِ أَوْ غَيْرِهِمْ، قَالَ الْأَكْمَلُ: قِيلَ وَلَعَلَّ هَذَا الْتَقَاضِيَ كَانَ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ (فَهَّمَ أَصْحَابُهُ) : أَيْ: قَصَدُوا أَنْ يَزْجُرُوهُ وَيُؤْذُوهُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَكِنْ لَمْ يَفْعَلُوا تَأَدُّبًا مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ: دَعُوهُ) : أَيِ: اتْرُكُوهُ وَلَا تَزْجُرُوهُ (فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الدَّيْنُ ; أَيْ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى غَرِيمِهِ حَقٌّ فَمَاطَلَهُ، فَلَهُ أَنْ يَشْكُوَهُ وَيَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ وَيُعَاتِبَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمَقَالِ. كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَشْدِيدِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى الْمَدْيُونِ بِالْقَوْلِ يَعْنِي بِأَنْ يُطْلِقَ عَلَيْهِ لِسَانَهُ وَيَنْسُبَهُ إِلَى الظُّلْمِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، إِذَا تَحَقَّقَ مِنْهُ الْمُمَاطَلَةَ وَالمُدَافَعَةَ مِنْ غَيْرِ مُلَاطِفَةٍ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا قَدْ يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ - وَمَبْنِيٌّ هَذَا عَلَى حَدِيثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ "، وَلَعَلَّهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} [النساء: 148] (وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ قَالُوا: لَا نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ) لِأَنَّ بَعِيرَهُ كَانَ صَغِيرًا حَقِيرًا وَالْمَوْجُودُ كَانَ رَبَاعِيًا خِيَارًا (قَالَ: اشْتَرُوهُ) : أَيْ: وَلَوْ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ سِنِّهِ (فَأَعْطُوهُ فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، والْبَيْهَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ كَمَا قَيَّدَهُ بِهِ عَبْدُ الْغَنِيِّ، وَذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ أَجَلُّ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَبْقَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ لِأَنْ أُخَالِطَهُ فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ وَجَهْلَهُ، فَابْتَعْتُ مِنْهُ تَمْرًا إِلَى أَجَلٍ فَأَعْطَيْتُهُ التَّمْرَ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ ثُمَّ قُلْتُ: أَلَا تَقْضِينِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبُ مُطْلٌ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَسْمَعُ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَبَسُّمٍ ثُمَّ قَالَ: أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ يَا عُمَرُ، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مَكَانَ مَا رُمْتَهُ، فَفَعَلَ فَقُلْتُ: يَا عُمَرُ كُلُّ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ قَدْ عَرَفْتُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا ; يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ إِلَّا حِلْمًا فَقَدِ اخْتَبَرَتْهُمَا، فَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا» . وَقَدْ وَقَعَ أَغْرَبُ مِنْ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَنِهَايَةِ صَبْرِهِ وَحِلْمِهِ عَلَى الْأَذَى فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ جَفَاءِ مَنْ يُرِيدُ تَأَلُّفَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْمَالِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ بِرِدَائِهِ جَذْبَةً. قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِهِ وَقَدْ أَثَّرَتْ فِيهِ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا ثُمَّ قَامَ فَقُمْنَا حِينَ قَامَ فَنَظَرْنَا إِلَى أَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْرَكَهُ فَجَذَبَهُ بِرِدَائِهِ فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ وَكَانَ رِدَاءً خَشِينًا فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: احْمِلْنِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُنِي مِنْ مَالِكَ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا " وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ " لَا " وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ " لَا " لَا أَحْمِلُكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِنْ جَذْبَتِكَ الَّتِي جَذَبْتَنِي، فَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لَا أَقِيدُكَهَا. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ تَمْرًا، أَوْ عَلَى الْآخَرِ شَعِيرًا» . وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الشِّفَاءِ أَنَّهُ جَذَبَهُ بِإِزَارِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ.

2907 - وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2907 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَطْلُ الْغَنِيِّ) : أَيْ: تَأْخِيرُهُ أَدَاءَ الدَّيْنِ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ (ظُلْمٌ) : فَإِنَّ الْمَطْلَ مَنْعُ أَدَاءِ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ وَهُوَ حَرَامٌ مِنَ الْمُتَمَكِّنِ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مُتَمَكِّنًا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى الْإِمْكَانِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ يَفْسُقُ بِمَرَّةٍ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ إِذَا تَكَرَّرَ وَهُوَ الْأَوْلَى (فَإِذَا أُتْبِعَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ الْقَطْعِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةِ وَصْلِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ الْمَضْمُومَةِ، أَيْ جُعِلَ تَابِعًا لِلْغَيْرِ بِطَلَبِ الْحَقِّ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا أُحِيلَ (أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ فَهَمْزٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِدْغَامِ، أَيْ غَنِيٍّ. فِي النِّهَايَةِ: الْمَلِيءُ بِالْهَمْزَةِ: الثِّقَةُ الْغَنِيُّ وَقَدْ أُولِعَ النَّاسُ فِيهِ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ (فَلْيَتْبَعْ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ فَلْيَحْتَلْ يَعْنِي فَلْيَقْبَلِ الْحَوَالَةَ يُقَالُ: أُتْبِعَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُحِيلَ عَلَيْهِ وَاتَّبَعَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ أَيْ مَشَى خَلْفَ أَحَدٍ وَاقْتَدَى بِهِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: أَتْبَعْتُ زَيْدًا عَمْرًا فَتَبِعَهُ جَعَلْتُهُ تَابِعًا وَحَمَلْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ وَاللُّغَةِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ إِسْكَانُ الْمُثَنَّاةِ فِي أُتْبِعَ، وَفِي فَلْيُتْبِعْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ مِثْلَ إِذَا عُلِمَ فَلْيُعْلِمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا أُتْبِعَ فَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّاءِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا فَلْيُتْبِعْ فَالْأَكْثَرُ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّشْدِيدِ وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ، وَقَالَ فِي الْمُقَدِّمَةِ بِالسُّكُونِ فِي الْأَوَّلِ وَبِالتَّشْدِيدِ فِي الثَّانِي، وَقِيلَ بِالسُّكُونِ فِيهِمَا، وَخَطَّأَ الْخَطَّابِيُّ التَّشْدِيدَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، وَقِيلَ: لِلْإِبَاحَةِ، وَقِيلَ: لِلْوُجُوبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

2908 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: " يَا كَعْبُ " قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ " قُمْ فَاقْضِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2908 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونٍ (دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ) : أَيْ طَلَبَ كَعْبٌ قَضَاءَ الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ (فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ فِي زَمَانِهِ (فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا) : جَمْعِيَّةُ الْأَصْوَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا كَمَا يُتَوَهَّمُ إِذِ الْمَعْنَى أَصْوَاتُ كَلِمَاتِهِمَا وَأَقْوَالِهِمَا (حَتَّى سَمِعَهَا) : أَيْ أَصْوَاتَهُمَا (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَحَتَّى غَايَةُ الِارْتِفَاعِ. وَهُوَ أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي بَيْتِهِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِمَا وَمُقْبِلًا عَلَيْهِمَا (حَتَّى كَشَفَ) : أَيْ: إِلَى أَنْ رَفَعَ (سِجْفَ حُجْرَتِهِ) : أَيْ سُتْرَتَهَا، وَهُوَ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا وَإِسْكَانِ الْجِيمِ لُغَتَانِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; وَهُوَ السِّتْرُ وَقِيلَ أَحَدُ طَرَفَيِ السِّتْرِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: السِّجْفُ الْبَابُ وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى سِجْفًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْقُوقَ الْوَسَطِ كَالْمِصْرَاعَيْنِ (وَنَادَى) : أَيْ رَسُولُ اللَّهِ (كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: يَا كَعْبُ) : اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ النِّدَاءِ (قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) : وَالْمَقْصُودُ مِنَ النِّدَاءِ التَّوَجُّهُ لِقَبُولِ الْخِطَابِ (فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ) : أَيْ أَبْرِئْهُ النِّصْفَ (مِنْ دَيْنِكَ قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ) : أَيِ امْتَثَلْتُ أَمْرَكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) : فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ (قَالَ) : النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ (قُمْ فَاقْضِهِ) : أَيِ الشَّطْرَ الثَّانِي وَفِي نُسْخَةٍ بِهَاءِ السَّكْتِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْحَطُّ وَالتَّأْجِيلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ وَالشَّفَاعَةُ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَحُسْنُ التَّوَسُّطِ بَيْنَهُمْ، وَقَبُولُ الشَّفَاعَةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَجَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْإِشَارَةِ وَإِقَامَتِهَا مَقَامَ الْقَوْلِ ; لِقَوْلِهِ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ، (فَإِنْ) فِي الْحَدِيثِ مُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ مَعْنَى الْقَوْلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2909 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: " فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ " قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِثَالِثَةٍ. فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ. قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ". قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2909 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) : أَيْ: جَالِسِينَ أَوْ ذَوِي جُلُوسٍ (عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا (فَقَالُوا) : أَيْ: أَوْلِيَاؤُهَا أَوْ أَصْحَابُهُ (صَلِّ عَلَيْهَا فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟) : أَيْ حَقٌّ مَالِيٌّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ (فَقَالُوا: لَا فَصَلَّى عَلَيْهَا) : أَيْ عَلَى الْجِنَازَةِ وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْهِ ( «ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: " هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَصَلَّى عَلَيْهَا» ) : وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَلْهَمَهُ بِأَنَّ مَا تَرَكَهُ يَفِي دَيْنَهُ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ اهـ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ أَنَّهُ هَلْ تَرَكَ شَيْئًا يَفِي بِدَيْنِهِ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَجَابُوا بِنِعَمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمِقْدَارِ الْمَسْطُورِ أَزْيَدَ مِنَ الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ فَيَكُونُ الْجَوَابُ نَوْعًا مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ (ثُمَّ أُتِيَ بِثَالِثَةٍ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِتْيَانُ الْجِنَازَةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَيَّامٍ وَمَجَالِسَ وَجَمَعَهَا الرَّاوِي فِي الرِّوَايَةِ لِتَبْيِينِ الدِّرَايَةِ (فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟) : أَيْ: يَفِي بِدَيْنِهِ (قَالُوا: لَا) : يُحْتَمَلُ احْتِمَالَانِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَصْلًا، أَوْ تَرَكَ شَيْئًا لَكِنَّهُ غَيْرُ وَافٍ. (قَالَ: صَلُّوا) : أَيْ: أَنْتُمْ (عَلَى صَاحِبِكُمْ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَغَيْرُهَ: " وَامْتِنَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَدْيُونِ الَّذِي لَمْ يَدَعْ وَفَاءً ; إِمَّا لِلتَّحْذِيرِ عَنِ الدَّيْنِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الْمُمَاطَلَةِ، وَالتَّقْصِيرِ فِي الْأَدَاءِ، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ يُوقَفَ دُعَاؤُهُ بِسَبَبِ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ وَمَظَالِمِهِمْ. (قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ عَلَى الْمَيِّتِ سَوَاءٌ تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " يَصِحُّ الضَّمَانُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً وَبِالِاتِّفَاقِ لَوْ ضَمِنَ عَنْ حُرٍّ مُعْسِرٍ دَيْنًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَانَ الضَّمَانُ بِحَالِهِ فَلَمَّا لَمْ يُنَافِ مَوْتُ الْمُعْسِرِ دَوَامَ الضَّمَانِ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَهُ "، قَالَ الطِّيبِيُّ: " وَالتَّمَسُّكُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ "، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: " تَمَسَّكَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لَمَا صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ كِفَايَةٌ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ وَالْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ السَّاقِطِ بَاطِلَةٌ، وَالْحَدِيثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارًا بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ، فَإِنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ، وَلَا عُمُومَ لِحِكَايَةِ الْفِعْلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا لَا كَفَالَةَ، وَكَانَ امْتِنَاعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِيَظْهَرَ لَهُ طَرِيقُ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَلَمَّا ظَهَرَ صَلَّى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2910 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2910 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا» ) : أَيْ: مَنِ اسْتَقْرَضَ احْتِيَاجًا وَهُوَ يَقْصِدُ أَدَاءَهُ وَيَجْتَهِدُ فِيهِ (أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ) : أَيْ: أَعَانَهُ عَلَى أَدَائِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ أَرْضَى خِصْمَهُ فِي الْعُقْبَى (وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا) : أَيْ: وَمَنِ اسْتَقْرَضَ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ وَلَمْ يَقْصِدْ أَدَاءَهُ (أَتْلَفَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) : أَيْ: لَمْ يُعِنْهُ وَلَمْ يُوَسِّعْ عَلَيْهِ رِزْقَهُ بَلْ يُتْلِفُ مَالَهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ إِتْلَافَ مَالِ مُسْلِمٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَكِنْ بِدُونِ لَفْظِ " عَلَيْهِ "، قِيلَ: يَعْنِي أَتْلَفَ أَمْوَالَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَتْلَفَهُ لِأَنَّ إِتْلَافَ الْمَالِ كَإِتْلَافِ النَّفْسِ أَوْ لِزِيَادَةِ زَجْرِهِ فَإِنَّ مَعْنَى أَتْلَفَهُ أَهْلَكَهُ ثُمَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْجَزَائِيَّةُ وَكَذَا الْأَوْلَى جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءَ مَعْنًى بِأَنْ يَخْرُجَ مَخْرَجَ الدُّعَاءِ لَهُ.

2911 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ - يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْ خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ "، فَلَمَّا أَدْبَرَ نَادَاهُ فَقَالَ: " نَعَمْ إِلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ جِبْرِيلُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2911 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ) : بِتَكْرَارِ قَالَ فِي نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ، أَيْ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ قَالَ (رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبِرْنِي (إِنْ قُتِلْتُ) : أَيْ: اسْتُشْهِدَتْ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: فِي نُصْرَةِ دِينِهِ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِ (مُحْتَسِبًا) : أَيْ: طَالِبًا لِلْمَثُوبَةِ لَا قَصْدًا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (مُقْبِلًا) : أَيْ عَلَى الْعَدُوِّ (غَيْرَ مُدْبِرٍ) : حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا يُرَادِفُهَا نَحْوَهُ فِي الصِّفَةِ، قَوْلُكَ أَمْسَ الدَّابِرُ لَا يَعُودُ (يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ) : بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، فَلَمَّا أَدْبَرَ) : أَيْ: وَلَّى عَنِ الْمَجْلِسِ (نَادَاهُ قَالَ: نَعَمْ إِلَّا الدَّيْنَ) : مُسْتَثْنًى مِمَّا تُقَرِّرُهُ نَعَمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ، أَيْ: نَعَمْ يُكَفِّرُ اللَّهُ خَطَايَاكَ إِلَّا الدَّيْنَ. وَالدَّيْنُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْخَطَايَا فَكَيْفَ يُسْتَثْنَى مِنْهُ؟ وَالْجَوَابُ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنِ الدَّيْنُ لَمْ يُكَفَّرْ ; لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَإِذَا أَدَّى أَوْ أَرْضَى الْخَصْمَ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ إِلَّا خَطِيئَةَ الدَّيْنِ وَجُعِلَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] فَيَذْهَبُ إِلَى أَنَّ إِفْرَادَ جِنْسِ الْخَطِيئَةِ قِسْمَانِ: مُتَعَارَفٌ، وَغَيْرُ مُتَعَارَفٍ، فَيَخْرُجُ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَحَدُ قِسْمَيْهِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ عَنِ الدَّيْنِ وَالزَّجْرِ عَنِ الْمُمَاطَلَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الْأَدَاءِ (كَذَلِكَ قَالَ جِبْرِيلُ) : أَيْ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ. قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى الْمُسَاهَلَةِ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ عَلَى الْمُضَايَقَةِ، وَعَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُلَقِّنُهُ أَشْيَاءَ سِوَى الْقُرْآنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2912 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2912 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ» ) : أَيْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ (إِلَّا الدَّيْنَ) : أَرَادَ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ فَإِنَّهَا لَا تُعْفَى بِالشَّهَادَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ هَذَا فِي شُهَدَاءِ الْبَرِّ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُغْفَرُ لِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا وَالدَّيْنُ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ.

2913 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدِّينُ فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ قَضَاءً؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ "، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَامَ فَقَالَ: أَنَا أَوْلَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوفِّيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2913 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى) : أَيْ: بِالْمَيِّتِ (عَلَيْهِ الدَّيْنُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَسَأَلَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ قَضَاءً) : أَيْ: مَا يُقْضَى بِهِ دَيْنُهُ (فَإِنْ حُدِّثَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُخْبِرَ (أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى) : أَيْ عَلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَإِلَّا) : يَحْتَمِلُ احْتِمَالَانِ (قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا) : أَيْ: أَنْتُمْ (عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ) : أَيِ: الْفُتُوحَاتِ الْمَالِيَّةَ (قَامَ) : أَيْ: خَطِيبًا (فَقَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] ، أَيْ: أَوْلَى فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَلِذَا أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحُكْمُهُ أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِهَا، وَحَقُّهُ آثَرَ لَدَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِهَا، وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ أَقْدَمَ مِنْ شَفَقَتِهِمْ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ شَفَقَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ أَحَقُّ وَأَحْرَى مِنْ شَفَقَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذَا حَصَلَتْ لَهُ الْغَنِيمَةُ يَكُونُ هُوَ أَوْلَى بِقَضَاءِ دَيْنِهِمْ (فَمَنْ تُوفِّي) : مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهُ، أَيْ: فَمَنْ مَاتَ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا) : أَيْ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ (فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ) : أَيْ قَضَاءُ دَيْنِهِ ( «وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» ) : أَيْ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ. قِيلَ: كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْضِي مَنْ مَالِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَقِيلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَقِيلَ كَانَ هَذَا الْقَضَاءُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَقِيلَ كَانَ تَبَرُّعًا وَالْقَوْلَانِ مُتَفَرِّعَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2914 - عَنْ أَبِي خَلْدَةَ الزُّرَقِيِّ قَالَ: «جِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَفْلَسَ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 2914 - (عَنْ أَبِي خَلْدَةَ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، اسْمُهُ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ تَابِعِيٌّ مِنَ الثِّقَاتِ (الزُّرَقِيِّ) : بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهُ قَافٌ نِسْبَةً إِلَى بَنِي زُرَيْقٍ بَطْنٍ مِنَ الْأَنْصَارِ (قَالَ: جِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ) : أَيْ: لِأَجْلِ صَاحِبٍ (لَنَا قَدْ أَفْلَسَ) : أَيْ: وَبِيَدِهِ مَتَاعٌ لِغَيْرِهِ لَمْ يُعْطِهِ ثَمَنَهُ (قَالَ) : أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (هَذَا الَّذِي) : أَيْ: هَذَا مِثْلُ الرَّجُلِ الَّذِي أَوْ هَذَا الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ الَّذِي (قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ثُمَّ فَسَّرَ الشَّأْنَ بِقَوْلِهِ ( «أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ» ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: " لَمْ يُرِدْ فِيهِ أَنَّهُ قَضَى فِيهِ بِعَيْنِهِ إِنَّمَا أَرَادَ قَضَى فَيَمَنْ هُوَ فِي مِثلِ حَالِهِ مِنَ الْإِفْلَاسِ " قَالَ الطِّيبِيُّ: " يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْأَمْرَ وَالشَّأْنَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ أَيُّمَا رَجُلٍ إِلَخْ ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْأَمْرِ الْمُبْهَمِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا جِئْنَا فِي صَاحِبٍ لَنَا، أَيْ: فِي شَأْنِ صَاحِبٍ لَنَا، وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِعَيْنِهِ، ثَانِيَ مَفْعُولَيْ وَجَدَ أَيْ عَلِمَ فَيَكُونُ حَالًا أَيْ صَادَفَهُ حَاضِرًا بِعَيْنِهِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ بَابِ الْإِفْلَاسِ. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

2915 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2915 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ) : أَيْ رُوحُهُ (مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ) : أَيْ مَحْبُوسَةٌ بِسَبَبِهِ (حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِمَقْصُودِهِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، أَوْ مِنَ الْمَرْتَبَةِ الْعَالِيَةِ، أَوْ فِي زُمْرَةِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي ; يَشْكُو إِلَى رَبِّهِ الْوَحْدَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ لَا تَجِدُ رُوحُهُ اللَّذَّةَ مَا دَامَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ. ثُمَّ قِيلَ: الدَّائِنُ الَّذِي يُحْبَسُ عَنِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَقَعَ الْقِصَاصُ هُوَ الَّذِي صَرَفَ مَا اسْتَدَانَهُ فِي سَفَهٍ أَوْ سَرَفٍ وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَانَهُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ كَفَاقَةٍ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَحْبِسُهُ عَنِ الْجَنَّةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُ يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِإِرْضَاءِ خُصَمَائِهِ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا: «أَنَّ الدَّائِنَ يَقْتَصُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ تَدَيَّنَ فِي ثَلَاثِ خِلَالٍ أَيْ خِصَالٍ ; رَجُلٌ تَضْعُفُ قُوَّتُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَسْتَدِينُ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَرَجُلٌ يَمُوتُ عِنْدَهُ الْمُسْلِمُ فَلَا يَجِدُ مَا يُجَهِّزُهُ إِلَّا الدَّيْنَ، وَرَجُلٌ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَنْكِحُ خَشْيَةً عَلَى دِينِهِ» فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقْضِي عَنْ هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

2916 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَاحِبُ الدَّيْنِ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ يَشْكُو إِلَى رَبِّهِ الْوَحْدَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2916 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مَأْسُورٌ) : أَيْ مُقَيَّدٌ مَحْبُوسٌ (بِدَيْنِهِ يَشْكُو إِلَى رَبِّهِ الْوَحْدَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ تَعَبُهُ وَعَذَابُهُ مِنَ الْوَحْدَةِ لَا يَرَى أَحَدًا يَقْضِي عَنْهُ وَيُخَلِّصُهُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِالْوَحْدَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ عُهْدَةِ الدَّينِ بِأَنْ يَدْفَعَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ أَوْ يُوضَعَ مِنْ ذُنُوبِ مُسْتَحِقِّهِ عَلَيْهِ بِقَدْرِهِ أَوْ يُرْضِي اللَّهُ خَصْمَهُ مِنْ فَضْلِهِ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَةِ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ النَّجَّارِ بِلَفْظِ " «صَاحِبُ الدَّيْنِ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ فِي قَبْرِهِ يَشْكُو إِلَى اللَّهِ الْوَحْدَةَ» "، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «صَاحِبُ الدَّيْنِ مَغْلُولٌ فِي قَبْرِهِ لَا يَفُكُّهُ إِلَّا قَضَاءُ دَيْنِهِ» " فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ فِي قَبْرِهِ فِي حَدِيثِ الْأَصْلِ وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

2917 - وَرُوِيَ «أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَدَّانُ فَأَتَى غُرَمَاؤُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَاعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ كُلَّهُ فِي دَيْنِهِ حَتَّى قَامَ مُعَاذٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ» " مُرْسَلٌ هَذَا لَفْظُ الْمَصَابِيحِ، وَلَمْ أَجِدْهُ فِي الْأُصُولِ إِلَّا فِي الْمُنْتَقَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2917 - (وَرُوِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَدَّانُ) : مُضَارِعُ ادَّانَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ ; أَيْ يَأْخُذُ الدَّيْنَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ افْتِعَالٌ مَنْ دَانَ فُلَانٌ يَدِينُ دَيْنًا إِذَا اسْتَقْرَضَ وَصَارَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ دَائِنٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: نَدِينُ وَيَقْضِي اللَّهُ عَنَّا وَقَدْ ... نَرَى مَصَارِعَ قَوْمٍ لَا يَدِينُونَ ضِيَعَا (فَأَتَى غُرَمَاؤُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ طَالِبِينِ دُيُونَهُمْ (فَبَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ كُلَّهُ) : أَيْ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِأَنْ أَمْرَهُ بِبَيْعِ مَالِهِ كُلِّهِ (فِي دَيْنِهِ) : أَيْ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ (حَتَّى قَامَ مُعَاذٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ. مُرْسَلٌ) : أَيْ هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ قَافِيَةِ الْإِرْسَالِ غَيْرُ مُسْتَقِيمِ الْمَعْنَى لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ بَيْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَ مُعَاذٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ حَبَسَهُ أَوْ كَلَّفَهُ ذَلِكَ أَوْ طَالَبَهُ بِالْأَدَاءِ فَامْتَنَعَ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُحْبَسَ بِهَا حَتَّى يَبِيعَ مَالَهُ فِيهَا إِذْ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَقُولُ: لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ إِجْبَارًا مِنْ غَيْرِ رِضَا مُعَاذٍ مَعَ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ مُعْتَضِدٌ بِالْحَدِيثِ الْمُتَّصِلِ الْآتِي. وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ: بِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا لَا احْتِجَاجَ بِهِ عِنْدَنَا، لَكِنَّهُ يُلْزَمُ بِهِ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْمَرَاسِيلَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ مَالَ الْمُفْلِسِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ (هَذَا) : أَيْ قَوْلُهُ وَرُوِيَ إِلَى قَوْلِهِ مُرْسَلٌ (لَفْظُ الْمَصَابِيحِ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي الْأُصُولِ) : أَيْ فِي صِحَاحِ السِّتَّةِ وَغَيْرِهَا (إِلَّا فِي الْمُنْتَقَى) : وَهُوَ كِتَابٌ لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ.

2918 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ شَابًّا سَخِيًّا وَكَانَ لَا يُمْسِكُ شَيْئًا فَلَمْ يَزَلْ يَدَّانُ حَتَّى أَغْرَقَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي الدَّيْنِ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَهُ لِيُكَلِّمَ غُرَمَاءَهُ فَلَوْ تَرَكُوا لِأَحَدٍ لَتَرَكُوا لِمُعَاذٍ لِأَجْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ مَالَهُ حَتَّى قَامَ مُعَاذٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2918 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا حِكَايَةُ لَفْظِ مَا فِي كِتَابِ الْمُنْتَقَى لِأَنَّ التَّيْمِيَّ أَوْرَدَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السُّنَنِ الَّتِي طَالَعَهَا لَكِنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُنْتَقَى فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ لَمْ يُورِدْهُ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى فِي كِتَابِهِ اهـ. فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كِتَابَةَ وَعَنْ بِالْحِبْرِ لَا بِالْحُمْرَةِ فَتَأَمَّلْ (قَالَ) : أَيْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورُ وَهُوَ تَابِعِيٌّ قَالَ الْمُصَنِّفَ: أَنْصَارِيٌّ يُعَدُّ فِي تَابِعِي الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ (كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ شَابًّا) : أَيْ قَوِيًّا مُتَحَمِّلًا صَبُورًا (سَخِيًّا) : أَيْ جَوَادًا كَرِيمًا شَكُورًا (وَكَانَ لَا يُمْسِكُ شَيْئًا) : مُبَالَغَةٌ فِي سَخَائِهِ (فَلَمْ يَزَلْ يَدَّانُ) : أَيْ يَسْتَدِينُ (حَتَّى أَغْرَقَ) : أَيْ هُوَ (مَالَهُ كُلَّهُ فِي الدَّيْنِ فَأَتَى) : أَيْ هُوَ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ) : أَيِ النَّبِيَّ (لِيُكَلِّمَ غُرَمَاءَهُ) : أَيْ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ (فَلَوْ تَرَكُوا لِأَحَدٍ) : الْفَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ كَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُرَمَاءَهُ لِأَنْ يَتْرُكُوا الْمُطَالَبَةَ لَهُ فَلَمْ يَتْرُكُوا وَلَوْ تَرَكُوا لِأَحَدٍ (لَتَرَكُوا لِمُعَاذٍ لِأَجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَفِيهِ أَنَّ طَلَبَهُ كَانَ طَلَبَ شَفَاعَةٍ ; لَا طَلَبَ إِيجَابٍ وَإِلَّا لَمْ يَسَعْهُمْ إِلَّا التَّرْكُ (فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : لَهُمْ أَيْ لِأَجْلِهِمْ (مَالَهُ) : أَيْ مَالَ مُعَاذٍ أَيْ بِاخْتِيَارِهِ وَأَمْرِ طَلَبِهِ أَوْ جَبْرًا بِالْحُكْمِ عَلَيْهِ (حَتَّى قَامَ مُعَاذٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ مُرْسَلًا) : أَيْ صُورَةً وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ مُعَاذٍ، وَيُحْتَمَلُ مِنْ غَيْرِهِ (وَعَنِ الشَّرِيدِ) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: بِوَزْنِ الطَّوِيلِ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: شَرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ، وَيُقَالُ أَنَّهُ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَعِدَادُهُ فِي الثَّقِيفِ، وَقِيلَ يُعَدُّ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ وَحَدِيثُهُ فِي الْحِجَازِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ.

2919 - عَنِ الشَّرِيدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» " قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يُحِلُّ عِرْضَهُ يُغَلَّظُ لَهُ، وَعُقُوبَتَهُ يُحْبَسُ لَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2919 - وَعَنِ الشَّرِيدِ قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ مَطْلُ الْغَنِيِّ الْقَادِرِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ لَوَيْتُ حَقَّهُ إِذَا دَفَعْتُهُ، وَالْوَاجِدُ الْغَنِيُّ مِنْ قَوْلِهِمْ وَجَدَ فِي الْمَالِ وَجْدًا بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا وَسُكُونِ الْجِيمِ وَجْدَةً أَيِ اسْتَغْنَى (يُحِلُّ عِرْضَهُ) : بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ، أَيْ يَجْعَلُ طَعْنَ عِرْضِهِ حَلَالًا (وَعُقُوبَتَهُ) : أَيْ حَبْسَهُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ (قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يُحِلُّ عِرْضَهُ يُغَلَّظُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ يُغَلَّظُ الْقَوْلُ (لَهُ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ يُلَامُ وَيُنْسَبُ إِلَى الظُّلْمِ وَيُعَيَّرُ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ (وَعُقُوبَتَهُ يُحْبَسُ لَهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ لِلْوَاجِدِ وَالْمَجْرُورُ لِلَيُّ يَعْنِي عُقُوبَةَ الْوَاجِدِ حَبْسُهُ لِأَجْلِ مَطْلِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

2920 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجِنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا قَالَ: " هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟ " قَالُوا: " نَعَمْ "، قَالَ: " هَلْ تَرَكَ لَهُ مِنْ وَفَاءٍ؟ "، قَالُوا: " لَا " قَالَ: " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. " قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى عَلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ مَعْنَاهُ، وَقَالَ: «فَكَّ اللَّهُ رِهَانَكَ مِنَ النَّارِ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ، لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقْضِي عَنْ أَخِيهِ دَيْنَهُ إِلَّا فَكَّ اللَّهُ رِهَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2920 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ جِيءَ (بِجِنَازَةٍ) : فِي النِّهَايَةِ هِيَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الْمَيِّتُ وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ السَّرِيرُ وَبِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ اهـ فَالْفَتْحُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ (لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا) : فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِلْجِنَازَةِ وَأُرِيدَ بِهَا الْمَيِّتُ عَلَى الْأَوَّلِ فِيهِ اسْتِخْدَامٌ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ السَّرِيرُ فَقَطْ فَفِيهِ مَجَازٌ إِذْ ذُكِرَ الْمَحَلُّ وَأُرِيدَ بِهِ الْحَالُ (فَقَالَ: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَرَكَ لَهُ) : أَيْ لِلدَّيْنِ (مِنْ وَفَاءٍ؟) : مِنْ زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ ; أَيْ هَلْ تَرَكَ مَا يُوَفِّي بِهِ دَيْنَهُ (قَالُوا: " لَا " قَالَ: صَلُّوا) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ: فَصَلُّوا (عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: عَلَيَّ دَيْنُهُ) : أَيْ وَفَاؤُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَتَقَدَّمَ) : أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَصَلَّى عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ مَعْنَاهُ) : أَيَ دُونَ لَفْظٍ (وَقَالَ) : أَيْ لَعَلِيٍّ خَيْرًا أَوْ دُعَاءً (فَكَّ اللَّهُ رِهَانَكَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ أَبْرَأَ رَقَبَتَكَ (مِنَ النَّارِ) : أَيْ بِالْعَفْوِ عَنْ مُسِيئَتِكَ (كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَكُّ الرَّهْنِ تَخْلِيصُهُ، وَفَكُّ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ أَيِ السَّعْيُ فِيمَا يُعْتِقُهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرِّهَانُ جَمْعُ رَهْنٍ يُرِيدُ أَنَّ نَفْسَ الْمَدْيُونِ مَرْهُونَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ بِدَيْنِهِ كَمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا مَحْبُوسَةٌ وَالْإِنْسَانُ مَرْهُونٌ بِعَمَلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أَيْ مُقِيمٌ فِي جَزَاءِ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ فَلَمَّا سَعَى فِي تَخْلِيصِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ عَمَّا كَانَ مَأْسُورًا بِهِ مِنَ الدَّيْنِ دَعَا لَهُ بِتَخْلِيصِ اللَّهِ نَفْسَهُ عَمَّا تَكُونُ مَرْهُونَةً بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ (لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقْضِي عَنْ أَخِيهِ دَيْنَهُ إِلَّا فَكَّ اللَّهُ رِهَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَلَعَلَّهُ ذَكَرَ الرِّهَانَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ رَهِينٌ بِمَا كَسَبَ أَوْ لِأَنَّهُ اجْتَرَحَ الْآثَامَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَرَهَنَ بِهَا نَفْسَهُ رَهْنًا بَعْدَ رَهْنٍ. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

2921 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2921 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ) : أَيْ: مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ» ") عَلَى وَزْنِ فَعِيلٌ أَيْ مُتَبَرِئٌ وَمُتَخَلِّصٌ (" مِنَ الْكِبْرِ ") : قِيلَ: هُوَ إِبْطَالُ الْحَقِّ بِأَنْ لَا يَقْبَلَهُ وَأَنْ يُحَقِّرَ النَّاسَ فَلَا يَرَاهُمْ شَيْئًا (" وَالْغُلُولِ ") بِضَمِّ أَوَّلِهِ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ وَالسَّرِقَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَسُمِّيَتْ غُلُولًا لِأَنَّ الْأَيْدِي مِنْهَا مَغْلُولَةٌ أَيْ: مَمْنُوعَةٌ مَجْعُولٌ فِيهَا غُلٌّ (" وَالدَّيْنِ ") ضَمُّهُ مَعَ أَقْبَحِ الْجِنَايَاتِ وَأَشْنَعِ السَّيِّئَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمَا وَهُوَ دَيْنٌ لَزِمَهُ بِإِخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَنْوِ أَدَاءً (" دَخَلَ الْجَنَّةَ ") : أَيْ مَعَ الْفَائِزِينَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

2922 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَا عَبْدٌ بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ لَهُ قَضَاءً» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2922 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَلْقَاهُ) : خَبَرُ إِنَّ أَيْ: يَلْقَى اللَّهَ (" بِهَا ") : أَيْ: بِأَعْظَمِ الذُّنُوبِ (" عَبْدٌ ") فَاعِلُ يَلْقَى (" بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا ") بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ (" أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ ") بَدَلٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ فَإِنَّ لِقَاءَ الْعَبْدِ رَبَّهُ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ مَوْتُ الرَّجُلِ (" وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ") اسْتَقَامَ. وَرَجُلٌ مُظْهِرٌ أُقِيمَ مَقَامَ ضَمِيرِ الْعَبْدِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْعَبْدِ أَوَّلًا اسْتِبْعَادُ مُلَاقَاةِ مَالِكِهِ وَرَبِّهِ بِهَذَا الشَّيْنِ، ثُمَّ إِعَادَتُهُ بِلَفْظِ رَجُلٍ وَتَنْكِيرُهُ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِ وَتَوْهِينًا لِأَمْرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فِي قَوْلِهِ: " «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ» ، وَهَاهُنَا جَعَلَهُ دُونَ الْكَبَائِرِ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ؟ قُلْتُ: قَدْ وَجَّهْنَاهُ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ تَحْذِيرًا وَتَوَقِّيًا عَنِ الدَّيْنِ وَهَذَا مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ اهـ وَجُمْلَةُ وَعَلَيْهِ دِينٌ حَالٌ وَقَوْلُهُ: (" لَا يَدَعُ لَهُ قَضَاءً ") صِفَةٌ لِدَيْنٍ أَيْ لَا يَتْرُكُ لِذَلِكَ الدَّيْنِ مَالًا يُقْضَى بِهِ، وَفِيهِ التَّحْذِيرُ عَنْ كَثْرَةِ التَّدَيُّنِ وَالتَّقْصِيرِ فِي أَدَائِهِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: " فِعْلُ الْكَبَائِرِ عِصْيَانُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَخْذُ الدَّيْنِ لَيْسَ بِعِصْيَانٍ بَلِ الِاقْتِرَاضُ وَالْتِزَامُ الدَّيْنِ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا شَدَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ كَيْلَا تَضِيعَ حُقُوقُ النَّاسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " يُرِيدُ أَنَّ نَفْسَ الدَّيْنِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِسَبَبٍ عَارِضٍ مِنْ تَضْيِيعِ حُقُوقِ النَّاسِ بِخِلَافِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهَا مَنْهِيَّةٌ لِذَاتِهَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

2923 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ " شُرُوطِهِمْ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2923 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ كَانَ قَدِيمَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92] عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» ") : كَالصُّلْحِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الضَّرَّةَ وَكَالصُّلْحِ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (" «وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» ") : أَيْ: ثَابِتُونَ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا (" إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا ") : بِأَنْ يَشْتَرِطَ لِامْرَأَتِهِ أَنْ لَا يَطَأَ جَارِيَتَهُ (" أَوْ أَحَلَّ حَرَمًا ") : بِأَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ مَعَهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُدَ انْتَهَتْ رِوَايَتُهُ) : أَيْ: مَرْوِيُّ أَبِي دَاوُدَ (عِنْدَ قَوْلِهِ: عَلَى شُرُوطِهِمْ) : رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ فَقَطْ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2924 - عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «جَلَبْتُ أَنَا وَمَخَرَفَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرٍ، فَأَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي، فَسَاوَمَنَا بِسَرَاوِيلَ، فَبِعْنَاهُ، وَثَمَّ رَجُلٌ يَزِنُ بِالْأَجْرِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " زِنْ وَأَرْجِحْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 2924 - (عَنْ سُوَيْدِ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ قَيْسٍ) : يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَفَةُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِرَاءٍ ثُمَّ فَاءٍ، وَيُقَالُ بِالْمِيمِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ كَذَا فِي الِاسْتِيعَابِ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَصْحَابِ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ أَوْ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ (بَزًّا) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ ثِيَابًا (مِنْ هَجَرٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَصْرُوفٌ. الْجَوْهَرِيُّ: " الْبَزُّ مِنَ الثِّيَابِ أَمْتِعَةُ الْبَزَّازِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: الْبَزُّ ضَرْبٌ مِنَ الثِّيَابِ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السِّيَرِ: الْبَزُّ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ثِيَابُ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَا ثِيَابَ الصُّوفِ وَالْخَزِّ (فَأَتَيْنَا بِهِ) : أَيْ: بِتِلْكَ الْبَزِّ الْمَجْلُوبِ مِنْ هَجَرٍ (مَكَّةَ) : أَيْ: إِلَيْهَا (فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ - يَمْشِي) : حَالٌ أَيْ جَاءَنَا مَاشِيًا (فَسَاوَمَنَا بِسَرَاوِيلَ، فَبِعْنَاهُ، وَثَمَّ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: هُنَاكَ (رَجُلٌ يَزِنُ) : أَيْ: الثَّمَنَ (بِالْأَجْرِ) : أَيْ: الْأُجْرَةِ (قَالَ لَهُ) : أَيْ: لِلرَّجُلِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " زِنْ ") : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: ثَمَنَهُ (وَأَرْجِحْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَفِي الْقَامُوسِ: رَجَحَ الْمِيزَانُ يَرْجَحُ مُثَلَّثَةٌ رُجُوحًا وَرُجْحَانًا مَالَ وَأَرْجَحَ لَهُ وَرَجَّحَ أَعْطَاهُ رَاجِحًا، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " بَيَانُ تَوَاضُعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ جَاءَ إِلَيْهِمْ مَاشِيًا لَا رَاكِبًا وَسَاوَمَهُمْ فِي مِثْلِ السَّرَاوِيلِ، وَلِبَيَانِ خُلُقِهِ وَكَرَمِهِ حَيْثُ زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ أُجْرَةِ الْوَزَّانِ عَلَى وَزْنِهِ اهـ، وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاخْتَلَفُوا فِي لِبْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّرَاوِيلَ فَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِهِ، وَاسْتُأْنِسَ بِأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَلْبِسْهُ إِلَّا يَوْمَ قُتِلَ لَكِنْ صَحَّ شِرَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَبِسَهُ وَكَانُوا يَلْبَسُونَهُ فِي زَمَانِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَيَقُولُ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

2925 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ لِي عَلَى النَّبِيِّ - دَيْنٌ فَقَضَانِي، وَزَادَنِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2925 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ لِي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَيْنٌ فَقَضَانِي، وَزَادَنِي» ) : سَبَقَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2926 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «اسْتَقْرَضَ مِنِّي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَجَاءَهُ مَالٌ، فَدَفَعَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ " بَارَكَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْحَمْدُ وَالْأَدَاءُ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2926 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: اسْتَقْرَضَ) : أَيْ: أَخَدَ قَرْضًا وَاسْتَدَانَ (مِنِّي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ أَلْفًا) : وَفِي الْكَاشِفِ: ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ دَرَاهِمُ، وَقِيلَ: هَذَا فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ (فَجَاءَهُ مَالٌ) : أَيْ: كَثِيرٌ (فَدَفَعَهُ) : أَيِ: الْمَالَ جَمِيعًا أَوِ الْمَبْلَغَ الْمَذْكُورَ مِنْهُ (إِلَيَّ، وَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ (بَارَكَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ) : زِيَادَةُ الْأَهْلِ زِيَادَةٌ فِي الدُّعَاءِ (إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ الْقَرْضِ (" الْحَمْدُ ") : أَيِ: الشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ (" وَالْأَدَاءُ ") : أَيِ: الْقَضَاءُ بِحُسْنِ الْوَفَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا يُوهِمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّيْنِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ إِنَّمَا تُثْبِتُ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ وَتَنْفِيهِ عَمَّا سِوَاهُ، قُلْتُ: هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَأَدَاءَ حَقِّهِ وَاجِبَانِ وَالزِّيَادَةُ فَضْلٌ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

2927 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَمَنْ أَخَّرَهُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2927 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُصَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، فَمَنْ أَخَّرَهُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ» ") : كَأَنَّهُ عَدَلَ إِلَيْهِ عَنْ فَأَخَّرَهُ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِيَعُمَّ صَاحِبُ الْحَقِّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّأْخِيرِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

2928 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ الْأَطْوَلِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَاتَ أَخِي وَتَرَكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَتَرَكَ وَلَدًا صِغَارًا، فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَخَاكَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ فَاقْضِ عَنْهُ " قَالَ: فَذَهَبْتُ فَقَضَيْتُ عَنْهُ ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَضَيْتُ عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا امْرَأَةٌ تَدَّعِي دِينَارَيْنِ وَلَيْسَتْ لَهَا بَيِّنَةٌ. قَالَ: أَعْطِهَا فَإِنَّهَا صَادِقَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2928 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ الْأَطْوَلِ) : أَيِ: الْجُهَنِيِّ لَهُ صُحْبَةٌ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو نَضْرَةَ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (قَالَ: مَاتَ أَخِي وَتَرَكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَتَرَكَ) : أَيْ: خَلَّفَ (وَلَدًا) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ (صِغَارًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ. الْجَوْهَرِيُّ: الْوَلَدُ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا وَكَذَلِكَ الْوُلَدُ بِالضَّمِّ (فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ) : أَيْ: مِنْ تِلْكَ الدَّنَانِيرِ ( «فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَخَاكَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ، فَاقْضِ عَنْهُ» ") : أَيْ: أَوَّلًا (فَقَالَ) : أَيْ: سَعِيدٌ (فَذَهَبْتُ فَقَضَيْتُ عَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَخِي دَيْنَهُ (ثُمَّ «جِئْتُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قَضَيْتُ عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا امْرَأَةٌ تَدَّعِي دِينَارَيْنِ» ) : عَطْفٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ: قَضَيْتُ أَيْ: قَضَيْتُ دُيُونَ مَنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَلَمْ أَقَضْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ قَضَيْتُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ (وَلَيْسَتْ لَهَا بَيِّنَةٌ) : يُحْتَمَلُ الِاحْتِمَالَانِ (قَالَ: " أَعْطِهَا فَإِنَّهَا صَادِقَةٌ ") : هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِ وَحْيٍ فَأَمَرَهُ بِالْإِعْطَاءِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ، وَأَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ، فَيَكُونُ مِنْ خَوَاصِّهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

2929 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ حَيْثُ يُوضَعُ الْجَنَائِزُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَيْنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَصَرَهُ قِبَلَ السَّمَاءِ فَنَطَرَ، ثُمَّ طَأْطَأَ بَصَرَهُ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، قَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ! سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا نَزَلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ " قَالَ: فَسَكَتْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا، فَلَمْ نَرَ إِلَّا خَيْرًا حَتَّى أَصْبَحْنَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نَزَلَ؟ قَالَ: " فِي الدَّيْنِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ عَاشَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ عَاشَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ عَاشَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى دَيْنُهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2929 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ) : بِفَتْحِ جِيمٍ فَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ فَمُعْجَمَةٍ، أَيِ: الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ، وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَهَاجَرَ مَعَ أَبِيهِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ أَبُو كَثِيرٍ مَوْلَاهُ وَغَيْرُهُ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) : أَيْ: جَالِسِينَ (بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَهُوَ الْمُتَّسَعُ أَمَامَ الدَّارِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (حَيْثُ يُوضَعُ الْجَنَائِزُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجَنَائِزِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَيْنَا) : أَيْ: بَيْنَنَا. وَظَهْرَيْنَا: مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ النُّصُوصِ وَالْقُرْبِ الشَّدِيدِ (فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَصَرَهُ) : أَيْ: عَيْنَهُ (قِبَلَ السَّمَاءِ) : بِكَسْرٍ فَفَتَحٍ أَيْ إِلَى جَانِبِهَا (فَنَظَرَ) : أَيْ: نَظْرَة ً أَوْ سَاعَةً (ثُمَّ طَأْطَأَ) : بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ خَفَضَ (بَصَرَهُ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ) : أَيْ: تَعَجُّبًا (" سُبْحَانَ اللَّهِ ") : تَأْكِيدًا (مَا نَزَلْ مِنَ التَّشْدِيدِ؟) : أَيْ: التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ (قَالَ) : أَيِ: الرَّاوِي (فَسَكَتْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا) : أَيْ: عَنِ السُّؤَالِ (فَلَمْ نَرَ إِلَّا خَيْرًا) : دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ تَيَقُّنِهِمْ أَنَّ النَّازِلَ هُوَ

الْعَذَابُ وَقَوْلُهُ (حَتَّى أَصْبَحْنَا) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً سَكَتْنَا، وَأَنْ يَكُونَ غَايَةً لَمْ نَرَ (قَالَ مُحَمَّدٌ) : أَيِ: الرَّاوِي ( «فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الشَّدِيدُ الَّذِي نَزَلَ؟ قَالَ: " فِي الدَّيْنِ» ") : تَقْرِيرُ السُّؤَالِ مَا التَّشْدِيدُ النَّازِلُ أَهْوَ عَذَابٌ وَقَدِ انْتَظَرْنَا وَلَمْ نَرَ مِنْهُ شَيْئًا، أَمْ هُوَ وَحْيٌ فَفِيمَ نَزَلَ؟ فَأَجَابَ فِي دَيْنٍ. أَيْ: فِي شَأْنِ الدَّيْنِ (" «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ عَاشَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، ") : أَيْ: ثَانِيًا (ثُمَّ عَاشَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: ثَالِثًا (ثُمَّ عَاشَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: ثَالِثًا (" ثُمَّ عَاشَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى دَيْنُهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعِ " دَيْنُهُ " وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَعْلُومِ وَنَصْبِ " دَيْنَهُ ". قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَعَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ يَقْضِي وَرَثَتُهُ، فُحَذِفَ الْمُضَافُ وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُرَادَ يَقْضِي الْمَدْيُونُ يَوْمَ الْحِسَابِ دَيْنَهُ. قَالَ: وَلَعَمْرِي لَمْ نَجِدْ نَصًّا أَشَدَّ وَأَغْلَظَ مِنْ هَذَا فِي بَابِ الدَّيْنِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ نَحْوَهُ) : أَيْ: مَعْنَاهُ.

[باب الشركة والوكالة]

[بَابُ الشِّرْكَةِ وَالْوِكَالَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2930 - عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ إِلَى السُّوقِ، فَيَشْتَرِيَ الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَيُشْرِكُهُمْ فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ ذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ رَأَسَهُ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (10) - بَابُ الشِّرْكَةِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (وَالْوَكَالَةِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبِكَسْرٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الشَّرِكَةُ عَلَى وُجُوهٍ. شَرِكَةٌ فِي الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ جَمِيعًا ; بِأَنْ وَرِثَ جَمَاعَةٌ مَالًا أَوْ مَلَكُوهُ بِشِرَاءٍ، أَوِ اتِّهَابٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ خَلَطُوا مَالًا يَتَمَيَّزُ، وَشَرِكَةٌ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ بِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَنْفَعَةِ دَارِهِ، وَالْعَيْنُ لِلْوَرَثَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَعَكْسُهُ بِأَنِ اسْتَأْجَرَ جَمَاعَةٌ دَارًا أَوْ وَقَّفَ شَيْئًا عَلَى جَمَاعَةٍ وَالْمَنْفَعَةُ لَهُمْ دُونَ الْعَيْنِ. وَشَرِكَةٌ فِي الْحُقُوقِ فِي الْأَبْدَانِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقَصَاصِ يَرِثُهُ جَمَاعَةٌ، وَيَتْرُكُهُ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ كَالشُّفْعَةِ تَثْبُتُ لِلْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِحَسْبِ الِاخْتِلَاطِ فَإِذَا أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، فَمَا حَصَلَ مِنَ الرِّبْحِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالِينَ، فَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْعِنَانِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2930 - (عَنْ زُهْرَةَ) : بِضَمِّ الزَّايِ وَسِكُونِ الْهَاءِ (ابْنِ مَعْبَدٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَيْنَهُمَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ (أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ) : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لِجَدِّهِ (إِلَى السُّوقِ) : مُتَعَلِّقٌ بِيَخْرُجُ (فَيَشْتَرِي) : أَيْ: جَدُّهُ (الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، لَيَقُولَانِ لَهُ: أَشْرِكْنَا: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: اجْعَلْنَا شُرَكَاءَ فِيمَا اشْتَرَيْتَهُ (فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ) : فِي الْقَامُوسِ: شَرَكُهُ فِي الْبَيْعِ وَالْمِيرَاثِ كَعَلِمَهُ شِرَكَةً بِالْكَسْرِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: شَرَكُهُ فِي الْأَمْرِ مِنْ بَابِ تَعِبَ شِرْكًا وَشَرِكَةً وِزَانَ كَلِمَ وَكَلِمَةً بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي إِذَا صِرْتَ لَهُ شَرِيكًا، وَأَشْرَكْتَهُ فِي الْأَمْرِ جَعَلْتَهُ شَرِيكًا. وَقَالَ الْقُسْطُلَّانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: قَوْلُهُ: اشْرَكْنَا بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ فِي الْفَرْعِ اسْمُ كِتَابٍ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَفِي غَيْرِهِ بِقَطْعِهَا وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: اجْعَلْنَا شَرِيكَيْنِ لَكَ فِي الطَّعَامِ الَّذِي اشْتَرَيْتَهُ (فَيُشْرِكُهُمْ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ:

وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَقَالَ الْقُسْطُلَّانِيُّ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ اهـ وَفِي نُسْخَةٍ فَيَشْرَكُهُمَا. قَالَ صَاحِبُ الْمَفَاتِيحِ: قَوْلُهُ: فَيُشْرِكُهُمْ أَيْ: إِيَّاهُمَا، وَرَوَى فَيُشْرِكُهُمَا اهـ وَفِيهِ جَوَازُ الشَّرِكَةِ فِي الْعُقُودِ (فَرُبَّمَا أَصَابَ) : أَيِ: ابْنُ هِشَامٍ (الرَّاحِلَةَ) : أَيْ: رُبَّمَا رَبِحَ مِنَ الطَّعَامِ حِمْلَ بِعِيرٍ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْحَامِلِ وَإِرَادَةِ الْمَحْمُولِ (كَمَا هِيَ) : أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا ثَابِتَةً عَلَى وَصْفٍ هِيَ مَخْلُوقَةٌ عَلَيْهِ (فَيَبْعَثُ) : أَيِ: ابْنُ هِشَامٍ (بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ) : أَيْ: مَنْزِلِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: " «النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» " فِي النِّهَايَةِ: " الرَّاحِلَةُ مِنَ الْإِبِلِ الْبَعِيرُ الْقَوِيُّ عَلَى الْأَسْفَارِ وَالْأَحْمَالِ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَهِيَ الَّتِي يَخْتَارُهَا الرَّجِلُ لِمَرْكَبِهِ "، قَالَ الطِّيبِيُّ: " وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَحْمُولُ مِنَ الطَّعَامِ يُصِيبُهُ رِبْحًا، وَأَنْ يُرَادُ بِهِ الْحَامِلُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَارِدٌ فِي الطَّعَامِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمُظْهِرُ إِلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ قَوْلِهِ: " يَعْنِي وَرُبَّمَا يَجِدُ دَابَّةً مَعَ مَتَاعٍ عَلَى ظَهْرِهَا فَيَشْتَرِيهَا مِنَ الرِّبْحِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ) : أَيِ: الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ (ذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ) : أَيْ: زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ، وَهُوَ صَغِيرٌ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ رَأَسَهُ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَمْ يُبَايِعْهُ لِصِغَرِهِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ ابْنِهِ زُهْرَةُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2931 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَتِ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: (لَا، تَكْفُونَنَا الْمَئُونَةَ، وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2931 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: حِينَ هَاجَرَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا (اقْسِمْ) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ (بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا) : أَيِ: الْمُهَاجِرِينَ (النَّخِيلَ) : أَيْ: أَصْلَ نَخِيلِنَا (قَالَ: " لَا ") : أَيْ: لَا أُقَسِّمُهَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ (تَكْفُونَنَا الْمَئُونَةَ) : خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ (وَنَشْرَكْكُمْ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: نَكُونُ شُرَكَائَكُمْ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ ثُمَّ كَسْرٍ أَيْ: نَجْعَلُكُمْ شُرَكَاءَ (" فِي الثَّمَرَةِ ") : أَيْ: فِي ثَمَرَتِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَى مَنِ الْقِسْمَةِ اسْتِبْقَاءً عَلَيْهِمْ رَقَبَةَ نَخِيلِهِمُ الَّتِي عَلَيْهَا قِوَامُ أَمْرِهِمْ وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ عَلَى وَجْهٍ تَخَيَّلَ لَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّخْفِيفَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ لَا الشَّفَقَةَ وَالْإِرْفَاقَ بِهِمْ تَلَطُّفًا وَكَرَمًا وَحُسْنَ مُخَالَفَةٍ، وَاخْتِيَارُ التَّشْرِيكِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ وَأَرْفَقُ بِالْقَبِيلَيْنِ وَالْمَعْنَى ادْفَعُوا عَنَّا أَيْ: عَنِ الْمُهَاجِرِينَ مَئُونَةَ الْعِمَارَةِ، فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَا يُطِيقُونَ عِمَارَةَ النَّخِيلِ مِنَ التَّأْبِيرِ وَالسَّقْيِ وَغَيْرِهِمَا، بَلِ احْفَظُوا نَخِيلَكُمْ وَأَصْلِحُوهَا، وَاعْمَلُوا إِلَيْهَا مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا مِنَ الْعِمَارَةِ فَمَا حَصَلَ مِنَ الثِّمَارِ نُقَسِّمُهُ بَيْنَكُمْ (قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) : فِي الْحَدِيثِ نَدْبُ مُعَاوَنَةِ الْإِخْوَانِ وَدَفْعُ الْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ، وَلِبَيَانِ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: الْمَعُونَةُ تَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ: قِيلَ: هِيَ فَعُولَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: مَأَنَهُمْ أَمْأُنُهُمْ مَأْنًا، إِذَا احْتَمَلْتُ مُؤْنَتَهُمْ، وَقِيلَ مُفْعِلَةٌ بِالضَّمِّ مِنَ الْأَيْنِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالشَّرَهُ، وَقِيلَ مِنَ الْأَوْنِ وَهُوَ الْحَرَجُ، لِأَنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَى الْإِنْسَانِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2932 - وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْعِهِ بِالْبَرَكَةِ، فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2932 - (وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ) : بِفَتْحِ جِيمٍ فَسُكُونِ عَيْنٍ مُهْمِلَةٍ (الْبَارِقِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى بَارِقٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ، جَبَلٌ نَزَلَهُ بَعْضُ الْأَزْدِ، اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ وَيُعَدُّ فِيهِمْ وَحَدِيثُهُ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ: عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ. قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيُّ: " مَنْ قَالَ فِيهِ: ابْنُ الْجَعْدِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنَّمَا هُوَ عُرْوَةُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، رَوَى عَنْهُ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ "، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدُاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْعِهِ بِالْبَرَكَةِ، فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " فِيهِ جَوَازُ التَّوْكِيلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَكُلِّ مَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، وَأَنَّ مَنْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنِهِ انْعَقَدَ الْبَيْعُ مَوْقُوفُ الصِّحَّةِ عَلَى إِذْنِ الْمَالِكِ وَبِهِ قُلْنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ رَضِيَ مَالِكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُؤَوِّلُ الْحَدِيثَ بِأَنَّ وِكَالَتَهُ كَانَتْ مُطْلَقَةً وَالْوَكِيلُ الْمُطْلَقُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ صَادِرًا عَنْ إِذْنِ الْمَالِكِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2933 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَفَعَهُ، قَالَ: " إِنَّ «اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَ رَزِينٌ: " وَجَاءَ الشَّيْطَانُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2933 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ) : أَيْ رَفَعَ الْحَدِيثَ وَأَسْنَدَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ ") أَيْ: غَلَبَ فِي الْأَمْرِ (" وَجَلَّ ") : أَيْ: مِنْ أَنْ يُشْرِكَهُ أَحَدٌ (" يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ ") : أَيْ: مَعَهُمَا بِالْحِفْظِ وَالْبَرَكَةِ أَحْفَظُ أَمْوَالَهُمَا وَأُعْطِيهِمَا الرِّزْقَ وَالْخَيْرَ فِي مُعَامَلَتِهِمَا (" مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ") : أَيْ: وَأُعِينُ كُلًّا مِنْهُمَا مَا دَامَ كُلٌّ فِي عَوْنِ صَاحِبِهِ (" فَإِنْ خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا ") أَيْ: زَالَتِ الْبَرَكَةُ بِإِخْرَاجِ الْحِفْظِ عَنْهُمَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَ رَزِينٌ: " وَجَاءَ الشَّيْطَانُ ") : أَيْ: وَدَخَلَ بَيْنَهُمَا وَصَارَ ثَالِثَهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الشَّرِكَةُ عِبَارَةٌ عَنِ اخْتِلَاطِ أَمْوَالِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ، وَشَرِكَةُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمَا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْبَرَكَةَ وَالْفَضْلَ وَالرِّبْحَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمَخْلُوطِ، فَسَمَّى ذَاتَهُ تَعَالَى ثَالِثًا لَهُمَا وَجَعَلَ خِيَانَةَ الشَّيْطَانِ وَمَحْقَهُ الْبَرَكَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَخْلُوطِ وَجَعَلَهُ ثَالِثًا لَهُمَا، وَقَوْلُهُ: خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا تَرْشِيحُ الِاسْتِعَارَةِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الشِّرْكَةِ، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مُنْصَبَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ يَسْعَى فِي غِبْطَةِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَوْنُ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ.

2934 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2934 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " أَدِّ الْأَمَانَةَ ") : أَمْرٌ مِنْ أَدَّى يُؤَدِّي تَأْدِيَةً أَيْ أَوْصِلْهَا (" إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ ") : أَيْ: جَعَلَكَ أَمِينًا وَحَفِيظًا عَلَى مَالِهِ وَغَيْرِهِ (" وَلَا تَخُنْ ") : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (" مَنْ خَانَكَ ") : قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: لَا تُعَامِلِ الْخَائِنَ بِمُعَامَلَتِهِ، وَلَا تُقَابِلْ خِيَانَتَهُ بِالْخِيَانَةِ، فَتَكُونَ مِثْلَهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِثْلَ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْجَاحِدِ، فَإِنَّهُ اسْتِيفَاءٌ وَلَيْسَ بِعُدْوَانٍ وَالْخِيَانَةُ عُدْوَانٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَوْلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحَدِيثُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (4 {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] يَعْنِي إِذَا خَانَكَ صَاحِبُكَ فَلَا تُقَابِلْهُ بِجَزَاءِ خِيَانَتِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَاكَ حَسَنًا، بَلْ قَابِلْهُ بِالْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْمُكَافَأَةِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ أَيْ: أَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ أَيْضًا وَالضِّيَاءُ، عَنْ أَنَسٍ.

2935 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ فَقَالَ: " إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2935 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ) : مَوْضِعٌ قَرِيبُ الْمَدِينَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: بِقَصْدِ الِاسْتِئْذَانِ لِلْوَدَاعِ (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقُلْتُ (إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: " إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي ") : أَيْ: هُنَاكَ (" فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا ") بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ سِتُّونَ صَاعًا مِنَ التَّمْرِ (" فَإِنِ ابْتَغَى ") : أَيْ طَلَبَ (" مِنْكَ آيَةً ") : أَيْ عَلَامَةً وَدَلَالَةً (" فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ فَفَتْحٍ أَيْ حَلْقِهِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: التَّرْقُوَةُ عَظْمٌ بَيْنَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ مِيرْكَرْدَنْ، وَفِي الْقَامُوسِ: التَّرْقُوَةُ مَقْدِمُ الْحَلْقِ فِي أَعْلَى الصَّدْرِ حَيْثُ يَتَرَقَّى مِنْهُ بِالنَّفَسِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2936 - عَنْ صُهَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ: الْبَيْعُ إِلَى أَجَلٍ، وَالْمُقَارَضَةُ، وَاخْتِلَاطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2936 - (عَنْ صُهَيْبٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: " هُوَ ابْنُ سِنَانٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى، كَانَ بِأَرْضِ الْمُوصِلِ فِيمَا بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، فَأَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَسَبَتْهُ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ، فَنَشَأَ بِالرُّومِ فَابْتَاعَهُ مِنْهُمْ كَلْبٌ، ثُمَّ قَدِمَتْ بِهِ مَكَّةَ فَاشْتَرَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ فَأَعْتَقَهُ فَأَقَامَ مَعَهُ إِلَى أَنْ هَلَكَ، وَيُقَالُ: " إِنَّهُ لَمَّا كَبُرَ فِي الرُّومِ هَرَبَ مِنْهُمْ، وَقَدِمَ مَكَّةَ فَحَالَفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ "، يُقَالُ: أَنَّهُ أَسْلَمَ هُوَ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَارِ الْأَرْقَمِ بَعْدَ بِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَفِيهِ نَزَلَ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ (قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلَاثٌ) : أَيْ خِصَالٍ: قَالَ (" فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ ") : أَيِ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ (الْبَيْعُ إِلَى أَجَلٍ) : الْمُرَادُ بِهِ إِمْهَالُ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ (وَالْمُقَارَضَةُ) : وَهِيَ الْمُضَارَبَةُ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " هِيَ قَطْعُ الرَّجُلِ مِنْ أَمْوَالِهِ دَافِعًا إِلَى الْغَيْرِ لِيُعَامِلَ فِيهِ وَيُقَسِّمَ الرِّبْحَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَنَاعَةِ وَعَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى زِيَادَةِ الْبِضَاعَةِ " (وَإِخْلَاطُ الْبُرِّ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ: الْحِنْطَةِ (بِالشَّعِيرِ) : لِلتَّوْفِيرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى عِلْمِ الْمَعَاشِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْخِلَالِ الثَّلَاثِ هَضْمٌ مِنْ حَقِّهِ، وَالْأَوَّلَانِ مِنْهُمَا يَسْرِي نَفْعُهُمَا إِلَى الْغَيْرِ، وَفِي الثَّلَاثِ إِلَى نَفْسِهِ قَمْعًا لِشَهْوَتِهِ، وَلِذَا قَالَ (لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ) : لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ غِشٍّ لِلْمُسْلِمِينَ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

2937 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى كَبْشًا بِدِينَارٍ، وَبَاعَهُ بِدِينَارَيْنِ، فَرَجَعَ فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَجَاءَ بِهَا وَبِالدِّينَارِ الَّذِي اسْتَفْضَلَ مِنَ الْأُخْرَى، فَتَصَدَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدِّينَارِ فَدَعَا لَهُ أَنْ يُبَارَكَ لَهُ فِي تِجَارَتِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2937 - (وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالزَّايِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: يُكْنَى أَبَا خَالِدٍ الْقُرَشِيَّ الْأَسَدِيَّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وُلِدَ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وَوُجُوهِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى عَامِ الْفَتْحِ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِهِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً سِتُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتُّونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَ كَامِلًا فَاضِلًا تَقِيًّا، حَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ، أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] يَعْنِي بِنَاءً عَلَى قَوْلٍ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيْدِي الْأَنْفُسُ أَيْ: لَا تُوقِعُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْهَلَاكِ، وَالْأَظْهَرُ مَا قِيلَ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِلَيْهَا فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ (يَشْتَرِي لَهُ) : أَيْ لِأَجْلِهِ (بِهِ) : أَيْ بِالدِّينَارِ (أُضْحِيَّةً) : أَيْ: مَا يُضَحَّى بِهِ مِنْ غَنَمٍ (فَاشْتَرَى كَبْشًا بِدِينَارٍ، وَبَاعَهُ بِدِينَارَيْنِ، فَرَجَعَ فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً بِدِينَارَيْنِ، فَجَاءَ بِهَا وَبِالدِّينَارِ الَّذِي اسْتَفْضَلَ مِنَ الْأُخْرَى) : أَيْ: مِنْ قِيمَةِ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي بَاعَهَا (فَتَصَدَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدِّينَارِ: أَيْ طَلَبًا لِلتِّجَارَةِ الْآخِرَةِ وَالزِّيَادَةِ الْمُدَّخَرَةِ الْفَاخِرَةِ (فَدَعَا لَهُ أَنْ يُبَارَكَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُكْثِرُ اللَّهُ الْبَرَكَةَ (لَهُ فِي تِجَارَتِهِ) : وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ يَتَبَارَكُونَ بِمُشَارَكَتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

[باب الغصب والعارية]

[بَابُ الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ]

(11) بَابُ الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2938 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (11) : بَابُ الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي الْغَرِيبِ قَدْ تُخَفَّفُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " قِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْعَارِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا طَلَبَهَا عَارًا وَعَيْبًا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّمَا أَنْفُسُنَا عَارِيَةٌ ... وَالْعَوَارِي قِصَارُهَا أَنْ تَرُدَّ وَالْعَارِي: مِثْلُ الْعَارِيَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنَ التَّعَاوُرِ وَهُوَ التَّدَاوُلُ وَلَمْ يَبْعُدْ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2938 - (عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ) : أَيِ: الْعَدَوِيِّ أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ طَلْحَةَ يَطْلُبَانِ خَبَرَ عِيرِ قُرَيْشٍ، وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمًا، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ أُخْتُ عُمَرَ تَحْتَهُ، وَبِسَبَبِهَا كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ، مَاتَ بِالْعَقِيقِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَلَهُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَنْ أَخَذَ شِبْرًا) : أَيْ: قَدْرَهُ وَالْمُرَادُ شَيْئًا (مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا) : مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: أَخْذَ ظُلْمٍ (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الشِّبْرُ مِنَ الْأَرْضِ (يُطَوَّقُهُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُجْعَلُ طَوْقًا فِي عُنُقِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ، فَفِي كَشْفِ الْكَشَّافِ: الْأَرَضِينَ بِالتَّحْرِيكِ لِأَنَّ قِيَاسَهُ أَرَضَاتٌ كَثَمَرَاتٍ، فَلَمَّا عُوِّضَ مِنْهُ الْوَاوُ وَالنُّونُ أَبْقَوْا فَتْحَةَ الرَّاءِ وَقَدْ تُسَكَّنُ قَالَ النَّوَوِيُّ: " قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْأَرْضَ سَبْعُ طِبَاقٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْأَقَالِيمُ، خِلَافُ الظَّاهِرِ إِذَا لَمْ يُطَوَّقُ مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ شِبْرًا مَنْ كُلِّ إِقْلِيمٍ بِخِلَافِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِهَذَا الشِّبْرِ فِي الْمِلْكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُعَضِّدُهُ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، كَلَّفَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ سَبْعِ أَرَضِينَ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " مَعْنَى التَّطْوِيقِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَتَصِيرُ الْبُقْعَةُ الْمَغْصُوبَةُ مِنْهَا فِي عُنُقِهِ كَالطَّوْقِ، وَقِيلَ: " هُوَ أَنْ يُطَوَّقَ حَمْلَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ: يُكَلَّفُ، فَيَكُونُ مِنْ طَوْقِ التَّكْلِيفِ لَا مَنْ طَوْقِ التَّقْلِيدِ لِمَا رَوَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» " اهـ وَهُوَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ يُفْعَلُ بِهِ جَمِيعُ ذَلِكَ أَوْ يَخْتَلِفُ الْعَذَابُ شِدَّةً وَضَعْفًا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ مِنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2939 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْثَلَ طَعَامُهُ؟ وَإِنَّمَا يَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطَعِمَاتِهِمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2939 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَحْلُبَنَّ ": بِضَمِّ اللَّامِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ) : أَيْ: مِنْ غَنَمٍ أَوْ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ (بِغَيْرِ إِذْنِهِ) : أَيْ: أَمْرِهِ وَرِضَاهُ (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ) : اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ (أَنْ يُؤْتَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُؤَنَّثًا وَمُذَكَّرًا أَيْ: يُجَاءُ (مَشْرُبَتُهُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ: غُرْفَتُهُ، وَهِيَ بَيْتٌ فَوْقَانِيٌّ يُوضَعُ فِيهِ الْمَتَاعُ (فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ هِيَ كَكِتَابَةٍ فِعْلُ الْخَازِنِ وَمَكَانُ الْخَزْنِ، وَلَا يُفْتَحُ كَالْمَخْزَنِ وَالْمَقْعَدِ (فَيُنْثَلَ) : أَيْ: يُؤْخَذُ (مَتَاعُهُ؟) : وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَالنِّهَايَةِ (فَيُنْثَلَ طَعَامُهُ) : بِالْيَاءِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ: أَيْ: يُسْتَخْرَجُ وَيُؤْخَذُ (إِنَّمَا يَخْزُنُ) : بِالتَّذْكِيرِ

وَالتَّأْنِيثِ وَضَمِّ الزَّايِ أَيْ: يَحْفَظُ لَهُ (ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطَعِمَاتِهِمْ) : جَمْعُ الْجَمْعِ لِلطَّعَامِ مُبَالَغَةً وَهُوَ مَفْعُولُ يَخْزُنُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ضُرُوعَ مَوَاشِيهِمْ فِي حِفْظِ اللَّبَنِ بِمَنْزِلَةِ خَزَائِنِكُمُ الَّتِي تَحْفَظُ طَعَامَكُمْ، فَمَنْ حَلَبَ مَوَاشِيَهِمْ فَكَأَنَّهُ كَسَرَ خَزَائِنَهُمْ وَسَرَقَ مِنْهَا شَيْئًا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِبَ مَاشِيَةَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِلَّا إِذَا اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ وَيَضْمَنُ، وَقِيلَ: " لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبَاحَهُ لَهُ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا إِلَى إِبَاحَتِهِ لِغَيْرِ الْمُضْطَرِّ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالِكُ حَاضِرًا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَلَبَ لِرَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَنًا مَنْ غَنِمَ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَرْعَاهَا عَبْدٌ لَهُ وَصَاحِبُهَا غَائِبٌ فِي هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ حُمْرَةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَهُ أَحَدٌ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ أَحَدٌ فَلْيَحْلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَلَا يَحْمِلْ» " وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُهُمْ لِابْنِ السَّبِيلِ فِي أَكْلِ ثِمَارِ الْغَيْرِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ دَخَلَ حَائِطًا لِيَأْكُلَ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» " وَعِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَا يُبَاحُ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ إِلَّا لِضَرُورَةِ مَجَاعَةٍ كَمَا سَبَقَ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى الْمَجَاعَةِ وَالضَّرُورَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُقَاوِمُ النُّصُوصَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي تَحْرِيمِ مَالِ الْمُسْلِمِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " غَيْرُ الْمُضْطَرِّ إِذَا كَانَ لَهُ إِدْلَالٌ عَلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ نَفْسَهُ تَطِيبُ بِأَكْلِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ الْأَكْلُ، وَالْمُضْطَرُّ إِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَطَعَامًا لِغَيْرِهِ فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2940 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ، فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ (غَارَتْ أُمُّكُمْ) ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ بَيْتُهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2940 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " قَدْ تَبَيَّنَ لَنَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ يَدَ الْخَادِمِ هِيَ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِنَّمَا أَبْهَمَ فِي قَوْلِهِ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، وَأَرَادَ بِهَا عَائِشَةَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَخْفَى وَلَا يَلْتَبِسُ أَنَّهَا هِيَ، لِأَنَّ الْهَدَايَا إِنَّمَا تُهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ اهـ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ عِلَّةً لِإِيرَادِهِ بِالْإِبْهَامِ، بَلْ إِنَّمَا أَبْهَمَ لِلنِّسْيَانِ أَوْ تَرَدُّدِ أَوْ تَعَدُّدِ وَاقِعَةٍ، نَعَمْ هَذِهِ الْقَرَائِنُ تُبَيِّنُ الْمُجْمَلَ وَتُعَيِّنُ الْمُبْهَمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) : قِيلَ هِيَ صَفِيَّةُ، وَقِيلَ زَيْنَبُ، وَقِيلَ أُمُّ سَلَمَةَ (بِصَحْفَةٍ) : أَيْ: قَصْعَةٍ مَبْسُوطَةٍ (فِيهَا طَعَامٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنَّمَا وُصِفَتِ الْمُرْسِلَةُ بِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إِيذَانًا بِشَفَقَتِهَا وَكَسْرِهَا غَيْرَتَهَا وَهَوَاهَا حَيْثُ أَهْدَتْ إِلَى بَيْتِ ضَرَّتِهَا بِالْقَصْعَةِ (فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهَا) : أَيْ: عَائِشَةُ (يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصُّحْفُ فَانْفَلَقَتْ) : أَيِ: انْكَسَرَتْ فِلْقَةً فِلْقَةً (فَجَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِلَقَ الصَّحْفَةِ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ جَمَعُ فِلْقَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ أَيْ: كَسْرَهَا (ثُمَّ جَعَلَ) : أَيْ: شَرَعَ (يَجْمَعُ فِيهَا) : أَيْ: فِي بَقِيَّةِ الصَّحْفَةِ أَوْ فِي كَسْرِهَا (الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ) : وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِلْمِهِ وَتَوَاضُعِهِ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ وَتَعْظِيمِ نِعْمَةِ رَبِّهِ (وَيَقُولُ) : أَيْ: مُكَرِّرًا (غَارَتْ أُمُّكُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " الْخِطَّابُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اعْتِذَارًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِئَلَّا يَحْمِلُوا صَنِيعَهَا عَلَى مَا يُذَمُّ، بَلْ يَجْرِي عَلَى عَادَةِ الضَّرَائِرِ مِنَ الْغَرِيزَةِ، فَإِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِي نَفْسِ الْبَشَرِ بِحَيْثُ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَدْفَعَهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَقِيلَ: خِطَابٌ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ) : أَيْ: مَنَعَهُ أَنْ يَرْجِعَ (حَتَّى أُتِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: جِيءَ (بِصُحْفٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) : أَيْ: عَائِشَةَ (فَدَفَعَ الصُّحْفَ الصَّحِيحَةَ) : أَيْ: مَنْ بَيْتِهَا (إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ.

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " هَذَا الْحَدِيثُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْغَصْبِ وَلَا بِالْعَارِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُورَدَ فِي بَابِ ضَمَانِ الْمَتْلَفَاتِ، قَالَ الْقَاضِي: وَجْهُ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَرَّمَ الضَّارِبَةَ بِبَدَلِ الصَّحْفَةِ لِأَنَّهَا انْكَسَرَتْ بِسَبَبِ ضَرْبِهَا يَدَ الْخَادِمِ عُدْوَانًا، وَمِنْ أَنْوَاعِ الْغَصْبِ إِتْلَافُ مَالٍ مُبَاشَرَةً، أَوْ بِسَبَبٍ عَلَى وَجْهِ الْعُدْوَانِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: فَإِنْ قِيلَ: الصَّحْفَةُ مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَمَا وَجْهُ دَفْعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَحْفَةً مَكَانَهَا؟ أُجِيبُ: بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُرُوءَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الضَّمَانِ لِأَنَّ الصَّحْفَتَيْنِ كَانَتَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: كَانَتِ الصَّحْفَاتُ مُتَقَارِبَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَتْ كَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، فَجَازَ أَنْ يَدْفَعَ إِحْدَاهُمَا بَدَلَ الْأُخْرَى، وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا فَلَمْ يَبْقَ يَدَّعِي الْقِيمَةَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2941 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2941 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) : أَيِ: الْخَطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، شَهِدَ الْحُدَيْبِيَّةَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَاتَ بِهَا زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ الشَّعْبِيُّ كَاتِبَهُ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُوسَى، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُمَا (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ) : بِضَمِّ النُّونِ أَيْ: الْغَارَةِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يُؤَوَّلُ النَّهْيُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْجَمَاعَةِ يَنْتَهِبُونَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَا يُدْخِلُونَهَا فِي الْقِسْمَةِ، وَعَلَى الْقَوْمِ يُقَدَّمُ إِلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَيَنْتَهِبُونَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَنَهْبُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. (وَالْمُثْلَةِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: وَعَنْ قَطْعِ الْأَعْضَاءِ. وَفِي النِّهَايَةِ: " قَالَ مَثَّلْتُ بِالْحَيَوَانِ أُمَثِّلُ بِهِ مَثَلًا إِذَا قَطَعْتُ أَطْرَافَهُ وَشَوَّهْتُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا تَشْوِيهُ الْخِلَقِ بِقَطْعِ الْأُنُوفِ وَالْآذَانِ وَفَقْءِ الْعُيُونِ اهـ، وَقِيلَ: هِيَ قَطْعُ أَعْضَاءِ الْمَقْتُولِ قِصَاصًا أَوْ كُفْرًا أَوْ حَدًّا، لِأَنَّ الْغَرَضَ إِزَالَةُ الْحَيَاةِ وَقَدْ حَصَلَتْ فَلَا فَائِدَةَ فِي قَطْعِهَا بَعْدَهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2942 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، فَانْصَرَفَ وَقَدْ آضَتِ الشَّمْسُ، وَقَالَ: " مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ وَذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي، وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرَتِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ لَا أَفْعَلَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2942 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ خَطًّا وَضَمِّ النُّونِ لَفْظًا (فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ) : بِالتَّحْدِيدِ أَيْ رُكُوعَاتٍ (بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) : يَعْنِي كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يَرْكَعُ ثَلَاثًا وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ (فَانْصَرَفَ) : أَيْ: عَنِ الصَّلَاةِ (وَقَدْ آضَتِ الشَّمْسُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " هُوَ هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ هَكَذَا ضَبَطَهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ بِبِلَادِنَا أَيْ: عَادَتْ إِلَى حَالِهَا الْأُولَى وَرَجَعَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ أَيْضًا: وَهُوَ مَصْدَرُ آضَ يَئِيضُ (وَقَالَ " مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ ") : أَيْ: لَيْسَ شَيْءٌ وُعِدْتُمْ بِمَجِيئِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (" إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ ") : أَيْ: أُحْضِرَتْ (" وَذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي لَفْحُهَا) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (وَمَخَافَةَ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْعِلَّةِ أَيْ: خَشْيَةَ إِصَابَةِ لَفْحِهَا إِيَّايَ، فِي النِّهَايَةِ: " لَفْحُ النَّارِ بِالْفَاءِ وَالْحَاءِ وَهَجُهَا وَحَرُّهَا " (وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا) : أَيْ: فِي النَّارِ (" صَاحِبَ الْمِحْجَنِ ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ جِيمٍ ; عَصًا فِي رَأْسِهِ اعْوِجَاجٌ كَالصَّوْلَجَانِ وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: خَشَبٌ طَوِيلٌ عَلَى رَأْسِهِ حَدِيدَةٌ مُعْوَجَّةٌ اسْمُ آلَةٍ مِنَ الْحَجْنِ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْجِيمِ، وَهُوَ جَرُّ الشَّيْءِ إِلَى جَانِبِهِ، وَالْمُرَادُ بِصَاحِبِهِ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ (" يَجُرُّ قُصْبَهُ ") : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: يَسْحَبُهُ (" فِي النَّارِ ") : وَالْقُصْبُ: الْمِعَى وَجَمْعُهُ أَقْصَابٌ، وَقِيلَ: الْقُصْبُ اسْمٌ لِلْأَمْعَاءِ كُلِّهَا،

وَقِيلَ: أَمْعَاءٌ أَسْفَلَ الْبَطْنِ (" وَكَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ ") : أَيْ: مَتَاعَهُ (" بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: عُلِمَ بِهِ (" قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ ") : أَيِ: الشَّيْءُ الْمَسْرُوقُ (" بِمِحْجَنِي وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ") : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: ذَهَلَ وَجَهِلَ بِهِ ذَهَبَ بِهِ (ذَهَبَ بِهِ وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا ") : أَيْ: فِي النَّارِ (" صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (" وَلَمْ تَدَعْهَا ") : أَيْ: لَمْ تَتْرُكْهَا (" تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ أَيْ: هَوَامِهَا وَحَشَرَاتِهَا (حَتَّى مَاتَتْ ") : أَيِ: الْهِرَّةُ (" جُوعًا ") : أَيْ: لِجُوعِهَا أَوْ بِجُوعِهَا، قِيلَ: " الْخَشَاشُ بِتَثْلِيثِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ هَوَامُهَا، وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ يَابِسُ النَّبَاتِ " (" ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ وَذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي ") : أَيِ: الْأَوَّلَانِيِّ (" وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرَتِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَدَا ") : أَيْ: ظَهَرَ (" لِي أَنْ لَا أَفْعَلَ ") : فِي النِّهَايَةِ: " الْبَدَاءُ اسْتِصْوَابُ شَيْءٍ عُلِمَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يُعْلَمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " لَعَلَّ الِاسْتِصْوَابَ فِي أَنْ لَا يُظْهِرَ لَهُمْ ثَمَرَتَهَا لِئَلَّا يَنْقَلِبَ الْإِيمَانُ الْغَيْبِيُّ إِلَى الشُّهُودِيِّ، وَلَوْ أَرَاهُمْ ثِمَارَ الْجَنَّةِ لَزِمَ أَنْ يُرِيَهُمْ لَفْحَ النَّارِ أَيْضًا وَحِينَئِذٍ يَغْلِبُ الْخَوْفُ عَلَى الرَّجَاءِ فَتَبْطُلُ أُمُورُ مَعَاشِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ: " «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا» ". وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: " قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ رُؤْيَةَ عَيْنٍ كَشَفَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُمَا، وَأَزَالَ الْحُجُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، كَمَا فَرَجَ لَهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَأَنْ تَكُونَ رُؤْيَةَ عِلْمٍ وَوَحْيٍ عَلَى سَبِيلِ تَفْضِيلٍ وَتَعْرِيفٍ لَمْ يَعْرِفْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَحَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ خَشْيَةٌ لَمْ يَسْبِقْهَا، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِأَلْفَاظِ الْحَدِيثِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ مِنْ تَأَخُّرِهِ لِئَلَّا يُصِيبَهُ لَفْحُهَا، وَتَقَدُّمِهِ لِقَطْفِ الْعُنْقُودِ، وَفِيهِ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ مَوْجُودَتَانِ، وَأَنَّ ثِمَارَهَا أَعْيَانٌ كَثِمَارِ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ التَّأَخُّرَ عَنْ مَوْضِعِ الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ سُنَّةٌ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مُعَذَّبٌ فِي نَفْسِ جَهَنَّمَ الْيَوْمَ، وَفِي تَعْذِيبِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ بِالنَّارِ ; بِسَبَبِ رَبْطِ الْهِرَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَهَا كَانَ كَبِيرَةً ; لِأَنَّ رَبْطَهَا وَإِصْرَارَهَا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ إِصْرَارٌ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهَا يَجْعَلُهَا كَبِيرَةً (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2943 - وَعَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: «كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ: الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: " مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2943 - (وَعَنْ قَتَادَةَ) : تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ شَهِيرٌ (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ) : حَالٌ، وَقِيلَ مَفْعُولٌ ثَانٍ (كَانَ فَزَعٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: خَوْفٌ وَصِيَاحٌ (بِالْمَدِينَةِ) : بِأَنَّ جَيْشَ الْكُفَّارِ وَصَلَ إِلَى قُرْبِهَا (فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ) : أَيِ: لِلْفَرَسِ (الْمَنْدُوبُ) : مِنْ نَدَبَهُ أَيْ: دَعَاهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: " أَيِ: الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ مِنَ النَّدْبِ الرَّهْنُ الَّذِي يُجْعَلُ فِي السِّبَاقِ "، وَقِيلَ: " سُمِّيَ بِهِ لِنَدْبٍ كَانَ فِي جِسْمِهِ وَهُوَ أَثَرُ الْجُرْحِ " (فَرَكِبَ) : أَيْ: عَلَيْهِ وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ (فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: " مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ ") : أَيْ: مِمَّا يُفْزَعُ بِهِ أَوْ مِنَ الْبُطْءِ الَّذِي قَالَ فِي حَقِّ الْمَنْدُوبِ (" وَإِنْ وَجَدْنَاهُ ") : أَيْ: وَقَدْ وَجَدْنَا الْفَرَسَ وَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (" لَبَحْرًا ") : أَيْ: وَاسْعُ الْجَرْيِ كَالْبَحْرِ فِي سَعَتِهِ، وَقِيلَ: الْبَحْرُ الْفَرَسُ السَّرِيعُ الْجَرْيِ سُمِّيَ بِهِ لِسَعَةِ جَرْيِهِ، أَيْ: جَرْيُهُ كَجَرْيِ مَاءِ الْبَحْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الْمُثْقَلَةِ وَالضَّمِيرُ فِي وَجَدْنَاهُ لِلْفَرَسِ الْمُسْتَعَارِ " اهـ. فَاسْمُ إِنْ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَلَامُ " لَبَحْرًا " فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبيْنَ النَّافِيَةِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: " إِنْ هَاهُنَا بِمَعْنَى " مَا " النَّافِيَةِ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى " إِلَّا " مَا وَجَدْنَاهُ إِلَّا بَحْرًا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: إِنْ زَيْدٌ لَعَاقِلٌ أَيْ: مَا زَيْدٌ إِلَّا عَاقِلًا " اهـ. وَهُوَ عَلَى مَا زَعَمَ الْكُوفِيُّونَ كَمَا فِي الْمُغْنِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِعَارَةِ الْحَيَوَانِ، وَعَلَى إِبَاحَةِ التَّوَسُّعِ فِي الْكَلَامِ وَتَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِيهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ تَسْمِيَةِ الدَّوَابِّ، وَكَانَتْ تِلْكَ مِنْ عَادَاتِهِمْ، وَكَذَا أَدَاةُ الْحَرْبِ لِيُحْضَرَ سَرِيعًا إِذَا طُلِبَ، وَفِيهِ جَوَازُ سَبْقِ الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ فِي كَشْفِ أَخْبَارِ الْعَدُوِّ مَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْهَلَاكُ وَاسْتِحْبَابُ تَبْشِيرِ النَّاسِ بَعْدَ الْخَوْفِ إِذَا ذَهَبَ، وَفِيهِ إِظْهَارُ شَجَاعَتِهِ وَقُوَّةُ قَلْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 2944 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2944 - (عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ) مَرَّ ذِكْرُهُ قَرِيبًا (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً» ") أَيْ: غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ لِمَصْلَحَةِ بَلَدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ بِأَنْ يَكُونَ مَرْكَضَ دَوَابِّهِمْ مَثَلًا (" فَهِيَ لَهُ ") ، أَيْ: صَارَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُ، لَكِنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ مُحْتَجِّينَ بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ» " يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِذْنِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، قَالَ الْقَاضِي: " الْأَرْضُ الْمَيِّتَةُ الْخَرَابُ الَّذِي لَا عِمَارَةَ فِيهِ، وَإِحْيَاؤُهَا عِمَارَتُهَا، شُبِّهَتْ عِمَارَةُ الْأَرْضِ بِحَيَاةِ الْأَبْدَانِ وَتَعَطُّلُهَا وَخُلُوُّهَا عَنِ الْعِمَارَةِ بِفَقْدِ الْحَيَاةِ وَزَوَالِهَا عَنْهَا " (" وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ") بِكَسْرِ الْعَيْنِ (" ظَالِمٍ ") بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا صِفَةٌ وَمَوْصُوفُ (" حَقٌّ ") قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ فِي أَرْضٍ أَحْيَاهَا غَيْرُهُ لَمْ يَسْتَحِقِّ الْأَرْضَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَغْرُوسُ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ الظَّالِمُ أَيْ: لِأَنَّ الظُّلْمَ حَصَلَ بِهِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَيُرْوَى بِالْإِضَافَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْغَارِسُ سَمَّاهُ ظَالِمًا ; لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْفَقُ لِلْحُكْمِ السَّابِقِ، وَقِيلَ: " مَعْنَاهُ مَنْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنِهِ فَلَيْسَ لِغَرْسِهِ وَزَرْعِهِ حَقُّ إِبْقَاءٍ، بَلْ لِمَالِكِهَا قَلْعُهُمَا بِلَا ضَمَانٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: " الرِّوَايَةُ فِي لِعِرْقٍ بِالتَّنْوِينِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: لِذِي عِرْقٍ ظَالِمٍ، فَجَعَلَ الْعِرْقَ نَفْسَهُ ظَالِمًا، وَالْوَصْفُ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ أَحَدُ عُرُوقِ الشَّجَرَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) أَيْ: مُتَّصِلًا.

2945 - وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2945 - (وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا) فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ مِنْ وَجْهٍ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمَصَابِيحِ مُسْنَدٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ مِنَ الْعَشَرَةِ وَجَعَلَهُ مُرْسَلًا، وَلَعَلَّهُ وَقَعَ مِنَ النَّاسِخِ، وَأَنَّ الشَّيْخَ أَثْبَتَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مِنَ الْمُتَّصِلِ وَالْإِرْسَالُ فِي الْمَتْنِ، وَأَثْبَتَ غَيْرُهُ الْآخَرَ فِي الْحَاشِيَةِ، فَالْتَبَسَ عَلَى النَّاسِخِ فَظَنَّ أَنَّهُمَا مِنَ الْمَتْنِ فَأَثْبَتَهُمَا فِيهِ "، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ الصَّحَابِيُّ الْحَدِيثَ مُرْسَلًا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَلَمْ يُسْنِدْ إِلَيْهِ، لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ: (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) اه. وَفِيهِ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا، أَنَّ عُرْوَةَ حَذَفَ الصَّحَابِيَّ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَعِيدًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَأَيْضًا مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ مُعْتَبَرَةٌ إِجْمَاعًا بِخِلَافِ مُرْسَلِ التَّابِعِيِّ، فَإِنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَلَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً أَقَلُّهُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُهُ حَسَنًا فَقَوْلُهُ: لَكِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ إِلَخْ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالضِّيَاءُ، عَنْ جَابِرٍ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَافِيَةُ مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا: " «الْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ وَالْبِلَادُ بِلَادُ اللَّهِ، فَمَنْ أَحْيَا مِنْ مَوَاتِ الْأَرْضِ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» ".

2946 - وَعَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عَمِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْمُجْتَبَى ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2946 - (وَعَنْ أَبِي حُرَّةَ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (الرَّقَاشِيِّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ (عَنْ عَمِّهِ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ لَكِنَّ جَهَالَةَ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ فِي الرِّوَايَةِ (قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا ") بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (" لَا تَظْلِمُوا ") أَيْ: لَا يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ، وَهُوَ يَشْمَلُ الظُّلْمَ الْقَاصِرَ وَالْمُعْتَدِي (" أَلَا ") لِلتَّنْبِيهِ أَيْضًا وَكَرَّرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الثَّانِي حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْعِبَادِ أَحَقُّ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّخْصِيصِ لَدَيْهِ (" لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ ") أَيْ: مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ (" إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ ") أَيْ: بِأَمْرٍ أَوْ رِضًا مِنْهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْمُجْتَبَى ".

2947 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: " «لَا جَلَبَ، وَلَا جَنَبَ، وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2947 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: يُكَنَّى أَبَا نُجَيْدٍ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْخُزَاعِيُّ الْكَعْبِيُّ، أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ، وَسَكَنَ الْبَصْرَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ، رَوَى عَنْهُ أَبُو رَجَاءٍ، وَمُطَّرِفٌ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: " «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ» ") بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا (" وَلَا شِغَارَ ") بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (" فِي الْإِسْلَامِ ") الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ فِي الْكُلِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلْأَخِيرِ. قَالَ الْقَاضِي: " الْجَلَبُ فِي السِّبَاقِ أَنْ يُتْبِعَ فَرَسَهُ رَجُلًا يَجْلِبُ عَلَيْهِ وَيَزْجُرُهُ، وَالْجَنَبُ أَنْ يُجَنِّبَ إِلَى فَرَسِهِ فَرَسًا عُرْيَانًا، فَإِذَا فَتَرَ الْمَرْكُوبُ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، وَالْجَلَبُ وَالْجَنَبُ فِي الصَّدَقَةِ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُمَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَالشِّغَارُ أَنْ تُشَاغِرَ الرَّجُلَ وَهُوَ أَنْ تُزَوِّجَهُ أُخْتَكَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَكَ أُخْتَهُ، وَلَا مَهْرَ إِلَّا هَذَا مِنْ شَغَرَ الْبَلَدُ إِذَا خَلَا مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ خَالٍ عَنِ الْمَهْرِ، الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمُقْتَضِي إِفْسَادَهُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْبُضْعِ بِجَعْلِهِ صَدَاقًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالثَّوْرِيُّ: " يَصِحُّ الْعَقْدُ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ ". قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " اعْلَمْ أَنَّ مُتَعَلِّقَ النَّفْيِ مُسَمَّى الشِّغَارِ، وَمَأْخُوذٌ مِنْ مَفْهُومِهِ خُلُوُّ الصَّدَاقِ، وَكَوْنُ الْبُضْعِ صَدَاقًا، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِنَفْيِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ شَرْعًا، فَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ كَذَلِكَ بَلْ بَطَلَهُ فَيَبْقَى نِكَاحًا سَمَّى فِيهِ مَالًا يَصْلُحُ مَهْرًا فَيَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ الْمُسَمَّى فِيهِ خَمْرٌ فَمَا هُوَ مُتَعَلِّقُ النَّفْيِ لَمْ نُثْبِتْهُ، وَمَا أَثْبَتْنَاهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ النَّفْيُ (" وَمَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً ") بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ فِي الْقَامُوسِ: النَّهْبُ الْغَنِيمَةُ وَالِاسْمُ النُّهْبَةُ (" فَلَيْسَ مِنَّا ") أَيْ: مِنْ جَمَاعَتِنَا وَعَلَى طَرِيقَتِنَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ إِلَى قَوْلِهِ: " فِي الْإِسْلَامِ " وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ: " «مَنِ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا» وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالضِّيَاءُ عَنْ جَابِرٍ ".

2948 - وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لَاعِبًا جَادًّا، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِوَايَتُهُ إِلَى قَوْلِهِ: " جَادًّا ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2948 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: " يُكَنَّى أَبَا يَزِيدَ الْكِنْدِيَّ، وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، حَضَرَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ أَبِيهِ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ " (عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَأْخُذُ ") بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَقِيلَ بِالنَّفْيِ (" أَحَدُكُمْ

عَصَا أَخِيهِ ") أَيْ: مَثَلًا (" لَاعِبًا جَادًّا ") حَالَانِ مِنْ فَاعِلِ يَأْخُذُ وَإِنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَتَانِ تَنَاقَضَتَا، وَإِنْ ذَهَبَ فِي التَّدَاخُلِ صَحَّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، يَعْنِي وَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْأَوَّلِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ مُقَدَّرَةٌ حَتَّى لَا يَلْزَمَ التَّنَاقُضُ، سَوَاءٌ كَانَتَا مُتَرَادِفَتَيْنِ أَوْ مُتَدَاخِلَتَيْنِ إِلَّا أَنْ يَحْمِلَ الْأَوَّلَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَالثَّانِي عَلَى بَاطِنِهِ أَيْ: لَاعِبًا ظَاهِرًا جَادًّا بَاطِنًا أَيْ: يَأْخُذُ عَلَى سَبِيلِ الْمُلَاعَبَةِ وَقَصْدُهُ فِي ذَلِكَ إِمْسَاكُهُ لِنَفْسِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ اللَّعِبُ وَالْجِدُّ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَلِذَا قَالَ الْمُظْهِرُ: " مَعْنَاهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى وَجْهِ الدَّلِّ وَسَبِيلِ الْمِزَاحِ ثُمَّ يَحْبِسَهَا عَنْهُ وَلَا يَرُدُّهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ جِدًّا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، هُوَ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ لَا يُرِيدُ سَرِقَتَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ إِدْخَالَ الْغَيْظِ عَلَيْهِ فَهُوَ لَاعِبٌ فِي السَّرِقَةِ جَادٌّ فِي إِدْخَالِ الْغَيْظِ وَالرَّوْعِ وَالْأَذَى عَلَيْهِ اه. وَيَنْصُرُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (" «فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ» ") . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَإِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْعَصَا لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ التَّافِهَةِ الَّتِي لَا يَكُونُ لَهَا كَبِيرُ خَطِرٍ عِنْدَ صَاحِبِهَا، لِيَعْلَمَ أَنَّ مَا كَانَ فَوْقَهُ فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحَقُّ وَأَجْدَرُ " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِوَايَتُهُ) أَيْ: مَرْوِيُّ أَبِي دَاوُدَ انْتَهَى (إِلَى قَوْلِهِ " جَادًّا ") .

2949 - وَعَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ رَجُلٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَتَّبِعُ الْبَيِّعُ مَنْ بَاعَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2949 - (وَعَنْ سَمُرَةَ) بِفَتْحٍ وَضَمٍّ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: " هُوَ ابْنُ جُنْدُبِ الْفَزَارِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، كَانَ مِنِ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ آخِرَ سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ " (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ» ") قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " الْمُرَادُ مِنْهُ مَا غَصَبَ أَوْ سَرَقَ أَوْ ضَاعَ مِنَ الْأَمْوَالِ (" عِنْدَ رَجُلٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ") أَيْ: بِمَالِهِ (" وَيَتَّبِعُ ") بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَفَتْحِهَا (" الْبَيِّعُ ") بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: الْمُشْتَرِي لِذَلِكَ الْمَالِ (" مَنْ بَاعَهُ ") أَيْ: وَأَخَذَ مِنْهُ الثَّمَنَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

2950 - وَعَنْهُ، عَنِ - النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2950 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ سَمُرَةَ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ» ") أَيْ: يَجِبُ عَلَى الْيَدِ رَدُّ مَا أَخَذَتْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " مَا " مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَعَلَى الْيَدِ خَبَرُهُ وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا أَخَذَتْهُ الْيَدُ ضَمَانٌ عَلَى صَاحِبِهَا، وَالْإِسْنَادُ إِلَى الْيَدِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمُتَصَرِّفُ (" حَتَّى تُؤَدِّيَ ") بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ الْمُؤَنَّثِ، وَالضَّمِيرُ إِلَى الْيَدِ أَيْ: حَتَّى تُؤَدِّيَهُ إِلَى مَالِكِهِ، فَيَجِبُ رَدُّهُ فِي الْغَصْبِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ، وَفِي الْعَارِيَةِ إِنْ عَيَّنَ مُدَّةً رَدَّهُ إِذَا انْقَضَتْ وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْ مَالِكُهَا، وَفِي الْوَدِيعَةِ لَا يَلْزَمُ إِلَّا إِذَا طَلَبَ الْمَالِكُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ يُوَضِّحُ كَلَامَ الْمُظَهَّرِ يَعْنِي: مَنْ أَخَذَ مَالَ أَحَدٍ بِغَصْبٍ أَوْ عَارِيَةً أَوْ وَدِيعَةً لَزِمَهُ رَدُّهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَلَفْظُهُمْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ بِالضَّمِيرِ.

2951 - وَعَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " «أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا، فَأَفْسَدَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2951 - (وَعَنْ حَرَامِ بْنِ سَعِيدٍ) ضِدُّ حَلَالٍ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ (ابْنِ مُحَيِّصَةَ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَقِيلَ: بِإِسْكَانِهَا (أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا) أَيْ: بُسْتَانًا فِي النِّهَايَةِ: " الْحَائِطُ الْبُسْتَانُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَائِطٌ وَهُوَ الْجِدَارُ (فَأَفْسَدَتْ) أَيْ: بَعْضَ الْفَسَادِ (فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: حَكَمَ (أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ) أَيِ: الْبَسَاتِينِ (حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ) يَعْنِي وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ) أَيْ: مَضْمُونٌ كَالْكَاتِمِ بِمَعْنَى الْمَكْتُومِ أَوْ ذُو ضَمَانٍ (عَلَى أَهْلِهَا) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " ذَهَبَ أَهْلُ الْعِلْمِ، إِلَى أَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ بِالنَّهَارِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَهْلِهَا، وَمَا أَفْسَدَتْ بِاللَّيْلِ ضَمِنَهُ مَالِكُهَا، لِأَنَّ فِي الْعُرْفِ أَنَّ أَصْحَابَ الْحَوَائِطِ وَالْبَسَاتِينِ يَحْفَظُونَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَصْحَابَ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ، فَمَنْ خَالَفَ هَذِهِ الْعَادَةَ كَانَ خَارِجًا عَنْ رُسُومِ الْحِفْظِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكُ الدَّابَّةِ مَعَهَا فَإِنْ كَانَ مَعَهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَتْهُ، سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبَهَا أَوْ سَائِقَهَا أَوْ قَائِدَهَا أَوْ كَانَتْ وَاقِفَةً، سَوَاءٌ أَتْلَفَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ فَمِهَا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - إِلَى أَنَّ الْمَالِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

2952 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الرِّجْلُ جُبَارٌ» "، وَقَالَ: " «النَّارُ جُبَارٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2952 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الرِّجْلُ ") بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: رِجْلُ الْبَهَائِمِ وَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمُسَبِّبِ بِاسْمِ السَّبَبِ أَيْ: مَا تَطَؤُهُ الدَّابَّةُ وَتَضْرِبُهُ بِرِجْلِهَا فِي الطَّرِيقِ (" جُبَارٌ ") بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: هَدْرٌ وَبَاطِلٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي أَنَّ رَاكِبَ دَابَّةٍ إِذَا رَمَحَتْ أَيْ: طَعَنَتْ دَابَّتُهُ، إِنْسَانًا بِرِجْلِهَا فَهُوَ هَدْرٌ، وَإِنْ ضَرْبَتَهُ بِيَدِهَا فَهُوَ ضَمَانٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَمْلِكُ تَصَرُّفَهَا مِنْ قُدَّامِهَا دُونَ خَلْفِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " الْيَدُ وَالرِّجْلُ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا مَضْمُونَتَيْنِ " (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَعَلَّ إِعَادَتَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالثَّانِي أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (" النَّارُ ") أَيْ: مَا أَحْرَقَهُ شَرَارُ النَّارِ بِلَا عُدْوَانٍ بِأَنْ أُوقِدَتْ لِحَاجَةٍ بِلَا تَعَدٍّ (" جُبَارٌ ") فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " النَّارُ الَّتِي يُوقِدُهَا الرَّجُلُ فِي مِلْكِهِ فَيَطِيرُ بِهَا الرِّيحُ إِلَى مَالِ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهَا فَهُوَ هَدْرٌ، وَهَذَا إِذَا أُوقِدَتْ فِي وَقْتِ سُكُونِ الرِّيحِ ثُمَّ هَبَّتِ الرِّيحُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2953 - وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا. فَإِنْ أَجَابَهُ أَحَدٌ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَلَا يَحْمِلْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2953 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) أَيِ: الْبَصْرِيِّ (عَنْ سَمُرَةَ) مَرَّ ذِكْرُهُ قَرِيبًا (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ ") قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَتَى مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ وَعَدَّاهُ بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى نَزَلَ، وَجَعَلَ الْمَاشِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضِيفِ، وَفِيهِ مَعْنَى حُسْنِ التَّعْلِيلِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الضَّيْفُ النَّازِلُ مُضْطَرًّا (" فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ ") ،

بِسُكُونِ اللَّامِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ") بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: فَلْيَصِحْ (ثَلَاثًا) أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (" فَإِنْ أَجَابَهُ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَجُبْهُ أَحَدٌ فَلْيَحْتَلِبْ ") أَيْ: إِذَا كَانَ مُضْطَرًّا (" وَلْيَشْرَبْ ") أَيْ: بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ (" وَلَا يَحْمِلْ ") أَيْ: مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " هَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ بِأَنْ يَخَافَ الْمَوْتَ مِنَ الْجُوعِ أَوِ انْقِطَاعِهِ مِنَ السَّبِيلِ وَيَرُدُّ قِيمَتَهُ لِمَالِكِهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ " اه. وَقَالَ أَحْمَدُ: " يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ "، وَقَدْ تَقَدَّمَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2954 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2954 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ» ") أَيْ: مِنْ ثِمَارِهِ (" وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً ") بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَهَا نُونٌ، وَهِيَ طَرْفُ الثَّوْبِ، أَيْ: لَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فِي ثَوْبِهِ، وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ لِابْنِ السَّبِيلِ الْمُضْطَرِّ أَيْضًا، وَإِلَّا فَلَا تُقَاوِمُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ نُصُوصًا وَرَدَتْ فِي تَحْرِيمِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَدْ سَبَقَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) أَيْ: مَتْنًا أَوْ إِسْنَادًا.

2955 - وَعَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرَاعَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدَ؟ قَالَ " بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2955 - (وَعَنْ أُمَيَّةَ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ صَفْوَانَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: " هُوَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ الْقُرَشِيُّ، هَرَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ وَابْنُهُ وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَّنَهُ وَأَعْطَاهُمَا رِدَاءَهُ أَمَانًا لَهُ، فَأَدْرَكَهُ وَهْبٌ فَرَدَّهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ قَالَ: هَذَا وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ زَعَمَ أَنَّكَ أَمَّنْتَنِي عَلَى أَنْ أَسِيرَ شَهْرَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ " فَقَالَ: لَا حَتَّى تُبَيِّنَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " انْزِلْ فَلَكَ أَنْ تَسِيرَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ " فَنَزَلَ وَخَرَجَ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ فَشَهِدَهَا وَشَهِدَ الطَّائِفَ كَافِرًا، فَأَعْطَاهُ مِنَ الْغَنَائِمِ فَأَكْثَرَ، فَقَالَ صَفْوَانٌ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا طَابَ هَذَا إِلَى نَفْسِ نَبِيٍّ، فَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» "، وَكَانَ صَفْوَانُ أَحَدَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ صَفْوَانُ أَقَرَّا عَلَى نِكَاحِهِمَا، مَاتَ صَفْوَانُ بِمَكَّةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ قُرَيْشٍ لِسَانًا (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرَاعَهُ) جَمْعُ دِرْعٍ أَيْ: أَرَادَ أَخْذَهَا عَارِيَةً مِنْهُ (يَوْمَ حُنَيْنٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " كَانَ صَاحِبُ الْأَدْرَاعِ كَافِرًا دَخَلَ الْمَدِينَةَ بِإِذْنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَيَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الدِّينِ بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنِ اخْتَارَ دِينَ الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ، وَإِلَّا رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ بِلَا لُحُوقِ أَذِيَّةٍ لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَظَنَّ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يَرُدُّهَا (فَقَالَ: أَغَصْبًا) وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْمُصَنِّفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " قَوْلُهُ: غَصْبًا مَعْمُولٌ مَدْخُولُ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَتَأْخُذُهَا غَصْبًا لَا تَرُدُّهَا عَلَيَّ (يَا مُحَمَّدُ؟) قِيلَ: هَذَا النِّدَاءُ لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ قَالَ تَعَالَى:

{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] فَغَيْرُ مُنَاسِبٍ بِالْمَقَامِ وَغَيْرُ مُلَائِمٍ بِالْمَرَامِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكًا وَقَدْ أَخَذَ بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ الْحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ (قَالَ: " بَلْ عَارِيَةً ") بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ وَبِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ وَكَذَا قَوْلُهُ (" مَضْمُونَةً ") أَيْ: مَرْدُودَةً وَالْمَعْنَى أَنْ أَسْتَعِيرَهَا وَأَرُدَّهَا، فَوَضَعَ الضَّمَانَ مَوْضِعَ الرَّدِّ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ، أَيْ: كَيْفَ لَا أَرُدُّهَا وَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيَّ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ نَظَرَ إِلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَضْمُونَةٌ نَظَرَ إِلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " قَوْلُهُ: مَضْمُونَةً مُؤَوَّلٌ بِضَمَانِ الرَّدِّ أَيْ: يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ مُؤْنَةُ رَدِّهَا إِلَى مَالِكِهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ عَيْنِهَا عِنْدَ قِيَامِهَا. قَالَ الْقَاضِي: " هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، فَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ. وَذَهَبُ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِلَى أَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَا تُضْمَنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَأَوَّلَ قَوْلَهُ: مَضْمُونَةً بِضَمَانِ الرَّدِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: الْوَدِيعَةُ مَرْدُودَةٌ، وَلَا يُقَالُ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ، وَإِنْ صَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، فَحَمْلُ اللَّفْظِ هُنَا عَلَيْهِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِلَا دَلِيلٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: " إِنْ خَفِيَ تَلَفُهُ أَيْ: لَمْ يَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى تَلَفِهِ ضُمِنَ، وَإِلَّا فَلَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2956 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالْمِنْحَةٌ مَرْدُودَةٌ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2956 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْعَارِيَّةُ ") بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ (" مُؤَادَةٌ ") بِالْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " أَيْ: تُؤَدَّى إِلَى صَاحِبِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الضَّمَانِ، فَالْقَائِلُ بِالضَّمَانِ يَقُولُ تُؤَدَّى عَيْنًا حَالَ الْقِيَامِ وَقِيمَةً عِنْدَ التَّلَفِ، وَفَائِدَةُ التَّأْدِيَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَى خِلَافَهُ إِلْزَامُ الْمُسْتَعِيرِ مُؤْنَةَ رَدِّهَا إِلَى مَالِكِهَا (" وَالْمِنْحَةُ ") بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، مَا يَمْنَحُهُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ أَيْ: يُعْطِيهِ مِنْ ذَاتِ دَرٍّ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا، أَوْ شَجَرَةٍ لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا، أَوْ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: الْمَنِيحَةُ (" مَرْدُودَةٌ ") إِعْلَامٌ بِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ لَا تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ (" وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ ") أَيْ: يَجِبُ قَضَاؤُهُ (" وَالزَّعِيمُ ") أَيِ: الْكَفِيلُ (" غَارِمٌ ") أَيْ: يُلْزِمُ نَفْسَهُ مَا ضَمِنَهُ، وَالْغُرْمُ أَدَاءُ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ضَامِنٌ وَمَنْ ضَمِنَ دَيْنًا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالضِّيَاءُ.

2957 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «كُنْتُ غُلَامًا أَرْمِي نَخْلَ الْأَنْصَارِ فَأُتِيَ بِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا غُلَامُ! لِمَ تَرْمِي النَّخْلَ؟ " قُلْتُ: آكُلُ. قَالَ: " فَلَا تَرْمِ، وَكُلْ مِمَّا سَقَطَ فِي أَسْفَلِهَا " ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ فَقَالَ " اللَّهُمَّ أَشْبِعْ بَطْنَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِي " بَابِ اللُّقَطَةِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــ 2957 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: " عِدَادُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُدَيْثَةَ فِي أَكْلِ التَّمْرِ (قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا) أَيْ: وَلَدًا صَغِيرًا (أَرْمِي نَخْلَ الْأَنْصَارِ) أَيْ: يَرْمِي الْأَحْجَارَ لِطَرْحِ الْأَثْمَارِ (فَأُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: فَجِيءَ (بِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِالنَّصْبِ أَيْ: أَتَى بِيَ الْأَنْصَارُ إِلَى النَّبِيِّ (وَقَالَ) وَفِي نُسَخَةٍ فَقَالَ، وَفِي أُخْرَى قَالَ أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" يَا غُلَامُ! لِمَ ") أَيْ: لِأَيِّ شَيْءٍ (" تَرْمِي النَّخْلَ؟ "،: أَيْ: ثَمَرَهُ (فَقُلْتُ: آكُلُ) أَيْ: لِآكُلَهُ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ (قَالَ: " فَلَا تَرْمِ ") أَيْ: فَإِنَّهُ ضَرَرٌ وَتَعَدٍّ (" وَكُلْ مِمَّا سَقَطَ فِي أَسْفَلِهَا ") أَيْ: لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ غَالِبًا بِمُسَامَحَةِ السَّاقِطِ لِلَّاقِطِ، لَا سِيَّمَا لِلصِّغَارِ الْمَائِلِينَ إِلَى الثِّمَارِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: " إِنَّمَا أَجَازَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا سَقَطَ لِلِاضْطِرَارِ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا سَقَطَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ كَالرُّطَبِ عَلَى رَأْسِ النَّخْلِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " لَوْ كَانَ مُضْطَرًّا لَجَازَ أَنْ يَأْكُلَ مَا رَمَاهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ " (ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ فَقَالَ: " «اللَّهُمَّ أَشْبِعْ بَطْنَهُ» ") قِيلَ: يَدُلُّ هُنَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

(وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا (فِي بَابِ اللُّقَطَةِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ وَيُسَكَّنُ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ فِعْلِيٌّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2958 - عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2958 - (عَنْ سَالِمٍ - عَنْ أَبِيهِ) أَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا ") وَفِي نُسْخَةٍ شِبْرًا (" بِغَيْرِ حَقِّهِ ") أَيْ: ظُلْمًا (" خُسِفَ ") عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْجُمْلَةُ إِخْبَارٌ أَوْ إِنْشَاءٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ ") بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا سَبْعُ طِبَاقٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2959 - وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِغَيْرِ حَقِّهَا كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا الْمَحْشَرَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2959 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ) بِضَمِّ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ: " هُوَ الثَّقَفِيُّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ وَالْفَتْحَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَعِدَادَهُ فِي الْكُوفِيِّينَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِغَيْرِ حَقِّهَا ") أَيْ " ظُلْمًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (" كُلِّفَ ") أَيْ: أُمِرَ (" أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا الْمَحْشَرَ ") بِفَتْحِ الشِّينِ وَيُكْسَرُ وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَشْرِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحَشْرُ الْجَمْعُ يَحْشُرُ وَيَحْشِرُ أَيْ: بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَالْمَحْشِرُ وَيُفْتَحُ مَوْضِعُهُ اه. وَفِي كَلَامِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْكَسْرَ أَقْوَى، لَكِنَّ اللُّغَةَ الْقُرْآنِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْفُصْحَى بِضَمِّ شِينِ الْمُضَارِعِ فِي الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَكَسْرِهَا مِنَ الشَّوَاذِّ، فَالْفَتْحُ فِي الْمَحْشَرِ أَفْصَحُ وَهُوَ أَخَفُّ وَأَشْهَرُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " لَا يُقَالُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَيْسَ زَمَانَ التَّكْلِيفِ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ مَنْعُ تَكْلِيفِ تَعْجِيزٍ لِلْإِيذَاءِ لَا تَكْلِيفِ ابْتِلَاءٍ لِلْجَزَاءِ، وَمَنْعُ تَكْلِيفِ الْمُصَوِّرِينَ عَلَى نَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِيمَا صَوَّرُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَالضِّيَاءُ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْحَارِثِ وَلَفْظُهُ: «مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» .

2960 - وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ كَلَّفَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ سَبْعِ أَرَضِينَ، ثُمَّ يُطَوَّقَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2960 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ يَعْلَى (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ ") قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الْمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ "، وَقَوْلُهُ: (شِبْرًا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَوْ مَفْعُولًا فِيهِ، أَيْ: مِقْدَارًا أَوْ ظُلْمَ شِبْرٍ (" مِنَ الْأَرْضِ ") " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ (" كَلَّفَهُ اللَّهُ عَزَّ ") أَيْ: غَلَبَ عَلَى أَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (" وَجَلَّ ") أَيْ: تَعَالَى وَتَعَظَّمَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ حِكْمَةٍ (" أَنْ يَحْفِرَهُ ") أَيِ: الشِّبْرَ مِنَ الْأَرْضِ (" حَتَّى يَبْلُغَ ") أَيْ: يَصِلَ فِي حَفْرِهِ (" آخِرَ سَبْعِ أَرَضِينَ، ثُمَّ يُطَوَّقَهُ ") بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ: يُجْعَلُ مُطَوَّقًا بِهِ (" إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ") أَيْ: يَكُونُ التَّكْلِيفُ بِالْحَفْرِ فِي قَبْرِهِ مُنْتَهِيًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (" حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ ") أَيْ: إِلَخْ، فَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْعَذَابِ وَعَدَمِ خَلَاصِهِ مِنِ الْعِقَابِ، وَيُقْضَى بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا مَا سَنَحَ لِي مِنْ حَلِّ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: ثُمَّ يُطَوَّقَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ؟ قُلْتَ: إِلَى تُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ مُطْلَقًا، فَأَمَّا دُخُولُهَا فِي الْحُكْمِ وَخُرُوجُهَا فَأَمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ، فَمَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخُرُوجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ; لِأَنَّ الْإِعْسَارَ عِلَةُ الْإِنْظَارِ وَبِوُجُودِ الْمَيْسَرَةِ تَزُولُ الْعِلَّةُ، وَمَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الدُّخُولِ قَوْلُكَ: حَفِظْتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِحِفْظِهِ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ الْغَايَةُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحُكْمِ إِلَى قَضَاءِ الْحَقِّ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونُ حَتَّى يُقْضَى كَالْبَيَانِ لِلْغَايَةِ اه، وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب الشفعة]

[بَابُ الشُّفْعَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2961 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ( 12 -) بَابُ الشُّفْعَةِ بِضَمِّ أَوَّلِهَا، فِي الْمُغْرِبِ: الشُّفْعَةُ اسْمٌ لِلْمِلْكِ الْمَشْفُوعِ بِمِلْكِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَانَ وِتْرًا فَشَفَعْتُهُ بِآخَرَ أَيْ جَعَلْتُهُ زَوْجًا لَهَا، وَنَظِيرُهَا الْأَكْلَةُ وَاللُّقْمَةُ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ هَذَا أَصْلُهَا، ثُمَّ جُعِلَ عِبَارَةً عَنْ تَمَلُّكٍ مَخْصُوصٍ أَيْ: بِمَا قَامَ عَلَى الْمُشْتَرَى، وَقَدْ جَمَعَهُمَا الشَّعْبِيُّ فِي قَوْلِهِ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهُوَ حَاضِرٌ فَلَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2961 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقَسَّمْ» ) فِيهِ بَيَانُ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمَلَ الْقِسْمَةِ، كَالدُّورِ وَالْأَرَاضِي أَوَّلًا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا شُفْعَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ بِعُمُومِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ تَخْصِيصَ مَا لَمْ يُقَسَّمْ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ (فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ) أَيْ: إِذَا قُسِّمَ الْمَلَكِ الْمُشْتَرَى وَوَقَعَتِ الْحُدُودُ أَيِ: الْحَوَاجِزُ وَالنِّهَايَاتُ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: عُيِّنَتْ وَظَهَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالْقِسْمَةِ وَالْإِفْرَازِ (وَصُرِفَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: بُيِّنَتْ (الطُّرُقُ) بِأَنْ تَعَدَّدَتْ، وَحَصَلَ لِكُلِّ نَصِيبٍ طَرِيقٌ مَخْصُوصٌ (فَلَا شُفْعَةَ) أَيْ: بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا مَنْ يَرَى الشُّفْعَةَ لِلْجِوَارِ لِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ يَقُولُ: " إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ ; بَلْ شَيْءٌ زَادَهُ جَابِرٌ فَأَوْصَلَهُ بِمَا حَكَاهُ، وَالْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ لَا حَقَّ فِي الْمَبِيعِ لِارْتِفَاعِهَا بِصَرْفِ الطُّرُقِ» " كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ. قَالَ الْمَالِكِيُّ: مَعْنَى صُرِفَتِ الطُّرُقُ أَيْ: خَلُصَتْ وَبُيِّنَتْ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الصِّرْفِ وَهُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " هَذَا الْحَدِيثُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، أَيْ: بِلَفْظِ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ وَهُوَ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ إِلَخْ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْآخَرَ الَّذِي يَتْلُو هَذَا الْحَدِيثَ، وَكَانَ عَلَى مُؤَلِّفِ الْمَصَابِيحِ لَمَّا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي قِسْمٍ هُوَ مِمَّا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يُعَدِّلَ فِي اللَّفْظِ عَنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ بَوْنًا بَعِيدًا، وَلَا يَكَادُ يَتَسَامَحُ فِيهِ ذُو عِنَايَةٍ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْكِتَابَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ الْقَاضِي: " هَذَا الْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي مُسْنَدِ الْأَمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيِّ، كَذَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «كَذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ» إِلَخْ. فَاخْتَارَ الشَّيْخُ عِبَارَتَهُ إِلَّا أَنَّهُ بَدَّلَ قَوْلَهُ: " «قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ» "، بِقَوْلِهِ: " قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ» "، لَمَّا لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا مَزِيدَ تَفَاوَتٍ فِي الْمَعْنَى. وَقَدْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَبِهِ انْدَفَعَ اعْتِرَاضُ مَنْ شَنَّعَ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ سَوَّيْتَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عُرْفًا، وَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ لَا يَقْتَضِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ حَالٍ وَاقِعَةٍ، وَقَضَاءً فِي قَضِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ؟ قُلْتُ: كَفَى لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ مَا ذُكِرَ عَقِيبَهُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ، بَلْ شَيْءٌ زَادَهُ الرَّاوِي فَأَوْصَلَهُ بِمَا حَكَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَلْبِيسًا وَتَدْلِيسًا، وَمَنْصِبُ هَذَا الرَّاوِي وَالْأَئِمَّةِ الَّذِينَ دَوَّنُوهُ وَسَاقُوا الرِّوَايَةَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ إِلَيْهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يُتَصَوَّرَ فِي شَأْنِهِمْ أَمْثَالُ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ كَمَا تَرَى يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ فِي مُشْتَرَكٍ مُشَاعٍ، لَمْ يُقَسَّمْ بَعْدُ فَإِذَا قُسِّمَ وَتَمَيَّزَتِ الْحُقُوقُ لَمْ يَبْقَ لِلشُّفْعَةِ مَجَالٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَقَوْمٍ نَزْرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بِعْدَهُمْ مَالُوا إِلَى ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: " «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: " لَمَّا لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا مَزِيدَ تَفَاوُتٍ فِي الْمَعْنَى إِلَخْ، لَا يَرْفَعُ الْإِنْكَارَ لِأَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الصَّنْعَةِ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَوْ مُسْلِمٌ مَثَلًا جَازَ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: فِي كِتَابِ فُلَانٍ كَذَا كَذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ صَرِيحِ لَفْظِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي خُطْبَةِ الْمَصَابِيحِ. وَأَعْنِي بِالصِّحَاحِ مَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخَانِ فِي جَامِعَيْهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَفَى لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ إِلَخْ، فَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْحَصْرَ هَاهُنَا لَيْسَ بِالْأَدَاةِ وَالتَّقْدِيمِ وَتَعْرِيفِ الْخَبَرِ، بَلْ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ، وَقَوْلُهُ: الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ مَفْهُومُهُ لَا شُفْعَةَ فِيمَا قُسِّمَ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ بَيَانًا لَهُ وَتَقْرِيرًا، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقَسَّمْ لَمْ يَقْضِ فِيمَا قُسِّمَ، فَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ.

2962 - وَعَنْهُ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ: رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ: " لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2962 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ» ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: ذِي شَرِكَةٍ بِمَعْنَى مُشْتَرِكَةٍ (لَمْ تُقَسَّمْ) صِفَتُهَا (رَبْعَةٍ) بِفَتْحِ رَاءٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: دَارٍ وَمَسْكَنٍ وَضَيْعَةٍ (أَوْ حَائِطٍ) أَيْ: بُسْتَانٍ، وَهُمَا بَدَلٌ مِنْ شَرِكَةٍ، وَقِيلَ هُمَا مَرْفُوعَانِ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هِيَ. فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، كَالْأَرَاضِي وَالدُّورِ وَالْبَسَاتِينِ دُونَ مَا يُمْكِنُ كَالْأَمْتِعَةِ وَالدَّوَابِّ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " قَالُوا: الْحِكْمَةُ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ إِزَالَةُ الضَّرَرِ عَنِ الشَّرِيكِ، وَخُصَّتْ بِالْعَقَارِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْوَاعِ ضَرَرًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَا شُفْعَةَ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْتِعَةِ وَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا فِي عَقَارٍ مُتَحَمِّلٍ لِلْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْحَمَّامِ وَالرَّحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ الشَّرِكَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ بَلْ تَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَأَحْمَدُ: لَا شُفْعَةَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ (" لَا يَحِلُّ لَهُ ") أَيْ: لِكُلِّ شَرِيكٍ (" أَنْ يَبِيعَ ") أَيْ: حِصَّتَهُ (" حَتَّى يُؤْذِنَ ") بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبْدَلُ، أَيْ: حَتَّى يُعْلِمَ (" شَرِيكَهُ ") فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْعَرْضِ عَلَى الشَّرِيكِ إِذَا أَرَادَ الْبَيْعَ (" فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ") أَيْ: أَعْطَاهُ غَيْرَهُ (" وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ") أَيْ: طَلَبَ الشُّفْعَةَ، قِيلَ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِدُونِ الْإِعْلَامِ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَحِيحٌ لَكِنْ يَنْتَقِلُ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" فَإِذَا بَاعَ فَلَمْ يُؤْذِنْ فَهُوَ ") أَيْ: الشَّرِيكُ (" أَحَقُّ ") أَيْ: مِنَ الْمُشْتَرِي (" بِهِ ") أَيْ: بِأَخْذِ الْمَبِيعِ، وَأُجِيبَ عَنِ الْإِشْكَالِ: بِأَنَّ الْحَلَالَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُبَاحُ، وَالْبَيْعَ الْمَذْكُورَ مَكْرُوهٌ، وَالْمَكْرُوهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ حَلَالًا بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمُبَاحَ مَا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ، وَالْمَكْرُوهَ رَاجِحُ التَّرْكِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَاخْتُلِفَ فِيمَا لَوْ أُعْلِمَ الشَّرِيكُ بِالْبَيْعِ فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ أَرَادَ الشَّرِيكُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَغَيْرُهُمْ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: لَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2963 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2963 - (وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ ") بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: " يَجُوزُ فَتْحُ الْقَافِ وَإِسْكَانُهَا، وَهُوَ الْقُرْبُ وَالْمُلَاصَقَةُ ". اه قِيلَ: " وَرُوِيَ بِالسِّينِ وَالصَّادِ أَيْضًا وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْقُرْبُ أَيْ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَبَبِ قُرْبِهِ لِلشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ الْجَارِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الشُّفْعَةَ لِلْخَبَرِ الْآتِي: الْجَارُ أَحَقُّ بِشَفُعَتِهِ، احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ بِالْخَبَرِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ ثَابِتَةٌ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ اتِّفَاقًا وَلَوْ حُمِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَيْهِ يَلْزَمُ الْإِعَادَةُ وَالْإِفَادَةُ خَيْرٌ مِنْهَا، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ لَا شُفْعَةَ مِنْ جِهَةِ الْقِسْمَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مِمَّا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَعْنَى أَنَّ الْجَارَ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ جَارًا مُلَاصِقًا وَالْبَاءُ فِي " بِسَقَبِهِ " صِلَةُ " أَحَقُّ " لِأَنَّهُ لِلتَّسَبُّبِ، وَأُرِيدَ بِالسَّقَبِ السَّاقِبُ عَلَى مَعْنَى ذُو سَقَبٍ مِنْ دَارِهِ أَيْ: قُرْبِهِ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ ذَلِكَ قِيلَ: وَمَا سَقَبُهُ؟ قَالَ: " شُفْعَتُهُ» " قَالَ الْخَطَابِيُّ: " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْبِرُّ وَالْمَعُونَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا "، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَيَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَدِيرًا بِهَذَا التَّعَسُّفِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابِيِّ فِي قِصَّةٍ صَارَ الْبَيَانُ مُقْتَرِنًا بِهِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ عُلَمَاءُ النَّقْلِ فِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ، وَأَوَّلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمُ الْبُخَارِيُّ، ذَكَرَهُ بِقِصَّتِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ إِلَى آخِرِهِ اه. وَتَمَحَّلَ الطِّيبِيُّ فِي الْجَوَابِ بِالْعَسْفِ وَالْإِطْنَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» " بِالصَّادِّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، وَالْأَخِيرَانِ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ أَيْضًا.

2964 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2964 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَمْنَعْ ") بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهَا نَاهِيَةٌ، وَلِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَلِأَحْمَدَ: " لَا يَمْنَعَنَّ " بِزِيَادَةِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْجَزْمِ، رَوَاهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَالْمَعْنَى لَا يَمْنَعْ مُرُوءَةً وَنَدْبًا (" جَارٌ جَارَهُ ") أَيْ: إِذَا احْتَاجَ (" أَنْ يَغْرِزَ ") بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: يَضَعَ (" خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ ") أَيْ: جِدَارِ دَارِهِ إِذَا لَمْ يَضُرُّهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ هَلْ هُوَ عَلَى النَّدْبِ إِلَى تَمْكِينِ الْجَارِ وَوَضْعِ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ دَارِهِ، أَمْ عَلَى الْإِيجَابِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ أَصَحُّهُمَا النَّدْبُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي الْإِيجَابُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ: " «مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» "، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا عَنِ الْعَمَلِ بِهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: " «فَنَكَّسُوا رُءُوسَهُمْ " فَقَالَ: " مَالِي أَرَاكُمْ أَعْرَضْتُمْ» ؟ أَيْ: عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ أَوِ الْخَصْلَةِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ أَوِ الْكَلِمَاتِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ (لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ) أَقْضِي بِهَا وَأُصَرِّحُهَا وَأُوجِعُكُمْ بِالتَّقْرِيعِ بِهَا، كَمَا يُضْرَبُ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ النَّدْبَ لَا الْإِيجَابَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَطْبَقُوا عَلَى الْإِعْرَاضِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَأَرْمِيَنَّ بِهَا إِلَى الْخَشَبَةِ وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ إِلْزَامِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ أَيْ: لَا أَقُولُ: إِنَّ الْخَشَبَةَ تُرْمَى عَلَى الْجِدَارِ، بَلْ بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ لِمَا وَصَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ فِي حَقِّ الْجَارِ وَحَمْلِ أَثْقَالِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2965 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2965 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ» ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: حُكِمَ بِجَعْلِ عَرْضِ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (" سَبْعَةَ أَذْرُعٍ ") قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ سَبْعَ أَذْرُعٍ، وَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ لِأَنَّ الذِّرَاعَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ اه، قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: " هُوَ مِنِ الْمِرْفَقِ إِلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، ثُمَّ سَمَّى بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي يُزْرَعُ بِهَا مَجَازًا، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالتَّأْنِيثُ أَفْصَحُ "، قَالَ النَّوَوِيُّ: " أَمَّا قَدْرُ الطَّرِيقِ فَإِنْ جَعَلَ الرَّجُلُ بَعْضَ أَرْضِهِ الْمَمْلُوكَةِ طَرِيقًا مُسَبَّلَةً لِلْمَارِّينَ فَقَدْرُهَا إِلَى

خِيَرَتِهِ، فَالْأَفْضَلُ تَوْسِيعُهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ مُرَادَةً بِالْحَدِيثِ، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَ أَرْضِ قَوْمٍ أَرَادُوا عِمَارَتَهَا، فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ فَذَاكَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ جُعِلَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ وَهَذَا مُرَادُ الْحَدِيثِ، أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا طَرَفًا مَسْلُوكًا وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، لَكِنَّ لَهُ عِمَارَةَ مَا حَوَالَيْهِ مِنَ الْمَوَاتِ وَيَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ الْمَارِّينَ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَعْنَى الْإِرْفَاقِ، فَإِنْ كَانَتِ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا، فَلَا يَبْنِي فِيهَا وَلَا يُضَيَّقُ وَلَا يَفْتَحُ إِلَيْهَا بَابًا إِلَّا بِإِذْنِ جَمَاعَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً فَحَقُّ الْمَمَرِّ فِيهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِذَا بَنَى أَوْ قَعَدَ لِلْبَيْعِ فِي النَّافِذِ بِحَيْثُ يَبْقَى لِلْمَارَّةِ مِنْ عَرْضِ الطَّرِيقِ فَلَا يُمْنَعُ، لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُزِيلُ ضَرَرَ الْمَادَّةِ، وَكَذَا فِي أَرَاضِي الْقُرَى الَّتِي تُزْرَعُ إِذَا خَرَجُوا مِنْ حُدُودِ أَرَاضِيهِمْ إِلَى سَاحَتِهَا لَمْ يُمْنَعُوا إِذَا تَرَكُوا لِلْمَارَّةِ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، أَمَّا الطَّرِيقُ إِلَى الْبُيُوتِ الَّتِي يُقَسِّمُونَهَا فِي دَارٍ يَكُونُ مِنْهَا مَدْخَلُهُمْ، فَيُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ لَا يَضِيقُ عَنْ مَآرِبِهِمُ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا، كَمَمَرِّ السَّقَاءِ وَالْحَمَّالِ وَمَسْلَكِ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِهَا اه. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُقَدَّرَ إِنَّمَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْغَالِبِ الْأَكْثَرِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ مُخْتَلِفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبُلْدَانِ وَالسُّكَّانِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَزِقَّةِ مَكَّةَ وَأَسْوَاقِهَا حَالَ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ بِلَفْظِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلُوهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ نَقَلَ بِالْمَعْنَى لَفْظَ الْكِتَابِ، وَتَمَحَّلَ الطِّيبِيُّ فِي الْجَوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 2966 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ حُرَيْثٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ بَاعَ مِنْكُمْ دَارًا أَوْ عَقَارًا، قَمِنٌ أَنْ لَا يُبَارَكُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مِثْلِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 2966 - (عَنْ سَعِيدِ بْنِ حُرَيْثٍ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَقَبْرُهُ بِهَا، وَقَالَ عَبْدُ الْبَرِّ: قَبْرُهُ بِالْجَزِيرَةِ وَلَا عَقِبَ لَهُ، رَوَى عَنْهُ أَخُوهُ عَمْرٌو (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ بَاعَ مِنْكُمْ دَارًا أَوْ عَقَارًا» ) ، وَهُوَ الضَّيْعَةُ أَوْ كُلُّ مَالٍ لَهُ أَصْلٌ مِنْ دَارٍ أَوْ ضَيْعَةٍ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، فَ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ (" قَمِنٌ ") بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: جَدِيرٌ وَحَقِيقٌ (" أَنْ لَا يُبَارَكَ ") بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: لَا يَجْعَلَ الْبَرَكَةَ فِي ثَمَنِ مَبِيعِهِ (" لَهُ ") أَيْ: لِلْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (" إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ ") أَيْ: ثَمَنَ بَيْعِهِ (" فِي مِثْلِهِ ") أَيْ: مِثْلِ مَا ذُكِرَ مِنْ دَارٍ وَعَقَارٍ، قَالَ الْمُظْهِرُ: " يَعْنِي: بَيْعُ الْأَرَاضِي وَالدُّورِ وَصَرْفُ ثَمَنِهَا إِلَى الْمَنْقُولَاتِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، لِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ قَلِيلَةُ الْآفَةِ لَا يَسْرِقُهَا سَارِقٌ وَلَا يَلْحَقُهَا غَارَةٌ بِخِلَافِ الْمَنْقُولَاتِ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا تُبَاعَ وَإِنْ بَاعَهَا فَالْأَوْلَى صَرْفُ ثَمَنِهَا إِلَى أَرْضٍ أَوْ دَارٍ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَالضِّيَاءُ عَنْ حُذَيْفَةَ بِلَفْظِ: «مَنْ بَاعَ دَارًا ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ ثَمَنَهَا فِي مِثْلِهَا لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهَا» ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ بِلَفْظِ: «مَنْ بَاعَ دَارًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَى ثَمَنِهَا تَلَفًا يُتْلِفُهُ» .

2967 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2967 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ» ") أَيْ: بِشُفْعَةِ جَارِهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (" يُنْتَظَرُ ") بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيِ: الْجَارُ (" بِهَا ") أَيْ: بِشَفْعَتِهِ (" وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ") بِالْوَاوِ، فَ " إِنْ " وَصْلِيَّةٌ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الصَّحِيحَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: " بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَبِإِسْقَاطِهَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ " (" إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا ") أَيْ: طَرِيقُ الْجَارَيْنِ أَوِ الدَّارَيْنِ (" وَاحِدًا ") رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ غَيْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَتَكَلَّمَ شُعْبَةُ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْفُوظًا "، وَقَالَ الشَّيْخُ: " احْتَجَّ مَنْ يُثْبِتُ الشُّفْعَةَ فِي الْمَقْسُومِ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِقَوْلِهِ: فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الطَّرِيقُ فِي الْمُشَاعِ فَإِنَّ الطَّرِيقَ فِيهِ يَكُونُ شَائِعًا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَدْخُلُ مِنْ حَيْثُ يَشَاءُ، فَإِذَا قُسِّمَ الْعَقَارُ بَيْنَهُمْ مُنِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَطَرَّقَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ فَيَصِيرُ الطَّرِيقُ فِي الْقِسْمَةِ مَصْرُوفًا "، قَالَ الْقَاضِي: " هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ سَلِمَ مِنَ الطَّعْنِ فَلَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُرَجِّحَ، وَمَعَ هَذَا فَهَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا سَبَقَ ".

2968 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الشَّرِيكُ شَفِيعٌ وَالشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــ 2968 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الشَّرِيكُ شَفِيعٌ، وَالشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» ") أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمَنْقُولَاتِ، أَوْ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ الشُّفْعَةَ، وَالْمَعْنَى فِي كُلِّ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ وَقَدْ مَضَى بَحْثُهُ، وَشَذَّ بَعْضٌ فَأَثْبَتَ الشُّفْعَةَ فِي الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانَاتِ أَيْضًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ.

2969 - وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا، وَهُوَ أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2969 - (وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا وَهُوَ) أَيِ: الْإِرْسَالُ (أَصَحُّ) أَيْ: مِنْ الِاتِّصَالِ وَهُوَ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَإِذَا اعْتَضَدَ يَكُونُ حُجَّةً اتِّفَاقًا، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ.

2970 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبَيْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: " هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ يَعْنِي: «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً فِي فَلَاةٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا ابْنُ السَّبِيلِ وَالْبَهَائِمُ غَشْمًا وَظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ يَكُونُ لَهُ فِيهَا ; صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2970 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبَيْشٍ ) بِالتَّصْغِيرِ وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ فِي هَامِشِ الْكِتَابِ: صَوَابُهُ حُبْشِيٌّ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ فَيَاءِ النِّسْبَةِ، وَهُوَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ، وَكَذَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُصَنِّفِ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ وَقَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُبْشِيٍّ الْخَثْعَمِيُّ لَهُ رِوَايَةٌ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، سَكَنَ مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ -، وَرَوَى عَنْهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ - مُصَغَّرَانِ -، وَغَيْرُهُ، وَفِي الْمُغْنِي: الْحُبْشِيُّ بِضَمِّ حَاءٍ وَسُكُونٍ

مُوَحَّدَةٍ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحُبْشِ حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ قَطَعَ ") بِالتَّخْفِيفِ (" سِدْرَةً ") بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: شَجَرَةً مِنْ شَجَرِ النَّبِقِ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (" صَوَّبَ اللَّهُ ") بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: نَكَّسَ وَخَفَضَ (" رَأْسَهُ فِي النَّارِ ") قِيلَ: الْمُرَادُ سِدْرَةُ مَكَّةَ لِأَنَّهَا حَرَمٌ، وَقِيلَ: سِدْرَةُ الْمَدِينَةِ نَهَى عَنْ قَطْعِهَا لِيُسْتَظَلَّ بِهَا، وَلِئَلَّا يَتَوَحَّشَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهَا أَنَّ ظِلَّهَا أَبْرَدُ مَنْ ظِلِّ غَيْرِهَا، وَإِلَّا فَالْحُكْمُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَا بَلْ عَامٌّ فِي كُلِّ شَجَرٍ يَسْتَظِلُّ بِهِ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ بِالْجُلُوسِ تَحْتَهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا الضِّيَاءُ (وَقَالَ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ) أَيْ: مَعْنًى فَمَعْنَاهُ مُوجَزٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ مُقْتَصِرًا (يَعْنِي: مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً فِي فَلَاةٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: مَفَازَةٍ (يَسْتَظِلُّ بِهَا ابْنُ السَّبِيلِ) أَيْ: مُلَازِمُ الطَّرِيقِ وَهُوَ الْمُسَافِرُ (وَالْبَهَائِمُ) أَيْ: فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ (غَشْمًا) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ هُوَ الظُّلْمُ (وَظُلْمًا) عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَجَمَعَ بَيْنِهِمَا تَأْكِيدًا (بِغَيْرِ حَقٍّ يَكُونُ لَهُ فِيهَا) صِفَةُ حَقٍّ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ النَّفْعُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظْلِمُ أَحَدٌ ظُلْمًا، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ وَهُنَا بِخِلَافِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] (صَوَّبَ اللَّهُ) أَيْ: أَلْقَى (رَأْسَهُ) أَيِ: ابْتَلَاهُ أَوْ رَمَاهُ بِرَأْسِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ بَدَنُهُ جَمِيعُهُ (فِي النَّارِ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2971 - عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فِي الْأَرْضِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا وَلَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ وَلَا فَحْلِ النَّخْلِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2971 - (عَنْ عُثْمَانِ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: «إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فِي الْأَرْضِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا» ) سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (وَلَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: " لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا فِي عَقَارٍ مُحْتَمِلٍ لِلْقِسْمَةِ " (وَلَا فَحْلِ النَّخْلِ) فِي النِّهَايَةِ: " فَحْلُ النَّخْلِ ذَكَرُهَا تُلَقَّحُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانَتْ لَهُمْ نَخِيلٌ فِي حَائِطٍ فَيَتَوَارَثُونَهَا وَيَقْتَسِمُونَهَا وَلَهُمْ فَحْلٌ يُلَقِّحُونَ مِنْهُ نَخِيلَهُمْ، فَإِذَا بَاعَ أَخَذَهُمْ نَصِيبَهُ الْمَقْسُومَ مِنْ ذَلِكَ الْحَائِطِ بِحُقُوقِهِ مِنَ الْفَحْلِ وَغَيْرِهِ فَلَا شُفْعَةَ لِلشُّرَكَاءِ فِي الْفَحْلِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

[باب المساقاة والمزارعة]

[بَابُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2972 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَطْرُ ثَمَرِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْطَى خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ (13) بَابُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ الْمُسَاقَاةُ: هِيَ أَنْ يُعَامِلَ إِنْسَانًا عَلَى شَجَرَةٍ يَتَعَهَّدُهَا بِالسَّقْيِ وَالتَّرْبِيَةِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الثَّمَرَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا بِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ، وَكَذَا الْمُزَارَعَةُ فِي الْأَرَاضِي. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 2972 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ) مَوْضِعٍ قُرِيبَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ (نَخِيلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا) أَيْ: بَعْدَ مَا مَلَكَهَا قَهْرًا حَيْثُ فُتِحَتْ خَيْبَرُ عَنْوَةَ فَصَارَ أَهْلُهَا

عَبِيدًا لَهُ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ أَهْلِهَا الْيَهُودِ مِنْهَا، وَالْتَمَسُوا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِرَّهُمْ (عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا) أَيْ: يَسْعَوْا فِيهَا بِمَا فِيهِ عِمَارَةُ أَرْضِهَا وَإِصْلَاحِهَا، وَيَسْتَعْمِلُوا آلَاتِ الْعَمَلِ كُلَّهَا مِنَ الْفَأْسِ وَالْمِنْجَلِ وَغَيْرِهَا (مِنْ أَمْوَالِهِمْ) نِسْبَةٌ مَجَازِيَّةٌ (وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَطْرُ ثَمَرِهَا) أَيْ: نَصِفُهُ وَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الثَّمَرِ مَا يَعُمُّ الزَّرْعَ ; وَلِذَا اكْتَفَى بِهِ أَوْ تَرَكَ مَا يُقَابِلُهُ لِلْمُقَايَسَةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ " فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ إِلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إِلَى أَرِيحَاءَ وَأَذْرَعَاتِ الشَّامِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا) أَيْ: عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا (وَيَزْرَعُوهَا) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ التَّمْرِ وَالزَّرْعِ، وَقِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ حِصَّةَ الْعَمَلِ وَسَكَتَ عَنْ حِصَّةِ نَفْسِهِ جَازَ وَلَوْ عَكَسَ، قِيلَ: يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى الْعَكْسِ، قَالَ الْقَاضِي: " لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنَعَ مِنَ الْمُسَاقَاةِ مُطْلَقًا غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالدَّلِيْلُ عَلَى جَوَازِهَا فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَاعَ عَنْهُ حَتَّى تَوَاتَرَ أَنَّهُ سَاقَى أَهْلَ خَيْبَرَ بِنَخِيلِهَا عَلَى الشَّطْرِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ. وَتَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا اسْتَعْمَلَهُمْ فِي ذَلِكَ بَدَلَ الْجِزْيَةِ، وَأَنَّ الشَّطْرَ الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِمْ كَانَ مِنْحَةً مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعُونَةً لَهُمْ عَلَى مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ، بِعِيدٌ كَمَا تَرَى، أَقُولُ: التَّأْوِيلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعِيدًا حَيْثُ يُرَى، وَإِنَّمَا يُلْجَأُ إِلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى مَا يُرْوَى، قَالَ: وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ وَهِيَ أَنْ تُسَلِّمَ الْأَرْضَ لِيَزْرَعَهَا بِبَذْرِ الْمَالِكِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرُّبْعُ بَيْنَهُمَا مُسَاهَمَةً فَهِيَ عِنْدَنَا جَائِزَةٌ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ إِذَا كَانَ الْبَيَاضُ خِلَالَ النَّخْلِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَوْ يَعْسُرُ إِفْرَازُهَا بِالْعَمَلِ كَمَا فِي خَيْبَرَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا يَجُوزُ إِفْرَادُهَا ; لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنَّا نَرَى بِالْمُزَارَعَةِ بَأْسًا حَتَّى سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا "، وَمَنَعَ مِنْهَا مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - مُطْلَقًا، وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَعُمْرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: كَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَطَاوُسٍ وَغَيْرِهِمْ، كَالزُّهْرِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - إِلَى جَوَازِهَا مُطْلَقًا ; لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ اه. وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: " فِي الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَتَأَوَّلَ الْأَحَادِيثَ بِأَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتَ عَنْوَةً فَمَا أَخَذَهُ فَهُوَ لَهُ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ: " عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ "، وَبِقَوْلِهِ: " «أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ» " وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَبِيدًا، وَفِي كَوْنِهِ صَرِيحًا نَظَرٌ صَحِيحٌ. قَالَ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي خَيْبَرَ هَلْ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، أَوْ بِجَلَاءِ أَهْلِهَا عَنْهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ، أَوْ بَعْضُهَا صُلْحًا وَبَعْضُهَا عَنْوَةً وَبَعْضُهَا بِجَلَاءِ أَهْلِهَا؟ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ اه فَيُحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ ذَلِكَ لِبَعْضِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْمُزَارَعَةُ غَيْرَ مَا أَخَذُوا عَنْوَةً، لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ مَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ. قَالَ: وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ إِلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ إِذَا كَانَتْ لِلْمُسَاقَاةِ، وَلَا تَجُوزُ إِذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً كَمَا جَرَى فِي خَيْبَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: " لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ مُنْفَرِدَةً وَلَا تَبَعًا إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَرْضِ بَيْنَ الشَّجَرِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إِلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ فَاسِدَتَانِ مُطْلَقًا، وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ مُجْتَمِعَتَيْنِ وَمُنْفَرِدَتَيْنِ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ لِحَدِيثِ خَيْبَرَ، وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَى كَوْنِ الْمُزَارَعَةِ فِي خَيْبَرَ إِنَّمَا جَاءَتْ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، بَلْ جَاءَتْ مُسْتَقِلَّةً وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِلْمُسَاقَاةِ مَوْجُودٌ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْقِرَاضِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ كَالْمُزَارَعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ; وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمُزَارَعَةِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُخَابَرَةِ فَأُجِيبَ عَنْهَا: بِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ لِكُلِّ وَاحِدٍ قِطْعَةً مُعَيَّنَةً مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ خُزَيْمَةَ كِتَابًا فِي جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَاسْتَقْصَى فِيهِ وَأَجَادَ وَأَجَابَ عَنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ اهـ كَلَامُهُمْ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَنَّهُ مَائِلٌ إِلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ مُطْلَقًا كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ.

2973 - وَعَنْهُ قَالَ: «كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى زَعَمَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا فَتَرَكْنَاهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2973 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا) أَيْ: نُزَارِعُ، أَوْ نَقُولُ بِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَنَعْتَقِدُ صِحَّتَهَا (حَتَّى زَعَمَ) أَيْ: قَالَ (رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ) شَهِدَ أُحُدًا وَأَكْثَرَ الْمَشَاهِدِ بَعْدَهَا (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا فَتَرَكْنَاهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أَيِ: النَّهْيِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " لَا تَجُوزُ الْمُخَابَرَةُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْمُسَاقَاةِ، لِأَنَّ الْبَذْرَ فِي الْمُخَابَرَةِ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ فَالْمُزَارَعَةُ اكْتِرَاءُ الْعَامِلِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمُخَابَرَةُ: اكْتِرَاءُ الْعَامِلِ الْأَرْضَ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ كَمَا سَبَقَ اه. قَالَ الشَّمَنِيُّ: " لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ لِأَنَّهَا مُخَابَرَةٌ يَعْنِي وَهِيَ مَنْهِيَّةٌ، وَأَمَّا مَا أَخَذَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَإِنَّمَا هُوَ خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ بِطُرُقِ الْمَنِّ وَالصُّلْحِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمُ الْمُدَّةَ، وَالْمُزَارَعَةُ لَا تَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهَا إِلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَمِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ التَّمْرِ وَالْأَرْضِ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلَا عُمَرُ إِلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جِزْيَةً لَأَخَذَ مِنْهُمْ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

2974 - وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «أَخْبَرَنِي عَمَّايَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الْأَرْبَعَاءِ أَوْ شَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ، فَنَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ هِيَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ، وَكَأَنَّ الَّذِي نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُجِيزُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2974 - (وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ) أَيْ: الزُّرَقِيِّ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَابِعِيهِمْ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمَّايَ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ تَثْنِيَةُ الْعَمِّ مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْإِضَافَةِ (أَنَّهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةَ أَوِ النَّاسَ أَوْ أَعْمَامَهُ (كَانُوا يُكْرُونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ: يُؤَجِّرُونَ (الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ) رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " بِمَا يَنْبُتُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (عَلَى الْأَرْبَعَاءِ) بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ مَمْدُودًا جَمْعِ رَبِيعٍ، وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَسْقِي الْمَزَارِعَ، فَقَالَ: رَبِيعٌ وَأَرْبَعَاءُ وَأَرْبِعَةٌ كَنَصِيبٍ وَأَنْصِبَاءَ وَأَنْصِبَةٍ قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهُ الْعَامِلُ بِبِذْرِهِ، وَيَكُونَ مَا يَنْبُتُ عَلَى أَطْرَافِ الْجَدَاوِلِ وَالسَّوَاقِي لِلْمُكْرِي أُجْرَةً لِأَرْضِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَكُونُ لِلْمُكْتَرِي فِي مُقَابَلَةِ بَذْرِهِ وَعَمَلِهِ (أَوْ بِشَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ) كَأَنْ يَقُولُ: مَا يَنْبُتُ فِي هَذِهِ الْقِطْعَةِ بِعَيْنِهَا فَهُوَ لِلْمُكْرِي، وَمَا يَنْبُتُ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ لِلْمُكْتَرِي، (فَنَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ) وَلَعَلَّ الْمُقْتَضِي لِلنَّهْيِ مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ إِذْ رُبَّمَا تَنْبُتُ الْقِطْعَةُ الْمُسَمَّاةُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَفُوزُ صَاحِبُهَا بِكُلِّ مَا حَصَلَ وَيَضِيعُ حَقُّ الْآخَرِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ثِمَارَ بَعْضِ النَّخِيلِ لِنَفْسِهِ وَبَعْضَهَا لِلْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ (فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ هِيَ) أَيِ: الْمُخَابَرَةُ (بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ) إِذْ لَيْسَ فِيهِ خَطَرٌ (وَكَأَنَّ) بِالشَّدِيدِ (الَّذِي نُهِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْ ذَلِكَ مَا) أَيْ: هُوَ الَّذِي (لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ) بِوَاوَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّوَايَةُ بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ كَذَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَوُو الْفَهْمِ بِوَاوَيْنِ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ (لَمْ يُجِيزُوهُ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ (ذُو الْفَهْمِ) بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِيَّةِ فِيهِ عُمُومٌ فَيُجِيزُ الضَّمِيرَ فِي لَمْ يُجِيزُوهُ اه وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي رِوَايَةِ [النَّسَفِيِّ وَابْنِ شَبُوَيْهِ] : ذُو الْفَهْمِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ وَقَالَ: لَمْ يُجِزْهُ [لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ] أَيِ: الْغَرَرِ وَالتَّوَرُّطِ فِيمَا لَا يَحِلُّ لِكَوْنِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مَجْهُولَةً، وَالْمُخَاطَرَةُ مِنَ الْخَطَرِ الَّذِي هُوَ الْإِشْرَافُ عَلَى الْهَلَاكِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ رَافِعٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أُدْرِجَتْ فِي حَدِيثِهِ، وَعَلَى هَذَا السِّيَاقِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَمْ مِنْ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اسْمُ كَانَ الْمَوْصُولُ مَعَ الصِّلَةِ وَخَبَرُهُ الْمَوْصُولُ الثَّانِي وَالْوَاوُ حَالٌ مِنْ خَبَرِ لَيْسَ، فَإِنَّ رَافِعًا لَمَّا اسْتُفْتِيَ عَنْ الِاكْتِرَاءِ بِالدِّرْهَمِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَصٌّ فِيهِ وَلَمْ يَرَ الْعِلَّةَ فِيهَا جَامِعَةً لِيُقَاسَ بِهَا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ وَكَأَنَّ الَّذِي نُهِيَ إِلَخْ، وَلَوْ بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يَرْتَبِطْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ رَافِعٍ وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الثَّانِي فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2975 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: «كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي وَهَذِهِ لَكَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ؟ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2975 - (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ قَافٍ، فِي الْمُغْرِبِ: " الْحَقْلُ الزَّرْعُ وَالْمُحَاقَلَةُ: بِيعُ الطَّعَامِ فِي سُنْبُلِهِ بِالْبُرِّ، وَقِيلَ: اشْتِرَاءُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ، وَقِيلَ: الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلْثِ وَالرُّبْعِ وَغَيْرِهِمَا وَقِيلَ: كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ (كَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ فَيَقُولُ) أَيْ: أَحَدُنَا (هَذِهِ الْقِطْعَةُ) أَيْ: مَا يَخْرُجُ مِنْهَا (لِي وَهَذِهِ لَكَ) أَيْ: بِعَمَلِكَ (فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ) بِسُكُونِ الْهَاءِ وَبِإِشْبَاعِهَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " إِشَارَةٌ إِلَى الْقِطْعَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ الَّتِي يُشَارُ بِهَا إِلَى الْمُؤَنَّثِ يُقَالُ ذِي وَذِهْ وَالْهَاءُ سَاكِنَةٌ، هَذَا قَوْلُ رَافِعٍ، بَيَانٌ لِعَدَمِ الْجَوَازِ لِحُصُولِ الْمُخَاطَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، يَعْنِي فَرُبَّمَا تُخْرِجُ هَذِهِ الْقِطْعَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ وَلَمْ تُخْرِجْ سِوَاهَا أَوْ بِالْعَكْسِ فَيَفُوزُ صَاحِبُ هَذِهِ بِكُلِّ مَا حَصَلَ وَيَضِيعُ الْآخَرُ بِالْكُلِّيَّةِ (فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِلْغَرَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلضَّرَرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2976 - وَعَنْ عَمْرٍو قَالَ: قُلْتُ لِطَاوُسٍ، لَوْ تُرِكَتِ الْمُخَابَرَةُ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ قَالَ أَيْ: عَمْرٌو: إِنِّي أُعْطِيهِمْ وَأُعِينُهُمْ وَإِنَّ أَعْلَمَهُمْ أَخْبَرَنِي - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَقَالَ: «إِنْ يَمْنَحْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2976 - (وَعَنْ عَمْرٍو) قِيلَ: هُوَ ابْنُ دِينَارٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: " عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى، رَوَى عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ الْحَمَّادَانِ وَمُعْتَمِرٌ، وَعِدَّةٌ ضَعَّفُوهُ، وَعَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ هُوَ الدِّمَشْقِيُّ رَوَى عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَيْسَرَةَ وَعِدَّةٍ، وَعَنْهُ النُّفَيْلِيُّ وَهُشَامُ بْنُ عَمَّارٍ تَرَكُوهُ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَلْقَهُ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَعَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (قَالَ قُلْتُ: لِطَاوُسٍ لَوْ تُرِكَتِ الْمُخَابَرَةُ) أَيْ: لَكَانَ حَسَنًا أَوْ لَوْ لِلتَّمَنِّي (فَإِنَّهُمْ) أَيْ: عَامَّةَ النَّاسِ (يَزْعُمُونَ) أَيْ: يَقُولُونَ وَيَظُنُّونَ وَلَا يَتَيَقَّنُونَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَابَرَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الزَّرْعِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ (قَالَ) أَيْ: طَاوُسٌ (أَيْ عَمْرُو) أَيْ: يَا عَمْرُو (إِنِّي أُعْطِيهِمْ وَأُعِينُهُمْ) مِنِ الْإِعَانَةِ (وَإِنَّ أَعْلَمَهُمْ) أَيْ: أَعْلَمَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ فِي زَمَنِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: " الضَّمِيرُ فِي أَعْلَمِهِمْ إِلَى مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي يَزْعُمُونَ وَهُمْ جَمَاعَةٌ ذَهَبُوا إِلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ طَاوُسٌ مِنْ فِعْلِ الْمُخَابَرَةِ وَلِذَلِكَ أَتَى بِلَفْظِ الزَّعْمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ عِلْمًا (أَخْبَرَنِي يَعْنِي) يَعْنِي يُرِيدُ طَاوُسٌ بِأَعْلَمِهِمْ (ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْهَ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ رَافِعٍ (وَلَكِنْ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنْ يَمْنَحَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ عَلَى أَنَّهَا تَعْلِيلِيَّةٌ وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَوَّلَ مَصْدَرِيَّةٌ مَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَائِيَّةِ، وَيَمْنَحَ بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَالْفَاعِلُ قَوْلُهُ (أَحَدُكُمْ) وَالْمَعْنَى إِعْطَاءُ أَحَدِكُمْ أَرْضَهُ (أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا أَيْ أَجْرًا (مَعْلُومًا) لِاحْتِمَالِ أَنْ تُمْسِكَ السَّمَاءُ مَطَرَهَا أَوِ الْأَرْضُ رِيحَهَا فَيَذْهَبَ مَالُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " أَحَادِيثُ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُؤَلِّفُ وَمَا يَثْبُتُ مِنْهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فِي ظَوَاهِرِهَا تَبَايُنٌ وَاخْتِلَافٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْوَجْهِ الْجَامِعِ بَيْنَهَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ سَمِعَ أَحَادِيثَ فِي النَّهْيِ وَعِلَلُهَا مُتَنَوِّعَةٌ فَنَظَمَ سَائِرَهَا فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا مَرَّةً يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَارَةً يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمُومَتِي وَأُخْرَى وَأَخْبَرَنِي عَمَّايَ، وَالْعِلَّةُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا فَاسِدَةً، وَيَتَعَامَلُونَ عَلَى أُجْرَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ فَنُهُوا عَنْهَا، وَفِي الْبَعْضِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَازَعُونَ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى أَفْضَى بِهِمْ إِلَى التَّقَابُلِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ» "، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي حَدِيثِهِ، وَفِي الْبَعْضِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ خَرْجًا مَعْلُومًا مِنْ أَخِيهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تُمْسِكُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا أَوْ تُخْلِفُ الْأَرْضُ رَيْعَهَا فَيَذْهَبُ مَالُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ; فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ التَّنَافُرُ وَالْبَغْضَاءُ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا» " الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْمُرُوءَةِ وَالْمُوَاسَاةِ، وَفِي الْبَعْضِ أَنَّهُ كَرِهَ لَهُمُ الِافْتِتَانَ بِالْحِرَاثَةِ وَالْحِرْصَ عَلَيْهَا وَالتَّفَرُّغَ لَهَا فَتُقْعِدُهُمْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتُفَوِّتُهُمُ الْحَظَّ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الِاضْطِرَابُ الْمَرْوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لِمَا فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مِنْ الِاضْطِرَابِ ; مَرَّةً يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَرَّةً يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمُومَتِي لَا عَلَى الِاضْطِرَابِ الْمُصْطَلَحِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّعْفِ، وَجُلُّ جَنَابِ الشَّيْخَيْنِ أَنْ يُورِدَا فِي الْكِتَابَيْنِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ شَيْئًا.

2977 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2977 - (وَعَنْ جَابِرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا» ) أَمْرُ إِبَاحَةٍ أَيْ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِأَنْ يَزْرَعَهَا (أَوْ لِيَمْنَحْهَا) أَيْ: لِيُعْطِهَا مَجَّانًا (أَخَاهُ) أَيْ: لِيَزْرَعَهَا هُوَ لِنَفْسِهِ (فَإِنْ أَبَى) أَيْ: صَاحِبُ الْأَرْضِ عَنِ الْأَمْرَيْنِ (فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ) فَالْأَمْرُ لِلتَّوْبِيخِ أَوِ التَّهْدِيدِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَإِنْ أَبَى أَخُوهُ عَنْ قَبُولِ الْعَارِيَةِ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ فَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ لَهُ فِيهِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: " يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ لِلْإِنْسَانِ نَفْعٌ مِنْ مَالِهِ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَيَزْرَعُهَا حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ نَفْعٌ مِنْهَا أَوْ لِيُعْطِهَا أَخَاهُ لِيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ وَهَذَا تَوْبِيخٌ لِمَنْ لَهُ مَالٌ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ نَفْعٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " بَلْ هُوَ تَوْبِيخٌ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَى الثَّالِثِ مِنَ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهِمَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: " جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ الْإِجَارَةَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ النَّهْيِ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا إِجَارَتُهَا بِمَا يَزْرَعُ عَلَى الْمَاذِيَّانَاتِ وَهِيَ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقَ وَهِيَ مَسَايِلُ الْمَاءِ وَقِيلَ: مَا يَنْبُتُ عَلَى حَافَّتَيِ الْمَسِيلِ وَالسَّوَاقِي وَهِيَ مُعَرَّبَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2978 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ الذُّلَّ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2978 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: وَرَأَى سِكَّةً) الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالسِّكَّةُ بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُشَقُّ وَتُحْرَثُ بِهَا الْأَرْضُ (وَشَيْئًا) أَيْ آخَرَ (مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ النَّبِيَّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ هَذَا) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ آلَةِ الْحَرْثِ (بَيْتَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (الذُّلَّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيِ: الْمَذَلَّةَ بِأَدَاءِ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ، وَالْمَقْصُودُ التَّرْغِيبُ وَالْحَثُّ عَلَى الْجِهَادِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " وَإِنَّمَا جَعَلَ آلَةَ الْحَرْثِ مَذَلَّةً لِلذُّلِّ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا يَخْتَارُونَ ذَلِكَ إِمَّا بِالْجُبْنِ فِي النَّفْسِ، أَوْ قُصُورٍ فِي الْهِمَّةِ، ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَهُمْ مَلْزُومُونَ بِالْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ، وَلَوْ آثَرُوا الْخَرَاجَ لَدَرَّتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ وَاتَّسَعَتْ عَلَيْهِمُ الْمَذَاهِبُ، وَجَبَى لَهُمُ الْأَمْوَالَ مَكَانَ مَا يُجْبَى عَنْهُمْ. قِيلَ: قَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ " «الْعِزُّ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ وَالذُّلُّ فِي أَذْنَابِ الْبَقَرِ» "، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: " ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الزِّرَاعَةَ تُورِثُ الْمَذَلَّةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لِأَنَّ فِيهَا نَفْعًا لِلنَّاسِ، وَلِخَبَرِ: «اطْلُبُوا الْأَرْضَ مِنْ جَثَايَاهَا» ; بَلْ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ الصَّحَابَةُ بِالْعِمَارَاتِ وَبِتَرْكِ الْجِهَادِ فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ. وَأَيُّ ذُلٍّ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُقَرِّبُ الْعَدُوَّ لِأَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالْحَرْثِ وَتَرَكَ الْجِهَادَ لَأَدَّى إِلَى الْإِذْلَالِ بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2979 - (الْفَصْلُ الثَّانِي) عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2979 - (الْفَصْلُ الثَّانِي) (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ» ") أَيْ: أَمْرِهِمْ وَرِضَاهُمْ (فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ) يَعْنِي مَا حَصَلَ مِنَ الزَّرْعِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ إِلَّا بَذْرُهُ، إِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا حَصَلَ مِنَ الزَّرْعِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَعَلَيْهِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ مِنْ يَوْمِ غَصْبِهَا إِلَى يَوْمِ تَفْرِيغِهَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُظَّهَرُ (وَلَهُ نَفَقَتُهُ) أُجْرَةُ عَمَلِهِ، وَقِيلَ: خَرْجُهُ بَعْدَ الْحَاصِلِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " هَذَا حَدِيثٌ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيُحْكَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ زَادَ أَبُو إِسْحَاقَ: " بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ "، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُهُ هَذَا الْحَرْفَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: " إِذَا زَرَعَ الزَّارِعُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَلِلزَّارِعِ الْأُجْرَةُ ".

2980 - (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمُ، وَعُرْوَةُ، وَآلُ بَكْرٍ، وَآلُ عُمَرَ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ: كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِي الزَّرْعِ، وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى: إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ. كَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2980 - (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) (عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ) أَيِ: الْجَدَلِيِّ بِفَتْحَتَيْنِ، الْكُوفِيِّ، رَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ، مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ (عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ) أَيْ: مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ لِأَنَّهُ تَبَقَّرَ فِي الْعِلْمِ أَيْ: تَوَسَّعَ، سَمِعَ أَبَاهُ زَيْنَ الْعَابِدِينَ وَجَابِرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَغَيْرُهُ (قَالَ) أَيْ: أَبُو جَعْفَرٍ (مَا بِالْمَدِينَةِ) أَيْ: لَيْسَ بِهَا (أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلَّا يَزْرَعُونَ) أَيْ: إِلَّا أَنَّهُمْ يُزَارِعُونَ (عَلَى الثُّلُثِ) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي وَكَذَا قَوْلُهُ (وَالرُّبُعِ) وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ ثُمَّ خَصَّ بَعْضَهُمْ بَعْدَ التَّعْمِيمِ بِقَوْلِهِ (وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ (وَالْقَاسِمُ) أَيِ: ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ (وَعُرْوَةُ) أَيِ ابْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَأَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ بِالْمَدِينَةِ (وَآلُ أَبِي بَكْرٍ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ) بِالرَّفْعِ وَهُوَ مِنْ فُضَلَاءِ التَّابِعِينَ (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ) أَيِ: الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ الْحِجَازِيُّ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ مِنْ تَابِعِيِّ الْمَدِينَةِ وَثِقَاتِهِمْ عَزِيزُ الْحَدِيثِ (كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ) أَيِ: الْأَسْلَمِيَّ الْمَدَنِيَّ ضَعَّفُوهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ (فِي الزَّرْعِ) أَيْ: بِالْمُزَارَعَةِ (وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ) أَيْ: عَامَلَهُمْ بِالْمُزَارَعَةِ أَيْضًا (عَلَى إِنْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ) أَيْ: نِصْفُ الْحَاصِلِ (وَإِنْ جَاءُوا) أَيِ: النَّاسُ (بِالْبَذْرِ) أَيْ: مِنْ عِنْدِهِمْ (فَلَهُمْ كَذَا) أَيِ: الشَّطْرُ أَوْ نَحْوُهُ، وَكَذَا كِنَايَةٌ عَنْ مِقْدَارٍ مَعْرُوفٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ عَلَى أَنْ جَاءَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ عَامَلَ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مَجْرُورَةُ الْمَحَلِّ عَلَى الْحِكَايَةِ أَيْ: عَامَلَهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مَيْرَكُ شَاهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الْمَفْهُومُ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَشُرُوحِهِ أَنَّ كَلَامَ أَبِي جَعْفَرٍ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ " وَالرُّبُعِ "، وَالْبَاقِي مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ وَكُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ مُعَلَّقَاتٌ أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ بِلَا إِسْنَادٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.

[باب الإجارة]

[بَابُ الْإِجَارَةِ] 2981 - (بَابُ الْإِجَارَةِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: زَعَمَ ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْإِجَارَةِ) بِالْكَسْرِ فَدَكَى ضَمَّهَا وَهِيَ لُغَةً الْإِثَابَةُ، يُقَالُ: آجَرْتُهُ بِالْمَدِّ، وَغَيْرِ الْمَدِّ إِذَا أَثْبَتَهُ، ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَفِي الْمُغْرِبِ: " الْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ شَرْعًا، وَفِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ وَهِيَ كِرَاءُ الْأَجِيرِ وَقَدْ أَجَرَهُ إِذَا أَعْطَاهُ أَجْرَتَهُ. 2981 - (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ قَافٍ، وَنُسِبَ إِلَى شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي تَبْصِرَتِهِ: الْمُسَمَّى بِعُقَلَ عِدَّةٌ، وَبِمُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ عَلَى وَزْنِ مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ الصَّحَابِيُّ فَرْدٌ، قُلْتُ: وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَرَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُهُ اه وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ إِلَّا الْمُزَنِيَّ، وَقَالَ: كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ سَكَنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عُمَرُ إِلَى الْبَصْرَةِ يُفَقِّهُونَ النَّاسَ، وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ سَنَتَيْنِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ: مَا نَزَلَ الْبَصْرَةَ أَشْرَفُ مِنْهُ (قَالَ: زَعَمَ ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ) بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَبُو يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ كَانَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَهُوَ صَغِيرٌ وَمَاتَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ» ) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعْرِيفُ فِيهِمَا لِلْعَهْدِ فَالْمَعْنَى بِالْمُزَارَعَةِ مَا عُلِمَ عَدَمُ جَوَازِهِ وَبِالْمُؤَاجَرَةِ عَكْسُ ذَلِكَ (وَقَالَ) أَيْ: ثَابِتٌ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ (لَا بَأْسَ بِهَا) أَيْ بِالْمُؤَاجَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَى أَحْمَدُ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ.

2982 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ، فَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَاسْتَعَطَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2982 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ فَأَعْطَى الْحَجَّامَ» ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ (أَجْرَهُ) دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ إِجَارَةِ الْحِجَامَةِ (وَاسْتَعَطَ) بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ أَدْخَلَ فِي أَنْفِهِ الدَّوَاءَ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّعُوطُ بِالْفَتْحِ الدَّوَاءُ يُصَبُّ فِي الْأَنْفِ، يُقَالُ: أَسَعَطْتُ الرَّجُلَ وَاسْتَعَطَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَلَا يُقَالُ اسْتُعِطَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَفِيهِ صِحَّةُ الِاسْتِئْجَارِ وَجَوَازُ الْمُدَاوَاةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2983 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَى عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2983 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ» ) قَالَ الْمُظْهِرُ: عِلَّةُ رَعْيِهِمُ الْغَنَمَ أَنَّهُمْ إِذَا خَالَطُوا الْغَنَمَ زَادَ لَهُمُ الْحِلْمُ وَالشَّفَقَةُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا عَلَى مَشَقَّةِ رَعْيِهَا وَدَفَعُوا عَنْهَا السُّبُعَ الضَّارِيَةَ وَالْيَدَ الْخَاطِفَةَ وَعَلِمُوا اخْتِلَافَ طِبَاعِهَا وَعَلَى جَمْعِهَا مَعَ تَفَرُّقِهَا فِي الْمَرْعَى وَالْمَشْرَبِ وَعَرَفُوا ضَعْفَهَا وَاحْتِيَاجَهَا إِلَى النَّقْلِ مِنْ مَرْعًى إِلَى مَرْعًى وَمِنْ مَسْرَحٍ إِلَى مَسْرَحٍ عَرَفُوا مُخَالَطَةَ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ وَقِلَّةِ عُقُولِ بَعْضِهِمْ، وَرَزَانَتَهَا فَصَبَرُوا عَلَى لُحُوقِ الْمَشَقَّةِ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَيْهِمْ، فَلَا تَنْفِرُ طِبَاعُهُمْ وَلَا تَمَلُّ نُفُوسُهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الدِّينِ لِاعْتِيَادِهِمُ الضَّرَرَ وَالْمَشَقَّةَ وَعَلَى هَذَا شَأْنُ السُّلْطَانِ مَعَ الرَّعِيَّةِ (فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟) أَيْ رَعَيْتَ أَيْضًا؟ (فَقَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَى عَلَى قَرَارِيطَ) جَمْعُ قِيرَاطٍ وَهُوَ نِصْفُ دَانَقٍ وَهُوَ سُدُسُ دِرْهَمٍ (لِأَهْلِ مَكَّةَ) أَيِ اسْتَأْجَرَنِي أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى رَعْيِ الْغَنَمِ كُلَّ يَوْمٍ بِقِيرَاطٍ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَرَادَ قِسْطَ الشَّهْرِ مِنْ أُجْرَةِ الرَّعْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَبْلُغُ الدِّينَارَ أَوْ لَمْ يَرَ أَنْ يُذَكَرَ مِقْدَارُهَا اسْتِهَانَةً بِالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ أَوْ لِأَنَّهُ نَسِيَ الْكَمِّيَّةَ فِيهَا، وَعَلَى الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَتَصْرِيحًا بِمِنَنِهِ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَفِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لِابْنِ الْمَلَكِ فِيهِ اسْتِئْجَارُ الْأَحْرَارِ. وَمَنْ قَالَ: الْقَرَارِيطُ مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ " وَعَلَى " بِمَعْنَى " فِي " لِاسْتِعْظَامِهِ أَنْ يَأْخُذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ فَقَدْ تَعَسَّفَ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، لَا لِأَنْفُسِهِمْ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِلْبَغَوِيِّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ فَعَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ لَا يَتَّجِهُ إِيرَادُهُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2984 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2984 - (وَعَنْهُ) أَيْ: أَبِي هُرَيْرَةَ: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ) أَيْ رِجَالٌ أَوْ أَشْخَاصٌ (أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْخَصْمُ مَصْدَرُ خَصَمْتُهُ أَخْصِمُهُ: نَعْتٌ فِي لِلْمُبَالَغَةِ كَالْعَدْلِ، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ أَيْ: غَلَبْتُهُ فِي الْخُصُومَةِ (رَجُلٌ أَعْطَى بِي) أَيْ عَهِدَ بِاسْمِي وَحَلَفَ بِي أَوْ أَعْطَى الْأَمَانَ بِاسْمِي أَوْ بِمَا شَرَعْتُهُ مِنْ دِينِي (ثُمَّ غَدَرَ) أَيْ: نَقَضَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُوَ قَرِينٌ لِخُصُوصِيَّةِ الْإِعْطَاءِ بِالْعَهْدِ فَقَوْلُهُ بِي حَالٌ أَيْ: مَوْثِقًا بِي لِأَنَّ الْعَهْدَ مِمَّا يُوثَقُ بِهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] ، (وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ) زِيدَ هَذَا الْقَيْدُ لِمَزِيدِ التَّوْبِيخِ (وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ) أَيْ: مَا أَرَادَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ أَتَى بِهِ تَهَجِينًا لِلْأَمْرِ وَزِيَادَةً لِلتَّقْرِيعِ (وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَيْ لَمْ يُعْطَهِ أَجْرَهُ وَافِيًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2985 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ " «أَصَبْتُمُ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2985 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَرًا) أَيْ: جَمَاعَةً (مِنْ) أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرُّوا بِمَاءٍ) قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِالْمَاءِ أَهْلَ الْمَاءِ بِمَعْنَى الْحَيِّ النَّازِلِينَ عَلَيْهِ (فِيهِمْ) الضَّمِيرُ لِلْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ (لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَاللَّدِيغُ الْمَلْدُوغُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ لَدَغَهُ الْعَقْرَبُ، وَالسَّلِيمُ فِيمَنْ لَسَعَتْهُ الْحَيَّةُ تَفَاؤُلًا (فَعَرَضَ) أَيْ: ظَهَرَ (لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟) اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ رَقَى يَرْقِي بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي وَالْكَسْرِ فِي الْمُضَارِعِ مَنْ يَدْعُو بِالرُّقْيَةِ (إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمَا) اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (فَانْطَلَقَ) أَيْ: فَذَهَبَ (رَجُلٌ مِنْهُمْ) قِيلَ: هُوَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ (فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ) جَمْعُ شَاةٍ (فَبَرَأَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُكْسَرُ فِي النِّهَايَةِ بَرَأَ الْمَرِيضُ يَبْرَأُ بَرْأً بِالْفَتْحِ فَهُوَ بَارِئٌ وَأَبْرَأَهُ اللَّهُ، وَغَيْرُ أَهْلِ الْحِجَازِ بَرِئَ بِالْكَسْرِ بَرُأَ بِالضَّمِّ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لَهُمْ: أَنَا أَرْقِي هَذَا اللَّدِيغَ بِشَرْطِ أَنْ تُعْطُونِي كَذَا رَأْسًا مِنَ الْغَنَمِ فَرَضُوا فَقَرَأَ عَلَيْهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بِنَاءً عَلَى مَا وَرَدَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ فَبَرَأَ بِبَرَكَةِ كَلَامِ اللَّهِ، قِيلَ: كَانَتْ ثَلَاثِينَ غَنَمًا وَهُمْ ثَلَاثُونَ نَفَرًا (فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ) أَيْ: أَخْذَهُ (وَقَالُوا) أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا؟) أَيْ: وَكَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ (حَتَّى قَدِمُوا) قَالَ الطِّيبِيُّ: " مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: قَالُوا أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَمَعْنَاهُ لَا يَزَالُونَ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ) فَالْغَايَةُ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِي الْمُغَيَّا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّمَكَةِ (أَخَذَ) أَيِ: الرَّجُلُ (عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أَيْ: أَيُّهَا الْأُمَّةُ (كِتَابُ اللَّهِ) قَالَ الْقَاضِي: " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالرُّقْيَةِ بِهِ وَجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْآتِي عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الرُّقْيَةِ بِالْقُرْآنِ وَبِذِكْرِ اللَّهِ وَأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ، وَبِهِ تَمَسَّكَ مَنْ رَخَّصَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ وَشِرَاءَهَا وَأَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتَابَتِهَا وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لَهُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ (أَصَبْتُمْ) أَيْ: فَعَلْتُمْ صَوَابًا (اقْسِمُوا) بِهَمْزِ وَصْلٍ وَكَسْرِ سِينٍ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُرُوآتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَمُوَاسَاةِ الْأَصْحَابِ وَالرِّفَاقِ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الشَّاءِ مِلْكٌ لِلرَّاقِي (وَاضْرِبُوا) أَيِ: اجْعَلُوا (لِي مَعَكُمْ سَهْمًا) أَيْ: نَصِيبًا مِنْهَا، قَالَهُ تَطَيُّبًا لِقُلُوبِهِمْ وَمُبَالَغَةً فِي تَعْرِيفِهِمْ أَنَّهُ حَلَالٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

2986 - (الْفَصْلُ الثَّانِي) عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: «أَقْبَلْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَيْنَا عَلَى حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالُوا: إِنَّا أُنْبِئْنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ بِخَيْرٍ فَهَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رُقْيَةٍ فَإِنَّ عِنْدَنَا مَعْتُوهًا فِي الْقُيُودِ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ فَجَاءُوا بِمَعْتُوهٍ فِي الْقُيُودِ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً أَجْمَعُ بُزَاقِي ثُمَّ أَتْفُلُ، قَالَ: فَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَأَعْطَوْنِي جُعْلًا فَقُلْتُ: لَا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كُلْ فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2986 - (الْفَصْلُ الثَّانِي) (عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ تَابِعِيٌّ رَوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ عَمِّهِ، وَعَنْهُ الشَّعْبِيُّ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ (عَنْ عَمِّهِ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ بِاسْمِهِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَجَهَالَتُهُ لَا تَضُرُّ (قَالَ) أَيْ: عَمُّهُ (أَقْبَلْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: رَجَعْنَا مِنْ حَضْرَتِهِ (فَأَتَيْنَا عَلَى حَيٍّ) أَيْ: قَبِيلَةٍ (مِنَ الْعَرَبِ) أَيْ: مِنْ أَحْيَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُ أَهْلِ الْحَيِّ (إِنَّا أُنْبِئْنَا) أَيْ: أُخْبِرَنَا (أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ) أَيِ: الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِخَيْرٍ) أَيْ: بِالْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ (فَهَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رُقْيَةٍ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلشَّكِّ (فَإِنَّ عِنْدَنَا مَعْتُوهًا؟) أَيْ: مَجْنُونًا وَفِي الْمُغْرِبِ هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ، وَقِيلَ: الْمَدْهُوشُ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ (فِي الْقُيُودِ فَقُلْنَا: نَعَمْ فَجَاءُوا) وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ

أَيْ عَمُّهُ فَجَاءُوا (بِمَعْتُوهٍ فِي الْقُيُودِ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) لِمَا وَرَدَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً) أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ أَوْ نَهَارًا وَلَيْلًا (أَجْمَعُ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ (بُزَاقِي) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مَاءُ الْفَمِ (ثُمَّ أَتْفُلُ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ أَبْصُقُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي الِاقْتِطَافِ: التَّفْلُ شَبِيهٌ بِالْبُزَاقِ، يُقَالُ: بَزَقَ ثُمَّ تَفَلَ ثُمَّ نَفَثَ ثُمَّ نَفَخَ، وَفِي النِّهَايَةِ: التَّفْلُ نَفْخٌ مَعَهُ رِيقٌ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنَ النَّفْثِ (قَالَ) أَيْ: عَمُّهُ (فَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُطْلِقَ ذَلِكَ الرَّجُلُ (مِنْ عِقَالٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مِنْ حَبْلٍ مَشْدُودٍ بِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الْجُنُونُ فِي الْحَالِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " يُقَالُ: نَشَطْتُ الْحَبْلَ أَنْشُطُهُ نَشْطًا أَيْ عَقَدْتُهُ وَأَنْشَطْتُهُ أَيْ حَلَلْتُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْنِي أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي خَلَاصِ الْمَوْثُوقِ وَزَوَالِ الْمَكْرُوهِ فِي أَدْنَى سَاعَةٍ "، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الْكَلَامُ فِيهِ التَّشْبِيهُ شَبَّهَ سُرْعَةَ بُرْئِهِ مِنَ الْجُنُونِ بِوَاسِطَةِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّفْلِ بِجَمَلٍ مَعْقُولٍ بَرَأَ مِنْ عِقَالٍ فَتَرَاهُ سَرِيعَ النُّهُوضِ " (فَأَعْطَوْنِي جُعْلًا) بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ أَجْرًا (فَقُلْتُ لَا) أَيْ: لَا آخُذُ (حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " كُلْ ") عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ وَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: كُلْ (فَلَعَمْرِي) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ لَحَيَاتِي وَاللَّامُ فِيهِ لَامُ الِابْتِدَاءِ وَفِي قَوْلِهِ (لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ) جَوَابُ الْقَسَمِ أَيْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَأْكُلُ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ كَذِكْرِ الْكَوَاكِبِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهَا وَبِالْجِنِّ (لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ) بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ وَإِنَّمَا حَلَفَ بِعُمْرِهِ لَمَّا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ حَيْثُ قَالَ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] قَالَ الْمُظْهِرُ: " هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا أَيْ حَيَاتِي وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَسَمِ إِلَّا مَفْتُوحَ الْعَيْنِ، وَاللَّامُ فِي لِمَنْ أَكَلَ جَوَابُ الْقَسَمِ أَيْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْقِي بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ وَيَأْخُذُ عَلَيْهَا عِوَضًا أَمَّا أَنْتَ فَقَدَ رَقَيْتَ بِرُقْيَةِ حَقَّ اه وَهَذَا حَاصِلُ الْمَعْنَى فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فُقِدَ بِالْفَاءِ، بَلِ اللَّامِ كَمَا سَيَأْتِي، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَقْسَمَ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ؟ قُلْنَا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَسَمَ بَلْ جَرَى كَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِهِ عَلَى رَسْمِهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " لَعَلَّهُ كَانَ مَأْذُونًا بِهَذَا الْإِقْسَامِ وَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى " {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] " قِيلَ: أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاتِهِ وَمَا أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ قَطُّ كَرَامَةً لَهُ " وَمَنْ " فِي " لَمَنْ أَكَلَ " شَرْطِيَّةٌ وَاللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ وَالثَّانِيَةُ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ سَادٌّ مَسَدَّ الْجَزَاءِ ; أَيْ لَعَمْرِي لَئِنْ كَانَ نَاسٌ يَأْكُلُونَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَأَنْتَ أَكَلَتْ بِرُقْيَةِ حَقٍّ، وَإِنَّمَا أَتَى بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ " أَكَلْتَ " بَعْدَ قَوْلِهِ " كُلْ " دَلَالَةً عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ وَأُجْرَتُهُ صَحِيحَةٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) رَحِمَهُمُ اللَّهُ.

2987 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2987 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ (عَرَقُهُ) بِالرَّفْعِ، يُقَالُ جَفَّ الثَّوْبُ كَضَرَبَ وَيَبَسَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي إِسْرَاعِ الْإِعْطَاءِ وَتَرْكِ الْإِمْطَالِ فِي الْإِيفَاءِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ جَابِرٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ.

2988 - وَعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي الْمَصَابِيحِ مُرْسَلٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2988 - (وَعَنِ الْحُسَيْنِ) وَفِي نُسْخَةِ: الْحَسَنِ بِفَتْحَتَيْنِ (ابْنِ عَلِيٍّ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ) أَيْ: لَا تَرُدُّهُ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ يَلْتَمِسُ مِنْكَ طَعَامَهُ وَعَلَفَ دَابَّتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: " السَّائِلُ الطَّالِبُ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالسَّائِلِ إِذَا تَعَرَّضَ لَكَ وَأَنْ لَا تُخَيِّبَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ مَعَ إِمْكَانِ الصِّدْقِ أَيْ لَا تُخَيَّبِ السَّائِلَ وَإِنْ رَابَكَ مَنْظَرُهُ وَجَاءَ رَاكِبًا عَلَى فَرَسٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ فَرَسٌ وَرَاءَ عَائِلَةٍ أَوْ دَيْنٍ يَجُوزُ مَعَهُ أَخَذُ صَدَقَةٍ أَوْ يَكُونُ مِنَ الْغُزَاةِ أَوْ مِنَ الْغَارِمِينَ وَلَهُ فِي الصَّدَقَةِ سَهْمٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا الضِّيَاءُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدَيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: " «أَعْطَوُا السَّائِلَ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» " وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ: " وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ مُطَوَّقٍ بِالْفِضَّةِ " اه قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَيْ لَا تَرُدَّ السَّائِلَ وَإِنْ جَاءَكَ عَلَى حَالٍ يَدُلُّ عَلَى غِنَاهُ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خُلَّةٌ دَعَتْهُ إِلَى السُّؤَالِ لَمَا بَذَلَ وَجْهَهُ " (وَفِي الْمَصَابِيحِ مُرْسَلٌ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " وُصِفَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَصَابِيحِ بِالْإِرْسَالِ فَلَا أَدْرِي أَثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ أَمْ هُوَ شَيْءٌ أُلْحِقَ بِهِ؟ وَقَدْ وَجَدْتُهُ مُسْنَدًا إِلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ أَوْرَدَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لِلسَّائِلِ حَقٌّ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الْخَبْطُ لَازِمٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْحَدِيثَيْنِ مُتَّصِلٌ مُسْتَقِلٌّ وَقَدْ جَعَلَهُمَا فِي الْمَصَابِيحِ حَدِيثًا وَاحِدًا مُرْسَلًا وَعَلَى اسْتِقْلَالِهِمَا لَا يَدْخُلُ الْحَدِيثُ الثَّانِي فِي الْبَابِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّلِ وَثُبُوتِ الْإِرْسَالِ مِنْ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ أَنْ يُرْوَى مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مُرْسَلًا عَلَى أَنَّهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ ".

" الْفَصْلُ الثَّالِثُ " 2989 - عَنْ عُتْبَةَ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ " طسم " حَتَّى بَلَّغَ قِصَّةَ مُوسَى، قَالَ: إِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ عَشْرًا عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2989 - (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) (عَنْ عُتْبَةَ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (ابْنِ الْمُنْذِرِ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مِنِ الْإِنْذَارِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، قَالَ مَيْرَكُ: " كَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ الصَّوَابُ " اه وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ وَكَذَا صَاحِبُ الْمُغْنِي (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ طسم) أَيْ: مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْقَصَصِ (حَتَّى بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى) أَيِ: اجْتِمَاعَهُ مَعَ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: إِنَّ مُوسَى) عَلَيْهِ السَّلَامُ (آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ عَشْرًا) أَيْ: بَلْ عَشْرًا لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ " أَنَّهُ قَضَى أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ وَمَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَشْرًا أُخَرَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ " (عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ) بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ فَاءٍ أَيْ لِأَجْلِ عَفَافِ نَفْسِهِ (وَطَعَامِ بَطْنِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: " كَنَّى بِهِ عَنِ النِّكَاحِ تَأَدُّبًا وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مَالًا لِاكْتِسَابِ الْعِفَّةِ بِهِ وَفِيهِ خِلَافٌ، قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ بِأَنْ يَخْدِمَهَا سَنَةً، وَجَوَّزُوا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَنْ يَخْدِمَهَا عَبْدُهُ سَنَةً وَقَالُوا: لَعَلَّ ذَلِكَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ شَيْئًا آخَرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ رَاعِيَ غَنَمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدَ جَوَّزَ التَّزَوُّجَ عَلَى إِجَارَتِهِ لِبَعْضِ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ أَوِ الْمَخْدُومُ فِيهِ أَمْرًا مَعْلُومًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

2990 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ فَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2990 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا) أَيْ: أَعْطَانِيهَا هَدِيَّةً، وَقَدْ عَدَّ ابْنُ الْحَاجِبِ الْقَوْسَ فِي قَصِيدَتِهِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْ تَأْنِيثِهِ (مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) أَيِ: الْقُرْآنَ وَيُحْتَمِلُ الْكِتَابَةَ (وَالْقُرْآنَ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ) أَيْ: عَظِيمٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " الْجُمْلَةُ حَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْسًا لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ صِرْفَةٌ فَيَكُونُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ أَهْدَى أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ " يُرِيدُ أَنَّ الْقَوْسَ لَمْ يَعْهَدْ فِي التَّعَارُفِ أَنْ تُعَدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ أَوْ لَيْسَتْ بِمَالٍ أَقْتَنِيهِ لِلْبَيْعِ بَلْ هِيَ عُدَّةٌ (فَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ تَجْعَلُ الْقَوْسَ (طَوْقًا) أَيْ: تُطَوَّقُ أَنْتَ بِطَوْقٍ (مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا) وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَوَجْهُهُ أَنَّ عُبَادَةَ لَمْ يَرَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَاسْتَفْتَى أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ أَهْوَ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ أَمْ لَا، أَنْتَهِي عَنْهُ أَوْ أَنَّهُ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ فَآخُذُهُ؟ فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأُجْرَةِ فِي شَيْءٍ لِتَأْخُذَ حَقًّا لَكَ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُبْطِلُ إِخْلَاصَكَ الَّذِي نَوَيْتَهُ فِي التَّعْلِيمِ فَانْتَهِ عَنْهُ اه كَلَامُهُ وَهُوَ مِمَّا لَا يُلَائِمُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَمَرَامِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: " «مَنْ أَخَذَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ قَوْسًا قَلَّدَهُ اللَّهُ مَكَانَهُ قَوْسًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ".

[باب إحياء الموات والشرب]

[بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَالشِّرْبِ] 2991 - (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ عَمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ، قَالَ عُرْوَةُ: " قَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (وَالشِّرْبِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، فِي الْمُغْرِبِ: " الْمَوَاتُ الْأَرْضُ الْخَرَابُ وَخِلَافُهُ الْعَامِرُ "، وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ: هُوَ مَا لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ وَلَا هِيَ مِنْ مَرَافِقِ الْبَلَدِ وَكَانَتْ خَارِجَةَ الْعَامِرِ سَوَاءٌ قَرُبَتْ مِنْهُ أَوْ بَعُدَتْ، وَالشِّرْبُ بِالْكَسْرِ النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْبَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ سَقْيًا لِلْمَزَارِعِ أَوِ الدَّوَابِّ. 2991 - (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) (عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ عَمَرَ أَرْضًا) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِهَا، وَفِي بَعْضِ نَسْخِ الْمَصَابِيحِ بِزِيَادَةِ أَلْفٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ أَعْمَرْتُ الْأَرْضَ وَجَدْتُهَا عَامِرَةً وَمَا جَاءَ بِمَعْنَى عَمَّرَ، وَفِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ " مَنْ عَمَرَ "، وَقِيلَ: جَوَابُهُ أَنَّهُ جَاءَ أَعْمَرَ اللَّهُ بِكَ مَنْزِلَكَ. بِمَعْنَى عَمَّرَ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ أَعْمَرْتُ الْأَرْضَ بِمَعْنَى عَمَّرْتُهَا إِذِ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ وَفِي الْحَقَائِقِ اطِّرَادُهَا، قَالَ الْإِشْرَافُ: " وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الْجَوْهَرِيَّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ " أَعْمَرَ اللَّهُ بِكَ مَنْزِلَكَ "، " وَعَمَّرَ اللَّهُ بِكَ "، ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ أَعْمَرَ الرَّجُلُ مَنْزِلَهُ بِالْأَلِفِ رِوَايَةً عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَفِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلْعَسْقَلَانِيِّ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: " مَنْ أَعْمَرَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ كَذَا وَقَعَ، وَالصَّوَابُ عَمَرَ ثُلَاثِيًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ جَعَلَهُ أَيْ نَفْسِهِ فِيهَا عَمَارًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: " وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مِنَ اعْتَمَرَ أَرْضًا أَيِ اتَّخَذَهَا وَسَقَطَتِ التَّاءُ مِنَ الْأَصْلِ " وَقَالَ

غَيْرُهُ: قَدْ سُمِعَ فِيهِ الرُّبَاعِيُّ يُقَالُ: أَعْمَرَ اللَّهُ بِكَ مَنْزِلَكَ، فَالْمُرَادُ مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا بِالْإِحْيَاءِ (لَيْسَتْ) أَيْ: تِلْكَ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً (لِأَحَدٍ) بِأَنْ يَكُونَ مَوَاتًا (فَهُوَ) أَيِ: الْعَامِرُ (أَحَقُّ) أَيْ: بِهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ يَعْنِي بِتِلْكَ الْأَرْضِ لَكِنْ بِشَرْطِ إِذْنِ الْإِمَامِ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِخَبَرِ " لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ "، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنْ يُحْمَلَ السَّاكِتُ عَلَى النَّاطِقِ إِذَا كَانَ فِي حَادِثَةٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَحَقُّ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا أَيْ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: مَنْ أُعْمِرَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَعْمَرُهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ الْإِمَامَ وَذَكَرَهُ الْحَمِيدِيُّ فِي جَامِعِهِ بِلَفْظِ: مَنْ عَمَرَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ "، وَقَالَ الْقَاضِي: " مَنْطُوقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِمَارَةَ كَافِيَةٌ فِي التَّمْلِيكِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ السُّلْطَانِ، وَمَفْهُومُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ التَّحَجُّرِ وَالْإِعْلَامِ لَا يُمَلِّكُ بَلْ مِنَ الْعِمَارَةِ وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ (قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ) أَيْ: حَكَمَ بِذَلِكَ (عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ) أَيْ: بِلَا إِنْكَارٍ عَلَيْهِ فَلَا نَسْخَ لِهَذَا الْحَدِيثِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

2992 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2992 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ اللَّيْثِيُّ كَانَ يَنْزِلُ وَدَّانَ وَالْأَبْوَاءَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا حِمَى) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ بِمَعْنَى الْمَحْمِيِّ وَهُوَ مَكَانٌ يُحْمَى مِنَ النَّاسِ وَالْمَاشِيَةِ لِيَكْثُرَ كَلَؤُهُ (إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيْ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْمِي لِخَيْلِ الْجِهَادِ وَإِبِلِ الصَّدَقَةِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: " كَانَتْ رُؤَسَاءُ الْأَحْيَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَحْمُونَ الْمَكَانَ الْخَصِيبَ لِخَيْلِهِمْ وَإِبِلِهِمْ وَسَائِرِ مَوَاشِيهِمْ فَأَبْطَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنَعَهُ أَنْ يَحْمِيَ إِلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ " وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَإِنَّمَا حَمَى النَّقِيعَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلِلْخَيْلِ الْمُعَدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ فِي بَلَدٍ لَمْ يَكُنْ وَاسِعًا فَتَضِيقُ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمِيَ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَحْمِي لِلْمَصَالِحِ؟ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ لِلْحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ عَلَى نَحْوِ مَا حَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ لَا يَتَبَيَّنُ ضَرَرُهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " الْمَعْنَى لَا حِمَى لِأَحَدٍ عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ بَلْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَمَاهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ " وَفِي النِّهَايَةِ قِيلَ: " كَانَ الشَّرِيفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا نَزَلَ أَرْضًا فِي حَيِّهِ اسْتَعْوَى كَلْبًا فَحَمَى مَدْعُوَاءَ الْكَلْبِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ يُشَارِكُ الْقَوْمَ فِي سَائِرِ مَا يَرْعَوْنَ فِيهِ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ وَأَضَافَ الْحِمَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ أَيْ إِلَّا مَا يُحْمَى لِلْخَيْلِ الَّتِي تُرْصَدُ لِلْجِهَادِ وَالْإِبِلِ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِبِلِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا كَمَا حَمَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّقِيعَ لِنِعَمِ الصَّدَقَةِ وَالْخَيْلِ الْمُعَدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

2993 - وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: «خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجٍ مِنَ الْحَرَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ وَكَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2993 - (عَنْ عُرْوَةَ) أَيِ: ابْنِ الزُّبَيْرِ وَسَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ) أَيِ: ابْنُ الْعَوَّامِ بْنِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ بْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً ; فَعَذَّبَهُ عَمُّهُ بِالدُّخَانِ ; لِيَتْرُكَ الْإِسْلَامَ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَّ السَّيْفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ أَحَدُ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزَ بِسَفَوَانَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْفَاءِ فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ سَنَةَ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِوَادِي السِّبَاعِ ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَقَبَرُهُ مَشْهُورٌ بِهَا، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَاكَمَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْجِيمِ مَسَايِلُ الْمَاءِ أَحَدُهَا شُرْجَةٌ (مِنَ الْحَرَّةِ) أَيْ: أَرْضٍ ذَاتِ الْحِجَارَةِ السُّودِ إِذْ كَانَا يَسْقِيَانِ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ جَارٍ فَتَنَازَعَا فِي تَقْدِيمِ السَّقْيِ فَتَدَافَعَا إِلَيْهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْقِ يَا زُبَيْرُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَقْطُوعَةِ وَبِكَسْرِهَا الْمَوْصُولَةِ (ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ) فَإِنَّ أَرْضَ الزُّبَيْرِ كَانَتْ أَعْلَى مِنْ أَرْضِ الْأَنْصَارِيِّ (فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ حَكَمْتَ بِذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ أَوْ بِسَبَبِ أَنْ (كَانَ) أَيِ: الزُّبَيْرُ (ابْنَ عَمَّتِكَ) قَالَ الْقَاضِي: " وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِأَنْ أَوْ لِأَنْ وَحَرْفُ الْجَرِّ يُحْذَفُ مَعَهَا لِلتَّخْفِيفِ كَثِيرًا فَإِنَّ فِيهَا مَعَ صِلَتِهَا طُولًا أَيْ وَهَذَا التَّقْدِيمُ وَالتَّرْجِيحُ لِأَنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ) وَبِسَبَبِهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] أَيْ لَا تُطِعْهُ مَعَ هَذِهِ الْمَثَالِبِ لِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَلِهَذَا الْمَقَالِ نُسِبَ الرَّجُلُ إِلَى النِّفَاقِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدِ اجْتَرَأَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِنِسْبَةِ الرَّجُلِ تَارَةً إِلَى النِّفَاقِ قَالَ: وَأُخْرَى إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ زَائِغٌ عَنِ الْحَقِّ إِذْ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ أَنْصَارِيًّا وَلَمْ يَكُنِ الْأَنْصَارُ مِنْ جُمْلَةِ الْيَهُودِ، وَلَوْ كَانَ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ لَمْ يَصِفُوهُ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِنَّهُ وَصْفُ مَدْحٍ، وَالْأَنْصَارُ وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ يُرْمَى بِالنِّفَاقِ فَإِنَّ الْقَرْنَ الْأَوَّلَ وَالسَّلَفَ بَعْدَهُمْ تَحَرَّجُوا وَاحْتَرَزُوا أَنَّ يُطْلِقُوا عَلَى مَنْ ذُكِرَ بِالنِّفَاقِ وَاشْتُهِرَ بِهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَالْأَوْلَى بِالشَّحِيحِ بِدِينِهِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا قَوْلٌ أَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِتَمَكُّنِهِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَغَيْرُ مُسْتَبْدَعٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الِابْتِلَاءُ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ: " قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: حَكَى الدَّاوُدِيُّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ مُنَافِقًا وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ أَنْصَارِيٌّ لَا يُخَالِفُ هَذَا لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ لَا مِنَ الْأَنْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] الْآيَةَ فَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: لَوْ صَدَرَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ إِنْسَانٍ كَانَ كَافِرًا وَجَرَتْ عَلَى قَائِلِهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ مِنَ الْقَتْلِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَتَأَلَّفُ النَّاسَ وَيَدْفَعُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْمُنَافِقِينَ وَيَقُولُ: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» (فَتَلَوَّنُ وَجْهُهُ) أَيْ: تَغَيَّرَ مِنَ الْغَضَبِ لِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ النُّبُوَّةِ وَقُبْحِ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ (ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ) أَيِ: امْسِكْهُ وَامْنَعْهُ (حَتَّى يَرْجِعَ) أَيْ: يَصِلَ الْمَاءُ (إِلَى الْجَدْرِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَرُوِيَ بِضَمَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ جِدَارٍ، قِيلَ: إِنَّهُ الْمُسَنَّاةُ وَهِيَ لِلْأَرْضِ كَالْجِدَارِ لِلدَّارِ يَعْنِي الْحَائِلَ بَيْنَ الْمَشَارِبِ، وَقِيلَ: هُوَ الْجِدَارُ وَقِيلَ: هُوَ أَصْلُ الْجِدَارِ وَقَدَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنْ يَرْتَفِعَ الْمَاءُ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا حَتَّى يَبْلُغَ كَعْبَ رِجْلِ الْإِنْسَانِ (ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ) أَمَرَهُ بِمَدَى الْحُكْمِ (فَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقَّهُ) أَيِ: اسْتَوْفَاهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِعَاءِ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ كَأَنَّهُ جَمَعَهُ فِي وِعَائِهِ، وَالْمَعْنَى أَعْطَى الزُّبَيْرَ حَقَّهُ تَامًّا (فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ) أَيْ: أَغْضَبَ (وَكَانَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَشَارَ) أَيْ: أَوَّلًا (لَهُمَا بِأَمْرٍ فِيهِ سَعَةٌ) أَيْ: مَنْفَعَةٌ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ إِلَى جَارِكَ كَانَ أَمْرًا لِلزُّبَيْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَأَخْذًا بِالْمُسَامَحَةِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا مِنْهُ، فَلَمَّا رَأَى الْأَنْصَارِيَّ يَجْهَلُ مَوْضِعَ حَقِّهِ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ بِاسْتِيفَاءِ تَمَامِ حَقِّهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ حَيْثُ لَمْ يُعَزِّرِ الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِمَا أَغْضَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ: كَانَ قَوْلُهُ الْآخَرُ عُقُوبَةً فِي مَالِهِ وَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ إِذْ ذَاكَ يَقَعُ بَعْضُهَا فِي الْأَمْوَالِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَفِيهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ عَلَى الْأَنْصَارِيِّ فِي حَالِ غَضَبِهِ مَعَ نَهْيِهِ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ وَهُوَ غَضْبَانُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْصُومًا مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي السُّخْطِ وَالرِّضَا إِلَّا حَقًّا، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مِيَاهَ الْأَوْدِيَةِ وَالسُّيُولِ الَّتِي لَا يُمْلَكُ مَنَابِعُهَا وَمَجَارِيهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَالنَّاسُ شَرْعٌ وَسَوَاءٌ وَإِنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْبِ الْأَعْلَى مُقَدَّمُونَ عَلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ لِسَبْقِهِمْ إِلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ عَمَّنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ بَعْدَمَا أَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2994 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لَا تَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلَأِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2994 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا فَضْلَ الْكَلَأِ» ) أَيِ: الْمُبَاحِ، وَمَضَى شَرْحُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الْبُيُوعِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

2995 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَذُكِرَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ الْبُيُوعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2995 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: كَلَامَ الرِّضَا دُونَ كَلَامِ الْمُلَازَمَةِ (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أَيْ: نَظَرَ رَحْمَةٍ دُونَ نَظَرِ نِقْمَةٍ (رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ) بِالْكَسْرِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ) كِلَا الْفِعْلَيْنِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهَذَا مَا حَلَفَ بِهِ الرَّجُلُ، وَلَوْ حَكَى قَوْلَهُ لَقِيلَ: قَدْ أُعْطِيتَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَيْتَهُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ بِنَاءٌ لِلْمَفْعُولِ وَالثَّانِي لِلْفَاعِلِ، أَيْ طُلِبَ مِنِّي هَذَا الْمَتَاعِ قَبْلَ هَذَا بِأَزْيَدَ مِمَّا طَلَبَتْهُ (وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ) أَيْ: بِيَمِينٍ أَوْ عَلَى مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ غَيْرِ وَاقِعٍ وَهُوَ عَالِمٌ (بَعْدَ الْعَصْرِ) إِنَّمَا خُصَّ بِهِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ الْمُغَلَّظَةَ تَقَعُ فِيهِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ وَقْتُ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ بِغَيْرِ رِبْحٍ فَحَلَفَ كَاذِبًا بِالرِّبْحِ، وَقِيلَ: ذَكَرَهُ لِشَرَفِ الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ أَغْلَظَ وَأَشْنَعَ ; وَلِذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْعُدُ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ (لِيَقْتَطِعَ) أَيْ: لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ (بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ) وَكَذَا حَكَمَ مَالَ الذِّمِّيِّ (وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ) وَفِي رِوَايَةٍ فَضْلَ مَائِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ وَالْأَرْبَعَةِ " «وَرَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ» " (فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَاءٍ) بِالْهَمْزِ (لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ) صِفَةُ مَاءٍ وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ أَيْ فِيهِ قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: خَرَجَ بِقُدْرَتِي لَا بِسَعْيِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَذُكِرَ حَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيْ: قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ» (فِي بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ الْبُيُوعِ) يَعْنِي فَإِنَّهُ أَنْسَبُ بِذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 2996 - عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ لَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2996 - (الْفَصْلُ الثَّانِي) (عَنِ الْحَسَنِ) أَيِ: الْبَصْرِيِّ (عَنْ سَمُرَةَ) أَيِ: ابْنِ جُنْدُبٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا) أَيْ: جَعَلَ وَأَدَارَ حَائِطًا أَيْ جِدَارًا (عَلَى الْأَرْضِ) أَيْ: حَوْلَ أَرْضٍ مَوَاتٍ فَهُوَ أَيْ فَصَارَ ذَلِكَ الْمَحُوطُ (لَهُ) أَيْ: مِلْكًا لَهُ أَيْ مَا دَامَ فِيهِ كَمَنْ سَبَقَ إِلَى مُبَاحٍ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى التَّمْلِيكَ بِالتَّحْجِيرِ وَلَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِحْيَاءِ وَتَحْجِيرُ الْأَرْضِ وَإِحَاطَتِهِ بِالْحَائِطِ لَيْسَ مِنَ الْإِحْيَاءِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ عَلَى الْأَرْضِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْبَيَانِ إِذْ لَيْسَ كُلُّ أَرْضٍ تُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ " قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " كَفَى بِهِ بَيَانًا قَوْلُهُ أَحَاطَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَنَى حَائِطًا مَانِعًا مُحِيطًا بِمَا يَتَوَسَّطُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ نَحْوَ أَنْ يَبْنِي حَائِطًا لِحَظِيرَةِ غَنَمٍ أَوْ زَرِيبَةٍ لِلدَّوَابِّ "، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " إِذَا أَرَادَ زَرِيبَةً لِلدَّوَابِّ أَوْ حَظِيرَةً يُجَفِّفُ فِيهَا الثِّمَارَ أَوْ يَجْمَعُ فِيهَا الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ اشْتُرِطَ التَّحْوِيطُ وَلَا يَكْفِي نَصْبُ سَعَفٍ وَأَحْجَارٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2997 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ لِلزُّبَيْرِ نَخِيلًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2997 - (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ: زَوْجَةِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ) أَيْ: أَعْطَى (لِلزُّبَيْرِ نَخِيلًا) قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الْإِقْطَاعُ تَعْيِينُ قِطْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ لِغَيْرِهِ " وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " الْإِقْطَاعُ نَوْعَانِ بِحَسَبِ مَحَلِّهِ إِقْطَاعُ تَمَلُّكٍ وَهُوَ الَّذِي تُمَلَّكُ فِيهِ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا مَرَّ وَإِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ وَهُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَمَلُّكُ ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِحَالٍ كَإِقْطَاعِ الْإِمَامِ مَقْعَدًا مِنْ مَقَاعِدِ السُّوقِ أَحَدًا لِيَقْعُدَ لِلْمُعَامَلَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَانَ إِقْطَاعُ الزُّبَيْرِ مِنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: " النَّخْلُ مَالٌ ظَاهِرُ الْعَيْنِ حَاضِرُ النَّفْعِ كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْخُمْسِ الَّذِي سَهْمُهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَوَاتِ الَّذِي لَمْ يَمْلِكْهُ أَحَدٌ فَيُتَمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2998 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ لِلزُّبَيْرِ حُضْرَ فَرَسِهِ فَأَجْرَى فَرَسَهَ حَتَّى قَامَ ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ فَقَالَ: أَعْطُوهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ السَّوْطُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2998 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقْطَعَ لِلزُّبَيْرِ حُضْرَ فَرَسِهِ» ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ أَيْ: عَدْوَهَا وَنَصْبُهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: قَدْرِ مَا تَعْدُو عَدْوَةً وَاحِدَةً (فَأَجْرَى فَرَسَهُ حَتَّى قَامَ) أَيْ: وَقَفَ مَرْكُوبُهُ وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَمْشِي (ثُمَّ رَمَى) أَيِ: الزُّبَيْرَ (بِسَوْطِهِ) الْبَاءُ زَائِدَةُ أَيْ حَذَفَهُ، فَقَالَ أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَعْطُوهُ) أَمَرَ بِالْإِعْطَاءِ (مِنْ حَيْثُ بَلَغَ السَّوْطُ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " فِي هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ إِقْطَاعِ الْإِمَامِ الْأَرْضَ الْمَمْلُوكَةَ لِبَيْتِ الْمَالِ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ ثُمَّ تَارَةً يَقْطَعُ رَقَبَتَهَا وَيُمَلِّكُهَا الْإِنْسَانَ بِمَا يَرَى فِيهِ مَصْلَحَةً فَيَجُوزُ تَمْلِيكُهَا كَمَا يَمْلِكُ مَا يُعْطِيهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَغَيْرِهَا، وَتَارَةً يُقْطِعُهُ مَنْفَعَتَهَا فَيَسْتَحِقُّ بِهَا الِانْتِفَاعَ مُدَّةَ الِاقْتِطَاعِ وَأَمَّا الْمَوَاتُ فَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ إِحْيَاؤُهُ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ " اه وَقَدْ سَبَقَ فِي كَلَامِ الْبَغَوِيِّ وَالْمُظَهَّرِ أَنَّ إِقْطَاعَ الزُّبَيْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْمَوَاتِ فَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

2999 - «وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ، قَالَ: فَأَرْسَلَ مَعِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: أَعْطِهَا إِيَّاهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2999 - (عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ) بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَبِالرَّاءِ الْحَضْرَمِيُّ كَانَ قَيْلًا مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَالُ إِنَّهُ بَشَّرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ قَبْلَ قُدُومِهِ وَقَالَ: «يَأْتِيكُمْ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ مِنْ حَضْرَمَوْتَ طَائِعًا رَاغِبًا فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ» - وَفِي رَسُولِهِ، وَهُوَ بَقِيَّةُ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِهِ وَأَدْنَاهُ مِنْ نَفْسِهِ وَبَسَطَ لَهُ رِدَاءَهُ فَأَجْلَسَهُ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي وَائِلٍ وَوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ» ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْأَقْيَالِ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنَاهُ عَلْقَمَةُ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ وَغَيْرُهُمَا (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَهُ) أَيْ: وَائِلًا (أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ) اسْمُ بَلَدٍ بِالْيَمَنِ وَهُمَا اسْمَانِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا فَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ بِالْعَلَمِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ وَالْمِيمِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ بَلَدٌ وَقَبِيلَةٌ، وَيُقَالُ: حَضْرَ مَوْتَ وَيُضَافُ، فَيُقَالُ هَذَا حَضْرُ مَوْتَ، بِضَمِّ الرَّاءِ، وَإِنْ شِئْتَ لَا تُنَوِّنُ الثَّانِي، قَالَ السُّيُوطِيُّ: " نُقِلَ أَنَّ صَالِحًا لَمَّا هَلَكَ قَوْمُهُ جَاءَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ مَاتَ فَقِيلَ: حَضَرَ مَوْتٌ، وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ أَنَّهُ لَقَبُ عَامِرٍ جَدِّ الْيَمَانِيَةِ كَانَ لَا يَحْضُرُ حَرْبًا إِلَّا كَثُرَتْ فِيهِ الْقَتْلَى فَقَالَ عَنْهُ مَنْ رَآهُ: حَضَرَ مَوْتٌ، بِتَحْرِيكِ الضَّادِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ فَسَكَنَتْ (قَالَ) أَيْ: وَائِلٌ (فَأَرْسَلَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَعِي مُعَاوِيَةَ قَالَ) أَيْ: لِمُعَاوِيَةَ (أَعْطِهَا إِيَّاهُ) أَيْ: وَائِلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ مُعَاوِيَةَ هُوَ ابْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ أَوِ ابْنُ جَاهِمَةَ السُّلَمِيُّ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ وَأَبُوهُ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ ثُمَّ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَرَامِ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ هَذَا الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَقَامٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

3000 - «عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالِ الْمَأْرِبِيِّ أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْتَقْطَعَهُ الْمِلْحَ الَّذِي بِمَأْرِبَ فَأَقْطَعُهُ إِيَّاهُ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَقْطَعْتَ لَهُ الْمَاءَ الْعِدَّ قَالَ: فَرَجَّعَهُ مِنْهُ، قَالَ: وَسَأَلَهُ مَاذَا يُحْمَى مِنَ الْآرَاكِ، قَالَ: لَمْ تَنَلْهُ أَخْفَافُ الْإِبِلِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3000 - (عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ (الْمَأْرِبِيِّ) الْمَنْسُوبِ إِلَى مَأْرِبَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَقِيلَ: بِفَتْحِهَا مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَى مَأْرِبَ لِنُزُولِهِ فِيهِ وَكَانَ اسْمُهُ أَسْوَدَ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْيَضَ، وَقِيلَ: مَأْرِبُ مِنْ بِلَادِ الْأَزْدِ وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ مِنْ صَنْعَاءَ (أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هُوَ قَلِيلُ الْحَدِيثِ (فَأَسْتَقْطَعَهُ) أَيْ: سَأَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ إِيَّاهُ (الْمِلْحَ) أَيْ: مَعْدِنِ الْمِلْحِ (الَّذِي بِمَأْرِبَ) مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ غَيْرُ مَصْرُوفٍ فَأَسْعَفَ إِلَى مُلْتَمِسِهِ (فِي قَطْعِهِ) أَيْ: بِالْمِلْحِ (إِيَّاهُ) أَيْ: لِظَنِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْمِلْحُ بِعَمَلٍ وَكَدٍّ (فَلَمَّا وَلَّى) أَيْ: أَدْبَرَ (قَالَ رَجُلٌ) وَهُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسِ التَّيْمِيمِيُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقِيلَ: إِنَّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَقْطَعْتَ لَهُ الْمَاءَ الْعِدَّ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَالْعِدُّ الْمُهَيَّأُ (قَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبْيَضُ الرَّاوِي (فَرَجَّعَهُ) أَيْ: فَرَدَّ الْمِلْحَ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَبْيَضَ، أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ فَاعِلَ قَالَ هُوَ الرَّجُلُ وَإِلَّا فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَهُ فَرَجَّعَهُ مِنِّي وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَاءِ الْمُهَيَّأِ رَجَعَ فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ إِقْطَاعَ الْمَعَادِنِ إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا كَانَتْ بَاطِنَةً لَا يُنَالُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا بِتَعَبٍ وَمُؤْنَةٍ كَالْمِلْحِ وَالنِّفْطِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالْكِبْرِيتِ وَنَحْوِهَا، وَمَا كَانَتْ ظَاهِرَةً يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَصَنْعَةٍ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا، بَلِ النَّاسُ فِيهَا شَرَعٌ كَالْكَلَأِ وَمِيَاهِ الْأَوْدِيَةِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا حَكَمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي خِلَافِهِ يَنْقُضُ حُكْمَهُ وَيَرْجِعُ عَنْهُ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (وَسَأَلَهُ) أَيِ: الرَّجُلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَاذَا يُحْمَى) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَإِسْنَادُهُ إِلَى مَا اسْتَكَنَّ فِيهِ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَى (مِنَ الْآرَاكِ) بَيَانٌ لِمَا هُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الْآرَاكٌ، قَالَ الْمُظْهِرُ: " الْمُرَادُ مِنَ الْحِمَى هُنَا الْإِحْيَاءُ إِذِ الْحِمَى الْمُتَعَارَفُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَخُصَّهُ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا لَمْ تَنَلْهُ) بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ لَمْ تَصِلْهُ (أَخْفَافُ الْإِبِلِ) وَمَعْنَاهُ مَا كَانَ بِمَعْزِلٍ مِنَ الْمَرَاعِي وَالْعِمَارَاتِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا إِحْيَاءَ بِقُرْبِ الْعِمَارَةِ لِاحْتِيَاجِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ لِمَرْعَى مَوَاشِيهِمْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ مَا لَمْ تَنَلْهُ أَخْفَافُ الْإِبِلِ أَيْ لِيَكُنِ الْإِحْيَاءُ فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْإِبِلُ السَّارِحَةُ، وَفِي الْفَائِقِ قِيلَ: الْأَخْفَافُ مَسَانُّ الْإِبِلِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخُفُّ الْجَمَلُ الْمُسِنُّ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْمَرْعَى لَا يُحْمَى بَلْ يُتْرَكُ لِمَسَانِّ الْإِبِلِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الضِّعَافِ الَّتِي لَا تَقْوَى عَلَى الْإِمْعَانِ فِي طَلَبِ الْمَرْعَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُحْمَى مَا يَنَالُهُ الْأَخْفَافُ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا إِلَّا وَيَنَالُهُ الْاَخْفَافُ " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

3001 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3001 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ) قَالَ الْقَاضِي: " لَمَّا كَانَتِ الْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ أَنَّثَهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَقَالَ فِي ثَلَاثٍ (فِي الْمَاءِ) بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ وَالْمُرَادُ الْمِيَاهُ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ بِاسْتِنْبَاطِ أَحَدٍ وَسَيْعِهِ كَمَاءِ الْقِنِيِّ وَالْآبَارِ وَلَمْ يُحْرَزْ فِي إِنَاءٍ أَوْ بِرْكَةٍ أَوْ جَدْوَلٍ مَأْخُوذٍ مِنَ النَّهْرِ (وَالْكَلَأِ) مَا يَنْبُتُ فِي الْمَوَاتِ (وَالنَّارِ) يُرَادُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِيهَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِصْبَاحِ مِنْهَا وَالِاسْتِضَاءَةِ بِضَوْئِهَا لَكِنْ لِلْمُسْتَوْقِدِ أَنْ يَمْنَعَ أَخْذَ جَذْوَةٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ يُنْقِصُهَا وَيُؤَدِّي إِلَى إِطْفَائِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّارِ الْحِجَارَةُ الَّتِي تُورِي النَّارَ لَا يَمْنَعُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ فِي مَوَاتٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَحْمَدُ.

3002 - وَعَنْ أَسْمَرَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْتُهُ فَقَالَ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3002 - (وَعَنْ أَسْمَرَ) كَأَحْمَدَ (ابْنِ مُضَرِّسٍ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: طَائِيٌّ صَحَابِيٌّ عِدَادُهُ فِي أَعْرَابِ الْبَصْرَةِ (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْتُهُ) أَيْ: بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ (قَالَ: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَاءٍ) أَيْ: مُبَاحٍ وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالْكَلَأِ وَالْحَطَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي رِوَايَةٍ " إِلَى مَا " مَقْصُورَةٍ فَهِيَ مَوْصُولَةٌ أَيْ إِلَى مَا (لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ) أَيْ: مَا أَخَذَهُ صَارَ مِلْكًا لَهُ دُونَ مَا بَقِيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا الضِّيَاءُ عَنْ أُمِّ جُنْدُبٍ.

3003 - وَعَنْ طَاوُسٍ مُرْسَلًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ لَهُ وَعَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3003 - (وَعَنْ طَاوُسٍ) كَدَاوُدَ (مُرْسَلًا) أَيْ: مَحْذُوفَ الصَّحَابِيِّ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ طَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ الْخَوْلَانِيُّ الْهَمْدَانِيُّ مِنْ أَبْنَاءِ الْفُرْسِ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَخَلْقٌ سِوَاهُ، قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: " مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِثْلَ طَاوُسٍ كَانَ رَأْسًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ لَهُ) سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (وَعَادِيُّ الْأَرْضِ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ أَيِ: الْأَبْنِيَةُ وَالضِّيَاعُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا مَالِكٌ، نُسِبَتْ إِلَى عَادٍ قَوْمِ هُودٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِتَقَادُمِ زَمَانِهِمْ لِلْمُبَالَغَةِ يَعْنِي الْخَرَابَ (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيْ: فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَسْتَصْوِبُهُ (ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي) أَيْ: بِإِعْطَائِي إِيَّاهَا لَكُمْ بِإِذْنٍ أَذِنْتُ وَجَوَّزْتُ لَكُمْ أَنْ تُحْيُوهَا وَتُعَمِّرُوهَا، قَالَ الْقَاضِيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَمْهِيدٌ لِذِكْرِ رَسُولِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَأَنَّ حُكْمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمُ اللَّهِ وَلِذَلِكَ عَدَلَ مِنْ " لِي " إِلَى " رَسُولِهِ " وَفِيهِ الْتِفَاتٌ (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) .

3004 - وَرُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الدُّورَ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالنَّخْلِ، فَقَالَ بَنُو عَبْدِ بْنِ زُهْرَةَ: نَكِّبْ عَنَّا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللَّهُ إِذًا، إِنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ حَقُّهُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3004 - (وَرُوِيَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَقِيلَ: بِالْمَعْلُومِ فَالضَّمِيرُ إِلَى الْبَغَوِيِّ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) كِتَابٍ مَشْهُورٍ لَهُ مُسْنَدٌ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقْطَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ الدُّورَ بِالْمَدِينَةِ» ) قَالَ الْقَاضِي: " يُرِيدُ بِالدُّورِ الْمَنَازِلَ وَالْعَرْصَةَ الَّتِي أَقْطَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ لِيَبْنِي فِيهَا وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ الْمُهَاجِرِينَ الدُّورَ بِالْمَدِينَةِ وَتَأَوَّلَ كَذَا أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْمَنْزِلَ دَارًا وَإِنْ لَمْ يُبْنَ فِيهِ بَعْدُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقْطَعَهَا لَهُ عَارِيَةً، وَكَذَا إِقْطَاعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ دُورَهُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يُوَرَّثَ دُورَ الْمُهَاجِرِينَ نِسَاؤُهُمْ وَأَنَّ زَيْنَبَ زَوْجَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرِثَتْهُ دَارَهُ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَارٌ سِوَاهَا وَالْعَارِيَةُ لَا تُوَرَّثُ (وَهِيَ) أَيْ: تِلْكَ الدُّورُ أَوِ الْقِطْعَةُ (بَيْنَ ظَهْرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ) أَصْلُهُ ظَهْرَيْ عِمَارَتِكُمْ فَزِيدَتِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ الْمَفْتُوحَةُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْمَعْنَى بَيْنَهَا وَوَسَطَهَا (مِنَ الْمَنَازِلِ وَالنَّخْلِ) بَيَانٌ لِلدُّورِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ الْمَحْفُوفَةَ بِالْعِمَارَاتِ يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا لِلْإِحْيَاءِ (قَالَ بَنُو عَبْدِ بْنِ زُهْرَةَ) بِضَمِّ زَاءٍ وَسُكُونِ هَاءٍ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ مِنْهُمْ أُمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ (نَكِّبْ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ أَيِ ابْعَدْ وَاصْرِفْ (عَنَّا) قَالَ تَعَالَى {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 74] أَيْ عَادِلُونَ عَنِ الْقَصْدِ (ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ) أَيْ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهَانَةً بِقُرْبِهِ وَسَآمَةً، وَسَأَلُوا الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ مَا أَقْطَعَهُ (قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِمَ) أَيْ: فَلِأَيِّ شَيْءٍ (ابْتَعَثَنِي اللَّهُ) افْتِعَالٌ مِنَ الْبَعْثِ أَيْ أَرْسَلَنِي اللَّهُ (إِذًا) بِالتَّنْوِينِ أَيْ إِذَا لَمْ أُسَوِّ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ فِي أَخْذِ الْحَقِّ مِنْ صَاحِبِهِ وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ضَعِيفٌ، قَالَ الْقَاضِيَ: " وَإِنَّمَا بَعَثَنِي اللَّهُ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ فَإِذَا كَانَ قَوْمِي يَذُبُّونَ الضَّعِيفَ عَنْ حَقِّهِ وَيَمْنَعُونَهُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ابْتِعَاثِي (إِنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً) أَيْ: لَا يُطَهِّرُهَا وَلَا يُزَكِّيهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْعُيُوبِ (لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ (حَقَّهُ) .

3005 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي السَّيْلِ الْمَهْزُورِ أَنْ يُمْسَكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسَلَ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3005 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى) أَيْ: حَكَمَ (فِي السَّيْلِ الْمَهْزُورِ) بِلَامِ التَّعْرِيفِ فِيهِمَا وَتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى الرَّاءِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ وَادٍ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَهْزُورُ بِتَقَدُّمِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى الرَّاءِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ وَادٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْحِجَازِ، فَأَمَّا بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ فَمَوْضِعٌ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، تَصَدَّقَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا فِي الْفَائِقِ مَعَ زِيَادَةِ قَوْلِهِ وَأَمَا مَهْزُولٌ بِاللَّامِ فَوَادٍ إِلَى أَصْلِ جَبَلِ يَثْرِبَ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا اللَّفْظُ وَجَدْنَاهُ مَصْرُوفًا عَنْ وَجْهِهِ فَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي السَّيْلِ الْمَهْزُورِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَفِي بَعْضِهَا فِي سَيْلِ الْمَهْزُورِ بِالْإِضَافَةِ وَكَلَاهُمَا خَطَأٌ، وَصَوَابُهُ بِغَيْرِ أَلْفٍ وَلَامٍ فِيهِمَا بِصِيغَةِ الْإِضَافَةِ إِلَى عَلَمٍ، وَقَالَ الْقَاضِي: " لَمَّا كَانَ الْمَهْزُورُ عَلَمًا مَنْقُولًا مِنْ صِفَةٍ مُشْتَقَّةٍ مِنْ هَزَرَهُ إِذَا غَمَضَهُ جَازَ إِدْخَالُ اللَّامِ فِيهِ تَارَةً وَتَجْرِيدُهُ عَنْهُ أُخْرَى " اه. وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَلْ فِيهِ لِلَمْحِ الْأَصْلِ وَهُوَ الصِّفَةُ وَمَعَ هَذَا كَانَ الظَّاهِرُ فِي سَيْلِ الْمَهْزُورِ فَكَانَ مَهْزُورٌ بَدَلًا مِنَ السَّيْلِ بِحَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: سَيْلٍ مَهْزُورٍ (أَنْ يُمْسَكَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: الْمَاءُ فِي أَرْضِهِ (حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلَ) بِالنَّصْبِ وَقِيلَ بِالرَّفْعِ أَيْ: يُنْزِلُ (الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ) أَيْ: إِلَى أَسْفَلَ مِنْهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3006 - «وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ عَضُدٌ مِنْ نَخِيلٍ فِي حَائِطِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَمَعَ الرَّجُلِ أَهْلُهُ، فَكَانَ سَمُرَةُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فَيَتَأَذَّى بِهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَطَلَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَبِيعَهُ فَأَبَى، فَطَلَبَ أَنْ يَنْقُلَهُ فَأَبَى، قَالَ: فَهَبْهُ لَهُ وَلَكَ كَذَا أَمْرًا رَغْبَةً فِيهِ فَأَبَى، فَقَالَ: أَنْتَ مُضَارٌّ، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ: اذْهَبْ فَاقْطَعْ نَخْلَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا " فِي بَابِ الْغَضَبِ بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي صِرْمَةَ «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ» فِي بَابِ مَا يَنْهِي عَنِ التَّهَاجُرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3006 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) بِضَمَّتَيْنِ وَبِفَتْحِ الثَّانِي (أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ عَضَدٌ) بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمِّ الثَّانِي وَيُسَكَّنُ أَيْ: طَرِيقَةٌ (مِنْ نَخْلٍ) قِيلَ مَعْنَاهَا أَعْدَادٌ مِنْ نَخْلٍ قِصَارٍ مُصْطَفَّةٌ وَالطَّرِيقُ الطِّوَالُ مِنَ النَّخْلِ، وَقِيلَ: الطَّرِيقَةُ عَلَى صَفٍّ وَاحِدٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَضْدُ الطَّرِيقَةُ مِنَ النَّخْلِ وَبِالتَّحْرِيكِ الشَّجَرُ الْمَنْضُودُ اه فَقَوْلُهُ: مِنْ نَخْلٍ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ وَفِي الْفَائِقِ قَالُوا: لِلطَّرِيقِ مِنَ النَّخْلِ عَضَدٌ لِأَنَّهَا مُتَنَاضِرَةٌ فِي جِهَةٍ، وَرُوِيَ عَضِيدٌ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: " إِذَا صَارَ لِلنَّخْلَةِ جِذْعٌ يُتَنَاوَلُ مِنْهُ فَهِيَ الْعَضِيدُ وَالْجَمْعُ عَضُدَانِ وَقِيلَ هِيَ الْجَبَّارَةُ الْبَالِغَةُ غَايَةَ الطُّولِ (فِي حَائِطِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) قِيلَ: الْأَنْصَارِيُّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ وَقِيلَ: اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ وَقِيلَ: مَالِكُ بْنُ أَسْعَدَ وَكَانَ شَاعِرًا (وَمَعَ الرَّجُلِ أَهْلُهُ فَكَانَ سَمُرَةُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ (فَيَتَأَذَّى بِهِ) أَيْ: بِدُخُولِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " ذِكْرُ الْأَهْلِ وَالتَّأَذِّي دَالَّانِ عَلَى تَضَرُّرِ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ مُرُورِهِ " (فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ) أَيِ: الْأَمْرَ لَهُ (فَطَلَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: سَمُرَةَ إِلَى مَجْلِسِهِ الشَّرِيفِ (لِيَبِيعَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " تَعْدِيَةُ طَلَبَ بِإِلَى يُشْعِرُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْهَى إِلَيْهِ طَلَبَ الْبَيْعِ شَافِعًا وَكَذَا فِي الْبَاقِي " (فَأَبَى) أَيِ: امْتَنَعَ (فَطَلَبَ أَنْ يُنْقُلَهُ) أَيْ: يُبَادِلَ بِمِثْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (فَأَبَى فَقَالَ: فَهَبْهُ لَهُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " لَفْظُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فَرْدُ نَخْلٍ لِتَعَاقُبِ الضَّمِيرِ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ لِيَبِيعَهُ وَيُنَاقِلُهُ وَفَهَبْهُ لَهُ وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ طَرِيقَةً مِنَ النَّخْلِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَطْعِهَا لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ دُخُولِهِ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ صَوَابَهُ عَضِيدٌ، قَالَ الْقَاضِي: إِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِيهَا لِإِفْرَادِ اللَّفْظِ (وَلَكَ ذَلِكَ) أَيْ: فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَالْحُورِ وَالْقُصُورِ وَالْحُبُورِ وَالسُّرُورِ (أَمْرًا رَغْبَةً فِيهِ) أَيْ: فِي الْأَمْرِ وَنَصَبَهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالتَّفْسِيرُ لِقَوْلِهِ فَهَبْهُ لَهُ يَعْنِي هُوَ أَمْرٌ عَلَى سَبِيلِ التَّرْغِيبِ وَالِاسْتِشْفَاعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ " قَالَ " أَيْ: قَالَ آمِرًا مُرَغِّبًا فِيهِ وَأَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: قَالَ قَوْلًا مُرَغَّبًا فِيهِ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ جَارِيَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ - أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 4 - 5] كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ (فَأَبَى) أَيِ: امْتَنَعَ مِنْ هَذَا أَيْضًا (فَقَالَ: أَنْتِ مَضَارُّ) قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ إِذَا لَمْ تَقْبَلْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَلَسْتَ تُرِيدُ إِلَّا إِضْرَارَ النَّاسِ وَمَنْ يُرِيدُ إِضْرَارَ النَّاسِ جَازَ دَفْعُ ضَرَرِهِ، وَدَفْعُ ضَرَرِكَ أَنْ يُقْطَعَ شَجَرُكَ (فَقَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ: اذْهَبْ فَاقْطَعْ نَخْلَهُ) وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ الْأَنْصَارِيَّ بِقَطْعِ النَّخْلِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ سَمُرَةَ يُضَارُّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ غَرْسَهَا كَانَ بِالْعَارِيَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ) أَيِ: الْوَاقِعَ فِي الْمَصَابِيحِ (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا) أَيْ: مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ (بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ) أَيْ: فِي الْمِشْكَاةِ (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي صِرْمَةَ) بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ( «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ» ) كَذَا هُنَا فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ (فِي بَابِ مَا يَنْهِي مِنَ التَّهَاجُرِ) بِلَفْظِ «ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ سَهْوُ قَلَمٍ.

" الْفَصْلُ الثَّالِثُ " 3007 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمَاءُ وَالْمِلْحُ وَالنَّارُ، قَالَتْ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْمَاءُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا بَالُ الْمِلْحِ وَالنَّارِ؟ قَالَ: يَا حُمَيْرَاءُ مَنْ أَعْطَى نَارًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا أَنْضَجَتْ تِلْكَ النَّارُ وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَتْ تِلْكَ الْمِلْحُ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3007 - (عَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ) الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ جِنْسُهُ (قَالَ: الْمَاءُ وَالْمِلْحُ وَالنَّارُ، قَالَتْ: قَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْمَاءُ قَدْ عَرَفْنَاهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: " الْجُمْلَةُ حَالٌ وَعَامِلُهُ مَا فِي هَذَا مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ وَفِي صَاحِبِهَا خِلَافٌ قِيلَ: الْمُقَدَّرُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ الْمَجْرُورُ وَقِيلَ: الْخَبَرُ تَعْنِي قَدْ عَرَفْنَا حَالَ الْمَاءِ وَاحْتِيَاجَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ إِلَيْهِ وَتَضَرُّرَهَا بِالْمَنْعِ " (فَمَا بَالُ الْمِلْحِ وَالنَّارِ) أَيْ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَمْرُ الْمِلْحِ وَالنَّارِ (قَالَ: يَا حُمَيْرَاءَ) تَصْغِيرُ حَمْرَاءُ يُرِيدُ الْبَيْضَاءَ كَذَا قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: " نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ يَا حُمَيْرَاءُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ " هَذِهِ الْمَقَالَةُ لَا تَصِحُّ عَلَى عُمُومِهَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ اشْتِمَالِ الْحَدِيثِ عَلَى " يَا حُمَيْرَاءُ " لَا يَدُلُّ عَلَى الْوَضْعِ، نَعَمْ إِنْ وُجِدَ مَعَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى الْوَضْعِ يُحْكَمُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا اه وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كُلُّ حَدِيثٍ مُصَدَّرٍ بِيَا حُمَيْرَاءُ، وَقَدْ تَتَبَّعُوا تِلْكَ الْأَحَادِيثَ فَوَجَدُوهَا مَوْضُوعَةً وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ السِّمْنَانِيُّ: وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي تُرْوَى فِي تَسْمِيَتِهَا يَا حُمَيْرَاءُ (مَنْ أَعْطَى نَارًا) أَيِ لِلَّهِ تَعَالَى (فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا أَنْضَجَتْ تِلْكَ النَّارُ) أَيْ: طَبَخَتْهُ ( «وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَتْ تِلْكَ الْمِلْحُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَأَجَابَهَا بِمَا أَجَابَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: دَعِي عَنْكِ هَذَا وَانْظُرِي إِلَى مَنْ يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عِنْدَ الْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْحَقِيرِ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَنَّثَ ضَمِيرَ الْمِلْحِ فِي قَوْلِهِ طَيَّبَتْ وَتِلْكَ مُرَادًا بِهَا الْقِلَّةُ وَالنُّدْرَةُ ( «وَمَنْ يَسْقِي مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا» ) أَيِ: الْمُسْلِمَ عَلَى تَأْوِيلِ النَّفْسِ أَوِ النِّسَمَةَ وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وَإِنَّمَا أَتَى بِالْمَاءِ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَسْئُولٍ عَنْهُ رَدًّا لَهَا وَلِادِّعَائِهَا الْعِرْفَانَ بِشَأْنِهِ يَعْنِي إِنَّكِ لَسْتِ تَعْرِفِينَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ مُفَصَّلًا وَلِهَذَا أَخَّرَهُ أَيْضًا فِي الذِّكْرِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب العطايا]

[بَابُ الْعَطَايَا] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3008 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، إِنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهِ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ» . قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْعَطَايَا) جَمْعُ عَطِيَّةٍ وَالْمُرَادُ عَطَايَا الْأُمَرَاءِ وَصِلَاتُهُمْ، قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَبُولِ جَوَائِزِ السَّلَاطِينِ فِي هَذَا الزَّمَانِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ قَوْمٌ: كُلُّ مَا لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَرَامٌ فَلَهُ أَخْذُهُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْأَوْلَى أَنْ لَا يُؤْخَذَ مَا لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَلَالٌ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى أَمْوَالِ السَّلَاطِينِ الْحَرَامُ، وَالْحَلَالُ فِي أَيْدِيهِمْ مَعْدُومٌ وَعَزِيزٌ. قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ صِلَاتَ السَّلَاطِينِ تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَإِنَّمَا التَّبِعَةُ عَلَى الْمُعْطِي، قَالُوا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسَ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَاسْتَقْرَضَ مِنَ الْيَهُودِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (" {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] ") قَالُوا: وَقَدْ أَدْرَكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَيَّامَ الظَّلَمَةِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ، فَمِنْهُمْ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَحِلُّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْءٌ لَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِفَقِيرٍ إِذْ هُمْ مَوْسُومُونَ بِالظُّلْمِ وَالْغَالِبُ مِنْ مَالِهِمُ السُّحْتُ وَالْحَرَامُ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ فَيَلْزَمُ الِاجْتِنَابُ، وَقَالَ

آخَرُونَ: مَا لَا يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَرَامٌ فَهُوَ حَلَالٌ لِلْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ الْفَقِيرُ أَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الْغَصْبِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، إِلَّا لِيَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ، وَلَا حَرَجَ عَلَى الْفَقِيرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ، فَأُعْطِيَ الْفَقِيرُ فَلَهُ أَخْذُهُ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ فَيْءٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ فَلِلْفَقِيرِ فِيهِ حَقٌّ، وَكَذَلِكَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: مَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ طَائِعًا وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ظَاهِرًا فَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ سَنَةٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ. وَرُوِيَ: مِائَتَا دِينَارٍ إِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فِي الدُّنْيَا أَخَذَهَا فِي الْعُقْبَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَقِيرُ وَالْعَالِمُ يَأْخُذُ مِنْ حَقِّهِ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَ الْمَالُ مُخْتَلِطًا بِمَالٍ مَغْصُوبٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ أَوْ مَغْصُوبًا لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ وَوَرَثَتِهِ فَلَا مُخَلِّصَ لِلسُّلْطَانِ مِنْهُ إِلَّا بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَأْمُرَهُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرِ وَيَنْهِي الْفَقِيرَ عَنْ قَبُولِهِ أَوْ يَأْذَنَ الْفَقِيرُ فِي الْقَبُولِ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، فَإِذًا لِلْفَقِيرِ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا مِنْ عَيْنِ الْغَصْبِ وَالْحَرَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ. 3008 - (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَصَابَ) أَيْ: صَادَفَ فِي نَصِيبِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ (أَرْضًا بِخَيْبَرَ) أَيْ: فِيهَا نَخِيلًا نَفِيسًا (فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَجَاءَهُ (قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ قَطُّ) أَيْ: قَبْلَ هَذَا أَبَدًا (أَنْفَسَ) أَيْ: أَعَزَّ (عِنْدِي مِنْهُ) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (" وَلَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ ") بِفَتْحِ الْفَاءِ فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَجْوَدَ وَقَدْ نَفُسَ بِضَمِّ الْفَاءِ نَفَاسَةً وَاسْمُ هَذَا الْمَالِ ثَمْغٌ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ) أَيْ: فِيهِ فَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَهُ لِلَّهِ وَمَا أَدْرِي بِأَيِّ طَرِيقٍ أَجْعَلُهُ لَهُ (قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: وَقَفْتَ (أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا) أَيْ: بِغَلَّتِهَا وَحَاصِلِهَا مِنْ حُبُوبِهَا وَثِمَارِهَا فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ إِنَّهُ) أَيْ: عَلَى إِنَّهُ (لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُوَرَّثُ وَتَصَدَّقَ بِهَا) أَيْ: وَجَعَلَ الصَّدَقَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ غَلَّتِهَا (فِي الْفُقَرَاءِ) أَيْ: فُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ أَوْ أَهْلِ الصُّفَّةِ (وَفِي الْقُرْبَى) تَأْنِيثِ الْأَقْرَبِ كَذَا قِيلَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ وَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الإسراء: 26] وَالْمُرَادُ أَقَارِبُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَقْرِبَاءُ نَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ عُمُومُ فُقَرَائِهِمْ وَأَغْنِيَائِهِمْ (وَفِي الرِّقَابِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رَقَبَةٍ وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ أَيْ فِي أَدَاءِ دُيُونِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يَشْتَرِي بِهِ الْأَرِقَّاءَ وَيُعْتِقَهُمْ (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: مُنْقَطَعُ الْغُزَاةِ أَوِ الْحَاجِّ (وَابْنُ السَّبِيلِ) أَيْ: مُلَازِمُهُ وَهُوَ الْمُسَافِرُ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بِلَادِهِ (وَالضَّيْفُ لَا جُنَاحَ) أَيْ: لَا إِثْمَ (عَلَى مَنْ وَلِيَهَا) أَيْ: قَامَ بِحِفْظِهَا وَإِصْلَاحِهَا (أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ) بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ قُوتًا وَكُسْوَةً (أَوْ يُطْعِمَ) أَيْ: أَهْلَهُ أَوْ حَضَرَهُ (غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ) أَيْ: مُدَّخِرٍ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ وَلِيَهَا (قَالَ ابْنُ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا) أَيْ: غَيْرَ مُجْمِعٍ لِنَفْسِهِ مِنْهُ رَأْسَ مَالٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: " وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفَ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِشَوَائِبِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُوَرَّثُ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ فِيهِ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ، وَفِيهِ صِحَّةُ شُرُوطِ الْوَاقِفِ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْوَقْفِ وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ وَفَضِيلَةُ الْإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِبُّ وَفَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفَضِيلَةُ مُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ فِي الْأَمْرِ وَطُرُقِ الْخَيْرِ، وَفِيهِ أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ عُنْوَةً وَأَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوهَا وَاقْتَسَمُوهَا وَاسْتَمَرَّتْ أَمْلَاكُهُمْ عَلَى حِصَصِهِمْ وَفِيهِ فَضِيلَةُ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْوَقْفِ عَلَيْهِمْ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا وَلَمْ يُنَصِّبْ لَهُ قَيِّمًا مُعَيَّنًا جَازَ ; لِأَنَّهُ قَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهَا قَيِّمًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِوَقْفِهِ ; لِأَنَّهُ أَبَاحَ الْأَكْلَ لِمَنْ وَلِيَهُ وَقَدْ يَلِيهِ الْوَاقِفُ وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِلَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ: ارْكَبْهَا» ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَاشْتَرَاهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» - وَوَقَفَ أَنَسٌ دَارًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَقُولُ: الْأَنْسَبُ إِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْوَقْفِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3009 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3009 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعُمْرَى) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مِيمٍ وَفَتْحِ رَاءٍ بَعْدَهُ أَلِفٌ مَقْصُورَةٌ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: " وَحُكِيَ ضَمِّ الْمِيمِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ، وَحُكِيَ فَتْحِ أَوَّلِهِ مَعَ السُّكُونِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعُمْرِ، وَالرُّقْبَى بِوَزْنِهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ (جَائِزَةٌ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعُمْرَى قَوْلُ الْقَائِلِ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ أَوْ مَا عِشْتَ أَوْ مَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى "، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " أَيْ: جَعَلَ الدَّارَ لِلْمُعْمَرِ لَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ مَعَ شَرْطِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَى الْوَاهِبِ، وَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَهِيَ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: " قَالَ أَصْحَابُنَا: لِلْعُمْرَى ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ إِحْدَاهَا أَنْ يَقُولَ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِوَرَثَتِكَ أَوْ لِعَقِبِكَ، فَيَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، وَيَمْلِكُ رَقَبَةَ الدَّارِ، وَهِيَ هِبَةٌ. فَإِذَا مَاتَ فَالدَّارُ لِوَرَثَتِهِ وَإِلَّا فَلِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا تَعُودُ إِلَى الْوَاهِبِ بِحَالٍ، وَثَانِيَتُهَا: أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَاهُ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ صِحَّتُهُ وَلَهُ حُكْمُ الْحَالِ الْأُولَى، وَثَالِثَتُهَا: أَنْ يَقُولَ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ فَإِذَا مِتَّ عَادَتْ إِلَيَّ أَوْ إِلَى وَرَثَتِي، فَفِي صِحَّتِهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا صِحَّتُهُ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْأُولَى، وَاعْتَمَدُوا عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ، وَعَدَلُوا بِهِ عَنْ قِيَاسِ الشُّرُوطِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: " تَصِحُّ الْعُمْرَى الْمُطْلَقَةُ دُونَ الْمُؤَقَّتَةِ " وَقَالَ مَالِكٌ: " الْعُمْرَى فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ تَمْلِيكٌ لِمَنَافِعِ الدَّارِ مَثَلًا وَلَا يَمْلِكُ فِيهَا رَقَبَتَهَا بِحَالٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَذْهَبِنَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ: " «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ «الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْعُمْرَى اسْمٌ مِنْ أَعْمَرْتُكَ الشَّيْءَ أَيْ: جَعَلْتُهُ لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ مُمَلَّكَةٌ بِالْقَبْضِ كَسَائِرِ الْهِبَاتِ وَيُوَرَّثُ الْمُعْمَرُ مِنَ الْمُعْمِرِ لَهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْحَدِيثَيْنِ الْمُتَعَاقِبَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ خِلَافًا لِمَالِكٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُعْمِرِ، وَتَمَسَّكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ بَعْدَهُمَا، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَأْوِيلٌ حَدَّثَ بِهِ جَابِرٌ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ وَأَحَادِيثُهُ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.

3010 - وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3010 - (وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا» ) أَيْ: لِأَهْلِ الْعُمْرَى وَفِيهِ أَنَّ الْعُمْرَى تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: الْعُمْرَى تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ دُونَ الرَّقَبَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَفْظُهُ «الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَبِيلُهُمَا سَبِيلُ الْمِيرَاثِ» ، وَسَيَأْتِي مَعْنَى الرُّقْبَى وَحُكْمُهَا.

3011 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا لَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا ; لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3011 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (عُمْرَى) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (لَهُ) مُتَعَلِّقٌ بِأُعْمِرَ وَالضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ (وَلِعَقِبِهِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَقِيلَ بِسُكُونِهَا (فَإِنَّهَا) أَيِ الْعُمْرَى (لِلَّذِي أُعْطِيَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لَا تَرْجِعُ) : بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ وَقِيلَ بِالتَّذْكِيرِ أَيْ: لَا تَصِيرُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا لِأَنَّهُ أَعْطَى بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَقِيلَ بِالْمَفْعُولِ (عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَارِثِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَلَا تَرْجِعُ إِلَى الدَّافِعِ كَمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْعَقِبَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَرْجِعُ إِلَى الْمُعْطِي إِنْ كَانَ حَيًّا وَإِلَى وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا إِذَا لَمْ يَذْكُرْ عَقِبَهُ، قِيلَ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوَرَّثُ بَلْ تَرْجِعُ إِلَى الْمُعْمِرِ، وَالْقَوْلُ الْمَنْقُولُ عَنْ جَابِرٍ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3012 - وَعَنْهُ قَالَ: «إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3012 - وَ (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ مَوْقُوفًا (قَالَ «إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا» ) : قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعُمْرَى جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقٍ مُمَلَّكَةٌ بِالْقَبْضِ كَسَائِرِ الْهِبَاتِ وَيُوَرَّثُ الْمُعْمِرُ مِنَ الْمُعْمَرِ لَهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ سَوَاءٌ أَطْلَقَ أَمْ أَرْدَفَ بِأَنَّهُ لِعَقِبِكَ أَوْ وَرِثَتِكَ بَعْدَكَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا» " أَيْ: لِلْمُعْمَرِ لَهُ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ، وَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَقُلْ: هُوَ لِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ لَمْ يُوَرَّثْ مِنْهُ بَلْ يَعُودُ بِمَوْتِهِ إِلَى الْمُعْمِرِ وَيَكُونُ تَمْلِيكًا لِلْمَنْفَعَةِ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ ثَانِيًا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ " الْحَدِيثَ فَإِنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ أَيُّمَا وَالتَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُعْمَرْ لَهُ كَذَلِكَ لَمْ يُوَرَّثْ مِنْهُ الْعُمْرَى، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى الْمُعْطِي وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ. ثَالِثًا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ إِلَخْ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَفْهُومِ وَالْقَوْلِ بِعُمُومِهِ وَجَوَازِ تَخْصِيصِ الْمَنْطُوقِ، وَالْخِلَافُ مَا حَقَّ فِي الْكُلِّ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ تَأْوِيلٌ وَقَوْلٌ صَدَرَ عَنْ رَأْيِ جَابِرٍ وَاجْتِهَادِهِ فَلَا احْتِجَاجَ فِيهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 3013 - عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُرْقِبُوا وَلَا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3013 - (عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُرْقِبُوا) : مِنَ الْإِرْقَابِ بِمَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ وَالِاسْمُ الرُّقْبَى وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: وَهَبْتُ لَكَ دَارِي فَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهِيَ لَكَ، فِعْلٌ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ كَذَا فِي تَلْخِيصِ النِّهَايَةِ، ثُمَّ الرُّقْبَى لَا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَتَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَلَا تُعْمِرُوا) : مِنِ الْإِعْمَارِ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: هَذَا نَهْيُ إِرْشَادٍ يَعْنِي لَا تَهِبُوا أَمْوَالَكُمْ مُدَّةً ثُمَّ تَأْخُذُونَهَا، بَلْ إِذَا وَهَبْتُمْ شَيْئًا زَالَ عَنْكُمْ وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْكُمْ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوِ الْعُمْرَى أَوِ الرُّقْبَى، وَالرُّقْبَى اسْمٌ مِنْ أَرْقَبَ الرَّجُلُ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ وَهَبْتُ لَكَ كَذَا عَلَى إِنْ مِتُّ قَبْلَكَ اسْتَقَرَّ عَلَيْكَ وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَ إِلَيَّ، وَأَصْلُهُ الْمُرَاقَبَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ (فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا (فَهِيَ) أَيِ: الْعُمْرَى أَوِ الرُّقْبَى الْمَفْهُومَيْنِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ وَهِيَ، وَالظَّاهِرُ فَهُوَ أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءُ (لِوَرَثَتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الضَّمِيرُ لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَكَذَا الْمُرَادُ بِأَهْلِهَا وَالْفَاءُ فِي " فَمَنْ أُرْقِبَ " تَسَبُّبٌ لِلنَّهْيِ وَتَعْلِيلٌ لَهُ يَعْنِي لَا تُرْقِبُوا وَلَا تُعْمِرُوا ظَنًّا مِنْكُمْ وَاغْتِرَارًا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ لِلْمُعْمَرِ لَهُ فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ فَهُوَ لِوَرَثَةِ الْمُعْمَرِ لَهُ فَعَلَى هَذَا يَتَحَقَّقُ إِصَابَةُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي أَنَّ الْعُمْرَى لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَأَنَّهُ يَمْلِكُهَا مِلْكًا تَامًّا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَتَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ، وَيَنْصُرُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ وَفِي النِّهَايَةِ: " كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَهُ الشَّارِعُ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ أُرْقِبَهُ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ " وَقَدْ تَعَاضَدَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى ذَلِكَ وَالْفُقَهَاءُ فِيهَا مُخْتَلِفُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَيَجْعَلُونَهَا تَمْلِيكًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا كَالْعَارِيَةِ وَيَتَأَوَّلُ الْحَدِيثَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3014 - وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3014 - (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا وَالْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» .

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3015 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَمْسِكُوا أَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ لَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3015 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمْسِكُوا أَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ لَا تُفْسِدُوهَا» ) : هَذَا النَّهْيُ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (حَيًّا) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُهَا وَلَهُ بَيْعُهَا وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ (وَمَيِّتًا) أَيْ: دَيْنًا وَوَصِيَّةً وَوَقْفًا (وَلِعَقِبِهِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْعُمْرَى هِبَةٌ صَحِيحَةٌ مَاضِيَةٌ يَمْلِكُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ مِلْكًا تَامًّا لَا تَعُودُ إِلَى الْوَاهِبِ أَبَدًا، وَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ فَمَنْ شَاءَ أَعْمَرَ وَدَخَلَ فِيهَا عَلَى بَصِيرَةٍ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهَا كَالْعَارِيَةِ يَرْجِعُ فِيهَا، وَهَذَا دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافَقِيهِ " اه وَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

بَابٌ " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ " 3016 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرِّيحِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابٌ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) بِالرَّفْعِ مُنَّوْنًا وَبِالسُّكُونِ. 3016 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ) أَيْ: أُعْطِيَ (رَيْحَانٌ) وَهُوَ كُلُّ نَبْتٍ طَيِّبِ الرِّيحِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشْمُومِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (فَلَا يَرُدُّهُ) : بِضَمِّ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ وَفَتْحِهَا، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " قَالَ عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رِوَايَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِفَتْحِ الدَّالِ قَالَ: وَأَنْكَرَهُ مُحَقِّقُو شُيُوخِنَا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: وَهَذَا غَلَطٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَصَوَابُهُ ضَمُّ الدَّالِ قَالَ: وَوَجَدْتُهُ بِخَطِّ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ بِضَمِّ الدَّالِ وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهَ، وَهَذَا فِي الْمُضَاعَفِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْهَاءُ أَنْ يُضَمَّ مَا قَبْلَهَا فِي الْأَمْرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَجْزُومِ مُرَاعَاةً لِلْوَاوِ الَّتِي تُوجِبُهَا ضَمَّةُ الْهَاءِ بَعْدَ مَا، وَلَا يَكُونُ مَا قَبْلَ الْوَاوِ إِلَّا مَضْمُومًا هَذَا فِي الْمُذَكَّرِ، وَأَمَا الْمُؤَنَّثُ مِثْلَ رَدَّهَا وَحْدَهَا فَمَفْتُوحُ الدَّالِ مُرَاعَاةً لِلْأَلْفِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي "، وَأَمَّا رَدَّهَا وَنَظَائِرُهُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ فَفَتْحَةُ الدَّالِ لَازِمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا رَدُّهُ وَنَحْوُهُ لِلْمُذَكَّرِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَفْصَحُهَا: وُجُوبُ الضَّمِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: الْكَسْرُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثُ: الْفَتْحُ وَهُوَ أَضْعَفُ اه كَلَامُهُ، وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الزَّنْجَانِيِّ: إِذَا اتَّصَلَ بِالْمَجْزُومِ حَالَ الْإِدْغَامِ هَاءُ الضَّمِيرِ لَزِمَ وَجْهٌ وَاحِدٌ نَحْوُ رَدَّهَا بِالْفَتْحِ وَرَدُّهُ بِالضَّمِّ عَلَى الْأَفْصَحِ، وَرُوِيَ رَدِّهِ بِالْكَسْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ اه. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَتْحَ هُوَ الْفَصِيحُ الْمُقَابَلُ بِالْأَفْصَحِ لَكِنَّهُ يُخَالِفُ مَا فِي الشَّافِيَةِ مِنْ أَنَّ الْكَسْرَ لُغَةٌ، وَغَلِطَ ثَعْلَبٌ فِي جَوَازِ الْفَتْحِ اه وَلَكِنَّ الْمُحَقِّقِينَ إِنَّمَا نَسَبُوا الْفَتْحَ إِلَى الْغَلَطِ مَعَ أَنَّهُ وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ صِيَانَةً لِحَمْلِ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى غَيْرِ الْأَفْصَحِ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

" «أَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بِيدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ» " وَيُمْكِنُ أَنْ يَعْتَذِرَ عَنِ اخْتِيَارِ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ أَنَّهُ أَخَفُّ لِيَكُونَ نَصًّا عَلَى النَّهْيِ، فَإِنَّ الضَّمَّ يَحْتَمِلُ النَّفْيَ وَالنَّهْيَ بَلِ الْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ فَتَأْمَلْ. وَمَعَ هَذَا فَالرَّفْعُ أَرْفَعُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ النَّهْيِ فَلِمُوَافَقَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ النَّفْيِ فَلِلطَّرِيقَةِ الْأَبْلَغِيَّةِ ; لِأَنَّ النَّفْيَ مِنَ الشَّارِعِ آكَدُ فِي النَّهْيِ مِنَ النَّهْيِ صَرِيحًا (فَإِنَّهُ) أَيِ: الرَّيْحَانَ أَوْ إِعْطَاءَهُ أَوْ قَبْضَهُ وَأَخْذَهُ (خَفِيفُ الْمَحْمَلِ) أَيْ: قَلِيلُ الْمِنَّةِ (طَيِّبُ الرِّيحِ) : فَإِنَّهُ يُشَمُّ مِنْهُ رِيحُ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي حَدِيثٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ رَدِّ الْهَدِيَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهَدِيَّةَ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً وَتَتَضَمَّنُ نَفْعًا مَا فَلَا تَرُدُّوهَا لِئَلَّا يَتَأَذَّى الْمُهْدِي اه وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حِفْظِ قُلُوبِ النَّاسِ بِقَبُولِ هَدَايَاهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ: تَهَادُوا تَحَابُّوا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.

3017 - وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3017 - (وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ» ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

3018 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3018 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» ) : شَبَّهَهُ بِالْقَبِيحِ الطَّبْعِيِّ الْحِسِّيِّ (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ قِيلَ أَيْ: لِأَهْلِ مِلَّتِنَا أَنْ يَفْعَلَ بِمَا يُمَثَّلُ بِهِ مَثَلُ السَّوْءِ، وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَيْ: لَا يَنْبَغِي لَنَا، يُرِيدُ بِهِ نَفْسَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَنْ نَتَّصِفَ بِصِفَةٍ ذَمِيمَةٍ يُسَاهِمُنَا فِيهَا أَخَسُّ الْحَيَوَانَاتِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهَا، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَثَلُ فِي الصِّفَةِ الْغَرِيبَةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ سَوَاءٌ كَانَ صِفَةَ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْمَوْهُوبِ بَعْدَ مَا قَبَضَ الْمُتَّهِبُ " قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " هَذَا الْمَثَلُ ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بَعْدَ إِقْبَاضِهِمَا وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ لَا مَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَآخَرُونَ: يَرْجِعُ كُلُّ وَاهِبٍ إِلَّا الْوَالِدَ وَكُلَّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ يَرَى الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ أَنَّهُ عَلَى التَّنْزِيهِ وَكَرَاهَةِ الرُّجُوعِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَيَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَرَادَ شِرَاءَ فَرَسٍ حَمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا تَبْتَعْهُ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» ، قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مُوجِبًا حُرْمَةَ ابْتِيَاعِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا حُرْمَةَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ اه وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِمَا فِيهِ التَّعَجُّبُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

3019 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، «أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا فَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَرْجِعْهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبَرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا إِذًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ قَالَ: «أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى يَشْهَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلِدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ. قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3019 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) : بِضَمِّ النُّونِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِلْأَنْصَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، قِيلَ: مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ ثَمَانِ سِنِينَ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ وَلِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ (أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: وَهَبْتُ وَأَعْطَيْتُ (ابْنِي هَذَا غُلَامًا) أَيْ: عَبْدًا قَالَ فِي النِّهَايَةِ: النَّحْلُ الْعَطِيَّةُ وَالْهِبَةُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا اسْتِحْقَاقٍ (فَقَالَ: آكُلَّ وَلَدِكَ) : بِنَصْبِ كُلَّ (نَحَلْتَ مِثْلَهُ) أَيْ: مِثْلَ هَذَا الْوَلَدِ دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي الْعَطِيَّةِ (قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَرْجِعْهُ) أَيِ: الْغُلَامَ أَوْ رُدُّهُ إِلَيْكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ اسْتَرِدِّ الْغُلَامَ وَهَذَا لِلْإِرْشَادِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْأَوْلَى (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا (أَنَّهُ قَالَ: أَيَسُرُّكَ) أَيْ: أَيُعْجِبُكَ وَيَجْعَلُكَ مَسْرُورًا (أَنْ يَكُونُوا) أَيْ: أَوْلَادُكَ جَمِيعًا (إِلَيْكَ فِي

الْبَرِّ سَوَاءً) أَيْ: مُسْتَوِينَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْكَ وَفِي تَرْكِ الْعُقُوقِ عَلَيْكَ وَفِي الْأَدَبِ وَالْحُرْمَةِ وَالتَّعْظِيمِ لَدَيْكَ، (قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا) أَيْ: فَلَا تُعْطِ أَيِ: الْغُلَامَ لَهُ وَحْدَهُ أَوْ فَلَا تُعْطِ بَعْضَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ (إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ أَيْ: إِذَا كُنْتَ تُرِيدُ ذَلِكَ (وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ) أَيِ: النُّعْمَانُ (أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا وَهِيَ أُمُّهُ (لَا أَرْضَى) أَيْ: بِهَذِهِ الْعَطِيَّةِ لِوَلَدِي (حَتَّى يَشْهَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: تَجْعَلَهُ شَاهِدًا عَلَى الْقَضِيَّةِ (فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَجَاءَهُ أَبِي ( «قَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا» ) أَيْ: بَاقِي أَوْلَادِكَ مِثْلَ هَذَا الْإِعْطَاءِ وَهُوَ بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ (قَالَ: لَا، قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ) أَيْ: حَقَّ تَقْوَاهُ أَيْ: مَا اسْتَطَعْتُمْ (وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ) : وَفِي خِطَابِ الْعَامِ إِشَارَةٌ إِلَى عُمُومِ الْحُكْمِ (قَالَ) : فَانْصَرَفَ أَبِي مِنْ عِنْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ) أَيْ: إِلَى نَفْسِهِ أَوْ فَرَجَعَ فِي هِبَتِهِ، وَقَوْلُهُ: فَرَدَّ تَفْسِيرٌ لَهُ وَفِيهِ جَوَازُ رُجُوعِ الْوَالِدِ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» ) أَيْ: ظُلْمٍ أَوْ مَيْلٍ فَمَنْ لَا يَجَوِّزُ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ يُفَسِّرُهُ بِالْأَوَّلِ وَمَنْ يُجَوِّزُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ يُفَسِّرُهُ بِالثَّانِي، قَالَ النَّوَوِيُّ: " فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْهِبَةِ فَلَا يُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَلَوْ وَهَبَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَالْهِبَةُ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُمْ: هُوَ حَرَامٌ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» ، وَبِقَوْلِهِ: وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا وَبَاطِلًا لَمَا قَالَ هَذَا، وَبِقَوْلِهِ: فَأَرْجِعْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نَافِذًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الرُّجُوعِ، فَإِنْ قِيلَ: قَالَهُ تَهْدِيدًا، قُلْنَا: الْأَصْلُ خِلَافُهُ، وَيَحْمِلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ صِيغَةَ أَفْعِلْ عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى الْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا مَعْنَى الْجَوْرِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَيْلُ عَنْ الِاسْتِوَاءِ وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ الِاعْتِدَالِ فَهُوَ جَوْرٌ، سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي النِّحَلِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ حَتَّى فِي الْقُبْلَةِ، وَلَوْ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ نَفَذَ. وَقَدْ فَضَّلَ أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَسْقًا نَحَلَهَا إِيَّاهَا دُونَ سَائِرِ أَوْلَادِهِ، وَفَضَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَاصِمًا فِي عَطَائِهِ، وَفَضَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَلَدَ أُمِّ كُلْثُومٍ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَرَّرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 3020 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرْجِعُ أَحَدٌ فِي هِبَتِهِ إِلَّا الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3020 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَرْجِعُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ مَعْنَاهُ فِي كَذَا، قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ (أَحَدٌ فِي هِبَتِهِ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ، أَصْلُهَا وَهْبَةٌ (إِلَّا الْوَالِدَ مِنْ وَلَدِهِ) : قِيلَ: دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الرُّجُوعِ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّهُ وَمَالَهُ لَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إِلَّا لِلْوَلَدِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَدِ يَكُونُ الْمُرَادُ نَفِيَ الِانْفِرَادِ أَيْ: لَا يَنْفَرِدْ وَلَا يَسْتَقِلَّ أَحَدٌ بِالرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا تَرَاضٍ إِلَّا الْوَالِدَ فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ إِذَا احْتَاجَ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3021 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ حَتَّى إِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3021 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ثُمَّ يَرْجِعَ» ) : الظَّاهِرُ النَّصْبُ لَكِنْ وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِالرَّفْعِ ذَكَرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا مَيْرَكُ شَاهْ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الرَّفْعِ تَقْدِيرُ هُوَ وَالضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ (فِيهَا) أَيْ: فِي عَطِيَّتِهِ (إِلَّا الْوَالِدَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجُلِ لِلْجِنْسِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ إِلَخْ وَبِظَاهِرِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَحِلُّ لَهُ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً فَيَكُونُ مَكْرُوهًا لَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ قَضَاءً وَحُكْمًا كَمَا فِي خَبَرِ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ طَاوِيًا» أَيْ: خَالِي الْبَطْنِ جَائِعًا أَيْ: لَا يَلِيقُ ذَلِكَ لَهُ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً وَإِنْ كَانَ جَائِزًا قَضَاءً وَحُكْمًا (وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ) أَيْ: لِغَيْرِ وَلَدِهِ (ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ) أَيِ: اسْتَمَرَّ عَلَى أَكْلِ شَيْءٍ (حَتَّى إِذَا شَبِعَ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ) : قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الْحَدِيثُ كَمَا تَرَى نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الرُّجُوعِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا وَهَبَ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَعَكَسَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالُوا: لَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ مَحَارِمِهِ وَلِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا وَهَبَ لِلْآخَرِ وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَ لِلْأَجَانِبِ، وَجَوَّزَ مَالِكٌ الرُّجُوعَ مُطْلَقًا إِلَّا فِي هِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَأَوَّلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَحِلُّ مَعْنَاهُ التَّحْذِيرُ عَنِ الرُّجُوعِ لَا نَفْيَ الْجَوَازِ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِكَ لَا يَحِلُّ لِلْوَاجِدِ رَدُّ السَّائِلِ، وَقَوْلَهُ: إِلَّا الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ وَيَتَصَرَّفَ فِي نَفَقَتِهِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ وَقْتَ حَاجَتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ اسْتِيفَاءً لِحَقِّهِ مِنْ مَالِهِ لَا اسْتِرْجَاعًا لِمَا وَهَبَ وَنَقْضًا لِلْهِبَةِ وَهُوَ مَعَ بُعْدِهِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِلَا دَلِيلٍ، أَقُولُ: الْمُجْتَهِدُ أَسِيرُ الدَّلِيلِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّأْوِيلِ، قَالَ: وَمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ جَازَتْ وَمَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ أَقْبَلَ تَأْوِيلًا، وَأَوْلَى بِأَنْ يُؤَوَّلَ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ بَيْنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْهِبَةِ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْأَجَانِبِ فِي اقْتِضَاءِ الثَّوَابِ وَأَنَّ مَنْ وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ طَمَعًا فِي ثَوَابٍ فَلَمْ يُثِبْهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ صَرِيحًا، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ يَقْرُبُ مِنْهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى لُزُومَ الثَّوَابِ أَصْلًا فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهِ؟ قُلْتُ: لَا بِدَعَ أَنْ يَقُولَ بِعَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ عِنْدَ حُصُولِ الثَّوَابِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى لُزُومَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمَّا تَقَرَّرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْهِبَةِ مَذْمُومٌ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَوْ لَا يَسْتَقِيمُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّصِفُوا بِهَذَا الْمَثَلِ السُّوءِ، وَسَبَقَ أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جَاءَ مُؤَكِّدًا لَهُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ مِنَ الْأَوْلَادِ أَيْضًا وَيَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ وَمَالُهُ لَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] ، أَيِ: الَّذِي وُلِدَ لَهُ وَكَأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» ، وَرُبَّمَا تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ الرُّجُوعَ تَأْدِيبًا وَسِيَاسَةً لِلْوَلَدِ لِمَا يَرَى مِنْهُ مَا لَا يَرْضَاهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَالْأَخْصَرُ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ (وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: حَكَمَ بِأَنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ.

3022 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكْرَةً فَعَوَّضَهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ فَتَسَخَّطَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فَلَانًا أَهْدَى إِلَيَّ نَاقَةً فَعَوَّضْتُهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ فَظَلَّ سَاخِطًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3022 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا) أَيْ: بَدَوِيًّا (أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكْرَةً) : الْبَكْرُ بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ فَسُكُونِ كَافٍ فَتِيٌّ مِنِ الْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ غُلَامٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَعَوَّضَهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ (فَتَسَخَّطَ) أَيْ: أَظْهَرَ الْأَعْرَابِيُّ السُّخْطَ وَالْغَضَبَ وَاسْتَقَلَّ إِعْطَاءَهُ لِأَنَّ طَمْعَهُ فِي الْجَزَاءِ كَانَ أَكْثَرَ لِمَا سَمِعَ مِنْ جُودِهِ وَفَيْضِ وُجُودِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَبَلَغَ ذَلِكَ) أَيْ: سُخْطُهُ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: بِالشُّكْرِ الْجَزِيلِ (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أَيْ: بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا) : كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِهِ وَلَعَلَّ التَّصْرِيحَ بِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّتِهِ (أَهْدَى إِلَيَّ نَاقَةً فَعَوَّضْتُهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ فَظَلَّ) أَيْ: أَصْبَحَ أَوْ صَارَ (سَاخِطًا، لَقَدْ هَمَمْتُ) : جَوَابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَصَدْتُ (أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً) أَيْ: مِنْ أَحَدٍ (إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ) : نِسْبَةً إِلَى قُرَيْشٍ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ (أَوْ أَنْصَارِيٍّ) أَيْ: مَنْسُوبٍ إِلَى قَوْمٍ مُسَمًّى بِالْأَنْصَارِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ (أَوْ ثَقَفِيٍّ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْقَافِ نِسْبَةً إِلَى ثَقِيفٍ قَبِيلَةٍ مَشْهُورَةٍ (أَوْ دَوْسِيٍّ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ نِسْبَةً إِلَى دَوْسٍ بَطْنٍ مِنَ الْأَزَدِ أَيْ: إِلَّا مِنْ قَوْمٍ فِي طَبَائِعِهِمُ الْكَرَمُ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " كَرِهَ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَيْهَا طَلَبَ الِاسْتِكْثَارِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَذْكُورِينَ فِيهِ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِمَا عُرِفَ فِيهِمْ مِنْ سَخَاوَةِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْأَعْوَاضِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَأَخَسِّهَا وَلِذَلِكَ عَرَّضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَبَائِلِ وَحُسْنِ أَخْلَاقِهَا إِنَّ قَبِيلَةَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ عَلَى خِلَافِهَا، وَنَهَى اللَّهُ حَبِيبَهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] الْكَشَّافِ، أَيْ: لَا تُعْطِ طَالِبًا لِلتَّكْثِيرِ نَهْيٌ عَنْ الِاسْتِعْرَارِ وَهُوَ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يَتَعَوَّضَ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْهُوبِ وَهَذَا جَائِزٌ وَمِنْهُ الْمُسْتَعْرِرُ ثِيَابَ مَنْ وَهَبْتَهُ وَهَذَا النَّهْيُ إِمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ مُخْتَصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَهْيُ تَنْزِيهٍ فَلَهُ وَلِأُمَّتِهِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " اخْتَلَفُوا فِي الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الثَّوَابُ فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِنَّهَا تَقْتَضِي الثَّوَابَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ النَّاسَ فِي طَيِّبَاتٍ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: هِبَةُ الرَّجُلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فَهُوَ إِكْرَامٌ وَإِلْطَافٌ لَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ وَكَذَلِكَ هِبَةُ النَّظِيرِ مِنَ النَّظِيرِ، وَأَمَّا هِبَةُ الْأَدْنَى مِنَ الْأَعْلَى فَتَقْتَضِي الثَّوَابَ لِأَنَّ الْمُعْطِي يَقْصِدُ بِهِ الرِّفْدَ وَالثَّوَابَ ثُمَّ قُدِّرَ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَقِيلَ: قَدْرُ قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ وَقِيلَ: حَتَّى يَرْضَى الْوَاهِبُ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْهِبَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَقْتَضِي الثَّوَابَ سَوَاءٌ وَهَبَ لِنَظِيرِهِ أَوْ لِمَنْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ، وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ الثَّوَابَ فَإِذَا لَمْ يُثِبْ كَانَ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

3023 - عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيُجْزِ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3023 - (عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أُعْطِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَطَاءً) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ عَطِيَّةً وَفِي رِوَايَةٍ شَيْئًا فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ (فَوَجَدَ) أَيْ: سَعَةً مَالِيَّةً (فَلْيُجْزِ) بِسُكُونِ الْجِيمِ أَيْ: فَلْيُكَافِئْ (بِهِ) أَيْ: بِالْعَطَاءِ (وَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أَيْ: سِعَةً مِنَ الْمَالِ (فَلْيُثْنِ) بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ بِهِ أَيْ: فَلْيَمْدَحْهُ أَوْ فَلْيَدْعُ لَهُ (فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى) وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنْ أَثْنَى بِهِ (فَقَدْ شَكَرَ) وَفِي رِوَايَةٍ شَكَرَهُ أَيْ: جَازَاهُ فِي الْجُمْلَةِ (وَمَنْ كَتَمَ) أَيِ: النِّعْمَةَ بِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ بِالْعَطَاءِ أَوِ الْمَجَازِ اه بِالثَّنَاءِ (قَدْ كَفَرَ) أَيِ: النِّعْمَةَ مِنَ الْكُفْرَانِ أَيْ: تَرَكَ أَدَاءَ حَقِّهِ وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ (وَمَنْ تَحَلَّى) أَيْ: تَزَيَّنَ وَتَلَبَّسَ (بِمَا لَمْ يُعْطَ) بِفَتْحِ الطَّاءِ (كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ) وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّهُ كَلَابِسِ زُورٍ أَيْ: كَمَنْ كَذَبَ كَذِبَيْنِ أَوْ أَظْهَرَ شَيْئَيْنِ كَاذِبَيْنِ، قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَتَشَبَّعَ بِمَا لَمْ يُعْطِنِي زَوْجِي» أَيْ: أُظْهِرُ الشِّبَعَ، فَأَحَدُ الْكَذِبَيْنِ قَوْلُهَا أَعْطَانِي زَوْجِي وَالثَّانِي إِظْهَارُهَا أَنَّ زَوْجِي يُحِبُّنِي أَشَدَّ مِنْ ضَرَّتِي، قَالَ الْخَطَابِيُّ: " كَانَ رَجُلٌ فِي الْعَرَبِ يَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ مِنْ ثِيَابِ الْمَعَارِفِ لِيَظُنَّهُ النَّاسُ أَنَّهُ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ مُحْتَرَمٌ لِأَنَّ الْمَعَارِيفَ لَا يَكْذِبُونَ فَإِذَا رَآهُ النَّاسُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى قَوْلِهِ وَشَهَادَتِهِ عَلَى الزُّورِ لِأَجْلِ تَشْبِيهِ نَفْسِهِ بِالصَّادِقِينَ، وَكَانَتْ ثَوْبَاهُ سَبَبَ زُورِهِ فَسُمِّيَا ثَوْبَ زُورٍ أَوْ لِأَنَّهُمْ لُبِسَا لِأَجْلِهِ وَثُنِّيَ بِاعْتِبَارِ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ فَشَبَّهَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ "، وَفِي النِّهَايَةِ: " الْحُلِيُّ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْمُرَائِي يَلْبَسُ ثِيَابَ الزُّهَّادِ وَيَرَى أَنَّهُ زَاهِدٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَنْ يَلْبَسَ قَمِيصًا يَصِلُ بِكُمَّيْهِ كُمَّيْنِ آخَرَيْنِ يَرَى أَنَّهُ لَابِسُ قَمِيصَيْنِ فَكَأَنَّهُ يَسْخَرُ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَاذِبِ الْقَائِلِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَقِيلَ: إِنَّمَا شَبَّهَ بِالثَّوْبَيْنِ لِأَنَّ الْمُتَحَلِّي كَذَبَ كَذِبَيْنِ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَةٍ لَيْسَتْ فِيهِ وَوَصَفَ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ خَصَّهُ بِصِلَةٍ فَجَمَعَ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ كَذِبَيْنِ، أَقُولُ: وَكَذَا الْقَوْلُ تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِسَبَبِ وُرُودِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يُعْطَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ كَانَ مُزَوِّرًا مَرَّتَيْنِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

3024 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3024 - (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ حِبِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُحْسِنَ إِلَيْهِ (مَعْرُوفٌ) وَفِي نُسْخَةٍ مَعْرُوفًا بِالنَّصْبِ أَيْ: أُعْطِيَ عَطَاءً (قَالَ لِفَاعِلِهِ) أَيْ: بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ إِثَابَتِهِ أَوْ مُطْلَقًا (جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا) أَيْ: خَيْرَ الْجَزَاءِ أَوْ أَعْطَاكَ خَيْرًا مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ) أَيْ: بَالَغَ فِي أَدَاءِ شُكْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالتَّقْصِيرِ وَأَنَّهُ مِمَّنْ عَجَزَ عَنْ جَزَائِهِ وَثَنَائِهِ فَفَوَّضَ جَزَاءَهُ إِلَى اللَّهِ لِيَجْزِيَهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

3025 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3025 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» ) قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَهَذَا إِمَّا لِأَنَّ شُكْرَهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَتِمُّ بِمُطَاوَعَتِهِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَأَنَّ مِمَّا أَمَرَ بِهِ شُكْرَ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ وَسَائِطُ فِي إِيصَالِ نِعَمِ اللَّهِ إِلَيْهِ فَمَنْ لَمْ يُطَاوِعْهُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا شُكْرَ نِعَمِهِ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِشُكْرِ مَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ نِعْمَةً مِنَ النَّاسِ مَعَ مَا يَرَى مِنْ حِرْصِهِ عَلَى حُبِّ الثَّنَاءِ وَالشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَتَأَذِّيهِ بِالْإِعْرَاضِ وَالْكُفْرَانِ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَتَهَاوَنَ فِي شُكْرِ مَنْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الشُّكْرُ وَالْكُفْرَانُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.

3026 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، فَقَالَ: لَا مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3026 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ) أَيْ: حِينَ جَاءَهَا أَوَّلَ قُدُومِهِ (أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ) أَيْ: بَعْدَ مَا قَامَ الْأَنْصَارُ بِخِدْمَتِهِمْ وَإِعْطَائِهِمْ أَنْصَافَ دُورِهِمْ وَبَسَاتِينِهِمْ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ طَلَّقَ أَحْسَنَ نِسَائِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] (فَقَالُوا) أَيِ: الْمُهَاجِرُونَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ) أَيْ: مِنْ مَالٍ (وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ) أَيْ: مِنْ مَالٍ قَلِيلٍ (مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ) أَيْ: عِنْدِهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَحْسَنُوا إِلَيْنَا سَوَاءٌ كَانُوا كَثِيرِي الْمَالِ أَوْ فَقِيرِي الْحَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجَارَانِ أَعْنِي قَوْلَهُ مِنْ قَلِيلٍ هُوَ الْمُفَضَّلُ وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْأَنْصَارُ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ إِلَيْهِ لِيَدُلَّ التَّنْكِيرُ عَلَى التَّفْخِيمِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ التَّالِيَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ لِأَنَّ التَّبْيِينَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَبْلَغُ (لَقَدْ كَفَوْنَا) مِنَ الْكِفَايَةِ (الْمُؤْنَةَ) أَيْ: تَحَمَّلُوا عَنَّا مُؤْنَةَ الْخِدْمَةِ فِي عِمَارَةِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ وَغَيْرِهِمَا (وَأَشْرَكُونَا) أَيْ: مِثْلَ الْإِخْوَانِ (فِي الْمَهْنَأِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ وَهَمْزٍ فِي آخِرِهِ مَا يَقُومُ بِالْكِفَايَةِ فِي إِصْلَاحِ الْمَعِيشَةِ، وَقِيلَ: مَا يَأْتِيكَ بِلَا تَعَبٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمَعْنَى أَشْرَكُونَا فِي ثِمَارِ نَخِيلِهِمْ وَكَفَوْنَا مُؤْنَةَ سَقْيِهَا وَإِصْلَاحِهَا وَأَعْطَوْنَا نِصْفَ ثِمَارِهِمْ، وَقَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُونَ بِهِ مَا أَشْرَكُوهُمْ فِيهِ مِنْ زُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ (لَقَدْ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: حَتَّى لَقَدْ (خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا) أَيِ: الْأَنْصَارُ (بِالْأَجْرِ كُلِّهِ) أَيْ: بِأَنْ يُعْطِيَهُمُ اللَّهُ أَجْرَ هِجْرَتِنَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَجْرَ عِبَادَتِنَا كُلِّهَا مِنْ كَثْرَةِ إِحْسَانِهِمْ إِلَيْنَا (قَالَ: لَا) أَيْ: يَذْهَبُونَ بِكُلِّ الْأَجْرِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسْعٌ فَلَكُمْ ثَوَابُ الْعِبَادَةِ وَلَهُمْ أَجْرُ الْمُسَاعَدَةِ (مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ) أَيْ: مَادُمْتُمْ تَدْعُونَ لَهُمْ بِخَيْرٍ فَإِنَّ دُعَاءَكُمْ يَقُومُ بِحَسَنَاتِهِمْ إِلَيْكُمْ، وَثَوَابُ حَسَنَاتِكُمْ رَاجِعٌ عَلَيْكُمْ وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَعْنِي إِذَا حَمَلُوا الْمَشَقَّةَ وَالتَّعَبَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَشْرَكُونَا فِي الرَّاحَةِ وَالْمَهْنَأِ فَقَدْ أَحْرَزُوا الْمَثُوبَاتِ فَكَيْفَ نُجَازِيهِمْ؟ فَأَجَابَ: لَا، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ شُكْرًا لِصَنِيعِهِمْ وَدُمْتُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ جَازَيْتُمُوهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

3027 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَهَادُوا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ الضَّغَائِنَ» ، رَوَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3027 - (عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تَهَادُوا) بِضَمِّ الدَّالِ أَمْرٌ مِنَ التَّهَادِي بِمَعْنَى الْمُهَادَاةِ أَيْ: لِيُعْطِ الْهَدِيَّةَ وَيُرْسِلْهَا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ ( «فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ الضَّغَائِنَ» ) جَمْعُ ضَغِينَةٍ وَهِيَ الْحِقْدُ أَيْ: تُزِيلُ الْبُغْضَ وَالْعَدَاوَةَ وَتُحَصِّلُ الْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ كَمَا وَرَدَ: «تَهَادُوا تَحَابُّوا وَتَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ عَنْكُمْ» عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ عَائِشَةَ: «تَهَادُوا تَزْدَادُوا» ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حُبًّا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّخْطَ جَالِبٌ لِلضَّغِينَةِ وَالْحِقْدِ، وَالْهَدِيَّةَ جَالِبَةٌ لِلرِّضَا فَإِذَا جَاءَ سَبَبُ الرِّضَا ذَهَبَ سَبَبُ السُّخْطِ (رَوَاهُ) هُنَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ، وَأُلْحِقَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ مَيْرَكُ: كَذَا قَالَهُ الْجَزَرِيُّ وَفِي حَاشِيَتِهِ وَصَحَّحَ الْجَزَرِيُّ إِسْنَادَهُ.

3028 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3028 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَهَادُوا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ» ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: غِشَّهُ وَوَسْوَسَتَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْحِقْدُ وَالْغَضَبُ، وَقِيلَ: أَشَدُّ الْغَضَبِ، وَقِيلَ: الْعَدَاوَةُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ مَفْعُولُ تَحْقِرَنَّ أَيْ: لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ هَدِيَّةً مُهْدَاةً لِجَارَتِهَا وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي النِّهَايَةِ: الْجَارَةُ الضَّرَّةُ مِنَ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَهُمَا وَمِنْهُ «حَدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ " وَغَيْظُ جَارَتِهَا» " أَيْ: إِنَّهَا تَرَى حُسْنَهَا فَيَغِيظُهَا ذَلِكَ (وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: نَصِيفَهُ أَوْ بَعْضَهُ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقَوُا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» . وَالْفِرْسِنُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ عَظْمٌ قَلِيلُ اللَّحْمِ وَهُوَ خُفُّ الْبَعِيرِ وَالشَّاةِ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْفِرْسِنُ مِنَ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ مِنَ الدَّابَّةِ وَالْمَعْنَى لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ هَدِيَّةَ جَارَتِهَا وَلَوْ كَانَتْ فِرْسِنَ شَاةٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَلَوْ بِشِقِّ فِرْسِنِ شَاةٍ، زِيَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنْ تَبْعَثَ إِلَيْهَا أَوْ تَتَفَقَّدَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِغَيْرِ بَاءِ وَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: أَرْشَدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَى أَنَّ التَّهَادِيَ يُزِيلُ الضَّغَائِنَ، ثُمَّ بَالَغَ فِيهِ حَتَّى ذَكَرَ أَحْقَرَ الْأَشْيَاءِ مِنْ أَبْغَضِ الْبَغِيضَيْنِ إِذْ حَمَلَ الْجَارَةَ عَلَى الضَّرَّةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَعْنَى التَّتْمِيمِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لِتَبْعَثْ جَارَةٌ إِلَى جَارَتِهَا مِمَّا عِنْدَهَا مِنَ الطَّعَامِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا قَلِيلًا، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ عَدَيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «تَهَادُوا الطَّعَامَ بَيْنَكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ تَوْسِعَةٌ فِي أَرْزَاقِكُمْ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ: قَالُوا «فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ بِالسَّخِيمَةِ» أَيِ: الْحِقْدِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ: «تَهَادُوا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُضَعِّفُ الْحُبَّ وَتَذْهَبُ بِغَوَائِلِ الصَّدْرِ» أَيْ: وَسَاوِسِهِ.

3029 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ الْوَسَائِدُ وَالدُّهْنُ وَاللَّبَنُ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، قِيلَ: أَرَادَ بِالدُّهْنِ الطِّيبَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3029 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مِنَ الْهَدَايَا لَا تُرَدُّ» ) أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ لِقِلَّةٍ مِنَّتِهَا وَتَأَذِّي الْمُهْدِي إِيَّاهَا (الْوَسَائِدُ وَالدُّهْنُ وَاللَّبَنُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " يُرِيدُ أَنْ يُكْرَمَ الضَّيْفُ بِالْوِسَادَةِ وَالطِّيبِ وَاللَّبَنِ، وَهِيَ هَدِيَّةٌ قَلِيلَةُ الْمِنَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ " اه فَكَأَنَّهُ حَمَلَ الدُّهْنَ عَلَى الطِّيبِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالطِّيبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الدُّهْنِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُهُ فِي شُعُورِ رُءُوسِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ بِالْوَسَائِدِ الَّتِي حَشْوُهَا لِيفٌ أَوْ صُوفٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْهُمَا غَالِبًا، فَمَدْفُوعٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قِيلَ: أَرَادَ بِالدُّهْنِ الطِّيبَ وَوَجْهُهُ سَبَقَ، وَلَعَلَّ مُرَادَ الْقَائِلِ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَمَا يَلِيهِ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

3030 - عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُكُمُ الرَّيْحَانَ فَلَا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3030 - (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلٍّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ اللَّامِ النَّهْدِيُّ الْبَصْرِيُّ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَأَسْلَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلْقَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً وَمِثْلَهَا فِي الْإِسْلَامِ وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، لَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ، سَمِعَ عَمْرَو بْنَ مَسْعُودٍ وَأَبَا مُوسَى، رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُكُمْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (الرَّيْحَانَ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ (فَلَا يَرُدُّهُ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِفَتْحٍ (فَإِنَّهُ خَرَجَ) أَصْلُهُ (مِنَ الْجَنَّةِ) يَعْنِي وَيَأْتِي مِنْهُ رُوحُهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ كَمَا سَبَقَ أَيْ: قَلِيلُ الْمُؤْنَةِ وَالْمِنَّةِ فَلَا يُرَدُّ، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْيَاءِ خَرَجَ أَصْلُهُ مِنَ الْجَنَّةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ وَمَعْنَاهُ مَحْذُوفُ الصَّحَابِيِّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ أَيْضًا.

" الْفَصْلُ الثَّالِثُ " 3031 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَتِ امْرَأَةُ بَشِيرٍ: انْحَلِ ابْنِي غُلَامَكَ وَأَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ ابْنَةَ فُلَانٍ سَأَلَتْنِي أَنْ أَنْحَلَ ابْنَهَا غُلَامِي وَقَالَتْ: أَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَلَهُ إِخْوَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. " الْفَصْلُ الثَّالِثُ " 3031 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَتِ: امْرَأَةُ بَشِيرٍ) أَيْ: بِنْتُ رَوَاحَةَ لِزَوْجِهَا (انْحَلْ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَسُكُونِ نُونٍ وَفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ: أَعْطِ (ابْنِي غُلَامَكَ) مَفْعُولٌ لِانْحَلْ، فِي الْقَامُوسِ: أَنْحَلُهُ مَاءً أَعْطَاهُ وَمَالًا خَصَّهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ كَنَحْلِهِ فِيهِمَا (وَأَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيِ: اجْعَلْهُ شَاهِدًا لِي (فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَجَاءَهُ (فَقَالَ: إِنَّ ابْنَةَ فُلَانٍ سَأَلَتْنِي أَنْ أَنْحَلَ) ضُبِطَ بِأَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِأَنِ الْمُفَسِّرَةِ وَصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيْ: أُعْطِيَ أَوْ أَعْطِ (ابْنِهَا غُلَامِي) وَهَذَا يُؤَيِّدُ الضَّبْطَ الْأَوَّلَ وَكَانَ عَكْسَ ذَلِكَ وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ فَعَدَلْتُ عَنْهُ فَتَأَمَّلْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ (وَقَالَتْ) بِالْعَطْفِ عَلَى سَأَلَتْنِي أَيْ: وَقَالَتْ لِي أَيْضًا (أَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَلَهُ إِخْوَةٌ) جَمْعُ أَخٍ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَكُلَّهُمْ) بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: فَجَمِيعُ إِخْوَتِهِ (أَعْطَيْتَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ؟) وَالِاسْتِفْهَامُ مُنْصَبٌّ عَلَى الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَمِثْلَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي (قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَيْسَ يَصْلُحُ) أَيْ: يَنْبَغِي أَوْ يَصِحُّ (هَذَا) أَيِ: الْأَمْرُ أَوِ الْعَطَاءُ أَوِ الْإِشْهَادُ (وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ) أَيْ: خَالِصٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ أَوْ عَلَى حَقٍّ دُونَ بَاطِلٍ وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ الْكَلَامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَقَامِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3032 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُتِيَ بِبَاكُورَةِ الْفَاكِهَةِ وَضَعَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ وَعَلَى شَفَتَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ كَمَا أَرَيْتَنَا أَوَّلَهُ فَأَرِنَا آخِرَهُ، ثُمَّ يُعْطِيهَا مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الصِّبْيَانِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3032 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُتِيَ) أَيْ: جِيءَ (بِبَاكُورَةِ الْفَاكِهَةِ) فِي النِّهَايَةِ: أَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ بَاكُورَتُهُ (وَضَعَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ) تَعْظِيمًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ (وَعَلَى شَفَتَيْهِ) شُكْرًا لِمَا أَسْدَاهُ إِلَيْهِ (وَقَالَ: اللَّهُمَّ كَمَا أَرَيْتَنَا أَوَّلَهُ فَأَرِنَا آخِرَهُ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ دُعَاءً بِطُولِ بَقَاءٍ أَوْ فِي الْعُقْبَى فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْآخِرَةِ وَأَنَّ نَعِيْمَ الدُّنْيَا زَائِلٌ وَأَنَّهُ أُنْمُوذَجٌ مِنَ النَّعِيمِ الْآجِلِ (ثُمَّ يُعْطِي مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ) أَيْ: حَاضِرًا (مِنَ الصِّبْيَانِ) لِأَنَّ مَيْلَهُمْ إِلَيْهَا أَعْظَمُ وَالْمُلَاءَمَةَ بَيْنَهُمَا أَتَمُّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّمَا نَاوَلَ بَاكُورَةَ الثِّمَارِ الصِّبْيَانَ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ أَنَّ الصَّبِيَّ ثَمَرَةُ الْفُؤَادِ وَبَاكُورَةُ الْإِنْسَانِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ: وَإِذَا رَأَى بَاكُورَةَ ثَمَرٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مَنَابِتِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا» فَإِذَا أُتِيَ بِشَيْءٍ مِنْهَا دَعَا أَصْغَرَ وَلِيدٍ حَاضِرٍ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.

[باب اللقطة]

[بَابُ اللُّقَطَةِ]

(بَابُ اللُّقَطَةِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3033 - عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: «عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقَ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ اللُّقَطَةِ) بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَيُسَكَّنُ. فِي الْمُغْرِبِ: اللُّقْطَةُ الشَّيْءُ الَّذِي تَجِدُهُ مُلْقًى فَتَأْخُذُهُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَلَمْ أَسْمَعِ اللُّقْطَةَ بِالسُّكُونِ لِغَيْرِ اللَّيْثِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرُوحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: هِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ الْمَالُ الْمَلْقُوطُ مَنْ لَقَطَ الشَّيْءَ وَالْتَقَطَهُ أَخَذَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَقَالَ الْخَلِيلُ: اللُّقَطَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ اسْمٌ لِلْمُلْتَقَطِ قِيَاسًا عَلَى نَظَائِرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَأَمَّا اسْمُ الْمَالِ الْمَلْقُوطِ فَبِسُكُونِ الْقَافِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3033 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ) أَيْ: عَنْ حُكْمِهَا إِذَا وَجَدَهَا (فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: وِعَاءَهَا (وَوِكَاءَهَا) بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: مَا تُشَدُّ بِهِ. فِي الْفَائِقِ: الْعِفَاصُ الْوِعَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ اللُّقَطَةُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْوِكَاءُ هُوَ الْخَيْطُ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الصُّرَّةُ وَالْكِيسُ وَنَحْوُهُمَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا أَمَرَ بِمَعْرِفَتِهَا لِيَعْلَمَ صِدْقَ وَكَذِبَ مَنْ يَدَّعِيهَا، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا فِي أَنَّهُ لَوْ جَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَى اللُّقْطَةَ وَعَرَّفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا هَلْ يَجِبُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْوِكَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إِذَا عَرَّفَ الرَّجُلُ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَالْعَدَدَ وَالْوَزْنَ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ وَإِلَّا فَبَيِّنَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ فِي الصِّفَةِ بِأَنْ يَسْمَعَ الْمُلْتَقِطَ يَصِفُهَا فَعَلَى هَذَا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا لِئَلَّا تَخْتَلِطَ بِمَالِهِ اخْتِلَاطًا لَا يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ إِذَا جَاءَ مَالِكُهَا (ثُمَّ عَرِّفْهَا) بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ (سَنَةً) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِتَعْرِيفِهَا سَنَةً يَقْتَضِي تَكْرِيرَ التَّعْرِيفِ عُرْفًا وَعَادَةً وَإِنْ كَانَ ظَرْفِيَّةُ السَّنَةِ لِلتَّعْرِيفِ يَصْدُقُ بِوُقُوعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَكِنْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ كُلَّمَا وَجَدَ مَظَنَّةً. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَفِي الْأُسْبُوعِ الْأَوَّلِ يُعَرِّفُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَمَرَّةً فِي آخِرِهِ، وَفِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً، ثُمَّ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً، وَقَدَّرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَخْذًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ التَّقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَأَنَّ تَفْوِيضَ التَّقْدِيرِ إِلَى رَأْيِ الْآخِذِ لِإِطْلَاقٍ خَبَرِ مُسْلِمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللُّقْطَةِ: " «عَرِّفْهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَأَعْطِهِ إِيَّاهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» " وَالتَّقْيِيدُ بِالسَّنَةِ لَعَلَّهُ لِكَوْنِ اللُّقَطَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا كَانَتْ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ تَكُونَ اللُّقْطَةُ كَذَلِكَ (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا) شَرْطٌ حُذِفَ جَزَاؤُهُ لِلْعِلْمِ بِهِ أَيْ: فَرُدَّهَا إِلَيْهِ أَوْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ أَوْ أَخَذَهَا (وَإِلَّا) وَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا (فَشَأْنُكَ بِهَا) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَتُبْدَلُ الْفَاءُ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ يُقَالُ: شَأَنْتُ شَأْنَهُ أَيْ: قَصَدْتُ قَصْدَهُ وَاشْأَنْ شَأْنَكَ أَيِ اعْمَلْ بِمَا تُحْسِنُهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقِيلَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ: خُذْ شَأْنَكَ أَيْ: فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ أَكْلٍ وَنَحْوِهَا وَالْحَاصِلُ إِنْ كُنْتَ مُحْتَاجًا فَانْتَفَعَ بِهَا وَإِلَّا فَتَصَدَّقَ بِهَا. قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً وَعَرَّفَهَا سَنَةً وَلَمْ يَظْهَرْ صَاحِبُهَا كَانَ لَهُ تَمَلُّكُهَا سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِهَا الْغَنِيُّ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا يَتَمَلَّكُهَا. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا جِيءَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: " وَجَدْتُ صُرَّةً " إِلَى قَوْلِهِ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا " وَكَانَ أُبَيٌّ مِنْ مَيَاسِيرِ الْأَنْصَارِ (قَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: غَاوِيَتُهَا أَوْ مَتْرُوكَتُهَا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا حُكْمُهَا (قَالَ: هِيَ لَكَ) أَيْ: إِنْ

أَخَذْتَهَا وَعَرَّفْتَهَا وَلَمْ تَجِدْ صَاحِبَهَا فَإِنَّ لَكَ أَنْ تَمْلِكَهَا (أَوْ لِأَخِيكَ) يُرِيدُ بِهِ صَاحِبَهَا وَالْمَعْنَى إِنْ أَخَذْتَهَا فَظَهَرَ مَالِكُهَا فَهُوَ لَهُ أَوْ تَرَكْتَهَا فَاتَّفَقَ أَنْ صَادَفَهَا فَهُوَ أَيْضًا لَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ لَمْ تَلْتَقِطْهَا يَلْتَقِطْهَا غَيْرُكَ (أَوْ لِلذِّئْبِ) بِالْهَمْزَةِ وَإِبْدَالِهِ أَيْ: إِنْ تَرَكْتَ أَخْذَهَا أَخَذَهَا الذِّئْبُ وَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْتِقَاطِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: إِنْ تَرَكْتَهَا وَلَمْ يَتَّفِقْ أَنْ يَأْخُذَهَا غَيْرُكَ يَأْكُلُهُ الذِّئْبُ غَالِبًا، نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْتِقَاطِهَا وَتَمَلُّكِهَا وَعَلَى مَا هُوَ الْعِلَّةُ لَهَا وَهِيَ كَوْنُهَا مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ لِيَدُلَّ عَلَى اطِّرَادِ هَذَا الْحُكْمِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ يَعْجَزُ عَنِ الرَّعْيِ بِغَيْرِ رَاعٍ (قَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ) أَيْ: شَيْءٌ لَكَ (وَلَهَا) قِيلَ: مَا شَأْنُكَ مَعَهَا أَيِ اتْرُكْهَا وَلَا تَأْخُذْهَا (مَعَهَا سِقَاؤُهَا) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: مَعِدَتُهَا فَتَقَعُ مَوْقِعَ السِّقَاءِ فِي الرَّيِّ لِأَنَّهَا إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ شَرِبَتْ مَا يَكُونُ فِيهِ رِيُّهَا لِظَمَئِهَا أَيَّامًا (وَحِذَاؤُهَا) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: خِفَافُهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِلْعِلَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِأَسْبَابِ تَعَيُّشِهَا أَيْ: يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْ أَنْ تَمُوتَ عَطَشًا لِاصْطِبَارِهَا عَلَى الظَّمَأِ وَاقْتِدَارِهَا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَرْعَى، وَالسِّقَاءُ يَكُونُ لِلَّبَنِ وَيَكُونُ لِلْمَاءِ وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَا تَحْوِيهِ فِي كِرْشِهَا مِنَ الْمَاءِ فَتَقَعُ مَوْقِعَ السِّقَاءِ فِي الرَّعْيِ أَوْ أَرَادَ بِهِ صَبْرَهَا عَلَى الظَّمَأِ فَإِنَّهَا أَصْبَرُ الدَّوَابِّ عَلَى ذَلِكَ (تَرِدُ الْمَاءَ) أَيْ: تَجِيئُهُ وَتَشْرَبُ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] (وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) أَيْ: مَالِكُهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ بِالسِّقَاءِ أَنَّهَا إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ شَرِبَتْ مَا يَكُونُ فِيهِ رِيُّهَا لِظَمَئِهَا وَهِيَ مِنْ أَطْوَلِ الْبَهَائِمِ ظَمَأً، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا تَرِدُ عِنْدَ احْتِيَاجِهَا إِلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَبْرَهَا عَلَى الْمَاءِ أَوْ وُرُودَهَا إِلَيْهِ بِمَثَابَةِ سِقَائِهَا وَبِالْحِذَاءِ خِفَافَهَا وَأَنَّهَا تَقْوَى بِهَا عَلَى السَّيْرِ وَقَطْعِ الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ وَوُرُودِ الْمِيَاهِ النَّائِيَةِ، شَبَّهَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْ كَانَ مَعَهُ حِذَاءٌ وَسِقَاءٌ فِي سِعَةٍ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الرَّبَّ إِلَيْهَا لِأَنَّ الْبَهَائِمَ غَيْرُ مُتَعَبَّدَةٍ وَلَا مُخَاطَبَةٍ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجُوزُ إِضَافَةُ مَالِكِهَا إِلَيْهَا وَجَعْلِهِمْ أَرْبَابًا لَهَا، قَالَ الْقَاضِي: " وَأَشَارَ بِالتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ مَعَهَا سِقَاؤُهَا أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْتِقَاطِهَا، وَالْفَارِقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا اسْتِقْلَالُهَا بِالتَّعْيِينِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا تُوجَدُ فِي الصَّحْرَاءِ، فَأَمَّا مَا تُوجَدُ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ فَيَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ وَوُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُوَ كَوْنُهَا مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ مُطَمِّحَةً لِلطَّمَعِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْإِبِلِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْكِبَارِ بَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ عِمْرَانٍ لِإِطْلَاقِ الْمَنْعِ "، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْغَنَمِ وَغَيْرِهِ فِي فَضِيلَةِ الِالْتِقَاطِ إِذَا خَافَ الضَّيَاعَ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا، وَأُجِيبُ عَنْ حَدِيثِ زَيْدٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ إِذْ ذَاكَ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْأَمَانَةِ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ إِذَا تَرَكَهَا وَحْدَهَا، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا أَمْنَ فَفِي أَخْذِهَا إِحْيَاءٌ وَحِفْظُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ أَوْلَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَقَالَ: «عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا» ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِثُمَّ مُجَرَّدُ الْعَطْفِ لِيُطَابِقَ مَا سَبَقَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَخَّرَ الْمَعْرِفَةَ عَنِ التَّعْرِيفِ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إِيذَانًا بِكَوْنِ الْمُلْتَقِطِ مَأْمُورًا بِمَعْرِفَتَيْنِ يَعْرِفُ عِفَاصَهَا أَوَّلًا، فَإِذَا عَرَّفَهَا سَنَةً وَأَرَادَ تَمَلُّكَهَا نَدَبَ لَهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا مَرَّةً أُخْرَى تَعَرُّفًا ثَانِيًا ; لِيَظْهَرَ صِدْقُ صَاحِبِهَا إِذَا وَصَفَهَا اه، وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى (ثُمَّ اسْتَنْفِقْ) أَيْ: فَإِذَا لَمْ تَعْرِفْ صَاحِبَهَا تَمَلَّكْهَا وَأَنْفِقْهَا عَلَى نَفْسِكَ وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ ثُمَّ إِذَا تَصَرَّفَ الْآخِذُ لِنَفْسِهِ فَقِيرًا أَوْ تَصَدَّقَ (بِهَا) عَلَى فَقِيرٍ فَالصَّاحِبُ يُخَيَّرُ فِي تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا رُجُوعَ لِأَحَدٍ عَلَى الْآخَرِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ) أَيْ: إِنْ بَقِيَ عَيْنُهَا وَإِلَّا فَقِيمَتُهَا.

3034 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3034 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ زَيْدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ آوَى) بِالْمَدِّ وَيَقْصُرُ أَيْ: ضَمَّ وَجَمَعَ (ضَالَّةً) قِيلَ: هِيَ مَا ضَلَّ مِنَ الْبَهِيمَةِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَاللُّقْطَةُ تَعُمُّ لَكِنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ (فَهُوَ ضَالٌّ) أَيْ: مَائِلٌ عَنِ الْحَقِّ (مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَخَذَهَا لِيَذْهَبَ بِهَا فَهُوَ ضَالٌّ، وَأَمَّا مَنْ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا أَوْ لِيُعَرِّفَهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " وَمَعْنَى التَّعْرِيفِ التَّشْهِيرُ وَطَلَبُ صَاحِبِهَا "، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحُلْوَانِيُّ: " أَدْنَى التَّعْرِيفِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْأَخْذِ وَيَقُولَ: آخُذُهَا لِأَرُدَّهَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَرِّفْهَا كَفَى "، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ ضَالٌّ أَيِ: الْوَاجِدُ غَيْرُ رَاشِدٍ إِنْ لَمْ يُعَرِّفْهَا أَوْ مَا وُجِدَ ضَالًّا كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّالِّ ضَالَّةُ الْإِبِلِ وَنَحْوُهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ بَلْ إِنَّمَا يُلْتَقَطُ لِلْحِفْظِ فَهُوَ ضَالٌّ إِنْ حَفِظَهَا وَلَمْ يُعَرِّفْهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

3035 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيَمِيِّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3035 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانِ التَّيَمِيِّ) أَيِ: الْقُرَشِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، صَحَابِيٌّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ وَلَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فَيَكُونُ حَدِيثُهُ هَذَا مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْكُلِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ لُقْطَةِ الْحَاجِّ» ) أَيْ: تَمَلُّكِ لُقَطَتِهِمْ أَوْ أَخْذِهَا مُطْلَقًا أَوْ فِي الْحَرَمِ، قَالَ الْقَاضِي: " هَذَا الْحَدِيثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ لُقَطَتِهِمْ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ لُقَطَةِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِهَا مُطْلَقًا لِتُتْرَكَ مَكَانَهَا وَتُعْرَفَ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ طَرِيقٍ إِلَى ظُهُورِ صَاحِبِهَا فَإِنَّ الْحَاجَّ لَا يَلْبَثُونَ مُجْتَمِعِينِ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ فَلَا يَكُونُ لِلتَّعْرِيفِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ جَدْوَى اه وَتَبِعَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ لُقَطَةَ حَرَمِ مَكَّةَ أَيْ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَنْ يَحْفَظَهَا أَبَدًا لِمَالِكِهَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ لُقَطَةِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ، وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِي يَتْرُكُهَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا وَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ لِفُشُوِّ السَّرِقَةِ بِمَكَّةَ مِنْ حَوَالَيِ الْكَعْبَةِ فَضْلًا عَنِ الْمَتْرُوكِ، وَالْأَحْكَامُ إِذَا عُلِمَ شَرْعِيَّتُهَا بِاعْتِبَارِ شَرْطٍ ثُمَّ عُلِمَ ثُبُوتُ ضِدِّهِ مُتَضَمِّنًا مَفْسَدَةٍ لِتَقْدِيرِ شَرْعِيَّتِهِ مَعَهُ عُلِمَ انْقِطَاعُهَا بِخِلَافِ الْعِلْمِ بِشَرْعِيَّتِهَا بِسَبَبٍ إِذَا عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي الْبَقَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ كَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 3036 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينَ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَذَكَرَ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ قَالَ: وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: مَا كَانَ مِنْهَا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ وَالْقَرْيَةِ الْجَامِعَةِ فَعَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَهُوَ لَكَ. وَمَا كَانَ فِي الْخَرَابِ الْعَادِيِّ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَسُئِلَ عَنِ اللُّقْطَةِ إِلَى آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) - (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ) (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ (الْمُعَلَّقِ) أَيِ: الْمُدَلَّى مِنَ الشَّجَرِ (فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الثَّمَرِ (مِنْ ذِي حَاجَةٍ) بَيَانٌ لِمَنْ أَيْ: فَقِيرٍ أَوْ مُضْطَرٍّ أَيْ: مِنْ أَصَابَ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ (غَيْرَ مُتَّخِذٍ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَصَابَ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ ذِي حَاجَةٍ (خُبْنَةً) بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: ذَخِيرَةً مَحْمُولَةً (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْغَصْبِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لَكِنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَحْمَدُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ غَرَامَةٌ مِثْلَيْهِ) أَيْ: غَرَامَةُ قِيمَةِ مِثْلَيْهِ (وَالْعُقُوبَةُ) بِالرَّفْعِ أَيِ: التَّعْزِيرُ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ:

وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ وَإِلَّا فَالْمُتْلَفُ لَا يُضْمَنُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ مِثْلِهِ وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْكُمُ بِهِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقِيلَ: كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا إِيجَابٌ لِلْغَرَامَةِ وَالتَّعْزِيرِ فِيمَا يُخْرِجُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ الْمُرَخَّصِ فِيهَا وَلِأَنَّ الْمُلَّاكَ لَا يَتَسَامَحُونَ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ الَّذِي يُؤْكَلُ، وَلَعَلَّ تَضْعِيفَ الْغَرَامَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ تَغْلِيظًا فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُوجِبِ الْقَطْعَ فِيهِ وَأَوْجَبَ فِيمَا يُوجَدُ مِمَّا جُمِعَ فِي الْبَيْدَرِ بِقَوْلِهِ (وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ (شَيْئًا) إِلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ النَّخْلِ بِالْمَدِينَةِ لَمْ تَكُنْ مُحُوطَةً مَحْرُوزَةً وَلِذَا قَيَّدَهُ (بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ) بِضَمِّ الْيَاءِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: آوَى وَأَوَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَالْمَقْصُورُ مِنْهُمَا لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ وَمِنَ الْمُتَعَدِّي هَذَا الْحَدِيثُ وَالْمَعْنَى يَضُمَّهُ وَيَجْمَعَهُ (الْجَرِينُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مَوْضِعُ تَجْفِيفِ التَّمْرِ وَهُوَ لَهُ كَالْبَيْدَرِ لِلْحِنْطَةِ وَهُوَ حِرْزٌ عَادَةً فَإِنَّ الْجَرِينَ لِلثِّمَارِ كَالْمَرَاحِ لِلشِّيَاهِ وَحِرْزُ الْأَشْيَاءِ عَلَى حَسَبِ الْعَادَاتِ (فَبَلَغَ) أَيْ: قِيمَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ (ثَمَنَ الْمِجَنِّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيِ: التُّرْسِ الْمُسَمَّى بِالدَّرَقَةِ وَالْمُرَادُ بِثَمَنِهِ نِصَابُ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يُسَاوِي فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ رُبْعَ دِينَارٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ نِصَابُ السَّرِقَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ) وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْمُرَادُ بِثَمَنِ الْمِجَنِّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ - قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» (وَذَكَرَ) أَيْ: جِدُّ عَمْرٍو (فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ) أَيْ: مِنَ الرُّوَاةِ (قَالَ) أَيْ: جَدُّ عَمْرٍو (وَسُئِلَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَنِ اللُّقْطَةِ، فَقَالَ: مَا كَانَ) أَيْ: وُجِدَ مِنْهَا (فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ) كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ: فِي طَرِيقِ الْمَيْتَاءِ بِإِضَافَةٍ، وَالْمِيتَاءُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ مَمْدُودَةً أَيِ: الْعَامَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْجَادَّةِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمِيتَاءُ الطَّرِيقُ الْعَامُّ وَمُجْتَمَعُ الطَّرِيقِ أَيْضًا مِيتَاءُ وَالْجَادَّةُ الَّتِي تَسْلُكُهَا السَّابِلَةُ وَهُوَ مِفْعَالٌ مِنِ الْإِتْيَانِ أَيْ: يَأْتِيهِ النَّاسُ وَيَسْلُكُهُ اه فَالْيَاءُ فِي مِيتَاءَ أَصْلُهُ هَمْزٌ أُبْدِلَ يَاءً جَوَازًا وَالْهَمْزُ فِيهِ أَصْلُهُ يَاءٌ أُبْدِلَ هَمْزًا وُجُوبًا، فَتَأَمَّلْ (وَالْقَرْيَةِ الْجَامِعَةِ) أَيْ: لِسَاكِنِهَا (عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ) أَيْ: صَاحِبُهَا وَفِيهِ تَفَنُّنٌ (فَهُوَ) أَيِ: الْمَلْقُوطُ (لَكَ) أَيْ: مِلْكٌ لَكَ أَوْ خَاصٌّ لَكَ تَتَصَّرَفُ فِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يُوجَدُ مِنَ اللُّقْطَةِ فِي الْعُمْرَانِ وَالطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ غَالِبًا يَجِبُ تَعْرِيفُهَا إِذِ الْغَالِبُ أَنَّهَا مِلْكُ مُسْلِمٍ (وَمَا كَانَ) أَيْ: وُجِدَ (فِي الْخَرَابِ الْعَادِيِّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيِ: الْقَدِيمِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ خَرِبَةٍ وَالْأَرَاضِي الْعَادِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَجَرِ عَلَيْهَا عِمَارَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْجُودُ مِنْهُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ غَيْرَهُمَا مِنَ الْأَوَانِي وَالْأَقْمِشَةِ (فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ كَأَنَّهُ رَكَزَ فِي الْأَرْضِ (الْخُمُسُ) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي فَأُعْطِيَ لَهَا حُكْمُ الرِّكَازِ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهَا (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ عَمْرٍو (مِنْ قَوْلِهِ: وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ إِلَى آخِرِهِ) .

3037 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَجَدَ دِينَارًا فَأَتَى بِهِ فَاطِمَةَ فَسَأَلَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَذَا رِزْقُ اللَّهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " وَأَكَلَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَتِ امْرَأَةٌ تَنْشُدُ الدِّينَارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عَلِيُّ أَدِّ الدِّينَارَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3037 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَدَ دِينَارًا فَأَتَى بِهِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَسَأَلَ) أَيْ: عَلِيٌّ (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ حُكْمِ الدِّينَارِ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا رِزْقُ اللَّهِ) أَيْ: مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (فَأَكَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَلَ) كَرَّرَ الْعَامِلَ مُبَالَغَةً أَوْ تَعْظِيمًا (وَفَاطِمَةُ) أَيْ: أَيْضًا (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا

يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْرِيفِ وَلَا عَلَى عَدَمِ التَّوَقُّفِ قَدْرَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَطْلُبُهُ فَإِنَّ الْفَاءَ قَدْ تَأْتِي لِمُجَرَّدِ الْبَعْدِيَّةِ فَتُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْقِيبِ فَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: تَزَوَّجَ فُلَانٌ فَوُلِدَ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا مُدَّةُ الْحَمْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةً مُتَطَاوِلَةً وَقَالَ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] فَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُعَرَّفُ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَكَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِمْسَاكِهِ وَتَعْرِيفِهِ لِأَنَّ اللُّقَطَةَ إِذَا كَانَتْ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ اه وَهُوَ خِلَافُ الْمَحْفُوظِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِأَنَّ الدِّينَارَ مِمَّا لَا يُسَمَّ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يُجِبُ تَعْرِيفُهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ قَاضِيخَانْ وَغَيْرُهُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ لَهُ التَّمَلُّكُ كَالْفَقِيرِ وَعَلَى أَنَّ اللُّقَطَةَ تَحِلُّ عَلَى مَنْ لَا تَحِلُّ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ غَنِيًّا بِمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكَانَ هُوَ وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ اه وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَأَخْطَأَ فَإِنَّهُ خِلَافُ مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَتَمَلَّكُ اللُّقَطَةَ عَلَى أَنَّ فِي كَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنِيًّا بِالْفَيْءِ مَحَلَّ بِحَثٍّ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَنِيِّ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِنِصَابٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَنَحْوِهِمَا (فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ: مُدَّةٍ (أَتَتِ امْرَأَةٌ تَنْشُدُ الدِّينَارَ) بِضَمِّ الشِّينِ أَيْ: تَطْلُبُهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عَلِيُّ أَدِّ الدِّينَارَ) أَيْ: أَعْطِهَا إِيَّاهُ. فِيهِ وُجُوبُ بَذْلِ الْبَدَلِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ إِلَى مَالِكِهَا مَتَى ظَهَرَ، قَالَهُ الْأَشْرَفُ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَرْضَ بِثَوَابِ التَّصَدُّقِ إِنْ تَصَدَّقَ بِهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3038 - وَعَنِ الْجَارُودِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرَقُ النَّارِ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3038 - (وَعَنِ الْجَارُودِ) بِالْجِيمِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيِ: ابْنِ الْمُعَلَّى قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ تِسْعٍ مَعَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ) فِي النِّهَايَةِ: هِيَ الضَّائِعَةُ مِنْ كُلِّ مَا يُقْتَنَى مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، يُقَالُ: ضَلَّ الشَّيْءُ إِذَا ضَاعَ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ فَاعِلَةٌ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهَا فَصَارَتْ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ وَتَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَيُجْمَعُ عَلَى ضَوَالٍّ (حَرَقُ النَّارِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ وَقَدْ يُسَكَّنُ وَالْمُرَادُ هُنَا لَهَبُهَا يُرِيدُ أَنْ أَخْذَ اللُّقْطَةِ يُرْدِي إِلَى حَرَقِ النَّارِ لِمَنْ لَمْ يُعَرِّفْهَا وَقَصَدَ الْخِيَانَةَ فِيهَا (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ مَالِكٍ.

3039 - وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوِي عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3039 - (وَعَنْ عِيَاضٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ (ابْنِ حِمَارٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ ابْنِ نَاجِيَةَ بْنَ عِقَالٍ كَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِيمًا، ذَكَرَهُ مَيْرَكُ، زَادَ الْمُصَنِّفُ: وَهُوَ التَّيَمِيُّ الْمُجَاشِعِيُّ يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ اه وَمَا ضُبِطَ فِي بَعْضِ نُسَخٍ مِنْ فَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ تَصْحِيفٌ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ: عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ بِلَفْظِ حَيَوَانٍ نَاهِقٍ اه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ» ) أَيْ: لِيَجْعَلْهُ شَاهِدًا (أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَوْ بِمَعْنَى بَلْ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَهَذَا أَمْرُ تَأْدِيبٍ لِإِرْشَادٍ وَذَلِكَ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُؤَمَّنَ أَنْ يَحْمِلَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى إِمْسَاكِهَا وَتَرْكِ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، وَالثَّانِي الْأَمْنُ مِنْ أَنْ يَحُوزَهَا فِي جُمْلَةِ التَّرِكَةِ عِنْدَ اخْتِرَامِ الْمَنِيَّةِ إِيَّاهُ، وَقَدْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ (وَلَا يَكْتُمْ) أَيْ: لَا يُخْفِيهِ (وَلَا يُغَيِّبْ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: لَا يَجْعَلُهُ غَائِبًا بِأَنْ يُرْسِلَهُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ أَوِ الْكِتْمَانُ

مُتَعَلِّقٌ بِاللُّقَطَةِ وَالتَّغْيِيبُ بِالضَّالَّةِ (فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا (فَهُوَ مَالُ اللَّهِ) أَيْ: رِزْقُهُ (يُؤْتِيهِ) أَيْ: يُعْطِيهِ (مَنْ يَشَاءُ) أَيْ: عَلَى وَجْهٍ يَشَاؤُهُ وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: " فَهُوَ مَالُ اللَّهِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: رِزْقُ اللَّهِ وَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنِ الْحَلَالِ وَلَيْسَ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ بِأَنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ لِأَنَّ الْمَقَامُ مَقَامُ مَدْحِ اللُّقْطَةِ لَا بَيَانَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ " فَهُوَ مَالُ اللَّهِ " جَوَابٌ لِلشَّرْطِ وَيَجُوزُ إِسْقَاطُهَا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " وَإِلَّا اسْتَمْتَعَ بِهَا " قَالَ الْمَالِكِيُّ: حَذَفَ الْفَاءَ وَالْمُبْتَدَأَ فِي الْحَدِيثِ مَعًا مِنْ جَوَابِ الشَّرْطِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) .

3040 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَصَا وَالسَّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَذُكِرَ حَدِيثُ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ " أَلَا لَا يَحِلُّ " فِي بَابِ الِاعْتِصَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3040 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَصَا) ، بِالْقَصْرِ ( «وَالسَّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ» ) صِفَةٌ أَوْ حَالٌ (يَنْتَفِعُ بِهِ) أَيِ: الْحُكْمُ فِيهَا أَنْ يَنْتَفِعَ الْمُلْتَقِطُ بِهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفِ سَنَةٍ أَوْ مُطْلَقًا، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُعَرَّفُ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا دُونُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَلِيلٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الدِّينَارُ فَمَا دُونَهُ قَلِيلٌ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ قَوْمٌ: الْقَلِيلُ التَّافِهُ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ كَالنَّعْلِ وَالسَّوْطِ وَالْجِرَابِ وَنَحْوِهَا، وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ رَفْعُ اللُّقْطَةِ لِصَاحِبِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحِلُّ رَفْعُهَا، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ، وَقَالَ الْمُتَعَسِّفَةَ: لَا يَحِلُّ رَفْعُهَا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا، وَالْحِمَارُ وَالْفَرَسُ وَالْإِبِلُ التَّرْكُ أَفْضَلُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ فَتَرْكُ الدَّابَّةِ أَفْضَلُ وَإِذَا رَفَعَ اللُّقْطَةَ يُعَرِّفُهَا وَيَقُولُ: الْتَقَطْتُ لُقْطَةً أَوْ وَجَدْتُ ضَالَّةً أَوْ عِنْدِي شَيْءٌ فَمَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَطْلُبُ فَدُلُّوهُ عَلَيَّ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ: يُعَرِّفُهَا حَوْلًا وَلَمْ يُفَصِّلْ فِيمَا إِذَا كَانَتِ اللُّقْطَةُ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةٍ: إِنْ كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهَا يُعَرِّفُهَا حَوْلًا وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَهَا يُعَرِّفُهَا شَهْرًا وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى خَمْسَةٍ يَحْفَظُهَا يَوْمًا وَاحِدًا، وَفِي الْخَمْسَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ يَحْفَظُهَا أَيَّامًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى الْمِائَةِ يُعَرِّفُهَا شَهْرًا وَفِي الْمِائَةِ إِلَى الْمِائَتَيْنِ يَحْفَظُهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَفِي الْمِائَتَيْنِ إِلَى الْأَلْفِ أَوْ أَكْثَرَ يَحْفَظُهَا حَوْلًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الدِّرْهَمِ الْوَاحِدِ يَحْفَظُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي الدَّانَقِ فَصَاعِدَا يَحْفَظُهُ يَوْمًا وَيُعَرِّفُهُ وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ يَنْظُرُ يَمْنَةً وَيُسْرَةً ثُمَّ يَتَصَدَّقُ، وَقَالَ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنِ أَبِي سَهْلِ السَّرَخْسِيُّ: " لَيْسَ فِي هَذَا تَقْدِيرٌ لَازِمٌ بَلْ يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْمُلْتَقِطِ يُعَرِّفُ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَطْلُبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعْدَ ذَلِكَ إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا حَتَّى يَجِيئَ صَاحِبُهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا وَإِنْ تَصَدَّقَ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ صَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَجَازَ الصَّدَقَةَ وَيَكُونُ الثَّوَابُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ كَانَتِ اللُّقْطَةُ فِي يَدِ الْفَقِيرِ يَأْخُذُهَا مِنَ الْفَقِيرِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَائِمَةً كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْفَقِيرَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ، وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ وَيَنْبَغِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ رَفْعِ اللُّقَطَةِ أَنَّهُ يَرْفَعُهَا لِصَاحِبِهَا فَإِنْ أَشْهَدَ كَانَتِ اللُّقْطَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ كَانَ عَاصِيًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: هِيَ أَمَانَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الْحِفْظُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُضَمَّنُ الْمُلْتَقِطُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي عَلَيْهَا أَوْ بِالْمَنْعِ عِنْدَ الطَّلَبِ وَهُنَا إِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُشْهِدَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُشْهِدُهُ عِنْدَ الرَّفْعِ أَوْ خَافَ أَنَّهُ لَوْ أَشْهَدَ عِنْدَ الرَّفْعِ يَأْخُذُ مِنْهُ الظَّالِمُ فَتَرَكَ الْإِشْهَادَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَذُكِرَ حَدِيثُ الْمِقْدَامِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (ابْنِ مَعْدِيكَرِبَ) بِلَا انْصِرَافٍ (أَلَا لَا يَحِلُّ) أَيْ: لَكُمُ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِي عَنْهَا صَاحِبُهَا (فِي بَابِ الِاعْتِصَامِ) أَيْ: فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَثَرُهُ مُنَاسِبٌ لِذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[باب الفرائض]

[بَابُ الْفَرَائِضِ]

(بَابُ الْفَرَائِضِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3041 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْفَرَائِضِ) بِالْهَمْزِ جَمْعُ فَرِيضَةٍ أَيِ: الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْمَتْرُوكَاتِ الْمَالِيَّةِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ الْفَرْضُ أَصْلُهُ الْقَطْعُ، قَالَ: فَرَضْتُ لِفُلَانٍ إِذَا قَطَعْتُ لَهُ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْفَرِيضَةُ اسْمُ مَا يُفْرَضُ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَقَدْ يُسَمَّى بِهَا كُلُّ مُقَدِّرٍ، فَقِيلَ لِأَنْصِبَاءِ الْمَوَارِيثِ فَرَائِضُ لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ لِأَصْحَابِهَا ثُمَّ قِيلَ لِلْعِلْمِ بِمَسَائِلِ الْمِيرَاثِ عِلْمٌ وَفِي الْفَرَائِضِ وَلِلْعَالَمِ بِهِ فَرَضِيٌّ وَفَارِضٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ» أَيْ: أَعْلَمُكُمْ بِهَذَا النَّوْعِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3041 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ) أَيْ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَشَفَقَتِي عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ مِنْ شَفَقَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَأَكُونُ أَوْلَى بِقَضَاءِ دِيُونِهِمْ ( «فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» ) أَيْ: بَعْدَ قَضَاءِ دِيُونِهِ وَوَصِيَّتِهِ وَمِنْهُ أَخْذُ التَّرِكَةِ، فِي الْفَائِقِ: التَّرِكَةُ اسْمٌ لِلْمَتْرُوكِ كَمَا أَنَّ الطَّلِبَةَ اسْمٌ لِلْمَطْلُوبِ وَمِنْهُ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ (وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا» ) بِفَتْحِ الضَّادِ وَيُكْسَرُ أَيْ: عِيَالًا ( «فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ» ) أَيْ: وَلِيُّهُ وَكَافِلُ أَمْرِهِ قَالَ الْقَاضِيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ضَيَاعًا بِالْفَتْحِ يُرِيدُ بِهِ الْعِيَالَ الْعَالَةَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ مَقَامَ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلْمُبَالَغَةِ كَالْعَدْلِ وَالصَّوْمِ وَرُوِيَ بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ ضَائِعٍ كَجِيَاعٍ فِي جَمْعٍ جَائِعٍ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الضَّيَاعُ اسْمُ مَا هُوَ فِي مَعْرَضٍ أَنْ يَضِيعَ إِنْ لَمْ يُتَعَهَّدْ كَالذُّرِّيَّةِ الصِّغَارِ وَالزَّمْنَى الَّذِينَ لَا يَقُومُونَ بِأَمْرِ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُمْ (وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا» ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: ثِقَلًا قَالَ تَعَالَى {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76] وَهُوَ يَشْمَلُ الدَّيْنَ وَالْعِيَالَ (فَإِلَيْنَا) أَيْ: مَرْجِعُهُ وَمَأْوَاهُ أَوْ فَلْيَأْتِ إِلَيْنَا أَيْ: أَنَا أَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ وَأَنْصُرُهُمْ فَوْقَ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَوْ عَاشُوا، فَإِنْ تَرَكُوا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ فَأَذُبُّ الْمُسْتَأْكِلَةَ مِنَ الظَّلَمَةِ أَنْ يَحُومُوا حَوْلَهُ فَيَخْلُصُ لِوَرَثَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوا وَتَرَكُوا ضَيَاعًا وَكَلًّا مِنَ الْأَوْلَادِ فَأَنَا كَافِلُهُمْ وَإِلَيْنَا مَلْجَأُهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوا دَيْنًا فَعَلَيَّ أَدَاؤُهُ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ - عَزَّ مِنْ قَائِلٍ -: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وَقَوْلِهِ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تُفَسَّرَ الْآيَةُ أَيْضًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ " {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] " إِنَّمَا يَتَلَاءَمُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْأَبِ الْمُشْفِقِ بَلْ هُوَ أَرْأَفُ وَأَرْحَمُهُمْ بِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

3042 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3042 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلْحِقُوا) بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَكَسْرِ حَاءٍ أَيْ: أَوْصِلُوا (الْفَرَائِضَ) أَيِ: الْحِصَصَ الْمُقَدَّرَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ (بِأَهْلِهَا) أَيِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَمَا بَقِيَ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: فَمَا فَضَلَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَالِ (فَهُوَ لِأَوْلَى) أَيْ: أَقْرَبِ (رَجُلٍ) أَيْ: مِنَ الْمَيِّتِ (ذَكَرٍ) تَأْكِيدٌ أَوِ احْتِرَازٌ مِنَ الْخُنْثَى وَقِيلَ أَيْ: صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ بِالْأَوْلَى الْأَقْرَبُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَصَفَ الرَّجُلَ بِالذَّكَرِ تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ وَهِيَ الذُّكُورَةُ الَّتِي سَبَبُ الْعُصُوبَةِ وَسَبَبُ التَّرْجِيحِ فِي الْإِرْثِ ; وَلِهَذَا جَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الرِّجَالَ يَلْحَقُهُمْ مُؤَنٌ كَثِيرَةٌ فِي الْقِيَامِ بِالْعِيَالِ وَالضَّيْفَانِ وَإِرْفَادِ الْقَاصِدِينَ وَمُوَاسَاةِ السَّائِلِينَ وَتَحَمُّلِ الْغَرَامَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:

لَيْسَ أَوْلَى هُنَا بِمَعْنَى أَحَقِّ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ أَحَقُّ بَلْ هُوَ بِمَعْنَى أَقْرَبِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَقْرَبُ هُوَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تَعْيِينِ أَرْبَابِ الْفَرَائِضِ {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] يَعْنِي وَإِنَّمَا نَحْنُ نَعْلَمُ وَقَدْ تَوَلَّيْنَا أَمْرَ الْوِرَاثَةِ وَحَكَمْنَا عَلَيْكُمْ وَمَا فَوَّضْنَاهُ إِلَيْكُمْ قَالَ: وَالْمُرَادُ قُرْبُ النَّسَبِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَكَرًا بَعْدَ الرَّجُلِ لِتَأْكِيدِ أَحَقَّ لِأَنَّ الرَّجُلَ فِي الْمَشْهُورِ هُوَ الذَّكَرُ الْبَالِغُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَقِيلَ: لِلِاحْتِرَازِ مِنَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَإِنَّهُ لَا يُجْعَلُ عَصَبَةً وَلَا صَاحِبَ فَرْضٍ جَزْمًا بَلْ لَهُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الْأَقَلُّ عَلَى تَقْدِيرِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَقِيلَ: بَيَانُ أَنَّ الْعَصَبَةَ يَرِثُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا بِخِلَافِ عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يُعْطُونَ الْمِيرَاثَ إِلَّا مَنْ بَلَغَ حَدَّ الرُّجُولِيَّةِ. وَقِيلَ: ذُكِرَ لِنَفْيِ الْمَجَازِ إِذِ الْمَرْأَةُ الْقَوِيَّةُ قَدْ تُسَمَّى رَجُلًا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ أَوْقَعَ الْمَوْصُوفَ مَعَ الصِّفَةِ مَوْقِعَ الْعَصَبَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَقْرَبِ عَصَبَةٍ، وَسُمُّوا عَصَبَةً لِأَنَّهُمْ يَعْصِبُونَهُ وَيُتَعَصَّبُ بِهِ أَيْ: يُحِيطُونَ بِهِ وَيَشْتَدُّ بِهِمْ وَالْعَصَبَةُ أَقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ فَهُوَ لِلْعَصَبَاتِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَلَا يَرِثُ عَاصِبٌ بَعِيدٌ مَعَ وُجُودِ قَرِيبٍ، وَجُمْلَةُ عَصَبَاتِ النَّسَبِ الِابْنُ وَالْأَبُ وَمَنْ يُدْلِي بِهِمَا وَيُقَدَّمُ مِنْهُمُ الْأَبْنَاءُ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ الْجِدُّ ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَهُمْ فِي دَرَجَةٍ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَحْجُبُ الْبَعْضَ وَالْحَجْبُ نَوْعَانِ حَجْبُ نُقْصَانٍ وَحَجْبُ حِرْمَانٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

3043 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3043 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَأَمَّا الْمُسْلِمُ مِنَ الْكَافِرِ فَفِيهِ خِلَافٌ، فَالْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ أَيْضًا، وَذَهَبَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَسْرُوقٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَرِثُ مِنَ الْكُفَّارِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» . وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَالْمُرَادُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْلَامِ فَضْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْمِيرَاثِ فَلَا يُتْرَكُ النَّصُّ الصَّرِيحُ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلَا يَرِثُ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ مِنَ الْمُرْتَدِّ فَفِيهِ أَيْضًا الْخِلَافُ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَرَبِيعَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُوَطَّئِهِ: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَالْكُفْرُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ يَتَوَارَثُونَ بِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ فَيَرِثُ الْيَهُودِيُّ مِنَ النَّصْرَانِيِّ وَالنَّصْرَانِيُّ مِنَ الْيَهُودِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.

3044 - وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3044 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَوْلَى الْقَوْمِ) أَيْ: مُعْتِقُهُمْ بِالْكَسْرِ (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أَيْ: يَرِثُهُ الْمُعْتِقُ بِالْعُصُوبَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ نِسْبِيَّةٌ، وَقِيلَ: مَوْلَى أَيْ مُعْتَقُهُمْ بِالْفَتْحِ مِنْهُمْ كَمَوْلَى الْقُرَشِيِّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ حَرَّمَ الصَّدَقَةَ عَلَى مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلِمَنْ قَالَ: الْوَصِيَّةُ لِبَنِي فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهُمْ مَوَالِيهُمْ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: الْمَوْلَى يَقَعُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْمُعْتِقِ وَعَلَى الْعَتِيقِ، وَفَسَّرَ الْعُلَمَاءُ الْمَوْلَى هُنَا بِالْمُعْتِقِ أَيْ: يَرِثُ مِنَ الْعَتِيقِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ عَصَبَاتِهِ النِّسْبِيَّةِ وَلَا يَرِثُ الْعَتِيقُ الْمُعْتِقَ إِلَّا عِنْدَ طَاوُسٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3045 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ: " «إِنَّمَا الْوَلَاءُ» " فِي بَابٍ قَبْلَ بَابِ السَّلَمِ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ: " «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» " فِي بَابِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3045 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ) قَالَ الْمُظْهِرُ: ابْنُ الْأُخْتِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَلَا يَرِثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ إِلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَإِنَّمَا يَرِثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ عَصَبَةٌ وَلَا ذُو فَرْضٍ، وَذَوُو الْأَرْحَامِ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ وَلَدُ الْبِنْتِ وَوَلَدُ الْأُخْتِ وَبِنْتُ الْأَخِ

وَبِنْتُ الْعَمِّ وَبِنْتُ الْعَمَّةِ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ وَأَبُو الْأُمِّ وَالْعَمُّ لِلْأُمِّ وَالْعَمَّةُ وَوَلَدُ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ وَمَنْ أَدْلَى بِهِمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَوْلَادُ الْبِنْتِ ثُمَّ أَوْلَادُ الْأُخْتِ وَبَنَاتُ الْأَخِ ثُمَّ الْعَمَّةُ لِلْأُمِّ وَالْعَمَّاتُ وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ، وَإِذَا اسْتَوَى اثْنَانِ مِنْهُمْ فِي دَرَجَةٍ فَأَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى صَاحِبِ فَرْضٍ أَوْ عَصَبَةٍ، وَأَبُو الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ أَخٍ مِنَ الْأُمِّ مِنْ بَنَاتِ الْأَخِ وَأَوْلَادِ الْأُخْتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مِنْ فِي قَوْلِهِ " مِنْهُمْ " اتِّصَالِيَّةٌ أَيِ: ابْنُ الْأُخْتِ مُتَّصِلٌ بِأَقْرِبَائِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَجِبُ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ مِنَ التَّوَلِّي وَالنُّصْرَةِ وَالتَّوْرِيثِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] أَيْ: فِي أَحْكَامِهِ وَفَرَائِضِهِ، وَالْكِتَابُ كَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِمَعْنَى الْفَرِيضَةِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَيَنْصُرُهُ حَدِيثُ الْمِقْدَامِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي ( «وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» ) (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ (وَذُكِرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: لِمَنْ أَعْتَقَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ (فِي بَابٍ) أَيْ: غَيْرِ مُعَنْوَنٍ (قَبْلَ بَابِ السَّلَمِ) بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ قِيلَ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ لَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَتِيقِ أَحَدٌ مِنْ عَصَبَاتِهِ النِّسْبِيَّةِ (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: ابْنِ عَازِبٍ ( «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» ) أَيْ: فِي الْمِيرَاثِ فَلَوِ اجْتَمَعَتْ مَعَ الْعَمَّةِ فَالثُّلُثَانِ لِلْعَمَّةِ وَالثُّلُثُ لِلْخَالَةِ (فِي بَابِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِهِ أَيْ: تَرْبِيَتِهِ فِي الصِّغَرِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَإِنَّمَا حَوَّلَهُ إِلَيْهِ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ لِهَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، نَعَمْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 3046 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. 3047 - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3046 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» ) بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ صِفَةُ أَهْلٍ أَيْ: مُتَفَرِّقُونَ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَا يَتَوَارَثُ أَيْ: مُتَفَرِّقِينَ مُخْتَلِفِينَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْمِلَّتَيْنِ أَيْ: مِلَّتَيْنِ مُتَفَرِّقَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمِلَلِ فِي الْكُفْرِ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. قُلْنَا: الْمُرَادُ هُنَا الْإِسْلَامُ وَالْكُفْرُ فَإِنَّ الْكَفَرَةَ كُلَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ مُقَابَلَتِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ مِلَلٍ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَوْرِيثُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ كَالْيَهُودِيِّ مَعَ النَّصْرَانِيِّ وَعَكْسُهُ، وَالْمَجُوسِيُّ مِنْهُمَا وَهُمَا مِنْهُ قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ لَا يَرِثُ حَرْبِيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ وَلَا ذِمِّيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ وَكَذَا لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فِي بَلْدَتَيْنِ مُتَحَارِبَتَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ يَتَوَارَثَا، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: عَنْهُ. 3047 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ) .

3048 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3048 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» ) أَيْ: مِنَ الْمَقْتُولِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا فِي الْقَتْلِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ أَوِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالسَّبَبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْإِرْثِ عِنْدَنَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً لَا يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَتْلُ الصَّبِيِّ لَا يَمْنَعُ اه وَكَذَا الْمَجْنُونُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُكَلَّفَيْنِ فَفِعْلُهُمَا كَلَا فِعْلٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا جَعَلَ الْعِلَّةَ نَفْسَ الْقَتْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَيَعُمُّ وَإِذَا ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى وَمَا يُعْطِيهِ مِنْ قَطْعِ الْوَصْلَةِ فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَاتِلِ عَلَى الْأَوَّلِ لِلْجِنْسِ وَعَلَى الثَّانِي لِلْعَهْدِ، وَعَلَيْهِ الْمَعْنَى يَتَفَرَّعُ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: إِذَا قَتَلَ الْإِمَامُ مُورِّثَهُ حَدًّا فَفِي مَنْعِ التَّوْرِيثِ أَوْجُهٌ، ثَالِثُهَا: إِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ مُنِعَ وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَا ; لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ قَاتِلٌ. وَفِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ لِلسَّيِّدِ الشَّرِيفِ: عِنْدَنَا يُحْرَمُ الْقَاتِلُ عَنِ الْمِيرَاثِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَتْلُ بِحَقٍّ، وَأَمَّا إِذَا قَتَلَ مُوَرِّثَهُ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا أَوْ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُحْرَمُ أَصْلًا وَكَذَا قَتْلُ الْعَادِلِ مُوَرِّثَهُ الْبَاغِي، وَفِي عَكْسِهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَيْءٌ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو وَلَفْظُهُ: «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنِ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ» ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو أَيْضًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ: «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَوَارِثُهُ أَقْرَبُ النَّاسِ وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا» .

3049 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لَمْ تَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3049 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) بِالتَّصْغِيرِ أَيِ: ابْنِ الْحُصَيْبِ بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْأَسْلَمِيُّ أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْهَا وَبَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَكَانَ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ غَازِيًا فَمَاتَ بِمَرْوَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِلْجَدَّةِ) أَيْ: لِأَبٍ وَأُمٍّ (السُّدُسَ) بِضَمِّ الدَّالِ وَيُسَكَّنُ (إِذَا لَمْ تَكُنْ دُونَهَا) أَيْ: قُدَّامَهَا (أُمٌّ) يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أُمُّ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ أُمُّ الْمَيِّتِ لَا تَرِثُ الْجَدَّةُ لَا أُمُّ الْأُمِّ وَلَا أُمُّ الْأَبِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: دُونَ هُنَا بِمَعْنَى قُدَّامَ لِأَنَّ الْحَاجِبَ كَالْحَاجِزِ بَيْنَ الْوَارِثِ وَالْمِيرَاثِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ عَدَّ السُّيُوطِيُّ فِي النِّقَابَةِ الْجَدَّةَ مِنَ الْوَارِثَاتِ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدْسَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عُبَادَةَ وَصَحَّحَهُ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى لِلْجَدَّتَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالسُّدْسِ بَيْنَهُمَا.»

3050 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَوُرِّثَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3050 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ» ) أَيْ: رَفَعَ صَوْتَهُ يَعْنِي عُلِمَ حَيَاتُهُ (صُلِّيَ عَلَيْهِ) أَيْ: بَعْدَ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ ثُمَّ دُفِنَ كَسَائِرِ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ (وَوُرِّثَ) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ رَاءٍ مَكْسُورٍ أَيْ: جُعِلَ وَارِثًا، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَوْ مَاتَ إِنْسَانٌ وَوَارِثُهُ حَمْلٌ فِي الْبَطْنِ يُوقَفُ لَهُ الْمِيرَاثُ فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا كَانَ لَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا فَلَا يُوَرَّثُ مِنْهُ بَلْ لِسَائِرِ وَرَثَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ يُوَرَّثُ مِنْهُ سَوَاءٌ اسْتَهَلَّ أَوْ لَمْ يَسْتَهِلَّ بَعْدَ أَنْ وُجِدَتْ فِيهِ أَمَارَةُ الْحَيَاةِ مِنْ عُطَاسٍ أَوْ تَنَفُّسٍ أَوْ حَرَكَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْحَيَاةِ سِوَى اخْتِلَاجِ الْخَارِجِ عَنِ الْمَضِيقِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَالِاسْتِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ الْآخَرِينَ وُجُودُ أَمَارَةِ الْحَيَاةِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالِاسْتِهْلَالِ لِأَنَّهُ يَسْتَهِلُّ حَالَةَ الِانْفِصَالِ فِي الْأَغْلَبِ وَبِهِ تُعْرَفُ حَيَاتُهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَى الْعُطَاسَ اسْتِهْلَالًا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

3051 - وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَحَلِيفُ الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3051 - (عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ الْمَدِينِيُّ، سَمِعَ أَبَاهُ وَرَوَى عَنْهُ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ) سَبَقَ شَرْحُهُ ( «وَحَلِيفُ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ عَهِيدُهُمْ وَأُرِيدَ بِهِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُ يَرِثُ عِنْدَنَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَأَمَّا الْحَلِيفُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَالِفُونَ وَيَقُولُونَ دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ وَسِلْمِي سِلْمُكَ وَحَرْبِي حَرْبُكَ، أَرِثُ مِنْكَ وَتَرِثُ مِنِّي، فَنُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - عَلَيْهِ رَحْمَةُ الْبَارِي - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] أَيْ: مَوَالِي الْمُوَالَاةِ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ، كَانَ الْحَلِيفُ يُوَرَّثُ السُّدُسَ مِنْ مَالِ حَلِيفِهِ فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] اه وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِ إِرْثِ الْحَلِيفِ لَا سِيَّمَا وَالْقَائِلُونَ بِهِ إِنَّمَا يُوَرِّثُونَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ وَأُولِي الْأَرْحَامِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَتَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَتَعَاقَلَا وَيَتَوَارَثَا صَحَّ وَوَرِثَ، قَالَ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ: صُورَةُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ شَخْصٌ مَجْهُولُ النَّسَبِ قَالَ لِآخَرَ: أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إِذَا مِتُّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ، وَقَالَ الْآخَرُ: قَبِلْتُ، فَعِنْدَنَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ وَيَصِيرُ الْقَائِلُ وَارِثًا عَاقِلًا وَيُسَمَّى مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ مَجْهُولَ النَّسَبِ، وَقَالَ لِلْأَوَّلِ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَبِلَهُ وَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَعَقَلَ مِنْهُ، وَكَانَ النَّخَعِيُّ يَقُولُ: إِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ ثُمَّ أَوْلَاهُ صَحَّ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: لَيْسَ الْإِسْلَامُ عَلَى يَدِهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ: لَا وَلَاءَ إِلَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - ( «وَابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ) أَيْ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَمَرَّ بَيَانُهُ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَلَفْظُهُ: «حَلِيفُ الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» .

3052 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَإِلَيْنَا، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَنَا مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ أَرِثُ مَالَهُ وَأَفُكُّ عَانَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَرِثُ مَالَهُ، وَيَفُكُّ عَانَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَعْقِلُ عَنْهُ وَيَرِثُهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3052 - (وَعَنِ الْمِقْدَامِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيِ: ابْنِ مَعْدِيكَرِبَ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ» ) هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَشَرْحُهُ ( «فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً» ) أَيْ: عِيَالًا (فَإِلَيْنَا) أَيْ: رُجُوعُهُمْ أَوْ مُفَوَّضُ أَمْرِهِمْ إِلَيْنَا ( «وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» ) أَيْ: بَعْدَ أَدَاءِ دَيْنِهِ وَقَضَاءِ وَصِيَّتِهِ ( «وَأَنَا مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ» ) أَيْ: وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ (أَرِثُ مَالَهُ) قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُرِيدُ بِهِ صَرْفَ مَالِهِ إِلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (وَأَفُكُّ عَانَهُ) أَيْ: أُخَلِّصُ أَسْرَهُ بِالْفِدَاءِ عَنْهُ، وَأَصْلُهُ (عَانِيَهُ) حُذِفَ الْيَاءُ تَخْفِيفًا كَمَا فِي يَدٍ يُقَالُ عَنَا يَعْنُو إِذَا خَضَعَ وَذَلَّ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْحُقُوقُ بِسَبَبِ الْجِنَايَاتِ ( «وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَرِثُ مَالَهُ» ) أَيْ: إِنْ مَاتَ ابْنُ أُخْتِهِ وَلَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ خَالِهِ فَهُوَ يَرِثُهُ، دَلَّ عَلَى إِرْثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ فَقْدِ الْوَرَثَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ لَا يُوَرِّثُهُمْ قَوْلُهُ " «الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ» " بِمِثْلِ قَوْلِهِمُ: الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ " يَرِثُ مَالَهُ " كَالتَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ " «وَالْخَالُ وَارِثُ» " وَالتَّقْرِيرُ إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ فِي الْمَعْنَى السَّابِقِ التَّجَوُّزُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ تَقْرِيرًا لِلتَّجَوُّزِ - رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَذْعَنَ لِلْحَقِّ وَأَنْصَفَ وَتَرَكَ التَّعَصُّبَ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ - وَاعْلَمْ أَنَّ ذَا الرَّحِمِ هُوَ كُلُّ قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ، فَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ وَعَلِيٍّ

وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ ابْنِ الْجَرَّاحِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَشْهُورَةٍ وَغَيْرُهُمْ يَرَوْنَ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَتَابَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّابِعِينَ عَلْقَمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَنْ تَابَعَهُمْ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ: لَا مِيرَاثَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ وَيُوضَعُ الْمَالُ عِنْدَ عَدَمِ صَاحِبِ الْفَرْضِ وَالْعَصَبَةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَتَابَعَهُمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجَّ النَّافُونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ نَصِيبَ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَوِي الْأَرْحَامِ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَبَيَّنَهُ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا، وَبِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا اسْتُخْبِرَ عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنْ لَا شَيْءَ لَهُمَا، وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] إِذْ مَعْنَاهُ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ كَمَا كَتَبَ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتِ التَّوَارُثَ بِالْمُوَالَاةِ كَمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ قُدُومِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمَدِينَةَ فَمَا كَانَ لِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَالْمُؤَاخَاةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ صَارَ مَصْرُوفًا إِلَى ذَوِي الرَّحِمِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ إِرْثُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ صَارَ مُتَأَخِّرًا عَنْ إِرْثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَقَدْ شَرَعَ لَهُمُ الْمِيرَاثَ بَلْ فَصَّلَ بَيْنَ ذِي رَحِمٍ لَهُ فَرْضٌ أَوْ تَعْصِيبٌ، وَذِي رَحِمٍ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَيَكُونُ ثَابِتًا لِلْكُلِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَجِبُ تَفْصِيلُهُمْ كُلُّهُمْ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ، وَأَيْضًا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا رَمَى سَهْمًا إِلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ إِلَّا خَالُهُ فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ فَأَجَابَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» . لَا يُقَالُ الْمَقْصُودُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ النَّفْيُ دُونَ الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ: الصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ وَالصَّبْرُ لَيْسَ بِحِيلَةٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ كَانَ وَارِثَهُ الْخَالُ فَلَا وَارِثَ لَهُ ; لِأَنَّا نَقُولُ: صَدْرُ الْحَدِيثِ يَأْبَى هَذَا الْمَعْنَى بَلْ نَقُولُ: بَيَانُ الشَّرْعِ بِلَفْظِ الْإِثْبَاتِ وَإِرَادَةِ النَّفْيِ تُؤَدِّي إِلَى الِالْتِبَاسِ، فَلَا يَجُوزُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ الْكَاشِفِ عَنْهَا، وَأَيْضًا «لَمَّا مَاتَ ثَابِتُ ابْنُ الدَّحْدَاحِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ: هَلْ تَعْرِفُونَ لَهُ نَسَبًا فِيكُمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ غَرِيبًا فِينَا فَلَا نَعْرِفُ لَهُ إِلَّا ابْنَ أُخْتٍ هُوَ أَبُو لُبَابَةَ ابْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ لَهُ» . وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا رَوَيْنَاهُ مُوَافِقًا لِلْقُرْآنِ وَبَيْنَ مَا رَوَيْتُمُوهُ مُخَالِفًا لَهُ أَنْ يُحْمَلَ مَا رَوَيْتُمُوهُ عَلَى مَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَوْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ لَا تَرِثَانِ مَعَ عَصَبَةٍ وَلَا مَعَ ذِي فَرْضٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الرَّدَّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ مُقَدَّمٌ عَلَى وَرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَإِنْ كَانُوا يَرِثُونَ مَعَ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ (وَيَفُكُّ) أَيِ: الْخَالُ (عَانَهُ) أَيْ: بِأَدَاءِ الدِّيَةِ عَنْهُ أَوْ يُفَادِيهِ عِنْدَ أَسْرِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ: «وَأَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَعْقِلُ عَنْهُ» ) أَيْ: أُؤَدِّي عَنْهُ مَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَعْقِلُهُ يُقَالُ عَقَلْتُ لَهُ دَمَ فُلَانٍ إِذَا تَرَكْتُ الْقَوَدَ لِلدِّيَةِ وَلَا مَعْنَى لَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أُعْطِي لَهُ وَأَقْضِي عَنْهُ وَأَرِثُهُ أَيْ: مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَعْقِلُ عَنْهُ أَيْ: إِذَا جِيءَ ابْنُ أُخْتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ يُؤَدِّي الْخَالُ عَنْهُ الدِّيَةَ كَالْعَصَبَةِ (وَيَرِثُهُ) أَيِ: الْخَالُ إِيَّاهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ.»

3053 - وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ مَوَارِيثَ، عَتِيقَهَا وَلَقِيطَهَا وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَنْهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3053 - (عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ) أَيِ: اللَّيْثِيِّ أَسْلَمَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَهِّزُ إِلَى تَبُوكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ خَدَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَاتَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ ذَكَرُهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَحُوزُ الْمَرْأَةُ» ) أَيْ: تَجْمَعُ وَتُحِيطُ (ثَلَاثَ مَوَارِيثَ)

جَمْعُ مِيرَاثٍ (عَتِيقَهَا) أَيْ: مِيرَاثَ عَتِيقِهَا فَإِنَّهَا إِذَا أَعْتَقَتْ عَبَدًا وَمَاتَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ تَرِثُ مَالَهُ بِالْوَلَاءِ (وَلَقِيطَهَا) أَيْ: مَلْقُوطَهَا فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ يَرِثُ مِنَ اللَّقِيطِ عَلَى مَذْهَبِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِلْمُلْتَقِطِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَصَّهُ بِالْمُعْتِقِ بِقَوْلِهِ " «لَا وَلَاءَ إِلَّا وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ» " فَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ عِنْدَهُمْ (وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ قَبْلِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا تَأْخُذُ مِيرَاثَ عَتِيقِهَا وَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي نَفَاهُ الرَّجُلُ بِاللِّعَانِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَرِثُ الْآخَرَ لِأَنَّ التَّوَارُثَ بِسَبَبِ النَّسَبِ انْتَفَى بِاللِّعَانِ، وَأَمَّا نَسَبُهُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ فَثَابِتٌ وَيَتَوَارَثَانِ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَحِيَازَةُ الْمُلْتَقِطَةِ مِيرَاثَ لَقِيطِهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهَا أَوْلَى بِأَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهَا مَا خَلَّفَهُ مِنْ غَيْرِهَا صَرْفَ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى آحَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ تَرِكَتَهُ لَهُمْ لَا أَنَّهَا تَرِثُهُ وِرَاثَةَ الْمُعْتِقَةِ مِنْ مُعْتَقِهَا، وَأَمَّا حُكْمُ وَلَدِ الزِّنَا فَحُكْمُ الْمَنْفِيِّ بِلَا فَرْقٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3054 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَيُّمَا رَجُلٍ عَاهَرَ بِحُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ فَالْوَلَدُ وُلَدُ زِنًا لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3054 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) أَيِ: ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ عَاهَرَ» ) أَيْ: زَنَى (بِحُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ) فِي النِّهَايَةِ: الْعَاهِرُ الزَّانِي وَقَدْ عَهَرَ إِذَا أَتَى الْمَرْأَةَ لَيْلًا لِلْفُجُورِ بِهَا ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الزَّانِي مُطْلَقًا (فَالْوَلَدُ وُلَدُ زِنًا) وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَدُ الزِّنَا (لَا يَرِثُ) أَيْ: مِنَ الْأَبِ (وَلَا يُورَثُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَا يَرِثُ ذَلِكَ الْوَلَدُ مِنَ الْوَاطِئِ وَلَا مِنْ أَقَارِبِهِ إِذِ الْوِرَاثَةُ بِالنَّسَبِ وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّانِي، وَلَا يَرِثُ الْوَاطِئُ وَلَا أَقَارِبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَلَدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3055 - وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ وَتَرَكَ شَيْئًا وَلَمْ يَدَعْ حَمِيمًا وَلَا وَلَدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْطُوا مِيرَاثَهُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3055 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ( «أَنَّ مَوْلًى) أَيْ: عَتِيقًا، لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ وَتَرَكَ شَيْئًا» ) أَيْ: قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا (وَلَمْ يَدَعْ حَمِيمًا وَلَا وَلَدًا) أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ قَرِيبًا يَهْتَمُّ لِأَمْرِهِ ( «قَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْطُوا مِيرَاثَهُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ» ) أَيْ: فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّمَا أَمَرَ أَنْ يُعْطَى رَجُلًا مِنْ قَرْيَتِهِ تَصَدُّقًا مِنْهُ أَوْ تَرَفُّعًا أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ وَمَصْرِفُهُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ وَسَدُّ حَاجَاتِهِمْ، فَوَضَعَهُ فِيهِمْ لِمَا رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَمَا لَا يُورَثُ عَنْهُمْ لَا يَرِثُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - لَا يَرِثُونَ وَلَا يُورَثُ عَنْهُمْ لِارْتِفَاعِ قَدْرِهِمْ عَنِ التَّلَبُّسِ بِالدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَانْقِطَاعِ أَسْبَابِهِمْ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ " «أَنَا مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ أَرِثُ مَالَهُ» " فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَيَّ فِي التَّصَدُّقِ بِهِ أَوْ صَرْفِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ تَمْلِيكِ غَيْرِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ وَرَدَ «أَنَّ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَ مِنْ غَدْقِ نَخْلَةٍ فَمَاتَ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِيرَاثِهِ، فَقَالَ: فَانْظُرُوا لَهُ ذَا قَرَابَةٍ. قَالُوا: مَا لَهُ ذُو قَرَابَةٍ. قَالَ: انْظُرُوا هَمْشَهْرِيًّا لَهُ فَأَعْطُوهُ مِيرَاثَهُ يَعْنِي بَلَدِيًّا لَهُ» . كَذَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ.

3056 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «مَاتَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِيرَاثِهِ فَقَالَ: الْتَمِسُوا لَهُ وَارِثًا أَوْ ذَا رَحِمٍ. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ وَارِثًا وَلَا ذَا رَحِمٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْطُوهُ الْكُبْرَ مِنْ خُزَاعَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: انْظُرُوا أَكْبَرَ رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3056 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْأَزْدِ (فَأُتِيَ النَّبِيُّ) أَيْ: جِيءَ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِيرَاثِهِ فَقَالَ: «الْتَمِسُوا لَهُ وَارِثًا أَوْ ذَا رَحِمٍ» ) أَيْ: قَرِيبًا لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَلَا مِنَ الْعَصَبَةِ ( «فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ وَارِثًا وَلَا ذَا رَحِمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْطُوهُ الْكُبْرَ» ) بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ: الْأَكْبَرَ (مِنْ خُزَاعَةَ) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: أَرَادَ سَيِّدَ الْقَوْمِ وَرَئِيسَهُمْ وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ لَا بِطْرِيقِ الْإِرْثِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ غَيْرُهُمْ وَهُوَ أَقْرَبُكُمْ إِلَى الْجَدِّ الْأَعْلَى وَهَذَا أَيْضًا تَفَضُّلٌ مِنْهُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْرِيثِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ ( «انْظُرُوا أَكْبَرَ رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ» ) أَيْ: فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ. فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ: فُلَانٌ كُبْرُ قَوْمِهِ بِالضَّمِّ إِذَا كَانَ أَبْعَدَهُمْ فِي النَّسَبِ وَهُوَ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى جَدِّهِ الْأَكْبَرِ بِآبَاءَ أَقَلَّ عَدَدًا مِنْ بَاقِي عَشِيرَتِهِ، وَقَوْلُهُ " أَكْبَرَ رَجُلٍ أَيْ: كَبِيرَهُمْ وَهُوَ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْجَدِّ الْأَعْلَى اه وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَسَنَّ مُطْلَقًا.

3057 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدَّيْنِ فِي الْوَصِيَّةِ وَأَنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ الرَّجُلُ يَرِثُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ قَالَ: «الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ إِلَخْ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3057 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَإِنَّ) بِكَسْرِ إِنَّ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ ( «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَأَنَّ» ) بِفَتْحِ أَنَّ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَيْ: وَقَضَى بِأَنَّ (أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ) أَيِ: الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ مِنْ عَيْنِ الشَّيْءِ وَهُوَ النَّفِيسُ مِنْهُ (يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ) وَهُمُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمَّهَاتٍ شَتَّى، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَعْيَانُ الْقَوْمِ أَشْرَافُهُمْ وَالْأَعْيَانُ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ وَأُمٍّ، وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ تُسَمَّى الْمُعَايَنَةَ، وَذَكَرَ الْأُمَّ هُنَا لِبَيَانِ مَا يَتَرَجَّحُ بِهِ بَنُو الْأَعْيَانِ عَلَى بَنِي الْعَلَّاتِ وَهُمْ أَوْلَادُ الرَّجُلِ مِنْ نِسْبَةٍ شَتَّى، سُمِّيَتْ عَلَّاتٍ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ عَلَّ مِنَ الْمُتَأَخِّرَةِ بَعْدَ مَا نَهَلَ مِنَ الْأُولَى وَالْمَعْنَى أَنَّ بَنِي الْأَعْيَانِ إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ بَنِي الْعَلَّاتِ فَالْمِيرَاثُ لِبَنِي الْأَعْيَانِ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَازْدِوَاجِ الْوَصْلَةِ اهـ. وَإِنْ كَانُوا لِأُمٍّ وَاحِدَةٍ وَآبَاءٍ شَتَّى فَهُمُ الْأَخْيَافُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ " إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ " إِخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ يَعْنِي إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَلْ تَدْرُونَ مَعْنَاهَا؟ فَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ، وَالْأُخُوَّةُ فِيهَا مُطْلَقٌ يُوهِمُ التَّسْوِيَةَ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَقَدُّمِ الدَّيْنِ عَلَيْهَا وَقَضَى فِي الْأُخُوَةِ بِالْفَرْقِ. وَقَوْلُهُ " وَأَنَّ أَعْيَانَ " بِالْفَتْحِ عَلَى حَذْفِ الْجَارِ عَطْفٌ عَلَى " بِالدَّيْنِ " بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ " وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ - أَنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ، وَقَوْلُهُ ( «الرَّجُلُ يَرِثُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ» ) اسْتِئْنَافٌ كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَصِيَّةِ فَلِمَ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيلِ؟ قُلْتُ: اهْتِمَامًا بِشَأْنِهَا - الْكَشَّافَ - لَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُشَبَّهَةً بِالْمِيرَاثِ فِي كَوْنِهَا مَأْخُوذَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ كَانَ إِخْرَاجُهَا مِمَّا يَشُقُّ عَلَى الْوَرَثَةِ وَيَتَعَاظَمُ وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ بِهَا كَانَ أَدَاؤُهَا مَظَنَّةً لِلتَّفْرِيطِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى أَدَائِهِ فَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ عَلَى الدَّيْنِ بَعْثًا عَلَى وُجُوبِهَا وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى إِخْرَاجِهَا مَعَ الدَّيْنِ وَلِذَلِكَ جِيءَ بِكَلِمَةِ " أَوْ " لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ قَالَ: الْإِخْوَةُ) أَيِ: الْأَعْيَانُ (مِنَ الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ إِلَى آخِرِهِ) .

3058 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا وَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. قَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ لِابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3058 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجِيِّ وَكَانَ آخَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَدُفِنَ هُوَ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ) أَيِ: الْبِنْتَانِ (ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ) أَيْ: مُصَاحِبًا لَكَ (يَوْمَ أُحُدٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ " مَعَكَ " " بِقُتِلَ " الْكَشَّافَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36] " مَعَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الصُّحْبَةِ وَاسْتِحْدَاثِهَا كَقَوْلِهِ: خَرَجْتُ مَعَ الْأَمِيرِ يُرِيدُ: مُصَاحِبًا لَهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُمَا السِّجْنَ مُصَاحِبَيْنِ لَهُ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ مَعَهُ بِبَلَغَ لِاقْتِضَائِهَا بُلُوغَهُمَا مَعًا فَهُوَ بَيَانٌ كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] أَيِ: الْحَدَّ الَّذِي يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى السَّعْيِ، قِيلَ مَعَ مَنْ قِيلَ مَعَ أَبِيهِ " وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ: فَلَمَّا قِيلَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ قِيلَ مَعَ مَنْ قِيلَ مَعَكَ، وَقَوْلُهُ (شَهِيدًا) تَمْيِيزٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُؤَكَّدَةً لِأَنَّ السَّابِقَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ ( «وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا» ) أَيْ: عَلَى طَرِيقِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ الْمِيرَاثِ ( «وَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا» ) أَيْ: وَلَمْ يَتْرُكْ عَمُّهُمَا لَهُمَا مَالًا يُنْفَقُ عَلَيْهِمَا أَوْ تُجَهَّزَانِ بِهِ لِلزَّوَاجِ (وَلَا تُنْكَحَانِ) أَيْ: لَا تُزَوَّجَانِ عَادَةً أَوْ غَالِبًا أَوْ مَعَ الْعِزَّةِ ( «إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. قَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ» ) أَيْ: يَحْكُمُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ ( «فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ» ) أَيْ: قَوْلُهُ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] وَكَلِمَةُ فَوْقَ صِلَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] ( «فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ لِابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ» ) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي ( «وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ» ) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] (وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ) أَيْ: بِالْعُصُوبَةِ، وَهَذَا أَوَّلُ مِيرَاثٍ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاخْتُلِفَ فِي الْبِنْتَيْنِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْوَاحِدَةِ أَيْ لَا حُكْمَ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الثُّلُثَيْنِ لِمَا فَوْقَهُمَا. وَقَالَ الْبَاقُونَ: حُكْمُهُمَا حُكْمُ مَا فَوْقَهُمَا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْ حَظَّ الذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إِذَا كَانَ مَعَهُ أُنْثَى وَهُوَ الثُّلُثَانِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ فَرْضَهُمَا الثُّلُثَانِ ثُمَّ لَمَّا أَوْهَمَ ذَلِكَ أَنْ يُزَادَ النَّصِيبُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ رُدَّ ذَلِكَ الْوَهْمُ بِقَوْلِهِ {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْبِنْتَ الْوَاحِدَةَ لَمَّا اسْتَحَقَّتِ الثُّلُثَ مَعَ أَخِيهَا فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَسْتَحِقَّهُ مَعَ أُخْتٍ مِثْلِهَا، وَإِنَّ الْبِنْتَيْنِ أَمَسُّ رَحِمًا مِنَ الْأُخْتَيْنِ، وَقَدْ فَرَضَ لَهُمَا الثُّلُثَيْنِ بِقَوْلِهِ {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] اه. وَالْحَدِيثُ يُوَافِقُ الْجُمْهُورَ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغِ ابْنَ عَبَّاسٍ أَوْ مَا صَحَّ عِنْدَهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

3059 - وَعَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: «سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنِ ابْنَةٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ. فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي. فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ. فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3059 - (عَنْ هُزَيْلٍ) تَصْغِيرُ هَزْلٍ بِالزَّايِ ضِدُّ الْجِدِّ (ابْنُ شُرْحَبِيلَ) بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ رَاءٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَتَرْكِ صَرْفٍ كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَفِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ: بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ عَجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ وَقَدْ تُصَحَّفُ بِهُذَيْلٍ بِالذَّالِ وَهُوَ غَلَطٌ صَرِيحٌ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْأَزْدِيُّ الْكُوفِيُّ الْأَعْمَى سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيُّ (عَنِ ابْنَةٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ. فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ) أَيْ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] (لِلْأُخْتِ النِّصْفُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَفِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ يَشْمَلُ الْبِنْتَ فَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ هَذَا أَوْ أَرَادَ أَنَّ الْوَلَدَ مُخْتَصٌّ بِالذَّكَرِ أَوْ قَالَ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ عَلَى جِهَةِ التَّعْصِيبِ (وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ) أَيْ: فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مِنِّي أَوْ لِمَا قِيلَ: عِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ وَاحِدٍ (فَسَيُتَابِعُنِي) أَيْ: يُوَافِقُنِي (فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ) أَيْ: عَنِ الْمَسْأَلَةِ (وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى) أَيْ: فِي جَوَابِهَا (فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا) أَيْ: إِنْ وَافَقْتُهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أَيْ: حِينَئِذٍ إِلَى صَوَابٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ جَوَازِ الِاقْتِبَاسِ (أَقْضِي فِيهَا) أَيْ: فِي الْمَسْأَلَةِ (بِمَا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ -) أَيْ: فِي مِثْلِهَا (لِلْبِنْتِ النِّصْفُ) أَيْ: لِمَا سَبَقَ (وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي (تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ) بِالْإِضَافَةِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ: لِتَكْمِيلِ الثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِمَّا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّكَ إِذَا أَضَفْتَ السُّدُسَ إِلَى النِّصْفِ فَقَدْ كَمَّلْتَهُ ثُلُثَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُؤَكَّدَةً (وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ) أَيْ: لِكَوْنِهَا عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ حَقَّ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ أَخَذَتِ الصُّلْبِيَّةُ الْمُوَحَّدَةُ النِّصْفَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ فَبَقِيَ سُدُسٌ مِنْ حَقِّ الْبَنَاتِ فَتَأْخُذُهُ بَنَاتُ الِابْنِ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ مُتَعَدِّدَةً، وَمَا بَقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ، فَبَنَاتُ الِابْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْفُرُوضِ مَعَ الْوَاحِدَةِ مِنَ الصُّلْبِيَّاتِ كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ (فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي) بِتَخْفِيفِ النُّونِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ لَا نَاهِيَةٌ (مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ) أَيِ: الْعَالِمُ (فِيكُمْ) يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، ذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ إِلَى تَعْصِيبِ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اجْعَلُوا الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَعْصِيبَ لَهُنَّ مَعَ الْبَنَاتِ، وَحَكَمَ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَتْ بِنْتٌ وَأُخْتٌ بِأَنَّ النِّصْفَ لِلْبِنْتِ وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ: لِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ. فَغَضِبَ وَقَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟ يُرِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فَقَدْ جَعَلَ الْوَلَدَ حَاجِبًا لِلْأُخْتِ وَلَفْظُ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلَدِ هُنَا هُوَ الذَّكَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] أَيِ: ابْنٌ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّ الْأَخَ يَرِثُ مَعَ الِابْنَةِ وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ هُزَيْلٍ فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْأُخْتَ مَعَ الْبِنْتِ عَصَبَةً (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3060 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ ابْنِي مَاتَ فَمَا لِي مِنْ مِيرَاثِهِ؟ قَالَ: لَكَ السُّدُسُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ قَالَ: لَكَ سُدُسٌ آخَرُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ قَالَ: إِنَّ السُّدُسَ الْآخَرَ طُعْمَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3060 - (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) أَسَلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ ابْنِي مَاتَ فَمَا لِي مِنْ مِيرَاثِهِ» ) أَيْ: وَلَهُ بِنْتَانِ وَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَكَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ (قَالَ: لَكَ السُّدُسُ) أَيْ: بِالْفَرْضِيَّةِ ( «فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ قَالَ: لَكَ سُدُسٌ آخَرُ» ) أَيْ: بِالْعُصُوبَةِ

(فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ قَالَ: إِنَّ السُّدُسَ الْآخِرَ) بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْآخِرُ بِالْكَسْرِ (طُعْمَةٌ) أَيْ: لَكَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ يَعْنِي رِزْقٌ لَكَ بِسَبَبِ عَدَمِ كَثْرَةِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ لَكَ فَإِنَّهُمْ إِنْ كَثُرُوا لَمْ يَبْقَ هَذَا السُّدُسُ الْأَخِيرُ لَكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ بِنْتَيْنِ وَهَذَا السَّائِلَ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَبَقِيَ الثُّلُثُ فَدَفَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى السَّائِلِ سُدُسًا بِالْفَرْضِ لِأَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ، وَتَرَكَهُ حَتَّى ذَهَبَ فَدَعَاهُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ السُّدُسَ الْأَخِيرَ كَيْلَا يَظُنَّ أَنَّ فَرْضَهُ الثُّلُثُ وَمَعْنَى الطُّعْمَةِ هُنَا التَّعْصِيبُ أَيْ: رِزْقٌ لَكَ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي السُّدُسِ الْأَخِيرِ طُعْمَةً دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ فَرْضٌ، وَالْفَرْضُ لَا يَتَغَيَّرُ بِخِلَافِ التَّعْصِيبِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ التَّعْصِيبُ شَيْئًا مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا سَمَّاهُ طُعْمَةً (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

3061 - وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: «جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا. فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَمَا لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكُ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَتِ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إِلَى عُمَرَ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا. قَالَ: هُوَ ذَلِكَ السُّدُسُ فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3061 - (عَنْ قَبِيصَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ (ابْنِ ذُؤَيْبٍ) بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَاوًا تَصْغِيرُ الذِّئْبِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خُزَاعِيٌّ وُلِدَ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ مِنِ الْهِجْرَةِ وَقَالَ إِنَّهُ أُتِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَا لَهُ فَكَانَ ذَا عِلْمٍ وَفِقْهٍ، وَكَانَ يُعَدُّ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةً سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ جَعَلَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَغَيْرُهُ لَمْ يُثْبِتْهُ فِي الصَّحَابَةِ بَلْ جَعَلَهُ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّابِعِينَ الشَّامِيِّينَ (قَالَ: جَاءَتِ الْجَدَّةُ) أَيْ: أُمُّ الْأُمِّ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا) وَفِي رِوَايَةٍ: أَعْطِنِي مِيرَاثَ وَلَدِ ابْنَتِي (فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ) أَيْ: فِي كَلَامِهِ (شَيْءٌ وَمَا لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي حَدِيثِهِ (شَيْءٌ) أَيْ: فِيمَا أَعْلَمُ ( «فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ» ) أَيِ: الْعُلَمَاءَ مِنَ الصَّحَابَةِ (عَنْ ذَلِكَ) فَإِنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ (فَسَأَلَ) أَيِ: النَّاسَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: اصْبِرِي حَتَّى أُشَاوِرَ أَصْحَابِي فَإِنِّي لَمْ أَجِدْ لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَصًّا وَلَمْ أَسْمَعْ فِيكِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، ثُمَّ سَأَلَهُمْ (فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟) أَيِ: احْتِيَاطِيًّا (فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ فَأَنْفَذَهُ لَهَا) أَيْ: فَأَنْفَذَ الْحُكْمَ بِالسُّدُسِ لِلْجَدَّةِ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا (أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ جَاءَتِ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى) أَيْ: لِهَذَا الْمَيِّتِ إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ إِذَا كَانَتِ الْأُولَى مِنَ الْأُمِّ وَبِالْعَكْسِ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي رِوَايَةِ السَّيِّدِ الشَّرِيفِ: ثُمَّ جَاءَتْ أُمُّ الْأَبِ (إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ: هُوَ ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ عَلَى خِطَابِ الْعَامِ (السُّدُسُ) صِفَةُ ذَلِكَ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ أَيْ: مِيرَاثُكِ ذَلِكَ السُّدُسُ بِعَيْنِهِ تُقْسِمَانِهِ بَيْنَكُمَا (فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا) وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا وَتَوْضِيحٌ لِمَنْطُوقِ مَا فُهِمَ مَفْهُومًا وَالْخِطَابُ لِلْجَدَّةِ مِنْ طَرَفِ الْأَبِ وَالْجَدَّةِ مِنْ طَرَفِ الْأُمِّ (فَهُوَ بَيْنُكُمَا وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ) أَيِ: انْفَرَدَتْ بِالسُّدُسِ (فَهُوَ لَهَا) وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا إِلَخْ، بَيَانٌ لِلْمَسْأَلَةِ، وَالْخِطَابُ فِي فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا وَأَيَّتُكُمَا لِلْجِنْسِ لَا يَخْتَصُّ بِهَاتَيْنِ الْجَدَّتَيْنِ، فَالصِّدِّيقُ إِنَّمَا حَكَمَ بِالسُّدُسِ لَهَا لِأَنَّهُ مَا وَقَفَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَالْفَارُوقُ لَمَّا وَقَفَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ حَكَمَ بِالِاشْتِرَاكِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ أُمَّ الْأَبِ جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَتْ: أَنَا أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ أُمِّ الْأُمِّ إِذْ لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا وَلَدُ وَلَدِهَا، وَلَوْ مِتُّ وَرِثَنِي وَلَدُ وَلَدِي. فَقَالَ: هُوَ ذَلِكَ السُّدُسُ إِلَخْ، وَقَوْلُهُ " وَلَدُ وَلَدِهَا " أَيِ: ابْنَتُهَا بِالْفَرْضِيَّةِ وَالتَّعْصِيبِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الشَّيْخَانِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّاتِ الصَّحِيحَاتِ الْمُتَحَاذِيَاتِ يَتَشَارَكْنَ فِي السُّدُسِ بِالسَّوِيَّةِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِلَى أَنَّ الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمِّ تَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ مَعَ عَدَمِهَا فَتَأْخُذُ الثُّلُثَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا إِخْوَةٌ، وَالسُّدُسَ إِذَا كَانَ لَهُ أَحَدُهُمَا.

3062 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «فِي الْجَدَّةِ مَعَ ابْنِهَا أَنَّهَا أَوَّلُ جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنِهَا، وَابْنُهَا حَيٌّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ ضَعَّفَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3062 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ فِي الْجِدَّةِ مَعَ ابْنِهَا أَنَّهَا) بِكَسْرِ أَوَّلِهَا (أَوَّلُ جِدَّةٍ أَطْعَمَهَا) أَيْ: أَعْطَاهَا تَبَرُّعًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُدُسًا مَعَ ابْنِهَا) أَيْ: مَعَ وُجُودِهِ (وَابْنُهَا حَيٌّ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ " أَنَّهَا أَوَّلُ جَدَّةٍ " مَقُولُ الْقَوْلِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْجَدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَيْ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدَّةِ مَعَ الِابْنِ هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ أَبِي الْمَيِّتِ سُدُسًا مَعَ وُجُودِ أَبِي الْمَيِّتِ مَعَ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهَا مَعَهُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودِ: الْجَدَّاتُ لَيْسَ لَهُنَّ مِيرَاثٌ إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أُطْعِمَتْهَا أَقْرَبُهُنَّ وَأَبْعَدُهُنَّ سَوَاءٌ. وَفِي شَرْحِ ابْنِ الْمَلَكِ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّمَا أَعْطَاهَا تَفَضُّلًا عَلَيْهَا لَا بِطْرِيقِ الْمِيرَاثِ، وَمَذْهَبُهُ عَدَمُ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ كَانَ مَعَهُمَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْمَيِّتِ أَمْ لَا. وَفِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ لِلسَّيِّدِ: وَتَسْقُطُ الْجَدَّةُ بِالْأَبِ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرِهِمْ، وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ أُمَّ الْأَبِ تَرِثُ مَعَ الْأَبِ، وَاخْتَارَهُ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْطَى أُمَّ الْأَبِ السُّدُسَ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ، وَأُوِّلَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو ذَلِكَ الْمَيِّتِ رَقِيقًا أَوْ كَافِرًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ ضَعَّفَهُ) .

3063 - وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ وَرِّثِ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضُّبَانِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3063 - (وَعَنِ الضَّحَّاكِ) بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنِ سُفْيَانَ) بِالتَّثْلِيثِ، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ بِشَجَاعَتِهِ يُعَدُّ بِمِائَةِ فَارِسٍ وَكَانَ يَقُومُ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّيْفِ، وَوَلَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مَنْ قَوْمِهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ تَفْسِيرِيَّةٌ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ (وَرِّثْ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: أَعْطِ الْمِيرَاثَ (امْرَأَةَ أَشْيَمَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَسُكُونِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَكَانَ قُتِلَ خَطَأً (الضِّبَابِيِّ) بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى مَنْسُوبٌ إِلَى ضِبَابٍ قَلْعَةٍ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ صَحَابِيٌّ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ (مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ أَوَّلًا ثُمَّ تَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ وَلَا الزَّوْجَ وَلَا الْمَرْأَةَ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

3064 - وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا السُّنَةُ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3064 - (وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيُّ كَانَ نَصْرَانِيًّا، أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ وَرُبَّمَا رَدَّدَ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا إِلَى الصَّبَاحِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ نَامَ لَيْلَةً لَمْ يَقُمْ بِتَهَجُّدٍ فِيهَا حَتَّى أَصْبَحَ فَقَامَ سَنَةً لَمْ يَنْمِ فِيهَا عُقُوبَةً لِلَّذِي صَنَعَ، سَكَنَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْرَجَ السِّرَاجَ فِي الْمَسْجِدِ، رَوَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِصَّةَ الدَّجَّالِ وَالْجَسَّاسَةِ، وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ ( «قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا السُّنَةُ فِي الرَّجُلِ» ) أَيْ مَا حَكْمُ الشَّرْعُ فِي شَأْنِ الرَّجُلِ (مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ) أَيِ: الْكُفْرِ ( «يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ) أَيْ أَيْصِيرُ مَوْلًى لَهُ أَمْ لَا؟ (فَقَالَ: هُوَ) أَيِ الرَّجُلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهِ وَمَمَاتِهِ) أَيْ بِمَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ يَعْنِي يَصِيرُ مَوْلًى لَهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَصِيرُ مَوْلًى، وَيَصِيرُ مَوْلًى عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ ; لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَدَلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَأَتْبَاعِهِ ; قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» "، وَحَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي بِدْءِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالنُّصْرَةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " «هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ» " يَعْنِي بِالنُّصْرَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَبِالصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً اه. وَجَعْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّافِعِيِّ غَرِيبٌ وَعَجِيبٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

3065 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا غُلَامًا كَانَ أَعْتَقَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لَهُ أَحَدٌ؟ قَالُوا: " لَا " إِلَّا غُلَامٌ لَهُ كَانَ أَعْتَقَهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ لَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3065 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا) أَيْ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا يَرِثُهُ (إِلَّا غُلَامًا) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنْ تَرَكَ عَبْدًا (أَعْتَقَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لَهُ أَحَدٌ) أَيْ يَرِثُهُ ( «قَالُوا لَا إِلَّا غُلَامٌ لَهُ كَانَ أَعْتَقَهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ لَهُ» ) أَيْ لِلْغُلَامِ وَهَذَا الْجَعْلُ مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَعْطَوْا مِيرَاثَهُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ» بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ لِأَنَّهُ صَارَ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: قَالَ شُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ: يَرِثُ الْعَتِيقَ مِنَ الْمُعْتِقِ كَمَا يَرِثُ الْمُعْتِقُ مِنَ الْعَتِيقِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَتَقَدَّمَ رِوَايَةُ الدَّارِمِيُّ فِي الشَّرْحِ.

3066 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَرِثُ الْوَلَاءَ مَنْ يَرِثُ الْمَالَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3066 - (وَعَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) أَيِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَرِثُ الْوَلَاءَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ: مَالَ الْعَتِيقِ (مَنْ يَرِثُ الْمَالَ) أَيْ مِنَ الْعَصَبَاتِ الذُّكُورِ وَالْمُرَادُ الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا مَخْصُوصٌ أَيْ يَرِثُ الْوَلَاءَ كُلُّ عَصَبَةٍ يَرِثُ مَالَ الْمَيِّتِ، وَالْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَرِثُ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَصَبَةٍ بَلِ الْعَصَبَةُ الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ وَلَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَرِثُ النِّسَاءُ بِالْوَلَاءِ إِلَّا إِذَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ عَتِيقُهُنَ أَحَدًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ لَيْسَ بِقَوِيٍّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3067 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا كَانَ مِنْ مِيرَاثٍ قُسِّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ مِيرَاثٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْإِسْلَامِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3067 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا كَانَ مِنْ مِيرَاثٍ قُسِمَ» ) بِالتَّخْفِيفِ ( «وَفِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ مِيرَاثٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ، فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْإِسْلَامِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

3068 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ كَثِيرًا يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: عَجَبًا لِلْعَمَّةِ تُورَثُ وَلَا تَرِثُ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3068 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ) بِفَتْحِ مُهْمِلَةٍ فَسُكُونِ زَايٍ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ كَثِيرًا) أَيْ: سَمَاعًا كَثِيرًا (يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: عَجَبًا لِلْعَمَّةِ تُورَثُ وَلَا تَرِثُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا التَّعْجِيبُ مِنْ حَيْثُ الْقِيَاسِ وَرَأَيِ الْعَقْلِ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى التَّعَبُّدِ وَأَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا عَجَبَ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

3069 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ. وَزَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالطَّلَاقَ وَالْحَجَّ. قَالَا: فَإِنَّهُ مِنْ دِينِكُمْ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3069 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ) أَيْ: مَوْقُوفًا (تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ. وَزَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالطَّلَاقَ وَالْحَجَّ. قَالَا) أَيْ: عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ (فَإِنَّهُ) أَيْ: هَذَا الْعِلْمُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَإِنَّهَا أَيْ: الْفَرَائِضَ أَوِ الْمَذْكُورَاتَ (مِنْ دِينِكُمْ) أَيْ: مِنْ مُهِمَّاتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمِنْهُ مَا رُوِيَ " «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ» "، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ نِصْفَ الْعِلْمِ إِمَّا تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ، أَوِ اسْتِكْثَارًا لِلْبَعْضِ، أَوِ اعْتِبَارًا لِحَالَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ: هَكَذَا رِوَايَةُ الْفُقَهَاءِ فَالْفَرَائِضُ جَمْعُ فَرِيضَةٍ وَهِيَ مَا قُدِّرَ مِنَ السِّهَامِ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْعِلْمَ بِهَا نِصْفَ الْعِلْمِ إِمَّا لِاخْتِصَاصِهَا بِإِحْدَى حَالَيِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ الْمَمَاتُ دُونَ سَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْحَيَاةِ وَإِمَّا لِاخْتِصَاصِهَا بِإِحْدَى سَبْيِ الْمَلَكِ، أَعْنِي الضَّرُورِيَّ دُونَ الِاخْتِيَارِيِّ لِشِرَاءِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَإِمَّا لِلتَّرْغِيبِ فِي تَعَلُّمِهَا لِكَوْنِهَا أُمُورًا مُهِمَّةً وَإِنَّ رِوَايَةَ الدَّارِمِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: " «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِمُوهُ النَّاسَ، تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ» "، وَعَلَى هَذَا الرِّوَايَةِ فَالْفَرَائِضُ إِمَّا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ، أَوْ عَلَى مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَخَصَّ ذِكْرِهَا بَعْدَ التَّعْمِيمِ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ اه. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ آخِرُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ ; فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَالْعَلَمُ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي فَرِيضَةٍ لَا يَجِدَانِ أَحَدًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا» ، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: تَعَلَّمُوا الْفُرُوضَ الْمُقَدَّرَةَ فِي الْكِتَابِ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنَّهَا نِصْفٌ لِعِلْمِ الْمَوَارِيثِ، إِذْ عِلْمُ الْمَوَارِيثِ نَوْعَانِ، عِلْمٌ بِالْفُرُوضِ وَعِلْمُ الْعَصَبَاتِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ. قُلْنَا لَا يَجُوزُ هَذَا لِمَانِعٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهَا أَوَّلُ قَضِيَّةٍ تُنْسَى، وَأَوَّلُ قَضِيَّةٍ تُنْسَى لَا يَكُونُ الْفُرُوضُ لِأَنَّ نِسْيَانَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى نِسْيَانِ الْكِتَابِ، وَهُوَ بَاقٍ إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ. فَلَا يَكُونُ أَوَّلَ قَضِيَّةٍ تُنْسَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ يُقَالَ تُنْسَى مَعْرِفَتُهَا أَوْ يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِهَا» ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَاللَّهُ وَلِي دِينِهِ جَلَّ جَلَالُهُ.

[باب الوصايا]

[بَابُ الْوَصَايَا]

(20) بَابُ الْوَصَايَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3070 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 20 - بَابُ الْوَصَايَا جَمْعُ الْوَصِيَّةِ اسْمٌ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مَنْ وَصَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا وَصَلْتَهُ وَسُمِّيَتْ وَصِيَّةً لِأَنَّهُ وَصَلَ مَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ بِمَا بَعْدَهُ، وَيُقَالَ: وَصَّى وَأَوْصَى أَيْضًا. قُلْتُ: وَكُلَّمَا قُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132] وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْوَصِيَّةُ بِمَعْنَى النَّصِيحَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3070 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا ") أَيْ: لَيْسَ ( «حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ» ) مِنْ صِفَتِهِ أَنَّ أَوَّلَهُ (" «شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ» ") بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا (" يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ ") فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أَنْ يَبِيتَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] الْآيَةَ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. ( «إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ» ) أَيْ: مُثَبَّتَةٌ (" عِنْدَهُ ") وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ حَقُّهُ مِنْ جِهَةِ الْحَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالِانْتِبَاهِ لِلْمَوْتِ أَنْ يَتْرُكَ الْوَصِيَّةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " مَا " بِمَعْنَى لَيْسَ وَيَبِيتُ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِامْرِئٍ وَيُوصَى فِيهِ صِفَةُ شَيْءٍ، وَالْمُسْتَثْنَى خَبَرٌ أَيْ لِلَيْسَ، ثُمَّ قَيَّدَ لَيْلَتَيْنِ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ تَأْكِيدًا وَلَيْسَ بِتَحْدِيدٍ، وَالْمَعْنَى لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا أَنْ يَبِيتَ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَتَى يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي تَخْصِيصِ لَيْلَتَيْنِ تَسَامُحٌ فِي إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةً وَقَدْ سَامَحْنَاهُ فِي الْمِقْدَارِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُ، قُلْتُ: وَفِي تَخْصِيصِ لَيْلَةٍ تَسَامُحٌ فِي إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيْضًا إِذْ يَتَصَوَّرُ الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعْنَاهُ مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِمُسْلِمٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ. وَقَالَ دَاوُدُ وَغَيْرُهُ مَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: هِيَ وَاجِبَةٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ دَيْنٌ أَوْ وَدِيعَةٌ لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا وَأَنْ يَكْتُبَهَا فِي صَحِيفَةٍ وَيُشْهَدَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا، وَبِمَا قُلْنَا يُشْهِدُ عَلَيْهِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَمْ تَنْفَعْهُ الْوَصِيَّةُ إِذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى وُجُوبِهَا لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَدْبِهَا ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَهَا حَقًّا لِلْمُسْلِمِ لَا عَلَيْهِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَانَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ. قِيلَ: هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ الْمُتَبَرَّعِ بِهَا، وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، رَدُّ الْأَمَانَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فَوَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْكِتَابَةِ بِلَا إِشْهَادٍ عَلَيْهِ كَانَتْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ تَعَلَّقَ بِهِ، فَلَا بُدَّ لَإِزَالَتِهِ مِنْ حُجَّةٍ شَرْعِيةٍ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يُشْهِدَهَا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِعَهُمَا عَلَيِهِ اه. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ الْمُتَبَرَّعِ بِهَا قَوْلُهُ لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فِي رِوَايَةٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي شَرْحِ الصُّدُورِ لِلسُّيُوطِيِّ: أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَكَرْتُ حَدِيثًا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَدَعَوْتُ بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاسٍ لِأَكْتُبَ وَصِيَّتِي وَغَلَبَنِي النَّوْمُ، فَنِمْتُ وَلَمْ أَكْتُبْهَا، فَبَيِنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ دَخَلَ دَاخِلٌ أَبْيَضُ الثِّيَابِ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ قُلْتُ: مَا هَذَا مَنْ أَدْخَلَكَ دَارِي؟ قَالَ: أَدْخَلَنِيهَا رَبُّهَا. قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مَلَكُ الْمَوْتِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: لَا تُرَعْ إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقَبْضِ رُوحِكَ؟ قُلْتُ: فَاكْتُبْ لِي إِذَاً بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ. قَالَ: هَاتِ دَوَاةً وَقِرْطَاسًا فَمَدَدْتُ يَدَيْ إِلَى الدَّاوَةِ وَالْقِرْطَاسِ الَّذِي نِمْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِي، فَنَاوَلْتُهُ، فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، اسْتَغْفِرِ اللَّهَ حَتَّى مَلَأَ ظَهَرَ الْكَاغِدِ وَبَطْنِهِ ثُمَّ نَاوَلَنِيهِ، وَقَالَ: هَذَا بَرَاءَتُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ وَانْتَبَهْتُ فَزِعًا، وَدَعَوْتُ بِالسِّرَاجِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا الْقِرْطَاسُ الَّذِي نِمْتُ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِي مَكْتُوبٌ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ اه» . وَلَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ: " «مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرَّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ» "، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مَرْفُوعًا.

3071 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا أَشْفَيْتُ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَتِي، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَالشَّطْرِ؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: " الثُّلُثُ " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3071 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ) وَفِي هَامِشِ نُسْخَةِ مَيْرَكَ شَاهْ: صَوَابُهُ عَامُ حِجَّةِ الْوَدَاعِ. (مَرَضًا أَشْفَيْتُ) أَيْ: أَشْرَفْتُ (عَلَى الْمَوْتِ) يُقَالَ: أَشْفَى عَلَى كَذَا أَيْ: قَارَبَهُ وَصَارَ عَلَى شِفَاهٍ وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشَّرِّ ( «فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي» ) حَالٌ ( «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي» ) أَيْ: مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ (إِلَّا ابْنَتِي) (أَفَأُوصِي) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ (بِمَالِي) أَيْ: بِتَصَدُّقِهِ (كُلِّهِ؟) لِلْفُقَرَاءِ ( «قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَالشَّطْرِ؟» ) بِالْجَرِّ أَيْ: فَبِالنِّصْفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنِّصْفِ، وَفِي أُخْرَى بِالرَّفْعِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ نَصْبُهُ عَطَفًا عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَرَفَعَهُ أَيْ: فَالشَّطْرُ كَافٍ وَجَرُّهُ عَطْفًا عَلَى مَجْرُورِ الْبَاءِ. (قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟) بِالْجَرِّ وَجَوَّزَ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ عَلَى مَا سَبَقَ (قَالَ: الثُّلُثَ) بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالرَّفْعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ نَصْبُ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَرَفْعُهُ فَالنَّصْبُ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْطَ الثُّلُثَ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ: يَكْفِيكَ الثُّلُثُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَوْ عَكْسُهُ (وَالثُّلُثُ) بِالرَّفْعِ لَا غَيْرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ خَبَرُهُ (كَثِيرٌ) وَهُوَ بِالْمُثَلَّثَةِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: رُوِيَ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِيصَاءَ بِالثُّلُثِ جَائِزٌ لَهُ وَأَنَّ النَّقْصَ مِنْهُ أَوْلَى (إِنَّكَ) اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (أَنْ تَذَرَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: أَنْ تَتْرُكَ (وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ) أَيْ: مُسْتَغْنِينَ عَنِ النَّاسِ ( «خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً» ) أَيْ: فُقَرَاءَ ( «يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» ) أَيْ: يَسْأَلُونَهُمْ بِالْأَكُفِّ وَمَدِّهَا إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وَرَثَتَهُ كَانُوا فُقَرَاءَ، وَهُمْ أَوْلَى بِالْخَيْرِ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَنْ تَذَرَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ. وَفِي الْفَائِقِ: أَنْ تَذَرَ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ تَرْكُكَ أَوْلَادَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ، وَالْجُمْلَةُ بِأَسْرِهَا خَبَرُ إِنَّكَ. قَالَ الْأَشْرَفُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ أَنْ حَرْفَ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ يَبْقَى الشَّرْطُ حِينَئِذٍ بِلَا جَزَاءٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ قَوْلِهِ خَيْرُ جَزَاءٍ لَهُ، وَكَثِيرًا مَا تَصَحَّفَ فِيهِ أَهْلُ الزَّمَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْفَاءِ مِنَ الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَتِ اسْمِيَّةً، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ وَجَدْتَ بَعْدَ بُرْهَةٍ مِنَ الزَّمَانِ نَقْلًا مِنْ جَانِبِ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ فِي كِتَابِ شَوَاهِدِ التَّوْضِيحِ وَالتَّصْحِيحِ لِمُشْكِلَاتِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ، إِنَّهُ أَتَى فِي الْحَدِيثِ بِالشَّرْطِ وَقَالَ: الْأَصْلُ إِنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ، فَحَذَفَ الْفَاءَ وَالْمُبْتَدَأَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا اسْتَمْتَعَ بِهَا» ". وَقَوْلُهُ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ: " «الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» " وَذَلِكَ مِمَّا زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِهَا، بَلْ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الشِّعْرِ، وَيَقِلُّ فِي غَيْرِهِ، وَمَنْ خَصَّ هَذَا الْحَذْفَ بِالشِّعْرِ حَادَ عَنِ التَّحْقِيقِ وَضَيَّقَ حَيْثُ لَا يَضِيقُ، (" «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً» ") مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مُطْلَقٌ ( «تَبْتَغِي فِيهَا وَجْهَ اللَّهِ» ) أَيْ: رِضَاهُ (إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: صِرْتَ مَأْجُورًا بِسَبَبِ تِلْكَ النَّفَقَةِ (حَتَّى اللُّقْمَةَ) بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ وَحُكِيَ بِالرَّفْعِ (تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ) وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ أَيْ: فِي فَمِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُنْفِقَ لِابْتِغَاءِ رِضَاهُ تَعَالَى يُؤْجَرُ، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّ الْإِنْفَاقِ مَحَلَّ الشَّهْوَةِ وَحَظَّ النَّفْسِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَفْعَلْ لِأَنَّكَ مُتُّ وَتَذَرُ

وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ تَذَرُهُمْ فُقَرَاءَ، وَإِنْ عِشْتَ وَتَصَدَّقْتَ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ وَأَنْفَقْتَ عَلَى عِيَالِكَ يَكُنْ خَيْرًا لَكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " فِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْوَجَعِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ إِذْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ، فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي أَجْرِ مَرَضِهِ " اه. وَفِيهِ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا حِكَايَةُ أَنَّهُ مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا. قَالَ: " وَدَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَالِ وَمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِثٌ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ صِلَةَ الْقَرِيبِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبْعَدِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ بِنِيَّتِهِ، وَأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعِيَالِ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ صَارَ طَاعَةً، فَإِنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ مَنْ أَحَظِّ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِهَا وَمَلَاذِّهَا الْمُبَاحَةِ، وَوَضْعُ اللُّقْمَةِ فِي فِيهَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ، وَهِيَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ، فَغَيْرُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْرِ اه. وَقَوْلُهُ: (أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ) فِيهِ مُسَامَحَةٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالطَّاعَةِ الْعِبَادَةَ، وَإِلَّا فَالطَّاعَةُ الْمُقَابَلَةُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَصِحُّ إِيرَادُهَا هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3072 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَوْصَيْتَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " بِكَمْ ": قُلْتُ بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: " فَمَا تَرَكْتَ لِوَلَدِكَ؟ " قُلْتُ: هُمْ أَغْنِيَاءُ بِخَيْرٍ. فَقَالَ: " أَوْصِ بِالْعُشْرِ " فَمَا زِلْتُ أُنَاقِصُهُ، حَتَّى قَالَ: " أَوْصِ بِالثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3072 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) أَيْ زَارَنِي، فَفِيهِ تَجْرِيدٌ لِقَوْلِهِ (وَأَنَا مَرِيضٌ) حَالٌ (فَقَالَ: " أَوْصَيْتَ ") أَيْ أَرَدْتَ الْوَصِيَّةَ ( «قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " بِكَمْ "؟ قُلْتُ: بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: " فَمَا تَرَكْتَ لِوَلَدِكَ؟» ) بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يُطْلَقُ عَلَى الْبِنْتِ لِمَا تَقَدَّمَ. (قُلْتُ: هُمْ) فِيهِ تَغْلِيبٌ لِلْعَصَبَةِ عَلَى الْبِنْتِ (أَغْنِيَاءُ) أَيْ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ لَا الْجَمِيعِ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ (بِخَيْرٍ) ، أَيْ بِمَالٍ وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ أَوْ صِفَةٌ، أَيْ: مُلْتَبَسُونَ بِخَيْرٍ (فَقَالَ: " أَوْصِ بِالْعُشُرِ ") بِالضَّمِّ وَيُسْكَنُ (فَمَا زِلْتُ أُنَاقِصُهُ) بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُعْجَمَةِ (حَتَّى قَالَ: " «أَوْصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ") قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " أَيْ قَالَ سَعْدٌ: فَمَا زِلْتُ أُنَاقِضُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُنَاقَضَةِ أَيْ: يَنْقُضُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلِي، وَأَنْقُضُ قَوْلَهُ، أَرَادَ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ حِرْصًا عَلَى الزِّيَادَةِ، وَرُوِيَ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ مِنَ النُّقْصَانِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَيْ لَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ فِي النُّقْصَانِ أَيْ أَعُدُّ مَا ذَكَرَ نَاقِصًا حَتَّى قَالَ بِالثُّلُثِ، وَلَوْ رُوِيَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ لَكَانَ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ ". فِي النِّهَايَةِ: " فِي حَدِيثِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فَنَاقَضَنِي وَنَاقَضْتُهُ أَيْ يَنْقُضُ قَوْلِي وَأَنْقُضُ قَوْلَهُ مِنْ نَقَضِ الْبِنَاءِ، وَأَرَادَ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ وَالْمُرَادَّةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَتَقَدَّمَ مَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ» .

3073 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنِ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: " «الْوَلَدُ لِلْفَرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3073 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ» ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيُكْسَرُ ( «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» ) أَيْ: بَيَّنَ لَهُ حَظَّهُ وَنَصِيبَهُ الَّذِي فُرِضَ لَهُ ( «فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ) قَالَ الْمُظْهِرُ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ فَرْضًا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمِيرَاثِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فَإِنْ أَوْصَى وَأَجَازَ بَاقِي الْوَرَثَةِ صَحَّتْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: «الْوَلَدُ لِلْفَرَاشِ» ) بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: لِلْأُمِّ، فِي النِّهَايَةِ: وَتُسَمَّى الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لِأَنَّ الرَّجُلَ يَفْتَرِشُهَا. أَيْ: الْوَلَدُ مَنْسُوبٌ إِلَى صَاحِبِ الْفِرَاشِ، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجًا أَوْ سَيِّدًا، أَوْ وَاطِئَ شُبْهَةٍ، وَلَيْسَ لِلزَّانِي فِي نِسْبَةِ حَظٍّ إِنَّمَا الَّذِي جُعِلَ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ اسْتِحْقَاقَ الْحَدِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ( «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ لَهُ الْخَيْبَةَ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: لَهُ التُّرَابُ، وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَى الرَّجْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّ الرَّجْمَ لَا يَشْرَعُ فِي سَائِرِهِ، وَكُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا نَصِيبَ لِأَحَدٍ بَعْدَمَا بَيَّنَ اللَّهُ الْأَنْصِبَاءَ إِلَّا لِلْأَجْنَبِيِّ فَلَا حَظَّ لِلْأَوَّلِ فَكَيْفَ بِالثَّانِي؟ ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: لَا حَقَّ لِلْعَاهِرِ ثُمَّ لَهُ التُّرَابُ، فَوَضَعَ الْحَجَرَ مَوْضِعَهُ لِيَدُلَّ بِإِشَارَةِ النَّصِّ عَلَى الْحَدِّ وَبِعِبَارَتِهِ عَلَى الْخَيْبَةِ، فَكَانَ أَجْمَعُ مِنْ لَوْ قِيلَ التُّرَابُ. (وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي نَحْنُ نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الزُّنَاةِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُمْ، هَذَا مَفْهُومُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ جَاءَ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا لَا يُعَذَّبُ بِذَلِكَ الذَّنْبِ فِي الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ الْعُقُوبَةَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ زَنَى أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ وَلَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَنَحْنُ نُجْرِي أَحْكَامَ الشَّرْعِ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهِ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، فَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَجَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ بَقِيَّةُ مُحَاسَبَتِهِمْ وَمُجَازَاتِهِمْ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ بِالذَّنْبِ وَمُبَاشَرَةِ سَائِرِ الذُّنُوبِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الضَّمِيرُ فِي حِسَابِهِمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى الْعَاهِرِ بِحَسَبِ الْجِنْسِيَّةِ جَازَ إِذَا أُرِيدَ بِالْحَجَرِ الْحَدَّ، وَإِذَا أُرِيدَ مُجَرَّدُ الْحِرْمَانِ فَلَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ مِنَ الْوَرَثَةِ وَالْعَاهِرِ، وَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي قَسَّمَ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ بِنَفْسِهِ فَأَعْطَى بَعْضَنَا الْكَثِيرَ وَبَعْضَنَا الْقَلِيلَ، وَحَجَبَ الْبَعْضَ وَحَرَمَ الْبَعْضَ، وَلَا يُعْرَفُ حِسَابُ ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ إِلَّا هُوَ، فَلَا تُبَدِّلُوا النَّصَّ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَلِلْعَاهِرِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ أَعْطَى، وَعَلَى الْأَوَّلِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: " «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ". وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ: " «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى، وَقَدْ عُدَّ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ.

3074 - وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ» . مُنْقَطِعٌ، هَذَا لَفْظُ الْمَصَابِيحِ. وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: قَالَ: «لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3074 - (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ» ) بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ وَتَأْنِيثِهِ أَيْ: وَيُرِيدُوهَا وَيُجِيزُوهَا (مُنْقَطِعٌ) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُنْقَطِعُ هُوَ الْإِسْنَادُ الَّذِي فِيهِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى التَّابِعِيِّ رَاوٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الَّذِي فَوْقَهُ، وَالسَّاقِطُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَمِنْهُ الْإِسْنَادُ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ بَعْضَ الرُّوَاةِ بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ نَحْوَ رَجُلٍ أَوْ شَيْخٍ أَوْ غَيْرِهِمَا اه. لِأَنَّ الْمَجْهُولَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (هَذَا) أَيْ: الَّذِي ذَكَرَ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ لَفْظَ الْمَصَابِيحِ. وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ: لَا يَجُوزُ) بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ أَيْ: لَا يَصِحُّ (وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ) قُلْتُ: رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» أَيْضًا عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

3075 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ، فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» . ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] إِلَى قَوْلِهِ {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3075 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ» ) أَيْ لَيَعْبُدُ اللَّهَ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (وَالْمَرْأَةَ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ وَخَبَرُ الْمَعْطُوفِ مَحْذُوفٌ بِدَلَالَةِ خَبَرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَخَبَرُهُ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَنَازَعَ فِي قَوْلِهِ: (بِطَاعَةِ اللَّهِ) الْمَحْذُوفُ وَالْمَذْكُورُ (سِتِّينَ سَنَةً) أَيْ مَثَلًا أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّكْثِيرُ ( «ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ» ) أَيْ: عَلَامَتُهُ ( «فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ» ) مِنَ الْمُضَارَّةِ أَيْ: يُوصِلَانِ الضَّرَرَ إِلَى الْوَارِثِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ بِأَنْ يَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ لِوَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ كَيْلَا يَرِثَ وَارِثٌ آخَرُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، فَهَذَا مَكْرُوهٌ وَفِرَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِمَا ضَرَرٌ لِأَحَدٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ فَيَقْصِدَانِ الضَّرَرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ يُوصِي لِغَيْرِ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ أَوْ يُوصِي بِعَدَمِ إِمْضَاءِ مَا أَوْصَى بِهِ حَقًّا بِأَنْ نَدَمَ مِنْ وَصِيَّتِهِ أَوْ يَنْقُضُ بَعْضَ الْوَصِيَّةِ ( «فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» ) أَيْ: ذَهَبَتْ وَالْمَعْنَى يَسْتَحِقَّانِ الْعُقُوبَةَ، وَلَكِنَّهُمَا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ (ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ) أَيْ: اسْتِشْهَادًا وَاعْتِضَادًا {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء: 12] مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ {يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] بِبِنَاءِ الْمَعْلُومِ {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] أَيْ: غَيْرَ مُوصِلِ الضَّرَرِ إِلَى وَرَثَتِهِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ فَغَيْرُ حَالٍ مِنْ فَاعِلِ يُوصِي، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ: يُوصِي مَجْهُولًا فَهُوَ حَالٌ عَنْ يُوصَى مُقَدَّرٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لِوَصِيٍّ عُلِمَ أَنَّ ثَمَّ مُوصِيًا (إِلَى قَوْلِهِ: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] يَعْنِي وَصِيَّةً. مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [النساء: 13] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، وَالشَّاهِدُ إِنَّمَا هُوَ الْآيَةُ الْأُولَى، وَإِنَّمَا قَرَأَ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لِأَنَّهَا تُؤَكِّدُ الْأُولَى، وَكَذَا مَا بَعْدَهَا مِنَ الثَّالِثَةِ، وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بِالثَّانِيَةِ عَنِ الثَّالِثَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3076 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ مَاتَ عَلَى وَصِيَّةٍ مَاتَ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، وَمَاتَ عَلَى تُقًى وَشَهَادَةٍ، وَمَاتَ مَغْفُورًا لَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3076 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ مَاتَ عَلَى وَصِيَّةٍ مَاتَ عَلَى سَبِيلٍ» ") أَيْ: طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ وَدَلِيلٍ قَوِيمٍ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأُبْهِمُهُ لِيَدُلَّ عَلَى ضَرْبٍ بَلِيغٍ مِنَ الْفَخَامَةِ أَيْ: عَلَى سَبِيلٍ أَيِّ سَبِيلٍ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَسُّنَةٍ) أَيْ: طَرِيقَةٍ أَوْ سُّنَةٍ حَسَنَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَالتَّنَكُّرُ لِلتَّكْثِيرِ وَلِكَوْنِهِ تَفْسِيرًا لَمْ يَعُدِ الْجَارَّ " ( «وَمَاتَ عَلَى تُقًى» ) بِضَمِّ التَّاءِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى وَزْنِ هُدًى أَيْ: عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ مِنِ امْتِثَالِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ خَاتِمَتِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا (وَشَهَادَةٍ) أَيْ: حُكْمِيَّةٍ أَوْ عَلَى حُضُورٍ مَعَ اللَّهِ وَغَيْبَةٍ عَمَّا سِوَاهُ ( «وَمَاتَ مَغْفُورًا لَهُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " كَرَّرَ الْمَوْتَ وَأَعَادَهُ لِيُفِيدَ اسْتِقْلَالَ صِفَةِ التَّقْوَى وَالشَّهَادَةِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالْغُفْرَانِ تَرَقِّيًا لِأَنَّ الْغُفْرَانَ غَايَةُ الْمَطْلَبِ وَغَايَةُ الْمَقْصِدِ، وَمِنْ ثَمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ قَبْلَ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] وَإِنَّمَا لَمْ يَعُدِ الْجَارُ فِي الْقَرِينَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْحَالَاتِ السَّابِقَةَ هَيْئَاتٌ صَادِرَةٌ عَنِ الْعَبْدِ وَالْأَخِيرَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

3077 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ فَأَعْتَقَ ابْنُهُ هِشَامٌ خَمْسِينَ رَقَبَةً، فَأَرَادَ ابْنُهُ عَمْرٌو أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةَ، قَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبِي أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ، وَإِنَّ هِشَامًا أَعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ، وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةً، أَفَأَعْتِقُ عَنْهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتَهُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتَمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتَمْ عَنْهُ، بَلَغَهُ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3077 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ: يَعْنِي أَبَاهُ وَهُوَ سَهْمِيٌّ قُرَشِيٌّ، أَدْرَكَ زَمَنَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُسْلِمْ. ( «أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ» ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَعْتِقُ وَرَثَتُهُ عَنْ قِبَلِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِائَةَ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ ( «فَأَعْتَقَ ابْنُهُ هِشَامٌ» ) كَانَ قَدِيمَ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ حِينَ بَلَغَهُ مُهَاجِرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَبَسَهُ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ بِمَكَّةَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْخَنْدَقِ، كَانَ حَبْرًا فَاضِلًا، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أَخِيهِ، وَقُتِلَ بِالْيَرْمُوكِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (خَمْسِينَ رَقَبَةً، فَأَرَادَ ابْنُ عَمْرٍو) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: " أَسْلَمَ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ، قَدِمَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، فَأَسْلَمُوا جَمِيعًا، وَوَلَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُمَانَ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمِلَ لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَ مِصْرَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَمْ يَزَلْ عَامِلًا لَهُ عَلَيْهَا إِلَى آخَرَ وَفَاتَهُ، وَأَقَرَّهُ عُثْمَانُ عَلَيْهَا نَحَوَا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَعَزَلَهُ، ثُمَّ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا مُعَاوِيَةُ لَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، فَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَلَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَوَلِيَ مِصْرَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ عَزَلَهُ مُعَاوِيَةُ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَصَدَ (أَنْ يَحِيقَ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِيهِ (الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةَ قَالَ) يْ: فِي نَفْسِهِ أَوْ لِأَخِيهِ أَوْ لِأَصْحَابِهِ (حَتَّى) أَيْ: لَا أُعْتِقُ حَتَّى (أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مِنْ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فَأُعْتِقَ عَنْهُ أَمْ لَا؟ ( «فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبِي أَوْصَى أَنْ يُعْتِقَ عَنْ مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَإِنَّ هِشَامًا أَعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ» ) أَيْ: رَقَبَةٌ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى وَصِيَّتِهِ (خَمْسُونَ رَقَبَةً، أَفَاعْتِقَ عَنْهُ) أَيْ: أَتُجِيزُهُ فَأُعْتِقَ؟ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهُ ") يَعْنِي لَا. فَاكْتَفَى بِالدَّلِيلِ عَلَى الْمَدْلُولِ أَيْ بِدَلِيلِ إِنَّهُ ( «لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأُعْتِقُ عَنْهُ» ) أَيْ: أَيْهَا الْوَرَثَةُ أَوْ أَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَالْعُدُولُ عَنِ الْمُفْرَدِ إِلَى الْجَمْعِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ ( «أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ، بَلَغَهُ ذَلِكَ» ) أَيْ: وَحَيْثُ لَمْ يُسْلِمُ لَمْ يَبْلُغْهُ ثَوَابُهُ لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، لَكِنَّ الْإِعْتَاقَ يَرْجِعُ ثَوَابُهُ إِلَى مَنْ أَعْتَقَ عَنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَهَذِهِ النُّكْتَةُ بَاعِثَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ " لَا " فِي الْجَوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3078 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَطَعَ مِيرَاثَ وَارِثِهِ، قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3078 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَطَعَ مِيرَاثَ وَارِثِهِ، قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ» ") قَالَ الرَّاغِبُ: الْوِرَاثَةُ انْتِقَالُ قِنْيَةٍ إِلَيْكَ عَنْ غَيْرِكَ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ الْمُنْتَقِلِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَيُقَالَ لِكُلِّ مَنْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فَقَدْ وَرِثَ كَذَا، وَيُقَالَ لِمَنْ خَوَّلَ شَيْئًا مِنْهَا أُورِثَ قَالَ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف: 72] (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَخْصِيصُ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَقَطْعِهِ مِيرَاثِ الْجَنَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَزِيدِ الْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ، وَوَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ أَنَّ الْوَارِثَ كَمَا انْتَظَرَ فَتَرَقَّبَ وُصُولَ الْمِيرَاثِ مِنْ مُورِثِهِ فِي الْعَاقِبَةِ فَقَطَعَهُ كَذَلِكَ يُخَيِّبُ اللَّهُ تَعَالَى آمَالَهُ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَالْفَوْزِ بِهَا اه. وَخَتَمَ اللَّهُ لَنَا بِالْحُسْنَى وَبَلَّغْنَا الْمَقَامَ الْأَسْنَى. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: عَنْهُ.

3079 - وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3079 - (وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) .

[كتاب النكاح]

[كِتَابُ النِّكَاحِ]

كِتَابُ النِّكَاحِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3080 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (12) - كِتَابُ النِّكَاحِ قِيلَ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالْعَقْدِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ، وَقِيلَ: وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَوْ يَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الْحَرَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ: " إِنْ كَانَ لَهُ خَوْفُ وُقُوعِ الزِّنَا بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّحَرُّزِ إِلَّا بِهِ كَانَ فَرْضًا، وَعِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا فِي حَالَةِ الِاعْتِدَالِ فَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ أَهْلَ الظَّاهِرِ، عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ وَالْإِنْفَاقِ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فَقِيلَ: فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ: سُنَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْعِبَادَاتِ حَتَّى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي عَنْهُ لِمَحْضِ الْعِبَادَةِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مُبَاحٌ وَأَنَّ التَّجَرُّدَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَحَقِيقَةُ الْفَضْلِ تَنْفِي كَوْنَهُ مُبَاحًا إِذْ لَا فَضْلَ فِي الْمُبَاحِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ اقْتَرَنَ بِنِيَّةٍ كَانَ ذَا فَضْلٍ، وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ أَدِلَّةٌ وَأَجْوِبَةٌ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْهُمَامِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " إِنْ وَجَدَ الْمُؤَنَ وَالْأَسْبَابَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ النِّكَاحُ وَلَوْ تَاقَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، ثُمَّ الْأَوْلَى لَهُ تَرْكُ النِّكَاحِ وَالتَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ: أَنَّ النِّكَاحَ لَهُ أَفْضَلُ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَيُكْرَهُ لَهُ النِّكَاحُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3080 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ» ) بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ شَابٍّ، وَهُوَ مَنْ بَلَغَ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ ثَلَاثِينَ، وَالْمَعْشَرُ هُمُ الطَّائِفَةُ الَّذِينَ يَشْمَلُهُمْ وَصْفٌ كَالشَّبَابِ وَالشَّيْخُوخَةِ وَالْبُنُوَّةِ ( «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ» ) بِالْمَدِّ وَالْهَاءِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ الشَّهِيرَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالثَّانِيَةُ بِلَا مَدٍّ، وَالثَّالِثُ بِالْمَدِّ بِلَا هَاءٍ، وَالرَّابِعَةُ بِهَاءَيْنِ بِلَا مَدٍّ، وَهِيَ الْبَاهَةُ. وَمَعْنَاهَا الْجِمَاعُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَاهِ الْمُنْزَّلِ، ثُمَّ قِيلَ لِعَقْدِ النِّكَاحِ بَاهٌ، لِأَنَّ مَنْ تَزَوُّجَ امْرَأَةً بَوَّأَهَا مَنْزِلًا، وَفِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ أَيْ: مُؤْنَةُ الْبَاءَةِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ " عَطْفٌ عَلَى " مَنِ اسْتَطَاعَ " وَلَوْ حَمَلَ الْبَاءَةَ عَلَى الْجِمَاعِ لَمْ يَسْتَقِمْ قَوْلُهُ: قَالَ الصَّوْمُ لَهُ وِجَاءٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَالَ لِلْعَاجِزِ هَذَا، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا قِيلَ: أَيْهَا الْقَادِرُ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الشَّهْوَةِ إِنْ حَصَلَتْ لَكَ مُؤَنُ النِّكَاحِ تَزَوَّجْ وَإِلَّا فَصُمْ، وَلِهَذَا السِّرِّ خَصَّ النِّدَاءَ بِالشُّبَّانِ (فَلْيَتَزَوَّجْ) قِيلَ: الْأَمْرُ فِيهِ لِلْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ التَّوَقَانِ بِإِشَارَةِ قَوْلِهِ: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ " فَإِنَّهُمْ ذُو التَّوَقَانِ عَلَى الْجِبِلَّةِ السَّلِيمَةِ (فَإِنَّهُ) أَيْ: التَّزَوُّجَ (أَغَضُّ لِلْبَصَرِ) أَيْ: أَخْفَضُ وَأَدْفَعُ لِعَيْنِ الْمُتَزَوِّجِ عَنِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَضِّ طَرْفِهِ أَيْ: خَفْضِهِ وَكَفِّهِ (وَأَحْصَنُ) أَيْ: أَحْفَظُ (لِلْفَرْجِ) أَيْ: عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أَيْ: مُؤَنُ الْبَاءَةِ ( «فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ» ) قِيلَ: هُوَ مِنْ إِغْرَاءِ الْغَائِبِ، وَبِتَقْدِيمِ قَوْلِهِ: " «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ» " صَارَ كَالْحَاضِرِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ: فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ، فَالْحَدِيثُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ لَا الْأَمْرِ، وَقِيلَ: مِنْ إِغْرَاءِ الْمُخَاطَبِ أَيْ أَشِيرُوا عَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، (فَإِنَّهُ) أَيْ: الصَّوْمُ (لَهُ) أَيْ: لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّزَوُّجِ لِفَقْرِهِ (وِجَاءٌ) بِالْكَسْرِ بِالْمَدِّ أَيْ: كَسْرٌ لِشَهْوَتِهِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ رَضُّ الْخُصْيَتَيْنِ وَدَقُّهُمَا لِتَضْعُفَ الْفُحُولَةُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّوْمَ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ وَيَدْفَعُ شَرَّ الْمَنِيِ كَالْوِجَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: فَعَلَيْهِ بِالْجُوعِ، وَقِلَّةِ مَا يَزِيدُ فِي الشَّهْوَةِ وَطُغْيَانِ الْمَاءِ مِنَ الطَّعَامِ، فَعَدَلَ إِلَى الصَّوْمِ إِذْ مَا جَاءَ بِمَعْنَى عِبَادَةٍ هِيَ بِرَأْسِهَا مَطْلُوبَةٌ، وَلِيُؤْذَنَ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ نَفْسِ الصَّوْمِ الْجُوعُ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ، وَكَمْ مِنْ صَائِمٍ يَمْتَلِئُ مِعًى اه. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ فِيهِ هَذَا السِّرُّ وَالنَّفْعُ لِهَذَا الْمَرَضِ، وَلَوْ أَكَلَ وَشَرِبَ كَثِيرًا إِذَا كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلِأَنَّ الْجُوعَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالشِّبَعَ فِي بَعْضِهَا لَيْسَ كَالشِّبَعِ الْمُسْتَمِرِّ فِي تَقْوِيَةِ الْجِمَاعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3081 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3081 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ» ) أَيْ: الِانْقِطَاعَ عَنِ النِّسَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ شَرِيعَةِ النَّصَارَى، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ أُمَّتَهُ ; لِيَكْثُرَ النَّسْلُ وَيَدُومَ الْجِهَادُ. قَالَ الرَّاوِي: (وَلَوْ أَذِنَ لَهُ) أَيْ: لِعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ (لَاخْتَصَيْنَا) أَيْ: لَجَعَلَ كُلٌّ مِنَّا نَفْسَهُ خَصِيًّا كَيْلَا يَحْتَاجَ إِلَى النِّسَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " كَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ أَذِنَ لَتَبَتَّلْنَا، فَعَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ: اخْتَصَيْنَا إِرَادَةً لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: لَوْ أَذِنَ لَبَالَغْنَا فِي التَّبَتُّلِ حَتَّى بِالِاخْتِصَاءِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " كَانَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُمْ جَوَازُ الِاخْتِصَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الظَّنُّ مُوَافِقًا فَإِنَّ الِاخْتِصَاءَ فِي الْآدَمِيِّ حَرَامٌ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَكَذَا يَحْرُمُ خِصَاءُ كُلِّ حَيَوَانٍ لَا يُؤْكَلُ، وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَيَجُوزُ فِي صِغَرِهِ وَيَحْرُمُ فِي كِبَرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " التَّجَرُّدُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] يَمْدَحُ يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعَدَمِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذَا مَعْنَى الْحَصُورِ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحَيَاءُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَبَدَنًا عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرًا، وَزَوْجَةً لَا تَبْغِيهِ حُوبًا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَإِسْنَادُ أَحَدِهِمَا جَيِّدٌ، لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ: لَا أُنْكِرُ الْفَضِيلَةَ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ وَإِنَّمَا أَقُولُ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ فَالْأَوْلَى فِي حَوَابِهِ التَّمَسُّكُ بِحَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَدُّهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أَمَّتِهِ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي عَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلُوا أَزْوَاجَهُ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ: بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ: بَعْضُهُمْ لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: " مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» " فَرَدَّ هَذَا الْحَالَ رَدًّا مُؤَكَّدًا حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَفْضَلِيَّةُ فِي الِاتِّبَاعِ لَا فِيمَا تُخَيَّلُ النَّفْسُ أَنَّهُ أَفْضَلُ نَظَرًا إِلَى ظَاهِرِ عِبَادَةٍ وَتَوَّجُهٍ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَرْضَى لِأَشْرَفِ أَنْبِيَائِهِ إِلَّا بِأَشْرَفِ الْأَحْوَالِ وَكَانَ حَالُهُ إِلَى الْوَفَاةِ النِّكَاحَ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقِرَّهُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، وَحَالُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ نُسِخَتِ الرَّهْبَانِيَّةُ فِي مِلَّتِنَا، وَلَوْ تَعَارَضَا قُدِّمَ التَّمَسُّكُ بِحَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَزَوَّجُوا فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءًا، وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ مِنْ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَوْسِعَةِ الْبَاطِنِ بِالتَّحَمُّلِ فِي مُعَاشَرَةِ أَبْنَاءِ النَّوْعِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحَ الْمُسْلِمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ، وَإِعْفَافِ الْحُرُمِ وَنَفْسِهِ وَدَفْعِ الْفِتْنَةِ عَنْهُ وَعَنْهُنَّ، وَدَفْعِ التَّقْتِيرِ عَنْهُنَّ بِحَبْسِهِنَّ لِكِفَايَتِهِنَّ مُؤْنَةَ سَبَبِ الْخُرُوجِ ثُمَّ الِاشْتِغَالُ بِتَأْدِيبِ النَّفْسِ وَتَأْهِيلِهِ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَلِتَكُونَ هِيَ أَيْضًا سَبَبًا لِتَأْهِيلِ غَيْرِهَا وَأَمْرِهَا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْفَرَائِضَ كَثِيرَةٌ لَمْ يَكَدْ يَقِفُ عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي بِخِلَافِ مَا إِذَا عَارَضَهُ خَوْفُ الْجَوْرِ إِذِ الْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ، بَلْ فِي الِاعْتِدَالِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةٌ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَقُولُ: بَلْ فِيهِ فَضَلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَضَائِهَا بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ، فَالْعُدُولُ إِلَيْهِ مَعَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَثْقَالًا فِيهِ قَصْدُ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ وَعَلَيْهِ يُثَابُ وَوُعِدَ الْعَوْنَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِاسْتِحْسَانِ حَالَتِهِ.

3082 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3082 - (وَعَنْ) أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ» ) أَيْ: لِخِصَالِهَا الْأَرْبَعِ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ (لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا) بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الشَّخْصِ وَآبَائِهِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِسَابِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا تَفَاخَرُوا عَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنَاقِبَهُ وَمَآثِرَ آبَائِهِ (وَلِجَمَالِهَا) أَيْ: لِصُورَتِهَا (وَلِدِينِهَا) أَيْ: سِيرَتِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " لِمَالِهَا إِلَخْ بَدَلٌ مِنْ أَرْبَعٍ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ، وَقَدْ جَاءَتِ اللَّامُ مُكَرَّرًا فِي الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ اللَّامُ فِي جَمَالِهَا اه. وَمَا فِي الْكِتَابِ مُوَافِقٌ لِمُسْلِمٍ ( «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ» ) أَيْ: فُزْ بِنِكَاحِهَا. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنْ يَرْغَبُوا فِي النِّسَاءِ وَيَخْتَارُوهَا لِإِحْدَى أَرْبَعٍ خِصَالٍ عَدَّهَا، وَاللَّائِقُ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَأَرْبَابِ الدِّيَانَاتِ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ مِنْ مَطْمَحِ نَظَرِهِمْ فِيمَا يَأْتُونَ وَيَذْرُونَ، لَا سِيَّمَا فِيمَا يَدُومُ أَمْرُهُ وَيَعْظُمُ خَطَرُهُ. ( «تَرِبَتْ يَدَاكَ» ) يُقَالَ: تَرِبَ الرَّجُلُ أَيْ: افْتَقَرَ كَأَنَّهُ قَالَ: تَلْتَصِقُ بِالتُّرَابِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الدُّعَاءُ، بَلِ الْحَثُّ عَلَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ فِي طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ. قِيلَ: مَعْنَاهُ صِرْتَ مَحْرُومًا مِنَ الْخَيْرِ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ، وَتَعَدَّيْتَ ذَاتِ الدِّينِ إِلَى ذَاتِ الْجَمَالِ وَغَيْرِهَا، وَأَرَادَ بِالدِّينِ الْإِسْلَامَ وَالتَّقْوَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْكَفَاءَةِ، وَأَنَّ الدِّينَ أَوْلَى مَا اعْتُبِرَ فِيهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجِ الْمَرْأَةَ إِلَّا لِعِزِّهَا أَوْ مَالِهَا أَوْ حَسَبِهَا، فَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا ذُلًّا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ إِلَّا فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ إِلَّا دَنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يُرِدْ بِهَا إِلَّا أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ وَيُحْصِنَ فَرْجَهُ أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا وَبَارَكَ لَهَا فِيهِ» ) . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَتَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ، فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَتَزَوَّجُوهُنَّ لِمَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِينَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَالْخَرْمَاءُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَا قُطِعَ مِنْ أُذُنِهَا أَوْ مِنْ أَنْفِهَا شَيْءٌ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى الْحَسَنِ وَقَالَ: إِنْ لِي بِنْتًا وَقَدْ خَطَبَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، فَمَنْ تُشِيرُ عَلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَهَا؟ قَالَ: زَوِّجْهَا رَجُلًا يَتَّقِي اللَّهَ، فَإِنَّهُ إِنْ أَحَبَّهَا أَكْرَمَهَا، وَإِنْ أَبْغَضَهَا لَمْ يَظْلِمْهَا.

3083 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3083 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ» ) أَيْ: تَمَتُّعٌ قَلِيلٌ نَفْعٌ زَائِلٌ عَنْ قَرِيبٍ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى الْكَافِرَ مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» ". ( «وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا» ) أَيْ: خَيْرُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا ( «الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» ) لِأَنَّهَا مُعِينَةٌ عَلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلِذَا فَسَّرَ عَلِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلَهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة: 201] بِالْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] بِالْحُورِ الْعِينِ {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] بِالْمَرْأَةِ السَّلِيطَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَيْدُ الصَّالِحَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّهَا شَرٌّ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.

3084 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3084 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ» ": مُبْتَدَأٌ وَصِفَةٌ وَالْمُرَادُ نِسَاءُ الْعَرَبِ، لِأَنَّ رُكُوبَ الْإِبِلِ مُخْتَصٌّ بِهِنَّ، فَلَا يَشْكُلُ بِبِنْتِ عِمْرَانَ أَوِ التَّقْدِيرُ: مِنْ خَيْرِ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ ( «صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ» ) خَبَرُ خَيْرٍ وَتَذْكِيرُهُ إِجْرَاءٌ عَلَى لَفْظِهِ (أَحْنَاهُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَفْعَلُ مِنَ الْحُنُوِّ بِمَعْنَى الشَّفَقَةِ وَالْعَطْفِ اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ لِمَا يُقَالَ مَا سَبَبُ كَوْنِهِنَّ خَيْرًا. أَيْ: أَعْطَفَ وَأَشْفَقَ جِنْسِ النِّسَاءِ، وَحَّدَ الضَّمِيرَ ذِهَابًا إِلَى الْمَعْنَى أَيْ أَحَقُّ مِنْ خَلْقٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ عَلَى تَأْوِيلِ أَحَنَى هَذَا الصِّنْفِ أَوْ مَنْ يَرْكَبُ الْإِبِلَ أَوْ يَتَزَوَّجُ وَنَحْوَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَحْنَاهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُضَافِ اه. وَكَانَ فِي أَصْلِهِ لَفْظٌ صَالِحٌ كَانَ مَتْرُوكًا وَإِلَّا فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ وَسَائِرِ الْأُصُولِ، وَلَعَلَّهُ سَاقِطٌ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ) تَنْكِيرٌ يُفِيدُ أَنَّهَا تَحْنُو عَلَى أَيْ وَلَدٍ كَانَ وَلَوْ وَلَدِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي وَصْفِ الْوَلَدِ بِالصِّغَرِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ حُنُوَّهَا مُعَلَّلٌ بِالصِّغَرِ، وَأَنَّ الصِّغَرَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الشَّفَقَةِ فَأَيْنَمَا وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ وُجِدَ حُنُوُّهُنَّ. قِيلَ: الْحَانِيَةُ مَنْ تَقُومُ عَلَى وَلَدِهَا بَعْدَ كَوْنِهِ يَتِيمًا فَلَا تَتَزَوَّجُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَلَيْسَتْ بِحَانِيَةٍ (وَأَرْعَاهُ) أَيْ: أَحْفَظُ جِنْسِهِنَّ (عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ) أَيْ: فِي أَمْوَالِهِ الَّتِي فِي يَدِهَا، وَذِكْرُ الضَّمِيرِ إِجْرَاءٌ عَلَى لَفْظِ أَرْعَى، أَوْ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي فِي مِلْكِ الزَّوْجِ وَتَصَرُّفِهِ، وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَمَّا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ أَيْ: أَنَّهُنَّ أَحْفَظُ النِّسَاءِ لِأَمْوَالِ أَزْوَاجِهِنَّ وَأَكْثَرُهُنَّ اعْتِنَاءً بِتَخْفِيفِ الْكَلَفِ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنْ بُضْعٍ هُوَ مِلْكُهُ أَيْ: أَنَّهَا تَحْفَظُ لِزَوْجِهَا فَرْجَهَا، فَعَلَى الْأَوَّلِ تُمْدَحُ بِأَمَانَتِهَا، وَعَلَى الثَّانِي بِعِفَّتِهَا، وَعَلَيْهِمَا بِكَمَالِ دِيَانَتِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

3085 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3085 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي ") أَيْ: مَا أَتْرُكُ وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ الْمَوْتِ (فِتْنَةً) أَيْ: امْتِحَانًا وَبَلِيَّةً ( «أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» ) لِأَنَّ الطِّبَاعَ كَثِيرًا تَمِيلُ إِلَيْهِنَّ وَتَقَعُ فِي الْحَرَامِ لِأَجْلِهِنَّ، وَتَسْعَى لِلْقِتَالِ وَالْعَدَاوَةِ بِسَبَبِهِنَّ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ تُرَغِّبَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَيُّ فَسَادٍ آخَرَ مِنْ هَذَا، وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: بَعْدِي، لِأَنَّ كَوْنَهُنَّ فِتْنَةً أَضَرُّ ظَهَرَ بَعْدَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

3086 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» . " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3086 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الدُّنْيَا حُلْوَةٌ» ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ (خَضِرَةٌ) . بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الضَّادِ. وَفِي رِوَايَةٍ: رَطْبَةٌ أَيْ: طَيِّبَةٌ مُزَيَّنَةٌ فِي عُيُونِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِالْخَضِرَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الشَّيْءَ النَّاعِمَ خَضِرًا، أَوْ لِتَشَبُّهِهَا بِالْخُضْرَوَاتِ فِي سُرْعَةِ زَوَالِهَا. ( «وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا» ) أَيْ: جَاعِلُكُمْ خُلَفَاءَ فِي الدُّنْيَا أَيْ: أَنْتُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى (فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أَيْ: تَتَصَرَّفُونَ أَوْ مَعْنَاهُ جَاعِلُكُمْ خُلَفَاءَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَقَدْ أَعْطَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ إِيَّاكُمْ فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْتَبِرُونَ بِحَالِهِمْ وَتَتَدَبَّرُونَ فِي مَآلِهِمْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الِاسْتِخْلَافُ إِقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَ نَفْسِهِ أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ الدُّنْيَا مُزَيَّنَةً لَكُمُ ابْتِلَاءً، هَلْ تَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى؟ أَوْ تُسْخِطُونَهُ وَتَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِغَيْرِ مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى؟ ( «فَاتَّقُوا الدُّنْيَا» ) أَيْ: احْذَرُوا مِنَ الِاغْتِرَارِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ، فَإِنَّهَا

فِي وَشَكِ الزَّوَالِ، وَاقْنَعُوا فِيهَا بِمَا يُعِينُكُمْ عَلَى حُسْنِ الْمَآلِ، فَإِنَّهُ لِحَلَالِهَا حِسَابٌ وَلِحَرَامِهَا عَذَابٌ ( «وَاتَّقَوُا النِّسَاءَ» ) أَيْ: احْذَرُوهُنَّ بِأَنْ تَمِيلُوا إِلَى الْمَنْهِيَّاتِ بِسَبَبِهِنَّ، وَتَقَعُوا فِي فِتْنَةِ الدَّمِ لِأَجْلِ الِافْتِتَانِ بِهِنَّ ( «فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» ) أَيْ: فِي شَأْنِهِنَّ وَأَمْرِهِنَّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " احْذَرُوا أَنْ تَمِيلُوا إِلَى النِّسَاءِ بِالْحَرَامِ وَتَقْبَلُوا أَقْوَالَهُنَّ، فَإِنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ لَا خَيْرَ فِي كَلَامِهِنَّ غَالِبًا اه. وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا أَضَرُّ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْبَلَايَا، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ مُعَاذٍ: اتَّقَوُا الدُّنْيَا وَاتَّقَوُا النِّسَاءَ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ طَلَّاعٌ رَصَّادٌ وَمَا هُوَ بِشَيْءٍ مِنْ فُخُوْخِهِ بِأَوْثَقَ لِصَيْدِهِ فِي الِانْقِيَادِ مِنَ النِّسَاءِ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ طَلَبَ مِنْهُ ابْنُ أَخِيهِ أَوِ ابْنُ عَمِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ فَأَبَى فَقَتَلَهُ لِيَنْكِحَهَا أَوْ لِيَنْكِحَ زَوْجَتَهُ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمَشْهُورُ فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ غَنِيٌّ، وَلَهُ ابْنُ عَمٍّ فَقِيرٌ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ مَوْتُهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ اه. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى، لَكِنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ وَثُبُوتِ رِوَايَةٍ، نَقَلَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف: 175] الْآيَاتِ. أَنَّ قِصَّتَهُ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَصَدَ حَرْبَ الْجَبَّارِينَ، وَنَزَلَ أَرْضَ بَنِي كَنْعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ أَتَى قَوْمُ بِلْعَامَ إِلَى بَلْعَامَ، وَكَانَ عِنْدَهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى رَجُلٌ حَدِيدٌ وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ، وَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يُخْرِجُنَا وَيَقْتُلُنَا وَيَحِلُّهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُجَابُ الدَّعْوَةِ فَاخْرُجْ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَنَّا. فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمْ مِنَ اللَّهِ، مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ كَيْفَ أَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَأَنَا أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ، وَإِنِّي إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ذَهَبَتْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَرَاجَعُوهُ وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَقَالَ: حَتَّى أَوَامِرَ رَبِّي، وَكَانَ لَا يَدْعُو حَتَّى يَنْظُرَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي الْمَنَامِ، فَوَامَرَ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ فِي الْمَنَامِ: لَا تَدْعُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لِقَوْمِهِ: إِنِّي قَدْ وَامَرْتُ رَبِّي وَإِنِّي قَدْ نُهِيتُ، فَأَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا، ثُمَّ رَاجَعُوهُ فَقَالَ لِقَوْمِهِ حَتَّى أَوَامِرَ فَوَامَرَ فَلَمْ يَجِيءْ إِلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ وَامَرْتُ وَلِمَ يَجِيءْ إِلَيَّ شَيْءٌ فَقَالُوا: لَوْ كَرِهَ رَبُّكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ لَنَهَاكَ كَمَا نَهَاكَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمْ يَزَالُوا يَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى فَتَنُوهُ فَافْتَتَنَ، فَرَكِبَ أَتَانًا لَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى جَبَلٍ يُطْلِعَهُ عَلَى عَسْكَرِ إِسْرَائِيلَ يُقَالَ لَهُ (حُسْبَانُ) فَلَمَّا سَارَ عَلَيْهَا غَيْرُ كَثِيرٍ رَبَضَتْ بِهِ أَيْ: جَلَسَتْ، فَوَلَّ عَنْهَا فَضَرَبَهَا حَتَّى إِذَا أَذْلَقَهَا أَيْ: أَقْلَقَهَا قَامَتْ فَرَكِبَهَا، فَلَمْ تَسِرْ بِهِ كَثِيرًا حَتَّى رَبَضَتْ، فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَامَتْ فَرَكِبَهَا فَلَمْ تَسْرِ بِهِ كَثِيرًا حَتَّى رَبَضَتْ فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَامَتْ فَرَكِبَهَا فَلَمْ تَسْرِ بِهِ كَثِيرًا حَتَّى رَبَضَتْ فَضَرَبَهَا حَتَّى إِذَا أَذْلَقَهَا أَذِنَ اللَّهُ لَهَا بِالْكَلَامِ، فَكَلَّمَتْهُ حُجَّةً عَلَيْهِ فَقَالَتْ: وَيْحَكَ يَا بَلْعَامُ أَيْنَ تَذْهَبُ أَلَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ أَمَامِي تَرُدُّنِي عَنْ وَجْهِي هَذَا، أَتَذْهَبُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِتَدْعُوَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَنْزِعْ فَخَلَى اللَّهُ سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَتْ بِهِ عَلَى جَبَلِ حُسْبَانَ جَعَلَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ وَلَا يَدْعُو عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ إِلَّا صَرَفَ بِهِ لِسَانَهُ إِلَى قَوْمِهِ، وَلَا يَدْعُو لِقَوْمِهِ بِخَيْرٍ إِلَّا صَرَفَ بِهِ لِسَانَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: أَتَدْرِي مَا تَصْنَعُ إِنَّمَا تَدْعُو لَهُمْ وَعَلَيْنَا. قَالَ: فَهَذَا مَا لَا أَمْلِكُ هَذَا شَيْءٌ قَدْ غَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ أَيْ: خَرَجَ فَوَقَعَ عَلَى صَدْرِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ ذَهَبَتِ الْآنَ مِنِّي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةُ، فَسَأَمْكُرُ لَكُمْ وَأَحْتَالُ جَمِّلُوا النِّسَاءَ وَزَيَّنُوهُنَّ وَأَعْطَوْهُنَّ السِّلَعَ، ثُمَّ أَرْسَلُوهُنَّ إِلَى الْعَسْكَرِ يَبِعْنَهَا فِيهِ، وَمُرُوهُنَّ لَا تَمْنَعُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ أَرَادَهَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ زَنَى رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ كُفِيتُمُوهُمْ، فَفَعَلُوا فَلَمَّا دَخَلَ النِّسَاءُ الْعَسْكَرَ مَرَّتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا حَتَّى أَعْجَبَتْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا حَتَّى وَقَفَ بِهَا عَلَى مُوسَى فَقَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ سَتَقُولُ هَذِهِ حَرَامٌ عَلَيْكَ. قَالَ: أَجَلْ هِيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ لَا تَقْرَبْهَا. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا نُطِيعَكَ فِي هَذَا، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا قُبَّتَهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الطَّاعُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْوَقْتِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3087 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْمَرْأَةِ، وَالْمَسْكَنِ وَالدَّابَّةِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3087 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الشُّومُ) بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَهُوَ ضِدُّ الْيُمْنِ بِمَعْنَى الْبَرَكَةِ. فِي النِّهَايَةِ: يُقَالَ تَشَاءَمْتُ وَتَيَمَّنْتُ، وَالْوَاوُ فِي الشُّؤْمِ هَمْزَةٌ، لَكِنَّهَا خُفِّفَتْ فَصَارَتْ وَاوًا، وَغُلِبَ عَلَيْهَا التَّخْفِيفُ حَتَّى لَمْ يَنْطِقْ بِهَا هَمْزَةً (فِي الْمَرْأَةِ) بِأَنْ لَا تَلِدَ، وَقِيلَ: غَلَاءُ مَهْرِهَا وَسُوءُ خُلُقِهَا (وَالدَّارِ) بِضِيقِهَا وَسُوءِ جِيرَانِهَا. (وَالْفَرَسِ) بِأَنْ لَا يُغَزَى عَلَيْهَا، وَقِيلَ: صُعُوبَتُهَا وَسُوءُ خُلُقِهَا، وَقِيلَ: هَذَا إِرْشَادٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ فَمَنْ كَانَ لَهُ دَارٌ يَكْرَهُ سُكْنَاهَا أَوِ امْرَأَةٌ يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا أَوْ فَرَسٌ لَا تُعْجِبُهُ بِأَنْ يُفَارِقَ بِالِانْتِقَالِ عَنِ الدَّارِ وَتَطْلِيقِ الْمَرْأَةِ وَبَيْعِ الْفَرَسِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «ذَرُوهَا ذَمِيمَةً» ". قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمِنْ ثَمَّةٍ جَعَلَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَابَ الطِّيَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ فِي قَوْلِهِ: " «إِنْ تَكُنِ الطِّيَرَةُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالدَّارِ» ". قَالَ الْخَطَابِيُّ: " هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا بِأَنْفُسِهَا وَطِبَاعِهَا فِعْلٌ وَتَأْثِيرٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَعْتَنِيهَا النَّاسُ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو عَنِ الْعَارِضِ فِيهَا أُضِيفَ إِلَيْهَا الْيُمْنُ، وَالشُّؤْمُ إِضَافَةَ مَكَانٍ وَمَحَلٍّ اه. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ غَالِبًا تَكُونُ أَسْبَابًا لِسُوءِ الْخُلُقِ، وَهُوَ شُؤْمٌ فَلِذَا نُسِبَ إِلَيْهَا، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِلَفْظِ: «الشُّؤْمُ سُوءُ الْخُلُقِ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَى مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ، إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " «الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ» ) أَيْ: أَشْيَاءَ (فِي الْمَرْأَةِ) بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (وَالْمَسْكَنِ) أَعَمُّ مِنَ الدَّارِ (وَالدَّابَّةِ) تَعُمُّ الْفَرَسَ وَغَيْرَهَا.

3088 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا كُنَّا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ: تَزَوَّجْتَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبٌ. قَالَ: فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3088 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا» ) أَيْ رَجَعْنَا وَمِنْهُ الْقَافِلَةُ تَفَاؤُلًا (كُنَّا) أَيْ: وَقَدْ كُنَّا ( «قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ قُلْتُ: يَا رَسُولُ اللَّهِ! إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ» ) أَيْ: قَرِيبُ الزَّمَانِ بِالزَّوَاجِ (قَالَ: تَزَوَّجَتْ) أَيْ: تَحَقَّقَ زَوَاجُكَ (قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَبِكْرٌ) أَيْ: أَهِيَ بِكْرٌ (أَمْ ثَيِّبٌ؟) وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا أَيْ: أَتَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا (قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبٌ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (قَالَ) أَيْ: لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّنَدُّمِ ( «فَهَلَّا بِكْرًا» ) أَيْ: تَزَوَّجْتَ بِكْرًا ثُمَّ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ( «تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ» ) فِيهِ أَنَّ تَزَوُّجَ الْبِكْرِ أَوْلَى، وَأَنَّ الْمُلَاعَبَةَ مَعَ الزَّوْجِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأُلْفَةِ التَّامَّةِ فَإِنَّ الثَّيِّبَ قَدْ تَكُونُ مُعَلَّقَةَ الْقَلْبِ بِالزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهَا كَامِلَةً بِخِلَافِ الْبِكْرِ، وَعَلَيْهِ مَا وَرَدَ: «عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَشَدُّ حُبًّا وَأَقَلُّ خِبًّا» (فَلَمَّا قَدِمْنَا) أَيْ: قَارَبْنَا الْقُدُومَ وَالدُّخُولَ فِي الْمَدِينَةِ (ذَهَبْنَا) أَيْ شَرَعْنَا وَتَهَيَّأْنَا (لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: أَمْهِلُوا) أَيْ: أَهْلِيكُمْ ( «حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا أَيْ عِشَاءً» ) تَفْسِرٌ مِنْ جَابِرٍ أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُ ( «لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ» ) بِفَتْحِ الشَّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: الْمُتَفَرِّقَةُ شَعْرَ الرَّأْسِ ( «وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ» ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ وَهِيَ الَّتِي غَابَ زَوْجُهَا أَيْ: تَسْتَعْمَلُ الْحَدِيدَةُ أَيِ الْمُوسَى لِحَلْقِ الْعَانَةِ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مُعَالَجَتِهِنَّ بِالنَّتْفِ وَاسْتِعْمَالِ الْوَرَّةِ لِأَنَّهُنَّ لَا تَسْتَعْمِلْنَ الْحَدِيدَةَ، وَالْمَعْنَى حَتَّى تَتَزَيَّنَ لِزَوْجِهَا وَتَتَهَيَّأَ لِاسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ بِهَا، فَالسُّنَةُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمُسَافِرُ عَلَى أَهْلِهِ حَتَّى يُبَلِّغَ خَبَرَ قُدُومِهِ، وَخَبَرُ نَهْيِ أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3089 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3089 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ» ") أَيْ: ثَابِتٌ عِنْدَهُ إِعَانَتُهُمْ أَوْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ مُعَاوَنَتَهُمُ ( «الْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ» ) أَيْ: بَدَلَ الْكِتَابَةِ ( «وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» ) أَيْ: الْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا ( «وَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِنَّمَا آثَرَ هَذِهِ الصِّيغَةَ إِيذَانًا بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنَ الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ الَّتِي تَفْدَحُ الْإِنْسَانَ وَتَقْصِمُ ظَهْرَهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِينُهُ عَلَيْهَا لَا يَقُومُ بِهَا وَأَصْعَبُهَا الْعَفَافُ لِأَنَّهُ قَمْعُ الشَّهْوَةِ الْجِبِلِّيَّةِ الْمَرْكُوزَةِ فِيهِ، وَهِيَ مُقْتَضَى الْبَهِيمِيَّةِ النَّازِلَةِ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، فَإِذَا اسْتَعَفَّ وَتَدَارَكَهُ عَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى تَرَقَّى إِلَى مَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْلَى عِلِّيِّينَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ.

3090 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِنْ لَا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتَنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3090 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ» ) أَيْ: طَلَبَ مِنْكُمْ أَنْ تُزَوِّجُوهُ امْرَأَةً مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ (مَنْ تَرْضَوْنَ) أَيْ: تَسْتَحْسِنُونَ (دِينَهُ) أَيْ: دِيَانَتُهُ (وَخُلُقَهُ) أَيْ: مُعَاشَرَتُهُ (فَزَوِّجُوهُ) أَيْ: إِيَّاهَا (إِنْ لَا تَفْعَلُوهُ) أَيْ: لَا تُزَوِّجُوهُ (تَكُنْ) أَيْ: تَقَعُ ( «فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» ) أَيْ: ذُو عَرْضٍ أَيْ كَثِيرٍ، لِأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُزَوِّجُوهَا إِلَّا مِنْ ذِي مَالٍ أَوْ جَاهٍ رُبَّمَا يَبْقَى أَكْثَرُ نِسَائِكُمْ بِلَا أَزْوَاجٍ وَأَكْثَرُ رِجَالِكُمْ بِلَا نِسَاءٍ، فَيَكْثُرُ الِافْتِتَانُ بِالزِّنَا، وَرُبَّمَا يَلْحَقُ الْأَوْلِيَاءَ عَارٌ فَتَهِيجُ الْفِتَنُ وَالْفَسَادُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَطْعُ النَّسَبِ وَقِلَّةُ الصَّلَاحِ وَالْعِفَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُرَاعَى فِي الْكَفَاءَةِ إِلَّا الدِّينَ وَحْدَهُ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُرَاعَى أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الدِّينُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالنَّسَبُ وَالصَّنْعَةُ، فَلَا تُزَوَّجُ الْمُسْلِمَةُ مِنْ كَافِرٍ، وَلَا الصَّالِحَةُ مِنْ فَاسِقٍ، وَلَا الْحُرَّةُ مَنْ عَبْدٍ، وَلَا الْمَشْهُورَةُ النَّسَبِ مِنَ الْخَامِلِ، وَلَا بِنْتَ تَاجِرٍ أَوْ مَنْ لَهُ حِرْفَةٌ طَيِّبَةٌ مِمَّنْ لَهُ حِرْفَةٌ خَبِيثَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنْ رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلَيُّهَا بِغَيْرِ كُفْؤٍ صَحَّ النِّكَاحُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3091 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3091 - (وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ) أَيْ: الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ» ) الَّتِي تُحِبُّ زَوْجَهَا (الْوَلُودَ) أَيْ: الَّتِي تَكْثُرُ وِلَادَتُهَا، وَقَيَّدَ بِهَذَيْنَ لِأَنَّ الْوَلُودَ إِذَا لَمْ تَكُنْ وَدُودًا لَمْ يَرْغَبِ الزَّوْجُ فِيهَا، وَالْوَدُودَ إِذَا لَمْ تَكُنْ وَلُودًا لَمْ يَحْصُلِ الْمَطْلُوبُ وَهُوَ تَكْثِيرُ الْأُمَّةِ بِكَثْرَةِ التَّوَالُدِ، وَيُعْرَفُ هَذَانِ الْوَصْفَانِ فِي الْأَبْكَارِ مِنْ أَقَارِبِهِنَّ، إِذِ الْغَالِبُ سَرَايَةُ طِبَاعِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِنَّ إِلَى بَعْضٍ، وَيُحْتَمَلُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى تَزَوَّجُوا اثْبُتُوا عَلَى زَوَاجِهَا وَبَقَاءِ نِكَاحِهَا إِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ. ( «فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» ) أَيْ: مَفَاخِرٌ بِسَبَبِكُمْ سَائِرَ الْأُمَمِ لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِي (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلَفَظُهُ عَنْ مَعْقِلٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتِ حَسَبٍ وَمَنْصِبٍ وَمَالٍ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ فَأَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» .

3092 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ، فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3092 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمٍ عُتْبَةَ بْنِ عُوَيْمٍ) تَصْغِيرُ عَامٍ (ابْنِ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: " عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَتَيْنِ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَمَاتَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وَقِيلَ: مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْمَدِينَةِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: سَالِمٍ (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: جَدِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ عُتْبَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مُرْسَلًا، أَوْ جَدِّهِ الْكَبِيرِ أَوْ جَدِّ أَبِيهِ وَهُوَ عُوَيْمٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ» ) فِيهِ حَثٌّ عَلَى تَزَوُّجِهِنَّ (فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَفْرَدَ الْخَبَرَ وَذَكَرَ عَلَى تَقْدِيرِهِنَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] ، أَفْوَاهًا جَمْعُ فَاهٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ طِيبِ قُبْلَتِهِنَّ أَوْ طِيبِ كَلَامِهِنَّ، وَكَوْنِهِ أَلَذَّ وَعَنْ قِلَّةِ الْفُحْشِ وَعَدَمِ سَلَاطَتِهَا عَلَى زَوْجِهَا لِبَقَاءِ حَيَائِهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ عُذُوبَةُ رِيقِهَا (وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا) أَيْ: أَكْثَرُ أَوْلَادًا وَإِطْلَاقُ الْأَرْحَامِ عَلَى الْأَوْلَادِ لِمُلَابَسَةٍ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى أَرْحَامُهُنَّ أَكْثَرُ قَبُولًا لِلنُّطْفَةِ لِقُوَّةِ حَرَارَةِ أَرْحَامِهِنَّ، أَوْ لِشِدَّةِ شَهْوَتِهِنَّ، وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ لَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُقَالَ: نَتَقَتِ الْمَرْأَةُ أَيْ: كَثُرَ وَلَدُهَا فَهِيَ نَاتِقٌ تَرْمِي بِالْأَوْلَادِ رَمْيًا. (وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ) قِيلَ: أَيْ: بِالْقَلِيلِ مِنَ الْجِمَاعِ لِاسْتِحْيَائِهَا مِنَ الزَّوْجِ، وَقِيلَ: مِنَ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ وَالتَّنَعُّمِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَأَقَلُّ خِبًّا بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مَكْرًا وَخَدِيعَةً، وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَسْخَنُ إِقْبَالًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ: مِنْ فَوَائِدِ الْبَكَارَةِ أَنْ تُحِبَّ الزَّوْجَ وَتَأْلَفَهُ فَتُؤْثَرُ فِي مَعْنَى الْوِدِّ وَالطِّبَاعِ مَجْبُولَةً عَلَى الْأُنْسِ بِأَوَّلِ مَأْلُوفٍ، وَأَمَّا الَّتِي اخْتَبَرَتِ الرِّجَالَ وَمَارَسَتِ الْأَحْوَالَ فَرُبَّمَا لَا تَرْضَى بَعْضَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُخَالِفُ مَا أَلِفَتُهُ، فَتَقْلِي الزَّوْجَ وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ يُحِبُّهَا، فَإِنَّ الطَّبْعَ يَنْفِرُ عَنِ الَّتِي مَسَّهَا غَيْرُ الزَّوْجِ نَفْرَةً، وَذَلِكَ يَثْقُلُ عَلَى الطَّبْعِ مَهْمَا يَذْكُرْ، وَبَعْضُ الطِّبَاعِ فِي هَذَا أَشَدُّ نُفُورًا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُرْسَلًا) ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ، فَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3093 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلُ النِّكَاحِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3093 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمْ تَرَ لِلْمُتَحَابِّينَ» ) بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَالْخِطَابُ عَامٌّ وَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَمْ تَرَ أَيْهَا السَّامِعُ مَا تَزِيدُ بِهِ الْمَحَبَّةُ لِلْمُتَحَابِّينَ (مِثْلَ النِّكَاحِ) أَيْ: إِذَا جَرَى بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ وَصْلَةٌ خَارِجِيَّةٌ ازْدَادَتِ الْوَصْلَةُ الْبَاطِنِيَّةُ، وَقِيلَ: إِذَا نَظَرَ إِلَى الْأَجْنَبِيةِ وَأَخَذَتْ بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ فَنِكَاحُهَا يُورِثُ مَزِيدَ الْمَحَبَّةِ، وَسِفَاحُهَا الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ الْحَدِيثَ فِي جَامِعِهِ وَلَفْظُهُ: وَلَمْ يَرَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُذَكَّرِ وَمِثْلَ النِّكَاحِ بِالرَّفْعِ، وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ.

3094 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا، فَلْيَتَزَوَّجِ الْحَرَائِرَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3094 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا» ) أَيْ: مِنْ دَنَسِ الزِّنَا (مُطَهَّرًا) مُبَالَغَةً فِي تَطَهُّرِهِ وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنَ التَّفْعِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ مُتَطَهِّرًا بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مِنَ التَّفْعِيلِ ( «فَلْيَتَزَوَّجِ الْحَرَائِرَ» ) خَصَّ الْحَرَائِرَ لِأَنَّ الْإِمَاءَ مُبْتَذَلَةٌ غَيْرُ مُؤَدَّبَةٍ، وَلِذَا وَرَدَ: الْحَرَائِرُ صَلَاحُ الْبَيْتِ، وَالْإِمَاءُ فَسَادُ الْبَيْتِ، كَمَا فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " إِنَّمَا خَصَّهُنَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْإِمَاءَ خَرَّاجَةٌ وَلَّاجَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْخِدْرِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ مُؤَدَّبَةً لَمْ يَحْسُنْ تَأْدِيبُ أَوْلَادِهَا وَتَرْبِيَتِهَا بِخِلَافِ الْحَرَائِرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَرَائِرُ عَلَى الْمَعْنَى قَالَ الْحَمَاسِيُّ: وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا قَالَ الرَّاغِبُ: الْحُرِّيَّةُ، ضَرْبَانِ، الْأَوَّلُ: مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ حُكْمُ السَّبْيِ، وَالثَّانِي: مَنْ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ قُوهُ الذَّمِيمَةِ فَبَصَرَ عَبْدًا لَهَا كَمَا وَرَدَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ» . وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَرَقَّ ذَوِي الْأَطْمَاعِ رِقَّ مُخَلَّدِ وَقِيلَ: عَبْدُ الشَّهْوَةِ أَذَلُّ مِنْ عَبْدِ الرِّقِّ اه. وَقِيلَ: الْحُرُّ مَنْ لَمْ يَرِقَّهُ هَوَاهُ وَلَمْ تَسْتَعْبِدْهُ دُنْيَاهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَمَنَّى عَلَى الزَّمَانِ مُحَالًا ... أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرِّ

3095 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَقُولُ: «مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ أَمْرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» . رَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3095 - (وَعَنْ) أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَقُولُ: " «مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ» ) وَهِيَ ارْتِكَابُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ ( «خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ» ) أَيْ: فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ، إِذْ وَرَدَ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ ( «وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ» ) أَيْ جَعَلَتْهُ مَسْرُورًا بِحُسْنِ صُورَتِهَا وَسِيرَتِهَا وَلُطْفِ مُعَاشَرَتِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ (وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا) أَيْ: فِي أَمْرٍ هِيَ تَكْرَهُ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ وَهُوَ يُرِيدُهُ (أَبَرَّتْهُ) أَيْ: جَعَلَتْهُ بَارًّا أَوْ قَسَمُهُ مَبْرُورًا بِالْمُوَافَقَةِ وَتَرْكِ الْمُخَالَفَةَ إِيثَارًا لِمَرْضَاتِهِ ( «وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ» ) أَيْ: بِالْأَمَانَةِ ( «فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» ) رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ ابْنُ مَاجَهْ) .

3096 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ نِصْفَ الدِّينِ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3096 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ» ) أَيْ: الْمَرْءُ ( «فَقَدِ اسْتَكْمَلَ نِصْفَ الدِّينِ» ) أَيْ: كَمَّلَ نِصْفَ دِينَهُ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ أَيْ: يَكْمُلُ نِصْفُهُ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَجَزَاؤُهُ قَوْلُهُ ( «فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي» ) أَيْ: فِي بَقِيَّةِ أُمُورِ دِينِهِ، وَجَعَلَ التَّزَوُّجَ نِصْفَا مُبَالِغَةً لِلْحَثِّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْغَالِبُ فِي إِفْسَادِ الدِّينِ الْفَرْجُ وَالْبَطْنُ - وَقَدْ كَفَى بِالتَّزَوُّجِ أَحَدَهُمَا، وَلِأَنَّ فِي التَّزَوُّجِ التَّحَصُّنَ عَنِ الشَّيْطَانِ، وَكَسْرَ التَّوَقَانِ، وَدَفْعَ غَوَائِلِ الشَّهْوَةِ، وَغَضَّ الْبَصَرِ، وَحِفْظَ الْفَرْجِ.

3097 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مُؤْنَةً» . رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3097 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً» ) أَيْ: أَفْرَادُهُ وَأَنْوَاعُهُ (أَيْسَرُهُ) أَيْ: أَقَلُّهُ أَوْ أَسْهَلُهُ (مُؤْنَةٌ) أَيْ: مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقَنَاعَةِ الَّتِي هِيَ كَنْزٌ لَا يَنْفَدُ وَلَا يَفْنَى. (رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب النظر]

[بَابُ النَّظَرِ]

بَابُ النَّظَرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3098 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ: قَالَ: «فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ النَّظَرِ أَيْ: جَوَازُهُ (إِلَى الْمَخْطُوبَةِ، وَبَيَانُ الْعَوْرَاتِ) بِسُكُونِ الْوَاوِ: مَا يَجِبُ سَتْرُهُ عَنِ الْأَعْيُنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعَوْرَةُ سَوْأَةُ الْإِنْسَانِ وَأَصْلُهَا مِنَ الْعَارِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ لِمَا يَلْحَقُ فِي ظُهُورِهِ مِنْ عَارِ الْمَذَمَّةِ، وَيَسْتَحِي مِنْهُ إِذَا ظَهَرَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ النِّسَاءُ عَوْرَةً، وَمِنْ ذَلِكَ الْعَوْرَاءُ لِلْكَلِمَةِ الْقَبِيحَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3098 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ: أَرَدْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا أَوْ طَلَبْتُ زَوَاجَهَا. (قَالَ: فَانْظُرْ إِلَيْهَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا. قُلْتُ: فِي دَلَالَتِهِ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْكَفَّيْنِ نَظَرٌ، وَيَأْبَى عَنْهُ أَيْضًا تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ) أَيْ: بَعْضِهِمْ (شَيْئًا) أَيْ: مِمَّا يُنَفِّرُ عَنْهُ الطَّبْعُ وَلَا يَسْتَحْسِنُهُ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي الرِّجَالِ فَقَاسَ النِّسَاءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ الْأَنْصَارَ أَوْ لِتَحْدِيثِ النَّاسِ بِهِ أَوْ أَنَّهُ عِلْمٌ بِالْوَحْيِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَزَوَّجْتُ خَطَبْتُ لِيُفِيدَ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَلِلْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَجَوَّزَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مُطْلَقًا، أَذِنَتِ الْمَرْأَةُ أَمْ لَمْ تَأْذَنْ، لِحَدِيثَيْ جَابِرٍ وَالْمُغِيرَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي أَوَّلِ الْحِسَانِ، وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ بِإِذْنِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ شَيْئًا صِغَرٌ أَوْ زُرْقَةٌ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ مِثْلَ هَذَا لِلنَّصِيحَةِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ النَّظَرِ إِلَيْهَا قَبْلَ الْخِطْبَةِ، حَتَّى إِنْ كَرِهَهَا تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَرَكَهَا بَعْدَ الْخِطْبَةِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ النَّظَرُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَبْعَثَ امْرَأَةً تَصِفُهَا لَهُ، وَبِمَا يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَحَسْبُ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ فِي حَقِّهِ، فَيُسْتَدَلُّ بِالْوَجْهِ عَلَى الْجَمَالِ وَضِدِّهِ، وَبِالْكَفَّيْنِ عَلَى سَائِرِ أَعْضَائِهَا بِاللِّينِ وَالْخُشُونَةِ " اه. وَظَاهِرُ جَوَازِ إِمْسَاسِهَا فَإِنَّ بِهِ يَتَبَيَّنُ اللِّينُ وَضِدَّهُ، وَهُوَ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3099 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3099 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ) قِيلَ: " لَا " نَافِيَةٌ بِمَعْنَى النَّاهِيَةِ، وَقِيلَ: نَاهِيَةٌ، وَالْمُبَاشِرَةُ بِمَعْنَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَامَسَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ لَمْسِ الْبَشَرَةِ الْبَشَرَةَ، وَالْبَشَرَةُ ظَاهِرُ جِلْدِ الْإِنْسَانِ أَيْ: لَا تَمَسُّ بَشَرَةُ امْرَأَةٍ بَشَرَةَ أُخْرَى (فَتَنْعَتُهَا) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ أَيْ: فَتَصِفُ نُعُومَةَ بَدَنِهَا وَلِينَةَ جَسَدِهَا (لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا) فَيَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِهَا، وَيَقَعُ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ، وَالْمَنْهِيُّ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَعْنِيُّ بِهِ فِي الْحَدِيثِ النَّظَرُ مَعَ الْمَسِّ، فَتَنْظُرُ إِلَى ظَاهِرِهَا مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَتَجِسُّ بَاطِنَهَا بِاللَّمْسِ، وَتَقِفُ عَلَى نُعُومَتِهَا وَسِمَنِهَا فَتَنْعَتُهَا عَطْفٌ عَلَى تُبَاشِرُ، فَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِمَا، فَتَجُوزُ الْمُبَاشَرَةُ بِغَيْرِ التَّوْصِيفِ. فِي شَرْحِ الْأَكْمَلِ: قَدِ اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ أَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ يَجْعَلُهُ كَالْمُعَايَنَةِ، فَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ كَالْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ حَالَ الْبَيْعِ، وَمَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَقُولُ: إِنَّ إِخْبَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَصْفَهُ الشَّيْءَ يَجْعَلُهُ كَالْمُعَايَنَةِ فِيمَا هُوَ مَنْظُورٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَعَدَمُ جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْحَيَوَانَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَوْصَافٍ بَاطِنِيَّةٍ لَا يُطْلَعُ عَلَيْهَا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَكَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَتِهِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ اه. وَلَعَلَّ مُسَلِمًا رَوَاهُ بِلَفْظٍ آخَرَ يُوَافِقُهُ فِي مَعْنَاهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3100 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3100 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ) خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ (إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ) أَيْ وَلَا تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ (إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا يُفْضِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يَصِلُ (الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثِيَابٍ وَاحِدٍ) أَيْ لَا يَضْطَجِعَانِ مُتَجَرِّدَيْنِ تَحْتَ ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " أَيْ: لَا تَصِلُ بَشَرَةُ أَحَدِهِمَا إِلَى بَشَرَةِ الْآخَرِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي الْمَضْجَعِ لِخَوْفِ ظُهُورِ فَاحِشَةٍ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَمَنْ فَعَلَ يُعَزَّرُ وَلَا يَحُدُّ. وَفِيهِ بَيَانُ تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ. وُعُورَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَكَذَلِكَ عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَفِي حَقِّ مَحَارِمِهَا وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ فَجَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَسَمَاعِ إِقْرَارٍ أَوْ خِطْبَةٍ كَمَا مَرَّ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ حَرَامٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا وَكَذَلِكَ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ، سَوَاءٌ كَانَ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ إِذَا كَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ أُمِنَ مِنَ الْفِتْنَةِ أَمْ لَا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ فَإِنَّهُ يُشْتَهَى وَصُورَتُهُ فِي الْجَمَالِ كَصُورَةِ الْمَرْأَةِ بَلْ رُبَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَحُذَّاقُ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَرْأَةِ أَحْسَنُ صُورَةً مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ بَلْ هُمْ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى لِمَا يَتَمَكَّنُ فِي حَقِّهِمْ مِنْ طُرُقِ الشَّرِّ مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مِثْلِهِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ اه. وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ وَالَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَنْ رَعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3101 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا لَا يَبِيتَنَّ رَجُلٌ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثَيِّبٍ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَاكِحًا أَوْ ذَا مَحْرَمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3101 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَبِيتَّنَّ رَجُلٌ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثَيِّبٍ) أَيْ فِي مَسْكَنِ ثَمَّةَ ثَيِّبٍ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ هُنَا التَّخَلِّي لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا وَتَخْصِيصُ الثَّيِّبِ لِأَنَّ الْبِكْرَ تَكُونُ أَغَضُّ وَأَخْوَفُ عَلَى نَفْسِهَا وَلِأَنَّهَا مَصُونَةٌ فِي الْعَادَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالثَّيِّبِ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلِ (نَاكِحًا) أَيْ زَوْجًا (أَوْ ذَا مَحْرَمٍ) أَيْ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَوْ بِالرِّضَاعِ وَلِذَا لَمْ يَقُلْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

3102 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3102 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ) أَيْ عِنْدِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى طَرِيقِ التَّخْلِيَةِ أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّكَشُّفِ (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ الْحَمْوَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا وَاوٌ وَهَمْزٌ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " أَيْ أَخْبِرْنِي عَنْ دُخُولِ الْحَمْوِ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَسُكُونِ الْمِيمِ وَاحِدُ الْإِحْمَاءِ وَهُمْ أَقَارِبُ الزَّوْجِ غَيْرِ آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ قَالَ الْقَاضِيَ: الْحَمْوُ قَرِيبُ الزَّوْجِ كَابْنِهِ وَأَخِيهِ وَفِيهِ لُغَاتٌ حَمَا كَعَصَا، وَحَمْوٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَحَمُوْ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَحَمٌ كَأَبٍ وَحَمْ بِالْهَمْزِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْجَمْعُ أَحْمَاءُ (قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ) أَيْ دُخُولُهُ كَالْمَوْتِ مُهْلِكٌ يَعْنِي الْفَتَاةَ مِنْهُ أَكْثَرَ لِمُسَاهَلَةِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا عَلَى حَدِّ الْأَسَدِ الْمَوْتُ وَالسُّلْطَانِ النَّارُ أَيْ قُرْبِهِمَا كَالْمَوْتِ وَالنَّارِ أَيْ فَالْحَذَرُ عَنْهُ كَمَا يُحْذَرُ عَنِ الْمَوْتِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ فَلْيَمُتْ وَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَوْ مَعْنَاهُ خَلْوَةُ الرَّجُلِ مَعَ الْحَمُومَةِ يُؤَدِّي إِلَى زِنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْإِحْصَانِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الرَّجْمِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَهَذِهِ الْوُجُوهُ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا فُسِّرَ الْحَمْوُّ بِأَخِ الزَّوْجِ وَمَنْ أَشْبَهَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ كَعَمِّهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَمَنْ فَسَّرَهُ بِأَبِي الزَّوْجِ حَمَلَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ رُؤْيَتَهُ وَهُوَ مَحْرَمٌ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ أَوْ أَوَّلِ الدُّخُولِ بِالْخَلْوَةِ. وَقِيلَ: لَمَّا ذَكَرَ السَّائِلُ لَفْظًا مُجْمَلًا مُحْتَمِلًا لِلْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ رَدَّ عَلَيْهِ سُؤَالَهُ بِتَعْمِيَةٍ رَدَّ الْمُغْضَبِ الْمُنْكِرِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: أَوْ وَقَعَ الْحُكْمُ تَغْلِيبًا أَوْ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ مُسْتَثْنًى شَرْعًا مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْمُرَادُ بِالْحَمْوِ هُنَا أَقَارِبُ الزَّوْجِ غَيْرِ أَبْنَائِهِ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْأَقَارِبِ كَثِيرٌ وَالْفِتْنَةَ مِنْهُمْ أَوْقَعُ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَالْخَلْوَةِ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ وَعَادَةُ النَّاسِ هُوَ الْمَوْتُ وَفِي الْعَائِقِ مَعْنَاهُ أَيْ حَمَاهَا الْغَايَةُ فِي

الشَّرِّ الْمُسَاهَلَةُ فِيهِ وَتَخَلِّي الْأَخِ بِامْرَأَةِ أَخِيهِ فَهَذَا وَالْفَسَادُ فَشُبِّهَ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ قُصَارَى كُلِّ بَلَاءٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهَا أَيْ كَانَ الْمَوْتُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَمِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا إِنْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ، قُلْتْ: وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُ الْعَامَّةِ الْحَمَا حِمًى، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ قُلْتَ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالدُّعَاءِ؟ قُلْتُ: فِي الْإِخْبَارِ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ وَوَجْهُهُ مُضْمَرٌ أَيِ الْحَمْوُ كَالْمَوْتِ فِي الشَّرِّ وَالضَّرَرِ وَفِي الدُّعَاءِ ادِّعَاءٌ أَنَّ الْحَمْوَ نَوْعَانِ مُتَعَارَفٌ وَهُوَ الْقَرِيبُ وَغَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَهُوَ الْمَوْتُ فَطَلَبَ لَهَا غَيْرَ الْمُتَعَارَفِ لَمَّا اسْتَفْتَى الرَّجُلُ عَنِ الْمُتَعَارَفِ مُبَالَغَةً وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: رَدُّ الْمُغْضَبِ الْمُنْكِرِ عَلَيْهِ أَوْ مَعْنَاهُ خَلْوَةِ الْمَرْأَةِ مَعَ الْحَمْوُ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى زِنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْإِحْصَانِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الرَّجْمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3103 - «عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحِجَامَةِ فَأَمَرَ أَبَا طَيْبَةَ أَنْ يَحْجُمَهَا، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ أَخَاهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3103 - (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي (الْحِجَامَةِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهَا (فَأَمَرَ أَبَا طَيْبَةَ أَنْ يَحْجُمَهَا) بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا (قَالَ) أَيْ جَابِرٌ (حَسِبْتُ) أَيْ ظَنَنْتُ (أَنَّهُ) أَيْ أَبَا طَيْبَةَ (كَانَ أَخَاهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُكْسَرُ (أَوْ غُلَامٌ لَمْ يَحْتَلِمْ) قَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ غَيْرَ الْمَحْرَمِ أَيْضًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَحْجُمُ وَيَقْصِدُ وَيَخْتِنُ وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا لِلضَّرُورَةِ وَلِلْمُعَالَجَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3104 - «وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3104 - (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبَجَلِيِّ (قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ) بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ وَبِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْجِيمِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ كَذَا فِي النِّهَايَةِ أَيِ الْبَغْتَةِ قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ فَجَأَهُ الْأَمْرُ فُجَاءَةً بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ وَفَاجَأَهُ إِذَا جَاءَ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ (فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي) أَيْ لَا أَنْظُرُ مَرَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّ الْأَوْلَى إِذَا لَمْ تَكُنْ بِالِاخْتِيَارِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهَا فَإِنْ أَدَامَ النَّظَرَ أَثِمَ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَالُوا فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا إِنَّمَا ذَلِكَ سُنَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَهَا وَيَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إِلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3105 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ إِذَا أَحَدَكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3105 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ مِنَ الْإِقْبَالِ (فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ) مِنَ الْإِدْبَارِ (فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ) شَبَّهَهَا بِالشَّيْطَانِ فِي صِفَةِ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِضْلَالِ فَإِنَّ رُؤْيَتَهَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ دَاعِيَةٌ لِلْفَسَادِ (إِذَا أَحَدَكُمْ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَيَجُوزُ رَفْعُهُ (أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ) أَيْ إِذَا أَعْجَبَتْ أَحَدَكُمُ الْمَرْأَةُ وَالْفِعْلُ الْمَذْكُورُ تَفْسِيرُهُ وَالْمَعْنَى اسْتَحْسَنَهَا؟ لِأَنَّ غَايَةَ رُؤْيَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ تَعْظِيمُهُ وَاسْتِحْسَانُهُ (فَوَقَعَتْ) أَيْ مَحَبَّتُهَا أَوْ شَهْوَتُهَا (فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ لِيَقْصِدْ (إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا) أَيْ لِيُجَامِعْهَا (فَإِنَّ ذَلِكَ) أَيِ الْجِمَاعَ (يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ) بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مِنَ الرَّدِّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ بَرَدَ مِنَ الْبَرَدِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَهُ يَرُدُّ بِيَاءِ الْمُضَارَعَةِ مِنَ الرَّدِّ وَرُوِيَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي مِنَ التَّبْرِيدِ وَالْمَشْهُورُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْهَوَى وَالدُّعَاءُ إِلَى الْفِتْنَةِ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نُفُوسِ الرِّجَالِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى النِّسَاءِ وَالتَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِنَّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِنَّ فَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالشَّيْطَانِ فِي دُعَائِهِ إِلَى الشَّرِّ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَزْيِينِهِ لَهُ وَيَسْتَنْبِطُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ لَا تَخْرُجَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا تَلْبَسَ ثِيَابًا فَاخِرَةً، وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَيْهَا وَلَا إِلَى ثِيَابِهَا وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالرَّجُلِ أَنْ يَطْلُبَ امْرَأَتَهُ إِلَى الْوِقَاعِ فِي النَّهَارِ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَغِلَةً بِمَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَتْ عَلَى الرَّجُلِ شَهْوَتُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِالتَّأْخِيرِ فِي بَدَنِهِ أَوْ قَلْبِهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3106 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3106 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ) أَيْ أَرَادَ خِطْبَتَهَا وَهِيَ بِكَسْرِ التَّاءِ مُقَدِّمَاتُ الْكَلَامِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ عَلَى الْخُطْبَةِ بِالضَّمِّ وَهِيَ الْعُقَدُ (فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا) أَيْ عُضْوٍ (يَدْعُوهُ) أَيْ يَحْمَدُهُ وَيَبْعَثُهُ (إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ) فَإِنَّهُ مَنْدُوبٌ لِأَنَّهُ سَبَبُ تَحْصِيلِ النِّكَاحِ وَهُوَ سُنَةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَالتَّحْصِينُ الْمَطْلُوبُ بِالنِّكَاحِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالرَّغْبَةِ فِي الْمَنْكُوحَةِ وَالنَّهْيِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ الْجَمَالَ فَقَطْ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَفِيهِ أَنَّ قَصْدَ الْجَمَالِ مُبَاحٌ وَالنَّهْيُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْصِدَ بِالْمُبَاحِ نِيَّةً حَسَنَةً لِيَصِيرَ عِبَادَةً قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ مَرَّ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى النِّكَاحِ إِمَّا الْمَالُ أَوِ الْحَسَبُ أَوِ الْجِمَالُ أَوِ الدِّينُ فَمَنْ غَرَضَهُ الْجَمَالَ فَلْيَتَحَرَّ فِي النَّظَرِ إِلَى مَا قَصَدَهُ بِأَنْ يَنْظُرَهَا اكْتِفَاءً بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَنْعَتُهَا لَهُ وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الدَّاعِي عَلَى كَسْرِ الشَّهْوَةِ وَغَضِّ الْبَصَرِ عَنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَمَالُ مَطْلُوبًا إِذْ بِهِ يَتَحَصَّلُ التَّحْصِينُ وَالطَّبْعُ لَا يَكْتَفِي بِالذَّمِيمَةِ غَالِبًا كَيْفَ وَالْغَالِبُ أَنَّ حُسْنَ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ لَا يَفْتَرِقَانِ وَأَنَّ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكَحُ لِجَمَالِهَا لَيْسَ زَجْرًا عَنْ رِعَايَةِ الْجَمَالِ بَلْ هُوَ زَجْرٌ عَنِ النِّكَاحِ لِأَجْلِ الْجَمَالِ الْمَحْضِ مَعَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَرَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ بِلَفْظِ إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِخِطْبَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْلَمُ.

3107 - «وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ خَطَبْتُ امْرَأَةً فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3107 - ( «وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: خَطَبْتُ امْرَأَةً فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ» ) أَيِ النَّظَرَ إِلَيْهَا (أَحْرَى) أَيْ أَقْرَبُ وَأَوْلَى وَأَرْغَبُ (أَنْ يُؤْدَمَ) أَيْ بِأَنْ يُؤَلِّفَ (بَيْنَكُمَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُقَالُ أَدَمَ اللَّهُ بَيْنَكُمَا يَأْدِمُ أَدْمًا بِالسُّكُونِ أَيْ أَصْلَحَ وَأَلَّفَ وَكَذَا آدَمَ فِي الْفَائِقِ الْأَدْمُ وَالْإِيدَامُ الْإِصْلَاحُ وَالتَّوْفِيقُ مِنْ أَدْمِ الطَّعَامِ، وَهُوَ إِصْلَاحُهُ بِالْإِدَامِ وَجَعْلُهُ مُوَافِقًا لِلطَّاعِمِ، وَالتَّقْدِيرُ يُؤْدِمُ بِهِ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، ثُمَّ حُذِفَ أَوْ نَزَلَ الْمُتَعَدِّي مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ أَيْ يُوقِعُ الْأَدْمَ بَيْنَكُمَا يَعْنِي يَكُونُ بَيْنَكُمَا الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِأَنَّ تَزَوُّجَهَا إِذَا كَانَ بَعْدَ مَعْرِفَةٍ فَلَا يَكُونُ بَعْدَهَا غَالِبًا نَدَامَةٌ، وَقِيلَ بَيْنُكُمَا نَائِبُ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) بِالرَّفْعِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

3108 - «وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَأَتَى سَوْدَةَ وَهِيَ تَصْنَعُ طِيبًا وَعِنْدَهَا نِسَاءٌ فَأَخْلَيْنَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ رَأَى امْرَأَةً تُعْجِبُهُ فَلْيَقُمْ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّ مَعَهَا مِثْلَ الَّذِي مَعَهَا» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3108 - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَأَتَى سَوْدَةَ) أَيْ بَيْتَهَا (وَهِيَ تَصْنَعُ طِيبًا وَعِنْدَهَا نِسَاءٌ) جُمْلَتَانِ حَالِيَّتَانِ (فَأَخْلَيْنَهُ) أَيِ انْفَرَدْنَ عَنْهُ (قَضَى حَاجَتَهُ) أَيْ مِنَ الْجِمَاعِ (ثُمَّ قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ رَأَى امْرَأَةً تُعْجِبُهُ فَلْيَقُمْ إِلَى أَهْلِهِ) أَيْ فَلْيُجَامِعِ امْرَأَتَهُ لِيَكْسِرَ شَهْوَتَهُ وَيُذْهِبْ وَسْوَسَتَهُ (فَإِنَّ مَعَهَا) أَيْ مَعَ امْرَأَتِهِ (مِثْلَ الَّذِي مَعَهَا) أَيْ فَرْجًا مِثْلَ فَرْجِهَا وَيَسُدُّ مَسَدَّهَا قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ النَّظَرُ هَذَا الْفِعْلُ وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ أَنَّ فِي تِلْكَ الْغَايَةِ سُخْطًا مِنَ اللَّهِ وَهَذِهِ بِخِلَافِهِ وَكَانَتْ تِلْكَ الْفِعْلَةُ بِمَحْضَرٍ مِنَ النِّسَاءِ إِرْشَادًا لَهُنَّ وَلِأَزْوَاجِهِنَّ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3109 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3109 - (عَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتْ) أَيْ مِنْ خِدْرِهَا (اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ) أَيْ زَيَّنَهَا فِي نَظَرِ الرِّجَالِ وَقِيلَ: أَيْ نَظَرَ إِلَيْهَا لِيُغْوِيَهَا وَيُغْوِيَ بِهَا وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِشْرَافِ رَفْعُ الْبَصَرِ لِلنَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ وَبَسْطُ الْكَفِّ فَوْقَ الْحَاجِبِ وَالْعَوْرَةُ السَّوْأَةُ وَكُلُّ مَا يُسْتَحَى مِنْهُ إِذَا ظَهَرَ، وَقِيلَ أَنَّهَا ذَاتُ عَوْرَةٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ غَيَّرَهَا بِهَا فَيُوقِعُهَا أَوْ أَحَدَهُمَا فِي الْفِتْنَةِ أَوْ يُرِيدُ بِالشَّيْطَانِ شَيْطَانَ الْإِنْسِ مِنْ أَهْلِ الْفِسْقِ أَيْ إِذَا رَأَوْهَا بَارِزَةً اسْتَشْرَفُوهَا بِمَا بَثَّهُ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الشَّرِّ وَمُحْتَمَلٌ أَنَّهُ رَآهَا الشَّيْطَانُ فَصَارَتْ مِنَ الْخَبِيثَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3110 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3110 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ) مِنَ الْإِتْبَاعِ أَيْ لَا تُعَقِّبْهَا إِيَّاهَا وَلَا تَجْعَلْ أُخْرَى بَعْدَ الْأُولَى (فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى) أَيِ النَّظْرَةَ الْأُولَى إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ (وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ) أَيِ النَّظْرَةُ الْآخِرَةُ لِأَنَّهَا بِاخْتِيَارِكَ فَتَكُونُ عَلَيْكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُولَى نَافِعَةٌ كَمَا أَنَّ الثَّانِيَةَ ضَارَّةٌ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِذَا أَمْسَكَ عِنَانَ نَظَرِهِ وَلَمْ يُتْبِعِ الثَّانِيَةَ أُجِرَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) .

3111 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَمَتَهُ فَلَا يَنْظُرَنَّ إِلَى عَوْرَتِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَنْظُرَنَّ إِلَى مَا دُونُ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3111 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ» ) وَغَيْرُهُ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى (أَمَتَهُ) أَيْ مَمْلُوكَتِهِ (فَلَا يَنْظُرَنَّ إِلَى عَوْرَتِهَا) فَضْلًا عَنْ مَسِّهَا لِأَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ (وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَنْظُرَنَّ إِلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ) وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَوْرَةِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ السُّرَّةَ وَالرُّكْبَةَ كِلْتَاهُمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَكَذَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ لَكِنْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الرَّحْمَةِ فِي اخْتِلَافِ الْأُمَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السُّرَّةَ مِنَ الرَّجُلِ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ وَأَمَّا الرُّكْبَةُ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَيْسَتْ مِنَ الْعَوْرَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهَا مِنْهَا وَأَمَّا عَوْرَةُ الْأَمَةِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ هِيَ كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ زَادَ أَبُو حَنِيفَةَ بَطْنُهَا وَظَهْرُهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3112 - وَعَنْ جَرْهَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3112 - (وَعَنْ جَرْهَدٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَاءِ ابْنِ خُوَيْلِدٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّوْبِيخِيِّ إِشْعَارًا بِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ فَإِنَّهُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ ( «أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ» ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .

3113 - «وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ لَا تُبْرِزْ فَخِذَكَ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3113 - (وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «يَا عَلِيُّ لَا تُبْرِزْ فَخِذَكَ» ) مِنَ الْإِبْرَازِ أَيْ لَا تُظْهِرْهُ وَلَا تَكْشِفْهُ (وَلَا تَنْظُرْ إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْحَاكِمُ.

3114 - «وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَعْمَرٍ وَفَخِذَاهُ مَكْشُوفَتَانِ. قَالَ: يَا مَعْمَرُ غَطِّ فَخِذَيْكَ فَإِنَّ الْفَخِذَيْنِ عَوْرَةٌ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3114 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَ مَرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَعْمَرٍ) بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ أَسْلَمَ قَدِيمًا (وَفَخِذَاهُ مَكْشُوفَانِ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (قَالَ: يَا مَعْمَرُ غَطِّ) أَيِ اسْتُرْ (فَخِذَيْكَ فَإِنَّ الْفَخْذَيْنِ عَوْرَةٌ رَوَاهُ) أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ.

3115 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّيَ فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْغَائِطِ وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3115 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّيَ) أَيِ احْذَرُوا مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ (فَإِنَّ مَعَكُمْ) أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ (مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْغَائِطِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُمُ الْحَفَظَةُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ (وَحِينَ يُفْضِي) أَيْ يَصِلُ (الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ فَاسْتَحْيُوهُمْ) أَيْ مِنْهُمْ (أَكْرِمُوهُمْ) أَيْ بِالتَّغَطِّي وَغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُ تَعْظِيمَهُمْ وَتَكْرِيمَهُمْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْمُجَامَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3116 - «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَيْمُونَةُ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " احْتَجِبَا مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3116 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَيْمُونَةُ) بِالرَّفْعِ عَطَفَا عَلَى الْمُسْتَتِرِ فِي كَانَتْ وَسَوَّغَهُ الْفَصْلُ وَتُرْوَى مَنْصُوبَةً عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ وَمَجْرُورَةً عَطْفًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَوْجَهُ الْعَطْفُ عَلَى اسْمِ أَنَّ لِيُشْعِرَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيْتِ أَمِّ سَلَمَةَ وَمَيْمُونَةُ دَاخِلَةٌ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمَعْطُوفِ وَإِيقَاعَ الْفَصْلِ يَدُلُّ عَلَى أَصَالَةِ الْأُولَى وَتَبَعِيَّةِ الثَّانِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] (أَوْقَعَ الْفَصْلَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِسْمَاعِيلَ تَابِعٌ لَهُ فِي الرَّفْعِ وَلَوْ عَطَفَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ أَوْهَمَ الشَّرِكَةَ (إِذَا أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 2] (فَدَخَلَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجِبَا مِنْهُ) قَالَتْ أَمُّ سَلَمَةَ ( «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَعَمْيَاوَانِ» ) تَثْنِيَةُ عَمْيَاءٍ تَأْنِيثُ أَعْمَى (أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ) قِيلَ فِيهِ تَحْرِيمُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ مُطْلَقًا وَبَعْضٌ خَصَّهُ بِحَالِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ عَلَيْهَا جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ عَائِشَةَ كَنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ أَطْلَقَ التَّحْرِيمَ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ آيَةِ الْحِجَابِ وَالْأَصَحُّ إِنَّهُ يَجُوزُ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ بِلَا شَهْوَةٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَانَ النَّظَرُ إِلَى الْحَبَشَةِ عَامَ قُدُومِهِمْ سَنَةَ سَبْعٍ

وَلِعَائِشَةَ يَوْمَئِذٍ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَذَلِكَ بَعْدَ الْحِجَابِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ اه. وَبِدَلِيلِ أَنَّهُنَّ كُنَّ يَحْضُرْنَ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ نَظَرُهُنَّ إِلَى الرِّجَالِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَمْ يُؤْمَرْنَ بِحُضُورِ الْمَسْجِدِ وَالْمُصَلَّى وَلِأَنَّهُ أُمِرَتِ النِّسَاءُ بِالْحِجَابِ عَنِ الرِّجَالِ وَلَمْ يُؤْمَرِ الرِّجَالُ بِالْحِجَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَرَوَى أَبُو حَامِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَيَعْشُو بِالْأُخْرَى مَا شَيْءٌ عِنْدِي أَخْوَفَ مِنَ النِّسَاءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ حَدِيثُ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ.

3117 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ خَالِيًا قَالَ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3117 - (عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهُ زَايٌ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ حَكِيمٍ (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ جَدِّ بَهْزِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ لَهُ (احْفَظْ عَوْرَتَكَ) أَيْ مِنَ التَّكَشُّفِ أَوْ مِنَ الْجِمَاعِ وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ (إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أَيْ مِنَ الْإِمَاءِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ وَالنِّكَاحَ يُبِيحَانِ النَّظَرَ إِلَى السَّوْأَتَيْنِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ) أَيْ فَأَخْبِرْنِي (إِذَا كَانَ الرَّجُلُ خَالِيًا) كَيْفَ الْحُكْمُ (قَالَ فَاللَّهُ) أَوْ مَلَائِكَتُهُ (أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ فِي الْخَلْوَةِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا سَبَقَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وَلَفْظُ «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ قِيلَ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قِيلَ إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» .

3118 - وَعَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3118 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَخْلُوَنَّ) أَيِ الْبَتَّةَ الْبَتَّةَ (رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ) أَيْ أَجْنَبِيَّةٍ (إِلَّا كَانَ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ) بِرَفْعِ الْأَوَّلِ وَنَصْبِ الثَّانِي وَيَجُوزُ الْعَكْسُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ وَالْمَعْنَى يَكُونُ الشَّيْطَانُ مَعَهُمَا يُهَيِّجُ شَهْوَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا حَتَّى يُلْقِيَهُمَا فِي الزِّنَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَخْلُوَنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ وَيَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا إِذِ التَّقْدِيرُ لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ كَائِنَيْنِ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَفِيهِ تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ فِي الْبَابِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3119 - وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَلِجُوا عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أَحَدِكُمْ مَجْرَى الدَّمِ قُلْنَا وَمِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَمِنِّي وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3119 - (وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَلِجُوا) مِنَ الْوُلُوجِ أَيْ لَا تَدْخُلُوا (عَلَى الْمُغِيبَاتِ) أَيِ الْأَجْنَبِيَّاتِ الَّتِي غَابَ عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أَحَدِكُمْ) أَيْ أَيُّهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ (مَجْرَى الدَّمِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مِثْلَ جَرَيَانِهِ فِي بَدَنِكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُ (قُلْنَا وَمِنْكَ) أَيْ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (قَالَ وَمِنِّي) أَيْ وَمِنِّي أَيْضًا (وَلَكِنَّ اللَّهَ) بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ (أَعَانَنِي عَلَيْهِ) أَيْ بِالْعِصْمَةِ (فَأَسْلَمَ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ الْمُتَكَلِّمِ رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي بَابِ الْوَسْوَسَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)

3120 - وَعَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا، وَعَلَى فَاطِمَةَ ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَلْقَى قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3120 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَيَ فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ) أَيْ مُصَاحِبًا بِهِ (قَدْ وَهَبَهُ لَهَا وَعَلَى فَاطِمَةَ ثَوْبٌ) أَيْ قَصِيرٍ (إِذَا قَنَّعَتْ) أَيْ سَتَرَتْ (بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا فَلَمَّا رَأَى) أَيْ أَبْصَرَ أَوْ عَلِمَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى) أَيْ مَا تَلْقَاهُ فَاطِمَةُ مِنَ التَّحَيُّرِ وَالْخَجَلِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّسَتُّرِ مِنْ جَرِّ الثَّوْبِ مِنْ رِجْلَيْهَا إِلَى رَأْسِهَا وَمِنْ رَأَسِهَا إِلَى رِجْلَيْهَا حَيَاءً أَوْ تَنَزُّهًا (قَالَ إِنَّهُ) الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ) بِأَنْ لَا تَسْتُرِي وَجْهَكِ (إِنَّمَا هُوَ) أَيْ مَنِ اسْتَحْيَيْتِ مِنْهُ (أَبُوكِ وَغُلَامُكِ) أَيِ الْآتِي أَحَدُهُمَا أَبُوكِ وَالْآخِرُ غُلَامُكِ وَمَمْلُوكُكِ، قِيلَ: هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ مِنْ نِسَاءِ مَحَارِمِهِ وَبِأَنَّ عَبْدَ الْمَرْأَةِ مَحْرَمُهَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، قُلْتُ: كَوْنُهُ دَلِيلًا غَيْرُ صَحِيحٍ فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ صَرِيحٌ وَلَعَلَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ غَيْرَ مُحْتَلِمٍ أَوْ عَلَى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَظِنَّةِ الشَّهْوَةِ وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانَ: وَالْعَبْدُ فِي النَّظَرِ إِلَى مَوْلَاتِهِ الْحُرَّةِ الَّتِي لَا قَرَابَةَ بَيْنِهِ وَبَيْنَهَا بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ الْحُرِّ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَلَا يَنْظُرُ الْأَجْنَبِيُّ الْحُرُّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ الْحُرَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ خَصِيًّا أَوْ فَحْلًا إِذَا بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ وَأَمَا الْمَجْبُوبُ الَّذِي جَفَّ مَاؤُهُ فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا جَوَّزُوا اخْتِلَاطَهُ بِالنِّسَاءِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ وَيُمْنَعُ وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مَوْلَاتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا إِجْمَاعًا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: يُبَاحُ لِلْعَبْدِ مِنْ سَيِّدَتِهِ مَا يُبَاحُ لِلْمَحْرَمِ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ اه. وَلَعَلَّ مَأْخَذَ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3121 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَدًا الطَّائِفَ فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3121 - (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ» ) بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ كَذَا فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فِي أَخْلَاقِهِ وَكَلَامِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فَتَارَةً يَكُونُ هَذَا خُلُقُهُ وَلَا ذَمٌّ لَهُ وَلَا إِثْمٌ عَلَيْهِ ; وَلِذَا لَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا دُخُولَهُ عَلَى النِّسَاءِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِتَكَلُّفٍ وَهُوَ مَلْعُونٌ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَعَنَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ» ". وَأَمَّا دُخُولُ الْمُخَنَّثِ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِأَنَّهُنَّ اعْتَقَدْنَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فَلَمَّا سَمِعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُ الْكَلَامَ الْآتِيَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أُولِي الْإِرْبَةِ فَمَنَعَ، أَوْ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ الْفَسَادُ عَلَى دُخُولِهِ عَلَى النِّسَاءِ لِوَصْفِهِ إِيَّاهُنَّ لِلْأَجَانِبِ (فَقَالَ) أَيِ الْمُخَنَّثُ (لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ) بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لِعَبْدِ اللَّهِ (يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَدًا) أَيْ فِي زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ (الطَّائِفَ) أَيْ حِصْنَهُ (فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ (فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ) أَيْ بِأَرْبَعِ عُكَنٍ فِي الْبَطْنِ مِنْ قُدَّامِهَا لِأَجْلِ السِّمَنِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ رُؤُيَتْ مَوَاضِعُهَا شَاخِصَةً مِنْ كَثْرَةِ الْغُضُونِ وَأَرَادَ بِالثَّمَانِ فِي قَوْلِهِ (وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ) أَطْرَافُ هَذِهِ الْعُكَنِ مِنْ وَرَائِهَا عِنْدَ مُنْقَطِعِ الْجَنْبَيْنِ، وَقَالَ الْأَكْمَلُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْعُكَنَ جُمَعُ عُكْنَةٍ وَهِيَ الطَّيُّ الَّذِي فِي الْبَطْنِ مِنَ السِّمَنِ فَهِيَ تُقْبِلُ بِهِنَّ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَنَتَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَرَفَانِ فَإِذَا أَدْبَرَتْ صَارَتِ الْأَطْرَافُ ثَمَانِيَةً وَإِنَّمَا قَالَ بِأَرْبَعٍ وَثَمَانٍ دُونَ أَرْبَعَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَإِنْ كَانَ الطَّرَفُ يُذَكَّرُ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: هَذَا الثَّوْبُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ يُرِيدُونَ الْأَشْبَارَ، وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ» ". ثُمَّ قِيلَ، اسْمُ هَذَا الْمُخَنَّثِ هِيتُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَبِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ وَقِيلَ: هِبْنُ بِالنُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ (قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَدْخُلَنَّ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالثَّقِيلَةِ (هَؤُلَاءِ) أَيِ الْمُخَنَّثُونَ (عَلَيْكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْمُخَنَّثِ وَالْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ فَقَوْلُهُ هَؤُلَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الْحَاضِرِ الْوَاحِدِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ وَقِيلَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ صِنْفِ هَؤُلَاءِ وَالْخِطَابُ بِالْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ تَعْظِيمًا لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

3122 - «وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: حَمَلْتُ حَجَرًا ثَقِيلًا فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَقَطَ عَنِّي ثَوْبِي فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَخْذَهُ فَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: خُذْ عَلَيْكَ ثَوْبَكَ وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3122 - (وَعَنِ الْمِسْوَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنِ مَخْرَمَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيَّ، الْقُرَشِيَّ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلِدَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ وَقَدِمَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَقُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ ثَمَانِ سِنِينَ وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَفِظَ عَنْهُ وَكَانَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ، لَمْ يَزَلْ بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ وَانْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَكَرِهَ بَيْعَةَ يَزِيدَ فَتَمَّ مُقِيمًا بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ بَعَثَ يَزِيدُ عَسْكَرَهُ وَحَاصَرَ مَكَّةَ وَبِهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَأَصَابَ الْمِسْوَرَ حَجَرٌ مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْحَجَرِ فَقَتَلَهُ، وَذَلِكَ فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (قَالَ: حَمَلْتُ حَجَرًا ثَقِيلًا فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَقَطَ عَنِّي ثَوْبِي) أَيْ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتِي (فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَخَذَهُ) أَيْ أَخْذَ الثَّوْبِ وَرَدَّهُ إِلَى مَكَانِهِ (فَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ عُرْيَانًا ( «فَقَالَ لِي: خُذْ عَلَيْكَ ثَوْبَكَ» ) أَيْ سَاتِرًا عَلَيْكَ ( «وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً» ) جَمْعُ عَارٍ كَقُضَاةٍ جَمْعُ قَاضٍ، عَمَّ الْخَطَابَ ثَانِيًا إِيذَانًا بِأَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ وَقَيْدُ الْمَشْيِ وَاقِعِيٌّ أَوْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ أَقْبَحُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3123 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا نَظَرْتُ أَوْ مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3123 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ: مَا نَظَرْتُ) أَيْ حَيَاءً مِنْهَا (أَوْ مَا رَأَيْتُ) أَيْ حَيَاءً مِنْهُ وَكَذَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي بَابِ حَيَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَلَفْظُهُ: " مَا نَظَرْتُ إِلَى فَرْجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَتْ مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَشْكُوكُ فِيهِ نَظَرْتُ أَوْ رَأَيْتُ لَا قَطُّ بَلِ الظَّاهِرُ ذِكْرُهَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ (مَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلَا رَأَى مِنِّي) تَعْنِي الْفَرْجَ.

3124 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3124 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ) جَمْعُ حَسَنٍ أَوْ جَمْعُ مَحْسَنٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْحُسْنِ (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أَيْ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ (ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ) أَيْ يُغْمِضُهُ أَوْ يُصْرِفُهُ عَنْهُ (إِلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ) أَيْ جَدَدَّ (عِبَادَةً) أَيْ: تَوْفِيقَ طَاعَةٍ (يَجِدُ حَلَاوَتَهَا) أَيْ فِي قَلْبِهِ لِمُوَافَقَةِ أَمْرِ رَبِّهِ حَيْثُ تَحَمَّلَ مَرَارَةَ مُخَالَفَةِ نَفْسِهِ وَطَبْعِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِهَذَا إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] فَإِنَّ الزَّكَاءَ إِمَّا التَّنْمِيَةُ أَوِ الطَّهَارَةُ وَالطَّهَارَةُ مُنْتَمِيَةٌ إِلَى النُّمُوِّ أَيْضًا وَلَا نُمُوَّ فِي الْإِنْسَانِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَكَمَالُهَا أَنْ يَجِدَ الْعَابِدُ حَلَاوَتَهَا وَيَزُولَ عَنْهُ تَعَبُ الطَّاعَةِ وَتَكَالِيفُهَا الشَّاقَّةُ عَمِيمَةً وَهَذَا الْمَقَامُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِقَوْلِهِ: وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ، وَأَرِحْنَا يَا بِلَالُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ وَلَفْظُهُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ أَوَّلَ رَمْقَةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا فِي قَلْبِهِ» ".

3125 - وَعَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالْمَنْظُورَ إِلَيْهِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3125 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) أَيِ الْبَصْرِيِّ (مُرْسَلًا قَالَ: بَلَغَنِي) أَيْ عَنِ الصَّحَابَةِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ) أَيْ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ (وَالْمَنْظُورَ إِلَيْهِ) أَيْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَاضْطِرَارٍ، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِيَعُمَّ جَمِيعَ مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ)

[باب الولي في النكاح واستئذان المرأة]

[بَابُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ وَاسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3126 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابٌ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ، وَاسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ) عَطْفٌ عَلَى الْوَلِيِّ، فِي النِّهَايَةِ: وَلِيُّ الْمَرْأَةِ مُتَوَلِّي أَمْرِهَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْوَلِيُّ هُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْوَارِثُ فَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، وَالْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ نَوْعَانِ وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ الْبَالِغُ بَكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَوِلَايَةُ إِجْبَارٍ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا وَكَذَا الْكَبِيرَةُ الْمَعْتُوهَةُ وَالْمَرْقُوقَةُ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3126 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُنْكَحُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ نَفْيًا لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ نَهْيًا (الْأَيِّمُ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا صَغِيرَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الثَّيِّبُ الْبَالِغَةُ لِقَوْلِهِ: (حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ حَتَّى تَسْتَأْذِنَ صَرِيحًا إِذِ الِاسْتِئْمَارُ طَلَبُ الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنُّطْقِ، قِيلَ هَذَا يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ نُطْقِ الْبِكْرِ الزَّائِلِ بَكَارَتُهَا بِزِنًا أَوْ وَثْبَةٍ وَنَحْوِهِمَا ; لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ وَالْمُرَادُ بِالْأَيِّمِ الثَّيِّبُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ; فَإِنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْبِكْرِ عِنْدَهُ فِي أَنَّ سُكُوتَهَا إِذْنٌ. أُجِيبُ بِأَنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْمَجْنُونَةُ وَالصَّغِيرَةُ وَالْأَمَةُ فَتُخَصُّ مِنْهُ أَيْضًا هَذِهِ، وَقِيلَ: هَذَا بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي عَدَمِ تَجْوِيزِهِ إِجْبَارَ الْوَلِيِّ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ عَلَى النِّكَاحِ، وَمَعْنَى الْإِجْبَارِ أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ فَيُنَفِّذُ عَلَيْهَا شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ وَمَدَارُ إِجْبَارِ الْوَلِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الصِّغَرِ بِكْرًا وَثَيِّبًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْبَكَارَةِ صَغِيرَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ (وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ) أَيِ الْبَالِغَةُ (حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) أَيْ: يُطْلَبُ مِنْهَا الْإِذْنُ لِقَوْلِهِ: وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا، وَقِيلَ: الِاسْتِئْذَانُ الْإِعْلَامُ وَهَذَا لِإِطْلَاقِهِ حُجَّهٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ تَجْوِيزِهِ إِجْبَارَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا) أَيْ: الْبِكْرِ وَهِيَ كَثِيرَةُ الْحَيَاءِ (قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ) أَيْ: إِذْنُهَا سُكُوتُهَا اخْتُلِفَ فِي أَنَّ السُّكُوتَ مِنَ الْبِكْرِ يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ فِي حَقِّ الْأَبِ وَالْجَدِّ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْقَاضِي: " وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَمُرَاجَعَةٍ وَوُقُوفٍ وَإِطْلَاعٍ عَلَى أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِتَصْرِيحِ إِذْنٍ مِنَ الثَّيِّبِ وَبِسُكُوتٍ مِنَ الْبِكْرِ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهَا أَنْ لَا تُظْهِرَ إِرَادَةَ النِّكَاحِ حَيَاءً، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ فَذَهَبُوا جَمِيعًا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ دُونَ إِذْنِهَا وَيَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ وَخَصُّوا هَذَا الْحَدِيثَ فِيهِ بِمَا صَحَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ زَوَّجَ عَائِشَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَكُنْ بَعْدُ بَالِغَةً وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهِمَا.

3127 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تَسْتَأْذِنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3127 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْأَيِّمُ) أَيْ: مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ وَمَعَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ قَيْدِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: " قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَزُفَرٌ: الْأَيِّمُ هُنَا كُلُّ امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ بَلَغَتْ فَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَعَقْدُهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالنِّكَاحِ صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزَّهْرِيُّ قَالُوا: وَلَيْسَ الْوَلِيُّ مِنْ أَرْكَانِ صِحَّةِ النِّكَاحِ بَلْ مِنْ تَمَامِهِ، وَقَوْلُهُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مِنْ وَلِيِّهَا وَعَقْدُ مَا عَلَى نَفْسِهَا بِالنِّكَاحِ صَحِيحٌ وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ قَالُوا: حَتَّى لَا تُزَوَّجَ إِلَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالنُّطْقِ بِخِلَافِ الْبِكْرِ وَلَكِنْ لَمَّا صَحَّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ تَعَيَّنَ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَعْنَى (أَحَقُّ) وَهُوَ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ أَنَّ لَهَا فِي نَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ حَقًّا وَلِوَلِيِّهَا حَقًّا وَحَقُّهَا آكَدُ مِنْ حَقِّهِ ; فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ تَزْوِيجَهَا كُفُؤًا وَامْتَنَعَتْ لَمْ تُجْبَرْ ; وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ كُفُؤًا وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ أُجْبِرَ وَلَوْ أَصَرَّ زَوَّجَهَا الْقَاضِي (وَالْبِكْرُ) أَيْ: الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ (تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا) بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ سُكُوتًا يَعْنِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ صَرِيحٍ مِنْهَا بَلْ يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا لِكَثْرَةِ حَيَائِهَا، لَكِنْ يُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا فِي الِاسْتِئْمَارِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ لَهَا، كَأُزَوِّجُكِ مِنْ فُلَانٍ أَوْ ضِمْنَ الْعَامِّ لَا كُلَّ عَامٍّ نَحْوَ: مِنْ جِيرَانِي أَوْ بَنِي عَمَى وَهُمْ مَحْصُورُونَ مَعْرُوفُونَ لَهَا لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا مُعَارِضٌ، بِخِلَافِهِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَوْ مِنْ رَجُلٍ لِأَنَّهُ لِعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ يَضْعُفُ الظَّنُّ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ النَّبِيُّ: «أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ» ) أَيْ: تُسْتَأْذَنُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ( «وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا» ) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ( «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا» ) أَيْ: وَنَحْوُهُ مِنْ سَائِرِ أَوْلِيَائِهَا وَهُوَ يُفْهَمُ بِالطُّرُقِ الْأُولَى (فِي نَفْسِهَا) أَيْ: فِي أَمْرِ نِكَاحِهَا ( «وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا» ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا» . بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَصَّ الثَّيِّبَ بِأَنَّهَا أَحَقُّ، فَأَفَادَ أَنَّ الْبِكْرَ لَيْسَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْهُ، فَاسْتِفَادَةُ ذَلِكَ بِالْمَفْهُومِ وَهُوَ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَنَا وَلَوْ سَلِمَ فَلَا يُعَارِضُ الْمَفْهُومَ الصَّرِيحَ الَّذِي سَيَأْتِي مِنْ رَدِّهِ وَلَوْ سَلِمَ فَنَفْسُ نَظْمِ بَاقِي الْحَدِيثِ يُخَالِفُ الْمَفْهُومَ وَهُوَ قَوْلِهِ (وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا) إِلَخْ إِذْ وُجُوبُ الِاسْتِئْمَارِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ مُنَافٍ لِلْإِجْبَارِ كَأَنَّهُ طَلَبَ الْأَمْرَ أَوِ الْإِذْنَ وَفَائِدَتُهُ الظَّاهِرَةُ لَيْسَتْ إِلَّا لِيَسْتَعْلِمَ رِضَاهَا أَوْ عَدَمَهُ فَيَعْمَلُ عَلَى وَفْقِهِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ طَلَبِ الِاسْتِئْذَانِ فَيَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَهُ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَفْهُومِ لَوْ عَارَضَهُ، وَالْحَاصِلُ حِينَئِذٍ مِنَ اللَّفْظِ إِثْبَاتُ الْأَحَقِّيَّةِ لِلثَّيِّبِ بِنَفْسِهَا مُطْلَقًا ثُمَّ إِثْبَاتُ مِثْلِهِ لِلْبِكْرِ حَيْثُ أُثْبِتَ لَهَا حَقٌّ أَنْ تُسْتَأْمَرَ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَحَقِّيَّةِ كُلٍّ مِنَ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ بِلَفْظٍ يَخُصُّهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَالْبِكْرُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا أَيْضًا غَيْرُ أَنَّهُ أَفَادَ أَحَقِّيَّةَ الْبِكْرِ بِإِخْرَاجِهِ فِي ضِمْنِ إِثْبَاتِ حَقِّ الِاسْتِئْمَارِ لَهَا وَسَبَبُهُ أَنَّ الْبِكْرَ لَا تُخْطَبُ إِلَى نَفْسِهَا عَادَةً بَلْ إِلَى وَلِيِّهَا بِخِلَافِ الثَّيِّبِ فَلَمَّا كَانَ الْحَالُ أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَخِطْبَتُهَا تَقَعُ لِلْوَلِيِّ صَرَّحَ بِإِيجَابِ اسْتِئْمَارِهِ إِيَّاهَا فَلَا يَفْتَاتُنَّ عَلَيْهَا بِتَزْوِيجِهَا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ رِضَاهَا بِالْخَاطِبِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا» .

3128 - «وَعَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ نِكَاحَهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ " نِكَاحَ أَبِيهَا ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3128 - (وَعَنْ خَنْسَاءَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى وَزْنِ حَمْرَاءَ (بِنْتِ خِذَامٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ وَخِفَّةِ الذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ كَذَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ وَهِيَ مُطَابَقَةٌ لِمَا فِي الْأَسْمَاءِ لِلْمُؤَلِّفِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ مَيْرَكُ: " صَحِيحٌ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَفِي شَرْحِ الْكِرْمَانِيِّ لِلْبُخَارِيِّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَخَالَفَهُمَا الْعَسْقَلَانِيُّ فَصَحَّحَهُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ " (إِنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ) أَيْ: وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهَا وَهِيَ بَالِغَةٌ (فَكَرِهَتْ ذَلِكَ) أَيْ: لِلْعَقْدِ أَوْ ذَلِكَ الرَّجُلَ (فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحَهَا) أَيْ: تَزْوِيجَ الْأَبِ أَوْ تَزَوُّجَ الزَّوْجِ

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " قَوْلُهُ نِكَاحُهُ كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَالْحُمَيْدِيِّ وَالدَّارِمِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَمُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ نِكَاحُهَا أَيْ عَقْدُهَا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الثَّيِّبِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ نِكَاحُ أَبِيهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: " لِلْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ إِجْمَاعًا وَلَا خِيَارَ لَهَا إِلَّا عِنْدَ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ "، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " لَهُ ذَلِكَ وَلَهَا الْخِيَارُ ".

3129 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ وَزُفَّتْ إِلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَلُعَبُهَا مَعَهَا، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3129 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ) قَالَ النَّوَوِيُّ: كَذَا فِي رِوَايَةٍ وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ كَانَ لَهَا سِتٌّ وَكَسْرٌ فَفِي رِوَايَةٍ اقْتَصَرَتْ عَلَى السِّتِّ وَفِي أُخْرَى عُدَّتِ السَّنَةُ الَّتِي دَخَلَتْ فِيهَا (وَزُفَّتْ إِلَيْهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الزِّفَافِ أَيْ أُرْسِلَتْ إِلَى بَيْتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ وَلُعَبُهَا مَعَهَا) بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ جَمْعُ لُعْبَةٍ وَهِيَ مَا يُلْعَبُ بِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " اللُّعَبُ جَمْعُ لُعْبَةٍ كَرُكَبٍ أَرَادَتْ مَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِهِ وَكُلُّ مَلْعُوبٍ فَهُوَ لُعْبَةٌ وَإِذَا فَتَحَ اللَّامَ فَهُوَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ اللَّعِبِ وَإِذَا كُسِرَتْ فَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي عَلَيْهَا اللَّاعِبُ "، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: " الْمُرَادُ هَذِهِ اللُّعْبَةُ الْمُسَامَةُ بِالْبَنَاتِ الَّتِي تَلْعَبُ بِهَا الْجَوَارِي الصِّغَارُ مَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ عَلَى صِغَرِ سِنِّهَا "، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ اللَّعِبِ وَإِبَاحَةِ لَعِبِ الْجَوَارِي بِهِنَّ وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ قَالُوا: وَسَبَبُهُ تَدْرِيبُهُنَّ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَإِصْلَاحِ شَأْنِهِنَّ وَبُيُوتِهِنَّ " اه. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا مِنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَضِيَّةَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هَذِهِ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الصُّورَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إِذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فَأَثْبَتَ الْعِدَّةَ لِلصَّغِيرَةِ وَهِيَ فَرْعُ تَصَوُّرِ نِكَاحِهَا شَرْعًا فَبَطَلَ بِهِ مَنَعَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ مِنْهُ، وَتَزْوِيجُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ قَرِيبٌ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ، وَتَزَوُّجِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِنْتَ الزُّبَيْرِ يَوْمَ وُلِدَتْ مَعَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ نَصٌّ فِي فَهْمِ الصَّحَابَةِ عَدَمَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي نِكَاحِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "، قَالَ النَّوَوِيُّ: " أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ الْأَبِ بِنْتَهُ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَإِذَا بَلَغَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي فَسْخِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحِجَازِيِّينَ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: لَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ وَأَمَّا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجُوهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ: يَجُوزُ لِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ إِلَّا أَبَا يُوسُفَ فَقَالَ: لَا خِيَارَ لَهَا (وَمَاتَ أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا) أَيْ: تَجَاوُزًا (وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِيَ) بِالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ (عَشْرَةَ) بِإِسْكَانِ الشِّينِ وَيُكْسَرُ وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3130 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3130 - (عَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: " عَمِلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَقَالَا: لَا يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا، سَوَاءٌ كَانَتْ أَصْلِيَّةً أَوْ وَكِيلَةً. قُلْتُ: الْمُرَادُ مِنْهُ النِّكَاحُ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِعَقْدِ وَلِيٍّ بِالْإِجْمَاعِ كَعَقْدِ نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبَ قَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ دَنِيئَةً جَازَ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا أَوْ تُوَكِّلَ مَنْ يُزَوِّجُهَا وَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةً لَا بُدَّ مِنْ وَلِيِّهَا وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَاصِلُ مَا فِي الْوَلِيِّ مِنْ عُلَمَائِنَا سَبْعُ رِوَايَاتٍ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَدُهُمَا تَجُوزُ مُبَاشَرَةُ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ عَقْدَ نِكَاحِهَا وَنِكَاحِ غَيْرِهَا مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْمُسْتَحَبِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ إِنْ عَقَدَتْ مَعَ كُفُؤٍ

جَازَ وَمَعَ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ وَاخْتِيرَتْ لِلْفَتْوَى لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ كَمْ مِنْ وَاقِعٍ لَا يَرْفَعُ، وَلَيْسَ كُلُّ وَلِيٍّ يُحْسِنُ الْمُرَافَعَةَ وَالْخُصُومَةَ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ وَلَوْ أَحْسَنَ الْوَلِيُّ وَعَدَلَ الْقَاضِي فَقَدْ يُتْرَكُ؛ أَنَفَةً لِلتَّرَدُّدِ عَلَى أَبْوَابِ الْحُكَّامِ وَاسْتِثْقَالًا لِنَفْيِ الْخُصُومَاتِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّرَرُ فَكَانَ مَنْعُهُ دَفْعًا لَهُ وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ عَدَمِ الصِّحَّةِ الْمُفْتَى بِهِ بِمَا إِذَا كَانَ لَهَا أَوْلِيَاءُ أَحْيَاءٌ ; لِأَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ إِذَا كَانَ عَلَى مَا وَجَّهَ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ دَفَعًا لِضَرَرِهِمْ وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى حَقِّهَا فَقَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِغَيْرِ الْكُفْرِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَنَحْوُهُ مَعَارَضٌ بُقُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالْأَيِّمُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِكُلٍّ مِنْهَا وَمِنَ الْوَلِيِّ حَقًّا فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ أَحَقُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ سِوَى مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ إِذَا رَضِيَتْ وَقَدْ جَعَلَهَا أَحَقَّ مِنْهُ بِهِ وَبَعْدَ هَذَا إِمَّا أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا رَوَوْا حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ أَوْ طَرِيقَةِ الْجَمْعِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَرَجَّحُ هَذَا بِقُوَّةِ السَّنَدِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّتِهِ بِخِلَافِ حَدِيثِ " «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» " فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ مُضْطَرِبٌ فِي إِسْنَادِهِ وَفِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الْآتِي عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَدْ أَنْكَرَهُ الزُّهْرِيُّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهُ ابْنَ شِهَابٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِذَلِكَ، وَعَلَى الثَّانِي وَهُوَ إِعْمَالُ طَرِيقَةِ الْجَمْعِ فَبِأَنْ يُحْمَلَ عُمُومُهُ عَلَى الْخُصُوصِ وَذَلِكَ شَائِعٌ وَهَذَا يَخُصُّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى بَعْدَ جَوَازِ كَوَنِ النَّفْيِ لِلْكَمَالِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِهَا: فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا تَلِي وَلَا يَنْكِحْنَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ بِأَنْ يُرَادَ بِالْوَلِيِّ مَنْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ أَيْ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِمَنْ لَهُ وِلَايَةٌ لِيَنْفِيَ نِكَاحَ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ وَالْمَعْتُوهَةِ وَالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ أَيْضًا لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْحَدِيثِ عَامٌّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ وَيَخُصُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِمَنْ نَكَحَتْ غَيْرَ الْكُفُؤِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ حَقِيقَتُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ مَا بَاشَرَتْهُ مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ أَوْ حِكْمَةٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُصَحِّحُهُ وَيُثْبِتُ لِلْوَلِيِّ حَقَّ الْخُصُومَةِ فِي فَسْخِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ شَائِعٌ فِي إِطْلَاقَاتِ النُّصُوصِ وَيَجِبُ ارْتِكَابُهُ لِدَافِعِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّهُ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ ; فَإِنَّ مَفْهُومَهُ إِذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ وَلَيِّهَا كَانَ صَحِيحًا وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ. فَثَبَتَ مَعَ الْمَنْقُولِ الْوَجْهُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهُوَ نَفْسُهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ كَالْمَالِ فَيُحِبُّ تَصْحِيحُهُ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الْأُولَى.

3131 - وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3131 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ) أَيْ: نَفْسَهَا كَمَا فِي نُسْخَةِ وَأَيُّمَا مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي سَلْبِ الْوِلَايَةِ عَنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضِ أَيْ أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا ( «بِدُونِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» ) فَهُوَ مُعَارِضُ الْحَدِيثَ " «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» " فَخَصَّ بِمَنْ نَكَحَتْ غَيْرَ الْكُفُؤِ كَمَا سَبَقَ شَرْحُهُ، وَفِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: " حَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ " (فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " أَيْ عَلَى صَدَدِ الْبُطْلَانِ وَمَصِيرُهُ إِلَى الْبُطْلَانِ إِنَّ اعْتِرَاضَ الْوَلِيِّ عَلَيْهَا إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ "، (فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ) كَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ (فَإِنَّ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ) أَيْ: اسْتَمْتَعَ (مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا) أَيْ: اخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا أَيِ الْأَوْلِيَاءُ اخْتِلَافًا لِلْعَضْلِ كَانُوا كَالْمَعْدُومِينَ (فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ) لِأَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ التَّزْوِيجِ فَكَأَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهَا فَيَكُونُ السُّلْطَانُ وَلَيُّهَا وَإِلَّا فَلَا وِلَايَةَ لِلسُّلْطَانِ مَعَ وُجُودِ الْوَلِيِّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا صَدَاقُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» .

3132 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْبَغَايَا اللَّاتِي يُنْكِحْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3132 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْبَغَايَا) أَيْ: الزَّوَانِي جَمْعُ بَغِيٍّ وَهِيَ الزَّانِيَةُ مِنَ الْبِغَاءِ وَهُوَ الزِّنَا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (اللَّاتِي يُنْكِحْنَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يُزَوِّجْنَ (أَنْفُسَهُنَّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: " الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ إِمَّا الشَّاهِدُ فَبِدُونِهِ زِنًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِمَّا الْوَلِيُّ إِذَا بِهِ يَتَبَيَّنُ النِّكَاحُ فَالتَّسْمِيَةُ بِالْبِغَاءِ تَشْدِيدٌ لِأَنَّهُ شُبْهَةٌ " اه. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الظَّاهِرُ إِذْ لَمْ يُعْهَدْ إِطْلَاقُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَلِيِّ شَرْعًا وَعُرْفًا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ يُوجِبُ الْمَهْرَ وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ وَيَثْبُتُ النَّسَبَ فَمِنْ فَعَلَهُ عَامِدًا عُزِّرَ وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا قَوْمٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَبِي ثَوْرٍ. (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3133 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا فَإِنْ صَمَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. 3134 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3133 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَتِيمَةُ) هِيَ صَغِيرَةٌ لَا أَبَ لَهَا وَالْمُرَادُ هُنَا الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ سَمَّاهَا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَتْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَفَائِدَةُ التَّسْمِيَةِ مُرَاعَاةُ حَقِّهَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهَا فِي تَحَرِّي الْكِفَايَةِ وَالصَّلَاحِ فَإِنَّ الْيَتِيمَ مَظِنَّةُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ ثُمَّ هِيَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا مَعْنَى لِإِذْنِهَا وَلَا لِإِبَائِهَا فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَرَطَ بُلُوغَهَا فَمَعْنَاهُ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُسْتَأْمَرُ (تُسْتَأْمَرُ) أَيْ: تُسْتَأْذَنُ (فِي نَفْسِهَا فَإِنْ صَمَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ فَلَا تَعَدِّيَ عَلَيْهَا (وَلَا إِجْبَارَ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي الْيَتِيمَةِ إِذَا زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَلَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ أَوْ إِجَازَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى بَنَاتِ الْمُوصِي وَإِنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ ذَلِكَ " وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: " لِلْوَصِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ الْيَتِيمَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ أَجَازَ نِكَاحَ الْوَصِيِّ مَعَ كَرَاهَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَجَازَ مَالِكٌ إِنْ فَوَّضَهُ الْأَبُ إِلَيْهِ 3134 - (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى) .

3135 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3135 - (وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ) أَيْ: مَالِكِهِ (فَهُوَ عَاهِرٌ) أَيْ: زَانٍ قَالَ الْمُظْهِرُ: " لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَيَصِيرُ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَهَا بِالْإِجَازَةِ بَعْدَهُ "، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنْ أَجَازَ بَعْدَ الْعَقْدِ صَحَّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ " «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مُوَالِيهِ فَهُوَ زَانٍ» ".

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3136 - «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةً. فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3136 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّ جَارِيَةً) أَيْ: بَنَتًا (بِكْرًا) أَيْ: وَهِيَ بَالِغَةٌ (أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ أَنْ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ) فِيهِ أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ لِلْوَلِيِّ عَلَى الْبَالِغَةِ وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الطِّيبِيُّ: " قَيَّدَهَا بِالْبَكَارَةِ دُونَ الصِّغَرِ لِاعْتِبَارِ كَرَاهَتِهَا وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمَا اعْتُبِرَتْ كَرَاهَتُهَا فَإِنَّ قَوْلَهُ وَهِيَ كَارِهَةُ حَالٌ وَبَيَانٌ لِهَيْئَةِ الْمَفْعُولِ عِنْدَ التَّزْوِيجِ (فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا أَوْ زَوْجَهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَذَا صَحِيحٌ وَلَيْسَتْ هَذِهِ خَنْسَاءُ بِنْتُ خِدَامٍ الَّتِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْهُ فَرَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِكَاحَهُ فَإِنَّ هَذِهِ بِكْرٌ وَتِلْكَ ثَيِّبٌ اه. عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ خَنْسَاءَ أَيْضًا كَانَتْ بِكْرًا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ حَدِيثَهَا وَفِيهِ: أَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا لَكِنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ تَتَرَجَّحُ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا اثْنَتَانِ مَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ نِكَاحَ ثَيِّبٍ وَبِكْرٍ أَنْكَحَهُمَا أَبُوهُمَا وَهُمَا كَارِهَتَانِ» .

3137 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3137 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُزَوِّجِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَقِيلَ: نَهْيٌ وَهُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ عِنْدِنَا، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ زَوَاجُ الْمَرْأَةِ عَلَى يَدِ الْوَلِيِّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ فَوَلِيُّهُ الْقَاضِي (وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ) أَيْ: أَحَدًا (نَفْسَهَا) أَيْ: بِلَا بَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرِ كُفُؤٍ عِنْدَنَا وَبِلَا وَلِيٍّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى (فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا) وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ فَهِيَ زَانِيَةٌ» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

3138 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَلْيُحْسِنِ اسْمَهُ وَأَدَبَهُ فَإِذَا بَلَغَ فَلْيُزَوِّجْهُ فَإِنْ بَلَغَ وَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَأَصَابَ إِثْمًا فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى أَبِيهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3138 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ) أَيْ: ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (فَلْيُحْسِنِ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ (اسْمَهُ وَأَدَبَهُ) أَيْ: مَعْرِفَةَ أَدَبِهِ الشَّرْعِيِّ (وَإِذَا بَلَغَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْفَاءِ (فَلْيُزَوِّجْهُ) وَفِي مَعْنَاهُ التَّسَرِّي (إِنْ بَلَغَ) أَيْ: وَهُوَ فَقِيرٌ (وَلَمْ يُزَوِّجْهُ) أَيْ: الْأَبُ وَهُوَ قَادِرٌ (فَأَصَابَ) أَيْ: الْوَلَدُ (إِثْمًا) أَيْ: مِنَ الزِّنَا وَمُقَدَّمَاتِهِ (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى أَبِيهِ) أَيْ: جَزَاءُ الْإِثْمِ عَلَيْهِ لِتَقْصِيرِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ جَزَاءُ الْإِثْمِ عَلَيْهِ حَقِيقِيَّةٌ وَدَلَّ هُنَا الْحَصْرُ عَلَى أَنْ لَا إِثْمَ عَلَى الْوَلَدِ مُبَالَغَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَتَسَبَّبْ لِمَا يَتَفَادَى وَلَدُهُ مَنْ أَصَابَهُ الْإِثْمُ.

3139 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ: مَنْ بَلَغَتِ ابْنَتُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يُزَوِّجْهَا فَأَصَابَتْ إِثْمًا فَإِثْمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3139 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ مَنْ بَلَغَتِ ابْنَتُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يُزَوِّجْهَا) أَيْ: وَوَجَدَ لَهَا كُفُؤًا (فَأَصَابَتْ إِثْمًا) أَيْ: مَا أَثِمَ بِهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ (فَإِثْمُ ذَلِكَ) أَيْ: إِصَابَتُهَا (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى أَبِيهَا (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب إعلان النكاح والخطبة والشرط]

[بَابُ إِعْلَانِ النِّكَاحِ وَالْخِطْبَةِ وَالشَّرْطِ]

(بَابُ إِعْلَانِ النِّكَاحِ وَالْخِطْبَةِ وَالشَّرْطِ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3140 - عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: «جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ: دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ إِعْلَانِ النِّكَاحِ) أَيْ: عَقْدُهُ (وَالْخِطْبَةِ) رُوِيَ بِضَمِّ الْخَاءِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى النِّكَاحِ أَوْ عَلَى الْإِعْلَانِ وَبِكَسْرِ الْخَاءِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْإِعْلَانِ (وَالشَّرْطِ) عَطْفٌ عَلَى الْإِعْلَانِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3140 - (عَنِ الرُّبَيِّعِ) اسْمُ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ (بِنْتُ مُعَوِّذٍ) بِكَسْرِ الْوَاوِ (ابْنِ عَفْرَاءَ) اسْمُ الْأُمِّ (قَالَتْ) أَيْ: الرُّبَيِّعِ (جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ) أَيْ: فِي بَيْتِي (حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ سُلِّمْتُ وَزُفِفْتُ إِلَى زَوْجِي (فَجَلَسَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي) خِطَابٌ لِمَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْهَا وَهُوَ خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: " وَالَّذِي وَضُحَ لَنَا بِالْأَدِلَّةِ الْقَوِيَّةِ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَازُ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ "، وَهَذَا غَرِيبٌ فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا وَلَا عَلَى الْخَلْوَةِ بِهَا بَلْ يُنَافِيهَا مَقَامُ الزِّفَافِ وَكَذَا قَوْلُهَا: (فَجَعَلَتْ) أَيْ: شَرَعَتْ (جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا) بِالتَّصْغِيرِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِنَّ بَنَاتُ الْأَنْصَارِ لَا الْمَمْلُوكَاتُ (يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ) قِيلَ تِلْكَ الْبَنَاتُ لَمْ يَكُنَّ بَالِغَاتٍ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَكَانَ دُفُّهُنَّ غَيْرَ مَصْحُوبٍ بِالْجَلَاجِلِ، قَالَ أَكْمَلُ الدِّينِ: " الدُّفُّ بِضَمِّ الدَّالِّ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ وَيُرْوَى بِالْفَتْحِ أَيْضًا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ضَرْبِ الدُّفِّ عِنْدَ النِّكَاحِ وَالزِّفَافِ لِلْإِعْلَانِ وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمُ الْخِتَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَالْقُدُومَ مِنَ السَّفَرِ وَمُجْتَمَعَ الْأَحْبَابِ لِلسُّرُورِ وَقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ الدُّفُّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَمَّا مَا عَلَيْهِ الْجَلَاجِلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا بِالِاتِّفَاقِ (وَيَنْدُبْنَ) بِضَمِّ الدَّالِّ مِنَ النَّدْبِ وَهُوَ عَدُّ خِصَالِ الْمَيِّتِ وَمَحَاسِنِهِ أَيْ يَقُلْنَّ مُرْثِيَّاتٍ (مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي) وَشَجَاعَتِهِمْ فَإِنَّ مُعَاذًا وَأَخَاهُ قُتِلَا (يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ) أَيْ: إِحْدَى الْجُوَيْرِيَاتِ ( وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ ) بِالتَّنْوِينِ وَقِيلَ بِإِشْبَاعِ الدَّالِ أَيْ فِينَا نَبِيٌّ يُخْبَرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَيَقَعُ عَلَى وَفْقِهِ (فَقَالَ دَعِي هَذِهِ) أَيْ: اتْرُكِي هَذِهِ الْحِكَايَةَ أَوِ الْقِصَّةَ أَوِ الْمَقَالَةَ (وَقُولِي بِالَّذِي تَقُولِينَ) وَفِي رِوَايَةٍ: (وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ) أَيْ: مِنْ ذِكْرِ الْمَقْتُولِينَ وَنَحْوِهِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِنْشَادِ شِعْرٍ لَيْسَ فِيهِ فُحْشٌ وَكَذِبٌ وَإِنَّمَا مَنَعَ الْقَائِلَةَ مَقُوَلَهَا: وَفِينَا نَبِيٌّ إِلَخْ. لِكَرَاهَةِ نِسْبَةِ عِلْمِ الْغَيْبِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا يَعْلَمُ الرَّسُولُ مِنَ الْغَيْبِ مَا أُخْبِرَهُ أَوْ لِكَرَاهَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي أَثْنَاءِ ضَرْبِ الدُّفِّ وَأَثْنَاءِ مَرْثِيَّةِ الْقَتْلَى لِعُلُوِّ مَنْصِبِهِ عَنْ ذَلِكَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3141 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: زُفَّتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3141 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ زُفَّتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ: نُقِلَتْ إِلَى بَيْتِهِ (فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟) مَا نَافِيَةٌ وَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ مُقَدَرَةٌ أَيْ: أَلَمْ يَكُنْ مَعَكُمْ ضَرْبُ دُفٍّ وَقِرَاءَةُ شِعْرٍ لَيْسَ فِيهِ إِثْمٌ (فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوَ وَهَذَا رُخْصَةٌ عِنْدَ الْعُرْسِ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَلَّا أَرْسَلْتُمْ مَعَهُمْ مَنْ يَقُولُ أَتَيْنَاكُمْ» . الْحَدِيثَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3142 - «وَعَنْهَا قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3142 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِي) أَيْ: دَخَلَ مَعِي وَزُفَّ بِي (فِي شَوَّالٍ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: " يُقَالُ بَنَى عَلَى أَهْلِهِ بِنَاءً أَيْ زَفَّهَا، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ بَنَى بِأَهْلِهِ وَهُوَ خَطَأٌ وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الدَّاخِلَ بِأَهْلِهِ كَانَ يَضْرِبُ عَلَيْهَا قُبَّةً لَيْلَةَ دُخُولِهِ بِهَا فَقِيلَ لِكُلِّ دَاخِلٍ بِأَهْلِهِ بِانٍ وَعَلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ وَالْقَاضِي بِأَهْلِهِ كَانَ يَضْرِبُ عَلَيْهَا وَبَالَغَا فِي التَّخْطِئَةِ حَتَّى تَجَاوَزَا إِلَى تَخْطِئَةِ الرَّاوِي قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ اسْتِعْمَالَ بَنَى عَلَيْهَا بِمَعْنَى زَفَّهَا فِي بَدْءِ الْأَمْرِ كِنَايَةٌ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الزِّفَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ بِنَاءٍ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُنْقَلَ مِنَ الْمَعْنَى الثَّانِي إِلَى ثَالِثٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى أَعْرَسَ بِي وَيُوَضِّحُ هَذَا مَا قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمُعْرِسَ كَانَ يَبْنِي عَلَى أَهْلِهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ خِبَاءً، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى كُنَّى بِهِ عَنِ الْوَطْءِ اه، وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الشُّرَّاحِ إِنَّمَا هُوَ صِحَّةُ تَعْدِيَةِ الْبَنَّاءِ بِالْبَاءِ وَهُمْ لَا يَنْفُونَ تَعْدِيَةَ مُرَادِفِهِ لَهَا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِالتَّضْمِينِ نَعَمْ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ بَنَى بِامْرَأَتِهِ بِالْبَاءِ كَأَعْرَسَ بِهَا لَوْ صَحَّ مِنْ غَيْرِ الْمُوَلَّدِينَ فَفِيهِ لُغَتَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: بَنَى الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَبِهَا: زَفَّهَا، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ لِلسُّيُوطِيِّ بَعْدَ قَوْلِ الْجَوْهَرِيِّ: وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ وَاسْتَعْمَلَهُ هُوَ أَيْضًا (فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَحْظَى) أَيْ: أَقْرَبَ إِلَيْهِ وَأَسْعَدَ بِهِ أَوْ أَكْثَرَ نَصِيبًا (عِنْدَهُ مِنِّي) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَانَ أَحْظَى مِنِّي نَظَرًا إِلَى لَفْظِ أَيِّ وَمِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: أَيَّةُ امْرَأَةٍ فَاعْتُبِرَ فِي الْإِضَافَةِ الْجَمْعُ وَذَكَرَهُ لِيُؤْذِنَ كَثْرَةَ نِسَائِهِ الْمُفَضِّلَاتِ عَلَيْهِنَّ، وَهِيَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، قِيلَ: إِنَّمَا قَالَتْ هَذَا رَدًّا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ يُمْنًا فِي التَّزَوُّجِ وَالْعُرْسِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا سَمِعَتْ بَعْضَ النَّاسِ يَنْظُرُونَ بِبِنَاءِ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ فِي شَوَّالٍ لِتَوَهُّمِ اشْتِقَاقِ شَوَّالٍ مَنْ أَشَالَ بِمَعْنَى أَزَالَ فَحَكَتْ مَا حَكَتْ رَدًّا لِذَلِكَ وَإِزَاحَةً لِلْوَهْمِ، وَفِي شَرْحِ النُّقَايَةِ لِأَبِي الْمَكَارِمِ: كَرِهَ بَعْضُ الرَّوَافِضِ النِّكَاحَ بَيْنَ الْعِيدَيْنِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةٍ عَلَى مُسْلِمٍ: رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: إِنَّمَا كَرِهَ النَّاسُ أَنْ يَتَزَوَّجُوا فِي شَوَّالٍ لِطَاعُونٍ وَقَعَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ اه. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّزَوُّجِ وَالدُّخُولِ فِي شَوَّالٍ وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ قَصَدَتْ عَائِشَةُ بِهَذَا رَدَّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ وَمَا يَتِمُّ يَتَخَيَّلُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ الْيَوْمَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3143 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3143 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ الشُّرُوطِ) مُبْتَدَأٌ (أَنْ تُوفُوا بِهِ) بِالتَّخْفِيفِ وَيَجُوزُ التَّشْدِيدُ بَدَلٌ مِنَ الشُّرُوطِ وَالْخَبَرِ (مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِالشُّرُوطِ هَاهُنَا الْمَهْرُ لِأَنَّهُ الْمَشْرُوطُ فِي مُقَابَلَةِ الْبِضْعِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ مَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ بِمُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ فَإِنَّ الزَّوْجَ الْتَزَمَهَا بِالْعَقْدِ فَكَأَنَّهَا شَرَطَتْ فِيهِ، وَقِيلَ: كُلُّ مَا شَرَطَ الزَّوْجُ تَرْغِيبًا لِلْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى شَرْطٍ لَا يُنَافِي مُقْتَضَى النِّكَاحِ، وَيَكُونُ مِنْ مَقَاصِدِهِ كَاشْتِرَاطِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا وَكُسْوَتَهَا وَسُكْنَاهَا، وَمِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَصُومَ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنَ غَيْرَهُ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَتَصَرَّفَ فِي مَتَاعِهِ إِلَّا بِرِضَاهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَمَّا شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَقْسِمَ لَهَا وَلَا يَتَسَرَّى عَلَيْهَا وَلَا يُنْفِقُ وَلَا يُسَافِرُ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ يَكُونُ لَغْوًا، وَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِكُلِّ شَرْطٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَعَلَى هَذَا الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ لِلتَّغْلِيبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مَا اسْتُحِلَّتْ بِهِ الْفُرُوجُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3144 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3144 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ ") بِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيهٌ وَبِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهَا نَاهِيَةٌ قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْكَسْرُ وَالنَّصْبُ عَلَى كَوْنِهِ نَهْيًا فَالْكَسْرُ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي تَحَرِّيكِ السَّاكِنِ وَالْفَتْحُ لِأَنَّهَا أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى كَوْنِهِ نَفْيًا اه. وَالْفَتْحُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً: (عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) أَيْ: الْمُسْلِمِ وَهِيَ بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ فَوْقِهَا أَوْ بَعْدَهَا (حَتَّى يَنْكِحَ) أَيْ: كَيْ أَوْ إِلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا (أَوْ يَتْرُكَ) أَيْ: نِكَاحَهَا قِيلَ الْخِطْبَةُ مَنْهِيَّةٌ إِذَا كَانَا رَاضِيَيْنِ وَتَعَيَّنَ الصَّدَاقُ لَكِنْ إِنْ تَزَوَّجَ الثَّانِي تِلْكَ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَوَّلِ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَكِنْ يَأْثَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3145 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلِتَنْكِحَ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3145 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ) بِالْجَزْمِ وَالرَّفْعِ (طَلَاقَ أُخْتِهَا) أَيْ: ضَرَّتِهَا يَعْنِي أُخْتَهَا فِي الدِّينِ أَوْ لِكَوْنِهِمَا مِنْ بَنَاتِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَسَمَّاهَا أُخْتًا لِتَمِيلَ إِلَيْهَا وَتَحِنَّ عَلَيْهَا وَاسْتِقْبَاحًا لِخَصْلَةِ النَّهْيِ عَنْهَا لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» " وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَكْرَهُ لِأَخِيهِ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ يَعْنِي لَا تَسْأَلُ الْمَخْطُوبَةُ الْخَاطِبَ أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ لِتَكُونَ مُنْفَرِدَةً بِالْحَظِّ مِنْهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا) أَيْ: لِتَجْعَلَ قَصْعَةَ أُخْتِهَا فَارِغَةً عَمَّا فِيهَا مِنَ الطَّعَامِ وَهَذَا مِثْلُ ضَرْبِهِ لِحِيَازَةِ الضَّرَّةِ حَقَّ صَاحِبَتِهَا لِنَفْسِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ لِتَفُوزَ بِحَظِّهَا (وَلِتَنْكِحَ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى لِتَسْتَفْرِغَ أَيْ وَلِتَنْكِحَ زَوْجَهَا لِيُكُونَ جَمِيعُ مَالِ ذَلِكَ الرَّجُلِ لِلطَّالِبَةِ كَذَا قِيلَ، وَالْمَعْنَى لِتَنْكِحَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ خَاصَّةً وَإِسْنَادُ النِّكَاحِ إِلَى الْمَرْأَةِ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] أَيْ لِتَنْكِحَ طَالِبَةُ الطَّلَاقِ زَوْجَ تِلْكَ الْمُطَلَّقَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمُطَالِبَةُ وَالْمَطْلُوبَةُ تَحْتَ رَجُلٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُهُ إِلَى الْمَطْلُوبَةِ يَعْنِي وَلِتَنْكِحَ ضَرَّتُهَا زَوْجًا آخَرَ فَلَا تَشْتَرِكُ مَعَهَا فِيهِ، أَوْ مَجْزُومٌ بِالْعَطْفِ عَلَى تَسْأَلْ أَيْ وَلْتَنْكِحْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَقِيلَ: بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لِتُجْعَلَ مَنْكُوحَةً لَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي شَرْحِهِ لِلْمَشَارِقِ: رُوِيَ وَلْتَنْكِحْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَجْهُولِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ " لَا تَسْأَلْ " يَعْنِي لِتَثْبُتَ الْمَرْأَةُ الْمَنْكُوحَةُ عَلَى نِكَاحِهَا الْكَائِنِ عَلَى الضَّرَّةِ قَانِعَةً بِمَا يَحْصُلُ لَهَا فِيهِ أَوْ مَعْنَاهُ لِتَنْكِحْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْغَيْرُ الْمَنْكُوحَةِ زَوْجًا غَيْرَ زَوْجِ أُخْتِهَا وَلْتَتْرُكْ ذَلِكَ الزَّوْجَ أَوْ مَعْنَاهُ لِتَنْكِحْ تِلْكَ الْمَخْطُوبَةُ زَوْجَ أُخْتِهَا وَلِتَكُنْ ضَرَّةً عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلْجَمْعِ مَعَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ طَلَاقَ أُخْتِهَا (فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) أَيْ: لَنْ تَعْدُوَ بِذَلِكَ مَا قُسِمَ لَهَا وَلَنْ تَسْتَزِيدَ بِهِ شَيْئًا وَفِي الْمَصَابِيحِ فَإِنَّ مَالَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَا فِي مَا لَهَا مَوْصُولَةٌ وَالْجُمْلَةُ الظَّرْفِيَّةُ صِلَتُهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَالٌ اسْمَ جِنْسٍ مُضَافًا إِلَى الْهَاءِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَإِنَّمَا مُتَّصِلٌ فَتَكُونُ مَا كَافَّةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3146 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3146 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الشِّغَارِ) بِالْكَسْرِ (وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ) أَوْ أُخْتَهُ (عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ) أَوْ أُخْتَهُ (وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا مَهْرُ الْمَرْأَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ «لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» ) قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الزَّوْجُ بِنْتَهُ أَوْ أُخْتَهُ لِيَكُونَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ عِوَضًا عَنِ الْآخَرِ أَيْ صَدَاقًا فِيهِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقِلْ عَلَى أَنْ يَكُونَ بِضْعُ كُلٍّ صَدَاقًا لِلْأُخْرَى أَوْ مَعْنَاهُ بَلْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَقِيلَ جَازَ النِّكَاحُ اتِّفَاقًا وَلَا يَكُونُ شِغَارًا وَلَهُ زَادَ قَوْلُهُ: عَلَى أَنْ يَكُونَ بِضْعُ بِنْتِي صَدَاقًا لِبِنْتِكَ فَلَمْ يَقْبَلِ الْآخَرُ بَلْ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا صَدَاقًا كَانَ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا اتِّفَاقًا وَالْأَوَّلُ عَلَى الْخِلَافِ ثُمَّ حُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ عِنْدَنَا صِحَّتُهُ وَفَسَادُ التَّسْمِيَةِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَطَلَ الْعَقْدُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّجُلِ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ» وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ

عَنْهُ وَالْفَاسِدُ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ اتِّفَاقًا وَعَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " «قَالَ لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» ". وَالنَّفْيُ رَفْعٌ لِوُجُودِهِ فِي الشَّرْعِ وَعُرِفَ مِنْهُ التَّعَدِّي أَيْ: كُلُّ وَلِيٍّ يُزَوِّجُ مُولِيَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ مُولِيَتَهُ كَسَيِّدِ الْأَمَةِ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ عَلَى تَزَوُّجِ الْأَخَرِ مُولِيَتَهُ كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ النَّهْيِ وَالنَّفْيِ مُسَمَّى الشِّغَارِ وَمَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِهِ خُلُوُّهُ مِنَ الصَّدَاقِ وَكَوْنُ الْبُضْعِ صَدَاقًا، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِنَفْيِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَمَا يُصَدَّقُ عَلَيْهَا شَرْعًا فَلَا نُثْبِتُ النِّكَاحَ كَذَلِكَ بَلْ نُبْطِلُهُ فَيَبْقَى نِكَاحًا سُمِّيَ فِيهِ مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَيَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ الْمُسَمَّى فِيهِ خَمْرٌ أَوْ خِنْزِيرٌ فَمَا هُوَ مُتَعَلِّقُ النَّهْيِ لَمْ نُثْبِتْهُ، وَمَا أَثْبَتْنَاهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بَلِ اقْتَضَتِ الْعُمُومَاتِ صِحَّتُهُ أَعْنِي مَا يُفِيدُ الِانْعِقَادَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ تَسْمِيَتِهِ الْمَهْرَ وَتَسْمِيَتِهِ مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَظَهَرَ أَنَا قَائِلُونَ بِمُوجِبِ الْمَنْقُولِ حَيْثُ نَفَيْنَاهُ.

3147 - «وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3147 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ) الْمُتْعَةُ أَنْ تَقُولَ لِامْرَأَةٍ أَتَمَتَّعُ بِكِ كَذَا مُدَّةً بِكَذَا مِنَ الْمَالِ (يَوْمَ خَيْبَرٍ) بِغَيْرِ الصَّرْفِ وَقِيلَ: مُنْصَرِفٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ كَانَا مَرَّتَيْنِ كَانَتْ حَلَالًا قَبْلَ خَيْبَرَ ثُمَّ حُرِّمَتْ يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ أُبِيحَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ عَامُ أَوْطَاسٍ لِاتِّصَالِهِمَا ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُؤَبَّدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ اه، يَعْنِي أَنَّ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَامَ أَوْطَاسٍ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَتْحِ بِيَسِيرٍ وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ بَيَانٍ لَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ) بِضَمِّهِمَا جَمْعُ حِمَارٍ (الْإِنْسِيَّةِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا، وَفِي أُخْرَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ أَيِ الْأَهْلِيَّةِ ضِدُّ الْوَحْشِيَّةِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: رَوَى ابْنُ أَوْسٍ بِفُتْحَتَيْنِ وَالْمَشْهُورُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَالْإِنْسُ بِالْكَسْرِ النَّاسُ اه، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأُنْسُ بِالضَّمِّ وَبِالتَّحْرِيكِ وَالْأَنَسَةِ مُحَرَّكَةٌ ضِدُّ الْوَحْشِيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْحُمُرُ الْإِنْسِيَّةُ الَّتِي تَأْلَفُ الْبُيُوتَ وَالْمَشْهُورُ فِيهَا كَسْرُ الْهَمْزَةِ نِسْبَةٌ إِلَى الْإِنْسِ وَهُمْ بَنُو آدَمَ وَالْوَاحِدُ إِنْسِيٌّ، وَقِيلَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ نِسْبَةً إِلَى الْأُنْسِ ضِدُّ الْوَحْشَةِ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ نِسْبَةً إِلَى الْأُنْسِ مَصْدَرُ أَنِسْتُ بِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3148 - «وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ نَهَى عَنْهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3148 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ أَوْطَاسٍ) مَوْضِعٌ بِالطَّائِفِ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، وَقِيلَ: اسْمُ وَادٍ مِنْ دِيَارِ هَوَازِنَ قَسَّمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنَائِمَ حُنَيْنٍ (فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ رَخَّصَ فِي الْمُتْعَةِ فِي هَذَا الْغَزْوِ ثَلَاثَ لَيَالٍ (ثُمَّ نَهَى عَنْهَا) وَاخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَيْهِمْ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَخَّصَ عَامَ أَوْطَاسٍ بَعْدَ مَا نَهَى عَنْهُ لِضَرُورَةٍ دَعَتْ إِلَيْهَا ثُمَّ نَهَى عَنْهَا ثَانِيًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَرَخَّصَ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي الْهِدَايَةِ: قَالَ مَالِكٌ: هُوَ جَائِزٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: نِسْبَتُهُ إِلَى مَالِكٍ غَلَطٌ وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فَيَبْقَى إِلَى أَنْ يُظْهِرَ النَّسْخَ هَذَا مُتَمَسِّكٌ مَنْ يَقُولُ بِهَا كَابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ النَّسْخُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، هَذِهِ عِبَارَةُ الْمُصَنَّفِ وَلَيْسَتِ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً فِيهَا فَإِنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقْدَّرَ مَحْذُوفٌ أَيْ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِإِجْمَاعِهِمْ أَيْ لَمَّا عَرَفَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ عَلِمَ أَنَّهُ نُسِخَ بِدَلِيلِ النَّسْخِ أَوْ هِيَ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ لَمَّا ثَبَتَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ عُلِمَ مَعَهُ النَّسْخُ وَأَمَّا دَلِيلُ النَّسْخِ بِعَيْنِهِ فَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَالتَّوْفِيقُ أَنَّهَا حُرِّمَتْ مَرَّتَيْنِ، قِيلَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ نُسِخَتْ مَرَّتَيْنِ الْمُتْعَةُ وَلُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: لَا يُحْتَاجُ إِلَى النَّاسِخِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ أَبَاحَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَبِانْقِضَائِهَا تَنْتَهِي الْإِبَاحَةُ ; وَذَلِكَ لِمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْأَصْلِ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَحَلَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الدَّهْرِ فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ فِيهَا الْعُزُوبَةُ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا وَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ حِينَ صَدَرَتْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ; وَلِذَا قَالَ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا وَهُوَ يُشْبِهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ شُبْرُمَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُتْعَةِ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ

إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ كَأَنَّهَا بَكْرَةٌ عَيْطَاءُ فَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَنْفُسَنَا فَقَالَتْ: مَا تُعْطِينِي فَقُلْتُ رِدَاءً لِي، وَقَالَ صَاحِبِي: رِدَائِي، وَكَانَ رِدَاءُ صَاحِبِي أَجْوَدَ مِنْ رِدَائِي، وَكُنْتُ أَشْبَهَ فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَى رِدَاءِ صَاحِبِي أَعْجَبَهَا فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيَّ أَعْجَبْتُهَا، ثُمَّ قَالَتْ أَنْتَ وَرِدَاؤُكَ يَكْفِينِي فَمَكَثْتُ مَعَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ الَّتِي يُتَمَتَّعُ بِهِنَّ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فِي النِّسَاءِ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ صَحَّ رُجُوعُهُ بَعْدَ مَا اشْتُهِرَ عَنْهُ مِنْ إِبَاحَتِهَا وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَبَاحَهُ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ وَالْعَنَتِ فِي الْأَسْفَارِ وَلِهَذَا قَالَ الْحَازِمِيُّ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ أَبَاحَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ وَأَبَاحَهَا لَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ بِحَسَبِ الضَّرُورِيَّاتِ حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ فِي آخِرَ سَنَةٍ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا طَائِفَةً مِنَ الشِّيعَةِ " اه، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: " أَحَادِيثُ إِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ وَرَدَتْ فِي أَسْفَارِهِمْ فِي الْغَزْوِ عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ وَعُدْمِ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّ بِلَادَهُمْ حَارَةٌ وَصَبْرَهُمْ عَنْهُنَّ قَلِيلٌ وَقَدْ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَنِ اضْطَرَّ إِلَيْهَا كَالْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ حُكِمَ بِبُطْلَانِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، إِلَّا مَا قَالَ زُفَرُ: مَنْ نَكَحَ مُتْعَةً تَأَبَّدَ نِكَاحُهُ. وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذِكْرَ التَّأْجِيلِ مِنْ بَابِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهَا تُلْغَى وَيَصِحُّ النِّكَاحُ " اه. وَفِيهِ أَنَّ زُفَرَ فَرَّقَ بَيْنَ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ وَبَيْنَ الْمُتْعَةِ فَالْمُتْعَةُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ وَالتَّمْتِيعِ سَوَاءٌ يَكُونُ مُؤَقَّتًا أَوْ لَا وَالْمُؤَقَّتُ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالزَّوَاجِ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ نَكَحَ مُطْلَقًا وَنِيَّتَهُ أَنَّهُ لَا يَمْكُثُ مَعَهَا إِلَّا مُدَّةً فَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3149 - «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ، قَالَ: " التَّشَهُّدُ فِي الصَّلَاةِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَالتَّشَهُّدُ فِي الْحَاجَةِ إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضَلِّلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] » . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ فَسَّرَ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ بَعْدَ قَوْلِهِ إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَبَعْدَ قَوْلِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3149 - ( «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَّةِ» ) أَيْ: مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَالتَّشَهُّدُ إِظْهَارُ الشَّهَادَةِ بِالْإِيقَانِ أَوْ طَلَبُ التَّشَهُّدِ وَهُوَ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ أَوْ طَلَبُ الشُّهُودِ وَهُوَ الْحُضُورُ وَالْعِرْفَانُ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ (قَالَ) أَيْ: ابْنُ مَسْعُودٍ (التَّشَهُّدُ فِي الصَّلَاةِ) أَيْ: فِي آخِرِهَا ( «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ» ) قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ (وَالتَّشَهُّدُ فِي الْحَاجَةِ إِنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) بِتَخْفِيفِ إِنَّ وَرَفْعِ الْحَمْدِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ، قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: " يَجُوزُ تَخْفِيفُ إِنَّ وَتَشْدِيدُهَا وَمَعَ التَّشْدِيدِ يَجُوزُ رَفْعُ الْحَمْدِ وَنَصْبُهُ وَرَوَيْنَاهُ بِذَلِكَ " اه، رَفْعُ الْحَمْدِ مَعَ التَّشْدِيدِ يَكُونُ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: " التَّشَهُّدُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَنْ مُخْفِقَةٌ مِنَ الْمُثْقَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] فَالْحَمْدُ هُنَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْجَمَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْأَفْعَالِ الْعِظَامِ وَالتَّعْرِيفِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ فَيُفِيدُ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ لَيْسَتْ إِلَّا مِنْهُ وَكُلَّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ لَهُ وَمِنْهُ وَإِلَيْهِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَفْعَالُ الْمُتَنَاسِقَةُ بَعْدَهُ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِعَاذَةِ (نَسْتَعِينُهُ) أَيْ: فِي حَمْدِهِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ جُمَلٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَحْوَالِ الْحَامِدِينَ (وَنَسْتَغْفِرُهُ) أَيْ: فِي تَقْصِيرِ عِبَادَتِهِ وَتَأْخِيرِ طَاعَتِهِ (وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا) أَيْ: مِنْ ظُهُورِ شُرُورِ أَخْلَاقِ نُفُوسِنَا الرَّدِيَّةِ وَأَحْوَالِ طِبَاعِ أَهْوَائِنَا الدَّنِيَّةِ (مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ) بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ أَيْ مِنْ يُوَفِّقُهُ لِلْهِدَايَةِ (فَلَا مُضِلَّ لَهُ) أَيْ: مِنْ شَيْطَانٍ وَنَفْسٍ وَغَيْرِهِمَا (وَمَنْ يُضَلِّلُ) بِخَلْقِ الضَّلَالَةِ فِيهِ (فَلَا هَادِيَ لَهُ) أَيْ: لَا

مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَا مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَضَافَ الشَّرَّ إِلَى الْأَنْفُسِ أَوَّلًا كَسْبًا وَالْإِضْلَالَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ثَانِيًا خُلُقًا وَتَقْدِيرًا " (وَأَشْهَدُ) أَيْ: بِإِعَانَتِهِ وَهِدَايَتِهِ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: الْمُسْتَحِقُّ لِلْعُبُودِيَّةِ وَالثَّابِتُ الْأُلُوهِيَّةُ فِي تَوْحِيدِ ذَاتِهِ وَتَفْرِيدِ صِفَاتِهِ (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) سَيِّدُ مَخْلُوقَاتِهِ وَسَنَدُ مَوْجُودَاتِهِ (وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " هَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَهُوَ يَقْتَضِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَالتَّقْدِيرُ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَيَقْرَأُ أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] فِي الْمَعَالِمِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، قِيلَ: وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقِيلَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ مَبْنِيَّةٌ {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] أَيْ: مُؤْمِنُونَ أَوْ مُخْلِصُونَ أَوْ مُفَوَّضُونَ أَوْ مُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: مُتَزَوِّجُونَ وَالنَّهْيُ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ وَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ وَإِنَّمَا نُهُوا فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ تَرْكِ الْإِسْلَامِ وَمَعْنَاهُ دَاوِمُوا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى لَا يُصَادِفَكُمُ الْمَوْتُ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي) هَكَذَا فِي نُسْخَةِ الْمِشْكَاةِ وَالْأَذْكَارِ وَتَيْسِيرِ الْوُصُولِ إِلَى جَامِعِ الْأُصُولِ وَبَعْضِ نَسْخِ الْحِصْنِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَلَعَلَّهُ هَكَذَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّ الْمُثَبَّتَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي} [النساء: 1] بِدُونِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلًا لِمَا فِي الْإِمَامِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّامَ فِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ، قُلْتُ: لَا يَصِحُّ هَذَا الِاحْتِمَالُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) الْآيَةَ، مَعَ أَنَّ الْمَوْصُولَيْنِ يُلَائِمَانِ التَّخْصِيصَ (تَسَاءَلُوا) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَبِتَشْدِيدِ السِّينِ قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ (بِهِ) أَيْ: تَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ حَوَائِجَكُمْ بِاللَّهِ كَمَا تَقُولُونَ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ؟ (وَالْأَرْحَامَ) بِالنَّصْبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْقُرَّاءِ أَيْ وَاتَّقَوُا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا وَفِيهِ عَظِيمُ مُبَالَغَةٍ فِي اجْتِنَابِ قَطْعِ الرَّحِمَ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالْخَفْضِ أَيْ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ كَمَا فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُقَالُ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِ فَصِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ فِي طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ، وَقِيلَ: الْجَرُّ لِلْجِوَارِ، وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْقَسَمِ، وَقِيلَ: عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] أَيْ حَافِظًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الأحزاب: 70] أَيْ مُخَالَفَتَهُ وَمُعَاقَبَتَهُ {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] أَيْ: صَوَابًا وَقِيلَ: عَدْلًا، وَقِيلَ: صِدْقًا، وَقِيلَ: مُسْتَقِيمًا، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ أَيْ دُومُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 71] أَيْ: يَتَقَبَّلْ حَسَنَاتِكُمْ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71] أَيْ: يَمْحُو سَيِّئَاتِكُمْ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 71] أَيْ: بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] أَيْ: ظَفَرَ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَدْرَكَ مُلْكًا كَبِيرًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَأَبُو عَوَانَةَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ (وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ فَسَّرَ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ) أَقُولُ فَيُمْكِنُ الْغَلَطُ سَهْوًا مِنْهُ فَالْأَوْلَى أَنْ تُقْرَأَ الْآيَةُ عَلَى الْقُرَّاءِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنِ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]

فَهُوَ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِحَالِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ حَاجَةٍ (وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ بَعْدَ قَوْلِهِ إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ) مَفْعُولُ زَادَ (وَبَعْدَ قَوْلِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا) أَيْضًا مَفْعُولُ زَادَ (وَالدَّارِمِيُّ) عَطْفٌ عَلَى ابْنِ مَاجَهْ أَيْ وَزَادَ الدَّارِمِيُّ (بَعْدَهُ قَوْلَهُ عَظِيمًا ثُمَّ تَكَلَّمَ بِحَاجَتِهِ) مَفْعُولُ زَادَ الْمُقَدَّرِ (وَرَوَى) أَيْ: الْبَغَوِيُّ (فِي وَالدَّارِمِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ عَظِيمًا ثُمَّ يَتَكَلَّمُ بِحَاجَتِهِ وَرَوَى فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ) وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ " أَيْ: قُدَّامَهَا، " مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِيهِمَا فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا "، وَقَالَ صَاحِبُ السِّلَاحِ بَعْدَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " زَادَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يُطِعْهُ وَيُطِعْ رَسُولَهُ وَيَتَّبِعْ رِضْوَانَهُ وَيَجْتَنِبْ سُخْطَهُ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِهِ وَلَهُ أَيْ بِهِ مَوْجُودُونَ وَلَهُ مُنْقَادُونَ.

3150 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشْهَدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3150 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ خِطْبَةٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ وَهِيَ التَّزَوُّجُ (لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٍ) أَيْ: حَمَدٌ وَثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ (فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ) أَيْ: الْمَقْطُوعَةِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا لِصَاحِبِهَا وَالْجَذْمُ سُرْعَةُ الْقَطْعِ، وَقِيلَ: الْجَذْمَاءُ مِنَ الْجُذَامِ وَهُوَ دَاءٌ مَعْرُوفٌ تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " وَأَصْلُ التَّشَهُّدِ قَوْلُكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الثَّنَاءِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ وَالشَّهَادَةُ الْخَبَرُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ أَصْدَقُ الشَّهَادَاتِ وَأَعْظَمُهَا "، قُلْتُ: الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي حَاشِيَتِهِ، قَالَ الْمُظْهِرُ وَزَيْنُ الْعَرَبِ فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَالْخِطْبَةُ بِالْكَسْرِ طَلَبُ التَّزَوُّجِ اه، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هُنَا بِالْكَسْرِ لَكِنَّ فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِالضَّمِّ ; فَإِنَّ الشَّيْخَ اسْتَمْسَكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الِاسْتِشْكَالِ عَلَى صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ حَيْثُ تَرَكَ فِي الْأَوَّلِ كِتَابَةَ الشَّهَادَةِ. قُلْتُ: فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِالْكَسْرِ أَوِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْلِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

3151 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3151 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ) أَيْ: ذِي شَأْنٍ وَاعْتِبَارٍ يُرْجَى مِنْهُ حُسْنُ مَآلٍ فِي النِّهَايَةِ الْبَالُ الْحَالُ وَالشَّأْنُ وَأَمْرٌ ذُو بَالٍ أَيْ: شَرِيفٌ يُحْتَفَلُ بِهِ وَيُهْتَمُّ وَالْبَالُ فِي غَيْرِ هَذَا الْقَلْبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا قَالَ: ذُو بَالٍ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يَشْغَلُ الْقَلْبَ كَأَنَّهُ مَلَكَهُ وَكَأَنَّهُ صَاحِبُ بَالٍ (لَا يَبْدَأُ) وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ يَبْدَأْ (بِالْحَمْدِ لِلَّهِ) بِإِسْقَاطِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَبِإِثْبَاتِهَا حِكَايَةٌ (فَهُوَ) أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ (أَقْطَعُ) أَيْ: مَقْطُوعُ الْبَرَكَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ أَيْ أَقْطَعُ مِنْ كُلِّ مَقْطُوعٍ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَهُوَ أَبْتَرُ أَيْ: ذَاهِبُ الْبَرَكَةِ، رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَهُوَ أَجْذَمُ، وَفِي رِوَايَةٍ " لَا يَبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " رَوَاهَا ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَحَسَّنَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

3152 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3152 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْلَنُوا هَذَا النِّكَاحَ) أَيْ: بِالْبَيِّنَةِ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أَوْ بِالْإِظْهَارِ وَالِاشْتِهَارِ فَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ (وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ) وَهُوَ إِمَّا لِأَنَّهُ أَدْعَى إِلَى الْإِعْلَانِ أَوْ لِحُصُولِ بِرْكَةِ الْمَكَانِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِيهِ أَيْضًا فَضِيلَةُ الزَّمَانِ لِيَكُونَ نُورًا عَلَى نُورٍ وَسُرُورًا عَلَى سُرُورٍ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " يُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً وَكَوْنِهِ فِي يَوْمَ الْجُمْعَةِ " اه، وَهُوَ إِمَّا تَفَاؤُلًا لِلِاجْتِمَاعِ أَوْ تَوَقُّعَ زِيَادَةِ الثَّوَابِ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ الْإِعْلَانِ (وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى النِّكَاحِ (بِالدُّفُوفِ) لَكِنْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: " فِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ الدُّفِّ فِي الْمَسْجِدِ لِلنِّكَاحِ " اه. وَلَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِهِ كَمَا لَا يَخْفَى وَقَالَ الْفُقَهَاءُ الْمُرَادُ بِالدُّفِّ مَا لَا جَلَاجِلَ لَهُ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَنَقَلَ ابْنُ الْهُمَامِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَقُولُ: هَذَا إِنَّمَا هُوَ الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ وَأَمَّا صَدْرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَمَّا اشْتِرَاطُ الشَّهَادَةِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِشُهُودٍ» ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ دُونَ الْإِشْهَادِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي الْأَمْرَيْنِ " اشْتِرَاطُ الْإِعْلَانِ وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الْإِشْهَادِ "، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْإِشْهَادِ وَإِنَّمَا زَادَ ذِكْرَ الْإِعْلَانِ تَتْمِيمًا لِنَقْلِ مَذْهَبِهِ. وَنَفَى اشْتِرَاطَ الشَّهَادَةِ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلِي وَعُثْمَانَ الْبَنَّاءِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ. قِيلَ: وَزُوِّجَ ابْنُ عُمَرَ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَكَذَا فَعَلَ الْحَسَنُ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بُقُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِشُهُودٍ» " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " الْبَغَايَا الَّتِي يَنْكِحْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ عَبْدِ الْأَعْلَى فِي التَّفْسِيرِ وَوَقَفَهُ فِي الطَّلَاقِ، لَكِنَّ ابْنَ حِبَّانَ رَوَى مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا نِكَاحَ إِلَّا بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» "، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: " لَا يَصِحُّ فِي ذِكْرِ الشَّاهِدَيْنَ غَيْرُ هَذَا وَلَشَتَّانَ مَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ فَخَرِ الْإِسْلَامِ إِنَّ حَدِيثَ الشُّهُودِ مَشْهُورٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِهِ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فَيَنْدَفِعُ بِهِ الْإِيرَادُ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ لُزُومُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشَايِخَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - نَصَبُوا الْخِلَافَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَفِي الْإِعْلَانِ وَاسْتَدَلُّوا لِمَالِكٍ فِي إِثْبَاتِهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هَذَا وَالَّذِي يُظْهِرُ أَنَّ هَذَا نَصَبٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ يَظْهَرُ ذَلِكَ عَنْ أَجْوِبَتِهِمْ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَغَيْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّ كَلِمَتَهُمْ قَاطِعَةٌ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِمُوجِبِ دَلَائِلِ الْإِعْلَانِ وَادِّعَاءِ الْعَمَلِ بِهَا بِاشْتِرَاطِ الْإِشْهَادِ إِذْ بِهِ يَحْصُلُ الْإِعْلَانُ، وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ: نِكَاحُ السِّرِّ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ شُهُودٌ فَإِذَا حَضَرُوا فَقَدْ أُعْلِنَ، قَالَ: وَسِرُّكَ مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ ... وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ الْخَفِيُّ ، صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْإِعْلَانَ الْمَشْرُوطَ هَلْ يَحْصُلُ بِالْإِشْهَادِ حَتَّى لَا يَضُرَّهُ بَعْدَهُ تَوْصِيَتُهُ لِلشُّهُودِ بِالْكِتْمَانِ أَوْ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْإِشْهَادِ حَتَّى يَضُرَّ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ، وَقَالُوا: لَا وَلَوْ أَعْلَنَ بِدُونِ الْإِشْهَادِ لَا يَصِحُّ لِتَخَلُّفِ شَرْطٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِشْهَادُ وَعِنْدَهُ يَصِحُّ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ شَرْطَ الْإِشْهَادِ يَحْصُلُ فِي ضِمْنِهِ الشَّرْطُ الْآخَرُ فَكُلُّ إِشْهَادٍ إِعْلَانٌ وَلَا يَنْعَكِسُ كَمَا لَوْ أَعْلَنُوا بِحَضْرَةِ صِبْيَانٍ أَوْ عَبِيدٍ.

3153 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ الْجُمَحِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَصَلَ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الصَّوْتُ وَالدُّفُّ فِي النِّكَاحِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3153 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ) بِالْحَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ (الْجُمَحِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، هَاجَرَ مَعَ أَخِيهِ خَطَّابِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرٍ إِلَىِ الْحَبَشَةِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَصَلَ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ» ) أَيْ: فَرَّقَ بَيْنَهُمَا (الصَّوْتُ) أَيْ: الذِّكْرُ وَالتَّشْهِيرُ بَيْنَ النَّاسِ (وَالدُّفُّ) أَيْ: ضَرَبَهُ (فِي النِّكَاحِ) فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِهِ الْإِعْلَانُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي النِّكَاحِ إِلَّا هَذَا الْأَمْرُ فَإِنَّ الْفَرْقَ يَحْصُلُ بِحُضُورِ الشُّهُودِ عِنْدَ الضِّدِّ بَلِ الْمُرَادُ التَّرْغِيبُ إِلَى إِعْلَانِ أَمْرِ النِّكَاحِ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى الْأَبَاعِدِ، فَالسُّنَّةُ إِعْلَانُ النِّكَاحِ بِضَرْبِ الدُّفِّ وَأَصْوَاتِ الْحَاضِرِينَ بِالتَّهْنِئَةِ أَوِ النَّغْمَةِ فِي إِنْشَادِ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ إِعْلَانُ النِّكَاحِ وَاضْطِرَابُ الصَّوْتِ بِهِ وَالذِّكْرُ فِي النَّاسِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ قَدْ ذَهَبَ صَوْتُهُ فِي النَّاسِ وَبَعْضُ النَّاسِ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى السَّمَاعِ وَهَذَا خَطَأٌ يَعْنِي السَّمَاعَ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ النَّاسِ الْآنَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْحَاكِمُ بِلَفْظِ «فَصَلَ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ضَرْبُ الدُّفِّ وَالصَّوْتِ فِي النِّكَاحِ»

3154 - «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِي جَارِيَةً مِنَ الْأَنْصَارِ زَوَّجْتُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عَائِشَةُ أَلَا تُغَنِّينَ فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ يُحِبُّونَ الْغِنَاءَ» رَوَاهُ. . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3154 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِي جَارِيَةٌ) أَيْ: بِنْتٌ مَنْ أَقَارِبِهَا كَمَا سَيَأْتِي أَوْ يَتِيمَةٌ تَكَفَّلَتْ بِهَا (مِنَ الْأَنْصَارِ زَوَّجْتُهَا) أَيْ: مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْ غَيْرِهِمْ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تُغَنِّينَ) يَحْتَمِلُ خِطَابُ الْجَمَاعَةِ وَالْإِفْرَادِ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ أَوِ التَّفَعُّلِ فَإِنَّ غَنَّى وَتَغَنَّى بِمَعْنًى، فَفِي الْقَامُوسِ: غَنَّاهُ الشِّعْرَ وَبِهِ تَغْنِيَةً: تَغَنَّى بِهِ وَبِالْمَرْأَةِ تَغَزَّلَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِطَابِ الْغَيْبَةَ بِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ وَالْمُرَادُ مِنْهُنَّ مَنْ تَبِعَهَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِمَاءِ وَالسَّفَلَةِ فَإِنَّ الْحَرَائِرَ يَسْتَنْكِفْنَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى خِطَابِ الْحُضُورِ لَهُنَّ وَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْآمِرِ بِهِ وَالْآذِنِ فِيهِ "، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ " أَرْسَلْتُمْ مَعَهَا مَنْ تَغَنِّي "، قَالَ: وَلَا يَحْسُنُ تَفْرِيدُ الْخِطَابِ هَاهُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ وَقَدْ حَلَّ مَنْصِبُ الصَّدِيقَاتِ عَنْ مُعَانَاةٍ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِنَّ (فَإِنَّ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ يُحِبُّونَ الْغِنَاءَ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ أَيِ التَّغَنِّي وَقَالَ الطِّيبِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تَفَّعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ غَيْرُ عَزِيزٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ} [البقرة: 203] أَيِ اسْتَعْجَلَ فَإِذَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي فَلَوْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا مَنْ يَقُولُ أَتَيْنَاكُمْ فَإِنَّ التَّمَنِّيَ فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ (رَوَاهُ. . . . . . .) فِي الْأَصْلِ بَيَاضٌ هُنَا وَأَلْحَقَ بِهِ فِي الْحَاشِيَةِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

3155 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَنْكَحَتْ عَائِشَةُ ذَاتَ قَرَابَةٍ لَهَا مِنَ الْأَنْصَارِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ " أَهَدَيْتُمُ الْفَتَاةَ ". قَالُوا نَعَمْ. قَالَ " أَرْسَلْتُمْ مَعَهَا مَنْ يُغَنِّى قَالَتْ لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ الْأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ فَلَوْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا مَنْ يَقُولُ أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ» ". . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3155 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنَكَحَتْ عَائِشَةُ ذَاتَ قَرَابَةٍ لَهَا مِنَ الْأَنْصَارِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَهَدَيْتُمْ) بِفَتْحِ الْهَاءِ (الْفَتَاةَ) أَيْ: الْجَارِيَةَ وَالْمُرَادُ بِهَا الْبِنْتُ وَالْمَهْدِيُّ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ أَيْ إِلَى بَعْلِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: " الْهِدَاءُ مَصْدَرُ هُدِيَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا فَهِيَ مَهْدِيَّةٌ وَهُدِيَ أَيْضًا "، فِي الْقَامُوسِ: " هَدِيٌّ كَغَنِيٍّ: الْعَرُوسُ كَالْهَدِيَّةِ وَهَدَاهَا إِلَى بَعْلِهَا وَأَهْدَاهَا وَاهْتَدَاهَا " اه، فَيَصِحُّ أَيْضًا مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ مِنْ ضَبْطِهَا أَهْدَيْتُمْ بِالسُّكُونِ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ (نَعَمْ) وَفِي إِيرَادِ الضَّمِيرِ الْمُذَكَّرِ إِمَّا تَغْلِيبٌ لِمَا هُنَاكَ مِنْ أَقَارِبِهِمَا أَوْ خُدَّامِهَا أَوْ تَنْزِيلًا مِنْ مَنْزِلَةِ الرِّجَالِ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّهَا (قَالَ: أَرْسَلْتُمْ مَعَهَا مَنْ تُغَنِّي) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (قَالَتْ: لَا) تَصَدَّتْ لِلْجَوَابِ لِأَنَّهَا الرَّئِيسَةُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مَيْلٌ إِلَى الْغِنَاءِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مُغَازَلَةُ النِّسَاءِ فِي مُحَادَثَتِهِنَّ وَمُرَاوَدَتِهِنَّ وَالِاسْمُ الْغَزَلُ (فَلَوْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا) لَوْ لِلتَّمَنِّي وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَكَانَ حَسَنًا (مَنْ يَقُولُ أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ) أَيْ: هُنَا وَنَحْوَهُ (فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ) أَيْ: اللَّهُ تَعَالَى أَبْقَانَا وَأَبْقَاكُمْ وَسَلَّمَ إِيَّاكُمْ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " أَيْ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ "، قِيلَ: وَتَمَامُهُ وَلَوْلَا الْحِنْطَةُ السَّمْرَاءُ لَمْ تَسْمَنْ عَذَارَاكُمْ أَيْ: بَنَاتُكُمُ الْبِكْرُ، وَالسَّمْرَاءُ أَيِ الْحَمْرَاءُ وَالسُّمْرَةُ بَيَاضٌ يَخْتَلِطَهُ حُمْرَةٌ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

3156 - وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَمَنْ بَاعَ بَيْعًا مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3156 - (وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ) أَيْ: مُسْتَوَيَانِ وَأَحَدُهُمَا سَابِقٌ (فَهِيَ لِلْأَوَّلِ) أَيْ: عَقْدًا لَا دُخُولًا (مِنْهُمَا) وَبَطَلَ عَقْدُ الثَّانِي دَخَلَ الثَّالِثُ بِهَا أَوْ لَا، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهِيَ لَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِ: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ أَصْلًا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (وَمَنْ بَاعَ بَيْعًا مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ) أَيْ: الْمَبِيعُ (لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا) مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَقْدَانِ مَعًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ وَالْبَيْعُ صَحَّ بِالِاشْتِرَاكِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ مُسْتَوَيَانِ كُلٌّ مِنْ وَاحِدٍ فَسَكَتَتْ فَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَطَلَا كَمَا لَوْ أَجَازَتْهُمَا مَعًا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَظَاهِرُ الْجَوَابِ أَنَّهُمَا يَتَوَقَّفَانِ حَتَّى تُجِيزَ أَحَدَهُمَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3157 - «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا: أَلَا نَخْتَصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ فَكَانَ أَحَدُنَا يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3157 - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو) أَيْ: نُجَاهِدُ الْكُفَّارَ وَنُقَاتِلُهُمْ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ) أَيْ: وَنَحْنُ نَشْتَهِيهِنَّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ شَجَاعَتِهِمْ وَرُجُولِيَّتِهِمْ وَقُوَّةِ قُلُوبِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ (فَقُلْنَا: أَلَا نَخْتَصِي) أَيْ: حَتَّى نَتَخَلَّصَ مِنْ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ (فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ) أَيْ: الِاخْتِصَاءِ (ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ) أَيْ: نَفْعَلُ الْمُتْعَةَ بِالنِّسَاءِ (فَإِنَّ أَحَدَنَا يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ) أَيْ: مُسَمًّى وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ يَنْكِحُ يَتَمَتَّعُ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ فَالْأَوَّلُ اتَّفَقُوا عَلَى بُطْلَانِهِ، وَكَذَا الثَّانِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ زُفَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " أَمَّا لَوْ تَزَوَّجَ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ مُدَّةٍ نَوَاهَا فَلَا بَأْسَ وَلَا بَأْسَ بِتَزَوُّجِ النَّهَارِيَّاتِ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ " اه، وَاللَّيْلِيَّاتُ بِالْجَوَازِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ إِبَاحَتُهَا كَابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ رَجَعَ لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كَمَا سَيَأْتِي وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَلَعَلَّهُ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ اسْتَمَرَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ " اه، أَوْ يَقُولُ بِأَنَّهَا رُخْصَةٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْآخَرِ كَمَا سَبَقَ عَنْهُ وَكَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3158 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَ الرَّجُلُ يُقْدِمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يُقِيمُ تَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ شَيَّهُ حَتَّى إِذَا نَزَلَتِ الْآيَةُ {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3158 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ) أَيْ: بِالنَّاسِ يَعْزَبُونَهُ (فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يُرَى) بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ يَظُنُّ (أَنَّهُ يُقِيمُ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ شَيَّهُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ طَبِيخَهُ، فِي الْقَامُوسِ: شَوَى اللَّحْمَ شَيًّا فَاشْتَوَى، وَقِيلَ: أَيْ أَسْبَابَهُ فَكَأَنَّهُ صَحَّفَهُ وَجَعَلَهُ مُفْرَدَ الْأَشْيَاءِ (حَتَّى إِذَا نَزَّلَتِ الْآيَةُ {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] قَالَ الطِّيبِيُّ يُرِيدُ أَنْ

اللَّهَ تَعَالَى وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَحْفَظُونَ فُرُوجَهُمْ عَنْ جَمِيعِ الْفُرُوجِ إِلَّا عَنِ الْأَزْوَاجِ وَالسَّرَارِي وَالْمُسْتَمْتَعَةُ لَيْسَتْ زَوْجَةً لِانْتِفَاءِ التَّوَارُثِ إِجْمَاعًا وَلَا مَمْلُوكَةً بَلْ هِيَ مُسْتَأْجَرَةٌ نَفْسُهَا أَيَّامًا مَعْدُودَةً فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ: " إِنَّ الْمُسْتَمْتَعَةَ لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحِلُّ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً لِأَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ لَحَصَلَ التَّوَارُثُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ وَجَبَ أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] " (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ وَحَكَاهُ " اه. وَالظَّاهِرُ مِنْ أَحَادِيثِهِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْجَوَازِ الْمُطْلَقِ وَقَيَّدَ جَوَازَهُ بِحَالِ الرُّخْصَةِ وَالْعَجَبُ مِنَ الشِّيعَةِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِقَوْلِهِ وَتَرَكُوا مَذْهَبَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَلِينُ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَ: مَهْلًا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمْرِ الْإِنْسِيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ حِينَ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَامَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا أَعْمَى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ كَمَا أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ يَفْتُونَ بِالْمُتْعَةِ يُعَرِّضُ بِرَجُلٍ فَنَادَاهُ فَقَالَ: إِنَّكَ لَجِلْفٌ جَافٌّ فَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَتِ الْمُتْعَةُ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ إِمَامِ الْمُتَّقِينَ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَجَرِّبَ نَفْسَكَ فَوَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلَتْهَا لِأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ. الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَلَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الرَّجُلُ الْمُعَرَّضُ بِهِ وَكَانَ قَدْ كَفَّ بَصَرُهُ فَلِذَا قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَمَا أَعْمَى أَبْصَارُهُمْ، وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ خِلَافَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَمِرُّ الْقَوْلِ عَلَى جَوَازِهَا وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَسْنَدَ الْحَازِمِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْخَطَابِيِّ إِلَى الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ: لِابْنِ عَبَّاسٍ لَقَدْ سَارَتْ بِفِتْيَاكَ الرُّكْبَانُ وَقَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ قَالَ: وَمَا قَالُوا: قُلْتُ قَالُوا: قَدْ قُلْتُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَحْبِسُهُ ... يَا صَاحٍ هَلْ لَكَ فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسِ هَلْ لَكَ فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةٌ ... تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهُ مَا بِهَذَا أَفْتَيْتُ وَمَا هِيَ إِلَّا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَلَا تَحِلُّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3159 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي عُرْسٍ، وَإِذَا جِوَارٍ يُغَنِّينَ، فَقُلْتُ: أَيْ صَاحِبَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلَ بَدْرٍ يُفْعَلُ هَذَا عِنْدَكُمْ؟ فَقَالَا: اجْلِسْ إِنْ شِئْتَ فَاسْمَعْ مَعَنَا وَإِنْ شِئْتَ فَاذْهَبْ، فَإِنَّهُ قَدْ رَخَّصَ لَنَا فِي اللَّهْوِ عِنْدَ الْعُرْسِ. رَوَاهُ النَّسَائِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3159 - (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى قَرَظَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَالظَّاءِ مُعْجَمَةً (ابْنِ كَعْبٍ) أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ (وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي عُرْسٍ وَإِذَا جِوَارٍ) أَيْ: بَنَاتٌ صَغِيرَاتٌ أَوْ مَمْلُوكَاتٌ (يُغَنِّينَ فَقُلْتُ: أَيْ صَاحِبَيْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِنَصْبِ التَّثْنِيَةِ عَلَى النِّدَاءِ وَحَذْفِ النُّونِ لِلْإِضَافَةِ (وَأَهْلَ بَدْرٍ) بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُنَادِي (يُفْعَلُ هَذَا) أَيِ: التَّغَنِّي (عِنْدَكُمْ) فِيهِ تَغْلِيبٌ أَوْ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: خَصَّهُمْ بِهِ لِأَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ هُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يُفْعَلُ هَذَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَنْتُمْ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تُنْكِرُوا فَهُوَ بَعِيدٌ مِنْكُمْ وَمُنَافٍ لِحَالِكُمْ (فَقَالَا اجْلِسْ إِنْ شِئْتَ فَاسْمَعْ مَعَنَا وَإِنْ شِئْتَ فَاذْهَبْ فَإِنَّهُ قَدْ رَخَّصَ لَنَا فِي اللَّهْوِ عِنْدَ الْعُرْسِ) أَيْ: وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

[باب المحرمات]

[بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ]

بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3160 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ) الْحَرَامُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، فِي الْمُغْرِبِ: " الْمُحَرَّمُ الْحَرَامُ وَالْحُرْمَةُ أَيْضًا وَحَقِيقَتُهُ مَوْضِعُ الْحُرْمَةِ وَمِنْهُ هِيَ لَهُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ لَهَا مُحَرَّمٌ، وَقَدْ ضَبَطَهَا ابْنُ الْهُمَامِ ضَبْطًا حَسَنًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَذْكُرَهُ فَقَالَ: انْتِفَاءُ مَحَلِّيَّةِ الْمَرْأَةِ لِلنِّكَاحِ شَرْعًا بِأَسْبَابٍ، الْأَوَّلُ: النَّسَبُ فَيَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ فُرُوعُهُ وَهُمْ بَنَاتُهُ وَبَنَاتُ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلْنَ وَأُصُولُهُ وَهُمْ أُمَّهَاتُهُ وَأُمَّهَاتُ أُمَّهَاتِهِ وَآبَائِهِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَوَقَعَ فِي النُّسَخِ وَأَبْنَائِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَآبَائِهِ وَهُوَ سَهْوٌ مِنَ النُّسَّاخِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَفُرُوعُ أَبَوَيْهِ وَإِنْ نَزَلْنَ فَيَحْرُمُ بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنَاتَ أَوْلَادِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَإِنْ نَزَلْنَ وَفُرُوعُ أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ بِبَطْنٍ وَاحِدٍ ; فَلِهَذَا تَحْرُمُ الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَتَحِلُّ بَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ. الثَّانِي: الْمُصَاهَرَةُ يَحْرُمُ بِهَا فَرُوعُ نِسَائِهِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ وَإِنْ نَزَلْنَ وَأُمَّهَاتُ الزَّوْجَاتِ وَجَدَّاتُهُنَّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ وَإِنْ عَلَوْا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالزَّوْجَاتِ وَتُحْرَمُ مَوْطُوءَاتُ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا وَلَوْ بِزِنًا وَالْمَعْقُودَاتُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَمَوْطُوءَاتُ أَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا وَلَوْ بِزِنًا وَالْمَعْقُودَاتُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، الثَّالِثُ: الرِّضَاعُ يُحَرِّمُ كَالنَّسَبِ وَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَحَلِّهِ، الرَّابِعُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَحَارِمِ يَعْنِي كَالْأُخْتَيْنِ وَالْعَمَّةِ وَبِنْتِ أَخِيهَا أَوِ الْأَجْنَبِيَّاتِ كَالْأَمَةِ مَعَ الْحُرَّةِ السَّابِقَةِ، الْخَامِسُ: حَقُّ الْغَيْرِ كَالْمَنْكُوحَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ وَالْحَامِلِ بِثَابِتِ النَّسَبِ، السَّادِسُ: عَدَمُ الدِّينِ السَّمَاوِيِّ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُشْرِكَةِ، السَّابِعُ: التَّنَافِي كَنِكَاحِ السَّيِّدِ أَمَتَهُ وَالسَّيِّدِةِ عَبْدَهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3160 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَجْمَعُ) أَيْ فِي النِّكَاحِ وَكَذَا فِي الْوَطْءِ بِمَلْكِ الْيَمِينِ (بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا) سَوَاءٌ كَانَتْ سُفْلَى كَأُخْتِ الْأَبِ أَوْ عُلْيَا كَأُخْتِ الْجَدِّ مَثَلًا (وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا) أَيْ: كَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: " أَيْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَمَّةً وَخَالَةً حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةً وَهِيَ أُخْتُ أَبِي الْأَبِ وَأَبِي الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا وَأُخْتُ أَمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْجَدَّةِ مِنْ جِهَتِي الْأُمِّ وَالْأَبِ وَإِنْ عَلَتْ، فَكُلُّهُنَّ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ أَوْ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ وَأَمَّا فِي الْأَقَارِبِ كَبَنِي الْعَمَّتَيْنِ وَبَنِي الْخَالَتَيْنِ وَنَحْوَهُمَا فَجَائِزٌ، وَكَذَا بَيْنَ زَوْجَةِ الرَّجُلِ وَبِنْتِهِ مِنْ غَيْرِهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] " فِي الْهِدَايَةِ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا أَوِ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوِ ابْنَةِ أُخْتِهَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: تَكْرَارٌ لِغَيْرِ دَاعٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْجَمْعِ بِخِلَافِ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا، وَلَا عَلَى ابْنِهِ أُخْتِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَنْعُ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا مَنْعُ الْقَلْبِ ; لِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ بِمَنْعِ نِكَاحِ ابْنَةِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ عَلَيْهِمَا دُونَ إِدْخَالِهِمَا عَلَى الِابْنَةِ لِزِيَادَةِ تَكْرِمَتِهِمَا عَلَى الِابْنَةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» " فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَيُؤْنِسُهُ حُرْمَةَ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ مَعَ جَوَازِ الْقَلْبِ ; فَكَانَ التَّكْرَارُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ إِلَّا بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَلَا يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ الْوَهْمُ، وَغَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَرَدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى قَوْلِ: " «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا» "، ثُمَّ فِي الْهِدَايَةِ: وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " ثَنَّى بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ النَّوْعِ بِأَصْلٍ كُلِّيٍّ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ كَحُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ عَمَّتَيْنِ وَخَالَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ أَمَّ الْآخَرِ فَيُولَدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِنْتٌ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْبِنْتَيْنِ عَمَّةَ الْأُخْرَى، أَوْ يَتَزَوَّجُ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ بِنْتَ الْآخَرِ وَيُولَدُ لَهُمَا بِنْتَانِ فَكُلٌّ مِنَ الْبِنْتَيْنِ خَالَةٌ لِلْأُخْرَى فَيَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ

الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى قَرَابَتِهَا مَخَافَةَ الْقَطِيعَةِ ; فَأَوْجَبَ تَعَدِّيَ الْحَكَمِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْجَمْعِ إِلَى كُلِّ قَرَابَةٍ يَفْرِضُ وَصْلَهَا وَهِيَ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ وَبِهِ تَثْبُتُ الْحُجَّةُ عَلَى الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَعُثْمَانَ الْبَنَّاءِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ وَدَاوْدَ الظَّاهِرِيِّ فِي إِبَاحَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ غَيْرِ الْأُخْتَيْنِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ زَوْجَةِ رَجُلٍ وَبِنْتِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَهُوَ جَائِزٌ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَقَالَ: جَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ، وَتَعْلِيقَاتُهُ صَحِيحَةٌ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَازِ.

3161 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3161 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيَكْسَرُ، وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ الْكَسْرَ مَعَ الْهَاءِ وَفِعْلُهُ فِي الْفَصِيحِ مِنْ حَدِّ عَلِمَ يَعْلَمُ وَأَهْلُ نَجْدٍ قَالُوهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَذُمُّ عُلَمَاءَ زَمَانِهِ - وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضِعُونَهَا - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَصُّ اللَّبَنِ مِنَ الثَّدْيِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَئِيمُ مَرَاضِعَ أَيْ: يَرْضِعُ غَنَمَهُ وَلَا يَحْلِبُهَا مَخَافَةَ أَنْ يُسْمَعَ صَوْتُ حَلْبِهِ فَيُطْلَبُ مِنْهُ اللَّبَنُ، وَفِي الشَّرْعِ: مَصَّ الرَّضِيعُ اللَّبَنَ مِنْ ثَدْيِ الْآدَمِيَّةِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فِي الْهِدَايَةِ: إِذَا شَرِبَ صِبْيَانٌ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ فَلَا رِضَاعَ مُحَرَّمٌ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمَ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا (مَا يُحَرَّمُ مِنَ الْوِلَادَةِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيِ النَّسَبِ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ بَعْضَ الْمَسَائِلِ وَقَدْ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ: يُفَارِقُ النَّسَبَ الرِّضَاعُ فِي صُوَرٍ كَأُمٍّ نَافِلَةٍ وَجَدَةِ الْوَلَدِ وَأَمِّ عَمٍّ وَأُخْتِ ابْنٍ وَأُمِّ أَخٍ وَأُمِّ خَالٍ عَمَّةِ ابْنٍ اعْتَمَدِ ثُمَّ قَالَ طَائِفَةٌ: هَذَا الْإِخْرَاجُ تَخْصِيصٌ لِلْحَدِيثِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ تَخْصِيصًا ; لِأَنَّهُ أَحَالَ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ عَلَى مَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ وَمَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ تَحْرِيمِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَأَخَوَاتِكُمْ وَعَمَّاتِكُمْ وَخَالَاتِكُمْ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ فَمَا كَانَ مِنْ مُسَمَّى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَحَقِّقًا فِي الرِّضَاعِ حَرُمَ فِيهِ وَالْمَذْكُورَاتُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مُسَمَّى تِلْكَ فَكَيْفَ تَكُونُ مَخْصُوصَةً وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاوَلَةٍ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الرِّضَاعِ كَحُرْمَةِ النَّسَبِ فِي الْمَنَاكَحِ فَإِذَا أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ رَضِيعًا يَحْرُمُ عَلَى الرَّضِيعِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ مِنْ أَقَارِبِ الْمُرْضِعَةِ كُلُّ مَنْ يَحْرُمُ عَلَى وَلَدِهَا مِنَ النَّسَبِ وَلَا تَحْرُمُ الْمُرْضِعَةُ عَلَى أَبِي الرَّضِيعِ وَلَا عَلَى أَخِيهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمُّ أُخْتِكَ مِنَ الرِّضَاعِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ أَمًّا لَكَ وَلَا زَوْجَةَ أَبِيكَ وَيُتَصَوَّرُ هَذَا فِي الرِّضَاعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي النَّسَبِ أَمُّ أُخْتٍ إِلَّا وَهِيَ أَمٌّ لَكَ أَوْ زَوْجَةٌ لِأَبِيكَ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ نَافِلَتُكَ مِنَ الرِّضَاعِ إِذَا لَمْ تَكُنِ ابْنَتَكَ أَوْ زَوْجَةَ ابْنِكَ وَلَا جَدَّةُ وَلَدِكَ مِنَ الرِّضَاعِ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّكَ أَوْ أُمَّ زَوْجَتِكَ وَلَا أُخْتُ وَلَدَكَ مِنَ الرِّضَاعِ إِذَا لَمْ تَكُنِ ابْنَتَكَ أَوْ رَبِيبَتَكَ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ إِذَا أَرْضَعَتْ بِلَبَنِ الزِّنَا رَضِيعًا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَبَيْنَ الزَّانِي وَأَهْلِ نَسَبِهِ كَمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ النِّكَاحُ وَيَحُلُّ النَّظَرُ وَالْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ لَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأُمُورِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَوَارَثَانِ وَلَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفَقَةُ الْآخَرِ وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَإِلَّا يَسْقُطُ عَنْهَا الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ فَهُمَا كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: " نُقِلَ أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ صَاحِبَ الصَّحِيحِ أَفْتَى فِي بُخَارَا بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ صَبِيَّيْنِ ارْتَضَعَا شَاهً فَاجْتَمَعَ عُلَمَاؤُهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ مِنْهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ "، وَمَنْ لَمْ يُدَقِقْ نَظَرَهُ فِي مَنَاطِ الْأَحْكَامِ وَحُكْمِهَا كَثُرَ خَطَؤُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ وَالشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ وَهُوَ لِدَةُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمَا مَعًا وِلِدَا فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ عَامُ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ اه، فَكَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

3162 - «وَعَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْتُهُ قَالَ: إِنَّهُ عَمَّكِ فَأْذَنِي لَهُ، قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3162 - (وَعَنْهَا أَيْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ) هُوَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ بِقَافٍ وَعَيْنٍ وَسِينٍ مُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا كَذَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّ أُمَّ أَبِيهَا أَرْضَعَتْ أَبَاهَا لَكِنَّ قَوْلَهَا بِمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ يُبَيِّنُ أَنَّ الرَّجُلَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهَا فَدَعَتْهُ الْعَمَّ هَذَا مَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ اخْتِلَافٌ وَذَكَرَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ عَمَّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ هُوَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ وَكُنْيَتُهُ أَفْلَحُ أَبُو الْجَعْدِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يَحْرُمُ حَتَّى تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ فِي جِهَةِ صَاحِبِ اللَّبَنِ كَمَا تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْبَتَ عُمُومَةَ الرِّضَاعِ وَأَلْحَقَهَا بِالنَّسَبِ (فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ) بِالْمَدِّ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: عَنْ جَوَازِ دُخُولِهِ عَلَيَّ (فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: أَنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ) أَيْ: بِالدُّخُولِ عَلَيْكِ (قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ) أَيْ: حَصَلَتْ فِي الرَّضَاعَةِ فِي جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ فَكَأَنَّهَا ظَنَّتْ أَنَّ الرَّضَاعَةَ لَا تَسْرِى إِلَى الرِّجَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ) أَيْ: فَلْيَدْخُلْ (عَلَيْكِ) ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا وَتَأَيْيِدًا (وَذَلِكَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ) أَيْ: بَعْدَ مَا أُمِرْنَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ بِضَرْبِ الْحِجَابِ وَوَضْعِ النِّقَابِ عِنْدَ الْأَجَانِبِ دُونَ الْأَقَارِبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .

3163 - «وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي بِنْتِ عَمِّكَ حَمْزَةَ فَإِنَّهَا أَجْمَلُ فَتَاةٍ فِي قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ حَمْزَةَ أَخِي مَنِ الرَّضَاعَةِ وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3163 - (وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ) أَيْ: رَغْبَةٌ (فِي بِنْتِ عَمِّكَ حَمْزَةَ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَكَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَفِي مُتَعَلِّقٍ بِهِ أَيْ هَلْ لَدَيْكَ رَغْبَةٌ فِيهَا (فَإِنَّهَا أَجْمَلُ فَتَاةٍ) أَيْ: أَحْسَنُ بَنَاتٍ وَأَكْمَلُ شَوَابٍّ (فِي قُرَيْشٍ) فَضْلًا عَنْ بَنِي هَاشِمٍ (قَالَ لَهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ حَمْزَةَ أَخِي مَنِ الرَّضَاعَةِ) أَرْضَعَتْهُمَا ثُوَيْبَةُ فِي زَمَانَيْنِ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسَنُّ مِنْهُ وَثُوَيْبَةُ مُصَغَّرًا مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نَقْلًا عَنْ بَعْضِهِمْ وَلَمْ تُرْضِعْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ امْرَأَةٌ إِلَّا أَسْلَمَتْ، قَالَ: وَمُرْضِعَاتُهُ أَرْبَعٌ أُمُّهُ وَقَدْ وَرَدَ إِحْيَاؤُهَا وَإِيمَانُهَا فِي حَدِيثٍ وَحَلِيمَةُ وَثُوَيْبَةُ وَأُمُّ أَيْمَنَ (وَأَنَّ اللَّهَ) رُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

3164 - وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ قَالَتْ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ أَوِ الرَّضْعَتَانِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3164 - (وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ) أَيِ: امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهِيَ أُخْتُ مَيْمُونَةٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَالُ: إِنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ بَعْدَ خَدِيجَةَ (قَالَتْ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُحَرِّمُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ (الرَّضْعَةُ أَوِ الرَّضْعَتَانِ) وَفِي نُسْخَةٍ وَلَا الرَّضْعَتَانِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ فِي نُسْخِ الْمَصَابِيحِ (أَوِ الرَّضْعَتَانِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوْدُ: إِنَّ الثَّلَاثَ مُحَرِّمَةٌ بِنَاءً عَلَى مَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَفْهُومِ الْعَدَدِ ضَعِيفٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ أَيْضًا.

3165 - وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ قَالَ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ أَوِ الْمَصَّتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3165 - (وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ قَالَ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ) .

3166 - وَفِي أُخْرَى لِأُمِّ الْفَضْلِ قَالَ: لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ أَوِ الْإِمْلَاجَتَانِ. هَذِهِ رِوَايَاتٌ لِمُسْلِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3166 - (وَفِي أُخْرَى لِأُمِّ الْفَضْلِ قَالَ: لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ) الْمَلْجُ الْمَصُّ يُقَالُ: مَلَجَ الصَّبِيُّ أُمَّهَ وَأَمْلَجَتِ الْمَرْأَةُ صَبِيَّهَا وَالْإِمْلَاجَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ (هَذِهِ) أَيْ: الثَّلَاثُ (رِوَايَاتٍ لِمُسْلِمٍ) وَالرِّوَايَةُ الْوُسْطَى نَسَبَهَا السُّيُوطِيُّ إِلَى أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَإِلَى النَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ عَنِ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَئِمَّتِنَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنَ الرِّضَاعِ فِي مُدَّةِ الرِّضَاعِ وَهُوَ حَوْلَانِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَحَوْلَانِ وَنِصْفٌ عِنْدٍ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَيِّدَ إِطْلَاقَ الْكِتَابِ وَلِإِطْلَاقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُحَرِّمُ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِ رَضَعَاتٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ

3167 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3167 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ) بِسُكُونِ الشِّينِ وَفَتَحَ الضَّادَ (مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ) أَيْ: مُشْبِعَاتٌ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَةٍ عُرْفًا (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ) أَيْ: آيَةُ خَمْسِ رَضَعَاتٍ (فِيمَا يُقْرَأُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِنَ الْقُرْآنِ) تَعْنِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ كَانَ يَقْرَؤُهُ عَلَى الرَّسْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي زَمَانِ الْوَحْيِ فَكَيْفَ بَعْدُ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَتْ بِذَلِكَ قُرْبَ زَمَانِ الْوَحْيِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ تِلَاوَتَهَا قَدْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَتَرَكُوهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ قَدْرَ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ عَنِ الِاخْتِلَالِ وَالنُّقْصَانِ وَتَوَلَّى حِفْظَهُ وَضِمْنَ صِيَانَتِهِ فَقَالَ عَزَّ مَنْ قَالَ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فَلَا يَجُوزُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يَضِيعَ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا أَنْ يَنْخَرِمَ حَرْفٌ كَانَ يُتْلَى فِي زَمَانِ الرِّسَالَةِ إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهُ، قَالَ الْأَشْرَفُ: الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِ عَائِشَةِ وَهُوَ (فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) عَائِدٌ إِلَى عَشْرِ رَضَعَاتٍ وَحِينَئِذٍ احْتَاجَ الشَّيْخُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ وَيَقُومُ هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلًا لِمَنْ قَالَ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَحْصُلُ بِأَقَلِّ مِنْ عَشْرِ رَضَعَاتٍ وَلَوْ جَعَلَ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ عَائِدًا إِلَى خَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ مَعَ قُرْبَةٍ لَقَامَ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَاسْتُغْنِيَ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّ الْعَشْرَ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ وَاسْتَقَرَّ النَّسَخُ وَتَقَرَّرَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهَا فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نَسْخِ الْعَشْرَةِ بِالْخَمْسِ فِي حَالَةِ اسْتِقْرَارِ الْخَمْسِ وَكَوْنِهِ مَقْرُوءًا فِي الْقُرْآنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَيْ: أَنَّ النَّسْخَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ تَأَخَّرَ إِنْزَالُهُ جِدًّا حَتَّى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَأُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَيَجْعَلُهَا قُرْآنًا مَتْلُوًّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ لِقُرْبِ عَهْدِهِ فَلَمَّا بَلَغَهُمُ النَّسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُتْلَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالنَّسْخُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْهَا مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَتِلَاوَتُهُ كَعَشْرِ رَضَعَاتٍ، وَمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ دُونَ حُكْمِهِ كَخَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا، وَمَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ، قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى إِرَادَةِ الْكُلِّ وَإِلَّا لَزِمَ ضَيَاعُ بَعْضِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ فَيَثْبُتُ قَوْلُ الرَّوَافِضِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُثْبِتْهُ الصَّحَابَةُ فَلَا تَمَسُّكَ بِالْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ إِسْنَادُهُ صَحِيحًا لِانْقِطَاعِهِ بَاطِنًا وَمَا قِيلَ لِيَكُنْ نَسْخَ الْكُلِّ وَيَكُونُ نَسْخَ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا جَوَابَ لَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ ادِّعَاءَ بَقَاءِ حُكْمِ الدَّالِّ بَعْدَ نَسْخِهِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّ نَسْخَ الدَّالِّ يَرْفَعُ حُكْمَهُ وَمَا نَظَرَ بِهِ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا فَلَوْلَا مَا عُلِمَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ.

3168 - وَعَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخِي فَقَالَ انْظُرْنَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3168 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَإِنَّهُ) أَيْ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (كَرِهَ ذَلِكَ) أَيْ: ذَلِكَ الدُّخُولَ أَوْ ذَلِكَ الرَّجُلَ (فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخِي) أَيْ: مِنَ الرَّضَاعَةِ (فَقَالَ: انْظُرْنَ) أَيْ: تَفَكَّرْنَ وَاعْرِفْنَ (مِنْ إِخْوَانِكُنَّ) خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ رَضَاعَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ يُرْضِعْنَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْوَاجِبُ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ لَا يُرْضِعْنَ كُلَّ صَبِيٍّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِذَا ارْضَعْنَ فَلْيَحْفَظْنَ ذَلِكَ وَلِيُشْهِرْنَهُ وَلِيَكْتُبْنَهُ احْتِيَاطًا ( «فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» ) بِفَتْحِ الْمِيمِ يُرِيدُ أَنَّ الرَّضَاعَةَ الْمُعْتَدَّ بِهَا فِي الشَّرْعِ مَا يَسُدُّ الْجَوْعَةَ وَيَقُومُ مِنَ الرَّضِيعِ مَقَامَ الطَّعَامِ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الْكِبَرِ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ حَدًّا لَا يَسُدُّ اللَّبَنُ جَوْعَتَهُ وَلَا يُشْبِعُهُ إِلَّا الْخُبْزُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ

كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَحْدِيدِ مُدَّةِ الرِّضَاعِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا حَوْلَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَوْلَيْنِ تَمَامُ مُدَّتِهَا فَإِذَا انْقَطَعَتِ انْقَطَعَ حُكْمُهَا يُرْوَى مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ حُكْمَ الْحَوْلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مُدَّةُ الرِّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَهُوَ عِنْدُ الْأَكْثَرِينَ لِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِ مُدَّةِ الرِّضَاعِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3169 - «وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ فَأَتَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ: وَالَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ قَدْ أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتِنِي، فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِي إِهَابٍ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا أَرْضَعْتَ صَاحِبَتُنَا، فَرَكِبَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ، فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3169 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (فَأَتَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا فَقَالَ لَهَا) أَيْ: لِلْمُرْضِعَةِ (عُقْبَةُ مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتِنِي) أَيْ: قَبْلَ ذَلِكَ (فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِي إِهَابٍ) أَيْ: أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ (فَسَأَلَهُمْ) أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ (فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا أَرْضَعَتْ) أَيْ: هِيَ (صَاحِبَتُنَا فَرَكِبَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ) أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَيْفَ سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ، وَقَدْ قِيلَ حَالٌ وَهُمَا يَسْتَدْعِيَانِ عَامِلًا يَعْمَلُ فِيهِمَا أَيْ كَيْفَ تُبَاشِرُهَا وَتُفْضِي إِلَيْهَا وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّكَ أَخُوهَا إِنَّ ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ ذِي الْمُرُوءَةِ وَالْوَرَعِ وَفِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَوَاقِفَ التُّهَمِ وَالرِّيبَةِ وَإِنْ كَانَ نَقِيَّ الذَّيْلِ بَرِيءَ السَّاحَةِ وَأَنْشَدَ: قَدْ قِيلَ ذَلِكَ إِنْ صَدَقَا وَإِنْ كَذِبَا ... فَمَا اعْتِذَارُكَ مِنْ شَيْءٍ إِذَا قِيلَا قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ عَلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ إِذْ لَيْسَ هُنَا إِلَّا إِخْبَارُ امْرَأَةٍ عَنْ فِعْلِهَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالزَّوْجُ مُكَذِّبٌ لَهَا فَلَا يُقْبَلُ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ شَرْعًا، وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى فَسَادِ النِّكَاحِ بِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ: يَثْبُتُ الرِّضَاعُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَقِيلَ بِشَهَادَةِ أَرْبَعٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِشَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ وَحَلِفِهَا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ الْمُرْضِعَةِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانَ: رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَنَّهُمَا ارْتَضَعَا مِنَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ فِي الْكِتَابِ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَنَزَّهَ فَيُطَلِّقُهَا وَيُعْطِيهَا نِصْفَ الْمَهْرِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَعَلَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرِّضَاعِ بِشَهَادَةِ أَرْبَعٍ مِنَ النِّسَاءِ (فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أَمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، قَالَ: «فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ: " وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا» .

3170 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسٍ فَلَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » أَيْ لَهُمْ حَلَالٌ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3170 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدُ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسٍ يُصْرَفُ أَوْ لَا يُصْرَفُ اسْمُ مَوْضِعٍ أَوْ بُقْعَةٍ فِي الطَّائِفِ (فَلَقُوا عَدُوًّا) أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرُوا) أَيْ: غَلَبُوا (عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا) جَمْعُ سَبِيَّةٍ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ وَلَهَا حَالٌ مِنْ سَبَايَا قُدِّمَ لِكَوْنِ ذِي الْحَالِ نَكِرَةً ( «فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحَرَّجُوا» ) أَيْ: تَجَنَّبُوا وَتَحَرَّزُوا (مِنْ غِشْيَانِهِنَّ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ أَيْ مِنْ مُجَامَعَتِهِنَّ خُرُوجًا عَنِ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ (مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ) أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ لَهُنَّ أَزْوَاجًا ( «مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَالْمُحْصَنَاتُ» ) بِفَتْحِ الصَّادِ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ (مِنَ النِّسَاءِ) وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ أَيْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لِأَنَّهُنَّ أَحْصَنَّ فُرُوجَهُنَّ بِالتَّزْوِيجِ {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] أَيْ: إِلَّا مَا أَخَذْتُمْ مِنْ نِسَاءِ الْكُفَّارِ بِالسَّبْيِ وَزَوْجُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِتَبَايُنِ الدَّارِينَ فَتَحِلُّ لِلْغَانِمِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ ( «أَيْ فَهُنَّ لَهُمْ حَلَالٌ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ» ) أَيْ: بِحَيْضَةٍ أَوْ شَهْرٍ وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] أَيْ مِنَ اللَّوَاتِي لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي دَارِ الْكُفْرِ فَهُنَّ حَلَالٌ لِلْغُزَاةِ وَإِنْ كُنَّ مُزَوَّجَاتٍ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: وَذَاتُ حَلِيلٍ أَنْكَحْتُهَا رِمَاحُنَا ... حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافَقِيهِ أَنَّ الْمُسْبِيَّةَ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ وَالَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى تُسْلِمَ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ مَا دَامَتْ عَلَى دِينِهَا وَهَؤُلَاءِ الْمُسْبِيَّاتُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُنَّ أَسْلَمْنَ بَعْدَ السَّبْيِ وَانْقَضَى اسْتِبْرَاؤُهُنَّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ مِنَ الْحَامِلِ وَبِحَيْضَةٍ مِنَ الْحَائِضِ اه، وَفِي التُّحْفَةِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ عَنْهُ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَسْتَرِقُّ الْوَثَنِيَّ وَالْعَرَبِيَّ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ إِذَا بِيعَتِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَحَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا بِالِاسْتِبْرَاءِ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُسْبِيَّاتِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 3171 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوِ الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَالْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَالْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا لَا تُنْكَحُ الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي النَّسَائِيِّ وَرِوَايَتُهُ إِلَى قَوْلِهِ بِنْتِ أُخْتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3171 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تَتَزَوَّجُ (عَلَى عَمَّتِهَا أَوِ الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَالْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا أَوِ الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ عَلَيْهِ (لَا تُنْكَحُ) نَفْيٌ مَجْهُولٌ وَقِيلَ نَهْيٌ (الصُّغْرَى) أَيْ: بِنْتُ الْأَخِ أَوْ بِنْتُ الْأُخْتِ وَسُمِّيَتْ صُغْرَى لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِنْتِ (عَلَى الْكُبْرَى) أَيْ: سِنًّا غَالِبًا أَوْ رُتْبَةً فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَالْمُرَادُ بِهَا الْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْبَيَانِ لِلْعِلَّةِ وَالتَّأْكِيدِ لِلْحُكْمِ فَلِذَا تَرَكَ الْعَاطِفَ (وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى) كَرَّرَ النَّفْيَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا إِلَخْ ; وَلِذَا لَمْ يَجِئْ بَيْنَهُمَا بِالْعَاطِفِ وَلِدَفْعِ تَوَهُّمِ جَوَازِ تَزَوُّجِ الْعَمَّةِ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَالْخَالَةِ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا لِفَضِيلَةِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ كَمَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ، قِيلَ: وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَنَّهُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ فَلَوْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ لَظَهَرَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ وَقَطِيعَةُ رَحِمٍ وَفِي تَعْدِيَتِهِ بِعَلَى إِيمَاءٌ إِلَى الْأَضْرَارِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَتِهِ) أَيْ: النَّسَائِيِّ (إِلَى قَوْلِهِ بِنْتِ أُخْتِهَا) أَيْ: بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقٍ.

3172 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «مَرَّ بِي خَالِيَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَمَعَهُ لِوَاءٌ فَقُلْتُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ آتِيهِ بِرَأْسِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، وَلِلنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيِّ " «فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ» " وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ " عَمِّي " بَدَلَ " خَالِي " ـــــــــــــــــــــــــــــ 3172 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ بِي خَالِيَ) قِيلَ: وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: مَرَّ بِي عَمِيَ وَهُوَ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ (أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ) بِكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ خَفِيفَةٌ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ (وَمَعَهُ لِوَاءٌ) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ: عَلَمٌ، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَكَانَ ذَلِكَ اللِّوَاءُ عَلَامَةَ كَوْنِهِ مَبْعُوثًا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ (فَقُلْتُ: أَيْنَ تَذْهَبُ) أَيْ: تُرِيدُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (قَالَ: بَعَثَنِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا أَيْ أَرْسَلَنِي (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ وَفِي رِوَايَةٍ نَكَحَ (امْرَأَةَ أَبِيهِ آتِيهِ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِرَأْسِهِ) أَيْ: بِرَأْسِ ذَلِكَ الرَّجُلِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ وَقَالَ: وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَاقْتُلُوهُ» (وَأَبُو دَاوُدَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ (وَلِلنَّسَائِيِّ) أَيْ: بِإِعَادَةِ اللَّامِ مُرَاعَاةً لِلْأَفْصَحِ (وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ «فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ» ) ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُتَزَوِّجَ كَانَ مُسْتَحَلًّا لَهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ; فَلِذَلِكَ أَمْرٌ بِقَتْلِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَعْتَقِدُ حَلَّ هَذَا النِّكَاحِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ حَلَّ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ كَفَرَ وَجَازَ قَتْلُهُ وَأَخْذُ مَالِهِ، وَمَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ نِكَاحِ وَاحِدَةٍ مِنْ مَحَارِمِهِ فَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَكْفُرْ، وَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَهَا وَاعْتَقَدَ الْحُرْمَةَ فَسَقَ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَعُزِّرَ، هَذَا إِذَا لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا دُخُولٌ وَإِلَّا فَإِنْ عَلِمَ تَحْرِيمَهَا فَهُوَ زَانٍ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الزِّنَا، وَإِنْ جَهِلَ فَهُوَ وَاطِئٌ بِالشُّبْهَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا بِأَنْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِ بِنَسَبٍ كَأُمِّهِ أَوِ ابْنَتِهِ فَوَطِئَهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ. وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لَا حَدًّا مُقَدَّرًا شَرْعًا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَا حَدَّ وَلَا عُقُوبَةَ تَعْزِيرًا مُقَدَّرًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ: يَجِبُ حَدُّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَحَارِمِ رِوَايَةٌ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّهُ يَضْرِبُ عُنُقَهُ " وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَقَصَرَ ابْنُ حَزْمٍ قَتْلَهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ امْرَأَةَ أَبِيهِ قَصَرَ الْحَدِيثَ الْبَرَاءُ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَلِأَحْمَدَ " يُضْرَبُ عُنُقُهُ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " وَيُؤْخَذُ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ "، وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَقَدَ مُسْتَحِلًّا فَارْتَدَّ بِذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ ضَرْبَ الْعُنُقِ وَأَخْذَ الْمَالِ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لِلْكُفْرِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ جَدَّهُ مُعَاوِيَةَ إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ وَيُخَمِّسَ مَالَهُ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَارْتَدَّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالُوا جَازَ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا أَنَّهُ لِلِاسْتِحْلَالِ أَوْ أَمَرَ بِذَلِكَ سِيَاسَةً وَتَعْزِيرًا (وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ) أَيْ: الْأَخِيرَةِ (قَالَ: عَمِّي بَدَلَ خَالِيَ) وَلَعَلَّ أَحَدَهُمَا مِنَ النَّسَبِ وَالْآخَرَ مِنَ الرَّضَاعَةِ.

3173 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ فَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3173 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يُحْرِّمُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ (مِنَ الرِّضَاعِ) بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ (وَإِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أَيِ الَّذِي شَقَّ أَمْعَاءَ الصَّبِيِّ كَالطَّعَامِ وَقَعَ مِنْهُ مَوْقِعَ الْغِذَاءِ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَانِ الرِّضَاعِ وَالْأَمْعَاءِ جَمْعُ مِعًى وَهُوَ مَوْضِعُ الطَّعَامِ مِنَ الْبَطْنِ كَذَا قِيلَ، وَقَوْلُهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْغِذَاءِ احْتِرَازًا مِنْ أَنَّ تَقَيُّؤَ الْوَلَدِ اللَّبَنَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْجَوْفِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيمُ (فِي الثَّدْيِ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ فَتَقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء: 149] أَيْ كَائِنًا فِي الثَّدْيِ فَائِضًا مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ بِالِارْتِضَاعِ أَوْ بِالْإِيجَارِ وَلَمْ

يُرِدْ بِهِ الِاشْتِرَاطَ فِي الرِّضَاعِ الْمُحَرَّمِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّدْيِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَذِكْرُ الْفَتْقِ وَالْمَعَى وَالثَّدْيِ مَزِيدٌ لِإِرَادَةِ الرِّضَاعِ الْمُؤَثِّرِ تَأْثِيرًا يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (وَكَانَ) أَيْ: الرِّضَاعُ (قَبْلَ الْفِطَامِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ زَمَنَ الْفِطَامِ الشَّرْعِيِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) فِي الْهِدَايَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ حَتَّى لَوْ فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ ثُمَّ أُرْضِعَ فِيهَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَّ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَصَارَ بِحَيْثُ يَكْتَفِي بِغَيْرِ اللَّبَنِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إِذَا رَضَعَ فِيهَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي وَاقِعَاتِ النَّاطِفِيِّ الْفَتْوَى عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ قِيلَ: لَا لِأَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلَّا بِالضَّرُورَةِ وَقَدِ انْدَفَعَتْ وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلتَّدَاوِي وَأَهْلُ الطِّبِّ يُثْبِتُونَ لِلَبَنِ الْبِنْتِ أَيِ الَّذِي نَزَلَ بِسَبَبِ بِنْتٍ مُرْضِعَةٍ نَفْعًا لِلْعَيْنِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ الرَّمَدُ، وَلَا يُخْفَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ مُتَعَذِّرَةٌ فَالْمُرَادُ إِذَا غُلِبَ عَلَى الظَّنِّ وَإِلَّا فَهُوَ مَعْنَى الْمَنْعِ ثُمَّ إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرِّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرِّضَاعِ تَحْرِيمٌ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ أَبَدًا لِلْإِطْلَاقَاتٍ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَوْ بَعْضَ بَنَاتِ أُخْتِهَا أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسًا وَلِحَدِيثِ سَهْلَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتْ سَهْلَةُ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسًا تَحْرُمِينَ بِهَا عَلَيْهِ» ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا وَكَذَا السُّنَنُ الْمَشْهُورَةُ وَالْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُطْلَقًا مَنْسُوخٌ صَرَّحَ بِنَسْخِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّ الرَّضْعَةَ لَا تُحْرِّمُ، فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: آلَ أَمْرُ الرَّضَاعَةِ إِلَى أَنَّ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ ثُمَّ الَّذِي نَجْزِمُ بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرِدْ أَنْ تُشْبِعَ سَالِمًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي خَمْسِ أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَاتٍ جَائِعًا لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُشْبِعُهُ مِنَ اللَّبَنِ رِطْلٌ وَلَا رِطْلَانِ فَأَيْنَ تَجِدُ الْآدَمِيَّةُ فِي ثَدْيِهَا قَدْرَ مَا يُشْبِعُهُ هَذَا مُحَالٌ عَادَةً. فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْدُودَ خَمْسٍ فِيهِ الْمَصَّاتُ ثُمَّ كَيْفَ جَازَ أَنْ يُبَاشِرَ عَوْرَتَهَا بِشَفَتَيْهِ؟ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنْ تَحْلِبَ لَهُ شَيْئًا مِقْدَارَ خَمْسٍ فَيَشْرَبُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ إِذَا عَرَفَتْ هَذَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَانَ ثُمَّ نُسِخَ بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ تَقَيَّدَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا رِضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي حَوْلَيْنِ» " رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْهَا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ هَذَا وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ " «لَا يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ الْعَظْمَ» " يُرْوَى بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أَحْيَاهُ، وَبِالزَّايِ أَيْ رَفَعَهُ، وَبِزِيَادَةِ الْحَجْمِ يَرْتَفِعُ وَفِي الْمُوَطَّأِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ: إِنِّي مَصَصْتُ عَنِ امْرَأَتِي مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا فَذَهَبَ فِي بَطْنِي. قَالَ أَبُو مُوسَى: لَا أَرَاهَا إِلَّا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: انْظُرْ مَا تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا رَضَاعَةَ إِلَّا مَا كَانَ فِي حَوْلَيْنِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. هَذِهِ رِوَايَةُ الْمُوَطَّأِ. فَرُجُوعُهُ إِلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّصُوصِ الْمُطْلِقَةِ وَعَمَّا أَفْتَاهُ بِالْحُرْمَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِذِكْرِهِ النَّاسِخِ لَهُ أَوْ لِتَذَكُّرِهِ عِنْدَهُ وَغَيْرِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْبَيْنَ ذَلِكَ وَيَقُلْنَ: لَا نَرَى هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا رُخْصَةً لِسَهْلَةَ خَاصَّةً. وَلَعَلَّ سَبَبَهُ مَا تَضَمَّنُهُ مِمَّا خَالَفَ أُصُولَ الشَّرْعِ حَيْثُ يَسْتَلْزِمُ مَسَّهُ عَوْرَتِهَا بِشَفَتَيْهِ فَحَكَمْنَ بِأَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ، وَقِيلَ يُشْبِهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَجَعَتْ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ فَكُنْتُ أُصِيبُهَا فَعَمَدَتِ امْرَأَتِي إِلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: دُونَكَ قَدْ وَاللَّهِ أَرْضَعْتُهَا قَالَ عُمَرُ أَوْجِعْهَا وَائِتِ جَارِيَتَكَ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصِّغَرِ.

3174 - وَعَنْ حَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُذْهِبُ عَنِّي مَذَمَّةَ الرِّضَاعِ؟ فَقَالَ: غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3174 - (وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ) وَهُوَ غَيْرُ الْحَجَّاجِ الْمَشْهُورِ فَإِنَّهُ ثَقَفِيٌّ ( «أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُذْهِبُ عَنِّي» ) أَيْ: يُزِيلُ (مَذَمَّةَ الرِّضَاعِ) أَيْ: حَقَّ الْإِرْضَاعِ أَوْ حَقَّ ذَاتِ الرِّضَاعِ، فِي الْفَائِقِ: الْمَذَمَّةُ وَالذِّمَامُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ الْحَقُّ وَالْحُرْمَةُ الَّتِي يُذَمُّ مُضَيِّعُهَا، يُقَالُ: رَعَيْتُ ذِمَامَ فُلَانٍ وَمَذِمَّتَهُ وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَذَمَّةُ بِالْكَسْرِ الذِّمَامُ وَبِالْفَتْحِ الذَّمُّ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ يُسْقِطُ عَنِّي حَقَّ الْإِرْضَاعِ حَتَّى أَكُونَ بِأَدَائِهِ مُؤَدِّيًا حَقَّ الْمُرْضِعَةِ بِكَمَالِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَرْضِخُوا لِلظِّئْرِ بِشَيْءٍ سِوَى الْأُجْرَةِ عِنْدَ الْفِصَالِ وَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ (فَقَالَ غُرَّةٌ) أَيْ: مَمْلُوكٌ (عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ) بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ بَدَلٌ مِنْ غُرَّةٍ، وَقِيلَ: الْغُرَّةُ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْأَبْيَضِ مِنَ الرَّقِيقِ، وَقِيلَ: هِيَ أَنْفَسُ شَيْءٍ يُمْلَكُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْغُرَّةُ الْمَمْلُوكُ وَأَصْلُهَا الْبَيَاضُ فِي جَبْهَةِ الْفَرَسِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِأَكْرَمِ كُلِّ شَيْءٍ كَقَوْلِهِمْ غُرَّةُ الْقَوْمِ سَيِّدُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ الْمَمْلُوكُ خَيْرَ مَا يُمْلَكُ سُمِّيَ غُرَّةً، وَلَمَّا جَعَلَتِ الظِّئْرُ نَفْسَهَا خَادِمَةً جُوزِيَتْ بِجِنْسِ فِعْلِهَا اه، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ خَدَمَ خُدِمَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) .

3175 - وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ الْغَنَوِيِّ، قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ فَبَسَطَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِدَاءَهُ حَتَّى قَعَدَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا ذَهَبَتْ قِيلَ: هَذِهِ أَرْضَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3175 - (وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) مُصَغَّرًا قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِ سِنِينَ وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ بِمَكَّةَ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (الْغَنَوِيِّ) بِفَتْحِهِمَا (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ) بِلَا أَلِفٍ ( «أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ فَبَسَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ» ) أَيْ: تَعْظِيمًا لَهَا وَانْبِسَاطًا بِهَا ( «حَتَّى قَعَدَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا ذَهَبَتْ» ) أَيْ: وَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ إِكْرَامِهِ إِيَّاهَا وَقَبُولِهَا الْقُعُودَ عَلَى رِدَائِهِ الْمُبَارَكِ (قِيلَ: هَذِهِ أَرْضَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِي الْمَوَاهِبِ: أَنْ حَلِيمَةَ جَاءَتْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَامَ إِلَيْهَا وَبَسَطَ رِدَاءَهُ لَهَا وَجَلَسَتْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3176 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ السَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3176 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ غَيْلَانَ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ (ابْنَ سَلَمَةَ) وَفِي نُسْخَةٍ سَلَامَةَ ( «الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» ) أَيْ: اتْرُكْ بَاقِيهِنَّ، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَفِيهِ أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ حَتَّى إِذَا أَسْلَمُوا لَمْ يُؤَمَّرُوا بِتَجْدِيدِ النِّكَاحِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي نِكَاحِهِمْ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَأَنَّهُ إِذَا قَالَ اخْتَرْتُ فُلَانَةً وَفُلَانَةً لِلنِّكَاحِ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ وَحَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سِوَى الْأَرْبَعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ اخْتَرْتُ فُلَانَةً مَثَلًا، قَالَ مُحَمَّدٌ فِي مُوَطَّئِهِ بِهَذَا نَأْخُذُ يَخْتَارُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا أَيَّتَهُنَّ شَاءَ وَيُفَارِقُ مَا بَقِيَ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ الْأَرْبَعُ الْأُوَلُ جَائِزٌ وَنِكَاحُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْأَوْجَهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَفِي الْهِدَايَةِ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَرْبَعَةُ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الْجَوَارِي فَلَهُ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ وَفِي الْفَتَاوَى رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَأَلْفُ جَارِيَةٍ وَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً أُخْرَى فَلَامَهُ رَجُلٌ يَخَافُ عَلَيْهِ الْكُفْرَ، وَقَالُوا: إِذَا تَرَكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ كَيْلَا يُدْخِلَ الْغَمَّ عَلَى زَوْجَتِهِ الَّتِي عِنْدَهُ كَانَ مَأْجُورًا، وَأَجَازَ الرَّوَافِضُ تِسْعًا مِنَ الْحَرَائِرِ وَنُقِلَ عَنِ النَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَجَازَ الْخَوَارِجُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ إِبَاحَةُ أَيْ عَدَدٍ شَاءَ بِلَا حَصْرٍ، وَوُجُوهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَبْسُوطَةٌ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ عَلَى التَّخْصِيصِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3177 - وَعَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: «أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي خَمْسُ نِسْوَةٍ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: فَارِقْ وَاحِدَةً وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا. فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ صُحْبَةً عِنْدِي عَاقِرٍ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً فَفَارَقْتُهَا» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3177 - وَعَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَيِ الدِّيلِيِّ بِكَسْرِ الدَّالِّ وَسُكُونِ الْيَاءِ، قِيلَ: إِنَّهُ عَمَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ وَقِيلَ: بَلْ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ فَتْحُ مَكَّةَ وَكَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ ( «قَالَ أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي خَمْسُ نِسْوَةٍ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَارِقْ وَاحِدَةً وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا فَعَمَدْتُ» ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ قَصَدْتُ ( «إِلَى أَقْدَمِهِنَّ صُحْبَةً عِنْدِي عَاقِرٍ» ) بِالْجَرِّ صِفَةُ أَقْدَمِهِنَّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَدَلٌ مِنْهُ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ إِضَافَةَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ غَيْرُ مَحْضَةٍ وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ اللُّبَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة: 96] وَقَوْلُهُمْ مَرَرْتُ بِرِجْلٍ أَفْضَلِ النَّاسِ أَيْ مِنَ النَّاسِ عَلَى إِثْبَاتٍ مِنْ أَيْ غَيْرِ وَلُودٍ ( «مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً فَفَارَقْتُهَا رَوَاهُ» ) أَيْ: الْبَغْوِيِّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

3178 - وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، قَالَ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3178 - (وَعَنِ الضَّحَّاكِ) بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ (ابْنِ فَيْرُوزٍ) بِفَتْحِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ (الدَّيْلَمِيِّ) تَابِعِيٌّ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ فَيْرُوزٌ الدَّيْلَمِيُّ وَيُقَالُ لَهُ الْحِمْيَرِيُّ لِنُزُولِهِ بِحِمْيَرَ وَهُوَ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسٍ مِنْ فُرْسِ صَنْعَاءَ وَكَانَ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَاتِلُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ الْكَذَّابِ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ بِالْيَمَنِ قُتِلَ فِي آخِرِ أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَصَلَهُ خَبَرُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ الضَّحَّاكُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ (قَالَ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، قَالَ: اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ» ) قَالَ الْمُظْهِرُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ وَأَسْلَمَتَا مَعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إِحْدَاهُمَا سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُخْتَارَةُ تَزَوَّجَهَا أَوَّلًا أَوْ آخِرًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنْ تَزَوَّجَهُمَا مَعًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا مُتَعَاقِبَتَيْنِ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْأُولَى مِنْهُمَا دُونَ الْأَخِيرَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3179 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ فَتَزَوَّجَتْ فَجَاءَ زَوْجُهَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ، بِإِسْلَامِي فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زَوْجِهَا الْآخَرِ، وَرَدَّهَا إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا أَسْلَمَتْ مَعِي فَرَدَّهَا عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3179 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ فَجَاءَ زَوْجُهَا» ) أَيِ: الْأَوَّلُ ( «إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي» ) أَيْ: وَمَعَ هَذَا تَزَوَّجَتْ ( «فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَوْجِهَا الْآخِرِ» ) بِكَسْرِ الْخَاءِ ( «وَرَدَّهَا إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ» ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ادَّعَتِ الْفِرَاقَ عَلَى الزَّوَاجِ بَعْدَ مَا عُلِمَ بَيْنَهُمَا النِّكَاحَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ سَوَاءٌ نَكَحَتْ آخَرَ أَمْ لَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ أَسْلَمْنَا مَعًا فَالنِّكَاحُ بَيْنَنَا بَاقٍ وَقَالَتْ بَلْ أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ الْآخَرِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنِنَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ادَّعَى أَنَّهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ (وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهَا أَسْلَمَتْ مَعِي فَرَدَّهَا عَلَيْهِ) وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ هَذَا الْحُكْمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرُوِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَرَوَى بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ.

3180 - وَرُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: «أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النِّسَاءِ رَدَّهُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ بَعْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَالدَّارِ. مِنْهُنَّ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ مُغِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا مِنَ الْإِسْلَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنَ عَمِّهِ وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ بِرِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانًا لِصَفْوَانَ فَلَمَّا قَدِمَ جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْيِيرَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى أَسْلَمَ فَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ، وَأَسْلَمَتْ أَمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا مِنَ الْإِسْلَامِ حَتَّى قَدِمَ الْيَمَنَ فَارْتَحَلَتْ أَمُّ حَكِيمٍ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ الْيَمَنَ فَدَعَتْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، فَثَبَتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا» . رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3180 - (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: «إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ النِّسَاءِ رَدَّهُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ» ) أَيْ: إِسْلَامَيِ الزَّوْجَيْنِ (بَعْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَالدَّارِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِذَا أَسْلَمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ كَالْكِتَابَيْنِ وَالْوَثَنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ عَلَى دِينٍ وَالْآخَرُ عَلَى دِينٍ وَسَوَاءٌ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ فِي الْآخَرِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ أَوْ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ مَعَ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ أَوْ بِنَقْلِ أَحَدِهِمَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَحْدُثْ نِكَاحًا وَكَانَ قَدِ افْتَرَقَ بَيْنَهُمَا الدَّارُ» ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اخْتُلِفَ فِي أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَهَلْ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا قُلْنَا: نَعَمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا، وَفِي أَنَّ السَّبْيَ هَلْ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ أَمْ لَا، فَقُلْنَا: لَا، وَقَالَ: نَعَمْ، وَقَوْلُهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَيَتَفَرَّعُ أَرْبَعُ صُوَرٍ: وَفَاقِيَّتَانِ ; وَهُمَا لَوْ خَرَجَ الزَّوْجَانِ إِلَيْنَا مَعًا ذِمِّيَّيْنِ أَوْ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُسْتَأْمِنَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ صَارَا ذِمِّيَّيْنِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ اتِّفَاقًا وَلَوْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ اتِّفَاقًا عِنْدَهُ لِلسَّبْيِّ وَعِنْدَنَا لِلتَّبَايُنِ، وَخِلَافِيَّتَانِ أَحَدُهُمَا مَا إِذَا خَرَجَ أَحَدَاهُمَا إِلَيْنَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمِنًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا عِنْدَنَا تَقَعُ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ حَلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأَرْبَعٍ فِي الْحَالِ وَبِأُخْتِ امْرَأَتِهِ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ إِذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ إِلَّا فِي الْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مُرَاغَمَةً لِزَوْجِهَا أَيْ بِقَصْدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى حَقِّهِ فَتَبِينُ عِنْدَهُ بِالْمُرَاغَمَةِ، وَالْأُخْرَى مَا إِذَا سُبِيَ الزَّوْجَانِ مَعًا فَعِنْدَهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ فَلِلسَّابِّيِّ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَعِنْدَنَا لَا تَقَعُ لِعَدَمِ تَبَايُنِ دَارَيْهِمَا اه، وَالْأَدِلَّةُ وَالْأَجْوِبَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مَبْسُوطَةٌ فِي شَرْحِهِ لِلْهِدَايَةِ فَعَلَيْكَ بِهَا إِنْ تُرِدِ النِّهَايَةَ (فَهُنَّ) أَيْ: مِنَ الْأَزْوَاجِ الَّتِي رَهَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ (بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ مُغِيرَةَ) وَفِي نُسْخَةِ الْمُغِيرَةِ (كُنْتُ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ) بِالتَّصْغِيرِ (فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهَرَبَ زَوْجُهَا مِنَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: مُمْتَنِعًا عَنْهُ (فَبَعَثَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِلَيْهِ ابْنَ عَمِّهِ وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (بِرِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) الظَّاهِرُ بِرِدَائِهِ فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ وَفِي نُسْخَةٍ فَبُعِثَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعِ مَا بَعْدَهُ فَلَا إِشْكَالَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ بِرِدَائِهِ وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ لِأَنَّ الْبَاعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَبْعُوثَ وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ، ذُكِرَ فِي الِاسْتِيعَابِ: كَانَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ اسْتَأْمَنَ لِصَفْوَانَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ هَرَبَ هُوَ وَابْنُهُ وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَأَمَّنَهُ وَبَعَثَ إِلَيْهِ وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ بِرِدَائِهِ أَمَانًا لِصَفْوَانَ أَيْ مِنْ قَتْلِهِ وَتَعَرُّضِهِ (فَلَمَّا قَدِمَ) أَيْ: صَفْوَانُ (جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْيِيرَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِضَافَةُ الْمُصَدِّرِ إِلَى الظُّرُوفِ عَلَى الِاتِّسَاعِ كَقَوْلِهِ يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ اه، وَهُوَ تَفْعِيلٌ مِنَ السَّيْرِ بِمَعْنَى الْإِخْرَاجِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: سَيَّرَهُ مِنْ بَلَدِهِ أَيْ أَخْرَجَهُ وَأَجْلَاهُ وَالْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ تَمْكِينُهُ مِنَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ آمِنًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَنْظُرَ فِي سِيرَتِهِمْ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] حَتَّى يَأْخُذُوا حَذَرَهُمْ وَيَسِيحُوا فِي أَرْضِ اللَّهِ حَيْثُ شَاءُوا فَيَنْظُرُوا فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَبِثَ فِيهِمْ زَمَانًا فَرَزَقَهُ اللَّهُ الْإِسْلَامَ (حَتَّى أَسْلَمَ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَعْدَ إِسْلَامِ زَوْجَتِهِ بِشَهْرَيْنِ (فَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَوْ بِنِكَاحٍ مُجَدَّدٍ فَلَا يَصْلُحُ

لِلِاسْتِدْلَالِ مَعَ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى حُصُولِ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ (وَأَسْلَمَتْ أَمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ وَهَرَبَ زَوْجُهَا مِنَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: مِنْ قُوَّةِ أَهْلِهِ وَشَوْكَتِهِمْ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ (حَتَّى قَدِمَ الْيَمَنَ فَارْتَحَلَتْ أَمُّ حَكِيمٍ) أَيْ: سَافَرَتْ وَرَاءَهُ (حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ الْيَمَنَ) أَيْ: فِيهَا (فَدَعَتْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فَثَبَتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَإِنَّمَا هَرَبَ إِلَى السَّاحِلِ وَهُوَ مِنْ حُدُودِ مَكَّةَ فَلَمْ تَتَبَايَنْ دَارُهُمْ، وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مُعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ حِينَ أَتَى بِهِ الْعَبَّاسُ وَزَوْجَتُهُ هِنْدُ بِمَكَّةَ وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ إِذْ ذَاكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَجْدِيدِ نِكَاحِهِمَا فَالْحَقُّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ بَلْ وَلَا بَعْدَ الْفَتْحِ وَهُوَ شَاهَدَ حُنَيْنًا عَلَى مَا تُفِيدُهُ السِّيَرُ الصَّحِيحَةُ مِنْ قَوْلِهِ حِينَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ: لَا تَرْجِعُ هَزِيمَتُهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، وَمَا نُقِلَ أَنَّ الْأَزْلَامَ كَانَتْ مَعَهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَا مِمَّا نُقِلَ مِنْ كَلَامِهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ وَإِنَّمَا حَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالَّذِي كَانَ إِسْلَامُهُ حَسَنًا حِينَ أَسْلَمَ هُوَ أَبُو سَيْفَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ بَيْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَوْجِ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا هَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَرَكَتْهُ بِمَكَّةَ عَلَى شِرْكِهِ ثُمَّ جَاءَ وَأَسْلَمَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: سِتٍّ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ: إِنَّمَا رَدَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، رَوَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْجَمْعُ إِذَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ إِهْدَارِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنًى بِسَبَبِ سَبْقِهِ مُرَاعَاةً لِحُرْمَتِهِ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ: رَدَّهَا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا مَعْنَاهُ عَلَى مِثْلِهِ، لَمْ يُحْدِثْ زِيَادَةً فِي الصَّدَاقِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، هَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مُثَبَتٌ، وَعَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ نَافٍ لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى الْأَصْلِ، وَأَيْضًا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ زَيْنَبَ وَبَيْنَ أَبِي الْعَاصِ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنَّهَا أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ حِينَ دَعَا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَدِيجَةَ وَبَنَاتِهِ ; فَقَدِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي تَبَيَّنَ بِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ مِرَارًا وَوُلِدَتْ، وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا فَأَسْقَطَتْ حِينَ خَرَجَتْ مُهَاجِرَةً إِلَى الْمَدِينَةِ وَرَوَّعَهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ بِالرُّمْحِ وَاسْتَمَرَّ أَبُو الرَّبِيعِ عَلَى شِرْكِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ فَأَخَذَتْ سَرِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ مَالَهُ وَأَعْجَزَهُمْ هَرَبًا ثُمَّ دَخَلَ بِلَيْلٍ عَلَى زَيْنَبَ فَأَجَارَتْهُ ثُمَّ كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّرِيَّةَ فَرَدُّوا مَالَهُ فَاحْتَمَلَ إِلَى مَكَّةَ فَأَدَّى الْوَدَائِعَ، وَمَا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَضَعُونَهُ مَعَهُ وَكَانَ رَجُلًا أَمِينًا كَرِيمًا فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ عَلَقَةٌ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ هَلْ بَقِيَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ عِنْدِي مَالٌ لَمْ يَأْخُذْهُ؟ قَالُوا: لَا فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وَفِيًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ لَا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إِلَّا تَخَوُّفٌ أَنْ تَظُنُّوا أَنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ آكُلَ أَمْوَالَكُمْ فَلَمَّا أَدَّاهَا اللَّهُ إِلَيْكُمْ وَفَرَغْتُ مِنْهَا أَسْلَمْتُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَذَلِكَ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثِ سِنِينَ ; فَإِنَّمَا ذَاكَ مِنْ وَقْتٍ فَارَقَتْهُ بِالْأَبْدَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَأَمَّا الْبَيْنُونَةُ فَقَبْلَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ لِأَنَّهَا إِنْ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ آمَنَتْ فَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً إِلَى إِسْلَامِهِ وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ نَزَلَتْ {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فَأَكْثَرُ مِنْ عُشْرِ هَذَا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ حَابِسَهَا قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ أُسِرَ فِيمَنْ أُسِرَ بِبَدْرٍ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَرْسَلَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ الْأَسْرَى أَرْسَلَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَائِهِ قِلَادَةً كَانَتْ خَدِيجَةُ أَعْطَتْهَا إِيَّاهَا فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهَا، فَرَدَّهَا عَلَيْهَا وَأَطْلَقَهُ لَهَا، فَلَمَّا وَصَلَ جَهَّزَهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ، كَانَ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ وَاتَّفَقَ فِي مَخْرِجِهَا مَا اتَّفَقَ مِنْ هَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَكَادُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ اثْنَانِ وَبِهِ نَقْطَعُ بِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ عَلَى نِكَاحٍ جَدِيدٍ كَمَا هُوَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَوَجَبَ تَأْوِيلُ رِوَايَةٍ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ كَمَا ذَكَرْنَا وَاعْلَمْ أَنَّ بَنَاتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَتَّصِفْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِكُفْرٍ لِيُقَالَ آمَنَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً، فَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ قَطُّ نَبِيًّا أَشْرَكَ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، فَلَزِمَ أَنَّهُنَّ لَمْ تَكُنْ إِحْدَاهُنَّ قَطُّ إِلَّا مُسْلِمَةً، نَعَمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانَ الْإِسْلَامُ اتِّبَاعَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ حَيْثُ وَقَعَتِ الْبِعْثَةُ لَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ إِلَّا بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ وَمِنْ أَوَّلِ ذِكْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَوْلَادِهِ لَمْ تَتَوَقَّفْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَأَمَّا سَبَايَا أَوَطَاسٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ سُبِينَ وَحْدَهُنَّ، وَرِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ تُفِيدُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «أَصَبْنَا سَبَايَا أَوَطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فَالْجَوَابُ: مَنْعُ وُجُودِ التَّبَايُنِ لِأَنَّ الْمُدَّعَيَ عَلَيْهِ مِنْهُ هُوَ التَّبَايُنُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ يَصِيرُ الْكَائِنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُعْتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَيُقَسَّمَ مِيرَاثُهُ وَالْكَائِنُ فِي دَارِنَا مَمْنُوعٌ مِنَ الرُّجُوعِ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَإِذَا كَانَ فَإِذَا كَافَأْنَا مَا ذَكَرَ بَقِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى اللَّازِمِ لِلتَّبَايُنِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ عَالِمًا مِنَ الْمُعَارِضِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَدَلِيلُ السَّمْعِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إِلَى قَوْلِهِ {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وَقَدْ أَفَادَ مِنْ ثَلَاثِ نُصُوصٍ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَمِنْ وَجْهٍ اقْتِضَائِيٍ وَهُوَ {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] (رَوَاهُ مَالِكٌ) الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِمَّا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَكِنَّ دَأْبَ الْمُؤَلِّفِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْسُبُ الْحَدِيثَ إِلَى شَرْحِ السُّنَّةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُخْرِجِينَ أَسْنَدَهُ ; فَالْأَظْهَرُ عَلَى هَذَا أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ قَوْلُهُ مِنْهُنَّ إِلَخْ وَهَذَا أَقْرَبُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أَيْ: الزُّهْرِيِّ (مُرْسَلًا) أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابَةِ قِيلَ فَلَمَّا رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِكْرِمَةَ وَوَثَبَ إِلَيْهِ فِرَحًا وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ عَلَى أَنْ بَايَعَهُ وَفِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ لِمِيرَكِ شَاهْ قَدْ قَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ كَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَعَلِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3181 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «حُرِّمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ ثُمَّ قَرَأَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3181 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حُرِّمَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَجْهُولٌ أَيْ جُعِلَ حَرَامًا (مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ) أَيْ: نِسْوَةٌ وَهُنَّ الْأُمُّ وَالْبِنْتُ وَالْأُخْتُ وَالْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ (وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ) فِي النِّهَايَةِ صَهَرَهُ وَاصْهَرَهُ إِذَا قَرَّبَهُ وَأَدَنَا هُوَ الصِّهْرَ حَرَمَهُ التَّزْوِيجَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّسَبِ أَنَّ النَّسَبَ مَا رَجَعَ إِلَى وِلَادَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ وَالصِّهْرِ مَا كَانَ مِنْ خَلْطَةٍ يُشْبِهُ الْقَرَابَةَ يُحْدِثُهَا التَّزَوُّجُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُحَرَّمُ عَلَى التَّأْيِيدِ مِنَ الصِّهْرِ أُمُّ الزَّوْجَةِ وَزَوْجَةُ الِابْنِ وَابْنُ الِابْنِ وَالِابْنَةِ وَإِنْ سَفَلَ وَزَوْجَةُ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلَا وَبِنْتُ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَا عَلَى التَّأْيِيدِ أُخْتُ الزَّوْجَةِ وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا اه، وَفِيهِ إِنَّ عَمَّتَهَا وَخَالَتَهَا غَيْرُ مَفْهُومَتَيْنِ مِنَ الْآيَةِ أَوْ كَذَا زَوْجَةُ الْأَبِ مِنْهَا بَلْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِشْهَادُ بِهَا بِقَوْلِهِ ثُمَّ قَرَأَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادٌ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ لَكِنْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الصِّهْرِ تَغْلِيبًا وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُحْرِمَاتِ الْبَاقِيَاتِ وَهُنَّ سَبْعٌ مِنَ النَّسَبِ وَسَبْعٌ مِنَ النَّسَبِ اه، فَعَلَى هَذَا كُلٌّ مِنَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مَفْهُومٌ مِنَ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالسَّبْعُ السَّبْيُ هِيَ الْأُمُّ وَالْأُخْتُ الرِّضَاعِيَّتَانِ وَأُمُّ الزَّوْجَةِ وَبِنْتُهَا وَامْرَأَةُ الِابْنِ وَأُخْتُ الزَّوْجَةِ وَالْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) أَيْ: مَوْقُوفًا.

3182 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلْيَنْكِحِ ابْنَتَهَا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُمَّهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ، إِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَهُمَا يُضَعَّفَانِ فِي الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3182 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: ابْنِ عَمْرٍو (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا) أَيْ: جَامَعَهَا ( «فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا» ) قَالَ تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَأَسْقَطَ قَيْدَ كَوْنِهَا فِي حِجْرِهِ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ غَالِبِ الْعَادَةِ ( «فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا» ) أَيْ: الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا " ( «فَلْيَنْكِحِ ابْنَتَهَا» ) أَيْ: بَعْدَ طَلَاقِ أُمِّهَا قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وَهَذَا تَصْرِيحٌ فِي الْحُكْمِ بِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْمَفْهُومِ فِي الدَّلِيلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَوْ تَأْكِيدٌ بِمَا عُلِمَ مَفْهُومًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ ( «وَأَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُمَّهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ» ) لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وَفِي رِوَايَةٍ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَزَاءِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ) أَيْ: مِنْ جِهَةِ رِجَالِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ لِمُطَابَقَتِهِ مَعْنَى الْآيَةِ (إِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْهَاءِ قِيلَ: وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ (وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَهُمَا يُضَعَّفَانِ) بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ أَيْ يُنْسَبَانِ إِلَى الضَّعْفِ (فِي الْحَدِيثِ) أَيْ: فِي التَّحْدِيثِ أَوْ فِي فَهْمِ الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَرْبَابِ الْحَدِيثِ يَكُونُ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا عِنْدَهُمْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[باب المباشرة]

[بَابُ الْمُبَاشِرَةِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3183 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ «كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْمُبَاشِرَةِ) أَيِ الْمُجَامَعَةِ قَالَ الرَّاغِبُ: الْبَشَرَةُ ظَاهِرُ الْجِلْدِ وَجَمْعُهَا بَشَرٌ وَأَبْشَارٌ وَيُعَبَّرُ عَنِ الْإِنْسَانِ بِالْبَشَرِ اعْتِبَارًا لِظُهُورِ جِلْدِهِ مِنَ الشَّعْرِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْمُبَاشَرَةُ الْإِفْضَاءُ بِالْبَشَرَتَيْنِ وَكُنَّى بِهَا عَنِ الْجِمَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3183 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: كَأَنْ يَقِفُ خَلْفَهَا وَيُولِجُ فِي قُبُلِهَا فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ مُحَرَّمٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ (كَانَ الْوَلَدُ) أَيْ: الْحَاصِلُ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ (أَحْوَلَ) لِتَحَوُّلِ الْوَاطِئِ عَنْ حَالِ الْجِمَاعِ الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ الْإِقْبَالُ مِنَ الْقُدَّامِ إِلَى الْقَبْلِ، وَبِهَذَا سُمِّيَ قُبُلًا إِلَى حَالِ خِلَافِ ذَلِكَ مِنَ الدُّبُرِ، فَكَأَنَّهُ رَاعَى الْجَانِبَيْنِ وَرَأَى الْجِهَتَيْنِ فَأُنْتِجَ إِنْ جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ (فَنَزَلَتْ) أَيْ: رَدَّا عَلَيْهِمْ فِيمَا تَخَاذَلَ لَهُمْ (نِسَاؤُكُمْ) أَيْ مَنْكُوحَاتُكُمْ وَمَمْلُوكَاتُكُمْ {حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] أَيْ: مَوَاضِعُ زِرَاعَةِ أَوْلَادِكُمْ يَعْنِي هُنَّ لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ الْمُعَدَّةِ لِلزِّرَاعَةِ وَمَحَلُّهُ الْقُبُلُ فَإِنَّ الدُّبُرَ مَوْضِعُ الرَّفَثِ لَا مَحَلَّ الْحَرْثِ وَلَكِنَّ الْأَنْجَاسَ بِمُوجِبٍ عَلَيْهِ الْإِخْبَاسُ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ وَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ مِنْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ أَوِ اضْطِجَاعٍ أَوْ مِنَ الدُّبُرِ فِي فَرْجِهَا، وَالْمَعْنَى عَلَى أَيْ هَيْئَةٍ كَانَتْ فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَكُمْ مُفَوَّضَةٌ إِلَيْكُمْ وَلَا يَتَرَتَّبُ مِنْهَا ضَرَرٌ عَلَيْكُمْ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إِتْيَانُ الزَّوْجَةِ فِي قُبُلِهَا مِنْ جَانِبِ دُبُرِهَا وَعَلَى أَيْ صِفَةٍ كَانَتْ وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أَيْ

هُنَّ لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ أَرْضٍ تُزْرَعُ وَمَحَلُّ الْحَرْثِ هُوَ الْقُبُلُ (الْكَشَّافُ) حَرَثَ لَكُمْ مَوَاضِعَ حَرْثٍ لَكُمْ شُبِّهْنَ بِالْمَحَارِثِ لِمَا يُلْقَى فِي أَرْحَامِهِنَّ مِنَ النُّطَفِ الَّتِي مِنْهَا النَّسْلُ بِالْبُذُورِ وَقَوْلُهُ {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223] مَعْنَاهُ فَأَتَوْهُنَّ كَمَا تَأْتُونَ أَرَاضِيكُمُ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تَحْرِثُوهَا مِنْ أَيْ جِهَةٍ شِئْتُمْ لَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ جِهَةٌ دُونِ جِهَةٍ وَهُوَ مِنَ الْكِنَايَاتِ اللَّطِيفَةِ وَالتَّعْرِيضَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَذَلِكَ أَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوهَا مِنْ أَيْ جِهَةٍ شَاءُوا كَالْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ وَقَيَّدَ بِالْحَرْثِ لِيُشِيرَ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ الْبَتَّةَ مَوْضِعَ الْبَذْرِ وَيَتَجَانَبَ عَنْ مُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3184 - وَعَنْهُ قَالَ: «كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ: «فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَنْهَنَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3184 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ) الْعَزْلُ هُوَ إِخْرَاجُ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْجِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ (وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ يَعْنِي وَلَمْ يَمْنَعْنَا وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِنَا فَيَكُونُ كَالتَّقْدِيرِ لِأَفْعَالِنَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ مُسْلِمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ) أَيْ: الْعَزْلُ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَنْهَنَا) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَلَمْ يَنْهَنَا عَنْ ذَلِكَ الْوَحْيُ وَلَا السُّنَّةُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْعَزْلُ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَكَرِهَهُ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْعَزْلُ هُوَ أَنْ يُجَامِعَ فَإِذَا قَارَبَ الْإِنْزَالَ نَزَعَ، وَأَنْزَلَ خَارِجَ الْفَرْجِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى قَطْعِ النَّسْلِ وَلِهَذَا وَرَدَ " الْعَزْلُ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ " قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَحْرُمُ فِي الْمَمْلُوكَةِ وَلَا فِي زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ سَوَاءٌ رَضِيَا أَمْ لَا؟ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي مَمْلُوكَتِهِ بِأَنْ يُصَيِّرَهَا أَمَّ وَلَدٍ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَفِي زَوْجَتِهِ الرَّقِيقَةِ بِمَصِيرِ وَلَدِهِ رَقِيقًا تَبَعًا لِأُمِّهِ، أَمَّا زَوْجَتُهُ الْحُرَّةُ فَإِنْ أَذِنَتْ فِيهِ فَلَا يَحْرُمُ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أَصَحَّهُمَا لَا يَحْرُمُ.

3185 - وَعَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمَتُنَا وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ فَقَالَ: " اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا " فَلَبِثَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَاهُ قَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ. قَالَ: " قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3185 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ ( «قَالَ: إِنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمَتُنَا» ) احْتِرَازٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ بِمَعْنَى الْبِنْتِ ( «وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا» ) أَيْ: أُجَامِعُهَا ( «وَأَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ» ) أَيْ: تَحْبَلُ مِنِّي ( «قَالَ: اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " فِيهِ جَوَازُ الْعَزْلِ وَإِنَّهُ فِي الْأَمَةِ بِمَشِيئَةِ الْوَاطِئِ " اه، وَإِطْلَاقُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ ابْنُ هُمَامٍ: " فِي بَعْضِ أَجْوِبَةِ الْمَشَايِخِ الْكَرَاهَةُ وَفِي بَعْضِهَا عَدَمُهُ، ثُمَّ عَلَى الْجَوَازِ فِي أَمَتِهِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهَا، وَفِي زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَاهَا، وَفِي مَنْكُوحَتِهِ الْأَمَةِ يَفْتَقِرُ إِلَى الْإِذْنِ وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ لِلسَّيِّدِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، أَوَّلُهَا كَقَوْلِهَا أَوْ كَرِوَايَةٍ عَنْهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنْ شِئْتَ أَنْ لَا تَحْبَلُ وَذَلِكَ لَا يَنْفَعُكَ ثُمَّ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّهُ) أَيْ: الشَّأْنَ ( «سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» ) أَيْ: مِنَ الْحَمْلِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ عَزَلْتَ أَوْ لَا، وَفِيهِ مُؤَكِّدَاتٌ أَنَّ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ وَسِينُ الِاسْتِقْبَالِ ( «فَلَبِثَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَاهُ» ) أَيْ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «قَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ» ) كَفَرِحَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ ( «قَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» ) قَالَ النَّوَوِيُّ: " فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِلْحَاقِ النَّسَبِ مَعَ الْعَزْلِ " اه ; لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَسْبِقُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ثُمَّ إِذَا عَزَلَ بِإِذْنٍ وَظَهَرَ بِهَا حَبْلٌ، هَلْ يَحِلُّ نَفْيُهُ؟ قَالُوا: إِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا أَوْ عَادَ وَلَكِنْ بَالَ قَبْلَ الْعَوْدِ حَلَّ نَفْيُهُ، وَإِنْ لَمْ يَبُلْ لَا يَحِلُّ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ; لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْمَنِيِّ فِي ذَكَرِهِ يَسْقُطُ فِيهَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ قَبْلَ الْبَوْلِ ثُمَّ بَالَ فَخَرَجَ الْمَنِيُّ وَجَبَ إِعَادَةُ الْغُسْلِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: رَجُلٌ لَهُ جَارِيَةٌ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ وَتَخْرُجُ وَتَدْخُلُ وَيَعْزِلُ عَنْهَا الْمَوْلَى فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ، وَأَكْبَرُ ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ كَانَ فِي سِعَةٍ مِنْ نَفْيِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً لَا يَسَعُهُ نَفْيُهُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْزِلُ فَيَقَعُ الْمَاءُ فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ ثُمَّ يَدْخُلُ فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَزْلِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَلَفَظَهُ عِنْدَ ابْنِ الْهُمَامِ: عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ عِنْدِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " إِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى ". فَجَاءَ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي كُنْتُ ذَكَرْتُهَا لَكَ قَدْ حَمَلَتْ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» قَالَ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثَ ظَاهِرَةٌ فِي جَوَازِ الْعَزْلِ.

3186 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ وَقُلْنَا: نَعْزِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ؟ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا ; مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3186 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ بَنِيَ الْمُصْطَلِقِ) بِكَسْرِ اللَّامِ قَبِيلَةٌ مَنْ بَنِيَ خُزَاعَةَ مِنَ الْعَرَبِ وَفِي الْقَامُوسِ صَلَقَ صَاتَ صَوْتًا شَدِيدًا، وَالْمُصْطَلِقُ لَقَبُ خُزَيْمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمْرٍو وَسُمِّيَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غَنَّى مِنْ خُزَاعَةَ (فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ يَجْرِي عَلَيْهِمُ الرِّقُّ إِذَا كَانُوا مُشْرِكِينَ لِأَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَبِيلَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لَا يُجْرَى عَلَيْهِمُ الرِّقُّ لِشَرَفِهِمْ (فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ) أَيْ: مُجَامَعَتَهُنَّ (وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ قِلَّةُ الْجِمَاعِ (وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ) أَيْ: مِنَ السَّبَايَا مَخَافَةَ الْحَبَلِ (فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ) أَيْ: بِالْفِعْلِ (وَقُلْنَا) وَفِي نُسْخَةٍ فَقُلْنَا أَيْ فِي أَنْفُسِنَا أَوْ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ (نَعْزِلُ) أَيْ: بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ ( «وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا» ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ (قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ) أَيْ: عَنِ الْعَزْلِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا (فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ: الْعَزْلُ أَوْ جَوَازُهُ (فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ) أَيْ: بَأْسٌ (أَنْ لَا تَفْعَلُوا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَقِيلَ الرِّوَايَةُ بِالْكَسْرِ أَيْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ ضَرَرٌ أَنْ لَا تَفْعَلُوا الْعَزْلَ، وَقِيلَ: بِزِيَادَةِ لَا وَمَعْنَاهُ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا وَمِنْ ثَمَّ يَجُوزُ الْعَزْلُ، وَرُوِيَ: لَا عَلَيْكُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا نَفْيَ لَمَّا سَأَلُوهُ وَعَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُؤَكِّدٌ لَهُ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِنْ مَفْتُوحَةً، قَالَ الْقَاضِي: رُوِيَ بِمَا وَرُوِيَ بِلَا، وَالْمَعْنَى لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ فِي أَنْ تَفْعَلُوا وَلَا مَزِيدَةٌ وَمَنْ مَنَعَ الْعَزْلَ قَالَ لَا نَفْيَ لِمَا سَأَلُوهُ وَعَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُؤَكِّدٌ لَهُ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَنَّ مَفْتُوحَةً. وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ خِلَافٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الْعَزْلُ عَنِ الْأَمَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْكُوحَةً أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ وَعَنِ الْحُرَّةِ بِإِذْنِهَا ( «مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ» ) صِفَةُ نَسَمَةٍ ( «إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ» ) أَيْ: لَيْسَتْ نَسَمَةً كَائِنَةً فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُدُوثِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَائِنَةً نَابِتَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَا يَمْنَعُهَا عَزْلٌ وَلَا غَيْرُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ أَنْ سَيُوجَدَ وَلَا يَمْنَعُهُ الْعَزْلُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ مَا عَلَيْكُمْ ضَرَرٌ فِي تَرْكِ الْعَزْلِ، لِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ قَدَّرِ اللَّهُ خَلْقَهَا لَا بُدَّ أَنْ يَخْلُقَهَا سَوَاءٌ عَزَلْتُمْ أَمْ لَا، فَلَا فَائِدَةَ فِي عَزْلِكُمْ ; فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدَّرَ خَلْقَهَا سَبَقَكُمُ الْمَاءُ فَلَا يَنْفَعُ حِرْصُكُمْ فِي مَنْعِ الْخَلْقِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَزْلَ لَا يَمْنَعُ الْإِيلَادَ فَلَوِ اسْتَفْرَشَ أَمَةً وَعَزَلَ عَنْهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَهُ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ الِاسْتِبْرَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3187 - وَعَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ: " «مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3187 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْعَزْلِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّمَا اسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَزْلِ مَخَافَةَ الْوَلَدِ ; زَعْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ سَبَبُ الْوَلَدِ وَالْعَزْلَ لِعَدَمِهِ ( «فَقَالَ: مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ» ) أَيْ: يَحْصُلُ مِنْكُمْ فِي صَبٍّ لَا يَحْدُثُ مِنْهُ الْوَلَدُ وَمِنْ عَزْلِ مُحْدَثٍ لَهُ، فَقَدَّمَ خَبَرَ كَانَ لِيَدُلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَأَنَّ تَكْوِينَ الْوَلَدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِالْمَاءِ وَكَذَا عَدَمُهُ بِمَا لَا بِالْعَزْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ( «وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ» ) أَيْ: مِنَ الْعَزْلِ وَغَيْرِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3188 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنِّي أَعْزِلُ عَنِ امْرَأَتِي. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لِمَ تَفْعَلُ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ الرَّجُلُ أَشْفِقُ عَلَى وَلَدِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ضَارًّا ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3188 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنِّي أَعْزِلُ» ) أَيْ: الْمَنِيُّ (عَنِ امْرَأَتِي) أَيْ: بِرِضَاهَا أَوْ نَفْسِي عَنْهَا بِأَنْ لَا أُجَامِعَهَا ( «قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ» ) أَيْ: لِأَيِّ شَيْءٍ وَبِأَيِّ سَبَبٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ الْعَزْلَ أَوْ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَهُوَ الْكَفُّ ( «قَالَ الرَّجُلُ أُشْفِقُ» ) أَيْ: أَخَافُ (عَلَى وَلَدِهَا) أَيْ: الَّذِي فِي الْبَطْنِ لِئَلَّا يَصِيرُ تَوْأَمَيْنِ فَيَضْعُفُ كُلٌّ مِنْهُمَا، أَوْ عَلَى وَلَدِهَا الَّذِي تُرْضِعُهُ ; لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ الْجِمَاعَ يَضُرُّهُ، وَقِيلَ: أَيْ أَخَافُ إِنْ لَمْ أَعْزِلْ عَنْهَا لَحَمَلَتْ وَحِينَئِذٍ يَضُرُّ الْوَلَدَ الْإِرْضَاعُ فِي حَالِ الْحَمْلِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ ذَلِكَ) أَيْ: الْجِمَاعُ حَالَ الْإِرْضَاعِ أَوِ الْحَبَلِ (ضَارًّا ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومِ) أَيْ: أَوْلَادَهُمَا يَعْنِي تُرْضِعُ نِسَاءُ الْفُرْسِ وَالرُّومِ أَوْلَادَهُنَّ فِي حَالِ الْحَمْلِ، فَلَوْ كَانَ الْإِرْضَاعُ فِي حَالِ الْحَمْلِ مُضِرًّا لِأَضَرَّ أَوْلَادَهُنَّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3189 - وَعَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ قَالَتْ: «حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُنَاسٍ وَهُوَ يَقُولُ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ وَهِيَ {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] .» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3189 - (عَنْ جُدَامَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَيُرْوَى بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ تَصْحِيفٌ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (بِنْتِ وَهْبٍ) أَيْ: أُخْتُ عُكَاشَةَ (قَالَتْ حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُنَاسٍ) أَيْ: مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ (وَهُوَ يَقُولُ لَقَدْ هَمَمْتُ) أَيْ: قَصَدْتُ (أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ الْإِرْضَاعِ حَالَ الْحَمْلِ. وَالْغَيْلُ: بِالْفَتْحِ اسْمُ ذَلِكَ اللَّبَنِ كَذَا قِيلَ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْغِيلَةُ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ مِنَ الْغَيْلِ، وَبِالْفَتْحِ: هُوَ أَنْ يُجَامِعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَهِيَ مُرْضِعَةٌ وَكَذَلِكَ إِذَا حَمَلَتْ وَهِيَ مُرْضِعٌ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا بِمَعْنًى، وَقِيلَ: الْكَسْرُ لِلِاسْمِ وَالْفَتْحُ لِلْمَرَّةِ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْفَتْحُ إِلَّا مَعَ حَذْفِ التَّاءِ اه. قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ: الْغِيلَةُ أَنْ يَمَسَّ الرَّجَلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ اه، تَابَعَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَنْ تُرْضِعَ وَهِيَ حَامِلٌ (فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَعَدَمِ الصَّرْفِ (فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (أَوْلَادَهُمْ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ) أَيْ: الْغَيْلُ (شَيْئًا) مِنَ الضَّرَرِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَسَبَبُ هَمِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالنَّهْيِ أَنَّهُ خَافَ مَعَهُ ضَرَرُ الْوَلَدِ الرَّضِيعِ لِأَنَّ الْأَطِبَّاءَ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ اللَّبَنَ دَاءٌ وَالْعَرَبُ تَكْرَهُهُ وَتَتَّقِيهِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، قَالَ الْقَاضِيَ: كَانَ الْعَرَبُ يَحْتَرِزُونَ عَنِ الْغِيلَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَضُرُّ الْوَلَدَ وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَشْهُورَاتِ الذَّائِعَةِ عِنْدَهُ فَأَرَادَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَنْهَى عَنْهَا لِذَلِكَ فَرَأَى أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَا يُبَالُونَ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بِضَرَرٍ فَلَا يَنْهَ (ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ) أَيْ: عَنْ جَوَازِهِ مُطْلَقًا أَوْ حِينَ الْإِرْضَاعِ أَوْ حَالَ الْحَبَلِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ) أَيْ: الْعَزْلُ (الْوَأْدُ الْخَفِيُّ) قَالَ النَّوَوِيُّ: الْوَأْدُ دَفْنُ الْبِنْتِ حَيَّةً وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ وَالْعَارِ اه. شَبَّهَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِضَاعَةَ النِّيَّةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِيَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهَا بِالْوَأْدِ ; لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ بِعَزْلِ الْمَاءِ عَنْ مَحَلِّهِ وَهَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ لَمْ يُجَوِّزِ الْعَزْلَ. وَمَنْ جَوَّزَهُ يَقُولُ هَذَا مَنْسُوخٌ أَوْ تَهْدِيدٌ أَوْ بَيَانُ الْأُولَى وَهُوَ الْأَوْلَى (وَهِيَ) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مُقَدَّرٍ أَيْ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْقَبِيحَةِ مُنْدَرِجَةٌ فِي الْوَعِيدِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ} [التكوير: 8] أَيِ الْبِنْتُ الْمَدْفُونَةُ حَيَّةً (سُئِلَتْ) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَيْ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، قِيلَ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْعَزْلِ بَلْ عَلَى كَرَاهَتِهِ ; إِذْ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْوَأْدِ الْخَفِيِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِزْهَاقُ الرُّوحِ بَلْ يُشْبِهُهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى وَصَحَّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى مُسْلِمًا يَفْعَلُهُ، وَقَالَ نَافِعٌ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ ضَرَبَ عُمَرُ عَلَى الْعَزْلِ بَعْضَ بَنِيهِ، وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ عَنِ الْعَزْلِ اه. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا جُعِلَ الْعَزْلُ وَأْدًا خَفِيًّا لِأَنَّهُ فِي إِضَاعَةِ النُّطْفَةِ الَّتِي هَيَّأَهَا اللَّهُ لِأَنْ تَكُونَ وَلَدًا، شِبْهُ إِهْلَاكِ الْوَلَدِ وَدَفْنِهِ حَيًّا، لَكِنْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ دُونَهُ ; فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ خَفِيًّا وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ حَرَّمَ الْعَزْلَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْوَأْدِ الْحَقِيقِيِّ حُرْمَةُ مَا يُضَاهِيهِ بِوَجْهٍ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ الْحُرْمَةِ وَهِيَ إِزْهَاقُ الرَّوْحِ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ التَّاءَاتُ السَّبْعُ، أَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رَفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسَ إِلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَذَاكَرُوا الْعَزْلَ، فَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، فَقَالَ عَلِيٌّ لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّاءَاتُ السَّبْعُ حَتَّى تَكُونَ سُلَالَةً مِنْ طِينٍ ثُمَّ تَكُونُ نُطْفَةً ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً ثُمَّ تَكُونُ عَظْمًا ثُمَّ تَكُونُ لَحْمًا ثُمَّ تَكُونُ خَلْقًا آخَرَ فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، قَالَ وَهَلْ يُبَاحُ الْإِسْقَاطُ بَعْدَ الْحَبَلِ؟ قَالَ يُبَاحُ مَا لَمْ يَتَخَلَّقْ شَيْءٌ مِنْهُ، ثُمَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ قَالُوا: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالتَّخْلِيقِ نَفْخَ الرُّوحِ وَإِلَّا فَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ التَّخْلِيقَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ.

3190 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أَعْظَمَ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةٍ: " «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3190 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ أَعْظَمَ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ " إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ " بِدُونِ الْأَلِفِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَشَرُّ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيَّةٍ. قَالَ الْقَاضِي: الرِّوَايَةُ وَقَعَتْ بِالْأَلِفِ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رَدَاءَتِهِ ; لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ سِيَّمَا حُفَّاظُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى حَفَظَةِ اللُّغَةِ (الرَّجُلُ) هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَمَنْصُوبٌ عَلَى الثَّانِيَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَيْ أَعْظَمُ أَمَانَةٍ عِنْدَ اللَّهِ خَانَ فِيهَا الرَّجُلُ أَمَانَةَ الرَّجُلِ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ أَعْظَمُ خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِيَانَةُ الرَّجُلِ (يُفْضِي) أَيْ: يَصِلُ (إِلَى امْرَأَتِهِ) وَيُبَاشِرُهَا (وَتُفْضِي) أَيْ: تَصِلُ هِيَ أَيْضًا (إِلَيْهِ) قَالَ تَعَالَى {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] (ثُمَّ يَنْشُرُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ أَيْ يُظْهِرُ (سِرَّهَا) بِأَنْ يَتَكَلَّمَ لِلنَّاسِ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قَوْلًا وَفِعْلًا أَوْ يُفْشِي عَيْبًا مِنْ عُيُوبِهَا أَوْ يَذْكُرُ مِنْ مَحَاسِنِهَا مَا يَجِبُ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا سَتْرُهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَفْعَالُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَقْوَالِهِمَا أَمَانَةٌ مُودَعَةٌ عِنْدَ الْآخَرِ فَمَنْ أَفْشَى مِنْهُمَا مَا كَرِهَهُ الْآخَرُ وَأَشَاعَهُ فَقَدْ خَانَهُ، قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: أُرِيدُ طَلَاقَ امْرَأَتِي فَقِيلَ لَهُ لِمَ؟ فَقَالَ: كَيْفَ أَذْكُرُ عَيْبَ زَوْجَتِي؟ ! فَلَمَّا طَلَّقَهَا قِيلَ لَهُ: لِمَ طَلَّقْتَهَا؟ قَالَ كَيْفَ أَذْكُرُ عَيْبَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ. ثُمَّ قِيلَ: يُكْرَهُ هَذَا إِذْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ، أَمَّا إِذَا تَرَتَّبَ بِأَنْ تَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْعَجْزَ عَنِ الْجِمَاعِ أَوْ إِعْرَاضَهُ عَنْهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ فِي ذِكْرِهِ قَالَ تَعَالَى {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3191 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223] الْآيَةَ أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3191 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] الْآيَةَ أَقْبِلْ: أَيْ: جَامِعْ مِنْ جَانِبِ الْقُبُلِ (وَأَدْبِرْ) أَيْ: أَوْلِجْ فِي الْقُبُلِ مِنْ جَانِبِ الدُّبُرِ (وَاتَّقِ الدُّبُرَ) أَيْ: إِيلَاجَهُ فِيهِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] فَإِنَّ الْحَرْثَ يَدُلُّ عَلَى اتِّقَاءِ الدُّبُرِ (أَنَّى شِئْتُمْ) عَلَى إِبَاحَةِ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ وَالْخِطَابُ فِي التَّفْسِيرِ خِطَابٌ عَامٌّ وَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِمَا (وَالْحَيْضَةَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ اسْمٌ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَالُ الَّتِي يَلْزَمُهَا الْحَائِضُ مِنَ التَّجَنُّبِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْمَعْنَى اتَّقِ الْمُجَامَعَةَ فِي زَمَانِهَا، ذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَحَلَّ وَطْءَ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ يَكْفُرُ، وَفِي النَّوَادِرِ: عَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَكْفُرُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لِلتَّفْتَازَانِيِّ، قِيلَ: لِأَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى حُرْمَتِهِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ظَنِّي الدَّلَالَةُ مَعَ أَنَّ حُرْمَتَهُ لِغَيْرِهِ، قَالَ الْفَاضِلُ: لَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنِ اسْتَحَلَّ حَرَامًا لِغَيْرِهِ هَلْ يَكْفُرُ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ حُرْمَةَ وَطْءِ الْحَائِضِ لِمُجَاوِرَةِ الْأَذَى اه. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَحْرُمُ وَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَيَحِلُّ وَطْءُ الْحَائِضِ فِي الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: مَوْقُوفًا وَفِي نُسْخَةٍ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ.

3192 - وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3192 - (وَعَنْ خُزَيْمَةَ) مُصَغَّرًا (بْنِ ثَابِتٍ) يُكَنَّى أَبَا عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّ الْأَوْسِيَّ يُعْرَفُ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا كَانَ عَلَى يَوْمِ صِفِّينَ فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ جَرَّدَ سَيْفَهُ وَظَلَّ حَتَّى قُتِلَ ( «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ» ) وَالْحَيَاءُ تَغَيُّرٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ لُحُوقِ مَا يُعَابُ بِهِ وَيُذَمُّ وَالتَّغَيُّرُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَهُوَ مَجَازٌ عَنِ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْحَيَاءِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ أَوْ إِظْهَارِهِ وَفِي جَعْلِ هَذَا مُقَدِّمَةٌ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ إِشْعَارٌ بِشَنَاعَةِ هَذَا الْفِعْلِ وَاسْتِهْجَانِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ إِنِّي لَا أَسْتَحِي فَأُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَزِيدًا لِلْمُبَالَغَةِ (لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ) وَهَذَا فِي شَأْنِ النِّسَاءِ فَكَيْفَ بِالرِّجَالِ: قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَفِي اسْتِحْلَالِ الْلُواطَةِ بِامْرَأَتِهِ لَا يَكْفُرُ عَلَى الْأَصَحِّ، قِيلَ: لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْمَدَارِكِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166] مِنْ تَبْيِينٍ لِمَا خَلَقَ أَوْ تَبْعِيضٍ وَالْمُرَادُ بِمَا خَلَقَ الْعُضْوُ الْمُبَاحُ وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ بِنِسَائِهِمْ وَفِيهِ دَلِيلُ تَحْرِيمِ أَدْبَارِ الزَّوْجَاتِ وَالْمَمْلُوكَاتِ وَمَنْ أَجَازَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً عَظِيمًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِنْ فَعَلَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَا، وَإِنْ فَعَلَهُ بِامْرَأَتِهِ أَوْ بِأَمَتِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لَكِنْ لَا يُرْجَمُ وَلَا يُحَدُّ لَكِنْ يُعَزَّرُ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَوْ لَاطَ بِعَبْدِهِ فَهُوَ كَلِوَاطِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مُكْرَهًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

3193 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3193 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ» ) وَفِي نُسْخَةٍ امْرَأَةً وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ (إِلَى دُبُرِهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

3194 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3194 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ» ) أَيْ: نَظَرَ رَحْمَةٍ (رَوَاهُ) أَيْ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

3195 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3195 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

3196 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ سِرًّا فَإِنَّ الْغَيْلَ يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3196 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ) أَصْلُهُ وَسَمَاءُ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءَ وَلِذَا لَمْ يُصْرَفُ كَذَا قِيلَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَسْمَاءُ جَمْعَ اسْمٍ أُطْلِقَ عَلَيْهَا وَعَدَمُ صَرْفِهِ الْعَلْمِيَّةُ وَالتَّأْنِيثُ (بِنْتِ يَزِيدَ) احْتِرَازٌ مِنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ سِرًّا» ) أَيْ: إِغَالَةً وَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ وَيَحْمِلُ قَوْلُهُ السَّابِقُ: " لَقَدْ هَمَمْتُ " أَنَّ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ فَلَا مُنَافَاةَ (فَإِنَّ الْغَيْلَ) وَهُوَ لَبَنٌ يَحْصُلُ عِنْدَ الْإِغَالَةِ أَيْ ضَرَرُهُ وَأَثَرُهُ (يُدْرِكُ الْفَارِسَ) أَيْ: رَاكِبَ الْفَرَسِ الَّذِي تَرَبَّى بِلَبَنِ الْغَيْلِ (فَيُدَعْثِرُهُ) أَيْ: يَصْرَعُهُ وَيُسْقِطُهُ (عَنْ فَرَسِهِ) فَيَمُوتُ فَيَكُونُ مَوْتُهُ هَذَا مُسَبَّبًا عَنْ تِلْكَ الْغِيلَةِ وَهِيَ كَالْمُغِيلِ لَهُ أَيِ الْمُهْلِكِ غَيْرَ

أَنَّهُ سِرٌّ لَا يَظْهَرُ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا جُومِعَتْ وَحَمَلَتْ فَسَدَ لِبَنُهَا وَإِذَا اغْتَذَى بِهِ الطِّفْلُ بَقِيَ سُوءُ أَثَرِهِ فِي بَدَنِهِ وَأَفْسَدَ مِزَاجَهُ فَإِذَا صَارَ رَجُلًا وَرَكِبَ الْفَرَسَ فَرَكْضَهَا رُبَّمَا أَدْرَكَهُ ضَعْفُ الْغَيْلِ فَيَسْقُطُ مِنْ مَتْنِ فَرَسِهِ وَكَانَ ذَلِكَ كَالْقَتْلِ فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْإِرْضَاعِ حَالَ الْحَمْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلرِّجَالِ أَيْ لَا تُجَامِعُوا فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ ; كَيْلَا تَحْبَلَ نِسَاؤُكُمْ فَيُهْلِكُ الْإِرْضَاعُ فِي حَالِ الْحَمْلِ أَوْلَادَكُمْ، وَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نَفْيُهُ لِأَثَرِ الْغَيْلِ فِي الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ كَانَ إِبْطَالًا لِاعْتِقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ كَوْنَهُ مُؤَثِّرًا وَإِثْبَاتُهُ لَهُ هُنَا لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ كَوْنِ الْمُؤَثِّرِ الْحَقِيقِيِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3197 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3197 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ( «قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْزَلَ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا» ) أَيْ: لِتَعَلُّقِ حَقِّهَا إِمَّا بِلَذَّةِ الْجِمَاعِ وَإِمَّا بِحُصُولِ الْوَلَدِ وَالِاسْتِمْتَاعِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

(بَابٌ) (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3198 - عَنْ عُرْوَةَ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا فِي بَرِيرَةَ: خُذِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ أَوْ بِالسُّكُونِ أَيْ: نَوْعٌ آخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْكِتَابِ مُنَاسِبٌ لِلْبَابِ. 3198 - (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا فِي بَرِيرَةَ) أَيْ: فِي شَأْنِهَا وَأَمْرِ شِرَائِهَا (خُذِيهَا) أَيْ: مِنْ مَوَالِيهَا بِاشْتِرَائِهَا (فَأَعْتِقِيهَا وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَخَيَّرَهَا) أَيْ: بَرِيرَةَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بَيْنَ فَسْخِ النِّكَاحِ وَإِمْضَائِهِ ( «فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا» ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ إِذْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ وَأَنَّهَا خُيِّرَتْ فَقَالَتْ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ فَإِنَّهُ قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا اه. وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمُصَنِّفُ حَيْثُ ذَكَرَ عَنْ عُرْوَةَ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ الْمُظْهِرُ: إِذَا أَعْتَقْتَ أَمَةٌ فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا مَمْلُوكًا فَلَهَا الْخِيَارُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا فَلَا خِيَارَ إِلَّا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ أَعْتَقَ الزَّوْجَانِ مَعًا فَلَا خِيَارَ أَوِ الزَّوْجُ فَلَا خِيَارَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ زَوْجَتُهُ مَمْلُوكَةً أَوْ حُرَّةً وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ فِي كَلَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ آخِرَ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3199 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ، يَا عَبَّاسُ، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضٍ بَرِيرَةَ مُغِيثًا فَقَالَ النَّبِيُّ: لَوْ رَاجَعْتِيهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي، قَالَ: إِنَّمَا أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3199 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ) أَيْ: كَعَبْدٍ أَسْوَدَ فِي قُبْحِ الصُّورَةِ أَوْ كَانَ عَبْدًا فَأُعْتِقَ فَصَارَ حُرًّا فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا (يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ) أَيْ: يَدُورُ (خَلْفَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ) أَيْ: فِي طُرُقِهَا (يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ) حَالَانِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَبَّاسِ) قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَفْهُومُ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ قِصَّةَ بَرِيرَةَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ إِنَّمَا سَكَنَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنَ الطَّائِفِ وَابْنُهُ إِنَّمَا أَتَاهَا مَعَ أَبَوَيْهِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِمُشَاهَدَةِ

ذَلِكَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ مَعَ تَقَدُّمِهَا، فَوُجِّهَ بِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدِمُ عَائِشَةَ قَبْلَ شِرَائِهَا، ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ وَقَوَّاهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ (يَا عَبَّاسُ أَلَا تَعْجَبَ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ) أَيْ: مِنْ كَثْرَةِ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا (وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا) قِيلَ إِنَّمَا كَانَ التَّعَجُّبُ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الْمُحِبَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مَحْبُوبًا وَبِالْعَكْسِ (فَقَالَ الْنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ رَاجَعْتِيهِ) الرِّوَايَةُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ لِإِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ وَلَوْ لِلتَّمَنِّي أَوِ الشَّرْطِ مَحْذُوفِ الْجَزَاءِ أَيْ لَكَانَ لَكِ ثَوَابٌ أَوْ لَكَانَ أَوْلَى وَفِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي) بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ أَتَأْمُرُنِي بِمُرَاجَعَتِهِ وُجُوبًا (قَالَ إِنَّمَا أَشْفَعُ) أَيْ: آمُرُكِ اسْتِحْبَابًا (قَالَتْ: لَا حَاجَةَ) أَيْ: لَا غَرَضَ وَلَا صَلَاحَ (لِي فِيهِ) أَيْ: فِي مُرَاجَعَتِهِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى عُذْرِهَا فِي عَدَمِ قَبُولِ شَفَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ بَرِيرَةَ فَرَّقَتْ بَيْنَ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَفَاعَتِهِ وَعَلِمَتْ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ دُونَهَا اه، وَفِي الْحَدِيثِ شَفَاعَةُ الْإِمَامِ إِلَى الرَّعِيَّةِ وَهِيَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ السَّنِيَّةِ، وَعَدَمُ وُجُوبِ قَبُولِهَا وَعَدَمُ مُؤَاخَذَةِ الْإِمَامِ عَلَى امْتِنَاعِهَا وَإِنَّ الْعَدَاوَةَ لِسُوءِ الْخُلُقِ وَخُبْثِ الْمُعَاشَرَةِ جَائِزَةٌ، وَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُ خِطْبَتَهَا وَاتِّبَاعِهِ إِيَّاهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 3200 - «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَعْتِقَ مَمْلُوكَيْنِ لَهَا زَوْجٌ فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهَا أَنْ تَبْدَأَ بِالرَّجُلِ قَبْلَ الْمَرْأَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3200 - ( «عَنْ عَائِشَةَ) أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَعْتِقَ مَمْلُوكَيْنِ لَهَا» ) أَيْ: كَائِنَيْنِ ثَابِتَيْنِ لِعَائِشَةَ (زَوْجٌ) أَيْ: هُمَا زَوْجٌ أَيْ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ فِي الْأَصْلِ يُطْلَقُ عَلَى شَيْئَيْنِ بَيْنَهُمَا ازْدِوَاجٌ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى فَرْدٍ مِنْهُمَا وَفِي نُسْخَةِ زَوْجَيْنِ صِفَةٌ لِمَمْلُوكَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ لَهَا زَوْجٌ كَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَفِي إِعْرَابِهِ إِشْكَالٌ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ أَحَدُهُمْ زَوْجٌ لِلْآخَرِ أَوْ بَيْنَهُمَا ازْدِوَاجٌ وَفِي كَثِيرِ النُّسَخِ لِلْمَصَابِيحِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ زَوْجَيْنِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَمْلُوكَيْنِ وَالضَّمِيرُ فِي لَهَا لِعَائِشَةَ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مَمْلُوكَةً لَهَا زَوْجٌ فَالضَّمِيرُ لِلْجَارِيَةِ (فَسَأَلَتْ) أَيْ: عَائِشَةُ ( «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهَا أَنْ تَبْدَأَ بِالرَّجُلِ» ) أَيْ: بِإِعْتَاقِ الرَّجُلِ (قَبْلَ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّ إِعْتَاقَهُ لَا يُوجِبُ فَسْخَ النِّكَاحِ وَإِعْتَاقَ الْمَرْأَةِ يُوجِبُهُ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالِابْتِدَاءِ لِئَلَّا يُفْسَخَ النِّكَاحُ إِنْ بُدِئَ بِهِ هَذَا حَاصِلٌ عَلَى كَلَامِ الْمُظْهِرِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا بُدِئَ بِهِ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ أَوْ لِأَنَّ الْغَالِبَ اسْتِنْكَافُ الْمَرْأَةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا عَبْدًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

3201 - وَعَنْهَا «أَنْ بَرِيرَةَ عَتَقَتْ وَهِيَ عِنْدَ مُغِيثٍ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهَا إِنْ قَرِبَكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3201 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ بَرِيرَةَ عَتَقَتْ) بِفَتَحَاتٍ (وَهِيَ عِنْدَ مُغِيثٍ) أَيْ: زَوْجُهَا (فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بَيْنَ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ وَاخْتِيَارِ الْفَسْخِ (وَقَالَ لَهَا) أَيْ: لِبَرِيرَةَ (إِنْ قَرِبَكِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ جَامَعَكِ (زَوْجُكِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِّ أَيْ دَنَا مِنْكِ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْعِتْقِ (فَلَا خِيَارَ لَكِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَتَى صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ الْوَاجِبُ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَانَ لَهَا الْخِيَارُ مَا لَمْ يُصِبْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَا أَعْلَمُ فِي تَأْخِيرِ الْخِيَارِ شَيْئًا يُتَبَّعُ إِلَّا قَوْلَ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ

صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا أَوْ زَوَّجَهَا هُوَ بِرِضَاهَا أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا، أَمَّا إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ بِالْإِعْتَاقِ وَلَا خِيَارَ لَهَا، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيمَا إِذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ وَالِاخْتِلَافِ فِي تَرْجِيحِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ أَكَانَ حِينَ أُعْتِقَتْ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَهَا وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، رَوَاهُ الْقَاسِمُ وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ وَهَكَذَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالتَّرْجِيحُ يَقْتَضِي فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَكَانَ تَرْجِيحُ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا، وَذَلِكَ أَنَّ رُوَاةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ ثَلَاثَةٌ؛ الْأَسْوَدُ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ فَأَمَّا الْأَسْوَدُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا، وَأَمَّا عُرْوَةُ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَالْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَالْأُخْرَى الشَّكُّ، وَوَجْهٌ آخَرُ مِنَ التَّرْجِيحِ مُطْلَقًا لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرْوِيِّ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ خَيَّرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ فِيهِ لَا لِلْحَالِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْأَمْرَيْنِ، وَكَوْنُهُ اتَّصَفَ بِالرِّقِّ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُ ذَلِكَ كَانَ حَالَ عِتْقِهَا هَذَا بَعْدَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالْعَبْدِ الْعَتِيقِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ وَهُوَ شَائِعٌ فِي الْعُرْفِ، وَالَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ التَّرْجِيحِ أَنَّ رِوَايَةَ كَانَ حُرًّا أَنَصُّ مِنْ كَانَ عَبْدًا، وَتُثْبِتُ زِيَادَةً فَهِيَ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَهِيَ مُثْبِتَةٌ وَتِلْكَ نَافِيَةٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ حَالَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ الرِّقَّ وَالنَّافِي هُوَ الْمُبقِيهَا وَالْمُثْبَتُ هُوَ الْمَخْرَجُ عَنْهَا، وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُعَلَّلُ بِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ وَذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مَبْسُوطًا فَعَلَيْكَ بِهِ إِنْ تُرِدْ أَنْ تَكُونَ مُحِيطًا.

[باب الصداق]

[بَابُ الصَّدَاقِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3202 - «عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ فِيهَا حَاجَةٌ، فَقَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا قَالَ مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا، قَالَ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟ قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا فَقَالَ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الصَّدَاقِ) الصَّدَاقُ كَكِتَابٍ وَسَحَابٍ الْمَهْرُ وَالْكَسْرُ فِيهِ أَفْصَحُ وَأَكْثَرُ وَالْفَتْحُ أَخَفُّ وَأَشْهَرُ وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ صِدْقُ مَيْلٍ إِلَى الْمَرْأَةِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3202 - (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) أَيْ: السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ اسْمُهُ حَزْنًا فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلًا، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ» ) فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتِرَازًا عَنْ خَجَالَتِهَا ( «فَقَامَتْ طَوِيلًا» ) أَيْ: زَمَانًا كَثِيرًا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ رِضَاهُ بِتَزْوِيجِهَا وَفِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50] قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: أَيْ وَأَحْلَلْنَا لَكَ مَنْ وَقَعَ لَكَ أَنْ تَهَبَ لَكَ نَفْسَهَا وَلَا تَطْلُبَ مَهْرًا مِنَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ إِنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ نَكَّرَهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ بَيَانُ حُكْمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْهُنَّ بِالْهِبَةِ، وَقِيلَ الْوَاهِبَةُ نَفْسَهَا مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَوْ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ، أَوْ أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرٍ أَوْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] بَلْ يَجِبُ الْمَهْرُ لِغَيْرِكَ وَإِنْ لَمْ يُسَّمِهِ أَوْ نَفَاهُ قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجِبُ مَهْرُهَا عَلَيْهِ وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَفِي انْعِقَادِ نِكَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، الثَّانِي: لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ أَوِ النِّكَاحِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ مَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَنْعَقِدُ نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلِمَالِكٍ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَالْأُخْرَى يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ إِذَا قُصِدَ بِهِ النِّكَاحُ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الصُّلَحَاءِ لِيَتَزَوَّجَهَا، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ طُلِبَ مِنْهُ حَاجَةٌ لَا يُمْكِنُهُ قَضَاؤُهُ أَنْ يَسْكُتَ سُكُوتًا يَفْهَمُ السَّائِلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَا يُخْجِلُهُ بِالْمَنْعِ (فَقَامَ رَجُلٌ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ فِيهَا) أَيْ: فِي نِكَاحِهَا (حَاجَةٌ) أَيْ: رَغْبَةٌ (قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا) مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ أَيْ تَجْعَلُهُ صَدَاقَهَا (قَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا) عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ وَلَا إِزَارٌ غَيْرَ مَا عَلَيْهِ (قَالَ فَالْتَمِسْ) أَيْ: فَاطْلُبْ شَيْئًا آخَرَ (وَلَوْ خَاتَمًا) بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا (مِنْ حَدِيدٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُسْأَلَ هَلْ هِيَ فِي عِدَّةٍ أَمْ لَا، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ وَأَنْفَعُ لِلْمَرْأَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ قِلَّةِ الصَّدَاقِ مِمَّا يُتَمَوَّلُ إِذَا تَرَاضَيَا لِأَنَّ خَاتَمَ الْحَدِيدِ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّهُ رُبُعُ دِينَارٍ كَنِصَابِ السَّرِقَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: أَقَلُّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّحِيحُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ حَدِيثَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَجَابِرٍ كَمَا سَيَأْتِيَانِ وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ وَلَا يُزَوَّجْنَ إِلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ وَلَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَلَهُ شَاهِدٌ يُعَضِّدُهُ وَهُوَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فَيُحْمَلُ كُلُّ مَا أَفَادَ ظَاهِرُهُ كَوْنَهُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ عَلَى أَنَّهُ الْمُعَجَّلُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ عِنْدَهُمْ كَانَ تَعْجِيلَ بَعْضِ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِهَا حَتَّى يُقَدِّمَ شَيْئًا لَهَا، نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ تَمَسُّكًا بِمَنْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا تَزَوَّجَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ، فَقَالَ: أَعْطِهَا دِرْعَكَ فَأَعْطَاهَا دِرْعَهُ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا» . لَفَظُ أَبِي دَاوُدَ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَاقَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ فِضَّةٌ لَكِنَّ الْمُخْتَارَ الْجَوَازُ قَبْلَهُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُدْخِلَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فَيُحْمَلُ الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ عَلَى النَّدْبِ أَيْ: نَدْبُ تَقْدِيمِ شَيْءٍ إِدْخَالًا لِلْمَسَرَّةِ عَلَيْهَا تَأَلُّفًا لِقَلْبِهَا، وَإِذَا كَانَ مَعْهُودًا وَجَبَ حَمْلُ مَا خَالَفَ مَا رُوِّينَاهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَكَذَا يُحْمَلُ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْتِمَاسِهِ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ عَلَى أَنَّهُ تَقْدِيمُ شَيْءٍ تَالِفًا، وَلَمَّا عَجَزَ قَالَ قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ أَيْةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَهُوَ مُحْمَلُ رِوَايَةِ الصَّحِيحِ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِيهِ وَبِهِ تَجْتَمِعُ الرِّوَايَاتُ (فَالْتَمَسَ) أَيْ: الرَّجُلُ (فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا) أَيْ: وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ وَفِيهِ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا يُكَرَهُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ ضَعِيفٌ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ تَسْلِيمِ الْمَهْرِ إِلَيْهَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ مَعَكَ) أَيْ: عِنْدَكَ (مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ) أَيْ: مَحْفُوظٌ أَوْ مَعْلُومٌ (قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا) زَادَ مَالِكٌ لِسُورَةٍ سَمَّاهَا وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسُوَرُ الْمُفَصَّلِ وَلِأَبِي الشَّيْخِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كَوَنِ الصَّدَاقِ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَجَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الزُّبَيْرُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ لَا تَقْدِيرَ لَهُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْتَمِسْ، إِلَخْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَيِّ شَيْءٍ

مِنَ الْمَالِ وَعَلَى أَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْكَفَاءَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْأَلْ هَلْ هُوَ كُفْءٌ لَهَا أَمْ لَا وَقَدْ عَلِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ (فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) قَالَ الْأَشْرَفُ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَيْسَتْ لِلْبَدَلِيةِ وَالْمُقَابَلَةِ أَيْ زَوَّجْتُكَهَا بِسَبَبِ مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ سَبَبُ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَكُمَا كَمَا فِي تَزَوُّجِ أَبِي طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ عَلَى إِسْلَامِهِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ سَبَبًا لِاتِّصَالِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَهْرُ دِينًا، قِيلَ وَلَعَلَّهَا وَهَبَتْ صَدَاقَهَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ، قِيلَ: وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، قُلْتُ: أَمَّا هِبَتُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا تَصِحُّ اتِّفَاقًا وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ) أَيْ: بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ (فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ) مَا مَعَكَ وَهَذَا أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيمَ مَهْرٌ قَالَ الْخَطَابِيُّ: الْبَاءُ لِلتَّعْوِيضِ كَمَا يُقَالُ بِعْتُ هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارٍ وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ مَا أَوَّلُوهُ وَلَمْ يُرِدْ بِهَا مَعْنَى الْمَهْرِ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ إِيَّاهُ هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ مَعْنًى، قُلْتُ: مَعْنَاهُ حَيْثُ تَعَذَّرَ الْبَدَلُ الْحَقِيقِيُّ أَجَازَ الْعِوَضَ السَّبَبِيَّ صُورَةً وَالْبَدَلُ الْحَقِيقِيُّ ذِمَّةً، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ ": وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا هُوَ مَالٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا شَرْعًا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ عَلَيْهَا، وَمَا لَا يَجُوزُ كَخِدْمَةِ الزَّوْجِ الْحُرِّ لِلْمُنَاقِضَةِ وَحُرٍّ أَخَرَ فِي خِدْمَةٍ تَسْتَدْعِي خَلْوَةً لِلْفِتْنَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ كَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَالْحَجِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى هَذِهِ فَصَحَّ تَسْمِيَتُهَا وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي رَعْيِ غَنَمِهَا وَزِرَاعَةِ أَرْضِهَا لِلتَّرَدُّدِ فِي تَمَحُّضِهَا خِدْمَةً وَعَدَمِهِ وَكَوْنِ الْأَوْجَهِ الصِّحَّةَ لِقَصِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ شُعَيْبٍ وَمَوْسِى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ نَفْيِهِ فِي شَرْعِنَا إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْغَنَمُ مِلْكَ الْبِنْتِ دُونَ شُعَيْبٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3203 - وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَمْ كَانَ صَدَاقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشٌّ قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشٌّ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَنَشٌّ بِالرَّفْعِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَفِي جَمْعِ الْأُصُولِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3203 - (وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) وَفِي نُسْخَةٍ سُئِلَتْ عَائِشَةُ (كَمْ كَانَ صَدَاقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ وَيَكْسَرُ (أُوقِيَّةً) وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا (وَنَشٌّ) بِالرَّفْعِ لَا غَيْرَ أَيْ مَعَهَا نَشٌّ أَوْ يُزَادُ نَشٌّ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ النَّشٌّ النِّصْفُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَنَشُّ الرَّغِيفِ نَصِفُهُ (قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشٌّ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ) هِيَ أُفْعُولَةٌ وَالْهَمْزَةُ زَائِدَةٌ مِنَ الْوِقَايَةِ لِأَنَّهَا تَقِي صَاحِبَهَا الْحَاجَةَ فِي النِّهَايَةِ وَقَدْ يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ وَقِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ (كَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَنَشٌّ بِالرَّفْعِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَفِي جَمِيعِ الْأُصُولِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ (وَنَشًّا) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَلَيْسَ بِرِوَايَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ كَوْنِ الْمَهْرِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنْ قِيلَ صَدَاقُ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ تَبَرَّعَ بِهِ النَّجَاشِيُّ مِنْ مَالِهِ إِكْرَامًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(الْفَصْلُ الثَّانِي) 3204 - «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: أَلَا لَا تُغَالُوا صَدُقَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا وَتَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَكَحَ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أَنْكَحَ شَيْئًا مِنْ بَنَاتِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3204 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (لَا تُغَالُوا) بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ (صَدُقَةَ النِّسَاءِ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّ الدَّالِّ جَمْعُ الصَّدَاقِ، قَالَ الْقَاضِي: الْمُغَالَاةُ التَّكْبِيرُ أَيْ لَا تُكْثِرُوا مُهُورَهُنَّ (فَإِنَّهَا) أَيْ: الْقِصَّةُ أَوِ الْمُغَالَاةُ يَعْنِي كَثْرَةَ الْأَصْدِقَةِ (لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَاحِدَةُ الْمَكَارِمِ أَيْ مِمَّا تُحْمَدُ (فِي الدُّنْيَا وَتَقْوَى) أَيْ: زِيَادَةُ تَقْوَى (عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ: مَكْرُمَةٌ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَهِيَ غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ وَفِي

نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ وَقَدْ قُرِيءَ شَاذًّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 109] (لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا) أَيْ: بِمُغَالَاةِ الْمُهُورِ (نَبِيُّ اللَّهِ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَكَحَ شَيْئًا) أَيْ: تَزَوَّجَ أَحَدًا (مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أَنْكَحَ) أَيْ: زَوَّجَ (شَيْئًا مِنْ بَنَاتِهِ عَلَى أَكْثَرَ) أَيْ: مِقْدَارًا أَكْثَرَ (مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً) وَهِيَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي أَنَّ صَدَاقَ أُمِّ حَبِيبَةَ كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِ عُمَرَ لِأَنَّهُ أَصْدَقَهَا النَّجَاشِيُّ فِي الْحَبَشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَنَشًّا فَإِنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَدَدَ الْأَوَاقِي الَّتِي ذَكَرَهَا عُمَرُ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ عَدَدَ الْأُوقِيَّةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْكُسُورِ مَعَ إِنَّهُ نَفَى الزِّيَادَةَ فِي عِلْمِهِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ صَدَاقُ أُمِّ حَبِيبَةَ وَلَا الزِّيَادَةُ الَّتِي رَوَتْهَا عَائِشَةُ فَإِنْ قُلْتَ: نَهْيُهُ عَنِ الْمُغَالَاةِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] قُلْتُ النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا لَا فِيهِ لَكِنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِنَّهُ قَالَ لَا تَزِيدُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَمَنْ زَادَ أَلْقَيْتُ الزِّيَادَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: مَا ذَاكَ لَكَ؟ قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] فَقَالَ عُمَرُ: امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّيِّدُ الْجَمَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ: إِنَّ صَدَاقَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ، وَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَوَاهِبِ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَكَ فَاطِمَةَ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَالْجَمْعُ أَنَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ مَعَ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكُسُورِ لَكِنْ يُشْكَلُ نَقْلُ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّ صَدَاقَ فَاطِمَةَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَلَى كُلٍّ فَمَا اشْتُهِرَ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ أَنَّ مَهْرَهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ فَلَا أَصْلَ لَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْمَبْلَغَ قِيمَةُ دِرْعِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ دَفَعَهَا إِلَيْهَا مَهْرًا مُعَجَّلًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

3205 - وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَتِهِ مِلْءَ كَفَّيْهِ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3205 - (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَتِهِ مِلْءَ كَفَّيْهِ سَوِيقًا) وَهُوَ دَقِيقٌ مَقْلِيٌّ مُخْتَلِطٌ بِشَيْءٍ، حَامِضًا كَانَ أَوْ حُلْوًا (أَوْ تَمْرًا) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ (فَقَدِ اسْتَحَلَّ) اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزِ الْمَهْرَ بِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِجَازَةُ النِّكَاحِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَجِبُ إِلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ وَعَلَى هَذَا حُمِلَ قَوْلُهُ (فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ، أَقُولُ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْمُعَجَّلِ الَّذِي يُسَمَّى الدَّفْعَةَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الزَّمَانِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قِيلَ فِيهِ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ جِبْرِيلَ قَالَ فِي الْمِيزَانِ: لَا يُعْرَفُ وَضَعَّفَهُ الْأَزْدِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ رُومَانَ مَجْهُولٌ أَيْضًا.

3206 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ «أَنَّ امْرَأَةً مَنْ بَنِي فَزَارَةَ تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَجَازَهُ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3206 - (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ امْرَأَةً مَنْ بَنِي فَزَارَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ (تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ) قِيلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعَجَّلِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَضِيتِ) هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلِاسْتِعْلَامِ 2 - ?

(مِنْ نَفْسِكَ وَمَالِكَ) : بِكَسْرِ اللَّامَ أَيْ بَدَلَ نَفْسِكِ مَعَ وُجُودِ مَالِكِ ( «بِنَعْلَيْنِ قَالَتْ نَعَمْ فَأَجَازَهُ» ) : الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَمَّا تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ صَحَّ نِكَاحُهُمَا وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا فَلَمَّا رَضِيَتْ بِالنَّعْلَيْنِ وَأَسْقَطَتْ حَقَّهَا الزَّائِدَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ أَجَازَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُسْتَدَلًّا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَحَدِيثُ النَّعْلَيْنِ وَإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ فِيهِ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ ابْنُ مَعِينٍ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فَاحِشُ الْخَطَأِ فَتُرِكَ ثُمَّ قَالَ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِ تِلْكَ النَّعْلَيْنِ تُسَاوِي عَشَرَةً، وَالْحَقُّ أَنَّ وُجُودَ مَا يَنْفِي - بِحَسَبِ الظَّاهِرِ - تَقْدِيرَ الْمَهْرِ بِعَشَرَةٍ فِي السُّنَّةِ كَثِيرٌ إِلَّا أَنَّهَا كُلَّهَا مُضَعَّفَةٌ مَا سِوَى حَدِيثِ " الْتَمِسْ "، وَاحْتِمَالُ " الْتَمِسْ خَاتَمًا " فِي الْمُعَجِّلِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لَكِنْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ بَعْدَهُ " زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " فَإِنْ حُمِلَ عَلَى تَعْلِيمِهِ إِيَّاهَا مَا مَعَهُ أَوْ نَفْيِ الْمَهْرِ بِالْكُلِّيَّةِ عَارَضَ كِتَابَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ عَدِّ الْمُحَرَّمَاتِ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] فَقَيَّدَ الْإِحْلَالَ بِابْتِغَاءِ الْأَمْوَالِ فَوَجَبَ كَوْنُ الْخَبَرِ غَيْرَ مُخَالِفٍ لَهُ وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ مَا لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ التَّوَاتُرِ.

3207 - «وَعَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا شَيْئًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشَقٍ امْرَأَةٍ مِنَّا بِمِثْلِ مَا قَضَيْتَ فَفَرِحَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3207 - (وَعَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ لَمْ يُقْدِّرْ وَلَمْ يُعَيِّنْ (لَهَا شَيْئًا) : أَيْ: مِنَ الْمَهْرِ وَفِي مَعْنَاهُ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا (وَلَمْ يَدْخُلْ) : أَيْ: لَمْ يُجَامِعْهَا وَلَمْ يَخْلُ بِهَا خَلْوَةً صَحِيحَةً (حَتَّى مَاتَ فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " قَالَ " (ابْنُ مَسْعُودٍ لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ لَا نَقْصَ (وَلَا شَطَطَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ وَلَا زِيَادَةَ (وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ) : أَيْ: لِلْوَفَاةِ (وَلَهَا الْمِيرَاثُ) : فَلَمَّا قُضِيَ بِهِ قَالَ أَقُولُ فِيهِ بِنَفْسِي فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ (فَقَامَ مَعْقِلُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ (ابْنُ سِنَانٍ) : بِكَسْرِ السِّينِ (الْأَشْجَعِيُّ) : بِالرَّفْعِ صِفَةُ مَعْقِلٍ (فَقَالَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ فِي بِرْوَعَ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَيُفْتَحُ وَبِفَتْحِ الْوَاوِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ (بِنْتِ وَاشِقٍ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ لَهَا ذِكْرٌ فِي الصَّدَاقِ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرَوْنَهَا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتَحِ الْوَاوِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَيَفْتَحُونَ الْبَاءَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِعْوَلٌ إِلَّا " خِرْوَعٌ " لِهَذَا النَّبْتِ وَ " عِقْوَدٌ " اسْمُ وَادٍ اهـ. قُلْتُ فَلْيَكُنْ هَذَا مِنْ قَبِيلِهِمَا، وَنَقْلُ الْمُحَدِّثِينَ أَحْفَظُ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ (امْرَأَةٍ مِنَّا) : أَيْ مِنْ بَنِي الْأَشْجَعِ (بِمِثْلِ مَا قَضَيْتَ فَفَرِحَ بِهَا) : أَيْ: بِالْقَضِيَّةِ أَوْ بِالْفُتْيَا (ابْنُ مَسْعُودٍ) : لِكَوْنِ اجْتِهَادِهِ مُوَافِقًا لِحُكْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِيهِ تَقْدِيرُ الْمَهْرِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَثُبُوتُ التَّوْرِيثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ بِالْمَوْتِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَلَوْ قَبْلَهُ، وَقَالَ عَلَيٌّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَا مَهْرَ لَهَا لِعَدَمِ الدُّخُولِ وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ يُوَافِقَانِ قَوْلَهُمَا، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَنَا أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهَا فِي صُورَةِ مَوْتِ الرَّجُلِ، فَقَالَ: بَعْدَ شَهْرٍ أَقُولُ فِيهِ بِنَفْسِي فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ أَرَى لَهَا مَهْرَ مِثْلُهَا مِثْلُ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ. فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ وَأَبُو الْجَرَّاحِ حَامِلُ رَايَةَ الْأَشْجَعِيِّينَ فَقَالَا نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قَضَى فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا بِرْوَعُ بِنْتُ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةُ بِمِثْلِ قَضَائِكَ هَذَا فَسُرَّ ابْنُ مَسْعُودٍ سُرُورًا لَمْ يُسَرَّ مِثْلَهُ قَطُّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَبِرْوَعُ بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فِي الْمَشْهُورِ وَيُرْوَى بِفَتْحِهَا هَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُنَا، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَهَذَا إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ فَأَمَّا إِذَا دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْفَرْضِ وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ هُوَ مَهْرُ نِسَاءٍ مِنْ نِسَائِهَا فِي الْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالْبِكَارَةِ وَالثِّيُوبَةِ فِي نِسَاءِ عَصَبَاتِهَا بِلَا خِلَافٍ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ كَأَخَوَاتِهَا مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ مِنَ الْأَبِ، أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ بِنْتِ عَمَّتِهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ وَهِيَ شَيْءٌ قَدَّرَهُ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مِثْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا ثَوْبًا أَوْ خِمَارًا أَوْ خَاتَمًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ وَلِأَبِي دَاوُدَ رِوَايَاتٌ أُخَرُ بِأَلْفَاظٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ جَمِيعُ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَسَانِيدِهَا صِحَاحٌ وَالَّذِي رُوِيَ مِنْ رَدِّ عَلَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ فَمَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ تَحْلِيفُ الرَّاوِي إِلَّا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَرُدَّ هَذَا الرَّجُلَ لِيُحَلِّفَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ذَلِكَ وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ثُبُوتَهَا عَنْهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3208 - «عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ فَمَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَفِي رِوَايَةٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3208 - (عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، يَعْنِي بِالتَّصْغِيرِ كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَالْمُنْتَقِي، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَكَانَ زَوْجُهَا قَبْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ تَنَصَّرَ بِالْحَبَشَةِ وَمَاتَ نَصْرَانِيًّا وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ (فَمَاتَ) : أَيْ: زَوْجُهَا (بِالْحَبَشَةِ فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَيُكْسَرُ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ الْمُخَفَّفَةِ وَيُشَدَّدُ لَقَبُ مَلِكِ الْحَبَشَةِ وَاسْمُ الَّذِي آمَنَ " أَصْحَمَةُ " وَقَدْ يُعَدُّ فِي الصَّحَابَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُعَدَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ الصُّحْبَةَ، أَيْ أَنْكَحَهَا (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: بِأَمْرِهِ إِيَّاهُ (وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ) : أَيْ: أَصْدَقَهَا النَّجَاشِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَرْبَعَةَ آلَافٍ) : مِنَ الدَّرَاهِمِ (وَفِي رِوَايَةٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ) : أَيْ: بِزِيَادَةِ التَّمْيِيزِ (وَبَعَثَ بِهَا) : أَيْ: أَرْسَلَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ شُرَحْبِيلَ) : بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي وَلَعَلَّ فِيهِ الْعُجْمَةَ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالِانْصِرَافِ، وَهُوَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ (ابْنِ حَسَنَةَ) : بِفَتَحَاتٍ أُمِّ شُرَحْبِيلَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) : وَفِي الْمَوَاهِبِ: وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أُمُّ حَبِيبَةَ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ وَقِيلَ اسْمُهَا هِنْدُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأُمُّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ ابْنِ الْعَاصِ فَكَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَهَاجَرَ بِهَا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ تَنَصَّرَ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَاتَ هُنَاكَ وَثَبَتَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ نِكَاحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهَا وَمَوْضِعِ الْعَقْدِ فَقِيلَ إِنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ لِيَخْطُبَهَا عَلَيْهِ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارًا وَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ مَعَ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ وَرُوِيَ " بْنِ حَسَنَةَ "، وَرُوِيَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا جَارِيَتَهُ أَبَرْهَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَكَ وَأَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَوَكَّلَتْهُ وَأَعْطَتْ أَبَرْهَةَ سُوَارَيْنِ وَخَاتَمَ فِضَّةٍ سُرُورًا بِمَا بَشَّرَتْهَا بِهِ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ أَمَرَ النَّجَاشِيُّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحَضَرُوا فَخَطَبَ النَّجَاشِيُّ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ الْمُؤْمِنِ الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَجَبْتُ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَصْدَقْتُهَا أَرْبَعَمِائَةٍ

دِينَارٍ ذَهَبًا ثُمَّ صَبَّ الدَّنَانِيرَ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ فَتَكَلَّمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَجَبْتُ إِلَى مَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَوَّجْتُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سَيْفَانَ فَبَارَكَ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَفَعَ الدَّنَانِيرَ إِلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَقَبَضَهَا ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَقُومُوا فَقَالَ اجْلِسُوا فَإِنَّ سُنَّةَ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا تَزَوَّجُوا أَنْ يُؤْكَلَ طَعَامٌ عَلَى التَّزْوِيجِ فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلُوا ثُمَّ تَفَرَّقُوا» . أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الصَّفْوَةِ كَمَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَخَالِدٌ هَذَا هُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِيهَا وَكَانَ أَبُو سَيْفَانَ أَبُوهَا حَالَ نِكَاحِهَا مُشْرِكًا مُحَارِبًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ رُجُوعِهَا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، اهـ. وَمِنْ كَلَامِ النَّجَاشِيِّ: " مَا أَحَبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا - أَيْ جَبَلًا - وَإِنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ".

3209 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَكَانَ صَدَاقُ مَا بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامَ أَسْلَمَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَبْلَ أَبِي طَلْحَةَ فَخَطَبَهَا فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ فَإِنْ أَسْلَمْتَ نَكَحْتُكَ فَأَسْلَمَ فَكَانَ صَدَاقَ مَا بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3209 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ زَيْدُ بْنُ السَّهْلِ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ مِنَ الرُّمَاةِ الْمَذْكُورِينَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَةٍ خِلَافٍ» "، تَزَوَّجَهَا مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ أَبُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَوَلَدَتْ لَهُ أَنَسًا ثُمَّ قُتِلَ عَنْهَا مُشْرِكًا وَأَسْلَمَتْ. (أُمَّ سُلَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ بِنْتُ مِلْحَانَ وَفِي اسْمِهَا خِلَافٌ تَزَوُّجَهَا مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ أَبُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَوَلَدَتْ لَهُ أَنَسًا ثُمَّ قُتِلَ عَنْهَا مُشْرِكًا وَأَسْلَمَتْ فَخَطَبَهَا أَبُو طَلْحَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَأَبَتْ وَدَعَتْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَزَوَّجُكَ وَلَا آخُذُ مِنْكَ صَدَاقًا لِإِسْلَامِكَ فَتَزَوَّجَهَا أَبُو طَلْحَةَ (فَكَانَ صَدَاقُ مَا بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامَ) : بِرَفْعِهِ أَوْ نَصْبِهِ (أَسْلَمَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَبْلَ أَبِي طَلْحَةَ فَخَطَبَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ فَإِنْ أَسْلَمْتَ فَقَدْ نَكَحْتُكُ) : أَيْ: تَزَوَّجْتُكَ وَلَمْ آخُذْ مِنْكَ مَهْرًا (فَأَسْلَمَ فَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ " وَكَانَ " - أَيِ الْإِسْلَامُ - (صَدَاقَ مَا بَيْنَهُمَا) : أَيْ: فَوَقَعَ النِّكَاحُ بِصَدَاقِهَا وَوَهَبَتْهُ إِيَّاهُ بِسَبَبِ إِسْلَامِهِ عَلَى مُقْتَضَى وَعْدِهَا فَكَانَ الْإِسْلَامُ صَدَاقَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ نِكَاحٍ، فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الدِّينِيَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا لِلْبُضْعِ، وَأَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، قُلْتُ: هَذَا حَمْلٌ بَعِيدٌ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ الدِّينِيَّةَ مَا لَا يَكُونُ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الدِّينِيَّةِ اسْمُ الْمَالِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

[باب الوليمة]

[بَابُ الْوَلِيمَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلِ 3210 - عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْوَلِيمَةِ) وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ عِنْدَ الْعُرْسِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3210 - (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) : أَيْ: عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ (أَثَرَ صُفْرَةٍ) : أَيْ: مِنَ الزَّعْفَرَانِ (قَالَ: مَا هَذَا) : أَيْ: سَبَبُهُ أَوْ مَا هَذَا الصَّفَارُ (قَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ: سُؤَالٌ عَنِ السَّبَبِ فَلِذَا أَجَابَ بِمَا أَجَابَ، وَيَحْتَمِلُ الْإِنْكَارَ بِأَنَّهُ كَانَ نُهِيَ عَنِ التَّضَمُّخِ بِالْخَلُوقِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَيْسَ

تَضَخُّمًا بَلْ شَيْءٌ عَلَقَ بِهِ مِنْ مُخَالَطَةِ الْعَرُوسِ أَيْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ ( «عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا " قَالَ: عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ الْقَاضِي: النَّوَاةُ اسْمٌ لِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ كَمَا أَنَّ النَّشَّ لِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَالْأُوقِيَّةَ اسْمٌ لِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَى ذَهَبٍ يُسَاوِي قِيمَتُهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمٍ، وَهُوَ لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّوَاةِ نَوَاةُ التَّمْرِ، اهـ. وَالْأَخِيرُ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَيْ مِقْدَارُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَهُوَ سُدُسُ مِثْقَالٍ تَقْرِيبًا وَقَدْ يُوجِدُ بَعْضُ النَّوَى أَنْ يَكُونَ رُبُعَ مِثْقَالٍ أَوْ أَقَلَّ، وَقِيمَتُهُ تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَمَعْنَاهُ عَلَى مِقْدَارِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَزْنًا مِنَ الذَّهَبِ يَعْنِي ثَلَاثَةَ مَثَاقِيلَ وَنِصْفًا ذَهَبًا. (قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ) : أَيْ: فِي زَوَاجِكَ فِيهِ نَدْبُ الدُّعَاءِ لِلزَّوْجِ. (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) : أَيِ: اتَّخِذْ وَلِيمَةً، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَمَسِّكَ بِظَاهِرِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِيجَابِهَا وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، قِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقِيلَ: عِنْدَ الْعَقْدِ، وَقِيلَ: عِنْدَهُمَا وَاسْتَحَبَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ أَنْ تَكُونَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ حَالِ الزَّوْجِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ أَنَسٍ وَالْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.

3211 - وَعَنْهُ قَالَ: «مَا أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ أَوْلَمَ بِشَاةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3211 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ مَا أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ) : أَيْ: مِثْلَ مَا أَوْ قَدْرَ مَا أَوْلَمَ وَمَا إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَمَا الْأُولَى نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ أَكْثَرَ مِمَّا أَوْلَمَ عَلَى نِسَائِهِ (أَوْلَمَ بِشَاةٍ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْمَوَاهِبِ وَأَمَّا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنِ هَاشِمٍ «فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ مُدَّةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ اذْهَبْ فَأَذْكُرْنِي لَهَا، قَالَ: فَذَهَبْتُ فَجَعَلْتُ ظَهْرِي إِلَى الْبَابِ فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُكِ فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُحْدِثَ شَيْئًا حَتَّى أَوَامِرَ رَبِّي فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدٍ لَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: حَرَّمَ مُحَمَّدٌ نِسَاءَ الْوَلَدِ وَقَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقُولُ زَوَّجَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَسَمَّاهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - زَيْنَبَ، وَعَنْ أَنَسٍ «لَمَّا تَزَوَّجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَإِذَا هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ وَقَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمُ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حِينَ دَخَلَ فَذَهَبْتُ لِأَدْخُلَ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الْآيَةَ، اهـ» . وَقِصَّتُهَا طَوِيلَةٌ مَحَلُّ بَسْطِهَا كُتُبُ التَّفَاسِيرِ وَالسِّيَرِ.

3212 - وَعَنْهُ قَالَ: «أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَأَشْبَعَ النَّاسَ خُبْزًا وَلَحْمًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3212 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: «أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَأَشْبَعَ النَّاسَ» ) : أَيِ: الَّذِينَ حَضَرُوا (خُبْزًا وَلَحْمًا) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَرِيدًا أَوْ غَيْرَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

3213 - وَعَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3213 - وَعَنْهُ أَيْ عَنْ أَنَسٍ (قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَ صَفِيَّةَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَانَتْ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. ( «وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا» ) : قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: هَذَا مِنْ خَوَاصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَزَوُّجَهَا بِمَهْرٍ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، فَنَسَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُهُمْ إِلَى جَوَازِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُجَوِّزْهُ جَمَاعَةٌ وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ خَوَاصِّهِ كَمَا كَانَ النِّكَاحُ يَنْفِي الْمَهْرَ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَكَانَتْ هَذِهِ فِي مَعْنَى الْمَوْهِبَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا كَرَاهَةَ فِيمَنْ يُعْتِقُ أَمَةً ثُمَّ يَنْكِحُهَا. وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: إِذَا أَعْتَقَ أَمَةً وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا كَأَنْ يَقُولَ: أَعْتَقْتُكِ عَلَى أَنْ تُزَوِّجِينِي نَفْسَكِ بِعِوَضِ الْعِتْقِ، فَقَبِلَتْ، صَحَّ الْعِتْقُ وَهِيَ بِالْخِيَارِ فِي تَزَوُّجِهِ فَإِنْ تَزَوَّجَتْهُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ تَزَوَّجَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، قُلْنَا: نَصُّ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - يُعَيِّنُ الْمَالَ فَإِنَّهُ بَعْدَ عَدِّ الْمُحَرَّمَاتِ أَحَلَّ مَا وَرَاءَهُنَّ مُقَيِّدًا بِالِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] الْآيَةَ. وَقَوْلُ الرَّاوِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمَهْرِ يَعْنِي أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَ الْعِتْقِ وَالتَّزَوُّجِ بِلَا مَهْرٍ جَائِزٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ. وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَ الرَّاوِي فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ دَفَعًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ، وَإِنْ أَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ أَلْزَمْنَاهَا بِقِيمَتِهَا، اهـ كَلَامُ الْمُحَقِّقِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ الصَّدَاقُ عَلَى الدَّفْعِ الْمُعَجَّلِ الْمَوْضُوعِ لِلْأُلْفَةِ وَزِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ مُقَدَّمَةُ الصَّدَاقِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا مَجَازًا (وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ طَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَالسَّمْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مِنَ التَّمْرِ وَالسَّوِيقِ وَالسَّمْنِ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ لِمَا سَيَأْتِي مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3214 - وَعَنْهُ قَالَ: «أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ وَمَا كَانَ لَهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ بِالْأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ فَأَلْقَى عَلَيْهَا التَّمْرَ وَالْأَقِطَ وَالسَّمْنَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3214 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ ( «قَالَ أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ» ) : وَهُوَ حِصْنٌ مَشْهُورٌ قُرْبَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِتَأْنِيثِ الْبُقْعَةِ أَوِ الْقَلْعَةِ وَلِلْعَلَمِيَّةِ ( «ثَلَاثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ» ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ الظَّاهِرُ بَنَى عَلَى صَفِيَّةَ أَوْ بَنَى (بِصَفِيَّةَ) : فَلَعَلَّ الْمَعْنَى يُبْنَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِبَاءٌ جَدِيدٌ مَعَ صَفِيَّةَ أَوْ بِسَبَبِهَا، اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجَارَّ الْأَوَّلَ هُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ، ثُمَّ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَادِّعَاءِ كَمَالِ اسْتِحْضَارِ الْقَضِيَّةِ كَأَنَّهُ نُصْبَ عَيْنِ الرَّاوِي، رُوِيَ أَنَّهُ بَنَى بِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّهْبَاءِ ( «فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ» ) : أَيْ: بِأَمْرِهِ ( «وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ» ) : مِنْ لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ وَلَا مَزِيدَةٌ ( «وَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ أَمَرَ» ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِالْأَنْطَاعِ) : جَمْعُ النِّطْعِ وَهُوَ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْأَدِيمِ أَرَادَ بِهَا السَّفَرَ ( «فَبُسِطَتْ فَأَلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالسَّمْنُ» ) : أَيِ: الْمُرَكَّبُ مِنْهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحَيْسِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ " وَمَا كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ " بَعْدَ قَوْلِهِ " «وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ» " إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ طَعَامِ أَهْلِ التَّنَعُّمِ وَالتَّتَرُّفِ بَلْ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ التَّقَشُّفِ مِنَ التَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَجْمُوعِ الْحَيْسُ. قُلْتُ: يَتَعَيَّنُ هَذَا الْمَعْنَى لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ وَفِي بَسْطِ الْأَنْطَاعِ إِيذَانًا بِكَثْرَةِ هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الطَّعَامِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْمَوَاهِبِ: «أَمَّا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ فَكَانَتْ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ قَالَ: أَنَسٌ لَمَّا افْتَتَحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ وَجَمَعَ السَّبْيَ جَاءَهُ دِحْيَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي جَارِيَةً. فَقَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ

أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، قَالَ: ادْعُوهُ، فَجَاءَ بِهَا قَالَ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا، قَالَ: وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: نَفْسَهَا أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرُوسًا، فَقَالَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَلْيَجِئْ بِهِ قَالَ فَبَسَطَا نِطْعًا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْأَقِطِ وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ فَحَاسُوا حَيْسًا فَكَانَتْ وَلِيمَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَالَ النَّاسُ: لَا نَدْرِي أَتَزَوَّجَهَا أَوِ اتَّخَذَهَا أُمَّ وَلَدٍ؟ قَالُوا إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ حَجَبَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ «فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا جُدُرَ الْمَدِينَةِ هَشَشْنَا إِلَيْهَا فَرَفَعْنَا مَطَايَانَا وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَطِيَّتَهُ قَالَ وَصَفِيَّةُ خَلْفَهُ قَدْ أَرْدَفَهَا قَالَ فَعَثَرَتْ مَطِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصُرِعَ وَصُرِعَتْ، قَالَ: فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِلَيْهَا حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَتَرَهَا، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، فَخَرَجَتْ جَوَارِي نِسَائِهِ يَتَرَاءَيْنَهَا، وَيَشْتُمْنَ بِصَرْعَتِهَا» وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتَى بِصَفِيَّةَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَأَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهَا وَأَخَاهَا وَأَنَّ بِلَالًا مَرَّ بِهَا يَوْمَ الْمَقْتُولِينَ وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ يُعْتِقَهَا فَتَرْجِعَ إِلَى مَنْ بَقِيَ مَنْ أَهْلِهَا أَوْ تُسْلِمَ فَيَتَّخِذَهَا لِنَفْسِهِ فَقَالَتْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَخْرَجَ تَمَّامٌ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ فِيَّ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَتَمَنَّى ذَلِكَ فِي الشِّرْكِ فَكَيْفَ إِذَا مَكَّنَنِي اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ» ؟ وَأَخْرَجَ أَبُو حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَمْرٍو: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَيْنِ صَفِيَّةَ خُضْرَةً فَقَالَ مَا هَذِهِ الْخُضْرَةُ، فَقَالَتْ: كَانَ رَأْسِي فِي حِجْرِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَنَا نَائِمَةٌ فَرَأَيْتُ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِي، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَلَطَمَنِي وَقَالَ: تَمَنِّينَ مُلْكَ يَثْرِبَ» .

3215 - وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ «أَوْلَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3215 - (وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ) : أَيِ: الْحَجَبِيِّ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رُؤْيَتِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ إِنَّهَا لَمْ تَرَهُ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ ( «قَالَتْ أَوْلَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ» ) : أَيْ: سَوِيقًا قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَعَلَّهَا أُمُّ سَلَمَةَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْمَوَاهِبِ: أَمَّا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أُمُّ سَلَمَةَ هِنْدُ وَقِيلَ رَمْلَةُ، فَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ أَبِي سَلَمَةَ ابْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، «وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ سَمِعَتْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا "، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرْسَلَ إِلَيَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ: فَخَطَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَبَتْ وَخَطَبَهَا عُمَرُ فَأَبَتْ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ إِنَّ فِيَّ خِلَالًا ثَلَاثًا أَنَا امْرَأَةٌ شَدِيدَةُ الْغَيْرَةِ، وَأَنَا امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ، وَأَنَا امْرَأَةٌ لَيْسَ لِي هُنَا أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي فَيُزَوِّجَنِي، فَغَضِبَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَدَّ غَضَبٍ مِمَّا غَضِبَ لِنَفْسِهِ حِينَ رَدَّتْهُ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ غَيْرَتِكِ فَإِنِّي أَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُذْهَبَهَا عَنْكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ صِبْيَتِكِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَكْفِيهِمْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَتِ إِنَّ أَوْلِيَائَكِ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِكَ يَكْرَهُنِي، فَقَالَتْ: لِابْنِهَا زَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزَوَّجَهُ» ، قَالَ صَاحِبُ السَّقْطِ الثَّمِينِ: رَوَاهُ بِهَذَا السِّيَاقِ هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ وَصَاحِبُ الصَّفْوَةِ، وَخَرَّجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ طُرُقًا مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحِ، اهـ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِابْنَ يَلِي الْعَقْدَ عَلَى أُمِّهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَأَوَّلُوهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا زَوَّجَهَا بِالْعُصُوبَةِ ; لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِ عَمِّهَا.

3216 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3216 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ) : أَيْ: كَالْعَقِيقَةِ وَالْخِتَانِ، وَالظَّاهِرُ إِنَّ " عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ " مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي أَوْ نَقْلٌ بِالْمَعْنَى، فَتَأَمَّلْ، فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «أَوْ مَنْ دُعِيَ إِلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ» ". قِيلَ إِجَابَةُ الْوَلِيمَةِ وَاجِبَةٌ فَيَأْثَمُ التَّارِكُ بِلَا عُذْرٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ قَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ". وَقِيلَ مُسْتَحَبَّةٌ هَذَا فِي الْحُضُورِ وَأَمَّا الْأَكْلُ فَنَدْبٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَائِمًا وَأَمَّا إِجَابَةُ غَيْرِ الْوَلِيمَةِ فَنَدْبٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ» ". كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَابْنُ الْمَلَكِ قَالَا: وَمِنَ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّعَامِ شُبْهَةٌ أَوْ يُخَصَّ بِهَا الْأَغْنِيَاءُ أَوْ هُنَاكَ مَنْ يُتَأَذَّى بِحُضُورِهِ أَوْ لَا تَلِيقُ بِهِ مُجَالَسَتُهُ أَوْ يُدْعَى لِدَفْعِ شَرِّهِ أَوْ لِطَمَعٍ فِي جَاهِهِ أَوْ لِيُعَاوِنَهُ عَلَى بَاطِلٍ أَوْ هُنَاكَ مَنْهِيٌّ كَالْخَمْرِ أَوِ اللَّهْوِ أَوْ فَرْشِ الْحَرِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يَخْلُو مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ إِنْ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا مَوْجُودَةً وَلِهَذَا قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: حَلَّتِ الْعُزْلَةُ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ وَجَبَتْ فَإِنَّ مَنِ اخْتَارَ الْعُزْلَةَ اخْتَارَ الْعُزْلَةَ.

3217 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3217 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ» ) : أَيْ: عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ (فَلْيُجِبْ) : أَيْ: فَلْيَحْضُرْ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَهَذَا فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعْذُورًا بِأَنْ كَانَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا يَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْإِجَابَةِ. قِيلَ: وَمِنَ الْأَعْذَارِ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَى الدَّاعِي فَيَتْرُكُهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لِلنَّدْبِ (وَإِنْ شَاءَ طَعِمَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: أَكَلَ (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) : أَيِ: الْأَكْلَ وَالطَّعَامَ غَيْرَ مَأْكُولٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ " فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ " بَدَلَ قَوْلِهِ " فَلْيُصَلِّ "، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: " «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ» " اهـ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ يَعْتَذِرُ أَوَّلًا فَإِنْ أَبَى فَلْيَحْضُرْ وَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ.

3218 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3218 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرُّ الطَّعَامِ» ) : قَالَ الْقَاضِي: أَيْ مِنْ شَرِّ الطَّعَامِ فَإِنَّ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَكُونُ شَرًّا مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ " «شَرُّ النَّاسِ مِنْ أَكَلَ وَحْدَهُ» ". ( «طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرُكُ الْفُقَرَاءُ» ) : الْجُمْلَةُ صِفَةُ الْوَلِيمَةِ قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا سَمَّاهُ شَرًّا لِمَا ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ، فَإِنَّهُ الْغَالِبُ فِيهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا هَذَا، فَاللَّفْظُ وَإِنْ أُطْلِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّقْيِيدُ بِمَا ذُكِرَ عَقِيبَهُ وَكَيْفَ يُرِيدُ بِهِ الْإِطْلَاقَ وَقَدْ أَمَرَ بِاتِّخَاذِ الْوَلِيمَةِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَيْهَا، وَرَتَّبَ الْعِصْيَانَ عَلَى تَرْكِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعْرِيفُ فِي الْوَلِيمَةِ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ مَرْضَاةُ الْأَغْنِيَاءِ فِيهَا وَتَخْصِيصُهُمْ بِالدَّعْوَةِ وَإِيثَارُهُمْ، وَتَطْيِيبُ الطَّعَامِ لَهُمْ، وَرَفْعُ مَجَالِسِهِمْ وَتَقْدِيمُهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْوَلَائِمِ. وَقَوْلُهُ " يُدْعَى. . . إِلَخِ " اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِكَوْنِهَا شَرَّ الطَّعَامِ، وَعَلَى هَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ " مَنْ " لَأَنَّ الرِّيَاءَ شِرْكٌ خَفِيٌّ. (وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ) حَالٌ، وَالْعَامِلُ يَدْعِي - يَعْنِي يَدْعِي - بِهَا الْأَغْنِيَاءَ، وَالْحَالُ أَنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ، فَيُجِيبُ الْمَدْعُوُّ وَيَأْكُلُ شَرَّ الطَّعَامِ، اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ ضُرُّ الطَّعَامِ لِذَاتِهِ بَلْ لِمَنْ يَعْرِضُ لَهُ غَالِبًا مِنْ سُوءِ حَالَاتِهِ وَصِفَاتِهِ (وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ) : أَيْ: إِجَابَتَهَا مِنْ غَيْرِ مَعْذِرَةٍ (قَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ) : وَإِنَّمَا عَصَى اللَّهَ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوهُ عَلَى تَأْكِيدِ الِاسْتِحْبَابِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ بِلَفْظٍ " «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَا يُجِيبُ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ".

3219 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ كَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَامِسَ خَمْسَةٍ فَصَنَعَ لَهُ طُعَيْمًا ثُمَّ أَتَاهُ فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أَبَا شُعَيْبٍ إِنَّ رَجُلًا تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ قَالَ: لَا بَلْ أَذِنْتُ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3219 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُكْنَى) : بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الْقَامُوسِ كَنَى بِهِ كِنْيَةً بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ سَمَّاهُ كَأَكْنَاهُ وَكَنَّاهُ فَقَوْلُهُ (أَبَا شُعَيْبٍ) : مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي (كَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ) : بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ أَيْ بَائِعُ اللَّحْمِ كَتَمَّارٍ وَهُوَ مُبَالَغَةُ لَحِمَ فَاعِلٌ لِلنِّسْبَةِ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ (فَقَالَ اصْنَعْ لِي) : أَيْ: لِأَجْلِ أَمْرِي (طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً) : أَيْ: خَمْسَةَ رِجَالٍ (لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : لِمَعْرِفَتِهِ أَثَرَ الْجُوعِ فِي وَجْهِهِ (خَامِسَ خَمْسَةٍ) : حَالٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ وَاحِدًا مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ بَابِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ (فَصَنَعَ لَهُ) : أَيْ: عَبْدَهُ لَهُ أَوْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النِّسْبَةِ الْمَجَازِيَّةِ (طُعَيْمًا) : بِالتَّصْغِيرِ أَيْ طَعَامًا لَطِيفًا (ثُمَّ أَتَاهُ) : أَيْ: جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَدَعَاهُ) : أَيْ: وَأَصْحَابَهُ الْأَرْبَعَةَ (فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى بَيْتِهِ (يَا أَبَا شُعَيْبٍ إِنَّ رَجُلًا تَبِعَنَا) : أَيْ: فِي الطَّرِيقِ (فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ) : أَيْ: فِي الدُّخُولِ (وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ) : أَيْ: عَلَى الْبَابِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ بِتَرْكِ الْإِذْنِ (قَالَ لَا) : أَيْ: لَا أَتْرُكُهُ (بَلْ أَذِنْتُ لَهُ) : فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ فِي ضِيَافَةِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلضَّيْفِ أَنْ يَأْذَنَ لِأَحَدٍ فِي الْإِتْيَانِ مَعَهُ إِلَّا بِأَمْرٍ صَرِيحٍ أَوْ إِذْنٍ عَامٍّ أَوْ عِلْمٍ بِرِضَاهُ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ طَعَامُ الضِّيَافَةِ لِمَنْ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهَا وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ إِنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ غَيْرَهُ وَإِنْ شَاءَ حَمَلَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَمَّا إِذَا جَلَسَ عَلَى مَائِدَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا وَلَا يُقَدِّمُ غَيْرَهُ مِنْهَا، وَقَدِ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُنَاوِلَ أَهْلُ الْمَائِدَةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا شَيْئًا فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَائِدَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مَنْ قَدَّمَ إِلَى رَجُلٍ طَعَامًا لِيَأْكُلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي مَجْرَى التَّمْلِيكِ إِنَّ لَهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِذَا شَاءَ، قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ غَيْرِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا لِلضَّيْفِ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدًا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُضِيفِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يَسْتَأْذَنَ لَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُضِيفِ أَنْ لَا يَرُدَّهُ إِلَّا إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى حُضُورِهِ مُفْسِدَةٌ مِنْ تَأَذِّي الْحَاضِرِينَ، وَإِذَا رَدَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَلَطَّفَ بِهِ وَلَوْ أَعْطَاهُ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ إِنْ كَانَ يَلِيقُ بِهِ، لِيَكُونَ رَدًّا جَمِيلًا كَانَ حَسَنًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3220 - عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِسَوِيقِ التَّمْرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3220 - (عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ وَتَمْرٍ» ) : تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِحَيْسٍ وَجُمِعَ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْوَلِيمَةِ كِلَاهُمَا فَأَخْبَرَ كُلُّ رَاوٍ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3221 - وَعَنْ سَفِينَةَ «أَنَّ رَجُلًا ضَافَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَتْ فَاطِمَةُ لَوْ دَعَوْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَ مَعَنَا فَدَعَوْهُ فَجَاءَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ فَرَأَى الْقِرَامَ قَدْ ضُرِبَ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ فَرَجَعَ قَالَتْ فَاطِمَةُ فَتَبِعْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَدَّكَ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ لِي أَوْ لِنَبِيٍّ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوَّقًا.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3221 - (وَعَنْ سَفِينَةَ) : هُوَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ (أَنَّ رَجُلًا ضَافَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) : أَيْ: صَارَ ضَيْفًا لَهُ يُقَالُ: ضَافَهُ ضَيْفٌ: أَيْ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ (فَصَنَعَ) : أَيْ: عَلِيٌّ (لَهُ) : أَيْ: لِلضَّيْفِ (طَعَامًا) : وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ صَنَعَ طَعَامًا وَأَهْدَى - أَيْ عَلِيٌّ - إِلَّا أَنَّهُ دَعَا عَلِيًّا إِلَى بَيْتِهِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ فَكَانَ الْمُظْهِرُ وَهِمَ أَنَّ ضَافَ بِمَعْنَى أَضَافَ أَوْ كَانَ كَذَا فِي نُسْخَتِهِ وَإِلَّا فَفِي اللُّغَةِ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا يُقَالُ ضَافَ الرَّجُلَ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفًا، وَأَضَافَ الرَّجُلُ وَضَيَّفَهُ إِذَا نَزَّلْتَهُ ضَيْفًا لَكَ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: ضَافَهُ ضَيْفًا كَبَاعَهُ إِذَا نَزَلَ عِنْدَهُ وَأَضَفْتُهُ إِذَا أَنْزَلْتَهُ وَقَرَّبْتَهُ وَفِي الْقَامُوسِ ضِفْتُهُ أُضِيفُهُ ضَيْفًا وَضِيَافَةً

بِالْكَسْرِ نَزَلْتَ عَلَيْهِ ضَيْفًا وَفِي النِّهَايَةِ ضَفْتُ الرَّجُلَ إِذَا نَزَلْتَ بِهِ فِي ضِيَافَتِهِ وَأَضَفْتُهُ إِذَا أَنْزَلْتَهُ ( «فَقَالَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَوْ دَعَوْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) : أَيْ: لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَبْرَكَ وَأَيْمَنَ، أَوْ " لَوْ " لِلتَّمَنِّي ( «فَدَعَوْهُ وَجَاءَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ» ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُمَا الْخَشَبَتَانِ الْمَنْصُوبَتَانِ عَلَى جَنَبَتَيْهِ (فَرَأَى الْقِرَامَ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ ثَوْبٌ رَقِيقٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ أَلْوَانٌ مِنَ الْعُهُونِ وَرُقُومٌ وَنُقُوشٌ يُتَّخَذُ سِتْرًا يُغَشَّى بِهِ الْأَقْمِشَةُ وَالْهَوَادِجُ (قَدْ ضُرِبَ) : أَيْ: نُصِبَ (فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ فَرَجَعَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ: فَتَبِعْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَدَّكَ) : أَيْ: عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْنَا وَالنُّزُولِ عِنْدَنَا (قَالَ إِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنُ (لَيْسَ لِي) : أَيْ: بِالْخُصُوصِ أَوْ لِي وَأَمْثَالِي (أَوْ لِنَبِيٍّ) : أَيْ: عَلَى الْعُمُومِ ( «أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوَّقًا» ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ مُزَيَّنًا بِالنُّقُوشِ، وَأَصْلُ التَّزْوِيقِ التَّمْوِيهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: كَانَ ذَلِكَ مُزَيَّنًا مُنَقَّشًا وَقِيلَ لَمْ يَكُنْ مُنَقَّشًا وَلَكِنْ ضَرْبٌ مِثْلُ حَجَلَةِ الْعَرُوسِ سُتِرَ بِهِ الْجِدَارُ وَهُوَ رُعُونَةٌ يُشْبِهُ أَفْعَالَ الْجَبَابِرَةِ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يُجَابُ دَعْوَةٌ فِيهَا مُنْكَرٌ، اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُنْكَرًا لَأَنْكَرَ عَلَيْهَا وَلَكِنْ نَبَّهَ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَنَّهُ تَرَكَ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِنُقْصَانٍ الْأُخْرَى، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا تَخْصِيصُ النَّفْيِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ لَيْسَ لِي أَنْ أَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوَّقًا.

3222 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ دَخَلَ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3222 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ دُعِيَ» ) : أَيْ: إِلَى طَعَامٍ (فَلَمْ يُجِبْ) : الْفَاءُ تُفِيدُ الْمُبَادَرَةُ ( «فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ) : أَيْ: إِذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ( «وَمَنْ دَخَلَ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ» ) : أَيْ: لِلْمُضِيفِ إِيَّاهُ (دَخَلَ سَارِقًا) : لِأَنَّهُ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَيَأْثَمُ كَمَا يَأْثَمُ السَّارِقُ فِي دُخُولِ بَيْتِ غَيْرِهِ ( «وَخَرَجَ مُغِيرًا» ) : أَيْ: نَاهِيًا غَاصِبًا، يَعْنِي: وَإِنْ أَكَلَ مِنْ تِلْكَ الضِّيَافَةِ فَهُوَ كَالَّذِي يُغِيرُ أَيْ يَأْخُذُ مَالَ أَحَدٍ غَصْبًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَ أُمَّتَهُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ الْبَهِيَّةَ وَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّمَائِلِ الدَّنِيَّةِ، فَإِنَّ عَدَمَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمَعْذِرَةِ يَدُلُّ عَلَى تَكَبُّرِ النَّفْسِ وَالرُّعُونَةِ وَعَدَمِ الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَالدُّخُولَ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ يُشِيرُ إِلَى حِرْصِ النَّفْسِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ وَحُصُولِ الْمَذَلَّةِ وَالْمَهَانَةِ، فَالْخُلُقُ الْحَسَنُ هُوَ الِاعْتِدَالُ بَيْنَ الْخُلُقَيْنِ الْمَذْمُومَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3223 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا اجْتَمَعَ الدَّاعِيَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَجِبِ الَّذِي سَبَقَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3223 - (وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَلِكَوْنِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ عُدُولًا لَا تَضُرُّ جَهَالَةُ الرَّاوِي مِنْهُمْ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ إِذَا اجْتَمَعَ الدَّاعِيَانِ» ) : أَيْ: مَعًا ( «فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا» ) : لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] ( «وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَجِبِ الَّذِي سَبَقَ» ) : أَيْ: لِسَبْقِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْأَسْبَقَ بِسَبْقِ أَخْذِ الْعِلْمِ أَلْيَقُ وَبِجَوَابِ الْفَتْوَى أَحَقُّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

3224 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «طَعَامُ أَوَّلِ يَوْمٍ حَقٌّ وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ وَطَعَامُ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ وَمَنْ سَمَّعَ: سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3224 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامُ أَوَّلِ يَوْمٍ) : أَيْ: فِي الْعُرْسِ (حَقٌّ) : أَيْ: ثَابِتٌ وَلَازِمٌ فِعْلُهُ وَإِجَابَتُهُ أَوْ وَاجِبٌ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَلِيمَةَ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، فَعَفَا فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ حَيْثُ يُسِيءُ بِتَرْكِهَا وَيَتَرَتَّبُ عِتَابٌ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ عُقَابٌ (وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ) : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوِ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا قَبْلَ الْعَقْدِ وَالثَّانِي بَعْدَهُ (وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ) : بِضَمِّ السِّينِ أَيْ سُمْعَةٌ وَرِيَاءٌ لِيُسْمِعَ النَّاسَ وَلِيُرَائِيَهُمْ فَفِيهِ تَغْلِيبُ السُّمْعَةِ عَلَى الرِّيَاءِ أَوِ اكْتِفَاءٌ إِذْ فِي التَّحْقِيقِ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ (وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ فِيهِمَا أَيْ: مَنْ شَهَرَ نَفْسَهُ بِكَرَمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَخْرًا أَوْ رِيَاءً شَهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْعَرَصَاتِ بِأَنَّهُ مُرَاءٍ كَذَّابٌ، بِأَنْ أَعْلَمَ اللَّهُ النَّاسَ بِرِيَائِهِ وَسُمْعَتِهِ، وَقَرَعَ بَابَ أَسْمَاعِ خَلْقِهِ فَيَفْتَضِحُ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا حَدَّثَ اللَّهُ - تَعَالَى - لِعَبْدٍ نِعْمَةً حَقَّ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ شُكْرًا. وَاسْتُحِبَّ ذَلِكَ فِي الثَّانِي جَبْرًا لِمَا يَقَعُ مِنَ النُّقْصَانِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ مُكَمِّلَةٌ لِلْوَاجِبِ، وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَلَيْسَ إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَالْمَدْعُوُّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ فِي الْأَوَّلِ، وَيُسْتَحَبُّ فِي الثَّانِي، وَيُكْرَهُ بَلْ يَحْرُمُ فِي الثَّالِثِ. اهـ. وَفِيهِ رَدٌّ صَرِيحٌ عَلَى أَصْحَابِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِذَلِكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «طَعَامُ يَوْمٍ فِي الْعُرْسِ سُنَّةٌ وَطَعَامُ يَوْمَيْنِ فَضْلٌ وَطَعَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ» ".

3225 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3225 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ) : بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ أَيِ: الْمُتَفَاخِرَيْنِ (أَنْ يُؤْكَلَ) : بِهَمْزٍ وَيُبَدَّلُ، فِي النِّهَايَةِ الْمُتَبَارِيَانِ هُمَا: الْمُتَعَارِضَانِ بِفِعْلَيْهِمَا لَيْسَ أَنَّهُمَا يَغْلِبُهُ صَاحِبُهُ، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَاهَاةِ وَالرِّيَاءِ، وَقَدْ دُعِيَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَلَمْ يُجِبْ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُدْعَوْنَ فَيُجِيبُونَ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِلْمُوَافَاةِ وَالْمُوَاسَاةِ، وَهَذَا مِنْكُمْ لِلْمُكَافَأَةِ وَالْمُبَاهَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دُعِيَا إِلَى طَعَامٍ فَأَجَابَا فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ: لَقَدْ شَهِدْتُ طَعَامًا وَوَدَدْتُ أَنْ لَمْ أَشْهَدْ. قَالَ: مَا ذَاكَ؟ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ جُعِلَ مُبَاهَاةً. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: مَوْصُولًا وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ (وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ) : صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا) : وَفِي نُسْخَةٍ مُرْسَلٌ أَيْ: هُوَ مُرْسَلٌ أَيِ الصَّحِيحُ لَمْ يُذْكَرْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُسْنَدِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3226 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمُتَبَارِيَانِ لَا يُجَابَانِ وَلَا يُؤْكَلُ طَعَامُهُمَا» . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يَعْنِي الْمُتَعَارِضَيْنِ بِالضِّيَافَةِ فَخْرًا وَرِيَاءً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3226 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَبَارِيَانِ) : أَيِ: الْمُتَفَاخِرَانِ فِي الضِّيَافَةِ (لَا يُجَابَانِ) : أَيْ: لَا أَوَّلُهُمَا وَلَا آخِرِهُمَا لِفَسَادِ غَرَضِهِمَا وَسُوءِ قَصْدِهِمَا (وَلَا يُؤْكَلُ طَعَامُهُمَا) : أَيْ: لَوِ اتَّفَقَ الْحُضُورُ عِنْدَهُمَا أَيْ وَلَوْ أَرْسَلَاهُ إِلَى بَيْتِ أَحَدٍ زَجْرًا لَهُمَا (قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِمَعْنَى) : أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ الْمُتَبَارِيَانِ (الْمُتَعَارِضَيْنِ) : أَيِ: الْمُتَجَاوِبَيْنِ وَالْمُتَعَارِضَيْنِ (بِالضِّيَافَةِ فَخْرًا وَرِيَاءً) : أَيْ: لَا إِحْسَانًا ابْتِدَاءً وَلَا مُكَافَأَةً انْتِهَاءً.

3227 - «وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إِجَابَةِ طَعَامِ الْفَاسِقِينَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3227 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إِجَابَةِ طَعَامِ الْفَاسِقِينَ) : أَيْ: مُطْلَقًا.

3228 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا يَسْأَلْ، وَيَشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ وَلَا يَسْأَلْ» ". رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ هَذَا إِنْ صَحَّ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُطْعِمُهُ وَلَا يَسْقِيهِ إِلَّا بِمَا هُوَ حَلَالٌ عِنْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3228 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا يَسْأَلْ» ) : أَيْ: مِنْ أَيْنَ هَذَا الطَّعَامُ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّهُ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ (وَيَشْرَبْ) : بِالْجَزْمِ (مِنْ شَرَابِهِ وَلَا يَسْأَلْ) : فَإِنَّهُ قَدْ يَتَأَذَّى بِالسُّؤَالِ وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ فِسْقُهُ، كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِنْ قُلْتَ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ قُلْتَ الْفَاسِقُ هُوَ الْمُجَاوِزُ عَنِ الْقَصْدِ الْقَوِيمِ وَالْمُنْحَرِفُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَالْغَالِبُ أَنْ لَا يَتَجَنَّبَ مِنَ الْحَرَامِ فَنُهِيَ الْحَازِمُ عَنْ أَكْلِ طَعَامِهِ وَأَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَزْمَ سُوءُ الظَّنِّ، وَخُصَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ " أَخِيهِ " وَوَصَفَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الْحَرَامَ، فَأَمَرَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ التَّحَابِّ وَالتَّوَادِّ، فَيَتَجَنَّبَ عَنْ إِيذَائِهِ بِسُؤَالِهِ، وَأَيْضًا إِنِّ الِاجْتِنَابَ عَنْ طَعَامِهِ زَجْرٌ لَهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْفِسْقِ، فَيَكُونُ لُطْفًا لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا وَرَدَ " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» " (رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ) : أَيْ: مَجْمُوعَ أَحَادِيثِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ) : أَيِ: الْبَيْهَقِيُّ (هَذَا) : أَيِ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ (إِنْ صَحَّ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُسْلِمَ) : أَيِ: الْكَامِلَ وَهُوَ غَيْرُ الْفَاسِقِ (لَا يُطْعِمُهُ) : أَيْ: أَخَاهُ الْمُسْلِمَ (وَلَا يَسْقِيهِ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ الْأُولَى وَضَمِّهَا (إِلَّا مَا هُوَ حَلَالٌ عِنْدَهُ) : إِذْ قَدْ وَرَدَ: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ".

[باب القسم]

[بَابُ الْقَسْمِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3229 - «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ وَكَانَ يَقْسِمُ مِنْهُنَّ لِثَمَانٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْقَسْمِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ مَصْدَرُ قَسَمَ الْقَسَّامُ الْمَالَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فَرَّقَهُمْ وَعَيَّنَ أَنْصِبَاءَهُمْ، وَمِنْهُ الْقَسْمُ بَيْنَ النِّسَاءِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَبِيتُ عِنْدَ الزَّوْجَاتِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمُرَادُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَنْكُوحَاتِ وَيُسَمَّى أَيْضًا الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ، وَحَقِيقَتُهُ مُطْلَقًا مُمْتَنِعَةٌ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ حَيْثُ قَالَ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] وَقَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] بَعْدَ إِحْلَالِ الْأَرْبَعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فَاسْتَفَدْنَا أَنَّ حِلَّ الْأَرْبَعِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ وَثُبُوتِ الْمَنْعِ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ عِنْدَ خَوْفِهِ، فَعُلِمَ إِيجَابُهُ عِنْدَ تَعَدُّدِهِنَّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» " فَلَا يَخُصُّ حَالَةَ تَعَدُّدِهِنَّ؛ وَلِأَنَّهُنَّ رَعِيَّةُ الرَّجُلِ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَإِنَّهُ فِي أَمْرٍ مُبْهَمٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهُ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مُطْلَقًا لَا يُسْتَطَاعُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، وَكَذَا السُّنَّةُ جَاءَتْ مُجْمَلَةً فِيهِ، لَكِنْ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَدْلَ الْوَاجِبَ فِي الْبَيْتُوتَةِ وَالتَّأْنِيسِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَضْبِطَ زَمَانَ النَّهَارِ فَبِقَدْرِ مَا عَاشَرَ فِيهِ إِحْدَاهُمَا فَيُعَاشِرُ الْأُخْرَى بِقَدْرِهِ بَلْ ذَلِكَ فِي الْبَيْتُوتَةِ وَأَمَّا النَّهَارُ فَفِي الْجُمْلَةِ.

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3229 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ) : أَيْ: تُوُفِّىَ ضُمِّنَ مَعْنَى التَّجَافِي وَالتَّجَاوُزِ، أَوْ قَوْلُهُ (عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ) : حَالٌ وَهِيَ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَسَوْدَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَصْفِيَّةُ وَمَيْمُونَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبُ وَجُوَيْرِيَةُ (وَكَانَ يَقْسِمُ) : أَيْ: وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا (مِنْهُنَّ ثَمَانٍ) : أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ ثَمَانٍ مِنْهُنَّ لِأَنَّ التَّاسِعَةَ وَهِيَ سَوْدَةُ وَهَبَتْ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. فِي الْمَوَاهِبِ: وَكَانَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ وَيَخْتِمُ بِعَائِشَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3230 - وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ سَوْدَةَ لَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3230 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ سَوْدَةَ) : أَيْ: بِنْتَ زَمْعَةَ (لِمَا كَبِرَتْ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ فَإِنَّ كَبُرَ فِي الْقَدْرِ مِنْ كَرُمَ وَفِي السِّنِّ مِنْ عَلِمَ (قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي) : أَيْ: نَوْبَتِي وَوَقْتَ بَيْتُوتَتِي (مِنْكَ) : حَالٌ مِنْ يَوْمِي، وَقَوْلُهُ (لِعَائِشَةَ) : الْمَفْعُولُ الثَّانِي (فَكَانَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ) : قِيلَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَوَالِي الْيَوْمَيْنِ بَلْ يَوْمُ سَوْدَةَ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ التَّرْتِيبِ لَهَا بَيْنَ نِسَائِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمُهَا يَلِي يَوْمَ عَائِشَةَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . فِي الْهِدَايَةِ: وَإِنْ رَضِيَتْ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِرَشْوَةٍ مِنَ الزَّوْجِ بِأَنْ زَادَهَا فِي مَهْرِهَا لِتَفْعَلَ أَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى، فَيُقِيمُ عِنْدَهَا يَوْمَيْنِ وَعِنْدَ الْمُخَاطَبَةِ يَوْمًا، فَإِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَلَا يَحِلُّ لَهَا الْمَالُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَأَمَّا إِذَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَوْ حَطَّتْ عَنْهُ مَالًا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَلَا يَحِلُّ لَهُمَا وَإِلَّا أَنْ تَرْجَعَ فِي مَالِهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: لِلْوَاهِبَةِ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَتْ فَتَرْجِعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي فِيمَا يَقْبِضُ مِنْهَا وَلَا تَجُوزُ الْمُوَالَاةِ لِلْمَوْهُوبِ لَهَا إِلَّا بِرِضَا الْبَاقِيَاتِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ عِوَضًا وَيَجُوزُ أَنْ تَهَبَ لِلزَّوْجِ فَيَجْعَلُ الزَّوْجُ نَوْبَتَهَا لِمَنْ شَاءَ.

3231 - وَعَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَيْنَ أَنَا غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3231 - (عَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَيْنَ أَنَا) : أَيْ: أَكُونُ (غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا) . وَالتَّنْكِيرُ لِتَأْكِيدِ إِرَادَةِ الْبَيَانِ (يُرِيدُ) : أَيْ: بِهَذَا السُّؤَالِ (يَوْمَ عَائِشَةَ) : أَيْ: لِزِيَادَةِ مَحَبَّتِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ " يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ " تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ أَيْنَ أَنَا غَدًا فَكَأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ اسْتِئْذَانٌ مِنْهُنَّ، لِأَنْ يُأْذَنَ لَهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (فَأَذِنَ) : بِالتَّخْفِيفِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ (لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا) . قَالَ الْمُظْهِرُ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْإِذْنِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهِنَّ، وَمُرَاعَاةً لِحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِنَّ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَطُوفُ فِي لَيْلَةٍ عَلَى نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الْقَسْمِ أَوْ كَانَ بِإِذْنٍ مِنْهُنَّ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3232 - وَعَنْهَا قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3232 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (بِهَا مَعَهُ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ سَفَرَ حَاجَةٍ وَيَحْتَمِلَ بَعْضَ نِسَائِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ ثُمَّ إِذَا خَرَجَ بِوَاحِدَةٍ بِالْقُرْعَةِ فَقَوْلُ الْأَكْثَرِ: إِنَّهُ لَا يَقْضِي لِلْبَاقِيَاتِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ أَوْ مَاكِثًا فِي بَلَدٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ مُكْثُهُ فِيهِ عَلَى مُدَّةِ الْمُسَافِرِينَ، فَإِنْ زَادَ قَضَى لَهُنَّ مِقْدَارَ الزِّيَادَةِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي مُدَّةَ الْغَيْبَةِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ

الْمُصَاحِبَةَ وَإِنْ حَصَلَتْ بِصُحْبَتِهِ لَكِنَّهَا تَعِبَتْ بِالسَّفَرِ، وَإِذَا خَرَجَ بِوَاحِدَةٍ بِلَا قُرْعَةٍ يَقْضِي لِلْبَوَاقِي، وَهُوَ بِهَذَا الْفِعْلِ عَاصٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَفِي الْهِدَايَةِ لَا حَقَّ إِلَّا فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ، وَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرَ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقُرْعَةُ مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ عَائِشَةَ. قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ، وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَكَيْفَ وَهُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَذَلِكَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] وَمِمَّنْ أُرْجِيَ سَوْدَةُ وَجُوَيْرِيَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَصْفِيَّةُ وَمَيْمُونَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - ذَكَرَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيُّ وَمِمَّنْ أُوِيَ عَائِشَةُ وَالْبَاقِيَاتُ - رَضِيَ عَنْهُنَّ - وَلِأَنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِإِحْدَاهُمَا فِي السَّفَرِ وَبِالْأُخْرَى فِي الْحَضَرِ، وَالْقَرَارُ فِي الْمَنْزِلِ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ، أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، أَوْ تَمْنَعُ مِنْ سَفَرِ إِحْدَاهُمَا كَثْرَةُ سِمَنِهَا، فَتُعَيُّنُ مَنْ يَخَافُ صُحْبَتُهَا فِي السَّفَرِ لِلسَّفَرِ لِخُرُوجِ قُرْعَتُهَا إِلْزَامٌ لِلضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ.

3233 - وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ، «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3233 - (وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ) : بِكَسْرِ الْقَافِ (أَنَّ أَنَسًا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ مِنَ السُّنَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَمَا بَعْدَهُ فِي تَأْوِيلِ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ مِنَ السُّنَّةِ إِقَامَةُ الرَّجُلِ (عِنْدَهَا) : أَيْ: عِنْدَ الْبِكْرِ (سَبْعًا) : أَيْ: سَبْعَ لَيَالٍ (وَقَسَمَ) : أَيْ: وَسَوَّى بَيْنِ الْحَدِيثَةِ وَالْقَدِيمَةِ، وَمَنْ يَرَى التَّفْضِيلَ لِلْجَدِيدَةِ يَقُولُ: وَقَسَمَ أَيْ بَعْدِ الْفَرَاغِ مِنَ السَّبْعِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا. (وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ) : أَخَذَ بِظَاهِرِهِ الشَّافِعِيُّ وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثَيْنِ الْآتِيَيْنِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، وَإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء: 3] الْآيَةَ، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ إِطْلَاقَ الْكِتَابِ. (قَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ أَنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَعْنِي لَمْ يَرْفَعْ أَنَسٌ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ قَالَ مِنَ السُّنَّةِ، وَذَكَرْتُ ذَلِكَ عَلَى قُصُورِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِاعْتِقَادِ أَنَّ أَنَسًا لَا يُحَدِّثُ بِذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ بَلْ جَمَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَلِمَهُ مَنْ فِعْلِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ السُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ، أَيْ وَلَوْ قُلْتُ رَفَعَهُ كُنْتُ صَادِقًا نَاقِلًا لِلْمَعْنَى، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَوْقُوفًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُ الصَّحَابَةِ مِنَ السُّنَّةِ ذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُسْنَدِ لِأَنَّهُ لَا يَعْنِي بِالسُّنَّةِ إِلَّا سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَفَعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَنَسٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَقُولُ «لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى أَهْلِهِ» "، وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " جَعَلَ لِلْبِكْرِ سَبْعًا وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثًا» ".

3234 - وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ وَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ قَالَ لَهَا: لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ، قَالَتْ: ثَلِّثْ» . وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّهُ قَالَ: «لَهَا لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3234 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ وَأَصْبَحَتْ) : أَيْ: هِيَ عِنْدَهُ (قَالَ لَهَا لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ) : أَيِ: احْتِقَارٌ، وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ قَبِيلَتُهَا، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ لَا يَلْحَقُ أَهْلَكِ بِسَبَبِكِ هَوَانٌ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَهْلِ نَفْسَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَهْلٌ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَوَانٍ، أَيْ لَيْسَ اقْتِصَارِي عَلَى الثَّلَاثَةِ لِهَوَانِكِ عَلَيَّ، وَلَا لِعَدَمِ رَغْبَةٍ فِيكِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ الْحُكْمُ ( «إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ

وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكَ» ) : فِي النِّهَايَةِ اشْتَقُّوا فَعَّلَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ، فَمَعْنَى سَبَّعَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَثَلَّثَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا (وَدُرْتُ) : أَيْ: بِالثَّلَاثِ بَيْنَ الْبَقِيَّةِ. فِي الْهِدَايَةِ: مِقْدَارُ الدَّوْرِ إِلَى الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْوِيَةُ دُونَ طَرِيقِهَا، إِنْ شَاءَ يَوْمًا يَوْمًا وَإِنْ شَاءَ يَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَظُنُّ أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ مُضَارَّةٌ، إِلَّا أَنْ تَرْضَيَا بِهِ، وَقِيلَ خَيَّرَهَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَلَا قَضَاءَ لِغَيْرِهَا وَبَيْنَ السَّبْعِ وَيَقْضِي لِبَقِيَّةِ أَزْوَاجِهِ، وَقِيلَ خَيَّرَهَا الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ سَبَّعْتُ لَكِ بَعْدَ التَّثْلِيثِ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ " قَالَتْ: ثَلِّثْ " وَإِنَّمَا اخْتَارَتِ الثَّلَاثَ لِقُرْبِ رُجُوعِهِ إِلَيْهَا لِأَنَّ فِي قَضَاءِ السَّبْعِ لِغَيْرِهَا طُولَ مَغِيبِهِ عَنْهَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: لَا شَرِكَةَ لِبَقِيَّةِ الْأَزْوَاجِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَعْنِي السَّبْعَ أَوِ الثَّلَاثَ فَيَسْتَأْنِفُ الْقَسْمَ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: لِبَقِيَّةِ الْأَزْوَاجِ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الثَّلَاثُ لِلثَّيِّبِ لَمْ يَكُنْ لِبَاقِي الْأَزْوَاجِ التَّسْبِيعُ بَلِ التَّرْبِيعُ؛ لَأَنَّ الثَّلَاثَ حَقُّ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ اخْتِيَارَهَا وَطَلَبَهَا لِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهَا أَسْقَطَ اخْتِصَاصَهَا بِمَا هُوَ حَقُّهَا، وَيُوَضِّحُهُ مَا قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، قَالَ: السُّنَّةُ فِي الْبِكْرِ التَّسْبِيعُ وَفِي الثَّيِّبِ التَّثْلِيثُ وَالنَّظَرُ فِيهِ إِلَى حُصُولِ الْأُلْفَةِ وَوُقُوعِ الْمُؤَانَسَةِ بِلُزُومِ الصِّحَّةِ، وَفُضِّلَتِ الْبِكْرُ بِالزِّيَادَةِ لِيَنْفِيَ نِفَارَهَا وَيُسَكِّنَ رَوْعَهَا، إِذْ هِيَ حَدِيثَةُ الْعَهْدِ بِالرَّجُلِ، حَقِيقَةٌ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِعْصَاءِ، وَلَمَّا أَرَادَ إِكْرَامَ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَ أَنْ لَا هَوَانَ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا يَعْنِي نَفْسَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَبْكَارِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ بِسَبَبِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، أَيْ ذُلٌّ إِذْ لَيْسَ اقْتِصَارِي عَلَى الثَّلَاثِ لِإِعْرَاضٍ عَنْكِ وَعَدَمِ رَغْبَةِ فِي مُصَاحَبَتِكِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِهَانَةِ عَلَيَّ، فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ النِّسَاءِ وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِنَّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِأَهْلِهَا، بَلْ لِأَنَّ حَقَّكَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، فَمَنْ يَرَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ سَلَمَةَ: " «إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكَ وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ» " وَيَقُولُ لَوْ كَانَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ الثَّيِّبِ مُسَلَّمَةً لَهَا مُخَلَّصَةً عَنِ الِاشْتِرَاكِ، لَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَدُورَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعًا أَرْبَعًا؛ لِكَوْنِ الثَّلَاثَةِ حَقًّا لَهَا، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ فِي السَّبْعِ عَلَى مَا ذَكَرَ عُلِمَ إِنَّهُ فِي الثَّلَاثِ كَذَلِكَ، وَمَنْ يُسَوِّي تَفْضِيلَ الثَّيِّبِ بِالثَّلَاثِ وَالْبِكْرِ بِالسَّبْعِ يَقُولُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّسْبِيعِ بِطَلَبِ الثَّيِّبِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ الْقَضَاءِ وَلَمَّا كَانَ طَلَبُهَا أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهَا أَسْقَطَ اخْتِصَاصَهَا بِمَا كَانَ حَقًّا مَخْصُوصًا بِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِمَنْ لَهُ زَوْجَاتٌ غَيْرَ الْجَدِيدَةِ أَمْ لَا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الزِّفَافِ سَوَاءٌ كَانَتْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ أَمْ لَا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3235 - «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ( الْفَصْلُ الثَّانِي) 3235 - (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ) : أَيْ: تُفَضِّلَا وَقِيلَ وُجُوبًا (فَيَعْدِلُ) : أَيْ: فَيُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْبَيْتُوتَةِ (وَيَقُولُ) : أَيْ مَعَ هَذَا (اللَّهُمَّ هَذَا) : أَيْ: هَذَا الْعَدْلُ (قَسْمِي) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَفِي نُسْخَةٍ قِسْمَتِي (فِيمَا أَمْلِكُ) : أَيْ: أَقْدِرُ عَلَيْهِ (فَلَا تَلُمْنِي) : أَيْ: لَا تُعَاتِبْنِي أَوْ لَا تُؤَاخِذْنِي (فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ) : أَيْ: مِنْ زِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ وَمَيْلِ الْقَلْبِ فَإِنَّكَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ مِلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ يَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِيهِ، وَمِنْهُ عَدَدُ الْوَطَأَتِ وَالْقُبُلَاتِ، وَالتَّسْوِيَةُ فِيهِمَا غَيْرُ لَازِمَةٍ إِجْمَاعًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

3236 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا كَانَتْ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3236 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا كَانَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ إِذَا كَانَ (عِنْدَ الرَّجُلِ) : وَفِي نُسْخَةٍ عِنْدَ رَجُلٍ (امْرَأَتَانِ) : أَيْ: مَثَلًا (فَلَمْ يَعْدِلْ فِيهِمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ) : أَيْ: أَحَدُ جَنْبَيْهِ وَطَرْفُهُ (سَاقِطٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ نِصْفُهُ مَائِلٌ، قِيلَ: بِحَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الْعَرَصَاتِ، لِيَكُونَ هَذَا زِيَادَةً لَهُ فِي التَّعْذِيبِ، وَهَذَا الْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى امْرَأَتَيْنِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتْ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ كَانَ السُّقُوطُ ثَابِتًا، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ سَاقِطًا وَإِنْ لَزِمَ الْوَاحِدَةَ وَتَرَكَ الثَّلَاثَ، أَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ سَاقِطَةً عَلَى هَذَا، فَاعْتُبِرَ ثَمَّ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَتَانِ إِحْدَاهُمَا حُرَّةً وَالْأُخْرَى أَمَةً؛ فَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنَ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ، بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثُمَّ التَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا الْمُجَامَعَةِ؛ لِأَنَّهَا تُبْنَى عَلَى النَّشَاطِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنْ تَرَكَهُ لِعَدَمِ الدَّاعِيَةِ وَالِانْتِشَارِ عُذِرَ، وَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ الدَّاعِي إِلَيْهِ لَكِنَّ دَاعِيَتَهُ إِلَى الضَّرَّةِ أَقْوَى، أَوْ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَإِنْ أُدِّيَ الْوَاجِبُ مِنْهُ عَلَيْهِ، لَمْ يَبْقَ لَهَا حَقٌّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّسْوِيَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ جِمَاعِهَا مُطْلَقًا لَا يَحِلُّ لَهُ، صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ جِمَاعَهَا أَحْيَانًا وَاجِبٌ دِيَانَةً، لَكِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ وَالْإِلْزَامِ إِلَّا الْوَطْأَةُ الْأُولَى، وَلَمْ يُقَدِّرُوا فِيهِ مُدَّةً، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ إِلَّا بِرِضَاهَا وَطِيبِ نَفْسِهَا بِهِ هَذَا وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِي جَمِيعِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ مِنَ الْوَطْءِ وَالْقُبْلَةِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَارِي وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ لِيُحَصِّنُهُنَّ عَنِ الِاشْتِهَاءِ لِلزِّنَا وَالْمَيْلِ إِلَى الْفَاحِشَةِ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ قَالَ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فَأَفَادَ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ لَيْسَ وَاجِبًا هَاهُنَا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِالْعِبَادَةِ أَوِ السِّرَارِي، اخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ، وَبَاقِيهَا لَهُ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا فِي الثَّلَاثِ بِتَزَوُّجِ ثَلَاثِ حَرَائِرَ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ مِقْدَارٌ بَلْ يُؤْمَرُ أَنْ يَبِيتَ مَعَهَا وَيَصْحَبَهَا أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ أَنَّ التَّسْرِيَةَ فِي الْمُكْثِ أَيْضًا بَعْدَ الْبَيْتُوتَةِ، فَفِي السُّنَنِ «عَنْ عَائِشَةَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُفَضِّلُ بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ فِي مُكْثِهِ عِنْدَنَا وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا يَطُوفَ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى بَلَغَ عَلَى الَّتِي هُوَ فِي يَوْمِهَا فَيَثْبُتُ عِنْدَهَا» ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّوْبَةَ لَا تَمْنَعُ أَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى الْأُخْرَى لِيَنْظُرَ فِي حَاجَتِهَا وَيُمَهِّدَ أَمْرَهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُنَّ كُنْ يَجْتَمِعْنَ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِرِضَا صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ؛ إِذْ قَدْ تَتَضَيَّقُ لِذَلِكَ وَتَنْحَصِرُ لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» " أَيْ مَفْلُوجٌ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ " فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى "، اهـ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ أَنْسَبُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] فَيَكُونُ جَزَاءً وِفَاقًا وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3237 - عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ فَقَالَ: هَذِهِ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلَا تُزَعْزِعُوهَا وَلَا تُزَلْزِلُوهَا وَارْفُقُوا بِهَا فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعُ نِسْوَةٍ كَانَ يَقْسِمُ مِنْهُنَّ لِثَمَانٍ وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ. قَالَ عَطَاءٌ: الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْسِمُ لَهَا بَلَغَنَا أَنَّهَا صَفِيَّةُ وَكَانَتْ آخِرَهُنَّ مَوْتًا مَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ رَزِينٌ: قَالَ غَيْرُ عَطَاءٍ هِيَ سَوْدَةُ وَهُوَ أَصَحُّ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِعَائِشَةَ حِينَ «أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَاقَهَا فَقَالَتْ لَهُ: أَمْسِكْنِي، قَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي لِعَائِشَةَ لَعَلِّي أَنْ أَكُونَ مِنْ نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ» . ( الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3237 - (عَنْ عَطَاءٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَنَازَةَ مَيْمُونَةَ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ هِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَيُقَالُ إِنَّهَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ أَنَّ خُطْبَتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - انْتَهَتْ إِلَيْهَا وَهِيَ عَلَى بَعِيرِهَا فَقَالَتِ: الْبَعِيرُ وَمَا عَلَيْهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقِيلَ: الْوَاهِبَةُ نَفْسَهَا غَيْرُهَا، أَقُولُ أَيِ ابْتِدَاءً فَلَا مُنَافَاةَ، ثُمَّ فِي مَعْنَى قَوْلِهَا مَا اشْتَهَرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، الْعَبْدُ وَمَا فِي يَدِهِ كَانَ لِمَوْلَاهُ (بِسَرِفَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ غَيْرُ

مُنْصَرِفٍ وَقَدْ يُصْرَفُ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ التَّنْعِيمِ بَنَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَتُوُفِّيَتْ وَدُفِنَتْ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ عَجَائِبِ التَّوَارِيخِ وَقَعَ الْهَنَاءُ وَالْعَزَاءُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرِيقِ. (قَالَ) : أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (هَذِهِ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلَا تُزَعْزِعُوهَا وَلَا تُزَلْزِلُوهَا) : بِضَمِّ التَّاءِ فِيهِمَا أَيْ لَا تُعَجِّلُوهَا وَلَا تُحَرِّكُوهَا بِقُوَّةٍ. (وَارْفُقُوا بِهَا) : بِضَمِّ الْفَاءِ أَيِ الْطُفُوا بِهَا، وَعَظِّمُوا شَأْنَهَا (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنَ ( «كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعُ نِسْوَةٍ كَانَ يَقْسِمُ مِنْهُنَّ لِثَمَانٍ وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ» ) : أَيْ: لِرِضَاهَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا قَالَ الطِّيبِيُّ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ أَيْ مِنَ اللَّوَاتِي كَانَ يَهْتَمُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَأْنِهِنَّ فَيَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ بِالتَّسْوِيَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا وَهْمٌ، بَلْ إِنَّمَا هِيَ سَوْدَةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَهَبَتْ يَوْمَهَا، وَالْغَلَطُ فِيهِ مِنَ ابْنِ جُرَيْجٍ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: لَعَلَّ رِوَايَتَهُ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] قِيلَ إِنَّ الَّتِي أَرْجَاهَا سَوْدَةُ وَجُوَيْرِيَةُ وَصَفِيَّةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَمَيْمُونَةُ، وَالَّتِي أَوَى عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ وَحَفْصَةُ وَتُوُفِّيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَوَى إِلَى جَمِيعِهِنَّ إِلَّا صَفِيَّةَ أَرْجَاهَا وَلَمْ يَقْسِمْ لَهَا فَأَخْبَرَ عَطَاءٌ عَنْ آخِرِ الْأَمْرِ (وَكَانَتْ) : أَيْ: صَفِيَّةُ (آخِرِهُنَّ مَوْتًا مَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ) : أَيْ: فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسِينَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ وَمَاتَتْ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَقِيلَ: سِتٍّ وَسِتِّينَ وَقِيلَ: ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَمَاتَتْ عَائِشَةُ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَمَاتَتْ سَوْدَةُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَمَاتَتْ حَفْصَةُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَمَاتَتْ أُمُّ سَلَمَةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَمَاتَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَمَاتَتْ زَيْنَبُ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَمَاتَتْ جُوَيْرِيَةُ سَنَةَ خَمْسِينَ، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَوَاهِبِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَاتَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَوْنُ صَفِيَّةَ آخِرَهُنَّ مَوْتًا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ جُعِلَ ضَمِيرُ " كَانَتْ " رَاجِعًا إِلَى مَيْمُونَةَ فَلَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ " مَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ " فَلَا يَخْلُو الْكَلَامُ عَنِ الْإِشْكَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ رَزِينٌ قَالَ غَيْرُ عَطَاءٍ هِيَ) : أَيِ: الَّتِي كَانَ لَا يَقْسِمُ لَهَا (سَوْدَةُ وَهُوَ) : أَيْ: هَذَا الْقَوْلُ (أَصَحُّ) : أَيْ: مِنْ قَوْلِ عَطَاءٍ هِيَ صَفِيَّةُ (وَهَبَتْ) : أَيْ: سَوْدَةُ (يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ ( «حِينَ أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَاقَهَا فَقَالَتْ لَهُ: أَمْسِكْنِي وَقَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي لِعَائِشَةَ لَعَلِّي أَنْ أَكُونَ مِنْ نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ» ) : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُطَلِّقْهَا بِخِلَافِ مَا قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَلَغَنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: اعْتَدِّي، فَسَأَلَتْهُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَيَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ لِأَنْ تُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ» ، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بَلْ أَنَّهَا جَعَلَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَالَّذِي فِي الْمُسْتَدْرَكِ يُفِيدُ عَدَمَهُ، وَهُوَ مَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَوْدَةُ: حِينَ اسْتَنَّتْ وَفَرَقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] الْآيَةَ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَيُوَافِقُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ سَوْدَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ أَمْسَكَتْ بِثَوْبِهِ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَالِي إِلَى الرِّجَالِ مِنْ حَاجَةٍ وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْشَرَ فِي أَزْوَاجِكَ، قَالَ: فَرَاجَعَهَا وَجَعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ» ، اهـ. وَهُوَ مُرْسَلٌ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَهَا رَجْعِيَّةً، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ فِيهَا لَا تَقَعُ بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ بَلْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَمَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةَ فَرَقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافَتْ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْحَالُ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَتَقَعَ الْفُرْقَةُ فَيُفَارِقَهَا، وَلَا يُنَافِيهِ بَلَاغُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْكِنَايَاتِ " اعْتَدِّي "، وَالْوَاقِعُ بِهَذِهِ الرَّجْعِيُّ لَا الْبَائِنُ.

[باب عشرة النساء وما لكل واحدة من الحقوق]

[بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحُقُوقِ]

بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحُقُوقِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3238 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسْرَتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ( بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحُقُوقِ) : الْعِشْرَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِمَعْنَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] . (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3238 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: السِّينُ لِلطَّلَبِ أَيِ اطْلُبُوا الْوَصِيَّةَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فِي حَقِّهِنَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] فَنَقَلَ بَاءَ بِخَيْرٍ مِنْهُ إِلَى النِّسَاءِ، وَقَالَ الْقَاضِي: الِاسْتِيصَاءُ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ، وَالْمَعْنَى أُوصِيكُمْ بِهِنَّ خَيْرًا فَاقْبَلُوا وَصِيَّتِي فِيهِنَّ، اهـ. وَالْمَقْصُودُ الْمُدَارَةُ مَعَهُنَّ، وَقَطْعُ الطَّمَعِ عَنِ اسْتِقَامَتِهِنَّ، وَالثَّبَاتُ مَعَ اعْوِجَاجِهِنَّ، كَمَا قِيلَ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ أَيْسَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِنَّ أَهْوَنُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى النَّارِ، قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ، {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25] أَيْ عَلَيْهِنَّ أَوْ عَنْهُنَّ (فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ) : بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَاحِدُ الْأَضْلَاعِ وَهُوَ عَظْمٌ مُعْوَجٌّ اسْتُعِيرَ لِلْمُعْوَجِّ صُورَةً أَوْ مَعْنًى، أَيْ خُلِقْنَ خَلْقًا فِيهِ اعْوِجَاجٌ فَكَأَنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ أَصْلٍ مُعْوَجٍّ، وَقِيلَ: ذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهُنَّ أَوَّلَ النِّسَاءِ وَهِيَ حَوَّاءُ خُلِقَتْ مِنْ أَعْوَجِ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ الضِّلَعُ الْأَعْلَى، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَهُنَّ مِمَّا جُبِلَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُنَّ، فَلَا يَتَهَيَّأُ الِانْتِفَاعُ بِهِنَّ إِلَّا بِمُدَارَاتِهِنَّ وَالصَّبْرِ عَلَى اعْوِجَاجِهِنَّ فِيمَا لَا إِثْمَ فِي مُعَاشَرَتِهِنَّ. (وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أُمَّهُنَّ خُلِقَتْ مِنْهُ. (فَإِنْ ذَهَبْتَ) : أَيْ: شَرَعْتَ وَأَرَدْتَ (تُقِيمُهُ) : أَيْ: إِقَامَتَهُ وَاسْتِقَامَتَهُ (كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرْكْتَهُ) : أَيْ: مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ (لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ) : كُرِّرَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِشَارَةً إِلَى النَّتِيجَةِ وَالْفَذْلَكَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الرِّفْقِ بِالنِّسَاءِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ وَالصَّبْرِ عَلَى عِوَجِ أَخْلَاقِهِنَّ وَاحْتِمَالِ ضَعْفِ عُقُولِهِنَّ وَكَرَاهَةِ طَلَاقِهِنَّ بِلَا سَبَبٍ، وَأَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي اسْتِقَامَتِهِنَّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3239 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3239 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ الْمَرْأَةَ) : أَيْ: أَصْلَهَا أَوْ جِنْسَهَا أَوْ أُمَّهَا (خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ) : أَيْ: مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ أَوْ مِنْ عِوَجٍ، وَنُطِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] (لَنْ تَسْتَقِيمَ) : أَيْ: لَنْ تَسْتَمِرَّ وَلَنْ تَدُومَ (عَلَى طَرِيقَةٍ) : أَيْ: عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ بَلْ تَنْقَلِبُ عَنْ حَالِهَا مِنَ الشُّكْرِ إِلَى الْكُفْرَانِ، وَمِنَ الْإِطَاعَةِ إِلَى الْعِصْيَانِ، وَمِنَ الْقَنَاعَةِ إِلَى الطُّغْيَانِ. (فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا) : أَيْ: أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَمْتِعَ بِهَا (اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا) : أَيْ: حَاصِلٌ وَثَابِتٌ (عِوَجٌ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَيُفْتَحُ، لَا انْفِكَاكَ لَهَا عَنْهُ. (وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا) : أَيْ: تَرُدُّهَا إِلَى إِقَامَةِ الِاسْتِقَامَةِ، وَبَالَغْتَ فِيهَا، وَمَا سَامَحْتَهَا فِي أُمُورِهَا، وَمَا تَغَافَلْتَ عَنْ بَعْضِ أَفْعَالِهَا. (كَسَرْتَهَا) : كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْمُعْوَجِّ الشَّدِيدِ الْيَابِسِ فِي الْحِسِّ. (وَكَسْرُهَا) : أَيِ: الْمَعْنَوِيُّ (طَلَاقُهَا) : فَإِنَّهُ انْفِصَالٌ شَرْعِيٌّ وَانْقِطَاعٌ عُرْفِيٌّ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشْعَارٌ بِاسْتِحَالَةِ تَقْوِيمِهَا أَيْ: إِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْكَسْرِ فَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا، ثُمَّ الْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا، وَقِيلَ: الْفَتْحُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْكَسْرُ فِي الْمَعَانِي فَفِي الْكَشَّافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] الْعِوَجُ فِي الْمَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الْأَعْيَانِ، وَفِي الْقَامُوسِ: عَوِجَ كَفَرِحَ، وَالِاسْمُ كَعِنَبٍ، أَوْ يُقَالُ: فِي كُلِّ مُنْتَصِبٍ كَالْحَائِطِ وَالْعَصَا فِيهِ عَوَجٌ مُحَرَّكَةً، وَفِي نَحْوِ الْأَرْضِ وَالدِّينِ كَالْعِنَبِ، اهـ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} [طه: 107] وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَوَجُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ شَخْصٍ مَرْئِيٍّ كَالْأَجْسَامِ، وَبِالْكَسْرِ فِيمَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ كَالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْكَسْرُ يُقَالُ فِيهِمَا مَعًا وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

3240 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3240 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَفْرَكْ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ مَجْزُومًا أَوْ مَرْفُوعًا مِنَ الْفِرْكِ بِالْكَسْرِ: بُغْضُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ مِنْ بَابِ عَلِمَ، وَكَنَصَرَ شَاذٌّ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ خَبَرٌ لَا نَهْيٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَاتِ بِإِسْكَانِ الْكَافِ، وَلَوْ رُوِيَ مَرْفُوعًا لَكَانَ نَهْيًا بِلَفْظِ الْخَبَرِ، أَيْ لَا يُبْغِضْ (مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً) : أَيْ: مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ (إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي (رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) : أَيْ: خُلُقًا آخَرَ قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ لَا يَفْرَكْ نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ أَيْ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُبْغِضَهَا لِمَا يَرَى مِنْهَا فَيَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَرِهَ شَيْئًا رَضِيَ شَيْئًا آخَرَ، فَلْيُقَابِلْ هَذَا بِذَاكَ، اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّاحِبَ لَا يُوجَدُ بِدُونِ عَيْبٍ فَإِنْ أَرَادَ الشَّخْصُ بَرِيئًا مِنَ الْعَيْبِ يَبْقَى بِلَا صَاحِبٍ وَلَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ سِيَّمَا الْمُؤْمِنُ عَنْ بَعْضِ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَهَا وَيَسْتُرَ مَا بَقِيِّهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3241 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3241 - (عَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ) : أَيْ: فِي زَمَنِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، (لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ) : بِفَتْحِ النُّونِ، مِنْ خَنِزَ اللَّحْمُ بِالْكَسْرِ تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ خَنَزَ اللَّحْمِ بِشَيْءٍ عُوقِبَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، حَيْثُ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - حَيْثُ ادَّخَرُوا السَّلْوَى وَقَدْ نَهَاهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ عَنِ الِادِّخَارِ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّحْمُ يُضَرُّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَحَدَثَ التَّغَيُّرُ لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ وَهُوَ الِادِّخَارُ النَّاشِئُ مِنْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ثُمَّ اسْتَمَرَّ النَّتْنُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْبَادِئَ لِلشَّيْءِ كَالْحَامِلِ لِلْغَيْرِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ، أَوْ لِأَنْ يَعْتَبِرَ غَيْرُهُمْ بِهِمْ فَيَتْرُكُوا الْمُخَالَفَةَ قَالَ - تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ - {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَنُّوا ادِّخَارَ اللَّحْمِ حَتَّى خَنِزَ لَمَا ادُّخِرَ فَلَمْ يَخْنَزْ. (وَلَوْلَا حَوَّاءُ) : بِالْمَدِّ أَيْ لَوْلَا خِيَانَتُهَا فِي مُخَالَفَتِهَا. (لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا) : أَيْ: لَمْ تُخَالِفْهُ (الدَّهْرَ) : أَيْ: أَبَدًا، وَكَأَنَّ الْخِيَانَةَ تَحْصُلُ مِنَ الْعِوَجِ الَّذِي فِي طِينَتِهَا أَوْ جِبِلَّتِهَا. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ لَوْلَا أَنَّ حَوَّاءَ خَانَتْ آدَمَ فِي إِغْرَائِهِ وَتَحْرِيضِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ بِتَنَاوُلِ الشَّجَرَةِ، وَسَنَّتْ هَذِهِ السُّنَّةَ لَمَا سَلَكَتْهَا أُنْثَى مَعَ زَوْجِهَا. اهـ. وَقِيلَ إِنَّ خِيَانَتَهَا أَنَّهَا ذَاقَتِ الشَّجَرَةَ قَبْلَ آدَمَ وَكَانَ قَدْ نَهَاهَا فَغَرَّتْهُ حَتَّى أَكَلَ مِنْهَا، وَقِيلَ: خِيَانَتُهَا أَنَّهَا أَرْسَلَهَا آدَمَ لِقَطْعِ الشَّجَرَةِ فَقَطَعَتْ سُنْبُلَتَيْنِ وَأَدَّتْهُ وَاحِدَةً، وَأَخْفَتْهُ أُخْرَى، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ " «لَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ وَلَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ» ".

3242 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمَعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعْهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا فِي آخِرِ يَوْمِهِ ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الضَّرْطَةِ فَقَالَ: لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ؟» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3242 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمَعَةَ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: بِفَتْحَتَيْنِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ بِفَتْحِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَقَدْ يُسَكَّنُ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحْدِّثِينَ يُسْكِّنُونَ الْمِيمَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمْ) : أَيْ: لَا يَضْرِبْ (امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ ضَرْبًا شَدِيدًا (ثُمَّ يُجَامِعْهَا) : بِالسُّكُونِ لِلْعَطْفِ عَلَى الْمَجْزُومِ (فِي آخِرِ الْيَوْمِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ لِلِاسْتِبْعَادِ، أَيْ مُسْتَبْعَدٌ مِنَ الْعَاقِلِ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مِنَ الضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَالْمُضَاجَعَةِ. اهـ. وَلِذَا وَرَدَ أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بِغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بِغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا، أَوْ هَذَا مَعْنَى التَّدَبُّرِ فِي الْأَمْرِ أَيِ النَّظَرِ فِي عَاقِبَتِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ يَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ يَقْصِدُ (أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا) : أَيْ: يَرْجِعُ إِلَى قَضَاءِ شَهْوَتِهِ مِنْهَا (فِي آخِرِ يَوْمِهِ) : أَيْ: يَوْمَ جَلْدِهِ فَلَا تُطَاوِعُهُ، قِيلَ: النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِهِنَّ كَانَ قَبْلَ أَمْرِهِ بِهِ كَمَا يَأْتِي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ مُقَيِّدٌ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ فَلَا يُنَافِيهِ أَمْرُهُ بِالضَّرْبِ الْمُطْلَقِ بَلْ يَخُصُّهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ضَرْبِ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ لِلتَّأْدِيبِ إِذَا لَمْ يَتَأَدَّبُوا بِالْكَلَامِ الْغَلِيظِ، لَكِنَّ الْعَفْوَ أُولَى، وَفِيهِ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ النِّسَاءِ وَالرِّفْقِ بِهِنَّ. (ثُمَّ وَعَظَهُمْ) : هِيَ لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ بَعْدَ مَا تَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ بِزَمَانٍ، رَآهُمْ يَضْحَكُونَ مِنَ الْفَعْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَوَعَظَهُمْ أَيْ نَصَحَهُمْ (فِي ضِحْكِهِمْ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فِي الْقَامُوسِ الضَّحِكُ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ وَبِكَسْرَتَيْنِ وَكَكَتِفٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَهْقَهَةَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَأَنَّ التَّبَسُّمَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ. (مِنَ الضَّرْطَةِ فَقَالَ) : عَطْفٌ عَلَى وَعَظَ (لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ) : وَفِي نُسْخَةٍ " مِمَّا يَفْعَلُهُ " أَيْ هُوَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الضِّحْكَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا مِنْ أَمْرٍ غَرِيبٍ وَشَأْنٍ عَجِيبٍ، وَلَا يُوجَدُ عَادَةً فَفِيهِ نَدْبُ التَّغَافُلِ عَنْ ضَرْطَةِ الْغَيْرِ؛ لِئَلَّا يَتَأَذَّى فَاعِلُهَا وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ حَاتِمًا لَمْ يَكُنْ أَصَمَّ وَإِنَّمَا سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَفِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ حَصَلَ مِنْهَا ضَرْطَةٌ، فَقَالَ ارْفَعِي صَوْتَكِ دَفْعًا لِخَجَالَتِهَا، فَحَسِبَتْ إِنَّهُ أَصَمُّ فَفَرِحَتْ ثُمَّ أَنَّهُ نَمَّ بِذَلِكَ الْحَالِ تَتْمِيمًا لِدَفْعِ الْمَقَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الْعَاقِلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعِيبَ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ شَيْئًا أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ أَوَّلًا هَلْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ أَوْ مُلْتَبِسٌ بِهِ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَرِيئًا، فَلِأَنْ يُمْسِكَ عَنْهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَعِيبَهُ وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ: أَرَى كُلَّ إِنْسَانٍ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ ... وَيَعْمَى عَنِ الْعَيْبِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ جَابِرٍ «نُهِيَ عَنِ الضِّحْكِ مِنَ الضَّرْطَةِ» .

3243 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ يَنْقَمِعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3243 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ) : جَمْعُ الْبِنْتِ وَالْمُرَادُ بِهَا اللُّعَبُ الَّتِي تَلْعَبُ بِهَا الصَّبِيَّةُ قَالَهُ الْقَاضِي: فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْجَوَارِي فَهُوَ بِمَعْنَى مَعَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ (عِنْدَ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : الْمَقْصُودُ إِفَادَةُ التَّقْرِيرِ (وَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَكَانَ (لِي صَوَاحِبُ) : جَمْعُ صَاحِبَةٍ أَيْ بَنَاتٍ صِغَارٍ (يَلْعَبْنَ مَعِي) : أَيْ: بِأَنْوَاعِ اللُّعْبَاتِ أَوْ بِلُعَبِ الْبَنَاتِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ يَنْقَمِعْنَ) : أَيْ: يَتَغَيَّبْنَ وَيَسْتَتِرْنَ حَيَاءً وَالِانْقِمَاعُ الدُّخُولُ فِي كِنٍّ (فَيُسَرِّبُهُنَّ) : مِنَ التَّسْرِيبِ أَيْ يُرْسِلُهُنَّ إِلَيَّ وَيُسَرِّحُهُنَّ، مِنْ سَرَبَ إِذَا ذَهَبَ قَالَ تَعَالَى {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10] أَوْ مِنَ السِّرْبِ وَهِيَ جَمَاعَةُ النِّسَاءِ، أَيْ يُرْسِلُهُنَّ إِلَيَّ سِرْبًا سِرْبًا (فَيَلْعَبْنَ مَعِي) : فِيهِ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَهْلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .

3244 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتُرُنِي بِبُرْدَةٍ لَهُ لِأَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3244 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ) : أَيْ: قَائِمًا وَعَدَلَ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ (عَلَى بَابِ حُجْرَتِي) : الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَوْ بِمَعْنَى اللَّامِ لِلِاخْتِصَاصِ وَيُحْتَمَلُ الْمِلْكُ (وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (بِالْحِرَابِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ جَمْعُ الْحَرْبَةِ وَهِيَ رُمْحٌ قَصِيرٌ (فِي الْمَسْجِدِ) : أَيْ: فِي رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ، وَكَانَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ وَذَلِكَ مِنْ دَاخِلِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَتْ: فِي الْمَسْجِدِ لِاتِّصَالِ الرَّحَبَةِ أَوْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ لِتَضَايُقِ الْمَوْضِعِ بِهِمْ وَإِنَّمَا سُومِحُوا لِأَنَّ لَعِبَهُمْ بِالْحِرَابِ كَانَ يُعَدُّ مِنْ عُدَّةِ الْحَرْبِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَصَارَ عِبَادَةً بِالْقَصْدِ كَالرَّمْيِ قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] وَأَمَّا النَّظَرُ إِلَيْهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ كَذَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ لِأَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَبِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، فِي الْمِصْبَاحِ لَعِبَ يَلْعَبُ لَعِبًا بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَمْ يُسْمَعْ فِي التَّخْفِيفِ فَتْحُ اللَّامِ مَعَ السُّكُونِ. اهـ كَلَامُهُ. لَكِنْ فِي الْقَامُوسِ: لَعِبَ كَفَرِحَ لَعِبًا وَلِعْبًا وَلَعْبًا (بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ) : أَيْ: لِأَتَفَرَّجَ عَلَيْهِمْ مِمَّا بَيْنَهُمَا مِنْ (ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي) : أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ لَعِبِهِمْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ كَالسَّاتِرِ لِي (حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعَجِّلُ عَلَيَّ بِالرُّجُوعِ إِلَى دَاخِلِ حُجْرَتِي بَلْ كَانَ يُخَلِّينِي عَلَى مُهْلَتِي. (فَاقْدُرُوا) : بِضَمِّ الدَّالِّ مَنْ قَدَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا نَظَرْتَ فِيهِ وَدَبَّرْتَهُ أَيِ انْظُرُوا وَتَأَمَّلُوا، أَوْ مِنَ الْمِقْدَارِ أَيْ فَاقْدُرُوا مِنَ الزَّمَانِ. (قَدْرَ الْجَارِيَةِ) : أَيْ: مِقْدَارَ وَقْفَةِ الْجَارِيَةِ. (الْحَدِيثَةِ السِّنِّ) : أَيِ: الصَّغِيرَةِ فِي الْعُمْرِ (الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ) : أَيْ: عَلَى مَا تَتَلَهَّى بِهِ مِنَ اللَّعِبِ وَغَيْرِهِ كَمْ يَكُونُ قَدْرُ مُكْثِهَا فِي النَّظَرِ إِلَى اللَّعِبِ فَإِنَّمَا مَكَثَتْ ذَلِكَ الْقَدْرَ تُرِيدُ طُولَ مُكْثِهَا، وَمُصَابَرَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهَا، وَكَمَالَ رِعَايَتِهِ لِحَالِهَا، وَنِهَايَةَ مَحَبَّتِهِ لِجَمَالِهَا الْمُظْهِرِ لِكَمَالِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3245 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكَ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3245 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي لِأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى وُقُوعِ إِذَا مَفْعُولًا وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا ظَرْفٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ شَأْنَكِ وَنَحْوَهُ. (قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذَكَرْتَ أَمِنَ وَحَيٍ أَوْ مُكَاشَفَةٍ أَوْ فِرَاسَةٍ وَعَلَامَةٍ، (قَالَ: إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً) : أَيْ: فِي غَايَةٍ مِنَ الرِّضَا. (فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا) : أَيْ: مَثَلًا (وَرَبِّ مُحَمَّدٍ) : فَتَذْكُرِينَ اسْمِي فِي قَسَمِكِ. (وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ عَنِّي (غَضْبَى) : أَيْ: مِنْ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ (قُلْتِ لَا) : وَفِي نُسْخَةٍ وَلَا (وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ) : فَتَعْدِلِينَ عَنِ اسْمِي إِلَى اسْمِ إِبْرَاهِيمَ (قَالَتْ: قُلْتُ أَجَلْ) : أَيْ: نَعَمْ (وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ) : وَفِي نُسْخَةٍ لَا أَهْجُرُ أَيْ مَا أَتْرُكُ (إِلَّا اسْمَكَ) : أَيْ: ذِكْرَهُ عَنْ لِسَانِي مُدَّةَ غَضَبِي وَلَكِنَّ الْمَحَبَّةَ ثَابِتَةٌ دَائِمًا فِي قَلْبِي، قِيلَ: أَيْ هِجْرَانِي مَقْصُورٌ عَلَى تَرْكِ اسْمِكَ حَالَةَ الْغَضَبِ الَّذِي يَسْلُبُ الِاخْتِيَارَ لَا أَتَعَدَّى مِنْهُ إِلَى ذَاتِكَ الشَّرِيفِ الْمُخْتَارِ، وَالْمُرَادُ هُنَا بِالِاسْمِ التَّسْمِيَةُ، وَبِهَا عَبَّرَتْ عَنِ التَّرْكِ بِالْهِجْرَانِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا تَتَأَلَّمُ مِنْ هَذَا التَّرْكِ الَّذِي لَا اخْتِيَارَ لَهَا فِيهِ، وَأَنَّهَا فِي طَلَبِ الْوِصَالِ عَلَى طُرُقِ الْكَمَالِ، وَهُوَ التَّشَرُّفُ بِمَرْتَبَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ حُصُولِ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى وَاقْتِرَانِ اللِّسَانِ وَالْجَنَانِ فِي مَيْدَانِ الْمَحَبَّةِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَنَانِ - ثَابِتَةٌ بِعَوْنِ اللَّهِ الْمَلَكِ الْمَنَّانِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

3246 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3246 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ» ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى جَوَازِ تَعَدُّدِ الْفِرَاشِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْمَيَلَانِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ قَالَ تَعَالَى، جَلَّ جَلَالُهُ {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّسَتُّرِ حَالَةَ الْجِمَاعِ. (فَأَبَتْ) : أَيِ: امْتَنَعَتْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ (فَبَاتَ) : أَيْ: زَوْجُهَا (غَضْبَانَ) : أَيْ: عَلَيْهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ) : لِأَنَّهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً إِلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ قِيلَ: وَالْحَيْضُ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي الِامْتِنَاعِ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَبِمَا عَدَا الْفَرْجِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ. (حَتَّى تُصْبِحَ) : أَيِ: الْمَرْأَةُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ. قِيلَ: إِنَّمَا غَيَّا اللَّعْنَ بِالْإِصْبَاحِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا بِحُدُوثِ الْمَانِعِ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ فِيهِ غَالِبًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَ النَّهَارِ كَذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) : أَيْ: لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ إِذَا قَالَ فِي رِوَايَةٍ وَأَطْلَقَ تَكُونُ الرِّوَايَةُ لِأَحَدِهِمَا. (قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) : أَيْ: فِي قَبْضَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَإِرَادَتِهِ ( «مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ» ) : أَيْ: أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ أَوْ مُلْكُهُ وَمَلَكُوتُهُ أَوِ الَّذِي هُوَ مَعْبُودٌ فِيهَا وَهُوَ اللَّهُ - تَعَالَى - قَالَ: تَعَالَى، جَلَّ جَلَالُهُ {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وَيَكُونُ الِاقْتِصَارُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الْأَشْرَفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ سُكَّانُ السَّمَاوَاتِ، وَالْإِفْرَادُ لِلْجِنْسِ، وَيَلْتَئِمُ حِينَئِذٍ الرِّوَايَتَانِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا بَيْنَهُمَا تُلَازِمٌ. (سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى) : أَيِ: الزَّوْجُ (عَنْهَا) : فِيهِ أَنَّ سَخَطَ الزَّوْجِ يُوجِبُ سَخَطَ الرَّبِّ وَهَذَا فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِي أَمْرِ الدِّينِ.

3247 - وَعَنْ أَسْمَاءَ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ: " الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3247 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ضَرَّةً) : أَيِ: امْرَأَةً أُخْرَى لِزَوْجِي وَسُمِّيَتْ ضَرَّةً إِمَّا لِأَنَّهَا تَضُرُّهَا أَوْ تُرِيدُ ضَرَرَهَا، أَوْ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ كَرَجُلٍ عَدْلٍ، فَإِنَّ وَجُودَهَا ضَرَرٌ عِنْدِهَا وَأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَهَا طُبْنَةً، وَلَعَلَّهَا مَنْ طَبِنَ كَفَرِحَ فَطِنَ، فَإِنَّهَا فَطِينَةٌ بِعَيْبِ صَاحِبَتِهَا. (فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ) : أَيْ: إِثْمٌ أَوْ بَأْسٌ (إِنْ تَشَبَّعْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ مِنْ أَنْ تَشَبَّعْتُ (مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي) : أَيْ: تَزَيَّنْتُ وَتَكَثَّرْتُ بِأَكْثَرِ مِمَّا عِنْدِي وَأَظْهَرْتُ لِضَرَّتِي إِنَّهُ يُعْطِينِي أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِيهَا إِدْخَالًا لِلْغَيِّ عَلَيْهَا وَتَحْصِيلًا لِلضَّرَرِ بِهَا. (فَقَالَ: الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ) : أَيِ: الَّذِي يُظْهِرُ الشِّبَعَ وَلَيْسَ بِشَبْعَانَ (كَلَابِسِ ثَوْبَيِ زُورٍ) : قِيلَ هُوَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً يَظَنُّ النَّاسُ أَنَّهُمَا لَهُ، وَلِبَاسُهُمَا لَا يَدُومُ وَيَفْتَضِحُ بِكَذِبِهِ أَوْ هُوَ الرَّجُلُ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُشْتَبِهَةَ كَثِيَابِ الزُّهَّادِ يُوهِمُ إِنَّهُ مِنْهُمْ، وَأَتَى بِالتَّثْنِيَةِ لِإِرَادَةِ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ إِذْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ؛ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالزُّورِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَقِيلَ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَ بِالتَّشَبُّعِ حَالَتَانِ مَذْمُومَتَانِ: فِقْدَانُ مَا يُشْبَعُ بِهِ وَإِظْهَارُ الْبَاطِلِ، وَقِيلَ: كَانَ شَاهِدُ الزُّورِ يَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ، وَيَشْهَدُ فَيُقْبَلُ لِحُسْنِ ثَوْبَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْهَا وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ.

3248 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «آلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3248 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ آلَى) : بِالْمَدِّ أَيْ حَلَفَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ) : أَيْ: عَلَى أَزْوَاجِهِ (مِنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا) : وَعَدَّاهُ بِمِنْ لِتَضْمِينِهِ إِيَّاهُ مَعْنَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الدُّخُولِ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْإِيلَاءِ الْمَشْهُورِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِلْإِيلَاءِ فِي الْفِقْهِ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ لَا يُسَمَّى إِيلَاءً دُونَهَا (وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ) : أَيِ

انْفَرَجَتْ وَزَالَتْ مِنَ الْمِفْصَلِ، وَالِانْفِكَاكُ الزَّوَالُ وَالِانْفِسَاخُ، قِيلَ: كَأَنَّهَا انْفَرَجَتْ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَقِيلَ: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَخَرَجَ عَظْمُ رِجْلِهِ مِنْ مَوْضِعِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالِانْفِكَاكُ ضَرْبٌ مِنَ الْوَهْنِ وَالْخَلْعِ، وَهُوَ أَنْ يَنْفَكَّ بَعْضُ أَجْزَائِهَا عَنْ بَعْضٍ (فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَيُفْتَحُ، أَيْ فِي غُرْفَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَشْرُبَةُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الْغُرْفَةُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ كَالْمَشَرَعَةِ (تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ) : أَيْ: مِنَ الْغُرْفَةِ إِلَيْهِنَّ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ) : أَيْ: قَدْ يَكُونُ (تِسْعًا وَعِشْرِينَ) : وَلَعَلَّ ذَلِكَ الشَّهْرَ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَهُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ هَذَا إِذَا عَيَّنَ شَهْرًا، فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرَ كَذَا فَخَرَجَ نَاقِصًا لَا يَلْزَمُهُ سِوَى ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ يَلْزَمَهُ صَوْمُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ الْبَغَوِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] الْآيَةَ، إِنَّ «نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلْنَهُ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا شَيْئًا وَطَلَبْنَ مِنْهُ زِيَادَةً فِي النَّفَقَةِ وَآذَيْنَهُ بِغَيْرَةِ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، فَهَجَرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلَى أَنْ لَا يَقْرَبَهُنَّ شَهْرًا، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا مَا شَأْنُهُ وَكَانُوا يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَأَعْلَمَنَّ لَكُمْ شَأْنَهُ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ فَأَنْزِلُ فَأُخْبِرُهُمْ بِأَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ، قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّخْيِيرِ» ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي الْمَعَالِمِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ أَعُدُّهُنَّ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: بَدَأَ بِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ أَقْسَمْتَ إِنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا وَإِنَّكَ دَخَلْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا» .

3249 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ «دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، قَالَ: فَأُذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا، قَالَ: فَقُلْتُ: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا كِلَاهُمَا يَقُولُ تَسْأَلِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] حَتَّى بَلَغَ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] قَالَ فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لَا تَعَجْلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ، قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ، قَالَ: لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا أَخْبَرْتُهَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3249 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ) : أَيْ: أَرَادَ الدُّخُولَ (يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (فَوَجَدَ) : أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (النَّاسَ) : أَيْ: عُمُومَهُمْ (جُلُوسًا) : أَيْ: جَالِسِينَ أَوْ ذَوِي جُلُوسٍ (بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، قَالَ) : أَيْ: جَابِرٌ (فَأُذِنَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَيُفْتَحُ (لِأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَوَجَدَ) : أَيْ: عُمَرُ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ) : لَعَلَّ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ (وَاجِمًا) : أَيْ: حَزِينًا مُهْتَمًّا (سَاكِتًا) : فِي النِّهَايَةِ: الْوَاجِمُ مَنْ أَسْكَتَهُ الْهَمُّ وَعَلَتْهُ الْكَآبَةُ. (فَقَالَ) : أَيْ: عُمَرُ فِي نَفْسِهِ وَفِي نُسْخَةٍ (قُلْتُ لَأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ يُضْحِكُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِضْحَاكِ، وَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الضَّحِكِ، فَالتَّقْدِيرُ يَضْحَكُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُرَادُ حُصُولُ السُّرُورِ وَالِانْشِرَاحِ، وَرَفْعُ الْكُدُورَةِ بِالْمِزَاحِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَوْلُهُ " يُضْحِكُ " فِي نُسْخَةٍ " أُضْحِكُ " فِيهِ نَدْبٌ مِثْلُ هَذَا، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى صَاحِبَهُ حَزِينًا أَنْ يُحَدِّثَهُ حَتَّى يَضْحَكَ أَوْ يَشْغَلَهُ وَيُطَيِّبَ نَفْسَهُ. اهـ. وَفِي آدَابِ الْمُرِيدِينَ لِلسَّهْرَوَرْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، «عَنْ عَلَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسِرُّ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذَا رَآهُ مَغْمُومًا بِالْمُدَاعَبَةِ» . (فَقَالَ) : أَيْ: عُمَرُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ) : أَيْ: لَوْ عَلِمْتَ (بِنْتَ خَارِجَةَ) : يَعْنِي بِهَا زَوْجَتَهُ وَلَوْ لِلتَّمَنِّي (سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ) : أَيِ: الزِّيَادَةَ عَلَى الْعَادَةِ أَوْ فَوْقَ الْحَاجَةِ (فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ) : بِالْهَمْزِ أَيْ ضَرَبْتُ (عُنُقَهَا) : بِكَفِّي، فِي الْمُغْرِبِ: الْوَجْأُ الضَّرْبُ بِالْيَدِ يُقَالُ وَجَأَ فِي عُنُقِهِ مِنْ بَابِ مَنَعَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْوَجْأُ الضَّرْبُ، وَالْعَرَبُ تَحْتَرِزُ عَنْ لَفْظِ الضَّرْبِ؛ فَلِذَلِكَ عُدِلَ إِلَى الْوَجَأِ، وَفِي الْقَامُوسِ: وَجَأَهُ بِالْيَدِ وَالسِّكِّينِ كَوَضَعَهُ ضَرَبَهُ، اهـ. وَجَاءَ الْوَجْأُ بِمَعْنَى الدَّقِّ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: هُنَّ) : أَيْ: نِسَائِي (حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ) : أَيْ: زِيَادَتَهَا عَنْ عَادَتِهَا (فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَجِأُ) : أَيْ: يَدُقُّ (عُنُقَهَا وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجِأُ عُنُقَهَا كِلَاهُمَا يَقُولُ) : خِطَابًا لِبِنْتِهِ (تَسْأَلِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَقُلْنَ) : أَيْ: عِنْدَهُنَّ أَوْ مَا عِنْدِي أَنَّ التَّثْنِيَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ (وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: بَعْدَ هَذَا (شَيْئًا) : أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ (أَبَدًا) : تَأْكِيدُ " أَلَّا نَسْأَلَ " (لَيْسَ عِنْدَهُ) : أَيْ: ذَلِكَ الشَّيْءُ (ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ) : بِنَاءً عَلَى يَمِينِهِ السَّابِقِ، وَالصَّحِيحُ الثَّانِي وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ فَتَرَدَّدَ فِيهِ ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] حَتَّى بَلَغَ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] : وَهُوَ {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا - وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ} [الأحزاب: 28 - 29] إِلَخْ (قَالَ) : أَيْ: جَابِرٌ (فَبَدَأَ) : أَيْ: فِي التَّخْيِيرِ (بِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) : فَإِنَّهَا أَعْقَلُهُنَّ وَأَفْضَلُهُنَّ (فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ) : أَيْ: فِي جَوَابِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكِ (حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ) : خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ صِغَرِ سِنِّهَا الْمُقْتَضِي إِرَادَةَ زِينَةِ الدُّنْيَا أَنْ لَا تَخْتَارَ الْآخِرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا " وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوِيَّ لَمْ يَكُونَا لَيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ " قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّمَا قَالَ " لَا تَعْجَلِي " شَفَقَةً عَلَيْهَا وَعَلَى أَبَوَيْهَا، وَنَصِيحَةً لَهُمْ فِي بَقَائِهَا عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ خَافَ أَنْ يَحْمِلَهَا صِغَرُ سَنِّهَا وَقِلَّةُ تَجَارِبِهَا عَلَى اخْتِيَارِ الْفِرَاقِ، فَتَتَضَرَّرَ هِيَ وَأَبَوَاهَا وَبَاقِي النِّسْوَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهَا. (قَالَتْ: وَمَا هُوَ) : أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ) : أَيِ: الْمَذْكُورَةَ (قَالَتْ: أَفِيكَ) : أَيْ: فِي فِرَاقِكَ أَوْ فِي وِصَالِكَ أَوْ فِي حَقِّكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَشِيرُ أَبَوِيَّ) : لِأَنَّ الِاسْتِشَارَةَ فَرْعُ التَّرَدُّدِ فِي الْقَضِيَّةِ الْمُخْتَارَةِ (بَلْ) : أَيْ: لَا أَسْتَشِيرُ أَحَدًا (أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) : وَفِي الْكَلَامِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِرَادَةَ زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَطَلَبَ الدَّارِ الْآخِرَةِ لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» ". (وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبَرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ) : أَمَا أَنَّهَا أَرَادَتِ اخْتِيَارَهُنَّ الدُّنْيَا لِيَخْلُصَ لَهَا الْوِصَالُ فِي الدُّنْيَا وَالْكَمَالُ فِي الْعُقْبَى (قَالَ لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا أَخْبَرْتُهَا) : لِأَعِينَهَا بِهِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُخْتَارِ تَقْلِيدًا أَوْ تَحْقِيقًا (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ مُوقِعًا أَحَدًا فِي أَمْرٍ شَدِيدٍ وَالْعَنَةُ الْمَشَقَّةُ وَالْإِثْمُ أَيْضًا (وَلَا مُتَعَنِّتًا) : أَيْ: طَالِبًا لِزَلَّةِ أَحَدٍ (وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا) : أَيْ: لِلْخَيْرِ (مُيَسِّرًا) : أَيْ: مُسَهِّلًا لِلْأَمْرِ وَفِي نُسْخَةٍ مُبَشِّرًا أَيْ لِمَنْ آمَنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّعِيمِ وَلِمَنِ اخْتَارَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ بِالْأَجْرِ الْعَامِّ، قَالَ: قَتَادَةُ فَلَمَّا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ شَكَرَهُنَّ عَلَى ذَلِكَ وَقَصَرَهُ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ احْتِجَابِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِحَاجَاتِهِمُ الْمُهِمَّةِ وَالْغَالِبُ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يَتَّخِذُ حَاجِبًا، فَاتِّخَاذُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ضَرُورَةٌ، وَفِيهِ وُجُوبُ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي مَنْزِلِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ فِي احْتِيَاجِ الِاسْتِئْذَانِ، وَفِيهِ تَأْدِيبُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ وَإِنْ كَبِرَ فَاسْتَقَلَّ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّقَلُّلِ مِنَ الدُّنْيَا وَالزِّهَادَةِ فِيهَا، وَفِيهِ جَوَازُ سَكَنِ الْغُرْفَةِ لِذَاتِ الزَّوْجِ، وَاتِّخَاذُ الْخِزَانَةِ، وَفِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ أَنَّ لِلزَّوْجِ تَخْيِيرَ زَوْجَتِهِ وَاعْتِزَالَهُ عَنْهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ خَيَّرَ زَوْجَتَهُ وَاخْتَارَتْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا وَلَا يَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ، وَرَوَى عَنْ عَلَيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْحَسَنِ وَاللَّيْثِ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ التَّخَيُّرِ طَلْقَةً بَائِنَةً سَوَاءٌ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَمْ لَا، وَلَعَلَّ الْقَائِلِينَ بِهِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ اهـ. وَسَيَأْتِي بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ وَبُرْهَانٍ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

3250 - «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51] قُلْتُ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ» ذُكِرَ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3250 - ( «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّائِى وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ أَعِيبُ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّ مَنْ غَارَ عَابَ لِئَلَّا يَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ فَلَا يُكْثِرُ النِّسَاءَ وَيَقْصُرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ تَحْتَهُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ تَعِيبُ عَلَيْهِنَّ لِلْإِشْعَارِ عَلَى حِرْصِهِنَّ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى قِلَّةِ حَيَائِهِنَّ حَيْثُ خَالَفْنَ طَبِيعَةَ جِنْسِ النِّسَاءِ مِنْ تَعَزُّزِهِنَّ وَإِظْهَارِ قِلَّةِ مَيْلِهِنَّ، وَإِنَّمَا هِبَةُ النَّفْسِ كَانَتْ مَحْمُودَةً مِنْهُنَّ لِمَكَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهَا (قُلْتُ: أَيْ بِطَرِيقِ الْإِنْكَارِ أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا) : وَفِي رِوَايَةٍ " أَمَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ ". (فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (تُرْجِئُ) بِالْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ مَنْ أَرْجَأَ مَهْمُوزًا أَوْ مَنْقُوصًا أَيْ تُؤَخِّرُ وَتَتْرُكُ وَتُبْعِدُ (مَنْ تَشَاءُ) : أَيْ: مُضَاجَعَةَ مَنْ تَشَاءُ (مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي) : أَيْ: تَضُمُّ (إِلَيْكَ) : وَتُضَاجِعُ (مَنْ تَشَاءُ) : أَوْ تُطَلِّقُ مَنْ تَشَاءُ وَتُمْسِكُ مَنْ تَشَاءُ أَوْ مَعْنَى الْآيَةِ تَتْرُكُ تَزَوُّجَ مَنْ شِئْتَ مِنْ نِسَاءِ أُمَّتِكَ وَتَتَزَوَّجُ مَنْ شِئْتَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] فَإِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تُوُفِّيَ حَتَّى أُبِيحَ لَهُ النِّسَاءُ مَعَ أَزْوَاجِهِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: أَشْهَرُ الْأَقَاوِيلِ أَنَّهُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَقَطَ عَنْهُ وَصَارَ الِاخْتِيَارُ إِلَيْهِ فِيهِنَّ. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) : أَيْ: طَلَبْتَ وَأَرَدْتَ أَنْ تُؤْوِيَ إِلَيْكَ امْرَأَةً (مِمَّنْ عَزَلْتَ) : عَنِ الْقِسْمَةِ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) : أَيْ: فَلَا إِثْمَ فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ تَرْكَ الْقَسْمِ لَهُنَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُؤَخِّرُ مَنْ يَشَاءُ فِي نَوْبَتِهَا وَيَطَأُ مَنْ يَشَاءُ مِنْهُنَّ فِي غَيْرِ نَوْبَتِهَا، وَيَرُدُّ إِلَى فِرَاشِهِ مَنْ عَزَلَهَا تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى سَائِرِ الرِّجَالِ. (قَالَتْ مَا أَرَى) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَوْ ضَمِّهَا أَيْ مَا أَظُنُّ (رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ) : اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (فِي هَوَاكَ) : أَيْ: يُوَصِّلُ إِلَيْكَ مَا تَتَمَنَّاهُ سَرِيعًا وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ يُخَفِّفُ عَنْكَ وَيُوَسِّعُ عَلَيْكَ فِي الْأُمُورِ وَلِذَا خَيَّرَ لَنَا اهـ. ثُمَّ الْوَاهِبَةُ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ: مَيْمُونَةُ وَقِيلَ: أُمُّ شَرِيكٍ وَقِيلَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ وَقِيلَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْهِبَةَ وَقَعَتْ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُنَّ وَهُوَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] لِأَنَّ النَّكِرَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ اتَّقُوا اللَّهَ) : أَيْ: مُخَالَفَتَهُ أَوْ مُعَاقَبَتَهُ (فِي النِّسَاءِ) : أَيْ: فِي حَقِّهِنَّ وَالتَّخْصِيصُ لِضَعْفِهِنَّ وَحَبْسِهِنَّ (ذُكِرَ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) : أَيْ: فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ هُنَا مُكَرَّرًا وَلِذَا أَسْقَطَهُ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3251 - «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ قَالَتْ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي قَالَ هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3251 - (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ قَالَتْ فَسَابَقْتُهُ) : أَيْ غَالَبْتُهُ فِي السَّبْقِ أَيْ فِي الْعَدْوِ وَالْجَرْيِ (فَسَبَقْتُهُ) : أَيْ: غَلَبْتُهُ وَتَقَدَّمْتُ عَلَيْهِ (عَلَى رِجْلِيَّ) : أَيْ: لَا عَلَى دَابَّةٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهَا عَلَى رِجْلِيَّ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي سَابَقْتُهُ أَيْ عَدْوًّا عَلَى رِجْلِيَّ وَفَائِدَتُهُ زِيَادَةُ بَيَانِ الْمُدَاعَبَةِ كَمَا يُقَالُ أَخَذْتُ بِيَدِي، وَمَشَيْتُ بِرِجْلِي، وَنَظَرْتُ بِعَيْنِي وَفِيهِ بَيَانُ حُسْنِ خُلُقِهِ وَتَلَطُّفِهِ بِنِسَائِهِ، يُقْتَدَى بِهِ، (فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ) : أَيْ: سَمِنْتُ (سَابَقْتُهُ) : أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى (فَسَبَقَنِي قَالَ: هَذِهِ) : أَيِ: السَّبْقَةُ (بِتِلْكَ السَّبْقَةِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا أَيْ تَقَدُّمِي عَلَيْكِ فِي هَذِهِ النَّوْبَةِ فِي مُقَابَلَةِ تَقَدُّمِكِ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى وَالْمُرَادُ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ، قَالَ قَاضِي خَانْ: يَجُوزُ السِّبَاقُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءٍ فِي الْخُفِّ يَعْنِي الْبَعِيرَ، وَفِي الْحَافِرِ يَعْنِي الْفَرَسَ، وَفِي النَّصْلِ مِنَ الرَّمْيِ، وَالْمَشْيِ بِالْأَقْدَامِ يَعْنِي بِهِ الْعَدْوَ وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ الْبَدَلُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بِأَنْ قَالَ إِنْ سَبَقْتُكَ فَلِي كَذَا وَإِنْ سَبَقْتَنِي فَلَا شَيْءَ لَكَ، وَإِنْ شُرِطَ الْبَدَلُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ قِمَارٌ إِلَّا إِذَا أَدْخَلَا مُحَلِّلًا بَيْنَهُمَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ إِنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ كَذَا وَإِنْ سَبَقْتُكَ فَلِي كَذَا وَإِنْ سَبَقَ الثَّالِثُ فَلَا شَيْءَ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَحَلَالٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْجَوَازِ الطِّيبُ وَالْحِلُّ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا، وَمَا يَفْعَلُهُ الْأُمَرَاءُ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا بِأَنْ يَقُولَ لِاثْنَيْنِ أَيُّكُمَا سَبَقَ فَلَهُ كَذَا وَإِنَّمَا جُوِّزَ السَّبْقُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِوُجُودِ الْآثَارِ فِيهَا وَلَا أَثَرَ فِي غَيْرِهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3252 - وَعَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3252 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ» ) : لِدَلَالَتِهِ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ، وَالْأَهْلُ يَشْمَلُ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبَ بَلِ الْأَجَانِبَ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ (وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي) : فَإِنَّهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ) : أَيْ: وَاحِدٌ مِنْكُمْ وَمِنْ جُمْلَةِ أَهَالِيكُمْ (فَدَعُوهُ) : أَيِ: اتْرُكُوا ذِكْرَ مُسَاوِيهِ فَإِنَّ تَرْكَهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، دَلَّهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُجَامَلَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ " «اذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ بِالْخَيْرِ» "، وَقِيلَ: إِذَا مَاتَ فَاتْرُكُوا مَحَبَّتَهُ وَالْبُكَاءَ عَلَيْهِ وَالتَّعَلُّقَ بِهِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: فَاتْرُكُوهُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ، وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيمَا اخْتَارَ خَالِقُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ أَيْ دَعُوا التَّحَسُّرَ وَالتَّلَهُّفَ عَلَيَّ فَإِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفًا عَنْ كُلِّ فَائِتٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا مُتُّ فَدَعُونِي وَلَا تُؤْذُونِي بِإِيذَاءِ عِتْرَتِي وَأَهْلِ بَيْتِي وَصَحَابَتِي وَأَتْبَاعِ مِلَّتِي (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) : أَيْ: عَنْهَا.

3253 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِهِ لِأَهْلِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3253 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِهِ لِأَهْلِي) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ فَلَا تُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ السُّيُوطِيَّ ذَكَرَ هَذَا الْمِقْدَارَ وَقَالَ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِلنِّسَاءِ» ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي مِنْ بَعْدِي» .

3254 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْأَةُ إِذَا صَلَّتْ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا فَلْتَدْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ» . رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3254 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْأَةُ إِذَا صَلَّتْ خَمْسَهَا) : أَيْ: خَمْسَ صَلَوَاتِهَا فِي أَوْقَاتِ طِهَارَتِهَا، وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ (وَصَامَتْ شَهْرَهَا) : أَيْ: شَهْرَ رَمَضَانَ أَدَاءً وَقَضَاءً (وَأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) : أَيْ: مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنِ الْفَوَاحِشِ (وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا) : أَيْ: زَوْجَهَا فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الطَّاعَةُ (فَلْتَدْخُلْ) : أَيِ: الْجَنَّةَ (مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ) : إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ دُخُولِهَا وَإِيمَاءٌ إِلَى سُرْعَةِ وُصُولِهَا وَحُصُولِهَا (رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ) : أَيْ: حِلْيَةُ الْأَبْرَارِ.

3255 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3255 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ) : وَالسُّجُودُ كَمَالُ الِانْقِيَادِ (لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا) : أَيْ: لِكَثْرَةِ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا وَعَجْزِهَا عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا وَفِي هَذَا غَايَةُ الْمُبَالَغَةِ لِوُجُوبِ إِطَاعَةِ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ زَوْجِهَا فَإِنَّ السَّجْدَةَ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ قَاضِي خَانْ: إِنْ سَجَدَ لِلسُّلْطَانِ إِنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّعْظِيمَ وَالتَّحِيَّةَ دُونَ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا وَأَصْلُهُ أَمْرُ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَسُجُودُ إِخْوَةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3256 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3256 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا) : أَيِ: الْعَالِمُ الْمُتَّقِي (عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ) : لِمُرَاعَاتِهَا حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ عِبَادِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3257 - وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا الرَّجُلُ دَعَا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3257 - (وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا الرَّجُلُ دَعَا زَوْجَهُ) : هُنَا التَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ " {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] " (لِحَاجَتِهِ) : أَيِ: الْمُخْتَصَّةِ بِهِ كِنَايَةً عَنِ الْجِمَاعِ (فَلْتَأْتِهِ) : أَيْ: لِتُجِبْ دَعْوَتَهُ (وَإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ) : أَيْ: وَإِنْ كَانَتْ تَخْبِزُ عَلَى التَّنُّورِ مَعَ أَنَّهُ شُغْلٌ شَاغِلٌ لَا يُتَفَرَّغُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَائِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهُنَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخُبْزُ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ دَعَاهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَدْ رَضِيَ بِإِتْلَافِ مَالِ نَفْسِهِ، وَتَلَفُ الْمَالِ أَسْهَلُ مِنْ وُقُوعِ الزَّوْجِ فِي الزِّنَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَلَفْظُهُ " «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْتُجِبْ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَهْرِ قَتَبٍ» .

3258 - وَعَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لَا تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3258 - (وَعَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُؤْذِي) : بِصِيغَةِ النَّفْيِ (امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجُهُ مِنَ الْحَوَرِ الْعَيْنَ: لَا تُؤْذِيهِ) : نَهْيُ مُخَاطَبَةٍ (قَاتَلَكِ اللَّهُ) : أَيْ: لَعَنَكِ عَنْ رَحْمَتِهِ وَأَبْعَدَكِ عَنْ جَنَّتِهِ (فَإِنَّمَا هُوَ) : أَيِ: الزَّوْجُ (عِنْدَكَ دَخِيلٌ) : أَيْ: ضَيْفٌ وَنَزِيلٌ (يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا) : أَيْ: وَاصِلًا إِلَيْنَا وَنَازِلًا عَلَيْنَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ لَعْنِ الْمَلَائِكَةِ لِعَاصِيَةِ الزَّوْجِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى يَطَّلِعُونَ عَلَى أَعْمَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

3259 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3259 - (وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي صُحْبَتِهِ نَظَرٌ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَكِيمِ وَقَتَادَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (عَنْ أَبِيهِ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا) : بِالنَّصْبِ (إِذَا اكْتَسَيْتَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ اهْتِمَامًا بِثَبَاتِ مَا قَصَدَ مِنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ يَعْنِي كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ أَنْ يُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمَ، فَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ عَامٌّ لِكُلِّ زَوْجٍ أَيْ يَجِبُ عَلَيْكَ إِطْعَامُ الزَّوْجَةِ وَكِسْوْتُهَا عِنْدَ قُدْرَتِكَ عَلَيْهِمَا لِنَفْسِكَ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ إِذَا طَعِمْتَ بِتَاءِ الْخِطَابِ بِلَا تَأْنِيثٍ وَكَذَا إِذَا اكْتَسَيْتَ وَبِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهِمَا غَلَطٌ أَيْ رِوَايَةٌ وَدِرَايَةٌ (وَلَا تَضْرِبْ) : أَيْ: وَأَنْ لَا تَضْرِبَ (الْوَجْهَ) : فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْإِعْضَاءِ وَأَظْهَرُهَا وَمُشْتَمِلٌ عَلَى أَجْزَاءٍ شَرِيفَةٍ وَأَعْضَاءٍ لَطِيفَةٍ، وَيَجُوزُ ضَرْبُ غَيْرِ الْوَجْهِ إِذَا ظَهَرَ مِنْهَا فَاحِشَةٌ أَوْ تَرَكَتْ فَرِيضَةً، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ ضَرْبِ غَيْرِ الْوَجْهِ، قُلْتُ: فَكَانَ الْحَدِيثُ مُبَيِّنٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ فَاضْرِبُوهُنَّ قَالَ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ نَهْيًا عَامًّا يَعْنِي فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَوِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ " الْوَجْهُ " وَلَمْ يَقُلْ " وَجْهَهَا ": وَمِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ لِلزَّوْجِ: أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْهَا: تَرْكُ الزِّينَةِ إِذَا أَرَادَ الزَّوْجُ الزِّينَةَ، وَالثَّانِيَةُ: تَرْكُ الْإِجَابَةِ إِذَا أَرَادَ الْجِمَاعَ وَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَالثَّالِثَةُ: تَرْكُ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَتَرْكُ الْغُسْلِ عَنِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَالرَّابِعَةُ: الْخُرُوجُ عَنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (وَلَا تُقَبِّحْ) : بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ أَيْ لَا تَقُلْ لَهَا قَوْلًا قَبِيحًا وَلَا تَشْتُمْهَا وَلَا قَبَّحَكِ اللَّهُ وَنَحْوَهُ (وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ) : أَيْ: لَا تَتَحَوَّلْ عَنْهَا أَوْ لَا تُحَوِّلْهَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3260 - وَعَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي امْرَأَةً فِي لِسَانِهَا شَيْءٌ يَعْنِي الْبَذَاءَ، قَالَ: طَلِّقْهَا، قُلْتُ: إِنَّ لِي مِنْهَا وَلَدًا وَلَهَا صُحْبَةٌ، قَالَ: فَمُرْهَا، يَقُولُ: عِظْهَا فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ فَسَتَقْبَلُ، وَلَا تَضْرِبَنَّ ظَعِينَتَكَ ضَرْبَكَ أُمَيَّتَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3260 - (وَعَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفِي أَسْمَاءِ الْمُصَنَّفِ لَقِيطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ صَبِرَةَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي امْرَأَةً فِي لِسَانِهَا شَيْءٌ يَعْنِي الْبَذَاءَ» ) : بِالْمَدِّ وَفَتَحِ الْبَاءِ أَيِ الْفُحْشَ وَالْإِيذَاءَ (قَالَ طَلِّقْهَا) : أَيْ: إِنْ لَمْ تَصْبِرْ عَلَيْهَا وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ (قُلْتُ إِنَّ لِي مِنْهَا وَلَدًا) : بِفَتْحَتَيْنِ يَحْتَمِلُ الْإِفْرَادَ وَالْجَمْعَ (وَلَهَا صُحْبَةٌ) : أَيْ: مُعَاشَرَةٌ قَدِيمَةٌ (قَالَ فَمُرْهَا) : أَيْ: بِالْمُعَاشَرَةِ الْجَمِيلَةِ مُطْلَقًا، أَوْ عَنْ قِبَلِي وَعَلَى لِسَانِي (يَقُولُ) : هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي مُسْتَأْنَفٌ مُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ " مُرْهَا " يَعْنِي (عِظْهَا) : أَمْرٌ مِنَ الْوَعْظِ بِمَعْنَى النَّصِيحَةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فَعِظُوهُنَّ (فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ) : أَيْ: شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ (فَسَتَقْبَلُ) : أَيْ: وَعْظَكَ (وَلَا تَضْرِبَنَّ ظَعِينَتَكَ) : أَيْ: زَوْجَتَكَ (ضَرَبَكَ أُمَيَّتَكَ) : بِالتَّصْغِيرِ أَيْ جُوَيْرِيَتَكَ أَيْ لَا تَضْرِبِ الْحُرَّةَ مِثْلَ ضَرْبِكَ لِلْأَمَةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ لِطَيْفٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالضَّرْبِ بَعْدَ عَدَمِ قَبُولِ الْوَعْظِ ; لَكِنْ يَكُونُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، ثُمَّ الظَّعِينَةُ فِي الْأَصْلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي فِي الْهَوْدَجِ كَنَّى بِهَا عَنِ الْكَرِيمَةِ، وَقِيلَ: هِيَ الزَّوْجَةُ لِأَنَّهَا تَظْعَنُ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا مِنَ الظَّعْنِ وَهُوَ الذَّهَابُ، وَالْأَمَةُ أَصْلُهُ أَمَوَةٌ حُذِفَتِ الْوَاوُ ثُمَّ رُدَّتْ فِي التَّصْغِيرِ وَقُلِبَتْ يَاءً وَأُدْغِمَتْ، وَإِنَّمَا صَغَّرَ الْأَمَةَ مُبَالَغَةً فِي حَقَارَتِهَا أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ تَحْتَاجُ إِلَى الضَّرْبِ وَالتَّأْدِيبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3261 - وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاءِ اللَّهِ، فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ذَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3261 - (وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) : أَيِ: الدَّوْسِيِّ الْمَدَنِيِّ قَدِ اخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا نَعْرِفُ لَهُ صُحْبَةً لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي ضَرْبِ النِّسَاءِ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ) : أَيْ: زَوْجَاتِكُمْ فَإِنَّهُنَّ جَوَارٍ لِلَّهِ كَمَا أَنَّ الرِّجَالَ عَبِيدٌ لَهُ تَعَالَى (فَجَاءَ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَأَتَى (عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَئِرْنَ النِّسَاءُ) : مِنْ بَابِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثَ وَمِنْ وَادِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 62] أَيِ اجْتَرَأْنَ وَنَشَذْنَ وَغَلَبْنَ (عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ) فَأَطَافَ هَذَا بِالْهَمْزِ يُقَالُ أَطَافَ أَيْ طَافَ بِالشَّيْءِ أَلَمَّ بِهِ وَقَارَنَهُ أَيِ اجْتَمَعَ وَنَزَلَ (بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: بِأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ (نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ) : أَيْ: مِنْ ضَرْبِهِمْ إِيَّاهُنَّ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ طَافَ) : هَذَا بِلَا هَمْزٍ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ لَقَدْ طَافَ صَحَّ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَالْأَوَّلُ هَمْزٌ وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ كَلَامًا بِالْهَمْزِ، اهـ. فَهُوَ مِنْ طَافَ حَوْلَ الشَّيْءِ أَيْ دَارَ (بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ) : دَلَّ عَلَى أَنَّ الْآلَ يَشْمَلُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (لَيْسَ أُولَئِكَ) : أَيِ: الرِّجَالُ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ نِسَائَهُمْ ضَرْبًا مُبَرِّحًا أَوْ مُطْلَقًا (بِخِيَارِكُمْ) : أَيْ: بَلْ خِيَارُكُمْ مَنْ لَا يَضْرِبُهُنَّ وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُنَّ أَوْ يُؤَدِّبُهُنَّ وَلَا يَضْرِبُهُنَّ ضَرْبًا شَدِيدًا يُؤَدِّي إِلَى شِكَايَتِهِنَّ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ ضَرْبَ النِّسَاءِ فِي مَنْعِ حُقُوقِ النِّكَاحِ مُبَاحٌ إِلَّا أَنَّهُ يَضْرِبُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَوَجْهُ تَرَتُّبِ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ فِي الضَّرْبِ يُحْتَمَلُ أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضَرْبِهِنَّ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ لَمَّا ذَئِرَ النِّسَاءُ أَذِنَ فِي ضَرْبِهِنَّ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مُؤَيِّدًا لَهُ ثُمَّ لَمَّا بَالَغُوا فِي الضَّرْبِ أَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الضَّرْبَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا عَلَى شَكَاسَةِ أَخْلَاقِهِنَّ، فَالتَّحَمُّلُ وَالصَّبْرُ عَلَى سُوءِ أَخْلَاقِهِنَّ، وَتَرْكُ الضَّرْبِ أَفْضَلُ وَأَجْمَلُ، وَيُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ هَذَا الْمَعْنَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) : فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: " «لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ.

3262 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنَّا مِنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3262 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ مِنَّا) : أَيْ: مِنْ أَتْبَاعِنَا (مِنْ خَبَّبَ) : بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْأُولَى بَعْدَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ خَدَعَ وَأَفْسَدَ (امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا) : بِأَنْ يَذْكُرَ مَسَاوِئَ الزَّوْجِ عِنْدَ امْرَأَتِهِ أَوْ مَحَاسِنَ أَجْنَبِيٍّ عِنْدَهَا (أَوْ عَبْدًا) : أَيْ: أَفْسَدَهُ (عَلَى سَيِّدِهِ) : بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْإِفْسَادِ، وَفِي مَعْنَاهُمَا إِفْسَادُ الزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ وَالْجَارِيَةِ عَلَى سَيِّدِهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ، وَلَفْظُهُ " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ، وَمَنْ خَبَّبَ عَلَى امْرِئٍ زَوْجَتَهُ وَمَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» ".

3263 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3263 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ مِنْ أَكْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ لِأَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ يُوجِبُ حُسْنَ الْخُلُقِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَى كَافَّةِ الْإِنْسَانِ (وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ) : أَيْ: عَلَى الْخُصُوصِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3264 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ إِلَى قَوْلِهِ خُلُقًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3264 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا) : أَيْ: مِنْ خِيَارِكُمْ (أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) : أَيْ: مِنْ أَكْمَلِهِمْ (وَخِيَارُكُمْ) : أَيْ: مَعَ عُمُومِ الْخُلُقِ (خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ) : لِأَنَّهُنَّ مَحَلُّ الرَّحْمَةِ لِضَعْفِهِنَّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ إِلَى قَوْلِهِ خُلُقًا) .

3265 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِي، وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ قَالَتْ: فَرَسٌ قَالَ وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: جَنَاحَانِ، قَالَ فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ، قَالَتْ أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3265 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ) : مَكَانٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ نِصْفُ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ إِلَى دِمَشْقِ الشَّامِ، وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَذِكْرُ الْبُخَارِيِّ لَهَا بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَعَلَّهُ خَطَّأٌ مِنَ النُّسَّاخِ. (أَوْ خَيْبَرَ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي عَنْهَا وَهُوَ بِالتَّصْغِيرِ وَادٍ بِقُرْبِ ذِي الْمِجَازِ، وَقِيلَ مَاءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثُ لَيَالٍ قُرْبَ الطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ حِينَ فَتْحِ مَكَّةَ (وَفِي سَهْوَتِهَا) : بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ صُفَّتِهَا قُدَّامَ الْبَيْتِ وَقِيلَ: بَيْتٌ صَغِيرٌ مُنْحَدَرٌ فِي الْأَرْضِ قَلِيلًا شَبِيهٌ بِالْمَخْدَعِ وَقِيلَ هُوَ شَبِيهٌ بِالرَّفِّ وَالطَّاقُ يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحَ قَوْلُهُ " وَفِي بَهْوَتِهَا "، الْبَهْوَةُ: الْبَيْتُ الْمُقَدَّمُ أَمَامَ الْبُيُوتِ، وَرُوِيَ " سَهْوَتِهَا " بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ (سِتْرٌ) : بِكَسْرِ السِّينِ (فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ) : أَيْ: بَيَّنَتْ وَأَظْهَرَتْ (نَاحِيَةَ السِّتْرِ أَيْ طَرَفَهُ الْمَكْشُوفَ بِالرِّيحِ (عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (قَالَ مَا هَذَا) : أَيِ: الَّذِي رَأَيْنَاهُ خَلْفَ السَّتْرِ (يَا عَائِشَةَ قَالَتْ: بَنَاتِي، وَرَأَى) : أَيْ: وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنْهُنَّ) : أَيْ: بَيْنَ الْبَنَاتِ (فَرَسًا لَهُ) : أَيِ: الْفَرَسِ (جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رُقْعَةٍ وَهِيَ الْخِرْقَةُ وَمَا يُكْتُبُ عَلَيْهِ. (فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى) : أَيْ: أَبْصُرُهُ (وَسْطَهُنَّ) : بِالسُّكُونِ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْوَسْطُ بِالسُّكُونِ بِمَعْنَى بَيْنَ نَحْوَ جَلَسْتُ وَسْطَ الْقَوْمِ أَيْ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ وَسْطَ الْقَوْمِ بِالتَّسْكِينِ، وَسَطَ الدَّارِ بِالتَّحْرِيكِ، وَقَالَ: كُلُّ مَوْضِعٍ يَصْلُحُ فِيهِ بَيْنَ فَهُوَ بِالتَّسْكِينِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَصْلُحُ فِيهِ فَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ (قَالَتْ: فَرَسٌ قَالَ: وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ قَالَتْ: جَنَاحَانِ قَالَ: فَرَسٌ لَهُ

جَنَاحَانِ) : بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ (قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ) : أَيْ: مِنَ النَّاسِ (أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ) : أَيْ: أَوَاخِرَ أَسْنَانِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ عَدَمُ إِنْكَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى لَعِبِهَا بِالصُّورَةِ وَإِبْقَائِهَا فِي بَيْتِهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ إِيَّاهَا، أَوْ يُقَالُ: لُعَبُ الصِّغَارِ مَظِنَّةُ الِاسْتِخْفَافِ، اهـ. وَالثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوُّجَهَا بِمَكَّةَ فِي عَشْرٍ مِنْ شَوَّالَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ النُّبُوَّةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثٍ وَلَهَا سِتُّ سِنِينَ، وَالْغَزْوَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ إِحْدَاهُمَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَالْأُخْرَى سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَبِالْيَقِينِ تَجَاوَزَتْ عَائِشَةُ حِينَئِذٍ حَدَّ الْبُلُوغِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3266 - عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَقُلْتُ: لَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِأَنْ يُسْجَدَ لَكَ، فَقَالَ لِي: أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِى أَكُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ؟ " فَقُلْتُ لَا فَقَالَ: " لَا تَفْعَلُوا لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ حَقٍّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3266 - (عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَتَيْتُ الْحِيرَةَ) : بِكَسْرِ الْمُهْمِلَةِ بَلْدَةٌ قَدِيمَةٌ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ (فَرَأَيْتُهُمْ) : أَيْ: أَهْلَهَا (يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ) : وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الزَّايِ: الْفَارِسُ الشُّجَاعُ الْمُقَدَّمُ عَلَى قَوْمِهِ، دُونَ الْمَلِكِ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: أَهْلُ اللُّغَةِ يَضُمُّونَ مِيمَهُ ثُمَّ إِنَّهُ مُنْصَرِفٌ وَقَدْ لَا يَنْصَرِفُ (فَقُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ " لَرَسُولُ اللَّهِ " بِلَامِ الِابْتِدَاءِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ يُسْجُدَ لَهُ) : أَيْ: لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَكْرَمُ الْمَوْجُودَاتِ (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ) : أَيْ: تَعْظِيمًا لَهُ وَتَكْرِيمًا (فَأَنْتَ أَحَقُّ) : أَيْ: أَوْلَى وَأَلْيَقُ (مِنْهُ بِأَنْ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ (يُسْجَدَ لَكَ فَقَالَ لِي) : إِظْهَارًا لِعَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَإِشْعَارًا لِمَذَلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ (أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبَرَنِي (لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَكُنْتَ تَسْجُدُ) : أَيْ: لِلْقَبْرِ أَوْ لِمَنْ فِي الْقَبْرِ (فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا) : خِطَابٌ عَامٌّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَيْ فِي الْبَلْدَةِ، كَذَلِكَ لَا تَسْجُدُوا قَالَ تَعَالَى {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيِ اسْجُدُوا لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَلِمَنْ مُلْكُهُ لَا يَزُولُ فَإِنَّكَ إِنَّمَا تَسْجُدُ لِي الْآنَ مَهَابَةً وَإِجْلَالًا، فَإِذَا كُنْتُ رَهِينَ رَمْسٍ امْتَنَعْتَ عَنْهُ (لَوْ كُنْتُ آمُرُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَفِي رِوَايَةٍ " آمِرًا " بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ لَوْ صَحَّ فِي أَنْ آمُرَ، أَوْ لَوْ فُرِضَ أَنِّي كُنْتُ آمِرًا (أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ) : أَيْ: بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ لِعُمُومِ حَقِّهِمْ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ بِالْإِنْبَاءِ (لَأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ حَقٍّ) : وَفِي رِوَايَةٍ مِنَ الْحَقِّ فَالتَّنْوِينُ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: عَنْ قَيْسٍ وَكَذَا الْحَاكِمُ.

3267 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3267 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) : فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدُ عَنْ مُعَاذٍ وَالْحَاكِمُ عَنْ بُرَيْدَةَ.

3268 - وَعَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3268 - (وَعَنْ عُمَرَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا يُسْأَلُ الرَّجُلُ) : نَفْيُ مَجْهُولٍ (فِيمَا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ) : أَيْ: إِذَا رَاعَى شُرُوطَ الضَّرْبِ وَحُدُودَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النُّشُوزِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] إِلَى قَوْلِهِ {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وَقَوْلُهُ " لَا يُسْأَلُ " عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّحَرُّجِ وَالتَّأَثُّمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34] أَيْ أَزِيلُوا عَنْهُنَّ التَّعَرُّضَ بِالْأَذَى وَالتَّوْبِيخِ وَتُوبُوا عَلَيْهِنَّ وَاجْعَلُوا مَا كَانَ مِنْهُنَّ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3269 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ عِنْدَهُ قَالَتْ: زَوْجِي صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ وَيُفَطِّرُنِي إِذَا صُمْتُ، وَلَا يُصَلِّي الْفَجْرَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، قَالَ: وَصَفْوَانُ عِنْدَهُ، قَالَ: فَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَتْ: قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا قَوْلُهَا يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ فَإِنَّهَا تَقْرَأُ بِسُورَتَيْنِ وَقَدْ نَهَيْتُهَا، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كَانَتْ سُورَةً وَاحِدَةً لَكَفَتِ النَّاسَ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهَا يُفَطِّرُنِي إِذَا صُمْتُ فَإِنَّهَا تَنْطَلِقُ تَصُومُ وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فَلَا أَصْبِرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَصُومُ امْرَأَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهَا إِنِّي لَا أُصَلِّي حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ قَدْ عُرِفَ لَنَا ذَلِكَ لَا نَكَادُ نَسْتَيْقِظُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، قَالَ: فَإِذَا اسْتَيْقَظْتَ يَا صَفْوَانُ فَصَلِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3269 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ عِنْدَهُ قَالَتْ: زَوْجِي صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ (يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ وَيُفَطِّرُنِي) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ يَأْمُرُنِي بِالْإِفْطَارِ أَوْ، يُبْطِلُ صَوْمِي (إِذَا صُمْتُ وَلَا يُصَلِّي الْفَجْرَ) أَيْ هُوَ بِنَفْسِهِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) : أَيْ: حَقِيقَةً، أَوْ يَقْرُبُ طُلُوعِهَا (قَالَ) : أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَصَفْوَانُ عِنْدَهُ) : أَيْ: عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ) : أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَسَأَلَهُ) : أَيْ: صَفْوَانُ (عَمَّا قَالَتْ) : أَيِ: امْرَأَتُهُ (فَقَالَ) : أَيْ: صَفْوَانُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا قَوْلُهَا يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ فَإِنَّهَا تَقْرَأُ بِسُورَتَيْنِ) : أَيْ: طَوِيلَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ (وَقَدْ نَهَيْتُهَا) : أَيْ: عَنْ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ أَوْ إِطَالَةِ الصَّلَاةِ (قَالَ) : أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَقَالَ لَهُ) : أَيْ: تَصْدِيقًا لِأَجْلِهِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَتْ) : اسْمُهُ يَعُودُ إِلَى مَصْدَرِ تَقْرَأُ، أَيْ لَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ (سُورَةً وَاحِدَةً) : أَيْ: أَيَّ سُورَةٍ كَانَتْ وَلَوْ أَقْصُرُهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ سُورَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْفَاتِحَةُ (لَكَفَتِ النَّاسَ) : أَيْ: لَأَجْزَأَتْهُمْ كَافَّتَهُمْ جَمِيعًا وَإِفْرَادًا (قَالَ) : أَيْ: صَفْوَانُ (وَأَمَّا قَوْلُهَا يُفَطِّرُنِي إِذَا صُمْتُ فَإِنَّهَا تَنْطَلِقُ) : أَيْ: تَذْهَبُ (تَصُومُ) : أَيْ: نَفْلًا (وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فَلَا أَصْبِرُ) : وَفِي نُسْخَةٍ لَا أَصْبِرُ عَنْ جِمَاعِ النَّهَارِ وَسَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِاللَّيْلِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَصُومُ امْرَأَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا) : أَيْ: فِي غَيْرِ الْفَرَائِضِ (وَأَمَّا قَوْلُهَا إِنِّي لَا أُصَلِّي حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ) : أَيْ: إِنَّا أَهْلُ صَنْعَةٍ لَا نَنَامُ اللَّيْلَ (قَدْ عُرِفَ لَنَا ذَلِكَ) : أَيْ: عَادَتُنَا ذَلِكَ وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْقُونَ الْمَاءَ فِي طُولِ اللَّيَالِي (لَا نَكَادُ نَسْتَيْقِظُ) : أَيْ: إِذَا رَقَدْنَا آخِرَ اللَّيْلِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) : حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا مُشَارَفَةً (قَالَ فَإِذَا اسْتَيْقَظْتَ يَا صَفْوَانُ فَصَلِّ) : أَيْ: أَدَاءً أَوْ قَضَاءً قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَبِلَ عُذْرَهُ مَعَ تَقْصِيرِهِ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تُقَصِّرْ إِيذَانًا بِحَقِّ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، اهـ. وَفِي إِثْبَاتِ التَّقْصِيرِ لَهُ وَنَفْيِهِ عَنْهَا مَحَلُّ بَحْثٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ فِي تَرْكِهِ التَّعْنِيفَ أَمْرٌ عَجِيبٌ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - بِعِبَادِهِ وَلُطْفِ نَبِيِّهِ وَرِفْقِهِ بِأُمَّتِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى مَلَكَةِ الطَّبْعِ وَاسْتِيلَاءِ الْعَادَةِ، فَصَارَ كَالشَّيْءِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، وَكَانَ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ فَعَذَرَهُ فِيهِ، وَلِمَ يُثَرِّبْ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظُنَّ بِهِ الِامْتِنَاعُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا ذَلِكَ مَعَ زَوَالِ الْعُذْرِ بِوُقُوعِ التَّنْبِيهِ وَالْإِيقَاظِ مِمَّنْ يَحْضُرُهُ وَيُشَاهِدُهُ، اهـ. فَكَأَنَّهُ كَانَ إِذَا سَقَى الْمَاءَ طُولَ اللَّيْلِ يَنَامُ فِي مَكَانِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُوقِظُهُ فَيَكُونُ مَعْذُورًا وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَلَيْسَ ابْنُ مَاجَهْ فِي نُسْخَةِ عَفِيفِ الدِّينِ.

3270 - وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَجَاءَ بِعِيرٌ فَسَجَدَ لَهُ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَسْجُدُ لَكَ الْبَهَائِمُ وَالشَّجَرُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ فَقَالَ: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَأَكْرِمُوا أَخَاكُمْ وَلَوْ كُنْتُ آمُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ أَمَرَهَا أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَصْفَرَ إِلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إِلَى جَبَلٍ أَبْيَضَ كَانَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَفْعَلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3270 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي نَفَرٍ) : أَيْ: مَعَ جَمَاعَةٍ (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَجَاءَ بِعِيرٌ فَسَجَدَ لَهُ) : أَيْ: لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ أَصْحَابُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَسْجُدُ لَكَ الْبَهَائِمُ وَالشَّجَرُ) : أَيْ: مَعَ قِلَّةِ فَهْمِهَا وَعَدَمِ تَكْلِيفِهَا بِتَعْظِيمِكَ (فَنَحْنُ أَحَقُّ) : أَيْ: مِنْهَا (أَنْ نَسْجُدَ لَكَ) : أَيْ: بِالسُّجُودِ لَكَ شُكْرًا لِنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنَ التَّرْبِيَةِ الْأَبَوِيَّةِ (فَقَالَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) : أَيْ: بِتَخْصِيصِ السَّجْدَةِ لَهُ فَإِنَّهَا غَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَنِهَايَةُ الْعِبَادَةِ (وَأَكْرِمُوا أَخَاكُمْ) : أَيْ: عَظِّمُوهُ تَعْظِيمًا يَلِيقُ لَهُ بِالْمَحَبَّةِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْإِطَاعَةِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] وَإِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] وَأَمَّا سَجْدَةُ الْبَعِيرِ فَخَرْقٌ لِلْعَادَةِ وَاقِعٌ بِتَسْخِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَمْرِهِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِعْلِهِ وَالْبَعِيرُ مَعْذُورٌ حَيْثُ أَنَّهُ مِنْ رَبِّهِ مَأْمُورٌ كَأَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَلَائِكَتَهُ أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَالَهُ تَوَاضُعًا وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ، يَعْنِي أَكْرِمُوا مَنْ هُوَ بِشْرٌ مِثْلُكُمْ وَمُفَرَّعٌ مِنْ صُلْبِ أَبِيكُمْ آدَمَ، وَأَكْرِمُوهُ لِمَا كَرَّمَهُ اللَّهُ وَاخْتَارَهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] (وَلَوْ كُنْتُ آمُرُ) : وَفِي رِوَايَةٍ " آمِرًا " (أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ) : أَيْ: بِأَمْرِهِ تَعَالَى (لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا) : مُبَالَغَةً فِي وُجُوبِ انْقِيَادِهَا (وَلَوْ أَمَرَهَا) : أَيْ: زَوْجُهَا (أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَصْفَرَ إِلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ) : أَيْ: أَحْجَارَ هَذَا إِلَى ذَاكَ مَعَ أَنَّهُ عَبَثٌ مُطْلَقٌ (وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ) : هُوَ ذَاكَ أَوْ غَيْرُهُ (إِلَى جَبَلٍ أَبْيَضَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الشَّاقِّ لَنَقْلُ الصَّخْرِ مَنْ قُلَلِ الْجِبَالِ ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرِّجَالِ وَتَخْصِيصُ اللَّوْنَيْنِ تَتْمِيمٌ لِلْمُبَالَغَةِ لَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدُهُمَا بِقُرْبِ الْآخَرِ (كَانَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَفْعَلَهُ) : بِنَاءً عَلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) ، وَذِكْرُهُ فِي الْمَوَاهِبِ أَبْسَطُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: رَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْقُونَ عَلَيْهِ أَيْ يَسْتَقُونَ وَإِنَّهُ اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نَسْتَقِي عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ اسْتَصْعَبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ وَقَدْ عَطِشَ النَّخْلُ وَالزَّرْعُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ يَعْنِي الْبُسْتَانَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَهُ فَقَالَتْ: الْأَنْصَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ، وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ وَنَحْنُ نَعْقِلُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَوْ صَلَحَ لَبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لَعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» .

3271 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ لَهُمْ صَلَاةٌ وَلَا تَصْعَدُ لَهُمْ حَسَنَةٌ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَوَالِيهِ فَيَضَعَ يَدَهُ فِي أَيْدِيهِمْ، وَالْمَرْأَةُ السَّاخِطُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا، وَالسَّكْرَانُ حَتَّى يَصْحُوَ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3271 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ) : أَيْ: أَشْخَاصٌ (لَا تُقْبَلُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (لَهُمْ صَلَاةٌ) : أَيْ: قَبُولًا كَامِلًا (وَلَا تَصْعَدُ) : بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضَمِّهَا (لَهُمْ حَسَنَةٌ) : أَيْ: إِلَيْهِ تَعَالَى قَالَ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وَفِي رِوَايَةٍ: " وَلَا تُرْفَعُ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ حَسَنَةٌ " (الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَوَالِيهِ) : وَالْجَمْعُ عَلَى تَقْدِيرِ اشْتِرَاكِ جَمَاعَةٍ أَوْ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ فَإِنَّ اللَّامَ فِي الْعَبْدِ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، أَوِ الْمُرَادُ مَوْلَاهُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ (فَيَضَعَ) : بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ (يَدَهُ فِي أَيْدِيهِمْ) : كِنَايَةٌ عَنِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ. (وَالْمَرْأَةُ السَّاخِطُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا) : وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا، وَتَرَكَهُ لِلظُّهُورِ، أَوِ الْمُرَادُ حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا فَتَرَكَهُ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ (وَالسَّكْرَانُ حَتَّى يَصْحُوَ) : أَيْ: مِنْ غَفْلَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ بِرُجُوعِهِ وَتَوْبَتِهِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.

3272 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَلَا مَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3272 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟) : أَيْ: أَحْسَنُ وَأَيْمَنُ (قَالَ: الَّتِي تَسُرُّهُ) : أَيْ: زَوْجَهَا، وَالْمَعْنَى تَجْعَلُهُ مَسْرُورًا (إِذَا نَظَرَ) : أَيْ: إِلَيْهَا وَرَأَى مِنْهَا الْبَشَاشَةَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ وَلُطْفَ الْمُعَاشَرَةِ، وَإِنِ اجْتَمَعَتِ الصُّورَةُ وَالسِّيرَةُ فَهِيَ سُرُورٌ عَلَى سُرُورٍ، وَنُورٌ عَلَى نُورٍ (وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ) : أَيْ: فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (وَلَا تَخَالُفُهُ فِي نَفْسِهَا وَلَا مَالِهَا) : أَيْ: مَالُهُ الَّذِي بِيَدِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الثَّانِي (بِمَا يَكْرَهُ) : أَيْ: مِنَ الْجِنَايَةِ وَالْخِيَانَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُعْسِرًا وَالْمَجَازُ أَيْ مَالِهِ الَّذِي بِيَدِهَا اهـ فَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْمَلُ عَلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

3273 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيهِنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَلْبٌ شَاكِرٌ، وَلِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَبَدَنٌ عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرٌ، وَزَوْجَةٌ لَا تَبْغِيهِ خَوْنًا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3273 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَرْبَعٌ) : أَيْ: خِصَالٌ (مَنْ أُعْطِيهِنَّ) : أَيْ: بِإِعْطَاءِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُ (فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَلَبٌ شَاكِرٌ) : أَيْ: عَلَى النَّعْمَاءِ (وَلِسَانٌ ذَاكِرٌ) أَيْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ (وَبَدَنٌ عَلَى الْبَلَاءِ) : أَيْ: عَلَى الْمِحَنِ التَّكْلِيفِيَّةِ وَالْمَصَائِبِ الْكَوْنِيَّةِ (صَابِرٌ، وَزَوْجَةٌ لَا تَبْغِيهِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُضَمُّ أَيْ لَا تَطْلُبُ لَهُ (خَوْنًا) : أَيْ: خِيَانَةً (فِي نَفْسِهَا وَلَا مَالِهِ) : أَيْ: وَلَا خِيَانَةً فِي مَالِهِ قَالَ تَعَالَى {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] أَيْ يَطْلُبُونَ لَكُمْ مَا تُفْتَنُونَ بِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ: بَغَيْتُهُ أَيْ طَلَبْتُهُ، وَأَبْغَاهُ الشَّيْءَ طَلَبَهُ لَهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: ابْغِنِي كَذَا بِهَمْزِ الْوَصْلِ أَيِ اطْلُبْ لِي، وَبِهَمْزِ الْقَطْعِ أَيْ أَعِنِّي عَلَى الطَّلَبِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

[باب الخلع والطلاق]

[بَابُ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ]

بَابُ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3274 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قِيسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ) فِي الْمُغْرِبِ: خَلَعَ الْمَلْبُوسَ نَزَعَهُ، وَخَالَعَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا وَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ إِذَا افْتَدَتْ بِمَالِهَا، فَإِذَا أَجَابَهَا الرَّجُلُ فَطَلَّقَهَا قِيلَ خَلَعَهَا، وَالِاسْمُ الْخُلْعُ بِالضَّمِّ وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلًّا لِبَاسُ صَاحِبِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمَا انْتَزَعَا لِبَاسَهُمَا؟ قَالَ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وَفِي الْعِنَايَةِ شَرْحُ الْهِدَايَةِ الْخُلْعُ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ مَالٍ مِنَ الْمَرْأَةِ بِإِزَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ خَالَعْتُكِ عَلَى كَذَا، وَقَالَتْ قَبِلْتُ وَحَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا هَلْ هِيَ طَلَاقٌ أَمْ فَسْخٌ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ أَيْ عَلَى كَذَا، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ فَسْخٌ، ثُمَّ الطَّلَاقُ اسْمٌ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّرْكِيبُ يَدُلُّ عَلَى الْحَلِّ وَالِانْحِلَالِ، وَمِنْهُ أَطْلَقْتُ الْأَسِيرَ إِذَا حَلَلْتَ إِسَارَهُ وَخَلَّيْتَ سَبِيلَهُ، وَأَطْلَقْتُ النَّاقَةَ مِنَ الْعِقَالِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3274 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ) : أَيِ: ابْنِ شَمَّاسٍ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهَا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: هِيَ صَحَابِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي اخْتَلَعَتْ مِنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَتَزَوَّجَهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بَعْدَهُ (أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قِيلَ وَقَدْ ضَرَبَهَا زَوْجُهَا ضَرْبَ تَأْدِيبٍ (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُضُمُّ أَيْ مَا أَغْضَبُ وَمَا أَعِيبُ (عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ) : بِضَمَّتَيْنِ (وَلَا دِينٍ) : أَيْ: لَا أُرِيدُ مُفَارَقَتَهُ لِسُوءِ خُلُقِهِ وَإِسَاءَةِ مُعَاشَرَتِهِ وَلَا لِنُقْصَانٍ فِي دِيَانَتِهِ (وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ) : عَرَّضَتْ عَمَّا فِي نَفْسِهَا مِنْ كَرَاهَةِ الصُّحْبَةِ وَطَلَبِ الْخَلَاصِ بِقَوْلِهَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ أَيْ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ أَوْ بِمَعْنَى الْعِصْيَانِ، تَعْنِي لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَحَبَّةٌ وَأَكْرَهُهُ طَبْعًا، فَأَخَافُ عَلَى نَفْسِي فِي الْإِسْلَامِ مَا يُنَافِي حُكْمَهُ مِنْ بُغْضٍ وَنُشُوزٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنَ الشَّابَّةِ الْمُبْغِضَةِ لِزَوْجِهَا، فَسَمَّتْ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ بِاسْمِ مَا يُنَافِيهِ نَفْسَهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟) : أَيِ: الَّتِي أَعْطَاكِ بِالْمَهْرِ وَهِيَ أَرْضٌ ذَاتُ شَجَرٍ مُثْمِرٍ (قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ - اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: لِزَوْجِهَا (اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً) : أَمْرُ اسْتِصْلَاحٍ وَإِرْشَادٍ إِلَى مَا هُوَ الْأَصْوَبُ، لَا إِيجَابٍ وَإِلْزَامٍ بِالطَّلَاقِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى لِلْمُطْلِّقِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ لِيَتَأَتَّى لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا إِنِ اتَّفَقَ بَدَاءً، قَالَ تَعَالَى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ثَنَا جُرَيْجٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ الْعَاصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " جَعَلَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً» ، وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكِبَارُ التَّابِعِينَ قَلَّ أَنْ يُرْسِلُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ، وَإِنِ اتَّفَقَ غَيْرُهُ نَادِرًا فَعَنْ ثِقَةٍ، هَكَذَا تَتَبَّعْتُ مَرَاسِيلَهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَبِهِ يَقْوَى ظَنُّ حَجِّيَّةِ مَا رَوَاهُ الْمُصَنَّفُ - يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ - عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ» " وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَابْنُ عَدِيٍّ، اهـ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ تَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3275 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا، ثُمَّ تَحِيضُ فَتَطْهُرُ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطْلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3275 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ طَلَّقَهَا فِي حَالِ حَيْضِهَا (فَذَكَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: مَا وَقَعَ مِنْهُ (فَتَغَيَّظَ فِيهِ) : أَيْ: غَضِبَ فِي شَأْنِهِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَةِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَغْضَبُ بِغَيْرِ حَرَامٍ (ثُمَّ قَالَ: لِيُرَاجِعْهَا) : أَيْ: لِيَقُلْ رَاجَعْتُهَا إِلَى نِكَاحِي مَثَلًا لِتَدَارُكِ الْمَعْصِيَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُرَاجِعَةِ (ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَظَهَرَ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ " يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ " أَنَّ اسْتِحْبَابَ الرَّجْعَةِ أَوْ إِيجَابَهَا مُقَيَّدٌ بِذَلِكَ الْحَيْضِ الَّذِي أَوْقَعَ فِيهِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ إِذَا تُؤَمِّلَ، فَعَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى طَهُرَتْ تَقَرَّرَتِ الْمَعْصِيَةُ (ثُمَّ تَحِيضُ فَتَطْهُرُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ قِيلَ مَا فَائِدَةُ التَّأْخِيرِ إِلَى الطُّهْرِ الثَّانِي فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا لِئَلَّا تَصِيرَ الرَّجْعَةُ لِغَرَضِ الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَمَانًا كَانَ يَحِلُّ لَهُ طَلَاقُهَا، وَإِنَّمَا أَمْسَكَهَا لِمَظْهَرِ فَائِدَةٍ فِي الرَّجْعَةِ وَهُنَا جَوَابُ أَصْحَابِنَا، الثَّانِي: أَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُ وَتَوْبَةٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ بِاسْتِدْرَاكِ جِنَايَتِهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الطُّهْرَ الْأَوَّلَ مَعَ الْحَيْضِ الَّذِي طَلَّقَ فِيهِ كَمَا مَرَّ وَاحِدٌ، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي أَوَّلِ طُهْرٍ كَانَ كَمَنْ طَلَّقَهَا فِي حَيْضٍ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ طَلَاقِهَا فِي الطُّهْرِ لِيَطُولَ مَقَامُهُ مَعَهَا فَلَعَلَّهُ يُجَامِعُهَا فَيَذْهَبَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ سَبَبِ طَلَاقِهَا فَيُمْسِكَهَا، اهـ. وَالْأَخِيرُ هُوَ الْأَوْلَى لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يُقَالَ أَمَرَ بِإِمْسَاكِهَا فِي الطُّهْرِ. . . . إِلَخْ، فِي الْهِدَايَةِ: وَإِذَا طَهُرَتْ وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا لَفْظُ الْقَدُورِيِّ وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَلَفْظُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: فَإِذَا طَهُرَتْ فِي حَيْضَةٍ أُخْرَى رَاجَعَهَا، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يُطْلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَهَا وَرَاجَعَهَا فِيهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي الْأَصْلِ قَوْلُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ مَنْصِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَّا أَنْ يَحْكِيَ الْخِلَافَ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِيهِ؛ فَلِذَا قَالَ فِي الْكَافِي: إِنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنَ السُّنَّةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " لِعُمَرَ «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا» " الْحَدِيثَ، وَفِي لَفْظٍ " حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا وَوَجَدَ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ تَفْسِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَقْوَى صِحَّةً (فَإِنْ بَدَا) : بِالْأَلْفِ أَيْ ظَهَرَ بِهِ (أَنْ يُطْلِّقَهَا فَلْيُطْلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا) : أَيْ: يُجَامِعَهَا، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] (فَتِلْكَ الْعِدَّةُ) الْمُشَارُ إِلَيْهَا عِنْدَنَا حَالَةُ الْحَيْضِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَالَةُ الطُّهْرِ (الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) : قِيلَ: اللَّامُ فِي: لَهَا، بِمَعْنَى: فِي فَتَكُونُ حُجَّةً لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَطْهَارِ، إِذَ لَوْ كَانَتْ بِالْحَيْضِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مَأْمُورًا بِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّامَ هُنَا بِمَعْنَى فِي بَلْ لِلْعَاقِبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَفِي رِوَايَةِ " مُرْهُ ": الْخِطَابُ لِعُمَرَ، وَالضَّمِيرُ لِابْنِهِ (فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطْلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى رِضَا الْمَرْأَةِ وَلَا وَلَدِهَا، قُلْتُ: وَجْهُ الدَّلَالَةِ خَفِيٌّ كَمَا لَا يَخْفَى وَالْأَظْهَرُ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى اجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ، وَقِيلَ الْحَامِلُ إِذَا كَانَتْ حَائِضَةً حَلَّ طَلَاقُهَا إِذْ لَا تَطْوِيلَ لِلْعِدَّةِ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، اهـ. وَعِنْدَنَا أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ وَمَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ فَهُوَ اسْتَحَاضَةٌ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يُطْلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ وَلَا فِي الْحَيْضِ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَمْ يُطْلِّقْهَا، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطْلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: هَذِهِ بِدْعَةٌ وَلَا يُبَاحُ إِلَّا وَاحِدَةٌ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ وَقَدِ انْدَفَعَتْ، وَلَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِطَلْقَتَيْنِ أَخِيرَتَيْنِ عِنْدَ الْقَرَائِنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ قَدْ أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ، السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ فَتُطْلِّقَ لِكُلِّ قُرْءٍ فَأَمَرَنِي فَرَاجَعْتُهَا، فَقَالَ: إِذَا هِيَ طَهُرَتْ فَطَلِّقْ عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ أَمْسَكْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا فَقَالَ: لَا كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَكَانَ مَعْصِيَةً. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3276 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3276 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَيَّرَنَا) : أَيْ: مَعْشَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) : أَيْ: وَالدَّارَ الْآخِرَةَ عَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا (فَلَمْ يَعُدَّ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ذَلِكَ) : أَيْ: الِاخْتِيَارَ (عَلَيْنَا شَيْئًا) : أَيْ: مِنَ الطَّلَاقِ لَا ثَلَاثًا وَلَا وَاحِدَةً وَلَا بَائِنَةً وَلَا رَجْعِيَّةً، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَفِيهِ رَدٌّ لِمَنْ قَالَ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا تَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَالِكٌ. قَالَ الْقَاضِيَ: كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إِذَا خَيَّرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا طُلِّقَتْ بِتَخَيُّرِهِ إِيَّاهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَفِي الثَّانِيَةِ وَاحِدَةً بَائِنَةً، فَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ قَوْلَهُمَا بِذَلِكَ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي نَفْسَكِ وَإِيَّايَ، فَقَالَتِ: اخْتَرْتُ إِيَّايَ أَوِ اخْتَرْتُ نَفْسِي، وَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَطَلَاقٌ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ الْبَغَوَيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْخِيَارِ، هَلْ كَانَ ذَلِكَ تَفْوِيضَ الطَّلَاقِ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَقَعَ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَفْوِيضَ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا خَيَّرَهُنَّ عَلَى أَنَّهُنَّ إِذَا اخْتَرْنَ الدُّنْيَا فَارَقَهُنَّ لِقَوْلِهِ {أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُنَّ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: " «لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ» "، وَفِي تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ يَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى الْفَوْرِ وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ تَفْوِيضَ طَلَاقٍ لَوِ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ كَانَ طَلَاقًا، اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمُخَيِّرَةُ لَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَعْجَلِي. . . إِلَخْ، فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ تَخْيِيرُهُ ذَلِكَ هَذَا التَّخَيُّرَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ تُوقِعَ نَفْسَهَا بَلْ عَلَى أَنَّهَا إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلَّقَهَا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّخْيِيرِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3277 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي الْحَرَامِ يُكَفَّرُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3277 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْحَرَامِ) : أَيْ: فِي التَّحْرِيمِ (يُكَفَّرُ) : لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، أَيْ مُتَابَعَةٌ، وَقِيلَ الْأُسْوَةُ هِيَ الْحَالَةُ يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ مِنَ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ حَسَنًا كَانَ أَوْ قَبِيحًا، وَلِذَا وَصَفَهَا فِي الْآيَةِ بِالْحَسَنَةِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ مِنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أُمِرَ بِالْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، فَعَلَيْكُمْ مُتَابَعَتُهُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَفْظُ التَّحْرِيمِ يَمِينٌ، وَمَنْ حَرَّمَ مِلْكَهُ لَا يَحْرُمُ، وَإِنِ اسْتَبَاحَهُ فَقَدْ كَفَّرَ، فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِجَارِيَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ التَّحْرِيمَ أَوْ حَرَّمْتُكِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ، فَلَوْ وَطِئَهَا لَزَمَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، قَالَ الْبُرْجَنْدِيُّ شَارِحُ النُّقَايَةِ: إِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ نَوَى الظِّهَارَ أَوِ الثَّلَاثَ أَوِ الْكَذِبَ، فَمَا نَوَى، فَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ فَإِيلَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَنَّهُ يَمِينٌ، قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1] الْآيَةَ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَبَائِنَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُكِ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ طَلَاقًا وَلَا ظِهَارًا، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ هَكَذَا، فَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ عَتَقَتْ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَنَوَى تَحْرِيمَ ذَاتِهَا، لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَيَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَوْ قَالَ لِطَعَامٍ: هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ أَوْ حَرَّمْتُهُ عَلَى نَفْسِي، لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3278 - «وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَشَرِبَ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكِ أَحَدًا، يَبْتَغِي مَرِضَاتَ أَزْوَاجِهِ فَنَزَلَتْ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] الْآيَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3278 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) أَيْ حِينَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ لَا عِنْدَ نَوْبَتِهَا (وَشَرِبَ) : أَيْ: مَرَّةً (عِنْدَهَا عَسَلًا) : أَيْ: وَكَانَ يُحِبُّ الْعَسَلَ (فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ) : بِالرَّفْعِ لَا غَيْرُ (أَنَّ أَيَّتَنَا) : " أَيُّ " هَذِهِ الشُّرْطِيَّةُ (دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ مُغْفُورٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقِيلَ: جَمْعُ مِغْفَرٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ ثَمَرُ الْعِضَاهِ كَالْعُرْفُطِ وَالْقِشْرِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُجْتَنَى بِهِ مِنَ الْعُرْفُطِ إِذْ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: جَرَسَتْ نَحْلَتُهُ الْعُرْفُطَ، وَالْجَرْسُ اللَّحْسُ، وَالْعُرْفُطُ بِالضَّمِّ شَجَرٌ مِنَ الْعِضَاهِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَمَا يَنْضَحُهُ الْعُرْفُطُ حُلْوٌ وَلَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَقِيلَ هُوَ صَمْغُ شَجَرِ الْعِضَاهِ، وَقِيلَ هُوَ نَبْتٌ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ. (فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ: لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ) : أَيْ: عَلَيَّ أَوْ عَلَيْكِ (شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ) : أَيْ: لِشُرْبِ الْعَسَلِ (وَقَدْ حَلَفْتُ) : أَيْ: أَنْ لَا أَعُودَ (لَا تُخْبِرِي بِذَلِكِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ (أَحَدًا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِئَلَّا يَعْرِفَ أَزْوَاجُهُ أَنَّهُ أَكَلَ شَيْئًا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِئَلَّا يَنْكَسِرَ خَاطِرُ زَيْنَبَ مِنَ امْتِنَاعِهِ مِنْ عَسَلِهَا. (يَبْتَغِي) : أَيْ: يَطْلُبُ بِالتَّحْرِيمِ (مَرْضَاتَ أَزْوَاجِهِ) : أَيْ: رِضَا بِعَضِهِنَّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ " وَقَدْ حَلَفْتُ " حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ " أَنْ أَعُودَ "، وَالْجُمْلَةُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْحَالُ قَوْلٌ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: " يَبْتَغِي " حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَوْلِهِ " فَقَالَ: لَا بَأْسَ "، أَيْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ مُبْتَغِيًا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ قَالَ الرَّاوِي: يَبْتَغِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ يَطْلُبُ بِذَلِكَ مَرْضَاتَ أَزْوَاجِهِ وَكَانَ التَّحْرِيمُ زَلَّةً مِنْهُ، اهـ. وَهَذَا زَلَّةٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا نَهَى عَنِ التَّحْرِيمِ قَبْلَ ذَلِكَ، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، فَعُوتِبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ " لِمَ تُحَرِّمُ " نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَلِذَا قَالَ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ، " وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " (فَنَزَلَتْ " {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.) : هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَرْكِ الْعَسَلِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ «أَنَّهُ أَكَلَ الْعَسَلَ عِنْدَ حَفْصَةَ وَتَوَاصَتْ عَائِشَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ» عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ عَنْ نِسَائِهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حَفْصَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زِيَارَةِ أَبِيهَا فَأَذِنَ لَهَا فَلَمَّا خَرَجَتْ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ فَأَدْخَلَهَا بَيْتَ حَفْصَةَ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ وَجَدَتِ الْبَابَ مُغْلَقًا فَجَلَسَتْ عِنْدَ الْبَابِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَجْهُهُ يَقْطُرُ عَرَقًا وَحَفْصَةُ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: إِنَّمَا أَذِنَتْ لِي مِنْ أَجْلِ هَذَا أَدْخَلْتَ أَمَتَكَ بَيْتِي ثُمَّ وَقَعْتَ عَلَيْهَا فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي، أَمَا رَأَيْتَ لِي حُرْمَةً وَحَقًّا مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا بِامْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَيْسَ هِيَ جَارِيَتِي قَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ لِي فَهِيَ حَرَامٌ عَلَيَّ أَلْتَمِسُ بِذَلِكَ رِضَاكِ فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ امْرَأَةً مِنْهُنَّ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] يَعْنِي الْعَسَلَ وَمَارِيَةَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3279 - عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3279 - (عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا) : وَفِي رِوَايَةٍ الطَّلَاقَ أَيْ لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا (فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ) : وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ بَأْسٍ أَيْ لِغَيْرِ شِدَّةٍ تُلْجِئُهَا إِلَى سُؤَالِ الْمُفَارَقَةِ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ (فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ) : أَيْ: مَمْنُوعٌ عَنْهَا، وَذَلِكَ عَلَى نَهْجِ الْوَعِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّهْدِيدِ، أَوْ وُقُوعُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ أَيْ لَا تَجِدُ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ أَوَّلَ مَا وَجَدَهَا الْمُحْسِنُونَ، أَوْ لَا تَجِدُ أَصْلًا، وَهُنَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّهْدِيدِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ قَالَهُ الْقَاضِي، وَلَا بِدْعَ أَنَّهَا تُحْرَمُ لَذَّةَ الرَّائِحَةِ وَلَوْ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

3280 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3280 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» ) : قِيلَ: كَوْنُ الطَّلَاقِ مَبْغُوضًا مُنَافٍ لِكَوْنِهِ حَلَالًا، فَإِنَّ كَوْنَهُ مَبْغُوضًا يَقْتَضِي رُجْحَانَ تَرْكِهِ عَلَى فِعْلِهِ، وَكَوْنَهُ حَلَالًا يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ تَرَكِهِ لِفِعْلِهِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَلَالِ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ بَلْ أَعَمَّ، فَإِنَّ بَعْضَ الْحَلَالِ مَشْرُوعٌ وَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ مَبْغُوضٌ كَأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ لَا لِعُذْرٍ، وَكَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَكَالْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ، وَنَحْوِهَا، وَلَمَّا كَانَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الشَّيْطَانِ هُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَمَا سَبَقَ، كَانَ أَبْغَضُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الطَّلَاقُ، هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الشُّمُنِّيُّ: أُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَلَالِ مَا يَتْرُكُهُ بِلَازِمِ الشَّامِلِ لِلْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: الطَّلَاقُ حَلَالٌ لِذَاتِهِ، وَالْأَبْغَضِيُّةُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ انْجِرَارِهِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ يُقَالُ أَبْغَضُ الْحَلَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى اللَّهِ أَيْ عِنْدَهُ أَوْ فِي حُكْمِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ الضَّرُورَةِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: فِيهِ أَنَّ بَعْضَ الْحَلَالِ مَشْرُوعٌ وَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ مَبْغُوضٌ كَأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ لَا لِعُذْرِ وَالصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَكَالْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِي كُلِّ مَا ذَكَرَ بَحْثٌ إِذِ الصَّلَاةُ فِي الْبُيُوتِ وَلَوْ بِعُذْرٍ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ لَكِنْ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ، وَإِنَّمَا الْمَبْغُوضُ تَرْكُ الْأَحَبِّ لَا نَفْسُ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ لَيْسَ مِنَ الْحَلَالِ الْمَشْرُوعِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِيهَا وَالْمُكْثَ بِهَا مَمْنُوعٌ شَرْعًا، وَكَذَا الْبَيْعُ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْبَيْعِ حَلَالًا، فَتَأَمَّلْ، نَعَمْ لَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَشْرُوعٌ أَيْ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ وُقُوعُهُ وَانْعِقَادُهُ ثُمَّ لَهُ الْكَلَامُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَبْغَضَ الْمُبَاحَاتِ عِنْدَ اللَّهِ الطَّلَاقُ، فَنَصَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ وَكَوْنِهِ مَبْغُوضًا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرَتُّبَ لَازِمِ الْمَكْرُوهِ الشَّرْعِيِّ إِلَّا لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالْبُغْضِ إِلَّا لَوْ لَمْ يَصِفْهُ بِالْإِبَاحَةِ، لَكِنَّهُ وَصَفَهُ بِهَا لَأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَعْضُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ إِنَّهُ مَبْغُوضٌ إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا رُتِّبَ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَدَلِيلُ نَفْيِ الْكَرَاهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] وَطَلَاقُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفْصَةَ ثُمَّ أَمْرُهُ - سُبْحَانَهُ - أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ وَلَا يُبَاحُ إِلَّا لِكِبَرٍ، كَطَلَاقِ سَوْدَةَ أَوْ رِيبَةٍ، فَإِنَّ طَلَاقَهُ حَفْصَةَ لَمْ يُقْرَنْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ " «لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ» " فَمَحْمَلُهُ الطَّلَاقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مَنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ نُشُوزٍ فَعَلَيْهَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» "، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَهُمْ فِيمَا سَيَأْتِي مِنَ التَّعْلِيلِ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَلِلْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ هِيَ الْخَلَاصُ عِنْدَ تَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَعُرُوضِ الْبَغْضَاءِ الْمُوجِبَةِ عَدَمَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، فَشَرْعُهُ رَحْمَةٌ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ - فَبَيْنَ الْحُكْمَيْنِ تُدَافِعٌ، وَالْأَصَحُّ حَظْرُهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُحْمَلُ لَفْظُ الْمُبَاحِ عَلَى مَا أُبِيحَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، أَعْنِي أَوْقَاتَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ الْمُبِيحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ " «مَا أَحَلَّ اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ» "، وَإِنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ فِي الزَّمَانِ غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْكِبَرِ وَالرِّيبَةِ، فَمِنَ الْحَاجَةِ الْمُبِيحَةِ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِ عَدَمَ اشْتِهَائِهَا، بِحَيْثُ يَعْجِزُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِإِكْرَاهِهِ نَفْسَهُ عَلَى جِمَاعِهَا، فَهَذَا إِذَا وَقَعَ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى طَوْلِ غَيْرِهَا مَعَ اسْتِبْقَائِهَا وَرَضِيَتْ بِإِقَامَتِهَا فِي عِصْمَتِهِ بِلَا وَطْءٍ وَبِلَا قَسْمٍ، فَيُكْرَهُ طَلَاقُهُ كَمَا كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَوْدَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى طَوْلِهَا أَوْ لَمْ تَرْضَ هِيَ بِتَرْكِ حَقِّهَا، فَهُوَ مُبَاحٌ لِأَنَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَكَانَ قِيلَ لَهُ: فِي كَثْرَةِ تَزَوُّجِهِ وَطَلَاقِهِ فَقَالَ: أُحِبُّ الْغَنِى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] فَهُوَ رَأْيٌ مِنْهُ إِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكُلَّ مَا نُقِلَ عَنْ طَلَاقِ الصَّحَابَةِ كَطَلَاقِ عُمَرَ ابْنَةَ أُمِّ عَاصِمٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَمَاضُرَ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَقَالَ لَهُنَّ أَنْتُنَّ حَسَنَاتُ الْأَخْلَاقِ، نَاعِمَاتُ الْأَطْرَافِ، طَوِيلَاتُ الْأَعْنَاقِ، اذْهَبْنَ فَأَنْتُنَّ طَلَاقٌ، فَمَحْمَلُهُ وُجُودُ الْحَاجَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ، فَمَحْضُ كُفْرَانِ نِعْمَةٍ وَسُوءِ أَدَبٍ فَيُكْرَهُ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.

3281 - عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلَا عَتَاقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ، وَلَا وِصَالَ فِي صِيَامٍ، وَلَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا رَضَاعَ بَعْدَ فِطَامٍ، وَلَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3281 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَلَا عَتَاقَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: النَّفْيُ وَإِنْ جَرَى عَلَى لَفْظِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنَّ الْمَنْفِيَّ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا وُقُوعَ لِطَلَاقٍ قَبْلَ نِكَاحٍ وَلَا تَقَرُّرَ عَتَاقٍ (إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ) : وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (وَلَا وِصَالَ) : أَيْ: لَا جَوَازَ لَهُ وَلَا حِلَّ (فِي صِيَامٍ) : تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ (وَلَا يُتْمَ) : بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْفَوْقَانِيَّةِ (بَعْدَ احْتِلَامٍ) : أَيْ: بُلُوغٍ (وَلَا رَضَاعَ بَعْدَ فِطَامٍ) : أَيْ: لَا أَثَرَ لِلرَّضَاعِ وَلَا حُكْمَ لَهُ بَعْدَ أَوَانِ الْفِطَامِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ (وَلَا صَمْتَ يَوْمٍ) : أَيْ: سُكُوتَهُ (إِلَى اللَّيْلِ) : أَيْ: لَا عِبْرَةَ بِهِ وَلَا فَضِيلَةَ لَهُ، وَلَيْسَ هُوَ مَشْرُوعًا عِنْدَنَا شَرْعَهُ فِي الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَنَا، وَقِيلَ يُرِيدُ بِهِ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، قِيلَ فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْ كَلَامٍ لَا إِثْمَ فِيهِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ الصَّمْتُ مِنْ سَبِيلِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ اعْتِكَافِهِمْ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، قَالَ طَاوُسٌ: مَنْ تَكَلَّمَ وَاتَّقَى اللَّهَ خَيْرٌ مِمَّنْ صَمَتَ وَاتَّقَى اللَّهَ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» ) : (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مَرْفُوعًا " «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَلَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ» "، وَعِنْدَهُ طَرِيقٌ آخَرُ عَنْ عَلِيٍّ يَرْفَعُهُ " «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» " وَفِيهِ جُوَيْبِرٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

3282 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ " وَلَا بَيْعَ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3282 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» ) : أَيْ: لَا صِحَّةَ لَهُ، فَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَعْتَقَ هَذَا الْعَبْدَ، وَلَمْ يَكُنْ مِلْكَهُ وَقْتَ النَّذْرِ، لَمْ يَصِحَّ النَّذْرُ فَلَوْ مَلَكَهُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يُعْتِقْ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا (وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ " وَلَا بَيْعَ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُ "، وَفِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ: قَالَ: التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ تَمَسُّكُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمَذْهَبُنَا: أَنَّهُ إِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى سَبَبِيَّةِ الْمِلْكِ صَحَّ كَمَا إِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إِنْ نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِذَا وَقَعَ النِّكَاحُ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَكَذَا إِذَا أَضَافَ الْعِتْقَ إِلَى الْمِلْكِ نَحْوَ إِنْ مَلَكْتُ عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ ; لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ لِمَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، وَهُوَ الطَّلَاقُ كَالْعِتْقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْإِبْرَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ خَصَّ بَلَدًا أَوْ قَبِيلَةً أَوْ صِنْفًا أَوِ امْرَأَةً صَحَّ وَإِنَّ عَمَّمَ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ إِذْ فِيهِ سَدُّ بَابِ النِّكَاحِ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعُمُومِ وَذَلِكَ الْخُصُوصِ إِلَّا أَنَّ صِحَّتَهُ فِي الْعُمُومِ مُطْلَقٌ، يَعْنِي لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعَلَّقَ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، وَفِي الْمُعَيَّنَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحِ الشَّرْطِ، فَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ، فَتَزَوَّجَهَا لَمْ تُطَلَّقْ ; لِأَنَّهُ عَرَّفَهَا بِالْإِشَارَةِ فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الصِّفَةُ، أَعْنِي أَتَزَوَّجُهَا، بَلِ الصِّفَةُ فِيهَا لَغْوٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ طَلَاقٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إِنْ تَزَوَّجْتُ هَذِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَلَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالسَّبَبِ، فِي الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَجْتَمِعُ مَعَهَا فِي فِرَاشِي فَهِيَ طَالِقٌ، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، لَا تُطْلَّقُ، وَكَذَا كُلُّ جَارِيَةٍ أَطَؤُهَا حُرَّةٌ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً، فَوَطَئَهَا، لَا تَعْتِقُ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يُضَفْ إِلَى الْمِلْكِ، وَمَذْهَبُنَا عَنْ عُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى نَفْيِ التَّنْجِيزِ لِأَنَّهُ هُوَ الطَّلَاقُ أَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِهِ فَلَيْسَ بِهِ، بَلْ عَرَضِيَّةٌ أَنْ يَصِيرَ طَلَاقًا وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ، وَالْحَمْلُ مَأْثُورٌ عَنِ السَّلَفِ كَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَكُلُّ أَمَةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ: هُوَ كَمَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ أَوَلَيْسَ قَدْ جَاءَ لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: امْرَأَةُ فُلَانٍ طَالِقٌ، وَعَبْدُ

فُلَانٍ حُرٌّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْأَسْوَدِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنِ حَزْمٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَكْحُولٍ الشَّامِيِّ، فِي رَجُلٍ قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ قَالُوا: هُوَ كَمَا قَالَ، وَفِي لَفْظِ " يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ " وَقَدْ نَقَلَ مَذْهَبُنَا أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَشُرَيْحٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، قَالَ: طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ» ، وَمَا أَخْرَجَ أَيْضًا «عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِي اعْمَلْ لِي عَمَلًا حَتَّى أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي، فَقُلْتُ: إِنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي: تَزَوَّجْهَا فَإِنَّهُ لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ، قَالَ فَتَزَوَّجَتْهَا فَوَلَدَتْ لِي سَعْدًا وَسَعِيدًا» . فَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِهَا، قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: إِنَّهُمَا بَاطِلَانِ فَفِي الْأَوَّلِ أَبُو خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: وَضَّاعٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ: كَذَّابٌ، وَفِي الْأَخِيرِ عَلِيُّ بْنُ قَرِينٍ، كَذَّبَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: يَسْرِقُ الْحَدِيثَ، بَلْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْقَاضِي شَيْخُ السُّهَيْلِيِّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ، وَقَالَ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الصِّحَّةِ، وَكَذَا مَا عَمِلَ بِهَا مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، فَمَا قِيلَ لَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُهَا حَتَّى يُتْرُكَ الْعَمَلُ بِهَا سَاقِطٌ، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ فَرْعُ صِحَّةِ الدَّلِيلِ أَوَّلًا، كَيْفَ وَمَعَ تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ لَا دِلَالَةَ عَلَى نَفْيِ تَعْلِيقِهِ، بَلْ عَلَى نَفْيِ تَنْجِيزِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى التَّنْجِيزِ ; لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّعْلِيقِ، فَالْجَوَابُ صَارَ ظَاهِرًا بَعْدَ اشْتِهَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ لَا قَبْلَهُ، فَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُونَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ تَنْجِيزًا، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ طَلَاقًا إِذَا وُجِدَ النِّكَاحُ، فَنَفَى ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّرْعِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيَّ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَقَالَ الْقَاسِمُ إِنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا فَأَمَرَ عُمَرُ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُظَاهِرِ فَقَدْ صَرَّحَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِصِحَّةِ تَعْلِيقِ الظِّهَارِ بِالْمِلْكِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا وَالْكُلُّ وَاحِدٌ وَالْخِلَافُ فِيهِ أَيْضًا، وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ إِذَا قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَصِحُّ فَمَنْ تَزَوَّجَهَا يَصِيرُ مُولِيًا.

3283 - «وَعَنْ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ رُكَانَةُ: وَالِلَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَانِ عُمَرَ وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3283 - (وَعَنْ رُكَانَةَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ (بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (الْبَتَّةَ) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ أَيْ قَالَ: أَنْتِ طَلَاقٌ الْبَتَّةَ، مِنَ الْبَتِّ: الْقَطْعُ، قِيلَ الْمُرَادُ بِـ " الْبَتَّةَ " الطَّلْقَةُ الْمُنْجِزَةُ، يُقَالُ: عَيْنٌ بَاتَّةٌ وَبَتَّةٌ أَيْ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ عَلَائِقِ التَّعْوِيقِ، ثُمَّ طَلَاقُ الْبَتَّةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ نَوَى بِهَا اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَهُوَ مَا نَرَى، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنِ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَعِنْدَ مَالِكٍ ثَلَاثٌ (فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : الْمُخْتَارُ بِنَاؤُهُ لِلْفَاعِلِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمُؤَيِّدِ بِرِوَايَةِ الْأَصْلِ الْأَصِيلِ الْمُغْنِي عَنِ التَّقْدِيرِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. (وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً) : عَطْفٌ عَلَى (فَأَخْبَرَ) : وَفِي عِبَارَةِ الْمَصَابِيحِ " فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي الْبَتَّةَ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً " وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أُخْبِرَ يَكُونُ مَجْهُولًا، وَقَالَ فِي عِبَارَةِ الْمِشْكَاةِ مَعْطُوفًا عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ فَأَتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ: رُكَانَةُ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مُبَاحٌ، وَلَا يَكُونُ بِدْعَةً لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ مَا أَرَدْتَ بِهَا، وَلَمْ يَنْهَ أَنْ يُرِيدَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ، وَأَمَّا عَلَى كَوْنِهِ مُبَاحًا أَوْ حَرَامًا، فَلَا، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا الدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مُصَدَّقٌ بِالْيَمِينِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مَا لَمْ يُكَذِّبْهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْبَتَّةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَمَا حَلَّفَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِلَّا وَاحِدَةً، وَأَنَّ مَنْ تَوَجُّهَ عَلَيْهِ يَمِينٌ فَحَلَفَ قَبْلَ أَنْ يُحَلِّفَهُ الْحَاكِمُ لَمْ يُعْتَبَرْ حَلِفُهُ إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ لَاقْتَصَرَ عَلَى حَلِفِهِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُحَلِّفْهُ ثَانِيًا، وَمِنْهَا أَنَّ مَا فِيهِ احْتِسَابٌ لِلْحَاكِمِ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُدَّعٍ (فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: مَكَّنَهُ مِنَ الرَّدِّ بِتَحْدِيدِ النِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يَقَعُ بِهَذَا الْقَوْلِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ سَوَاءٌ نَوَى وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَإِنْ

نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَبِالْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ يَقُولَ رَاجَعْتُهَا إِلَى نِكَاحِي، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ أَنَّ طَلَاقَ الْبَتَّةِ وَاحِدَةٌ إِذَا لَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَأَنَّهَا رَجْعِيَّةٌ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الْخَلِيَّةَ وَالْبَرِيَّةَ وَالْبَاتَّةَ وَالْبَتَّةَ وَالْحَرَامَ ثَلَاثًا (فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ) : أَيِ: الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ إِمَّا الرَّجْعِيَّةُ وَإِمَّا الْبَائِنَةُ (فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ، إِلَّا أَنَّهُمْ) : أَيِ: التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ (لَمْ يَذْكُرُوا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - قَالَ: «طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا فَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ طَلَّقْتَهَا قَالَ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قَالَ: تَمْلِكُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَارْتَجَعَهَا» فَحَدِيثٌ مُنْكُرٌ، وَالْأَصْلُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْبَتَّةَ فَحَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً فَرَدَّهَا إِلَيْهِ، وَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَانِ عُمَرَ وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذَا أَصَحُّ، اهـ. فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَذْكُرُوا. . . إِلَخْ عَلَى رِوَايَةٍ لَهُمْ.

3284 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدُّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرِّجْعَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3284 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ» ) : الْهَزْلُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ بِغَيْرِ مُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَالْجَدُّ مَا يُرَادُ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ، أَوْ مَا صَلَحَ لَهُ اللَّفْظُ مَجَازًا (الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالرِّجْعَةُ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا فَفِي الْقَامُوسِ: بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ عَوْدُ الْمُطَلَّقِ إِلَى طَلِيقَتِهِ، وَفِي الْمَشَارِقِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ: وَرِجْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ فِيهَا الْوَجْهَانِ وَالْكَسْرُ أَكْثَرُ وَأَنْكَرَ ابْنُ مَكِّيٍّ الْكَسْرَ، وَلَمْ يُصِبْ يَعْنِي لَوْ طَلَّقَ أَوْ نَكَحَ أَوْ رَاجَعَ، وَقَالَ: كُنْتُ فِيهِ لَاعِبًا وَهَازِلًا، لَا يَنْفَعُهُ وَكَذَا الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَجَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ وَأَتَمُّ، قَالَ الْقَاضِي: اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الْهَازِلِ يَقَعُ فَإِذَا جَرَى صَرِيحُ لَفْظَةِ الطَّلَاقِ عَلَى لِسَانِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ لَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَقُولَ: كُنْتُ فِيهِ لَاعِبًا أَوْ هَازِلًا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ إِبْطَالُ أَحْكَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَمَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ وَخَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ لِتَأْكِيدِ أَمْرِ الْفَرَجِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِتَقْدِيمِ النِّكَاحِ عَلَى الطَّلَاقِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْغِفَارِيُّ: وَرُوِيَ " وَالْعِتْقُ " وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهُ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَكَلَامُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ حَسَنٌ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

3285 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، قِيلَ: مَعْنَى الْإِغْلَاقِ الْإِكْرَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3285 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إِكْرَاهٍ بِهِ أَخَذَ مَنْ لَمْ يُوقِعِ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ مِنَ الْمُكْرَهِ، وَهُوَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَعِنْدَنَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَإِعْتَاقُهُ وَنِكَاحُهُ قِيَاسًا عَلَى صِحَّتِهَا مَعَ الْهَزْلِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ (قِيلَ: مَعْنَى الْإِغْلَاقِ الْإِكْرَاهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِرْسَالُ التَّطْلِيقَاتِ دُفْعَةً وَاحِدَةً حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَكِنْ يُطَلِّقُ طَلَاقَ السُّنَّةِ، اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَا يَسْتَقِيمُ فِي عَتَاقٍ قَالَ مِيرَكُ: وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي غِلَاقٍ وَقَالَ: الْغِلَاقُ أَظُنُّهُ الْغَضَبُ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الْمَحْفُوظُ الْإِغْلَاقُ، وَفَسَّرُوهُ بِالْإِكْرَاهِ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُغَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِهِ، كَمَا يُغَلَّقُ الْبَابُ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: كَانَ يُغَلَّقُ عَلَيْهِ الْبَابُ وَيُحْبَسُ أَمْرُهُ وَيُضَيَّقُ حَتَّى يُطَلِّقَ وَقِيلَ الْإِغْلَاقُ هَاهُنَا الْغَضَبُ كَمَا

فَسَّرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ كُلِّهِ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ طَلَاقَ بِدَعَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِبِدْعَةٍ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَبِقَوْلِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَلَا خُلْعُهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلَيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ". وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ الَّذِي بِهِ يُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ بِخِلَافِ الْهَازِلِ ; لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ، قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ اخْتِيَارًا كَامِلًا فِي السَّبَبِ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ ; لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ فَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ ذَلِكَ، وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا فِي نَفْيِ الْحُكْمِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ وَأَبِيهِ حِينَ حَلَّفَهُمَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ لَهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» ". فَبَيَّنَ أَنَّ الْيَمِينَ طَوْعًا وَكَرْهًا سَوَاءٌ، فَعُلِمَ أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ عَنِ اخْتِيَارٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ; لِأَنَّ حُكْمَهُ يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَعَ الرِّضَا، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالْإِكْرَاهِ، وَحَدِيثُ «رَفْعِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى وَلَا عُمُومَ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْحُكْمِ الَّذِي يَعُمُّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا وَأَحْكَامَ الْآخِرَةِ، بَلْ إِمَّا حُكْمُ الدُّنْيَا وَإِمَّا حُكْمُ الْآخِرَةِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآخِرَةِ - وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ - مُرَادٌ فَلَا يُرَادُ الْآخَرُ مَعَهُ وَالْأَعَمُّ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عُمَرَ الطَّائِيِّ «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُبْغِضُ زَوْجَهَا فَوَجَدَتْهُ نَائِمًا فَأَخَذَتْ شَفْرَةً وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ حَرَّكَتْهُ وَقَالَتْ: لَتُطَلِّقَنَّي ثَلَاثًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّكَ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ، فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» ، اهـ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَجَمِيعُ مَا يَثْبُتُ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَحْكَامُهُ عَشَرَةُ تَصَرُّفَاتٍ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرِّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ وَالظِّهَارُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْيَمِينُ وَالنُّذُرُ، وَجَمَعْتُهَا لِيَسْهُلَ حِفْظُهَا فِي قَوْلِهِ: يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِتْقٌ وَرِجْعَةٌ ... نِكَاحٌ وَإِيلَاءٌ طَلَاقٌ مُفَارِقُ وَفِي ظِهَارٍ وَالْيَمِينِ وَنَذَرِهِ وَعَفْوٍ ... لِقَتْلٍ يُثَابُ عَنْهُ مُفَارِقُ وَهَذَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ تَتِمُّ أَحَدَ عَشَرَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَصِحُّ مَعَهُ.

3286 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعَطَاءُ بْنُ عَجْلَانَ الرَّاوِي ضَعِيفٌ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3286 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ» ) : قِيلَ هُوَ الْمَجْنُونُ الْمُصَابُ فِي عَقْلِهِ، وَقِيلَ نَاقِصُ الْعَقْلِ (وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ) : كَأَنَّهُ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ " الْمَغْلُوبِ " بِلَا وَاوٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَغْلُوبِ السَّكْرَانُ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتُلِفَ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ، فَذَهَبَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا عَقْلَ لَهُ كَالْمَجْنُونِ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ يَقَعُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ لَمْ يُزَلْ عَنْهُ الْخِطَابُ، وَلَا الْآثِمُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ وَيَأْثَمُ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْمَعْتُوهُ نَاقِصُ الْعَقْلِ وَقَدْ عُتِهَ، وَالتَعَتُّهُ: التَّجَنُّنُ، وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ يَعُمُّ السَّكْرَانَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، وَالْمَجْنُونُ وَالنَّائِمُ وَالْمَرِيضُ الزَّائِلُ عَقْلُهُ بِالْمَرَضِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَفِي الْإِيضَاحِ: يَقَعُ لِأَنَّ السُّكْرَ حَصَلَ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، ذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ، قَالَ قَاضِي خَانْ: وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَفِي الْهِدَايَةِ: وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونُ وَالنَّائِمُ، وَالْمَعْتُوهُ كَالْمَجْنُونِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قِيلَ هُوَ قَلِيلُ الْفَهْمِ الْمُخْتَلِطُ الْكَلَامِ الْفَاسِدُ التَّدَبُّرِ، لَكِنْ لَا يَضْرِبُ وَلَا يَشْتُمُ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ، وَقِيلَ الْعَاقِلُ مَنْ يَسْتَقِيمُ كَلَامُهُ وَأَفْعَالُهُ إِلَّا نَادِرًا، وَالْمَجْنُونُ ضِدُّهُ، وَالْمَعْتُوهُ مَنْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى السَّوَاءِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يُحْكَمَ بِالْعَتَهِ عَلَى أَحَدٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمَا قِيلَ مَنْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ غَالِبًا مَعْنَاهُ يَكْثُرُ مِنْهُ، وَقِيلَ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلَ الْمَجَانِينِ عَنْ قَصْدٍ مَعَ ظُهُورِ الْفَسَادِ، وَالْمَجْنُونُ بِلَا قَصْدٍ وَالْعَاقِلُ خِلَافُهُمَا، وَقَدْ يَفْعَلُ فِعْلَ الْمَجَانِينِ عَلَى ظَنِّ الصَّلَاحِ أَحْيَانًا، وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَدْهُوشُ كَذَلِكَ وَهَذَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ

طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعَطَاءُ بْنُ عَجْلَانَ الرَّاوِي ضَعِيفٌ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ) : أَيْ: غَيْرُ حَافِظٍ لَهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ، وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ، وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ هُنَا النَّفَاذُ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا سَكْرَانٍ طَلَاقٌ. وَفِي الْهِدَايَةِ: وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ، وَكَذَا عَتَاقَهُ وَخُلْعُهُ، وَهُوَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ وَلَا السَّمَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْعَقْلِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ فَهُوَ مَنْ كَالصَّاحِي، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ عَالٍ بَيْنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ بِوُقُوعِهِ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَقَالَ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ: الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَطَاوُسٌ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّيْثُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ زُفَرُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُثْمَانَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُخْتَارُ الْكَرْخِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ مَشَايِخِنَا، وَاتَّفَقَ مَشَايِخُ الْمَذْهَبَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ بِوُقُوعِ طَلَاقِ مَنْ غَابَ عَقْلُهُ بِأَكْلِ الْحَشِيشِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِوَرَقِ الْقِنَّبِ؛ لِفَتْوَاهُمْ بِحُرْمَتِهِ بَعْدَ أَنِ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَأَفْتَى الْمُزَنِيُّ بِحُرْمَتِهَا وَأَفْتَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو بِحِلِّهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهَا بِشَيْءٍ لِعَدَمِ ظُهُورِ شَأْنِهَا فِيهِمْ، فَلَمَّا ظَهَرَ مَنْ أَمْرِهَا الْفَسَادُ كَثِيرًا وَفَشَا عَادَ مَشَايِخُ الْمَذْهَبَيْنِ إِلَى تَحْرِيمِهَا، وَأَفْتَوْا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِمَّنْ زَالَ عَقْلُهُ بِهَا وَعَدَمُ الْوُقُوعِ بِالْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ لِعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتَّدَاوِي غَالِبًا، فَلَا يَكُونُ زَوَالُ الْعَقْلِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّدَاوِي بَلْ لِلَّهْوِ وَإِدْخَالِ الْآفَةِ. يَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ يَقَعُ ثُمَّ لَوْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا أَوْ لِإِسَاغَةِ لُقْمَةٍ، ثُمَّ سَكِرَ، لَا يَقَعُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ عِنْدَ كَمَالِ التَّلَذُّذِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ مُكْرَهًا وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِأَنَّ مُوجِبَ الْوُقُوعِ عِنْدَ زَوَالِ الْعَقْلِ لَيْسَ إِلَّا التَّسَبُّبُ فِي زَوَالِهِ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ، وَهُوَ مُنْتَفٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ السُّكْرَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْأَشْرِبَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوِ اضْطُرَّ، لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ، وَمَنْ سَكِرَ مِنْهَا مُخْتَارًا اعْتُبِرَتْ عِبَارَاتُهُ، وَأَمَّا مِنْ شَرِبَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخِذَةِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْعَسَلِ فَسَكِرَ وَطَلَّقَ لَا يَقَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَيُفْتَى بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ مُحَرَّمٌ.

3287 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3287 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ.

3288 - رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3288 - (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُمَا) : أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ بِلَفْظِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» . قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْرِفُ لِلْحَسَنِ سَمَاعًا مِنْ عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدْرَكَهُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ عَلِيٍّ يَرْفَعُهُ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا مَوْقُوفًا.

3289 - وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3289 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» ) : دَلَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعِدَّةِ بِالْمَرْأَةِ، وَأَنْ لَا عِبْرَةَ بِحُرِّيَّةِ الزَّوْجِ وَكَوْنِهِ عَبْدًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ دُونَ الْأَطْهَارِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الْحَيْضُ لَا الْأَطْهَارُ، وَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: كَذَا الْحَدِيثُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الطَّلَاقُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً يَكُونُ طَلَاقُهَا اثْنَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: الطَّلَاقُ يَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ، فَطَلَاقُ الْعَبْدِ اثْنَانِ وَطَلَاقُ الْحُرِّ ثَلَاثٌ، وَلَا نَظَرَ لِلزَّوْجَةِ، وَعِدَّةُ الْأَمَةِ عَلَى نِصْفِ عِدَّةِ الْحُرَّةِ فِيمَا لَهُ نِصْفٌ، فَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَعِدَّةُ الْأُمَّةِ حَيْضَتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِصْفَ لِلْحَيْضِ وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ فَعِدَّةُ الْأَمَةِ شَهْرٌ وَنِصْفُهُ، وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: نُقِلَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لِمَا قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ لَهُ: أَيُّهَا الْفَقِيهُ! إِذَا مَلَكَ الْحُرُّ عَلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ ثَلَاثًا كَيْفَ يُطْلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ، قَالَ يُوقِعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةً فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ أَوْقَعَ أُخْرَى فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ، قَالَ: لَهُ حَسْبُكَ قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَمَّا تَحَيَّرَ رَجَعَ، فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةٌ وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةٌ، وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِقَوْلِنَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» ، قَابَلَ بَيْنَهُمَا، وَاعْتِبَارُ الْعِدَّةِ بِالنِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ، فَكَذَا مَا قُوبِلَ بِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ أَنْسَبُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِيقَاعُ بِالرِّجَالِ؛ وَلِأَنَّهُ مَعْمُومٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ «أَنَّ نُقَيْعًا مُكَاتَبًا لِأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَبَدًا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَطَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَأَمَرَهُ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ عُثْمَانَ فَيَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَقِيَهُ عِنْدَ الدَّرَجِ آخِذٌ بِيَدِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَسَأَلَهُمَا فَابْتَدَآهُ جَمِيعًا فَقَالَا: لَا حَرُمَتْ عَلَيْكَ وَلَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ الثَّابِتُ، بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ وَمَا مَهَّدَهُ مِنْ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَوْ حُسْنُهُ وَلَا وُجُودَ لَهُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَرِيقٍ يُعْرَفُ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحَدِيثُ الْمُوَطَّأِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَعَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ، وَالْإِلْزَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنْ قُلْتَ قَدْ ضُعُّفَ أَيْضًا مَا رَوَيْتُمْ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُظَاهِرٍ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ! ؟ قُلْتُ: أَوَّلًا: تَضْعِيفُ بَعْضِهِمْ لَيْسَ كَعَدَمِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا هُوَ فِيمَا رَوَيْتُمْ، وَثَانِيًا: بِأَنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ ضَعِيفٌ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَخْرَجَ لَهُ حَدِيثًا آخَرَ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ آخَرِ آلِ عِمْرَانَ» "، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ حَدِيثَهُ هَذَا عَنْهُ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَمُظَاهِرٌ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي مَشَايِخِنَا بِجُرْحٍ، فَإِذًا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ صَحِيحًا كَانَ حَسَنًا، وَمِمَّا يُصَحِّحُ الْحَدِيثَ عَمَلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وَفْقِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: عَقِيبَ رِوَايَتِهِ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ، وَفِي الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالَ مَالِكٌ: شُهْرَةُ الْحَدِيثِ بِالْمَدِينَةِ تُغْنِي عَنْ صِحَّةِ سَنَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ تَمَّ أَمْرُ مَا رَوَاهُ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ قِيَامَ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ احْتِمَالًا لِلَّفْظٍ مُسَاوِيًا لَتَأَيَّدَ بِمَا رَوَيْنَاهُ، فَكَيْفَ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمُ: الْمِلْكُ بِالرِّجَالِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «جَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَصَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِنْبَرَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ غَيْرِهَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3290 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُنْتَزِعَاتُ وَالْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) 3290 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْمُنْتَزِعَاتُ) : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيِ الَّتِي يَطْلُبْنَ الْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ عَنْ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ (هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ) : أَيِ: الْعَاصِيَاتُ بَاطِنًا، وَالْمُطِيعَاتُ ظَاهِرًا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مُبَالَغَةٌ فِي الزَّجْرِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» ، اهـ. وَرِوَايَتُهُ عَنْ ثَوْبَانَ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَفْظُهُ: «الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُتَبَرِّجَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» .

3291 - وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ مَوْلَاةٍ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ لَهَا فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3291 - (وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ مَوْلَاةٍ لِصَفِيَّةَ) : أَيْ: أُخْتُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ الثَّقَفِيَّةُ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَدْرَكَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَمِعَتْ مِنْهُ، وَلَمْ تَرْوِ عَنْهُ، وَرَوَتْ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ (بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا) : أَيْ: صَفِيَّةُ (اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا) : أَيِ: ابْنِ عُمَرَ (بِكُلِّ شَيْءٍ لَهَا) : مِنْ مَالِهَا أَوْ بِكُلِّ حَقِّ لَهَا حَصَلَ بِإِعْطَائِهِ (فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَوَاهُ مَالِكٌ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا، وَقَيَّدَتِ الظَّاهِرِيَّةُ صِحَّتَهُ بِمَا إِذَا كَرِهَتْهُ وَخَافَ أَنْ لَا يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا، وَأَنْ لَا تُوَفِّيَهُ حَقَّهُ وَمَنَعَتْهُ إِذَا كَرِهَهَا هُوَ، وَقَالَ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ السُّلْطَانُ، كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ وَجْهُ قَوْلِ الْمُزَنِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] نُسِخَ حُكْمُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] أُجِيبُ بِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِتَأَخُّرِ هَذِهِ وَعَدَمِ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا إِذَا أَرَادَ الزَّوْجُ اسْتِبْدَالَ غَيْرِهَا مَكَانَهَا، وَالْآيَةُ مُطْلَقَةٌ، فَكَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لَهَا مُطْلَقًا؟ وَفِي الْهِدَايَةِ وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] نَهَى عَنِ الْأَخْذِ مِنْهَا عِنْدَ عَدَمِ نُشُوزِهَا وَكَوْنِهِ مِنْ قِبَلِهِ، وَثُبُوتُ الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ لِلْمُعَارَضَةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي امْرَأَةِ ثَابِتٍ مِنْ نَفْيِ الزِّيَادَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ وَقَدْ رُوِيَتْ مُرْسَلَةً وَمُسْنَدَةً، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ كُلُّهُمْ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَقْرَبُ الْمَسَانِيدِ مُسْنَدُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَشْكُوَ زَوْجَهَا، فَقَالَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصْدَقَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، قَالَ: " أَمَّا الزِّيَادَةُ، فَلَا» . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْوَلِيدُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَرَاسِيلُ أَصَحُّ، وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ كَانَتْ عِنْدَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَكَانَ أَصْدَقَهَا حَدِيقَةً فَكَرِهَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَعْطَاكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً فَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا الزِّيَادَةُ، فَلَا، وَلَكِنْ حَدِيقَتُهُ، قَالَتْ: نَعَمْ فَأَخَذَهَا» ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولٍ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادَ» ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَسَمَّاهَا فِيهِ

حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسَمَّاهَا حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةَ وَزَادَ فِيهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا بِانْفِرَادِهِ وَعِنْدَ غَيْرِنَا إِذَا اعْتَضَدَ بِمُرْسَلٍ آخَرَ يُرْسِلُ مَنْ رَوَى غَيْرُ رِجَالِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِمُسْنَدٍ كَانَ حُجَّةً، وَقَدِ اعْتَضَدَ هُنَا بِهِمَا جَمِيعًا، وَظَهَرَ لَكَ الْخِلَافُ فِي اسْمِ الْمَرْأَةِ جَمِيلَةَ أَوْ حَبِيبَةَ أَوْ زَيْنَبَ، وَفِي اسْمِ أَبِيهَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَلُولَ أَوْ سَلُولٍ أَوْ سَهْلٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الرَّبِيعَ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ تَمْلِكُهُ فَخُوصِمَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَأَجَازَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِقَاصَ رَأْسِهَا فَمَا دُونَهُ، وَذُكِرَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ جَاءَتْهُ مَوْلَاةٌ لِامْرَأَتِهِ اخْتَلَعَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلِّ ثَوْبٍ حَتَّى نَفَقَتَهَا، وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عُقْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: لَا يَأْخُذُ مِنْهَا فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا، وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ عِمْرَانَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كُرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَقَالَ طَاوُسٌ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا.

3292 - وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ «أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3292 - (وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحَادِيثَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُعْرَفُ لَهُ صُحْبَةٌ وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي التَّابِعِينَ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ، فَأَثْبَتَ لَهُ صُحْبَةً، وَكَانَ مَحْمُودٌ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ (قَالَ أُخْبِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ «رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ أَيُلْعَبُ» ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا ( «بِكِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» ) : يُرِيدُ قَوْلَهَ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] أَيِ التَّطْلِيقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ وَالْإِرْسَالِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلِمْ يُرِدْ بِالْمَرَّتَيْنِ التَّثْنِيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أَيْ: كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ لَا كَرَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] تَخْيِيرٌ لَهُمْ بَعْدَ مَا عَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُطْلِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكُوا النِّسَاءَ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِنَّ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَرِّحُوهُنَّ السَّرَاحَ الْجَمِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُمْ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ فَلْيُكَنْ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ بَعْدَ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ أَيْ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى بِالْوَجْهِ السُّنِّيِّ، وَلِذَا أَنْكَرَ عَلَى الْمُطَلِّقِ بِالثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَهُ الْإِمْسَاكُ وَالتَّسْرِيحُ الْمَذْكُورَانِ، ثُمَّ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّطْلِيقَ بِالثَّلَاثِ حَرَامٌ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَصِيرُ غَضْبَانَ إِلَّا بِمَعْصِيَةٍ، وَلِإِنْكَارِهِ بِقَوْلِهِ " «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ» " وَهُوَ أَعْظَمُ إِنْكَارٍ بَلْ أُتِمُّ إِكْفَارٍ، وَقَوْلُهُ " وَأَنَا بَيْنٌ أَظْهُرِكُمْ " إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ عُذْرِهِ فِي ارْتِكَابِ الْمُنْكَرِ (حَتَّى قَامَ رَجُلٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ) : لِكَمَالِ غَضَبِهِ أَوْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى لَعِبِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ مَا ثَبَتَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فَإِنَّ الزَّوْجَ إِذَا فَرَّقَ يُقَلِّبُ اللَّهُ قَلْبَهُ مِنْ بُغْضِهَا إِلَى مَحَبَّتِهَا، وَمِنَ الرَّغْبَةِ عَنْهَا إِلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَمِنْ عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ إِلَى النَّدَمِ عَلَيْهِ فَيُرَاجِعُهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: يَقَعُ ثَلَاثًا، وَقَالَ طَاوُسٌ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةً، وَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يَعْنِي الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا قَدْ يَحْدُثُ لَهُ نَدَمٌ، فَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ، لَمْ يَقَعْ إِلَّا رَجْعِيًّا فَلَا يَتَوَجَّهُ هُنَا التَّهْدِيدُ، «وَبِحَدِيثِ رُكَانَةَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَقَالَ: لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الثَّلَاثَ لَوَقَعَتْ، وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ لِتَحْلِيفِهِ مَعْنًى، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ بِدُفْعَةٍ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَنَا لَكِنَّ الْأَوْلَى تَفْرِيقُهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ: هُوَ بِدْعَةٌ، أَقُولُ: فَلَا يَتَوَجَّهُ هَذَا التَّهْدِيدُ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] حُجَّةٌ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِالتَّحْرِيمِ، وَالْآيَةُ وَالْحَدِيثُ دَالَّانِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مِنْ نِسْبَةِ الطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ إِلَى مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ.

3293 - وَعَنْ مَالِكٍ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةَ تَطْلِيقَةٍ فَمَاذَا تَرَى عَلَيَّ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلُقَتْ مِنْكَ بِثَلَاثٍ، وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا. رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3293 - (وَعَنْ مَالِكٍ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةَ تَطْلِيقَةٍ فَمَاذَا تَرَى عَلَيَّ؟) : مِنَ الرَّأْيِ وَهُوَ الْحُكْمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَدَمِهِ (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَلُقَتْ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَضَمِّ اللَّامِ أَيِ الْمَرْأَةُ مِنْكَ (بِثَلَاثٍ وَسَبْعٌ) : بِالرَّفْعِ (وَتِسْعُونَ اتَّخَذَتَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزْوًا رَوَاهُ) : أَيْ: مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) : فِي عِبَارَةِ الْمُؤَلِّفِ مُسَامَحَةٌ لِمُنَاقِشَةٍ سَبَقَ تَوْضِيحُهَا، وَفِي الْهِدَايَةِ: وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ مَا خَالَفَ قَسَمَيِ السُّنَّةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُطْلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مُفَرَّقَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ كَذَلِكَ أَوْ وَاحِدَةً فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ أَوْ جَامَعَهَا فِي الْحَيْضِ الَّذِي يَلِيهِ هُوَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَانَ عَاصِيًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي كُلٍّ مِنْ وُقُوعِهِ وَعِدَدِهِ وَكَوْنِهِ مَعْصِيَةً خِلَافُ فِعْلِ الْإِمَامِيَّةِ لَا يَقَعُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ; لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» "، وَفِي أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَاجِعَهَا حِينَ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ فِي الْحَيْضِ وَأَمَّا بُطْلَانُهُ فِي الثَّلَاثِ فَيُنَظِّمُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ دَفْعِ كَلَامِ الْإِمَامِيَّةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَنُقِلَ عَنْ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ، يَقُولُونَ خَالَفَ السُّنَّةُ فَيُرَدُّ إِلَى السُّنَّةِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَةَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، قَالَ: نَعَمْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِفَمٍ وَاحِدٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَقَعُ ثَلَاثَةً وَفِي غَيْرِهَا وَاحِدَةً، لِمَا فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ كَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً، الْحَدِيثَ، «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا قَالَ أُجِيزُوهُنُّ عَلَيْهِمْ» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ مَا فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ «حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، قَالَ: إِذًا قَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، قَالَ: فَسَكَتَ، ظَنَنْتُ أَنَّهُ رَدَّهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يُطَلِّقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْحَمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] عَصَيْتَ رَبَّكَ وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ مَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ أَيْضًا بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي ثَمَانِيَ تَطْلِيقَاتٍ فَقَالَ: مَا قِيلَ لَكَ؟ فَقَالَ: قِيلَ لِي: بَانَتْ مِنْكَ. قَالَ: صَدَقُوا. هُوَ مِثْلُ مَا يَقُولُونَ، وَظَاهِرُهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ، قَالَ: طَلَّقَ رِجْلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فَجَاءَ يَسْتَفْتِي، فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَا: لَا نَرَى أَنْ تَنْكِحَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، قَالَ: فَإِنَّمَا طَلَاقِي إِيَّاهَا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَ بَيْنَ يَدَيْكَ مَا كَانَ لَكَ مِنْ فَضْلٍ، وَهَذَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا إِنَّمَا تُطَلَّقُ بِالثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَجَمِيعُهَا يُعَارِضُ مَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَّا إِمْضَاءُ عُمَرَ الثَّلَاثَ عَلَيْهِمْ فَلَا يُمْكِنُ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الصَّحَابَةِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا كَانَتْ وَاحِدَةً إِلَّا وَقَدِ اطَّلَعُوا فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ، هَذَا إِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِمْ بِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ لِذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِإِنَاطَتِهِ بِمَعَانٍ عَلِمُوا انْتِفَاءَهَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَأَخِّرِ، فَإِنَّا نَرَى الصَّحَابَةَ تَتَابَعُوا عَلَى هَذَا وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَعَ اشْتِهَارِ كَوْنِ حُكْمِ الشَّرْعِ الْمُتَقَرِّرِ كَذَلِكَ أَبَدًا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَوَجَدْنَاكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي تِسْعًا وَتِسْعِينَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: ثَلَاثٌ تُبِينُهَا وَسَائِرُهُنَّ عُدْوَانٌ. وَرَوَى وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: بَانَتْ مِنْكَ بِثَلَاثٍ وَاقْسِمْ سَائِرَهُنَّ عَلَى نِسَائِكَ. وَرَوَى وَكِيعٌ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ بَانَتْ مِنْكَ بِثَلَاثٍ، وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ «عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ أَبَاهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ فَانْطَلَقَ عُبَادَةَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَانَتْ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مِائَةِ أَلْفِ عَيْنٍ رَأَتْهُ فَهَلْ صَحَّ لَكُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ أَوْ عَنْ عُشْرِ عُشْرِ عُشْرِهِمُ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ، بَلْ لَوْ جَهِدْتُمْ لَمْ تُطِيقُوا نَقْلَهُ عَنْ عِشْرِينَ نَفْسًا بَاطِلٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَإِجْمَاعُهُمْ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقُلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَالَفَ عُمَرَ حِينَ أَمْضَى الثَّلَاثَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ الْإِجْمَاعِيِّ عَنْ مِائَةِ نَفْسٍ أَنْ يُسَمِّيَ كُلًّا، لِيَلْزَمَ فِي مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ حُكْمٌ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ، وَأَمَا ثَانِيًا: فَإِنَّ الْعِبْرَةَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ نَقْلُ مَا عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ لَا الْعَوَامِّ، وَالْمِائَةُ الَّذِي تُوُفِّيَ عَنْهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَبْلُغُ عِدَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ: كَالْخُلَفَاءِ وَالْعَبَادِلَةِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَلِيلٍ، وَالْبَاقُونَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَفْتُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا النَّقْلَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ صَرِيحًا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةٌ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يُسَوَّغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَهُوَ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ أَنَسٍ بِأَنَّهَا ثَلَاثٌ أَسْنَدَهَا الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَغَايَةُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَجْمَعَ عَلَى نَفْيِهِ وَكُنَّ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يُبَعْنَ، هَذَا، وَإِنْ حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ دَفْعًا لِمُعَارَضَةِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا أَوَجَدْنَاكَ مِنَ النَّقْلِ عَنْهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَعَدَمِ الْمُخَالِفِ لِعُمَرَ فِي إِمْضَائِهِ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ كَانَ وَاحِدَةً فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِقَصْدِهِمُ التَّأْبِيدَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ثُمَّ صَارُوا يَقْصِدُونَ التَّجْدِيدَ فَأَلْزَمَهُمْ عُمَرُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِقَصْدِهِمْ، وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّلَاثُ وَهُوَ كَوْنُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مَعْصِيَةً أَوَّلًا، فَحُكِيَ فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ اسْتَدَلَّ بِالْإِطْلَاقَاتِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] وَمَا رُوِيَ «أَنْ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ لَمَّا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ قَالَ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا» ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تُمَاضِرَ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ وَطَلَّقَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ امْرَأَتَهُ شَهْبَاءَ ثَلَاثًا لَمَّا هَنَّأَتْهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ وَلَنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إِلَى أَنْ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فَلَزِمَ أَنْ لَا طَلَاقَ شَرْعًا إِلَّا كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ، فَلَا طَلَاقَ مَشْرُوعٌ ثَلَاثًا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ يَتَبَادَرُ أَنْ لَا يَقَعَ شَيْءٌ كَمَا قَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ، لَكِنْ لَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ عَدَمَ مَشْرُوعِيَّتِهِ كَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ تَفْوِيتُ مَعْنَى شَرْعِيَّتِهِ - سُبْحَانَهُ - لَهُ كَذَلِكَ وَإِمْكَانُ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ وَقَدْ يَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ لَا، وَلَنَا أَيْضًا مَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي طَلَّقَ ثَلَاثًا وَجَاءَ يَسْأَلُ: " عَصَيْتَ رَبَّكَ "، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَانَتْ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَذَا مَا حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: إِنْ عَمَّكَ عَصَى اللَّهَ، فَأَثِمَ، وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ. . الْحَدِيثَ، كَمَا سَبَقَ، اهـ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ مُسْتَنِدًا إِلَى بَعْضِ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْبِكْرَ إِذَا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةً فَخَطَأٌ فَاحِشٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الْهُمَامِ.

3294 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا مُعَاذُ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَتَاقِ، وَلَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3294 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُعَاذُ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا» ) : أَيْ: مَوْجُودًا (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) : أَيْ: مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ (أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَتَاقِ) : فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِخَلَاصِ الْعَبْدِ مِنْ

عُبُودِيَّةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، وَلِتَجَرُّدِهِ إِلَى قِيَامِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ لِخَالِقِهِ، وَبَاعِثٌ عَلَى تَخْلِيصِ سَيِّدِهِ وَعِتْقِهِ مِنَ النَّارِ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَنْ خَلَّصَ عَبْدَهُ وَأَعْتَقَهُ مِنْ خِدْمَةِ الْخَلْقِ الَّذِي هُوَ الْعَارُ، وَفِيهِ تَخَلُّقٌ بِخَلَاقِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَعْظِيمٌ لِأَمْرِهِ وَشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ (وَلَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) : أَيْ: مَنِ الْحَلَالَاتِ (أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ) : أَيْ: مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَبِدُونِ ضَرُورَةٍ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: بَلْ قَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا فِي الَّتِي لَا تُصَلِّي وَالْفَاجِرَةِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي كَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُوَفِّيهَا مَهْرَهَا. وَحُكِيَ عَنِ أَبِي حَفْصٍ الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَقِيَ اللَّهَ وَمَهْرُهَا فِي عُنُقِهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً لَا تُصَلِّي، أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ أَيْ مِنْ طَلَاقِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُرُّ إِلَى مَعْصِيَةِ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمَا وَلِهَذَا كَانَ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الشَّيْطَانِ كَمَا وَرَدَ فِي تَعْظِيمِهِ لِبَعْضِ الْأَعْوَانِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ أَفْضَلُ مِنَ التَّجَرُّدِ لِلْعِبَادَةِ، وَعَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْخَلْقِ مِنَ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

[باب المطلقة ثلاثا]

[بَابُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3295 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا) أَيْ حُكْمُهَا فِي أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِلَا جِمَاعِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ وَالْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ لِذِكْرِ أَحَادِيثِهِمَا فِيهِ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) 3295 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ (الْقُرَظِيِّ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهُ ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ نِسْبَةٌ إِلَى قُرَيْظَةَ قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَهُودِ ( «إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ» ) : أَيْ: تَحْتَهُ (فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي) : أَيْ: قَطَعَهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الثَّلَاثِ شَيْئًا، وَقِيلَ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْجَمْعَ وَالتَّفْرِيقَ (تَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ) : الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِفَتْحِ الزَّايِ لَا غَيْرُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (وَمَا مَعَهُ) : أَيْ: لَيْسَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ آلَةِ الذُّكُورَةِ (إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ طَرَفُهُ وَهُوَ طَرَفُ الثَّوْبِ الْغَيْرِ الْمَنْسُوجِ كِنَايَةٌ عَنْ عُنَّتِهِ وَضَعْفِ آلَتِهِ شَبَّهَتْ بِهِ ذَكَرَهُ فِي الْإِرْخَاءِ وَالِانْكِسَارِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ وَالِانْتِشَارِ، فِي النِّهَايَةِ: أَرَادَتْ مَتَاعَهُ وَأَنَّهُ رَخْوٌ مِثْلُ طَرَفِ الثَّوْبِ لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةٍ " «وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - " (فَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا» ) : وَفِي نُسْخَةٍ " «قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: لَا تَرْجِعِي إِلَيْهِ " (حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ) » : بِضَمٍّ وَفَتْحٍ أَيْ لَذَّةَ جِمَاعِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكَ) : كِنَايَةٌ عَنْ حَلَاوَةِ الْجَمْعِ وَالْعُسَيْلُ تَصْغِيرُ الْعَسَلِ وَالتَّاءُ فِيهَا عَلَى نِيَّةِ اللَّذَّةِ أَوِ النِّيَّةِ أَيْ حَتَّى تَجِدِي مِنْهُ لَذَّةً وَيَجِدَ مِنْكِ لَذَّةً بِتَغَيُّبِ الْحَشَفَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ خِلَافًا لِلْحَسْنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ عِنْدَهُ حَتَّى يُنْزِلَ الثَّانِي حَمْلًا لِلْعُسَيْلَةِ عَلَيْهِ وَمَنَعْنَا بِأَنَّهَا تَصْدُقُ مَعَهُ مَعَ

الْإِيلَاجِ وَإِنَّمَا هُوَ كَمَالٌ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْعُسَيْلَةُ هِيَ الْجِمَاعُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَذَّةَ الْجِمَاعِ بِذَوْقِ الْعَسَلِ فَاسْتَعَارَ لَهَا ذَوْقًا وَإِنَّمَا أَنَّثَ لِأَنَّهُ أَرَادَ قِطْعَةً مِنَ الْعَسَلِ وَدَلَّ عَلَى إِعْطَائِهَا مَعْنَى النُّطْفَةِ، وَقِيلَ: الْعَسَلُ فِي الْأَصْلِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَإِنَّمَا صَغَّرَهُ إِشَارَةً إِلَى الْقَدْرِ الْقَلِيلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْحِلُّ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَيُصِيبَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي، فَإِنْ فَارَقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ إِصَابَتِهَا فَلَا تَحِلُّ وَلَا تَحِلُّ إِصَابَةُ شُبْهَةٍ وَلَا زِنًا وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ، وَكَانَ ابْنُ الْمُنْذِرِ يَقُولُ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ إِنْ وَاقَعَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَا تُحِسُّ بِاللَّذَّةِ إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الذَّوْقَ أَنْ يُحِسَّ بِاللَّذَّةِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا تَحِلُّ، أَقُولُ: فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يَكْفِي أَنَّهَا لَوْ أَحَسَّتِ اللَّذَّةَ، أَوْ يُقَالُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ لِأَنَّهُ جَوَابٌ وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِالْغَرَضِ مِنَ النَّفْيِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَصَوَّرُ جِمَاعُهَا مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ لَهَا، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ جِمَاعُهُ مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ لَهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَغْيِيبَ الْحَشَفَةِ فِي قُبُلِهَا كَافٍ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ، وَشَرَطَ الْحَسَنُ الْإِنْزَالَ لِقَوْلِهِ " حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ " وَهِيَ النُّطْفَةُ، قُلْتُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكَ " بَلْ وَفِي ذِكْرِ الذَّوْقِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْزَالَ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ شِبَعٌ، وَأَيْضًا الْجِمَاعُ اخْتِيَارِيٌّ بِخِلَافِ الْإِنْزَالِ، وَأَيْضًا لَفْظُ الْآيَةِ حَتَّى تَنْكِحَ، وَالنِّكَاحُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ الْمُطْلَقِ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الْهِدَايَةِ: لَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي شَرْطِ الدُّخُولِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَيْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُرَادُ الْخِلَافُ الْعَالِي سِوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ كَوْنُ بِشْرٍ الْمِرِّيسِيِّ وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَالشِّيعَةِ قَائِلِينَ بِقَوْلِهِ، وَاسْتُغْرِبَ ذَلِكَ مِنْ سَعِيدٍ حَتَّى قِيلَ: لَعَلَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِخِلَافِهِ لَا يُنَفَّذُ؛ لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَمَنْ أَفْتَى بِهَذَا الْقَوْلِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، اهـ. وَهَذَا لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ ذَاكَ لِإِغَاظَةِ الزَّوْجِ حَتَّى لَا يُسْرِعَ فِي كَثْرَةِ الطَّلَاقِ عُومِلَ بِمَا يُبْغِضُ حِينَ عَمِلَ أَبْغَضَ مَا يُبَاحُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «كَذَبَتْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَنْفُضُهَا نَفَضَ الْإَدِيمِ، وَلَكِنْ نَاشِزَةٌ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَحِلِّي لَهُ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ، وَرَوَى الْجَمَاعَةُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُوَاقِعَهَا، أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ» .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3296 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الْفَصْلُ الثَّانِي) 3296 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ» ) : بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ لِلزَّوْجِ الثَّانِي بِقَصْدِ الطَّلَاقِ أَوْ عَلَى شَرْطِهِ (وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيِ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا قَالَ الْقَاضِيَ: الْمُحَلِّلُ الَّذِي تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ الْغَيْرِ ثَلَاثًا عَلَى قَصْدِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ لِيَحِلَّ لِلْمُطَلِّقِ نَكُوحُهَا، وَكَأَنَّهُ يُحَلِّلُهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِالنِّكَاحِ وَالْوَطْءِ، وَالْمُحَلَّلُ لَهُ هُوَ الزَّوْجُ وَإِنَّمَا لَعَنَهُمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ الْمُرُوءَةِ وَقِلَّةِ الْحَمِيَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى خِسَّةِ

النَّفْسِ وَسُقُوطِهَا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحَلَّلِ لَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحَلِّلِ فَلِأَنَّهُ يُعِيرُ نَفْسَهُ بِالْوَطْءِ لِغَرَضِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَطَؤُهَا لِيُعَرِّضَهَا لِوَطْءِ الْمُحَلَّلِ لَهُ وَلِذَلِكَ مَثَّلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ كَمَا قِيلَ، بَلْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَمَّى الْعَاقِدَ مُحَلِّلًا وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فَإِنَّ الْفَاسِدَ لَا يُحَلِّلُ، وَهُنَا إِذَا أُطْلِقَ الْعَقْدُ فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُهُ، قَالَ الشُّمُنِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا مَعْنَى لَعْنِهِمَا قُلْتُ: مَعْنَى اللَّعْنِ عَلَى الْمُحَلِّلِ، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ عَلَى قَصْدِ الْفِرَاقِ، وَالنِّكَاحُ شُرِّعَ لِلدَّوَامِ، وَصَارَ كَالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَاللَّعْنُ عَلَى الْمُحَلَّلِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ سَبَبًا لِمِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ وَالْمُرَادُ إِظْهَارُ خَسَاسَتِهِمَا لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْ فِعْلِهِمَا لَا حَقِيقَةَ اللَّعْنِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بُعِثَ لَعَّانًا، اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الْفُرُوعِ عَلَى كَرَاهَةِ اشْتِرَاطِ التَّحْلِيلِ بِالْقَوْلِ، فَقَالُوا: إِذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ بِأَنْ يَقُولَ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَنْ أُحِلَّكَ لَهُ، أَوْ تَقُولَ: هِيَ فَمَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمِ الْمُنْتَهِضَةِ سَبَبًا لِلْعِقَابِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَالُوا: وَلَوْ نَوَيَا اشْتِرَاطَ التَّحْلِيلِ وَلَمْ يَقُولَا يَكُونُ الرَّجُلُ مَأْمُورًا لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى قَصْدِ الْفِرَاقِ. . إِلَخْ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَاهُ بِالْقَوْلِ، أَمَّا إِذَا نَوَيَاهُ فَلَمْ يَسْتَوْجِبَا اللَّعْنَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّهُ مَأْجُورٌ، وَإِنْ شَرَطَاهُ بِالْقَوْلِ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَيَزُولُ اللَّعْنُ أَيْ إِذَا شَرَطَ الْأَجْرَ عَلَى ذَلِكَ، فِي الْهِدَايَةِ: وَالْمُحَلِّلُ الشَّارِطُ هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ لِأَنَّ عُمُومَهُ وَهُوَ الْمُحَلِّلُ مُطْلَقًا غَيْرُ مُرَادٍ إِجْمَاعًا، وَالْأَشْمَلُ الْمُتَزَوِّجُ تَزْوِيجَ رَغْبَةٍ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعَلَى الْمُخْتَارِ لِلْفَتْوَى لَوْ زَوَّجَتِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا نَفْسَهَا بِغَيْرِ كُفُؤٍ وَدَخَلَ بِهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ تُحْفَظَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ كُفُؤٍ وَأَمَّا لَوْ بَاشَرَ الْوَلِيُّ عَقْدَ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

3297 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3297 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) : قَالَ مِيرَكُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثٍ عَلِيٍّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ وَهُوَ خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُعْتِقِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ اهـ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ الْحَدِيثَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ عَلِيٍّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ، فَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يُصَدِّرَ الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ عَنْ عَلِيٍّ ثُمَّ يَذْكُرَ مُخَرِّجَهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالتَّخْرِيجُ عَنْ بَعْضِهِمْ يَكْفِينَا فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَّبَهُ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ هَكَذَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَقِّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّخْرِيجِ: اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهِيَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوطِ بِهِ التَّحْلِيلُ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، لَكِنْ يُقَالُ: لَمَّا سَمَّاهُ مُحَلِّلًا دَلَّ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْحِلِّ فَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمَا سَمَّاهُ مُحَلِّلًا، اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ ثُمَّ جَوَابُهُ، أَمَّا الِاعْتِرَاضُ فَمَنْشَؤُهُ عَدَمُ مَعْرِفَةِ اصْطِلَاحِ أَصْحَابِنَا، وَذَلِكَ إِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الْحَرَامِ إِلَّا عَلَى مَنْعٍ ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ، فَإِذَا ثَبَتَ بِظَنِّيٍّ سَمَّوْهُ مَكْرُوهًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ: فَكَلَامُهُ فِيهِ يَقْتَضِي تَلَازُمَ الْحُرْمَةِ وَالْفَسَادِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ قَدْ يُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ مَعَ لُزُومِ الْإِثْمِ فِي الْعِبَادَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا خُصُوصًا عَلَى مَا يُعْطِي كَلَامُهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَانِعِ الثَّابِتِ بِظَنِّيٍّ حَرَامًا.

3298 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَقُولُ: يُوقَفُ الْمُؤْلِي. رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3298 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) : هُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ (قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ) : أَيْ: رَجُلًا أَوْ شَخْصًا (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَقُولُ) : أَفْرَدَ الضَّمِيرَ لِلَفْظِ الْكُلِّ (يُوقَفُ الْمُؤْلِي) : بِهَمْزٍ وَيُبَدَلُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِيلَاءِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْإِيلَاءُ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّهَا، بَلْ يُوقَفُ فِيمَا أَنْ يَفِيءَ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ [أَوْ يُطَلِّقَ] ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ طَلَّقَهَا وَإِلَّا طَلَّقَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ وَاحِدَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا ; لِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ فِي حَالِ بَقَاءِ الْيَمِينِ، وَقَدِ ارْتَفَعَتْ هَاهُنَا بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَمَّا إِذَا حَلَفَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بَلْ هُوَ حَالِفٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُولِيَ عَنِ امْرَأَتِهِ إِذَا مَضَى عَلَيْهِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ - وَهِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ - وُقِفَ، فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ، وَإِنْ أَبَى طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَذَلِكَ شَيْءٌ اسْتَنْبَطُوهُ مِنَ الْآيَةِ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا: الْإِيلَاءُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا انْقَضَتْ بَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فَإِنْ فَاءُوا يَعْنِي فِي الْأَشْهُرِ، وَفِي حَرْفِ مَسْعُودٍ: (فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ) ، وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ أَيْ يَنْتَظِرُ بِهِمْ إِلَى مُضِيِّ الْأَشْهُرِ تِلْكَ {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] أَيْ: عَزَمُوا الطَّلَاقَ بِتَرَبُّصِهِمْ إِلَى مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَتَرْكِهِمُ الْفَيْئَةَ، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُوقِفُ: فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ اهـ. وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ الْفَاءَ فِي {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] لِلتَّعْقِيبِ، وَأَجَابَ عَنْهُ قَبْلَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِأَنَّهُ لِلتَّفْصِيلِ، وَهَذَا مُجْمَلُ مَا فِيهِمَا مِنَ التَّطْوِيلِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا تَذْيِيلٌ لِلتَّكْمِيلِ. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، كَذَا نَقْلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا بِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطْلِّقَ أَوْ يَفِيءَ، وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْإِيلَاءِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ - تَعَالَى - لَا يُحِلُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَجَلِ إِلَّا أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يَعْزِمَ الطَّلَاقَ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ، تَعَالَى، وَقَالَ - أَيِ الْبُخَارِيُّ -: قَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَوْسٍ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطْلِّقَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطْلِّقَ اهـ. قُلْنَا الْآثَارُ مُعَارَضَةٌ بِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَا يَقُولَانِ فِي الْإِيلَاءِ: إِذَا انْقَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ. وَبِمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلِّيًا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ قَالُوا: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، فَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ. وَبِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: إِذَا آلَى وَلَمْ يَفِئْ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ. وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ أَصَحَّ الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، ثُمَّ كَانَ عَلَى شَرْطِهِمَا إِلَى آخِرِ مَا عُرِفَ، وَقَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ:

أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ فَحَاصِلُهَا أَنَّ قَوْلَ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ، فَيَجُوزُ كَوْنُ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ تَعَارَضَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ مَعَ اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ فِي عُلُوِّ الْحَالِ وَالْفِقْهِ، كَمَا أَسْمَعْنَاكَ عَمَّنْ ذُكِرَ، وَكَوْنُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى خِلَافِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَفْقَهَ وَأَعْلَى مَنْصِبًا، وَنَحْنُ قَدْ أَخْرَجْنَا مَا قُلْنَاهُ عَنِ الْأَكَابِرِ مِثْلِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ مَا عَارَضْنَا بِهِ، وَكَذَا عَنْ زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ حِينَ رَكِبَ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ. وَهُوَ أَمْلَكُ بِرَدِّهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: آلَى النُّعْمَانُ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضَرَبَ فَخِذَهُ وَقَالَ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَاعْتَرَفْ بِتَطْلِيقَةٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَ مَذْهَبِنَا عَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَكْحُولٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَبِيصَةَ وَالْحَاكِمِ وَأَبِي سَلَمَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَهَذَا تَرْجِيحٌ عَامٌّ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالْوُقُوعِ بِمُجَرَّدِ الْمُضِيِّ يَتَرَجَّحُ عَلَى قَوْلِ مُخَالِفِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ كَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى السَّمَاعِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ عَلَى خِلَافِهِ اهـ. وَالْآيَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] أَيْ: يَحْلِفُونَ عَلَى أَنْ لَا يُجَامِعُوهُنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْهَا لَا يَكُونُ إِيلَاءً، وَقَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ: (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَهَا) خَطَأٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] مُبْتَدَأٌ مَا قَبْلَهُ خَبَرُهُ، وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ، وَأُضِيفَ إِلَى الظَّرْفِ عَلَى الِاتِّسَاعِ أَيِ: اسْتَقَرَّ لِلْمُولِينَ تَرَقُّبُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أَيْ فِي الْأَشْهُرِ لِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ) أَيْ: رَجَعُوا إِلَى الْوَطْءِ عَنِ الْإِضْرَارِ بِتَرْكِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] حَيْثُ شَرَحَ الْكَفَّارَةَ، وَإِنْ {عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227] أَيْ: بِتَرْكِ الْفَيْءِ فَتَرَبَّصُوا إِلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة: 227] لِإِيلَائِهِ (عَلِيمٌ) بَنِيَّتِهِ، وَهُوَ وَعِيدٌ عَلَى إِضْرَارِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْفَيْئَةَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعْنَاهُ فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا بَعْدَ مُضِىِّ الْمُدَّةِ ; لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَقُلْنَا قَوْلُهُ: فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وَالتَّفْصِيلُ يَعْقِبُ الْمُفَصَّلَ، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ. قَالَ السَّيِّدُ مُعِينُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ: عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ يَقَعُ تَطْلِيقَةً بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِمَّا بَائِنَةٌ أَوْ رَجْعِيَّةٌ، وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَقِفُ فَيُطَالِبُ إِمَّا بِهَذَا أَوْ بِهَذَا وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ اهـ. وَفِي مُوَطَّأِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ فَقَدْ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: الْفَيْءُ: الْجِمَاعُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَزِيمَةُ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ بَانَتْ بِتَطْلِيقِهِ، وَلَا يُوقَفُ بَعْدَهَا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ.

3299 - وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ سَلْمَانَ بْنَ صَخْرٍ - وَيُقَالُ لَهُ: سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ - جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ حَتَّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا مَضَى نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلًا، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَ: لَا أَجِدُهَا قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: (أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) : قَالَ: لَا أَجِدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو (أَعْطِهِ ذَلِكَ الْعَرَقَ) : وَهُوَ مِكْتَلٌ يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ صَاعًا (لِيُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) » : رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3299 - (وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ) : يُقَالُ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُمْ، وَرَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَلَهُ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً (أَنَّ سَلْمَانَ) : وَفِي النُّسْخَةِ بِالتَّصْغِيرِ (ابْنَ صَخْرٍ - وَيُقَالُ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ، قَالَ مِيرَكُ نَاقِلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: سَلَمَةُ بْنُ صَخْرِ بْنِ سَلْمَانَ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْبَيَاضِيُّ، وَيُقَالُ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَقَبٌ وَهُوَ أَحَدُ الْبَكَّائِينَ رَوَى عَنْهُ: أَبُو سَلَمَةَ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ

(جَعَلَ امْرَأَتَهُ كَظَهْرِ أُمِّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِالْأُمِّ، وَالظَّهْرُ مُقْحَمٌ لِبَيَانِ قُوَّةِ التَّنَاسُبِ كَقَوْلِهِ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَيْمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] وَفِي قَوْلِهِ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] إِشْعَارٌ بِأَنَّ الظَّهْرَ مُقْحَمٌ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ قُرْبَانُهَا مَا لَمْ يُخْرِجِ الْكَفَّارَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَوْدِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُوَ إِعَادَةُ لَفْظِ الظِّهَارِ وَتَكَرُّرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَطْءُ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَقِيبَ الظِّهَارِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، فَإِنْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَقِيبَهُ فَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ الْعَوْدَ لِلْقَوْلِ هُوَ الْمُخَالَفَةُ، وَقَصْدُهُ بِالظِّهَارِ التَّحْرِيمُ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ الظِّهَارِ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُ: فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الظِّهَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ ظَاهَرَ وَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الظَّهْرِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ تَرْجِعُ إِلَى الظَّهْرِ مَعْنًى وَلَفْظًا بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ. وَفِي الشَّرْعِ: هُوَ تَشْبِيهٌ لِلزَّوْجَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا شَائِعٍ أَوْ مُعَبَّرٍ بِهِ عَنِ الْكُلِّ بِمَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلَوْ بِرَضَاعٍ أَوْ صَهْرِيَّةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ الْعُضْوِ الظَّهْرَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِاسْمِ الظِّهَارِ تَغْلِيبًا لِلظَّهْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ الْأَصْلُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، يَعْنِي قَوْلَهُمْ: أَنْتِ عَلَى كَظَهْرِ أُمِّي، وَشَرْطُهُ: فِي الْمَرْأَةِ كَوْنُهَا زَوْجَةً وَفِي الرَّجُلِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَحُكْمُهُ: حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ إِلَى وُجُودِ الْكَفَّارَةِ بِهِ، ثُمَّ قِيلَ: سَبَبُ وُجُوبِهَا الْعَوْدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى إِبَاحَةِ الْوَطْءِ بِنَاءً عَلَى إِرَادَةِ الْمُضَافِ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إِرَادَةِ ظَاهِرِهَا، وَهُوَ تَكْرَارُ نَفْسِ الظِّهَارِ، كَمَا قَالَ دَاوُدُ لِلْحَدِيثِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ عَدَمُ تَعَلُّقِهَا بِتَكَرُّرِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ سُكُوتُهُ بَعْدَ الظِّهَارِ قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ ظِهَارَهَا (حَتَّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ ظِهَارِ الْمُؤَقِّتِ، فَقَالَ قَاضِي خَانْ: لَوْ ظَاهَرَ مُؤَقَّتًا، كَانَ مُظَاهِرًا فِي الْحَالِ، وَاذَا مَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ بَطُلَ لَوْ ظَاهَرَ، اسْتَثْنَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ ظَاهَرَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا صَحَّ تَقْيِيدُهُ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ (فَلَمَّا مَضَى) : وَفِي نُسْخَةٍ مَرَّ (نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلًا) : أَيْ: جَامَعَهَا فِي لَيْلٍ مِنَ اللَّيَالِي (فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الْمُظَاهَرَةِ وَالْمُجَامَعَةِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَ: لَا أَجِدُهَا) : أَيْ: عَيْنُهَا أَوْ قِيمَتُهَا قَالَ: (فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ) : لَعَلَّهُ لِكِبَرِ سَنٍّ أَوْ ضَعْفِ بَدَنٍ أَوْ قُوَّةِ جِمَاعٍ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] (قَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) : أَيْ: كُلًّا قَدْرَ الْفِطْرَةِ أَوْ قِيمَتَهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ كَإِخْوَتِهِ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ (اعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ) : مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَيُأْبَى إِجْرَاؤُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ (قَالَ: لَا أَجِدُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو) : أَيِ: الْبَيَاضِيِّ الْأَنْصَارِيِّ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، رَوَى عَنْهُ أَبُو حَازِمٍ التَّمَّارُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَرْوَةُ بِالْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا: عُرْوَةُ، بِالْعَيْنِ الْمَضْمُومَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ (أَعْطِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِهَاءِ السَّكْتِ (ذَلِكَ الْعَرَقِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَيُسَكَّنُ (وَهُوَ مِكْتَلٌ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ (يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ صَاعًا) : وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَرَقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ: زِنْبِيلٌ مَنْسُوجٌ مِنْ خُوصٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: عَرَقُ التَّمْرِ الشَّقِيقَةُ الْمَنْسُوخَةُ مِنَ الْخُوصِ قَبْلَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْهُ الزِّنْبِيلُ أَوِ الزِّنْبِيلُ نَفْسُهُ وَيُسَكَّنُ اهـ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَلِّقِ وَهُوَ: أَعْطِهِ، وَبَيْنَ الْمُتَعَلَّقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (لِيُطْعِمَ) : أَيْ: هُوَ (سِتِّينَ مِسْكِينًا) : أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْعَرَقِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ لِمَا فِي رِوَايَةِ: (فَأَطْعِمْ وَسْقًا) : وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ مُرَتَّبَةٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ.

3300 - وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ نَحْوَهُ، قَالَ: كُنْتُ امْرَءًا أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي» . وَفِي رِوَايَتِهِمَا - أَعْنِي أَبَا دَاوُدَ وَالدَّارِمِيَّ -: ( «فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3300 - (وَرَوَى أَبُو دَاوُدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ) : لَكِنْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُدْرِكْ سَلَمَةَ وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ مُرْسَلَةٌ (نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ (قَالَ) : أَيْ: سَلَمَةُ ( «كُنْتُ امْرَءًا أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي» ) : يَعْنِي إِلَى آخِرِهِ وَالْإِصَابَةُ، كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَامَعَةِ (وَفِي رِوَايَتِهِمَا - أَعْنِي أَبَا دَاوُدَ وَالدَّارِمِيَّ -) : هَذَا تَقْرِيرٌ غَرِيبٌ وَتَفْسِيرٌ عَجِيبٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَفِي رِوَايَتِهِمَا قَوْلُ الْمُصَنَّفِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: أَعْنِي أَوْ قَوْلِ غَيْرِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارِمِيِّ إِلَخْ ; لِئَلَّا يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ، وَيَحْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ، وَعَلَى الثَّانِي: كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: يَعْنِي وَيَكُونُ كَالِاعْتِرَاضِ عَلَى قَائِلِهِ، (فَأَطْعِمْ) : أَيِ: اقْسِمْ (وَسْقًا) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ سِتِّينَ صَاعًا ( «مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» ) : أَيْ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: (بَيْنَ سِتِّينَ) : إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِأَطْعِمْ عَلَى تَضْمِينٍ أَيِ: اقْسِمْ طَعَامًا بَيْنَ سِتِّينَ أَوْ حَالٌ أَوْ أَطْعِمْ قَاسِمًا بَيْنَ سِتِّينَ أَوْ مَقْسُومًا.

3301 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُظَاهِرِ يُوَاقِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، قَالَ: كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3301 - (وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُظَاهِرِ) : أَيْ: فِي شَأْنِهِ (يُوَاقِعُ) : أَيْ: يُجَامِعُ (قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، قَالَ) : تَعَلَّقَ بِهِ الْجَارُّ الْمُتَقَدِّمُ (كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقِيلَ: إِذَا وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، اهـ. وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ إِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْكَفَّارَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ لَا يَعُودُ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ يُظَاهِرُ ثُمَّ يَمَسُّهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيُكَفِّرُ، ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ اهـ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَبِيصَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ كَفَّارَتَانِ، وَمَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، وَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي - كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهُ أَضَافَ الظِّهَارِ إِلَيْهِنَّ، فَكَانَ كَإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إِلَيْهِنَّ فَطَلَّقَنَ جَمِيعًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ، فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِنَّ أَيْ: كُلُّ مَنْ أَرَادَ وَطْأَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَقَدِيمُ كَفَّارَةٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعُرْوَةَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ: اعْتَبَرُوهُ بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيلَاءِ. قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ لِرَفْعِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِهِنَّ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ الْعَظِيمِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ذِكْرُهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3302 - عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَغَشِيَهَا قَبْلَ أَنْ يَكَفِّرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ ! " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَأَيْتُ بَيَاضَ حِجْلَيْهَا فِي الْقَمَرِ ; فَلَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ وَقَعَتُ عَلَيْهَا. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: الْمُرْسَلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْمُسْنَدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3302 - (عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ فَغَشِيَهَا) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: جَامَعَهَا (قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟) : قَالَ: [يَا رَسُولَ اللَّهِ] رَأَيْتُ بَيَاضَ حِجْلَيْهَا) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ: خَلْخَالِهَا (فِي الْقَمَرِ) : أَيْ: فِي ضَوْئِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ:

الْحِجْلُ بِالْكَسْرِ: الْخَلْخَالُ وَالْقَيْدُ، وَالْفَتْحُ لُغَةٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحِجْلُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ: الْخَلْخَالُ (فَلَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ وَقَعَتُ عَلَيْهَا) : بِتَقْدِيرِ (مِنْ) : أَيْ: لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْبِسَ نَفْسِي مِنْ أَنْ وَقَعْتُ عَلَيْهَا، أَوْ يَكُونُ بَدَلًا مِنْ نَفْسِي أَيْ: لَمْ أَمْلِكْ وُقُوعَ نَفْسِي عَلَيْهَا، (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ) : - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: لَا يُجَامِعَهَا ثَانِيًا (حَتَّى يُكَفِّرَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَاهُ (وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) . (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَاهُ أَيْضًا (مُسْنَدًا) : أَيْ: تَارَةً (وَمُرْسَلًا) : أَيْ: أُخْرَى حَالَانِ مِنَ الْمَفْعُولِ، قَالَ النَّسَائِيُّ: الْمُرْسَلُ أَوْلَى) : أَيْ: أَقْرَبُ (بِالصَّوَابِ مِنَ الْمُسْنَدِ) : وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْمُرْسَلِ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى صَحَابِيٍّ، وَفِي بَعْضِهَا أَرْسَلَهُ وَحَذَفَ ذِكْرَ الصَّحَابِيِّ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ عِكْرِمَةَ تَارَةً ذَكَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأُخْرَى حَذَفَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟) : قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَفِي لَفْظٍ: بَيَاضَ سَاقَيْهَا؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ) » : وَلَفَظُ ابْنُ مَاجَهْ: «فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَنَفَى كَوْنَ هَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحًا - رَدَّهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ; لِأَنَّهُ صَحَّحَهُ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورٌ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَسَبَبُ نُزُولِ شَرْعِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ «قِصَّةُ خَوْلَةَ أَوْ خُوَيْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْكُو إِلَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَادِلُنِي فِيهِ وَيَقُولُ: (اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ) : فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] جَلَّ شَأْنُهُ فَقَالَ: (يَعْتِقُ رَقَبَةً) : فَقَالَتْ: لَا يَجِدُ فَقَالَ: (يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) : قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ (فَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) : قَالَتْ: مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ. قَالَ: (فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ) : قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: (قَدْ أَحْسَنْتِ فَاذْهَبِي بِهِمَا فَاطْعَمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ) » : قَالَ: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ مِكْتَلٌ يَسَعُ ثَلَاثِينَ صَاعًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذَا أَصَحُّ، وَفِي الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ أُخَرُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ يَحْرُمُ الدَّوَاعِي فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الدَّوَاعِيَ مَنْصُوصٌ عَلَى مَنْعِهَا فِي الظِّهَارِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] لَا مُوجِبَ فِيهِ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ لِإِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ، وَيَحْرُمُ الْجِمَاعُ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْتِمَاسِّ فَيَحْرُمُ الْكُلُّ بِالنَّصِّ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ الْمُخَالِفِ، وَفِي الْهِدَايَةِ: وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ مَوْطُوءَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَوْطُوءَةٍ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ فِي الْأَمَةِ مُطْلَقًا، وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ فِي الْمَوْطُوءَةِ وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالْأَدِلَّةُ فِي شَرْحِ ابْنُ الْهُمَامِ مَذْكُورَةٌ وَأَجْوِبَتُهَا أَيْضًا مَسْطُورَةٌ.

[باب في كون الرقبة في كفارة مؤمنة]

[بَابٌ فِي كَوْنِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةٍ مُؤْمِنَةً]

(13) بَابٌ فِي كَوْنِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةٍ مُؤْمِنَةً الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3303 - «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ جَارِيَةً كَانَتْ لِي تَرْعَى غَنَمًا لِي فَجِئْتُهَا وَقَدْ فَقَدَتْ شَاةً مِنَ الْغَنَمِ، فَسَأَلْتُهَا عَنْهَا فَقَالَتْ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ ; فَأَسِفْتُ عَلَيْهَا وَكُنْتُ مَنْ بَنِي آدَمَ، فَلَطَمْتُ وَجْهَهَا، وَعَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأُعْتِقُهَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَيْنَ اللَّهُ؟) : فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ فَقَالَ: (مَنْ أَنَا؟) : فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَعْتِقْهَا) » رَوَاهُ مَالِكٌ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ، «كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّئْبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنْ صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: (ائْتِنِي بِهَا) : فَأَتَيْتُ بِهَا. فَقَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللَّهُ؟) : قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: (مَنْ أَنَا) : قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) » : ـــــــــــــــــــــــــــــ [13]- بَابٌ فِي كَوْنِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةٍ مُؤْمِنَةً يُحْتَمَلُ الرَّفْعُ وَالسُّكُونُ أَيْ: بَابُ كَوْنِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ مُؤْمِنَةً، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ الِاسْتِظْهَارَ بِأَنَّ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: وَجَازَ فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَتَحْقِيقُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، اهـ. فَالتَّقْيِيدُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بِالْإِيمَانِ إِمَّا لِمَوَادَّ مَخْصُوصَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا إِلَّا الْمُؤْمِنَةُ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ خَطَأً، وَإِمَّا بَيَانًا لِلْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالْحَالِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3303 - (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ) : أَيِ: السُّلَمِيِّ، كَانَ نَزَلَ الْمَدِينَةَ وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ (قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ جَارِيَةً) : أَيْ: أَمَةً (كَانَتْ لِي) : أَيْ: مَمْلُوكَةً (تَرْعَى غَنَمًا لِي) : أَيْ: لَا لِغَيْرِي (فَجِئْتُهَا وَقَدْ فَقَدَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ الْمُتَكَلِّمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْغَائِبَةِ (شَاةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (مِنَ الْغَنَمِ: أَيْ: مِنْ قَطِيعِهِ، وَمِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ (فَسَأَلْتُهَا) : أَيِ: الْجَارِيَةَ (عَنْهَا) : أَيْ: عَنِ الشَّاةِ (قَالَتْ: أَكَلَهَا الذَّئْبُ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ أَوِ الْيَاءِ لُغَةٌ (فَأَسِفْتُ) : بِكَسْرِ السِّينِ (عَلَيْهَا) : أَيْ: غَضِبْتُ عَلَى الْجَارِيَةِ أَوْ حَزِنْتُ عَلَى الشَّاةِ (وَكُنْتُ مِنْ بَنِي آدَمَ) : عُذْرٌ لِغَضَبِهِ وَحُزْنِهِ السَّابِقِ وَلَطْمِهِ اللَّاحِقِ (فَلَطَمْتُ) : أَيْ: ضَرَبْتُ بِبَطْنِ الْكَفِّ (وَجْهَهَا) : فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ (وَعَلَيَّ رَقَبَةٌ) : أَيِ: إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا السَّبَبِ (أَفَأَعْتِقُهَا) : أَيْ: عَنْهُ أَوْ عَنْهُمَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ» ": كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ النَّفَقَاتِ (قَالَ لَهَا) : أَيْ: لِلْجَارِيَةِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَيْنَ اللَّهُ؟) : وَفِي رِوَايَةٍ: (أَيْنَ رَبُّكِ؟) : أَيْ: أَيْنَ مَكَانُ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَظُهُورِ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ (قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ) . قَالَ الْقَاضِي: هُوَ عَلَى مَعْنَى الَّذِي جَاءَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ مِنْ قِبَلِ السَّمَاءِ لَمْ يُرِدْ بِهِ السُّؤَالَ عَنِ الْمَكَانِ، فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الزَّمَانِ، بَلْ مُرَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سُؤَالِهِ إِيَّاهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُوَحِّدَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ؟ لِأَنَّ كُفَّارَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَكَانَ لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْهُمْ صَنَمٌ مَخْصُوصٌ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَعْبُدُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ، وَلَعَلَّ سُفَهَاءَهُمْ وَجَهَلَتَهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مَعْبُودًا غَيْرَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَعَرَّفَ مِنْهَا مَا تَعْبُدُ، فَلَمَّا قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَهِمَ أَنَّهَا مُوَحِّدَةٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْيَ الْآلِهَةِ الْأَرْضِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْنَامُ، لَا إِثْبَاتَ السَّمَاءِ مَكَانًا لَهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّ كَبِيرًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ إِلَى الْحَقِّ عَلَى حَسَبِ فَهْمِهِمْ، وَوَجَدَهَا تَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعُبُودِيَّةِ إِلَهٌ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لَا الْآلِهَةُ الَّتِي يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ قَنِعَ مِنْهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ يُكَلِّفْهَا اعْتِقَادَ مَا هُوَ صَرْفُ التَّوْحِيدِ حَقِيقَةُ التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَرَحْمَتَهُ وَوَحْيَهُ جَاءَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] قِيلَ: وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ خَرْسَاءَ، وَلِهَذَا جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ الْأَخْرَسَ فِي الْعِتْقِ فَقَوْلُهُ: (قَالَتْ فِي السَّمَاءِ) : بِمَعْنَى أَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ قَالَ شَارِحُ الْوِقَايَةَ: وَجَازَ الْأَصَمُّ أَيْ: مَنْ يَكُونُ فِي أُذُنِهِ وَقْرٌ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَسْمَعْ أَصْلًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ; لِأَنَّهُ فَائِتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ. (قَالَ: مَنْ أَنَا؟) : قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَعْتِقْهَا) : أَمْرُ إِجَازَةٍ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

(وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ) : أَيْ: مُعَاوِيَةُ (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: جَانِبَهُ، وَأُحُدٌ بِضَمَّتَيْنِ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ فِي الْمَدِينَةِ (وَالْجَوَّانِيَّةِ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَوْضِعٌ قَرِيبَ أُحُدٍ (فَاطَّلَعْتُ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَشْرَفْتُ عَلَى الْغَنَمِ (ذَاتَ يَوْمٍ) : أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ أَوْ نَهَارًا، " ذَاتَ ": زَائِدَةٌ (فَإِذَا الذِّئْبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا) : إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَاللَّامُ فِي الذِّئْبِ لِلْعَهْدِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] ، (وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ) : بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَفَتْحِ سِينٍ، أَيْ: أَغْضَبُ (كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنْ) : أَيْ: وَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْغَضَبِ لَكِنْ (صَكَكْتُهَا صَكَّةً) : أَيْ: لَطَمْتُهَا لَطْمَةً (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَعَظَّمَ) : بِالتَّشْدِيدِ وَالْفَتْحِ (ذَلِكَ عَلَيَّ) : أَيْ: كَثَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْأَمْرَ أَوِ الضَّرْبَ عَلَيَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَالضَّمِّ (قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقُلْتُ، (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا أُعْتِقُهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ؟ قُلْتُ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى مُتَضَمِّنَةٌ لِسُؤَالَيْنِ صَرِيحًا ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ كَانَ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَفَارَّةً، وَقَدْ لَزِمَنِي مِنْ هَذِهِ اللَّطْمَةِ إِعْتَاقُهَا، أَفَيَكْفِينِي إِعْتَاقُهَا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا؟ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مُطْلَقَةٌ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ لَيْسَ عَنْ مُجَرَّدِ اللَّطْمَةِ سُؤَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَارِيَةَ عَنْ إِيمَانِهَا اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ عَنِ اللَّطْمَةِ مُسْتَحَبٌّ، فَيَنْدَرِجُ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ الْوَاجِبِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ تَدَاخُلِ الْكَفَّارَةِ كَمَا تُوُهِّمَ قَالَ: (ائْتِنِي بِهَا) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيِ: احْضُرْ بِهَا لِي (فَأَتَيْتُهُ بِهَا. فَقَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللَّهُ؟) : أَيْ: أَيْنَ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَحَقُّ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ؟ (قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ) : أَيْ: كَمَا فِي الْأَرْضِ وَالِاقْتِصَارُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ. قَالَ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاقْتِصَارُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ رَدًّا عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ الْأَرْضِيَّةِ «قَالَ: (مَنْ أَنَا؟) : قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) » : أَيْ: بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْإِيمَانِ الْإِجْمَالِيِّ وَنَفْيِ التَّكْلِيفِ الِاسْتِدْلَالِيِّ.

[باب اللعان]

[بَابُ اللِّعَانِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3304 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَقَدْ أُنْزِلُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا) . قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ، أَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ، أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا. فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ، فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [14]- بَابُ اللِّعَانِ فِي الْمُغْرِبِ: لَعَنَهُ لَعْنًا وَلَاعَنَهُ مُلَاعَنَةً وَلِعَانًا وَتَلَاعَنُوا لَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَصْلُهُ الطَّرْدُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّمَا سُمِّيَ لِعَانًا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَبْعُدُ عَنْ صَاحِبِهِ وَيَحْرُمُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَاللِّعَانُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يَمِينٌ، وَقِيلَ شَهَادَةٌ، وَقِيلَ يَمِينٌ فِيهَا شَوْبُ شَهَادَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ أَوِ الْقَاضِي وَجَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّغْلِيظِ، فَإِنَّهُ يُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْجَمْعِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ مَصْدَرُ لَاعَنَ سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسِيٌّ وَالْقِيَاسُ الْمُلَاعَنَةُ، وَكَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ يَجْعَلُونَ الْفِعَالَ وَالْمُفَاعَلَةَ مُصَدَرًا قِيَاسِيَّيْنِ لِفَاعَلَ، اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَفِي الْفِقْهِ: اسْمٌ لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَعْلُومَاتِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِوُجُودِ لَفْظِ اللَّعْنِ فِي الْخَامِسَةِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ، وَلَمْ يُسَمَّ بَاسِمٍ مِنَ الْغَضَبِ، وَهُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِيهَا ; لِأَنَّهُ فِي كَلَامِهَا وَذَاكَ فِي كَلَامِهِ، وَهُوَ أَسْبَقُ، وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ. وَشَرْطُهُ: قِيَامُ النِّكَاحِ، وَسَبَبُهُ: قَذْفُهُ زَوْجَتَهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ، وَحُكْمُهُ حُرْمَتُهَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ، وَأَهْلُهُ: مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ; فَإِنَّ اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكِّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ عِنْدَنَا، وَأَمَّا عِنْدُ الشَّافِعِيِّ فَأَيْمَانٌ مُؤَكِّدَاتٌ بِالشَّهَادَاتِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ فِي شَرْحِهِ لِلْهِدَايَةِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3304 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: تَقَدَّمَ أَنَّ اسْمَهُ كَانَ حَزْنًا، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْلًا (قَالَ: إِنَّ عُوَيْمِرًا) : تَصْغِيرُ عَامِرٍ (الْعَجْلَانِيَّ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ نِسْبَةٌ إِلَى عَجْلَانِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبِرْنِي، وَعَبَّرَ بِالْإِبْصَارِ عَنِ الْإِخْبَارِ ; لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ سَبَبُ الْعِلْمِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْإِعْلَامُ فَالْمَعْنَى: أَعَلِمْتَ فَأَعْلِمْنِي. (رَجُلًا وَجَدَ) : أَيْ: صَادَفَ (مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا) : أَيْ: وَجَزَمَ أَنَّهُ زَنَى بِهَا (أَيَقْتُلُهُ) : أَيْ: أَيَجُوزُ قَتْلُهُ (فَيَقْتُلُونَهُ) : بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ أَيْ: يَقْتُلُ أَهْلُ الْقَتِيلِ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْقَاتِلَ؟ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: (فَتَقْتُلُونَهُ) : بِتَاءِ الْخِطَابِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، اهـ. وَيَعْنِي بِهِ تَعْظِيمًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَتَلَ رَجُلًا قَدْ جَزَمَ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ وَرَثَةُ الْقَتِيلِ، وَيَكُونُ الْقَتِيلُ مُحْصَنًا، وَالْبَيِّنَةُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعُدُولِ مِنَ الرِّجَالِ يَشْهَدُونَ عَلَى يَقِينِ الزِّنَا، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ (أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أَمْ) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً، يَعْنِي إِذَا رَأَى الرَّجُلُ هَذَا الْمُنْكَرَ وَالْأَمْرَ الْفَظِيعَ وَثَارَتْ عَلَيْهِ الْحَمِيَّةُ، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ يَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ الشَّنَآنِ وَالْعَارِ؟ وَأَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً، فَسَأَلَ أَوَّلًا عَنِ الْقَتْلِ مَعَ الْقِصَاصِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْهُ إِلَى سُؤَالِهِ؛ لِأَنَّ (أَمْ) : الْمُنْقَطِعَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِـ (بَلْ) : وَالْهَمْزُ قِيلَ لِضَرْبِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَالْهَمْزَةُ تَسْتَأْنِفُ كَلَامًا آخَرَ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَفْعَلُ أَيْ: أَيَصْبِرُ عَلَى الْعَارِ أَمْ يَحْدُثُ لَهُ أَمْرٌ آخَرُ؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ) : وَالْمُنَزَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عُوَيْمِرٍ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ أُنْزِلَ فِيكَ أَيْ: فِي شَأْنِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَلَعَلَّهُمَا سَأَلَا فِي وَقْتَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ فَنَزَلَتْ فِيهِمَا، وَسَبَقَ هِلَالٌ بِاللِّعَانِ. (فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا) . قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَا فَرَغَا) : أَيْ: عَنِ التَّلَاعُنِ (قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ) : بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ، كَذَا ضَبَطَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. (عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا) : أَيْ: فِي نِكَاحِي، وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ (فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا) : كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُمْسِكُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: (فَطَلَّقَهَا عُوَيْمِرٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتِ الْفُرْقَةُ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّتَهُ. قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: عُوَيْمِرٌ حِينَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ اللِّعَانَ فُرْقَةٌ عَلَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ تَحْرِيمَهَا بِالطَّلَاقِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفِ الطَّلَاقَ مَحَلًّا مَمْلُوكًا لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِنَّمَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ الطَّلَاقِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ كَيْفَ يُسْتَحَبُّ الطَّلَاقُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ؟ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى طَلَاقٍ، وَالْجُمْهُورُ مِنْهُمُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا نَعْلَمُ لَهُ دَلِيلًا مُسْتَلْزِمًا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ، قِيلَ: وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا تُلَاعِنَ امْرَأَةٌ أَصْلًا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَعْدَ التَّلَاعُنِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: (ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا) :، وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ لَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي: (لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا) . قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ إِنْكَارُ طَلَبِ مَالِهَا مِنْهُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي؟ قَالَ: (لَا مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» ) ، ثُمَّ دَلَّ تَفْرِيقُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَلِعَانِهِ. قَالَ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ. فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ، وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَكُونُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً ; لِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى يَكُونَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ حُجَّةً عَلَيْنَا، إِنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّهُ وَقَعَ لَغْوًا، فَالسُّكُوتُ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَفْسَدَةً حِينَئِذٍ ; لِأَنَّ السُّكُوتَ يُفِيدُ تَقْرِيرَهُ، وَأَنَّهُ الْوَاقِعُ فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ كَانَ السُّكُوتُ مُفْضِيًا إِلَى الْفَاسِدِ ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَكْرِيرَ وُقُوعِهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَهُ، فَلَا يَجُوزُ السُّكُوتُ مَعَ الْإِفْضَاءِ إِلَى مِثْلِ هَذَا، وَالْغَرَضُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ عِنْدَنَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ أَبِي طَلَّقَ هُوَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي: أَمْضَى ذَلِكَ الطَّلَاقَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ أَوْ يَقَعُ وَاحِدَةً، ثُمَّ هُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ وَقَعَ إِمْضَاؤُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الطَّلَاقَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا فَيَثْبُتُ - بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الرِّضَاعِ، وَبِهِ قَالَ الثَّلَاثَةُ، وَإِذَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ مُؤَبَّدَةً لَا تَكُونُ طَلَاقًا بَلْ فَسْخًا، وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ لَا يُتَوَقَّفَ عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي ; لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ قَبْلَهُ اتِّفَاقًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا افْتَرَقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. وَقَدْ طَعَنَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي ثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَمَفْهُومُهُ بِشَرْطِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: مَضَتِ السُّنَّةُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (انْظُرُوا) : مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ أَوِ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ، أَيْ: تَأَمَّلُوا (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ) : أَيْ: بِالْحَمْلِ أَوِ الْوَلَدِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أَيِ: الْمَيِّتُ (أَسْحَمَ) : أَيْ: أَسْوَدَ (أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ) : فِي النِّهَايَةِ: الدَّعَجُ: السَّوَادُ فِي الْعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: الدَّعَجُ شِدَّةُ سَوَادِ الْعَيْنِ فِي شِدَّةِ بَيَاضِهَا (عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: عَظِيمَهُمَا، وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ الزِّنَى مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِدْلَالِ بِالشَّبَهِ بِنَاءً عَلَى الْأَمْرِ الْغَالِبِ الْعَادِيِّ، وَلِذَا قَالَ: (فَلَا أَحْسِبُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا أَيْ: لَا أَظُنُّ (عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ) : بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: تَكَلَّمَ بِالصِّدْقِ (عَلَيْهَا) فِي نِسْبَةِ الزِّنَى إِلَيْهَا (وَإِنْ جَاءَتْ بِهَا أُحَيْمِرَ) : تَصْغِيرُ أَحْمَرَ (كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ) : بِفَتَحَاتٍ: دُوَيْبَّةٌ حَمْرَاءُ تَلْتَزِقُ بِالْأَرْضِ ( «فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ» ) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ (عَلَيْهَا) : فَإِنَّ عُوَيْمِرًا كَانَ أَحْمَرَ ( «فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ، فَكَانَ بَعْدُ» ) : أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ (يُنْسَبُ) : أَيِ: الْوَلَدُ (إِلَى أُمِّهِ) : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ) . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) :

3305 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِهِ لَهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَظَهُ، وَذَكَّرَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا، وَذَكَّرَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3305 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى» ) : أَيِ: الرَّجُلُ (مِنْ وَلَدِهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيِ: الْمُلَاعَنَةُ كَانَتْ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ الرَّجُلِ مِنْ وَلَدِ الْمَرْأَةِ وَإِلْحَاقِهِ بِهَا (فَفَرَّقَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفُرْقَةِ (بَيْنَهُمَا) : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهَا لَوْ وَقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ مَعْنًى، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَكْمَلُ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ. (وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ) : أَيْ: لِانْتِفَاءِ الرَّجُلِ مِنْ وَلَدِهَا بِالْمُلَاعِنَةِ بَيْنَهُمَا وَالْحَاكِمِ بِتَفْرِيقِهِمَا (وَفِي حَدِيثِهِ) : أَيِ: ابْنِ عُمَرَ (لَهُمَا) : أَيِ: الشَّيْخَيْنِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَظَهُ) : أَيْ: نَصَحَ الرَّجُلَ (وَذَكَّرَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: خَوَّفَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا) : وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ (أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ) : وَالْعَاقِلُ يَخْتَارُ الْأَيْسَرَ عَلَى الْأَعْسَرِ (ثُمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا، وَذَكَّرَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا) : وَهُوَ الرَّجْمُ وَالْعَارُ (أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ) : وَهُوَ الْفَضِيحَةُ وَالنَّارُ.

3306 - وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: " حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا ": قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَالِي. قَالَ: " لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3306 - (وَعَنْهُ) : أَيِ: ابْنِ عُمَرَ ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: (حِسَابُكُمَا) » : أَيْ: مُحَاسَبَتُكُمَا وَتَحْقِيقُ أَمْرِكُمَا وَمُجَازَاتُهُ (عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا) : أَيْ: لَا عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَنَا (كَاذِبٌ) : أَيْ: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَنَحْنُ نَحْكُمُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ (لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا) : أَيْ: لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا بَلْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ أَبَدًا قِيلَ: فِيهِ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، قَالَ الْأَكْمَلُ: وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ، اهـ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ. (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي) : هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَيَذْهَبُ مَالِي؟ أَوْ أَيْنَ يَذْهَبُ مَالِي الَّذِي أَعْطَيْتُهَا مَهْرًا؟ (قَالَ: لَا مَالَ لَكَ) : أَيْ: بَاقٍ عِنْدَهَا؟ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ شَيْئَيْنِ (إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا) : أَيْ: فَمَالُكُ فِي مُقَابَلَةِ وَطْئِكَ إِيَّاهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْمُلَاعِنَ لَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَيْهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَقِيلَ: لَهَا الْكُلُّ، وَقِيلَ: لَا صَدَاقَ لَهَا ( «وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ» ) : أَيْ: عَوْدُ الْمَهْرِ إِلَيْكَ (أَبْعَدُ) : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعُدْ إِلَيْكَ حَالَةَ الصِّدْقِ فَلَأَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْكَ حَالَةَ الْكَذِبِ أَوْلَى، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: (وَأَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا) : أَيْ: مِنَ الْمُطَالَبَةِ عَنْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: (مَالِي) : أَيْ: إِنْ صَدَقْتَ فَهَذَا الطَّلَبُ بِعِيدٌ ; لِأَنَّهُ بَدَلُ الْبُضْعِ، وَإِنْ كَذَبْتَ فَأَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لَكَ، وَاللَّامُ فِي (لَكَ) : لِلْبَيَانِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ " أَبْعَدَ " الْأَوَّلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] وَأَبْعَدُ الثَّانِي مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ الْمُتَكَاذِبَيْنِ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ عَلِمْنَا كَذِبَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِالدُّخُولِ، وَعَلَى ثُبُوتِ مَهْرِ الْمُلَاعِنَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَتْهُ وَأَقَرَّتْ بِالزِّنَى لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3307 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدًّا فِي ظَهْرِكَ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ ": فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلْيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] : فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ": ثُمَّ قَامَتْ، فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَفُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقِينَ ; فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ) :، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3307 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ) : بِضَمِّ هَمْزٍ وَفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (قَذَفَ امْرَأَتَهُ) : أَيْ: نَسَبَهَا إِلَى الزِّنَى (عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: فِي حُضُورِهِ (بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْبَيِّنَةَ) : بِالنَّصْبِ لَا غَيْرُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: أَقِمِ الْبَيِّنَةَ، وَقَوْلُهُ (أَوْ حَدًّا) : نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: تُحَدُّ حَدًّا أَقُولُ: أَوْ تَقْدِيرُهُ فَتُثْبِتُ حَدًّا، وَقِيلَ أَيْ: حُدَّ حَدًّا (فِي ظَهْرِكَ) . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ) : أَيْ: فَوْقَهَا (رَجُلًا يَنْطَلِقُ) : جَوَابُ إِذَا بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ أَيْ: أَيَذْهَبُ حَالَ كَوْنِهِ (يَلْتَمِسُ) : أَيْ: يَطْلُبُ (الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (الْبَيِّنَةَ) : بِالنَّصْبِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ أَيِ: الْبَيِّنَةُ مُقَرَّرَةٌ وَمُقَدَّمَةٌ (وَإِلَّا) : وَإِنْ لَمْ تُقِمِ الْبَيِّنَةَ أَوْ لَمْ تَكُنِ الْبَيِّنَةُ (حَدٌّ) : مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ أَيْ: فَيَثْبُتُ عِنْدِي حَدٌّ (فِي ظَهْرِكَ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنُ الْهُمَامِ: (وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) . قَالَ: وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَأَوَّلُ لِعَانٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَرَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (أَرْبَعَةُ شُهُودٍ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) : فَالْمَسْأَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ قَطْعِيَّةٌ مَجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَالْحِكْمَةُ تَحْقِيقُ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ. (فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ) : أَيْ: فِي قَذْفِي إِيَّاهَا (فَلْيُنْزِلَنَّ اللَّهُ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُخَفَّفَةِ وَفِي آخِرِهِ نُونٌ مُشَدَّدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، هُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ (مَا يُبَرِّئُ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: مَا يَدْفَعُ وَيَمْنَعُ (ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ) : أَيْ: حَدِّ الْقَذْفِ (فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، وَأَنْزَلَ) : أَيْ: جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْ: عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] : أَيْ: يَقْذِفُونَ زَوْجَاتِهِمْ (فَقَرَأَ) : أَيْ: مَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ (حَتَّى بَلَغَ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ) : أَيْ: لَاعَنَ (وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» ") الْأَظْهَرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنَ اللِّعَانِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُلْزِمُ الْكَاذِبَ التَّوْبَةَ، وَقِيلَ: قَالَهُ قَبْلَ اللِّعَانِ تَحْذِيرًا لَهُمَا مِنْهُ (ثُمَّ قَامَتْ، فَشَهِدَتْ) : أَيْ: لَاعَنَتْ (فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ) : أَيْ: مِنْ شَهَادَتِهَا (وَقَفُوهَا) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: حَبَسُوهَا وَمَنَعُوهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِيهَا وَهَدَّدُوهَا (وَقَالُوا) : أَيْ: أَلَا (إِنَّهَا) : أَيِ: الْخَامِسَةَ (مُوجِبَةٌ) : وَقِيلَ: مَعْنَى وَقَفُوهَا أَطْلَعُوهَا عَلَى حُكْمِ الْخَامِسَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلَّعْنِ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى الْعَذَابِ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ: تَوَقَّفَتْ يُقَالُ: تَلَكَّأَ فِي الْأَمْرِ إِذَا تَبَطَّأَ عَنْهُ وَتَوَقَّفَ فِيهِ (وَنَكَصَتْ) : أَيْ: رَجَعَتْ وَتَأَخَّرَتْ، وَفِي الْقُرْآنِ {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48] وَالْمَعْنَى أَنَّهَا سَكَتَتْ بَعْدَ الْكَلِمَةِ الرَّابِعَةِ (حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ) : أَيْ: عَنْ مَقَالِهَا فِي تَكْذِيبِ الزَّوْجِ، وَدَعْوَى الْبَرَاءَةِ عَمَّا رَمَاهَا بِهِ ( «ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ» ) : أَيْ: فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ وَأَبَدَ الدَّهْرِ، أَوْ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَيَّامِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللِّعَانِ وَالرُّجُوعِ إِلَى تَصْدِيقِ الزَّوْجِ، وَأُرِيدَ بِالْيَوْمِ الْجِنْسُ ; وَلِذَلِكَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَامِ، وَالسَّائِرُ كَمَا يُطْلَقُ لِلْبَاقِي يُطْلَقُ لِلْجَمِيعِ (فَمَضَتْ) : أَيْ: فِي الْخَامِسَةِ وَأَتَمَّتِ اللِّعَانَ بِهَا

( «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَبْصِرُوهَا» ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِبْصَارِ أَيِ: انْظُرُوا وَتَأَمَّلُوا فِيمَا تَأْتِي بِهِ مِنْ وَلَدِهَا (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ) : أَيِ: الَّذِي يَعْلُو جُفُونَ عَيْنَيْهِ سَوَادٌ مِثْلُ الْكُحْلِ مِنْ غَيْرِ اكْتِحَالٍ (سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ) : أَيْ: عَظِيمَهُمَا، مِنَ السُّبُوغِ بِالْمُوَحَّدَةِ، يُقَالُ لِلشَّيْءِ إِذَا كَانَ تَامًّا وَافِيًا وَافِرًا: سَابِغٌ (خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ) : أَيْ: سَمِينَهُمَا (فَهُوَ) : أَيْ: ذَلِكَ الْوَلَدُ (لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ) : أَيْ: فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لِظُهُورِ الشَّبَهِ (فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي إِتْيَانِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - هُنَا وَفِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ - مُعْجِزَةٌ وَإِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ. ( «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ» ) : (مِنْ) : بَيَانٌ لِـ (مَا) :، أَيْ: لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِهِ بِدَرْءِ الْحَدِّ عَنِ الْمَرْأَةِ بِلِعَانِهَا (لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ) : أَيْ: فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، أَوِ الْمَعْنَى: لَوْلَا أَنَّ الْقُرْآنَ حَكَمَ بِعَدَمِ الْحَدِّ عَلَى الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَعَدَمِ - التَّعْزِيرِ لَفَعَلْتُ بِهَا مَا يَكُونُ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِينَ وَتَذْكِرَةً لِلسَّامِعِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي ذِكْرِ الشَّأْنِ وَتَنْكِيرِهِ تَهْوِيلٌ وَتَفْخِيمٌ لِمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا لِتُضَاعِفِ ذَنْبِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْمَظِنَّةِ وَالْأَمَارَاتِ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِظَاهِرِ مَا تَقْتَضِيهِ الْحُجَجُ وَالْأَيْمَانُ، وَأَنَّ لِعَانَ الرَّجُلِ مُقَدَّمٌ عَلَى لِعَانِ الْمَرْأَةِ ; لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ، وَهَذَا دَارِئٌ، وَالدَّرْءُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، يَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُمَا، وَيَتَّفِقُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عَشَاءً فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَرَأَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ، فَلَمْ يَهْجُرْ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُ أَهْلِي عَشَاءً فَوَجَدْتُ عِنْدَهَا رَجُلًا فَرَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الْآيَةَ فَسَرَّنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (أَبْشِرْ يَا هِلَالُ! فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) : قَالَ هِلَالٌ: كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي - تَعَالَى - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَرْسِلُوا إِلَيْهَا ": فَجَاءَتْ، فَتَلَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَّرَهُمَا وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَقَالَ هِلَالٌ: وَاللَّهُ لَقَدْ صَدَقْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: كَذَبْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا " فَشَهِدَ هِلَالٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا كَانَ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي [تُوجِبُ عَلَيْهَا الْعِقَابَ] ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: اشْهَدِي فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْعِقَابَ فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتِ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا إِلَى الْأَبِ [وَلَا تُرْمَى] وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا عَلَيْهِ قُوتٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ: " إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَصْهَبَ نَضَحَ نَاتِئَ الْأَلْيَتَيْنِ خَمْشَ السَّاقِينَ فَهُوَ لِهِلَالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، فَهُوَ لِلَّذِي زَنَتْ بِهِ ":، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ إِلَى آخَرِ الْأَوْصَافِ التَّالِيَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ) » . قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ وَلَدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ. هَذِهِ لَفْظَةٌ لِأَبِي دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: سَائِرَ الْأَيَّامِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي. وَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (انْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطًا وَضِيءَ الْعَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا خَمْشَ السَّاقِينَ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ) » . وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ أَيْضًا

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ، وَكَانَتْ حُبْلَى» ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا أَيْضًا. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ عُوَيْمِرٍ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عُوَيْمِرَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَجْلَانِيَّ، وَقَدْ رَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ حَامِلٌ، فَرَأَيْتُهُمَا يَتَلَاعَنَانِ قَائِمَيْنِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ وَلَدَتْ، فَأُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْمَرْأَةِ، وَجَاءَتْ بِهِ أَشْبَهَ النَّاسِ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ عُوَيْمِرٌ قَدْ لَامَهُ قَوْمُهُ وَقَالُوا: امْرَأَةٌ لَا نَعْلَمُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا جَاءَ الشَّبَهُ بِشَرِيكٍ عَذَرَهُ النَّاسُ، وَعَاشَ الْمَوْلُودُ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ وَعَاشَتْ أُمُّهُ بَعْدَهُ يَسِيرًا، وَصَارَ شَرِيكٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَالَةٍ سُوءٍ» . قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ عُوَيْمِرًا. . . فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «وَلَمْ يَحُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُوَيْمِرًا فِي قَذْفِهِ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَشَهِدَ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَشَرِيكُ بْنُ السَّحْمَاءِ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ» . فَفِي هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ عَاشَ سَنَتَيْنِ وَمَاتَ، وَنَسَبُهُ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ إِلَى شَرِيكٍ أَيْضًا، وَنُسِبَ إِلَى شَرِيكٍ فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ، قِيلَ: وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ، «فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (اللَّهُمَّ بَيِّنْ) : فَوَضَعَتْ شَبَهًا بِالَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - وَفِي هَذَا اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ فَمَا تَقَدَّمَ خِلَافُهُ، وَهَذَا تَعَارُضٌ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنْ لَا لَعَانَ بِنَفْيِ الْحَمْلِ وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: يَجِبُ اللِّعَانُ إِذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِلتَّيَقُّنِ لِقِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَ الْقَذْفِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفُ أَنَّهُ يُلَاعَنُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِحَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ.

3308 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ وَجَدْتُ مَعَ أَهْلِي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ: " نَعَمْ ". قَالَ: كَلَّا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ، إِنَّهُ لَغَيُورٌ، وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3308 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ وَجَدْتُ) : أَيْ: صَادَفْتُ (مَعَ أَهْلِي رَجُلًا: أَيْ أَجْنَبِيًّا (لَمْ أَمَسَّهُ) : بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ الِاسْتِبْعَادِيِّ أَيْ: لَمْ أَضْرِبْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ (حَتَّى آتِيَ) : بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: حَتَّى أَجِيءَ (بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟) قَالَ: (نَعَمْ) : (قَالَ) : أَيْ: سَعْدٌ (كَلَّا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ) : أَيْ: مِنْ غَيْرِ إِتْيَانٍ، وَإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، وَفِي الْكَلَامِ تَأْكِيدٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ قَوْلُهُ " كَلَّا " رَدًّا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُخَالَفَةً لِأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ حَالَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَاسْتِيلَاءِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ) عَدَّى السَّمْعَ بِـ (إِلَى) : لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِصْغَاءِ أَيِ: اسْتَمِعُوا إِلَى مَا يَذْكُرُ (سَيِّدُكُمْ) قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ: سَيِّدُنَا، ثُمَّ قَالَ: وَإِضَافَتُهُ لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى مَنْ سَادَهُ وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ هَاهُنَا، وَإِمَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ السَّيِّدُ عِنْدَنَا، وَالْمَشْهُودُ لَهُ بِالسِّيَادَةِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، أَوِ الَّذِي سَيِّدْنَاهُ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا يَقُولُ السُّلْطَانُ: فُلَانٌ أَمِيرُنَا. قَالَ: وَرُوِيَ: " إِلَى سَيِّدِكُمْ " قَالَ: وَالسَّيِّدُ فَعِّلٌ مَنْ سَادَ يَسُودُ قُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً لِمُوَافَقَتِهَا الْيَاءَ وَسَبْقِهَا بِالسُّكُونِ، وَقَوْلُ أُمِّ الدَّرْدَاءِ: حَدَّثَنِي سَيِّدِي أَبُو الدَّرْدَاءَ، أَرَادَتْ مَعْنَى السِّيَادَةِ تَعْظِيمًا لَهُ أَوْ أَرَادَتْ مِلْكَ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] (إِنَّهُ لَغَيُورٌ) فِيهِ اعْتِذَارٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ سَعْدٌ قَالَهُ لِغَيْرَتِهِ، وَفِي ذِكْرِ السَّيِّدِ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغَيْرَةَ مِنْ شِيمَةِ كِرَامِ النَّاسِ وَسَادَاتِهِمْ، وَلِذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي) قَالَ الْمُظْهِرُ: يُشْبِهُ أَنَّ مُرَاجَعَةَ سَعْدٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ طَمَعًا فِي الرُّخْصَةِ لَا رَدًّا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكَتَ وَانْقَادَ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْغَيْرَةُ: الْحَمِيَّةُ وَالْأَنَفَةُ، وَغَيُورٌ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ كَشَكُورٍ وَكَفُورٍ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْغَيْرَةُ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - الزَّجْرُ، وَاللَّهُ غَيُورٌ أَيْ: زَجُورٌ يَزْجُرُ عَنِ الْمَعَاصِي ; لِأَنَّ الْغَيْرَةَ تَغَيُّرٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُهُ عَلَى الْأَهْلِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3309 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُنْذِرِينَ وَالْمُبَشِّرِينَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3309 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: «لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ» ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ الْمُخَفَّفَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: غَيْرَ ضَارِبٍ بِصَفْحِ السَّيْفِ وَهُوَ جَانِبُهُ بَلْ بِحَدِّهِ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، فِي فَتْحِ الْبَارِي قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضًا بِفَتْحِ الْفَاءِ، فَمَنْ فَتَحَ جَعَلَهُ وَصْفًا لِلسَّيْفِ حَالًا مِنْهُ، وَمَنْ كَسَرَ جَعَلَهُ وَصْفًا لِلضَّارِبِ وَحَالًا عَنْهُ، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ تَشْدِيدُ الْفَاءِ، وَهُوَ مِنْ صَفْحِ السَّيْفِ أَيْ: عَرْضُهُ وَحَدُّهُ (فَبَلَغَ ذَلِكَ) : أَيْ: وَصَلَ قَوْلُهُ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ) : أَيْ: لِأَصْحَابِهِ (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟) أَيْ: كَمَالِهَا (وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي) بِرَفْعِ الْجَلَالَةِ عَطْفٌ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ) : (وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ الْفَوَاحِشَ) هَذَا تَفْسِيرٌ لِغَيْرَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَعْنَى أَنَّهُ مَنَعَ النَّاسَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتِ إِذِ الْغَيْرَةُ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكْرَهَ وَيَغْضَبَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَصَرَّفَ غَيْرُهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النَّاسِ أَنْ يَغْضَبَ الرَّجُلُ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِامْرَأَتِهِ، أَوْ نَظَرَ إِلَيْهَا، فَفِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَغْضَبَ عَلَى مَنْ فَعَلَ مِنْهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا غَارَ عَلَى عِبَادِهِ وَإِمَائِهِ الْفَوَاحِشَ شَرَّعَ تَحْرِيمَهَا، وَرَتَّبَ عَلَى مُرْتَكِبِهَا الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِيَنْزَجِرُوا عَنْهَا. (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) : أَيْ: مَا أَعْلَنَ مِنْهَا وَمَا أَسَرَّ، وَقِيلَ مَا عَمِلَ وَمَا نَوَى، وَقِيلَ ظَاهِرُهَا الزِّنَى فِي الْحَوَانِيتِ، وَبَاطِنُهَا الصَّدِيقَةُ فِي السِّرِّ. (وَلَا أَحَدَ) بِالْفَتْحِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَقَوْلُهُ: (أَحَبُّ إِلَيْهِ) بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: يَجُوزُ فِي " أَحَدَ " الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فِي قَوْلِهِ: (لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) : قَوْلُهُ: " أَغْيَرُ " بِالرَّفْعِ وَهُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ " أَحَدَ "، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إِلَّا) : هُنَا بِمَعْنَى لَيْسَ، وَقَدْ ذُكِرَ الِاسْمُ وَالْخَبَرُ مَعَهَا، وَكَأَنَّ النَّحْوِيِّينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ اكْتَفَوْا بِقَوْلِهِ: أَنَا ابْنِ قَيْسٍ لَا بَرَاحَ وَقَوْلُهُ: (الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ) : فَاعِلٌ لِأَحَبَّ، وَالْمَسْأَلَةُ كُحْلِيَّةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعُذْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِعْذَارُ أَيْ: إِزَالَةُ الْعُذْرِ (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ مَحَبَّةِ الْعُذْرِ (بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ) : يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ ; لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ حُجَّةٌ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ( «وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ» ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْمَدْحِ (مِنَ اللَّهِ) وَلِذَا مَدَحَ نَفْسَهُ وَمَدَحَ أَوْلِيَاءَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا وَعَدَهَا وَرَكِبَ فِيهَا كَثُرَ سُؤَالُ الْعِبَادِ إِيَّاهَا مِنْهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَقَالَ لِبَعْضِهِمُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحُبَّ فِينَا وَالْغَضَبَ وَالْفَرَحَ وَالْحُزْنَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - عِبَارَةٌ عَنْ تَغَيُّرِ الْقَلْبِ، وَيُرِيدُ وَاحِدٌ مِنَّا بِأَنْ يَمْدَحَهُ أَحَدٌ، وَرُبَّمَا يَنْقُصُ قَدْرُهُ بِتَرْكِ الْمَدْحِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، بَلِ الْحُبُّ فِيهِ مَعْنَاهُ الرِّضَا بِالشَّيْءِ، وَإِيصَالُ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ إِلَى مَنْ أَحَبَّهُ، وَالْغَضَبُ إِيصَالُ الْعَذَابِ إِلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ. (وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) : أَيْ: كَوْنِ الْمَدْحِ مَحْبُوبًا لَهُ (وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: لِمَنْ مَدَحَهُ وَأَطَاعَهُ، وَلِهَذَا كَانَ {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: (لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) : جَلَّ عَظِيمُ الشَّأْنِ.

3310 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ لَا يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3310 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ) : أَيْ: تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِهِ تَعَالَى (وَغَيْرَةُ اللَّهِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (أَنْ لَا يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ) أَيْ: لَا يَقْرَبَ وَلَا يَفْعَلَ (مَا حَرَّمَ اللَّهُ) أَيْ: عَلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

3311 - وَعَنْهُ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ ". قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَمَا أَلْوَانُهَا؟ ": قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: " هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ " قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا قَالَ: " فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟ ": قَالَ: عِرْقٌ نَزَعَهَا. قَالَ: " فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ ": وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3311 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا) : أَيْ: وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ (أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ) : أَيْ: لِسَوَادِ الْوَلَدِ مُخَالِفًا لِلَوْنِ أَبَوَيْهِ وَأَرَادَ نَفْيَهُ عَنْهُ (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟) : قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فَمَا أَلْوَانُهَا) : أَيْ: أَلْوَانُ تِلْكَ الْإِبِلِ، وَقُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ (قَالَ: حُمْرٌ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَحْمَرَ، وَجُمِعَ لِلْمُطَابَقَةِ وَالْإِطْلَاقِ غَالِبًا (قَالَ: (هَلْ فِيهَا مِنْ أَرْوَقَ؟) : أَيْ: أَسْمَرَ، وَهُوَ مَا فِيهِ بَيَاضٌ إِلَى السَّوَادِ يُشْبِهُ لَوْنَ الرَّمَادِ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ أَطْيَبُ الْإِبِلِ لَحْمًا، وَلَيْسَ بِمَحْمُودٍ عِنْدَهُمْ فِي سَيْرِهِ وَعَمَلِهِ (قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَوْرَقَ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى جَمْعِهِ مُبَالِغَةً فِي وُجُودِهِ (قَالَ: فَأَنَّى تُرَى) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: فَمِنْ أَيْنَ تَظُنُّ (ذَلِكَ جَاءَهَا؟) : أَيْ: فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ بِهَذَا اللَّوْنِ وَأَبَوَاهَا بِهَذَا اللَّوْنِ (قَالَ: عِرْقٌ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (نَزَعَهَا) أَيْ: قَلَعَهَا وَأَخْرَجَهَا مِنْ أَلْوَانِ فَحْلِهَا وَلِقَاحِهَا، وَفِي الْمَثَلِ: الْعِرْقُ نَزَّاعٌ، وَالْعِرْقُ فِي الْأَصْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ عِرْقِ الشَّجَرِ، وَيُقَالُ فُلَانٌ لَهُ عِرْقٌ فِي الْكَرَمِ. (قَالَ: فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّ وُرْقَهَا إِنَّمَا جَاءَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أُصُولِهَا الْبَعِيدَةِ مَا كَانَ بِهَذَا اللَّوْنِ، أَوْ بِأَلْوَانٍ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ مِنَ اخْتِلَاطِهَا؟ فَإِنَّ أَمْزِجَةَ الْأُصُولِ قَدْ تُورَثُ، وَلِذَلِكَ تُورَثُ الْأَمْرَاضُ، وَالْأَلْوَانُ تَتْبَعُهَا. (وَلَمْ يُرَخِّصْ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَهُ) : أَيْ: لِلرَّجُلِ إِلَى الِانْتِفَاءِ) : أَيِ: انْتِفَاءِ الْوَلَدِ (مِنْهُ) : أَيْ: مِنْ أَبِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ الْمَنْعُ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ الْأَمَارَاتِ الضَّعِيفَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ وَظُهُورِ دَلِيلٍ قَوِىٍّ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا أَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُبْتَدَأِ وَطْئِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْتَبِرْ وَصْفَ اللَّوْنِ هَاهُنَا لِدَفْعِ التُّهْمَةِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنَ اعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ، بَلْ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ [الْأَمَارَاتِ الْجَلِيَّةَ] الظَّاهِرَةَ مُضْمَحِلَّةٌ عِنْدَ وُجُودِ نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِالْآثَارِ الْخَفِيَّةِ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَنَّ التَّعْرِيضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لَيْسَ نَفْيًا، وَأَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَيْسَ قَذْفًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ بِالْأَشْبَاهِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ لِلْأَنْسَابِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ وَالِاحْتِمَالِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3312 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي، فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ ابْنُ أَخِي، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَخِي كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) : ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: (احْتَجِبِي مِنْهُ) : لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: (هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمَعَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ) » : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3312 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ (ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) : وَهُوَ الَّذِي كَسَرَ رَبَاعِيَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ وَمَاتَ كَافِرًا (عَهِدَ) : أَيْ: أَوْصَى (إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) : وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ) : بِالْإِضَافَةِ أَيِ: ابْنَ جَارِيَتِهِ (مِنِّي) : وَهِيَ جَارِيَةٌ زَانِيَةٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِزَمْعَةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْمِيمِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ الْمِيمُ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْهُمَامِ عَلَى الْفَتْحَتَيْنِ، وَفِي الْمُغْنِي: أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ يُسَكِّنُونَ الْمِيمَ (فَاقْبِضْهُ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أَمْسِكِ ابْنَهَا (إِلَيْكَ) : أَيْ: مُنْضَمًّا إِلَى حَجْرِ تَرْبِيَتِكَ، يَعْنِي: كَانَ عُتْبَةُ وَطِىءَ الْوَلِيدَةَ وَوَلَدَتِ ابْنًا، فَظَنَّ أَنَّ نَسَبَ وَلَدِ الزِّنَا ثَابِتٌ لِلزَّانِي فَأَوْصَى لِأَخِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَ ذَلِكَ الِابْنَ إِلَى نَفْسِهِ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ وَيُرَبِّيَهُ. (فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ) أَيْ: سَعْدٌ ابْنَ الْوَلِيدَةِ (فَقَالَ: إِنَّهُ ابْنُ أَخِي

وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي) : أَيْ: هُوَ أَخِي ; لِأَنَّ أَبِي كَانَ يَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَلَدَتْ وَلَدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَأَنَا أَحَقُّ بِهِ. (فَتَسَاوَقَا) : تَفَاعَلَ مِنَ السَّوْقِ أَيْ: فَذَهَبَا (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: لِلْمُرَافَعَةِ (فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَخِي كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ) : أَيْ: فِي ابْنِ الْوَلِيدَةِ (قَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةَ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) يَعْنِي: الْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ إِذَا كَانَ الْوَطْءُ زِنًا، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، وَإِذَا كَانَ وَالَدُهُ وَأُمُّهُ رَقِيقَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا، فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ أُمَّهُ أَيْضًا (وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) : أَيْ: وَلِلزَّانِي الْحِجَارَةُ بِأَنْ يُرْجَمَ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَيُحَدَّ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْحِرْمَانَ عَنِ الْمِيرَاثِ وَالنَّسَبِ، وَالْحَجَرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِرْمَانِ، كَانَ يُقَالُ لِلْمَحْرُومِ: فِي يَدِهِ التُّرَابُ وَالْحَجَرُ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْوَلِيدَةُ الْأَمَةَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَتَّخِذُونَ الْوَلَائِدَ، وَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِنَّ الضَّرَائِبَ فَيَكْتَسِبْنَ بِالْفُجُورِ، وَكَانَتِ السَّادَةُ أَيْضًا لَا يَحْتِمُونَهُنَّ فَيَأْتُونَهُنَّ، فَإِذَا أَتَتْ وَلِيدَةٌ بِوَلَدٍ، وَقَدِ اسْتَفْرَشَهَا السَّيِّدُ وَزَنَى بِهَا غَيْرُهُ أَيْضًا، فَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ أَحَدُهَا أُلْحِقَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَنَازَعَا فِيهِ، عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ، وَكَانَ عُتْبَةُ قَدْ صَنَعَ هَذَا الصُّنْعَ فِي جَاهِلِيَّتِهِ بِوَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَحَسِبَ أَنَّ الْوَلَدَ لَهُ، فَعَهِدَ إِلَى أَخِيهِ بِأَنْ يَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَيَنْسُبَهُ إِلَى أَخِيهِ حِينَمَا احْتَضَرَ، وَكَانَ كَافِرًا، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَزْمَعَ سَعْدٌ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَ وَصِيَّتَهُ وَيَنْزِعَهُ، فَأَبَى ذَلِكَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، وَتَرَافَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَمَ أَنَّ الْوَلَدَ لِلسَّيِّدِ الَّذِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَلَيْسَ لِلزَّانِي عَنْ فِعْلِهِ سِوَى الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ، وَأَبْطَلَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ إِثْبَاتِ النَّسَبِ لِلزَّانِي. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الدَّعْوَى تَجْرِي فِي النَّسَبِ كَمَا تَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ، وَأَنَّ الْأَمَةَ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ، وَأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَقَرَّ بِالْوَطْءِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ لَحِقَهُ، وَإِنْ وَطِئَهَا غَيْرُهُ، وَأَنَّ إِقْرَارَ الْوَارِثِ فِيهِ كَإِقْرَارِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً فَمُجَرَّدُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَنَقَلُوا فِي هَذَا الْإِجْمَاعَ، وَشَرَطُوا لَهُ إِمْكَانَ الْوَطْءِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ نَكَحَ الْمَشْرِقِيُّ مَغْرِبِيَّةً، وَلَمْ يُفَارِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَطَنَهُ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يُلْحَقْ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَشْتَرِطِ الْإِمْكَانَ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ عَقِبَ الْعَقْدِ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، اهـ. لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى ظُهُورِ فَسَادِهِ وَغَفْلَتِهِ عَنْ تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ وَظُهُورِ صَلَاحِهِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ شَرَطَ الْإِمْكَانَ لَكِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْإِمْكَانِ الْعَادِيِّ وَجَوَّزَ اجْتِمَاعَهُمَا بِطَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ، حَمْلًا لِلْمُؤْمِنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْإِحْسَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ تَصِيرُ فِرَاشًا لِلْوَاطِئِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ، فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ لَحِقَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إِلَّا إِذَا وَلَدَتْ) . (ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ) : أَيْ: زَوْجَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (احْتَجِبِي مِنْهُ) : أَيْ: مِنَ الْوَلَدِ (لِمَا رَأَى) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ (مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ) : بَيَانٌ لِمَا يَعْنِي أَنَّ ظَاهِرَ الشَّرْعِ هَذَا الِابْنُ أَخُوكِ، وَلَكِنَّ التَّقْوَى أَنْ تَحْتَجِبِي مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عُتْبَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ بِالزِّنَى لَهُ حُكْمُ الْوَطْءِ بِالنَّفْخِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ: لَا أَثَرَ لِوَطْءِ الزِّنَا، بَلْ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتَهَا، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ وَجَوَّزَ نِكَاحَ الْبِنْتِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا وَقَالُوا: وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّ سَوْدَةَ أُمِرَتْ بِالِاحْتِجَابِ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنَ الزِّنَا فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْ سَوْدَةَ لَا يَحِلُّ الظُّهُورُ لَهُ، سَوَاءٌ أُلْحِقَ بِالزَّانِي أَمْ لَا، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الْأَمْرَ فِي الْبَاطِنِ، فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُورٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَحِلِّ الْمَحْكُومُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ; لِأَنَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّهُ أَخٌ لَهُ، وَلِسَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ اهـ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَهَارُونَ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَعَ الْعَزْلِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَثْبُتُ إِذَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا، وَلَوْ وَطِئَ فِي دُبُرِهَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَحْمَدَ، هُوَ وَجْهٌ مُضَعَّفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأَصْلُ دَلِيلِهِمْ فِيهِ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتِ: «اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْنِي فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ - فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ) : فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةَ قَطُّ» . وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا قَضَى بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ وَرِثَهُ لَا عَلَى أَنَّهُ أَخُوهُ، وَلِذَا قَالَ: (هُوَ لَكَ) : وَلَمْ يَقُلْ هُوَ أَخُوكَ، وَقَالَ: ( «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» ) : وَلَوْ كَانَ أَخَاً لَهَا بِالشَّرْعِ لَمْ يَجِبِ احْتِجَابُهَا مِنْهُ، فَهَذَا دَفْعٌ بِانْتِفَاءِ لَازِمِ الْإِخُوَّةِ شَرْعًا، وَالْأَوَّلُ بِاللَّفْظِ نَفْسِهِ، وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ) : وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالِاحْتِجَابِ، فَمَا رَأَى مِنَ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ بِعُتْبَةَ، وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ أَيْضًا بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ حِينَئِذٍ مُعَارِضَةٌ لِرِوَايَةِ: (هُوَ لَكَ) : وَهُوَ أَرْجَحُ لِأَنَّهَا الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ، فَلَا تُعَارِضُهَا الشَّاذَّةُ، وَالشَّبَهُ لَا يُوجِبُ احْتِجَابَ أُخْتِهِ شَرْعًا مِنْهُ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الْآنَ وُجُوبًا مُسْتَمِرًّا أَنَّ كُلَّ مَنْ أَشْبَهَ غَيْرَ أَبِيهِ الثَّابِتِ نَسَبُهُ مِنْهُ يَجِبُ حُكْمًا لِلشَّبَهِ احْتِجَابُ أُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَجِدَّتِهِ لِأَبِيهِ مِنْهُ، هُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا، وَقَوْلُهُ: (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : انْتَفَى بِهِ نَسَبُهُ عَنْ سَعْدٍ بِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ، وَعَنْ عَبْدٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُ يَعْنِي الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلَا فِرَاشَ لِوَاحِدٍ مِنْ عُتْبَةَ وَزَمْعَةَ، وَبِهِ يَقْوَى مُعَارَضَةُ رِوَايَةِ: (هُوَ أَخُوكَ) : وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا لَيْسَ حُكْمًا مُسْتَمِرًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا خَاصًّا بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ حِجَابَهُنَّ مَنِيعٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] وَعَلَى هَذَا يَجِبُ حَمْلُ الْوَلِيدَةِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَلَدَتْ لِزَمْعَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ: (هُوَ لَكَ) : أَيْ: مَقْضِيٌّ لَكَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخُوكَ كَمَا فِي الرِّاوِيَةِ الْأُخْرَى، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْتَزِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِيَنِّي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إِلَّا أَلْحَقْتُ وَلَدَهَا بِهَا، فَاعْتَزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ اتْرُكُوا. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. فَمُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْ جَارِيَتِهِ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ فَشَقَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: مِمَّنْ هُوَ؟ فَقَالَتْ: مِنْ رَاعِي الْإِبِلِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ فَحَمَلَتْ فَقَالَ: لَيْسَ مِنِّي إِنِّي أَتَيْتُهَا إِتْيَانًا لَمْ أُرِدْ بِهِ الْوَلَدَ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ جَارِيَةً فَارِسِيَّةً وَيَعْزِلُ عَنْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَأَعْتَقَ الْوَلَدَ وَجَلَدَهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: مِمَّنْ حَمَلْتِ؟ فَقَالَتْ: مِنْكَ. فَقَالَ: كَذَبْتِ، مَا وَصَلَ إِلَيْكِ مَا يَكُونُ مِنْهُ الْحَمْلُ، وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوَطْئِهَا: وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَلْحَقُ الْوَاطِئَ مُطْلَقًا جَازَ لِكَوْنِهِ عَلِمَ مِنْ بَعْضِهِمْ إِنْكَارًا، مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُهُ، وَذَلِكَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاطِئَ إِذَا لَمْ يَعْزِلْ وَحَصَّنَهَا وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِهِ، فَقَدْ عَلِمَ مِنَ النَّاسِ إِنْكَارَ أَوْلَادِ الْإِمَاءِ مُطْلَقًا، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مُلْحِقٌ بِكُمْ إِيَّاهُمْ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الِاعْتِزَالُ فِي الْأَمَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِهِ الْوَلَدَ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْوَطْءِ، مَا لَمْ يَدَعْهُ حُكْمٌ فِي الْقَضَاءِ يَعْنِي لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ بِلَا دَعْوَةٍ، وَأَمَّا الدِّيَانَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حِينَ وَطِئَهَا لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا، وَحَصَّنَهَا عَنْ مَظَانِّ رِيبَةِ الزِّنَى يَلْزَمُهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَدَّعِيَهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - كَوْنُهُ مِنْهُ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ، وَفِي الْمَبْسُوطِ: (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ، حَصَّنَهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا، تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهَا، وَحَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ يَكُونُ مُحَالًا عَلَيْهِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ وَلَدَهَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ) . وَفِي الْإِيضَاحِ: ذَكَرَهَا بِلَفْظِ الِاسْتِحْبَابِ فَقَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أُحِبُّ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أُحِبُّ أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ. وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ.

3313 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ. "، فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ! أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ، فَلَمَّا رَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3313 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ) : أَيْ: عِنْدِي (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ) : أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ أَوْ نَهَارًا (وَهُوَ مَسْرُورٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ!) : أَيْ: يَا عَائِشَةُ، فَأَيْ نِدَاءٌ لِلْقَرِيبِ (أَلَمْ تَرَىْ) : بِحَذْفِ النُّونِ أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمِي، يَعْنِي: هَذَا مِمَّا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَعَلَمِي فَاعْلَمِي (أَنَّ مُجَزِّزًا) : بِكَسْرِ الزَّايِ الْأَوْلَى مُشَدَّدَةً بَعْدَ الْجِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا (الْمُدْلِجِيَّ) : نِسْبَةٌ إِلَى مُدْلِجٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ فَجِيمٌ. وَكَانَتِ الْقِيَافَةُ فِيهِمْ، وَفِي بَنِي أَسَدٍ يَعْتَرِفُ لَهُمُ الْعَرَبُ (دَخَلَ) : أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ (فَلَمَّا رَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا) : أَيِ: ابْنَهُ (وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ) : أَيْ: كِسَاءٌ غَلِيظٌ (قَدْ غَطَّيَا) : أَيْ: بِهَا (رُءُوسَهُمَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ وَادِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، لِأَنَّهُ قَدِ، اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَبْحَثِ. (وَبَدَتْ) : أَيْ: ظَهَرَتْ وَكُشِفَتْ (أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ) : أَيِ: الْمُدْلِجِيُّ (إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَقْدَحُ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَعَ إِلْحَاقِ الشَّرْعِ إِيَّاهُ بِهِ، لِكَوْنِهِ أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ، فَلَمَّا قَضَى هَذَا الْقَائِفَ بِإِلْحَاقِ نَسَبِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّوْنِ، وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَمِدُ قَوْلَ الْقَائِفِ فَرِحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَوْنِهِ زَاجِرًا لَهُمْ عَنِ الطَّعْنِ فِي نَسَبِهِ، وَكَانَتْ أَمُّ أُسَامَةَ حَبَشِيَّةً سَوْدَاءَ اسْمُهَا بَرَكَةُ، وَكُنْيَتُهَا أَمُّ أَيْمَنَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ، وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ أَمْ يُكْتَفَى بِوَاحِدٍ؟ وَالْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ، اهـ. وَقِيلَ: فِيهِ جَوَازُ الْحُكْمِ بِفِعْلِ الْقِيَافَةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. أَقُولُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثُبُوتُ النَّسَبِ بِعِلْمِ الْقِيَافَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْوِيَةٌ وَدَفْعُ تُهْمَةٍ وَرَفْعُ مَظِنَّةٍ، كَمَا إِذَا شَهِدَ عَدَلٌ بِرُؤْيَةِ هِلَالٍ وَوَافَقَهُ مُنَجِّمٌ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُنَجِّمِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُقَوِّيًا لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَتَأَمَّلْ! قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِ الْقَائِفِ فِي الْأَنْسَابِ، وَأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي إِثْبَاتِهَا، وَإِلَّا لَمَا اسْتَبْشَرَ بِهِ، وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ رَجْمًا بِالْغَيْبِ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُوَافِقَ الْحَقَّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وِفَاقًا، وَخُصُوصًا مَا يَكُونُ صَوَابُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، وَخَطَؤُهُ قَذْفَ مُحْصَنَةٍ، وَلَا الِاسْتِدْلَالُ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: إِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ أَوْ أَكْثَرَ نَسَبَ مَوْلُودٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوِ اشْتَرَكُوا فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ بِالشُّبْهَةِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَتَنَازَعُوا فِيهِ حُكِّمَ الْقَائِفُ فَبِأَيِّهِمْ أَلْحَقَهُ لِحَقَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ قَالُوا: يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِهِمْ جَمِيعًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَلْحَقُ رَجُلَيْنِ وَثَلَاثًا، وَلَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ وَلَا بِامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُ بِهِمَا أَيْضًا، وَكُلُّ ذَلِكَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْمَرَضِ أَوِ الصِّحَّةِ، وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ اتِّفَاقًا إِلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. قَالَ: وَإِنِ ادَّعَيَاهُ مَعًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا، وَكَانَتِ الْأُمُّ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا فَتَخْدِمُ كُلًّا مِنْهُمَا يَوْمًا، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ، وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ، وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ كُلٌّ مِنْ مِيرَاثِ الِابْنِ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا. وَقَالَ: وَبِقَوْلِنَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَرَجَّحَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ حَدِيثَ الْقِيَافَةِ، وَقِيلَ: يُعْمَلُ بِهِ إِذَا فُقِدَتِ الْقَافَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ الْقَائِفِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْقَائِفُ وَقَفَ حَتَّى بَلَغَ الْوَلَدُ، فَيُنْسَبُ إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ نَسَبُهُ مَوْقُوفًا لَا يَثْبُتُ لَهُ نَسَبٌ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ، وَالْقَائِفُ: هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ آثَارَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآثَارِ مِنْ قَافَ أَثَرَهُ يَقُوفُهُ، مَقْلُوبُ قَفَا أَثَرَهُ مِثْلُ أَرَى مَقْلُوبَ رَأَى، وَالْقِيَافَةُ مَشْهُورَةٌ فِي بَنِي مُدْلِجٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْلِجِيٌّ فَغَيْرَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ فِي الْآمَالِي. وَهَذَا لِأَنَّ إِثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ ; [لِأَنَّهَا كَمَا تُعَلِّقَ مِنْ رَجُلٍ انْسَدَّ فَمُ الرَّحِمِ مُتَعَذِّرٌ] ، فَقُلْنَا بِالشَّبَهِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَافَةَ لَوْ أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا لَا يَلْحَقُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ إِذَا

أَلْحَقُوا بِهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ الْعَمَلُ بِالشَّبَهِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ حَيْثُ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا أَخْرَجَ السِّتَّةَ فِي كُتُبِهِمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُورًا فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَزَيْدٌ وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ". وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَانَ أُسَامَةُ أَسْوَدَ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إِلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ ذُكِرَ أَنَّ شُرَيْحًا كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَادَّعَيَاهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنَّهُمَا لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نُكْرٍ، فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي قِصَّةِ عُمَرَ هُوَ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُمَرَ فِي امْرَأَةٍ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ، فَقَالَ الْقَائِفُ: قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَعَلِيٌّ يَقُولُ هُوَ ابْنُهُمَا وَهُمَا أَبَوَاهُ يَرِثَانِهِ وَيَرِثُهُمَا، وَذَكَرَهُ سَعِيدٌ أَيْضًا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي طُهْرِ امْرَأَةٍ، أَوْ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ، فَقَالَ الْقَائِفُ: قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا، فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا يُشْبِهُهُمَا، فَرَفَعَا ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فَدَعَا الْقَافَةَ فَنَظَرُوهُ فَقَالُوا: نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا فَأَلْحَقَهُ بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدًا، فَدَعَا عُمَرُ الْقَافَةَ وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِبَصَرِ الْقَافَةِ، وَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بَعْدَ ذَلِكَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا دَعَا عُمَرُ الْقَافَةَ فَرَأَوْا شَبَهَهُ فِيهِمَا، وَرَأَى عُمَرُ مِثْلَ مَا رَأَتِ الْقَافَةُ قَالَ: قَدْ كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ الْكَلْبَةَ لَا تَلِدُ إِلَّا كَلْبًا، فَيَكُونُ كُلُّ جُرْوٍ لِأَبِيهِ، وَمَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ مَاءَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فِي وَلَدٍ وَاحِدٍ، وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: رَأَى الْقَافَةُ وَعُمَرُ جَمِيعًا شَبَهَهُ فِيهِمَا فَقَالَ: هُوَ بَيْنَكُمَا يَرِثُكُمَا وَتَرِثَانِهِ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ، فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ الْآخَرُ مِنْهُمَا. قَالَ: وَقَوْلُ الْمُصَنِّفُ: - يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ - وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلَ ذَلِكَ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ مَوْلًى مَخْزُومِيٍّ قَالَ: وَقَعَ رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَعَلَّقَتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمْ يَدْرِ مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ فَأَتَيَا عَلِيًّا، فَقَالَ: هُوَ بَيْنَكُمَا يَرِثُكُمَا وَتَرِثَانِهِ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْكُمَا. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَتَاهُ رَجُلَانِ وَقَعَا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٌ، فَقَالَ: الْوَلَدُ بَيْنَكُمَا وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْكُمَا. وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: يَرْوِيهِ سِمَاكٌ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَمْ يُسَمِّهِ، وَعَنْ قَابُوسَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِخِلَافِ ذَلِكَ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ صَالِحٍ الْهَمَذَانِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدٍ خَيْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «أُتِيَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِثَلَاثَةٍ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ أَتُقِرَّانِ بِهَذَا الْوَلَدِ؟ قَالَا: لَا، حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ. قَالَ: فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» . وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَاهُ أَيْضًا مَوْقُوفًا وَكَذَا النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ أَجْوَدَ مِنْ إِسْنَادِ الْمَرْفُوعِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَالَ فِيهِ: فَأَغْرَمَهُ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ حَسَنٌ، بُيِّنَ الْمُرَادُ بِالدِّيَةِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَحَاصِلُ مَا تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُرَّ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، وَأَنَّ عُمَرَ قَضَى عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِمْ، وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُنْكِرْ إِثْبَاتَ عَلِيٍّ النَّسَبَ بِالْقُرْعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُعَوِّلَ عَلَى مَا يُنْسَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ هُوَ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ - أَيْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ - عَنْهُ بِأَنَّ سُرُورَهُ كَانَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعُنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ، لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ كَانَ أَسْوَدَ، وَزَيْدٌ أَبْيَضَ، فَكَانُوا لِذَلِكَ يَطْعُنُونَ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُونَ قَوْلَ الْقَافَةِ، فَكَانَ قَوْلُ الْقَافَةِ مُقَطَّعًا لِطَعْنِهِمْ، فَسُرُورُهُ - لَا شَكَّ - أَنَّهُ لِمَا يُلْزِمُهُ مِنْ قَطْعِ طَعْنِهِمْ وَاسْتِرَاحَةِ مُسْلِمٍ مِنَ التَّأَذِّي بِنَفْيِ نَسَبِهِ وَظُهُورِ خَطَئِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ كَوْنَ الْقِيَافَةِ حَقًّا فِي نَفْسِهَا، فَيَكُونُ مُتَعَلَّقَ سُرُورِهِ أَيْضًا، أَوْ لَيْسَتْ حَقًّا فَيَخْتَصُّ سُرُورُهُ بِمَا قُلْنَا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُنَا بِكَوْنِ سُرُورِهِ بِهَا نَفْسِهَا فَرْعُ حُكْمِنَا بِأَنَّهُ حَقٌّ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّيَّتِهَا، وَلَمْ تَثْبُتْ بَعْدُ، وَطَعَنَ يَطْعُنُ - بِضَمِّ عَيْنِ الْمُضَارِعِ - فِي الرُّمْحِ وَالنَّسَبِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ اسْتُدِلَّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَافَةِ بِحَدِيثِ اللِّعَانِ حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ: ( «إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَصْهَبَ أَسْحَمَ خَمْشَ السَّاقِيْنِ فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ» ) : وَهَذِهِ هِيَ الْقِيَافَةُ وَالْحُكْمُ بِالشَّبَهِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ لَا الْقِيَافَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: الظَّاهِرُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَعْرِيفِهِ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْقِيَافَةُ مُعْتَبَرَةً لَكَانَ شَرْعِيَّةُ اللِّعَانِ تَخْتَصُّ بِمَا إِذَا لَمْ يُشْبِهِ الْمَزْنِيُّ بِهِ شَبَهَ الزَّوْجِ أَوْ لَا لِحُصُولِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنًا لِلنَّافِي، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ بِكَذِبِهِمَا فِي نَسَبِ الْوَلَدِ، وَأُجِيبُ أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَقِّيَّةِ قِيَافَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقِّيَّةُ قِيَافَةِ غَيْرِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْقِيَافَةَ لَيْسَتْ إِلَّا بِاعْتِبَارِ أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ يَسْتَوِي النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُرَّ بِفِعْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ إِلْحَاقُهُ بِالْقُرْعَةِ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَطَرِيقُهُ صَحِيحَةٌ، لِتَقْرِيرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِيَّاهُ، بَلْ سُرَّ بِهِ ; لِأَنَّ الضَّحِكَ دَلِيلُهُ مَعَ عَدَمِ الْإِنْكَارِ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِنَسْخِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ مِنَ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْقُوَّةِ بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ بِحَيْثُ لَا يُعَارِضُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ مِنْ قِصَّةِ شُرَيْحٍ لِخَفَائِهَا وَعَدَمِ تَبَيُّنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ قِصَّةً مُرْسَلَةً، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ مُرْسَلٌ، وَكَذَا عُرْوَةُ عَنْهُ، وَهُمَا إِمَامَانِ لَا يَرْوِيَانِ إِلَّا عَنْ قَوِيٍّ مَعَ حُجِّيَّةِ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا، فَكَيْفَ بِهِ مِنْ هَذَيْنِ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: " نَعَمْ "، فِي إِسْنَادِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رُبَّمَا يَكُونُ كَالْمُوَصَّلِ بِعُمَرَ ; لِأَنَّ سَعِيدًا رَوَى عَنْ عُمَرَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ هَذَا، وَإِذَا ثَبَتَ عَمَلُ عُمَرَ بِالْقِيَافَةِ لَزِمَ أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ فِي سُرُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ هُوَ كَوْنُ الْحِقْبَةِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهِ ثَابِتٌ، وَالشَّافِعِيُّ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَى اثْنَيْنِ يَلْزَمُهُ اعْتِقَادُ أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ كَانَ عَنْ رَأْيِهِ لَا بِقَوْلِ الْقَافَةِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنَ اثْنَيْنِ إِذْ حَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَلْزُومٌ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا سُرُورُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا إِلَّا بِرَدِّ طَعْنِهِمْ، أَوْ ثُبُوتُ نَسَبِهِ، وَبِهِ نَقُولُ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ مِنْ مَائِهِمَا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، لِأَنَّ الْمَاءَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الرَّحِمِ إِلَّا مُتَعَاقِبَيْنِ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنَ الْأَوَّلِ لَمْ يُتَصَوَّرْ خَلْقُهُ مِنَ الثَّانِي، بَلْ إِنَّهُ يَزِيدُ الْأَوَّلَ فِي سَمْعِهِ قُوَّةً وَفِي بَصَرِهِ وَأَعْضَائِهِ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ فَقَاصِرٌ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ، فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ [لَا] تَحِيضُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَوْلُ بِالِانْسِدَادِ، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مَعَ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ فِي نَفْيِ الْأَمْرِ مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

3314 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ) » : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3314 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي بَكْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنِ ادَّعَى) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيِ انْتَسَبَ (إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ) : أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ يَعْلَمُ (أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ) : أَيْ: إِنِ اعْتَقَدَ حِلَّهُ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يُعَذَّبَ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَالْجَنَّةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُمَا، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: ( «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) .

3315 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَقَدْ كَفَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ: ( «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ» ) : فِي (بَابِ صَلَاةِ الْخُسُوفِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3315 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا تَرْغَبُوا) : أَيْ: لَا تُعْرِضُوا (عَنْ آبَائِكُمْ) : أَيْ: عَنِ الِانْتِمَاءِ إِلَيْهِمْ (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ: وَانْتَسَبَ إِلَى غَيْرِهِ (فَقَدْ كَفَرَ) : أَيْ قَارَبَ الْكُفْرَ، أَوْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ. فِي النِّهَايَةِ: الدِّعْوَةُ بِالْكَسْرِ فِي النَّسَبِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَسِبَ الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ فَنُهُوا عَنْهُ، وَالِادِّعَاءُ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ حَرَامٌ، فَمَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ كَفَرَ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ إِبَاحَتَهُ فَمَعْنَى (كَفَرَ) : وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَشْبَهَ فِعْلَهُ فِعْلَ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَافِرٌ نِعْمَةَ الْإِسْلَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ عَلَى الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ، وَعَلَى الثَّانِي تَغْلِيظٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَلَفَظُ ابْنِ الْهُمَامِ: " «مَنِ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» ) : وَأَمَّا لَفْظُ الْكِتَابِ فَمُطَابِقٌ لِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

(وَذُكِرَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَقَدْ ذُكِرَ (حَدِيثُ عَائِشَةَ: " «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ» ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِالنَّصْبِ حِجَازِيَّةٌ، وَالرَّفْعِ تَمِيمِيَّةٌ، وَتَمَامُهُ: (أَنْ يَزْنِيَ عَبْدَهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ) . فِي (بَابِ صَلَاةِ الْخُسُوفِ) : أَيْ: ذُكِرَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَحُذِفَ هَاهُنَا لِتَكْرَارِهِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3316 - «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ; فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3316 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ) : أَيْ: حِينَ نُزُولِهَا (أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ) : أَيْ: بِالِانْتِسَابِ الْبَاطِلِ (مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ) : أَيِ: الْمَرْأَةُ (مِنَ اللَّهِ) : أَيْ: مِنْ دِينِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ (فِي شَيْءٍ) : أَيْ: شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ (وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ) قَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: أَيْ مَعَ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلْ يُؤَخِّرُهَا أَوْ يُعَذِّبُهَا مَا شَاءَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْخُلُودُ. (وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ) : أَيْ: أَنْكَرَهُ وَنَفَاهُ (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) : أَيِ: الْوَلَدُ (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) : أَيْ: إِلَى الرَّجُلِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى قِلَّةِ شَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَثْرَةِ قَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَغِلْظَتِهِ، أَوْ وَالْحَالُ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْظُرُ إِلَى وَلَدِهِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ التُّورِبِشَتِيِّ: وَذِكْرُ النَّظَرِ تَحْقِيقٌ لِسُوءِ صَنِيعِهِ، وَتَعْظِيمٌ لِلذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ بِالْفُرْقَةِ حَتَّى أَمَاطَ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْ وَجْهِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) : تَتْمِيمٌ لِلْمَعْنَى وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ اهـ. قِيلَ: مَعْنَى (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) : أَيْ: وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدُهُ فَيَكُونُ قَيْدًا احْتِرَازِيًّا (احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ) : أَيْ: حَجَبَهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاحْتِجَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ. (وَفَضَحَهُ) : أَيْ: أَخْزَاهُ (عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ) : أَيْ: عِنْدَهُمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَشْهِيرِهِ (فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) : أَيْ: فِي جَمْعِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِفَضْحِهِ، وَعَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُؤَكِّدَةً مِنَ الْخَلَائِقِ أَيْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: " يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".

3317 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ لِي امْرَأَةً لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طَلِّقْهَا ": قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا. قَالَ: " فَأَمْسِكْهَا إِذَنْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: رَفَعَهُ أَحَدُ الرُّوَاةِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَحَدُهُمْ لَمْ يَرْفَعْهُ. وَقَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3317 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ لِيَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا (امْرَأَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى اسْمِ إِنَّ (لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ) . أَيْ: لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا عَمَّنْ يَقْصِدُهَا بِفَاحِشَةٍ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (طَلِّقْهَا) : قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا. قَالَ: (فَأَمْسَكْهَا إِذَنْ) : أَيْ: فَاحْفَظْهَا لِئَلَّا تَفْعَلَ فَاحِشَةً، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ تُطِيقَ مِثْلَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدَّمَ الطَّلَاقَ عَلَى الْإِمْسَاكِ، فَلَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ تَطْلِيقُهَا بِأَنْ يَكُونَ يُحِبُّهَا، أَوْ يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وُلِدٌ يَشُقُّ مُفَارَقَةُ الْوَلَدِ الْأُمَّ، أَوْ يَكُونَ لَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ قَضَاؤُهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ لَا يُطْلِّقَهَا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَمْنَعَهَا عَنِ الْفَاحِشَةِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنِ الْفَاحِشَةِ يَعْصِي بِتَرْكِ تَطْلِيقِهَا. قَالَ مِيرَكُ نَاقِلًا عَنِ التَّصْحِيحِ لِلْجَزَرِيِّ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ مِنَ الْفُجُورِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا مُطَاوِعَةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، فَقَالَ بَابُ تَزَوُّجِ الزَّانِيَةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: تُعْطَى مِنْ مَالِهِ، يَعْنِي

أَنَّهَا سَفِيهَةٌ لَا تَرُدُّ مَنْ أَرَادَ الْأَخْذَ مِنْهُ، وَهَذَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنَّهَا زَانِيَةً لَكَانَ قَذْفًا، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُقِرَّهُ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَأْخُذَ فِي إِمْسَاكِهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا مُطَاوَعَةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا لَا تُرَدُّ يَدُهُ، قَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: هَذَا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَقْتَضِيهِ احْتِمَالًا فَإِنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَامْسِكْهَا إِذَنْ) : يَأْبَاهُ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِمْسَاكِ مَنْ لَا تَمَاسُكَ لَهَا عَنِ الْفَاحِشَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ شَكَا إِلَيْهِ خُرْقَهَا وَتَهَاوُنَهَا بِحِفْظِ مَا فِي الْبَيْتِ، وَالتَّسَارُعَ إِلَى بَذْلِ ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَهُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا التَّوْجِيهُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ إِمْسَاكَ الْفَاجِرَةِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، حَتَّى لَا يُؤْذَنَ فِيهِ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُولَعًا بِهَا فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَصْطَبِرَ عَنْهَا لَوْ طَلَّقَهَا، فَيَقَعُ هُوَ أَيْضًا فِي الْفُجُورِ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا وَيَجْتَهِدَ فِي حِفْظِهَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْفَاجِرَةِ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: رَفَعَهُ أَحَدُ الرُّوَاةِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَحَدُهُمْ لَمْ يَرْفَعْهُ وَقَالَ) : أَيِ: النَّسَائِيُّ (وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ) : أَيْ: وَصْلُهُ. قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِانْفِرَادِ، اهـ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَاقَهُ بِلَفْظِهِ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُسْنَدًا وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، اهـ كَلَامُ الشَّيْخِ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ وَصْلَ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَالْمُرْسَلَ أَصَحُّ، لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِثَابِتٍ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، تَأَمَّلْ. ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

3318 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ كُلَّ مُسْتَلْحَقٍ اسْتُلْحِقَ بَعْدَ أَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ ادَّعَاهُ وَرَثَتُهُ فَقَضَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ يَمْلِكُهَا يَوْمَ أَصَابَهَا فَقَدْ لَحِقَ بِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ، وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا قُسِمَ قَبْلَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ، وَمَا أَدْرَكَ مِنْ مِيرَاثٍ لَمْ يُقْسَمْ فَلَهُ نَصِيبُهُ، وَلَا يَلْحَقُ إِذَا كَانَ أَبُوهُ الَّذِي يُدْعَى لَهُ أَنْكَرَهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا أَوْ حُرَّةٍ عَاهَرَ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَا يَرِثُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُدْعَى لَهُ هُوَ الَّذِي ادَّعَاهُ فَهُوَ وَلَدُ زِنْيَةٍ مِنْ حُرَّةٍ كَانَ أَوْ أَمَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3318 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى) : أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ (أَنَّ كُلَّ مُسْتَلْحَقٍ) : هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الَّذِي طَلَبَ الْوَرَثَةَ أَنْ يُلْحِقُوهُ بِهِمْ، وَاسْتَلْحَقَهُ أَيْ أَدَّ، وَقَوْلُهُ: (اسْتُلْحِقَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ صِفَةً لِقَوْلِهِ مُسْتَلْحَقٌ (بَعْدَ أَبِيهِ) : أَيْ: بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْمُسْتَلْحَقِ (الَّذِي يُدْعَى) : بِالتَّخْفِيفِ أَيِ الْمُسْتَلْحَقُ (لَهُ) : أَيْ: لِأَبِيهِ يَعْنِي يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِ تِلْكَ الْأَمَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُوهُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُهُ: (ادَّعَاهُ وَرَثَتُهُ) : خَبَرُ إِنَّ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَقَضَى) : تَفْصِيلِيَّةٌ أَيْ: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْضِيَ فَقَضَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] قِيلَ: قَوْلُهُ (ادَّعَاهُ) : صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِمُسْتَلْحَقٍ، وَخَبَرُ أَنَّ مَحْذُوفٌ أَيْ (مَنْ كَانَ) : دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ أَعْنِي قَوْلَهُ: فَقَضَى (أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ) : أَيْ: كُلُّ وَلَدٍ حَصَلَ مِنْ جَارِيَةٍ (يَمْلِكُهَا) : أَيْ: سَيُّدُهَا (يَوْمَ أَصَابَهَا) : أَيْ: فِي وَقْتِ جِمَاعِهَا (فَقَدْ لَحِقَ بِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ) : يَعْنِي: إِنْ لَمْ يُنْكِرْ نَسَبَهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَلَيْسَ لَهُ) : أَيْ: لِلْوَلَدِ (مِمَّا قُسِمَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ (قَبْلَهُ) : أَيْ: قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ (مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ) : ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِيرَاثَ وَقَعَتْ قِسْمَتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامُ يَعْفُو عَمَّا وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (وَمَا أَدْرَكَ) : أَيِ: الْوَلَدُ (مِنْ مِيرَاثٍ لَمْ يُقْسَمْ فَلَهُ نَصِيبُهُ) : أَيْ: فَلِلْوَلَدِ حِصَّتُهُ (وَلَا يَلْحَقُ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهِ أَيْ: لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ (إِذَا كَانَ أَبُوهُ الَّذِي يُدْعَى لَهُ) : أَيْ: يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ (أَنْكَرَهُ) : أَيْ: أَبُوهُ ; لِأَنَّ الْوَلَدَ انْتَفَى عَنْهُ بِإِنْكَارِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ بِأَنْ يَقُولَ: مَضَى عَلَيْهَا حَيْضٌ بَعْدَمَا أَصَابَهَا، وَمَا وَطِئَ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَيْضِ حَتَّى وَلَدَتْ

وَحَلَفَ عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِي عَنْهُ الْوَلَدُ، (فَإِنْ كَانَ) : أَيِ: الْوَلَدُ (مِنْ أَمَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا أَوْ حُرَّةٍ عَاهَرَ بِهَا) : أَيْ: زَنَى بِهَا (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الْوَلَدُ (لَا يَلْحَقُ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَجْهُولِ (وَلَا يَرِثُ) : أَيْ: وَلَا يَأْخُذُ الْإِرْثَ (وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُدْعَى لَهُ) : وَصْلِيَّةٌ تَأْكِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ لِمَا قَبْلَهُ (هُوَ ادَّعَاهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: (هُوَ الَّذِي ادَّعَاهُ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيِ انْتَسَبَهُ (فَهُوَ وَلَدُ زِنْيَةٍ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (مِنْ حُرَّةٍ كَانَ) : أَيِ: الْوَلَدُ (أَوْ أَمَةٍ) . أَيْ مِنْ جَارِيَةٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ أَحْكَامٌ قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَبَادِئِ الشَّرْعِ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَاسْتَلْحَقَ لَهُ وَرَثَتُهُ وَلَدًا، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي يُدْعَى الْوَلَدُ لَهُ وَرَثَتُهُ قَدْ أَنْكَرَ أَنَّهُ مِنْهُ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ وَلَمْ يَرِثْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْكَرَهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَتِهِ لَحِقَهُ وَوَرِثَ مِنْهُ مَا لَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَرِثْ مَا قُسِمَ قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةِ غَيْرِهِ كَابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ أَوْ مِنْ حُرَّةٍ زَنَى بِهَا لَا يُلْحَقُ بِهِ وَلَا يَرِثُ، بَلْ لَوِ اسْتَلْحَقَهُ الْوَاطِئُ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ ; فَإِنَّ الزِّنَى لَا يُثْبِتُ النَّسَبَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ أَوْ مَمْلُوكَةٌ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ لَحِقَهُ وَصَارَ وَلَدًا لَهُ يَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّوَارُثُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الشَّبَهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3319 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ ; فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَإِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللَّهُ ; فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُهُ فِي الْفَخْرِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: " فِي الْبَغْيِ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3319 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَجَمِيعَ الْمَشَاهِدِ بَعْدَهَا. (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ: " مِنَ الْغَيْرَةِ ": بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ عَلَى أَهْلِهِ (مَا يُحِبُّ اللَّهُ) . أَيْ: يَرْضَاهُ وَيَسْتَحْسِنُهُ (وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ) : أَيْ: يَكْرَهُهُ وَيَسْتَقْبِحُهُ (فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ) : تَفْصِيلٌ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ (فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ) : بِالْكَسْرِ أَيْ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وَالشَّكُّ مَا تَتَرَدَّدُ فِيهِ النَّفْسُ كَمَظْهَرِ فَائِدَةِ الْغَيْرَةِ وَهِيَ الرَّهْبَةُ وَالِانْزِجَارُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَوْقِعِهَا فَتُورِثُ الْبُغْضَ وَالشَّنَآنَ وَالْفِتَنَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ، بِأَنْ يَقَعَ فِي خَاطِرِهِ ظَنُّ سُوءٍ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ كَخُرُوجٍ مِنْ بَابٍ، أَوْ ظُهُورٍ مِنْ شُبَّاكٍ، أَوْ تَكَشُّفٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، أَوْ مُكَالَمَةٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (كَانَ مِنَ الْخُيَلَاءِ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فِي النِّهَايَةِ: الْخُيَلَاءُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ (مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللَّهُ) : فِي تَقْدِيمِ الْمَبْغُوضِ هَاهُنَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ وَالْغَالِبَ فِي الْخُيَلَاءِ أَنَّهُ مَبْغُوضٌ وَفِي الْغَيْرَةِ عَكْسُهُ، (فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ) : تَفْصِيلٌ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] . (فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ عِنْدَ الْقِتَالِ) : أَيِ: الْمُقَاتَلَةِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهَا بِنَشَاطٍ وَجَرَاءَةٍ وَإِظْهَارِ شَجَاعَةٍ وَقُوَّةٍ وَتَبَخْتُرٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَاسْتِهَانَةٍ بِالْعَدُوِّ وَجَلَادَةٍ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» ) : (وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ) : بِأَنْ تَهُزَّهُ الْأَرْيَحِيَّةُ وَالسَّخَاءُ فَيُعْطِيَهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ فَلَا يَسْتَكْثِرُ كَثِيرًا، وَلَا يُعْطِي مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ يَعُدُّهُ قَلِيلًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِأَنْ يَقُولَ مَعَ نَفْسِهِ إِنْ أُعْطِ صَدَقَةً كَثِيرَةً إِنِّي غَنِيٌّ وَلِي صِلَةٌ وَتَوَكُّلٌ عَلَى اللَّهِ، فَالتَّكَبُّرُ عِنْدَ الْمُجَاهِدَتَيْنِ مُجَاهَدَةِ الْبَدَنِ وَمُجَاهَدَةِ الْمَالِ مَحْمُودٌ. (وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ، فَاخْتِيَالُهُ) : أَيِ: الرَّجُلِ (فِي الْفَخْرِ) : أَيِ: الْفَخْرِ فِي النَّسَبِ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ أَبًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَقَالَ تَعَالَى سُبْحَانَهُ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] أَيْ: بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَفِي نُسْخَةٍ: (فِي الْفَقْرِ) : أَيْ: تَكَبُّرُهُ فِي حَالِ فَقْرِهِ، فَإِنَّهُ أَقْبَحُ مِنْهُ فِي حَالِ غِنَاهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَذْمُومًا إِذَا كَانَ تَكَبُّرُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ تَكَبُّرُهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَهُوَ مَحْمُودٌ إِذِ التَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " فِي الْبَغْيِ) . أَيْ فِي الظُّلْمِ، وَقِيلَ: فِي الْحَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْحَقِّ الِاسْتِحْقَاقُ، وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3320 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فَلَانًا ابْنِي؟ عَاهَرْتُ بِأُمِّهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا دِعْوَةَ فِي الْإِسْلَامِ، ذَهَبَ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3320 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فَلَانًا ابْنِي) : خَبَرُ إِنَّ وَقَوْلُهُ (عَاهَرْتُ) : أَيْ: زَنَيْتُ (بِأُمَّهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) . مُسْتَأْنَفٌ لِإِثْبَاتِ الدِّعْوَةِ (فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا دِعْوَةَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ لَا دَعْوَى نَسَبٍ (فِي الْإِسْلَامِ ذَهَبَ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : أَيْ: تَبَعٌ لِلْمَرْأَةِ (وَلِلْعَاهِرِ) : أَيْ: لِلزَّانِي (الْحَجَرُ) : أَيِ: الرَّجْمُ أَوِ الْحِرْمَانُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَتَقَدَّمُ أَنَّ قَوْلَهُ (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : إِلَخْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ طُرُقٍ.

3321 - وَعَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُنَّ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3321 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُنَّ) : أَيْ: وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ كَمَا فِي نُسْخَةِ عَفِيفٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَابُدَّ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ (النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحَرِّ) . تَفْصِيلٌ لَهُ فَفِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: فَإِنْ كَانَ - أَيِ الزَّوْجُ الْقَاذِفُ - عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، حُدَّ أَيْ: وَلَا لِعَانَ، وَإِنْ صَلَحَ هُوَ شَاهِدًا وَهِيَ أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ أَوْ مَحْدُودَةٌ فِي قَذْفٍ أَوْ صَبِيَّةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ أَوْ زَانِيَةٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . أَيْ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ أَبِيهِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ. ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَضَعَّفَ رُوَاتَهُ، وَأَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّ الضَّعِيفَ إِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ كَانَتْ حُجَّةً وَهَذَا كَذَلِكَ، خُصُوصًا وَقَدِ اعْتَضَدَ بِرِوَايَةِ الْإِمَامَيْنِ إِيَّاهُ مَوْقُوفًا عَلَى جَدِّ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ.

3322 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ رَجُلًا حِينَ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَتَلَاعَنَا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ وَقَالَ: " إِنَّهَا مُوجِبَةٌ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3322 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ رَجُلًا حِينَ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ) : أَيِ: الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ اللَّذَيْنِ يُرِيدَانِ التَّلَاعُنَ (أَنْ يَتَلَاعَنَا) : مُتَعَلِّقٌ بِـ " أَمَرَ " الثَّانِي (أَنْ يَضَعَ يَدَهُ) : مُتَعَلِّقٌ بِـ " أَمَرَ " الْأَوَّلِ (عِنْدَ الْخَامِسَةِ) : أَيْ: مِنَ الشَّهَادَاتِ (عَلَى فِيهِ) : أَيْ فِي الرَّجُلِ أَيْ فَمِهِ (وَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّهَا) : أَيِ: الْخَامِسَةَ (مُوجِبَةٌ) . بِالْكَسْرِ أَيْ مُثْبِتَةٌ لِلْحُكْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلْقِينٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى فِيهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ " قَالَ " إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

3323 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ: " مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ! أَغِرْتِ؟ " فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمْعِي شَيْطَانٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قُلْتُ: وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ! وَلَكِنْ أَعَانَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3323 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، أَيْ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ (قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ) : بِكَسْرٍ أَيْ فَجَاءَتْنِي الْغَيْرَةُ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ عِنْدِي فَاضْطَرَبَ أَفْعَالِي وَتَغَيَّرَ أَحْوَالِي (فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ: " مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ! أَغِرْتِ؟ " فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟) : أَيْ: كَيْفَ لَا يَغَارُ

مَنْ هُوَ عَلَى صِفَتِي مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَلَهَا ضَرَائِرٌ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَى صِفَتِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَدْ خَرَجَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ مِنْ عِنْدِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَغَارُ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ، " وَمِثْلُ " وَضْعِ مَوْضِعِ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى ذِي الْحَالِ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ مِثْلُكَ يَجُودُ أَيْ أَنْتَ تَجُودُ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ مِنْ قَوْلِهِ: " «أَمَّا الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ» " يَعْنِي كَيْفَ تَغَارِينَ عَلَيَّ وَتَرَيْنِ أَنِّي أَحْيَفُ عَلَيْكِ أَيْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ رِيبَةٍ. (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَعِي شَيْطَانٌ؟) : أَيْ: مَعَ أَنِّي فِي ظِلِّ حِمَايَتِكَ وَكَنَفِكَ وَرِعَايَتِكَ (قَالَ: " نَعَمْ ". قُلْتُ: وَمَعَكَ) : أَيْ: شَيْطَانٌ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) : أَيْ مَعَ أَنَّكَ سُلْطَانُ الْأَصْفِيَاءِ (قَالَ: " نَعَمْ ". وَلَكِنْ أَعَانَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ) : أَيْ: بِالْعِصْمَةِ حَيْثُ قَالَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] (حَتَّى أَسْلَمَ) : مُتَكَلَّمٌ مِنَ الْمُضَارِعِ، أَيْ أَسْلَمَ أَنَا مِنْ وَسْوَسَتِهِ أَوْ مَاضٍ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّيْطَانِ أَيِ انْقَادَ هُوَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِي (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

[باب العدة]

[بَابُ الْعِدَّةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3324 - عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، «عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيْلُهُ الشَّعِيرَ فَسَخِطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ، مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ. فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: " لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ ". فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: " تِلْكِ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي. قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي. فَقَالَ: " أَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: " انْكِحِي أُسَامَةَ " فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا: " «فَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَا نَفَقَةَ لَكِ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْعِدَّةِ هِيَ فِي اللُّغَةِ الْإِحْصَاءُ، يُقَالُ: عَدَدْتُ الشَّيْءَ عِدَّةً أَحْصَيْتُهُ إِحْصَاءً، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَعْدُودِ، وَفِي الشَّرْعِ تَرَبُّصٌ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ عِنْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ الْمُتَأَكِّدِ بِالدُّخُولِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنَ الْخَلْوَةِ وَالْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ وَشَبَّهْتُهُ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى النِّكَاحِ، قُلْتُ: فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالنِّكَاحِ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا تَجِبُ فِيهِ الْعِدَّةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3324 - (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَعْلَامَهُمْ (عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ) : أَيِ الْقُرَشِيَّةِ، أُخْتُ الضَّحَّاكِ كَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَعَقْلٍ وَكَمَالٍ. (أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ فَوْقِيَّةٍ. قَالَ الْقَاضِي: أَيِ: الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ أَوِ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَإِنَّهَا بَتَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا قَاطِعَةٌ لِعَلَقَةِ النِّكَاحِ، اهـ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا (وَهُوَ) : أَيْ: أَبُو عَمْرٍو (غَائِبٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ الشَّعِيرَ) : أَيْ: لِلنَّفَقَةِ وَفِي رِوَايَةٍ بِشَعِيرٍ (فَسَخِطَتْهُ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَتَسَخَّطَتْهُ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ أَيِ: اسْتَقَلَّتْهُ، يُقَالُ: سَخِطَهُ أَيِ: اسْتَقَلَّهُ. وَلَمْ يَرْضَ بِهِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي الْمَفَاتِيحِ: أَيْ: مَا رَضِيَتْ بِهِ لِكَوْنِهِ شَعِيرًا، أَوْ لِكَوْنِهِ قَلِيلًا انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيلِ أَيْ: وَغَضِبَتْ عَلَى الْوَكِيلِ بِإِرْسَالِهِ الشَّعِيرَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا: (فَقَالَ) : أَيِ: الْوَكِيلُ (وَاللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ) : أَيْ: لِأَنَّكِ بَائِنَةً أَوْ مِنْ شَيْءٍ غَيْرَ الشَّعِيرِ (فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: " لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ) : أَيْ: عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْمُورٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْيُ النَّفَقَةِ الَّتِي تُرِيدُهَا مِنْهُ وَهُوَ الْأَجْوَدُ (فَأَمَرَهَا) وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَمَرَهَا (أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اخْتَلَفُوا فِي الْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ هَلْ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ؟ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَآخَرُونَ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]

وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ. أَقُولُ: وَفِي الْمَدَارِكِ «لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا، سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» ". قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَعْنِي فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدُ: لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ: لَهَا السَّكَنُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُنَّ إِذَا لَمْ يَكُنَّ حَوَامِلَ لَا يُنْفَقُ عَلَيْهِنَّ. أَقُولُ: الْمَفْهُومُ لَا عِبْرَةَ لَهُ عِنْدَنَا مَعَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالْغَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَلَيْسَ قَيْدُ الْمُطَلِّقِ الْإِنْفَاقَ، وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: وَفَائِدَةُ اشْتِرَاطِ الْحَمْلِ أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ رُبَّمَا تَطُولُ، فَيَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ إِذَا مَضَى مِقْدَارُ عِدَّةِ السَّائِلِ فَنَفَى ذَلِكَ الْوَهْمَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ فِي سُقُوطِ السُّكْنَى بِمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُ، أَنَّهَا كَانَتِ امْرَأَةً لِسَنَةً وَاسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا، فَأَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ إِلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ. (ثُمَّ قَالَ: " تِلْكِ ": بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: هِيَ (امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا) : أَيْ: يُدْخَلُ عَلَيْهَا (أَصْحَابِي) : أَيْ: مِنْ أَقَارِبِهَا وَأَوْلَادِهَا فَلَا يَصْلُحُ بَيْتُهَا لِلْمُعْتَدَّةِ، (اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ) : اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ " اعْتَدِّي ": الْمَعْنَى لَا تَلْبَسِي ثِيَابَ الزِّينَةِ فِي حَالِ الْعِدَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ فِي أَيَّامِ الْعِدَّةِ، أَوْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى الْحِجَابِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَأَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُهَا، وَلَا يَتَرَدَّدُ إِلَى بَيْتِهِ مَنْ يَتَرَدَّدُ إِلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، حَتَّى إِذَا وَضَعَتْ ثِيَابًا لِلتَّبَرُّزِ نَظَرُوا إِلَيْهَا، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ نَظَرِهِ إِلَيْهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ النَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] الْآيَةَ. وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: " أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا " عَلَى مَا سَبَقَ، وَأَيْضًا لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رُخْصَةٌ لَهَا فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ، بَلْ فِيهِ أَنَّهَا آمِنَةٌ عِنْدَهُ مِنْ نَظَرِ غَيْرِهِ، وَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِغَضِّ بَصَرِهَا عَنْهُ، اهـ. وَعِنْدَنَا إِنَّمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ (فَإِذَا حَلَلْتِ) : أَيْ: خَرَجْتِ مِنَ الْعِدَّةِ (فَآذِنِينِي) : بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الذَّالِ أَيْ: فَأَعْلِمِينِي (قُلْتُ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) : أَيِ: ابْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيَّ (وَأَبَا جَهْمٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ الْقُرَشِيُّ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي طَلَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْبَجَانِيَّتَهُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ غَيْرُ أَبِي جَهْمٍ الْمَذْكُورِ فِي التَّيَمُّمِ، وَفِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي (خَطَبَانِي) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِيهِ جَوَازُ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْبَائِنِ. أَقُولُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ. بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطْبَةَ وَقَعَتْ صَرِيحًا بَعْدَ الْعِدَّةِ (فَقَالَ: " أَمَّا) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ لِلتَّفْصِيلِ (أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ) : بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ: مَنْكِبِهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْأَسْفَارِ أَوْ عَنْ كَثْرَةِ الضَّرْبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ مِمَّا فِيهِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَطَلَبِ النَّصِيحَةِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنَ الْغَيْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ. (وَأَمَّا مُعَاوِيَةَ فَصُعْلُوكٌ) : بِالضَّمِّ أَوْ فَقِيرٌ (لَا مَالَ لَهُ) : صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، حَتَّى قَالَ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ صُعْلُوكٌ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ عَيْبٍ فِي الزَّوْجِ لِتَحْتَرِزَ الزَّوْجَةُ مِنْهُ، لِئَلَّا تَقَعَ الزَّوْجَةُ فِي الْمَشَقَّةِ،

وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْمَرْأَةِ عَيْبٌ جَازَ ذِكْرُهُ لِئَلَّا يَقَعَ الزَّوْجُ فِي مَشَقَّةٍ، قِيلَ: فَقْرُهُ ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ كَافِرًا وَلَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ وَلَمْ يُعْطِ ابْنَهُ شَيْئًا بَعْدَ مَا أَسْلَمَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ إِذْ صُرِّحَ فِي الْمَوَاهِبِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَاهُ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِشُحِّ وَالِدِهِ كَمَا سَيَجِيءُ أَنَّهُ كَانَ شَحِيحًا عَلَى امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ حَالُ الْكُفْرِ؟ (انْكِحِي) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: تَزَوَّجِي (أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: فَكَرِهْتُهُ) : أَيِ: ابْتِدَاءً لِكَوْنِهِ مَوْلًى أَسْوَدَ جِدًّا، وَإِنَّمَا أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنِكَاحِ أُسَامَةَ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ دِينِهِ وَفَضْلِهِ وَحُسْنِ طَرَائِقِهِ وَكَرْمِ شَمَائِلِهِ، فَنَصَحَهَا بِذَلِكَ. (ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: " انِكِحِي أُسَامَةَ " فَنَكَحْتُهُ) : وَإِنَّمَا كَرَّرَ عَلَيْهَا الْحَثَّ عَلَى زَوَاجِهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ مَصْلَحَتِهَا فِي ذَلِكَ، وَكَانَ كَذَلِكَ، وَلِذَا قَالَتْ: (فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ) : أَيْ: فَقَدَّرَ فِي أُسَامَةَ وَصُحْبَتِهِ (خَيْرًا) : أَيْ: كَثِيرًا (وَاغْتَبَطْتُ) : أَيْ: بِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ أَيْ: صِرْتُ ذَاتَ غِبْطَةٍ بِحَيْثُ اغْتَبَطَتْنِي النِّسَاءُ لِحَظٍّ كَانَ لِي مِنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: اغْتَبَطْتُ بِهِ، يُقَالُ: غَبَطْتُهُ بِمَا نَالَ أَغْبِطُهُ بِكَسْرِ الْبَاءِ فَاغْتَبَطَ هُوَ يَمْنَعُهُ فَامْتَنَعَ وَحَبَسَهُ فَاحْتَبَسَ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْغِبْطَةُ بِالْكَسْرِ حُسْنُ الْحَالِ وَالْمَسَرَّةُ، وَقَدِ اغْتَبَطَ، وَالْحَسَدُ كَالْغِبْطَةِ وَقَدْ غَبَطَهُ كَضَرَبَهُ وَسَمِعَهُ تَمَنَّى نِعْمَةً عَلَى أَنْ لَا تَتَحَوَّلَ عَنْ صَاحِبِهَا، وَالِاغْتِبَاطُ التَّبَجُّحُ بِالْحَالِ الْحَسَنِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَالَ مُعْتَبَرٌ فِي الْكَفَاءَةِ، وَعَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَجِدْ نَفَقَةَ أَهْلِهِ وَطَلَبَتِ الْمَرْأَةُ فِرَاقَهُ فُرِّقَ بَيْنِهُمَا. قُلْتُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: وَعَلَى جَوَازِ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ الْغَيْرِ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ وَلَمْ تَرْكَنْ إِلَيْهِ. قُلْتُ: هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ بِخِطْبَةِ الْغَيْرِ. قَالَ: وَعَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ بِرِضَاهَا، فَإِنَّ فَاطِمَةَ هَذِهِ كَانَتْ قُرَشِيَّةً، وَأُسَامَةُ مِنَ الْمَوَالِي، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ عَدَمَ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ رَضُوا بِذَلِكَ لِأَجْلِ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَزَلْ فِي حَقِّ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ لِنِكَاحِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] . (وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا) : أَيْ: عَنْ فَاطِمَةَ الْمَذْكُورَةِ (فَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضِرَّابٌ) : أَيْ: كَثِيرُ الضَّرْبِ (لِلنِّسَاءِ) : تَعْنِي وَلَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ تَصْبِرُ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِمُسْلِمٍ (أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ابْتِدَاءً، أَوْ أَنَّهُ جَعَلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا بِطَلْقَةٍ ثَالِثَةٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَا نَفَقَةَ لَكِ) : أَيْ: زِيَادَةً عَلَى أَيَّامِ الْعِدَّةِ (إِلَّا أَنَّ تَكُونِي حَامِلًا) : أَيْ: فَإِنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ جَارِيَةٌ إِلَى وَضْعِ الْحَمْلِ.

3325 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحِشٍ، فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا، فَلِذَلِكَ رَخَّصَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْنِي فِي النُّقْلَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ؟ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ تَعْنِي فِي قَوْلِهَا: لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3325 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ فَاطِمَةَ) : أَيْ: بِنْتَ قَيْسٍ (كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحِشٍ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا أَيْضًا أَيْ: مُخَوِّفٍ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْمَعْنَى فِي مَكَانٍ خَالٍ لَا سَاكِنَ بِهِ. (فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا) : أَيْ: جَانِبِهَا وَفِي نَفْسِهَا، فَخِيفَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أُسْنِدَ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، (فَلِذَلِكَ) : أَيْ: لِكَوْنِ مَكَانِهَا مُخَوِّفًا لَا لِأَنَّهَا لَا سُكْنَى لَهَا (رَخَّصَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْنِي) : أَيْ: تُرِيدُ عَائِشَةُ بِالْمَفْعُولِ لِرَخَّصَ قَوْلَهَا (- فِي النُّقْلَةِ -) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: الِانْتِقَالُ مِنْ بَيْتِهَا إِلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمُّ مَكْتُومٍ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِلْبُخَارِيِّ (قَالَتْ) : أَيْ: عَائِشَةُ (مَا لِفَاطِمَةَ) : الْمَذْكُورَةُ (أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ بِمَعْنَى) : أَيْ: عَائِشَةُ (فِي قَوْلِهَا لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ) : أَيْ: فِي نِسْبَةِ قَوْلِهَا: لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، بَلْ تَجِبُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، وَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ، وَبِهِ

أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَعْنِي أَلَا تَخَافُ اللَّهَ فَاطِمَةُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا سُكْنَى لِلْبَائِنِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا؟ كَيْفَ تُفْتِي بِذَلِكَ؟ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ عُمَرَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، وَثَانِيهِمَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: كَرِهَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا كَتَمَتْ فِي حَدِيثِهَا السَّبَبَ الَّذِي بِهِ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا خَوْفًا أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ سَامِعٌ، فَيَرَى أَنَّ لِلْمَبْتُوتَةِ أَنْ تَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3326 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّمَا نُقِلَتْ فَاطِمَةُ لِطُولِ لِسَانِهَا عَلَى أَحْمَائِهَا. رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3326 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) : بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَدْ تُكْسَرُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، بَلْ أَفْضَلِهِمْ (قَالَ: إِنَّمَا نُقِلَتْ فَاطِمَةُ) : أَيْ: عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا (لِطُولِ لِسَانِهَا) : أَيْ: بِأَذِيَّتِهَا (عَلَى أَحِمَائِهَا) : أَيْ: أَقَارِبِ زَوْجِهَا (رَوَاهُ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ: بِإِسْنَادِهِ. فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا، وَالْمُخْتَلِعَةِ إِذَا لَا بَيْنُونَةَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَإِنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدَهُ، وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَوَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ إِلَى آخِرِهِ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَقَالَ فِيهِ: لَا نَفَقَةَ لَكَ وَلَا سُكْنَى، وَرَوَاهُ أَيْضًا وَقَالَ فِيهِ: إِنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ خَرَجَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ مَنْ تَطْلِيقِهَا، وَعَلَى هَذَا فَيُحْمَلُ رِوَايَةُ الثَّلَاثِ عَلَى أَنَّهُ أَوْقَعَ وَاحِدَةً هِيَ تَمَامُ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعِيَاشُ بْنُ رَبِيعَةَ بِنَفَقَةٍ فَسَخِطَتْهَا فَقَالَا: وَاللَّهِ لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ لَهُ قَوْلَهُمَا فَقَالَ: " لَا نَفَقَةَ لَكِ ". زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي هَذَا بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ عَقِيبَ قَوْلِ عِيَاشِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ: وَلَا نَفَقَةَ لَكِ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: نَسَبَهُ إِلَى مُسْلِمٍ، لَكِنَّ الْحَقَّ مَا عَلِمْتَ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: لَهَا أَهْلُهُ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ، فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ.» . . الْحَدِيثَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ عَدَمُ طَعْنِ السَّلَفِ فِيهِ، وَعَدَمُ الِاضْطِرَابِ، وَعَدَمُ مُعَارِضٍ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَالْمُتَحَقِّقُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضِدَّ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَمَّا طَعْنُ السَّلَفِ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ مِمَّا سَنُذْكُرُهُ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمُ الطَّعْنُ بِسَبَبِ كَوْنِ الرَّاوِي امْرَأَةً، وَلَا كَوْنَ الرَّاوِي أَعْرَابِيًّا، فَقَدْ قَبِلُوا حَدِيثَ فُرْيَعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ فِي اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، مَعَ أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا فِي هَذَا الْخَبَرِ بِخِلَافِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَإِنَّهَا تُعْرَفُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَتُخْبِرُ الرِّجَالَ أَنَّهَا حَفِظَتْهُ مَعَ طُولِهِ وَوَعَتْهُ وَأَدَّتْهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهَا مِنَ الْفِقْهِ مَا أَفَادَ عِلْمًا وَجَلَالَةَ قَدْرٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَ إِلَيْهَا قَبِيصَةَ بْنَ أَبِي ذُؤَيْبٍ لِيَسْأَلَهَا عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ مَرْوَانٌ: لَمْ يُسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَّا مِنَ امْرَأَةٍ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُ مَرْوَانَ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا، وَقِيلَ رَدَّ عُمَرُ خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ وَحْدَهُ وَهُوَ أَعْرَابِيٌّ، فَجَزَمْنَا أَنَّ رَدَّ عُمَرَ وَغَيْرِهِ لِخَبَرِهَا لَيْسَ إِلَّا لِمَا عَلِمُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَالِفًا لَهُ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَ السَّلَفِ إِلَى أَنْ رَوَتْ فَاطِمَةُ هَذَا الْخَبَرَ، مَعَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا رَدَّهُ صَرَّحَ بِالرِّوَايَةِ بِخِلَافِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ، فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ، فَأَخَذَ الْأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَحَصَبَهُ بِهِ، وَقَالَ: وَيْلَكَ! تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا. قَالَ عُمَرُ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي حَفِظَتْ أَمْ نُسِبَتْ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [الطلاق: 1] فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ، وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا رُفِعَ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ قَائِلُهُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؟ وَفِيمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ زِيَادَةُ قَوْلِهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى» " وَقُصَارَى مَا هُنَا أَنْ تُعَارِضَ رِوَايَتُهَا رِوَايَتَهُ، فَأَيُّ الرِّوَايَتَيْنِ يَجِبُ تَقْدِيمُهَا؟ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إِذَا ذُكِرَ عَلَيْهِ حَدِيثُ فَاطِمَةَ قَالَ: مَا كُنَّا نُغَيِّرُ فِي دِينِنَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ، فَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الدِّينُ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، فَيَنْزِلُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ مِنْ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ، وَالثِّقَةُ إِذَا شَذَّ لَا يُقْبَلُ مَا شَذَّ فِيهِ، وَيُصَرِّحُ بِهَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ مَرْوَانَ: سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وُجِدَ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَالنَّاسُ إِذْ ذَاكَ هُمُ الصَّحَابَةُ، فَهَذَا فِي الْمَعْنَى حِكَايَةُ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَوَصْفُهُ بِالْعِصْمَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: أَلَا تَرَيْ إِلَى فُلَانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ، فَخَرَجَتْ فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا صَنَعَتْ. فَقُلْتُ: أَلَمْ تَسْمَعِي إِلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ؟ فَقَالَتْ: أَمَا أَنَّهُ لَا خَيْرَ لَهَا فِي ذَلِكَ أَوْ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ، هَذَا غَايَةُ الْإِنْكَارِ حَيْثُ نَفَتِ الْحُكْمَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَعْلَمَ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ، فَقَدْ كُنَّ يَأْتِينَ مَنْزِلَهَا وَيَسْتَفْتِينَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَثُرَ وَتَكَرَّرَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ تَعْنِي فِي قَوْلِهَا لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَحْسَبُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: إِنَّمَا أَخْرَجَكِ هَذَا اللِّسَانُ، تَعْنِي أَنَّهَا اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحِمَائِهَا فَأَخْرَجَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِذَلِكَ وَيُؤَيِّدُ ثُبُوتُهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ احْتَجَّ بِهِ وَهُوَ مُعَاصِرُ عَائِشَةَ، وَكَذَا هُوَ مُسْتَنَدُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ حَيْثُ قَالَ: خُرُوجُ فَاطِمَةَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ، وَمِمَّنْ رَدَّهُ زَوْجُهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَقُولُ: كَانَ أُسَامَةُ إِذَا ذَكَرَتْ فَاطِمَةُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَعْنِي مِنَ انْتِقَالِهَا فِي عِدَّتِهَا رَمَاهَا بِمَا فِي يَدِهِ، اهـ. هَذَا مَعَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَعْرَفَ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَقَلَهَا عَنْهُ إِلَى مَنْزِلِهِ حِينَ بَنَى بِهَا، هَذَا لَمْ يَكُنْ قَطْعًا، إِلَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ مِنْهَا، أَوْ لِعِلْمِهِ بِخُصُوصِ سَبَبِ جَوَازِ انْتِقَالِهَا مِنَ اللِّسَانِ أَوْ ضِيقِ الْمَكَانِ، فَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَمْ يَظْفَرِ الْمُخَرِّجُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِحَدِيثِ أُسَامَةَ فَاسْتَغْرَبَهُ، وَاللَّهُ الْمُيَسِّرُ، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَذَكَرْتُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ قَالَ: فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ تُحَدِّثُ وَخُرُوجَهَا قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدِهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: " الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَهَا السُّكْنَى وَالَنَّفَقَةُ " وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ حَرْبِ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» ". وَقَدْ تَمَّ بَيَانُ الْمُعَارِضِ وَالطَّعْنِ، وَأَمَّا بَيَانُ الِاضْطِرَابِ فَقَدْ سَمِعْتُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَهُوَ غَائِبٌ وَفِي بَعْضِهَا طَلَّقَهَا ثُمَّ سَافَرَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ذَهَبَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَتْهُ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ذَهَبَ فِي نَفَرٍ فَسَأَلُوهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - الزَّوْجُ " أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ "، وَفِي بَعْضِهَا " أَبَا جَعْفَرِ بْنَ الْمُغِيرَةَ " وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِضَعْفِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَمِمَّنْ رَدَّ الْحَدِيثَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ مَعَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَمِمَّنْ بَعْدَهُمُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: قَالَ لَهَا: لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى. قُلْنَا: لَيْسَ عَلَيْنَا أَوَّلًا أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ الْعُذْرِ عَمَّا رَوَتْ، بَلْ يَكْفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَلِمَرْوِيِّ عُمَرَ كَائِنًا هُوَ نَفْسُهُ مَا كَانَ إِلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذَلِكَ حَسَنٌ حَمْلًا لِمَرْوِيِّهَا عَلَى الصِّحَّةِ، وَنَقُولُ فِيهِ: إِنَّ عَدَمَ السُّكْنَى كَانَ لِمَا سَمِعْتَ، وَأَنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَى الشَّعِيرَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهَا، فَطَالَبَتْ هِيَ أَهْلَهُ عَلَى مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ: لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ. الْحَدِيثَ، فَلِذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهَا: " «لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى» " عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَلِّفْ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ، وَلَيْسَ يَجِبُ لَكِ عَلَى أَهْلِهِ

شَيْءٌ فَلَا نَفَقَةَ لَكِ عَلَى أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ، فَلَمْ تَفْهَمْ هِيَ الْغَرَضَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَجَعَلَتْ تَرْوِي نَفْيَ النَّفَقَةِ مُطْلَقًا، فَوَقَعَ إِنْكَارُ النَّاسِ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ غَيْرِ مَا نَظَرَتْ بِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ: وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَبِهِ جَاءَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفَسِّرَةً لَهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الْبَوَائِنِ بِدَلِيلِ الْمَعْطُوفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِيبَهُ: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَلَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الْمُطَلَّقَاتِ أَوْ فِي الْمُرَاجَعَاتِ كَانَ التَّقْدِيرُ: أَسْكِنُوا الزَّوْجَاتِ أَوِ الرَّجْعِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وْجْدِكُمْ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ، مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِجَعْلِ غَايَةِ إِيجَابِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إِلَى الْوَضْعِ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ وَاجِبَةٌ لَهُمَا مُطْلَقًا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ لَا. وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَوْ لَا. بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ فِي الْبَوَائِنِ، فَأَفَادَ التَّقْيِيدُ بِالْغَايَةِ دَفْعَ تَوَهُّمِ عَدَمِ النَّفَقَةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ الْحَامِلِ فِي تَمَامِ عِدَّةِ الْحَمْلِ لِطُولِهَا، وَالِاقْتِصَارَ عَلَى قَدْرِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] إِلَى الرَّجْعِيَّاتِ مِنْهُنَّ، وَذِكْرُ حُكْمٍ خَاصٍّ بِبَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الصَّدْرُ لَا يُبْطِلُ عُمُومَ الصَّدْرِ. تَمَّ كَلَامُ الْمُحَقِّقِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

3327 - «وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: طُلِّقَتْ خَالَتِي ثَلَاثًا، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا، فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " بَلَى، فَجُدِّي نَخْلَكِ، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِي أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا ".» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3327 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: طُلِّقَتْ) : بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ لَامِهِ الْمُخَفَّفَةِ (خَالَتِي ثَلَاثًا) : أَيْ: ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا) : كَتَمُدَّ أَيْ: تَقْطَعَ تَمْرَ نَخْلِهَا (فَزَجَرَهَا رَجُلٌ) : أَيْ: مَنَعَهَا (أَنْ تَخْرُجَ فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " بَلَى) : تَقْرِيرٌ لِلنَّفْيِ أَيْ: أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأَلَتْهُ: أَلَيْسَ يَسُوغُ لِي الْخُرُوجُ لِلْجِدَادِ؟ فَقَالَ: بَلَى اخْرُجِي (فَجُدِّي نَخْلَكِ) : وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِي) : أَيْ: تَتَصَدَّقِي، تَعْلِيلٌ لِلْخُرُوجِ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْلَا التَّصَدُّقُ لَمَا جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ وَ " أَوْ " فِي قَوْلِهِ: (أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا) : أَيْ: مِنَ التَّطَوُّعِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجِيرَانِ وَنَحْوِهَا لِلتَّنْوِيعِ، يَعْنِي أَنْ يَبْلُغَ مَالُكِ نِصَابًا فَتُؤَدِّي زَكَاتَهُ، وَإِلَّا فَافْعَلِي مَعْرُوفًا مِنَ التَّصَدُّقِ وَالتَّقَرُّبِ وَالتَّهَادِي، وَفِيهِ أَنَّ حِفْظَ الْمَالِ وَاقْتِنَاءَهُ لِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ مُرَخَّصٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنَةِ لِلْحَاجَةِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا الْخُرُوجُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3328 - «وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَنَكَحَتْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3328 - (وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ) : مَرَّ ذِكْرُهُ (أَنَّ سُبَيْعَةَ) : بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ هِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ (الْأَسْلَمِيَّةَ) : نِسْبَةً إِلَى بَنِي أَسْلَمَ (نُفِسَتْ) : يُقَالُ: بِالضَّمِّ إِذَا وَلَدَتْ، وَبِالْفَتْحِ إِذَا حَاضَتْ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي لُغَةٍ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ لِلْوِلَادَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهَا وَلَدَتْ (بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا) : أَيْ: سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ تُوَفِّيَ عَنْهَا بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا (بِلَيَالٍ) : أَيْ: قَلِيلَةٍ (فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: تَتَزَوَّجَ (فَأَذِنَ لَهَا، فَنَكَحَتْ) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: فَتَزَوَّجَتْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا حِينَ مَاتَ زَوْجُهَا، فَوَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ -: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: يَعْنِي إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ، أَوْ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَجَازَ لَهَا التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ وِلَادَتُهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ أَوِ الْوَفَاةِ بِلَحْظَةٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الْخُلَاصَةِ: كُلُّ مَنْ حَبِلَتْ فِي عِدَّتِهَا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا حَبِلَتْ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَعِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3329 - «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا، أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا " مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: " لَا ". قَالَ: " إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3329 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : أَيْ: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ) : بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ مَاتَ (عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هُوَ بِرَفْعِ النُّونِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ عَيْنَاهَا بِالْأَلْفِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي التَّنْقِيحِ: وَيَجُوزُ ضَمُّ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمُشْتَكِيَةُ وَفَتْحُهَا، فَيَكُونُ فِي اشْتَكَتْ شَكْلُ الْفَاعِلِ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْحَادَّةُ، وَقَدْ رُجِّحَ الْأَوَّلُ بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ: عَيْنَاهَا (أَفَنَكْحُلُهَا) : بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَضَمُّ الْحَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالضَّمِيرِ الْبَارِزِ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى عَيْنِهَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا) : أَيْ: لَا تَكْحُلْنَهَا أَوْ لَا تَكْحُلْ عَيْنَهَا (مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (كُلُّ ذَلِكَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (يَقُولُ: " لَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ مُوَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: ثَلَاثًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ حُجَّةٌ لِأَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاكْتِحَالُ بِالْإِثْمِدِ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا فِي رَمَدٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ: يَجُوزُ الِاكْتِحَالُ بِهِ فِي الرَّمَدِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَكْتَحِلُ لِلرَّمَدِ لَيْلًا وَتَمْسَحُهُ نَهَارًا، اهـ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: يُحْتَمَلُ: أَنَّهَا أَرَادَتِ التَّزْيِينَ فَلَبِسَتْ، وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فَنَهَاهَا، (ثُمَّ قَالَ: " إِنَّهَا هِيَ) : أَيْ: عِدَّتُكُنَّ فِي الدِّينِ الْآنَ (أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ) : بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى " أَرْبَعَةُ " كَذَا فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَعَشْرًا " بِالنَّصْبِ عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالرَّفْعِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهُ: عَشْرًا كَذَا فِي الْأَصْلِ بِالنَّصْبِ عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَبَعْضُهُمْ بِالرَّفْعِ وَهُوَ وَاضِحٌ. ( «وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ» ) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَفِي نُسْخَتِهَا بِفَتْحِهَا، وَهِيَ رَوْثُ الْبَعِيرِ فِي الْقَامُوسِ: الْبَعْرُ وَيُحَرَّكُ وَاحِدَتُهُ بَهَاءٍ، وَضَبَطَهُ السُّيُوطِيُّ بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي التَّنْقِيحِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِهَا (عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ) : أَيْ: فِي أَوَّلِ السَّنَةِ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا. قَالَ الْقَاضِي: كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ بَيْتًا ضَيِّقًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا فِيهِ زِينَةٌ حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ، فَتَكْسِرُ بِهَا مَا كَانَتْ فِيهِ مِنَ الْعِدَّةِ، بِأَنْ تَمْسَحَ بِهَا قُبُلَهَا، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا وَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ عِدَّتُهَا، فَأَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ أَنَّ مَا شُرِعَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنَ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِي مَسْكَنِهَا، وَتَرْكُ التَّزَيُّنِ وَالتَّطَيُّبِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ يَسِيرٌ فِي جَنْبِ مَا تُكَابِدُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، اهـ. وَنَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنْ زَيْنَبَ بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ حِفْشًا بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ فَاءٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، الْبَيْتُ الصَّغِيرُ قَرِيبُ السَّقْفِ حَقِيرٌ، وَقَالَتْ: ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ فَتُقَبِّلُ بِهِ، فَقَلَّ مَا تَفْتَضُّ شَيْئًا إِلَّا مَاتَ، وَهُوَ بِفَاءٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقِ مَفْتُوحَةٍ، قِيلَ: أَيْ: تَكْسِرُ مَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْعِدَّةِ بِظَفَرٍ أَوْ نَحْوَهُ تَمْسَحُ بِهَا قُبُلَهَا وَتَنْبِذُهُ، فَلَا يَكَادُ يَعِيشُ مَا تَفْتَضُّ بِهِ، فَهُوَ مِنْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَانَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي الِابْتِدَاءِ حَوْلًا كَامِلًا، ثُمَّ نُسِخَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَا. مَسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ، صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً أَوْ آيِسَةً، وَزَوْجُهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ، حَاضَتْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ لَمْ تَحِضْ، وَلَمْ يَظْهَرْ حَمْلُهَا، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ عِدَّتُهَا عَزِيمَةُ عَامٍ وَرُخْصَةُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرٍ وَالْعَشَرَةِ أَيَّامٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] الْآيَةَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَسْخِهَا بِآيَةِ الْأَشْهُرِ أَعْنِي مَا كَانَ مِنْ وُجُوبِ الْإِيصَاءِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ جَازَ أَخْذًا مِنْ تَذْكِيرِ الْعَدَدِ، أَعْنِي الْعَشْرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْعَدَدِ لِلَّيَالِي وَإِلَّا لَأَنَّثَهُ، قُلْنَا: الِاسْتِعْمَالُ فِي مِثْلِهِ أَمَّا مِنَ الْأَيَّامِ عَلَى مَا عُرِفَ بِهَا التَّارِيخُ حَيْثُ تُكْتَبُ اللَّيَالِي، فَيَقُولُونَ: لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مَثَلًا، وَأَرَادَ كَوْنَ عِدَّةِ الْأَيَّامِ كَذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: أَيْ وَعَشْرُ لَيَالٍ وَالْأَيَّامُ دَاخِلَةٌ مَعَهَا، وَلَا يُسْتَعْمَلُ التَّذْكِيرُ فِيهِ ذَهَابًا إِلَى الْأَيَّامِ

تَقُولُ: صُمْتُ عَشْرًا، وَلَوْ ذَكَّرْتَ لَخَرَجْتَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَتَأْنِيثُ الْعَشْرِ بِاعْتِبَارِ اللَّيَالِي لِأَنَّهَا غُرَرُ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ التَّذْكِيرَ فِي مِثْلِهِ قَطُّ ذَهَابًا إِلَى الْأَيَّامِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: صُمْتُ عَشْرًا وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه: 103] ثُمَّ {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 104] . قَالَ: وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي تَسَاوِيَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ فِيهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ كَمَا قَالَ الْأَصَمُّ وَالْحَامِلِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّ الْقِيَاسَ اقْتَضَى تَنْصِيفَ الْمُدَّةِ لِلْأَمَةِ، وَالْإِجْمَاعُ خَصَّ الْحَامِلَ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ احْتِيَاطًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَشَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مِنْ وَقْتِ عِلْمِهَا حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي سَفَرٍ، فَلَمْ يَبْلغُهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ عَلِيٍّ: لَا تَنْقَضِي حَتَّى تَمُرَّ عِدَّتُهَا مِنْ حِينِ عَمِلَتِ الْإِحْدَادَ، وَلَا يُمْكِنُهَا إِقَامَتُهُ إِلَّا بِالْعِلْمِ. قُلْنَا: قُصَارَاهُ أَنْ تَكُونَ كَالْعَالِمَةِ وَلَمْ تَحُدَّ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ اتِّفَاقًا عَنِ الْعِدَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْهَا عَدَمُ التَّزَوُّجِ وَقَدْ وُجِدَ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَلَعَلَّ الْمُقْتَضِيَ لِهَذَا التَّقَدُّمِ أَنَّ الْجَنِينَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ يَتَحَرَّكُ لِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَ ذَكَرًا وَلِأَرْبَعَةٍ إِنْ كَانَ أُنْثَى فَاعْتُبِرَ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَزِيدَ عَلَيْهِ عَشْرٌ اسْتِظْهَارًا إِذْ رُبَّمَا تَضْعُفُ حَرَكَتُهُ فِي الْمَبَادِئِ، فَلَا يُحِسُّ بِهَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنْ كَانَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً كَالْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَارِكَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَالْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا كَذَلِكَ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ الْوَضْعِ وَالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُوجِبُ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] يُوحِيهَا عَلَيْهَا فَتَجْمَعُ احْتِيَاطًا. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ اخْتَلَفَا فِي الْمَرْأَةِ تُنْفَسُ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ. فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إِذَا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا حَلَّتْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ، فَأَرْسَلُوا كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ هُوَ أَنَّهَا قَالَتْ: «وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " قَدْ حَلَلْتِ انْكِحِي مَنْ شِئْتِ» ". وَفِي التِّرْمِذِيَّ: إِلَّا أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ لَأُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهَرِ وَعَشْرٍ. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ: مَنْ شَاءَ حَالَفْتُهُ، وَأَسْنَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ، «عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؟ فَقَالَ: " هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا» . وَفِيهِ الْمُثَنَّى بْنُ صَبَّاحٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3330 - وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3330 - (وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) : بِفَتْحِ جِيمٍ فَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ كِلْتَاهُمَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ) : بِالتَّذْكِيرِ وَالرَّفْعِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّأْنِيثِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَهُوَ نَفْيٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ فِيهِ نَوْعُ مُسَامَحَةٍ، وَالْمَعْنَى لَا يَجُوزُ (يَحِلُّ لِمَرْأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : أَيِ: اكْتَفَى بِذِكْرِ طَرَفَيِ الْمُؤْمِنِ بِهِ عَنْ بَقِيَّتِهِ اخْتِصَارًا وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَيْهِمَا لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ التَّخْوِيفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْوَصْفُ بِالْإِيمَانِ إِشْعَارٌ بِالتَّعْلِيلِ وَأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِعِقَابِهِ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى مِثْلِهِ مِنَ الْعِظَامِ، وَالسِّيَاقُ بِعِبَارَتِهِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمُؤْمِنِ بِهِ دَلَّ بِحَضَارَتِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ عَظَائِمِ الشُّئُونِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى غَيْرِهِ، (أَنْ تُحِدَّ) : بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ أَحَدَّ يُحِدُّ كَأَعَدَّ يُعِدُّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَانِيهِ، وَقِيلَ بِكَسْرِهِ مِنْ حَدَّ يَحِدُّ كَفَرَّ يَفِرُّ وَمَدَّ يَمُدُّ، ذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ.

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مِنْ بَابِ نَصَرَ وَمِنْ بَابَ طَرِبَ وَمِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَحَدَّتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا تُحِدُّ فَهِيَ مُحِدَّةٌ، وَحَدَّتْ تَحِدُّ فَهِيَ حَادَّةٌ إِذَا حَزِنَتْ عَلَيْهِ، وَلَبِسَتْ ثِيَابَ الْحُزْنِ، وَتَرَكَتِ الزِّينَةَ. وَفِي الْمَشَارِقِ لِعِيَاضٍ: هُوَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا مَعَ ضَمِّ الْحَاءِ، قَالَ: حَدَّتْ وَأَحَدَّتْ حِدَادًا وَإِحْدَادًا إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ، فَالْمَعْنَى أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنَ الزِّينَةِ وَتَتْرُكَ الطِّيبَ. (عَلَى مَيِّتٍ) : أَيْ: مِنْ وَلَدٍ أَوْ وَالِدٍ وَغَيْرِهِمَا (فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) : أَيْ: زِيَادَةً عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (إِلَّا عَلَى زَوْجٍ) : أَيْ: حُرٍّ (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جُعِلَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِأَنَّ فِيهَا يُنْفَخُ الرُّوحُ فِي الْوَلَدِ وَعَشْرًا لِلِاحْتِيَاطِ، اهـ. وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ مَا يُوَضِّحُهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: «تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ فَدَعَتْ بِطِيِبٍ فَمَسَحَتْهُ بِذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: إِنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَالْحَمِيمُ الْقَرَابَةُ، وَقَدْ رُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ وَوَقَعَ فِيهِ مُفَسَّرًا هَكَذَا، لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلِيلٌ فِيهِ عَلَى إِيجَابِ الْإِحْدَادِ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ مَنْ نَفْيِ الْحِلِّ فَيُفِيدُ ثُبُوتَ الْحِلِّ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلَكِنْ يَحِلُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَعَلَى مَنْ سِوَاهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ، وَأُلْحِقَ الِاسْتِدْلَالُ بِنَحْوِ حَدِيثِ حَفْصَةَ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ، بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» " فَإِنَّ فِيهِ تَصْرِيحًا بِالْإِخْبَارِ.

3331 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَلْمِسُ طِيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: " لَا تَخْتَضِبُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3331 - (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ تُمَرِّضُ الْمَرْضَى وَتُدَاوِي الْجَرْحَى. (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تُحِدُّ) : بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّهْيِ (امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ) : أَيْ: مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ (فَوْقَ ثَلَاثٍ) : أَيْ: لَيَالٍ أَوْ أَيَّامٍ (إِلَّا عَلَى زَوْجٍ) حُرٍّ (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: " إِلَّا عَلَى زَوْجٍ " مُتَّصِلٌ إِذَا جُعِلَ قَوْلُ " أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ " مَنْصُوبًا بِمُقَدَّرٍ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: فَوْقَ ثَلَاثٍ أَيْ: أَعْنِي، أَوْ أَذْكُرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِكَ: مَا احْتَقَرْتُ إِلَّا مِنْكُمْ رَقِيقًا؛ لَكَوْنِ مَا بَعْدَ إِلَّا شَيْئَيْنِ، فَتَقَدَّمَ الْمُفَسِّرَ أَعْنِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، أَعْنِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، وَإِذَا جُعِلَ مَعْمُولًا لِتُحِدَّ مُضْمَرًا كَانَ مُنْقَطِعًا، فَالتَّقْدِيرُ لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَلَكِنْ تُحِدُّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، اهـ. وَالثَّانِي أَظْهَرُ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " (وَلَا تَلْبَسُ) : بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالْجَزْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنُ الْهُمَامِ، فَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ فِي تَفْصِيلِ مَعْنَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ (ثَوْبًا مَصْبُوغًا) : أَيْ: بِالْعُصْفُرِ أَوِ الْمَغْرَةِ، وَفِي الْكَافِي: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ثَوْبٌ إِلَّا الْمَصْبُوغَ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِضَرُورَةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَكِنْ لَا بِقَصْدِ الزِّينَةِ. (إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ) : بِسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ نَوْعٌ مِنَ الْبُرُودِ، وَيُعْصَبُ غَزْلُهُ أَيْ: يُجْمَعُ وَيُشَدُّ، ثُمَّ يُصْبَغُ، ثُمَّ يُنْسَجُ فَيَأْتِي مُوَشِّيًا لِبَقَاءِ مَا عُصِبَ مِنْهُ أَبْيَضٌ لَمْ يَأْخُذْهُ صِبْغٌ، وَالنَّهْيُ لِلْمُعْتَدَّةِ عَمَّا يُصْبَغُ بَعْدَ النَّسْجِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَتَبِعَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا تَلْبَسُ الْعَصْبَ عِنْدَنَا، وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ رَقِيقَهُ وَغَلِيظَهُ، وَمَنَعَ مَالِكٌ رَقِيقَهُ دُونَ غَلِيظِهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِ، وَفِي تَفْسِيرِهِ، فِي الصِّحَاحِ: الْعَصْبُ بُرْدٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ يُنْسَجُ أَبْيَضَ ثُمَّ يُصْبَغُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي الْمُغْنِي: الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَبْتٌ يُصْبَغُ بِهِ الثِّيَابُ، وَفَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا ثِيَابٌ مِنَ الْيَمَنِ فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ. قَالَ: وَيُبَاحُ لَهَا لُبْسُ الْأَسْوَدِ عِنْدَ

الْأَئِمَّةِ وَجَعَلَهُ الظَّاهِرِيَّةُ كَالْأَخْضَرِ وَالْأَحْمَرِ. (وَلَا تَكْتَحِلُ) : بِالْوَجْهَيْنِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِلَّا مِنْ عُذْرٍ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً، هَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ، وَذَهَبَ الظَّاهِرِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ، وَلَوْ مِنْ وَجَعٍ وَعُذْرٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ نَهَى نَهْيًا مُؤَكِّدًا عَنِ الْكُحْلِ الَّتِي اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْخَوْفُ عَلَى عَيْنِهَا، (وَلَا تَمَسُّ) : بِضَمِّ السِّينِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا (طِيبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ) : بِفَتْحٍ وَضَمٍّ أَيْ: مِنَ الْحَيْضِ (نُبْذَةً) : بِضَمِّ النُّونِ أَيْ شَيْئًا يَسِيرًا، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ الظَّرْفُ (مِنْ قُسْطٍ) : بِضَمِّ الْقَافِ ضَرْبٌ مِنَ الطِّيبِ، وَقِيلَ: هُوَ عُودٌ يُحْمَلُ مِنَ الْهِنْدِ، وَيُجْعَلُ فِي الْأَدْوِيَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقِسْطُ عَقَارٌ مَعْرُوفٌ فِي الْأَدْوِيَةِ طَيِّبُ الرِّيحِ يُبَخَّرُ بِهِ النُّفَسَاءُ وَالْأَطْفَالُ (أَوْ أَظْفَارٍ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ جِنْسٌ مِنَ الطِّيبِ لَا وَاحِدَ لَهُ، وَقِيلَ: وَاحِدُهُ ظُفُرٌ، وَقِيلَ: يُشْبِهُ الظُّفُرَ الْمَقْلُومَ مِنْ أَصْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ مِنَ الْعِطْرِ أَسْوَدُ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ شَبِيهَةٌ بِالظُّفُرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقِسْطُ وَالْأَظْفَارُ نَوْعَانِ مِنَ الْعُودِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِمَا الطِّيبُ، وَرُخِّصَ فِيهِمَا لِلْمُغْتَسِلَةِ مِنَ الْحَيْضِ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ يُتْبَعُ بِهِ أَثَرَ الدَّمِ لَا لِلتَّطَيُّبِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا حُرَّةً أَوْ أَمَةً، مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» " وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يَسْتَمِرُّ خِطَابُ الشَّارِعِ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ وَيَنْقَادُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا إِحْدَادَ أَيْضًا عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَلَا عَلَى الْأَمَةِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الصَّغِيرَةَ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي الْحُكْمِ لِكَوْنِهَا نَادِرَةً، فَسَلَكَتْ فِي الْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا خَرَجَ عَلَى غَالِبِ الْمُعْتَدَّاتِ اللَّاتِي تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِالْحَمْلِ، وَيَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ حَتَّى تَضَعَ، سَوَاءٌ قَصُرَتِ الْمُدَّةُ أَوْ طَالَتْ، وَقَالُوا: الْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ دُونَ الطَّلَاقِ أَنَّ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ يَسْتَدْعِيَانِ النِّكَاحَ، فَنُهِيَتْ عَنْهُ زَجْرًا لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَنْعِ مَعُتَدَّتِهِ مِنَ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ الْحَيِّ فَإِنَّهُ يُسْتَغْنَى بِوُجُودِهِ عَنْ زَاجِرٍ آخَرَ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَجِبُ بِسَبَبِ التَّزَوُّجِ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ وَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا، أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ابْتِدَاءً، وَلَا تَعْلَمُ خِلَافًا فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِسَبَبِ غَيْرِ الزَّوْجِ مِنَ الْأَقَارِبِ وَهَلْ يُبَاحُ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ: وَلَا يَحِلُّ الْإِحْدَادُ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهَا أَوِ ابْنُهَا أَوْ أُمُّهَا أَوْ أَخُوهَا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الزَّوْجِ خَاصَّةً قِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ إِبَاحَتِهِ: لِلْمُسْلِمَاتِ عَلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ ثَلَاثَةً، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَبْتُوتَةِ يُفِيدُ نَفْيَ وُجُوبِهِ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ إِنْ تُحِدَّ عَلَى قَرَابَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَهَا زَوْجٌ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، لَأَنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا عَلَى تَرْكِهَا إِذَا امْتَنَعَتْ وَهُوَ يُرِيدُهَا، وَهَذَا الْإِحْدَادُ مُبَاحٌ لَهَا لَا وَاجِبٌ عَلَيْهَا، وَبِهِ يَفُوتُ حَقُّهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا إِحْدَادَ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ لِأَنَّهُ لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ لِصَبْرِهِ عَلَيْهَا إِلَى الْمَوْتِ. قُلْنَا: فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ نَصٌّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ، وَقَالَ: " الْحِنَّاءُ طِيبٌ " ذَكَرَهُ السُّرُوجِيُّ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَعَزَاهُ لِلنَّسَائِيِّ هَكَذَا، وَلَفْظُهُ: فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنِ الْكُحْلِ وَالدُّهْنِ وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ. وَقَالَ: " الْحِنَّاءُ طِيبٌ " وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُعْتَدَّةُ بِالْوَفَاةِ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ بِالْقِيَاسِ عَلَى عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِجَامِعِ إِظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْمَعَادِ وَالدُّنْيَا، فَإِنَّهُ ضَابِطٌ لِلْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ لِفَوَاتِ الزَّوْجِ، وَكَوْنُ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ مِنَ الْمُهَيِّجَاتِ لِلشَّهْوَةِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنِ النِّكَاحِ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْمَدَّةِ، فَتَمْتَنِعُ عَنْ دَوَاعِيهِ دَفْعًا لِمَا تَدَافَعَ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَسَفُ مَعَ الصِّيَاحِ وَالْفَرَحِ مَعَ الصِّيَاحِ، نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: " وَلَا تَخْتَضِبُ) : أَيْ: بِالْحِنَّاءِ وَهُوَ نَفْيٌ، وَقِيلَ نَهْيٌ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3332 - «عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ - وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ، فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا فَقَتَلُوهُ. قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَنْزِلٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ. فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَمْ ". فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، دَعَانِي، فَقَالَ: " امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ " قَالَتْ: فَأَعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.» رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3332 - (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ) : أَيْ: بَنْتِ عُجْرَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ تَابِعِيَّةٌ (أَنَّ الْفُرَيْعَةَ) : بِضَمِّ فَاءٍ وَفَتْحِ رَاءٍ (بِنْتَ مَالِكٍ بْنِ سِنَانٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (وَهِيَ) : أَيِ: الْفُرَيْعَةُ (أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) : شَهِدَتْ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ (أَخْبَرَتْهَا) : أَيِ: الْفُرَيْعَةُ زَيْنَبَ (أَنَّهَا) : أَيِ: الْفُرَيْعَةُ (جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةِ: لِتَسْأَلَهُ (أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَبُو قَبِيلَةٍ (فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ إِلَى طَلَبِ أَعْبُدٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ جَمْعُ عَبْدٍ (لَهُ) : أَيْ: مَمْلُوكَةٍ (أَبَقَوا) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: هَرَبُوا (قَتَلُوهُ) : أَيِ: الْعَبِيدُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: حَتَّى إِذَا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ. (قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي لِأَنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَنْزِلٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ) : بِالْجَرِّ أَيْ: وَلَا فِي نَفَقَةٍ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْفَتْحِ أَيْ: وَلَا نَفَقَةَ لِي (فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَمْ ". فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ) : أَيِ: الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (أَوْ فِي الْمَسْجِدِ) : أَيِ: النَّبَوِيِّ وَهُوَ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ (دَعَانِي) : أَيْ: نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ " فَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (قَالَ: " امْكُثِي) : بِضَمِّ الْكَافِ أَيْ: تَوَقَّفِي وَاثْبُتِي (فِي بَيْتِكِ) : أَيِ: الَّتِي كُنْتِ فِيهِ (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ) : أَيِ: الْعِدَّةُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهَا أَيِ: الْمَفْرُوضَةُ (أَجَلَهُ) : أَيْ: مُدَّتَهُ، وَالْمَعْنَى حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَسُمِّيَتِ الْعِدَّةُ كِتَابًا لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ - تَعَالَى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 178] أَيْ: فُرِضَ (فَقَالَتْ: فَاعْتَدَدَتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) : زَادَ ابْنُ الْهُمَامِ قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَرْسَلَ إِلَيَّ وَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَأَتْبَعُهُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي السُّكْنَى لِلْمُعْتَدَّةِ عَنِ الْوَفَاةِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: فَعَلَى الْأَصَحِّ لَهَا السَّكَنُ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالُوا: إِذْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفُرَيْعَةَ أَوَّلًا صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ إِلَخْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنْ لَا سَكَنَ لَهَا بَلْ تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِلْفُرَيْعَةَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا، وَقَوْلُهُ لَهَا آخِرًا. " «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» " أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ. (رَوَاهُ مَالِكٍ) : أَيْ: فِي الْمُوَطَّأِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ. (وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ حَيْثُ شَاءَتْ» ، فَقَالَ فِيهِ: لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ أَبِي مَالِكٍ النَّخَعِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَمَحْبُوبُ بْنُ مُحْرِزٍ أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ مُخْتَلِطٌ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ أَضْعَفُهُمْ، فَلِذَلِكَ أَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَذِكْرُ الْجَمْعِ أَصْوَبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْجَنَابَةُ مِنْ غَيْرِهِ، اهـ كَلَامُهُ. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ.

3333 - «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَيَّ صَبِرًا. قَالَ: " مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟) : قُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ صَبِرٌ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ. فَقَالَ: " إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَتَنْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ ". قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3333 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : أَيْ: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: عِنْدِي، وَفِي بَيْتِي (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَ) : بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا أَيْ: مَاتَ (أَبُو سَلَمَةَ) : أَيْ: زَوْجُهَا الْأَوَّلُ قَبْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَيَّ) : أَيْ: عَلَى وَجْهِي (صَبِرًا) : بِفَتْحِ صَادٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ. وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِهَا. وَفِي الْقَامُوسِ: بِكَسْرِ الْبَاءِ كَكَتِفٍ وَلَا يُسَكَّنُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، اهـ. وَقِيلَ: يَجُوزُ كِلَاهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ كَكَتْفٍ وَكَتِفٍ. وَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: الصَّبِرُ مَعْرُوفٌ بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ الْبَاءِ كَقَوْلِهِ: لَا تَحْسِبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ ... لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا وَجَاءَ إِسْكَانُهَا مَعَ كَسْرِ الصَّادِ وَفَتْحِهَا. وَفِي الْمِصْبَاحِ: الصَّبِرُ بِكَسْرِ الْبَاءِ فِي الْمَشْهُورِ دَوَاءٌ مُرٌّ وَسُكُونُ الْبَاءِ لِلتَّخْفِيفِ لُغَةٌ، وَرُوِيَ مَعَ فَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، فَيَكُونُ فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ. (قَالَ: " مَا هَذَا) : أَيِ: التَّلَطُّخُ وَأَنْتِ فِي الْعِدَّةِ (يَا أُمَّ سَلَمَةَ قُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ صَبِرٌ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ) : بِالْكَسْرِ أَيْ: عِطْرٌ (فَقَالَ: " إِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنَ أَوِ الصَّبْرَ (يَشُبُّ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ فَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: يُوقِدُ (الْوَجْهَ) : وَيَزِيدُ فِي لَوْنِهِ، وَعَلَّلَ الْمَنْعَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ تَزْيِينًا لِلْوَجْهِ وَتَحْسِينًا لَهُ (فَلَا تَجْعَلِيهِ) : أَيْ: فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ أَوْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَفْعَلِيهِ (إِلَّا بِاللَّيْلِ) : لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ قَصْدِ الزِّينَةِ (وَتَنْزِعِيهِ) : بِكَسْرِ الزَّايِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلَا تَجْعَلِيهِ عَلَى مَعْنَى فَاجْعَلِيهِ بِاللَّيْلِ وَانْزِعِيهِ (بِالنَّهَارِ) : لِأَنَّ إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّعِ لَغْوٌ، وَالْكَلَامُ مُثْبَتٌ، وَحَذْفُ النُّونِ فِي تَنْزِعِيهِ لِلتَّخْفِيفِ، وَهُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ بِلَفْظِ " وَانْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ " وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ) : الْبَاءُ حَالٌ مِنَ الْمِشْطِ أَيْ: لَا تَسْتَحِلِّي الْمُشْطَ مُطَيَّبًا (وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ " قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " بِالسِّدْرِ) : أَيِ: امْتَشِطِي بِالسِّدْرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بَاؤُهُ لِلْحَالِ أَيْضًا (تَغَلَّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مَنْ تَغَلَّفَ الرَّجُلُ بِالْغَالِيَةِ أَيْ: تَلَطَّخَ بِهَا، أَيْ: تُكْثِرِينَ مِنْهُ عَلَى شَعْرِكِ حَتَّى يَصِيرَ غُلَافًا لَهُ فَتُغَطِّيهِ كَتَغْطِيَةِ الْغِلَافِ الْمَغْلُوفِ، وَرُوِيَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ مِنَ التَّغْلِيفِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ غِلَافًا لِشَيْءٍ فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَيُقَالُ: غَلَفَ بِهَا لِحْيَتَهُ غَلْفًا مِنْ قَوْلِكَ: غَلَّفْتُ الْفَارَةَ أَيْ: جَعَلْتُهَا فِي غِلَافٍ، وَكَأَنَّ الْمَاسِحَ بِهَا رَأَسَهُ اتَّخَذَهُ غِلَافًا لَهُ وَغَلَّفَ بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: " تَغَلَّفِينَ " أَيْضًا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ " امْتَشِطِي " أَوِ اسْتِئْنَافٌ، " وَتَغَلَّفِينَ " مَفْتُوحَةُ التَّاءِ عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي بَعْضِ نَسْخِ الْمَصَابِيحِ مِنَ التَّغَلُّفِ، فَالتَّاءُ مَضْمُومَةٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّفَعُّلَ فِيهِ التَّكَلُّفَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، لَكِنْ فِي مُسْنَدِهِ مَجْهُولٌ، وَفِي الْمَبْسُوطِ تَمْتَشِطُ بِالْأَسْنَانِ الْوَاسِعَةِ لَا الضَّيِّقَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَطْلَقَهَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مُطْلَقًا، وَكَوْنُهُ بِالضَّيِّقَةِ يَحْصُلُ مَعْنَى الزِّينَةِ. وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْهَا. وَبِالْوَاسِعَةِ يَحْصُلُ دَفْعُ الضَّرَرِ مَمْنُوعٌ، بَلْ قَدْ يُحْتَاجُ لِإِخْرَاجِ الْهَوَامِّ إِلَى الضَّيِّقَةِ. نَعَمْ كُلَّمَا أَرَادَتْ بِهِ مَعْنَى الزِّينَةِ لَمْ يَحِلَّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ، فَمَنَعْنَاهُ نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ إِلَّا لِضَرُورَةٍ لِحُصُولِ الزِّينَةِ بِهِ، وَأَجَازَهُ الْإِمَامَانِ وَالظَّاهِرِيَّةُ.

3334 - وَعَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا الْمُمَشَّقَةَ، وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَخْتَضِبُ، وَلَا تَكْتَحِلُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3334 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمَعُصْفَرَ) : أَيِ: الْمَصْبُوغَ بِالْعُصْفُرِ بِالضَّمِّ (مِنَ الثِّيَابِ وَلَا الْمُمَشَّقَةِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: الْمَصْبُوغَةَ بِالْمِشْقِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ الطِّينُ الْأَحْمَرُ الَّذِي يُسَمَّى مَغْرَةً، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْحُلَّةِ أَوِ الثِّيَابِ. (وَلَا الْحُلِيَّ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ حِلْيَةٍ، وَهِيَ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِنَ الْمَصَاغِ وَغَيْرِهِ. (وَلَا تَخْتَضِبُ) : أَيْ بِالْحِنَّاءِ (وَلَا تَكْتَحِلُ) : أَيْ إِلَّا لِضَرُورَةٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ مَالِكٌ أَيْضًا، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ: " «وَلَا تَلْبَسُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُعَصْفَرَ» " الْحَدِيثَ. وَفِي الْهِدَايَةِ: يَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ لِعُذْرٍ كَالْحَكَّةِ وَالْقَمْلِ وَالْمَرَضِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُبَاحُ لَهَا الْحَرِيرُ الْأَسْوَدُ وَالْحُلِيُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنَ النَّصِّ فِي مَنْعِ الْمَصْبُوغِ يَنْفِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِمَنْعِ الْحُلِيِّ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنَ الْمَصْبُوغِ إِلَّا الْمُعَصَّبَ فَيَشْمَلُ مَنْعَ الْأَسْوَدِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3335 - عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ الْأَحْوَصَ هَلَكَ بِالشَّامِ حِينَ دَخَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيدٌ: إِنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا، وَلَا تَرِثُهُ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3335 - (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخُوهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ (أَنَّ الْأَحْوَصَ) : هُوَ ابْنُ جَوَّابٍ الضَّبَّيُّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ (هَلَكَ) : أَيْ: مَاتَ (بِالشَّامِ) : أَيْ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ (حِينَ دَخَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا فِي الْقَامُوسِ: الْحَيْضَةُ: الْمَرَّةُ، وَبِالْكَسْرِ: الِاسْمُ، قَالَ فِي الْمَشَارِقِ: أَيِ الْحَالَةِ الَّتِي عَلَيْهَا (الثَّالِثَةِ، وَقَدْ كَانَ) : أَيِ: الْأَحْوَصُ (طَلَّقَهَا) : أَيْ قُبَيْلَ مَوْتِهِ (فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) : أَيْ: مُنَبِّهًا إِلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ (يَسْأَلُهُ فِي ذَلِكَ) . أَيْ عَمَّا ذُكِرَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ هَلْ تَرِثُهُ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا كَتَبَ إِلَيْهِ لِتَرَدُّدِهِ فِي الْحُكْمِ وَإِنْصَافِهِ بِالِاعْتِرَافِ، أَوْ لِمَا وَقَعَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالِاخْتِلَافِ (فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيدٌ: إِنَّهَا) : أَيِ: الْمَرْأَةَ (إِذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ) : أَيْ: مِنَ الزَّوْجِ (وَبَرِئَ مِنْهَا) : أَيْ مِنَ الْمَرْأَةِ (لَا يَرِثُهَا وَلَا تَرِثُهُ) . بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الْأَطْهَارُ. قُلْتُ: هَذَا مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ نُقِلَ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ عَمِلَ بِقَوْلِهِ أَمْ لَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْأَقْرَاءُ الْحَيْضُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَطْهَارُ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ مَالِكٍ وَنُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَوْلُنَا قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْعَبَادِلَةِ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ: مَعْبَدًا الْجُهَنِيَّ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ قَوْلُ الْعَبَادِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَتَعَارَضَ عَنْهُ النَّقْلُ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ، وَثَبَتَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: عِلَّهُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ، فَتُعَارِضُ رِوَايَتَهُمْ عَنْ زَيْدٍ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنَانِ ابْنُ حَيٍّ وَالْبَصَرِيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَشَرِيكٌ الْقَاضِي، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَرَبِيعَةُ السُّدِّيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَحْمَدُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى الْخَيَّاطُ الْمَدَنِيُّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ قَالَ: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْهُمْ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَتِ الْأَقْرَاءُ الْحَيْضَ لَا الطُّهْرَ إِذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، وَأَمَّا الطُّهْرُ فَيُحْسَبُ مِنْهَا، فَيَلْزَمُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالشُّرُوعِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَالطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ فَعَلَيْهِ يُبْنَى قَوْلُهُمْ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

3336 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّمَا امْرَأَةٍ طُلِّقَتْ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ رُفِعَتْهَا حَيْضَتُهَا ; فَإِنَّهَا تَنْظُرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ بَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَلِكَ، وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ التِّسْعَةِ الْأَشْهَرِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ حَلَّتْ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3336 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّمَا امْرَأَةٍ طُلِّقَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّطْلِيقِ (فَحَاضَتْ حَيْضَةً) : بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ (أَوْ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ رُفِعَتْهَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: رُفِعَتْ عَنْهَا (حَيْضَتُهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَكَذَا وَجَدْنَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، فَحَيْضَتُهَا فَاعِلُ رُفِعَتْهَا، وَالضَّمِيرُ فِي رُفِعَتْهَا مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا عَنْهَا أَيِ: انْقَطَعَتْ (فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ) : جَوَابٌ لِلشَّرْطِ (فَإِنْ بَانَ بِهَا حَمْلٌ) : أَيْ: ظَهَرَ بِالْمَرْأَةِ حَمْلٌ (فَذَلِكَ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَذَلِكَ ظَاهِرُ حُكْمِهِ، إِذْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ (وَإِلَّا) : إِنْ شَرْطِيَّةٌ مُدْغَمَةٌ فِي " لَا " أَيْ إِنْ لَمْ يَبِنْ (اعْتَدَّتْ) : أَيْ: فَاعْتَدَّتْ (بَعْدَ التِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ) : أَدْخَلَ لَامَ التَّعْرِيفِ عَلَى التِّسْعَةِ الْمُضَافَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ نَحْوَ الثَّلَاثَةِ الْأَثْوَابِ أَوِ الثَّانِي بَدَلٌ (ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ حَلَّتْ) . أَيْ مِنَ الْعِدَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى فَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَعَلَى ذَوَاتِ الْأَحْمَالِ وَضْعُ الْحَمْلِ، فَظَهَرَ مِنِ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَنْهَا بَعْدَ الْحَيْضَتَيْنِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَمِنْ مُضِيِّ مُدَّةِ وَضْعِ الْحَمْلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَحْمَالِ أَيْضًا، فَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّهَا مِنَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ، فَوَجَبَ التَّرَبُّصُ بِالْأَشْهَرِ: قَالَ النَّوَوِيُّ: مَنِ انْقَطَعَ دَمُهَا إِنِ انْقَطَعَ لِعَارِضٍ يُعْرَفُ كَرَضَاعٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دَاءٍ بَاطِنٍ صَبَرَتْ حَتَّى تَحِيضَ فَتَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ، وَتَبْلُغَ سِنَّ الْيَأْسِ فَتَعْتَدَّ بِالْأَشْهُرِ، وَلَا يُبَالِي بِطُولِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ وَإِنِ انْقَطَعَ لَا لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ، فَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ كَالِانْقِطَاعِ بِعَارِضٍ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِي قَوْلٍ: أَرْبَعَ سِنِينَ، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَ التَّرَبُّصِ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: تَرِثُ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ بِأَنْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا بِحَيْثُ صَارَ فَارًّا وَمَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَعِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ، أَيِ الْأَبْعَدُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشَرٍ وَثَلَاثِ حِيَضٍ، فَلَوْ تَرَبَّصَتْ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَلَمْ تَسْتَكْمِلْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى يَمْضِيَ وَإِنْ مَكَثَتْ سِنِينَ مَا لَمْ تَدْخُلْ سِنَّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ وَيُقَدَّرُ سِنُّ الْإِيَاسِ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ بِسِتِّينَ، وَفِي رِوَايَةٍ بِسَبْعِينَ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، وَفِي الْمَنَافِعِ وَعَلَيْهِ أَبُو اللَّيْثِ قَالَ: ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، وَأَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فَعِدَّتُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، سَوَاءٌ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ صِحَّتِهِ، وَدَخَلَتْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَتَرِثُ بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا بَائِنًا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ، وَلَا تَرِثُ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ: وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ بَلَغَتْ سِنَّ الْإِيَاسِ عِنْدَ الْحَيْضَتَيْنِ تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بِالشُّهُورِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

[باب الاستبراء]

[بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3337 - «عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِامْرَأَةٍ مُجِحٍّ، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقَالُوا: أَمَةٌ لِفُلَانٍ. قَالَ: " أَيُلِمُّ بِهَا؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [16] بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْمُغْرِبِ: بَرِئَ مِنَ الدِّينِ وَالْغَيْبِ بَرَاءَةً، وَمِنْهُ اسْتَبْرَأَ الْجَارِيَةَ طَلَبَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْلِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3337 - (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِامْرَأَةٍ مُجِحٌّ) : بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَجِيمٍ مَكْسُورَةٍ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُشَدَّدَةٍ أَيْ: حَامِلٌ تَقْرُبُ وِلَادَتُهَا (فَسَأَلَ عَنْهَا) . أَيْ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ أَوْ حُرَّةٌ (فَقَالُوا: أَمَةٌ) : أَيْ: هَذِهِ جَارِيَةٌ مَمْلُوكَةٌ (لِفُلَانٍ) . كَانَتْ مَسْبِيَّةً (قَالَ: " أَيُلِمُّ بِهَا) : أَيْ أَيُجَامِعُهَا وَالْإِلْمَامُ مِنْ كِنَايَاتِ الْوَطْءِ (قَالُوا: نَعَمْ) . أَيْ بِنَاءً عَلَى مَا سَمِعُوا مِنْهُ (قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتُ) : أَيْ: عَزَمْتُ وَقَصَدْتُ (أَنْ أَلْعَنَهُ) : أَيْ: أَدْعُوَ عَلَيْهِ بِالْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ (لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ) : أَيْ يَسْتَمِرُّ إِلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا هَمَّ بِلَعْنِهِ لِأَنَّهُ إِذَا أَلَمَّ بِأَمَتِهِ الَّتِي يَمْلِكُهَا وَهِيَ حَامِلٌ كَانَ تَارِكًا لِلِاسْتِبْرَاءِ، وَقَدْ فُرِضَ عَلَيْهِ (كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ) أَيِ الْوَلَدَ (وَهُوَ) : أَيِ: اسْتَخْدَامُهُ (لَا يَحِلُّ لَهُ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي تَرْكِ الِاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلَّعْنِ (أَمْ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: كَيْفَ يُدْخِلُ الْوَلَدَ فِي مَالِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ (وَهُوَ) : أَيْ وَرَثَتُهُ (لَا يَحِلُّ لَهُ) : أَمْ مُنْقَطِعَةٌ، إِضْرَابٌ عَنْ إِنْكَارٍ إِلَى أَبْلَغَ مِنْهُ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْتَبْرِئْ، وَأَلَمَّ بِهَا، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِزَمَانٍ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الظَّاهِرُ نَفْخًا ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا فَتَعْلَقُ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَلَمَّ بِهَا قَبْلَهُ، فَإِنِ اسْتَخْدَمَهُ اسْتِخْدَامَ الْعَبِيدِ بِأَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ، فَلَعَلَّهُ

كَانَ مِنْهُ فَيَكُونُ مُسْتَعْبِدًا لِوَلَدِهِ قَاطِعًا لِنَسَبِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ فَيَكُونُ مُوَرِّثُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَرِّثَهُ فَيَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ لِيَتَحَقَّقَ الْحَالَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3338 - «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: " لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3338 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَفَعَهُ) : أَيِ: الْحَدِيثَ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ) : بِالصَّرْفِ وَقَدْ لَا يُصْرَفُ مَوْضِعٌ أَوْ بُقْعَةٌ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ فِيهَا وَقْعَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا تُوطَأُ) : بِهَمْزٍ فِي آخِرِهِ أَيْ لَا تُجَامَعُ (حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ) : أَيْ: وَلَا تُوطَأُ حَائِلٌ (حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً) : بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ، وَقَوْلُهُ: لَا تُوطَأُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ لَا تُجَامِعُوا مَسْبِيَّةً حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَلَا حَائِلًا ذَاتَ أَقْرَاءٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً كَامِلَةً وَلَوْ مَلَكَهَا، وَهِيَ حَائِضٌ لَا تَعْتَدُّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِصِغَرِهَا أَوْ كِبَرِهَا، فَاسْتِبْرَاؤُهَا يَحْصُلُ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ فِي الْأَمَةِ يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ، وَبِظَاهِرِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ نَقَلَهُ مِيرَكُ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْفِقْهِ مِنْهَا أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا سُبِيَا أَوْ أَحَدُهُمَا يَرْتَفِعُ بَيْنَهُمَا النِّكَاحُ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي سَبْيِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ أَنَّهُ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ وَطْأَهُنَّ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ، أَوْ مُرُورِ حَيْضَةٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ ذَاتِ زَوْجٍ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ مَنْ سُبِيَتْ مِنْهُنَّ مَعَ الزَّوْجِ أَوْ وَحْدَهَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ السَّبْيِ كُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا سُبِيَا مَعًا فَهَمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَمِنْهَا أَنَّ وَطْءَ الْحَبَالَى مِنَ السَّبَايَا لَا يَجُوزُ، وَمِنْهَا بَيَانُ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْحَامِلِ يَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَاسْتِبْرَاءَ غَيْرِ الْحَامِلِ مِمَّنْ كَانَتْ بِحَيْضَةٍ حَيْضَةٌ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ بِالْأَطْهَارِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " «فَطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهَا» فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ، فَجَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِدَّةَ بِالْأَطْهَارِ وَالِاسْتِبْرَاءَ بِالْحَيْضِ. وَمِنْهَا بَيَانُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ بَعْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوِ اشْتَرَاهَا وَهِيَ حَائِضٌ، لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا اشْتَرَاهَا حَائِضًا أَجْزَأَتْ عَنِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِمُضِيِّ شَهْرٍ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَفِيهِ مُسْتَدَلٌّ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَأَنَّ الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَإِنْ كَانَ فِي حِينِهِ وَعَلَى وَصْفِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْحَيْضَ دَلِيلَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَفِيهِ أَنَّ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ فِي الْأَمَةِ يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، يَمْلِكُهَا مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ إِذَا عَجَزَتْ وَالْمَبِيعَةُ إِذَا عَادَتْ إِلَى بَائِعِهَا بِمَقَالَةٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ، فَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ عَلَى الْمَالِكِ فِي زَمَانِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُبَاشَرَةِ سِوَى الْوَطْءِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَحْرِيمِهَا كَالْوَطْءِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهَا تُحْرَمُ فِي الْمُشْتَرَاةِ، وَلَا تُحْرَمُ فِي الْمَسْبِيَّةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرَاةَ رُبَّمَا تَكُونُ حَامِلًا وَلَدًا لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا الْمُشْتَرِي، وَالْحَمْلُ فِي الْمَسْبِيَّةِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) .

3339 - وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: " لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ - يَعْنِي إِتْيَانَ الْحُبَالَى - وَلَا يَحُلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ السَّبْيِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيعَ مَغْنَمًا حَتَى يُقَسَّمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: " زَرْعَ غَيْرِهِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3339 - (وَعَنْ رُوَيْفِعِ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَمَّرَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى طَرَابُلُسَ وَالْمَغْرِبِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ وَادٍ بِالطَّائِفِ (لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ يُدْخِلَ (مَاءَهُ) : أَيْ: نُطْفَتَهُ (زَرْعَ غَيْرِهِ) : أَيْ: فِي مَحَلِّ زَرْعٍ لِغَيْرِهِ (يَعْنِي) : هُنَا قَوْلُ رُوَيْفِعٍ أَوْ غَيْرِهِ، يُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْكَلَامِ (إِتْيَانَ الْحَبَالَى) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ جِمَاعَهُنَّ

( «وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ السَّبْيِ» ) : أَيْ: يُجَامِعَهَا (حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا) : أَيْ بِحَيْضَةٍ أَوْ شَهْرٍ ( «وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيعَ مَغْنَمًا» ) : أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ (حَتَّى يُقْسَمَ) : أَيْ: بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَيُخْرَجَ مِنْهُ الْخُمُسُ. (رَوَاهُ) : أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَرَوَى (التِّرْمِذِيُّ) : أَيِ: الْحَدِيثَ " إِلَى قَوْلِهِ: " زَرْعَ غَيْرِهِ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3340 - «عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِاسْتِبْرَاءِ الْإِمَاءِ بِحَيْضَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ، وَيَنْهَى عَنْ سَقْيِ مَاءِ الْغَيْرِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3340 - (عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي) : أَيْ: عَنِ التَّابِعِينَ مُرْسَلًا أَوْ عَنِ الصَّحَابَةِ بِوَاسِطَتِهِمْ مُسْنَدًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِاسْتِبْرَاءِ الْإِمَاءِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ الْأَمَةِ بِمَعْنَى الْجَارِيَةِ الْمَمْلُوكَةِ (بِحَيْضَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِحَيْضَةٍ إِلَخْ مُدْرَجٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمُسْتَبْرَأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، فَهَلْ تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ أَمْ ثَلَاثَةٍ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِشَهْرٍ لِأَنَّهُ بَدَلُ قُرْءٍ وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، وَجَمَاعَةُ الثَّلَاثَةِ. (وَيَنْهَى) : عَطْفٌ عَلَى يَأْمُرُ أَيْ: وَكَانَ يَنْهَى (عَنْ سَقْيِ مَاءِ الْغَيْرِ) . أَيْ: إِدْخَالِ مَائِهِ عَلَى مَاءِ غَيْرِهِ فِي زَرْعِهِ مَا سَبَقَ.

3341 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وُهِبَتِ الْوَلِيدَةُ الَّتِي تُوطَأُ، أَوْ بِيعَتْ، أَوْ أُعْتِقَتْ فَلْتَسْتَبْرِئْ رَحِمَهَا بِحَيْضَةٍ وَلَا تُسْتَبْرَئُ الْعَذْرَاءُ. رَوَاهُمَا رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3341 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وُهِبَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُعْطِيَتْ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ لِأَحَدٍ (الْوَلِيدَةُ) : أَيِ: الْجَارِيَةُ (الَّتِي تُوطَأُ) : أَيْ بِالْفِعْلِ (أَوْ بِيعَتْ، أَوْ أُعْتِقَتْ) : قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: إِذَا مَاتَ مَوْلَى أُمِّ الْوَلَدِ عَنْهَا أَوْ أَعْتَقَهَا، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، فَإِنْ لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَلَا تَحْتَ زَوْجٍ، وَلَا فِي عِدَّةٍ، فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فِي الْأَوَّلِ، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِلْمَوْلَى لِعَدَمِ ظُهُورِ الْفِرَاشِ مِنَ الْمَوْلَى، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمُحَمَّدٍ، وَقَوْلُهُمْ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَقَوْلُنَا قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَعِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ، وَتَتَزَوَّجُ إِنْ شَاءَتْ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ الْقِيَاسَ إِلَّا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَعِنْدَ غَيْرِنَا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قِيَاسِيَّةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَعِتْقِهِ كُلٌّ مِنْ أَمْرَيْنِ: زَوَالُ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَزَوَالُ الْفِرَاشِ، فَقَاسُوا عَلَى الْأَوَّلِ وَقَالُوا: هَذَا تَرَبُّصٌ يَجِبُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَيُقَدَّرُ بِحَيْضَةٍ كَالِاسْتِبْرَاءِ، وَقُلْنَا تَرَبُّصٌ يَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ، فَيُقَدَّرُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَالتَّرَبُّصِ فِي الطَّلَاقِ، وَهَذَا أَرْجَحُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إِثْبَاتِهَا، فَالْقِيَاسُ الْمُوجِبُ لِلْأَكْثَرِ وَاجِبُ الِاعْتِبَارِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: فَإِمَامُنَا فِيهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدِيثَ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَمَرَ أُمَّ الْوَلَدِ إِذَا أُعْتِقَتْ أَنْ تَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ بِحُسْنِ رَأْيِهِ فَأَمَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْوَفَاةِ كَذَلِكَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ فِي الْعِتْقِ مِنْ شَخْصٍ قَوْلُهُ بِهِ فِي الْوَفَاةِ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ قَبِيصَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةً نَعُدُّهَا: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَبِيصَةُ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ عَمْرٍو فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ ضَائِرٍ إِذَا كَانَ قَبِيصَةُ ثِقَةً، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا: ثَلَاثُ حِيَضٍ إِذَا مَاتَ عَنْهَا - يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ - وَأَخْرَجَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، فَعَلَى هَذَا تُعَارِضُ النَّقْلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَارِثُ ضَعِيفٌ، إِلَّا أَنَّ غَالِبَ نَقْلِ الْمَذَاهِبِ قَلَّ مَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِهِ، وَالْمُتَحَقِّقُ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ السَّلَفِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِ الرَّأْيِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَرْجِيحَ مَا يُوَافِقُ رَأَيْنَا. (فَلْتَسْتَبْرِئْ) : أَيْ: هِيَ (رَحِمَهَا بِحَيْضَةٍ) : أَيْ: أَوْ بِشَهْرٍ (وَلَا تُسْتَبْرَئُ) : بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ، وَبِالْجَزْمِ وَالْكَسْرِ لِلِالْتِقَاءِ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ أَيْ لَا تَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِبْرَاءِ. (الْعَذْرَاءُ) . أَيِ الْبِكْرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: سَبَبُ الِاسْتِبْرَاءِ حُصُولُ الْمِلْكِ، فَمَنْ مَلَكَ جَارِيَةً بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا، سَوَاءٌ كَانَ الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ اشْتِغَالُ الرَّحِمِ بِمَائِهِ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُتَصَوَّرُ كَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَنَحْوِهِمَا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْأَمَةُ صَغِيرَةً أَوْ آيِسَةً أَوْ غَيْرَهُمَا بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، وَسَوَاءٌ اسْتَبْرَأَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ الْبَيْعِ أَمْ لَا. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي الْبِكْرِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَعَنِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الْحَامِلِ وَالْمَوْطُوءَةِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَأَنَا أَمِيلُ إِلَى هَذَا، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِيهِنَّ الصِّغَارَ وَالْأَبْكَارَ وَالْآيِسَاتِ. (رَوَاهُمَا) : أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (رَزِينٌ) .

3345 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدَيْهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا يُكَلِّفْهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3345 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِخْوَانُكُمْ ": أَيْ خَوَلُكُمْ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: هُمْ إِخْوَانُكُمْ. وَالْمَعْنَى هُمْ مَمَالِيكُكُمْ. (جَعَلَهُمُ اللَّهُ) : أَيْ فِتْنَةً كَمَا فِي رِوَايَةٍ (تَحْتَ أَيْدِيكُمْ) ، أَيْ تَصَرُّفِكُمْ وَأَمْرِكُمْ وَحُكْمِكُمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ إِخْوَانُكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَمَالِيكُكُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَاعْتِبَارُ الْأُخُوَّةِ مِنْ جِهَةِ آدَمَ أَيْ أَنَّكُمْ مُتَفَرِّعُونَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ. قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فَيَكُونُ قَوْلُهُ جَعَلَهُمُ اللَّهُ حَالًا لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَجَعَلَهُمُ اللَّهُ خَبَرُهُ، فَعَلَى هَذَا إِخْوَانُكُمْ مُسْتَعَارٌ لِطَيِّ ذِكْرِ الْمُشَبَّهِ، وَفِي تَخْصِيصِ الذِّكْرِ بِالْأُخُوَّةِ إِشْعَارٌ بِعِلَّةِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَنَاسَبَ لِهَذَا أَنْ يُقَالَ: فَلْيُعِنْهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ (فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ) : أَيْ: مِنْ طَعَامِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (وَلْيُلْبِسْهُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (مِمَّا يَلْبَسُ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ مِنْ لِبَاسِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَمْرُ بِإِطْعَامِهِمْ مِمَّا يَأْكُلُ السَّيِّدُ، وَكَذَا إِلْبَاسُهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَيَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةُ السَّيِّدِ وَلِبَاسُهُ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ، حَتَّى لَوْ قَتَّرَ السَّيِّدُ عَلَى نَفْسِهِ تَقْتِيرًا خَارِجًا عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ إِمَّا زُهْدًا وَإِمَّا شُحًّا لَا يَحِلُّ لَهُ التَّقْتِيرُ عَلَى الْمَمْلُوكِ، وَإِلْزَامُهُ بِمُوَافَقَتِهِ إِلَّا بِرِضَاهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمُرَادُ مِنْ جِنْسِ مَا يَأْكُلُونَ وَيَلْبَسُونَ لَا مِثْلُهُ، فَإِذَا أَلْبَسَ مِنَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَهُوَ يَلْبَسُ مِنْهُمَا. الْفَائِقُ: كَفَى بِخِلَافِ إِلْبَاسِهِ نَحْوَ الْخَرَائِقِ وَلَمْ يُتَوَارَثْ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ مِثْلَهُمْ إِلَّا الْأَفْرَادَ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ إِلَّا الشَّعْبِيُّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَى مَا إِذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاكْتِسَابِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى حِينَئِذٍ. (وَلَا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَزَادَ فِيهِ: " «وَمَنْ لَا يُلَائِمُكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُمْ وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ» ".

3346 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ: أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَفَى بِالرَّجُلِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: " «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3346 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) ، بِالْوَاوِ أَيِ ابْنِ الْعَاصِ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ عُمَرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، فَالْوَاوُ: وَحَالَ (جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ أَيْ وَكِيلٌ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْخَازِنُ وَالْوَكِيلُ الْحَافِظُ لِمَا تَحْتَ يَدِهِ وَالْقَائِمُ بِأُمُورِ الرَّجُلِ بِلُغَةِ الْفُرْسِ (فَقَالَ) : أَيْ عَبْدُ اللَّهِ (لَهُ: أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ) : أَيِ الْمَمَالِيكَ (قُوتَهُمْ) ؟ بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ (قَالَ: لَا. قَالَ: فَانْطَلِقْ) : أَيِ اذْهَبْ (فَأَعْطِهِمْ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَفَى بِالرَّجُلِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ ") : أَيْ: يَمْنَعَ (عَمَّنْ يَمْلِكُ) : وَفِي مَعْنَاهُ مَا يَمْلِكُ (قُوتَهُ) : مَفْعُولُ يَحْبِسُ (وَفِي رِوَايَةٍ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا مِنَ التَّضْيِيعِ أَوِ الْإِضَاعَةِ (مَنْ يَقُوتُ) : أَيْ قُوتَ مَنْ يَلْزَمُهُ قُوتُهُ مِنْ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ وَعَبِيدِهِ، مِنْ قَاتَهُ يَقُوتُهُ إِذَا أَعْطَاهُ قُوتَهُ، وَيُقَالُ: أَقَاتَهُ يُقِيتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِمَا لَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِ الْأَهْلِ يَلْتَمِسُ بِهِ الثَّوَابَ ; لِأَنَّهُ يَنْقَلِبُ إِثْمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَضْيِيعُ أَمْرِ مَنْ يَقُوتُهُ وَهُوَ الْبَارِي تَعَالَى الَّذِي يَقُوتُ الْخَلَائِقَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ

مَعْنَاهَا، وَكَذَلِكَ النَّسَائِيُّ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ، وَلَيْسَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي أَحَدِهِمَا، وَإِيرَادُ الْمُصَنِّفِ فِي الصِّحَاحِ يُوهِمُ ذَلِكَ، كَذَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ، فَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ فِي آخِرِهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ اه وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: نَسَبَ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ إِلَى أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بِالْوَاوِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى إِلَى مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو بِالْوَاوِ بِلَفْظِ: " «كَفَى إِثْمًا أَنْ تَحْبِسَ عَمَّنْ تَمْلِكُ قُوتَهُ» ". بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

3347 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا صَنَعَ لِأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ وَقَدْ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3347 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا صَنَعَ ") : أَيْ طَبَخَ لِأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ) : أَيْ عَبْدُهُ أَوْ أَمَتُهُ أَوْ مُطْلَقًا (طَعَامَهُ) : أَيْ طَعَامًا لَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ طَعَامًا (ثُمَّ جَاءَ) : أَيْ جَاءَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (بِهِ) أَيْ بِطَعَامِهِ (وَقَدْ وَلِيَ بِكَسْرِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ تَوَلَّى أَوْ قَرُبَ (حَرَّهُ) : أَيْ نَارَهُ أَوْ تَعَبَهُ (وَدُخَانَهُ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ أَوِ الْأَوَّلُ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْجَوَارِحِ وَالثَّانِي بِبَعْضٍ آخَرَ (فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِقْعَادِ لِلِاسْتِحْبَابِ (فَلْيَأْكُلْ) : أَيْ مَعَهُ، وَلَا يَسْتَنْكِفْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْجَبَابِرَةِ فَإِنَّهُ أَخُوهُ، وَأَيْضًا أَفْضَلُ الطَّعَامِ مَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ الْأَيْدِي عَلَى مَا وَرَدَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهُ: وَلِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْوِلَايَةِ أَيْ تَوَلَّى ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ وَالدُّنُوُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَاسَى كُلْفَةَ اتِّخَاذِهِ وَحَمَلَهَا عَنْكَ فَيَنْبَغِي أَنْ تُشَارِكَهُ فِي الْحَظِّ مِنْهُ، (فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا) : أَيْ كَثِيرًا آكِلُوهُ فَقَوْلُهُ (قَلِيلًا) : حَالٌ، وَقِيلَ: الْمَشْفُوْهُ الْقَلِيلُ، مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ مَشْفُوهٌ إِذَا كَثُرَ سُؤَالُ النَّاسِ إِيَّاهُ حَتَّى نَفَذَ مَا عِنْدَهُ، وَمَاءٌ مَشْفُوهٌ إِذَا كَثُرَ نَازِلُوهُ فَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الشَّفَهِ فَقَلِيلًا بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ تَفْسِيرٌ لَهُ، كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا. وَفِي الْفَائِقِ: الْمَشْفُوهُ الْقَلِيلُ، وَأَصْلُ الْمَاءِ الَّذِي كَثُرَتْ عَلَيْهِ الشِّفَاهُ حَتَّى قَلَّ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ مَكْثُورًا عَلَيْهِ أَيْ كَثُرَتْ أَكَلَتُهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَسِّرُ الْمَشْفُوهَ بِالْقَلِيلِ فَقَلِيلًا بَدَلٌ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لَهُ (فَلْيَضَعْ) : أَيِ الْمَخْدُومُ (فِي يَدِهِ) : أَيْ فِي يَدِ الْخَادِمِ (مِنْهُ) أَيْ مِنَ الطَّعَامِ (أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، وَسَبَبُهُ أَنْ لَا يَصِيرَ مَحْرُومًا فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَالْأُكْلَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَا يُؤْكَلُ دُفْعَةً وَهُوَ اللُّقْمَةُ، فِي الْقَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ: وَالْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ اللُّقْمَةُ الْمَأْكُولَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ مِنَ الْأَكْلِ، وَفِي الْفَائِقِ: الْأَكْلَةُ بِالْفَتْحِ اللُّقْمَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأُكْلَةُ فِيهِمَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ صَنَعَهُ أَوْ حَمَلَهُ ; لِأَنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَشَمَّ رَائِحَتَهُ وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: ( «إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ قَدْ كَفَاهُ عِلَاجَهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

3348 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3348 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ "، أَيْ أَخْلَصَ الْخِدْمَةَ أَوْ طَلَبَ الْخَيْرَ لَهُ مِنَ النَّصِيحَةِ وَهِيَ طَلَبُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُقَالُ: نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَاللَّامُ مَزِيدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَنَصِيحَةُ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَالْقِيَامُ عَلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ سَيِّدِهِ (وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: " وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ ") أَيْ طَاعَتَهُ الشَّامِلَةَ لِلْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَالتَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ إِمَّا لِلتَّرَقِّي وَإِمَّا لِلِاهْتِمَامِ بِحَقِّ الْمَخْلُوقِ لِاحْتِيَاجِهِ بِخِلَافِ الْخَالِقِ لِاسْتِغْنَائِهِ (فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ) . وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ أَيْ مُضَاعَفٌ، فَإِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْقِيَامِ بِالطَّاعَتَيْنِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ طَاعَةُ مَالِكِهِ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْحُرِّ فَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ يُفَضَّلُ عَلَى الْحُرِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْدُ الْحُفَّاظِ الْأَحَادِيثَ فِيمَنْ يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ.

3349 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نِعِمَّا لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ بِحُسْنِ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَةِ سَيِّدِهِ نِعِمَّا لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3349 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نِعِمَّا ") : بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ اخْتِلَاسُ عَيْنِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ النُّونِ، وَقُرِئَ بِالثَّلَاثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ إِحْدَاهَا: كَسْرُ النُّونِ مَعَ إِسْكَانِ الْعَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ كَسْرُهَا، وَالثَّالِثَةُ فَتْحُ النُّونِ مَعَ كَسْرِ الْعَيْنِ اهـ. وَقَوْلُهُ إِسْكَانُ الْعَيْنِ فِيهِ مُسَامَحَةٌ ; لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الِاخْتِلَاسُ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِخْفَاءِ إِذْ يَتَعَسَّرُ بَلْ يَتَعَذَّرُ الْإِسْكَانُ مَعَ تَشْدِيدِ الْمِيمِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَمَا فِي نِعِمَّا نَكِرَةٌ غَيْرُ مَوْصُولَةٍ وَلَا مَوْصُوفَةٍ. بِمَعْنَى شَيْءٍ أَيْ نِعْمَ شَيْئًا (لِلْمَمْلُوكِ) : وَقَوْلُهُ (أَنْ يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ) : مَخْصُوصٌ بِالْمَدْحِ وَالتَّقْدِيرُ تَوْفِيَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ (بِحُسْنِ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَةِ سَيِّدِهِ) ، وَالْمَعْنَى: نِعْمَ شَيْئًا لَهُ وَفَاتُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ فِي طَاعَةِ سَيِّدِهِ (نِعِمَّا لَهُ) . كَرَّرَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْسِينِ أَمْرِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: نِعِمَّا لَهُ فَنِعِمَّا لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ الدُّنْيَا، وَالْآخَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُخْرَى. وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأَغْنِيَاءِ أَعْتَقَ عَبْدًا صَالِحًا لَهُ فَقَالَ لَهُ: بِئْسَ مَا فَعَلْتَ نَقَصْتَ أَجْرِي مِنْ عِنْدِ رَبِّي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3350 - وَعَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ فَقَدْ بَرِئَتْ فِيهِ الذِّمَّةُ ".» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3350 - (وَعَنْ جَرِيرٍ) : أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ ") : أَيْ هَرَبَ مِنْ مَالِكِهِ (لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ) . أَيْ كَامِلَةٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا تَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ مَقْبُولَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي الشَّرْعِ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ عَنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (قَالَ: " «أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ قَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» ) . أَيْ ذِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَعَهْدُهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ لَا يَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ حَالَةَ الْإِبَاقِ أَرْشُ جِنَايَتِهِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِذَا أَبَقَ إِلَى دِيَارِ الْكُفَّارِ وَارْتَدَّ فَقَدْ بَرِئَ مِنْهُ عَهْدُ الْإِسْلَامِ وَيَجُوزُ قَتْلُهُ، وَإِنْ أَبِقَ إِلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَا عَلَى نِيَّةِ الِارْتِدَادِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، بَلْ هُوَ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي جَوَازِ ضَرْبِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: " «أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ» ) : أَيْ قَارَبَ الْكُفْرَ، أَوْ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، أَوْ عَمِلَ عَمَلَ الْكَافِرِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّجْرُ. وَقَالَ الْمُظْهِرَ: أَيْ سَتَرَ نِعْمَةَ السَّيِّدِ عَلَيْهِ (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِكُلٍّ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ: أَيُّ مُبْتَدَأٌ وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: أَيُّ عَبْدٍ، وَأَبَقَ: خَبَرُهُ ; لِأَنَّ الشَّرْطِيَّةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً لَا صِفَةَ عَبْدٍ ; لِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ لَا يُوصَفُ، وَفِيهِ بَحْثٌ، وَلِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَبْقَى بِلَا خَبَرٍ وَمَا بَعْدَهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَأَبَقَ مَاضٍ لَفْظًا، وَمُسْتَقْبَلٌ مَجْزُومٌ مَعْنًى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3351 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3351 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ) : أَيْ بِالزِّنَا (وَهُوَ) : أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ مَمْلُوكَهُ (بَرِيءٌ) : أَيْ: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (مِمَّا قَالَ) . سَيِّدُهُ فِي حَقِّهِ (جُلِدَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ ضُرِبَ بِالْجِلْدِ عَلَى جِلْدِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ حَدًّا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، يَعْنِي عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَقْتَ فَضِيحَةِ الْعِبَادِ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) : أَيِ الْعَبْدُ (كَمَا قَالَ) : أَيْ كَمَا قَالَهُ السَّيِّدُ فِي الْوَاقِعِ وَلَمْ يَكُنْ بَرِيئًا، فَإِنَّهُ لَا يُجْلَدُ لِكَوْنِهِ صَادِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِثْنَاءُ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ بَرِيءٌ يَأْبَاهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُئَوَّلَ قَوْلُهُ وَهُوَ بَرِيءٌ أَيْ يَعْتَقِدُ أَوْ يَظُنُّ بَرَاءَتَهُ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ كَمَا قَالَ فِي قَذْفِهِ لَا مَا اعْتَقَدَهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يُجْلَدُ لِكَوْنِهِ صَادِقًا فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّ مَرْجِعَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ لَا اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَلْدُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ قَاذِفُهُ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ سَوَاءٌ فِيهِ مَنْ هُوَ كَامِلُ الرِّقِّ أَوْ فِي شَائِبَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: " أَيُّمَا عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ قَالَ أَوْ قَالَتْ لِوَلِيدَتِهَا: يَا زَانِيَةُ وَلَمْ تَطَّلِعْ مِنْهَا عَلَى زِنًا جَلَدَتْهَا وَلِيدَتُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُنَّ فِي الدُّنْيَا ".

3352 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ، أَوْ لَطَمَهُ، فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3352 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا) : أَيْ مَمْلُوكًا (لَهُ حَدًّا) : أَيْ ضَرْبَ حَدٍّ فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ لِلْحَدِّ فَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا (لَمْ يَأْتِهِ) ، أَيْ لَمْ يَأْتِ مُوجِبَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ لَمْ يَأْتِهِ صِفَةُ " حَدًّا "، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ أَيْ لَمْ يَأْتِ مُوجِبَهُ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَهُوَ تَقْيِيدٌ لِمَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي لِأَبِي مَسْعُودٍ. (أَوْ لَطَمَهُ) ، وَعَطَفَ عَلَى مَجْمُوعِ ضَرَبَ غُلَامَهُ حَدًّا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَا ضَرَبَهُ تَأْدِيبًا. (فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ) : أَيْ مُكَفِّرَ فِعْلِهِ وَمُسْقِطَ إِثْمِهِ (أَنْ يُعْتِقَهُ. أَيْ لِيُقَاوِمَ فَرَحَهُ بِحُزْنِهِ وَرَضًى بِهِ عَنْهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَمَّارٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ ضَرَبَ مَمْلُوكَهُ ظُلْمًا أُقِيدَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ".

3353 - «وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: " اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ ". فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَقَالَ: " أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ - أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ -» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3353 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا) : أَيْ كَلَامًا لِقَائِلٍ يَقُولُ: (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ) : أَيْ يَا أَبَا مَسْعُودٍ (لَلَّهُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ (أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ) أَيْ أَتَمُّ وَأَبْلَغُ مِنْ قُدْرَتِكَ عَلَى عَبْدِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُلِّقَ عَمَلُ اعْلَمْ بِاللَّامِ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَلَلَّهُ مُبْتَدَأٌ وَأَقْدَرُ خَبَرُهُ وَعَلَيْكَ صِلَةُ أَقْدَرَ، وَمِنْكَ مُتَعَلِّقُ أَفْعَلَ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ أَقْدَرُ ; لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ، وَلَا بِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ مِنْكَ أَيْ مِنْ قُدْرَتِكَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُظْهِرُ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَاهُ، بَلْ هُوَ حَالٌ مِنَ الْكَافِ أَيْ أَقْدَرُ مِنْكَ حَالَ كَوْنِكَ قَادِرًا عَلَيْهِ (فَالْتَفَتُّ) : أَيْ نَظَرْتُ (إِلَى خَلْفِي فَإِذَا هُوَ) : أَيْ مِنْ خَلْفِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ مِنْ خَلْفِي (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ) : أَيْ بِبَرَكَةِ نَظَرِهِ الْإِكْسِيرِ وَنُصْحِهِ الْأَثِيرِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ) . أَيْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ (فَقَالَ: " أَمَا ") : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (لَوْ لَمْ تَفْعَلْ) : أَيْ لَوْ مَا فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ مِنَ الْإِعْتَاقِ (لَلَفَحَتْكَ النَّارُ) : أَيْ أَحْرَقَتْكَ (أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ) : أَيْ أَصَابَتْكَ إِنْ ضَرَبْتَهُ ظُلْمًا وَلَمْ يَعْفُ عَنْكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الرِّفْقِ بِالْمَمَالِيكِ وَحُسْنِ صُحْبَتِهِمْ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُ هَذَا لَيْسَ وَاجِبًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْدُوبٌ وَجَاءَ كَفَّارَةَ ذَنْبِهِ فِيهِ، وَإِزَالَةَ إِثْمِ ظُلْمِهِ عَنْهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3354 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ لِي مَالًا، وَإِنَّ وَالِدِي يَحْتَاجُ إِلَى مَالِي. قَالَ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ، إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، كُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3354 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) ، أَيْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الطِّيبِيُّ (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ لِي مَالًا، وَإِنَّ وَالِدِي يَحْتَاجُ إِلَى مَالِي. قَالَ: " أَنْتَ وَمَالُكَ ") : بِضَمِّ اللَّامِ (لِوَالِدِكَ) ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ سَمُرَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ (إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ) : أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الطَّيِّبِ وَهُوَ الْحَلَالُ يَعْنِي: أَوْلَادُكُمْ مِنْ أَحَلِّ أَكْسَابِكُمْ وَأَفْضَلِهَا، فَمَا كَسَبَتْ أَوْلَادُكُمْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَكُمْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْوَلَدُ أَطْيَبَ كَسْبٍ وَأَحَلَّهُ ; لِأَنَّهُ أَصْلُهُ. قَالَهُ الْقَاضِي أَيْ مِنْ أَطْيَبِ مَا وُجِدَ بِسَبَبِكُمْ وَبِتَوَسُّطِ سَعْيِكُمْ، أَوْ إِكْسَابُ أَوْلَادِكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ فَحَذْفُ الْمُضَافِ (" كُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادُكُمْ ") . فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ أَوْ أَلَمَّ بِأَمَتِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: " إِنَّ

أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ ". خِطَابٌ عَامٌّ وَتَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ ". وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ كَسْبًا لِلْوَالِدِ. بِمَعْنَى أَنَّهُ طَلَبَهُ وَسَعَى فِي تَحْصِيلِهِ ; لِأَنَّ الْكَسْبَ مَعْنَاهُ الطَّلَبُ وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِ الرِّزْقِ وَالْمَعِيشَةِ، وَالْمَالُ تَبَعٌ لَهُ، كَانَ الْوَلَدُ نَفْسَ الْكَسْبِ مُبَالَغَةً، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ التَّنْزِيلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] سَمَّاهُ مَوْلُودًا لَهُ إِيذَانًا بِأَنَّ الْوَالِدَاتِ إِنَّمَا وَلَدَتْ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِمْ، وَأُنْشِدَ لِلْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ: فَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ فَإِنْ قُلْتَ: الِانْتِقَالُ مِنْ قَوْلِهِ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ " إِلَى قَوْلِهِ: " إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ ". هَلْ يُسَمَّى الْتِفَاتًا؟ قُلْتُ: لَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ انْتِقَالًا مِنْ إِحْدَى الصِّيَغِ الثَّلَاثِ إِلَى الْأُخْرَى) أَعْنِي: الْحِكَايَةَ وَالْخِطَابَ وَالْغَيْبَةَ لِمَفْهُومٍ وَاحِدٍ، بَلْ هُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْخَاصِّ إِلَى الْعَامِّ فَيَكُونُ تَلْوِينًا لِلْخِطَابِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» ". وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ مِلْكًا نَاجِزًا فِي مَالِهِ. قُلْنَا: نَعَمْ لَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهَا مَرْفُوعًا ( «إِنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةٌ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا» ) : وَمِمَّا يَقْطَعُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مُئَوَّلٌ أَنَّهُ تَعَالَى وَرَّثَ الْأَبَ مِنِ ابْنِهِ السُّدُسَ مَعَ وَلَدِ وَلَدِهِ، فَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مِلْكَهُ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ مَعَ وُجُودِهِ. قَالَ: وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَاجِبَةٌ يُجْبَرُ عَلَيْهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: عَلَى كُلِّ وَارِثٍ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ لَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ، وَجْهُهُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] لِنَفْيِ الْمُضَارَّةِ لَا لِإِيجَابِ النَّفَقَةِ، فَلَا يَبْقَى دَلِيلًا عَلَى إِيجَابِ النَّفَقَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ لِعَدَمِ دَلِيلِهَا الشَّرْعِيِّ. قُلْنَا: نَفْيُهَا لَا يُخْتَصُّ بِالْوَارِثِ، ثُمَّ دَلِيلًا هُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنَ الْإِشَارَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْكَافِ فَإِنَّهَا بِحَسَبِ الْوَضْعِ لِلْبَعِيدِ دُونَ الْقَرِيبِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَهَا بِالْوَارِثِ، فَقَيْدُ الْمَحْرَمِيَّةِ زِيَادَةٌ. قُلْنَا: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ ". فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ. بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْقَاطِعِ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ أُجِيبَ: بِادِّعَاءِ شُهْرَتِهَا. وَاسْتُدِلَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِمَا فِي النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ طَارِقٍ قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: " يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا "، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ وَأَدْنَاكَ» . وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةِ الْقُشَيْرِيِّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أُمَّكَ ". قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ( «فَإِنْ فَضَلَ مِنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذَوِي قَرَابَتِكَ» ) . فَهَذِهِ تُفِيدُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِلَا تَقْيِيدٍ بِالْإِرْثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْبَاقِيَ لَا يُفِيدُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ جَوَابُ قَوْلِ السَّائِلِ: مَنْ أَبَرُّ؟ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ سُؤَالًا عَنِ الْبِرِّ الْمَفْرُوضِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ سُؤَالًا عَنِ الْأَفْضَلِ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ أَلْزَمَهُمْ أَنَّ الْوَارِثَ أُرِيدَ بِهِ الْقَرِيبُ عُبِّرَ بِهِ خُصُوصًا عَلَى رَأْيِكُمْ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَرِيبٍ وَارِثٌ لِتَوْرِيثِكُمْ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ قَوْلِكُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ فِي الْجُمْلَةِ. قَالُوا: إِذَا كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ أَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى خَالِهِ وَمِيرَاثَهُ لِابْنِ عَمِّهِ.

3355 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي فَقِيرٌ لَيْسَ لِي شَيْءٌ، وَلِي يَتِيمٌ، فَقَالَ: " كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُبَادِرٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3355 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي فَقِيرٌ لَيْسَ لِي شَيْءٌ) : أَيْ شَيْءٌ أَسْتَغْنِي بِهِ إِذِ الْفَقْرُ عِنْدَنَا مَنْ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا أَوْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مُطْلَقًا، فَالْمُرَادُ بِالْفَقْرِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الِاصْطِلَاحِيُّ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الطِّيِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: لَيْسَ لِي شَيْءٌ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِفَقِيرٍ عَلَى تَفْسِيرِ الشَّافِعِيِّ لِلْفَقِيرِ، وَمُمَيِّزَةٌ عَلَى تَفْسِيرِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ، (وَلِي يَتِيمٌ (: أَرَادَ أَنَّهُ قَيِّمٌ لَهُ، وَلِذَا أَضَافَ الْيَتِيمَ إِلَى نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ. (فَقَالَ: " «كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ» ") : أَيْ غَيْرَ مُفَرِّطٍ وَمُتَصَرِّفٍ فَوْقَ الْحَاجَةِ (وَلَا مُبَادِرٍ) : بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ أَيْ: مُسْتَعْجِلٍ فِي الْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ حُضُورِ الْحَاجَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ مُبَادِرٍ بُلُوغَهُ وَكِبَرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ لَا يُسْرِفُ فِي الْأَكْلِ فَيَأْكُلَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا يُبَذِّرُ فَيَتَّخِذَ مِنْهُ أَطْعِمَةً لَا تَلِيقُ بِالْفُقَرَاءِ، وَيُعَدُّ ذَلِكَ تَبْذِيرًا مِنْهُمْ، وَرُوِيَ: وَلَا مُبَادِرٍ بِالدَّالِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْجَالٍ وَمُبَادَرَةٍ إِلَى أَخْذِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَيْهِ مَخَافَةَ أَنْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ فَيَنْزِعَ مَالَهُ مِنْ يَدِهِ (وَلَا مُتَأَثِّلَ) : بِتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: غَيْرَ جَامِعٍ مَالًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، مِثْلَ: أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ مَالِهِ رَأْسَ مَالٍ فَيَتَّجِرَ فِيهِ اهـ. وَهُوَ صَرِيحٌ أَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ فِي الْمَصَابِيحِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فِي قَوْلِهِ مُبَادِرٍ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِمَا فِي التَّنْزِيلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا} [النساء: 6] فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ الْمُوَافَقَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَا مُتَأَثِّلٍ لَيْسَ فِي التَّنْزِيلِ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: وَلَا مُبَادِرٍ أَيْ يُبَادِرُ فِي تَصَرُّفِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَيَجْعَلُهُ رَأْسَ مَالٍ لِيَرْبَحَ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَبْلُغَ فَيَنْزِعَ مَالَهُ مِنْ يَدِهِ، فَإِذَا بَلَغَ أَعْطَاهُ رَأْسَ مَالِهِ وَأَخَذَ الرِّبْحَ لِنَفْسِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3356 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ: الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3356 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ: " الصَّلَاةَ ") بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيِ الْزَمُوا الصَّلَاةَ أَوْ أَقِيمُوا أَوِ احْفَظُوا الصَّلَاةَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى حُقُوقِهَا (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) : بِحُسْنِ الْمَلَكَةِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ حُقُوقَ الزَّكَاةِ وَإِخْرَاجَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَمْلِكُهَا الْأَيْدِي كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَإِنْكَارِهِمْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَامْتِنَاعِهِمْ عَنْ أَدَائِهَا إِلَى الْقَائِمِ بَعْدَهُ فَقَطَعَ حُجَّتَهُمْ بِأَنْ جَعَلَ آخِرَ كَلَامِهِ الْوَصِيَّةَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَرَنَهُمَا، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا قَرَنَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالصَّلَاةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْأَرِقَّاءِ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا سَعَةَ فِي تَرْكِ حُقُوقِهِمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعَلِّمُوهُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ كَمَا لَا سَعَةَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ لِلْجَزَرِيِّ، زَادَ فِي النِّهَايَةِ: فَعَقَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا الْمَعْنَى أَيِ الْمَعْنَى الثَّانِي، وَقَالَ: لِأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَإِنَّمَا قَالَ أَرَادَ بِهِ الزَّكَاةَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ إِذَا ذُكِرَ فِيهِمَا الصَّلَاةُ فَالْغَالِبُ أَنَّ تُذْكَرَ الزَّكَاةُ. قَالَ

الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي حَذْفِ الْفِعْلِ وَهُوَ إِمَّا احْفَظُوا أَيِ احْفَظُوهَا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِحُسْنِ الْمِلْكِيَّةِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْكُسْوَةِ وَالطَّعَامِ، أَوِ احْذَرُوا أَيِ احْذَرُوا تَضْيِيعَهَا، وَخَافُوا مَا رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأَمْرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ الْمَمَالِيكَ، وَإِنَّمَا قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْقِيَامَ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِمْ مِنَ الْكُسْوَةِ وَالطَّعَامِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ مَلَكَهُمْ وُجُوبَ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا سَعَةَ فِي تَرْكِهَا، وَقَدْ ضَمَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَهَائِمَ الْمُسْتَمْلَكَةَ فِي هَذَا الْحُكْمِ إِلَى الْمَمَالِيكِ وَإِضَافَةُ الْمِلْكِ إِلَى الْيَمِينِ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الْيَدِ، وَالْأَكْسَابُ وَالْأَمْلَاكُ تُضَافُ إِلَى الْأَيْدِي لِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِيهَا وَتَمَكُّنِهِ مِنْ تَحْصِيلِهَا بِالْيَدِ، وَإِضَافَتُهَا فِي الْيَمِينِ أَبْلَغُ وَأَنْفَذُ مِنْ إِضَافَتِهَا إِلَى الْيَدِ لِكَوْنِ الْيَمِينِ أَبْلَغَ فِي الْقُوَّةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَأَوْلَى بِتَنَاوُلِ مَا كَرُمَ وَطَابَ، وَأَرَى فِيهَا وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَمَالِيكَ خُصُّوا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَيْمَانِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِ الْإِنْسَانِ وَكَرَامَتِهِ، وَتَبْيِينًا لِفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمِلْكِ، وَتَمْيِيزًا لَهُ بِلَفْظِ الْيَمِينِ عَنْ جَمِيعِ مَا احْتَوَتْهُ الْأَيْدِي وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَمْلَاكُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ضِيقُ الْمَكَانِ مِنْ تَوْصِيَتِهِ أُمَّتَهُ فِي آخِرِ عَهْدِهِ أَنْ يُقَدَّرَ احْذَرُوا كَقَوْلِهِمْ: أَهْلَكَ وَاللَّيْلَ وَرَأْسَكَ وَالسَّيْفَ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَنَابَ بِالصَّلَاةِ عَنْ جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، إِذِ الصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَبِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ عَنْ جَمِيعِ مَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ مِلْكًا وَقَهْرًا، وَلِهَذَا خُصَّ الْيَمِينُ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَكُنَّا الْأَيْمَنِينَ إِذَا الْتَقَيْنَا ... وَكَانَ الْأَيْسَرِينَ بَنُو أَبِينَا فَنَبَّهَ بِالصَّلَاةِ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ اللَّهِ، وَبِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ مَا عَامٌّ فِي ذَوِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا خُصَّ بِذَوِي الْعِلْمِ يُرَادُ بِهِ الصِّفَةُ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ التَّعْظِيمَ وَالتَّحْقِيرَ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَمَالِيكِ يَقْتَضِي تَحْقِيرَ شَأْنِهِمْ، وَكَوْنَهُمْ مُسَخَّرِينَ لِمَوَالِيهِمْ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِعُمُومِهِ، فَيَدْخُلُ الْمَمَالِيكُ فِيهِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْقَاضِي عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ; لِأَنَّ الْإِجْبَارَ نَوْعُ قَضَاءٍ، وَالْقَضَاءُ يَعْتَمِدُ الْمَقْضِيَّ لَهُ، وَيَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْمَقْضِيِّ لَهُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ، وَيُؤْمَرُ بِهِ دِيَانَةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ آثِمًا مُعَاقَبًا بِحَبْسِهَا عَنِ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ، وَفِي الْحَدِيثِ: " «امْرَأَةٌ دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ لَا هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ وَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا» ". وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُنَا: خُصُومَةُ الذِّمِّيِّ وَالدَّابَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْمُسْلِمِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ، يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ» ، وَنَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: كَانَ يَنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ» . (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .

3357 - وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3357 - (وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ". مَرَّتَيْنِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَنَسٍ. وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

3358 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْمَلَكَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3358 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ: أَيِ ابْتِدَاءً مَعَ النَّاجِينَ (سَيِّئُ الْمَلَكَةِ) : أَيْ سَيِّئُ الصَّنِيعِ إِلَى مَمَالِيكِهِ وَالْمَلَكَةُ مُحَرَّكَةٌ الْمَمْلَكَةُ. فِي النِّهَايَةِ: أَيِ الَّذِي يُسِيءُ صُحْبَةَ الْمَمَالِيكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعْنِي: سُوءُ الْمَلَكَةِ يَدُلُّ عَلَى سُوءِ الْخُلُقِ، وَهُوَ مَشْئُومٌ وَهُوَ يُورِثُ الْخِذْلَانَ وَدُخُولَ النَّارِ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: سُوءُ الْخُلُقِ بِحُسْنِ الْمَلَكَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3359 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حُسْنُ الْمَلَكَةِ يُمْنٌ، وَسُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَلَمْ أَرَ فِي غَيْرِ الْمَصَابِيحِ مَا زَادَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالصَّدَقَةُ تَمْنَعُ السُّوءَ، وَالْبِرُّ زِيَادَةٌ فِي الْعُمُرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3359 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، كَذَا ضَبَطَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَقَالَ: جُهَنِيٌّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ: هِلَالٌ وَالْحَارِثُ. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حُسْنُ الْمَلَكَةِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ حُسْنُ الصَّنِيعِ إِلَيْهِمْ (يُمْنٌ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، يَعْنِي: إِذَا أَحْسَنَ الصَّنِيعَ بِالْمَمَالِيكِ يُحْسِنُونَ خِدْمَتَهُ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، كَمَا أَنَّ سُوءَ الْمَلَكَةِ يُؤَدِّي إِلَى الشُّؤْمِ وَالْهَلَكَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " وَسُوءُ الْخُلُقِ ": بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِي أَيِ الَّذِي يَنْشَأُ مِنْهُ (شُومٌ) : سُوءُ الْمَلَكَةِ بِضَمٍّ فَسُكُونِ وَاوٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ هَمْزٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: الشُّؤْمُ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ ضِدُّ الْيُمْنِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الشُّؤْمُ ضِدُّ الْيُمْنِ، وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ فَخُفِّفَ وَاوًا وَغَلَبَ عَلَيْهَا التَّخْفِيفُ حَتَّى لَمْ يُنْطَقْ بِهَا مَهْمُوزَةً قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ حُسْنُ الْمَلَكَةِ يُوجِبُ الْيُمْنَ إِذِ الْغَالِبُ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوُا السَّيِّدَ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ كَانُوا أَشْفَقَ عَلَيْهِ وَأَطْوَعَ لَهُ وَأَسْعَى فِي حَقِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يُورِثُ الْبُغْضَ وَالنُّفْرَةَ وَيُثِيرُ اللَّجَاجَ وَالْعِنَادَ وَقَصْدَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا. كِلَاهُمَا عَنْ بَعْضِ بَنِي رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ وَلَمْ يُسَمَّ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَكِيثٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ: (وَلَمْ أَرَ فِي غَيْرِ " الْمَصَابِيحِ ": مَا) : مَفْعُولُ لَمْ أَرَ أَيِ الَّذِي (زَادَ) : أَيِ الْمَصَابِيحَ، وَالْمُرَادُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ (فِيهِ) : أَيْ فِي الْمَصَابِيحِ (مِنْ قَوْلِهِ) : بَيَانٌ لِمَا زَادَ أَيْ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَالصَّدَقَةُ تَمْنَعُ مِيتَةَ السُّوءِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْمَوْتِ أَيِ: الصَّدَقَةُ تَمْنَعُ مَوْتَ الْفَجْأَةِ فَإِنَّهُ مَوْتٌ سَيِّئٌ لِإِتْيَانِهِ بَغْتَةً لَا يَقْدِرُ الْمَرْءُ فِيهِ عَلَى التَّوْبَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" وَالْبِرُّ ") : أَيِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، أَوْ طَاعَةُ الْخَالِقِ (زِيَادَةٌ فِي الْعُمُرِ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مَحْسُوسَةً بِأَنْ عَلَّقَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عُمُرَ فُلَانٍ كَذَا سَنَةً، وَلَوْ أَحْسَنَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى خَلْقِهِ زِيدَ عَلَيْهِ كَذَا سَنَةً، كَمَا أَنَّهُ قَدَّرَ إِذَا مَرِضَ وَدُوِيَ يَشْفَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مَعْنَوِيَّةً بِحُصُولِ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ فِي الْعُمُرِ، أَوِ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ زِيَادَةُ عُمُرٍ حُكْمًا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11] قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمِيتَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ مِنْ مَوْتِهِ كَالْجِلْسَةِ وَالرِّكْيَةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ مَاتَ مِيتَةً حَسَنَةً أَوْ مِيتَةً سَيِّئَةً، وَقَوْلُهُ: الْبِرُّ زِيَادَةٌ فِي الْعُمُرِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالزِّيَادَةِ الْبَرَكَةَ فِيهِ، فَإِنَّ الَّذِي بُورِكَ فِي عُمُرِهِ يَتَدَارَكُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا لَا يَتَدَارَكُهُ غَيْرُهُ فِي السَّنَةِ مِنْ سِنِي عُمُرِهِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مَا عَلِمَ مِنْهُ مِنَ الْبِرِّ سَبَبًا لِلزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ، وَسَمَّاهُ زِيَادَةً بِاعْتِبَارِ طُولِهِ، وَذَلِكَ كَمَا جَعَلَ التَّدَاوِيَ سَبَبًا لِلسَّلَامَةِ، وَالطَّاعَةَ سَبَبًا لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ مُقَدَّرًا كَالْعُمُرِ، قَالَ مِيرَكُ: يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِتَمَامِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ اهـ. فَاعْتِرَاضُ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، فَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " حُسْنُ الْمَلَكَةِ يُمْنٌ، وَسُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: «حُسْنُ الْمَلَكَةِ نَمَاءٌ وَسُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ، وَالْبِرُّ زِيَادَةٌ فِي الْعُمُرِ، وَالصَّدَقَةُ تَمْنَعُ مِيتَةَ السُّوءِ» ". وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ، وَلَفْظُهُ: " «حُسْنُ الْمَلَكَةِ يُمْنٌ، وَسُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ، وَطَاعَةُ الْمَرْأَةِ نَدَامَةٌ، وَالصَّدَقَةُ تَدْفَعُ الْقَضَاءَ السُّوءَ» ".

3360 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ، فَارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، لَكِنْ عِنْدَهُ: " فَلْيُمْسِكْ " بَدَلَ: " فَارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3360 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : أَيِ الْخُدْرِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ) : أَيْ مَثَلًا (فَذَكَرَ اللَّهَ) : عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِ، وَجَوَابُهُ قَوْلُهُ (فَارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ) : أَيِ امْنَعُوهَا عَنْ ضَرْبِهِ تَعْظِيمًا لِذِكْرِهِ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا إِذَا كَانَ الضَّرْبُ لِتَأْدِيبِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ حَدًّا فَلَا، وَكَذَا إِذَا اسْتَغَاثَ مَكْرًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ لَكِنْ عِنْدَهُ) : أَيْ لَكِنْ لَفْظُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: (فَلْيُمْسِكْ) : أَيْ يَدَهُ عَنِ الضَّرْبِ (بَدَلٌ، فَارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ) : وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ ". وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَفِيهِ خَطَرٌ لِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ.

3361 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3361 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ: أَيِ الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ فَرَّقَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ قَطَعَ وَفَصَلَ (بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا) أَيْ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ خُدْعَةٍ بِقَطِيعَةٍ وَأَمْثَالِهَا. وَفِي مَعْنَى الْوَالِدَةِ الْوَالِدُ، بَلْ وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَرَادَ بِهِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا بِالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْجَدَّةِ وَحُكْمُ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الْبَيْعَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَعَلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا كُرِهَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ السَّبَايَا فِي الْبَيْعِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَلَا بَأْسَ، وَرَخَّصَ أَكْثَرُهُمْ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ: أَيِ الْآتِي، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكِبَرِ الْمُبِيحِ لِلتَّفْرِيقِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يَبْلُغَ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِيًا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: حَتَّى يُثْغِرَ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَبِرَ وَاحْتَلَمَ. وَجَوَّزَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ الصَّغِيرَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا لَا يَجُوزُ (فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ) : أَيْ مِنْ أَوْلَادِهِ وَوَالِدَيْهِ وَغَيْرِهِمَا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ فِي مَوْقِفٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَحْبَابُ، وَيُشَفِّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَ رَبِّ الْأَرْبَابِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 - 36] قَالَ الْأَشْرَفُ: لَمْ يُفَرِّقِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا بِلَفْظَةِ بَيْنَ وَفَرَّقَ فِي جُزْأَيْهِ حَيْثُ كَرَّرَ بَيْنَ فِي الثَّانِي لِيَدُلَّ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ بِالْبَيْنِ فَكَيْفَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ذَوَاتِهِمَا؟ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي دُرَّةِ الْغَوَّاصِ: وَمِنْ أَوْهَامِ الْخَوَاصِّ أَنْ يُدْخِلُوا بَيْنَ الْمُظْهَرَيْنِ وَهُوَ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا اعْتَادُوا بَيْنَ الْمُضْمَرِ وَالْمُظْهَرِ قِيَاسًا عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] ; لِأَنَّ الْمُضْمَرَ الْمُتَّصِلَ كَاسْمِهِ، فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى جُزْءِ الْكَلِمَةِ بِخِلَافِ الْمُظْهَرِ لِاسْتِقْلَالِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، (مَنْ فَرَّقَ فَلَيْسَ مِنَّا) .

3362 - «وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَهَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتُ أَحَدَهُمَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَلِيُّ مَا فَعَلَ غُلَامُكَ فَأَخْبَرْتُهُ ". فَقَالَ (رُدُّهُ رُدُّهُ) » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3362 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَهَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتُ أَحَدَهُمَا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا عَلِيُّ مَا فَعَلَ) : بِالْفَتْحِ أَيْ صَنَعَ (غُلَامُكَ) : أَيِ الْغَائِبُ (فَأَخْبَرْتُهُ) : أَعْلَمْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيْعِهِ (فَقَالَ: (رُدُّهُ) : أَيِ الْبَيْعَ (رُدُّهُ) : تَكْرِيرُ تَأْكِيدٍ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ. قَالَ فِي الْكَافِي: وَفِي رِوَايَةٍ: (أَدْرِكْ أَدْرِكْ) وَاعْلَمْ أَنَّهُ كُرِهَ تَفْرِيقُ صَغِيرٍ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ لَا بِعِتْقٍ عَنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَهُمَا فِي مِلْكِهِ بِلَا حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا كَانَتِ الْقَرَابَةُ قَرَابَةَ الْوِلَادِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَدْرِكْ أَدْرِكْ ". وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ نَافِذًا لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْرَاكُ، وَلَوْ كَانَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ كَدَفْعِ أَحَدِهِمَا بِالْجِنَايَةِ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا يُكْرَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3363 - وَعَنْهُ، «أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ جَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَرَدَّ الْبَيْعَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُنْقَطِعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3363 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ جَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا) : أَيْ بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيِ التَّفْرِيقَ (فَرَدَّ) : أَيْ عَلِيٌّ (الْبَيْعَ) : أَيِ الْعَقْدَ أَوِ الْمَبِيعَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُنْقَطِعًا) : أَيْ مَحْذُوفًا فِيهِ بَعْضُ رِجَالِ إِسْنَادِهِ.

3364 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ يَسَّرَ اللَّهُ حَتْفَهُ، وَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ: رِفْقٌ بِالضَّعِيفِ، وَشَفَقَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِحْسَانٌ إِلَى الْمَمْلُوكِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3364 - (وَعَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " ثَلَاثٌ " أَيْ خِصَالٌ " مَنْ كُنَّ ": أَيْ تِلْكَ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ (فِيهِ) : أَيْ مُجْتَمِعَةً (يَسَّرَ اللَّهُ حَتْفَهُ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ سَهَّلَ مَوْتَهُ، وَأَزَالَ سَكْرَتَهُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَدَلُهُ: نَشَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَنَسَبَهُ إِلَى التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرٍ، فَهُمَا رِوَايَتَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا تَصْحِيفٌ عَنِ الْآخَرِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْكَنَفُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ هُوَ الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ، وَيَضَعُ كَنَفَهُ عَلَيْهِ أَيْ يَسْتُرُهُ، وَقِيلَ: يَرْحَمُهُ وَيَلْطُفُ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ: مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى فِرَاشِهِ كَأَنَّهُ سَقَطَ لِأَنْفِهِ فَمَاتَ، وَالْحَتْفُ الْهَلَاكُ كَانُوا يَتَخَيَّلُونَ أَنَّ رُوحَ الْمَرِيضِ تَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ، فَإِنْ جُرِحَ خَرَجَتْ مِنْ جِرَاحَتِهِ. (وَأَدْخَلَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَأُدْخِلَ (جَنَّتَهُ) : أَيْ: مَعَ النَّاجِينَ ابْتِدَاءً (رِفْقٌ) : أَيْ لُطْفٌ (بِالضَّعِيفِ) : أَيْ جِسْمًا أَوْ حَالًا أَوْ عَقْلًا (وَشَفَقَةٌ) : أَيْ مَرْحَمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالْخَوْفِ (عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِحْسَانٌ) أَيْ إِيصَالُ خَيْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ (إِلَى الْمَمْلُوكِ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ: أَيْ تَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُ رُوَاتِهِ.

3365 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَبَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غُلَامًا، فَقَالَ: " لَا تَضْرِبْهُ فَإِنِّي نُهِيتُ عَنْ ضَرْبِ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي» ". هَذَا لَفْظُ " الْمَصَابِيحِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3365 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) : أَيِ الْبَاهِلِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَبَ لِعَلِيٍّ غُلَامًا فَقَالَ: " لَا تَضْرِبْهُ فَإِنِّي نُهِيتُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ نَهَانِي رَبِّي (عَنْ ضَرْبِ أَهْلِ الصَّلَاةِ) : أَيْ فِي غَيْرِ الْحَدِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ

(وَقَدْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي) : وَلَعَلَّ مُرَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ التَّأْدِيبِ حَيْثُ تَأَدَّبَ مَعَ مَوْلَاهُ الْحَقِيقِيِّ بِالْقِيَامِ بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْفَى وَيُسَامَحَ، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ غَالِبًا لَا يَأْتِي بِمَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ رَفَعَ عَنْهُ الضَّرْبَ فِي الدُّنْيَا نَرْجُو مِنْ كَرَمِهِ وَلُطْفِهِ أَنْ لَا يُخْزِيَهُ فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ النَّارِ؟ : {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] (هَذَا) : أَيِ الْمَذْكُورُ فِي الْمِشْكَاةِ (لَفْظُ: " الْمَصَابِيحِ ") .

3366 - وَفِي " الْمُجْتَبَى " لِلدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضَرْبِ الْمُصَلِّينَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3366 - (وَفِي الْمُجْتَبَى لِلدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضَرْبِ الْمُصَلِّينَ) : قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ مِنْ خَيْبَرَ وَمَعَهُ غُلَامَانِ، وَهَبَ أَحَدَهُمَا لِعَلِيٍّ وَقَالَ: " لَا تَضْرِبْهُ ". وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَفِيهِ أَبُو غَالِبٍ الْبَصْرِيُّ، صَاحِبُ أَبِي أُمَامَةَ حَسَنُ الْحَدِيثِ، رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَ حَدِيثَهُ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ.

3367 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ تَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ قَالَ: " أَعْفُو عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. 3368 - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3367 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) : بِلَا وَاوٍ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَمْ تَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَسَكَتَ) : هُوَ هَكَذَا ثَابِتٌ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمُعْتَمَدَةِ خِلَافًا لِمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَصَمَتَ) : حَيْثُ قَالَ: " ثُمَّ " فِيهِ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي بَيْنَ السُّؤَالَيْنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ. وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ فَصَمَتَ بِالْفَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ، يَعْنِي لَمَّا رَأَى ذَلِكَ الِاهْتِمَامَ وَالِاعْتِنَاءَ صَمَتَ إِمَّا لِلتَّفَكُّرِ وَإِمَّا لِإِنْزَالِ الْوَحْيِ، (فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ) : أَيِ الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ مِنْ إِعَادَةِ الْمَسْأَلَةِ (قَالَ: أَعْفُو عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً) : الْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَلِذَا وَرَدَ: اغْفِرْ فَإِنْ عَاقَبْتَ فَعَاقِبْ بِقَدْرِ الذَّنْبِ وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ جَزْءٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ التَّكْثِيرُ وَالتَّحْدِيدُ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ سَبْعِينَ عَفْوَةً. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَا وَاوٍ. 3368 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : أَيْ بِالْوَاوِ قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ: وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مِنْ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَيْ بِالْوَاوِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبَّاسِ بْنِ خُلَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَيْ بِالْوَاوِ، وَذَكَرَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ خُلَيْدٍ يَرْوِي عَنْهُمَا كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِ مِصْرَ، وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رِوَايَتَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ اهـ. وَكَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِلَا وَاوٍ، وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ الْمُؤَلِّفِ فَتَأَمَّلْ وَاللَّهُ الْعَاصِمُ.

وَقَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ خُلَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، قَالَ: وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ خُلَيْدٍ عَنْهُمَا وَقَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3369 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَاءَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُ مِمَّا تَكْسُونَ، وَمَنْ لَا يُلَائِمُكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُ، وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3369 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ لَاءَمَكُمْ) : بِالْهَمْزِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْمُعْتَمَدَةِ الْحَاضِرَةِ مِنَ الْمُلَاءَمَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ وَافَقَكُمْ وَسَاعَدَكُمْ، وَقَدْ يُخَفَّفُ الْهَمْزُ فَيَصِيرُ يَاءً. وَفِي الْحَدِيثِ يُرْوَى بِالْيَاءِ مُنْقَلِبَةً عَنِ الْهَمْزِ ذَكَرَ الطِّيِبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّخْفِيفَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْقِيَاسِ وَمُخَالِفٌ لِلرَّسْمِ أَيْضًا، وَلَعَلَّ مَحَلَّ التَّخْفِيفِ قَوْلُهُ الْآتِي وَمَنْ لَا يُلَائِمُكُمْ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِلرَّسْمِ وَالْقِيَاسِ فِيهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْمَعْنَى مَنْ نَاسَبَكُمْ (مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُ مِمَّا تَأْكُلُونَ) : أَيْ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ بَعْضِهِ (وَاكْسُوهُ) بِهَمْزِ وَصْلٍ وَضَمِّ سِينٍ أَيْ أَلْبِسُوهُ (مِمَّا تَكْسُونَ) : أَيْ أَنْفُسَكُمْ يَعْنِي مِمَّا تَلْبَسُونَ أَنْتُمْ، أَوْ مِمَّا تَكْسُونَ مَمَالِيكَكُمْ عُرْفًا وَعَادَةً وَأُسْوَةً لِأَمْثَالِهِمْ (وَمَنْ لَا يُلَائِمُكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُ، وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ) أَيْ وَلَا تُعَذِّبُوهُمْ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ إِفَادَةً لِلْعُمُومِ فَيَشْمَلُهُمْ وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْبَهَائِمِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّكُمْ لَا تُعَذِّبُوا أَنْفُسَكُمْ أَيْضًا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: مَا أَرَادَ أَنْ يُحْسِنَ أَدَبَ مَمْلُوكِهِ فَيُسِيءَ أَدَبَهُ وَكَذَا بِالْعَكْسِ، فَلَا بُدَّ مِنِ احْتِمَالِ أَحَدِهِمَا، وَفِي الْمُلَاءَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ حُصُولِ الْمُوَافَقَةِ الْكَامِلَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعْنِي أَنْتُمْ وَهُمْ سَوَاءٌ فِي كَوْنِكُمْ خَلْقَ اللَّهِ، وَلَكُمْ فَضْلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ مَلَكَتْهُمْ أَيْمَانُكُمْ، فَإِنْ وَافَقُوكُمْ فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَاتْرُكُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل: 71] أَيْ جَعَلَكُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الرِّزْقِ فَرَزَقَكُمْ أَكَثْرَ مِمَّا رَزَقَ مَمَالِيكَكُمْ وَهُمْ بَشَرٌ مِثْلَكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَرُدُّوا فَضْلَ مَا رُزِقْتُمُوهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَتَسَاوَوْا مَعَكُمْ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ حَيْثُ قَالَ: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ (فَمِنْكُمْ غَنِيٌّ، وَمِنْكُمْ فَقِيرٌ، وَمِنْكُمْ مَوَالٍ يَتَوَالَوْنَ رِزْقَهُمْ وَرِزْقَ غَيْرِهِمْ، وَمِنْكُمْ مَمَالِيكُ حَالُهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ} [النحل: 71] أَيْ. بِمُعْطِي رِزْقِهِمْ أَيْ رِزْقِ أَنْفُسِهِمْ {عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النحل: 71] فَإِنَّ مَا يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ رِزْقَهُمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل: 71] فَالْمَوَالِي وَالْمَمَالِيكُ سَوَاءٌ فِي أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُمْ، فَالْجُمْلَةُ لَازِمَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ أَوْ مُقَرِّرَةٌ لَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الْجَوَابِ كَأَنَّهُ قِيلَ: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النحل: 71] فَيَسْتَوُوا فِي الرِّزْقِ عَلَى أَنَّهُ رَدٌّ وَإِنْكَارٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يُشَارِكَهُمْ عَبِيدُهُمْ فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَيُسَاوُوهُمْ فِيهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

3370 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، فَقَالَ: " اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ ". فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَاتْرُكُوهَا صَالِحَةً» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3370 - (وَعَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ أُمُّ جَدِّ سَهْلٍ، وَقِيلَ أُمُّهُ، وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ وَبِهَا يُعْرَفُ، وَاسْمُ أَبِيهِ الرَّبِيعُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ سَهْلٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعِيرٍ، قَدْ لَحِقَ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ لَصِقَ (ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ) أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ (فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ

فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ) : قَالَ الْقَاضِي: الْمُعْجَمَةُ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى النُّطْقِ، فَإِنَّهَا لَا تُطِيقُ أَنْ تُفْصِحَ عَنْ حَالِهَا، وَتَتَضَرَّعَ إِلَى صَاحِبِهَا مِنْ جُوعِهَا وَعَطَشِهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ عَلَفِ الدَّوَابِّ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُ الْمَالِكَ عَلَيْهِ اهـ. وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْإِجْبَارِ، وَتَقَدَّمَ دَلِيلُ نَفْيِهِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا (فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً) : أَيْ قَوِيَّةً لِلرُّكُوبِ (وَاتْرُكُوهَا) : أَيْ: عَنِ الرُّكُوبِ قَبْلَ الْإِعْيَاءِ (صَالِحَةً) أَيْ ; لِأَنْ تُرْكَبَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ تَرْغِيبٌ إِلَى تَعَهُّدِهَا أَيْ تَعَهُّدِهَا بِالْعَلَفِ لِتَكُونَ مُهَيَّأَةً لَائِقَةً لِمَا تُرِيدُونَ مِنْهَا، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَرْكَبُوهَا فَارْكَبُوهَا وَهَى صَالِحَةٌ لِلرُّكُوبِ قَوِيَّةٌ عَلَى الْمَشْيِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَتْرُكُوهَا لِلْأَكْلِ فَتُعِدُّوهَا لِتَكُونَ سَمِينَةً صَالِحَةً لِلْأَكْلِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ: " «ارْكَبُوا هَذِهِ الدَّوَابَّ سَالِمَةً، وَابْتَدِعُوهَا سَالِمَةً، وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ مِنْهُ» ".

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3371 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الفاتحة: 152 - 32280] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الْآيَةَ انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَإِذَا فَضَلَ مِنْ طَعَامِ الْيَتِيمِ وَشَرَابِهِ شَيْءٌ حُبِسَ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ، وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3371 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الفاتحة: 152 - 32280] أَيْ بِالنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهِ مُبَالَغَةً وَزَجْرًا عَنْ أَخْذِهِ وَأَكْلِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الْآيَةَ يَعْنِي حَيْثُ ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] (انْطَلَقَ) : أَيْ شَرَعَ وَذَهَبَ (مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ) أَيْ أَفْرَزَ طَعَامَ الْيَتِيمِ أَوْ طَعَامَ نَفْسِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: (مِنْ طَعَامِهِ) : بِالْعَكْسِ (وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَإِذَا فَضَلَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ زَادَ (مِنْ طَعَامِ الْيَتِيمِ وَشَرَابِهِ شَيْءٌ حَبَسَ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: أَمْسَكَ لَهُ (حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ) : أَيْ: يَفْسُدَ أَوْ إِلَى أَنْ يَفْسُدَ بَعْضُهُ (فَاشْتَدَّ ذَلِكَ) : أَيْ صَعُبَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْعَزْلِ وَالْفَسَادِ (عَلَيْهِمْ) : لِلتَّعَبِ فِي الْأَوَّلِ، وَالتَّضْيِيعِ فِي الثَّانِي (فَذَكَرُوا ذَلِكَ) : أَيْ: الِاشْتِدَادَ عَلَيْهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ} [البقرة: 220] : أَيْ بِالْإِفْرَازِ (لَهُمْ) : أَيْ لِلْيَتَامَى (خَيْرٌ) : أَيْ مِنَ الْمُخَالَطَةِ (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) وَتَتِمَّتُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] أَيْ لَأَوْقَعَكُمْ فِي الْعَنَتِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ فَحَصَلَ لَهُمْ رُخْصَةٌ (فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ، وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالُوا فِي رُفْقَةٍ فِي سَفَرٍ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِهِمْ أَوْ مَاتَ، فَأَنْفَقُوا عَلَيْهِ أَوْ جَهَّزُوهُ مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنُونَ اسْتِحْسَانًا، وَمَاتَ شَخْصٌ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، خَرَجُوا إِلَى الْحَجِّ فَمَاتَ وَاحِدٌ، فَبَاعُوا مَا كَانَ لَهُ مَعَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا سَأَلُوا مُحَمَّدًا فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ لَمْ تَكُونُوا فُقَهَاءَ، وَكَذَا بَاعَ مُحَمَّدٌ مَرَّةً كُتَبَ تِلْمِيذٍ لَهُ مَاتَ، فَأَنْفَقَ فِي تَجْهِيزِهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ فَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

3372 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، وَبَيْنَ الْأَخِ وَبَيْنَ أَخِيهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3372 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى) : أَيِ الْأَشْعَرِيِّ (قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ،، وَبَيْنَ الْأَخِ وَبَيْنَ أَخِيهِ) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِدْخَالِ " بَيْنَ " بَيْنَ الْمُظْهَرَيْنِ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ وَهْمٌ وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْوِلَادِ، بَلْ يَشْتَمِلُ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ) .

3373 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُتِيَ بِالسَّبْيِ أَعْطَى أَهْلَ الْبَيْتِ جَمِيعًا، كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3373 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُتِيَ) : أَيْ جِيءَ (بِالسَّبْيِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيِ الْأُسَارَى (أَعْطَى أَهْلَ الْبَيْتِ) : مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَقَوْلُهُ: (جَمِيعًا) : حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُعْطَى لَهُ مَتْرُوكٌ مَنْسِيٌّ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ سِيقَ لِلْمُعْطَى، وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْأَهَالِي، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] الْكَشَّافَ: وَإِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ الْمَفْعُولِ بِهِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ ذِكْرُهُ الْمُعَزَّزُ بِهِ وَهُوَ شَمْعُونُ، وَمَا لَطُفَ فِيهِ مِنَ التَّدْبِيرِ حَتَّى عَزَّ الْحَقُّ وَذَلَّ الْبَاطِلُ، وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُنْصَبًّا إِلَى غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ جُعِلَ سِيَاقُهُ لَهُ وَتَوَجُّهُهُ إِلَيْهِ كَانَ مَا سِوَاهُ مَرْفُوضٌ مَطْرُوحٌ. (كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَالْكَرَاهِيَةُ مُخَفَّفَةُ الْيَاءِ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَأَنْ مَصْدَرِيَّةٌ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ

3374 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمُ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3374 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَلَا " بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (أُنَبِّئُكُمْ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَفِي النُّسْخَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِتَخْفِيفِهَا مِنَ الْإِنْبَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَلَا أُخْبِرُكُمْ (بِشِرَارِكُمْ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ الشَّرِّ (الَّذِي) : أَيِ الْفَرِيقُ أَوِ الْجَمْعُ الَّذِي (يَأْكُلُ وَحْدَهُ) : أُفْرِدَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَرْجِعِهِ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ أَوْ بِتَأْوِيلِ مُنْفَرِدًا أَيْ بُخْلًا وَتَكَبُّرًا (يَجْلِدُ عَبْدَهُ) : أَيْ يَضْرِبُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ (وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ عَطِيَّتَهُ عَنْ مُسْتَحِقِّهَا، وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْبُخْلِ وَسُوءِ الْخُلُقِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاذٍ: " أَلَا أُنَبِّئُكَ بِشَرِّ النَّاسِ؟ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ، وَمَنَعَ رِفْدَهُ، وَسَافَرَ وَحْدَهُ، وَضَرَبَ عَبْدَهُ، أَلَا أُنَبِّئُكَ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُونَهُ، أَلَا أُنَبِّئُكَ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، أَلَا أُنَبِّئُكَ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ". وَقَالَ مِيرَكُ: يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ فِي التَّرْغِيبِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: ( «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " إِنَّ شِرَارَكُمُ الَّذِي يَنْزِلُ وَحْدَهُ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: الَّذِينَ لَا يُقِيلُونَ عَثْرَةً وَلَا يَقْبَلُونَ مَعْذِرَةً وَلَا يَغْفِرُونَ ذَنْبًا ". قَالَ: (أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ» ".

3375 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْمَلَكَةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ مَمْلُوكِينَ وَيَتَامَى قَالَ: نَعَمْ فَأَكْرِمُوهُمْ كَكَرَامَةِ أَوْلَادِكُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ قَالُوا: فَمَا يَنْفَعُنَا قَالَ: " فَرَسٌ تَرْتَبِطُهُ، تُقَاتِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَمَمْلُوكٌ يَكْفِيكَ فَإِذَا صَلَّى فَهُوَ أَخُوكَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3375 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْمَلَكَةِ ") : أَيِ الْمَلِكُ الَّذِي يُسِيءُ إِلَى مَمْلُوكِهِ (قَالُوا) : أَيْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ مَمْلُوكِينَ وَيَتَامَى؟) : ذِكْرُ الْيَتَامَى مُسْتَطْرَدٌ (قَالَ: نَعَمْ ") : أَيْ أَنْتُمْ أَكْثَرُ الْأُمَمِ مَمَالِيكَ، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ (فَأَكْرِمُوهُمْ كَكَرَامَةِ أَوْلَادِكُمْ) : أَيْ مِنَ الشَّفَقَةِ بِهِمْ وَالْمَرْحَمَةِ عَلَيْهِمْ، فَلَا تُحَمِّلُوهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ (وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ) : وَتَرَكَ ذِكْرَ الْكُسْوَةِ اكْتِفَاءً أَوْ مُقَايَسَةً. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَوْجِيهُهُ أَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ أَنَّ سَيِّئَ الْمَلَكَةِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأُمَّتُكَ إِذَا أَكْثَرُوا الْمَمَالِيكَ لَا يَسَعُهُمْ مُدَارَاتُهُمْ، فَيُسِيئُونَ مَعَهُمْ فَمَا حَالُهُمْ وَمَآلُهُمْ، فَأَجَابَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَوَابَ الْحَكِيمِ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ فَأَكْرِمُوهُمْ " إِلَخْ. (قَالُوا: فَمَا يَنْفَعُنَا) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ يُفِيدُنَا (الدُّنْيَا؟) : أَيْ مِنْهَا أَوْ فِيهَا (قَالَ: " فَرَسٌ تَرْتَبِطُهُ، تُقَاتِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ارْتِبَاطَ الْفَرَسِ فِيهِ نَفْعٌ أُخْرَوِيٌّ، وَكَذَا فِيهِ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ مِنْ حُصُولِ الْغَنِيمَةِ، وَالْأَمْنِ مِنَ الْعَدُوِّ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] فَلَا يَتَوَجَّهُ قَوْلُ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَذَا الْجَوَابُ الثَّانِي وَارِدٌ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ ; لِأَنَّ الْمُرَابَطَةَ وَالْجِهَادَ مَعَ الْكُفَّارِ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا (" وَمَمْلُوكٌ يَكْفِيكَ ") : أَيْ أُمُورَكَ الدُّنْيَوِيَّةَ الشَّاغِلَةَ عَنِ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ (فَإِذَا صَلَّى) : أَيِ الْمَمْلُوكُ (فَهُوَ أَخُوكَ) : أَيِ الْمُؤْمِنُ أَوْ كَأَخِيكَ فَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب بلوغ الصغير وحضانته في الصغر]

[بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ فِي الصِّغَرِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3376 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَدَّنِي، ثُمَّ عُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (18) بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ أَيْ بِالسِّنِّ (وَحَضَانَتِهِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ أَيْ تَرْبِيَتِهِ (فِي الصِّغَرِ) : قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْحَضَانَةُ الْقِيَامُ بِأَمْرِ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَلَا يَهْتَدِي لِمَصَالِحِهِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْحِضْنُ مَا دُونَ الْإِبِطِ، وَالْحَاضِنَةُ الْمَرْأَةُ تُؤَكِّلُ الصَّبِيَّ فَتَرْفَعُهُ وَتُرَبِّيهِ، وَقَدْ حَضَنَتْ وَلَدَهَا حَضَانَةً وَفِي الْقَامُوسِ: حَضَنَ الصَّبِيَّ حِضْنًا وَحِضَانَةً بِالْكَسْرِ، جَعَلَهُ فِي حِضْنِهِ أَوْ رَبَّاهُ كَاحْتَضَنَهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْحَاضِنُ الْمُرَبِّي وَالْكَافِلُ، وَالْأُنْثَى حَاضِنَةٌ، وَالْحَضَانَةُ بِالْفَتْحِ فِعْلُهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3376 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: عُرِضْتُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لِلذَّهَابِ إِلَى الْغَزْوِ (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : مِنْ بَابِ عَرْضِ الْعَسْكَرِ عَلَى الْأَمِيرِ (عَامَ أُحُدٍ) : أَيْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ (وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَتُكْسَرُ، (سَنَةً) وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَرَدَّنِي) : أَيْ مِنَ الرَّوَاحِ إِلَى الْحَرْبِ لِصِغَرِي (ثُمَّ عُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ

سَنَةً، فَأَجَازَنِي) : أَيْ فِي الْمُقَاتَلَةِ أَوِ الْمُبَايَعَةِ، وَقِيلَ: كَتَبَ الْجَائِزَةَ لِي وَهِيَ رِزْقُ الْغُزَاةِ (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) : أَيْ لَمَّا جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثَ (هَذَا) : أَيِ السِّنُّ الْمَذْكُورُ (فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ (وَالذُّرِّيَّةِ) : يُرِيدُ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً دَخَلَ فِي زُمْرَةِ الْمُقَاتِلِينَ، وَأُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ اسْمُهُ، وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْهَا عُدَّ مِنَ الذُّرِّيَّةِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالُوا: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْغُلَامُ أَوِ الْجَارِيَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كَانَ بَالِغًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَإِذَا احْتَلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قَبْلَ بُلُوغِهِ هَذَا الْمَبْلَغَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ تِسْعِ سِنِينَ يُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَاضَتِ الْجَارِيَةُ بَعْدَ تِسْعٍ وَلَا حَيْضَ وَلَا احْتِلَامَ قَبْلَ بُلُوغِ التِّسْعِ. وَفِي الْهِدَايَةِ: بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ إِذَا وَطِئَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ؛ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا إِذَا تَمَّ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ اهـ. وَأَوَّلُ وَقْتِ بُلُوغِ الْغُلَامِ عِنْدَنَا اسْتِكْمَالُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتِسْعِ سِنِينَ لِلْجَارِيَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3377 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَالَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ خَرَجَ، فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمِّ! يَا عَمِّ! فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ. قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ بِنْتُ عَمِّي. وَقَالَ جَعْفَرٌ: بِنْتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي. وَقَالَ زَيْدٌ: بِنْتُ أَخِي فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: " الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ ". قَالَ لَعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ ". وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: " أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي ". وَقَالَ لِزَيْدٍ: " أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3377 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) : صَحَابِيَّانِ (قَالَ؟ صَالَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ مُصَغَّرًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَشْدِيدِهِمَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ بِئْرٌ قُرْبَ مَكَّةَ، قُلْتُ: هِيَ قُرْبَ حَدَّةَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ، وَالْآنَ مَشْهُورَةٌ بِبِئْرِ شُمَيْسٍ، وَهِيَ مِنْ أَوَاخِرِ أَرْضِ الْحَرَمِ وَالْمُرَادُ حَوْلَهَا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: بَعْضُ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْحَرَمِ، وَالْمَعْنَى صَالَحَ كُفَّارَ مَكَّةَ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَعَدَمِ مُقَاتَلَتِهِ ذَلِكَ الْعَامَ (عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ) : أَيْ أُمُورٍ وَأَحْكَامٍ (عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ) : أَيِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ؟ بَيَانٌ لِمَنْ (رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ) : أَيِ الْمُشْرِكِينَ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ) : أَيْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ (وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا) : أَيْ يَجِيءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ وَيَدْخُلَهَا (مِنْ قَابِلٍ) : أَيْ عَامٍ آتٍ وَيَقْضِيَ بِهَا عُمْرَتَهُ (وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) : أَيْ لِلطَّاعَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ (فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ) : أَيِ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ الْمُعَيَّنَةُ وَهَى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ (خَرَجَ) : أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ، أَوْ شَرَعَ فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا، (فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ) : أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ قَدِ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَهِيَ يَتِيمَةٌ (تُنَادِي: يَا عَمِّ! يَا عَمِّ) : مُكَرَّرًا لِلتَّأْكِيدِ، وَأَصْلُهُ يَا عَمِّي فَحُذِفَتِ الْيَاءُ اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ، وَإِنَّمَا قَالَتْ هَذَا مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ ابْنَ أَخِي أَبِيهَا، وَأَبُوهَا هُوَ عَمُّهُ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَمْزَةَ وَزَيْدًا ارْتَضَعُوا فَهُوَ عَمُّهَا رَضَاعًا (فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ) : أَيْ فَقَصَدَ تَنَاوُلَهَا، (فَاخْتَصَمَ فِيهَا) : أَيْ فِي حَضَانَتِهَا (عَلِيٌّ وَزَيْدٌ) : أَيِ ابْنُ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَهُ وَزَوَّجَهُ زَيْنَبَ (وَجَعْفَرٌ) : أَيِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ (فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ، قَالَ (عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا) : أَيْ سَبَقْتُهَا فِي الْأَخْذِ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي مَعْنَى اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ (وَهِيَ بِنْتُ عَمِّي) : حَالٌ (وَقَالَ جَعْفَرٌ: بِنْتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي) : أَيْ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا (وَقَالَ زَيْدٌ: بِنْتُ أَخِي) : أَيْ رَضَاعًا وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَمْزَةَ (فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَالَتِهَا

وَقَالَ: " الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ ". وَقَالَ لَعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ ". وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: " أَشْبَهْتَ خَلْقِي) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (وَخُلُقِي) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي (وَقَالَ لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا) : أَيْ فِي الْإِسْلَامِ (وَمَوْلَانَا) : أَيْ وَلِيُّنَا وَحَبِيبُنَا. وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ اللَّطِيفَةُ وَالْبِشَارَاتُ الشَّرِيفَةُ اسْتِطَابَةٌ لِقُلُوبِهِمْ، وَتَسْلِيَةٌ لِحُزْنِهِمْ فِي تَقْدِيمِ الْخَالَةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْفَائِقِ: لَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْدٍ: " أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا ". حَجَلَ أَيْ رَفَعَ رِجْلًا وَقَفَزَ أَيْ: وَثَبَ عَلَى الْأُخْرَى مِنَ الْفَرَحِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَخُونَا هَذِهِ الْمُؤَاخَاةُ وَبِقُولِهِ: مَوْلَانَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُدْعَى بِحِبِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَدْعُوَّ بِحِبِّهِ إِنَّمَا كَانَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ أُمٌّ تَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ فَأُمُّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَإِنْ عَلَتْ، وَعَنْ أَحْمَدَ: أُمُّ الْأَبِ أَوْلَى، وَعَنْ زُفَرَ: الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ وَالْخَالَةُ أُمٌّ. وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ( «وَأَمَّا أَنْتَ يَا زَيْدُ فَأَخُونَا وَمَوْلَانَا، وَالْجَارِيَةُ عِنْدَ خَالَتِهَا فَإِنَّ الْخَالَةَ وَالِدَةٌ» ") . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا كُلُّهُ تَشْبِيهٌ، فَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ فِي ثُبُوتِ الْحَضَانَةِ، أَوْ كَوْنِهَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ مُتَيَقَّنٌ، فَيَثْبُتُ فَلَا يُقَيَّدُ الْحُكْمُ بِأَنَّهَا أَحَقُّ مِنْ أَحَدٍ بِخُصُوصِهِ أَصْلًا مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ، فَيَبْقَى الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَّاهُ بِلَا مُعَارِضٍ، وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّةَ أُمٌّ، وَلِهَذَا تُحْرِزُ مِيرَاثَ الْأُمِّ مِنَ السُّدُسِ، وَعَلَيْهِ الشَّفَقَةُ تَتْبَعُ الْوِلَادَةَ ظَاهِرًا، فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْأَخَوَاتِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ سُفْلَى وَلَا عُلْيَا، فَالْأَخَوَاتُ أَوْلَى مِنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3378 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3378 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ ظَرْفًا حَالَ حَمْلِهِ (وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ حَالَ رَضَاعِهِ (وَحِجْرِي) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ الْهُمَامِ (لَهُ) : أَيْ لِابْنِي حَالَ فِصَالَهُ وَفِطَامَهُ (حِوَاءً) : بِالْكَسْرِ أَيْ مَكَانًا يَحْوِيهِ وَيَحْفَظُهُ وَيَحْرُسُهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحِوَاءُ بِالْكَسْرِ بَيْتٌ مِنَ الْوَبَرِ اهـ. فَالْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ أَوِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحِجْرُ مُثَلَّثٌ الْمَنْعُ وَحِضْنُ الْإِنْسَانِ، وَفِي الْمَشَارِقِ أَجْلَسْتُهُ فِي حَجْرِي بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ الثَّوْبُ وَالْحِضْنُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ فَالْفَتْحُ لَا غَيْرُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْمُ فَالْكَسْرُ لَا غَيْرُ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْكَسْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَ وَقَوْلُهُ: رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي، وَفِي حِجْرِي مَيْمُونَةُ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرُ وَمَعْنَاهُ الْحَضَانَةُ وَالتَّرْبِيَةُ (وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ) بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ يَأْخُذَهُ (مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ ") : أَيْ بِوَلَدِكِ (مَا لَمْ تَنْكِحِي) : بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّ هَذَا الصَّبِيَّ مَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ فَقَدَّمَ الْأُمَّ بِحَضَانَتِهِ، وَالَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَعْنِي الْآتِيَ كَانَ مُمَيِّزًا فَخَيَّرَهُ اهـ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَعَمْرٌو هَذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِذَا أَرَادَ بِجَدِّهِ مُحَمَّدًا كَانَ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُتَّصِلًا، فَمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُحْتَمِلًا لِلْإِرْسَالِ وَالِاتِّصَالِ، وَهَذَا نَصَّ عَلَى جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي: فَتَعَيَّنَ الِاتِّصَالُ وَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ، ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ بِإِطْلَاقِهِ دَلِيلٌ لَنَا وَلِأَنَّ الْأُمَّ أَشْفَقُ عَلَيْهِ أَبَدًا لِحِكْمَةِ خُصُوصِ هَذَا الشَّرْعِ، وَأَقْدَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ لِقِيَامِهَا بِمَصَالِحِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الصِّدِّيقُ عَلَى مَا فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمًا، ثُمَّ فَارَقَهَا عُمَرُ، فَرَكِبَ يَوْمًا إِلَى قُبَاءٍ فَمَرَّ فَوَجَدَ ابْنَهُ يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلَامِ فَنَازَعَتْهُ إِيَّاهُ فَأَقْبَلَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ عُمَرُ: ابْنِي. وَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: ابْنِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. فَمَا رَاجَعَهُ عُمَرُ الْكَلَامَ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا تُولَدُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» ". وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ طَلَّقَ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فَتَزَوَّجَتْ، فَجَاءَ عُمَرُ فَأَخَذَ ابْنَهُ فَأَدْرَكَتْهُ شَمُوسُ ابْنَةُ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَهِيَ أُمُّ جَمِيلَةَ فَأَخَذَتْهُ، فَتَرَافَعَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِهَا. فَأَخَذَتْهُ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ أُمَّ عَاصِمٍ ثُمَّ أَتَى عَلَيْهَا وَفِي حِجْرِهَا عَاصِمٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ فَتَجَاذَبَاهُ بَيْنَهُمَا حَتَّى بَكَى الْغُلَامُ، فَانْطَلَقَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ: مِسْحُهَا وَحِجْرُهَا وَرِبْحُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْكَ حَتَّى يَشِبَّ الصَّبِيُّ فَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ.

3379 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3379 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَيَّرَ غُلَامًا) : أَيْ وَلَدًا بَلَغَ سِنَّ الْبُلُوغِ وَتَسْمِيَتُهُ غُلَامًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَقِيلَ غُلَامًا مُمَيِّزًا (بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ) . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوَلَدُ إِذَا صَارَ مُسْتَغْنِيًا بِأَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ، قِيلَ: وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ وَيَتَوَضَّأَ وَحْدَهُ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ، وَالْخَصَّافُ قَدَّرَ الِاسْتِغْنَاءِ بِسَبْعِ سِنِينَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ لَا مَا قِيلَ أَنَّهُ يُقَدَّرُ بِتِسْعٍ ; لِأَنَّ الْأَبَ مَأْمُورٌ بِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَهَا وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَلَدُ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ السِّنَّ الَّذِي يَكُونُ الْأَبُ أَحَقَّ بِهِ كَسَبْعٍ مَثَلًا أَخَذَهُ الْأَبُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِ الْغُلَامِ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخَيَّرُ الْغُلَامُ فِي سُبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ يُخَيَّرُ فِي سَبْعٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3380 - وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي وَنَفَعَنِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ. فَأَخَذَ يَدَ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3380 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي وَنَفَعَنِي) تُرِيدُ أَنَّ ابْنَهَا بَلَغَ مَبْلَغًا تَنْتَفِعُ بِخِدْمَتِهِ (قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا ". فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3381 - عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ سُلَيْمَانَ مَوْلًى لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَارِسِيَّةٌ، مَعَهَا ابْنٌ لَهَا، وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَادَّعَيَاهُ، فَرَطَنَتْ لَهُ تَقُولُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اسْتَهِمَا عَلَيْهِ. رَطَنَ لَهَا بِذَلِكَ. فَجَاءَ زَوْجُهَا، وَقَالَ: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي ابْنِي؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا إِلَّا أَنِّي كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ - وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ: مِنْ عَذْبِ الْمَاءِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْتَهِمَا عَلَيْهِ ". فَقَالَ زَوْجُهَا مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ ". فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3381 - (عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ سُلَيْمَانَ) : بِالتَّصْغِيرِ، كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ. وَفِي هَامِشِ أَصْلِ السَّيِّدِ: صَوَابُهُ سَلْمَانُ أَيْ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ (مَوْلًى لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: أَبُو مَيْمُونَةَ الْفَارِسِيُّ الْمَدَنِيُّ الْأَوْبَارُ، قِيلَ: اسْمُهُ سُلَيْمٌ أَوْ سَلْمَانُ، وَقِيلَ: أُسَامَةُ، ثِقَةٌ مِنَ الثَّامِنَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَارِسِيِّ وَالْأَوْبَارِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَدَنِيٌّ يَرْوِي عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ. قَالَ: وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ أَنَّ أَبَاهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْهِلَالُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أُسَامَةَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ، وَهُوَ هِلَالُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ الْفِهْرِيُّ ذَكَرَهُ فِي التَّابِعِينَ اهـ. قِيلَ: وَفِي عِبَارَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ أَنَّ أَبَا مَيْمُونَةَ سَلْمَانَ مَوْلًى مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، وَقِيلَ أُسَامَةُ، وَسَتَأْتِي عِبَارَةُ النَّسَائِيِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا مَيْمُونَةَ قَالَ: (بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَارِسِيَّةٌ) ، بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ عَجَمِيَّةٌ (مَعَهَا ابْنٌ لَهَا وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَادَّعَيَاهُ) ، أَيِ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا الِابْنَ (فَرَطَنَتْ) فِي النِّهَايَةِ: الرَّطَانَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَالتَّرَاطُنُ كَلَامٌ لَا يَفْهَمُهُ الْجُمْهُورُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوَاضَعَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَالْعَرَبُ تَخُصُّ بِالرِّطَانَةِ غَالِبَ كَلَامِ الْعَجَمِ، وَفِي الصِّحَاحِ: رَطَنْتُ لَهُ إِذَا كَلَّمْتَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ، فَالْمَعْنَى تَكَلَّمَتْ بِالْفَارِسِيَّةِ (لَهُ) : أَيْ لَأَبِي هُرَيْرَةَ (تَقُولُ) : أَيِ الْمَرْأَةُ مَا مَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي) أَيْ يَأْخُذَهُ مِنِّي وَيَصْحَبَهُ (فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اسْتَهِمَا عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الِابْنِ، وَالْمَعْنَى: اقْتَرِعِي أَنْتِ وَأَبُوهُ، فَفِيهِ تَغْلِيبُ الْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ (رَطَنَ) : أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ أَوْ مُتَرْجِمُهُ (لَهَا) : أَيْ لِلْمَرْأَةِ (بِذَلِكَ) . أَيْ بِمَا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ (فَجَاءَ زَوْجُهَا) : أَيْ فَتَقَدَّمَ لِلْخُصُومَةِ (وَقَالَ: مَنْ يُحَاقُّنِي) : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مَنْ يُنَازِعُنِي (فِي ابْنِي) ؟ أَيْ فِي حَقِّهِ (فَقَالَ أَبُوِ هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا) : أَيْ هَذَا الْقَوْلَ وَهَذَا الْحُكْمَ (إِلَّا أَنِّي) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ لِأَنِّي (كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ) : بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ فَنُونٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ (وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ) : أَيْ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُ، (مِنْ عَذْبِ الْمَاءِ) : مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيِ الْمَاءِ الْعَذْبِ وَهُوَ الْحُلْوُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " اسْتَهِمَا عَلَيْهِ ". فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَيْ لِلْوَلَدِ (هَذَا أَبُوكَ، وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ) فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. وَفِي نُسْخَةٍ بَدَلَ وَالدَّارِمِيُّ (لَكِنَّهُ) : أَيِ النَّسَائِيَّ (ذَكَرَ الْمُسْنَدَ) . أَيْ دُونَ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّ عِبَارَةَ النَّسَائِيِّ هَكَذَا أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا زِيَادٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ، قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ

نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ: مَنْ يُقَاسِمُنِي فِي ابْنِي؟ فَقَالَ: (يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ) فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ» . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ فِيهِ قِصَّةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ حَاصِلُهَا، أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا فِي وَاقِعَةٍ رُفِعَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَوَى الْحَدِيثَ: وَلَفْظُهُ: «سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَقَدْ نَفَعَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (اسْتَهِمَا عَلَيْهِ) . فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ: (هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ) . فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ» ، فَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ، يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ بِالْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَا أَنْ يُوَفَّقَ لِاخْتِيَارِ الْأَنْظَرِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الطَّلَاقِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ، فَجَاءَ بِابْنٍ لَهُمَا - ابْنٍ لَهُ - صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ، فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَبَ هُنَا وَالْأُمَّ هَنَا ثُمَّ خَيَّرَهُ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِهِ لِأَبِيهِ) . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ أُمُّهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَتِ: ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ، وَقَالَ رَافِعٌ: ابْنَتِي، فَأَقْعَدَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأُمَّ نَاحِيَةً وَالْأَبَ نَاحِيَةً وَأَقْعَدَهَا نَاحِيَةً وَقَالَ لَهُمَا: (ادْعُوَاهَا) فَمَالَتِ الصَّبِيَّةُ إِلَى أُمِّهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (اللَّهُمَّ اهْدِهَا) فَمَالَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَمَّى الْبِنْتَ عُمَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ أَنَّ أَبَوَيْنِ اخْتَصَمَا فِي وَلَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحَدُهُمَا كَافِرٌ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَافِرِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِهِ) . فَتَوَجَّهَ إِلَى الْمُسْلِمِ، فَقَضَى لَهُ بِهِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا بِدَلِيلِ الِاسْتِقَاءِ مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَمَنْ هُوَ دُونَ الْبُلُوغِ لَا يُرْسَلُ إِلَى الْآبَارِ لِلِاسْتِقَاءِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنَ السُّقُوطِ فِيهِ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَتَحَجُّزِهِ عَنْهُ غَالِبًا، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا بَلَغَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالسَّكَنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَيِّهِمَا أَرَادَ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا، فَحِينَئِذٍ يَضُمُّهُ إِلَى نَفْسِهِ اعْتِبَارًا لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَلِهَذَا صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُخَيِّرُوا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا مَا أَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ خَيَّرَ ابْنًا فَاخْتَارَ أُمَّهُ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَيْلَ الِابْنِ إِلَى أُمِّهِ، وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ، فَأَحَبَّ تَطْيِبَ قَلْبِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ أَبَا بَكْرٍ الْكَلَامَ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ عَدَمَ الْمُرَاجَعَةِ لَيْسَ دَلِيلًا ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِمَامًا يَجِبُ نَفَاذُ مَا حَكَمَ بِهِ رَأْيُهُ، وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا لِيُوَافِقَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ.

[كتاب العتق]

[كِتَابُ الْعِتْقِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3382 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (13) كِتَابُ الْعِتْقِ فِي الْمُغْرِبِ: الْعِتْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَمْلُوكِيَّةِ، يُقَالُ: أُعْتِقَ الْعَبْدُ عِتْقًا وَعَتَاقًا وَعَتَاقَةً وَهُوَ عَتِيقٌ وَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ، ثُمَّ جُعِلَ عِبَارَةً عَنِ الْكَرَمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ كَالْحُرِّيَّةِ فَقِيلَ: فَرَسٌ عَتِيقٌ رَابِعٌ، وَعِتَاقُ الْحَمْلِ وَالطَّيْرِ كَرَائِمُهَا، وَقِيلَ: مَدَارُ التَّرْكِيبِ عَلَى التَّقَدُّمِ، وَمِنْهُ الْعَاتِقُ لِمَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ لِتَقَدُّمِهِ، وَالْعَتِيقُ وَالْقَدِيمُ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا يَخْفَى مَا فِي الْإِعْتَاقِ مِنَ الْمَحَاسِنِ، فَإِنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ، فَالْعِتْقُ إِزَالَةُ أَثَرِ الْكُفْرِ وَهُوَ إِحْيَاءٌ حُكْمِيٌّ، فَإِنَّ الْكَافِرَ مَيِّتٌ مَعْنًى، فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِحَيَاتِهِ وَلَمْ يَذُقْ حَلَاوَتَهُ الْعُلْيَا فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رُوحٌ قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ، ثُمَّ أَثَرُ ذَلِكَ الْكُفْرِ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ سَلْبُ أَهْلِيَّتِهِ لِمَا تَأَهَّلَ لَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ إِنْكَاحِ الْبَنَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالشَّهَادَاتِ، وَامْتِنَاعِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ

وَنَحْوِهَا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ مِنَ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ صَارَ بِذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْأَمْوَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ، فَكَانَ الْعِتْقُ إِحْيَاءً لَهُ مَعْنًى، وَلِذَا كَانَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - جَزَاؤُهُ - عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ الْعِتْقُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ - الْإِعْتَاقَ مِنْ نَارِ الْجَحِيمِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ سَيِّدِ الْأَخْيَارِ، وَالْعِتْقُ وَالْعَتَاقُ لُغَةً عِبَارَتَانِ عَنِ الْقُوَّةِ، وَمِنْهُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ عَنْ مِلْكِ أَحَدٍ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَقِيلَ: لِلْقَدِيمِ عَتِيقٌ لِقُوَّةِ سَبْقِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الصِّدِّيقُ عَتِيقًا لِجَمَالِهِ، وَقِيلَ: لِقِدَمِهِ فِي الْخَيْرِ، وَقِيلَ: لِعِتْقِهِ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: لِشَرَفِهِ، فَإِنَّهُ قُوَّةٌ فِي الْحَسَبِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْكَرِيمِ بِمَعْنَى الْحَسِيبِ، وَقِيلَ: قَالَتْ أُمُّهُ لَمَّا وَضَعَتْهُ: هَذَا عَتِيقُكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُهُ الْعَلَمُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وَصْفِهِ لَهُ الْجَمَالَ أَوْ تَفَاؤُلًا بِالْحَسَبِ الْمُنِيفِ أَوْ بِعَدَمِ الْمَوْتِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعْهُودَاتِ تَرْجِعُ إِلَى زِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي مَعَانِيهَا، وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ لُغَةً الْقُوَّةَ فَالْإِعْتَاقُ إِثْبَاتُ الْقُوَّةِ كَمَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: الْعِتْقُ فِي الشَّرْعِ خُلُوصٌ حُكْمِيٌّ يَظْهَرُ فِي الْآدَمِيِّ عَمَّا بَيَّنَاهُ سَابِقًا بِالرِّقِّ، وَلَا يَخْفَى ثُبُوتُ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتِقُ حُرًّا بَالِغًا مَالِكًا، وَحُكْمُهُ زَوَالُ الرِّقِّ عَنْهُ، وَصِفَتُهُ فِي الِاخْتِيَارِيِّ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ غَالِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً، كَمَا إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ يَذْهَبُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَرْتَدُّ، أَوْ يُخَافُ مِنْهُ السَّرِقَةُ، أَوْ قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ مَعَ تَحْرِيمِهِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْكَفَّارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَالْعِتْقِ لِزَيْدٍ، وَالْقُرْبَةُ مَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْكَافِرُ أَغْلَى ثَمَنًا مِنَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عِتْقُهُ أَفْضَلَ مِنْ عِتْقِ الْمُسْلِمِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (أَفْضَلُهَا أَغْلَاهَا) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ وَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِالْأَغْلَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ تَمْكِينٌ لِلْمُسْلِمِ مِنْ مَقَاصِدِهِ وَتَفْرِيغِهِ، وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي اسْتِحْبَابِ عِتْقِ الْكَافِرِ تَحْصِيلُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا تَفْرِيغُهُ لِلتَّأَمُّلِ فَيُسْلِمُ فَهُوَ احْتِمَالٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3382 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً) : الرَّقَبَةُ عُضْوٌ خَاصٌّ مِمَّا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الذَّاتُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، فِي النِّهَايَةِ: الرَّقَبَةُ فِي الْأَصْلِ الْعِتْقُ، فَجُعِلَتْ كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْإِنْسَانِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِبَعْضِهِ، فَإِذَا قَالَ: أَعْتَقَ رَقَبَةً فَكَأَنَّهُ قَالَ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، فَالْمَعْنَى مَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مَمْلُوكَةً (مُسْلِمَةً) : وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِسْلَامِ لِيَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ (أَعْتَقَ اللَّهُ) : ذَكَرَ أَعْتَقَ لِلْمُشَاكَلَةِ وَالْمَعْنَى أَنْجَاهُ (بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمُعْتِقِ (عُضْوًا) : أَيْ مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَكَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ أَيْ عُضْوًا كَائِنًا مِنَ الْمُعْتِقِ (مِنَ النَّارِ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَعْتَقَ الثَّانِي أَيْ أَنْقَذَهُ مِنْهَا (حَتَّى فَرْجَهُ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى (عُضْوًا) وَمَا بَعْدَ حَتَّى هُنَا أَدْوَنُ مِمَّا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِمْ: حَجَّ النَّاسُ حَتَّى الْمُشَاةُ، أَيْ حَتَّى أَعْتَقَ اللَّهُ فَرْجَهُ (بِفَرْجِهِ) : أَيْ سَوَاءً كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. قَالَ الْأَشْرَفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا خَصَّ الْفَرْجَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْكِرَامُ، فَيُفِيدُ قُوَّةً. قَالَ الْمُظْهِرَ: ذِكْرُ الْفَرْجِ تَحْقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْأَعْضَاءِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعَلُّقِ الْإِعْتَاقِ بِجَمِيعِ أَعْضَاءِ بَدَنِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: ( «أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِ مُحَرِّرِهِ مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِ مُحَرِّرِهَا مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُسْتَحَبُّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُعْتَقُ خَصِيًّا كَيْلَا يَكُونَ نَاقِصَ الْعُضْوِ، لِيَكُونَ مُعْتِقُهُ قَدْ نَالَ الْمَوْعُودَ فِي عِتْقِ أَعْضَائِهِ كُلِّهَا مِنَ

النَّارِ، بِإِعْتَاقِهِ إِيَّاهُ مِنَ الرِّقِّ فِي الدُّنْيَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَءًا مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» ". وَفِي لَفْظٍ: " «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ» ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْبَاقُونَ فِي الْعِتْقِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ» ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ: " «وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ مَكَانُ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ» ". وَهَذَا يَسْتَقِلُّ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ مِنِ اسْتِحْبَابِ عِتْقِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ، لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ عِتْقَهُ بِعِتْقِ الْمَرْأَتَيْنِ بِخِلَافِ عِتْقِهِ رَجُلًا اهـ. لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ: وَالْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ حَدِيثُ الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ( «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَءًا مُسْلِمًا فَهُوَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ بِكُلِّ عَظْمٍ مِنْهُ عَظْمًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَهِيَ فِكَاكُهَا مِنَ النَّارِ، تُجْزِئُ بِكُلِّ عَظْمٍ مِنْهَا عَظْمًا مِنْهَا، وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ فَهُمَا فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ بِكُلِّ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا عَظْمًا مِنْهُ» ) . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ.

3383 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ) قَالَ: قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) . قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ) . قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ ; فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3383 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْعَمَلِ) أَيْ: أَيُّ أَنْوَاعِهِ مِنْ عَمَلِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ (أَفْضَلُ) أَيْ وَفِي الثَّوَابِ أَكْمَلُ (قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ) ، أَيِ ابْتِدَاؤُهُ لِكَوْنِهِ شَرْطَ صِحَّةِ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ، أَوْ تَجْدِيدُهُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَبَقَاؤُهُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ (وَجِهَادٌ) : أَيْ مُجَاهَدَةٌ مَعَ الْكُفَّارِ (فِي سَبِيلِهِ) . أَيْ فِي طَرِيقِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، أَوِ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْجِهَادِ الشَّامِلِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ الْمُسَمَّى بِالْجِهَادِ الْأَكْبَرِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُجَاهَدَةُ مَعَ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ أَعْدَى عَدُوِّهِ، وَ " سُبُلَنَا " شَرْعُهُ الْمُسْتَقِيمُ وَدِينُهُ الْقَوِيمُ مِنِ امْتِثَالِ جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَانْتِهَاءِ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] وَنَظِيرُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: (قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ) (قَالَ) : أَيْ أَبُو ذَرٍّ (فَقُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ) : أَيْ مِنْ جِهَةِ عِتْقِهَا (أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَغْلَاهَا ثَمَنًا) ، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُرْوَى بِالْمُهْمَلَةِ كَذَا فِي التَّنْقِيحِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَالنَّسَفِيِّ بِمُعْجَمَةٍ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ اهـ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، كَمَا رُوِيَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحَزُّهَا أَيْ: أَشَدُّهَا وَأَقْوَاهَا عَلَى النَّفْسِ. (وَأَنْفَسُهَا) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ السِّينِ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ لِلنَّفِيسِ أَيْ: أَحَبُّهَا وَأَكْرَمُهَا (عِنْدَ أَهْلِهَا) . أَيْ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ) أَيْ عَجْزًا لَا كَسَلًا قَالَهُ السُّيُوطِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى فِعْلِهِ (قَالَ: (تُعِينُ) : بِالرَّفْعِ فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ أَيَّ شَيْءٍ يَقُومُ مَقَامَهُ فَقَالَ: أَنْ تُعِينَ (صَانِعًا) : مِنَ الصَّنْعَةِ أَيْ مَا بِهِ مَعَاشُ الرَّجُلِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْحِرْفَةُ وَالتِّجَارَةُ أَيْ صَانِعًا لَمْ يَتِمَّ كَسْبُهُ لِعِيَالِهِ، أَوْ ضَعِيفًا عَاجِزًا فِي صُنْعِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ ضَائِعًا أَيْ ذَا ضَيَاعٍ مِنَ الضَّيَاعِ أَيْ: إِعَانَةُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَهِّدًا

بِتَعَهُّدٍ مِنْ فَقْرٍ أَوْ عِيَالٍ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبُخَارِيِّ: قَوْلُهُ: تُعِينُ ضَائِعًا بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَضَبْطُ مَنْ قَالَ مِنْ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ هِشَامًا إِنَّمَا رَوَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ، وَقَدْ نَسَبَهُ الزُّهْرِيُّ إِلَى التَّصْحِيفِ، وَوَافَقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ لِمُقَابَلَتِهِ بِالْأَخْرَقِ اهـ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ مَحْمُولَانِ عَلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ قَبْلَ الْإِعْلَالِ، إِذْ يَجِبُ قَلْبُهَا هَمْزَةً كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي نَحْوِ: قَائِلٍ وَبَائِعٍ وَعَائِشٍ وَأَمْثَالِهَا. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّنْقِيحِ: قَوْلُهُ: ضَائِعًا بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ هَكَذَا رِوَايَةُ هِشَامٍ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ مِنْ جِهَتِهِ، أَيْ: ذَا ضَيَاعٍ مِنْ فَقْرٍ أَوْ عِيَالٍ أَوْ حَالٍ قَصَّرَ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا، وَرُوِيَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّهُ الصَّوَابُ لِمُقَابَلَتِهِ الْأَخْرَقَ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: صَحَّفَ هِشَامٌ، إِنَّمَا هُوَ الصَّانِعُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (أَوْ تَصْنَعُ) : بِالْإِعْرَابَيْنِ (لِأَخْرَقَ) . أَيْ مَنْ لَيْسَ لَهُ كَسْبٌ مِنْ خَرِقَ كَفَرِحَ خَرَقًا بِالتَّحْرِيكِ جَهِلَ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: " أَخْرَقَ " أَيِ الْجَاهِلِ بِمَا يَعْمَلُهُ أَوْ لَيْسَ فِي يَدِهِ صَنْعَةٌ يَتَكَسَّبُ بِهَا. قَالَ الْقَاضِي: الْأَخْرَقُ هُنَا الَّذِي لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: رَجُلٌ أَخْرَقُ لَا صَنْعَةَ لَهُ، وَالْجَمْعُ خُرْقٌ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تَدَعُ) : بِالضَّبْطَيْنِ أَيْ تَتْرُكُ (النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ) ، أَيْ مِنْ إِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْهِمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَتْرُكُهُمْ مِنْ أَجْلِ شَرِّهِمْ، (فَإِنَّهَا) : أَيْ تَرْكُ النَّاسِ مِنَ الشَّرِّ (صَدَقَةٌ) ، فَالضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَأَنَّثَهُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْفَعْلَةِ أَوِ الْخَصْلَةِ (تَصَدَّقُ) : أَصْلُهُ تَتَصَدَّقُ (بِهَا) : أَيْ بِهَذِهِ الصَّدَقَةِ (عَلَى نَفْسِكَ) . أَيْ: تَحْفَظُهَا عَمَّا يُرْدِيهَا وَيَعُودُ وَبَالُهُ عَلَيْهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3384 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: " لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةِ) . قَالَ: أَوَلَيْسَا وَاحِدًا؟ قَالَ: " لَا ; عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا. وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا، وَالْمِنْحَةَ الْوَكُوفَ، وَالْفَيْءَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ» ) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3384 - (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) ، صَحَابِيَّانِ (قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ) . بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِـ " عَمَلًا "، وَجُوِّزَ جَزْمُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُهُ، وَالْمُرَادُ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ ابْتِدَاءً مَعَ النَّاجِينَ قَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ) . اللَّامُ الْأُولَى مُوَطِّأَةٌ لِلْقَسَمِ، وَمَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ أَنَّكَ إِنْ أَقْصَرْتَ فِي الْعِبَارَةِ بِأَنْ جِئْتَ بِعِبَارَةٍ قَصِيرَةٍ فَقَدْ أَطْنَبْتَ فِي الطَّلَبِ حَيْثُ مِلْتَ إِلَى مَرْتَبَةٍ كَبِيرَةٍ، أَوْ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ ذِي طُولٍ وَعَرْضٍ، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَالْجَوَابُ (أَعْتِقِ النَّسَمَةَ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ الرُّوحُ أَوِ النَّفْسُ، أَيْ أَعْتِقْ ذَا نَسَمَةٍ (وَفُكَّ) : بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهُ أَيْ وَأَخْلِصِ (الرَّقَبَةَ) : أَيْ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، وَفِي الْكَلَامِ تَفَنُّنٌ، وَلِذَا أَظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ (قَالَ) : أَيِ الْأَعْرَابِيُّ (أَوَلَيْسَا) : أَيِ الْإِعْتَاقُ وَالْفَكُّ (وَاحِدًا) : أَيْ فِي الْمَعْنَى (قَالَ: لَا) : أَيْ بَلْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا (عِتْقُ النَّسَمَةَ) : أَيْ أَعْتِقْهَا فَعَبَّرَ بِحَاصِلِ الْمَصْدَرِ عَنِ الْمَصْدَرِ (أَنْ تَفَرَّدَ) : أَصْلُهُ أَنْ تَتَفَرَّدَ مِنَ

التَّفَرُّدِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ التَّفْرِيدِ، وَفِي أُخْرَى مِنَ الْإِفْرَادِ، وَالْمَعْنَى أَنْ تَنْفَرِدَ وَتَسْتَقِلَّ (بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَوَجْهُ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْعِتْقَ إِزَالَةُ الرِّقِّ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَالِكِ الَّذِي يُعْتِقُ، وَأَمَّا الْفَكُّ فَهُوَ السَّعْيُ فِي التَّخْلِيصِ، فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَنْ أَدَّى النَّجْمَ عَنِ الْمُكَاتَبِ أَوْ أَعَانَهُ. (وَالْمِنْحَةَ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ هِيَ الْعَطِيَّةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا نَاقَةٌ أَوْ شَاةٌ يُعْطِيهَا صَاحِبُهَا لِيُنْتَفَعَ بِلَبَنِهَا وَوَبَرِهَا مَادَامَتْ تَدِرُّ، وَقَوْلُهُ: (الْوَكُوفَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ صِفَةٌ لَهَا وَهِيَ الْكَثِيرَةُ اللَّبَنِ مِنْ وَكَفَ الْبَيْتُ إِذَا قَطَرَ (وَالْفَيْءَ) : بِالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ أَيِ التَّعَطُّفَ وَالرُّجُوعَ بِالْبِرِّ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِمَا النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ: وَامْنَحِ الْمِنْحَةَ وَآثِرِ الْفَيْءَ لِيَحْسُنَ الْعَطْفُ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمِمَّا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ الْمِنْحَةُ وَالْفَيْءُ (عَلَى ذِي الرَّحِمِ) : أَيْ عَلَى الْقَرِيبِ (الظَّالِمِ) ، أَيْ عَلَيْكَ بِقَطْعِ الصِّلَةِ وَغَيْرِهِ (فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذُكِرَ (فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ وَاسْقِ) : بِهَمْزِ وَصْلٍ أَوْ قَطْعٍ وَهُوَ أَنْسَبُ هُنَا (الظَّمْآنَ) : أَيِ الْعَطْشَانَ (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، أَيِ اجْمَعْ بَيْنَ الْإِحْسَانِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ (فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ) : أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ، أَوْ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَمْرِ الْأَخِيرِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ (فَكُفَّ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ وَكَسْرُهُ أَيْ: فَامْنَعْ لِسَانَكَ (إِلَّا مِنْ خَيْرٍ) . وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ: ( «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» ) . قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَالْمُبَاحُ لَيْسَ بِخَيْرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ هُنَا مَا يُقَابِلُ الشَّرَّ فَيَشْمَلُ الْمُبَاحَ، وَإِلَّا فَلَا يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ أَوْ يَنْقَلِبُ الْمُبَاحُ مَنْدُوبًا، وَهَذَا فَذْلَكَةُ الْحَدِيثِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ أَيْ حَالُهُ أَوْ زَمَانُهُ، كَمَا هُوَ فِي عَصْرِنَا، وَلِذَا قِيلَ: وَقَتُنَا وَقْتُ السُّكُوتِ، وَلُزُومِ الْبُيُوتِ، وَالْقَنَاعَةِ بِالْقُوتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

3385 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: ( «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِيُذْكَرَ اللَّهُ فِيهِ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مُسْلِمَةً كَانَتْ فِدْيَتَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3385 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ) : بِفَتَحَاتٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كُنْيَتُهُ أَبُو نَجِيحٍ السُّلَمِيُّ، قِيلَ: كَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ (أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا) : أَيْ مَوْضِعًا يُصَلَّى فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا (لِيُذْكَرَ اللَّهُ فِيهِ) ، أَيْ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ (بُنِيَ لَهُ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (بَيْتٌ) : أَيْ قَصْرٌ عَظِيمٌ (فِي الْجَنَّةِ) . فَالْمُضَاعَفَةُ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي الْكَمِّيَّةِ أَيْضًا بِأَنْ بُنِيَ فِيهَا بَيْتٌ كَبِيرٌ أَضْعَافَ قَدْرِ مِسَاحَةِ مَسْجِدِهِ (وَمَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مُسْلِمَةً، كَانَتْ) : أَيْ هِيَ (فِدْيَتَهُ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ فِدَاءَهُ وَفِكَاكَهُ (مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً) : أَيِ ابْيَضَّ فِي لِحْيَتِهِ أَوْ بَدَنِهِ شَعَرَةٌ بَيْضَاءُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، أَيْ فِي الْغَزْوِ أَوِ الْحَجِّ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ. أَوْ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. (كَانَتْ) : أَيْ صَارَتْ شَيْبَتُهُ (لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ يَتَخَلَّصُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ (رَوَاهُ) :

أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي: (شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَعْنِي صَاحِبَ الْمِشْكَاةِ مَا وَجَدَ الْحَدِيثَ فِي غَيْرِ شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْحَدِيثَ بِمَجْمُوعِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، وَإِلَّا فَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ مُفَرَّقًا، فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. عَنْ عَلِيٍّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُثْمَانَ، وَلَفْظُهُ: ( «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمِفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ أَوْسَعَ مِنْهُ» ) . وَرَوَاهُ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ بَيْتًا يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ» ) . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْحَدِيثِ، فَنَظَائِرُهُ تَقَدَّمَتْ أَوَّلَ الْبَابِ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَخِيرُ فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ: ( «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِلَفْظِ: ( «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا مَا لَمْ يُغَيِّرْهَا» ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3386 - عَنِ الْغَرِيفِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، فَغَضِبَ وَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَقْرَأُ وَمُصْحَفُهُ مُعَلَّقٌ فِي بَيْتِهِ فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. فَقُلْنَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَقَالَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ يَعْنِي: النَّارَ بِالْقَتْلِ. فَقَالَ: (أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3386 - (عَنِ الْغَرِيفِ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَفَاءٍ (الدَّيْلَمِيِّ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ. قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: الْغَرِيفُ هَذَا لَقَبٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي التَّقْرِيبِ: الْغَرِيفُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ابْنُ عَيَّاشٍ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُعْجَمَةٍ ابْنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيُّ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ، مَقْبُولٌ مِنَ الْخَامِسَةِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: هُوَ الْغَرِيفُ ابْنُ عَيَّاشٍ الدَّيْلَمِيُّ، وَكَذَا الْمُصَنَّفُ فِي أَسْمَاءِ التَّابِعِينَ. (قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ) كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ خَدَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ سِنِينَ (فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا) : بِصِيغَةِ الْأَمْرِ (حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ) ، بِزِيَادَةِ (لَا) لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ (فَغَضِبَ) : أَيْ تَغَيَّرَ وَظَهَرَ عَلَيْهِ أَثَارُ الْغَضَبِ (وَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَقْرَأُ) : أَيِ الْقُرْآنَ لَيْلًا وَنَهَارًا لَا يَغِيبُ عَنْهُ سَاعَةً (وَمُصْحَفُهُ مُعَلَّقٌ فِي بَيْتِهِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تُفِيدُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مُرَاجَعَتِهِ إِلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّرَدُّدِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ مَا سَبَقَ (فَيَزِيدُ) : أَيْ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ يَزِيدُ (وَيَنْقُصُ) . أَيْ فِي قِرَاءَتِهِ سَهْوًا وَغَلَطًا، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ مُبَالَغَةٌ، لَا أَنَّهُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الْمَقْرُوءِ، وَفِيهِ جَوَازُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى وَنُقْصَانِ الْأَلْفَاظِ وَزِيَادَتِهَا مَعَ رِعَايَةِ الْمَعْنَى وَالْمَقْصِدِ مِنْهُ (فَقُلْنَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ) : أَيْ مَا أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ مَا عَنَيْتَ بِهِ مِنِ اتِّقَاءِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْأَلْفَاظِ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ. (مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . يَعْنُونَ، وَحَدِيثُهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ أَوْ يَنْقُصَهُ عَمْدًا، أَوْ لَا زِيَادَةَ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَا نُقْصَانَ فِي حُكْمِهِ أَبَدًا، (فَقَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَاحِبٍ) : أَيْ جِئْنَاهُ فِي شَأْنِ صَاحِبٍ (لَنَا) : مِنْ شَفَاعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا (أَوْجَبَ) : أَيْ مِنْ وَصْفِهِ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ لَوْلَا الْغُفْرَانُ (يَعْنِي) : هَذَا كَلَامُ الْغَرِيفِ، يُرِيدُ أَنْ وَاثِلَةَ يُرِيدُ بِالْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ فِي أَوْجَبَ (النَّارَ) : وَقَوْلُهُ (بِالْقَتْلِ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَوْجَبَ مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ وَاثِلَةَ، فَجُمْلَةُ (يَعْنِي النَّارَ) مُعْتَرِضَةٌ لِلْبَيَانِ، وَلَوْ قَالَ الرَّاوِي: أَوْجَبَ بِالْقَتْلِ يَعْنِي النَّارَ لَكَانَ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى، (فَقَالَ: (أَعْتِقُوا) : أَيْ: يَا أَقَارِبَ الْقَاتِلِ أَوْ أَصْحَابَهُ أَوِ الْخِطَابُ لِلْقَاتِلِ، وَجُمِعَ تَغْلِيبًا أَوْ تَعْمِيمًا لِلْحُكْمِ فِي مِثْلِ فِعْلِهِ (عَنْهُ) : أَيْ عَنْ قَتْلِهِ وَعِوَضِهِ (يُعْتِقِ اللَّهُ) : بِالْجَزْمِ

مَكْسُورٌ فِي الْوَصْلِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ اسْتِئْنَافًا (بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْعَتِيقِ (عُضْوًا مِنْهُ) ، أَيْ: مِنَ الْقَاتِلِ (مِنَ النَّارِ) . مُتَعَلِّقٌ بِيُعْتِقْ، وَلَعَلَّ الْمَقْتُولَ كَانَ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ وَقَدْ قَتَلَهُ خَطَأً، وَظَنُّوا أَنَّ الْخَطَأَ مُوجِبٌ لِلنَّارِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَوْعِ تَقْصِيرٍ حَيْثُ لَمْ يَذْهَبْ طَرِيقَ الْحَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَالنَّسَائِيُّ.

3387 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الشَّفَاعَةُ، بِهَا تُفَكُّ الرَّقَبَةُ» ) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3387 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) : بِضَمَّتَيْنِ وَبِفَتْحِ الدَّالِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الشَّفَاعَةُ، بِهَا تُفَكُّ الرَّقَبَةُ) . أَيْ تُخَلِّصُهَا مِنَ الْعِتْقِ أَوْ مِنَ الْأَسْرِ أَوْ مِنَ الْحَبْسِ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ اسْتِئْنَافٌ، وَبِهَا مُتَعَلِّقٌ بِهِ قُدِّمَ عَلَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ الَّتِي بِهَا تُفَكُّ الرَّقَبَةُ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِلشَّفَاعَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ رُوِيَ شَفَاعَةٌ نَكِرَةً كَانَ صِفَةً لَهُ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ جِنْسٌ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِمْ. وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي لِبُعْدِ الْمَرْمَى، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ حَالٌ كَانَ أَبْعَدَ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِفَكِّ الرَّقَبَةِ خَلَاصُ الرَّجُلِ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ بِسَبَبِ الشَّفَاعَةِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةً كَأَنَّهُ قِيلَ: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الشَّفَاعَةُ، قِيلَ: لِمَاذَا؟ أُجِيبَ: بِهَا يَتَخَلَّصُ الْإِنْسَانُ مِنَ الشِّدَّةِ. الْتَأَمَ الْكَلَامُ وَصَحَّ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85] لَكِنْ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، عَنْ سَمُرَةَ: ( «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الشَّفَاعَةُ تَفُكُّ بِهَا الْأَسِيرَ، وَتَحْقِنُ بِهَا الدَّمَ، وَتَجُرُّ بِهَا الْمَعْرُوفَ وَالْإِحْسَانَ إِلَى أَخِيكَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ الْكَرِيهَةَ» ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْخِطَابِ فِي الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ.

[باب إعتاق العبد المشترك وشراء القريب والعتق في المرض]

[بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3388 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (1) بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3388 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ حِصَّةً وَنَصِيبًا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ) : أَيْ لِلْمُعْتِقِ (مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ) : أَيْ: قِيمَةً بَاقِيَةً. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمُعْتَبَرُ يَسَارُ التَّيْسِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ قِيمَةِ نَصِيبِ السَّاكِتِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: يُسْتَثْنَى الْكَفَافُ، وَكَذَا الْمَنْزِلُ وَالْخَادِمُ وَثِيَابُ الْبَدَنِ لِابْتِسَارِ الْغَنِيِّ الْمَحْرَمِ لِلصَّدَقَةِ، كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ; لِأَنَّ يَسَارَ التَّيْسِيرِ يَعْدِلُ النَّظَرَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمُعْتِقِ، وَجَانِبِ الْمُعْتَقِ

جَانِبُ السَّاكِتِ ; لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُعْتِقِ الْقُرْبَةُ وَتَتْمِيمُهَا بِضَمَانِهِ، وَمَقْصُودَ السَّاكِتِ بَدَلَ حِصَّتِهِ، وَتَحْقِيقُهَا بِالضَّمَانِ أَسْرَعُ مِنَ الِاسْتِسْعَاءِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ نِصَابِ التَّيْسِيرِ أَسْرَعَ فِي تَحَقُّقِ مَقْصُودِهِ فَوَجَبَ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيلٌ لِلنَّصِّ، وَإِلَّا فَصَرِيحُ النَّصِّ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عِنْدَ مُجَرَّدِ مِلْكِ الْقِيمَةِ لِلْحِصَّةِ، لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ) بِاتِّفَاقِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَيْهِ، (قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ) : أَيْ بَاقِي الْعَبْدِ أَوْ كُلُّهُ، وَوُضِعَ الْمُظْهَرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ جَمِيعًا (قِيمَةَ عَدْلٍ) : أَيْ: تَقْوِيمَ عَدْلٍ مِنَ الْمُقَوِّمِينَ أَوِ الْمُرَادُ قِيمَةُ وَسَطٍ (فَأُعْطِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (شُرَكَاؤُهُ) : مَرْفُوعٌ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ (حِصَصَهُمْ) : مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ جَمْعٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَعَتَقَ) : بِالْفَتْحِ (عَلَيْهِ الْعَبْدُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَإِلَّا) : أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ذَلِكَ الثَّمَنَ (فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُ (مَا عَتَقَ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ بِقِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ يُعْتَقُ كُلُّهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ وَلَا يَتَوَقَّفُ إِلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ، وَلَا عَلَى اسْتِسْعَاءٍ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَدَاءِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَقْ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمَا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ انْتِقَالٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ إِتْلَافٍ وَلَمْ يُوجَدِ الْأَخِيرَانِ فَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَنَصِيبُ الشَّرِيكِ رَقِيقٌ لَا يُكَلَّفُ إِعْتَاقَهُ وَلَا يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي فَكِّهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةِ بَاقِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرِيكُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا وَلَا خِيَارَ لِلشَّرِيكِ فِي هَذَا وَلَا لِلْعَبْدِ وَلَا لِلْمُعْتِقِ، بَلْ يَنْفُذُ الْحُكْمُ وَإِنْ كَرِهُوهُ كُلُّهُمْ مُرَاعَاةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحُرِّيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، وَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ أَيْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مُنْجَزًا أَوْ مُضَافًا إِلَى مُدَّةِ الِاسْتِسْعَاءِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِيهَا أَوْ ضَمِنَ الْمُعْتَقُ مُوسِرًا قِيمَةَ حَظِّهِ لَا مُعْسِرًا، وَالْوَلَاءُ لَهُمَا إِنْ أَعْتَقَهُ أَوِ اسْتَسْعَاهُ، وَلِلْمُعْتِقِ إِنْ ضَمِنَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَالسِّعَايَةُ فَقَطْ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَقَالَا: لَيْسَ لِلسَّاكِتِ إِلَّا الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الْإِعْسَارِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ إِذَا ضَمِنَ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْتَنَى عَلَى حَرْفَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَجَزُّءُ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ، وَعَدَمُهُ عِنْدَهُمَا، فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ مَدْيُونٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتَقِ لَا يَمْنَعُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَمْنَعُ، لَهُمَا فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ النُّصُوصِ الَّتِي ظَاهِرُهَا تَجَزُّءُ الْإِعْتَاقِ كَقَوْلِهِ: (فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) وَحَدِيثِ (فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ) وَقَوْلِهِ: (مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، ثُمَّ يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا) فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَكَذَا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ (مَنْ أَعْتَقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ فَيُعْتَقَ) وَالَّتِي ظَاهِرُهَا عَدَمُ تَجَزُّئِهِ كَحَدِيثِ ابْنِ الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ غُلَامٍ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: (لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ، وَأَجَازَ عِتْقَهُ) ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ رَزِينٌ (فِي مَالِهِ) ، وَفِي لَفْظٍ: (هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ) . وَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: (مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ) كُلُّهَا تُفِيدُ أَنَّ حُكْمَ السَّاكِتِ عِنْدَ يَسَارِهِ التَّضْمِينُ لَيْسَ غَيْرُهُ، وَلِذَا اخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُمَا: وَوُجِّهَ أَنَّهُ قَسَمَ فَجَعَلَ الْحُكْمَ عِنْدَ يَسَارِهِ تَضْمِينَهُ، وَعِنْدَ إِعْسَارِهِ الِاسْتِسْعَاءَ، وَفِي الْكَافِي: جَعَلَ فَائِدَةَ الْقِسْمَةِ نَفْيَ الضَّمَانِ لَوْ كَانَ فَقِيرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ كَمَا تُفِيدُ نَفْيَ الضَّمَانِ لَوْ كَانَ فَقِيرًا تُفِيدُ نَفْيَ الِاسْتِسْعَاءِ لَوْ كَانَ مُوسِرًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ أَفَادَ تَصَوُّرَ عِتْقِ الْبَعْضِ فَقَطْ، يَعْنِي: وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ: (وَرَقَّ مِنْهُ مَا رَقَّ) ، وَلَكِنْ قَالَ أَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ: هِيَ ضَعِيفَةٌ مَكْذُوبَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ أَيُّوبَ: لَا نَدْرِي أَشَيْءٌ قَالَهُ نَافِعٌ أَوْ هُوَ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ؟ فَلَا يَضُرُّ إِذِ الظَّاهِرُ بَلِ الْوَاجِبُ أَنَّهُ مِنْهُ إِذْ لَا يَجُوزُ إِدْرَاجُ مِثْلِ هَذَا مِنْ غَيْرِ نَصٍّ قَاطِعٍ فِي إِفَادَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي مَمْلُوكِهِ فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ مَالُهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» ". أَيْ لَا يُغَلِي عَلَيْهِ الثَّمَنَ أَفَادَ عَدَمَ سَرَايَةِ الْعِتْقِ إِلَى الْكُلِّ بِمُجَرَّدِ عِتْقِ الْبَعْضِ، وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ خَلُصَ قَبْلَ تَخْلِيصِ الْمُعْتِقِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ لَهُمَا أَيْ لِصَاحِبَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكِهِ أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ عَدْلٍ فَهُوَ عِتْقٌ» ". وَفِي لَفْظٍ: فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ؟ فَإِنَّمَا يَقْتَضِي عِتْقَ كُلِّهِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ قِيمَتَهُ، وَلَيْسَ مُدَّعَاهُمَا ذَلِكَ، بَلْ إِنَّهُ يُعْتَقُ كُلُّهُ بِمُجَرَّدِ إِعْتَاقِ بَعْضِهِ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَا. فَقَدْ أَفَادَتِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ الْعِتْقَ مِمَّا يَقْتَصِرُ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ السِّرَايَةِ، وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ إِعْتَاقُ الْبَعْضِ إِعْتَاقَ الْكُلِّ لَضَمِنَ مُطْلَقًا، كَمَا إِذَا أَتْلَفَهُ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ بِهِ لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَحَيْثُ ثَبَتَ الِاقْتِصَارُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِتْقِ فِي قَوْلِهِ: (فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) زَوَالَ الْمِلْكِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ بِخِلَافِ مَا قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ عُمَرَ قَوْلُهُمَا، فَقَدْ أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ لَنَا غُلَامٌ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ، فَأَبْلَى فِيهَا وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ أُمِّي وَأَخِي الْأَسْوَدِ، فَأَرَادُوا عِتْقَهُ، وَكُنْتُ يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا، فَذَكَرَ الْأَسْوَدُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ: أَعْتِقُوا أَنْتُمْ، فَإِذَا بَلَغَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَغِبَ فِيمَا رَغِبْتُمْ أَعْتَقَ، وَإِلَّا فَضَمِنَكُمْ أَثْبَتَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ بُلُوغِهِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ إِعْتَاقُهُمَا.

3389 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي عَبْدٍ أُعْتِقَ كُلُّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3389 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: نَصِيبًا (فِي عَبْدٍ) وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ عَبْدٍ (أُعْتِقَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: الْعَبْدُ (كُلُّهُ) : أَيْ عَلَى الْمُعْتِقِ (إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ) : أَيْ: يَبْلُغُ قِيمَةَ بَاقِيهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَسْتَسْعِيهِ فِي غَيْرِ مَا أَعْتَقَهُ (غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) : بِنَصْبِ (غَيْرَ) عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى الِاسْتِسْعَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ يُكَلَّفُ بِالِاكْتِسَابِ وَالطَّلَبِ حَتَّى يُحَصِّلَ قِيمَةَ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ، فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ عَتَقَ، كَذَا فَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَهُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ بِقَدْرِ مَا لَهُ فِيهِ مِنَ الرِّقِّ، فَعَلَى هَذَا تَتَّفِقُ الْأَحَادِيثُ، وَمَعْنَى (غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) . أَيْ لَا يُكَلَّفُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ لَا يَسْتَغْلِي عَلَيْهِ فِي الثَّمَنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي ذِكْرِ الِاسْتِسْعَاءِ هُنَا خِلَافٌ بَيْنَ الرُّوَاةِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ شُعْبَةُ وَهِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُمَا أَثْبَتُ مِمَّنْ لَمْ يَذْكُرَا فِيهِ الِاسْتِسْعَاءَ، وَوَافَقَهُمَا هَمَّامٌ، فَفَصَلَ الِاسْتِسْعَاءَ عَنِ الْحَدِيثِ، فَجَعَلَهُ مِنْ رَأْيِ قَتَادَةَ قَالَ: وَعَلَى هَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ وَضَبَطَهُ، فَفَصَلَ قَوْلَ قَتَادَةَ عَنِ الْحَدِيثِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِسْقَاطُ السِّعَايَةِ مِنَ الْحَدِيثِ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِهَا، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا السِّعَايَةَ أَثْبَتُ مِمَّنْ ذَكَرَهَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ عَبْدٍ عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَيَسْعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الْحَالِ، وَالِاسْتِسْعَاءُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ فَيَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، ذَكَرَهُ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ، وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ السِّعَايَةِ فَعَلَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ عَمَلٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِسْعَاءِ غَيْرُ هَذَا، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ، فَتَكُونُ الْإِجَارَةُ تَنْفُذُ عَلَيْهِ جَبْرًا، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا إِذَا عَيَّنَ مِقْدَارًا كَرُبُعِكَ حُرٌّ وَنَحْوِهِ،

فَلَوْ قَالَ: بَعْضُكَ حُرٌّ أَوْ جُزْءٌ مِنْكَ أَوْ شِقْصُكَ أُمِرَ بِالْبَيَانِ، وَقَالَا: يُعْتَقُ كُلُّهُ إِذِ الْعِتْقُ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَوْلَى وَاحِدًا، أَوْ كَانَ الشَّرِيكُ وَالْمُعْتِقُ مُوسِرَيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لِشَرِيكَيْنِ وَالْمُعْتِقُ مُعْسِرٌ فَيَبْقَى مِلْكُ السَّاكِتِ كَمَا كَانَ حَتَّى جَازَ لَهُ بَيْعُهُ عِنْدَهُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ: أَنَّ السَّاكِتَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ وَلَا سِعَايَةَ أَصْلًا، وَسَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ إِعْلَالُهُمْ لَفْظَ السِّعَايَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّسَائِيُّ: أَثْبَتُ أَصْحَابِ قَتَادَةَ شُعْبَةُ وَهِشَامٌ عَلَى خِلَافِ سَعْدِ بْنِ أَبِي عُرْوَةَ، يَعْنِي فِي ذِكْرِ السِّعَايَةِ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ هَمَّامًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، فَجَعَلَ الْكَلَامَ الْأَخِيرَ: (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: أَحَادِيثُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَتَبَهَا إِمْلَاءً، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ وَضَبَطَهُ، وَفَصَلَ قَوْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي عُرْوَةَ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَجَعَلَ الِاسْتِسْعَاءَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَحْسَبُهُمَا وَهِمَا فِيهِ كَمُخَالَفَةِ شُعْبَةَ وَهِشَامٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَاضْطَرَبَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي السِّعَايَةِ فَمَرَّةً يَذْكُرُهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي السِّتَّةِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَعْنِي الْحَدِيثَ أَوَّلَ الْبَابِ. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: فِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ مِنَ الْأَثْبَاتِ عَنْ قَتَادَةَ، وَلَيْسَ بِدُونِ هَمَّامٍ عَنْهُ، وَقَدْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ذِكْرِ الِاسْتِسْعَاءِ، وَرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ جَرِيرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، وَحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ، وَيَحْيَى بْنُ صُبَيْحٍ الْخُرَاسَانِيُّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَحَسْبُكَ بِذَيْنِكَ بِرَفْعِهِمَا الِاسْتِسْعَاءَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ مِثْلُ: إِنَّهُ لَا يُعْتَقُ شَيْءٌ أَصْلًا وَلَوْ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ الْبَاقِيَ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَمْلُوكِيَّتِهِ وَأَنَّ لَهُ التَّضْمِينَ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ زُفَرَ، وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، وَأَنْ يُعْتَقَ الْبَاقِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ النَّافِينَ: رِوَايَةُ صِحَّةِ الِاسْتِسْعَاءِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ يُسْتَسْعَى إِنِ اخْتَارَ ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ.

3390 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُ وَذَكَرَ (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أُصَلِّيَ عَلَيْهِ) بَدَلَ (وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا) . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: قَالَ: (لَوْ شَهِدْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ لَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3390 - (وَعَنْ عِمْرَانَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (ابْنِ حُصَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (فَدَعَا بِهِمْ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ طَلَبَهُمْ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَزَّأَهُمْ) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ النَّوَوِيُّ يَرْحَمُهُ اللَّهُ: بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ السِّكِّيتُ وَغَيْرُهُ أَيْ فَقَسَمَهُمْ (أَثْلَاثًا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثَلَاثًا مَصْدَرٌ أَيْ: مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ الْمُنْجَزَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ كَالْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الثُّلُثِ، وَكَذَلِكَ التَّبَرُّعُ الْمُنْجَزُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ (ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ) : أَيْ: بَيْنَ الْأَثْلَاثِ أَوْ بَيْنَ الْمَمْلُوكِينَ السِّتَّةِ. (فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً) : أَيْ: أَبْقَى حُكْمَ الرِّقِّ عَلَى الْأَرْبَعَةِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَهَذَا ; لِأَنَّ أَكْثَرَ عَبِيدِهِمُ الزُّنُوجُ وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْقِيمَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ قِسْطَهُ وَيَسْعَى فِي الْبَاقِي، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَشُرَيْحٌ الْبَصْرِيُّ. (وَقَالَ لَهُ) : أَيْ: فِي شَأْنِهِ (قَوْلًا شَدِيدًا) : أَيْ: كَرَاهِيَةً لِفِعْلِهِ وَتَغْلِيظًا عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ

النَّسَائِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ (عَنْهُ) : أَيْ: عَنْ عِمْرَانَ وَذَكَرَ: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أُصَلِّيَ عَلَيْهِ) بَدَلَ: (وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا) . قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحْدَهُ كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ تَشْدِيدًا وَتَغْلِيظًا وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: وَقَالَ: لَوْ شَهِدْتُهُ) : أَيْ: حَضَرْتُهُ (قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ لَمْ يُدْفَنْ) : أَيْ: وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لَمْ يُقْبَرْ (فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ) فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الزَّجْرِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْهَمِّ عَدَمُ الْفِعْلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3391 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3391 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَا يَجْزِي) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْيَاءِ فِي آخِرِهِ أَيْ: لَا يُكَافِئُ (وَلَدٌ وَالِدَهُ) : أَيْ: إِحْسَانَ وَالِدِهِ (إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ) : أَيْ: يُصَادِفَهُ (مَمْلُوكًا) : مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي (يَجِدَهُ) (فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ) : بِالنَّصْبِ فِيهِمَا: قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يُعْتَقُ عَلَى وَلَدِهِ إِذَا تَمَلَّكَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ تَرْتِيبُ الْإِعْتَاقِ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ التَّمَلُّكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْشِئَ فِيهِ عِتْقًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ: (فَيُعْتِقَهُ) مَعْنَاهُ: فَيُعْتِقُهُ بِالشِّرَاءِ لَا بِإِنْشَاءِ عِتْقٍ، وَالتَّرْتِيبُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ دُونَ الْإِنْشَاءِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالُوا إِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَحَدًا مِنْ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ أَوْ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْشِئَ فِيهِ عِتْقًا. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي حَدِيثُ: ( «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» ) قَالَ الْمُظْهِرَ: فَعَلَى هَذَا الْفَاءُ فِي (فَيُعْتِقَهُ) لِلسَّبَبِيَّةِ يَعْنِي فَيُعْتِقَهُ بِسَبَبِ شِرَائِهِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى قَوْلِهِ: أَعْتَقْتُكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بَلْ عَتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ يَجْعَلُ الْفَاءَ فِي (فَيُعْتِقَهُ) لِلتَّعْقِيبِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَإِذَا صَحَّ الشِّرَاءُ ثَبَتَ الْمِلْكُ وَالْمِلْكُ يُفِيدُ التَّصَرُّفَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ ; لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ تَقْتَضِي الْمَالِكِيَّةَ كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ» . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] وَالشِّرَاءُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْمِلْكِ، وَالْعِتْقُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ مَنْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي يَقْتَضِي تَمْلِيكَهُ إِيَّاهُ ثُمَّ إِعْتَاقَهُ عَنْهُ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، فَالْحَدِيثُ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَمْلِكَهُ فَيُعْتِقَهُ وَهُوَ مُحَالٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] الْكَشَّافَ: يَعْنِي إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ فَانْكِحُوهُ، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْغَرَضُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِهِ وَسَدُّ الطَّرِيقَةِ إِلَى إِبَاحَتِهِ كَمَا يُعَلَّقُ بِالْمُحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] إِذْ جُعِلَتِ التَّوْبَةُ نَفْسَ الْقَتْلِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمْ.

3392 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ ابْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا، يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ اقْضِ دَيْنَكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3392 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا) : أَيْ: قَالَ مَثَلًا: عَبْدِي دُبُرَ مَوْتِي حُرٌّ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ) : بِالرَّفْعِ (بَلَغَ) : أَيْ: ذَلِكَ (النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمٌ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ النَّحَّامِ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى مَا ضَبَطَهُ الْمُؤَلِّفُ وَغَيْرُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَوْلُهُ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَاشْتَرَاهُ ابْنُ النَّحَّامِ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ. قَالُوا: وَهُوَ غَلَطٌ، وَصَوَابُهُ فَاشْتَرَاهُ النَّحَّامُ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ نُعَيْمٌ وَهُوَ النَّحَّامُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ( «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا نَحْمَةً لِنُعَيْمٍ» ) وَالنَّحْمَةُ: الصَّوْتُ، وَقِيلَ: هِيَ السَّعْلَةُ، وَقِيلَ: النَّحْنَحَةُ. قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ كَمَا فِي الِاسْتِقْرَاضِ: نُعَيْمُ ابْنُ النَّحَّامِ هُوَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالنَّحَّامُ بِالنُّونِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ لَقَبُ نُعَيْمٍ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَقَبُ أَبِيهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ غَلَطٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا نَحْمَةً مِنْ نُعَيْمٍ» ) لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَلَا تُرَدُّ بِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ، فَلَعَلَّ أَبَاهُ أَيْضًا كَانَ يُقَالُ لَهُ: النَّحَّامُ، وَنُعَيْمٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا قَبْلَ عُمَرَ، فَكَتَمَ إِسْلَامَهُ وَأَرَادَ الْهِجْرَةَ، فَسَأَلَهُ بَنُو عَدِيٍّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَيِّ دِينٍ شَاءَ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَيْتَامِهِمْ، ثُمَّ هَاجَرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَاسْتُشْهِدَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ. (بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ) : بِكَسْرِ النُّونِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ) : بِفَتْحَتَيْنِ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي عَدِيٍّ قَوْمِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ) : أَيْ فِي الْإِنْفَاقِ (فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا) : أَيْ: فَإِنَّهَا أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلُهَا فَإِنَّهَا مَرْكَبُ الرُّوحِ فِي سُلُوكِهَا (فَإِنْ فَضَلَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ زَادَ (شَيْءٌ) : أَيْ مِنْهَا (فَلِأَهْلِكَ) : أَيْ: مِمَّا يَعُولُكَ (فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ) : أَيْ: إِمَّا وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا (فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَوَابٌ لِلشَّرْطِ كِنَايَةً عَنِ التَّفْرِيقِ أَشْتَاتًا عَلَى مَنْ جَاءَهُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَأَمَامَهُ (يَقُولُ) : أَيِ: الرَّاوِي (بَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ) : تَفْسِيرٌ لِلتَّفْرِيقِ، وَهَكَذَا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي تَدْبِيرِ الْمُدَبِّرِ فَأَجَازَ جَمَاعَةٌ الْإِطْلَاقَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا سَحَرَتْهَا، فَأَمَرَتِ ابْنَ أَخِيهَا أَنْ يَبِيعَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُسِيءُ مَلَكَتَهَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِذَا كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِذَا مُتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَيِّدَ بِشَرْطٍ أَوْ زَمَانٍ، وَقَاسُوا الْمُدَبَّرَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ لِتَعَلُّقِ عِتْقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى التَّدْبِيرِ الْمُقَيِّدِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ مُتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ فِي شَهْرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ هَذَا الْمُدَبَّرِ عِنْدَهُمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَإِذَا أُطْلِقَ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّدْبِيرُ الْمُطْلَقُ لَا غَيْرُهُ وَلَيْسَ كَأُمِّ الْوَلَدِ ; لِأَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَشَدُّ تَأْكِيدًا مِنْهُ فِي الْمُدَبَّرِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ التَّرِكَةِ بِالدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ عِتْقَ أُمِّ الْوَلَدِ، وَيَمْنَعُ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ، وَأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمُدَبَّرُ عِتْقُهُ مِنَ الثُّلُثِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمُدَبَّرَةِ كَمَا يَجُوزُ وَطْءُ أُمِّ الْوَلَدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُوَافِقِيهِ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقِيَاسًا عَلَى الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالسَّلَفُ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا بَاعَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى سَيِّدِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: (اقْضِ دَيْنَكَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: التَّدْبِيرُ لُغَةً النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَشَرْعًا الْعِتْقُ الْمُوقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُعَلَّقًا بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِمَمْلُوكِهِ: إِذَا مُتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي، أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ، أَوْ دَبَّرْتُكَ، فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي التَّدْبِيرِ، فَإِنَّهُ أَيِ التَّدْبِيرَ إِثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ، وَهَذِهِ تُفِيدُ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ الْمُدَبَّرَ الْمُطْلَقَ، وَهُوَ الَّذِي عُلِّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى وَلَا هِبَتُهُ وَلَا إِخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إِلَّا لِحُرِّيَّةٍ بِلَا بَدَلٍ أَوْ لِكِتَابَةٍ أَوْ عِتْقِ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تُبْطِلُ حَقَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ تَجُوزُ، فَيَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُ وَإِجَارَتُهُ، وَأَخْذُ أُجْرَتِهِ، وَتَزْوِيجُ الْمُدَبَّرَةِ وَوَطْؤُهَا وَأَخْذُ مَهْرِهَا وَأَرْشُ جِنَايَتِهَا ; لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ ثَابِتٌ وَبِهِ يُسْتَفَادُ وَلَايَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ غُلَامًا عَنْ دُبُرٍ، وَكَانَ مُحْتَاجًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ وَقَالَ: (اقْضِ دَيْنَكَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَنَدِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَاعَ الْمُدَبَّرَ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا مَرِضَتْ فَتَطَاوَلَ مَرَضُهَا، فَذَهَبَ بَنُو أُخْتِهَا فَذَكَرُوا مَرَضَهَا إِلَى طَبِيبٍ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُخْبِرُونِي عَنِ امْرَأَةٍ مَطْبُوبَةٍ. قَالَ: فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ، فَإِذَا جَارِيَةٌ لَهَا سَحَرَتْهَا، وَكَانَتْ قَدْ دَبَّرَتْهَا فَدَعَتْهَا ثُمَّ سَأَلَتْهَا: مَاذَا أَرَدْتِ؟ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ تَمُوتِي حَتَّى أُعْتَقَ. قَالَتْ: فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ تُبَاعِي مِنْ أَسْوَأِ الْعَرَبِ مَلَكَةً، فَبَاعَتْهَا وَأَمَرَتْ بِثَمَنِهَا، فَجُعِلَ فِي مِثْلِهَا. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَاعَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ شَرَفٌ فِي دَيْنِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ذَكَرَهُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَلَمْ تَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ الْآنَ بَعْدَ النَّسْخِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ اسْتِصْحَابَ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ، إِذْ لَمْ يُوجِبَ التَّدْبِيرُ زَوَالَ الرِّقِّ عَنْهُ، ثُمَّ رَأَيْنَا أَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ» ، وَقَدْ رَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَكِنْ ضَعَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ رَفْعَهُ، وَصَحَّحَ وَقْفَهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَعَلَى تَقْدِيرِ الرَّفْعِ لَا إِشْكَالَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ فَقَوْلُ الصَّحَابَةِ حِينَئِذٍ لَا يُعَارِضُهُ النَّصُّ أَلْبَتَّةَ، لِأَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، وَإِنَّمَا يُعَارِضُهُ لَوْ قَالَ يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ، فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ تَقْلِيدِهِ فَظَاهِرٌ، وَعَلَى عَدَمِ تَقْلِيدِهِ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى السَّمَاعِ ; لِأَنَّ مَنْعَ بَيْعِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَبَطَلَ مَا قِيلَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَيْضًا: ثَبَتَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَنَّ عَطَاءً وَطَاوُسًا يَقُولَانِ عَنْ جَابِرٍ فِي الَّذِي أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ عِتْقُهُ عَنْ دُبُرِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فَيَقْضِيَ دَيْنَهُ، الْحَدِيثَ. فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: شَهِدْتُ الْحَدِيثَ مِنْ جَابِرٍ، إِنَّمَا أَذِنَ فِي بَيْعِ خِدْمَتِهِ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكُوفِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا وَإِنْ كَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَلَكِنَّ حَدِيثَهُ هَذَا مُرْسَلٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ مُرْسَلٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَوْفِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ اهـ.

فَلَوْ تَمَّ تَضْعِيفُ عَبْدِ الْغَفَّارِ لَمْ يَضُرَّ لَكِنَّ الْحَقَّ عَدَمُهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَشَيِّعًا فَقَدْ صَرَّحَ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ بْنُ الْإِمَامِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، بِأَنَّهُ شَهِدَ حَدِيثَ جَابِرٍ وَأَنَّهُ أَجَازَ لَنَا فِي بَيْعِ مَنَافِعِهِ، وَلَا يُمْكِنُ لِثِقَةٍ إِمَامٍ ذَلِكَ إِلَّا لِعِلْمِهِ ذَلِكَ مِنْ جَابِرٍ رَاوِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ بَاعَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ ; لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا لِمُعَارَضَةِ نَصٍّ آخَرَ يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ بِطَلَاقِهِ، فَأَنْتَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ لِلدَّيْنِ ثُمَّ نُسِخَ، وَأَنَّ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ بَاعَ مُدَبَّرًا لَيْسَ إِلَّا حِكَايَةَ الرَّاوِي نَقْلًا جُزْئِيًّا لَا عُمُومَ لَهَا، وَأَنَّ قَوْلَهُ: عَتَقَ عَنْ دُبُرٍ، أَوْ دَبَّرَ أَعَمُّ مِنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، إِذْ يَصْدُقُ عَلَى الَّذِي دَبَّرَ مُقَيَّدًا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ، وَأَنَّ مَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ أَبِي جَعْفَرٍ مُرْسَلٌ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَقَدْ أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِ الْمُرْسَلِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْمُسْنَدِ بَعْدُ أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، عَلِمْتَ قَطْعًا أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ، بَلْ سَالِمَةٌ عَنِ الْمُعَارِضِ، وَكَذَا قَوْلُ ابْنِ عِمْرَانَ لَمْ يَصِحَّ رَفْعُهُ بِعَضُدِهِ وَلَا يُعَارِضُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَدْبِيرُهَا مُقَيَّدًا لِأَنَّهُ أَيْضًا وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ حَدِيثُ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَحَلَّ نِزَاعٍ أَلْبَتَّةَ، فَكَيْفَ وَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى السَّمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ عَلَى صِفَةٍ مِثْلِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ مُتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا، أَوْ سَفَرِي هَذَا، أَوْ مَرَضِ كَذَا، أَوْ قُتِلْتُ، أَوْ غَرِقْتُ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ; لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ لِلتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ هَلْ تَقَعُ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ ; لِأَنَّ تَعَلُّقَ عِتْقِهِ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَتَقَ كَمَا يُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ يَعْنِي مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ التَّدْبِيرِ لَهُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِتَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ فِيهِ، فَإِذْ ذَلِكَ يَصِيرُ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، بَلْ لَا يُمْكِنُ، وَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، أَوْ رَجَعَ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ، ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُعْتَقْ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ قَدِ انْعَدَمَ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3393 - عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: ( «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ فَهُوَ حُرٌّ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3393 - (عَنِ الْحَسَنِ) : أَيِ الْبَصْرِيِّ (عَنْ سَمُرَةَ) : أَيِ ابْنِ جُنْدُبٍ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ مَلَكَ) : أَيْ بِنَحْوِ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ (ذَا رَحِمٍ) : أَيْ قَرَابَةٍ (مَحْرَمٍ) : احْتِرَازٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ بِالْجَرِّ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ صِفَةُ ذَا رَحِمٍ لَا نَعْتُ رَحِمٍ، وَلَعَلَّهُ مِنْ بَابِ جَرِّ الْجِوَارِ كَقَوْلِهِ: بَيْتُ ضَبٍّ خَرِبٍ، وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ، وَلَوْ رُوِيَ مَرْفُوعًا لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، (فَهُوَ) : أَيْ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى (حُرٌّ) : أَيْ عَتَقَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مِلْكِهِ، وَهُوَ أَصْرَحُ وَأَعَمُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي عِتْقِ الْأَقَارِبِ إِذَا مَلَكُوا فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا يُعْتَقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ سَوَاءٌ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ وَغَيْرُهُمَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِنْشَاءِ عِتْقٍ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ الْجُمْهُورُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَحْصُلُ الْعِتْقُ فِي الْأُصُولِ وَإِنْ عَلَوْا، وَفِي الْفُرُوعِ وَإِنْ سَفُلُوا بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ سَوَاءٌ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ يُعْتِقُ عَمُودَ النَّسَبِ بِكُلِّ حَالٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَائِهِمَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُعْتَقُ غَيْرُهُمَا بِالْمِلْكِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَقُ الْأُخْوَةُ أَيْضًا، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُعْتَقُ جَمِيعُ ذَوِي الْأَرْحَامِ الْمُحَرَّمَةِ، وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُعْتَقُ جَمِيعُ ذَوِي الْأَرْحَامِ الْمُحَرَّمَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مَرْفُوعًا. قَالَ الْقَاضِي: قَالَ

أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِهِ: لَمْ يُحَدِّثْ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْنَدًا إِلَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَقَدْ شَكَّ فِيهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَاقْتَصَرَ عَلَى عِتْقِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: حَدِيثُ سَمُرَةَ لَا يُعْرَفُ مُسْنَدًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَمْرٍو، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا. قُلْتُ: إِذَا كَانَ مُسْنَدًا فَلَا إِشْكَالَ، وَالشَّكُّ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ غَيْرُ مُضِرٍّ، وَالْمَوْقُوفُ عَنْ عُمَرَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إِذْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِذَا اعْتَضَدَ فَعِنْدَ الْكُلِّ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: يُشَمُّ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ مَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ، إِذْ جَعَلَ الْجَزَاءَ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى تَحَرِّي الْأَوْلَى، إِذْ لَمْ يَقُلْ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَيُعْتِقُهُ أَوْ فَيُحَرِّرُهُ، بَلْ قِيلَ: فَهُوَ حُرٌّ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالثُّبُوتَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ تُنْبِئُ عَنْ هَذَا لِأَنَّهُ مَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي حُرًّا وَكَذَا فِي الْآتِي اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ شَمَّ رَائِحَةً مِنْ فَهْمِ الْكَلَامِ عَلِمَ أَنَّ الْحِكْمَةَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ أَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الْحُكْمِ وَالْمَرَامِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهَا تُفِيدُ بِظَاهِرِهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِنْشَاءِ الْإِعْتَاقِ وَالتَّحْرِيرِ، وَلِذَا تَأَوَّلَ أَهْلُ الظَّاهِرِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ التَّقْرِيرُ، فَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هِيَ الْأَوْلَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. هَذَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى النَّسَائِيُّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرِمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ» ) . وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِسَبَبِ أَنَّ ضَمْرَةَ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ سُفْيَانَ، وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَقَالَ: ضَمْرَةُ ثِقَةٌ، وَإِذَا أَسْنَدَ الْحَدِيثَ ثِقَةٌ فَلَا يَضُرُّ انْفِرَادُهُ بِهِ، وَلَا إِرْسَالُ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَلَا وَقْفُ مَنْ وَقَفَهُ، وَصَوَّبَ ابْنُ الْقَطَّانِ كَلَامَهُ، وَمِمَّنْ وَثَّقَ ضَمْرَةَ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» ) قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: انْفَرَدَ بِهِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ حَمَّادٍ، وَقَدْ شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّ مُوسَى بْنَ إِسْمَاعِيلَ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: عَنْ سَمُرَةَ فِيمَا يَحْسَبُ حَمَّادٌ، وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَشُعْبَةُ أَحْفَظُ مِنْ حَمَّادٍ اهـ. وَفِيهِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ الْحَقِّ وَابْنِ الْقَطَّانِ وَهُوَ: أَنَّ رَفْعَ الثِّقَةِ لَا يَضُرُّهُ إِرْسَالُ غَيْرِهِ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَمِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ، أَنَّ رَجُلَا زَوَّجَ ابْنَ أَخِيهِ مَمْلُوكَتَهُ، فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَّ أَوْلَادَهَا، فَأَتَى ابْنُ أَخِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنَّ عَمِّي زَوَّجَنِي وَلِيدَتَهُ، وَإِنَّهَا وَلَدَتْ لِي أَوْلَادًا، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَّ وَلَدِي، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَذَبَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي دَخَلْتُ السُّوقَ، فَوَجَدْتُ أَخِي يُبَاعُ فَاشْتَرَيْتُهُ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (إِنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ) . قَالَ: وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالْحَاكِمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَاللَّيْثُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، وَإِسْحَاقُ. وَفِي الْمَبْسُوطِ قَالَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ: إِذَا مَلَكَ قَرِيبَهُ لَا يُعْتَقُ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ الظَّاهِرِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» ) . إِذْ لَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ فَيُعْتِقَهُ فَائِدَةٌ ; لَأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ فَلَا يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 92 - 93]

أَثْبَتَ بِهِ أَنَّ الِابْنِيَّةَ تُنَافِي الْعَبْدِيَّةَ، فَإِذَا ثَبَتَتِ الِابْنِيَّةُ انْتَفَتِ الْعَبْدِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ: (فَيُعْتِقَهُ) بِالشِّرَاءِ، كَمَا تَقُولُ: أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ، وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ، وَالتَّعْقِيبُ حَاصِلٌ إِذِ الْعِتْقُ يَعْقُبُ الشِّرَاءِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا لَهُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً ; لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَمْ يَثْبُتِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِثْبَاتِهِ لِاسْتِعْقَابِ الْبَيْنُونَةِ. قَالَ: وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِثِقَةِ الرُّوَاةِ وَلَيْسَ فِيهِ سُمِّيَ الِانْفِرَادُ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَصِلُ، وَكَثِيرًا مَا يُرْسِلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاسِطَةٍ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ عَيَّنَ الْوَاسِطَةَ مَرَّةً وَتَرَكَ أُخْرَى، وَلَوْ كَانَ مُرْسَلًا لَكَانَ مِنَ الْمُرْسَلِ الْمَقْبُولِ، إِمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ قَوْلُنَا وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، فَيُقْبَلُ بِلَا شَرْطٍ بَعْدَ صِحَّةِ السَّنَدِ وَقَدْ عُلِمَتْ صِحَّتُهُ، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَيُقْبَلُ إِذَا عَمِلَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى وَفْقِهِ، وَأَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّ الثَّابِتَ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُمْ فَيَثْبُتَ مُشَارَكَةُ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لِلْوِلَادِ فِي هَذَا الْحُكْمِ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.

3394 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: ( «وَإِذَا وَلَدَتْ أَمَةُ الرَّجُلِ مِنْهُ فَهِيَ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ - أَوْ بَعْدَهُ» -) . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3394 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: (إِذَا وَلَدَتْ أَمَةُ الرَّجُلِ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الرَّجُلِ (فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ) : بِضَمَّتَيْنِ وَتُسَكَّنُ الْمُوَحَّدَةُ. فِي الْقَامُوسِ: بِضَمٍّ وَضَمَّتَيْنِ أَيْ: عَقِبَ مَوْتٍ (مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الرَّجُلِ (أَوْ بَعْدَهُ) : أَيْ بَعْدَ الرَّجُلِ أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالشَّكُّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ ) .

3395 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ نَهَانَا عَنْهُ، فَانْتَهَيْنَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3395 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) : أَيْ فِي زَمَانِهِ (وَأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ) : أَيْ وُجِدَ وَصَارَ خَلِيفَةً (نَهَانَا عَنْهُ) : أَيْ عَنْ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ (فَانْتَهَيْنَا) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَبْلُغِ الْعُمُومَ فِي عَهْدِ الرِّسَالَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَيْعَهُمْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ، وَهَذَا أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ، وَأَمَّا بَيْعُهُمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قَضِيَّةِ فَرْدٍ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عَلِمَ بِذَلِكَ، فَحَسِبَ جَابِرٌ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى تَجْوِيزِهِ فَحَدَّثَ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا اشْتُهِرَ نَسْخُهُ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَادَ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ نَهَانَا عَنْهُ فَانْتَهَيْنَا، وَقَوْلُهُ: هَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْحَقَّ مَعَ عُمَرَ لَمْ يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْكُتُوا عَنْهُ أَيْضًا، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ لَجَوَّزُوا خِلَافَهُ، لَا سِيَّمَا الْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ، وَإِنْ وَافَقَهُ بَعْضُهُمْ خَالَفَهُ آخَرُونَ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا وَلَدَتْ أَمَةُ الرَّجُلِ مِنْهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَوَلَيْسَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ خَالَفَ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِهِ؟ قِيلَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ خِلَافُ إِجْمَاعِ آرَاءِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِهِنَّ، أَوْ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ بِهِ، بَلِ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي الْقَوْلِ بِهِ، وَقَدْ سَأَلَ شُرَيْحًا عَنْ قَضَائِهِ فِيهِ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ بِالْكُوفَةِ، فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ يَقْضِي فِيهِ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ عِنْدَ نَهْيِ عُمَرَ عَنْ بَيْعِهِنَّ مُنْذُ وَلَّاهُ عُمَرُ الْقَضَاءَ بِهَا فَقَالَ لِشُرَيْحٍ: فَاقْضِ فِيهِ بِمَا كُنْتَ تَقْضِي حِينَ يَكُونُ لِلنَّاسِ جَمَاعَةٌ فَأَرَى فِيهِ مَا

رَأَى عُمَرُ، وَفَاوَضَ فِيهِ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرِ الْمَدِينَةَ يَوْمَ فَاوَضَ عُمَرُ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ فِي زَمَانِهِ عَلَى مَا حَكَمَ هُوَ بِهِ لَا يَدْخُلُهُ النَّقْضُ بِأَنْ يَرَى أَحَدُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ خِلَافَهُ اجْتِهَادًا، وَالْقَوْمُ رَأَوْا ذَلِكَ تَوْقِيفًا، لَا سِيَّمَا وَلَا يَقْطَعُ عَلَى الْقَوْلِ بِخِلَافِهِ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ فِيهِ تَرَدُّدًا. وَقَالَ الشَّمَنِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشْعُرْ بِبَيْعِهِمْ إِيَّاهَا، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا إِذَا عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْأَمْرِ، ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَبُو بَكْرٍ لِقِصَرِ مُدَّةِ خِلَافَتِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ عُمَرُ لَمَّا بَلَغَهُ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، كَمَا قِيلَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْمُتْعَةِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «كُنَّا نَتَمَتَّعُ بِالْقَبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ الْأَيَّامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، حَتَّى نَهَانَا عُمَرُ» . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أُمُّ الْوَلَدِ تَصْدُقُ لُغَةً عَلَى مَا إِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ. وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ الْأَمَةُ الَّتِي يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ مَالِكِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا وَلَا هِبَتُهَا، بَلْ إِذَا مَاتَ سَيِّدُهَا وَلَمْ يُنْجِزْ عِتْقَهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مَدْيُونًا مُسْتَغْرَقًا. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، كَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ، فَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَنُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنِ الصِّدِّيقِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، لَكِنْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: تُعْتَقُ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ. فَهَذَا يُصَرِّحُ بِرُجُوعِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُمَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: كُنَّا نَبِيعُهُنَّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الْعُقَيْلِيُّ بِزَيْدٍ الْعَمِّيِّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: زَيْدٌ الْعَمِّيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِلْجُمْهُورِ بِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ خَطَّابِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ سَلَامَةَ بِنْتِ مَعْقِلٍ امْرَأَةٌ مِنْ خَارِجَةَ بْنِ قَيْسِ غَيْلَانَ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذَا الْبَابِ قَالَتْ: قَدِمَ ابْنُ عَمِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَاعَنِي مِنَ الْحُبَابِ بْنِ عُمَرَ أَخِي أَبِي الْيُسْرِ بْنِ عُمَرَ، فَوَلَدْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحُبَابِ، ثُمَّ هَلَكَ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: الْآنَ وَاللَّهِ تُبَاعِينَ فِي دَيْنِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي امْرَأَةٌ مِنْ خَارِجَةَ بْنِ قَيْسِ غَيْلَانَ قَدِمَ بِي عَمِّي الْمَدِينَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَاعَنِي مِنَ الْحُبَابِ بْنِ عُمَرَ أَخِي أَبِي الْيُسْرِ بْنِ عُمَرَ، فَوَلَدْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَمَاتَ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: الْآنَ تُبَاعِينَ فِي دَيْنِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ وَلِيُّ الْحُبَابِ، قِيلَ: أَخُوهُ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، فَبَعَثَ إِلَيْهِ: أَعْتِقُوهَا، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَقِيقٍ قَدِمَ عَلَيَّ فَأْتُوْنِي أُعَوِّضْكُمْ. قَالَتْ: فَأَعْتَقُونِي، وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَقِيقٌ فَعَوَّضَهُمْ عَنِّي غُلَامًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ مَوْتِهِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يُعْتِقُوهَا وَيُعَوِّضَهُمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَعْتِقُوا خَلُّوا سَبِيلَهَا كَمَا فَسَّرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَنَّ الْعِوَضَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَكِنَّ هَذَا احْتِمَالٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالْعِبْرَةُ لِلظَّاهِرِ، فَلَا يُصَارُ إِلَى هَذَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ يُوجِبُهُ وَيُعَيِّنُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا. وَطَرِيقُهُ مَعْلُولٌ بِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيرِينَ، وَحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَبِسَنَدِ ابْنِ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، لَكِنْ أَعَلَّهُ ابْنُ سِيرِينَ فَقَطْ، فَإِنَّهُ يَرْوِي أَنَّ حُسَيْنًا مِمَّنْ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَهَذَا تَوْثِيقٌ لِحُسَيْنٍ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، حَدَّثَنَا زُفَرُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي قُبَيْسٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ مِنْهُ أَمَةٌ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ

مِنْهُ» . وَالطُّرُقُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلِذَا قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنَّهُ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَإِذْ قَدْ كَثُرَتْ طُرُقُ هَذَا الْمَعْنَى وَتَعَدَّدَتْ وَاشْتُهِرَتْ فَلَا يَضُرُّهُ وَقُوعُ رَاوٍ ضَعِيفٍ فِيهِ، مَعَ أَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ قَالَ فِي كِتَابِهِ: وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. قَالَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي كِتَابِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو خَيْثَمَةَ الْمِصِّيصِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ الرَّقِّيُّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ مَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَصْبَغَ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا. مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» ، وَلَوْ كَانَتْ مَارِيَةُ جَارِيَةً لَبِيعَتْ وَصَارَ ثَمَنُهَا صَدَقَةً. وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَفِي بَيْعِهِنَّ تَفْرِيقٌ، وَإِذَا ثَبَتَ قَوْلُهُ: أَعْتَقَهَا. . . . إِلَخْ. وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَوْتِ إِجْمَاعًا وَجَبَ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَجَازِ الْأَوَّلِ، فَيَثْبُتُ فِي الْحَالِ بَعْضُ مُوجِبِ الْعِتْقِ مِنِ امْتِنَاعِ تَمْلِيكِهَا. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: لَا يُبَعْنَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لَا يُسَعَّيْنَ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا يُجْعَلْنَ مِنَ الثُّلُثِ وَلَا يُوهَبْنَ وَلَا يُورَثْنَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا مَا دَامَ حَيًّا فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ. أَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحٍ الْمَدَنِيِّ، وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ إِلَى النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَيَّنَهُ هُوَ وَقَالَ: يَكْتُبُ حَدِيثَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: رُوَاتُهُمْ ثِقَاتٌ. وَعِنْدِي أَنَّ الَّذِي أَسْنَدَهُ خَيْرٌ مِمَّنْ وَقَفَهُ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «أَيُّمَا وَلِيدَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهَا وَلَا يَهَبُهَا وَلَا يُوَرِّثُهَا وَهُوَ يَتَمَتَّعُ مِنْهَا، وَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ» . وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَفْرِيقِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عُمَرَ أَعْتَقَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَقَالَ: أَعْتَقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْأَفْرِيقِيُّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حُجَّةٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُعَضِّدُ رَفْعَهُ مَعَهُ تَرْجِيحُ ابْنِ الْقَطَّانِ، فَثَبَتَ الرَّفْعُ بِمَا قُلْنَا، وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ وَقْفِهِ عَلَى عُمَرَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثَّلَاثِ وَقَالَ: لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ. وَعَدَمُ مُخَالَفَةِ أَحَدٍ لِعُمَرَ حِينَ أَفْتَى بِهِ وَأَخْبَرَ، فَانْعَقَدَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى بَيْعِهِنَّ، فَهَذَا يُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا أَنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَ قَوْلِ الرَّاوِي: كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حُكْمُهُ الرَّفْعُ، لَكِنْ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا، فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ فِي خُصُوصٍ مِنْهُ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَأَمَّا أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُهُ وَيُقِرُّهُ ثُمَّ نُسِخَ وَلَمْ يَظْهَرِ النَّاسِخُ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِقِصَرِ مُدَّتِهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ فِيهَا بِحُرُوبِ مُسَيْلِمَةَ وَأَهْلِ الرِّدَّةِ، وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَهُ كَمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ فَتَرَكْنَاهَا، وَهَذَا إِذَا قَصَرْنَا النَّظَرَ عَلَى الْمَوْقُوفِ أَمَّا بِمُلَاحَظَةِ الْمَرْفُوعَاتِ الْمُتَعَاضِدَةِ فَلَا شَكَّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ مَا أَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَنْ لَا يُبَعْنَ. فَقُلْتُ لَهُ: رَأْيُكَ وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ فِي الْفُرْقَةِ. فَضَحِكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ رُجُوعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْتَضِي أَنَّهُ يَرَى اشْتِرَاطَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فِي تَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمُرَجَّحُ خِلَافُهُ، وَسُئِلَ دَاوُدُ عَنْ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَقَالَ: يَجُوزُ لِأَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى كَذَلِكَ، إِذِ الْأَصْلُ فِي كُلِّ ثَابِتٍ دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْذَعِيُّ حَاضِرًا، فَعَارَضَهُ فَقَالَ: قَدْ زَالَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ بِالْإِطْلَاقِ، وَامْتَنَعَ بَيْعُهَا لَمَّا حَبِلَتْ بِوَلَدِ سَيِّدِهَا، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ ثَابِتٍ دَوَامُهُ فَانْقَطَعَ دَاوُدُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُجِيبَ وَيَقُولَ: الزَّوَالُ كَانَ لِمَانِعٍ عَرَضَ وَهُوَ قِيَامُ الْوَلَدِ فِي بَطْنِهَا وَزَالَ بِانْفِصَالِهِ فَعَادَ مَا كَانَ، فَيَبْقَى إِلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمُزِيلُ اهـ. وَهُوَ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.

3396 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3396 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ ") : أَيْ فِي يَدِ الْعَبْدِ أَوْ حَصَلَ بِكَسْبِهِ (مَالٌ فَمَالُ الْعَبْدِ) : قَالَ الْقَاضِي إِضَافَتُهُ إِلَى الْعَبْدِ إِضَافَةُ الِاخْتِصَاصِ دُونَ التَّمْلِيكِ (لَهُ) : أَيْ لِمَنْ أَعْتَقَ (" إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ ") : أَيْ لِلْعَبْدِ فَيَكُونَ مِنْحَةً وَتَصَدُّقًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي الْهِدَايَةِ: لَا مِلْكَ لِلْمَمْلُوكِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعَلَى هَذَا فَمَالُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ لِلْعَبْدِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ لِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَالْمَالُ لِلْعَبْدِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَالِهِ، قِيلَ: الْحَدِيثُ خَطَأٌ، وَفِعْلُ عُمَرَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ، وَلِلْجُمْهُورِ مَا «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ: يَا عُمَيْرُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَكَ عِتْقًا هَنِيًّا، فَأَخْبِرْنِي بِمَالِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ غُلَامَهُ فَلَمْ يُجِزْهُ بِمَالِهِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ» ". رَوَاهُ الْأَثْرَمُ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ غُلَامًا وَلَمْ يُسَلِّمْ مَالَهُ فَالْمَالُ لَهُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

3397 - وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ غُلَامٍ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ ". فَأَجَازَ عِتْقَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3397 - (وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَامِرِ بْنِ أُسَامَةَ الْهُذَلِيِّ الْبَصْرِيِّ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (عَنْ أَبِيهِ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ عَلَى حِدَةٍ (أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ سِلَامًا وَنَصِيبًا مُبْهَمًا أَوْ مُعَيَّنًا أَوْ مُشَاعًا (مِنْ غُلَامٍ) : أَيْ عَبْدٍ (لَهُ فَذُكِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ إِعْتَاقِ شِقْصٍ (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ) : أَيِ الْعِتْقُ لِلَّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَ كُلُّهُ، وَلَا يَجْعَلَ نَفْسَهُ شَرِيكًا لَهُ تَعَالَى (فَأَجَازَ عِتْقَهُ) : أَيْ حَكَمَ بِعِتْقِهِ كُلِّهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي الْأَوْلَى أَنْ يُعْتِقَ جَمِيعَ عَبْدِهِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ فَيَكُونُ أَمْرُ سَيِّدِهِ نَافِذًا فِيهِ بَعْدُ فَهُوَ كَشَرِيكٍ لَهُ تَعَالَى صُورَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ السَّيِّدَ وَالْمَمْلُوكَ فِي كَوْنِهِمَا مَخْلُوقَيْنِ سَوَاءٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ وَجَعَلَهُ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ تَمْتِيعًا، فَإِذَا رَجَعَ بَعْضُهُ إِلَى الْأَصْلِ سَرَى بِالْغَلَبَةِ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ إِذْ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَزَادَ رَزِينٌ فِي مَالِهِ، وَفِي لَفْظٍ: هُوَ حُرُّ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ. وَقَدْ سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْحُكْمِ وَاخْتِلَافِهِ.

3398 - وَعَنْ سَفِينَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: أُعْتِقُكَ وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدُمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عِشْتَ فَقُلْتُ: إِنْ لَمْ تَشْتَرِطِي عَلَيَّ مَا فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عِشْتُ. فَأَعْتَقَتْنِي وَاشْتَرَطَتْ عَلَيَّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3398 - (وَعَنْ سَفِينَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَتْهُ وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ خِدْمَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَاشَ، وَيُقَالُ: إِنَّ سَفِينَةَ لَقَبُهُ، وَاسْمُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقِيلَ: رَبَاحٌ، وَقِيلَ: مِهْرَانُ، وَقِيلَ: رُومَانُ، وَهُوَ مِنْ مُوَلَّدِي الْأَعْرَابِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ، وَيُقَالُ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ مَعَهُ فَأَعْيَا رَجُلٌ فَأَلْقَى عَلَيْهِ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَرُمْحَهُ، فَحَمَلَ شَيْئًا كَثِيرًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنْتَ سَفِينَةُ» ". رَوَى عَنْهُ بَنُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٌ وَزِيَادَةُ وَكَثِيرٌ. قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا لِأُمِّ سَلَمَةَ) : أَيِ ابْتِدَاءٍ (فَقَالَتْ: أُعْتِقُكَ) : أَيْ أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَكَ (وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدُمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، وَفِي الْقَامُوسِ: خَدَمَهُ يَخْدُمُهُ وَيَخْدِمُهُ خِدْمَةً وَيُفْتَحُ (مَا عِشْتَ) : أَيْ مَا دُمْتَ تَعِيشُ فِي الدُّنْيَا (فَقُلْتُ: إِنْ لَمْ تَشْتَرِطِي عَلَيَّ مَا فَارَقْتُ) : أَيْ لَمْ أُفَارِقْ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عِشْتُ) : أَيْ مُدَّةَ حَيَاتِي أَيْضًا (فَأَعْتَقَتْنِي وَاشْتَرَطَتْ عَلَيَّ)

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا وَعْدٌ عَنْهُ بِاسْمِ الشَّرْطِ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يُصَحِّحُونَ إِبْقَاءَ الشَّرْطِ بَعْدَ الْعِتْقِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُلَاقِي مِلْكًا، وَمَنَافِعُ الْحُرِّ لَا يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ إِلَّا بِإِجَازَةٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ. أُعْتِقُكَ عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي شَهْرًا فَقَبِلَ، عَتَقَ فِي الْحَالِ وَعَلَيْهِ خِدْمَةُ شَهْرٍ، وَقَالَ: عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي شَهْرًا أَوْ مُطْلَقًا فَقَبِلَ عَتَقَ فِي الْحَالِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ لِلْمَوْلَى، وَهَذَا الشَّرْطُ إِنْ كَانَ مَقْرُونًا بِالْعِتْقِ فَعَلَى الْعَبْدِ الْقِيمَةُ وَلَا خِدْمَةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا يَلْزَمُ الشَّرْطُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي الْهِدَايَةِ: وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ مَثَلًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَقَبِلَ الْعَبْدُ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى مِنْ سَاعَتِهِ، فَعَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْعَبْدِ قِيمَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَتَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3399 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3399 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ» ") : أَيْ بَدَلَ كِتَابَتِهِ (دِرْهَمٌ) : أَيْ مَثَلًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

3400 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا كَانَ عِنْدَ مُكَاتَبِ إِحْدَاكُنَّ وَفَاءٌ فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3400 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا كَانَ عِنْدَ مُكَاتَبِ إِحْدَاكُنَّ وَفَاءٌ: أَيْ قُدْرَةٌ عَلَى نُجُومِ كِتَابَتِهِ (" فَلْتَحْتَجِبْ ") : أَيْ إِحْدَاكُنَّ وَهَى سَيِّدَتُهُ (مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّ مِلْكَهُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَمَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَمْرٌ مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَرُّعِ وَالِاحْتِيَاطِ ; لِأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ، لَا أَنَّهُ يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلنَّجْمِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْجَمِيعَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» ". وَلَعَلَّهُ قَصَدَ بِهِ مَنْعَ الْمُكَاتَبِ عَنْ تَأْخِيرِ الْأَدَاءِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ لِيَسْتَرِيحَ بِهِ النَّظَرُ إِلَى سَيِّدِهِ، وَسَدَّ هَذَا الْبَابِ عَلَيْهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: «قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِنَبْهَانَ: مَاذَا بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ كِتَابَتِكَ؟ قَالَ: أَلْفَا دِرْهَمٍ. قَالَتْ: فَهُمَا عِنْدَكَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: ادْفَعْ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، ثُمَّ أَلْقَتْ دُونَهُ الْحِجَابَ فَبَكَى وَقَالَ: لَا أُعْطِيهِ أَبَدًا. قَالَتْ: إِنَّكَ وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ لَنْ تَرَانِي أَبَدًا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهِدَ إِلَيْنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِعَبْدِ إِحْدَاكُنَّ وَفَاءٌ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ فَاضْرِبْنَ دُونَهُ الْحِجَابَ» . اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ حِجَابَهُنَّ مَنِيعٌ. قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3401 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ - أَوْ قَالَ: عَشْرَةَ دَنَانِيرَ - ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ رَقِيقٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3401 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ ") : بِضَمِّ هَمْزَةٍ وَتَخْفِيفِ تَحْتِيَّةٍ وَقَدْ تُشَدَّدُ (" فَأَدَّاهَا ") : أَيْ فَقَضَى الْمِائَةَ وَدَفَعَهَا (" إِلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ ") : بِسُكُونِ الشِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحِهَا وَزِيَادَةِ تَاءٍ، وَأَوَاقٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَنْوِينِ الْقَافِ جَمْعُ أُوقِيَّةٍ (أَوْ قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالشَّكُّ مِنَ الصَّحَابِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ بَعْدَهُ (عَشْرَةَ دَنَانِيرَ) : بِالتَّاءِ لَا غَيْرُ (ثُمَّ عَجَزَ) : أَيْ عَنْ أَدَاءِ نُجُومِ الْكِتَابَةِ (" فَهُوَ ") : أَيْ فَعَبْدُهُ الْمُكَاتَبُ الْعَاجِزُ (" رَقِيقٌ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجْزَ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ الْبَعْضِ كَعَجْزِهِ عَنِ الْكُلِّ، فَلِلسَّيِّدِ فَسْخُ كِتَابَتِهِ، فَيَكُونُ رَقِيقًا كَمَا كَانَ، وَيَدُلُّ مَفْهُومُ قَوْلِهِ: فَهُوَ رَقِيقٌ عَلَى أَنَّ مَا أَدَّاهُ يَصِيرُ لِسَيِّدِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3402 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا أَصَابَ الْمُكَاتَبُ حَدًّا أَوْ مِيرَاثًا وَرِثَ بِحِسَابِ مَا عَتَقَ مِنْهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: " «يُودَى الْمُكَاتَبُ بِحِصَّةِ مَا أَدَّى دِيَةَ حُرٍّ، وَمَا بَقِيَ دِيَةَ عَبْدٍ» ". وَضَعَّفَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3402 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا أَصَابَ ") : أَيِ اسْتَحَقَّ (" الْمُكَاتَبُ حَدًّا ") : أَيْ دِيَةً (" أَوْ مِيرَاثًا وَرِثَ ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مُخَفَّفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ رَاءٍ (" بِحِسَابِ مَا عَتَقَ مِنْهُ ") : أَيْ بِحَسَبَهِ وَمِقْدَارِهِ، وَالْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ دِيَةٌ أَوْ مِيرَاثٌ ثَبَتَ لَهُ مِنَ الدِّيَةِ وَالْمِيرَاثِ بِحَسَبِ مَا عَتَقَ مِنْ نِصْفِهِ، كَمَا لَوْ أَدَّى نِصْفَ الْكِتَابَةِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ حُرٌّ وَلَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ يَرِثُ مِنْهُ نِصْفَ مَالِهِ، كَمَا إِذَا جُنِيَ عَلَى الْمُكَاتَبِ جِنَايَةٌ، وَقَدْ أَدَّى بَعْضَ كِتَابَتِهِ فَإِنَّ الْجَانِيَ عَلَيْهِ يَدْفَعُ إِلَى وَرَثَتِهِ بِقَدْرِ مَا أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ دِيَةَ حُرٍّ، وَيَدْفَعُ إِلَى مَوْلَاهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ دِيَةَ عَبْدٍ، مَثَلًا إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ فَأَدَّى خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ قُتِلَ، فَلِوَرَثَةِ الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أَلْفٍ نِصْفُهُ دِيَةُ حُرٍّ، وَلِمَوْلَاهُ خَمْسُونَ نِصْفُ قِيمَتِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) : أَيْ لِلتِّرْمِذِيِّ (قَالَ) : عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (" يُودَى الْمُكَاتَبُ ") : بِضَمِّ يَاءٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَفَتْحِ دَالٍ مُخَفَّفَةٍ أَيْ يُعْطَى دِيَةً الْمُكَاتَبُ (" بِحِصَّةِ مَا أَدَّى ") : بِفَتْحِ الْهَمْزِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ قَضَى وَوَفَّى، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَسَبِ مَا أَدَّى أَيْ مِنَ النُّجُومِ (" دِيَةَ حُرٍّ ") : بِالنَّصْبِ، قَالَ الْأَشْرَفُ: قَوْلُهُ: يُودَى بِتَخْفِيفِ الدَّالِ مَجْهُولًا مِنْ وَدَى يَدِي دِيَةً أَيْ: أَعْطَى الدِّيَةَ وَانْتَصَبَ (دِيَةَ حُرٍّ) مَفْعُولًا بِهِ، وَمَفْعُولُ مَا أَدَّى مِنَ النُّجُومِ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ إِلَى الْمَوْصُولِ أَيْ بِحِصَّةِ مَا أَدَّاهُ مِنَ النُّجُومِ يُعْطَى دِيَةَ حُرٍّ، وَبِحِصَّةِ مَا بَقِيَ دِيَةَ عَبْدٍ (وَضَعَّفَهُ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ. قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُعْتَقُ بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّيهِ مِنَ النَّجْمِ وَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ قَبْلَهُ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَحْدَهُ، وَمَعَ مَا فِيهِمَا مِنَ الطَّعْنِ مُعَارَضٌ بِحَدِيثَيْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ تَقْوِيَةً لِقَوْلِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُعْتَقُ عِتْقًا مَوْقُوفًا عَلَى تَكْمِيلِ تَأْدِيَةِ النُّجُومِ، لَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَجْزِيءِ الْعِتْقِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3403 - «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ أُمَّهُ أَرَادَتْ أَنْ تَعْتِقَ، فَأَخَّرَتْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُصْبِحَ، فَمَاتَتْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَيَنْفَعُهَا أَنْ أَعْتِقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ: أَتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي هَلَكَتْ، فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَعْتِقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَمْ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3403 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَرَاءٍ (الْأَنْصَارِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْمَدَنِيُّ، وَقِيلَ: الْقُرَشِيُّ، مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ لَا يُثْبَتُ فِي الصَّحَابَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ شَامِيٌّ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ. (أَنَّ أُمَّهُ) : لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ (أَرَادَتْ أَنْ تَعْتِقَ) : أَيْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً (فَأَخَّرَتْ) : أَيْ هِيَ (ذَلِكَ) : أَيِ الْإِعْتَاقَ (إِلَى أَنْ تُصْبِحَ، فَمَاتَتْ) : وَلِذَا قِيلَ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٌ فَإِنَّ الْعَجَلَةَ مَحْمُودَةٌ فِي الطَّاعَاتِ قَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) : أَيِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُعَطَّرَةِ، (أَيَنْفَعُهَا أَنْ أَعْتِقَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ إِعْتَاقِي (عَنْهَا؟) : أَيْ عَنْ جِهَةِ أُمِّي وَقِبَلِهَا (فَقَالَ الْقَاسِمُ) : أَيْ فَذَكَرَ دَلِيلَ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ (أَتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ، فَالْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِهِ مُرْسَلٌ. (فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي هَلَكَتْ) : أَيْ مَاتَتْ بَغْتَةً كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَعْتِقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَمْ ". رَوَاهُ مَالِكٌ) .

3404 - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي نَوْمٍ نَامَهُ، فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ أُخْتُهُ رِقَابًا كَثِيرَةً. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3404 - (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) : أَيِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدِينِيِّ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَالسَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ وَخَلْقًا سِوَاهُمَا، رَوَى عَنْهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَشُعْبَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمْ رَحِمَهُ اللَّهُ. كَانَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ عَالِمًا وَرِعًا صَالِحًا زَاهِدًا مَشْهُورًا بِالثِّقَةِ وَالدِّينِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ. (قَالَ: تُوِفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) : أَيِ الصِّدِّيقِ (فِي نَوْمٍ) : أَيْ فِي وَقْتِ نَوْمٍ (نَامَهُ) : أَيْ نَامَ فِيهِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِنَوْمٍ، وَالْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّهُ مَاتَ فَجْأَةً، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ عِتْقٌ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْوَصِيَّةِ لِمَا فَاجَأَهُ (فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُخْتُهُ رِقَابًا كَثِيرَةً) : وَأَنْ تَكُونَ فُجِعَتْ عَلَيْهِ وَحَزِنَتْ ; لِأَنَّ مَوْتَ الْفَجْأَةِ أَسَفٌ مِنَ اللَّهِ فَفَدَتْ عَنْهُ رِقَابًا كَثِيرَةً (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

3405 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَلَمْ يَشْتَرِطْ مَالَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3405 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) : بِلَا وَاوٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَلَمْ يَشْتَرِطْ مَالَهُ ") : أَيْ مَالَ الْعَبْدِ وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَهِيَ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَمَا لِلْعَبْدِ مِنَ الْمَالِ. (" فَلَا شَيْءَ ") : أَيْ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ (" لَهُ ") : أَيْ لِلْمُشْتَرِي (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

[باب الأيمان والنذور]

[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3406 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْلِفُ: " لَا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [14] بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنَّمَا أُلْحِقَ النَّذْرُ بِالْيَمِينِ ; لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْأَيْمَانُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ يَمِينٍ وَهِيَ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ خِلَافُ الْيَسَارِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَسَمُ يَمِينًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَاسَحُونَ بِأَيْمَانِهِمْ حَالَةَ التَّحَالُفِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا لِتَلَبُّسِهِ بِهَا. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَعَانِي، وَيُجْمَعُ عَلَى أَيْمُنٍ كَرَغِيفٍ وَأَرْغُفٍ، وَأَيْمٌ مَحْذُوفٌ مِنْهُ وَالْهَمْزَةُ لِلْقَطْعِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجَّاجُ، وَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ هِيَ كَلِمَةٌ بِنَفْسِهَا وُضِعَتْ لِلْقَسَمِ لَيْسَتْ جَمْعًا لِشَيْءٍ وَالْهَمْزَةُ فِيهَا لِلْوَصْلِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْيَمِينُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَارِحَةِ وَالْقَسَمِ، وَالْقُوَّةُ لُغَةٌ وَالْأَوَّلَانِ ظَاهِرَانِ وَشَاهِدُ الْقُوَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] ثُمَّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَسَمُ يَمِينًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ هُوَ الْقُوَّةُ وَالْحَالِفُ يَتَقَوَّى بِالْأَقْسَامِ عَلَى الْحَمْلِ أَوِ الْمَنْعِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَاسَكُونَ بِأَيْمَانِهِمْ عِنْدَ قَسَمِهِمْ، فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ بَعْدُ. إِذْ فِيهِ لَفْظٌ مَنْقُولٌ عَنْ مَفْهُومِهِ اللُّغَوِيِّ، وَسَبَبُهَا الْعَادِيُّ تَارَةً إِيقَاعُ صِدْقِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَتَارَةً حَمْلُ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، فَبَيْنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ لِتَصَادُقِهِمَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ، ثُمَّ قِيلَ: يُكْرَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ» ". الْحَدِيثَ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ، وَحَلُّ الْحَدِيثِ غَيْرُ التَّعْلِيقِ مِمَّا هُوَ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ، وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَشَرْطُهَا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ، وَحُكْمُهَا الَّذِي يَلْزَمُ وُجُودُهَا وُجُوبُ الْبِرِّ فِيمَا إِذَا عُقِدَتْ عَلَى طَاعَةٍ أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ، فَيَثْبُتُ وُجُوبًا لِأَمْرَيْنِ: الْفِعْلُ وَالْبِرُّ، وَوُجُوبُ الْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ عَلَى ضِدِّهِمَا وَنَدْبُهُ فِيمَا إِذَا كَانَ عَدَمُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ جَائِزًا، وَإِذَا حَنِثَ إِذْ يَحْرُمُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، ثُمَّ الْحَلِفُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ، بَلْ هُوَ يَمِينٌ تَعَارَفُوهُ أَوْ يَتَعَارَفُوهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ

مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: وَالنَّذْرُ عَلَى مَا فِي الرَّاغِبِ أَنْ تُوجِبَ عَلَى نَفْسِكَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِحُدُوثِ أَمْرٍ يُقَالُ: نَذَرْتُ لِلَّهِ نَذْرًا، وَفِي التَّنْزِيلِ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] قَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَنْذُورُ طَاعَةً، فَإِنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا كَدُخُولِ السُّوقِ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: وَقَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ: فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ اهـ. وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3406 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَكْثَرُ مَا) : أَيْ أَكْثَرُ يَمِينٍ أَوِ الْيَمِينِ الَّذِي (مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْلِفُ) : أَيْ يُقْسِمُ بِهَا فِي النَّفْيِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ قَوْلُهُ: (" لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ") : دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْحَلِفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَكْثَرُ: مُبْتَدَأٌ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ، وَكَانَ: تَامَّةٌ، وَيَحْلِفُ: حَالٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَقَوْلُهُ: " وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ يَحْلِفُ أَيْ يَحْلِفُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَ " لَا " نَفْيٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ " مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " الْقُلُوبُ إِنْشَاءُ قَسَمٍ وَنَظِيرُهُ. وَأَخْطَبُ مَا يَكُونُ الْأَمِيرُ قَائِمًا وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْقَوْلِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

3407 - وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3407 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» ") : أَيْ مَثَلًا، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْهِيِّ غَيْرُ اللَّهِ، وَخُصَّ بِالْآبَاءِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَادَةَ الْأَبْنَاءِ (" مَنْ كَانَ حَالِفًا ") : أَيْ مُرِيدًا لِلْحَلِفِ (" فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ") : أَيْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ (" أَوْ لِيَصْمُتْ ") : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ عَيْنِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ، قَالُوا: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْحَلِفَ يَقْتَضِي تَعْظِيمَ الْمَحْلُوفِ بِهِ، وَحَقِيقَةُ الْعَظَمَةِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى فَلَا يُضَاهِي بِهِ غَيْرَهُ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ مِائَةَ مَرَّةٍ فَآثَمُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ فَأَبَرَّ. وَيُكْرَهُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَعْبَةُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَمَانَةُ وَالْحَيَاةُ وَالرُّوحُ وَغَيْرُهَا، وَمِنْ أَشَدِّهَا كَرَاهَةً الْحَلِفُ بِالْأَمَانَةِ، وَأَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهِ، وَأُنْشِدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الشَّيْءُ عِنْدِي ... وَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفْلَحَ وَأَبِيهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْيَمِينُ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُزَادُ الْكَلَامُ لِمُجَرَّدِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ الْقَسَمُ كَمَا يُرَادُ بِصِيغَةِ النِّدَاءِ مُجَرَّدُ الِاخْتِصَاصِ دُونَ الْقَصْدِ إِلَى النِّدَاءِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا وَقَعَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ أَوْ بَعْدَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

3408 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا بِآبَائِكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3408 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) : أَيِ الْقُرَشِيِّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَخَلْقٌ سِوَاهُمَا. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي» ") : جَمْعُ طَاغِيَةٍ فَاعِلَةٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَالْمُرَادُ الْأَصْنَامُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا سَبَبُ الطُّغْيَانِ، فَهِيَ كَالْفَاعِلَةِ لَهُ، وَقِيلَ: الطَّاغِيَةُ مَصْدَرٌ كَالْعَافِيَةِ سُمِّيَ بِهَا الصَّنَمُ لِلْمُبَالَغَةِ ثُمَّ جُمِعَتْ عَلَى طَوَاغٍ (" وَلَا بِآبَائِكُمْ ") : كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَحْلِفُونَ بِهَا وَبِآبَائِهِمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونُوا عَلَى تَيَقُّظٍ فِي مُحَاوَرَتِهِمْ، حَتَّى لَا يَسْبِقَ بِهِ لِسَانُهُمْ جَرْيًا عَلَى مَا تَعَوَّدُوهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3409 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى ; فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ ; فَلْيَتَصَدَّقْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3409 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى ") : صَنَمَانِ مَعْرُوفَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (" فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") : أَيْ فَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَلَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا جَرْيًا عَلَى الْمُعْتَادِ السَّابِقِ لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَجَدِّدِ (" فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") ، أَيْ: فَلْيَتُبْ كَفَارَّةً لِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ، فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ فَهَذَا تَوْبَةٌ مِنَ الْغَفْلَةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَقْصِدَ تَعْظِيمَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَجْدِيدًا لِإِيمَانِهِ. فَهَذَا تَوْبَةٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَأْثَمُ بِهِ وَيَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ عُقُوبَتَهُ فِي دِينِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ فِي مَالِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْمَعْقُودِ، وَإِذَا حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَدْ ضَاهَى الْكُفَّارَ فِي ذَلِكَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ اهـ. وَالظَّاهِرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالصَّنَمِ مَذْمُومٌ، فَيَنْبَغِي أَنَّ يُتَدَارَكَ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَسَيَأْتِي دَلِيلُ مَذْهَبِنَا. (" وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ ") : بِفَتْحِ اللَّامِ أَمْرٌ مِنْ تَعَالَى يَتَعَالَى، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَالِيَ يَطْلُبُ السَّافِلَ ثُمَّ تَوَسَّعَ أَيِ ائْتِ (" أُقَامِرْكَ ") : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ: أَفْعَلِ الْقِمَارَ مَعَكَ (" فَلْيَتَصَدَّقْ ") : أَيْ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ كَفَّارَةً لِمَقَالِهِ، وَقِيلَ: يَتَصَدَّقُ وَبِقَدْرِ مَا يُرِيدُ أَنْ يُقَامِرَ بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا قَرَنَ الْقِمَارَ بِذِكْرِ الْأَصْنَامِ تَأَسِّيًا بِالتَّنْزِيلِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} [المائدة: 90] فَمَنْ حَلَفَ بِالْأَصْنَامِ فَقَدْ أَشْرَكَهَا بِاللَّهِ فِي التَّعْظِيمِ، فَوَجَبَ تَدَارُكُهَا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَنْ دُعِيَ إِلَى الْمُقَامَرَةِ، فَوَافَقَ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَصْدِيقِهِ بِالْمَيْسِرِ فَكَفَّارَتُهُ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِ مَا جَعَلَهُ خَطَرًا، أَوْ بِمَا تَيَسَّرَ، فَكَفَّارَتُهُ التَّصَدُّقُ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّدَقَةِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى اللَّعِبِ فَكَفَّارَتُهُ التَّصَدُّقُ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَعِبَ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ. عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْقَلْبِ، أَوْ تُكُلِّمَ بِاللِّسَانِ يُكْتَبُ عَلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3410 - وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا قِلَّةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3410 - (وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، كَانَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَمَاتَ فِي فِتْنَةِ الزُّبَيْرِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ ") : صِفَةٌ لِمِلَّةٍ. كَإِنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ بَرِئٌ مِنَ الْإِسْلَامِ (" كَاذِبًا ") : أَيْ فِي حَلِفِهِ (" فَهُوَ كَمَا قَالَ ") : قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَخْتَلُّ بِهَذَا الْحَلِفِ إِسْلَامُهُ وَيَصِيرُ كَمَا قَالَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَلَّقَ ذَلِكَ بِالْحِنْثِ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا» ". وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّهْدِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْوَعِيدِ، لَا الْحُكْمُ بِأَنَّهُ صَارَ يَهُودِيًّا أَوْ بَرِيئًا مِنَ الْإِسْلَامِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ كَالْيَهُودِيِّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ تَرَكَ صَلَاةً فَقَدْ كَفَرَ» ". أَيِ اسْتَوْجَبَ عُقُوبَةَ مَنْ كَفَرَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ هَلْ يُسَمَّى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَمِينًا، وَهَلْ تَتَعَلَّقُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهِ، فَذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ

إِلَى أَنَّهُ يَمِينٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، لَكِنَّ الْقَائِلَ بِهِ آثِمٌ صَدَقَ فِيهِ أَوْ كَذَبَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِثْمَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَفَّارَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَكُونُ يَمِينًا، فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّهُ يَمِينٌ بِالنَّصِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ثُمَّ قَالَ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَجْهُ الْحَلِفِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ وَهُوَ فِعْلُ كَذَا عَلَمًا عَلَى كُفْرِهِ، وَمُعْتَقَدُهُ حُرْمَتُهُ، فَقَدِ اعْتَقَدَهُ أَيِ الشَّرْطَ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِي فِعْلَ كَذَا، كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا. وَلَوْ قَالَ: دُخُولُ الدَّارِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ يَمِينًا، فَكَانَ تَعْلِيقُ الْكُفْرِ وَنَحْوِهِ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ يَمِينًا إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ فَهُوَ يَمِينٌ كَأَنْ قَالَ: إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ فَهُوَ يَمِينٌ غَمُوسٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، وَهَلْ يَكْفُرُ حَتَّى تَكُونَ التَّوْبَةُ اللَّازِمَةُ عَلَيْهِ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ وَتَجْدِيدَ الْإِسْلَامِ؟ قِيلَ: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ ابْتِدَاءً هُوَ كَافِرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَمُوسًا لَا يَكْفُرْ، وَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَيَكْفُرْ فِيهَا بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ كُفْرَهُ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَكْفُرُ إِذَا فَعَلَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ» ". فَهَذَا يُتَرَاءَى أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ يَمِينًا أَوْ كُفْرًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ مُخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يَحْلِفُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ أَنْ يَكُونَ أَهْلَ الْجَهْلِ وَالشَّرِّ، لَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا لُزُومَ الْكُفْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ، فَإِنْ تَمَّ هَذَا فَالْحَدِيثُ شَاهِدٌ لِمَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِكُفْرِهِ. (" وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ ") : أَيْ لَا يَلْزَمُهُ (" نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَأَنْ يَقُولَ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَفُلَانٌ حُرٌّ وَهُوَ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ أَوِ التَّضَحِّيَ بِشَاةِ غَيْرِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. أَيْ: لَا صِحَّةَ لَهُ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ. قُلْتُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الطَّلَاقِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. (" «وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ» ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: عُوقِبَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِهِ حَقِيقَةً (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ ") أَيْ: لَعْنُهُ (" كَقَتْلِهِ ") : أَيْ فِي أَصْلِ الْإِثْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ فِي التَّحْرِيمِ أَوْ فِي الْعِقَابِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ أَيْ فَلَعْنُهُ كَقَتْلِهِ، وَكَذَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (" وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ ") : أَيْ قَذْفُهُ (" كَقَتْلِهِ ") : لِأَنَّ الرَّمْيَ بِالْكُفْرِ مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ، فَكَانَ الرَّمْيُ بِهِ كَالْقَتْلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجْهُ التَّشْبِيهِ هُنَا أَظْهَرُ ; لِأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَى الْكُفْرِ الْمُوجِبُ لِلْقَتْلِ، فَالْقَاذِفُ بِالْكُفْرِ تَسَبَّبَ إِلَيْهِ وَالْمُتَسَبِّبُ إِلَى الشَّيْءِ كَفَاعِلِهِ، وَالْقَذْفُ فِي الْأَصْلِ الرَّمْيُ، ثُمَّ شَاعَ عُرْفًا فِي الرَّمْيِ بِالزِّنَا، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَا يُعَابُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَحِيقُ بِهِ ضَرَرُهُ، (" وَمَنِ ادَّعَى ") : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ أَظْهَرَ (" دَعْوَى ") : بِغَيْرِ تَنْوِينٍ (" كَاذِبَةً ") : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِدَعْوَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ (" لِيَتَكَثَّرَ بِهَا ") : مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لِيَسْتَكْثِرَ مِنْ بَابِ الِاسْتِفْعَالِ، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ. وَفِي نُسْخَةٍ يَسْتَكْثِرُ بِحَذْفِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَالْمَعْنَى لِيُحَصِّلَ بِتِلْكَ الدَّعْوَى مَالًا كَثِيرًا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ قَيْدٌ لِلدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْغَرَضُ اسْتِكْثَارَ الْمَالِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ قُلْتُ لِلْقَيْدِ فَائِدَةٌ سِوَى الْمَفْهُومِ وَهُوَ

مَزِيدُ الشَّفَاعَةِ عَلَى الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ وَاسْتِهْجَانُ الْعَرْضِ فِيهَا يَعْنِي: ارْتِكَابُ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ لِهَذَا الْغَرَضِ الْحَقِيرِ غَيْرُ مُبَارَكٍ. (" لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا قِلَّةً ") : أَيْ عَكْسَ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ بِاسْتِكْثَارِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} [النبأ: 35] يَعْنِي إِنْ كَانَتِ الْقِلَّةُ زِيَادَةً فَهُوَ يَزِيدُهُ، وَالْحَالُ أَنَّ الْقِلَّةَ لَيْسَتْ بِزِيَادَةٍ فَلَا يَزِيدُ أَلْبَتَّةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ.

3411 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ; إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3411 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ ") : هَذَا قَسَمٌ وَشَرْطٌ (" لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ") : جَوَابُ الْقَسَمِ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْقَسَمِيَّةُ خَبَرُ إِنَّ، الْكَشَّافَ: سُمِّيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا لِتَلَبُّسِهِ بِالْيَمِينِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ الشَّمَنِيُّ، قَوْلُهُ: عَلَى يَمِينٍ أَيْ مُقْسَمٍ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْيَمِينِ جُمْلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: مُقْسَمٌ بِهِ وَالْأُخْرَى مُقْسَمٌ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ الْكُلُّ، وَأُرِيدَ الْبَعْضُ، وَقِيلَ: ذُكِرَ اسْمُ الْحَالِ، وَأُرِيدَ الْمَحَلُّ ; لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مَحَلُّ الْيَمِينِ (" فَأُرَى ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: فَأَظُنُّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ فَأَعْلَمُ (غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا كَفَّرْتُ ") : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: أَعْطَيْتُ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ حِنْثِهَا أَوْ نَوَيْتُ دَفْعَ الْكَفَّارَةِ (" عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ ") أَيْ فَعَلْتُ (" الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ") : وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ عَلَى الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَفِيهِ نَدْبُ الْحِنْثِ إِذَا كَانَ خَيْرًا كَمَا إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَهُ، فَإِنَّ فِيهِ قَطْعَ الرَّحِمِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْحِنْثِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى جَوَازِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إِنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ الْحِنْثِ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْعِتْقُ أَوِ الْإِطْعَامُ أَوِ الْكُسْوَةُ، كَمَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ وَقْتِهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَنَّانُ فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: إِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِئْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ ; لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْيَمِينَ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي النَّصِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] وَأَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ يَقُولُونَ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَا يَقُولُونَ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ، فَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ سَبَبِيَّةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِلْمُضَافِ الْوَاقِعِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ، وَإِذَا ثَبَتَ سَبَبِيَّتُهُ جَازَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ شَرْطٌ، وَالتَّقْدِيمُ عَلَى الشَّرْطِ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ ثَابِتٌ شَرْعًا كَمَا جَازَ فِي الزَّكَاةِ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ بَعْدَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ النَّصَّابِ، وَكَمَا فِي تَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجَرْحِ عَلَى الْمَوْتِ بِالسِّرَايَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَفْتَرِقَ الْمَالُ وَالصَّوْمُ، وَهُوَ قَوْلُهُ الْقَدِيمُ، وَفِي الْجَدِيدِ: لَا يُقَدَّمُ الصَّوْمُ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْوَقْتِ يَعْنِي أَنَّ تَقَدُّمَ الْوَاجِبِ بَعْدَ السَّبَبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يُعْرَفْ شَرْعًا إِلَّا فِي الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ مُطْلَقًا صَوْمًا كَانَ أَوْ مَالًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى التَّقْدِيمِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَلَنَا: أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ قَالَ الْقَائِلُ: فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلَامُهَا ... وَبِهِ سُمِّيَ الزَّارِعُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْبَذْرَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا جِنَايَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ ; لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِهِ لَا بِالْأَيْمَانِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، وَلِذَا قَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ عَلَى الْأَيْمَانِ، وَكَوْنُ الْحِنْثِ جِنَايَةً مُطْلَقًا لَيْسَ وَاقِعًا، إِذْ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَإِنَّمَا أُخْرِجَ الْكَلَامُ مُخْرَجَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ إِحْلَافِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا سَبَبُ الْحِنْثِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْصِيَةً أَوْ لَا. وَالْمَدَارُ تَوْقِيرُ مَا يَجِبُ لِاسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ السَّمْعُ بِتَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ عَلَى الْحِنْثِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَأْتِ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ". قُلْنَا: الْمَعْرُوفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: " «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلِيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَكَذَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ لَفْظُ ثُمَّ، إِلَّا وَهُوَ مُقَابَلٌ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالْوَاوِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي أَبِي دَاوُدَ وَقَالَ فِيهِ: " «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُقَابَلَةٌ بِرِوَايَاتٍ عَدِيدَةٍ، كَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِالْوَاوِ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ مِنْهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الْوَاوِ حَمْلًا لِلْقَلِيلِ الْأَقْرَبِ إِلَى الْغَلَطِ عَلَى الْكَثِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا حَلَفَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَقَالَ: " لَا أَحْلِفُ ". إِلَى أَنْ قَالَ: " إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي ثُمَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . وَهَذَا فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِلَى آخِرِ مَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِيهِ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، وَقَدْ شَذَّتْ لِمُخَالَفَتِهَا رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، فَصَدَقَ عَلَيْهَا تَعْرِيفُ الْمُنْكَرِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا خَالَفَ الْحَافِظُ فِيهَا الْأَكْثَرَ، يَعْنِي مَنْ سِوَاهُ مِنْهُ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، فَلَا يُعْمَلُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَيَكُونُ التَّعْقِيبُ الْمُسْتَفَادُ بِالْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا فِي: ادْخُلِ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَحْمًا وَفَاكِهَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَعْقِيبُ دُخُولِ السُّوقِ بِشِرَاءِ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَكَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ عَظِيمُ الْبُرْهَانِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ. وَهَكَذَا ; لِأَنَّ الْوَاوَ لَمَّا لَمْ تَقْتَضِ التَّعْقِيبَ كَانَ قَوْلُهُ: " فَلْيُكَفِّرْ ". لَا يَلْزَمُ تَعْقِيبُهُ لِلْحِنْثِ، بَلْ جَازَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ كَمَا بَعْدَهُ، فَلَزِمَ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْحَاصِلِ فَلْيَفْعَلِ الْأَمْرَيْنِ، فَيَكُونُ الْمُعَقَّبُ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ بِعَكْسِهِ، مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ". وَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ". وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ ابْنَ عَمٍّ لِي آتِيهِ أَسْأَلُهُ فَلَا يُعْطِينِي وَلَا يَسْأَلُنِي ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَيَّ فَيَأْتِينِي وَيَسْأَلُنِي، وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ؟ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِي» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ، ثُمَّ لَمْ يَفْرِضْ صِحَّةَ رِوَايَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنْ تَغْيِيرِ الرُّوَاةِ، إِذْ قَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِالْوَاوِ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْوَاجِبُ كَمَا قَدَّمْنَا حَمْلُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ الشَّهِرِ لَا عَكْسُهُ، فَيُحْمَلُ ثُمَّ عَلَى الْوَاوِ الَّتِي امْتَلَأَتْ كُتُبُ الْحَدِيثِ مِنْهَا دُونَ ثُمَّ اهـ. وَفِي الْمُغْنِي: خَالَفَ قَوْمٌ فِي اقْتِضَاءِ ثُمَّ التَّرْتِيبَ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا - وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 189 - 7] ، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] ، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9] .

3412 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ! لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ; فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3412 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) : تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ ") : بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَرُوِيَ بِالنَّفْيِ أَيْ: لَا تَطْلُبِ (" الْإِمَارَةَ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيِ: الْحُكُومَةَ (" فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا ") : أَوْ أُعْطِيتَهَا (" عَنْ مَسْأَلَةٍ ") أَيْ: بَعْدَ سُؤَالِكَ إِيَّاهَا أَوْ إِعْطَاءً صَادِرًا عَنْ مَسْأَلَةٍ (" وُكِلْتَ إِلَيْهَا ") : بِضَمِّ وَاوٍ وَكَسْرِ كَافٍ مُخَفَّفَةٍ وَفَتْحِ تَاءٍ أَيْ: خُلِّيتَ إِلَيْهَا وَتُرِكْتَ مَعَهَا مِنْ غَيْرِ إِعَانَةٍ فِيهَا (" وَإِنْ أُوتِيتَهَا

عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أَعَانَكَ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْإِمَارَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَارَةَ أَمْرٌ شَاقٌّ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا إِلَّا الْأَفْرَادُ مِنْهُ الرِّجَالُ، فَلَا تَسْأَلْهَا مِنْ تَشَرُّفِ نَفْسٍ ; فَإِنَّكَ إِنْ سَأَلْتَهَا تُرِكْتَ مَعَهَا فَلَا يُعِينُكَ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أَعَانَكَ اللَّهُ عَلَيْهَا. (" «فَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» ") : قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلِ: لَا يُصَلِّي أَوْ لَا يُكَلِّمُ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ: فِعْلُ مَعْصِيَةٍ، أَوْ تَرْكُ فَرْضٍ، فَالْحِنْثُ وَاجِبٌ أَوْ أَيٌّ غَيْرُهُ أَيْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ شَهْرًا أَوْ نَحْوَهُ، فَإِنَّ الْحِنْثَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ الرِّفْقُ، وَكَذَا الْحِنْثُ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ، وَهُوَ يَسْتَأْهِلُ ذَلِكَ، أَوْ لَيَشْكُوَنَّ مَدْيُونَهُ إِنْ لَمْ يُوَافِهِ غَدًا ; لِأَنَّ الْعَفْوَ أَفْضَلُ، وَكَذَا تَيْسِيرُ الْمُطَالَبَةِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ وَضِدُّهُ مِثْلُهُ، كَالْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْخُبْزَ وَلَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، فَالْبِرُّ فِي هَذَا وَحِفْظُ الْيَمِينِ أَوْلَى، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي تَأْوِيلِهَا أَنَّهُ فِيمَا أَمْكَنَ لَا يَبْعُدُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3413 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3413 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ") أَيْ: مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ (" فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ") أَيْ: فَيَلْتَزِمْ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ (" وَلْيَفْعَلْ ") أَيِ: الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3414 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «وَاللَّهِ لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3414 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَاللَّهِ ; لَأَنْ يَلَجَّ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ وَبِكَسْرٍ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: لَجِجْتُ أَلَجُّ بِكَسْرِ الْمَاضِي وَفَتْحِ الْمُضَارِعِ وَبِالْعَكْسِ لَجَاءً وَلَجَاجَةً اهـ. وَوَافَقَ الْقَامُوسَ، وَاقْتَصَرَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ عَلَى فَتْحِ الْمُضَارِعِ أَيْ: يُصِرَّ وَيُقِيمَ (" أَحَدُكُمْ ") أَيْ: عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ (" بِيَمِينِهِ ") أَيْ: بِسَبَبِهَا (" فِي أَهْلِهِ ") : وَلَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ (" آثَمُ ") : بِمَدِّ أَوَّلِهِ أَيْ: أَكْثَرُ إِثْمًا (" لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ ") أَيْ: بَعْدَ الْحَلِفِ (" كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ ") : وَفِي نُسْخَةٍ فَرَضَ (" اللَّهُ عَلَيْهِ ") : قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ لَجَاجًا مَعَ أَهْلِهِ كَانَ ذَلِكَ أَدْخَلَ فِي الْوِزْرِ، وَأَفْضَى إِلَى الْإِثْمِ مِنْ أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ عُرْضَةَ الِامْتِنَاعِ عَنِ الْبِرِّ وَالْمُوَاسَاةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْإِلْجَاجِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ} [البقرة: 224] أَيْ: لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ أَيْ: بِنِيَّاتِكُمْ، وَآثَمُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ أَنْ يُطْلَقَ لِلَاجِّ الْإِثْمِ، فَأَطْلَقَهُ لِلَّجَاجِ الْمُوجِبِ لِلْإِثْمِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَجِبُ مَزِيدًا ثُمَّ مُطْلَقًا لَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمُ: الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ، يَعْنِي: إِثْمُ اللَّجَاجِ فِي بَابِهِ أَبْلَغُ مِنْ ثَوَابِ إِعْطَاءِ الْكَفَّارَةِ فِي بَابِهِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى أَنَّ اسْتِمْرَارَهُ عَلَى عِلْمِ الْحِنْثِ وَإِدَامَةِ الضَّرَرِ عَلَى أَهْلِهِ أَكْثَرُ إِثْمًا مِنَ الْحِنْثِ الْمُطْلَقِ. قَالَ الْبَرَمَاوِيُّ: آثَمُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ إِعْطَاءَ الْكَفَّارَةِ فِيهِ إِثْمٌ لِمَا فِي الْحِنْثِ مِنْ عَدَمِ تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ مُلَازَمَةُ عَادَةٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَنَى الْكَلَامَ عَلَى تَوَهُّمِ الْحَالِفِ، فَإِنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمًا، وَلِهَذَا يَلَجُّ فِي عَدَمِ التَّحَلُّلِ بِالْكَفَّارَةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّجَاجِ الْإِثْمُ أَكْثَرُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَهْلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلْمُبَالَغَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3415 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3415 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَمِينُكَ ") أَيْ: حَلِفُكَ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: (عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ ") أَيْ: خَصْمُكَ وَمُدَّعِيكَ وَمُحَاوِرُكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ التَّوْرِيَةُ. فَإِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْيَمِينِ بِقَصْدِ الْمُسْتَحْلِفِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهَا، فَالْعِبْرَةُ بِقَصْدِ الْحَالِفِ، فَلَهُ التَّوْرِيَةُ. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ: يَجِبُ عَلَيْكَ لَهُ أَنْ تَحْلِفَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ إِذَا حَلَفْتَ لَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِحْلَافِ الْقَاضِي أَوْ نَائِبِهِ فِي دَعْوَةٍ أُوجِبَتْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَمْ يَسْتَحْلِفْهُ، فَالِاعْتِبَارُ بِنِيَّةِ الْحَالِفِ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ فَيَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْرِيَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْنَثُ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا حَيْثُ يَبْطُلُ بِهَا حَقُّ مُسْتَحِقٍّ، وَهَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَيُحْكَى عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ فَهُوَ فِيهِ حَانِثٌ آثِمٌ، وَمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعُذْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ اهـ. كَلَامُهُ. وَرُوِيَ «عَنْ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيُّ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: " صَدَقْتَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

3416 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3416 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْيَمِينُ ") أَيْ: يَمِينُ الْحَالِفِ (" عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ ") أَيْ: إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلتَّحْلِيفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ وَالِاعْتِبَارَ فِي الْيَمِينِ عَلَى نِيَّةِ طَالِبِ الْحِنْثِ، فَإِنْ أَضْمَرَ الْحَالِفُ تَأْوِيلًا عَلَى غَيْرِ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ لَمْ يُسْتَخْلَصْ مِنَ الْحِنْثِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

3417 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ وَقَالَ: رَفَعَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3417 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ} [البقرة: 225] : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَاوًا أَيْ لَا يُعَاقِبُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ: الْكَشَّافَ: اللَّغْوُ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ كَلَامٍ وَغَيْرِهِ، وَاللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ الَّذِي عُقِدَ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] (فِي قَوْلِ الرَّجُلِ) أَيْ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِ الشَّخْصِ (لَا وَاللَّهِ) أَيْ: فِي يَمِينِ النَّفْيِ (وَبَلَى وَاللَّهِ) : فِي يَمِينِ الْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى الْيَمِينِ بَلِ الْقَصْدُ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ الْعَارِي عَنِ الْيَمِينِ الْمُجَرَّدِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ فِي اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ بِالْجَنَانِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ) : مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ أَيِ: الْحَدِيثُ وَاقِعٌ بِلَفْظِهِ (وَقَالَ) أَيْ: الْبَغَوِيُّ (رَفَعَهُ) أَيْ: الْحَدِيثَ (بَعْضُهُمْ) أَيْ: بَعْضُ الْمُخَرِّجِينَ (عَنْ عَائِشَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: رَفَعَ الْحَدِيثَ بَعْضُهُمْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَجَاوِزًا عَنْ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ سَاغَ ذِكْرُ الْمَوْقُوفِ وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ؟ قُلْتُ: مِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ مَوْقُوفٌ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسَبَبِ نُزُولِ آيَةٍ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَوْنَ الْمَوْقُوفِ قَدْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا، فَإِنَّ مَدَارَ الضَّعْفِ وَضِدِّهِ عَلَى إِسْنَادِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَوْقُوفًا حَقِيقِيًّا أَوْ مَرْفُوعًا حُكْمِيًّا، فَحُكْمٌ آخَرُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ كُلَّ مَوْقُوفٍ غَيْرُ ضَعِيفٍ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَرْفُوعٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ كَثُرَ وُجُودُ الْمَوْقُوفِ مُطْلَقًا فِي الصَّحِيحَيْنِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ لَكَ الْأَثَرُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَيَمِينُ اللَّغْوِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ. وَالْأَمْرُ

بِخِلَافِهِ مِثْلَ: وَاللَّهِ لَقَدْ دَخَلْتُ الدَّارَ وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَنَحْوَهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ يَمِينٍ صَدَرَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ، كَلَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ: لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَفِي الْهِدَايَةِ: الْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّاسِي، وَهُوَ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْيَمِينِ ذَاهِلًا عَنْهُ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْخَاطِئُ وَهُوَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ غَيْرِ الْحَلِفِ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ حِنْثٌ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَبَعْضُهُمْ كَصَاحِبِ الْخُلَاصَةِ جَعَلَ مَكَانَ الْيَمِينِ الْعِتَاقَ، وَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» ". وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ الْعِتَاقِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ طَلَّقَ وَهُوَ لَاعِبٌ فَطَلَاقُهُ جَائِزٌ، وَمَنْ أَعْتَقَ وَهُوَ لَاعِبٌ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ» ". وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: " «ثَلَاثٌ لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ، مَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ لَاعِبًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ: الطَّلَاقُ، وَالْعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ» ". وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرٍو وَعَلِيٍّ مَوْقُوفًا أَنَّهُمَا قَالَا: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ: النِّكَاحُ وَالْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا: أَرْبَعٌ، وَزَادَ النَّذْرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَمِينَ فِي مَعْنَى النَّذْرِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ اللَّغْوُ بِتَفْسِيرِهِمْ وَهْمًا أَمْ يَقْصِدُ الْيَمِينَ مَعَ ضِدِّ الْبِرِّ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْيَمِينِ فَمَا لَنْ يَقْصِدَهُ أَصْلًا بَلْ هُوَ كَالنَّائِمِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ لَا حُكْمَ بِهِ وَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حُكْمُ الْيَمِينِ، وَأَيْضًا فَتَفْسِيرُ اللَّغْوِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ نَفْسَ التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ النَّاسِيَ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ فِي بَيْتِهِ لَا يَقْصِدُ التَّكَلُّمَ بِهِ، بَلْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ غَيْرُ مُرَادِ لَفْظِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَازِلِ، فَحَمْلُ النَّاسِي عَلَى اللَّاغِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْهَازِلِ، وَهَذَا الَّذِي أَدَّيَّنُهُ، وَتَقَدَّمَ لَنَا فِي الطَّلَاقِ مِثْلُهُ. قَالَ: وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ. لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ". قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّفْعِ رَفْعُ الْوِزْرِ لَا الْعَقْدِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي التَّحْقِيقِ مِنْ عَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِ الْمُكْرَهِ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَأَبِي أُمَامَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيْسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ» ". ثُمَّ قَالَ عَنْبَسَةُ: ضَعِيفٌ. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَلْ مَوْضُوعٌ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ لَا يَجُوزُ الِاجْتِمَاعُ بِهِمْ، ثُمَّ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ أَيِ الَّتِي تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ، فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ هُوَ الْحَالِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ بِهِ لِمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: " لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ". قُلْتُ: رَوَاهُمَا الْأَرْبَعَةُ وَأَحْمَدُ قَالَ: وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ مَصْبُورَةٍ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ". وَالْمُرَادُ بِالْمَصْبُورَةِ الْمُلْزِمَةُ بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ أَيِ الْمَحْبُوسُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مَصْبُورٌ عَلَيْهَا وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إِلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَتَمَامُ بَحْثِ الْمَقَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ هَمَّامٍ: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْغَمُوسُ مَكْسُوبَةٌ بِالْقَلْبِ وَالْمَكْسُوبَةُ يُؤْخَذُ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْمُرَادَ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَفَّارَةُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ مُطْلَقًا فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ فِي الْغَمُوسِ وَفِي الدُّنْيَا وَهِيَ الْمَكْسُوبَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَعْقُودَةُ كَمَا ذُكِرَ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ قَالَ فِيهِ: " «خَمْسٌ لَيْسَ فِيهِنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَنَهْبُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْطَعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» ". اهـ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمَصْبُورَةِ عَلَى مَالٍ كَاذِبًا وَغَيْرِهَا، وَصَابِرَةٌ بِمَعْنَى مَصْبُورَةٍ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3418 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3418 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ» ") ، أَيْ بِأُصُولِكُمْ فَبِالْفُرُوعِ أَوْلَى (" وَلَا، بِالْأَنْدَادِ ") ، أَيِ الْأَصْنَامِ، وَالْمُرَادُ بِمَا سِوَاهُ. فِي النِّهَايَةِ: الْأَنْدَادُ جَمْعُ نِدٍّ بِالْكَسْرِ وَهُوَ مِثْلُ الشَّيْءِ يُضَادُّهُ فِي أُمُورِهِ، وَيُنَادُّهُ أَيْ يُخَالِفُهُ، وَيُرِيدُ بِهَا مَا كَانُوا يَتَّخِذُونَهُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. (" «وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

3419 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3419 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ ") : أَيْ مُعْتَقِدًا تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْغَيْرِ (" فَقَدْ أَشْرَكَ ") . أَيْ إِشْرَاكًا جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا لِأَنَّهُ أَشْرَكَ الْمَحْلُوفَ بِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّعْظِيمِ الْمَخْصُوصِ بِهِ، قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ فِي التَّعْظِيمِ الْبَلِيغِ، فَكَأَنَّهُ مُشْرِكٌ إِشْرَاكًا جَلِيًّا فَيَكُونُ زَجْرًا بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَكَذَا إِذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ يَعْنِي: وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ صِفَةَ اللَّهِ لَا تَكُونُ يَمِينًا إِذَا كَانَ الْحَلِفُ بِهَا مُتَعَارَفًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَلِكُ الْعَلَّامُ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ، أَمَّا إِذَا حَلَفَ بِذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنَ النَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ كَانَ يَمِينًا ; لِأَنَّ التَّبَرُّأَ مِنْهُمَا كُفْرٌ، فَيَكُونُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ قَالَ: ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ الْآنَ مُتَعَارَفٌ، فَيَكُونُ يَمِينًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا الْحَلِفُ بِحَيَاةِ شَرِيفٍ، وَمِثْلُهُ بِحَيَاةِ رَأْسِكَ وَحَيَاةِ رَأْسِ السُّلْطَانِ فَذَلِكَ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْبِرَّ وَاجِبٌ يَكْفُرُ، وَفِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى. قَالَ عَلِيٌّ الرَّازِيُّ: أَخَافُ عَلَى مَنْ قَالَ: وَحَيَاتِي وَحَيَاتِكَ أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْعَامَّةَ يَقُولُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ لَقُلْتُ: إِنَّهُ شِرْكٌ. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ: " «مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِرَبِّ الْكَعْبَةِ» ".

3420 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3420 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ ") : أَيْ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ (" فَلَيْسَ مِنَّا ") . أَيْ مِمَّنِ اقْتَدَى بِطَرِيقَتِنَا. قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مِنْ ذَوِي أُسْوَتِنَا، بَلْ هُوَ مِنَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِغَيْرِنَا، فَإِنَّهُ مِنْ دَيْدَنِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ الْوَعِيدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وِفَاقًا، وَاخُتَلِفَ فِيمَا إِذَا قَالَ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ يَمِينٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ: بِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوْ عِلْمِهِ، لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِهِ إِذْ جَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَمِينُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَرِهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَلِفَ بِالْأَمَانَةِ لِعَدَمِ دُخُولِهَا فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ عِبَارَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالْأَمَانَةِ الْفَرَائِضَ وَلَا تَحْلِفُوا بِالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا الْحَلِفِ اتِّفَاقًا، أَمَّا لَوْ قَالَ:

وَأَمَانَةِ اللَّهِ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَعَلَّهُ جَعَلَ الْأَمَانَةَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَقَدْ قِيلَ: الْأَمِينُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الْمُرَادُ أَمَانَةُ اللَّهِ كَلِمَتُهُ وَهَى كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الصِّفَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا اسْمُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ ذَاتًا وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَهُوَ كَالْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، بِخِلَافِ نَحْوِ الْعَظِيمِ، فَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِ الْحَلِفِ بِهَا مُتَعَارَفًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ أَوِ الذَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ إِنَّهُ يَمِينٌ ثُمَّ سُئِلَ مَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَحْلِفُونَ بِهِ، فَحَكَمَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى وَاللَّهِ الْأَمِينِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا لَفْظُ الْيَمِينِ، كَعِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي فِي ضِمْنِ الْعَزِيزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ ; لِأَنَّ الْغَيْرَ هُوَ مَا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا أَوْ وُجُودًا، وَلَوْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَيْسَ يَمِينًا لِعَدَمِ التَّعَارُفِ، وَفِي الْهِدَايَةِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا قَالَ: وَحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي إِذَا أُطْلِقَ ; لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ عُدَّ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحُسْنَى، وَقَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 71] وَهُوَ حَقِيقَةٌ أَيْ كَوْنُهُ تَعَالَى ثَابِتَ الذَّاتِ أَيْ مَوْجُودَهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ يَمِينًا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَهُمَا: أَنَّ حَقَّ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ، إِذِ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ وَصَارَ ذَلِكَ مُتَبَادِرًا شَرْعًا وَعُرْفًا، حَتَّى كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَيْثُ لَا يَتَبَادَرُ سِوَاهُ، أَمَّا لَوْ قَالَ: وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا بِالْإِجْمَاعِ، وَعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ يَمِينٌ إِذَا أُطْلِقَ عِنْدَنَا، وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ يَحْتَمِلُ الْعِبَادَاتِ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِغَيْرِ النِّيَّةِ، وَكَذَا أَمَانَةُ اللَّهِ. عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَعِنْدَنَا وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: هُوَ يَمِينٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّهَا فُسِّرَتْ بِالْعِبَادَاتِ. قُلْنَا: غَلَبَ إِرَادَةُ الْيَمِينِ إِذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ حَرْفِ الْقَسَمِ فَوَجَبَ عَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى النِّيَّةِ لِلْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ أَيِ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا يَقْتَضِي عَدَمَ كَوْنِهِ يَمِينًا، وَالْوَجْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَقْتَضِي مِنْهُ الْحَلِفَ بِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا، وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3421 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ ; فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3421 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ بُرَيْدَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ ") : أَيْ لَوْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ لَمْ أَفْعَلْهُ (" فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا ") : أَيْ فِي حَلِفِهِ عَلَى زَعْمِهِ (" فَهُوَ كَمَا قَالَ ") . فِيهِ مُبَالَغَةُ تَهْدِيدٍ وَزَجْرٍ مَعَ التَّشْدِيدِ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَإِنَّهُ يَمِينٌ غَمُوسٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ عُقُوبَتَهُ فِي دِينِهِ دُونَ مَالِهِ اهـ. وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِيمَا مَضَى (وَإِنْ كَانَ صَادِقًا) : أَيْ فِي حَلِفِهِ عَلَى زَعْمِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا فِي الْوَاقِعِ أَمْ لَا (" فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا ") . أَيْ يَكُونُ بِنَفْسِ هَذَا الْحَلِفِ آثِمًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْيَمِينِ بِالْأَمَانَةِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ صَادِقٌ وَلَيْسَ بِصَادِقٍ فِي الْحَقِيقَةِ اهـ. فَتَأَمَّلْ فِيمَا مَضَى قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَوْلُهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ إِنْ فَعَلَ كَذَا يَمِينٌ عِنْدَنَا، وَكَذَا إِذَا قَالَ: هُوَ بَرِيءٌ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3422 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ: " لَا، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3422 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا اجْتَهَدَ) : أَيْ بَالَغَ فِي الْيَمِينِ (" قَالَ: لَا ") ، أَيْ لَيْسَ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فَيَشْمَلُ الْيَمِينَ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ أَوَّلًا عَنِ الشَّيْءِ، وَإِذَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْيَمِينِ قَالَ ذَلِكَ. (" وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ ") : أَيْ رُوحُهُ أَوْ ذَاتُهُ (" بِيَدِهِ ") . أَيْ بِتَصَرُّفِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. فِي النِّهَايَةِ: الِاجْتِهَادُ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الْأَمْرِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْجُهْدِ وَهُوَ الطَّاقَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَسَمُ بَلِيغًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ لِنَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الطَّاهِرَةِ عَنْ دَنَسِ الْآثَامِ، وَأَنَّهَا أَعَزُّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى شَأْنُهُ، فَيَكُونُ أَشْرَفَ أَقْسَامِ الْقَسَمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ.

3423 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَلَفَ: " لَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3423 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَلَفَ) : يَعْنِي أَحْيَانًا (" لَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ") . قَالَ الْقَاضِي: أَيْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لَكِنْ شَابَهَهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ أَكَّدَ الْكَلَامَ وَقَرَّرَهُ، وَأَعْرَبَ عَنْ مَخْرَجِهِ بِالْكَذِبِ فِيهِ وَتَحَرُّزِهِ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ يَمِينًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِلْعَطْفِ، وَهُوَ يَقْتَضِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مَحْذُوفًا وَالْقَرِينَةُ لَفْظَةُ لَا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ تَوْطِئَةً لِلْقَسَمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {لَا أُقْسِمُ} [القيامة: 1] رَدًّا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ وَإِنْشَاءَ قَسَمٍ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ الْمَعْنَى لَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُظْهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمِينَ لَغْوٍ كَانَ يَقُولُ: وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَقِيبَهُ تَدَارُكًا لِمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ لِمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ لِيَكُونَ بِهِ دَلِيلًا لِأُمَّتِهِ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَبَعًا لِلْمُظْهِرِ: أَيْ إِذَا حَلَفَ فِي أَثْنَاءِ الْمُحَاوَرَاتِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ اسْتَدْرَكَهُ بِذَلِكَ نَافِيًا كَوْنَهُ يَمِينًا مَعْقُودًا عَلَيْهِ اهـ. وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ حَمْلَ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى اللَّغْوِ مُنَافٍ لِمَقَامِ الرِّسَالَةِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ قَدْ ذُكِرَ سَابِقًا فِي يَمِينِ اللَّغْوِ هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا حَلَفَ مَقْرُونَةً " لَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ". يَعْنِي إِذَا حَلَفَ وَبَالَغَ بِقَوْلِهِ لَا قَالَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ يَعْنِي مِمَّا يَعْلَمُ بِهِ اللَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَ مِنِّي وَصَدَرَ عَنِّي، فَإِنَّهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ، لَكِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوِ التَّقْدِيرُ: وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنَ الْحَلِفِ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ تَرْكُهَا إِلَّا لِمَكَانِ ضَرُورَةٍ بِهَا، فَإِنَّهَا فِي الْأَصْلِ عُرْضَةٌ وَهِيَ مَنْهِيَّةٌ، وَلِذَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْحَلِفِ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا، فَمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا كَانَ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ مِنْ تَأْكِيدِ حُكْمٍ أَوْ بَيَانِ جَوَازٍ، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا أَرَادَ الْحَلِفَ ذَكَرَ هَذَا بَدَلًا عَنِ الْحَلِفِ وَلَمْ يَحْلِفْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3424 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ جَمَاعَةً وَقَفُوهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3424 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ") : أَيْ عَلَى مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ (" فَقَالَ:: إِنْ شَاءَ اللَّهُ ") : أَيْ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ (" فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ") . بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: فَلَا يَمِينَ لَهُ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُوَطَّئِهِ: وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا قَالَ: إِنْ شَاءَ وَوَصَلَهَا بِيَمِينِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَكَذَا قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] وَلَمْ يَصِرْ مُخْلِفًا لِوَعْدِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ ; لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِهِ حُكْمٌ، وَلِلْجُمْهُورِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا كَانَ مَوْصُولًا بِالْيَمِينِ أَوْ مَفْصُولًا عَنْهَا بِسَكْتَةٍ يَسِيرَةٍ كَالسَّكْتَةِ لِلذِّكْرِ أَوْ لِلْعِيِّ أَوْ لِلتَّنَفُّسِ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ، أَوْ بِالْعِتَاقِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْيَمِينِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِهِ إِنْ طَالَ الْفَصْلُ، أَوِ اشْتَغَلَ بِكَلَامٍ آخَرَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اسْتَثْنَى وَقِيلَ: يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مَا دَامَ الْحَالِفُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَقِيلَ: مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ حِينٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَعْدَ سِنِينَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 69] يُشْعِرُ بِالِاتِّصَالِ، فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِغَيْرِ التَّرَاخِي، وَأَمَّا إِجْرَاءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ فَعَلَى الْمَجَازِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنِّي أَفْعَلُ كَذَا، وَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ مَانِعٍ إِلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : لَكِنَّ لَفْظَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدِ اسْتَثْنَى. (وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ جَمَاعَةً وَقَفُوهُ) : أَيِ الْحَدِيثَ (عَلَى ابْنِ عُمَرَ) : لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3425 - وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ ابْنَ عَمٍّ لِي آتِيهِ أَسْأَلُهُ فَلَا يُعْطِينِي وَلَا يَصِلُنِي، ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَيَّ فَيَأْتِينِي فَيَسْأَلُنِي، وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِي» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَأْتِينِي ابْنُ عَمِّي فَأَحْلِفُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ، قَالَ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3425 - (عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ) ، أَيِ ابْنِ نَضْرٍ سَمِعَ أَبَاهُ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَأَبَا مُوسَى، وَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ (عَنْ أَبِيهِ) ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ. (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ ابْنَ عَمٍّ لِي آتِيهِ) : مِنَ الْإِتْيَانِ أَيْ أَجِيئُهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَرَأَيْتَ بِمَعْنَى عَلِمْتَ (أَسْأَلُهُ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ رَأَيْتَ بِمَعْنَى عَرَفْتَ، وَالْفِعْلَانِ حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ. أَفَلَا يُعْطِينِي) : أَيْ فِي مُقَابَلَةِ سُؤَالِي إِيَّاهُ (وَلَا يَصِلُنِي) ، فِي مُعَاوَضَةِ مَا أَتَانِي إِلَيْهِ (ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَيَّ فَيَأْتِينِي) : أَيْ لِأَصِلَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَيَسْأَلُنِي، وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ) ، أَيْ مُجَازَاةً لِفِعْلِهِ وَمُكَافَأَةً لِعَمَلِهِ (فَأَمَرَنِي) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنْ آتِيَهُ) : أَيْ بِأَنْ أَفْعَلَ بِهِ (الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) : وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِعْطَاءِ وَالصِّلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ (خَيْرٌ) لِلتَّفْضِيلِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى دَائِرٌ بَيْنَ قَطْعِ الصِّلَةِ وَمَنْعِ الْمَعْرُوفِ وَوَصْلِهَا وَإِعْطَائِهِ، وَقَدْ حَثَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: " «صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» ". وَنَهَى عَنِ الْخَلَّتَيْنِ أَبْلَغَ نَهْيٍ (وَأُكَفِّرَ) : أَيْ وَبِأَنْ أُكَفِّرَ (عَنْ يَمِينِي) : (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) . وَفِي رِوَايَتِهِ أَيْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَفِي نُسْخَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أَيْ لِابْنِ مَاجَهْ أَوْ لَهُمَا. ( «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِي ابْنُ عَمِّي فَأَحْلِفُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ. قَالَ: " كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» ") . أَيْ بَعْدَ الْحِنْثِ.

[باب في النذور]

[بَابٌ فِي النُّذُورِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3426 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَنْذُرُوا ; فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [1] بَابٌ فِي النُّذُورِ أَيْ: مُخَصَّصٌ بِهَا، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3426 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَنْذُرُوا ") ، بِضَمِّ الذَّالِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِضَمِّ الذَّالِ وَكَسْرِهَا، وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالضِّيَاءِ (" فَإِنَّ النَّذْرَ ") : وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمَصَابِيحِ فَإِنَّهُ أَيِ النَّذْرَ (" لَا يُغْنِي ") : أَيْ لَا يَدْفَعُ أَوْ لَا يَنْفَعُ (" مِنَ الْقَدَرِ ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مِنَ الْقَضَاءِ السَّمَاوِيِّ (" شَيْئًا ") ، فَإِنَّ الْمُقَدَّرَ لَا يَتَغَيَّرُ (" وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ ") : أَيْ بِسَبَبِ النَّذْرِ (" مِنَ الْبَخِيلِ ") . ; لِأَنَّ غَيْرَ الْبَخِيلِ يُعْطِي بِاخْتِيَارِهِ بِلَا وَاسِطَةِ النَّذْرِ. قَالَ الْقَاضِي: عَادَةُ النَّاسِ تَعْلِيقُ النُّذُورِ عَلَى حُصُولِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ فَنَهَى عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْبُخَلَاءِ إِذِ السَّخِيُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْتَعْجَلَ فِيهِ وَأَتَى بِهِ فِي الْحَالِ، وَالْبَخِيلُ لَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ يَدِهِ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ يُسْتَوْفَى أَوَّلًا، فَيَلْتَزِمُهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا سَيَحْصُلُ لَهُ، وَيُعَلِّقُهُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنِ الْقَدَرِ شَيْئًا أَيْ نَذْرٌ لَا يَسُوقُ إِلَيْهِ خَيْرًا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ، وَلَا يَرُدُّ عَنْهُ شَرًّا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّذْرَ قَدْ يُوَافِقُ الْقَدَرَ فَيُخْرِجُ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى نَهْيِهِ عَنِ النَّذْرِ إِنَّمَا هُوَ التَّأْكِيدُ لِأَمْرِهِ وَتَحْذِيرُ التَّهَاوُنِ بِهِ بَعْدَ إِيجَابِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الزَّجْرَ عَنْهُ

حَتَّى يَفْعَلَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إِبْطَالُ حُكْمِهِ وَإِسْقَاطُ لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ، إِذْ صَارَ مَعْصِيَةً، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجْلِبُ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ نَفْعًا وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُمْ ضَرًّا، وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِ: " فَلَا تَنْذُرُوا ". عَلَى أَنَّكُمْ تُدْرِكُونَ بِالنَّذْرِ شَيْئًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ لَكُمْ، أَوْ تَصْرِفُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ شَيْئًا جَرَى الْقَضَاءُ بِهِ عَلَيْكُمْ، إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَاخْرُجُوا عَنْهُ بِالْوَفَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي نَذَرْتُمُوهُ لَازِمٌ لَكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَحْرِيرُهُ أَنَّهُ عَلَّلَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ، وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ النَّذْرُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يُغْنِي عَنِ الْقَدَرِ بِنَفْسِهِ، كَمَا زَعَمُوا، وَكَمَا نَرَى فِي عَهْدِنَا جَمَاعَةً يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ لَمَّا شَاهَدُوا مِنْ غَالِبِ الْأَحْوَالِ حُصُولَ الْمَطَالِبِ بِالنَّذْرِ، وَأَمَّا إِذَا نَذَرَ وَاعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَهِّلُ الْأُمُورَ، وَهُوَ الضَّارُّ وَالنَّافِعُ. وَالنُّذُورُ كَالذَّرَائِعِ وَالْوَسَائِلِ، فَيَكُونُ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ طَاعَةً، وَلَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَيْفَ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ الْخِيَرَةَ مِنْ عِبَادِهِ بِقَوْلِهِ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وَ {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] قُلْتُ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّ النَّذْرَ الْمُقَيَّدَ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْقَيْدُ، أَعْنِي الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ يُغْنِي عَنِ الْقَدَرِ. قَالَ: وَأَمَّا مَعْنَى " فَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْبَذْلَ وَالْإِنْفَاقَ، فَمَنْ سَمَحَتْ أَرْيَحِيَّتُهُ فَذَلِكَ، وَإِلَّا فَشَرْعُ النُّذُورِ لِيُسْتَخْرَجَ بِهِ مَالُ الْبَخِيلِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ كَوْنَ النَّاذِرِ يَصِيرُ مُلْتَزِمًا لَهُ، فَيَأْتِي بِهِ تَكَلُّفًا بِغَيْرِ نَشَاطٍ، قُلْتُ: وَهُوَ مُشَاهَدٌ كَثِيرًا فِيمَنْ يَنْذُرُ صِيَامَ الدَّهْرِ. أَوِ الْبِيضَ، أَوْ صَلَاةَ الضُّحَى وَغَيْرَهَا، أَوْ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ كُلَّ يَوْمٍ وَنَحْوَهُ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ كَوْنَهُ يَأْتِي بِالْقُرْبَةِ الَّتِي الْتَزَمَهَا فِي نَذْرِهِ عَلَى صُورَةِ الْمُعَاوَضَةِ لِلْأَمْرِ الَّذِي طَلَبَهُ، فَيَنْقُصُ أَجْرَهُ، وَشَأْنُ الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَمَحِّضَةً لِلَّهِ تَعَالَى اهـ. وَهُوَ تَوْضِيحٌ وَبَيَانٌ لِمَا فِي كَلَامِ الْقَاضِي مِمَّا مَضَى. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِكَوْنِهِ قَدْ يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّ النَّذْرَ قَدْ يَرُدُّ الْقَدَرَ، وَيَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمُقَدَّرِ، فَنَهَى عَنْهُ خَوْفًا مِنْ جَاهِلٍ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ النَّذْرِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3427 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3427 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» ") فَإِنَّ إِطَاعَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ مِنْ غَيْرِ نَذْرٍ، فَكَيْفَ إِذَا أَكَّدَ بِالنَّذْرِ. (" وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ ") : أَيِ اللَّهَ (" فَلَا يَعْصِهِ ") . بِإِشْبَاعِ هَاءِ الضَّمِيرِ وَيَجُوزُ قَصْرُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَاءِ السَّكْتِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا بِشَيْءٍ، وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ لَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ الْكَفَّارَةِ وَلَا عَلَى إِثْبَاتِهَا، وَبُيِّنَ الْحُكْمُ بِإِطْلَاقِهِ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: " «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ". وَبِتَصْرِيحِهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ: " «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ". قَالَ: فَعَلَى هَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْعِيدِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ نَذَرَ نَحْرَ وَلَدِهِ فَبَاطِلٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَأَمَّا إِذَا نَذَرَ مُطْلَقًا فَقَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمِّ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ". قُلْتُ: زِيَادَةُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ تَحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحِهَا ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِمَفْهُومِهَا. قَالَ: وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّهِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ شَيْئًا لَا يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي اسْتِدْلَالِهِ مِنَ الْخَفَاءِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

3428 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3428 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُمَا صَحَابِيَّانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا وَفَاءَ ") : أَيْ جَائِزٌ أَوْ صَحِيحٌ (" بِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا ") ؟ أَيْ لَا وَفَاءَ أَيْ لَا يُوجَدُ الْوَفَاءُ لِكَوْنِهِ لَا يَنْعَقِدُ (" فِيمَا ") : أَيْ فِي نَذْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِشَيْءٍ (" لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ ") . أَيْ لَا يَمْلِكُهُ حِينَ النَّذْرِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ لِمُسْلِمٍ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ (" «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» ") . فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ: (" «وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.

3429 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3429 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) أَيِ الْجُهَنِيِّ كَانَ وَالِيًا عَلَى مِصْرَ لِمُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَخِيهِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ثُمَّ عَزَلَهُ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

3430 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بَرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3430 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِإِشْبَاعِ فَتْحَةِ نُونِ بَيْنَ أَيْ فِيمَا بَيْنَ أَوْقَاتٍ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَخْطُبُ فَإِذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ إِذْ وَهِيَ لِلْمُفَاجَأَةِ (هُوَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِرَجُلٍ قَائِمٍ) ، يُجَرُّ عَلَى الصِّفَةِ وَالتَّقْدِيرُ: عِنْدَهُ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ (فَسَأَلَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَصْحَابَهُ عَنْهُ) : أَيْ عَنْ قِيَامِهِ أَوْ عَنِ اسْمِهِ أَوْ رَسْمِهِ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ: أَيْ هُوَ مُلَقَّبٌ بِذَلِكَ، وَأَبُو إِسْرَائِيلَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ، قَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُوَ اسْمُهُ، وَلِذَا أُجِيبَ بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ زِيَادَةٌ فِي الْجَوَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ حَالَهُ، فَيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَلَعَلَّ السُّؤَالَ لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ أَجَابُوا بِهِمَا جَمِيعًا (نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ) : أَيْ مُطْلَقًا (وَيَصُومَ) ، أَيْ دَائِمًا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مُرُوهُ ") : أَيْ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: مُرْهُ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ لِرَئِيسِ الْقَائِلِينَ، وَالْجَمْعُ أُطْلِقَ لِقَالُوا، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَوْلَ وَقَعَ مِنْهُمْ جَمِيعًا فَقَالَ: مُرُوهُ أَيْ كُلُّكُمْ لِزِيَادَةِ التَّأْثِيرِ فِي نَفْسِهِ (" فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ ") : بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا فِي الْجَمِيعِ (" صَوْمَهُ ") . أَيْ لِيُكْمِلْ صَوْمَهُ وَلْيُتِمَّ عَلَى دَوَامِ صِيَامِهِ، فَإِنَّ النَّذْرَ عَلَى الطَّاعَةِ لَازِمٌ، وَصِيَامُ الدَّهْرِ مَحْمُودٌ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ الْأَيَّامُ الْخَمْسَةُ الْمَنْهِيُّ شَرْعًا وَعُرْفًا وَإِنْ نَوَاهَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِفْطَارُهَا وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِهَا عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالتَّكَلُّمِ فَإِنَّهُ قَدْ يَجِبُ كَالْقِرَاءَةِ وَرَدِّ السَّلَامِ فَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا عَدَمُ الْقُعُودِ وَتَرْكُ الِاسْتِظْلَالِ فِيمَا لَا تُطِيقُهُ قُوَّةُ الْبَشَرِ، فَأَمَرَهُ بِالْحِنْثِ قَبْلَ أَنْ يَضُرَّهُ بَعْضُ الْوَفَاءِ بِهِ حَيْثُ لَنْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ وَالْمُخَالَفَةِ فِيمَا عَدَاهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِيمَا فِيهِ قُرْبَةٌ. قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ عُمُومِ النَّذْرِ. قَالَ: وَمَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ فَنَذْرُهُ لَغْوٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَنْذُورُ مُبَاحًا يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ. قَالَ: " أَوْفِي بِنَذْرِكِ» ". وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا تَجِبُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ". وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ". وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا لَمَّا قَصَدَتْ بِذَلِكَ إِظْهَارَ الْفَرَحِ بِمَقْدِمِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَسَرَّةِ بِنُصْرَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ مَسَاءَةُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ الْتَحَقَ بِالْقُرُبَاتِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِذْنُ دُونَ الْوُجُوبِ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الثِّقَاتِ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ: وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ إِذِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ". وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ فَتَدَبَّرْ. قَالَ: وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْعِيدِ لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ آخَرَ، وَلَوْ نَذَرَ نَحْرَ وَلَدِهِ لَزِمَهُ ذَبْحُ شَاةٍ، وَلَوْ نَذَرَ ذَبْحَ وَالِدِهِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَنْذُرُونَهُ وَيَعُدُّونَهُ قُرْبَةً بِخِلَافِ ذَبْحِ الْوَالِدِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3431 - وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، فَقَالَ: " مَا بَالُ هَذَا؟ " قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ ". وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3431 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى شَيْخًا) أَيْ: رَجُلًا كَبِيرًا (يُهَادَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بَيْنَ ابْنَيْهِ) قَالَ: يَمْشِي بَيْنَ وَلَدَيْهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا مِنْ ضَعْفٍ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ، (فَقَالَ: " مَا بَالُ هَذَا؟ ") أَيْ: حَالُ هَذَا الشَّيْخِ (قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ) أَيْ: إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ (قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ) : نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (" لَغَنِيٌّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ) أَيْ: لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَشْيِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَمِلَ بِظَاهِرِهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: عَلَيْهِ دَمٌ ; لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْصًا بَعْدَ الْتِزَامِهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَذَرَ بِأَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْشِي إِنْ أَطَاقَ الْمَشْيَ، فَإِنْ عَجَزَ أَرَاقَ دَمًا وَرَكِبَ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ تَعَالَى: يَرْكَبُ وَيُرِيقُ دَمًا سَوَاءٌ أَطَاقَ الْمَشْيَ أَوْ لَمْ يُطِقْهُ اهـ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَالْبَيَانُ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْحَرَمِ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَقِيلَ فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِلَفْظِ الْمَشْيِ إِلَى الْحَرَمِ وَالْمَسْجِدِ، بِخِلَافِ زَمَانِهِمَا، فَيَكُونَ اخْتِلَافَ زَمَانٍ لَا اخْتِلَافَ بُرْهَانٍ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الذَّهَابُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَإِنَّهُ لَا يَرْكَبُ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَإِنْ جَعَلَ عُمْرَةً حَتَّى يَحْلِقَ، وَفِي الْأَصْلِ خُيِّرَ بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَشَارَ إِلَى وُجُوبِ الْمَشْيِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالصَّحِيحُ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْأَصْلِ عَلَى مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ ابْتِدَاءِ الْمَشْيِ فَقِيلَ: يَبْتَدِئُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَقِيلَ: حَيْثُ أَحْرَمَ، وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَتَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقِيلَ مِنْ بَيْتِهِ، وَعَلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ، وَصَحَّحَهُ قَاضِيخَانُ، وَالزَّيْلَعِيُّ، وَابْنُ الْهُمَامِ ; لِأَنَّهُ الْمُرَادُ عُرْفًا، وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ فَبِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ، ثُمَّ لَوْ رَكِبَ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ أَوْ أَكْثَرَ بِعُذْرٍ أَوْ بِلَا عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ ; لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا يَخْرُجُ عَنِ الْعَهْدِ، وَإِنْ رَكِبَ فِي الْأَقَلِّ تَصَدَّقَ بِقَدْرِهِ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3432 - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " ارْكَبْ أَيُّهَا الشَّيْخُ ; فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكَ وَعَنْ نَذْرِكَ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3432 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " ارْكَبْ أَيُّهَا الشَّيْخُ ; فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكَ وَعَنْ نَذْرِكَ ")

3433 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «اسْتَفْتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3433 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) : وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْصَارِ كَمَا تَقَدَّمَ (" اسْتَفْتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: سَأَلَهُ (فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ فَأَفْتَاهُ) أَيْ: أَجَابَ عَنْ سُؤَالِهِ (أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي نَذْرِ أُمِّ سَعْدٍ هَذَا، فَقِيلَ: كَانَ نَذْرًا مُطْلَقًا، وَقِيلَ: كَانَ صَوْمًا، وَقِيلَ عِتْقًا، وَقِيلَ صَدَقَةً. وَاسْتَدَلَّ كُلُّ قَائِلٍ بِأَحَادِيثَ جَاءَتْ فِي قِصَّةِ أُمِّ سَعْدٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ نَذْرًا فِي الْمَالِ، أَوْ نَذْرًا مُبْهَمًا، وَيُعَضِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، فَقَالَ لَهُ: يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْقِ عَنْهَا الْمَاءَ ". وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ النَّذْرِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَالِيٍّ وَإِذَا كَانَ مَالِيًّا كَكَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ زَكَاةٍ وَلَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً لَا يَلْزَمُهُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: يَلْزَمُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْوَارِثَ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَحَدِيثُ سَعْدٍ يُحْتَمَلُ، أَنَّهُ قَضَى مِنْ تَرِكَتِهَا أَوْ تَبَرَّعَ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِإِلْزَامِهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَالِ فَقَدْ سَبَقَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3434 - «وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ". قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3434 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كَانَ أَحَدَ شُعَرَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ اهـ. وَيَجْمَعُ أَوَائِلَ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ لَفْظُ مَكَّةَ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي) أَيْ: عَنِ التَّخَلُّفِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِلَا عُذْرٍ، وَالتَّوْبَةُ هِيَ النَّدَامَةُ وَالْعَزْمُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، فَالْمَعْنَى مِنْ تَمَامِهَا (أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي) أَيْ: أَتَجَرَّدَ عَنْهُ كَمَا يَتَجَرَّدُ

الْإِنْسَانُ وَيَنْخَلِعُ مِنْ ثِيَابِهِ (صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ) : فِي النِّهَايَةِ أَيْ: أَخْرُجَ عَنْهُ جَمِيعِهِ وَأَتَصَدَّقَ بِهِ، وَأَعْرَى مِنْهُ كَمَا يَعْرَى الْإِنْسَانُ إِذَا خَلَعَ ثَوْبَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا الِانْخِلَاعُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي مَعْنَى النَّذْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَفَّارَةٌ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُظْهِرُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَنَا فِيهِ يَقْتَضِي خَلْعَ مَالِي صَدَقَةً مُكَفِّرَةً، وَإِمَّا شُكْرًا كَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ اسْتِصْحَابُ الصَّدَقَةِ شُكْرًا لِلنِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ، لَا سِيَّمَا مَا عَظُمَ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَمُرَارَةَ بْنَ الرَّبِيعِ، وَهِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُرُوجِهِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ نَدِمُوا مِنْ سُوءِ صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ، فَتَابُوا إِلَى اللَّهِ، فَقَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ} [التوبة: 118] أَيْ: وَتَابَ بِمَعْنَى أَوْقَعَ قَبُولَ التَّوْبَةِ عَلَى {الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] أَيْ: تَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ بِمَعْنَى خَلَّفَهُمُ الشَّيْطَانُ، أَوْ خَلَّفَ أَمْرَهُمْ، فَإِنَّهُمُ الْمُرْجَوْنَ، {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] أَيْ: بِرُحْبِهَا بِمَعْنَى مَعَ سَعَتِهَا، فَأَرَادَ كَعْبٌ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى لِقَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَهُ فِي بَابِ النَّذْرِ لِشَبَهِهِ النَّذْرَ فِي أَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِحُدُوثِ أَمْرٍ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ ") : الظَّاهِرُ أَنَّهُ الثُّلُثَانِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ (" فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ") : قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الصَّدَقَةِ بِبَعْضِهِ خَوْفًا مِنْ تَضَرُّرِهِ، وَأَنْ لَا يَتَصَبَّرَ عَلَى الْفَاقَةِ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا صَدَقَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِجَمِيعِ مَالِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ صَابِرًا رَاضِيًا (قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ) أَيْ: مِنَ الْعَقَارِ أَوْ غَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيِ: الْمَذْكُورُ هُنَا (طَرَفٌ) أَيْ: بَعْضٌ (مِنْ حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ) أَيْ: ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ كَالشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي كُتُبِهِمْ بِطُولِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ، لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ مُتَعَلِّقُ الْبَابِ، وَذُكِرَ مُطَوَّلًا فِي تَفْسِيرِهِ مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَّصِلِ إِلَى الْبُخَارِيِّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3435 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3435 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ") : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: لَا وَفَاءَ فِي نَذْرِ مَعْصِيَةٍ وَإِنْ نَذَرَ أَحَدٌ فِيهَا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَكَفَّارَتُهُ الْيَمِينُ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ الْوَفَاءَ ; لِأَنَّ " لَا " لِنَفْيِ الْجِنْسِ تَقْتَضِي نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ، فَإِذَا نُفِيَتْ يَنْتَفِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَإِذًا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ الْوَفَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ: وَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةٍ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ وَلَا وَفَاءَ فِيهِ، وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ اهـ. وَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ فِي طَرِيقِ الْهُدَى، وَلَمْ يَتَعَسَّفْ إِلَى طَرِيقِ الْهَوَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَهُوَ مَتْرُوكٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَالصَّحِيحُ وُجُودُهُ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.

3436 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ ; فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ". مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَوَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3436 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ ") أَيِ: النَّاذِرُ بِأَنْ قَالَ: نَذَرْتُ نَذْرًا أَوْ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُعَيِّنِ النَّذْرَ أَنَّهُ صَوْمٌ أَوْ غَيْرُهُ. (" فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ") : قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ: كَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَحَمَلَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى نَذْرِ اللَّجَاجِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ

مُرِيدًا الِامْتِنَاعَ مِنْ كَلَامِ زَيْدٍ مَثَلًا إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ غَيْرُهَا، فَكَلَّمَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ. قُلْتُ: وَلَا يَظْهَرُ حَمْلُ مَا لَمْ يُسَمِّهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، مَعَ أَنَّ التَّخْيِيرَ خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَسْطُورِ قَالَ: وَحَمَلَهُ مَالِكٌ وَكَثِيرُونَ عَلَى النَّذْرِ الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ. قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ حَقٌّ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُهُ الْمُحَقَّقُ قَالَ: وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ. قُلْتُ: مَعَ بُعْدِهِ يَرُدُّهُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (" «وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ") : فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ. قَالَ: وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ النَّذْرِ، وَقَالُوا: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ لِمَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ قُلْتُ: يَلْزَمُ مِنْهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ إِتْيَانِ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهِ لِقَوْلِهِ: " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ ". أَيْ: لَا وَفَاءَ بِهِ كَمَا سَبَقَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَوْ فَعَلَ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ عَلَيَّ نَذْرًا لِلَّهِ يَكُونُ يَمِينًا إِذَا نَكَّرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرًا لِلَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا أَفْعَلَنَّ كَذَا حَتَّى إِذَا لَمْ يَفِ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، هَذَا إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهَا النَّذْرَ الْمُطْلَقَ شَيْئًا مِنَ الْقُرَبِ كَحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ فَإِنْ كَانَ نَوَى بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهَا، فَفَعَلَ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الْقُرْبَةُ، قَالَ الْحَاكِمُ: وَإِنْ حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَإِنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَعَلَيْهِ مَا نَوَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُوجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةَ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْمُطْلَقِ فِي اللَّفِّ قُرْبَةً مُعَيَّنَةً كَانَتْ كَالْمُسَمَّاةِ لِأَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ الْحَدِيثُ إِلَى مَا لَا نِيَّةَ مَعَهُ مِنْ لَفْظِ النَّذْرِ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرًا لِلَّهِ، وَلَمْ يُرِدْ عَلَيَّ ذَلِكَ، فَهَذَا لَمْ نَجْعَلْهُ يَمِينًا ; لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَحْلُوفٍ عَلَيْهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ ابْتِدَاءً بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَأَمَّا إِذَا ذَكَرَ صِيغَةَ النَّذْرِ بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ مَثَلًا، أَوْ صَوْمُ يَوْمٍ مُطْلَقًا عَنِ الشَّرْطِ، أَوْ مُعَلَّقًا بِهِ، وَذَكَرَ لَفْظَ النَّذْرِ مُسَمًّى مَعَهُ الْمَنْذُورُ، مِثْلَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ صَوْمِ يَوْمَيْنِ مُعَلَّقًا أَوْ مُنْجَزًا، فَسَيَأْتِي فِي فَصْلِ الْكَفَّارَةِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ صِيغَةِ النَّذْرِ وَلَفْظِ النَّذْرِ اهـ. بَلَّغَهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْأَقْصَى فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، ثُمَّ قَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ: وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا أَيْ: غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ كَأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ حَجَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ وَنَحْوُهُ مِمَّا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ لِنَفْسِهَا، وَمِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَا، وَهَذِهِ شُرُوطُ لُزُومِ النَّذْرِ فَالنَّذْرُ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، وَكَذَا النَّذْرُ لِعِيَادَةٍ لِمَرِيضٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَنْذُورِ مَعْصِيَةً يَمْنَعُ اعْتِقَادَ النَّذْرِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ أَوْ لَيْسَ فِيهِ جِهَةُ الْقُرْبَةِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ نَذْرَ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ يَنْعَقِدُ، وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِصَوْمِ يَوْمٍ غَيْرِهِ، وَلَوْ صَامَهُ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ قَالَ فِيهِ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَالْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَبَيَّنَ عِلَّتَهُ، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَقَوْلُنَا: فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ أَيْ: مِنْ حَيْثُ هُوَ قُرْبَةٌ لَا بِكُلِّ وَصْفٍ الْتُزِمَ بِهِ أَوْ عُيِّنَ وَهُوَ خِلَافِيَّةُ زُفَرَ، فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ فَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ عَنْ نَذْرِهِ أَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَتَصَدَّقَ فِي غَدٍ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى هَذَا الْفَقِيرِ فَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ عَنْ نَذْرِهِ أَجْزَأَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، خِلَافًا لِزُفَرَ لَهُ: أَنَّهُ يَأْتِي بِغَيْرِ مَا نَذَرَهُ، وَلَنَا: إِنَّ لُزُومَ مَا الْمُلْتَزَمَةِ. (" وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ ") : كَحَمْلِ جَبَلٍ أَوْ رَفْعِ حِمْلٍ أَوِ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ (" فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ ") : أَمْرُ غَائِبٍ مِنْ وَفَى يَفِي، وَالْمَعْنَى فَلْيَفِ بِهِ أَوْ لِيُكَفِّرْ، وَبِهَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْبِرَّ فِي الْيَمِينِ أَوْلَى إِلَّا إِذَا كَانَ مَعْصِيَةً. قَالَ الطِّيِبِيُّ قَوْلُهُ: وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ، وَيُقَوِّي مَذْهَبَ الْأَصْحَابِ. قُلْتُ: لَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَوَقَفَهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ (بَعْضُهُمْ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. (عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) .

3437 - وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ " قَالُوا: لَا. قَالَ: " فَهَلْ كَانَ فِيهِ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ " قَالُوا: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ بِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3437 - (وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ) : وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي زَمَانِهِ (أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ الثَّانِيَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، اسْمُ مَوْضِعٍ فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ دُونَ يَلَمْلَمَ، وَقَدْ جَاءَ بِحَذْفِ التَّاءِ أَيْضًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: بِبُوَانَةَ بِالضَّمِّ اسْمُ مَوْضِعٍ، وَأَمَّا الَّذِي بِبِلَادِ فَارِسَ هُوَ شِعْبُ بَوَّانَ فَبِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ، (فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَجَاءَهُ الرَّجُلُ (فَأَخْبَرَهُ) أَيْ: فَأَعْلَمَهُ بِنَذْرِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِأَصْحَابِهِ (" هَلْ كَانَ فِيهَا ") أَيْ: فِي بُوَانَةَ (" وَثَنٌ ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: صَنَمٌ (" مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ ") أَيْ: بِالْأُلُوهِيَّةِ (فَقَالُوا: لَا. قَالَ: " فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ ") أَيْ: إِظْهَارُ سُرُورٍ (" مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ ") : وَهَذَا كُلُّهُ احْتِرَازٌ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْكُفَّارِ فِي أَفْعَالِهِمْ (قَالُوا: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ مُلْتَفِتًا إِلَى الرَّجُلِ (أَوْفِ بِنَذْرِكَ) : الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ فِي مَكَانٍ، أَوْ يَتَصَدَّقَ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ. (" «فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» ") : تَعْلِيلٌ لِتَفْصِيلِ مَا تَحَقَّقَ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُفْرَدٌ مُسْتَقِلٌّ، رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ جَابِرٍ كَمَا سَبَقَ. (" وَلَا ") أَيْ: وَلَا نَذْرَ صَحِيحٌ أَوْ مُنْعَقِدٌ (" فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ ") أَيْ: فِيمَا لَا يَمْلِكُ عِنْدَ النَّذْرِ حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ بَعْدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3438 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ. قَالَ: " أَوْفِي بِنَذْرِكِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ رَزِينٌ: قَالَتْ: «وَنَذَرْتُ أَنْ أَذْبَحَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، مَكَانٌ يَذْبَحُ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: " هَلْ كَانَ بِذَلِكِ الْمَكَانِ وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ " قَالَتْ: لَا. قَالَ: " هَلْ كَانَ فِيهِ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ " قَالَتْ: لَا. قَالَ: " أَوْفِي بِنَذْرِكِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3438 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ) أَيْ: قُدَّامَكَ أَوْ عِنْدَ قُدُومِكَ (بِالدُّفِّ) : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: قَالَ الْأَكْمَلُ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: الدُّفُّ بِالضَّمِّ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ، وَرُوِيَ بِالْفَتْحِ أَيْضًا (قَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ ") : قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ضَرْبُ الدُّفِّ لَيْسَ مِمَّا يُعَدُّ فِي بَابِ الطَّاعَاتِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا النُّذُورُ، وَأَحْسَنُ حَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِإِظْهَارِ الْفَرَحِ لِسَلَامَةِ مَقْدِمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، وَكَانَتْ فِيهِ مَسَاءَةُ الْكُفَّارِ وَإِرْغَامُ الْمُنَافِقِينَ صَارَ فِعْلُهُ كَبَعْضِ الْقُرَبِ، وَلِهَذَا اسْتُحِبَّ ضَرْبُ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِهِ، وَالْخُرُوجِ بِهِ عَنْ مَعْنَى السِّفَاحِ الَّذِي لَا يُظْهَرُ، وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هِجَاءِ الْكُفَّارِ: " «اهْجُوا قُرَيْشًا ; فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ» ". (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ رَزِينٌ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ (قَالَتْ: وَنَذَرْتُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ عَطْفًا عَلَى الْأَوَّلِ (أَنْ أَذْبَحَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا) : كِنَايَاتٌ عَنِ التَّعْيِينِ (مَكَانٌ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: هُوَ أَيِ الْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ مَكَانٌ (يَذْبَحُ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِجَرِّ مَكَانٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْأَوَّلِ (فَقَالَ: " هَلْ كَانَ بِذَلِكِ الْمَكَانِ ") : بِكَسْرِ الْكَافِ خِطَابُ الْمُؤَنَّثِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا خِطَابُ الْعَامِّ (" وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (قَالَتْ: لَا. قَالَ: " هَلْ كَانَ فِيهِ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: " أَوْفِي بِنَذْرِكِ ") .

3439 - «وَعَنْ أَبِي لُبَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً قَالَ: " يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3439 - (وَعَنْ أَبِي لُبَابَةَ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَتَيْنِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ رِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ كَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا، وَقِيلَ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، بَلْ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ مَعَ أَصْحَابِ بَدْرٍ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ وَنَافِعٌ وَغَيْرُهُمَا. (أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي) أَيْ: مِنْ تَمَامِهَا (أَنْ أَهْجُرَ) : بِفَتْحِ هَمْزٍ وَضَمِّ جِيمٍ أَيْ: أَتْرُكَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ) : وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا فِرَارًا عَنْ مَوْضِعٍ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالذَّنْبِ فِيهِ، وَذَنْبُهُ كَانَ مَحَبَّتَهُ لِيَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ لِمَا أَنَّ عِيَالَهُ وَأَمْوَالَهُ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَمَّا حَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَخَافُوا قَالُوا: ابْعَثْ لَنَا أَبَا لُبَابَةَ نَسْتَشِيرُهُ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ وَهُمْ يَبْكُونَ: أَتُرَى نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ أَيِ الذَّبْحُ ثُمَّ نَدِمَ، وَقَالَ: قَدْ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَزَلَ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] فَشَدَّ نَفْسَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ: لَا أَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى أَتُوبَ أَوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ تِيبَ عَلَيْكَ فَحُلَّ نَفْسَكَ قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَحُلُّهَا حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي يَحُلُّنِي، فَجَاءَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي إِلَخْ (وَأَنْ أَنْخَلِعَ) أَيْ: أَخْرُجَ بِالتَّجَرُّدِ (عَنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً) أَيْ: شُكْرًا لِقَبُولِ التَّوْبَةِ (قَالَ: يُجْزِئُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَوْ يَكْفِي (" عَنْكَ الثُّلُثُ ") : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ: ثُلُثُ مَالِكَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ لِلصُّوفِيَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الْغَرَامَةِ الْمَالِيَّةِ عَلَى مَنْ يُذْنِبُ ذَنْبًا فِي الطَّرِيقَةِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ (رَوَاهُ رَزِينٌ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ.

3440 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ: " صَلِّ هَاهُنَا ". ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " صَلِّ هَاهُنَا ". ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: " شَأْنَكَ إِذًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3440 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) : صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (أَنَّ رَجُلًا قَامَ) أَيْ: وَقَفَ لِلسُّؤَالِ (يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَكَسْرِ دَالٍ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى (رَكْعَتَيْنِ) : وَلَعَلَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ. (قَالَ: " صَلِّ هَاهُنَا ") أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مَعَ كَوْنِهِ أَسْهَلَ (ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ) أَيِ: السُّؤَالَ (فَقَالَ: " صَلِّ هَاهُنَا ") : أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ (ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ) أَيِ: الْكَلَامَ (فَقَالَ: " شَأْنَكَ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيِ: الْزَمْ شَأْنَكَ، وَالْمُعَيَّنُ أَنْتَ تَعْلَمُ (" إِذًا ") : بِالتَّنْوِينِ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ أَيْ: إِذَا أَبَيْتَ أَنْ تُصَلِّيَ هَاهُنَا فَافْعَلْ مَا نَذَرْتَ بِهِ مِنْ صَلَاتِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ إِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا يَخْرُجُ إِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «وَصَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» ". وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِالصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَفِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ عَنِ النَّذْرِ لِهَذَا الْحَدِيثِ اهـ. وَقَالَ عُلَمَاءُنَا: الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَانٍ فَصَلَّى فِي غَيْرِهِ دُونَهُ أَجْزَأَهُ، وَفِي الْمُصَفَّى: اعْلَمْ أَنَّ أَقْوَى الْأَمَاكِنِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ مَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ الْجَامِعُ، ثُمَّ مَسْجِدُ الْحَيِّ، ثُمَّ الْبَيْتُ. فَلَوْ نَذَرَ إِنْسَانٌ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إِلَّا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، عِنْدَ زُفَرَ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا: وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا إِلَّا فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ: الْجَامِعُ وَمَسْجِدُ الْحَيِّ وَالْبَيْتُ، وَقِيلَ: أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا مَعَ زُفَرَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَأَدَّاهَا فِي أَقَلَّ شَرَفًا مِنْهُ أَوْ فِيمَا لَا شَرَفَ لَهُ أَجْزَأَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ. لَهُ: أَنَّهُ نَذْرٌ بِزِيَادَةِ قُرْبَةٍ فَيَلْزَمُهُ. قُلْنَا: عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْتِزَامَهُ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مُوجَبٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ تَخْصِيصِ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ بِمَكَانٍ، بَلْ إِنَّمَا عَرَّفَ ذَلِكَ تَعَالَى فَلَا يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْلِ الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِهِ إِلَى الْتِزَامِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ، فَكَانَ مُلْغًى، وَبَقِيَ لَازِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ. فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ شُرُوطِ النَّذْرِ كَوْنُهُ لِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَكَيْفَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ بِلَا وُضُوءٍ يَصِحُّ نَذْرُهُ خِلَافًا لِزُفَرَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَهْدَرَهُ لِذَلِكَ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ، فَإِنَّمَا صَحَّحَهُ بِوُضُوءٍ نَظَرًا إِلَى الْتِزَامِ الشَّرْطِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَغْوٌ لَا يُؤَثِّرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) .

3441 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، وَأَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِ أُخْتِكَ، فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَرْكَبْ وَلْتَحُجَّ رَاكِبَةً وَتُكَفِّرْ يَمِينَهَا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3441 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) : أَيِ الْجُهَنِيِّ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ (نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، وَأَنَّهَا) : أَيْ أُخْتَهُ (لَا تُطِيقُ ذَلِكَ) : أَيِ الْحَجَّ مَاشِيَةً وَفِي نُسْخَةٍ لِلْمَصَابِيحِ: فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: إِنَّهَا لَا تُطِيقُ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِ أُخْتِكَ، فَلْتَرْكَبْ ") : أَيْ إِذَا لَمْ تُطِقْ فَلْتَرْكَبْ (" وَلْتُهْدِ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ لِتَنْحَرْ (" بَدَنَةً ") : أَيْ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً عِنْدَنَا وَإِبِلًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ (فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَرْكَبَ) : أَيْ لِلْعَجْزِ (وَتُهْدِيَ هَدْيًا) : وَأَقَلُّهُ شَاةٌ وَأَعْلَاهُ بَدَنَةٌ فَالشَّاةُ كَافِيَةٌ، وَالْأَمْرُ بِالْبَدَنَةِ لِلنَّدْبِ. قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمَّا كَانَ الْمَشْيُ فِي الْحَجِّ مِنْ عِدَادِ الْقُرُبَاتِ وَجَبَ النَّذْرُ، وَالْتَحَقَ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ الَّتِي لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا إِلَّا لِمَنْ عَجَزَ، وَيَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهِ الْفِدْيَةُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْوَاجِبِ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: تَجِبُ بَدَنَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلْتُهْدِ بَدَنَةً ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ دَمُ شَاةٍ كَمَا فِي مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، وَحَمَلُوا الْأَمْرَ بِالْبَدَنَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهَدْيِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ. (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) : أَيْ لِأَبِي دَاوُدَ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ ": بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ بِتَعَبِهَا وَمَشَقَّتِهَا (" شَيْئًا ") : أَيْ مِنَ الصُّنْعِ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ دَفْعِ الضَّرَرِ وَجَلْبِ النَّفْعِ (" فَلْتَحُجَّ ") : بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَضَمُّهَا أَيْ: إِذَا عَجَزَتْ عَنِ الْمَشْيِ فَلْتَحُجَّ (" رَاكِبَةً ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَلْتَرْكَبْ وَلْتَحُجَّ بِالْوَاوِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاءِ. (" وَتُكَفِّرْ ") : بِالْجَزْمِ أَيْ فَلْتُكَفِّرْ هِيَ (" يَمِينَهَا ") : بِالنَّصْبِ أَيْ عَنْ حِنْثِ يَمِينِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكْفِيرِ كَفَّارَةُ الْجِنَايَةِ وَهِيَ الْهَدْيُ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنَ الصَّوْمِ عَلَى مَا سَيَأْتِي لِيُطَابِقَ الرِّوَايَاتِ لَا كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا نُسِبَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى الْيَمِينِ، لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِهَا عِنْدَ حِنْثِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3442 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُخْتٍ لَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ. فَقَالَ: " مُرُوهَا فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَرْكَبْ وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3442 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيَّ، سَمِعَ عُمَرَ وَأَبَا ذَرٍّ وَغَيْرَهُمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُعَدُّ فِي تَابِعِي الْمِصْرِيِّينَ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَهْلِ مِصْرَ (أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ) : أَيِ الْجُهَنِيَّ (سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُخْتٍ لَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ حَافِيَةً) : أَيْ مَاشِيَةً غَيْرَ لَابِسَةٍ فِي رِجْلِهَا شَيْئًا (غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ أَيْ غَيْرَ مُغَطِّيَةٍ رَأْسَهَا بِخِمَارِهَا. فِي الْمُغْرِبِ: الْخِمَارُ مَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا، وَقَدِ اخْتَمَرَتْ وَتَخَمَّرَتْ إِذَا لَبِسَتِ الْخِمَارَ. (فَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مُرُوهَا ") : الْأَمْرُ لِعُقَبَةَ وَمَنْ مَعَهُ (" فَلْتَخْتَمِرْ ") : لِأَنَّ كَشْفَ رَأْسِهَا عَوْرَةٌ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ (" وَلْتَرْكَبْ ") : لِعَجْزِهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ إِطَاقَتِهَا، لَا سِيَّمَا مَعَ الْحَفَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْجَفَاءُ

(" وَلْتَصُمْ ") : أَيْ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْهَدْيِ. أَوْ عَنْ أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ") : أَيْ مُتَوَالِيَةً إِنْ كَانَ عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ شَاءَتْ وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَمَّا أَمْرُهُ إِيَّاهَا بِالِاخْتِمَارِ وَالِاسْتِتَارِ، فَلِأَنَّ النَّذْرَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِيهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، وَالنِّسَاءُ مَأْمُورَاتٌ بِالِاخْتِمَارِ وَالِاسْتِتَارِ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّذْرَ يَنْعَقِدُ فِي الْمَعْصِيَةِ، لَكِنْ لَا وَفَاءَ بِهِ أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ هَذَا النَّذْرُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ. قَالَ: وَأَمَّا نَذْرُهَا الْمَشْيَ حَافِيَةً، فَالْمَشْيُ قَدْ صَحَّ فِيهِ النَّذْرُ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَمْشِيَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا عَجَزَ رَكِبَ وَأَهْدَى هَدْيًا، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أُخْتُ عُقْبَةَ كَانَتْ عَاجِزَةً عَنِ الْمَشْيِ، بَلْ قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

3443 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ، فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ، فَقَالَ: إِنْ عُدْتَ تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِكَ، كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَكَلِّمْ أَخَاكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا يَمِينَ عَلَيْكَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3443 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) : مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ، فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ) : أَيْ أَخَاهُ الْمُصَاحِبَ الْمُشَارِكَ فِي الْمِيرَاثِ (الْقِسْمَةَ) : أَيْ فِي النَّخِيلِ وَالْعَقَارِ، أَوِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ (فَقَالَ) : أَيِ الْآخَرُ (إِنْ عُدْتَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: رَجَعْتَ تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالِي) : بِإِضَافَةِ الْمَالِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ أَيْ: فَكُلُّ شَيْءٍ لِي مِنَ الْمِلْكِ (فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مَصَالِحِهَا أَوْ زِينَتِهَا. قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الرَّتَجُ مُحَرَّكَةً الْبَابُ الْعَظِيمُ كَالرِّتَاجِ كَكِتَابٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: الرِّتَاجُ الْبَابُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَعْبَةُ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَالَهُ هَدْيٌ إِلَى الْكَعْبَةِ لَا إِلَى بَابِهَا، فَكَنَّى بِالْبَابِ لِأَنَّهُ مِنْهُ يُدْخَلُ (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِكَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ (كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَكَلِّمْ أَخَاكَ) : أَيْ فِي عَوْدِهِ إِلَى سُؤَالِ الْقِسْمَةِ (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا يَمِينَ عَلَيْكَ ") : أَيْ عَلَى مِثْلِكَ، وَالْمَعْنَى لَا يَجِبُ إِلْزَامُ هَذِهِ الْيَمِينِ عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْكَفَّارَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ سَمِعْتُ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ إِلَى قَوْلِي لَكَ: لَا يَمِينَ عَلَيْكَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرْتَ، وَسَمَّى النَّذْرَ يَمِينًا لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَا يَلْزَمُ مِنَ الْيَمِينِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي النَّذْرِ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ مِثْلَ إِنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَإِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ، فَهَذَا نَذْرٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنِ الْفِعْلِ كَالْحَالِفِ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنِ الْفِعْلِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، كَمَا لَوْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ الْوَفَاءُ

بِمَا الْتَزَمَهُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ النُّذُورِ اهـ الْكَلَامُ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ ابْنِ الْهُمَامِ مِمَّا يَنْفَعُكَ فِي هَذَا الْمَقَامِ. (" «وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ» ") : أَيْ لَا وَفَاءَ فِي هَذَا النَّذْرِ (" وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ") : وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِمُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ مِنْ مَنْعِ الْكَلَامِ مَعَ أَخِيهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَرَامِ (وَلَا فِيمَا لَا يُمْلَكُ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَعْلُومِ أَيْ فِيمَا لَا يَمْلِكُ النَّاذِرُ حِينَ نَذَرَهُ وَلَوْ مَلَكَ بَعْدَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3444 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «النَّذْرُ نَذْرَانِ: فَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي طَاعَةٍ فَذَلِكَ لِلَّهِ فِيهِ الْوَفَاءُ، وَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةٍ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ وَلَا فَاءَ فِيهِ. وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3444 - (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " النَّذْرُ ") : أَيْ جِنْسُهُ (" نَذْرَانِ ") : أَيْ نَوْعَانِ يَنْذِرُهُمَا شَخْصَانِ (" فَمَنْ كَانَ نَذْرُهُ فِي طَاعَةٍ ") : وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَشْمَلُ الْمُبَاحَ (" فَذَلِكَ ") : أَيْ نَذْرُهُ (" لِلَّهِ ") : أَيْ يُرْضِي اللَّهَ (" فِيهِ الْوَفَاءُ ") : أَيْ يَجِبُ فِي حَقِّهِ، وَفِي نَذْرِهِ الْوَفَاءُ بِهِ (" وَمَنْ كَانَ نَذْرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ وَلَا وَفَاءَ فِيهِ ") أَيْ: لَا يَنْبَغِي الْوَفَاءُ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ الْحِنْثُ وَأَدَاءُ الْكَفَّارَةِ (" وَيُكَفِّرُهُ ") : أَيِ النَّذْرَ (" مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ الْكُفْرِ أَوْ بَعْدَ إِسْلَامِهِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا نَذَرَ الْكَافِرُ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ صَوْمٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا قَبْلَهُ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: يَلْزَمُهُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَوْمًا، فَقَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ» ". وَفِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ: " «تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» ". وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12] وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَهُ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 12] فَيَعْنِي صُوَرَ الْأَيْمَانِ الَّتِي أَظْهَرُوهَا، وَالْحَاصِلُ لُزُومُ تَأْوِيلٍ إِمَّا فِي لَا أَيْمَانَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَرَادَ لَا إِيفَاءَ لَهُمْ بِهَا أَوْ فِي نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ صُوَرُ الْأَيْمَانِ دُونَ حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ، وَتَرْجِيحُ التَّأْيِيدِ بِالْفِقْهِ، وَهُوَ إِنَّمَا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ أَهْلًا لَهَا لِأَنَّهَا لَمَّا شُرِعَتْ عِبَادَةٌ يُجْبَرُ بِهَا مَا ثَبَتَ مِنْ إِثْمِ الْحِنْثِ إِنْ كَانَ، أَوْ مَا وَقَعَ مِنْ إِخْلَافِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى إِقَامَةً لِوَاجِبِهِ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ أَهْلًا لِفِعْلِ عِبَادَةٍ، وَإِمَّا تَحْلِيفُ الْقَاضِي، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» ". فَالْمُرَادُ كَمَا قُلْنَا صُوَرُ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا رَجَاءُ النُّكُولِ، وَالْكَافِرُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ شَرْعًا الْيَمِينُ الشَّرْعِيُّ الْمُسْتَعْقِبُ لِحُكْمِهِ، لَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ تَعْظِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةَ الْيَمِينِ بِهِ كَاذِبًا فَيَمْتَنِعُ عَنْهُ، فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ فَشُرِعَ الْتِزَامُهُ بِصُورَتِهَا لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ.

3445 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ إِنْ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْ عَدُوِّهِ. فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ مَسْرُوقًا، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَنْحَرْ نَفْسَكَ ; فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا قَتَلْتَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً، وَإِنْ كُنْتَ كَافِرًا تَعَجَّلْتَ إِلَى النَّارِ، وَاشْتَرِ كَبْشًا فَاذْبَحْهُ لِلْمَسَاكِينِ ; فَإِنَّ إِسْحَاقَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَفُدِيَ بِكَبْشٍ. فَأَخْبَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ هَكَذَا كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أُفْتِيَكَ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3445 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الِافْتِعَالِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ هَمْدَانِيٌّ ابْنُ أَخِي مَسْرُوقٍ، رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ إِنْ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْ عَدُوِّهِ) : فَإِنَّ النَّجَاةَ مِنَ الْعَدُوِّ مَعَ تَصَوُّرِ أَنْوَاعِ الْهَلَاكِ عِنْدَهُ أَصْعَبُ مِنْ قَتْلِ الْوَاحِدِ نَفْسَهُ بِيَدِهِ إِمَّا نَظَرًا إِلَى الْفَضِيحَةِ وَالتَّعْيِيبِ، وَإِمَّا نَظَرًا إِلَى قِلَّةِ التَّعْذِيبِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ يَقَعُ كَثِيرًا مِنَ الْجَهَلَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ غَالِبٌ عَلَيْهِ لَذَّةُ الْخَلَاصِ مِنْ عَدُوِّهِ حَتَّى ذُهِلَ عَنْ فَقْدِ نَفْسِهِ وَهَلَاكِهِ بِيَدِهِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ قَالَ أَعْرَابِيٌّ فَقَدَ إِبِلًا لَهُ: مَنْ أَتَانِي بِهِ فَهُوَ لَهُ، فَقِيلَ لَهُ: فَمَا فَائِدَتُكَ؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ مَا تَعْرِفُونَ لَذَّةَ الْوِجْدَانِ. (فَسَأَلَ) : أَيِ الرَّجُلُ (ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: سَلْ مَسْرُوقًا) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدْرَكَ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَكَانَ أَحَدَ الْأَعْلَامِ وَالْفُقَهَاءِ الْكِرَامِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنْ كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ خُلِقُوا لِلْجَنَّةِ فَهُمْ هَؤُلَاءِ: الْأَسْوَدُ وَعَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَشِرِ: كَانَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَامِلًا عَلَى الْبَصْرَةِ أَهْدَى إِلَى مَسْرُوقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُحْتَاجٌ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، يُقَالُ: إِنَّهُ سُرِقَ صَغِيرًا ثُمَّ وُجِدَ مَسْرُوقًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ. (فَسَأَلَهُ، فَقَالَ) : أَيْ لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (لَا تَنْحَرْ نَفْسَكَ ; فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا، قَتَلْتَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً) : يَعْنِي وَقَدْ قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ - وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 29 - 93] الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْقِصَاصِ مَا وَرَدَ مِنَ الْوَعِيدِ فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ. (وَإِنْ كُنْتَ كَافِرًا تَعَجَّلْتَ إِلَى النَّارِ، وَاشْتَرِ كَبْشًا فَاذْبَحْهُ لِلْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ إِسْحَاقَ) : أَيْ أَوْ إِسْمَاعِيلَ عَلَى خِلَافٍ فِي الذَّبِيحِ، تَوَقَّفَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ التَّصْحِيحِ. (خَيْرٌ مِنْكَ، وَفُدِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِكَبْشٍ) : إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ عَظِيمُ شَأْنِهِ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] (فَأَخْبَرَهُ) : أَيِ الرَّجُلُ (ابْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : أَيْ بِمَقُولِ مَسْرُوقٍ (فَقَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (هَكَذَا كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أُفْتِيَكَ) أَيْ: أَفْتَاكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّهُ إِنَّمَا بَعَثَهُ إِلَى مَسْرُوقٍ احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ الصِّدِّيقَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ لَا يَسْتَعْجِلَ فِي الْفَتْوَى، بَلْ يَسْتَشِيرُ أَوْ يَرْجِعُ إِلَى النَّقْلِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ.

[كتاب القصاص]

[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

كِتَابُ الْقِصَاصِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3446 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ» " " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الْقِصَاصِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَصْدَرٌ مِنَ الْمُقَاصَّةِ، وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ، أَوْ فِعَالٌ مِنْ قَصَّ الْأَثَرَ أَيْ تَبِعَهُ، وَالْوَالِي يَتْبَعُ الْقَاتِلَ فِي فِعْلِهِ. الْمُغْرِبُ: الْقَصُّ الْقَطْعُ وَقُصَاصُ الشَّعْرِ مَقْطَعُهُ وَمُنْتَهَى مَنْبَتِهِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ إِلَى حَوَالَيْهِ، وَمِنْهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ مُقَاصَّةُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْقَاتِلَ، وَالْمَجْرُوحِ الْجَارِحَ وَهِيَ مُسَاوَاتُهُ إِيَّاهُ فِي قَتْلٍ أَوْ جَرْحٍ ثُمَّ عُمَّ فِي كُلِّ مُسَاوَاةٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3446 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ) : أَيْ إِرَاقَتُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَّضِحٌ عُرْفًا فَلَا إِجْمَالَ فِيهِ، وَلَا فِي كُلِّ تَحْرِيمٍ مُضَافٍ إِلَى الْأَعْيَانِ كَمَا ظُنَّ، وَالْمُرَادُ بِامْرِئٍ: الْإِنْسَانُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ شَامِلٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسْوَانِ إِلَّا فِي جَانِبِ الْمُرْتَدَّةِ فَسَيَأْتِي الْبَيَانُ (" مُسْلِمٍ ") ، هُوَ صِفَةٌ مُقَيَّدَةٌ لِامْرِئٍ (" يَشْهَدُ ") : أَيْ يَعْلَمُ وَيَتَيَقَّنُ وَيَعْتَقِدُ (" أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") : أَيْ بِوُجُودِهِ وَوُجُوبُ وُجُودِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ (" وَأَنِّي رَسُولُ ") : أَيْ إِلَى كَافَّةِ خَلْقِهِ. قَالَ الْقَاضِي: يَشْهَدُ مَعَ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ جَاءَتْ لِلتَّوْضِيحِ وَالْبَيَانِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْلِمِ هُوَ الْآتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِمَا كَافٍ لِلْعِصْمَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ يَشْهَدُ حَالٌ جِيءَ بِهَا مُقَيِّدَةً لِلْمَوْصُوفِ مَعَ صِفَتِهِ إِشْعَارًا بِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ بِهِمَا الْعُمْدَةُ فِي حَقْنِ الدَّمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. (" إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ") : أَيْ خِصَالٍ ثَلَاثٍ: قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَزِنًا لِمُحْصَنٍ، وَالِارْتِدَادُ، فَفَصَّلَ ذَلِكَ بِتَعْدَادِ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ الْمُسْتَوْجِبِينَ الْقَتْلَ لِأَجْلِهِ فَقَالَ: (" النَّفْسِ ") : بِالْجَرِّ وَجُوِّزَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ فِيهَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، كَذَلِكَ قَالَ الْكَازَرُونِيُّ بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ وَبِالْجَرِّ بَدَلٌ، وَبِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ عَلَى الْأَوَّلِ اهـ. وَلَعَلَّهُ رِوَايَتُهُ وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ الْجَرُّ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ لِابْنِ حَجَرٍ أَيْ قَاتِلِ النَّفْسِ. (" بِالنَّفْسِ ") ، لِيُلَائِمَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (" وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ ") . أَوْ تَقْدِيرُهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَزِنَا الثَّيِّبِ وَمُرُوقُ الْمَارِقِ، لِيَكُونَ بَيَانًا لِلْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَبِالنَّفْسِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ قَتْلٍ مُلْتَبِسٍ بِالنَّفْسِ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلْمُقَابَلَةِ أَيْ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُقْتَصِّ بِالنَّفْسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ إِخْرَاجًا لِلْقَتْلِ الْمُسْتَحَقِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ يَحِلُّ قَتْلُ النَّفْسِ قِصَاصًا بِالنَّفْسِ الَّتِي قَتَلَهَا عُدْوَانًا وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِوَلِيِّ الدَّمِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُرَفَاءِ: كَمَا كَتَبَ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلَى كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فِي قَتْلَاهُ الَّذِينَ بَذَلُوا الرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّ عِنْدَ شُهُودِ الْجَلَالِ الصَّمَدَانِيِّ، كَمَا قَالَ: مَنْ أَحَبَّنِي قَتَلْتُهُ، وَمَنْ قَتَلْتُهُ فَأَنَا دِيَتُهُ، الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. أَيْ مَنْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ فَيْضُهُ مُتَّصِلًا بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَنْ كَانَ فِي رِقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُكَوِّنَاتِ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ غَايَةَ الِاتِّصَالِ، وَمَنْ كَانَ نَاقِصًا فِي دَعْوَى مَحَبَّتِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ دِيَتَهُ فَلَهُ حَيَاةُ الدَّارَيْنِ وَالْبَقَاءُ بِرَبِّ الثَّقَلَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّيِّبِ الْمُحْصَنُ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ الْحُرُّ الَّذِي أَصَابَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ثُمَّ زَنَى، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ رَجْمَهُ وَلَيْسَ لِآحَادِ النَّاسِ ذَلِكَ، لَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ ; لِأَنَّ إِبَاحَةَ دَمِهِ لِمُحَافَظَةِ أَنْسَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لَهُ حَقًّا فِيهِ، أَمَّا لَوْ قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ اقْتُصَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا تَسَلُّطَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ إِبَاحَةَ دَمِ الْقَاتِلِ أَيْضًا لِمُحَافَظَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ قَتْلُهُ اتِّفَاقًا، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى الرَّجْمِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا نَبِيًّا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا [أَلْبَتَّةَ] نَكَالًا مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا، وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا الْحَدِيثَ. وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ فِي الزِّنَا مَفَاسِدَ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ وَتَضْيِيعِ الْأَوْلَادِ، وَيَثِبُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ فَتَهِيجُ الْفِتَنُ وَالْحُرُوبُ بَعْدَ التَّشَبُّهِ بِالْبَهَائِمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْبِكْرُ وَالْمُكَلَّفُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَيُجْلَدُ مِائَةً، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا فَيُجْلَدُ خَمْسِينَ،

وَيُرَادُ بِالْمَارِقِ لِدِينِهِ الْخَارِجُ عَنْهُ مِنَ الْمُرُوقِ وَهُوَ الْخُرُوجُ، وَمِنْهُ الْمَرَقُ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ اللَّحْمِ عِنْدَ الطَّبْخِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ مُهْدَرٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لَا قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، وَفِيمَا إِذَا قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ خِلَافٌ. اهـ. وَالتَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمَارِقِ أَيِ الَّذِي تَرَكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَانْفَرَدَ عَنْ أَمْرِهِمْ بِالرِّدَّةِ الَّتِي هِيَ قَطْعُ الْإِسْلَامِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوِ اعْتِقَادًا، فَيُحَبُّ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَتَسْمِيَتُهُ مُسْلِمًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا بِالْبِدْعَةِ أَوْ نَفْيِ الْإِجْمَاعِ كَالرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ ; فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: لَا يُقْتَلُ أَحَدٌ دَخَلَ الْإِسْلَامَ بِشَيْءٍ سِوَى مَا عُدِّدَ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْأَرْبَعِينَ: وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» ". أَيِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْكُفْرِ كَذَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ السَّابِقُ نَصٌّ فِي الْحَصْرِ الْمُفِيدِ لِنَفْيِ قَتْلِهِ، فَلَا يَثْبُتُ إِثْبَاتُهُ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ فُسِّرَ بِأَنَّهُ قَارَبَ الْكُفْرَ، أَوْ شَابَهَ عَمَلَ الْكَفَرَةِ، أَوْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ الْكُفْرَانُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا اسْتَحَلَّ تَرْكَهُ أَوْ نَفَى فَرْضِيَّتَهُ، أَوْ عَلَى الزَّجْرِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ إِيجَابِ الْحَجِّ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] حَيْثُ وَضَعَ قَوْلَهُ: كَفَرَ مَوْضِعَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصُ بِشَرْطِهِ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} [المائدة: 45] وَالْمَفْهُومُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا لَا سِيَّمَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْطُوقِ مَعَ الِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنْ لَا مَفْهُومَ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: التَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ بِأَيَّةِ رِدَّةٍ كَانَتْ فَيَجِبُ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْمَرْأَةُ ; فَإِنَّهَا لَا تُقْتَلُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالُوا: وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ خَارِجٍ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِبِدْعَةٍ أَوْ نَفْيِ إِجْمَاعٍ كَالرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمَا، وَخُصَّ مِنْ هَذَا الْعَامِّ الصَّائِلُ وَنَحْوُهُ، فَيُبَاحُ قَتْلُهُ فِي الدَّفْعِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ، وَالْمُرَادُ لَا يَحِلُّ تَعَمُّدُ قَتْلِهِ قَصْدًا إِلَّا فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَعْنَى: لَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذُكِرَ حَالُ الْأَشْقِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقَهْرِ الْإِلَهِيِّ، وَالطَّرْدِ الْكُلِّيِّ، لَا يُفْتَحُ لَهُمْ بَابُ الْمَشْهَدِ الصَّمَدِيِّ، وَهُوَ الْقَلْبُ فَيَأْتِيهِ الْإِلْهَامُ مِنَ الرَّبِّ، وَلَا بَابُ السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ، فَيَدْخُلُهُمَا الْفَهْمُ وَالِاعْتِبَارُ، فَارْتَدُّوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَصِرَاطِ التَّوْحِيدِ، وَاحْتَجَبُوا بِظُلُمَاتِ الْكَثْرَةِ عَنْ نُورِ التَّفْرِيدِ، وَاسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ وَالنَّارَ، وَحُبِسُوا فِي ظُلُمَاتِ دَارِ الْبَوَارِ، فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً اشْتَغَلَ بِالْفَضَائِلِ، وَانْتَهَى عَنْ هَذِهِ الذُّنُوبِ وَسَائِرِ الرَّذَائِلِ، وَمَا أَنْفَعَ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَيَا فَاعِلَ الْخَيْرِ عُدْ ثُمَّ عُدْ ... وَيَا فَاعِلَ الشَّرِّ مَهْ لَا تَعُدْ فَمَا سَادَ عَبْدٌ بِدُونِ التُّقَى ... وَمَنْ لَمْ يَسُدْ بِالتُّقَى لَمْ يَسُدْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: رَوَاهُ الْخَمْسَةُ يَعْنِي السِّتَّةَ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا وَجَدْتُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . فَجُمْلَةُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ أَسْقَطَهَا الْإِمَامُ النَّوَوِيٌّ فِي أَرْبَعِينِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ: كَذَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِمَا، وَصَاحِبُ الْمِشْكَاةِ مَعَ الْتِزَامِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ تَتَبُّعَ الصَّحِيحَيْنِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ خَالَفَ هَاهُنَا وَاخْتَارَ تَأْخِيرَ الثَّيِّبِ عَنِ النَّفْسِ، مَعَ أَنَّ التَّرْتِيبَ لِلتَّرَقِّي مُسْتَفَادٌ مِنْ نَقْلِنَا إِذِ الزِّنَا دُونَ الْقَتْلِ، وَهُوَ دُونَ الِارْتِدَادِ، لَا يُقَالُ الْوَاوُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، لِأَنَّا نَقُولُ: التَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ مُعْتَبَرٌ صَحِيحٌ فِي كَلَامِ الْحَكِيمِ الْفَصِيحِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ» ". ثُمَّ قَوْلِهِ: الزَّانِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَكَذَا فِي النُّسَخِ، الزَّانِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ بَعْدَ النُّونِ، وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ قُرِئَ بِهَا فِي السَّبْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] وَالْأَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ.

3447 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3447 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ ") : بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ سَعَةٍ (" مِنْ دِينِهِ ") : وَرَجَاءِ رَحْمَةٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ (مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا ") . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ إِذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ قَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أُمُورُ دِينِهِ وَيُوَفَّقُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يُرْجَى لَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ وَلُطْفُهُ، وَلَوْ بَاشَرَ الْكَبَائِرَ سِوَى الْقَتْلِ، فَإِذَا قَتَلَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ وَدَخَلَ فِي زُمْرَةِ الْآيِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» ". قِيلَ: الْمُرَادُ بِشَطْرِ الْكَلِمَةِ قَوْلُ: " أَقٍ ". وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنَزَّلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي: " «لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا صَالِحًا» ". أَيِ الْمُؤْمِنُ لَا يَزَالُ مُوَفَّقًا لِلْخَيْرَاتِ مُسَارِعًا لَهَا مَا لَمْ يُصِبُ دَمًا حَرَامًا، فَإِذَا أَصَابَ ذَلِكَ أَعْيَا وَانْقَطَعَ عَنْهُ ذَلِكَ لِشُؤْمِ مَا ارْتَكَبَ مِنَ الْإِثْمِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ عَيَّاشٍ بِلَفْظِ: " «لَنْ يَزَالَ الْعَبْدُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ فَإِذَا شَرِبَهَا خَرَقَ اللَّهُ عَنْهُ سِتْرَهُ وَكَانَ الشَّيْطَانُ وَلِيَّهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَرِجْلَهُ يَسُوقُهُ إِلَى كُلِّ شَرٍّ وَيَصْرِفُهُ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ» ". كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الِانْتِهَاءُ عَنِ الْكَبَائِرِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَذْكُورِ هُوَ وَأَمْثَالُهُ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3448 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3448 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (" أَوَّلُ مَا يُقْضَى ") : أَيْ يُحْكَمُ (" بَيْنَ النَّاسِ ") : أَيِ الْمُؤْمِنِينَ (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : ظَرْفُ يُقْضَى (" فِي الدِّمَاءِ ") . خَبَرٌ لِقَوْلِهِ أَوَّلُ مَا يُقْضَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا لِتَعْظِيمِ أَمْرِ الدِّمَاءِ وَتَأْثِيرِ خَطَرِهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ: أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهَذَا فِي الْمَأْمُورَاتِ، أَوِ الْأَوَّلُ فِي الْمُحَاسَبَةِ، وَالثَّانِي فِي الْحُكْمِ، لِمَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ» ". وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الصَّلَاةُ فَإِنَّ الْمُحَاسَبَةَ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 22 - 23] الْآيَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

3449 - «وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا أَهْوَيْتُ لِأَقْتُلَهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - أَأَقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ: " لَا تَقْتُلْهُ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3449 - (وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (أَرَأَيْتَ) : أَيْ أَعَلِمْتَ فَأَخْبِرْنِي (إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا) ، أَيْ أَرَادَ كُلٌّ مِنَّا قَتْلَ الْآخَرِ بِالْفِعْلِ (فَضَرَبَ) : أَيِ الْكَافِرُ (إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ) : أَيْ مَثَلًا فِي الْمَحَلِّ وَالْآلَةِ (فَقُطِعَتْ) ، أَيْ يَدَيَّ (ثُمَّ لَاذَ مِنِّي) : مِنَ اللِّيَاذِ بِمَعْنَى الْعِيَاذِ أَيِ الْتَجَأَ (بِشَجَرَةٍ) أَيْ مَثَلًا مَعَ أَنَّ الِالْتِجَاءَ نَفْسَهُ قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ فَرْضٌ غَالِبِيٌّ غَيْرُ احْتِرَازِيٍّ (فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ) : أَيِ انْقَدْتُ لِأَمْرِ اللَّهِ، أَوْ دَخَلْتُ فِي الْإِسْلَامِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى (- وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا أَهْوَيْتُ) : أَيْ قَصَدْتُ (لِأَقْتُلَهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - أَأَقْتُلُهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ (بَعْدَ أَنْ قَالَهَا) ؟ أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَفِي نُسْخَةٍ قَالَهُ أَيْ هَذَا اللَّفْظَ (قَالَ: " لَا تَقْتُلْهُ ") . قَالَ الْقَاضِي: يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَّةُ إِسْلَامِ الْمُكْرَهِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ: أَسْلَمْتُ أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ

حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيَّ) . أَيْ وَمَعَ هَذَا لَا أَتَعَرَّضُ لَهُ، (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقْتُلْهُ ") ، يُسْتَفَادُ مِنْ نَهْيِهِ عَنِ الْقَتْلِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُ ثَانِيًا بَعْدَمَا كَرَّرَ أَنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ أَنَّ الْحَرْبِيَّ يَدَيْهِ قِصَاصًا (" فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ ") ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْلِمًا مَعْصُومَ الدَّمِ قَبْلَ أَنْ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي أَبَاحَتْ دَمَكَ قِصَاصًا، وَالْمَعْنَى كَمَا كُنْتَ قَبْلَ قَتْلِهِ مَحْقُونَ الدَّمِ بِالْإِسْلَامِ كَذَلِكَ هُوَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ (" وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ ") . لِأَنَّكَ صِرْتَ مُبَاحَ الدَّمِ كَمَا هُوَ مُبَاحُ الدَّمِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ السَّبَبَ مُخْتَلِفٌ فَإِنَّ إِبَاحَةَ دَمِ الْقَاتِلِ بِحَقِّ الْقِصَاصِ وَإِبَاحَةَ دَمِ الْكَافِرِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الْخَوَارِجُ عَلَى تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ بِارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ، وَحَسِبُوا أَنَّ الْمَعْنَى بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْكُفْرِ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَدَّ الْقَاتِلَ مِنْ عِدَادِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلِ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ اهـ كَلَامُ الْقَاضِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَوْ حُمِلَ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] لَجَازَ فَإِنَّهُ جَعَلَ تَارِكَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ فِي الْآيَتَيْنِ فِي زُمْرَةِ الْكَافِرِينَ تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا إِيذَانًا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْكُفْرِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْهُ، وَبِدَارِ الْمَقَامِ يَقْتَضِيهِ لِأَنَّهُ أَزْجَرُ وَأَرْدَعُ مِمَّا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ إِهْدَارِ الدَّمِ، وَلِأَنَّ جَعْلَهُ بِمَنْزِلَتِهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ نَازِلٌ مَنْزِلَتَهُ فِي الْأَمْرِ الْفَظِيعِ الشَّنِيعِ، وَكَذَلِكَ هُوَ بِمَنْزِلَتِكَ فِي الْإِيمَانِ بِوَاسِطَةِ تَكَلُّمِهِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ تَوْهِينًا لِفِعْلِهِ وَتَعْظِيمًا لِقَوْلِهِ، وَالْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ. قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّكَ مِثْلُهُ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَارْتِكَابِ الْإِثْمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْإِيمَانُ فَيُسَمَّى إِثْمُهُ كُفْرًا وَإِثْمُكَ مَعْصِيَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3450 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَتَيْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَذَهَبْتُ أَطْعَنُهُ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَقَتَلْتُهُ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: " أَقَتَلْتَهُ وَقَدْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَعَوُّذًا. قَالَ: " فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» ؟ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3450 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) : حِبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ أَرْسَلَنِي مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (إِلَى أُنَاسٍ مِنْ جُهَيْنَةَ) ، بِالتَّصْغِيرِ قَبِيلَةٌ (فَأَتَيْتُ) : أَيْ مَرَرْتُ أَوْ أَقْبَلْتُ (عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَذَهَبْتُ أَطْعَنُهُ) ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ شَرَعْتُ أَضْرِبُهُ بِالرُّمْحِ، وَيَجُوزُ ضَمُّ الْعَيْنِ. فَفِي الْقَامُوسِ: طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ كَمَنَعَهُ وَنَصَرَهُ طَعْنًا ضَرَبَهُ وَزَجَرَهُ. (فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَتَلْتُهُ) ، ظَنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ إِسْلَامَهُ لَا عَنْ صَمِيمِ قَلْبِهِ، أَوِ اجْتَهَدَ فِي هَذَا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَنْفَعُ، فَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: " أَقَتَلْتَهُ وَقَدْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَةٌ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ) : أَيْ إِظْهَارَ الْإِيمَانِ (تَعَوُّذًا) . مَفْعُولٌ لَهُ، وَقِيلَ: حَالٌ أَيْ مُسْتَعِيذًا مِنَ الْقَتْلِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَا كَانَ مُخْلِصًا فِي إِسْلَامِهِ (فَقَالَ) : أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ") ؟ أَيْ إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ. فَلِمَ لَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ لِتَعْلَمَ وَتَطَّلِعَ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهِ؟ أَتَعَوُّذَا قَالَ ذَلِكَ أَمْ إِخْلَاصًا؟ وَشَقُّ الْقَلْبِ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْفَحْصِ وَالْبَحْثِ عَنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ أُسَامَةَ ادَّعَى أَمْرًا يَجُوزُ مَعَهُ الْقَتْلُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ ; لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْبَاحِثِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّكَ إِنَّمَا كُلِّفْتَ بِالْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ وَمَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ فَلَيْسَ لَكَ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ امْتِنَاعَهُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا يَظْهَرُ بِاللِّسَانِ فَقَالَ: هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ لِتَنْظُرَ هَلْ قَالَهَا بِالْقَلْبِ وَاعْتَقَدَهَا وَكَانَتْ فِيهِ، أَمْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ: بَلْ جَرَتْ عَلَى اللِّسَانِ فَحَسْبُ يَعْنِي: فَأَنْتَ لَسْتَ بِقَادِرٍ عَلَى هَذَا، فَاقْتَصِرْ عَلَى اللِّسَانِ وَلَا تَطْلُبْ غَيْرَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ يُحْكَمُ فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.

3451 - وَفِي رِوَايَةِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " قَالَهُ مِرَارًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3451 - (وَفِي رِوَايَةِ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَتُفْتَحُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتُكْسَرُ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً (ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ) ، بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَجِيمٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ ") ؟ أَيْ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ مَنْ يُخَاصِمُ لَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مَنْ يَلْفِظُ بِهَا (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". قَالَهُ) : أَيْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْقَوْلَ (مِرَارًا) . أَيْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي الْمَجَالِسِ تَخْوِيفًا وَتَهْدِيدًا وَتَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي دِمَاءِ الْكُفَّارِ الْإِبَاحَةُ، وَكَانَ عِنْدَ أُسَامَةَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مُسْتَعِيذًا مِنَ الْقَتْلِ لَا مُصَدِّقًا بِهِ، فَقَتَلَهُ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ، وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ، وَالْخَطَأُ عَنِ الْمُجْتَهِدِ مَوْضُوعٌ، أَوْ تَأَوَّلَ فِي قَتْلِهِ أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] قَالَ الْقَاضِي: وَأَيْضًا هَذَا الرَّجُلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ بِمَا قَالَ حَتَّى يَضُمَّ الْإِقْرَارَ بِالنُّبُوَّةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا أَتَى بِمَا هُوَ الْعُمْدَةُ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُ حَتَّى يَتَعَرَّفَ حَالَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ فِي سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا تَلَفَّظَ بِهِ رَدُّ إِشْعَارٍ بِإِهْدَارِ دَمِ الْقَاتِلِ قِصَاصًا وَلَا بِالدِّيَةِ، بَلْ فِيهِ الدَّفْعُ عَنْهُ بِشُبْهَةِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَعَوُّذًا، وَالزَّجْرُ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى فِعْلِهِ وَالنَّعْيُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ يَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْقَتْلِ اهـ. وَحُكِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَلَبَ عَلَى كَافِرٍ وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ لِيَقْطَعَ عُنُقَهُ، فَتَفَلَ الْكَافِرُ إِلَى جَانِبِهِ فَقَامَ عَلِيٌّ عَنْ جَنْبِهِ وَقَالَ: أَعِدِ الْمُبَارَزَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ بَاعِثِ تَرْكِ قَتْلِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. فَقَالَ: لَمَّا فَعَلْتَ الْفِعْلَ الشَّنِيعَ تَحَرَّكَتْ نَفْسِي فَخِفْتُ أَنْ أَقْتُلَكَ غَضَبًا لَهَا لَا خَالِصًا لِوَجْهِهِ تَعَالَى، فَأَسْلَمَ الْكَافِرُ بِحُسْنِ نِيَّتِهِ وَخُلُوصِ طَوِيَّتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3452 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ; وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3452 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) ، بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا ") : بِكَسْرِ الْهَاءِ، مَنْ عَاهَدَ الْإِمَامَ عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ ذِمِّيًّا أَوْ غَيْرَهُ، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مَنْ عَاهَدَهُ الْإِمَامُ. قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِالْمُعَاهِدِ مَنْ كَانَ لَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ شَرْعِيٌّ، سَوَاءٌ كَانَ بِعَقْدِ جِزْيَةٍ أَوْ هُدْنَةٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ أَمَانٍ مِنْ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُهُ: " لَمْ يَرُحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ") ، فِيهِ رِوَايَاتٌ ثَلَاثٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ رَاحَ يَرَاحُ، وَبِكَسْرِهِ مِنْ رَاحَ يَرِيحُ، وَبِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَرَاحَ يُرِيحُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْيَاءِ هُوَ أَجْوَدُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ ثُمَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَجِدْ رِيحَهَا، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُهَا أَصْلًا، بَلْ أَوَّلُ مَا يَجِدُهَا سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَقْتَرِفُوا الْكَبَائِرَ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَعَاضَدَتْ بِهِ الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَ مُوَحِّدًا مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ، وَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّغْلِيظُ: (" وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ ") : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ تُوجَدُ (" مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا ") . أَيْ عَامًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعِينَ عَامًا، وَفِي الْأُخْرَى مِائَةَ عَامٍ، وَفِي الْفِرْدَوْسِ أَلْفُ عَامٍ، وَجَمَعَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْمَالِ، وَتَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ، فَيُدْرِكُهَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ، وَمَنْ شَاءَ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ طُولَ الْمَسَافَةِ لَا تَحْدِيدَهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ: " مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ النُّونِ أَيْ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ قَتْلُهُ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " أَيْ مَنَعَهُ مِنْ دُخُولِهَا مُدَّةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ بِالتَّاءِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَذَفَ ذِمِّيًّا حُدَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ» ". قَالَ عُلَمَاؤُنَا: خُصُومَةُ الذِّمِّيِّ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْمُسْلِمِ.

3453 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ; فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ; فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3453 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَرَدَّى ") : أَيْ رَمَى نَفْسَهُ (" مِنْ جَبَلٍ ") : قَالَ الْقَاضِي: التَّرَدِّي فِي الْأَصْلِ التَّعَرُّضُ لِلْهَلَاكِ مِنَ الرَّدَى، وَشَاعَ فِي التَّهَوُّرِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْهَلَكَةِ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا أَنْ يَتَهَوَّرَ الْإِنْسَانُ مِنْ جَبَلٍ (" فَقَتَلَ نَفْسَهُ ") ، أَيْ فَصَارَ بِالرَّمْيِ سَبَبَ قَتْلِ نَفْسِهِ (" فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا ") : أَيْ بِعَذَابٍ فِيهَا جَزَاءً وِفَاقًا (" خَالِدًا ") : حَالٌ مُقَدَّرَةٌ (" مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ") . تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوْ عَلَى بَيَانِ أَنَّ فَاعِلَهُ مُسْتَحِقٌّ لِهَذَا الْعَذَابِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُدَّةِ وَتَأْكِيدُهُ بِالْمُخَلَّدِ وَالتَّأْبِيدِ يَكُونُ لِلتَّشْدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. (" وَمَنْ تَحَسَّى ") : التَّحَسِّي وَالْحَسْوُ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّ فِيهِ تَكَلُّفًا أَيْ مَنْ شَرِبَ (" سُمًّا ") : بِفَتْحِ السِّينِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا. قَالَ الْأَكْمَلُ: السُّمُّ مُثَلَّثُ السِّينِ الْقَاتِلُ (" قَتَلَ نَفْسَهُ ") ، أَيْ بِشُرْبِ ذَلِكَ السُّمِّ (" فَسُمُّهُ ") : مُبْتَدَأٌ (" فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ ") : أَيْ يَتَكَلَّفُهُ فِي شُرْبِهِ (" فِي نَارِ جَهَنَّمَ ") : كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ - يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 16 - 17] (" خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهِ أَبَدًا ") أَيْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ (وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ) أَيْ بِآلَةٍ مِنْ حَدِيدٍ (فَحَدِيدَتُهُ) : أَيْ تِلْكَ بِعَيْنِهَا أَوْ مِثْلِهَا (" فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ ") : بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ تَفَعُّلٌ مِنَ الْوَجْئِ، وَهُوَ الطَّعْنُ بِالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: يَجَأُ عَلَى وَزْنِ يَضَعُ. قَالَ شَارِحُهُ: مِنْ وَجَأْتَهُ بِالسِّكِّينِ أَيْ ضَرَبْتَهُ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِلْقَرَائِنِ مِنْ قَوْلِهِ: يَتَرَدَّى وَيَتَحَسَّى وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (" بِهَا ") : لِلْحَدِيدَةِ أَيْ يَطْعَنُ بِهَا فِي بَطْنِهِ (" فِي نَارِ جَهَنَّمَ ") : أَيْ حَالَ كَوْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ (" خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ") . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ مُسْتَحِلِّينَ لَهُ وَإِنْ أُرِيدَ مِنْهُ الْعُمُومُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ دَوَامِ الِانْقِطَاعِ لَهُ، وَاسْتِمْرَارٍ مَدِيدٍ يَنْقَطِعُ بَعْدَ حِينٍ بَعِيدٍ لِاسْتِعْمَالِهِمَا فِي الْمَعْنَيَيْنِ، فَيُقَالُ: وَقَفَ وَقْفًا مُخَلَّدًا مُخَلَّدًا مُؤَبَّدًا، وَأُدْخِلَ فُلَانٌ حَبْسَ الْأَبَدِ، وَالِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَيَجِبُ جَعْلُهُمَا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَصْنَعُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي يَتْلُوهُ مَرْوِيًّا عَنْ جُنْدُبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ» الْحَدِيثَ. قُلْتُ: هُوَ حِكَايَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، إِذْ يَحْتَمِلُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ كَافِرًا، أَوِ ارْتَدَّ مِنْ شِدَّةِ الْجِرَاحَةِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسَهُ مُسْتَبِيحًا مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ ظَنًّا عَلَى الدَّوَامِ وَالْإِقْنَاطِ الْكُلِّيِّ فَضْلًا عَنِ الْقَطْعِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ بِصَدَدِ أَنْ يَحْمِلَهُ الضَّجَرُ وَالْحُمْقُ وَالْغَضَبُ عَلَى إِتْلَافِ نَفْسِهِ، وَيُسَوِّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّ الْخَطْبَ فِيهِ يَسِيرٌ، وَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ أُخْرَى حَرُمَ قَتْلُهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِهِ مُطَالِبٌ مِنْ قِبَلِ الْخَلْقِ فَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، أَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُكَلَّفِينَ أَنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمُعَذَّبُونَ بِهِ عَذَابًا شَدِيدًا، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي التَّحْرِيمِ كَقَتْلِ سَائِرِ النُّفُوسِ الْمُحَرَّمَةِ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَصَلُّوا عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طُرُقٍ وَضَعَّفَهَا، كَذَا فِي شَرْحِ عَقِيدَةِ الطَّحَاوِيِّ، وَقَالَ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَكَذَا قَاتِلُ نَفْسِهِ خِلَافًا لَأَبِي يُوسُفَ لَا الشَّهِيدُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3454 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعَنُهَا يَطْعَنُهَا فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3454 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الَّذِي يَخْنُقُ ") : بِضَمِّ النُّونِ مِنْ حَدِّ نَصَرَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا أَيْ: يَقْتُلُ (" نَفْسَهُ ") : بِالْخَنَقِ، وَفِي مَعْنَاهُ الشَّنْقُ. قَالَ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ: أَيْ يَعْصِرُ حَلْقَهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ مَصْدَرُهُ الْخَنَقُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالنُّونِ. (" يَخْنُقُهَا ") : أَيْ بِنَفْسِهِ أَوْ يَخْنُقُهَا اللَّهُ (" فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعَنُهَا ") : بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى مَا فِي التَّنْقِيحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ كَمَنَعَهُ وَنَصَرَهُ ضَرَبَهُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ كَذَا ضُبِطَ فِي الْأُصُولِ. (" يَطْعَنُهَا فِي النَّارِ ". كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ) .

3455 - وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكِّينًا، فَجَزَّ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3455 - (وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) ، أَيِ الْبَجَلِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ ") : الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ (" جُرْحٌ ") ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَقَدْ يُفْتَحُ (" فَجَزِعَ ") : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ خَرَجَ عَنْ حَيِّزِ الصَّبْرِ (" فَأَخَذَ سِكِّينًا، فَحَزَّ ") : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ، أَيْ: قَطَعَ بِغَيْرِ إِبَانَةٍ قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. وَقِيلَ: وَرُوِيَ بِالْجِيمِ وَكِلَاهُمَا بِمَعْنًى، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحَزُّ الْقَطْعُ، وَالْجَزُّ بِالْجِيمِ قَطْعُ الشَّعْرِ وَالْحَشِيشِ أَيْ قَطَعَ (" بِهَا ") : أَيْ بِتِلْكَ السِّكِّينِ، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ (" يَدَهُ ") : أَيِ الْمَجْرُوحَةَ (" فَمَا رَقَأَ الدَّمُ ") : بِفَتَحَاتٍ أَيْ مَا سَكَنَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ حَتَّى مَاتَ (" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ ") : أَيْ أَرَادَ مُبَادَرَتِي بِرُوحِهِ (" فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ ") . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَرَّمَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ حَتَّى يُذِيقَهُ وَبَالَ أَمْرِهِ إِنْ لَمْ يَرْحَمْهُ بِفَضْلِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3456 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ، حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3456 - (وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَ وَصَدَّقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَادِ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا عِنْدَهُ إِلَى أَنْ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا رَوَى عَنْهُ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. (وَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ) : أَيِ الطُّفَيْلُ (إِلَيْهِ) ، أَيْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهَاجَرَ مَعَهُ) : أَيْ مَعَ الطُّفَيْلِ (رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَمَرِضَ) : أَيِ الرَّجُلُ (فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ مِشْقَصٍ كَمِنْبَرٍ وَهُوَ السِّكِّينُ، وَقِيلَ: نَصْلُ السَّهْمِ إِذَا كَانَ طَوِيلًا غَيْرَ عَرِيضٍ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَاقْتَصَرَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الثَّانِي (فَقَطَعَ بِهَا) : أَيْ بِبَعْضِ الْمَشَاقِصِ (بَرَاجِمَهُ) ، بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ بُرْجُمَةٍ بِضَمِّ الْبَاءِ وَالْجِيمِ، وَهِيَ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ الَّتِي بَيْنَ الرَّوَاجِبِ، وَهِيَ الْمَفَاصِلُ الَّتِي تَلِي الْأَنَامِلَ وَبَيْنَ الْأَشَاجِعِ، وَهِيَ الَّتِي تَلِي الْكَفَّ، كَذَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْبَرَاجِمُ هِيَ الْعُقَدُ الَّتِي فِي ظُهُورِ الْأَصَابِعِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْوَسَخُ الْوَاحِدَةُ بُرْجُمَةٌ بِالضَّمِّ، (فَشَخَبَتْ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ سَالَتْ (يَدَاهُ) : أَيْ دَمُهُمَا (حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتُهُ) : أَيْ سِمَةُ الرَّجُلِ وَحَالُهُ (حَسَنَةٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَةٌ (وَرَآهُ) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي عَطْفًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ مَمْدُودَةٍ أَيْ عَقِبَهُ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ فَرَآهُ، ثُمَّ قَوْلِهِ: (مُغَطِّيًا يَدَيْهِ) ، بِكَسْرِ الطَّاءِ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (فَقَالَ) : أَيِ الطُّفَيْلُ (لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا لِيَ) : بِفَتْحِ الْإِضَافَةِ وَسُكُونِهَا (أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي) : أَيْ بِوَاسِطَةٍ أَوْ غَيْرِهَا (لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ) : أَيْ بِيَدَيْكَ، وَلَعَلَّ التَّقْدِيرَ إِلَّا إِنْ شَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَقَصَّهَا) : أَيْ فَحَكَى الرُّؤْيَا (الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ ") . عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ تَجَاوَزْ عَنْهُ وَلِيَدَيْهِ (" فَاغْفِرْ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: عُطِفَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ: وَقِيلَ لِي لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: قِيلَ لِي غَفَرْنَا لَكَ سَائِرَ أَعْضَائِكَ إِلَّا يَدَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ ". وَاللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاغْفِرْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذِكْرُ رُؤْيَا أُرِيَهَا الصَّحَابِيُّ لِلِاعْتِبَارِ بِمَا يُؤَوَّلُ تَعْبِيرُهُ، فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ ". مِنْ جُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْخُلُودَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي حَقِّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ قَتَلَ نَفْسَهُ ; لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِلْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ بَعْدَ أَنْ نُهِيَ عَنْهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3457 - وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ! قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ، مَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3457 - (وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (الْكَعْبِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو شُرَيْحٍ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو الْكَعْبِيُّ الْعَدَوِيُّ الْخُزَاعِيُّ، أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ. (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ: ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهَذَا مِنْ تَتِمَّةِ خُطْبَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ الْفَتْحِ مُقَدِّمَتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ حَرَمِ مَكَّةَ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ قَتَلُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ رَجُلًا مِنْ قَبِيلَةِ بَنِي هُذَيْلٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَدَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ دِيَتَهُ لِإِطْفَاءِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ (" قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ ") : بِالتَّصْغِيرِ (" وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ ") : أَيْ: مُؤَدٍّ دِيَتَهُ مِنَ الْعَقْلِ وَهُوَ الدِّيَةُ، سُمِّيَتْ بِهِ ; لِأَنَّ إِبِلَهَا تُعْقَلُ بِفِنَاءِ وَلِيِّ الدَّمِ، أَوْ لِأَنَّهَا تَعْقِلُ أَيْ: تَمْنَعُ دَمَ الْقَاتِلِ عَنِ السَّفْكِ. (" مِنْ قَتْلٍ بَعْدَهُ ") : أَيْ: مِنْكُمْ وَمِنْ غَيْرِكُمْ (" قَتِيلًا فَأَهْلُهُ ") : أَيْ: وَارِثُ الْقَتِيلِ (" بَيْنَ خِيرَتَيْنِ ") : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ وَيُسَكَّنُ أَيْ: اخْتِيَارَيْنِ، وَالْمَعْنَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ (" إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ") : أَيْ: قَاتِلَهُ (" وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ ") : أَيْ: الدِّيَةَ مِنْ عَاقِلَةِ الدِّيَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى الدِّيَةِ أُخِذَ بِهَا الْقَاتِلُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَقَتَادَةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقِيلَ: لَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إِلَّا بِرِضَا الْقَاتِلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: الْخِيرَةُ الِاسْمُ مِنَ الِاخْتِيَارِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ لِلْوَلِيِّ الْقِصَاصُ لَا غَيْرُ أَنَّ الْوَلِيَّ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ إِنْ بُذِلَتْ لَهُ قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَهْلِهِ كُلِّهِمْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالزَّوْجَاتُ ; لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا أَهْلَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ إِذَا كَانَ غَائِبًا أَوْ طِفْلًا لَمْ يَكُنْ لِلْبَاقِينَ الْقِصَاصُ حَتَّى يَبْلُغَ الطِّفْلُ وَيَقْدَمَ الْغَائِبُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالشَّافِعِيُّ) .

3458 - وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ إِسْنَادُهُ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، وَقَالَ: وَأَخْرَجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَعْنِي بِمَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3458 - (وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " بِإِسْنَادِهِ) : أَيْ: بِإِسْنَادِ الْبَغَوِيِّ (وَصَرَّحَ) : أَيْ: مُحْيِي السُّنَّةِ (بِأَنَّهُ) : أَيْ: الْحَدِيثَ (" لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، وَقَالَ) : أَيِ: الْبَغَوِيُّ (وَأَخْرَجَاهُ) : أَيْ: الشَّيْخَانِ (مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَعْنِي) : أَيْ: يُرِيدُ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُمَا أَخْرَجَاهُ عَنْهُ (بِمَعْنَاهُ) : أَيْ: بِمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ لَا بِلَفْظِهِ، فَتَمَّ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ حَيْثُ ذُكِرَ حَدِيثُ غَيْرِ الشَّيْخَيْنِ فِي الصِّحَاحِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ.

3459 - وَعَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرٍ فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا. فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ، فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3459 - (وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا) : أَيْ: وَاحِدًا مِنَ الْيَهُودِ (رَضَّ) : وَفِي النِّهَايَةِ: الرَّضُّ: الدَّقُّ. الْجَرِيشُ أَيْ: دَقَّ (رَأْسَ جَارِيَةٍ) : أَيْ: بِنْتٍ وَالْجَارِيَةُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَمْ تَبْلُغْ (بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟) : أَيْ: الرَّضَّ (أَفُلَانٌ؟ : أَيْ: فَعَلَ بِكِ (أَفُلَانٌ؟) : كِنَايَةٌ عَنْ أَسْمَاءِ بَعْضِهِمْ (حَتَّى سُمِّيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ ذُكِرَ (الْيَهُودِيُّ أَفَأَوْمَأَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَأَوْمَتْ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ حَذْفِهَا التَّخْفِيفُ، فَفِي الْقَامُوسِ: وَمَأَ إِلَيْهِ كَوَضَعَ أَشَارَ كَأَوْمَأَ وَوَمَأَ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: إِيمَاءُ الْإِشَارَةِ بِالْأَعْضَاءِ كَالرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ الْفِعْلُ أَوْمَأَتْ، وَلَا يُقَالُ: أَوْمَتْ وَوَمَأَتْ لُغَةٌ، وَالْمَعْنَى أَشَارَتْ (بِرَأْسِهَا) : أَيْ نَعَمْ (فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: دُقَّ (رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ) : الظَّاهِرُ بَيْنَ حَجَرَتَيْنِ تَكْمِيلًا لِلْمُمَاثَلَةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ كَمَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ، وَفِيهِ

دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالْحَجَرِ وَالْمُثَقَّلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يُوجِبْ بَعْضُهُمُ الْقِصَاصَ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اعْتِبَارِ جِهَةِ الْقَتْلِ فَيُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِلِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ شِبْهَ عَمْدٍ بِأَنْ قَتَلَ بِمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، فَتَعَمَّدَ الْقَتْلَ بِهِ كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ وَاللَّطْمَةِ وَالْقَضِيبِ وَالْبُنْدُقَةِ وَنَحْوِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَفِيهِ جَوَازُ سُؤَالِ الْجَرِيحِ: مَنْ جَرَحَكَ؟ وَفَائِدَتُهُ أَنْ يُعْرَفَ الْمُتَّهَمُ فَيُطَالَبَ فَإِنْ أَقَرَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ ثُبُوتُ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمَجْرُوحِ، وَتَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُسْلِمٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3460 - وَعَنْهُ قَالَ: «كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ - وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَا وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَنَسُ! كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ ". فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3460 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ) : بِضَمِّ رَاءٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ: بِنْتُ النَّضْرِ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بِنْتُ سُرَاقَةَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّهَا أُمُّ الرَّبِيعِ بِنْتُ النَّضْرِ، وَالَّذِي ذُكِرَ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابِيَّاتِ أَنَّهَا الرَّبِيعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. (- وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) : أَيْ: ابْنِ النَّضْرِ رَاوِي الْحَدِيثِ (ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ) : بِفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَكَسْرِ نُونٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ وَاحِدَةُ الثَّنَايَا مَفْعُولُ كَسَرَتْ، وَالْمُرَادُ بِالْجَارِيَةِ بِنْتٌ (مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَوْا) : أَيْ: قَوْمُ الْجَارِيَةِ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَا وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (ثَنِيَّتُهَا) : أَيْ: ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) : قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْقِصَاصِ فِي الْأَسْنَانِ، وَقَوْلُ أَنَسٍ: لَا وَاللَّهِ إِلَخْ لَمْ يَرِدْ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الرَّسُولِ وَالْإِنْكَارُ بِحُكْمِهِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ تَوَقُّعًا وَرَجَاءً مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى أَنْ يُرْضِيَ خَصْمَهَا وَيُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَضِيَ الْقَوْمُ بِالْأَرْشِ مَا قَالَ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَنَسُ ") : أَيِ: ابْنَ النَّضْرِ (" كِتَابُ اللَّهِ ") : أَيْ: حُكْمُهُ أَوْ حُكْمُ كِتَابِهِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ (" الْقِصَاصُ ") : أَيْ: الْمُمَاثَلَةُ فِي الْعُدْوَانِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَقَوْلِهِ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَإِلَى قَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] إِنْ قُلْنَا بِأَنَّا مُتَعَبَّدُونَ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخٌ فِي شَرْعِنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " لَا ". فِي قَوْلِهِ لَا وَاللَّهِ لَيْسَ رَدًّا لِلْحُكْمِ بَلْ نَفْيًا لِوُقُوعِهِ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ إِخْبَارٌ عَنْ عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَذَلِكَ بِمَا كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقُرْبَى وَالزُّلْفَى وَالثِّقَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، بَلْ يُلْهِمُهُمُ الْعَفْوَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَةِ: لَا وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا (فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ) أَيْ: الدِّيَةَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ") : أَيْ: جَعَلَهُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ لَا حَانِثًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ مِنْ زُمْرَةِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُصْطَفَيْنَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ فِيمَا يَظُنُّ الْإِنْسَانُ وُقُوعَهُ، وَجَوَازُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ لَا يَخَافُ الْفِتْنَةَ بِذَلِكَ، وَاسْتِحْبَابُ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالشَّفَاعَةُ فِي الْعَفْوِ، وَأَنَّ الْخِيرَةَ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، لَا إِلَى الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَإِثْبَاتُ الْقِصَاصِ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِذَا قَلَعَهَا كُلَّهَا، وَفِي كَسْرِ بَعْضِهَا وَكَسْرِ الْعِظَامِ خِلَافٌ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى عَدَمِ الْقِصَاصِ اهـ. وَعِنْدَنَا فِيهِ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ كُتُبُ الْفِقْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3461 - وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا» ". فِي " كِتَابِ الْعِلْمِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3461 - (وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَهَا فَاءٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَكَانَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، وَلَكِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ، وَرَوَى عَنْهُ مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَوْزٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ. (قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ) : الْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ أَرَادَ جَمِيعَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُوَ رَئِيسُهُمْ، فَفِيهِ تَغْلِيبُ (شَيْءٌ) : وَفِي رِوَايَةٍ: شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ (فَقَالَ: فِي الْقُرْآنِ) : وَإِنَّمَا سَأَلَهُ لِزَعْمِ الشِّيعَةِ أَنَّ عَلِيًّا خُصَّ بِبَعْضِ أَسْرَارِ الْوَحْيِ، (قَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ) : أَيْ: شَقَّهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا النَّبَاتَ وَالْغُصْنَ (وَبَرَأَ النَّسَمَةَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: خَلَقَهَا، وَالنَّسَمَةُ النَّفْسُ وَكُلُّ دَابَّةٍ فِيهَا رُوحٌ فَهِيَ نَسَمَةٌ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمَحْلُوفَ بِهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي فَطَرَ الرِّزْقَ وَخَلَقَ الْمَرْزُوقَ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَحْلِفُ إِذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ (مَا عِنْدَنَا) : جَوَابُ الْقَسَمِ أَيْ: لَيْسَ عِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ (إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ) : أَيْ: فِي الْمُصْحَفِ (إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا بَقِيَ مِنِ اسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ، وَخُلَاصَةٌ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا غَيْرُ الْقُرْآنِ إِلَّا فَهْمًا إِلَخْ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَا يُفْهَمُ مِنْ فَحْوَى كَلَامِهِ، وَيُسْتَدْرَكُ مِنْ بَاطِنِ مَعَانِيهِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الظَّاهِرِ مِنْ نَصِّهِ وَالْمُتَلَقَّى مِنْ لَفْظِهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ وُجُوهِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِنْبَاطِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ الْفَهْمِ وَالتَّفَهُّمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَمِيعُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ تَقَاصَرُ عَنْهُ أَفْهَامُ الرِّجَالِ (وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ) : عَطْفٌ عَلَى فَهْمًا. وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا سَأَلَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الشِّيعَةَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ أَهْلَ بَيْتِهِ لَا سِيَّمَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَسْرَارٍ مِنْ عِلْمِ الْوَحْيِ لَمْ يَذْكُرْهَا لِغَيْرِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى مِنْهُ عِلْمًا وَتَحْقِيقًا لَا يَجِدُهُ فِي زَمَانِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سِوَى الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَخُصَّ بِالتَّبْلِيغِ وَالْإِرْشَادِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّفَاوُتُ مِنْ قِبَلِ الْفَهْمِ وَاسْتِعْدَادِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَمَنْ رُزِقَ فَهْمًا وَإِدْرَاكًا وُفِّقَ لِلتَّأَمُّلِ فِي آيَاتِهِ وَالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهِ فُتِحَ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْعُلُومِ، وَاسْتَثْنَى مَا فِي الصَّحِيفَةِ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا لَا يَكُونُ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ مُنْفَرِدًا بِالْعِلْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي الصَّحِيفَةِ عَطْفٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَإِلَّا فَهُمَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَقَعَ اسْتِدْرَاكًا عَنْ مُقْتَضَى الْحَصْرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ كَمَا هُوَ عِنْدَهُ فَهُوَ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعُلُومِ يَكُونُ عِنْدَ غَيْرِهِ لَكِنَّ التَّفَاوُتَ وَاقِعٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ وَلَا مُدَافَعٍ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِ الْفَهْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ وَاسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي وَإِدْرَاكِ اللَّطَائِفِ وَالرُّمُوزِ. (قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟) : وَفِي رِوَايَةٍ: فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ (قَالَ: الْعَقْلُ) : أَيِ: الدِّيَةُ وَأَحْكَامُهَا يَعْنِي فِيهَا ذِكْرُ مَا يَجِبُ لِدِيَةِ النَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ مِنَ الْإِبِلِ، وَذِكْرُ أَسْنَانٍ تُؤَدَّى فِيهَا وَعَدَدُهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. (وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِفَتْحِ الْفَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ: فِيهَا حُكْمُ تَخْلِيصِهِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُهْتَمَّ بِهِ، (وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ) : أَيْ: غَيْرِ ذِمِّيٍّ عِنْدَ مَنْ يَرَى قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ عَامٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُقْتَلُ بِكَافِرٍ قِصَاصًا، سَوَاءٌ الْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقِيلَ: يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ السَّلْمَانِيِّ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَنَا أَحَقُّ مَنْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ". ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ» . وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لَا احْتِجَاجَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَخْطَأَ إِذْ قِيلَ: إِنَّ الْقَاتِلَ كَانَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَقَدْ عَاشَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَتَيْنِ وَمَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْكَافِرَ كَانَ رَسُولًا، فَيَكُونُ مُسْتَأْمَنًا وَالْمُسْتَأْمَنُ لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ وِفَاقًا، وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَقَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلَى دَرَجِ الْبَيْتِ: " وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» ".

قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِي الصَّحِيفَةِ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَذْكُرْ جُمْلَةَ مَا فِيهَا إِذِ التَّفْصِيلُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا أَوْ ذَكَرَ وَلَمْ يَحْفَظْهُ الرَّاوِي. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ذَكَرَهَا الْجَزَرِيُّ قَالَ: «سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا. قَالَ: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا» . قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ لِلْعَالِمِ الْفَهِمِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنَ الْقُرْآنِ بِفَهْمِهِ، وَيَسْتَنْبِطَ بِفِكْرِهِ وَتَدَبُّرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، لَكِنْ بِشَرْطِ مُوَافَقَتِهِ لِلْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ، فَفِيهِ فَتْحُ الْبَابِ عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي الصَّحِيفَةِ عَطْفٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ لَعَلَّهُ تَعْرِيضٌ بِتَوْجِيهِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ حَيْثُ قَالَ: حَلَفَ حَلْفَةً أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ سِوَى الْقُرْآنِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً أَرَادَ بِهِ اسْتِدْرَاكَ مَعْنًى اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ فَقَالَ: إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْعُلُومِ لَمْ يُوجَدْ مِنْ قِبَلِ الْبَلَاغِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْ قِبَلِ الْفَهْمِ، ثُمَّ قَرَنَ بِذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيفَةِ احْتِيَاطًا فِي يَمِينِهِ وَحَذَرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الصَّحِيفَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ فَحَسَبَ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا فَهْمًا، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى إِجْرَاءِ الْمُتَّصِلِ مَجْرَى الْمُنْقَطِعِ عَلَى عَكْسِ قَوْلِ الشَّاعِرِ وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى بِقَوْلِهِ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِفَهْمٍ رَزَقَهُ اللَّهُ لَمْ يُسْتَبْعَدْ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي الْفَهْمِ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، وَقَدْ عُلِمَ وَحُقِّقَ أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَأَنَّ مَا فِي الصَّحِيفَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا فِي الْقُرْآنِ أَوْ مُسْتَنْبَطًا مِنْهُ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا شَيْءَ خَارِجٌ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وَهَذَا فَنٌّ غَرِيبٌ وَأُسْلُوبٌ عَجِيبٌ، فَحِينَئِذٍ يُحَسِّنُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ عِلْمِ الْوَحْيِ لِمَا لَمْ يَخُصَّ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ خَلِيفَةً بَعْدَهُ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّنْعَانِيُّ فِي الدُّرِّ الْمُلْتَقَطِ: وَمِنَ الْمَوْضُوعِ قَوْلُهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَرَضِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: " «يَا عَلِيُّ ادْعُ بِصَحِيفَةٍ وَدَوَاةٍ ". فَأَمْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبَ عَلِيٌّ وَشَهِدَ جِبْرِيلُ ثُمَّ طُوِيَتِ الصَّحِيفَةُ» . قَالَ الرَّاوِي: فَمَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الصَّحِيفَةِ إِلَّا الَّذِي أَمْلَاهَا وَكَتَبَهَا وَشَهِدَهَا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، وَقَوْلُهُمْ: وَصِيِّي وَمَوْضِعُ سِرِّي وَخَلِيفَتِي فِي أَهْلِي وَخَيْرُ مَنْ أَخْلُفُ بِعْدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي أَسْنَى الْمَنَاقِبِ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَاتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ التَّيْمِيِّ، وَهُوَ وَالِدُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَلَفْظُهُ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ: الْمَدِينَةُ حَرَامٌ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: «قُلْنَا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَخْبِرْنَا بِشَيْءٍ أَسَرَّهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا أَسَرَّ إِلَيَّ شَيْئًا كَتَمَهُ اللَّهُ النَّاسَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مِنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ» ". يَعْنِي الْمَنَارَ أَيْ: الْعَلَامَةَ. قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَلَفْظُهُ: «كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسِرُّ إِلَيْكَ؟ فَغَضِبَ، فَقَالَ: مَا كَانَ يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ عَنِ النَّاسِ غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَنِي بِكَلِمَاتٍ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ» ". الْحَدِيثَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» ". (وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا» ". آخِرُهُ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ. (" فِي كِتَابِ الْعِلْمِ ") : فَأَسْقَطَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ تَكْرِيرٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ الْأَوَّلَ لَكَانَ أَوْفَقَ بِالْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3462 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. وَوَقَفَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3462 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَزَوَالُ الدُّنْيَا ") : اللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ (" أَهْوَنُ ") : أَيْ: أَحْقَرُ وَأَسْهَلُ (" عَلَى اللَّهِ ") : أَيْ: عِنْدَهُ (" مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنِ الدَّارِ الْقُرْبَى الَّتِي هِيَ مَعْبَرٌ لِلدَّارِ الْأُخْرَى، وَهِيَ مَزْرَعَةٌ لَهَا، وَمَا خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا لِتَكُونَ مَسَارِحَ أَنْظَارِ الْمُتَبَصِّرِينَ وَمُتَعَبَّدَاتِ الْمُطِيعِينَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] أَيْ: بِغَيْرِ حِكْمَةٍ بَلْ خَلَقْتَهَا ; لِأَنْ تَجْعَلَهَا مَسَاكِنَ لِلْمُكَلَّفِينَ وَأَدِلَّةً لَهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِكَ، فَمَنْ حَاوَلَ قَتْلَ مَنْ خُلِقَتِ الدُّنْيَا لِأَجْلِهِ فَقَدْ حَاوَلَ زَوَالَ الدُّنْيَا، وَبِهَذَا لُمِحَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ» ". قُلْتُ: وَإِلَيْهِ الْإِيمَاءُ بِقَوْلِهِ: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] الْآيَةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَوَقَفَهُ) : أَيِ: الْحَدِيثَ عَلَى الصَّحَابِيِّ (بَعْضُهُمْ، وَهُوَ) : أَيِ: الْمَوْقُوفُ (أَصَحُّ) : أَيْ: مِنَ الْمَرْفُوعِ، قِيلَ: هُوَ قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ.

3463 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3463 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) .

3464 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3464 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ) : أَيْ: مَعًا (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْ أَنَّ ") : أَيْ: لَوْ ثَبَتَ أَوْ فُرِضَ أَنَّ (" أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ لِلْمُضِيِّ وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ فَاعِلٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوِ اشْتَرَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (" فِي دَمِ مُؤْمِنٍ ") : أَيْ: إِرَاقَتِهِ وَالْمُرَادُ قَتْلُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ (" لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ ") : أَيْ: صَرَعَهُمْ فِيهَا وَقَلَبَهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَبَّهُ لِوَجْهِهِ أَيْ صَرَعَهُ فَأَكَبَّ هُوَ، وَهَذَا مِنَ النَّوَادِرِ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلُ لَازِمًا وَفَعَلَ مُتَعَدِّيًا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَكُونُ بِنَاءُ أَفْعَلَ مُطَاوِعًا بِفِعْلٍ بَلْ هَمْزَةُ أَكَبَّ لِلصَّيْرُورَةِ أَوْ لِلدُّخُولِ، فَمَعْنَاهُ صَارَ ذَا كَبٍّ أَوْ دَخَلَ فِي الْكَبِّ وَمُطَاوِعُ فَعَلَ انْفَعَلَ نَحْوَ: كَبَّ وَانْكَبَّ وَقَطَعَ وَانْقَطَعَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالصَّوَابُ كَبَّهُمُ اللَّهُ، وَلَعَلَّ مَا فِي الْحَدِيثِ سَهْوٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ هَذَا عَلَى الْأَصْلِ، وَكَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ، وَلِأَنَّ الْجَوْهَرِيَّ نَافٍ وَالرُّوَاةَ مُثْبِتُونَ. قُلْتُ: فِيهِ أَنَّ الْجَوْهَرِيَّ لَيْسَ بِنَافٍ لِلتَّعْدِيَةِ، بَلْ مُثْبِتٌ لِلُّزُومِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ اللُّزُومِ نَفْيُ التَّعْدِيَةِ، هَذَا وَقَدْ أَثْبَتَهَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: كَبَّهُ قَلَبَهُ وَصَرَعَهُ كَالْكَبَّةِ وَكَبْكَبَهُ كَأَكَبَّ هُوَ لَازِمٌ مُتَعَدٍّ اهـ. عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ: الْهَمْزَةُ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ كَمَا فِي مَدَّ وَأَمَدَّ عَلَى مَا وَرَدَ هُنَا، وَلِسَلْبِهَا عَلَى مَا ثَبَتَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْ يُقَالُ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا قَالُوا فِي: رَحِبَتْكَ الدَّارُ، أَيْ: رَحِبَتْ بِكَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَنِسْبَةُ الْخَطَأِ إِلَى بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ، بَلْ كُلِّهِمْ أَوْلَى وَأَحْوَطُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الرُّوَاةِ الثِّبَاتِ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ، هَذَا وَلَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَكَبَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي النَّارِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

3465 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ! قَتَلَنِي، حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ الْعَرْشِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3465 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ ") : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: يُحْضِرُهُ وَيَأْتِي بِهِ (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ ") : أَيْ: شَعْرُ مُقَدَّمِ رَأْسِ الْقَاتِلِ (" وَرَأْسُهُ ") : أَيْ: بَقِيَّتُهُ (" بِيَدِهِ ") : أَيْ: بِيَدِ الْمَقْتُولِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، وَيَحْتَمِلُ مِنَ الْمَفْعُولِ عَلَى بُعْدٍ، وَقَدِ اكْتَفَى فِيهَا بِالضَّمِيرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا عَلَى تَقْدِيرِ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْمَجِيءِ بِهِ (" وَأَوْدَاجُهُ ") : فِي النِّهَايَةِ: هِيَ مَا أَحَاطَ بِالْعُنُقِ مِنَ الْعُرُوقِ الَّتِي يَقْطَعُهَا الذَّابِحُ، وَاحِدُهَا وَدَجٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَقِيلَ: الْوَدَجَانِ عِرْقَانِ غَلِيظَانِ عَنْ جَانِبَيْ نُقْرَةِ النَّحْرِ، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ الْمُثَنَّى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِلْأَمْنِ مِنَ الْإِلْبَاسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: أَيْ: وَدَجَاهُ، وَهُمَا: عِرْقَانِ عَلَى صَفْحَتَيِ الْعُنُقِ (" تَشْخُبُ ") : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: تَسِيلُ (" دَمًا ") : تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ أَيْ: دَمُهُمَا (" يَقُولُ: يَا رَبِّ قَتَلَنِي ") : أَيْ: وَيُكَرِّرُهُ (" حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ الْعَرْشِ ") : مِنْ أَدْنَى أَيْ: يُقَرِّبُ الْمَقْتُولُ الْقَاتِلَ مِنَ الْعَرْشِ، وَكَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِقْصَاءِ الْمَقْتُولِ فِي طَلَبِ ثَأْرِهِ، وَعَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِرْضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِعَدْلِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3466 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَشْرَفَ يَوْمَ الدَّارِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ كُفْرٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقُتِلَ بِهِ ". فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا ارْتَدَدْتُ مُنْذُ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا قَتَلْتُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فَبِمَ تَقْتُلُونَنِي» ؟ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ لَفْظُ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3466 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَصَحِبَ عَلِيًّا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ وَلَّاهُ فَارِسَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ وَغَيْرُهُ، مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. (أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَشْرَفَ) : أَيْ: عَلَى النَّاسِ (يَوْمَ الدَّارِ) : أَيْ: وَقْتَ الْحِصَارِ (فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ) : بِضَمِّ الشِّينِ أَيْ: أُقْسِمُكُمْ (بِاللَّهِ أَتَعْلَمُونَ) : الْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ أَيْ: قَدْ تَعْلَمُونَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ") : أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (" زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ كُفْرٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقُتِلَ بِهِ؟) : تَقْرِيرٌ وَمَزِيدُ تَوْضِيحٍ لِلْمَعْنَى، وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَتْلِ بِالْوَاوِ، وَفِي نُسْخَةٍ: تُقْتَلُ بِهِ (فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا ارْتَدَدْتُ مُنْذُ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ (وَلَا قَتَلْتُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) : أَيْ: قَتْلَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ (فَبِمَ تَقْتُلُونَنِي؟) : بِنُونَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِهَا أَيْ: فَبِأَيِّ سَبَبٍ تُرِيدُونَ قَتْلِي؟ وَالْخِطَابُ لِلتَّغْلِيبِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ لَفْظُ الْحَدِيثِ) : قِيلَ أَيْ: دُونَ الْقِصَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لِلدَّارِمِيِّ وَلِلْبَقِيَّةِ بِمَعْنَاهُ، وَإِلَّا فَلَفْظُ الْحَدِيثِ بِدُونِ الْقِصَّةِ. رَوَاهُ غَيْرُهُ أَيْضًا عَلَى مَا سَبَقَ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

3467 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا صَالِحًا، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3467 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ. فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: مُسْرِعًا فِي طَاعَتِهِ مُنْبَسِطًا فِي عَمَلِهِ (" صَالِحًا ") : أَيْ: قَائِمًا بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (" مَا لَمْ يُصِبْ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ أَيْ: لَمْ يُبَاشِرْ (" دَمًا حَرَامًا، فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ ") : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ بَيْنَ الْمُوَحَّدَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفٍ أَيْ: أَعْيَا وَانْقَطَعَ فَلَمْ يُوَفَّقْ لِلْمُسَارَعَةِ. فِي النِّهَايَةِ: بَلَّحَ الرَّجُلُ انْقَطَعَ مِنَ الْإِعْيَاءِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَرَّكَ، وَمِنْهُ مَنْ أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ يُرِيدُ وُقُوعَهُ فِي الْهَلَاكِ وَقَدْ يُخَفِّفُ اللَّامَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: بَلَحَ الرَّجُلُ بُلُوحًا أَعْيَا وَبَلَّحَ تَبْلِيحًا مِثْلَهُ، وَالرِّوَايَةُ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالتَّشْدِيدِ. قُلْتُ: وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَالتَّأْكِيدَ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُعْنِقُ الْمُسْرِعُ فِي الْمَشْيِ مِنَ الْعَنَقِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ وَالْخَطْوُ الْفَسِيحُ، وَالتَّبْلِيحُ الْإِعْيَاءُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَزَالُ مُوَفَّقًا لِلْخَيْرَاتِ مُسَارِعًا إِلَيْهَا مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فَإِذَا أَصَابَ ذَلِكَ أَعْيَا وَانْقَطَعَ عَنْهُ ذَلِكَ لِشُؤْمِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْإِثْمِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُعْنِقًا مُنْبَسِطًا فِي سَيْرِهِ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا أَرَى هَذَا سَدِيدًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُعْنِقًا مَشْرُوطٌ بِقَوْلِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُصِيبَ دَمًا حَرَامًا فِي الْقِيَامَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَحْوَالِ الْآتِيَةِ أَيْ: لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُنْبَسِطًا فِي سَيْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَمْ يُصِبْ فِي الدُّنْيَا دَمًا حَرَامًا، وَنَحْوُهُ فِي الْمَعْنَى حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي سَعَةٍ مِنْ دِينِهِ يُرْجَى لَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ وَلُطْفُهُ وَلَوْ بَاشَرَ الْكَبَائِرَ سِوَى الْقَتْلِ، فَإِذَا قَتَلَ أَعْيَا وَضَاقَتْ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3468 - وَعَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا أَوْ مَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3468 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ ") : أَيْ: يُتَوَقَّعُ مِنْهُ تَعَالَى (" أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا ") : أَيْ: ذَنْبَهُ. قَالَ الْأَشْرَفُ: لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ مُضَافٍ إِمَّا فِي الْمُسْتَثْنَى أَوْ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَيْ: كُلُّ قَارِفِ ذَنْبٍ أَوْ إِلَّا ذَنْبَ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا اهـ. وَالثَّانِي أَوْلَى فَإِنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ عِنْدَهُ كَمَا لَا يَخْفَى. (" أَوْ مَنْ يَقْتُلُ ") : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَوْ قَتَلَ (" مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ") : بِأَنْ قَصَدَ قَتْلَهُ لِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا أَوْ أَرَادَ بِهِ تَغْلِيظًا أَوْ حَتَّى يُرْضِيَ خَصْمَهُ، أَوْ إِلَّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قَالَ الْمُظْهِرُ: إِذَا كَانَ مُسْتَحِلًّا دَمَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ حُكْمَ الشِّرْكِ وَمَا دُونَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا لَا يُغْفَرَانِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَيُغْفَرَانِ بَعْدَهَا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُسَاعِدُ قَوْلَهُمْ. الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] . فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى خُلُودِ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْتُ: مَا أَبْيَنَ الدَّلِيلَ فِيهَا، وَهُوَ تَنَاوُلُ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ أَيُّ قَاتِلٍ كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ تَائِبٍ أَوْ غَيْرِ تَائِبٍ، إِلَّا أَنَّ التَّائِبَ أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ، فَمَنِ ادَّعَى إِخْرَاجَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ التَّائِبِ فَلْيَأْتِ بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ. قُلْتُ: مَا أَبْيَنَ الدَّلِيلَ فِي نَظَرِ غَيْرِ الْعَلِيلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَقَدْ بَيَّنْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بَيَانًا شَافِيًا فِي الرِّسَالَةِ الْمَعْمُولَةِ الْمُسَمَّاةِ: بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ فِي خُلْفِ

الْوَعِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أَتَى فِي فُتُوحٍ بِالْغَيْبِ الدَّلِيلُ، وَهُوَ أَنِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْآيَاتِ أَنَّ الْآيَةَ مِنْ أُسْلُوبِ التَّغْلِيظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] إِلَى قَوْلِهِ: (وَمَنْ كَفَرَ) وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] دَلَّ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْهُ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ خَرَجَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ ; لِأَنَّ كَانَ هَذَا نَحْوُ كَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] وَالْمَعْنَى لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَسْتَقِمْ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا فِي الْكَشَّافِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا قَتْلَ الْخَطَأِ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً أَيْ: لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ مُنَافِيَةٌ لِقَتْلِ الْعَمْدِ، فَإِذًا لَا يَصِحُّ مِنْهُ قَتْلُ الْعَمْدِ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ ذَيَّلَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] يَعْنِي كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْقَتْلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا، وَأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ جَزَاؤُهُمُ الْخُلُودُ، وَحُلُولُ غَضَبِ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] " فَإِنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ أَيِ: الْكَافِرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الزَّكَاةَ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتَّصِفَ بِصِفَتِهِمْ، وَكِتَابُهُ مَشْحُونٌ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ، فَعَلَى هَذَا الْحَدِيثُ كَالْآيَةِ فِي التَّغْلِيظِ. قُلْتُ: لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الدَّلِيلِ، فَالْأَخْلَصُ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] أَيْ: بِلَا تَوْبَةٍ، فَإِنَّ الشِّرْكَ أَيْضًا يُغْفَرُ مَعَهَا، وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ مَعْنًى مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: " «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ". فَالْحَقُّ أَنَّهُ إِنْ صَدَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِ مِثْلُ هَذَا الذَّنْبِ فَمَاتَ وَلَمْ يَتُبْ، فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ شَفَاعَةٍ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أَنَسٍ: " «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ". «وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِقَدْرِ مَا شَاءَ ثُمَّ يُخْرِجُهُ إِلَى الْجَنَّةِ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ إِحْدَى الْقَرِينَتَيْنِ: يَعْنِي مَنْ مَاتَ بِالْمَاضِي وَالْأُخْرَى بِالْمُضَارِعِ؟ قُلْتُ: تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي أَنَّ نَحْوَ: فُلَانٌ يَقْرِي الضَّيْفَ وَيَحْمِي الْحَرِيمَ، يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ وَدَأْبِهِ، وَقَدْ سَبَقَ آنِفًا أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مِنْ شَأْنِ الْكُفَّارِ وَدَأْبِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ كَانَ بِالْمُضَارِعِ أَجْدَرَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.

3469 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3469 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاوِيَةَ.

3470 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَا يُقَادُ بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3470 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» ") : وَفِي نُسْخَةٍ: فِي الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَتَوَابِعِهَا مِنَ النَّوَافِلِ وَالذِّكْرِ وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: صِيَانَةٌ لِلْمَسَاجِدِ وَحِفْظُ حُرْمَتِهَا، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْأَوْلَوِيَّةِ، أَمَّا لَوِ الْتَجَأَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إِلَى الْحَرَمِ فَجَازَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ أَوِ الطَّرَفِ، فَتُبْسَطُ الْأَنْطَاعُ وَيُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ تَعْجِيلًا لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُسْتَوْفَى قِصَاصُ النَّفْسِ فِي الْحَرَمِ، بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ بِنَفْسِهِ فَيُقْتَلَ. قُلْتُ: هَذَا الْخِلَافُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَرْضِ الْحَرَمِ لَا خَاصٌّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَتُبْسَطُ الْأَنْطَاعُ. (" وَلَا يُقَادُ ") : أَيْ: لَا يُقْتَصُّ مِنَ الْقَوَدِ بِمَعْنَى الْقِصَاصِ (" بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ ") : وَالْمَعْنَى لَا يُقْتَصُّ وَالِدٌ بِقَتْلِ وَلَدِهِ، بَلْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ. قَالَ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِابْنَ إِذَا قَتَلَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ قُتِلَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يُقْتَلُ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ بِهِ إِذَا كَانَ قَتَلَهُ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ كَإِضْجَاعِهِ وَذَبْحِهِ. اهـ.

وَالْوَالِدَةُ كَالْوَالِدِ، وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ كَالْوَالِدَيْنِ، نَقَلَهُ الْبُرْجَنْدِيُّ قَالَ الْأَشْرَفُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يَقْتَصُّ وَالِدٌ بِقَتْلِ وَلَدِهِ وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ، وَلَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بَعِوَضِ الْوَلَدِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِأَنْ قَتَلَ الْوَلَدُ أَحَدًا ظُلْمًا، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يُقْتَلَ الِابْنُ بِالْقِصَاصِ الْوَاجِبِ عَلَى الْأَبِ وَبِالْعَكْسِ فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْوَالِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِعَدَمِهِ، وَحُكْمُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ مَعَ الْأَحْفَادِ حُكْمُ الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ.

3471 - وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي قَالَ: " مَنْ هَذَا الَّذِي مَعَكَ؟ قَالَ: ابْنِي أَشْهَدُ بِهِ. قَالَ: " أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. وَزَادَ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " فِي أَوَّلِهِ قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى أَبِي الَّذِي بِظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: دَعْنِي أُعَالِجُ الَّذِي بِظَهْرِكَ فَإِنِّي طَبِيبٌ. قَالَ: " أَنْتَ رَفِيقٌ وَاللَّهُ الطَّبِيبُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3471 - (وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ فَمُثَلَّثَةٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ رِفَاعَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ التَّمِيمِيُّ (قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي، فَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي (" مَنْ هَذَا الَّذِي مَعَكَ؟ " قَالَ) : أَيْ: أَبِي (ابْنِي) : أَيْ: هُوَ ابْنِي (اشْهَدْ بِهِ) : بِهَمْزِ وَصْلٍ وَفَتْحِ هَاءٍ أَيْ: كُنْ شَاهِدًا بِأَنَّهُ ابْنِي مِنْ صُلْبِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ تَقْرِيرٌ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَالْمَقْصُودُ الْتِزَامُ ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ عَنْهُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ كُلٍّ مِنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِجِنَايَةِ الْآخَرِ. (قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدًّا لِزَعْمِهِ (" أَمَا ") : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّهُ ") : لِلشَّأْنِ أَوِ الِابْنِ (" لَا يَجْنِي عَلَيْكَ ") : لَا تُؤَاخَذُ بِذَنْبِهِ (" وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ ") : أَيْ: لَا يُؤَاخَذُ بِذَنْبِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَيْ: إِنَّهُ لَا يَجْنِي جِنَايَةً يَكُونُ الْقِصَاصُ أَوِ الضَّمَانُ فِيهَا عَلَيْكَ، أَوْ أَنَّ لَفْظَهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ نَهْيٌ أَيْ: لَا يَجْنِ عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ وَلَا الْبَابَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. وَزَادَ) أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " فِي أَوَّلِهِ) : أَيْ: فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ (قَالَ) : أَيْ: أَبُو رِمْثَةَ (دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى أَبِي الَّذِي) : أَيْ: ظَاهِرَ اللَّحْمِ الْمُكَبْكَبِ (بِظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ: مِنْ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ الَّذِي خُلِقَ مَعَ خَلْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِلْقَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَظَنَّ أَنَّهُ سِلْعَةٌ وَهِيَ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ: لَحْمَةٌ زَائِدَةٌ تَحْدُثُ فِي الْجَسَدِ كَالْغُدَّةِ تَجِيءُ وَتَذْهَبُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، (قَالَ: دَعْنِي) : أَيِ: اتْرُكْنِي، وَالْمُرَادُ ائْذَنْ لِي (أُعَالِجُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ: بِالْجَزْمِ وَكَسْرٍ لِلِالْتِقَاءِ، وَتَقْدِيرُ الْأَوَّلِ: أَنَا أُعَالِجُ (الَّذِي بِظَهْرِكِ فَإِنِّي طَبِيبٌ. فَقَالَ: (" أَنْتَ رَفِيقٌ ") : أَيْ: أَنْتَ تَرْفُقُ بِالنَّاسِ فِي الْعِلَاجِ بِلَطَافَةِ الْفِعْلِ فَتَحْمِيهِ بِحِفْظِ مِزَاجِهِ عَمَّا يُخْشَى أَنْ لَا يَحْتَمِلَهُ بَدَنُهُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الرَّدِيئَةِ الْمُرْدِيَةِ، وَتُطْعِمُهُ مَا تَرَى أَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ اللَّطِيفَةِ وَالْأَدْوِيَةِ (" وَاللَّهُ الطَّبِيبُ ") : أَيْ: هُوَ الْعَالِمُ بِحَقِيقَةِ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، وَالْقَادِرُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالشِّفَاءِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْمَوْصُوفِ بِالْبَقَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ: إِنَّمَا الشَّافِي الْمُزِيلُ لِلْأَدْوَاءِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» ". أَيِ الَّذِي تَنْسُبُونَهُ إِلَى الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ فَاعِلُهُ لَا الدَّهْرُ، فَلَا يُوجِبُ جَوَازَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ طَبِيبًا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَأَى بِظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ وَكَانَ نَاتِئًا، وَظَنَّ أَنَّهُ سِلْعَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنْ فَضَلَاتِ الْبَدَنِ، فَرَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مُدَرِّجًا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، يَعْنِي لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُعَالَجُ، بَلْ يَفْتَقِرُ كَلَامُكَ إِلَى الْعِلَاجِ حَيْثُ سَمَّيْتَ نَفْسَكَ بِالطَّبِيبِ، وَاللَّهُ هُوَ الطَّبِيبُ، فَهُوَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ فِي الصَّنْعَةِ الْبَدِيعِيَّةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّبِيبِ أَنْ يُذْكَرَ فِي حَالِ الِاسْتِشْفَاءِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمُصِحُّ وَالْمُمْرِضُ وَالْمُدَاوِي وَالطَّبِيبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ: يَا طَبِيبُ كَمَا يُقَالُ: يَا حَلِيمُ يَا رَحِيمُ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَعِيدٌ مِنَ الْأَدَبِ ; وَلِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ. قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] قُلْتُ: وَلَعَلَّ بَعْدَهُ مِنَ الْأَدَبِ لِكَوْنِهِ مُوهِمًا لِلْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ عَلَى الْمَخْلُوقِ، كَمَا لَا يُقَالُ لَهُ الْمُعَلِّمُ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} [البقرة: 31] وَ {الرَّحْمَنُ - عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2] وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: وَلِأَنَّ الْأَسْمَاءَ تَوْقِيفِيَّةٌ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ إِلَّا إِنْ أَرَادَ مِنْ حُصُولِ التَّوْقِيفِ صِحَّةَ الدَّلِيلِ أَوْ حَصْرَهُ بِمَا فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الْمَشْهُورَةِ الْمَعْدُودَةِ بِالتِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَهَذَا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: اللَّهُ الطَّبِيبُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ. وَرَوَى الشِّيرَازِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا: «الطَّبِيبُ اللَّهُ، وَلَعَلَّكَ تَرْفُقُ بِأَشْيَاءَ يَخْرُقُ بِهَا غَيْرُكَ» .

3472 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِيدُ الْأَبَ مِنِ ابْنِهِ، وَلَا يُقِيدُ الِابْنَ مِنْ أَبِيهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَضَعَّفَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3472 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ) : أَيِ: ابْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ الْكِنَانِيِّ كَانَ يَنْزِلُ قُدَيْدًا وَيُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ. (قَالَ: حَضَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِيدُ الْأَبَ) : بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ الْأُولَى أَيْ يَقْتَصُّ لَهُ (مِنِ ابْنِهِ) : بِكَسْرِ نُونِ مِنْ لِلِالْتِقَاءِ أَيْ: لِأَجْلِهِ وَبِسَبَبِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. قِيلَ: كَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَوَدُ الْقِصَاصُ وَقَتْلُ الْقَاتِلِ بَدَلَ الْقَتِيلِ، وَقَدْ أَقَدْتُهُ بِهِ أُقِيدُهُ قَادَةً، وَاسْتَقَدْتُ الْحَاكِمَ سَأَلْتُهُ أَنْ يُقِيدَ بِي. (وَلَا يُقِيدُ الِابْنَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ لِلِالْتِقَاءِ (مِنْ أَبِيهِ) : بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ أَيْ: نُسِبَ الْحَدِيثُ إِلَى الضَّعْفِ، وَقَالَ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ.

3473 - وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3473 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) : أَيِ: الْبَصْرِيِّ (عَنْ سَمُرَةَ) : أَيِ: ابْنِ جُنْدُبٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» ") : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا زَجْرٌ لِيَرْتَدِعُوا فَلَا يُقْدِمُوا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ: " إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ". ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ: " فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ» ". ثُمَّ لَمْ يَقْتُلْهُ حِينَ جِيءَ بِهِ وَقَدْ شَرِبَ رَابِعًا أَوْ خَامِسًا، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ فِي عَبْدٍ كَانَ يَمْلِكُهُ فَزَالَ عَنْهُ مِلْكُهُ فَصَارَ كُفْئًا لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] إِلَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] اهـ. وَمَذْهَبُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِعَبْدِ غَيْرِهِ دُونَ عَبْدِ نَفْسِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ عَبْدَ غَيْرِهِ، وَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدَ نَفْسِهِ (" وَمَنْ جَدَعَ ") : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (" عَبْدَهُ ") : أَيْ: قَطَعَ أَطْرَافَهُ (" جَدَعْنَاهُ ") : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ طَرَفَ الْحُرِّ لَا يُقْطَعُ بِطَرَفِ الْعَبْدِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الِاتِّفَاقِ أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، أَوْ هُوَ مَنْسُوخٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ» ") .

3474 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ; فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ: وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً. وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3474 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَتَلَ ") : أَيْ: شَخْصًا (" مُتَعَمِّدًا ") : أَيْ: لَا خَطَأً (" دُفِعَ ") . بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ") : أَيْ: وَرَثَتِهِ (" فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا ") : أَيْ: قَتَلُوهُ بَدَلَ قَتِيلِهِمْ (" وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ ") : أَيْ: دِيَتَهُ (" وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً ") : بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَهِيَ مِنَ الْإِبِلِ مَا دَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ (" وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ") : بِحَرَكَتَيْنِ مَا دَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ (" وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ: الْحَامِلُ مِنَ النُّوقِ (" وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ ") : أَيْ: مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ، أَوْ فِي تَعْيِينِ زَمَانِ الْعَطَاءِ وَمَكَانِهِ، (" فَهُوَ ") : أَيِ: الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ (" لَهُمْ ") : أَيْ: جَائِزٌ لِلْمُصَالِحِينَ أَوْ ثَابِتٌ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ رَجُلًا حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَأَخَذَ عُمَرُ مِنْهُ الدِّيَةَ ثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً. قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. قَالَ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَرْبَاعٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَنْهُ. ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَهُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ قَالَا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا إِلَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، وَلِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ «فِي كِتَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ» . وَالْمُرَادُ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَمَا قُلْنَاهُ أَدْنَى، وَلِأَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ مِنْ دِيَةِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّهَا فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ تَجِبُ أَخْمَاسًا، ثُمَّ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: فِي مَالِ الْقَاتِلِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ; لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْعَمْدِ، وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ. الْحَدِيثَ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِيهِ أَنَّ دِيَتَهَا عَلَى عَاقِلَتِهَا.

3475 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3475 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَدْ كَانَ فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ، (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ ") : بِالتَّأْنِيثِ وَهَمْزِ آخِرِهِ أَيْ تَتَسَاوَى (" دِمَاؤُهُمْ) : فِي الدِّيَاتِ وَالْقِصَاصِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يُرِيدُ بِهِ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْقِصَاصِ، يُقَادُ الشَّرِيفُ مِنْهُمْ بِالْوَضِيعِ، وَالْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالْعَالِمُ بِالْجَاهِلِ، وَالْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ شَرِيفًا أَوْ عَالِمًا، وَالْقَاتِلُ وَضِيعًا أَوْ جَاهِلًا، وَلَا يُقْتَلُ بِهِ غَيْرُ قَاتِلِهِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا لَا يَرْضَوْنَ فِي دَمِ الشَّرِيفِ بِالِاسْتِقَادَةِ مِنْ قَاتِلِهِ الْوَضِيعِ، حَتَّى يَقْتُلُوا عِدَّةً مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ. (" وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ ") : أَيْ بِأَمَانِهِمْ (" أَدْنَاهُمْ ") : فِي الْفَائِقِ: الذِّمَّةُ الْأَمَانُ، وَمِنْهَا سُمِّيَ الْمُعَاهَدُ ذِمِّيًّا ; لِأَنَّهُ أُومِنَ عَلَى مَالِهِ وَدَمِهِ لِلْجِزْيَةِ، وَالْمَعْنَى إِذَا أَعْطَى أَدْنَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَمَانًا فَلَيْسَ لِلْبَاقِينَ إِخْفَارُهُ أَيْ نَقْضُ عَهْدِهِ وَأَمَانِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَيْ إِنَّ وَاحِدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا أَمَّنَ كَافِرًا حَرُمَ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ دَمُهُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُجِيرُ أَدْنَاهُمْ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا تَابِعًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْفِرُ ذِمَّتَهُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «سَيُجِيرُ عَلَى أُمَّتِي أَدْنَاهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (" وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ ") : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَاصِيَ الدَّارِ عَنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إِذَا عَقَدَ لِلْكَافِرِ عَقْدًا فِي الْأَمَانِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ دَارًا مِنَ الْمَعْقُودِ لَهُ، وَثَانِيهِمَا: إِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ دَارَ الْحَرْبِ، فَوَجَّهَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْهُمْ، فَمَا غَنِمَتْ مِنْ شَيْءٍ أَخَذَتْ مِنْهُ مَا سَمَّى لَهَا، وَيَرُدُّ عَلَى الْعَسْكَرِ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْغَنِيمَةَ كَانُوا رِدْءًا لِلسَّرَايَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الثَّانِي التَّعْمِيَةُ وَالْإِلْغَازُ ; لِأَنَّ مَفْعُولَ يَرُدُّ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَلَيْسَ فِي الْكَّلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ تَكْرَارٌ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يُجِيرُ بِعَهْدِهِمْ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً وَأَبْعَدَهُمْ مَنْزِلًا، وَيَنْصُرُ الْوَجْهَ الثَّانِي الْحَدِيثُ السَّادِسُ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي فِي بَابِ الدِّيَاتِ وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ. (" وَهُمْ) : أَيِ الْمُسْلِمُونَ (يَدٌ ") : أَيْ كَأَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ. (" عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَسَعُهُمُ التَّخَاذُلُ، بَلْ يُعَاوِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ هَذَا التَّرْكِيبِ وَبَيَانُ مَجَازِهِ (" أَلَا ") : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (" «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» ") : أَيْ بِحَرْبِيٍّ بِدَلِيلِ عَطْفِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يُنَافِيهِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ مُطْلَقًا (" وَلَا ذُو عَهْدٍ ") : أَيْ لَا يُقْتَلُ (" فِي عَهْدِهِ ") : أَيْ فِي زَمَانِهِ وَحَالِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ ابْتِدَاءً مَا دَامَ فِي الْعَهْدِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ لَا يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ مَا دَامَ مُعَاهِدًا غَيْرَ نَاقِضٍ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ قِصَاصًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُعَاهِدُ هُوَ الْحَرْبِيُّ دُونَ الذِّمِّيِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ هُوَ الْحَرْبِيُّ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.

قُلْتُ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي. قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ إِضْمَارٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَا دَلِيلَ يَقْتَضِيهِ، وَأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ غَيْرُ لَازِمٍ. قُلْتُ: عَدَمُ لُزُومِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ، فَالْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ أَحْسَنُ، وَهُوَ الدَّلِيلُ الْمُقْتَضِي لِلْإِضْمَارِ، فَضَعُفَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يُؤَوَّلَ قَوْلُهُ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِحَرْبِيٍّ، فَيَكُونُ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. قُلْتُ: بَلِ الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِذِمِّيٍّ عِنْدَنَا، فَيَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَصْحَابُ لَكَانَ الْكَلَامُ خَالِيًا عَنِ الْفَائِدَةِ لِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُعَاهِدَ لَا يُقْتَلُ فِي عَهْدِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فَائِدَتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسْقَطَ الْقَوَدَ عَنِ الْمُسْلِمِ إِذَا قَتَلَ الْكَافِرَ أَوْجَبَ ذَلِكَ تَوْهِينَ حُرْمَةِ دِمَاءِ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يُؤْمَنْ مِنْ وُقُوعِ شُبْهَةٍ لِبَعْضِ السَّامِعِينَ فِي حُرْمَةِ دِمَائِهِمْ وَإِقْدَامِ الْمُسْرِعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَتْلِهِمْ، فَأَعَادَ الْقَوْلَ فِي حَظْرِ دِمَائِهِمْ دَفْعًا لِلشُّبْهَةِ، وَقَطْعًا لِتَأْوِيلِ الْمُتَأَوِّلِ اهـ. وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ وَإِنْ قَوَّاهُ الطِّيبِيُّ مِمَّا تَكَلَّفَهُ. قَالَ الْأَشْرَفُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى: يَحْتَمِلُ هَذَا الْحَدِيثُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِأَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا مُعَاهِدٌ بِبَعْضِ الْكُفَّارِ وَهُوَ الْحَرْبِيُّ، وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لَفْظَةُ وَاحِدَةٌ يُعْطَفُ عَلَيْهَا سِيمَاءَانِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهَا، وَالْآخَرُ إِلَى بَعْضِهَا. قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ فِي الْكَلَامِ لِيَظْهَرَ بِهِ الْمَرَامُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي شَرْحِهِ: قَوْلُهُ: ذُو عَهْدٍ. عَطْفٌ عَلَى مُسْلِمٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ: ذُو أَمَانٍ لَا ذُو إِيمَانٍ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَإِلَّا يَصِيرُ مَعْنَاهُ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ وَلَا مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ إِلَّا أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ: لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ، وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيُّ دُونَ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُ يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِمِثْلِهِ إِجْمَاعًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) : أَيْ كِلَاهُمَا عَنْ عَلِيٍّ.

3476 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3476 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) .

3477 - وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبْلٍ - وَالْخَبْلُ: الْجُرْحُ - فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ، فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ: بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ أَوْ يَأْخُذَ الْعَقْلَ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ عَدَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ النَّارُ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا أَبَدًا» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3477 - (وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (الْخُزَاعِيِّ) : بِضَمِّ أُولَى الْمُعْجَمَتَيْنِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو الْكَعْبِيُّ الْعَدَوِيُّ الْخُزَاعِيُّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ ") : أَيِ: ابْتُلِيَ بِقَتْلِ نَفْسٍ مُحَرَّمَةٍ مِمَّنْ يَرِثُهُ (" أَوْ خَبْلٍ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْخَبْلُ: الْجُرْحُ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْخَبْلُ بِسُكُونِ الْبَاءِ فَسَادُ الْأَعْضَاءِ، فَالْمَعْنَى مَنْ أُصِيبَ بِقَتْلِ نَفْسٍ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ (" فَهُوَ ") : أَيِ الْمُصَابُ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْمُصِيبَةُ وَهُوَ الْوَارِثُ (" بِالْخِيَارِ بَيْنَ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْخِيَارِ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَيْنِ (" إِحْدَى ثَلَاثٍ ") : أَيْ خِصَالٍ (" فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ ") : أَيِ الزَّائِدَةَ عَلَى الثَّلَاثِ (" فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ ") : أَيِ امْنَعُوهُ عَنْهَا (" بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ ") : بَدَلٌ مِنْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَيَانٌ لَهُ أَيْ يَقْتَادُ مِنْ خَصْمِهِ (" أَوْ يَعْفُوَ ") : أَيْ عَنْهُ (" أَوْ يَأْخُذَ الْعَقْلَ ") : أَيِ الدِّيَةَ (" فَإِنْ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ ") : أَيْ مِنَ الْمَذْكُورِ (" شَيْئًا ") : أَيْ وَاحِدًا ثُمَّ عَدَا ") : أَيْ تَجَاوَزَ الثَّلَاثَ وَطَلَبَ شَيْئًا آخَرَ بِأَنْ قَتَلَ الْقَاتِلَ (" بَعْدَ ذَلِكَ ") : أَيْ بَعْدَ الْعَفْوِ أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِأَنْ عَفَا ثُمَّ طَلَبَ الدِّيَةَ (" فَلَهُ النَّارُ خَالِدًا ") : أَيْ حَالَ كَوْنِهِ دَائِمًا (" فِيهَا مُخَلَّدًا ") : أَيْ مُؤَبَّدًا (" أَبَدًا ") : تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ لِلزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ قَالَ الطِّيبِيُّ: بَيِّنٌ أَنْ يَقْتَصَّ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ، وَتَوْضِيحٌ لِمَا أُرِيدَ مِنْهُ مِنَ التَّقْسِيمِ الْحَاضِرِ. وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِنْ أَخَذَ. . . إِلَخْ. أَيْضًا كَالتَّوْضِيحِ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ، فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ يَعْنِي: مَنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ مُتَجَاوِزٌ طَوْرَهُ فَيَسْتَحِقُّ النَّارَ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] وَبَيَانُ الْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ قَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

3478 - وَعَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّةٍ فِي رَمْيٍ يَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالْحِجَارَةِ، أَوْ جَلْدٍ بِالسِّيَاطِ أَوْ ضَرْبٍ بِعَصًا، فَهُوَ خَطَأٌ ; وَعَقْلُهُ عَقْلُ الْخَطَأِ، وَمَنْ قَتَلَ عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ وَمَنْ حَالَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3478 - (وَعَنْ طَاوُسٍ) : أَيِ ابْنِ كَيْسَانَ الْخَوْلَانِيِّ الْهَمْدَانِيِّ الْيَمَانِيِّ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَرَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَخَلْقٌ سِوَاهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِثْلَ طَاوُسٍ كَانَ رَأْسًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قُتِلَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" فِي عِمِّيَّةٍ ") : بِكَسْرِ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَبِضَمٍّ وَبِفَتْحٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ مَكْسُورَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ فِعْلِيَّةٍ مِنَ الْعَمَى وَمَعْنَاهُ الضَّلَالَةُ، وَقِيلَ: الْفِتْنَةُ، وَقِيلَ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَسْتَبِينُ وَجْهُهُ وَلَا يُعْرَفُ أَمْرُهُ (" فِي رَمْيٍ ") : بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (" يَكُونُ ") : أَيِ الرَّمْيُ بِمَعْنَى الْحَذْفِ (" بَيْنَهُمْ ") : أَيْ بَيْنَ الْقَوْمِ (" بِالْحِجَارَةِ، أَوْ جَلْدٍ ") : عَطْفٌ عَلَى رَمْيٍ أَيْ ضَرْبٌ (" بِالسِّيَاطِ ") : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ سَوْطٍ (" أَوْ ضَرْبٍ بِعَصًا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: فِي رَمْيٍ إِلَخْ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: (" فِي عِمِّيَّةٍ ") . قَالَ الْقَاضِي: أَيْ فِي حَالٍ يَعْمَى أَمْرُهُ فَلَا يَتَبَيَّنُ قَاتِلُهُ وَلَا حَالُ قَتْلِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ فِي عِمِّيَّةٍ أَيْ جَهَالَةٍ، وَقِيلَ: الْعِمِّيَّةُ أَنْ يُضْرَبَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ كَحَجَرٍ صَغِيرٍ وَعَصًا خَفِيفَةٍ، فَأَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ مِنَ التَّعْمِيَةِ وَهُوَ التَّلْبِيسُ، وَالْقَتْلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ شِبْهَ الْعَمْدِ. (" فَهُوَ خَطَأٌ ") : أَيْ قَتْلُهُ مِثْلُ قَتْلِ الْخَطَأِ فِي عَدَمِ الْإِثْمِ (" وَعَقْلُهُ ") : أَيْ دِيَتُهُ (" عَقْلُ الْخَطَأِ ") : لِعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ وَوُجُودِ التَّقْصِيرِ (" وَمَنْ قَتَلَ ") : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (" عَمْدًا ") : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ حَالٌ أَيْ قَتَلَ عَمْدًا أَوْ مُتَعَمِّدًا (" فَهُوَ ") : أَيِ الْقَاتِلُ (" قَوَدٌ ") : أَيْ بِصَدَدِ الْقَوَدِ أَوْ قَتْلُهُ سَبَبُ قَوَدٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ فَيَتَعَيَّنُ التَّقْدِيرُ الثَّانِي، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُ الطِّيبِيِّ: مَنْ: مُبْتَدَأٌ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَا جَاءَ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ رَاجِعٌ إِلَى (" مَنْ ") . وَقَوَدٌ: خَبَرُهُ أَيْ بِصَدَدِ أَنْ يُقَادَ مِنْهُ وَيَسْتَوْجِبَ لَهُ، أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى الْمَفْعُولِ وَاسْتَعْمَلَهُ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ لِلْمُبَالَغَةِ. (" وَمَنْ حَالَ دُونَهُ ") : أَيْ دُونَ الْقَاتِلِ بِأَنْ مَنَعَ الْوَلِيَّ عَنِ الْقِصَاصِ مِنْهُ، أَوْ مَنْ حَالَ دُونَ الْقِصَاصِ أَيْ مَنَعَ الْمُسْتَحِقَّ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ (" فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ ") : أَيْ إِبْعَادُهُ عَنْ رَحْمَتِهِ (" وَغَضَبُهُ ") : أَيْ سَخَطُهُ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ وَإِيمَاءٌ إِلَى تَأْبِيدٍ، وَالْمُرَادُ زَجْرٌ شَدِيدٌ وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ") : أَيْ نَفْلٌ أَوْ تَوْبَةٌ (" وَلَا عَدْلٌ ") : أَيْ فَرْضٌ أَوْ فِدْيَةٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

3479 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا أُعْفِي مَنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3479 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أُعْفِي ") : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْإِعْفَاءِ لُغَةٌ فِي الْعَفْوِ (" عَمَّنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ ") : أَيْ لَا أَدَعُ الْقَاتِلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ فَيُعْفَى عَنْهُ، وَيُرْضَى مِنْهُ بِالدِّيَةِ لِعِظَمِ جُرْمِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ وَالتَّفْظِيعُ بِمَا ارْتَكَبَهُ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] وَالْمَعْنَى مَنْ تَجَاوَزَ عَنِ الْحَدِّ بِالْقَتْلِ بَعْدَ الْعَفْوِ وَأَخَذَ الدِّيَةَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُقْتَلَ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا أُعَافِي أَحَدًا قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ» ". قَالَ السَّيِّدُ مُعِينُ الدِّينِ الصَّفَوِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ بَعْضِ السَّلَفِ، وَكَانَ الْوَلِيُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُؤَمِّنُ الْقَاتِلَ بِقَبُولِ الدِّيَةِ، ثُمَّ يَظْفَرُ بِهِ فَيَقْتُلُهُ فَيَرُدُّ الدِّيَةَ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: لَا يُعْفَى عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَا يُتْرَكُ، وَلَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ، وَهُوَ حَسَنٌ دِرَايَةً إِنْ صَحَّ رِوَايَةً، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا أُعْفِيَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَجْهُولِ فَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ بِلَفْظِ: " «لَا أُعَافِي أَحَدًا قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ» ".

3480 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي جَسَدٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً» ") . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3480 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ، فَتَصَدَّقَ بِهِ ") : بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَيَتَصَدَّقُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُصَابُ، وَمُخَصِّصٌ لَهُ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمَاوِيًّا وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْعِبَادِ، فَخُصَّ بِالثَّانِي لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَهُوَ الْعَفْوُ عَنِ الْجَانِي (" إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ ") : أَيْ بِذَلِكَ الْعَفْوِ (" دَرَجَةً وَحَطَّ ") : أَيْ وَضَعَ (" عَنْهُ ") : وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ " بِهِ " أَيْ بِذَلِكَ (" خَطِيئَةً) : أَيْ إِثْمَهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ عَنْهُ، وَرَوَى وَهُوَ وَالضِّيَاءُ عَنْ عُبَادَةَ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ يُجْرَحُ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَيَتَصَدَّقُ بِهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ مَا تَصَدَّقَ» ".

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3481 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ نَفَرًا خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَتَلُوهُ قَتْلَ غِيلَةٍ، وَقَالَ عُمَرُ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3481 - (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى الْأَشْهَرِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ نَفَرًا خَمْسَةً) : بَيَانٌ لِـ نَفَرًا (أَوْ سَبْعَةً) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (بِرَجُلٍ وَاحِدٍ) : بِسَبَبِ قَتْلِهِ (قَتَلُوهُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ قَتَلَهُ الْخَمْسَةُ أَوِ السَّبْعَةُ (قَتْلَ غِيلَةٍ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحٍ وَنَصْبِ قَتْلٍ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ. فِي النِّهَايَةِ: أَيْ فِي خُفْيَةٍ وَاغْتِيَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُخْدَعَ وَيُقْتَلَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَرَاهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَالْغِيلَةُ فِعْلَةٌ مِنَ الِاغْتِيَالِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: الْغِيلَةُ الْقَتْلُ خُفْيَةً، وَفِي الْقَامُوسِ: الْغِيلَةُ بِالْكَسْرِ الْخَدِيعَةُ وَالِاغْتِيَالُ، وَقَتَلَهُ غِيلَةً أَيْ خِدْعَةً فَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَوْضِعٍ فَقَتَلَهُ. (وَقَالَ عُمَرُ: لَوْ تَمَالَأَ) : تَفَاعَلَ مِنَ الْمَلَأِ (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى قَتْلِهِ (أَهْلُ صَنْعَاءَ) : أَيْ لَوْ تَسَاعَدُوا وَاجْتَمَعُوا وَتَعَاوَنُوا بِالْمُبَاشَرَةِ (لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا) : وَتَخْصِيصُ ذِكْرِ صَنْعَاءَ إِمَّا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ مِنْهَا، أَوْ هُوَ مَثَلٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْكَثْرَةِ، وَصَنْعَاءُ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

3482 - وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3482 - (وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْ بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ.

3483 - وَعَنْ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي. فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ عَلَى مُلْكِ فُلَانٍ ". قَالَ جُنْدُبٌ: فَاتَّقِهَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3483 - (وَعَنْ جُنْدُبٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَيُفْتَحُ (قَالَ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ) : يَعْنِي صَحَابِيًّا مَعْرُوفًا، فَالْجَهَالَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا لَا تَضُرُّ إِذِ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ وَثِقَاتٌ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ ") : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ يَأْتِي بِهِ أَوْ يُحْضِرُهُ، أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ يَجِيءُ مَعَهُ (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ ") : أَيِ الْمَقْتُولُ (" سَلْ ") : أَيْ رَبِّي (" هَذَا فِيمَ ") : فِي تَعْلِيلِيَّةٌ دَخَلَتْ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ حُذِفَتْ أَلِفُهَا وُجُوبًا بِالتَّخْفِيفِ أَيْ بِأَيِّ سَبَبٍ وَلِأَيِّ غَرَضٍ (" قَتَلَنِي ") : أَيْ حِينَ قَتَلَنِي (" فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ عَلَى مُلْكِ فُلَانٍ ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ هَذَا قَوْلَهُ فِيمَ قَتَلَنِي لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ قَتْلِهِ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ عَلَى مُلْكِ فُلَانٍ مَعْنَاهُ عَلَى عَهْدِ مَلِكٍ مِنَ السَّلَاطِينِ وَزَمَانِهِ، أَيْ فِي نُصْرَتِهِ. هَذَا إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ فِي الْمُلْكِ، وَإِذَا رُوِيَ بِالْكَسْرِ كَانَ الْمَعْنَى قَتَلْتُهُ عَلَى مُشَاجَرَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي مِلْكِ زَيْدٍ مَثَلًا. (قَالَ جُنْدُبٌ: فَاتَّقِهَا) : أَيِ اجْتَنِبِ الْقِتْلَةَ أَوِ احْتَرِزِ النُّصْرَةَ أَوِ الْمُشَاجَرَةَ، وَهِيَ الْمُخَالَفَةُ وَالْمُنَازَعَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْقَتَلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ جُنْدُبٌ يَنْصَحُ رَجُلًا أَرَادَ هَذِهِ الْفَعْلَةَ، وَاسْتَشْهَدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا سَمِعْتَ بِذَلِكَ فَاتَّقِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

3484 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ شَطْرَ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آئِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3484 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ شَطْرَ كَلِمَةٍ ") : بِنَصْبِ شَطْرٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ. وَهُوَ الظَّافِرُ. وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ شَقِيقٌ: هُوَ أَنْ يَقُولَ فِي اقْتُلْ " اقْ " ذَكَرَهُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ نَظِيرُ قَوْلِهِ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " كَفَى بِالسَّيْفِ شَا ". أَيْ شَاهِدًا (" لَقِيَ اللَّهَ ") : أَيْ مَاتَ أَوْ بُعِثَ (" مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آئِسٌ) : بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ فَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِيَاسِ. بِمَعْنَى الْيَأْسِ أَيْ قَانِطٍ (" مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ") : فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكُفْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] وَالْمَعْنَى يُفْضَحُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بِهَذِهِ السِّمَةِ بَيْنَ كَرِيمَتِهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيظِ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: " آيِسٌ " إِلَخْ بِتَقْدِيرِ هَذَا اللَّفْظِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَقِيَ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

3485 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذْ أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الْآخَرُ، يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3485 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ ") : أَيِ الرَّجُلَ الْمَمْسُوكَ (" الْآخَرُ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ أَيِ الثَّالِثُ (" يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ) : أَيْ بَاشَرَ قَتْلَهُ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ (" وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ ") : أَيْ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ، وَمِقْدَارُ الْحَبْسِ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَفِيهِ الْمُمَاثَلَةُ اللُّغَوِيَّةُ وَهِيَ الْإِمْسَاكُ بِالْإِمْسَاكِ، وَظَاهِرُ الْمُمَاثَلَةِ أَنْ يَكُونَ إِلَى الْمَوْتِ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ أَمْسَكَ أَحَدٌ رَجُلًا حَتَّى قَتَلَهُ آخَرُ، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمُمْسِكِ، كَمَا لَوْ أَمْسَكَ امْرَأَةً حَتَّى زَنَى بِهَا آخَرُ لَا حَدَّ عَلَى الْمُمْسِكِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ قُتِلَا جَمِيعًا، وَإِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ الضَّرْبَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الضَّارِبُ، وَيُعَاقَبُ الْمُمْسِكُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ وَيُسْجَنُ سَنَةً اهـ. وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى. قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَفِي الْمُنْتَقَى: لَوْ طَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا قُدَّامَ أَسَدٍ أَوْ سَبُعٍ، فَقَتَلَهُ لَيْسَ عَلَى الطَّارِحِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَيُضْرَبُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: إِنْ كَانَ الْغَالِبُ الْقَتْلَ يَجِبُ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَدَمَهُ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهَا: يَجِبُ الْقَوَدُ، وَالْآخَرُ لَا يَجِبُ، وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ: يَجِبُ الْقَوَدُ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) .

[كتاب الديات]

[كِتَابُ الدِّيَاتِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3486 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ " يَعْنِي: الْخِنْصَرَ وَالْإِبْهَامَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الدِّيَاتِ فِي الْمُغْرِبِ: الدِّيَةُ مَصْدَرُ وَدَى الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ، إِذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، ثُمَّ قِيلَ لِذَلِكَ الْمَالِ: الدِّيَةُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَلِذَا جُمِعَتْ وَهِيَ مِثْلُ عِدَةٍ فِي حَذْفِ الْفَاءِ قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى الْجَرْيِ، وَمِنْهُ الْوَادِي ; لِأَنَّ الْمَاءَ يَدِي فِيهِ أَيْ يَجْرِي، وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَبِالسُّنَّةِ وَهِيَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَبِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْجُمْلَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3486 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي) : أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: " هَذِهِ وَهَذِهِ " (" الْخِنْصَرَ وَالْإِبْهَامَ ") : أَيْ هُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْإِبْهَامُ أَقَلَّ مَفْصِلًا مِنَ الْخِنْصَرِ، إِذْ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَهِيَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَجِبُ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ يَقْطَعُهَا عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِذَا قَطَعَ أُنْمُلَةً مِنْ أَنَامِلِهِ فَفِيهَا ثُلُثُ دِيَةِ أُصْبُعٍ، إِلَّا أُنْمُلَةَ الْإِبْهَامِ فَإِنَّ فِيهَا نِصْفَ دِيَةِ أُصْبُعٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا أَنْمُلَتَانِ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنَامِلِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ.

3487 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مَنْ بَنِي لِحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةِ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَالْعَقْلُ عَلَى عَصَبَتِهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3487 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ حَكَمَ (فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ) : فِي الْقَامُوسِ: الْجَنِينُ الْوَلَدُ فِي الْبَدَنِ وَالْجَمْعُ أَجِنَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] الْآيَةَ: (مِنْ بَنِي لِحْيَانَ) : بِكَسْرِ لَامٍ وَسُكُونِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَجُوِّزَ فَتْحُ أَوَّلِهِ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ هُذَيْلٍ (سَقَطَ) : أَيْ وَقَعَ الْجَنِينُ (مَيِّتًا) : حَالٌ مُقَيِّدَةٌ، لِأَنَّهُ إِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا فَمَاتَ فَيَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَمَاتَتِ الْأُمُّ فَدِيَةٌ وَغُرَّةٌ، وَإِنْ مَاتَتْ فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَدِيَةٌ فَقَطْ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ فِي آخِرِ الْبَابِ (بِغُرَّةٍ) : بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ مُتَعَلِّقُ قُضِيَ (عَبْدٌ) : بَيَانٌ لَهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِذَا رُفِعَ فَخَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هِيَ عَبْدٌ (أَوْ أَمَةٌ) : (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِإِضَافَتِهَا إِلَى عَبْدٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الرِّوَايَةُ فِي غُرَّةٍ بِالتَّنْوِينِ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْهُ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِضَافَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَ (أَوْ) فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَمَةٌ لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ وَفِي النِّهَايَةِ: الْغُرَّةُ الْعَبْدُ نَفْسُهُ أَوِ الْأَمَةُ، وَأَصْلُ الْغُرَّةِ الْبَيَاضُ الَّذِي يَكُونُ فِي وَجْهِ الْفَرَسِ، وَكَانَ أَبُو عُمَرَ بْنُ الْعَلَاءِ يَقُولُ: الْغُرَّةُ عَبْدٌ أَبْيَضُ أَوْ أَمَةٌ بَيْضَاءُ، فَلَا يُقْبَلُ فِي الْجَنِينِ عَبْدٌ أَسْوَدُ وَلَا جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْغُرَّةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْعَبْدِ مَنْ يَكُونُ ثَمَنُهُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ. وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: الْغُرَّةُ الْخِيَارُ وَغُرَّةُ الْمَالِ خِيَارُهُ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ وَالنَّجِيبِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ الْفَارِهَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ لَوْ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا، وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ لَوْ ذَكَرًا نِصْفُهُ عُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ أُنْثَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، ثُمَّ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْجَنِينِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَيَقَّنْ بِحَيَاتِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ هَذَا الْحَدِيثُ: وَيَسْتَوِي فِي الْجَنِينِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يُعْرَفُ الذَّكَرُ مِنَ الْأُنْثَى، فَيُقَدَّرُ الْكُلُّ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ تَيْسِيرًا. (ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُضِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: حُكِمَ عَلَيْهَا: وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ) : أَيِ الْجَانِيَةُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ عَلَى عَاقِلَتِهَا ; لِأَنَّ الْغُرَّةَ عَلَى عَاقِلَتِهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْجَانِيَةَ عَلَى الْجَنِينِ مَاتَتْ. (فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مِيرَاثَهَا) : أَيْ تَرِكَةَ الْجَانِيَةِ (لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَالْعَقْلَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَلَا مَعْنَى لَهُ أَيْ: وَقَضَى بِأَنَّ دِيَةَ الْجَنِينِ (عَلَى عَصَبَتِهَا) : أَيْ عَاقِلَتِهَا. قِيلَ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَصَبَةِ دُونَ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ لَكِنَّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْقِصَّةُ فِي الْحَدِيثَيْنِ. أَعْنِي: هَذَا وَالْآتِي مُخْتَلِفَةً مُتَعَدِّدَةً لَا مُتَّفِقَةً مُتَّحِدَةً عَاقِلَتُهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ الْعَقْلُ هُوَ الدِّيَةُ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَقْلِ وَهُوَ الشَّدُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَاتِلَ كَانَ يَأْتِي بِالْإِبِلِ فَيَعْقِلُهَا فِي فَنَاءِ الْمَقْتُولِ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْعَصَبَةُ الَّتِي تَحْمِلُ الْعَقْلَ عَاقِلَةً. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِهِ عَاقِلَةً لِأَنَّهُ مِنَ الْمَنْعِ، وَالْعَقْلُ هُوَ الْمَنْعُ، وَبِهِ سُمِّيَ الْعَقْلُ الْمُرَكَّبُ فِي الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَمَّا لَا يَحْسُنُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْجَنِينِ هِيَ الْغُرَّةُ سَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَسَوَاءٌ كَانَ كَامِلَ الْخِلْقَةِ أَوْ نَاقَصَهَا إِذَا تَصَوَّرَ فِيهَا خَلْقًا آدَمِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْجَنِينَ قَدْ يَخْفَى، فَيَكْثُرُ فِيهِ النِّزَاعُ فَضَبَطَهُ الشَّرْعُ بِمَا يَقْطَعُ النِّزَاعَ، ثُمَّ الْغُرَّةُ تَكُونُ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ جَمِيعِهِمْ، وَهَذَا شَخْصٌ يُورَثُ وَلَا يُوَرَّثُ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ إِلَّا مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ يُورَثُ عَلَى الْأَصَحِّ، هَذَا إِذَا انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا فَإِنِ انْفَصَلَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَيُحَبُّ فِيهِ كَمَالُ دِيَةِ الْكَبِيرِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَجَبَ مِائَةُ بَعِيرٍ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى خَمْسُونَ، وَسَوَاءٌ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَمَتَى وَجَبَتِ الْغُرَّةُ وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا عَلَى الْجَانِي قَالَ الْعُلَمَاءُ: قَوْلُهُ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِلَخْ قَدْ يُوهِمُ خِلَافَ مُرَادِهِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي مَاتَتْ هِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا أُمُّ الْجَنِينِ لَا الْجَانِيَةُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ يَعْنِي بِهِ الْآتِي، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ أَيِ الَّتِي قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ، فَعَبَّرَ بِعَلَيْهَا عَنْ لَهَا، وَالْحَرَجُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى حَجَرٍ صَغِيرٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ يَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاهِيرِ اهـ.

وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَذَاهِبِ غَيْرِهِ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ فِي الْكُبْرَى ضَرَبَ رَجُلًا بِصَخْرَةٍ فَمَاتَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، قِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَتْ صَخْرَةً عَظِيمَةً؟ فَقَالَ: وَإِنْ ضَرَبَهُ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، وَقِيلَ: لَفْظُ أَبِي حَنِيفَةَ بِجَبَلِ أَبَا قُبَيْسٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ، وَهَذَا اللَّفْظُ مِمَّا أَخَذَهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، فَقَالَ: الصَّوَابُ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ. قَالَ الْقُدُورِي رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَثْبُتْ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي كِتَابِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ لُغَةُ بَعْضِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ يَقُولُونَ بِهَا. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] . وَقَالَ الْقَائِلُ: إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَ فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا وَلِأَنَّ اللَّفْظَ إِذَا تَعَارَفَهُ الْعَامُّ صَحَّ لِلْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ خَلَلٍ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ تَفْهِيمَ الْعَامَّةِ أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ فِي مَوَاضِعَ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ اهـ. وَنَظِيرُهُ مَا اشْتُهِرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ اسْمَهُ عَلِيَّ بْنَ أَبُو طَالِبٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَقَاصِدِ وَالْمَطَالِبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَنَظِيرُ التَّعْبِيرِ بِعَلَيْهَا عَنْ لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أَيْ لَكُمْ بِتَضْمِينِ مَعْنَى الرَّقِيبِ، فَالْمَعْنَى فَحَفِظَ عَلَيْهَا حَقَّهَا قَاضِيًا لَهَا بِالْغُرَّةِ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ يَعْنِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي. عَلَى عَاقِلَتِهَا لِلْجَانِيَةِ، وَفِي وَرَثَتِهَا لِلدِّيَةِ، وَفِي وَلَدِهَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهَا، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ فِي مَعَهُمْ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ وَمَنْ مَعَهُمْ هُوَ الزَّوْجُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، هَذَا إِذَا كَانَ الْحَدِيثَانِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي قَضِيَّتَيْنِ فَالْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: قَضَى عَلَيْهَا هِيَ الْجَانِيَةُ، فَيَكُونُ مِيرَاثُهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَالدِّيَةُ عَلَى عَصَبَتِهَا اهـ. وَالْأَخِيرُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مِنْ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3488 - وَعَنْهُ قَالَ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرِثَهَا وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3488 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ) : قِيلَ: كَانَتَا ضَرَّتَيْنِ (فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ) : أَيْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ كَمَا سَبَقَ (فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا) : وَفِي نُسْخَةٍ الْجَنِينِ (غُرَّةٌ) : بِالتَّنْوِينِ (عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ) : أَيْ جَارِيَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ (وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ) : أَيِ الْمَقْتُولَةِ (عَلَى عَاقِلَتِهَا) : أَيِ الْقَاتِلَةِ (وَوَرِثَهَا) : أَيِ الدِّيَةَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَرِثَهَا لِلْجَانِيَةِ الَّتِي مَاتَتْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِحَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ أَمْوَالِهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. (وَلَدُهَا) : أَيْ أَوْلَادُ الْمَقْتُولَةِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْجَانِيَةِ أَيْ أَوْلَادِهَا، وَسَاغَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ أُضِيفَ إِلَى الضَّمِيرِ فَعَمَّ (وَمَنْ مَعَهُمْ) : أَيْ مَعَ الْأَوْلَادِ يَعْنِي الزَّوْجَ وَجَمَعَ الضَّمِيرَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ قَبْلَهُ قَضَى بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ: وَمَنْ مَعَهُمْ أَيْ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَالضَّمِيرُ لِجِنْسِ الْوَلَدِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَوْلَادُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَاقِلَةَ جَمْعٌ يُغَرَّمُ الدِّيَةَ مِمَّنْ يَقَعُ بَيْنَهُمُ الْمُمَانَعَةُ وَالْمُعَاوَنَةُ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي وَأَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَدْخُلُ الْجَانِي مَعَ الْعَاقِلَةِ فَيُؤَدِّي مَعَهُمْ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ كَأَحَدِ الْعَاقِلَةِ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ أَحَدَهُمْ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَدْخُلُ الْجَانِي مَعَ الْعَاقِلَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنِ اتَّسَعَتِ الْعَاقِلَةُ لِلدِّيَةِ لَمْ يَلْزَمِ الْجَانِيَ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ تَتَّسِعْ لَزِمَهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِنِ اتَّسَعَتْ أَوْ لَمْ تَتَّسِعْ، وَعَلَى هَذَا مَنْ لَمْ تَتَّسِعِ الْعَاقِلَةُ لِتَحَمُّلِ جَمِيعِ الدِّيَةِ انْتَقَلَ بَاقِي ذَلِكَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ الْجَانِي مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: دِيوَانُهُ عَاقِلَتُهُ وَيُقَدَّمُونَ عَلَى الْعَصَبَةِ فِي التَّحَمُّلِ، فَإِنْ عُدِمُوا فَحِينَئِذٍ تَتَحَمَّلُ الْعَصَبَةُ، وَكَذَلِكَ عَاقِلَةُ السُّوقِيِّ أَهْلُ سُوقِهِ ثُمَّ قَرَابَتُهُ، فَإِنْ عَجَزُوا فَأَهْلُ مَحَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ فَأَهْلُ بَلْدَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي

مِنْ أَهْلِ الْقُرَى وَلَمْ يَتَّسِعْ فَالْمِصْرُ إِلَى تِلْكَ الْقُرَى مِنْ سَوَادِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا أَقَارِبَ الْجَانِي، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ مِنَ الدِّيَةِ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ أَوْ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَالِاجْتِهَادِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ إِلَى أَرْبَعَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَسْهُلُ وَلَا يَضُرُّ بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مُقَدَّرٌ بِوَضْعٍ عَلَى الْغَنِيِّ نِصْفُ دِينَارٍ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ رُبْعُ دِينَارٍ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَلْ يَسْتَوِي الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ مِنَ الْعَاقِلَةِ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ ; فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْتَوِيَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَتَحَمَّلُ الْغَنِيُّ زِيَادَةً عَلَى الْمُتَوَسِّطِ. وَالْغَائِبُ مِنَ الْعَاقِلَةِ هَلْ يَتَحَمَّلُ شَيْئًا مِنَ الدِّيَاتِ كَالْحَاضِرِ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَتَحَمَّلُ الْغَائِبُ مَعَ الْحَاضِرِ شَيْئًا إِذَا كَانَ فِي إِقْلِيمٍ آخَرَ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِ التَّحَمُّلِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَتَرَتَّبُ التَّحَمُّلُ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الْعَصَبَاتِ، فَإِنِ اسْتَغْرَقُوهُ لَمْ يُقْسَمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعِ الْأَقْرَبُ لِتَحَمُّلِهِ دَخَلَ الْأَبْعَدُ، وَهَكَذَا حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِمْ أَبْعَدُهُمْ دَرَجَةً عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ، وَابْتِدَاءُ حَوْلِ الْعَقْلِ هَلْ يُعْتَبَرُ بِالْمَوْتِ أَوْ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مِنْ حِينِ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْعَاقِلَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَهَلْ يَسْقُطُ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْقَطُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجِبُ فِي مَالِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ: يَنْتَقِلُ مَا عَلَيْهِ إِلَى تَرِكَتِهِ، كَذَا فِي كِتَابِ الرَّحْمَةِ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ، وَفِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ قِيلَ: مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ كَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَقِيلَ: يُدْرَكُ وَهُوَ إِعَانَةُ الْجَانِي فِيمَا هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ، كَمَا يُعَانُ الْغَارِمُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِمَا يُصْرَفُ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ اهـ. وَفِي نَظِيرِهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى.

3489 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا ضَرَّتَيْنِ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ أَوْ عَمُودِ فُسْطَاطٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَجَعَلَهُ عَلَى عَصَبَةِ الْمَرْأَةِ» . هَذِهِ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «قَالَ ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ وَهِيَ حُبْلَى، فَقَتَلَتْهَا. قَالَ: وَإِحْدَاهُمَا لِحْيَانَيَّةٌ. قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ وَغُرَّةً لِمَا فِي بَطْنِهَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3489 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا ضَرَّتَيْنِ) : أَيْ زَوْجَتَيْنِ لِوَاحِدٍ إِذْ كَلُّ ضَرَّةٍ لِلْأُخْرَى (فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ) : أَيْ صَغِيرٍ (أَوْ عَمُودِ فُسْطَاطٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْفَاءِ. فِي النِّهَايَةِ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْأَبْنِيَةِ فِي السَّفَرِ دُونَ السُّرَادِقِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَمُودٌ صَغِيرٌ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا كَمَا مَرَّ فِي الْحَجَرِ. (فَأَلْقَتْ) : أَيِ الْأُخْرَى (جَنِينَهَا) : أَيْ مَيِّتًا (فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ) : بِالتَّنْوِينِ هُنَا لَا غَيْرُ (عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَجَعَلَهُ) : أَيِ الْمَقْضِيَّ، وَفِي نُسْخَةٍ وَجَعَلَهَا وَهِيَ الظَّاهِرُ أَيِ الْغُرَّةَ (عَلَى عَصَبَةِ الْمَرْأَةِ) : أَيْ عَاقِلَتِهَا (هَذِهِ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ) : فِيهِ اعْتِرَاضٌ لِصَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ حَيْثُ ذَكَرَ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ) : أَيْ مَعْنَاهُ لَكِنَّ لَفْظَهُ (قَالَ) : أَيِ الْمُغِيرَةُ (ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ وَهِيَ حُبْلَى فَقَتَلَتْهَا قَالَ: وَإِحْدَاهُمَا لَحْيَانِيَّةٌ) : بِفَتْحٍ فِي أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ وَبِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ لِلنِّسْبَةِ (قَالَ) : أَيِ الْمُغِيرَةُ (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ وَغُرَّةً لِمَا) : أَيْ لِمَا كَانَ (فِي بَطْنِهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3490 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «أَلَا إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3490 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ) أَيْ دِيَةَ قَتْلِ الْخَطَأِ (شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ شِبْهُ الْعَمْدِ صِفَةَ الْخَطَأِ، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ وَجَازَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ شِبْهَ الْعَمْدِ وَقَعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يُرَادَ بِالْخَطَأِ الْجِنْسُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ وَمَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ شِبْهُ الْعَمْدِ بَدَلًا مِنْ

الْخَطَأِ، وَمَا كَانَ بَدَلٌ مِنَ الْبَدَلِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّابِعُ وَالْمَتْبُوعُ مَعْرِفَتَيْنِ أَوْ نَكِرَتَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: (مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ) : خَبَرُ إِنَّ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي الْقَتْلِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَمْدًا مَحْضًا أَوْ خَطَأً مَحْضًا فَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَلَا يُعْرَفُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثَقَّلِ شِبْهُ عَمْدٍ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِي السَّوْطِ وَالْعَصَا الْخَفِيفَةِ، وَالْقَتْلُ الْحَاصِلُ بِهِمَا يَكُونُ قَتْلًا بِطَرِيقِ شِبْهِ الْعَمْدِ، فَأَمَّا الْمُثَقَّلُ الْكَبِيرُ فَمُلْحَقٌ بِالْمُحَدَّدِ الَّذِي هُوَ مُعَدٌّ لِلْقَتْلِ اهـ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْعَصَا بِإِطْلَاقِهَا تَشْمَلُ الثَّقِيلَةَ وَالْخَفِيفَةَ، فَتَخْصِيصُهَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِثْلِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْمِائَةِ (أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ هِيَ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةٌ، وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةٌ، وَفِي الْخَطَأِ مُخَفَّفَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةٌ، وَالتَّغْلِيظُ وَالتَّخْفِيفُ يَكُونُ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي كِتَابِ الرَّحْمَةِ: اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ لِلْمُسْلِمِ الْحُرِّ الذَّكَرِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ الْعَامِدِ إِذَا عَدَلَ إِلَى الدِّيَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ حَالَّةٌ أَوْ مُؤَجَّلَةٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: حَالَّةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي دِيَةِ الْعَمْدِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ: هِيَ أَرْبَاعٌ لِكُلِّ سِنٍّ مِنْ أَسْنَانِ الْإِبِلِ مِنْهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَمِثْلُهَا بِنْتُ لَبُونٍ، وَمِثْلُهَا حِقَاقٌ، وَمِثْلُهَا جِذَاعٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُؤْخَذُ مُثَلَّثَةً ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً وَهِيَ حَوَامِلُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى، وَأَمَّا دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ فَهِيَ مِثْلُ دِيَةِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا دِيَةُ الْخَطَأِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: هِيَ مُخَمَّسَةٌ عِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ اهـ. وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ هَذَا أَحَقُّ، وَكَانَ أَلْيَقَ بِالْخَطَأِ فَإِنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ فِي الْجُمْلَةِ وَقَالَ الشَّمَنِيُّ: وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، إِلَّا أَنَّهُمَا جَعَلَا مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ ابْنَ لَبُونٍ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو وَحْدَهُ.

3491 - وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو. وَفِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) لَفْظُ (الْمَصَابِيحِ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3491 - (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : أَيْ عَنْ كِلَيْهِمَا. (وَفِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) لَفْظُ (الْمَصَابِيحِ) : أَيْ إِلَّا أَنَّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ مُغْلَّظَةٌ مِنْهَا إِلَخْ. (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) : أَيْ: لَفْظُ الْمَصَابِيحِ مَرْوِيٌّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

3492 - وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: (أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا فَإِنَّهُ قَوَدُ يَدِهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ) وَفِيهِ: (أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ) وَفِيهِ: (فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَسْنَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ» ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: ( «وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3492 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ، سَمِعَ أَبَاهُ. وَفِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ يُكَنَّى أَبَا الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيَّ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَجْرَانَ سَنَةَ عَشْرٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُ اهـ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ لَا يَخْفَى. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: (أَنَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا (مَنِ اعْتَبَطَ) بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَفَتَحَاتٍ يُقَالُ: عَبَطْتَ النَّاقَةَ وَاعْتَبَطْتَهَا إِذَا ذَبَحْتَهَا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ أَيْ: مِنْ قَتْلٍ بِلَا جِنَايَةٍ. (مُؤْمِنًا قَتْلًا) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ أَيْ مُتَعَمِّدًا. (فَإِنَّهُ قَوَدُ يَدِهِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: مَوْقُودٌ مَا جَنَتْهُ يَدُهُ (إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ) : أَخْذَ الدِّيَةِ أَوْ يَعْفُونَ فَلَا يُقْتَلُ، وَأَصْلُ الْقَوَدِ الِانْقِيَادُ سُمِّيَ الْقِصَاصُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنِ انْقِيَادِ الْجَانِي لَهُ بِمَا جَنَاهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: يُقْتَصُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ فَأُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمُسَبَّبِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِلَى هَذَا لَمَّحَ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ أَنْ يُقْتَلَ

قِصَاصًا بِمَا جَنَتْهُ يَدُهُ فَكَأَنَّهُ مَقْتُولُ يَدِهِ قِصَاصًا إِذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَمَا اقْتُصَّ مِنْهُ (وَفِيهِ) : أَيْ: فِي الْكِتَابِ (إِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ) وَهِيَ مَسْأَلَةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ وَعَكْسُهَا بِالْأَوْلَى (وَفِي النَّفْسِ) أَيْ: فِي قَتْلِهَا مُطْلَقًا (الدِّيَةُ) : أَيْ: عِنْدَ الْعُدُولِ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَيْهَا فِي الْعَمْدِ وَهِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لَهَا فِي الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ (مِائَةٌ) : بَدَلٌ عَنِ الدِّيَةِ (مِنَ الْإِبِلِ) : أَيْ: عَلَى تَفْصِيلٍ سَبَقَ فِي تَقْسِيمِ أَنْوَاعِهَا (وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ) : اخْتَلَفُوا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّارَهِمِ هَلْ تُؤْخَذُ فِي الدِّيَاتِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يَجُوزُ أَخْذُهَا فِي الدِّيَاتِ مَعَ وُجُودِ الْإِبِلِ، ثُمَّ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ: هَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا أَمِ الْأَصْلُ الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالدَّرَاهِمُ بَدَلٌ عَنْهَا؟ وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ الْأَصْلُ بِنَفْسِهَا مَقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا بِالْإِبِلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُعْدَلُ عَنِ الْإِبِلِ إِذَا وُجِدَتْ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، فَإِنْ أَعْوَزَتْ فَعَنْهُ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ الرَّاجِحُ أَنَّهُ يُعْدَلُ إِلَى قِيمَتِهِ حِينَ الْقَبْضِ زَائِدَةً أَوْ نَاقِصَةً، وَالْقَدِيمُ الْمَعْمُولُ بِهِ ضَرُورَةُ أَنَّهُ يُعْدَلُ إِلَى أَلْفِ دِينَارٍ، أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَبْلَغِ الدِّيَةِ مِنَ الدَّرَاهِمِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، كَذَا فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ أَبَا حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ: وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ فَالتَّقْدِيرُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ، وَأَلْفُ دِينَارٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ. (وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ) : بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ أَيِ: اسْتُؤْصِلَ قَطْعُهُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْهُ (الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ) قَالَ الشَّمَنِيُّ: فِي الْأَنْفِ سَوَاءٌ قَطْعُ الْأَرْنَبَةِ أَوِ الْمَارِنِ كُلُّ الدِّيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ إِذَا فَوَّتَتْ مَنْفَعَةً عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَتْ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِتْلَافٌ لِلنَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِإِتْلَافِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَمَّا الْأَنْفُ فَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَهُمْ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَنْفِ: (إِذَا قُطِعَ مَارِنُهُ الدِّيَةُ) وَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ) عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَنْفِ: (إِذَا اسْتُؤْصِلَ مَارِنُهُ الدِّيَةُ) لِأَنَّهُ أَزَالَ بِقَطْعِ الْأَرْنَبَةِ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ مَقْصُودًا، وَبِقَطْعِ الْمَارِنِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَنْفِ أَنْ تَجْتَمِعَ الرَّوَائِحُ فِي قَصَبَتِهِ لِتَعْلُوَ إِلَى الدِّمَاغِ، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِقَطْعِ الْمَارِنِ، وَلَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مَعَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ وَهِيَ عَظْمَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُزَادُ عَلَى دِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْقَصَبَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ; لِأَنَّ الْمَارِنَ وَحْدَهُ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِي الزَّائِدِ كَمَا لَوْ قُطِعَ وَحْدَهُ وَقُطِعَ لِسَانُهُ، وَلَنَا: مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فِي الْأَنْفِ إِذَا اسْتُوْعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ وَلَوْ قَطَعَ أَنْفَهُ فَذَهَبَ شَمُّهُ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ ; لِأَنَّ الشَّمَّ فِي غَيْرِ الْأَنْفِ، فَلَا يَدْخُلُ دِيَةُ إِحْدَهُمَا فِي الْأُخْرَى) (وَفِي الْأَسْنَانِ) : أَيْ: جَمِيعِهَا (الدِّيَةُ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ) : وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ (فِي قَلْعِ كُلِّ سِنٍّ) : إِذَا كَانَ خَطَأً سَوَاءٌ كَانَ ضِرْسًا أَوْ ثَنِيَّةً لِمَا فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَوْ فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِمَا سَيَأْتِي، وَلِأَنَّ الْكُلَّ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الْمَضْغُ سَوَاءٌ، وَبَعْضُهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ، لَكِنَّ الْبَعْضَ الْآخَرَ جَمَالٌ وَهُوَ كَالْمَنْفَعَةِ فِي الْآدَمِيِّ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْخَطَأِ ; لِأَنَّ الْعَمْدَ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَلَوْ قَلَعَ جَمِيعَ أَسْنَانِهِ تَجِبُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ عُضْوٌ دِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ سِوَى الْأَسْنَانِ. وَفِي الْكَوْسَجِ: تَجِبُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا ; لِأَنَّ أَسْنَانَهُ تَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا: يَا كَوْسَجُ. فَقَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتُ كَوْسَجًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: تُعَدُّ أَسْنَانُهُ إِنْ كَانَتْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ كَوْسَجٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي وَجْهٍ لَوْ قَلَعَ زِيَادَةً عَلَى عِشْرِينَ سِنًّا تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فِي الْعِشْرِينَ وَلَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ، قُلْتُ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. (وَفِي الشَّفَتَيْنِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ (الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ) : أَيِ: الْخُصْيَتَيْنِ (الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ) : قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَفِي الْحَشَفَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ الذَّكَرِ كُلُّ الدِّيَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، إِذَا اسْتُؤْصِلَ أَوْ قُطِعَتْ حَشَفَتُهُ» ، أَخَرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ

قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الذَّكَرِ الدِّيَةَ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ، (وَفِي الصُّلْبِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيِ الظَّهْرِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: فِي ضَرْبِهِ بِحَيْثُ انْقَطَعَ مَاؤُهُ (الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ) : أَيْ: جَمِيعًا (الدِّيَةُ) قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَأَمَّا إِحْدَى الْحَوَاسِّ فَفِيهَا الدِّيَةُ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنِ ابْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا فِي زَمَانِ الْجَمَاجِمِ، فَنَعَتَ نَفْسَهُ فَقِيلَ: ذَلِكَ أَبُو لَهَبٍ عَمُّ أَبِي قِلَابَةَ. قَالَ: رَمَى رَجُلٌ رَجُلًا بِحَجَرٍ فِي رَأْسِهِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ وَلِسَانُهُ، وَذَكَرُهُ، فَلَمْ يَقْرَبِ النِّسَاءَ فَقَضَى عُمَرُ فِيهَا بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ وَهُوَ حَيٌّ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَوْفٍ بِهِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَيُعْرَفُ فَوَاتُ هَذِهِ الْمَعَانِي بِتَصْدِيقِ الْجَانِي، أَوْ نُكُولِهِ إِذَا اسْتُحْلِفَ وَيُعْرَفُ فَوَاتُ الْبَصَرِ بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ. (وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ) : قَالَ الشَّمَنِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي اثْنَيْنِ مِمَّا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ اثْنَانِ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالشَّفَتَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَفِي أَحَدِ اثْنَيْنِ مِمَّا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ اثْنَانِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى الْيَمَنِ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالْآيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَكَانَ فِيهِ. وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ. (وَفِي الْمَأْمُومَةِ) : أَيِ: الَّتِي تَصِلُ إِلَى جِلْدَةٍ فَوْقَ الدِّمَاغِ تُسَمَّى أُمَّ الدِّمَاغِ، وَاشْتِقَاقُ الْمَأْمُومَةِ مِنْهُ (ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ) : أَيِ: الطَّعْنَةِ الَّتِي تَصِلُ إِلَى جَوْفِ الرَّأْسِ، أَوِ الْبَطْنِ، أَوِ الظَّهْرِ، أَوِ الْجَفْنَيْنِ وَالِاسْمُ دَلِيلٌ عَلَى (ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ وَهِيَ الَّتِي تَنْقُلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الشَّجَّةِ أَيْ: تُحَوِّلُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ (خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمْثَالُ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ (فِي كُلِّ أُصْبُعٍ) بِتَثْلِيثِ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ (وَمِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ) أَيْ: أَوِ الرِّجْلِ (عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ) : وَهُوَ عُشْرُ الدِّيَةِ قَالَ الشَّمَنِيُّ لِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: رِجَالُ إِسْنَادِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ لِكُلِّ أُصْبُعٍ (وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ» ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: (وَفِي الْعَيْنِ) : أَيِ: الْوَاحِدَةِ. (خَمْسُونَ) : أَيْ: مِنَ الْإِبِلِ (وَفِي الْيَدِ) : أَيِ: الْوَاحِدَةِ (خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ) : أَيِ: الْوَاحِدَةِ (خَمْسُونَ) : أَيْ: نِصْفُ الدِّيَةِ (وَفِي الْمُوضِحَةِ) : بِكَسْرِ الضَّادِ أَيِ: الْجِرَاحَةِ الَّتِي تَرْفَعُ اللَّحْمَ مِنَ الْعَظْمِ وَتُوضِحُهُ (خَمْسٌ) : أَيْ: مِنَ الْإِبِلِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ إِذَا اسْتُوْعِبَ جَدْعُهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ وَفِي الْأَمَّةِ ثُلُثُ النَّفْسِ وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ النَّفْسِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ خَمْسٌ، وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ فِي اللِّسَانِ: الدِّيَةُ إِذَا مَنَعَ الْكَلَامَ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ إِذَا قُطِعَتِ الْحَشَفَةُ وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ.

3493 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوَاضِحِ خَمْسًا خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَسْنَانِ خَمْسًا خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهِ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3493 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوَاضِحِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ جَمْعُ مُوضِحَةٍ (خَمْسًا خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَسْنَانِ خَمْسًا خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ) : فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا خَمْسٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُوَافِقُ هَذَا قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَفِي الْأَسْنَانِ الدِّيَةُ. قُلْتُ: اعْتُبِرَ فِي الْجَمْعِ هُنَا إِفْرَادُهُ وَهُنَاكَ حَقِيقَتُهُ مِثَالُهُ فِي التَّعْرِيفِ حَقِيقَةُ الْجِنْسِ وَاسْتِغْرَاقُهُ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ خَمْسًا لِيَسْتَوْعِبَ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ لِاعْتِبَارِ أَخْمَاسِهَا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْعَرَبُ تُكَرِّرُ الشَّيْءَ مَرَّتَيْنِ لِيَسْتَوْعِبَ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ بِاعْتِبَارِ أَخْمَاسِهَا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْعَرَبُ تُكَرِّرُ الشَّيْءَ مَرَّتَيْنِ لِتَسْتَوْعِبَ تَفْصِيلَ جَمِيعِ جِنْسِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَوْتِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُكَرَّرُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَخْمَاسَ هُنَا زِيَادَةٌ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا سَبَقَ تَحْرِيرُهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : أَيْ: فِي الْفَصْلَيْنِ مِنَ الْحَدِيثِ (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، الْفَصْلَ الْأَوَّلَ) : أَيْ: وَلَمْ يَذْكُرَا قَوْلَهُ: فِي الْأَسْنَانِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَهُ الشَّمَنِيُّ حَيْثُ قَالَ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَسْنَانِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ فِي كُلِّ سِنٍّ. قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَلَا قَوَدَ فِي الشِّجَاجِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَا يَكُونُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ فِي غَيْرِهِمَا فَيُسَمَّى جِرَاحَةً إِلَّا فِي الْمُوضِحَةِ عَمْدًا، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ: تُبِينُهُ لِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ مِلْكٍ وَلَا قِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ» ) وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنِ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ» ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنِ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِي غَيْرِ الْمُوضِحَةِ، وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِيهَا ; لِأَنَّ لَهَا حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ السِّكِّينُ وَهُوَ الْعَظْمُ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الشِّجَاجِ ; لِأَنَّ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ كَسْرَ الْعَظْمِ وَلَا قِصَاصَ فِيهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ: فِي الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَقَوْلُ مَالِكٌ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَسْرِ عَظْمٍ وَلَا خَوْفِ هَلَاكٍ غَالِبٍ وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ بِأَنْ يُشْبَهَ غَوْرُهَا بِمِسْمَارٍ ثُمَّ تُتَّخَذُ حَدِيدَةٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْمِسْمَارِ فَيُقْطَعُ بِهَا مِقْدَارُ مَا قُطِعَ وَفِي شَرْحِ الْوَافِي وَهُوَ الصَّحِيحُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] مَعَ إِمْكَانِ الْمُسَاوَاةِ بِمَا ذَكَرْنَا وَرَوَى - الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ; لِأَنَّ جِرَاحَتَهُ لَا تَنْتَهِي إِلَى الْعَظْمِ فَصَارَ كَالْمَأْمُومَةِ. قَالَ: وَفِي الْمُوضِحَةِ خَطَأٌ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَفِي الْهَاشِمَةِ وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ عُشْرُهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ: (وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ) وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْهَاشِمَةِ لَكِنْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابَهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَائِفَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْجَوْفِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَفِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ ثُلُثَاهَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا جَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ ; لِأَنَّ الْجَائِفَةَ تَنْفُذُ مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ إِلَى الْجَوْفِ، وَالثَّانِيَةُ هُنَا تَنْفُذُ مِنَ الْبَاطِنِ إِلَى الظَّاهِرِ، وَلِلْجُمْهُورِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَضَى أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَائِفَةِ تَكُونُ نَافِذَةً بِثُلُثَيِ الدِّيَةِ وَقَالَ: هُمَا جَائِفَتَانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: وَلَا تَكُونُ الْجَائِفَةُ إِلَّا فِي الْجَوْفِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَرْمُونَ فَرَمَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ خَطَأٍ فَأَصَابَ بَطْنَ رَجُلٍ فَأَنْفَذَهُ إِلَى ظَهْرِهِ فَدَوَوْهُ فَرُفِعَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَضَى فِيهِ بِجَائِفَتَيْنِ قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَلَا يُقَادُ حِينَئِذٍ بِجُرْحٍ إِلَّا بَعْدَ بُرْءٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُقَادَ قَبْلَ الْبُرْءِ وَيُسْتَحَبَّ الِانْتِظَارُ اعْتِبَارًا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَلَنَا مَا رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِدْنِي، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (لَا تَعْجَلْ حَتَّى يَبْرَأَ جُرْحُكَ) قَالَ: فَأَبَى الرَّجُلُ إِلَّا أَنْ يَسْتَقِيدَهُ فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَعَرِجَ الرَّجُلُ الْمُسْتَقِيدُ وَبَرَأَ الْمُسْتَقَادُ مِنْهُ، فَأَتَى الْمُسْتَقِيدُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرِجْتُ مِنْهُ وَبَرَأَ صَاحِبِي، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ لَا تَسْتَقِيدَ حَتَّى يَبْرَأَ جُرْحُكَ فَعَصَيْتَنِي» ) أَنْ لَا يَسْتَقِيدَ حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحَتُهُ، فَإِذَا بَرَأَ اسْتَقَادَ، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ يُعْتَبَرُ مَآلُهَا لَا حَالُهَا ; لِأَنَّ حُكْمَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَعَلَّهَا تَسْرِي إِلَى النَّفْسِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَتْلٌ.

3494 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3494 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءً» ) : أَيْ: حَتَّى الْإِبْهَامَ وَالْخِنْصَرَ وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمَفَاصِلِ كَمَا سَبَقَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

3495 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ، وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ، وَالثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ، هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3495 - وَعَنْهُ (: أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ، وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ، وَالثَّنِيَّةُ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (وَالضِّرْسُ) : بِالْكَسْرِ (سَوَاءٌ) : فِي الْمُغْرِبِ: الثَّنِيَّةُ وَاحِدَةُ الثَّنَايَا، وَهِيَ الْأَسْنَانُ الْمُتَقَدِّمَةُ اثْنَتَانِ فَوْقُ وَاثْنَتَانِ أَسْفَلُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَضْمُومَةٌ إِلَى صَاحِبَتِهَا وَالْأَضْرَاسُ مَا سِوَى الثَّنَايَا مِنَ الْأَسْنَانِ الْوَاحِدُ ضِرْسٌ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، ذَكَرَهُمَا تَقْرِيرًا لِمَعْنَى قَوْلِهِ: الْأَسْنَانُ سَوَاءٌ أَيْ لَا تَفَاوُتَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا كُلَّ الِافْتِقَارِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ وَهَذِهِ (سَوَاءٌ) : الْخِنْصَرُ وَالْإِبْهَامُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى إِحْدَى الثَّنَايَا وَإِحْدَى الْأَضْرَاسِ تَأْكِيدًا لِمَا قَبْلَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: وَفِي الْأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ.

3496 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ ثُمَّ قَالَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا شِدَّةً، الْمُؤْمِنُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ يَرُدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعِيدَتِهِمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، دِيَةُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ، وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3496 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ) : أَيْ: سَنَةَ فَتْحِ مَكَّةَ (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ: بَعْدَ خُطْبَتِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَرْتَبَةِ الْجَمْعِ بِالْحُضُورِ مَعَ رَبِّ السَّمَاءِ وَهُوَ الْكَمَالُ الْإِنْسَانِيُّ بِالْفَضْلِ الرَّبَّانِيِّ انْتَقَلَ إِلَى تَنَزُّلِ مَرْتَبَةِ التَّفْرِقَةِ تَكْمِيلًا لِلنَّاقِصِينَ، وَتَحْمِيلًا لِلْكَامِلِينَ عَامِلًا بِقَضِيَّةِ كَلِمِ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ فِي طَلَبِ أُصُولِهِمْ وَفُصُولِهِمْ، فَقَالَ (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنَ (لَا حِلْفَ) : بِكَسْرِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ لَامٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: لَا إِحْدَاثَ لِلْمُعَاهَدَةِ بَيْنَ قَوْمٍ (فِي الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا شِدَّةً) : قَالَ بَعْضُهُمْ: الْحِلْفُ الْعَهْدُ، وَمِنْهُ حَالَفَهُ عَاهَدَهُ، وَتَحَالَفُوا تَعَاهَدُوا، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَاهَدُونَ عَلَى التَّوَارُثِ وَالتَّنَاصُرِ فِي الْحُرُوبِ، وَأَدَاءِ الضَّمَانَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِحْدَاثِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَقَرَّ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفَاءً بِالْعُهُودِ وَحِفْظًا لِلْحُقُوقِ وَالذِّمَامِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَلَخَّصَهُ الْقَاضِي: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَاهَدُونَ فَيَتَعَاقَدُ الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ وَيَقُولُ لَهُ: دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ وَثَأْرِي ثَأْرُكَ وَحَرْبِي حَرْبُكَ، وَسِلْمِي سِلْمُكَ تَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ، وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْكَ، فَيَعُدُّونَ الْحَلِيفَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَخَلَ فِي حِلْفِهِمْ، وَيُقَرِّرُونَ لَهُ وَعَلَيْهِ مُقْتَضَى الْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ غُنْمًا وَغُرْمًا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَرَّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَصَالِحَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَحِفْظِ الْعُهُودِ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَنَفَى مَا أُحْدِثَ فِي الْإِسْلَامِ لِمَا فِي رَابِطَةِ الدِّينِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى التَّعَاضُدِ وَالتَّعَاوُنِ مَا نَعَتَهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَقَرَّرَ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَاءً بِالْعُهُودِ وَحِفْظًا لِلْحُقُوقِ وَلَكِنْ نُسِخَ مِنْ أَحْكَامِهِ التَّوَارُثُ وَتَحَمُّلُ الْجِنَايَاتِ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِأَشْخَاصٍ مَخْصُوصَةٍ، وَارْتِبَاطِهِ بِأَسْبَابٍ مُعَيَّنَةٍ مَعْدُودَةٍ، وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَجْهًا آخَرَ حَيْثُ قَالَ: أَصْلُ الْحِلْفِ الْمُعَاقَدَةُ وَالْمُعَاضَدَةُ عَلَى التَّعَاهُدِ وَالتَّسَاعُدِ وَالْإِنْفَاقِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ وَالْغَارَاتِ، فَذَلِكَ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: (لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ) وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَنَحْوِهَا فَذَلِكَ الَّذِي قَالَ فِيهِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً.

قَالَ الطِّيبِيُّ وَقَوْلُهُ: (الْمُؤْمِنُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) : يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِنَفْيِ الْحِلْفِ الْمَخْصُوصِ فِي الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ جَمَعَتْهُمْ وَجَعَلَتْهُمْ يَدًا وَاحِدَةً لَا يَسَعُهُمُ التَّخَاذُلُ، بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نُصْرَةُ أَخِيهِ. قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وَقَوْلُهُ: (يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ) : كَالْبَيَانِ لِلسَّابِقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِالْعَاطِفِ يَعْنِي إِذَا كَانُوا فِي حُكْمِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ فَهُمْ سَوَاءٌ فَالْأَدْنَى كَالْأَعْلَى يُعْطِي الْأَمَانَ لِمَنْ شَاءَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَيَرُدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعِيدَتِهِمْ) : جِيءَ بِلَا وَاوٍ بَيَانًا وَهُوَ يَنْصُرُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ مِنْ كِتَابِ الْقِصَاصِ، وَإِنْ رُوِيَ بِالْوَاوِ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ فَبِالْعَكْسِ لِاقْتِضَاءِ الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِالْقَعِيدَةِ الْجُيُوشَ النَّازِلَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَبْعَثُونَ سَرَايَاهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، فَمَا غَنِمَتْ يُرَدُّ مِنْهُ عَلَى الْقَاعِدِينَ حِصَّتَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رِدَاءً لَهُمْ (لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ) : أَيْ: حَرْبِيٍّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: وَلَوْ ذِمِّيًّا (دِيَةُ الْكَافِرِ) : أَيِ: الذِّمِّيِّ (نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ) . قَالَ الْمُظْهِرُ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ دِيَتَهُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، غَيْرَ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَمْ يُقَدْ بِهِ، وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: دِيَتُهُ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دِيَتُهُ ثُلْثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ. مِنْ شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ الشَّمَنِيُّ لِلشَّافِعِيِّ: مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي كِتَابِ الْعُقُولِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ» ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ قَضَى فِي الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَفِي الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَرَوَى أَيْضًا فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَضَى عُثْمَانُ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَنَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «دِيَةُ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» ) . وَوَقَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَلَى سَعِيدٍ، وَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ بِدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَبُو سَعِيدٍ الْبَقَّالُ اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكَبِيرِ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كَانَ عَقْلُ الذِّمِّيِّ مِثْلَ عَقْلِ الْمُسْلِمِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَزَمَنِ عُمَرَ، وَزَمَنِ عُثْمَانَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، حَتَّى كَانَ صَدْرٌ مِنْ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنْ كَانَ أَهْلُهُ أُصِيبُوا بِهِ فَقَدْ أُصِيبَ بِهِ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَاجْعَلُوا لِبَيْتِ الْمَالِ النِّصْفَ، وَلِأَهْلِهِ النِّصْفَ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ قُتِلَ آخَرُ مَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى هَذَا الَّذِي يَدْخُلُ بَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَهُ وَضْعًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَوْنًا لَهُمْ. قَالَ: فَمِنْ هُنَالِكَ وَضَعَ عَلَيْهِمْ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: دِيَةُ الْمُعَاهِدِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرُفِعَ إِلَى عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ رَحْمَوَيْهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا يَجْعَلَانِ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ الْمُعَاهِدَيْنِ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: دِيَةُ كُلِّ ذِمِّيٍّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَهُوَ قَوْلِي وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مَعْصُومُ الدَّمِ، فَتَكْمُلُ دِيَتُهُ كَالْمُسْلِمِ، (لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ) بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا. وَقَدْ سَبَقَ

مَعْنَاهُمَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَيُتَصَوَّرَانِ فِي السِّبَاقِ أَيْضًا (وَلَا يُؤْخَذُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ) : بِضَمِّ دَالٍ وَسُكُونِ وَاوٍ جَمْعُ دَارٍ أَيْ فِي مَنَازِلِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ جُعِلَتِ الْوَاوُ كَمَا فِي قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو، يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ بِمَا يُغَايِرُهُ مِنَ السِّبَاقِ فِي الْخَيْلِ، فَإِنَّ الْجَلَبَ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الصَّوْتِ وَالزَّجْرِ لِيَزِيدَ فِي شَأْنِهِ وَالْجَلَبُ يَعْنِي جَلَبَ فَرَسٍ آخَرَ فِي جَنَبِ فَرَسِهِ، وَلَوْ جُعِلَتْ كَمَا فِي قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا يَقَعُ مُبَيِّنًا لَهُ فَالْجَلَبُ هُوَ أَنْ يَنْزِلَ السَّاعِي مَوْضِعًا وَيَبْعَثَ إِلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي لِيَجْلِبُوا إِلَيْهِ مَوَاشِيَهُمْ فَيَأْخُذَ صَدَقَاتِهِمْ. وَالْجَلَبُ هُوَ أَنْ يَبْعُدَ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي عَنْ مَوَاضِعِهِمْ فَيَشُقَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ طَلَبُهُمْ وَلَوْ جُعِلَ الْوَاوُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] لَمْ يَبْعُدْ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ: (وَلَا يُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ) مُبَيِّنًا عَنْ قَوْلِهِ (لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ) بِأَنْ يُخْبِرَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ وَيُفَوِّضَ التَّرْتِيبَ إِلَى الذِّهْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: (دِيَةُ الْمُعَاهِدِ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيِ: الذِّمِّيِّ (نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ) : أَيِ: الْمُسْلِمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّمَنِيُّ: مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ لِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ» ) وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: ( «دِيَةُ عَقْلِ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِ» ) . وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: ( «عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» ) وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ: ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» ) وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «إِنَّ دِيَةَ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ» ) وَفِي كِتَابِ الرَّحْمَةِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي نَفْسِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ. وَأَمَّا فِي الْجِرَاحِ، فَعَلَى النِّصْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا عَلَى التَّسَاوِي وَفِيهِ تَفْصِيلٌ. وَقَالَ الشَّمَنِيُّ: وَالدِّيَةُ لِلْمَرْأَةِ نِصْفُ مَا لِلرَّجُلِ فِي النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُخْتَارِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ سِيرِينَ لِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ» ) . وَمَا أَخْرَجَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: عَقْلُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عَقْلِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا دُونَ الثُّلْثِ لَا يَتَنَصَّفُ وَكَذَا الثُّلْثُ. قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، وَالْأَعْرَجِ، وَرَبِيعَةَ وَمَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ الرَّمْلِيِّ، عَنْ ضَمْرَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَقْلُ الثُّلْثَ مِنْ دِيَتِهَا» ) وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: جِرَاحَاتُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَى الثُّلْثِ فَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ الْمُسَيَّبِ: كَمْ فِي أُصْبُعِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ. قَالَ: كَمْ فِي الِاثْنَيْنِ. قَالَ: عِشْرُونَ. قَالَ: كَمْ فِي ثَلَاثٍ؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ. قَالَ: كَمْ فِي أَرْبَعٍ؟ قَالَ: عِشْرُونَ. فَقَالَ رَبِيعَةُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا. قَالَ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ قَالَ رَبِيعَةُ: عَالِمٌ تُثْبِتُ أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي! إِنَّهَا السُّنَّةُ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ عَنِ الْحِجَازِيِّينَ ضَعِيفٌ، وَابْنَ جُرَيْجٍ حِجَازِيٌّ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَعَنِ الثَّالِثِ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: كُنَّا نَقُولُ بِهِ ثُمَّ رَجَعْتُ عَنْهُ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ الْخَيْرَ وَإِنَّا لَا نَجِدُ مَنْ يَقُولُ السُّنَّةَ، ثُمَّ لَا نَجِدُ نَفَاذًا بِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِيَاسُ أَوْلَى بِنَافِيهَا.

3497 - وَعَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرِينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورٍ، وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَعِشْرِينَ حِقَّةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَخِشْفٌ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى قَتِيلَ خَيْبَرَ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَلَيْسَ فِي أَسْنَانِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخَاضٍ إِنَّمَا فِيهَا ابْنُ لَبُونٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3497 - (وَعَنْ خِشْفٍ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَبِالْفَاءِ (ابْنِ مَالِكٍ) ، أَيِ الطَّائِيِّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْهُ زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَثَّقَ ذِكْرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَفِي التَّقْرِيبِ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ. (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجِنْسُ، فَيَشْتَمِلُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَثَانِيهِمَا: الْأُنْثَى مِنْهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ لِعَطْفِ قَوْلِهِ: (وَعِشْرِينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورٌ) بِالْجَرِّ عَلَى الْجَوَازِ كَمَا فِي الْمَثَلِ جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ كَذَا فِي التِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا ذُكُورًا بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَرَادَ تَأْكِيدَهُ بِقَوْلِهِ: ذُكُورٍ. (وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ بِنْتَ جَذَعَةً) بِفَتْحَتَيْنِ (وَعِشْرِينَ حِقَّةً) . بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ) ، قُلْتُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ لَا يَضُرُّهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ فَإِنَّ التَّقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ مَعَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا يُعْتَبَرُ الْمَرْفُوعُ. (وَخِشْفٌ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ) . قُلْتُ: يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ كَمَا سَبَقَ فَيَكُونُ مَعْرُوفًا ; لِأَنَّ أَقَلَّ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَرْوِيَ عَنِ اثْنَيْنِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالْعَجَبُ مِنْ مُؤَلِّفِ الْمَصَابِيحِ كَيْفَ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ مَوْقُوفًا، ثُمَّ طَعَنَ فِي الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: خِشْفٌ مَجْهُولٌ لَمْ يَبْتَدِعْهُ هُوَ بَلْ سَبَقَهُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ خَالَفُوا هَذَا الْحَدِيثَ، وَأَرَاهُ قَدْ نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُبَادِرَ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ فَقَالَ: خِشْفُ بْنُ مَالِكٍ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ وَأَرَاهُ قَدْ نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ لَيْسَ بِطَعْنٍ، بَلْ قَلَّدَ أَبَا دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيَّ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْقُوفًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: خِشْفُ بْنُ مَالِكٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ: عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ خِشْفًا سَمِعَ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ لَا يَجْعَلُهُ مِنَ الْمَشْهُورِينَ. قُلْتُ: لَا يَجْعَلُهُ مِنَ الْمَشْهُورِينَ، لَكِنْ يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَجْهُولِينَ قَالَ: وَلَعَلَّ غَرَضَهُ فِي الطَّعْنِ تَقْرِيرُ مَذْهَبِهِ. قُلْتُ: وَجْهُ الطَّعْنِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِطَعْنِ الرَّاوِي بَعْدَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ يَكُونُ مَرْفُوعًا أَوْ مَوْقُوفًا، وَلَعَلَّ الْخَطَّابِيَّ سَبَقَ الْبَغَوِيَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْخَطَأُ أَخْمَاسٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَقْسِيمِهَا، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبْدَلَ قَوْمٌ بَنِي اللَّبُونِ بِبَنِي الْمَخَاضِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ خِشْفٍ. قَالَ الشَّمَنِيُّ: لَهُمْ مَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي الَّذِي وَدَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَبَنُو الْمَخَاضِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الصَّدَقَاتِ، وَلَنَا مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذَكَرٍ) وَخِشْفٌ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَزَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَهُوَ الْحَسْمِيُّ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَأَخْرَجَا لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. (وَرُوِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَعْلُومِ أَيْ رَوَى صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ بِإِسْنَادِهِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى قَتِيلَ خَيْبَرَ) : بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ أَعْطَى دِيَتَهُ (بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَيْسَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَلَيْسَ (فِي أَسْنَانِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخَاضٍ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَةٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ الْبَغَوِيِّ، وَأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ حَيْثُ أَثْبَتَ فِيهِ ابْنَ مَخَاضٍ (إِنَّمَا فِيهَا) : أَيْ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ (ابْنُ لَبُونٍ) أَقُولُ: هَذَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ ابْنَ مَخَاضٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، كَذَا فِي مُوَطَّأِ مُحَمَّدٍ فِي بَابِ الْخَطَأِ.

قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنِ الَّذِي وَدَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ حُكْمًا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اشْتَرَاهَا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ أَنْ مَلَكُوهَا، ثُمَّ دَفَعُوهَا تَبَرُّعًا مِنْهُ إِلَى أَهْلِ الْقَتِيلِ اهـ. وَقِيلَ: لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ إِلَّا قَتْلَهُ عَمْدًا فَتَكُونُ دِيَتُهُ دِيَةَ الْعَمْدِ وَهِيَ مِنْ أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْخَطَأِ.

3498 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَامَ خَطِيبًا قَالَ: إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ. قَالَ: فَفَرَضَهَا عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ. قَالَ: وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنَ الدِّيَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3498 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ) : قِيلَ: دَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الدِّيَةِ الْإِبِلُ - وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ قِيمَتِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ (وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ) : أَيْ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ (النِّصْفُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ (مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ) . مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنِّصْفِ (قَالَ) : أَيْ جَدُّهُ (فَكَانَ) : أَيِ الْأَمْرُ (كَذَلِكَ) : أَيْ عَلَى ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ الشَّمَنِيِّ: فَكَانَ ذَلِكَ (حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ) ، بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ جُعِلَ خَلِيفَةً (فَقَالَ) : وَفِي رِوَايَةِ الشَّمَنِيِّ فَقَامَ (خَطِيبًا، فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْإِبِلَ غَلَتْ) : وَفِي رِوَايَةٍ: قَدْ غَلَتْ مِنَ الْغَلَاءِ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ الثَّمَنِ أَيِ ازْدَادَتْ قِيمَتُهَا (قَالَ) : أَيْ جَدُّهُ (فَفَرَضَهَا) : أَيْ قَدَّرَ الدِّيَةَ (عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ أَهْلِ الْفِضَّةِ (اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا) ، أَيْ مِنَ الدَّرَاهِمِ (وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ) : بِالْهَمْزَةِ فِي آخِرِهِ اسْمُ جِنْسٍ (أَلْفَيْ شَاةٍ) . بِالتَّاءِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْجِنْسِ (وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (مِائَتَيْ حُلَّةٍ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهِيَ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ، وَقِيلَ: الْحُلَلُ بُرُودُ الْيَمَنِ وَلَا يُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى يَكُونَ ثَوْبَيْنِ. (قَالَ) : أَيْ جَدُّهُ (وَتَرَكَ) : أَيْ عُمَرُ (دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ) : عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي عَهْدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنَ الدِّيَةِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي لَمَّا كَانَتْ قِيمَةُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَقَرَّرَ دِيَةَ الذِّمِّيِّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ صَارَ دِيَةُ الذِّمِّيِّ كَثُلْثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا، وَلَعَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الثُّلْثَ نَظَرَ إِلَى هَذَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ الشَّمَنِيُّ: الدِّيَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَمِنَ الْفِضَّةِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمِنَ الْإِبِلِ مِائَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنَ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِمَا أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قُتِلَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» ، وَلَنَا وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ فِي الدِّيَةِ أَلْفَ دِينَارٍ وَمِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنِ الْهَيْثَمِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: فَرَضَ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: صَدَقُوا وَلَكِنَّهُ فَرَضَهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَزْنَ سِتَّةٍ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ، كَذَا فِي نُسْخَةٍ وَفِي أُخْرَى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَأَخْبَرَنِي الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُغِيرَةَ الضَّبِّيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَتِ الدِّيَةُ الْإِبِلَ فَجُعِلَتِ الْإِبِلُ كُلُّ بَعِيرٍ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَزْنَ سِتَّةٍ فَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَفِي التَّجْرِيدِ لِلْقُدُورِيِّ: لَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَةَ أَلْفُ دِينَارٍ، وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلِهَذَا جَعَلَ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرِينَ دِينَارٍ، وَنِصَابَ الْوَرِقِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْأَصْلِ فِي الدِّيَةِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: الْإِبِلُ فَقَطْ فَتَجِبُ قِيمَتُهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «أَلَا إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي

بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» ) وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَّقَ بَيْنَ دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَدِيَةِ الْخَطَأِ، فَغَلَّظَ بَعْضَهَا وَخَفَّفَ بَعْضَهَا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ وَلِأَنَّ الْإِبِلَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَمَا عَدَاهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَاتِلَ إِنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْعَمُودِ فَمِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَإِنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الذَّهَبِ كَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ الْمَغْرِبِ فَأَلْفُ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الْوَرِقِ كَأَهْلِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَفَارِسَ فَاثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبَقَرُ مِائَتَا بَقَرَةٍ وَالْغَنَمُ أَلْفَا شَاةٍ وَالْحُلَّةُ مِائَتَا حُلَّةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَرَّ الْآنَ ثُمَّ فَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اخْتِيَارِ الْقَاتِلِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ الْخِيَارُ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَقَطْ وَعِنْدَهُمَا مِنَ السِّتَّةِ وَتَظْهَرُ فِي الصُّلْحِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنِ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ فِي رِوَايَةٍ وَلَا يَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِمَا كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ.

3499 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3499 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» ) : أَيْ: مِنَ الدَّارِهِمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ.

3500 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَوِّمُ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ عِدْلَهَا مِنَ الْوَرِقِ وَيُقَوِّمُهَا عَلَى أَثْمَانِ الْإِبِلِ فَإِذَا غَلَتْ رَفَعَ فِي قِيمَتِهَا وَإِذَا هَاجَتْ رُخْصًا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا وَبَلَغَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ وَعِدْلُهَا مِنَ الْوَرِقِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ قَالَ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَقْلَ الْمَرْأَةِ بَيْنَ عَصَبَتِهَا. وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3500 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَوِّمُ دِيَةَ الْخَطَأِ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ يَجْعَلُ قِيمَةَ دِيَةِ الْخَطَأِ (عَلَى أَهْلِ الْقُرَى) جَمْعُ قَرْيَةٍ (أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ عَدْلَهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ قِيلَ: الْعَدْلُ بِالْفَتْحِ مِثْلُ الشَّيْءِ فِي الْقِيمَةِ وَبِالْكَسْرِ مِثْلُهُ فِي الْمَنْظَرِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بِالْفَتْحِ مَا عَدَلَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَبِالْكَسْرِ مِنْ جِنْسِهِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِلْأَكْثَرِ بِالْفَتْحِ فَالْمَعْنَى أَوْ مِثْلُهَا فِي الْقِيمَةِ (مِنَ الْوَرِقِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيِ الْفِضَّةِ (وَيُقَوِّمُهَا) أَيْ وَكَانَ يُقَوِّمُ دِيَةَ الْخَطَأِ (عَلَى أَثْمَانِ الْإِبِلِ) جَمْعُ ثَمَنٍ بِفَتْحَتَيْنِ (فَإِذَا غَلَتْ) أَيِ الْإِبِلُ يَعْنِي زَادَ ثَمَنُهَا (رَفَعَ فِي قِيمَتِهَا) أَيْ زَادَ فِي قِيمَةِ الدِّيَةِ (وَإِذَا هَاجَتْ) مِنْ هَاجَ إِذَا ثَارَ أَيْ ظَهَرَتْ (رُخْصًا) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ ضِدُّ الْغَلَاءِ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَإِنَّ الرُّخْصَ رُخْصُهَا (نَقَصَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ قِيمَتِهَا) أَيِ قِيمَةِ الدِّيَةِ (وَبَلَغَتْ) أَيِ قِيمَةُ الدِّيَةِ لِلْخَطَأِ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ فِي زَمَانِهِ (مَا بَيْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ وَعَدْلُهَا) بِالْوَجْهَيْنِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ وَمِثْلُهَا الْكَائِنُ (مِنَ الْوَرِقِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ) خَبَرُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّيَةِ هُوَ الْإِبِلُ فَإِنْ أَعْوَزَتْ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَأَوَّلُ مَا رُوِيَ مِنْ تَقْدِيرِ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ بِأَنَّهُ تَقْوِيمٌ وَتَعْدِيلٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ لَا مُطْلَقًا (قَالَ) أَيْ جَدُّهُ (وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ) فِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَذْهَبِ الصَّاحِبَيْنِ (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَقْلُ) أَيِ الدِّيَةُ (مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَقْلَ الْمَرْأَةِ) أَيِ الدِّيَةَ الَّتِي تَجِبُ بِجِنَايَةِ الْمَرْأَةِ (بَيْنَ عَصَبَتِهَا) أَيْ يَتَحَمَّلُهَا عَنْهَا عَصَبَتُهَا كَمَا فِي الرَّجُلِ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا: يَعْنِي أَنَّ الْعَصَبَةَ يَتَحَمَّلُونَ عَقْلَ الْمَرْأَةِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ جِنَايَتِهَا تَحَمُّلَهُمْ عَنِ الرَّجُلِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْعَبْدِ فِي جِنَايَتِهِ إِذِ الْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ عَنْهُ بَلْ تَتَعَلَّقُ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: يُمْكِنُ.

أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمَقْتُولَةَ دِيَتُهَا تَرِكَةٌ بَيْنَ وَرَثَتِهَا كَسَائِرِ مَا تَرَكَتْهُ لَهُمْ وَهَذَا يُنَاسِبُ مَا فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ (وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ) أَيِ الْمَقْتُولَ (شَيْئًا) أَيْ لَا مِنَ الدِّيَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَيَّنَ أَنْ دِيَةَ الْمَرْأَةِ الْمَقْتُولَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهَا دَخَلَ الْقَاتِلُ فِي عُمُومِهِمْ فَخَصَّهُمْ بِغَيْرِ الْقَاتِلِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ السَّابِقُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ» ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ مِنَ الْمَرْأَةِ هِيَ الْمَقْتُولَةُ وَعَلَى قَوْلِ الشَّارِحِ الْأَوَّلِ الْمُرَادُ بِهَا الْقَاتِلَةُ قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ» وَقَوْلِهِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَقْلَ الْمَرْأَةِ بَيْنَ عَصَبَتِهَا وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا» حَدِيثَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ بِرَأْسِهِمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مُبَيَّنًا بِالْآخَرِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ حَدِيثٍ وَاحِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ كَمَا فِي مَتْنِ الْمِشْكَاةِ فَلَا لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ لَا بِالثَّانِي وَلِأَنَّ مِيرَاثَ الْقَتِيلِ لَا يَخْتَصُّ بِالْعَصَبَةِ بَلِ الْعَصَبَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْعَقْلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ اهـ. وَقِيلَ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لَفْظُ الْعَصَبَةِ وَالثَّانِيَ لَفْظُ بَيْنَ فَإِنَّهُ ذُكِرَ قَبْلُ فِيمَا كَانَ الْعَقْلُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ بِلَفْظِ عَلَى وَالْأَوْلَى أَنْ يَنْزِلَ عَلَى الْعُمُومِ لِيَتَنَاوَلَ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْ أَنَّ عَقْلَ الْمَرْأَةِ قَاتِلَةٌ بَيْنَ عَصَبَتِهَا وَمَقْتُولَةٌ بَيْنَ وَرَثَتِهَا وَمَا كَانَ مِيرَاثًا فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ فَقَطْ وَمَا كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى الْعَصَبَةِ فَقَطْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

3501 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3501 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ، مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ» ) ، مَضَى بَحْثُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي (وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ) . أَيْ صَاحِبُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَهُوَ الْقَاتِلُ سَمَّاهُ صَاحِبَهُ لِصُدُورِ الْقَتْلِ عَنْهُ، إِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا دَفْعًا لِتَوَهُّمِ جَوَازِ الِاقْتِصَاصِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ حَيْثُ جَعَلَهُ كَالْعَمْدِ الْمَحْضِ فِي الْعَقْلِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3502 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا بِثُلْثِ الدِّيَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3502 - (وَعَنْهُ: أَيْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ السَّادَّةِ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (لِمَكَانِهَا) : أَيِ الْبَاقِيَةِ فِي مَكَانِهَا صَحِيحَةً، لَكِنْ ذَهَبَ نَظَرُهَا وَإِبْصَارُهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِهَا الْعَيْنَ الَّتِي لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْحَدَقَةِ وَلَمْ يَخْلُ مَوْضِعُهَا فَبَقِيَتْ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ عَلَى مَا كَانَتْ لَمْ تُشَوَّهْ خِلْقَتُهَا وَلَمْ يَذْهَبْ بِهَا جَمَالُ الْوَجْهِ. (بِثُلْثِ الدِّيَةِ) : قَالَ: وَالْحَدِيثُ لَوْ صَحَّ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهَا ثُلْثَ الدِّيَةِ عَلَى مَعْنَى الْحُكُومَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَمِلَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ إِسْحَاقُ، وَأَوْجَبَ الثُّلْثَ فِي الْعَيْنِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أَوْجَبُوا حُكُومَةَ الْعَدْلِ ; لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَمْ تَفُتْ بِكَمَالِهَا، فَصَارَتْ كَالسِّنِّ إِذَا اسْوَدَّتْ بِالضَّرْبِ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى مَعْنَى الْحُكُومَةِ، إِذِ الْحُكُومَةُ بَلَغَتْ ثُلْثَ الدِّيَةِ، وَفِي مُخْتَصَرِ الطِّيبِيِّ: وَكَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحُكُومَةِ وَإِلَّا فَاللَّازِمُ فِي ذَهَابِ ضَوْئِهَا الدِّيَةُ، وَفِي ذَهَابِ ضَوْءِ إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَى الْحُكُومَةِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْمَجْرُوحُ عَبْدًا كَمْ كَانَ يُنْتَقَصُ بِهَذِهِ الْجِرَاحَةِ مِنْ قِيمَتِهِ، فَيَجِبُ مِنْ دِيَّتِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَحُكُومَةُ كُلِّ عُضْوٍ لَا تَبْلُغُ فِيهِ الْمَقْدِرَةُ حَتَّى لَوْ جُرِحَ رَأْسُهُ جِرَاحَةً دُونَ الْمُوضِحَةِ لَا تَبْلُغُ حُكُومَتُهَا أَرْشَ الْمُوضِحَةِ وَإِنْ قَبُحَ شَيْنُهَا. قَالَ الشَّمَنِيُّ: حُكُومَةُ الْعَدْلِ هِيَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا بِلَا هَذَا الْأَثَرِ ثُمَّ يُقَوَّمُ عَبْدًا مَعَ هَذَا الْأَثَرِ، فَقَدْرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ الدِّيَةِ هُوَ أَيْ ذَلِكَ الْقَدْرُ هِيَ أَيْ حُكُومَةُ الْعَدْلِ بِهِ يُفْتِي كَذَا. قَالَ قَاضِي خَانَ: وَهَذَا تَفْسِيرُ الْحُكُومَةِ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَبِهِ أَخَذَ الْحُلْوَانِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَكُلِّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا: إِنْ نَظَرَ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنَ الْمُوضِحَةِ، فَيَجِبُّ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ ; لِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إِلَى مَا فِيهِ نَصٌّ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَفِي الْمُحِيطِ قَالُوا: مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

3503 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ فَرَسٍ، أَوْ بَغْلٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَخَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَذْكُرْ: أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3503 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو) : أَيِ ابْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَوَى عَنْ جَابِرٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ بِالْمَدِينَةِ عَلَى قَوْلٍ، وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَعْلَامِهِمْ، وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عُمَرَ، وَغَيْرَهُمْ، رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ) : بِالتَّنْوِينِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَوْلِهِ: (عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الْغُرَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْفَسُ شَيْءٍ وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ، فَرِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ، وَقَدْ أَحْدَثَهَا بَعْضُ السَّلَفِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ذَكَرَ الْفَرَسَ وَالْبَغْلَ، وَهُمْ مِنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَخَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَذْكُرْ) : أَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو فِي رِوَايَتِهِمَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ حَمَّادٍ وَخَالِدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ وَلَمْ يَذْكُرَا بِالتَّثْنِيَةِ (أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ) : يَعْنِي هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَتَصِيرُ شَاذَّةً فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ.

3504 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3504 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ تَطَبَّبَ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى أَيْ تَعَاطَى عِلْمَ الطِّبِّ وَعَالَجَ مَرِيضًا (وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ) : أَيْ مُعَالَجَةٌ صَحِيحَةٌ غَالِبَةٌ عَلَى الْخَطَأِ فَأَخْطَأَ فِي طِبِّهِ وَأَتْلَفَ شَيْئًا مِنَ الْمَرِيضِ (فَهُوَ ضَامِنٌ) : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشَّرْحِ: لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ فِعْلِهِ الْهَلَاكُ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، إِذْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ فَتَكُونُ جِنَايَتُهُ مَضْمُونَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ قَوْلُهُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ أَيْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بِهِ فَمَاتَ الْمَرِيضُ مِنْ فِعْلِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ أَيْ تَضْمَنُ عَاقِلَتُهُ الدِّيَةَ اتِّفَاقًا وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِدُّ بِذَلِكَ دُونَ إِذْنِ الْمَرِيضِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْخَطَأِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُعَالِجَ إِذَا تَعَدَّى فَتَلِفَ الْمَرِيضُ كَانَ ضَامِنًا. وَجِنَايَةُ الطَّبِيبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْعَاقِلَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

3505 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ غُلَامًا لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَى أَهْلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا أُنَاسٌ فُقَرَاءُ، فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3505 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ غُلَامًا) : أَيْ وَلَدًا (لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ) : أَيْ وَلَدٍ (لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ فَأَتَى أَهْلُهُ) : أَيْ أَهْلُ الْقَاطِعِ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا) : أَيِ اعْتِذَارًا لِلْعَفْوِ (إِنَّا أُنَاسٌ فُقَرَاءُ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَيْهِ (شَيْئًا) : لِأَنَّ عَاقِلَتَهُ كَانُوا فُقَرَاءَ وَجِنَايَةُ الصَّبِيِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهَا خَطَأٌ إِذْ لَمْ تَصْدُرْ عَنِ اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ، وَلِهَذَا لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْقَتْلِ، وَالْفُقَرَاءُ لَا يَتَحَمَّلُونَ الدِّيَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَانِيَ كَانَ صَبِيًّا حُرًّا إِذْ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَتَعَلَّقَتِ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ، وَفَقْرُ مَوْلَاهُ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي مُدَبَّرًا وَحِينَئِذٍ تُعَلَّقُ الْجِنَايَةُ بِمَوْلَاهُ وَهُوَ كَانَ فَقِيرًا، فَالْتَمَسْنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ بِأَنْ يُرْضِيَ خَصْمَهُ وَقَدْ فَعَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْغُلَامُ كَانَ حُرًّا وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ خَطَأً، وَكَانَتْ عَاقِلَتُهُ فُقَرَاءَ فَلَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ إِنَّمَا تُوَاسِي عَنْ وَجْدٍ وَسَعَةٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا إِذْ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يَكُنْ لِاعْتِذَارِ أَهْلِهِ بِالْفَقْرِ مَعْنًى ; لَأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ عَبْدًا كَمَا لَا يَحْمِلُ عَبْدٌ، فَإِنَّ الْغُلَامَ الْمَمْلُوكَ إِنْ جَنَى عَلَى عَبْدٍ أَوْ حُرٍّ فَجِنَايَتُهُ فِي رَقَبَتِهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ خَطَأٌ وَعَلَى الْعَاقِلَةِ فِي عَمْدِهِمُ الدِّيَةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ. وَلَنَا: مَا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ. لَكِنْ قَالَ فِي الْمَعْرِفَةِ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3506 - عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثًا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ثَنِيَّةً إِلَى بَازِلِ عَامِهَا كُلُّهَا خَلِفَاتٌ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فِي الْخَطَأِ أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3506 - (عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ: مُبْتَدَأٌ (أَثْلَاثًا) حَالُ الْمُبْتَدَأِ أَوْ نُصِبَ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، خَبَرُهُ (ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً) : وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَعَ التَّمْيِيزُ وَهُوَ قَوْلُهُ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمَا، كَمَا يُقَالُ: التَّصْرِيفُ لُغَةً التَّغْيِيرُ مَثَلًا. (وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحِقَّةَ بِكَسْرِ الْحَاءِ مِنَ الْإِبِلِ مَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتِ الرُّكُوبَ وَالْحَمْلَ، وَالْجَذَعَةَ مِنَ الْإِبِلِ مَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ، (وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ثَنِيَّةً) : تَشْدِيدُ التَّحْتِيَّةِ وَهِيَ مَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ (إِلَى بَازِلِ عَامِهَا) بِإِضَافَةِ الْبَازِلِ إِلَى عَامِهَا، إِلَى مُتَعَلِّقَةٍ بِثَنِيَّةٍ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْحَدِيثُ الْآتِي، وَالْمَعْنَى مَا بَيْنَهُمَا فِي الْقَامُوسِ: جَمَلٌ وَنَاقَةٌ، بَازِلٌ وَبَزُولٌ، وَذَلِكَ فِي تَاسِعِ سَنِيَّةٍ، وَلَيْسَ بَعْدَهُ سِنٌّ يُسَمَّى، وَفِي الْمِصْبَاحِ: بَزَلَ الْبَعِيرَ كَنَصَرَ فُطِرْنَا بِهِ بِدُخُولِهِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ، فَهُوَ بَازِلٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْبَازِلُ مَا تَمَّ لَهُ ثَمَانِ سِنِينَ، وَدَخَلَ فِي التَّاسِعَةِ، وَحِينَئِذٍ يَطْلُعُ نَابُهُ وَتَكْمُلُ قُوَّتُهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَازِلُ عَامٍ وَبَازِلُ عَامَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إِلَّا بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثُ سِنٍّ أَيْ: مُسْتَجْمِعُ الشَّبَابِ مُسْتَكْمِلُ الْقُوَّةِ. (كُلُّهَا) : أَيْ جَمِيعُ الْأَرْبَعِ وَالثَّلَاثُونَ (خَلِفَاتٌ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةِ وَكَسْرِ لَامٍ أَيْ حَامِلَاتٍ (وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ) : أَيْ عَلِيٌّ (فِي الْخَطَأِ) : أَيْ فِي شَأْنِ الْخَطَأِ كَذَا قِيلَ فَقَوْلُهُ فِي الْخَطَأِ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَقَوْلُهُ (أَرْبَاعًا) تَمْيِيزٌ، وَقَوْلُهُ: (خَمْسٌ وَعِشْرُونَ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ أَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ دِيَةُ الْخَطَأِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْخَطَأِ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ، وَيَكُونُ خَبَرًا مُقَدَّمًا مُبْتَدَؤُهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ. (حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3507 - وَعَنْ مُجَاهِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً، مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إِلَى بَازِلِ عَامِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3507 - (وَعَنْ مُجَاهِدٍ) : أَيِ ابْنِ جَبْرٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ، مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ تَابِعِي مَكَّةَ وَفُقَهَائِهَا وَقُرَّائِهَا الْمَشْهُورِينَ، وَأَحَدُ الْأَعْلَامِ الْمَعْرُوفِينَ كَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّفْسِيرِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَاتٌ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ (قَالَ: قَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إِلَى بَازِلِ عَامِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3508 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْجَنِينِ يُقْتَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ. فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ: كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَبَّ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ» ) رَوَاهُ مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3508 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) : مِنْ أَفَاضِلِ التَّابِعِينَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْجَنِينِ يُقْتَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) : أَيْ وَالِدَتِهِ (بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ) : أَيْ جَارِيَةٍ (فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَقِيلَ: بِالْمَعْرُوفِ وَالْفَاعِلُ مَعْلُومٌ (كَيْفَ أَغْرَمُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ أَضْمَنُ (مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ) : يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالسُّكُونِ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ الْآتِي (وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ بِمَا هُوَ أَغْرَبُ، أَوْ مَعْنَاهُ مَا صَاحَ وَمَا رَفَعَ صَوْتَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَاعَى فِي تَأْخِيرِ الِاسْتِهْلَالِ عَنِ النُّطْقِ مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي السَّجْعِ التَّرَقِّيَ ; لِأَنَّ نَفْيَ الِاسْتِهْلَالِ أَبْلَغُ مَنْ نَفْيِ النُّطْقِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الِاسْتِهْلَالِ نَفْيُ النُّطْقِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ. قُلْتُ: كَانَ عَلَيْهِ فِي الْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَكْلَ عَلَى الشُّرْبِ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَكِنَّهُ عَكَسَهُ لِمُلَائَمَةِ حَالِ الْجَنِينِ عَلَى فَرْضِ خُرُوجِهِ حَيًّا (وَمِثْلُ ذَلِكَ) : أَيِ الْقَتْلِ (يُطَلُّ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ لَامِهِ مِنْ طَالَ دَمُهُ وَأَطَلَّ: أَيْ هُدِرَ أَوْ يُهْدَرُ، وَفِي نُسْخَةٍ بَطَلَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَهَذَا مِنْهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، إِذْ لَا يُعْرَفُ إِهْدَارُ دَمِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ مَا لَمْ يَنْطِقْ وَمَا لَمْ يَأْكُلْ عَلَى مَا هُوَ مَفْهُومُ كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا زَوَّقَ كَلَامَهُ بِالسَّجْعِ الْمُوَافِقِ لِلطَّبْعِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا هَذَا) : أَيِ الْقَائِلُ أَوْ قَائِلُ هَذَا (مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ) : بِضَمِّ كَافٍ وَتَشْدِيدِ هَاءٍ جَمْعُ كَاهِنٍ، وَكَانُوا يُرَوِّجُونَ مُزَخْرَفَاتِهِمْ بِالْأَسْجَاعِ، وَيُزَوِّقُونَ أَكَاذِيبَهُمْ بِهَا فِي الْأَسْمَاعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ وَلَمْ يَعِبْهُ بِمُجَرَّدِ السَّجْعِ دُونَ مَا تَضَمَّنَ سَجْعُهُ مِنَ الْبَاطِلِ. أَمَّا إِذْ وُضِعَ السَّجْعُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ الْكَلَامِ فَلَا ذَمَّ فِيهِ، وَكَيْفَ يُذَمُّ وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا قُلْتُ: وَمِنْهُ مَا وَرَدَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مَنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ مُرْسَلًا: أَيْ بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ.

3509 - وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُتَّصِلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3509 - (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ) : أَيْ عَنْ سَعِيدٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُتَّصِلًا) : قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ تَجِبُ غُرَّةُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ إِنْ أَلْقَتْ مَيِّتًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ السَّاقِطِ مَيِّتًا شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَيَقَّنْ بِحَيَاتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَيٌّ. أُجِيبَ: بِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ» ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الْغُرَّةَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الْغُرَّةَ بِخَمْسِينَ دِينَارًا وَكُلُّ دِينَارٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً حَذَفَتِ امْرَأَةً، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلَدِهَا بِخَمْسِمِائَةٍ يَعْنِي دِرْهَمًا» . وَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هِيَ خَمْسُونَ دِينَارًا. وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْغُرَّةُ خَمْسُونَ دِينَارًا، وَهِيَ عِنْدَنَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ، وَقَالَ مَالِكٌ: فِي مَالِهِ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْجُزْءِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، إِذَا كَانَ ضَرَبَ الْأُمَّ عَمْدًا، وَمَاتَ الْجَنِينُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ فَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَلَنَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ «عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ هُزَيْلٍ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِعَمُودٍ فَقَتَلَتْهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟ فَقَالَ: (أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ، فَقَضَى فِيهِ غُرَّةً، وَجَعَلَهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ» . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَتَجِبُ فِي سَنَةٍ عِنْدَنَا، وَفِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْجَنِينِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَتَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ إِنْ أَلْقَتْ

الْمَرْأَةُ حَيًّا فَمَاتَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ حَيَاتَهُ تَثْبُتُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ مِنَ الِاسْتِهْلَالِ وَالرَّضَاعِ وَالنَّفَسِ وَالْعُطَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: أَلَّا يَثْبُتَ إِلَّا بِالِاسْتِهْلَالِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ إِرْثَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِرْثَ غَيْرِهِ مِنْهُ مُرَتَّبًا عَلَى الِاسْتِهْلَالِ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ مَا عُلِمَتْ بِهِ حَيَاتُهُ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ وَالْعُطَاسِ وَالتَّنَفُّسِ يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ كَالِاسْتِهْلَالِ، أَمَّا لَوْ تَحَرَّكَ عُضْوٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ ; لَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنِ اخْتِلَاجٍ، أَوْ خُرُوجٍ مِنْ مَضِيقٍ، وَيَجِبُ غُرَّةٌ وَدِيَةٌ إِنْ أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ مَيِّتًا فَمَاتَتِ الْأُمُّ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَثَرِهِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا رَمَى شَخْصًا فَنَفَذَ السَّهْمُ مِنْهُ إِلَى آخَرَ وَمَاتَا حَيْثُ يَجِبُ دِيَتَانِ إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ خَطَأً وَقِصَاصًا، وَدِيَةٌ إِنْ كَانَ عَمْدًا وَتَجِبُ دِيَةُ الْأُمِّ فَقَطْ، وَلَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ شَيْءٌ إِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ مَعَ دِيَةِ الْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ مَيِّتَةٌ، وَتَجِبُ دِيَتَانِ إِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ فَأَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا وَمَاتَ ; لِأَنَّ الضَّارِبَ قَتَلَهُمَا بِضَرْبِهِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا وَمَاتَ، وَمَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ لِوَرَثَتِهِ سِوَى ضَارِبِهِ، وَيَجِبُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ زَوْجِهَا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ فِي الذَّكَرِ قِيمَتُهُ فِي الْأُنْثَى بِأَنْ يُقَوَّمَ الْجَنِينُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مَيِّتًا عَلَى لَوْنِهِ وَهَيْئَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا فَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَتُهُ بِهَذَا الْمَكَانِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يَجِبُ عُشْرُ قِيمَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ ; لِأَنَّهُ جَنِينٌ مَاتَ بِالْجِنَايَةِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ ضَمَانُهُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ كَجَنِينِ الْحُرَّةِ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ: لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأُمِّ إِنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نُقْصَانٌ، وَمَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ كَالْجَنِينِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَضُمِّنَ الْغُرَّةَ فِي سَنَةٍ عَاقِلَةُ امْرَأَةٍ حَامِلٍ أَسْقَطَتْ مَيِّتًا عَمْدًا بِدَوَاءٍ شَرِبَتْهُ، أَوْ فِعْلٍ فَعَلَتْهُ، بِأَنْ حَمَلَتْ حَمْلًا ثَقِيلًا، أَوْ وَضَعَتْ شَيْئًا فِي قُبُلِهَا بِلَا إِذْنِ زَوْجِهَا.

[باب ما لا يضمن من الجنايات]

[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3510 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «وَالْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِنَ الْجِنَايَاتِ) : بَيَانٌ لِمَا، وَالْجِنَايَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ مَا يَجْنِيهِ مِنْ شَرٍّ أَيْ: يُحْدِثُهُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ مِنْ جَنَى عَلَيْهِ شَرًّا وَهُوَ عَامٌّ، إِلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِمَا يَحْرُمُ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَنَى الثَّمَرَ وَهُوَ أَخْذُهُ مِنَ الشَّجَرِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3510 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْعَجْمَاءُ) : أَيِ: الْبَهِيمَةُ وَالدَّابَّةُ وَسُمِّيَتْ بِهَا لِعُجْمَتِهَا، وَكُلُّ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ فَهُوَ أَعْجَمِيٌّ (جَرْحُهَا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا غَيْرُ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ فَهُوَ الِاسْمُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْقَامُوسِ، وَقِيلَ: مَا لُغَتَانِ وَفِي الْحَدِيثِ نُسْخَتَانِ (جُبَارٌ) : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: هَدَرٌ قَالَ الْمُظْهِرُ: وَإِنَّمَا يَكُونُ جَرْحُهَا هَدَرًا إِذَا كَانَتْ مُتَفَلِّتَةً عَاثِرَةً عَلَى وَجْهِهَا لَيْسَ لَهَا قَائِدٌ وَلَا سَائِقٌ، وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَتَفَاصِيلِهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْجَرْحِ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ، أَوْ هُوَ مِثَالٌ نُبِّهَ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ، نَقَلَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (وَالْمَعْدِنُ) : بِكَسْرِ الدَّالِ (جُبَارٌ وَالْبِئْرُ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (جُبَارٌ) : فَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِهِ أَوْ فِي أَرْضِ الْمُبَاحِ وَسَقَطَ فِيهِ رَجُلٌ لَا قَوَدَ وَلَا عَقْلَ عَلَى الْحَافِرِ، وَالْمَعْدِنُ كَذَلِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِي الشَّمَنِيِّ، فِي الدَّابَّةِ الْمُتَفَلِّتَةِ إِذَا أَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَا تُضَمَّنُ، لِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ) (وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، فِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ» ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ فِي الدِّيَاتِ. وَمُسْلِمٌ فِي الْحُدُودِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْأَحْكَامِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الزَّكَاةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعَجْمَاءُ هِيَ الْمُتَفَلِّتَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: الْجُبَارُ الْهَدَرُ الَّذِي لَا يُغَرَّمُ،

وَفِي الْمُوَطَّأِ قَالَ مَالِكٌ: جُبَارٌ أَيْ: لَا دِيَةَ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحِجَازِ: يُضَمَّنُ صَاحِبُ الْمُتَفَلِّتَةِ مَا أَفْسَدَتْ لَيْلًا لَا نَهَارًا، لِمَا رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ، فَأَفْسَدَتْ فَقَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَمَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْلِ فَهُوَ مَضْمُونٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ مَا رَوَيَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ وَمَا رَوَاهُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، إِذْ كَانَ أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا وَيَكُونُ فَائِدَةُ الْخَبَرِ إِيجَابَ الضَّمَانِ بِسَوْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِإِفْسَادِهِ، فَبَيَّنَ تَسَاوِيَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فِيهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:) أَقْبَلَ رَجُلٌ بِجَارِيَةٍ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، فَمَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَاقِفٍ عَلَى دَابَّةٍ، فَنَخَسَ رِجْلَ الدَّابَّةِ فَرَفَعَتْ رِجْلَهَا فَلَمْ تُخْطِئْ عَيْنَ الْجَارِيَةِ، فَرُفِعَ إِلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ فَضَمَّنَ الرَّاكِبَ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: عَلَى الرَّجُلِ إِنَّمَا يُضَمَّنُ النَّاخِسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ عَنْ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ.

3511 - «وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَكَانَ لِي أَجِيرٌ فَقَاتَلَ إِنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الْآخَرِ، فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، وَقَالَ: (أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضِمُهَا كَالْفَحْلِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3511 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) : أَيِ: التَّمِيمِيِّ الْحَنْظَلِيِّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَتَبُوكَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ صَفْوَانُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ قُتِلَ بِصِفِّينَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (قَالَ: غَزَوْتُ) : أَيِ: الْكُفَّارَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ) : أَيْ: فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَسُمِّيَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ الْحَرِّ وَقِلَّةِ الزَّادِ وَالظَّهْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: غَزَوْتَ الْعَدُوَّ قَصَدْتَهُ لِلْقِتَالِ غَزْوًا وَقَوْلُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، وَجَيْشُ الْعُسْرَةِ حَالٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى قَصَدْتُ مُصَاحِبًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ كَوْنِهِ مُجَهِّزًا جَيْشَ الْعُسْرَةِ، وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ: أَنَّهُ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَهُوَ جَيْشُ غَزْوَةِ تَبُوكَ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ نَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْغَزْوِ فِي شِدَّةِ الْقَيْظِ، وَكَانَتْ وَقْتَ إِينَاعِ الثَّمَرَةِ وَطِيبِ الظِّلَالِ، فَعَسُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَشَقَّ وَالْعُسْرُ ضِدُّ الْيُسْرِ وَهُوَ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالصُّعُوبَةُ. (وَكَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا) : أَيْ: خَاصَمَهُ (فَعَضَّ أَحَدُهُمْ يَدَ الْآخَرِ، فَانْتَزَعَ) : وَفِي نُسْخَةٍ. فَنَزَعَ أَيْ: جَذَبَ (الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ) أَيْ: مِنْ فَمِهِ (قَالَ أَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ) : أَيْ: أَسْقَطَهُ الْمَعْضُوضُ (فَسَقَطَتْ) : أَيْ: ثَنِيَّةُ الْعَاضِّ (فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ فَذَهَبَ الْعَاضُّ إِلَيْهِ رَافِعًا لِقَضِيَّتِهِ، طَالِبًا قِصَاصَ ثَنِيَّتِهِ (فَأَهْدَرَ) : أَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَنِيَّتَهُ) : أَيْ: مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالْمَعْنَى لَمْ يُلْزِمْهُ شَيْئًا (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ) : أَيْ: أَيَتْرُكُهَا فِي فَمِكَ (تَقْضَمُهَا) : فَتْحُ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ مِنْ قَضِمَ كَفَرِحَ أَكَلَ بِأَطْرَافِ أَسْنَانِهِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُغْرِبِ وَالْمِصْبَاحِ إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْمِصْبَاحِ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ لُغَةٌ (كَالْفَحْلِ) أَيْ: كَقَضْمِ الْفَحْلِ مِنَ الْإِبِلِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ شَفَقَةٍ وَرَوِيَّةٍ. قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: أَيَدَعُ يَدَهُ. . . إِلَخْ إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ الْإِهْدَارِ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُدْفَعُ بِهِ الصَّائِلُ الْمُخْتَارُ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا أَيْ دَفْعُهُ مُهْدَرٌ ; لِأَنَّ الدَّافِعَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ أَلْجَأَهُ الصَّائِلُ إِلَى دَفْعِهِ بِهِ وَهُوَ نَتِيجَةُ فِعْلِهِ وَمُسَبَّبٌ عَنْ جِنَايَتِهِ، وَكَأَنَّهُ الَّذِي فَعَلَهُ وَجَنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَكَذَلِكَ لَوْ قَصَدَ رَجُلٌ الْفُجُورَ بِامْرَأَةٍ فَدَفَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهَا فَقَتَلَتْهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا، رُفِعَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَارِيَةٌ كَانَتْ تَحْتَطِبُ فَأَتْبَعَهَا رَجُلٌ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا قَتِيلُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا يُودَى أَبَدًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا مَنْ قَصَدَ مَالَهُ وَدَمَهُ وَأَهْلَهُ فَلَهُ دَفْعُ الْقَاصِدِ وَمُقَاتَلَتُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ بِالْأَحْسَنِ فَالْأَحْسَنِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ إِلَّا بِالْمُقَاتَلَةِ وَقَتَلَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ؟ نَظَرٌ إِنْ أُرِيدَ مَالُهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أُرِيدَ دَمُهُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ، فَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ لَهُ الِاسْتِسْلَامَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاصِدُ كَافِرًا أَوْ بَهِيمَةً، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الِاسْتِسْلَامُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3512 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3513 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: (فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (قَاتِلْهُ) . قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ) . قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3512 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ، (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ قُتِلَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (دُونَ مَالِهِ) : أَيْ: عِنْدَهُ لِلدَّفْعِ (فَهُوَ شَهِيدٌ) (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَابْنَ حِبَّانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.

3513 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبِرْنِي (إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟) : أَيْ: غَصْبًا (قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ) : بِإِشْبَاعِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلرَّجُلِ وَفِي نُسْخَةٍ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَلَا تُعْطِهِ جَوَابٌ لِلسُّؤَالِ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، كَمَا أَنَّ السُّؤَالَ شَرْطُ جَزَائِهِ مَحْذُوفٌ يَعْنِي: إِنْ جَاءَ رَجُلٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَأُعْطِهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ. يَعْنِي إِنْ كَانَ كَمَا وَصَفْتَهُ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي: قَالَ: قَاتِلْهُ) . قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ) : وَأَمَّا مَا جَاءَ بِلَا فَاءٍ مِنْ قَوْلِهِ: (قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ . قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ) : فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ تَقْدِيرِ جَوَابِ الشَّرْطِ كَأَنَّ قَائِلًا سَأَلَ فَمَاذَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِهِ، فَأُجِيبَ قَالَ كَذَا اهـ. وَمَعْنَى هُوَ فِي النَّارِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْكَ، وَفِيهِ أَنْ دَفْعَ الْقَاتِلِ وَهُلْكَهُ فِي الدَّفْعِ مُبَاحٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3514 - وَعَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «لَوِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ، وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3514 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَوِ اطَّلَعَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَشْرَفَ وَنَظَرَ مِنْ شِقِّ بَابٍ أَوْ كُوَّةٍ، وَكَانَ الْبَابُ غَيْرَ مَفْتُوحٍ (فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ، وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ) : أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ مَا وَقَعَ مِنْكَ إِذْنٌ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالدُّخُولِ (فَخَذَفْتَهُ) : بِالْمُعْجَمَتَيْنِ مِنَ الْخَذْفِ وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْأُصْبُعَيْنِ أَيْ: رَمَيْتَهُ (بِحَصَاةٍ) : أَيْ مَثَلًا، فَإِنَّ الْخَذْفَ أَنْ تَرْمِيَ بِحَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا بِأَنْ تَأْخُذَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْكَ، وَقِيلَ: أَنْ تَضُمَّ طَرَفَ الْإِبْهَامِ عَلَى طَرَفِ السَّبَّابَةِ وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالْمِصْبَاحِ (فَفَقَأْتَ) : بِالْهَمْزِ أَيْ قَلَعْتَ (عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ) : أَيْ: عَيْبٍ وَتَعْبِيرُ وَزِيَادَةُ (مِنْ) لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: إِثْمٍ، عَمِلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَسْقَطَ عَنْهُ ضَمَانَ الْعَيْنِ، قِيلَ: هَذَا بَعْدَ أَنْ زَجَرَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ مُطْلَقًا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الضَّمَانُ، فَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» .

3515 - «وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ عَيْنَيْكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3515 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَيِ السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ) وَكَانَ اسْمُهُ حَزَنًا، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلًا (أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ) : بِضَمِّ جِيمٍ أَيْ خَرْقٍ كَائِنٍ (فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: فِي نَفْسِ الْبَابِ أَوْ فِيمَا حَوْلَهُ (وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى) : بِكَسْرِ مِيمٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ وَرَاءٍ مُنَوَّنٌ: شَيْءٌ يُعْمَلُ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ عَلَى شَكْلِ سِنٍّ مِنْ أَسْنَانِ الْمُشْطِ وَأَطْوَلُ مِنْهُ، يُسَوَّى بِهِ الشَّعْرُ الْمُتَبَلِّدُ، وَيَسْتَعْمِلُهُ مَنْ لَا مُشْطَ لَهُ. كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَقِيلَ: هُوَ عُودٌ يُدْخِلُهُ مِنْ لَهُ شَعْرٌ فِي رَأْسِهِ لِيَضُمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ يُشْبِهُ الْمِسَلَّةَ، وَقِيلَ هُوَ حَدِيدَةٌ كَالْخِلَالِ لَهَا رَأْسٌ مُحَدَّدٌ مِنْ عَادَةِ الْكَبِيرِ أَنْ يَحُكَّ بِهَا مَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدُهُ مِنْ جَسَدِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَخِيرَ قَوْلُهُ: (يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَعْلَمُ) أَيْ: يَقِينًا (أَنَّكَ تَنْظُرُنِي) : أَيْ: تُطَالِعُ فِيَّ قَصْدًا أَوْ عَمْدًا (لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ مَعَ غَيْرِ قَصْدِ النَّظَرِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَالْمَارِّ (إِنَّمَا جُعِلَ) : أَيْ: شُرِعَ (الِاسْتِئْذَانُ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) : أَيْ: مِنَ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ الْمُحَرَّمِ وَلَوْلَاهُ لَمَا شُرِعَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: إِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ لِئَلَّا يَقَعُ النَّظَرُ مَنْ هُوَ خَارِجٌ إِلَى دَاخِلِ الْبَيْتِ، فَيَكُونُ بِلَا اسْتِئْذَانٍ كَالدُّخُولِ بِلَا اسْتِئْذَانٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ رَمْيِ عَيْنِ الْمُتَطَلِّعِ بِشَيْءٍ خَفِيفٍ، وَلَوْ فُقِئَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا نَظَرَ فِي بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ مَحْرَمٌ لَهُ، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ هُنَا، لَكِنَّ قَوْلَهُ بِشَيْءٍ خَفِيفٍ إِنَّمَا يُلَائِمُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فَتَأَمَّلْ، وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَالْفَرْقُ عِنْدَهُ بَيْنَهُمَا عَلَى فَرْضِ الْوُقُوعِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الدِّيَةَ. وَفِي الثَّانِي الْقِصَاصَ، هَذَا هُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3516 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ، فَقَالَ: لَا تَخْذِفْ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: (إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلَا يُنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3516 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) : بِفَتْحِ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ فَاءٍ مَفْتُوحَةٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُزَنِيٌّ، كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ. وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، (أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ) : بِمُعْجَمَتَيْنِ ثَانِيهِمَا مَكْسُورَةٌ (فَقَالَ: لَا تَخْذِفْ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ كَثِيرُ الْمَضَرَّةِ (إِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنُ أَوِ الْخَذْفُ (لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلَا يُنْكَأُ) : بِتَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ فَنُونٍ سَاكِنَةٍ فَكَافٍ مَفْتُوحَةٍ فَهَمْزَةٍ مَرْفُوعَةٍ، كَذَا فِي النُّسَخِ أَيْ: لَا يُجْرَحُ (بِهِ عَدُوٌّ) : فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ نَكَيْتَ الْعَدُوَّ نِكَايَةً إِذَا كَثَّرْتَ فِيهِمُ الْجِرَاحَ وَالْقَتْلَ وَقَدْ يُهْمَزُ اهـ. وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُضْبَطَ الْحَدِيثُ بِالْوَجْهَيْنِ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ الْأَصْلُ لَا يَنْكِي بِالْيَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَلَكِنَّهَا) : أَيِ: الْحَصَاةَ الْمَفْهُومَةَ مِنَ الْخَذْفِ أَوِ الرَّمْيَةِ أَوِ الْفَعْلَةِ (قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ) : أَيْ: وَقَدْ تَفْقَؤُهَا أَيْ تَقْلَعُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَجُلٌ يَعْبَثُ بِالْخَذْفِ فَنَهَاهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجْلِبُ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ ضَرًّا بَلْ هُوَ شَرٌّ كُلُّهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ الْخَذْفِ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَيُخَافُ مِنْ فَسَادِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ مَا شَارَكَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ اهـ. وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ فَاعِلَ قَالَ، إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3517 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا وَفِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3517 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا وَفِي سُوقِنَا) : أَيْ: مَسْجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَسُوقِهِمْ، فَأَضَافَ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُفَخَّمِ إِيذَانًا بِالشَّرَفِ (وَمَعَهُ نَبْلٌ) : بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، فَلَا يُقَالُ نَبْلَةٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ سَهْمٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَةٌ (فَلْيُمْسِكْ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: فَلْيَأْخُذْ (عَلَى نِصَالِهَا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ النَّصْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَدِيدَةُ الَّتِي فِي آخِرِ السَّهْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُدِّيَ أَمْسَكَ بِعَلَى مُبَالَغَةً فِي الْمُحَافَظَةِ وَالْقَبْضِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: (أَنْ يُصِيبَ) : مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يُصِيبَ أَحَدَكُمْ أَوِ الْمَارَّ (أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا) : أَيْ: مِنَ النِّصَالِ (بِشَيْءٍ) : أَيْ: مِنَ الْأَذَى، وَقِيلَ الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْفَاعِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا اهـ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لِئَلَّا تَضِلُّوا ثُمَّ فِي مَعْنَى النِّصَالِ بَلْ أَقْوَى مِنْهَا حَدِيدَاتُ الْجَنْبِيَّاتِ الَّتِي يَلْبَسُهَا الْأَحْلَافُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ - وَيُؤْذُونَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا فِي الطَّوَافِ، بَلْ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ مُزَاحَمَتِهِمْ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهِ بِكَفِّهِ لَا يَعْقِرُ مُسْلِمًا.

3518 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ ; فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3518 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ) : نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ (عَلَى أَخِيهِ) : أَيِ الْمُسْلِمِ وَيَلْحَقُ بِهِ الذِّمِّيُّ (بِالسِّلَاحِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِلْحَرْبِ مِنْ آلَةِ الْحَدِيدِ (فَإِنَّهُ) : أَيْ: أَحَدَكُمْ أَوِ الشَّأْنَ (لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ) : مَفْعُولُ يَدْرِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَدْرِي نَازِلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ

فَنَفَى الدِّرَايَةِ عَنْهُ رَأْسًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّ الشَّيْطَانَ (يَنْزِعُ فِي يَدِهِ) : بِكَسْرِ الزَّايِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: يَجْذِبُهُ حَالَ كَوْنِ السِّلَاحِ فِي يَدِهِ، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ إِلَى السَّبَبِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: يَرْمِي بِهِ كَأَنَّهُ يُوقِعُ يَدَهُ لِتَحَقُّقِ إِشَارَتِهِ وَيُرْوَى بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ يَعْنِي مَعَ فَتْحِ الزَّايِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَمَعْنَاهُ يُغْرِيهِ فَيَحْمِلُهُ عَلَى تَحْقِيقِ الضَّرْبِ حِينَ يُشِيرُ بِهِ عِنْدَ اللَّعِبِ وَالْهَزْلِ وَنَزْغُ الشَّيْطَانِ إِغْرَاؤُهُ. قَالَ تَعَالَى {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: 200] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَطْعَنُ فِي يَدِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَهُ بِكَلِمَةٍ أَيْ: طَعَنَ فِيهِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: نَزَعَ فِي الْقَوْسِ مَدَّهَا. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَرْمِي بِهِ كَائِنًا فِي يَدِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا فِي يَدِهِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ الْمُقَدَّرِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجَوْهَرِيِّ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: [ يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي ] أَيْ: يُوقِعُ نَزْعَةً فِي يَدِ الْمُشِيرِ فَيَسْتَوْفِيهِ بِمَا أَمْكَنَ مَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات: 1] الْكَشَّافِ: النَّازِعَاتُ أَيْدِي الْغُزَاةِ تَنْزِعُ الْقِسِيَّ بِإِغْرَاقِ السِّهَامِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَيَقَعُ) : فَصِيحَةٌ أَيْ: يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقْتُلُهُ فَيَسْتَوْجِبُ النَّارَ فَيَقَعُ (فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) : قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِهِ النَّهْيَ عَنِ الْمُلَاعَبَةِ بِالسِّلَاحِ، فَلَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِبَيْنِ فَيَصِيرُ الْهَزْلُ جَدًّا وَاللِّعَابُ حَرْبًا، فَيَضْرِبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَقْتُلُهُ فَيَدْخُلُ النَّارَ بِقَتْلِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3519 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَضَعَهَا وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3519 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ) : أَيِ الْمُسْلِمِ (بِحَدِيدَةٍ) أَيْ: بِمَا هُوَ آلَةُ الْقَتْلِ (فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ) : أَيْ: تَدْعُوهُ بِالْبُعْدِ عَنِ الْجَنَّةِ أَوَّلَ الْأَمْرِ (حَتَّى يَضَعَهَا) : أَيِ: الْحَدِيدَةَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ حِينَئِذٍ تَرْكُ الْإِشَارَةِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا فِي يَدِهِ (وَإِنْ كَانَ) : أَيِ: الْمُشِيرُ (أَخَاهُ) : أَيْ: أَخَا الْمُشَارِ إِلَيْهِ (لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ) : أَيْ مَعًا وَإِنْ وَصْلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ هَازِلًا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ ضَرْبَهُ، كَنَّى بِهِ عَنْهُ ; لِأَنَّ الْأَخَ الشَّقِيقَ لَا يَقْصِدُ قَتْلَ أَخِيهِ غَالِبًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ تَتْمِيمٌ لِمَعْنَى الْمُلَاعَبَةِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ فِي الْإِشَارَةِ، فَبَدَأَ بِمُطْلَقِ الْأُخُوَّةِ ثُمَّ قَيَّدَهُ بِالْأُخُوَّةِ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ اللَّعِبَ الْمَحْضَ الْمُعَرَّى عَنْ شَائِبَةِ الْقَصْدِ، إِذَا كَانَ حُكْمُهُ كَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ؟ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي هَامِشِ نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَلَيْهِ (خ ظ) ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إِلَى أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ قَتْلَهُ قَدْ وَجَبَ دَمُهُ» ) .

3520 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَزَادَ: ( «وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3520 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : بِلَا وَاوٍ (وَأَبِي هُرَيْرَةَ) : أَيْ: مَعًا (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ) : أَيْ: سَلَّهُ لِلَّعِبِ وَالْهَزْلِ أَوْ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ وَالْخَوْفِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ الضَّمِيرُ لِيَتَنَاوَلَ الْأُمَّةَ أَيْضًا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي (فَلَيْسَ مِنَّا) : أَيْ: مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا وَسُنَّتِنَا أَوْ مِنْ أَهْلِ مَلَّتِنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ يَعْنِي عَلَيْنَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ، وَالسِّلَاحُ نُصِبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، يُقَالُ: حَمَلَ عَلَيْهِ فِي الْحَرْبِ حَمْلَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالسِّلَاحُ مَفْعُولٌ، يُقَالُ: حَمَلْتُ الشَّيْءَ أَحْمِلُهُ حَمْلًا: أَيْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَيْنَا لَا لَنَا. وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَأَلْيَقُ بِبَابِ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَيْسَ مِنَّا جَزَاءُ الشَّرْطِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ عَدُوَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ مِنْهُمْ، قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ هَذَا الْفِعْلُ فَلَيْسَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، فَيَجُوزُ قَتْلُهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، (وَزَادَ مُسْلِمٌ: مَنْ غَشَّنَا) : أَيْ: خَانَنَا وَتَرَكَ النَّصِيحَةَ لَنَا كَأَنْ سَتَرَ الْعَيْبَ فِي السِّلْعَةِ (لَيْسَ مِنَّا) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: ( «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا» ) . قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي لَفْظٍ: ( «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ) . وَفِي أَكْثَرِ طُرُقِهِ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ طَعَامٍ رَآهُ فِي السُّوقِ مُبْتَلًّا دَاخِلُهُ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: ( «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ» ". رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ: ( «مَنْ غَشَّ الْعَرَبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَفَاعَتِي وَلَمْ تَنَلْهُ مَوَدَّتِي» ) .

3521 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ فَلَيْسَ مِنَّا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3521 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ) : أَيْ: وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ أَحَدٍ (فَلَيْسَ مِنَّا) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ» .

3522 - وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ. قَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3522 - (وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) : أَيِ: ابْنِ الزُّبَيْرِ يُكَنَّى أَبَا الْمُنْذِرِ الْقُرَشِيَّ الْمَدَنِيَّ، أَحَدَ تَابِعِي الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورِينَ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَعْدُودِ فِي أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ وَأَجِلَّةِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَ عُمَرَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمُ: الثَّوْرِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ. (أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ) : أَيِ: ابْنَ الْحِزَامِ الْقُرَشِيَّ الْأَسَدِيَّ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَخِيَارِهِمْ مِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ وَأَبُوهُ يُكَنَّى أَبَا خَالِدٍ الْقُرَشِيَّ الْأَسَدِيَّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وُلِدَ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وَوُجُوهِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى عَامِ الْفَتْحِ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِهِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، سِتُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتُّونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَامِلًا فَاضِلًا تَقِيًّا، حَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ ذَكَرُهُ الْمُؤَلِّفُ (مَرَّ) : أَيِ: ابْنُ حَكِيمٍ (بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ) : جَمَاعَةٍ (مِنَ الْأَنْبَاطِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. فِي النِّهَايَةِ: النَّبَطُ وَالنَّبِيطُ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ، كَانُوا يَنْزِلُونَ بِالْبَطَائِحِ بَيْنَ الْعِرَاقَيْنِ أَيْ: بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَنْبَاطُ فَلَّاحَةُ الْأَعَاجِمِ. (وَقَدْ أُقِيمُوا) : أَيْ: أُوقِفُوا (فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ) : أَيْ: كُبَّ (عَلَى رُءُوسِهِمُ) : أَيْ: فَوْقَهَا (الزَّيْتُ) : أَيِ: الْحَارُّ (فَقَالَ) : أَيِ: ابْنُ حَكِيمٍ (مَا هَذَا؟) : أَيْ: مَا سَبَبُ هَذَا الْأَمْرِ؟ (قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ) : أَيْ: فِي تَحْصِيلِهِ وَأَدَائِهِ مِمَّا بَقِيَ عِنْدَهُمْ (فَقَالَ هِشَامٌ) : أَيِ: ابْنُ حَكِيمٍ (أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ) : اللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ لِمَا فِي أَشْهَدُ مِنْ مَعْنَاهُ ( «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ» ) : أَيْ: بِمَا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِهِ فِي الْعُقْبَى (فِي الدُّنْيَا) : أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» ".

3523 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أَنْ تَرَى قَوْمًا فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَغْدُونَ فِي غَضَبِ اللَّهِ، وَيَرُوحُونَ فِي سَخَطِ اللَّهِ) وَفِي رِوَايَةٍ: (وَيَرُوحُونَ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3523 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُوشِكُ) : أَيْ: يَقْرُبُ (إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ) : أَيْ: حَيَاةٌ (أَنْ تَرَى) : اسْمُ يُوشِكُ أَيْ تُبْصِرُ (قَوْمًا فِي أَيْدِيهِمْ) : خَبَرٌ مُقَدَّمٌ مُبْتَدَؤُهُ (مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ) : أَيْ: سِيَاطٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ قَوْمًا، وَتُسَمَّى تِلْكَ السِّيَاطُ فِي دِيَارِ الْعَرَبِ بِالْمَقَارِعِ جَمْعُ مَقْرَعَةٍ، وَهِيَ جِلْدَةٌ طَرَفُهَا مَشْدُودٌ عَرْضُهُ كَعَرْضِ الْأُصْبُعِ الْوُسْطَى يَضْرِبُونَ السَّارِقِينَ عُرَاةً، وَقِيلَ: هُمُ الطَّوَّافُونَ عَلَى أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ السَّاعُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَيَطْرُدُونَ النَّاسَ عَنْهَا بِالضَّرْبِ (يَغْدُونَ) : أَيْ: يُصْبِحُونَ (فِي غَضَبِ اللَّهِ وَيَرُوحُونَ) : أَيْ: يُمْسُونَ (فِي سَخَطِ اللَّهِ) : أَيِ: الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ لِتَكْرَارِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْهُ، وَاسْتِمْرَارِ صُدُورِ هَذَا الْفِعْلِ عَنْهُ. (وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَرُوحُونَ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ) : أَيْ: إِبْعَادِهِ عَنْ رَحْمَتِهِ فَإِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ أَمْرَ أَمِيرِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ) إِمَّا الدَّوَامُ وَالِاسْتِمْرَارُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] يَعْنِي هُمْ أَبَدًا فِي غَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ لَا يَحْلُمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَقْتَانِ الْمَخْصُوصَانِ، فَالْمَعْنَى يُصْبِحُونَ يُؤْذُونَ النَّاسَ وَيُرَوِّعُونَهُمْ وَلَا يَرْحَمُونَ عَلَيْهِمْ، فَغَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَيُمْسُونَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا لَا يُرْضِي عَنْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْإِيذَاءِ وَالرَّوْعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَنَسٍ: «مَنْ رَوَّعَ مُؤْمِنًا لَمْ يُؤَمِّنِ اللَّهُ رَوْعَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَعَى بِمُؤْمِنٍ أَقَامَهُ اللَّهُ مَقَامَ ذُلٍّ وَخِزْيٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

3524 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3524 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِنْفَانِ) : هُوَ مُبْتَدَأٌ (مِنْ أَهْلِ النَّارِ) : صِفَةٌ (لَمْ أَرَهُمَا) : خَبَرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ، الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَرَهُمَا فِي عَصْرِهِ لِطَهَارَةِ ذَلِكَ الْعَصْرِ بَلْ حَدَثَا بَعْدَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَفِيهِ ذَمُّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ (قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ) : جَمْعُ سَوْطٍ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتَحَرُّكِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا (كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ) : أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ (وَنِسَاءٌ) : هُوَ وَقَوْمٌ بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ لِقَوْلِهِ: صِنْفَانِ وَمَا بَعْدَهَا صِفَاتٌ لَهُمَا (كَاسِيَاتٌ) : أَيْ: فِي نِعْمَةِ اللَّهِ (عَارِيَاتٌ) : مِنْ شُكْرِهَا، وَقِيلَ: يَسْتُرْنَ بَعْضَ بَدَنِهِنَّ وَيَكْشِفْنَ بَعْضَهُ إِظْهَارًا لِجَمَالِهِنَّ وَإِبْرَازًا لِكَمَالِهِنَّ، وَقِيلَ: يَلْبَسْنَ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُ بَدَنَهُنَّ وَإِنْ كُنَّ كَاسِيَاتٍ لِلثِّيَابِ عَارِيَاتٍ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ كَاسِيَاتٍ بِالْحُلَى وَالْحُلِيِّ، عَارِيَاتٍ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَمِنْهُ حَدِيثُ: ( «رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْعُقْبَى» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَثْبَتَ لَهُنَّ الْكُسْوَةَ ثُمَّ نَفَاهَا ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاكْتِسَاءِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ السَّتْرُ فَكَأَنَّهُ لَا اكْتِسَاءَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ ... فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ ... فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا (مُمِيلَاتٌ) : أَيْ: قُلُوبَ الرِّجَالِ إِلَيْهِنَّ، أَوِ الْمَقَانِعَ عَنْ رُءُوسِهِنَّ لِيَظْهَرَ وُجُوهُهُنَّ، وَقِيلَ: مُمِيلَاتٌ بِأَكْتَافِهِنَّ، وَقِيلَ: يُمِلْنَ غَيْرَهُنَّ إِلَى فِعْلِهِنَّ الْمَذْمُومِ (مَائِلَاتٌ) : أَيْ: إِلَى الرِّجَالِ بِقُلُوبِهِنَّ أَوْ بِقَوَالِبِهِنَّ، أَوْ مُتَبَخْتِرَاتٌ فِي مَشْيِهِنَّ، أَوْ زَائِغَاتٌ عَنِ الْعَفَافِ، أَوْ مَائِلَاتٌ إِلَى الْفُجُورِ وَالْهَوَى، وَقِيلَ: مَائِلَاتٌ يَمْتَشِطْنَ مِشْطَةَ الْمَيْلَاءِ، وَقِيلَ: مِشْطَةَ الْبَغَايَا مُمِيلَاتٌ يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ بِتِلْكَ الْمِشْطَةِ. (رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ. فِي النِّهَايَةِ: الْبُخْتِيُّ مِنَ الْجِمَالِ، وَالْأُنْثَى بُخْتِيَّةٌ جَمْعُ بُخْتٍ وَبَخَاتِيٍّ جِمَالٌ طِوَالُ الْأَعْنَاقِ، وَاللَّفْظَةُ مُعْرَبَةٌ أَيْ: يُعَظِّمْنَهَا وَيُكَبِّرْنَهَا بِلَفِّ عِصَابَةٍ وَنَحْوِهَا، وَقِيلَ: يَطْمَحْنَ إِلَى الرِّجَالِ لَا يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ، وَلَا يُنَكِّسْنَ رُءُوسَهُنَّ (الْمَائِلَةُ) : صِفَةٌ لِلْأَسْنِمَةِ، وَهِيَ جَمْعُ السَّنَامِ، وَالْمَائِلَةُ مِنَ الْمَيْلِ ; لِأَنَّ أَعْلَى السَّنَامِ يَمِيلُ لِكَثْرَةِ شَحْمِهِ، وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ نِسَاءِ مِصْرَ (لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ) : صِفَةٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلرِّجَالِ مِثْلَهَا اخْتِصَارًا وَإِيجَازًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَةٌ (مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) : أَيْ: مِائَةِ عَامٍ مَثَلًا قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَهَا وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا حِينَ مَا يَدْخُلُهَا وَيَجِدُ رِيحَهَا الْعَفَائِفُ الْمُتَوَرِّعَاتُ، لَا أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ أَبَدًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: ( «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ) ثَلَاثًا. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْلَالِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالتَّغْلِيظُ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُنَّ لَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنْ دَخَلْنَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ.

3525 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3525 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ) : أَيْ: ضَارَبَ غَيْرَهُ (فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ) : أَيْ: فَلْيَحْتَرِزْ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ، قِيلَ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ قِتَالُهُ مَعَ الْكُفَّارِ، وَالضَّرْبُ فِي وُجُوهِهِمْ أَنْجَحُ لِلْمَقْصُودِ وَأَرْجَحُ لِلْمَرْدُودِ. (فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) : أَيْ: صُورَةِ الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَعْضَائِهِ وَمَعْدِنُ جَمَالِهِ وَمَنْبَعُ حَوَاسِّهِ، فَلَا تُغَيِّرُوهُ أَوْ عَلَى صُورَةِ آدَمَ أَيْ عَلَى صُورَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ لَمْ يَخْلُقْ عَلَيْهَا غَيْرَهُ أَيِ اللَّهُ، وَالْإِضَافَةُ لِلتَّكْرِيمِ كَمَا فِي: بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ هَذِهِ الصُّورَةَ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا بِيَدِهِ، وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ بِالسُّجُودِ لَهَا، فَأَكْرِمُوهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ: عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَضْرُوبِ هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْمَرَامِ فَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى آدَمَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَفِيهِ وُجُوهٌ

أَحَدُهَا: أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ: وَمَعْنَى الْإِضَافَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ نَفْسِهِ، بِأَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ مَبْدَأِ فِطْرَتِهِ إِلَى مُنْقَرَضِ عُمْرِهِ وَلَمْ تَتَفَاوَتْ قَامَتُهُ وَلَمْ تَتَغَيَّرْ هَيْئَتُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ أَوَّلًا نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عِظَامًا وَأَعْصَابًا عَارِيَةً، ثُمَّ عِظَامًا وَأَعْصَابًا مَكْسُوَّةً لَحْمًا، ثُمَّ حَيَوَانًا مُخَبَّيًا فِي الرَّحِمِ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ بَلْ يَتَغَذَّى مِنْ عِرْقٍ كَالنَّبَاتِ، ثُمَّ يَكُونُ مَوْلُودًا رَضِيعًا، ثُمَّ طِفْلًا مُتَرَعْرِعًا ثُمَّ مُرَاهِقًا ثُمَّ شَابًّا ثُمَّ كَهْلًا ثُمَّ شَيْخًا. ثَانِيهَا: أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ حَالٍ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّهُ يُوصَفُ مَرَّةً بِالْعِلْمِ، وَأُخْرَى بِالْجَهْلِ وَتَارَةً بِالْغِوَايَةِ وَالْعِصْيَانِ وَأُخْرَى بِالْهِدَايَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَلَحْظَةً يُقْرَنُ بِالشَّيْطَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْعِصْيَانِ وَالْإِخْرَاجِ عَنِ الْجِنَانِ وَلَحْظَةً يَتَّسِمُ بِسِمَةِ الِاجْتِبَاءِ وَيُتَوَّجُ بِتَاجِ الْخِلَافَةِ وَالِاصْطِفَاءِ وَبُرْهَةً يُسْتَعْمَلُ بِتَدْبِيرِ الْأَرَضِينَ وَسَاعَةً يَصْعَدُ بِرُوحِهِ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَطَوْرًا يُشَارِكُ الْبَهَائِمَ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَنْكَحِهِ وَطَوْرًا يُسَابِقُ الْكُرُوبِيِّينَ فِي فِكْرِهِ وَذِكْرِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَهْلِيلِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى اخْتَرَعَهَا اخْتِرَاعًا عَظِيمًا فِي خَلْقِهِ، إِذْ كَلُّ مَخْلُوقٍ قَدْ تَقَدَّمَ أَمْثَالٌ لَهُ، فَيُخْلَقُونَ عَلَى صُورَةِ أَمْثَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا آدَمُ فَاخْتُرِعَ خَلْقًا جَدِيدًا عَجِيبًا مَلَكِيُّ الرُّوحِ، حَيَوَانِيُّ الْجِسْمِ، مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، فَلَمْ يُوجَدْ عَلَى مِثَالٍ لَهُ تَقَدَّمَ كَأَنَّهُ قَالَ: ارْتَجَلَ صُورَتَهُ اخْتِرَاعًا لَا تَشْبِيهًا بِمُقَدَّمٍ، وَلَا مُحَاذِيًا بِخَلْقٍ آخَرَ، بَلْ تَوَلَّى الْقَدِيمُ بِنَفْسِهِ خَلْقَ هَذِهِ الصُّورَةِ إِبْدَاعًا جَدِيدًا لَمْ يَسْبِقْهُ مَا يُشْبِهُهُ بِصِفَةٍ مَا، وَتَعْظِيمُ وَجْهِ الْإِنْسَانِ إِمَّا لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَجْزَائِهِ مِنَ الْإِنْسَانِ، إِذْ أَكْثَرُ الْحَوَاسِّ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا عُدِمَ عُدِمَ الْكُلُّ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ إِضْمَارٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا الْمَضْرُوبُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، فَاجْتَنِبُوا ضَرْبَ الْعُضْوِ الْأَشْرَفِ احْتِرَامًا لَهُ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ وَجْهَ آدَمَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَضْرُوبِ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: وَهُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْوَجْهِ يَعْنِي فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى كَرَّمَهُ وَشَرَّفَهُ بِأَحْسَنِ صُورَةٍ، وَجَمَعَ فِيهِ الْمَحَاسِنَ وَالْحَوَاسَّ وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَالضَّرْبُ فِي الْوَجْهِ قَدْ يَنْقُصُهَا وَيُشَوِّهُ الْحُسْنَ وَيُظْهِرُ الشَّيْنَ الْفَاحِشَ وَلَا يُمْكِنُ سَتْرُهُ، وَخُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، فَلَا تَضْرِبْهُ تَكْرِيمًا لِصُورَةِ آدَمَ ; فَإِنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَ فَقَدْ أَهَنْتَهَا وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ مُحَمَّدًا فَتَلْعَنُونَهُ أَنْكَرَ اللَّعِينَ إِجْلَالًا لِاسْمِهِ» ) . كَمَا مَنَعَ الضَّرْبَ عَلَى الْوَجْهِ تَعْظِيمًا لِصُورَةِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ قَالَ: وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا كَالْإِضَافَةِ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ، لِمَا صَحَّ مِنْ طُرُقِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ ثَابِتٌ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مَنْ نَقَلَهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ لَهُ وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ اهـ كَلَامُهُ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ. أَوَّلُهَا: أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صُورَةً لَا كَالصُّوَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ ; لِأَنَّ الصُّورَةَ تُفِيدُ التَّرْكِيبَ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُحْدَثٌ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: الْعِلَّةُ وَالْمَعْلُولُ مَدْفُوعَانِ بِقَوْلِهِ: لَا كَالصُّوَرِ، فَهُوَ نَظِيرٌ لِكَلَامِ السَّلَفِ فِي إِثْبَاتِ الْيَدِ وَالْعَيْنِ لَهُ تَعَالَى مَعَ التَّنْزِيهِ عَنِ الْجَارِحَةِ لَهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَقَالَتِ الْمُجَسِّمَةُ: جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ لِمَا سَمِعُوا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ طَرَدُوا هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. أَقُولُ: إِنَّ الْيَدَ وَالْعَيْنَ وَالشَّيْءَ، وَكَذَا الصُّورَةَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا ثَبَتَ إِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ تَعَالَى، فَيُحَبُّ إِثْبَاثُهَا وَتَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَمَّا يُرَادِفُهَا بِخِلَافِ الْجِسْمِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِطْلَاقَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا فِي كِتَابٍ، وَلَا فِي سُنَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ لَهُ سُبْحَانَهُ. قَالَ: الْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي صُورَةٍ لَا كَالصُّوَرِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ عَلَى رَأْيِهِ يَقْتَضِي خَلْقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، فَالصُّورَتَانِ عَلَى رَأْيِهِ سَوَاءٌ، فَإِذَا قَالَ: لَا كَالصُّوَرِ نَاقَضَ كَلَامَهُ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ عَدَمِ الْمُنَاقَضَةِ فِي كَلَامِهِ عَلَى مُقْتَضَى مَرَامِهِ فَإِنَّهُ أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ آدَمَ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، صُورَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ حَيْثُ اتَّصَفَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، مَعَ أَنَّ الْحَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مَحَلَّهُ. وَثَانِيهَا: قَوْلُ الْقَاضِي إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى خُلِقَ آدَمُ عَلَى صُورَةٍ اجْتَبَاهَا وَجَعَلَهَا نُسْخَةً مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ، إِذْ مَا مِنْ مَوْجُودٍ إِلَّا وَلَهُ مِثَالٌ فِي صُورَتِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْإِنْسَانُ عَالَمٌ صَغِيرٌ أَقُولُ: بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ

عَالَمٌ كَبِيرٌ لِحَدِيثِ: ( «لَا يَسَعُنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي وَلَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» ) قَالَ: ثُمَّ إِنَّ مَجْمَعَ مَحَاسِنِهِ وَمَظْهَرَ لَطَائِفِ الصُّنْعِ فِيهِ هُوَ الْوَجْهُ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهِ وَيَتَحَرَّزَ عَمَّا يُشَوِّهُهُ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجْرَحَ وَيُقَبَّحَ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ احْتَمَلَ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا. قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الصُّورَةَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ أَيْ: خُلِقَ آدَمُ عَلَى حَالِهِ وَشَأْنِهِ فِي كَوْنِهِ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ، مَالِكًا لِلْحَيَوَانَاتِ فِي كَوْنِهَا مُسَخَّرَاتٍ لَهُ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] تَعْظِيمًا وَاحْتِرَامًا بِشَأْنِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالتَّقْبِيلِ وَالِاسْتِسْلَامِ تَعْظِيمًا، كَيَمِينِ الْمَلِكِ فِي حَقِّ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَإِذَا الْإِضَافَةُ فِيهِ لَيْسَتْ كَإِضَافَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّشْرِيفِ بَلِ الْكَلَامُ وَارِدٌ عَلَى التَّمْثِيلِ وَالِاسْتِعَارَةِ، وَسُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] قَالَ: صُورَةُ الْمَلَكِ الَّذِي تَوَلَّاهَا فَخُلِقَ آدَمُ عَلَيْهَا وَمُلْكُهُ مِنْ مُلْكِهِ مَا تَوَلَّى، وَسُئِلَ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَذَكَرَ خَلْقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، وَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْمَقَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3526 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ كَشَفَ سِتْرًا فَأَدْخَلَ بَصَرَهُ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَرَأَى عَوْرَةَ أَهْلِهِ فَقَدْ أَتَى حَدًّا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنَّهُ حِينَ أَدْخَلَ بَصَرَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، مَا عَيَّرْتُ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَرَّ الرَّجُلُ عَلَى بَابٍ لَا سِتْرَ لَهُ غَيْرِ مُغْلَقٍ، فَنَظَرَ، فَلَا خَطِيئَةَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْخَطِيئَةُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3526 - (عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَشَفَ) : أَيْ رَفَعَ وَأَزَالَ (سِتْرًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: سِتَارَةً وَحَاجِزًا (فَأَدْخَلَ بَصَرَهُ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ) : أَيْ: فِي الْكَشْفِ وَالدُّخُولِ (فَرَأَى عَوْرَةَ أَهْلِهِ) : أَيْ خَلَلَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَمَا يَسْتُرُونَهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْعَوْرَةَ مَا يُحَاذَرُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، وَسُمِّيَتْ عَوْرَةً لِاخْتِلَالِ سَتْرِ النَّاسِ وَتَحَفُّظِهِمْ عَنْهَا، وَالْعَوْرَةُ الْخَلَلُ (فَقَدْ أَتَى حَدًّا) : أَيْ: فَعَلَ شَيْئًا يُوجِبُ الْحَدَّ أَيِ التَّعْزِيزَ (لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ) : اسْتِئْنَافٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْعِلَّةِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَتَى أَمْرًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَإِلَيْهِ يَنْظُرُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَلَوْ أَنَّهُ حِينَ أَدْخَلَ بَصَرَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ) : أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ (فَفَقَأَ) : أَيْ: قَلَعَ (عَيْنَهُ، مَا عُيَّرْتُ عَلَيْهِ) : أَيْ: مَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْعَيْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعُقُوبَةُ الْمَانِعَةُ عَنْ إِعَادَةِ الْجَانِي، فَالْمَعْنَى فَقَدْ أَتَى مُوجِبَ حَدٍّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَشْرَفُ وَالْمُظْهِرُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَاجِزُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ كَالْحِمَى، فَقَوْلُهُ: لَا يَحِلُّ صِفَةٌ فَارِقَةٌ تُخَصِّصُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ بِالْمُرَادِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِيقَاعُ قَوْلِهِ: (وَإِنَّ مَرَّ الرَّجُلُ عَلَى بَابٍ لَا سِتْرَ لَهُ) : مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: مَنْ كَشَفَ سِتْرًا إِلَخْ. (غَيْرِ مُغْلَقٍ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَقِيلَ بِكَسْرِهَا: أَيْ: غَيْرِ مَرْدُودٍ، وَغَيْرُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِيَةِ، وَقِيلَ مَجْرُورٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ بَابٍ (فَنَظَرَ) : مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ (فَلَا خَطِيئَةَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْخَطِيئَةُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ) : فِيهِ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاجِبٌ إِمَّا السِّتْرَ وَإِمَّا الْغَلْقَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: (أَيُّمَا رَجُلٍ كَشَفَ سِتْرًا فَأَدْخَلَ بَصَرَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَقَدْ أَتَى حَدًّا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فَقَأَ عَيْنَهُ لَهُدِرَتْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى بَابٍ لَا سُتْرَةَ عَلَيْهِ فَرَأَى عَوْرَةَ أَهْلِهِ فَلَا خَطِيئَةَ عَلَيْهِ إِنَّمَا الْخَطِيئَةُ عَلَى أَهْلِ الْبَابِ) .

3527 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3527 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَعَاطَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُتَنَاوَلَ (السَّيْفُ مَسْلُولًا) : أَيْ: خَارِجًا عَنْ غِمْدِهِ حَذَرًا. مِنْ أَنْ يَقَعَ خَطَأً أَوْ يَحْصُلَ رَوْعٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ.

3528 - وَعَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ سَمُرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقَدَّ السَّيْرُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3528 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) : أَيِ: الْبَصْرِيِّ (عَنْ سَمُرَةَ) : أَيِ: ابْنِ جُنْدُبٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقَدَّ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُقْطَعُ طُولًا أَوْ مُطْلَقًا (السَّيْرُ) : أَيْ: دَوَالُّ النَّعْلِ (بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ) : لِئَلَّا تَعْقِرَ الْحَدِيدَةُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: النَّهْيُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ وَشَفَقَةٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3529 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «مَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3529 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ) : أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قُتِلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (دُونَ دِينِهِ) : أَيْ: قُدَّامَ دِينِهِ قَالَ الشَّاعِرُ: تُرِيكَ الْقَذَى دُونَهَا وَهِيَ دُونَهُ أَوْ عِنْدَ حِفْظِ دِينِهِ. (فَهُوَ شَهِيدٌ) : وَهَذَا إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إِذَا قَصَدَ الْمُخَالِفُ مِنَ الْكَافِرِ أَوِ الْمُبْتَدَعِ خُذْلَانَهُ فِي دِينِهِ، أَوْ تَوْهِينَهُ وَهُوَ يَذُبُّ عَنْهُ، وَيَحْجِزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ كَالْحَامِي يَذُبُّ عَنْ حَقِيقَتِهِ. (وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ) : أَيْ: عِنْدَ مُحَافَظَةِ مَحَارِمِهِ (فَهُوَ شَهِيدٌ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قُصِدَ مَالُهُ أَوْ دَمُهُ أَوْ أَهْلُهُ فَلَهُ دَفْعُ الْقَاصِدِ بِالْأَحْسَنِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ إِلَّا بِالْمُقَاتَلَةِ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: ( «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمِنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالضِّيَاءُ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ بِلَفْظٍ جَامِعٍ، وَهُوَ: ( «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) .

3530 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ: بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي - أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ» -) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: (الرِّجْلُ جُبَارٌ) ذُكِرَ فِي (بَابِ الْغَضَبِ) . وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3530 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ) : أَيْ: بِالْبَاطِلِ (عَلَى أُمَّتِي - أَوْ قَالَ: عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ. (وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: (الرِّجْلُ) : أَيْ: رِجْلُ الدَّابَّةِ (جُبَارٌ) : أَيْ: هَدَرٌ (ذُكِرَ فِي بَابِ الْغَضَبِ) : فَإِسْقَاطُهُ عَنْ تَكْرِيرٍ مَعَ أَنَّ عَكْسَهُ هُوَ الْأَنْسَبُ بِالْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[باب القسامة]

[بَابُ الْقَسَامَةِ]

(2) بَابُ الْقَسَامَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3531 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا حَدَّثَا «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَبِّرِ الْكُبْرَ) - قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: يَعْنِي لِيَلِيَ الْكَلَامَ الْأَكْبَرُ - فَتَكَلَّمُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَحِقُّوا قَتِيلَكُمْ أَوْ قَالَ صَاحِبَكُمْ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرٌ لَمْ نَرَهُ قَالَ: فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ فِي أَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ فَفَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ بِمِائَةِ نَاقَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [2]- بَابُ الْقَسَامَةِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهِيَ أَيْمَانٌ تُقْسَمُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الْمُدَّعِينَ لِدَمِهِ عِنْدَ جَهَالَةِ الْقَاتِلِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا وَفِي الْمُغْرِبِ: الْقَسَمُ الْيَمِينُ، يُقَالُ: أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَقْسَامًا وَالْقَسَامَةُ اسْمٌ مِنْهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْأَقْسَامِ، ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ يُقْسِمُونَ قَسَامَةً وَقِيلَ: هِيَ الْأَيْمَانُ تُقْسَمُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ. قَالَ الشَّمَنِيُّ: الْقَسَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ لِأَقْسَمَ، أَوِ اسْمٌ لِمَصْدَرِهِ، وَقِيلَ: أَهْلُ اللُّغَةِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ سُمُّوا بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ وَسَبَبُهَا وُجُودُ الْقَتْلِ فِي الْمَحَلَّةِ، وَأَمَّا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَرُكْنَهَا. قَوْلُهُمْ: بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقْسِمُ رَجُلًا حُرًّا عَاقِلًا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي قَسَامَةِ الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ، وَحُكْمُهَا الْقَضَاءُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ بَعْدَ الْحَلِفِ سَوَاءٌ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَوِ الْخَطَأِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: صُورَةُ قَتِيلِ الْقَسَامَةِ أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ وَادَّعَى وَلِيُّهُ عَلَى رَجُلٍ أَوْ عَلَى جَمَاعَةٍ قَتْلَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ لَوْثٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي كَأَنْ وَجَدَ فِي مَحَلَّتِهِمْ وَكَانَ بَيْنَ الْقَتِيلِ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: حَدِيثُ الْقَسَامَةِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، وَقَاعِدَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَبِهِ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ إِبْطَالُ الْقَسَامَةِ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا هَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِهَا أَمْ لَا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ: لَا يَجِبُ بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَحْلِفُ فِي الْقَسَامَةِ. فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: يَحْلِفُ الْوَرَثَةُ وَيَجِبُ الْحَقُّ بِحَلِفِهِمْ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يُسْتَحْلَفُ خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَتَحَرَّاهُمُ الْوَلِيُّ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَمَا عَلِمْنَا قَاتِلَهُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا قَضَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِمْ بِالدِّيَةِ. 3531 - (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ الْأَنْصَارِيَّ، «أَصَابَهُ سَهْمٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا شَهِيدٌ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) وَانْفَضَّتْ جِرَاحَتُهُ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُثَلَّثَةٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ وَأَبَا عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّ الْأَوْسِيَّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (أَنَّهُمَا حَدَّثَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْحَارِثِيُّ، أَخُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ أَبِي مُحَيِّصَةَ، وَهُوَ الْمَقْتُولُ بِخَيْبَرَ، وَذَكَرَهُ فِي الْقَسَامَةِ. (وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَنْصَارِيٌّ حَارِثِيٌّ يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، شَهِدَ أُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَعْدٌ. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ مُشَدَّدَتَيِ الصَّادِ صَحَابِيَّانِ. وَقَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ، فِي حَاشِيَةِ الْمُوَطَّأِ: إِنَّ تَشْدِيدَ الْيَاءِ فِيهِمَا أَشْهَرُ اللُّغَتَيْنِ، وَفِي التَّقْرِيبِ: يَجُوزُ فِيهِمَا تَشْدِيدُ الْبَاءِ مَكْسُورَةً، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا سَاكِنَةً، وَالْأَشْهَرُ التَّشْدِيدُ. قُلْتُ: وَعَلَيْهِ النُّسَخُ الْمُصَحَّحَةُ وَالْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ. (أَتَيَا خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ) : اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى النَّخِيلِ (فَقُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ) : أَيْ: أَخُو الْقَتِيلِ (وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ) : وَهُمَا مِنْ أَوْلَادِ أَعْمَامِ الْمَقْتُولِ (إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكَلَّمُوا) : أَيْ: أَرَادُوا التَّكَلُّمَ إِلَى أَمْرِ صَاحِبِهِمْ) : أَيْ: قَتِيلِهِمْ (فَبَدَأَ) : أَيْ: بِالْكَلَامِ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ) : أَيْ: مِنَ الثَّلَاثَةِ (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَبِّرِ الْكُبْرَ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: عَظِّمْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ يَعْنِي

قَدِّمْهُ بِالْكَلَامِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ عَظِّمْهُمْ بِتَفْوِيضِ الْكَلَامِ إِلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ الْكُبْرَ الْكُبْرَ أَيْ كَبِّرِ الْكُبْرَ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ الْكُبْرَ الْكُبْرَ فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ كَبُرَ قَوْمَهُ إِذَا كَانَ أَقْعَدَهُمْ فِي النَّسَبِ وَهُوَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى جَدِّهِ الْأَكْبَرِ إِرْشَادًا إِلَى الْأَدَبِ فِي تَقْدِيمِ الْأَسَنِّ، وَرُوِيَ كَبِّرِ الْكُبْرَ أَيْ قَدِّمِ الْأَكْبَرَ (قَالَ: يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) أَيِ الرَّاوِي (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ كَبِّرِ الْكُبْرَ (لِيَلِيَ الْكَلَامَ) بِالنَّصْبِ (الْأَكْبَرُ) بِالرَّفْعِ مِنْ وَلِيَ الْأَمْرَ وَتَوَلَّاهُ إِذَا فَعَلَ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ هَذَا وَفِي النُّسَخِ لِيَلِيَ بِكَسْرِ اللَّامَيْنِ وَفَتْحِ الْيَاءَيْنِ وَالظَّاهِرُ سُكُونُ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ، وَمَعَ هَذَا يُحْمَلُ عَلَى لُغَةِ مَنْ لَمْ يَحْذِفْ حَرْفَ الْعِلَّةِ فِي الْمَجْزُومِ وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى كَبِّرِ الْكُبْرَ وَاللَّامُ لِلْأَمْرِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ وَالتَّقْدِيرُ إِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَبِّرِ الْكُبْرَ، لِيَلِيَ الْكَّلَامَ الْأَكْبَرُ فَحِينَئِذٍ لَا إِشْكَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ الْأَكْبَرَ أَحَقُّ بِالْإِكْرَامِ وَبِالْبَدَاءَةِ بِالْكَلَامِ، وَجَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحُدُودِ وَجَوَازُ وَكَالَةِ الْحَاضِرِ ; لِأَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْقَتِيلِ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا عَمِّهِ (فَتَكَلَّمُوا) أَيْ فَتَكَلَّمَ كَبِيرُهُمْ فِي قَتِيلِهِمْ (قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَحِقُّوا) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ تَغْلِيبًا لِلْوَارِثِ عَلَى غَيْرِهِ (قَتِيلَكُمْ) أَيْ دِيَتَهُ أَوْ قِصَاصَهُ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ أَئِمَّتِنَا وَمَنْ تَبِعَهُمْ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالثَّانِي قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (أَوْ قَالَ صَاحِبَكُمْ) شَكَّ الرَّاوِي (أَيْمَانُ خَمْسِينَ) بِالْإِضَافَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ (مِنْكُمْ) فِيهِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْيَمِينِ فِي الْقَامَةِ بِالْمُدَّعِي وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهَذَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِهَا لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا سَائِرُ الْأَحْكَامِ وَلِلشَّارِعِ أَنْ يَخُصَّ وَعِنْدَنَا يُبْدَأُ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى قَضِيَّةِ سَائِرِ الدَّوَاعِي كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا وَفِيهِ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ بِطَرِيقِ الْإِفْتَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا بِطْرِيقِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ حُضُورِ الْخَصْمِ حِينَئِذٍ ; وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَقْتُولُ عَبْدُ اللَّهِ وَلَهُ أَخٌ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَلَهُمَا ابْنَا عَمٍّ وَهُمَا مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ وَهُمَا أَكْبَرُ سِنًّا مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُو الْقَتِيلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ قِيلَ لَهُ: كَبِّرِ الْكُبْرَ. أَيْ لِيَتَكَلَّمْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ، وَحَقِيقَةُ الدَّعْوَى إِنَّمَا هِيَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا حَقَّ فِيهَا لِابْنَيْ عَمِّهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْأَكْبَرُ وَهُوَ حُوَيِّصَةُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِكَلَامِهِ حَقِيقَةَ الدَّعْوَى بَلْ سَمَاعَ صُورَةِ الْقَضِيَّةِ فَإِذَا أُرِيدَ حَقِيقَةُ الدَّعْوَى تَكَلَّمَ صَاحِبُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَكَّلَ حُوَيِّصَةَ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالْوَارِثُ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَاصَّةً، وَالْيَمِينُ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ أَطْلَقَ الْجَوَابَ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَبِسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَارِثُ كَمَا سَمِعَ كَلَامَ الْجَمْعِ فِي صُورَةِ الْقَتْلِ وَكَيْفِيَّةَ مَا جَرَى لَهُ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الدَّعْوَى وَقْتَ الْحَاجَةِ مُخْتَصَّةٌ بِالْوَارِثِ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ السِّنِّ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْفَضَائِلِ كَالْإِمَامَةِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرٌ) أَيْ صُدُورُ الْقَتْلِ أَمْرٌ (لَمْ نَرَهُ) أَيْ لَمْ نُبْصِرْهُ أَوْ لَمْ نَعْلَمْهُ (قَالَ: فَتُبَرِّئُكُمْ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا (يَهُودُ) أَيْ فَيَحْلِفُ الْيَهُودُ لِتُبَرِّيَكُمْ مِنْ أَنْ تَحْلِفُوا (فِي أَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ) بِالْإِضَافَةِ وَتَرْكِهَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ تِلْكَ الْيَمِينِ إِذَا نَكَلَ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ بَلْ تُرَدُّ عَلَى الْآخَرِ وَعَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي تَحْلِيفِهِمْ عِنْدَ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَيْهِمْ وَبَرَاءَتِهِمْ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ أَيْمَانُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَشَهَادَتِهِمْ قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِاسْتِحْقَاقِ الْيَمِينِ اسْتِحْقَاقَ دِيَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حَثْمَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ» ، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيَسْتَحِقُّ دِيَةَ قَتِيلِهِ دُونَ الْقِصَاصِ لِضَعْفِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ ابْتِدَاءٌ دَخِيلٌ فِي الْإِثْبَاتِ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي بَلْ يَخْتَارُ الْإِمَامُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ صُلَحَاءِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ وَحَصَلَ اللَّوْثُ فِي حَقِّهِمْ وَيُحَلِّفُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَرَفُوا لَهُ قَتِيلًا، ثُمَّ يَأْخُذُ الدِّيَةَ مِنْ أَرْبَابِ الْخُطَّةِ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَمِنْ سُكَّانِهَا، وَهُوَ يُخَالِفُ الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ كُلُّهَا مُتَطَابِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالْمُدَّعِينَ، وَجَعَلَ يَمِينَ الرَّدِّ عَلَى يَهُودَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ: فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ فِي أَيْمَانِ خَمْسِينَ، فَإِيجَابُ الدِّيَةِ مَعَهَا يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْقِيَاسَ أَيْضًا، إِذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُصُولِ الْيَمِينُ مَعَ الْغَرَامَةِ، بَلْ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِلْبَرَاءَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَلِفُ أَوَّلًا فَلَمْ يَحْلِفْ رُدَّ الْحَلِفُ عَلَى الْآخَرِ وَإِنَّ مَنْ تُوَجَّهَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ حَلَفَ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ أَيْمَانُ الْكَفَرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ) أَيْ هُمْ قَوْمٌ كَفَرَةٌ لَا تُقْبَلُ أَيْمَانُهُمْ أَوْ كَيْفَ تُعْتَبَرُ أَيْمَانُهُمْ (فَفَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَعْطَاهُمُ الْفِدَاءَ (مِنْ قِبَلِهِ) بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا وَدَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِهِ أَيْ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَرِهَ إِبْطَالَ

الدَّمِ وَإِهْدَارَهُ وَلَمْ يَرَ غَيْرَ الْيَمِينِ عَلَى الْيَهُودِ، وَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ رَاضِينَ بِأَيْمَانِهِمْ وَاثِقِينَ عَلَيْهَا (وَفِي رِوَايَةٍ «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ» ) قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ وَيَثْبُتُ حَقُّكُمْ عَلَى مَنْ حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ (فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَعْطَى دِيَتَهُ (مِنْ عِنْدِهِ بِمِائَةِ نَاقَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الشَّمَنِيُّ: أَخْرَجَ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ حَتَّى إِذَا كَانَا بِخَيْبَرَ تَفَرَّقَا فِي بَعْضٍ مِنْ هُنَالِكَ ثُمَّ إِذَا مُحَيِّصَةُ يَجِدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلًا فَدَفَنَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَحُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَتَكَلَّمَ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكُبْرَ الْكُبْرَ يُرِيدُ السِّنَّ، وَفِي لَفْظٍ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ قَالُوا: لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ قَالَ: تَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ قَالُوا: لَيْسُوا مُسْلِمِينَ. وَفِي لَفْظٍ: كَيْفَ تُقْبَلُ أَيْمَانُ قَوْمٍ كَفَّارٍ، «فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ» قَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) أَيْ لِخُلُوِّ الْمَصَابِيحِ هَذَا عَنْ ذِكْرِ الْحِسَانِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3532 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: «أَصْبَحَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَقْتُولًا بِخَيْبَرَ، فَانْطَلَقَ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَلَكُمْ شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى قَاتِلِ صَاحِبِكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ يَهُودُ وَقَدْ يَجْتَرِؤُنَ عَلَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا قَالَ: فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَاسْتَحْلِفُوهُمْ، فَأَبَوْا، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3532 - (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَصْبَحَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ (مَقْتُولًا بِخَيْبَرَ فَانْطَلَقَ أَوْلِيَاؤُهُ) أَيْ وَلَدُهُ وَابْنَا عَمِّهِ (إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ) أَيْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ: أَلَكُمْ شَاهِدَانِ) أَيْ عَدْلَانِ (يَشْهَدَانِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ هُنَاكَ وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَتْلِ (أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا هُمْ يَهُودُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْرِيفُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَإِتْيَانُ إِنَّمَا الْمُفِيدُ لِلْحَصْرِ مَعَ مَنْ يَعْرِفُهُمْ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَصْفُ الَّذِي اشْتُهِرَ وَتُعُورِفَ مِنْهُمْ مِنَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالنِّفَاقِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي يَعْنِي لَيْسَ لَنَا شَاهِدَانِ وَهُمْ أَدْهَى وَأَنْكَرُ مِنْ أَنْ يُبَاشِرُوا قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُؤْخَذُونَ بِهِ (وَقَدْ يَجْتَرِؤُنَ عَلَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا) أَيْ مِنَ النِّفَاقِ وَمُخَادَعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَحْرِيفِ الْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَاسْتَحْلِفُوهُمْ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ مَا قَبْلَهُ أَمْرَانِ (فَأَبَوْا) أَيْ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ عَنِ اسْتِحْلَافِ الْيَهُودِ (فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَقُولُ: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ صَرِيحٌ فِي مَأْخَذِ مَذْهَبِنَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْقَسَامَةُ فِي مَيِّتٍ بِهِ جُرْحٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ أَوْ خُرُوجِ دَمٍ مِنْ أُذُنِهِ أَوْ عَيْنِهِ قَيْدُ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْخَالِيَ مِنْهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ عِنْدَنَا وَلَا دِيَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَيْسَ الْأَثَرُ بِشَرْطٍ بَلِ الشَّرْطُ اللَّوْثُ وَهُوَ مَا يُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي مِنْ أَثَرِ دَمٍ عَلَى ثِيَابِهِ أَوْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلٍ أَوْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ قَتَلُوهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَسْأَلِ الِاقْتِصَارَ هَلْ كَانَ بِقَتِيلِهِمْ أَثَرٌ أَمْ لَا وَلِأَنَّ الْقَتْلَ يَحْصُلُ بِمَا لَا أَثَرَ لَهُ كَعَصْرِ الْخُصْيَتَيْنِ وَضَرْبِ الْفُؤَادِ نَاشِبَةً مَنْ بِهِ أَثَرٌ، وَلَنَا أَنَّ الْقَسَامَةَ فِي الدِّيَةِ لِتَعْظِيمِ الدَّمِ وَصِيَانَتِهِ عَنِ الْهَدَرِ وَذَلِكَ فِي الْقَتْلِ دُونَ الْمَوْتِ حَتْفَ الْأَنْفِ، وَالْقَتْلُ يُعْرَفُ بِالْأَثَرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ عَدَمُ ذِكْرِهِ مُطْلَقًا ثُمَّ شَرَطَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي مَحَلَّةٍ لَا يُعْلَمُ قَالَهُ فَحِينَئِذٍ حَلَفَ خَمْسُونَ رَجُلًا حُرًّا مُكَافِئًا مِنْهُمْ يَخْتَارُهُمُ الْوَلِيُّ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا وَهَذَا حِكَايَةُ قَوْلِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا حَلَفَ يَقُولُ مَا قَتَلْتُ وَلَا عَلِمْتُ قَاتِلَهُ، وَلَا يَحْلِفُ الْوَلِيُّ ثُمَّ قَضَى عَلَى أَهْلِهَا الدِّيَةَ وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَبْدَأُ بِالْمُدَّعِينَ فِي الْأَيْمَانِ فَإِنْ حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا، وَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ حَلَفُوا بَرِئُوا وَهُوَ مَذْهَبُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي الزِّنَادِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَوْلِيَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ ابْتِدَاءً: وَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ، وَقَوْلُهُ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: أَفَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ رَجُلًا. وَلَنَا مَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْيَمِينُ عَلَى

الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْأَزْمَعِ قَالَ: وُجِدَ قَتِيلٌ بِالْيَمَنِ بَيْنَ وَادِعَةَ وَأَرْحَبَ، فَكَتَبَ عَامِلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَيْهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ قِسْ مَا بَيْنَ الْحَيَّيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ فَخُذْهُمْ بِهِ قَالَ: فَقَاسُوهُ فَوَجَدَهُ أَقْرَبَ إِلَى وَدَاعَةَ فَأَخَذَنَا وَأَغْرَمَنَا وَأَحْلَفَنَا قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُحَلِّفُنَا وَتُغَرِّمُنَا قَالَ: نَعَمْ، فَأَحْلَفَ خَمْسِينَ رَجُلًا بِاللَّهِ مَا قَتَلْتُ وَلَا عَلِمْتُ قَاتِلًا لَهُ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ عَلَى دَابَّةٍ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا، وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنْ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ حَيَّيْنِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَاسَ إِلَى أَيِّهِمَا أَقْرَبُ فَوُجِدَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَيَّيْنِ بِشِبْرٍ قَالَ الْخُدْرِيُّ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى شِبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْقَى دِيَتَهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ الْقَسَامَةَ» وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَهُمُ الَّذِينَ خَطَّ لَهُمُ الْإِمَامُ وَقَسَمَ الْأَرَاضِيَ بِخُطَّةٍ حِينَ فَتَحَهَا دُونَ السُّكَّانِ أَيْ وَلَيْسَتِ الْقَسَامَةُ عَلَى السُّكَّانِ وَالْمُشْتَرِينَ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْكُلُّ مُشْتَرِكُونَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَهْلُ السِّجْنِ بِمَنْزِلَةِ السُّكَّانِ فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ خِلَافُهُمْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[باب قتل أهل الردة والسعاية بالفساد]

[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3533 - عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ". وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ وَالسُّعَاةُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ السَّاعِي. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3533 - (عَنْ عِكْرِمَةَ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْلُهُ مِنَ الْبَرْبَرِ وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ وَتَابِعِيهَا سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (قَالَ: أُتِيَ) أَيْ جِيءَ (عَلِيٌّ) كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (بِزَنَادِقَةٍ) أَيْ بِقَوْمٍ مُرْتَدِّينَ أَوْ بِجَمْعٍ مُلْحِدِينَ فِي الْقَامُوسِ: الزِّنْدِيقُ بِالْكَسْرِ مِنَ الثَّنَوِيَّةِ أَوِ الْقَائِلُ بِالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ أَوْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَبِالرُّبُوبِيَّةِ أَوْ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ أَوْ هُوَ مُعَرَّبُ زِنْ دِينَ أَيْ دِينِ الْمَرْأَةِ اهـ. وَسُئِلَ عَنِ الزِّنْدِيقِ مَنْ هُوَ فَأَجَابَ: الزِّنْدِيقُ هُوَ مَنْ يَقُولُ بِبَقَاءِ الدَّهْرِ أَيْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَلَا بِالْخَالِقِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْحُرَمَ مُشْتَرَكَةٌ، وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: هُوَ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ إِلَهًا وَلَا حُرْمَةَ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَفِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ رِوَايَتَانِ وَالَّذِي يُرَجَّحُ عَدَمُ قَبُولِ تَوْبَتِهِ كَذَا فِي الْفَتَاوَى لِقَارِئِ الْهِدَايَةِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: زِنْدِيقٌ مَعْرُوفٌ وَزَنْدَقَتُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَوَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ: لَيْسَ زِنْدِيقٌ وَلَا فَرَزِينُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا يَقُولُ الْعَامَّةَ مُلْحِدٌ دَهْرِيٌّ (فَأَحْرَقَهُمْ) أَيْ أَمَرَ عَلِيٌّ بِإِحْرَاقِهِمْ فَأَحْرَقُوهُمْ (فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا) أَنَا تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَوْ كُنْتُ أَنَا بَدَلَهُ لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» ) قَالَ الْقَاضِي: الزِّنْدِيقُ قَوْمٌ مِنَ الْمَجُوسِ وَيُقَالُ لَهُمْ: الثَّنَوِيَّةُ يَقُولُونَ بِمَبْدَأَيْنِ أَحَدُهُمَا النُّورُ وَهُوَ مَبْدَأُ الْخَيْرَاتِ وَالثَّانِي الظُّلْمَةُ وَهُوَ مَبْدَأُ الشُّرُورِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مُعَرَّبٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّنْدِ وَهُوَ كِتَابٌ بِالْفَهْلَوِيَّةِ كَانَ لِزَرَادِشْتَ الْمَجُوسِيِّ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِكُلِّ مُلْحِدٍ فِي الدِّينِ، وَالْجَمْعُ زَّنَادِقَةٌ وَالْهَاءُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ فَإِنَّ أَصْلَهُ زَنَادِيقُ وَالْمُرَادُ بِهِ قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ لِمَا أَوْرَدَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابٍ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: قَوْمٌ مِنَ السَّابِئَةِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ابْتِغَاءً لِلْفِتْنَةِ وَتَضْلِيلًا لِلْأُمَّةِ فَسَعَى أَوَّلًا فِي إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ عَلَى عُثْمَانَ حَتَّى جَرَى عَلَيْهِ مَا جَرَى ثُمَّ انْضَوَى إِلَى الشِّيعَةِ فَأَخَذَ فِي تَضْلِيلِ جُهَّالِهِمْ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْمَعْبُودُ فَعَلِمَ بِذَلِكَ عَلِيٌّ فَأَخَذَهُمْ وَاسْتَتَابَهُمْ فَلَمْ يَتُوبُوا فَحَفَرَ لَهُمْ حُفَرًا وَأَشْعَلَ النَّارَ فِيهَا ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يُرْمَى بِهِمْ فِيهَا، وَالْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ وَإِنْ نُهِيَ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَكِنْ جُوِّزَ لِلتَّشْدِيدِ بِالْكُفَّارِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي النِّكَايَةِ وَالنَّكَالِ كَالْمُثْلَةِ (وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَقَتَلْتُهُمْ عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ لَوْ وَلَوْ يُؤْتَ بِاللَّامِ فِي الثَّانِي وَعُزِلَ عَنِ الْأَوَّلِ لِمَا أَنَّ الْجَوَابَ مَنْفِيٌّ بِلَمْ وَهِيَ مَانِعَةٌ لِدُخُولِهَا، أَوْ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّوْكِيدِ لَا مَحَالَةَ فَأُدْخِلُ فِي الثَّانِي ; لِأَنَّ الْقَتْلَ أَهَمُّ وَأَحْرَى مِنْ غَيْرِهِ لِوُرُودِ النَّصِّ أَنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْعَذَابِ وَلِذَلِكَ أَوْعَدَ بِهَا الْكُفَّارَ، وَالِاجْتِهَادُ يَضْمَحِلُّ عِنْدَهُ، وَلَعَلَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ وَاجْتَهَدَ حِينَئِذٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ لَا عَنْ تَوْقِيفٍ وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمُ الْحَدِيثَ قَالَ: وَيْحَ أُمِّ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَرَدَ مَوْرِدَ الْمَدْحِ وَالْإِعْجَابِ بِقَوْلِهِ وَيَنْصُرُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ شَرْحِ السُّنَّةِ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ فِي الْهِدَايَةِ: وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ

أَبْدَاهَا كُشِفَتْ عَنْهُ لِأَنَّهُ عَسَاءَ اعْتَرَتْهُ أَيْ عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ عَنْهُ، وَدَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا الْقَتْلُ وَالْإِسْلَامُ، وَأَحْسَنُهُمَا الْإِسْلَامُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ وُجُوبَ الْعَرْضِ عَلَى مَا قَالَ إِلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا أَيِ الْمَشَايِخُ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ مُسْتَحَبٌّ ; لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ، وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَدَعْوَةُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ أَسْلَمَ فَبِهَا وَإِلَّا فَيُقْتَلُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا مِنَ الْقُدُورِيِّ يُوجِبُ وُجُوبَ الِانْتِظَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ أَيْ مَكَانَهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ إِنْظَارَهُ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتِ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْرَاءِ الْعُذْرِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ حَيَّانَ بْنِ مُنْقِدٍ فِي الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ضُرِبَتْ لِلتَّأَمُّلِ بِدَفْعِ الْفِتَنِ، وَقِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} [الكهف: 76] وَهِيَ الثَّالِثَةُ إِلَى قَوْلِهِ {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ، فَقَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَتَلْنَاهُ، فَقَالَ: هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَغِيفًا لَعَلَّهُ يَتُوبُ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ لَكِنَّ ظَاهِرَ تُبَرِّئُ عُمَرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَعَلَّهُ طَلَبَ التَّأْجِيلَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِنْظَارٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَهَذَا إِنْ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِنْظَارِ فَهُوَ مَذْهَبُنَا وَالِاسْتِدْلَالُ مُشْتَرَكٌ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَهَذَا كَافِرٌ حَرْبِيٌّ وَإِنْ كَانَ أُرِيدُ بِهِ نَفْيُ اسْتِحْبَابِ الْإِمْهَالِ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْأَوَامِرُ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ كَوْنُ الْمُرْتَدِّ حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ قَتْلُهُ إِبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ وَإِطْلَاقَ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ مُسْتَحَبٌّ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنِ الرَّجُلِ كَيْفَ يُسْلِمُ فَقَالَ: يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَتَبَرَّأُ عَنِ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ ثُمَّ لَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ثَانِيًا قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ أَيْضًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا، إِلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ قَالَ: فَإِنْ عَادَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يَتُبْ فِي الْحَالِ، وَلَا يُؤَجَّلُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ أَبَدًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فَرُوِيَ فِي النَّوَادِرِ وَذَلِكَ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ كَرَّرَ رِدَّتَهُ كَالزِّنْدِيقِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَاللَّيْثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] الْآيَةَ، قُلْنَا: رَتَّبَ عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى شَرْطِ قَوْلِهِ {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] وَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ فِي الزِّنْدِيقِ: لَنَا رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهَذَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ إِذَا صَدَقَ قَبِلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ وَتُضْرَبُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَاخْتَارَهُ قَاضِيخَانُ لِلْفَتْوَى، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَهُوَ حَدِيثٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا مُطْلَقٌ يَعُمُّ الْكَافِرَ أَصْلِيًّا وَعَارِضِيًّا فَكَانَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ مَا رَوَاهُ بَعْدُ أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ بِمَنْ بَدَّلَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ، نَعَمْ لَوْ كَانَتِ الْمُرْتَدَّةُ ذَاتَ رَأْيٍ وَتَبَعٍ تُقْتَلُ لَا لِرِدَّتِهَا بَلْ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تُقْتَلُ النِّسَاءُ إِذَا هُنَّ ارْتَدَدْنَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ يُحْبَسْنَ وَيُدْعَيْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ ارْتَدَّتْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ رَجَعَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ» . فَضُعِّفَ بِمَعْمَرِ بْنِ بَكَّارٍ وَمُعَارِضٌ بِآخَرَ مِثْلِهِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ «عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ فَإِنْ تَابَ فَاقْبَلْ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا فَإِنْ تَابَتْ فَاقْبَلْ مِنْهَا وَإِنْ أَبَتْ فَاسْتَتِبْهَا» . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الثَّوْرِيُّ يَعِيبُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثًا كَانَ يَرْوِيهِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ النَّخَعِيِّ عَنْ عَاصِمٍ بِهِ فَزَالَ انْفِرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي ادَّعَاهُ الثَّوْرِيُّ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: الْمُرْتَدَّةُ تُسْتَتَابُ وَلَا تُقْتَلُ. وَضُعِّفَ بِخِلَافٍ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ الَّذِي يُنْكِرَ الشَّرْعَ فَذَكَرُوا فِيهِ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا، وَالْأَصْوَبُ مِنْهَا قَبُولُهَا مُطْلَقًا لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالثَّانِي لَا يُقْبَلُ وَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ لَكِنَّهُ إِنْ صَدَقَ فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالثَّالِثُ ارْتَابَ مَرَّةً وَاحِدَةً قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ، وَالرَّابِعُ إِنْ أَسْلَمَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ السَّيْفِ فَلَا وَالْخَامِسُ إِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَى الضَّلَالِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَإِلَّا قُبِلَ مِنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3534 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3534 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3535 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حُدَّاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3535 - (وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ) تَأْكِيدٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ الْمُفَادِ بِالسِّينِ (حُدَّاثُ الْأَسْنَانِ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ حَدِيثٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَفِي النِّهَايَةِ: حَدَاثَةُ السِّنِّ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّبَابِ وَأَوَّلِ الْعُمُرِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي رِوَايَةٍ: حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ. جَمْعُ حَدِيثٍ هُوَ نَقِيضُ الْقَدِيمِ كَمَا يُجْمَعُ صَغِيرٌ عَلَى صُغَرَاءَ (سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ) أَيْ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ وَالسَّفَهُ فِي الْأَصْلِ الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ وَسَفَّهَ فُلَانٌ رَأْيَهُ إِذَا كَانَ مُضْطَرِبًا لَا اسْتِقَامَةَ فِيهِ، وَالْأَحْلَامُ الْعُقُولُ وَاحِدُهَا حِلْمٌ بِالْكَسْرِ (يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ) بِالْهَمْزَةِ وَبِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ أَكْثَرُ بِمَعْنَى الْخَلِيقَةِ أَيْ يَنْقُلُونَ مِنْ خَيْرِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْخَلَائِقُ وَيَدَّعُونَ التَّخَلُّصَ مِنَ الْعَلَائِقِ وَالْعَوَائِقِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَتْنَ الْمِشْكَاةِ: مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ. بِتَقَدُّمِ الْخَيْرِ عَلَى الْقَوْلِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: الْمُرَادُ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بِخَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ الْقُرْآنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى ; لِأَنَّ يَقُولُونَ بِمَعْنَى يُحَدِّثُونَ أَوْ يَأْخُذُونَ أَيْ يَأْخُذُونَ مِنْ خَيْرِ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ الْبَرِّيَّةُ، وَيَنْصُرُهُ مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْوِي: الْخَوَارِجُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ. وَقَالَ: إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ» . (لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ) أَيْ حُلُوقَهُمْ فِي النِّهَايَةِ: الْحَنْجَرَةُ رَأْسُ الْغَلْصَمَةِ حَيْثُ تَرَاهُ نَاتِئًا مِنْ خَارِجِ الْحَلْقِ وَالْجَمْعُ الْحَنَاجِرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جَمْعُ حَنْجَرَةٍ وَهِيَ الْحُلْقُومُ أَيْ لَا يَتَعَدَّى مِنْهَا إِلَى الْخَارِجِ (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ) أَيْ يَخْرُجُونَ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ (كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيِ الدَّابَّةِ الْمَرْمِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، فِي الْفَائِقِ: الْمُرُوقُ الْخُرُوجُ وَمِنْهُ الْمَرَقُ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنَ اللَّحْمِ عِنْدَ الطَّبْخِ لِلِائْتِدَامِ بِهِ قَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بِالدِّينِ الطَّاعَةَ أَيْ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْمُفْتَرَضِ الطَّاعَةِ وَيَنْسَلِخُونَ مِنْهَا قَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّمِيَّةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَالتَّاءُ فِيهِ لِنَقْلِ اللَّفْظِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الرَّمِيَّةُ الصَّيْدُ الَّذِي تَرْمِيهِ وَتَقْصِدُهُ يُرِيدُ أَنَّ دُخُولَهُمْ فِي الدِّينِ وَخُرُوجَهُمْ مِنْهُ وَلَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ كَالسَّهْمِ الَّذِي دَخَلَ فِي الرَّمِيَّةِ ثُمَّ يَقُدُّهَا وَيَخْرُجُ مِنْهَا وَلَمْ يَعْلَقْ بِهِ بِهَا شَيْءٌ (فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا) أَيْ عَظِيمًا (لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظَرْفٌ لَأَجْرًا أَوْ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا نَعْتُ الْخَوَارِجِ الَّذِي لَا يَدِينُونَ لِلْأَئِمَّةِ وَيَتَعَرَّضُونَ لِلنَّاسِ بِالسَّيْفِ وَأَوَّلُ ظُهُورِهِمْ كَانَ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ حَتَّى قَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ فِرْقَةٌ مِنْ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَجَازُوا مُنَاكَحَتَهُمُ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَقَبُولَ شَهَادَتِهِمْ، وَسُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقِيلَ أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا، فَقِيلَ: أَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، وَهَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3536 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3536 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَكُونُ) بِالتَّذْكِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ تَكُونُ (أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ) إِشَارَةً إِلَى فِرْقَةِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ خَارِجَةٌ (يَلِي) أَيْ يَتَوَلَّى وَيُبَاشِرُ (قَتْلَهُمْ) قَالَ الْأَشْرَفُ: قَوْلُهُ يَلِي قَتْلَهُمْ إِلَخْ صِفَةٌ لِلْمَارِقَةِ أَيْ يَلِي قَتْلَ الْمَارِقَةِ وَهِيَ الْخَوَارِجُ (أَوْلَاهُمْ) أَيْ أَوْلَى أُمَّتِي وَأَقْرَبُهُمْ (بِالْحَقِّ) يَعْنِي الصَّوَابَ قِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَإِنَّهُ الَّذِي قَتَلَهُمْ حَتَّى تَفَرَّقُوا بِبِلَادِ حَضْرَمَوْتَ وَالْبَحْرَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَقِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ، فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْأُخْرَى عَلَى الْبَاطِلِ. وَقَوْلُهُ: " لِمَنْ بَيْنَهُمَا ". يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَارِقَةُ خَارِجَةً مِنْهُمَا مَعًا قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] الْكَشَّافُ لَمَّا الْتَقَيَا وَصَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يُقَالَ: يَخْرُجَانِ مِنْهُمَا كَمَا يُقَالُ: يَخْرُجَانِ مِنَ الْبَحْرِ وَلَا يَخْرُجَانِ مِنْ جَمِيعِ الْبَحْرِ وَلَكِنْ مِنْ بَعْضِهِ. وَتَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَلْدَةِ وَإِنَّمَا خَرَجْتَ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ مَحَالِّهِ بَلْ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ مِنْ دُورِهِ وَلِهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُ الضَّمِيرَيْنِ فِي الصِّفَةِ إِلَى الْمَارِقَةِ وَالْآخَرُ إِلَى قَوْلِهِ أُمَّتِي اهـ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: شُبِّهَ بِأَهْلِ الْحَقِّ لِغُلُوِّهِمْ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ لِمُخَالَفَتِهِمُ الْإِجْمَاعَ، وَلِذَا قَالَ: فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3537 - وَعَنْ جَرِيرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " لَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3537 - (عَنْ جَرِيرٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَرِيرٌ: أَسَلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيُكْسَرُ (لَا تَرْجِعُنَّ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ (بَعْدِي) أَيْ بَعْدِ صُحْبَتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي (كُفَّارًا) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِلِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُرَادَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، وَثَالِثُهَا أَنَّهُ يُقَرِّبُ مِنَ الْكُفْرِ وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَرَابِعُهَا أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الْكُفَّارِ، وَخَامِسُهَا حَقِيقَةُ الْكُفْرِ أَيْ لَا تَكْفُرُوا بَلْ دُومُوا مُسْلِمِينَ، وَسَادِسُهَا عَنِ الْخَطَّابِيِّ مَعْنَاهُ الْمُتَكَفِّرُ بِالسِّلَاحِ يُقَالُ تَكَفَّرَ الرَّجُلَ بِسِلَاحِهِ إِذَا لَبِسَهُ، وَسَابِعُهَا عَنْهُ أَيْضًا مَعْنَاهُ لَا يُكَفِّرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَتَسْتَحِلُّوا قِتَالَ بَعْضِكُمْ بَعْضًا وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ الرَّابِعُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي عِيَاضٍ اهـ. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ الثَّالِثُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَيَانِ أَوْ يُقَالُ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ الشَّدِيدِ وَقَوْلُهُ (يَضْرِبْ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) بِسُكُونِ الْبَاءِ ضَبَطَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ جَوَابُ النَّهْيِ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ أَيْ إِنْ تَرْجِعُوا يَضْرِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ اسْتِئْنَافٌ وَارِدٌ عَلَى بَيَانِ النَّهْيِ كَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: كَيْفَ نَرْجِعُ كُفَّارًا فَقِيلَ: يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَهُوَ فِعْلُ الْكُفَّارِ أَوْ يُقَالُ لَمْ نَرْجِعْ كُفَّارًا بَعْدَ كَوْنِنَا مُسْلِمِينَ، قِيلَ: يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَرِيرٍ وَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَكِلَاهُمَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

3538 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ حَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَخِيهِ السِّلَاحَ فَهُمَا فِي جُرُفِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دَخَلَاهَا جَمِيعًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قُلْتُ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ: " لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3538 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) بِالتَّاءِ هُوَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ يُقَالُ: إِنَّهُ تَدَلَّى يَوْمَ الطَّائِفِ بِبَكْرَةٍ وَأَسْلَمَ فَكَنَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي بَكْرَةَ وَأَعْتَقَهُ، فَهُوَ مِنْ مَوَالِيهِ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ حَمَلَ أَحَدُهُمَا) أَيْ سَلَّ (عَلَى أَخِيهِ السِّلَاحَ) الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنَ الشَّرْطِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ، وَالْمَعْنَى إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ حَامِلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ السِّلَاحَ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ لِيُطَابِقَ الشَّرْطُ الْجَزَاءَ وَهُوَ قَوْلُهُ (فَهُمَا فِي جُرُفِ جَهَنَّمَ) وَالْجُرُفُ مَا تَجْرُفُهُ السُّيُولُ مِنَ الْأَوْدِيَةِ اهـ وَهُوَ بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِي جَانِبُهَا وَطَرَفُهَا إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] (فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دَخَلَاهَا) أَيْ جَهَنَّمَ (جَمِيعًا) هَذَا الشَّرْطُ مَعَ جَوَابِهِ عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ (وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا) بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ وَأَرَادَ كُلٌّ قَتْلَ الْآخَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ بِسَيْفِهِمَا فَقَتَلَ.

أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ (فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قُلْتُ) وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ (هَذَا الْقَاتِلُ) أَيْ حُكْمُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ (فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ) أَيْ شَأْنُهُ فَإِنَّهُ مَظْلُومٌ (قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَانَ قَتْلَ الْآخَرِ لَا الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَصْدُ أَحَدِهِمَا الدَّفْعَ وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا إِلَّا بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى.

3539 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا فَارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا. وَفِي رِوَايَةٍ فَسَمَّرُوا أَعْيُنَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ: أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَّلَهُمْ بِهَا وَطَرَحَهُمْ بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3539 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ يَنْزِلُ (عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ) بِفَتْحَتَيْنِ قَوْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِيَةَ أَنْفُسٍ (مِنْ عُكْلٍ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ اسْمُ قَبِيلَةٍ ذَكَرَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ أَنَّهُ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْبُخَارِيِّ فَفِي بَعْضِهَا مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ عَلَى الشَّكِّ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ عُكْلٍ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ عُرَيْنَةَ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَهُوَ الصَّوَابُ، رَوَى أَبُو عَوَانَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ: كَانُوا أَرْبَعَةً مِنْ عُرَيْنَةَ وَثَلَاثَةً مِنْ عُكْلٍ (فَأَسْلَمُوا فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ) مِنَ الِاجْتِوَاءِ أَيْ كَرِهُوا هَوَاءَ الْمَدِينَةِ وَمَاءَهَا وَاسْتَوْخَمُوهَا وَلَمْ يُوَافِقْهُمُ الْمُقَامُ بِهَا وَأَصَابَهُمُ الْجِوَاءُ وَهُوَ الْمَرَضُ (فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ يَجُوزُ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ الشُّرْبُ مِنْ أَلْبَانِهَا وَجَوَازُ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَاسَ بَعْضٌ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُ لِمَيْلِ الطِّبَاعِ إِلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ اهـ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَنَجِسٌ لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: فَبَوْلُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ طَاهِرٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ وَرَوْثَهُ طَاهِرَانِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِمَا بِأَنَّ شُرْبَهُمُ الْأَبْوَالَ كَانَ لِلتَّدَاوِي وَهُوَ جَائِزٌ بِكُلِّ النَّجَاسَاتِ سِوَى الْمُسْكِرَاتِ، وَإِنَّمَا أَجَازَ شُرْبَهُمْ أَلْبَانَ إِبِلِ الصَّدَقَةِ ; لِأَنَّهَا لِلْمُحْتَاجِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مِنْهُمْ (فَفَعَلُوا) أَيْ مَا ذَكَرَ (فَصَحُّوا) بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ أَيْ فَرَجَعُوا إِلَى صِحَّتِهِمْ (فَارْتَدُّوا) وَكَأَنَّهُمْ تَشَاءَمُوا بِالْإِسْلَامِ (وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا) أَيْ رُعَاةَ الْإِبِلِ بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ الرَّاعِي أَيْ طَمَعًا لِلْمَالِ (وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ) أَيْ سَاقُوهَا بِمُبَالَغَةٍ بَلِيغَةٍ وَاهْتِمَامٍ تَامٍّ (فَبَعَثَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَغَيْرَهُ (فِي آثَارِهِمْ) أَيْ عَقِبَهُمْ (فَأُتِيَ بِهِمْ) أَيْ جِيءَ بِهِمْ (فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ) أَيْ أَمَرَ بِقَطْعِهِمَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قِيلَ يَعْنِي قَطَعَ يَدَيْ كُلِّ وَاحِدٍ وَرِجْلَيْهِ لَكِنْ يَرُدُّهُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ خِلَافٍ (وَسَمَلَ) بِاللَّامِ أَيْ فَقَأَ (أَعْيُنَهُمْ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُحَارِبِينَ قَوْلُهُ: وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ وَسَمَلَ بِاللَّامِ وَهُمَا بِمَعْنًى قَالَهُ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: سَمَرَ الْعَيْنَ بِالتَّخْفِيفِ كَحَلَهَا بِالْمِسْمَارِ الْمُحْمَاةِ فَيُطَابِقُ السَّمْلَ فَإِنَّهُ فُسِّرَ بِأَنْ يُدْنِيَ مِنَ الْعَيْنِ حَدِيدَةً مُحْمَاةً حَتَّى يَذْهَبَ نَظَرُهَا فَيُطَابِقُ الْأَوَّلَ بِأَنْ تَكُونَ الْحَدِيدَةُ مِسْمَارًا قَالَ: وَضُبِطَا بِالتَّشْدِيدِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَفَسَّرُوا السَّمْلَ بِأَنَّهُ فَقْءُ الْعَيْنِ بِالشَّوْكِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا (ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ لَمْ يَقْطَعْ دِمَاءَهُمْ بِالْكَيِّ مِنَ الْجِسْمِ، الْكَيُّ أَيْ كَيُّ الْعُرُوقِ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ (حَتَّى مَاتُوا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا فَعَلَ بِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مَعَ نَهْيِهِ عَنِ الْمُثْلَةِ إِمَّا لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِالرُّعَاةِ وَإِمَّا لِعِظَمِ جَرِيمَتِهِمْ فَإِنَّهُمُ ارْتَدُّوا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ فِي سِيَاسَتِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ فَقِيلَ كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ مَعَ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ وَقِيلَ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَاصًا وَقِيلَ: النَّهْيُّ عَنِ الْمُثْلَةِ فِي تَنْزِيهٍ (وَفِي رِوَايَةٍ فَسَمَّرُوا) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ كَحَّلُوا أَعْيُنَهُمْ بِمَسَامِيرِ حَدِيدٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّفَرَ فَعَلُوا بِالرُّعَاةِ أَوِ الصَّحَابَةَ بِالنَّفَرِ بِأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ

(وَفِي رِوَايَةٍ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَّلَهُمْ بِهَا) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ (وَطَرَحَهُمْ) أَيْ رَمَاهُمْ (بِالْحَرَّةِ) بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ (يَسْتَسْقُونَ) أَيْ يَطْلُبُونَ الْمَاءَ مِنْ شِدَةِ الْعَطَشِ النَّاشِئِ مِنْ حَرَارَةِ الشَّمْسِ (فَمَا يُسْقَوْنَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (حَتَّى مَاتُوا) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ فَمَا يُسْقَوْنَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَا نَهَى عَنِ السَّقْيِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ وَاسْتَسْقَى لَا يُمْنَعُ الْمَاءَ قَصْدًا، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عَذَابَانِ، وَقِيلَ: كَانَ مَنْعُ الْمَاءِ هَذَا قِصَاصًا، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلطَّهَارَةِ أَنْ يَسْقِيَهُ مُرْتَدًّا يَخَافُ الْمَوْتَ مِنَ الْعَطَشِ وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ بَهِيمَةً وَجَبَ سَقْيُهُ وَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ حِينَئِذٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3540 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3540 - (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّنَا) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ يُحَرِّضُنَا وَيُرَغِّبُنَا (عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ قَطْعِ الْأَطْرَافِ فِي النِّهَايَةِ: مَثَّلْتُ بِالْقَتِيلِ جَدَعْتُ أَنْفَهُ أَوْ أُذُنَهُ أَوْ مَذَاكِيرَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ أَطْرَافِهِ وَالِاسْمُ الْمُثْلَةُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ عَنْ عِمْرَانَ.

3541 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3541 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ) .

3542 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمْرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمْرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرُشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا، وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا قَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ فَقُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: إِنَّهُ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3542 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ عَمَّارٍ الْمَكِّيِّ رَوَى عَنْ جَابِرٍ وَسَمِعَ مُعَاذًا وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ (عَنْ أَبِيهِ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: كُنَّا) وَفِي نُسْخَةٍ كَانَ أَيْ هُوَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ) أَيْ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ إِلَى الْبَرَازِ (فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ مِيمٍ وَقَدْ يُخَفَّفُ طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (مَعَهَا فَرْخَانِ) أَيْ فَرُّوجَتَانِ (فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا) أَيْ فِي غَيْبَتِهَا أَوْ فِي حَضْرَتِهَا (فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ) أَيْ شَرَعَتْ (تُفَرِّشُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَفِي أُخْرَى بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ فِي النِّهَايَةِ هُوَ أَنْ تَفْرُشَ جَنَاحَهَا وَتَقْرُبَ مِنَ الْأَرْضِ وَتُرَفْرِفَ وَالتَّفْرِيشُ أَنْ تَفْتَرِقَ وَتُظَلِّلَ بِجَنَاحَيْهَا عَلَى مَنْ تَحْتَهَا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: فَجَعَلَتْ تَفَرَّشُ أَوْ تُفَرِّشُ بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِنَ التَّفْرِيشِ وَالتَّفَرُّشِ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ أَنَّ التَّفَرُّشَ مِنْ فَرْشِ الْجَنَاحِ بَسْطُهُ وَالتَّفْرِيشُ أَنْ يَرْتَفِعَ فَوْقَهُمَا فَيُظَلِّلَ عَلَيْهِمَا يَعْنِي عَلَى الْفَرْخَيْنِ وَلَا أَرَى الصَّوَابَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ (تَفَرَّشُ) عَلَى بِنَاءِ الْمُضَارِعِ حُذِفَ تَاؤُهُ لِاجْتِمَاعِ التَّاءَيْنِ (فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فَرَجَعَ فَرَأَى تَفَرُّشَهَا (فَقَالَ: مَنْ فَجَّعَ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ فَزَّعَ (هَذِهِ) أَيِ الْحُمَّرَةَ (بِوَلَدِهَا) أَيْ بِسَبَبِ أَخْذِ أَوْلَادِهَا (رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا) الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ ; لِأَنَّ اصْطِيَادَ فَرْخِ الطَّائِرِ جَائِزٌ (وَرَأَى) عَطْفٌ عَلَى فَانْطَلَقَ أَيْ أَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَرْيَةَ نَمْلٍ) أَيْ بَيْتَ نَمْلٍ أَوْ مَوْضِعَ نَمْلٍ (قَدْ حَرَّقْنَاهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ أَحْرَقْنَا نَمْلَهَا (قَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ) أَيِ النَّمْلَ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ (فَقُلْنَا: نَحْنُ قَالَ إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ

لَا يَنْبَغِي) أَيْ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ (أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ) وَهَذَا يُرْشِدُكَ إِلَى فَائِدَةِ صُحْبَةِ الْمُرْشِدِ فَإِنَّهُ فِي سَاعَةٍ مِنْ غَيْبَتِهِ مَعَ بَرَكَةِ حُضُورِهِ وَقَعَ مِنَ الْأَصْحَابِ أَمْرَانِ عَلَى خِلَافِ الصَّوَابِ قَالَ الْقَاضِيَ: إِنَّمَا مَنَعَ التَّعْذِيبَ بِالنَّارِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْعَذَابِ وَلِذَلِكَ أَوْعَدَ بِهَا الْكُفَّارَ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّعْذِيبِ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّارَ فِيهَا لِمَنَافِعِ النَّاسِ وَارْتِفَاقِهِمْ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي الْإِضْرَارِ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِيهِ لِأَنَّهُ رَبُّهَا وَمَالِكُهَا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنَ التَّعْذِيبِ بِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ رَبُّ النَّارِ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِعْمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] أَيْ تَذْكِيرًا لِنَارِ جَهَنَّمَ لِتَكُونَ حَاضِرَةً لِلنَّاسِ يَذْكُرُونَ مَا أُوعِدُوا بِهِ وَعَلَّقْنَا بِهَا أَسْبَابَ الْمَعَايِشِ كُلَّهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ» وَهُوَ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ ضَخْمُ الرَّأْسِ وَالْمِنْقَارِ لَهُ رِيشٌ عَظِيمٌ نِصْفُهُ أَسْوَدُ وَنِصْفُهُ أَبْيَضُ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ: «نَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِلدَّوَاءِ» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «نَهَى عَنْ قَتْلِ الصُّرَدِ وَالضُّفْدَعِ وَالنَّمْلَةِ وَالْهُدْهُدِ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَمَّا نَهْيُهُ عَنْ قَتْلِ النَّحْلِ فَلِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَأَمَّا الْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ فَإِنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِهِمَا لِتَحْرِيمِ لَحْمِهِمَا وَذَلِكَ أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ وَلَا لِضَرَرٍ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ لِتَحْرِيمِ لَحْمِهِ.

3543 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَا يَرْجِعُونَ. حَتَّى يَرْتَدَّ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ، مَنْ قَتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سِيمَاهُمْ قَالَ التَّحْلِيقُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3543 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ» ) بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ أَهْلُ اخْتِلَافٍ وَافْتِرَاقٍ وَقَوْلُهُ (قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ) أَيِ الْقَوْلَ يُقَالُ قُلْتُ قَوْلًا وَقَالًا وَقِيلًا قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] (وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ) بَدَلٌ مِنْهُ وَمُوَضِّحٌ لَهُ وَقَوْلُهُ (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّاطِبِيِّ وَمَنْ يُجَوِّزُهُ أَوِ الْمُرَادُ بِهِ نَفْسُ الِاخْتِلَافِ أَيْ سَيَحْدُثُ فِيهِمُ اخْتِلَافٌ وَتَفَرُّقٌ فَيَفْتَرِقُونَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةَ حَقٍّ وَفِرْقَةَ بَاطِلٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: تَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ، فَقَوْمٌ مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ بِمَا بَعْدَهُ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَهُوَ بَيَانٌ لِإِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ وَتُرِكَتِ الثَّانِيَةُ لِلظُّهُورِ اهـ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيَقْرَءُونَ بِوَاوِ الْعَطْفِ فَهُوَ خَطَأٌ (لَا يُجَاوِزُ) أَيْ قُرْآنُهُمْ أَوْ قِرَاءَتُهُمْ (تَرَاقِيَهُمْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَنَصْبِ الْيَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ فِي النِّهَايَةِ وَهِيَ جَمْعُ التَّرْقُوَةِ وَهِيَ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ نُقْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ وَهُمَا تَرْقُوَتَانِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَوَزْنُهَا فَعْلُوَةٌ بِالْفَتْحِ اهـ كَلَامُهُ. وَفِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ جَنْبَر كُرْدُن قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ أَثَرُ قِرَاءَتِهِمْ عَنْ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ - فَلَا يَعْتَقِدُونَ وَفْقَ مَا يَقْتَضِي اعْتِقَادًا وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا يُوجِبُ عَمَلًا، وَثَانِيهَا أَنَّ قِرَاءَتَهُمْ لَا يَرْفَعُهَا اللَّهُ وَلَا يَقْبَلُهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ تَتَجَاوَزْ حُلُوقَهُمْ، وَثَالِثُهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِالْقُرْآنِ فَلَا يُثَابُونَ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ غَيْرُ الْقِرَاءَةِ (يَمْرُقُونَ) بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ يَخْرُجُونَ (مِنَ الدِّينِ) أَيْ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ (مُرُوقَ السَّهْمِ) بِالنَّصْبِ أَيْ كَمُرُوقِهِ (مِنَ الرَّمِيَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مُرُوقُ السَّهْمِ مَصْدَرٌ أَيْ مِثْلُ مُرُوقِ السَّهْمِ، ضَرَبَ مَثَلَهُمْ فِي دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهُ بِالسَّهْمِ الَّذِي لَا يَكَادُ يُلَاقِيهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّمِ لِسُرْعَةِ نُفُوذِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتَمَسَّكُونَ مِنَ الدِّينِ بِشَيْءٍ وَلَا يَلْوُونَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ سَبَقَ الْفَرْثُ وَالدَّمُ (لَا يَرْجِعُونَ) أَيْ إِلَى الدِّينِ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى.

بُطْلَانِهِمْ (حَتَّى يَرْتَدَّ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: 25] وَالْفُوقُ مَوْضِعُ الْوَتَرِ مِنَ السَّهْمِ وَهُوَ مِنَ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ عَلَّقَ رُجُوعَهُمْ إِلَى الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وَفِيهِ مِنَ اللُّطْفِ أَنَّهُ رَاعَى بَيْنَ التَّمْثِيلَيْنِ الْمُنَاسَبَةَ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ مَثَّلَ أَوَّلًا خُرُوجَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِخُرُوجِ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ وَثَانِيًا فَرْضَ دُخُولِهِمْ فِيهِ وَرُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ بِرُجُوعِ السَّهْمِ عَلَى فُوقِهِ أَيْ مَا خَرَجَ مِنْهُ مِنَ الْوَتَرِ (هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) فِي النِّهَايَةِ الْخَلْقُ النَّاسُ وَالْخَلِيقَةُ الْبَهَائِمُ وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَيُرِيدُ بِهِمَا جَمِيعَ الْخَلَائِقِ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْخَلِيقَةُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ وَإِنَّمَا جَاءَ بِاللَّفْظَيْنِ تَأْكِيدًا لِلْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ وَهُوَ اسْتِيعَابُ أَصْنَافِ الْخَلَائِقِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْخَلِيقَةِ مَنْ خُلِقَ وَبِالْخَلْقِ مَنْ سَيُخْلَقُ قَالَ الْقَاضِي: هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْمُرَاءَاةِ فَاسْتَبْطَنُوا الْكُفْرَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ وَأَشَدُّ تَمَسُّكًا بِالْقُرْآنِ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا (طُوبَى) أَيْ طِيبَةً حَالَّةً حَسَنَةً وَصِفَةً مُسْتَحْسَنَةً قِيلَ طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ أَيْ هِيَ حَاصِلَةٌ (لِمَنْ قَتَلَهُمْ) فَإِنَّهُ يَصِيرُ غَازِيًا (وَقَتَلُوهُ) أَيْ وَلِمَنْ قَتَلُوهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ شَهِيدًا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَذْفِ الْمَوْصُولِ أَوِ الْوَاوِ لِمُجَرَّدِ التَّشْرِيكِ وَتَحْصِيلِ الْجَمْعِ وَالتَّقْدِيرُ طُوبَى لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ قَتْلُهُ إِيَّاهُمْ وَقَتْلُهُمْ إِيَّاهُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى قَاتَلُوا وَقُتِلُوا قَالَ الطِّيبِيُّ: فُعْلَى مِنَ الطِّيبِ فَلَمَّا ضُمَّتِ الطَّاءُ انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَالْمَعْنَى أَصَابَ خَيْرًا مَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ (يَدْعُونَ) أَيِ النَّاسَ (إِلَى كِتَابِ اللَّهِ) أَيْ إِلَى ظَاهِرِهِ (وَيَتْرُكُونَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَحَادِيثَهُ الْمُبَيَّنَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 7] أَيْ فِي مُخَالَفَةِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ جَادِلْهُمْ بِالْحَدِيثِ. وَفِي الْمَثَلِ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَدْرَى بِمَا فِيهِ وَلِذَا قَالَ (وَلَيْسُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ) أَيْ فِي شَيْءٍ مُعْتَدٍّ مِنْ طَرِيقَتِنَا وَهَدْيِنَا الْجَامِعِ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ الْأَشْرَفُ: هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ قَوْلِهِ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ إِرْشَادٌ إِلَى شِدَّةِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَإِلَّا فَمُقْتَضَى التَّرْكِيبِ وَلَيْسُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ قِيلَ وَلَيْسُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ لَأَوْهَمَ أَنْ يَكُونُوا جُهَّالًا لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ كَأَكْثَرِ الْعَوَامِّ وَقَوْلُهُ لَيْسُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ عِدَادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ (مَنْ قَتَلَهُمْ) أَيْ مِنْ أُمَّتِي (كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ بَاقِي أُمَّتِي وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ مِنْ أَجْلِ قِتَالِهِمْ، قَالَ الْأَشْرَفُ: الضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْأُمَّةِ أَيْ مَنْ قَاتَلَهُمْ مِنْ أُمَّتِي أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْ بَاقِي أُمَّتِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا عَلَى تَأْوِيلِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ أَيْ أَهْلُ اخْتِلَافٍ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْفِرْقَةِ الْبَاطِلَةِ وَيَكُونُ أَفْعَلَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} [مريم: 73] وَقَوْلُهُمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُقَاتِلَ أَبْلَغُ فِي الْوِلَايَةِ مِنْهُمْ فِي الْعُدْوَانِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سِيمَاهُمْ) أَيْ عَلَامَتُهُمُ الَّتِي يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِمْ (قَالَ: التَّحْلِيقُ) أَيْ عَلَامَتُهُمُ التَّحْلِيقُ وَهُوَ اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْحَلْقِ كَمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ صِيغَةِ التَّفْعِيلِ الَّتِي لِلتَّكْرِيرِ وَالتَّكْثِيرِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهَذَا الْبِنَاءِ إِمَّا لِتَفْرِيقِ مُتَابَعَتِهِمْ فِي الْحَلْقِ أَوْ لِإِكْثَارِهِمْ مِنْهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ مِنَ الرَّأْسِ وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ مَذْمُومٌ فَإِنَّ الشِّيَمَ وَالْحُلَى الْمَحْمُودَةَ قَدْ يَتَزَيَّا بِهَا الْخَبِيثُ تَرْوِيجًا لِخُبْثِهِ وَإِفْسَادِهِ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ كَوَصْفِهِمْ بِالصَّلَاةِ وَالْقِيَامِ، وَثَانِيهِمَا أَنْ يُرَادَ بِهِ تَحْلِيقُ الْقَوْمِ وَإِجْلَاسُهُمْ حِلَقًا حِلَقًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3544 - وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ لِأَنَّهُ يُرْجَمُ وَرَجُلٌ خَرَجَ مُحَارِبًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ أَوْ يَقْتُلُ نَفْسًا فَيُقْتَلُ بِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3544 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ) أَيْ إِرَاقَةُ دَمِ شَخْصٍ (مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ مُمَيِّزَةٌ لِمُسْلِمٍ لَا كَاشِفَةٌ يَعْنِي إِظْهَارَهُ الشَّهَادَتَيْنِ كَافٍ فِي حَقْنِ دَمِهِ (إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ) أَيْ خِصَالٍ (زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ لِأَنَّهُ يُرْجَمُ) أَيْ يُقْتَلُ بِرَجْمِ الْحِجَارَةِ (وَرَجُلٌ) أَيْ وَخُرُوجُ رَجُلٍ (خَرَجَ) أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَالَ كَوْنِهِ (لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) اللَّامُ صِلَةٌ ; لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ عَمَلُهُ ضَعِيفٌ فَيُؤْتَى بِهَا تَأْكِيدًا، وَفِي رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ (مُحَارِبًا بِاللَّهِ) فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَالْمُرَادُ بِهِ قَاطِعُ الطَّرِيقِ أَوِ الْبَاغِي (فَإِنَّهُ يُقْتَلُ) أَيْ إِنْ قَتَلَ نَفْسًا بِلَا أَخْذِ مَالٍ (أَوْ يُصْلَبُ) أَيْ حَيًّا وَيُطْعَنُ حَيًّا حَتَّى يَمُوتَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: أَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ نَكَالًا لِغَيْرِهِ إِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ (أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ) أَيْ يُخْرَجُ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى الْبَلَدِ لَا يَزَالُ يُطَالَبُ وَهُوَ هَارِبٌ وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقِيلَ: يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ وَيُحْبَسُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَهَذَا مُخْتَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يُحْبَسُ إِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْإِخَافَةِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ أَوْ تُقْطَعَ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ قَبْلَ قَوْلِهِ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ لِيَكُونَ الْحَدِيثُ عَلَى طِبْقِ الْآيَةِ مُسْتَوْعِبًا وَلَعَلَّ حَذْفَهُ وَقَعَ مِنَ الرَّاوِي نِسْيَانًا أَوِ اخْتِصَارًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَ (أَوْ) فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ لِلتَّفْصِيلِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْأَرْبَعِ فِي كُلِّ قَاطِعٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ (أَوْ يَقْتُلُ نَفْسًا) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ عَطْفًا عَلَى رَجُلٍ خَرَجَ وَالتَّقْدِيرُ قَتَلَ رَجُلٌ نَفْسًا (فَلْيُقْتَلْ بِهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3545 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: «حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ لِأَخْذِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3545 - (وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَاسِمِ بْنِ أَبِي لَيْلَى يَسَارٌ الْأَنْصَارِيُّ وُلِدَ لَسِتِّ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَقُتِلَ بِرَخْيَالَ وَقِيلَ غَرِقَ بِنَهْرِ الْبَصْرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثُهُ فِي الْكُوفَةِ جَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِي الْكُوفَةِ، وَقَدْ يُقَالُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَيْضًا لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَاضَى الْكُوفَةِ، إِمَامٌ مَشْهُورٌ فِي الْفِقْهِ صَاحِبُ مَذْهَبٍ وَقَالَ: وَإِذَا أَطْلَقَ الْمُحَدِّثُونَ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّمَا يَعْنُونَ أَبَاهُ وَإِذَا أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّمَا يَعْنُونَ مُحَمَّدًا (قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ وَهُمْ كُلُّهُمْ عُدُولٌ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِمْ (أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ) مِنَ السَّيْرِ وَفِي نُسْخَةٍ يَسِيرُونَ مِنَ السَّيْرِ وَهُوَ سَيْرُ اللَّيْلِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ) أَيْ شَرَعَ وَذَهَبَ (إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ) أَيْ مَعَ الرَّجُلِ أَوْ مَعَ الْمُنْطَلِقِ (فَأَخَذَهُ) أَيْ رَبَطَ الرَّجُلَ أَوْ أَرَادَ أَخْذَهُ (فَفَزِعَ) بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ خَافَ الرَّجُلُ وَارْتَاعَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ) تَشْدِيدُ الْوَاوِ أَيْ يُخَوِّفَ (مُسْلِمًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا أَحْمَدُ.

3546 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِجِزْيَتِهَا فَقَدِ اسْتَقَالَ هِجْرَتَهُ وَمَنْ نَزَعَ صَغَارَ كَافِرٍ مِنْ عُنُقِهِ فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ فَقَدْ وَلَّى الْإِسْلَامَ ظَهْرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3546 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِجِزْيَتِهَا) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأَرْضٍ أَيْ مُلْتَبِسَةٍ بِجِزْيَتِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَزِمًا بِجِزْيَتِهَا يَعْنِي بِخَرَاجِهَا لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لُزُومَ الْجِزْيَةِ لِلذِّمِّيِّ (فَقَدِ اسْتَقَالَ هِجْرَتَهُ) أَيْ نَقَضَ عِزَّتَهُ وَالْمَعْنَى مَنِ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً لَزِمَهُ الْخَرَاجُ الَّذِي هُوَ جِزْيَةٌ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي أَرْضِهِ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَدَارِهِ وَجَعَلَ صَغَارَ الْكُفْرِ فِي عُنُقِهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ الذِّمِّيِّ فِي أَدَاءِ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْخَرَاجِ صَارَ كَالْمُسْتَقِيلِ أَيْ طَالِبِ الْإِقَالَةِ لِهِجْرَتِهِ (وَمَنْ نَزَعَ صَغَارَ كَافِرٍ) بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ ذُلَّهُ مِنْ عُنُقِهِ (فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ) بِأَنْ تَكَفَّلَ جِزْيَةَ كَافِرٍ وَتَحَمَّلَ عَنْهُ صَغَارَهُ (فَقَدْ وَلَّى الْإِسْلَامَ ظَهْرَهُ) أَيْ جَعَلَ الْإِسْلَامَ فِي جَانِبِ ظَهْرِهِ وَهَذَا كَالْمُبَيِّنِ لِمَا قَبْلَهُ أَيْ مَنْ تَكَفَّلَ بِجِزْيَةِ كَافِرٍ وَتَحَمَّلَ عَنْهُ ذُلَّهُ فَكَأَنَّهُ بَدَّلَ الْإِسْلَامَ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُ بَدَّلَ عِزَّهُ بِذُلِّهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى الْجِزْيَةِ هُنَا الْخَرَاجُ يَعْنِي الْمُسْلِمُ إِذَا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْخَرَاجَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْخَرَاجُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا جِزْيَةٌ وَالْآخَرُ بِمَعْنَى الْكِرَاءِ وَالْأُجْرَةِ فَإِذَا فُتِحَتِ الْأَرْضُ صُلْحًا عَلَى أَنَّ أَرْضَهَا لِأَهْلِهَا فَمَا وُضِعَ عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجٍ فَمَجْرَاهُ الْجِزْيَةُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ سَقَطَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَرَاجِ، كَمَا يَسْقُطُ مَا عَلَى رَقَبَتِهِ مِنَ الْجِزْيَةِ، وَلَزِمَهُ الْعُشْرُ فِيمَا أَخْرَجَتْ أَرْضُهُ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أُرِيدَ بِالْجِزْيَةِ فِي الْحَدِيثِ الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُرِكَتْ فِي يَدِ الذِّمِّيِّ فَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُ عَنْهُ مُتَكَفِّلًا بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَسْمِيَتُهُ بِالْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ يُجْرَى فِي الْمَوْضُوعِ عَلَى الْأَرَاضِي الْمَتْرُوكَةِ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ مَجْرَاهَا فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ رُءُوسِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ فَقَدِ اسْتَقَالَ هِجْرَتُهُ ; لِأَنَّ الْمُهَاجِرَ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ وَالْقَدَحُ الْمُعَلَّى فِي مَالِ الْفَيْءِ يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ الذِّمِّيِّ فِي أَدَاءِ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْخَرَاجِ فَقَدْ أَحَلَّ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ مَحَلَّ مَنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُ فَصَارَ كَالْمُسْتَقِيلِ عَنْ هِجْرَتِهِ بِبَخْسِ حَقِّ نَفْسِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَمَنْ تَكَفَّلَ جِزْيَةَ كَافِرٍ وَتَحَمَّلَ صَغَارَهُ فَكَأَنَّهُ وَلَّى الْإِسْلَامَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ بَدَّلَ إِعْزَازَ الدِّينِ بِالْتِزَامِ ذُلِّ الْكُفْرِ وَتَحَمَّلَ صَغَارَهُ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ ضَمَانِ الْمُسْلِمِ عَنِ الذِّمِّيِّ بِالْجِزْيَةِ خِلَافٌ وَلِمَنْ مَنَعَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ تُعُورِفَ وَاشْتُهِرَ أَنَّ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ فَمَا بَالُ الْهِجْرَةِ كُنِّيَ بِهَا عَنِ الْعِزَّةِ قُلْتُ: لِأَنَّهَا مَبْدَأُ عِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَنْشَأُ رِفْعَتِهِ حَيْثُ نَصَرَ اللَّهُ صَاحِبَهَا بِالْأَنْصَارِ وَأَعَزَّ الدِّينَ بِهِمْ وَفَلَّ شَوْكَةَ الْمُشْرِكِينَ وَقَطَعَ شَأْنَهُمْ وَاسْتَأْصَلَهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3547 - وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ: أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3547 - (وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَعَثَ) أَيْ أَرْسَلَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً) : وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعَمِائَةٍ (إِلَى خَثْعَمَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ وَفِي الْقَامُوسِ: خَثْعَمٌ كَجَعْفَرٍ جَبَلٌ (فَاعْتَصَمَ) أَيْ تَمَسَّكَ وَشَرَعَ (نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ) أَيْ بِالصَّلَاةِ وَكَانُوا مُسْلِمِينَ وَلَمَّا رَأَوُا الْجَيْشَ أَسْرَعُوا بِالسُّجُودِ (فَأُسْرِعَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِيهِمُ الْقَتْلُ) أَيْ قَتَلَهُمُ الْجَيْشُ وَلَمْ يُبَالُوا بِسُجُودِهِمْ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يَسْتَعِيذُونَ مِنَ الْقَتْلِ بِالسُّجُودِ (فَبَلَغَ ذَلِكَ) أَيْ خَبَرُ قَتْلِهِمْ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يُكْمِلْ لَهُمُ الدِّيَةَ بَعْدَ عِلْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِسْلَامِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَعَانُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمُقَامِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْكُفَّارِ وَكَانُوا كَمَنْ هَلَكَ بِجِنَايَةِ نَفْسِهِ وَجِنَايَةِ غَيْرِهِ فَتَسْقُطُ حِصَّةُ جِنَايَتِهِ مِنَ الدِّيَةِ.

(وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ بَيْنَهُمْ (وَأَظْهُرِ) مُقْحَمٌ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَرَاءَةَ مِنْ دَمِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْبَرَاءَةَ مِنْ مُوَالَاتِهِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لِمَ) بِحَذْفِ أَلِفِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، أَيْ لَا شَيْءَ تَكُونُ بَرِيئًا أَوْ أَمَرْتَ بِنِصْفِ الْعَقْلِ (قَالَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا) اسْتِئْنَافٌ فِيهِ تَعْلِيلٌ، وَإِسْنَادُ التَّرَائِي مَجَازٌ وَالنَّفْيُ مَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ يَتَبَاعَدُ مَنْزِلَاهُمَا حَتَّى لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ عِلَّةٌ لِبَرَاءَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُسَاكِنَ الْكَافِرَ وَيَقْرُبَ مِنْهُ وَلَكِنْ يَبْعُدُ بِحَيْثُ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبُعْدِ الْبَعِيدِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَوَّلُهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَيْ لَا يَنْزِلُ الْمُسْلِمُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَرَى نَارَهُ الْمُشْرِكُ إِذَا أَوْقَدَ وَلَكِنْ يَنْزِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ ; لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا أَمَانَ وَثَانِيهُمَا قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَيْ لَا يَتَّسِمُ الْمُسْلِمُ بِسِمَةِ الْمُشْرِكِ وَلَا يَتَشَبَّهُ بِهِ فِي هَدْيِهِ وَشَكْلِهِ وَلَا يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِ مِنْ قَوْلِكَ: مَا نَارُ نِعَمِكَ؟ أَيْ: مَا سَمْتُهَا؟ وَثَالِثُهَا قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: أَيْ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْآخِرَةِ لِبُعْدِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ. وَرَابِعُهَا قَالَ الْفَائِقُ: مَعْنَاهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَبَاعَدَ مَنْزِلَاهُمَا بِحَيْثُ إِذَا أُوقِدَتْ فِيهِمَا نَارَانِ لَمْ تَلُحْ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى وَإِسْنَادُ التَّرَائِي إِلَى النَّارِ كَقَوْلِهِمْ دُورُ بَنِي فُلَانٍ مُتَنَاظِرَةٌ، وَالتَّرَائِي تَفَاعُلٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ يُقَالُ تَرَاءَى الْقَوْمُ إِذَا رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قُلْتُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء: 61] وَ {تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} [الأنفال: 48] وَخَامِسُهَا قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْكُنَ مُسْلِمٌ حَيْثُ سَكَنَ كَافِرٌ وَلَا يَدْنُو مِنْهُ بِحَيْثُ تَتَقَابَلُ نَارَاهُمَا وَتَقْرُبُ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى حَتَّى يَرَى كُلٌّ مِنْهُمَا نَارَ الْآخَرِ فَنَزَّلَ رُؤْيَةَ الْمَوْقِدِ مَنْزِلَةَ رُؤْيَتِهَا إِنْ كَانَ لَهَا وَهُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَادِسُهَا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ نَارَ الْحَرْبِ أَيْ مَا عَلَى طَرَفَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يُحَارِبُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مَعَ الشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِحِزْبِهِ وَالْكَافِرُ يُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَدْعُو إِلَى الشَّيْطَانِ فَكَيْفَ يَتَّفِقَانِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَجْتَمِعَا قَالَ الْخَطِيبُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِنْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ وَأَمْكَنَهُ الْخَلَاصُ وَالِانْفِلَاتُ مِنْهُمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْمَقَامُ مَعَهُمْ وَإِنْ حَلَّفُوهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ كَانَ الْوَاجِبَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْيَمِينِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ قُلْتُ وَعِنْدَنَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3548 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3548 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْإِيمَانُ قَيَّدَ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ مَنَعَ (الْفَتْكَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ عَلَى غَفْلَةٍ فَيَقْتُلَهُ أَيِ الْإِيمَانُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنْ قَتْلِ أَحَدٍ بَغْتَةً حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ إِيمَانِهِ كَمَا يَمْنَعُ الْقَيْدُ الْمُقَيَّدَ عَنِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ فَإِنَّ الْقَيْدَ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ إِنَّ الْإِيمَانَ يَمْنَعُ عَنِ الْفَتْكِ كَمَا يَمْنَعُ الْقَيْدُ عَنِ التَّصَرُّفِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْفَتْكَ مُقَيَّدًا (لَا يَفْتِكُ) بِكَسْرِ التَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا فَفِي الْقَامُوسِ: الْفَتْكُ مُثَلَّثَةٌ رُكُوبُ مَا هَمَّ مِنَ الْأُمُورِ وَدَعَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ فَتَكَ يَفْتِكُ وَيَفْتُكُ فَهُوَ فَاتِكٌ جَرِيءٌ شُجَاعٌ وَقَوْلُهُ (مُؤْمِنٌ) أَيْ كَامِلُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا مَرُّوا بِكَافِرٍ غَافِلٍ نَبَّهُوهُ فَإِنْ أَبَى بَعْدَ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَتَلُوهُ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ خَيْرٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا يَفْعَلْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَيَجُوزُ فِيهِ الْجَزْمُ عَلَى النَّهْيِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ فَيَرْوِيَهُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ بِقَوِيمِ رِوَايَةٍ وَمَعْنَى فَإِنْ قِيلَ قَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ سَلَمَةَ الْخَزْرَجِيَّ فِي نَفَرٍ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَقَتَلُوهُ وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ الْأَوْسِيَّ فِي نَفَرٍ إِلَى رَافِعٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيَّ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدٍ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَضَايَا الَّتِي أَمَرَ بِهَا قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفَتْكِ كَانَ بَعْدَهَا وَهُوَ

الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّ أُولَاهَا كَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَالثَّانِيَةَ فِي الرَّابِعَةِ وَالثَّالِثَةَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فِي الْخَامِسَةِ وَإِسْلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ عَامَ خَيْبَرَ فِي السَّابِعَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِصِّيصِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أُيِّدَ بِهِ مِنَ الْعِصْمَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تِلْكَ الْقَضَايَا كَانَتْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْمَقْتُولِينَ مِنَ الْغَدْرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّعَرُّضِ لَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْأَذِيَّةِ وَالتَّحْرِيشِ عَلَيْهِ قَالَ الطِّيبِيُّ وَاخْتَارَ الْقَاضِي هَذَا الْوَجْهَ وَلَخَّصَهُ وَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْإِيمَانَ مَنَعَ ذَلِكَ وَحَرَّمَهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْعَلَهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ نَذِيرٍ وَاسْتِتَابَةٍ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ قَتْلَهُ بَلِ الِاسْتِكْمَالُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِسْلَامِ عَلَى مَا يُمْكِنُ هَذَا إِذَا لَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ دَاعٍ دِينِيٌّ فَإِنْ كَانَ كَمَا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى كُفْرِهِ حَرِيصٌ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ مُنْتَهِزٌ لِلْفُرْصَةِ مِنْهُمْ وَإِنَّ دَفْعَهُ لَا يَتَيَسَّرُ إِلَّا بِهَذَا فَلَا حَرَجَ فِيهِ قَالَ الطِّيبِيُّ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنْ تُذْكَرَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى بَعْدَ الْأُخْرَى فَإِنَّ التَّعْلِيلِيَّ مُؤَخَّرٌ عَنِ الْمُعَلَّلِ لَكِنْ قُدِّمَتِ اعْتِبَارًا لِلرُّتْبَةِ وَبَيَانًا لِشَرَفِ الْإِيمَانِ وَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ وَخَصَائِصِ أَهْلِهِ النَّصِيحَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ حَتَّى الْكُفَّارِ كَمَا وَرَدَ الدِّينُ النَّصِيحَةُ فَعَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا وَيَجْتَنِبَ عَنْ صِفَةِ الْعُتَاةِ وَالْمَرَدَةِ مِنَ الْفَتْكِ " فَإِذَا الْكَلَامُ جَارٍ أَصَالَةً عَلَى الْإِيمَانِ وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِ تَابِعٌ لَهُ فَلَوْ أُخِّرَ كَانَ بِالْعَكْسِ فَعَلَى هَذَا لَا يُفْتَقَرُ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ وَالتَّكَلُّفِ فِيهِ. اه. وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْحَاكِمُ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ الزُّبَيْرِ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ.

3549 - وَعَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَى وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ إِلَى الشِّرْكِ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3549 - (وَعَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي الْمِصْبَاحِ أَبِقَ كَفَرِحَ وَضَرَبَ وَنَصَرَ فَمَاضِيهِ مُثَنًّى وَمُضَارِعُهُ مُثَلَّثٌ وَالْمَعْنَى إِذَا هَرَبَ مَمْلُوكٌ (إِلَى الشِّرْكِ) أَيْ دَارِ الْحَرْبِ (فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ) أَيْ لَا شَيْءَ عَلَى قَاتِلِهِ وَإِنِ ارْتَدَّ مَعَ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يُهْدَرُ بِهِ دَمُهُ مِنْ جِوَارِ الْمُشْرِكِينَ وَتَرْكِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَتَرَاءَى نَارَاهُمَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3550 - وَعَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3550 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتِمُ) بِكَسْرِ التَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ تَسُبُّ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ وَعَدَّاهُ بِفِي لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الطَّعْنِ فِي النِّهَايَةِ. يُقَالُ: وَقَعْتُ فِيهِ إِذَا عِبْتَهُ وَذَمَمْتَهُ (فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا) قَالَ الْمُظْهِرُ: وَفِيهِ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا لَمْ يَكُفَّ لِسَانَهُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ مُبَاحُ الدَّمِ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ بِهِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3551 - وَعَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3551 - (وَعَنْ جُنْدَبٍ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» ) بِإِضَافَةِ ضَرْبٍ إِلَى هَذَا الضَّمِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: رُوِيَ بِالتَّاءِ وَالْهَاءِ وَالثَّانِي أَوْلَى وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ

يُقَالُ حَدُّ السَّاحِرِ الْقَتْلُ فَعَدَلَ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ تَصْوِيرًا لَهُ وَأَنْ لَا يُجَاوِزَ مِنْهُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي قَتْلِهِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَرُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقَتَلَتْهَا وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ. قَالَ الرَّاوِي: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْتَلُ إِنْ كَانَ مَا يَسْحَرُ بِهِ كُفْرًا إِنْ لَمْ يَتُبْ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ عَمَلُهُ الْكُفْرَ فَلَا يُقْتَلُ وَتَعْلِيمُ السِّحْرِ لَيْسَ كُفْرًا عِنْدَهُ إِلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ قَلْبَ الْأَعْيَانِ. قَالَ الْقَاضِي: السَّاحِرُ إِذَا لَمْ يُتِمَّ سِحْرَهُ إِلَّا بِدَعْوَةِ كَوْكَبٍ أَوْ شَيْءٍ يُوجِبُ كُفْرًا يَجِبُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ اسْتَعَانَ فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ لَا يَتَسَبَّبُ إِلَّا لِمَنْ يُنَاسِبُهُ فِي الشَّرَارَةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ فَإِنَّ التَّنَاسُبَ شَرْطٌ فِي التَّضَامُنِ وَالتَّعَاوُنِ وَكَذَا يُمَيَّزُ السَّاحِرُ عَنِ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ وَأَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِمَعُونَةِ الْآلَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ حَرَامٍ وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلَى التَّجَوُّزِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لِمَا خَفِيَ سَبَبُهُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْرُمُ فِعْلُ السِّحْرِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُمَا حَرَامَانِ وَالثَّانِي مَكْرُوهَانِ وَالثَّالِثُ مُبَاحَانِ وَقَالَ أَيْضًا اعْلَمْ أَنَّ التَّكَهُّنَ وَإِتْيَانَ الْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمَ وَالضَّرْبَ بِالرَّمْلِ وَالشَّعِيرِ وَبِالْحَصَى وَتَعْلِيمَهَا حَرَامٌ وَأَخْذَ الْعِوَضِ عَلَيْهَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ فِي حُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَاعْلَمْ أَنَّ وَرَاءَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ عُلُومًا مِنْهَا مُحَرَّمٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُبَاحٌ فَالْمُحَرَّمُ كَالْفَلْسَفَةِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالرَّمْلِ وَعُلُومِ الطَّبِيعِيِّينَ وَكَذَا السِّحْرُ عَلَى الصَّحِيحِ وَتَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ تَحْرِيمِهِ، وَالْمُكْرُوهُ كَأَشْعَارِ الْمُوَلِّدِينَ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْغَزَلِ وَالْبِطَالَةِ، وَالْمُبَاحُ كَأَشْعَارِهِمُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُخْفٌ وَلَا مَا يُنَشِّطُ إِلَى الشَّرِّ وَيُثَبِّطُ مِنَ الْخَيْرِ. فِي تَفْسِيرِ الْمَدَارِكِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ: الْقَوْلُ بِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَطَأٌ بَلْ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رَدَّ مَا لَزِمَ فِي شَرْطِ الْإِيمَانِ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا، ثُمَّ السِّحْرُ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ يُقْتَلُ عَلَيْهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَفِيهِ إِهْلَاكُ النَّفْسِ فَفِيهِ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا تَابَ وَمَنْ قَالَ لَا تُقْبَلُ فَقَدْ غَلَطَ فَإِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3552 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أُمَّتِي فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3552 - (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ) أَيِ الذُّبْيَانِيِّ الثَّعْلَبِيِّ رَوَى عَنْهُ زِيَادُ بْنُ عَلَاقَةَ وَغَيْرُهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ) أَيْ عَلَى الْإِمَامِ (يُفَرِّقُ بَيْنَ أُمَّتِي) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ أَيْ جَعَلَ يُفَرِّقُ أَوْ هُوَ مُطَاوِعُ خَرَّجْتُهُ فَخَرَجَ أَيْ مَهِرٌ فِي صِيغَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَى هَذَا يُفَرِّقُ حَالٌ (فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ) أَيْ فَاقْتُلُوهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا أَرَادَ تَفْرِيقَ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى أَوَّلًا وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ قُوتِلَ فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ شَرُّهُ إِلَّا بِقَتْلِهِ كَانَ هَدْرًا (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

3553 - «وَعَنْ شَرِيكِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ أَلْقَى رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ عَنِ الْخَوَارِجِ فَلَقِيْتُ أَبَا بَرْزَةَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ؟ قَالَ: نَعَمٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنَيَّ وَرَأَيْتُهُ بِعَيْنَيَّ، أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ فَقَسَمَهُ فَأَعْطَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْ عَنْ شِمَالِهِ وَلَمْ يُعْطِ مَنْ وَرَاءَهُ شَيْئًا، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا عَدَلْتَ فِي الْقِسْمَةِ، رَجُلٌ أَسْوَدُ مَطْمُومُ الشَّعْرِ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَجِدُونَ بَعْدِي رَجُلًا هُوَ أَعْدَلُ مِنِّي. ثُمَّ قَالَ: يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَانَ هَذَا مِنْهُمْ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3553 - (وَعَنْ شَرِيكِ بْنِ شِهَابٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْحَارِثِيُّ الْبَصْرِيُّ يُعَدُّ فِي التَّابِعِينَ رَوَى عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَعَنْهُ الْأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ وَلَيْسَ بِذَلِكَ مَشْهُورًا (قَالَ كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ أَلْقَى أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(أَسْأَلُهُ عَنِ الْخَوَارِجِ) إِمَّا صِفَةُ أَحَدًا أَوْ حَالٌ مِنْهُ لِوَصْفِهِ (فَلَقِيتُ أَبَا بَرْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَبِالزَّايِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَهُوَ نَضْلَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَسْلَمِيُّ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ وَلَمْ يَزَلْ يَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُبِضَ فَتَحَوَّلَ وَنَزَلَ الْبَصْرَةَ ثُمَّ غَزَا خُرَاسَانَ وَمَاتَ بِمَرْوَ سَنَةَ سِتِّينَ (فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي نَفَرٍ) أَيْ كَائِنًا فِي جَمَاعَةٍ (مِنْ أَصْحَابِهِ) أَيْ مِنَ التَّابِعِينَ (فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مُزَالٌ عَنْ كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْدِيرُهُ سَمِعْتُ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ ثُمَّ جِيءَ بَعْدَهُ بِيَذْكُرُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ دَلَالَةً عَلَى الْمَحْذُوفِ (قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنَيَّ) بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ وَبِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى التَّثْنِيَةِ لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ وَبِتَخْفِيفِهَا عَلَى الْإِفْرَادِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَرَأَيْتُهُ بِعَيْنَيَّ) وَلَا يَخْفَى مَا فِي قَوْلِهِ بِأُذُنَيَّ وَبِعَيْنَيَّ مِنَ التَّأْكِيدِ إِذِ السَّمَاعُ وَالرُّؤْيَةُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأُذُنٍ وَعَيْنٍ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ) إِلَخْ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ رَأَيْتُهُ أَيْ رَأَيْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ مَأْتِيًّا بِمَالٍ وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِأُذُنَيَّ وَبِعَيْنَيَّ وَتَكْرِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيذَانٌ بِتَحْقِيقِ الْأَمْرِ وَتَثْبِيتِهِ فِي الرِّوَايَةِ وَإِنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَرَابُ فِيهِ (فَقَسَمَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْمَالَ (فَأَعْطَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْ عَنْ شِمَالِهِ وَلَمْ يُعْطِ مَنْ وَرَاءَهُ شَيْئًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَلَعَلَّ عَدَمُ إِعْطَائِهِمْ لِيَظْهَرَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ وَرَائِهِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا عَدَلْتَ فِي الْقِسْمَةِ رَجُلٌ أَسْوَدُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَارِدٌ عَلَى الذَّمِّ وَالشَّتْمِ ; لِأَنَّ دَمَامَةَ الصُّورَةِ تَدُلُّ عَلَى خَبَاثَةِ السَّرِيرَةِ (مَطْمُومُ الشَّعْرِ) فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ طَمَّ شَعْرَهُ وَجَزَّهُ اسْتَأْصَلَهُ اه وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى تَجَرُّدِهِ لِلْفَسَادِ وَلَيْسَ فِيهِ شَعْرٌ مِنَ الشُّعُورِ وَالْأَدَبِ فِي الْحُضُورِ (عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ) إِيمَاءٌ إِلَى نِفَاقِهِ مِنْ نَظَافَةِ ظَاهِرِهِ وَكَثَافَةِ بَاطِنِهِ وَبَيَاضِ كُسْوَتِهِ وَسَوَادِ جُثَّتِهِ (فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا) أَيْ ثُمَّ حَلُمَ حِلْمًا عَظِيمًا (وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَجِدُونَ بَعْدِي) أَيْ غَيْرِي وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مُتَجَاوِزًا عَنِّي (رَجُلًا هُوَ عَدْلٌ مِنِّي) أَيْ عَادِلٌ مِثْلِي (ثُمَّ قَالَ: يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَانَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (هَذَا) أَيْ هَذَا الرَّجُلُ (مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنْ شِيعَتِهِمْ وَمُقْتَفِي سِيرَتِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِسُوءِ حَالِهِمْ وَفِعَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ (لَا يُجَاوِزُ) أَيْ قُرْآنُهُمْ أَوْ قِرَاءَتُهُمْ (تَرَاقِيَهُمْ) أَيْ حُلُوقَهُمْ (يَمْرُقُونَ) أَيْ يَخْرُجُونَ (مِنَ الْإِسْلَامِ) أَيْ مِنَ الِانْقِيَادِ التَّامِّ بِخُرُوجِهِمْ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ (كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) أَيِ الصَّيْدِ.

(سِيمَاهُمْ) أَيْ عَلَامَتُهُمْ (التَّحْلِيقُ) أَيْ عَلَامَتُهُمْ تَنْظِيفُ الظَّاهِرِ وَتَجْرِيدُهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَثَافَةِ بَاطِنِهِمْ وَتَعْلِيقِهِ بِحُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ (لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ) أَيْ يُظْهِرُونَ الْفَسَادَ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ (حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) جَزَاءُ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِالْفَاءِ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ مَاضٍ كَذَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] قَالَ الطِّيبِيُّ وَمَعَ هَذَا لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ أَيْ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُمْ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ فَاقْتُلُوهُمْ كَمَا قَالَ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مَحْذُوفًا يَعْنِي فَاقْتُلُوهُمْ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِبَيَانِ الْمُوجِبِ ثُمَّ إِنَّهُ عَطَفَ الْخَلِيقَةَ عَلَى الْخَلْقِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُغَايَرَةِ فَلَا يُحْمَلُ الشَّرُّ عَلَى التَّفْصِيلِ مُبَالَغَةً أَيْ هُمْ شَرٌّ خَلْقًا وَشَرٌّ سَجِيَّةً وَفِي عَكْسِهِ اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

3554 - وَعَنْ أَبِي غَالِبٍ «رَأَى أَبُو أُمَامَةَ رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ فَقَالَ: أَبُو أُمَامَةَ كِلَابُ النَّارِ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ ثُمَّ قَرَأَ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ قِيلَ لِأَبِي أُمَامَةَ أَنْتَ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوَثَلَاثًا حَتَّى عَدَّ سَبْعًا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3554 - (وَعَنْ أَبِي غَالِبٍ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ خَزَوَّرٌ الْبَاهِلِيُّ الْبَصْرِيُّ أَعْتَقَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْحَضْرَمِيُّ رَوَى عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَرَوَى عَنْهُ حَمْزَةُ بْنُ رَبِيعَةَ (رَأَى أَبُو أُمَامَةَ) أَيِ الْبَاهِلِيُّ سَكَنَ مِصْرَ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حِمْصَ وَمَاتَ بِهَا وَكَانَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الرِّوَايَةِ وَكَثُرَ حَدِيثُهُ عِنْدَ الشَّامِيِّينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ أَيْ أَبْصَرَ (رُءُوسًا) أَيْ لِلْخَوَارِجِ (مَنْصُوبَةً) أَيْ وَاقِفَةً أَوْ مَصْلُوبَةً (عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ) بِكَسْرِ الدَّالِّ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ طَرِيقِهِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدَّرَجَةُ الْمَرْقَاةُ وَالْجَمْعُ الدَّرَجُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ هَذَا لِقَوْلِهِ مَنْصُوبَةً (فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: كِلَابُ النَّارِ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُمْ كِلَابُ أَهْلِهَا أَوْ عَلَى صُورَةِ كِلَابٍ فِيهَا وَقَوْلُهُ (شَرُّ قَتْلَى) جَمْعُ قَتِيلٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بَدَلًا وَقَوْلُهُ (تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ) أَيْ وَجْهِهَا ظَرْفٌ وَقَوْلُهُ (خَيْرُ قَتْلَى) مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ (مَنْ قَتَلُوهُ) خَبَرُهُ وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرِ الْعَكْسُ فَنُقِلَ اهْتِمَامًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَمَيِّتًا ... أَسِيرُ سَقِيفٍ عِنْدَهَا فِي السَّلَاسِلِ (ثُمَّ قَرَأَ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّحَ بِهِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ وَالْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ قِيلَ: هُمُ الْمُرْتَدُّونَ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ هُمُ الْخَوَارِجُ. (قَالَ) أَيْ أَبُو غَالِبٍ (لِأَبِي أُمَامَةَ أَنْتَ سَمِعْتَ؟) أَيْ هَذَا الْكَلَامَ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ) أَيْ أَبُو أُمَامَةَ (لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى عَدَّ سَبْعًا) وَالتَّقْدِيرُ لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مُكَرَّرًا حَدَّ الْكَثْرَةِ (مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) .

[كتاب الحدود]

[كِتَابُ الْحُدُودِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3555 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ: تَكَلَّمْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَأَمَّا ابْنُكَ فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ فَاغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الْحُدُودِ قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَدُّ الْحَاجِزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ الَّذِي يَمْنَعُ اخْتِلَاطَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَحَدُّ الزِّنَا وَالْخَمْرِ سُمِّيَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَانِعًا لِمُتَعَاطِيهِ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ وَمَانِعًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَهُ. وَقَالَ ابْنُ هَمَّامٍ: مَحَاسِنُ الْحُدُودِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَهُ الْبَيَانُ أَوْ يَكْتُبَهُ الْبَنَانُ ; لِأَنَّ الْفَقِيهَ وَغَيْرَهُ يَسْتَوِي فِي مَعْرِفَةِ أَنَّهَا لِلِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسَادِ فَفِي الزِّنَا ضَيَاعُ الذُّرِّيَّةِ وَإِمَاتَتُهَا مَعْنًى بِسَبَبِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ وَفِي بَاقِي الْحُدُودِ زَوَالُ الْعَقْلِ وَإِفْسَادُ الْأَعْرَاضِ وَأَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَقُبْحُ هَذِهِ الْأُمُورِ مَرْكُوزٌ فِي الْعُقُولِ وَلِذَا لَمْ تُبَحِ الْأَمْوَالُ وَالْأَعْرَاضُ وَالزِّنَا وَالسُّكْرُ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ وَإِنْ أُبِيحَ الشُّرْبُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْحَدِّ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إِنَّهَا مَوَانِعُ قَبْلَ الْفِعْلِ زَوَاجِرُ بَعْدَهُ أَيِ الْعِلْمُ بِشَرْعِيَّتِهَا تَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِيقَاعُهَا بَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالطَّهَارَةِ لَيْسَتْ بِأَصْلِيَّةٍ أَيِ الطُّهْرَةُ مِنْ ذَنْبٍ بِسَبَبِ الْحَدِّ يُفِيدُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ أَيْضًا مِنْ شَرْعِيَّتِهَا لَكِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا بَلْ تَبَعٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ مِنَ الِانْزِجَارِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَعْمَلُ فِي سُقُوطِ إِثْمٍ قَبْلَ سَبَبِهِ أَصْلًا بَلْ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا لِحِكْمَةِ الِانْزِجَارِ، وَأَمَّا ذَلِكَ فَقَوْلُ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رُوِيَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» . وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ذَلِكَ أَيِ التَّقْتِيلَ وَالتَّصْلِيبَ وَالنَّفْيَ {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 33 - 34] فَأَخْبَرَ أَنَّ جَزَاءَ فِعْلِهِمْ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَعُقُوبَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ إِلَّا مَنْ تَابَ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُخْرَوِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى مَا إِذَا تَابَ فِي الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ إِنْ ضَرَبَهُ أَوْ رَجَمَهُ يَكُونُ مَعَهُ تَوْبَةٌ مِنْهُ لِذَوْقِهِ مُسَبِّبٌ فِعْلَهُ فَيُقَيَّدَ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَتَقْيِيدُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْقَطْعِيِّ لَهُ مُتَعَيَّنٌ بِخِلَافِ الْعَكْسِ. أَقُولُ التَّحْقِيقُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي الْجَمْعِ أَنَّ الْحَدَّ مُطَهِّرٌ لَهُ بِخُصُوصِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَإِنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَى عِبَادِهِ الْعُقُوبَةَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: طَهِّرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ إِنِ انْضَمَّ مَعَهُ التَّوْبَةُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَإِنْ دَامَ عَلَى إِصْرَارِهِ فَيُعَذَّبُ بِمِقْدَارِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَا لَوْ تَعَدَّدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ ثُمَّ حُدَّ فَإِنْ تَابَ حِينَ الْحَدِّ كَفَّرَ عَنْهُ الْجَمِيعَ وَإِلَّا فَكَفَّرَ عَنْهُ مَا حُدَّ بِهِ وَحْدَهُ وَالْبَاقِي تَحْتَ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَكَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ لَفْظِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ثُمَّ الْحَدُّ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ لَا بِعِلْمِ الْإِمَامِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَنَقَلَ قَوْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ دُونَ الْحَاصِلِ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ اعْتِبَارَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] وَنُقِلَ فِيهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3555 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا) أَيْ تَرَافَعَا لِلْخُصُومَةِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَحَدُهُمَا اقْضِ) أَيِ احْكُمْ (بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بِحُكْمِهِ إِذْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الرَّجْمُ قَالَ تَعَالَى {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] أَيِ الْحُكْمُ بِأَنْ لَا يُؤَاخَذَ عَلَى جَهَالَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُنْسَخَ آيَةُ الرَّجْمِ لَفْظًا (وَقَالَ الْآخَرُ أَجَلْ) بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ أَيْ نَعَمْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) الْفَاءُ فِيهِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٌ يَعْنِي إِذَا

اتَّفَقْتَ مَعَهُ بِمَا عَرَضَ عَلَى جَنَابِكَ فَاقْضِ فَوَضَعَ كَلِمَةَ التَّصْدِيقِ مَوْضِعَ الشَّرْطِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ: وَإِنَّمَا سَأَلَ الْمُتَرَافِعَانِ أَنْ يُحْكَمَ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ إِلَّا بِحُكْمِ اللَّهِ لِيُفْصَلَ مَا بَيْنَهُمْ بِالْحُكْمِ الصِّرْفِ لَا بِالتَّصَالُحِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِهِمَا إِذْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ (وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ تَكَلَّمْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا) أَيْ أَجِيرًا ثَابِتَ الْأُجْرَةِ (عَلَى هَذَا) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى هَذَا لِمَا يَتَوَجَّهْ لِلْأَجِيرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأُجْرَةُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ عَسِيفًا لِهَذَا لِمَا يَتَوَجَّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ مِنَ الْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى هَذَا صِفَةٌ مُمَيِّزَةٌ لِلْأَجِيرِ أَيْ أَجِيرًا ثَابِتَ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا لَابَسَ الْعَمَلَ وَأَتَمَّهُ وَلَوْ قِيلَ لِهَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ (فَزَنَى) أَيِ الْأَجِيرُ (بِامْرَأَتِهِ) أَيِ الْمُسْتَأْجِرِ (فَأَخْبَرُونِي) أَيْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ (أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ) وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ السُّؤَالُ مِنَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ (فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ) أَيْ وَلَدِي (بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي) أَيْ أَعْطَيْتُهُمَا فِدَاءً وَبَدَلًا عَنْ رَجْمِ وَلَدِي (ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ) أَيْ كُبَرَاءَهُمْ وَفُضَلَاءَهُمْ (فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ ضَرْبَ مِائَةِ جَلْدَةٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُحْصَنٍ (وَتَغْرِيبَ عَامٍ) أَيْ إِخْرَاجَهُ عَنِ الْبَلَدِ سَنَةً (وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ) أَيْ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ بِمَعْنَى أَلَا لِلتَّنْبِيهِ (وَالَّذِي نَفْسِي) أَيْ ذَاتِي أَوْ رُوحِي (بِيَدِهِ) أَيْ بِقَبْضَةِ قُدْرَتِهِ وَحَيِّزِ إِرَادَتِهِ (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) وَقِيلَ: الرَّجْمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ صَرِيحًا لِنَسْخِ آيَةِ الرَّجْمِ لَفْظًا لَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وَالْأَذَى يُطْلَقُ عَلَى الرَّجْمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ هَذَا وَقَدْ فُصِّلَ الْحُكْمُ الْمُجْمَلُ فِي قَوْلِهِ لَأَقْضِيَنَّ بِقَوْلِهِ (أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ) أَيْ مَرْدُودٌ إِلَيْكَ (وَأَمَّا ابْنُكَ فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ) بِالْإِضَافَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِ جَلْدٍ وَنَصْبِ مِائَةٍ عَلَى التَّمْيِيزِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ فِعْلَيْهِ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ (وَتَغْرِيبَ عَامٍ) هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَأَئِمَّتِنَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَيَقُولُ: لَيْسَ التَّغْرِيبُ بِطَرِيقِ الْحَدِّ، بَلْ بِطَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي رَآهَا الْإِمَامُ مِنَ السِّيَاسَةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] (وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ) تَصْغِيرُ أَنَسٍ وَهُوَ ابْنُ الضَّحَّاكِ الْأَسْلَمِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (فَاغْدُ) بِضَمِّ الدَّالِّ وَهُوَ أَمْرُ الذَّهَابِ فِي الْغُدْوَةِ كَمَا أَنَّ رُحْ أَمْرٌ بِالذَّهَابِ فِي الرَّوَاحِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ كُلٌّ فِي مَعْنِي الْآخَرِ أَيْ فَاذْهَبْ (عَلَى امْرَأَةِ هَذَا) أَيْ إِلَيْهَا وَفِيهِ تَضْمِينٌ أَيْ حَاكِمًا عَلَيْهِ (فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) بِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْإِقْرَارِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ رَجْمَهَا بِاعْتِرَافِهَا وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْأَرْبَعَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمَعْنَى فَإِنِ اعْتَرَفَتِ الْمَعْهُودَ وَهُوَ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ فَارْجُمْهَا (فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِفْتَاءِ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّ أَبَا الْعَسِيفِ قَالَ: سَأَلَتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي إِلَخْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَأَنَّ حَدَّ الْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَإِنَّ حُضُورَ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي إِقَامَتِهَا فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أُنَيْسًا لَهَا وَإِنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِيهَا جَائِزَةٌ قُلْتُ: فَحُضُورُهُ حُضُورُهُ فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ بَعْثَ أُنَيْسٍ إِلَيْهَا مَحْمُولٌ عَلَى إِعْلَامِهَا بِأَنَّ أَبَا الْعَسِيفِ قَذَفَهَا بِابْنِهِ فَيُعَرِّفُهَا بِأَنَّ لَهَا عِنْدَهُ حَدَّ الْقَذْفِ هَلْ هِيَ طَالِبَةٌ بِهِ أَمْ تَعْفُو عَنْهُ أَوْ تَعْتَرِفُ بِالزِّنَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَلَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَعَلَيْهَا الرَّجْمُ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْصَنَةً وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ بُعِثَ لِطَلَبِ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا وَتَجَسُّسِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ ; لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَى لَا يُتَجَسَّسُ وَلَا يُنَقَّرُ عَنْهُ بَلْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الزَّانِي اسْتَحَبَّ أَنْ يُلَقَّنَ الرُّجُوعَ كَمَا سَيَجِيءُ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَصْبِرَ عَلَى قَوْلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ اقْضِ بِالْحَقِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ إِذَا تَعَدَّى عَلَيْهِ خَصْمُهُ.

فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِمَاعِ كَلَامِ أَيِّ الْخَصْمَيْنِ شَاءَ وَفِي قَوْلِهِ فَرَدٌّ عَلَيْكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالصُّلْحِ الْفَاسِدِ مُسْتَحِقٌّ الرَّدَّ عَلَى صَاحِبِهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْآخِذِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى عَلَى نَفْسِهِ مَرَّةً يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْرَارُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْطَعُ وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْتَصُّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ، فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَإِقْرَارٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي اشْتِرَاطِ تَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ فَنَفَاهُ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْعَسِيفِ وَلِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمْ تُقِرَّ أَرْبَعًا وَإِنَّمَا رَدَّ مَاعِزًا لِأَنَّهُ شَكَّ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ. وَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَنَفَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ وَاكْتَفَوْا بِالْأَرْبَعِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرٌ فِيهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى بَيَّنَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: هَلْ أُحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ» . فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ لَكِنْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إِفَادَةِ أَنَّهَا مَجَالِسُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ مِنَ الْغَدِ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ هَلْ تَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ إِلَّا وَفِي الْفِعْلِ مِنْ صَالِحِينَا فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةُ حَفَرَ لَهُ حَفِيرَةً فَرَجَمَهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْهُ قَالَ: «أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ مَرَّةً فَرَدَّهُ ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ الثَّانِيَةَ فَرَدَّهُ ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ الثَّالِثَةَ فَرَدَّهُ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِ اعْتَرَفْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ قَالَ: فَاعْتَرَفَ الرَّابِعَةَ، فَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ» ، فَصُرِّحَ بِتَعْدَادِ الْمَجِيءِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ غَيْبَتَهُ وَنَحْنُ إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ إِذَا تَغَيَّبَ، ثُمَّ عَادَ فَهُوَ مَجْلِسٌ آخَرُ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْعَدَ زَنَى، فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ! وَمَا يُدْرِيكَ مَا الزِّنَا؟ فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ، فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَطُرِدَ، فَأُخْرِجَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ، فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ أَدْخَلْتَ وَأَخْرَجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ» ، فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ ظَاهِرٌ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَيْهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3556 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3556 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا فِي النِّهَايَةِ الْإِحْصَانُ الْمَنْعُ، وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مُحْصَنَةً بِالْإِسْلَامِ وَالْعَفَافِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالتَّزْوِيجِ، يُقَالُ: أُحْصِنَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُحْصَنَةٌ وَمُحْصِنَةٌ وَكَذَلِكَ - الرَّجُلُ، وَالْمُحْصَنُ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّتِي جِئْنَ نَوَادِرَ يُقَالُ: أَحْصَنَ وَأَسْهَبَ فَهُوَ مُسْهَبٌ وَأَلْفَحَ فَهُوَ مُلْفَحُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ هُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ أَرْبَعُ شَرَائِطَ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِصَابَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ (جَلْدَ مِائَةٍ) مَفْعُولُ يَأْمُرُ (وَتَغْرِيبَ عَامٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَوْطٍ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ شَدِيدٍ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَقَالَ: سَوْطٌ دُونَ هَذَا. فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ لَيِّنٍ، فَقَالَ: سَوْطٌ فَوْقَ هَذَا. فَأَتَى بِسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا. فَأَمَرَ بِهِ، فَجَلَدُوهُ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَوْطٍ، فَذَكَرَهُ. وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجْتَنِبُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الثَّمَرَةُ مِنَ الْعُقْدَةِ وَالْفَرْعِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ ذَنَبَيْنِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ حَنْظَلَةَ السُّدُوسِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ فَيُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى يَلِينَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِهِ، قُلْنَا لَهُ: فِي زَمَنِ مَنْ كَانَ هَذَا؟ قَالَ: فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَاصِلُ

أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا يُضْرَبَ بِهِ وَفِي طَرَفِهِ يُبْسٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْرَحُ، أَوْ يُبَرِّحُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِيهِ عُقْدَةٌ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، فَكَانَتِ الضَّرْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ، وَفِي الْهِدَايَةِ، وَيَفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهِ ; لِأَنَّ جَمْعَهُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْسِدُهُ، وَاسْتَثْنَى الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ وَالْفَرْجَ. وَذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِضَرْبِ الْحَدِّ: اتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَمْ يَحْفَظِ الْمُخَرِّجُونَ مَرْفُوعًا بَلْ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ أَوْ فِي حَدٍّ، فَقَالَ: اضْرِبْ، وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ، وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ: اضْرِبْ، وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ. قَالَ: رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيِّ اه وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ» . وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُرَادًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِي حَالِ قِيَامِ الْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ لَوْ تَوَجَّهَ لِأَحَدٍ ضَرَبَ وَجْهَ مَنْ يُبَارِزُهُ، وَهُوَ فِي مُقَابَلَتِهِ حَالَةَ الْحَمْلَةِ لَا يَكُفُّ عَنْهُ إِذْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَقْتُلُهُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ إِلَّا مَنْ يَضْرِبُ صَبْرًا فِي حَدٍّ قَتْلًا، أَوْ غَيْرَ قَتْلٍ، وَمَا قِيلَ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالْكَافِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَخُصُّ الظَّهْرَ لِاسْتِدْلَالِ الشَّارِحِينَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» غَيْرُ ثَابِتٍ فِي كُتُبِهِمْ بَلِ الَّذِي فِيهَا كَقَوْلِنَا وَإِنَّمَا يَذْكُرُ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ خَصَّ الظَّهْرَ وَمَا يَلِيهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّهْرِ نَفْسَهُ أَيْ حَدٌّ عَلَيْكَ بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ثُمَّ خَصَّ مِنْهُ الْفَرَجَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُضْرَبُ الرَّأْسُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَوَّلًا يَقُولُ: لَا يُضْرَبُ لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أُتِيَ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ اضْرِبْ فِي رَأْسِهِ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا. وَالْمَسْعُودِيُّ مُضَعَّفٌ وَلَكِنْ رَوَى الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: صُبَيْغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَأَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صُبَيْغٌ. فَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ. وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسَبُكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي.

3557 - وَعَنْ عُمَيْرٍ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3557 - (وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ) أَيْ بِالصِّدْقِ وَهَذَا مُقَدِّمَةٌ لِلْكَلَامِ وَتَوْطِئَةٌ لِلْمَرَامِ رَفْعًا لِلرِّيبَةِ، وَدَفْعًا لِلتُّهْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ فُقْدَانِ تِلَاوَةِ آيَةِ الرَّجْمِ بِنَسْخِهَا مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهَا (فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةُ الرَّجْمِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ وَمِنَ التَّبْعِيضِيَّةُ فِي (مِمَّا أَنْزَلَ) خَبَرُهُ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ فَالتَّقْدِيرُ: فَكَانَ بَعْضُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ وَهِيَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. أَيِ الثَّيِّبُ وَالثَّيِّبَةُ كَذَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْأَظْهَرُ تَفْسِيرُهُمَا بِالْمُحْصَنِ وَالْمُحْصَنَةِ (رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِبَقَاءِ حُكْمِهَا (وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ) أَيْ تَبَعًا لَهُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَهُ (وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ) أَيْ ثَابِتٌ أَوْ وَاجِبٌ (عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) ظَرْفًا لِلزِّنَا (إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ) أَيِ الْمَعْرُوفَةُ فِي الزِّنَا (أَوْ كَانَ) أَيْ أَوْ إِذَا وَقَعَ (الْحَبَلُ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ الْحَمْلُ مِنْ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ (أَوِ الِاعْتِرَافُ) أَيْ إِذَا وَقَعَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا أَوْ بِالْحَبَلِ ظَرْفٌ لِلرَّحِمِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا جَعَلَ قَوْلَهُ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ إِلَخْ مُقَدِّمَةً لِلْكَلَامِ دَفْعًا لِلرِّيبَةِ وَالِاتِّهَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي تَمَامِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ مِنْ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ وَفِي آخِرِهِ وَايْمُ اللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا. أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ إِلَّا النَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَقَدْ قَرَأْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الرَّجْمُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْكَارُ الْخَوَارِجِ لِلرَّجْمِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ إِنْ أَنْكَرُوا

حُجِّيَّةَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَجَهْلٌ مُرَكَّبٌ بِالدَّلِيلِ بَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ وَإِنْ أَنْكَرُوا وُقُوعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُتَوَاتِرُ الْمَعْنَى كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وَجُودِ حَاتِمٍ، وَالْآحَادُ فِي تَفَاصِيلِ صُوَرِهِ وَخُصُوصِيَّاتِهِ، وَأَمَّا أَصْلُ الرَّجْمِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَلَقَدْ كُوشِفَ بِهِمْ عُمَرُ، وَكَاشَفَ بِهِمْ حَيْثُ قَالَ: خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ خَطَبَ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَمْنَا مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، فَيَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ. الْحَدِيثَ وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُمَرَ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الدَّارِ، وَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ: وَقَتْلُ نَفْسٍ» . وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِ أَبِي قِلَابَةَ حَيْثُ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قُتِلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ» . وَلَا شَكَّ فِي رَجْمِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْمُخَرِّجِ حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُرَادُ بِهِ الْمَتْنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاقِعٌ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ السَّنَدِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الشُّهْرَةَ وَقَطْعِيَّةَ الثُّبُوتِ بِالتَّظَافُرِ وَالْقَبُولِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارُ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالْمُتَوَاتِرِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّ انْحِرَافَهُمْ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَرْكِ التَّرَدُّدِ إِلَى عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَرُوَاتِهِمْ أَوْقَعَهُمْ فِي جَهَالَاتٍ كَثِيرَةٍ لِخَفَاءِ السَّمْعِ عَنْهُمْ وَالشُّهْرَةِ وَلِذَا حِينَ عَابُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَوْلَ بِالرَّجْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَلْزَمَهُمْ بِإِعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ فَقَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ لَهُمْ وَهَذَا أَيْضًا فَعَلَهُ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَكَانَ حُرًّا فَحَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ لِقَوْلَهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَإِنَّمَا قَدَّمَ الزَّانِيَةَ مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ عَكْسُهُ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ إِذِ الدَّاعِيَةُ مِنْهَا أَكْثَرُ وَلَوْلَا تَمْكِينُهَا لَمْ يَزْنِ: قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرُهُ نَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ قَطْعًا، وَيَكْفِينَا فِي تَعْيِينِ النَّاسِخِ الْقَطْعُ بِرَجْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ وَهُوَ أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءِ كَوْنِ النَّاسِخِ (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) . لِعَدَمِ الْقَطْعِ بِكَوْنِهَا قُرْآنًا ثُمَّ انْتِسَاخُ تِلَاوَتِهَا وَإِنْ ذَكَرَهَا عُمَرُ وَسَكَتَ النَّاسُ فَإِنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ حُجَّةً مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَبِتَقْدِيرِ حُجِّيَّتِهِ لَا يُقْطَعُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا إِذْ ذَاكَ حَضَرُوا ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ ظَنِّيٌّ وَلِهَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ الرَّجْمَ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ لِلْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ تِلَاوَةً وَعُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَائِلٌ بِعَدَمِ نَسْخِ عُمُومِ الْآيَةِ فَيَكُونُ رَأْيَهُ أَنَّ الرَّجْمَ حُكْمٌ زَائِدٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ قِيلَ بِهِ وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ.

3558 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3558 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خُذُوا عَنِّي) أَيْ حُكْمَ حَدِّ الزِّنَا (خُذُوا عَنِّي) كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) أَيْ حَدًّا وَاضِحًا وَطَرِيقًا نَاضِحًا فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} [النساء: 15] إِلَى قَوْلِهِ {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَكُمْ لِيُوَافِقَ نَظْمَ الْقُرْآنِ، وَمَعَ هَذَا فِيهِ تَغْلِيبٌ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ مَبْدَأٌ لِلشَّهْوَةِ، وَمُنْتَهَى الْفِتْنَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ حِينَ شُرِعَ الْحَدُّ فِي الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، وَالسَّبِيلُ هَاهُنَا الْحَدُّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا ذَلِكَ الْوَقْتَ وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ

مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] (الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ) أَيْ حَدُّ زِنَا الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ (جَلْدُ مِائَةٍ) أَيْ ضَرْبُ مِائَةِ جَلْدَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) أَيْ نَفْيُ سَنَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَالْمَعْنَى إِنِ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ (وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) الْجَلْدُ مَنْسُوخٌ فِي حَقِّهِمَا بِالْآيَةِ الَّتِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرَ عَلَى رَجْمِ مَاعِزٍ وَغَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ حَدًّا لَمَا تَرَكَهُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ إِنْ كَانَا غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ، وَالرَّجْمُ إِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّكْرِيرُ فِي قَوْلِهِ: خُذُوا عَنِّي يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ أَمْرٍ قَدْ خَفِيَ شَأْنُهُ، وَاهْتَمَّ بِبَيَانِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) مُبْهَمٌ فِي التَّنْزِيلِ وَلَمْ يُعْلَمْ مَا تِلْكَ السَّبِيلُ أَيِ الْحَدُّ الثَّابِتُ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ، وَغَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ إِلَخْ بَيَانٌ لِلْمُبْهَمِ، وَتَفْصِيلٌ لِلْمُجْمَلِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ؛ مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وَالتَّقْسِيمُ حَاصِرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ ; لِأَنَّ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا، أَوْ ثَيِّبًا، وَالْأُولَى إِمَّا زَنَتْ بِالْبِكْرِ، أَوْ بِالثَّيِّبِ، وَالثَّانِيَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ مَا حَدُّ الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ، وَالثَّيِّبِ بِالثَّيِّبِ، وَتَرَكَ ذِكْرَ الثَّيِّبِ مَعَ الْبِكْرِ لِظُهُورِهِ، وَلِحَدِيثِ عَسِيفٍ عَلَى مَا سَبَقَ قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُفَسِّرٌ لَهَا، وَقِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ، وَقِيلَ: إِنَّ آيَةَ النُّورِ فِي الْبِكْرَيْنِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الثَّيِّبَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ مُبْتَدَأٌ، وَجَلْدُ مِائَةٍ خَبَرُهُ أَيْ حَدُّ زِنَا الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ بَلْ حَدُّ الْبِكْرِ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ سَوَاءٌ زَنَى بِبِكْرٍ أَمْ بِثَيِّبٍ، وَحَدُّ الثَّيِّبِ الرَّجْمُ سَوَاءٌ زَنَى بِثَيِّبٍ أَوْ بِبِكْرٍ، فَهُوَ بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى الْغَالِبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبِكْرِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَنْ لَمْ يُجَامِعْ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ سَوَاءٌ جَامَعَ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِالثَّيِّبِ عَكْسُ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالرَّشِيدُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، قُلْتُ: فِي الْكَافِرِ خِلَافٌ لَنَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ جَلْدِ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةً، وَرَجْمِ الْمُحْصَنِ وَهُوَ الثَّيِّبُ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَلْدِ الثَّيِّبِ مَعَ الرَّجْمِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُجْلَدُ، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْوَاجِبُ الرَّجْمُ، وَحَدُّهُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرَ عَلَى رَجْمِ الثَّيِّبِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَضِيَّةُ مَاعِزٍ، وَقَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ، وَقَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْعَسِيفِ، وَحَدِيثُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا تَغْرِيبُ عَامٍ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ يَجِبُ نَفْيُ سَنَةٍ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجِبُ النَّفْيُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا نَفْيَ عَلَى النِّسَاءِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ قَالُوا: لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَفِي نَفْيِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا، وَتَعْرِيضٌ لِلْفِتْنَةِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ فَفِيهِمَا أَقْوَالٌ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهَا تَغْرِيبُ نِصْفِ سَنَةٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا يُجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَيُجْمَعُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَعَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ ذَلِكَ، وَلِلْجُمْهُورِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَجْمَعْ، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ فِي مَاعِزٍ، وَالْغَامِدِيَّةِ، وَصَاحِبَةِ الْعَسِيفِ، وَتَظَاهَرَتِ الطُّرُقُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنِ الْإِحْصَانِ، وَتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَمْرِ بِالرَّجْمِ، فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ، وَقَالَ: اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، وَلَمْ يَقُلْ: فَاجْلِدْهَا ثُمَّ ارْجُمْهَا، وَقَالَ فِي بَاقِي الْحَدِيثِ: فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَتْ، وَكَذَا فِي الْغَامِدِيَّةِ وَالْجُهَيْنِيَّةِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَمْرِ بِرَجْمِهَا، وَتَكَرَّرَ، وَلَمْ يَزِدْ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، فَقَطَعْنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَ الرَّجْمِ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ: خُذُوا عَنِّي إِلَى قَوْلِهِ «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ أَوْ رَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ» يَجِبُ قَطْعًا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ خُصُوصُ النَّاسِخِ وَأَمَّا جَلْدُ عَلِيٍّ شُرَاحَةَ فِي رَجْمِهَا فَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ إِحْصَانُهَا إِلَّا بَعْدَ جَلْدِهَا أَوْ هُوَ رَأْيٌ لَا يُقَاوِمُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنَ الْقَطْعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَا يُجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ، وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَلَهُ فِي الْعَبْدِ تَغْرِيبُ نِصْفِ سَنَةٍ، وَلَنَا لَا يُغَرَّبُ أَصْلًا، وَأَمَّا تَغْرِيبُ الْمَرْأَةِ فَمَعَ مَحْرَمٍ وَأُجْرَتُهُ عَلَيْهَا فِي قَوْلٍ، وَفِي بَيْتِ الْمَالِ فِي قَوْلٍ، وَلَوِ امْتَنَعَ فِي قَوْلٍ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ، وَفِي قَوْلٍ لَا وَلَوْ كَانَتِ الطَّرِيقُ آمِنَةً فَفِي تَغْرِيبِهَا بِلَا مَحْرَمٍ قَوْلَانِ

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا: خُذُوا عَنِّي. الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاعِيَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَلِذَا قِيلَ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى الزِّنَا مَعَ فَضْلِ عَقْلِكِ؟ قَالَتْ: طُولُ السَّوَادِ وَقُرْبُ الْوِسَادِ. وَالسَّوَادُ الْمُسَارَّةُ مِنْ سَاوَدَهُ إِذَا سَارَّهُ، وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] شَارِعًا فِي بَيَانِ حُكْمِ الزِّنَا، فَكَانَ الْمَذْكُورُ تَمَامَ حُكْمِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَجْهِيلًا إِذْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ تَمَامُ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ تَمَامَهُ فِي الْوَاقِعِ، فَكَانَ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْبَيَانِ أَبْعَدَ مِنْ تَرْكِ الْبَيَانِ ; لِأَنَّهُ يُوقِعُ فِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ، وَذَاكَ فِي الْبَسِيطِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْهُومُ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ جَزَاءَ الشَّرْطِ، فَيُفِيدَ أَنَّ الْوَاقِعَ هَذَا فَقَطْ، وَلَوْ ثَبَتَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ كَانَ مُثْبِتُهُ مُعَارِضًا لَا مُبَيِّنًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ الْكِتَابُ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ الْمَمْنُوعَةُ نَعَمْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، فَتَجُوزُ بِهِ الزِّيَادَةُ اتِّفَاقًا، وَالْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِلَى ادِّعَاءِ نَسْخِ هَذَا الْخَبَرِ مُسْتَأْنِسًا لَهُ بِنَسْخِ شَطْرِهِ الثَّانِي، وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، فَكَذَا نِصْفُهُ الْآخَرُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرْوَى جُمَلٌ بَعْضُهَا نُسِخَ وَبَعْضُهَا لَا، وَلَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ، وَادَّعَى أَنَّهُ آحَادٌ لَا مَشْهُورٌ، وَتَلَقَّى الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ إِنْ كَانَ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَمَمْنُوعٌ لِظُهُورِ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّتِهِ بِمَعْنَى صِحَّةِ سَنَدِهِ فَكَثِيرٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَذَلِكَ، فَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا آحَادٌ، وَقَدْ خُطِّئَ مِنْ ظَنِّهِ أَنَّهُ يَصِيرُ قَطْعِيًّا وَادَّعَى فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ، وَغَلِطَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِذَا كَانَ آحَادًا وَقَدْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالُ النَّسْخِ بِقَرِينَةِ نَسْخِ شَطْرِهِ فَلَا شَكَّ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْآحَادِ الَّتِي لَمْ يَتَطَرَّقْ ذَلِكَ إِلَيْهَا فَأَحْرَى أَلَّا يُنْسَخَ بِهِ، مَا أَفَادَهُ الْكِتَابُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُوجِبِ الْجَلْدُ ; فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ فِيهِ لَا أَنَّ الْكِتَابَ سَاكِتٌ عَنْ نَفْيِ التَّغْرِيبِ فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ التَّغْرِيبُ بِطَرِيقِ الْحَدِّ فَإِنَّ أَقْصَى مَا فِيهِ دَلَالَةُ قَوْلِهِ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . فَهُوَ عَطْفُ وَاجِبٍ عَلَى وَاجِبٍ وَهُوَ لَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِنَفْيِ عَامٍ» ، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ فَجَازَ كَوْنُهُ تَغْرِيبًا لِمَصْلَحَةٍ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَأَى أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ فَلَمْ تَدْخُلِ الْمَرْأَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاقِعِ الَّتِي تُثْبِتُ الْأَحْكَامَ فِي النِّسَاءِ بِالنُّصُوصِ الْمُفِيدَةِ إِيَّاهَا لِلرِّجَالِ بِتَقَرُّحِ الْمَنَاطِ وَأَيْضًا فَإِنَّ نَفْسَ الْحَدِيثِ يَجِبُ أَنْ يَشْمَلَهُنَّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ الْحَدِيثَ فَنَصَّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ وَالْجَلْدَ سَبِيلٌ لَهُنَّ، وَالْبِكْرُ يُقَالُ عَلَى الْأُنْثَى أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ. ثُمَّ عَارَضَ مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنَى بِأَنَّ فِي النَّفْيِ فَتْحَ بَابِ الْفِتْنَةِ لِانْفِرَادِهَا عَنِ الْعَشِيرَةِ وَعَمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُمْ إِنْ كَانَ لَهَا شَهْوَةٌ قَوِيَّةٌ فَتَفْعَلُهُ، وَقَدْ تَفْعَلُ لِحَامِلٍ آخَرَ وَهُوَ حَاجَتُهَا إِلَى مَا يُقَوِّمُ أَوَدَهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى فِي إِفْضَائِهِ إِلَى الْفَسَادِ أَرْجَحُ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ إِفْضَاءِ قِلَّةِ الْمَعَارِفِ إِلَى عَدَمِ الْإِفْسَادِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ لِمَنْ شَاهَدَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْبِكْرِ يَزْنِي بِالْبِكْرِ: يُجْلَدَانِ مِائَةً وَيُنْفَيَانِ سَنَةً. قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَسْبُهُمَا مِنَ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: غَرَّبَ عُمَرُ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الشَّرَابِ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ، فَتَنَصَّرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا. نَعَمْ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ مَصْلَحَةٌ فِي التَّغْرِيبِ تَعْزِيرًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَهُوَ مَحَلُّ التَّغْرِيبِ الْوَاقِعِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَهَذَا التَّغْرِيبُ كَمَا غَرَّبَ عُمَرُ نَصْرَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَغَيْرَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ افْتَتَنَ بِجَمَالِهِ بَعْضُ النِّسَاءِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ قَائِلَةٍ: هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا ... أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ إِلَى فَتًى مَاجِدِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبِلٍ ... سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَفْيًا، وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ السُّلُوكِ الْمُحَقِّقِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَعَنَّا بِهِمْ، وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ يُغَرِّبُونَ الْمُرِيدَ إِذَا بَدَا مِنْهُ قُوَّةُ نَفْسٍ وَلَجَاجٌ لِتَنْكَسِرَ نَفْسُهُ، وَتَلِينَ وَمِثْلُ هَذَا الْمُرِيدِ أَوْ مَنْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ الْقَاضِي فِي التَّغْرِيبِ ; لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي نَدَمٍ وَشِدَّةٍ، وَإِنَّمَا زَلَّ زَلَّةً لِغَلَبَةِ النَّفْسِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَحْيِ وَلَهُ حَالٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ لِغَلَبَةِ النَّفْسِ فَنَفْيُهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُوَسِّعُ طَرِيقَ الْفَسَادِ وَيُسَهِّلُهَا عَلَيْهِ.

3559 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ قَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا، وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ فَإِذَا فِيهَا آيَةٌ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُجِمَا. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ، وَلِكِنَّا نَتَكَاتَمُهُ بَيْنَنَا، فَأَمَرَ بِهِمَا، فَرُجِمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3559 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ الْيَهُودَ) أَيْ طَائِفَةً مِنْهُمْ (جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً) وَفِي رِوَايَةٍ امْرَأَةً وَرَجُلًا (زَنَيَا) أَيْ وَكَانَا مُحْصَنَيْنِ (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَجِدُونَ؟) اسْتِفْهَامٌ أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ تَجِدُونَهُ مَذْكُورًا؟ (فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ قَالُوا: نَفْضَحُهُمْ) بِفَتْحِ الضَّادِ أَيْ نُعَزِّرُهُمْ (وَيُجْلَدُونَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُضْرَبُونَ عَلَى جُلُودِهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ حُكْمَ الرَّجْمِ بَلْ نَجِدُ أَنْ نَفْضَحَهُمْ، وَيُجْلَدُونَ، وَإِنَّمَا أَتَى أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ مَجْهُولًا، وَالْآخَرُ مَعْرُوفًا لِيُشْعِرَ بِأَنَّ الْفَضِيحَةَ مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِمْ وَإِلَى اجْتِهَادِهِمْ إِنْ شَاءُوا سَخَّمُوا وَجْهَ الزَّانِي بِالْفَحْمِ، أَوْ عَزَّرُوهُ، وَالْجَلْدُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ (كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى الْمَاضِي، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَجَاءُوا بِهَا (فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ) وَفِي رِوَايَةٍ وَالَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا (فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ) أَيْ فَرَفَعَ يَدَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَإِذَا فِيهَا) أَيْ فِي التَّوْرَاةِ (آيَةُ الرَّجْمِ فَقَالُوا: صَدَقَ) أَيِ ابْنُ سَلَامٍ (فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا) بِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْصَانِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ رَجْمَ الْيَهُودِيَّيْنِ إِنَّمَا كَانَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَالْإِحْصَانُ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ حُكْمُ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا نَزَلَ حُكْمُ الْقُرْآنِ نُسِخَ ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ لِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْكَافِرِ، وَإِنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُهُمْ، وَعَلَى الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ إِذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُ لَمْ يَثْبُتْ إِحْصَانُهُ، وَلَمْ يُرْجَمْ، وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا يَحْكُمُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ شَرْعِنَا، قَالُوا: وَسُؤَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ لَيْسَ لِتَقْلِيدِهِمْ وَلَا لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِإِلْزَامِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَ فِي كِتَابِهِمْ، وَلِإِظْهَارِ مَا كَتَمُوهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَأَرَادُوا تَعْطِيلَ نَصِّهَا، فَفَضَحَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ الرَّجْمَ فِي التَّوْرَاةِ مَوْجُودٌ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُغَيِّرُوهُ كَمَا لَمْ يُغَيِّرُوا أَشْيَاءَ أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ رَجَمَهُمَا بِمَا ذَكَرَتِ الْيَهُودُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا إِذْ لَا اعْتِبَارَ بِشَهَادَتِهِمْ قُلْنَا: الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا أَقَرَّا بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِمَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاحْتِمَالِ مَا جَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِمَا أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْصَانِ وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَوْلُ مَالِكٍ كَقَوْلِنَا، فَلَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ الثَّيِّبُ الْحُرُّ يُجْلَدُ عِنْدَنَا، وَيُرْجَمُ عِنْدَهُمْ، لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَأَجَابَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا رَجَمَهَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَإِنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا، وَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ حَدِّ الزِّنَا، وَلَيْسَ فِيهَا اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ فِي الرَّجْمِ، ثُمَّ نَزَلَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَالرَّجْمُ بِاشْتِرَاطِ الْإِحْصَانِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَتْلُوٍّ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ شَرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» . رَوَاهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» . قَالَ إِسْحَاقُ: رَفَعَهُ مَرَّةً فَقَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَفَهُ مَرَّةً. وَمِنْ طَرِيقَةٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ يَرْفَعُهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَفْظُ إِسْحَاقَ كَمَا تَرَاهُ لَيْسَ فِيهِ رُجُوعٌ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ عَنِ الرَّاوِي أَنَّهُ مَرَّةً رَفَعَهُ، وَمَرَّةً أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْفَتْوَى، وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَهُ بَعْدَ صِحَّةِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ مَحْكُومٌ بِرَفْعِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ الرَّفْعُ وَالْوَقْفُ حُكِمَ بِالرَّفْعِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا ضَعْفٌ لَا يَضُرُّ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْهَلَ مِمَّا أَنْ يُدَّعَى أَنْ يُقَالَ حِينَ رَجَمَهُمَا: كَانَ الرَّجْمُ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي

شَأْنِ الرَّجْمِ» ثُمَّ الظَّاهِرُ كَوْنُ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَإِلَّا لَمْ يَرْجُمْهَا لِانْتِسَاخِ شَرِيعَتِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا سَأَلَهُمْ عَنِ الرَّجْمِ لِيُبَكِّتَهُمْ بِتَرْكِهِمْ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ، فَحَكَمَ بِرَجْمِهِمَا بِشَرْعِهِ الْمُوَافِقِ لِشَرْعِهِمْ، وَإِذَا لَزِمَ كَوْنُ الرَّجْمِ كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِنَا حَالَ رَجْمِهِمْ بِلَا اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ الْمُفِيدُ لِاشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ تَارِيخٌ يُعْرَفُ بِهِ، أَمَّا تَقَدُّمُ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَوْ تَأَخُّرُهُ فَيَكُونُ رَجْمُهُ الْيَهُودِيَّيْنِ وَقَوْلُهُ الْمَذْكُورُ مُتَعَارِضَيْنِ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ، وَالْقَوْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفِعْلِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيمَ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ دَرْءَ الْحُدُودِ، وَتَقْدِيمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ، وَالْأَوْلَى فِي الْحُدُودِ تَرْجِيحُ الدَّافِعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ) أَيِ الْوَاضِعُ يَدَهُ (فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ) أَيْ تَظْهَرُ غَايَةَ الْوُضُوحِ (فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالُوا: (يَا مُحَمَّدُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ لَكِنَّا نَتَكَاتَمُهُ) أَيْ حُكْمَ الرَّجْمِ (بَيْنَنَا) أَيْ لِنَخُصَّ بِهِ الضَّعِيفَ دُونَ الشَّرِيفِ (فَأَمَرَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِهِمَا) أَيْ بِرَجْمِهِمَا أَوْ بِإِحْضَارِهِمَا (فَرُجِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3560 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ: إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا شَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: أُحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَ: نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ فَأُدْرِكَ، فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3560 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ) أَيْ جَاءَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (فَنَادَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَحَّى) أَيِ الرَّجُلُ وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ النَّحْوِ بِمَعْنَى الْجِهَةِ (لِشِقِّ وَجْهِهِ) بِكَسْرِ الشِّينِ، وَضَمِيرُ وَجْهِهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْ: قَصَدَ الْجِهَةَ الَّتِي إِلَيْهَا وَجْهُهُ وَنَحَا نَحْوَهَا مِنْ قَوْلِهِ نَحَوْتُ الشَّيْءَ أَنْحُوهُ (الَّذِي) صِفَةُ وَجْهِهِ (أَعْرَضَ) أَيْ عَنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (قِبَلَهُ) بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ أَيْ مُقَابِلَ شِقِّ وَجْهِهِ (فَقَالَ: إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَلَمَّا شَهِدَ) أَيْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ كَأَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) أَيْ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ بِشَرْطِ غُيُوبَتِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَلَى مَا سَبَقَ وَبِالدَّلِيلِ تَحَقَّقَ فَكَانَ الشَّهَادَاتُ الْأَرْبَعُ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّكْرَارَ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيَحْتَجُّ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَجِيئِهِ مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّكْرَارَ قَالَ: إِنَّمَا رَدَّهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِشُبْهَةٍ دَاخَلَتْهُ فِي أَمْرِهِ، وَلِذَلِكَ (دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ سَأَلَهُ (قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا) وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: أَشَرِبْتَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ فَقَالَ) زَنَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَرُدَّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِلْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ لَا أَنَّ التَّكْرَارَ فِيهِ شَرْطٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الْمَأْخَذُ مُنْحَصِرًا فِي هَذَا الدَّلِيلِ وَلَمْ يُوجَدِ التَّكْرَارُ فِي غَيْرِ هَذَا الشَّخْصِ الْمُتَوَهِّمِ بِالتَّعْلِيلِ، قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ لِتَحَقُّقِ حَالِهِ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصِيرُ عَلَى إِقْرَارِ مَا يَقْتَضِي هَلَاكَهُ، مَعَ أَنَّ لَهُ طَرِيقًا إِلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ بِالتَّوْبَةِ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيقِ حَالِ الْمُسْلِمِ وَصِيَانَةِ دَمِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْمَجْنُونِ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُجْرَى عَلَيْهِ (قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ (أُحْصِنْتَ؟) أَيْ أَأُحْصِنْتَ؟ (قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شُرُوطِ الرَّجْمِ مِنْ إِحْصَانٍ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَمْ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِيهِ مُؤَاخَذَةُ الْإِنْسَانِ بِإِقْرَارِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الزَّانِي إِذَا رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ (قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ كَافٍ وَلَا يُجْلَدُ (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) أَيِ الزُّهْرِيُّ (فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ (يَقُولُ) أَيْ جَابِرٌ (فَرَجَمْنَاهُ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ) أَيْ أَصَابَتْهُ بِحَدِّهَا فَعَقَرَتْهُ مِنْ ذَلَقَ الشَّيْءَ طَرَقَهُ (هَرَبَ) أَيْ فَرَّ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْجُومَ لَا يُشَدُّ، وَلَا يُرْبَطُ، وَلَا يُجْعَلُ فِي الْحُفْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ الْفِرَارُ وَالْهَرَبُ، قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ: فَقَالَ قَوْمٌ لَا يُحْفَرُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ لَا لِلرَّجُلِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا وَكَذَا التَّعْزِيرُ قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ، وَتُضْرَبُ الْمَرْأَةُ جَالِسَةً، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: يُضْرَبُ الرَّجُلُ

قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةً فِي الْحَدِّ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ زَجْرًا لِلْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِهِ، وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ وَالْمَرْأَةُ مَبْنَى أَمْرِهَا عَلَى السَّتْرِ فَيُكْتَفَى بِتَشْهِيرِ الْحَدِّ فَقَطْ بِلَا زِيَادَةٍ وَإِنْ حُفِرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ ; لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَلِذَلِكَ حَفَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْغَامِدِيَّةِ إِلَى ثَنْدُوَتِهَا، وَالثَّنْدُوَةُ وَالْهَمْزَةُ مَكَانَ الْوَاوِ وَفَتْحُهَا مَعَ الْوَاوِ مَفْتُوحَةُ ثَدْيِ الرَّجُلِ أَوْ لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ وَالدَّالُ مَضْمُومَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ وَمَا قِيلَ: الثَّدْيُ لِلْمَرْأَةِ وَالثَّنْدُوَةُ لِلرَّجُلِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِحَدِيثِ الَّذِي وَضَعَ سَيْفَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ وَكَذَا حَفَرَ عَلِيٌّ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَهَى قَبِيلَةٌ كَانَتْ عَيْبَةَ عَلِيٍّ وَقَدْ مَدَحَهُمْ وَقَالَ فِي مَدْحِهِ لَهُمْ: وَلَوْ كُنْتُ بَوَّابًا عَلَى بَابِ جَنَّةٍ ... لَقُلْتُ لِهَمَذَانَ ادْخُلْنَ بِسَلَامِ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ شُرَاحَةَ وَفِيهِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ حَفَرَ لَهَا إِلَى السُّرَّةِ وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحْفُرْ لِمَاعِزٍ، وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَتِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ حَفَرَ لَهُ، وَهُوَ مُنْكَرٌ لِمُخَالَفَتِهِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الْمَشْهُورَةَ وَالرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ وَالْمُتَظَافِرَةَ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ، زَادَ فِي شُهْرَةِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَيُكْتَفَى فِي الْمَرْأَةِ بِالْإِخْرَاجِ وَالْإِتْيَانِ بِهَا إِلَى مُجْتَمَعِ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ خُصُوصًا فِي الرَّجْمِ وَأَمَّا فِي الْجَلْدِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] أَيِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَاسْتُحِبَّ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ طَائِفَةً أَيْ جَمَاعَةً أَنْ يَحْضُرُوا إِقَامَةَ الْحَدِّ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاحِدٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِسْحَاقُ اثْنَانِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَشَرَةٌ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ أَرْبَعَةٌ، وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ تَجْرِيدٌ وَلَا مَدٌّ. وَلِأَنَّ مَاعِزًا انْتَصَبَ لَهُمْ قَائِمًا، لَمْ يُمْسَكْ وَلَمْ يُرْبَطْ، إِلَّا أَنْ لَا يَصْبِرَ وَأَعْيَاهُمْ، فَحِينَئِذٍ يُمْسَكُ فَيُرْبَطُ (حَتَّى إِذَا أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ) وَهِيَ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ بَيْنَ جَبَلَيِ الْمَدِينَةِ (فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَإِذَا هَرَبَ فِي الرَّجْمِ فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا لَا يُتْبَعُ وَيُتْرَكُ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُودًا عَلَيْهِ اتُّبِعَ، وَرُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ ; لِأَنَّ هَرَبَهُ رُجُوعٌ ظَاهِرًا، وَرُجُوعُهُ يَعْمَلُ فِي إِقْرَارِهِ لَا فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي صِفَةِ الرَّجُلِ أَنْ يَصُفُّوا ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ كَصُفُوفِ الصَّلَاةِ كُلَّمَا رَجَمَهُ صَفٌّ تَنَحَّوْا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ بَلْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ شُرَاحَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَفِيهِ إِحَاطَةُ النَّاسِ بِهَا، وَأَخَذُوا الْحِجَارَةَ قَالَ: لَيْسَ هَذَا الرَّجْمَ، إِذَا يُصِيبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، صُفُّوا كَصَفِّ الصَّلَاةِ صَفًّا خَلْفَ صَفٍّ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ رَجَمَهَا، فَرَجَمَهَا صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى) قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالُوا الْمُرَادُ بِهِ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ. وَتَشْهَدُ لَهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ بِالْمَدِينَةِ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ وَالْأَعْيَادِ إِذَا لَمْ يُجْعَلْ مَسْجِدًا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ حُكْمُهُ لَاجْتَنَبَ الرَّجْمَ فِيهِ لِتَلَطُّخِهِ بِالدِّمَاءِ. وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ مُصَلَّى الْعِيدِ وَغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا هَلْ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي مَسْجِدٍ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَلَا تَعْزِيرٌ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّأْدِيبِ فِي الْمَسْجِدِ خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَقَامَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ، وَمَجَانِينَكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ، وَبَيْعَكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَجَمِّرُوهَا فِي جَمْعِكُمْ، وَضَعُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَظَاهِرَ» . وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنَ الْحَدِّ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ) أَيْ مَسَّتْهُ وَأَصَابَتْهُ وَأَقْلَقَتْهُ (الْحِجَارَةُ) أَيْ طَرَفُهَا الْحَادُّ (فَرَّ فَأُدْرِكَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِدْرَاكِ بِمَعْنَى اللُّحُوقِ (فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ) أَيْ أَثْنَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ (خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْصَنِ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَشَرَعُوا فِي رَجْمِهِ فَهَرَبَ هَلْ يُتْرَكُ أَمْ يُتَّبَعُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا: يُتْرَكُ وَلَكِنْ يُسْتَقَالُ لَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ تُرِكَ، وَإِنْ أَعَادَهُ رُجِمَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ وَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُتْرَكُ مُطْلَقًا. قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُتْبَعُ وَيُرْجَمُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُلْزِمْهُمْ دِيَتَهُ مَعَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْحُكْمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْجَهْلُ بِهِ عُذْرٌ.

3561 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ، قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ - لَا يُكَنِّي - قَالَ: نَعَمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3561 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَتَى) أَيْ جَاءَ (مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ) بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ أَيْ فَعَلْتَ الْقُبْلَةَ بِالضَّمِّ (أَوْ غَمَزْتَ) أَيْ لَمَسْتَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ مِنْ غَمَزْتُ الشَّيْءَ بِيَدِي أَيْ لَمَسْتُ بِهَا، أَوْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ بِهَا (أَوْ نَظَرْتَ) أَيْ قَصَدْتَ النَّظَرَ إِلَيْهَا فَإِنَّ كُلًّا يُسَمَّى زِنًا (قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا) بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْكَافِ أَيْ أَجَامَعْتَهَا وَهُوَ مَقُولُ الْقَوْلِ وَقَوْلُهُ (لَا يُكَنِّي) حَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِنَايَةِ ضِدُّ التَّصْرِيحِ وَهُوَ قَوْلُ الرَّاوِي أَيْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ مُصَرِّحًا غَيْرَ مُكَنٍّ عَنْهُ، وَهَذَا التَّصْرِيحُ تَصْرِيحٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّعْرِيضِ بِالْعَفْوِ إِذَا كَنَّى الْجَانِي، وَلَمْ يُصَرِّحْ (قَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (فَعِنْدَ ذَلِكَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ أَيْ مَاعِزٌ: نَعَمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ (أَمَرَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِرَجْمِهِ) أَيْ فَرُجِمَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَلْقِينِ الْمُقِرِّ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا بِالرُّجُوعِ وَبِمَا يُعْتَذَرُ بِهِ مِنْ شُبْهَةٍ، فَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ ; لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالدَّرْءِ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا ; فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّلْقِينُ فِيهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: «فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ، فَقَالَ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: حَتَّى ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا كَمَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ حَلَالًا، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي. فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلَيْهِ فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ فَقَالَا: نَحْنُ هَذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: انْزِلَا وَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ، فَقَالَا: وَمَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عَرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنَ الْأَكْلِ مِنْهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا» .

3562 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ: وَيْحَكَ! ارْجِعْ، فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟ قَالَ: مِنَ الزِّنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبِهِ جُنُونٌ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَالَ: أَشَرِبَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، فَقَالَ: أَزَنَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَلَبِثُوا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ، ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الْأَزْدِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيَحَكِ ارْجِعِي، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: تُرِيدُ أَنْ تَرْدُدَنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ: أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ لَهَا: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ. قَالَ: وَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ: إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَتَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي. فَلَمَّا وَلَدَتْ، قَالَ: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ. فَلَمَّا فَطَمَتْهُ، أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ، فَرَجَمُوهَا فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجْرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا، فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ - مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3562 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي) أَيْ كُنْ سَبَبَ تَطْهِيرِي مِنَ الذَّنْبِ بِإِجْرَاءِ الْحَدِّ عَلَيَّ (فَقَالَ: وَيَحَكَ!) فِي النِّهَايَةِ: وَيْحَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَتَوَجُّعٍ يُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَقَدْ يُقَالُ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالتَّعَجُّبِ وَهَى مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَدْ يُرْفَعُ، وَيُضَافُ، وَلَا يُضَافُ، يُقَالُ وَيْحَ زَيْدٍ، وَوَيْحًا لَهُ، وَوَيْحٌ لَهُ (ارْجِعْ) أَيْ عَنْ هَذَا الْمَقَالِ وَعَنْ هَذَا الْكَلَامِ (فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) أَيْ بِاللِّسَانِ (وَتُبْ إِلَيْهِ) أَيْ بِالْجَنَانِ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ، وَبِالتَّوْبَةِ الْمُدَاوَمَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهَا (قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أَيْ غَيْرَ زَمَانٍ بَعِيدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَالْأَظْهَرُ غَيْرَ مَكَانٍ بَعِيدٍ أَوْ رُجُوعًا غَيْرَ بَعِيدٍ بِمَعْنَى غَيْبَةٍ غَيْرِ بَعِيدَةٍ (ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي) وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَطْهِيرِ نَفْسِهِ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالرَّجْعَةِ النَّصِيحَةِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ) وَيْحَكَ إِلَخْ (حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ) أَيْ، وَقَالَ طَهِّرْنِي (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَ أُطَهِّرُكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: مِمَّ أُطَهِّرُكَ؟ وَفِي نُسْخَةٍ: بِمَ أُطَهِّرُكَ؟ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيمَ بِالْفَاءِ وَالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ بِنُقْطَتَيْنِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَفِيهِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ (قَالَ: مِنَ الزِّنَا) أَيْ مِنْ ذَنْبِهِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا يُسْأَلُ بِهَا عَنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَمَنِ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي الْجَوَابِ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى السَّبَبِ ; لِأَنَّهَا لِإِنْشَاءِ الِابْتِدَاءِ، فَخُصَّتْ مَا بِهِ لِيُطَابِقَهَا كَأَنَّهُ قِيلَ فِي أَيِّ سَبَبٍ أُطَهِّرُكَ؟ وَأَجَابَ بِسَبَبِ الزِّنَا، وَنَظِيرُهُ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ

الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86 - 87] ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ (مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ) مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ لِأَصْحَابِهِ (أَبِهِ جُنُونٌ فَأُخْبِرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَأَخْبَرُوهُ (أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: أَشَرِبَ خَمْرًا، فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ) أَيْ طَلَبَ نَكْهَتَهُ مِنْ رَائِحَةِ فَمِهِ لِيَعْلَمَ أَشَارِبٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ شَارِبٍ (فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، فَقَالَ: أَزَنَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ) أَيْ بِرَجْمِهِ (فَرُجِمَ، فَلَبِثُوا يَوْمَيْنِ) أَيْ بَعْدِ رَجْمِهِ (أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ) أَيِ اطْلُبُوا لَهُ مَزِيدَ الْمَغْفِرَةِ وَتَرَقِّي الدَّرَجَةِ (لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً) أَيْ مِنْ ذَنْبِهِ هَذَا (لَوْ قُسِّمَتْ) أَيْ ثَوَابُهَا (بَيْنَ أُمَّةٍ) أَيْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ (لَوَسِعَتْهُمْ) بِكَسْرِ السِّينِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَكَفَتْهُمْ سَعَةً يَعْنِي تَوْبَةً تَسْتَوْجِبُ مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً تَسْتَوْعِبَانِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الْخَلْقِ يَدُلُّ قَوْلُهُ فِي الْغَامِدِيَّةِ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ - مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذًا مَا فَائِدَةُ اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزٍ؟ قَلْتُ: فَائِدَةُ قَوْلِهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] إِلَى قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرُوا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 1 - 2] فَإِنَّ الثَّانِي طَلَبُ مَزِيدِ الْغُفْرَانِ وَمَا يَسْتَدْعِيهِ مِنَ التَّرَقِّي فِي الْمَقَامَاتِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 90] (ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ (مِنَ الْأَزْدِ) قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْغَامِدِيَّةُ مِنْ بَنِي غَامِدٍ حَيٌّ مِنَ الْأَزْدِ قَالَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ، وَفِي كِتَابِ أَنْسَابِ الْعَرَبِ غَامِدٌ بَطْنٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيْحَكِ! فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: تُرِيدُ أَنْ تَرْدُدَنِي) أَيْ تُرْجِعَنِي (كَمَا رَرَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الزِّنَا مَقْصُورٌ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) وَيُمَدُّ فِي لُغَةِ نَجْدٍ وَعَلَيْهَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ أَبَا طَاهِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفُ زِنَاؤُهُ وَمَنْ يَشْرَبِ الْخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسَكَّرَا بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِهَا مِنَ السُّكْرِ وَالْخُرْطُومُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ إِنَّهَا حُبْلَى جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةُ بَيَانٍ لِمُوجِبِ قِيَاسِ حَالِهَا عَلَى حَالِ مَاعِزٍ وَالْعِلَّةُ غَيْرُ جَامِعَةٍ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي غَيْرُ مُتَمَكِّنَةٍ مِنَ الْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لِظُهُورِ الْحَبَلِ بِخِلَافِهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهَا حُبْلَى عَلَى الْغَيْبَةِ حِكَايَةُ مَعْنًى، وَقَوْلُهَا: إِنِّي حُبْلَى يَدُلُّ عَلَى الْجَوَابِ (فَقَالَ: أَنْتِ؟) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَا تَكَلَّمَتْ بِهِ (قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ لَهَا: حَتَّى) أَيِ اصْبِرِي إِلَى أَنْ (تَضَعِي) وَقَالَ الطِّيبِيُّ: غَايَةٌ لِجَوَابِ قَوْلِهَا: طَهِّرْنِي أَيْ لَمْ أُطَهِّرْكِ حَتَّى تَضَعِي (مَا فِي بَطْنِكِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ الْحَامِلَ لَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ مَا لَمْ تَضَعِ الْحَمْلَ لِئَلَّا يَلْزَمَ إِهْلَاكُ الْبَرِيءِ بِسَبَبِ الْمُذْنِبِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْعُقُوبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْعِبَادِ (قَالَ) أَيِ الرَّاوِي (فَكَفَلَهَا) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ قَامَ بِمُؤْنَتِهَا وَمَصَالِحِهَا (رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْكَفَالَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الضَّمَانِ لِأَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي حُدُودِ اللَّهِ (فَأَتَى) أَيِ الرَّجُلُ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ (فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ) أَيْ فَمَا الْحُكْمُ فِيهَا؟ (فَقَالَ: إِذًا) بِالتَّنْوِينِ (لَا نَرْجُمُهَا)

بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (وَتَدَعُ وَلَدَهَا) بِالْوَجْهَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذًا هُوَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ يَعْنِي إِذَا وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَلَا تَرْجُمْهَا، وَتَتْرُكُ وَلَدَهَا (صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرٍ أَيْ رَضَاعُهُ مَوْكُولٌ إِلَيَّ (يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ:) أَيِ الرَّاوِي (فَرَجَمَهَا) أَيْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهَا، فَرُجِمَتْ (وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي. فَلَمَّا وَلَدَتْ، قَالَ: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ تَفْصِلِينَهُ مِنَ الرَّضَاعِ (فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَتَتْهُ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي يَدِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ وَفِي يَدِهِ (كِسْرَةُ خُبْزٍ) الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ (فَقَالَتْ: هَذَا) أَيْ وَلَدِي (يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ) فِيهِ أَنَّ رَجْمَ الْحَامِلِ يُؤَخَّرُ إِلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا وَلَدُهَا إِذَا لَمْ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ (فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قَالَ النَّوَوِيُّ: الرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ مُخَالِفَةٌ لِلْأُولَى، فَإِنَّ الثَّانِيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ رَجْمَهَا كَانَ بَعْدَ الْفِطَامِ وَأَكَلِ الْخُبْزِ، وَالْأُولَى ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ رَجْمَهَا عَقِيبَ الْوِلَادَةِ فَوَجَبَ تَأْوِيلُ الْأُولَى لِصَرَاحَةِ الثَّانِيَةِ لِتَتَّفِقَا؛ لِأَنَّهُمَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ، فَقَوْلُهُ فِي الْأُولَى: فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ إِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ الْفِطَامِ، وَأَرَادَ بِالرَّضَاعَةِ كَفَالَتَهُ وَتَرْبِيَتَهُ سَمَّاهَا رَضَاعًا مَجَازًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالطَّرِيقَانِ فِي مُسْلِمٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَجَمَهَا حِينَ فَطَمَتْ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنَّهُ رَجَمَهَا حِينَ وَضَعَتْ، وَهَذَا أَصَحُّ طَرِيقًا ; لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ وَفِيهِ مُقَاتِلٌ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ نِسْبَتُهَا إِلَى الْأَزْدِ وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَفِيهِ رَجَمَهَا بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ أَيْ إِنِّي أَتَكَفَّلُ مُؤْنَةَ الْمُرْضِعَةِ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا كَمَا كَفَلَ الرَّجُلُ مُؤْنَتَهَا حِينَ كَانَتْ حَامِلًا، فَإِذَا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَرَجَمَهَا فَصَيْحَةٌ أَيْ سَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ وَلَدِهَا فَأَرْضَعَتْهُ حَتَّى فَطَمَتْهُ، وَأَتَتْهُ بِهِ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى غَيْرِهَا (ثُمَّ أَمَرَ بِهَا) أَيْ بِرَجْمِهَا (فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرٍ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: إِنَّ تَرْكَ الْحَفْرِ لَمْ يَضُرَّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ. اه وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِتَقْدِيرِهِ فَيُسْتَحَبُّ الْحَفْرُ لَهَا عَلَى مَا سَبَقَ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي لَمْ يُوجِبْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ هُوَ الْإِيجَابُ، وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ مَجَازًا عَنْ أَمَرَ (وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا) وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ حُضُورِهِ فِي رَجْمِهَا بَلِ الظَّاهِرُ وَجُودُهُ حِينَئِذٍ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِخَالِدٍ بَعْدَ سَبِّهِ إِيَّاهَا، وَلِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ، فَحَفَرَ لَهَا إِلَى الثَّنْدُوَةِ» . ثُمَّ ذَكَرَ إِسْنَادًا آخَرَ، وَزَادَ: ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمِّصَةِ وَقَالَ: ارْمُوا، وَاتَّقُوا الْوَجْهَ، فَلَمَّا طُفِئَتْ، أَخْرَجَهَا، وَصَلَّى عَلَيْهَا، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ، وَفِيهِمْ مَجْهُولٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ تَمَّ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطٍ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ عَلَى الزِّنَا أَمَرَ الشُّهُودَ أَنْ يَرْجُمُوا، ثُمَّ يَرْجُمُ هُوَ، ثُمَّ يَرْجُمُ النَّاسُ، فَإِنْ كَانَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ هُوَ فَرَجَمَ، ثُمَّ رَجَمَ النَّاسُ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزِّنَا زِنَاآنِ زِنَا السِّرِّ وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ، فَزِنَا السِّرِّ يَشْهَدُ الشُّهُودُ، فَيَكُونُ الشُّهُودُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ فَيَكُونُ الْإِمَامُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، قَالَ: وَفِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ صُدْغَهَا، فَاسْتَدَارَتْ، وَرَمَى النَّاسُ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ لِشُرَاحَةَ زَوْجٌ غَائِبٌ بِالشَّامِ، وَأَنَّهَا حَمَلَتْ فَجَاءَ بِهَا مَوْلَاهَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ زَنَتْ، فَاعْتَرَفَتْ فَجَلَدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَحَفَرَ لَهَا إِلَى السُّرَّةَ وَأَنَا شَاهِدٌ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرَّجْمَ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلَوْ كَانَ

شَهِدَ عَلَى هَذِهِ أَحَدٌ لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي الشَّاهِدُ يَشْهَدُ ثُمَّ يُتْبِعُ شَهَادَتَهُ حَجَرَهُ، وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَرْمِيهَا، فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ، فَرَمَاهَا النَّاسُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتَ نَائِمَةٌ، قَالَتْ: لَا. قَالَ: لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ. قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا، فَحُبِسَتْ فَلَمَّا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا أَخْرَجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسَ، فَضَرَبَهَا مِائَةً، وَحُفِرَ لَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّحْبَةِ، وَأَحَاطَ النَّاسُ بِهَا. الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ صَفَّهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ، ثُمَّ رَجَمَهَا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ، فَرَجَمَ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ (فَيُقْبِلُ) مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْمُضَارِعُ لِحِكَايَةِ الْحَالِ (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرْوَى هَذَا اللَّفْظُ بِالْيَاءِ ذَاتِ النُّقْطَتَيْنِ مِنْ تَحْتُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَافِ وَاللَّامِ عَلَى زِنَةِ الْمَاضِي مِنَ التَّقْبِيلِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ مَعْنًى، وَرِوَايَةً وَإِنَّمَا أَتَاهُمُ الْغَلَطُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الرَّاوِيَ أَتَى بِهِ عَلَى بِنَاءِ الْمُضَارِعِ مِنَ الْإِقْبَالِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ حِكَايَةَ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَرَوَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْإِقْبَالِ لَأَتَى بِهِ عَلَى زِنَةِ الْمَاضِي لِكَوْنِهِ أَشْبَهَ بِنَسَقِ الْكَلَامِ، وَصَحَّحَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَتَقَيَّلَ بِالْيَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي مِنَ التَّقَيُّلِ وَهُوَ التَّبَعُ أَيْ تَبِعَهَا بِحَجَرٍ (فَرَمَى رَأْسَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ الْقِصَّةَ إِذَا كَانَتْ عَجِيبَةَ الشَّأْنِ يُعَدَّلُ مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ لِتَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالَةِ مُشَاهَدَةً وَاسْتِحْضَارًا لِيَتَعَجَّبَ السَّامِعُ مِنْهَا وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ قِصَّةَ خَالِدٍ وَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: مَهْلًا. وَمِنْ تَمْثِيلِ تَوْبَتِهَا بِتَوْبَةِ الْعِشَارِ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهَا، وَيُسْتَغْرَبُ فِيهَا قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ كُلُّهَا بِالصِّيغَةِ الْمُضَارِعَةِ فَتَأَمَّلْ (فَتَنَضَّحَ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِي بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُعْجَمَةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْمُهْمَلَةِ، وَالْمَعْنَى تَرَشَّشَ، وَانْصَبَّ وَفِي النِّهَايَةِ: النَّضْحُ قَرِيبٌ مِنَ النَّضْخِ، وَقِيلَ: بِالْمُعْجَمَةِ الْأَثَرُ يَبْقَى فِي الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ وَبِالْمُهْمَلَةِ الْفِعْلُ نَفْسُهُ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مَا فُعِلَ تَعَمُّدًا وَبِالْمُهْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ (فَسَبَّهَا) أَيْ فَشَتَمَهَا (خَالِدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْلًا) أَيْ أَمْهِلْ مَهْلًا أَيِ ارْفِقْ رِفْقًا فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ فَلَا تَسُبَّهَا (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً) أَيْ نَدِمَتْ نَدَامَةً، أَوْ رَجَعَتْ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ رَجْعَةً (لَوْ تَابَهَا) لَوْ تَابَ تَوْبَتَهَا (صَاحِبُ مَكْسٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَأَصْلُهُ الْجِنَايَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى الضَّرِيبَةِ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمَاكِسُ وَهُوَ الْعِشَارُ (لَغُفِرَ لَهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْمَكْسَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي الْمُوبِقَاتِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُطَالَبَةِ النَّاسِ وَمَظْلَمَاتِهِمْ عِنْدَهُ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَصَرْفِهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، قُلْتُ: وَهُوَ مَنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ الَّذِي شَقِيقُ الرُّوحِ فِي وَقْتٍ ضَيِّقٍ قَهْرًا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ وَلَا طَرِيقٍ عُرْفِيٍّ بَلْ يَتَعَدَّى عَلَى الْمُسْلِمِينَ زِيَادَةً عَلَى مُصْطَلَحِ الْكَافِرِينَ، وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا وَمَشَايِخِ أَوَانِنَا إِنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ هَذَا الْمَالَ وَيَصْرِفُونَهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَنَالِ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي الْمَالِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ وَالرِّزْقَ الْحَلَالَ، وَسَنَّ الْأَعْمَالِ (ثُمَّ أَمَرَ) أَيِ النَّاسَ (بِهَا) أَيْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا (فَصُلِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَنَائِبُهُ قَوْلُهُ: (عَلَيْهَا) وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمَأْمُورُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، قَالَ الْقَاضِيَ عِيَاضٌ: هِيَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَ الصُّبْرِيِّ بِضَمِّ الصَّادِ، قَالَ: وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبَى دَاوُدَ كَذَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ فَصَلَّى بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَصْلًا، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَيْ بِتَجْهِيزِهَا مِنْ غَسْلِهَا، وَتَكْفِينِهَا، وَإِحْضَارِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تُنَافِي الْأُولَى، فَتُحْمَلُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ صَلَاتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَاعِزٍ، وَقَدْ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ اه. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَكَانَ أَرْبَابُ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الْمِشْكَاةِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهَا أَمْ لَا اخْتَارُوا ضَبْطَ لَفْظِهِ (صُلِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِيَشْمَلَ الِاحْتِمَالَيْنِ، لَكِنَّهُ مُوهِمٌ، فَالْأَوْلَى مُتَابَعَةُ الْجُمْهُورِ مُوَافَقَةَ النَّقْلِ الْمَشْهُورِ. (وَدُفِنَتْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْجُومِ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِلْإِمَامِ، وَلِأَهْلِ الْفَضْلِ دُونَ بَاقِي

النَّاسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ: يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَأَهْلُ الْفَضْلِ فِي غَيْرِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْفُسَّاقِ وَالْمَقْتُولِينَ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْحُدُودِ وَأَوْلَادِ الزِّنَا، سِوَى قَتَادَةَ فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ أَنْ يُصَلَّى عَلَى أَوْلَادِ الزِّنَا. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ يُكَفِّرُ ذَنْبَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي حُدَّ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ لَمْ يَقْنَعَا بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ مُحَصِّلَةٌ لِغَرَضِهَا مِنْ سُقُوطِ الْإِثْمِ، فَأَصَرَّا عَلَى الْإِقْرَارِ، فَرَجَمَهَا؟ . فَالْجَوَابُ: أَنَّ تَحْصِيلَ الْبَرَاءَةِ بِالْحَدِّ مُتَيَقَّنٌ لَاسِيَّمَا بِمُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَيُخَافُ أَنْ لَا تَكُونَ نَصُوحًا، وَأَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ شُرُوطِهَا، وَفِيهِ احْتِجَاجٌ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْحِجَازِيِّينَ، أَنَّهُ يُحَدُّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَلَمْ يُقِرَّ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبَى حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِمُجَرَّدِ الرِّيحِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ وَإِقْرَارٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا تُرْجَمُ الْحُبْلَى حَتَّى تَضَعَ، سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا مِنْ زِنًا أَوْ غَيْرِهِ، لِئَلَّا يُقْتَلَ الْبَرِئُ مِنَ الذَّنْبِ، وَكَذَا لَا تُجْلَدُ، وَأَنَّهُ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا قِصَاصٌ وَهِيَ حَامِلٌ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَتُرْضِعَ وَلَدَهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ قَالَ: «رُجِمَ مَاعِزٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: " اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ مِنَ الْغُسْلِ وَالْحَنُوطِ وَالْكَفَنِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ» ". وَأَمَّا صَلَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْغَامِدِيَّةِ، فَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: " لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ» ". وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَمْرِ مَاعِزٍ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحُوهُ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ دَاوُدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَاعِزٍ، وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَفِيهِ مَجَاهِيلُ، فَإِنَّ فِيهِ عَنْ أَبِي بُسْرٍ: حَدَّثَنِي نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ. نَعَمْ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي مَاعِزٍ، وَقَالَ لَهُ خَيْرًا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ، مُعَارِضٌ صَرِيحٌ فِي صَلَاتِهِ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْمُثْبِتَ أَوْلَى مِنَ النَّافِي.

3563 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3563 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا) : أَيْ: ظَهَرَ (فَلْيَجْلِدْهَا) أَيْ أَحَدُكُمْ (الْحَدَّ) أَيِ الْجَلْدَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَلْيَجْلِدْهَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدُّ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَفِي ذِكْرِ الْأَمَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ حَدَّهَا مَنْكُوحَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا الْجَلْدُ إِلَّا أَنَّهُ نِصْفُ جَلْدِ الْحَرَائِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَأُرِيدَ بِالْعَذَابِ الْجَلْدُ لَا الرَّجْمُ، لِأَنَّهُ لَا يُنَصَّفُ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ لِلْمَوْلَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ، وَعُلَمَاؤُنَا حَمَلُوا قَوْلَهُ: فَلْيَجْلِدْهَا عَلَى التَّسَبُّبِ أَيْ لِيَكُنْ سَبَبًا لِجَلْدِهَا بِالْمُرَافَعَةِ إِلَى الْإِمَامِ، وَفِي الْهِدَايَةِ: لَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ: يُقِيمُ بِلَا إِذْنٍ. وَعَنْ مَالِكٍ إِلَّا فِي الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوِ امْرَأَةً، وَهَلْ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَتْلًا بِسَبَبِ الرِّدَّةِ، أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، أَوْ قَطْعًا لِلسَّرِقَةِ؟ فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ، نَعَمْ لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ، وَفِي التَّهْذِيبِ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ إِلَى الْإِمَامِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَهُمْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ؟ قَالَ: (إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، وَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، وَإِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، وَالضَّفِيرُ: الْحَبْلُ. وَفِي السُّنَنِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ) وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَعْزِيرَهُ صِيَانَةً لِمِلْكِهِ عَنِ الْفَسَادِ فَكَذَا الْحَدُّ، وَلِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً مُطْلَقَةً عَلَيْهِ

حَتَّى مَلَكَ مِنْهُ مَا لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَمِلْكُهُ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الْإِمَامِ، وَلَنَا مَا رَوَى الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: «أَرْبَعٌ إِلَى الْوُلَاةِ الْحُدُودُ وَالصَّدَقَاتُ وَالْجُمُعَاتُ وَالْفَيْءُ» ; وَلِأَنَّ الْحَدَّ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إِلَّا نَائِبُهُ وَهُوَ الْإِمَامُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَوْنِهِ حَقَّ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ نَائِبُهُ مُسْلِمٌ، لَكِنَّ الِاسْتِنَابَةَ تُعْرَفُ بِالسَّمْعِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَقِّهِ الْمُتَوَجِّهِ مِنْهُ عَلَى الْأَرِقَّاءِ مَوَالِيهِمْ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِقَامَةَ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَ بِهِ غَيْرُهُ كَانَ مُمْتَثِلًا، فَجَازَ كَوْنُ الْمُرَادِ ذَكَرَهُ لِلْإِمَامِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَثْبُتِ الْمُعَارِضُ الْمَذْكُورُ لَا يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ كَوْنِ الْقَائِلِ: أَقَامَ فُلَانٌ أَوْ جُلِدَ فُلَانٌ، أَنَّهُ بَاشَرَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ أَحَدُ دَائِرَةٍ فِيهِمَا لَا فِي ثَلَاثَةٍ، وَهُمَا هَذَانِ مَعَ رَفْعِهِ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحُدَّهُ نَعَمْ مَنِ اسْتَقَرَّ اعْتِقَادُهُ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِلَى الْإِمَامِ فَالْمُتَبَادِرُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ الْأَخِيرِ بِخُصُوصِهِ اه. كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الْمُحَقِّقِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ لَا يَعِيبُ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْأَمَةِ وَلَا يُعَيِّرْهَا أَحَدٌ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ لِذَنْبِهَا. قَالَ الْقَاضِي: التَّثْرِيبُ التَّأْنِيبُ وَالتَّعْيِيرُ، وَكَانَ تَأْدِيبُ الزُّنَاةِ قَبْلَ شَرْعِ الْحَدِّ هُوَ التَّثْرِيبَ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالْجَلْدِ، وَنَهَى عَنِ الِاقْتِصَارِ بِالتَّثْرِيبِ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا أَسْقَطَ التَّغْرِيبَ عَنِ الْمَمَالِيكِ نَظَرًا لِلسَّادَةِ صِيَانَةً لِحُقُوقِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَأَنَّ السَّيِّدَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِمَا، وَلَهُ أَنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ جُرْمِهِمَا، وَيَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ لِلْجُمْهُورِ. قُلْتُ: الصَّرَاحَةُ مَمْنُوعَةٌ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَذَا لَفْظُ أَحَدِكُمْ فَيَشْمَلُ الْإِمَامَ وَغَيْرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِّ مِنَ الشُّرُوطِ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكِينَ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْمَالِكَ مُتَّهَمٌ فِي ضَرْبِهِ وَقَتْلِهِ أَنَّهُ لِذَلِكَ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ لَهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَسَادٌ كَثِيرٌ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ رِوَايَةُ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، وَرِوَايَةُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . وَلَعَلَّ وَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ عَيْبًا فِي الْجَوَارِي وَالْعَبِيدِ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْحَدِّ مَعَ الْأَحْرَارِ، لَكِنْ بِطْرِيقِ التَّنْصِيصِ كَمَا دَلَّ عَلَى الْآيَةِ. (ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ) ، فِيهِ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّثْرِيبِ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الزَّانِيَ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الزِّنَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَأَمَّا إِذَا زَنَا مَرَّاتٍ وَلَمْ يُحَدَّ، فَيَكْفِي حَدٌّ وَاحِدٌ لِلْجَمِيعِ، (ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا) : أَيْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ قَبْلَهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَلْيَجْلِدْهَا لِيَكُنْ سَبَبُ جَلْدِهَا بِالْمُرَافَعَةِ، لِيَحْصُلَ تَأْدِيبُهَا، وَلَمَّا تَكَرَّرَ مِنْهَا، وَعُلِمَ عَدَمُ النَّفْعِ فِيهَا، فَأَمَرَهُ بِبَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةِ حَدِّهَا. (وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهَا قَلِيلًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَرْكُ مُخَالَطَةِ الْفُسَّاقِ وَأَهْلِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا الْبَيْعُ الْمَأْمُورُ بِهِ مُسْتَحَبٌّ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ وَاجِبٌ، وَفِيهِ جَوَّزَ بَيْعَهُ الشَّيْءَ الثَّمِينَ بِثَمَنٍ حَقِيرٍ إِذَا كَانَ الْبَائِعُ عَالِمًا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَفِيهِ خِلَافٌ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَهُ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ، وَعَلَى الْبَائِعِ بَيَانُ حَالِ السِّلْعَةِ وَعَيْبِهَا لِلْمُشْتَرِي. قُلْتُ: هَذَا كَلَامٌ بِرَأْسِهِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكْرَهُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَيَرْتَضِيهِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟ فَالْجَوَابُ: لَعَلَّ الزَّانِيَةَ تَسْتَعِفُّ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهَا أَوْ بِصَوْنِهَا أَوْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْهَا، أَوْ تَزْوِيجِهَا. قُلْتُ: إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ مَنْ أَصِلِهِ، نَعَمْ يَحْتَاجُ الْجَوَابُ عَمَّنْ يَشْتَرِيهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ بَيْعَهَا بِمَنْزِلَةِ التَّغْرِيبِ زَجْرًا وَسِيَاسَةً وَدَلَالَةً إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلتَّرْبِيَةِ عِنْدَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3564 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (أَحْسَنْتَ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: قَالَ (دَعْهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا ثُمَّ أَقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ، وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3564 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أَيِ الْمُؤْمِنُونَ (أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ) : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ جَمْعُ رَقِيقٍ أَيْ: مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ (الْحَدَّ) : أَيْ ضَرْبُ جَلْدِ (مَنْ أُحْصِنَ) : أَيْ وَتَزَوَّجَ (مِنْهُمْ) : أَيْ مِنْهُنَّ فَفِيهِ حَذْفٌ أَوْ تَغْلِيبٌ (وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَقْيِيدُ الْأَرِقَّاءِ بِالْإِحْصَانِ، مَعَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ يُرَادُ بِهِ كَوْنُهُنَّ مُزَوَّجَاتٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] حَيْثُ وَصَفَهُنَّ بِالْإِحْصَانِ، فَقَالَ: فَإِذَا أُحْصِنَّ وَحَكَمَ (فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا) وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّأْوِيلِ (فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ) : أَيْ جَدِيدُ زَمَانٍ (بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ مَفْعُولُ فَخَشِيتُ وَجَلَدْتُهَا مُفَسِّرٌ لِعَامِلِ أَنَا الْمُقَدَّرِ بَعْدَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ: وَإِنْ هِيَ لَمْ تَحْمِلْ عَنِ النَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمُعْتَرِضُ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ. (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَحْسَنْتَ) . فِيهِ: إِنَّ جَلْدَ ذَاتِ النِّفَاسِ يُؤَخَّرُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ نِفَاسِهَا ; لِأَنَّ نِفَاسَهَا نَوْعُ مَرْضٍ فَتُؤَخَّرُ إِلَى زَمَانِ الْبُرْءِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ وَحْدَهُ الرَّجْمُ بِأَنْ كَانَ مُحْصَنًا حَدٌّ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ قَتْلُهُ وَرَجْمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ لَا يُجْلَدُ حَتَّى يَبْرَأَ ; لِأَنَّ جَلْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِهِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَرَضُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالسُّلِّ، أَوْ كَانَ خِدَاجًا ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ، فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُضْرَبُ بِعِثْكَالٍ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَيُضْرَبُ بِهِ دَفْعَةً، وَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِ كُلِّ شِمْرَاخٍ إِلَى بَدَنِهِ، وَلِذَا قِيلَ: لَا بُدَّ حِينَئِذٍ أَنْ تَكُونَ مَبْسُوطَةً، وَلِخَوْفِ التَّلَفِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إِلَى اعْتِدَالِ الزَّمَانِ، وَإِذَا زَنَتِ الْحَامِلُ لَا تُحَدُّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَلَوْ جَلْدًا كَيْلَا يُؤَدِّيَ إِلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُحَرَّمَةٌ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَا جَرِيمَةَ مِنْهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: قَالَ (دَعْهَا) : أَيِ اتْرُكْهَا (حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا) : أَيْ دَمُ نِفَاسِهَا ( «ثُمَّ أَقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ، وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ) . أَيْ لَا تَتْرُكُوا الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْفَعَتَهَا وَاصِلَةٌ إِلَيْكُمْ وَإِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِيهِ صَرَاحَةُ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ لِلْمَوَالِي إِقَامَةَ حُدُودِ مَمَالِيكِهِمْ، وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَلَا تَأْخُذْكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ أَصْحَابِنَا فِي كُتُبِهِمْ نَقْلًا عَنِ الصَّحَابَةِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: «إِنَّ وِلَايَةَ الْحَدِّ إِلَى الْوُلَاةِ» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3565 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ مَاعِزٌ الْأَسْلَمِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضُ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ زَنَى. فَأَمَرَ فِي الرَّابِعَةِ، فَأُخْرِجَ إِلَى الْحَرَّةِ فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ فَرَّ يَشْتَدُّ، حَتَّى مَرَّ بِرَجُلٍ مَعَهُ لَحْيُ جَمَلٍ فَضَرَبَهُ بِهِ، وَضَرَبَهُ النَّاسُ حَتَّى مَاتَ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَرَّ حِينَ وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ وَمَسَّ الْمَوْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ: (هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3565 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مَاعِزٌ الْأَسْلَمِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى) ، هَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى، إِذْ لَفْظُهُ: إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ مَاعِزًا قَدْ زَنَا (فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ) ، أَيْ بَعْدَ غَيْبَتِهِ عَنِ الْمَجْلِسِ (فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ زَنَى. فَأَمَرَ بِهِ) : أَيْ بِرَجْمِهِ (فِي الرَّابِعَةِ) ، أَيْ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَجَالِسِ الِاعْتِرَافِ

(فَأُخْرِجَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُمِرَ بِإِخْرَاجِهِ (إِلَى الْحَرَّةِ) ، هِيَ بُقْعَةٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ خَارِجَ الْمَدِينَةِ (فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ) ، أَيْ أَلَمَ إِصَابَتِهَا (فَرَّ) : أَيْ هَرَبَ (يَشْتَدُّ) ، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ يَسْعَى، وَهُوَ حَالٌ (حَتَّى مَرَّ بِرَجُلٍ مَعَهُ لَحْيُ جَمَلٍ) فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبْهَمًا، وَقَدْ فُسِّرَ بِمَا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ وَلَعَلَّهُ كَرَّرَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، وَقَوْلِهِ: (وَمَسِّ الْمَوْتِ) عُطِفَ عَلَى مَسِّ الْحِجَارَةِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ الْآيَةَ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ، بَيَانًا. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ لِابْنِ مَاجَهْ، أَوْ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا (هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ) : أَيْ عَسَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ فِعْلِهِ (فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) . أَيْ يَرْجِعَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ الْمُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا لَوْ قَالَ: مَا زَنَيْتُ، أَوْ كَذَبْتُ، أَوْ رَجَعْتُ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، فَلَوْ رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ سَقَطَ الْبَاقِي، وَقَالَ جَمْعٌ: لَا يَسْقُطُ إِذْ لَوْ سَقَطَ لَصَارَ مَاعِزٌ مَقْتُولًا خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِ الْقَاتِلِينَ. قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ صَرِيحًا؛ لِأَنَّهُ هَرَبَ، وَبِالْهَرَبِ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: (هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ) أَيْ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ أَهَرِبَ مِنْ أَلَمِ الْحِجَارَةِ أَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخَذَهُمْ بِقَتْلِهِ حَيْثُ فَرَّ، فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ قَوَدٌ؟ إِذَا قُلْتَ: لَا؛ لِأَنَّهُ مَضَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُمْ بِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ تَصْلُحُ أَنْ يُدْفَعَ بِهَا الْحَدُّ، وَقَدْ عَرَضَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ إِمْضَاءُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمُ اه. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ قَوَدٌ خَطَأٌ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْقَصَاصِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا إِذَا رَجَعَ فِي خِلَالِ الْحَدِّ فَقَالَ: كَذَبْتُ أَوْ مَا زَنَيْتُ أَوْ رَجَعْتُ، سَقَطَ مَا بَقِيَ مِنَ الْحَدِّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ السَّارِقُ وَشَارِبُ الْخَمْرِ.

3566 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ: (أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟) قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي؟ قَالَ: (بَلَغَنِي أَنَّكَ قَدْ وَقَعْتَ عَلَى جَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ) قَالَ: نَعَمْ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3566 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ: (أَحَقٌّ) : أَيْ أَثَابِتٌ (مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟ قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قَدْ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى جَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ أَيْ عَلَى بِنْتِهِمْ (قَالَ: نَعَمْ، فَشَهِدَ) : أَيْ أَقَرَّ (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) ، أَيْ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ (فَأَمَرَ بِهِ) : أَيْ بِرَجْمِهِ) (فَرُجِمَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ مِنَ الْمُؤَلِّفِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ مُقِرٍّ فِي مَكَانِهِ بَلْ مَكَانُهُ الْفَصْلُ السَّابِقُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، يَعْنِي عَلَى مَا سَبَقَ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَارِفًا بِزِنَا مَاعِزٍ، فَاسْتَنْطَقَهُ لِيُقِرَّ بِهِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَيِ السَّابِقُ، وَيَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ أَيِ اللَّاحِقُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ، فَجَاءَ مَاعِزٌ، فَأَقَرَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ مِرَارًا، ثُمَّ جَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْوَالٌ جَمَّةٌ ثُمَّ رُجِمَ؟ قُلْتُ: لِلْبُلَغَاءِ مَقَامَاتٌ، فَمِنْ مَقَامٍ يَقْتَضِي الْإِيجَازَ فَيَقْتَصِرُونَ عَلَى كَلِمَاتٍ مَعْدُودَةٍ، وَمِنْ مَقَامٍ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ فَيُطْنِبُونَ فِيهِ كُلَّ الْإِطْنَابِ. قَالَ: يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ تَارَةً ... وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ فَابْنُ عَبَّاسٍ سَلَكَ طَرِيقَ الِاخْتِصَارِ، فَأَخَذَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَآخِرِهَا، إِذْ كَانَ قَصْدُهُ بَيَانَ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ، وَبُرَيْدَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَيَزِيدُ سَلَكُوا سَبِيلَ الْإِطْنَابِ فِي بَيَانِ مَسَائِلَ مُهِمَّةٍ لِلْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ حَدِيثُ مَاعِزٍ، فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَنْطَقَهُ لِيُنْكِرَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ لِدَرْءِ الْحَدِّ، فَلَمَّا أَقَرَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَهُ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ بَعْدَمَا كَانَ مَائِلًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَهُ مِنْ قِبَلِ الشِّمَالِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِيَرْجِعَ عَمَّا أَقَرَّ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: (أَبِهِ جُنُونٌ؟) إِلَخْ وَنَظِيرُ سُلُوكِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَخْذِ الْقِصَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا مُلَخَّصًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا - فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15 - 16] : (لَحْيُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ عَظْمُ ذَقْنِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْأَسْنَانُ (فَضَرَبَهُ) : أَيِ الرَّجُلُ (بِهِ) ، أَيْ بِاللَّحْيِ (وَضَرَبَهُ النَّاسُ) : أَيْ آخَرُونَ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ (حَتَّى مَاتَ. فَذَكَرُوا) : أَيْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا فَالْفَاءُ فِي فَأَخَذْنَاهُ كَالْفَاءِ فِي فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَالْفَاءُ تَسْتَدْعِي حَالَاتٍ وَتَارَّاتٍ وَشُئُونًا لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ إِلَى أَوَّلِ الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: كَمَا أَرْسَلْنَا فَعَصَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: طَهِّرْنِي. قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَيَكُونُ قَدْ جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَنَّ قَوْمَهُ أَرْسَلُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَرْسَلَهُ: (لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ) . وَكَانَ مَاعِزٌ عِنْدَهُ هَزَّالٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لَهُ الَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ مَا جَرَى لَهُ: (أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟) إِلَخْ.

3567 - وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَقَالَ لِهَزَّالٍ: (لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ» ) قَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ هَزَّالًا أَمَرَ مَاعِزًا أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3567 - (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ هَزَّالٍ الْأَسْلَمِيِّ يُكَنَّى أَبَا نُعَيْمٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ نُعَيْمٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ (أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) ، أَيْ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ (فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ) : أَيْ فَرُجِمَ (وَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِهَزَّالٍ) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ مُبَالَغَةُ هَازِلٍ (لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَقَالَ (ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ هَزَّالًا أَمَرَ مَاعِزًا أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرَهُ) . وَذَلِكَ أَنَّ هَزَّالًا كَانَ لَهُ مَوْلَاةٌ اسْمُهَا فَاطِمَةُ وَقَعَ عَلَيْهَا مَاعِزٌ، فَعَلِمَ بِهِ هَزَّالٌ فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِالْمَجِيءِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ بِهِ السُّوءَ وَالْهَوَانَ قِصَاصًا لِفِعْلِهِ بِمَوْلَاتِهِ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ نَصِيحَةً لَهُ مِنْ هَزَّالٍ عَلَى مَا سَيُرْوَى فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ( «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» ) . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: ( «مَنْ رَأَى أَيَّ عَوْرَةٍ فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَا أَحْيَا مَوْءُودَةً» ) ، فَإِذَا كَانَ السِّتْرُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِهِ خِلَافَ الْأُولَى الَّتِي مَرْجِعُهَا إِلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّهَا فِي رُتْبَةِ النَّدْبِ فِي جَانِبِ الْفِعْلِ، وَكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فِي جَانِبِ التَّرْكِ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدِ الزِّنَا وَلَمْ يَتَهَتَّكْ بِهِ، أَمَّا إِذَا وَصَلَ الْحَالُ إِلَى إِشَاعَتِهِ وَالتَّهَتُّكِ بِهِ، بَلْ بَعْضُهُمْ رُبَّمَا افْتَخَرَ بِهِ، فَيَجِبُ كَوْنُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا ; لِأَنَّ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ إِخْلَاءُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ بِالْخِطَابَاتِ الْمُفِيدَةِ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْفَاعِلِينَ وَبِالزَّجْرِ لَهُمْ فَإِذَا ظَهَرَ الشَّرَهُ فِي الزِّنَا مَثَلًا وَالشُّرْبِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِهِ وَإِشَاعَتُهُ وَإِخْلَاءُ الْأَرْضِ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ بِالتَّوْبَةِ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ ظُهُورُ عَدَمِهَا، مِمَّا اتُّصِفَ بِذَلِكَ فَيَجِبُ تَحَقُّقُ السَّبَبِ الْآخَرِ لِلْإِخْلَاءِ، وَهُوَ الْحُدُودُ بِخِلَافِ مَنْ زَلَّ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا مُسْتَتِرًا مُتَخَوِّفًا مُتَنَدِّمًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الشَّاهِدِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِهَزَّالٍ فِي مَاعِزٍ: (لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ) الْحَدِيثَ، كَانَ فِي مِثْلِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3568 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3568 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تَعَافَوْا) : أَمْرٌ مِنَ التَّعَافِي وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ الْأَئِمَّةِ أَيْ: لِيَعْفُ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ (الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ) ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَنِي ذَلِكَ (فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ) : أَيْ فَوَجَبَ عَلَيَّ إِقَامَتُهُ عَلَيْكُمْ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَفْوُ عَنْ حُدُودِ اللَّهِ إِذَا رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُجْرِيَ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ بَلْ يَعْفُو أَوْ يَرْفَعُ إِلَى الْحَاكِمِ أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتِ هَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ اسْتِحْبَابٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

3569 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3569 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَقِيلُوا) : أَمْرٌ مِنَ الْإِقَالَةِ (ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: زَلَّاتِهِمْ (إِلَّا الْحُدُودَ) . أَيْ إِلَّا مَا يُوجِبُ الْحُدُودَ، وَالْخِطَابُ مَعَ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْحُقُوقِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْمُؤَاخَذَةَ وَالتَّأْدِيبَ عَلَيْهَا، وَأَرَادَ مِنَ الْعَثَرَاتِ مَا يَتَوَجَّهُ فِيهِ التَّعْزِيرُ لِإِضَاعَةِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَمِنْهَا مَا يُطَالَبُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، فَأَمْرُ الْفَرِيقَيْنِ بِذَلِكَ نَدْبٌ وَاسْتِحْبَابٌ بِالتَّجَافِي عَنْ زَلَّاتِهِمْ، ثُمَّ إِنْ أُرِيدَ بِالْعَثَرَاتِ الصَّغَائِرُ وَمَا يَنْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْخَطَايَا، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَوِ الذُّنُوبُ مُطْلَقًا، وَبِالْحُدُودِ مَا يُوجِبُهَا مِنَ الذُّنُوبِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَفْسِيرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ: هُوَ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَنْبُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْهَيْئَةُ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْهَيْئَةُ فِي الْأَصْلِ صُورَةٌ أَوْ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِأَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَصِيرُ بِسَبَبِهَا مَقُولًا عَلَيْهَا إِنَّهَا وَاحِدَةٌ ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الْخَصْلَةِ، فَيُقَالُ لِفُلَانٍ هَيْئَاتٌ أَيْ خِصَالٌ، الْمُرَادُ بِذَوِي الْهَيْئَاتِ أَصْحَابُ الْمُرُوءَاتِ وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَقِيلَ: ذَوُو الْوُجُوهِ بَيْنَ النَّاسِ اه. وَالْمَعْنِيُّ بِهِمُ الْأَشْرَافُ، وَقِيلَ: أَهْلُ الصَّلَاحِ وَالْوَرَعِ، وَقِيلَ: خَوْفًا كَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَافَ تَغَيُّرَ الزَّمَانِ، وَمَيْلَ النَّاسِ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ مَعَ الْأَكَابِرِ فِي التَّجَاوُزِ وَالسَّتْرِ إِلَى أَنْ يَتْرُكُوا إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى مَنْ يُلَازِمُهُمْ مِنْهُمْ أَوْ طَمَعًا فِيهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ كَمَا يُقِيمُونَ عَلَى السُّوقَةِ، فَإِنْ وَقَعَ الْعَفْوُ فَلْيَقَعْ فِيمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَتَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُسْلُوبٍ لَطِيفٍ حَتَّى لَا يَتَأَذَّى الْأَكَابِرُ بِتَصْرِيحِ الْعِبَارَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمُرَادَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ ( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ، وَأَقِيلُوا الْكِرَامَ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ) .

3570 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنْهَا وَلَمْ يُرْفَعْ وَهُوَ أَصَحُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3570 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادْرَأُوا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَمْرٌ مِنَ الدَّرْءِ أَيِ: ادْفَعُوا (الْحُدُودَ) : أَيْ إِيقَاعَهَا (عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أَيْ مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِكُمْ، وَقَدْرَ طَاقَتِكُمْ (فَإِنْ كَانَ لَهُ) : أَيْ لِلْحَدِّ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْحُدُودِ (مَخْرَجٌ) : اسْمُ مَكَانٍ أَيْ عُذْرٌ يَدْفَعُهُ (فَخَلُّوا سَبِيلَهُ) : أَيِ اتْرُكُوا إِجْرَاءَ الْحَدِّ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ لَهُ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِ مَخْرَجًا، فَالْمَعْنَى اتْرُكُوهُ أَوْ لَا تَعَرَّضُوا لَهُ، (فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ) : أَيْ خَطَؤُهُ (فِي الْعَفْوِ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ) : وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ: لِأَنْ يُخْطِئَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ لَامُ الِابْتِلَاءِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: بِأَنْ يُخْطِئَ أَوْ ; لِأَنْ يُخْطِئَ إِشَارَةٌ إِلَى حَذْفِ يَاءِ السَّبَبِيَّةِ، أَوْ لَامِ الْعِلَّةِ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، بَلْ وَلَا مَعْنَى فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ قَالَ: يَعْنِي ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيَّ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَلَكَ سَبِيلَ الْخَطَأِ فِي الْعَفْوِ الَّذِي صَدَرَ مِنْكُمْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ الْخَطَأِ فِي الْحُدُودِ، فَإِنَّ الْحُدُودَ إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاذُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: نَزَلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَهُوَ: ( «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» ) . وَجُعِلَ الْخِطَابُ فِي الْحَدِيثِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ رَجُلٍ، وَبُرَيْدَةَ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلِ: (أَبِكَ جُنُونٌ؟) ثُمَّ قَوْلِهِ: (أُحْصِنْتَ؟) وَلِمَاعِزٍ (أَبِكَ جُنُونٌ؟) ثُمَّ قَوْلِهِ: (أَشَرِبَ؟) ; لِأَنَّ كُلَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْرَأَ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ. قُلْتُ: هَذَا

التَّأْوِيلُ مُتَعَيَّنٌ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ مَأْمُورُونَ بِالسَّتْرِ مُطْلَقًا، وَلَا يُنَاسِبُهُ أَيْضًا لَفْظُ خَيْرٍ كَمَا لَا يَخْفَى، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا الْحُدُودَ بِكُلِّ عُذْرٍ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ بِهِ، كَمَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ وَغَيْرِهِ مِنْ تَلْقِينِ الْأَعْذَارِ، وَتَفْتِيشِ مَخَارِجِ الْأَوْزَارِ، ثُمَّ بَالَغَ مُبَالَغَهً بَلِيغَةً بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْإِمَامَ إِلَخْ. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ لِأَجْلِ الدَّرْءِ فِي الْخَطَأِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَفْوِ، خَيْرٌ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْخَطَأِ الْمُتَعَلِّقِ بِجَانِبِ الْعُقُوبَةِ، لِمَا فِي سَعَةِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِلِاحْتِيَاطِ فِي جَانِبِ الْبَرِيءِ أَنْ لَا يُضْرَبَ وَلَا يُقْتَلَ فَتَأَمَّلْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْإِمَامَ مُظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ حَثًّا عَلَى إِظْهَارِ الرَّأْفَةِ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ مِنْكُمْ أَوْ إِمَامُكُمْ، عَلَى أَنَّ اللَّامَ بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَبِيلُ عَفْوِهِ بِعُذْرٍ خَيْرٌ مِنْ طَرِيقِ عُقُوبَتِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ (وَقَدْ رُوِيَ) : أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ (عَنْهَا وَلَمْ يُرْفَعْ) : أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَائِشَةَ (وَهُوَ) : أَيِ الْوَقْفُ (أَصَحُّ) . أَيْ مِنْ رَفْعِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ سَنَدَ الْمَوْقُوفِ أَصَحُّ مِنْ سَنَدِ الْمَرْفُوعِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: ( «ادْرَءُوا بِالْحُدُودِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِ مَخْرَجًا فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ لِأَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» ) . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: ( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ» ) . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «ادْفَعُوا الْحُدُودَ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ مَا وَجَدْتُمْ لَهُ مَدْفَعًا» . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمِمَّا يَدْرَأُ الْحَدَّ أَنْ لَا يُعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ، وَنُقِلَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الزِّنَا إِجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) . وَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْأَصْلِ قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ وَيَزِيدُ ضَعِيفٌ وَأُسْنِدَ فِي عِلَلِهِ عَنِ الْبُخَارِيِّ: يَزِيدُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ذَاهِبٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَوْقُوفُ إِلَى الصَّوَابِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ دَرْءُ الْحَدِّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَقْوَى وَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ذِكْرًا لِمُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ، وَفِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ) . وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ النَّخَعِيُّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لِأَنَّ أُعَطِّلَ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقِيمَهَا بِالشُّبُهَاتِ. وَأُخْرِجَ عَنْ مُعَاذٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالُوا: إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الْحَدُّ فَادْرَأْ. وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ أَصْحَابِهِ الظَّاهِرِيَّةِ: أَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحِلُّ أَنْ يُدْرَأَ بِشُبْهَةٍ وَشَنَّعَ بِأَنَّ الْآثَارَ الْمَذْكُورَةَ لِإِثْبَاتِ الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ لَيْسَ فِيهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ، بَلْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ مِنْ طُرُقٍ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَأُعِلَّ مَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ، وَهُوَ غَيْرُ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَإِنَّهَا مَعْلُولَةٌ بِإِسْحَاقَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «وَمَنِ اجْتَرَّ عَلَى مَا يُشَكُّ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ أَوْ يُشَكُّ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» ) ، فَمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ جَهِلَ حُرْمَةَ شَيْءٍ وَحِلَّهُ، فَالْوَرَعُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُ، وَمَنْ جَهِلَ وُجُوبَ أَمْرٍ وَعَدَمَهُ فَلَا يُوجِبْهُ مِنْ جَهْلٍ أَوَجَبَ الْحَدُّ أَمْ لَا. وَجَبَ أَنْ يُقِيمَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْإِرْسَالَ لَا يَقْدَحُ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لَا يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ، فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ، وَأَيْضًا فِي إِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كِفَايَةً، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمَاعِزٍ: ( «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ غَمَزْتَ، لَعَلَّكَ لَمَسْتَ» ) . كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَلَيْسَ لِتِلْكَ فَائِدٌ إِلَّا كَوْنُهُ إِذَا قَالَهَا تَرَكَهُ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ، وَلَمْ يَقُلْ لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ، لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَضَاعَتْ وَنَحْوَهُ، وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّ مَوْلَاكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتَ تَكْتُمِينَهُ، وَتَتَبُّعُ مِثْلِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ يُوجِبُ طُولًا، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلِّهِ كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِأَنَّهُ كَانَ صَرِيحَ الْإِقْرَارِ، وَبِهِ الثُّبُوتُ، وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: ( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ) فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا فِي بَعْضٍ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ أَوْ لَا؟ وَبَيَّنَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحًا إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

فَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ غَمَزْتَ، لَعَلَّكَ لَمَسْتَ. كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ. بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إِلَّا كَوْنُهُ إِذَا قَالَهَا تَرَكَهُ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ، وَلَمْ يَقُلْ لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ: لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَضَاعَتْ وَنَحْوَهُ، وَكَذَا قَالَ لِلسَّارِقِ الَّذِي جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ: أَسَرَقْتَ مَا أَخَالُهُ سُرِقَ، وَلِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ، لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّ مَوْلَاكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ، وَتَتَبُّعُ مِثْلِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ يُوجِبُ طُولًا فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ، وَبِهِ الثُّبُوتُ، وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا فِي بَعْضٍ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ أَوْ لَا، وَبَيَّنَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحًا إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

3571 - وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: «اسْتُكْرِهَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ وَأَقَامَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مَهْرًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3571 - (وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) بِضَمِّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ وَبِالرَّاءِ كَذَا ضَبَطَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: اسْتُكْرِهَتِ امْرَأَةٌ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، جَامَعَهَا رَجُلٌ بِالْإِكْرَاهِ (عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ) أَيْ فِي زَمَانِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَرَأَ) أَيْ مَنَعَ (عَنْهَا الْحَدَّ وَأَقَامَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا) أَيْ جَامَعَهَا (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيِ الرَّاوِي وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (جَعَلَ لَهَا مَهْرًا) أَيْ عَلَى مُجَامِعِهَا، قَالَ الْمُظْهِرُ وَكَذَا ابْنُ الْمَلَكِ: لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمَهْرِ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُجُوبُهُ لَهَا بِإِيجَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3572 - وَعَنْهُ «أَنَّ امْرَأَةً خَرَجَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَتَلَقَّاهَا رَجُلٌ، فَتَجَلَّلَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا، فَصَاحَتْ، وَانْطَلَقَ، وَمَرَّتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَعَلَ بِي كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذُوا الرَّجُلَ، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي، فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكِ. وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا: ارْجُمُوهُ. وَقَالَ: لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَقُبِلَ مِنْهُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3572 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ وَائِلٍ (أَنَّ امْرَأَةً خَرَجَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُرِيدُ الصَّلَاةَ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (فَتَلَقَّاهَا رَجُلٌ) أَيْ فَقَابَلَهَا (فَتَجَلَّلَهَا) أَيْ فَغَشِيَهَا بِثَوْبِهِ فَصَارَ كَالْجُلِّ عَلَيْهِ (فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا) قَالَ الْقَاضِي: أَيْ غَشِيَهَا وَجَامَعَهَا كَنَّى بِهِ عَنِ الْوَطْءِ كَمَا كَنَّى عَنْهُ بِالْغَشَيَانِ (فَصَاحَتْ) أَيْ بَعْدِ تَخْلِيَتِهَا (وَانْطَلَقَ) أَيِ الرَّجُلُ (وَمَرَّتْ عِصَابَةٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ جَمَاعَةٌ قَوِيَّةٌ (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَعَلَ بِي كَذَا) أَيْ مِنَ الْغَشَيَانِ (وَكَذَا) أَيْ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (فَأَخَذُوا الرَّجُلَ فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكِ) لِكَوْنِهَا مُكْرَهَةً (وَقَالَ) أَيْ لِأَصْحَابِهِ (لِلرَّجُلِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا) أَيْ فِي حَقِّهِ (ارْجُمُوهُ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالزِّنَا، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَرَجَمُوهُ لِكَوْنِهِ مُحْصَنًا (قَالَ: لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً) أَيْ بِاعْتِرَافِهِ أَوْ بِإِجْرَاءِ حَدِّهِ (لَوْ تَابَهَا) أَيْ لَوْ تَابَ مِثْلَ تَوْبَتِهِ (أَهْلُ الْمَدِينَةِ) أَيْ أَهْلُ بَلَدٍ فِيهِمْ عِشَارٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الظُّلْمَةِ (لَقُبِلَ مِنْهُمْ) وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَوْ قُسِّمَ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّوْبَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَكَفَاهُمُ اه وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْقِسْمَةِ وَالتَّجْزِئَةِ فَأَمَّا مَا وَرَدَ: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ. فَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ

3573 - وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ الْحَدَّ ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3573 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فُضُرِبَ (الْحَدَّ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ فَأَمَرَ لَيْسَ خَبَرًا ; لِأَنَّ وَإِنْ كَانَ اسْمُهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً لِعَدَمِ شُيُوعِهِ وَإِبْهَامِهِ بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ هُوَ خَبَرُ إِنَّ أَيِ أُخْبِرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أُخْبِرَ اه وَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ زَنَى خَبَرُ أَنَّ وَقَوْلَهُ: فَأَمَرَ عَطْفٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا وَقَعَ إِخْبَارٌ، وَإِنَّمَا ظَنَّ ظَنًّا، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ (ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَيُكْسَرُ (فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى الْوَاجِبِ الشَّرْعِيِّ، ذَكَرَهُ الْأَشْرَفُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ لَكِنَّ قَوْلَهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ إِذِ الرَّجْمُ يَقُومُ مَقَامَ الْجَلْدِ صُورَةً وَمَعْنًى ; فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يُكَفِّرُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3574 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ كَانَ فِي الْحَيِّ مُخْدَجٍ سَقِيمٍ فَوَجَدَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إِمَائِهِمْ يَخْبُثُ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا لَهُ عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً» . رَوَاهُ شَرْحُ السُّنَّةِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ نَحْوُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3574 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ السَّاعِدِيَّ الْخَزْرَجِيَّ كَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ الِاثْنَى عَشَرَ وَكَانَ سَيِّدَ الْأَنْصَارِ مُقَدَّمًا فِيهِمْ وَجِيهًا لَهُ رِيَاسَةٌ وَسِيَادَةٌ تَعْتَرِفُ لَهُ قَوْمُهُ بِهَا رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ يُقَالُ: إِنَّ الْجِنَّ قَتَلَتْهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ وُجِدَ مَيْتًا فِي مُغْتَسَلِهِ، وَقَدْ أُحْضِرَ جَسَدُهُ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ وَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا: قَدْ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمٍ فَلَمْ يُخْطِهِ فُؤَادُهْ (أَتَى النَّبِيَّ) أَيْ جَاءَهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ كَانَ فِي الْحَيِّ) أَيْ فِي الْقَبِيلَةِ (مُخْدَجٍ) مَجْرُورٌ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ نَاقِصِ الْخِلْقَةِ (سَقِيمٍ) أَيْ مَرِيضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لِمَا سَبَقَ (فَوَجَدَ) أَيِ الرَّجُلُ (عَلَى أَمَةٍ مِنْ إِمَائِهِمْ يَخْبُثُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ يَزْنِي بِهَا فَإِنَّ الزِّنَا مِنْ خَبِيثِ الْفِعْلِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا لَهُ عِثْكَالًا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ كِبَاسَةً وَهِيَ لِلرُّطَبِ بِمَنْزِلَةِ الْعُنْقُودِ لِلْعِنَبِ (فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ) بِكَسْرٍ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْبُسْرُ مِنْ عِيدَانِ الْكِبَاسَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْعِثْكَالُ الْغُصْنُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ أَغْصَانٌ صِغَارٌ وَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَغْصَانِ شِمْرَاخًا (فَاضْرِبُوهُ) أَيْ بِهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (ضَرْبَةً) أَيْ وَاحِدَةً لَكِنْ بِحَيْثُ يَصِلُ أَثَرُ ضَرْبِ الْمِائَةِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ نَحْوُهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] وَالضَّرْبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّأْفَةِ اه وَهُوَ خَطَأٌ تَفْسِيرًا وَحَدِيثًا وَفِقْهًا أَمَّا التَّفْسِيرُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] أَيْ فِي طَاعَتِهِ وَإِقَامَةِ حَدِّهِ، فَتُعَطِّلُوهُ، أَوْ تُسَامِحُوا فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا رَوَاهُ السِّتَّةُ: " «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» ". كَذَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَفِي الْمَعَالِمِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُعَطِّلُوا الْحُدُودَ، وَلَا تُقِيمُوهَا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَاهَا وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُخَفِّفُوا الضَّرْبَ وَلَكِنْ أَوْجِعُوهُمَا ضَرْبًا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَلَدَ جَارِيَةً لَهُ زَنَتْ، فَقَالَ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْ ظَهْرَهَا وَرِجْلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهَا، وَقَدْ ضُرِبَتْ، فَأُوجِعَتْ. اه وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَرِيضَ الشَّدِيدَ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لَوْ ضُرِبَ ضَرْبًا وَجِيعًا لَمَاتَ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِقَتْلِهِ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَمَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ فَهَذَا هُوَ الْحِيلَةُ مُرَاعَاةً

لِلْجَانِبَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِأَيُّوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ لَمَّا تَوَهَّمَ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] وَهُوَ مَلْءُ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ الْحَشِيشِ {فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44] لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهَا الضَّرْبَ الْمُتَعَارَفَ، {وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فِي يَمِينِكَ، فَأَخَذَ ضِغْثًا يَشْتَمِلُ عَلَى مِائَةِ عُودٍ صِغَارٍ، فَضَرَبَهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَبَيَّنَ لَكَ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُخَالِفُ الْآيَةَ مَعَ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ عَلَى مَقْصُودِهِ كَمَا تَوَهَّمَ وَأَمَّا الْفِقْهُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْإِمَامِ ابْنِ الْهُمَامِ عَنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ خُصُوصُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاقِبَ الْمَجْلُودَ، وَيُحَافِظَ عَلَى حَيَاتِهِ، وَأَنَّ حَدَّ الْمَرِيضِ لَا يُؤَخَّرُ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ أَمْرٌ مَرْجُوٌّ كَالْحَبَلِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يُؤَخَّرُ الْحَدُّ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ، وَقَدْ عُدَّ الْحَدِيثُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ فَإِنَّ سَعِيدًا لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُمْ مَحْجُوبُونَ بِهِ إِذِ الْمَرَاسِيلُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَهُمْ قُلْتُ: نَعَمِ الْمَرَاسِيلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَخَّرْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُرْجَى بُرْؤُهُ.

3575 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3575 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَجَدْتُمُوهُ) أَيْ عَلِمْتُمُوهُ (يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي حَدِّ اللُّوطِيِّ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْفَاعِلِ حَدُّ الزِّنَا أَيْ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا يُرْجَمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا يُجْلَدُ مِائَةً وَعَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ ; لِأَنَّ التَّمْكِينَ فِي الدُّبُرِ لَا يُحْصِنُهَا فَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ الْمُحْصَنَاتِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ اللُّوطِيَّ يُرْجَمُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ قِيلَ فِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِمَا هَدْمُ بِنَاءٍ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: رَمْيُهُمَا مِنْ شَاهِقٍ كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ. اه وَقِيلَ: يُقْتَلُ بِالضَّرْبِ وَقِيلَ: الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّهْدِيدِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِيقَاعِ الْقَتْلِ ; لِأَنَّ الضَّرْبَ الْأَلِيمَ قَدْ يُسَمَّى قَتْلًا، وَنَقَلَ كَمَالُ بَاشَا عَنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الرَّأْيَ فِيهِ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ إِنِ اعْتَادَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَهُ، وَحَبَسَهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3576 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَرَاهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا أَوْ يُنْتَفَعَ بِهَا، وَقَدْ فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3576 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ عِكْرِمَةَ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَفِي نُسْخَةٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ» ) أَيْ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبًا شَدِيدًا أَوْ أَرَادَ بِهِ وَعِيدًا أَوْ تَهْدِيدًا (وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ) قِيلَ: لِئَلَّا يَتَوَلَّدَ مِنْهَا حَيَوَانٌ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ وَقِيلَ كَرَاهَةَ أَنْ يَلْحَقَ صَاحِبَهَا خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا لِإِبْقَائِهَا وَفِي شَرْحِ الْمُظْهِرِ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: يُقْتَلُ إِنْ عَمِلَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِالنَّهْيِ وَالْبَهِيمَةُ قِيلَ: إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً تُقْتَلُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ الْقَتْلُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَعَدَمُ الْقَتْلِ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِأَكْلِهِ (قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟) أَيْ إِنَّهَا لَا عَقْلَ لَهَا وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا فَمَا بَالُهَا تُقْتَلُ؟ (قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا) أَيْ مِنَ الْعِلَلِ وَالْحِكَمِ (وَلَكِنْ أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهُ (كَرِهَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا أَوْ يُنْتَفَعَ بِهَا) أَيْ بِلَبَنِهَا وَبِشَعْرِهَا وَتَوْلِيدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَقَدْ فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ) أَيِ الْفِعْلُ الْمَكْرُوهُ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ

قَالَ الطِّيبِيُّ: تَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا أَوْجَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْعَالَمِ جَعَلَهُ صَالِحًا لِفِعْلٍ خَاصٍّ فَلَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ سِوَاهُ فَإِنَّ الْمَأْكُولَ مِنَ الْحَيَوَانِ خُلِقَ لِأَكْلِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهُ لَا لِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ مِنْهُ وَالذَّكَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ خُلِقَ لِلْفَاعِلِيَّةِ وَالْأُنْثَى لِلْمَفْعُولِيَّةِ وَوُضِعَ فِيهَا الشَّهْوَةُ لِتَكْثِيرِ النَّسْلِ بَقَاءً لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ عُكِسَ كَانَ إِبْطَالًا لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] أَيْ لَا حَامِلَ لَكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ آخَرَ وَلَا ذَمَّ أَعْظَمُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَهُمْ بِالْبَهِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَا دَاعِيَ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَلْبَتَّةَ كَطَلَبِ النَّسْلِ، وَالتَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ وَنَحْوِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3577 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3577 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ) أَخْوَفَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَضَافَ أَفْعَلَ إِلَى مَا وَهِيَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَقْصَى الْأَشْيَاءَ الْمَخُوفَ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ بِشَيْءٍ أَخْوَفَ مِنْ فِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

3578 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَجَلَدَهُ مِائَةً وَكَانَ بِكْرًا ثُمَّ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَتْ: كَذَبَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجُلِدَ حَدَّ الْفِرْيَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3578 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) أَيْ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ وَهُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ أَقَرَّ (فَجَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ) أَيْ ضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ (وَكَانَ) أَيِ الرَّجُلُ (بِكْرًا ثُمَّ سَأَلَ) أَيْ طَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّجُلِ (الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ) أَيْ عَلَى زِنَاهَا (فَقَالَتْ) أَيْ بَعْدَ عَجْزِ الرَّجُلِ عَنِ الْبَيِّنَةِ (كَذَبَ) أَيِ الرَّجُلُ عَلَيَّ (وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجُلِدَ) أَيْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (حَدَّ الْفِرْيَةِ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَهَى الْكَذِبُ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْقَذْفُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3579 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3579 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي) أَيِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى بَرَاءَتِهَا شَبَّهَتْهَا بِالْعُذْرِ الَّذِي يُبَرِّئُ الْمَعْذُورَ مِنَ الْجُرْمِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ (قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ) أَيْ عُذْرِي (فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ) أَيْ بِحَدِّهِمَا أَوْ إِحْضَارِهِمَا وَهُمَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أَثَاثَةَ (وَالْمَرْأَةِ) أَيْ وَبِالْمَرْأَةِ وَهَى حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ (فَضُرِبُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (حَدَّهُمْ) أَيْ حَدَّ الْمُفْتَرِينَ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ فَحُدُّوا حَدَّهُمْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3580 -. عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْإِمَارَةِ وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ مِنَ الْخُمُسِ، فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى اقْتَضَّهَا، فَجَلَدَهُ عُمَرُ، وَلَمْ يَجْلِدْهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3580 - (عَنْ نَافِعٍ) أَيْ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ صَفَّيْهَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: ثَقَفِيَّةٌ وَهِيَ أُخْتُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَهِيَ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَدْرَكَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَتْ مِنْهُ، وَلَمْ تَرْوِ عَنْهُ، وَرَوَتْ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ (أَخْبَرَتْهُ) أَيْ نَافِعًا (أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْإِمَارَةِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ مِنْ مَمَالِيكِ سَلْطَنَةِ

الْخَلِيفَةِ وَهُوَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ) أَيْ جَامَعَ أَمَةً (مِنَ الْخُمُسِ) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي (فَاسْتَكْرَهَهَا) أَيِ الْعَبْدُ (حَتَّى اقْتَضَّهَا) بِالْقَافِ وَتَشْدِيدِ الضَّادِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاءِ بَدَلَ الْقَافِ أَيْ أَخَذَ بَكَارَتَهَا، وَفِي الْمُغْرِبِ: اقْتَضَّ الْجَارِيَةَ ذَهَبَ بِقِضَّتِهَا وَهَى بَكَارَتُهَا وَمَدَارُ التَّرْكِيبِ عَلَى الْكَسْرِ. وَفِي النِّهَايَةِ: فَضُّ الْخَاتَمِ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، وَجَاءَ بِنُطْفَةٍ فِي أَدَاوَةٍ فَافْتَضَّهَا أَيْ صَبَّهَا. وَرُوِيَ بِالْقَافِ أَيْ فَتَحَ رَأْسَهَا مِنِ اقْتِضَاضِ الْبِكْرِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ بِالْقَافِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَزَالَ بَكَارَتَهَا، وَالْقِضَّةُ بِالْكَسْرِ عُذْرَةُ الْجَارِيَةِ، وَالِافْتِضَاضُ بِالْفَاءِ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِقَافٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِضَّةِ وَهَى عُذْرَةُ الْبِكْرِ. (فَجَلَدَهُ عُمَرُ) أَيِ الْعَبْدَ خَمْسِينَ جَلْدَةً (وَلَمْ يَجْلِدْهَا) أَيِ الْوَلِيدَةَ (مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3581 - وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنَ الْحَيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْرَجًا، فَآتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّى زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ. حَتَّى قَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَبِمَنْ قَالَ: بِفُلَانَةَ. قَالَ: هَلْ ضَاجَعْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ بَاشَرْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ جَامَعْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ، فَأُخْرِجُ بِهِ إِلَى الْحَرَّةِ فَلَمَّا رُجِمَ فَوَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ، فَجَزِعَ، فَخَرَجَ يَشْتَدُّ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ، فَنَزَعَ لَهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ، فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3581 - (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ نُعَيْمٍ (قَالَ: كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ فِي تَرْبِيَةِ أَبِي هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ (فَأَصَابَ جَارِيَةً) أَيْ جَامَعَ مَمْلُوكَةً (مِنَ الْحَيِّ) أَيِ الْقَبِيلَةِ (فَقَالَ لَهُ أَبِي) أَيْ هَزَّالٌ (ائْتِ) أَمْرُ مِنَ الْإِتْيَانِ أَيِ احْضَرْ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ إِنَّمَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَإِنَّمَا (يُرِيدُ) وَفِي نُسْخَةٍ هُوَ يُرِيدُ (بِذَلِكَ) أَيْ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِتْيَانِ وَالْإِخْبَارِ (رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْرَجًا) أَيْ عَنِ الذَّنْبِ أَيْ لَا قَصَدَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ لِكَوْنِهِ هَزَّالًا قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ كَانَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَذْكُورِ وَخَبَرُهُ مَخْرَجًا وَلَهُ ظَرْفُ لَغْوٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] وَالْمَعْنَى يَكُونُ إِتْيَانُكَ وَإِخْبَارُكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْرَجًا لَكَ وَبِنَصْرِهِ مَا اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْلِهِ (فَآتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ) أَيْ حُكْمَهُ (فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ) أَيْ فَرَجَعَ بَعْدَمَا غَابَ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ حَتَّى قَالَهَا) أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ (أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) أَيْ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَبِمَنْ؟) أَيْ فَبِمَنْ زَنَيْتَ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لِلْإِقْرَارِ بِالزِّنَا عَلَى الْخُصُوصِ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ كَمَالُ سَتْرِهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِمَنْ؟ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِذَا كَانَ كَمَا قُلْتَ فَبِمَنْ زَنَيْتَ؟ (قَالَ: بِفُلَانَةَ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ (قَالَ: هَلْ ضَاجَعْتَهَا؟) أَيْ عَانَقْتَهَا؟ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ بَاشَرْتَهَا؟) أَيْ وَصَلَ بَشَرَتُكَ بَشَرَتَهَا وَقَدْ يُكَنَّى بِالْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْمُجَامَعَةِ قَالَ تَعَالَى {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] (قَالَ: نَعَمْ) (قَالَ: هَلْ جَامَعْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ) أَيِ الرَّاوِي (فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ (فَأُخْرِجَ بِهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (إِلَى الْحَرَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعُدِّيَ أُخْرِجَ بِالْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ تَأْكِيدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] قَالَهُ الْحَرِيرِيُّ فِي دُرَّةِ الْغَوَّاصِ قِيلَ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ حِرَفِ التَّعْدِيَةِ فِي قِرَاءَةِ ضَمِّ التَّاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ وَالْأَحْسَنُ أَنَّهُ إِنَّمَا زِيدَتِ التَّاءُ ; لِأَنَّ إِنْبَاتَهَا الدُّهْنَ بَعْدَ إِنْبَاتِ الثَّمَرِ الَّذِي يَخْرُجُ الدُّهْنُ مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ فِي الْمَعْنَى قَدْ تَعَلَّقَ بِمَفْعُولَيْنِ يَكُونَانِ فِي حَالٍ بَعْدَ حَالٍ وَمَا الثَّمَرَةُ وَالدُّهْنُ احْتِيجَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ فِي التَّعَدِّي بِالْبَاءِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَرَجَمْنَاهُ يَعْنِي مَاعِزًا بِالْمُصَلَّى. وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ وَالْمُصَلَّى

كَانَ بِهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ فَيَتَّفِقَ الْحَدِيثَانِ وَأَمَّا فِي التِّرْمِذِيَّ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَمَرَ بِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْحَرَّةِ فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ عَلَى أَنَّهُ اتُّبِعَ حِينَ هَرَبَ حَتَّى أُخْرِجَ إِلَى الْحَرَّةِ وَإِلَّا فَهُوَ غَلَطٌ ; لِأَنَّ الصِّحَاحَ وَالْحِسَانَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا صَارَ إِلَيْهَا هَارِبًا لَا أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَيْهَا ابْتِدَاءً لِيُرْجَمَ بِهَا (فَلَمَّا رُجِمَ فَوَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ) أَيْ أَلَمَ إِصَابَتِهَا (فَجَزِعَ) أَيْ فَلَمْ يَصْبِرْ (فَخَرَجَ أَيْ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي يُرْجَمُ فِيهِ (يَشْتَدُّ) أَيْ يَسْعَى وَيَجْرِي حَالٌ (فَلَقِيَهُ) أَيْ فَتَلَقَّاهُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ) بِالتَّصْغِيرِ (وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ) أَيْ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَصْحَابُ مَاعِزٍ الَّذِي يَرْجُمُونَهُ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (فَنَزَعَ لَهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ) وَالْوَظِيفُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ مُسْتَدَقُّ الذِّرَاعِ وَالسَّاقِ مِنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَغَيْرِهِمَا وَفِي الْمُغْرِبِ وَظِيفُ الْبَعِيرِ مَا فَوْقَ الرُّسْغِ مِنَ السَّاقِ (فَرَمَاهُ بِهِ فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ جَاءَ ابْنُ أُنَيْسٍ (فَذَكَرَ ذَلِكَ) أَيْ جَزَعَهُ وَهَرَبَهُ (لَهُ قَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ) جَمَعَ الْخِطَابَ لِيَشْمَلَهُ وَغَيْرَهُ (لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ) أَيْ يَرْجِعُ عَنْ إِقْرَارِهِ (فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ فَيَقْبَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ، وَيُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَتَهُ مِنْ غَيْرِ رَجْمِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءَاتُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ لِمَا فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا رُجِمَ إِلَى قَوْلِهِ: فَقَتَلَهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَصْلُحُ لِلْعَطْفِ إِمَّا عَلَى الشَّرْطِ أَوْ عَلَى الْجَزَاءِ إِلَّا قَوْلُهُ: فَوَجَدَ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ ; لِأَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْجَزَاءِ، وَقَوْلُهُ، فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ يَصْلُحُ لِلْجَزَاءِ وَفِي إِشْكَالٍ ; لِأَنَّ جَوَابَ لَمَّا لَا يَدْخُلُهُ الْفَاءُ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ الْجَزَاءُ، وَيُقَالَ: تَقْدِيرُهُ لَمَّا رُجِمَ فَكَانَ كَيْتَ فَكَيْتَ عَلِمْنَا حُكْمَ الرَّجْمِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْفَاءَاتُ كُلُّهَا لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا الْعَطْفَ عَلَى الشَّرْطِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَقَالَ: فِيهِ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ، فَرُجِمَ، فَلَمْ يُقْتَلْ حَتَّى رَمَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَلَحْيِ بِعِيرٍ، فَأَصَابَ رَأْسَهُ، فَقَتَلَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَرْبَعَةُ عَدَدًا مُعْتَبَرًا فِي اعْتِبَارِ إِفْرَادِهِ لَمْ يُؤَخَّرْ رَجْمُهُ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَرْتِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّتِهَا، وَكَذَا الصَّحَابَةُ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ هَزَّالٍ: إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعًا، فَبِمَنْ؟ وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَزَادَ فِيهِ قَالَ: هِشَامٌ فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ رَآهُ: «وَاللَّهِ يَا هَزَّالُ لَوْ كُنْتَ سُتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ مِمَّا صَنَعْتَ بِهِ» . قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَإِسْنَادُهُ صَالِحٌ، وَيَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَأَبُو نُعَيْمٍ ذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَقَدْ رَوَى تَرْتِيبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْأَرْبَعِ جَمَاعَةٌ بِاللَّفْظِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهَا مَا ذَكَرْنَا وَمِنْهَا مَا لُفِظَ لَأَبَى دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ قَدْ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَهَ: أَلَيْسَ أَنَّكَ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؟ وَتَقَدَّمَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنِ اعْتَرَفْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ. إِلَّا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ وَكَوْنُهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ رَدَّهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَمِنِ اخْتِصَارِ الرَّاوِي وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقَرَّ أَرْبَعًا، فَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا مَعْنَاهُ الِاعْتِرَافُ الْمَعْرُوفُ فِي الزِّنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ خَاصَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا كَوْنُ الْغَامِدِيَّةِ لَمْ تُقِرَّ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَمْنُوعٌ، بَلْ أَقَرَّتْ أَرْبَعًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَمْ يَطْلُبْهُمَا وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بَعْدَ الرَّابِعَةِ» فَهَذَا نَصٌّ فِي إِقْرَارِهَا أَرْبَعًا غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَفَاصِيلُهَا وَالرُّوَاةُ كَثِيرًا مَا يَحْذِفُونَ بَعْضَ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى أَنَّهُ رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ سُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ أَنَّهَا أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَهُوَ يَرُدُّهَا ثُمَّ قَالَ: اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي الْحَدِيثَ. غَيْرَ أَنَّ فِيهِ مَجْهُولًا تَنْجَبِرُ جَهَالَتُهُ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ هَذَا وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اسْتِفْسَارِ مَاعِزٍ أَنَّهُ رَجَمَهُ بَعْدَ الْخَامِسَةِ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ عِنْدَ آحَادِ الْإِقْرَارَيْنِ، فَإِنَّ مِنْهَا إِقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ خَمْسًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3582 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الزِّنَا إِلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ، وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرِّشَا إِلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3582 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ) أَيْ ظُهُورًا فَاشِيًا (فِيهِمْ بِالزِّنَا إِلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ) بِفَتْحَتَيْنِ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ الْجَدْبُ يُقَالُ: أَخَذَتْهُمُ السَّنَةُ إِذَا أُجْدِبُوا وَأُقْحِطُوا وَهَى مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ نَحْوَ الدَّابَّةِ فِي الْفَرَسِ وَالْمَالِ وَالْإِبِلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي اسْتِجْلَابِ الزِّنَا الْقَحْطَ أَنَّ الزِّنَا يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ النَّسْلِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرِّشَا) بِضَمِّ الرَّاءِ وَيُكْسَرُ جَمْعُ الرِّشْوَةِ وَفِي الْقَامُوسِ: الرِّشْوَةُ مُثَلَّثَةً الْجِعْلَةُ، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ الْوَصْلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ بِالْمُصَانَعَةِ، وَالرَّاشِي مَنْ يُعْطِي الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْمُرْتَشِي الْآخِذُ، وَالرَّائِشُ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا يَسْتَزِيدُ لِهَذَا وَيَسْتَنْقِصُ لِهَذَا. اه وَهَى مَأْخُوذَةٌ مِنَ الرِّشَاءِ وَهُوَ حَبَلُ الدَّلْوِ إِذْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْبُغْيَةِ كَمَا يُتَوَصَّلُ بِالرِّشَاءِ إِلَى الْمَالِ (إِلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ أَيِ الْخَوْفِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إِنَّمَا يُنْفِذُ حُكْمَهُ وَيُمْضِي أَمْرَهُ فِي الْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ إِذَا تَنَزَّهَ عَنِ الرِّشْوَةِ فَإِذَا تَلَطَّخَ بِهَا خُوِّفَ وَرُعِّبَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

3583 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3583 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» . رَوَاهُ رَزِينٌ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ أَبَاهُ مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ أُمَّهُ، مَلْعُونٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ، مَلْعُونٌ مَنْ كَمَهَ أَعْمَى عَنْ طَرِيقٍ، مَلْعُونٌ مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

3584 - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا أَحْرَقَهُمَا وَأَبَا بَكْرٍ هَدَمَ عَلَيْهِمَا حَائِطًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3584 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ لِرَزِينٍ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ وَحْدَهُ (أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَحْرَقَهُمَا) أَيْ أَمَرَ بِإِحْرَاقِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ لَهُ فِي اللُّوَاطَةِ (وَأَبَا بَكْرٍ) أَيْ: وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (هَدَمَ عَلَيْهَمَا حَائِطًا) أَيْ: أَمَرَ بِهَدْمِ جِدَارٍ عَلَيْهِمَا.

3585 - وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3585 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) أَيْ نَظَرَ رَحْمَةٍ وَرِعَايَةٍ (إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا) أَيْ فِي دُبُرِهِ (أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

3586 - وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ» . وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3586 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ قَالَ) مَرْفُوعًا، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لَهُ لِقَوْلِ الثَّوْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّ هَذَا أَصَحُّ ( «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ) أَيْ نَاقِلًا عَنْهُ (أَنَّهُ قَالَ: هَذَا) أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ (أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ) أَيِ الْأَوَّلُ ( «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ» . وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا) أَيْ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ» (عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ) فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ فِي الْإِسْنَادِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ أَصَحُّ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْفُوعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3587 - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَلَا تَأْخُذْكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3587 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ فِي النَّسَبِ أَوِ الْقُوَّةُ أَوِ الضَّعْفُ وَالثَّانِي أَنْسَبُ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي كُلِّ أَحَدٍ (وَلَا تَأْخُذْكُمْ) بِالْجَزْمِ عَطْفٌ عَلَى أَقِيمُوا فَيَكُونُ نَهْيًا تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ فَيَكُونُ خَبَرًا بِمَعْنَى النَّهْيِ (فِي اللَّهِ) أَيْ فِي إِجْرَاءِ حُكْمِهِ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ (لَوْمَةُ لَائِمٍ) أَيْ مَلَامَةُ أَحَدٍ مِنَ اللَّائِمِينَ الْمُوَافِقِينَ أَوِ الْمُخَالِفِينَ الْمُنَافِقِينَ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

3588 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِقَامَةُ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي بِلَادِ اللَّهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3588 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِقَامَةُ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي بِلَادِ اللَّهِ» ) أَيْ جَمِيعِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ فِي إِقَامَتِهَا زَجْرًا لِلْخَلْقِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَسَبَبًا لِفَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ، وَفِي الْقُعُودِ عَنْهَا وَالتَّهَاوُنِ بِهَا انْهِمَاكٌ لَهُمْ فِي الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِأَخْذِهِمْ بِالْجَدْبِ وَإِهْلَاكِ الْخَلْقِ كَمَا وَرَدَ أَنَّ «الْحُبَارَى لَتَمُوتُ هَزْلًا بِذَنْبِ بَنِي آدَمَ» أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْبِسُ الْقَطْرَ عَنْهَا بِشُؤْمِ ذُنُوبِكُمْ، وَخَصَّ الْحُبَارَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ الطَّيْرِ نُجْعَةً فَرُبَّمَا تُذْبَحُ بِالْبَصْرَةِ وَيُوجَدُ فِي حَوْصَلَتِهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ وَبَيْنَ مَنَابِتِهَا مَسِيرَةُ أَيَّامٍ وَتَخْصِيصُ اللَّيْلَةِ بِالْأَمْطَارِ تَتْمِيمٌ لِمَعْنَى الْخِصْبِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

3589 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3589 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) . بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَأَمَّا بِفَتْحَتِهَا فَجَمْعُ سَارِقٍ وَفِي الْمُغْرِبِ: سَرَقَ مِنْهُ مَالًا، وَسَرَقَ مَالًا سَرَقَا وَسَرِقَةً إِذَا أَخَذَهُ فِي خَفَاءٍ وَحِيلَةٍ، وَفَتْحُ الرَّاءِ فِي السَّرِقَةِ لُغَةٌ، وَأَمَّا السُّكُونُ فَلَمْ نَسْمَعْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْمَفْعُولِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ قَطْعُ أَهْلِ السَّرِقَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَى لُغَةُ أَخْذِ الشَّيْءِ مِنَ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ مُسْتَخْفِيًا وَفِي الشَّرِيعَةِ هِيَ هَذَا أَيْضًا، وَإِنَّمَا زِيدَ عَلَى مَفْهُومِهَا قُيُودٌ فِي إِنَاطَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَإِذًا لَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ أَقَلَّ مِنَ النِّصَابِ خُفْيَةً سَرِقَةٌ شَرْعًا لَكِنْ لَمْ يُعَلِّقِ الشَّرْعُ بِهِ حُكْمَ الْقَطْعِ فَهِيَ شُرُوطٌ لِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَإِذَا قِيلَ: الشَّرْعِيَّةُ الْأَخْذُ خُفْيَةً مَعَ كَذَا وَكَذَا لَا يَحْسُنُ بَلِ السَّرِقَةُ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الشَّرْعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ هِيَ أَخْذُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مِقْدَارَهَا خُفْيَةً عَمَّنْ هُوَ يَقْصِدُ لِلْحِفْظِ مِمَّا لَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ مِنَ الْمَالِ الْمُتَمَوَّلِ لِلْغَيْرِ مِنْ حِرْزٍ بِلَا شُبْهَةٍ وَتُعَمَّمُ الشُّبْهَةُ فِي التَّأْوِيلِ فَلَا يَقْطَعُ السَّارِقُ مِنَ السَّارِقِ وَلَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْآخَرِ أَوْ ذِي الرَّحِمِ وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] .

[باب قطع السرقة]

[بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3590 - عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إِلَّا بِرُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3590 - (عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُقْطَعُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ وَالْجَزْمِ (يَدُ السَّارِقِ) أَيْ جِنْسُهُ فَيَشْمَلُ السَّارِقَةَ أَوْ يُعْرَفُ حُكْمُهَا بِنَصِّ الْآيَةِ وَالْمُقَايَسَةِ وَالْمُرَادُ يَمِينُهُ لِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا) أَيْ إِلَى الرُّسْغِ كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهَا (إِلَّا بِرُبْعِ دِينَارٍ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَيُسَكَّنُ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَالْمَعْنَى بِسَبَبِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ (فَصَاعِدًا) أَيْ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيمَا دُونَ رُبُعٍ دِينَارٍ، وَكَانَ رُبُعُ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: «لَا يُقْطَعُ إِلَّا فِي دِينَارٍ» . عَلَى مَا سَيَأْتِي قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ وَقَدْرِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّصَابُ رُبُعُ دِينَارٍ ذَهَبًا أَوْ مَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبَى ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي رِوَايَةٍ: يُقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ أَحَدُهُمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُقْطَعُ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ النِّصَابَ بِلَفْظِهِ فِي الْحَدِيثِ وَأَنَّهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ رُبُعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا أَوْ عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ صَرِيحِ اللَّفْظِ فِي تَحْدِيدِ النَّصَّابِ لِلْمُحْتَمَلِ، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ لَفْظِهِ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: «لَمْ تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ» ، فَمَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبُعَ دِينَارٍ، وَأَمَّا مَا يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةٍ جَاءَتْ: «قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسَةٌ، فَهِيَ ضَعِيفَةٌ لَا يُعْمَلُ بِهَا لَوِ انْفَرَدَتْ فَكَيْفَ وَهَى مُخَالِفَةٌ لِصَرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ اتِّفَاقًا لَا أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي قَطْعِ السَّارِقِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ وَالْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» . فَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِهِمَا بَيْضَةُ الْحَدِيدِ وَحَبْلُ السَّفِينَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، وَأَنْكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا السِّيَاقُ مَوْضِعَ اسْتِعْمَالِهِمَا بَلِ الْبَلَاغَةُ تَأْبَاهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَذُمُّ فِي الْعَادَةِ مَنْ خَاطَرَ بِيَدِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ قَدْرٌ وَإِنَّمَا يَذُمُّ مَنْ خَاطَرَ فِيمَا لَا قَدْرَ لَهُ، فَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ مَا خَسِرَ يَدَهُ فِي مُقَابَلَةِ حَقِيرٍ مِنَ الْمَالِ، فَرُبْعُ دِينَارٍ يُشَارِكُ الْبَيْضَةَ وَالْحَبْلَ فِي الْحَقَارَةِ، فَالْمُرَادُ جِنْسُ الْبِيضِ وَجِنْسُ الْحِبَالِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى عَادَةِ الْوُلَاةِ سِيَاسَةً لَا قَطْعًا جَائِزًا شَرْعًا وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ السَّرِقَةِ مُجْمَلَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانِ نِصَابٍ ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ النِّصَابَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُقْطَعُ بِكُلِّ مِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ أَوْ بِمُعَيَّنٍ لَا يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُدُ وَالْخَوَارِجُ وَابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ الْحَدِيثَ. وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَعُلَمَاءِ الْأَقْطَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ إِلَّا بِمَالٍ مُقَدَّرٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . فَلَزِمَ فِي الْأَوَّلِ التَّأْوِيلُ بِالْحَبْلِ الَّذِي يَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَبَيْضَةً مِنَ الْحَدِيدِ، أَوِ النُّسَخُ وَلَوْ قِيلَ: وَنَسْخُهُ أَيْضًا لَيْسَ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ مَا رَوَيْتُمْ قُلْنَا: لَا تَارِيخَ بَقِيَ وَجَّهَ أَوْلَوِيَّةَ الْحَمْلِ وَهُوَ مَعَ الْجُمْهُورِ فَإِنَّ مِثْلَهُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ ثُمَّ قَدْ نُقِلَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهِ يَتَقَيَّدُ إِطْلَاقُ الْآيَةِ، وَبِالْعَقْلِ إِنَّ الْحَقِيرَ مُطْلَقًا تَفْتُرُ الرَّغَبَاتُ فِيهِ فَلَا يُمْنَعُ أَصْلًا كَحَبَّةِ قَمْحٍ وَهُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ إِطْلَاقُ الْآيَةِ، وَكَذَا لَا يَخْفَى أَخْذُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِأَخْذِهِ رُكْنُ السَّرِقَةِ وَهُوَ الْأَخْذُ خُفْيَةً وَلَا حِكْمَةَ الزَّجْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلُبُ فَإِنَّ مَا يَغْلُبُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَاطَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ فَهَذَا مُخَصَّصٌ عَقْلِيٌّ بَعْدَ كَوْنِهَا مَخْصُوصَةً بِمَا لَيْسَ مِنْ حِرْزٍ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّارِحُونَ لِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ فِي تَعْيِينِهِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا فِي جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَذَهَبُ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ لِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أُتْرُجَّةً، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ، فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ سَوَاءٌ ارْتَفَعَ الصَّرْفُ أَوِ اتَّضَعَ، وَذَلِكَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» ، وَعُثْمَانُ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُهُ اه. وَكَوْنُ مِجَنٍّ بِثَلَاثَةٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَأَخْرَجَهُمَا الشَّيْخَانِ وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ

أَدْنَى عَنْ ذَلِكَ» . وَكَانَ رُبُعُ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، تَعْرِفُ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَيْمَنَ، قَالَ: «لَمْ تُقْطَعِ الْيَدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ وَثَمَنُهُ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ» ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: هَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطَعَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، فَكَيْفَ قُلْتَ: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا، فَقَالَ: قَدْ رَوَى شَرِيكٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَيْمَنَ ابْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أَخِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ لِأُمِّهِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَابَ بِأَنَّ أَيْمَنَ قُتِلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ مُجَاهِدٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْمَرَاسِيلِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ، عَنْ أَيْمَنَ وَكَانَ فَقِيهًا قَالَ: تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا قَالَ أَبِي: هُوَ مُرْسَلٌ. وَأَرَى أَنَّهُ وَالِدُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ، وَظَهَرَ بِهَذَا الْقَدْرِ أَنَّ أَيْمَنَ اسْمٌ لِلصَّحَابِيِّ، وَهُوَ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَأَنَّهُ اسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ وَاسْمُ التَّابِعِيِّ آخَرُ، وَقَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمُزَنِيُّ فِي كِتَابِهِ: أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ رَوَى عَنْ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَعَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْمَنُ مَوْلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ: مَوْلَى ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّرِقَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَعَنْهُ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ قَالَ النَّسَائِيُّ: مَا أَحْسَبُ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَقَدْ جَعَلَهُ اسْمًا لِتَابِعَيْنِ وَأَمَّا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فَجَعَلَاهُمَا وَاحِدًا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى ابْنِ أَبِي عُمَرَ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ، وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَيْمَنَ وَالِدِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ: مَكِّيٌّ ثِقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَبَشِيُّ مَوْلًى لِابْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَخْزُومِيِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَرَوَى عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، وَكَانَ أَخَا أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ لِأُمِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً وَهِمَ حَدِيثُهُ فِي الْقَطْعِ مُرْسَلٌ فَهَذَا يُخَالِفُ الشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ أَيْمَنَ ابْنَ أُمِّ أَيْمَنَ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَأَنَّهُ صَحَابِيٌّ حَيْثُ جَعَلَهُ مِنَ التَّابِعِينَ وَهَكَذَا قَوْلُ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي سُنَنِهِ: أَيْمَنُ لَا صُحْبَةَ لَهُ وَهُوَ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَلَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَهُوَ الَّذِي يَرْوِي أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ دِينَارٌ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي أَيْمَنَ رَاوِي قِيمَةِ الْمِجَنِّ هَلْ هُوَ صَاحِبِيٌّ أَمْ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ فَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا ثِقَةً كَمَا ذَكَرَ أَبُو زُرْعَةَ الْإِمَامُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ وَابْنُ حِبَّانَ فَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ، وَالْإِرْسَالُ لَيْسَ عِنْدَنَا، وَلَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ قَادِحًا بَلْ هُوَ حُجَّةٌ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ حِينَئِذٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْوِيمِ الْمِجَنِّ أَهُوَ ثَلَاثَةٌ أَوْ عَشْرَةٌ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ هُنَا لَا يُجَابُ الشَّرْعُ الدَّرْءُ أَمْكَنُ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ يَقْوَى بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ» . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَكَذَا إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ قَطَعْتُ يَدَ صَاحِبِهَا» . وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشْرَ دَرَاهِمَ، قَالَ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشْرِ دَرَاهِمَ» . وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ عَنْهُ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمِنْ طَرِيقِ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ، فَقَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَطْعَ إِلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ اه. وَهُوَ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مَا وَرَدَ إِلَّا عَنِ الْقَاسِمِ لَكِنَّ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مُقَاتِلٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «كَانَ تُقْطَعُ الْيَدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . وَهَذَا مَوْصُولٌ وَفِي رِوَايَةِ خَلَفِ بْنِ يَاسِينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَمَا كَانَ الْقَطْعُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خِسْرُو مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْفَعُهُ: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» ، وَهَذَا مَوْصُولٌ مَرْفُوعٌ وَلَوْ كَانَ مَوْقُوفًا لَكَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لَا دَخْلَ لِلْعَقْلِ فِيهَا فَالْمَوْقُوفُ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ الْمَرْفُوعِ.

3591 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ السَّارِقِ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3591 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ سَارِقٍ) أَيْ يَمِينَهُ مِنَ الرُّسْغِ (فِي مِجَنٍّ) بِكَسْرِ مِيمٍ وَفَتْحِ جِيمٍ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَهَى الْجُنَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّرَقَةُ بِفَتْحَتَيْنِ وَالتُّرْسُ مِنَ الْجِنِّ إِذَا سُتِرَ (ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) قَالَ الشَّمَنِيُّ: هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ أَبُو شَيْبَةَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشْرُ دَرَاهِمَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْيَدِ الْيَمِينَ فَبِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا) وَهِيَ مَشْكُورَةٌ كَانَ خَبَرًا مَشْهُورًا فَيُفِيدُ إِطْلَاقَ النَّصِّ فَهَذَا مِنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ لَا مِنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ ; لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا إِجْمَالَ فِي فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وَقَدْ قَطَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْيَمِينَ، وَكَذَا أَصْحَابُهُ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّقْيِيدُ مُرَادًا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَكَانَ يَقْطَعُ الْيَسَارَ وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْيُمْنَى أَنْفَعُ مِنَ الْيَسَارِ؛ لِأَنَّهُ يَتَّمَكُنَّ بِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَحْدَهَا مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِهِ مِنَ الْيَسَارِ فَلَوْ كَانَ الْإِطْلَاقُ مُرَادًا وَالِامْتِثَالُ يَحْصُلُ بِكُلٍّ لَمْ يَقْطَعْ إِلَّا الْيَسَارَ عَلَى عَادَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْأَيْسَرِ لَهُمْ مَا أَمْكَنَ، وَأَمَّا كَوْنُ الْقَطْعِ مِنَ الزَّنْدِ وَهُوَ مِفْصَلُ الرُّسْغِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْكُوعُ ; لِأَنَّهُ الْمُتَوَاتِرُ وَمِثْلُهُ لَا يُطْلَبُ بِسَنَدٍ بِخُصُوصِهِ كَالْمُتَوَاتِرِ لَا يُبَالَى فِيهِ بِكُفْرِ النَّاقِلِينَ فَضْلًا عَنْ فِسْقِهِمْ أَوْ ضَعْفِهِمْ وَرُوِيَ فِيهَا خُصُوصُ مُتُونٍ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ رَجَاءِ بْنِ صَفْوَانَ، قَالَ فِيهِ ثُمَّ أَمَرَ بِقَطْعِهِ مِنَ الْمِفْصَلِ وَضُعِّفَ بِالْعُذْرِيِّ وَابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ سَارِقٍ مِنَ الْمِفْصَلِ» . فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا أَعْرِفُ لَهُ حَالًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ رَجُلًا مِنَ الْمِفْصَلِ» ، وَفِيهِ الْإِرْسَالُ وَفِيهِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَطَعَا مِنَ الْمِفْصَلِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ شُذُوذٍ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ ; لِأَنَّ بِهَا الْبَطْشَ، وَعَنِ الْخَوَارِجِ الْقَطْعُ مِنَ الْمِنْكَبِ ; لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِثُبُوتِهِ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ هُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ وَهُمْ لَمْ يَقْدَحُوا فِي الْإِجْمَاعِ قَبْلَ الْفِتْنَةِ وَلِأَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ عَلَى مَا ذُكِرَ وَعَلَى مَا إِلَى الرُّسْغِ إِطْلَاقًا أَشْهَرَ مِنْهُ إِلَى الْمَنْكِبِ بَلْ صَارَ يَتَبَادَرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْيَدِ فَكَانَ أَوْلَى بِاعْتِبَارِهِ وَلَإِنْ سَلِمَ اشْتِرَاكُ الِاسْمِ جَازَ كَوْنُ مَا إِلَى الْمَنْكِبِ وَهُوَ الْمُرَادُ وَمَا إِلَى الرُّسْغِ فَيَتَعَيَّنُ مَا إِلَى الرُّسْغِ دَرَأً لِلزَّائِدِ عِنْدَ احْتِمَالِ عَدَمِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

3592 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ بَيْضَةً فَتُقْطَعَ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعَ يَدُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3592 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ لَعْنِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْعُصَاةِ ; لِأَنَّهُ لَعَنَ الْجِنْسَ مُطْلَقًا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّعْنِ الْإِهَانَةُ وَالْخِذْلَانُ كَأَنَّهُ قِيلَ لَمَّا اسْتَعْمَلَ أَعَزَّ شَيْءٍ عِنْدَهُ فِي أَهْوَنِ شَيْءٍ وَأَحْقَرِهِ خَذَلَهُ اللَّهُ، وَأَهَانَهُ حَتَّى قُطِعَ (يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعَ) بِالتَّأْنِيثِ، وَيُذَكَّرُ (يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) قِيلَ: الْمُرَادُ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ وَحَبْلُ السَّفِينَةِ، وَقِيلَ: كَانَ الْقَطْعُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْحَقِيرُ فَإِنَّ النَّصَّابَ يُشَارِكُ الْبَيْضَةَ وَالْحَبْلَ فِي الْحَقَارَةِ وَقِيلَ الْحَقِيرُ يُؤَدِّي بِالِاعْتِيَادِ إِلَى الْقَطْعِ، وَيُفْضِي إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّهْدِيدُ، وَقِيلَ: يُقْطَعُ سِيَاسَةً وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3593 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» . رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3593 - (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الثِّمَارِ كُلِّهَا، وَيَغْلُبُ عِنْدَهُمْ عَلَى ثَمَرِ النَّخْلِ وَهُوَ الرُّطَبُ مَا دَامَ عَلَى رَأْسِ النَّخْلِ فِي النِّهَايَةِ الثَّمَرُ الرُّطَبُ مَا دَامَ عَلَى رَأْسِ النَّخْلَةِ، فَإِذَا قُطِعَ فَهُوَ الرُّطَبُ، فَإِذَا كَنَزَ بِالْكَافِ وَالنُّونِ وَالزَّايِ فَهُوَ التَّمْرُ (وَلَا كَثَرٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُثَلَّثَةِ جُمَّارُ النَّخْلِ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ شَحْمُهُ الَّذِي فِي وَسَطِهِ وَهُوَ يُؤْكَلُ وَقِيلَ: هُوَ الْقَطْعُ أَوَّلَ مَا يَبْدُو وَهُوَ يُؤْكَلُ أَيْضًا (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يُوجِبِ الْقَطْعَ فِي سَرِقَةِ شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُحْرَزَةً أَوْ غَيْرَ مُحْرَزَةٍ، وَقَاسَ عَلَيْهِ اللُّحُومَ وَالْأَلْبَانَ وَالْأَشْرِبَةَ وَالْخُبُورَ وَأَوْجَبَ الْآخَرُونَ الْقَطْعَ فِي جَمِيعِهَا إِذَا

كَانَ مُحْرَزًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَتَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ الْحَدِيثَ عَلَى الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ غَيْرِ الْمُحْرَزَةِ، وَقَالَ: نَخِيلُ الْمَدِينَةِ لَا حَوَائِطَ لِأَكْثَرِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مُحْرَزًا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ اه وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَفِي الْهِدَايَةِ: لَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَيْ إِذَا سُرِقَ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ أُخِذَ وَأُحْرِزَ وَصَارَ مَمْلُوكًا لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «لَمْ يَكُنِ السَّارِقُ يُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» . زَادَ فِي مُسْنَدِهِ: «وَلَمْ يُقْطَعْ فِي أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ جَحْفَةٍ أَوْ تُرْسٍ» . وَأَمَّا حَدِيثُ «لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ» . لَا يُعْرَفُ رَفْعُهُ بَلْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ فِيهِ الْجُعْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: «أُتِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ دَجَاجَةً فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ فَقَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ عُثْمَانُ: لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ حَفْصَةَ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ طَيْرًا فَاسْتَفْتَى فِي ذَلِكَ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطَعَ فِي الطَّيْرِ، وَمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَطْعٌ. فَتَرَكَهُ فَإِنْ كَانَ هَذَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ السَّمَاعِ، وَإِلَّا فَتَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا وَاجِبٌ لِمَا عُرِفَ أَيْ فِي الْأُصُولِ.

3594 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَالَ: مَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3594 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مَوْضِعٌ يُجْمَعُ فِيهِ التَّمْرُ لِلتَّجْفِيفِ وَهُوَ لَهُ كَالْبَيْدَرِ لِلْحِنْطَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَبَلَغَ ثَمَنُهُ الْمِجَنَّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ هَذَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَإِنْ سُئِلَ هَلْ يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَكَانَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَا، فَلِمَ أَطْنَبْ ذَلِكَ الْإِطْنَابَ؟ قُلْتُ: لِيُجِيبَ عَنْهُ مُعَلِّلًا كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ مِنَ الْحِرْزِ وَهُوَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالُوا: الْحِرْزُ مَشْرُوطٌ فَلَا قَطْعَ إِلَّا فِيمَا سُرِقَ مِنْ حِرْزٍ وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ فَمَا لَمْ يَعُدَّهُ الْعُرْفُ حِرْزًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ فَلَيْسَ بِحِرْزٍ لَهُ وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِي الْمَسْرُوقِ شُبْهَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لَمْ يُقْطَعْ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُطَالِبَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِالْمَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُقْطَعُ بِهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَهِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا، فَقَالَ: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبٌ وَنَكَالٌ، وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْ أَكْمَامِهَا، فَقَالَ: مَنْ أَخَذَ بِفِيهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنِ احْتَمَلَ الْمِجَنَّ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبٌ وَنَكَالٌ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَفِيهِ لَفْظُهُ: «مَا تَرَى فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ إِلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ، فَمَا أُخِذَ مِنَ الْجَرِينِ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتٌ وَنَكَالٌ» . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذَا الْمَتْنِ، وَقَالَ: قَالَ إِمَامُنَا إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ثِقَةً فَهُوَ كَأَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَوَقَفَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الثِّمَارِ قَطْعٌ حَتَّى يَأْوِيَ الْجَرِينَ. وَأَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ سَوَاءٌ أَجَابَ بِأَنَّهُ أُخْرِجَ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ أَوِ الَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنَ

الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ لَكِنْ مَا فِي الْمُغْرِبِ مِنْ قَوْلِهِ: الْجَرِينُ الْمِرْبَدُ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَبْقَى فِيهِ الرُّطَبُ لِيَجِفَّ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ الرُّطَبُ فِي زَمَانٍ وَهُوَ أَوَّلُ وَضْعِهِ وَالْيَابِسُ هُوَ الْكَائِنُ فِي آخِرِ حَالِهِ فِيهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» . وَقَوْلِهِ: «لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ» . أَمَّا الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ «أَنَّ غُلَامًا سَرَقَ وَدِيًّا مِنْ حَائِطٍ فَرُفِعَ إِلَى مَرْوَانَ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» . وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْقَسَمِ الثَّانِي، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: هَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ وَاسِعًا اه. وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَارَضَ الِانْقِطَاعُ وَالْوَصْلُ فَالْوَصْلُ أَوْلَى لِمَا عُرِفَ أَنَّهُ زِيَادَةٌ مِنَ الرَّاوِي الثِّقَةِ، وَقَدْ تَلَقَّتِ الْأُمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ تَعَارَضَ فِي الرُّطَبِ الْمَوْضُوعِ فِي الْجَرِينِ وَفِي مِثْلِهِ مِنَ الْحُدُودِ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا يَمْنَعُ الْحَدَّ دَرْءًا لِلْحَدِّ، وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يُضْمَنُ الْمَسْرُوقُ لِمِثْلَيْ قِيمَتِهِ وَإِنْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ قُوَّةَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فَلَا يَصِحُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ فَفِيهِ دَلَالَةُ الضَّعْفِ أَوِ النَّسْخِ فَيَنْفَرِدُ هَذَا الْحَدِيثُ فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَتَقَيَّدُ حَدِيثُ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ يَعْنِي تَفْصِيلَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهُ مِنْ أَعْلَى النَّخْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَوْ يُخْرِجَهُ فَفِيهِ ضِعْفُ قِيمَتِهِ وَجَلَدَاتٌ وَنَكَالٌ أَوْ يَأْخُذَ مِنْ بَيْدَرِهِ فَيُقْطَعَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَا أَقْطَعُ فِي الطَّعَامِ» . وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَلَمْ يُعِلَّهُ بِغَيْرِ الْإِرْسَالِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ عِنْدَنَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ لَزِمَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَتَصَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ كَالْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثِّمَارِ الرَّطْبَةِ مُطْلَقًا فِي الْجَرِينِ وَغَيْرِهِ، هَذَا وَالْقَطْعُ فِي الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا إِجْمَاعًا إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْقَحْطِ أَمَّا فِيهَا فَلَا سَوَاءَ مِمَّا كَانَ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ أَوَّلًا لِأَنَّهُ عَنْ ضَرُورَةٍ ظَاهِرًا وَهَى تُبِيحُ التَّنَاوُلَ وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ فِي مَجَاعَةِ مُضْطَرٍّ» . وَعَنْ عُمَرَ لَا قَطْعَ فِي عَامِ سَنَةٍ.

3595 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَفِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ وَالْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» . رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3595 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ بَدَلَ ابْنٍ وَالصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ قُرَشِيٌّ تَابِعِيٌّ رَوَى عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ وَسَمِعَ نَفَرًا مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَوَى عَنْ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَحْرُوسَةُ جَبَلٍ وَهَى دَابَّةٌ تَرْعَى فِي الْجَبَلِ، وَلَهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَقِيلَ: الْحَرِيسَةُ الشَّاةُ الْمَسْرُوقَةُ لَيْلًا، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَى الْجَبَلِ ; لِأَنَّ السَّارِقَ يَذْهَبُ بِهَا إِلَى الْجَبَلِ لِتَكُونَ أَحْرَزَ مِنَ الْمَطَالِبِ، فِي النِّهَايَةِ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَرِيسَةِ الْجَبَلِ قَالَ: فِيهَا غُرْمُ مِثْلَيْهَا وَجَلَدَاتٌ نَكَالًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْقِطَارِ بَعِيرًا أَوْ حِمْلًا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ مَقْصُودٍ فَيُمْكِنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَهَذَا ; لِأَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ وَالرَّاكِبَ يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَنَقْلَ الْأَمْتِعَةِ دُونَ الْحِفْظِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَ الْأَحْمَالِ مَنْ يَتْبَعُهَا لِلْحِفْظِ، قَالُوا: يُقْطَعُ وَإِنْ شَقَّ الْحِمْلَ وَأَخَذَ مِنْهُ قُطِعَ ; لِأَنَّ الْجُوَالِقَ فِي مِثْلِ هَذَا حِرْزٌ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ صِيَانَتَهَا كَالْكَمِّ فَوَجَدَ الْأَخْذَ مِنَ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كُلٌّ مِنَ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ هُمْ حِرْزٌ فَيُقْطَعُ فِي أَخْذِ الْجَمَلِ وَالْجُوَالِقِ وَالشِّقِّ ثُمَّ الْأَخْذُ وَأَمَّا الْقَائِدُ فَحَافِظٌ لِلْحِمْلِ، الَّذِي زِمَامُهُ بِيَدِهِ فَقَطْ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَرَاهَا إِذَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا حَافِظٌ لِلْكُلِّ فَالْكُلُّ مُحْرَزَةٌ عِنْدَهُمْ بِقَوَدِهِ وَفَرْضُ أَنَّ قَصْدَهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ وَنَقْلُ الْأَمْتِعَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَقْصِدَ الْحِفْظَ مَعَ ذَلِكَ بَلِ الظَّاهِرُ ذَلِكَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَكَوْنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُوجِبِ الْقَطْعَ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ يُحْمَلُ عَلَى تَرْكِ الرَّاعِي إِيَّاهَا فِي الْمَرْعَى وَغَيْبَتِهِ عَنْهَا أَوْ مَعَ نَوْمِهِ. اه وَبِهَذَا يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ الطِّيبِيِّ كَمَا لَا يَخْفَى (فَإِذَا آوَاهُ) بِالْمَدِّ وَالضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ (الْمُرَاحُ) بِضَمِّ

الْمِيمِ وَهُوَ مَا تَأْوِي إِلَيْهِ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ إِلَيْهِ لِلْحِرْزِ، وَيُقَالُ لِلشَّاةِ الَّتِي يُدْرِكُهَا اللَّيْلُ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى مُرَاحِهَا حَرِيسَةٌ وَفُلَانٌ يَأْكُلُ الْحَرِيسَاتِ إِذَا سَرَقَ أَغْنَامَ النَّاسِ فَأَكَلَهَا، وَالِاحْتِرَاسُ أَنْ يُسْرَقَ الشَّيْءُ مِنَ الْمَرْعَى كَذَا فِي النِّهَايَةِ (وَالْجَرِينُ) مَوْضِعُ التَّمْرِ الَّذِي يُجَفَّفُ، وَفِي نُسَخِ الْمُوَطَّأِ أَوِ الْجَرِينُ فَالْوَاوُ هُنَا بِمَعْنَى أَوْ لِلتَّنْوِيعِ (فَالْقَطْعُ) أَيْ لَازِمٌ (فِيمَا بَلَغَ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا (ثَمَنَ الْمِجَنِّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ أَيِ الْمِرْبَدُ حَتَّى يَجِفَّ أَيْ حَتَّى يَتِمَّ إِبْرَاءُ الْجَرِينِ إِيَّاهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ يُنْقَلُ عَنْهُ، وَيُدْخَلُ الْحِرْزَ وَإِلَّا فَنَفْسُ الْجَرِينِ لَيْسَ حِرْزًا لِيَجِبَ الْقَطْعُ بِالْأَخْذِ مِنْهُ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَارِسٌ مُتَرَصِّدٌ (رَوَاهُ مَالِكٌ) كَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ مُرْسَلًا لِمَا عَرَفْتَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ تَابِعِيٌّ نَقَلَهُ مَوْصُولًا أوَلَمْ يَذْكُرِ الصِّحَابِيُّ ثَلَاثَةً ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: الثَّالِثُ عَبْدُ اللَّهِ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ جَابِرٌ وَالسَّابِعُ بُسْرٌ بِمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ الْأَصْلِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالسَّادِسِ حَدِيثَ صَفْوَانَ وَيَكُونُ قُصُورٌ فِي تَعْبِيرِ الطِّيبِيِّ.

3596 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ وَمَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً مَشْهُورَةً فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3596 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ) النَّهْبُ هُوَ الْأَخْذُ عَلَى وَجْهِ الْعَلَانِيَةِ قَهْرًا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَقْبَحَ مِنْ أَخْذِهِ سِرًّا لَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ بِعَدَمِ إِطْلَاقِ السَّرِقَةِ عَلَيْهِ (وَمَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً) بِضَمِّ النُّونِ الْمَالُ الَّذِي يُنْهَبُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْفَتْحِ وَيُرَادُ بِهَا الْمَصْدَرُ (مَشْهُورَةً) أَيْ ظَاهِرَةً غَيْرَ مَخْفِيَّةٍ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (فَلَيْسَ مِنَّا) أَيْ مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا أَوْ مَنْ مِلَّتِنَا زَجْرًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3597 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3597 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ جَابِرٍ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْخِيَانَةِ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْعَارِيَةِ وَالْوَدِيعَةِ فَيَأْخُذَهُ وَيَدَّعِيَ ضَيَاعَهُ أَوْ يُنْكِرَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَةٌ، وَعَلَيْهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِقُصُورِ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي يَدِ الْخَائِنِ وَحِرْزِهِ لَا حِرْزِ الْمَالِكِ عَلَى الْخُلُوصِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حِرْزَهُ وَإِنْ كَانَ حِرْزَ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ أَحْرَزَهُ بِإِيدَاعِهِ عِنْدَهُ لَكِنَّهُ حِرْزٌ مَأْذُونٌ لِلسَّارِقِ فِي دُخُولِهِ (وَلَا مُنْتَهِبٍ) لِأَنَّهُ مُجَاهِرٌ بِفِعْلِهِ لَا مُخْتَفٍ فَلَا سَرِقَةَ وَلَا قَطْعَ (وَلَا مُخْتَلِسٍ) ، لِأَنَّهُ الْمُخْتَطِفُ لِلشَّيْءِ مِنَ الْبَيْتِ وَيَذْهَبُ أَوْ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ، فِي الْمُغْرِبِ: الِاخْتِلَاسُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ ظَاهِرٍ بِسُرْعَةٍ وَقَوْلُهُ (قَطْعٌ) اسْمُ لَيْسَ قَالَ الْمُظْهِرُ: لَيْسَ عَلَى الْمُغِيرِ وَالْمُخْتَلِسِ وَالْخَائِنِ قَطْعٌ وَلَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ نِصَابًا أَوْ قِيمَتَهُ ; لِأَنَّ شَرْطَهُ إِخْرَاجُ مَا هُوَ نِصَابٌ أَوْ قِيمَتُهُ مِنَ الْحِرْزِ أَيْ بِخُفْيَةٍ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى إِيجَابَ الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا كَالِاخْتِلَاسِ وَالِانْتِهَابِ وَالْغَصْبِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَةِ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُ هَذَا النَّوْعِ بِالِاسْتِغَاثَةِ إِلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَتَسْهِيلِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِهَا فَيَعْظُمُ أَمْرُهَا وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتُهَا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَسَكَتَ عَنْهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَعَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ وَهُوَ تَصْحِيحٌ مِنْهُمَا، وَتَعْلِيلُ أَبِي دَاوُدَ مَرْجُوحٌ بِذَلِكَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَلَا عَلَى الْخَائِنِ قَطْعٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا مَذْهَبُنَا وَعَلَيْهِ بَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ وَرِوَايَةَ أَحْمَدَ فِي جَاحِدِ الْعَارِيَةِ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهَا» . وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِأَنَّ الْقَطْعَ كَانَ لِسَرِقَةٍ صَدَرَتْ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَّصِفَةً مَشْهُورَةً بِجَحْدِ الْعَارِيَةِ فَعَرَّفَتْهَا عَائِشَةُ بِوَصْفِهَا الْمَشْهُورِ فَالْمَعْنَى امْرَأَةٌ كَانَ وَصْفُهَا جَحْدَ الْعَارِيَةِ سَرَقَتْ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ فِي قِصَّتِهَا أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ شَفَعَ فِيهَا، الْحَدِيثَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَدُّدِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ خُصُوصًا وَقَدْ تَلَقَّتِ الْأُمَّةُ الْحَدِيثَ الْآخَرَ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهَا لَمْ تَسْرِقْ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ

يُحَدِّثُ «أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتَعَارَتْ مِنِّي حُلِيًّا عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ يُعْرَفُونَ وَلَا تُعْرَفُ هِيَ فَبَاعَتْهُ فَأُخِذَتْ فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا وَهَى الَّتِي شَفَعَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ» . كَانَ حَدِيثُ جَابِرٍ مُقَدَّمًا فَيُحْمَلُ الْقَطْعُ بِجَحْدِ الْعَارِيَةِ عَلَى النَّسْخِ، وَكَذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ امْرَأَةً بِجَحْدِ الْمَتَاعِ وَأُخْرَى بِالسَّرِقَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى نَسْخِ الْقَطْعِ بِالْعَارِيَةِ لِمَا قُلْنَا، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ، عَنْ أُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: «لَمَّا سَرَقَتِ الْمَرْأَةُ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغْضَبَنَا ذَلِكَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، فَجِئْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنُكَلِّمَهُ، فَقُلْنَا: نَحْنُ نَفْدِيهَا بِأَرْبَعِينَ وُقِيَّةً، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَطَهُّرُهَا خَيْرٌ لَهَا، فَأَتَيْنَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَقُلْنَا لَهُ: كَلِّمْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ: مَا إِكْثَارُكُمْ عَلَيَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَقِيلَ: هِيَ أُمُّ عُمَيْرٍ بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ.

3598 - وَرُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: «أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ، وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ، فَجَاءَ سَارِقٌ، وَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَخَذَهُ صَفْوَانُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ. فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3598 - (وَرَوَى) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ (أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ الْقُرَشِيُّ «هَرَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ - وَابْنُهُ وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ - رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّنَهُ وَأَعْطَاهُمَا رِدَاهُ أَمْنًا لَهُ، فَأَدْرَكَهُ وَهْبٌ، فَرَدَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ زَعَمَ أَنَّكَ أَمَّنْتَنِي عَلَى أَنَّ أَسِيرَ شَهْرَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ، فَقَالَ: لَا حَتَّى تُبَيِّنَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْزِلْ فَلَكَ أَنْ تَسِيرَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَنَزَلَ وَخَرَجَ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ فَشَهِدْنَا وَشَهِدَ الطَّائِفَ كَافِرًا وَأَعْطَاهُ مِنَ الْغَنَائِمِ فَأَكْثَرَ، فَقَالَ صَفْوَانُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا طَابَ بِهَذَا إِلَّا نَفْسُ نَبِيٍّ، فَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ، وَكَانَ صَفْوَانُ أَحَدَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَفْصَحَهُمْ لِسَانًا، وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ (قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا سَيَأْتِي (وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ) أَيْ جَعَلَ رِدَاءَهُ وِسَادَةً تَحْتَ رَأْسِهِ، فِي الْهِدَايَةِ: الْأَصَحُّ أَنَّ وَضْعَ الشَّيْءِ تَحْتَ الرَّأْسِ حِرْزٌ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الْحِرْزِ شَرْطٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ: أَنَّ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ فِي الْحِرْزِ قُطِعَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَعَنْ دَاوُدَ لَا يُعْتَبَرُ الْحِرْزُ أَصْلًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ثَابِتَةٌ عَمَّنْ نُقِلَتْ عَنْهُ، وَلَا يُقَالُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثُمَّ هُوَ أَيِ الْحِرْزُ عَلَى نَوْعَيْنِ حِرْزٌ بِالْمَكَانِ كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَافِظِ وَهُوَ بَدَلٌ عَنِ الْأَمَاكِنِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ، وَذَلِكَ كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ فَهُوَ مُحْرَزٌ بِهِ (فَجَاءَ سَارِقٌ وَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَخَذَهُ) أَيِ السَّارِقُ (صَفْوَانُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ) أَيْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ أَوْ ثُبُوتِهَا بِالْبَيِّنَةِ (أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ) بِتَأْنِيثِ الْفِعْلِ وَجُوِّزَ تَذْكِيرُهُ (فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا) أَيْ قَطْعَهُ بَلْ قَصَدْتُ تَعْزِيرَهُ (هُوَ) أَيْ رِدَائِي كَمَا فِي رِوَايَةِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى السَّارِقِ (صَدَقَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلَّا أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ) أَيْ لِمَ لَا تَرَكْتَ حَقَّكَ عَلَيْهِ وَعَفَوْتَ عَنْهُ قَبْلَ إِتْيَانِكَ بِهِ إِلَيَّ، وَأَمَّا الْآنُ فَقَطْعُهُ وَاجِبٌ وَلَا حَقَّ لَكَ فِيهِ، بَلْ هُوَ مِنَ الْحُقُوقِ الْخَالِصَةِ لِلشَّرْعِ وَلَا سَبِيلَ فِيهَا إِلَى التَّرْكِ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَفْوَ جَائِزٌ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ فَوَهَبَهَا لَهُ الْمَالِكُ وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ أَوْ بَاعَهَا مِنْهُ لَا يُقْطَعُ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُقْطَعُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ; لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتِ انْعِقَادًا لِفِعْلِهَا بِلَا شُبْهَةٍ، وَظُهُورًا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ صَفْوَانَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي رِوَايَةٍ كَمَا ذُكِرَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهُ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ بَلْ قَوْلُهُ: مَا كُنْتُ أُرِيدُ هَذَا، أَوْ قَوْلُهُ أَوَيُقْطَعُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؟ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ فِي الْهِبَةِ، ثُمَّ الْوَاقِعَةُ وَاحِدَةٌ فَكَانَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ اضْطِرَابٌ وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ.

3599 - وَرَوَى نَحْوَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3599 - (وَرَوَى نَحْوَهُ) أَيْ فِي الْمَعْنَى (ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ أَبِيهِ) .

3600 - وَالدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3600 - (وَالدَّارِمِيُّ) بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى ابْنِ مَاجَهْ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) مُتَعَلِّقٌ بِرُوَاةِ الْمُقَدَّرِ فَتَدَبَّرْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَالْحَاكِمُ وَحَكَمَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ، وَأَلْفَاظُهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا انْقِطَاعٌ وَفِي بَعْضِهَا مَنْ هُوَ مُضَعَّفٌ وَلَكِنْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَاتَّسَعَ مَجِيئُهُ اتِّسَاعًا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ بِلَا شُبْهَةٍ وَفِي طَرِيقِ السُّنَنِ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى ثُمَّ لَفَّ رِدَاءً لَهُ مِنْ بُرْدٍ فَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَقَامَ، فَأَتَاهُ لِصٌّ فَاسْتَلَّهُ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ فَأَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا سَرَقَ رِدَائِي. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسَرَقْتَ رِدَاءَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اذْهَبَا بِهِ فَاقْطَعَا يَدَهُ. فَقَالَ صَفْوَانُ: مَا كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ فِي رِدَائِي، فَقَالَ: لَوْلَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ. زَادَ النَّسَائِيُّ: فَقَطَعَهُ» . وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ: سَمَّاهُ خَمِيصَةً ثَمَنُهُ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا. اهـ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُعَارِضُ مَا فِي الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ: قَدِمَ الْمَدِينَةَ، إِذِ الْقَضِيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ فَهُوَ إِمَّا وَهْمٌ مِنَ الْبَغَوِيِّ حَيْثُ خَالَفَ أَصْحَابَ السُّنَنِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَدِينَةِ الْمَدِينَةُ اللُّغَوِيَّةُ الشَّامِلَةُ بِمَكَّةَ.

3601 - وَعَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: " فِي السَّفَرِ ". بَدَلَ " الْغَزْوِ ".

3601 - (وَعَنْ بُسْرِ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَرَاءٍ (بْنِ أَرْطَاةَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ كَذَا فِي النُّسَخِ بِغَيْرِ لَفْظِ أَبِي، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَاسْمُ أَبِي أَرْطَاةَ عُمَرُ الْعَامِرِيُّ الْقُرَشِيُّ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصِغَرِهِ وَأَهْلُ الشَّامِ يُثْبِتُونَ إِلَيْهِ سَمَاعًا، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ خَرَفَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، مَاتَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَقِيلَ: زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. اهـ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْمُغْنِي حَيْثُ قَالَ أَبُو أَرْطَاةَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَا تُقْطَعُ أَيْدِي السَّارِقِ فِي الْغَزْوِ إِذَا كَانَ الْجَيْشُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَوَلَّهُمْ أَمِيرُ الْجَيْشِ، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ لِاحْتِمَالِ افْتِتَانِ الْمَقْطُوعِ بِاللُّحُوقِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُتْرَكُ إِلَى أَنْ يَنْفَصِلَ الْجَيْشُ وَقِيلَ أَيْ فِي مَالِ الْغَزْوِ أَيِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إِذْ لَهُ حَقٌّ فِيهَا، قَالَ الْمُظْهِرُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أُسْقِطَ عِنْدَ الْحَدِّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا، وَإِنَّمَا كَانَ أَمِيرًا وَصَاحِبَ جَيْشٍ وَأَمِيرُ الْجَيْشِ لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا أَوْ أَمِيرًا وَاسِعَ الْمَمْلَكَةِ كَصَاحِبِ الْعِرَاقِ أَوِ الشَّامِ أَوْ مِصْرَ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَقْطَعُ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ حَتَّى يَقْفِلَ مِنَ الدَّرْبِ، فَإِذَا قَفَلَ قَطَعَ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ وَلَا غَيْرِهَا وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَهَا كَمَا يَرَوْنَ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ وَالْعِبَادَاتِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْحَرْبِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَلَعَلَّ الْأَوْزَاعِيَّ فِيهِ احْتِمَالُ افْتِتَانِ الْمَقْطُوعِ بِأَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ رَأَى أَنَّهُ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ وَالْأَمِيرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْغَزْوِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الدَّفْعِ وَلَا يُغْنِي عَنَّا فَيُتْرَكُ إِلَى أَنْ يَقْفُلَ الْجَيْشُ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرَادَ بِهِ الْمَنْعَ مِنَ الْقَطْعِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَغَانِمِ اهـ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُحْرَزٌ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ قَبْلَ الْحَاجَةِ، وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ، وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِثْلَهُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَالَ: أَرْسِلْهُ فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ إِلَّا أَنَّهُمَا) أَيْ أَبَا دَاوُدَ وَالنَّسَائِيَّ قَالَ فِي السَّفَرِ بَدَلَ الْغَزْوِ) أَيْ عِوَضَ قَوْلِهِ فِي الْغَزْوِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السَّفَرُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مُطْلَقٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ وَالضِّيَاءُ عَنْ بُسْرِ بْنِ أَبِي أَرْطَاةَ.

3602 - وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي السَّارِقِ: إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3602 - (وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: إِنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُمْ وَرَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْمَدِينَةِ وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي السَّارِقِ) أَيْ فِي شَأْنِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ (إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ) أَيِ الْيُمْنَى (ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ) أَيِ الْيُسْرَى قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ثُمَّ الْقَطْعُ مِنَ الْكَعْبِ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَالرَّوَافِضُ تَقْطَعُ مِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ مِنْ مَقْعَدِ الشِّرَاكِ ; لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَقْطَعُ كَذَلِكَ، وَيَدَعُ لَهُ عَقِبًا يَمْشِي عَلَيْهِ (ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ) بِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُحْبَسُ بَعْدَ الثَّانِي لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ إِنْ صَحَّ مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ أَوِ السِّيَاسَةِ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّارِقَ إِذَا سَرَقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى ثُمَّ إِذَا سَرَقَ ثَانِيًا تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا سَرَقَ ثَالِثًا بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ تُقْطَعَ يَدُهُ الْيُسْرَى ثُمَّ إِذَا سَرَقَ رَابِعًا تُقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ إِذَا سَرَقَ بَعْدُ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ سَرَقَ بَعْدَمَا قُطِعَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ وَإِحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يُقْطَعْ وَحُبِسَ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَفِي الْهِدَايَةِ: فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا لَا يُقْطَعُ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يَمُوتَ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ.

3603 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «جِيءَ بِسَارِقٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطِعَ ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطِعَ ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطِعَ ثُمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطِعَ فَأُتِيَ بِهِ الْخَامِسَةَ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ، فَقَتَلْنَاهُ ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ، وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3603 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: جِيءَ بِسَارِقٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اقْطَعُوهُ) أَيْ يَدَهُ (فَقُطِعَ ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَةَ) أَيِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أَوِ الْمَجِيئَةَ الثَّانِيَةَ (فَقَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطِعَ ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطِعَ ثُمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: اقْطَعُوهُ، فَأُتِيَ بِهِ الْخَامِسَةَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُهُ فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُقِيمَ الْمَفْعُولُ مَقَامَ الْفَاعِلِ وَهُوَ ضَمِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ قَدْ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جِيءَ بِهِ قُلْتُ: وَكَذَا فِي جِيءَ بِسَارِقٍ (فَقَالَ: اقْتُلُوهُ) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنْ صَحَّ هَذَا فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَقَدْ صَحَّ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ. الْحَدِيثَ وَفِي السِّرَاجِيَّةِ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ سِيَاسَةً، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ يُبِيحُ دَمَ السَّارِقِ إِنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ السَّرِقَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُبَاحَ دَمُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعْزِيرِ الْمُفْسِدِ وَيَفْعَلَ بِهِ مَا رَأَى مِنَ الْعُقُوبَةِ وَإِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ وَإِنْ رَأَى أَنْ يُقْتَلَ قُتِلَ وَيُعْزَى ذَلِكَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْحَدِيثُ إِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهُوَ يُؤَيِّدُ هَذَا الرَّأْيَ. اهـ كَلَامُهُ وَقِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ» . (فَانْطَلَقْنَا بِهِ فَقَتَلْنَاهُ ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ) مِنَ الْجَرِّ (فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ وَأَلْقَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُ هَذَا لِلْإِهَانَةِ وَالصَّغَارِ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُسْلِمِ وَإِنِ ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ فَإِنَّهُ قَدْ يُعَزَّرُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ وَتَطْهِيرِهِ فَلَعَلَّهُ يَرْتَدُّ وَوَقَفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ارْتِدَادِهِ كَمَا فَعَلَ بِالْعُرَنِيِّينَ مِنَ الْمُثْلَةِ وَالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ، وَلَعَلَّ الرَّجُلَ بَعْدَ الْقَطْعِ تَكَلَّمَ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ اهـ وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ مُسْتَحِلًّا لِلسَّرِقَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «جِيءَ بِسَارِقٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ قَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطِعَ ثُمَّ جِيءَ بِهِ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ: اقْطَعُوهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ: اقْطَعُوهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الْخَامِسَةَ قَالَ: اقْتُلُوهُ، قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ فَقَتَلْنَاهُ ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ فَأَلْقَيْنَاهُ وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ

الْحِجَارَةَ» . قَالَ النَّسَائِيُّ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الْحَارِسِ بْنِ حَاطِبٍ اللَّخْمِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ: اقْطَعُوهُ، ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهَا ثُمَّ سَرَقَ الْخَامِسَةَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ بِهَذَا حِينَ قَالَ اقْتُلُوهُ» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ وَرُوِيَ مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ أَيْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ» . وَفِي سَنَدِهِ الْوَاقِدِيُّ وَهُنَا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ طَعْنٍ وَلِذَا طَعَنَ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْآثَارَ فَلَمْ نَجِدْ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا، وَفِي الْمَبْسُوطِ: غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِلَّا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ فِي مُشَاوَرَةِ عَلِيٍّ وَلَئِنْ سَلِمَ يُحْمَلُ عَلَى الِانْتِسَاخِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ تَغْلِيظٌ فِي الْحُدُودِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ أَيْدِيَ الْعُرَنِيِّينَ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ انْتُسِخَ ذَلِكَ وَأَمَّا فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ فَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدِمَ فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلَ الْيَمَنِ ظَلَمَهُ فَكَانَ يُصَلِّي فِي اللَّيْلِ وَيَبْكِي فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: مَا لِي لَكَ بِلَيْلٍ سَارِقٍ ثُمَّ أَنَّهُمْ فَقَدُوا عِقْدًا لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطُوفُ مَعَهُمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ بَيَّتَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ فَوَجَدُوا الْحُلِيَّ عِنْدَ صَائِغٍ زَعَمَ أَنَّ الْأَقْطَعَ جَاءَ بِهِ، فَاعْتَرَفَ الْأَقْطَعُ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَدُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَتِهِ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَجُلٌ أَقْطَعُ فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ فِي سَرِقَةٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَتْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُوَلِّينِي شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ فَخُنْتُهُ فِي فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطَعَ يَدِي وَرِجْلِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَلَأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى فَقَدَ آلُ أَبِي بَكْرٍ حُلِيًّا لَهُمْ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَظْهِرْ مَنْ سَرَقَ آلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ قَالَ: فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ حَتَّى عَثَرُوا عَلَى الْمَتَاعِ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: وَيْلَكَ إِنَّكَ لَقَلِيلُ الْعِلْمِ فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ الثَّانِيَةَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ الَّذِي سَرَقَ عِقْدَ أَسْمَاءَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ رِجْلَهُ الْيُسْرَى قَالَ: وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ أَعْلَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِهِ، هَذَا وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ كَقَوْلِنَا فِي الثَّالِثَةِ، وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ قَطَعْتُ يَدَهُ الْيُمْنَى وَإِنْ عَادَ قَطَعْتُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَإِنْ عَادَ ضَمَّنْتُهُ السِّجْنَ حَتَّى يُحْدِثَ خَيْرًا إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ لَا يَقْطَعُ إِلَّا الْيَدَ وَالرِّجْلَ وَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ سَجَنَهُ وَيَقُولُ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ يَدًا وَرِجْلًا فَإِذَا أُتِيَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ لَأَدَعُهُ لَا يَتَطَهَّرُ لِصَلَاتِهِ وَلَكِنِ احْبِسُوهُ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَقَالَ: أَقْطَعُ يَدَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ، أَقْطَعُ رِجْلَهُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي إِنِّي أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ ثُمَّ ضَرَبَهُ وَخَلَّدَهُ فِي السِّجْنِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ السَّارِقِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ وَأَخْرَجَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي سَارِقٍ فَأَجْمَعُوا عَلَى مِثْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِذَا سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ثُمَّ إِذَا عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، وَلَا تَقْطَعُوا يَدَهُ الْأُخْرَى وَفِّرُوهُ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَلَكِنِ احْبِسُوهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَنِ النَّخَعِيِّ كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يُتْرَكُ ابْنُ آدَمَ مِثْلَ الْبَهِيمِ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَلَا يَسْتَنْجِي بِهَا،

وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ ثَبَتَ ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ فَبَعِيدٌ أَنْ يَقَعَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الَّتِي غَالِبًا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا مِثْلُ سَارِقٍ يَقْطَعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَتَهُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ أَوِ الصَّحَابَةُ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِهِ وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ مِنَ الْأَصْحَابِ الْمُلَازِمِينَ بَلْ أَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ كَانَ يَنْقُلُ لَهُمْ إِنْ غَابُوا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَبِذَلِكَ تَقْضِي الْعَادَةُ فَامْتِنَاعُ عَلِيٍّ بَعْدَ ذَلِكَ إِمَّا لِضَعْفِ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْإِتْيَانِ عَلَى أَرْبَعَتِهِ وَإِمَّا لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَدًّا مُسْتَمِرًّا بَلْ مَنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَهُ لِمَا شَاهَدَ فِيهِ مِنَ السَّعْيِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَبَعْضِ الطِّبَاعِ عَنِ الرُّجُوعِ فَلَهُ قَتْلُهُ سِيَاسَةً فَيَفْعَلُ ذَلِكَ الْقَتْلَ الْمَعْنَوِيَّ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَبِهَذَا حَاجَّ عَلِيٌّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ، فَحَجَّهُمْ، فَانْعَقَدَ إِجْمَاعًا يُشِيرُ إِلَى مَا فِي تَنْقِيحِ ابْنِ عَبْدِ الْهَادِي قَالَ: سَعْدُ بْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَضَرْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُتِيَ بِرَجُلٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ قَالَ لِصَاحِبِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: قَتَلْتُهُ إِذًا وَمَا عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ الطَّعَامَ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ بِأَيِّ شَيْءٍ يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَتِهِ بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ عَلَى حَاجَتِهِ فَرَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ أَيَّامًا ثُمَّ اسْتَخْرَجَهُ فَاسْتَشْارَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ، وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَجَلَدَهُ جَلْدًا شَدِيدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ. وَقَالَ سَعِيدٌ أَيْضًا ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِذٍ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِأَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ قَالَ: أَنْقَطَعُ يَدَهُ فَنَدَعُهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا أَوْ نَقْطَعُ رِجْلَهُ فَنَدَعُهُ لَيْسَ لَهُ قَاعِدَةٌ يَمْشِي عَلَيْهَا، إِمَّا أَنْ نُعَزِّرَهُ وَإِمَّا أَنْ نُودِعَهُ السِّجْنَ فَاسْتَوْدَعَهُ السِّجْنَ. وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ لَا يُقَالُ: الْيَدُ الْيُسْرَى مَحَلٌّ لِلْقَطْعِ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ مِنْهُ عَلَى الْمُقَيِّدِ عَمَلًا بِالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا مُرَادَهُ وَبَقِيَتِ الْيُمْنَى مُرَادَهُ وَالْأَمْرُ الْمَقْرُونُ بِالْوَصْفِ وَإِنْ تَكَرَّرَ بِتَكْرَارِ الْوَصْفِ لَكِنْ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ أَمْكَنَ وَإِذَا انْتَقَى إِرَادَةُ الْيُسْرَى بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْيِيدِ انْتَفَى مَحَلِّيَّتُهَا لِلْقَطْعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُهُ فَيَلْزَمُ مَعْنَى الْآيَةِ السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَثَبَتَ قَطْعُ الرِّجْلِ فِي الثَّانِيَةِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَانْتَفَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الْعَدَمِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3604 - وَرُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي قَطْعِ السَّارِقِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3604 - (وَرَوَى) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ (فِي قَطْعِ السَّارِقِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ» ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَمَّا دَلِيلُ الْحَسْمِ فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِسَارِقٍ سَرَقَ شَمْلَةً فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَخَالُهُ سَرَقَ، فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ، ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ. فَقُطِعَ ثُمَّ حُسِمَ ثُمَّ أُتِيَ فَقَالَ: تُبْتُ إِلَى اللَّهِ قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ» . وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ وَكَذَا رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حُجَّتِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ مِنَ الْمِفْصَلِ ثُمَّ حَسَمَهُمْ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا أُيُورُ الْحُمُرِ، وَالْحَسْمُ الْكَيُّ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ، وَفِي الْمُغْرِبِ وَالْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: هُوَ أَنْ يُغْمَسَ فِي الدُّهْنِ الَّذِي أُغْلِيَ، وَثَمَنُ الزَّيْتِ وَكُلْفَةُ الْحَسْمِ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَهُمْ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي وَجْهٍ، وَعِنْدَنَا هُوَ عَلَى السَّارِقِ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ ; لِأَنَّ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ يُؤَدِّي إِلَى التَّلَفِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَا يَأْثَمُ.

3605 - وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3605 - (وَعَنْ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ (بْنِ عُبَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ أُمِرَ بِهَا) أَيْ بِيَدِهِ (فَعُلِّقَتْ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مَجْهُولًا (فِي عُنُقِهِ) أَيْ لِيَكُونَ عِبْرَةً وَنَكَالًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يُسَنُّ تَعْلِيقُ يَدِهِ فِي عُنُقِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِهِ، وَعِنْدَنَا ذَلِكَ مُطْلَقٌ لِلْإِمَامِ إِنْ رَآهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ مَنْ قَطَعَهُ لِيَكُونَ سُنَّةً. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3606 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَرَقَ مَمْلُوكٌ فَبِعْهُ وَلَوْ بِنَشٍّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3606 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَرَقَ الْمَمْلُوكُ) أَيْ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ السَّرِقَةِ شَرْعِيَّةً أَوْ عُرْفِيَّةً (فَبِعْهُ) أَيْ وَلَا تُمْسِكْهُ فَإِنَّهُ مَعْيُوبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ (وَلَوْ بِنَشٍّ) بِفَتْحِ نُونٍ وَتَشْدِيدِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا نِصْفِ أُوقِيَّةٍ وَالْمَعْنَى بِعْهُ وَلَوْ بِثَمَنٍ بَخْسٍ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالُوا: الْعَبْدُ إِذَا سَرَقَ قُطِعَ آبِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ آبِقٍ، يُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عَبْدًا لَهُ سَرَقَ وَكَانَ آبِقًا فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ لِيَقْطَعَ يَدَهُ، فَأَبَى سَعِيدٌ وَقَالَ: لَا تُقْطَعُ يَدُ الْآبِقِ إِذَا سَرَقَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فِي أَيِّ كِتَابٍ وَجَدْتَ هَذَا فَأَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ أَوِ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ زَوْجَةِ سَيِّدِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِوُجُودِ الْآذِنِ فِي الدُّخُولِ عَادَةً فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلَامٍ سَرَقَ مِرْآةً لِامْرَأَةِ سَيِّدِهِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ خَادِمِكُمْ يَسْرِقُ مَتَاعَكُمْ فَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ خَادِمُ الزَّوْجِ فَالزَّوْجُ أَوْلَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3607 - عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَهُ، فَقَالُوا: مَا كُنَّا نَرَاكَ تَبْلُغُ بِهِ هَذَا، قَالَ: لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُهَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3607 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُتِيَ) أَيْ جِيءَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَهُ) أَيْ أَمَرَ بِقَطْعِهِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَقُطِعَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَةً (قَالُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ مِنْ حِضَارِ الْمَجْلِسِ الْعَالِي أَوِ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِ (مَا كُنَّا نُرَاكَ) بِضَمِّ النُّونِ أَيْ نَظُنُّكَ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا مِنَ الرَّأْيِ (تَبْلُغُ بِهِ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ تَوْصِيلَةٌ (هَذَا) أَيِ الْقَطْعُ (قَالَ: لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ) أَيْ لَوْ فُرِضَ كَوْنُ السَّارِقِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ (لَقَطَعْتُهَا) أَيْ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ وَتَسْوِيَةِ الْأُمَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِكَمَالِ الْعَدَالَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا كُنَّا نَظُنُّكَ أَنْ تَقْطَعَهُ بَلْ تَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ وَتَرْأَفُ بِهِ فَأَجَابَ إِنَّ هَذَا حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ عَلَيَّ إِمْضَاؤُهُ وَلَا يَسَعُ الْمُسَامَحَةُ فِيهِ وَلَوْ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ بِضْعَةٍ مِنِّي لَقَطَعْتُهَا وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّحَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

3608 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بِغُلَامٍ لَهُ فَقَالَ: اقْطَعْ يَدَهُ فَإِنَّهُ سَرَقَ مِرْآةً لِامْرَأَتِي، فَقَالَ عُمَرُ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَهُوَ خَادِمُكُمْ أَخَذَ مَتَاعَكُمْ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3608 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بِغُلَامٍ) أَيْ عَبْدٍ (لَهُ فَقَالَ: اقْطَعْ يَدَهُ فَإِنَّهُ سَرَقَ مِرْآةً) بِكَسْرِ مِيمٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ (لِامْرَأَتِي) أَيْ لِزَوْجَتِي، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَانَ ثَمَنُ الْمِرْآةِ سِتِّينَ دِرْهَمًا (فَقَالَ عُمَرُ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ هُوَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَهُوَ (خَادِمُكُمْ أَخَذَ مَتَاعَكُمْ رَوَاهُ مَالِكٌ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ لَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقًّا فِي إِكْسَابِهِ وَلِأَنَّ مَالَهُ مَوْقُوفٌ دَائِرٌ بَيْنَ السَّارِقِ وَغَيْرِهِ كَمَا إِذَا سَرَقَ أَحَدُ الْمُبْتَاعَيْنِ مَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ وَكَمَا لَا قَطْعَ عَلَى السَّيِّدِ لَا قَطْعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ إِذَا سَرَقَ مَالَ سَيِّدِهِ ; لِأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ أَوْ مِنْ زَوْجَةِ سَيِّدِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ مَنْ عَدَا سَيِّدَهُ كَزَوْجَةِ سَيِّدِهِ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَتَقَدَّمَ أَثَرُ عُمَرَ وَهُوَ فِي السَّرِقَةِ مِنْ مَالِ زَوْجَةِ سَيِّدِهِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ فَتُخَصُّ بِهِ الْآيَةُ وَالْحُكْمُ فِي الْمُدَبَّرِ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ السَّارِقُ مِنَ الْمَغْنَمِ لَا يُقْطَعُ ; لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ رَدًّا وَتَعْلِيلًا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ وَهُوَ يَزِيدُ عَنْ دِثَارٍ قَالَ: أُتِيَ عَلَيٌّ بِرَجُلٍ سَرَقَ مِنَ الْمَغْنَمِ فَقَالَ: لَهُ نَصِيبٌ وَهُوَ خَائِنٌ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ وَكَانَ قَدْ سَرَقَ مِغْفَرًا. وَرَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَقِيلَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ثَنَاهُ جِيَادَةُ بْنُ الْمُفْلِسِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنَ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا» ، وَكَلَامُنَا فِيمَا سَرَقَهُ بَعْضُ مُسْتَحِقِّي الْغَنِيمَةِ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

3609 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْوَصِيفِ يَعْنِي الْقَبْرَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ.» قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سَلْمَانَ: تُقْطَعُ يَدُ النَّبَّاشِ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَيْتِ بَيْتَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3609 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ) أَيْ أَجَبْتُ لَكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَطَلَبْتُ السَّعَادَةَ لِإِجَابَتِكَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةَ (قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ) أَيْ كَيْفَ حَالُكَ وَمَالُكَ (إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ) أَيْ وَبَاءٌ عَظِيمٌ (يَكُونُ الْبَيْتُ) أَيْ بَيْتُ الْمَوْتِ أَوِ الْمَيْتِ وَهُوَ الْقَبْرُ (فِيهِ) أَيْ فِي وَقْتِ إِصَابَتِهِ (بِالْوَصِيفِ) أَيْ بِمُقَابَلٍ بِهِ فِي النِّهَايَةِ الْوَصِيفُ الْعَبْدُ يُرِيدُ أَنَّهُ أَكْثَرَ الْمَوْتَ حَتَّى يَصِيرَ مَوْضِعَ قَبْرٍ يُشْتَرَى بِعَبْدٍ مِنْ كَثْرَةِ الْمَوْتَى وَقَبْرُ الْمَيْتِ بَيْتُهُ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ (الْقَبْرَ) وَهُوَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مِنْ أَبِي ذَرٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الرُّوَاةِ (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) أَيْ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] الْآيَةَ (قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ) أَيِ الْزَمِ الصَّبْرَ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ، فَإِنَّ الصَّابِرَ عَلَى دِينِهِ حِينَئِذٍ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْفِتْنَةَ تَعُمُّ الدِّينَ وَالْبَدَنَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (قَالَ حَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ: تُقْطَعُ يَدُ النَّبَّاشِ) أَيْ نَبَّاشُ الْقُبُورِ لِأَخْذِ الْكَفَنِ (لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَيْتِ بَيْتَهُ) بِالْجَرِّ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمَيِّتِ وَمَنْصُوبًا عَلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي. اه وَجَوَازُ كَوْنِ التَّمْيِيزِ نَكِرَةً مَذْهَبُ بَعْضِ النُّحَاةِ قَالَ: وَاسْتَدَلَّ حَمَّادٌ بِتَسْمِيَتِهِ الْقَبْرَ الْبَيْتَ عَلَى أَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِلْمَيْتِ فَتُقْطَعُ يَدُ النَّبَّاشِ. اه. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ إِطْلَاقِ الْيَدِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَوْنُهُ حِرْزًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ مُغْلَقٌ أَوْ حَارِسٌ لَمْ يُقْطَعْ بِلَا خِلَافٍ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالُ: حُرِّزَ كُلُّ شَيْءٍ بِحَسَبِ مَا يَعُدُّهُ الْعُرْفُ حِرْزًا، وَلِذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَطْعِهِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا قَطْعَ عَلَى نَبَّاشٍ وَهُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ الدَّفْنِ، هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ أَبُو ثَوْرٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالزَّهْرِيُّ لَهُمْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَرَّحَ بِضَعْفِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَفِي سَنَدِهِ مَنْ يُجْهَلُ حَالُهُ كَبِشْرِ بْنِ حَازِمٍ وَغَيْرِهِ وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: لَا قَطْعَ فِي الْمُخْتَفِي، قَالَ: وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْ بِعُرْفِهِمْ وَأَمَّا الْآثَارُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَطَعَ نَبَّاشًا وَهُوَ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ ثُمَّ أَعَلَّهُ بِسُهَيْلِ بْنِ ذَكْوَانَ الْمَكِّيِّ قَالَ عَطَاءٌ: كُنَّا نَتَّهِمُهُ بِالْكَذِبِ وَيُمَاثِلُهُ أَيْ فِي الضَّعْفِ أَثَرٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَفِيهِ مَجْهُولٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَقِيتُهُ بِمِنًى عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى النَّبَّاشِ قَطْعٌ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ وَجَدَ قَوْمَا يَخْتَفُونَ الْقُبُورَ بِالْيَمَنِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ عُمَرُ أَنِ اقْطَعْ أَيْدِيَهُمْ، فَأَحْسَنُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أُتِيَ مَرْوَانُ بِقَوْمٍ يَخْتَفُونَ أَيْ يَنْبُشُونَ الْقُبُورَ فَضَرَبَهُمْ وَنَفَاهُمْ وَالصَّحَابَةُ يَتَوَافَرُونَ. اه وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ بِهِ وَزَادَ: وَطَوَّفَ بِهِمْ. وَكَذَا أَحْسَنُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا حَفْصُ بْنُ أَشْعَثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أُخِذَ نَبَّاشِيٌّ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْمَدِينَةِ فَسَأَلَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ فَأَجْمَعَ رَأْيَهُمْ عَلَى أَنْ يُضْرَبَ وَيُطَافَ بِهِ. اه فَحِينَئِذٍ فَلَا يُشَكُّ فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ قُلْتُ: فَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ قَطْعِ نَبَّاشٍ يُحْمَلُ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السَّاعِي فِي الْفَسَادِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْعِبَادِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

[باب الشفاعة في الحدود]

[بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ]

بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3610 - عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ، فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3610 - (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ) أَيْ أَحْزَنَهُمْ وَأَوْقَعَهُمْ فِي الْهَمِّ (شَأْنُ الْمَرْأَةِ) قَالَ: التُّورِبِشْتِيُّ يُقَالُ: أَهَمَّنِي الْأَمْرُ إِذَا أَقْلَقَكَ وَأَحْزَنَكَ (الْمَخْزُومِيَّةِ) أَيِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى بَنِي مَخْزُومٍ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بِنْتُ أَخِي أَبِي سَلَمَةَ (الَّتِي سَرَقَتْ) أَيْ وَكَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ أَيْضًا وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا (فَقَالُوا) أَيْ قَوْمُهَا (مَنْ يُكَلِّمُ) أَيْ بِالشَّفَاعَةِ (فِيهَا) أَيْ فِي شَأْنِهَا (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشَّفَاعَةِ كَمَا أَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ (فَقَالُوا) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالُوا أَيْ بَعْضٌ مِنْهُمْ (وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ مَحْبُوبُهُ وَهُوَ بِالرَّفْعِ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ أُسَامَةَ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ وَمَنْ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ لَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ مِنَّا أَحَدٌ لِمَهَابَتِهِ وَلِمَا لَا يَأْخُذُهُ فِي دِينِ اللَّهِ رَأْفَةٌ وَمَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ. اه وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مَنْ) اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ يُعْطِي مَعْنَى النَّفْيِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ فَالْمَعْنَى: لَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى يَجْتَرِئُ يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْإِذْلَالِ وَهَذِهِ مَنَقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأُسَامَةَ (فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ) أَيْ فَكَلَّمُوا أُسَامَةَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَفَاعَةٍ حَسَنَةٍ مَقْبُولَةٌ وَذُهُولًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85] (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ (ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ) أَيْ بَالَغَ فِي خُطْبَتِهِ أَوْ أَظْهَرَ خُطْبَتَهُ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ أَيْ خَطَبَ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ حَمْدِهِ وَثَنَاءِ رَبِّهِ (إِنَّمَا أَهْلَكَ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (الَّذِينَ قَبْلَكُمْ) يَحْتَمِلُ كُلَّهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ (أَنَّهُمْ كَانُوا) أَيْ كَوْنُهُمْ إِذَا سَرَقَ إِلَخْ أَوْ مَا أَهْلَكَهُمْ إِلَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا وَالْحَصْرُ ادِّعَائِيٌّ إِذْ كَانَتْ فِيهِمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا (إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ) أَيِ الْقَوِيُّ (تَرَكُوهُ) أَيْ بِلَا إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ (وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ) أَيِ الْقَطْعَ أَوْ غَيْرَهُ (وَايْمُ اللَّهِ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَسُكُونِ يَاءٍ وَضَمِّ مِيمٍ وَبِكَسْرٍ وَبِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَيُكْسَرُ فَفِي الْقَامُوسِ: وَايْمَنُ اللَّهِ وَايْمُ اللَّهِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا وَايْمُ اللَّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَهُوَ اسْمٌ وُضِعَ لِلْقَسَمِ وَالتَّقْدِيرُ ايْمُنُ اللَّهِ قَسَمِي، وَفِي النِّهَايَةِ: وَايْمُ اللَّهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْقَسَمِ وَفِي هَمْزِهَا الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ وَالْقَطْعُ وَالْوَصْلُ وَفِي شَرْحِ الْجَزَرِيَّةِ لِابْنِ الْمُصَنِّفِ: الْأَصْلُ فِيهَا الْكَسْرُ ; لِأَنَّهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ لِسُقُوطِهَا، وَإِنَّمَا فُتِحَتْ فِي هَذَا الِاسْمِ ; لِأَنَّهُ نَابَ مَنَابَ حَرْفِ الْقَسَمِ، وَهُوَ الْوَاوُ فَفُتِحَتْ لِفَتْحِهَا وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مُفْرَدٌ وَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الْيُمْنِ بِمَعْنَى الْبَرَكَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَرَكَةُ اللَّهِ قَسَمِي وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ جَمْعُ يَمِينٍ وَهَمْزَتُهُ هَمْزَةُ قَطْعٍ وَإِنَّمَا سَقَطَتْ فِي الْوَصْلِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَفِي الْمَشَارِقِ لِعِيَاضٍ وَايْمُ اللَّهِ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَوَصْلِهَا أَصْلُهُ ايْمَنُ فَلَمَّا كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ حَذَفُوا النُّونَ فَقَالُوا: ايْمُ اللَّهِ وَقَالُوا: امُ اللَّهِ وَمُ اللَّهِ. اه وَفِيهِ لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي الْقَامُوسِ (لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا) إِنَّمَا ضَرْبَ الْمَثَلَ بِفَاطِمَةَ ; لِأَنَّهَا أَعَزُّ أَهْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: كَانَتِ امْرَأَةُ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ) وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الْجُحُودُ لِتَعْرِيفِهَا وَإِلَّا فَالْقَطْعُ كَانَ لِسَرِقَتِهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَالتَّقْدِيرُ فَسَرَقَتْ (فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ثُمَّ ذَكَرَ) أَيْ مُسْلِمٌ أَوِ الرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ (بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهَا قُطِعَتْ بِالسَّرِقَةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الْعَارِيَةُ تَعْرِيفًا لَهَا وَوَصْفًا لَا لِأَنَّهَا سَبَبُ الْقَطْعِ وَإِنَّمَا لَمْ تُذْكَرِ السَّرِقَةُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا عِنْدَ الرَّاوِي ذِكْرُ مَنْعِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ لَا الْإِخْبَارُ عَنِ السَّرِقَةِ قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ جَحَدَ الْعَارِيَةَ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يَجِبُ الْقَطْعُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَى الْإِمَامِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَعَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّشْفِيعُ فِيهِ فَأَمَّا قَبْلَ الْبُلُوغِ فَقَدْ أَجَازَ فِيهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ شَرٍّ وَأَذًى لِلنَّاسِ وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي يَجِبُ فِيهَا التَّعْزِيرُ فَيَجُوزُ الشَّفَاعَةُ وَالتَّشْفِيعُ فِيهَا سَوَاءٌ بَلَغَتِ الْإِمَامَ أَمْ لَا لِأَنَّهَا أَهْوَنُ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ أَذًى.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3611 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سُخْطِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: «مَنْ أَعَانَ خُصُومَةً لَا يَدْرِي أَحَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3611 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ حَالَتْ) مِنَ الْحَيْلُولَةِ أَيْ حَجَبَتْ (شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ) أَيْ عِنْدَهُ وَالْمَعْنَى مَنْ مَنَعَ بِشَفَاعَتِهِ حَدًّا (مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ قُدَّامَ حَدٍّ فَيَحْجِزُ عَنِ الْحَدِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ بَلَغَ الْإِمَامَ (فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ) أَيْ خَالَفَ أَمْرَهُ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ: فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ ; لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ حِمَاهُ وَمَنِ اسْتَبَاحَ حِمَى اللَّهِ تَعَدَّى طَوْرَهُ وَمَنْ نَازَعَ اللَّهَ تَعَالَى فِيمَا حَمَا فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ (وَمَنْ خَاصَمَ) أَيْ جَادَلَ أَحَدًا (فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ) أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ أَوْ يَعْلَمُ نَفْسَهُ أَنَّهُ عَلَى بَاطِلٍ أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ خَصْمَهُ عَلَى حَقٍّ أَوْ يَعْلَمُ الْبَاطِلَ أَيْ ضِدَّهُ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ وَيُصِرُّ عَلَيْهِ (لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَنْزِعَ) أَيْ يَتْرُكَ وَيَنْتَهِيَ عَنْ مُخَاصَمَتِهِ يُقَالُ: نَزَعَ عَنِ الْأَمْرِ نُزُوعًا إِذَا انْتَهَى عَنْهُ (وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ) أَيْ مِنَ الْمَسَاوِئِ (أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ) بِسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَيُفْتَحُ وَالْخَبَالُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الرَّدْغَةُ بِسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرَوْنَهُ بِالسُّكُونِ لَا غَيْرُ، وَفِي النِّهَايَةِ جَاءَ تَفْسِيرُهَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ وَالرَّدْغَةُ بِسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا طِينٌ وَوَحْلٌ كَثِيرٌ وَالْخَبَالُ فِي الْأَصْلِ الْفَسَادُ وَيَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَبْدَانِ وَالْعُقُولِ اه. قِيلَ: سُمِّيَ بِهِ الصَّدِيدُ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ وَقِيلَ: الْخَبَالُ مَوْضِعٌ فِي جَهَنَّمَ مِثْلُ الْحِيَاضِ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ وَعُصَارَتُهُمْ (حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ) أَيْ مِنْ عُهْدَتِهِ بِاسْتِيفَاءِ عُقُوبَتِهِ أَوْ بِاسْتِدْرَاكِ شَفَاعَتِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ مَغْفِرَتِهِ قَالَ الْقَاضِي: وَخُرُوجُهُ مِمَّا قَالَ أَنْ يَتُوبَ عَنْهُ وَيَسْتَحِلَّ مِنَ الْمَقُولِ فِيهِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِثْمِ مَا قَالَ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ إِثْمِهِ أَيْ إِذَا اسْتَوْفَى عُقُوبَةَ إِثْمِهِ لَمْ يُسْكِنْهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ بَلْ يُنْجِيهِ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَيَتْرُكُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي غَايَةُ فِعْلِ الْمُغْتَابِ فَيَكُونُ فِي الدُّنْيَا فَيَجِبُ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ بِسُخْطِهِ وَغَضَبِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ فِي إِسْكَانِهِ رَدْغَةَ الْخَبَالِ وَيُؤَيِّدُهُ الْقَرِينَةُ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ ; لِأَنَّ النَّزْعَ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى مُفَسَّرٌ بِتَرْكِ الْخُصُومَةِ الْبَاطِلَةِ وَعَلَى هَذَا فِي الثَّالِثَةِ وَالْحَيْلُولَةُ بِالشَّفَاعَةِ أَعْظَمُهَا ; لِأَنَّهُ مُضَادَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا النَّزْعَ قُلْتُ: لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْبَقِيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُهُ بِحَدٍّ قَالَ: ثُمَّ الِاغْتِيَابُ بِوَضْعِ الْمُسَبَّبِ مَوْضِعَ السَّبَبِ تَصْوِيرٌ لِتَهْجِينِ أَمْرِ الْمُغْتَابِ وَكَأَنَّهُ فِيهَا الْآنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اه وَفِيهِ أَنَّ الْغَيْبَةَ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُهُ وَهُوَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ بُهْتَانٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ لَا يَكُونُ مُغْتَابًا بَلْ يَكُونُ آتِيًا بِالْبُهْتَانِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ (فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مَنْ أَعَانَ) أَيْ تَعَصُّبًا أَوْ عَبَثًا (عَلَى خُصُومَةٍ لَا يَدْرِي أَحَقٌّ) أَيْ هِيَ (أَمْ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ) .

3612 - وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ، قَالَ: بَلَى. فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلَّ ذَلِكَ يَعْتَرِفُ فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ وَجِيءَ بِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ. ثَلَاثًا» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ هَكَذَا وَجَدْتُ فِي الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3612 - (وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ) قِيلَ: لَا يُعْرَفُ لَهُ اسْمٌ (الْمَخْزُومِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: صَحَابِيٌّ عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ رَوَى عَنْهُ أَبُو الْمُنْذِرِ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلُصٍّ) بِضَمِّ اللَّامِ وَيُكْسَرُ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفِي الْقَامُوسِ مُثَلَّثُ اللَّامِ أَيْ جِيءَ بِسَارِقٍ (قَدْ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَدِ (اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا) أَيْ أَقَرَّ إِقْرَارًا صَرِيحًا (وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ) أَيْ مِنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا إِخَالُكَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا وَالْكَسْرُ هُوَ الْأَفْصَحُ وَأَصْلُهُ الْفَتْحُ قُلِبَتِ الْفَتْحَةُ بِالْكَسْرَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَا يَفْتَحُ هَمْزَتَهَا إِلَّا بَنُو أَسَدٍ، فَإِنَّهُمْ يُجْرُونَهَا عَلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ مِنْ خَالَ يَخَالُ أَيْ مَا أَظُنُّكَ (سَرَقْتَ) قَالَهُ دَرَأً لِلْقَطْعِ (قَالَ: بَلَى) أَيْ سَرَقْتُ (فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (كُلَّ ذَلِكَ) بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَلَا وَجْهَ لَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كُلَّ ذَلِكَ ظَرْفُ يَعْتَرِفُ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ وَالْمَعْنَى (يَعْتَرِفُ) فِي كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْمَرَّاتِ وَذَكَرَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَعَامِلُهُ فَأَعَادَ (فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ وَجِيءَ بِهِ) أَيِ السَّارِقُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ) أَيِ اطْلُبْ مَغْفِرَةَ اللَّهِ بِاللِّسَانِ (وَتُبْ إِلَيْهِ) أَيِ ارْجِعْ إِلَى اللَّهِ بِالْجَنَانِ (فَقَالَ) أَيِ السَّارِقُ (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ ثَلَاثًا) أَيِ اقْبَلْ تَوْبَتَهُ أَوْ ثَبِّتْهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ مُطَهِّرًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ فَسَادِ الطَّوِيَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُطَهِّرٌ لَعَيْنِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ ثَانِيًا مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ الْقَطْعِ وَتَكْرِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا لِتَوْبَتِهِ. اه وَمَا فِيهِ لَا يَخْفَى قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَا يُسْتَشْهَدُ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْرِضَ لِلسَّارِقِ بِالرُّجُوعِ وَأَنَّهُ إِنْ رَجَعَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ قُبِلَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ كَمَا فِي الزِّنَا وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ الْمَحْكِيَّيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلِمَنْ زَعَمَ أَنَّ السَّرِقَةَ لَا تَثْبُتُ بِإِقْرَارٍ مَرَّةً وَاحِدَةً كَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْحَدِّ وَيَحْرُمُ تَلْقِينُهُ بِالرُّجُوعِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «تَعَافَوْا بِالْحُدُودِ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدَ وَجَبَ» . وَجَوَابُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا لَقَّنَهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ لَهُ مَخْرَجًا عَنْهُ بِالرُّجُوعِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْرَءوُا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ» . وَإِنَّمَا يَجِبُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَجْهُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ عِنْدِي أَنَّهُ ظَنَّ بِالْمُعْتَرِفِ غَفْلَةً عَنِ السَّرِقَةِ وَأَحْكَامِهَا أَوْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَبِينَ ذَلِكَ مِنْهُ يَقِينًا وَقَدْ نَقَلَ تَلْقِينَ السَّارِقِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. اه وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إِلَّا إِعَادَةُ الْإِقْرَارِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ اسْتِبَانَةُ أَمْرِ السَّرِقَةِ وَأَحْكَامِهَا لَا ظَنًّا وَلَا يَقِينًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ مَا ظَنَّ لَمَّا اعْتَرَفَ الرَّجُلُ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ مَا فَإِنَّ هَذِهِ الْأَمَارَةَ كَافِيَةٌ فِي الظَّنِّ بِالْخَيْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اه. وَفِيهِ أَنَّ ظَنَّ الْخَيْرِ بِالْمُسْلِمِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمَارَةٍ مَعَ أَنَّ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ خُصُوصًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَوْلُهُ وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ إِمَّا وَقَعَ اتِّفَاقًا أَوِ احْتِرَازًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ مَتَاعٌ مِنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لَمَا لَقَّنَهُ لِئَلَّا يَفُوَتَ مَالُ الْمَظْلُومِ وَلِهَذَا مَنْ أَقَرَّ بِمَالٍ عِنْدَهُ أَوْ دَيْنٍ عَلَيْهِ فَلَا يُسَنُّ التَّلْقِينُ لَهُ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إِعَادَةِ الِاعْتِرَافِ الْأَوَّلِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَزُفَرَ وَابْنِ شُبْرُمَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ لَمْ يَقْطَعْهُ إِلَّا بَعْدَ تَكْرَارِ إِقْرَارِهِ وَلَمَّا أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِسَرِقَةٍ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ: قَدْ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ شَهَادَتَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا سَرَقَ فَقَالَ: مَا أَخَالُهُ سَرَقَ، فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ قَالَ: فَذَهَبَ بِهِ فَقُطِعَ ثُمَّ حُسِمَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَقَالَ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: تُبْتُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ» فَقَدْ قَطَعَهُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً اه. وَفِيهِ أَنَّهُ وَقَعَ حِينَئِذٍ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَيُحْتَاجُ إِلَى التَّصْحِيحِ وَالتَّرْجِيحِ فَالْأَوْلَى حَمَلُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ عَلَى أَنَّ اعْتِرَافَهُ الْأَوَّلَ كَانَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ الصَّحَابَةُ بِنَاءً عَلَى اعْتِرَافِهِ عِنْدَهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا سَرَقَ لَا أَنَّهُمْ شَهِدُوا وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَيُرْفَعُ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ فَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ فِي أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِقْرَارِ الْمُتَعَدِّدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ) أَيِ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ (أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ هَكَذَا) أَيْ مِثْلَ مَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ لَا عَنْ أَبِي رِمْثَةَ (وَجَدْتُ فِي الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ) أَيِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ (وَجَامِعِ الْأُصُولِ) أَيْ وَفِي جَامِعِ أُصُولِ السُّنَّةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ.

3613 - وَشُعَبُ الْإِيمَانِ وَمَعَالِمُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ بِالرَّاءِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3613 - (وَشُعَبُ الْإِيمَانِ) أَيِ الْبَيْهَقِيُّ (وَمَعَالِمُ السُّنَنِ) أَيْ لِلْخَطَّابِيِّ (عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ) بِالتَّصْغِيرِ (وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ بِالرَّاءِ) أَيِ الْمَكْسُورَةِ قَبْلَ مِيمٍ سَاكِنَةٍ (وَالثَّاءُ الْمُثَلَّثَةُ بَدَلُ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ) أَيْ فِي صُورَةِ الْخَطِّ مَا قَطَعَ النَّظَرَ عَنِ الشَّكْلِ وَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ الْمُؤَلِّفُ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْتِزَامِهِ وَفِيهِ أَنَّهُ بَقِيَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَصْلِ الْبَابِ الْمُهِمِّ عِلْمُهُ فِي الْكِتَابِ مَا وَرَدَ فِي رَدِّ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ وُجُودِهِ وَضَمَانِ السَّارِقِ عِنْدَ فَقْدِهِ بَعْدَ قَطْعِهِ وَأَنَا أَذْكُرُ لَكَ الْمَسْأَلَةَ وَاخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مَعَ الْأَدِلَّةِ فَفِي الْهِدَايَةِ: وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ رُدَّتْ عَلَى صَاحِبِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً لَمْ تُضْمَنْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَشْمَلُ الْهَلَاكَ وَالِاسْتِهْلَاكَ ; لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُضْمَنْ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَلَهُ فِيهِ جِنَايَةٌ ثَابِتَةٌ فَلِأَنْ لَا يُضْمَنَ بِالْهَلَاكِ وَلَا جِنَايَةَ أُخْرَى لَهُ فِيهِ أَوْلَى وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَمَكْحُولٌ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ سِيرِينَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ يُضْمَنُ فِي الِاسْتِهْلَاكِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُضْمَنُ فِيهِمَا أَيْ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَحَمَّادٍ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا ضُمِّنَ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، وَلَا خِلَافَ إِنْ كَانَ بَاقِيًا أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْمَالِكِ وَكَذَا إِذَا بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْقَطْعِ وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ قَبْلَهُ: أَنَا أَضْمَنُهُ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَنَا فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ رُجُوعَهُ عَنْ دَعْوَى السَّرِقَةِ إِلَى دَعْوَى الْمَالِ وَجْهُ قَوْلِهِمْ عُمُومُ {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَعَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا عُدْوَانِيًّا فَيَضْمَنُهُ قِيَاسًا عَلَى الْغَصْبِ وَالْمَانِعُ إِنَّمَا هُوَ الْمُنَافَاةُ بَيْنَ حَقَّيِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الْخَاصَّةِ وَالْآخَرُ حَقُّ الضَّرَرِ فَيُقْطَعُ حَقُّ اللَّهِ وَيُضْمَنُ حَقُّ الْعَبْدِ وَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَرَمِ يَجِبُ الْجَزَاءُ حَقًّا لِلَّهِ وَيَضْمَنُهُ حَقًّا لِلْعَبْدِ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عَنْ أَخِيهِ الْمِسْوَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَغْرَمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ» ، وَلَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ: «لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَ قَطْعِ يَمِينِهِ وَضَعْفٍ» فَإِنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْقَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ جَدُّهُ فَإِنَّهُ الْمِسْوَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ مَجْهُولٌ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ آخَرُ فَإِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ الْفُرَاتِ رَوَاهُ عَنِ الْمُفَضَّلِ فَأَدْخَلَ بَيْنَ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَسَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيَّ، وَقَالَ الْمُنْذِرُ: سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هَذَا مَجْهُولٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الزُّهْرِيُّ قَاضِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ وَعِنْدَنَا الْإِرْسَالُ غَيْرُ قَادِحٍ بَعْدَ ثِقَةِ الرَّاوِي وَأَمَانَتِهِ، وَذَلِكَ السَّاقِطُ إِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ الزُّهْرِيُّ فَقَدْ عُرِفَ وَبَطَلَ الْقَدَحُ بِهِ وَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَنَّهُ يَحْمِلُ غُرْمَ السَّارِقِ عَلَى أُجْرَةِ الْقَاطِعِ مَدْفُوعٌ بِرِوَايَةِ الْبَزَّارِ، لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ سَرِقَتَهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِي الْمَبْسُوطِ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنِ السَّارِقِ قَضَاءً لِتَعَذُّرِ الْحُكْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ وَأَمَّا دِيَانَةً فَيُفْتَى بِالضَّمَانِ لِلُحُوقِ الْخُسْرَانِ وَالنُّقْصَانِ لِلْمَالِكِ مِنْ جِهَةِ السَّارِقِ وَفِي الْإِيضَاحِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لِلسَّارِقِ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّ الثَّوْبَ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ كَذَا لَوْ خَاطَ قَمِيصًا لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مَحْظُورٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ إِيجَابُ الْقَضَاءِ بِهِ كَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُ الرَّدُّ قَضَاءً، وَيَلْزَمْهُ دِيَانَةً كَالْبَاغِي إِذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ ثُمَّ تَابَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لِتَعَذُّرِ إِيجَابِ الضَّمَانِ بِعَارِضٍ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَأَمَّا دِيَانَةً فَيُعْتَبَرُ قَضِيَّةَ السَّبَبِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخَمْرُ سَتْرُ الشَّيْءِ وَيُقَالُ لِمَا يَسْتُرُ بِهِ خِمَارٌ وَالْخَمْرُ سُمِّيَ بِهِ لِكَوْنِهِ خَامِرًا لِمَقَرِّ الْعَقْلِ وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ وَعِنْدَ بَعْضِهِمُ اسْمٌ لِلْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ اه. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ بَابِ بَيَانِ الْخَمْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ فَأَخَذَتِ الْخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ". قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوِ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ أَوِ الِاسْتِخْفَافِ وَلِذَا حُكِمَ بِكُفْرِ الْهَازِلِ مَعَ اعْتِقَادِهِ لِمَا يَقُولُ وَلَا اعْتِقَادَ لِلسَّكْرَانِ وَلَا اسْتِخْفَافَ لِأَنَّهُمَا فَرْعُ قِيَامِ الْإِدْرَاكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قِرَاءَةَ عَلِيٍّ إِنَّمَا وَقَعَتْ سَهْوًا لَا قَصْدًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْبَابِ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ إِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَكَذَا إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رِيحُهَا أَوْ ذَهَبَ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَمَّا التَّقَادُمُ فَيَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ، وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّ غَيْبُوبَةَ الْعَقْلِ أَوْ غَلَبَةَ الطَّرَبِ وَالتَّرَحِ تُخَفِّفُ الْأَلَمَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الْجَائِزِ عَنْ أَبِي مَاجِدٍ الْحَنَفِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِابْنِ أَخٍ لَهُ سَكْرَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: تَرْتِرُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ فَفَعَلُوا فَدَفَعَهُ إِلَى السِّجْنِ ثُمَّ دَعَا بِهِ مِنَ الْغَدِ، فَدَعَا بِسَوْطٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُقَّتْ ثَمَرَتُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى صَارَتْ دِرَّةً، ثُمَّ قَالَ لِلْجَلَّادِ: اجْلِدْ وَارْفَعْ يَدَكَ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَائِزُ وَالتَّرْتَرَةُ وَالْمَزْمَزَةُ التَّحْرِيكُ بِعُنْفٍ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ ; لِأَنَّ التَّحْرِيكَ يُظْهِرُ الرَّائِحَةَ مِنَ الْمَعِدَةِ الَّتِي كَانَتْ خَفِيَتْ وَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَحْسَنْتَ. فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَقَالَ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ» ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ وَفِي لَفْظٍ رِيحَ شَرَابٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الرِّيحِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ الرَّائِحَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضٍ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَصَحُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَفْيُهُ وَمَا ذَكَرْنَا عَنْ عُمَرَ يُعَارِضُ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ عَزَّرَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ الرَّائِحَةَ وَيَتَرَجَّحُ لِأَنَّهُ أَصَحُّ وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَلَدَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ الْحَدَّ تَامًّا وَقَدِ اسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُدُودِ إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا مُقِرًّا أَنْ يُرَدَّ وَيُدْرَأَ مَا اسْتُطِيعَ فَكَيْفَ يَأْمُرُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالْمَزْمَزَةِ عِنْدَ عَدَمُ الرَّائِحَةُ لِيَظْهَرَ الرِّيحُ فَيَحُدَّهُ. فَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُولَعًا بِالشَّرَابِ مُدْمِنًا فَاسْتَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ بِهِ رِيحُ الْخَمْرِ ; لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ فَلَا تُثْبِتُ مَعَ الِاحْتِمَالِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ قَالَ: الشَّاعِرُ: يَقُولُونَ لِي أَنْكَهْ شَرِبْتَ مُدَامَةً ... فَقُلْتُ لَا بَلْ أَكَلْتُ السَّفَرْجَلَا وَأَنْكَهْ بِوَزْنِ أَمْنَعُ وَنَكَهَ مِنْ بَابِهِ أَيْ أَظْهَرَ رَائِحَةَ فَمِهِ وَقَالَ الْآخَرُ: سَفَرْجَلَةٌ تَحْكِي ثَدْيَ الْفَرَاهِدِ ... لَهَا عُرْفٌ ذِي فِسْقٍ وَصُفْرَةِ زَاهِدِ الْفَصْلُ الْأَوَّلِ

[باب حد الخمر]

[بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3614 - عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ. وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3614 - (عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ) أَيْ أَمَرَ بِالضَّرْبِ (فِي الْخَمْرِ) أَيْ فِي شَارِبِهَا أَوِ التَّقْدِيرُ ضَرَبَ شَارِبَ الْخَمْرِ لِأَجْلِ شُرْبِهَا (بِالْجَرِيدِ) وَهُوَ جَمْعُ جَرِيدَةٍ وَهَى السَّعَفَةُ سُمِّيَتْ بِهِمَا لِكَوْنِهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الْخُوصِ وَهُوَ وَرَقُ النَّخْلِ (وَالنِّعَالِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ النَّعْلِ وَهُوَ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ عَدَدٍ وَهَذَا مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ الْعَدَدَ أَرْبَعِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ الضَّرْبَ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ، لَكِنَّهُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَقَدْ يَصِلُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ لِمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ السَّائِبِ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَرَبَ رَجُلًا بِجَرِيدَتَيْنِ أَرْبَعِينَ فَتَصِيرُ ثَمَانِينَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «مِنْ

شَرِبَ نَصِيفَةً مِنْ خَمْرٍ فَاجْلِدُوهُ ثَمَانِينَ» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْيِينِ وَكَانَ الرَّأْيُ لِلْإِمَامِ فِي التَّبْيِينِ مِمَّا يُقَارِبُ الْأَرْبَعِينَ إِلَى تَمَامِ الثَّمَانِينَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بُرْهَانُهُ وَتَمَامُ بَيَانِهِ (وَجَلَدَ) لَعَلَّ فِيهِ تَجْرِيدًا أَيْ ضَرَبَ (أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ) أَيْ جَلْدَةً أَوْ ضَرْبَةً فِي شَرْحِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِي شَارِبِ الْخَمْرِ فَذَهَبَ قَوْمٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً وَقَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ ثَمَانُونَ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ: أَرَى أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ ; فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، أَوْ كَمَا قَالَ، فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ قَالَ: وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ كَانَ تَعْزِيرًا وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْعُقُوبَةِ إِذَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي رَجُلٍ شَرِبَ الْخَمْرَ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، قَالَ عَلَيٌّ لِلْحَسَنِ: أَقِمْ. فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا فَقَالَ عَلِيٌّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، قَالَ: فَأَخَذَ السَّوْطَ فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَعُدُّ فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ قَالَ: حَسْبُكَ جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ. وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ حَسْبُكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْحُدُودِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ تَعْزِيرٌ وَلَوْ كَانَ حَدًّا لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ فِيهِ الْخِيَارُ، وَقَوْلُهُ وَلِّ حَارَّهَا أَيْ وَلِّ الْعُقُوبَةَ وَالضَّرْبَ مَنْ تَوَلَّى الْعَمَلَ وَالنَّفْعَ وَالْقَارُّ الْبَارِدُ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَلِّ شَدِيدَهَا مَنْ تَوَلَّى هَيِّنَهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرَانِ الْمُؤَنَّثَانِ رَاجِعَانِ إِلَى الْخِلَافَةِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَعْنِي وَلِّ مَشَاقَّ الْخِلَافَةِ مَنْ تَوَلَّى مَلَاذَّهَا فَإِنَّ الْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ مَثَلَانِ لِلْمَشَقَّةِ وَاللَّذَّةِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَكُلٌّ سُنَّةٌ أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقَضِيَّتَيْنِ مَبْنَاهَا عَلَى السُّنَّةِ فَسَمَّى كِلْتَيْهِمَا سُنَّةً لِأَنَّهُمَا أُخِذَتَا مِنَ السُّنَّةِ، وَيُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُ عَلِيٍّ كُلٌّ سُنَّةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ مُعَظِّمًا لِآثَارِ عُمَرَ وَأَنَّ حُكْمَهُ وَقَوْلَهُ سُنَّةٌ وَأَمْرَهُ حَقٌّ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ بِخِلَافِ مَا يَفْتَرِي الشِّيعَةُ عَلَيْهِ اه. وَفِيهِ أَنَّ عُمَرَ مَا اخْتَارَ الثَّمَانِينَ إِلَّا بِمَشُورَةِ عَلِيٍّ وَإِشَارَتِهِ وَكَانَ هَذَا عِنْدَ عُتُوِّ أَهِلِ الشُّرْبِ بِزِيَادَةِ الْفِسْقِ مِنَ الْهَذَيَانِ وَالْقَذْفِ وَالضَّرْبِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ سُكْرِهِمْ، فَرَأَوْا تَضْعِيفَ الْحَدِّ سِيَاسَةً مُنَاسِبَةً لِحَالِهِمْ مِنْ سُوءِ فِعَالِهِمْ وَقُبْحِ مَقَالِهِمْ وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي الْهِدَايَةِ: وَحَدُّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ أَيْ مِنْ غَيْرِهَا ثَمَانُونَ سَوْطًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعُونَ إِلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنْ يَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عَلَى تَعْيِينِ الثَّمَانِينَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3615 - وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ أَرْبَعِينَ» .

3615 - (وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَنَسٍ ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ أَرْبَعِينَ» ) .

3616 - وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «كَانَ يُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَنَقُومُ عَلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3616 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ يُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ) بِكَسْرِ هَمْزٍ وَسُكُونِ مِيمٍ أَيْ إِمَارَتِهِ وَخِلَافَتِهِ (وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ) أَيْ شَيْئًا مِنْ أَوَّلِ عَهْدِهِ (فَنَقُومُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ضَرْبِ الشَّارِبِ (بِأَيْدِينَا) أَيْ بِكُفُوفِنَا (وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا) وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَلْوُونَهَا وَيَضْرِبُونَهُ بِهَا وَأَرَادَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنَ الْأَرْبَعِينَ لِقَوْلِهِ (حَتَّى كَانَ) أَيْ وُجِدَ وَقَعَ (آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ كَانَ الزَّمَانُ آخِرَ إِمَارَةِ عُمَرَ (فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ) أَيْ عَلَى التَّعْيِينِ وَالتَّبْيِينِ (حَتَّى) أَيْ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى (إِذَا عَتَوْا) أَيْ أَهْلُ الشَّرَابِ بِأَنْ أَفْسَدُوا بِمُقْتَضَى فَسَادِ الزَّمَانِ وَانْهَمَكُوا فِي الطُّغْيَانِ (وَفَسَقُوا) أَيْ خَرَجُوا عَنِ الْحَدِّ وَتَجَاوَزُوا فِي الْعِصْيَانِ (جَلَدَ ثَمَانِينَ) أَيْ لِلسِّيَاسَةِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْمُخَالَفَةُ مَعَ أَنَّ الْعُتُوَّ هَلُمَّ جَرَّا فِي الزِّيَادَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ وَالْقُرَى قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ يُجْعَلَ ثَمَانِينَ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ، قَالَ: فَجَعَلَهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ» ، وَفِي الْمُوَطَّأِ: اسْتَشَارَ فِي الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَرَى أَنْ نَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ. وَعَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ عَلِيٍّ

وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَشَارَ بِذَلِكَ فَرَوَى الْحَدِيثَ مُقْتَصِرًا عَلَى هَذَا مَرَّةً وَعَلَى هَذَا أُخْرَى، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الشُّرَّبَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضْرَبُونَ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: إِذَا شَرِبَ إِلَخْ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَضَرَبَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ» فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِجَرِيدَتَيْنِ مُتَعَاقِبَتَيْنِ بِأَنِ انْكَسَرَتْ وَاحِدَةٌ وَأُخِذَتِ الْأُخْرَى، وَإِلَّا فَهِيَ ثَمَانُونَ، فَيَكُونُ مِمَّا رَأَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَقَوْلُ الرَّاوِي بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ إِلَخْ لَا يُنَافِي ذَلِكَ فَإِنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ اسْتَشَارَ فَوَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى تَقْدِيرِ الثَّمَانِينَ الَّتِي انْتَهَى عَلَيْهَا فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، يُبْعِدُهُ وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَلَدَ ثَمَانِينَ وَمَا تَقَدَّمَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي جَلَدَ الثَّمَانِينَ بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كُنْتُ أُقِيمُ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتَ فِيهِ فَأَجِدَ مِنْهُ فِي نَفْسِي إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ، وَالْمُرَادُ لَمْ يَسُنَّ فِيهِ عَدَدًا مُعَيَّنًا، قَالَ: فَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِهِ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعَدَدٍ مُعَيِّنٍ ثُمَّ قَدَّرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِأَرْبَعِينَ ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى ثَمَانِينَ، وَبِهِمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى تَعْيِينِهِ، وَالْحُكْمُ الْمَعْلُومُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَدَمُ تَعْيِينِهِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ لِزِيَادَةِ فَسَادٍ فِيهِ، ثُمَّ رَأَوْا أَهْلَ الزَّمَانِ تَغَيَّرُوا إِلَى نَحْوِهِ أَكْثَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ السَّائِبِ حَتَّى عَتَوْا وَفَسَقُوا وَعَلِمُوا أَنَّ الزَّمَانَ كُلَّمَا تَأَخَّرَ كَانَ فَسَادُ أَهْلِهِ أَكْثَرَ فَكَانَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ هُوَ مَا كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَمْثَالِهِمْ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ جَلْدِ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ بَعْدَ عُمَرَ فَلَمْ يَصِحَّ، وَذَلِكَ مَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ فَشَهِدَ أَنَّهُ رَآهُ شَرِبَهَا وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُهَا فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ. الْحَدِيثَ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3617 - عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3617 - (عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ إِنَّ مَنْ (شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ) الْمُرَادُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ أَوِ الْأَمْرُ لِلْوَعِيدِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يَقْتُلُ وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ (قَالَ) أَيْ جَابِرٌ (ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ جِيءَ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ (بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ) فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْقَتْلَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ مَنْسُوخٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا قَرِينَةٌ نَاهِضَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَاقْتُلُوهُ مَجَازٌ عَنِ الضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ، مُبَالَغَةً لَمَّا عَتَا وَتَمَرَّدَ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَخَذَ جَلْدَ ثَمَانِينَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ يُرِيدُ الْأَمْرَ بِالْوَعِيدِ وَلَا يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الرَّدْعُ وَالتَّحْذِيرُ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» . وَهُوَ لَوْ قَتَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أَبُو عِيسَى: إِنَّمَا كَانَ هَذَا أَوَّلَ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَعَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهَا سَوَاءٌ شَرِبَ قَلِيلًا أَوْ شَرِبَ كَثِيرًا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ طَائِفَةٍ شَاذَّةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُقْتَلُ بَعْدَ جَلْدِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ قِيلَ: نَسَخَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» . الْحَدِيثَ، وَحَدُّ الْعَبْدِ عَلَى نِصْفِ حَدِّ الْحُرِّ كَمَا فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ وَهُوَ مَا سِوَى عَصِيرِ الْعِنَبِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: هُوَ حَرَامٌ يُجْلَدُ فِيهِ كَجَلْدِ شَارِبِ الْخَمْرِ سَوَاءٌ كَانَ يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ أَوْ تَحْرِيمَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يَحْرُمُ وَلَا يُحَدُّ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هُوَ حَرَامٌ يُجْلَدُ بِشُرْبِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ دُونَ إِبَاحَةٍ اه. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ عَنْ جَابِرٍ.

3618 - وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3618 - (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَبِيصَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (ابْنِ ذُؤَيْبٍ) تَصْغِيرُ ذِئْبٍ تَقَدَّمَ تَرْجَمَتُهُ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: اخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ.

3619 - وَفِي أُخْرَى لَهُمَا وَلِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ عَنْ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالشَّرِيدُ إِلَى قَوْلِهِ فَاقْتُلُوهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3619 - (وَفِي أُخْرَى لَهُمَا) أَيْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلتِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ (وَلِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ عَنْ نَفَرٍ) أَيْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ (مِنْ إِعْجَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ ابْنُ عَمْرٍو وَمُعَاوِيَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالشَّرِيدُ) إِلَى قَوْلِهِ فَاقْتُلُوهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الشُّرْبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ ضَرَبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ عَادَ إِلَى الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ» . أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا سَكِرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إِنْ سَكِرَ إِلَخْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى ثُمَّ نُسِخَ الْقَتْلُ بِمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ إِلَخْ قَالَ: «ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَجَلَدَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَزَادَ فِي لَفْظٍ وَرَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَقَعَ وَأَنَّ الْقَتْلَ قَدِ ارْتَفَعَ» . وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِالنُّعْمَانِ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثَلَاثًا فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ» فَكَانَ نَسْخًا وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ ثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: ثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ وَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ وَإِنْ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، فَرُفِعَ الْقَتْلُ فَكَانَ رُخْصَةً» . قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَ الزُّهْرِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَعِنْدَهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَمُخَوَّلُ بْنُ رَاشِدٍ فَقَالَ لَهُمَا: كُونَا وَافِدَيْ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِهَذَا الْحَدِيثِ اه. وَقَبِيصَةُ فِي صُحْبَتِهِ خِلَافٌ وَإِثْبَاتُ النَّسْخِ بِهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا أَثْبَتَهُ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ. الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ التَّارِيخِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِالنَّسْخِ الِاجْتِهَادِيِّ أَيْ تَعَارُضًا فِي الْقَتْلِ فَرَجَحَ النَّافِي لَهُ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِنَسْخِهِ فَإِنَّ هَذَا لَازِمٌ فِي كُلِّ تَرْجِيحٍ عِنْدَ التَّعَارُضِ.

3620 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَزْهَرِ قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَقَالَ لِلنَّاسِ: اضْرِبُوهُ. فَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْعَصَا وَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْمِيتَخَةِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِي الْجَرِيدَةَ الرَّطْبَةَ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُرَابًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَمَى بِهِ فِي وَجْهِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3620 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَزْهَرِ) أَيِ الْقُرَشِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَهِدَ حُنَيْنًا رَوَى عَنْهُ ابْنَهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ وَغَيْرُهُ مَاتَ بِالْحَرَّةِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيِ الْآنَ (إِذْ أُتِيَ بِرَجُلٍ) أَيْ فِي مَاضِي الزَّمَانِ وَفَائِدَتُهُ بَيَانُ اسْتِحْضَارِ الْقِصَّةِ كَالْعَيَانِ (قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَقَالَ لِلنَّاسِ: اضْرِبُوهُ. فَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْعَصَا) أَيْ بِجِنْسِهَا وَهَى بِالْأَلِفِ فِي الْأُصُولِ وَلَوْ وُجِدَتْ مَرْسُومَةً بِالْيَاءِ فَكَانَ بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ الْعَصَا (وَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْمِيتَخَةِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى وَزْنِ الْمِلْعَقَةِ هَكَذَا فِي الْأُصُولِ فَقَطْ، وَهِيَ الْعَصَا الْخَفِيفَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الدِّرَّةُ بِكَسْرِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ، وَرُوِيَ عَلَى غَيْرِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمِتِّيخَةُ كَسِكِّينَةٍ الْعَصَا وَالْمِطْرَقُ الدَّقِيقُ، وَفِي النِّهَايَةِ: اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهَا فَقِيلَ: هِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ وَبِفَتْحِ الْمِيمِ مَعَ تَشْدِيدِ التَّاءِ وَبِفَتْحِ الْمِيمِ مَعَ التَّشْدِيدِ وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ السَّاكِنَةِ بَعْدَ التَّاءِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِجَرَائِدِ النَّخْلِ وَأَصْلِ الْعُرْجُونِ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِلْعَصَا وَقِيلَ لِلْقَضِيبِ الدَّقِيقِ اللَّيِّنِ وَقِيلَ: كُلُّ مَا ضُرِبَ بِهِ مِنْ جَرِيدٍ أَوْ عَصًا أَوْ دِرَّةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَصْلُهَا فِيمَا قِيلَ مِنْ تَيَّخَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ بِالسَّهْمِ إِذَا ضَرَبَهُ، وَقِيلَ: مِنْ يَتُخُّهُ

الْعَذَابَ وَطَيَّخَهُ إِذَا أَتَاحَ عَلَيْهِ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ مِنَ الطَّاءِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ خَرَجَ وَفِي يَدِهِ مَتِيخَةٌ فِي طَرَفِهَا خُوصٌ مُعْتَمِدًا عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ (قَالَ ابْنُ وَهْبٍ) أَيْ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِالْمِيتَخَةِ (الْجَرِيدَةَ الرَّطْبَةَ) وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ مُفَسِّرَةٌ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ (ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُرَابًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَمَى بِهِ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ فَرَمَاهُ (فِي وَجْهِهِ) أَيْ فِي جَانِبِهِ وَجِهَتِهِ وَلَعَلَّهُ تَكَرَّرَ مِنْهُ هَذَا الْفِعْلُ حَتَّى اسْتَحَقَّ زِيَادَةَ عُقُوبَتِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: رُمِيَ بِهِ إِرْغَامًا لَهُ وَاسْتِهْجَانًا لِمَا ارْتَكَبَهُ فَإِنَّهُ أَزَالَ أَشْرَفَ الْأَشْيَاءِ وَمَقَرَ تَكَالِيفَ اللَّهِ وَمَعْرِفَتَهُ بِأَنْجَسِ الْأَشْيَاءِ وَأَخْبَثِهَا اه. وَلَوْ قَالَ: بِأَنْجَسِ الْأَشْيَاءِ وَأَنْجَسِهَا لَكَانَ تَنْجِيسًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3621 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ. فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: بَكِّتُوهُ. فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ مَا خَشِيتَ اللَّهَ وَمَا اسْتَحْيَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3621 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ) أَيِ الْخَمْرَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَقَالَ: اضْرِبُوهُ. فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ) أَيْ كَفِّهِ (وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ) أَيْ بِرِدَائِهِ الْمَلْوِيِّ (وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ) أَيْ مِنَّا هَذِهِ الْأَصْنَافُ (ثُمَّ قَالَ: بَكِّتُوهُ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ مِنَ التَّبْكِيتِ وَهُوَ التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيرُ بِاللِّسَانِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لِلْإِيجَابِ (فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مَاضٍ مِنَ الْإِقْبَالِ أَيْ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ (يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ) أَيْ مُخَالَفَتَهُ (مَا خَشِيتَ اللَّهَ) أَيْ مَا لَاحَظْتَ عَظَمَتَهُ أَوْ مَا خِفْتَ عُقُوبَتَهُ (وَمَا اسْتَحْيَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ مِنْ تَرْكِ مُتَابَعَتِهِ أَوْ مِنْ مُوَاجَهَتِهِ وَمُقَابَلَتِهِ (فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ) وَهُوَ دُعَاءٌ بِالْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ نَصِيحَةً بَلَى آلَ إِلَى فَضِيحَةٍ (قَالَ) أَيْ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَكَاشِفُ الْغُمَّةِ (لَا تَقُولُوا) خِطَابٌ شَامِلٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَوْ عَدَلَ عَنْهُ غَضِبَ عَلَيْهِ (لَا تَقُولُوا هَكَذَا) أَيْ مِثْلَ أَخْزَاكَ اللَّهُ أَيْ مِمَّا يَضُرُّهُ بَلْ قُولُوا كَمَا سَبَقَ مِمَّا يَنْفَعُهُ (لَا تُعِينُوا الشَّيْطَانَ) قَالَ الْقَاضِي: أَيْ بِنَحْوِ هَذَا الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ إِذَا أَخْزَاهُ الرَّحْمَنُ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَيِسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَانْهَمَكَ فِي الْمَعَاصِي أَوْ حَمَلَهُ اللِّجَاجُ وَالْغَضَبُ عَلَى الْإِصْرَارِ، فَيَصِيرُ الدُّعَاءُ وَصْلَةً وَمَعُونَةً فِي إِغْوَائِهِ وَتَسْوِيلِهِ (وَلَكِنْ قُولُوا) أَيْ أَوَّلًا أَوِ الْآنَ وَهُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْأَوَّلِ هُوَ التَّبْكِيتُ وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِقَوْلِهِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ) أَيْ بِمَحْوِ الْمَعْصِيَةِ (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ) أَيْ بِتَوْفِيقِ الطَّاعَةِ أَوِ اغْفِرْ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَارْحَمْهُ فِي الْعُقْبَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3622 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَرِبَ رَجُلٌ فَسَكِرَ فَلُقِيَ يَمِيلُ فِي الْفَجِّ فَانْطُلِقَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا حَاذَى دَارَ الْعَبَّاسِ انْفَلَتَ فَدَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ فَالْتَزَمَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَحِكَ وَقَالَ: أَفَعَلَهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِشَيْءٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3622 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَرِبَ رَجُلٌ فَسَكِرَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (فَلُقِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ رُؤِيَ (يَمِيلُ) حَالٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِّ فِي لَقِيَ أَيْ مَائِلًا (فِي الْفَجِّ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيِ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ (فَانْطُلِقَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ فَأُخِذَ وَأُرِيدَ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا حَاذَى) أَيْ قَابَلَ (دَارَ الْعَبَّاسَ انْفَلَتَ) أَيْ تَخَلَّصَ وَفَرَّ (فَدَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ فَالْتَزَمَهُ) أَيِ الْتَجَأَ الشَّارِبُ إِلَيْهِ وَتَمَسَّكَ بِهِ أَوِ اعْتَنَقَهُ مُتَشَفِّعًا لَدَيْهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَى أَنَّ ذَلِكَ بِمَكَّةَ ; لِأَنَّ دَارَ الْعَبَّاسِ بِهَا وَاقِعَةٌ فِي أَحَدِ شِعَابِهَا إِذْ لَيْسَتِ الدَّارُ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى الْعَبَّاسِ بِالْمَدِينَةِ فِي فَجٍّ مِنَ الْفِجَاجِ وَلَا مُقَارِبَةً مِنْهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِلزُّقَاقِ الْوَاسِعِ الْفَجُّ فَيَكُونُ بِالْمَدِينَةِ اه. وَفِيهِ أَنَّ لَقْيَهُ مَائِلًا فِي الْفَجِّ ثُمَّ انْطِلَاقَهُ وَوُصُولَهُ إِلَى مُحَاذَاةِ دَارِ الْعَبَّاسِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ دَارِ الْعَبَّاسِ فِي الْفَجِّ أَوْ

مُقَارِبَةً لَهُ (فَذُكِرَ ذَلِكَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ فَحُكِيَ مَا ذُكِرَ (لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ وَقَالَ: أَفَعَلَهَا) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ لِلْمَذْكُورَاتِ مِنَ الِانْفِلَاتِ وَالدُّخُولِ وَالِالْتِزَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَصْدَرِ أَيْ أَفَعَلَ الْفَعْلَةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا فَالْفِعْلُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ (وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِشَيْءٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَخَفُّ الْحُدُودِ وَأَنَّ الْخَطَرَ فِيهِ أَيْسَرُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْفَوَاحِشِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ بَعْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْعَبَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ أَوْ شَهَادَةِ عُدُولٍ وَإِنَّمَا لُقِيَ فِي الطَّرِيقِ يَمِيلُ فَظُنَّ بِهِ السُّكْرُ فَلَمْ يَكْشِفْ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَهُ عَلَى ذَلِكَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3623 - عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ النَّخَعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتَ فَأَجِدَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ ; فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3623 - (عَنْ عُمَيْرِ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ سَعِيدٍ) بِالْيَاءِ (النَّخَعِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَنَصْبِ الْمِيمِ وَتُسَمَّى لَامَ الْجُحُودِ (عَلَى أَحَدٍ حَدًّا) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَخَلَ اللَّامُ فِي خَبَرِ كَانَ تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكَمْ} [البقرة: 143] وَقَوْلُهُ (فَيَمُوتَ) مُسَبَّبٌ مِنْ أُقِيمَ وَقَوْلُهُ (فَأَجِدَ) مُسَبَّبٌ عَنْ مَجْمُوعِ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ اه وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا بِتَقْدِيرِ هُوَ فِي الْأَوَّلِ وَأَنَا فِي الثَّانِي بَعْدَ فَإِنَّهُمَا وَالْمَعْنَى فَأُصَادِفَ (فِي نَفْسِي فِيهِ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِّ أَوِ الْمَحْدُودِ (شَيْئًا) أَيْ مِمَّا يُرِيبُنِي وَيُزْعِجُنِي (إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ) أَيْ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِمَّا سَبَقَ (وَدَيْتُهُ) أَيْ غَرِمْتُ دِيَتَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنْ أَجِدُ مِنْ حَدِّ صَاحِبٍ إِذَا مَاتَ شَيْئًا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مَا أَجِدُ مِنْ مَوْتِ أَحَدٍ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ شَيْئًا إِلَّا مِنْ مَوْتِ صَاحِبِ الْخَمْرِ فَيَكُونَ مُتَّصِلًا (وَذَلِكَ) أَيْ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ أَوِ الْوِجْدَانُ أَوِ الِاسْتِثْنَاءُ (أَنَّ) أَيْ بِأَنَّ أَوْ ; لِأَنَّ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ) بِفَتْحٍ فَضَمٍّ فَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ لَا غَيْرُ أَيْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ حَدًّا مَضْبُوطًا مُعَيَّنًا وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ فَجَلَدَهُ الْإِمَامُ أَوْ جَلَّادُهُ الْحَدَّ الشَّرْعِيَّ فَمَاتَ فَلَا دِيَةَ فِيهِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى جَلَّادِهِ وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَأَمَّا مَنْ مَاتَ بِالتَّعْزِيرِ فَمَذْهَبُنَا وُجُوبُ ضَمَانِهِ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُضَمَّنُ ثُمَّ فِي قَوْلٍ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ إِلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ لَهُمْ، عَلَيْهِمْ وَفِي قَوْلٍ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ ; لِأَنَّ أَصْلَ التَّعْزِيرِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَلَوْ وَجَبَ فَالضَّرْبُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ فِي التَّعْزِيرِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُبَاحًا، فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَمْ يُسَلَّمْ فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَهَذَا يَخُصُّ التَّعْزِيرَ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ عِنْدَ ظُهُورِ الِانْزِجَارِ لَهُ فِي التَّعْزِيرِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَمَا فِي الْفَسَادِ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْفِعْلِ وَإِلَّا عُوقِبَ وَالسَّلَامَةُ خَارِجَةٌ عَنْ وُسْعِهِ إِذِ الَّذِي فِي وُسْعِهِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ بِسَبَبِهَا الْقَرِيبُ وَهُوَ مَا بَيْنَ أَنْ يُبَالِغَ فِي التَّخْفِيفِ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ عَنْهُ بِهِ أَوْ بِفِعْلِ مَا يَقَعُ عَنْهُ زَاجِرًا وَهُوَ مَا هُوَ مُؤْلِمٌ زَاجِرٌ وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَمُوتَ الْإِنْسَانُ بِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ الْمُؤْلِمِ الزَّاجِرِ مَعَ اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّهَا رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي الْفِعْلِ وَإِطْلَاقُهُ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِهِ فَصَحَّ تَقْيِيدُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ وَالِاصْطِيَادِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ إِذَا عَزَّرَ امْرَأَتَهُ فَمَاتَتْ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَمَنْفَعَتُهُ تَرْجِعُ إِلَيْهِ كَمَا تَرْجِعُ إِلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ اسْتِقَامَتُهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَيَضْرِبُ ابْنَهُ وَكَذَا الْمُعَلِّمُ إِذَا أَدَّبَ الصَّبِيَّ فَمَاتَ لَا يُضَمَّنُ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيِّ أَمَّا لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فَمَاتَتْ لَا يُضَمَّنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ مَعَ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ

يُضَمَّنُ الْمَهْرَ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ فَلَوْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ وَجَبَ ضَمَانَاتٌ بِمَضْمُونٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ لَمْ يَسُنَّهُ الْحَدَّ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى التَّعْزِيرِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَمُشَاوَرَةِ عُمَرَ عَلِيًّا، وَحَدِيثِ عُثْمَانَ مَعَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَقَوْلِهِ حَسْبُكَ وَتَلْخِيصُ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا خَافَ مِنْ سُنَّةٍ سَنَّهَا عُمَرُ وَقَرَّرَهَا بِرَأْيِ عَلِيٍّ لَا مِمَّا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ جَلَدَ أَرْبَعِينَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بِدَلَائِلَ عَلَى إِثْبَاتِهِ وَرَوَيْنَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ «أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِجَعْفَرٍ لَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ: حَسْبُكَ، جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ» . وَقَدْ أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ أَيْضًا فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: إِنَّ الثَّمَانِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ ثُمَّ أَخَافُ مِنْهُ، قُلْتُ: إِنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْخَوْفَ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ اه. وَفِيهِ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ عَدَدُ الْأَرْبَعِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: حَسْبُكَ لَا عَدَدُ الثَّمَانِينَ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَيُقَوِّيهِ أَنَّهُ لَا خَوْفَ فِي الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3624 - وَعَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدَّيْلِمِيِّ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ; فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَجَلَدَ عُمَرُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3624 - (وَعَنْ ثَوْرِ) بَاسِمِ الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (ابْنِ زَيْدٍ الدَّيْلَمِيِّ) بِفَتْحِ الدَّالِّ نِسْبَةً إِلَى دَيْلَمَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ مِنَ النَّاسِ كَذَا فِي الْمُغْنِي وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ الدَّيْلِيُّ بِغَيْرِ الْمِيمِ وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ وَالْمُغْنِي وَالْأَنْسَابِ لَكِنَّ الْأَخِيرَ عَبَّرَ عَنْهُ بِابْنِ أَبِي زَيْدٍ، وَكَذَا فِي الْمَشَارِقِ لِعِيَاضٍ قَالَ: وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي الدَّيْلِ وَفِي مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ الدَّيْلَمِيُّ شَيْخُ مَالِكٍ ثِقَةٌ اتَّهَمَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْبَرْقِيِّ بِالْقَدَرِ وَكَأَنَّهُ شُبِّهَ عَلَيْهِ بِثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَرَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَجْهُولٌ. اه وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ وَلَعَلَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ الْكَلَاعِيِّ الشَّامِيِّ الْحِمْصِيِّ سَمِعَ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةً، لَهُ ذِكْرٌ فِي الْمَلَاحِمِ وَفِي نُسْخَةِ عَفِيفِ الدِّينِ ضُبِطَ بِضَمِّ الدَّالِ مَعَ كَسْرِهَا وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ (قَالَ: إِنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ) أَيِ الصَّحَابَةَ (فِي حَدِّ الْخَمْرِ) أَيْ فِي أَنَّهُ هَلْ يُضْرَبُ شَارِبُهَا أَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ لِعُتُوِّ الْمُفْسِدِينَ وَعَدَمِ ضَبْطِ الدِّينِ سِيَاسَةً لَهُمْ وَزَجْرًا عَنْ فِعْلِهِمْ حَيْثُ مَا انْتَهَوْا عَنِ الْحَدِّ الْأَيْسَرِ (فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ أَرَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنَ الرَّأْيِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا أَيْ أَظُنُّ خَيْرًا (أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى) أَيْ تَكَلَّمَ بِالْهَذَيَانِ (وَإِذَا هَذَى) أَيْ وَعَتَا وَتَعَدَّى كَمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ (افْتَرَى) أَيْ قَذَفَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسْوَانِ فَيَسْتَحِقُّ الثَّمَانِينَ وَالْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ أَوْ لِوُجُودِ السَّبَبِ كَمَا حَقَّقَ فِي النَّاقِضِ لِلْوُضُوءِ حُكْمًا قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ سَبَبَ السَّبَبِ سَبَبًا وَأَجْرَى عَلَى الْأَوَّلِ مَا عَلَى الْأَخِيرِ فَحَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ حَدُّ الْقَاذِفِ تَغْلِيظًا وَذَلِكَ لِعُتُوِّهِ وَتَمَادِيهِ فِي الْفَسَادِ كَمَا سَبَقَ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ يَكُونُ مُبَيَّنًا عَلَى الِاجْتِهَادِ (فَجَلَدَ عُمَرُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ. رَوَاهُ مَالِكٌ) . بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِ بَابٍ وَحَذْفِ مَا وَالْمَقْصُودُ بِالْمَحْدُودِ الْمَضْرُوبُ فِي الْحَدِّ.

[باب ما لا يدعى على المحدود]

[بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3625 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّ رَجُلًا اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ يُلَقَّبُ حِمَارًا كَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3625 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَجُلَا اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ يُلَقَّبُ حِمَارًا كَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ يَتَسَبَّبُ بِالْمُطَايَبَةِ لِضَحِكِهِ (وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ) أَيْ مَرَّةً (فِي الشَّرَابِ) أَيْ فِي شُرْبِهِ وَفِي نُسْخَةٍ فِي الشُّرْبِ (فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا) أَيْ أُخِذَ (فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ) أَيْ أَبْعِدْهُ عَنْ رَحْمَتِكَ (مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ) مَا الْأُولَى تَعَجُّبِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ مَا أَكْثَرَ إِتْيَانِهِ كَقَوْلِكَ مَا

أَحْسَنَ زَيْدًا (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَلْعَنُوهُ) نَظِيرُهُ مَرَّ فَتَذَكَّرْ (فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ) بِضَمِّ التَّاءِ (أَنَّهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَمَا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أَنَّهُ أَيِ الَّذِي عَلِمْتُ أَنَّهُ أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ الَّذِي عَلِمْتُ أَنَّهُ، وَأَنَّ مَعَ اسْمِهِ وَخَبَرِهِ سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمْتُ، وَالْجُمْلَةُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَفِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ: مَعْنَاهُ فَوَاللَّهِ الَّذِي عَلِمْتُهُ أَنَّهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا عَلِمَ بِمَعْنَى عَرَفَ وَأَنَّهُ خَبَرُ الْمَوْصُولِ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ عِلْمِي بِهِ أَنَّهُ (يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وَقِيلَ: مَا زَائِدَةٌ، أَيْ وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ مِنْهُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ قَدْ يَصْدُرُ مِنْهُ الزَّلَّةُ، وَقِيلَ: مَا نَافِيَةٌ وَالتَّاءُ عَلَى الْخِطَابِ، أَيْ مَا عَلِمْتُ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَصِحُّ حِينَئِذٍ كَسْرُ أَنَّهُ وَفَتْحُهَا وَالْكَسْرُ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ، وَفِي رِوَايَةِ شَرْحِ السُّنَّةِ: إِلَّا أَنَّهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنُ الْمُذْنِبِ بِخُصُوصِهِ وَأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ رَسُولِهِ مُوجِبَتَانِ لِلزُّلْفَى مِنَ اللَّهِ وَالْقُرْبَى مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُ ; لِأَنَّهُ طُرِدَ مِنْ رَحْمَتِهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3626 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3626 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ. فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3627 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ فَقَالَ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ قَالَا: نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ الْحِمَارِ، فَقَالَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ بِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3627 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ) أَيْ مَاعِزٌ (إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا) أَيْ بِطَرِيقِ الزِّنَا (أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) أَيْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ (كُلَّ ذَلِكَ) بِالنَّصْبِ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ (يُعْرِضُ عَنْهُ) أَيْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ الْأَرْبَعِ يُعْرِضُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَسْلَمِيِّ دَرَأً لِلْحَدِّ (فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ فَقَالَ: أَنِكْتَهَا؟) بِكَسْرِ النُّونِ أَيْ أَجَامَعْتَهَا؟ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ) إِشَارَةٌ إِلَى آلَةِ الرَّجُلِ وَهِيَ الذَّكَرُ (فِي ذَلِكَ مِنْهَا) إِشَارَةٌ إِلَى آلَةِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ الْفَرْجُ (قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ الْمَيْلُ (فِي الْمُكْحُلَةِ) بِضَمَّتَيْنِ (وَالرِّشَاءُ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْمِرْوَدِ وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ أَيِ الْحَبْلُ (فِي الْبِئْرِ) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَلَعَلَّ الْمِثَالَ الْأَوَّلَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبِكْرِ، وَالثَّانِي عَنِ الثَّيِّبِ (فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْمَرْأَةِ الْمُزَنِيَّةِ (حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ) أَيِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ (حَلَالًا قَالَ: فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي) أَيْ مِمَّا وَقَعَ لِي مِنْ عَمَلِ الرِّجْسِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كُلُّ ذَلِكَ تَعَلُّلٌ وَسَوْقٌ لِلْمَعْلُومِ مَسَاقَ الْمَجْهُولِ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ مِنْ شَهَادَتِهِ تِلْكَ إِيذَانًا بِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسَاهَلَةِ، وَعَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ الْمَحْدُودِ بِإِنْكَارِ مُوجِبِهِ (فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ) أَيْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ أَوْ أَصْحَابِ مَاعِزٍ (يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ) أَيْ لِلْآخَرِ (انْظُرْ) أَيْ نَظَرَ تَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ (إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ أَيْ لَمْ تَتْرُكْهُ (حَتَّى رُجِمَ) مَاضٍ مَجْهُولٌ (رَجْمَ الْكَلْبِ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (فَسَكَتَ عَنْهُمَا) أَيْ حِينَئِذٍ

لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهُ (ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ) أَيْ رَافِعٍ (بِرِجْلِهِ) أَيْ مِنْ شِدَّةِ الِانْتِفَاخِ بِالْمَوْتِ (فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ) كِنَايَتَانِ عَنِ الْمُغْتَابَيْنِ (فَقَالَا: نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ حَاضِرَانِ (فَقَالَ: انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ، فَقَالَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: فَمَا نِلْتُمَا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ فَمَا أَصَبْتُمَا قَالَ الْمُظْهِرُ: مَا الْمَوْصُولَةُ مَعَ صِلَتِهَا مُبْتَدَأٌ أَوْ أَشَدُّ خَبَرُهُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا نِلْتُمَاهُ (مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا) أَيْ مَا تَنَاوَلَهُ (آنِفًا) بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ أَيْ قُبَيْلَ هَذِهِ السَّاعَةِ (أَشَدُّ) أَيْ أَكْثَرُ قُبْحًا (مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْحِمَارِ ; لِأَنَّ أَكْلَهُ حَلَالٌ حَالَ الِاضْطِرَارِ وَفِي حَالِ الِاخْتِيَارِ مَعْصِيَةٌ قَاصِرَةٌ بِخِلَافِ الْغِيبَةِ لَا سِيَّمَا غِيبَةُ النَّفْسِ الطَّاهِرَةِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حَقِّيَّةِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

3628 - وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3628 - (وَعَنْ خُزَيْمَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا أُقِيمَ) أَيْ مَنْ فَعَلَ (ذَنْبًا) يُوجِبُ حَدًّا أَوْ مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ أُقِيمَ (عَلَيْهِ حَدُّ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَهُوَ) أَيِ الْحَدُّ (كَفَّارَتُهُ) أَيْ يُكَفِّرُ ذَلِكَ الذَّنْبَ أَوْ مُصِيبَهُ وَهُوَ الْمُذْنِبُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ: إِقَامَةُ الْحَدِّ بِمُجَرَّدِهِ كَفَّارَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِ الذَّنْبِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَرْكِ التَّوْبَةِ مِنْهُ فَلَا يُكَفِّرُهَا الْحَدُّ ; لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ أُخْرَى، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ جَمْعٍ أَنَّ إِقَامَتَهُ لَيْسَتْ كَفَّارَةً بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ» . الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالضِّيَاءُ.

3629 - وَعَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَصَابَ حَدًّا فَعُجِّلَ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَى عَبْدِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا فَسَتَرَهُ اللَّهُ وَعَفَا عَنْهُ فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي شَيْءٍ قَدْ عَفَا عَنْهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3629 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا) أَيْ ذَنْبًا يُوجِبُ حَدًّا فَأُقِيمَ الْمُسَبَّبُ مَقَامَ السَّبَبِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَدِّ الْمُحَرَّمُ مِنْ قَوْلِهِ {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] أَيْ تِلْكَ مَحَارِمُهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (فَعُجِّلَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَقُدِّمَ (عُقُوبَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ يُكَرِّرَ (عَلَى عَبْدِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) بِأَنْ تَابَ عَنِ الذَّنَبِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ وَتَوْبَتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَوْلَى مِنَ الْإِظْهَارِ (وَعَفَا عَنْهُ فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي شَيْءٍ قَدْ عَفَا عَنْهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ. بَابُ التَّعْزِيرِ فِي الْمُغْرِبِ: التَّعْزِيرُ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعَزْرِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالرَّدْعِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ قَالَ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطْعَنْكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34] أَمَرَ بِضَرْبِ الزَّوْجَاتِ تَأْدِيبًا وَتَهْذِيبًا، وَفِي الْكَافِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَرْفَعْ عَصَاكَ عَنْ أَهْلِكَ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَزَّرَ رَجُلًا قَالَ لِغَيْرِهِ: يَا مُخَنَّثُ» . وَفِي الْمُحِيطِ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَلَّقَ سَوْطَهُ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُهُ» . وَأَقْوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا بِعَشْرٍ فِي الصِّبْيَانِ» . فَهَذَا دَلِيلُ شَرْعِيَّةِ التَّعْزِيرِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ

الصَّحَابَةُ، وَذَكَرَ التَّمْرُتَاشِيُّ عَنِ السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأَيِ الْقَاضِي ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُزْجَرُ بِالنَّصِيحَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى اللَّطْمَةِ وَإِلَى الضَّرْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الْحَبْسِ، وَسُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَمَّنْ وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ أَيَحِلُّ لَهُ قَتْلَهُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ عَنِ الزِّنَا بِالصِّيَاحِ وَالضَّرْبِ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ لَا يَقْتُلُهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إِلَّا بِالْقَتْلِ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ حَلَّ قَتْلُهَا أَيْضًا، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الضَّرْبَ تَعْزِيرٌ يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَسِبًا وَصُرِّحَ فِي الْمُنْتَقَى بِذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَالشَّارِعُ وَلَّى كُلَّ أَحَدٍ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ» . الْحَدِيثَ بِخِلَافِ الْحُدُودِ لَمْ يَثْبُتْ تَوْلِيَتُهَا إِلَّا لِلْوُلَاةِ، ثُمَّ التَّعْزِيرُ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّعْزِيرُ إِذَا رَآهُ الْإِمَامُ وَاجِبًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَمَّا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَلَا عَلَيْهِ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَالَ فِي الْأَنْصَارِ: «اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» . وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِلزُّبَيْرِ فِي سَقْيِ أَرْضِهِ فَلَمْ يُوَافِقْ غَرَضَهُ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَغَضِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَزِّرْهُ، وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ مَنْصُوصًا مِنَ التَّعْزِيرِ كَمَا فِي وَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ يَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ بَعْدَ مُجَانَبَةِ هَوَى نَفْسِهِ الْمَصْلَحَةَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إِلَّا بِهِ وَجَبَ لِأَنَّهُ زَاجِرٌ مَشْرُوعٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ كَالْحَدِّ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِدُونِهِ لَا يَجِبُ، وَهُوَ مَحْمَلُ حَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَصَابَ مِنَ الْمَرْأَةِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ نَادِمٌ مُنْزَجِرٌ ; لِأَنَّ ذِكْرَهُ لَهُ لَيْسَ إِلَّا لِلِاسْتِعْلَامِ بِمُوجَبِهِ لِيُفْعَلَ مَعَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ الزُّبَيْرِ فَالتَّعْزِيرُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ.

[باب التعزير]

[بَابُ التَّعْزِيرِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3630 - عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ دِينَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3630 - (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بِضَمِّ الْمُوَحِّدَةِ وَاسْمُهُ هَانِئٌ بِالْهَمْزِ (ابْنِ دِينَارٍ) بِكَسْرِ نُونٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُخَفَّفَةٍ فِي آخِرِهِ رَاءٌ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ السَّبْعِينَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ وَهُوَ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَلَا عَقِبَ لَهُ، مَاتَ فِي أَوَّلِ زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ شُهُودِهِ مَعَ عَلِيٍّ حُرُوبَهُ كُلَّهَا، رَوَى عَنْهُ الْبَرَاءُ وَجَابِرٌ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ» ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ. جَمْعُ جَلْدَةٍ بِمَعْنَى ضَرْبَةٍ (إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ «أَحْمَدُ» وَالْأَرْبَعَةُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ جَاوَزُوا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: إِنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِزَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَا يَبْلُغُ تَعْزِيرُ كُلِّ إِنْسَانٍ أَدْنَى الْحُدُودِ كَالشُّرْبِ، فَلَا يَبْلُغُ تَعْزِيرُ الْعَبْدِ عِشْرِينَ وَلَا تَعْزِيرُ الْحُرِّ أَرْبَعِينَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَشْهَبُ الْمَالِكِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى عَشَرَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لَا ضَبْطَ لِعَدَدِ الضَّرَبَاتِ بَلْ ذَلِكَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، فَلَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الْحُدُودِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّعْزِيرَ أَدَبٌ يَقْصُرُ عَنْ مَبْلَغِ أَقَلِّ الْحُدُودِ ; لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّعْزِيرِ قَاصِرَةٌ عَنْ كَمَالِ دِيَةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالتَّعْزِيرُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا عِنْدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُبْلَغُ بِهِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا، وَالْأَصْلُ فِي نَقْصِهِ عَنِ الْحُدُودِ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ» ، ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ نَاجِيَةَ فِي فَوَائِدِهِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُصَيْنٍ الْأَصْبَحِيُّ ثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ ثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنِ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَلَغَ. الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ مُرْسَلًا وَقَالَ: أَخْبَرَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ عُثْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَلَغَ الْحَدِيثَ وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعَمَلِ وَعِنْدَ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَبُو يُوسُفَ قَلَّدَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِيهِ لَكِنْ قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي

شَرْحُ السُّنَّةِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَبِقَوْلِنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحُرِّ وَقَالَ: فِي الْعَبْدِ تِسْعَةَ عَشَرَ ; لِأَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ وَفِي الْأَحْرَارِ أَرْبَعُونَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ فِي الْحَدِّ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ مُجَانِبًا لِهَوَى النَّفْسِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ عَمِلَ خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ جَاءَ بِهِ لِصَاحِبِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا فَبَلَغَ عُمَرَ ذَلِكَ فَضَرْبَهُ مِائَةً وَحَبَسَهُ فَكُلِّمَ فِيهِ، فَضَرَبَهُ مِائَةً أُخْرَى فَكُلِّمَ فِيهِ مِنْ بَعْدُ، فَضَرَبَهُ مِائَةً، فَنَفَاهُ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ لِلشُّرْبِ وَعِشْرِينَ سَوْطًا لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ. وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ مِنَ الزِّنَا فَوْقَ مَا فُرِضَ بِالزِّنَا وَحَدِيثُ مَعْنٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ ذُنُوبًا كَثِيرَةً أَوْ كَانَ ذَنْبُهُ يَشْمَلُ كَثِيرًا مِنْهَا كَتَزْوِيرِهِ وَأَخْذِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَفَتْحِهِ بَابَ هَذِهِ الْحِيلَةِ لِغَيْرِهِ مِمَّا كَانَتْ نَفْسُهُ عَارِيَةً عَنِ اسْتِشْرَافِهَا، وَحَدِيثُ النَّجَاشِيِّ ظَاهِرٌ أَنْ لَا احْتِجَاجَ فِيهِ فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ ضَرَبَهُ الْعِشْرِينَ فَوْقَ الثَّمَانِينَ لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ وَقَدْ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الْقَائِلَةُ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ ثُمَّ ضَرَبَهُ مِنَ الْغَدِ عِشْرِينَ وَقَالَ: ضَرَبْنَاكَ الْعِشْرِينَ بِجَرَاءَتِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْطَارِكَ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَدِّ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لِمَا اشْتُهِرَ عَنْ قَوْلِهِ إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ وَبَعْضُ الثِّقَاتِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِدَلِيلِ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارِ أَحَدٍ وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ لَا تَبْلُغَ بِنَكَالٍ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَوْطًا. وَرُوِيَ ثَلَاثِينَ إِلَى أَرْبَعِينَ وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ أَكْثَرِهِ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يُعْرَفُ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعْزِيرِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَيْ مِنْ أَنْوَاعِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَمَّا إِنِ اقْتَضَى رَأْيُهُ الضَّرْبَ فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَزِيدُ عَلَى التِّسْعَةِ وَالثَّلَاثِينَ قَالَ: وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3631 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3631 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ) أَيْ أَحَدًا فِي حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ (فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ) أَيْ فَلْيَتَجَنَّبْ مَنْ ضَرَبَ وَجْهَهُ وَقَدْ سَبَقَ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحِكْمَةٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ فَارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ» أَيْ عَنْ ضَرْبِهِ.

3632 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: يَا يَهُودِيُّ فَاضْرِبُوهُ عِشْرِينَ، وَإِذَا قَالَ: يَا مُخَنَّثُ فَاضْرِبُوهُ عِشْرِينَ، وَمَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3632 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ أَيِ الْمُسْلِمِ (يَا يَهُودِيُّ) وَفِي مَعْنَاهُ يَا نَصْرَانِيُّ وَيَا كَافِرُ (فَاضْرِبُوهُ عِشْرِينَ) أَيْ سَوْطًا (وَإِذَا قَالَ: يَا مُخَنَّثُ) بِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُكْسَرُ (فَاضْرِبُوهُ عِشْرِينَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ يَا يَهُودِيُّ فِيهِ تَوْرِيَةٌ وَإِيهَامٌ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُفْرُ وَالذِّلَّةُ ; لِأَنَّ الْيَهُودَ مَثَلٌ فِي الصَّغَارِ وَالْحَمْلُ عَلَى الثَّانِي أَرْجَحُ لِلدَّرْءِ فِي الْحُدُودِ وَعَلَى هَذَا الْمُخَنَّثِ. اه وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ دَاوُدَ فِي الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِهِ وَإِلَّا فَمَا عُزِّرَ بِهِ ; لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جِنَايَةُ قَذْفٍ وَقَدِ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ وَكَذَا إِذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ: يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا

خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ وَمِثْلُهُ يَا لُصُّ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا زِنْدِيقُ أَوْ يَا مَقْبُوحُ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ يَا قَرْطَبَانُ يَا مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ أَوْ يَا لُوطِيُّ أَوْ قَالَ: أَنْتَ تَلْعَبُ بِالصِّبْيَانِ يَا آكِلَ الرِّبَا يَا شَارِبَ الْخَمْرِ يَا دَيُّوثُ يَا مُخَنَّثُ يَا مَأْوَى الزَّوَانِي يَا مَأْوَى اللُّصُوصِ يَا مُنَافِقُ يَا يَهُودِيُّ عُزِّرَ هَكَذَا مُطْلَقًا فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانَ وَذَكَرَهُ النَّاطِفِيُّ وَقَيَّدَهُ بِمَا إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ صَالِحٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ لِفَاسِقٍ يَا فَاسِقُ أَوْ لِلِصٍّ يَا لُصُّ أَوْ لِلْفَاجِرِ يَا فَاجِرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالتَّعْلِيلُ يُفِيدُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُنَا: إِنَّهُ آذَاهُ بِمَا أَلْحَقَ بِهِ مِنَ الشَّيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ لَمْ يُعْلَمِ اتِّصَافُهُ بِهَذِهِ أَمَّا لَوْ عَلِمَ فَإِنَّ الشَّيْنَ قَدْ أَلْحَقَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ ثُمَّ فِي كُلِّ مَا قَذَفَهُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنَ الْمَعَاصِي فَالرَّأْيُ إِلَى الْإِمَامِ وَلَوْ قَالَ: يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى شَيْنِ مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْنٌ أَصْلًا بَلْ إِنَّمَا أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ كَانَ كَذِبُهُ ظَاهِرًا وَمِثْلُهُ يَا بَقَرُ يَا ثَوْرُ يَا حَيَّةُ يَا تَيْسُ يَا قِرْدُ يَا ذِئْبُ يَا وَلَدَ حَرَامٍ يَا كَلْبُ لَمْ يُعَزَّرْ، وَعَدَمُ التَّعْزِيرِ فِي الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَاخْتَارَ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يُعَزَّرْ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُذْكَرُ لِلشَّتِيمَةِ فِي عُرْفِنَا، وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ اسْتَحْسَنَ التَّعْزِيرَ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنَ الْأَشْرَافِ فَتَحَصَّلَتْ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ الْأَوْلَى لِلْإِنْسَانِ فِيمَا إِذَا قِيلَ لَهُ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ لَا يُجِيبُهُ قَالُوا: وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا خَبِيثُ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ وَلَوْ رُفِعَ إِلَى الْقَاضِي لِيُؤَدِّبَهُ يَجُوزُ، وَلَوْ أَجَابَ مَعَ هَذَا فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ لَا بَأْسَ، وَإِذَا أَسَاءَ الْعَبْدُ حَلَّ لِمَوْلَاهُ تَأْدِيبُهُ، وَكَذَا الزَّوْجَةُ وَبَائِعُ الْخَمْرِ، وَآكِلُ الرِّبَا يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ وَكَذَا الْمُغَنِّي وَالْمُخَنَّثُ وَالنَّائِحَةُ يُعَزَّرُونَ وَيُحْبَسُونَ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً، وَكَذَا الْمُسْلِمُ إِذَا شَتَمَ الذِّمِّيَّ يُعَزَّرُ ; لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً وَكَذَا مَنْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ عَانَقَهَا أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ) أَيْ بِالْجِمَاعِ مُتَعَمِّدًا أَيْ (فَاقْتُلُوهُ) قِيلَ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِذَلِكَ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: حَكَمَ أَحْمَدُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا زُجِرَ وَإِلَّا حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الزُّنَاةِ يُرْجَمُ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا وَيُجْلَدُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

3633 - وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاحْرُقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3633 - (وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ» ) أَيْ خَانَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) بِأَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ (فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِحْرَاقُ الْمَتَاعِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ نُسِخَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَمَّا تَأْدِيبُهُ عُقُوبَةً فِي نَفْسِهِ عَلَى سُوءِ فِعْلِهِ فَلَا أَعْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، وَأَمَّا عُقُوبَتُهُ فِي مَالِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُحْرَقُ مَالُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُصْحَفًا أَوْ حَيَوَانًا، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِلَّا أَنَّهُ لَا يُحْرَقُ مَا قَدْ غَلَّ ; لِأَنَّ حَقَّ الْغَاَنِمِينَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعَاقَبُ الرَّجُلُ فِي بَدَنِهِ دُونَ مَتَاعِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

[باب بيان الخمر ووعيد شاربها]

[بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3634 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3634 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» ) بِالْجَرِّ فِيهِمَا بَدَلًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِمَا، وَيَجُوزُ نَصْبُهُمَا ثُمَّ إِنَّهُ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ خُمُورِهَا كَانَ مِنْهُمَا لَا أَنَّهُ لَا خَمْرَ إِلَّا مِنْهُمَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» . وَهُوَ عَامٌّ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ بَيَانُ حُصُولِ الْخَمْرِ مِنْهُمَا غَالِبًا وَلَيْسَ لِلْحَصْرِ لِخُلُوِّ التَّرْكِيبِ، عَنْ أَدَاتِهِ وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَادَ عَلَيْهِ إِلَى خَمْسَةٍ وَتَعْدَادُ عُمَرَ أَيْضًا لَيْسَ لِلْحَصْرِ لِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْمَرَامِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

3635 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَمَرَ الْعَقْلَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3635 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ) أَيِ الْخَمْرُ وَفِي الْقَامُوسِ قَدْ يُذَكَّرُ (مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَمَرَ الْعَقْلَ) أَيْ سَتَرَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْخَمْرِ إِذَا سَتَرَ، وَفِيهِ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنْ لَا خَمْرَ إِلَّا مِنْ عِنَبٍ وَهَذَا غَفْلَةٌ مِنْهُ عَنْ مَذْهَبِهِ فَإِنَّ الْخَمْرَ عَلَى مَا عَرَّفَهُ عُلَمَاؤُنَا هِيَ الَّتِي مِنْ مَاءِ عِنَبٍ غَلَا وَاشْتَدَّ وَقُذِفَ بِالزُّبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُشْتَرَطِ الْقَذْفُ بِالزُّبْدِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3636 - «وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الْأَعْنَابِ إِلَّا قَلِيلًا وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3636 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ) فِيهِ إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ تَحْرِيمَهَا وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا قَالَ: أَمَرَنَا أَوْ حَرَّمَ أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ كَانَ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الْأَعْنَابِ إِلَّا قَلِيلًا وَعَامَّةُ خَمْرِنَا» ) أَيْ أَكْثَرُهَا (الْبُسْرُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (وَالتَّمْرُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3637 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3637 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ» ) بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ وَقَدْ يُحَرَّكُ (وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ) وَكَذَا قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَزَادَ فِي الْقَامُوسِ الْمُشْتَدُّ أَوْ سُلَالَةُ الْعِنَبِ وَبِالْكَسْرِ الْخَمْرُ (فَقَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْبِتْعِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مَا أَسْكَرَ وَعَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ بِاطِّرَادِ الْعِلَّةِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ أَيِ الْآتِي: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَحْرِيمِ جَمِيعِ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ، وَأَنَّ كُلَّهَا تُسَمَّى خَمْرًا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْفَضِيخُ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ وَالزَّبِيبِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَغَيْرِهَا، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّمَا يَحْرُمُ عَصْرُ ثَمَرَاتِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا إِلَّا أَنْ يُطْبَخَ حَتَّى يَنْقُصَ ثُلُثُهَا وَأَمَّا نَقِيعُ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ، فَقَالَ: يَحِلُّ مَطْبُوخُهَا وَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَدٍّ كَمَا اعْتُبِرَ الثُّلُثُ فِي سُلَالَةِ الْعِنَبِ، قَالَ: وَالَّتِي مِنْهُ حَرَامٌ وَلَكِنْ لَا يُحَدُّ شَارِبُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ فَإِنْ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَنِ اعْتَبَرَ الْإِسْكَارَ بِالْقُوَّةِ مَنَعَ شُرْبَ الْمُثَلَّثِ، وَمَنِ اعْتَبَرَهُ بِالْفِعْلِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَمْ يَمْنَعْهُ ; لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ غَيْرُ مُسْكِرٍ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا الْقَلِيلُ مِنَ الْخَمْرِ فَحَرَامٌ، وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي مَا بِهِ يُسْتَقْصَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

3638 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3638 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَنْ سَكِرَ مِنَ النَّبِيذِ حُدَّ وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ بِالسُّكْرِ، وَفِي الْخَمْرِ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كُلُّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ وَحُدَّ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَانِ مَطْلُوبَانِ وَيَسْتَدِلُّونَ تَارَةً بِالْقِيَاسِ وَتَارَةً بِالسَّمَاعِ، أَمَّا السَّمَاعُ فَتَارَةً بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لُغَةً كُلُّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَتَارَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمِنَ الْأَوَّلِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ الْحَدِيثَ، وَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: «وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» ، فَأَمَّا مَا يُقَالُ: أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَكَيْفَ لَهُ بِذَلِكَ وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: كَنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا شَرَابُهُمْ إِلَّا الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُ عُمَرَ: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَإِذَا ثَبَتَ عُمُومُ الِاسْمِ ثَبَتَ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ بِنَصِّ

الْقُرْآنُ وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِالْحَدِيثِ الْمُوجِبِ ثُبُوتُهُ فِي الْخَمْرِ ; لِأَنَّهُ مُسَمَّى الْخَمْرِ لَكِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ بِحَذْفِ أَدَاتِهِ، فَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ كَ (زَيْدٌ أَسَدٌ) أَيْ فِي حُكْمِهِ وَكَذَا الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ أَوْ مِنْ خَمْسَةٍ هُوَ عَلَى الِادِّعَاءِ حِينَ اتَّحَدَ حُكْمُهَا بِهَا جَازَ تَنْزِيلُهَا مَنْزِلَتَهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، تَقُولُ: السُّلْطَانُ هُوَ فُلَانٌ إِذَا كَانَ فُلَانٌ نَافِذَ الْكَلِمَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَيَعْمَلُ بِكَلَامِهِ أَيِ الْمُحَرَّمُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَاءِ الْعِنَبِ بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مِثْلَهُ، مِنْ كَذَا مِثْلُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ هُوَ، وَلَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الْحُكْمُ ثُمَّ لَا يَلْزَمُ فِي التَّشْبِيهِ عُمُومُ وَجْهِهِ فِي كُلِّ صِفَةٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ثُبُوتُ الْحَدِّ بِالْأَشْرِبَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْخَمْرِ بَلْ يَصِحُّ الْحَمْلُ الْمَذْكُورُ فِيهَا بِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا فِي الْجُمْلَةِ إِمَّا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا أَوْ كَثِيرِهَا الْمُسْكِرِ مِنْهَا، وَكَوْنُ التَّشْبِيهِ خِلَافَ الْأَصْلِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ فِي اللُّغَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الْخَمْرِ بِالنَّيِّءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ وَهَذَا مِمَّا لَا يُشَكُّ فِيهِ مِنْ تَتَبُّعِ مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالَاتِهِمْ وَلَقَدْ يَطُولُ الْكَلَامُ بِإِيرَادِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْخَمْرِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ (حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ مَاءَ الْعِنَبِ لِثُبُوتِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ غَيْرُهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ، وَمَا شَرَابُهُمْ يَوْمَئِذٍ - أَيْ يَوْمَ حُرِّمَتْ - إِلَّا الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرِ، فَعُرِفَ أَنَّ مَا أُطْلِقَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَمْلِ لِغَيْرِهَا عَلَيْهَا، هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِغَيْرِ عُمُومِ الِاسْمِ لُغَةً فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ. وَفِي لَفْظِ التِّرْمِذِيِّ: فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَجْوَدُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ. أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، وَاحْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: وَاحْتَجَّ بِهِمَا الشَّيْخَانِ فَحِينَئِذٍ فَجَوَابُهُمْ بَعْدَ ثُبُوتِ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكَذَا حَمْلُهُ عَلَى مَا بِهِ حَصَلَ السُّكْرُ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ ; لِأَنَّهُ صَرِيحُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْقَلِيلُ وَمَا أُسْنِدَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، قَالَ: هِيَ الشَّرْبَةُ الَّتِي أَسْكَرَتْكَ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ فِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي النَّخَعِيَّ وَأُسْنِدَ إِلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: حَدِيثٌ بَاطِلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَسُنَ عَارَضَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ الصَّرِيحَةِ الصَّحِيحَةِ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، وَلَوْ عَارَضَهُ كَانَ الْمُحَرَّمُ مُقَدَّمًا، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، لَمْ يَسْلَمْ، نَعَمْ هُوَ مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدَةٍ عَنِ ابْنِ عَوْفٍ عَنِ ابْنِ شَدَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ. وَفِي لَفْظٍ: وَمَا أَسْكَرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُبْرُمَةَ، وَهَذَا إِنَّمَا فِيهِ تَحْرِيمُ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ وَإِذَا كَانَتْ طَرِيقُهُ أَقْوَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَلَفْظُ السُّكْرِ تَصْحِيفٌ ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ تَرْجِيحُ الْمَنْعِ السَّابِقِ عَلَيْهِ يَكُونُ التَّرْجِيحُ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ ثُبُوتَ الْحَقِّ بِالْقَلِيلِ إِلَّا بِسَمْعٍ أَوْ قِيَاسٍ فَهُمْ يَقِيسُونَهُ بِجَامِعِ كَوْنِهِ مُسْكِرًا، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ مَنْعٌ خُصُوصًا وَعُمُومًا أَمَّا خُصُوصًا فَمَنَعُوا أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ مُعَلَّلَةٌ بِالْإِسْكَارِ إِذْ ذُكِرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالْمُسْكِرُ» . إِلَخْ وَفِيهِ مَا عَلِمْتَ ثُمَّ قَوْلُهُ (بِعَيْنِهَا) لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ عَيْنُهَا بَلْ إِنَّ عَيْنَهَا حُرِّمَتْ وَلِذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا. وَالرِّوَايَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِيهِ بِالْيَاءِ لَا بِاللَّامِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِسْكَارَ هُوَ الْمُحَرَّمُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّهُ الْمُوقِعُ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ وَإِتْيَانِ الْمَفَاسِدِ مِنَ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ كَمَا أَشَارَ النَّصُّ إِلَى عَيْنِهَا، وَلَكِنَّ تَقْدِيرَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْقِيَاسِ لَا يُثْبِتُ الْحَدَّ ; لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ، وَإِذَا لَمْ يُثْبَتْ بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالسُّكْرِ مِنْهُ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِذَا سَكِرَ فَاجْلِدُوهُ. الْحَدِيثَ وَلَوْ ثَبَتَ بِهِ حِلُّ مَا لَمْ يُسْكُرْ لَكَانَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَهُمْ فَمُوجِبُهُ لَيْسَ إِلَّا ثُبُوتُ الْحَدِّ بِالسُّكْرِ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى السُّكْرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ ; لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنَ الْخَمْرِ يَنْفِي فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ بِالسُّكْرِ ; لِأَنَّ فِي الْخَمْرِ حَدًّا بِالْقَلِيلِ مِنْهَا بَلْ يُوهِمُ عَدَمَ التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهَا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ

مِنْهَا حَتَّى يَسْكَرَ وَإِذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهَا صَارَ الْحَدُّ مُنْتَفِيًا عِنْدَ عَدَمِ السُّكْرِ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْهَا، وَمِنْهَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَرِبَ مِنْ إِدَاوَةِ عُمَرَ نَبِيذًا فَسَكِرَ مِنْهُ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنَّمَا شَرِبْتُهُ مِنْ إِدَاوَتِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا جَلَدْنَاكَ بِالسُّكْرِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ بِسَعِيدِ بْنِ دُنَى. . لِقُوَّةِ ضَعْفِهِ وَفِيهِ جَهَالَةٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سَايَرَ رَجُلًا فِي سَفَرٍ، وَكَانَ صَائِمًا فَلَمَّا أَفْطَرَ أَهْوَى إِلَى قِرْبَةٍ لِعُمَرَ مُعَلَّقَةً فِيهَا نَبِيذٌ فَشَرِبَهُ فَسَكِرَ، فَضَرَبَهُ عُمَرُ الْحَدَّ فَقَالَ: إِنَّمَا شَرِبْتُهُ مِنْ قِرْبَتِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا جَلَدْنَاكَ لِسُكْرِكَ وَفِيهِ بَلَاغٌ وَهُوَ عِنْدِي انْقِطَاعٌ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ دَاوَرَ بِفَتْحِ الْوَاوِ فِيهِ مَقَالٌ: وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ فِرَاسٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ إِدَاوَةِ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ فَسَكِرَ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ ثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ وَقَالَ: فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ عَوْفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي السُّكْرِ مِنَ النَّبِيذِ ثَمَانِينَ. فَهَذِهِ وَإِنْ ضَعُفَ بَعْضُهَا فَتَعَدُّدُ الطُّرُقِ يُرَقِّيهِ إِلَى الْحَسَنِ مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْحَدِّ بِالْكَثِيرِ فَإِنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَدِّ فِي الْقَلِيلِ (وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا) أَيْ يُدَاوِمُ عَلَى شُرْبِهَا بِأَنْ (لَمْ يَتُبْ) عَنْهَا حَتَّى مَاتَ عَلَى ذَلِكَ (لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ) أَيْ إِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لَهَا أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الزَّجْرُ الْأَكِيدُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، وَفِي النِّهَايَةِ: هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْبَيَانِ، أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ ; لِأَنَّ الْخَمْرَ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ شُرْبُهَا فَإِنَّهَا مِنْ فَاخِرِ أَشْرِبَةِ الْجَنَّةِ، فَيُحْرَمُهَا هَذَا الْعَاصِي بِشُرْبِهَا فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَنْسَى شَهْوَتَهَا ; لِأَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا كُلُّ مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَقِيلَ: لَا يَشْتَهِيهَا وَإِنْ ذَكَرَهَا، وَيَكُونُ هَذَا نَقْصًا عَظِيمًا بِحِرْمَانِهِ عَنْ أَشْرَفِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: وَنَظِيرُهُ حِرْمَانُ الْمُعْتَزِلِيِّ وَنَحْوِهِ عَنِ الرُّؤْيَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَيَّدَ الْحِرْمَانُ بِمِقْدَارِ مُدَّةِ عَيْشِ الْعَاصِي فِي الدُّنْيَا أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْفَائِزِينَ السَّابِقِينِ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، أَوْ لَمْ يَشْرَبْهَا شُرْبًا كَامِلًا فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّائِبِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

3639 - وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنَ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُسْكِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إِنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3639 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ) أَيْ بِدَارِ أَهْلِ الْيَمَنِ (مِنَ الذُّرَةِ) بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ حَبٌّ مَعْرُوفٌ وَأَصْلُهُ ذُرَوْ أَوْ ذُرَى وَالْهَاءُ عِوَضٌ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، " وَمِنْ " مُتَعَلِّقٌ بِ يَشْرَبُ أَوْ بَيَانِيَّةٌ (يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُسْكِرٌ) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ أَيَشْرَبُونَهُ وَمُسْكِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إِنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا) اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ وَعِيدًا أَكِيدًا (لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهُ وَضَمِّهِ (مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ضُمِّنَ عَهْدٌ مَعْنَى الْحَتْمِ فَعُدِّيَ بِعَلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] أَيْ كَانَ وُرُودُهُمْ وَسَقْيُهُمْ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ وَعِيدًا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ وَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَكُونَ غَيْرَهُمَا وَفِيهِ مَعْنَى الْحَلِفِ وَالْقَسَمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ وَقَوْلِهِ: «حَلَفَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِعِزَّتِهِ لَا يَشْرَبُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي جَرْعَةً مِنْ خَمْرَةٍ إِلَّا سَقَيْتُهُ مِنَ الصَّدِيدِ مِثْلَهَا» وَاللَّامُ فِي لِمَنْ يَشْرَبُ بَيَانٌ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: إِنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا قِيلَ: هَذَا الْعَهْدُ لِمَنْ قِيلَ لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ (مَا) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ وَعَلَى طِبْقِهِ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ) أَيْ مَا يَسِيلُ عَنْهُمْ مِنَ الدَّمِ وَالصَّدِيدِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3640 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَعَنْ خَلِيطِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ وَالرُّطَبِ، وَقَالَ: انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3640 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ» ) فِي الْقَامُوسِ: هُوَ التَّمْرُ قَبْلَ إِرْطَابِهِ (وَعَنْ خَلِيطِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ) أَيِ الْبُسْرِ الْمُلَوَّنِ (وَالرُّطَبِ وَقَالَ: انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ) أَيْ بِانْفِرَادِهَا قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْخَلْطِ وَجَوَّزَ انْتِبَاذَ كُلِّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَسْرَعَ التَّغَيُّرُ إِلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ فَيُفْسِدُ الْآخَرَ، وَرُبَّمَا لَمْ يَظْهَرْ فَيَتَنَاوَلُ مُحَرَّمًا، وَفِي شَرْحِ الْمُظْهِرِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَحْرُمُ شُرْبُ نَبِيذٍ خُلِطَ فِيهِ شَيْئَانِ وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَحْرُمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْكِرًا، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

3641 - وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ يُتَّخَذُ خَلًّا، فَقَالَ: لَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3641 - (وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ يُتَّخَذُ خَلًّا» ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٍ أَيْ عَنْ جَوَازِ جَعْلِ الْخَمْرِ خَلًّا بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا مِنْ نَحْوِ بَصَلٍ أَوْ مِلْحٍ أَوْ بِوَضْعِهَا فِي شَمْسٍ (فَقَالَ: لَا) فِيهِ حُرْمَةُ التَّخْلِيلِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: يَطْهُرُ بِالتَّخْلِيلِ، وَعَنْ مَالِكٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ أَصَحُّهَا عَنْهُ أَنَّ التَّخْلِيلَ حَرَامٌ فَلَوْ خَلَّلَهَا عَصَى وَطَهُرَتْ، وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُلْقِيَ فِيهِ شَيْءٌ لِلتَّخَلُّلِ لَمْ يَطْهُرْ أَبَدًا، وَأَمَّا بِالنَّقْلِ إِلَى الشَّمْسِ مَثَلًا فَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا تَطْهِيرُهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا. عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْلِيلَ الْخَمْرِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانَتْ نُفُوسُهُمْ أَلِفَتْ بِالْخَمْرِ وَكُلُّ مَأْلُوفٍ تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ فَخَشِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَوَاخِلِ الشَّيْطَانِ فَنَهَاهُمْ عَنِ اقْتِرَانِهِمْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ كَيْلَا يَتَّخِذُوا التَّخْلِيلَ وَسِيلَةً إِلَيْهَا، وَأَمَّا بَعْدَ طُولِ عَهْدِ التَّحْرِيمِ فَلَا يُخْشَى هَذِهِ الدَّوَاخِلُ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ: «وَخَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ الشَّارِعِ لَا بَيَانِ اللُّغَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

3642 - وَعَنْ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ «أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3642 - (وَعَنْ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ) هُوَ ابْنُ حُجْرٍ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ وَأَنَّهُ صَحَابِيٌّ (أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَهُ صُحْبَةٌ وَلَهُ ذِكْرٌ فِي حَدِيثِ الْخَمْرِ (سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ) أَيْ عَنْ شُرْبِهَا أَوْ صُنْعِهَا (فَنَهَاهُ) أَيْ عَنْهَا (فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا) أَيْ أَشْتَغِلُهَا أَوْ أَسْتَعْمِلُهَا (لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: إِنَّهُ) أَيِ الْخَمْرَ وَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّهُ يُذَكَّرُ وَقِيلَ ذُكِّرَ بِتَأْوِيلِ اسْمٍ مُذَكَّرٍ كَالشَّرَابِ (لَيْسَ بِدَوَاءٍ لَكِنَّهُ دَاءٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ فَيَحْرُمُ التَّدَاوِي بِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَوَاءٌ فَكَأَنَّهُ تَنَاوَلَهَا بِلَا سَبَبٍ، وَأَمَّا إِذَا غُصَّ بِلُقْمَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُهَا بِهِ إِلَّا الْخَمْرَ فَيَلْزَمُهُ الْإِسَاغَةُ بِهَا ; لِأَنَّ حُصُولَ الشِّفَاءِ بِهَا حِينَئِذٍ مَقْطُوعٌ بِهِ بِخِلَافِ التَّدَاوِي (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3643 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ; فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَإِنْ تَابَ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَقَاهُ مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3643 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ) أَيْ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا (لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً) بِالتَّنْوِينِ وَقَوْلُهُ (أَرْبَعِينَ صَبَاحًا) ظَرْفٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ أَيْ لَمْ يَجِدْ لَذَّةَ الْمُنَاجَاةِ الَّتِي هِيَ مُخُّ الْعِبَادَاتِ وَلَا الْحُضُورَ الَّذِي هُوَ رُوحُهَا فَلَمْ يَقَعْ عِنْدَ اللَّهِ بِمَكَانٍ وَإِنْ سَقَطَ مُطَالَبَةُ فَرْضِ الْوَقْتِ وَخَصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا سَبَبُ حُرْمَتِهَا أَوْ لِأَنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أُمُّ

الْعِبَادَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ شَرِبَ خَمْرًا خَرَجَ نُورُ الْإِيمَانِ مِنْ جَوْفِهِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ الْأَشْرَفُ: إِنَّمَا خَصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهَا فَلَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهَا عِبَادَةً أَصْلًا كَانَ أَوْلَى، قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الزَّجْرِ وَأَلَّا يَسْقُطَ عَنْهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ إِذَا أَدَّاهَا بِشَرَائِطِهَا وَلَكِنْ لَيْسَ ثَوَابُ صَلَاةِ الْفَاسِقِ كَثَوَابِ صَلَاةِ الصَّالِحِ، بَلِ الْفِسْقُ يَنْفِي كَمَالَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ لِكُلِّ طَاعَةٍ اعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا سُقُوطُ الْقَضَاءِ عَنِ الْمُؤَدِّي، وَثَانِيهُمَا تَرْتِيبُ حُصُولِ الثَّوَابِ فَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ تَرْتِيبِ الثَّوَابِ بِعَدَمِ قَبُولِ الصَّلَاةِ (فَإِنْ تَابَ) أَيْ بِالْإِقْلَاعِ وَالنَّدَامَةِ (تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ (فَإِنْ عَادَ) أَيْ إِلَى شُرْبِهَا (لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا) وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّقْيِيدِ بِالْأَرْبَعِينَ لِبَقَاءِ أَثَرِ الشَّرَابِ فِي بَاطِنِهِ مِقْدَارَ هَذِهِ، وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: لَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ كُلَّ الْحَرَامِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَاخْتَلَّ نِظَامُ الْعَالَمِ بِتَرْكِهِمْ أُمُورَ الدُّنْيَا، قِيلَ: لَوْلَا الْحَمْقَى لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا أَظْهَرَ اللَّهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ. رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَوَرَدَ ( «وَمَنْ حَفِظَ عَنْ أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا بَعَثَهُ اللَّهُ فَقِيهًا» . رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِعَدَدِ الْأَرْبَعِينَ تَأْثِيرًا بَلِيغًا فِي صَرْفِهَا إِلَى الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ وَإِذَا قِيلَ: مَنْ بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ شَرَّهُ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ (فَإِنْ تَابَ) أَيْ رَجِعَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ (تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ (فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا) ظَاهَرُهُ عَدَمُ قَبُولِ طَاعَتِهِ وَلَوْ تَابَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ مُدَّتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ التَّعْقِيبِيَّةُ فِي قَوْلِهِ (فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَلَوْ كَانَتِ التَّوْبَةُ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْفَاءُ تَكُونُ تَفْرِيعِيَّةً (فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ) أَيْ رَجِعَ الرَّجْعَةَ الرَّابِعَةَ وَفِي نُسْخَةٍ فِي الرَّابِعَةِ (لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَإِنْ تَابَ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِ) هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ الشَّدِيدِ وَإِلَّا فَقَدَ وَرَدَ ( «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ فَإِنْ تَابَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ عَازِمٌ عَلَى أَنْ يَعُودَ لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، قُلْتُ فِيهِ: إِنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِتَوْبَةٍ مَعَ أَنَّ هَذَا وَارِدٌ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ لَا خُصُوصِيَّةَ لَهَا بِالرَّابِعَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ قَوْلَهُ (إِنْ تَابَ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِ) مَحْمُولٌ عَلَى إِصْرَارِهِ وَمَوْتِهِ عَلَى مَا كَانَ فَإِنَّ عَدَمَ قَبُولِ التَّوْبَةِ لَازِمٌ لِلْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ مَاتَ عَاصِيًا وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ (وَسَقَاهُ) أَيِ اللَّهُ (مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ) . اهـ وَالْمَعْنَى أَنَّ صَدِيدَ أَهْلِ النَّارِ لِكَثْرَتِهِ يَصِيرُ جَارِيًا كَالْأَنْهَارِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا وَرَدَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ( «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَتَى عَطْشَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَعَلَّ نَقْضَ التَّوْبَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِغَضَبِ اللَّهِ عَلَى صَاحِبِهَا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137] وَكَانَ الْغَالِبُ أَنَّ صَاحِبَ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ ثَلَاثًا لَمْ تَصِحِّ لَهُ التَّوْبَةُ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ بِعَدَمِ الْهِدَايَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90] الْكَشَّافُ فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ كَيْفَمَا ازْدَادَ كُفْرًا فَإِنَّهُ مَقْبُولُ التَّوْبَةِ إِذَا تَابَ فَمَا مَعْنَى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتَهُمْ، قُلْتُ: جُعِلَتْ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ ; لِأَنَّ الَّذِي لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ هُوَ الَّذِي يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الْيَهُودَ وَالْمُرْتَدِّينَ مَيِّتُونَ عَلَى الْكُفْرِ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَةِ مَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمُ اهـ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى التَّوْبَةِ فِي الثَّالِثَةِ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

3644 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3644 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيْ بِالْوَاوِ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا: «مَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا مَا كَانَ لَمْ يُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» .

3645 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3645 - (وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِالْوَاوِ.

3646 - وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرَقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3646 - (وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرْقُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَيُفْتَحُ: مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا كَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَرَقُ بِالْفَتْحِ مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مُدًّا وَثَلَاثَةُ أَصْوُعٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَقِيلَ: الْفَرَقُ خَمْسَةُ أَقْسَاطٍ الْقِسْطُ نِصْفُ صَاعٍ، فَأَمَّا الْفَرْقُ بِالسُّكُونِ فَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا وَمِنْهُ الْحَدِيثُ ( «مَا أَسْكَرَ الْفِرْقُ مِنْهُ فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ» ) اهـ. فَالسُّكُونُ هُوَ الْأَنْسَبُ بِمَقَامِ الْمُبَالِغَةِ وَكَذَا ضُبِطَ بِهِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْفَرْقُ مِكْيَالُ الْمَدِينَةِ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَصْوُعٍ، وَيُحَرَّكُ أَوْ هُوَ أَفْصَحُ أَوْ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا وَأَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْفَرْقُ بِالسُّكُونِ مِنَ الْأَوَانِي وَالْمَقَادِيرِ مَا يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ مُدًّا، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: سِتَّةَ وَثَلَاثِينَ رِطْلًا، وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنْ أَنَّ الْفَرَقَ بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ يُسَكِّنُونَهَا وَهُوَ مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا (فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَرْقُ وَمِلْءُ الْكَفِّ عِبَارَتَانِ عَنِ التَّكْثِيرِ وَالتَّقْلِيلِ لَا التَّحْدِيدِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .

3647 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَمِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَمِنَ التَّمْرِ خَمْرًا وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْرًا وَمِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3647 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ) بِضَمِّ النُّونِ (ابْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ «مِنَ الْحِنْطَةِ خَمْرًا» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَسْمِيَتُهُ خَمْرًا مَجَازًا لِإِزَالَتِهِ الْعَقْلَ ( «وَمِنَ التَّمْرِ خَمْرًا وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْرًا وَمِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

3648 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا خَمْرٌ لِيَتِيمٍ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَقُلْتُ: إِنَّهُ لِيَتِيمٍ، فَقَالَ: أَهْرِيقُوهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3648 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا خَمْرٌ لِيَتِيمٍ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ) قَالَ الْمُظْهِرُ: يُرِيدُ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الْآيَتَيْنِ وَفِيهِمَا دَلَائِلٌ سَبْعَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَحَدُهَا قَوْلُهُ رِجْسٌ وَالرِّجْسُ هُوَ النَّجَسُ وَكُلُّ نَجَسٍ حَرَامٌ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَمَا هُوَ مِنْ عَمَلِهِ حَرَامٌ، وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِاجْتِنَابِهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَمَا عَلَّقَ رَجَاءَ الْفَلَاحِ بِاجْتِنَابِهِ، فَالْإِتْيَانُ بِهِ حَرَامٌ، وَالْخَامِسُ قَوْلُهُ {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] وَمَا هُوَ سَبَبُ وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَالسَّادِسُ قَوْلُهُ: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91] وَمَا يَصُدُّ بِهِ الشَّيْطَانُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَرَامٌ.

وَالسَّابِعُ قَوْلُهُ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] مَعْنَاهُ انْتَهُوا، وَمَا أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْانْتِهَاءِ عَنْهُ فَالْإِتْيَانُ بِهِ حَرَامٌ، الْكَشَّافُ قَوْلُهُ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] مِنْ أَبْلَغِ مَا يُنْهَى بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الصَّوَارِفِ وَالْمَوَانِعِ فَهَلْ أَنْتُمْ مَعَ هَذِهِ الصَّوَارِفِ مُنْتَهُونَ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كَأَنْ لَمْ تُوعَظُوا وَلَمْ تُزْجَرُوا، قُلْتُ: وَالثَّامِنُ اقْتِرَانُهَا بِالْأَوْثَانِ حَيْثُ قَالَ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ} [المائدة: 90] وَمَا يَقْتَرِنُ بِالْكُفْرِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَلِذَا وَرَدَ: شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ وَشَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ) أَيْ عَنِ الْخَمْرِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْمَشْرُوبِ أَوِ الْمُدَامِ (وَقُلْتُ: إِنَّهُ لِيَتِيمٍ فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: (أَهْرِيقُوهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبِفَتْحٍ أَيْ صُبُّوهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ رَاجِعٌ إِلَى الْخَمْرِ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ أَيْ سَأَلَتْ عَنْ شَأْنِ خَمْرِ يَتِيمٍ، وَفِي (إِنَّهُ) وَفِي (أَهْرِيقُوهُ) (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3649 - «وَعَنْ أَنَسِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْرًا لِأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي، قَالَ: أَهْرِقِ الْخَمْرَ وَاكْسِرِ الدِّنَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ «سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، قَالَ: أَهْرِقْهَا، قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3649 - (وَعَنْ أَنَسٍ «عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْرًا لِأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي» ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ أَيْ فِي كَنَفِي وَتَرْبِيَتِي (قَالَ: أَهْرِقِ الْخَمْرَ وَاكْسِرِ الدِّنَانَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ الدِّنِ وَهُوَ ظَرْفُهَا، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِكَسْرِهِ لِنَجَاسَتِهِ بِتَشَرُّبِهَا وَعَدَمِ إِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ أَوْ مُبَالَغَةً لِلزَّجْرِ عَنْهَا وَمَا قَارَبَهَا كَمَا كَانَ التَّغْلِيظُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَيْثُ نَهَى عَنِ الْحَنْتَمِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ نُسِخَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا قَالَ: أَهْرِقْهَا، قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا) إِمَّا زَجْرًا كَمَا سَبَقَ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ وَهُوَ الْأَحَقُّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3650 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3650 - (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ» ) بِكَسْرِ التَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْمُفْتِرُ هُوَ الَّذِي إِذَا شُرِبَ أَحْمَى الْجَسَدَ وَصَارَ فِيهِ فُتُورٌ وَهُوَ ضَعْفٌ وَانْكِسَارٌ، وَيُقَالُ: أَفْتَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُفْتِرٍ إِذَا ضَعُفَتْ جُفُونُهُ وَانْكَسَرَ طَرَفُهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَفْتَرَ بِمَعْنَى فَتَرَ أَيْ جَعَلَهُ فَاتِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَفْتَرَ الشَّرَابُ إِذَا فَتَرَ شَارِبُهُ كَأَقْطَفَ الرَّجُلُ إِذَا قَطَفَتْ دَابَّتُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِنْجِ وَالشَّعْثَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُفْتِرُ وَيُزِيلُ الْعَقْلَ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ إِزَالَةُ الْعَقْلِ مُطَّرِدَةٌ فِيهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا أَحْمَدُ.

3651 - «وَعَنْ دَيْلَمٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضٍ بَارِدَةٍ وَنُعَالِجُ فِيهَا عَمَلًا شَدِيدًا، وَإِنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا مِنْ هَذَا الْقَمْحِ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا، قَالَ: هَلْ يُسْكِرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاجْتَنِبُوهُ. قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ، قَالَ: إِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ قَاتِلُوهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3651 - (وَعَنْ دَيْلَمٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (الْحِمْيَرِيِّ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ نِسْبَةً إِلَى حِمْيَرَ كَدِرْهَمٍ مَوْضِعٌ غَرْبِيَّ صَنْعَاءِ الْيَمَنِ وَأَبُو قَبِيلَةٍ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ (لِرَسُولِ اللَّهِ) (إِنَّا بِأَرْضٍ بَارِدَةٍ) أَيْ ذَاتِ بَرْدٍ شَدِيدٍ (وَنُعَالِجُ) أَيْ نُمَارِسُ وَنُزَاوِلُ (فِيهَا عَمَلًا شَدِيدًا) أَيْ قَوِيًّا يَحْتَاجُ إِلَى نَشَاطٍ عَظِيمٍ (وَإِنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا مِنْ هَذَا الْقَمْحِ) أَيِ الْحِنْطَةِ (نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الشُّرْبِ وَأَتَى بِهَذَا وَوَصَفَهُ بِهِ لِمَزِيدٍ مِنَ الْبَيَانِ فِي أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْمُسْكِرُ كَالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ مُبَالَغَةً فِي اسْتِدْعَاءِ الْإِجَازَةِ (قَالَ: هَلْ يُسْكِرُ؟) وَفِي نُسْخَةٍ مُسْكِرٌ (قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاجْتَنِبُوهُ، قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ) فَكَأَنَّهُ وَقَعَ لَهُمْ هُنَاكَ نَهْيٌ عَنْ سَالِكِيهِ (قَالَ: إِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ) أَيْ وَاسْتَحَلُّوا شُرْبَهُ (قَاتِلُوهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3652 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْكُوبَةِ وَالْغُبَيْرَاءِ، وَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3652 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ بِدُونِهَا (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أَيِ الْقِمَارِ (الْكُوبَةِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ فِي النِّهَايَةِ قِيلَ: هِيَ النَّرْدُ وَقِيلَ: الطَّبْلُ، أَيِ الصَّغِيرِ وَقِيلَ: الْبَرْبَطُ (وَالْغُبَيْرَاءِ) بِالتَّصْغِيرِ ضَرْبٌ مِنَ الشَّرَابِ يَتَّخِذُهُ الْحَبَشُ مِنَ الذُّرَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِثْلُ الْخَمْرِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ (وَقَالَ) أَيْ لِزِيَادَةِ إِفَادَةِ التَّعْمِيمِ ( «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، كَانَ الْأَخْصَرُ أَنْ يَقُولَ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ أَبُو دَاوُدَ.

3653 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا قَمَّارٌ وَلَا مَنَّانٌ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَلَا وَلَدَ زِنْيَةٍ بَدَلَ قَمَّارٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3653 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ مَعَ الْفَائِزِينَ السَّابِقِينَ أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُسْتَحِلُّ لِلْمَعَاصِي أَوْ قَصَدَ بِهِ الزَّجْرَ الشَّدِيدَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَشَدُّ وَعِيدًا مِنْ لَوْ قِيلَ: يَدْخُلُ النَّارَ ; لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْخَلَاصُ (عَاقٌّ) بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ مُخَالِفٌ لِأَحَدِ وَالِدَيْهِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ بِحَيْثُ يَشُقُّ عَلَيْهِمَا (وَلَا قَمَّارٌ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ ذُو قِمَارٍ وَالْمَعْنَى مَنْ يُقَامِرُ وَالْقِمَارُ فِي عُرْفِ زَمَانِنَا كُلُّ لَعِبٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ غَالِبًا أَنْ يَأْخُذَ الْغَالِبُ مِنَ الْمُلَاعِبِينَ شَيْئًا مِنَ الْمَغْلُوبِ، كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَأَمْثَالِهِمَا (وَلَا مَنَّانٌ) أَيْ عَلَى الْفُقَرَاءِ فِي صَدَقَتِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مِنَّةً وَاعْتَدَّ بِهِ عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ وَهُوَ مَذْمُومٌ ; لِأَنَّ الْمِنَّةَ تُفْسِدُ الصَّنِيعَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَطَّاعُ لِلرَّحِمِ مِنْ مَنَّ أَيْ قَطَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الَّذِي يَأْتِي (وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ) أَيْ مُصِرٌّ عَلَى شُرْبِهَا (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَلَا وَلَدَ زِنْيَةٍ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ بَدَلَ (قَمَّارٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ تَغْلِيظٌ وَتَشْدِيدٌ عَلَى وَلَدِ الزِّنْيَةِ تَعْرِيضًا بِالزَّانِي لِئَلَّا يُوَرِّطَهُ فِي السِّفَاحِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِشَقَاوَةِ نَسَمَةٍ بَرِيئَةٍ، وَمِمَّا يُؤْذِنُ أَنَّهُ تَغْلِيظٌ وَتَشْدِيدٌ سُلُوكُ وَلَدِ زِنْيَةٍ فِي قَرَنِ الْعَاقِّ وَالْمَنَّانِ وَالْقَمَّارِ وَمُدْمِنِ خَمْرٍ وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ زُمْرَةِ مَنْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَقِيلَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا خَبُثَتْ خُبْثَ النَّاشِئُ مِنْهَا فَيَجْتَرِئُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَتُؤَدِّيهِ إِلَى الْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِلْخُلُودِ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَغْلَبِ وَلِذَا وَرَدَ: «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ: إِذَا عَمِلَ بِعَمَلِ أَبَوَيْهِ.

3654 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ وَأَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْأَوْثَانِ وَالصُّلُبِ. وَأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَحَلَفَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِعِزَّتِهِ: لَا يَشْرَبُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي جَرْعَةً مِنْ خَمْرٍ إِلَّا سَقَيْتُهُ مِنَ الصَّدِيدِ مِثْلَهَا، وَلَا يَتْرُكُهَا مِنْ مَخَافَتِي إِلَّا سَقَيْتُهُ مِنْ حِيَاضِ الْقُدُسِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3654 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» ) وَهِيَ تَعُمُّ الْكَافِرِينَ (وَهُدًى لِلْعَالِمِينَ) لَكِنْ خَصَّ الْمُتَّقِينَ لِكَوْنِهِمُ الْمُنْتَفِعِينَ ( «وَأَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ» ) أَيْ بِمَحْوِ آلَاتِ اللَّهْوِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَزْفُ اللَّعِبُ بِالْمَعَازِفِ، وَهِيَ الدُّفُوفُ وَغَيْرُهَا مِمَّا يُضْرَبُ، وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ لَعِبٍ عَزْفٌ (وَالْمَزَامِيرِ) جَمْعُ مِزْمَارٍ وَهِيَ الْقَصَبَةُ الَّتِي يُزَمَّرُ بِهَا (وَالْأَوْثَانِ) أَيِ الْأَصْنَامِ (وَالصُّلُبِ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ صَلِيبٍ

الَّذِي لِلنَّصَارَى قَالَ الْقَامُوسِيُّ: وَفِي النِّهَايَةِ الثَّوْبُ الْمُصَلَّبُ الَّذِي فِيهِ نَقْشٌ أَمْثَالُ الصُّلْبَانِ وَضَرَبَهُ فَصُلِبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَيْ صَارَتِ الضَّرْبَةُ كَالصَّلِيبِ، (وَأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) كَالنِّيَاحَةِ وَالْحَمِيَّةِ لِلْعَصَبِيَّةِ وَالْفَخْرِ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنِ بِالْأَنْسَابِ وَقَوْلِهِمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا عِلَّةُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَحَادِيثِ فَفِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ» ". عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَرْفُوعًا: «ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُهُنَّ النَّاسُ: الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ، وَقَوْلُهُمْ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا» ) وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ أَمْرٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الْجَهْلِ وَاصْطِلَاحِ أَهْلِهِ وَلَوْ كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ (وَحَلَفَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِعِزَّتِهِ لَا يَشْرَبُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي) وَنُسْخَةٍ (مِنْ عِبَادِي) (جَرْعَةً مِنْ خَمْرٍ إِلَّا سَقَيْتُهُ مِنَ الصَّدِيدِ مِثْلَهَا) أَيْ مِقْدَارَهَا (وَلَا يَتْرُكُهَا) أَيْ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي (مِنْ مَخَافَتِي) أَيْ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ (إِلَّا سَقَيْتُهُ) أَيْ: شَرَابًا طَهُورًا (مِنْ حِيَاضِ الْقُدُسِ) بِسُكُونِ الدَّالِ وَيُضَمُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي إِفْرَازِ هَذَا النَّوْعِ الْخَبِيثِ عَنْ سَائِرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَبَائِثِ وَجَعَلَهُ مَصْدَرًا بِالْحَلْفِ وَالْقَسَمِ بَعْدَ مَا جَعَلَ مُقَدِّمَةَ الْكُلِّ بَعْثَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحْمَةً وَهُدًى إِيذَانٌ بِأَنَّ أَخْبَثَ الْخَبَائِثِ وَأَبْلَغَ مَا يُبْعِدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقَرِّبُ إِلَى الضَّلَالِ هِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ ثُمَّ انْظُرْ كَمِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ مَنْ يَسْقِيهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِيَاضِ الْقُدُسِ الشَّرَابَ الطَّهُورَ وَبَيْنَ مَنْ يُسْقَى فِي دَرْكِ جَهَنَّمَ صَدِيدَ أَهْلِ النَّارِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

3655 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَالْعَاقُّ وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3655 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (ثَلَاثَةٌ) أَيْ أَشْخَاصٌ (قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ) أَيْ أَنْ يَدْخُلُوهَا مَعَ الْفَائِزِينَ (مُدْمِنُ الْخَمْرِ) أَيْ مُدَاوِمُهَا (وَالْعَاقُّ) أَيِ الْمُخَالِفُ لِوَالِدَيْهِ (وَالدَّيُّوثُ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ (الَّذِي يُقِرُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يُثْبِتُ بِسُكُوتِهِ (عَلَى أَهْلِهِ) أَيْ مِنَ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ (الْخَبَثَ) أَيِ الزِّنَا أَوْ مُقَدَّمَاتِهِ وَفِي مَعْنَاهُ سَائِرُ الْمَعَاصِي كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَنَحْوِهِمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ الَّذِي يَرَى فِيهِنَّ مَا يَسُوءُهُ وَلَا يَغَارُ عَلَيْهِنَّ وَلَا يَمْنَعُهُنَّ فَيُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ) .

3656 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَقَاطِعُ الرَّحِمِ وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3656 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَقَاطِعُ الرَّحِمِ) هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعَاقِّ (وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ) أَيِ الْقَائِلُ بِتَأْثِيرِهِ لِذَاتِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ وَقَاطِعُ رَحِمٍ وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ، وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ نَهْرِ الْغُوطَةِ، نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ الْمُومِسَاتِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِنَّ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَ (الْمُومِسَةُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ الزَّانِيَةُ.

3657 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى كَعَابِدِ وَثَنٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3657 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ) أَيْ عَلَى إِدْمَانِهِ أَوْ إِذَا مَاتَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (إِنْ) لِلشَّكِّ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِقَاءُ شَارِبِ الْخَمْرِ رَبَّهُ تَعَالَى بَعْدَ الْمَوْتِ مُشَابِهًا بِلِقَاءِ عَابِدِ الْوَثَنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُورِدُهُ الْوَاثِقُ بِأَمْرِهِ الْمُدِلُّ لِحُجَّتِهِ. اهـ كَ (إِنْ كُنْتَ وَلَدَى فَافْعَلْ أَوْ لَا تَفْعَلْ) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فِي وَجْهٍ وَالظَّاهِرُ مَا قَدَّمْنَاهُ فَتَدَبَّرْ (لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى) أَيْ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ (كَعَابِدِ وَثَنٍ) أَيْ صَنَمٍ وَهُوَ وَعِيدٌ وَكَيْدٌ وَزَجْرٌ شَدِيدٌ وَلَعَلَّ تَشْبِيهَهُ بِعَابِدِ الْوَثَنِ حَيْثُ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالصَّنَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} [المائدة: 90] أَيِ الْأَصْنَامُ الْمَنْصُوبَةُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَغَيْرُهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْهُ بِلَفْظِ: «مَا مَاتَ وَهُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ كَعَابِدِ وَثَنٍ» .

3658 - وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3658 - (وَرَوَى) الْأَظْهَرُ وَرَوَاهُ (ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

3659 - وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3659 - وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ) : أَيِ الْبَيْهَقِيُّ (ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ) أَيِ الْحَدِيثِ (فِي التَّارِيخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِالتَّكْبِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) .

3660 - عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أُبَالِي شَرِبْتُ الْخَمْرَ أَوْ عَبَدْتُ هَذِهِ السَّارِيَةَ دُونَ اللَّهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3660 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أُبَالِي شَرِبَتُ الْخَمْرَ أَوْ عَبَدْتُ هَذِهِ السَّارِيَةَ) أَيِ الْأُسْطُوَانَةَ (دُونَ اللَّهِ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ أَيْ عَبَدْتُهَا مُتَجَاوِزًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا أُبَالِي فِي تَسْوِيَتِي بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَجَعْلِهِمَا مُنْخَرِطَيْنِ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ مُبَالَغَةً وَهُوَ أَبْلَغُ مِمَّا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ لِتَصْرِيحِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ فِيهِ، وَخُلُوِّهِ عَنْهُ هُنَا (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) أَيْ مَوْقُوفًا.

[كتاب الإمارة والقضاء]

[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3661 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ الْإِمَارَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ الْإِمْرَةُ وَقَدْ أَمَّرَهُ إِذَا جَعَلَهُ أَمِيرًا كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، وَأَمَّا الْأَمَارَةُ بِالْفَتْحِ فَمَعْنَاهَا الْعَلَامَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3661 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) هَذَا مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] (وَمَنْ عَصَانِي قَدْ عَصَى اللَّهَ) هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] (وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ) ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَمِيرِي (فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي) فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْخِلَافَةِ وَالنِّيَابَةِ قِيلَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَعْرِفُونَ الْإِمَارَةَ وَلَا يَدِينُونَ لِغَيْرِ رُؤَسَاءِ قَبَائِلِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَوَلِيَ عَلَيْهِمُ الْأُمَرَاءُ أَنْكَرَتْهُ نُفُوسُهُمْ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ، فَقَالَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ طَاعَتَهُمْ مَرْبُوطَةٌ بِطَاعَتِهِ وَعِصْيَانَهُمْ مَنُوطَةٌ بِعِصْيَانِهِ لِيُطِيعُوا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ (فَإِنَّمَا الْإِمَامُ) أَيِ الْخَلِيفَةُ أَوْ أَمِيرُهُ (جُنَّةٌ) بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ كَالتُّرْسِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ (يُقَاتَلُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِنْ وَرَائِهِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (وَيُتَّقَى بِهِ) بَيَانٌ لِكَوْنِهِ جُنَّةً أَيْ يَكُونُ الْأَمِيرُ فِي الْحَرْبِ قُدَّامَ الْقَوْمِ لِيَسْتَظْهِرُوا بِهِ وَيُقَاتِلُوا بِقُوَّتِهِ كَالتُّرْسِ لِلْمُتَتَرِّسِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ; لِأَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مَلْجَأً لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَوَائِجِهِمْ دَائِمًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (يُتَّقَى بِهِ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ (يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ) ، وَالْبَيَانُ مَعَ الْمُبَيَّنِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: «وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ هُوَ كَالسَّاتِرِ ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَمْنَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَحْمِي بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ، وَيَتَّقِيهِ النَّاسُ وَيَخَافُونَ سَطْوَتَهُ، وَمَعْنَى (يُقَاتَلُ) وَ (مِنْ وَرَائِهِ) أَنْ يُقَاتِلَ مَعَهُ الْكُفَّارَ وَالْبُغَاةَ وَالْخَوَارِجَ وَسَائِرَ أَهْلِ الْفَسَادِ وَيُنْصَرَ عَلَيْهِمْ (فَإِنْ أَمَرَ) أَيِ الْإِمَامُ (بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ) أَيْ قَضَى بِحُكْمِ اللَّهِ (فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا) أَيْ عَظِيمًا (وَإِنْ قَالَ) أَيْ فِي الْأَمْرِ وَالْحُكْمِ (بِغَيْرِهِ) أَيْ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْوَى وَالْعَدْلِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ (قَالَ) أَيْ حَكَمَ، يُقَالُ: قَالَ الرَّجُلُ إِذَا حَكَمَ وَمِنْهُ الْقِيلُ وَهُوَ

الْمَلِكُ الَّذِي يَنْفُذُ قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ أَحَبَّهُ وَأَخَذَ بِهِ إِيثَارًا لَهُ وَمَيْلًا إِلَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِكِ: فُلَانٌ يَقُولُ بِالْقَدَرِ، وَمَا أَشْبَهَهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُؤْثِرُهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ أَمَرَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ تَقْوَى وَلَا عَدْلٌ، بِدَلِيلٍ أَنَّهُ جُعِلَ قَسِيمًا فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ الْمُطْلَقُ أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَرَاهُ وَيُؤْثِرُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَقُولُ بِالْقَدَرِ، أَيْ وَإِنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ وَآثَرَهُ قَبُولًا كَانَ أَوْ فِعْلًا لِيَكُونَ مُقَابِلًا لِقَسِيمِهِ بِقُطْرَيْهِ وَمَا سَدَّ الطُّرُقَ الْمُخَالِفَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى هَيْجِ الْفِتَنِ الْمُرْدِيَةِ (فَإِنَّ عَلَيْهِ) أَيْ وِزْرًا ثَقِيلًا (مِنْهُ) أَيْ مِنْ صَنِيعِهِ ذَلِكَ فَمِنْهُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ (مُنَّةً) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَاءِ التَّأْنِيثِ فَتَحْرِيفٌ وَتَصْحِيفٌ ; لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَلَا وَجْهَ لَهَا هُنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَيْهِ كَذَا وَجَدْنَا مِنْهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَقَدْ وَجَدْنَاهُ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: مُنَّةً. بِتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِوَجْهٍ هُنَا، قَالَ الْقَاضِي: فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ، أَيْ وِزْرًا ثَقِيلًا وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ حَثٌّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَسَبَبُهَا اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْخِلَافَ سَبَبٌ لِفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. اهـ وَيُسْتَثْنَى مِنْ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ حَالُ الْمَعْصِيَةِ لِمَا يُسْتَفَادُ مِنْ صَدْرِ الْحَدِيثِ وَلِمَا سَيَأْتِي فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمُصَحَّحَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3662 - وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3662 - (وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ بِنْتُ إِسْحَاقَ الْأَحْمَسِيَّةُ رَوَى عَنْهَا ابْنُهَا يَحْيَى بْنُ الْحُصَيْنِ وَغَيْرُهُ شَهِدَتْ حَجَّةَ الْوَدَاعِ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّفْعِيلِ أَيْ جُعِلَ أَمِيرًا (عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ مَقْطُوعُ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ (يَقُودُكُمْ) أَيْ يَأْمُرُكُمْ (بِكِتَابِ اللَّهِ) أَيْ بِحُكْمِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى حُكْمِ الرَّسُولِ قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَسُوقُكُمْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى كِتَابُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ (فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا) فِيهِ حَثٌّ عَلَى الْمُدَارَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ مَعَ الْوُلَاةِ عَلَى التَّحَرُّزِ عَمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ وَيُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3663 - وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3663 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اسْمَعُوا) أَيْ كَلَامَ الْحَاكِمِ (وَأَطِيعُوا) أَيِ انْقَادُوا فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مَا لَمْ يُخَالِفْ أَمْرَ اللَّهِ وَنَبِيِّهِ (وَإِنِ اسْتُعْمِلَ) بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا (عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) أَيْ وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ عَلَى الْقَوْمِ لَا أَنَّ الْعَبْدَ الْحَبَشِيَّ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ شِقَاقِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ (كَأَنَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) أَيْ كَالزَّبِيبَةِ فِي صِغَرِهِ وَسَوَادِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ أُخْرَى لِلْعَبْدِ شَبَّهَ رَأْسَهُ بِالزَّبِيبَةِ إِمَّا لِصِغَرِهِ وَإِمَّا لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ مُقَطَّطٌ كَالزَّبِيبَةِ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِ. اهـ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ فِي طَاعَةِ الْوَالِي وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا مَعَ أَنَّ الْحَثَّ بِوَصْفِ صِغَرِ الرَّأْسِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَقَارَةِ، قَالَ الْأَشْرَفُ: أَيِ اسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوهُ إِنْ كَانَ حَقِيرًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

3664 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3664 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ» ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: حَقٌّ عَلَى الْمَرْءِ ( «الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ» ) أَيِ الْمَرْءُ (بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ) أَيْ عَلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ (وَلَا وَطَاعَةَ) قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي، سَمْعُ كَلَامِ الْحَاكِمِ وَطَاعَتُهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِمَا يُوَافِقُ طَبْعَهُ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَأْمُرَهُ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أَمَرَهُ بِهَا فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ مُحَارَبَةُ الْإِمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

3665 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3665 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا طَاعَةَ) أَيْ لِأَحَدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْ مِنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ كَالْوَالِدِ وَالشَّيْخِ (فِي مَعْصِيَةٍ) وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ (إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) أَيْ مَا لَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

3666 - «وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3666 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا) أَيْ عَاهَدْنَا نَحْنُ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فِيهِمَا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْعُسْرُ بِالضَّمِّ وَبِالضَّمَّتَيْنِ وَبِالتَّحْرِيكِ ضِدُّ الْيُسْرِ وَهُوَ بِضَمٍّ وَبِضَمَّتَيْنِ الْيَسَارُ، وَبِالتَّحْرِيكِ السَّهْلُ (وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ) بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا فَهُمَا مَصْدَرَانِ مِيمِيَّانِ أَوِ اسْمَا زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، قَالَ الْقَاضِي: أَيْ عَاهَدْنَاهُ بِالْتِزَامِ السَّمْعِ فِي حَالَتَيِ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَتَارَتَيِ الضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ إِلْتِزَمٌ لَهُمْ أَيْضًا بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا إِلْتَزَمُوا، وَالْمَنْشَطُ وَالْمَكْرَهُ مَفْعَلَانِ مِنَ النَّشَاطِ وَالْكَرَاهَةِ لِلْمَحَلِّ أَيْ فِيمَا فِيهِ نَشَاطُهُمْ وَكَرَاهَتُهُمْ أَوِ الزَّمَانِ أَيْ فِي زَمَانَيِ انْشِرَاحِ صُدُورِهِمْ وَطِيِبِ قُلُوبِهِمْ وَمَا يُضَادُّ ذَلِكَ (وَعَلَى أَثَرَةٍ) بِفَتْحَتَيْنِ اسْمٌ مِنْ " أَثَرَ " بِمَعْنَى اخْتَارَ أَيْ عَلَى اخْتِيَارِ شَخْصٍ عَلَيْنَا بِأَنْ نُؤْثِرَهُ عَلَى أَنْفُسِنَا كَذَا قِيلَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى الصَّبْرِ إِيثَارُ الْأُمَرَاءِ أَنْفُسَهُمْ عَلَيْنَا وَحَاصِلُهُ أَنَّ (عَلَى أَثَرَةٍ) لَيْسَتْ بِصِلَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ بَلْ مُتَعَلِّقٍ مُقَدَّرٍ أَيْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ نَصْبِرَ عَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَفِي النِّهَايَةِ: الْأَثَرَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ اسْمٌ مِنَ الْإِيثَارِ أَيْ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْكُمْ فَيُفَضِّلُ غَيْرَكُمْ فِي إِعْطَاءِ نَصِيبِهِ مِنَ الْفَيْءِ، قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَثَرَةُ الِاسْتِئْثَارُ وَالْاخْتِصَاصُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا أَيِ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اخْتُصَّ الْأُمَرَاءُ بِالدُّنْيَا عَلَيْكُمْ وَلَمْ يُوصِلُوكُمْ حَقَّكُمْ مِمَّا عِنْدَهُمْ (وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ) أَيْ لَا نَطْلُبُ الْإِمَارَةَ وَلَا نَعْزِلُ الْأَمِيرَ مِنَّا وَلَا نُحَارِبُهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ مَنْ جَعَلَهُ الْأَمِيرُ نَائِبًا عَنْهُ وَهُوَ كَالْبَيَانِ وَالتَّقْرِيرِ لِلسَّابِقِ ; لِأَنَّ مَعْنَى عَدَمِ الْمُنَازَعَةِ هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْأَثَرَةِ (وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا) أَيْ وَعِنْدَ مَنْ كُنَّا (لَا نَخَافُ) اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نَقُولُ: أَيْ غَيْرَ خَائِفِينَ (فِي اللَّهِ) أَيْ لِأَجْلِهِ أَوْ فِيمَا فِيهِ رِضَاهُ (لَوْمَةَ لَائِمٍ) أَيْ مَلَامَةَ مُلِيمٍ وَأَذِيَّةَ لَئِيمٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ عَلَى الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، لَا نُدَاهِنُ أَحَدًا وَلَا نَخَافُ وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى لَائِمَةٍ (وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا) أَيْ تُبْصِرُوا وَتَعْلَمُوا فِي الْأُمَرَاءِ (كُفْرًا بَوَاحًا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهُ وَاوٌ كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَنَا لِلْمِشْكَاةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْقَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ أَيْ كُفْرًا ظَاهِرًا صَرِيحًا فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَرَوْا. حِكَايَةُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقَرَائِنُ السَّابِقَةُ مَعْنًى تَلَفَّظَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ (عِنْدَكُمْ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَقَوْلُهُ (مِنَ اللَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِالظَّرْفِ أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَتِرِ فِي الظَّرْفِ (مِنْهُ) أَيْ فِي ظُهُورِ الْكُفْرِ (بُرْهَانٌ) أَيْ دَلِيلٌ وَبَيَانٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ قُرْآنٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بُرْهَانٌ حَاصِلٌ عِنْدَكُمْ كَائِنًا مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ دِينِ اللَّهِ. اهـ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ تَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ بَلْ يَجِبُ عَدَمُ الْمُطَاوَعَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: بَوَاحًا بِالْوَاوِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالرَّاءِ يُقَالُ: بَاحَ الشَّيْءُ إِذْ ظَهَرَ بَوَاحًا وَالْبَوَاحُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَمْرًا بَوَاحًا وَبَرَاحًا بِمَعْنَاهُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْبَرَاحِ وَهِيَ الْبَارِزَةُ وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي، وَالْمَعْنَى لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورِ فِي وِلَايَتِهِمْ وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ، وَقُومُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ فَمُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ لِتَهَيُّجِ الْفِتَنِ فِي عَزْلِهِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَتَفْرِيقِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَتَكُونُ الْمَفْسَدَةُ فِي عَزْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي بَقَائِهِ وَلَا تَنْعَقِدُ إِمَامَةُ الْفَاسِقِ ابْتِدَاءً، وَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنْعَقِدُ لِكَافِرٍ وَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ

انْعَزَلَ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَةَ الصَّلَوَاتِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَكَذَا الْبِدْعَةُ، قَالَ الْقَاضِي: فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ كُفْرٌ وَتَغْيِيرٌ فِي الشَّرْعِ أَوْ بِدْعَةٌ سَقَطَتْ إِطَاعَتُهُ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَلْعُهُ وَنَصْبُ إِمَامٍ عَادِلٍ إِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَجِبُ فِي الْمُبْتَدَعِ إِلَّا إِذَا ظَنُّوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَيُهَاجِرُ الْمُسْلِمُ عَنْ أَرْضِهِ إِلَى غَيْرِهَا وَيَفِرُّ بِدِينِهِ. اهـ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ، أَمَّا أَوَّلًا، فَقَوْلُهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مُسْتَدْرَكٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِ (كُفْرًا) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَأَمَا ثَانِيًا فَقَوْلُهُ (الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي) مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْكُفْرَ عَلَى بَابِهِ وَالْاسْتِثْنَاءُ عَلَى صِرَافَتِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أُرِيدَ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ إِذْ لَا تَجُوزُ مُنَازَعَةُ الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِهِ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِ كَمَا فُهِمَ مِنْ تَقْرِيرِهِ وَبَيَانِهِ، وَأَمَا ثَالِثًا فَقَوْلُهُ (لَا تَنْعَقِدُ إِمَامَةُ الْفَاسِقِ) فَإِنَّهُ يُشْكِلُ بِسَلْطَنَةِ الْمُتَسَلْطِنِينَ الظَّاهِرِ عَلَيْهِمْ حَالُ التَّوْلِيَةِ أَنَّهُمْ مِنَ الْفَاسِقِينَ، وَفِي الْقَوْلِ بِعَدَمِ انْعِقَادِ إِمَامَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ حَرَجٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ حَيْثُ يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ وَوِلَايَةِ الْقُضَاةِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْقَضَايَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ بِعَدَمِ الِانْعِقَادِ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ لَكِنَّ الْمُرَادَ لَا يَدْفَعُ الْإِيرَادَ، وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ وَاجِبٌ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَتَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِمْ وَسَدِّ ثُغُورِهِمْ وَتَجْهِيزِ جُيُوشِهِمْ وَأَخْذِ صَدَقَاتِهِمْ وَقَهْرِ الْمُتَغَلِّبَةِ وَالْمُتَلَصِّصَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَتَزْوِيجِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ اللَّذَيْنِ لَا أَوْلِيَاءَ لَهُمَا وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَتَوَلَّاهَا آحَادُ الْأُمَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَنْعَزِلُ الْإِمَامُ بِالْفِسْقِ ; لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْإِمَامَةِ ابْتِدَاءً فَبَقَاءٌ أَوْلَى، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَكَذَا كُلُّ قَاضٍ وَأَمِيرٍ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَنْظُرُ لِغَيْرِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ حَتَّى يَصِحَّ لِلْأَبِ الْفَاسِقِ تَزْوِيجُ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ، وَالْمَسْطُورُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي انْعِزَالِهِ وَوُجُوبِ نَصْبِ غَيْرِهِ إِثَارَةَ الْفِتْنَةِ لِمَا لَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ بِخِلَافِ الْقَاضِي (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3667 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3667 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ) قَدْ أَشَرْنَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ تَعْدِيَةَ (بَايَعْنَا) بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى عَاهَدْنَا (يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ فِيمَا (اسْتَطَعْتُ) عَلَى التَّكَلُّمِ أَيْ قُلْ: فِيمَا اسْتَطَعْتُ، تَلْقِينًا لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِأُمَّتِهِ حَيْثُ لَقَّنَهُمْ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ فِيمَا اسْتَطَعْتُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي عُمُومِ بَيْعَتِهِ مَا لَا يُطِيقُهُ. اهـ وَيُحْتَمَلُ حَمْلُ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِيَتَّفِقَ الْحَدِيثَانِ فِي الْمَبْنَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا فِي كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَةَ الْمُبَايَعَةِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ رَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ.

3668 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3668 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا) أَيْ أَمْرًا أَوْ فِعْلًا (يَكْرَهُهُ) أَيْ شَرْعًا أَوْ طَبْعًا (فَلْيَصْبِرْ) أَيْ وَلَا يَخْرُجْ عَلَيْهِ (فَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ) أَيِ الْمُنْتَظِمَةَ بِنَصْبِ الْإِمَامَةِ (شِبْرًا) أَيْ قَدْرًا يَسِيرًا (فَيَمُوتَ) بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَانِبِ النَّفْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى (يُفَارِقُ) أَيْ فَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ (إِلَّا مَاتَ) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (مِيتَةً) بِكَسْرِ الْمِيمِ لِلْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ (جَاهِلِيَّةً) أَيْ مَنْسُوبَةً إِلَى الْجَاهِلِ فِي الدِّينِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمِيتَةُ وَالْقِتْلَةُ بِالْكَسْرِ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ وَفَارَقَ جَمَاعَةَ الْإِسْلَامِ وَشَذَّ عَنْهُمْ وَخَالَفَ إِجْمَاعَهُمْ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ عَلَى هَيْئَةٍ كَانَ يَمُوتُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى طَاعَةِ أَمِيرٍ فَلَا يَتَّبِعُونَ هُدَى إِمَامٍ بَلْ كَانُوا مُسْتَنْكِفِينَ عَنْهَا مُسْتَبِدِّينَ فِي الْأُمُورِ لَا يَجْتَمِعُونَ فِي شَيْءٍ وَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَى رَأْيٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3669 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَدْعُو لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي بِسَيْفِهِ يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3669 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ) أَيْ طَاعَةِ الْإِمَامِ (وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ) أَيْ جَمَاعَةَ الْإِسْلَامِ (فَمَاتَ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ (مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ) بِالْأَلْفِ أَيْ عَلَمٍ (عِمِّيَّةٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَيُضَمُّ وَبِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَمِيَّةُ كَغَنِيَّةٍ وَيُضَمُّ الْغِوَايَةُ وَاللِّجَاجُ وَبِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ مُشَدَّدَتَيِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ الْكِبْرُ وَالضَّلَالُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا وَتَشْدِيدِهَا وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَهِيَ الْأَمْرُ الْأَعْمَى لَا يَسْتَبِينُ وَجْهُهُ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَنْبَلٍ وَالْجُمْهُورُ فِي الْغَرِيبَيْنِ قَالَ إِسْحَاقُ: هَذَا فِي تَخَارُجِ الْقَوْمِ وَقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنَ التَّعْمِيَةِ وَهُوَ التَّلْبِيسُ (يَغْضَبُ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ يَغْضَبُ (لِعَصَبِيَّةٍ) وَهِيَ الْخَصْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ أَيْ لِإِعْلَاءِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ (أَوْ يَدْعُو) أَيْ غَيْرَهُ (لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَنْصُرُ) أَيْ بِالْفِعْلِ مِنَ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ (عَصَبِيَّةً) تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ يُقَاتِلُ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ تَعَصُّبًا كَقِتَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يَعْرِفُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَإِنَّمَا يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ لَا لِنُصْرَةِ الدِّينِ، وَالْعَصَبِيَّةُ إِعَانَةُ قَوْمِهِ عَلَى الظُّلْمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ) كِنَايَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مُجْتَمِعِينَ عَلَى أَمْرٍ مَجْهُولٍ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ فَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَيْهِ وَيُقَاتِلُونَ لَهُ، وَقَوْلُهُ (يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ) حَالٌ إِمَّا مُؤَكِّدَةٌ إِذَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ، أَوْ مُتَنَقِّلَةٌ إِذَا فَرَضَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ مَنْ قَاتَلَ تَعَصُّبًا لَا لِإِظْهَارِ دِينٍ وَلَا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ الْمَغْضُوبُ لَهُ مُحِقًّا كَانَ عَلَى الْبَاطِلِ (فَقُتِلَ) أَيْ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ (فَقِتْلَةٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَتَلَهُ قِتْلَةٌ (جَاهِلِيَّةٌ) وَالْجُمْلَةُ مَعَ الْفَاءِ جَوَابُ الشَّرْطِ (وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي) أَيْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ (بِسَيْفِهِ) أَيْ بِآلَةٍ مِنْ آلَاتِ الْقَتْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ خَرَجَ مُشَاهِرًا بِسَيْفِهِ وَقَوْلُهُ (يَضْرِبُ بَرَّهَا) أَيْ صَالِحَهَا (وَفَاجِرَهَا) أَيْ طَالِحَهَا حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ يَضْرِبُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَتَقَدُّمُ الْبَرِّ لِلْاهْتِمَامِ وَإِظْهَارِ الْحِرْصِ وَالْأَذَى (وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا) أَيْ لَا يَكْتَرِثُ وَلَا يُبَالِي بِمَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَخَافُ عُقُوبَتَهُ وَوَبَالَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فَقَوْلُهُ (بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا) يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْمَعَاهَدِ وَالذِّمِّيِّ، وَقَوْلُهُ (لَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِيَ لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ) كَالتَّفْصِيلِ لَهُ. اهـ وَلَا يَخْفَى بَعْدَ كَوْنِ الْمُرَادِ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ (فَلَيْسَ مِنِّي) أَيْ مِنْ أُمَّتِي أَوْ عَلَى طَرِيقَتِي (وَلَسْتُ مِنْهُ) وَفِيهِ تَهْدِيدٌ وَتَشْدِيدٌ وَهَذَا السَّلْبُ كَسَلْبِ الْأَهْلِيَّةِ عَنِ ابْنِ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] لِعَدَمِ اتِّبَاعِهِ لِأَبِيهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3670 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ أَلَا مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3670 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ) بِالْهَمْزَتَيْنِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُ الثَّانِيَةِ يَاءً وَهُوَ جَمْعُ إِمَامٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْوُلَاةُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا هُمُ الْأَئِمَّةَ، فَلَمَّا وَلِيَ الْجُهَّالُ وَالْمُتَكَبِّرُونَ تَرَكُوا مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ لِنُوَّابِهِمْ (الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ) أَيِ الَّذِينَ عَدَلُوا فِي الْحُكْمِ فَتَنْعَقِدُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ وَمَحَبَّةٌ (وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ) قَالَ الْأَشْرَفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّلَاةُ هُنَا بِمَعْنَى الدُّعَاءِ أَيْ تَدْعُونَ لَهُمْ وَيَدْعُونَ لَكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَفِي قَسِيمِهِ (تَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ) ، وَكَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ يُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ إِذَا مُتُّمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ إِذَا مَاتُوا عَنِ الطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَوْلَى أَيْ (تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ) مَا دُمْتُمْ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ يَتَرَحَّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَذْكُرُ صَاحِبَهُ بِخَيْرٍ ( «وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» ) أَيْ تَدْعُونَ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُونَ عَلَيْكُمْ أَوْ تَطْلُبُونَ الْبُعْدَ عَنْهُمْ لِكَثْرَةِ شَرِّهِمْ وَيَطْلُبُونَ الْبُعْدَ عَنْكُمْ لِقِلَّةِ خَيْرِكُمْ (قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ) أَيْ أَفَلَا نَعْزِلُهُمْ وَلَا نَطْرَحُ

عَهْدَهُمْ وَلَا نُحَارِبُهُمْ (عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ إِذَا حَصَلَ مَا ذُكِرَ (قَالَ: لَا) أَيْ لَا تُنَابِذُوهُمْ (مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ) أَيْ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمُ الصَّلَاةَ فِيمَا بَيْنَكُمْ ; لِأَنَّهَا عَلَامَةُ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ فِي الْأُمَّةِ، قَالَ الطِّيبِيٌّ: فِيهِ إِشْعَارٌ بِتَعْظِيمِ أَمْرِ الصَّلَاةِ وَأَنَّ تَرْكَهَا مُوجِبٌ لِنَزْعِ الْيَدِ عَنِ الطَّاعَةِ كَالْكُفْرِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا. الْحَدِيثَ وَلِذَلِكَ كَرَّرَهُ وَقَالَ: (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (مَنْ وُلِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّوْلِيَةِ بِمَعْنَى التَّأْمِيرِ أَيْ أُمِّرَ (عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ) أَيِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ الْوَالِيَ (يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] وَالْمَعْنَى فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ بِلِسَانِهِ (وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) أَيْ بِالْخَلْعِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3671 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ أَنْكَرَ فَقْدَ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ: لَا مَا صَلَّوْا لَا مَا صَلَّوْا أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3671 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ (يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ) قَالَ الْقَاضِي: هُمَا صِفَتَانِ لِأُمَرَاءَ، وَالرَّاجِعُ فِيهَا مَحْذُوفٌ أَيْ تَعْرِفُونَ بَعْضَ أَفْعَالِهِمْ وَتُنْكِرُونَ بَعْضَهَا يُرِيدُ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ يَكُونُ بَعْضُهَا حَسَنًا وَبَعْضُهَا قَبِيحًا (فَمَنْ أَنْكَرَ) أَيْ مَنْ قَدَرَ أَنْ يُنْكِرَ بِلِسَانِهِ عَلَيْهِمْ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ وَسِمَاتِ أَحْوَالِهِمْ وَأَنْكَرَ (فَقَدْ بَرِئَ) أَيْ مِنَ الْمُدَاهَنَةِ وَالنِّفَاقِ (وَمَنْ كَرِهَ) أَيْ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ وَكَرِهَ ذَلِكَ (فَقَدْ سَلِمَ) أَيْ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي الْوِزْرِ وَالْوَبَالِ (وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ) أَيْ بِفِعْلِهِمْ بِالْقَلْبِ (وَتَابَعَ) أَيْ تَابَعَهُمْ فِي الْعَمَلِ فَهُوَ الَّذِي شَارَكَهُمْ فِي الْعِصْيَانِ وَانْدَرَجَ مَعَهُمْ تَحْتَ اسْمِ الطُّغْيَانِ، وَحَذْفُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ مَنْ رَضِيَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ وَسِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْقِسْمِ ضِدُّ مَا أَثْبَتَهُ لِقَسِيمِهِ (قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ) أَيْ حِينَئِذٍ (قَالَ: لَا) أَيْ لَا تُقَاتِلُوهُمْ (مَا صَلَّوْا لَا مَا صَلَّوْا) تَأْكِيدٌ وَإِنَّمَا مَنَعَ عَنْ مُقَاتَلَتِهِمْ مَا دَامُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِسْلَامِ وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ حَذَرًا مِنْ هَيْجِ الْفِتَنِ وَاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ أَشَدَّ نِكَايَةً مِنِ احْتِمَالِ نُكْرِهِمْ، وَالْمُصَابِرَةِ عَلَى مَا يُنْكِرُونَ مِنْهُمْ (أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ فَمَنْ أَنْكَرَ وَمَنْ كَرِهَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ لُزُومُ التَّكْرَارِ وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ اللِّسَانِيَّ لَمَّا كَانَ مُتَفَرِّعًا عَنِ الْإِنْكَارِ الْقَلْبِيِّ صَحَّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ بِدُونِ إِنْكَارِ جَنَانِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ عِصْيَانِهِ، فَالتَّقْدِيرُ مَنْ أَنْكَرَ إِنْكَارًا مُتَلَبِّسًا بِقَلْبِهِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: يَعْنِي مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا لَا يَخْفَى هَذَا مَحْمِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْمَرَامِ فَقَدْ قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا التَّفْسِيرُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّ الْإِنْكَارَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْكَرَاهَةَ بِالْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ كِلَاهُمَا بِالْقَلْبِ لَكَانَا مُنْكَرَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَلْبِ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَفِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ: مَنْ أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَدْفَعُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ تُنْكِرُونَ ; لِأَنَّ هَذَا الْإِنْكَارَ مُنْحَصِرٌ فِي اللِّسَانِ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ لَيْسَ إِلَّا بِالْقَلْبِ لِوُقُوعِهِ قَسِيمًا لِـ (تَعْرِفُونَ) وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، أَيْ تَرَوْنَ مِنْهُمْ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ مَا تَعْرِفُونَ وَتَرَوْنَ مِنْ سُوءِ السِّيرَةِ مَا تُنْكِرُونَ أَيْ تَجْهَلُونَهُ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ مَا يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَالْمُنْكَرَ عَكْسُهُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: لَمْ يُنْكِرْ أَنَّ الْإِنْكَارَ مُنْحَصِرٌ فِي اللِّسَانِ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْإِنْكَارَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْقَلْبِ ; لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ كَرَاهَةِ الْقَلْبِ وَأَيْضًا الْمُنْكَرُ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الشَّرْطَيْنِ مُخْتَلِفًا، لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ تَفْصِيلٌ لِيُنْكِرُونَ بِشَهَادَةِ الْفَاءِ فِي (فَمَنْ أَنْكَرَ) فَلَنْ يَكُونَ الْمُفَصَّلُ مُخَالِفًا لِلْمُجْمَلٍ، قُلْتُ: لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُجْمَلَ هُوَ الْمُنْكَرُ الشَّرْعِيُّ، وَالتَّفْصِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ الْمُنْكَرِ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَاهُ فَمَنْ أَنْكَرَ مَا

لَا يَعْرِفُ حُسْنَهُ فِي الشَّرْعِ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ، وَمَنْ لَمْ يُنْكِرْهُ حَقَّ الْإِنْكَارِ بَلْ كَرِهَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَا بُدَّ لِمَنْ أَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ حَقَّ الْإِنْكَارِ أَنْ يُظْهِرَهُ بِالْمُكَافَحَةِ بِلِسَانِهِ، بَلْ يُجَاهِدُهُ بِيَدِهِ وَجَمِيعِ جَوَارِحِهِ، وَإِذَا قَيَّدَ الْإِنْكَارَ بِقَلْبِهِ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا خَصَّ بِلِسَانِهِ لَمْ يُفْدِهِ، قُلْتُ: وُجُودُ الْإِفَادَةِ الْمَذْكُورَةِ وَعَدَمُهَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْخَارِجِ لَا مِنَ الْعِبَارَةِ كَمَا عَبَّرْنَا عَنْهُ فِيمَا سَبَقَ بِالْإِشَارَةِ ثُمَّ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَمَا يَنْبَغِي مُسَمًّى بِالْكَرَاهَةِ، قَوْلُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ: وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَمَنَعَهُ الضَّعْفُ عَنْ إِظْهَارِ مَا يُضْمِرُ مِنَ النُّكْرَةِ، قُلْتُ: لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ بَلْ هُوَ مُؤَيِّدٌ لِلْمُظْهِرِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، ثُمَّ قَالَ: وَحَاشَا لِمَكَانَةِ إِمَامِ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا أَعْنِي مُسْلِمًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ فِيهِ كَلَامٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لَا سِيَّمَا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَامِ النَّبَوِيِّ، قُلْتُ: الْبُخَارِيُّ أَجَلُّ مِنْهُ قَدْرًا وَقَدْ وَقَعَ لَهُ سَهْوٌ فِي الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي كِتَابِهِ، مَعَ أَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ تَقْلِيدٍ وَإِلَّا فَكُلُّ أَحَدٍ يُقْبَلُ كَلَامُهُ وَيُرَدُّ إِلَّا الْمَعْصُومَ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ بَلْ هُوَ نَاقِلٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِقَائِلِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ الْمُظْهِرُ بِهَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ كَذَا وَيُرْوَى: فَمَنْ أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ. وَلَفْظُ يُرْوَى وَنَحْوِهِ إِنَّمَا يَسْتَعْمِلُهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ فِيمَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، قُلْتُ: هَذَا غَالِبِيٌّ وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْوَى فِي اعْتِبَارِ الْمَعْنَى مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَا أَخَبَرَ بِهِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَسَكَتَ لَا يَأْثَمُ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ. هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَهُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ وَيَسْلَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَلَفْظُهُ (سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَفْظَةَ ( «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ نَابَذَهُمْ نَجَا وَمَنِ اعْتَزَلَهُمْ سَلِمَ وَمَنْ خَالَطَهُمْ هَلَكَ» ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ مِنْ بَعْدِي يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ وَيَعْمَلُونَ بِمَا تُنْكِرُونَ فَلَيْسَ أُولَئِكَ عَلَيْكُمْ بِأَئِمَّةٍ أَيْ فِي الْحَقِيقَةِ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ: «سَتَكُونُ أَئِمَّةٌ مِنْ بَعْدِي يَقُولُونَ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ يَتَقَاحَمُونَ فِي النَّارِ كَمَا تَقَاحَمُ الْقِرَدَةُ» .

3672 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3672 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لَنَا) أَيْ لِأَجْلِنَا أَوْ مُشَافِهًا لَنَا (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ وَفِي الْقَامُوسِ: (أُثْرَةً) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ وَبِفَتْحِهِمَا أَيْضًا، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ الْأَثَرَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ وَيُقَالُ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ ذَكَرَهُنَّ فِي الْمَشَارِقِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الِاسْتِئْثَارُ وَالْاخْتِصَاصُ بِأُمُورِ الدِّينِ (وَأُمُورًا) أَيْ أَشْيَاءَ أُخَرَ (تُنْكِرُونَهَا) أَيْ لَا تَسْتَحْسِنُوهَا قِيلَ: فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِدُونِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فَيَكُونُ بَيَانَ (أَثَرَةً) (قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟) أَيْ حِينَئِذٍ (يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ) أَيْ طَاعَتَكُمْ إِيَّاهُمْ (وَسَلُوا) بِالنَّقْلِ أَوْ مِنْ سَأَلَ بِالْأَلِفِ (اللَّهَ حَقَّكُمْ) أَيِ اطْلُبُوا اللَّهَ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْكُمْ حَقَّكُمْ وَهُوَ مَا أَثَرُوا فِيهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّكُمْ وَلَا تُكَافِئُوا اسْتِئْثَارَهُمْ بِاسْتِئْثَارِكُمْ بَلْ وَفِّرُوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَحُقُوقِ الدِّينِ وَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْكُمْ حَقَّكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ وَنَحْوِهَا وَكِلُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَكُمْ، وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي غَدًا عَلَى الْحَوْضِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ.

3673 - «وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ; فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3673 - (وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَّا) بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ صِفَةُ أُمَرَاءَ أَيْ يَطْلُبُونَا (حَقَّهُمْ) أَيْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ (وَيَمْنَعُونَا) بِالْوَجْهَيْنِ (حَقَّنَا) أَيْ مِنَ الْعَدْلِ وَإِعْطَاءِ الْغَنِيمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: لَوْ ضَيَّعُونَا حَقَّنَا (فَمَا تَأْمُرُنَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا جَزَاءُ الشَّرْطِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِعْلَامِ (قَالَ: اسْمَعُوا) أَيْ ظَاهِرًا (وَأَطِيعُوا) بَاطِنًا أَوِ اسْمَعُوا قَوْلًا وَأَطِيعُوا فِعْلًا (فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ مَا كُلِّفُوا مِنَ الْعَدْلِ وَإِعْطَاءِ حَقِّ الرَّعِيَّةِ (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ أَيْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلِيَّةِ وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا كُلِّفَ بِهِ وَلَمْ يَتَعَدَّ حَدَّهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدَّمَ الْجَارَّ عَلَى الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلْاخْتِصَاصِ أَيْ لَيْسَ عَلَى الْأُمَرَاءِ إِلَّا مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ وَكَلَّفَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ بِهَذَا لَمْ يُقِيمُوا بِذَلِكَ فَعَلَيْهِمُ الْوِزْرُ وَالْوَبَالُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَعَلَيْكُمْ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ، فَإِذَا قُمْتُمْ بِمَا عَلَيْكُمْ فَاللَّهُ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ عَلَيْكُمْ وَيُثِيبُكُمْ بِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3674 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3674 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) أَيْ أَيِّ طَاعَةٍ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَمَّا كَانَ وَضْعُ الْيَدِ كِنَايَةً عَنِ الْعَهْدِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعَةِ لِجَرْيِ الْعَادَةِ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ حَالَ الْمُعَاهَدَةِ كَنَّى عَنِ النَّقْضِ بِخَلْعِ الْيَدِ وَنَزْعِهَا يُرِيدُ مَنْ نَقَضَ وَخَلَعَ نَفْسَهُ عَنْ بَيْعَةِ الْإِمَامِ (لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ) أَيْ آثِمًا وَلَا عُذْرَ لَهُ (وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ) أَيْ لِإِمَامٍ (مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) وَهُوَ مَعْنَى مَا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَذَكَرَهُ السَّعْدُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ مِنْ حَدِيثِ (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3675 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيُّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بَيْعَةَ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3675 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ) أَيْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ (الْأَنْبِيَاءُ) كَمَا يَفْعَلُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ بِالرَّعِيَّةِ، وَالسِّيَاسَةُ الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا يُصْلِحُهُ وَهُوَ خَبَرُ كَانَ (كُلَّمَا هَلَكَ) أَيْ مَاتَ (نَبِيٌّ خَلَفَهُ) أَيْ جَاءَ خَلْفَهُ (نَبِيٌّ) قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ يَرْأَسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ تَتْرَى تَابِعًا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَوْلُهُ (وَإِنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (لَا نَبِيَّ بَعْدِي) مَعْطُوفٌ عَلَى كَانَتْ وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِإِرَادَةِ الثَّبَاتِ وَالتَّوْكِيدِ فِي الثَّانِي، يَعْنِي قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَقِصَّتُنَا كَيْتَ وَكَيْتَ (وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ) أَيْ أُمَرَاءُ (فَيَكْثُرُونَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي مُسْلِمٍ فَتَكْثُرُ فِي الْقَامُوسِ: كَثُرَ كَكَرُمَ وَكَثَّرَهُ تَكْثِيرًا وَأَكْثَرَهُمْ وَكَاثَرُوهُمْ فَكَثَّرُوهُمْ أَيْ غَالَبُوهُمْ فِي الْكَثْرَةِ فَغَلَبُوهُمْ، وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كَسْرِ الثَّاءِ مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ (قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا) جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِذَا كَثُرَ بَعْدَكَ الْخُلَفَاءُ فَوَقَعَ التَّشَاجُرُ وَالتَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ فَمَا تَأْمُرُنَا نَفْعَلُ (قَالَ: فُوا) أَمْرٌ مِنْ وَفَى يَفِي أَيْ أَوْفُوا (بَيْعَةَ الْأَوَّلِ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ لِمُسْلِمٍ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: قُوا، بِالْقَافِ أَمْرٌ مِنْ وَقَى يَقِي أَيِ احْفَظُوا وَرَاعُوا بَيْعَةَ الْأَوَّلِ (فَالْأَوَّلِ) قَالَ الطِّيبِي: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالتَّكْرِيرُ لِلْاسْتِمْرَارِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بَلِ الْحُكْمُ هَذَا عِنْدَ تَجَدُّدِ كُلِّ زَمَانٍ وَتَجَدُّدِ بَيْعَةٍ وَقَوْلُهُ (أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ) كَالْبَدَلِ، مِنْ قَوْلِهِ فُوا بَيْعَةَ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ (فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ) تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِإِعْطَاءِ حَقِّهِمْ وَفِيهَا اخْتِصَارٌ أَيْ: فَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْطُوكُمْ حَقَّكُمْ ; فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ (عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ) وَمُثِيبُكُمْ بِمَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ. وَقَوْلُهُ: اسْتَرْعَاهُمْ أَيْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ رَاعِيَهُمْ وَأَمِيرَهُمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنِ اسْتَرْعَيْتُهُ الشَّيْءَ فَرَعَاهُ وَفِي الْمَثَلِ: مَنِ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ فَقَدْ ظَلَمَ، وَالرَّاعِي الْوَالِي، وَالرَّعِيَّةُ الْعَامَّةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3676 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3676 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ) أَيْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ (فَاقْتُلُوا الْآخِرَ) بِكَسْرِ مَا قَبْلَ الْآخِرِ (مِنْهُمَا) وَالْقَتْلُ مَجَازٌ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْفَعْ إِلَّا بِالْقَتْلِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ أَرَادَ بِالْقَتْلِ الْمُقَاتَلَةَ ; لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَايَتُهَا وَقِيلَ: أَرَادَ إِبْطَالَ بَيْعَتِهِ وَتَوْهِينَ أَمْرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ قَتَلْتُ الشَّرَابَ إِذَا مَزَجْتَهُ وَكَسَرْتَ سَوْرَتَهُ بِالْمَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَوَّلُ مِنَ الْوِجْهَتَيْنِ يَسْتَدْعِي الثَّانِي ; لِأَنَّ الْآخَرَ مِنْهُمَا خَارِجٌ عَلَى الْأَوَّلِ بَاغٍ عَلَيْهِ فَتَجِبُ الْمُقَاتَلَةُ مَعَهُ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَإِلَّا قُتِلَ، فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يُؤَوَّلُ لِلْحَثِّ عَلَى دَفْعِهِ وَإِبْطَالِ بَيْعَتِهِ وَتَوْهِينِ أَمْرِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَاتِلُ أَهْلِ الْبَغْيِ غَيْرُ نَاقِضٍ عَهْدَهُ لَهُمْ إِنْ عَهِدَ لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا مَنْ يَلْزَمُ الْإِمَامَ مُحَارَبَتُهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ لِشَخْصَيْنِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ اتَّسَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِ الْإِرْشَادِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِشَخْصَيْنِ، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلِاثْنَيْنِ فِي صُقْعٍ وَاحِدٍ وَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَهُمَا وَتَخَلَّلَتْ بَيْنَهُمَا شُسُوعٌ فَلِلْاحْتِمَالِ فِيهِ مَجَالٌ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْقَوَاطِعِ، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ هَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَالظَّاهِرُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3677 - وَعَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3677 - (وَعَنْ عَرْفَجَةَ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ابْنُ سَعْدٍ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ طَرَفَةُ وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ ذَهَبٍ، وَكَانَ ذَهَبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ بِضَمِّ الْكَافِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (سَتَكُونُ هَنَاتٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (وَهَنَاتٌ) أَيْ شُرُورٌ وَفَسَادَاتٌ مُتَتَابِعَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْفِتَنُ الْمُتَوَالِيَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَيَظْهَرُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعُ الْفَسَادِ، الْفِتْنَةُ لِطَلَبِ الْإِمَارَةِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَإِنَّمَا الْإِمَامُ مَنِ انْعَقَدَ أَوَّلًا لَهُ الْبَيْعَةُ (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يَفْصِلَ وَيَقْطَعَ (أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ (فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ) أَيْ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّفْرِيقِ وَالتَّقْطِيعِ (كَائِنًا مَنْ كَانَ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَقَارِبِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَهِيَ الْخِلَافَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ: كَائِنًا مَا كَانَ، وَمَشَى عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ حَالٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ أَيِ ادْفَعُوا مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ بِالسَّيْفِ وَإِنْ كَانَ أَشْرَفَ وَأَعْلَمَ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى، وَهَذَا الْمَعْنَى أَظْهَرُ فِي لَفْظِهِ مِمَّا فِي الْمَتْنِ ; لِأَنَّهُ يَجْرِي حِينَئِذٍ عَلَى صِفَةِ ذَوِي الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] أَيْ عَظِيمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّأْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَرْفَجَةَ بِلَفْظِ ( «سَتَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَاقْتُلُوهُ ; لِأَنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ» ) وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ ( «سَتَكُونُ أَحْدَاثٌ وَفِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ وَاخْتِلَافٌ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ الْمَقْتُولَ لَا الْقَاتِلَ فَافْعَلْ» ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سُلَالَةَ ( «سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَّةٌ يَمْلِكُونَ أَرْزَاقَكُمْ يُحَدِّثُونَكُمْ فَيَكْذِبُونَكُمْ وَيَعْمَلُونَ فَيُسِيئُونَ الْعَمَلَ لَا يَرْضَوْنَ مِنْكُمْ حَتَّى تُحَسِّنُوا قَبِيحَهُمْ وَتُصَدِّقُوا كَذِبَهُمْ فَأَعْطُوهُمُ الْحَقَّ مَا رَضُوا بِهِ فَإِذَا تَجَاوَزُوا فَمَنْ قُتِلَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ) » وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ ( «سَيَلِيكُمْ أُمَرَاءُ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِمْ أَكْثَرُ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَهُمُ الْأَجْرُ وَعَلَيْكُمُ الشُّكْرُ وَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَعَلَيْهِمُ الْوِزْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ» .

3678 - وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3678 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ عَرْفَجَةَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ أَمْرَكُمْ مُجْتَمِعٌ (عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ) أَيْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْخِلَافَةِ أَوْ لَهُ التَّسَلُّطُ وَالْغَلَبَةُ (يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ) فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: شَقَّ الْعَصَا إِذَا فَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَقَوْلُهُ (أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ) لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي أَوْ لِلتَّنْوِيعِ فَإِنَّ التَّفْرِيقَ غَيْرُ الْمُفَارَقَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا الْمُلَازَمَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: شَقُّ الْعَصَا تَمْثِيلٌ شَبَّهَ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَاتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ بِالْعَصَا إِذَا لَمْ تُشَقَّ وَافْتِرَاقُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِشَقِّ الْعَصَا ثُمَّ كَنَّى بِهِ عَنْهُ فَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّفْرِيقِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ: أَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ، حَيْثُ أَسْنَدَ الْجَمِيعَ إِلَى الْأَمْرِ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا ; لِأَنَّهُ سَبَبُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ (فَاقْتُلُوهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3679 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3679 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ) أَيِ الْإِمَامَ إِيَّاهُ أَوْ بِالْعَكْسِ (صَفْقَةَ يَدِهِ) فِي النِّهَايَةِ: الصَّفْقَةُ الْمَرَّةُ مِنَ التَّصْفِيقِ بِالْيَدِ ; لِأَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَضَعُ أَحَدُهُمَا يَدَهُ فِي يَدِ الْآخَرِ عِنْدَ يَمِينِهِ وَبَيْعَتِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَبَايِعَانِ (وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ) أَيْ إِخْلَاصَهُ أَوْ خَالِصَ عَهْدِهِ أَوْ مَالَهُ وَقِيلَ: صَفْقَةُ يَدِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَالِ وَثَمَرَةُ قَلْبِهِ كِنَايَةٌ عَنْ مُبَايَعَتِهِ مَعَ وَلَدِهِ (فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ) أَيْ إِمَامٌ آخَرُ (يُنَازِعُهُ) أَيِ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ أَوِ الْمُبَايَعَ (فَاضْرِبُوا) خِطَابٌ عَامٌّ يَشْمَلُ الْمُبَايِعَ وَغَيْرَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَمَعَ الضَّمِيرَ فِيهِ بَعْدَمَا أَفْرَدَ فِي (فَلْيُطِعْهُ) نَظَرًا إِلَى لَفْظٍ مَنْ تَارَةً وَمَعْنَاهَا أُخْرَى وَقَوْلُهُ (عُنُقَ الْآخَرِ) وَضَعَ مَوْضِعَ عُنُقِهِ إِيذَانًا بِأَنَّهُ كَوْنُهُ آخَرَ يَسْتَحِقُّ ضَرْبَ الْعُنُقِ تَقْرِيرٌ لِلْمُرَادِ وَتَحْقِيقًا لَهُ اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَفْظَ الْآخَرِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ مَعْنًى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3680 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ; فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3680 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) أَيِ الْقُرَشِيِّ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَصَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَخَلْقٌ سِوَاهُمَا (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ لَا تَطْلُبِ الْحُكُومَةَ وَالْوِلَايَةَ لَا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنَ الْخَالِقِ (فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ) أَيْ إِعْطَاءً صَادِرًا عَنْ سُؤَالٍ (وُكِلْتَ إِلَيْهَا) أَيْ تُرِكْتَ إِلَيْهَا وَخُلِّيتَ مَعَهَا مِنْ غَيْرِ إِعَانَةٍ لَكَ فِيهَا لِأَنَّكَ اسْتَقْلَلْتَ فِي طَلَبِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فُوِّضْتَ إِلَى الْإِمَارَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَمْرٌ شَاقٌّ لَا يَقُومُ بِهَا أَحَدٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةٍ مِنَ اللَّهِ إِلَّا أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي وَرْطَةٍ خَسِرَ فِيهَا دُنْيَاهُ وَعُقْبَاهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَسْأَلْهَا اللَّبِيبُ الْحَازِمُ (وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ) أَيْ حَالَ كَوْنِكَ مُفَوِّضًا أَمْرَكَ إِلَى اللَّهِ وَمُعْتَقِدًا أَلَّا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (أُعِنْتَ عَلَيْهَا) أَيْ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّثْبِيتِ وَالتَّحْقِيقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3681 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3681 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: حَرَصَ كَضَرَبَ وَمَنَعَ (عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ) أَيِ الْإِمَارَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْحِرْصِ (نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْجَوَابِ فِي الْمُحَاسَبَةِ وَحُصُولِ الْعِتَابِ فِي مُقَابَلَةِ الْحُقُوقِ وَالْمُطَالَبَةِ (فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ) وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ (وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ) الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ مَحْذُوفٌ فِيهِمَا وَهُوَ الْإِمَارَةُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: لَفْظُ نِعْمَ وَبِئْسَ إِذَا كَانَ فَاعِلُهُمَا مُؤَنَّثًا جَازَ إِلْحَاقُ التَّأْنِيثِ وَجَازَ تَرْكُهَا فَلَمْ يُلْحِقْهَا هُنَا فِي نِعْمَ، وَأَلْحَقَهَا فِي بِئْسَتْ، يَعْنِي عَمَلًا بِاللُّغَتَيْنِ وَتَفَنُّنًا فِي الْعِبَارَتَيْنِ وَلَمْ يَعْكِسْ ; لِأَنَّ إِلْحَاقَ الزَّائِدِ أَوْلَى بِالثَّانِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يُلْحِقْهَا بِنِعْمَ لِأَنَّ

الْمُرْضِعَةَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِمَارَةِ ; وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَنَّثَةً إِلَّا أَنَّ تَأْنِيثَهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ ; وَأَلْحَقَهَا بِبِئْسَ ; نَظَرًا إِلَى كَوْنِ الْإِمَارَةِ حِينَئِذٍ: دَاهِيَةً دَهْيَاءَ، وَفِيهِ أَنَّ مَا يَنَالُهُ أَمِيرٌ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ; أَبْلَغُ وَأَشَدُّ مِمَّا يَنَالُهُ مِنَ النَّعْمَاءِ وَالسَّرَّاءِ ; وَأَتَى بِالتَّاءِ فِي الْمُرْضِعِ وَالْفَاطِمِ ; دَلَالَةً عَلَى تَصْوِيرِ تَيْنِكَ الْحَالَتَيْنِ الْمُتَجَدِّدَتَيْنِ فِي الْإِرْضَاعِ وَالْفِطَامِ ; يَعْنِي الْمُرْضِعَ وَالْفَاطِمَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ لِلنِّسَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِتْيَانِ تَاءِ التَّأْنِيثِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ وَصْفَيِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ ; وَلِذَا يُقَالُ طَالِقٌ وَحَائِضٌ، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَا هَاهُنَا لِتَذْكِيرِ التَّصْوِيرِ، قَالَ الْقَاضِي: شَبَّهَ الْوِلَايَةَ بِالْمُرْضِعَةِ وَانْقِطَاعَهَا بِالْمَوْتِ، أَوِ الْعَزْلَ بِالْفَاطِمَةِ ; أَيْ نِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ الْوِلَايَةً ; فَإِنَّهَا تَدِرُّ عَلَيْكَ الْمَنَافِعَ وَاللَّذَّاتَ الْعَاجِلَةَ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ الْمُسِيئَةُ فَإِنَّهَا تَقْطَعُ عَنْكَ اللَّذَائِذَ وَالْمَنَافِعَ وَتُبْقِي عَلَيْكَ الْحَسْرَةَ وَالنَّدَامَةَ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُلِمَّ بِلَذَّاتٍ يَتْبَعُهَا حَسَرَاتٌ اهـ. وَقِيلَ جَعَلَ الْإِمَارَةَ فِي حَلَاوَةِ أَوَائِلِهَا وَمَرَارَةِ أَوَاخِرِهَا، كَمُرْضِعَةٍ تُحْسِنُ بِالْإِرْضَاعِ وَتُسِيءُ بِالْفِطَامِ، قُلْتُ فِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ حَلَاوَةَ الْإِمَارَةِ وَمَرَارَةَ الْوِلَايَةِ الْمُشَبَّهَتَيْنِ بِالرَّضَاعِ وَالْفِطَامِ، إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَطْفَالِ الطَّرِيقَةِ دُونَ الرِّجَالِ الْوَاصِلِينَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْحَقِيقَةِ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَظِلٌّ زَائِلٌ إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ الْوَاقِفُونَ عَلَى الْبَابِ وَلِلْعِلِّيِّينَ أَرْبَابُ الْأَلْبَابِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

3682 - «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ; ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ ; وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ ; إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا. وَفِي رِوَايَةٍ ; قَالَ لَهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ ; إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا ; وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي ; لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ ; وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3682 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟) ; أَيْ أَلَا تَجْعَلُنِي عَامِلًا؟ (قَالَ) ; أَيْ أَبُو ذَرٍّ (فَضَرَبَ بِيَدِهِ) ; أَيْ ضَرْبُ لُطْفٍ وَشَفَقَةٍ، (عَلَى مَنْكِبِي) وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ، (ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ) ; أَيْ عَنْ تَحَمُّلِ الْعَمَلِ، (وَإِنَّهَا) ; أَيِ الْإِمَارَةَ (أَمَانَةٌ) يَعْنِي وَمُرَاعَاةُ الْأَمَانَةِ لِكَوْنِهَا ثَقِيلَةً صَعْبَةً لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا إِلَّا كُلُّ قَوِيٍّ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ قَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الْإِمَارَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي، أَوْ بِاعْتِبَارِ تَأْنِيثِ الْخَبَرِ اهـ. فَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ وَالْعَمَلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَفْظِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (وَإِنَّهَا) ; أَيِ الْإِمَارَةَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ) ; أَيْ عَذَابٌ وَفَضِيحَةٌ لِلظَّالِمِ ; (وَنَدَامَةٌ) ; أَيْ تَأَسُّفٌ وَتَنَدُّمٌ عَلَى قَبُولِهَا لِلْعَادِلِ، (إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ; أَيْ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ عَلَى مَنْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، لَكِنْ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا (وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ خِزْيًا وَوَبَالًا عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ بِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا لَهُ فَلَا فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا بِلَا ضَرُورَةٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي اجْتِنَابِ الْوِلَايَةِ، لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِهَا، وَالْخِزْيُ وَالنَّدَامَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا، أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِلْ فَيُخْزِيهِ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَفْضَحُهُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا وَعَدَلَ فِيهَا ; فَلَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَحَدِيثِ ( «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» ) وَحَدِيثِ ( «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ» ) وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِكَثْرَةِ الْخَطَرِ فِيهَا حَذَّرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِينَ امْتَنَعُوا. (وَفِي رِوَايَةٍ) كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ أَيْ لَهُ (قَالَ لَهُ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، أَوْ نُقِلَ بِالْمَعْنَى (يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ إِمَّا مِنَ الرَّأْيِ ; أَيْ أَظُنُّكَ، أَوْ مِنَ الرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ ; أَيْ أَعْرِفُكَ ( «ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي» ) ; أَيْ لَوْ كُنْتُ ضَعِيفًا مِثْلَكَ لَمَا تَحَمَّلْتُ هَذَا الْحِمْلَ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَوَّانِي فَحَمَّلَنِي، وَلَوْلَا أَنَّهُ حَمَّلَنِي لَمَا حَمَلْتُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الْوِلَايَةَ أَفْضَلُ مِنَ الرِّسَالَةِ ; يَعْنِي وِلَايَةَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ رِسَالَتِهِ ; لِأَنَّ وَجْهَ الرِّسَالَةِ إِلَى الْخَلْقِ وَوَجْهَ الْوِلَايَةِ إِلَى الْحَقِّ ; فَالتَّوَجُّهُ إِلَى الْمَوْلَى لَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى (لَا تَأَمَّرَنَّ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَالنُّونِ، وَفِي نُسْخَةٍ لِمُسْلِمٍ فَلَا تَأَمَّرَنَّ ; أَيْ لَا تَقْبَلَنَّ الْإِمَارَةَ (عَلَى اثْنَيْنِ) ; أَيْ فَضْلًا عَنْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا ; فَإِنَّ الْعَدْلَ وَالتَّسْوِيَةَ أَمْرٌ صَعْبٌ بَيْنَهُمَا (وَلَا تَوَلَّيَنَّ) ; بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ وَالنُّونِ (مَالَ يَتِيمٍ) ; أَيْ لَا تَقْبَلَنَّ وِلَايَةَ مَالِ يَتِيمٍ، وَفِي نُسْخَةٍ لِمُسْلِمٍ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ ; أَيْ لَا تَكُنْ وَالِيًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ وَوَبَالَهُ جَسِيمٌ، وَهَذَا مِثَالُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْوَاحِدِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3683 - «وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللَّهُ، وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3683 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا) ضَمِيرُ فَصْلٍ لِيَصِحَّ عَطْفُ قَوْلِهِ (وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي فَقَالَ أَحَدُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمِّرْنَا) أَمْرٌ مِنَ التَّأْمِيرِ ; أَيِ اجْعَلْنَا أَمِيرًا (عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللَّهُ) ; أَيْ عَلَى مَا جَعَلَكَ اللَّهُ حَاكِمًا فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ (وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ) وَلَعَلَّ إِتْيَانَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرِيدُ الْإِمَارَةَ لَهُ وَلِصَاحِبِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوِلَايَةِ، (فَقَالَ إِنَّا وَاللَّهِ) فِيهِ تَأْكِيدَانِ بَلِيغَانِ (لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ) ; أَيِ الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّينِ (أَحَدًا سَأَلَهُ) ; لِأَنَّ بِسُؤَالِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَحَبَّةِ جَاهِهِ وَمَالِهِ الْمُوَرِّثَةِ لِسُوءِ حَالَةٍ فِي مَآلِهِ، فَقَوْلُهُ (وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ) كَالتَّفْسِيرِ لَدَيْهِ وَضَبْطُ حَرَصَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ) ; أَيْ لِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مُعَانًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .

3684 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الْأَمْرِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3684 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ) قَالَ الطِّيبِيُّ ثَانِي مَفْعُولَيْ تَجِدُونَ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (أَشَدَّهُمْ) وَلَمَّا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِيَ أُضْمِرُ فِي الْأَوَّلِ الرَّاجِعِ إِلَيْهِ (عَلَى التَّمْرَةِ مِثْلُهَا زُبْدًا) ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ (خَيْرِ النَّاسِ) عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ زِيَادَةَ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مِنْ) تَبْعِيضِيةٌ ; أَيْ تَجِدُونَ بَعْضَ خِيَارِ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ (كَرَاهِيَةً لِهَذَا الْأَمْرِ) ; أَيْ أَمْرِ الْإِمَارَةِ (حَتَّى يَقَعَ فِيهِ) ; أَيْ فَيَكُونُ بَعْدَهُ نَدَامَةٌ، كَمَا سَبَقَ بِهِ الرِّوَايَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ غَايَةَ تَجِدُونَ أَيْ تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّ كَرَاهَةً حَتَّى يَقَعَ فِيهِ ; فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَيْرَهُمْ، وَثَانِيهُمَا أَنَّهَا غَايَةُ أَشَدَّ أَنْ يَكْرَهَهُ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يُعِينُهُ اللَّهُ فَلَا يَكْرَهُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِقَوْلِهِ: (يَقَعَ فِيهِ) اهـ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَرْضَى أَحَدٌ عَنِ الْإِمَارَةِ فِي الْمَآلِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3685 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ; فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهُ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3685 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ ( «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ) . فِي النِّهَايَةِ الرَّعِيَّةُ كُلُّ مَنْ شَمِلَهُ حِفْظُ الرَّاعِي وَنَظَرُهُ ( «فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ) يُقَالُ: رَعَى الْأَمِيرُ الْقَوْمَ رِعَايَةً فَهُوَ رَاعٍ ; أَيْ قَامَ بِإِصْلَاحِ مَا يَتَوَلَّاهُ، وَهُمْ رَعِيَّةٌ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَدَخَلَتِ التَّاءُ لِغَلَبَةِ الِاسْمِيَّةِ ( «وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ» ) ; أَيْ وَلَدِ زَوْجِهَا (وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ) عَنْ حَقِّ زَوْجِهَا وَأَوْلَادِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، وَغَلَبَ الْعُقَلَاءُ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِمْ ( «وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ» ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَى الرَّاعِي هُنَا ; الْحَافِظُ الْمُؤْتَمَنُ عَلَى مَا يَلِيهِ، أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّصِيحَةِ فِيمَا يَلُونَهُمْ، وَحَذَّرَهُمُ الْخِيَانَةَ فِيهِ بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُ، فَالرِّعَايَةُ حِفْظُ الشَّيْءِ وَحُسْنُ التَّعَهُّدِ، فَقَدِ اسْتَوَى هَؤُلَاءِ فِي الِاسْمِ وَلَكِنَّ مَعَانِيَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، أَمَّا رِعَايَةُ الْإِمَامِ وِلَايَةَ أُمُورِ الرَّعِيَّةِ: فَالْحِيَاطَةُ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ فِيهِمْ. وَرِعَايَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ: فَالْقِيَامُ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ فِي النَّفَقَةِ، وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ. وَرِعَايَةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا: فَحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِي أَمْرِ بَيْتِهِ وَالتَّعَهُّدُ بِخِدْمَةِ أَضْيَافِهِ. وَرِعَايَةُ الْخَادِمِ: فَحِفْظُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ وَالْقِيَامُ بِشُغْلِهِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ ثَانِيًا لِلتَّأْكِيدِ (فَكُلُّكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ يَعْنِي تَقْدِيرَهُ ; فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ فَكُلُّكُمْ (رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) كَمَا أَجْمَلْنَاهُ، فَالْجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ، وَخُلَاصَةٌ لِلْمَرَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] بَعْدَ ذِكْرِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعَةِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ وَالْفَذْلَكَةُ هِيَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمُحَاسِبُ بَعْدَ التَّفْصِيلِ، وَيَقُولُ فَذَلِكَ كَذَا ضَبْطًا لِلْحَاسِبِ، وَتَوَقِّيًا عَنِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فِيمَا فَصَّلَهُ فِي الْكِتَابِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَاءَ الْفَذْلَكَةِ، تَكُونُ تَعْرِيضِيَّةً - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (" «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْإِمَامُ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ") رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ.

3686 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3686 - (وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ» ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَلِي وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ ; قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلَمْ يَحُطْهَا يَعْنِي الْآتِي، كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] (وَهُوَ غَاشٌّ) بِتَشْدِيدِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ خَائِنٌ لَهُمْ، أَوْ ظَالِمٌ لَهُمْ، لَا يُعْطِي حُقُوقَهُمْ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، (إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ; أَيْ دُخُولَهَا مَعَ النَّاجِينَ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوْ زَجْرٌ وَكَيْدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ، أَوْ تَخْوِيفٌ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ; وَفِي قَوْلِهِ: فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ قَبْلَ حَالَةِ الْمَوْتِ بَاقِيَةٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَرْضِ التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ نَاصِحًا فِي الرَّعِيَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَهُوَ غَاشٌّ حَالٌ قُيِّدَ لِلْفِعْلِ، وَمَقْصُودٌ لِلذِّكْرِ ; لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الْفِعْلِ الْحَالُ ; هُوَ الْحَالُ يَعْنِي ; أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا وَلَّاهُ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيُدِيمَ النَّصِيحَةَ لَهُمْ، لَا لِيَغُشَّهُمْ فَيَمُوتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَلَبَ الْقَضِيَّةَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُحْرَمَ الْجَنَّةَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: الْمَعْنَى مَنْ قَلَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ، وَنَصَبَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَإِذَا خَانَ فِيمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْصَحْ فِيمَا قُلِّدَهُ ; إِمَّا بِتَضْيِيعِ حَقِّهِمْ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ غَشَّهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَلَفَظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ) .

3687 - وَعَنْهُ ; قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ ; إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3687 - (وَعَنْهُ) ; أَيْ عَنْ مَعْقِلٍ (قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً» ) ; أَيْ يَطْلُبُهُ أَنْ يَكُونَ رَاعِيَ جَمَاعَةٍ، وَأَمِيرًا عَلَيْهِمْ (فَلَمْ يَحُطْهَا) بِضَمِّ الْحَاءِ ; أَيْ فَلَمْ يُرَاعِهَا (بِنَصِيحَةٍ) وَهِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ حَاطَهُ يَحُوطُهُ حَوْطًا وَحِيَاطَةٌ إِذَا حَفِظَهُ وَصَانَهُ وَذَبَّ عَنْهُ وَتَوَفَّرَ عَلَى مَصَالِحِهِ (إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) ; أَيْ مَعَ الْوَاجِدِينَ فِي الْقِيَامَةِ ; فَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، أَوْ مَعَ الْفَائِزِينَ السَّابِقِينَ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مُطْلَقًا إِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، أَوِ اسْتَحَلَّ الظُّلْمَ، أَوِ اسْتَحَقَّ أَنْ لَا يَجِدَ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُرْضِيَ خُصَمَاءَهُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3688 - وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3688 - (وَعَنْ عَائِذِ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَوْذِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ (بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مَدَنِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ سَكَنَ الْبَصْرَةَ وَحَدِيثُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ رَوَى عَنْهُ جِمَاعَةٌ، (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ) بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ جَمْعُ رَاعٍ كَتُجَّارٍ وَتَاجِرٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ (الْحُطَمَةُ) بِضَمٍّ فَفَتَحٍ مُبَالَغَةً، الْحَاطِمُ مِنَ الْحَطْمِ، وَهُوَ الْكَسْرُ، وَهُوَ " مَنْ يَظْلِمُ الرَّعِيَّةَ وَلَا يَرْحَمُهُمْ فِي الْبَلِيَّةِ، وَقِيلَ: الْأَكُولُ الْحَرِيصُ الَّذِي يَأْكُلُ مَا يَرَى وَيَقْضِمُهُ، وَمِنْهُ الْحُطَمَةُ لِلنَّارِ الْمُوقَدَةِ فَإِنَّ مَنْ هَذَا دَأْبُهُ يَكُونُ دَنِيئًا فِي النَّفْسِ ظَالِمًا بِالطَّبْعِ، شَدِيدَ الطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِيِ النَّاسِ. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الْقَاضِي، وَفِي الْفَائِقِ: الْحُطَمَةُ هُوَ الَّذِي يُعَنِّفُ الْإِبِلَ فِي السُّوقِ وَالْإِيرَادِ وَالْإِصْدَارِ، فَيُحَطِّمُهَا ضَرَبَهُ مَثَلًا لَوَالِي السُّوءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا اسْتَعَارَ لِلْوَالِي وَالسُّلْطَانِ لَفْظَ الرَّاعِي، أَتْبَعَهُ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ مِنْ صِفَةِ الْحَطْمِ، فَالْحُطَمَةُ تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الرَّاعِي لَهُمْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي صَحِيحِهِ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا ; حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، دَخَلَ عَلَيَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ ; فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ.

3689 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3689 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ) ; بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهُ ; أَيْ مَنْ جُعِلَ وَالِيًا (مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا) ; أَيْ مِنَ الْأُمُورِ، أَوْ نَوْعًا مِنَ الْوِلَايَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: " مِنْ " بَيَانُ " شَيْئًا " كَانَتْ صِفَةً قُدِّمَتْ وَصَارَتْ حَالًا، (فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ) بِضَمِّ الْقَافِ، (عَلَيْهِ) ; أَيْ جَزَاءً وِفَاقًا ( «وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» ) بِفَتْحِ الْفَاءِ فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا فِي الْغَابِرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِنْ أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ عَنِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّاسِ، وَأَعْظَمِ الْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ بِهِمْ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا أَظْهَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرَّأْفَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ عَلَى الْأُمَّةِ فَنَقُولُ بِلِسَانِ الْحَالِ: اللَّهُمَّ هَذَا أَوَانُ أَنْ تَرْحَمَ عَلَى أُمَّةِ حَبِيبِكَ الْكَرِيمِ وَتُنْجِيَهُمْ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3690 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِهِمْ مَا وَلُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3690 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ الْمُقْسِطِينَ) ; أَيِ الْعَادِلِينَ، ضِدَّ الْقَاسِطِينَ ; أَيِ الْجَائِرِينَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْقِسْطُ بِالْكَسْرِ الْعَدْلُ وَالْأَصْلُ فِيهِ النَّصِيبُ، تَقُولُ: مِنْهُ قَسَطَ الرَّجُلُ إِذَا جَارَ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وَالْمَصْدَرُ الْقُسُوطُ، وَأَقْسَطَ إِذَا عَدَلَ، وَهُوَ أَنْ يُعْطَى نَصِيبُ غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلَ أَنَّ الْأَلِفَ أُدْخِلَ فِيهِ لِسَلْبِ الْمَعْنَى ; كَمَا أُدْخِلَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَيَكُونُ الْإِقْسَاطُ إِزَالَةَ الْقُسُوطِ (عِنْدَ اللَّهِ) ; أَيْ مُقَرَّبُونَ إِلَيْهِ وَمُكَرَّمُونَ لَدَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ زِيَادَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (عَلَى مَنَابِرَ) ; أَيْ مُرْتَفِعُونَ عَلَى أَمَاكِنَ عَالِيَةٍ غَالِيَةٍ، (مِنْ نُورٍ) ; أَيْ مُنَوَّرَةٍ، كَأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ نُورٍ، أَوْ هِيَ نُورٌ مُبَالَغَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَنَابِرُ جَمْعُ مِنْبَرٍ سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَنَابِرَ حَقِيقَةً عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ، قَالَ الشَّيْخُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مَنَابِرَ فَهُوَ عَلَى أَعْلَى مَرْتَبَةً، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمُرَادُ مِنْهُ كَرَامَتُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَقُرْبُ مَحَلِّهِمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ عُظِّمَ قَدْرُهُ فِي النَّاسِ ; أَنْ يُبَوَّأَ عَنْ يَمِينِ الْمَلِكِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَّهَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا سَبَقَ إِلَى فَهْمِ مَنْ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، مِنْ مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ بِالْيَسَارِ، وَكَشَفَ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ (وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ فِيمَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَةِ الْيَدَيْنِ شِمَالٌ ; لِأَنَّ الشِّمَالَ عَلَى النَّقْصِ وَالضَّعْفِ، وَقَوْلُهُ: وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ; هِيَ صِفَةٌ جَاءَ بِهَا التَّوْقِيفُ، فَنَحْنُ نُطْلِقُهَا عَلَى مَا جَاءَتْ وَلَا نُكَيِّفُهَا، وَنَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ انْتَهَى بِنَا الْكِتَابُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ ; وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْعَرَبُ تَنْسُبُ الْفِعْلَ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْجُهْدِ وَالْقُوَّةِ إِلَى الْيَمِينِ، وَكَذَا الْإِحْسَانَ وَالْإِفْضَالَ إِلَيْهَا، وَضِدُّهَا إِلَى الْيَسَارِ، وَقَالُوا: الْيَمِينُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْيُمْنِ، وَقَالَ الْقَاضِي: وَكِلْتَا يَدَيْهِ ; دَفْعٌ لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ لَهُ يَمِينًا مِنْ جِنْسِ أَيْمَانِنَا الَّتِي يُقَابِلُهَا يَسَارٌ، وَأَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ حَتَّى فَازَ بِالْوُصُولِ إِلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الزُّلْفَى مِنَ اللَّهِ ; عَاقَ غَيْرَهُ عَنْ أَنْ يَفُوزَ بِمِثْلِهِ كَالسَّابِقِ إِلَى مَحِلٍّ مِنْ مَجْلِسِ السُّلْطَانِ، بَلْ جِهَاتِهِ وَجَوَانِبِهِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ إِلَيْهَا الْعِبَادُ سَوَاءٌ (الَّذِينَ يَعْدِلُونَ) صِفَةُ الْمُقْسِطِينَ، أَوْ بَدَلٌ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِأَعْنِي ; مَرْفُوعٌ بِتَقْدِيرِهِمْ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَؤُلَاءِ السَّادَةُ الْمُقَرَّبُونَ فَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ (فِي حُكْمِهِمْ) ; أَيْ فِيمَا يُقَلَّدُونَ مِنْ خِلَافَةٍ، أَوْ قَضَاءٍ، أَوْ إِمَارَةٍ، (وَأَهْلِيهِمْ) ; أَيْ مَا يَجِبُ لِأَهْلِيهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَيْهِمْ، (وَمَا وَلُوا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَضَمِّ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ، وَالْأَصْلُ وَلِيُوا، عَلَى وَزْنِ عَلِمُوا نُقِلَتْ ضَمَّةُ الْيَاءِ إِلَى اللَّامِ بَعْدَ سَلْبِ حَرَكَتِهَا وَحُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ; أَيْ وَمَا كَانَتْ لَهُمْ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْيَتِيمِ، أَوْ وَقْفٍ، أَوْ حِسْبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ مَا جُعِلُوا وَالِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَسْتَوْعِبُ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ فَيُدْخِلُ فِيهِ نَفْسَهُ أَيْضًا، قَالَ الْأَشْرَفُ: فَالرَّجُلُ يَعْدِلُ مَعَ نَفْسِهِ بِأَنْ لَا يُضِيعَ وَقْتَهُ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، بَلْ يَمْتَثِلُ أَوَامِرَ اللَّهِ وَيَنْزَجِرُ عَنْ نَوَاهِيهِ عَلَى الدَّوَامِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْأَوْلِيَاءِ الْكِرَامِ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ غَالِبًا كَمَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ; ظَالِمٍ وَمُقْتَصِدٍ وَسَابِقٍ ; وَالْمُقْتَصِدُ مَنْ عَدَلَ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ إِلَى حَدِّ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَرَقَّ إِلَى مَرْتَبَةِ السَّابِقِ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

3691 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ ; بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3691 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ) ; أَيْ نَبِيًّا (وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ) ; أَيْ إِمَامًا بَعْدَهُ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ (إِلَّا كَانَتْ لَهُ) ; أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا (بِطَانَتَانِ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ ; أَيْ وَزِيرَانِ وَمُشِيرَانِ، مُشَبَّهَانِ بِالْبِطَانَةِ لِمُلَازَمَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَكَّانِ عَنْ صُحْبَتِهِ، (بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ) ; أَيْ بِالْخَيْرِ (وَتَحُضُّهُ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ ; أَيْ تَحُثُّهُ عَلَيْهِ وَتُرَغِّبُهُ إِلَيْهِ وَتُحَسِّنُهُ لَدَيْهِ (وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ ; أَيْ بِالْمُنْكِرِ (وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ) ; أَيْ تُحَرِّضُهُ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو نَبِيٌّ، أَوْ مَنْ يَخْلُفُ مَكَانَهُ مِنْ شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ جَمَاعَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ فِي الرَّأْيِ ; كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي جُلَسَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، (وَالْمَعْصُومُ) ; أَيْ مِنَ النَّبِيِّ وَالْخَلِيفَةِ (مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ) ; أَيْ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِّ وَقَبُولِ كَلَامِهِ، وَالتَّوْفِيقِ بِمُتَابَعَةِ الْخَيْرِ وَقَضَاءِ مَرَامِهِ، وَالْمَعْصُومُ مِنَ الْبِطَانَتَيْنِ مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّرِّ وَوَفَّقَهُ لِلْخَيْرِ. هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ بِطَانَةُ الرَّجُلِ صَاحِبُ سِرِّهِ وَدَاخِلَةُ أَمْرِهِ، الَّذِي يُشَاوِرُهُ فِي أَحْوَالِهِ، الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] بِطَانَةُ الرَّجُلِ ; ذُو وَلِيجَتِهِ وَخَصِيصُهُ، وَصَفِيِّهُ الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهِ بِحَوَائِجِهِ ثِقَةً بِهِ، شُبِهَ بِبِطَانَةِ الثَّوْبِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ شِعَارِيٌّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْبِطَانَةُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، قَدْ تُتَصَوَّرُ فِي بَعْضِ الْخُلَفَاءِ، وَلَكِنَّهَا مُنَافِيَةٌ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَامَّةَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، قُلْتُ: الْوَجْهُ مَا رَوَى الْأَشْرَفُ عَنْ بَعْضِهِمْ ; أَنَّ الْمُرَادَ بِأَحَدِهِمَا الْمَلَكُ، وَبِالثَّانِي الشَّيْطَانُ، وَيُرِيدُهُ قَوْلُهُ: وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» ". أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ «حَدِيثِ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَضِيَافَتِهِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي حَائِطٍ لَهُ مِنْ ذَبْحِ الْغَنَمِ وَإِحْضَارِ الرُّطَبِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ إِلَى أَنْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلْ لَكَ خَادِمٌ " قَالَ لَا " قَالَ: فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَأْتِنَا " فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْسَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ، فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اخْتَرْ مِنْهُمَا " فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْتَرْ لِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ فَخُذْ هَذَا فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا " فَانْطَلَقَ بِهِ أَبُو الْهَيْثَمِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; إِلَّا أَنْ تُعْتِقَهُ، قَالَ: فَهُوَ عَتِيقٌ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3692 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الْأَمِيرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3692 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ) ; أَيِ ابْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَابْنُ سَيِّدِهَا، أَحَدُ دُهَاةِ الْعَرَبِ، وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَرِيَاسَةِ الْبُيُوتِ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي النَّجْدَةِ، وَالْبَسَالَةِ، وَالْكَرَمِ، وَالسَّخَاءِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ جَسِيمًا طَوِيلًا، وَكَانَ مُنْتَصِبًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِتَنْفِيذِ مَا يُرِيدُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ (بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (مِنَ الْأَمِيرِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَهُوَ جَمْعُ شُرْطِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمِيرِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ عَلَى الشُّرَطِ لِلْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ، سُمُّوا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَامَةً يُعْرَفُونَ بِهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3693 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3693 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) بِالتَّاءِ (قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ السِّينِ (قَدْ مَلَّكُوا) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ جَعَلُوا الْمَلِكَ (عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى) بِكَسْرِ الْكَافِ وَيَفْتَحُ، مَلِكُ الْفُرْسِ مُعَرَّبٌ خِسْرُوا ; أَيْ وَاسِعُ الْمُلْكِ ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَفِي النِّهَايَةِ لَقَبُ مَلِكِ الْفُرْسِ، يَعْنِي كَمَا أَنَّ قَيْصَرَ لَقَبُ مَلِكِ الرُّومِ، وَفِرْعَوْنَ لَقَبُ مَلِكِ مِصْرَ، وَتُبَّعَ لِمَلِكِ الْيَمَنِ، (قَالَ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا) بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ فَوَّضُوا (أَمْرَهُمْ) ; أَيْ أَمْرَ مُلْكِهِمْ (امْرَأَةً) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ; لَا تَصْلُحُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَكُونَ إِمَامًا، وَلَا قَاضِيًا ; لِأَنَّهُمَا مُحْتَاجَانِ إِلَى الْخُرُوجِ لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ نَاقِصَةٌ ; وَالْقَضَاءُ مِنْ كَمَالِ الْوِلَايَاتِ ; فَلَا يَصْلُحُ لَهَا إِلَّا الْكَامِلُ مِنَ الرِّجَالِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3694 - عَنِ الْحَارِسِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ: بِالْجَمَاعَةِ وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يُرَاجِعَ وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3694 - (عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيُّ يُعَدُّ فِي الشَّامِيِّينَ ; رَوَى عَنْهُ أَبُو سَلَّامٍ الْحَبَشِيُّ وَغَيْرُهُ، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمُرُكُمْ) ; أَيْ أَنَا (بِخَمْسٍ) ; أَيْ خِصَالٍ (بِالْجَمَاعَةِ) ; أَيْ بِاتِّبَاعِ إِجْمَاعِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْاعْتِقَادِ، وَالْقَوْلِ، وَالْعَمَلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّينِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَتَابِعِي التَّابِعِينَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ ; أَيْ آمُرُكُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِهَدْيِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ وَالْانْخِرَاطِ فِي ذِمَّتِهِمْ، (وَالسَّمْعِ) ; أَيِ اسْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَقَبُولِهَا مِنَ الْأَمِيرِ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالسَّمْعِ ; الْإِصْغَاءُ إِلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَتَفَهُّمُهُمَا، (وَالطَّاعَةِ) ; أَيْ طَاعَةِ الْأَمِيرِ فِي الْمَشْرُوعَاتِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالطَّاعَةِ الِامْتِثَالُ بِالْأَوَامِرِ وَالْانْزِجَارُ عَنِ النَّوَاهِي (وَالْهِجْرَةِ) ; أَيِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَمِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ دَارِ الْبِدْعَةِ إِلَى دَارِ السُّنَّةِ، وَمِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» " (وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; أَيْ مَعَ الْكُفَّارِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَقَمْعِ أَعْدَائِهَا، وَمَعَ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَمَنْعِهَا عَنْ لَذَّاتِهَا، فَإِنَّ مُعَادَاةَ النَّفْسِ مَعَ الشَّخْصِ أَقْوَى وَأَضَرُّ مِنْ مُعَادَاةِ الْكَفَرَةِ مَعَهُ، وَقَدْ رَوَى: أَعْدَى عَدُّوِكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ (فَإِنَّهُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَإِنَّهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ " إِنَّ " ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ تَفْسِيرُهُ، وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّمَسُّكِ بِعُرَى الْجَمَاعَةِ، وَالْوَاوُ مِثْلُهَا ; فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] بَعْدَ قَوْلِهِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15] فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَتَفْوِيضِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ ( «مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ» ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ ; أَيْ قَدْرَهُ وَأَصْلُهُ الْقَوَدُ مِنَ الْقَوْدِ ; وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ وَالْقِصَاصُ، وَالْمَعْنَى مَنْ فَارَقَ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ بِتَرْكِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الْبِدْعَةِ وَنَزْعِ الْيَدِ عَنِ الطَّاعَةِ، وَلَوْ كَانَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ يُقَدَّرُ فِي الشَّاهِدِ بِقَدْرِ شِبْرٍ، ( «فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ» ) ; أَيْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ (مِنْ عُنُقِهِ) وَانْحَرَفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَخَرَجَ عَنِ الْمُوَافَقَةِ (إِلَّا أَنْ يُرَاجِعَ) بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالرِّبْقَةُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ ; وَهِيَ فِي الْأَصْلِ ; عُرْوَةٌ فِي حَبْلٍ يُجْعَلُ فِي عُنُقِ الْبَهِيمَةِ، أَوْ يَدِهَا تُمْسِكُهَا، فَاسْتَعَارَهَا لِلْإِسْلَامِ، يَعْنِي مَا شَدَّ الْمُسْلِمُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ عُرَى الْإِسْلَامِ ; أَيْ حُدُودِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْمَعْنَى فَقَدْ نَبَذَ عَهْدَ اللَّهِ، وَأَخْفَرَ ذِمَّتَهُ الَّتِي لَزِمَتْ أَعْنَاقَ الْعِبَادِ ; لُزُومَ الرِّبْقَةِ، بِالْكَسْرِ، وَهِيَ وَاحِدَةُ الرِّبَقُ، وَهُوَ حَبْلٌ فِيهِ عِدَّةُ عُرَى يُشَدُّ بِهِمُ الْبُهُمُ ; أَيْ أَوْلَادُ الضَّأْنِ، وَالْوَاحِدَةُ مِنْ تِلْكَ الْعُرَى رِبْقَةٌ، (وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مُفَسِّرَةً لِضَمِيرِ الشَّأْنِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ التَّمَسُّكَ

بِالْجَمَاعَةِ وَعَدَمَ الْخُرُوجِ عَنْ زُمْرَتِهِمْ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْخُرُوجَ عَنْ زُمْرَتِهِمْ مِنْ هِجِّيرَى الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» " فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ بِسُنَنِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَيْهَا، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ مَا قَالَ الْقَاضِي، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ الدَّعْوَى تُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ النِّدَاءُ، وَالْمَعْنَى مَنْ نَادَى فِي الْإِسْلَامِ بِنِدَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ خَصْمُهُ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ قَوْمَهُ، يَا آلَ فُلَانٍ، فَيَبْتَدِرُونَ إِلَى نَصْرِهِ ظَالِمًا كَانَ، أَوْ مَظْلُومًا، جَهْلًا مِنْهُمْ وَعَصَبِيَّةً، وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ يَرْجِعُ أَيْضًا إِلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ، وَيَنْصُرُهُ مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُؤْمِنُونَ، وَعِبَادُ اللَّهِ، (فَهُوَ) أَيِ الدَّاعِي الْمَذْكُورُ (مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ) بِضَمِّ الْجِيمِ مَقْصُورًا ; أَيْ مِنْ جَمَاعَاتِهِمْ، جَمْعُ جَثَوَةٍ، بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَجْمُوعَةُ، وَرُوِيَ مِنْ جُثِيٍّ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَضَمِّ الْجِيمِ، جَمْعُ جَاثٍ، مِنْ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَجْثُو، أَوْ يُجِثِي، وَكَسْرُ الْجِيمِ، جَائِزٌ لِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْكَسْرَةِ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] وَفِي الْفَائِقِ، وَاحِدَتُهَا جُثْوَةٌ، بِضَمِّ الْجِيمِ ; أَيْ مِنْ جَمَاعَاتِ جَهَنَّمَ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَا جُمِعَ مِنْ تُرَابٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَاسْتُعِيرَ لِلْجَمَاعَةِ، (وَإِنْ صَامَ) أَيْ وَلَوْ صَامَ (وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

3695 - وَعَنْ زِيَادِ بْنِ كُسَيْبٍ الْعَدَوِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ تَحْتَ مِنْبَرِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَقَالَ أَبُو بِلَالٍ انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الْفُسَّاقِ: فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3695 - (وَعَنْ زِيَادِ بْنِ كُسَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ (الْعَدَوِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي عَدِيٍّ ; قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرَةَ (قَالَ كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ، تَحْتَ مِنْبَرِ ابْنِ عَامِرٍ، وَهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ) بِكَسْرِ الرَّاءِ ; أَيْ رَقِيقَةٌ رَفِيعَةٌ (فَقَالَ أَبُو بِلَالٍ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ، وَلَعَلَّهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَلَدُهُ بِلَالٌ كَانَ وَالِيًا عَلَى الْبَصْرَةِ (انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الْفُسَّاقِ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ ثِيَابًا مُحَرَّمَةً مِنَ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمَا أَنْ تَكُونَ رِقَاقًا، وَلَعَلَّ الِاعْتِرَاضَ الْوَارِدَ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ نَصِيحَةً تَتَضَمَّنُ فَضِيحَةً، يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ صَرِيحَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُمَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ لُبْسُ ثِيَابِ الرِّقَاقِ مِنْ دَأْبِ الْمُتَنَعِّمِينَ نَسَبَهُ إِلَى الْفِسْقِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ (فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ) ; أَيْ أَذَلَّ حَاكِمًا بِأَنَّ أَذَاهُ، أَوْ عَصَاهُ (أَهَانَهُ اللَّهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ هَذَا الِاحْتِمَالُ ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ رَدَّهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ أَهَانَ إِلَخْ، يَعْنِي تَفْسِيقَكَ إِيَّاهُ بِسَبَبِ لُبْسِهِ هَذِهِ الثِّيَابَ الَّتِي يَصُونُ بِهَا عِزَّتَهُ لَيْسَ بِحَقٍّ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى مَنْ أَهَانَ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ وَأَلْبَسَهُ خِلَعَ السُّلْطَةِ ; أَهَانَهُ اللَّهُ، وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِسُلْطَانِ اللَّهِ، تَعَلُّقَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] وَالْإِضَافَةُ فِي سُلْطَانِ اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ. وَيُحْكَى عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ مَعَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ; وَعَلَى جَعْفَرٍ جُبَّةٌ خَزٍّ دَكْنَاءٌ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ لِبَاسِكَ، فَحَسِرَ عَنْ رَدْنِ جُبَّتِهِ فَإِذَا تَحْتَهَا جُبَّةُ صُوفٍ بَيْضَاءُ يَقْصُرُ الذَّيْلُ وَالرَّدْنُ عَنِ الرَّدْنِ، فَقَالَ يَا ثَوْرِيُّ: لَبِسْنَا هَذَا لِلَّهِ وَهَذِي لَكُمْ، فَمَا كَانَ لِلَّهِ أَخْفَيْنَاهُ، وَمَا كَانَ لَكُمْ أَبْدَيْنَاهُ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ فِي كِتَابِ مَنَاقِبِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالدَّكْنَاءُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ تَأْنِيثُ الْأَدْكَنِ، وَهُوَ ثَوْبٌ مُغْبَرُّ اللَّوْنِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: ذُكِرَ أَنْ فَرْقَدَ السَّبَخِيَّ دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ، وَعَلَى الْحَسَنِ حُلَّةٌ، فَجَعَلَ يَلْمِسُهَا، فَقَالَ الْحَسَنُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَى ثِيَابِي، ثِيَابِي ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَثِيَابُكَ ثِيَابُ أَهْلِ النَّارِ؟ بَلَغَنِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ أَصْحَابُ الْأَكْسِيَةِ، ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلُوا الزُّهْدَ فِي ثِيَابِهِمْ، وَالْكِبْرَ فِي صُدُورِهِمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَأَحَدُكُمْ بِكِسَائِهِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

3696 - وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3696 - (وَعَنِ النَّوَّاسِ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (ابْنِ سِمْعَانَ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ» ) صِلَةُ طَاعَةٍ، وَقَوْلُهُ: (فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ) خَبَرُ لَا، وَفِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ، يَعْنِي لَا يَنْبَغِي وَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ، وَتَخْصِيصُ ذِكْرِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مُشْعِرٌ بِعَلِيَّةِ هَذَا الْحُكْمِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ الْوُلَاةُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: مَا أَمَرَ بِهِ الْوُلَاةُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَهُمْ، يَسَعُهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ فِيمَا كَانَتْ وِلَايَتُهُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَسَعُ الْمَأْمُورَ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَكُونَ الَّذِي أَمَرَهُ عَدْلًا، وَحَتَّى يَشْهَدَ عَدْلٌ سِوَاهُ، عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَأْمُورِ ذَلِكَ، الْكَشَّافُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: أَلَسْتُمْ أُمِرْتُمْ بِطَاعَتِنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ نَزَعْتُ عَنْكُمْ إِذَا خَالَفْتُمُ الْحَقَّ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قَالَ الطِّيبِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ عَطْفٌ عَلَى أَطِيعُوا اللَّهَ وَكُرِّرَ الْفِعْلُ لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِقْلَالِ طَاعَةِ الرَّسُولِ، وَلَمْ يُؤْتَ بِقَوْلِهِ وَأَطِيعُوا فِي {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِمْ، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ أُولُوا الْأَمْرِ مُسْتَقِلِّينَ، وَشَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ خِلَافَ الْحَقِّ فَرُدُّوهُ إِلَى الْحَقِّ، وَلَا يَأْخُذْكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. (رَوَاهُ) ; أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ; أَيْ بِإِسْنَادِهِ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ; عَنْ عِمْرَانَ، وَالْحَاكِمِ بْنِ عُمَرَ الْغِفَارِيِّ، وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ فِي أَسْنَى الْمَنَاقِبِ بِسَنَدِهِ «عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِنَّ فِيكَ مِنْ عِيسَى مَثَلًا أَبْغَضَتْهُ الْيَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحْبَبَتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلَتْهُ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِهَا، قَالَ: فَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إِنَّهُ يَهْلِكُ فِيَّ مُحِبٌّ مُطْرٍ لِي، يُقَرِّظُنِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ، وَمُبْغِضٌ مُفْتَرٍ يَحْمِلُهُ شَنَآنِي، عَلَى أَنْ بَهَتَنِيَ أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِنَبِيٍّ، وَلَا يُوحَى إِلَيَّ، وَلَكِنِّي أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ، مَا اسْتَطَعْتُ لَهُ فَمَا أَمَرْتُكُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَحَقٌّ عَلَيْكُمْ طَاعَتِي فِيمَا أَحْبَبْتُمْ، أَوْ كَرِهْتُمْ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَنَا وَغَيْرِي فَلَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَنْ أَمَرَكُمْ مِنَ الْوُلَاةِ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تُطِيعُوهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ " «وَمَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ بِمَعْرُوفٍ» ".

3697 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا حَتَّى يُفَكَّ عَنْهُ الْعَدْلُ، أَوْ يُوبِقَهُ الْجَوْرُ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3697 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ، بِسُكُونِ الشِّينِ، وَهُوَ سَهْوٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ، لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ الْعَادِلِ وَالظَّالِمِ (إِلَّا يُؤْتَى بِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ، إِلَّا وَهُوَ يُؤْتَى بِهِ ; أَيْ يُحْضَرُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا) ; أَيْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، عَكْسُ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، مَبْسُوطَةً فِي إِرَادَةِ نَفْسِهِ وَإِفَادَةِ حِكْمَةٍ (حَتَّى يَفُكَّ عَنْهُ الْعَدْلُ) وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يَفُكَّهُ الْعَدْلُ ; أَيْ عَدْلُهُ إِنْ كَانَ عَادِلًا (أَوْ يُوبِقَهُ الْجَوْرُ) ; أَيْ يُهْلِكُهُ ظُلْمُهُ، إِنْ كَانَ ظَالِمًا، فَ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " أَوْ يُوبِقَهُ " عَطْفٌ عَلَى يَفُكَّ، فَيَكُونُ غَايَةَ قَوْلِهِ: يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا ; أَيْ لَمْ يَزَلْ مَغْلُولًا حَتَّى يَحِلَّهُ الْعَدْلُ، أَوْ يُهْلِكَهُ الظُّلْمُ ; أَيْ لَا يَفُكُّهُ عَنِ الْغُلِّ إِلَّا الْهَلَاكُ، يَعْنِي يَرَى بَعْدَ الْغُلِّ مَا الْغُلُّ فِي جَنْبِهِ السَّلَامَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ يَعْنِي يَرَى يَوْمَ الدِّينِ مِنَ الْعَذَابِ مَا اللَّعْنَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَهْلَةٌ يَسِيرَةٌ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ.

3698 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ، وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ، وَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ نَوَاصِيَهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالثُّرَيَّا، يَتَجَلْجَلُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلُوا عَمَلًا» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ ; أَنَّ دَوَابَّهُمْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا، يَتَذَبْذَبُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَكُونُوا عُمِّلُوا عَلَى شَيْءٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3698 - (وَعَنْهُ) ; أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، كَقَوْلِهِ (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) وَهُوَ الْحُزْنُ وَالْهَلَاكُ وَالْمَشَقَّةُ مِنَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ وَادٍ فِي النَّارِ، وَقَدْ وَرَدَ وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، (وَلِلْعُرَفَاءِ) جَمْعُ عَرِيفٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; وَهُوَ الْقَيِّمُ بِأَمْرِ قَبِيلَةٍ، وَمَحَلَّةٍ يَلِي أَمْرَهُمْ وَيَتَعَرَّفُ الْأَمِيرُ مِنْهُ أَحْوَالَهُمْ، وَمِنْهُمْ رُؤَسَاءُ الْقُرَى، وَأَرْبَابُ الْوِلَايَاتِ، (وَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ) جَمْعُ أَمِينٍ ; وَهُوَ مَنِ ائْتَمَنَهُ الْإِمَامُ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَالْخَرَاجِ وَسَائِرِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَدُلُّ عَطْفُهُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْعُرَفَاءِ، وَيَشْمَلُ بِعُمُومِهِ كُلَّ مَنِ ائْتَمَنَهُ غَيْرُهُ عَلَى مَالٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ وَصِيُّ الْأَيْتَامِ، وَنَاظِرُ الْأَوْقَافِ، ( «لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ نَوَاصِيَهُمْ» ) ; أَيْ شُعُورَهُمْ قُدَّامَ رُءُوسِهِمْ، (مُعَلَّقَةٌ) ; أَيْ فِي الدُّنْيَا (بِالثُّرَيَّا) مَقْصُورًا فِي النِّهَايَةِ الثُّرَيَّا: النَّجْمُ تَصْغِيرُ الثَّرْوَى، يُقَالُ: إِنَّ خِلَالَ أَنْجُمِهَا الظَّاهِرَةِ، كَوَاكِبُ خَفِيَّةٌ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ، (يَتَجَلْجَلُونَ) بِالْجِيمَيْنِ ; أَيْ يَتَحَرَّكُونَ، (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَإِنَّهُمْ لَمْ يَلُوا) بِضَمِّ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ ; أَيْ لَمْ يَصِيرُوا وَالِينَ، (عَمَلًا) مِنْ أَعْمَالِ الْعُمَّالِ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اللَّامُ فِي لَيَتَمَنَّيَنَّ ; لَامُ الْقَسَمِ، وَالتَّمَنِّي طَلَبُ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لِلْمُتَمَنِّي ; قَوْلُهُ: إِنَّ نَوَاصِيَهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالثُّرَيَّا، وَإِنَّهُمْ لَمْ يَلُوا، تَمَنَّوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلُوا، وَكَانَتْ نَوَاصِيهِمْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا ; يَعْنِي تَمَنَّوْا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ تِلْكَ الْعِزَّةُ وَالرِّيَاسَةُ وَالرِّفْعَةُ عَلَى النَّاسِ، بَلْ كَانُوا أَذِلَّاءَ، وَرُءُوسُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِنَوَاصِيهِمْ فِي أَعَالِي تَتَحَرَّكُ وَتُجَلْجِلُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ سَائِرُ النَّاسِ، وَيَشْهَدُونَ مَنْزِلَتَهُمْ، وَهُوانَهُمْ بَدَلَ تِلْكَ الرِّيَاسَةِ وَالْعِزَّةِ وَالرِّفْعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالنَّاصِيَةِ مَثَلٌ لِلْمَذَلَّةِ وَالْهَوَانِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَرَادُوا إِطْلَاقَ أَسِيرٍ جَزُّوا نَاصِيَتَهُ مَذَلَّةً وَهَوَانًا، وَهَذَا التَّمَنِّي هُوَ الْمَعْنِيُ بِالنَّدَامَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَقَوْلُهُ: لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ كَالتَّخْصِيصِ لِلْعَامِّ وَالتَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لَمَّا عَمَّمَ التَّهْدِيدَ وَبَالَغَ فِي الْوَعِيدِ، أَرَادَ أَنْ يَسْتَدْرِكَ وَيُخْرِجَ مَنْ قَامَ بِهَا حَقَّ الْقِيَامِ، وَتَجَنَّبَ فِيهِ عَنِ الظُّلْمِ وَالْحَيْفِ، وَاسْتَحَقَّ بِهِ الثَّوَابَ، وَصَارَ ذَا حَظٍّ مِمَّا وَعَدَ بِهِ ذُو سُلْطَانٍ عَادِلٍ، قَالَ: لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ ; أَيْ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَذَلِكَ لِيُنَبِّهَ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ طَائِفَةً أُخْرَى حُكْمُهُمْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ ; وَهُمْ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْكِسْ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَنْطُوقِ الْمَدْحِ لِلْمُقْسِطِينَ ; لِيَدُلَّ بِالْمَفْهُومِ عَلَى ذَمِّ الْجَائِرِينَ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ عَنْ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ ; لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُهِمَّةً لَا يَنْتَظِمُ صَلَاحُ حَالِ النَّاسِ وَمَعَاشُهُمْ دُونَهَا، لَكِنَّهُ خَطَرٌ وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِهَا عَسِرٌ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْتَحِمَ عَلَيْهَا وَيَمِيلَ بِطَبْعِهِ إِلَيْهَا، فَإِنَّ مَنْ زَلَّتْ قَدَمُهُ فِيهَا عَنْ مَتْنِ الصَّوَابِ قَدْ يَنْدَفِعُ إِلَى فِتْنَةٍ تُؤَدَّى بِهِ إِلَى الْعَذَابِ. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَفِي رِوَايَتِهِ) ; أَيْ أَحْمَدَ، (أَنَّ ذَوَائِبَهُمْ) جُمْعُ ذَائِبَةٍ ; أَيْ ظَفَائِرَهُمْ ; (كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا يَتَذَبْذَبُونَ) ; أَيْ يَتَرَدَّدُونَ، (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ; أَيْ مُدَّةَ عَمَلِهِمْ ; أَيْ جَمِيعَ عُمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، (وَلَمْ يَكُونُوا عُمِّلُوا) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ أُعْطُوا عَمَلًا (عَلَى شَيْءٍ) ; أَيْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا.

3699 - وَعَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْعِرَافَةَ وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ عُرَفَاءَ وَلَكِنَّ الْعُرْفَاءَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3699 - (وَعَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ غَالِبُ بْنُ أَبِي غَيْلَانَ، وَهُوَ ابْنُ خَطَّافٍ الْقَطَّانُ الْبَصْرِيُّ، رَوَى عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْهُ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ (عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ الْعِرَافَةَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، (حَقٌّ) ; أَيْ أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا لِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهُ (حَقٌّ) : وَقَعَ هُنَا مَوْقِعَ الْمَصْلَحَةِ وَالْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ ; فِي تَرْتِيبِ الْبُعُوثِ وَالْأَجْنَادِ، وَمَا يُلِمُّ بِهِ شَعَثَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ، وَالْعَطِيَّاتِ، وَالْإِحَاطَةِ بِعَدَدِهِمْ ; لِاسْتِخْرَاجِ السُّهْمَانِ وَنَحْوِهِ وَهَذَا

مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ عُرَفَاءَ) ، وَقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ الْعَرْفَاءَ فِي النَّارِ) ; أَيْ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهَا، وَرَدَ هَذَا الْقَوْلُ مَوْرِدَ التَّحْذِيرِ عَنِ التَّبِعَاتِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا، وَالْآفَاتِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ فِيهَا، وَالْفِتَنِ الَّتِي يُتَوَقَّعُ مِنْهَا، وَالْأَمْرِ بِالتَّيَقُّظِ دُونَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْهَنَاتِ الَّتِي قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْهَا الْوَاقِعُ فِيهَا اهـ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْعُرَفَاءِ فِي النَّارِ ; هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْدِلُوا فِي الْحُكْمِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْعُمُومِ ; إِجْرَاءً لِلْغَالِبِ مَجْرَى الْكُلِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُلَابِسُونَ مَا يَجُرُّهُمْ إِلَى النَّارِ، أَوِ التَّقْدِيرُ يَكُونُ أَكْثَرُهُمْ فِي النَّارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ وَلَكِنَّ الْعُرَفَاءَ فِي النَّارِ: مُظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، لِيُشْعِرَ بِأَنَّ الْعِرَافَةَ عَلَى خَطَرٍ، وَمَنْ بَاشَرَهَا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَيَقُّظٍ وَحَزْمٍ وَحَذَرٍ مِنْهَا ; لِئَلَّا تُوَرِّطَهُ فِي الْفِتْنَةِ، وَتُؤَدِّيَ بِهِ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَهَذَا تَلْخِيصُ كَلَامِ الشَّيْخِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3700 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُمَرَاءُ سَيَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَنْ يَرِدُوا عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَيُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ، وَأُولَئِكَ يَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3700 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ: نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، (قَالَ: قَالَ لِي) ; أَيْ وَحْدِي، أَوْ مُخَاطِبًا لِي، (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ) ; أَيْ مِنْ عَمَلِهِمْ، أَوْ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، أَوِ اللُّحُوقِ بِهِمْ، وَالسُّفَهَاءُ الْجُهَّالُ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السُّفَهَاءُ الْخِفَافُ الْأَحْلَامِ، وَفِي النِّهَايَةِ السَّفَهُ فِي الْأَصْلِ ; الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ، وَسُفِّهَ فُلَانٌ رَأْيُهُ إِذَا كَانَ مُضْطَرِبًا لَا اسْتِقَامَةَ لَهُ، وَالسَّفِيهُ الْجَاهِلُ، (قَالَ) ; فِيهِ الْتِفَاتٌ، أَوْ تَجْرِيدٌ، إِذْ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: قُلْتُ (وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ; أَيْ ; أَيُّ شَيْءٍ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ؟ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ، وَهُوَ فِعْلُهُمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ جَهْلُهُمْ وَطَيْشُهُمْ (قَالَ أُمَرَاءُ سَيَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي) ; أَيْ سُفَهَاءُ ; مَوْصُوفُونَ بِالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ، (مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ) ; أَيْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ، (فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ) بِفَتْحٍ فَكَسَرٍ، وَيَجُوزُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَفْصَحُ ; لِعَدَمِ وُرُودِ غَيْرِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِيلَ الْكَذِبُ: إِذَا أُخِذَ فِي مُقَابَلَةِ الصِّدْقِ كَانَ بِسُكُونِ الذَّالِ لِلْازْدِوَاجِ، وَإِذَا أُخِذَ وَحْدَهُ كَانَ بِالْكَسْرِ، (وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ) ; أَيْ بِالْإِفْتَاءِ وَنَحْوِهِ، (فَلَيْسُوا مِنَّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ) ; أَيْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ بَرَاءَةٌ وَنَقْضُ ذِمَّةٍ، (وَلَنْ يَرِدُوا) وَفِي نُسْخَةٍ، وَلَمْ يَرِدُوا مِنَ الْوُرُودِ ; أَيْ لَمْ يَمُرُّوا (عَلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِتَضْمِينِ مَعْنَى الْعَرْضِ ; أَيْ لَنْ يَرِدُوا عَلَيَّ مَعْرُوضِينَ، (الْحَوْضَ) ; أَيْ حَوْضَ الْكَوْثَرِ فِي الْقِيَامَةِ، أَوْ فِي الْجَنَّةِ، (وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ ; فَأُولَئِكَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ، وَأُولَئِكَ يَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَدْخَلَ الْفَاءَ فِي خَبَرِ (مَنْ) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، زَادَ فِيهِ (أُولَئِكَ) وَكَرَّرَهُ لِمَزِيدِ تَقْرِيرِ الْعِلَّةِ ; لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مَا يَرِدُ عَقِيبَهُ جَدِيرٌ بِمَا قَبْلَهُ ; لِاتِّصَافِهِ بِالْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] بَعْدَ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] إِلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ، اسْتِحْمَادًا عَلَى فِعْلِهِمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ عَنْهُمْ، وَعَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا نُخَالِطُ السُّلْطَانَ وَلَا مَنْ يُخَالِطُهُ، وَقَالَ: صَاحِبُ الْقَلَمِ، وَصَاحِبُ الدَّوَاةِ، وَصَاحِبُ الْقِرْطَاسِ، وَصَاحِبُ اللِّيطَةِ بَعْضُهُمْ شُرَكَاءُ بَعْضُ، وَرُوِيَ أَنَّ خَيَّاطًا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ خِيَاطَتِهِ لِلْحُكَّامِ ; هَلْ أَنَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا؟ قَالَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَبِيعُكَ الْإِبْرَةَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ رَضِيَ بِأَمْرِ الظَّالِمِ وَإِنْ غَابَ عَنْهُ ; كَانَ كَمَنْ شَهِدَهُ وَتَلَا الْآيَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .

3701 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «مَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السُّلْطَانِ دُنُوًّا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3701 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا» ) ; أَيْ جَهِلَ، قَالَ تَعَالَى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] وَقَالَ الْقَاضِي: جَفَا الرَّجُلُ إِذَا غَلُظَ قَلْبُهُ وَقَسَا، وَلَمْ يَرِقَّ لِبِرٍّ وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي لِبُعْدِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقِلَّةِ اخْتِلَاطِهِمْ بِالنَّاسِ، فَصَارَتْ طِبَاعُهُمْ كَطِبَاعِ الْوُحُوشِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ لِلنَّبْوِ عَنِ الشَّيْءِ، (وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ) ; أَيْ لَازَمَ اتِّبَاعَ الصَّيْدِ وَالْاشْتِغَالَ بِهِ، وَرَكِبَ عَلَى تَتَبُّعِ الصَّيْدِ كَالْحَمَامِ وَنَحْوِهِ لَهْوًا وَطَرَبًا (غَفَلَ) ; أَيْ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمْعَةِ، وَبَعُدَ عَنِ الرِّقَّةِ وَالرَّحْمَةِ لِشَبَهِهِ بِالسَّبُعِ وَالْبَهِيمَةِ، (وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ) ; أَيْ بَابَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ لِمَجِيئِهِ، (افْتُتِنَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ وَافَقَهُ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ فَقَدْ خَاطَرَ عَلَى دِينِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ فَقَدْ خَاطَرَ عَلَى دُنْيَاهُ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنِ الْتَزَمَ الْبَادِيَةَ، وَلَمْ يَحْضُرْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ وَلَا الْجَمَاعَةِ وَلَا مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ، فَقَدْ ظَلَمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنِ اعْتَادَ الِاصْطِيَادَ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ يَكُونُ غَافِلًا ; لِأَنَّ اللَّهْوَ وَالطَّرَبَ يَحْدُثُ مِنَ الْقَلْبِ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا مَنِ اصْطَادَ لِلْقُوتِ فَجَازَ لَهُ ; لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَصْطَادُونَ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَدَاهَنَهُ وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُدَاهِنْ وَنَصَحَهُ وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ ; فَكَانَ دُخُولُهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ (مَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ) ; أَيْ لَازَمَهُ (افْتُتِنَ وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السُّلْطَانِ دُنُوًّا) بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ ; أَيْ قُرْبًا (إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا) وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مَرْفُوعًا: «مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا زُهْدًا لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا» .

3702 - «وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ ; أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَفْلَحْتَ يَا قُدَيْمُ إِنْ مُتَّ وَلَمْ تَكُنْ أَمِيرًا وَلَا كَاتِبًا وَلَا عَرِيفًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3702 - (وَعَنِ الْمِقْدَامِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (ابْنِ مَعْدِيكَرِبَ) تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ) ; أَيْ يَدَيْهِ (عَلَى مَنْكِبَيْهِ) ، إِظْهَارًا لِلشَّفَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَتَنْبِيهًا لَهُ عَنْ حَالَةِ الْغَفْلَةِ، (ثُمَّ قَالَ: أَفْلَحْتَ) ; أَيْ ظَفِرْتَ الْمَقْصُودَ الْحَقِيقِيَّ (يَا قُدَيْمُ) تَصْغِيرُ مِقْدَامٍ تَرْخِيصٌ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ، وَهُوَ تَصْغِيرُ تَرْخِيمٍ، كَقَوْلِ لُقْمَانَ يَا بُنَيَّ (إِنْ مُتَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا (وَلَمْ تَكُنْ أَمِيرًا وَلَا كَاتِبًا) ; أَيْ لَهُ (وَلَا عَرِيفًا) ; أَيْ وَاحِدَ الْعُرَفَاءِ، أَوْ وَلَا مَعْرُوفًا يَعْرِفُكَ النَّاسُ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخُمُولَ رَاحَةٌ وَالشُّهْرَةَ آفَةٌ، حُكِيَ عَنِ الشَّرِيفِ الْحَسِيبِ النَّسِيبِ ; مَوْلَانَا أَبُو عِزِّ بْنِ بَرَكَاتٍ وَالِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ ; وَالَى عَلَيْهِ بَرَكَاتِ الرَّحْمَةِ - أَنَّهُ قَالَ: السَّعِيدُ مَنْ لَا يَعْرِفُنَا وَلَا نَعْرِفُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا ( «أَفْلَحَ مَنْ هُدَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَعَ بِهِ» ) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ مَرْفُوعًا ( «أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا ; أَيْ عَقْلًا كَامِلًا يَخْتَارُ الْبَاقِيَةَ عَلَى الْفَانِيَةِ وَيُعْرِضُ عَنِ الْعَاجِلَةِ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآجِلَةِ» ) .

3703 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ يَعْنِي الَّذِي يَعْشُرُ النَّاسَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3703 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ» ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. فِي النِّهَايَةِ هُوَ الضَّرِيبَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمَاكِسُ ; وَهُوَ الْعَشَّارُ (يَعْنِي) ; أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاحِبِ الْمَكْسِ (الَّذِي يَعْشُرُ النَّاسَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الشِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، فَفِي الْمَصَابِيحِ يُقَالُ: عَشَرْتُ الْمَالَ عُشْرًا مِنْ بَابِ قَتَلَ، وَعُشُورًا أَخَذْتُ عُشْرَهُ، وَعَشَرْتُ الْقَوْمَ عَشْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ صِرْتُ عَاشِرَهُمْ، وَفِي الْقَامُوسِ عَشَرَ يَعْشُرُ أَخَذَ وَاحِدًا مِنْ عَشَرَةٍ، وَزَادَ وَاحِدًا عَلَى تِسْعَةٍ، وَالْقَوْمَ صَارَ عَاشِرَهُمْ وَعَشَرَهُمْ يَعْشُرُهُمْ عَشْرًا وَعُشُورًا وَعَشَّرَهُمْ: أَخَذَ عُشْرَ أَمْوَالِهِمْ، وَالْعَشَّارُ قَابِضُهُ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ اسْحَقَ ابْنِ مَنْدَهْ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَرَادَ بِصَاحِبِ الْمَكْسِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنَ التُّجَّارِ إِذَا مَرُّوا مَكْسًا بِاسْمِ الْعُشْرِ، فَأَمَّا السَّاعِي الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ وَمَنْ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، الْعُشْرَ الَّذِي صُولِحُوا عَلَيْهِ ; فَهُوَ مُحْتَسِبٌ مَا لَمْ يَتَعَدَّ فَيَأْثَمُ بِالتَّعَدِّي وَالظُّلْمِ. اهـ. وَكَذَا مَنْ يَأْخُذُ الْعُشْرَ مِنْ مَالِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلَ دَارَنَا تَاجِرًا بِأَمَانٍ بِشُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

3704 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا: إِمَامٌ عَادِلٌ وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا وَفِي رِوَايَةٍ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا: إِمَامٌ جَائِرٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3704 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ) ; أَيْ أَكْثَرَهُمْ مَحْبُوبِيَّةً (إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ) ، وَفِي رِوَايَةٍ وَأَدْنَاهُمْ (مِنْهُ مَجْلِسًا) ; أَيْ مَكَانَةً وَمَرْتَبَةً، (إِمَامٌ عَادِلٌ) قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: قَبْلَ زَمَانِنَا مَنْ قَالَ لِسُلْطَانِ أَيَّامِنَا إِنَّهُ عَادِلٌ فَهُوَ كَافِرٌ، (وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا) ; أَيْ لِكَوْنِهِ أَقْوَاهُمْ حِجَابًا، (وَفِي رِوَايَةٍ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ جَائِرٌ) ; أَيْ ظَالِمٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَرَوَاهُ ابْنُهُ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا ( «إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ أَنْصَحُهُمْ لِعِبَادِهِ» ) .

3705 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ قَالَ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3705 - (وَعَنْهُ) ; أَيْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ قَالَ) ; أَيْ جِهَادُ مَنْ قَالَ، أَوْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْجِهَادِ مَنْ قَالَ: (كَلِمَةَ حَقٍّ) ; أَيْ قَوْلَ حَقٍّ وَلَوْ كَانَ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَضَدُّهُ ضِدُّهُ (عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ) ; أَيْ صَاحِبِ جَوْرٍ وَظُلْمٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَنْ تَكَلَّمَ كَلِمَةَ حَقٍّ ; لَا كَلِمَةَ حَقٍّ تَحْمِلُهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ أَفْضَلَ الْجِهَادِ ; لِأَنَّ مَنْ جَاهَدَ الْعَدُوَّ وَكَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، لَا يَدْرِي هَلْ يَغْلِبُ، أَوْ يُغْلَبُ؟ وَصَاحِبُ السُّلْطَانِ مَقْهُورٌ فِي يَدِهِ، فَهُوَ إِذَا قَالَ الْحَقَّ وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَتْلَفَ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ ; مِنْ أَجْلِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ وَقَالَ الْمُظْهِرُ: وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ ; لِأَنَّ ظُلْمَ السُّلْطَانِ يَسْرِي فِي جَمِيعِ مَنْ تَحْتَ سِيَاسَتِهِ، وَهُوَ جَمٌّ غَفِيرٌ، فَإِذَا نَهَاهُ عَنِ الظُّلْمِ فَقَدْ أَوْصَلَ النَّفْعَ إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ، بِخِلَافِ قَتْلِ كَافِرٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ ; وَهُوَ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ ; لِأَنَّهَا تَتَبَرَّأُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَتَبْعُدُ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْهَوْلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ النَّصِيحَةِ لِلرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ، وَلِأَنَّ تَخْلِيصَ مُؤْمِنٍ مِنَ الْقَتْلِ مَثَلًا أَفْضَلُ مِنْ قَتْلِ كَافِرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ، وَلِذَا قَدَّمَ كِتَابَ النِّكَاحِ عَلَى بَابِ السِّيَرِ وَالْجِهَادِ ; لِأَنَّ ; إِيجَادَ مُؤْمِنٍ أَفْضَلُ مِنْ إِعْدَامِ أَلْفِ كَافِرٍ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الْجِهَادِ وُجُودُ الْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، هَذَا وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ السُّلْطَانِ التَّعْرِيفُ وَالْوَعْظُ، وَأَمَّا الْمَنْعُ بِالْقَهْرِ ; فَلَيْسَ ذَلِكَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ الْفِتْنَةَ، وَيُهَيِّجُ الشَّرَّ، وَيَكُونُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْمَحْذُورِ أَكْثَرَ، وَأَمَّا التَّخَشُّنُ فِي الْقَوْلِ كَقَوْلِكُمْ: يَا ظَالِمَ يَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ; فَذَلِكَ إِنْ كَانَ يَتَعَدَّى شَرُّهُ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، فَلَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ التَّعَرُّضُ لِلْأَخْطَارِ وَالتَّصْرِيحُ بِالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ بِهَلَاكِ الْمُهْجَةِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ جِهَادٌ وَشَهَادَةٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) ; أَيْ: عَنْهُ.

3706 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3706 - (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ ( «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ.

3707 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْأَمِيرِ خَيْرًا ; جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ ; إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3707 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ) ; أَيْ لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْأَمِيرِ) ; أَيْ بِمَنْ يَكُونُ أَمِيرًا (خَيْرًا) فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى (جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ) ; أَيْ قَدَّرَ لَهُ وَزِيرًا صَادِقًا مُصْلِحًا، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْوَزِيرُ الَّذِي يُؤَازِرُ الْأَمِيرَ، فَيَحْمِلُ عَنْهُ مَا حَمَلَهُ مِنَ الْأَثْقَالِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِزْرِ، وَهُوَ الْحِمْلُ وَالثِّقَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] ; أَيِ انْقَضَى أَمْرُهَا وَخَفَّتْ أَثْقَالُهَا، فَلَمْ يَبْقَ قِتَالٌ، لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يُطْلَقُ فِي الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ عَلَى الذَّنْبِ وَالْإِثْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] فَيُمْكِنُ أَنَّ الْوَزِيرَ سُمِّيَ وَزِيرًا ; لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ وِزْرَ الْأَمِيرِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، (إِنْ نَسِيَ) ; أَيِ الْأَمِيرُ حُكْمَ اللَّهِ (ذَكَّرَهُ) بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ أَخْبَرَ الْأَمِيرَ بِهِ (وَإِنْ ذَكَرَ) بِالتَّخْفِيفِ ; أَيْ وَإِنْ تَذَكَّرَهُ الْأَمِيرُ بِنَفْسِهِ (أَعَانَهُ) ; أَيْ حَرَّضَهُ الْوَزِيرُ وَحَرَّضَهُ عَلَيْهِ (وَإِذَا أَرَادَ بِهِ) ; أَيِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَمِيرِ (غَيْرَ ذَلِكَ) ; أَيْ شَرًّا (جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ) بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمَّةٍ (إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ) ; بَلْ يَصْرِفُهُ عَنْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَصْلُ وَزِيرِ صِدْقٍ وَزِيرٌ صَادِقٌ، ثُمَّ وَزِيرُ صِدْقٍ عَلَى الْوَصْفِ بِهِ ذِهَابًا إِلَى أَنَّهُ نَفْسُ الصِّدْقِ وَمُجَسَّمٌ عَنْهُ ; يَعْنِي مُبَالَغَةً، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ لِمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ بِهِ، وَلَمْ يَرِدِ الصِّدْقُ الْاخْتِصَاصَ بِالْقَوْلِ فَقَطْ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: يُعَبَّرُ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ فَاضِلٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَبِالصِّدْقِ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] وَ (قَدَمَ صِدْقٍ) ، وَعَلَى عَكْسِ ذَلِكَ وَزِيرُ سُوءٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ مِهْرَانَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا وَلَّى عَلَيْهِمْ حُلَمَاءَهُمْ وَقَضَى بَيْنَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَجَعَلَ الْمَالَ فِي سُمَحَائِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرًّا وَلَّى عَلَيْهِمْ سُفَهَاءَهُمْ وَقَضَى بَيْنَهُمْ جُهَّالُهُمْ وَجَعَلَ الْمَالَ فِي بُخَلَائِهِمْ» ".

3708 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3708 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْأَمِيرَ) وَفِي مَعْنَاهُ الْوَزِيرُ (إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيِ التُّهْمَةَ (فِي النَّاسِ) ، بِأَنْ طَلَبَ عُيُوبَهُمْ وَتَجَسَّسَ ذُنُوبَهُمْ وَاتَّهَمَهُمْ فِي تَفَحُّصِ أَحْوَالِهِمْ، (أَفْسَدَهُمْ) ; أَيْ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ أُمُورَ مَعَاشِهِمْ، وَنِظَامَ مَعَادِهِمْ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ ذَمٍّ، فَلَوْ أَدَّبَهُمْ لِكُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ بِهِمْ لَشَقَّ الْحَالُ عَلَيْهِمْ، بَلْ يَنْبَغِي لَهُ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحُدُودِ مِنْ تَلْقِينِ الْمُعْتَرِفِ بِالذَّنْبِ دَفْعًا لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ " «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُؤْمِنٍ عَوْرَةً فَكَأَنَّمَا أَحْيَا مَيِّتًا» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ شِهَابٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، وَالْمِقْدَامِ وَأَبِي أُمَامَةَ.

3709 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّكَ إِذَا اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3709 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّكَ إِذَا اتَّبَعْتَ) مِنَ الِاتِّبَاعِ ; أَيْ تَتَبَّعْتَ (عَوْرَاتِ النَّاسِ) ; أَيْ عُيُوبَهُمُ الْخَفِيَّةَ، وَفِي نُسْخَةٍ ابْتَغَيْتَ ; أَيْ طَلَبْتَ ظُهُورَ مَعَايِبِهُمْ وَخَلَلِهِمْ (أَفْسَدْتَهُمْ) ; أَيْ حَكَمْتَ عَلَيْهِمْ بِالْفَسَادِ، أَوْ أَفْسَدْتَ أَمْرَ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا عَمَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ ; وَخَصَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَمِيرَ ; لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْأَمِيرِ، بَلْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنَ اتِّبَاعِ الْعَوْرَاتِ مِنَ الْأَمِيرِ وَغَيْرِهِ، لَوْ قُلْنَا إِنَّ الْمُخَاطَبَ مُعَاوِيَةُ ; عَلَى إِرَادَةِ أَنَّهُ سَيَصِيرُ أَمِيرًا فَيَكُونُ مُعْجِزَةً لَكَانَ وَجْهًا وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ الْحَدِيثُ الْخَامِسُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

3710 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَيْفَ أَنْتُمْ وَأَئِمَّةً مِنْ بَعْدِي يَسْتَأْثِرُونَ بِهَذَا الْفَيْءِ؟ قُلْتُ أَمَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ أَضَعُ سَيْفِي عَلَى عَاتِقِي، ثُمَّ أَضْرِبُ بِهِ حَتَّى أَلْقَاكَ قَالَ، أَوَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ، تَصْبِرُ حَتَّى تَلْقَانِيَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3710 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ أَنْتُمْ؟) ; قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَيْفَ؟ سُؤَالٌ عَنِ النَّاسِ، وَعَامِلُهُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ كَيْفَ تَصْنَعُونَ؟ فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ أُبْرِزَ الْفَاعِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} [الإسراء: 100] ، وَالْحَالُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ ; أَتَصْبِرُونَ أَمْ تُقَاتِلُونَ؟ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَضَعُ سَيْفِيَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَصْبِرُ حَتَّى تَلْقَانِيَ وَقَوْلُهُ: (وَأَئِمَّةً مِنْ بَعْدِي) مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَقَوْلُهُ: (يَسْتَأْثِرُونَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالْعَامِلُ هُوَ الْمَحْذُوفُ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ الْمُوَافِقِ لِمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كَوْنِ " أَئِمَّةً " بِالنَّصْبِ، وَأَمَّا عَلَى رَفْعِهَا كَمَا فِي النُّسْخَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، فَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مَحَلُّهَا النَّصْبُ عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَالْمَعْنَى كَيْفَ حَالُكُمْ؟ وَالْحَالُ أَنَّ أُمَرَاءَكُمْ يَنْفَرِدُونَ، (بِهَذَا الْفَيْءِ) وَيَخْتَارُونَهُ وَلَا يُعْطُونَ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْفَيْءُ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ ; كَالْخَرَاجِ، وَالْجِزْيَةِ، وَأَمَّا الْمَأْخُوذُ بِقِتَالٍ فَيُسَمَّى غَنِيمَةً. اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6] الْآيَاتِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الْآيَةُ وَفِي الْمُغْرِبِ: الْفَيْءُ بِالْهَمْزَةِ ; مَا نِيلَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بَعْدَ مَا تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَتَصِيرَ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ، حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُخَمَّسُ، وَالْغَنِيمَةُ مَا نِيلَ مِنْهُمْ عَنْوَةً وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ ; وَحُكْمُهَا أَنْ تُخَمَّسَ، وَسَائِرُ مَا بَعْدَ الْخُمُسِ لِلْغَانِمِينَ خَاصَّةً، وَالنَّفَلُ مَا يَنْفِلُ الْغَازِي ; أَيْ يُعْطَاهُ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْفَيْءُ فِي الْحَدِيثِ يَشْمَلُهَا إِظْهَارًا لِظُلْمِهِمْ، وَاسْتِئْثَارِهِمْ بِمَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِمَزِيدِ تَصْوِيرِ ظُلْمِهِمْ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُ الْمُظْهِرِ: يَعْنِي يَأْخُذُونَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَمَا حَصَلَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَيَسْتَخْلِصُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يُعْطُونَهُ لِمُسْتَحِقِّيهِ، (قُلْتُ أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى أَلَا لِلتَّنْبِيهِ، (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ) ; أَيْ بِالصِّدْقِ، أَوْ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ (أَضَعُ سَيْفِيَ عَلَى عَاتِقِي، ثُمَّ أَضْرِبُ بِهِ) ; أَيْ أُحَارِبُهُمْ، (حَتَّى أَلْقَاكَ) ; أَيْ أَمُوتَ وَأَصِلَ (إِلَيْكَ) بِالشَّهَادَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثُمَّ لِتَّرَاخِي رُتْبَةِ الضَّرْبِ عَنِ الْوَضْعِ، وَعَبَّرَ مِنْ كَوْنِهِ شَهِيدًا بِقَوْلِهِ: حَتَّى أَلْقَاكَ ; وَ (حَتَّى) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: كَيْ، وَبِمَعْنَى الْغَايَةِ (قَالَ: أَوَلَا أَدُلُّكَ؟) وَفِي نُسْخَةٍ أَفَلَا أَدُلُّكَ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: دَخَلَ حَرْفُ الْعَطْفِ بَيْنَ كَلِمَةِ التَّنْبِيهِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَ (لَا) النَّافِيَةِ وَجُعِلَتَا جُمْلَتَيْنِ ; أَيْ أَتَفْعَلُ هَذَا وَلَا أَدُلُّكَ؟ ( «عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ تَصْبِرُ» ) خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ ; أَيِ اصْبِرْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَا تُحَارِبْهُمْ (حَتَّى تَلْقَانِيَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3711 - عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ السَّابِقُونَ إِلَى ظِلِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3711 - (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَدْرُونَ) ; أَيْ تَعْلَمُونَ (مَنِ السَّابِقُونَ) مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، عَلَّقَتْ عَمَلَ الدِّرَايَةِ وَسَدَّتْ بِمَا بَعْدَهُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ ; أَيِ الْمُسَارِعُونَ (إِلَى ظِلِّ اللَّهِ) ; أَيْ ظِلِّ عَرْشِهِ، أَوْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ (عَزَّ) ; أَيْ ذَاتُهُ (وَجَلَّ) ; أَيْ صِفَاتُهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظَرْفٌ لِلسَّبْقِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ إِذَا أُعْطِيَ لَهُمْ حَقُّهُمْ، أَوْ قِيلَ لَهُمْ كَلِمَةُ الْحَقِّ (قَبِلُوهُ) ; أَيْ أَخَذُوهُ، أَوِ انْقَادُوهُ (وَإِذَا سُئِلُوهُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ، (بَذَلُوهُ) وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ فِيهِمَا ; أَيْ وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ كَلِمَةِ الْحَقِّ ; أَجَابُوهُ وَلَمْ يَكْتُمُوهُ، وَلَمْ يَخَافُوا فِيهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، أَوْ إِذَا طَالَبَهُمْ أَحَدٌ حَقَّهُ بَذَلُوهُ بِالْإِعْطَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِيفَاءِ، (وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ) ; أَيْ لِلْأَجَانِبِ وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا (كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ) ; أَيْ لِذَوَاتِهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ: ( «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ) قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْحَقِّ الْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ لِمُطَابَقَةِ رَجُلِ الْبَابِ فِي حَقِّهِ لِدَوَرَانِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَالْحَقُّ يُقَالُ عَلَى أَوْجُهٍ: لِمُوجِدِ الشَّيْءِ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَلِهَذَا قِيلَ فِي اللَّهِ تَعَالَى: هُوَ الْحَقُّ وَلِمَا يُوجَدُ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: فِعْلُ اللَّهِ كُلُّهُ حَقٌّ، وَلِلْاعْتِقَادِ فِي الشَّيْءِ الْمُطَابِقِ لِمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ، وَلِلْفِعْلِ وَلِلْقَوْلِ الْوَاقِعِ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ، وَقَدْرِ مَا يَجِبُ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ، كَقَوْلِنَا: فِعْلُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر: 6] وَيُقَالُ: أَحْقَقْتُ كَذَا ; أَيْ أَثْبَتُّهُ حَقًّا، أَوْ حَكَمَتْ بِكَوْنِهِ حَقًّا، قَالَ الطِّيبِي: يُمْكِنُ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَكْثَرِ هَذِهِ الْمَعَانِي ; أَحَدُهَا: عَلَى الْفِعْلِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِالسَّابِقُونَ ; الْعَادِلُونَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ» " يَعْنِي ; إِذَا نَصَحَهُمْ نَاصِحٌ وَأَظْهَرَ كَلِمَةَ الْحَقِّ الْعَادِلُ قَبِلُوهَا، وَفَعَلُوا مُقْتَضَاهَا مِنَ الْبَذْلِ لِلرَّعِيَّةِ، وَمِنَ الْحُكْمِ بِالسَّوِيَّةِ، وَثَانِيهَا: عَلَى الْوَاجِبِ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْعَطِيَّاتِ ; يَعْنِي إِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، إِذَا أُعْطِيَ قَبِلَ، ثُمَّ بَذَلَ لِلْمُسْتَحِقِّينَ لِيَنَالَ دَرَجَةَ الْأَسْخِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ سِرًا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ: «خُذْهُ فَتَمَوَّلَهُ، وَتَصَدَّقَ بِهِ» . الْحَدِيثَ. وَثَالِثُهُمَا: عَلَى مَا يُوجَدُ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَلِمَةُ الْحَقِّ ضَالَّةُ الْحَكِيمِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُهَا وَيَعْمَلُ بِهَا وَيُعْلِمُهَا غَيْرَهُ، فَعِلْمُهُ بِهَا هُوَ الْقَبُولُ، وَتَعْلِيمُ الْغَيْرِ هُوَ الْبَذْلُ، وَالْعَمَلُ بِهَا هُوَ الْحُكْمُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ ضَالَّةُ كُلِّ حَكِيمٍ ; فَالْمُرَادُ بِالسَّابِقِينَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ; هُمُ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ.

3712 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «ثَلَاثٌ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي: الِاسْتِسْقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ وَحَيْفُ السُّلْطَانِ وَتَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3712 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ثَلَاثٌ) ; أَيْ مِنَ الْخِصَالِ، وَفِي نُسْخَةٍ: ثَلَاثَةٌ ; أَيْ مِنَ الْأَفْعَالِ، (أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي) ; أَيْ مِنْ وُقُوعِهِمْ فِيهَا، أَوْ مِنْ عَدَمِ احْتِرَازِهِمْ عَنْهَا (الِاسْتِسْقَاءُ) ; أَيْ طَلَبُ الْمَطَرِ وَالْمَاءِ (بِالْأَنْوَاءِ) ; أَيْ بِظُهُورِ الْكَوَاكِبِ، أَوْ بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ فِي السَّمَاءِ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْأَنْوَاءُ هِيَ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً يَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي مَنْزِلَةٍ مِنْهَا وَيَسْقُطُ فِي الْمَغْرِبِ كُلَّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَنْزِلَةَ طُلُوعِ الْفَجْرِ

وَتَطْلُعُ أُخْرَى فِي مُقَابَلَتِهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ فِي الشَّرْقِ، فَيَنْقَضِي جَمِيعُهَا فِي انْقِضَاءِ السَّنَةِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ بِسُقُوطِ الْمَنْزِلَةِ وَطُلُوعِ رَقِيبِهَا يَكُونُ مَطَرًا وَيَنْسِبُونَهُ إِلَيْهَا، فَيَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَوْءًا ; لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ السَّاقِطُ مِنْهَا بِالْمَغْرِبِ نَاءَ الطَّلْعُ بِالْمَشْرِقِ، مِنْ نَاءَ يَنُوءُ نَوْءًا ; أَيْ نَهَضَ وَطَلَعَ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالنَّوْءِ الْغُرُوبَ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَإِنَّمَا غَلَّظَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ الْأَنْوَاءِ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَنْسِبُ الْمَطَرَ إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْمَطَرَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا ; أَيْ فِي وَقْتِ كَذَا وَهُوَ هَذَا النَّوْءُ الْفُلَانِيُّ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَطَرُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، أَقُولُ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ ; هُوَ الْمَنْعُ الْمُطْلَقُ سَدًّا لِلْبَابِ وَقَطْعَهُ لِلنَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّفُ بِتَقْدِيرِ رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] ; أَيْ وَفِي وَقْتٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ (وَحَيْفُ السُّلْطَانِ) ; أَيْ جَوْرُهُ وَظُلْمُهُ (وَتَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ) ; أَيْ بِأَنَّ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ وَحُلْوَهُ وَمُرَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ خَافَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَسْبَابَ مُسْتَقِلَّةٌ، وَتَرَكَ النَّظَرَ إِلَى الْمُسَبِّبِ، وَقَعَ فِي شَرَكِ الشِّرْكِ، وَمَنْ كَذَّبَ الْقَدَرَ، وَقَالَ: الْأَمْرُ أُنُفٌ ; وَقَعَ فِي حَرْفِ التَّعْلِيلِ، وَمَنِ افْتُتِنَ بِالسُّلْطَانِ الْجَائِرِ يَأْتِيهِ الضَّلَالُ.

3713 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سِتَّةَ أَيَّامٍ اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا يُقَالُ لَكَ بَعْدُ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ قَالَ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ وَلَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا شَيْئًا وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ وَلَا تَقْبِضْ أَمَانَةً وَلَا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3713 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي) ; أَيْ خُصُوصًا، أَوْ خِطَابًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةَ أَيَّامٍ) ظَرْفُ الْقَوْلِ، وَالْمَقُولُ قَوْلُهُ: (اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا يُقَالُ لَكَ) ; أَيْ تَفَكَّرْ وَتَأَمَّلْ وَاحْفَظْ وَاعْمَلْ بِمُقْتَضَى مَا أَقُولُ لَكَ ; (بَعْدُ) ; أَيْ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وَقِيلَ: (سِتَّةَ أَيَّامٍ) ظَرْفُ (اعْقِلْ) ; وَقَوْلُهُ: مَا يُقَالُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ أَيْ شَيْءٌ أَعْقِلُ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، ( «فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ; لِيُنَبِّهَ أَنَّ مَا يَقُولُهُ بَعْدُ مَعْنًى يَجِبُ تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الْكَلِمَةَ الْأُولَى لَوْ أَدَّى حَقَّهَا لَكَفَى بِهَا كَلِمَةً جَامِعَةً، قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «إِنِّي أَعْلَمُ آيَةً لَوْ أَخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتْهُمْ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] الْآيَةَ فَمَا زَالَ يَقْرَأُهَا وَيُعِيدُهَا» ) وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ( «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأَسُ كُلِّ شَيْءٍ» ) وَفِي رِوَايَةٍ ( «فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ; أَيْ تُنَزِّهُ عَمَّا يَشْغَلُ سِرَّكَ عَنِ الْحَقِّ وَتُوَجِّهُ بِسَرَائِرِكَ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَمُقْتَضَى الْبَهِيمِيَّةِ، وَالسَّبُعِيَّةِ، وَالْمَلَكِيَّةِ، فَإِذَا ثَارَتْ مِنْ تِلْكَ الرَّذَائِلِ رَذِيلَةٌ يُطْفِئُهَا بِمُقْتَضَى الْمَلَكِيَّةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» ) وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ ; أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ مَعْصِيَةً يُحْدِثُهَا تَوْبَةً، أَوْ طَاعَةً، وَإِذَا أَسَاءَ إِلَى شَخْصٍ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] الْآيَةَ (وَلَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا) ; أَيْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ (شَيْئًا) فِيهِ انْتِهَاءُ دَرَجَةِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ) تَتْمِيمٌ لَهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ ذُلٌّ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْعَزِيزِ الْكَرِيمِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حَرَامٌ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الشِّكَايَةِ مِنَ الرَّبِّ الرَّحِيمِ، وَلِذَا كَانَ يَقُولُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ سُجُودِ غَيْرِكَ فَصُنْ وَجْهِي عَنْ مَسْأَلَةِ غَيْرِكَ. وَفِي حَدِيثِ: «إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ سَائِلًا فَسَلِ الصَّالِحِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الْفِرَاسِيِّ (وَلَا تَقْبِضْ أَمَانَةً) ; أَيْ مِنَ النَّاسِ بِلَا ضَرُورَةِ مَخَافَةَ الْخِيَانَةِ وَلِكَوْنِهَا

مَظِنَّةَ التُّهَمَةِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ثِقَلِ مَحْمِلِهَا، وَصُعُوبَةِ أَدَائِهَا، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَهُ مِنَ التَّكْلِيفَاتِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] (وَلَا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ) ; أَيْ لَا تَحْكُمْ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» ) وَسَيَأْتِي، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَهَى أَبَا ذَرٍّ عَنْ قَبْضِ الْأَمَانَةِ، وَالْحُكْمِ فِي الْخُصُومَةِ ; لِضَعْفِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا كَمَا سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْإِمَارَةَ ; قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» ".

3714 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَاهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3714 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) ; أَيْ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ، أَوْ مَلَائِكَتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَّا أَتَى اللَّهَ وَهُوَ ظَاهِرٌ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ) ; أَيْ مُنْضَمَّةٌ إِلَيْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (يَدُهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِ (مَغْلُولًا) ، (وَإِلَى عُنُقِهِ) حَالٌ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقًا بِ (مَغْلُولًا) ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَ (إِلَى عُنُقِهِ) خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، وَحِينَئِذٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ; إِمَّا ظَرْفٌ لَ (أَتَاهُ) وَهُوَ الْأَوْجَهُ، أَوْ لِ (مَغْلُولًا) ، وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَأْنَفَةً كَانَتْ بَيَانًا لِ (مَغْلُولًا) ، وَالْجُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ لِلْمَجْمُوعِ، كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ أَوَّلًا عَنْ كَيْفِيَّةِ هَيْئَةِ الْمَغْلُولِ؟ فَأُجِيبَ: يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، ثُمَّ سَأَلَ ثَانِيًا: فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُجِيبَ: (فَكَّهُ بِرُّهُ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ ; أَيْ خَلَّصَهُ عَدْلُهُ وَإِحْسَانُهُ (أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ) ; أَيْ أَهْلَكَهُ ظُلْمُهُ وَعِصْيَانُهُ (أَوَّلُهَا) ; أَيِ ابْتِدَاءُ الْإِمَارَةِ (مَلَامَةٌ) ; أَيْ عِنْدِ أَهْلِ السَّلَامَةِ (وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ) ; أَيْ لِلنَّفْسِ الْلَوَّامَةِ (وَآخِرُهَا) ; أَيْ نَتِيجَتُهَا (خِزْيٌ) ; أَيْ فَضِيحَةٌ تَامَّةٌ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَإِنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ سُؤَالُ وَجَوَابٍ ; أَوْرَدَهُمَا الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ آخِرُ الشَّيْءِ مُنْقَضَاهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ أَخِرُهُ غَيْرُهُمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِمَارَةَ تَنْقَضِي فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ الْخِزْيُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِرَهُ؟ قُلْتُ: تُعْتَبَرُ صِفَةُ الْإِمَارَةِ مُسْتَمِرَّةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، ثُمَّ قَالَ: قَوْلُهُ: أَوَّلُهُمَا مَلَامَةٌ ; إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِلْوِلَايَةِ الْغَالِبَ غَيْرُ مُجَرِّبٍ لِلْأُمُورِ، يَنْظُرُ إِلَى مَلَاذِهَا ظَاهِرًا فَيَحْرِصُ فِي طَلَبِهَا، وَيَلُومُهُ أَصْدِقَاؤُهُ، ثُمَّ إِذَا بَاشَرَهَا يَلْحَقُهُ تِبَاعَتُهَا وَمَا تَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ وَخَامَةِ عَاقِبَتِهَا ; نَدَمٌ وَفِي الْآخِرَةِ خِزْيٌ وَنَكَالٌ. وَهَذَا عَلَى رَأَيِ مَا قَالَ: إِنَّ الْجُمَلَ الْمُتَنَاسِقَةَ ; إِذَا أُتِيَ بِقَيْدٍ بَعْدَهَا بِالْأَخِيرِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا تَكُونُ الْمَلَامَةُ وَالنَّدَامَةُ وَالْخِزْيُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: أَتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَإِنَّ إِتْيَانَهُ مَغْلُولًا يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ هُوَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ.

3715 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا مُعَاوِيَةُ إِنْ وُلِّيتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللَّهَ وَاعْدِلْ قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي مُبْتَلًى بِعَمَلٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى ابْتُلِيتُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3715 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا مُعَاوِيَةُ إِنْ وُلِّيتَ) بِضَمِّ وَاوٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ مَكْسُورَةٍ ; أَيْ جُعِلْتَ وَالِيًا (أَمْرًا) ; أَيْ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَةِ وَالْحُكُومَةِ (فَاتَّقِ اللَّهَ) ; أَيْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ (وَاعْدِلْ) ; أَيْ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ (قَالَ) ; أَيْ مُعَاوِيَةُ (فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي مُبْتَلًى بِعَمَلٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى ابْتُلِيتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَحَتَّى غَايَةٌ لِقَوْلِهِ: أَظُنُّ، أَوْ فَمَا زِلْتُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ لِلتَّسَبُّبِ ; يَعْنِي بِسَبَبِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحُصُولِ ظَنِّي فَإِنَّ حَمْلَ " إِنْ " قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنْ وُلِّيتَ) عَلَى الْجَزْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: " إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " وَكَأَنَّ الْمَلَكَ أَخْبَرَهُ بِالْقَضِيَّةِ، كَانَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] فَيَكُونُ مَعْنَى الْغَايَةِ فِي (حَتَّى) نَقْلًا مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى حَقِّ الْيَقِينِ، وَإِنْ حُمِلَ التَّرْدِيدُ فَالظَّنُّ مَجْرِيٌّ عَلَى مَعْنَاهُ ; لِأَنَّ تَرْدِيدَ مِثْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لَا يَكُونُ إِلَّا رَاجِحًا عِنْدَ أُمَّتِهِ فَمَعْنَى الْغَايَةِ فِي (حَتَّى) النَّقْلُ مِنَ الظَّنِّ إِلَى الْيَقِينِ.

3716 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» . رَوَى الْأَحَادِيثَ السِّتَّةَ أَحْمَدُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3716 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ» ) ; أَيْ مِنْ فِتْنَةٍ تَنْشَأُ فِي ابْتِدَاءِ السَّبْعِينَ مِنْ تَارِيخِ الْهِجْرَةِ، أَوْ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، (وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ وَمِنْ حُكُومَةِ الصِّغَارِ الْجُهَّالِ كَيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَوْلَادِ الْحَكَمِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَمْثَالِهِمْ وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ " وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ " حَالٌ ; أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الصِّبْيَانَ أُمَرَاءُ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ أُمَّتِي، وَهُمْ أُغَيْلِمَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، رَآهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنَامِهِ يَلْعَبُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي الْمَنَامِ ; أَنَّ وَلَدَ الْحَكَمِ يَتَدَاوَلُونَ الْمِنْبَرَ كَمَا يَتَدَاوَلُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ، (رَوَى الْأَحَادِيثَ السِّتَّةَ) ; أَيْ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ (أَحْمَدُ) وَوَافَقَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَفْظُهُ «إِنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ عَنِ الْإِمَارَةِ، وَمَا هِيَ ; أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ، وَثَانِيهَا نَدَامَةٌ، وَثَالِثُهَا عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ عَدَلَ» . (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ، إِذْ أَقْبَلَ عَلِيٌّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاوِيَةَ: أَتُحِبُّ عَلِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ بَيْنَكُمَا هُنَيَّةٌ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَفْوُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ، قَالَ: رَضِينَا بِقَضَاءِ اللَّهِ فَنَزَلَ ; {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] » كَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ.

3717 - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ هَاشِمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَمَا تَكُونُونَ كَذَلِكَ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3717 - (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ هَاشِمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعِيُّ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ رَأَى عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَرَوَى عَنْهُ الْأَعْمَشُ وَشُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، كَثِيرُ الرِّوَايَةِ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَالسَّبِيعِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَمَا تَكُونُونَ) ; أَيْ مِثْلُ مَا تَكُونُونَ فِي الصَّلَاحِ وَضِدِّهِ (كَذَلِكَ) ; أَيْ مِثْلُهُ وَعَلَى وَفْقِهِ (يُؤَمَّرُ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ ; أَيْ يُجْعَلُ أَمِيرًا وَحَاكِمًا (عَلَيْكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ (يُؤَمَّرُ) ، وَكَذَلِكَ جِيءَ بِهِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا لِلتَّشْبِيهِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: أَعْمَالُكُمْ عُمَّالُكُمْ، وَالْحَدِيثُ يُوَضِّحُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي لِأَبِي الدَّرْدَاءِ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، بِلَفْظِ " «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ» " رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السِّبِيعِيِّ مُرْسَلًا اهـ. وَقَوْلُهُ: كَمَا تَكُونُوا بِحَذْفِ النُّونِ ; وَيُوَلَّى بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ الْمُنْقَلِبَةِ أَلِفًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي لَفْظِ الزَّرْكَشِيِّ وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ جُمَيْعٍ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَفِي مُخْتَصَرِ الْمَقَاصِدِ لِابْنِ الرَّبِيعِ ; حَدِيثُ " كَمَا تَكُونُونَ " بِإِثْبَاتِ النُّونِ " يُوَلَّى عَلَيْكُمْ "، أَوْ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ بِصِيغَةِ الشَّكِّ، أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ (يُؤْمَرُ عَلَيْكُمْ بِدُونِ شَكٍّ ; وَبِحَذْفِ أَبِي بَكْرَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَفِي طَرِيقِهِ يَحْيَى بْنُ هَاشِمٍ، وَهُوَ فِي عِدَادِ مَنْ يَضَعُ اهـ. وَوَجْهُ حَذْفِ النُّونِ أَنَّ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ عَمِلَتْ عَمَلَ (أَنْ) كَمَا أَنَّهَا عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] بِالرَّفْعِ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ.

3718 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا عَدَلَ ; كَانَ لَهُ الْأَجْرُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الشُّكْرُ، وَإِذَا جَارَ كَانَ عَلَيْهِ الْإِصْرُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3718 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ» ) وَفِي رِوَايَةٍ ظِلُّ الرَّحْمَنِ (فِي الْأَرْضِ) ; لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ كَمَا يَدْفَعُ الظِّلُّ أَذَى حَرِّ الشَّمْسِ، وَقَدْ يُكَنَّى بِالظِّلِّ عَنِ الْكَنَفِ وَالْحِمَايَةِ ; كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ظِلُّ اللَّهِ تَشْبِيهٌ وَقَوْلُهُ ( «يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ مِنْ عِبَادِهِ» ) جُمْلَةٌ مُبِيِّنَةٌ، كَمَا شُبِّهَ بِهِ السُّلْطَانُ بِالظِّلِّ ; أَيْ لِمَا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَرْوِحُونَ إِلَى بَرْدِ الظِّلِّ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ ; كَذَلِكَ يَسْتَرْوِحُونَ إِلَى بَرْدِ عَدْلِهِ مِنْ حَرِّ الظُّلْمِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ، وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ ظِلٌّ لَيْسَ كَسَائِرِ الظِّلَالِ ; بَلْ لَهُ شَأْنٌ وَمَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِاللَّهِ، لَمَّا جُعِلَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ يَنْشُرُ عَدْلَهُ وَإِحْسَانَهُ فِي عِبَادِهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا ظِلَّ اللَّهِ، يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ مَلْهُوفٍ يَأْوِي هُوَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى ظِلِّ عَرْشِهِ ; يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ( «فَإِذَا عَدَلَ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الشُّكْرُ وَإِذَا جَارَ» " وَفِي رِوَايَةٍ، أَوْ حَافَ، أَوْ ظَلَمَ (كَانَ عَلَيْهِ الْإِصْرُ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيِ الْوِزْرُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ) ; فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ الْعَادِلَ نِعْمَةٌ وَمِنْحَةٌ، وَالسُّلْطَانُ الظَّالِمُ نِقْمَةٌ وَمِحْنَهٌ {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] وَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31] ; أَيْ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، إِذْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ: نِصْفٌ صَبْرٌ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ» " وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ دَلَّتِ الْإِضَافَةُ وَقَوْلُهُ: يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ ; أَنَّ السُّلْطَانَ عَادِلٌ ; فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا جَارَ كَانَ عَلَيْهِ الْإِصْرُ؟ قُلْتُ: قَوْلُةُ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ، بَيَانٌ لِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِذَا جَارَ كَأَنَّهُ خَرَجَ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ ظِلَّ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِ {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] فَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَنَهَى عَمَّا لَا يُنَاسِبُ، أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّقْسِيمُ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الْأَغْلَبِ عَلَيْهِ ; مِنَ الْعَدْلِ، أَوِ الْجَوْرِ، أَوْ بِخُصُوصِ قَضِيَّةٍ جُزْئِيَّةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ ; فَيَجِبُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَلِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ: " «سَيَلِيكُمْ أُمَرَاءُ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِمْ أَكْثَرُ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَهُمُ الْأَجْرُ وَعَلَيْكُمُ الشُّكْرُ وَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَعَلَيْهِمُ الْوِزْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ» "، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ السُّلْطَانَ حِينَ ظُلْمِهِ إِنَّمَا يَكُونُ ظِلَّ الشَّيْطَانِ ; لَكِنَّهُ بِإِرَادَةِ الرَّحْمَنِ، فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: السُّلْطَانُ الْعَادِلُ الْمُتَوَاضِعُ ظِلُّ اللَّهِ وَرُوحُهُ فِي الْأَرْضِ، يَرْفَعُ لَهُ عَمَلَ سَبْعِينَ صِدِّيقًا، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ غَشَّهُ ضَلَّ وَمَنْ نَصَحَهُ اهْتَدَى، وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَنَسٍ: " السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ بَلَدًا لَيْسَ فِيهِ سُلْطَانٌ فَلَا يُقِيمَنَّ بِهَا "، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يَأْوِي إِلَيْهِ الضَّعِيفُ وَبِهِ يَنْتَصِرُ الْمَظْلُومُ وَمَنْ أَكْرَمَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

3719 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; إِمَامٌ عَادِلٌ رَفِيقٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ جَائِرٌ خَرِقٌ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3719 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ عَادِلٌ رَفِيقٌ» ) ; أَيْ لَيِّنُ الْجَانِبِ مَعَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، لَطِيفٌ مَعَ الشَّرِيفِ وَالضَّعِيفِ ( «وَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) ، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ شَرِّ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْمُقَابَلَةُ ; مَا لَا يَخْفَى مِنَ النُّكْتَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ سَيِّئُ الْمُعَامَلَةِ (إِمَامٌ جَائِرٌ) ; أَيْ ظَالِمٌ (خَرِقٌ) بِفَتْحٍ فَكَسَرٍ ; صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنَ الْخَرْقِ ; وَهُوَ ضِدُّ الرِّفْقِ، وَفِي الْحَدِيثِ " «الرِّفْقُ يُمْنٌ وَالْخَرَقُ شُؤْمٌ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ بَابَ الرِّفْقِ فَإِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَهُ وَإِنَّ الْخَرَقَ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا شَانَهُ» " الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجُعِلَ الرَّفِيقَ لِلْعَادِلِ مِنْ بَابِ التَّكْمِيلِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ تَعَالَى وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَفَهُ بِالْعَادِلِ ; رَأَى أَنَّ الْوَصْفَ بِمُجَرَّدِ الْعَدْلِ غَيْرُ وَافٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَادِلُ جَافِيًا غَلِيظَ الْقَلْبِ فَكَمَّلَهُ بِالرَّفِيقِ، وَجَعَلَ الْجَائِرَ مُرَدِفًا بِالْخَرَقِ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ ; لِأَنَّ الثَّانِي زَادَ مُبَالَغَةً فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْجَفَاءَ وَالْغِلْظَةَ تَزِيدُ فِي جَوْرِهِ وَخَرَقِهِ.

3720 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَظَرَ إِلَى أَخِيهِ نَظْرَةً يُخِيفُهُ أَخَافَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى: هَذَا مُنْقَطِعٌ وَرِوَايَتُهُ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3720 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ نَظَرَ إِلَى أَخِيهِ) ; أَيِ الْمُسْلِمِ (نَظْرَةً يُخِيفُهُ) جَوَّزَ أَنْ يَكُنْ حَالًا مِنْ فَاعِلِ نَظَرَ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ عَلَى حَذْفِ الرَّاجِعِ ; أَيْ بِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ (يُخِيفُهُ بِهَا فِي غَيْرِ حَقٍّ) ، (أَخَافَهُ اللَّهُ) ; أَيْ بِنَظَرِ غَضَبٍ عَلَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ، وَذَكَرَ أَخِيهِ لِلْاسْتِعْطَافِ ; يَعْنِي أَنَّ الْأُخُوَّةَ تَقْتَضِي الْأُمْنِيَةَ لَا سِيَّمَا أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، قُلْتُ: وَإِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِخَافَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ بِمَا فَوْقَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَظْلَمَةِ؟ وَيُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِهِ ; أَنَّ مَنْ نَظَرَ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ إِلَى أَخِيهِ ; نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْعِنَايَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا رَوَى الْحَكِيمُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو ; أَيْضًا: بِلَفْظِ ( «مَنْ نَظَرَ إِلَى أَخِيهِ نَظْرَةَ وُدٍّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، (رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى) ; أَيْ فِي شَأْنِهِ (هَذَا مُنْقَطِعٌ) ; أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ لَهُ عِلَّةُ الِانْقِطَاعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِرْسَالُ ; لِأَنَّهُ حَذَفَ الصَّحَابِيَّ وَهُوَ أَبُو بَكْرَةَ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ لَا يَضُرُّ إِذِ الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَكِنْ يَضُرُّهُ قَوْلُهُ: (وَرِوَايَتُهُ ضَعِيفٌ) ; أَيْ وَرِوَايَةُ يَحْيَى ضَعِيفَةٌ بَلْ قِيلَ إِنَّهَا مَرْفُوعَةٌ، وَذَكَّرَ (ضَعِيفٌ) لِكَوْنِ الْفَعِيلِ يَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي هَامِشِ أَصْلِهِ وَرِوَايَةٌ ضَعِيفٌ، وَوُضِعَ عَلَيْهِ رَمْزٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ يَحْيَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

3721 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالِي يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا مَالِكُ الْمُلُوكِ، وَمَلِكُ الْمُلُوكِ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ فِي يَدِي، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا أَطَاعُونِي ; حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا عَصَوْنِي حَوَّلْتُ قُلُوبَهُمْ بِالسُّخْطَةِ وَالنِّقْمَةِ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ فَلَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْمُلُوكِ وَلَكِنِ اشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالذِّكْرِ وَالتَّضَرُّعِ كَيْ أَكْفِيَكُمْ مُلُوكَكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3721 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ) ; أَيْ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ (أَنَا اللَّهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَى أُسْلُوبِ أَنَا أَبُو النَّجْمِ ; أَيْ أَنَا الْمَعْرُوفُ وَالْمَشْهُورُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَوِ الْمَعْبُودُ، وَقَوْلُهُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَقَوْلُهُ: ( «مَالِكُ الْمُلُوكِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ» ) مِنْ بَابِ التَّدَلِّي لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ، أَوِ الثَّانِي مِنْ بَابِ التَّكْمِيلِ وَالتَّتْمِيمِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَلِكُ الْمُلُوكِ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَالِكُ الْمُلُوكِ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي فَإِنَّ الْمَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ الْمَالِكِ ; وَأَقْوَى تَصَرُّفًا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْمَالِكَ ; هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ، وَالْمَلِكُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْمَأْمُورِينَ، وَقِيلَ الْمَالِكُ أَجْمَعُ وَأَوْسَعُ ; لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَالِكُ الطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ وَكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُقَالُ: إِلَّا مَلِكُ النَّاسِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي حَدِّ ذَاتِهِمَا كَمَا حَقَّقَ فِي {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] بِاعْتِبَارِ قِرَاءَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ مَالِكَ الْمُلُوكِ أَبْلَغُ مِنْ مَلِكِ الْمُلُوكِ وَلِهَذَا قَدْ يُطْلَقُ الثَّانِي عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْأَوَّلِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى ; أَنَّهُ تَعَالَى يَمْلِكُ جِنْسَ الْمُلُوكِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِمْ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِيمَا يَمْلِكُونَ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: ( «قُلُوبُ الْمُلُوكِ فِي يَدِي» ) اسْتِئْنَافٌ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ يَدُلُّ عَلَى التَّصَرُّفِ التَّامِّ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: (وَإِنَّ الْعِبَادَ) الْوَاوُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ التَّفْصِيلِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ: فَإِنَّ الْعِبَادَ (إِذَا أَطَاعُونِي) ; أَيْ أَكْثَرُهُمْ (حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ) ; أَيْ قَلَّبْتُ قُلُوبَ ظَلَمَتِهِمْ (عَلَيْهِمْ) ; أَيْ عَلَى عِبَادِي (بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ) ; أَيْ شِدَّةِ الرَّأْفَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ ; الرَّأْفَةُ أَرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَلَا تَكَادُ تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ، وَالرَّحْمَةُ قَدْ تَقَعُ فِيهَا لِمَصْلَحَةٍ، (وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا عَصَوْنِي حَوَّلْتُ قُلُوبَهُمْ) ; أَيْ قُلُوبَ مُلُوكِهُمُ الْعَادِلِينَ عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّ حَذْفَ (عَلَيْهِمْ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا لَا يَضُرُّهُمْ (بِالسَّخْطَةِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ; أَيِ الْكَرَاهَةِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِالشَّيْءِ (وَالنِّقْمَةِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيِ الْكَرَاهَةِ وَالْعُقُوبَةِ ; فَفِي الصِّحَاحِ: نَقِمْتُهُ إِذَا كَرِهْتُهُ، وَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ ; أَيْ عَاقَبَهُ، وَالْاسْمُ مِنْهُ النِّقْمَةُ اهـ. وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8]

(فَسَامُوهُمْ) بِضَمِّ الْمِيمِ الْمُخَفِّفَةِ مِنَ السَّوْمِ ; بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ ; أَيْ كَلَّفُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ وَأَذَاقُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ; أَيْ أَشَدَّهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49] (فَلَا تَشْغَلُوا) بِفَتْحِ الْغَيْنِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: شَغَلْتُ فُلَانًا فَأَنَا شَاغِلٌ وَلَا تَقُلْ أَشْغَلْتُهُ ; لِأَنَّهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَفَى الْقَامُوسِ ; شَغَلَهُ كَمَنَعَهُ شُغْلًا وَيُضَمُّ، وَأَشْغَلَهُ لُغَةٌ جَيِّدَةٌ، أَوْ قَلِيلَةٌ، أَوْ رَدِيئَةٌ، وَالْمَعْنَى لَا تَسْتَعْمِلُوا (أَنْفُسَكُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْمُلُوكِ) ; أَيْ بِضَرَرِهِمْ كَمَوْتٍ وَعَزْلٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يَأْتِي أَنْحَسُ مِنْهُ، ( «وَلَكِنِ اشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالذِّكْرِ» ) ; أَيْ بِذِكْرِي وَنِسْيَانِ غَيْرِي، (وَالتَّضَرُّعِ) ; أَيْ إِلَيَّ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيَّ (كَيْ أَكْفِيَكُمْ) بِالنَّصْبِ ; أَيْ لِكَيْ يَكْفِيَكُمْ (مُلُوكَكُمْ) ; أَيْ شَرَّهُمْ، إِذْ مَنْ تَضَرَّعَ إِلَيْهِ أَنْجَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ أَمْرَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، (رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ) .

[باب ما على الولاة من التيسير]

[بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3722 - عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ الْوُلَاةُ بِضَمِّ الْوَاوِ ; جَمْعُ الْوَالِي ; وَهُوَ يَشْمَلُ الْخَلِيفَةَ وَغَيْرَهُ، وَمِنْ بَيَانٌ لِ (مَا) وَ (عَلَى) لِلْوُجُوبِ ; أَيْ بَابِ مَا يَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ مِنْ تَيْسِيرِ الْأُمُورِ وَتَسْهِيلِهَا عَلَى رَعَايَاهُمْ فِي قَضَايَاهُمْ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3722 - (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَعَثَ أَحَدًا) ; أَيْ أَرَادَ إِرْسَالَ أَحَدٍ (مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ) ; أَيْ مِنْ أَمْرِ الْحُكُومَةِ، (قَالَ بَشِّرُوا) ; أَيِ النَّاسَ بِالْأَجْرِ وَالْمَثُوبَاتِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالْخِطَابُ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، أَوْ جَمْعٌ لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ دُونَ تَخْصِيصِهِ، (وَلَا تُنَفِّرُوا) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ ; أَيْ لَا تُخَوِّفُهُمْ بِالْمُبَالَغَةِ فِي إِنْذَارِهِمْ حَتَّى تَجْعَلُوهُمْ قَانِطِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِذُنُوبِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ، أَوْ بَشِّرُوهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ بِحُصُولِ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا فِي الْبِلَادِ، وَلَا تُنَفِّرُوهُمْ بِالظُّلْمِ وَالْغِلَاظَةِ عَنِ الِانْقِيَادِ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْجِهَتَيْنِ الْمُقَابِلَتَيْنِ، ظَهَرَتِ الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ ; إِذِ الْحَقِيقَةُ أَنْ يُقَالَ: بَشِّرُوا وَلَا تُنْذِرُوا، وَاسْتَأْنِسُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيَعُمَّ الْبِشَارَةُ وَالنِّذَارَةُ وَالْاسْتِئْنَاسُ وَالتَّنْفِيرُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْذَارَ مَطْلُوبٌ ; أَيْضًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [الأنعام: 51] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] ، وَلِأَنَّ أَمْرَ السِّيَاسَةِ وَالْحُكُومَةِ لَا يَتِمُّ بِدُونِ الْإِنْذَارِ مَعَ مُجَرَّدِ الْبِشَارَةِ (وَيَسِّرُوا) ; أَيْ سَهِّلُوا عَلَيْهِمُ الْأُمُورَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ بِاللُّطْفِ بِهِمْ، (وَلَا تُعَسِّرُوا) ; أَيْ بِالصُّعُوبَةِ عَلَيْهِمْ ; بِأَنْ تَأْخُذُوا أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، أَوْ أَحْسَنَ مِنْهُ، أَوْ بِتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ وَتَجَسُّسِ حَالَاتِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

3723 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3723 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا» ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَمْرٌ مِنَ التَّسْكِينِ ; أَيْ سَكِّنُوهُمْ بِالْبِشَارَةِ، أَوِ الطَّاعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: وَبَشِّرُوا (وَلَا تُنَفِّرُوا) ; أَيْ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْذَارِ، أَوْ بِتَكْلِيفِ الْأُمُورِ الصَّعْبَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِنْكَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النِّهَايَةِ ; أَيْ لَا تُكَلِّفُونَهُمْ بِمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى النُّفُورِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

3724 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَدَّهُ أَبَا مُوسَى وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ ; فَقَالَ: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3724 - (وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ) صَوَابُهُ ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ لِمَا سَيَأْتِي (قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَدَّهُ أَبَا مُوسَى وَمُعَاذًا) ; أَيِ ابْنَ جَبَلٍ (إِلَى الْيَمَنِ) ظَاهِرُ إِيرَادُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا مُوسَى جَدُّ أَبِي بُرْدَةَ ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; بَلْ هُوَ أَبُوهُ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَدَّهُ) أَبَا مُوسَى وَضَمِيرُ جَدِّهِ لِعَبْدِ اللَّهِ هَكَذَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَفَى نُسْخَةٍ عَنِ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ فَلَا إِيرَادَ وَلَا إِشْكَالَ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَوَابُهُ ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ، حَيْثُ قَالَ: سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبِي وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ جَامِعِ الْأُصُولِ أَنَّ بِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ، سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ، وَرَوَى عَنْ قَتَادَةَ وَنَفَرٍ مِنَ الْأَعْلَامِ، وَهُوَ قَلِيلُ الْحَدِيثِ حَسَنُهُ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَبُو بُرْدَةَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيُّ ; أَحَدُ التَّابِعِينَ الْمَشْهُورِينَ الْمُكْثِرِينَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمَا، كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ شُرَيْحٍ ; فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ، قَالَ أَيْضًا: أَبُو مُوسَى هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيُّ، أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَدِمَ مَعَ أَهْلِ السَّفِينَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْبَصْرَةَ سَنَةَ عِشْرِينَ، فَافْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَهْوَازَ وَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ إِلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا، فَانْتَقَلَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَقَامَ بِهَا وَكَانَ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ، إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ، ثُمَّ انْتَقَلَ أَبُو مُوسَى إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ التَّحْكِيمِ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ لَهُ أَوْلَادٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَرَوَى كُلٌّ مِنْهُمْ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَحَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ ثِقَةٌ، لَمْ تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ فِي تَنْكِيرِ ابْنٍ فِي الرِّوَايَةِ، (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; أَيْ لَهُمَا مَعًا، أَوْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ لِمَا سَيَأْتِي (يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا) ; أَيِ اتَّفِقَا فِي الْحُكْمِ، (وَلَا تَخْتَلِفَا) ; أَيْ فِي الْأَمْرِ، وَهَذَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا تَحْتَ أَمْرِ الْآخَرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي كُونَا مُتَّفِقَيْنِ فِي أَحْكَامِكُمَا، وَلَا تَخْتَلِفَا فَإِنَّ اخْتِلَافَكُمَا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافِ أَتْبَاعِكُمَا وَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْعَدَاوَةُ وَالْمُحَارَبَةُ بَيْنَهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ مُتَعَاضَدَةٌ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الْحَرَجِ وَالتَّضْيِيقِ فِي أُمُورِ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] مَفْعُولٌ أَوَّلٌ، وَ (فِي الدِّينُ) ثَانٍ، وَزِيدَتْ (مِنْ) لِلْاسْتِغْرَاقِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي (حَرَجٍ) لِلشُّيُوعِ، وَ (عَلَيْكُمْ) مُتَعَلِّقٌ بِهِ قُدِّمَ لِلْاخْتِصَاصِ، كَأَنَّهُ قِيلَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ دِينَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ خَاصَّةً، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْكُمْ أَيًّا كَانَ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا تَرْجِيحُ فِعْلِ الْأَوَّلِينَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ عَلَى رَأَيِ الْمُتَكَلِّفِينَ فِيمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ مِنَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ ; مِنْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَذْهَبٌ مُدَوَّنٌ، وَإِذَا دُوِّنَتِ الْمَذَاهِبُ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ؟ إِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الثَّانِيَ أَعْلَمُ ; يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بَلْ يَجِبَ، وَإِنْ خَيَّرْنَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا، كَمَا لَوْ قَلَّدَ فِي الْقِبْلَةِ هَذَا أَيَّامًا وَهَذَا أَيَّامًا، وَلَوْ قَلَّدَ مُجْتَهِدًا فِي مَسَائِلَ وَآخَرَ فِي مَسَائِلٍ أُخْرَى، وَاسْتَوَى الْمُجْتَهِدَانِ عِنْدَهُ خَيَّرْنَاهُ، لَكِنِ الْأُصُولِيُّونَ مَنَعُوا مِنْهُ، وَحَكَى الْحَانِطِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ: فِيمَا إِذَا اخْتَارَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْسُقَ بِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِهِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّرْجِيحَ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ: حِينَ أَرَادَ الرَّشِيدُ الشُّخُوصَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْعِرَاقِ ; وَقَالَ لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَخْرُجَ مَعِي فَإِنِّي عَزَمْتُ أَنْ أَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْمُوَطَّأِ كَمَا حَمَلَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى الْقُرْآنِ ; فَقَالَ: أَمَّا حَمْلُ النَّاسِ عَلَى الْمُوَطَّأِ فَلَيْسَ لَكَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَرَقُوا بَعْدَهُ فِي الْأَمْصَارِ، فَحَدَّثُوا فَعِنْدَ كُلِّ أَهْلِ مِصْرٍ عِلْمٌ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» ".

3725 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3725 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْغَادِرَ) ; أَيْ نَاقِضَ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ، قَالَ الْقَاضِي: الْغَدْرُ فِي الْأَصْلِ تَرْكُ الْوَفَاءِ، وَهُوَ شَائِعٌ فِي أَنْ يُغْتَالَ الرَّجُلُ مِنْ عَهْدِهِ وَأَمْنِهِ، (يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ) ; أَيْ يُرْكَزُ لِأَجْلِ إِفْضَاحِهِ عَلَمٌ قَائِمًا بِقَدْرِ غَدْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هَذِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ ; أَيْ هَذَا اللِّوَاءَ، وَأُنِّثَ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الرَّايَةِ، أَوْ مُرَاعَاةً لِخَبَرِهِ وَهَى (غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ) ; أَيْ عَلَامَتُهَا، أَوْ نَتِيجَتُهَا أَوْ عُقُوبَتُهَا، فَإِنَّهَا فَضِيحَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى رُؤُسِ الْأَشْهَادِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

3726 - وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3726 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ) وَفِي نُسْخَةٍ ; أَنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (يُعْرَفُ بِهِ) ; أَيْ قَدْرُهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَكَذَا أَنَسٌ عَنْهُ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّيَالِسِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ: «أَنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ عِنْدَ اسْتِهِ» .

3727 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3727 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ» ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، وَسُكُونِ سِينٍ ; أَيْ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَالِاسْتُ الدُّبُرُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَإِنَّمَا يُنْصَبُ لِلْغَادِرِ تَشْهِيرًا لَهُ بِالْغَدْرِ وَتَفْضِيحًا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَإِنَّمَا قَالَ: عِنْدَ اسْتِهِ اسْتِخْفَافًا بِذِكْرِهِ وَاسْتِهَانَةً بِأَمْرِهِ، أَوْ لِأَنَّ عَلَمَ الْعِزَّةِ يُنْتَصَبُ تِلْقَاءَ الْوَجْهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَمُ الْمَذَلَّةِ فِيمَا هُوَ كَالْمُقَابِلِ لَهُ. وَفَى شَرْحِ مُسْلِمٍ: اللِّوَاءُ الرَّايَةُ الْعَظِيمَةُ الَّذِي لَا يُمْسِكُهَا إِلَّا صَاحِبُ جَيْشِ الْحَرْبِ، أَوْ صَاحِبُ دَعْوَةِ الْجَيْشِ وَيَكُونُ النَّاسُ تَبَعًا لَهُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الرَّايَةُ بِمَعْنَى اللِّوَاءِ، وَهُوَ الْعَلَمُ الَّذِي يُحْمَلُ فِي الْحَرْبِ، يُعْرَفُ بِهِ صَاحِبُ الْجَيْشِ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ، وَقَدْ يَدْفَعُهُ إِلَى مُقَدِّمِ الْعَسْكَرِ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ بِتَرَادُفِهِمَا (وَفِي رِوَايَةٍ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرِهِ» ) ; أَيْ طُولًا وَعَرْضًا فِي مُقَابَلَةِ غَدْرِهِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ) ; أَيْ مِنْ غَدْرِ أَمِيرِ عَامَّةٍ وَهُوَ مَنْ يَسْتَوْلِي عَلَى الْأُمُورِ بِتَقْدِيمِ الْعَوَامِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَلَا مَشُورَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَعَظَّمَ قَدْرَهُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ الْمَشْرُوعِ، إِذِ الْوِلَايَةُ بِرَأْيِ الْخَوَاصِّ، وَهُوَ قَدْ تَوَلَّى مَا لَا يَسْتَعِدُّهُ، وَمَنَعَهُ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّهُ، فَنَقَضَ بِهَذَا عَهْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعُهُودَ الْمُسْلِمِينَ ; أَيْضًا ; بِالْخُرُوجِ عَلَى إِمَامِهِمْ، وَالتَّغَلُّبِ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ بَيَانُ غَلِيظِ تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لَا سِيَّمَا صَاحِبُ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّ غَدْرَهُ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي ذَمِّ الْغَادِرِ، وَغَدْرِهِ لِلْأَمَانَةِ الَّتِي قُلِّدَهَا لِرَعِيَّتِهِ، وَالْتِزَامِ الْقِيَامِ بِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَمَتَى خَانَهُمْ، أَوْ تَرَكَ الشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقَ بِهِمْ فَقَدْ غَدَرَ بِعَهْدِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَهْيُ الرَّعِيَّةِ عَنِ الْغَدْرِ بِالْإِمَامِ ; فَلَا يُشَقُّ عَلَيْهِمُ الْعَصَا، فَلَا يُتَعَرَّضُ لِمَا يُخَافُ حُصُولُ فِتْنَةٍ بِسَبَبِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3728 - عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ» فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِأَحْمَدَ: «أَغْلَقَ اللَّهُ لَهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَّتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3728 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا مَرْيَمَ الْجُهَنِيَّ وَيُقَالُ: الْأَرْذِيَّ، وَشَهِدَا أَكْثَرَ الْمَشَاهِدَ وَسَكَنَ الشَّامَ، وَمَاتَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ» ) ; أَيِ امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ، أَوْ مِنَ الْإِمْضَاءِ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ (وَخَلَّتِهِمْ) ; بِفَتْحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ ; أَيْ وَعَرْضِ شِكَايَتِهِمْ عَلَيْهِ (وَفَقْرِهِمْ) ; أَيْ وَمَسْكَنَتِهِمْ وَمُسَائِلَتِهِمْ لَدَيْهِ ; يَعْنِي احْتِقَارًا بِهِمْ وَعَدَمَ مُبَالَاةٍ بِشَأْنِهِمْ (" «احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ» ) ; أَيْ أَبْعَدَهُ وَمَنْعَهُ عَمَّا يَبْتَغِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، أَوِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَى حَاجَةٍ مِنْ حَاجَاتِهِ الضَّرُورِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَارَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِي حَوَائِجِهِمْ» " قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِاحْتِجَابِ الْوَالِي ; أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابَ الْحَوَائِجِ وَالْمُهِمَّاتِ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ فَيَعْرِضُوهَا لَهُ ; وَيَعْسُرَ عَلَيْهِمْ إِنْهَاؤُهَا، وَاحْتِجَابُ اللَّهِ تَعَالَى ; أَنْ لَا يُجِيبَ دَعْوَتَهُ وَيُخَيِّبَ أَمَالَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْفَقْرِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَا يُهْتَمُّ بِهِ

الْإِنْسَانُ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الضَّرُورَةِ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَاخْتَلَّ بِهِ أَمْرُهُ، وَالْخَلَّةُ مَا كَانَ كَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلَلِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الِاضْطِرَارِ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ لَامْتَنَعَ التَّعَيُّشُ، وَالْفَقْرُ هُوَ الْإِضْطِرَارُ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ التَّعَيُّشُ دُونَهُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَقَارِ كَأَنَّهُ كَسَرَ فَقَارَهُ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ الْفَقِيرُ بِالَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ أَصْلًا، وَاسْتَعَاذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفَقْرِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ ; وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنِ احْتَجَبَ دُونَ حَاجَةِ النَّاسِ وَخَلَّتِهِمْ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا فَعَلَ بِالْمُسْلِمِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَعْنِي التَّقْيِيدَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أَرْجَحُ ; لِأَنَّ التَّرَقِّيَ فِي قَوْلِهِ: حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ، فِي شَأْنِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ، يُؤْذِنُ بِسَدِّ بَابِ فَوْزِهِمْ بِمَطَالِبِهِمْ وَنَجَاحِ حَوَائِجِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَيْسَ إِلَّا فِي الْعُقْبَى وَنَحْوِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَتَشْدِيدًا، وَلَمَّا كَانَ جَزَاءُ الْمُقْسِطِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ ; كَانَ جَزَاءُ الْقَاسِطِينَ الْبُعْدَ وَالْاحْتِجَابَ عَنْهُمْ وَالْإِقْنَاطَ عَنْ مَبَاغِيهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ ; أَفْقَرَ مَا يَكُونُ (فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ) ; أَيْ عَلَى تَبْلِيغِهَا، أَوْ عَلَى قَضَائِهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) ; أَيْ لِلتِّرْمِذِيِّ وَلِأَحْمَدَ ( «أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ» ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3729 - عَنْ أَبِي الشَّمَّاخِ الْأَزْدِيِّ عَنِ ابْنِ عَمٍّ لَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; أَنَّهُ أَتَى مُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا، ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، أَوِ الْمَظْلُومِ، أَوْ ذِي الْحَاجَةِ أَغْلَقَ اللَّهُ دُونَهُ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ أَفْقَرَ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3729 - (عَنْ أَبِي الشَّمَّاخِ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ (الْأَزْدِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنِ ابْنِ عَمٍّ لَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفَى نُسْخَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَتَى مُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ وُلِّيَ) بِضَمِّ وَاوٍ فَتَشْدِيدِ لَامٍ مَكْسُورَةٍ، وَفَى نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرِ لَامٍ مُخَفَّفٍ، (مِنْ أَمْرِ النَّاسِ) التَّعْرِيفُ فِيهِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ ; فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهِدُ، (شَيْئًا) ; أَيْ مِنَ الْأُمُورِ، أَوِ الْوِلَايَةِ (ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهُ) ; عِبَارَةٌ عَنْ الِاحْتِجَابِ وَنُصِبَ الْحِجَابُ، أَوْ كِنَايَةٌ عَنِ الِامْتِنَاعِ عَنْ قَضَاءِ مَقْصُودِ الْمُحْتَاجِينَ بِالْبَابِ (دُونَ الْمُسْلِمِينَ) ; أَيْ وَالْمُسْلِمُ لَا يُمْنَعُ (أَوِ الْمَظْلُومِ، أَوْ ذِي الْحَاجَةِ) وَفَى نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: دُونَ الْمِسْكِينِ وَالْمَظْلُومِ وَذِي الْحَاجَةِ، وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَدَالٌّ عَلَى: أَنْ (أَوْ) فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّفْصِيلِ، وَأَنَّهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَظْلُومًا، أَوْ ذَا حَاجَةٍ، أَوْ غَيْرَهُ لَا يَدْخُلُ إِلَّا لِلتَّظَلُّمِ، أَوْ لِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ (أَغْلَقَ اللَّهُ دُونَهُ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ) ; أَيْ إِلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، أَوِ الْعُقْبَى، أَوْ إِلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ فِي الدُّنْيَا، حَالَ كَوْنِهِ (أَفْقَرَ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ) ; أَيْ أَحْوَجَ أَوْقَاتٍ يَكُونُ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ وَمُحْتَاجًا لَدَيْهِ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ مَرَّ أَنَّ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ ; وَأَفْقَرُ حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي فَقْرِهِ، وَجَازَ ; لِأَنَّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَلَيْسَ هَذَا الْافْتِقَارُ الْكُلِّيُّ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.

3730 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَعَثَ عُمَّالَهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا تَرْكَبُوا بِرْذَوْنًا وَلَا تَأْكُلُوا نَقِيًّا وَلَا تَلْبَسُوا رَقِيقًا وَلَا تُغْلِقُوا أَبْوَابَكُمْ دُونَ حَوَائِجِ النَّاسِ فَإِنْ فَعَلْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّتْ بِكُمُ الْعُقُوبَةُ، ثُمَّ يُشَيِّعُهُمْ، رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3730 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَعَثَ عُمَّالَهُ) بِضَمِّ عَيْنٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ جَمْعُ عَامِلٍ ; أَيْ حُكَّامَهُ (شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا تَرْكَبُوا) بِالْخِطَابِ حِكَايَةً لِلَفْظِهِ (بِرْذَوْنًا) بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَفَتْحِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ ; أَيْ خَيْلًا تُرْكِيًّا فِي الْمُغْرِبِ، الْبِرْذَوْنُ التُّرْكِيُّ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْجَمْعُ بَرَاذِينُ، وَخِلَافُهَا الْعِرَابُ وَالْأُنْثَى بِرْذَوْنَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا جَعَلَ الْعِلَّةَ لِلنَّهْيِ عَنْ رُكُوبٍ الْخُيَلَاءَ وَالتَّكَبُّرَ ; كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْعِرَابِ أَحْرَى وَأَوْلَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخُيَلَاءُ وَالتَّكَبُّرُ عَنْ تَخَيُّلِ فَضِيلَةٍ تَرَاءَتْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، وَمِنْهَا تَئُولُ لَفْظُ الْخَيْلِ لِمَا قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَرْكَبُ أَحَدٌ فَرَسًا إِلَّا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ نَحْوَهُ، (وَلَا تَأْكُلُوا نَقِيًّا وَهُوَ مَا نُخِلَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَا تَلْبَسُوا رَقِيقًا، وَلَا تُغْلِقُوا أَبْوَابَكُمْ دُونَ حَوَائِجِ النَّاسِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّتْ بِكُمُ الْعُقُوبَةُ ; أَيْ فِي الدُّنْيَا، أَوِ الْعُقْبَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَالنَّهْيُ عَنْ رُكُوبِ الْبِرْذَوْنِ ; نَهْيٌ عَنِ التَّكَبُّرِ، وَعَنْ أَكْلِ النَّقِيِّ وَلُبْسِ الرَّقِيقِ ; نَهْيٌ عَنِ التَّنَعُّمِ وَالسَّرَفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الِاحْتِجَابِ ; نَهْيٌ عَنْ تَقَاعُدِهِمْ عَنْ قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ وَالْاشْتِغَالِ عَنْهُمْ بِخُوَيْصَّةِ نَفْسِهِ، (ثُمَّ يُشَيِّعُهُمْ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ ; وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى (شَرَطَ) ، وَالْمُشَايَعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ ; لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَشَى مَعَ الْغُزَاةِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ حِينَ وَجَّهَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: انْطَلَقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ» . رَوَاهُمَا) ; أَيِ الْحَدِيثَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

[باب العمل في القضاء والخوف منه]

[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3731 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ عَطَفَ عَلَى الْعَمَلِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ لِلْقَضَاءِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3731 - (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَا يَقْضِيَنَّ) ; أَيْ لَا يَحْكُمَنَّ الْبَتَّةَ (حَكَمٌ) بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ حَاكِمٌ (بَيْنَ اثْنَيْنِ) أَيْ مُتَخَاصِمَيْنِ (وَهُوَ غَضْبَانُ) بِلَا تَنْوِينٍ ; أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ حَالَ الْغَضَبِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْفِكْرِ فِي مَسْأَلَتِهِمَا، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْفِكْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ، وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَالْجُوعِ، وَالْعَطَشِ، وَالْمَرَضِ، فَإِنْ حَكَمَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ; نَفَذَ حُكْمُهُ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3732 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3732 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ) عَطَفَ عَلَى الشَّرْطِ عَلَى تَأْوِيلِ: أَرَادَ الْحُكْمَ (فَأَصَابَ) عَطْفٌ عَلَى (فَاجْتَهَدَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْوَاوِ ; أَيْ: وَقَعَ اجْتِهَادُهُ مُوَافِقًا لِحُكْمِ اللَّهِ (فَلَهُ أَجْرَانِ) ; أَيْ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ وَالْجُمْلَةُ جَزَاءُ الشَّرْطِ (وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَأَخْطَأَ (فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا يُؤْجَرُ الْمُخْطِئُ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ ; لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ عِبَادَةٌ ; وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ، بَلْ يُوضَعُ عَنْهُ الْإِثْمُ فَقَطْ، وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ جَامِعًا لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ، عَارِفًا بِالْأُصُولِ، عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقِيَاسِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًا لِلْاجْتِهَادِ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ وَلَا يُعْذَرُ بِالْخَطَأِ بَلْ

يُخَافُ عَلَيْهِ الْوِزْرُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ» " وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْفُرُوعِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ دُونَ الْأُصُولِ ; الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الشَّرِيعَةِ وَأُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ وَلَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلتَّأْوِيلِ ; فَإِنَّ مَنْ أَخْطَأَ فِيهَا كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِي الْخَطَأِ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ مَرْدُودًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ; أَمِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَنْ وَافَقَ الْحُكْمَ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ، وَالْآخَرُ مُخْطِئٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ سُمِّيَ مُخْطِئًا وَلَوْ كَانَ مُصِيبًا لَمْ يُسَمَّ مُخْطِئًا ; وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ النَّصَّ، أَوِ اجْتَهَدَ فِيمَا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ قَالَ: قَدْ جُعِلَ لِلْمُخْطِئِ أَجْرٌ، وَلَوْلَا إِصَابَتُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ، وَهَذَا إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلْاجْتِهَادِ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ حُكْمٍ ; فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ، وَلَا يَنْفُذُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحُكْمَ أَمْ لَا ; لِأَنَّ إِصَابَتَهُ اتِّفَاقِيَّةٌ، فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ اهـ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا لَا يُوجَدُ بَيَانُهُ فِي النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ; فَلَا إِمْكَانَ لَهُ إِلَّا الْقِيَاسُ ; فَيَكُونُ كَمُتَحَرِّي الْقِبْلَةَ فَإِنَّهُ مُصِيبٌ وَإِنْ أَخْطَأَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَحْمَدُ وَالسِّتَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3733 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ جُعِلَ قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3733 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ جُعِلَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ مَنْ جَعَلَهُ السُّلْطَانُ ( «قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ; الْأَوَّلَ: قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِهِ الْقَتْلَ بِغَيْرِهِ كَالْخَنْقِ وَالتَّغْرِيقِ، وَالْإِحْرَاقِ، وَالْحَبْسِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإِنَّهُ أَصْعَبُ وَأَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ بِالسِّكِّينِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ التَّعْذِيبِ وَامْتِدَادِ مُدَّتِهِ، الثَّانِيَ: أَنَّ الذَّبْحَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُرْفِ بِالسِّكِّينِ ; فَعَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي أَرَادَ بِهِ مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ هَلَاكِ دِينِهِ دُونَ هَلَاكِ بَدَنِهِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ: قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَشَتَّانَ بَيْنِ الذَّبْحَيْنِ فَإِنَّ الذِّبْحَ بِالسِّكِّينِ عَنَاءُ سَاعَةٍ، وَالْآخَرَ عَنَاءُ عُمْرٍ بَلْهَ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ النَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; الثَّالِثَ: قَالَ الْأَشْرَفُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَمُوتَ جَمِيعُ دَوَاعِيهِ الْخَبِيثَةِ وَشَهَوَاتِهِ الرَّدِيئَةِ، فَهُوَ مَذْبُوحٌ بِغَيْرِ سِكِّينٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَعَلَى هَذَا الْقَضَاءُ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَمَحْثُوثٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: تَحْذِيرٌ عَلَى الْحِرْصِ عَلَيْهِ ; وَتَنْبِيهٌ عَلَى التَّوَقِّي مِنْهُ ; لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ الْأَخْطَارِ الْمُرْدِيَةِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: خَطَرُ الْقُضَاةِ كَثِيرٌ وَضَرَرُهُ عَظِيمٌ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا عَدَلَ الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ مَائِلَةٌ إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ، أَوْ يَخْدِمُهُ، أَوْ مَنْ لَهُ مَنْصِبٌ يُتَوَقَّى جَاهُهُ، أَوْ يُخَافُ سَلْطَنَتُهُ، وَرُبَّمَا يَمِيلُ إِلَى قَبُولِ الرِّشْوَةِ وَهُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

3734 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنِ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3734 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنِ ابْتَغَى) ; أَيْ طَلَبَ فِي نَفْسِهِ (الْقَضَاءَ) ; أَيِ الْحُكُومَةَ الشَّامِلَةَ لِلْإِمَارَةِ (وَسَأَلَ) ; أَيْ وَطَلَبَهُ مِنَ النَّاسِ وَفِي رِوَايَةٍ: وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ (وُكِلَ) بِضَمِّ وَاوٍ فَكَافٍ مُخَفَّفَةٍ مَكْسُورَةٍ (إِلَى نَفْسِهِ) ; أَيْ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ وَخُلِّيَ مَعَ طَبْعِهِ وَمَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ (وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ) ; أَيْ وَاخْتَارَهُ بِحُكْمِ إِجْبَارِهِ، أَوْ تَعْيِنِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْخَيْرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ (أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا) ; أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ (يُسَدِّدُهُ) ; أَيْ يَحْمِلُهُ عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ ابْتَغَى وَسَأَلَ ; إِظْهَارًا لِحِرْصِهِ ; فَإِنَّ النَّفْسَ مَائِلَةٌ إِلَى حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَطَلَبِ التَّرَفُّعِ عَلَى النَّاسِ فَمَنْ مَنَعَهَا سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ، وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهَا وَسَأَلَ الْقَضَاءَ هَلَكَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الشُّرُوعِ فِيهِ إِلَّا بِالْإِكْرَاهِ وَفَى الْإِكْرَاهِ قَمْعُ هَوَى النَّفْسِ، فَحِينَئِذٍ يُسَدَّدُ وَيُوَفَّقُ لِطَرِيقِ الصَّوَابِ، وَإِلَى هَذَا نَظَرَ مَنْ قَالَ: مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَمُوتَ جَمِيعُ دَوَاعِيهِ الْخَبِيثَةِ وَشَهَوَاتِهِ الرَّدِيئَةِ، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ وَمَجْلِسِهِ» " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهَا ; أَيْضًا: " «مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَرْفَعْ صَوْتُهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرَ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3735 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ ; فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3735 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ» ) ; أَيْ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ (وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ) ; أَيْ عَالِمًا بِهِ مُتَعَمِّدًا لَهُ ( «فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ قَرَنَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَتَرَكَ أَدَاةَ التَّفْصِيلِ فِيهَا ظَاهِرًا لِئَلَّا يُسْلَكَا فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا قُلْنَا ظَاهِرًا ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَأَمَّا الَّذِي فِي النَّارِ فَرَجُلٌ كَذَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} [آل عمران: 7] ; أَيْ فَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فَيَقُولُونَ - وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ -، وَالْفَاءُ فِي (فَرَجُلٌ) جَوَابٌ لِ (مَا) ، وَفِي (فَقَضَى) مُسَبَّبٌ عَنْ عَرَفَ، وَالْمُسَبِّبُ صِفَةُ (رَجُلٌ) ، وَالْفَاءُ فِي (فَجَارَ) مِثْلُهَا فِي (فَقَضَى) ، لَكِنْ عَلَى التَّعْكِيسِ يَعْنِي: عِرْفَانُ الْحَقِّ سَبَبٌ لِقَضَاءِ الْحَقِّ ; فَعَكَسَ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلْجَوْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ; أَيْ تَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُمُ التَّكْذِيبَ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّصْدِيقِ، وَقَوْلُهُ: فَهُوَ فِي النَّارِ ; خَبَرُ (رَجُلٌ) وَهُوَ جَوَابٌ، أَمَّا الْمُقَدَّرُ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَعَلَى جَهْلٍ: حَالٌ، مِنْ فَاعِلِ قَضَى ; أَيْ قَضَى لِلنَّاسِ جَاهِلًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) ، وَفَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ» ) ، رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ عَنْ بُرَيْدَةَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ ( «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، قَاضٍ قَضَى بِالْهَوَى فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ» ) وَفَى رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ عَنْ بُرَيْدَةَ ( «قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَهُمَا فِي النَّارِ» ) .

3736 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ، ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3736 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ» ) ; أَيْ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ الْقَضَاءَ (ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ) ; أَيْ قَوِيَ عَدْلُهُ عَلَى جَوْرِهِ ; بِحَيْثُ مَنَعَهُ عَنِ الْجَوْرِ، أَوِ الظُّلْمِ فِي الْحُكْمِ ; (فَلَهُ الْجَنَّةُ) ; أَيْ مَعَ الْفَائِزِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ يَقُلْ قَوْلُهُ: (حَتَّى) غَايَةٌ لِلطَّلَبِ، وَ (حَتَّى) لِلتَّدَرُّجِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ بَالَغَ فِي الطَّلَبِ، وَبَلَغَ مَجْهُودُهُ فِيهِ، ثُمَّ نَالَهُ، فَمِثْلُ هَذَا مَوْكُولٌ إِلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ، فَكَيْفَ يَغْلِبُ عَدْلُهُ جَوْرَهُ؟ وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: ( «مَنِ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ» ) فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الطَّالِبُ رَجُلَانِ ; رَجُلٌ مُؤَيَّدٌ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ كَالصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، فَإِذَا طَلَبَهُ بِحَقِّهِ فَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ مَوْكُولًا إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ يَقْضِي بِالْحَقِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ، وَرَجُلٌ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَغْلِبُ جَوْرُهُ عَدْلَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ( «وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: رُبَّمَا يَسْبِقُ إِلَى فَهَمِ بَعْضِ مَنْ لَا يَتَحَقَّقُ الْقَوْلَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْغَلَبَةِ أَنْ يَزِيدَ مَا عَدَلَ فِيهِ عَلَى مَا جَارَ وَهَذَا بَاطِلٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَأْوِيلِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا، مَا قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْغَلَبَةِ فِي كِلَا الصِّيغَتَيْنِ أَنْ تَمْنَعَهُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى ; فَلَا يَجُورُ فِي حُكْمِهِ ; يَعْنِي فِي الْأَوَّلِ، وَلَا يَعْدِلُ يَعْنِي فِي الثَّانِي، قُلْتُ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ ; لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ ظُلْمُهُ

بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدْلِهِ فَلَهُ النَّارُ ; أَيْضًا، وَيُفْهَمُ بِطَرِيقِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَنْ لَا يَعْدِلُ أَصْلًا أَنَّهُ فِي النَّارِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ» " وَإِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ هُوَ الْأَوَّلُ فَتَأَمَّلْ ; وَثَانِيهَا: مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ: أَنَّ مَنْ قَوِيَ عَدْلُهُ بِحَيْثُ لَا يَدْعُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ جَوْرٌ، قُلْتُ: هَذَا هُوَ عَيْنُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ; وَثَالِثُهَا: مَا قَالَهُ الْقَاضِي: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ فِي بَدْءِ فِطْرَتِهِ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ، وَالْعَدْلِ، وَالْجَوْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعْرِضُ لَهُ دَوَاعٍ دَاخِلِيَّةٌ وَأَسْبَابٌ خَارِجِيَّةٌ تَتَعَارَضُ وَتَتَصَارَعُ ; فَيَجْذِبُهُ هَؤُلَاءِ مَرَّةً، وَهَؤُلَاءِ أُخْرَى، حَتَّى يُفْضِيَ التَّطَارُدُ بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ، وَيَقْهَرَ الْآخَرَ فَيَنْقَادَ لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَسْتَقِرَّ عَلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، فَالْحَاكِمُ إِنْ وُفِّقَ لَهُ حَتَّى غَلَبَ لَهُ أَسْبَابُ الْعَدْلِ قَائِمًا فِيهِ دَوَاعِيهِ ; صَارَ بِشَرَارَةٍ مَائِلًا إِلَى الْعَدْلِ، مَشْغُوفًا بِهِ، مُتَحَاشِيًا عَمَّا يُنَافِيهِ، فَيَنَالُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ عَدَلَ بِأَنْ كَانَ حَالُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ جَارَ بَيْنَ النَّاسِ وَنَالَ بِشُؤْمِهِ النَّارَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا تَفْصِيلٌ وَتَوْجِيهٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا تَغْفَلْ. نَعَمْ لَهُ مَعْنًى ثَانٍ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ عَدْلِهِ، وَجَوْرِهِ، وَصَوَابِهِ، وَخَطَأِهِ فِي الْحُكْمِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ ; فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ، كَمَا قَالُوهُ فِي حَقِّ الْمُفْتِي، وَالْمُدَرِّسِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَحِفْ عَمْدًا» " كَمَا سَيَأْتِي (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3737 - «وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو، قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3737 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ) ; أَيْ وَالِيًا وَقَاضِيًا (قَالَ) : أَيِ امْتِحَانًا لَهُ (كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟) ; أَيْ مُصَرَّحًا (فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي) ; أَيْ أَطْلُبُ حُكْمَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا نَصٌّ وَأَحْكُمُ فِيهَا بِمِثْلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا نَصٌّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَابَهَةِ، (وَلَا آلُو) بِمَدِ الْهَمْزَةِ مُتَكَلِّمٌ مِنْ أَلَى يَأْلُو ; أَيْ مَا أُقَصِّرُ، قَالَ الطِّيبِي: قَوْلُهُ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، الْمُبَالَغَةُ قَائِمَةٌ فِي جَوْهَرِ اللَّفْظِ وَبِنَاؤُهُ لِلْافْتِعَالِ وَلِلْاعْتِمَالِ وَالسَّعْيِ وَبَذْلِ الْوُسْعِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الرَّأْيِ ; أَيْضًا تَرْبِيَةٌ إِلَى الْمَعْنَى، قَالَ الرَّاغِبُ: الْجُهْدُ: وَالْجُهْدُ طَاقَةٌ وَالْمَشَقَّةُ وَالْاجْتِهَادُ أَخْذُ النَّفَسِ بِبَذْلِ الطَّاقَةِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، يُقَالُ: جَهَدْتُ رَأْيِي وَاجْتَهَدْتُ ; أَتْعَبْتُهُ بِالْفِكْرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يُرِدْ بِهِ الرَّأْيَ الَّذِي يَسْنَحُ لَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَوْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، بَلْ أَرَادَ رَدَّ الْقَضِيَّةِ إِلَى مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَفِي هَذَا إِثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ إِذَا وَجَدْتُ مُشَابَهَةً بَيْنَ الَّتِي أَنَا بِصَدَدِهَا وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَاءَ نَصٌّ فِيهَا مِنَ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ ; حَكَمْتَ فِيهَا بِحُكْمِهِمَا ; مِثَالُهُ: جَاءَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ وَلَمْ يَجِيءْ نَصٌّ فِي الْبِطِّيخِ قَاسَ الشَّافِعِيُّ الْبِطِّيخَ عَلَى الْبُرِّ لَمَّا وَجَدَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ عِلَّةِ الْمَطْعُومِيَّةِ، وَقَاسَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجِصَّ عَلَى الْبُرِّ لَمَّا وَجَدَ بَيْنَهُمَا مِنْ عِلَّةِ الْكَيْلِيَّةِ، (قَالَ) ; أَيْ مُعَاذٌ (فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَدْرِهِ، أَوْ قَالَ الرَّاوِي نَقْلًا عَنْ مُعَاذٍ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَدْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: عَلَى صَدْرِي ; بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ، ( «وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ» ) ; أَيْ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَتَمَنَّاهُ مِنْ طَلَبِ طَرِيقِ الصَّوَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ اسْتِصْوَابٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَأْيِهِ فِي اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا كَدَحَ فِي التَّحَرِّي وَأَتْعَبَ الْقَرِيحَةَ فِي الِاسْتِنْبَاطِ ; اسْتَحَقَّ أَجْرًا لِذَلِكَ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُصِيبَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، أَوْ يُخْطِيءَ فِيهَا ; فَإِذَا أَصَابَ ; ثَبَتَ لَهُ أَجْرَانِ أَحَدُهُمَا بِاعْتِبَارِ

أَصْلِ الرَّأْيِ، وَالْآخَرُ بِاعْتِبَارِ الْإِصَابَةِ، وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَلَا عَلَيْهِ شَيْءٌ بِاعْتِبَارِ الْخَطَأِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) .

3738 - «وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا ; فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ ; إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ، قَالَ: فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِ، فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3738 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا) ; أَيْ أَرَادَ بَعْثِيَ (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرْسِلُنِي؟) فِيهِ تَفَنُّنٌ لِلْعِبَارَةِ وَالتَّقْدِيرُ: أَتُرْسِلُنِي؟ (وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ) ; أَيْ وَالْحَالُ أَنِّي صَغِيرُ الْعُمْرِ قَلِيلُ التَّجَارِبِ (وَلَا عِلْمَ لِي) ; أَيْ كَامِلًا بِالْقَضَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا تَعَلُّلًا بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِمْدَادُ الْمَدَدِ، (فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ) ; أَيْ بِالْفَهْمِ (وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ) ; أَيْ بِالْحُكْمِ، وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ لِمُوسَى وَهَارُونَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43] الْآيَةَ، {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى - قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45 - 46] ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ الصُّوفِيَّةِ تَرْجِيحُ مَرْتَبَةِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَاصِبِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَرَاتِبِ السَّنِيَّةِ، وَلِذَا لَمَّا عَرَضَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ جَمِيعَ مَنَاصِبِهِ عَلَى عَبْدِهِ إِيَازَ الْخَاصِّ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا وَاخْتَارَ مُلَازَمَةَ الْخَوَاصِّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْعِلْمِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُجَرِّبْ سَمَاعَ الْمُرَافَعَةِ بَيْنَ الْخُصَمَاءِ وَكَيْفِيَّةَ دَفْعِ كَلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَمَكْرِهِمَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السِّينُ فِي قَوْلِهِ: سَيَهْدِي قَلْبَكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] فَإِنَّ السِّينَ فِيهِمَا صَحِبَ الْفِعْلَ لِتَنْفِيسِ زَمَانِ وُقُوعِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بَعَثَهُ قَاضِيًا كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: أَنَا حَدِيثُ السِّنِّ، اعْتِذَارٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ مِنْ قِلَّةِ تَجَارِبِهِ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: سَيَهْدِي قَلْبَكَ ; أَيْ يُرْشِدُكَ إِلَى طَرِيقِ اسْتِنْبَاطِ الْقِيَاسِ بِالرَّأْيِ الَّذِي مَحَلُّهُ قَلْبُكَ فَيَنْشَرِحُ صَدْرُكَ، وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ فَلَا تَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ اهـ. وَقَوْلُ الْمُظْهِرِ أَوْفَقُ وَأَظْهَرُ بِقَوْلِهِ (إِذَا تَقَاضَى) ; أَيْ تَرَافَعَ إِلَيْكَ (رَجُلَانِ) ; أَيْ مُتَخَاصِمَانِ (فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ) ; أَيْ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَهُوَ الْمُدَّعِي (حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ) ; أَيْ فَإِنَّكَ لَنْ تَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ بِسَمَاعِ كَلَامِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَقَوْلُهُ: إِذَا تَقَاضَى. . إِلَخْ مُقَدِّمَةٌ لِلْإِرْشَادِ وَأُنْمُوذَجٌ مِنْهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي عَلَى غَائِبٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَقْضِي لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَهُمَا حَاضِرَانِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ ; فَفِي الْغَائِبِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَذَلِكَ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْغَائِبِ حُجَّةٌ تُبْطِلُ دَعْوَى الْآخَرِ وَتَدْحَضُ حُجَّتَهُ، قَالَ الْأَشْرَفُ: لَعَلَّ مُرَادَ الْخَطَّابِيِّ بِهَذَا الْغَائِبِ ; الْغَائِبُ عَنْ مَحَلَّ الْحُكْمِ فَحَسْبُ، دُونَ الْغَائِبِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (فَإِنَّهُ) ; أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ (أَحْرَى) ; أَيْ حَرِيٌ وَحَقِيقٌ وَجَدِيرٌ (أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ قَالَ فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ) ; أَيْ بَعْدَ دُعَائِهِ وَتَعْلِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ كَوْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْضَاهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي أَسْنَى الْمَنَاقِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلِيٌّ أَقْضَانَا وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَقْرَؤُنَا) (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ ( «إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِ» ) فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3739 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِنْ قَالَ: أَلْقِهْ أَلْقَاهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3739 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ حَاكِمٍ) : (مِنْ) زَائِدَةٌ لِلْاسْتِغْرَاقِ وَ (حَاكِمٍ) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَشْمَلُ كُلَّ عَادِلٍ وَظَالِمٍ (يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (بِقَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ) : أَيِ الْمَلَكُ (رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ) : أَيْ مُنْتَظِرًا لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِ (فَإِنْ قَالَ) : أَيِ اللَّهُ تَعَالَى (أَلْقِهْ) : بِسُكُونِ الْهَاءِ وَكَسَرٍ مَعَ إِشْبَاعِهِ وَقَصْرِهِ ; أَيِ: ارْمِهِ (أَلْقَاهُ فِي مَهْوَاةٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ مَهْلَكَةٍ وَمَسْقَطَةٍ (أَرْبَعِينَ خَرِيفًا) : أَيْ سَنَةً. فَفِي النِّهَايَةِ: الْخَرِيفُ الزَّمَانُ الْمَعْرُوفُ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ مَا بَيْنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، وَيُرِيدُ بِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ; لِأَنَّ الْخَرِيفَ فِي السَّنَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَرْبَعِينَ مَجْرُورًا لِمَحَلِّ صِفَةِ (مَهْوَاةٍ) ; أَيْ: مَهْوَاةٍ عَمِيقَةٍ فَكُنِّيَ عَنْهُ لِأَرْبَعِينَ، إِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّحْدِيدُ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُمْقِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْمَهْوَاةُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، قِيلَ: مِنَ الْهُوَّةِ وَهَى الْحُفْرَةُ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: رَفَعَهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا عَلَى الْإِضَافَةِ، يَعْنِي فِي غَمْرَةٍ عُمْقُهَا مَسَافَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: مَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَقْهُورًا فِي يَدِهِ كَمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ الْغُلُّ مُقْمَحًا. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8] ، ثُمَّ قَالَ: قَوْلُهُ (فَإِنْ قَالَ) الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ، وَإِنِ الشَّرْطِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ حَالُهُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَيُقَالُ فِي حَقِّهِ: أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَالْمَعْنَى وَإِنْ قَالَ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ أُدْخِلَهَا، فَهَذَا الْحَدِيثُ كَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ» اهـ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُ ضَمِيرِ يَرْفَعُ بَعْدَ (ثُمَّ) إِلَى الْحَاكِمِ، فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَلَكِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: «مَا مِنْ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ حَتَّى يَقِفَهُ عَلَى جَهَنَّمَ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى اللَّهِ، فَإِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَلْقِهْ أَلْقَاهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» اهـ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .

3740 - وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3740 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ) : أَيِ الْعَادِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ; أَيْ ذِي الْعَدْلِ (يَوْمُ الْقِيَامَةِ) : بِالرَّفْعِ وَفَى نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ ; أَيْ لَيَأْتِيَنَّ إِتْيَانٌ، أَوْ زَمَانٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ (سَاعَةٌ يَتَمَنَّى) : أَيْ فِيهِ (أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ فَاعِلُ (لَيَأْتِيَنَّ) ، وَ (يَتَمَنَّى) حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ، وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ، وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ يَتَمَنَّى فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ ; أَيْ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْبَلَاءِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ، فَإِذَا الْفَاعِلُ يَتَمَنَّى بِتَقْدِيرِ أَنْ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ السَّبَبِ بِالْمُسَبَّبِ ; لِأَنَّ الْبَلَاءَ سَبَبُ التَّمَنِّي، وَالتَّقْيِيدُ بِالْعَدْلِ وَالتَّمْرَةِ، تَتْمِيمٌ لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ مِمَّا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ.

3741 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ: " «فَإِذَا جَارَ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3741 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، رَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُ) : وَفَى نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِنَّ اللَّهَ (مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ) : بِضَمِّ الْجِيمِ ; أَيْ مَا لَمْ يَظْلِمْ (فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ) : أَيْ خَذَلَهُ وَتَرَكَ عَوْنَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: تَبَرَّأَ اللَّهُ مِنْهُ (وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ) : أَيْ لَازَمَهُ الْعِصْيَانُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيِ ابْنُ مَاجَهْ (فَإِذَا جَارَ وَكَلَهُ) : بِتَخْفِيفِ الْكَافِ (إِلَى نَفْسِهِ) : الْجَوْهَرِيُّ: وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَكْلًا وَوُكُولًا، وَهَذَا الْأَمْرُ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِكَ وَفَرَسٌ وَاكِلٌ يَتَّكِلُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعَدْوِ، وَوَاكَلْتُ فُلَانًا مُوَاكَلَةً إِذَا اتَّكَلْتَ عَلَيْهِ، وَاتَّكَلَ هُوَ عَلَيْكَ، هَذَا وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ مَعْقَلِ بْنِ يَسَارٍ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَحِفْ عَمْدًا» .

3742 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ مُسْلِمًا وَيَهُودِيًّا اخْتَصَمَا إِلَى عُمَرَ، فَرَأَى الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ عُمَرُ بِهِ. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إِلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ، يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3742 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قِيلَ: هُوَ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ (أَنَّ مُسْلِمًا وَيَهُودِيًّا) : أَيْ فَرْدًا مِنَ الْيَهُودِ (" اخْتَصَمَا إِلَى عُمَرَ) : أَيْ مُتَرَافِعَيْنِ إِلَيْهِ (فَرَأَى الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ) : أَيْ حَكَمَ لِلْيَهُودِيِّ (عُمَرُ بِهِ) : أَيْ بِالْحَقِّ (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ) : أَيْ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ، وَتَوْفِيقِهِ، وَلَمْ تَمِلْ إِلَى مَنْ هُوَ عَلَى دِينِكَ (فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ، كَذَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَهَى آلَةٌ لِلضَّرْبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَمَلَهَا عَلَيْهِ (وَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ) : أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُكَ كَذَا (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنَ (لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي إِلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ يَسَارِهِ (مَلَكٌ، يُسَدِّدَانِهِ) : بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ يَدُلَّانِهِ عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ (وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ) : وَفَى نُسْخَةٍ عَلَى الْحَقِّ (فَإِذَا تَرَكَ) : أَيِ الْقَاضِي (الْحَقَّ، عَرَجَا) : أَيْ صَعِدَا (وَتَرَكَاهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ ضَرَبَهُ وَلَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ بِهِ ; لِأَنَّهُ صَدَقَ وَكَيْفَ يُطَابِقُ جَوَابُ الْيَهُودِيِّ، وَاللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ، لِقَوْلِهِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَضْرِبْهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا بَلْ لِإِصَابَتِهِ كَمَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ الْمُطَايَبَةِ، وَتَطْبِيقُ الْجَوَابِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ مَالَ عَنِ الْحَقِّ لَقَضَى لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْيَهُودِيِّ، فَلَمْ يَكُنْ مُسَدَّدًا فَلَمَّا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ عُرِفَ بِتَسْدِيدِهِ وَثَبَاتِهِ وَعَدَمِ مَيْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ أَنَّهُ مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : أَيْ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ فِي تَرْجَمَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.

3743 - وَعَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: اقْضِ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ: أَوَتُعَافِينِي؟ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: وَمَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ يَقْضِي؟ قَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْعَدْلِ ; فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْهُ كَفَافًا» ". فَمَا رَاجَعَهُ بَعْدُ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3743 - (وَعَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَاءِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: اقْضِ بَيْنَ النَّاسِ) : أَيِ اقْبَلِ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ (قَالَ: أَوَتُعَافِينِي؟ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) : أَيْ أَتَرْحَمُ عَلَيَّ وَتُعَافِينِي وَهُوَ اسْتِعْطَافٌ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ (قَالَ) : أَيْ عُثْمَانُ (وَمَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ) : أَيِ الْقَضَاءِ (وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ يَقْضِي؟ قَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْعَدْلِ» ) : عَطَفَ عَلَى

الشَّرْطِ (فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْهُ) : أَيْ يَرْجِعَ مِنْ فِعْلِهِ (كَفَافًا) : بِفَتْحِ الْكَافِ ; أَيْ خَلَاصًا وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ يُقَالُ: فُلَانٌ تَحَرَّى بِكَذَا وَحَرَّ بِكَذَا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ كَذَا ; أَيْ جَدِيرٌ وَخَلِيقٌ، فَحَرِيٌّ إِنْ كَانَ اسْمَ فَاعِلٍ يَكُونُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ نَحْوَ: بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ ; أَيِ الْخَلِيقُ، وَالْجَدِيرُ كَوْنُهُ مُنْقَلِبًا مِنْهُ كَفَافًا، وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَصْدَرًا فَهُوَ خَبَرٌ، وَالْمُبْتَدَأُ أَمَّا بَعْدَهُ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ ; أَيْ: كَوْنُهُ مُنْقَلِبًا ثَابِتٌ بِالْاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ يَنْفَلِتَ بِالْفَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ ; أَيْ: يَتَخَلَّصُ مِنْهُ كَفَافًا ; أَيْ رَأْسًا بِرَأْسٍ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، يَعْنِي لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: وَدِدْتُ أَنِّي سَلِمْتُ مِنَ الْخِلَافَةِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، وَالْكَفَافُ هُوَ الَّذِي لَا يَفْضُلُ عَنِ الشَّيْءِ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ مَكْفُوفًا عَنْ شَرِّهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا أَنْ لَا يُنَالَ مِنِّي وَلَا أَنَالَ مِنْهُ ; أَيْ: يَكُفُّ عَنِّي وَأَكُفُّ عَنْهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَكُفُّ هُوَ عَنِ الْقَضَاءِ وَيَكُفُّ الْقَضَاءُ عَنْهُ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَعْنَى الْآخَرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الْكَافِ مَصْدَرٌ كَافَهُ كَفَافًا وَمُكَافَفَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْقَضَاءَ وَاجْتَهَدَ فِي تَحَرِّي الْحَقَّ وَاسْتَفْرَغَ جَهْدَهُ فِيهِ حَقِيقٌ أَنْ لَا يُثَابَ وَلَا يُعَاقَبَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَوَلِّيهِ، وَفَى مَعْنَاهُ أُنْشِدَ: عَلَى أَنَّنِي رَاضٍ بِأَنْ أَحْمِلَ الْهَوَى ... وَأَخْلُصَ مِنْهُ لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَا (فَمَا رَاجَعَهُ) : أَيْ: فَمَا رَدَّ عُثْمَانُ الْكَلَامَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَلَا رَجَعَ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ (بَعْدَ ذَلِكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3744 - وَفِي رِوَايَةِ رَزِينٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَا أَقْضِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ، قَالَ: فَإِنَّ أَبَاكَ كَانَ يَقْضِي. فَقَالَ: إِنَّ أَبِي لَوْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْ أُشْكِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ لَهُ شَيْءٌ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنِّي لَا أَجِدُ مَنْ أَسْأَلُهُ، وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ عَاذَ بِاللَّهِ، فَقَدْ عَاذَ بِعَظِيمٍ» . وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ عَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ» . وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تَجْعَلَنِي قَاضِيًا! فَأَعْفَاهُ، قَالَ: لَا تُخْبِرْ أَحَدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3744 - (وَفِي رِوَايَةِ رَزِينٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَا أَقْضِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ) : يَعْنِي فِي جَوَابِ أَمْرِهِ لَهُ بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ (قَالَ: فَإِنَّ أَبَاكَ كَانَ يَقْضِي فَقَالَ: إِنَّ أَبِي لَوْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : ظَاهِرُهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقْضِي فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَلَوْ أُشْكِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنِّي لَا أَجِدُ مَنْ أَسْأَلُهُ) : وَكَانَ مَذْهَبُهُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ عَاذَ بِاللَّهِ فَقَدْ عَاذَ بِعَظِيمٍ» ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «مَنْ عَاذَ بِاللَّهِ فَقَدْ عَاذَ بِمُعَاذٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ (وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " «مَنْ عَاذَ بِاللَّهِ ; فَأَعِيذُوهُ» ". وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تَجْعَلَنِي قَاضِيًا فَأَعْفَاهُ) : لُغَةٌ بِمَعْنَى عَفَاهُ وَسَامَحَهُ (وَقَالَ) : أَيْ عُثْمَانُ (لَا تُجْبِرْ أَحَدًا) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْإِجْبَارِ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ، وَفَى بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ لَا تُخْبِرْ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَلَى صِيغَةِ الْخِطَابِ ; أَيْ: لَا تُعْلِمْ أَحَدًا غَيْرَكَ بِمَا ذَكَرْتَهُ لِئَلَّا يَنْسَدَّ الْبَابُ هَذَا، وَمِنْ غَرِيبِ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْقَضَاءِ مَا رَوَاهُ تَمَّامٌ وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا «عَجَّ حَجَرٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِلَهِي وَسَيِّدِي عَبَدْتُكَ كَذَا سَنَةٍ، ثُمَّ جَعَلْتَنِي فِي أُسِّ كَنِيفٍ، فَقَالَ: أَوَمَا تَرْضَى أَنْ عَدَلْتُ بِكَ عَنْ مَجَالِسِ الْقَضَاءِ» ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ.

[باب رزق الولاة وهداياهم]

[بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ]

[3] بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 745 - عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ، أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [3] بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا» ) الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ أَنَّ الْعَطَاءَ مَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِيِّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَالرِّزْقُ مَا يَخْرُجُ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3745 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حِينَ قَسَّمَ الْأَمْوَالَ لِئَلَّا يَقَعَ شَيْءٌ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهِ مِنْ أَجْلِ التَّفَاضُلِ فِي الْقِسْمَةِ (مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ» ) : أَيْ لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْكُمْ شَيْئًا تَمِيلُ نَفْسِي إِلَيْهِ، وَلَا أَمْنَعُهُ لِعَدَمِ إِقْبَالِ قَلْبِي عَلَيْهِ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْفِعْلَيْنِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي دَلَالَةً عَلَى اسْتِمْرَارِهَا فِي كُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ) : أَيْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ (حَيْثُ أُمِرْتُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: أَنَا قَاسِمٌ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، وَفِيهِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ لِتَقَدُّمِ الْفَاعِلِ الْمَعْنَوِيِّ، كَقَوْلِهِ: أَنَا كُفِيتُ سَهْمَكَ، وَلَوْ لَمْ يُذْهِبْ إِلَى الِاخْتِصَاصِ لَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا ; لِأَنَّ مَعْنَى مَا أُعْطِيكُمْ مَا أَعْطَيْتُكُمْ، وَمَا أَمْنَعُكُمْ مَا مَنَعْتُكُمْ، وَإِنَّمَا الْمُعْطِي وَالْمَانِعُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَنَّا قَاسِمٌ أُقَسِّمُ بَيْنَكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ بَيَانًا لِلْبَيَانِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ مِثْلَ " أَنَا عَارِفٌ " لَا يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِثْلَ " أَنَا عَرَفْتُ " اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ الْتِفَاتٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ ; أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ (مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) ; أَيْ يَعِيبُكَ فِي تَقْسِيمِهَا {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا} [التوبة: 58] ; أَيْ كَثِيرًا {رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 58 - 59] خَيْرًا لَهُمْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: «أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ اللَّهُ يُعْطِي وَأَنَا أَقْسِمُ» .

3746 - وَعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ; فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3746 - (وَعَنْ خَوْلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (الْأَنْصَارِيَّةِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَامِرٍ الْأَنْصَارِيَّةُ حَدِيثُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهَا النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ، وَقِيلَ: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ الْقَيْسِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَثَامِرٌ لَقَبُ قَيْسٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا اثْنَتَانِ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ رِجَالًا) : أَيْ مِنَ الْعُمَّالِ وَغَيْرِهِمْ (يَتَخَوَّضُونَ) : قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَوْضُ هُوَ الشُّرُوعُ فِي الْمَاءِ، وَالْمُرُورُ فِيهِ، وَيُسْتَعَارُ فِي الْأُمُورِ، وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِيمَا يُذَمُّ الشُّرُوعُ فِيهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] اهـ. وَفَى التَّفَعُّلِ مُبَالَغَةٌ، وَالْمَعْنَى يَشْرَعُونَ وَيَدْخُلُونَ وَيَتَصَرَّفُونَ. (فِي مَالِ اللَّهِ) : أَيْ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَالْغَنِيمَةِ وَغَيْرِهَا، (بِغَيْرِ حَقٍّ) : أَيْ بِغَيْرِ إِذَنٍ مِنَ الْإِمَامِ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ عَمَلِهِمْ وَقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ (فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : خَبَرُ (إِنَّ) وَأَدْخَلَ الْفَاءَ ; لِأَنَّ اسْمَهَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3747 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لِمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3747 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ: لِمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ جُعِلَ خَلِيفَةً وَهُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ (قَالَ) : أَيِ اعْتِذَارًا عَنْ إِنْفَاقِهِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ (لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي) : قِيلَ: أَرَادَ بِهِمْ قُرَيْشًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ (أَنَّ حِرْفَتِي) : وَهَى مَا كَانَ يَشْتَغِلُ بِهِ مِنَ التِّجَارَةِ قَبْلَ الْخِلَافَةِ فِي النِّهَايَةِ: الْحِرْفَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَجِهَةُ الْكَسْبِ (لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْعَجْزُ الضَّعْفُ وَالْفِعْلُ كَضَرَبَ وَسَمِعَ (عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِي) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَضَمِّ هَمْزَةٍ وَسُكُونِ وَاوٍ، ; أَيْ نَفَقَةِ عِيَالِي وَقَدِ اشْتَغَلْتُ (بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ ; أَيْ بِإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّفَرُّغِ لِلتِّجَارَةِ (فَسَيَأْكُلُ) : أَيْ يَنْتَفِعُ (آلُ أَبِي بَكْرٍ) : أَيْ تَبَعًا لَهُ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهُ وَعِيَالُهُ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ (مِنْ هَذَا الْمَالِ) إِشَارَةٌ إِلَى الْحَاضِرِ فِي الذِّهْنِ، وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِينَ (وَيَحْتَرِفُ) : أَيْ أَبُو بَكْرٍ (لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ) : أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَكَلَ مِنَ الْمَالِ عِوَضًا لَهُ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: فَسَيَأْكُلُ وَأَرَادَ بِالْاحْتِرَافِ فِيهِ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَالسَّعْيَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَنِظَامِ أَحْوَالِهِمْ وَجِيءَ بِالْحِرْفَةِ مُشَاكَلَةً لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَةِ قَوْلِهِ: إِنَّ حِرْفَتِي. قَالَ الشَّمَنِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ تَاجِرًا فِي الْبَزِّ، وَعُمَرُ فِي الطَّعَامِ، وَعُثْمَانُ فِي التَّمْرِ وَالْبُرِّ، وَعَبَّاسٌ فِي الْعِطْرِ انْتَهَى. وَأَفْضَلُ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ الْبَزُّ، وَهُوَ الثِّيَابُ، ثُمَّ الْعِطْرُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: «لَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَاتَّجَرُوا فِي الْبَزِّ، وَلَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ النَّارِ لَاتَّجَرُوا فِي الصُّوفِ» . رَوَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: اللَّامُ فِي (لَقَدْ عَلِمَ) قَسِيمَةٌ أَقْسَمَ أَنَّهُ كَانَ مُشْتَهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهُ كَانَ كَسُوبًا وَمُحَصِّلًا لِمَئُونَةِ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ بِحِرْفَةِ التِّجَارَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا تَمْهِيدٌ مِنْهُ وَاعْتِذَارٌ مِنْهُ فِي قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَمَنْ ثَمَّ أَتَى بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَسَيَأْكُلُ ; لِأَنَّهَا فَاءُ النَّتِيجَةِ، وَ (آلُ أَبِي بَكْرٍ) أَهْلُهُ وَعِيَالُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نَفْسُهُ، وَفِي نَسَقِ الْكَلَامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِآلِ أَبِي بَكْرٍ نَفْسَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ ; أَيْ يَكْتَسِبُ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ يَدُلُّ عَلَى مَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ بِنَسَقِ الْكَلَامِ أَنْ يَحْتَرِفَ مُسْنِدًا إِلَى ضَمِيرِ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى (فَسَيَأْكُلُ) ، فَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الْأَهْلِ تَنَافَرَ وَانْخَرَمَ النَّظْمُ. وَقَالَ الْقَاضِي: آلُ أَبِي بَكْرٍ أَهْلُهُ، عَدَلَ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقِيلَ: نَفْسُهُ، وَالْآلُ مُقْحَمٌ لِقَوْلِهِ: وَيَحْتَرِفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ بَلِ الْمَعْنَى إِنِّي كُنْتُ أَكْسِبُ لَهُمْ فَيَأْكُلُونَهُ، وَالْآنَ أَكْسِبُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَنُظُمِ أَحْوَالِهِمْ، فَسَيَأْكُلُونَ مِنْ مَالِهِمُ الْمُعَدِّ لِمَصَالِحِهِمْ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى مَا سَمَّاهُ الْتِفَافًا مِنْ فَائِدَةٍ، فَقَوْلُهُ: آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ، جَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا مُتَّصِفًا بِصِفَةِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ كَوْنِهِ كَسُوبًا مْحَصِّلًا لِمَئُونَةِ الْأَهْلِ بِالتِّجَارَةِ، ثُمَّ تَكَفَّلَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ مِنْ تَوَلِّي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَامْتَنَعَ مِنَ الِاكْتِسَابِ لِمَئُونَةِ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ هُوَ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْعَلِيَّةِ وَإِنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ حَقِيقٌ بِأَنْ يَأْكُلَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَرَضَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِنَفْسِهِ مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَإِدَامًا زَيْتًا، أَوْ نَحْوَهُ، وَإِزَارًا وَرِدَاءً فِي الصَّيْفِ، وَفَرْوَةً، أَوْ جُبَّةً فِي الشِّتَاءِ، وَظَهْرًا مُعِينًا لِحَاجَتِهِ فِي السِّفَرِ وَالْحَضَرِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَرَضِ الْمَالِ يَعْمَلُ فِيهِ قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ لِعِمَالَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ إِمَامٌ يَقْطَعُ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3748 - عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ، فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3748 - (عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : أَيِ ابْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ، أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْهَا، وَبَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ تُحَوَّلُ إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ غَازِيًا فَمَاتَ بِمَرْوٍ زَمَنَ يَزِيدَ

بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَالْحُصَيْبُ تَصْغِيرِ الْحَصَبُ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ) : أَيْ جَعَلْنَاهُ عَامِلًا (عَلَى عَمَلٍ) : أَيْ مِنْ أَعْمَالِ الْوِلَايَةِ وَالْإِمَارَةِ (فَرَزَقْنَاهُ) : أَيْ فَأَعْطَيْنَاهُ (رِزْقًا) : أَيْ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا (فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ) : جَزَاءُ الشَّرْطِ، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَقَوْلُهُ (فَهُوَ غُلُولٌ) خَبَرُهُ جِيءَ بِالْفَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً، وَالْغُلُولُ بِضَمَّتَيْنِ: الْخِيَانَةُ فِي الْغَنِيمَةِ وَفَى مَالِ الْفَيْءِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : كَذَا الْحَاكِمُ.

3749 - «وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَعَمَّلَنِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3749 - (وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: عَمِلْتُ) : أَيْ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْإِمَارَةِ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ فِي زَمَانِهِ وَبِأَمْرِهِ (فَعَمَّلَنِي) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ ; أَيْ أَعْطَانِي الْعُمَالَةَ، وَهِيَ بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ وَالضَّمُّ أَشْهَرُ أُجْرَةُ الْعَمَلِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ أَعْطَانِي عُمَالَتِي وَأُجْرَةَ عَمَلِي، وَكَذَا أَعْمَلَنِي، وَقَدْ يَكُونُ عَمَّلَنِي بِمَعْنَى وَلَّانِي وَأَمَّرَنِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ إِذِ التَّقْدِيرُ عَمِلْتُ فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ عَمَلًا فَأَعْطَانِي عُمَالَتِي، وَالثَّانِي لَا يُنَاسِبُ الْبَابَ، وَاللَّفْظُ يَنْبُو عَنْهُ. قُلْتُ: أَرَادَ الشَّيْخُ اسْتِيفَاءَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ وَجْهًا أَخَرَ يَرِدُ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ مَعْنَاهُ ; أَيْضًا لَا مَحْذُورَ فِيهِ، إِذِ الْمَعْنَى عَمِلْتُ عَمَلًا فَاسْتَحْسَنَهُ، فَوَلَّانِي عَمَلًا أَخَرَ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَسْكُوتًا عَنْ إِعْطَاءِ عُمَالَتِهِ، فَفِي الْجُمْلَةِ يُنَاسِبُ الْبَابَ، وَأَمَّا نُبُوُّ اللَّفْظِ عَنْهُ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ، وَقَدْ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: عُمِّلَ فُلَانٌ عَلَيْهِمْ بِالضَّمِّ تَعْمِيلًا أُمِّرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3750 - وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا سِرْتُ، أَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَرُدِدْتُ. فَقَالَ: " أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ؟ لَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِي، فَإِنَّهُ غُلُولٌ {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] لِهَذَا دَعَوْتُكَ فَامْضِ لِعَمَلِكَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3750 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ (قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْيَمَنِ) : أَيْ فَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهَا (فَلَمَّا سِرْتُ قَلِيلًا، أَرْسَلَ فِي أَثَرِي) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرٍ وَسُكُونٍ ; أَيْ عَقِبِي قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَثَرُ الشَّيْءِ حُصُولُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِلطَّرِيقِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ آثَارٌ (فَرُدِدْتُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ وَوَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ (فَقَالَ: أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ؟ لَا تُصِيبَنَّ) : فِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِأُوصِيَكَ وَأَقُولُ لَكَ لَا تُصِيبَنَّ ; أَيْ لَا تَأْخُذَنَّ (شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِي فَإِنَّهُ) : أَيْ ذَلِكَ الْأَخْذَ (غُلُولٌ) : أَيْ خِيَانَةٌ {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ بِمَا غَلَّ مَا ذَكَرَهُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ» " الْحَدِيثَ. (لِهَذَا) : أَيْ لِأَجْلِ هَذَا النُّصْحِ (دَعَوْتُكَ) : فَإِذَا أَبْلَغْتُكَ (فَامْضِ) : أَيِ اذْهَبْ (لِعَمَلِكَ) : أَيْ مَقْرُونًا بِعَمَلِكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3751 - وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3751 - (وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ (ابْنِ شَدَّادٍ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْأَوْلَى ; أَيِ الْفِهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ غُلَامًا يَوْمَ قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ كَانَ لَنَا) : أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ) : أَيْ مِنَ الْمَالِ (زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَيَكْسَرُ (فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا) : قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ قَدْرَ مَهْرِ زَوْجَةٍ وَنَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا، وَكَذَلِكَ مَا لَابُدَّ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَتَنَعُّمٍ، فَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ضَرُورَةً فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا وُضِعَ الِاكْتِسَابُ مَوْضِعَ الْعُمَالَةِ وَالْأُجْرَةِ حَسْمًا لِطَمَعِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْأُجْرَةَ إِذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً، فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَ فِيمَا شَاءَ. فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ قَالَ: وَيُفْهَمُ مِنْ تَقْيِيدِ الْقَرِينَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِالشَّرْطِ أَنَّ الْقَرِينَةَ الْأُولَى مُطْلَقَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَاتٌ يَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهَا وَاحِدَةً، أَوِ اسْتَغْنَى بِتَقْيِيدِ الْأَخِيرَتَيْنِ عَنْ تَقْيِيدِ الْقَرِينَةِ الْأُولَى، فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ ; أَيْضًا. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهَا أَنَّ لَهُ مُؤْنَةَ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ اهـ. وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ بِقَدْرِ ضَرُورَةِ الْحَالِ وَعَدَمِ الْمَضَرَّةِ فِي الْمَالِ (وَفِي رِوَايَةٍ: مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذُكِرَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ (فَهُوَ غَالٌّ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ خَائِنٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3752 - وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عُمِّلَ مِنْكُمْ لَنَا عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِنْهُ مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ فَهُوَ غَالٌّ، يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ ; فَلْيَأْتِ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَهُ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3752 - (وَعَنْ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ (ابْنِ عَمِيرَةَ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلَا يُعْرَفُ فِي الرِّجَالِ أَحَدٌ يُقَالُ لَهُ: عُمَيْرَةُ بِالضَّمِّ بَلْ كُلُّهُمْ بِالْفَتْحِ، وَوَقَعَ فِي النَّسَائِيِّ الْأَمْرَانِ كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْكِنْدِيُّ الْحَضْرَمِيُّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَسَكَنَهَا، وَمَاتَ بِهَا، رَوَى عَنْهُ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عُمِّلَ) : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ مِيمٍ ; أَيْ جُعِلَ عَامِلًا (مِنْكُمْ لَنَا عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِنْهُ) : أَيْ دَسَّ عَنَّا مِنْ حَاصِلِ عَمَلِهِ (مِخْيَطًا) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ إِبْرَةٍ (فَمَا فَوْقَهُ) : أَيْ فِي الْقِلَّةِ، أَوِ الْكَثْرَةِ إِلَى الصِّغَرِ، أَوِ الْكِبَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ الَّذِي يُفِيدُ التَّرَقِّي ; أَيْ فَمَا فَوْقَ الْمِخْيَطِ فِي الْحَقَارَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] (فَهُوَ: أَيِ الْعَامِلُ الْكَاتِمُ (غَالٌّ) : أَيْ خَائِنٌ (يَأْتِي بِهِ) : أَيْ بِالْمِخْيَطِ فَمَا فَوْقَهُ، أَوْ بِمَا غَلَّ بِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ عَلَى عُنُقِهِ تَفْضِيحًا وَتَشْهِيرًا لَهُ بَيْنَ الْعِبَادِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) : خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْبَوَارِ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْبَلْ: بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (عَنِّي عَمَلَكَ) : أَيْ أَقِلْنِي مِنْهُ (قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟) : إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؟ (قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا) : أَيْ فِي الْوَعِيدِ عَلَى الْعَمَلِ وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنِ الزَّلَلِ (قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ ذَلِكَ) : أَيْ مَا سَبَقَ مِنَ الْقَوْلِ ( «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ ; فَلْيَأْتِ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ» ) : أَيْ أُعْطِيَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ (" أَخَذَهُ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى) ،: أَيْ: وَمَا مُنِعَ مِنْ أَخْذِهِ امْتَنَعَ عَنْهُ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ إِلَخْ. تَكْرِيرٌ لِلْمَعْنَى وَمَزِيدٌ لِلْبَيَانِ يَعْنِي: أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ وَلَا أَرْجِعُ عَنْهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَ فَلْيَعْمَلْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَتْرُكْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ) : وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ لِكَوْنِهِ أَفْيَدَ فِي الْمَقْصُودِ.

3753 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3753 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : بِالْوَاوِ (قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» ) : أَيْ: مُعْطِي الرِّشْوَةِ وَآخُذَهَا، وَهَى الْوَصْلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ بِالْمُصَانَعَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّشَاءِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَاءِ، قِيلَ: الرِّشْوَةُ مَا يُعْطَى لِإِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ لِإِحْقَاقِ بَاطِلٍ، أَمَّا إِذَا أَعْطَى لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى حَقٍّ، أَوْ لِيدْفَعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ظُلْمًا فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَا الْآخِذُ إِذَا أَخَذَ لِيَسْعَى فِي إِصَابَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لَكِنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ ; لِأَنَّ السَّعْيَ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَدَفْعِ الظَّالِمِ عَنِ الْمَظْلُومِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الْأَخْذُ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ إِلَّا قَوْلَهُ: وَكَذَا الْآخِذُ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يُنَافِيهِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ الْآتِي. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أُخِذَ فِي شَيْءٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَأَعْطَى دِينَارَيْنِ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3754 - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3754 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

3755 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " عَنْ ثَوْبَانَ، وَزَادَ: " وَالرَّائِشَ. يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3755 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ ثَوْبَانَ، وَزَادَ) : أَيْ: ثَوْبَانُ، أَوِ الْبَيْهَقِيُّ (وَالرَّائِشَ يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ ثَوْبَانَ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا» اهـ. وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا يَسْتَزِيدُ لِهَذَا وَيَنْتَقِصُ لِهَذَا، قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ. وَقِيلَ: الْمُصْلِحُ بَيْنَهُمَا.

3756 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنِ اجْمَعْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ وَثِيَابَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ. فَقَالَ: يَا عَمْرُو! إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِأَبْعَثَكَ فِي وُجْةٍ يُسَلِّمُكَ اللَّهُ وَيُغَنِّمُكَ، وَأَزْعَبَ لَكَ زَعْبَةً مِنَ الْمَالِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كَانَتْ هِجْرَتِي لِلْمَالِ، وَمَا كَانَتْ إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: نِعِمَّا بِالْمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ". رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. وَرَوَى أَحْمَدُ نَحْوَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: " «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3756 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ) : أَيْ رَسُولًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنِ اجْمَعْ) : أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي الْإِرْسَالِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ ; أَيْ قَائِلًا: اجْمَعْ (عَلَيْكَ سِلَاحَكَ وَثِيَابَكَ) : وَقَدَّمَ السِّلَاحَ لِيَشْعُرَ بِالسَّفَرِ وَلِلْاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِ (ثُمَّ ائْتِنِي. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ) : أَيْ: مُسْتَعِدًّا (وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: يَا عَمْرُو) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ الدِّينِيِّ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ (إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِأَبْعَثَكَ) : فِي كَلَامِهِ تَفَنُّنٌ ; أَيْ: لِأَجْلِ بَعْثِي ; إِيَّاكَ (فِي وَجْهٍ) : أَيْ فِي عَمَلٍ وَشُغْلٍ (يُسَلِّمُكَ اللَّهُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ: يُؤَدِّيكَ بِالسَّلَامَةِ إِلَيْهِ، وَيُوَصِّلُكَ بِالْكَرَامَةِ لَدَيْهِ (وَيُغَنِّمُكَ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ ; أَيْ: يَرْزُقُكَ غَنِيمَةً (وَأَزْعَبَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَبْعَثَكَ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ ; أَيْ: وَأَنَا أَزْعَبُ وَهُوَ بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ; أَيْ: أَقْطَعُ، أَوْ أَدْفَعُ (لَكَ زَعْبَةً) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُضَمُّ ; أَيْ: قِطْعَةً، أَوْ دُفْعَةً (مِنَ الْمَالِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كَانَتْ هِجْرَتِي) : أَيْ: إِيمَانِي وَهِجْرَةُ أَوْطَانِي (لِلْمَالِ، وَمَا كَانَتْ إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ قَالَ: نِعِمَّا) : بِكَسْرِ النُّونِ وَيُفْتَحُ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَيَخْتَلَسُ ; أَيْ نِعْمَ شَيْئًا قَالَ الرِّضَى: اخْتُلِفَ فِي (مَا) هَذِهِ فَقِيلَ: كَافَّةٌ هَيَّأَتْ نِعْمَ لِلدُّخُولِ عَلَى الْجُمْلَةِ كَمَا فِي طَالَمَا وَقَلَّمَا، قِيلَ: وَفِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُكَفُّ

لِقُوَّتِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ، وَ (مَا) فِي طَالَمَا وَقَلَّمَا مَصْدَرِيَّةٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نِعْمَ لِعَدَمِ تَصَرُّفِهَا شَابَهَتِ الْحُرُوفَ، لَكِنْ يُحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فِي نَحْوِ {فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَأَبُو عَلِيٍّ: هِيَ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، فَاعِلٌ لِ نِعْمَ وَيُضْعِفُهُ قِلَّةُ وُقُوعِ الَّذِي مُصَرَّحًا بِهِ فَاعِلًا لِنِعْمَ، وَلُزُومُ حَذْفِ الصِّلَةِ بِأَجْمَعِهَا فِي (فَنِعِمَّا هِيَ) فَإِنَّ " هِيَ " مَخْصُوصٌ ; أَيْ: نِعْمَ الَّذِي فَعَلَهُ الصَّدَقَاتُ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ، وَالْكَسَائِيُّ. (مَا) مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِمَعْنَى الشَّيْءِ، فَمَعْنَى فَنِعِمَّ هِيَ نِعْمَ الشَّيْءُ هِيَ فَمَا هُوَ الْفَاعِلُ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الشَّيْءِ ذِي اللَّامِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ وَيُضْعِفُهُ عَدَمُ مَجِيءِ (مَا) بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ ; أَيْ: بِمَعْنَى الشَّيْءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بَلْ تَجِيءُ (مَا) بِمَعْنَى شَيْءٍ إِمَّا مَوْصُوفَةً، أَوْ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ. وَقَالَ الزَّمَحْشَرِيُّ، وَالْفَارِسِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: (مَا) نَكِرَةٌ مُمَيَّزَةٌ مَنْصُوبَةُ الْمَحِلَّ إِمَّا مَوْصُوفَةٌ بِالْجُمْلَةِ بِنَحْوِ: {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58] ، أَوْ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ نَحْوُ (فَنِعِمَّا هِيَ) : اهـ. (بِالْمَالِ الصَّالِحِ) : قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: (مَا) فِي نِعِمَّا مَنْصُوبَةٌ لَا غَيْرَ، وَالتَّقْدِيرُ نِعْمَ شَيْئًا ; أَيِ: الْمَالُ الصَّالِحُ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ مِثْلُهَا فِي كَفَى بِاللَّهِ اهـ.، أَوْ نِعْمَ الشَّيْءُ الْمَالُ الْحَلَالِ (لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ) : وَهُوَ مَنْ يُرَاعِي حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ عِبَادِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (مَا) هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَوْصُولَةٍ وَلَا مَوْصُوفَةٍ لِتَعَيُّنِ الْأَوْلَى بِالصِّلَةِ، وَالثَّانِيَةُ بِالصِّفَةِ، وَالْمُرَادُ الْإِجْمَالُ، ثُمَّ التَّبْيِينُ فَ (مَا) هُنَا بِمَنْزِلَةِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ فِي نِعْمَ الرَّجُلُ، فَإِنَّهُ إِذَا قَرَعَ السَّمْعَ أَوْلًا مُجْمَلًا ذَهَبَ بِالسَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ إِذَا بُيِّنَ تَمَكَّنَ فِي ذِهْنِهِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِ الْقَلْبِ، وَفِي هَذَا مَدْحٌ عَظِيمٌ لِلْمَالِ الصَّالِحِ وَالصَّلَاحُ ضِدُّ الْفَسَادِ، وَهُمَا مُخْتَصَّانِ فِي أَكْثَرِ الِاسْتِعْمَالِ بِالْأَفْعَالِ، وَقُوبِلَ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً بِالْفَسَادِ وَتَارَةً بِالسَّيِّئَةِ. قَالَ تَعَالَى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] قَالَ: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56] ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ كَانَ صَالِحًا، وَالْفَسَادُ بِخِلَافِهِ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ مَنْ عَلِمَ الْخَيْرَ وَعَمِلَ بِهِ، وَالْمَالُ الصَّالِحُ مَا يُكْسَبُ مِنَ الْحَلَالِ، وَيُنْفَقُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ (رَوَاهُ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ: بِإِسْنَادِهِ (وَرَوَى أَحْمَدُ نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ (وَفِي رِوَايَتِهِ) : أَيْ: رِوَايَةِ أَحْمَدَ (قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ) : قُلْتُ: فِيهِ تَأْيِيدٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ (مَا) زَائِدَةٌ كَافَّةٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3757 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَحَدٍ شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا، فَقَبِلَهَا ; فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3757 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَحَدٍ شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً» ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَرَفَعَ هَدِيَّةً (عَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى مُقَابَلَةِ الشَّفَاعَةِ وَلِأَجْلِهَا (فَقَبِلَهَا) : أَيِ: الْمُهْدَى إِلَيْهِ وَهُوَ الشَّافِعُ (فَقَدْ أَتَى) : أَيِ: الْقَابِلُ (بَابًا) : أَيْ: نَوْعًا (عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا) : وَهُوَ فِي الشَّرْعِ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ شُرِطَ لِأَحَدِ الْعَاقِدِينَ فِي الْمُعَاوَضَةِ، وَفَى نُسْخَةٍ الرِّيَاءِ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

[باب الأقضية والشهادات]

[بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ]

[4] بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3758 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي شَرْحِهِ لِلنَّوَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، أَوْ صَحِيحٍ، زِيَادَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ [4]- بَابُ الْأَقْضِيَةِ أَيِ: الْحُكُومَاتِ (وَالشَّهَادَاتِ) : أَيْ: أَنْوَاعِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَقْضِيَةُ هِيَ مَا تُرْفَعُ إِلَى الْحَاكِمِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَضَاءُ فِي الْأَصْلِ إِحْكَامُ الشَّيْءِ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْقَضَاءُ إِمْضَاءُ الْحُكْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ} [الإسراء: 4] وَسُمِّيَ الْحَاكِمُ قَاضِيًا ; لِأَنَّهُ يَقْضِي الْأَحْكَامَ وَيَحْكُمُهَا، وَيَكُونُ قَضَى بِمَعْنَى أَوْجَبَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ قَاضِيًا، لِإِيجَابِهِ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى حَاكِمًا لِمَنْعِهِ الظَّالِمَ مِنَ الظُّلْمِ، وَمِنْهُ حَكَمَةُ الدَّابَّةِ لِمَنْعِهَا الدَّابَّةَ مِنْ رُكُونِهَا رَأْسَهَا، وَسُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً لِمَنْعِهَا النَّفْسَ مِنْ هَوَاهَا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الشُّهُودُ وَالشَّهَادَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ الْحُضُورُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ إِمَّا بِالْبَصَرِ وَإِمَّا بِالْبَصِيرَةِ، وَشَهِدْتُ جَارٍ مَجْرَى الْعِلْمِ وَبِلَفْظِهِ: تُقَامُ الشَّهَادَةُ، يُقَالُ: أَشْهَدُ بِكَذَا، وَلَا يُرْضَى مِنَ الشَّاهِدِ أَنْ يَقُولَ: أَعْلَمُ، بَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ، وَفَى الْمُغْرِبِ: الشَّهَادَةُ الْإِخْبَارُ بِصِحَّةِ الشَّيْءِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ، وَيُقَالُ: عِنْدَ الْحَاكِمِ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا شَهَادَةٍ فَهُوَ شَاهِدٌ وَهُمْ شُهُودٌ وَأَشْهَادٌ وَهُوَ شَهِيدٌ وَهُمْ شُهَدَاءُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3758 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لَوْ فُرِضَ أَنْ يُعْطَوْا مُدَّعَاهُمْ مِنْ مَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ (بِدَعْوَاهُمْ: أَيْ: بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمْ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِلْمُدَّعِي، أَوْ تَصْدِيقٍ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (لَادَّعَى نَاسٌ) : أَيْ: قَوْمٌ فِي الْحَقِيقَةِ نَسْنَاسٌ بِطَرِيقِ الْبُطْلَانِ عَلَى نَاسٍ (دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ) : قِيلَ: أَيْ لَأَخَذَ رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ، وَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، فَوَضَعَ الدَّعْوَى مَوْضِعَ الْأَخْذِ ; لِأَنَّهَا سَبَبُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ لِامْتِنَاعِ إِعْطَاءِ الْمُدَّعِي بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَصَحَّ مَعْنَى لَوْ كَمَا لَا يَخْفَى، هَذَا وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ نَفَتِ اعْتِبَارَ الْإِعْطَاءِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَأَفَادَتْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَكَانَتْ مُوهِمَةً لِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ مُطْلَقًا اسْتَدْرَكَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ الْيَمِينَ) : بِتَشْدِيدِ لَكِنَّ وَنَصْبِ الْيَمِينِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَالرَّفْعِ ; أَيِ: الْحَلِفَ (عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) : أَيِ: الْمُنْكِرِ إِنْ طَلَبَ الْمُدَّعِي تَحْلِيفَهُ، فَلَوْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِغَيْرِ طَلَبِ الْمُدَّعِي، ثُمَّ طَلَبَ الْمُدَّعِي التَّحْلِيفَ، فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ، كَذَا فِي الْأُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ، وَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْحُدُودُ وَاللِّعَانُ وَنَحْوُهُمَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ. (وَفِي شَرْحِهِ) : أَيْ: شَرْحِ مُسْلِمٍ (لِلنَّوَوِيِّ) : يَجُوزُ قَصْرُهُ وَمَدُّهُ (أَنَّهُ قَالَ: وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، أَوْ صَحِيحٍ، زِيَادَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا) : الظَّاهِرُ مَرْفُوعَةٌ (لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ) : بِالْوَجْهَيْنِ (عَلَى الْمُدَّعِي) : فِي الْمُغِرِبِ: الْبَيِّنَةُ الْحُجَّةُ فَيْعِلَةٌ مِنَ الْبَيْنُونَةِ، أَوِ الْبَيَانِ (وَالْيَمِينَ) : بِالْوَجْهَيْنِ (عَلَى مَنْ أَنْكَرَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ كُلِّيَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْإِنْسَانِ فِيمَا يَدَّعِيهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ، أَوْ تَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ طَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِ لَا يُعْطَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ أَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ بِمَجَرَّدِهَا لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَاسْتُبِيحَ، وَلَا يَتَمَكَّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ صَوْنِ مَالِهِ وَدَمِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى كُلِّ مُدَّعَى عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي اخْتِلَاطٌ أَمْ لَا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابِهِ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ: إِنَّ الْيَمِينَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خِلْطَةٌ لِئَلَّا يَبْتَذِلَ السُّفَهَاءُ أَهْلَ الْفَضْلِ بِتَحْلِيفِهِمْ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، فَاشْتَرَطَتَ الْخِلْطَةَ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْخِلْطَةِ، فَقِيلَ: هِيَ مَعْرِفَتُهُ بِمُعَامَلَتِهِ وَمُدَايَنَتِهِ بِشَاهِدٍ، أَوْ بِشَاهِدَيْنِ، وَقِيلَ: تَكْفِي الشُّبْهَةُ، وَقِيلَ: هِيَ أَنْ يَلِيقَ بِهِ الدَّعْوَى بِمِثْلِهَا عَلَى مَثْلِهِ، وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ الشَّرْطِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ.

3759 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3759 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ» ) : فِي النِّهَايَةِ: الْحَلِفُ هُوَ الْيَمِينُ فَخَالَفَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَأْكِيدًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَمِينِ صَبْرٍ بِالْإِضَافَةِ ; أَيْ: أُلْزِمَ بِهَا وَحُبِسَ عَلَيْهَا، وَكَانَتْ لَازِمَةً لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، وَقِيلَ لَهَا مَصْبُورَةً، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَصْبُورَ ; لِأَنَّهُ صُبِرَ مِنْ أَجْلِهَا ; أَيْ: حُبِسَ، فَوُصِفَتْ بِالصَّبْرِ وَأُضِيفَ إِلَيْهِ مَجَازًا اهـ. وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: الصَّبْرُ الْحَبْسُ وَالْمُرَادُ بِيَمِينِ الصَّبْرِ أَنْ يَحْبِسَ السُّلْطَانُ الرَّجُلَ حَتَّى يَحْلِفَ بِهَا، وَهَى لَازِمَةٌ لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، وَعَلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَالْمُرَادُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ تَنْزِيلًا لِلْحَلِفِ مَنْزِلَةَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا قِيلَ لَهَا مَصْبُورَةٌ مَجَازًا، وَقِيلَ: يَمِينُ الصَّبْرِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ قَاصِدًا لِإِذْهَابِ مَالِ الْمُسْلِمِ، كَأَنَّهُ يَصْبِرُ النَّفْسَ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ ; أَيْ يَحْبِسُهَا عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: (وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ) : أَيْ: كَاذِبٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَفَى رِوَايَةٍ بِتَرْكِ الْوَاوِ (يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) : أَيْ: يَفْصِلُ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ وَيَأْخُذُهَا بِذَلِكَ الْيَمِينِ، وَفَى مَعْنَى مَالِ الْمُسْلِمِ مَالُ الذِّمِّيِّ، فَلَا مَفْهُومَ مُعْتَبَرٌ لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْكَذِبَ فِي الشَّهَادَةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُجُورِ، وَ (يُقْتَطَعُ بِهَا) حَالٌ مِنَ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ فِي (فَاجِرٌ) ، فَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ تَصْوِيرًا لِشَنَاعَتِهَا، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّ مُرْتَكِبَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ قَدْ بَلَغَ فِي الِاعْتِدَاءِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى، حَيْثُ انْتَهَكَ حُرْمَةً بَعْدَ حُرْمَةٍ إِحْدَاهَا: اقْتِطَاعُ مَالٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَالثَّانِيَةُ: اسْتِحْقَاقُ حُرْمَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ رِعَايَتُهَا، وَهَى حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْآخِرَةِ وَالثَّالِثَةُ: الْإِقْدَامُ عَلَى الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ (لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، أَيْ: يُعْرِضُ عَنْهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَ (غَضْبَانُ) غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ. وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَنْتَقِمُ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْغَضَبَ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْغَايَةِ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ) : أَيْ: مُوَافَقَةً لِمَا ذَكَرَ مِنَ الْحَدِيثِ فَهُوَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 77] : أَيْ: يَسْتَبْدِلُونَ (بِعَهْدِ اللَّهِ) : أَيْ: بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ {وَأَيْمَانِهِمْ} [آل عمران: 77] : أَيِ: الْكَاذِبَةِ ثَمَنًا قَلِيلًا: شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّ مَتَاعَهَا كُلِّهَا قَلِيلٌ (إِلَى آخَرِ الْآيَةِ) : يَعْنِي {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} [آل عمران: 77] ; أَيْ: لَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: بِمَا يَسُرُّهُمْ وَيُفْرِحُهُمْ {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77] ; أَيْ: نَظَرَ رَحْمَةٍ تَنْفَعُهُمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ; أَيْ: يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ وَلِذَا قَالَ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَفِي الْآيَةِ تَهْدِيدٌ جَسِيمٌ وَتَشْدِيدٌ عَظِيمٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ.

3760 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ ; فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3760 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ» ) : أَيْ: ذَهَبَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ وَفَصَلَهَا عَنْهُ يُقَالُ: اقْتَطَعْتُ مِنَ الشَّيْءِ قِطْعَةً، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ وَفِيهِ أَنَّ الْحَقَّ أَعَمُّ مِنَ الْمَالِ، وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ (حَقَّ امْرِئٍ) مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالسِّرْجِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا، وَكَذَا سَائِرُ الْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَالٍ كَحَقِّ الْقَذْفِ وَنَصِيبِ الزَّوْجَةِ مِنَ الْقَسْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ( «فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ بَعْدَ احْتِمَالِ الْخُرُوجِ ; مِنْ قَوْلِهِ: أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ، وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِذَلِكَ إِذَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَقَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِ دُخُولُ الْجَنَّةِ أَوَّلَ وَهْلَةٍ مَعَ الْفَائِزِينَ، وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُسْلِمِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ حَقِّ الذِّمِّيِّ لِتَفْظِيعِ شَأْنِ مُرْتَكِبِ هَذِهِ الْعَظِيمَةِ كَمَا مَرَّ ; لِأَنَّ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ تَقْتَضِي الْقِيَامَ بِحَقِّهِ وَمُرَاعَاةَ جَانِبِهِ فِي سَائِرِ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ كَامِنَةٌ فِي التَّقْيِيدِ فَلَا يُذْهَبُ إِلَى الْعَمَلِ بِالْمَفْهُومِ. (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ) : أَيْ: لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَإِنْ كَانَ) : أَيِ: الْحَقُّ (شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ; أَيْ: خَشَبِ سِوَاكٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3761 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخِيهِ ; فَلَا يَأْخُذَنَّهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3761 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ) : أَيْ: تَرْفَعُونَ الْمُخَاصَمَةَ إِلَيَّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَبِهَا ابْتَدَأَ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّ الْوَضْعَ الْبَشَرِيَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُدْرَكَ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا ظَوَاهِرُهَا، فَإِنَّهُ خَلَقَ خَلْقًا لَا يَسْلَمُ مِنْ قَضَايَا تَحْجُبُهُ عَنْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَسْمَعَ الشَّيْءَ فَيَسْبِقُ إِلَى وَهْمِهِ أَنَّهُ صِدْقٌ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، يَعْنِي أَنِّي إِنْ تَرَكْتُ عَلَى مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَايَا الْبَشَرِيَّةِ، وَلَمْ أُؤَيَّدْ بِالْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ طَرَأَ عَلَيَّ مِنْهَا مَا يَطْرَأُ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ، فَإِنْ قِيلَ: أَوَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَصُونًا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَعْصُومًا عَلَى سَائِرِ أَحْوَالِهِ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْعِصْمَةَ تَتَحَقَّقُ فِيمَا يُعَدُّ عَلَيْهِ ذَنْبًا وَيَقْصِدُهُ قَصْدًا، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي جُمْلَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ إِلَّا مَا كَلَّفَ غَيْرَهُ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الْإِصَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَرْوِيهِ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ فِي حِسَانِ هَذَا الْبَابِ: " «أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ» ") (وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: زِيدَ لَفْظَةُ (أَنْ) فِي خَبَرِ لَعَلَّ تَشْبِيهًا لَهُ بِعَسَى، وَقَوْلُهُ: (أَلْحَنَ) أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنْ لَحِنَ كَفَرِحَ إِذَا فَطِنَ بِمَا لَا يَفْطِنُ بِهِ غَيْرُهُ ; أَيْ: أَفْصَحَ وَأَفْطَنَ (بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ) : فَيُزَيِّنُ كَلَامَهُ بِحَيْثُ أَظُنُّهُ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ (فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ) : قَالَ الرَّاغِبُ: اللَّحْنُ صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ سُنَنِهِ الْجَارِي عَلَيْهِ إِمَّا بِإِزَالَةِ الْعَرَبِ، أَوِ التَّصْحِيفِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَإِمَّا بِإِزَالَتِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ وَصَرْفِهِ بِمَعْنَاهُ إِلَى تَعْرِيضٍ وَفَحْوَى، وَهُوَ مَحْمُودٌ مِنْ حَيْثُ الْبَلَاغَةِ، وَإِيَّاهُ قَصَدَ الشَّارِعُ بِقَوْلِهِ: وَخَيْرُ الْأَحَادِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّفْظِ لَمَّا يَقْتَضِي فَحْوَى الْكَلَامِ: لَحْنٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ. " أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ " ; أَيْ: أَلْسَنَ وَأَفْصَحَ وَأَبْيَنَ كَلَامًا، وَأَقْدَرَ عَلَى الْحُجَّةِ (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ) : أَيْ: مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ (فَلَا يَأْخُذَنَّهُ) : أَيْ: إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ (فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ) : أَيْ: أُعَيِّنُ لَهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ (قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْخَطَأِ فِي الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَالَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ وَبَوَاطِنِ الْأُمُورِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِ الْأَحْكَامِ مَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، فَيَحْكُمُ بِالْبَيِّنَةِ، أَوِ الْيَمِينِ مَعَ إِمْكَانِ خِلَافِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا نَحْوَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» ) إِلَى قَوْلِهِ: " وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ". وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَأَطْلَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَاطِنِ أَمْرِ الْخَصْمَيْنِ، فَحَكَمَ بِيَقِينِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى شَهَادَةٍ، أَوْ يَمِينٍ، وَلَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَالْاقْتِدَاءِ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ مِنْ عَدَمِ الْإِطْلَاعِ عَلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ، لِيَكُونَ لِلْأُمَّةِ أُسْوَةٌ بِهِ فِي ذَلِكَ وَتَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْبَاطِنِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَقَعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمٌ فِي الظَّاهِرِ مُخَالِفٌ لِلْبَاطِنِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لَا يُقِرُّ عَلَى خَطَأٍ فِي الْأَحْكَامِ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَقَاعِدَةِ الْأُصُولِ ; لِأَنَّ مُرَادَهُمْ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ خَطَأٌ فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهِ؟ وَأَمَّا الَّذِي فِي الْحَدِيثِ فَلَيْسَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ حَكَمَ بِالْبَيِّنَةِ، أَوِ الْيَمِينِ، فَلَوْ وَقَعَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ الْبَاطِنَ لَا يُسَمَّى الْحُكْمُ خَطَأً، بَلِ الْحُكْمُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِشَاهِدَيْنِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ زُورٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَالتَّقْصِيرُ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْحَاكِمُ، فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا عَتْبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يُحِلَّ حَرَامًا، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدُ زُورٍ لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ، فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَحِلَّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ذَلِكَ الْمَالُ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِقَتْلٍ لَمْ يَحِلَّ لِلْوَلِيِّ قَتْلُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَحِلَّ لِمَنْ عَلِمَ كَذِبَهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ قَضَيْتُ إِلَخْ يَعْنِي إِنْ قَضَيْتُ لَهُ بِظَاهِرٍ يُخَالِفُ الْبَاطِنَ فَهُوَ حَرَامٌ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مَا قَضَيْتُ لَهُ ; لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا يَئُولُ بِهِ إِلَى قِطْعَةٍ مِنَ النَّارِ، فَوَضَعَ الْمُسَبَّبَ وَهُوَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ مَوْضِعَ السَّبَبِ، وَهُوَ مَا حَكَمَ بِهِ لَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَفَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ إِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا، أَوْ لِيَتْرُكْهَا» ". رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالسِّتَّةُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَلَفْظُهُ: " «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» " وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ اللَّهُ، فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» ".

3762 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3762 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ (إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ) » : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيِ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ مِنَ اللَّدِيدِ، وَهُوَ صَفْحَةُ الْعُنُقِ، وَذَلِكَ لِمَا لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْخَصِمُ بِكَسْرِ الصَّادِ ; أَيِ: الْمُولَعُ بِالْخُصُومَةِ بِحَيْثُ تَصِيرُ الْخُصُومَةُ عَادَتَهُ، فَالْأَوَّلُ يُنْبِئُ عَنِ الشِّدَّةِ، وَالثَّانِي عَنِ الْكَثْرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِذَا قُيِّدَ الْأَلَدُّ بِالْخُصُومَةِ فِرَارًا عَنِ التَّكْرَارِ، وَإِذَا تُرِكَ عَلَى أَصْلِهِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ شَدِيدٌ فِي نَفْسِهِ بَلِيغٌ فِي خُصُومَتِهِ، فَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] الْكَشَّافُ: أَيْ شَدِيدُ الْجِدَالِ، وَإِضَافَةُ الْأَلَدِّ بِمَعْنَى فِي، أَوْ جَعَلَ الْخِصَامَ أَلَدَّ مُبَالَغَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ: وَفِي رِوَايَةِ: تَمَّامٍ عَنْ مُعَاذٍ: " «أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنْ آمَنَ، ثُمَّ كَفَرَ» ". وَفِي رِوَايَةِ الْعُقَيْلِيِّ، وَالدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ: " «أَبْغَضُ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ مَنْ كَانَ ثَوْبَاهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُهُ ثِيَابَ الْأَنْبِيَاءِ وَعَمَلُهُ عَمَلَ الْجَبَّارِينَ» ".

3763 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهَدٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3763 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى بِيَمِينٍ) : أَيْ: لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ (وَشَاهِدٍ) : أَيْ: وَبِبَيِّنَةٍ لِلْمُدَّعِي، وَلَعَلَّ الْقَضِيَّةَ فِيمَا يَكْتَفِي بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَالْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي كَانَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ بَدَلًا مِنَ الشَّاهِدِ الْآخَرِ، فَلَمَّا حَلَفَ قَضَى لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ادَّعَاهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وَخِلَافُهُمْ فِي الْأَمْوَالِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ فَلَا يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ بِالْاتِّفَاقِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَضَى بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا، أَوْ عَجَزَ أَنْ يُتِمَّ الْبَيِّنَةَ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ تُبَيِّنْ فِي حَدِيثِهِ صِفَةَ الْقَضَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِطُرُقٍ مَرْضِيَّةٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُقَوِّي ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ، فَلَا يُتْرَكُ بَعْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ مَا وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فَلَمَّا وَرَدَ التَّوْفِيقُ بِذَلِكَ لَمْ يَرَوْا أَنْ يَحْكُمُوا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَاسْتَدَلُّوا ; أَيْضًا بِحَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الَّذِي يَتْلُو حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ " فَلَكَ يَمِينُهُ " فَلَمَّا أَعَادَ إِلَيْهِ الْقَوْلَ قَالَ: " لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ» . قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: إِلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ يُقَالُ لَهُ: هَلْ يُجَاءُ بِأَقْطَعَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ صِحَّةً وَنَصًّا؟ أَمَّا الصِّحَّةُ، فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِي إِسْنَادِهِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي صِحَّتِهِ. قُلْتُ: الشَّيْخُ عَارِفٌ بِصِحَّتِهِ غَيْرُ طَاعِنٍ فِي إِسْنَادِهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ لَا يُعَارِضُ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ، لَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلْاسْتِدْلَالِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعِمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْمُغِيرَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ حُجَّةُ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ، لِاخْتِلَافِ النُّقُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِينَ، وَهُوَ يُفِيدُ نَفْيَ الْقَطْعِ قَطْعًا، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَارِضَ الْكِتَابَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ: وَأَمَّا ظَاهِرُ النَّصِّ، فَإِنَّ " قَضَى " يُسْتَعْمَلُ بِالْبَاءِ وَاللَّامِ وَعَلَى وَالْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَضَى لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ اسْتَقَامَ وَصَحَّ، وَلَوْ قُلْتَ: قَضَى لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ يَمِينِهِ وَشَاهِدِ الْمُدَّعِي أَبْعَدْتَ الْمَرْمَى. قُلْتُ: الشَّيْخُ عَارِفٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَائِلٌ بِهَذَا الْمَبْنَى، لَكِنَّهُ يَنْفِي النَّصَّ فِي الْمُدَّعِي فَلَا يُعَدَّى عَنِ الْمَرْمَى، ثُمَّ قَالَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلشُّيُوعِ ; أَيْ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ مَا؟ فَقَوْلُهُ: لَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ أَصْلًا، فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ لَمْ يَقُلْ لِلْمُدَّعِي: فَلَكَ يَمِينُهُ، بَلْ فَعَلَيْكَ الْيَمِينُ. قُلْتُ هَذَا غَفْلَةٌ لَهُ مِنْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى شَاهِدٍ وَاحِدٍ ; إِذْ لَوْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَيْهِ لَقَالَ: أَلَكَ شَاهِدٌ؟ ، وَلِأَنَّ (أَلْ) فِي الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ لِلْاسْتِغْرَاقِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ) . ; أَيْ: جَمِيعُ الْبَيِّنَاتِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَجَمِيعُ الْأَيْمَانِ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ وَاللَّهُ وَلِيُ التَّوْفِيقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3764 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي. فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي وَفِي يَدِي، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَضْرَمِيِّ: " أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَلَكَ يَمِينُهُ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ، لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: " لَيْسَ لَكَ فِيهِ إِلَّا ذَلِكَ ". فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَدْبَرَ: " لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» . ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3764 - (وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : أَيِ: ابْنِ حُجْرٍ (الْحَضْرَمِيِّ) : وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ) : بِسُكُونِ الضَّادِ وَالْوَاوِ بَيْنَ فَتَحَاتٍ، وَمَرَّ تَحْقِيقُهُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ أَقْصَى الْيَمَنِ (وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَبُو قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي) : أَيْ: بِالْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي (قَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي) : أَيْ: مِلْكٌ لِي (وَفِي يَدِي) : أَيْ وَتَحْتَ تَصَرُّفِي (فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ) : أَيْ: مِنَ الْحُقُوقِ (فَقَالَ لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ. قَالَ) : أَيِ: الْحَضْرَمِيُّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الرَّجُلَ) : أَيِ: الْكِنْدِيَّ (فَاجِرٌ) : أَيْ: كَاذِبٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ) : صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِفَاجِرٍ (وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ) : أَيْ: مَعَ هَذَا (قَالَ: لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَّا ذَاكَ ; أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الْيَمِينِ (فَانْطَلَقَ) : أَيْ: فَذَهَبَ الْكِنْدِيُّ (لِيَحْلِفَ) : أَيْ: عَلَى قَصْدِ أَنْ يَحْلِفَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَدْبَرَ) : أَيْ: حِينَ وَلَّى عَلَى هَذَا الْقَصْدِ (لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ) : أَيْ: مَالِ الْحَضْرَمِيِّ (لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مَجَازٌ عَنِ الِاسْتِهَانَةِ بِهِ، وَالسُّخْطِ عَلَيْهِ، وَالْإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَتِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77] وَغَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي ; أَيْ غَصْبًا مِنِّي قَهْرًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى أَرْضٍ لِي، وَفِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْفَوَائِدِ. مِنْهَا: أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ أَوْلَى مِنْ أَجْنَبِيٍّ يَدَّعِي عَلَيْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ إِذَا لَمْ يُقِرَّ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقَدَّمَ عَلَى الْيَدِ، وَيُقْضَى لِصَاحِبِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ وَمِنْهَا: أَنْ يَمِينَ الْفَاجِرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقْبَلُ كَيَمِينِ الْعَدْلِ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ: أَنَّهُ ظَالِمٌ، أَوْ فَاجِرٌ، أَوْ نَحْوُهُ فِي حَالِ الْمُخَاصَمَةِ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ مِنْهُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْوَارِثَ إِذَا ادَّعَى شَيْئًا لِمُوَرِّثِهِ، وَعَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ مُوَرِّثَهُ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ، جَازَ الْحُكْمُ لَهُ بِهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ حَالَ الدَّعْوَى بِبَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ قَالَ: غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي، فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهَا لِأَبِيهِ، فَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِأَنَّهُ وَرِثَهَا وَحْدَهُ لِطَالَبَهُ بِبَيِّنَةٍ عَلَى كَوْنِهِ وَارِثًا، وَبِبَيِّنَةٍ أُخْرَى عَلَى كَوْنِهِ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ عَلَى خَصْمِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَسَيَأْتِي لَهُ تَتِمَّةٌ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ.

3765 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ ; فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3765 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ) ; أَيْ: مُتَعَمِّدًا (فَلَيْسَ مِنَّا) ; أَيْ: مَعْشَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) : قِيلَ: أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

3766 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3766 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : أَيِ الْجُهَنِيِّ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟) جَمْعُ شَاهِدٍ (الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: قَبْلَ أَنْ تُطْلَبُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَأْوِيلَانِ. أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا تَأْوِيلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ ; لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ شَاهِدٌ، فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهُ ; لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ لَهُ عِنْدَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ فِي غَيْرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصَايَا الْعَامَّةِ وَالْحُدُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَفْعُهُ إِلَى الْقَاضِي وَإِعْلَامُهُ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] . وَحُكِيَ تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا، كَمَا يُقَالُ: الْجَوَادُ يُعْطِي قَبْلَ السُّؤَالِ ; أَيْ: يُعْطِي سَرِيعًا عَقِيبَ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُنَاقِضَةٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ ". قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ مَعَهُ شَهَادَةٌ لَا يُسْأَلُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهَا، فَيَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ فَيَشْهَدُ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يُسْتَشْهَدْ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي انْتَصَبَ شَاهِدًا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «خَيْرُ الشَّهَادَةِ مَا شَهِدَ بِهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» ".

3767 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3767 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» ) : أَيْ: أَصْحَابِي، وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَرْنُ أَهْلُ كُلِّ زَمَانٍ، وَهُوَ مِقْدَارُ التَّوَسُّطِ فِي أَعْمَارِ كُلِّ زَمَانٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاقْتِرَانِ، وَكَأَنَّهُ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَقْتَرِنُ فِيهِ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي أَعْمَارِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ اهـ. وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقِيلَ أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ سِتُّونَ، وَقِيلَ سَبْعُونَ، وَقِيلَ ثَمَانُونَ، وَقِيلَ مِائَةٌ، رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَ غُلَامٍ وَقَالَ: " عِشْ قَرْنًا " فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ» . ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) : أَيْ: يَقْرُبُونَهُمْ فِي الْخَيْرِ كَالتَّابِعِينَ (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) : كَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ) وَفِي رِوَايَةٍ: أَقْوَامٌ (تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ) : بِالرَّفْعِ ; أَيْ: وَتَسْبِقُ يَمِينُهُ (شَهَادَتَهُ) : قِيلَ: ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ شَهَادَةِ الزُّورِ وَالْيَمِينِ فَتَارَةً يَحْلِفُونَ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ، وَتَارَةً يَعْكِسُونَ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَثَلًا فِي سُرْعَةِ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ، وَحِرْصِ الرَّجُلِ عَلَيْهِمَا، وَالْإِسْرَاعِ فِيهِمَا، حَتَّى لَا يَدْرِيَ أَنَّهُ بِأَيِّهِمَا يَبْتَدِئُ، وَكَأَنَّهُ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ مِنْ قِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالدِّينِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاحْتَجَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ مَنْ حَلَفَ مَعَهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُرَدُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِي أَنَا فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَالْآخِرُونَ أَرَاذِلُ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِي أَنَا فِيهِ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ» ".

3768 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمْرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ ; أَيُّهُمْ يَحْلِفُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3768 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا) : أَيْ: فَبَادَرُوا إِلَى الْيَمِينِ (فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ) : أَيْ: يُقْرَعَ (بَيْنَهُمُ فِي الْيَمِينِ ; أَيُّهُمْ) : بِالرَّفْعِ (يَحْلِفُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ رَجُلَيْنِ إِذَا تَدَاعَيَا مَتَاعًا فِي يَدِ الثَّالِثِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ. وَقَالَ الثَّالِثُ: لَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ يَعْنِي أَنَّهُ لَكُمَا، أَوْ لِغَيْرِكُمَا، فَحُكْمُهَا أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فَأَيُّهُمَا خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ يَحْلِفُ مَعَهَا، وَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ الْمَتَاعِ، وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يُتْرَكُ فِي يَدِ الثَّالِثِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْعَلُ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ نِصْفَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِقَوْلِ عَلِيٍّ قَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ; أَيضًا أَنَّهُ يُجْعَلُ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ نِصْفَيْنِ مَعَ يَمِينِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُتْرَكُ فِي يَدِ الثَّالِثِ. قُلْتُ: وَحَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الْآتِي يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3769 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. الْفَصْلُ الثَّانِي 3769 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) ; أَيِ: ابْنِ عَمْرٍو (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ» ".

3770 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إِلَّا دَعْوَاهُمَا. فَقَالَ: " مَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخِيهِ ; فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. فَقَالَ الرَّجُلَانِ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَقِّي هَذَا لِصَاحِبِي، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اذْهَبَا، فَاقْتَسِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ لْيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: " «إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِرَأْيِي فِيمَا يَنْزِلُ عَلَيَّ فِيهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3770 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ) : جَمْعُ مَوْرُوثٍ ; أَيْ: تَدَاعَيَا فِي أَمْتِعَةٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هَذِهِ لِي وَرِثْتُهَا مِنْ مُوَرِّثِي، وَقَالَ الْآخَرُ: كَذَلِكَ (لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ) : صِفَةٌ أُخْرَى لِرَجُلَيْنِ (إِلَّا دَعْوَاهُمَا) : إِلَّا هُنَا بِمَعْنَى غَيْرِ، أَوِ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ مُبَالَغَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] ; أَيْ: لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إِلَّا الدَّعْوَى، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِبَيِّنَةٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ قَطُّ. (قَالَ: مَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ ; فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. قَالَ الرَّجُلَانِ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) : بَدَلٌ مِنَ الرَّجُلَيْنِ ; أَيْ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَقِّي هَذَا لِصَاحِبِي، فَقَالَ: لَا) : أَيْ: لَا يُتَصَوَّرُ هَذَا إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لِشَخْصَيْنِ اسْتِقْلَالًا (وَلَكِنِ اذْهَبَا، فَاقْتَسِمَا) : أَيْ: نِصْفَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ (وَتَوَخَّيَا) : بِتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيِ: اطْلُبَا (الْحَقَّ) : أَيِ: الْعَدْلَ فِي الْقِسْمَةِ، وَاجْعَلَا الْمُتَنَازَعَ فِيهِ نِصْفَيْنِ (ثُمَّ اسْتَهِمَا) : أَيِ اقْتَرِعَا لِتَبْيِينِ الْحِصَّتَيْنِ إِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ بَيْنَكُمَا لِيَظْهَرَ ; أَيُّ الْقِسْمَيْنِ وَقَعَ فِي نَصِيبِ كَلٍّ مِنْكُمَا وَلْيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا مَا تُخْرِجُهُ الْقُرْعَةُ مِنَ الْقِسْمَةِ، (ثُمَّ لْيُحَلِّلْ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ: لِيَجْعَلْ حَلَالًا (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ) : أَيْ: فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى، لَا مِنْ بَابِ الْحُكُومَةِ وَالْفَتْوَى، وَقِيلَ: تَوَخِّيًا فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْحَقِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَالتَّوَخِّي إِنَّمَا يُفِيدُ ظَنًّا فَضَمَّ إِلَيْهِ الْقُرْعَةَ، وَهَى نَوْعٌ مِنَ الْبَيِّنَةِ، لِيَكُونَ أَقْوَى، وَأَمَرَ بِالتَّحْلِيلِ لِيَكُونَ افْتِرَاقُهُمَا عَنْ تَعَيُّنٍ بَرَاءَةً وَطِيبَ نَفْسٍ اه. وَفِيهِ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمَجْهُولَةَ تَصِحُّ عِنْدَنَا، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِرَأْيِي فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِنْزَالِ، وَيَجُوزُ وَجْهَانِ آخَرَانِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ اجْتِهَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

3771 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،: «أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا دَابَّةً، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي فِي يَدِهِ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3771 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا دَابَّةً) : أَيِ: اخْتَصَمَا فِيهَا (فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّةٌ نَتَجَهَا) : بِالتَّخْفِيفِ وَمَصْدَرُهُ النَّتْجُ ; أَيْ: أَرْسَلَ عَلَيْهَا الْفَحْلَ وَوَلَّدَهَا وَوَلِيَ نِتَاجَهَا (فَقَضَى بِهَا) : أَيْ: فَحَكَمَ بِالدَّابَّةِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي فِي يَدِهِ) : قِيلَ: دَلَّ عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ غَيْرِهَا مُطْلَقًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي صُورَةِ النِّتَاجِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالُوا: إِذَا تَدَاعَى رَجُلَانِ دَابَّةً، أَوْ شَيْئًا وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ بَيِّنَةً فَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ، فَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، وَهُوَ لِلْخَارِجِيِّ إِلَّا فِي دَعْوَى النِّتَاجِ إِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ مِلْكُهُ نَتَجَهَا، وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ فِي أَيْدِيهِمَا فَتَدَاعَيَا حَلَفَا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مَقْسُومًا بِحُكْمِ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً. (رَوَاهُ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ: بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ.

3772 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنَ، فَقَسَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِلنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: " «أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا لَيْسَتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3772 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ) : أَيْ: أَقَامَ (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنَ) : أَيْ: عَلَى طِبْقِ مُدَّعَاهُ وَوِفْقِ دَعْوَاهُ (فَقَسَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْبَعِيرُ فِي أَيْدِيهِمَا. قُلْتُ: أَوْ فِي يَدِ ثَالِثٍ غَيْرِ مُنَازِعٍ لَهُمَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِلنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ) : أَيْ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى ; أَيْضًا (أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا لَيْسَتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ مُتَّحِدَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّدَةً إِلَّا أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَتَا تَسَاقَطَتَا، فَصَارَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا، فَالْمَعْنَى لَيْسَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ مُرَحَّجَةٌ عَلَى الْأُخْرَى (فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَدَاعَى اثْنَانِ شَيْئًا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، وَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ فِي أَيْدِيهِمَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا يُنَصَّفُ الْمُدَّعَى بِهِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مُطْلَقٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ الَّذِي يَلِيهِ فِي قَوْلِهِ: اسْتَهَمَا عَلَى الْيَمِينِ.

3773 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي دَابَّةِ، وَلَيْسَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " اسْتَهِمَا الْيَمِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3773 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي دَابَّةٍ، وَلَيْسَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ» ) : أَيِ: اقْتَرِعَا، وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اسْتَهِمَا نِصْفَيْنِ عَلَى يَمِينِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : كَذَا النَّسَائِيُّ.

3774 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ حَلَّفَهُ: " احْلِفْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا لَهُ عِنْدَكَ شَيْءٌ. يُعْنَى لِلْمُدَّعِي» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3774 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ حَلَّفَهُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ: أَرَادَ النَّبِيُّ تَحْلِيفَهُ (احْلِفْ) : بِصِيغَةِ الْأَمْرِ (بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا لَهُ) : أَيْ: لَيْسَ لَهُ (عِنْدَكَ شَيْءٌ. يَعْنِي) ; أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ لَهُ فِي مَالِهِ (لِلْمُدَّعِي، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3775 - وَعَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ، فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قُلْتُ: لَا. قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: " احْلِفْ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَنْ يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3775 - (وَعَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : أَيِ: ابْنِ مَعْدِي كَرِبَ، كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيِّ، قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَفْدِ كِنْدَةَ، وَكَانَ رَئِيسَهُمْ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، وَكَانَ رَئِيسًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ وَجِيهًا فِي الْإِسْلَامِ، وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَوَاهُ عَنْهُ نَفَرٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، فَهُوَ صَحَابِيٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، تَابِعِيٌّ عِنْدَنَا لِبُطْلَانِ صُحْبَتِهِ بِالرِّدَّةِ. (قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ) : أَيْ: مُتَنَازَعٌ فِيهَا (فَجَحَدَنِي) : أَيْ: أَنْكَرَ عَلَيَّ (فَقَدَّمْتُهُ) : بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ: جِئْتُ بِهِ وَرَفَعْتُ أَمْرَهُ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَحْلِفُ فِي الْخُصُومَاتِ كَمَا يَحْلِفُ الْمُسْلِمُ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَنْ) : بِالنُّونِ (وَيَحْلِفَ) : بِالنَّصْبِ (وَيَذْهَبَ بِمَالِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى) : أَيْ: فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لِمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ) ; أَيْ: إِلَى آخِرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُطَابِقُ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: إِذَنْ يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْأَشْعَثِ: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَلِفُ، فَإِنْ كَذَبَ فَعَلَيْهِ وَبَالُهُ. وَثَانِيهِمَا: لَعَلَّ الْآيَةَ تَذْكَارٌ لِلْيَهُودِيِّ بِمِثْلِهَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْوَعِيدِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: أَصْلُ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَذْهَبُ بِمَالِي عِنْدَ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ جَاءَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ صَحَّ، أَوْ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ ذَلِكَ.

3776 - وَعَنْهُ، «أَنْ رَجُلًا مَنْ كِنْدَةَ، وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ، اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَرْضٍ مِنَ الْيَمَنِ. فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَرْضِي اغْتَصَبَهَا أَبُو هَذَا، وَهَى فِي يَدِهِ. قَالَ: هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أُحَلِّفُهُ، وَاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا أَبُوهُ؟ فَتَهَيَّأَ الْكِنْدِيُّ لِلْيَمِينِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَقْطَعُ أَحَدٌ مَالًا بِيَمِينٍ، إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ. فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3776 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنِ الْأَشْعَثِ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ، اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَرْضٍ مِنَ الْيَمَنِ. فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! (إِنَّ أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا أَبُو هَذَا) : وَفَى نُسْخَةٍ اغْتَصَبَهَا أَبُوهُ (وَهَى فِي يَدِهِ) : أَيِ: الْآنَ (قَالَ) : وَفَى نُسْخَةٍ فَقَالَ: (هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنْ أُحَلِّفُهُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ (وَاللَّهِ مَا يَعْلَمُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ اللَّفْظُ الْمَحْلُوفُ بِهِ ; أَيْ: أُحَلِّفُهُ بِهَذَا وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ مَنْصُوبَةَ الْمَحَلِّ عَلَى الْمَصْدَرِ ; أَيْ: أُحَلِّفُهُ هَذَا الْحَلِفَ (أَنَّهَا أَرْضِي) : بِفَتْحِ أَنَّهَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِكَسْرِ إِنَّهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوُ قَلَمٍ مِنَ النَّاسِخِ (وَاغْتَصَبَهَا) : وَفَى نُسْخَةٍ (اغْتَصَبَهَا أَبُوهُ، فَتَهَيَّأَ الْكِنْدِيُّ لِلْيَمِينِ) : أَيْ أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَقْطَعُ أَحَدٌ مَالًا) : أَيْ: عَنْ أَحَدٍ (بِيَمِينٍ) : أَيْ: بِسَبَبِ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ (إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ) : أَيْ: مَقْطُوعُ الْيَدِ، أَوِ الْبَرَكَةِ، أَوِ الْحَرَكَةِ، أَوِ الْحُجَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَجْذَمُ الْحُجَّةِ لَا لِسَانَ لَهُ يَتَكَلَّمُ، وَلَا حُجَّةَ فِي يَدِهِ يَعْنِي لِيَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فِي أَخْذِ مَالِ مُسْلِمٍ ظُلْمًا وَفَى حِلْفِهِ كَاذِبًا (قَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضُهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3777 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ، فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، إِلَّا جُعِلَتْ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3777 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ) : بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ الْجُهَنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، رَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ» ) : بِالنَّصْبِ فَنَفْيُ الصَّانِعِ أَوْلَى، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْكُفْرِ، إِلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِهِ ; لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي الْكَفَرَةِ، وَمِنْ زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُهُ فِي الْإِثْبَاتِ كَالْأَخْفَشِ، أَوْ دُخُولُ مِنْ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالشِّرْكُ هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ لَا مِنْ جُمْلَتِهِ. (وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ) : عَطَفٌ عَلَى الشِّرْكِ وَالْمُرَادُ بِهِ مُخَالَفَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى نَهْجٍ لَا يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ مِنْ مَثَلِ الْوَلَدِ عَادَةً (وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ) : أَيِ: الْحَلِفَ عَلَى مَاضٍ كَذِبًا مُتَعَمِّدًا، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ وَفَعُولُ لِلْمُبَالَغَةِ وَفَى النِّهَايَةِ: هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ الْفَاجِرَةُ كَالَّتِي يَقْطَعُ بِهَا الْحَالِفُ مَالَ غَيْرِهِ. (وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ فَأَدْخَلَ) : أَيِ: الْحَالِفُ (فِيهَا) : أَيْ: فِي تِلْكَ الْيَمِينِ (مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ ; أَيْ: رِيشِهَا، وَالْمُرَادُ أَقَلُّ قَلِيلٍ، وَالْمَعْنَى شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَمِمَّا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ (إِلَّا جُعِلَتْ) : أَيْ: تِلْكَ الْيَمِينُ (نُكْتَةً) : أَيْ: سَوْدَاءَ ; أَيْ: أَثَرًا قَلِيلًا (فِي قَلْبِهِ) : كَالنُّقْطَةِ تُشْبِهُ الْوَسَخَ فِي نَحْوِ الْمِرْآةِ وَالسَّيْفِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى الِانْتِهَاءِ أَنَّ أَثَرَ تِلْكَ النُّكْتَةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الرَّيْنِ يَبْقَى أَثَرُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وَبَالُهَا وَالْعِقَابُ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ كَذِبًا مُخْلَصًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، وَخَصَّ الْأَخِيرَةَ مِنْهَا بِالْوَعِيدِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهَا مِنْهَا وَدَاخِلَةٌ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ حَذَرًا مِنِ احْتِقَارِ النَّاسِ بِهَا زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْكَبَائِرِ مِثْلَهَا، وَنَحْوُهُ فِي الْإِلْحَاقِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ: " «عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

3778 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ، وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ إِلَّا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، أَوْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3778 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا) : لَعَلَّهُ احْتِرَازٌ مِنْ مِنْبَرِ مَكَّةَ (عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ) : أَيْ: كَاذِبَةٍ سُمِّيَتْ بِهَا كَتَسْمِيَتِهَا فَاجِرَةً اتِّسَاعًا حَيْثُ وُصِفَتْ بِوَصْفِ صَاحِبِهَا ; أَيْ: ذَاتِ إِثْمٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَيَّدَ الْحَلِفَ بِكَوْنِهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ تَغْلِيظًا لِشَأْنِ الْيَمِينِ وَتَعْظِيمِهِ وَشَرَفِهِ، وَإِلَّا فَالْيَمِينُ الْآثِمَةُ مُوجِبَةٌ لِلسُّخْطِ حَيْثُ وَقَعَتْ، لَكِنْ فِي الْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ أَكْثَرُ إِثْمًا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجْهُ ذِكْرِ الْمِنْبَرِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا جَرَى ذِكْرُ الْمِنْبَرِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ وَيَتَحَالَفُونَ يَوْمَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاتَّخَذُوا الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ مِنْهُ، وَهُنَاكَ الْمِنْبَرُ مَحَلًا لِلْأُقْضِيَةِ، فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا كَانَ وَأَرَى هَذَا تَأْوِيلًا حَسَنًا نَرَى الْعُدُولَ عَنْهُ، لِئَلَّا يَفْتَقِرَ أَنْ يَعْدِلَ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَالْيَمِينُ الْآثِمَةُ مُوجِبَةٌ لِسُخْطِ اللَّهِ وَنَكَالِهِ عَلَى أَيَّةِ صِفَةٍ كَانَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلِنَاصِرٍ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ: وَصَفَ الْمِنْبَرَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ إِضَافَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ لَيْسَ إِلَّا لِلتَّعْظِيمِ، وَإِنَّ لِلْمَكَانِ مَدْخَلًا فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ، وَقَوْلِهِ: (وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ) : تَتْمِيمٌ بِمَعْنَى التَّحْقِيرِ فِي السِّوَاكِ ; لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا يَابِسًا (إِلَّا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، أَوْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ وَعِيدًا لِلْفَاجِرِ، وَالثَّانِي لِلْكَافِرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِلْيَمِينِ، بَلْ يُعَدُّ لَغْوًا بِحَسَبِ الْعُرْفِ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِأَجْلِ هَذَا الْمَكَانِ الرَّفِيعِ، فَيَكُفَّ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ؟ وَفِيهِ أَنَّ الْأَيْمَانَ إِنَّمَا تَصِيرُ مُغْلَّظَةً بِحَسَبِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، لَا بِحَسَبِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا. (رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

3779 - وَعَنْ خُزَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: " عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ - حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30 - 31] » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. 3780 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرِ الْقِرَاءَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3779 - (وَعَنْ خُرَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِضَمِّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ رَاءٍ وَسُكُونِ يَاءٍ (ابْنِ فَاتِكٍ) : بِفَاءٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ فَتَاءٌ مُثَنَّاةٌ فَوْقِيَّةٌ مَكْسُورَةٌ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خُرَيْمُ بْنُ الْأَخْرَمِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ فَاتِكٍ، عِدَادُهُ فِي الشَّامِيِّينَ، وَقِيلَ فِي الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ) : أَيْ: عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ عَنْ مَجْلِسِهِ (قَامَ قَائِمًا) : أَيْ: وَقَفَ حَالَ كَوْنِهِ قَائِمًا، أَوْ قَامَ قِيَامًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ، فَإِذَا وُضِعَ الْمَصْدَرُ اسْمَ الْفَاعِلِ نُظِرَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى تَجَسَّمَ وَانْقَلَبَ ذَاتًا وَعَكْسُهُ فِي عَكْسِهِ، وَكَأَنَّ قِيَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ قَائِمًا عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، كَقَوْلِهِمْ نَهَارُهُ صَائِمٌ وَلَيْلُهُ قَائِمٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ مَا قَامَ لَهُ وَتَجَلَّدَ وَتَشَمَّرَ بِسَبَبِهِ، (قَالَ: عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ ; أَيِ: الْكَذِبِ (بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ) : أَيْ: جُعِلَتِ الشَّهَادَةُ الْكَاذِبَةُ مُمَاثِلَةً لِلْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي الْإِثْمِ ; لِأَنَّ الشِّرْكَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا يَجُوزُ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ كَذِبٌ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا لَا يَجُوزُ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْوَاقِعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالزُّورُ مِنَ الزَّوْرِ وَالِازْوِرَارِ، وَهُوَ الِانْحِرَافُ، وَإِنَّمَا سَاوَى قَوْلُ الزُّورِ الشِّرْكَ ; لِأَنَّ الشِّرْكَ مِنْ بَابِ الزُّورِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ زَاعِمٌ أَنَّ الْوَثَنَ يَحِقُّ الْعِبَادَةَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : أَيْ: قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْوَعِيدِ (ثُمَّ قَرَأَ) : أَيِ: اسْتِشْهَادًا وَاعْتِضَادًا {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] : مِنْ بَيَانِيَّةٌ ; أَيِ: النَّجِسَ الَّذِي هُوَ الْأَصْنَامُ) {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] ; أَيْ: قَوْلَ الْكَذِبِ الشَّامِلِ لِشَهَادَةِ الزُّورِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفَى التَّنْزِيلِ عُطِفَ قَوْلُ الزُّورِ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَكُرِّرَ الْفِعْلُ اسْتِقْلَالًا فِيمَا هُوَ مُجْتَنَبٌ عَنْهُ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ وَادِي الرِّجْسِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُجْتَنَبَ عَنْهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَاجْتَنِبُوا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ الَّتِي هِيَ رُءُوسُ الرِّجْسِ، وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ كُلَّهُ، وَلَا تَقْرَبُوا شَيْئًا مِنْهُ لِتَمَادِيهِ فِي الْقُبْحِ وَالسَّمَاجَةِ، وَمَا ظَنُّكَ بِشَيْءٍ مِنْ قَبِيلِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَسَمَّى الْأَوْثَانَ رِجْسًا عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ يَعْنِي أَنَّكُمْ كَمَا تَنْفِرُونَ بِطِبَاعِكُمْ عَنِ الرِّجْسِ وَتَجْتَنِبُونَهُ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا مِنْ شَبِيهِ الرِّجْسِ مِثْلَ تِلْكَ النَّفْرَةِ، وَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرًا بَعْدَ تَقْرِيرٍ بِقَوْلِهِ: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج: 31] فَإِنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَأَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] : دَلَالَةً عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي الرِّجْسِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُجْتَنَبَ عَنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّ الْعِبَادِ مُعَادِلَةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى اه. وَقَوْلُهُ: حُنَفَاءَ جَمْعُ حَنِيفٍ ; أَيْ: مَائِلِينَ عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مُسْلِمِينَ فَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُشْرِكِينَ بَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ: عَنْ خُرَيْمٍ. 3780 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ " وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَيْمَنَ) : أَيْ: ضِدُّ أَيْسَرَ (ابْنِ خُرَيْمٍ " إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرِ الْقِرَاءَةَ) : أَيْ: قِرَاءَةَ الْآيَةِ بِخِلَافِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.

3781 - وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَجْلُودٍ حَدًّا، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ، وَلَا الْقَانِعِ مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَيَزِيدُ ابْنُ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيُّ الرَّاوِي مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3781 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَجُوزُ) : بِالتَّأْنِيثِ، وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ ; أَيْ: لَا يَصِحُّ (شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ) : أَيِ: الْمَشْهُورُ بِالْخِيَانَةِ فِي أَمَانَاتِ النَّاسِ دُونَ مَا ائْتَمَنَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَعَمَّ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَخُونُ فِيمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ مَا ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، أَوِ النَّاسِ مِنَ الْأَمْوَالِ. قَالَ تَعَالَى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] اه. فَالْمُرَادُ بِالْخَائِنِ هُوَ الْفَاسِقُ، وَهُوَ مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً، أَوْ أَصَرَّ عَلَى الصَّغَائِرِ (وَلَا مَجْلُودٍ حَدًّا) : أَيْ: حَدَّ الْقَذْفِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ مَنْ جُلِدَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْمَجْلُودَ فِيهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ تَابَ. وَقَالَ الْقَاضِي: أَفْرَدَ الْمَجْلُودَ حَدًّا وَعَطَفَهُ عَلَيْهِ لِعِظَمِ جِنَايَتِهِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الزَّانِي غَيْرَ الْمُحْصَنِ وَالْقَاذِفَ وَالشَّارِبَ. قَالَ الْمُظْهِرُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا جُلِدَ قَاذِفٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ تَابَ، وَأَمَّا قَبْلَ الْجَلْدِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. قُلْتُ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: نَكَّرَ شَهَادَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ، فَتَعُمَّ كُلَّ شَهَادَةٍ؛ فَرَدُّ الشَّهَادَةِ مِنَ الْحَدِّ عِنْدَنَا، وَيَتَعَلَّقُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، أَوْ بَعْضِهِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَعَلَّقُ رَدُّ شَهَادَتِهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَعِنْدَنَا جَزَاءُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الرَّمْيُ الْجَلْدُ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَهُوَ مُدَّةُ حَيَاتِهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حَيِّزِ جَزَاءِ الشَّرْطِ، وَكَأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالِ الرَّامِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [آل عمران: 89] ; أَيِ: الْقَذْفِ (وَأَصْلَحُوا) ; أَيْ: أَحْوَالَهُمْ؛ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْفَاسِقِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ; أَيْ: يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ قَالَ الْمُظْهِرُ: وَقَالَ غَيْرُهُ ; أَيْ: غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ: الْقَذْفُ مِنْ جُمْلَةِ الْفُسُوقِ لَا يَتَعَلَّقُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، بَلْ إِنْ تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، سَوَاءٌ جُلِدَ، أَوْ لَمْ يُجْلَدْ وَإِنْ يَتُبْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ سَوَاءٌ جُلِدَ، أَوْ لَمْ يُجْلَدْ. (وَلَا ذِي غِمْرٍ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ: حِقْدٍ وَعَدَاوَةٍ (عَلَى أَخِيهِ) : أَيِ الْمُسْلِمِ، يَعْنِي: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَدُوٍّ عَلَى عَدُوٍّ، سَوَاءٌ كَانَ أَخَاهُ فِي النَّسَبِ، أَوْ أَجْنَبِيًّا وَعَلَى هَذَا إِنَّمَا قَالَ: عَلَى أَخِيهِ تَلْيِينًا لِقَلْبِهِ وَتَقْبِيحًا لِصَنِيعِهِ (وَلَا ظَنِينٍ) : أَيْ: وَلَا عَلَى مُتَّهَمٍ (فِي وَلَاءٍ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ (وَلَا قَرَابَةٍ) : أَيْ: وَلَا عَلَى ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ إِلَى غَيْرِ ذَوِيِهِ، وَإِنَّمَا رَدَّ شَهَادَتَهُ ; لِأَنَّهُ يَنْفِي الْوُثُوقَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنْ قَالَ: أَنَا عَتِيقُ فُلَانٍ وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَتَّهِمُهُ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: وَيُكَذِّبُونَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ; لِأَنَّهُ فَاسِقٌ ; لِأَنَّ قَطْعَ الْوَلَاءِ عَنِ الْمُعْتِقِ وَإِثْبَاتَهُ لِمَنْ لَيْسَ بِمُعْتِقِهِ كَبِيرَةٌ، وَرَاكِبُهَا فَاسِقٌ. وَكَذَلِكَ الظَّنِينُ فِي الْقَرَابَةِ، وَهُوَ الدَّاعِي الْقَائِلُ: أَنَا ابْنُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَا أَخُو فُلَانٍ مِنَ النَّسَبِ، وَالنَّاسُ يُكَذِّبُونَهُ فِيهِ (وَلَا الْقَانِعِ) : كَالْخَادِمِ وَالتَّابِعِ (مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: الْقَانِعُ السَّائِلُ الْمُقْتَنِعُ الصَّابِرُ بِأَدْنَى قُوتٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ مَنْ كَانَ نَفَقَةَ أَحَدٍ كَالْخَادِمِ وَالتَّابِعِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ ; لِأَنَّهُ يَجُرُّ نَفْعًا بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّ مَا حَصَلَ مِنَ الْمَالِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَى الشَّاهِدِ ; لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ نَفَقَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ جَرَّ نَفْعًا بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ كَالْوَالِدِ يَشْهَدُ لِوَلَدِهِ، أَوِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، أَوِ الْغَرِيمِ يَشْهَدُ بِمَالٍ لِلْمُفْلِسِ عَلَى أَحَدٍ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِآخَرَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَيَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيُّ) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ وَقَدْ يُكْسَرُ ; أَيِ: الشَّامِيُّ (الرَّاوِي) : أَيْ: رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ (مُنْكَرُ الْحَدِيثِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ ; أَيْ: مُنْكَرٌ حَدِيثُهُ، فَفِي شَرْحِ النُّخْبَةِ: مَنْ فَحُشَ غَلَطُهُ، أَوْ كَثُرَتْ غَفْلَتُهُ، أَوْ ظَهَرَ فِسْقُهُ، فَحَدِيثُهُ مُنْكَرٌ. وَفَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ ذِي الظِّنَّةِ وَلَا ذِي الْحِنَّةِ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالظِّنَّةُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيِ: التُّهْمَةُ، وَالْحِنَّةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ ; أَيِ: الْعَدَاوَةُ.

3782 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا زَانٍ، وَلَا زَانِيَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ. وَرَدَّ شَهَادَةَ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيَتْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3782 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا زَانٍ، وَلَا زَانِيَةٍ» ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ إِنْ أُرِيدَ بِالْخِيَانَةِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ (وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالْعَدَاوَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ دُونَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ (وَرَدَّ) : أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (شَهَادَةَ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى مَعَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِمَعْنَى هَذِهِ اللَّامِ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْقَانِعِ وَالْعَامِلُ الشَّهَادَةُ ; أَيْ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ مُقَارَنَةً لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِلَةً لِلْقَانِعِ، وَاللَّامُ مَوْصُولَةٌ، وَصِلَةُ الشَّهَادَةِ مَحْذُوفَةٌ ; أَيْ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الَّذِي يَقْنَعُ مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ لَهُمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3783 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3783 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ) : أَيْ: لِجَهَالَتِهِ وَضَلَالَتِهِ غَالِبًا، وَقِيلَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ (عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ) : أَيْ: وَتُقْبَلُ لَهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ لِجَهَالَتِهِمْ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَبِكَيْفِيَّةِ تَحَمُّلِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَغَلَبَةِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ عَلِمَ كَيْفِيَّةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا بِغَيْرِ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَكَانَ عَدْلًا مِنْ أَهْلِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ خِلَافًا لِمَالِكٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قِيلَ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ جَهَالَتَهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لِتَخْصِيصِ قَوْلِهِ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ فَائِدَةٌ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِحُصُولِ التُّهْمَةِ بِبُعْدِ مَا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْدِيَةُ الشَّهَادَةِ بِعَلَى، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ لَهُ تُقْبَلُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ يَعْسُرُ طَلَبُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

3784 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3784 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ) ; أَيْ حَكَمَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ (فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ) : حِينَ تَوَلَّى وَرَجَعَ مِنْ مَجْلِسِهِ الشَّرِيفِ (حَسْبِيَ اللَّهُ) : أَيْ هُوَ كَافِي فِي أُمُورِي (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) . ; أَيِ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ فِي تَفْوِيضِ الْأُمُورِ، وَقَدْ أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ بَاطِلًا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ: أَيْ عَلَى التَّقْصِيرِ وَالتَّهَاوُنِ فِي الْأُمُورِ (وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ) ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْحَزْمِ فِي الْأَسْبَابِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى بِالتَّقْصِيرِ، وَلَكِنْ يَحْمَدُ عَلَى التَّيَقُّظِ وَالْحَزْمِ، فَلَا تَكُنْ عَاجِزًا وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ، بَلْ كُنْ كَيِّسًا مُتَيَقِّظًا حَازِمًا (فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: أَيْ حِينَئِذٍ (حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) . وَلَعَلَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَأَدَّاهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَعَاتَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى التَّقْصِيرِ فِي الْأَشْهَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِدْرَاكٌ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَيْسِ هُنَا التَّيَقُّظُ فِي الْأَمْرِ وَإِتْيَانُهُ بِحَيْثُ يُرْجَى حُصُولُهُ، فَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَلَ الْعَجْزُ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْكَيْسَ، وَمَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ وَالْغَفْلَةِ يَعْنِي: كَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَتَيَقَّظَ فِي مُعَامَلَتِكَ وَلَا تُقَصِّرَ فِيهَا. قِيلَ: مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَنَحْوِهَا بِحَيْثُ إِذَا حَضَرْتَ الْقَضَاءَ كُنْتَ قَادِرًا عَلَى الدَّفْعِ، وَحِينَ عَجَزْتَ عَنْ ذَلِكَ قُلْتَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَإِنَّمَا يُقَالُ: حَسْبِيَ اللَّهُ إِذَا بُولِغَ فِي الِاحْتِيَاطِ، وَإِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى حُصُولِهِ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ، فَلْيَقُلْ حِينَئِذٍ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3785 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ: «ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3785 - (وَعَنْ بَهْزٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ فَسُكُونِ هَاءٍ، ثُمَّ زَايٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ بَهْزُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيُّ الْبَصْرِيُّ، قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْهُ شَيْئًا، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا (ابْنِ حَكِيمٍ) : أَيِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي صُحْبَتِهِ نَظَرٌ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ، وَقَتَادَةُ، عَنْ جَدِّهِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ. ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» ) . ; أَيْ فِي أَدَاءِ شَهَادَةٍ بِأَنْ كَذَبَ فِيهَا، أَوْ بِأَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ ذَنْبًا، أَوْ دَيْنًا، فَحَبَسَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَعْلَمَ صِدْقَ الدَّعْوَى بِالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ خَلَّى عَنْهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ: ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ) . ; أَيْ: تَرَكَهُ عَنِ الْحَبْسِ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى خَلَّى سَبِيلَهُ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3786 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3786 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ حَكَمَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ: أَيْ أَوْجَبَ (أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَمْرٌ أَشَقُّ، وَلَا أَخْوَفُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

[كتاب الجهاد]

[كِتَابُ الْجِهَادِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3787 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ ; كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا. قَالُوا: أَفَلَا نُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [18] كِتَابُ الْجِهَادِ الْجِهَادُ: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ لُغَةً الْمَشَقَّةُ، وَشَرْعًا بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ مُبَاشَرَةً، أَوْ مُعَاوَنَةً بِالْمَالِ، أَوْ بِالرَّأْيِ، أَوْ بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي الْمُغْرِبِ: جَهَدَهُ حَمَّلَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَالْجِهَادُ مَصْدَرُ جَاهَدْتُ الْعَدُوَّ إِذَا قَابَلْتَهُ فِي تَحَمُّلِ الْجَهْدِ، أَوْ بَذَلَ كُلٌّ مِنْكُمَا جُهْدَهُ ; أَيْ: طَاقَتَهُ فِي دَفْعِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ غَلَبَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَقِتَالُهُمْ إِنْ لَمْ يَقْبَلُوا، وَفَضْلُ الْجِهَادِ عَظِيمٌ، وَكَيْفَ وَحَاصِلُهُ بَذْلُ أَعَزِّ الْمَحْبُوبَاتِ؟ وَإِدْخَالُ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ عَلَيْهِ؟ وَهُوَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَقَرُّبًا بِذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَأَشَقُّ مِنْهُ قَصْرُ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي النَّشَاطِ، وَدَفْعُ الْكَسَلِ عَلَى الدَّوَامِ، وَمُجَانَبَةُ أَهَوِيَتِهَا. وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَجَعَ مِنْ غُزَاةٍ: " «رَجَعْنَا مِنِ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» " وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَهُ فِي الْفَضِيلَةِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ; أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ". قُلْتُ: ثُمَّ ; أَيُّ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ جَعَلَهُ أَفْضَلَ بَعْدَ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " ; إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " حَجٌّ مَبْرُورٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ صُورَةَ مُعَارَضَةٍ، لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِ السَّائِلِ، فَإِذَا كَانَ السَّائِلُ يَلِيقُ بِهِ الْجِهَادُ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ تَهْيِئَتِهِ لَهُ وَاسْتِعْدَادِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ كَانَ الْجِهَادُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّا لَيْسَ مِثْلِهِ فِي الْجَلَادَةِ وَالْغِنَى، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، وَتِلْكَ هِيَ الْفَرَائِضُ، وَفِي هَذَا لَا يَتَرَدَّدُ أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ وَأَخْذَ النَّفْسِ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: «الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا أَفْضَلُ مِنِ الْجِهَادِ» ; لِأَنَّ هَذِهِ فَرْضُ عَيْنٍ وَتَتَكَرَّرُ، وَالْجِهَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ افْتِرَاضَ الْجِهَادِ لَيْسَ إِلَّا لِلْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ مَقْصُودًا وَحَسَنًا لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا، وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَفِيهِ طُولٌ إِلَى أَنْ

قَالَ: " «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شُجَّتْ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ وَيُبْتَغَى بِهِ دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " وَبِهَذِهِ يَنْتَفِي مَا نُقِلَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ. لِلنَّدْبِ، وَكَذَا: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْجِهَادُ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". فَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ، وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يُفِيدُ الِافْتِرَاضَ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْإِيضَاحِ: إِذَا تَأَيَّدَ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ مَمْنُوعٌ، بَلِ الْمُفِيدُ حِينَئِذٍ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ، وَجَاءَ الْخَبَرُ عَلَى وَفْقِهِمَا، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ، " «وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ تُقَاتِلَ آخَرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ. لَا يَطُلْهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ» ". وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْجِهَادَ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ يُنْسَخْ، فَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَنَّهُ لَا قَائِلَ أَنَّ بِقِتَالِ آخَرِ الْأُمَّةِ الدَّجَّالَ، يَنْتَهِي وُجُوبُ الْجِهَادِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ مُجَرَّدَ ابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ، بَلْ إِغْرَاءُ الْمُكَلَّفِينَ، وَدَفْعُ شَرِّ الْكُفَّارِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ بِالْبُغْضِ سَقَطَ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ تَمَسُّكًا بِعَيْنِ الْأَدِلَّةِ إِذْ بِمِثْلِهَا تَثْبُتُ فُرُوضُ الْأَعْيَانِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَوْلَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] ، أَوْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَيْنًا لَاشْتَغَلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِهِ، فَيَتَعَطَّلَ الْمَعَاشُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى بِالزِّرَاعَةِ وَالْجَلْبِ بِالتِّجَارَاتِ، وَيَسْتَلْزِمَ قَطْعَ مَادَّةِ الْجِهَادِ مِنَ الْكُرَاعِ يَعْنِي الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ وَالْأَقْوَاتَ فَيُؤَدِّي ; إِيجَابُهُ عَلَى الْكُلِّ إِلَى تَرْكِهِ لِلْعَجْزِ، فَلَزِمَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ مَا ذُكِرَ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا لَزِمَ فِي كَوْنِهِ فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَخْرُجَ الْكُلُّ عَنِ الْأَمْصَارِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمًا بَلْ يَكُونُ كَالْحَجِّ عَلَى الْكُلِّ، بَلْ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ أَنْ يَخْرُجَ، فَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ، وَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وَهَكَذَا. وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَطُّلَ الْمَعَاشِ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ نَصُّ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء: 95] ، ثُمَّ هَذَا إِذَا يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا، فَإِنْ كَانَ كَأَنْ هَجَمُوا عَلَى بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْفِرُ عَدْلًا، أَوْ فَاسِقًا، فَيَجِبُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ النَّفَرُ، وَكَذَا مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَهْلِهَا كِفَايَةٌ، أَوْ تَكَاسَلُوا وَعَصَوْا، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَجِبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا، كَجِهَازِ الْمَيِّتِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ يَجِبُ أَوَّلًا عَلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَعَجَزُوا وَجَبَ عَلَى مَنْ بِبَلَدِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، هَكَذَا ذَكَرُوا، وَكَانَ مَعْنَاهُ إِذَا دَامَ الْحَرْبُ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ الْأَبْعَدُونَ وَبَلَغَهُمُ الْخَبَرُ، وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ رُكْبَانًا وَمُشَاةً، وَقِيلَ شُبَّانًا وَشُيُوخًا، وَقِيلَ عُزَّابًا وَمُتَزَوِّجِينَ، وَقِيلَ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ ; أَيِ: انْفِرُوا مَعَ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَحَاصِلُهُ إِنْ لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ فَأَفَادَ الْعَيْنِيَّةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْجِهَادَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَا يُفِيدُ تَعْيِينَهَا الْعَيْنِيَّةَ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كُلِّهَا، لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تُعْرَفُ الْكِفَايَةُ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا الْعَيْنِيَّةُ فَالْإِجْمَاعُ، مَعَ أَنَّهُ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ الْمَظْلُومِ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجِهَادُ وَاجِبٌ وَأَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَيْهِمْ، هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَرِيضُ الْمُذْنِفُ، وَأَمَّا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ دُونَ الدَّفْعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ لِتَكْثِيرِ السَّوَادِ فَإِنَّ فِيهِ إِرْهَابًا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3787 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، يَعْنِي وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِمَا مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) : أَيْ فِي مَوَاقِيتِهَا (وَصَامَ رَمَضَانَ) ; خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِمَا وَتَحْرِيضًا عَلَيْهِمَا لِصُعُوبَةِ مَوْقِعِهِمَا عَلَى الطِّبَاعِ، وَمَنْ رَاعَاهُمَا مَعَ كَوْنِهِمَا أَشَقَّ لَا يَتْرُكُ غَيْرَهُمَا غَالِبًا، وَيُمْكِنُ أَنَّ وُرُودَ هَذَا الْحَدِيثِ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، أَوْ عَدَمَ ذِكْرِهِمَا لِاخْتِصَاصِهِمَا بِالْأَغْنِيَاءِ (كَانَ حَقًّا) : أَيْ: ثَابِتًا بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ (عَلَى اللَّهِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) : أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْإِيمَانِ كَافٍ لِمُطْلَقِ الدُّخُولِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ اللَّازِمِ، وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ ; لِأَنَّ رَفْعَهَا يَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ الدُّخُولَ بِالْفَضْلِ وَالرَّفْعَ بِالْأَعْمَالِ (جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، وَرُوِيَ: هَاجَرَ (أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا) أَيْ وَلَمْ يُجَاهِدْ وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَالتَّسْوِيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ صَدَرَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ قَبْلَهُ كَانَتْ فَرِيضَةً لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فِي الِابْتِدَاءِ. (قَالُوا: أَفَلَا نُبَشِّرُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِهِ (النَّاسَ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْقَائِلُ فِي قَالُوا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ، وَزَادَ بَعْدَهُ قَالَ: " ذَرِ النَّاسَ يَعْمَلُونَ فَإِنَّ فِي الْجَنَّةِ " (مِائَةَ دَرَجَةٍ) : زَادَ التِّرْمِذِيُّ: لَوْ أَنَّ الْعَالَمِينَ اجْتَمَعُوا فِي إِحْدَاهُنَّ لَوَسِعَتْهُمْ (أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، هُمُ الْغُزَاةُ، أَوِ الْحُجَّاجُ، أَوِ الَّذِينَ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ (مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ، وَرَدَ فِي حَدِيثٍ: إِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، (فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ) : أَيْ عَلَى الْجِهَادِ دَرَجَةً عَالِيَةً (فَسَلُوهُ) : بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّقْلِ ; أَيْ: فَاطْلُبُوا مِنْهُ (الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ) : أَيِ الْفِرْدَوْسَ (أَوْسَطُ الْجَنَّةِ) : أَيْ أَعْدَلُهَا وَأَفْضَلُهَا وَأَوْسَعُهَا وَخَيْرُهَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ (وَأَعْلَى الْجَنَّةِ) ، قِيلَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ كُرِّيَّةٌ، فَإِنَّ الْوَسَطَ لَا يَكُونُ أَعْلَى إِلَّا إِذَا كَانَ كُرِّيًّا. قَالَ الطِّيبِيُّ: النُّكْتَةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَوْسَطِ أَنَّهُ أَرَادَ بِأَحَدِهِمَا الْحِسِّيَّ وَبِالْآخَرِ الْمَعْنَوِيَّ، فَإِنَّ وَسَطَ الشَّيْءِ أَفْضَلُهُ وَخِيَارُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْخَلَلُ، وَالْأَوْسَاطَ مَحْمِيَّةٌ مَحْفُوظَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ، فَاكْتَنَفَتْ بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرْفًا. (وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ) ، فَهُوَ سَقْفُ الْجَنَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَفَوْقَ بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ بِضَمِّ الْقَافِ ; أَيْ أَعْلَاهُ، وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ. (وَمِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْفِرْدَوْسِ (تُفَجَّرُ) : أَيْ تَتَفَجَّرُ (أَنْهَارُ الْجَنَّةِ) . ; أَيْ أُصُولُ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا؟ قُلْتُ: هُوَ مُطْلَقٌ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، أَوْ تَفْسِيرٌ لِلْمُجَاهِدِينَ بِالْعُمُومِ دَرَجَةً وَالدَّرَجَاتُ بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْجِهَادِ، فَيَكُونُ الْفِرْدَوْسُ لِمَنْ جَاهَدَ حَقَّ جِهَادِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ تُجْرَى الدَّرَجَاتُ عَلَى ظَاهِرِهِ مَحْسُوسًا كَمَا جَاءَ فِي أَهْلِ الْغُرَفِ أَنَّهُمْ يُتَرَاءَوْنَ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ وَأَنْ تُجْرَى عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ كَثْرَةُ النَّعِيمِ وَعَظِيمُ الْإِحْسَانِ مِمَّا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3788 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3788 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» ) : أَيْ بِالصَّلَاةِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْوَاقِفُ فِي الصَّلَاةِ دُونَ الْقَاعِدِ (الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ) ; أَيِ الْقَارِئِ بِهَا. وَقَالَ شَارِحٌ: الْمُرَادُ بِهِ الْقَارِئُ لِلْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْقُنُوتُ فِي الْحَدِيثِ يَرِدُ لِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَالطَّاعَةِ وَالْخُشُوعِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ وَالْقِيَامِ وَطُولِ الْقِيَامِ وَالسُّكُوتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ هُنَا بِالْقَانِتِ الْقَائِمُ، فَيَكُونُ تَعَلُّقُ الْبَاءِ بِهِ كَتَعَلُّقِهِ فِي قَوْلِكَ: قَامَ بِالْأَمْرِ إِذَا جَدَّ فِيهِ وَتَجَلَّدَ لَهُ، فَالْمَعْنَى الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَةِ كِتَابِ اللَّهِ، وَالِامْتِثَالِ بِمَا أَمَرَ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ طُولُ الْقِيَامِ فَيَكُونُ تَابِعًا لِلْقَائِمِ ; أَيِ الْمُصَلِّي الَّذِي يَطُولُ قِيَامُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَكْثُرُ قِرَاءَتُهُ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِي قَوْلُهُ: (لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ) . وَيَفْتُرُ كَيَنْصُرُ ; أَيْ: لَا يَسْأَمُ وَلَا يَمَلُّ مِنَ الْعِبَادَةِ (حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . أَيْ: إِلَى بَيْتِهِ، أَوْ حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنْ جِهَادِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فِيمَا شُبِّهَتْ حَالُ الْمُجَاهِدِ بِحَالِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ؟ قُلْتُ: فِي نَيْلِ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ بِكُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ مَنْ لَا يَفْتُرُ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ مِنْ صِيَامِهِ وَصَلَاتِهِ، شَبَّهَ الْمُجَاهِدَ الَّذِي لَا يُضَيِّعُ لَمْحَةً مِنْ لَمَحَاتِهِ مِنْ أَجْرٍ وَثَوَابٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا، أَوْ نَائِمًا يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ أَمْ لَا. بِالصَّائِمِ الْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، فَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي الْمُشَبَّهُ بِهِ مَفْرُوضٌ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 120] الْآيَتَيْنِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ " لَا تَسْتَطِيعُونَهُ ". فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: " لَا تَسْتَطِيعُونَهُ ".، ثُمَّ قَالَ: " مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لَا يَفْتُرُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَلَا صِيَامِهِ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إِنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

3789 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي ; أَنْ أَرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3789 - (وَعَنْهُ) ; أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْتَدَبَ اللَّهُ) : أَيْ ضَمِنَ (لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ) : أَيِ الْجِهَادِ (لَا يُخْرِجُهُ) : أَيْ حَالَ كَوْنِهِ لَا يَكُونُ بَاعِثُ خُرُوجِهِ (إِلَّا ; إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي) ، فِيهِ الْتِفَاتٌ وَفِي جَمْعِ الرُّسُلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَصْدِيقَ وَاحِدٍ تَصْدِيقٌ لِلْكُلِّ، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْظِيمِهِ فَإِنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْكُلِّ (أَنْ أَرْجِعَهُ) : بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَكَسْرِ جِيمٍ ; أَيْ أَرُدَّهُ (بِمَا نَالَ) : أَيْ أَدْرَكَ (مَنْ أَجْرٍ) : أَيْ فَقَطْ إِنْ لَمْ يَغْنَمْ شَيْئًا (أَوْ غَنِيمَةٍ) ; أَيْ مَعَهَا أَجْرٌ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: (أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) ، عَطْفًا عَلَى أَرْجِعَهُ ; أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَفِي النِّهَايَةِ: انْتَدَبَ اللَّهُ ; أَيْ أَجَابَهُ إِلَى غُفْرَانِهِ، يُقَالُ: نَدَبْتُهُ فَانْتَدَبَ ; أَيْ بَغَيْتُهُ وَدَعَوْتُهُ، فَأَجَابَ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ تَضَمَّنَ اللَّهُ، وَفِي بَعْضِهَا تَكَفَّلَ اللَّهُ، وَكِلَاهَا أَشْبَهُ بِنَسَقِ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ: انْتَدَبَ اللَّهُ وَكُلُّ ذَلِكَ صِحَاحٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: أَنْ أَرْجِعَ مُتَعَلِّقٌ بِانْتَدَبَ بِحِرَفِ الْجَارِّ عَلَى تَضْمِينِ تَكَفَّلَ ; أَيْ: تَكَفَّلَ اللَّهُ بِأَنْ يَرْجِعَهُ، فَأَرْجِعَهُ حِكَايَةُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّ انْتَدَبَ اشْبَهُ وَأَبْلَغُ، وَلِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِدَعْوَةِ الدَّاعِي مِثْلَ صُورَةِ خُرُوجِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالدَّاعِي الَّذِي يَدْعُو لِلَّهِ، وَيَنْدِبُهُ لِنُصْرَتِهِ عَلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ وَقَهْرِهِ أَحْزَابَ الشَّيَاطِينِ، وَنَيْلِ أُجُورِهِ وَالْفَوْزِ بِالْغَنِيمَةِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، وَكَانَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِي لَا غَرَضَ لَهُ فِي جِهَادِهِ سِوَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَوَصْلَةٍ يَنَالُ

بِهَا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى تَعَرَّضَ بِجِهَادِهِ لِطَلَبِ النَّصْرِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِبُغْيَتِهِ وَوَعَدَ لَهُ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا السَّلَامَةَ وَالرُّجُوعَ بِالْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ. وَإِمَّا الْوَصْلَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْفَوْزَ بِمَرْتَبَةِ الشَّهَادَةِ، وَقَوْلُهُ: (بِمَا نَالَ) عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي ; وَارِدٌ عَلَى تَحَقُّقِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُصُولِهِ، وَقَوْلُهُ: (إِلَّا ; إِيمَانٌ بِي) بِالرَّفْعِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: (إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا) بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ ; أَيْ: لَا يُخْرِجُهُ مُخْرِجٌ وَلَا يُحَرِّكُهُ مُحَرِّكٌ إِلَّا إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمَّ عَامَّ الْفَاعِلِ ; أَيْ لَا يُخْرِجُهُ مُخْرِجٌ وَلَا يُحَرِّكُهُ مُحَرِّكٌ إِلَّا إِيمَانٌ وَتَصْدِيقٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمَّ عَامَّ الْمَفْعُولِ لَهُ ; أَيْ: لَا يُخْرِجُهُ الْمُخْرِجُ وَلَا يُحَرِّكُهُ الْمُحَرِّكُ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِلْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ ; أَيِ انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ قَائِلًا لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي. قُلْتُ: فَالْجُمْلَةُ مَقُولُ الْقَوْلِ، وَهُوَ حَالٌ عَنِ اللَّهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلَ كَلَامَهُ تَعَالَى أَوَّلًا بِالْمَعْنَى، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَقْلِ نَظْمِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْتَدَبْتُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِي إِلَخْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوْفَقُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا إِذْ لَوْ قِيلَ لَا إِيمَانَ بِهِ لَكَانَ مُجْرًى عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْإِضْمَارِ، فَعُدِلَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْمُخْرِجِ وَمَزِيدًا لِاخْتِصَاصِهِ وَقُرْبِهِ، وَالْجَارُّ مِنْ أَنْ أَرْجِعَهُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِأَنْ قَالَ: إِمَّا أَنْ أَرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرْوَى، أَوْ غَنِيمَةٍ وَهُوَ لَفْظُ الْكِتَابِ، وَيُرْوَى بِالْوَاوِ وَهُوَ أَوْجَهُ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَسَدُّهُمَا مَعْنًى. قُلْتُ: فِيهِ بَحَثٌ إِذْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَهِيَ قَدْ تَحْصُلُ وَقَدْ لَا تَحْصُلُ، فَالرِّوَايَةُ بَأَوْ هِيَ الْأَصْلُ وَالْأَوْلَى، وَتُحْمَلُ الْوَاوُ عَلَى مَعْنَاهَا لِيَتِمَّ الْمَعْنَى عَلَى الْمَبْنَى، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: مَعْنَاهُ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ مَعَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ بِلَا غَنِيمَةٍ إِنْ لَمْ يَغْنَمُوا، أَوْ مَعَ الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ مَعًا إِنْ غَنِمُوا، وَقِيلَ: إِنَّ (أَوْ) هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ ; أَيْ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ إِذْ وَقَعَ بِالْوَاوِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] كَذَا ذَكَرَهُ الْقُتَيْبِيُّ. قُلْتُ: لَا مَانِعَ مِنْ وُرُودِ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ إِيرَادِهِ هَاهُنَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى، مَعَ أَنَّ الْمِثَالَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ (أَوْ) فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ ; أَيْضًا إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُلْقِيَاتِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: أَوْ غَنِيمَةٍ عَطْفٌ عَلَى أَجْرٍ، وَأَدْخَلَهُ عَلَى أَرْجِعَهُ فَيَكُونُ صِلَةَ أَنْ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ الْخَارِجَ فِي سَبِيلِهِ إِمَّا بِأَنْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ مَعَ أَجْرٍ بِلَا غَنِيمَةٍ، أَوْ أَجْرٍ مَعَ غَنِيمَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُسْتَشْهَدَ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُدْخِلَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِي الشُّهَدَاءِ: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وَأَنْ يُرَادَ دُخُولُهُ الْجَنَّةَ مَعَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مُكَفِّرَةً لِذُنُوبِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

3790 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ ; مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3790 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا) : أَيْ فُقَرَاءَ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ) : أَيْ لَا تَرْضَى (أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي) ، لِعَدَمِ مَرْكُوبِهِمْ (وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ) : أَيْ جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ (تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ) ، بِكَسْرِ الدَّالِ ; أَيْ تَمَنَّيْتُ (أَنْ أُقْتَلَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ ; أَيْ أُسْتَشْهَدَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْإِحْيَاءِ (ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا) ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (ثُمَّ أُقْتَلَ) . وَفِي تَرْكِهِ، ثُمَّ أُحْيَا مُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ لَا تَخْفَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةُ الْغَزْوِ وَالشَّهَادَةِ وَتَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَالْخَيْرِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَفِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لَا مِنَ الْعَيْنِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ إِذْ قَدْ يَصِيرُ عَيْنًا، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرَّأْفَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ بَعْضَ مَا يَخْتَارُهُ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ يَعْنِي الَّذِينَ لَا مَرْكُوبَ لَهُمْ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتِ الْمَصَالِحُ يُؤْثَرُ أَهَمُّهَا اه. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا التَّمَنِّي مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ التَّمَنِّيَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3791 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3791 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ; أَيِ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» ) . وَفِي نُسْخَةٍ وَمَا فِيهَا ; أَيْ مِنَ الْمَالِ الْمُنْفَقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَزَاؤُهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَ (لَرِبَاطٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ هُوَ الْإِقَامَةُ فِي مَكَانٍ يُتَوَقَّعُ هُجُومُ الْعَدُوِّ فِيهِ لِقَصْدِ دَفْعِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَيَأْتِي زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَزَادَ الْبُخَارِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ: " «وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ، أَوِ الْغَدْوَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» ". وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: " «رِبَاطُ يَوْمٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ» ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عُثْمَانَ وَلَفْظُهُ: " «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ " «رِبَاطُ شَهْرٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ دَهْرٍ، وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمِنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَغُدِيَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ وَرِيحٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُجْرَى عَلَيْهِ أَجْرُ الْمُرَابِطِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ» ".

3792 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3792 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَغَدْوَةٌ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ ; أَيْ ذَهَابٌ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ: ذَهَابٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ (خَيْرٌ) : أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمَا (مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ لِلِابْتِدَاءِ، أَوِ الْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى فَضْلُ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا ; لِأَنَّهَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ وَنِعَمُ الْآخِرَةُ كَامِلَةٌ بَاقِيَةٌ، وَمُحْتَمَلٌ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الثَّوَابِ خَيْرٌ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ، أَوْ مَوْضِعُ قِدِّهِ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوِ اطَّلَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَالْقِدُّ بِالْكَسْرِ وَتَرُ الْقَوْسِ، وَالنَّصِيفُ الْخِمَارُ نِصْفَ الْمُقَنَّعَةِ.

3793 - وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3793 - (وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ» ) ، فِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: الرِّبَاطُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ مُلَازَمَةُ الْمَكَانِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لِحِرَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: الرِّبَاطُ الْمُرَابَطَةُ، وَهُوَ أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ خُيُولَهُمْ فِي ثَغْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ خُيُولَهُمْ فِي ثَغْرِهِمْ، وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمْ مُعِدًّا لِصَاحِبِهِ مُتَرَصِّدًا لِمَقْصِدِهِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهَا، فَأُطْلِقَتْ عَلَى رَبْطِ الْخَيْلِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِغَزْوِ الْعَدُوِّ، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ اه. وَكَأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] الْآيَةَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] الْآيَةَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوَثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". وَفِي النِّهَايَةِ: الرِّبَاطُ فِي الْأَصْلِ الْإِقَامَةُ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ بِالْحَرْبِ وَارْتِبَاطُ الْخَيْلِ وَإِعْدَادُهَا، وَالْمُرَابَطَةُ أَنْ يَرْبِطَ الْفَرِيقَانِ خُيُولَهُمْ فِي ثَغْرِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُعِدًّا لِصَاحِبِهِ، وَسُمِّيَ الْمَقَامُ فِي الثُّغُورِ رِبَاطًا، فَيَكُونُ الرِّبَاطُ مَصْدَرَ رَابَطْتُ ; أَيْ لَازَمْتُ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ: الرِّبَاطُ مُلَازَمَةُ الثَّغْرِ لِلْجِهَادِ، وَأَصْلُهُ الْحَبْسُ ; كَأَنَّ الْمُرَابِطَ حَبَسَ نَفْسَهُ

فِيهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالثَّغْرُ مَا يَلِي دَارَ الْعَدُوِّ. (وَإِنْ مَاتَ) : أَيِ الْمُرَابِطُ بِدَلَالَةِ الرِّبَاطِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، أَوْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ) : أَيْ ثَوَابُ عَمَلِهِ (الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ) : أَيْ فِي حَيَاتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِهِ أَبَدًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ فَضِيلَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُرَابِطِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . (وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ أُوصِلَ إِلَيْهِ (رِزْقُهُ) ; أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ كَقَوْلِهِ جَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ; أَيْ: يُقَدَّرُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا جَرَى مِنْهُ قَبْلَ الْمَمَاتِ، فَجَرَى هُنَا. بِمَعْنَى قُدِّرَ، وَنَحْوُهُ فِي الْمَرِيضِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ مَرِضَ قِيلَ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ اكْتُبْ لَهُ مِثْلَ عَمَلِهِ إِذَا كَانَ طَلِيقًا» ". قُلْتُ: وَكَذَا وَرَدَ فِي الْمُسَافِرِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ. قَالَ: وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ " تَلْمِيحًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (يُرْزَقُونَ) أُجْرِيَ مَجْرَاهُ فِي الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (وَأَمِنَ الْفَتَّانَ) . بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ ; أَيْ عَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَتَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، أَوِ الَّذِي يَفْتِنُ الْمَقْبُورَ بِالسُّؤَالِ فَيُعَذِّبُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الدَّجَّالَ، وَقِيلَ: الشَّيْطَانَ فَإِنَّهُ يَفْتِنُ النَّاسَ بِخَدْعِهِ إِيَّاهُمْ وَبِتَزْيِينِ الْمَعَاصِي لَهُمْ. وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ. وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَيُرْوَى الْفُتَّانُ جَمْعُ فَاتِنٍ ; أَيْ نَارٌ مُحْرِقَةٌ، أَوِ الزَّبَانِيَةُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ الْكُفَّارَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَالثَّانِي أُومِنَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَالْفُتَّانُ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ بِضَمِّ الْفَاءِ جَمْعُ فَاتِنٍ، وَرِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ بِالْفَتْحِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَأُمِنَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا رُوِيَ بِالْفَتْحِ فَالْوَجْهُ مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الَّذِي يَفْتِنُ الْمَقْبُورَ بِالسُّؤَالِ فَيُعَذِّبُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَيُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ " وَإِنْ رُوِيَ بِالضَّمِّ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْفِتَنِ بَعْدَ الْإِقْبَارِ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَالسُّؤَالِ وَالتَّعْذِيبِ فِي الْقَبْرِ، وَبَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: وَبُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَهِيدًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِ ثِقَاتٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ " «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَمِنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ» " وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: " وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنَ الْفَزَعِ " وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ صَلَاةَ الْمُرَابِطِ تَعْدِلُ خَمْسَمِائَةِ صَلَاةٍ، وَنَفَقَتُهُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِمِائَةِ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِهِ» ". وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهِ كَثِيرَةٌ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَاطُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَفِي النَّوَازِلِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إِسْلَامٌ ; لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَوْ كَانَ رِبَاطًا، فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مُرَابِطُونَ، وَيُؤَيِّدُهَا فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَطَوِّعًا لَا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنِهِ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] » . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، لَكِنْ لَيْسَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ فِيهَا سِوَى الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلِتُخْتَمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ» " زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " «وَعَبْدُ الْقَطِيفَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَعَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثُ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٌ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» ) .

3794 - وَعَنْ أَبِي عَبْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3794 - (وَعَنْ أَبِي عَبْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ. هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْصَارِيُّ الْحَارِثِيُّ غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ) : وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ: اغْبَرَّتَا، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَالْمَعْنَى صَارَتَا ذَاتَيْ غُبَارٍ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كُلُّ سَبِيلٍ يُطْلَبُ فِيهِ رِضَاهُ،

فَيَتَنَاوَلُ سَبِيلَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَحُضُورِ صَلَاةِ جَمَاعَةٍ وَعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَشُهُودِ جِنَازَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْجِهَادِ، وَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْحَجِّ لِخَبَرِ: إِنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ، وَمِنْ هُنَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مَصْرُوفِ الزَّكَاةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] هَلْ هُوَ مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، أَوْ مُنْقَطِعُ الْحَاجِّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. (فَتَمَسَّهُ النَّارُ) : بِنَصْبِ تَمَسَّهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ السُّيُوطِيُّ وَغَيْرُهُ ; أَيْ: إِنَّ الْمَسَّ مُنْتَفٍ بِوُجُودِ الْغُبَارِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ عَدَمِ الِاغْبِرَارِ ; أَيْ عَدَمِ الْجِهَادِ فِيمَا إِذَا كَانَ فَرْضُ عَيْنٍ سَبَبٌ لِلْمَسِّ ; لِأَنَّ سَبَبِيَّةَ الْكُلِّ تَسْتَلْزِمُ سَبَبِيَّةَ الْجُزْءِ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ ; أَيْ لَيْسَ فِي شَأْنِ الْمُجَاهِدِ سَبَبٌ لِلْمَسِّ إِلَّا أَنْ يُفْرَضَ أَنَّ جِهَادَهُ سَبَبٌ لَهُ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لَهُ، فَالِاغْبِرَارُ لَيْسَ سَبَبًا لَهُ. قَالَ الْبَرْمَاوِيُّ: أَيْ أَنَّ الِاغْبِرَارَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ الْمَسُّ مُنْتَفٍ بِانْتِفَاءِ الْمَسِّ فَقَطْ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: فَتَمَسَّهُ النَّارُ مُسَبَّبٌ عَنْ قَوْلِهِ: اغْبَرَّتْ، وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى الْقَبِيلَيْنِ مَعًا، وَفَائِدَتُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمَذْكُورِ مُحَالٌ حُصُولُهُ، فَإِذَا كَانَ مَسُّ الْغُبَارِ قَدَمَيْهِ دَافِعًا لِمَسِّ النَّارِ إِيَّاهُ، فَكَيْفَ إِذَا سَعَى فِيهَا وَاسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ، وَأَلْقَى النَّفْسَ النَّفِيسَ عَلَيْهَا بِشَرَاشِرِهِ فَقَتَلَ وَقُتِلَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

3795 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3795 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ» ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ قَتَلَ كَافِرًا فِي الْجِهَادِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُكَفِّرًا لِذُنُوبِهِ حَتَّى لَا يُعَاقَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَكُونَ عِقَابُهُ بِغَيْرِ النَّارِ، أَوْ يُعَاقَبَ فِي غَيْرِ مَكَانِ عِقَابِ الْكُفَّارِ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي إِدْرَاكِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ وَهُوَ مِنَ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ نَفَى الِاجْتِمَاعَ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمُجَاهِدُ النَّارَ أَبَدًا، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا لَسَاوَاهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُهُ: أَبَدًا بِمَعْنَى قَطُّ فِي الْمَاضِي، وَعِوَضٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْزِيلًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي. الْجَوْهَرِيُّ، يُقَالُ: لَا أَفْعَلُهُ أَبَدَ الْأَبَدِ وَأَبَدَ الْآبِدِينَ كَمَا يُقَالُ: دَهْرَ الدَّاهِرِينَ وَعِوَضَ الْعَائِضِينَ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِيهِ ; لِأَنَّهُ تَرْغِيبٌ فِي الْجِهَادِ وَحَثٌّ عَلَيْهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.

3796 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً، أَوْ فَزْعَةً، طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ، أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ ; لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3796 - (وَعَنْهُ) : أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ) : قَالَ الْقَاضِي: الْمَعَاشُ الْمُتَعَيَّشُ بِهِ يُقَالُ: عَاشَ الرَّجُلُ مَعَاشًا وَمَعِيشًا وَمَا يُعَاشُ بِهِ، فَيُقَالُ لَهُ مَعَاشٌ وَمُعِيشٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِمَا ; أَيْ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَرَجُلٌ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ ; أَيْ مَعَاشِ رَجُلٍ هَذَا شَأْنُهُ مِنْ خَيْرِ مَعَاشِهِمُ النَّافِعِ لَهُمْ. (يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ) : أَيْ يُسْرِعُ رَاكِبًا عَلَى ظَهْرِهِ مُسْتَعَارٌ مِنْ طَيَرَانِ الطَّائِرِ (كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً) : بِفَتْحِ هَاءٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ ; أَيْ صَيْحَةً يَفْزَعُ مِنْهَا وَيَجْبُنُ، مِنْ: هَاعَ يَهِيعُ إِذَا جَبُنَ (أَوْ فَزْعَةً) : أَيْ مَرَّةً مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَزْعَةُ فُسِّرَ هُنَا بِالِاسْتِغَاثَةِ مِنْ فَزِعَ إِذَا اسْتَغَاثَ، وَأَصْلُ الْفَزَعِ شِدَّةُ الْخَوْفِ (وَطَارَ عَلَيْهِ) : أَيْ أَسْرَعَ رَاكِبًا عَلَى فَرَسِهِ طَائِرًا إِلَى الْهَيْعَةِ، أَوِ الْفَزْعَةِ (يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ) ، بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَوْتِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ يَبْتَغِي وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِحَالِهِ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ طَارَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا يُبَالِي وَلَا يَحْتَرِزُ مِنْهُ، بَلْ يَطْلُبُهُ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَظَانِّهِ جَمْعُ مَظِنَّةٍ، وَهِيَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُعْهَدُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَيُظَنُّ أَنَّهُ فِيهِ، وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي مَظَانِّهِ إِمَّا لِأَنَّهُ الْحَاصِلُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا وَاحِدٌ، أَوْ لِأَنَّهُ اكْتَفَى بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ، كَمَا اكْتَفَى بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قُلْتُ: وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَأَوْ فَإِفْرَادُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَيُمْكِنُ جَعْلُ الْوَاوِ بِمَعْنَى أَوْ لِتَجْتَمِعَ الرِّوَايَاتُ. (أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ) : أَيْ فِي مَعَاشِهِ، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ إِنْ جُعِلَ مَصْدَرًا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِرَجُلٍ، وَغُنَيْمَةٌ تَصْغِيرُ غُنْمٍ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيُّ، وَلِذَلِكَ صُغِّرَتْ بِالتَّاءِ، وَالْمُرَادُ قِطْعَةُ غُنْمٍ (فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ) . بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ رَأْسِ جَبَلٍ (مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ) ، يُرِيدُ بِهِ الْجَنْيَ لَا الْعَهْدَ (أَوْ بَطْنِ وَادٍ) : أَيْ فِي بَطْنِ وَادٍ (مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ) : أَيْ إِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ (وَيَعْبُدُ رَبَّهُ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ) ; أَيِ الْمَوْتُ سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمَوْتُ يَقِينٌ يُشْبِهُ الشَّكَّ (لَيْسَ) : أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ، أَوِ الثَّانِي، وَهُوَ أَقْرَبُ (مِنَ النَّاسِ) : أَيْ مِنْ أُمُورِهِمْ (إِلَّا فِي خَيْرٍ) ; أَيْ فِي أَمْرِ خَيْرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: هَذِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّحْقِيرِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 64] وَمِنْ ثَمَّ صَغَّرَ غُنَيْمَةً وَصْفًا لِقَنَاعَةِ هَذَا الرَّجُلِ بِأَنَّهُ يَسْكُنُ فِي أَحْقَرِ مَكَانٍ، وَيَجْتَزِئُ بِأَدْنَى قُوتٍ وَيَعْتَزِلُ النَّاسُ شَرَّهُ، وَيَسْتَكْفِي شَرَّهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَشْتَغِلُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ حَتَّى يَجِيئَهُ الْمَوْتُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمَوْتِ بِالْيَقِينِ لِيَكُونَ نَصْبَ عَيْنِهِ مَزِيدًا لِلتَّسَلِّي، فَإِنَّ فِي ذِكْرِهَا ذَمَّ اللَّذَّاتِ مَا يُعْرِضُهُ عَنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا وَيَشْغَلُهُ مِنْ مَلَاذِّهَا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ سَلَّى حَبِيبَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حِينَ لَقِيَ مَا لَقِيَ عَنْ أَذَى الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْعُزْلَةِ عَلَى الْخُلْطَةِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاخْتِلَاطَ أَفْضَلُ بِشَرْطِ رَجَاءِ السَّلَامَةِ مِنِ الْفِتَنِ، وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنَ الزُّهَّادِ أَنَّ الِاعْتِزَالَ أَفْضَلُ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَانِ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ، أَوْ فِيمَنْ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ مُخْتَلِطِينَ، وَيُحَصِّلُونَ مَنَافِعَ الِاخْتِلَاطِ بِشُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَحِلَقِ الذَّكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَخْصِيصِ ذِكْرِ الْمَعَاشِ تَلْمِيحٌ، فَإِنَّ الْعَيْشَ الْمُتَعَارَفَ مِنْ أَنْبَاءِ الدَّهْرِ هُوَ اسْتِيفَاءُ اللَّذَّاتِ وَالِانْهِمَاكُ فِي الشَّهَوَاتِ، كَمَا سُمِّيَتِ الْبَيْدَاءُ الْمُهْلِكَةَ بِالْمَفَازَةِ وَالْمَنْجَاةِ وَاللَّدِيغُ بِالسَّلِيمِ، وَتَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ» " وَفِيهِ أَنْ لَا عَيْشَ أَلَذُّ وَأَمَرُّ، أَوْ أَشْهَى وَأَهْنَأُ مِمَّا يَجِدُ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَيَسْتَرْوِحُ إِلَيْهَا حَتَّى يَرْفَعَ تَكَالِيفَهَا وَمَشَاقَّهَا عَنْهُ، بَلْ إِذَا فَقَدَ مَا كَانَ أَصْعَبَ عَلَيْهِ مِمَّا إِذَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَإِلَيْهِ يُنْظَرُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَرِحْنَا يَا بِلَالُ " وَقَوْلُهُ: " «وَجَعَلَ قُرَّةَ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» " وَتَعْرِيضٌ بِذَمِّ عَيْشِ الدُّنْيَا، وَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَعَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3797 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ ; فَقَدْ غَزَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3797 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ جَهَّزَ) : بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ (غَازِيًا) ; أَيْ هَيَّأَ أَسْبَابَ سَفَرِهِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; أَيْ فِي الْجِهَادِ (فَقَدْ غَزَا) ; أَيْ حُكْمًا وَحَصَلَ لَهُ ثَوَابُ الْغَزَاةِ (وَمَنْ خَلَفَ) : بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ (غَازِيًا) : أَيْ قَامَ مَقَامَهُ بَعْدَهُ وَصَارَ خَلَفًا لَهُ بِرِعَايَةِ أُمُورِهِ (فِي أَهْلِهِ ; فَقَدْ غَزَا) . قَالَ الْقَاضِي: يُقَالُ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِي إِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَمُحَافَظَةِ أَمْرِهِمْ ; أَيْ: مَنْ تَوَلَّى أَمْرَ الْغَازِي.

وَنَابَ مَنَابَهُ فِي مُرَاعَاةِ أَهْلِهِ زَمَانَ غَيْبَتِهِ شَارَكَهُ فِي الثَّوَابِ ; لِأَنَّ فَرَاغَ الْغَازِي لَهُ وَاشْتِغَالَهُ بِهِ بِسَبَبِ قِيَامِهِ بِأَمْرِ عِيَالِهِ، فَكَأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: " «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا حَتَّى يَسْتَقِلَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ يَرْجِعَ» ".

3798 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ ; إِلَّا وُقِفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَخَذَ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ، فَمَا ظَنُّكُمْ؟» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3798 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ» ) ، مُبَالَغَةٌ فِي اجْتِنَابِ نِسَائِهِمْ وَمُرَاعَاةِ حُقُوقِهِنَّ (وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ) : بِضَمِّ اللَّامِ ; أَيْ يَعْقُبُ (رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ) : أَيِ امْرَأَتِهِ، أَوْ جَارِيَتِهِ، أَوْ قَرَابَتِهِ فِي بَيْتِهِ (فَيَخُونُهُ فَهُمْ) ; أَيْ فَيَخُونُ الرَّجُلَ فِيهِنَّ وَأَهْلِهِنَّ فَفِيهِ تَغْلِيبٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمَفْعُولُ عَائِدٌ إِلَى (رَجُلًا) ، وَفِي (فِيهِمْ) إِلَى الْأَهْلِ تَعْظِيمًا وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِنَّ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنْ شِئْتِ حَرَّمَتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَإِنَّهُنَّ مِمَّنْ يَجِبُ مُرَاعَاتُهُنَّ وَتَوْقِيرُهُنَّ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ " (إِلَّا وُقِفَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْوُقُوفِ ; أَيْ جُعِلَ الْخَائِنُ (وَاقِفًا لَهُ) : أَيْ لِلرَّجُلِ، وَلِأَجْلِ مَا فَعَلَ مِنْ سُوءِ الْخِلَافَةِ لِلْغَازِي (فِي أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: قِيلَ لَهُ قَدْ خَلَفَكَ فِي أَهْلِكَ فَخُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ (فَيَأْخُذُ) : أَيِ الرَّجُلُ (مِنْ عَمَلِهِ) : أَيِ أَعْمَالِ الْخَائِنِ (مَا شَاءَ) ; أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا شَاءَ مِنْ عَمَلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْغَازِي (فَمَا ظَنُّكُمْ) ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ فَمَا تَظُنُّونَ فِي رَغْبَةِ الْمُجَاهِدِ فِي أَخْذِ حَسَنَاتِهِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ؟ ; أَيْ لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا أَخَذَهُ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ ; أَيْ: مَا ظَنُّكُمْ بِاللَّهِ مَعَ هَذِهِ الْخِيَانَةِ؟ هَلْ تَشُكُّونَ فِي هَذِهِ الْمُجَازَاةِ أَمْ لَا؟ يَعْنِي فَإِذَا عَلِمْتُمْ صِدْقَ مَا أَقُولُ فَاحْذَرُوا مِنَ الْخِيَانَةِ فِي نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ أَحَلَّهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَخَصَّهُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.

3799 - وَعَنِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3799 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : مَرُّ ذِكْرُهُ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ) : أَيْ فِيهَا خِطَامٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الزِّمَامِ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: خِطَامُ الْبَعِيرِ أَنْ يُؤْخَذَ حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ، أَوْ شَعْرٍ، أَوْ كَتَّانٍ، فَيُجْعَلَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ حَلْقَهٌ، ثُمَّ يُشَدُّ بِهِ الطَّرَفُ الْآخَرُ حَتَّى يَصِيرَ كَالْحَلْقَةِ، ثُمَّ يُقَلَّدُ الْبَعِيرُ، ثُمَّ يُثْنِي عَلَى مَخْطِمِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْأَنْفِ دَقِيقًا فَهُوَ الزِّمَامُ. وَفِي الْحَدِيثِ: لَا زِمَامَ أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ عُبَّادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَفْعَلُونَهُ مِنْ زَمِّ الْأُنُوفِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرَقَ الْأَنْفُ وَيُعْمَلَ فِيهِ زِمَامٌ كَزِمَامِ النَّاقَةِ لِتُقَادَ بِهِ، وَالْخَطْمُ الْأَنْفُ وَالْخِطَامُ كَكِتَابٍ الَّذِي يُقَادُ بِهِ الْبَعِيرُ، وَخَطَمَ الْبَعِيرَ وَضَعَ الْخِطَامَ فِي رَأْسِهِ. (فَقَالَ: هَذِهِ) : أَيْ صَدَقَةٌ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُ سَبْعَمِائَةِ نَاقَةٍ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ بِهَا سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ يَرْكَبُهَا حَيْثُ شَاءَ لِلتَّنَزُّهِ، كَمَا جَاءَ فِي خَيْلِ الْجَنَّةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

3800 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي لِحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ. فَقَالَ: " لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا، وَالْأَخَرُ بَيْنَهُمَا» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3800 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : أَيِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ بَعْثًا) : أَيْ أَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ جَيْشًا (إِلَى بَنِي لِحْيَانَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا (مِنْ هُذَيْلٍ) : بِالتَّصْغِيرِ ; أَيْ لِيَغْزُوَهُمْ (فَقَالَ: لِيَنْبَعِثْ) : أَيْ لِيَنْتَهِضْ إِلَى الْعَدُوِّ (مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا) : بِأَنْ يَتَخَلَّفَ الْآخَرُ عَنْ صَاحِبِهِ لِمَصَالِحِهِ (وَالْأَجْرُ) : أَيْ ثَوَابُ الْغَزْوِ (بَيْنَهُمَا) : أَيْ بَيْنَ الْغَازِي وَالْقَاعِدِ الْمُقِيمِ الْقَائِمِ فِي أَهْلِ الْغَازِي بِأُمُورِهِمْ، وَالْمَعْنَى: لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ نِصْفُ عَدَدِهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3801 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3801 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَنْ يَبْرَحَ) : أَيْ لَا يَزَالُ (هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ ; أَيْ يُجَاهِدُ (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الدِّينِ (عِصَابَةٌ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ جَمَاعَةٌ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : وَالْمَعْنَى لَا يَخْلُو وَجْهُ الْأَرْضِ مِنَ الْجِهَادِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَاحِيَةٍ يَكُونُ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى (حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) : يَقْرُبَ قِيَامُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةُ يُقَاتِلُ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَعَدَّاهُ بِعَلَى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يُظَاهِرُ ; أَيْ يُظَاهِرُونَ بِالْمُقَاتَلَةِ عَلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ يَعْنِي: إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا بِسَبَبِ مُقَاتَلَةِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَمَا أَظُنُّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ إِلَّا الْفِئَةَ الْمَنْصُورَةَ بِالشَّامِ، وَفِي نُسَخِهٍ زِيَادَةُ بِالْمَغْرِبِ قُلْتُ: وَالْأَغْلَبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالرُّومِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ وَخَذَلَ أَعْدَاءَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. قِيلَ: هُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ. قُلْتُ: فِيهِ بَحَثٌ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَغْرِبِ ; أَيْضًا وَغَيْرَهُمْ يُحَارِبُونَ الْكُفَّارَ ; أَيَّدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِفَةِ الْجَمَاعَةُ الْمُجَاهِدَةُ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِنَّ فِيمَا وَرَاءَ النَّهْرِ ; أَيْضًا طَائِفَةٌ يُقَاتِلُونَ الْكَفَرَةَ قَوَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَزَى الْمُجَاهِدِينَ عَنَّا خَيْرًا حَيْثُ قَامُوا بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ وَأُعْطُوا التَّوْفِيقَ وَالْعِنَايَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَمْ يَزَلْ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْآنَ، وَلَا يَزَالُ حَتَّى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى اه. وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فَإِنَّا مَأْمُورُونَ وُجُوبًا أَنْ نَحْفَظَ الْقُرْآنَ بِالْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : كَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَحَدِيثُ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَوَّامَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَحَدِيثُ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عُمَرَ، نَعَمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ شَامِلَةٌ لِلْعُلَمَاءِ أَيْضًا حَتَّى قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

3802 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُكَلَّمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكَلَّمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3802 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يُكَلَّمُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْكَلِمِ وَهُوَ الْجُرْحُ ; أَيْ يُجْرَحُ (أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيْ سَوَاءٌ مَاتَ صَاحِبُهُ مِنْهُ أَمْ لَا. كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ ( «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكَلَّمُ فِي سَبِيلِهِ» ) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُؤَكِّدَةً مُقَرِّرَةً لِمَعْنَى الْمُعْتَرَضِ فِيهِ، وَتَفْخِيمِ شَأْنِ مَنْ يُكَلَّمُ فِي سَبِيلِهِ، وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِظَمِ شَأْنِ مَنْ يُكَلَّمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كَلَامَيْ أَمِّ مَرْيَمَ تَعْظِيمًا لِمَوْضُوعِهَا وَتَجْهِيلًا لَهَا بِقَدْرِ مَا وُهِبَ لَهَا، وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالشَّيْءِ الَّذِي وَضَعَتْ، وَمَا عَلَّقَ بِهِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَتْمِيمًا لِلصِّيَانَةِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ.

قُلْتُ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، ثُمَّ الْأَوَّلُ إِنَّمَا يَتَمَشَّى كَوْنُهُ تَنْظِيرًا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وُضِعَتْ بِصِيغَةِ الْغَائِبَةِ لَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْغَزْوِ، وَأَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَخْلَصَ فِيهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَهَذَا الْفَضْلُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ لَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ جُرِحَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَإِقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (يَثْعَبُ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَةٍ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ; أَيْ يَجْرِي مُنْفَجِرًا ; أَيْ كَثِيرًا، وَهُوَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَتَفَجَّرُ (دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ) : وَفِي نُسْخَةٍ لِمُسْلِمٍ: لَوْنُ دَمٍ (وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي مَجِيئِهِ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَاهِدٌ فِي فَضِيلَتِهِ وَبَذَلِ نَفْسِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ثَعَبْتُ الْمَاءَ فَجَّرَتُهُ فَانْثَعَبَ، إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْجُرْحِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي فَجْرِ الدَّمِ وَدَمًا يَكُونُ مَفْعُولًا، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ التَّمْيِيزَ لَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: يَنْثَعِبُ دَمًا، أَوْ يُثْعَبُ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَلَمْ أَجِدْهُ رِوَايَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَجِيئُهُ مُتَعَدِّيًا نُقِلَ عَنِ الْجَوْهَرِيِّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ أَنَّهُ لَازِمٌ حَيْثُ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ يَجْرِي، وَلِأَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَجُرْحُهُ يَشْخُبُ دَمًا، وَالشَّخْبُ السَّيَلَانُ، وَقَدْ شَخَبَ يَشْخُبُ وَيَشْخَبُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92] فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الدَّمْعَ يَفِيضُ مِنَ الْعَيْنِ، فَجَعَلَ الْعَيْنَ فَائِضَةً مُبَالَغَةً، وَكَذَلِكَ الدَّمُ السَّائِلُ مِنَ الْجُرْحِ لَا الْجُرْحُ سَائِلٌ اه. وَيُؤَيِّدُ الشَّيْخَ مَا فِي الْقَامُوسِ: ثَعَبَ الْمَاءَ وَالدَّمَ ; أَيْ كَمَنَعَ فَجَّرَهُ فَانْثَعَبَ، لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ التَّاجِ أَنَّهُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، كَذَا فِي دُسْتُورِ اللُّغَةِ: ثَعَبَ الدَّمُ ; أَيْ سَالَ وَأَسَالَ، وَفِي الْمَشَارِقِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ: ثَعَبَ تَفَجَّرَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَثْعَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ، وَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَجِيئِهِ لَازِمًا، وَأَمَّا حَدِيثُ يَشْخَبُ فَغَيْرُ حُجَّةٍ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

3803 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، يُحِبُّ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3803 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (يُحِبُّ أَنْ يُرْجَعَ) : أَيْ يَصِيرَ (إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ) : فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَأَنَّ لَهُ (مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جَازَ كَوْنُهُ عَظِيمًا عَلَى أَنْ يُرْجَعَ ; أَيْ مَا يُحِبُّ أَنْ يُرْجَعَ، وَلَا أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنُهُ حَالًا ; أَيْ: لَا يُحِبُّ الرُّجُوعَ حَالَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِكَثِيرٍ مِنْ أَمْتِعَةِ الدُّنْيَا وَالْبَسَاتِينِ وَالْأَمْلَاكِ وَالرِّقَابِ اه. وَالظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي، وَأَنَّ لَهُ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّ مِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِمَا فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ (إِلَّا الشَّهِيدُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَّلٌ مِنْ أَحَدٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ (يَتَمَنَّى) : أَيْ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى (أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَثْرَةُ (لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ) : أَيْ كَرَامَةَ الشَّهَادَةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَنَّى شَيْئًا مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا إِلَّا الشَّهَادَةَ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْهَا فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

3804 - وَعَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: «سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الْآيَةَ. قَالَ: إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبُّ! نُرِيدُ أَنْ تُرَدَّ أَرْوَاحُنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3804 - (وَعَنْ مَسْرُوقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ) بِالْخِطَابِ وَفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَفِي رِوَايَةٍ بِالْغَيْبَةِ وَفَتَحِ السِّينِ (الَّذِينَ قُتِلُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْقَتْلِ وَفِي قِرَاءَةٍ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]

وَفِي نُسْخَةٍ: (الْآيَةَ، قَالَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا) : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ (عَنْ ذَلِكَ) : أَيْ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْحَدِيثُ مَرْفُوعٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ. (فَقَالَ) : يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَسْئُولُ وَالْمُجِيبُ هُوَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَفِي فَقَالَ ضَمِيرٌ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْحَالِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ حَالُ الصَّحَابِيِّ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُ وَاسْتِكْشَافُهُ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا سِيَّمَا فِي تَأْوِيلِ آيَةٍ هِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَمَا هِيَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَادِ، فَإِنَّهُ غَيْبٌ صِرْفٌ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَلِكَوْنِهِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ التَّعْيِينِ أُضْمِرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ ذِكْرُهُ. قُلْتُ: أَيْضًا: جَلَالَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَأْبَيْ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ غَيْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: (أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ) : أَيْ يُخْلَقُ لِأَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ مَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهُمْ هَيَاكِلُ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَتَكُونُ خَلَفًا عَنْ أَبْدَانِهِمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] فَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى نَيْلِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ اللَّذَائِذِ الْحِسِّيَّةِ، وَإِلَيْهِ يُرْشِدُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169 - 170] وَالطَّيْرُ جَمْعُ طَائِرٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَخُضْرٌ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَخْضَرَ (لَهَا) : أَيْ لِلطَّيْرِ، أَوْ لِلْأَرْوَاحِ (قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ) : بِمَنْزِلَةِ أَوْكَارِ الطَّيْرِ (تَسْرَحُ) : أَيْ تَسِيرُ وَتَرْعَى وَتَتَنَاوَلُ (مِنَ الْجَنَّةِ) : أَيْ مِنْ ثَمَرَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا (حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي) : أَيْ تَرْجِعُ (إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ) : أَيْ فَسَتُقِرُّ فِيهَا، ثُمَّ تَسْرَحُ، وَهَكَذَا (فَاطَّلَعَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ ; أَيْ نَظَرَ (إِلَيْهِمْ) : وَتَجَلَّى عَلَيْهِمْ (رَبُّهُمْ) : وَإِنَّمَا قَالَ (اطِّلَاعَةً) : لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِ اطِّلَاعِنَا عَلَى الْأَشْيَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَدَّاهُ بِإِلَى، وَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ. (فَقَالَ) : أَيْ رَبُّهُمْ ( «هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا» : يَعْنِي: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] (فَفَعَلَ) : أَيْ رَبُّهُمْ (ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذَكَرَ مِنَ الِاطِّلَاعِ وَالْقَوْلِ لَهُمْ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : قَالَ الْقَاضِي: اطِّلَاعُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِفْهَامُهُ عَمَّا يَشْتَهُونَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مَجَازٌ عَنْ مَزِيدِ تَلَطُّفِهِ بِهِمْ وَتَضَاعُفِ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ هِيَ أَحَقُّ عِنْدَ عَدَمِ الصَّارِفِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، (فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ ; أَيْ لَنْ يَخْلُوَا (مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَأَنْ يَسْأَلُوا بَدَلٌ مِنْ نَائِبِ فَاعِلِ يُتْرَكُوا ; أَيْ: لَنْ يُتْرَكَ سُؤَالُهُمْ (قَالُوا «يَا رَبُّ! نُرِيدُ أَنْ تُرَدَّ أَرْوَاحُنَا فِي أَجْسَادِنَا» ) : أَيِ الْأَوَّلِيَّةِ (حَتَّى نُقْتَلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ نُسْتَشْهَدَ (فِي سَبِيلِكِ مَرَّةً أُخْرَى؟) : قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُمْ مُتَمَنًّى وَلَا مَطْلَبٌ أَصْلًا غَيْرَ أَنْ يُرْجَعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَيُسْتَشْهَدُوا ثَانِيًا لِمَا رَأَوْا بِسَبَبِهِ مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ (فَلَمَّا رَأَى) : أَيْ عَلِمَ اللَّهُ عِلْمًا تَنْجِيزِيًّا مُطَابِقًا لِمَا عَلِمَ عِلْمًا غَيْبِيًّا تَعْلِيقِيًّا (أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ) : أَيْ حَاجَةٌ مُعْتَبَرَةٌ ; لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا مَا هُوَ خِلَافُ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى (تُرِكُوا) : أَيْ مِنْ سُؤَالِ هَلْ تَشْتَهُونَ؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: رُؤْيَةُ اللَّهِ كَانَتْ أَعْظَمَ النِّعَمِ، فَلِمَ لَمْ يَطْلُبُونَهَا؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَوْقُوفَةً فِي ذَلِكَ عَلَى كَمَالِ اسْتِعْدَادٍ يَلِيقُ بِهَا، فَصَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ حُصُولِ الِاسْتِعْدَادِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِعَادَةُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ إِنْ كَانَ لِطَلَبِ مَا هُمْ فِيهِ فَلَا فَائِدَةَ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَهَلَّا اشْتَهْواهُ أَوْ لَا؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ الْكَلَامِ الْقِيَامَ بِمُوجِبِ الشُّكْرِ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ شَبَّهَ لَطَافَتَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، وَتَمَكُّنَهُمْ مِنَ التَّلَذُّذِ بِأَنْوَاعِ الْمُشْتَهِيَاتِ وَالتَّبَوُّءِ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا، وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَانْخِرَاطِهِمْ فِي غَارِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ بِمَا إِذَا كَانُوا فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ إِلَى الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ، وَشَبَّهَ حَالَهُمْ فِي اسْتِجْمَاعِ اللَّذَائِذِ وَحُصُولِ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ بِحَالِ مَنْ يُبَالِغُ وَيَسْرُدُ عَلَيْهِ رَبُّهُ الْمُتَفَضِّلُ الْمُشْفِقُ عَلَيْهِ غَايَةَ التَّفَضُّلِ وَالْإِشْفَاقِ الْقَادِرُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ بِأَنْ يُسْأَلَ مِنْهُ مَطْلُوبًا، وَيُكَرِّرَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِحَيْثُ لَا يَرَى بُدًّا مِنَ السُّؤَالِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ إِلَّا أَنْ يُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِيهِ قِيلَ: لَيْسَ لِلْأَقْيِسَةِ وَالْعُقُولِ فِي هَذَا حُكْمٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ الرُّوحَ إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْمُؤْمِنِ، أَوِ الشَّهِيدِ فِي قَنَادِيلَ، أَوْ أَجْوَافِ طَيْرٍ، أَوْ حَيْثُ شَاءَ كَانَ ذَلِكَ، وَوَقَعَ وَلَمْ يَبْعُدْ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْسَامٌ، فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يُصَوَّرَ جُزْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ طَائِرًا، أَوْ يُجْعَلَ فِي جَوْفِ طَائِرٍ فِي قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْمَعَانِي، وَعِلْمِ الْبَاطِنِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يُعْرَفُ حَقِيقَتُهُ وَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ، وَهُوَ مِمَّا جَهِلَ الْعِبَادُ عِلْمَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ شُيُوخِنَا: هُوَ الْحَيَاةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مُشَابِكَةٌ لِلْجِسْمِ يَحْيَا بِحَيَاتِهِ، وَأَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِمَوْتِ الْجِسْمِ بَعْدَ فِرَاقِهِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِالتَّنَاسُخِ وَانْتِقَالِ الْأَرْوَاحِ وَتَنْعِيمِهَا فِي الصُّوَرِ الْحِسَانِ الْمُرَفَّهَةِ، وَتَعْذِيبِهَا فِي الصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ الْمُسَخَّرَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَهَذَا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لَا يُطَابِقُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ مِنْ إِثَابَةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ بَعْثَةِ الْأَجْسَادَ. قُلْتُ: قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَجَرُّدِ الرُّوحِ يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ، كَمَا أَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] اه. وَفِي بَعْضِ حَوَاشِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: اعْلَمْ أَنَّ التَّنَاسُخَ عِنْدَ أَهْلِهِ هُوَ رَدُّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَبْدَانِ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَا فِي الْآخِرَةِ إِذْ هُمْ يُنْكِرُونَ الْآخِرَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلِذَا كَفَرُوا اه. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ وَيَتَنَعَّمُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ مُجَازَاةَ الْأَمْوَاتِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ لَا تَفْنَى، فَيَتَنَعَّمُ الْمُحْسِنُ وَيُعَذَّبُ الْمُسِيءُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبِهِ نَطَقَ التَّنْزِيلُ وَالْآثَارُ خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

3805 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ فِيهِمْ، فَذَكَرَ لَهُمْ " أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ أَنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُكَفَّرُ عَنَى خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ، إِنْ قُلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌّ غَيْرُ مُدْبِرٍ.، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; أَيُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3805 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ) ; أَيْ وَاعِظًا (فِيهِمْ) : أَيْ فِي أَصْحَابِهِ (فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ) : بِالْوَاوِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَلَعَلَّ فِيهِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الْجِهَادَ مَعَ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ، وَلَا يُشْكَلُ بِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِاخْتِلَافِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ، فَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ لِمُدَاوَمَتِهَا، وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ لِمَشَقَّتِهِ، لَا سِيَّمَا الْجِهَادُ يَسْتَلْزِمُ الصَّلَاةَ، وَإِلَّا فَلَا فَضِيلَةَ لَهُ. (فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) : أَيْ أَخْبِرْنِي (إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ إِنِ اسْتُشْهِدْتُ (يُكَفَّرُ؟) : بِالتَّذْكِيرِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ ; أَيْ يَمْحُو اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ) : أَيْ غَيْرُ جَزِعٍ (مُحْتَسِبٌ) : أَيْ طَالِبٌ لِلْأَجْرِ وَالْمَثُوبَةِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (مُقْبِلٌ) : أَيْ عَلَى الْعَدُوِّ (غَيْرُ مُدْبِرٍ) : أَيْ عَنْهُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: احْتِرَازٌ مِمَّنْ يُقْبِلُ فِي وَقْتٍ وَيُدْبِرُ فِي وَقْتٍ، وَالْمُحْتَسِبُ هُوَ الْمُخْلِصُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قَاتَلَ لِعَصَبِيَّةٍ، أَوْ لِأَخْذِ غَنِيمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ الثَّوَابُ. (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ) : أَيْ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ، أَوْ مَعْنَاهُ كَيْفَ قُلْتَ أَعِدِ الْقَوْلَ وَالسُّؤَالَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ (إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; أَيُكَفَّرُ) : هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا ; أَيْ يُمْحَى (عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ) : أَيْ نَعَمْ إِنْ

قُتِلْتَ وَالْحَالُ أَنَّكَ صَابِرٌ (مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ) : اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَيَحُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا ; أَيِ الدِّينُ الَّذِي لَا يَنْوِي أَدَاءَهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِالدَّيْنِ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَيْسَ الدَّائِنُ أَحَقَّ بِالْوَعِيدِ وَالْمُطَالَبَةِ مِنْهُ مِنَ الْجَانِي وَالْغَاصِبِ وَالْخَائِنِ وَالسَّارِقِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٍ عَلَى جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَنَّ الْجِهَادَ وَالشَّهَادَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهِ قَلْتُ: إِلَّا شَهِيدَ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالدَّيْنَ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ. وَوَرَدَ ; أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبِضُ أَرْوَاحَ شُهَدَاءِ الْبَحْرِ لَا يَكِلُ ذَلِكَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ. (فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ) : أَيْ إِلَّا الدَّيْنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَيْفَ قُلْتَ " وَقَدْ أَحَاطَ بِسُؤَالِهِ عِلْمًا، وَأَجَابَهُ بِذَلِكَ الْجَوَابِ؟ قُلْتُ: لِيَسْأَلَ ثَانِيًا وَيُجِيبَهُ بِذَلِكَ الْجَوَابِ، وَيُعَلِّقَ بِهِ إِلَّا الدَّيْنَ اسْتِدْرَاكًا بَعْدَ إِعْلَامِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; أَيَّاهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3806 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3806 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْقَتْلُ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) : يَكُونُ سَبَبًا لِتَكْفِيرِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْخَطَايَا عَنِ الْمَقْتُولِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: كُلَّ خَطِيئَةٍ (إِلَّا الدَّيْنَ) : أَيْ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: " «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الْأَمَانَةَ» ". وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّوْمِ وَالْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ اه. فَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ الْوَاجِبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ أُمُورِ الدَّيْنِ.

3807 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَضْحَكُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ: يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3807 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَضْحَكُ اللَّهُ تَعَالَى) : أَيْ يَرْضَى مُقْبِلًا (إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أُحُدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ) : أَيْ مَعًا (يُقَاتِلُ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ ; أَيْ: يُجَاهِدُ (هَذَا) : أَيْ أَحَدُهُمَا (فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ) : أَيْ: فَيَرْحَمُهُ ; لِأَنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ) : أَيِ الْكَافِرِ بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْإِيمَانِ فَيُؤْمِنَ (فَيُسْتَشْهَدُ) : فَيُقْتَلُ شَهِيدًا فَيَرْحَمُهُ بِفَضْلِهِ ; لِأَنَّهُ مَاتَ سَعِيدًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُدِّيَ يَضْحَكُ بِإِلَى لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الِانْبِسَاطِ وَالْإِقْبَالِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَحِكْتُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا انْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، وَتَوَجَّهْتَ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ طَلِقٍ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ ضَحِكُ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَوَجِّهِينَ لَقَبْضِ رُوحِهِ، كَمَا يُقَالُ: قَتَلَ السُّلْطَانُ فُلَانًا إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ اه. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ يُنَزَّهُ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَيُوكَلُ عِلْمُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

3808 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ ; بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3808 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِضَمِّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَفَاءٍ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ) : أَيْ بِإِخْلَاصٍ (بَلَّغَهُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ أَوْصَلَهُ (اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ: وَلَوْ مَاتَ غَيْرَ شَهِيدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الشُّهَدَاءِ وَلَهُ ثَوَابُهُمْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ.

3809 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ الْبَرَاءِ، وَهِيَ أَمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ، أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا تُحَدِّثُنِي عَلَى حَارِثَةَ، وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. فَقَالَ: يَا أَمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3809 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرُّبَيِّعَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ، صَحَابِيَّةٌ وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، (بِنْتَ الْبَرَاءِ) : أَيِ ابْنِ عَازِبٍ صَحَابِيَّانِ مَشْهُورَانِ (وَهِيَ) : أَيِ الرُّبَيِّعَ (أَمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ فِيهَا شَهِيدًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ اسْمَهَا أَمُّ الرَّبِيعِ، وَالَّذِي فِي كُتُبِ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا الرُّبَيِّعُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. ( «أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ» ) : أَيْ عَنْ حَالِهِ وَمَآلِهِ (وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ) : يَجُوزُ بِالْإِضَافَةِ، وَالصِّفَةِ، وَبِسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا ; أَيْ لَا يُدْرَى رَامِيهِ، وَقِيلَ: بِالسُّكُونِ إِذَا أَتَاهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُدْرَى رَامِيهِ، وَبِالْفَتْحِ إِذَا رَمَاهُ فَأَصَابَ غَيْرَهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: بِالْوَصْفِ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ رَامِيهِ، وَبِالْإِضَافَةِ هُوَ الْمُتَّخَذُ مِنْ شَجَرِ الْغَرْبِ (فَإِنْ كَانَ) : أَيْ حَارِثَةُ (فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ) : أَيْ عَنْ إِظْهَارِ الْبُكَاءِ شُكْرًا لِمَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةً، أَوْ نَاقِصَةً (اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى حَارِثَةَ (فِي الْبُكَاءِ) : أَيْ كَمَا هُوَ دَأْبُ النِّسَاءِ. (فَقَالَ: يَا أَمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِمْ: هِيَ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا شَاءَتْ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا خَبَرُهَا، أَوْ هِيَ (جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ) : التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهَا دَرَجَاتٌ فِيهَا لِمَا وَرَدَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا» ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3810 - وَعَنْهُ قَالَ: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ " قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ: بَخْ بَخْ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخْ بَخْ؟ " قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: " فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا ". قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ.، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3810 - (وَعَنْهُ) : أَيْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ) : أَيْ ذَهَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ (حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ نَزَلُوا بَدْرًا قَبْلَ الْكُفَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَدْرٌ مَوْضِعٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَهُوَ اسْمُ مَاءٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: بِئْرُ بَدْرٍ كَانَتْ لِرَجُلٍ يُدْعَى بَدْرًا وَمِنْهُ يَوْمُ بَدْرٍ (وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ) : أَيْ بَعْدَ الْمُسْلِمِينَ وَتَصَافُّوا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ) : أَيْ عَمَلٍ هُوَ سَبَبُ دُخُولِهَا، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ كَمَا وَرَدَ: " «الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» " رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى. (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) : تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ ; أَيْ كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا فِي أَيَّةٍ أُخْرَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُدِّيَ الْقِيَامُ بِإِلَى لِإِرَادَةِ مَعْنَى الْمُسَارَعَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] وَوَصْفُ الْجَنَّةِ بِالْعَرْضِ مُبَالَغَةٌ عُرْفًا، وَتَخْصِيصُ الْعَرْضِ بِهَا دُونَ الطُّولِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَرْضَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُ الطُّولِ؟ . (قَالَ عُمَيْرُ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ الْحُمَامِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَهُوَ ابْنُ الْأَجْدَعِ الْأَنْصَارِيُّ، أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْإِسْلَامِ قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ. (بَخْ بَخْ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الْمَدْحِ وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ وَتُكَرَّرُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ فَإِنْ وُصِلَتْ جَرَتْ وَنُوِّنَتْ فَقُلْتَ: بَخٍ بَخٍ، وَرُبَّمَا شُدِّدَتْ. وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَهَا بِالسُّكُونِ وَقْفًا وَوَصْلًا، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَفَى الْقَامُوسُ: بَخْ ; أَيْ عَظُمَ الْأَمْرُ تُقَالُ وَحْدُهَا وَيُكَرَّرُ: بَخٍ بَخْ الْأَوَّلُ مُنَوَّنٌ، وَالثَّانِي مُسَكَّنٌ، وَيُقَالُ: بَخْ بَخْ مُسَكَّنَيْنِ وَمُنَوَّنَيْنِ وَمُشَدَّدَيْنِ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الرِّضَا وَالْإِعْجَابِ بِالشَّيْءِ، أَوِ الْمَدْحِ، أَوِ الْفَخْرِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يَحْمِلُكَ) :

قَالَ: أَيْ مَا بَاعِثُكَ؟ (عَلَى قَوْلِكَ: بَخْ بَخْ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ!) : قَالَ بَعْضُهُمْ: فَهِمَ عُمَيْرٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَرَوِيَّةٍ شَبِيهًا بِقَوْلِ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْهَزْلِ وَالْمِزَاحِ، فَنَفَى عُمَيْرٌ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ (إِلَّا رَجَاءَ) : بِتَرْكِ التَّنْوِينِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَفِي نُسْخَةٍ رَجَاءَةَ بِالتَّاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: إِلَّا رَجَاءَةَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْمَدِّ وَنَصْبِ التَّاءِ، وَفِي بَعْضِهَا رَجَاءَ بِلَا تَنْوِينٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِالتَّنْوِينِ مَمْدُودَانِ بِحَذْفِ التَّاءِ كُلُّهَا صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ، وَالْمَعْنَى إِلَّا لِطَمَعِ (أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا) : أَيْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مُقَدَّرٍ، وَقِيلَ الْأَوْلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا قَالَ (قُومُوا إِلَى الْجَنَّةِ بِبَذْلِ الْأَرْوَاحِ) . قَالَ عُمَيْرٌ: بَخْ بَخْ تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ وَتَفْخِيمًا لَهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا التَّعْظِيمِ أَخَوْفًا قُلْتَ هَذَا أَمْ رَجَاءً؟ " فَقَالَ: لَا بَلْ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. (قَالَ) : أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا) : خَبَّرٌ، أَوْ دُعَاءٌ (قَالَ) : أَيِ الرَّاوِي (فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ) : بِفَتَحَاتٍ وَفِي نُسْخَةٍ تُمَيْرَاتٍ بِالتَّصْغِيرِ لِلتَّقْلِيلِ (مِنْ قَرْنِهِ) : بِقَافٍ وَرَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ جَعْبَةُ النِّشَابِ (فَجَعَلَ) : أَيْ شَرَعَ (يَأْكُلُ مِنْهُنَّ) : تَقْوِيَةً لِلْبَدَنِ عَلَى الْجِهَادِ (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ فِي أَثْنَاءِ أَكْلِهَا (لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ ; أَيْ عِشْتُ وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَا فَاعِلُ فِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ (حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي) : أَيْ جَمِيعَهَا (إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ) : يَعْنِي وَالْأَمْرُ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ شَوْقًا إِلَى الشَّهَادَةِ وَذَوْقًا إِلَى الشُّهُودِ، وَهِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَاكْتُفِيَ بِهِ عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ (قَالَ) : أَيِ الرَّاوِي (فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَقْوِيَةِ التَّعْدِيَةِ ; أَيْ طَرَحَ جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُ (مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْمَعَانِي، فَيُقَالُ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ قُدِّمَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} [الإسراء: 100] فَكَأَنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ مُخْتَارَةً لِلْحَيَاةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْإِنْكَارَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اسْتِبْطَاءً لِلِانْتِدَابِ بِمَا نُدِبَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ ". ; أَيْ سَارِعُوا إِلَيْهَا وَمِمَّا ارْتَجَزَ بِهِ عُمَيْرٌ يَوْمَئِذٍ قَوْلُهُ: رَكْضًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادِ ... إِلَّا التُّقَى وَعَمَلِ الْمَعَادِ وَالصَّبْرِ فِي اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ ... فَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ أَيِ: ارْكُضْ رَكْضًا وَأَسْرِعْ إِسْرَاعًا مِثْلَ إِسْرَاعِ الْخَيْلِ وَرَكْضِهِ، خَفَّفَ فِي الْقَوْلِ كَمَا خَفَّفَ فِي الْأَكْلِ مُبَادَرَةً إِلَى مَا انْتُدِبَ إِلَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3811 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. قَالَ: إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لِقَلِيلٌ: مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3811 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَعُدُّونَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ ; أَيْ مَا تَحْسَبُونَ (الشَّهِيدَ مِنْكُمْ؟) : قِيلَ: عَدٌّ مُلْحَقٌ بِظَنِّ مَعْنًى وَعَمَلًا عَلَى مَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَالشَّهِيدُ مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَالْمُرَادُ السُّؤَالُ عَنِ الْوَصْفِ ; أَيْ بِأَيِّ وَصْفٍ تُنَالُ مَرْتَبَةُ الشَّهَادَةِ؟ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَيُسْأَلُ بِكَلِمَةِ مَا عَنْ جِنْسِ ذَاتِ الشَّيْءِ وَنَوْعِهِ، وَعَنْ صِفَاتِ جِنْسِ الشَّيْءِ وَنَوْعِهِ، وَقَدْ يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الْأَشْخَاصِ النَّاطِقِينَ، وَلَمَّا كَانَتْ حَقِيقَةُ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا السُّؤَالَ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْمُؤْمِنُ رُتْبَةَ الشَّهَادَةِ اسْتُفْهِمَ عَنْهَا بِكَلِمَةِ (مَا) لِتَكُونَ أَدَلَّ عَلَى وَصْفِهَا، وَعَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ تَسُدُّ مَسَدَّ (مَنْ) ( «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: (مَا) هُنَا سُؤَالٌ عَنْ وَصْفِ مَنْ لَهُ كَرَامَةٌ وَقُرْبٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] فَيَشْمَلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ

وَسَلَامُهُ مِنْ قَوْلِهِ: (إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ) : وَكَانَ يَكْفِي عَلَى ظَنِّهِمْ أَنْ يَقُولُوا مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطْنَبُوا وَأَتَوْا فِي الْخَبَرِ بِالْفَاءِ دَلَالَةً عَلَى أَنِ أَصْلَهُ الْمَوْصُولَ عِلَّةٌ لِلْخَبَرِ، فَخَصُّوا مَا أُرِيدُ الْعُمُومُ فِيهِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ السُّؤَالَ عَنْ أَصْنَافِ الشَّهِيدِ الشَّامِلِ لِلْحَقِيقِيِّ وَالْحِكْمَةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لَفْظَةُ تَعُدُّونَ، فَلَمَّا حَصَرُوهُ فِي الْحَقِيقِيِّ قَالَ: (إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لِقَلِيلٌ) . (مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) : أَيْ حَقِيقَةً لَا شُبْهَةَ فِيهِ (وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) : أَيْ ; أَيْضًا لَكِنْ حُكْمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وَأَيْضًا «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، «وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» . وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ: " «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» ". ( «وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) : لِأَنَّهُ مَقْتُولُ الْجِنِّ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ ( «وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْمَبْطُونُ صَاحِبُ دَاءِ الْبَطْنِ وَهُوَ الْإِسْهَالُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقِيلَ هُوَ الَّذِي بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ وَانْتِفَاخُ الْبَطْنِ، وَقِيلَ: الَّذِي يَمُوتُ بِدَاءِ بَطْنِهِ مُطْلَقًا اه. وَلَعَلَّ كَوْنَهُ شَهِيدًا ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنْ يَمُوتَ حَاضِرَ الْقَلْبِ مُنْكَشِفًا عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ مِنَ الشُّهُودِ. بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُهُ وَتُبَشِّرُهُ بِالْفَوْزِ وَالْكَرَامَةِ، أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ يَلْقَى رَبَّهُ وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] ، أَوْ مِنَ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ صِدْقَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصَ فِي الطَّاعَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ تِلْوَ الرُّسُلِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ، أَوْ بِوَجَعٍ فِي الْبَطْنِ مُلْحَقٌ بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي بَعْضِ مَا يَنَالُ مِنَ الْكَرَامَةِ بِسَبَبِ مَا كَابَدَهُ مِنَ الشِّدَّةِ لَا فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ اه. وَقَدْ جَمَعَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ مَا وَرَدَ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَادَةِ الْحُكْمِيَّةِ فِي كُرَّاسَةٍ مِنْهُمُ: الْغَرِيقُ وَالْحَرِيقُ وَالْمَهْدُومُ وَالْغَرِيبُ وَالْمُرَابِطُ، وَمَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ لَيْلَتَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الشُّهَدَاءَ فِي نَوْعٍ مِنَ الْمِئَوِيَّاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الشُّهَدَاءُ لَا الْمُسَاوَاةُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: الَّذِي يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: " إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ. الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهَادَةٌ وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ، وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ، وَالْحَرْقُ شَهَادَةٌ، وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ، وَالسَّلُّ شَهَادَةٌ، وَالْبَطْنُ شَهَادَةٌ» .

3812 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، تَغْزُو وَتَسْلَمُ، إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ. وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، تَخْفُقُ وَتُصَابُ إِلَّا تَمَّ أُجُورُهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3812 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: بِالْوَاوِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مِنْ غَازِيَةٍ) : أَيْ: قِطْعَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، أَوْ جَمَاعَةٍ تَغْزُو (أَوْ سَرِيَّةٍ) : هِيَ أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ، وَفِي ذِكْرِهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْغَزَاةِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقِيلَ، أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي (تَغْزُو فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ غَزَا الْكُفَّارَ فَرَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا فَقَدْ تَعَجَّلَ، فَاسْتَوْفَى ثُلُثَيْ أَجْرِهِ، وَهُمَا السَّلَامَةُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا، وَبَقِيَ لَهُ ثُلُثُ الْأَجْرِ يَنَالُهُ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ مَا قَصَدَ بِغَزْوِهِ مُحَارَبَةَ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، تَخْفُقُ) : مِنَ الْإِخْفَاقِ ; أَيْ: تَغْزُو وَلَا تَغْنَمُ (وَتُصَابُ) : أَيْ: بِجُرْحٍ، أَوْ بِقَتْلٍ، أَوْ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ (إِلَّا تَمَّ أُجُورُهُمْ) : قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى مَنْ غَزَا فِي نَفْسِهِ بِقَتْلٍ، أَوْ جُرْحٍ وَلَمْ يُصَادِفْ غَنِيمَةً فَأَجْرُهُ بَاقٍ بِكَمَالِهِ لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ شَيْئًا فَيُوَفَّرَ عَلَيْهِ بِتَمَامِهِ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَفْظُ تَعَجَّلُوا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ غَازٍ فِي نَزَوَاتِهِ ثَوَابٌ، فَمَنْ أَصَابَ السَّلَامَةَ وَالْغَنِيمَةَ اسْتَوْفَى ثُلُثَيْ ثَوَابِهِ فِي الدُّنْيَا بَدَلَ مَا كَانَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَجَّلَ وَمَنْ لَمْ يَغْنَمْ وَقُتِلَ أَتَمَّ أَجْرَهُ حَيْثُ لَمْ يَتَعَجَّلْ بِشَيْءٍ بَقِيَ قِسْمَانِ مِنْ سَلَمٍ، وَأَخْفَقَ فَقَدْ تَعَجَّلَ بِثُلُثِهِ وَبَقِيَ لَهُ ثُلْثَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ رَجَعَ مَجْرُوحًا يُقَسَّمُ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ بِحَسَبِ جُرْحِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيِعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ اه.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ سَالِمًا رُجُوعَهُ حَيًّا، فَلَا يَحْتَاجُ إِذًا إِلَى التَّقْسِيمِ بِحَسَبِ الْجِرَاحَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْغَازِي إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً وَسَلِمَ، فَقَدْ أَصَابَهُ شَيْئَانِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْغَزْوِ، وَبَقِيَ لَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ، فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ تَعَجَّلَ ثُلُثَيِ الْأَجْرِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ سَلَامَةُ النَّفْسِ وَحُصُولُ الْمَغْنَمِ مِنْ أَجْزَاءِ أَجْرِ الْغَزْوِ اه. وَفِي كَوْنِ السَّلَامَةِ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّوَابِ مَحَلُّ بَحْثٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ قَصْدُ الْغَازِي فِي مَسِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: إِمَّا الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا الْغَنِيمَةُ، وَإِمَّا السَّلَامَةُ فَقَطْ، فَقَوْلُهُ وَتَسْلَمُ بَعْدَ قَوْلِهِ تَغْنَمُ قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وَجُودُهُ، وَلِهَذَا وَرَدَ بِحَذْفِهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَلَفْظُهُ: " «مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ، فَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3813 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3813 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَهُوَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ (وَلَمْ يُحَدِّثْ) : بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ: لَمْ يُكَلِّمْ (بِهِ) : أَيْ: بِالْغَزْوِ (نَفْسَهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ ; أَيْ: فِي نَفْسِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْجِهَادِ وَلَمْ يَقُلْ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مُجَاهِدًا، وَقِيلَ وَلَمْ يُرِدِ الْخُرُوجَ، وَعَلَامَتُهُ فِي الظَّاهِرِ إِعْدَادُ آلَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ) : أَيْ: نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ ; أَيْ: مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا فَقَدَ أَشْبَهَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: هَذَا كَانَ مَخْصُوصًا بِزَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَامٌّ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَنْوِيَ الْجِهَادَ إِمَّا بِطْرِيقِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْعَيْنِ، إِذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا، وَيُسْتَدَلُّ بِظَاهِرِهِ لِمَنْ قَالَ: الْجِهَادُ فَرْضُ عَيْنٍ مُطْلَقًا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: نَرَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ إِنَّهُ عَامٌّ. وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَشْبَهَ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ فِي هَذَا الْوَصْفِ، فَإِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ أَحَدُ شُعَبِ النِّفَاقِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ نَوَى فِعْلَ عِبَادَةٍ فَمَاتَ قَبْلَ فِعْلِهَا لَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الذَّمِّ مَا يُتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُنْوِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَأَخَّرَهَا بِنِيَّةِ أَنْ يَفْعَلَهَا وَمَاتَ، أَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ كَذَلِكَ، قِيلَ: يَأْثَمُ فِيهِمَا، وَقِيلَ لَا يَأْثَمُ فِيهِمَا، وَقِيلَ: يَأْثَمُ فِي الْحَجِّ دُونَ الصَّلَاةِ اه. وَالْأَخِيرُ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3814 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3814 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ) : أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ (الرَّجُلُ) : أَيْ: جِنْسُ الرَّجُلِ بِمَعْنَى الشَّخْصِ (يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ) : أَيِ: الْآخَرُ (يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ) : أَيْ: لِلصِّيتِ وَالشُّهْرَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: لِيُذْكَرَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُوصَفَ بِالشَّجَاعَةِ وَالذِّكْرِ وَالشَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالصِّيتِ (وَالرَّجُلُ) : أَيِ: الْآخَرُ (يُقْتَلُ لِيُرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لِيُعْلَمَ، أَوْ يُبْصَرَ بَيْنَ النَّاسِ (مَكَانُهُ) : بِالرَّفْعِ ; أَيْ مَرْتَبَتُهُ فِي الشَّجَاعَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْإِرَاءَةِ وَنَصْبِ (مَكَانَهُ) . قَالَ الْأَشْرَفُ: هُوَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ فَإِنْ قُرِئَ مَعْلُومًا فَفَاعِلُهُ ضَمِيرُ الرَّجُلِ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ ; أَيْ: يُقَاتِلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ لِيَرَى هُوَ مَكَانَهُ ; أَيْ: مَنْزِلَتَهُ وَمَكَانَتَهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ النَّاسَ، فَالْفَرْقُ عَلَى هَذَا بَيْنَ قَوْلِهِ: يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَبَيْنَ هَذَا أَنَّ الْأَوَّلَ سُمْعَةٌ، وَالثَّانِي رِيَاءٌ ; أَيْ: مِنَ الْغُزَاةِ مَنْ سَمَّعَ وَمِنْهُمْ مَنْ رَاءَى. وَإِنْ قُرِئَ مَجْهُولًا، فَالَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الرَّجُلِ وَمَكَانُهُ نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي ; أَيْ: قَاتَلَ ذَلِكَ لِيُبْصِرَ هُوَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ قَاتَلَ لِلْجَنَّةِ لَا لِإِعْلَاءِ

كَلِمَةِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ ; أَيْ: لِيَرَى مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ; أَيْ: لِيَحْصُلَ لَهُ الْجَنَّةُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ) : أَيْ: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; أَيْ: لَا غَيْرَ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ إِرَادَةَ الْجَنَّةِ غَيْرُ مُزَاحِمَةٍ إِرَادَةَ كَوْنِ كَلِمَةِ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قُومُوا إِلَى الْجَنَّةِ» " كَمَا سَبَقَ، فَالْمُرَادُ بِهِمَا وَاحِدٌ وَالْمَآلُ مُتَّحِدٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: فَالَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الرَّجُلِ وَمَكَانُهُ نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ مَضْبُوطٌ بِالرَّفْعِ ; أَيْ: لِيَرَى النَّاسُ مَنْزِلَتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قُلْتُ: مَبْنَى كَلَامِ الْأَشْرَفِ عَلَى نَصْبِ مَكَانِهِ لَا عَلَى رَفْعِهِ. فَقَوْلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ غَيْرُ صَحِيحٍ قَالَ: وَأَيْضًا لَا فَرْقَ بَيْنَ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ. الْمُغْرِبُ: يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ سُمْعَةً لِيُرِيَهُ النَّاسَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِهِ التَّحْقِيقَ، وَسَمِعَ بِكَذَا أَشْهَرَهُ، تَسْمِيعًا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: " «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ أَسَامِعَ خَلْقِهِ وَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ وَنَوَّهَ اللَّهُ لِرِيَائِهِ وَبَلَائِهِ أَسْمَاعَ خَلْقِهِ فَيُفْتَضَحَ» " قُلْتُ: كَلَامُ الْأَشْرَفِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْقِيقِ الْأَصْلِيِّ، وَالتَّدْقِيقِ اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الرِّيَاءَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، كَمَا أَنَّ السَّمْعَ هُوَ مَا أُخِذَ السُّمْعَةَ، نَعَمْ، اتُّسِعَ فِيهِمَا فَتُطْلَقُ إِحْدَاهَا عَلَى الْأُخْرَى وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَصْلِ فَيُقَالُ: رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ. قَالَ: وَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يُرَادَ بِالذِّكْرِ الصِّيتُ وَالسُّمْعَةُ وَبِالرُّؤْيَةِ عِلْمُ اللَّهُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] يَعْنِي الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ لِلْغَنِيمَةِ وَالذِّكْرِ، وَالْمُجَاهِدُ الصَّابِرُ الَّذِي يَسْتَفْرِغُ جُهْدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قُلْتُ: هُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْقِيَامَةِ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي حَدِيثِ فَضَالَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الشُّهَدَاءَ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَلِكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " هَكَذَا الْحَدِيثُ. فَيَكُونُ قَدْ سَأَلَ الرَّجُلُ عَنْ أَحْوَالِ الْمُجَاهِدِينَ بِأَسْرِهَا وَمُقَاتَلَتِهِمْ، إِمَّا لِلْغَنِيمَةِ، أَوْ لِلذِّكْرِ وَالصِّيتِ وَالْفَخْرِ رِيَاءً، أَوْ لِيَحْمَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَنَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ عَنِ الثَّالِثِ: " «مَنْ قُتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا» " إِحْمَادًا عَلَيْهِ وَشُكْرًا لِصَنِيعِهِ وَإِلَّا كَانَ يَكْفِيهِ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ يُقَاتِلْ لِيُرَى مَكَانُهُ. قُلْتُ: وَوَجْهُ الْعُدُولِ أَنَّ هَذَا مُبْهَمٌ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْمَقْصُودِ صَرِيحًا، أَوْ صَحِيحًا. قَالَ: وَالْمَكَانُ هَاهُنَا بِمَنْزِلَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135] الْكَشَّافُ: الْمَكَانَةُ تَكُونُ مَصْدَرًا يُقَالُ: مَكَنَ مَكَانَةً إِذَا تَمَكَّنَ أَبْلَغَ التَّمَكُّنِ، بِمَعْنَى الْمَكَانِ يُقَالُ مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ وَمَقَامٌ وَمَقَامَةٌ ; أَيِ: اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَأَقْصَى اسْتِطَاعَتِكُمْ وَإِمْكَانِكُمْ، أَوِ اعْمَلُوا عَلَى جِهَتِكُمْ وَحَالِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا وَكَلِمَةُ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ دِينِ الْحَقِّ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَعَا إِلَيْهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالِاعْتِصَامِ بِهِ كَمَا قِيلَ لِعِيسَى: (كَلِمَةُ اللَّهِ) وَهِيَ فَصْلٌ وَالْخَبَرُ الْعُلْيَا فَأَفَادَ الِاخْتِصَاصَ ; أَيْ: لَمْ يُقَاتِلْ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ إِلَّا لِإِظْهَارِ الدِّينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3815 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3815 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَهِيَ أَرْضٌ بَيْنَ الشَّامِ وَالْمَدِينَةِ (فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ) : أَيْ: قَارَبَهُمْ (فَقَالَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا) : أَيْ: جَمَاعَاتٍ مِمَّنْ يَتَمَنَّوْنَ الْغَزْوَ، وَيُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْخُرُوجِ، وَلَهُمْ مَانِعٌ ضَرُورِيٌّ (مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا) : أَيْ: سَيْرًا، أَوْ مَكَانًا (وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا) : تَخْصِيصٌ لِكَوْنِ قَطْعِ الْوَادِي أَشَقَّ، وَلِيَدُلَّ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ (إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ) : أَيْ: بِالْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ وَالدُّعَاءِ وَالنِّيَّةِ (وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا شَرِكُوكُمْ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ فَفِي الْقَامُوسِ شَرِكَهُ فِي الْبَيْعِ وَالْمِيرَاثِ كَعَلِمَهُ يُشْرِكُهُ

بِالْكَسْرِ، وَالْمَعْنَى شَارَكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ) : وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي زِيَادَةِ الْعَمَلِ الْمُقْتَضِي زِيَادَةَ الثَّوَابِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءَ يُشَارِكُونَ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْأَجْرِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِيهِ، وَالدَّالُّ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] دَرَجَاتٍ ; أَيْ عَلَى غَيْرِ الْأَضِرَّاءِ، أَوْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ وَالْأَضِرَّاءِ دَرَجَةً وَهِيَ الْغَنِيمَةُ وَنُصْرَةُ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَيْهِمْ دَرَجَاتٍ فِي الْعُقْبَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةُ النِّيَّةِ فِي الْخَيْرِ، وَأَنَّ مَنْ نَوَى غَزْوًا، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ فَعَرَضَ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ نِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا أَكْثَرَ التَّأَسُّفَ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ، أَوْ تَمَنَّى كَوْنَهُ مِنَ الْغُزَاةِ وَنَحْوِهِمْ كَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.

3816 - وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3816 - (وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

3817 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ. فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3817 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : بِالْوَاوِ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا) : أَيْ: فَفِي خِدْمَتِهِمَا (فَجَاهِدْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِمَا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْرِ قُدِّمَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَالْفَاءُ الْأُولَى جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَالثَّانِيَةُ جَزَائِيَّةٌ لِتَضَمُّنِ الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ ; أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتَ فَاخْتَصَّ الْمُجَاهَدَةَ فِي خِدْمَةِ الْوَالِدَيْنِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] ; أَيْ: إِذَا لَمْ تُخْلِصُوا لِي فِي الْعِبَادَةِ فِي أَرْضٍ فَأَخْلِصُوهَا فِي غَيْرِهَا فَحُذِفَ الشَّرْطُ وَعُوِّضَ عَنْهُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ الْمُفِيدِ لِلِاخْتِصَاصِ ضِمْنًا، وَقَوْلُهُ: فَجَاهِدْ جِيءَ بِهِ مُشَاكَلَةً يَعْنِي حَيْثُ قَالَ: فَجَاهِدْ فِي مَوْضِعِ فَاخْدِمْهُمَا ; لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ فِي الْجِهَادِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِمُسْلِمٍ (فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا فِي جِهَادِ التَّطَوُّعِ لَا يَخْرُجُ إِلَّا بِإِذْنِ الْوَالِدَيْنِ إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضًا مُتَعَيَّنًا فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِذْنِهِمَا وَإِنْ مَنَعَاهُ عَصَاهُمَا وَخَرَجَ، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَيَخْرُجُ بِدُونِ إِذْنِهِمَا فَرْضًا كَانَ الْجِهَادُ، أَوْ تَطَوُّعًا، وَكَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالزِّيَارَةِ، وَلَا يَصُومُ التَّطَوُّعَ إِذَا كَرِهَ الْوَالِدَانِ الْمُسْلِمَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِإِذْنِهِمَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِأَنَّ طَاعَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَالْجِهَادُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَايَ يَبْكِيَانِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمَا وَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» ، وَفِيهِ عَنِ الْخُدْرِيِّ: «أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: " هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟ " قَالَ: أَبَوَايَ. قَالَ: " أَذِنَا لَكَ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَارْجِعْ وَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا» ".

3818 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ، قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: " «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3818 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ) : أَيْ: فَتْحِ مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) : يَعْنِي الْهِجْرَةَ الْمَفْرُوضَةَ ; أَيْ: بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ ; أَيْ: مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَقِيَتِ الْمَنْدُوبَةُ وَهِيَ الْهِجْرَةُ مَنْ أَرْضٍ يُهْجَرُ فِيهِ الْمَعْرُوفُ وَيَشِيعُ بِهِ الْمُنْكَرُ، أَوْ مِنْ أَرْضٍ أَصَابَ فِيهَا الذَّنْبَ وَارْتَكَبَ الْأَمْرَ الْفَظِيعَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَتِ الْهِجْرَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَرَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِالْهِجْرَةِ عَنْهُمْ لِيَسْلَمَ دِينُهُمْ وَلِيَزُولَ أَذَى الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ، وَلِئَلَّا يُفْتَتَنُوا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي الْهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الدِّينِ بِالْمَدِينَةِ كَانُوا قَلِيلِينَ ضَعِيفِينِ يَوْمَئِذٍ، فَوَجَبَتِ الْهِجْرَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ لِيَسْتَعِينَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ إِنْ حَدَثَ حَادِثٌ، وَلِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فَيُعَلِّمُوا أَقْوَامَهُمْ أَمْرَ الدِّينِ وَأَحْكَامَهُ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَأَسْلَمُوا اسْتَغْنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ عَنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ مُعْظَمُ خَوْفِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا أَمْكَنَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقَرُّوا فِي قَعْرِ دَارِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: أَقِيمُوا فِي أَوْطَانِكُمْ وَقَرُّوا عَلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» ) : أَيْ: قَصْدُ جِهَادٍ، أَوْ إِخْلَاصُ عَمَلٍ (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَانْفِرُوا) : بِكَسْرِ الْفَاءِ ; أَيْ: إِذَا اسْتُخْرِجْتُمْ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ فَاخْرُجُوا، فَالْأَمْرُ عَلَى فَرْضِ الْعَيْنِ، أَوْ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ فَانْطَلِقُوا، فَالْأَمْرُ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ انْقَطَعَتْ إِلَّا أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ، أَوْ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَالْفِرَارِ مِنْ دِيَارِ الْكُفْرِ، أَوِ الْبِدْعَةِ، أَوِ الْجَهْلِ، أَوْ مِنَ الْفِتَنِ، أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَكِنْ يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا، فَالْمَعْنَى أَمْ مُفَارَقَةُ الْأَوْطَانِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّتِي هِيَ الْهِجْرَةُ الْمُعْتَبَرَةُ الْفَاضِلَةُ الْمُمَيِّزَةُ لِأَهْلِهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ امْتِيَازًا ظَاهِرًا انْقَطَعَتْ، لَكِنَّ الْمُفَارَقَةَ مِنَ الْأَوْطَانِ بِسَبَبِ نِيَّةٍ خَالِصَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى كَطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَمِمَّا لَا يُقَامُ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَزِيَارَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَحَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهَا، أَوْ بِسَبَبِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاقِيَةٌ مَدَى الدَّهْرِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ تَحْصِيلَ الْخَيْرِ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ قَدِ انْقَطَعَ بِفَتْحِ مَكَّةَ، لَكِنْ حَصِّلُوهُ بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَفِيهِ حَثٌ عَلَى نِيَّةِ الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ مَعْنَاهُ إِذَا طَلَبَكُمُ الْإِمَامُ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ فَاخْرُجُوا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، بَلْ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا فَعَلَهُ مَنْ يَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلُّهُمْ أَثِمُوا أَجْمَعِينَ اه. وَفِيهِ أَنْ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى كَوْنِ الْجِهَادِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، بَلْ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ عَيْنٍ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فَلْيَنْفِرْ بَعْضُكُمْ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَمَا دَلَّ صَرِيحًا عَلَى نَفْيِ فَرْضِ الْعَيْنِ إِذْ كَانَ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَخْرُجُوا كُلُّهُمْ مَعًا، فَيَصِيعَ الْعِبَادُ وَتَخْرُبَ الْبِلَادُ وَيَفُوتَ عِلْمُ الْمَعَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي كَلَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ خَصَّ الِاسْتِنْفَارَ بِالْجِهَادِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ أَيْضًا ; أَيْ إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ إِلَى الْجِهَادِ فَانْفِرُوا، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَشِبْهِهِ فَانْفِرُوا. قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] ; أَيْ: هَلَّا نَفَرُوا حِينَ اسْتُنْفِرُوا. قُلْتُ: وَإِنَّمَا خَصَّ الِاسْتِنْفَارَ بِالْجِهَادِ لِقَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] الْآيَاتِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَغَفْلَةٌ عَنْ صَدْرِهَا وَمَعْنَاهَا ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: بَعْدَ وَصْفِ الْمُجَاهِدِينَ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ; أَيْ: جَمِيعًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَرَادُوا ذَلِكَ {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] ; أَيْ: لِلْغَزْوِ {لِيَتَفَقَّهُوا} [التوبة: 122] ; أَيْ: بَقِيَّةُ الْفِرْقَةِ، أَوِ الْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى خُرُوجِ طَائِفَةٍ لِلْغَزْوِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ: أَيْ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3819 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3819 - (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ» ) : أَيْ: عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَإِظْهَارِهِ (ظَاهِرِينَ) : أَيْ: غَالِبِينَ مَنْصُورِينَ، أَوْ مَعْرُوفِينَ مَشْهُورِينَ (عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: غَالِبِينَ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ، وَالْمُنَاوَأَةُ الْمُعَادَاةُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْهَمْزُ ; لِأَنَّهُ مِنَ النَّوْءِ وَهُوَ النُّهُوضُ، وَرُبَّمَا يُتْرَكُ هَمْزُهُ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ ذَلِكَ فِي الْمُعَادَاةِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ يَنْهَضُ إِلَى قِتَالِ صَاحِبِهِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، هُوَ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَاءَ إِلَيْهِمْ وَنَاءُوا إِلَيْهِ ; أَيْ: نَهَضُوا لِلْقِتَالِ. وَفَى النِّهَايَةِ: النِّوَاءُ وَالْمُنَاوَاةُ الْمُعَادَاةُ. وَفِي الْقَامُوسِ: نَاءَ نَهَضَ بِجُهْدٍ وَمَشَقَّةٍ وَنَاوَاهُ مُنَاوَاةً فَاخَرَهُ وَعَادَاهُ اه. فَالْأَوْلَى أَنْ يُقْرَأَ لَفْظُ الْحَدِيثِ بِالْهَمْزِ، وَلَا يُلْتَفَتَ إِلَى أَكْثَرِ النُّسَخِ حَيْثُ لَمْ يَضْبِطُوا بِهِ، فَإِنَّ الرَّسْمَ وَاحِدٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ تَنْزِيلَ أَمْثَالِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَوْلَى وَأَحْرَى اه. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مِنْ جِهَةِ الشَّامِ لِيَدْخُلَ أَهْلُ الرُّومِ فِي الْمُرَادِ، فَإِنَّهُمُ الْقَائِمُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ الشَّرِيفَةِ حَقَّ الْقِيَامِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ وَخَذَلَ أَعْدَاءَهُمُ اللِّئَامَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، (حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ) : أَيِ: الْمَهْدِيُّ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَتْبَاعُهُمَا (الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ) : وَيَقْتُلُهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بِبَابٍ لَهُ مِنْ بَيَتِ الْمَقْدِسِ حِينَ حَاصَرَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِمُ الْمَهْدِيُّ، وَبَعْدَ قَتْلِهِ لَا يَكُونُ الْجِهَادُ بَاقِيًا، أَمَّا عَلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَلِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالطَّاقَةِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَ إِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَافِرٌ مَا دَامَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيًّا فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكُفْرِ مَنْ كَفَرَ بَعْدَهُ، فَلِمَوْتِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ عَنْ قَرِيبٍ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَبَقَاءِ الْكُفَّارِ بِحَيْثُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفَى الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ. فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، يُحْمَلُ عَلَى قُرْبِهَا، فَإِنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3820 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُجَهِّزْ غَازِيًا، أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3820 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ لَمْ يَغْزُ) : أَيْ: حَقِيقَةً (وَلَمْ يُجَهِّزْ غَازِيًا) : أَيْ: لَمْ يُهَيِّءْ أَسْبَابَ غَازٍ (أَوْ يَخْلُفْ) : بِالْجَزْمِ وَضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْمَنْفِيِّ ; أَيْ: لَمْ يَخْلُفْ (غَازِيًا فِي أَهْلِهِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ وَمَا قَبْلَهُ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْغَزْوِ الْحُكْمِيِّ، وَقَوْلُهُ: (بِخَيْرٍ) : قَيْدٌ لِلْأَخِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِيَخْلُفْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ أُتِيَ بِهِ صِيَانَةً عَمَّا عَسَى أَنْ يَنْوِيَ الْخِيَانَةَ فِيهِمْ اه. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلْكُلِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ نِيَّةُ الْخَيْرِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِخْلَاصِ قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: أَوْ يَخْلُفْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى يُجَهِّزْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعِدِ الْجَازِمَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اسْتِقْلَالُهُ، وَلِيُؤْذَنَ بِأَنَّ تَجْهِيزَ الْغَازِي وَكَوْنَ تَخْلِيفِ الْغَازِي فِي أَهْلِهِ لَيْسَ بِمَثَابَةِ الشُّخُوصِ بِنَفْسِهِ إِلَى الْغَزْوِ، ثُمَّ جَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: (أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ) : أَيْ: بِشِدَّةٍ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ ; أَيْ: بِبَلِيَّةٍ تَقْرَعُهُ وَتُهْلِكُهُ وَتَصْرَعُهُ وَتَدُقُّهُ، وَلِذَا سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ بِالْقَارِعَةِ (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : كَانَ الْأَخْصَرُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَيَقُولَ: رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُدَ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُؤَلِّفِ هَذَا، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: " «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ وَفِيهِ ثُلْمَةٌ» " وَهِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ النَّقْصُ وَالْعَيْبُ.

3821 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3821 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ» ) : أَيْ: قَاتِلُوهُمْ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَشْمَلُ الْحَرَمَ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَالْبَدْءَ بِالْقِتَالِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقِتَالُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا وَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَمْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَبْدَؤُونَا ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لَهُ لَمْ تُقَيِّدِ الْوُجُوبَ بِبَدْئِهِمْ خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَالزَّمَانُ الْخَاصُّ كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ خِلَافًا لِعَطَاءَ، وَلَقَدِ اسْتُبْعِدَ مَا عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَتَمَسُّكُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ نَسْخُهُ وَصَرِيحُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " الْحَدِيثَ. تُوجِبُ ابْتِدَاءَهُمْ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَحَاصَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّائِفَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ، أَوْ إِلَى شَهْرٍ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى نَسْخِ الْحُرْمَةِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى التَّحَرُّزِ بِلَفْظِ: حَيْثُ فِي الزَّمَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَقَوْلُهُ: (بِأَمْوَالِكُمْ) : أَيْ: بِالتَّجْهِيزِ (وَأَنْفُسِكُمْ) : أَيْ: بِالْمُبَاشَرَةِ (وَأَلْسِنَتِكُمْ) : أَيْ: بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: جَاهِدُوهُمْ بِهَا ; أَيْ: بِأَنْ تَذُمُّوهُمْ وَتَعِيبُوهُمْ وَتَسُبُّوا أَصْنَامَهُمْ وَدِينَهُمُ الْبَاطِلَ، وَبِأَنْ تُخَوِّفُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْأَخْذِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] قُلْتُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ آلِهَتَهُمْ فَنُهُوا، لِئَلَّا يَكُونَ سَبُّهُمْ سَبَبًا لِسَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّهَيُ مُنْصَبٌّ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ السَّبُّ إِلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ اه. وَفِيهِ أَنَّهُ سَبَبٌ غَالِبِيٌّ، وَعَدَمُ كَوْنِهِ سَبَبًا أَمْرٌ مَوْهُومٌ فَيَتَعَيَّنَ النَّهْيُ، لَا سِيَّمَا مَبْنَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى أُمُورِ الْغَالِبِيَّةِ، مَعَ أَنَّ حَالَةَ الِاسْتِوَاءِ، بَلْ وَقْتُ الِاحْتِمَالِ يُرَجِّحُ النَّهْيَ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ وَارِدًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِسَبِّهِمْ، أَمَّا إِذَا كَانَ الِابْتِدَاءُ مِنْهُمْ فَلَيْسَ كَذَا ; لِأَنَّ هَذَا الْخَوْفَ فِي الَّذِينَ غَلَبَ الْجَهْلُ وَالسَّفَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، أَمَّا أَكْثَرُهُمْ فَيُعَظِّمُونَ اللَّهَ! وَيَقُولُونَ: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 18 - 25] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

3822 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَاضْرِبُوا الْهَامَ ; تُوَرَّثُوا الْجِنَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3822 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْشُوا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ; أَيْ: أَشِيعُوا وَعَمِّمُوا (السَّلَامَ) : أَيْ: رُدُّوهُ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، فَالْمُرَادُ بِهِ السَّلَامُ وَفَرْضِيَّةُ الْجَوَابِ مَفْهُومَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] الْآيَةَ. وَهَذِهِ سُنَّةٌ أَفْضَلُ مِنَ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ مِنْ غَرَائِبِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِفْشَاءُ السَّلَامِ إِظْهَارُهُ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ، أَوْ إِشَاعَتُهُ بِأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ تَرَاهُ عَرَفْتَهُ أَوْ لَمْ تَعْرِفْ اه. وَالظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي ; لِأَنَّ السَّلَامَ مَعَ عَدَمِ إِظْهَارِهِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ لَا يُسَمَّى سَلَامًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إِفْشَاءً لِلسَّلَامِ. (وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ) : فَإِنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْكِرَامِ، لَا سِيَّمَا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَيْتَامِ (وَاضْرِبُوا الْهَامَ) : جَمْعُ هَامَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَهُوَ الثَّانِي ; أَيِ: اقْطَعُوا رُءُوسَ الْكُفَّارِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِهَادِ فِي الْإِسْلَامِ (تُورَثُوا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنِ الْإِيرَاثِ ; أَيْ: تُعْطَوْا فِي مُقَابَلَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخِصَالِ الْعِظَامِ (الْجِنَانَ) بِكَسْرِ الْجِيمِ ; أَيْ: جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي دَارِ السَّلَامِ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِضَرْبِ الْهَامِ الْجِهَادُ، وَلَمَّا كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ هَذِهِ تَخْلُفُ عَلَيْهِمُ الْجِنَانَ فَكَأَنَّهُمْ وَرِثُوهَا مِنْهَا. قُلْتُ: وَفِيهِ

إِشَارَةٌ إِلَى ارْتِكَابِ الْمُجَاهَدَاتِ وَتَرْكِ الْمُشْتَهَيَاتِ لِكَوْنِهَا مِنَ التَّكْلِيفَاتِ الْمَكْرُوهَاتِ تُعَدُّ مِنَ الْمُصِيبَاتِ الَّتِي تُورِثُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ وَالثَّمَرَاتِ الطَّيِّبَاتِ، تَشْبِيهًا بِمَنْ فَاتَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَقَارِبِ، وَحَصَلَ لَهُ مَنْ إِرْثِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْأَجَانِبِ، وَلِذَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو يَعْلَى فِي مَسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ تَحَابُّوا» " رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى. وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَفْشُوا السَّلَامَ فَإِنَّ السَّلَامَ تَعَالَى رِضًا» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: " «أَفْشُوا السَّلَامَ كَيْ تَعْلُوا» ". وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى» ؟) . وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَفْظُهُ " أَفْشِ السَّلَامَ وَابْذُلِ الطَّعَامَ وَاسْتَحِي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَسْتَحِي رَجُلًا ; أَيْ: مِنْ رَهْطِكَ ذَا هَيْئَةٍ، وَلْتُحْسِنْ خُلُقَكَ، وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ".

3823 - وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3823 - (وَعَنْ فَضَالَةَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (ابْنِ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ وَمَرَّ ذِكْرُهُ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ يَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِهِ وَيُطْبَعُ (عَلَى عَمَلِهِ) : وَالْمَعْنَى لَا يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابٌ جَدِيدٌ (إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى) : أَيْ يُزَادُ لَهُ (عَمَلُهُ) بِأَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ كُلَّ لَحْظَةٍ أَجْرٌ جَدِيدٌ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : فَإِنَّهُ فَدَى نَفْسَهُ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ إِحْيَاءُ الدِّينِ بِدَفْعِ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ) : أَيْ مَعَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ بِهَذَا امْتَازَ عَنْ غَيْرِهِ الْوَارِدِ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : أَيْ عَنْ فَضَالَةَ.

3824 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3824 - (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " وَيَأْمَنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ فَضَالَةَ. وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ. وَأَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ.

3825 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ ; فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً، فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ، لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ، وَرِيحُهَا الْمِسْكُ. وَمَنْ خَرَجَ بِهِ خُرَاجٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3825 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ. اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ) : هُوَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ. فِي الْفَائِقِ: هُوَ فِي الْأَصْلِ رُجُوعُ اللَّبَنِ إِلَى الضَّرْعِ بَعْدَ الْحَلْبِ، وَسُمِّيَ فَوَاقًا ; لِأَنَّهُ نَزَلَ مِنْ فَوْقٍ اه. وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَشَاءِ ; لِأَنَّ النَّاقَةَ تُحْلَبُ فِيهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ قَدْرَ مُدَّتَيِ الضَّرْعِ مِنَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّهَا تُحْلَبُ ثُمَّ تَتَوَلَّى سُوَيْعَةً يَرْضَعُهَا الْفَصِيلُ لِتَدِرَّ، ثُمَّ تَحْلِبُ ثَانِيَةً، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ أَلْيَقُ بِالتَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ ; أَيْ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَحْظَةً. (فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) : أَيِ ابْتِدَاءً، أَوِ اسْتَحَقَّهَا (وَمَنْ جُرِحَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (جُرْحًا) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِالْفَتْحِ هُوَ الْمَصْدَرُ ; أَيْ جِرَاحَةً كَائِنَةً (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : بِسِلَاحٍ مِنْ عَدُوٍّ (أَوْ نُكِبَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: أُصِيبَ نَكْبَةً بِالْفَتْحِ ; أَيْ حَادِثَةً فِيهَا جِرَاحَةٌ مِنْ غَيْرِ الْعَدُوِّ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، قِيلَ: الْجُرْحُ وَالنَّكْبَةُ كِلَاهُمَا وَاحِدٌ، وَقِيلَ: الْجُرْحُ مَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْكُفَّارِ، وَالنَّكْبَةُ الْجِرَاحَةُ الَّتِي أَصَابَتْهُ مِنْ وُقُوعِهِ مِنْ دَابَّتِهِ، أَوْ وُقُوعِ سِلَاحٍ عَلَيْهِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» ،

وَفِي النِّهَايَةِ: نَكْتُبُ أُصْبُعَهُ ; أَيْ نَالَتْهَا الْحِجَارَةُ، وَالنَّكْبَةُ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ (فَإِنَّهَا) : أَيِ النَّكْبَةُ الَّتِي فِيهَا الْجِرَاحَةُ (تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ سَبَقَ شَيْئَانِ الْجَرْحُ وَالنَّكْبَةُ، وَهِيَ مَا أَصَابَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنِ الْحِجَارَةِ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى النَّكْبَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّكْبَةِ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا ظَنُّكَ بِالْجُرْحِ بِالسِّنَانِ وَالسَّيْفِ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] اه.، أَوْ يُقَالُ: إِفْرَادُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ وَهِيَ الْمُصِيبَةُ الْحَادِثَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهِيَ تَظْهَرُ وَتُتَصَوَّرُ (كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ) : أَيْ كَأَكْثَرِ أَوْقَاتِ أَكْوَانِهَا فِي الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ زَائِدَةٌ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ يَعْنِي حِينَئِذٍ تَكُونُ غَزَارَةُ دَمِهِ أَبْلَغَ مِنْ سَائِرِ أَوْقَاتِهِ اه. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكَافَ غَيْرُ زَائِدَةٍ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْجِرَاحَةَ وَالنَّكْبَةَ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلَ أَكْثَرِ مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا. (لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ، وَرِيحُهَا الْمِسْكُ) : كُلٌّ مِنْهُمَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ (وَمَنْ خَرَجَ بِهِ) : الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ ; أَيْ: ظَهَرَ بِهِ (خُرَاجٌ) : وَهُوَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ مَا يَخْرُجُ فِي الْبَدَنِ مِنَ الْقُرُوحِ وَالدَّمَامِيلِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى نَفْسِ الْخُرَاجِ، أَوْ عَلَى صَاحِبِهِ (طَابَعُ الشُّهَدَاءِ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُكْسَرُ ; أَيْ: خَتْمُهُمْ يَعْنِي عَلَامَةَ الشُّهَدَاءِ وَأَمَارَتَهُمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ سَعَى فِي إِعْلَاءِ الدِّينِ وَيُجَازَى جَزَاءَ الْمُجَاهِدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَنِسْبَةُ هَذِهِ الْقَرِينَةِ مَعَ الْقَرِينَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ التَّرَقِّي فِي الْمُبَالَغَةِ مِنَ الْإِصَابَةِ بِآثَارِ مَا يُصِيبُ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْعَدُوِّ تَارَةً، وَمَنْ غَيْرِهِ أُخْرَى، وَطَوْرًا مِنْ نَفْسِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ النَّارَ» ".

3826 - وَعَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3826 - (وَعَنْ خُرَيْمِ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (ابْنِ فَاتِكٍ) : بِالْفَاءِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خُرَيْمُ بْنُ الْأَخْرَمِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ فَاتِكٍ، عِدَادُهُ فِي الشَّامِيِّينَ، وَقِيلَ: فِي الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً) : أَيْ صَرَفَ نَفَقَةً صَغِيرَةً، أَوْ كَبِيرَةً (فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ) : أَيْ مِثْلٍ، وَهَذَا أَقَلُّ الْمَوْعُودِ، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

3827 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّدَقَاتِ ظِلُّ فُسْطَاطٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِنْحَةُ خَادِمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3827 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْضَلُ الصَّدَقَاتِ ظِلُّ فُسْطَاطٍ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ ; أَيْ خَيْمَةٍ كَبِيرَةٍ، أَوْ صَغِيرَةٍ. وَفِي الْفَائِقِ: ضَرْبٌ مِنَ الْأَبْنِيَةِ فِي السَّفَرِ دُونَ السُّرَادِقِ، وَفِي التَّهْذِيبِ الْفُسْطَاطُ بَيْتٌ مِنْ شَعْرٍ وَفِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ فُسْطَاطٌ وَفُسْتَاطٌ وَفُسَاطٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا فِيهِنَّ، وَالضَّمُّ أَجْوَدُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُعْطَى لِلْغَازِي، أَوِ الْحَاجِّ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ عَارِيَةً، أَوِ اسْتِظْلَالًا عَلَى وَجْهِ الْمُشَارَكَةِ (وَمِنْحَةُ خَادِمٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: أَوْ مِنْحَةُ خَادِمٍ ; أَيْ عَطِيَّةُ خَادِمٍ مِلْكًا، أَوْ إِعَارَةً، وَمِنْهُ يُعْلَمُ خِدْمَتُهُ بِنَفْسِهِ بِالْأَوْلَى (أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ ; أَيْ: إِعْطَاءُ مَرْكُوبٍ كَذَلِكَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : طَرُوقَةُ الْفَحْلِ هِيَ الَّتِي بَلَغَتْ أَوَانَ ضِرَابِ الْفَحْلِ وَالتَّقْيِيدُ بِهِ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَكَذَا لَوْ قُيِّدَتِ

الْمِنْحَةُ بِالْمِلْكِيَّةِ فَفِي النِّهَايَةِ: مِنْحَةُ اللَّبَنِ أَنْ يُعْطِيَهُ نَاقَةً، أَوْ شَاةً يَنْتَفِعُ بِلَبَنِهَا زَمَانًا وَيُعِيدُهَا، وَقَدْ تَقَعُ الْمِنْحَةُ عَلَى الْهِبَةِ مُطْلَقًا لَا قَرْضًا وَلَا عَارِيَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَقَوْلُهُ: أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ عَطْفٌ عَلَى مِنْحَةِ خَادِمٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ ; أَيْ مِنْحَةُ نَاقَةٍ، وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: مِنْحَةُ فُسْطَاطٍ كَمَا فِي الْغَرِيبَيْنِ، فَوَضَعَ الظِّلَّ مَوْضِعَهَا ; لِأَنَّ غَايَةَ مَنْفَعَتِهَا الِاسْتِظْلَالُ بِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عُدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَنْحُ أَنْ تَمْنَحَ الدِّرْهَمَ، أَوْ ظَهْرَ الدَّابَّةِ.

3828 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعَ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي أُخْرَى: (فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمٍ أَبَدًا. وَفِي أُخْرَى: ( «فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3828 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَلِجُ النَّارَ) ; أَيْ لَا يَدْخُلُهَا (مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) : فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْخَشْيَةِ امْتِثَالُ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ (حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ) : هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] ( «وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» ) : فَكَأَنَّهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ كَمَا أَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ نَقِيضَانِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ (وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي أُخْرَى) : أَيْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْأَفْصَحُ، فَفِي الصَّحَّاحِ: الْمَنْخِرُ ثُقْبُ الْأَنْفِ وَقَدْ تُكْسَرُ الْمِيمُ اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ الْخَاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَنْخَرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْخَاءِ وَبِكَسْرِهِمَا وَضَمِّهِمَا وَكَمَجْلِسٍ خَرْقُ الْأَنْفِ، وَفِي الضِّيَاءِ: حَقِيقَتُهُ مَوْضِعُ النَّخْرِ وَهُوَ مَدُّ النَّفَسِ فِي الْخَيَاشِيمِ، وَالْمَعْنَى لَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي خَرْقَيْ أَنْفِ مُسْلِمٍ (أَبَدًا) : أَيْ فِي زَمَانٍ مِنَ الْأَزْمَانِ (وَفِي أُخْرَى لَهُ) : أَيْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلنَّسَائِيِّ (فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا) : أَيْ حَيْثُ دَخَلَ فِيهِ الْغُبَارُ، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُ الدُّخَانِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ (وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ) : أَيِ الْبُخْلُ الَّذِي يُوجِبُ مَنْعَ الْوَاجِبِ، أَوْ يَجُرُّ إِلَى ظُلْمِ الْعِبَادِ (وَالْإِيمَانُ) : أَيِ الْكَامِلُ (فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا) : الْكَشَّافُ: الشُّحُّ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ اللَّوْمُ، وَأَنْ تَكُونَ نَفْسُ الرَّجُلِ كَزَّةً حَرِيصَةً عَلَى الْمَنْعِ، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ; لِأَنَّهُ غَرِيزَةٌ فِيهَا، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةِ: " «لَوْكَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مَنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَنْ يَمْلَأَ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» "، وَأَمَّا الْبُخْلُ فَهُوَ الْمَنْعُ نَفْسُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِذَنِ الْبُخْلُ أَعَمُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْبُخْلُ وَلَا شُحَّ ثَمَّةَ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَعَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ فَقَالَ: مَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9] ; أَيْ يَحْفَظُ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يَكَادُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ يَدِي شَيْءٌ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ ذَاكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ إِنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيكَ ظُلْمًا وَلَكِنْ ذَاكَ الْبُخْلُ وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: إِدْخَالُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ، وَرَوَيْنَا عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمْلَهُمْ أَنْ يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَيَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَهُمْ» ". وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَفْصٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ رُوحٍ وَنَفْسٍ وَقَلْبٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا ; لِأَنَّهُ تَارَةً يَمِيلُ إِلَى الرُّوحِ وَيَتَّصِفُ بِصِفَتِهَا فَيَتَنَوَّرُ وَيُفْلِحُ، وَأُخْرَى إِلَى النَّفْسِ

فَيَصِيرُ مُظْلِمًا، فَإِذَا اتَّصَفَ بِصِفَةِ الرُّوحِ تَنَوَّرَ، وَكَانَ مَقَرًّا لِلْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَفَازَ وَأَفْلَحَ. قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] وَإِذَا اتَّصَفَ بِصِفَةِ النَّفْسِ أَظْلَمَ وَكَانَ مَقَرًّا لِلشُّحِّ الْهَالِعِ فَخَابَ وَخَسِرَ وَلَمْ يُفْلِحْ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] فَأَنَّى يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ اه. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَإِنَّ الْمُخْلِطَ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى الرُّوحِ تَارَةً فَتَزُولُ عَنْهُ الْخَصَائِلُ الذَّمِيمَةُ، وَقَدْ يَمِيلُ إِلَى النَّفْسِ فَيَعُودُ إِلَيْهَا الْأَحْوَالُ الدِّينِيَّةُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي آنٍ وَاحِدٍ لَهُ جَوَلَانُ وَمَيَلَانُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ، كَجَوَلَانِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ، فَيَنْطَعُ وَيَنْعَكِسُ فِيهَا مِنْ كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ «أَنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: «مَثَلُ الْقُلُوبِ كَرِيشَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» ، وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ لِأَرْبَابِ الشُّهُودِ، وَلِذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: " «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» " وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةً فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضِعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فَعَلَيْهِ بِالْأَحْيَاءِ.

3829 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3829 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ) : وَفِي رِوَايَةٍ أَبَدًا ; أَيْ: لَا يُصِيبُهُمَا أَدَقُّ إِصَابَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَرَيَانِ النَّارَ. وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: أَبَدًا (عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) : وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْمُجَاهِدِينَ مَعَ النَّفْسِ التَّائِبِينَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ (وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ) : وَفِي رِوَايَةٍ تَكْلَأُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، وَهِيَ شَامِلَةٌ ; لِأَنْ تَكُونَ فِي الْحَجِّ، أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوِ الْجِهَادِ، أَوِ الْعِبَادَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَارِسُ لِلْمُجَاهِدِينَ لِحِفْظِهِمْ عَنِ الْكُفَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: عَيْنٌ بَكَتْ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعَالِمِ الْعَابِدِ الْمُجَاهِدِ مَعَ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] حَيْثُ حَصْرُ الْخَشْيَةِ فِيهِمْ غَيْرُ مُتَجَاوَزٍ عَنْهُمْ، فَحَصَلَتِ النِّسْبَةُ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ عَيْنِ مُجَاهِدٍ مَعَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَعَيْنِ مُجَاهِدٍ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ مُتَرَادِفَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ: الْخَوْفُ سَوْطُ اللَّهِ تَعَالَى يَسُوقُ بِهِ عِبَادَهُ إِلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، لِيَنَالُوا بِهِمَا رُتْبَةَ الْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى اه. فَكُلُّ خَوْفٍ لَا يُورِثُ مَا ذُكِرَ لَمْ يَكُنْ خَوْفًا حَقِيقِيًّا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخَشْيَةَ خَوْفٌ مَعَ التَّعْظِيمِ، وَلِذَا جُرِّدَ عَنْ مَعْنَى الْخَوْفِ، وَأُرِيدَ التَّعْظِيمُ فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] بِرَفْعِ الْجَلَالَةِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ عَنْ أَنَسٍ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَفْظُهُ: " «عَيْنٌ بَكَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» ". وَرَوَاهُ الضِّيَاءُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ، بِتَغْيِيرٍ يَسِيرٍ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.

3830 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ، فَأَعْجَبَتْهُ، فَقَالَ: لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ؟ اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3830 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِعْبٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا انْفَرَجَ مِنَ الْجَبَلَيْنِ وَغَيْرُهُ (فِيهِ عُيَيْنَةٌ) : تَصْغِيرُ عَيْنٍ بِمَعْنَى الْمَنْبَعِ (مِنْ مَاءٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ عُيَيْنَةٍ جِيءَ بِهَا مَادِحَةً ; لِأَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى نَوْعِ مَاءٍ صَافٍ تَرُوقُ بِهِ الْأَعْيُنُ وَتَبْهَجُ بِهِ الْأَنْفُسُ (عَذْبَةٌ) : بِالرَّفْعِ صِفَةُ عُيَيْنَةٍ وَبِالْجَرِّ عَلَى الْجِوَارِ ; أَيْ طَيِّبَةً، أَوْ طَيِّبٌ مَاؤُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَذْبَةٌ صِفَةٌ أُخْرَى مُمَيِّزَةٌ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الْأَلَذَّ سَائِغٌ فِي الْمَرِّيءِ، وَمِنْ ثَمَّ أَعْجَبَ الرَّجُلَ وَتَمَنَّى الِاعْتِزَالَ عَنِ النَّاسِ فَقَالَ ; أَيِ الرَّاوِي (فَأَعْجَبَتْهُ) : أَيِ الْعُيَيْنَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَكَانِ (فَقَالَ) : أَيِ الرَّجُلُ (لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ) : لَوْ لِلتَّمَنِّي، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَوِ امْتِنَاعِيَّةً، قَوْلُهُ:

(فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ) : عَطْفٌ عَلَى اعْتَزَلْتُ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ ; أَيْ لَكَانَ خَيْرًا لِي. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجَدْنَا فِي سَائِرِ النُّسَخِ: فِيهِ غَيْضَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ رِوَايَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ غَيْضَةٌ مِنْ مَاءٍ، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَا فَالْمَعْنَى غَيْضَةٌ كَانَتْ مِنْ مَاءٍ، وَهِيَ الْأَجَمَةُ مِنْ غَاضَ الْمَاءُ، إِذَا نَضَبَ، فَإِنَّهَا مَغِيضُ مَاءٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الشَّجَرُ، وَالْجَمْعُ غِيَاضٌ وَأَغْيَاضٌ (فَذُكِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ ذَكَرُوا (ذَلِكَ) : أَيْ مَا صَدَرَ عَنِ الرَّجُلِ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاعِلِ ; أَيْ ذَكَرَ بِنَفْسِهِ اسْتِئْذَانًا لِمَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ (فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ) : نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ صَحَابِيٌّ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغَزْوُ فَكَانَ اعْتِزَالُهُ لِلتَّطَوُّعِ مَعْصِيَةً لِاسْتِلْزَامِهِ تَرْكَ الْوَاجِبِ، ذَكَرَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ الِاعْتِزَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْجِهَادِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ مِنَ الْعِبَادِ (فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ ; أَيْ قِيَامَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا وَهِيَ الْإِقَامَةُ بِمَعْنَى ثَبَاتِ أَحَدِكُمْ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ بِالِاسْتِمْرَارِ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ خُصُوصًا فِي خِدْمَةِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ (أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ) : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَهُ كَانَ مَفْضُولًا لَا مُحَرَّمًا (سَبْعِينَ عَامًا) : الْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «مَقَامُ الرَّجُلِ فِي الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ الرَّجُلِ سِتِّينَ سَنَةً» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ: وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيِّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَفْظُهُ " قِيَامُ أَحَدِكُمْ ". (أَلَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ ; أَيْ: أَمَا (تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) : أَيْ مَغْفِرَةً تَامَّةً (وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ) : أَيْ إِدْخَالًا أَوَّلِيًّا (اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ دُومُوا عَلَى الْغَزْوِ فِي دِينِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3831 - وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3831 - (وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ سِوَاهُ» ) : أَيْ فِيمَا سِوَى الرِّبَاطِ،، أَوْ فِيمَا سِوَى سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (مِنَ الْمَنَازِلِ) : وَخَصَّ مِنْهَا الْمُجَاهِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ، وَهُوَ يُنَافِي تَفْسِيرَ الرِّبَاطِ بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَذَلِكَ الرِّبَاطُ، فَذَلِكَ الرِّبَاطُ " ; لِأَنَّهُ رِبَاطٌ دُونَ رِبَاطٍ، بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِالرِّبَاطِ لِلْجِهَادِ، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِيهِ،، أَوْ هَذَا رِبَاطٌ لِلْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، كَمَا أَنَّ ذَاكَ رِبَاطٌ لِلْجِهَادِ الْأَصْغَرِ، وَتَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] فَإِنَّ الرِّبَاطَ الْجِهَادِيَّ قَدْ فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهُ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هُوَ جَمْعٌ مُحَلًّى بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَابِطُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُجَاهِدِ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَمِنَ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ: " فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ " وَقَدْ شَرَحْنَاهُ ثَمَّةَ. قُلْتُ: هَذَا فِي حَقِّ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْمُرَابَطَةُ، وَتَعَيَّنَ بِنَصْبِ الْإِمَامِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ. قُلْتُ: فِي الْفَرْضِ الْعَيْنِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ، ; لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لَا يُتَصَوَّرُ خِلَافُهُ إِذِ اشْتِغَالُهُ بِغَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَاتٌ أُخَرُ تُفِيدُهُ وَتُقَوِّيهِ.

3832 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَرَضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: شَهِيدٌ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ، وَعَبَدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3832 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: عَرَضَ عَلَيَّ) : أَيْ ظَهَرَ لَدَيَّ (أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ لِلْمَفْعُولِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَضَافَ أَفْعَلَ إِلَى النَّكِرَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ ; أَيْ أَوَّلُ كُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْآخَرِينَ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ إِلَّا التَّنْسِيقُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي اه. وَقَوْلُهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَأَنَّهُ صِفَةُ النَّكِرَةِ ; أَيِ النَّكِرَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ ; لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَوْصُوفَةَ تَعُمُّ، فَالْمَعْنَى أَوَّلُ كُلِّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثَلَاثَةُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ تَقْدِيمَ الذِّكْرَى يُفِيدُ التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ابْدَأُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فِي أَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ» ". وَرُوِيَ (ثَلَاثَةٌ) بِالضَّمِّ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ; أَيْ أَوَّلُ جَمَاعَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَرُوِيَ بِرَفْعِ (ثَلَاثَةٌ) فَضَمُّ أَوَّلَ لِلْبِنَاءِ كَضَمِّ: قَبْلُ وَبَعْدُ وَهُوَ ظَرْفُ عَرَضَ ; أَيْ عَرَضَ عَلَيَّ أَوَّلُ أَوْقَاتِ الْعَرْضِ ثَلَاثَةٌ، أَوْ ثَلَاثَةٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ (شَهِيدٌ) : فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ الشَّهِيدُ شَهِيدًا ; لِأَنَّهُ حَيٌّ، فَكَأَنَّ رُوحَهُ شَاهِدَةٌ ; أَيْ حَاضِرَةٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُشْهَدُ لَهُ بِالْإِيمَانِ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ الَّذِي يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلَاغِ الرُّسُلِ (وَعَفِيفٌ) : أَيْ عَمَّا لَا يَحِلُّ (مُتَعَفِّفٌ) : أَيْ عَنِ السُّؤَالِ مُكْتَفٍ بِالْيَسِيرِ عَنْ طَلَبِ الْفُضُولِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ، وَقِيلَ: أَيْ مُنَزَّهٌ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ صَابِرٌ عَلَى مُخَالَفَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ (وَعَبْدٌ) : أَيْ مَمْلُوكٌ (أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ) : بِأَنْ قَامَ بِشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَخْلَصَ عِبَادَتَهُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» ". وَلَا يَخْفَى عَدَمُ مُلَاءَمَتِهِ لِلْمَقَامِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ قَامَ بِحَقِّ خَالِقِهِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ (وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ) : أَيْ أَرَادَ الْخَيْرَ لَهُمْ وَقَامَ بِحُقُوقِهِمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «عَرَضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَأَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَأَمَّا أَوَّلُ ثَلَاثَةِ الْجَنَّةِ ; فَالشَّهِيدُ، وَمَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِسَيِّدِهِ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ. وَأَمَّا أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَأَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ» ".

3833 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقِيَامِ. قِيلَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ. قِيلَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ، قِيلَ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ: مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَيْمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجِهَادٌ لَا غُلُولَ فِيهِ، وَحَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ. قِيلَ: فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ،» ثُمَّ اتَّفَقَا فِي الْبَاقِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3833 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ وُفِي آخِرِهِ يَاءُ النِّسْبَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَثْعَمِيٌّ لَهُ رِوَايَةٌ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، سَكَنَ مَكَّةَ رَوَى عَنْهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ مُصَغَّرَانِ وَغَيْرُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ) : أَيْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ (أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقِيَامِ) : لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَثْرَةُ الْقِرَاءَةِ وَإِطَالَةُ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ إِطَالَةَ السُّجُودِ أَفْضَلُ، فَلِكَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْمَسْكَنَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. (قَالَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ) : أَيْ مِنْ أَنْوَاعِهَا (أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ طَاقَةُ الْفَقِيرِ وَمَجْهُودُهُ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ بِجُهْدٍ وَمَشَقَّةٍ لِقِلَّةِ مَالِهِ، وَلِهَذَا وَرَدَ: سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ أَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَخَذَ مِنْ عَرْضِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِجُهْدِ الْمُقِلِّ مَا أَعْطَاهُ الْفَقِيرُ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ فَيُقَيَّدُ بِمَا إِذَا قَدَرَ عَلَى الصَّبْرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ تَضِيعُ بِإِنْفَاقِهِ (قِيلَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ) : أَيْ مِنْ أَصْنَافِهَا (أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ) : أَيْ هِجْرَةُ مَنْ هَجَرَ، أَوْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ فَأَيُّ صَاحِبِ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ (مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) : وَكَذَا قَوْلُهُ (قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ) : وَلِتَوَقُّفِ هَذَا الْجِهَادِ عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَرَدَ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ أَنْ يُجَاهِدَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ، رَوَاهُ ابْنُ النَّجَّارِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ،

وَلِهَذَا سُمِّيَ جِهَادًا أَكْبَرَ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْأَفْضَلِيَّةُ إِضَافِيَّةٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ. (قِيلَ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ: مَنْ أُهْرِيقَ) : بِسُكُونِ الْهَاءِ ; أَيْ أُرِيقَ وَسُفِكَ (دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ) : أَيْ جُرِحَ فَرَسُهُ الْجَيِّدُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَفِي الْكَلَامِ كِنَايَتَانِ عَنْ قَتْلِهِ وَقَتْلِ مَرْكُوبِهِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْجِهَادِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَمَالًا وَنَفْسًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ تَغْيِيرَ الْعِبَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ إِنَّمَا كَانَ لِاهْتِمَامِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرَفِ هُوَ الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ وَالرِّفْعَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْزِلَةَ دَرَجَةِ الشَّهِيدِ الَّذِي نَالَ مِنْ دَرَجَاتِ الشَّهَادَةِ أَقْصَاهَا وَغَايَتَهَا هُوَ الْفِرْدَوْسُ الْأَعْلَى، وَهَذَا الشَّهِيدُ هُوَ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَجَوَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَطْعُ عَقِبِ الْجَوَادِ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ شَجَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِمَّا لَا يُطَاقُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ إِلَّا بِعَقْرِ جَوَادِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . (وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ) : أَيْ بَعْدَهُ إِذْ لَا يَجْتَمِعَانِ (وَجِهَادٌ لَا غُلُولَ فِيهِ) : وَالْغُلُولُ بِضَمٍّ أَوَّلِهُ الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ، وَوَرَدَ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَعَلَّهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ سَائِلِهَا، أَوْ بَعْضُهَا إِضَافِيَّةٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ مِنْ أَفْضَلِهَا (وَحَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ) : وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ: " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ " وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمَبْرُورِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْمَبْرُورَ هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ إِثْمٌ، وَقِيلَ: الْمُتَقَبَّلُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ وَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ بَعْدَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ أَنْ يَرْجِعَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْعُقْبَى. (قِيلَ. فَأَيُّ الصَّلَاةِ) : أَيْ مِنْ أَحْوَالِهَا (أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ) : أَيِ الْقِيَامِ، أَوِ السُّكُونِ وَالْخُشُوعِ فِي السُّجُودِ (ثُمَّ اتَّفَقَا) : أَيْ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ (فِي الْبَاقِي) : أَيْ بَاقِي الْحَدِيثِ.

3834 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْقَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3834 - (وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ) : لَا يُوجَدُ مَجْمُوعُهَا لِأَحَدٍ غَيْرِهِ (يُغْفَرُ لَهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ تُمْحَى ذُنُوبُهُ (فِي أَوَّلِ دَفْقَةٍ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ. الْجَوْهَرِيُّ: الدُّفْقَةُ مِنَ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ بِالضَّمِّ مِثْلُ الدُّفْعَةِ وَبِالْفَتْحِ الْوَاحِدَةُ ; أَيْ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْقَةٍ وَصَبَّةٍ مِنْ دَمِهِ (وَيَرَى) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ مَنَّ الْإِرَاءَةِ وَيُفْتَحُ وَقَوْلُهُ: (مَقْعَدَهُ) : بِالنَّصْبِ لَا غَيْرَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَكِنٌّ فِي يَرَى وَقَوْلُهُ: (مِنَ الْجَنَّةِ) : مُتَعَلِّقٌ بِهِ، هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ قَوْلَهُ: وَيَرَى مَقْعَدَهُ عَلَى أَنَّهُ عَطَفُ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ: يُغْفَرُ لَهُ لِئَلَّا تَزِيدَ الْخِصَالُ عَلَى سِتٍّ، لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ: (وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) : أَيْ يُحْفَظُ وَيُؤَمَّنُ إِذِ الْإِجَارَةُ مُنْدَرِجَةٌ فِي الْمَغْفِرَةِ إِذَا حُمِلَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا (وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] قِيلَ: هُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَقِيلَ: الْعَرْضُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: هُوَ وَقْتُ يُؤْمَرُ أَهْلُ النَّارِ بِدُخُولِهَا، وَقِيلَ: ذَبْحُ الْمَوْتِ فَيَيْأَسَ الْكُفَّارُ عَنِ التَّخَلُّصِ مِنَ النَّارِ بِالْمَوْتِ، وَقِيلَ: وَقْتُ إِطْبَاقِ النَّارِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] (وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ) : أَيِ الْمَعَزَّةُ. وَفَى النِّهَايَةِ: التَّاجُ مَا يُصَاغُ لِلْمُلُوكِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ (الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا) : أَيْ مِنَ التَّاجِ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ

أَنَّهُ عَلَامَةُ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَجْمُوعٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا. (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ) : أَيْ يُعْطَى بِطَرِيقِ الزَّوْجِيَّةِ (اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً) : فِي التَّقْيِيدِ بِالثِّنَتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّحْدِيدُ، لَا التَّكْثِيرُ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ هَذَا أَقَلُّ مَا يُعْطَى، وَلَا مَانِعَ مِنَ التَّفَضُّلِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا (مِنَ الْحُورِ الْعِينِ) : أَيْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ وَاحِدَتُهَا حَوْرَاءُ، وَهِيَ الشَّدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ الشَّدِيدَةُ سَوَادِهَا، وَالْعِينُ جَمْعُ عَيْنَاءَ وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنِ (وَيُشَفَّعُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ ; أَيْ يُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ (فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ) : أَيْ أَقَارِبِهِ وَأَحْبَابِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3835 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ وَفِيهِ ثُلْمَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3835 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ) : الْأَثَرُ بِفَتْحَتَيْنِ مَا لَقِيَ مِنَ الشَّيْءِ دَالًّا عَلَيْهِ. قَالَهُ الْقَاضِي، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعَلَامَةُ ; أَيْ مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ عَلَامَةٍ مِنْ عَلَامَاتِ الْغَزْوِ مِنْ جِرَاحَةٍ، أَوْ غُبَارِ طَرِيقٍ، أَوْ تَعَبِ بَدَنٍ، أَوْ صَرْفِ مَالٍ، أَوْ تَهْيِئَةِ أَسْبَابٍ وَتَعْبِيَةِ أَسْلِحَةٍ (لَقِيَ اللَّهَ) : أَيْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَفِيهِ ثُلْمَةٌ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ ; أَيْ: خَلَلٌ وَنُقْصَانٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ وَمُجَاهَدَةِ الْمُجَاهَدَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُقَيَّدًا بِمَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ الشُّرُوعِ فِي تَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمُرَادِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: مِنْ جِهَادٍ صِفَةُ أَثَرٍ وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَتَعُمُّ كُلَّ جِهَادٍ مَعَ الْعَدُوِّ وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُجَاهَدَةِ قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] الثُّلْمَةُ هَاهُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلنُّقْصَانِ، وَأَصْلُهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي نَحْوِ الْجِدَارِ، وَلَمَّا شُبِّهَ الْإِسْلَامُ بِالْبِنَاءِ فِي قَوْلِهِ: " بُنِيَ «الْإِسْلَامُ عَلَى خُمْسٍ» " جُعِلَ كُلُّ خَلَلٍ فِيهِ وَنُقْصَانٍ ثُلْمَةً عَلَى سَبِيلِ التَّرْشِيحِ، وَهَذَا ; أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَيَنْصُرُهُ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ يَعْنِي الْآتِي، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

3836 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشَّهِيدُ لَا يَجِدُ أَلَمَ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ الْقَرْصَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3836 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّهِيدُ) : أَيِ الْحَقِيقِيُّ وَفِي مَعْنَاهُ الْحُكْمِيُّ (لَا يَجِدُ أَلَمَ الْقَتْلِ) : وَفِي رِوَايَةٍ مَسَّ الْقَتْلِ ; أَيْ شِدَّةَ الْمَوْتِ (إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ الْقَرْصَةِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: مَسَّ الْقَرْصَةِ وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ هِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْقَرْصِ، وَهُوَ عَضُّ النَّمْلَةِ الْإِنْسَانَ. وَقِيلَ أَخْذُ الْجِلْدِ بِنَحْوِ ظُفْرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَرْصُ الْأَخْذُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ وَأَتَى بِأَدَاةِ الْحَصْرِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَصَوَّرُ أَنَّ أَلَمَهُ يَفْضُلُ عَلَى أَلَمِهَا، وَذَلِكَ فِي شَهِيدٍ دُونَ شَهِيدٍ، شَهِيدٌ يَتَلَذَّذُ بِذُلِّ مُهْجَتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ كَعُمَيْرِ بْنِ الْحُطَامِ وَإِلْفَاءِ ثَمَرَاتِهِ وَلِقَائِهِ الْمَوْتَ كَمَا مَرَّ وَأَنْشَدَ خُبَيْبٌ الْأَنْصَارَ حِينَ قُتِلَ: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... شَارَكَ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ اه. وَالْمَعْنَى يُبَارِكُ عَلَى أَعْضَاءِ جِسْمٍ مُقَطَّعِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صُلِبَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقِصَّتُهُ أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَأُسِرَ فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ فَاشْتَرَاهُ أَبُو الْحَارِثِ بْنُ عَامِرٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ قَدْ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، فَاشْتَرَاهُ بَنُوهُ لِيَقْتُلُوهُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، ثُمَّ صَلَبُوهُ بِالتَّنْعِيمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. وَفِي الْمَوَاهِبِ: لَمَّا خَرَجُوا بِخُبَيْبٍ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ قَالَ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَنْشَدَ خُبَيْبٌ يَقُولُ: الْبَيْتَيْنِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ.

3837 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ، وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةِ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةِ دَمٍ يُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3837 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ، وَأَثَرَيْنِ) : أَيْ خُطْوَتَيْنِ (قَطْرَةِ دُمُوعٍ) : بِجَرِّهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهَا وَنَصْبُهَا ; أَيْ: قَطْرَةِ بُكَاءٍ حَاصِلَةٍ (مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) : أَيْ خَوْفِهِ وَعَظَمَتِهِ الْمُورِثَةِ لِمَحَبَّتِهِ (وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَيُفْتَحُ، وَهُوَ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ قَطْرَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ دَمٍ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْجِهَادَ وَغَيْرَهُ مِنْ سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ إِفْرَادِ الدَّمِ وَجَمْعِ الدُّمُوعِ أَنَّ الدَّمْعَ غَالِبًا يَتَقَاطَرُ وَيَتَكَاثَرُ بِخِلَافِ الدَّمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِقَطْرَةِ الدَّمِ قَطَرَاتُهَا، فَلَمَّا أُضِيفَتْ إِلَى الْجَمْعِ أُفْرِدَتْ ثِقَةً بِذِهْنِ السَّامِعِ، وَفِي إِفْرَادِ الدَّمِ وَجَمْعِ الدُّمُوعِ ; إِيذَانٌّ بِتَفْضِيلِ إِهْرَاقِ الدَّمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى تَقَاطُرِ الدَّمْعِ بُكَاءً اه. وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: فَأَمَّا الْقَطْرَتَانِ فَكَذَا وَكَذَا عَطَفٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ: (وَأَمَّا الْأَثَرَانِ، فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : كَخُطْوَةٍ، أَوْ غُبَارٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ فِي الْجِهَادِ، أَوْ سَوَادِ حِبْرٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ (وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى) : كَإِشْقَاقِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ فِي الْبَرْدِ، وَبَقَاءِ بَلَلِ الْوُضُوءِ فِي الْحَرِّ، وَاحْتِرَاقِ الْجَبْهَةِ مِنَ الرَّمْضَاءِ، وَخُلُوفِ فَمِهِ فِي الصَّوْمِ، وَاغْبِرَارِ قَدَمِهِ فِي الْحَجِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

3838 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْكَبِ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3838 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَرْكَبِ الْبَحْرَ) بِصِيغَةِ النَّهْيِ لِلْمُخَاطَبِ خِطَابًا عَامًّا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّفْيِ وَهُوَ بِمَعْنَى النَّهْيِ (إِلَّا حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ إِلَى الْمَهَالِكِ، وَبِوَقْعِهِ مَوَاقِعَ الْأَخْطَارِ، إِلَّا لِأَمْرِ دِينٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْسِنُ بَذْلَ النَّفْسِ فِيهِ، وَإِيثَارَهُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَحْرَ عُذْرٌ لِتَرْكِ الْحَجِّ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ فَفَرَضَ عَلَيْهِ يَعْنِي وَإِلَّا فَهُوَ مُخَيَّرٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ; أَيْ لَا تُوقِعُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْهَلَاكِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ وَأَمْرٌ دِينِيٌّ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ; أَيْ بِالْإِسْرَافِ وَتَضْيِيعِ وَجْهِ الْمَعَاشِ، أَوْ بِالْكَفِّ عَنِ الْغَزْوِ وَالْإِنْفَاقِ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي الْعَدُوَّ وَيُسَلِّطُهُمْ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، وَكَثَّرَ اللَّهُ أَهْلَهُ رَجَعْنَا إِلَى أَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا نُقِيمُ فِيهَا فَنَزَلَتْ، أَوْ بِالْإِمْسَاكِ وَحُبِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ الْمُؤَبَّدِ. وَقَوْلُهُ: ( «فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا» ) : يُرِيدُ بِهِ تَهْوِيلَ شَأْنِ الْبَحْرِ وَتَعْظِيمَ الْخَطَرِ فِي رُكُوبِهِ، فَإِنَّ رَاكِبَهُ مُتَعَرِّضٌ لِلْآفَاتِ الْمُهْلِكَةِ كَالنَّارِ وَالْفِتَنِ الْمُغْرِقَةِ كَالْبَحْرِ إِحْدَاهُمَا وَرَاءَ الْأُخْرَى، فَإِنْ أَخْطَأَتْ وَرْطَةٌ مِنْهَا جَذَبَتْهُ أُخْرَى بِمَخَالِبِهَا، فَمَهَالِكُهَا مُتَرَاكِمَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، لَا يُؤَمَنُ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ، وَقَدِ احْتَرَقَتْ سَفِينَةٌ فِي زَمَانِنَا وَاحْتَرَقَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَغَرِقَ بَعْضٌ مِنْهُمْ، وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ نَجَوْا بِمِحَنٍ شَدِيدَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «الْبَحْرُ مِنْ جَهَنَّمَ» عَلَى مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] ; أَيْ أُحْمِيَتْ وَأُوقِدَتْ، أَوْ مُلِئَتْ بِتَفْجِيرِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى تَعُودَ بَحْرًا وَاحِدًا وَتَصِيرَ نَارًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3839 - وَعَنْ أُمِّ حَرَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَالْغَرِيقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3839 - (وَعَنْ أُمِّ حَرَامٍ) : ضِدُّ الْحَلَالِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ بِنْتُ مِلْحَانَ بِكَسْرِ الْمِيمِ ابْنِ خَالِدٍ النَّجَّارِيَّةُ، وَهِيَ أُخْتُ أَمِّ سُلَيْمٍ أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِيلُ فِي بَيْتِهَا زَوْجَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، مَاتَتْ غَازِيَةً مَعَ زَوْجِهَا بِأَرْضِ الرُّومِ وَقَبْرُهَا بِقُبْرُصَ، رَوَى عَنْهَا ابْنُ أُخْتِهَا أَنَسٌ، وَزَوْجُهَا عُبَادَةُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَقِفُ لَهَا عَلَى اسْمٍ صَحِيحٍ غَيْرَ كُنْيَتِهَا، وَكَانَ مَوْتُهَا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ) : اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ مَادَ يَمِيدُ إِذَا مَالَ وَتَحَرَّكَ، وَهُوَ الَّذِي يَدُورُ رَأْسُهُ مِنْ رِيحِ الْبَحْرِ، وَاضْطِرَابِ السَّفِينَةِ بِالْأَمْوَاجِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لَا مُخَصِّصَةٌ (لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ وَأَصَابَهُ دَوَرَانٌ، فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ إِنْ رَكِبَهُ لِطَاعَةٍ كَالْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَتَحْصِيلِ الْعِلْمِ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ، وَلَمْ يَتَّجِرْ لِطَلَبِ زِيَادَةِ الْمَالِ، بَلْ لِلْقُوتِ (وَالْغَرِيقُ) : أَيْ فِي الْبَحْرِ لِمَا ذُكِرَ (لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ) : أَحَدُهُمَا لِقُعُودِ الطَّاعَةِ وَالْآخَرُ لِلْغَرَقِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْهَا بِلَفْظِ: " «لِلْمَائِدِ أَجْرُ شَهِيدٍ وَلِلْغَرِيقِ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ» ".

3840 - وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَاتَ، أَوْ قُتِلَ، أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ، أَوْ بَعِيرُهُ، أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3840 - (وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو مَالِكٍ كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيُّ كَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْهُ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، أَوْ أَبُو عَامِرٍ بِالشَّكِّ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: وَأَبُو مَالِكٍ هُوَ الصَّوَابُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ فَصَلَ، أَيْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249] الْكَشَّافُ: فَصَلَ عَنْ مَوْضِعِ كَذَا إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ وَجَاوَزَهُ، وَأَصْلُهُ فَصَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ كَثُرَ مَحْذُوفًا بِهِ الْمَفْعُولُ حَتَّى صَارَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي كَانْفَصَلَ، وَقِيلَ فَصَلَ عَنِ الْبَلَدِ فُصُولًا (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ لِلْجِهَادِ وَنَحْوِهِ (فَمَاتَ) : أَيْ بِجِرَاحَةٍ (أَوْ قَتْلٍ، أَوْ وَقَصَهُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ صَرَعَهُ وَدَقَّ عُنُقَهُ (فَرَسُهُ، أَوْ بَعِيرُهُ، أَوْ لَدَغَتْهُ) : بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: لَسَعَتْهُ (هَامَّةٌ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ ; أَيْ ذَاتُ سُمٍّ تَقْتُلُ، أَمَّا مَا يَسُمُّ وَلَا يَقْتُلُ فَهُوَ السَّامَّةُ كَالْعَقْرَبِ وَالزُّنْبُورِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَيِّ حَتْفٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ: أَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْهَلَاكِ (شَاءَ اللَّهُ) : أَيْ قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ (فَإِنَّهُ شَهِيدٌ) : أَيْ إِمَّا حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا (وَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ) : أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا مَعَ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى حُصُولِ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْمُقَاتَلَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ لَهُ بَدَلَهُ الْجَنَّةَ، فَهُوَ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

3841 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَفْلَةٌ كَغَزْوَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3841 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (قَفْلَةٌ كَغَزْوَةٍ) : فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْمَرَّةُ مِنَ الْقُفُولِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ عَنْ سَفَرِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّ أَجْرَ الْمُجَاهِدِ انْصِرَافُهُ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ غَزْوِهِ كَأَجْرِهِ فِي إِقْبَالِهِ إِلَى الْجِهَادِ ; لِأَنَّ فِي قُفُولِهِ إِرَاحَةً لِلنَّفْسِ وَاسْتِعْدَادًا بِالْقُوَّةِ لِلْعَوْدِ وَحِفْظًا لِأَهْلِهِ بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ، وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ أَنَّ الْحَاجَّ فِي ضَمَانِ اللَّهِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، وَثَانِيهَا: إِرَادَتُهُ التَّعْقِيبَ، وَهُوَ رُجُوعُهُ ثَانِيًا فِي الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ مُنْصَرِفًا، وَإِنْ لَمْ يَلْقَ عَدُوًّا وَلَمْ يَشْهَدْ قِتَالًا، وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْجَيْشُ إِذَا انْصَرَفُوا مِنْ مَغْزَاهُمْ نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ

الْعَدُوَّ إِذَا رَآهُمْ قَدِ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ أَمِنُوهُمْ وَخَرَجُوا مِنْ أَمْكِنَتِهِمْ، فَإِذَا قَفَلَ الْجَيْشُ إِلَى دَارِ الْعَدُوِّ نَالُوا الْفُرْصَةَ مِنْهُمْ فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ إِذَا انْصَرَفُوا ظَاهِرِينَ لَمْ يَأْمَنُوا أَنْ يَقْفُوا الْعَدُوُّ أَثَرَهُمْ فَيُوقِعُوا بِهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَرُبَّمَا اسْتَظْهَرَ الْجَيْشُ، أَوْ بَعْضُهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَى أَدْرَاجِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ طَلَبٌ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلِقَائِهِمْ، وَإِلَّا فَقَدْ سَلِمُوا وَأَحْرَزُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَثَالِثُهُمَا: أَنْ يَكُونَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ قَفَلُوا لِخَوْفِهِمْ أَنْ يَدْهَمَهُمْ مِنْ عَدُّوِهِمْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْهُمْ، فَقَفَلُوا لِيَسْتَضِيفُوا إِلَيْهِمْ عَدَدًا آخَرَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، ثُمَّ يَكُرُّوا عَلَى عَدُوِّهِمْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَقْوَمُ ; لِأَنَّ الْقُفُولَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهُ مِنْهُ. قُلْتُ: وَيُرِيدُهُ أَنَّ الْقَفْلَةَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِيهَا أَنَّهَا غَزْوَةٌ، فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ قَوْلِهِ: كَغَزْوَةٍ فَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى يُثَابُ الْغَازِي بِقُفُولِهِ وَرُجُوعِهِ، كَمَا يُثَابُ بِتَوَجُّهِهِ إِلَى الْعَدُوِّ وَغَزْوِهِ ; لِأَنَّ حَرَكَاتِ الْقُفُولِ مِنْ تَوَابِعِ الْغَزْوِ فَتَكُونُ فِي حُكْمِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّشْبِيهُ إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ إِمَّا لِإِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ، أَوْ لِبَيَانِ الْمُسَاوَاةِ، فَالتَّنْكِيرُ إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: رُبَّ قَفْلَةٍ تُسَاوِي الْغَزْوَةَ لِمَصْلَحَةٍ مَا كَمَا ذُكِرَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقَفْلَةُ أَرْجَحَ مِنَ الْغَزْوَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْغَزْوَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْقَفْلَةِ مَصْلِحَةٌ لَهُمْ كَمَا ذُكِرَ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُسْتَعَارَ الْقَفْلَةُ لِلْكُرَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

3842 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلْغَازِي أَجْرُهُ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الْغَازِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3842 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِلْغَازِي أَجْرُهُ) : أَيْ ثَوَابُهُ الْكَامِلُ الْمُخْتَصُّ بِهِ (وَلِلْجَاعِلِ) : أَيْ لِلْمُعِينِ لِلْغَازِي بِبَذْلِ جَعْلٍ لَهُ، أَوْ بِتَجْهِيزِ أَسْبَابِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ (أَجْرُهُ) : أَيْ أَجْرُ نَفَقَتِهِ (وَأَجْرُ الْغَازِي) : أَيِ الَّذِي يَغْزُو بِسَبَبِ أُجْرَتِهِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجَاعِلُ مَنْ يَدْفَعُ جَعْلًا ; أَيْ أُجْرَةً إِلَى غَازٍ لِيَغْزُوَ، وَهَذَا عِنْدَنَا صَحِيحٌ فَيَكُونُ لِلْغَازِي أَجْرُ سَعْيِهِ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرَانِ أَجْرُ إِعْطَاءِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَجْرُ كَوْنِهِ سَبَبًا لِغَزْوِ ذَلِكَ الْغَازِي، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَوْجَبَ رَدَّهُ أَنْ أَخَذَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ كَانَ الثَّانِي عَيْنَ أَوَّلٍ، فَالْمُرَادُ بِالْغَازِي الْأَوَّلِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَهُ جَعَالَةً، فَمَنْ شَرَطَ لِلْغَازِي جَعْلًا فَلَهُ أَجْرُ بَذْلِ الْمَالِ الَّذِي جَعَلَهُ جَعْلًا، وَأَجْرُ غِزَاءِ الْمَجْعُولِ لَهُ فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا» " الْحَدِيثَ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» ". وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ تَرْغِيبٌ لِلْجَاعِلِ وَرُخْصَةٌ لِلْمَجْعُولِ لَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ أَخْذِ الْجَعْلِ عَلَى الْجِهَادِ، فَرَخَّصَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ قَوْمٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْزُوَ بِجَعْلٍ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى هَذَا فَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنْ يُحْمَلَ الْجَاعِلُ عَلَى الْمُجَهِّزِ لِلْغَازِي، وَالْمُعِينِ لَهُ بِبَذْلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَيَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ الْغَزْوِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْجَارٍ وَشَرْطٍ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا جَعْلُهُ غَازِيًا لَا أَجِيرًا كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3843 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الْأَمْصَارُ، وَسَتَكُونُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، يُقْطَعُ عَلَيْكُمْ فِيهَا بُعُوثٌ، فَيَكْرَهُ الرَّجُلُ الْبَعْثَ، فَيَتَخَلَّصُ مَنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ يَتَصَفَّحُ الْقَبَائِلَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، مَنْ أَكْفِيهِ بَعْثَ كَذَا أَلَا وَذَلِكَ الْأَجِيرُ إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3843 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الْأَمْصَارُ) : أَيِ الْبُلْدَانُ الْكِبَارُ وَخُصَّتْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ مَدَارُ الدِّيَارِ (وَسَتَكُونُ) : أَيْ تُوجَدُ وَتَقَعُ (جُنُودٌ) : جَمْعُ جُنْدٍ ; أَيْ أَعْوَانٌ وَأَنْصَارٌ (مُجَنَّدَةٌ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ ; أَيْ مُجْتَمَعَةٌ، وَفِي النِّهَايَةِ ; أَيْ مَجْمُوعَةٌ كَمَا يُقَالُ: أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَقَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ (يُقْطَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ يُعَيَّنُ (عَلَيْكُمْ فِيهَا) : أَيْ فِي تِلْكَ الْجُنُودِ (بُعُوثٌ) : جَمْعُ بَعْثٍ بِمَعْنَى الْجَيْشِ، يَعْنِي يُلْزَمُونَ أَنْ يُخْرِجُوا بُعُوثًا تَنْبَعِثُ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ إِلَى الْجِهَادِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِذَا بَلَغَ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ يَحْتَاجُ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ يُرْسِلَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ جَيْشًا لِيُحَارِبَ مَنْ يَلِي تِلْكَ النَّاحِيَةَ الْكُفَّارَ كَيْلَا

يَغْلِبَ كُفَّارُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ عَلَى مَنْ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فَيَكْرَهُ الرَّجُلُ الْبَعْثَ) : أَيِ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَعْثِ إِلَى الْغَزْوِ بِلَا أَجْرِهِ (فَيَتَخَلَّصُ مِنْ قَوْمِهِ) : أَيْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ وَيَفِرُّ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْغَزْوِ (ثُمَّ يَتَصَفَّحُ الْقَبَائِلَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ) : أَيْ يَتَفَحَّصُ عَنْهَا وَيَتَسَاءَلُ فِيهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ فَارَقَ هَذَا الْكَسْلَانُ قَوْمَهُ كَرَاهِيَةَ الْغَزْوِ وَيَتَتَبَّعُ الْقَبَائِلَ طَالِبًا مِنْهُمْ أَنْ يَشْرُطُوا لَهُ شَيْئًا وَيُعْطُوهُ (قَائِلًا مَنْ أَكْفِيهِ بَعْثَ كَذَا) : أَيْ مِنْ يَأْخُذُنِي أَجِيرًا أَكْفِيهِ جَيْشَ كَذَا، وَيَكْفِينِي هُوَ مُؤْنَتِي وَعَيْشَ كَذَا (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (وَذَلِكَ) : أَيِ الرَّجُلُ إِلَى كُرْهِ الْبَعْثِ تَطَوُّعًا (الْأَجِيرُ) : أَيْ لَا أَجْرَ لَهُ (إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ) : فَالْأَجْرُ خَبَرُ ذَلِكَ ; أَيْ: وَذَلِكَ الْأَجِيرُ أَجِيرٌ وَلَيْسَ بِغَازٍ إِلَى أَنْ يُقْتَلَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ رَغْبَةً فِيمَا عُقِدَ لَهُ مِنَ الْمَالِ لَا رَغْبَةً فِي الْجِهَادِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ أَجِيرًا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَفَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ جِهَادٌ كَسَائِرِ الْأَجِيرِ إِذَا لَمْ يَقْصِدُ بِغَزْوِهِ إِلَّا الْجَعْلَ الْمَشْرُوطَ، وَالْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ ثَوَابِ الْغَزْوِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ اه. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3844 - وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «آذَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغَزْوِ وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ لِي خَادِمٌ، فَالْتَمَسْتُ أَجِيرًا يَكْفِينِي، فَوَجَدْتُ رَجُلًا سَمَّيْتُ لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَةٌ، أَرَدْتُ أَنْ أُجْرِيَ لَهُ سَهْمَهُ، فَجِئْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ لَهُ. فَقَالَ: " مَا أَجِدُ لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِي تُسَمِّي» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3844 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: آذَنَ) : بِالْمَدِّ ; أَيْ أَعْلَمَ، أَوْ نَادَى (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغَزْوِ: أَيْ بِالْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ (وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ لِي خَادِمٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: (لَيْسَ لِي خَادِمٌ) صِفَةُ (شَيْخٌ) ; أَيْ: لَيْسَ لِي مَنْ يَخْدِمُنِي فِي الْغَزْوِ وَيُعَاوِنُنِي اه. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُهُ، وَلَوْ كَانَ صِفَةَ شَيْخٍ لَقَالَ: لَيْسَ لِي خَادِمٌ (فَالْتَمَسْتُ) : أَيْ طَلَبْتُ (أَجِيرًا يَكْفِينِي، فَوَجَدْتُ رَجُلًا سَمَّيْتُ لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ: وَفِي نُسْخَةٍ: سُمِّيَ ; أَيْ عُيِّنَ لَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، وَلَعَلَّهَا مَا عَدَا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَتَوَابِعَهَا (فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَةٌ) : أَيْ وَقَعَتْ وَحَصَلَتْ (أَرَدْتُ أَنْ أُجْرِيَ) : مِنِ الْإِجْرَاءِ ; أَيْ أُمْضِيَ (لَهُ سَهْمَهُ) : أَيْ رَاكِبًا، أَوْ مَاشِيًا كَسَائِرِ الْغُزَاةِ. فَتَرَدَّدْتُ فِي جَوَازِهِ وَعَدَمِهِ (فَجِئْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ لَهُ) : أَيِ الْقَضِيَّةَ (قَالَ: مَا أَجِدُ) : أَيْ مَا أَعْرِفُ (لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِي تُسَمَّى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ تُعَيَّنُ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَتَقْبِيحِ حَالِهِ فِي مَيْلِهِ إِلَى الْمَالِ وَإِعْرَاضِهِ عَنِ الْمَآلِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي الْأَجِيرِ لِلْعَمَلِ وَحِفْظِ الدَّوَابِّ يَحْضُرُ الْوَاقِعَةَ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ؟ فَقِيلَ: لَا سَهْمَ لَهُ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ إِنَّمَا لَهُ أُجْرَةُ عَمَلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُسْهَمُ لَهُ كَانَ لَمْ يُقَاتِلْ إِذَا كَانَ مَعَ النَّاسِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأُجْرَةِ وَالسَّهْمِ اه. وَيَظْهَرُ لِي قَوْلٌ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ - أَنَّهُ إِذَا قَاتَلَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي إِجَارَتِهِ الْقِتَالَ يُجْمَعُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ وَالسَّهْمِ ; لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ بَلْ مُتَعَاضِدَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَاعِدَةِ مَذْهَبِنَا السَّابِقِ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ يَجْتَمِعَانِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3845 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا أَجْرَ لَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3845 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ) ; أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَهُوَ) : أَيْ: وَالْحَالُ (أَنَّهُ يَبْتَغِي عَرَضًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ قِيلَ: الْعَرَضُ بِالتَّحْرِيكِ مَا كَانَ مِنْ مَالٍ، أَوْ أَكْثَرَ، وَالْعَرْضُ بِالتَّسْكِينِ الْمَتَاعُ، وَكِلَاهُمَا هُنَا جَائِزٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ عَرَضٌ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُمَا عَيْنٌ ; أَيْ: يَطْلُبُ شَيْئًا (مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا) : أَيْ: مِنْ أَعْرَاضِهَا مِنَ الْمَالِ بِالْأُجْرَةِ، أَوِ الْجَاهِ بِالسُّمْعَةِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا أَجْرَ لَهُ) : إِذَا لَمْ يَغْزُ لِلَّهِ، وَأَمَّا إِذَا غَزَا لِلَّهِ وَلَمْ يَقْصِدِ الْغَنِيمَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152] ; أَيِ: الْغَنِيمَةَ أَيْضًا {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] أَيِ: الْأَجْرَ فَقَطْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثٍ: «أَنَّ الْغَازِيَ يَرْجِعُ بِأَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : كَانَ الْأَخْصَرُ أَنْ يَجْمَعَ الْمُؤَلَّفُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الثَّمَانِيَةِ وَيَقُولَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ.

3846 - وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْغَزْوُ غَزْوَانِ، فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الْإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ ; فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنَبَهَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ. وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا، وَرِيَاءً، وَسُمْعَةً، وَعَصَى الْإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْكَفَافِ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3846 - (وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْغَزْوُ: أَيْ: جِنْسُهُ لَا الْغَزْوُ الْمَعْهُودُ (غَزْوَانِ) : أَيْ: نَوْعَانِ، أَوْ قِسْمَانِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: غَزْوٌ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَغَزْوٌ لَا عَلَى مَا يَنْبَغِي، فَاقْتَصَرَ الْكَلَامُ وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْغُزَاةِ، وَعَدِّ أَصْنَافِهَا وَشَرْحِ حَالِهِمْ، وَبَيَانِ أَحْكَامِهِمْ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمَيْنِ، وَشَرْحِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفَصَّلًا حَيْثُ قَالَ: (فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ) : أَيْ: طَلَبَ رِضَا مَوْلَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَّا مَنْ غَزَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَطَاعَ الْإِمَامَ) : أَيْ: فِي غَزْوَةٍ فَأَتَى بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا أَمَرَهُ (وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ) : أَيِ: الْمُخْتَارَةَ مِنْ مَالِهِ وَقَتْلِ نَفْسِهِ، وَالتَّاءُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ (وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ) : مِنَ الْمُيَاسَرَةِ بِمَعْنَى الْمُسَاهَلَةِ ; أَيْ: سَاهَلَ الرَّفِيقَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَاسْتَعْمَلَ الْيُسْرَ مَعَهُ نَفْعًا بِالْمَعُونَةِ وَكِفَايَةً بِالْمُؤْنَةِ (وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ) : أَيِ: التَّجَاوُزَ عَنِ الْمَشْرُوعِ قَتْلًا وَضَرْبًا وَتَخْرِيبًا وَنَهْبًا عَلَى قَصْدِ الْفَسَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] ; أَيْ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا حَالَ كَوْنِكُمْ قَاصِدِينَ الْفَسَادَ، بَلْ مُرِيدِينَ صَلَاحَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ (فَإِنَّ نَوْمَهُ) : أَيْ: حِينَئِذٍ (وَنَبَهَهُ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِسُكُونِهَا ; أَيْ: يَقَظَتَهُ، وَفِي مَعْنَاهَا غَفْلَتَهُ، وَذِكْرَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ وَحَرَكَتَهُ وَسُكُونَهُ (أَجْرٌ) : أَيْ: ذُو أَجْرٍ وَثَوَابٍ (كُلُّهُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ ; أَيْ: كُلُّ مَا ذُكِرَ أَجْرٌ مُبَالَغَةً، كَرَجُلِ عَدْلٍ، أَوْ مُقْتَضٍ لِلْأَجْرِ جَالِبٌ لِلثَّوَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِاسْمِ إِنَّ أُتِيَ بِهِ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَفِي جَوَازِهِ مَحَلُّ نَظَرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ تَأْكِيدًا لِلْأَجْرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى ; أَيْ: لِمُضِيِّ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ مَحَطُّ الْحُكْمِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ التَّأْكِيدِ إِنَّمَا تَظْهَرُ قَبْلَ إِيقَاعِ الْخَبَرِ عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ أَعْنِي كُلَّهُ فَيَكُونُ جُمْلَةً مُؤَكِّدَةً قَالَ: وَالْمَعْنَى كُلٌّ مِنْ ذَلِكَ أَجْرٌ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مُشْعِرٌ بِاهْتِمَامِ حَمْلِ الْأَجْرِ عَلَى النَّوْمِ وَالنَّبَهِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ كَوْنِهِمَا شَيْئَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ غَايَةَ الِاسْتِقْلَالِ (وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا) : أَيْ: مُفَاخَرَةً، أَوْ لِلْفَخْرِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْفَخْرُ ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالشَّرَفِ، وَمِنْهُ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» " ; أَيْ: لَا أَقُولُ تَبَجُّحًا، وَلَكِنْ شُكْرًا لِلَّهِ وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَتِهِ (وَرِيَاءً وَسُمْعَةً) : أَيْ: لِيَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْمَعُوا صِيتَهُ فِي جَلَادَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ (وَعَصَى الْإِمَامَ) : أَيْ: فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ (وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ) : أَيْ: قَصَدَ الْفَسَادَ فِيهَا بِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. (فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْكَفَافِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا فَفِي الْقَامُوسِ: كَفَافُ الشَّيْءِ كَسَحَابٍ مُثَلَّثَةٌ، وَمِنَ الرِّزْقِ مَا كَفَّ عَنِ النَّاسِ، وَكِفَافُ الشَّيْءِ بِالْكَسْرِ خِيَارُهُ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْكَفَافُ الَّذِي لَا يَفْضُلُ عَنِ الشَّيْءِ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: لَمْ يَرْجِعْ بِالثَّوَابِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَفَافِ الشَّيْءِ وَهُوَ خِيَارُهُ، أَوْ مِنَ الرِّزْقِ ; أَيْ لَمْ يَرْجِعْ بِخَيْرٍ، أَوْ بِثَوَابٍ يُغْنِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَوْلُهُ: الْأَوَّلُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكِفَافَ بِالْكَسْرِ، وَالثَّانِي إِلَى أَنَّهُ بِالْفَتْحِ وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: لَمْ يَعُدْ مِنَ الْغَزْوِ رَأْسًا بِرَأْسٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ وَلَا عَلَيْهِ وِزْرٌ، بَلْ وِزْرُهُ أَكْثَرُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَغْزُ لِلَّهِ وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، يُقَالُ: دَعْنِي كَفَافًا ; أَيْ: تَكُفَّ عَنِّي وَأَكُفَّ عَنْكَ اه. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى كَسْرِ الْكَافِ، وَأَرَادَ بِهِ الْمَصْدَرَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَجْهُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي ; لِأَنَّ الْكَفَافَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوَابٌ أَيْضًا وَإِثْمٌ، وَيَزِيدُ إِثْمُهُ عَلَى ثَوَابِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَدِدْتُ أَنِّي سَلِمْتُ مِنَ الْخِلَافَةِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَ، وَالْمُرَائِي الْمُفْسِدُ لَيْسَ لَهُ ثَوَابٌ الْبَتَّةَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْمُرَائِي الَّذِي لَا يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، بَلْ يَعْمَلُ فَخْرًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً: تَبْطُلُ عِبَادَتُهُ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَهَذَا لَيْسَ يَقْصِدُ الْعِبَادَةَ، ثُمَّ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِحْبَاطِ عِبَادَتِهِ حَتَّى يُقَالَ: صَارَ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْعِبَادَةِ، بَلْ يَعْصِي بِذَلِكَ وَيَأْثَمُ اه.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ قَيَّدَ الْمُرَائِيَ بِالَّذِي لَا يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ جَمَعَ فِي الْعِبَادَةِ بَيْنَ النِّيَّتَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ أَنَّ الرِّيَاءَ ضَرْبَانِ: رِيَاءٌ مَحْضٌ وَرِيَاءُ تَخْلِيطٍ، فَالْمَحْضُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْعَ الدُّنْيَا لَا غَيْرَ، وَالتَّخْلِيطُ أَنْ يُرِيدَهُمَا جَمِيعًا، فَهَذَا أَحَدُهُمَا، وَأَمَّا تَأْثِيرُهُمَا فَإِنَّ إِخْلَاصَ الْعَمَلِ أَنْ يَجْعَلَ الْفِعْلَ قُرْبَةً، وَإِخْلَاصَ طَلَبِ الْأَجْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ مَقْبُولًا وَافِرَ الْأَجْرِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مِنْ تَأْثِيرِ الرِّيَاءِ رَفْعَ الْقَبُولِ وَالنُّقْصَانَ فِي الثَّوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَقَالَ فِي عَيْنِ الْعِلْمِ: إِلَّا فُحْشٌ فِي الرِّيَاءِ أَنْ لَا يُرِيدَ الثَّوَابَ أَصْلًا، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْمَقْتِ، ثُمَّ مَا فِيهِ إِرَادَتَانِ، وَالرِّيَاءُ غَالِبٌ فَهُوَ بِقُرْبِهِ، ثُمَّ مَا اسْتَوَيَا فِيهِ، فَالْمَرْجُوُّ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، ثُمَّ مَا تَرَجَّحَ فِيهِ قَصْدُ الثَّوَابِ، فَالْمَظْنُونُ أَنَّ الرَّاجِحَ فِيهِ النُّقْصَانُ لَا الْبُطْلَانُ، أَوِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ بِحَسَبِ الْقَصْدَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقُرْبَ مِنْهُ تَعَالَى بِالْمَيْلِ إِلَيْهِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ الذُّهُولُ، وَمَا وَرَدَ أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ وَنَحْوُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُرِيدَ الثَّوَابَ أَصْلًا، وَفِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا تَسَاوَيَا، أَوْ تَرَجَّحَ الرِّيَاءُ. قَالَ الْأَشْرَفُ: وَلَا بُدَّ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ غَزَا مِنْ إِضْمَارِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: فَأَمَّا غَزْوُ مَنِ ابْتَغَى، وَأَمَّا غَزْوُ مَنْ غَزَا فَإِنَّهُمَا قَسَمَانِ لِمَوْرِدِ الْقِسْمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا يَسْتَتِبُّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِجْرَاءُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ الْغَزْوُ غَزْوَانِ: غَزْوُ مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَغَزْوُ مَنْ لَمْ يَبْتَغِ، وَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، فَحُكْمُهُ كَذَا، وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا فَحُكْمُهُ كَذَا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ مَعَ التَّفْرِيقِ وَالتَّقْسِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} [هود: 105 - 106] الْآيَتَيْنِ فَحُذِفَ التَّفْرِيقُ لِدَلَالَةِ التَّقْسِيمِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي، فَاقْتَصَرَ الْكَلَامُ وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْغُزَاةِ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمَيْنِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ.

3847 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو! إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا ; بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا. وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا ; بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا. يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو! عَلَى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ، أَوْ قُتِلْتَ ; بَعَثَكَ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3847 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: بِالْوَاوِ (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْجِهَادِ) ; أَيْ: تَفْضِيلِهِ وَتَفْصِيلِهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَعَنْ ثَوَابِهِ وَعَنْ كَوْنِهِ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ وَغَيْرَ مَقْبُولٍ، وَالْجَوَابُ يُنْبِئُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الثَّالِثِ (فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عَمْرٍو) : لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالنِّدَاءِ إِظْهَارُ خُصُوصِيَّتِهِ، وَالْحَثُّ عَلَى إِقْبَالِهِ بِكُلِّيَّتِهِ (إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا) ; أَيْ: خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُمَا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ، أَوْ مُتَدَاخِلَانِ (بَعَثَكَ اللَّهُ تَعَالَى صَابِرًا مُحْتَسِبًا) ; أَيْ: مُتَّصِفًا بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، لِمَا رُوِي: كَمَا تَعِيشُونَ تَمُوتُونَ وَكَمَا تَمُوتُونَ تُحْشَرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَعَادَهُ فِي الْجَزَاءِ لِيُؤْذِنَ بِالتَّنْكِيرِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ لَهُ أَجْرًا وَثَوَابًا لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ ; أَيْ: بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا كَامِلًا فِيهِ، فَيُوَفَّى أَجْرًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَمُحْتَسِبًا ; أَيْ: مُخْلِصًا مُتَنَاهِيًا فِي إِخْلَاصِهِ رَاضِيًا وَمَرْضِيًّا وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، (وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا) ; أَيْ: فِي نِيَّةِ الْأَعْمَالِ (مُكْثِرًا) : أَيْ: فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ (بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا مُكْثِرًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّكَاثُرُ التَّبَارِي فِي الْكَرَّةِ وَالتَّبَاهِي بِهَا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ. قَالَ تَعَالَى: {وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20] فَالرَّجُلُ يُجَاهِدُ لِلْغَنِيمَةِ وَإِكْثَارِ الْمَالِ لِيُبَاهِيَ بِهِ، وَلِأَنْ يَكْثُرَ رِجَالُهُ وَأَعْوَانُهُ وَأَجْنَادُهُ وَلِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ قَوْلُهُ: مُكَاثِرًا ; أَيْ: مُفَاخِرًا، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَعَدَدًا ; أَيْ: غَزَوْتَ لِيُقَالَ: إِنَّكَ أَكْثَرُ جَيْشًا وَأَشْجَعُ ; أَيْ: يُنَادَى عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ هَذَا غَزَا فَخْرًا وَرِيَاءً لَا مُحْتَسِبًا بِأَعْمَالِهِ (يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو) ; أَيْ: كُنْ حَاضِرًا يَقِظًا مُتَأَمِّلًا مُتَفَكِّرًا (عَلَى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ، أَوْ قُتِلْتَ، بَعَثَكَ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ) : وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَعْمَالِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3848 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَعَجَزْتُمْ إِذَا بَعَثْتُ رَجُلًا فَلَمْ يَمْضِ لِأَمْرِي أَنْ تَجْعَلُوا مَكَانَهُ مَنْ يَمْضِي لِأَمْرِي» ؟ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ فَضَالَةَ: " «وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ» ". فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3848 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَعَجَزْتُمْ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ ; أَيْ أَمَا قَدَرْتُمْ (إِذَا بَعَثْتُ رَجُلًا) : أَيْ: أَمِيرًا، وَالْمَعْنَى إِذَا جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ أَمِيرًا (فَلَمْ يَمْضِ لِأَمْرِي) : بِأَنْ خَالَفَ أَمْرِي، أَوْ نَهْيِي (أَنْ تَجْعَلُوا مَكَانَهُ مَنْ يَمْضِي لِأَمْرِي) : مَفْعُولُ أَعَجَزْتُمْ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: إِذَا أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَمْرٍ فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ، فَأَقِيمُوا مَكَانَهُ غَيْرَهُ، أَوْ إِذَا بَعَثْتُهُ لِأَمْرٍ وَلَمْ يَمْضِ لِإِمْضَاءِ أَمْرِي وَعَصَانِي فَاعْزِلُوهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: فَاعْزِلُوهُ وَاجْعَلُوا مَكَانَهُ أَمِيرًا آخَرَ يَمْتَثِلُ أَمْرِي) وَعَلَى هَذَا إِذَا ظَلَمَ الْأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ، وَلَمْ يَقُمْ بِحَقِّ حِفْظِهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَعْزِلُوهُ وَيُقِيمُوا غَيْرَهُ مَكَانَهُ، وَقِيلَ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَزْلِهِ إِثَارَةُ فِتْنَةٍ وَإِرَاقَةُ دَمٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فِي الْأَمْوَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ ظُلْمًا، فَإِنْ كَانَ حُصُولُ الْقَتْلِ فِي عَزْلِهِ أَقَلَّ مِنَ الْقَتْلِ فِي بَقَائِهِ عَلَى الْعَمَلِ جَازَ لَهُمْ قَتْلُهُ وَقَتْلُ مُتَعَصِّبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ قَتْلُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . (وَذَكَرَ حَدِيثَ فَضَالَةَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ) : أَيْ: فِي طَاعَةِ اللَّهِ (فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ) : أَيْ: فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، فَلِتَكْرَارِهِ عَلَى وَضْعِ الْمَصَابِيحِ أَسْقَطَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ هَاهُنَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3849 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ، فَمَرَّ رَجُلٌ بِغَارٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ وَبَقْلٍ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَنْ يُقِيمَ فِيهِ وَيَتَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ، وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكَنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ، أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَمَقَامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ، خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ سِتِّينَ سَنَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3849 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ) : بِفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ وَهِيَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْجَيْشِ، يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعَمِائَةٍ تُبْعَثُ إِلَى الْعَدُوِّ، سُمُّوا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ خُلَاصَةَ الْعَسْكَرِ وَخِيَارَهُمْ مِنَ السَّرَى، وَهُوَ الشَّيْءُ النَّفِيسُ. وَفِي الْمُغْرِبِ: سَرَى بِاللَّيْلِ يَسْرِي مِنْ بَابِ ضَرَبَ بِمَعْنَى سَارَ لَيْلًا، وَأَسْرَى مِثْلُهُ، وَمِنْهُ السَّرِيَّةُ لِوَاحِدَةِ السَّرَايَا ; لِأَنَّهَا تَسْرِي خُفْيَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالِاخْتِيَارِ ; لِأَنَّهَا جَمَاعَةٌ سَرَاةٌ ; أَيْ مُخْتَارَةٌ، وَلَمْ يَرِدْ فِي تَحْدِيدِهَا نَصٌّ، وَمَحْصُولُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي السِّيَرِ أَنَّ التِّسْعَةَ فَمَا فَوْقَهَا سَرِيَّةٌ، وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ طَلِيعَةٌ لَا سَرِيَّةٌ، وَمَا رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أُنَيْسًا وَحْدَهُ سَرِيَّةً يُخَالِفُ ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ، مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْغَزْوَ فِي اصْطِلَاحِ أَهَّلِ السِّيَرِ وَالْمُحَدِّثِينَ، هُوَ الَّذِي حَضَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ الْأَنْفَسِ، وَغَيْرُهُ يُسَمَّى بَعْثًا وَسَرِيَّةً، فَعَلَى هَذَا يُشْكَلُ قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مُشَيِّعًا لَهُمْ، أَوْ يُرَادَ بِالسَّرِيَّةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَهُوَ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ تَسْرِي بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَيُرَادُ بِهِ الْأَخَصُّ وَهُوَ عَلَنًا، أَوْ جُرِّدَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ قَيْدِ خُفْيَةٍ. (فَمَرَّ رَجُلٌ) : أَيْ: مِنْ رِجَالِ السَّرِيَّةِ (بِغَارٍ فِيهِ شَيْءٌ) : أَيْ: قَلِيلٌ (مِنْ مَاءٍ) : أَيْ: يَكْفِي لِطَهَارَةِ السَّالِكِ وَشُرْبِهِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ جَارِيًا أَمْ لَا. (وَبَقْلٍ) : بِالْجَرِّ عَطَفٌ عَلَى مَاءٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى شَيْءٍ، وَالْمُرَادُ بَقْلٌ يَأْكُلُ مِنْهُ الطَّالِبُ، أَوْ يَتَنَزَّهُ مِنْهُ النَّاظِرُ (فَحَدَّثَ) : أَيْ: كَلَّمَ الرَّجُلُ (نَفْسَهُ) : عَلَى التَّجْرِيدِ، أَوْ حَدَّثَ فِي نَفْسِهِ (بِأَنْ يُقِيمَ فِيهِ) : أَيْ: بَعْدَ الْجِهَادِ، أَوْ قَبْلَهُ بِحَسَبِ الْجَذْبَةِ (وَيَتَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا) : أَيْ: مِنْ أَهْلِهَا وَمُتَعَلَّقَاتِهَا، وَيَكُونُ مُتَجَرِّدًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَثَمَرَاتِهِ (فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ) : أَيْ: فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَوْ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لَمْ أُرْسَلْ وَلَمْ أُؤْمَرْ (بِالْيَهُودِيَّةِ

وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ) : أَيْ: بِالْمِلَّةِ الَّتِي فِيهَا أُمُورٌ شَاقَّةٌ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَنَتِيجَتُهَا قَاصِرَةٌ عَلَى سُلَّاكِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ (وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ) : أَيِ: الْمِلَّةِ الْمَائِلَةِ عَنِ السُّبُلِ الزَّائِغَةِ إِلَى طَرِيقِ التَّوْحِيدِ وَسَبِيلِ الِاسْتِقَامَةِ (السَّمْحَةِ) : أَيِ: السَّهْلَةِ لَيْسَ فِيهَا حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ، وَمَنْفَعَتُهَا إِلَى الْغَيْرِ مُتَعَدِّيَةٌ، كَالْجِهَادِ وَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَتَعَلُّمٍ وَتَعْلِيمٍ وَتَحْصِيلِ كَمَالٍ، ثُمَّ تَكْمِيلٍ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَكِنْ يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ ; أَيْ: مَا بُعِثْتُ بِالرَّهْبَانِيَّةِ الشَّاقَّةِ، بَلْ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَوَضَعَ قَوْلَهُ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ مَوْضِعَ الرَّهْبَانِيَّةِ الشَّاقَّةِ (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) : أَيْ: بِتَصَرُّفِهِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ النُّفُوسِ (لَغَدْوَةٌ، أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيِ: الْجِهَادُ، أَوِ الْحَجُّ، أَوِ الْعِلْمُ، أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَالْغَدْوَةُ مَرَّةٌ مِنْ ذَهَابِ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالرَّوْحَةُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، أَوْ أَوَّلُ اللَّيْلِ، وَلَعَلَّ التَّقْيِيدَ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ الْعَادِيِّ (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْغَدْوَةَ وَالرَّوْحَةُ غَيْرُ مُخْتَصَّتَيْنِ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، بَلْ كُلُّ لَمْحَةٍ وَسَاعَةٍ هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ مَلَكَهَا وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمَهُ فِيهَا ; لِأَنَّهُ زَائِلٌ وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ بَاقٍ. وَقِيلَ: لَوْ مَلَكَهَا وَأَنْفَقَهَا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ (وَلَمَقَامُ أَحَدِكُمْ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ ; أَيْ لَوُقُوفُهُ وَثَبَاتُهُ (فِي الصَّفِّ) : أَيْ: صَفِّ الْقِتَالِ، أَوْ صَفِّ الْجَمَاعَةِ (خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ) : أَيْ: عَلَى انْفِرَادِهِ (سِتِّينَ سَنَةً) : أَرَادَ بِهِ التَّكْثِيرَ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ سَبْعِينَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

3850 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3850 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: مَنْ أَرَادَ الْجِهَادَ (وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ ; أَيْ: تَحْصِيلَهُ، وَهُوَ حَبْلٌ صَغِيرٌ يُشَدُّ بِهِ رُكْبَةُ الْبَعِيرِ لِئَلَّا يِفِرَّ (فَلَهُ مَا نَوَى) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي قَطْعِ الطَّمَعِ عَنِ الْغَنِيمَةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَشُوبٍ بِأَغْرَاضٍ دُنْيَوِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى " انْتَهَى. وَسَبَقَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَمَالُ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَازُ قَصْدِ الْغَنِيمَةِ، لَكِنْ لَا بِخُصُوصِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَأَيْضًا سَبَقَ أَنَّ الرِّيَاءَ الْمُخْلَطَ لَا يُبْطِلُ الثَّوَابَ بِالْكُلِّيَّةِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ.

3851 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ". فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ. فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ". قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3851 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا) : تَمْيِيزٌ ; أَيْ: مَنْ رَضِيَ بِرُبُوبِيَّتِهِ عَلَى وَفْقِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ مِنْ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ (وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا) ; أَيْ: بِشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ - (وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) ; أَيْ: وَبِرِسَالَتِهِ الْمُورَثَةِ لِمُتَابَعَتِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ (وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) ; أَيْ: ثَبَتَتْ وَتَحَقَّقَتْ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمُضِيِّ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، أَوْ حَصَلَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْغَيْبَةُ عَنِ السِّوَى وَالْحُضُورُ مَعَ الْمَوْلَى، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ; أَيْ: جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَأُخْرَى فِي الْأُخْرَى (فَعَجِبَ لَهَا) : أَيْ: لِأَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، أَوْ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ (أَبُو سَعِيدٍ: فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَأُخْرَى) : أَيْ:

وَكَلِمَةٌ، أَوْ فَائِدَةٌ، أَوْ قَضِيَّةٌ أُخْرَى مِمَّا يُتَعَجَّبُ لَهَا، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَرْغَبَ فِيهَا وَهِيَ (يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ) : أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَمَا هِيَ) : أَيْ: تِلْكَ الْخَصْلَةُ الْأُخْرَى (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجِهَادُ) ; أَيْ: هِيَ الْجِهَادُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ حَيْثُ عُطِفَ عَلَى لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الْكَلَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أُخْرَى صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ يَرْفَعُ اللَّهُ خَبَرُهُ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ ; أَيْ: أَلَا أُبَشِّرُكَ بِشَارَةً أُخْرَى؟ وَقَوْلُهُ: يَرْفَعُ اللَّهُ صِفَةٌ، أَوْ حَالٌ، وَقِيلَ هُنَاكَ خَصْلَةٌ أُخْرَى، وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ تَفْخِيمُ أَمْرِ الْجِهَادِ وَتَعْظِيمُ شَأْنِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَمِنْهُ الْجِهَادُ، وَكَذَا إِبْهَامُهُ بِقَوْلِهِ: وَأُخْرَى وَإِبْرَازُهُ فِي صُورَةِ الْبِشَارَةِ لِيَسْأَلَ عَنْهَا فَيُجَابَ بِمَا يُجَابُ ; لِأَنَّ التَّبْيِينَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَكَذَا تَكْرَارُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَنَظِيرُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} [الصف: 10] إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13] وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ قَيْدٌ وَرَدَ: ( «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ كُلٌّ مِنْ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ» " الْحَدِيثَ. وَذَلِكَ أَعْظَمُ أَجْرًا. وَأُجِيبَ: بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الْأَثْقَلِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْأَخَفِّ، وَبِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ أَعَمُّ مِنَ الْجِهَادِ فَيَدْخُلَ فِيهِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالزَّوْجَيْنِ الرَّاكِبَ وَمَرْكُوبَهُ، وَإِنْفَاقُهُمَا إِهْلَاكُهُمَا، فَصَارَ الْحَدِيثَانِ مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْمَعْنَى، وَفِيهِ أَنَّ الْأَجْرَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ شَاءَ مِمَّنْ عَمِلَ عَمَلًا قَلِيلًا، أَجْرًا جَزِيلًا، وَقَدْرًا جَلِيلًا، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى وَجْهِ التَّكَلُّفِ اه. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ التَّنَافِي بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ مِنْ أَصْلِهِ فِي الْبَيْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3852 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ". فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى! أَنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، فَأَلْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3852 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» ) : يَعْنِي كَوْنَ الْمُجَاهِدِ فِي الْقِتَالِ بِحَيْثُ يَعْلُوهُ سُيُوفُ الْأَعْدَاءِ سَبَبُ الْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّ أَبْوَابَهَا حَاضِرَةٌ مَعَهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالسُّيُوفِ سُيُوفُ الْمُجَاهِدِينَ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الدُّنُوِّ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّهَا أَكْثَرُ سِلَاحِ الْجِهَادِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهَا مُشْهَرَةً غَيْرَ مُغْمَدَةٍ، ثُمَّ هُوَ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فَوْقَ رُءُوسِ الْمُجَاهِدِينَ كَالظِّلَالِ، ثُمَّ هُوَ عَلَى التَّسَايُفِ وَالتَّضَارُبِ فِي الْمَعَارِكِ، ثُمَّ هُوَ إِعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ الْعُلْيَا وَنُصْرَةُ دِينِهِ الْقَوِيمِ الْمُوجِبَةِ لِأَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبِهَا أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلُّهَا، وَيُدْعَى أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْكَرَامَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ اه. وَأَرَادَ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِمَّا وَرَدَ أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ، وَفِي كَوْنِهِ أَبْلَغَ نَظَرٌ لِأَهْلِ الْبَلَاغَةِ، إِذْ لَا خَفَاءَ أَنَّ نَفْسَ شَيْءٍ تَحْتَ ظِلِّ شَيْءٍ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ ظِلِّهِ بَابُهُ، فَيُحْتَاجُ إِلَى الدُّخُولِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ فِيهِ لِكَمَالِ قُرْبِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ ; مَعْنَاهُ أَنَّ الْجِهَادَ وَحُضُورَ مَعْرَكَةِ الْقِتَالِ طَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَسَبَبٌ لِدُخُولِهَا، أَقُولُ: هُوَ كَذَلِكَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْمُبَالَغَةَ أَنَّهُ فِي حَالِ جِهَادِهِ كَأَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ كَمَا سَبَقَ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ، (قَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ) ; أَيْ: فَقِيرُ الْحَالِ كَسِيرُ الْبَالِ فِي النِّهَايَةِ: مَتَاعٌ رَثٌّ ; أَيْ: خَلَقٌ بَالٍ (قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى! أَنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ هَذَا؟) ; أَيْ: سَمَاعُكَ هَذَا الْحَدِيثَ بِطَرِيقِ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ (قَالَ: نَعَمْ فَرَجَعَ) : أَيِ: الرَّجُلُ (إِلَى أَصْحَابِهِ) ; أَيْ: مِنْ أَهْلِ رَحْلِهِ (قَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ) ; أَيْ: سَلَامَ مُوَدِّعٍ (ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْفَاءِ ; أَيْ: غِلَافَهُ (فَأَلْقَاهُ) ; أَيِ: الْغِلَافَ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا بَعْدَ إِقْبَالِهِ عَلَى الْعُقْبَى، (ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : كَانَ الْأَخْصَرَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَيَقُولَ: رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

3853 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " إِنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ وَمَآثِرَهُمْ، وَمُقِيلَهُمْ. قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ، لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجَنَّةِ، وَلَا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3853 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ) ; أَيِ: الْمَخْصُوصِينَ فِي بَابِهِ (إِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنَ (لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ) : أَيْ: مِنْ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ (يَوْمَ أُحُدٍ) : أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا ثَانِيَ لَهُ (جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ) : أَيْ: فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ خَالِيَةٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ عَلَى أَشْبَاهٍ مُصَوَّرَةٍ بِصُوَرِ الطُّيُورِ حَتَّى تَتَلَذَّذَ الْأَرْوَاحُ بِنِسَبِ الْأَشْبَاحِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ عَذَابَ الْبَرْزَخِ وَنَعِيمَهُ بِمَا هُوَ رُوحَانِيٌّ فَقَطْ (تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ) : مِنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالشَّرَابِ الطَّهُورِ (تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهِمْ) : اسْتِئْنَافٌ، أَوْ حَالٌ، أَوْ بَدَلٌ (وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ: أَيْ: بِمَنْزِلَةِ أَوْكَارِ الطُّيُورِ (فَلَمَّا وَجَدُوا) : أَيِ: الشُّهَدَاءُ (طِيِبَ مَأْكَلِهِمْ، وَمَشْرَبِهِمْ، وَمَقِيلِهِمْ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ ; أَيْ: مَأْوَاهُمْ وَمُسْتَقَرِّهِمْ، وَالثَّلَاثَةُ مَصَادِرُ مِيمِيَّةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ، ثُمَّ أَصْلُ الْمَقِيلِ الْمَكَانُ الَّذِي يُؤْوَى إِلَيْهِ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ وَالنَّوْمِ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ هَاهُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّنْعِيمِ وَالتَّرَفُّهِ ; لِأَنَّ الْمُتَنَزِّهِينَ فِي الدُّنْيَا يَعِيشُونَ مُنَعَّمِينَ اه. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى. (قَالُوا) : جَوَابُ لَمَّا (مَنْ يَبَلِّغُ: بِتَشْدِيدِ اللَّامِ: وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِهَا ; أَيْ: مَنْ يُوَصِّلُ (إِخْوَانَنَا) : أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ (عَنَّا) : أَيْ: عَنْ قَيْلِنَا (أَنَّنَا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ) : أَيْ: مَرْزُوقُونَ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّذَّةِ (لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجَنَّةِ) : أَيْ: فِي شَأْنِهَا، بَلْ لِيَرْغَبُوا فِي تَحْصِيلِ دَرَجَاتِهَا (وَلَا يَنْكُلُوا) : بِضَمِّ الْكَافِ ; أَيْ: لَا يَجْبُنُوا (عِنْدَ الْحَرْبِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} [آل عمران: 169] بِالْخِطَابِ مَعَ فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْغَيْبَةِ مَعَ فَتْحِ السِّينِ ; أَيْ: لَا تَظُنُّوا {الَّذِينَ قُتِلُوا} [آل عمران: 169] بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] : مَفْعُولٌ ثَانٍ {بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] ; أَيْ بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ وَفِي نُسْخَةٍ: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ; أَيْ مِنْ ثَمَرَاتِ الْجَنَّةِ (إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ) : يَعْنِي: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 170 - 171] . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3854 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي يَأْمَنُهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ،، ثُمَّ الَّذِي إِذَا أَشْرَفَ عَلَى طَمَعٍ تَرَكَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3854 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ) : أَيْ: أَصْنَافٍ، وَمِنْهُ أَجْزَاءُ الْمَرْكَبَاتِ كَالسَّكَنْجَبِينِ وَنَحْوِهِ، وَسُمُّوا أَجْزَاءً لِلِاخْتِلَاطِ الْوَاقِعِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَعَدَمِ تَمَايُزِهِمْ فِي الظَّاهِرِ مَعَ تَفَاوُتِهِمْ فِي الضَّمَائِرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَجْزَاءُ إِنَّمَا تُقَالُ فِيمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ مِنَ الْأَعْيَانِ، فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي التَّعَاطُفِ فِي التَّوَادِّ، كَمَا جُعِلُوا يَدًا وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «هُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» (الَّذِينَ) ; أَيْ: مِنْهَا، أَوْ أَحَدُهَا، أَوْ أَوَّلُهَا الَّذِينَ (آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) : أَيْ: لَمْ يَشُكُّوا، وَلَعَلَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ ; إِيذَانًا بِنَفْيِ الِارْتِيَابِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَلَوْ بِمُهْلَةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ، وَلَا يَضُرُّ تَقَدُّمُ الِارْتِيَابِ، أَوْ مَعْنَى لَمْ يَرْتَابُوا أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ; لِأَنَّ الْمُقَسَّمَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ فِي {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ ; لِأَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَعَلَى عَدَمِ الِارْتِيَابِ أَشْرَفُ وَأَبْلَغُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، (وَالَّذِي يَأْمَنُهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) : لَعَلَّ اخْتِيَارَ الْإِفْرَادِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَلِيلُ الْوُجُودِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (ثُمَّ الَّذِي إِذَا أَشْرَفَ عَلَى طَمَعٍ تَرَكَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثُمَّ هَاهُنَا لِلتَّرَقِّي، وَأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ أَفْضَلُ مِمَّا قَبْلَهُ

وَكَذَا مَا قَبْلَهُ أَفْضَلُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَأَخِّرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى وَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ مَعَ زِيَادَةِ صِفَةٍ جَلِيلَةٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ أَيْضًا، وَالطَّمَعُ هَاهُنَا يُرَادُ بِهِ انْبِعَاثُ هَوَى النَّفْسِ إِلَى مَا تَشْتَهِيهِ، فَتُؤْثِرُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، فَتَرْكُ مِثْلِهِ مُنْتَهَى غَايَةِ الْمُجَاهَدَةِ {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41] اه. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّمَعِ هُنَا الْمَيْلُ إِلَى مَالٍ، أَوْ جَاهٍ، وَلَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّ تَرْكَهُ هُوَ الْكَمَالُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْوِصَالِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

3855 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ يَقْبِضُهَا رَبُّهَا، تُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْكُمْ، وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، غَيْرُ الشَّهِيدِ ". قَالَ ابْنُ أَبِي عَمِيرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَأَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي أَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3855 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مَدَنِيٌّ، وَقِيلَ قُرَشِيٌّ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ لَا يَثْبُتُ فِي الصَّحَابَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَهُوَ شَامِيٌّ رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ يَقْبِضُهَا رَبُّهَا) : قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حَقِيقَةً وَيَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ مَجَازًا، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ خُصُوصِيَّةً لِبَعْضٍ (تُحِبُّ) : خَبَرُ مَا ; أَيْ تَوَدُّ وَتَتَمَنَّى (أَنْ تَرْجِعَ) ; أَيْ: تَنْقَلِبَ (إِلَيْكُمْ، وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) : بِفَتْحِ أَنَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا إِنْ رُوِيَ بِكَسْرِ إِنَّ، وَقَوْلُهُ (غَيْرُ الشَّهِيدِ) : بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ تُحِبُّ اه. وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ (غَيْرَ) عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ (قَالَ ابْنُ أَبِي عَمِيرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَأَنْ أُقْتَلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لَكَوْنِي مَقْتُولًا (فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي) : أَيْ: مِلْكًا (أَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ) : بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْوَبَرِ سُكَّانُ الْبَوَادِي ; لِأَنَّ خِبَاءَهُمْ مِنَ الْوَبَرِ غَالِبًا، وَبِأَهْلِ الْمَدَرِ سُكَّانُ الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، وَأَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، كَمَا سَبَقَ فَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ، وَأَسْنَدَ الْمَحَبَّةَ إِلَى نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اه. وَلَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْإِسْنَادُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَهُ زِيَادَةُ ثَوَابٍ عَلَى نِيَّتِهِ وَتَمَنِّيهِ وَمَوَدَّتِهِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

3856 - وَعَنْ حَسْنَاءَ بِنْتِ مُعَاوِيَةَ، قَالَتْ - حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: «قَلْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْوَئِيدُ فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3856 - (وَعَنْ حَسْنَاءَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مَمْدُودًا (بِنْتِ مُعَاوِيَةَ) : أَيِ: ابْنِ سُلَيْمٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ، فِي التَّابِعِيَّاتِ: هِيَ حَسْنَاءُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ الصَّرِمِيَّةُ، رَوَتْ عَنْ عَمِّهَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى عَنْهَا عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ حَدِيثَهَا فِي الْبَصْرِيِّينَ هَكَذَا أَوْرَدَهَا ابْنُ مَاكُولَا فِي حَسْنَاءَ، وَذَكَرَهَا الْحَازِمِيُّ يُقَالُ: خَنْسَاءُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ، وَيُقَالُ: حَسْنَاءُ الصَّرِمِيَّةُ، وَعَمَّاهَا الْحَارِثُ وَأَسْلَمُ، وَالصَّرِمِيَّةُ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَحَسْنَاءُ فَعَلَاءُ مِنَ الْحُسْنِ، وَخَنْسَاءُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَقْدِيمِ النُّونِ عَلَى السِّينِ (قَالَتْ: حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنِي (عَمِّي، قَالَ: قَلْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (النَّبِيُّ) : أَيْ: جِنْسُ الْأَنْبِيَاءِ (فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ) : يَعْنِي الْمُؤْمِنَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّهِيدَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا (فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَوْلُودُ هُوَ الطِّفْلُ وَالسِّقْطُ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحِنْثَ ; أَيِ الذَّنْبَ (وَالْوَئِيدُ) : أَيِ: الْمَدْفُونُ حَيًّا فِي الْأَرْضِ (فِي الْجَنَّةِ) : وَكَانُوا يَئِدُونَ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَئِدُ الْبَنِينَ ; أَيْضًا عِنْدَ الْمَجَاعَةِ وَالضِّيقِ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَوْلُودِ جِنْسَ مَنْ هُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ مِنَ الْوِلَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْوَئِيدُ الْمَوْءُودُ، وَهُوَ الَّذِي يُدْفَنُ حَيًّا مِنَ الْبَنَاتِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، عَنْ رَجُلٍ. كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

3857 - وَعَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ أَرْسَلَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَقَامَ فِي بَيَتْهِ، فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْفَقَ فِي وَجْهِهِ ذَلِكَ ; فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ "، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3857 - (وَعَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُ) : الْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ كُلٍّ ; أَيْ: يُحَدِّثُونَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَرْسَلَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ» ) : وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] (وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْفَقَ فِي وَجْهِهِ ذَلِكَ) : أَيْ فِي جِهَتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا وَهِيَ الْجِهَادُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فِي جِهَتِهِ وَقَصْدِهِ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] الْمُغْرِبُ: أَيْ جِهَتِهِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا تَعَالَى وَرَضِيَهَا. (فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ) . لِلْجَمْعِ بَيْنَ إِتْعَابِ الْبَدَنِ، وَبَذْلِ الْمَالِ (ثُمَّ تَلَا) : الظَّاهِرُ ; أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِشْهَادًا، أَوِ اعْتِضَادًا {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] : أَوْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ أَقَلُّ الْمَوْعُودِ، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

3858 - وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ; فَذَلِكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا " وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى سَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ، فَمَا أَدْرِي أَقَلَنْسُوَةَ عُمَرَ أَرَادَ، أَمْ قَلَنْسُوَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ، كَأَنَّمَا ضَرَبَ جِلْدَهُ بِشَوْكٍ طَلْحٍ، مِنَ الْجُبْنِ، أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ. وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ; فَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ، فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ; فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3858 - (وَعَنْ فَضَالَةَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ (ابْنِ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ، ثُمَّ شَهِدَ مَا بَعْدَهُ، وَبَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، رَوَى عَنْهُ مَيْسَرَةُ مَوْلَاهُ وَغَيْرُهُ. (قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ) ; أَيْ: أَنْوَاعٍ، أَوْ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ) ; أَيْ: خَالِصُهُ، أَوْ كَامِلُهُ بِمَعْنَى صَالِحِ الْعَمَلِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِيمَا سَيَأْتِي (لَقِيَ الْعَدُوَّ) ; أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (فَصَدَقَ اللَّهَ) : بِتَخْفِيفِ الصَّادِ ; أَيْ: صَدَقَ بِشَجَاعَتِهِ مَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ: صَدَّقَهُ فِيمَا وَعَدَ عَلَى الشَّهَادَةِ (حَتَّى قُتِلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: حَتَّى قَاتَلَ إِلَى أَنِ اسْتُشْهِدَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِوَجْهِهِ صَابِرِينَ مُحْتَسِبِينَ فَتَحَرَّى هَذَا الرَّجُلُ بِفِعْلِهِ، وَقَاتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، فَكَأَنَّهُ صَدَّقَ اللَّهَ تَعَالَى بِفِعْلِهِ قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] (فَذَلِكَ) ; أَيِ: الْمُؤْمِنُ (هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ) ; أَيْ: عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ (إِلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا) : مَصْدَرُ قَوْلِهِ: يَرْفَعُ ; أَيْ: رَفْعًا مِثْلَ رَفْعِ رَأْسِي هَكَذَا كَمَا تُشَاهِدُونَ، (وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى سَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ ; أَيْ: طَاقِيَّتُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ كِنَايَةٌ عَنْ تَنَاهِي رِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ (فَمَا أَدْرِي) : هَذَا قَوْلُ الرَّاوِي عَنْ فَضَالَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى سَقَطَتْ كَلَامُ فَضَالَةَ، أَوْ كَلَامُ عُمَرَ، وَالْمَعْنَى فَمَا أَعْلَمُ (أَقَلَنْسُوَةُ عُمَرَ أَرَادَ) ; أَيْ: فَضَالَةَ (أَمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ (قَلَنْسُوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ) ; أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعَادَتُهُ لِلْفَصْلِ (وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ) : يَعْنِي لَكِنْ دُونَ الْأَوَّلِ فِي مَرْتَبَةِ الشَّجَاعَةِ (لَقِيَ الْعَدُوَّ كَأَنَّمَا ضَرَبَ) ; أَيْ: مُشَبَّهًا بِمَنْ طَعَنَ (جِلْدَهُ بِشَوْكٍ طَلْحٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ شَجَّرٌ عَظِيمٌ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ يَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ مِنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ، أَوْ عَنِ ارْتِعَادِ فَرَائِصِهِ وَأَعْضَائِهِ، وَقَوْلُهُ:

(مِنَ الْجُبْنِ) : بَيَانُ التَّشْبِيهِ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ مِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَالْجُبْنُ ضِدُّ الشَّجَاعَةِ، وَهُمَا خَصْلَتَانِ جِبْلِيَّتَانِ مَذْكُورَتَانِ فِي الْإِنْسَانِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْغَرَائِزَ الطَّبِيعِيَّةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ بِهَا زِيَادَةَ دَرَجَةٍ (أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ) ; أَيْ: مَثَلًا، وَالتَّرْكِيبُ تَوْصِيفِيٌّ، وَجُوِّزَ الْإِضَافَةُ وَالْمَعْنَى لَا يُعْرَفُ رَامِيهِ (قَتَلَهُ) ; أَيْ: ذَلِكَ السَّهْمُ مَجَازًا (فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ) : وَفِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، كَمَا رُوِيَ (وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) : الْوَاوُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْلُوطٌ بِالْآخَرِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] : الْوَاوُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْلُوطٌ بِالْآخَرِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] (لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ) : أَيْ: بِوَصْفِ الشَّجَاعَةِ (فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ) : أَيْ: بِكَثْرَةِ الْمَعَاصِي، وَفِيهِ رَدٌّ صَرِيحٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ (لَقِيَ الْعَدُوَّ، فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ) : أَيْ: بِوَصْفِ الشَّجَاعَةِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ فَصَدَقَ اللَّهَ (فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَذَلِكَ وَهُوَ يُنَاسِبُ الْمَرَاتِبَ ; لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مُعَبَّرٌ بِذَاكَ وَهُوَ الْمُتَوَسِّطُ، وَمَا قَبْلَهُ مُعَبَّرٌ بَهُوَ الْمُنَاسِبِ لِلْقَرِيبِ، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ الْمُعَبَّرُ بِذَلِكَ فَهُوَ لِلْبُعْدِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا جَيِّدُ الْإِيمَانِ أَنَّ الْأَوَّلَ صَدَقَ اللَّهَ فِي إِيمَانِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ، وَهَذَا بَذَلَ مُهْجَتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَصْدُقْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّانِي وَالرَّابِعِ أَنَّ الثَّانِيَ جَيِّدُ الْإِيمَانِ غَيْرُ صَادِقٍ بِفِعْلِهِ، وَالرَّابِعَ عَكْسُهُ فَعُلِمَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ وَأَنَّ مَبْنَى الْأَعْمَالِ عَلَى الْإِخْلَاصِ اه. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى الْإِخْلَاصِ، مَعَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي جَمِيعِ مَرَاتِبِ الِاخْتِصَاصِ، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ بِالشَّجَاعَةِ وَضِدِّهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْإِيمَانِ وَصَلَاحِ الْعَمَلِ، ثُمَّ دُونَهُمَا الْمُخْلِطُ، ثُمَّ دُونَهُمُ الْمُسْرِفُ مَعَ اتِّصَافِهِمَا بِالْإِيمَانِ أَيْضًا، وَلَعَلَّ الطِّيبِيَّ أَرَادَ بِالْمُخْلِطِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ نِيَّةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِالْمُسْرِفِ مَنْ نَوَى بِمُجَاهَدَتِهِ الْغَنِيمَةَ، أَوِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : أَيْ: إِسْنَادًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ ; أَيْضًا عَنْ عُمَرَ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلُهُ: فَمَا أَدْرِي إِلَخِ فِي الْبَيْنِ.

3859 - وَعَنْ عَتَبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْقَتْلَى ثَلَاثَةٌ: مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ ". قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: " فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُمْتَحَنُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ، لَا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ. وَمُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ " قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: " مُمَصْمِصَةٌ مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا، وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ. وَمُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ ; فَذَاكَ فِي النَّارِ، إِنَّ السَّيْفَ لَا يَمْحُو النِّفَاقَ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3859 - (وَعَنْ عُتْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِضَمٍّ فَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ (ابْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ) : بِضَمٍّ فَفَتَحَ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَعُتْبَةُ هَذَا كَانَ اسْمُهُ عَتَلَةَ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُتْبَةَ، شَهِدَ خَيْبَرَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ بِحِمْصَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالشَّامِ فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَتْلَى) : جَمْعُ قَتِيلٍ (ثَلَاثَةٌ) ; أَيْ: أَصْنَافٍ (مُؤْمِنٌ) ; أَيْ: أَحَدُهُمْ مُؤْمِنٌ كَامِلٌ صَالِحٌ فِي الْعَمَلِ (جَاهَدَ) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ ; أَيْ: مُجْتَهِدٌ (بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بَيْنَ الْقَتْلَى بِقَوْلِهِ مُؤْمِنٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ) : وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِلْحَالِ وَحُسْنِ الْمَآلِ. (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ) : أَيْ: فِي شَأْنِهِ (فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُمْتَحَنُ) ; أَيِ: الْمَشْرُوحُ صَدْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلتَّقْوَى (فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: الشَّهِيدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ ذَلِكَ، وَالْمُمْتَحَنُ صِفَةُ الشَّهِيدِ،

وَقَوْلُهُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ صِفَةَ ذَلِكَ، وَكَذَا الْمُمْتَحَنُ صِفَةٌ لِذَلِكَ، وَفِي خَيْمَةِ اللَّهِ خَبَرٌ، وَالْمُمْتَحَنُ الْمُجَرِّبُ مِنْ قَوْلِهِمُ: امْتُحِنَ فُلَانٌ لِأَمْرِ كَذَا جُرِّبَ لَهُ وَدُرِّبَ لِلنُّهُوضِ بِهِ، فَهُوَ مُضْطَلِعٌ غَيْرُ وَانٍ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَابِرٌ عَلَى الْجِهَادِ قَوِيٌّ عَلَى احْتِمَالِ مَشَاقِّهِ (لَا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ) : لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَزِيَادَةِ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ يُشَارِكُونَ أُمَمَهُمْ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنَ (وَمُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِذَا) : كَذَا فِي النُّسَخِ وَالظَّاهِرُ: (فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ) ; أَيْ: فِي حَقِّهِ مُمَصْمَصَةٌ) : بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ فَفِي الْقَامُوسِ: الْمَصْمَصَةُ الْمَضْمَضَةُ بِطَرَفِ اللِّسَانِ، وَمَصْمَصَةُ الذُّنُوبِ تَمْحِيصُهَا، وَالْمَضْمَضَةُ تَحْرِيكُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ. وَفِي الْفَائِقِ: مُمَصْمَصَةٌ ; أَيْ: مُطَهَّرَةٌ مِنْ دَنَسِ الْخَطَايَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَصْمَصْتُ الْإِنَاءَ بِالْمَاءِ إِذَا حَرَّكْتَهُ حَتَّى يَطْهُرَ، وَمِنْهُ مَصْمَصَةُ الْفَمِ وَهُوَ غَسْلُهُ بِتَحْرِيكِ الْمَاءِ فِيهِ كَالْمَضْمَضَةِ، وَقِيلَ: هِيَ بِالصَّادِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ بِطَرَفِ اللِّسَانِ، وَبِالضَّادِ بِالْفَمِ كُلِّهِ وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ، أَوْ أَرَادَ مَصْمَصَةً فَأَقَامَ الصِّفَةَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ (مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ) ; أَيْ: كَثِيرُ الْمَحْوِ (لِلْخَطَايَا) : أَيِ: الصَّغَائِرِ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَتَحْتَ الْمَشِيئَةِ، لَكِنْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ خَطِيئَةٍ إِلَّا الدَّيْنَ. (وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ) : تَعْظِيمًا لَهُ وَتَكْرِيمًا. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ احْتِيَاطًا لِئَلَّا يَلْتَبِسَ نَصُّ النَّبِيِّ بِرَاوِيَتِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْمَقُولِ اه. وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُعْتَرِضَتَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ الرَّاوِي غَيْرُ حَالِ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَدْرَجَهُمَا فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ فِيمَا بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بَيَانًا بِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمَا، أَوْ تِبْيَانًا لِتَفَاوُتِ مَنْزِلَتِهِمَا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَمُنَافِقٌ) ; أَيْ: وَمِنَ الْقَتْلَى مُنَافِقٌ (جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوُّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ ; فَذَاكَ فِي النَّارِ) : وَإِلَّا فَالْكُلُّ مُشْتَرِكٌ فِي وَصْفِ الْمُقَاتَلَةِ إِلَى أَنْ يُقْتَلُوا، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّمَايُزِ بَيْنَهُمْ لِحُصُولِ الْمَرَامِ فِي الْكَلَامِ (إِنَّ السَّيْفَ) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ أَنْ (لَا يَمْحُو النِّفَاقَ) : فَهُوَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» " عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، فِي عَمْرِو بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: «فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الْإِسْلَامَ بِرِجَالٍ مَا هُمْ مِنْ أَهْلِهِ» " وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ بِلَفْظِ " «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ» ". (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

3860 - وَعَنِ ابْنِ عَائِذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ، فَلَمَّا وُضِعَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تُصَلِّ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَلْ رَآهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلِ الْإِسْلَامِ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَرَسَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَثَا عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَقَالَ: " أَصْحَابُكَ يَظُنُّونَ أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " وَقَالَ: " يَا عُمَرُ! إِنَّكَ لَا تُسْأَلُ عَنْ أَعْمَالِ النَّاسِ ; وَلَكِنْ تُسْأَلُ عَنِ الْفِطْرَةِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3860 - (وَعَنِ ابْنِ عَائِذٍ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَوْذِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو الْمَدَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَحَدِيثُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ) : بِفَتْحٍ، أَوْ كَسْرٍ (فَلَمَّا وُضِعَ) : أَيِ: الْمَيِّتُ، أَوِ النَّعْشُ، وَأَرَادَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عَلَيْهِ (قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تُصَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ) : أَيْ: مُنَافِقٌ، أَوْ فَاسِقٌ، لِيَكُونَ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِمْ وَرَدْعًا عَنْ أَعْمَالِهِمْ (فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَلْ رَآهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلِ الْإِسْلَامِ؟) ; أَيْ: عَلَى عَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهِ الْحَقِيقِيِّ (فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَرَسَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَاعِثٌ مِنَ الرِّيَاءِ، بَلْ كَانَ لِوَجْهِ اللَّهِ. (فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَثَا عَلَيْهِ التُّرَابَ) : أَيْ: بِيَدَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ

تَرْغِيبًا لِأُمَّتِهِ عَلَى أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ، وَإِظْهَارًا لِلرَّحْمَةِ عَلَى عُمُومِ الْأَنَامِ، فِي الْمُغْرِبِ: حَثَيْتُ التُّرَابَ وَحَثَوْتُهُ إِذَا قَبَضْتَهُ وَرَمَيْتَهُ اه. يَجُوزُ كِتَابَةُ حَثَا بِالْيَاءِ وَالْأَلْفِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَصْحَابُكُ) : أَيْ: بَعْضُهُمْ، أَوْ كُلُّهُمْ (يَظُنُّونَ أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) : لِكَوْنِهِمْ مِمَّا غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ (وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) : نَظَرًا إِلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَسَعَةِ الرَّحْمَةِ (وَقَالَ: يَا عُمَرُ! إِنَّكَ لَا تُسْأَلُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْ أَعْمَالِ النَّاسِ) : أَيْ: مِنَ الْمَعَاصِي، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: فِي الْإِسْلَامِ ; أَيْ: فِي حَالِ حُصُولِ إِسْلَامِهِمْ وَتَحَقُّقِ ; إِيمَانِهِمْ (وَلَكِنْ تُسْأَلُ عَنِ الْفِطْرَةِ) ; أَيْ: عَمَّا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَعَلَامَاتِ الْيَقِينِ، وَالْمَقْصُودُ مَنْعُ عُمَرَ عَمَّا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْفِطْرَةِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: عَنِ الْفِطْرَةِ ; أَيْ: عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ» " يَعْنِي أَنْتَ يَا عُمَرُ مِثْلُكَ لَا يُخْبِرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ عَنْ أَعْمَالِ الشَّرِّ لِلْمَوْتَى، بَلْ أَخْبِرْ عَنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ: " «اذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ بِالْخَيْرِ» " فَوَضَعَ لَا تُسْأَلُ مَوْضِعَ لَا تُخْبِرُ لِئَلَّا يَسْأَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ، وَلَا يُخْبِرُ نَفْيًا لِلسُّؤَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَيَنْتَفِي الْإِخْبَارُ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ بِقَوْلِهِ: هَلْ رَآهُ أَحَدٌ عَلَى عَمَلِ الْإِسْلَامِ " وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ لِحِرَاسَتِهِ، فَاكْتَفَى بِالْحِرَاسَةِ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَرْجِيحًا لِلْفِطْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ اه. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: تَسْأَلُ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَبْنَى. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب إعداد آلة الجهاد]

[بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3861 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [1] بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ أَيْ: تَهْيِئَةِ أَسْبَابِ الْمُجَاهِدَةِ فِي سِلَاحِ وَغَيْرِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3861 - (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ; أَيِ: الْجُهَنِيِّ كَانَ وَالِيًا عَلَى مِصْرَ لِمُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَخِيهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ) : حَالَانِ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الفاتحة: 60 - 33398] : الْكَشَّافُ: هِيَ كُلُّ مَا يُتَقَوَّى بِهِ فِي الْحَرْبِ مِنْ عِدَدِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: (مَا) فِي مَا اسْتَطَعْتُمْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ وَ {مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] بَيَانٌ لَهُ. فَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ الْقُوَّةِ، وَفِي هَذَا الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعُدَّةَ لَا تَسْتَتِبُّ بِدُونِ الْمُعَالَجَةِ وَالْإِدْمَانِ الطَّوِيلِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ عُدَّةِ الْحَرْبِ وَأَدَاتِهَا أَحْوَجَ إِلَى الْمُعَالَجَةِ وَالْإِدْمَانِ عَلَيْهَا مِثْلَ الْقَوْسِ وَالرَّمْيِ بِهَا، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تَفْسِيرَ الْقُوَّةِ بِالرَّمْزِ بِقَوْلِهِ: (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ) ; أَيْ: هُوَ الْعُمْدَةُ (أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ) : يُكَرِّرُهَا ثَلَاثًا لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ فِي جَمِيعِهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ وَفِي الْأَحَادِيثِ بَعْدَهُ فَضِيلَةُ الرَّمْيِ وَالْمُنَاضَلَةِ وَالِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّمَرُّنُ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّدَرُّبُ فِيهِ وَرِيَاضَةُ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ.

3862 - وَعَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الرُّومُ وَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ ; فَلَا يَعْجِزْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3862 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الرُّومُ) : أَيْ: بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ (وَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ) : أَيْ: شَرَّهُمْ بِقُوَّتِهِ وَقَهْرِهِ، لَكِنَّ ثَوَابَكُمْ وَأَجْرَكُمْ مُتَرَتِّبٌ عَلَى سَعْيِكُمْ وَكَسْبِكُمْ (فَلَا يَعْجِزْ أَحَدُكُمْ) : بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّفْيِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبِفَتْحِهَا لُغَةٌ، وَالْمَعْنَى لَا يَكْسَلُ أَحَدُكُمْ (مِنْ أَنْ يَلْهُوَ) : أَيْ: يَشْتَغِلَ، أَوْ يَلْعَبَ (بِأَسْهُمِهِ) : أَيْ: مَعَ قِسِيِّهِ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ مَعَ أَهْلِ الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْعِنَادِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ وَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ فَلَا يَعْجِزْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي أَهْلَ الرُّومِ غَالِبُ حَرْبِهُمُ الرَّمْيُ، وَأَنْتُمْ تَتَعَلَّمُونَ الرَّمْيَ لِيُمْكِنَكُمْ مُحَارَبَةُ أَهْلِ الرُّومِ وَسَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ، وَيَدْفَعُ اللَّهُ عَنْكُمْ شَرَّ أَهْلِ الرُّومِ، فَإِذَا فَتَحَ لَكُمُ الرُّومَ فَلَا تَتْرُكُوا الرَّمْيَ وَتَعَلُّمَهُ بَأَنْ تَقُولُوا: لَمْ نَكُنْ نَحْتَاجُ فِي قِتَالِهِمْ إِلَى الرَّمْيِ، بَلْ تَعَلَّمُوا الرَّمْيَ، وَدَاوِمُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الرَّمْيَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ أَبَدًا. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْجِزَ أَحَدُكُمْ عَنْ تَعَلُّمِ الرَّمْيِ، حَتَّى إِذَا حَانَ وَقْتُ فَتْحِ الرُّومِ أَمْكَنَهُ الْعَوْنُ عَلَى الْفَتْحِ، وَهَذَا حَثٌّ وَتَحْرِيضٌ مِنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى تَعَلُّمِ الرَّمْيِ، وَالْمَعْنَى: لَهُ أَنْ يَلْعَبَ بِهَا وَلَيْسَ مَمْنُوعًا عَنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْأَوْجَهَ التَّوْجِيهُ الثَّانِي فَإِنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا يَعْجِزُ سَبَبِيَّةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سَيَفْتَحُ لَكُمْ عَنْ قَرِيبٍ الرُّومَ وَهُمْ رُمَاةٌ، وَيُكْفِيكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الرَّمْيِ شَرَّهُمْ؛ فَإِذَنْ لَا يُعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ ; أَيْ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَهْتَمُّوا بِشَأْنِ النِّضَالِ، وَتَمَرَّنُوا فِيهِ، وَعَضُّوا عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ، حَتَّى إِذَا زَاوَلْتُمْ مُحَارَبَةَ الرُّومِ تَكُونُوا مُتَمَكِّنِينَ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ مُخْرَجَ اللَّهْوِ إِمَالَةً لِلرَّغَبَاتِ إِلَى تَعَلُّمِ الرَّمْيِ وَإِلَى التَّرَامِي وَالْمُسَابَقَةِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَيْلِهَا إِلَى اللَّهْوِ.

3863 - وَعَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ ; فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ قَدْ عَصَى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3863 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مِنْ عُلِّمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا» ) : أَيْ: لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ مِنَّا وَمَعْدُودٍ فِي زُمْرَتِنَا، وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا لَمْ يَتَعَلَّمْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي زُمْرَتِهِمْ، وَهَذَا دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، كَأَنَّهُ رَأَى النَّقْصَ فِيهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرَانٌ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ الْخَطِيرَةِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (أَوْ قَدْ عَصَى) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ تَكَاسُلًا وُتَهَاوُنًا، وَالثَّانِي عَلَى أَنَّهُ رَأَى فِيهِ نُقْصَانًا وَامْتِهَانًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3864 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَتَنَاضَلُونَ بِالسُّوقِ. فَقَالَ: " ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ! فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ " لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ. فَأَمْسَكُوا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: " مَا لَكُمْ؟ " قَالُوا: وَكَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَ بَنِي فُلَانٍ؟ قَالَ: " ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3864 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ) : قَبِيلَةٌ (يَتَنَاضَلُونَ) : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: يَتَرَامُونَ لِلسَّبْقِ (بِالسُّوقِ) : بِضَمٍّ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَقِيلَ اسْمُ مَوْضِعٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: السُّوقُ جَمْعُ سَاقٍ اسْتَعْمَلَهُ لِلْأَسْهُمِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَشْيِ ; أَيْ: مَاشِينَ غَيْرَ رَاكِبِينَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ اسْمُ مَوْضِعٍ وَالْبَاءُ بِمَعْنَى: " فِي " (فَقَالَ: ارْمُوا) : أَيْ: دُومُوا عَلَى الرَّمْيِ (بَنِي إِسْمَاعِيلَ) : أَيْ: يَا بَنِيهِ (كَانَ أَبَاكُمْ) : يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ (كَانَ رَامِيًا) ; أَيْ: عَظِيمًا، أَوْ مُخْتَرِعًا لِلرَّمْيِ (وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ) : وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ أَنَّ مَنْ حَضَرَ مِنَ الرُّمَاةِ يَكُونُ مَعَ قَوْمٍ مِنْهُمْ (لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ) : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَقَالَ ; أَيْ: قَالَ لِأَجْلِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَنَا مَعَهُمْ (فَأَمْسَكُوا) ; أَيِ: الْفَرِيقُ الْآخَرُ (بِأَيْدِيهِمْ) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا الرَّمْيَ (فَقَالَ: مَا لَكُمْ؟) ; أَيْ: فِي امْتِنَاعِكُمْ مِنَ الرَّمْيِ (قَالُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالُوا: (وَكَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَ بَنِي فُلَانٍ؟) ; أَيْ: بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ (قَالَ: ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ) : بِالْجَرِّ تَامٌّ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3865 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ، فَكَانَ إِذَا رَمَى تَشَرَّفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نُبْلِهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3865 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ) : وَهُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ النَّجَّارِيُّ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: " «لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ» ". وَقَتَلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ سَلَبَهُمْ، وَقَوْلُهُ: ( «يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتُرْسٍ وَاحِدٍ» ) : يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُرْبِهِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي أُحُدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ (فَكَانَ) : أَيْ: أَبُو طَلْحَةَ (إِذَا رَمَى تَشَرَّفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْ: تَحَقَّقَ نَظَرَهُ وَتَطَلَّعَ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِشْرَافُ أَنْ تَضَعَ يَدَكَ عَلَى حَاجِبِكَ وَتَنْظُرَ كَالَّذِي يَسْتَظِلُّ الشَّمْسَ حَتَّى يَسْتَبِينَ الشَّيْءَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. فَيَنْظُرَ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ) : أَيْ: مَوْقِعِ سَهْمِ أَبِي طَلْحَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي فَكَانَ سَبَبِيَّةٌ ; أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَسَنَ الرَّمْيِ يُتْبِعُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَصَرَهُ سَهْمَهُ لِيَنْظُرَ الْمُصَابَ مِنَ الْأَعْدَاءِ مَنْ هُوَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا دَرَسَ بِتُرْسِهِ وِقَايَةً وَاسْتِشْرَافًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3866 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3866 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ» ) : أَيْ: فِي ذَوَاتِهِمْ كَنَّى عَنِ الذَّاتِ بِالنَّاصِيَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ مُبَارَكُ النَّاصِيَةِ ; أَيْ: مُبَارَكُ الذَّاتِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْبَرَكَةُ فِي الْخَيْلِ ; لِأَنَّ بِهَا يَحْصُلُ الْجِهَادُ الَّذِي فِيهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] الْآيَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.

3867 - وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْوِي نَاصِيَةَ فَرَسٍ بِإِصْبَعِهِ، يَقُولُ: " الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى الْقِيَامَةِ: الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3867 - (وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) : أَيِ: الْبَجَلِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيَّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْوِي) : أَيْ: يُدِيرُ وَيَفْتِلُ (نَاصِيَةَ فَرَسٍ بِإِصْبَعِهِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: أَرَادَ بِالنَّاصِيَةِ هُنَا الشَّعْرَ الْمُسْتَرْسَلَ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ، قَالُوا: كَنَّى بِالنَّاصِيَةِ عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْفَرَسِ، يُقَالُ: فُلَانٌ مُبَارَكُ النَّاصِيَةِ وَمُبَارَكُ الْغُرَّةِ ; أَيِ الذَّاتِ اه. فَهُوَ مَجَازٌ بِذِكْرِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ نَحْوَ الرَّقَبَةِ وَالرَّأْسِ وَأَمْثَالِهِمَا مِمَّا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكُلُّ. (وَهُوَ يَقُولُ) : أَيْ: فِي حَالِ لَيِّ نَاصِيَةِ الْفَرَسِ (الْخَيْلُ) : أَيْ: جِنْسُهَا (مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا) : أَيْ: فِي نَوَاصِيهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (الْخَيْرُ) : أَيْ: مُلَازِمٌ بِهَا كَأَنَّهُ مَعْقُودٌ فِيهَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : أَيْ: إِلَى قُرْبِهِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ تَرْغِيبٌ فِي اتِّخَاذِ الْخَيْلِ لِلْجِهَادِ وَأَنَّ الْجِهَادَ لَا يَنْقَطِعُ، وَقَوْلُهُ: (الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ) : تَفْسِيرَانِ لِلْخَيْرِ فُهُمَا بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُوَ الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَالَ الْمُكْتَسَبَ بِهَا هُوَ خَيْرُ مَالٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ، وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَوَادَةَ بْنِ الرَّبِيعِ، وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " «الْخَيْرُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمُنْفِقُ عَلَى الْخَيْلِ كَالْبَاسِطِ كَفِّهِ بِالنَّفَقَةِ لَا يَقْبِضُهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَالشَّيْخَيْنِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ بِلَفْظِ: " «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَجْرُ وَالْغَنَمُ» ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَرِيرٍ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ " «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ وَالنَّيْلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلُهُ مُعَانُونَ عَلَيْهَا قَلِّدُوهَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ» " وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ: " «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ وَالنَّيْلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلُهَا مُعَانُونَ عَلَيْهَا، وَالْمُنْفِقُ عَلَيْهَا كَبَاسِطِ يَدِهِ فِي صَدَقَتِهِ، وَأَبْوَالُهَا وَأَرْوَاثُهَا لِأَهْلِهَا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مِسْكِ الْجَنَّةِ» ". وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ جَابِرٍ: " «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلُهَا مُعَانُونَ عَلَيْهَا، فَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَادْعُوا لَهَا بِالْبَرَكَةِ، وَقَلِّدُوهُمَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ» " اه. فَهُوَ حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ، أَوْ كَادَ أَنْ يَتَوَاتَرَ فَهُوَ مَشْهُورٌ بِلَا شُبْهَةٍ.

3868 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ ; فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ، وَرَوْثَهُ، وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3868 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: رَبَطَهُ وَحَبَسَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَحْدُثَ مِنْ غَزْوٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَقْفِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: حَبَسْتُهُ وَاحْتَبَسَ أَيْضًا بِنَفْسِهِ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْبِسُهُ عَلَى نَفْسِهِ لِسَدِّ مَا عَسَى أَنْ يَحْدُثَ فِي ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ ثُلْمَةٌ. (إِيمَانًا بِاللَّهِ) : مَفْعُولٌ لَهُ ; أَيْ: رَبَطَهُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ (وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ) : عِبَارَةٌ عَنِ الثَّوَابِ عَلَى الِاحْتِبَاسِ وَتَلْخِيصُهُ أَنَّهُ امْتِثَالًا وَاحْتِسَابًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الثَّوَابَ عَلَى الِاحْتِبَاسِ، فَمَنِ احْتَبَسَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: صَدَّقْتُكَ فِيمَا وَعَدْتَنِي (فَإِنَّ شِبَعَهُ) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ (وَرِيَّهُ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ ; أَيْ: مَا يُشْبِعُهُ وَيَرْوِيهِ (وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ) : أَيْ: فِي مِيزَانِ صَاحِبِهِ ثَوَابُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3869 - وَعَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ الشِّكَالَ فِي الْحَلِّ. وَالشِّكَالُ: أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى، أَوْ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3869 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ الشِّكَالَ» ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (فِي الْخَيْلِ) : وَلَفَظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنَ الْخَيْلِ (وَالشِّكَالُ: أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ، وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى، أَوْ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَلَيْسَ مِنْ لَفْظِ النُّبُوَّةِ وَإِلَّا لَكَانَ نَصًّا فِي الْمَقْصُودِ، وَمَا وَقَعَ الْإِشْكَالُ فِي تَفْسِيرِ الشِّكَالِ، ثُمَّ وَجْهُ الْكَرَاهَةِ مُفَوَّضٌ إِلَى الشَّارِعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ الشِّكَالَ، وَفَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ يَكُونَ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ، وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى، أَوْ يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الشِّكَالِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ: وَالْغَرِيبُ هُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ثَلَاثُ قَوَائِمٍ مُحَجَّلَةٌ وَوَاحِدَةٌ مُطْلَقَةٌ تَشْبِيهًا بِالشِّكَالِ الَّذِي يُشْكَلُ بِهِ الْخَيْلُ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي ثَلَاثِ قَوَائِمَ غَالِبًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ يَكُونُ الشِّكَالُ ثَلَاثَ قَوَائِمَ مُطْلَقَةً وَوَاحِدَةٌ مُحَجَّلَةً، وَلَا تَكُونُ الْمُطْلَقَةُ أَوِ الْمُحَجَّلَةُ إِلَّا لِلرَّجُلِ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الشِّكَالُ أَنْ يَكُونَ مُحَجَّلًا مِنْ شَقٍّ وَاحِدٍ فِي يَدِهِ وَرِجْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قِيلَ شِكَالٌ مُخَالِفٌ، قَالَ الْقَاضِي، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَوْزُ: قِيلَ: الشِّكَالُ بَيَاضُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى وَالْيَدِ الْيُمْنَى، وَقِيلَ: بَيَاضُ الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَالْيَدِ الْيُسْرَى، وَقِيلَ: بَيَاضُ الْيَدَيْنِ، وَقِيلَ: بَيَاضُ الرِّجْلَيْنِ وَيَدٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: بَيَاضُ الْيَدَيْنِ وَرِجْلٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَرِهَهُ ; لِأَنَّهُ عَلَى صُورَةِ الْمَشْكُولِ، يَعْنِي تَفَاؤُلًا، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ الْجِنْسَ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَجَابَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَغَرَّ زَالَتِ الْكَرَاهَةُ لِزَوَالِ شُبْهَةِ الشِّكَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3870 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أَضْمَرَتْ مِنَ الْحَيْفَاءِ، وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَبَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَمْيَالٍ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تَضْمُرُ مِنَ الثِّنْيَةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زَرَيْقٍ، وَبَيْنَهُمَا مِيلٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3870 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أَضْمَرَتْ» ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْإِضْمَارُ أَنْ تُعْلَفَ حَتَّى تَسْمَنَ وَتَقْوَى، ثُمَّ يُقَلَّلُ عَلْفُهَا بِقَدْرِ الْقُوتِ وَتَدْخُلُ بَيْتًا وَتَغْشَى بِالْجَلَالِ، حَتَّى تَحْمَى وَتَعْرَقَ، فَإِذَا جَفَّ عَرَقُهَا خَفَّ لَحْمُهَا وَقَوِيَتْ عَلَى الْجَرْيِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الضُّمُرُ الْهُزَالُ وَخِفَّةُ اللَّحْمِ، وَأَرَادَ بِالْإِضْمَارِ التَّضْمِيرَ، وَهُوَ أَنْ يَعْلِفَ الْفَرَسَ حَتَّى يَسْمَنَ، ثُمَّ يَرُدَّهُ إِلَى الْقُوتِ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَدْ كَانُوا يَشُدُّونَ عَلَيْهِ السَّرْجَ وَيُجَلِّلُونَهُ، حَتَّى يَعْرَقَ تَحْتَهُ فَيَذْهَبَ رَهَلُهُ وَيَشْتَدَّ لَحْمُهُ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى الْمِضْمَارَ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُضْمَرُ فِيهِ أَيْضًا مِضْمَارٌ، وَالرِّوَايَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْمَشْهُورُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ التَّضْمِيرُ، فَلَعَلَّهُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَقَامَ الْإِضْمَارَ مَوْضِعَ التَّضْمِيرِ، أَوْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ ذَلِكَ اه. وَفِي الْقَامُوسِ: الضُّمُرُ بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ الْهُزَالُ وَلَحَاقُ الْبَطْنِ، وَضَمَّرَ الْخَيْلَ تَضْمِيرًا: عَلَفَهَا الْقُوتَ بَعْدَ السَّمْنِ كَأَضْمَرَهَا اه. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لُغَتَانِ (مِنَ الْحَيْفَاءِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ مَوْضِعٌ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ (وَأَمَدُهَا) : بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ: غَايَتُهَا (ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ) : بِكَسْرٍ فَفَتْحِ الْوَاوِ وَتُكْسَرُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَأُضِيفُ الثَّنْيَةُ إِلَى الْوَدَاعِ ; لِأَنَّهَا مَوْضِعُ التَّوْدِيعِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الثَّنْيَةُ الْعَقَبَةُ، أَوْ طَرِيقُهَا وَالْجَبَلُ، أَوِ الطَّرِيقَةُ فِيهِ، أَوْ إِلَيْهِ، (وَبَيْنَهُمَا) : أَيْ: بَيْنَ الْحَيْفَاءِ وَالثَّنِيَّةُ (سِتَّةُ أَمْيَالٍ) : أَيْ: فَرْسَخَانِ ( «وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تَضْمُرْ» ) : بِالتَّخْفِيفِ (مِنَ الثَّنِيَةِ) : أَيْ: ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ (إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زَرَيْقٍ) : بِفَتْحِ الزَّايِ وَفَتْحِ الرَّاءِ اسْمُ رَجُلٍ (وَبَيْنَهُمَا) : أَيْ: بَيْنَ الثَّنِيَّةِ وَالْمَسْجِدِ (مِيلٌ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا جَعَلَ غَايَةَ الْمُضْمَرَةِ أَبْعَدَ لِكَوْنِهَا أَقْوَى، وَفِيهِ جَوَازُ الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ ; أَيْضًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3871 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ، وَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3871 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ» ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ فَمُوَحَّدَةٌ مَمْدُودًا، الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ، أَوِ الْمَشْقُوقَةُ، وَهِيَ الْقَصْوَاءُ، أَوْ غَيْرُهَا قَوْلَانِ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ عَلَمٌ لَهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ عَضْبَاءُ ; أَيْ: مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَلَمْ تَكُنْ مَشْقُوقَةَ الْأُذُنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا كَانَتْ مَشْقُوقَةَ الْأُذُنِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ مَنْقُولٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ عَضْبَاءُ وَهِيَ الْقَصِيرَةُ الْيَدِ. (وَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لَا تَسْبِقُ عَنْهَا إِبِلٌ قَطُّ (فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، إِبِلٍ ذَلُولٍ تَقْتَعِدُهُ كُلَّ أَحَدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَعُودُ مِنَ الْإِبِلِ مَا أَمْكَنَ أَنْ يُرْكَبَ وَأَدْنَاهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَتَانِ، ثُمَّ هُوَ قَعُودٌ إِلَى السَّنَةِ السَّادِسَةِ، ثُمَّ هُوَ جَمَلٌ. (فَسَبَقَهَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ) : أَيْ: صَعُبَ سَبْقُهُ ; إِيَّاهَا (عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ) : أَيْ: أَمْرًا ثَابِتًا (أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا) : أَيْ: مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (إِلَّا وَضَعَهُ) : أَيِ: اللَّهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: " عَلَى اللَّهِ " مُتَعَلِّقٌ بِحَقًّا، وَ " أَنْ لَا يَرْتَفِعَ " خَبَرُ إِنَّ، وَ " أَنْ " مَصْدَرِيَّةٌ فَيَكُونُ مَعْرِفَةً، وَالِاسْمُ نَكِرَةٌ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ ; أَيْ: إِنَّ عَدَمَ الِارْتِفَاعِ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: كَانَ مِزَاجَهَا عَسَلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَحَمَّلَ بِأَنْ يُقَالَ: عَلَى اللَّهِ صِفَةُ حَقًّا ; أَيْ: حَقًّا ثَابِتًا وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ، وَفِيهِ وَفِي الَّذِي قَبْلَهُ جَوَازُ الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3872 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنَبِّلَهُ. فَارْمُوا، وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا. كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ، إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ: " «وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ تَرَكَهَا» ".، أَوْ قَالَ: " كَفَرَهَا ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3872 - (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ) : أَيْ: بِسَبَبِ رَمْيِهِ عَلَى الْكُفَّارِ (ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ) : بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (صَانِعَهُ) : بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ ثَلَاثَةَ (يَحْتَسِبُ) : أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ يَطْلُبُ (فِي صُنْعِهِ) : أَيْ: لِذَلِكَ السَّهْمِ (الْخَيْرَ) : أَيِ: الثَّوَابَ (وَالرَّامِيَ بِهِ) : أَيْ: كَذَلِكَ مُحْتَسِبًا، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَمُنَبِّلَهُ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُخَفَّفُ ; أَيْ: مُنَاوِلَ النَّبْلِ، وَهُوَ السَّهْمُ، سَوَاءٌ كَانَ مِلْكَ الْمُعْطِي، أَوِ الرَّامِي، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: نَبَلْتُ الرَّجُلَ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا نَاوَلْتَهُ النَّبْلَ لِيَرْمِيَ بِهِ، وَكَذَلِكَ أَنْبَلْتُهُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ: نَبَلْتُهُ وَأَنْبَلْتُهُ وَنَبَلْتُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُنَبِّلِ الَّذِي يَرُدُّ النَّبْلَ عَلَيْهِ الرَّامِي مِنَ الْهَدَفِ اه. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمَلَكِ قَالَ: فَالضَّمِيرُ لِلرَّامِي وَفِيهِ بَحْثٌ (وَارْمُوا وَارْكَبُوا) ; أَيْ: لَا تَقْتَصِرُوا عَلَى الرَّمْيِ مَاشِيًا، وَاجْمَعُوا بَيْنَ الرَّمْيِ وَالرُّكُوبِ، أَوِ الْمَعْنَى: اعْلَمُوا هَذِهِ الْفَضِيلَةَ وَتَعَلَّمُوا الرَّمْيَ وَالرُّكُوبَ بِتَأْدِيبِ الْفَرَسِ وَالتَّمْرِينِ عَلَيْهِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ آخِرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفُ " وَارْكَبُوا " يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَأَنَّ الرَّامِيَ يَكُونُ رَاجِلًا، وَالرَّاكِبُ رَامِحًا، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: ( «وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا» ) : أَنَّ الرَّمْيَ بِالسَّهْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الطَّعْنِ بِالرُّمْحِ اه. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ مُعَالَجَةَ الرَّمْيِ وَتَعَلُّمَهُ أَفْضَلُ مِنْ تَأْدِيبِ الْفَرَسِ وَتَمْرِينِ رُكُوبِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَلِمَا فِي الرَّمْيِ مِنَ النَّفْعِ الْأَعَمِّ، وَلِذَا قَدَّمَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الرُّمْحِ أَصْلًا، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ تَأْكِيدُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: (كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ) : أَيْ: يَشْتَغِلُ وَيَلْعَبُ، (بَاطِلٌ) : لَا ثَوَابَ لَهُ (إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ) : احْتِرَازٌ عَنْ رَمْيِهِ

بِالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ (وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ) : أَيْ: تَعْلِيمَهُ إِيَّاهُ بِالرَّكْضِ وَالْجَوَلَانِ عَلَى نِيَّةِ الْغَزْوِ (وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ) : أَيْ: وَلَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ الْبَاطِلِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ الْكَامِلُ، وَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ مَا يُعِينُ عَلَى الْحَقِّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ إِذَا كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ، كَالْمُسَابَقَةِ بِالرِّجْلِ وَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، وَالتَّمْشِيَةِ لِلتَّنَزُّهِ عَلَى قَصْدِ تَقْوِيَةِ الْبَدَنِ، وَتَطْرِيَةِ الدِّمَاغِ، وَمِنْهَا السَّمَاعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْآلَاتِ الْمُطْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ: إِلَى هُنَا وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ (وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) : أَيْ: عَلَى مَا سَبَقَ (وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ) : أَيْ: إِعْرَاضًا عَنِ الرَّمْيِ (فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ) : هَذَا عِلَّةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ ; أَيْ: فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ قَدْ عَصَى، فَإِنَّهُ ; أَيِ الرَّمْيَ نِعْمَةٌ (تَرَكَهَا) : أَيْ: تَرَكَ شُكْرَهَا، أَوْ أَعْرَضَ عَنْهَا (أَوْ قَالَ) : أَيْ: بَدَلَ تَرَكَهَا وَهُوَ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ فَالضَّمِيرُ لِمَنْ قَبْلَهُ (كَفَرَهَا) : أَيْ: سَتَرَ تِلْكَ النِّعْمَةَ، أَوْ مَا قَامَ بِشُكْرِهَا مِنَ الْكُفْرَانِ ضِدُّ الشُّكْرِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " «مَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ كَفَرَهَا» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُقْبَةَ.

3873 - وَعَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ لَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ عِدْلُ مُحَرِّرٍ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ ; كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ، وَالنَّسَائِيُّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، وَالتِّرْمِذِيُّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ، وَفِي رِوَايَتِهِمَا: " مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ " بَدَلَ: " فِي الْإِسْلَامِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3873 - (وَعَنْ أَبِي نَجِيحٍ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (السُّلَمِيِّ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَسْلَمَ قَدِيمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قِيلَ: كَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. " «إِذَا سَمِعْتَ أَنِّي خَرَجْتُ فَاتَّبِعْنِي» " فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِقَوْمِهِ حَتَّى انْقَضَتْ خَيْبَرُ فَقَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، وَعِدَادُهُ فِي الشَّامِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ بَلَغَ) : بِالتَّخْفِيفِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ (بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: أَوْصَلَهُ إِلَى كَافِرٍ (فَهُوَ لَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ) : فَقَوْلُهُ: (وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: وَلَمْ يُوصِلْهُ إِلَى كَافِرٍ (فَهُوَ لَهُ عِدْلُ مُحَرِّرٍ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَيُفْتَحُ ; أَيْ: مِثْلُ ثَوَابِ مُعْتِقٍ يَكُونُ تَنَزُّلًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ بَلَغَ مَكَانَ الْغَزْوِ مُلْتَبِسًا بِسَهْمٍ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ فَيَكُونَ تَرَقِّيًا، فَالْبَاءُ عَلَى الْأَوَّلِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَعَلَى الثَّانِي لِلْمُلَابَسَةِ وَيُلَائِمُهُ نُسْخَةُ التَّشْدِيدِ، (وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ) : يَعْنِي أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَادِ، أَوْ غَيْرِهِ (كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ; فِيهِ إِشْعَارٌ بِالنَّهْيِ عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَعَدَمِ كَرَاهَتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرٌ مِنَ الشَّيْبِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ النِّسَاءَ وَهُنَّ بِالطَّبْعِ يَكْرَهْنَ الشَّيْبَ. وَقَدْ رَأَى أَبُو يَزِيدَ فِي مِرْآةِ وَجْهِهِ فَقَالَ: ظَهَرَ الشَّيْبُ وَلَمْ يَذْهَبِ الْعَيْبُ، وَمَا أَدْرَى مَا فِي الْغَيْبِ (رَوَاهُ) : أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ مِنَ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ) : أَيِ: الْفِقْرَةَ الْأُولَى مِنَ الْحَدِيثِ (وَالنَّسَائِيُّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي، وَالتِّرْمِذِيُّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ، وَفِي رِوَايَتِهِمَا) : لَا يَصِحُّ إِرْجَاعُ الضَّمِيرِ إِلَى النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ، مَعَ أَنَّهُمَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ ; لِأَنَّ النَّسَائِيَّ لَمْ يَرْوِ الثَّالِثَ، فَالْمَعْنَى وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ (مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. بَدَلَ فِي الْإِسْلَامِ) : وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيِّ كَمَا تَقَدَّمَتْ إِنَّمَا هِيَ فِي الْإِسْلَامِ وَجَوَابُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ وَرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، أَوْ فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَدَلَ فِي الْإِسْلَامِ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ لَفْظِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَفِي رِوَايَتِهِمَا إِلَخِ تَحْقِيقٌ لِلَفْظِهِ، وَيَكُونُ كَالِاعْتِرَاضِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ: " مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ " أَنْسَبُ بِهَذَا الْمَقَامِ، وَمَعْنَاهُ مَنْ مَارَسَ الْمُجَاهَدَةَ حَتَّى يَشِيبَ طَاقَةٌ مِنْ شَعْرِهِ فَلَهُ مَا لَا يُوصَفُ مِنَ الثَّوَابِ دَلَّ عَلَيْهِ تَخْصِيصُ ذِكْرِ النُّورِ وَالتَّنْكِيرِ فِيهِ، وَمَنْ

رَوَى فِي الْإِسْلَامِ بَدَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَرَادَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ، أَوْ سُمِّيَ الْجِهَادُ إِسْلَامًا ; لِأَنَّهُ عَمُودُهُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ اه. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ صُدُورَ الْفُصُولَ كَانَتْ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّصِلَةً فِي الْكَلَامِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمَلٌ مُفَصَّلَةٌ أَجْمَلَهَا الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْرِيقُهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ: «وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ عِدْلُ مُحَرِّرٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ وَقَالَ: «وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ.

3874 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ، أَوْ خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3874 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا سَبَقَ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ مَا يُجْعَلُ مِنَ الْمَالِ رَهْنًا عَلَى الْمُسَابَقَةِ، وَبِالسُّكُونِ مَصْدَرُ سَبَقْتُ أَسْبِقُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الرِّوَايَةُ الْفَصِيحَةُ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَالْمَعْنَى لَا يَحِلُّ أَخْذُ الْمَالِ بِالْمُسَابَقَةِ (إِلَّا فِي نَصْلٍ) : أَيْ: لِلسَّهْمِ (أَوْ خُفٍّ) : أَيْ: لِلْبَعِيرِ (أَوْ حَافِرٍ) : أَيْ: لِلْخَيْلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ ; أَيْ: ذِي نَصْلٍ وَذِي خُفٍّ وَذِي حَافِرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ ذُو نَصْلٍ كَالسَّهْمِ، وَذُو خُفٍّ كَالْإِبِلِ وَالْفِيلِ، وَذُو حَافِرٍ كَالْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ ; أَيْ: لَا يَحِلُّ أَخْذُ الْمَالِ بِالْمُسَابَقَةِ إِلَّا فِي أَحَدِهَا، وَأَلْحَقَ بَعْضٌ بِهَا الْمُسَابَقَةَ بِالْأَقْدَامِ، وَبَعْضٌ الْمُسَابَقَةَ بِالْأَحْجَارِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْخَيْلِ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، وَفِي مَعْنَى الْإِبِلِ الْفِيلُ، قِيلَ: لِأَنَّهُ أَغْنَى مِنَ الْإِبِلِ فِي الْقِتَالِ، وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمُ الشَّدَّ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالْمُسَابَقَةَ عَلَيْهَا، وَفِيهِ إِبَاحَةُ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى الْمُنَاضَلَةِ لِمَنْ نَضَلَ، وَعَلَى الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ لِمَنْ سَبَقَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهَا عُدَّةٌ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ، وَفِي بَذْلِ الْجُعْلِ عَلَيْهَا تَرْغِيبٌ فِي الْجِهَادِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَيْسَ بِرِهَانِ الْخَيْلِ بَأْسٌ إِذَا أُدْخِلَ فِيهَا مُحَلَّلٌ وَالسِّبَاقُ بِالطَّيْرِ وَالرِّجْلِ وَبِالْحَمَامِ، وَمَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا مِمَّا لَيْسَ مِنْ عُدَّةِ الْحَرْبِ، وَلَا مِنْ بَابِ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِهَادِ، فَأَخْذُ الْمَالِ عَلَيْهِ قِمَارٌ مَحْظُورٌ، وَسُئِلَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ الدَّحْوِ بِالْحِجَارَةِ ; فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَدْحُو بِالْحِجَارَةِ ; أَيْ: يَرْمِي بِهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : بِلَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ، أَوْ نَصْلٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

3875 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، فَإِنْ كَانَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ ; فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: " «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، يَعْنِي وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ ; فَلَيْسَ بِقِمَارٍ. وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ ; فَهُوَ قِمَارٌ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3875 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ) : وَفِي نُسْخَةٍ بَيْنَ الْفَرَسَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَلِّلِ، وَهُوَ مِنْ جَعَلَ الْعَقْدَ حَلَالًا، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ ثَالِثًا بَيْنَهُمَا. (فَإِنْ كَانَ يُؤْمَنُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (أَنْ يَسْبِقَ) : أَيْ: مِنْ أَنْ يَسْبِقَ قَالَ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ ; أَيْ: يَعْلَمُ وَيَعْرِفُ أَنَّ هَذَا الْفَرَسَ سَابِقٌ غَيْرُ مَسْبُوقٍ (فَلَا خَيْرَ فِيهِ) : بِخِلَافِهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَعْرِفْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ ; فَلَا بَأْسَ بِهِ. رَوَاهُ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ بِهَذَا اللَّفْظِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ; أَيْ: بِإِسْنَادِهِ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، يَعْنِي وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ» ) : أَشَارَ بِقَوْلِهِ يَعْنِي أَنَّهُ رِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى (فَلَيْسَ بِقِمَارٍ) : بِكَسْرِ الْقَافِ ; أَيْ: بِمُقَامَرَةٍ ( «وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ» ) : وَضُبِطَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ لَفْظُ أَنْ

يَسْبِقَ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُحَلِّلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى فَرَسٍ مِثْلَ فَرَسِ الْمُخْرِجِينَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ فَرَسَيْهِمَا فِي الْعَدْوِ، فَإِنْ كَانَ فَرَسُ الْمُحَلِّلِ جَوَادًا بِحَيْثُ يَعْلَمُ الْمُحَلِّلُ أَنَّ فَرَسَ الْمُخْرِجِينَ لَا يَسْبِقَانِ فَرَسَهُ لَمْ يَجُزْ بَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَسْبِقُ فَرَسَيِ الْمُخْرِجِينَ يَقِينًا، أَوْ أَنَّهُ يَكُونُ مَسْبُوقًا جَازَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: ثُمَّ فِي الْمُسَابَقَةِ إِنْ كَانَ الْمَالُ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ وَاحِدٍ مِنْ عَرْضِ النَّاسِ شَرَطَ لِلسَّابِقِ مِنَ الْفَارِسَيْنِ مَالًا مَعْلُومًا فَجَائِزٌ، وَإِذَا سَبَقَ اسْتَحَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْفَارِسَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُكَ فَلَا شَيْءَ لِي عَلَيْكَ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا، فَإِذَا سَبَقَ اسْتَحَقَّ الْمَشْرُوطَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مِنْ جِهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: إِنْ سَبَقْتُكَ فَلِي عَلَيْكَ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا بِمُحَلِّلٍ يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا إِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ أَخَذَ السَّبَقَيْنِ، وَإِنْ سُبِقَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَسُمِّيَ مُحَلِّلًا ; لِأَنَّهُ مُحَلِّلٌ لِلسَّابِقِ أَخْذَ الْمَالِ فَبِالْمُحَلِّلِ يَخْرُجُ الْعَقْدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قِمَارًا ; لِأَنَّ الْقِمَارَ كَوْنُ الرَّجُلِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ، فَإِذَا دَخَلَ بَيْنَهُمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إِذَا جَاءَ الْمُحَلِّلُ أَوَّلًا، ثُمَّ جَاءَ الْمُسْتَبِقَانِ مَعًا، أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ أَخَذَ الْمُحَلِّلُ السَّبَقَيْنِ، وَإِنْ جَاءَ الْمُسْتَبِقَانِ مَعًا، ثُمَّ الْمُحَلِّلُ فَلَا شَيْءَ لِأَحَدٍ وَإِنْ جَاءَ أَحَدُ الْمُسْتَبِقَيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْمُحَلِّلُ وَالْمُسْتَبِقُ الثَّانِي إِمَّا مَعًا، أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ أَحْرَزَ السَّابِقُ سَبَقَهُ، وَأَخَذَ سَبَقَ الْمُسْتَبِقِ الثَّانِي، وَإِنْ جَاءَ الْمُحَلِّلُ وَأَحَدُ الْمُسْتَبِقَيْنِ مَعًا، ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي مُصَلِّيًا أَخَذَ السَّابِقَانِ سَبَقَهُ.

3876 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ» ". زَادَ يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ: " فِي الرِّهَانِ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَعَ زِيَادَةٍ فِي بَابِ " الْغَصْبِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3876 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا جَلَبَ) : بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ: لَا صِيَاحَ عَلَى الْخَيْلِ، وَالْمَعْنَى لَا يُصَوَّتُ عَلَى الْفَرَسِ لِيَكُونَ أَشَدَّ عَدْوًا (وَلَا جَنَبَ) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُجَنِّبَ إِلَى جَنْبِ مَرْكُوبِهِ فَرَسًا آخَرَ لِيَرْكَبَهُ إِذَا خَافَ أَنْ يُسْبَقَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْجَلَبُ فِي الزَّكَاةِ مَرَّ مَعْنَاهُ، وَفِي السِّبَاقِ أَنْ يُتْبِعَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ رَجُلًا فَيَزْجُرَهُ وَيَصِيحَ حَثًّا لَهُ عَلَى الْجَرْيِ، وَالْجَنَبُ فِي السِّبَاقِ أَنْ يُجَنِّبَ فَرَسًا إِلَى فَرَسِهِ الَّذِي سَابَقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَتَرَ الْمَرْكُوبُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَجْنُوبِ (زَادَ يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ) : أَيْ: فِي مَرْوِيِّهِ قَوْلَهُ: (فِي الرِّهَانِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَيَّنَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّهَانِ مُدْرَجٌ عَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةً. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ، يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادَيْنِ. إِسْنَادٍ لَيْسَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ هَذَا وَلَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَإِسْنَادِ يَحْيَى وَالزِّيَادَةِ، وَأَمَّا مَا فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ قَوْلِهِ يَعْنِي فِي الرِّهَانِ فَهُوَ تَفْسِيرُ مُؤَلِّفِهِ كُنَّا قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: لَعَلَّهُ فَسَّرَ الْحَدِيثَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ اه. وَقَالَ شَارِحٌ: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، ثُمَّ الرِّهَانُ وَالْمُرَاهَنَةُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُخَاطَرَةُ وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى الْخَيْلِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : أَيْ: هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْحَدِيثِ (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَعَ زِيَادَةٍ فِي بَابِ الْغَضَبِ) : وَالزِّيَادَةُ هِيَ: " «وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» "، «وَمَنِ انْتَهَبَ نَهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا» ، وَالشِّغَارُ أَنْ تُشَاغِرَ الرَّجُلَ بِأَنْ تُزَوِّجَهُ أُخْتَكَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَكَ أُخْتَهُ مَثَلًا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

3877 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَمُ الْأَقْرَحُ الْأَرْثَمُ، ثُمَّ الْأَقْرَحُ الْمُحَجَّلُ طُلُقُ الْيَمِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَمَ، فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذِهِ الشِّيَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3877 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَمُ» ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأَدْهَمُ الَّذِي يَشْتَدُّ سَوَادُهُ وَقَوْلُهُ: (الْأَقْرَحُ) : الَّذِي فِي وَجْهِهِ الْقُرْحَةُ بِالضَّمِّ، وَهِيَ مَا دُونَ الْغُرَّةِ يَعْنِي فِيهِ بَيَاضٌ يَسِيرٌ وَلَوْ قَدْرُ دِرْهَمٍ وَقَوْلُهُ: (الْأَرْثَمُ) : بِالْمُثَلَّثَةِ ; أَيْ فِي جَحْفَلَتِهِ الْعُلْيَا بَيَاضٌ مِنْ أَنَّهُ الْأَبْيَضُ الشَّفَةِ الْعُلْيَا وَقِيلَ: الْأَبْيَضُ الْأَنْفِ (ثُمَّ) : أَيْ بَعْدَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي الْفَرَسِ خَيْرُ الْخَيْلِ (الْأَقْرَحُ الْمُحَجَّلُ) : وَالتَّحْجِيلُ: بَيَاضٌ فِي قَوَائِمِ الْفَرَسِ، أَوْ فِي ثَلَاثٍ مِنْهَا، أَوْ فِي رِجْلَيْهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ أَنْ يُجَاوِزَ الْأَرْسَاغَ وَلَا يُجَاوِزَ الرُّكْبَتَيْنِ

وَالْعُرْقُوبَيْنِ، (طُلُقُ الْيَمِينِ) : بِضَمِّ الطَّاءِ وَاللَّامِ وَيُسَكَّنُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي إِحْدَى قَوَائِمِهَا تَحْجِيلٌ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ) : أَيِ الْفَرَسُ (أَدْهَمَ) : أَيْ أَسْوَدَ مِنَ الدُّهْمَةِ، وَهِيَ السَّوَادُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ أَدْهَمَ ; أَيْ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، أَوْ لَمْ يَقَعْ أَدْهَمُ (فَكُمَيْتٌ) : بِالتَّصْغِيرِ ; أَيْ بِأُذُنَيْهِ وَعُرْفِهِ سَوَادٌ وَالْبَاقِي أَحْمَرُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْكُمَيْتُ مِنَ الْخَيْلِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمَصْدَرُ الْكُمْتَةُ وَهِيَ حُمْرَةٌ يَدْخُلُهَا قَتْرَةٌ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّمَا صُغِّرَ ; لِأَنَّهُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ لَمْ يَخْلُصْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَرَادُوا بِالتَّصْغِيرِ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُمَا (عَلَى هَذِهِ الشِّيَةِ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ ; أَيِ الْعَلَامَةِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ لَوْنٍ يُخَالِفُ مُعْظَمَ لَوْنِ الْفَرَسِ وَغَيْرِهِ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ الذَّاهِبَةِ مَنْ أَوَّلِهِ وَهَمْزُهَا لَحْنٌ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَقْرَحِ الْأَرْثَمِ، ثُمَّ الْمُحَجَّلُ طُلُقُ الْيَمِينِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَمُ الْأَقْرَحُ الْأَرْقَمُ الْمُحَجَّلُ ثَلَاثُ طُلُقِ الْيَمِينِ» ". الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ.

3878 - وَعَنْ أَبِي وَهَبٍ الْجُشَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَشْقَرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3878 - (وَعَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ) : بِضَمٍّ وَفَتْحٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ وَلَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمْ) : اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا (بِكُلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ) : أَيْ فِي جَبْهَتِهِ بَيَاضٌ كَثِيرٌ (مُحَجَّلٍ، أَوْ أَشْقَرَ) : الشُّقْرَةُ الْحُمْرَةُ الصَّافِيَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْكُمَيْتِ وَالْأَشْقَرِ بِقَتْرَةٍ تَعْلُو الْحُمْرَةَ وَبِسَوَادِ الْعُرْفِ وَالذَّنَبِ فِي الْكُمَيْتِ (أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ) : أَوْ فِيهِمَا لِلتَّنْوِيعِ وَظَاهِرُهُ التَّرْتِيبُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

3879 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يُمْنُ الْخَيْلِ فِي الشُّقْرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3879 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُمْنُ الْخَيْلِ» ) : أَيْ بَرَكَتُهَا (فِي الشُّقْرِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ أَشْقَرَ وَهُوَ أَحْمَرُ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فِي شُقْرَتِهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

3880 - وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا تَقُصُّوا نَوَاصِيَ الْخَيْلِ، وَلَا مَعَارِفَهَا، وَلَا أَذْنَابَهَا فَإِنَّ أَذْنَابَهَا مَذَابُّهَا، وَمَعَارِفَهَا دِفَاؤُهَا، وَنَوَاصِيهَا مَعْقُودٌ فِيهَا الْخَيْرُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3880 - (وَعَنْ عُتْبَةَ) : بِضَمٍّ فَفَوْقِيَّةٍ سَاكِنَةٍ (ابْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ) : مَرَّ ذِكْرُهُ قَرِيبًا (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا تَقُصُّوا) : مِنَ الْقَصِّ وَهُوَ الْقَطْعُ ; أَيْ: لَا تَجُزُّوا (نَوَاصِيَ الْخَيْلِ) : أَيْ شَعْرَ مُقَدَّمِ رَأْسِهَا (وَلَا مَعَارِفَهَا) : قَالَ الْقَاضِي: أَيْ شُعُورَ عُنُقِهَا جَمْعُ عُرْفٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقِيلَ: هِيَ جَمْعُ مَعْرَفَةٍ هِيَ الْمَحَلُّ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهَا الْعُرْفُ فَأُطْلِقَتْ عَلَى الْأَعْرَافِ مَجَازًا (وَلَا أَذْنَابَهَا فَإِنَّ أَذْنَابَهَا مَذَابُّهَا) : أَيْ مَرَاوِحُهَا تَذُبُّ بِهَا الْهَوَامَّ عَنْ أَنْفُسِهَا (وَمَعَارِفَهَا) : بِالنَّصْبِ عَطَفٌ عَلَى أَذْنَابِهَا وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (دِفَاؤُهَا) : بِكَسْرِ الدَّالِ ; أَيْ كِسَاؤُهَا الَّذِي تَدْفَأُ بِهِ (وَنَوَاصِيهَا) : بِالْوَجْهَيْنِ (مَعْقُودٌ فِيهَا الْخَيْرُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3881 - وَعَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ، وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَعْجَازِهَا - أَوْ قَالَ: أَكْفَالِهَا - وَقَلِّدُوهَا، وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3881 - (وَعَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ) : سَبَقَ آنِفًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ» ) : أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ; أَيْ بَالِغُوا فِي رَبْطِهَا وَإِمْسَاكِهَا عِنْدَكُمْ (وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا) : أَيْ تَلَطُّفًا بِهَا وَتَنْظِيفًا لَهَا (وَأَعْجَازِهَا - أَوْ قَالَ أَكْفَالِهَا -) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ عَجُزٍ وَهُوَ الْكِفْلُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِهَذَا الْمَسْحِ تَنْظِيفَهَا مِنَ الْغُبَارِ وَتَعَرُّفَ حَالِهَا مِنَ السَّمْنِ (وَقَلِّدُوهَا) : أَيِ اجْعَلُوا ذَلِكَ لَازِمًا لَهَا فِي أَعْنَاقِهَا لُزُومَ الْقَلَائِدِ لِلْأَعْنَاقِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ اجْعَلُوا فِي أَعْنَاقِ الْخَيْلِ مَا شِئْتُمْ. (وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ) : جَمْعُ الْوَتَرِ بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ: لَا تَجْعَلُوا أَوْتَارَ الْقَوْسِ فِي أَعْنَاقِهَا فَتَخْتَنِقَ ; لِأَنَّ الْخَيْلَ رُبَّمَا رَعَتِ الْأَشْجَارَ، أَوْ حَكَّتْ بِهَا عُنُقَهَا، فَيَتَشَبَّثُ الْأَوْتَارُ بِبَعْضِ شِعْبِهَا فَيَخْنُقُهَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ تَقْلِيدَ الْخَيْلِ بِالْأَوْتَارِ يَدْفَعُ عَنْهَا الْعَيْنَ وَالْأَذَى فَتَكُونَ كَالْمُعَوِّذَةِ لَهَا فَنَهَاهُمْ عَنْهَا، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا لَا تَدْفَعُ ضَرًّا وَلَا تَصْرِفُ حَذَرًا. وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ قَلِّدُوهَا طَلَبَ إِعْلَاءِ الدِّينِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُقَلِّدُوهَا أَوْتَارَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَكُمْ عَلَى أَنَّ الْأَوْتَارَ جَمْعُ وِتْرٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ الدَّمُ وَطَلَبُ الثَّأْرِ ; أَيْ: لَا تَرْكَبُوهَا لِتَطْلُبُوَا عَلَيْهَا أَوْتَارَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَدَاخِلَهَا الَّتِي كَانَتْ بَيْنَكُمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

3882 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدًا مَأْمُورًا، مَا اخْتَصَّنَا دُونَ النَّاسِ بِشَيْءٍ إِلَّا بِثَلَاثٍ: أَمَرَنَا أَنْ نُسْبِغَ الْوُضُوءَ، وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ لَا نَنْزِيَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3882 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدًا مَأْمُورًا» ) : أَيْ بِأَوَامِرِهِ وَمَنْهِيًّا عَنْ نَوَاهِيهِ، أَوْ مَأْمُورًا مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يَأْمُرَ أُمَّتَهُ بِشَيْءٍ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ كَذَا قِيلَ. وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ مِطْوَاعًا غَيْرَ مُسْتَبِدٍّ فِي الْحُكْمِ، وَلَا حَاكِمٍ بِمُقْتَضَى مَيْلِهِ وَتَشَهِّيهِ حَتَّى يَحُضَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ اه. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ عُمُومًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الْآيَةَ. (مَا اخْتَصَّنَا) : أَيْ أَهْلَ الْبَيْتِ يُرِيدُ بِهِ نَفْسَهُ وَسَائِرَ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ (دُونَ النَّاسِ) : أَيْ مُتَجَاوِزًا عَنْهُمْ (بِشَيْءٍ إِلَّا بِثَلَاثٍ) : أَيْ مَا اخْتَصَّنَا بِحُكْمٍ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ عَلَى سَائِرِ أُمَّتِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْنَا بِشَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ، إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ ( «أَمَرَنَا أَنْ نُسْبِغَ الْوُضُوءَ» ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ ; أَيْ نَسْتَوْعِبَ مَاءَهُ، أَوْ نُكْمِلَ أَعْضَاءَهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: أَيْ وُجُوبًا ; لِأَنَّ إِسْبَاغَ الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ لِلْكُلِّ ( «وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ لَا نَنْزِيَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ» ) : بِالْيَاءِ فِي آخِرِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْهَمْزِ مَنْ أَنْزَى الْحُمُرَ عَلَى الْخَيْلِ حَمَلَهَا عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ هَذَا فِي تَحْرِيمٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أَمَرَنَا إِلَخِ. تَفْصِيلٌ لِلْخِصَالِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَمْرَ إِيجَابٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ اخْتِصَاصٌ ; لِأَنَّ إِسْبَاغَ الْوُضُوءِ مَنْدُوبٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْزَاءُ الْحِمَارِ عَلَى الْفَرَسِ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْآتِي، وَالسَّبَبُ فِيهِ قَطْعُ النَّسْلِ، وَاسْتِبْدَالُ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، فَإِنَّ الْبَغْلَةَ لَا تَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَلِذَلِكَ لَا سَهْمَ لَهَا فِي الْغَنِيمَةِ وَلَا سَبْقَ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ بِأَنْ لَا يَأْكُلَ الصَّدَقَةَ وَهُوَ وَاجِبٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَرِينَةً أَيْضًا كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُفَسِّرَ الصَّدَقَةَ بِالتَّطَوُّعِ، أَوِ الْأَمْرَ بِالْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ لَهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا اخْتَصَّنَا بِشَيْءٍ إِلَّا بِمَزِيدِ الْحَثِّ وَالْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ اه. وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ بَلِيغٌ عَلَى الشِّيعَةِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَصَّ أَهْلَ الْبَيْتِ بِعُلُومٍ مَخْصُوصَةٍ، وَنَظِيرُهُ مَا صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سُئِلَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي خَلَقَ الْجَنَّةَ وَبَرَأَ النِّسْمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى الرَّجُلَ فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) .

3883 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَغْلَةٌ، فَرَكِبَهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ حَمَلْنَا الْحِمَارَ عَلَى الْخَيْلِ فَكَانَتْ لَنَا مِثْلُ هَذِهِ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3883 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أُهْدِيَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ أُتِيَتْ هَدِيَّةٌ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغْلَةٌ، فَرَكِبَهَا، قَالَ عَلِيٌّ: لَوْ حَمَلْنَا الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ فَكَانَتْ لَنَا مِثْلُ هَذِهِ؟) : وَفِي نُسْخَةٍ مِثْلُ ذَلِكَ ; أَيِ الْمَرْكُوبِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى حَمَلْنَا وَجَوَابُ (لَوْ) مُقَدَّرٌ ; أَيْ لَكَانَ حَسَنًا، أَوْ لِلتَّمَنِّي (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) : أَيْ إِنَّ إِنْزَاءَ الْفَرَسِ عَلَى الْفَرَسِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْمَنَافِعِ: أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى لَهُمْ وَأَنْفَعُ سَبِيلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: لَا يَعْلَمُونَ مُطْلَقٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقْدَّرَ مَفْعُولُهُ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ ; أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ كَرَاهِيَتَهُ وَعِلَّتَهَا كَمَا سَبَقَ، وَأَنْ لَا يُقَدَّرَ وَيَجْرِيَ مَجْرَى اللَّازِمِ لِلْمُبَالَغَةِ ; أَيِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الْحِكْمَةِ، أَوْ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ، وَمَالَ الْمُظْهِرُ إِلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْزَاءُ الْحِمَارِ عَلَى الْفَرَسِ جَائِزٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكِبَ الْبَغْلَ وَجَعَلَهُ تَعَالَى مِنَ النِّعَمِ وَمَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِقَوْلِهِ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْإِنْزَاءَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالرُّكُوبَ وَالتَّزَيُّنَ بِهِ جَائِزَانِ كَالصُّوَرِ، فَإِنَّ عَمَلَهَا حَرَامٌ وَاسْتِعْمَالَهَا فِي الْفَرْشِ وَالْبَسْطِ مُبَاحٌ اه. وَفِي تَنْظِيرِهِ، نَظَرٌ لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

3884 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ؟ «كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فِضَّةٍ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3884 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ قَبْضَتُهُ (مِنْ فِضَّةٍ) : فِي النِّهَايَةِ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى رَأْسِ قَائِمِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: مَا تَحْتَ شَارِبَيِ السَّيْفِ، وَفِي الْقَامُوسِ: قَبِيعَةُ السَّيْفِ كَسَفِينَةٍ مَا عَلَى طَرَفِ قَبْضَتِهِ مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ فِضَّةٍ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ السَّيْفِ بِالْقَلِيلِ مِنِ الْفِضَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْلِيَةِ اللِّجَامِ وَالسَّرْجِ فَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ كَالسَّيْفِ، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ ; لِأَنَّهُ مِنْ زِينَةِ الدَّابَّةِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْلِيَةِ سِكِّينِ الْحَرْبِ وَالْمِقْلَمَةِ بِقَلِيلٍ مِنَ الْفِضَّةِ، فَأَمَّا التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ فَغَيْرُ مُبَاحٍ فِي جَمِيعِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

3885 - وَعَنْ هُودِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَدِّهِ مَزِيدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3885 - (وَعَنْ هُودٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي، وَذَكَرَ فِي الْأَزْهَارِ أَنَّهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَوْذَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالتَّاءِ، هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ هُودٌ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ بِلَا تَاءٍ، سَمِيُّ هُودٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَدِّهِ) : أَيْ لِأُمِّهِ كَذَا قِيلَ (مَزِيدَةَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْيَاءِ عَلَى وَزْنِ كَبِيرَةٍ، ذَكَرَهُ فِي التَّقْرِيبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ عَلَى وَزْنِ مَسْعَدَةَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْبَصْرِيُّ، رَوَى عَنْ جَدِّهِ مَزِيدَةَ وَمَعْبَدِ بْنِ وَهْبٍ الصَّحَابِيَّيْنِ، وَعَنْهُ طَالِبُ بْنُ حُجَيْرٍ وَقَالَ فِي حَرْفِ الْمِيمِ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: مَزِيدَةُ بْنُ جَابِرٍ الْعَبْدِيُّ يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ وَحَدِيثُهُ عِنْدَهُمْ، رَوَى عَنْهُ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ ابْنُ ابْنِهِ، وَمَزِيدَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ. (قَالَ: دَخَلَ) : أَيْ مَكَّةَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: حَدِيثُ مَزِيدَةَ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ سَنَدٌ يُعْتَدُّ بِهِ، ذَكَرَ صَاحِبُ الِاسْتِيعَابِ حَدِيثَهُ وَقَالَ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.

3886 - وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ دِرْعَانِ قَدْ ظَاهَرَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3886 - (وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: " حَضَرَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ أَبِيهِ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ) : بِضَمَّتَيْنِ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ السَّكِينَةِ (دِرْعَانِ قَدْ ظَاهَرَ) : أَيْ عَاوَنَ (بَيْنَهُمَا) : بِأَنْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ مِنَ الظَّاهِرِ بِمَعْنَى التَّعَاوُنِ وَالتَّسَاعُدِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ الْمُبَالَغَةِ فِي أَسْبَابِ الْمُجَاهَدَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالتَّسْلِيمَ بِالْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ الْمُقَدَّرَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

3887 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَتْ رَايَةُ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوْدَاءَ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3887 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ رَايَةُ نَبِيِّ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (سَوْدَاءَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مَا غَالِبُ لَوْنِهِ أَسْوَدُ بِحَيْثُ يُرَى مِنَ الْبَعِيدِ أَسْوَدَ، لَا أَنَّهُ خَالِصُ السَّوَادِ يَعْنِي لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ نَمِرَةٍ (وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، فِي النِّهَايَةِ: الرَّايَةُ الْعَلَمُ الضَّخْمُ، «وَكَانَ اسْمُ رَايَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَقْلَبَ» ، وَيُقَالُ: أرْبَيْتُ الرَّايَةَ ; أَيْ رَكَزْتُهَا يَعْنِي أَنَّ أَلِفَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، وَفِي الْمُغْرِبِ: اللِّوَاءُ عَلَمُ الْجَيْشِ وَهُوَ دُونَ الرَّايَةِ ; لِأَنَّهُ شِقَّةُ ثَوْبٍ يُلْوَى وَيُشَدُّ إِلَى عُودِ الرُّمْحِ، وَالرَّايَةُ عَلَمُ الْجَيْشِ، وَيُكْنَى أُمَّ الْحَرْبِ، وَهُوَ فَوْقَ اللِّوَاءِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالْعَرَبُ لَا تَهْمِزُهَا وَأَصْلُهَا الْهَمْزُ، وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيُّ الْهَمْزَ ; أَيْ فِي الرَّايَةِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرَّايَةُ هِيَ الَّتِي يَتَوَلَّاهَا صَاحِبُ الْحَرْبِ. وَيُقَاتِلُ عَلَيْهَا وَتَمِيلُ الْمُقَاتِلَةُ إِلَيْهَا، وَاللِّوَاءُ عَلَامَةُ كِبْكِبَةِ الْأَمِيرِ تَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الرَّايَةُ الْعَلَمُ الصَّغِيرُ وَاللِّوَاءُ الْعَلَمُ الْكَبِيرُ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «بِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَآدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

3888 - وَعَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ مَوْلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: «بَعَثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ إِلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: كَانَتْ سَوْدَاءَ مُرَبَّعَةً مِنْ نَمِرَةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3888 - (وَعَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ الزَّيْدِيُّ، رَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى وَمَكِّيٌّ ضَعَّفُوهُ (مَوْلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ) : أَيِ الْخَلَّادِ الْعَنْبَرِيِّ الْمَعْرُوفِ بِأَبِي الْعَيْنَاءِ، مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْيَمَامَةِ، وَمَوْلِدُهُ بِالْأَهْوَازِ، وَمَنْشَؤُهُ بِالْبَصْرَةِ، كَانَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ وَأَفْصَحِهِمْ لِسَانًا وَأَسْرَعِهِمْ جَوَابًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ فِي التَّابِعِينَ. (قَالَ) : أَيْ مُوسَى (بَعَثَنِي) : أَيْ أَرْسَلَنِي (مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ إِلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) : هُمَا صَحَابِيَّانِ (يَسْأَلُهُ عَنْ رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ عَنْ لَوْنِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا (فَقَالَ: كَانَتْ سَوْدَاءَ مُرَبَّعَةً) : قَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِالسَّوْدَاءِ مَا غَالِبُ لَوْنِهِ سَوَادٌ بِحَيْثُ يَرَى مِنَ الْبَعِيدِ أَسْوَدَ، لَا مَا لَوْنُهُ سَوَادٌ خَالِصٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ: (مِنْ نَمِرَةٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَهِيَ بُرْدَةٌ مِنْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا الْأَعْرَابُ فِيهَا تَخْطِيطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ نَمِرَةً تَشْبِيهًا بِالنَّمِرِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْعَبَاءُ ; أَيْضًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

3889 - وَعَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3889 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ) : أَيْ يَوْمَ الْفَتْحِ (وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3890 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النِّسَاءِ مِنَ الْخَيْلِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3890 - (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النِّسَاءِ مِنَ الْخَيْلِ» ) : أَيِ: الْجِهَادِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ الْخَيْلِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْغَزْوِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقِرَانُهُ مَعَ النِّسَاءِ هُنَا لِإِرَادَةِ التَّكْمِيلِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «حُبِّبَ إِلَيَّ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» "، فَإِنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَيْلُ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ عَلَى مَا مَرَّ فِي حَدِيثِ الِاسْتِغْفَارِ، أَحَسَّ فِي نَفْسِهِ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يُوهِمُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَائِلًا إِلَى مُعَاشَرَةِ أَرْبَابِ الْخُدُورِ وَمُشْتَغِلًا بِهِنَّ عَنْ أَعَالِي الْأُمُورِ، فَكَمَّلَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْخَيْلِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مِقْدَامٌ يَظَلُّ فِي الْكَرِّ وَالْفَرِّ مُجَاهِدًا مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ، كَمَا كَمَّلَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِقَوْلِهِ: وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ، فَأَذِنَ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُجَاهِدٌ مَعَ نَفْسِهِ وَاصَلٌ إِلَى مَخْدَعِ الْقُرْبِ اهـ. قِيلَ: وَقَدْ أُعْطِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُوَّةَ أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ فِي الْجِمَاعِ، فَعَلَى هَذَا كَانَ غَايَةً فِي التَّصَبُّرِ عَنْهُنَّ، وَنِهَايَةً فِي الِامْتِنَاعِ عَنِ اجْتِمَاعِهِنَّ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

3891 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْسٌ عَرَبِيَّةٌ فَرَأَى رَجُلًا بِيَدِهِ قَوْسٌ فَارِسِيَّةٌ، قَالَ: " مَا هَذِهِ؟ أَلْقِهَا، وَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ وَأَشْبَاهِهَا وَرِمَاحِ الْقَنَا فَإِنَّهَا يُؤَيِّدُ اللَّهُ لَكُمْ بِهَا فِي الدِّينِ وَيُمَكِّنُ لَكُمْ فِي الْبِلَادِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3891 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْسٌ عَرَبِيَّةٌ» ) : أَيْ: مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْعَرَبِ فِي الصِّنَاعَةِ فَرَأَى رَجُلًا بِيَدِهِ قَوْسٌ فَارِسِيَّةٌ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ ; أَيْ: عَجَمِيَّةٌ (قَالَ: مَا هَذِهِ؟) : أَيِ: الْقَوْسُ الْفَارِسِيَّةُ (أَلْقِهَا) : أَيِ: اطْرَحْهَا (وَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ) : أَيِ: الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ (وَأَشْبَاهِهَا) : أَيْ: فِي الْهَيْئَةِ (وَرِمَاحِ الْقَنَا) : بِفَتْحِ الْقَافِ جَمْعِ الْقَنَاةِ ; أَيْ: بِرِمَاحٍ كَامِلَةٍ) فَإِنَّهَا) : أَيِ: الْقِصَّةَ (يُؤَيِّدُ اللَّهُ لَكُمْ بِهَا) : أَيْ: بِكُلٍّ مِنَ الْقَوْسِ وَالرِّمَاحِ (فِي الدِّينِ وَيُمَكِّنُ لَكُمْ فِي الْبِلَادِ) : يُقَالُ: مَكَّنَتْهُ فِي الْأَرْضِ تَمْكِينًا أَثْبَتُّهُ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ إِنَّ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] وَلَعَلَّ الصَّحَابِيَّ رَأَى أَنَّ الْقَوْسَ الْفَارِسِيَّةَ أَقْوَى وَأَشَدُّ وَأَبْعَدُ مَرْمًى، فَآثَرَهَا عَلَى الْعَرَبِيَّةِ زَعْمًا بِأَنَّهَا أَعْوَنُ فِي الْحَرْبِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ، فَأَرْشَدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا زَعَمْتَ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَنْصُرُكُمْ فِي الدِّينِ، وَيُمَكِّنُكُمْ فِي الْبِلَادِ بِعَوْنِهِ لَا بِعَوْنِكُمْ وَلَا قُوَّةِ إِعْدَادِكُمْ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْقَوْسُ مُؤَنَّثٌ وَقَدْ تُذَكَّرُ، وَذُو الْقَوْسِ حَاجِبُ ابْنُ زُرَارَةَ أَتَى كِسْرَى فِي جَدْبٍ أَصَابَهُمْ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْذِنُهُ لِقَوْمِهِ أَنْ يَصِيرُوا فِي نَاحِيَةٍ مِنْ بِلَادِهِ حَتَّى يَحْيَوْا فَقَالَ: إِنَّكُمْ مُعَاشِرَ الْعَرَبِ غُدُرٌ حُرُصٌ، فَإِذَا أَذِنْتُ لَكُمْ أَفْسَدْتُمُ الْبِلَادَ وَأَغَرْتُمْ عَلَى الْعِبَادِ. قَالَ حَاجِبٌ: إِنِّي ضَامِنٌ لِلْمَلِكِ أَنْ لَا يَفْعَلُوا. قَالَ: فَمَنْ لِي بِأَنْ تَفِيَ؟ قَالَ: أَرْهَنُكَ قَوْسِي فَضَحِكَ مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ كِسْرَى: مَا كَانَ لِيُسَلِّمَهَا أَبَدًا فَقَبِلَهَا مِنْهُ، وَأَذِنَ لَهُمْ، ثُمَّ أُحْيِيَ النَّاسُ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ مَاتَ حَاجِبٌ فَارْتَحَلَ عُطَارِدٌ ابْنُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى كِسْرَى يَطْلُبُ قَوْسَ أَبِيهِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَكَسَاهُ حُلَّةً، فَلَمَّا رَجَعَ أَهْدَاهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَاعَهَا مِنْ يَهُودِيٍّ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب آداب السفر]

[بَابُ آدَابِ السَّفَرِ]

[2] بَابُ آدَابِ السَّفَرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3892 - عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [2] بَابُ آدَابِ السَّفَرِ أَيْ: مِنَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3892 - (عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) : غَيْرِ مُنْصَرِفٍ بِالْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ فَعُولٌ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْبَوْكِ وَهُوَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ تَثْوِيرُ الْمَاءِ بِعُودٍ وَنَحْوِهِ لِيَخْرُجَ الْمَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَبُوكُونَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ فِي أَرْضِ الشَّامِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَوَقَعَ غَزْوَتُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ، (وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ) : أَيْ: إِذَا غَزَا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ (يَوْمَ الْخَمِيسِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اخْتِيَارُهُ رَصْدَ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِلْخُرُوجِ مُحْتَمَلٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَوْمٌ مُبَارَكٌ يُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ الْعِبَادَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَتْ سَفْرَاتُهُ لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ، وَإِلَى اللَّهِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ لَهُ فِيهِ عَمَلٌ صَالِحٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَتَمُّ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ عَدَدًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَتَفَاءَلُ بِالْخَمِيسِ فِي خُرُوجِهِ، وَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَتَفَاءَلَ بِالِاسْمِ الْحَسَنِ وَالْخَمِيسُ الْجَيْشُ ; لِأَنَّهُمْ خَمْسُ فِرَقٍ: الْمُقَدِّمَةُ، وَالْقَلْبُ، وَالْمَيْمَنَةُ، وَالْمَيْسَرَةُ، وَالسَّاقَةُ، فَيَرَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَأْلِ الْحَسَنِ حِفْظَ اللَّهِ لَهُ وَإِحَاطَةَ جُنُودِهِ بِهِ حِفْظًا وَحِمَايَةً، وَزَادَ الْقَاضِي، وَلِتَفَاؤُلِهِ بِالْخَمِيسِ عَلَى أَنَّهُ يَظْفَرُ عَلَى الْخَمِيسِ الَّذِي هُوَ جَيْشُ الْعَدُوِّ، وَيَتَمَكَّنُ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا شَرَفٌ، أَوْ ; لِأَنَّهُ يُخَمِّسُ فِيهِ الْغَنِيمَةَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ.

3893 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3893 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ) : أَيْ: مِنَ الضَّرَرِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ لِشُغْلِ بَالِهِ وَعَدَمِ مُؤْنِسٍ بِحَالِهِ (مَا أَعْلَمُ) : أَيْ: مِقْدَارَ مَا أَعْلَمُهُ وَ (مَا) فِيهِمَا مَوْصُولَةٌ وَالثَّانِيَةُ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى وَنَافِيَةٌ فِي قَوْلِهِ: (مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ) : أَيْ: مُنْفَرِدًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (مَا) فِي الْوَحْدَةِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عُلِّقَ الْعِلْمُ عَنِ الْعَمَلِ، وَالثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ، وَالثَّالِثَةُ نَافِيَةٌ. قَالَ الْمُظْهِرِ: فِيهِ مَضَرَّةٌ دِينِيَّةٌ إِذْ لَيْسَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ بِالْجَمَاعَةِ وَمَضَرَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ إِذْ لَيْسَ مَنْ يُعِينُهُ فِي الْحَوَائِجِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ مَا سَارَ أَحَدٌ وَحْدَهُ، فَقَيَّدَهُ بِالرَّاكِبِ وَاللَّيْلِ ; لِأَنَّ الْخَطَرَ بِاللَّيْلِ أَكْثَرُ، فَإِنَّ انْبِعَاثَ الشَّرِّ فِيهِ أَكْثَرُ، وَالتَّحَرُّزُ مِنْهُ أَصْعَبُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: اللَّيْلُ أَخْفَى لِلْوَيْلِ، وَقَوْلُهُمْ: أَعْذَرَ اللَّيْلُ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَظْلَمَ كَثُرَ فِيهِ الْعُذْرُ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ رَاكِبًا فَإِنَّ لَهُ خَوْفًا، وَجَلَّ الْمَرْكُوبُ مِنَ النُّفُورِ مِنْ أَدْنَى شَيْءٍ وَالتَّهَوِّيِ فِي الْوَهْدَةِ بِخِلَافِ الرَّاجِلِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِالرَّاكِبِ لِيُفِيدَ أَنَّ الرَّاجِلَ مَمْنُوعٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَحْدَةَ لَا تُطْلَقُ عَلَى الرَّاكِبِ كَمَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مِنَ الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ " الْحَدِيثَ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

3894 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُحِبُّ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلَا جَرَسٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3894 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ) : أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ لَا الْحَفَظَةُ (رُفْقَةً) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا ; أَيْ جَمَاعَةً تَرَافَقُوا وَهِيَ مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا (فِيهَا كَلْبٌ) : أَيْ: لِغَيْرِ الصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ (وَلَا جَرَسٍ) : بِزِيَادَةِ لَا لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَازِ عَنْهُ عَلَى قَوْلِهِ فِيهَا كَلْبٌ، وَإِنْ كَانَ مُثْبَتًا ; لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. فِي الْمُغْرِبِ: الْجَرَسُ

بِفَتْحَتَيْنِ مَا يُعَلَّقُ بِعُنُقِ الدَّابَّةِ وَغَيْرُهُ فَيُصَوَّبُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَسَبَبُ الْحِكْمَةِ فِي عَدَمِ مُصَاحَبَةِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ الْجَرَسِ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالنَّوَاقِيسِ، أَوْ ; لِأَنَّهُ مَنَّ الْمَعَالِيقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِكَرَاهَةِ صَوْتِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ ; أَيِ: الْآتِي مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي عُلَمَاءِ الشَّامِ: يُكْرَهُ الْجَرَسُ الْكَبِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَرَسُ الدَّوَابِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذَا اتُّخِذَ لِلَّهْوِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَا بَأْسَ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: رِوَيَ أَنَّ جَارِيَةً دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ، وَفِي رِجْلِهَا جَلَاجِلُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَخْرِجُوا عَنِّي مُفَرِّقَةَ الْمَلَائِكَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ أَجْرَاسًا فِي رِجْلِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ مَعَ كُلِّ جَرَسٍ شَيْطَانًا» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

3895 - وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْجَرَسُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3895 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجَرَسُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَخْبَرَ عَنِ الْمُفْرِدِ بِالْجَمْعِ إِمَّا لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَوْ لِأَنَّ صَوْتَهَا لَا يَنْقَطِعُ كُلَّمَا تَحَرَّكَ الْمُعَلَّقُ بِهِ، لَاسِيَّمَا فِي السَّفَرِ بِخِلَافِ الْمَزَامِيرِ الْمُتَعَارَفَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مِعًى جِيَاعَا وَصَفَ الْمُفْرَدَ بِالْجَمْعِ لِيُشْعِرَ بِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمِعَى بِمَثَابَتِهِ لِشِدَّةِ الْجُوعِ، وَأَضَافَ إِلَى الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّ صَوْتَهُ لَمْ يَزَلْ يَشْغَلُ الْإِنْسَانَ مِنَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

3896 - وَعَنْ أَبِي بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ «كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا: لَا تُبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3896 - (وَعَنْ ; أَبِي بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَكَسْرِ مُعْجَمَةٍ (الْأَنْصَارِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ قَيْسُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ الْمُزَنِيُّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ صَاحِبُ الِاسْتِيعَابِ: لَا يُوقَفُ لَهُ عَلَى اسْمٍ صَحِيحٍ، وَلَاسِيَّمَا مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الْكُنَى وَلَمْ يُسَمِّهْ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ بَعْدَ الْحَرَّةِ، وَكَانَ قَدْ عَمَّرَ طَوِيلًا. (أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا) : أَيْ: مَقُولًا لَهُ (لَا تُبْقَيَنَّ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْقَافِ مُؤَكَّدًا بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِبْقَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا عَلَى صِيغَةِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْبَقَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَتْرُكَنَّ (فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ) : أَيْ: مَثَلًا (قِلَادَةٌ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ نَائِبُ الْفَاعِلِ، أَوِ الْفَاعِلُ (مِنْ وَتَرٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَاحِدِ أَوْتَارِ الْقَوْسِ (أَوْ قِلَادَةٌ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ بِغَيْرِ قَيْدٍ. قَوْلُهُ: مِنْ وَتَرٍ، وَالْمَعْنَى قِلَادَةٌ مُطْلَقًا (إِلَّا قُطِعَتْ) : أَيْ: قُلِعَتْ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَطْعِهَا ; لِأَنَّ الْأَجْرَاسَ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِهَا، وَهِيَ مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَمَانِعَةٌ لِمُصَاحَبَةِ الْمَلَائِكَةِ الرُّفْقَةَ الَّتِي هِيَ فِيهَا، أَوْ لِئَلَّا يَتَشَبَّثَ بِهَا الْعَدُوُّ، فَيَمْنَعَهَا عَنِ الرَّكْضِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: لَا تُبْقَيَنَّ إِمَّا صِفَةٌ لِـ " رَسُولًا " أَيْ أَرْسَلَ رَسُولًا يُنَادِي فِي النَّاسِ بِهَذَا، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ " أَرْسَلَ "؛ أَيْ: أَرْسَلَ رَسُولًا آمِرًا لَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَذَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا فُسِّرَ " لَا تُبْقَيَنَّ " بِلَا يُتْرَكَنَّ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ عَامَّ الْأَحْوَالِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: تَأَوَّلَ مَالِكٌ أَمْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِطَعِ الْقَلَائِدِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَ بِتِلْكَ الْأَوْتَارِ وَالْقَلَائِدِ وَالتَّمَائِمِ، وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا الْعُوَذَ يَظُنُّونَ أَنَّهَا تَعْصِمُ مِنَ الْآفَاتِ) فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا لَا تَرُدُّ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ شَيْئًا وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا أَمَرَ بِقَطْعِهَا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَ فِيهَا الْأَجْرَاسَ. قَالَ النَّوَوِيُّ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ لَا تُقَلِّدُوهَا أَوْتَارَ الْقِسِيِّ لِئَلَّا تَضِيقَ عَلَى عُنُقِهَا فَيَخْنُقَهَا اهـ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا رُبَّمَا رَعَتِ الشَّجَرَةَ، أَوْ حَكَّتْ بِهَا عُنُقَهَا فَتَشَبَّثَ بِهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3897 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَقَّهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ، وَإِذَا عَرَّسْتُمْ بِاللَّيْلِ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ، وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «إِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3897 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ) : بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: زَمَانَ كَثْرَةِ الْعَلَفِ وَالنَّبَاتِ (فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَقَّهَا) : أَيْ: حَظَّهَا (مِنَ الْأَرْضِ) : أَيْ: مِنْ نَبَاتِهَا يَعْنِي دَعُوهَا سَاعَةً فَسَاعَةً تَرْعَى، إِذْ حَقُّهَا مِنَ الْأَرْضِ رَعْيُهَا فِيهِ، (وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ) : أَيِ الْقَحْطِ، أَوْ زَمَانِ الْجَدْبِ (فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا) : أَيْ: رَاكِبِينَ عَلَيْهَا (السَّيْرَ) : مَفْعُولُ أَسْرِعُوا، وَالْمَعْنَى لَا تُوقِفُوهَا فِي الطَّرِيقِ لِتُبَلِّغَكُمُ الْمَنْزِلَ قَبْلَ أَنْ تَضْعُفَ (فَإِذَا عَرَّسْتُمْ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ) ; أَيْ: نَزَلْتُمْ (بِاللَّيْلِ) : فِيهِ تَجْرِيدٌ إِذِ التَّعْرِيسُ هُوَ النُّزُولُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى مَا فِي الْمِصْبَاحِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: أَعْرَسَ الْقَوْمُ نَزَلُوا فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِلِاسْتِرَاحَةِ كَعَرَّسُوا، وَهَذَا أَكْثَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا النُّزُولُ فِي اللَّيْلِ مُطْلَقًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: (فَاجْتَنِبُوا) : أَيْ: فِي نُزُولِكُمُ (الطَّرِيقَ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ) : أَيْ: دَوَابِّ الْمُسَافِرِينَ، أَوْ دَوَابِّ الْأَرْضِ مِنَ السِّبَاعِ وَغَيْرِهَا (وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ) : وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ جَمْعُ هَامَّةٍ كُلُّ ذَاتِ سُمٍّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: التَّعْرِيسُ النُّزُولُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَلِلرَّاحَةِ فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ النُّزُولُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ، أَوْ نَهَارٍ، وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَرْشَدَ إِلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْحَشَرَاتِ وَدَوَابَّ الْأَرْضِ وَذَوَاتِ السُّمُومِ وَالسِّبَاعَ وَغَيْرَهَا تَطْرُقُ فِي اللَّيْلِ عَلَى الطُّرُقِ لِتَلْقُطَ مَا سَقَطَ مِنَ الْمَارَّةِ مِنْ مَأْكُولٍ وَنَحْوِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَتَحْتِيَّةٍ ; أَيْ: أَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ مَا دَامَتْ قَوِيَّةً بَاقِيَةَ النِّقْيِ، وَهُوَ الْمُخُّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْوِي نَقْبَهَا بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَ الْقَافِ، وَيَرَى الضَّمِيرَ فِيهِ رَاجِعًا إِلَى الْأَرْضِ، وَيُفَسِّرُ النَّقْبَ بِالطَّرِيقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ مَنِ التَّصْحِيفَاتِ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْعَالِمُ فَضْلًا عَنِ الْجَاهِلِ. قَالَ الْأَشْرَفُ فِي الصِّحَاحِ: نَقِبَ الْبَعِيرُ بِالْكَسْرِ إِذَا رَقَّتْ أَخْفَافُهُ، وَأَنْقَبَ الرَّجُلُ إِذَا نَقِبَ بَعِيرُهُ وَنَقِبَ الْخُفُّ الْمَلْبُوسُ إِذَا تَخَرَّقَتْ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا اللَّفْظُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَلَا يَكُونُ تَصْحِيفًا. قُلْتُ: حُكْمُ الشَّيْخِ عَلَيْهِ بِالتَّصْحِيفِ فَرْعُ عَدَمِ ثُبُوتِهِ وَوُجُودِ ثُبُوتِ الرِّوَايَةِ بِغَيْرِهِ، فَبِمِثْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ مِنَ الدِّرَايَةِ لَا يَرْتَفِعُ كَوْنُهُ تَصْحِيفًا فِي الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى، حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَبْنِيِّ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: " نِقْيَهَا " بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَهُوَ الْمُخُّ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ " بَادِرُوا " وَعَلَيْهِ الْأُصُولُ مِنَ النُّسَخِ الْمَضْبُوطَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مَفْعُولًا بِهِ وَبِهَا حَالٌ مِنْهُ ; أَيْ: بَادِرُوا نِقْيَهَا إِلَى الْمَقْصِدِ مُلْتَبِسًا بِهَا، أَوْ مِنَ الْفَاعِلِ ; أَيْ: مُلْتَبِسَيْنِ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً ; أَيْ: بَادِرُوا بِسَبَبِ سَيْرِهَا نِقْيَهَا، وَأَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعَانَةِ ; أَيْ: بَادِرُوا نِقْيَهَا مُسْتَعِينِينَ بِسَيْرِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا فَاعِلًا لِلظَّرْفِ، وَهُوَ حَالٌ ; أَيْ: بَادِرُوا إِلَى الْمَقْصِدِ مُلْتَبِسًا بِهَا نِقْيُهَا، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ كَقَوْلِهِمْ: فُوهُ إِلَى فِيَّ، وَأَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، وَالْمَعْنَى سَارِعُوا بِنَقْبِهَا إِلَى الْمَقْصِدِ بَاقِيَةَ النِّقْيِ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ، وَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى مَعَ إِرَادَةِ نَقْبِ الْخُفِّ اهـ. مُلَخَّصًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

3898 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَاءَهُ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ فَجَعَلَ يَضْرِبُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ". مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٌ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ " قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3898 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ) : أَيْ: مُعَاشِرُ الصَّحَابَةِ (فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ (عَلَى رَاحِلَةٍ) : أَيْ: ضَعِيفَةٍ (فَجَعَلَ) : أَيْ: شَرَعَ وَطَفِقَ (يَضْرِبُ) : أَيِ: الرَّاحِلَةَ (يَمِينًا وَشِمَالًا) : أَيْ: بِيَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، أَوْ يَمِينَهَا وَشِمَالَهَا لِعَجْزِهَا عَنِ السَّيْرِ، وَقِيلَ: يَضْرِبُ عَيْنَيْهِ إِلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ; أَيْ: يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمَا طَالِبًا لِمَا يَقْضِي لَهُ حَاجَتَهُ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ كَانَ مَعَهُ

فَضْلُ ظَهْرٍ) : أَيْ: زِيَادَةُ مَرْكُوبٍ عَنْ نَفْسِهِ (فَلْيَعُدْ بِهِ) : أَيْ: فَلْيَرْفُقْ بِهِ (عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ) : وَيَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ؛ مِنْ عَادَ عَلَيْنَا بِمَعْرُوفٍ ; أَيْ: رَفَقَ بِنَا، كَذَا فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ (وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ) : أَيْ: مِنْهُ وَمِنْ دَابَّتِهِ (فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ) : أَيْ: مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطَّلَعَ عَلَى أَنَّهُ تَعْبَانُ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ ; أَيْضًا، أَوْ ذَكَرَهُ تَتْمِيمًا وَقَصْدًا إِلَى الْخَيْرِ تَعْمِيمًا. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: طَفِقَ يَمْشِي يَمِينًا وَشِمَالًا ; أَيْ: يَسْقُطُ مِنَ التَّعَبِ إِذْ كَانَتْ رَاحِلَتُهُ ضَعِيفَةً لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَرْكَبَهَا فَمَشَى رَاجِلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رَاحِلَتُهُ قَوِيَّةً إِلَّا أَنَّهُ قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا زَادَهُ وَأَقْمِشَتَهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَرْكَبَهَا مَنْ ثِقَلِ حِمْلِهَا، فَطَلَبَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْجَيْشِ فَضْلَ ظَهْرٍ ; أَيْ: دَابَّةً زَائِدَةً عَلَى حَاجَةِ صَاحِبِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي تَوْجِيهِهِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّ عَلَى رَاحِلَتِهِ صِفَةَ رَجُلٍ ; أَيْ: رَاكِبٍ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: " فَجَعَلَ " عَطْفٌ عَلَى " جَاءَ " بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُتَمَحَّلَ وَيُقَالَ: إِنَّهُ عَطَفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ ; أَيْ: فَنَزَلَ فَجَعَلَ يَمْشِي. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ حَامِلٌ مَتَاعَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، أَوْ عَلَى بِمَعْنَى (مَعَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ " يَضْرِبُ " مَجَازٌ عَنْ " يَلْتَفِتُ " لَا عَنْ " يَمْشِي "، وَهَذَا أَيْضًا يُسْقِطُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ الَّذِي يَأْبَاهُ الْمَقَامُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رُوِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ فَجَعَلَ يَضْرِبُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا يَصْرِفُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ بَصَرِهِ، وَفِي بَعْضِهَا يَضْرِبُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمَعْنَى يَصْرِفُ بَصَرَهُ مُتَعَرِّضًا بِشَيْءٍ يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرُّفْقَةِ وَالْأَصْحَابِ، وَالِاعْتِنَاءُ بِمَصَالِحِهِمْ وَالسَّعْيُ فِي قَضَاءِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ بِتَعَرُّضِهِ لِلْعَطَاءِ، وَتَعْرِيضِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، وَإِنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَةٌ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ، أَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي وَطَنِهِ، فَيُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ فِي هَذَا الْحَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ) : أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَذَكَرَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ) : كَالثَّوْبِ وَالنِّعَالِ وَالْقِرْبَةِ وَالْمَاءِ وَالْخَيْمَةِ وَالنُّقُودِ وَنَحْوِهَا. (حَتَّى رَأَيْنَا) : أَيْ: ظَنَّنَا (أَنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنَ (لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3899 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيَعْجَلْ إِلَى أَهْلِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3899 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: السَّفَرُ) : أَيْ: جِنْسُهُ (قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ) : أَيْ: نَوْعٌ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) فَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: الصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَتَصَعَّدُ فِيهِ الْكَافِرُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، ثُمَّ يَهْوِي فِيهِ كَذَلِكَ أَبَدًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: سُمِّيَ السَّفَرُ قِطْعَةً مِنَ الْعَذَابِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ وَمُعَانَاةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْخَوْفِ وَالسُّرَى، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ، وَخُشُونَةِ الْعَيْشِ. قُلْتُ: وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ مِنْ أَنَّ السَّفَرَ قِطْعَةٌ مِنَ السَّقَرِ، فَغَيْرُ ثَابِتِ الْمَبْنَى، وَلَعَلَّهُ نَقَلَ بِالْمَعْنَى، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيًّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: لَوْلَا أَنَّ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَكَسْتُ وَقُلْتُ: السَّقَرُ قِطْعَةٌ مِنَ السَّفَرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ أَوَّلًا، وَفَوْتٌ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنَ الصَّعُودِ، وَخُرُوجٌ عَنْ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ الْخُطَبِيَّةِ وَالْحِسَابَاتِ الْجُمَلِيَّةِ (يَمْنَعُ) : أَيِ: السَّفَرُ (أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) : أَيْ: عَنِ الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَهُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، أَوْ حَالٌ (فَإِذَا قَضَى) : أَيْ: أَحَدُكُمْ (نَهْمَتَهُ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ: حَاجَتَهُ (مِنْ وَجْهِهِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: النَّهْمَةُ بُلُوغُ الْهِمَّةِ فِي الشَّيْءِ، وَقَدْ نُهِمَ بِهَذَا فَهُوَ مَنْهُومٌ ; أَيْ: مُولَعٌ بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " وَمِنْ وَجْهِهِ " مُتَعَلِّقٌ بِقَضَى ; أَيْ: إِذَا حَصَلَ مَقْصُودٌ مِنْ جِهَتِهِ وَجَانِبِهِ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَيْهِ (فَلْيَعْجَلْ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ، فَفِي الْقَامُوسِ عَجِلَ كَفَرِحَ أَسْرَعَ وَعَجَّلَ تَعْجِيلًا ; أَيْ: فَلْيُبَادِرْ (إِلَى أَهْلِهِ) : أَيْ: وَبَلَدِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ التَّرْغِيبُ فِي الْإِقَامَةِ لِئَلَّا تَفُوتَهُ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ لِلْأَهْلِ وَالْقَرَابَاتُ، وَهَذَا فِي الْأَسْفَارِ غَيْرِ الْوَاجِبَةِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيَعْجَلْ إِلَى أَهْلِهِ " أَشَارَ إِلَى السَّفَرِ الَّذِي لَهُ نَهْمَةٌ وَأَرَبٌ مِنْ تِجَارَةٍ، أَوْ تَقَلُّبٍ دُونَ السَّفَرِ الْوَاجِبِ كَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ» اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْمَةَ. بِمَعْنَى الْحَاجَّةِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ حَجَّهُ فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ» ". وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَغْرِيبِ الزَّانِي، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وَالتَّغْرِيبُ عَذَابٌ كَالْجَلْدِ. قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ التَّغْرِيبَ عَذَابٌ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ الْمُرَادُ أَمْ لَا. وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ حَدٌّ، أَوْ سِيَاسَةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ ".

3900 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا قَدِمَ مَنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنَّهُ قَدِمَ مَنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ، فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ، فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ، قَالَ: فَأُدْخِلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً عَلَى دَابَّةٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3900 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) : هُوَ ابْنُ أَخِي عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلِقِيَّ» ) : مَاضٍ مَجْهُولٌ مِنَ التَّلَقِّي، وَفِي نُسْخَةٍ مُضَارِعٌ مَجْهُولٌ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ ; أَيْ: يُسْتَقْبَلُ (بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ) : أَيْ: مِنْ أَوْلَادِ أَعْمَامِهِ (وَإِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ ; أَيْ: بُودِرَ (بِي إِلَيْهِ، فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ) : يَعْنِي أَحَدَ الْحَسَنَيْنِ (فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ، قَالَ) : أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ (فَأُدْخِلْنَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: فَأَدْخَلَنَا اللَّهُ (الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مُوطِّئَةٌ ; أَيْ: ثَلَاثَةً كَائِنَةً (عَلَى دَابَّةٍ) : كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لِسَانًا عَرِبِّيًا) (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

3901 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفِيَّةُ مُرْدِفَهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3901 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ) : أَيْ: أَنَسًا (أَقْبَلَ) ; أَيْ: عَنْ سَفَرٍ (هُوَ) : أَيْ: أَنَسٌ (وَأَبُو طَلْحَةَ) : أَيْ: زَوْجُ أُمِّهِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ: مُرَافِقِينَ لَهُ (وَمَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفِيَّةُ) : فِيهِ تَفَنُّنٌ، وَوَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ رَجْعِهِ إِلَى أَبَى طَلْحَةَ، أَوْ أَنَسٍ (مُرْدِفَهَا) : حَالٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: جَاعِلَ صَفِيَّةَ مُرْدِفَهَا (عَلَى رَاحِلَتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَكَّدَ الْمُسْتَتِرَ لِيَعْطِفَ الْمُظْهَرَ عَلَيْهِ، وَمَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَرْفُ أَقْبَلَ، أَوْ حَالٌ ; أَيْ مُصَاحِبِينَ لِلنَّبِيِّ، وَقَوْلُهُ: مُرْدِفَهَا حَالٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْعَامِلُ مُتَعَلِّقُ الظَّرْفِ كَأَنَّهُمْ أَقْبَلُوا مِنْ سَفَرٍ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ، وَكَذَا صَرَّحَ فِي شَرْحِهِ السُّنَّةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ، وَبَعْضُ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدِيفُهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3902 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ إِلَّا غُدْوَةً، أَوْ عَشِيَّةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3902 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَطْرُقُ) بِضَمِّ الرَّاءِ ; أَيْ: لَا يَأْتِي (أَهْلَهُ لَيْلًا) : فِيهِ تَجْرِيدٌ، فَفِي النِّهَايَةِ الطُّرُوقُ مِنَ الطَّرْقِ، وَهُوَ الدَّقُّ وَسُمِّيَ الْآتِي بِاللَّيْلِ طَارِقًا لِحَاجَتِهِ إِلَى دَقِّ الْبَابِ. قُلْتُ: أَوْ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّارِقِ بِمَعْنَى النَّجْمِ الثَّاقِبِ لِظُهُورِهِ لَيْلًا (وَكَانَ) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا يَدْخُلُ إِلَّا غُدْوَةً) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَوْ فَتَحِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْغُدْوَةُ بِالضَّمِّ الْبُكْرَةُ، أَوْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ كَالْغَدَاةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْغَدْوُ سَيْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالْغَدْوَةُ مَرَّةٌ مِنْهُ، وَالْغُدْوَةِ بِالضَّمِّ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدْوَةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ (أَوْ عَشِيَّةً) : فِي النِّهَايَةِ: الْعَشِيُّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَشِيِّ وَالْعَشِيَّةُ آخِرُ النَّهَارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يُرِدْ بِالْعَشِيَّةِ اللَّيْلَ لِقَوْلِهِ: لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] الْكَشَّافَ: عَشِيًّا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَتُظْهِرُونَ صَلَاةُ الظُّهْرِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْكَشَّافَ بَيَّنَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ بِقَرِينَةِ تُظْهِرُونَ، لَا أَنَّهُ تَفْسِيرُ دَعْوَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.

3903 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3903 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ) : أَيْ: فِي سَفَرِهِ (فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: «فَطَرَقَ رَجُلَانِ بَعْدَ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَوَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

3904 - وَعَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا فَلَا تَدَخُلْ عَلَى أَهْلِكَ حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3904 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ) : أَيْ: قَارَبْتَ دُخُولَ (بَلَدِكَ) : يَعْنِي لَيْلًا، كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَلَا تُدْخَلْ عَلَى أَهْلِكَ) ; أَيْ: لَيْلًا، أَوْ عَلَى غَفْلَةٍ (حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ ; أَيْ حَتَّى تَسْتَعِدَّ بِالنَّظَافَةِ الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا مُسْتَقْبِلَةً لِوُصُولِهِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَلِذَا قَالَ: (وَتُمَشِّطُ الشَّعِثَةُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ ; أَيْ: تُعَالِجَ بِالْمُشْطِ الْمُتَفَرِّقَةُ الشَّعَرِ لِتَصُونَ الْقَادِمَ مِنْ سُوءِ الْمَنْظَرِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الِاسْتِحْدَادُ حَلْقُ شَعْرِ الْعَانَةِ، وَأَغَابَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَهِيَ مُغِيبَةٌ بِالْهَاءِ وَشَذَّ بِلَا هَاءٍ، وَأَرَادَ بِالِاسْتِحْدَادِ أَنْ تُعَالِجَ شَعْرَ عَانَتِهَا بِمَا مِنْهُ الْمُعْتَادُ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ يَعْنِي مِنَ النَّتْفِ وَالتَّنَوُّرِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ اسْتِعْمَالَ الْحَدِيدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ فِي أَمْرِهِنَّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ كُلُّهَا تُكْرَهُ لِمَنْ طَالَ سَفَرُهُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ سَفَرُهُ قَرِيبًا يُتَوَقَّعُ إِتْيَانُهُ لَيْلًا فَلَا بَأْسَ لِقَوْلِهِ: إِذَا طَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ، وَكَذَا إِذَا كَانَ فِي قَفَلٍ عَظْمٍ، أَوْ عَسْكَرٍ وَنَحْوِهِمْ، وَاشْتُهِرَ قُدُومُهُمْ، وَعَلِمَتِ امْرَأَتُهُ وَأَهْلُهُ أَنَّهُ قَادِمٌ فَلَا بَأْسَ بِقُدُومِهِ لَيْلًا لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ التَّهَيُّؤُ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ. قُلْتُ: لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ دَقِّ الْبَابِ وَانْتِظَارِ الْجَوَابِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3905 - وَعَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَحَرَ جَزُورًا، أَوْ بَقَرَةً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3905 - (وَعَنْهُ) ; أَيْ: عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا قَدِمَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ ; أَيْ: جَاءَ وَنَزَلَ (الْمَدِينَةَ) ; أَيْ: بَعْدَ الْهِجْرَةِ، أَوْ بَعْدَ غَزْوَةٍ (نَحَرَ جَزُورًا) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ فِي النِّهَايَةِ: الْجَزُورُ الْبَعِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُؤَنَّثٌ تَقُولُ: هَذِهِ الْجَزُورُ وَإِنْ أَرَدْتَ ذَكَرًا (أَوْ بَقَرَةً) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي ; أَيِ: السُّنَّةُ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ السَّفَرِ أَنْ يَضِيفَ بِقَدْرِ وُسْعِهِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الضِّيَافَةُ سُنَّةٌ بَعْدَ الْقُدُومِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3906 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا نَهَارًا فِي الضُّحَى، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ لِلنَّاسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3906 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا نَهَارًا فِي الضُّحَى، فَإِنْ قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ» ) ; أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ (رَكْعَتَيْنِ) ; أَيْ: تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، أَوْ صَلَاةَ الضُّحَى (ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ لِلنَّاسِ) ; أَيْ: لِمَقَالَاتِهِمْ وَسُؤَالَاتِهِمْ وَجَوَابَاتِهِمْ وَحُكُومَاتِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ فِي بَابِ الْمَسَاجِدِ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ «كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُثَنِّي بِفَاطِمَةَ، ثُمَّ يَأْتِي أَزْوَاجَهُ» .

3907 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ لِي: " ادْخُلِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ 3907 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ لِي: ادْخُلِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» ) : فَثَبَتَ اسْتِحْبَابُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْمُسَافِرُ وَصَلَاتُهُ فِيهِ بِحَدِيثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا وَقَوْلًا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى تَعَلُّمِ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ بِمَنْزِلَةِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ زَائِرَهُ زَائِرٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3908 - عَنْ صَخْرِ بْنِ وَدَاعَةَ الْغَامِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» " «وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، أَوْ شَيْئًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ» ، وَكَانَ صَخْرٌ تَاجِرًا. فَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3908 - (عَنْ صَخْرِ بْنِ وَدَاعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ (الْغَامِدِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ مِنَ الْأَزْدِ سَكَنَ الطَّائِفَ، وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ بَارِكْ) ; أَيْ: أَكْثَرِ الْخَيْرَ (لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا) ; أَيْ: صَبَاحِهَا وَأَوَّلِ نَهَارِهَا، وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ طَلَبَ الْعِلْمِ وَالْكَسْبِ وَالسَّفَرِ وَغَيْرِهَا. (وَكَانَ) ; أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، أَوْ جَيْشًا) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا (بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ) ; أَيْ: مُطَابَقَةً لِدُعَائِهِ (وَكَانَ صَخْرٌ تَاجِرًا) : فِيهِ تَجْرِيدٌ، أَوِ الْتِفَاتٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي عَنْهُ (فَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ) ; أَيْ: مَالَهُ (أَوَّلَ النَّهَارِ، فَأَثْرَى) ; أَيْ: صَارَ ذَا ثَرْوَةٍ ; أَيْ: مَالٍ كَثِيرٍ (وَكَثُرَ مَالُهُ) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ: أَثْرَى. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْمُسَافَرَةُ سُنَّةٌ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ هَذَا يُرَاعِي هَذِهِ السُّنَّةَ، وَكَانَ تَاجِرًا يَبْعَثُ مَالَهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ فَكَثُرَ مَالُهُ بِبَرَكَةِ مُرَاعَاةِ السُّنَّةِ ; لِأَنَّ دُعَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْبُولٌ لَا مَحَالَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ» ".

3909 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3909 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ» ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ اسْمٌ مَنْ أَدْلَجَ الْقَوْمُ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ إِذَا سَارُوا أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْإِدْلَاجَ سَيْرَ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَكَأَنَّهُ الْمُعْنَى بِهِ فِي الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ) ; أَيْ: بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: تُقْطَعُ بِالسَّيْرِ فِي اللَّيْلِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: وَالدُّلْجَةُ ; أَيْضًا اسْمٌ مِنَ ادَّلَجُوا بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِهَا إِذَا سَارُوا آخِرَ اللَّيْلِ، يَعْنِي لَا تَقْنَعُوا بِالسَّيْرِ نَهَارًا بَلْ سِيرُوا بِاللَّيْلِ ; أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَسْهُلُ حَيْثُ يَظُنُّ الْمَاشِي أَنَّهُ سَارَ قَلِيلًا وَقَدْ سَارَ كَثِيرًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ.

3910 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3910 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَنَّهُ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الرَّاكِبُ) ; أَيْ: إِذَا كَانَ وَحْدَهُ (شَيْطَانٌ) : لِفَوَاتِ الْجَمَاعَةِ وَتَعَسُّرِ الْمَعِيشَةِ وَعَدَمِ الْمَعُونَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَإِمْكَانِ الْمَنِيَّةِ (وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ) : إِذْ رُبَّمَا مَاتَ الْوَاحِدُ، أَوْ مَرِضَ، وَاضْطُرَّ الْآخَرُ بِغَيْرِ مُسَاعِدٍ لَهُ (وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ: جَمَاعَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» ". وَفِي النِّهَايَةِ: الرَّكْبُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ كَنَفَرٍ وَرَهْطٍ، وَلِذَا صُغِّرَ عَلَى لَفْظِهِ، وَقِيلَ جَمْعُ رَاكِبٍ كَصَحْبٍ جَمْعِ صَاحِبٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ فِي تَصْغِيرِهِ: رُوَيْكِبُونَ كَمَا يُقَالُ: صُوَيْحِبُونَ، وَالرَّاكِبُ فِي الْأَصْلِ هُوَ رَاكِبُ الْإِبِلِ خَاصَّةً، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ، وَأُطْلِقَ عَلَى مَنْ رَكِبَ دَابَّةً. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَشْيَ الْوَاحِدِ مُنْفَرِدًا مَنْهِيٌّ، وَكَذَلِكَ مَشْيُ الِاثْنَيْنِ، وَمَنِ ارْتَكَبَ مَنْهِيًّا فَقَدْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ، وَمَنْ أَطَاعَهُ فَكَأَنَّهُ هُوَ، وَلِذَا أَطْلَقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمَهُ عَلَيْهِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا: الشَّيْطَانُ يَهُمُّ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، فَإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً لَمْ يَهُمَّ بِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ سَافَرَ وَحْدَهُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ مَاتَ مَنْ أَسْأَلُ عَنْهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُنْفَرِدُ فِي السَّفَرِ إِنْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَقُومُ بِغُسْلِهِ وَدَفْنِهِ وَتَجْهِيزِهِ، وَلَا عِنْدَهُ مَنْ يُوصِي إِلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَيَحْتَمِلُ تَرِكَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَيُورَدُ خَبَرَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا مَعَهُ فِي السَّفَرِ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى الْحَمُولَةِ، فَإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً تَعَاوَنُوا وَتَنَاوَبُوا الْمِهْنَةَ وَالْحِرَاسَةَ وَصَلَّوُا الْجَمَاعَةَ وَأَحْرَزُوا الْحَظَّ فِيهَا. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

3911 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3911 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ) ; أَيْ: مَثَلًا (فِي سَفَرٍ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ جَمَاعَةٌ وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ اثْنَانِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لِمَا سَبَقَ أَنَّ الرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ (فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ) ; أَيْ: فَلْيَجْعَلُوا أَمِيرَهُمْ أَفْضَلَهُمْ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لِيَكُونَ أَمْرُهُمْ جَمِيعًا وَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ، فَيَتْعَبُوا فِيهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا حَكَّمَا رَجُلًا بَيْنَهُمَا فِي قَضِيَّةٍ فَقَضَى بِالْحَقِّ نَفَذَ حُكْمُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَى أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبَى سَعِيدٍ: «وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ» ، وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ: «إِذَا سَافَرْتُمْ فَلْيَؤُمَّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ، وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَكُمْ، وَإِذَا أَمَّكُمْ فَهُوَ أَمِيرُكُمْ» .

3912 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " «خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3912 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَيْرُ الصَّحَابَةِ) : بِالْفَتْحِ جَمْعُ صَاحِبٍ وَلَمْ يُجْمَعْ فَاعِلٌ عَلَى فَعَالَةٍ غَيْرَ هَذَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (أَرْبَعَةٌ) ; أَيْ: مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: الْمُسَافِرُ لَا يَخْلُو عَنْ رَجُلٍ يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِهِ، وَعَنْ حَاجَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى التَّرَدُّدِ فِيهَا وَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً لَكَانَ الْمُتَرَدِّدُ وَاحِدًا، فَيَبْقَى بِلَا رَفِيقٍ، فَلَا يَخْلُو عَنْ خَطَرٍ وَضِيقِ قَلْبٍ لِفَقْدِ الْأَنِيسِ، وَلَوْ تَرَدَّدَ اثْنَانِ كَانَ الْحَافِظُ وَحْدَهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ؟ يَعْنِي الرِّضَاءَ إِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً ; لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً وَمَرِضَ أَحَدُهُمْ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَ رَفِيقَيْهِ وَصِيَّ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَشْهَدُ بِإِمْضَائِهِ إِلَّا وَاحِدٌ فَلَا يَكْفِي، وَلَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً كَفَى شَهَادَةُ اثْنَيْنِ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ يَكُونُ مُعَاوَنَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَتَمَّ، وَفَضْلُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَيْضًا أَكْثَرُ، فَخَمْسَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَكَذَا كُلُّ جَمَاعَةٍ خَيْرٌ مِمَّنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُمْ، لَا مِمَّنْ فَوْقَهُمْ ( «وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَنْ يُغْلَبَ» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لَنْ يَصِيرَ مَغْلُوبًا (اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: جَمِيعُ قَرَائِنِ الْحَدِيثِ دَائِرَةٌ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَاثْنَا عَشَرَ ضِعْفًا أَرْبَعٌ، وَلَعَلَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إِلَى الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَاشْتِدَادِ ظَهْرَانَيْهِمْ تَشْبِيهًا بِأَرْكَانِ الْبِنَاءِ، وَقَوْلُهُ: (مِنْ قِلَّةٍ) : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَوْ صَارُوا مَغْلُوبِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْقِلَّةِ بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ سِوَاهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُونُوا قَلِيلِينَ وَالْأَعْدَاءُ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَثْلَاثِ جَيْشٌ قُوبِلَ بِالْمَيْمَنَةِ، أَوِ الْمَيْسَرَةِ، أَوِ الْقَلْبِ فَلْيَكْفِهَا، وَلِأَنَّ الْجَيْشَ الْكَثِيرَ الْمُقَاتِلَ مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُقَاتِلُونَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ - وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا - لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، وَإِنَّمَا غُلِبُوا عَنْ إِعْجَابٍ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] وَكَانَ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَلْفَانِ مِنْ مُسْلِمِي فَتْحِ مَكَّةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ وَلَا تُهْزَمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ.

3913 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَلَّفُ فِي الْمَسِيرِ، فَيُزْجِي الضَّعِيفَ، وَيُرْدِفُ، وَيَدْعُو لَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3913 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَلَّفُ فِي الْمَسِيرِ» ) ; أَيْ: يَعْقُبُ أَصْحَابَهُ فِي السَّيْرِ تَوَاضُعًا وَتَعَاوُنًا (فَيُزْجِي) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْجِيمِ ; أَيْ: فَيَسُوقُ (الضَّعِيفَ) ; أَيْ: مَرْكَبُهُ لِيُلْحِقَهُ بِالرِّفَاقِ (وَيُرْدِفُ) : مِنَ الْإِرْدَافِ ; أَيْ: يُرْكِبُ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ مِنَ الْمُشَاةِ (وَيَدْعُو لَهُمْ) ; أَيْ: لِجَمِيعِهِمْ، أَوْ لِبَاقِيهِمْ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فِي كَانَ مَدَدُهُمْ وَعَدَدُهُمْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

3914 - وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ» ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ» ". فَلَمْ يَنْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3914 - (وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَأَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ فَأَسْلَمُوا نَزَلَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. (قَالَ: كَانَ النَّاسُ) ; أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ (إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا) : أَيْ: فِي السَّفَرِ تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ الشِّعْبِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَقِيلَ: الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ (وَالْأَوْدِيَةِ) : جَمْعُ الْوَادِي وَهُوَ الْمَسِيلُ مِمَّا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّ ذَلِكُمْ) : أَيْ: تَفَرُّقَكُمْ (مِنَ الشَّيْطَانِ) : أَيْ: لِيُخَوِّفَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُحَرِّكَ أَعْدَاءَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَعَ مَوْقِعَ خَبَرِ إِنَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: 155] وَالتَّرْكِيبُ مِنْ بَابِ التَّرْدِيدِ لِلتَّعْلِيقِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ أَيْ: لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ لَسَرَّتْهُ، فَإِنَّ " إِنَّ " زِيدَتْ لِلتَّوْكِيدِ وَطُولِ الْكَلَامِ، وَ (مَا) لِتَكُفَّهَا عَنِ الْعَمَلِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ أَنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ. (فَلَمْ يَنْزِلُوا) : أَيِ النَّاسُ (بَعْدَ ذَلِكَ) : أَيِ: الْقَوْلِ (مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لَوْ أُوقِعَ (عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ) : أَيْ: لَشَمِلَ جَمِيعَهُمْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3915 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ، كُلَّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، فَكَانَ أَبُو لُبَابَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَكَانَتْ إِذَا جَاءَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ» . قَالَ: " «مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَمَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 3915 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا) : أَيْ: أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَوْمَ بَدْرٍ) : أَيْ: فِي غَزْوَتِهِ (كُلَّ ثَلَاثَةٍ) : أَيْ: مِنَ الْأَنْفَارِ (عَلَى بَعِيرٍ) : أَيْ: عُقْبَةً وَمُنَاوَبَةً (فَكَانَ) : أَيْ: مِنْ جُمْلَتِنَا (أَبُو لُبَابَةَ) : وَهُوَ رِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا، وَقِيلَ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا بَلْ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَدِينَةِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ مَعَ أَصْحَابِ بَدْرٍ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عُمَرَ وَنَافِعٌ وَغَيْرُهُمَا، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) ; أَيْ: كِلَاهُمَا (زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْمِيمِ ; أَيْ عَدِيلَيْهِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الزَّمِيلُ الْعَدِيلُ الَّذِي حَمَلَهُ مَعَ حَمْلِكَ عَلَى الْبَعِيرِ، وَقَدْ زَامَلَنِي عَادَلَنِي، وَالزَّمِيلُ ; أَيْضًا الرَّفِيقُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ ; أَيْ: رَدِيفُهُ يَكُونَانِ مَعَهُ عَلَى الزَّامِلَةِ، وَهِيَ الْبَعِيرُ الَّذِي يَحْمِلُ الْمُسَافِرُ عَلَيْهِ طَعَامَهُ وَمَتَاعَهُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الزَّمِيلَ هُوَ الَّذِي يُرْكَبُ مَعَكَ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ بِالنَّوْبَةِ بِقَرِينَةٍ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ (قَالَ) ; أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَكَانَتِ) ; أَيِ: الْقِصَّةُ وَهِيَ نُسْخَةٌ: وَكَانَ ; أَيِ: الشَّأْنُ (إِذَا جَاءَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ إِذَا جَاءَ (عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِضَمٍّ فَسُكُونٍ ; أَيْ: نَوْبَةُ نُزُولِهِ (قَالَا) : أَيْ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيٌّ (نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ) ; أَيْ: نَمْشِي مَشْيًا عِوَضًا عَنْ مَشْيِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمَّنَ الْمَشْيَ مَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ ; أَيْ: نَسْتَغْنِيكَ عَنِ الْمَشْيِ يَعْنِي نَمْشِي بَدَلَكَ (قَالَ: مَا أَنْتُمَا) ; أَيْ: لَسْتُمَا (بِأَقْوَى مِنِّي) ; أَيْ: فِي الدُّنْيَا (وَمَا أَنَا) ; أَيْ: وَلَسْتُ (بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا) ; أَيْ: فِي الْعُقْبَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِظْهَارُ غَايَةِ التَّوَاضُعِ مِنْهُ، وَالْمُوَاسَاةِ مَعَ الرُّفْقَةِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (رَوَاهُ) ; أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ; أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

3916 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَاتِكُمْ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3916 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا) : أَيْ: لَا تَجْعَلُوا (ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ) : وَالْمَعْنَى: لَا تَجْلِسُوا عَلَى ظُهُورِهَا فَتُوقِفُونَهَا وَتُحَدِّثُونَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلِ انْزِلُوا وَاقْضُوا حَاجَاتِكُمْ، ثُمَّ ارْكَبُوا. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: مَنَابِرَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِيَامِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُمْ إِذَا خَطَبُوا عَلَى الْمَنَابِرِ قَامُوا اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْوُقُوفُ لَا الشُّخُوصُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَاقِفًا عَلَيْهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ظُهُورِهَا إِذَا كَانَ لِأَرَبٍ، أَوْ لِبُلُوغِ وَطَرٍ لَا يُدْرَكُ مَعَ النُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ مُبَاحٌ، وَإِنَّمَا النَّهْيُ انْصَرَفَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا لَا بِمَعْنًى يُوجِبُهُ، فَيُتْعِبُ الدَّابَّةَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: الْوُقُوفُ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ بِعَرَفَةَ سُنَّةٌ، وَالْقِيَامُ عَلَى الْأَقْدَامِ رُخْصَةٌ. (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ) : أَيِ: الدَّوَابَّ مِنَ الْجِمَالِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ (لِتُبَلِّغَكُمْ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَيُخَفَّفُ ; أَيْ: لِتُوصِلَكُمْ (إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ) : أَيْ: وَاصِلِينَ إِلَيْهِ (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ مَشَقَّتِهَا وَتَعَبِهَا (وَجَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) : أَيْ: بِسَاطًا وَقَرَارًا (فَعَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى الْأَرْضِ لَا عَلَى الدَّوَابِّ (فَاقْضُوا حَاجَاتِكُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ الْأُولَى لِلسَّبَبِيَّةِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّعْقِيبِ ; أَيْ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى الْأَرْضِ اقْضُوا حَاجَاتِكُمْ لَا عَلَى الدَّوَابِّ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: فَاقْضُوا حَاجَاتِكُمْ تَفْسِيرًا لِلْمُقَدَّرِ، فَفِيهِ تَوْكِيدٌ مَعَ التَّخْصِيصِ، وَجَمَعَ الْحَاجَاتِ وَأَضَافَهَا إِلَى سَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ؛ يَعْنِي خُصُّوا الْأَرْضَ بِقَضَاءِ حَاجَاتِكُمُ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ، وَيَكْفِيكُمْ مِنَ الدَّوَابِّ أَنْ تُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3917 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا إِذَا نَزَلْنَا مَنْزِلًا لَا نُسَبِّحُ حَتَّى نَحُلَّ الرِّحَالَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3917 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا) : أَيْ: مَعْشَرُ الصَّحَابَةِ (إِذَا نَزَلْنَا مَنْزِلًا لَا نُسَبِّحُ) : أَيْ: لَا نُصَلِّي (حَتَّى نَحُلَّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْحَاءِ ; أَيْ: حَتَّى نَفُكَّ (الرِّحَالَ) : أَيِ: الْأَحْمَالَ عَنْ ظُهُورِ الْجِمَالِ شَفَقَةً عَلَيْهَا، وَسَبَبًا لِجَمْعِ الْخَاطِرِ عَنْهَا، وَعَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَفِي نُسْخَةٍ نُحَلُّ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا وَرَفْعِ الرِّحَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: أَرَادَ بِالتَّسْبِيحِ صَلَاةَ الضُّحَى، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ اهْتِمَامِهِمْ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ لَا يُبَاشِرُونَهَا حَتَّى يَحُطُّوا الرَّحَّالَ، وَيُرِيحُوا الْجِمَالَ رِفْقًا بِهَا وَإِحْسَانًا إِلَيْهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3918 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مَعَهُ حِمَارٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْكَبْ وَتَأَخَّرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا، أَنْتَ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِكَ، إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ لِي ". قَالَ جَعَلْتُهُ لَكَ» ، فَرَكِبَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3918 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ (قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مَعَهُ حِمَارٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ارْكَبْ وَتَأَخَّرَ الرَّجُلُ» ) : أَيْ: وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ خَلْفَهُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، أَوْ تَأَخَّرَ الرَّجُلُ عَنْ حِمَارِهِ أَدَبًا عَنْ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ التَّخْلِيَةِ (فَقَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا) : أَيْ: لَا أَرْكَبُ وَحْدِي، أَوْ فِي الصَّدْرِ (أَنْتَ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِكَ) : صَدْرُهَا مِنْ ظَهْرِهَا مَا يَلِي عُنُقَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: " لَا " هَاهُنَا حُذِفَ فِعْلُهُ " وَأَنْتَ أَحَقُّ " تَعْلِيلٌ لَهُ ; أَيْ: لَا أَرْكَبُ وَأَنْتَ تَأَخَّرَتْ ; لِأَنَّكَ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِكَ. (إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ) : أَيِ: الصَّدْرَ (لِي) : أَيْ: صَرِيحًا (قَالَ: جَعَلْتُهُ لَكَ، فَرَكِبَ) : أَيْ: عَلَى صَدْرِهَا فِيهِ بَيَانُ إِنْصَافِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَوَاضُعِهِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ الْمُرِّ حَيْثُ رَضِيَ أَنْ يَرْكَبَ خَلْفَهُ. وَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى غَالِبِ رِضَاهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

3919 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَكُونُ إِبِلٌ لِلشَّيَاطِينِ وَبُيُوتٌ لِلشَّيَاطِينِ ". فَأَمَّا إِبِلُ الشَّيَاطِينِ فَقَدْ رَأَيْتُهَا يَخْرُجُ أَحَدُكُمْ بِنَجِيبَاتٍ مَعَهُ قَدْ أَسْمَنَهَا فَلَا يَعْلُو بَعِيرًا مِنْهَا وَيَمُرُّ بِأَخِيهِ قَدِ انْقَطَعَ بِهِ فَلَا يَحْمِلُهُ. وَأَمَّا بُيُوتُ الشَّيَاطِينِ فَلَمْ أَرَهَا» . كَانَ سَعِيدٌ يَقُولُ: لَا أُرَاهَا إِلَّا هَذِهِ الْأَقْفَاصَ الَّتِي يَسْتُرُ النَّاسُ بِالدِّيبَاجِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3919 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَوْلَى سَمُرَةَ، رَوَى عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَنَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَكُونُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ ; أَيْ: سَتُوجَدُ وَتَحْدُثُ (إِبِلٌ لِلشَّيَاطِينِ) : يُرِيدُ بِهَا الْمُعَدَّةَ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا أَمْرًا مَشْرُوعًا، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ قُرْبَةٌ (وَبُيُوتٌ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا ; أَيْ: مَسَاكِنُ (لِلشَّيَاطِينِ) : أَيْ: إِذَا كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ مَبْنِيَّةً مِنْ مَالِ الْحَرَامِ.، أَوْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (فَأَمَّا إِبِلُ الشَّيَاطِينِ فَقَدْ رَأَيْتُهَا) : أَيْ: فِي زَمَانِي هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْحَدِيثُ هُوَ ذَلِكَ الْمَحْمَلُ السَّابِقُ (يَخْرُجُ أَحَدُكُمْ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (بِنَجِيبَاتٍ مَعَهُ) : جَمْعِ نَجِيبَةٍ وَهِيَ النَّاقَةُ الْمُخْتَارَةُ، فَفِي النِّهَايَةِ النَّجِيبُ مِنَ الْإِبِلِ الْقَوِيُّ مِنْهَا الْخَفِيفُ السَّرِيعُ (قَدْ أَسْمَنَهَا) : أَيْ: لِلزِّينَةِ (فِي يَعْلُو) : أَيْ: لَا يَرْكَبُ (بَعِيرًا مِنْهَا وَيَمُرُّ) : أَيْ: فِي السَّفَرِ (بِأَخِيهِ) : أَيْ: فِي الدِّينِ (قَدِ انْقَطَعَ بِهِ) : عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ كُلٌّ عَنِ السَّيْرِ، فَالضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ الْمُنْقَطِعِ، وَبِهِ نَائِبُ الْفَاعِلِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (فَلَا يَحْمِلُهُ) : أَيْ: فَلَا يُرْكِبُ أَخَاهُ الضَّعِيفَ عَلَيْهَا، وَهَذَا ; لِأَنَّ الدَّوَابَّ إِنَّمَا خُلِقَتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهَا مَنْ أَعْيَا فِي الطَّرِيقِ، فَقَدْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي مَنْعِ الِانْتِفَاعِ، فَكَأَنَّهَا لِلشَّيَاطِينِ، وَقَدْ حَدَثَ فِي زَمَانِنَا أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَكَابِرِ إِبِلٌ كَثِيرَةٌ وَيَأْخُذُوا إِبِلَ الضُّعَفَاءِ سُخْرَةً، وَرُبَّمَا تَكُونُ مُسْتَأْجَرَةً فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، فَيَرْمُوا الْحُمُولَ عَنْهَا وَيَأْخُذُوهَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. (وَأَمَّا بُيُوتُ الشَّيَاطِينِ فَلَمْ أَرَهَا) : إِلَى هُنَا كَلَامُ الصَّحَابِيِّ. (كَانَ سَعِيدٌ) : أَيِ: ابْنُ هِنْدٍ التَّابِعِيُّ الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الْحَدِيثَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (يَقُولُ: لَا أُرَاهَا) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ; أَيْ: لَا أَظُنُّهَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا ; أَيْ: لَا أَعْلَمُهَا (إِلَّا هَذِهِ الْأَقْفَاصَ) : أَيِ: الْمَحَامِلَ وَالْهَوَادِجَ (الَّتِي يَسْتُرُ) : وَفِي نُسْخَةٍ يَسْتُرُهَا (النَّاسُ بِالدِّيبَاجِ) : أَيْ: بِالْأَقْمِشَةِ النَّفِيسَةِ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا لَيْسَ لِذَاتِهَا بَلْ لِسَتْرِهَا بِالْحَرِيرِ وَتَضْيِيعِ الْمَالِ وَالتَّفَاخُرِ وَالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: عَيَّنَ الصَّحَابِيُّ مِنْ أَصْنَافِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِبِلِ صِنْفًا، وَهُوَ نَجِيبَاتٌ سِمَانٌ يَسُوقُهَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي سَفَرِهِ، فَلَا يَرْكَبُهَا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي حَمْلِ مَتَاعِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَمُرُّ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ قَدِ انْقَطَعَ بِهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ فَلَا يَحْمِلُهُ، وَعَيَّنَ التَّابِعِيُّ صِنْفًا مِنَ الْبُيُوتِ وَهُوَ الْأَقْفَاصُ الْمُحَلَّاةُ بِالدِّيبَاجِ يُرِيدُ بِهَا الْمَحَامِلَ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الْمُتْرَفُونَ فِي الْأَسْفَارِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ نَظْمُ الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ أَرَهَا مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ. وَمِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ: فَأَمَّا إِبِلُ الشَّيْطَانِ فَقَدْ رَأَيْتُهَا إِلَى قَوْلِهِ " فَلَا يَحْمِلُهُ "، وَأَمَّا بُيُوتُ الشَّيَاطِينِ فَلَمْ أَرَهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرَ مِنَ الْهَوَادِجِ الْمَسْتُورَةِ بِالدِّيبَاجِ وَالْمَحَامِلِ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمُتْرَفُونَ فِي الْأَسْفَارِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ الرَّاوِي بَعْدَ قَوْلِهِ: فَلَمْ أَرَهَا. كَانَ سَعِيدٌ يَقُولُ إِلَخْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا تَوْجِيهٌ غَيْرُ مُوَجَّهٍ يُعْرَفُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَالتَّوْجِيهُ مَا عَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ مَعَ الْأَشْرَفِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ، أَوْ دَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَيْسَ لِلتَّأَمُّلِ فِيهِ مَدْخَلٌ إِلَّا مَعَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ بِقَوْلِهِ: يَكُونُ فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ أَنَّهُ لِلِاسْتِقْبَالِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَوَّلًا، فَحِينَئِذٍ لَا يُلَائِمُهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الْإِبِلُ فَقَدْ رَأَيْتُهَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ غَيْرِهِ، فَلَمَّا نُسِبَ آخِرُ الْحَدِيثِ إِلَى التَّابِعِينَ تَبَيَّنَ أَنَّ تَفْضِيلَ أَوَّلِهِ رَاجِعٌ إِلَى الصَّحَابِيِّ، فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ وَيَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3920 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: غَزَوْنَا «مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمُنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيًا فِي النَّاسِ: " أَنَّ مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا، أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا، فَلَا جِهَادَ لَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3920 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مُعَاذُ بْنُ أَنَسٍ الْجُهَنِيُّ مَعْدُودٌ فِي أَهْلِ مِصْرَ وَحَدِيثُهُ عِنْدَهُمْ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَهْلٌ اهـ. فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ خَطَأٌ وَلِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَأَبُوهُ مَا أَسْلَمَ. (قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ: فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ» ) : أَيْ: عَلَى غَيْرِهِمْ بِأَنْ أَخَذَ كُلٌّ مَنْزِلًا لَا حَاجَةَ لَهُ فِيهِ، أَوْ فَوْقَ حَاجَتِهِ (وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ) : بِتَضْيِيقِهَا عَلَى الْمَارَّةِ (فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (" مُنَادِيًا يُنَادِي فِي النَّاسِ) : حَالٌ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ (أَنَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا ( «مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا، أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا، فَلَا جِهَادَ لَهُ» ) : أَيْ: لَيْسَ لَهُ كَمَالُ ثَوَابِ الْمُجَاهَدَةِ لِإِضْرَارِهِ النَّاسَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَوْ آذَى مُؤْمِنًا، وَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

3921 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " «إِنَّ أَحْسَنَ مَا دَخَلَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوَّلَ اللَّيْلِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3921 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا دَخَلَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوَّلَ اللَّيْلِ» ) : قَالَ الْقَاضِي: (مَا) مَوْصُولَةٌ وَالرَّاجِعُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، " وَأَهْلَهُ " مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَإِيصَالُ الْفِعْلِ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ; أَيْ: إِنَّ أَحْسَنَ دُخُولِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ دُخُولُ أَوَّلِ اللَّيْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً ; أَيْ: أَحْسَنُ أَوْقَاتِ دُخُولِ الرَّجُلِ فِيهَا أَهْلَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَإِذَا هَذَا مَرْفُوعٌ مَحَلًّا خَبَرٌ لِأَنَّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَتَبِعَهُ الْقَاضِي: التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا " أَنْ يُحْمَلَ الدُّخُولُ عَلَى الْخُلُوِّ بِهَا وَقَضَاءِ الْوَطَرِ مِنْهَا لَا الْقُدُومِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ أَوَّلَ اللَّيْلِ ; لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لِبُعْدِهِ عَنْ أَهْلِهِ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الشَّبَقُ، وَيَكُونُ مُمْتَلِئًا تَوَّاقًا، فَإِذَا قَضَى شَهْوَتَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ خَفَّ بَدَنُهُ وَسَكَنَ نَفْسُهُ وَطَابَ نَوْمُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ سَبَقَ عَنِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ أَنَّهُ قَالَ: يُكْرَهُ لِمَنْ طَالَ سَفَرُهُ طُرُوقُ اللَّيْلِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ سَفَرُهُ قَرِيبًا يُتَوَقَّعُ إِتْيَانُهُ لَيْلًا، وَكَذَا إِذَا أَطَالَ وَاشْتُهِرَ قُدُومُهُ وَعَلِمَتِ امْرَأَتُهُ قُدُومَهُ، فَلَا بَأْسَ بِقُدُومِهِ لَيْلًا لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ التَّهَيُّؤُ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ اهـ. كَلَامُهُ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُنَزَّلَ الْحَدِيثُ عَلَى الثَّانِي ; لِأَنَّ مَنْ طَالَ سَفَرُهُ وَبَعُدَ مُدَّةُ الْفِرَاقِ طَارَ قَلْبُهُ اشْتِيَاقًا، وَخُصُوصًا إِذَا قَرُبَ مِنَ الدَّارِ، وَرَأَى مِنْهَا الْآثَارَ قَالَ: إِذَا دَنَتِ الْمَنَازِلُ زَادَ شَوْقِي ... وَلَاسِيَّمَا إِذَا بَدَتِ الْخِيَامُ وَلِأَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي طَالَ سَفَرُهُ أَنْ يَقْرُبَ مِنَ الْأَهْلِ إِلَّا بَعْدَ ; أَيَّامٍ ; لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ اهـ. وَقَوْلُهُ: يُكْرَهُ لَيْسَ عَلَى مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ عَلَى طِبْقِ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ الْفَلْسَفِيَّةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثالِثُ 3922 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَعَرَّسَ بِلَيْلٍ اضْطَجَعَ عَلَى يَمِينِهِ، وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَصَبَ ذِرَاعَهُ وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3922 - (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَعَرَّسَ) : بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ: نَزَلَ (بِلَيْلٍ) : أَيْ: قَبْلَ السَّحَرِ (اضْطَجَعَ عَلَى يَمِينِهِ) : أَيْ: لِيَسْتَرِيحَ بَدَنُهُ (وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ) : أَيْ: وَقْتَ قُرْبِ طُلُوعِهِ (نَصَبَ ذِرَاعَهُ) : أَيِ: الْيَمِينَ (وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَيْهِ) : لِئَلَّا يَغْلِبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْهُ بِلَفْظِ: «كَانَ إِذَا عَرَّسَ وَعَلَيْهِ لَيْلٌ تَوَسَّدَ يَمِينَهُ، وَإِذَا عَرَّسَ قَبْلَ الصُّبْحِ وَضَعَ رَأَسَهُ عَلَى كَفِّهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَ سَاعِدَهُ» .

3923 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ، فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَغَدَا أَصْحَابُهُ، وَقَالَ: أَتَخَلَّفُ وَأُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَلَمَّا صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ، فَقَالَ: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِكَ؟ " فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ. فَقَالَ: " لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3923 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ» ) : قَالَ. الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ أَحَدُ النُّقَبَاءِ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا إِلَّا الْفَتْحَ وَمَا بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ شَهِيدًا أَمِيرًا فِيهَا سَنَةَ ثَمَانٍ، وَهُوَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْمُحْسِنِينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. (فَوَافَقَ ذَلِكَ) : أَيْ: زَمَنُ الْبَعْثِ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَغَدَا) : أَيْ ذَهَبَ (أَصْحَابُهُ) : مِنَ الْغَدَاةِ (وَقَالَ) : أَيْ: فِي نَفْسِهِ، أَوْ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ. (أَتَخَلَّفُ) : أَيْ أَتَأَخَّرُ (وَأُصْلِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; أَيِ: الْجُمُعَةَ (ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ) مِنْ لَحِقَ بِهِ إِذَا اتَّصَلَ (فَلَمَّا صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ فَقَالَ: مَا مَنْعَكَ أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِكَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ، ثُمَّ أَلْحَقَهُمْ) : بِالنَّصْبِ ( «قَالَ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ» ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا ; أَيْ فَضِيلَةَ إِسْرَاعِهِمْ فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى الْجِهَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ غَدْوَتُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِكَ هَذِهِ، فَعَدَلَ إِلَى الْمَذْكُورِ مُبَالَغَةً، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَأَخُّرَهُ ذَاكَ رُبَّمَا يُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَصَالِحَ كَثِيرَةً، وَلِذَلِكَ وَرَدَ: لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3924 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3924 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَتُكْسَرُ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَنَّهَا مُثَلَّثَةٌ ; أَيْ جَمَاعَةً بَيْنَهُمْ تَرَافُقٌ (فِيهِ جِلْدُ نَمِرٍ: بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فِي النِّهَايَةِ. نَهَى عَنْ رُكُوبِ النِّمَارِ ; أَيْ جُلُودِهَا، وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ اسْتِعْمَالِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ وَالْخُيَلَاءِ، وَلِأَنَّهُ زِيُّ الْعَجَمِ، أَوْ ; لِأَنَّ شَعْرَهُ لَا يَقْبَلُ الدِّبَاغَ عِنْدَ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ إِذَا كَانَ غَيْرَ ذَكِيٍّ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ جُلُودُ النِّمَارِ إِذَا مَاتَتْ ; لِأَنَّ اصْطِيَادَهَا عَسِرٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ» قِيلَ: أَرَادَ بِهَا السِّبَاعَ الْمَعْرُوفَةَ.

3925 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «سَيِّدُ الْقَوْمِ فِي السَّفَرِ خَادِمُهُمْ، فَمَنْ سَبَقَهُمْ بِخِدْمَةٍ لَمْ يَسْبِقُوهُ بِعَمَلٍ إِلَّا الشَّهَادَةَ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 3925 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) : أَيِ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيِّدُ الْقَوْمِ فِي السَّفَرِ خَادِمُهُمْ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ كَذَلِكَ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِقَامَةِ بِمَصَالِحِهِمْ وَرِعَايَةِ أَحْوَالِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ صَحِبَهُ أَبُو عَلِيٍّ الرِّبَاطِيُّ فَقَالَ لِأَبِي عَلِيٍّ: أَتَكُونُ أَنْتَ الْأَمِيرَ أَمْ أَنَا؟ فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ فَلَمْ يَزَلْ يَحْمِلُ الزَّادَ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي عَلِيٍّ عَلَى ظَهْرِهِ، وَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ لَيْلَةً فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ طُولَ اللَّيْلِ عَلَى رَأْسِ رَفِيقِهِ، وَفِي يَدِهِ كِسَاءٌ يَمْنَعُ الْمَطَرَ عَنْهُ، وَكُلُّ مَا قَالَ اللَّهَ اللَّهَ لَا تَفْعَلْ، يَقُولُ: أَلَمْ تَقُلْ إِنَّ الْإِمَارَةَ مُسْلَمَّةٌ لَكَ فَلَا تَتَحَكَّمْ عَلَيَّ، حَتَّى قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَدِدْتُ أَنِّي مِتُّ وَلَمْ أُؤَمِّرْهُ كَذَا فِي الْإِحْيَاءِ. وَثَانِيهِمَا: أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَخْدِمُهُمْ وَإِنْ كَانَ أَدْنَاهُمْ ظَاهِرًا فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَيِّدُهُمْ، وَأَنَّهُ يُثَابُ بِعَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «فَمَنْ سَبَقَهُمْ بِخِدْمَةٍ لَمْ يَسْبِقُوهُ بِعَمَلٍ إِلَّا الشَّهَادَةَ» ) : أَيِ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ شَرِيكُهُمْ فِيمَا يُزَاوِلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ بِوَاسِطَةِ خِدْمَتِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ "، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَيِّدُ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ، وَزَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْأَرْبَعِينَ الصُّوفِيَّةِ عَنْ أَنَسٍ: وَسَاقِيهِمْ آخِرُهُمْ شُرْبًا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

[باب الكتاب إلى الكفار ودعائهم إلى الإسلام]

[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

[3] بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3926 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، فَإِذَا فِيهِ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ؛ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ. أَسْلِمْ تَسْلَمْ. وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] » ) " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ " وَقَالَ: " إِثْمُ الْيَرِيسِيِّنَ " وَقَالَ: " بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ [3] بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ الْكِتَابُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، رَوَى أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ، وَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ وَإِنَّمَا كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ الْكُتُبَ إِلَّا مَخْتُومَةً خَوْفًا مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْمَعْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ: كَرَامَةُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ خَتْمَ كِتَابِ السُّلْطَانِ وَالْقُضَاةِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ سُنَّةٌ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3926 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ) : أَيْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ مَنْهِيًّا (إِلَى قَيْصَرَ) : وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لَقَبُ مَلِكِ الرُّومِ، وَكِسْرَى لَقَبٌ لِمَلِكِ الْفُرْسِ، وَالنَّجَاشِيُّ لِلْحَبَشَةِ، وَالْخَاقَانُ لِلتُّرْكِ، وَفِرْعَوْنُ لِلْقِبْطِ، وَعَزِيزٌ لِمِصْرَ، وَتُبَّعٌ لِحِمْيَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. (يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، أَوْ حَالٌ (وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَبِفَتْحٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى قَيْصَرَ فِي الْهُدْنَةِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ، فَآمَنَ بِهِ قَيْصَرُ وَأَبَتْ بَطَارِقَتُهُ فَلَمْ تُؤْمِنْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ ; أَيْ غَالِبًا نَزَلَ الشَّامَ، وَبَقِيَ ; أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَدِحْيَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ كَذَا يَرْوِي أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْفَتْحِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: دِحْيَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّاجِحَةِ مِنْهُمَا ادَّعَى ابْنُ السِّكِّيتِ أَنَّهُ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ اهـ. وَفِي الْمَعْنَى دِحْيَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا بِفَتْحٍ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَفِي الْقَامُوسِ دِحْيَةُ بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ. (وَأَمَرَهُ) : أَيْ دِحْيَةَ (أَنْ يَدْفَعَهُ) : أَيْ كِتَابَهُ (إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مَقْصُورَةٍ ; أَيْ أَمِيرِهَا وَهِيَ مَدِينَةُ جُورَانَ، ذَاتُ قَلْعَةٍ وَأَعْمَالٍ، قَرِيبَةٌ مِنْ طَرَفِ الْبَرِّيَّةِ بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ (لِيَدْفَعَهُ) : أَيْ لِيُعْطِيَ هُوَ الْكِتَابَ (إِلَى قَيْصَرَ، فَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ (فِيهِ) : أَيْ فِي الْكِتَابِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ) : أَيْ هَذَا الْمَكْتُوبُ مِنْ مُحَمَّدٍ، أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ سَلَامٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ مُحَمَّدٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ ; أَيْ صَدَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَقَوْلُهُ: (عَبْدِ اللَّهِ) : صِفَتُهُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ وَلَيْسَ عَطْفَ بَيَانٍ ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَشْهَرُ مِنْهُ قُلْتُ: فِي قَوْلِهِ (عَبْدِ اللَّهِ) ، ثُمَّ قَوْلِهِ: (وَرَسُولِهِ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ اتِّصَافِهِ بِكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَجَمَالِ الرِّسَالَةِ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَامِلٌ مُكَمِّلٌ، وَأَنَّهُ دَاعٍ لِلْخَلْقِ إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي خُلِقُوا لِأَجْلِهَا، وَإِيمَاءٌ إِلَى التَّعْرِيضِ لِلنَّصَارَى فِي غُلُوِّهِمْ فِي حَقِّ نَبِيِّهِمْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ أَنَّ مِنْ آدَابِ الْمُكَاتَبَةِ تَصْدِيرُ الْمَكْتُوبِ بِالْبَسْمَلَةِ وَبِاسْمِ الْمَكْتُوبِ عَنْهُ، قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ كَانَ فِي الْعُنْوَانِ، وَالْبَسْمَلَةُ فِي دَاخِلِ الرُّقْعَةِ (إِلَى هِرَقْلَ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرَتَيْنِ، وَحَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِمِلْكِ الرُّومِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَيْصَرُ لَقَبٌ لِجَمِيعِ مَلِكِ الرُّومِ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا وَاحِدٌ. (عَظِيمِ الرُّومِ) : بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ وَ " لَمْ " يَكْتُبْ " مِلْكِ الرُّومِ "، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِتَسْلِيمِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِحُكْمِ الدِّينِ مَعْزُولٌ عَنْهُ وَلَمْ يُخْلِهِ مِنَ الْإِكْرَامِ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ إِلَى الْإِسْلَامِ (سَلَامٌ) : أَيْ عَظِيمٌ، أَوْ مِنَّا، أَوْ مِنَ اللَّهِ (عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) : أَيِ الْهِدَايَةَ بِالْإِسْلَامِ وَالدِّيَانَةِ،

وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ (أَمَّا بَعْدُ) : أَيْ: بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهِدَايَةَ (فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ كَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ وَيُرْوَى بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ; أَيْ بِدَعْوَتِهِ. وَهِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي يُدْعَى إِلَيْهَا أَهْلُ الْمِلَلِ الْكَافِرَةِ. (أَسْلِمْ) : أَمْرٌ بِالْإِسْلَامِ (تَسْلَمُ) : مِنَ السَّلَامَةِ ; أَيْ لِكَيْ تَسْلَمَ مِنَ الْعَقَائِدِ الدَّنِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيَّةِ (وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ) : أَيْ: أَجْرَ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا مُحِقًّا قَبْلَ بَعْثَتِي، وَأَجْرَ الْإِيمَانِ بِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ مَرَّتَيْنِ بِـ " تَسْلَمْ " أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ ; أَيْ تَسْلَمْ مَرَّةً فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ، أَوْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَمَرَّةً مِنْ عِقَابِ الْعُقْبَى، وَتَكْرِيرُ أَسْلِمْ مُبَالَغَةٌ وَإِيذَانٌ بِشَفَقَتِهِ وَحِرْصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِسْلَامِهِ، لِكَوْنِهِ سَبَبَ إِسْلَامِ خَلْقٍ كَثِيرٍ وَفِيهِ نَفْعٌ كَبِيرٌ. (وَإِنْ تَوَلَّيْتَ) أَيْ أَعْرَضْتَ عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ (فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَسِينٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتَيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ، ثُمَّ سَاكِنَةٍ ; أَيْ: إِثْمَ أَتْبَاعِكَ فِي إِعْرَاضِهِمْ، وَمَفْهُومُهُ: أَنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ يَكُونُ لَكَ أَجْرُ أَصْحَابِكَ إِنْ أَسْلَمُوا، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ عَلَيْكَ مَعَ إِثْمِكَ إِثْمَ الْأَتْبَاعِ بِسَبَبِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوكَ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ اخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِهِ عَلَى أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: بِيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ، وَالثَّانِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَهَا، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةٌ وَالرَّاءُ مَكْسُورَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَالثَّالِثُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَيَاءٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ السِّينِ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي مُسْلِمٍ، وَفِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: إِثْمُ الْيَرِيسِيِّينَ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمُ الْأَكَّارُونَ ; أَيِ: الْفَلَّاحُونَ وَالزَّرَّاعُونَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ رَعَايَاكَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَكَ وَيَنْقَادُونَ بِانْقِيَادِكَ، وَنَبَّهَ بِهَؤُلَاءِ عَلَى جَمِيعِ الرَّعَايَا ; لِأَنَّهُمُ الْأَغْلَبُ، وَلِأَنَّهُمْ أَسْرَعُ انْقِيَادًا، فَإِذَا أَسْلَمَ أَسْلَمُوا، وَإِذَا امْتَنَعَ امْتَنَعُوا. قُلْتُ: لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ. قَالَ: عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَكَّارِينَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ النَّصَارَى، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَرِيسَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْأَرُوسِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرِيسِيُّ وَالْإِرِّيسُ كَجَلِيسٍ وَسِكِّيتٍ الْأَكَّارِ وَكَسِكِّيتِ الْأَمِيرِ. وَ {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] : يَعُمُّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ وَالْآيَةُ: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] وَفِي الْحَدِيثِ لِلْعَطْفِ عَلَى بِسْمِ اللَّهِ إِلَخْ. (تَعَالَوْا) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَمْرٌ مِنَ التَّعَالِي وَأَصْلُهُ يَقُولُهُ مَنْ كَانَ فِي عُلُوٍّ لِمَنْ كَانَ فِي سُفْلٍ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ بِالتَّعْمِيمِ وَفِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى النَّقْلِ وَالْحَذْفِ {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران: 64] : مَصْدَرٌ ; أَيْ مُسْتَوِيَةٍ {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] : لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ وَالْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ وَتَفْسِيرِهَا مَا بَعْدَهَا وَالتَّقْدِيرُ هِيَ {وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران: 64] : أَيْ نُوَحِّدَهُ بِالْعِبَادَةِ وَنُخْلِصَ فِيهَا {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] : أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْمَعْنَى لَا نَجْعَلَ غَيْرَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ وَلَا نَرَاهُ أَهْلًا ; لِأَنْ يُعْبَدَ {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] : أَيْ وَلَا نَقُولَ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَلَا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَا نُطِيعَ الْأَحْبَارَ فِيمَا أَحْدَثُوا مِنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران: 64] : أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ (فَقُولُوا) الْخِطَابُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (اشْهَدُوا) ; أَيْ ; أَيُّهَا الْكُفَّارُ {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] : وَالْمَعْنَى لَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ دُونَكُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إِثْمُ الْيَرِيسِيِّينَ) : بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ; أَيْضًا الْيَرِيسِيِّينَ (وَقَالَ: بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ) . قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ: بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي هَذَا الْكِتَابِ جُمَلٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْفَوَائِدِ مِنْهَا: قَوْلُهُ: " سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى " وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ. قُلْتُ مَا أَظُنُّ فِيهِ خِلَافًا، وَمِنْهَا دُعَاءُ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْقِتَالُ قَبْلَهُ حَرَامٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنْ أَئِمَّتِنَا. وَقَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِذَلِكَ أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ الْآتِي، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَفِي نَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ شَهِيرَةٌ وَإِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيِ عِيَالِهِمْ، فَرُبَّمَا يُجِيبُونَ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ،

فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِعْلَامِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ: «مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ» . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَفِي الْمُحِيطِ: بُلُوغُ الدَّعْوَةِ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا بِأَنِ اسْتَفَاضَ شَرْقًا وَغَرْبًا أَنَّهُمْ إِلَى مَاذَا يَدْعُونَ، وَعَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَأُقِيمَ ظُهُورُهَا مَقَامَهَا اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي بِلَادِ اللَّهِ مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَيَجِبُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهِ ظَنَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، فَإِذَا كَانَتْ بَلَغَتْهُمْ لَا تَجِبُ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ إِمَّا عَدَمُ الْوُجُوبِ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَوْفٍ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ؟ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قَدْ «أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تَسْقِي عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ» . حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ، وَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَلِأَنَّ التَّكْرَارَ قَدْ يُجْدِي الْمَقْصُودَ فَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ، وَقُيِّدَ هَذَا الِاسْتِحْبَابُ بِأَنْ لَا يَتَضَمَّنَ ضَرَرًا بِأَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَسْتَعِدُّونَ، أَوْ يَحْتَالُونَ، أَوْ يَتَحَصَّنُونَ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ تَظْهَرُ مِنْ حَالِهِمْ كَالْعِلْمِ، بَلْ هُوَ الْمُرَادُ إِذْ حَقِيقَتُهُ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ. قَالَ: وَمِنْهَا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ بَعَثَهُ مَعَ دِحْيَةَ وَحْدَهُ، وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ تَصْدِيرِ الْكَلَامِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ كَافِرًا، وَمِنْهَا جَوَازُ الْمُسَافَرَةِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِآيَةٍ، أَوْ آيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُسَافَرَةِ بِالْقُرْآنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا خِيفَ وُقُوعُهُ فِي ; أَيْدِي الْكُفَّارِ وَجَوَازُ مَسِّ الْمُحْدِثِ وَالْكَافِرِ آيَةً أَوْ آيَاتٍ يَسِيرَةً مَعَ غَيْرِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: (تَعَالَوْا) : لَفْظَ الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى، وَلَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ بِدَلِيلِ حَذْفِ (قُلْ) مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، وَيَزِيدُ مَا قُلْنَا مَا ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي الْمَوَاهِبِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَوَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَهَا لَمَّا نَزَلَتْ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَكَانَتْ قِصَّتُهُمْ سَنَةَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِصَّةُ أَبَى سُفْيَانَ هَذِهِ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ نُزُولَهَا مَرَّتَيْنِ وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَمِنْهَا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُكَاتَبَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ فَيَقُولَ: مِنْ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو، سَوَاءٌ فِيهِ تَصْدِيرُ الْكِتَابِ بِهِ أَوِ الْعُنْوَانِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] وَقِيلَ: الصَّوَابُ فِي الْكُتُبِ فِي الْعُنْوَانِ إِلَى فُلَانٍ، وَلَا يُكْتَبُ بِفُلَانٍ ; لِأَنَّهُ إِلَيْهِ لَا لَهُ. قُلْتُ: تَأْتِي اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] ، ثُمَّ فِي قَوْلِ بِلْقِيسَ: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30] إِلَخْ. لَيْسَ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَلَا الْعُنْوَانَ مَصْدَرٌ بِمِنْ سُلَيْمَانَ، إِذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّصْدِيرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْخَتْمِ بِمِنْ سُلَيْمَانَ، فَإِنَّ الْوَاوَ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ قَالَ: وَمِنْهَا أَنْ لَا يُفْرِطَ وَلَا يُفَرِّطَ فِي الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمِنْ ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، وَلَمْ يَقُلْ مَلِكِ الرُّومِ ; لِأَنَّهُ لَا مُلْكَ لَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُنَفِّذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْكُفَّارِ مَا فِيهَا الضَّرُورَةُ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى هِرَقْلَ فَحَسْبُ، بَلْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنَ الْمُلَاطَفَةِ فَقَالَ: عَظِيمِ الرُّومِ ; أَيِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ وَيُقَدِّمُونَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ لِمَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] . وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ اسْتِعْمَالِ الْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ وَتَحَرِّي الْأَلْفَاظِ الْجَزْلَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ وَالْبَلَّاغَةِ وَجَمْعِ الْمَعَانِي، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَدِيعِ التَّجْنِيسِ، فَإِنَّ " تَسْلَمْ " شَامِلٌ لِسَلَامَتِهِ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا بِالْحَرْبِ وَالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ، وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ سَبَبَ ضَلَالٍ وَمَنْعِ هِدَايَةٍ كَانَ أَكْثَرَ إِثْمًا قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ أَمَّا بَعْدُ فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: تَقْدِيمُ لَفْظِ الْعَبْدِ عَلَى الرَّسُولِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ طُرُقِ الْعِبَادِ إِلَيْهِ. قُلْتُ: بَلْ لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَا إِذْ مَا خُلِقُوا إِلَّا لِأَجْلِهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِأَفْضَلِ الْخَلْقِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] ; أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي هَذَا التَّقْدِيمِ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى، وَقَوْلُهُمْ فِي عِيسَى بِالْإِلَهِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30] وَصَدْرُ هَذَا الْحَدِيثِ سَيُذْكَرُ فِي بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ.

3927 - وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَ مَزَّقَهُ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3927 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى) : بِكَسْرِ الْكَافِ وَيُفْتَحُ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُمَالَ مِلْكُ الْفُرْسِ مُعْرِبٌ خِسْرُو ; أَيْ: وَاسْعُ الْمُلْكِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. (مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (السَّهْمِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَزْءٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، أَبُو الْحَارِثِ سَكَنَ مِصْرَ وَشَهِدَ بَدْرًا، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسَةٍ وَثَمَانِينَ بِمِصْرَ. (فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ) وَهُوَ بَلَدٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ قَرَيْبَ الْبَصْرَةِ (فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْفَاءُ فِي فَدَفَعَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرَاتٍ مَعْدُودَةٍ) ; أَيْ: فَذَهَبَ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَهُ الْعَظِيمُ إِلَى كِسْرَى فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ (فَلَمَّا قَرَأَ) : أَيْ: قَرَأَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (مَزَّقَهُ) : أَيْ: قَطَّعَهُ (قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ) : فِي الْبُخَارِيِّ، قَالَ الرَّاوِي: فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: (فَدَعَا عَلَيْهِمْ) : أَيْ: عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ مِمَّنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّمْزِيقِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: يُفَرَّقُوا كُلَّ نَوْعٍ مِنَ التَّفْرِيقِ، وَأَنْ يُبَدَّدُوا كُلَّ وَجْهٍ، وَالْمُمَزَّقُ مَصْدَرٌ كَالتَّمَزُّقِ، وَالَّذِي مَزَّقَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَبْرَوِيزُ بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ، قَتَلَهُ ابْنُهُ شِيرَوَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ قَتْلِهِ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، يُقَالُ: إِنَّ أَبْرَوِيزَ لَمَّا أَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ، وَكَانَ مَأْخُوذًا عَلَيْهِ فَتَحَ خِزَانَةَ الْأَدْوِيَةِ وَكَتَبَ عَلَى حُقَّةٍ: السُّمُّ الدَّوَاءُ النَّافِعُ لِلْجِمَاعِ، وَكَانَ ابْنُهُ مُولَعًا بِذَلِكَ فَاحْتَالَ فِي هَلَاكِهِ، فَلَمَّا قَتَلَ أَبَاهُ فَتَحَ الْخِزَانَةَ، فَرَأَى الْحُقَّةَ حَاوَلَ مِنْهَا، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ، وَيَزْعُمُ الْفُرْسُ أَنَّهُ مَاتَ أَسَفًا عَلَى قَتْلِهِ أَبَاهُ، وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ بَعْدَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالتَّمْزِيقِ أَمْرٌ نَافِذٌ، بَلْ أَدْبَرَ عَنْهُمُ الْإِقْبَالُ وَمَالَتْ عَنْهُمُ الدَّوْلَةُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمُ النُّحُوسَةُ حَتَّى انْقَرَضُوا عَنْ آخِرِهِمْ اهـ. وَكَانَ فَتْحُ بِلَادِ الْعَجَمِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِلْكُهُمْ فِي ذَلِكَ فِي يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ بْنِ شِيرَوَيْهِ بْنِ أَبْرَوِيزَ، وَتَزَوَّجَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنْتَ يَزْدَجِرْدَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي الْمَوَاهِبَ: «كَتَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى كِسْرَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ; أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللَّهِ، فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْمَجُوسِ، فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ مَزَّقَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَزَّقَ مُلْكَهُ» ، قِيلَ: بَعَثَهُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَمَّا كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ مَزَّقَهُ. وَأَمَّا قَيْصَرُ ; فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ طَوَاهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُمَزَّقُونَ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَسَيَكُونُ لَهُمْ بَقِيَّةٌ. رَوَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ جَوَابُ كِسْرَى قَالَ: مَزَّقَ مُلْكَهُ، وَلَمَّا جَاءَهُ جَوَابُ هِرَقْلَ قَالَ: ثَبَّتَ مُلْكَهُ. وَذُكِرَ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنْ سَيْفِ الدِّينِ الْمَنْصُورِيِّ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى مَلِكِ الْغَرْبِ بِهَدِيَّةٍ مِنَ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، فَأَرْسَلَهُ مَلِكُ الْغَرْبِ إِلَى الْفِرِنْجِ فِي شَفَاعَةٍ، وَأَنَّهُ قَبِلَهُ وَكَرَّمَهُ، وَقَالَ: لَأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سَنِيَّةٍ، فَأَخْرَجَ لَهُ صُنْدُوقًا مُصَفَّحًا بِذَهَبٍ، فَأَخْرَجَ لَهُ مِقْلَمَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا قَدْ زَالَتْ أَكْثَرُ حُرُوفِهِ، وَقَدْ أُلْصِقَتْ عَلَيْهِ خِرْقَةُ حَرِيرٍ فَقَالَ: هُنَا كِتَابُ نَبِيِّكُمْ لِجَدِّي قَيْصَرَ مَا زِلْنَا نَتَوَارَثُهُ إِلَى الْآنِ، وَأَوْصَانَا آبَاؤُنَا عَنْ آبَائِهِمْ إِلَى قَيْصَرَ، أَنَّهُ مَا دَامَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَنَا لَا يَزَالُ الْمُلْكُ فِينَا، فَنَحْنُ نَحْفَظُهُ غَايَةَ الْحِفْظِ وَنُعَظِّمُهُ وَنَكْتُمُهُ عَنِ النَّصَارَى لِيَدُومَ الْمُلْكُ فِيمَا قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ: هَمَّ قَيْصَرُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَمْ تُوَافِقْهُ الرُّومُ فَخَافَهُمْ عَلَى مُلْكِهِ فَأَمْسَكَ.

3928 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ وَإِلَى النَّجَاشِيِّ وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3928 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ) : فِي إِعَادَةِ الْعَامِلِ إِفَادَةُ الِاسْتِقْلَالِ (وَإِلَى النَّجَاشِيِّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَبِتَخْفِيفِهَا أَفْصَحُ وَكَسْرُ نُونِهَا وَهُوَ أَفْصَحُ، أَصْحَمَةَ مَلِكِ الْحَبَشَةِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ) : أَتَى بِهِ اخْتِصَارًا ; أَيْ: كِسْرَى وَأَمْثَالِهِ (يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ) : فِي الْمَوَاهِبِ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَإِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى، وَإِلَى مَلِكِ عُمَانَ، وَإِلَى صَاحِبِ الْيَمَامَةِ، الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ، وَلِأَهْلِ جَرْبَا وَأَذْرُجَ، وَإِلَى أَهْلِ وَجٍّ وَلِأُكَيْدِرٍ، وَصُورَةُ الْمَكَاتِيبِ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ (وَلَيْسَ) : أَيِ: النَّجَاشِيُّ الَّذِي كَتَبَ إِلَيْهِ (بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، يَعْنِي وَقَدْ وَهِمَ مِنْ قَالَ: إِنَّهُ النَّجَاشِيُّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ خَلَطَ رَاوِيهِ، فَإِنَّهُمَا اثْنَانِ وَكِلَاهُمَا مُسْلِمَانِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3929 - وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: " اغْزُوَا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتَلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوَا فَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -، أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتَهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يُجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يُجْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِنْ حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا؟» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3929 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ، (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمَّرَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ ; أَيْ: جَعَلَ أَحَدًا (أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ) : أَيْ: ذَلِكَ الْأَمِيرَ (فِي خَاصَّتِهِ) : أَيْ: فِي حَقِّ نَفْسِهِ خُصُوصًا وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (بِتَقْوَى اللَّهِ) : وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَوْصَاهُ، وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ مَعَهُ) : مَعْطُوفٌ عَلَى خَاصَّتِهِ ; أَيْ: وَفِيمَنْ مَعَهُ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : وَقَوْلُهُ: (خَيْرًا) : نُصِبَ عَلَى انْتِزَاعِ الْخَافِضِ ; أَيْ: بِخَيْرٍ: قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْ مَحَلِّ الْجَرِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْصَى بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَأَوْصَى بِخَيْرٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي اخْتِصَاصِ التَّقْوَى بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَالْخَيْرِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُشَدِّدَ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، وَأَنْ يُسَهِّلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَرْفُقَ بِهِمْ، كَمَا وَرَدَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» . (ثُمَّ قَالَ: اغْزُوَا بِسْمِ اللَّهِ) : أَيْ: مُسْتَعِينِينَ بِذِكْرِهِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: لِأَجْلِ مَرْضَاتِهِ وَإِعْلَاءِ دِينِهِ (قَاتِلُوا مِنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) : جُمْلَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِاغْزُوا، وَأَعَادَ قَوْلَهُ: اغْزُوَا لِيُعْقِبَهُ بِالْمَذْكُورَاتِ بَعْدَهُ، (فَلَا تَغُلُّوا) : بِالْفَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ: لَا تَخُونُوا فِي الْغَنِيمَةِ (وَلَا تَغْدِرُوا) : بِكَسْرِ الدَّالِ ; أَيْ: لَا تَنْقُضُوا الْعَهْدَ، وَقِيلَ: لَا تُحَارِبُوهُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ (وَلَا تَمْثُلُوا) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، فَفِي تَهْذِيبِ النَّوَوِيِّ مَثَلَ بِهِ يَمْثُلُ كَقَتَلَ إِذَا قَطَعَ أَطْرَافَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَثُلَ بِفُلَانٍ مُثْلَةً بِالضَّمِّ، نَكَّلَ كَمَثَّلَ تَمْثِيلًا، وَفِي الْفَائِقِ: إِذَا سَوَّدْتَ وَجْهَهُ، أَوْ قَطَعْتَ أَنْفَهُ وَنَحْوَهُ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ خُطْبَةً إِلَّا وَنَهَى فِيهَا عَنِ الْمُثْلَةِ» ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْيُنَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ. ( «وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» ) : أَيْ: طِفْلًا صَغِيرًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ يُقْتَلَانِ فِي حَالِ قِتَالِهِمَا، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْمَلِكُ وَالْمَعْتُوهُ الْمَلِكُ ; لِأَنَّ فِي قَتْلِ الْمَلِكِ كَسْرَ شَوْكَتِهِمْ، (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : الْخِطَابُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، وَهُوَ نَظِيرُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مِنْ بَابِ تَلْوِينِ الْخِطَابِ خَاطَبَ أَوَّلًا عَامًّا، فَدَخَلَ فِيهِ الْأَمِيرُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، ثُمَّ خَصَّ الْخِطَابَ بِهِ، فَدَخَلُوا فِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1] خَصَّ النِّسَاءَ بِالنِّدَاءِ. (فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ) : أَيْ: مُرَتَّبَةٍ (-، أَوْ خِلَالٍ -) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْخِصَالُ وَالْخِلَالُ بِكَسْرِهَا جَمْعُ الْخَصْلَةِ وَالْخَلَّةِ بِفَتْحِهِمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، (فَأَيَّتُهُنَّ) : بِالرَّفْعِ وَالضَّمِيرُ لِلْخِصَالِ الْمَدْعُوَّةِ (مِمَّا أَجَابُوكَ) : أَيْ: قَبِلُوهَا مِنْكَ، وَمَا: زَائِدَةٌ (فَاقْبَلْ مِنْهُمْ) : جَزَاءُ الشَّرْطِ (وَكُفَّ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا ; أَيِ: امْتَنِعْ (عَنْهُمْ) : أَيْ: فِي الْأُولَيَيْنِ (ثُمَّ ادْعُهُمْ) : أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخِصَالِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، فَاعْلَمْ حُكْمَهَا عَلَى طَرِيقِ التَّفْصِيلِ فَادْعُهُمْ ; أَيْ: أَوَّلًا (إِلَى الْإِسْلَامِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، ثُمَّ ادْعُهُمْ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الصَّوَابُ رِوَايَةُ ادْعُهُمْ بِإِسْقَاطِ، ثُمَّ، وَقَدْ جَاءَ بِإِسْقَاطِهَا عَلَى الصَّوَابِ فِي كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا: لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ثُمَّ هُنَا زَائِدَةٌ وَرَدَتْ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ وَالْأَخْذِ فِيهِ. (فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ) : أَيْ: الِانْتِقَالُ (مِنْ دَارِهِمْ) : أَيْ: مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ (إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ) : أَيْ: إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مِنْ تَوَابِعِ الْخَصْلَةِ

الْأُولَى، بَلْ قِيلَ: إِنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، (وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ) : أَيِ: التَّحَوُّلَ (فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ: أَيْ: مِنَ الثَّوَابِ وَاسْتِحْقَاقِ مَالِ الْفَيْءِ، وَذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ كَانَ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ مِنْ حِينِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَمْرَهُمُ الْإِمَامُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ كَافِيًا أَوْ لَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ إِلَى الْجِهَادِ إِنْ كَانَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَنْ بِهِ الْكِفَايَةُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ: أَيْ: مِنَ الْغَزْوِ (فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا) : أَيْ: مِنْ دَارِهِمْ (فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ) : أَيِ: الَّذِينَ لَازَمُوا أَوْطَانَهُمْ فِي الْبَادِيَةِ لَا فِي دَارِ الْكُفْرِ (يُجْرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ ; أَيْ: يُمْضَى (عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يُجْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) : أَيْ: مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَنَحْوِهِمَا (وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا) : مِنْ بَابِ مَا أُضْمِرَ عَامِلُهُ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَالتَّقْدِيرُ لِتَكْرِيرِ الْإِسْنَادِ فِي التَّعْبِيرِ ; أَيْ: فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ (فَسَلْهُمْ) : بِالْهَمْزِ وَالنَّقْلِ ; أَيْ: فَاطْلُبْ مِنْهُمُ (الْجِزْيَةَ) : وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَصْلَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ. مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُعْطَى الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَوَّلُوا وَكَانُوا فُقَرَاءَ مَسَاكِينَ، وَلَا تُعْطَى الصَّدَقَاتُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْمَالَانِ سَوَاءٌ يَجُوزُ صَرْفُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى النَّوْعَيْنِ، وَالْحَدِيثُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا، كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إِلَّا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَجُوسِهِمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ أَعْرَابًا كَانُوا أَوْ أَعَاجِمَ، وَيَحْتَجُّ بِمَفْهُومِ الْآيَةِ، وَبِحَدِيثِ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ تَخْصِيصُهُ مَعْلُومًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ، أَوِ السَّيْفُ عَلَى مَا سَيَتَّضِحُ، (فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ) : أَيْ: قَبِلُوا بَذْلَ الْجِزْيَةِ، وَكَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ (فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ) : فِي الْهِدَايَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا. قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، بَلْ هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمَعْنَى حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْنَدِهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أَنْبَأَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَسَدِيُّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: مَنْ كَانَتْ لَهُ ذِمَّتُنَا فَدَمُهُ كَدَمِنَا وَدِيَتُهُ كَدِيَتِنَا، وَضَعَّفَ الطَّبَرَانِيُّ أَبَا الْجَنُوبِ، (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا) : أَيْ: عَنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ (فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ) : إِشَارَةٌ إِلَى الْخَصْلَةِ الثَّالِثَةِ (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ) : أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (فَأَرَادُوكَ) ; أَيْ طَلَبُوا مِنْكَ (أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ) ; أَيْ: عَهْدَهُمَا وَأَيْمَانَهُمَا (فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ) : أَيْ: بِالِاجْتِمَاعِ وَلَا بِالِانْفِرَادِ (وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ) : وَهُوَ بِالْخِطَابِ عَلَى مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَوَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّهُمْ بِالْغَيْبَةِ (أَنْ تُخْفِرُوا) : مِنَ الْإِخْفَارِ ; أَيْ: تَنْقُضُوا (ذِمَمِكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ " أَنْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ كَمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَأَنَّ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَخَبَرُ إِنَّ قَوْلُهُ: (أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ) : وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ " إِنْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ مُشْكِلٌ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَهْوَنُ بِتَقْدِيرِ هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ وَالْفَاءُ لَازِمَهُ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الشُّذُوذِ كَقَوْلِهِ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا.

ثُمَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَوْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ تَدْرِ مَا تَصْنَعُ بِهِمْ، حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ بِوَحْيٍ وَنَحْوِهِ فِيهِمْ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ عَلَيْكَ لِسَبَبِ غَيْبَتِكَ وَبُعْدِكَ مِنْ مَهْبِطِ الْوَحْيِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَقَضُوا عَهْدَكَ، فَإِنَّكَ إِذَا نَزَلْتَ عَلَيْهِمْ فَعَلْتَ بِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ، أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ، أَوِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، أَوِ الْمَنِّ، أَوِ الْفِدَاءِ بِحَسَبَ مَا تَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّهِمْ. ( «وَإِنْ حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ» ) : أَيْ: وَلَا عَلَى حُكْمِ رَسُولِهِ لِمَا سَبَقَ وَلِقَوْلِهِ: ( «وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي: أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا؟» ) : زَادَ ابْنُ الْهُمَامِ وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ بَعْدُ مَا شِئْتُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يَنْقُضُهَا مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَّهَا وَيَنْتَهِكُ حُرْمَتَهَا بَعْضُ الْأَعْرَابِ وَسَوَادُ الْجَيْشِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا بَلِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِحُكْمِ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ. أَنَّكَ لَا تَأْمَنُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى وَحْيٍ بِخِلَافٍ مَا حَكَمْتَ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ تَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ: " لَقَدْ حَكَمْتَ لَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ " وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا اهـ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ، وَأَلْفَاظُ بَعْضِهِمْ تَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ وَتَخْتَلِفُ.

3930 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ "، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3930 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ) : أَيِ: الْكُفَّارَ فِي الْغَزْوِ (انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ) : أَيْ: لِيُطْلُبَ الْوَقْتُ، وَيُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ (ثُمَّ قَامَ) : أَيْ: خَطِيبًا (فِي النَّاسِ) : أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ لِأَحَدِهِمْ (فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ) : وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لِيَعُمَّ الْمُنَافِقِينَ ( «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ» ) : أَيِ: اطْلُبُوهُ كِفَايَةَ شَرِّ الْأَعْدَاءِ (فَإِذَا لَقِيتُمْ فَاصْبِرُوا) : أَيْ: عَلَى الْبَلَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْإِعْجَابِ، وَالِاتِّكَالِ عَلَى النَّفْسِ، وَالْوُثُوقِ بِالْقُوَّةِ، وَأَيْضًا هُوَ يُخَالِفُ الْحَزْمَ وَالِاحْتِيَاطَ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ إِذَا شَكَّ فِي الْمَصْلَحَةِ فِي الْقِتَالِ، وَيُمْكِنُ حُصُولُ ضَرَرٍ، وَإِلَّا فَالْقِتَالُ كُلُّهُ فَضِيلَةٌ وَطَاعَةٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ. ( «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» ) : أَيْ: كَوْنُ الْمُجَاهِدِ بِحَيْثُ تَعْلُوهُ سُيُوفُ الْأَعْدَاءِ سَبَبٌ لِلْجَنَّةِ، أَوِ الْمُرَادُ سُيُوفُ الْمُجَاهِدِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ السُّيُوفَ ; لِأَنَّهَا أَكْثَرُ آلَاتِ الْحُرُوبِ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الدُّنُوِّ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْجِهَادِ، حَتَّى يَعْلُوَهُ السَّيْفُ وَيَصِيرَ ظِلُّهُ عَلَيْهِ، وَالظِّلُّ الْفَيْءُ الْحَاصِلُ مِنَ الْحَاجِزِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّمْسِ ; أَيَّ شَيْءٍ كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا كَانَ مِنْهُ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَمَا كَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ الْفَيْءُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ ثَوَابُ اللَّهِ، وَالسَّبَبُ الْمُوصِلُ إِلَى الْجَنَّةِ عِنْدَ الضَّرْبِ بِالسُّيُوفِ، وَمَشْيِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاحْضُرُوا فِيهِ بِصِدْقِ النِّيَّةِ وَاثْبُتُوا. (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ) : أَيْ: جِنْسَهُ، أَوِ الْقُرْآنِ (وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ) : أَيْ: أَصْنَافِ الْكُفَّارِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَثَمُودَ وَعَادٍ وَغَيْرِهِمُ (اهْزِمْهُمْ) : أَيْ: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِحَوْلِكَ وَنَصْرِكَ (وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ) : أَيْ: لِيَكُونَ لَنَا أَجْرُ الْغَزْوِ بِسَبَبِ الْمُبَاشَرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَنَشَاطِ النُّفُوسِ، وَقَالُوا سَبَبُهُ فَضِيلَةُ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا، وَالْوَجْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُخَرَّجِ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: «شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْيَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَاةُ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نُصِرْتُ بِالصَّبَا» " وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عِنْدَ الْقِتَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» ".

3931 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَخَرَجُوا إِلَيْنَا بَمَكَاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَلَجَئُوا فِي الْحِصْنِ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3931 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا) : الْبَاءُ بِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ ; أَيْ: إِذَا غَزَوْنَا وَهُوَ مَعَنَا (لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا) : بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ خَبَرٌ ; أَيْ: لَمْ يَكُنْ غَازِيًا بِنَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَمْ يَكُنْ يَغْزُ بِنَا، هَكَذَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَأَرَى الْوَاوَ قَدْ سَقَطَ عَنْ قَلَمِ الْكَاتِبِ وَصَوَابُهُ إِثْبَاتُهَا، وَلَوْ جُعِلَ مِنْ الِاغْتِرَاءِ عَلَى زِنَةِ يُلْهِبُنَا لَمْ يَسْتَقِمْ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ يُحْرِزُنَا لِلْغَزْوِ، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ يَسْتَقِيمُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ يُرْسِلْنَا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَحْمِلْنَا عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ بِنَا قَوْمًا لَمْ يَغْزُ بِنَا اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: غَزَا الْعَدُوَّ سَارَ إِلَى قِتَالِهِمْ وَأَغْزَاهُ حَمَلَهُ عَلَيْهِ كَغَزَاهُ وَأَمْهَلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ لَا الْمَجَازِيُّ، كَمَا أَفَادَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَأَمَّا جَعْلُ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ اللَّفْظِيَّةِ دُونَ الْمُرَاعَاةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، مَعَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ ; أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَعْنَى إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ لَمْ يَحْمِلْنَا عَلَيْهِ فِي سَاعَتِهِ، بَلْ كَانَ يُمْهِلُنَا حَتَّى نَسْتَعِدَّ وَيَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي مُبَاشَرَةِ الْمُقَاتَلَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ) : أَيْ: إِلَيْهِمْ كَمَا فِي نُسْخَةٍ ; أَيْ: يَتَأَمَّلَ فِي حَالِهِمْ، وَيَسْتَدِلَّ عَلَى عَقَائِدِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ (فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا) : أَيْ: إِعْلَامًا بِالصَّلَاةِ (كَفَّ عَنْهُمْ) : أَيِ: امْتَنَعَ عَنْ قِتَالِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ (وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ) : قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: كَانَ يَتَثَبَّتُ فِيهِ وَيَحْتَاطُ فِي الْإِغَارَةِ حَذَرًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ فَيُغِيرَ عَلَيْهِ غَافِلًا عَنْهُ جَاهِلًا بِحَالِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الْأَذَانَ شِعَارٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِهِ كَانَ لِلسُّلْطَانِ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ اهـ. وَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا. (قَالَ) : أَيْ: أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( «فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلَفَ أَبِي طَلْحَةَ» ) : وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ أَنَسٍ (وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قِيلَ: يَعْنِي كُنْتُ أَنَا وَأَبُو طَلْحَةَ وَالنَّبِيُّ رَاكِبِينَ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَسَّ الْقَدَمِ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ. (قَالَ) : أَيْ: أَنَسٌ (فَخَرَجُوا) : أَيْ: أَهْلُ خَيْبَرَ مِنْ حِصْنِهِمْ (إِلَيْنَا) : أَيْ: غَيْرَ عَالِمِينَ بِنَا بَلْ قَاصِدِينَ عِمَارَةَ نَخِيلِهِمْ (بِمَكَاتِلِهِمْ) : جَمْعِ مِكْتَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ الزِّنْبِيلُ الْكَبِيرُ (وَمَسَاحِيهِمْ) جَمْعُ مِسْحَاةٍ وَهِيَ الْمِجْرَفَةُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ ; لِأَنَّهُ مِنَ السَّحْوِ ; أَيِ: الْكَشْفِ لِمَا يُكْشَفُ بِهِ الطِّينُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، (فَلَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: مُحَمَّدٌ، وَاللَّهِ) : أَيْ: هَذَا مُحَمَّدٌ، أَوْ أَتَانَا مُحَمَّدٌ، وَقَوْلُهُ: (مُحَمَّدٌ) : تَأْكِيدٌ (وَالْخَمِيسُ) : أَيْ: وَمَعَهُ الْجَيْشُ، كَذَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْخَمِيسُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ " مُحَمَّدٌ " وَرُوِيَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْخَمِيسُ حَالٌ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، وَالْعَامِلُ اسْمُ الْإِشَارَةِ اهـ. وَفِي كَوْنِهِ مَفْعُولًا مَعَهُ إِشْكَالٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: وَصَلَ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، وَسُمِّيَ الْجَيْشُ خَمِيسًا ; لِانْقِسَامِهِ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: الْمُقَدِّمَةِ، وَالسَّاقَةِ، وَالْمَيْمَنَةِ، وَالْمَيْسَرَةِ، وَالْقَلْبِ، أَوْ لِتَخْمِيسِ الْغَنَائِمِ فِيهِ (فَلَجَئُوا) : أَيْ: فَرَجَعُوا وَالْتَجَئُوا (إِلَى الْحِصْنِ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْ: هَارِبِينَ (قَالَ) : تَفَاؤُلًا بِانْهِزَامِهِمْ وَانْكِسَارِهِمْ وَخَرَابِ دِيَارِهِمُ (اللَّهُ أَكْبَرُ) : أَيْ: أَعَزُّ وَأَغْلَبُ (اللَّهُ أَكْبَرُ) : تَأْكِيدٌ، أَوِ الْمُرَادُ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى (خَرِبَتْ خَيْبَرُ) : خَبْرٌ، أَوْ دُعَاءٌ (إِنَّا) : أَيْ: مَعْشَرَ الْإِسْلَامِ، أَوْ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانَ الْمُوجِبِ خَرَابَ خَيْبَرَ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُ (أَكْبَرُ اللَّهُ) أَكْبَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ نُزُولَهُ بِسَاحَتِهِمْ بَعْدَمَا أُنْذِرُوا، ثُمَّ أَصْبَحَهُمْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: السَّاحَةُ الْفَضَاءُ وَأَصْلُهَا الْفَضَاءُ بَيْنَ الْمَنَازِلِ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177] : بِفَتْحِ الذَّالِ ; أَيِ: الْكُفَّارِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ أَوْ لِلْجِنْسِ ; أَيْ: بِئْسَ صَبَاحُهُمْ لِنُزُولِ عَذَابِ اللَّهِ بِالْقَتْلِ وَالْإِغَارَةِ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ - فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 176 - 177]

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فَإِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِفِنَائِهِمْ شَبَّهَهُ بِجَيْشٍ هَجَمَهُمْ فَأَنَاخَ بِفِنَائِهِمْ بَعَثَهُ، وَقِيلَ الرَّسُولُ وَقُرِئَ (نَزَلَ) عَلَى إِسْنَادِهِ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَنَزَلَ ; أَيِ: الْعَذَابُ فَبِئْسَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ صَبَاحُهُمْ، وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ وَالصَّبَاحُ مُسْتَعَارٌ مِنْ صَبَاحِ الْجَيْشِ الْمُبَيَّتِ لِوَقْتِ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَلَمَّا كَثُرَ فِيهِمُ الْهُجُومُ وَالْغَارَةُ فِي الصَّبَاحِ سَمَّوُا الْغَارَةَ صَبَاحًا وَإِنْ وَقَعَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ بِالْقُرْآنِ فِي الْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ، وَقَدْ جَاءَ لَهُ نَظَائِرُ؛ مِنْهَا عِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَطَعْنِ الْأَصْنَامِ. قَالَ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] قَالَ الْعُلَمَاءُ، وَيُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ وَلَغْوِ الْحَدِيثِ تَعْظِيمًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: بَلْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِكُفْرِ مِنْ وَضَعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مَوْضِعَ كَلَامِهِ بِأَنْ خَاطَبَ شَخْصًا مُسَمًّى بِيَحْيَى مُنَاوِلًا لَهُ بِكِتَابٍ. وَقَالَ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وَكَذَا وَضْعُ بِسْمِ اللَّهِ مَوْضِعَ كُلِّ ذَا دَخَلٍ وَنَحْوُهُمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَهُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِشْهَادِ بَلْ مِنْ بَابِ الِامْتِثَالِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: لَهُ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] وَكَذَا مَنْ قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وَنَحْوِهِ بَلْ يَسْتَحِبُّ لَهُ ذَلِكَ.

3932 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلِ الْقِتَالَ أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحَ وَتَحْضُرَ الصَّلَاةُ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3932 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بْنِ مُقَرِّنٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَبِالنُّونِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ رَوَى أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ عَلَى جَيْشِ نَهَاوَنْدَ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ فَتْحِهَا. ( «قَالَ: شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ، أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ» ) : جَمْعُ رِيحٍ ; لِأَنَّ أَصْلَهَا الْوَاوُ وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْيَاحٍ قَلِيلًا وَعَلَى رِيَاحٍ كَثِيرًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الرِّيحُ مَعْرُوفٌ جَمْعُهُ أَرْوَاحٌ وَأَرْيَاحٌ وَرِيَاحٌ وَرِيَحٌ كَعِنَبٍ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَرَاوِيحُ وَأَرَايِيحُ، وَالْمَعْنَى حَتَّى تَجِيءَ الرِّيَاحُ، وَمِنْهَا رِيحُ النَّصْرِ وَتَكْسِرَ حَرَارَةَ النَّهَارِ وَشَوْكَةَ الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ مَعْبُودَةُ الْكُفَّارِ، وَزَوَالَ تَعْلِيَتِهَا وَالْمَيْلَ إِلَى غَيْبُوبَتِهَا. (وَتَحْضُرَ الصَّلَاةُ) : أَيْ: فَتُؤَدَّى فِي وَقْتِهَا، وَهُوَ زَمَانُ عِبَادَةِ الْعَابِدِينَ وَدَعْوَةِ السَّاجِدِينَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3933 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3933 - (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: شَهِدْتُ) : أَيِ: الْقِتَالَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَكَانَ (إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ) : وَهُوَ بُكُورَةُ الْمُبَارَكِ عَلَى مَا وَرَدَ: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» ". (انْتَظَرَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ) : أَيْ: رِيحُ النَّصْرِ، أَوْ حُصُولُهُ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ صَلَاتِهِمْ لِلْمُجَاهِدِينَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3934 - وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَمْسَكَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَاتَلَ، فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ أَمْسَكَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ قَاتَلَ حَتَّى الْعَصْرِ، ثُمَّ أَمْسَكَ حَتَّى يُصَلَّى الْعَصْرُ، ثُمَّ يُقَاتِلُ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ: عِنْدَ ذَلِكَ تُهِيجُ رِيَاحُ النَّصْرِ، وَيَدْعُو الْمُؤْمِنُونَ لِجُيُوشِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3934 - (وَعَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ جَلِيلٌ (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا أَظْهَرَهُ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى وُجُودِ الْفَاءِ التَّفْصِيلِيَّةِ ; لِأَنَّ

قَوْلُهُ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشْتَمِلٌ مُجْمَلًا عَلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مُفَصَّلًا (إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَمْسَكَ) : أَيْ: عَنِ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) : أَيْ: وَيَفْرُغُ عَنْ أَدَاءِ صَلَاةِ الصُّبْحِ (فَإِذَا طَلَعَتْ قَاتَلَ، فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ) : أَيِ: الشَّرْعِيُّ وَهِيَ الضَّحْوَةُ الْكُبْرَى (أَمْسَكَ) : أَيْ: عَنِ الْقِتَالِ (حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ) ، أَوِ الْمُرَادُ بِالنَّهَارِ الْعُرْفِيِّ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ حَتَّى تَزُولَ وَيُصَلِّيَ الظُّهْرَ، (فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ) : أَيْ: وَصَلَّى (قَاتَلَ حَتَّى الْعَصْرِ) : أَيْ: إِلَى الْعَصْرِ (ثُمَّ أَمْسَكَ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ يُقَاتِلُ) : وَلَعَلَّ هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ هُوَ الْبَادِئُ لِلْقِتَالِ فَصَلَاةُ الْخَوْفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى غَلَبَةِ الْكُفَّارِ (قَالَ قَتَادَةُ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (كَانَ يُقَالُ) : أَيْ: يَقُولُ الصَّحَابَةُ فِي إِمْسَاكِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْقِتَالِ إِلَى الزَّوَالِ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَخْ. وَفِي نُسْخَةٍ يَقُولُ: أَيِ: النُّعْمَانُ (عِنْدَ ذَلِكَ) : أَيْ: عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ (تَهِيجُ) : أَيْ: تَجِيءُ (رِيَاحُ النَّصْرِ) : وَيَنْصُرُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نُصِرْتُ بِالصَّبَا» " (وَيَدْعُو الْمُؤْمِنُونَ لِجُيُوشِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ) : أَيْ: فِي أَوْقَاتِ صَلَاتِهِمْ بَعْدَ فَرَاغِهَا، أَوْ فِي أَثْنَائِهَا بِالْقُنُوتِ عِنْدَ النَّوَازِلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَهُ الْقِتَالَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ لِاشْتِغَالِهِمْ بِمَا فِيهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْتَ مُسْتَثْنًى مِنْهَا لِحُصُولِ النَّصْرِ فِيهَا لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَعَلَّ لِهَذَا السِّرَّ خُصَّ فِي الْحَدِيثِ هَذَا الْوَقْتُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ يُقَاتِلُ، وَفِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ قَاتَلَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ قِتَالَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَانَ أَشَدَّ وَتَحَرِّيَهِ فِيهِ أَكْمَلُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3935 - وَعَنْ عِصَامٍ الْمُزَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ، فَقَالَ: " إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا، أَوْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا فَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3935 - (وَعَنْ عِصَامٍ الْمُزَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَهُوَ قَلِيلُ الْحَدِيثِ، حَدِيثُهُ فِي الْجِهَادِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَلَمْ يَنْسُبَاهُ. (قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا، أَوْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا) : أَيْ: إِذَا حَقَّقْتُمْ عَلَامَةً فِعْلِيَّةً أَوْ قَوْلِيَّةً مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ (فَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا) : أَيْ: حَتَّى تُمَيِّزُوا الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3936 - عَنْ أَبِي وَائِلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ فَارِسَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى رُسْتَمَ وَمِهْرَانَ فِي مَلَأِ فَارِسَ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا نَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَإِنَّ مَعِيَ قَوْمًا يُحِبُّونَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا يُحِبُّ فَارِسُ الْخَمْرَ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3936 - (عَنْ أَبِي وَائِلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ شَقِيقُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ قَالَ: كُنْتُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ أَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِي بِالْبَادِيَةِ، رَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ خِصِّيصًا بِهِ مَنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ ثِقَةً ثَبْتًا حُجَّةً، مَاتَ زَمَنَ الْحَجَّاجِ. (قَالَ: كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ قُرَشِيٌّ مَخْزُومِيٌّ، وَأُمُّهُ لُبَابَةُ أُخْتُ مَيْمُونَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ أَحَدَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيْفَ اللَّهِ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ خَالَتِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلْقَمَةُ وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ. وَفِي الْإِصَابَةِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ قَالَ لَهُ فِي خَالِدٍ: " فَنِعْمَ عَبْدٌ

هَذَا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفٍ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ ". وَفِي رِوَايَةٍ: صَبَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ أَتَى بِسُمٍّ فَوَضَعَهُ فِي كَفِّهِ، ثُمَّ سَمَّى وَشَرِبَهُ فَلَمْ يَضُرَّهَ، وَأَنَّهُ رَأَى مَعَ رَجُلٍ زِقَّ خَمْرٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عَسَلًا فَصَارَ عَسَلًا. (إِلَى أَهْلِ فَارِسَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ ; أَيْ: إِلَى سَلَاطِينِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى رُسْتَمَ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعِلْمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ (وَمِهْرَانَ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيُفْتَحُ (فِي مَلَأِ فَارِسَ) : حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورَيْنِ ; أَيْ: كَائِنِينَ فِي زُمْرَةِ أَكَابِرِ فَارِسَ، وَالْمَلَأُ أَشْرَافُ النَّاسِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَمُقَدَّمُوهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِمْ (سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا) : أَيْ: مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (نَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ ; أَيْ: عَنْ يَدٍ مُؤَاتِيَةٍ بِمَعْنَى مُنْقَادِينَ، أَوْ عَنْ يَدِكُمْ بِمَعْنَى مُسَلِّمِينَ بِأَيْدِيكُمْ غَيْرَ بَاعِثِينَ بِأَيْدِي غَيْرِكُمْ، أَوْ عَنْ غِنًى فَلِذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ مِنَ الْفَقِيرِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْجِزْيَةِ بِمَعْنَى نَقْدًا مُسَلَّمَةً عَنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ، أَوْ عَنْ إِنْعَامٍ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ إِبْقَاءَكُمْ بِالْجِزْيَةِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ (وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ) : حَالٌ ثَانٍ مِنَ الضَّمِيرِ ; أَيْ: ذَلِيلُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الذِّمِّيِّ وَيُوجَأُ عُنُقِهِ كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ، وَفِي كَلَامِ خَالِدٍ اقْتِبَاسٌ مِنَ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَتَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لَهَا، فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ تَرْكَهُ لِكَمَالِ الْوُضُوحِ وَغَايَةِ الظُّهُورِ (فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَإِنَّ مَعِيَ قَوْمًا يُحِبُّونَ الْقَتْلَ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ; أَيْ: كَوْنَهُمْ مَقْتُولِينَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا يُحِبُّ) : بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (فَارِسُ) : أَيْ: أَهْلُهُ (الْخَمْرَ) : أَيْ: مَعَ كَوْنِهَا مُرًّا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ الْفَانِيَةِ، فَكَذَا الْقَتْلُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فِي نَظَرِ الطَّبْعِ، إِلَّا أَنَّهُ مَطْبُوعٌ حُبُّهُ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الشَّرْعِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْبَاقِيَةِ، فَظَهَرَ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَضَعَ قَوْلَهُ فَإِنَّ مَعِيَ قَوْمًا مَوْضِعَ فَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ، وَشَبَّهَ مَحَبَّتَهُمْ بِالْمَوْتِ وَلِقَاءَ الْعَدُوِّ بِمَحَبَّتِهِمُ الْخَمْرَ ; إِيذَانًا بِشَجَاعَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مِنْ رِجَالِ الْحَرْبِ: فوَارِسُ لَا يَمَلُّونَ الْمَنَايَا إِذَا دَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ الزَّبُونِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْهَا فِي شَيْءٍ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ مُشْتَغِلُونَ بِاللَّهْوِ وَالطَّرَبِ كَالْمُخَدِّرَاتِ. فَخَرْتَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَكَ مَأْكُولًا وَلُبْسًا وَذَلِكَ فَخْرُ رَبَّاتِ الْحُجُولِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ الشَّجَاعَةَ سَجِيَّةٌ لَهُمْ حَتَّى يُحِبُّوا الْقَتْلَ بِمَغَبَّتِهِ كَمَا يُحِبُّ فَارِسُ الْخَمْرَ ; لِأَنَّهَا تَحْمِلُهُمْ عَلَى الْحَرَارَةِ وَتُقَوِّيهِمْ عَلَى الشَّجَاعَةِ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِأَنَّ شَجَاعَتَهُمْ عَارِضَةٌ وَلَيْسَتْ خُلُقِيَّةً. (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) : فَكَانَ السَّلَامُ الْأَوَّلُ مُبَادَأَةً، وَالثَّانِي مُوَادَعَةً، أَوْ مُرَادُهُ أَنَّ السَّلَامَ أَوَّلًا وَآخِرًا عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى بَاطِنًا وَظَاهِرًا (رَوَاهُ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : كِتَابٌ مَشْهُورٌ لَهُ بِأَسَانِيدِهِ.

[باب القتال في الجهاد]

[بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3937 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ يَوْمَ أُحُدٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ، فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ " فِي الْجَنَّةِ " فَأَلْقَى فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [4] بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ أَيْ: فِي حَثِّ الْقِتَالِ وَتَرْغِيبِهِ وَثَوَابِهِ فِي الْمُجَاهَدَةِ مَعَ الْكُفَّارِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3937 - (عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ: أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبِرْنِي (إِنْ قُتِلْتُ) : أَيْ: شَهِيدًا (فَأَيْنَ أَنَا؟) : أَيْ: فَأَيْنَ أَكُونُ أَنَا فِي الْجَنَّةِ أَمْ فِي النَّارِ؟ (قَالَ: فِي الْجَنَّةِ فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ) : أَيْ: مُبَادَرَةً إِلَى الشَّهَادَةِ وَسَعَادَةً بِدُخُولِ الْجَنَّةِ (ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ) : وَلَيْسَ هَذَا عُمَيْرَ بْنَ الْحُمَامِ عَلَى مَا سَبَقَ فَإِنَّهُ قُتِلَ فِي بَدْرٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3938 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ يَعْنِي غَزْوَةَ تَبُوكَ - غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ، لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3938 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) : أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَزْرَجِيِّ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا غَيْرَ تَبُوكَ، وَكَانَ أَحَدَ شُعَرَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَالْآخَرَانِ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً بَعْدَ أَنْ عَمِيَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا» ) : فِي النِّهَايَةِ: وَرَّى بِغَيْرِهِ ; أَيْ سَتَرَهُ وَكَنَى عَنْهُ، وَأَوْهَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَرَاءِ ; أَيْ: أَلْقَى الْبَيَانَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: سَتَرَهَا بِغَيْرِهَا، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَزْمِ وَإِغْفَالِ الْعَدُوِّ، وَالْأَمْنِ مِنْ جَاسُوسٍ يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ فَيُخْبِرُ بِهِ الْعَدُوَّ، وَتَوْرِيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ تَعْرِيضًا بِأَنْ يُرِيدَ مَثَلًا غَزْوَةَ مَكَّةَ، فَيَسْأَلُ النَّاسُ عَنْ حَالِ خَيْبَرَ وَكَيْفِيَّةِ طُرُقِهَا لَا تَصْرِيحًا بِأَنْ يَقُولَ: إِنِّي أُرِيدُ غَزْوَةَ أَهْلِ الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ، وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُمْ ; لِأَنَّ هَذَا كَذِبٌ غَيْرُ جَائِزٍ. (حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ) : أَيْ: غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ (يَعْنِي) : أَيْ: يُرِيدُ كَعْبٌ بِتِلْكَ الْغَزْوَةِ (غَزْوَةَ تَبُوكَ) : وَهُوَ مَوْضِعٌ قُرَيْبَ الشَّامِ (غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَرٍّ شَدِيدٍ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِلْعِلَّةِ (وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا) : أَيْ: بَرِّيَّةً قَفْرًا (وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ: فَأَظْهَرَ (لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ، لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ; أَيْ: لِيَتَهَيَّئُوا عِدَّةَ قِتَالِهِمْ (فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ) : أَيْ: صَرِيحًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: الْحَدِيثُ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ لَكِنَّ اللَّفْظَ لِلْبُخَارِيِّ.

3939 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3939 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ أَصَحُّ، وَبِضَمِّهَا أَشْهَرُ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: الْحَرْبُ خَدْعَةٌ مُثَلَّثَةٌ وَكَهُمَزَةٍ، وَرُوِيَ بِهِنَّ جَمِيعًا ; أَيْ: يَنْقَضِي بِخَدْعَةٍ، وَفِي مُخْتَصِرِ النِّهَايَةِ لِلسُّيُوطِيِّ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا مَعَ سُكُونِ الدَّالِ وَبِضَمِّهَا مَعَ فَتْحِ الدَّالِ، فَالْأَوَّلُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَرْبَ يَنْقَضِي أَمْرُهَا بِخَدْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخِدَاعِ ; أَيْ: أَنَّ الْمُقَاتِلَ إِذَا خُدِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا إِقَالَةٌ، وَهُوَ أَفْصَحُ الرِّوَايَاتِ وَأَصَحُّهَا، وَمَعْنَى الثَّانِي هُوَ الِاسْمُ مِنَ الْخِدَاعِ، وَمَعْنَى الثَّالِثِ أَنَّ الْحَرْبَ تَخْدَعُ الرِّجَالَ وَتُمَنِّيهِمْ وَلَا تَفِي لَهُمْ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ لِعْبَةٌ وَضِحْكَةٌ الَّذِي يَكْثُرُ مِنْهُ اللَّعِبُ وَالضَّحِكُ، وَفِي الْمَشَارِقِ لِعِيَاضٍ قَوْلُهُ: الْحَرْبُ خَدْعَةٌ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَكْثَرِ الرُّوَاةِ لِلصَّحِيحَيْنِ، وَضَبَطَهَا الْأَصِيلِيُّ خُدْعَةٌ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لُغَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَدْعَةٌ الْفَتْحُ، وَبِهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى يُونُسُ فِيهَا الْوَجْهَيْنِ، وَوَجْهًا ثَالِثًا بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ، وَلُغَةٌ رَابِعَةٌ خَدَعَةٌ بِفَتْحِهِمَا، فَالْخَدَعَةُ بِمَعْنَى أَنَّ أَمْرَهَا يَنْقَضِي بِخَدْعَةٍ وَاحِدَةٍ يُخْدَعُهَا الْمَخْدُوعُ فَتَزِلُّ قَدَمُهُ، وَلَا يَجِدُ لَهَا تَلَافِيًا وَلَا إِقَالَةً، فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ ضَمَّ الْخَاءَ وَفَتَحَ الدَّالَ نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَيْهَا ; أَيْ: تَخْدَعُ هِيَ مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا، أَوْ أَنَّ أَهْلَهَا يُخْدَعُونَ فِيهَا، وَمَنْ فَتَحَهَا جَمِيعًا كَانَ جَمْعَ خَادِعٍ يَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا تَطْمَئِنَّ إِلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ الْحَرْبِ خَدَعَةٌ، وَأَصْلُ الْخَدَعُ إِظْهَارُ أَمْرٍ وَإِضْمَارُ خِلَافِهِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ ; أَيْ: إِنَّهَا خَدْعَةٌ وَاحِدَةٌ مَنْ تَيَسَّرَتْ لَهُ حُقُّ لَهُ الظَّفَرُ وَبِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ ; أَيْ: مُعْظَمُ ذَلِكَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، وَبِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ ; أَيْ: إِنَّهَا خَدَّاعَةٌ لِلْإِنْسَانِ بِمَا تُخَيِّلُ إِلَيْهِ وَتُمَنِّيهِ، ثُمَّ إِذَا لَابَسَهَا وَجَدَ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا خُيِّلَ إِلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَفْصَحُ اللُّغَاتِ فِيهَا فَتْحُ الْخَاءِ وَإِسْكَانُ الدَّالِ وَهِيَ لُغَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْخِدَاعِ مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ كَيْفَ اتَّفَقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ، أَوْ أَمَانٍ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا يَجُوزُ مِنَ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ الْمَعَارِيضُ، وَحَقِيقَتُهُ لَا تَجُوزُ، وَالظَّاهِرُ إِبَاحَةُ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ، لَكِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى التَّعْرِيضِ أَفْضَلُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ، وَكَذَا الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَا أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَائِشَةَ، وَالْبَزَّارُ عَنِ الْحُسَيْنِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَكَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَكَادَ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا لِكَثْرَةِ الصَّحَابَةِ الْمُخَرَّجِينَ وَأَسَانِيدِهِمْ.

3940 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ، وَنِسْوَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مَعَهُ، إِذَا غَزَا يَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3940 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُو) : أَيْ: يُسَافِرُ لِلْغَزْوِ مُصَاحِبًا (بِأُمِّ سُلَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ ; أَيْ: أُمِّ أَنَسٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهِيَ بِنْتُ مِلْحَانَ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَفِي اسْمِهَا خِلَافٌ تَزَوَّجَهَا مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ أَبُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَنَسًا، ثُمَّ قُتِلَ عَنْهَا مُشْرِكًا وَأَسْلَمَتْ، فَخَطْبَهَا أَبُو طَلْحَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَأَبَتْ وَدَعَتْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَزَوَّجُكَ وَلَا آخُذُ مِنْكَ صَدَاقًا لِإِسْلَامِكَ، فَتَزَوَّجَهَا أَبُو طَلْحَةَ، رَوَى عَنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. (وَنِسْوَةٍ) : بِالْجَرِّ ; أَيْ: وَبِجَمَاعَةٍ مِنَ النِّسَاءِ (مِنَ الْأَنْصَارِ مَعَهُ) : تَأْكِيدٌ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ رُوِيَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مَعَهُ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ ; لِأَنَّ الْبَاءَ فِي بِأُمِّ سُلَيْمٍ بِمَعْنَاهُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَعَهُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (إِذَا غَزَا) : أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ (يَسْقِينَ) : بِفَتْحٍ أَوَّلَهُ وَضَمَّهُ ; أَيِ: النِّسَاءُ يَسْقِينَ (الْمَاءَ) : لِلْغُزَاةِ (وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى) : أَيِ: الْمَجْرُوحِينَ مِنْهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ فَيَسْقِينَ فَإِذَا ظَرْفِيَّةٌ لِلْمَعِيَّةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ شَرْطِيَّةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ الْمُدَاوَاةُ لِمَحَارِمِهِنَّ وَأَزْوَاجِهِنَّ وَمَا كَانَ مِنْهَا لِغَيْرِهِمْ لَا يَكُونُ فِيهِ مَسُّ بَشَرَةٍ إِلَّا مَوْضِعَ الْحَاجَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْأَوْلَى فِي إِخْرَاجِ النِّسَاءِ الْعَجَائِزِ لِلْمُدَاوَاةِ وَالسَّقْيِ، وَلَوِ احْتِيجَ إِلَى الْمُبَاضَعَةِ فَالْأَوْلَى إِخْرَاجُ الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ، وَلَا يُبَاشِرْنَ الْقِتَالَ ; لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ قَاتَلَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: لَمُقَامُهَا خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ يَعْنِي بَعْضَ الْمُنْهَزِمِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3941 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ، وَأُدَاوِي الْجَرْحَى، وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3941 - (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ نُسَيْبَةُ - بِالتَّصْغِيرِ - بِنْتُ كَعْبٍ، وَقِيلَ: بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيَّةُ بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَتْ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَخْلُفُهُمْ) : بِضَمِّ اللَّامِ ; أَيْ: أَقُومُ مُقَامَ الْغُزَاةِ (فِي رِحَالِهِمْ) : أَيْ: مَنَازِلِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ أَنْ أَصْنَعَ لَهُمُ الطَّعَامَ، وَأُدَاوِيَ الْجَرْحَى، وَأَقُومَ عَلَى الْمَرْضَى) : أَيْ عَلَى مُؤْنَةِ خِدْمَتِهِمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3942 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3942 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ السِّتَّةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ مَقْتُولَةً فَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. قَالَ: وَمَا أَظُنُّ إِلَّا أَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِجْمَاعٌ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ أَوْصَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الشَّامِ فَقَالَ لَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا النِّسَاءَ وَلَا الشُّيُوخَ الْحَدِيثَ. قَالَ: لَكِنْ يَقْتُلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْ كُلِّ مَنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالشُّيُوخِ وَالرُّهْبَانِ، إِلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ يُقْتَلَانِ فِي حَالِ قِتَالِهِمَا، أَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ النِّسَاءِ وَالرُّهْبَانِ وَنَحْوِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إِذَا قَاتَلُوا بَعْدَ الْأَسْرِ، وَالْمَرْأَةُ الْمَلِكَةُ تُقْتَلُ وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلْ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْمَلِكُ وَالْمَعْتُوهُ الْمَلِكُ ; لِأَنَّ فِي قَتْلِ الْمَلِكِ كَسْرَ شَوْكَتِهِمْ.

3943 - وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَهْلِ الدِّيَارِ يَبِيتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيُصَابَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، قَالَ: " هُمْ مِنْهُمْ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3943 - (وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ) : بِتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ لَيْثِيٌّ كَانَ يَنْزِلُ وَدَّانَ وَالْأَبْوَاءَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، حَدِيثُهُ فِي الْحِجَازِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَهْلِ الدِّيَارِ) : وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الدِّيَارِ كُلُّ قَبِيلَةٍ اجْتَمَعَتْ فِي مَحَلَّةٍ بِاعْتِبَارٍ أَنَّهَا تَجْمَعُهَا وَتَدُورُ حَوْلَهُمْ (يَبِيتُونَ) : هُوَ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ حَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ، وَقَوْلُهُ: (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : حَالٌ أُخْرَى وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ يُصَابُونَ لَيْلًا وَتَبْيِيتُ الْعَدُوُّ هُوَ أَنْ يَقْصِدَ

بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ، فَيُؤْخَذَ بَغْتَةً وَهُوَ الْبَيَاتُ (فَيُصَابَ) : أَيْ بِالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ (مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الذَّرَارِيُّ بِالتَّشْدِيدِ أَفْصَحُ وَهِيَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ اهـ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَطْفَالُ وَالْوِلْدَانُ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ (قَالَ: هُمْ مِنْهُمْ) : أَيِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ مِنَ الرِّجَالِ يَعْنِي أَنَّهُمْ فِي حُكْمِهِمْ إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزُوا، فَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْخِيصِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي لَفْظٍ هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ فَيَجِبُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ حَمْلُهُ عَلَى مَوْرِدِ السُّؤَالُ وَهُمُ الْمُبَيِّتُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ فِيهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ إِلَى الصِّغَارِ بِأَنْفُسِهِمْ ; لِأَنَّ التَّبْيِيتَ يَكُونُ مَعَهُ ذَلِكَ، وَالتَّبْيِيتُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِنَا بَالْكَبْسِيَّةِ وَمَا الظَّنُّ إِلَّا أَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِجْمَاعٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ اسْتِرْقَاقُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. قَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِهِ تَجْوِيزَ سَبْيِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ كَمَا لَوْ أَتَوْا أَهْلَهَا نَهَارًا وَحَارَبُوهُمْ جِهَارًا، أَوْ أَنَّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَتَوَجَّهُ إِلَى قَتْلِهِ فَهَدْرٌ لَا حَرَجَ فِي قَتْلِهِ ; لِأَنَّهُمْ ; أَيْضًا كُفَّارٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْ قَتْلِهِمْ حَيْثُ يَتَيَسَّرُ، وَلِذَلِكَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ لَمْ يُبَالَ بِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَسِيرٌ مُسْلِمٌ، أَوْ تَاجِرٌ، بَلْ وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ، سَوَاءٌ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَفُّوا عَنْ رَمْيِهِمُ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقْصَدُ رَمْيُهُمْ فِي صُورَةِ التَّتَرُّسِ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْكَفِّ عَنْ رَمْيِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ انْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، فَإِنْ رُمُوا وَأُصِيبَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ. وَالْأَدِلَّةُ مَبْسُوطَةٌ فِي شَرْحِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِيهَا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًا لَا يَحِلُّ قَتْلُ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ ذَلِكَ الْمُسْلِمَ، أَوِ الذِّمِّيَّ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ أُخْرِجَ وَاحِدٌ مِنْ عَرْضِ النَّاسِ حَلَّ إِذَا قُتِلَ الْبَاقِي لِجَوَازِ كَوْنِ الْمُخْرَجِ هُوَ ذَاكَ، فَصَارَ فِي كَوْنِ الْمُسْلِمِ فِي الْبَاقِينَ شَكٌّ بِخِلَافِ الْحَالَةِ الْأُولَى فَإِنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ فِيهِمْ مَعْلُومٌ بِالْيَقِينِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَّا شُيُوخُ الْكُفَّارِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ رَأْيٌ قُتِلُوا، وَإِلَّا فَفِيهِمْ وَفِي الرُّهْبَانِ خِلَافٌ. قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُونَ، وَالْأَصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَتْلُهُمْ، وَفِيهِ أَنَّ أَوْلَادَ الْكُفَّارِ حُكْمُهُمْ فِي الدُّنْيَا كَحُكْمِ آبَائِهِمْ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَفِيهِمْ إِذَا مَاتُوا قَبْلَ الْبُلُوغِ ثَلَاثُ مَذَاهِبَ. الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَالثَّانِي فِي النَّارِ، وَالثَّالِثُ لَا يُجْزَمْ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ. (وَفِي رِوَايَةٍ: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3944 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ: وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3944 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ» ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ ; أَيْ أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِلِيهِمْ وَتَحْرِيقِهَا، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ كَالْمَوَاهِبِ، وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَشْرِ كَالْبَغَوِيِّ (وَلَهَا) : أَيْ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ، أَوِ الْحَادِثَةِ، أَوْ لِهَذِهِ النَّخْلَةِ (يَقُولُ حَسَّانُ) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ وَعَدَمُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُسْنِ، أَوِ الْحِسِّ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَهُوَ ابْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ ابْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ، شَاعِرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، صَحَابِيٌّ مُخَضْرَمٌ، عَاشَ هُوَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ وَجَدُّ أَبِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مُجْتَمِعًا لِغَيْرِهِمْ. كَذَا فِي حَاشِيَةِ الْقَامُوسِ (وَهَانَ) : أَيْ سَهُلَ (عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ) : بِفَتْحِ السِّينِ جَمْعِ سَرَى، وَبَنُو لُؤَيٍّ بِضَمِّ اللَّامِ وَهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ وَيُبْدَلُ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ ; أَيْ: أَشْرَافُ قُرَيْشٍ وَرُؤَسَاؤُهُمْ (حَرِيقٌ) : أَيُّ مَحْرُوقٌ فَاعِلُ هَانَ (بِالْبُوَيْرَةِ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مَوْضِعُ نَخْلٍ لِبَنِي النَّضِيرِ (مُسْتَطِيرٌ) : صِفَةٌ لِحَرِيقٍ ; أَيْ مُنْتَشِرٌ. (وَفِي ذَلِكَ) : أَيْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْقَطْعِ وَالتَّحْرِيقِ (نَزَلَتْ) : أَيْ هَذِهِ الْآيَةُ {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] : أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ قَطَعْتُمْ مِنْ نَخْلَةٍ {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} [الحشر: 5] : الضَّمِيرُ لِمَا وَتَأْنِيثُهُ ; لِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ بِاللَّيِّنَةِ {قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} [الحشر: 5] ; أَيْ لَمْ تَقْطَعُوهَا {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] : أَيْ فَبِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ الْمُقْتَضِي لِلْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَمَامُ الْآيَةِ: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] أَيْ وَفَعَلْتُمْ، أَوْ أَذِنَ لَكُمْ فِي الْقَطْعِ بِهِمْ لِيَجْزِيَهُمْ عَلَى فِسْقِهِمْ بِمَا ظَنَّهُمْ فِيهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلِهِمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا؟ فَنَزَلَتْ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ هَدْمِ دِيَارِ الْكُفَّارِ وَقَطْعِ أَشْجَارِهِمْ زِيَادَةً لِغَيْظِهِمْ ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اللِّينَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ هِيَ أَنْوَاعُ التَّمْرِ كُلُّهَا إِلَّا الْعَجْوَةَ،

وَقِيلَ: كِرَامَ النَّخْلِ، وَقِيلَ: كُلَّ النَّخْلِ، وَقِيلَ: كُلَّ الْأَشْجَارِ، وَقِيلَ إِنَّ أَنْوَاعَ نَخْلِ الْمَدِينَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ نَوْعًا، وَفِيهِ جَوَازُ قَطْعِ شَجَرِ الْكُفَّارِ وَإِحْرَاقِهِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَجُوزُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَبْتُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَكَسْرُ شَوْكَتِهِمْ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ ذَلِكَ، فَيَفْعَلُونَ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنَ التَّحْرِيقِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ، وَإِفْسَادِ الزَّرْعِ لَكِنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ وَأَنَّ الْفَتْحَ بَادٍ كُرِهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ إِفْسَادٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ وَمَا أُبِيحَ إِلَّا لَهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ.

3945 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ: أَنَّ نَافِعًا كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ غَارِّينِ فِي نَعَمِهِمْ بِالْمُرَيْسِيعِ فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3945 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ) : بِالنُّونِ فِي آخِرِهِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ نَافِعًا) : أَيْ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (يَهَبُ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى ابْنِ عَوْنٍ (يُخْبِرُهُ) : أَيْ نَافِعٌ (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ) : أَيْ نَافِعًا (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَقَافٍ بَطْنٌ مِنْ خُزَاعَةَ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ (غَارِّينَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ ; أَيْ غَافِلِينَ حَالٌ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ (فِي نَعَمِهِمْ) : بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ: كَائِنِينَ فِي مَوَاشِيهِمْ (بِالْمُرَيْسِيعِ) : بِالتَّصْغِيرِ اسْمُ مَاءٍ لِبَنِي الْمُصْطَلِقِ بِالْعَصَبِ، وَهُوَ مِنْ نَوَاحِي قَدِيدٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (فَقَتَلَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْمُقَاتِلَةَ) : بِكَسْرِ التَّاءِ جَمْعُ مُقَاتِلٍ وَالتَّاءُ بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُقَاتِلَةَ صِيغَةُ الْوَاحِدَةِ أُطْلِقَ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا مَنْ يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ وَهُوَ الرَّجُلُ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ (وَسَبَى) : أَيِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (الذُّرِّيَّةَ) : أَيِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ جَوَازُ قَتْلِ الْكُفَّارِ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ غَافِلِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، «عَنِ ابْنِ عَوْنٍ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ قَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ.»

3946 - وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَنَا يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: " إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَارْمُوهُمْ وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَحَدِيثُ سَعْدٍ: " هَلْ تُنْصَرُونَ "، سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ " فَضْلِ الْفُقَرَاءِ ". وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهْطًا فِي بَابِ " الْمُعْجِزَاتِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3946 - (وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرَّاوِي هُوَ أَبُو أُسَيْدٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ الْهَمْزَةَ وَكَسَرَ السِّينَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو أُسَيْدٍ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ الْأَنْصَارِيُّ السَّاعِدِيُّ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ، وَأُسِيدٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ اهـ. وَزَادَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَنَا يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ) : أَيْ لِقِتَالِهِمْ (وَصَفُّوا لَنَا: إِذَا أَكْثَبُوكُمْ) : بِالْهَمْزِ ; أَيْ قَارَبُوكُمْ بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَيْهِمْ سِهَامُكُمْ (عَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ; أَيْ بِالسَّهْمِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِطَوِيلٍ كَالنُّشَّابِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا كَثَبُوكُمْ) : وَالْكَثَبُ: الْقُرْبُ وَالْهَمْزَةُ فِي أَكْثَبُوكُمْ لِلتَّعْدِيَةِ فَذَلِكَ عَدَّاهَا إِلَى ضَمِيرِ " كُمْ " وَفِي الْقَامُوسِ الْكَثَبُ بِالتَّحْرِيكِ الْقُرْبُ وَكَثَبَ عَلَيْهِ حَمَلَ وَكَثَبَهُ دَنَا مِنْهُ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ لِلْبُخَارِيِّ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ (إِذَا أَكْثَبُوكُمْ) : بِالْهَمْزِ (فَارْمُوهُمْ) : وَالْمَعْنَى: لَا تَسْتَعْجِلُوا فِي الرَّمْيِ وَلَا تَرْمُوهُمْ مِنْ بُعْدٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ (وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ) : بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فِيهِمَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْبَقَاءِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] فَإِنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ السَّبْقِ وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ لَا تَرْمُوا كُلَّهَا فَإِنَّكُمْ إِنْ رَمَيْتُمُوهَا بَقِيتُمْ بِلَا نِبَالٍ اهـ. وَالْمَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . (وَحَدِيثُ سَعْدٍ) : أَيْ هُنَا (هَلْ تُنْصَرُونَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَآخِرُهُ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ (سَنَذْكُرُهُ) : أَيْ نَحْنُ (فِي بَابِ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ) : يَعْنِي أَنَّهُ بِهِ أَنْسَبُ. (وَحَدِيثَ الْبَرَاءِ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهْطًا فِي بَابِ الْمُعْجِزَاتِ) : أَيْ سَنَذْكُرُهُ فِيهِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 3947 - عَنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «عَبَّأَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَدْرٍ لَيْلًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3947 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ وَمَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: عَبَّأَنَا) : بِالْأَلِفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْهَمْزَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ، يُقَالُ: عَبَّأْتُ الْجَيْشَ وَعَبَّيْتُهُمْ تَعْبِيَةً وَتَعْبِئَةً ; أَيْ هَيَّأْتُهُمْ فِي مَوَاضِعِهِمْ، وَأَلْبَسَتْهُمُ السِّلَاحَ ; أَيْ رَتَّبَنَا وَهَيَّأَنَا لِلْحَرْبِ (النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَدْرٍ لَيْلًا) : يَعْنِي سَوَّى الصُّفُوفَ، وَأَقَامَ كُلًّا مِنَّا مَقَامًا يَصْلُحُ لَهُ فِي اللَّيْلِ، لِيَكُونَ عَلَى طِبْقِهِ وَوَفْقِهِ فِي النَّهَارِ، هَذَا وَفِي الْقَامُوسِ: عَبَأَ الْمَتَاعَ وَالْأَمْرَ كَمَنَعَ هَيَّأَهُ، وَالْجَيْشَ جَهَّزَهُ كَعَبَّاهُ تَعْبِئَةً فِيهِمَا هَذَا فِي الْمَهْمُوزِ، وَأَمَّا فِي الْمُعْتَلِّ فَقَالَ: تَعْبِيَةُ الْجَيْشِ تَهْيِئَتُهُ فِي مَوَاضِعِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَادَّةَ الثَّانِيَةَ هِيَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

3948 - وَعَنِ الْمُهَلَّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنْ بَيَّتَكُمُ الْعَدُوُّ فَلْيَكُنْ شِعَارُكُمْ حم لَا يُنْصَرُونَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3948 - (وَعَنِ الْمُهَلَّبِ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ الْأَزْدِيُّ، صَاحِبُ الْمَقَامَاتِ الْمَأْثُورَةِ وَالْحُرُوبِ الْمَشْهُورَةِ مَعَ الْخَوَارِجِ، سَمِعَ سَمُرَةَ وَابْنَ عُمَرَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ بِمَرْوِ الرُّوذِ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهُوَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِيِّ الْبَصْرَةِ اهـ. فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ فَكَانَ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) : أَيْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (إِنْ بَيَّتَكُمُ الْعَدُوُّ: بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ ; أَيْ: إِنْ قَصَدَكُمْ بِالْقَتْلِ لَيْلًا وَاخْتَلَطْتُمْ مَعَهُمْ (فَلْيَكُنْ شِعَارُكُمْ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَيُفْتَحُ فَفِي الْقَامُوسِ: الشِّعَارُ كَكِتَابٍ عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا فِي الْحُرُوبِ، وَيُفْتَحُ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، وَفِي نُسْخَةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: (حم) : بِالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ (لَا يُنْصَرُونَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ دُعَاءٌ، أَوْ إِخْبَارٌ قَالَ الْقَاضِي: أَيْ عَلَامَتُكُمُ الَّتِي تَعْرِفُونَ بِهَا أَصْحَابَكُمْ هَذَا الْكَلَامَ، وَالشِّعَارُ فِي الْأَصْلِ الْعَلَامَةُ الَّتِي تُنْصَبُ لِيَعْرِفَ بِهَا الرَّجُلُ رُفْقَتَهُ، وَحم لَا يُنْصَرُونَ مَعْنَاهُ بِفَضْلِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحم وَمَنْزِلَتِهَا مِنَ اللَّهِ لَا يُنْصَرُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَوَامِيمَ السَّبْعَ سُوَرٌ لَهَا شَأْنٌ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا وَقَعْتَ فِي آلِـ " حم " وَقَعْتَ فِي رِيَاضَاتِ دَفَعَاتٍ، فَنَبَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ ذِكْرَهَا لِعِظَمِ شَأْنِهَا، وَشَرَفِ مَنْزِلَتِهَا عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا يَسْتَظْهِرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِنْزَالِ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَالْخِذْلَانِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا حم، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ. وَقَالَ: لَا يُنْصَرُونَ جَوَابًا لِسَائِلٍ عَسَى أَنْ يَقُولَ: مَاذَا يَكُونُ إِذَا قُلْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ؟ فَقَالَ: لَا يُنْصَرُونَ، وَقِيلَ: حم مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمَعْنَى اللَّهُمَّ لَا يُنْصَرُونَ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ حم لَمْ يَثْبُتْ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ مُفْصِحَةٌ عَنْ ثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ، وَحم لَيْسَ إِلَّا اسْمَيْ حَرْفَيْنِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَا مَعَنًى تَحْتَهُ يَصْلُحُ ; لِأَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْقَائِلِ أَنَّ حم مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّ حُرُوفَهَا دَالَّةٌ عَلَى أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ كَالْحَمِيدِ وَالْحَيِّ وَالْمَلِكِ وَالْمُقْتَدِرِ وَالْمُنْتَقِمِ وَأَمْثَالِهِمَا، مِمَّا كُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ يُفْتَتَحُ بِهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا ذُكِرَ ذَلِكَ الْحَرْفُ، فَكَأَنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ الِاسْمُ، هَذَا وَفِي الْمَعَالِمِ قَالَ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حم اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: الْحَاءُ افْتِتَاحُ أَسْمَائِهِ: حَلِيمٍ، حَمِيدٍ، حَيٍّ، حَكِيمٍ، حَنَّانٍ. وَالْمِيمُ افْتِتَاحٌ أَسْمَائِهِ: مَلِكٍ، مَجِيدٍ، مَنَّانٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ كَأَنَّهُمَا أَشَارَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ حم بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ اهـ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمًا كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ لَأُعْرِبَ كَمَا أَعْرَبَهُ الشَّاعِرُ حَيْثُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلسُّورَةِ فَقَالَ: يَذْكُرُ لِي حم وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلَّا تَلَا حاميم قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَمَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعِلْمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الشَّاعِرَ إِنَّمَا أَعْرَبَهُ لِضَرُورَةِ إِقَامَةِ الْوَزْنِ، مَعَ أَنَّهُ قُرِئَ حم فِي الْقُرْآنِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا عَلَى الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ اقْرَأْ، وَمَنْعُ صَرْفِهِ لِلتَّرْكِيبِ، أَوْ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ، أَوْ ; لِأَنَّهَا عَلَى زِنَةِ أَعْجَمِيٍّ كَقَابِيلَ وَهَابِيلَ. قَالَ: وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنْ صَحَّ عَنْهُ تَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ

بِحاميم مُنْزِلَ حاميم، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامُهُ وَأَجْرَى عَلَى الْحِكَايَةِ صَارَ حم كَالْمُطْلَقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ فَعُدَّ مِنْ أَسْمَائِهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ اهـ. وَتَصْرِيحُهُ بِأَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ يَأَبَى عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ كَيْسَانَ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى عَنْهُ فَقَالَ: مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ لَكَانَ لَا يُنْصَرُونَ مَجْزُومًا كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يُنْصَرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْ وَقُوعِهِ كَمَا تَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ وَيَهْدِيكَ وَنَحْوَهُ، لَكِنَّ فِي مَعْنَى النَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة: 83] الْكَشَّافَ: لَا تَعْبُدُونَ إِخْبَارٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ النَّهْيِ ; لِأَنَّهُ كَانَ سُورِعَ إِلَى الِانْتِهَاءِ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ أَنَّ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ " يَا خَيْلَ اللَّهِ " فَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ شِعَارُ حم لَا يُنْصَرُونَ مُخْتَصًّا بِالْأَنْصَارِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .

3949 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ: عَبْدَ اللَّهِ، وَشِعَارُ الْأَنْصَارِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3949 - (وَعَنْ سَمُرَةَ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (بْنِ جُنْدَبٍ) : بِضَمِّهِمَا وَبِفَتْحِ الدَّالِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ: عَبْدَ اللَّهِ، وَشِعَارُ الْأَنْصَارِ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ) : وَفِي شِعَارَيْهِمَا إِشْعَارٌ بِتَفَاوُتِ مَنْزِلَتِهِمَا وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3950 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّتْنَاهُمْ نَقْتُلُهُمْ، وَكَانَ شِعَارُنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ: أَمِتْ أَمِتْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3950 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ) : وَلَيْسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْأَصْلِ (فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّتْنَاهُمْ نَقْتُلُهُمْ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، أَوْ حَالٌ (وَكَانَ شِعَارُنَا) : بِالرَّفْعِ لَا غَيْرَ (تِلْكَ اللَّيْلَةَ: أَمِتْ أَمِتِ) : التَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَانَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ، قِيلَ: الْمُخَاطَبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ الْمُمِيتُ، فَالْمَعْنَى يَا نَاصِرَ أَمِتِ الْعَدُوَّ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ فَالْمُخَاطِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3951 - وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3951 - (وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ) : بِضَمِّ مُهْمِلَةٍ وَتَخْفِيفِ مُوَحَّدَةٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: بَصْرِيٌّ مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِيِّ الْبَصْرَةِ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. (قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ) : أَيْ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ (عِنْدَ الْقِتَالِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: عَادَةُ الْمُحَارِبِينَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ إِمَّا لِتَعْظِيمِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ لِإِظْهَارِ كَثْرَتِهِمْ بِتَكْثِيرِ أَصْوَاتِهِمْ، أَوْ لِتَخْوِيفِ أَعْدَائِهِمْ، أَوْ لِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا الشُّجَاعُ الطَّالِبُ لِلْحَرْبِ، وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِذْ لَا يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَرْفَعُونَ الْأَصْوَاتَ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ فِيهِ فَوْزَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3952 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " «اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ " ; أَيْ صِبْيَانَهُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3952 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ» ) : أَرَادَ مَا يُقَابِلُ الصِّبْيَانَ، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْفَانِي فَلَا يُقْتَلُ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَا رَأْيٍ (وَاسْتَحْيُوا) : أَيِ اسْتَبْقُوا (شَرْخَهُمْ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (أَيْ صِبْيَانَهُمْ) : تَفْسِيرٌ مِنَ الصَّحَابِيِّ، أَوْ أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النِّهَايَةِ: الشَّرْخُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَمْ

يُدْرِكُوا، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الِاسْتِحْيَاءِ بِالِاسْتِرْقَاقِ فَتَوَسُّعٌ وَمَجَازٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنِ اسْتِبْقَائِهِمْ إِحْيَاءُ اسْتِرْقَاقِهِمْ وَاسْتِخْدَامِهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَرَادَ بِالشُّيُوخِ الرِّجَالَ وَالشُّبَّانَ أَهْلَ الْجَلَدِ مِنْهُمْ وَالْقُوَّةِ عَلَى الْقِتَالِ، وَلَمْ يُرِدِ الْهَرْمَى الَّذِينَ إِذَا سُبُوا لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِمْ لِلْخِدْمَةِ وَأَرَادَ بِالشَّرْخِ الشُّبَّانَ أَهْلَ الْجَلَدِ يَصْلُحُونَ لِلْمِلْكِ وَالْخِدْمَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الشَّرْخُ أَوَّلُ الشَّبَابِ فَهُوَ وَاحِدٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ، قَالَ: رَجُلٌ صَوْمٌ رَجُلَانِ صَوْمٌ، وَرِجَالُ صَوْمٌ، وَامْرَأَةُ صَوْمٌ وَامْرَأَتَانِ صَوْمٌ وَنِسْوَةٌ صَوْمٌ، قِيلَ: إِنَّ الشُّيُوخَ جَمْعٌ كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ. قُلْتُ: وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي الشُّيُوخِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ تَقُولَ لَمْ يُرِدِ اسْتِبْقَاءَ هَؤُلَاءِ لِلْمِلْكِ وَالْخِدْمَةِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ وَلِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ طُولَ الْعُمْرِ، ثُمَّ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْمَكْرِ وَالدَّهَاءِ فَلَا يُؤْمَنُ إِذًا غَائِلَتُهُمْ وَدَخْلَتُهُمْ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمْ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ، أَوْ ثُلْمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَؤُلَاءِ غَيْرُ الْفَتَاةِ الَّذِينَ لَا يُعْبَأُ بِهِمْ وَلَا يُكْتَرَثُ لَهُمْ، وَهَذَا أَوْلَى مَا يُؤَوَّلُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، لِئَلَّا يُخَالِفَ حَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا. وَقَالَ ; أَيْضًا قَوْلُهُ: أَيْ صِبْيَانَهُمْ لَيْسَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، فَوَجَدَهُ الْمُؤَلِّفُ فِيمَا بَلَغَهُ فَذَكَرَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الْمُؤَلِّفِ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِهِ كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) : لَكِنْ يُرِيدُ كَلَامَ الشَّيْخِ أَنَّ السُّيُوطِيَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ غَيْرِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا فَسَّرَ الشَّرْخَ بِالصِّبْيَانِ لِيُقَابِلَ الشُّيُوخَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالشُّيُوخِ الشُّبَّانَ وَأَهْلَ الْجَلَدِ فَيَصِحُّ التَّقَابُلُ.

3953 - وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: «حَدَّثَنِي أُسَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ قَالَ: " أَغِرْ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا وَحَرِّقْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3953 - (وَعَنْ عُرْوَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ تَابِعِيٍّ مَشْهُورٍ سَبَقَ ذِكْرَهُ. (قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ) : أَيِ ابْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ) : أَيْ أَوْصَاهُ حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا (قَالَ) : تَفْسِيرًا لِعَهِدَ (أَغِرْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَمْرٌ مِنَ الْإِغَارَةِ، وَقِيلَ: أَمْرٌ مِنَ الْغَزْوِ فَيَكُونُ بِضَمِّ الْهَمْزِ وَالزَّايِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ لَفْظُ: " عَلَى " وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ الْغِرَّةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ فَإِنَّهُ تَصْحِيفٌ (عَلَى أُبْنَى) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْقَصْرِ اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ فِلَسْطِينَ بَيْنَ عَسْقَلَانَ وَالرَّمْلَةِ، وَيُقَالُ لَهَا: يُبْنَى بِالْيَاءِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ جُهَيْنَةَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ بَدَلَ الْهَمْزَةِ لَامًا وَلَا عِبْرَةَ بِهِ اهـ. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ وَنُونٍ بَعْدَهُ أَلِفٌ ; أَيْ عَلَى أَهْلِهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قِيلَ إِنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ (صَبَاحًا) : أَيْ حَالَ غَفْلَتِهِمْ وَفُجَاءَةِ نَبْهَتِهِمْ وَعَدَمِ أُهْبَتِهِمْ (وَحَرِّقْ) : بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَفِي رِوَايَةٍ، ثُمَّ حَرِّقْ ; أَيْ زُرُوعَهُمْ وَأَشْجَارَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ مِنْ مَوَاشِي أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَقْلِهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ذَبَحَهَا، ثُمَّ حَرَّقَهَا وَلَا يَعْقِرُهَا، كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُثْلَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَعَقَرَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَرَسَهُ رُبَّمَا كَانَ لِظَنِّهِ عَدَمَ الْفَتْحِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ، فَخَشِيَ أَنْ يَنَالَ الْمُشْرِكُونَ فَرَسَهُ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الذَّبْحِ لِضِيقِ الْحَالِ عَنْهُ بِالشُّغْلِ بِالْقَتْلِ، أَوْ كَانَ قَبْلَ نَسْخِ الْمُثْلَةِ، أَوْ عِلْمَهَ بِهَا وَلَا يَتْرُكُهَا لَهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَتْرُكُهَا ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ. قُلْنَا: هَذَا غَرِيبٌ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَعَمْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ نَفْسِهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَيْقَنَ الْفَتْحَ وَصَيْرُورَةَ الْبِلَادِ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَمِرَّ فِي بُعُوثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَاعْتِبَارُهُ كَانَ ذَلِكَ، وَقَدْ قُلْنَا بِذَلِكَ وَذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُحَرِّقْ وَلَا يُخَرِّبْ ; لِأَنَّهُ إِتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلَا تُحَرِّقْ وَهُوَ قَدْ قَدْ عَلِمَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَغِرْ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا، ثُمَّ حَرِّقْ بَقِيَ مُجَرَّدُ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّهُ لِغَرَضِ الْأَكْلِ ; لِأَنَّهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَلَا غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَتَعْرِيضِهِمْ عَلَى الْمَهْلَكَةِ وَالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يُحَرِّقُ لِقَطْعِ مَنْفَعَةٍ عَنِ الْكُفَّارِ وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ، وَالتَّحْرِيقُ لِهَذَا الْغَرَضِ الْكَرِيمِ بِخِلَافِ التَّحْرِيقِ قَبْلَ الذَّبْحِ ; لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْثٍ فَقَالَ لَنَا: " إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَاحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ " فَلَمَّا خَرَجْنَا دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: " إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَاقْتُلُوهُمَا وَلَا تَحْرِقُوهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ» . وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَسَمَّاهُمَا هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَنَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَطَوَّلَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّ السَّبَبَ أَنَّهُمَا كَانَا رَوَّعَا زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ خَرَجَتْ لَاحِقَةً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَالْقِصَّةُ مُفَصَّلَةٌ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مَعْرُوفَةٌ لِأَهْلِ السِّيَرِ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ ; أَيْضًا تَحْرِيقَ عَلِيٍّ الزَّنَادِقَةَ الَّذِينَ أَتَى بِهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنُهَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلِقَتَلَتِهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ «عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حِبَّانَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، فَأَخَذْتُ بُرْغُوثًا فَرَمَيْتُهُ فِي النَّارِ فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» ". وَأَمَّا مَا فِي فَتَاوَى الْوَالِجِيِّ بِتَرْكِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي أَرْضٍ غَامِرَةٍ ; أَيْ خَرِبَةٍ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا كَيْلَا يَعُودُوا حَرْبًا عَلَيْنَا ; لِأَنَّ النِّسَاءَ بِهِنَّ النَّسْلُ وَالصِّبْيَانُ يَبْلُغُونَ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا فَبَعِيدٌ ; لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْذِيبِ، ثُمَّ هُمْ قَدْ صَارُوا أُسَارَى بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ، وَقَدْ أَوْصَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَسْرَى خَيْرًا حَدَّثَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَقْبَلَ بِالْأُسَارَى فَرَّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا، فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ مَوْلَى أَخِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَسَرَنِي فَقَالَ لَهُ: شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ، فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ. قَالَ: وَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا مِنْ بَدْرٍ، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; إِيَّاهُمْ بِنَا مَا يَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةٌ مِنَ الْخُبْزِ إِلَّا نَفَحَنِي بِهَا. قَالَ: فَأَسْتَحْيِي فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدُّهَا عَلَى مَنْ يُمْسِكُهَا» ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلُوا جُوعًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُضْطَرُّوا إِلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْحَمْلِ وَالْمِيرَةِ فَيُتْرَكُوا ضَرُورَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ مَعَ دَعْوَةٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ أَوَّلًا فَاكْتَفَى بِهَا.

3954 - وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ: " إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَارْمُوهُمْ، وَلَا تَسُلُّوا السُّيُوفَ حَتَّى يَغْشَوْكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3954 - (وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُ قَرِيبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ: إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَارْمُوهُمْ، وَلَا تَسُلُّوا» ) : بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ: لَا تُخْرِجُوا (السُّيُوفَ) : أَيْ مِنْ غِلَافِهَا (حَتَّى يَغْشَوْكُمْ) : بِفَتْحِ الشِّينِ ; أَيْ: حَتَّى يَقْرَبُوكُمْ قَرِيبًا يَصِلُ سَيْفُكُمْ إِلَيْهِمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3955 - وَعَنْ رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسُ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: " انْظُرُوا عَلَى مَا اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ " فَجَاءَ فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ فَقَالَ: " مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ " وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: " قُلْ لِخَالِدٍ: لَا تَقْتُلِ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3955 - (وَعَنْ رَبَاحٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالتَّحْتِيَّةِ (ابْنِ الرَّبِيعِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَذَا ضَبْطَهُ الْمُغْنِي بِالْوَجْهَيْنِ، وَفِي التَّقْرِيبِ رَبَاحُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأُسَيْدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخُو حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ، وَيُقَالُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَبِالتَّحْتَانِيَّةِ صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثٌ، وَفِي الْمَنْقَبَةِ لِتَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ: رَبَاحٌ بِالْمُوَحَّدَةِ عِدَّةٌ وَبِيَاءٍ وَكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمَاعَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ الصَّحَابِيِّ أَخُو حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ رَبَاحُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأُسَيْدِيُّ الْكَاتِبُ حَدِيثَهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ الْأُسَيِّدِيُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ. (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ، فَبَعَثَ رَجُلًا، فَقَالَ) : أَيْ لَهُ (انْظُرُ عَلَى مَا اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَجَاءَ) : أَيِ الرَّجُلُ (فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ) : أَيْ: مَقْتُولَةٍ، وَإِذَا ذُكِرَ الْمَوْصُوفُ يَسْتَوِي فِي الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. (فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ) : أَيِ الْمَرْأَةُ (لِتُقَاتِلَ) : اللَّامُ هِيَ الدَّاخِلَةُ فِي خَبَرِ كَانَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] .

(وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَيُفْتَحُ (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَبَعَثَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَجُلًا) : أَيْ إِلَى خَالِدٍ (فَقَالَ: قُلْ لِخَالِدٍ: لَا تَقْتُلِ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا: أَيْ أَجِيرًا وَتَابِعًا لِلْخِدْمَةِ، وَلَعَلَّ عَلَامَتَهُ أَنْ يَكُونَ بِلَا سِلَاحٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ ; أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ، وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِي لَفْظٍ فَقَالَ: هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ، ثُمَّ قَالَ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ، وَابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، فَصَارَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَهَاهْ كَلِمَةُ زَجْرٍ وَالْهَاءُ الثَّانِيَةُ لِلسَّكْتِ، كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَقَدْ سَبَقَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَخْرَجَ السِّتَّةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْتُولَةً فَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

3956 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، لَا تُصِيبُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا صَغِيرًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا، وَأَحْسِنُوا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3956 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: انْطَلِقُوا) : أَيِ اذْهَبُوا وَسِيرُوا مُتَبَرِّكِينَ (بَاسِمِ اللَّهِ) : مُسْتَعِينِينَ (وَبِاللَّهِ) : ثَابِتِينَ (وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) : وَالْأَحْوَالُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَرَادِفَاتٍ، أَوْ مُتَدَاخِلَاتٍ (لَا تَقْتُلُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَا تَقْتُلُوا (شَيْخًا فَانِيًا) : أَيْ إِلَّا إِذَا كَانَ مُقَاتِلًا، أَوْ ذَا رَأْيٍ، وَقَدْ صَحَّ أَمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَتْلِ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ عَامًا أَوْ أَكْثَرَ، وَقَدْ جِيءَ بِهِ فِي جَيْشِ هَوَازِنَ لِلرَّأْيِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. (وَلَا طِفْلًا صَغِيرًا) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ ; أَيْ صَبِيًّا دُونَ الْبُلُوغِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إِذَا كَانَ مَلِكًا، أَوْ مُبَاشِرًا لِلْقِتَالِ (وَلَا امْرَأَةً) : أَيْ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُقَاتَلَةً، وَلَمْ تَكُنْ مَلِكَةً، وَلَا ذَاتَ رَأَيٍ فِي الْمُحَارِبَةِ (وَلَا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ ; أَيِ اجْمَعُوا (غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا) : أَيْ أُمُورَكُمْ (وَأَحْسِنُوا) : أَيْ فِيمَا بَيْنَكُمْ (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) : أَيْ يُثِيبُهُمْ وَيُكْرِمُهُمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِيهِ خَالِدُ بْنُ الْفِرْزِ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِذَاكَ، وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ. مِمَّا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ فَأَضْعَفُ مِنْهُ، ثُمَّ عَلَى أُصُولِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لَا مُعَارَضَةَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَخُصَّ الشُّيُوخَ بِغَيْرِ الْفَانِي، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْتُلُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ وَلَا الصِّيَاحِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ، وَلَا عَلَى الْإِحْبَالِ ; لِأَنَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ الْوَلَدُ فَيُكْثِرُ مُحَارِبَ الْمُسْلِمِينَ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ، وَزَادَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ الْمُرْتَدِّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَامِلَ الْعَقْلِ نَقْتُلُهُ، وَمِثْلُهُ نَقَتُلُهُ إِذَا ارْتَدَّ، وَالَّذِي لَا نَقْتُلُهُ الشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي خَرِفَ وَزَالَ عَنْ حُدُودِ الْعُقَلَاءِ الْمُمَيَّزِينَ، فَهَذَا حِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْنُونِ فَلَا نَقْتُلُهُ، وَلَا إِذَا ارْتَدَّ اهـ. وَلَا نَقْتُلُ مَقْطُوعَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالْمَقْطُوعَ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: لَا يُقْتَلُ الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَتِهِ، وَلَا أَهْلُ الْكَنَائِسِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ، فَإِنْ خَالَطُوا قُتِلُوا كَالْقِسِّيسِ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئَهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَ جُيُوشًا إِلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ يُشَيِّعُ زَيْدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ: إِنِّي أُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ صَبِيًّا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَقَرَةً إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تَحْرِقَنَّ وَلَا تُخْرِبَنَّ عَامِرًا. وَلَا تُغْرِقَنَّ، وَلَا تُجْبُنْ، وَلَا تَغُلَّ.

3957 - «وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ تَقَدَّمَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَتَبِعَهُ ابْنُهُ وَأَخُوهُ، فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَانْتُدِبَ لَهُ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ، إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قُمْ يَا حَمْزَةُ! قُمْ يَا عَلِيُّ! قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ! " فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُقْبَةَ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ، وَاخْتَلَفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ، فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ، وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3957 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ) : أَيْ وُجِدَ (يَوْمُ بَدْرٍ تَقَدَّمَ) : أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ لِلْقِتَالِ (عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَتَبِعَهُ ابْنُهُ) : أَيِ الْوَلِيدُ (وَأَخُوهُ) : أَيْ شَيْبَةُ (فَنَادَى) : أَيْ عُتْبَةُ (مَنْ يُبَارِزُ؟) : فِي الْقَامُوسِ:

بَرَزَ بُرُوزًا خَرَجَ إِلَى الْبِرَازِ ; أَيِ الْفَضَاءِ، وَبَارَزَ الْقِرْنَ مُبَارَزَةً وَبِرَازًا بَرَزَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَبْرُزُ إِلَيَّ فَيُقَاتِلَنِي (فَانْتُدِبَ) : يُقَالُ: نَدَبْتُهُ فَانْتُدِبَ ; أَيْ دَعْوَتُهُ فَأَجَابَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَقَوْلُهُ: (لَهُ) : أَيْ لِعُتْبَةَ وَالْمَعْنَى بَرَزَ لِمُقَاتَلَتِهِ وَمُقَاتَلَةِ مَنْ مَعَهُ (شَابٌّ) : جَمْعُ شَابٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ شُبَّانٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ) : أَيْ مَا نُرِيدُكُمْ (إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا) : أَيِ الْقُرَشِيِّينَ مِنْ أَكْفَائِنَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُمْ يَا حَمْزَةُ! قُمْ يَا عَلِيُّ! قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّهَا فَفِي الْكَافِيَةِ: الْعَلَمُ الْمَوْصُوفُ بِابْنِ مُضَافًا إِلَى عَلَمٍ آخَرَ يُخْتَارُ فَتْحُهُ، وَأَمَّا ابْنُ فَمَنْصُوبٌ لَا غَيْرَ (فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ) : أَيْ تَوَجَّهَ (إِلَى عُتْبَةَ) : أَيْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ فَقَتَلَهُ (وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ) : أَيْ فَقَتَلْتُهُ، كَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: إِلَى عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ فَقَتَلْتُهُ. (وَاخْتَلَفَ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَاخْتَلَفَ وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ) : أَيْ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ تَعَاقُبًا (فَأَثْخَنَ) : أَيْ جَرَحَ وَأَضْعَفَ (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ) : أَيْ قِرْنَهُ (ثُمَّ مِلْنَا) : بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْمَيْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الصَّادِ مِنَ الصَّوْلَةِ ; أَيْ حَمَلْنَا (عَلَى الْوَلِيدِ) : أَوْ مِلْنَا حَامِلِينَ عَلَيْهِ (فَقَتَلْنَاهُ، وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ إِبَاحَةُ الْمُبَادَرَةِ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِهَا إِذَا أَذِنَ الْإِمَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عَنْ إِذْنِ الْإِمَامِ فَجَوَّزَهُمَا جَمَاعَةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا، وَأَقْبَلَ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. إِذَا عَجَزَ وَاحِدٌ عَنْ قِرْنِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُعِينُونَهُ ; لِأَنَّهُ الْمُبَارَزَةُ إِنَّمَا تَكُونُ هَكَذَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ، لَكِنَّ الَّذِي فِي السِّيَرِ مِنْ أَنَّ الَّذِي بَارَزَ الْوَلِيدَ عَلِيٌّ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ اللَّائِقُ، بِالْمَقَامِ ; لِأَنَّ عُبَيْدَةَ وَشَيْبَةَ كَانَا شَيْخَيْنِ كَعُتْبَةَ وَحَمْزَةَ بِخِلَافِ عَلِيٍّ وَالْوَلِيدِ، فَكَانَا شَابَّيْنِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ «عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَعَنْتُ أَنَا وَحَمْزَةُ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَلَمْ يَعِبِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا ذَلِكَ» ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَقِيَّةُ الْقَضِيَّةِ فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ.

3958 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي سَرِيَّةٍ، فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَأَتَيْنَا الْمَدِينَةَ، فَاخْتَفَيْنَا بِهَا، وَقُلْنَا: هَلَكْنَا "، ثُمَّ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. قَالَ: " بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ نَحْوَهُ وَقَالَ: " «لَا، بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ " قَالَ: فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ فَقَالَ: " أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ» ". وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ يَسْتَفْتِحُ. وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ " ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ " فِي بَابِ " فَضْلِ الْفُقَرَاءِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3958 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ، فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً) : قَالَ الْقَاضِي: أَيْ فَمَالُوا مَيْلَةً مِنَ الْحَيْصِ وَهُوَ الْمَيْلُ، فَإِنْ أَرَادَ بِالنَّاسِ أَعْدَاءَهُمْ، فَالْمُرَادُ بِهَا الْحَمْلَةُ ; أَيْ حَمَلُوا عَلَيْنَا حَمْلَةً وَجَالُوا جَوْلَةً فَانْهَزَمْنَا عَنْهُمْ، (فَأَتَيْنَا الْمَدِينَةَ) : وَإِنْ أَرَادَ بِهِ السَّرِيَّةَ فَمَعْنَاهَا الْفِرَارُ وَالرَّجْعَةُ ; أَيْ: مَالُوا عَنِ الْعَدُوِّ مُلْتَجِئِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء: 121] ; أَيْ مَهْرَبًا، وَيُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الثَّانِيَ قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ حَاصَ عَنْهُ عَدَلَ وَحَادَ، يُقَالُ لِلْأَوْبِيَاءِ: حَاصُوا عَنِ الْأَعْدَاءِ وَلِلْأَعْدَاءِ انْهَزَمُوا. وَفِي الْفَائِقِ: فَحَاصَ حَيْصَةً ; أَيِ انْحَرَفَ وَانْهَزَمَ، وَرَوَى: فَجَاضَ جَيْضَةً بِالْجِيمِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ الْحَيْدُودَةُ حَذَرًا. وَفِي النِّهَايَةِ: فَحَاصَ الْمُسْلِمُونَ حَيْصَةً ; أَيْ جَالُوا جَوْلَةً يَطْلُبُونَ الْفِرَارَ. (فَاخْتَفَيْنَا بِهَا) : أَيْ فِي الْمَدِينَةِ حَيَاءً (وَقُلْنَا) : أَيْ فِي أَنْفُسِنَا، أَوْ لِبَعْضِنَا (هَلَكْنَا) : أَيْ عَصَيْنَا بِالْفِرَارِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ مُطْلَقَ الْفِرَارِ مِنَ الْكَبَائِرِ، ( «ثُمَّ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. قَالَ: " أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ» ) : أَيِ الْكَرَّارُونَ إِلَى الْحَرْبِ وَالْعَطَّافُونَ نَحْوَهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَمَعْنَاهُ الرَّجَّاعُونَ إِلَى الْقِتَالِ (وَأَنَا فِئَتُكُمْ) : فِي النِّهَايَةِ: الْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ فِي الْأَصْلِ، وَالطَّائِفَةُ الَّتِي تَقُومُ وَرَاءَ الْجَيْشِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ خَوْفٌ، أَوْ هَزِيمَةٌ الْتَجَئُوا إِلَيْهِ، وَفِي الْفَائِقِ: ذَهَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: أَنَا فِئَتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] يُمَهِّدُ بِذَلِكَ عُذْرَهُمْ فِي الْفِرَارِ ; أَيْ تَحَيَّزْتُمْ إِلَيَّ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ فِي الْفِرَارِ ; لِأَنَّهُ عَاصٍ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ اهـ. وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ نَحْوَهُ وَقَالَ: " لَا بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ " قَالَ) : أَيِ ابْنُ عُمَرَ ( «فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ فَقَالَ: أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ» ) . (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ يَسْتَفْتِحُ) : أَيْ يَطْلُبُ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ (وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ابْغُونِي) : أَيِ اطْلُبُوا رِضَايَ (فِي ضُعَفَائِكُمْ) : تَمَامُهُ: فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ، أَوْ تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ (فِي بَابِ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3959 - عَنْ ثَوْبَانَ بْنِ يَزِيدَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3959 - (عَنْ ثَوْبَانَ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : صَوَابُهُ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، فَإِنَّهُ كَذَا فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ، وَكَذَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُغْنِي، وَكَذَا فِي تَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ، وَكَذَا فِي أَصْلِ الْجَامِعِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ التَّقْرِيبِ وَالْكَشْفِ، بَلْ ثَوْبَانُ بْنُ يَزِيدَ لَا يُوجَدُ ذِكْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ: ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ كَلَاعِيٌّ شَامِيٌّ حِمْصِيٌّ، سَمِعَ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ، رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ لَهُ ذِكْرٌ فِي بَابِ الْمَلَاحِمِ لَكِنْ مَا وَجَدْنَاهُ فِي بَابِ الْمَلَاحِمِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ فِي بَابِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَلَفْظُهُ: عَنْ ثَوْبَانَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ابْنِ يَزِيدَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مُرْسَلًا. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِكَسْرِ وَفَتْحِ الْجِيمِ آلَةٌ يُرْمَى بِهَا الْحِجَارَةُ مُعَرَّبَةٌ، وَقَدْ تُذَكَّرُ، فَارِسِيَّتُهَا مِنْ جَهْ نِيكَ ; أَيْ مَا أَجْوَدَنِي كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ) : أَيْ بِلَادِ ثَقِيفٍ فِي وَادٍ، أَوَّلُ قُرَاهَا لُقَيْمُ، وَآخِرُهَا الْوَهْطُ سُمِّيَتْ بِهِ ; لِأَنَّهَا طَافَتْ عَلَى الْمَاءِ فِي الطُّوفَانِ، أَوْ لِأَنَّ جِبْرِيلَ طَافَ بِهَا عَلَى الْبَيْتِ، أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِالشَّامِ، فَنَقَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْحِجَازِ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُعْضَلًا، فَإِنَّهُ قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ الْحَدِيثَ. قُلْتُ لِوَكِيعٍ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ عُمَرُ بْنُ هَارُونَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَزَادَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَشَارَ بِهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ.

[باب حكم الأسراء]

[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]

[5] بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3960 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ» وَفِي رِوَايَةٍ: " «يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [5] بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ، جَمْعُ أَسِيرٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3960 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: عَجِبَ اللَّهُ) : أَيْ رَضِيَ (مِنْ قَوْمٍ يُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (فِي السَّلَاسِلِ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَدْخُلُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ أُسَارَى قَهْرًا وَكَرْهًا فِي السَّلَاسِلِ وَالْقُيُودِ، فَيَدْخُلُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَرْزُقُهُمُ اللَّهُ الْإِيمَانَ فَيَدْخُلُونَ بِهِ الْجَنَّةَ، فَأَحَلَّ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ مَحَلَّ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِإِفْضَائِهِ إِلَيْهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ لِلْبُخَارِيِّ، أَوْ لِغَيْرِهِ (يُقَادُونَ) : أَيْ يُجَرُّونَ (إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ) : فَقَالَ الْقَاضِي: قَدْ سَبَقَ غَيْرُهُ مَرَّةً أَنَّ صِفَاتِ الْعِبَادِ إِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أُرِيدَ بِهَا غَايَاتُهَا، فَغَايَةُ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِالشَّيْءِ الرِّضَا بِهِ وَاسْتِعْظَامُ شَأْنِهِ، فَالْمَعْنَى عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَ قَوْمٍ يُؤْخَذُونَ عَنْوَةً فِي السَّلَاسِلِ، فَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ مَحَلَّ مَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَقِيلَ. أَرَادَ بِالسَّلَاسِلِ مَا يَرِدُونَ بِهِ مِنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَسَبْيِ دُخُولِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ، وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ وَسَائِرِ مَا يُلْجِئُهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي سَبَّبَ دُخُولَ الْجَنَّةِ، فَأَقَامَ الْمُسَبَّبَ مَقَامَ السَّبَبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا جَذَبَاتِ الْحَقِّ الَّتِي يَجْذِبُ بِهَا خَاصَّةَ عِبَادِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْهُبُوطِ فِي مَهَاوِي الطَّبِيعَةِ إِلَى الْعُرُوجِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى إِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى. قُلْتُ: وَكَذَا فِي مَعْنَى السَّلَاسِلِ مَكْرُوهَاتُ النَّفْسِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْخُمُولِ، وَسَائِرِ الْمُصِيبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَفَوَاتِ اللَّذَّاتِ النَّفْسِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَجُرُّ إِلَى الْحَالَاتِ السَّنِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَرَاهَةُ الْأَوْلَادِ لِلْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَجِبْتُ لِأَقْوَامٍ يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ وَهُمْ كَارِهُونَ.

3961 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ " فَقَتَلْتُهُ فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3961 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : قَالَ الْقَاضِي: الْعَيْنُ الْجَاسُوسُ سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّ عَمَلَهُ بِالْعَيْنِ، أَوْ لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِالرُّؤْيَةِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهَا كَأَنَّ جَمِيعَ بَدَنِهِ صَارَ عَيْنًا. (وَهُوَ) : أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ) : أَيِ الْجَاسُوسُ (عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ) : أَيِ انْصَرَفَ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلْتُهُ) : أَيْ: فَطَلَبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ فَقَتَلْتُهُ (فَنَفَّلَنِي) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ ; أَيْ أَعْطَانِي (سَلَبَهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ: مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ يُسْلَبُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَذَا مَرْكَبُهُ وَمَا عَلَيْهِ مِنَ السَّرْجِ وَالْآلَةِ، وَمَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالٍ، وَمَا عَلَى وَسَطِهِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَنَفَّلَنِي ; أَيْ أَعْطَانِي نَفْلًا، وَهُوَ مَا يُخَصُّ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَيُزَادُ عَلَى سَهْمِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَانٍ حَلَّ قَتْلُهُ، وَمَنْ تَجَسَّسَ لِلْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ فَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ، بَلْ يُعَزَّرُ، فَإِنِ ادَّعَى جَهَالَةً بِالْحَالِ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يُتَجَافَى عَنْهُ ; أَيْ: يُتَجَاوَزُ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: التَّنْفِيلُ إِعْطَاءُ الْإِمَامِ الْفَارِسَ فَوْقَ سَهْمِهِ وَهُوَ مِنَ النَّفْلِ، وَهُوَ الزَّائِدُ. وَمِنْهُ النَّافِلَةُ لِلزَّائِدِ عَلَى الْفَرْضِ، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ كَذَلِكَ ; أَيْضًا، وَيُقَالُ نَفَّلَهُ تَنْفِيلًا وَنَفَلَهُ بِالتَّخْفِيفِ نَفْلًا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ بِالتَّنْفِيلِ، فَيَقُولُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، أَوْ يَقُولُ لِلسَّرِيَّةِ: قَدْ جَعَلْتُ لَكُمُ النِّصْفَ، أَوِ الرُّبُعَ بَعْدِ الْخُمُسِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3962 - وَعَنْهُ، قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَوَازِنَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ، وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ مِنَ الظَّهْرِ، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَأَتَى جَمَلَهُ، فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ، فَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ، فَأَنَخْتُهُ، ثُمَّ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي، فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ، ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ وَعَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ. فَقَالَ: " مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ " قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ فَقَالَ: " لَهُ سَلَبَهُ أَجْمَعُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3962 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ. غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَوَازِنَ) : قَبِيلَةً مُشْتَهَرَةً بِالرَّمْيِ لَا يُخْطِئُ سَهْمُهُمْ، وَكَانُوا فِي حُنَيْنٍ وَهُوَ وَادٍ وَرَاءَ عَرَفَةَ دُونَ الطَّائِفِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثُ لَيَالٍ، وَكَانَ مَسِيرُهُ إِلَيْهَا يَوْمَ السَّبْتِ لِسِتِّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ لَمَّا فَرَغَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ. (فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى) : أَيْ نَتَغَدَّى، مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّحَاءِ بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الضَّادِ وَهُوَ بَعْدَ امْتِدَادِ النَّهَارِ وَفَوْقَ الضُّحَى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسِيرُونَ فِي ظَعْنِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ فِيهَا كَلَأٌ وَعُشْبٌ قَالَ قَائِلُهُمْ: أَلَا ضَحْوًا رُوَيْدًا ; أَيِ: ارْفُقُوا بِالْإِبِلِ حَتَّى تَنْضَحِي ; أَيْ تَنَالَ مِنْ هَذَا الْمَرْعَى، ثُمَّ وُضِعَتِ التَّضْحِيَةُ مَكَانَ الرِّفْقِ لِيَصِلَ الْإِبِلُ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَقَدْ شَبِعَتْ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ مَنْ يَأْكُلُ فِي وَقْتِ الضُّحَى: هُوَ يَتَضَحَّى ; أَيْ يَأْكُلُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، كَمَا يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نُصَلِّي الضُّحَى. (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ) : أَيْ يُطَالِعُ (وَفِينَا ضَعْفَةٌ) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ عَلَى وَجْهَيْنِ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ ; أَيْ حَالَةُ ضَعْفٍ وَهُزَالٍ، وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ جَمْعُ ضَعِيفٍ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِحَذْفِ الْهَاءِ. قُلْتُ: فَيَقْوَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ عَطْفُ قَوْلِهِ: (وَرِقَّةٌ عَلَيْهِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَقَوْلُهُ: (مِنَ الظَّهْرِ) : بِفَتْحِ الظَّاءِ صِفَةٌ لَهَا ; أَيْ رِقَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ قِلَّةِ الْمَرْكُوبِ (وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ) : جَمْعُ مَاشٍ وَكَأَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ (إِذْ خَرَجَ) : أَيِ الرَّجُلُ مِنْ بَيْنِنَا (يَشْتَدُّ) : أَيْ يَعْدُو (فَأَتَى جَمَلَهُ، فَأَثَارَهُ) : أَيْ أَقَامَهُ بَعْدَ رُكُوبِهِ (فَاشْتَدَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْوَاوِ ; أَيْ: أَسْرَعَ بِهِ (الْجَمَلُ، فَخَرَجْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَخَرَجْتُ (أَشْتَدُّ) : أَيْ فِي عَقِبِهِ (حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ بِزِمَامِهِ (فَأَنَخْتُهُ، ثُمَّ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي) : أَيْ سَلَلْتُهُ مِنْ غِمْدِهِ (فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ، ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ) : أَيْ أَجُرُّهُ (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الْجَمَلِ (رَحْلُهُ) : أَيْ مَتَاعُ الرَّجُلِ (وَسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ) : بِالرَّفْعِ ( «فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3963 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ". فَجَاءَ فَجَلَسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ ". قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تَقْتُلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ. قَالَ: " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " بِحُكْمِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3963 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ (عَلَى حُكْمِ سَعِيدِ بْنِ مُعَاذٍ) . قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا نَزَلُوا بِحُكْمِهِ بَعْدَمَا حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَجَهَدَهُمُ الْحِصَارُ، وَتَمَكَّنَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، فَحَسِبُوا أَنَّهُ يُرَاقِبُهُمْ وَيَتَعَصَّبُ لَهُمْ، فَأَبَى إِسْلَامُهُ وَقُوَّةُ دِينِهِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِغَيْرِ مَا حَكَمَ اللَّهُ فِيهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي شَوَّالِهَا حِينَ نَقَضُوا عَهْدًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَافَقُوا الْأَحْزَابَ، رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا انْكَشَفُوا عَنِ الْمَدِينَةِ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ شَرَّهُمْ أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ظُهْرِ الْيَوْمِ الَّذِي تَفَرَّقُوا فِي لَيْلَتِهِ فَقَالَ: وَضَعْتُمُ السِّلَاحَ وَالْمَلَائِكَةُ لَمْ يَضَعُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَائْتِهِمْ عَصْرَهُمْ (بَعَثَ) : جَوَابُ لَمَّا ; أَيْ أَرْسَلَ وَفِي نُسْخَةٍ، إِلَيْهِ ; أَيْ إِلَى سَعْدٍ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ) ; أَيْ شَاكِيًا وَجَعَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أُصِيبَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ (فَلَمَّا دَنَا) : أَيْ قَرُبَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِكْرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَتَلَقِّيهِمْ وَالْقِيَامُ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا وَاحْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا ذَاكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَيَتَمَثَّلُونَ قِيَامًا طُولَ جُلُوسِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقِيَامُ لِلتَّعْظِيمِ، بَلْ كَانَ لِلْإِعَانَةِ عَلَى نُزُولِهِ لِكَوْنِهِ وَجِعًا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ قِيَامَ التَّوْقِيرِ لَقَالَ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ قُومُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى سَيِّدِكُمْ، لَكِنَّ

الْأَوَّلَ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مَا كَانُوا يَقُومُونَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَرَاهِيَتِهِ لِلْقِيَامِ. (فَجَاءَ فَجَلَسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ هَؤُلَاءِ) : أَيْ بَنِي قُرَيْظَةَ (نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا فَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ ; لِأَنَّ الْأَوْسَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَفْوَ عَنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ) فَرَضُوا بِهِ. (قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ) : بِكَسْرِ التَّاءِ ; أَيْ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ الْقِتَالُ وَلَوْ بِالرَّأْيِ. (وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ) ; أَيِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ) . بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ اللَّهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَفِي رِوَايَةٍ: بِحُكْمِ اللَّهِ) : أَيْ أَصَبْتَ بِهِمْ وَقَضَيْتَ بِقَضَاءٍ ارْتَضَى اللَّهُ بِهِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِهَا ; أَيِ الْمَلَكِ النَّازِلِ بِالْوَحْيِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، أَوِ الَّذِي أَلْقَى الصَّوَابَ فِي الْقَلْبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَلِكُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. قَالَ الْقَاضِي: وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا، فَإِنْ صَحَّ الْفَتْحُ، فَالْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلُ ; أَيِ الْحُكْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّحْكِيمِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمُهِمَّاتِهِمُ الْعِظَامِ، وَلَا يُخَالِفُ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ إِلَّا الْخَوَارِجُ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّحْكِيمَ، وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ فِي شَيْءٍ لَزِمَهُ حُكْمُهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لَهُمُ الرُّجُوعُ عَنْهُ بَعْدَ الْحُكْمِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3964 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ! خَيْرٌ ; إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتُ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ الْغَدُ، فَقَالَ لَهُ: " مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ لَهُ: " مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَطْلَقُوا ثُمَامَةَ " فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَوَاللَّهِ مَا كَانَ بَلَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ. وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدَ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ، أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّى أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَاخْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3964 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ (خَيْلًا: هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ ; أَيْ فُرْسَانَ الْخَيْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي ; أَيْ يَا فُرْسَانَ خَيْلِ اللَّهِ، أَوْ سُمِّيَتِ الْجَمَاعَةُ خَيْلًا ; لِأَنَّهُمْ تَجَرَّدُوا لِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا كَمَا سُمِّيَتِ الرَّبِيئَةُ عَيْنًا (قِبَلَ نَجْدٍ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ; أَيْ: حِذَاءَهُ وَجَانِبَهُ. فِي الْقَامُوسِ: النَّجْدُ وَبِضَمِّ جِيمِهِ مُذَكَّرٌ وَهُوَ مَا خَالَفَ الْغَوْرَ ; أَيْ تِهَامَةَ، أَعْلَاهُ تِهَامَةُ وَالْيَمَنُ، وَأَسْفَلُهُ الْعِرَاقُ وَالشَّامُ أَوَّلُهُ مِنْ جِهَةِ الْحِجَازِ ذَاتُ عِرْقٍ، (فَجَاءَتْ) : أَيِ الْخَيْلُ (بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ، لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا (سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ) : فِي الْقَامُوسِ: هِيَ بِلَادُ الْجَوِّ مَنْسُوبَةٌ إِلَى جَارِيَةٍ زَرْقَاءَ كَانَتْ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَسُمِّيَتْ بِاسْمِهَا، أَكْثَرُ نَخِيلًا مِنْ سَائِرِ الْحِجَازِ، وَبِهَا تَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَهِيَ دُونَ الْمَدِينَةِ فِي وَسَطِ الشَّرْقِ عَنْ مَكَّةَ عَلَى سِتَّ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً مِنَ الْبَصْرَةِ، وَعَنِ الْكُوفَةِ نَحْوُهَا وَالنِّسْبَةُ يَمَامِيٌّ. (فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ) : أَيْ أُسْطُوَانَةٍ (مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ) ; أَيِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ (فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَاذَا عِنْدَكَ) ؟ أَيْ مِنَ الظَّنِّ فِي أَنْ أَفْعَلَ بِكَ (يَا ثُمَامَةُ) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً، وَذَا مَوْصُولًا وَعِنْدَكَ صِلَتَهُ ; أَيْ: مَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عِنْدَكَ مِنَ الظَّنِّ فِيمَا أَفْعَلُ بِكَ (قَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ! خَيْرٌ) ; لِأَنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ تَظْلِمُ بَلْ مِمَّنْ تُحْسِنُ وَتُنْعِمُ، وَأَنْ يَكُونَ مَاذَا بِمَعْنَى " أَيُّ شَيْءٍ " مُبْتَدَأً وَعِنْدَكَ خَبَرَهُ، وَقَوْلُهُ: (إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ) ، تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: خَيْرٌ ; لِأَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إِذَا كُرِّرَ فِي الْجَزَاءِ دَلَّ عَلَى فَخَامَةِ الْأَمْرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ، قَوْلُهُ ذَا دَمٍ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ صَاحِبَ الدَّمِ، لِدَمِهِ مَوْقِعٌ يَشْتَفِي بِقَتْلِهِ قَاتِلُهُ، وَيُدْرِكُ قَاتِلَهُ بِثَأْرِهِ ; أَيْ لِرِيَاسَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَحُذِفَ هَذَا ; لِأَنَّهُمْ يَفْهَمُونَهُ فِي عُرْفِهِمْ، وَثَانِيهَا: إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ مَنْ عَلَيْهِ دَمٌ مَطْلُوبٌ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا عَتْبَ عَلَيْكَ، وَثَالِثُهَا ذَا ذَمٍّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ ; أَيْ: ذَا ذِمَامٍ وَحُرْمَةٍ فِي قَوْمِهِ، وَرَوَاهَا بَعْضُهُمْ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ كَذَلِكَ: قَالَ الْقَاضِي: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ ; لِأَنَّهَا تَقْلِبُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ احْتِرَامَهُ يَمْنَعُ الْقَتْلَ. قَالَ الشَّيْخُ: وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ; أَيْ تَقْتُلْ رَجُلًا جَلِيلًا يَحْتَفِلُ قَاتِلُهُ بِقَتْلِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَتَلَ حَقِيرًا مَهِينًا، فَإِنَّهُ لَا فَضِيلَةَ وَلَا يُدْرِكُ بِهِ قَاتِلُهُ ثَأْرَهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاخْتَارَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، الْوَجْهَ الثَّانِيَ، حَيْثُ قَالَ: الْمَعْنَى إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِمَا أَصَابَهُ مِنْ دَمٍ، وَرَآهُ أَوْجَهَ لِلْمُشَاكَلَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، (وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ) : بِالْهَمْزِ وَالنَّقْلِ (تُعْطَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمَالِ وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: (مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ عَلَى حَالِهِ (حَتَّى كَانَ) : أَوْ وَقَعَ (الْغَدُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ ; أَيْ كَانَ الزَّمَانُ الْغَدَ ( «فَقَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ حُكْمًا ; أَيْ: حَتَّى كَانَ مَا هُوَ عَلَيْهِ ثُمَامَةُ بَعْدَ الْغَدِ ( «قَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ» ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: فِي تَقْدِيمِ قَوْلِهِ: إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ عَلَى قِسْمَيْهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَتَوْسِيطِهِ بَيْنَهُمَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا يُرْشِدُ إِلَى حَذَاقَتِهِ وَحَدْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى غَضَبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَدَّمَ فِيهِ الْقَتْلَ تَسْلِيَةً، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ رَجَا أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ فَقَدَّمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ قَوْلَهُ: إِنْ تُنْعِمْ: قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا نَفَى الظُّلْمَ عَنْ سَاحَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَظَرَ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْقَتْلَ قَدَّمَهُ، وَحِينَ نَظَرَ إِلَى لُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَّرَ الْقَتْلَ، وَهَذَا أَدْعَى لِلِاسْتِعْطَافِ وَالْعَفْوِ كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُنَاسِبُ لِلْمُجْرِمِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرَ أَوَّلًا، فَلِذَا قَدَّمَ الْقَتْلَ، ثُمَّ يَطْلُبُ الْعَفْوَ وَلَا يَنْسَى الذَّنْبَ، وَلِذَا أَخَّرَهُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَحَاصِلُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَانَ الْخَوْفُ غَالِبًا عَلَيْهِ، وَفِي الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ كَانَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ، وَالْإِنَاءُ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَهَذَا يُظْهِرُ وَجْهَ التَّنْظِيرِ بِقَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوَّلًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] حَتَّى تَقُولَ الْأَنْبِيَاءُ: نَفْسِي نَفْسِي، ثُمَّ لَهُمْ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَطْلِقُوا) : أَيْ حُلُّوا (ثُمَامَةَ) : وَخَلُّوا سَبِيلَهُ (فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ) : بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجِيمِ ; أَيْ مَاءٍ قَلِيلِ النَّبْعِ (قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ) . قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: نَخْلٍ هَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَقْدِيرُهُ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ فِيهِ مَاءٌ فَاغْتَسَلَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَوَابُهُ نَجْلٍ بِالْجِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الْمُنْبَعِثُ، وَقِيلَ الْجَارِي. قُلْتُ: بَلِ الصَّوَابُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ صَحَّتْ بِهِ وَلَمْ تُرْوَ إِلَّا هَكَذَا. وَهُوَ صَحِيحٌ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، (ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ! مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ) : بِالنَّصْبِ ; أَيْ أَكْثَرَ مَبْغُوضًا (مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجْهٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ وَجْهٍ وَهُوَ اسْمُ كَانَ، عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ خَبَرُهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَحَبَّ الْوُجُوهِ خَبَرُ أَصْبَحَ قَطْعًا، وَقَدْ قُوبِلَ بِهِ، وَلِأَنَّ أَبْغَضَ فِي الْقَرِينَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَقَعَ خَبَرًا لِكَانَ،

وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْوَجْهِ بِالْأَبْغَضِيَّةِ لَا أَنَّ وَجْهَهُ أَبْغَضُ كَائِنًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَإِذَا قُلْنَا: بِجَوَازِ وُقُوعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ كَانَ، فَقَوْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَانَ صِفَةً لِقَوْلِهِ وَجْهٌ، فَقُدِّمَ فَصَارَ حَالًا، وَإِذَا مَنَعْنَاهُ قُلْنَا إِنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ لِيُؤْذِنَ فِي بَدْءِ الْحَالِ بِاهْتِمَامٍ فَصَارَ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] ( «وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَوَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ» ) . يَعْنِي الْمَدِينَةَ (فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدَ الْعُمْرَةَ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَمَاذَا تَرَى) ؟ أَيْ مِنَ الرَّأْيِ فِي حَقِّي (فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ; أَيْ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْآثَامِ (وَأَمْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ، أَصَبَوْتَ؟) : مِنَ الصَّبْوَةِ وَالصَّبْوُ الْمَيْلُ إِلَى الْجَهْلِ. كَذَا فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَصَبَأْتَ وَهُوَ مَهْمُوزٌ فَفِي النِّهَايَةِ: صَبَأَ فُلَانٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينِ غَيْرِهِ، وَكَذَا فِي الْفَائِقِ. وَفِي الْمَشَارِقِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ. قَوْلُهُ: أَصَبَوْتَ هَكَذَا الرِّوَايَةُ ; أَيْ أَصَبَأْتَ، وَقُرَيْشٌ كَانَتْ لَا تَهْمِزُ وَتُسَهِّلُ الْهَمْزَةَ ; أَيْ أَخْرَجْتَ عَنْ دِينِكَ؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَصَبَوْتَ هَكَذَا فِي الْأُصُولِ أَصَبَوْتَ، وَهِيَ لُغَةٌ وَالْمَشْهُورُ أَصَبَأْتَ بِالْهَمْزِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأُصُولِ لَا وَجْهَ مَعَ ثُبُوتِهَا إِلَى الْعُدُولِ، ثُمَّ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ " وَهِيَ لُغَةٌ " أَنَّهُ لُغَةٌ فِي صَبَأْتَ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ مَادَّةً وَمَعْنًى، وَالْعَجَبُ مِنَ الطِّيبِي أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى صَبَأْتَ بِالْهَمْزِ (فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: لَا، وَهُوَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ؟ قُلْتُ: هُوَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا خَرَجْتُ مِنَ الدِّينِ ; لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى دِينٍ فَأَخْرُجَ مِنْهُ، بَلِ اسْتَحْدَثْتُ دِينَ اللَّهِ، وَأَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَإِنْ قُلْتَ: مَعَ يَقْتَضِي إِحْدَاثَ الْمُصَاحَبَةِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ الْمُصَاحَبَةُ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: الْفِعْلُ بِهَا فَيَجِبُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ، كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي الصَّافَّاتِ. قُلْتُ: لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَافَقَهُ، فَيَكُونُ مِنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةً وَمِنْهُ اسْتِحْدَاثًا: أَقُولُ: هَذَا لَا يَبْعُدُ عَقْلًا، لَكِنْ يُسْتَبْعَدُ نَقْلًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنُقِلَ فِيهِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ إِلَيْنَا، وَفِي الْمَعِيَّةِ يُكْتَفَى بِالْمُشَارَكَةِ الْفِعْلِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِ بِلْقِيسَ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] ، ثُمَّ جَوَابُ سُؤَالِهِ الْأَوَّلِ مَبْنِيٌّ عَلَى نُسْخَةِ " صَبَأْتَ " لَا عَلَى " صَبَوْتَ " كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ صَبَأْتَ ; أَيْ مِنْ دِينِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَجَوَابُهُ بِلَا مُطَابِقٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَحَقِيقَةِ الْحَقِّ. (وَلَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَقْتَضِي مَنْفِيًّا وَالْوَاوُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ ; أَيْ لَا أُوَافِقُكُمْ فِي دِينِكُمْ. وَلَا أَرْفُقُ بِكُمْ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ( «وَاللَّهِ لَا تَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَاخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ) . فِي الْهِدَايَةِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ السِّلَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا حَضَرُوا مُسْتَأْمَنِينَ، وَلَا يُجَهَّزَ إِلَيْهِمْ مَعَ التُّجَّارِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَمَلِهِ إِلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمَعْرُوفُ مَا فِي سِيَرِ الْبَيْهَقِيِّ، وَمُسْنَدِ الْبَزَّارِ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ ; أَيِ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ حَمْلِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّهُ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمَقْصُودُ إِضْعَافُهُمْ إِلَّا أَنَّا عَرَفْنَا نَقْلَ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ بِالنَّصِّ يَعْنِي حَدِيثَ ثُمَامَةَ، وَحَدِيثَ أُسَامَةَ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إِسْلَامِ ثُمَامَةَ. وَفِي آخِرِهِ قَوْلُهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ. فَقَالَ: «إِنِّي وَاللَّهِ مَا صَبَوْتُ، وَلَكِنِّي أَسَلَّمْتُ وَصَدَّقْتُ مُحَمَّدًا وَآمَنْتُ بِهِ، وَايْمُ اللَّهِ الَّذِي نَفْسُ ثُمَامَةَ بِيَدِهِ لَا تَأْتِيكُمْ

حَبَّةٌ مِنَ الْيَمَامَةِ، وَكَانَتْ قَرِيبَ مَكَّةَ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا مُحَمَّدٌ، فَانْصَرَفَ إِلَى بَلَدِهِ، وَمَنَعَ الْحَمْلَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى جَهَدَتْ قُرَيْشٌ، فَكَتَبُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى ثُمَامَةَ يَحْمِلُ إِلَيْهِمُ الطَّعَامَ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. وَذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي آخِرِ السِّيَرِ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: «أَصَبَأْتَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُ خَيْرَ الدِّينِ دِينِ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَا تَصِلُ إِلَيْكُمْ حَبَّةٌ مِنَ الْيَمَامَةِ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - إِلَى أَنْ قَالَ: «فَكَتَبُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّكَ قَدْ قَطَعْتَ أَرْحَامَنَا، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ» . وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ عَلَى الْكَافِرِ وَإِطْلَاقِهِ بِغَيْرِ مَالٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى الْأُسَارَى، وَهُوَ أَنْ يُطْلِقَهُمْ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ شَيْءٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ مِنْهُمُ الْعَاصِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَأَجَابَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " فَإِنَّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْمَنِّ وَهِيَ آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَقِصَّةُ بَدْرٍ كَانَتْ سَابِقَةً عَلَيْهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ رَبْطِ الْأَسِيرِ وَحَبْسِهِ وَإِدْخَالِ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ، وَفِيهِ إِذَا أَرَادَ الْكَافِرُ الْإِسْلَامَ يُبَادِرُ بِهِ، وَلَا يُؤَخِّرْهُ لِلِاغْتِسَالِ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي تَأْخِيرِهِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّ اغْتِسَالَهُ وَاجِبٌ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ فِي الشِّرْكِ، سَوَاءٌ كَانَ اغْتَسِلْ مِنْهَا أَمْ لَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنِ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ فَالْغَسْلُ مُسْتَحَبٌّ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَآخَرُونَ: يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ، وَفِي تَكْرِيرِ سُؤَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَأْلِيفٌ لِقَلْبِهِ، وَمُلَاطَفَةٌ لِمَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ مِنَ الْأُسَارَى الَّذِينَ يَتْبَعُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ.

3965 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3965 - (وَعَنْ جُبَيْرِ) : بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ مُطْعِمٍ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ) : أَيْ فِي شَأْنِهِمْ لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي) : أَيْ شَفَاعَةً إِلَى (هَؤُلَاءِ النَّتْنَى) : جَمْعِ نَتِنٍ بِالتَّحْرِيكِ بِمَعْنَى مُنْتِنٍ؛ كَزَمِنٍ وَزَمْنَى، وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ نَتْنَى إِمَّا لِرِجْسِهِمُ الْحَاصِلِ مِنْ كُفْرِهِمْ عَلَى التَّمْثِيلِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ أَبْدَانُهُمْ وَجِيَفُهُمُ الْمُلْقَاةُ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ (لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) ; أَيْ لِأَجْلِهِ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَابْنُ عَمِّ جَدِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ لَهُ يَدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَارَهُ حِينَ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ وَذَبَّ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ، فَأَحَبَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَيًّا فَكَافَأَهُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَرَادَ بِهِ تَطْيِيبَ قَلْبِ ابْنِهِ جُبَيْرٍ وَتَأْلِيفَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، تَعْرِيضٌ بِالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِ الرَّسُولِ وَتَحْقِيرِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِمْ وَبِتَرْكِهِمْ لِمُشْرِكٍ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ يَدٌ اهـ. قِيلَ: وَفِيهِ بَيَانُ حَسَنِ الْمُكَافَأَةِ وَجَوَازُ فَرْضِ الْمُحَالِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِبَاقِي الْأَئِمَّةِ، وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ شَارِحٍ بِهَذَا لَا يُثْبِتُ الْمَنَّ ; لِأَنَّ (لَوْ) لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ يَعْنِي فَيُفِيدُ امْتِنَاعَ الْمَنِّ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصَرٍ بِالْكَلَامِ أَنَّ التَّرْكِيبَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُ لَتَرَكَهُمْ وَصِدْقُهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ الْمَنُّ جَائِزًا، فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ كَانَ يُطْلِقُهُمْ لَوْ سَأَلَهُمْ ; إِيَّاهُ وَالْإِطْلَاقُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ جَائِزٌ شَرْعًا، وَكَوْنُهُ لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ لَا يَنْفِي جَوَازَهُ شَرْعًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ اهـ. فَمَا اشْتُهِرَ عَلَى لِسَانِ الْمَنْطِقِيِّينَ أَنَّ " لَوِ " الشَّرْطِيَّةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْوُقُوعِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ غَيْرِ الشَّارِعِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ; أَيْ عَنْ جُبَيْرٍ، وَقَدْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ وَهُوَ كَافِرٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدَّثَ بِهِ عَنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، وَلَمْ أُسْلِمْ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: لَوْ كَانَ مُطْعِمٌ حَيًّا إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ وَالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ.

3966 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا، فَاسْتَحْيَاهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3966 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ) : أَيْ مِنْ كُفَّارِهِمْ (هَبَطُوا) : أَيْ نَزَلُوا (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ; أَيْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ (مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ) : فِي الْقَامُوسِ: التَّنْعِيمُ مَوْضِعٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنْ مَكَّةَ أَقْرَبَ أَطْرَافِ الْحِلِّ إِلَى الْبَيْتِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ عَلَى يَمِينِهِ جَبَلَ نُعَيْمٍ، وَعَلَى يَسَارِهِ جَبَلَ نَاعِمٍ، وَالْوَادِي اسْمُهُ نَعْمَانُ (مُتَسَلِّحِينَ) ; أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ لَابِسِينَ السِّلَاحَ مِنَ الدُّرُوعِ وَغَيْرِهَا (يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ) ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ; أَيْ غَفْلَتَهُمْ (فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا، بِكَسْرِ سِينٍ وَيُفْتَحُ مَعَ سُكُونِ اللَّامِ وَبِفَتْحِهِمَا وَبِهِنَّ وَرْدَ التَّنْزِيلُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ وَبِإِسْكَانِ اللَّامِ مَعَ كَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: مَعْنَاهُ الصُّلْحُ. قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا ضَبَطَهُ الْأَكْثَرُونَ. قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَظْهَرُ ; أَيْ أَسَرَهُمْ، وَجَزَمَ الْخَطَّابِيُّ عَلَى فَتْحِ اللَّامِ وَالسِّينِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِسْلَامُ وَالْإِذْعَانُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: 90] ; أَيْ الِانْقِيَادِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هُنَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالْقَضِيَّةِ إِنَّهُمْ لَمْ يُؤْخَذُوا صُلْحًا، وَإِنَّمَا أُخِذُوا قَهْرًا وَأَسْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عَجْزًا قَالَ: وَلِلْوَجْهِ الْآخَرِ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجْرِ مَعَهُمُ الْقِتَالَ بَلْ عَجَزُوا عَنْ دَفْعِهِمْ وَالنَّجَاةِ مِنْهُمْ فَرَضُوا بِالْأَسْرِ كَأَنَّهُمْ قَدْ صُولِحُوا عَلَى ذَلِكَ، (فَاسْتَحْيَاهُمْ) ، ; أَيِ اسْتَبْقَاهُمْ وَتَرَكَهُمْ أَحْيَاءً وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ. (وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ سَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُولَئِكَ وَمُجَازَاتُهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ بَعْدَمَا أَرَادُوا الْغِرَّةَ وَالْفَتْكَ بِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمُ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ بِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَهُمْ وَذَبَّهُمْ عَنْهُمْ، لَمْ تَحْصُلِ السَّلَامَةُ، أَسْنَدَ الْفِعْلَيْنِ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ حَيْثُ قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] ; أَيِ الْكَفُّ إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ تَعَالَى لَا مِنْكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وَإِنَّمَا فَصَلَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24] وَعْدًا لَهُمْ بِجَزَاءِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْعَفْوِ بَعْدَ الظَّفَرِ جُبْرَانًا لِمَا نُفِيَ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ إِثْبَاتًا لِلْكَسْبِ بَعْدَ نَفْيِ الْقُدْرَةِ. قُلْتُ: الْأَنْسَبُ تَنْظِيرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] هُنَا وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَذَلِكَ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ: خَرَجَ فِي خَمْسِمِائَةٍ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى جُنْدٍ، فَهَزَمَهُمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي أَبْزَى. قُلْتُ: وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] وَأَمَّا السَّيِّدُ مَعِينُ الدِّينِ الصَّفْوِيُّ قَالَ: فِيهِ شَيْءٌ، وَكَيْفَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَلْ كَانَ طَلِيعَةً لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، بَلْ هُوَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَحَفِظَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ وَعَنِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ وَهَتْكِ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا ظَفَرُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ أَنَّ سَبْعِينَ، أَوْ ثَمَانِينَ، أَوْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مُتَسَلِّحِينَ. . . الْحَدِيثَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَجُّ مَكَّةَ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذِ السُّورَةُ نَزَلَتْ قَبْلَهُ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمُضَارِعِ بِالْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، فَيَكُونُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْمَشْهُورُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي أَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ فُتِحَ عَنْوَةً، وَأَنَّ عُمَرَ وَظَّفَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُمْ بِالْمَنِّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ. وَتَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَدَعَا عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَمْ يَحْمَدُوا وَنَدِمُوا وَرَجَعُوا إِلَى رَأْيِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْأَرَاضِي لَيْسَ حَتْمًا أَنَّ مَكَّةَ فُتِحْتَ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْضَهَا، وَلِهَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ تَصِيرُ الْأَرْضُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، بَلْ عَلَى نَقْضِيهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ» ) وَلَوْ كَانَ صُلْحًا لَأَمِنُوا كُلُّهُمْ بِهِ بِلَا حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَى مَا ثَبَتَ مِنْ إِجَازَةِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ إِجَارَتِهِ وَمُدَافَعَتِهَا عَلِيًّا عَمَّنْ أَرَادَ قَتْلَهُ، وَأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ بَعْدَ دُخُولِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يُسْفَكُ بِهَا دَمٌ» " إِلَى أَنْ قَالَ: " «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَبَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ» ". فَقَوْلُهُ: بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3967 - وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقَذَفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ وَكَانَ إِذَا أَظْهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ ; أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمَ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ الْبُخَارِيُّ قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3967 - (وَعَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا) : أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ (مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ) : أَيْ أَشْرَافِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمُ الْوَاحِدُ صِنْدِيدٌ وَكُلُّ عَظِيمٍ غَالِبٍ صِنْدِيدٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هُوَ الشُّجَاعُ وَالْمُرَادُ هُنَا أَكَابِرُهُمْ (فَقُذِفُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ طُرِحُوا وَرُمُوا (فِي طَوِيٍّ) ; أَيْ بِئْرٍ مَطْوِيَّةٍ بِالْحِجَارَةِ مَحْكَمَةٍ بِهَا (مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ) فِي النِّهَايَةِ هُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَذَلِكَ جَمَعُوهُ عَلَى الْأَطْوَاءِ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ وَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْمِيَّةِ (خَبِيثٍ مُخْبِثٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ ; أَيْ فَاسِدٍ مُفْسِدٍ لِمَا يَقَعُ فِيهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الطَّوِيِّ وَالْقَلِيبِ الْبِئْرِ الَّذِي لَمْ تُطْوَ قُلْتُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ حَسِبَ أَنَّ الْبِئْرَ كَانَتْ مَطْوِيَّةً وَكَانَتْ قَلِيبًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ أُلْقِيَ فِي طَوِيٍّ وَبَعْضَهُمْ فِي قَلِيبٍ قُلْتُ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا أَصِلُهُمَا حَالَةَ الْوَصْفِ، ثُمَّ نَقْلًا إِلَى اسْمِ الْبِئْرِ مُطْلَقًا وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ الْقَلِيبُ الْبِئْرُ، أَوِ الْعَادِيَّةُ الْقَدِيمَةُ مِنْهَا وَطَوِيٌّ كَغَنِيٍّ بِئْرٌ بِمَكَّةَ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَلَى التَّجْرِيدِ فَإِنَّ الْمَرْسَنَ اسْمٌ لِأَنْفٍ فِيهِ رَسَنٌ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَنْفِ الْإِنْسَانِ، وَكَذَا الْمِشْفَرُ وَالْجَحْفَلَةُ اسْمٌ لِشَفْرَةِ الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِمَا شَفَةُ الْإِنْسَانِ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَجْهٍ {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] (وَكَانَ) ; أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ) ; أَيْ غَلَبَ (أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ) ; أَيْ عَرْصَةِ الْقِتَالِ وَسَاحَتِهِ مِنْ أَرْضِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَرْصَةُ كُلُّ مَوْضِعٍ وَاسِعٍ لَا بِنَاءَ فِيهِ (ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ) ; أَيْ مُقِيمًا بِهَا (الْيَوْمَ الثَّالِثَ) بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ ; أَيْ فَلَمَّا وَقَعَ، أَوْ مَضَى، أَوْ وُجِدَ، أَوْ تَمَّ بِبَدْرٍ الْيَوْمُ الثَّالِثُ (أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ) ; أَيْ بِشَدِّهَا (فَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا) ; أَيْ قَتَبَهَا (ثَمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ ; أَيْ وَتَبِعَهُ وَلَحِقَهُ (أَصْحَابُهُ حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ ; أَيْ حَافَّةِ الْبِئْرِ الَّتِي فِيهَا صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ (فَجَعَلَ) ; أَيْ شَرَعَ وَطَفِقَ (يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ) ; أَيْ لِلتَّمْيِيزِ (يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ) بِفَتْحِ نُونِ فُلَانٍ وَضَمِّهَا وَبِنَصْبِ ابْنٍ كَمَا سَبَقَ (وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ) ; أَيْ نَادَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ قَالَ خِطَابًا لِلْجَمِيعِ (أَيَسُرُّكُمْ) بِضَمِّ السِّينِ ; أَيْ يُوقِعُكُمْ فِي السُّرُورِ وَيُعْجِبُكُمْ (أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) ; أَيْ ثَابِتًا مِنْ غَلَبَتِنَا عَلَيْكُمْ (فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) ; أَيْ مِنَ الْعَذَابِ فَهَذَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ لَهُمْ قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ هَلْ تَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا وَصَلْتُمْ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ قُلْتُ فَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَتَحْزَنُونَ وَتَتَحَسَّرُونَ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا وَتَذْكُرُونَ قَوْلَنَا لَكُمْ إِنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَيَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ وَيَخْذُلُ أَعْدَاءَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا (فَقَالَ عُمَرُ يَا رُسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمَ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا) " مَا " مُبْتَدَأٌ بِمَعْنَى الَّذِينَ وَ " مِنْ " بَيَانُ مَا وَ " لَا أَرْوَاحَ لَهَا " خَبَرُهُ ; أَيْ مَنْ تَكَلَّمُ مَعَهُمْ أَشْبَاحٌ بِلَا أَرْوَاحٍ فَكَيْفَ يُجِيبُونَكَ وَقِيلَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَمِنْ زَائِدَةٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَى الثَّانِي فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ ; لِأَنَّ فِي الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى النَّفْيِ وَعَلَى الْأَوَّلِ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ; أَيِ الَّذِينَ تُكَلِّمُهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَكَ، أَوْ مِنْ زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَأَجْسَادٍ خَبَرٌ لَهُ اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تُكَلِّمُ بِمَعْنَى تَسْأَلُ وَمِنْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ كَلِمَةِ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ) مُتَعَلِّقٍ بِأَسْمَعَ (وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ) وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْمَازِرِيُّ قِيلَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ خَاصٌّ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَقَالَ يُحْمَلُ سَمَاعُهُمْ عَلَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ سَمَاعُ الْمَوْتَى فِي أَحَادِيثِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ الَّتِي لَا مَدْفَعَ لَهَا وَذَلِكَ بِإِحْيَائِهِمْ، أَوْ إِحْيَاءِ أَجْزَاءٍ مِنْهُمْ يُعَلَّقُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ قَالَ الشَّيْخَ: هَذَا هُوَ

الْمُخْتَارُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: أَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَسْمَعُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ مَيِّتًا لَا يَحْنَثُ ; لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَا يُجِيبُ بِفَهْمِ السَّمَاعِ كَمَا قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ فَأَكَلَ السَّمَكَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالِي سَمَّاهُ لَحْمًا طَرِيًّا قَالَ: وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَارَةً بِأَنَّهُ مَرْدُودٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَيْفَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] ، {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا لَاسِيَّمَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَوْتَى الْكُفَّارُ وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى نَفْيِ النَّفْعِ لَا عَلَى مُطْلَقِ السَّمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] ، أَوْ عَلَى نَفْيِ الْجَوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى السَّمْعِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] وَهُمْ مِثْلُهُمْ لَمَّا سَدُّوا عَنِ الْحَقِّ مَشَاعِرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ; أَيْ هِدَايَتَهُ فَيُوَفِّقُهُ لِفَهْمِ ; آيَاتِهِ وَالِاتِّعَاظِ بِعِظَاتِهِ {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] تَرْشِيحٌ لِتَمْثِيلِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ بِالْأَمْوَاتِ وَمُبَالَغَةٌ فِي إِقْنَاطِهِ عَنْهُمْ اهـ. فَالْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] ، ثُمَّ قَالَ وَتَارَةً بِأَنَّ تِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْجِزَةٌ وَزِيَادَةُ حَسْرَةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ أَقُولُ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ الْآتِي وَيَرُدُّهُ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَهُوَ مَفْقُودٌ هُنَا بَلِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ يُنَافِيَانِهِ قَالَ وَتَارَةً بِأَنَّهُ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ أَقُولُ وَيَدْفَعُهُ جَوَابُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ وَيُشْكِلُ عَلَيْهِمْ خَبَرُ مُسْلِمٍ «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا» اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَخُصُّوا ذَلِكَ بِأَوَّلِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ مُقَدِّمَةً لِلسُّؤَالِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ تَحَقُّقِ عَدَمِ سَمَاعِهِمْ فَإِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الْكُفَّارَ بِالْمَوْتَى لِإِفَادَةِ بُعْدِ سَمَاعِهِمْ وَهُوَ نَوْعُ عَدَمِ سَمَاعِ الْمَوْتَى اهـ. وَهُوَ كَمَا تَرَى فِيهِ نَوْعُ نَقْضٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ جَمْعٌ مَعَ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ السَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى يُرَدُّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِأَوَّلِ أَحْوَالِ الدَّفْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ الْبُخَارِيُّ قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا) ; أَيْ تَحْقِيرًا (وَنِقْمَةً) ; أَيِ انْتِقَامًا (وَحَسْرَةً وَنَدَمًا) ; أَيْ تَحْسِيرًا وَتَنْدِيمًا وَكَانَ الْمَازِرِيُّ أَخَذَ الِاخْتِصَاصَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ فِي أَحْوَالِ الْقُبُورِ.

3968 - وَعَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ قَالُوا فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ ; إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَنْ يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3968 - (وَعَنْ مَرْوَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ هُوَ ابْنُ الْحَكَمِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ جَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ سَنَةَ اثْنَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ عَامَ الْخَنْدَقِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَبَاهُ إِلَى الطَّائِفِ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى وَلِيَ عُثْمَانُ فَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمَهَا وَابْنُهُ مَعَهُ مَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ رَوَى عَنْ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَنْهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (وَالْمِسْوَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ (ابْنِ مَخْرَمَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ بَيْنَهُمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ هُوَ زُهْرِيٌّ قُرَشِيٌّ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وُلِدَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ وَقُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ ثَمَانِ سِنِينَ وَجَمَعَ مِنْهُ وَحَفِظَ عَنْهُ وَكَانَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ لَمْ يَزَلْ بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ فَانْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَكَرِهَ بَيْعَةَ يَزِيدَ فَتَمَّ مُقِيمًا بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ بَعَثَ يَزِيدُ عَسْكَرَهُ وَحَاصَرَ مَكَّةَ وَبِهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَأَصَابَ الْمِسْوَرَ حَجَرٌ مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْحِجْرِ فَقَتَلَهُ. وَذَلِكَ فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ) كَذَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فَالْمَعْنَى قَامَ وَاعِظًا وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ قَالَ (حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ) قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ (مُسْلِمِينَ) ; أَيْ بَعْدَ أَنْ أَغَارُوا مَالَهُمْ وَأَسَرُوَا ذُرِّيَّتَهُمْ وَقَسَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ (فَسَأَلُوهُ) ; أَيْ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ) قِيلَ كَانَ السَّبْيُ سَبْعَةَ آلَافٍ (فَقَالَ اخْتَارُوا) أَمْرٌ مِنْ الِاخْتِيَارِ وَالْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ إِذَا جِئْتُمْ مُسْلِمِينَ فَاخْتَارُوا (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ) قَالَ الطِّيبِيُّ جَعَلَ الْمَالَ طَائِفَةً إِمَّا عَلَى الْمَجَازِ، أَوْ عَلَى التَّغْلِيبِ قُلْتُ، أَوْ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ لَكِنْ فِي الْقَامُوسِ الطَّائِفَةُ مِنَ الشَّيْءِ الْقِطْعَةُ مِنْهُ، أَوِ الْوَاحِدُ فَصَاعِدًا، أَوْ إِلَى الْأَلْفِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الطَّائِفَةُ مِنَ الشَّيْءِ قِطْعَةٌ مِنْهُ فَلَا مَجَازَ وَيُؤَيِّدُهُ كَلَامُ الرَّاغِبِ الطَّوَّافِ الْمَشْيُ حَوْلَ الشَّيْءِ وَمِنْهُ الطَّائِفُ لِمَنْ يَدُورُ حَوْلَ الْبَيْتِ وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ الطَّائِفُ لِلْخَيَالِ وَالْحَادِثَةِ وَغَيْرِهَا وَالطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَمِنَ الشَّيْءِ الْقِطْعَةُ مِنْهُ

(قَالُوا فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا) فَإِنَّهُ أَعَزُّ مِنَ الْمَالِ مَعَ أَنَّ فِي سَبْيِهِمُ الْعَارَ وَمِنْ أَمْثَالِهِمُ النَّارَ وَلَا الْعَارَ (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ; أَيْ خَطِيبًا وَاعِظًا وَلَعَلَّ إِعَادَتَهُ لِطُولِ الْفَصْلِ (فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ) ; أَيْ بِمَا يَلِيقُ لِجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ (ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ) ; أَيْ بَعْدَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالْحَمْدِ الْجَزِيلِ (فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ) ; أَيْ فِي الدِّينِ، أَوْ فِي النَّسَبِ (جَاءُوا تَائِبِينَ) ; أَيْ مِنَ الشِّرْكِ رَاجِعِينَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ مُسْلِمِينَ مُنْقَادِينَ (وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ) مِنَ الرَّأْيِ (أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ) ; أَيْ جَمِيعَهُ إِلَيْهِمْ (فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ) ; أَيِ السَّبْيَ يَعْنِي رَدَّهُ قَالَ مِيرَكُ نَاقِلًا عَنِ الشَّيْخِ هُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ ; أَيْ يُعْطِيَهُ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ (فَلْيَفْعَلْ) وَقَالَ الطِّيبِيُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرَّأْيِ وَهُوَ رَدُّ السَّبْيِ وَالْمَعْنَى مَنْ يُطَيِّبُ عَلَى نَفْسِهِ الرَّدَّ اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنْ يَطِيبَ بِالتَّخْفِيفِ (وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ) ; أَيْ نَصِيبِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَدُومَ عَلَى حَظِّهِ لِأَجْلِهِ فَيَتَرَقَّبَ (حَتَّى نُعْطِيَهُ ; إِيَّاهُ) ; أَيْ عِوَضَهُ (مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا) مِنَ الْإِفَاءَةِ (فَلْيَفْعَلْ) وَالْفَيْءُ مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ الْحَرْبِ كَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ (فَقَالَ النَّاسُ) ; أَيْ بَعْضُهُمْ مِمَّا بَيْنَهُمْ، أَوْ كُلُّهُمْ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ (قَدْ طَيَّبْنَا) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ (ذَلِكَ) ; أَيِ الرَّدَّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّا لَا نَدْرِي) : أَيْ بِطَرِيقِ الِاسْتِغْرَاقِ (مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ) ; أَيْ رَضِيَ ذَلِكَ الرَّدَّ (مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ) ; أَيْ لَمْ يَرْضَ، أَوْ مَنْ أَذِنَ لَنَا مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ قَالَ الْمُظْهِرُ وَإِنَّمَا اسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحَابَةَ فِي رَدِّ سَبْيِهِمْ ; لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ صَارَ مِلْكًا لِلْمُجَاهِدِينَ وَلَا يَجُوزُ رَدُّ مَا مَلَكُوا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ (فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ عُرَفَاؤُكُمْ) ; أَيْ رُؤَسَاؤُكُمْ وَنُقَبَاؤُكُمْ (أَمْرَكُمْ) ; أَيْ تَفْصِيلَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ حَتَّى هَاهُنَا غَيْرُ حَتَّى السَّابِقَةِ ; لِأَنَّ الْأُولَى مَا بَعْدَهَا الْمُسْتَقْبَلُ وَهِيَ بِمَعْنَى كَيْ وَهَذِهِ مَا بَعْدَهَا فِي مَعْنَى الْحَالِ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا كَقَوْلِهِمْ شَرِبَتِ الْإِبِلُ حَتَّى يَجِيءَ الْبَعِيرُ (فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا) ; أَيْ عُرَفَاؤُهُمْ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ) ; أَيِ النَّاسَ كُلَّهُمْ (قَدْ طَيَّبُوا) ; أَيْ ذَلِكَ الرَّدَّ (وَأَذِنُوا) ; أَيْ بِالرَّدِّ إِلَيْهِمْ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3969 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَ ثَقِيفٌ حَلِيفًا لِبَنِي عُقَيْلٍ فَأَسَرَتْ ثَقِيفٌ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ فَأَوْثَقُوهُ فَطَرَحُوهُ فِي الْحَرَّةِ فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ أُخِذْتُ قَالَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكُمْ ثَقِيفٍ فَتَرَكَهُ وَمَضَى فَنَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَرَحِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَجَعَ وَقَالَ مَا شَأْنُكَ قَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ فَقَالَ لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ قَالَ فَفَدَاهُ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3969 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ كَانَ ثَقِيفٌ) بِالتَّنْوِينِ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَرْكِهِ وَهُوَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ كَأَمِيرٍ، أَوْ قَبِيلَةٌ مِنْ هَوَازِنَ (حَلِيفًا لِبَنِي عُقَيْلٍ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ عَلَى صِيغَةِ الْمُصَغَّرِ قَبِيلَةٌ كَانُوا حُلَفَاءَ ثَقِيفٍ (فَأَسَرَتْ ثَقِيفٌ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ) ; أَيْ عِوَضًا مِنَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخَذَهُمَا ثَقِيفٌ وَكَانَ عَادَتُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْحَلِيفَ بِجُرْمِ حَلِيفِهِ فَفَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الصَّنِيعَ عَلَى عَادَتِهِمْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (فَأَوْثَقُوهُ) ; أَيْ شَدُّوهُ بِالْوِثَاقِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْوَاوِ مَا يَشُدُّ بِهِ وَيُوثَقُ (فَطَرَحُوهُ فِي الْحَرَّةِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَرْضٌ بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ بِهَا حِجَارَةٌ سُودٌ (فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ) بِالْيَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَحُذِفَتْ أَلِفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بَعْدَ دُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ ; أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ (أُخِذْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ أُسِرْتُ وَأُوثِقْتُ (قَالَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكُمْ ثَقِيفٍ) بَدَلٌ وَالْجَرِيرَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى الْجِنَايَةُ وَالذَّنْبُ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ ثَقِيفٍ مُوَادَعَةٌ فَلَمَّا نَقَضُوهَا وَلَمْ تُنْكِرْ عَلَيْهِمْ بَنُو عُقَيْلٍ وَكَانُوا مَعَهُمْ فِي الْعَهْدِ صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ فَأَخَذُوهُ بِجَرِيرَتِهِمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أُخِذْتَ لِنَدْفَعَ بِكَ جَرِيرَةَ حُلَفَائِكُمْ مِنْ ثَقِيفٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَدَى بَعْدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فَتَرَكَهُ وَمَضَى فَنَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ) مَرَّتَيْنِ (فَرَحِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (فَرَجَعَ) ; أَيْ إِلَيْهِ

(فَقَالَ مَا شَأْنُكَ قَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ) ; أَيِ الْآنَ، أَوْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الزَّمَانِ (فَقَالَ لَوْ قُلْتَهَا) ; أَيْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، أَوْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ (وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ) ; أَيْ فِي حَالِ اخْتِيَارِكَ، وَقِيلَ كَوْنِكَ أَسِيرًا (أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ) ; أَيْ نَجَوْتَ فِي الدُّنْيَا بِالْخَلَاصِ مِنَ الرِّقِّ وَفِي الْعُقْبَى بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَسْرِ فَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَهُ حَرُمَ قَتْلُهُ وَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ وَإِنْ قَبِلَ الْجِزْيَةَ قَبْلَهُ بَعْدَ الْأَسْرِ فَفِي حُرْمَةِ قَتْلِهِ خِلَافٌ زَادَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفِدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعْدَ الْأَسْرِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُجِيبُ إِطْلَاقَهُ وَفِي الْهِدَايَةِ وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ وَهُوَ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا إِذَا طَالَبَ نَفْسَهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إِسْلَامِهِ فَيَحُوزُ ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَخْلِيصَ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ أَضْرَارٍ لِمُسْلِمٍ آخَرَ اهـ. فَقِيلَ إِنَّمَا رَدَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَادِقٍ فَهَذَا خَاصَّةً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ رَدُّهُ وَأَخْذُ الرَّجُلَيْنِ بَدَلَهُ لَا يُنَافِي إِسْلَامَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ شَرْطًا بَيْنَهُمْ فِي الْمُعَاهَدَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ) ; أَيْ عِمْرَانُ (فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ; أَيْ أَبْدَلَهُ (بِالرَّجُلَيْنِ الَّذِينَ أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَلَا يُفَادَى بِالْأُسَارَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذِهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَعَلَيْهَا مَشَى الْقُدُورِيُّ وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُفَادَى بِهِمْ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ إِلَّا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِنَّ عِنْدَهُمْ وَمَنَعَ أَحْمَدُ الْمُفَادَاةَ بِصِبْيَانِهِمْ وَهَذِهِ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ قِيلَ وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأُسَارَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا بَعْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ بِكُلِّ حَالٍ وَجْهُ رِوَايَةِ الْكِتَابِ يَعْنِي الْهِدَايَةَ مَا ذُكِرَ أَنَّ فِيهِ مَعُونَةَ الْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ يَعُودُ حَرْبًا عَلَيْنَا وَدَفْعُ شَرِّ حِرَابَتِهِ خَيْرٌ مِنِ اسْتِنْقَاذِ الْمُسْلِمِ ; لِأَنَّهُ إِذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ; إِيذَاءً فِي حَقِّهِ فَقَطْ وَالضَّرَرُ بِدَفْعِ أَسِيرِهِمْ إِلَيْهِمْ يَعُودُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمُوَافِقَةِ لِقَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ كَسْبِ الْكَافِرِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ وَلِأَنَّ حُرْمَتَهُ عَظِيمَةٌ وَمَا ذُكِرَ مِنَ الضَّرَرِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْنَا بِدَفْعِهِ إِلَيْهِمْ يَدْفَعُهُ نَفْعُ الْمُسْلِمِ الَّذِي يَتَخَلَّصُ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ ضَرَرُ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَقُومُ بِدَفْعِهِ وَاحِدٌ مِثْلُهُ ظَاهِرًا فَيَتَكَافَأُ، ثُمَّ تَبْقَى فَضِيلَةُ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي زِيَادَةُ تَرْجِيحٍ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحَهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَى رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ «خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ أَمَّرَهُ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنْ قَالَ فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السُّوقِ فَقَالَ يَا سَلَمَةُ هَبْ لِيَ الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ أَعْنِي الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ نَفَّلَهُ إِيَّاهَا فَقُلْتُ هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا فَفَدَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ» إِلَّا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ رَأْيَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَادُونَ بِالنِّسَاءِ قُلْتُ لَعَلَّ كَلَامَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى وَاحِدَةٍ بِوَاحِدَةٍ وَالْمَوْرِدُ بِخِلَافِهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3970 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أُسَرَائِهِمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَقَالُوا نَعَمْ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3970 - (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أُسَرَائِهِمْ) ; أَيْ حِينَ غَلَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ وَأَسَرَ بَعْضَهُمْ وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ (بَعَثَتْ زَيْنَبُ) ; أَيْ بِنْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ) ; أَيْ زَوْجِهَا حِينَئِذٍ (بِمَالٍ وَبَعَثَتْ فِيهِ) ; أَيْ فِي جُمْلَةِ الْمَالِ، أَوْ لِأَجْلِ خَلَاصِهِ ; أَيْضًا (بِقِلَادَةٍ لَهَا) وَهِيَ بِكَسْرِ الْقَافِ مَا جُعِلَ فِي الْعُنُقِ (كَانَتْ) ; أَيْ تِلْكَ الْقِلَادَةُ أَوَّلًا (عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا) ; أَيْ أَدْخَلَتْ خَدِيجَةُ الْقِلَادَةَ (بِهَا) ; أَيْ مَعَ زَيْنَبَ (عَلَى أَبِي الْعَاصِ) وَالْمَعْنَى دَفَعَتْهَا إِلَيْهَا حِينَ دَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو الْعَاصِ زُفَّتْ إِلَيْهِ فَعَرَفَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلَمَّا رَآهَا) ; أَيْ تِلْكَ الْقِلَادَةِ (رَسُولُ اللَّهِ رَقَّ لَهَا) ; أَيْ لِزَيْنَبَ (رِقَّةً شَدِيدَةً) ; أَيْ لِغُرْبَتِهَا وَوَحْدَتِهَا وَتَذَكَّرَ عَهْدَ خَدِيجَةَ

وَصُحْبَتِهَا فَإِنَّ الْقِلَادَةَ كَانَتْ لَهَا وَفِي عُنُقِهَا (وَقَالَ إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَفْعُولُ الثَّانِي لَرَأَيْتُمْ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفَانِ ; أَيْ إِنْ رَأَيْتُمُ الْإِطْلَاقَ وَالرَّدَّ حَسَنًا فَافْعَلُوهُمَا (قَالُوا نَعَمْ) ; أَيْ رَأَيْنَا ذَلِكَ (وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ عَلَيْهِ) ; أَيْ عَلَى أَبِي الْعَاصِ عَهْدًا عِنْدَ إِطْلَاقِهِ (أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ) ; أَيْ يُرْسِلَهَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَأْذَنَ لَهَا بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ الْقَاضِي وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْعَاصِ زَوْجِهَا مِنْهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ (وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ كُونَا بِبَطْنِ يَأْجِجَ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَجِيمٍ مَكْسُورَةٍ، ثُمَّ جِيمٍ مُنَوَّنَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ مَفْتُوحَةً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ التَّنْعِيمِ وَقِيلَ مَوْضِعُ إِمَامٍ بِمَسْجِدِ عَائِشَةَ وَقَالَ الْقَاضِي بَطْنُ يَأْجِجَ مِنْ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ الَّتِي حَوْلَ الْحَرَمِ وَالْبَطْنُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ هُوَ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ وَالْخَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ الْجِيمِ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ فِي فَصْلِ الْيَاءِ مِنْ بَابِ الْجِيمِ يَأْجَجُ بِالْأَلِفِ كَيَمْنَعُ وَيَضْرِبُ مَوْضِعٌ وَذُكِرَ فِي أَحَاجٍ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ مُلْحَقٌ بِجَعْفَرٍ وَذُكِرَ فِي فَصْلِ الْهَمْزَةِ مِنْ بَابِ الْجِيمِ كَيَسْمَعُ وَيَنْصُرُ مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ اهـ. وَفِي فَصْلِ النُّونِ مِنْ بَابِ الْحَاءِ لَمْ يَعْتَرِضْ لَهُ ذِكْرٌ وَذُكِرَ فِي الْمُغْنِي فِي حَرْفِ الْيَاءِ بَطْنُ يَأْجِجَ بِجِيمٍ فَحَاءٍ مَوْضِعٌ (حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ) ; أَيْ مَعَ مَنْ يَصْحَبُهَا (فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا) ; أَيْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ الْأَشْرَافُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ عَلَى الْأَسِيرِ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ فِدَاءٍ وَعَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَنْ يُرْسِلَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنَ الرِّجَالِ مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي طَرِيقٍ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ قُلْتُ الِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي فِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا مَحْرَمٌ، أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ وَكَانَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فَتَذَكَّرْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ بِأَخْذِهِ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُفَادَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رَدِّهِ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأُسَارَى بَدْرٍ إِذْ لَا شَكَّ فِي احْتِيَاجِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ فِي شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِذْ ذَاكَ فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ الْمُفَادَاةِ الْكَائِنَةِ فِي بَدْرٍ بِالْمَالِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ تِلْكَ الْمُفَادَاةِ مِنَ الْعَتْبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] ; أَيْ حَتَّى يَقْتُلَ أَعْدَاءَ اللَّهِ فَيَنْفِيَهِمْ عَنْهَا {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67] وَقَوْلِهِ {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] وَهُوَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا قَبْلَ النَّهْيِ، وَلَمْ يَكُنْ نَهَاهُمْ، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] مِنَ الْغَنَائِمِ وَالْأُسَارَى عَذَابٌ عَامٌّ، ثُمَّ أَحَلَّهَا لَهُ وَلَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى فَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] هِيَ الْمَجْمُوعُ مِنَ الْفِدَاءِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ لِلْغَنِيمَةِ فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قُلْنَا لَوْ سُلِّمَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُسَلَّمُ تَقْيِيدُهُ مَا إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَّةٍ، وَفِي رَدِّ تَكْبِيرِ الْمُحَارِبِينَ لِأَجْلِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَفِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ وَأَبَا بَكْرٍ بَأَخْذِ الْفِدَاءِ تَقَوِّيًا وَرَجَاءَ أَنْ يُسْلِمُوا، قَالَ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا الْفِدَاءَ أُنْزِلَتِ الْآيَةُ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ ابْكِ عَلَى أَصْحَابِكَ فِي أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنَ الشَّجَرَةِ قَالَ وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِقَوْلِهِ الْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ أَحَبُّ إِلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ أَبَا الْعَاصِ هُوَ الرَّبِيعُ ابْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أُمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ «وَكَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ فَهَاجَرَتْ وَأَبُو الْعَاصِ عَلَى دِينِهِ وَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فِي تِجَارَةٍ فَلَمَّا كَانَ قُرَيْبَ الْمَدِينَةِ أَرَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهِ فَيَأْخُذُوا مَا مَعَهُ وَيَقْتُلُوهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ زَيْنَبَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ عَهْدُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدًا قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: فَأَشْهَدْتُ أَنِّي أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجُوا عُزْلًا بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَقَالُوا يَا أَبَا الْعَاصِ إِنَّكَ فِي شَرَفٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَلْ لَكَ أَنْ تُسْلِمَ فَتَغْتَنِمَ مَا مَعَكَ مِنَ أَمْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ بِئْسَ مَا أَمَرْتُمُونِي بِهِ أَنْ أَنْسَخَ دِينِي بِعُذْرَةٍ فَمَضَى حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَرَفَعَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَوْفَيْتُ ذِمَّتِي قَالُوا اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا فَدَفَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ زَيْنَبَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ.»

3971 - وَعَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَسَرَ أَهْلَ بَدْرٍ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَمَنَّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ.» رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3971 - (وَعَنْهَا) ; أَيْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَسَرَ أَهْلَ بَدْرٍ) وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (قَتَلَ عُقْبَةَ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (ابْنَ أَبِي مُعَيْطٍ) بِالتَّصْغِيرِ (وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ) فِي الْهِدَايَةِ وَهُوَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَتَلَ مِنَ الْأَسْرَى إِذْ لَا شَكَّ فِي قَتْلِهِ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَغَيْرَهُ ; لِأَنَّ فِي قَتْلِهِمْ حَسْمَ مَادَّةِ الْفَسَادِ الْكَائِنِ مِنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ ; لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَصْلَحَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا قُلْنَا لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْغُزَاةِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرًا بِنَفْسِهِ ; لِأَنَّ الرَّأْيَ فِيهِ إِلَى الْإِمَامِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ السَّوَادِ إِلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ إِذَا أُسِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ بَلْ إِمَّا الْإِسْلَامَ وَإِمَّا السَّيْفَ فَإِنْ أَسْلَمَ الْأُسَارَى بَعْدَ الْأَسْرِ لَا نَقْتُلُهُمْ وَلَكِنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي الرِّقَّ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَقَدْ وُجِدَ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُشْرِكِ مِنَ الْعَرَبِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْأَخْذِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا ; لِأَنَّهُ إِسْلَامٌ قَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِمْ (وَمَنَّ) ; أَيْ بِالتَّخْلِيصِ (عَلَى أَبِي عَزَّةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ (الْجُمَحِيِّ) بِمَضْمُومِهِ وَفَتْحِ مِيمٍ وَإِهْمَالِ حَاءٍ، مَنْسُوبٍ إِلَى جُمَحِ بْنِ عَمْرٍو كَذَا فِي الْمُغْنِي وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) كَذَا فِي أَصَحِّ النُّسَخِ وَفِي نُسْخَةٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ وَفِي نُسْخَةٍ وَعَنْ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مَعَ بَيَاضٍ وَفِي آخِرِهِ رَوَاهُ وَبَيَاضٌ بَعْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

3972 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ قَتْلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ مَنْ لِلصِّبْيَةِ قَالَ النَّارُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3972 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ قَتْلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ مَنْ لِلصِّبْيَةِ» ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ صَبِيٍّ كَفِتْيَةٍ وَالْقِيَاسُ صِبْوَةٌ وَالْمَعْنَى مَنْ يَكْفُلُ بِصِبْيَا لِي وَيَتَصَدَّى لِتَرْبِيَتِهِمْ وَمُؤْنَتِهِمْ وَأَنْتَ تَقْتُلُ كَافِلَهُمْ (قَالَ) ; أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (النَّارُ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ النَّارُ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّيَاعِ يَعْنِي إِنْ صَلَحَتِ النَّارُ أَنْ تَكُونَ كَافِلَةً فَهِيَ هِيَ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْجَوَابَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ ; أَيْ لَكَ النَّارُ وَالْمَعْنَى اهْتَمَّ بِشَأْنِ نَفْسِكَ وَمَا هُيِّئَ لَكَ مِنَ النَّارِ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الصِّبْيَةِ فَإِنَّ كَافِلَهُمْ هُوَ اللَّهُ الَّذِي مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَيْهِ رِزْقُهَا وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ ذِكْرَهُ الطِّيبِيُّ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْوَجْهُ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ اللَّهُ بَدَلَ النَّارِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3973 - وَعَنْ عَلِيٍّ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جِبْرِيلَ هَبَطَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ خَيِّرْهُمْ يَعْنِي أَصْحَابَكَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ الْقَتْلَ، أَوِ الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ قَابِلًا مِثْلُهُمْ قَالُوا الْفِدَاءَ وَيُقْتَلَ مِنَّا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3973 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جِبْرِيلَ هَبَطَ عَلَيْهِ) ; أَيْ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ لَهُ خَيِّرْهُمْ يَعْنِي) ; أَيْ يُرِيدُ بِالضَّمِيرِ (أَصْحَابَكَ) وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابَكَ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى وَهَذَا التَّفْسِيرُ إِمَّا مِنْ عَلِيٌّ، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّوَاةِ وَالْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ (فِي أُسَارَى بَدْرٍ الْقَتْلَ، أَوِ الْفِدَاءَ) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا ; أَيْ فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ، أَوِ الْفِدَاءَ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ تُقْتَلُوا أُسَارَى وَلَا يَلْحَقُكُمْ ضَرَرٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَبَيْنَ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ (عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ) ; أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ (قَابِلًا) ; أَيْ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ الْآتِيَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا السَّنَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا غَزْوَةُ أُحُدٍ (مِثْلُهُمْ) يَعْنِي بِعَدَدِ مَنْ يُطْلِقُونَ مِنْهُمْ يَكُونُ الظَّفَرُ لِلْكُفَّارِ فِيهَا وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ (قَالُوا) ; أَيِ الصَّحَابَةُ (الْفِدَاءَ) ; أَيِ اخْتَرْنَا الْفِدَاءَ (وَيُقْتُلَ مِنَّا) بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ عَلَى الْفِدَاءِ ; أَيْ وَأَنْ يُقْتَلَ مِنَّا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِثْلُهُمْ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا ; أَيِ اخْتِيَارُنَا فَدَاؤُهُمْ وَقَتْلُ بَعْضِنَا فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُحُدٍ مِثْلُ مَا افْتَدَى الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْكَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ وَأُسِرَ

سَبْعُونَ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وَإِنَّمَا اخْتَارُوا ذَلِكَ رَغْبَةً مِنْهُمْ فِي إِسْلَامِ أُسَارَى بَدْرٍ فِي نَيْلِهِمْ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ وَشَفَقَةً مِنْهُمْ عَلَى الْأُسَارَى بِمَكَانِ قَرَابَتِهِمْ مِنْهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ جِدًّا لِمُخَالَفَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَلِمَا صَحَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي أَمْرِ أُسَارَى بَدْرٍ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ رَأْيًا رَأَوْهُ فَعُوتِبُوا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ تَخْيِيرٌ بِوَحْيٍ سَمَاوِيٍّ لَمْ تَتَوَجَّهِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إِلَى قَوْلِهِ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وَأَظْهَرَ لَهُمْ شَأْنَ الْعَاقِبَةِ بِقَتْلِ سَبْعِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ عَنْ نُزُولِ قَوْلِهِ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] وَمِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُ هَذَا التَّأْوِيلَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَعَلَّ عَلِيًّا ذَكَرَ هُبُوطَ جِبْرِيلَ فِي شَأْنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانِهَا فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ وَمِمَّا جَرَّأَنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا هُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ تَفَرَّدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ ذَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سُفْيَانَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَالسَّمْعُ قَدْ يُخْطِئُ وَالنِّسْيَانُ كَثِيرًا قَدْ يَطْرَأْ عَلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ عَنْهُ مُتَّصِلًا وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مُرْسَلًا فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْقَوْلَ لِظَاهِرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الْحَدِيثِ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ امْتَحَنَ اللَّهُ تَعَالَى أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] الْآيَتَيْنِ وَامْتَحَنَ النَّاسَ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة: 102] وَامْتَحَنَ النَّاسَ بِالْمَلَكَيْنِ وَجَعَلَ الْمِحْنَةَ فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْعَامِلُ تَعَلُّمَ السِّحْرِ فَيَكْفُرَ، وَيُؤْمِنَ بِتَرْكِ تَعَلُّمِهِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ وَأَنْزَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ هَلْ هُمْ يَخْتَارُونَ مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَتْلِ أَعْدَائِهِ أَمْ يُؤْثِرُونَ الْعَاجِلَةَ مِنْ قَبُولِ الْفِدَاءِ فَلَمَّا اخْتَارُوا الثَّانِيَ عُوقِبُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] قُلْتُ بِعَوْنِ اللَّهِ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ غَيْرُ مَقْبُولٍ ; لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ وَمَدْخُولٌ فَإِنَّهُ إِذَا صَحَّ التَّخْيِيرُ لَمْ يُجْزِ الْعِتَابُ وَالتَّعْيِيرُ فَضْلًا عَنِ التَّعْذِيبِ وَالتَّعْزِيزِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَخْيِيرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُنَّ لَوِ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا لَعُذِّبْنَ فِي الْعُقْبَى وَلَا فِي الْأُولَى وَغَايَتُهُ أَنَّهُنَّ يُحْرَمْنَ مِنْ مُصَاحَبَةِ الْمُصْطَفَى لِفَسَادِ اخْتِيَارِهِنَّ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَأَمَّا قَضِيَّةُ الْمَلَكَيْنِ وَقَضِيَّةُ تَعْلِيمِ السِّحْرِ فَنَعَمِ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ وَابْتِلَاءٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَخْيِيرٌ لِأَحَدٍ وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] أَنَّهُ أَمْرُ تَهْدِيدٍ لَا تَخْيِيرٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُمْ يُؤَثِرُونَ الْأَعْرَاضَ الْعَاجِلَةَ مِنْ قَبُولِ الْفِدْيَةِ فَلَمَّا اخْتَارُوهُ عُوقِبُوا بِقَوْلِهِ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} [الأنفال: 67] الْآيَةَ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَرَاءَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ الْجَسِيمَةِ فَإِنَّهُمْ مَا اخْتَارُوا الْفِدْيَةَ إِلَّا لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَلِلشَّفَقَةِ عَلَى الرَّحِمِ وَلِرَجَاءِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، أَوْ فِي أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُؤْمَنُ وَلَا شَكَّ أَنْ هَذَا وَقَعَ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا وَافَقَ رَأْيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَايَتُهُ أَنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ وَقَعَ أَصْوَبَ عِنْدَهُ تَعَالَى فَيَكُونُ مِنْ مُوَافِقَاتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيُسَاعِدُنَا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّهُ يُعَضِّدُهُ سَبَبُ الزَّوَالِ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قُلْتُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهُ فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي وَصَاحِبُكَ فَقَالَ أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ اهـ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُجْتَهِدُونَ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ خَطَأً وَلَكِنْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] ; أَيْ لَوْلَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ إِثْبَاتُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُوَ أَنْ لَا يُعَاقِبَ الْمُخْطِئَ فِي اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَهْلَ بَدْرٍ، أَوْ قَوْمًا لَمْ يُصَرِّحْ لَهُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، أَوْ أَنَّ الْفِدْيَةَ الَّتِي أَخَذُوهَا سَتَحُلُّ لَهُمْ لَمَسَّكُمْ ; أَيْ لَنَالَكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْفِدَاءِ عَذَابٌ عَظِيمٌ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَمْعًا بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْهُمْ أَوَّلًا كَانَ بِالْإِطْلَاقِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَعْدَهُ بِالتَّقْيِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ عَنْهُ مُتَّصِلًا وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مُرْسَلًا فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِظَاهِرَهِ فَفِيهِ بَحْثٌ فَإِنَّ الْمُرْسَلَ إِذَا اعْتَضَدَ بِضَعِيفٍ مُتَّصِلٍ يَحْصُلُ فِيهِ نَوْعُ قُوَّةٍ فَيَدْخُلُ فِي جِنْسِ الْحَسَنِ، فَكَيْفَ يُقَالُ عِنْدَ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِظَاهِرِهِ، قُلْتُ لَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ اضْطِرَابٌ فِي إِسْنَادِهِ وَالْمُضْطَرِبُ ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ السَّهْوَ وَقَعَ مِنَ الْمُرْسِلِ أَوْ مِنَ الْمُوَصِّلِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَدْخُلُ الضَّعْفُ فِي سَنَدِهِ، وَإِلَّا فَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمْ إِمَامُ الشَّيْخِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَكَانَ ذَلِكَ فَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِلْآيَةِ وَانْفِرَادِ إِسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُشْعِرُ بِالطَّعْنِ فِيهِ ; لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا قُلْتُ وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فَيَصْلُحُ لِلطَّعْنِ فِي الْجُمْلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

3974 - «وَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا يَنْظُرُونَ فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعَرَ قُتِلَ وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ فَكَشَفُوا عَانَتِي فَوَجَدُوهَا لَمْ تُنْبِتْ فَجَعَلُونِي فِي السَّبْيِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3974 - (وَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ فِي سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ) ; أَيْ وَقَعْتُ فِي أُسَرَائِهِمْ (عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا) ; أَيِ الصَّحَابَةُ (يَنْظُرُونَ) ; أَيْ فِي صِبْيَانِ السَّبْيِ (بِكَشْفِ عَانَتِهِمْ لِمَنْ أَنْبَتَ الشَّعَرَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ (قُتِلَ) فَإِنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ فَيَكُونُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ (وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ) ; أَيِ الشِّعَرَ (فَلَمْ يُقْتَلْ) ; لِأَنَّهُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ ( «فَكَشَفُوا عَانَتِي فَوَجَدُوهَا لَمْ تُنْبِتْ فَجَعَلُونِي فِي السَّبْيِ» ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ الْإِنْبَاتُ فِي حَقِّهِمْ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ إِذْ لَوْ سُئِلُوا عَنْ الِاحْتِلَامِ، أَوْ مَبْلِغِ سِنِّهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَحَدَّثُوا بِالصِّدْقِ إِذْ رَأَوْا فِيهِ الْهَلَاكَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

3975 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ «خَرَجَ عِبْدَانٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ قَبْلَ الصُّلْحِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَوَالِيهِمْ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا خَرَجُوا إِلَيْكَ رَغْبَةً فِي دِينِكَ وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا مِنَ الرِّقِّ فَقَالَ نَاسٌ صَدَقُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّهُمْ إِلَيْهِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ مَا أُرَاكُمْ تَنْتَهُونَ يَا مَشْعَرَ قُرَيْشٍ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى هَذَا وَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُمْ وَقَالَ هُمْ عُتَقَاءَ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3975 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجَ عِبْدَانٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِضَمٍّ وَبِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ " عِبِدَّانٌ " بِكَسْرِهِمَا وَتَشْدِيدِ الدَّالِ جَمْعُ عَبْدٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالصِّيغَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ وَيُشَدَّدُ (قَبْلَ الصُّلْحِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ) ; أَيْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مُوَالِيهِمْ) ; أَيْ سِيَادُهُمْ، أَوْ مُعْتِقُوهُمْ (قَالُوا؟ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا خَرَجُوا إِلَيْكَ رَغْبَةً فِي دِينِكَ وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا) بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ خَلَاصًا (مِنَ الرِّقِّ) ; أَيْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، أَوْ أَثَرِهَا وَهُوَ الْوَلَاءُ (فَقَالَ نَاسٌ) ; أَيْ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ (صَدَقُوا) ; أَيِ الْكُفَّارُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّهُمْ) ; أَيْ عَبِيدَهُمْ (إِلَيْهِمْ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُمْ عَارَضُوا حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهِمْ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ وَشَهِدُوا لِأَوْلِيَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا ادَّعَوْهُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا هَرَبًا مِنَ الرِّقِّ لَا رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِمْ أَنَّهُ صَارُوا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ دِيَارِ الْحَرْبِ مُسْتَعْصِمِينَ بِعُرْوَةِ الْإِسْلَامِ أَحْرَارًا لَا يَجُوزُ رَدُّهُمْ إِلَيْهِمْ فَكَانَ مُعَاوَنَتُهُمْ لِأَوْلِيَائِهِمْ تَعَاوُنًا عَلَى الْعُدْوَانِ (وَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ (مَا أُرِيكُمْ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ; أَيْ مَا أَظُنُّكُمْ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا ; أَيْ مَا أَعْلَمُكُمْ (تَنْتَهُونَ) ; أَيْ عَنِ الْعَصَبِيَّةِ، أَوْ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ الرَّدُّ (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى هَذَا) ; أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ التَّعَصُّبِ، أَوِ الْحُكْمِ بِالرَّدِّ قَالَ فِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ حَيْثُ نَفَى الْعِلْمَ بِانْتِهَائِهِمْ وَأَرَادَ مَلْزُومَهُ وَهُوَ انْتِهَاؤُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [يونس: 18] ; أَيْ بِمَا لَا ثُبُوتَ لَهُ وَلَا عِلْمَ لِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ (وَأَبَى أَنَّ يَرُدَّهُمْ وَقَالَ هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ مَا أُرِيكُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا قَوْلُ الرَّاوِي مُعْتَرِضٌ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3976 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَجَعَلُوا يَقُولُونَ صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ خَالِدٌ يَأْسِرُ وَيَقْتُلُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3976 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ» ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قَبِيلَةٍ (فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا) ; أَيْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَدَاءِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ

عَلَى مَا هُوَ حَقُّهَا (فَيَقُولُونَ صَبَأْنَا صَبَأْنَا) ; أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ صَبَأْنَا ; أَيْ خَرَجْنَا مِنْ دِينِنَا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ (فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ) ; أَيْ بَعْضَهُمْ (وَيَأْسِرُ) ; أَيْ آخَرِينَ (وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ) ; أَيْ أَبْقَى أَسِيرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بِيَدِهِ (حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ) ; أَيْ مِنَ الْأَيَّامِ قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ مَحْذُوفٌ فَكَانَ تَامَّةٌ ; أَيْ دَفَعَ إِلَيْنَا الْأَسِيرَ وَأَمَرَنَا بِحِفْظِهِ إِلَى يَوْمِ يَأْمُرُنَا بِقَتْلِهِ فَلَمَّا وَجَدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَمَرَنَا بِقَتْلِهِمْ (أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي) ; أَيْ رُفَقَائِي (أَسِيرَهُ) ; أَيْ فَأَبْقَيْنَاهُمْ (حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ الطِّيبِيُّ: مُغَيَّاهُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنَّا أَسِيرَهُ بَلْ يَحْفَظُهُ حَتَّى نَقْدَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَفِظْنَا حَتَّى قَدِمْنَا (فَذَكَرْنَاهُ) ; أَيِ الْأَمْرَ لَهُ (فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ) ; أَيْ أَتَبَرَّأُ (إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: ضُمِّنَ أَبْرَأُ مَعْنَى أَنْهَى فَعُدِّي بَإِلَى ; أَيْ أُنْهِي إِلَيْكَ بَرَاءَاتِي وَعَدَمَ رِضَائِي مِنْ فِعْلِ خَالِدٍ، نَحْوُ قَوْلِكَ أَحْمَدُ إِلَيْكَ فُلَانًا، قُلْتُ وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ ; أَيْ أَشْكُرُهُ مُنْهِيًا إِلَيْكَ وَمُعْلِمًا لَدَيْكَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا نَقِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خَالِدٍ مَوْضِعَ الْعَجَلَةِ وَتَرْكَ التَّثَبُّتِ فِي أَمْرِهِمْ إِلَى أَنْ يَسْتَبِينَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ صَبَأْنَا ; لِأَنَّ الصَّبَأَ مَعْنَاهُ الْخُرُوجُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَدْعُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّابِئَ وَذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ دِينَ قَوْمِهِ فَقَوْلُهُمْ صَبَأْنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خَرَجْنَا مِنْ دِينِنَا إِلَى دِينٍ آخَرَ غَيْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ، أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ صَرِيحًا فِي الِانْتِقَالِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ نَفَّذَ خَالِدٌ فِيهِمُ الْقَتْلَ إِذْ لَمْ تُوجَدْ شَرَائِطُ حَقْنِ الدَّمِ بِصَرِيحِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَدَلُوا عَنِ اسْمِ الْإِسْلَامِ إِلَيْهِ أَنَفَةً مِنْ الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

[باب الأمان]

[بَابُ الْأَمَانِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3977 - «عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ فَقُلْتُ أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا أَجَرْتُهُ فُلَانَ بْنَ هُبَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، وَذَلِكَ ضُحًى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ قَالَتْ: أَجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْأَمَانِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3977 - (عَنْ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) بِكَسْرِ نُونٍ وَهَمْزَةٍ اسْمُهَا فَاخِتَةُ وَقِيلَ عَاتِكَةُ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ أَسْلَمَتْ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ ( «قَالَتْ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ» ) ; أَيْ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا (بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ، فَقُلْتُ أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ) الْبَاءُ إِمَّا زَائِدَةٌ فِي الْفَاعِلِ ; أَيْ أَتَتْ أُمُّ هَانِئٍ مَرْحَبًا ; أَيْ مَوْضِعًا رَحْبًا ; أَيْ وَاسِعًا لَا ضَيِّقًا، أَوْ لِلتَّعْدِيَةِ ; أَيْ أَتَى اللَّهُ بِأُمِّ هَانِئٍ مَرْحَبًا فَمَرْحَبًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَهَذِهِ كَلِمَةُ إِكْرَامٍ وَالتَّكَلُّمُ بِهَا سُنَّةٌ (فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِ (قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ) ; أَيْ صَلَاةَ الضُّحَى كَمَا بَيَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ (مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ) ; أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي) ; أَيْ وَأَبِي وَإِنَّمَا اقْتَصَرَتْ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ وَالشَّفَقَةَ أَكْثَرَ وَكَذَا قَالَ هَارُونُ يَا ابْنَ أُمَّ (عَلِيٌّ) بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا أَجَرْتُهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَصْرِهَا صِفَةُ " رَجُلًا " ; أَيْ أَمَّنْتُهُ مِنَ الْإِجَارَةِ بِمَعْنَى الْأَمْنِ أَصْلُهُ أَجْوَرْتُهُ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الْجِيمِ فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا وَحُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ (فُلَانَ) بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (ابْنَ هُبَيْرَةَ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدِ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ كَذَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالْمُوَطَّأِ وَلَمْ يُسَمِّهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ

مَخْزُومٍ وَقِيلَ إِنَّهُ بَعْضُ بَنِي زَوْجِهَا مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَزَوْجُهَا كَانَ هُبَيْرَةَ بْنَ وَهْبِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ وَهُوَ الْأَشْبَهُ ; لِأَنَّهَا قَالَتْ فُلَانَ بْنَ هُبَيْرَةَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ وَذَلِكَ) ; أَيْ مَا ذُكِرَ (ضُحًى) ; أَيْ وَقْتُهُ فَتَكُونُ تِلْكَ الصَّلَاةُ صَلَاةَ الضُّحَى وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: مَا أَخْبَرَنِي أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى إِلَّا أُمَّ هَانِئٍ فَإِنَّهَا حَدَّثَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ فَسَبَّحَ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» اهـ. وَلَا تَخْفَى الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ حَيْثُ يَدُلُّ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ كَانَ الِاغْتِسَالُ فِي بَيْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ فِي بَيْتِي، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ قَالَتْ أَجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي) جَمْعُ حَمْوٍ، قَرِيبُ الزَّوْجِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَّنَّا) ; أَيْ أَعْطَيْنَا الْأَمَانَ (مَنْ أَمَّنْتِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ «عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجَرْتُ حَمْوَيْنِ لِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرَادَ هَذَا أَنْ يَقْتُلَهُمَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ» " الْحَدِيثَ، وَكَانَ اللَّذَانِ أَجَارَتْ أُمُّ هَانِئٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْحَارِثَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كِلَاهُمَا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 3978 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَأْخُذُ لِلْقَوْمِ يَعْنِي تُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 3978 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَأْخُذُ) ; أَيِ الْأَمَانَ (لِلْقَوْمِ يَعْنِي تُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ) ; أَيْ جَازَ أَنْ تَأْخُذَ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ الْأَمَانَ لِلْقَوْمِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَتَرْجَمَ التِّرْمِذِيُّ بَابَ أَمَانِ الْمَرْأَةِ ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَأْخُذُ لِلْقَوْمِ يَعْنِي تُجِيرُ الْقَوْمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَالَ فِي عِلَلِهِ الْكُبْرَى سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ إِجَارَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا الْعَاصِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا وَإِنَّهُ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِطُولِهِ.

3979 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ أُعْطِيَ لِوَاءَ الْغَدْرِ يَوْمَ الْقَيَامَةِ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3979 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خُزَاعِيٌّ لَهُ صُحْبَةٌ رَوَى عَنْهُ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ وَغَيْرُهُمَا قُتِلَ بِالْمَوْصِلِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ) ; أَيْ أَعْطَاهُ الْأَمَانَ، وَالْضَمِيرُ فِي نَفْسِهِ إِلَى الرَّجُلِ (فَقَتَلَهُ أُعْطِيَ لِوَاءَ الْغَدْرِ) فِيهِ اسْتِعَارَةٌ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) كِنَايَةَ فَضِيحَتِهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) وَفِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ، وَالْغَدْرُ مُحَرَّمٌ بِالْعُمُومَاتِ نَحْوُ مَا صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «أَرْبَعُ خِصَالٍ مَنْ كَانَتْ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» .

3980 - وَعَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ «كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ، أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلَا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يُمْضِيَ أَمَدَهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ قَالَ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3980 - (وَعَنْ سُلَيْمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ عَامِرٍ) تَابِعِيٍّ (قَالَ كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ) ; أَيْ إِلَى وَقْتٍ مَعْهُودٍ (وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ) ; أَيْ يَذْهَبُ مُعَاوِيَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعَهْدِ لِيَقْرُبَ مِنْ بِلَادِهِمْ حِينَ انْقِضَاءِ الْعَهْدِ (حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ) ; أَيْ زَمَانُهُ (أَغَارَ عَلَيْهِمْ) وَفِي رِوَايَةٍ غَزَاهُمْ (وَفِي رِوَايَةٍ فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ، أَوْ بِرْذَوْنٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْفَرَسِ هُنَا الْعَرَبِيُّ، بِالْبِرْذَوْنِ التُّرْكِيُّ مِنَ الْخَيْلِ (وَهُوَ) ; أَيِ الرَّجُلُ (يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ) تَعَجُّبًا وَاسْتِبْعَادًا (اللَّهُ أَكْبَرُ) تَأْكِيدًا (وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ لَا لِلْعَطْفِ ; أَيِ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَيَكُونُ خَبَرًا مَعْنَاهُ النَّهْيُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ اخْتِصَارٌ حُذِفَ لِضِيقِ الْمَقَامِ ; أَيْ لِيَكُنْ مِنْكُمْ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ يَعْنِي بَعِيدٌ مِنْ أَهْلِ اللَّهِ وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ارْتِكَابُ الْغَدْرِ وَلِلِاسْتِبْعَادِ صَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَكَرَّرَهُ (فَنَظَرُوا) ; أَيْ فَرَأَى النَّاسُ فِي مَكَانِ مَجِيءِ الرَّجُلِ (فَإِذَا هُوَ) ; أَيِ الرَّجُلُ (عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ كُنْيَتُهُ أَبُو نَجِيحٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالْحَاءِ سُلَمِيٌّ أَسْلَمَ قَدِيمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قِيلَ كَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ عِدَادُهُ فِي الشَّامِيِّينَ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَإِنَّمَا كَرِهَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ إِذَا هَادَنَهُمْ إِلَى مُدَّةٍ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي وَطَنِهِ فَقَدْ صَارَتْ مُدَّةُ مَسِيرِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ كَالْمَشْرُوطِ مَعَ الْمُدَّةِ فِي أَنْ يَغْزُوَهُمْ فِيهَا فَإِذَا سَارَ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْهُدْنَةِ كَانَ إِيقَاعُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَتَوَقَّعُونَهُ فَعَدَّ ذَلِكَ عَمْرٌو غَدْرًا وَأَمَّا إِنْ نَقَضَ أَهْلُ الْهُدْنَةِ بِأَنْ ظَهَرَتْ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ فَلَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُمْ (فَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ) ; أَيْ عَنْ دَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ ( «فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا» ) ; أَيْ عَقْدَ عَهْدٍ (وَلَا يَشُدَّنَّهُ) أَرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةَ عَنْ عَدَمِ التَّغَيُّرِ وَإِلَّا فَلَا مَانِعَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْعَهْدِ وَالتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى لَا يُغَيِّرِنَّ عَهْدًا وَلَا يَنْقُضْهُ بِوَجْهٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَيَشُدُّهُ وَلَا يَحُلُّهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَكَذَا جُمْلَتُهُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّغْيِيرِ فِي الْعَدِّ فَلَا يَذْهَبُ عَلَى اعْتِبَارِ مَعَانِي مُفْرَدَاتِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ ; أَيْ لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ وَلَا الزِّيَادَةُ عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَفِيهِ نَصٌّ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتْرُكُ الْمُعَاهِدُ الْعَهْدَ مِنْ غَيْرِ نَقْضٍ (حَتَّى يُمْضِيَ أَمَدَهُ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ تَنْقَضِيَ غَايَتُهُ (أَوْ يَنْبِذَ) بِكَسْرِ الْبَاءِ ; أَيْ يَرْمِيَ عَهْدَهُمْ (إِلَيْهِمْ) ، بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ نَقَضَ الْعَهْدَ عَلَى تَقْدِيرِ خَوْفِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ (عَلَى سَوَاءٍ) ; أَيْ لِيَكُونَ خَصْمُهُ مُسَاوِيًا مَعَهُ فِي النَّقْضِ كَيْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ غَدْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ عَلَى سَوَاءٍ حَالٌ قَالَ الْمُظْهِرُ ; أَيْ يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَغْزُوَهُمْ وَأَنَّ الصُّلْحَ قَدِ ارْتَفَعَ فَيَكُونُ الْفَرِيقَانِ فِي عِلْمِ ذَلِكَ سَوَاءً (قَالَ) ; أَيْ سُلَيْمٌ (فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ فَإِنَّ " رَجَعَ " لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} [التوبة: 83] ; أَيْ فَذَهَبَ بِهِمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلْمُصَاحَبَةِ ; أَيْ فَرَجَعَ مَعَهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ.

3981 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ «بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُلْقِيَ فِي قَلْبِيَ الْإِسْلَامُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا قَالَ، إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ وَلَكِنِ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ قَالَ فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمْتُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3981 - (وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَسْلَمَ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ كَانَ قِبْطِيًّا وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ فَوَهَبَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا بُشِّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْلَامِ الْعَبَّاسِ أَعْتَقَهُ وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ بَدْرٍ اهـ. فَلَعَلَّهُ هُوَ لَكِنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُلْقِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ أُوقِعَ (فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ) ; أَيْ نَفْسُهُ وَهُوَ التَّصْدِيقُ، أَوْ مَحَبَّتُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ أَنَّ إِلْقَاءَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ الرُّؤْيَةِ، وَأَنْشَدَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... كَانَتْ بَدَاهَتُهُ تُنْبِيكَ عَنْ خَبَرِهْ فَدَلَّ عَلَى فِرَاسَتِهِ وَدَهَائِهِ وَنَظَرِهِ الصَّائِبِ وَأَنَّ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَى الْمُعْجِزَاتِ مَا لَوْ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُ الثَّابِتُ النَّظَرِ لَآمَنَ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَمَكُّنِ الْإِسْلَامِ مِنْ قَلْبِهِ وَلِذَلِكَ

أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ وَذَيَّلَهُ بِقَوْلِ (أَبَدًا قَالَ) ; أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنِّي لَا أَخِيسُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ لَا أَغْدِرُ (بِالْعَهْدِ) وَلَا أَنْقُضُهُ وَفِيهِ أَنَّ الْعَهْدَ يُرَاعَى مَعَ الْكُفَّارِ كَمَا يُرَاعَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ (وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ) بِضَمَّتَيْنِ وَقِيلَ بِسُكُونِ الرَّاءِ جَمْعُ بَرِيدٍ وَهُوَ الرَّسُولُ وَإِنَّمَا لَمْ يَحْبِسْهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاقْتِضَاءِ الرِّسَالَةِ جَوَابًا عَلَى وَفْقِ مُدَّعَاهُمْ بِلِسَانِ مَنِ اسْتَأْمَنُوهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ هَاهُنَا الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ الْمُتَعَارَفَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الرُّسُلَ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ بِمَكْرُوهٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَهُ أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ الْحَدِيثَ، أَلَا تَرَى كَيْفَ صَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِلَفْظِ " أَمَا " الَّتِي هِيَ مِنْ طَلَائِعِ الْقَسَمِ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ ارْتِكَابَ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَكَبَ، وَقَوْلُهُ (وَلَكِنِ ارْجِعْ) اسْتِدْرَاكٌ عَنْ مُقَدَّرٍ ; أَيْ لَا تُقِمْ هَاهُنَا وَتُظْهِرِ الْإِسْلَامَ وَلَكِنِ ارْجِعْ (فَإِنْ كَانَ) ; أَيْ ثَبَتَ (فِي نَفْسِكَ) ; أَيْ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ (الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ) ; أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَيْنَا، ثُمَّ أَسْلِمْ لِأَنِّي لَوْ قَبِلْتُ مِنْكَ الْإِسْلَامَ الْآنَ وَمَا أَرُدُّكَ عَلَيْهِمْ لَغَدَرْتُ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ أَنَّ قَبُولَ الْإِسْلَامِ مِنْهُ لَا يَكُونُ غَدْرًا وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ حَبْسِهِ لَهُ غَدْرًا بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُظْهِرِ الْإِسْلَامَ وَيَرْجِعْ إِلَيْهِمْ حَيْثُ يَتَعَذَّرُ حَبْسُهُ فَإِنَّهُ أَرْفَقُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ عَلَى الطَّرِيقِ الْحَقِّ. (قَالَ) ; أَيْ أَبُو رَافِعٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَهَبْتُ) ; أَيْ إِلَيْهِمْ (ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمْتُ) ; أَيْ أَظْهَرْتُ الْإِسْلَامَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

3982 - وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلَيْنِ جَاءَا مِنْ عِنْدِ مُسَيْلِمَةَ أَمَّا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3982 - (وَعَنْ نُعَيْمِ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ مَسْعُودٍ) ; أَيِ الْأَشْجَعِيِّ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْلَمَ بِالْخَنْدَقِ وَهُوَ الَّذِي سَعَى بَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ رَأْسُ الْأَحْزَابِ، وَخَذَّلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِكَايَتُهُ مَعْرُوفَةٌ، سَكَنَ الْمَدِينَةَ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَلَمَةُ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَقِيلَ بَلْ قُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ قَبْلَ قُدُومِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلَيْنِ) أَحَدُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ النَّوَّاحَةِ وَالثَّانِي ابْنُ أُثَالٍ كَمَا سَيَأْتِي (جَاءَا) بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ ; أَيْ كِلَاهُمَا (مِنْ عِنْدِ مُسَيْلِمَةَ) بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ الْكَذَّابُ الْمَشْهُورُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ (أَمَا) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ لِلتَّنْبِيهِ (وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَمَا حُمِّلُوا تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ حُمِّلُوا تَبْلِيغَ الْجَوَابِ فَلَزِمَهُمُ الْقِيَامُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ فَيُصَيِّرُونِي بِرَفْضِ مَآرِبِهِمْ مَوْسُومِينَ بِسِمَةِ الْغَدْرِ، وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ فِي تَرَدُّدِ الرُّسُلِ الْمَصْلَحَةَ الْكُلِّيَّةَ وَمَهْمَا جَوَّزَ حَبْسَهُمْ، أَوِ التَّعَرُّضَ لَهُمْ بِمَكْرُوهٍ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا ; لِانْقِطَاعِ السُّبُلِ مِنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي اللُّبِّ مَوْقِعُهُ، وَقَوْلُهُ (لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمْ) إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لَهُمَا ; لِأَنَّهُمَا قَالَا بِحَضْرَتِهِ نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ اهـ، وَقِيلَ عَدَمُ جَوَازِ قَتْلِ الرُّسُلِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] وَالْوَافِدُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَجِيرِ، قُلْتُ: وَهُوَ مَا يُنَافِي كَلَامَ الشَّيْخِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْجَلِيَّةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

3983 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَوْفُوا بِحَلِفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ يَعْنِي الْإِسْلَامَ إِلَّا شِدَّةً وَلَا تُحْدِثُوا حَلِفًا فِي الْإِسْلَامِ» . رَوَاهُ وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ: " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ " فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3983 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ) ; أَيْ عَلَى مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ فِي (أَوْفُوا بِحَلِفِ الْجَاهِلِيَّةِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ الْوَاقِعَةِ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى التَّعَاوُنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] (فَإِنَّهُ) ; أَيِ الشَّأْنَ (لَا يَزِيدُهُ) ; أَيِ الْعَهْدُ وَفِعْلُ " يَزِيدُ " مُضْمَرٌ فَسَّرَهُ الرَّاوِي بِالْإِسْلَامِ حَيْثُ قَالَ (يَعْنِي الْإِسْلَامَ) ; أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَاعِلِ " يَزِيدُ " الْمُسْتَتِرِ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْلَامِ ; أَيْ لَا يَزِيدُ الْإِسْلَامُ الْحَلِفَ (إِلَّا شِدَّةً) فَإِنَّ الْإِسْلَامَ أَقْوَى مِنَ الْحَلِفِ فَمَنِ اسْتَمْسَكَ بِالْعَاصِمِ الْقَوِيِّ اسْتَغْنَى عَنِ الْعَاصِمِ الضَّعِيفِ، فِي النِّهَايَةِ أَصْلُ الْحَلِفِ الْمُعَاقَدَةُ عَلَى التَّعَاضُدِ وَالتَّسَاعُدِ وَالِاتِّفَاقِ فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ فَذَلِكَ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا حَلِفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَنَحْوِهِمَا فَذَلِكَ الَّذِي قَالَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; أَيُّمَا حَلِفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً (وَلَا تُحْدِثُوا) ; أَيْ لَا تُبَدِّلُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا (حَلِفًا فِي الْإِسْلَامِ) ; أَيْ ; لِأَنَّهُ كَافٍ فِي وُجُوبِ التَّعَاوُنِ قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ فِيهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ ; أَيْ لَا تُحْدِثُوا حَلِفًا مَا وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّوْعِ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْمُظْهِرِ: يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ حَلَفْتُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَنْ يُعِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيَرِثَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا أَسْلَمْتُمْ فَأَوْفُوا بِهِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُحَرِّضُكُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ وَلَكِنْ لَا تُحْدِثُوا مُحَالَفَةً فِي الْإِسْلَامِ بِأَنْ يَرِثَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (رَوَاهُ. . .) هُنَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ وَأَلْحَقَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ عَنْ عَمْرٍو،

وَقَالَ حَسَنٌ (وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ ; أَيْ دِمَاؤُهُمْ (وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. . .) الْحَدِيثَ بِطُولِهِ (فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ) يَعْنِي فَأَسْقَطْنَاهُ مِنْ هَاهُنَا لِلتَّكْرَارِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ حُرٌّ، أَوِ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ كَافِرًا، أَوْ جَمَاعَةً، أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ، أَوْ مَدِينَةً صَحَّ أَمَانُهُمْ عَلَى إِسْنَادِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» ; أَيْ لَا تَزِيدُ دِيَةُ الشَّرِيفِ عَلَى دِيَةِ الْوَضِيعِ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ أَيْ كَأَنَّهُمْ آلَةٌ وَاحِدَةٌ مَعَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمِلَلِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ تَعَاوُنِهِمْ عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَالِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَلِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ قَرْيَةً مِنْ قُرَى فَارِسَ يُقَالُ لَهَا شَاهَرْتَا فَحَاصَرْنَاهَا شَهْرًا حَتَّى إِذَا كُنَّا ذَاتَ يَوْمٍ وَطَمِعْنَا أَنْ نُصَبِّحَهُمُ انْصَرَفْنَا عَنْهُمْ عِنْدَ الْمَقِيلِ خَلْفَ عَبْدٍ مِنَّا فَاسْتَأْمَنُوهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَمَانًا، ثُمَّ رَمَى بِهِ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا رَجَعْنَا إِلَيْهِمْ خَرَجُوا إِلَيْنَا فِي ثِيَابِهِمْ وَوَضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَقُلْنَا مَا شَأْنُكُمْ فَقَالُوا أَمَّنْتُمُونَا وَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا السَّهْمَ فِيهَا كِتَابٌ بِأَمَانِهِمْ فَقُلْنَا هَذَا عَبْدٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، قَالُوا: لَا نَدْرِي عَبْدَكُمْ مِنْ حُرِّكُمْ قَدْ خَرَجْنَا بِأَمَانٍ فَكَتَبْنَا إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَانُهُ أَمَانُهُمْ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزَادَ فَأَجَازَ عُمَرُ أَمَانَهُ، وَالْحَدِيثُ جَيِّدٌ وَفُضَيْلُ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا " «أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ» " فَحَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ اهـ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْهُ مَذْكُورَةٌ فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ مَبْسُوطَةٌ قَالَ وَإِنْ آمَنَ الصَّبِيُّ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَصِفُهُ لَا يَصِحُّ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنِ الْقِتَالِ فَعَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي وَجْهٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَطَلَاقِهِ وَعَتَاقِهِ، وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3984 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالٍ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمَا أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَا نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُقْتَلُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3984 - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ (وَابْنُ أُثَالٍ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ (رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَ، أَوْ بِرَسُولَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَيَحْتَمِلُ التَّنَازُعَ (فَقَالَ لَهُمَا أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ بِذَلِكَ دَعْوَتَهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِمَا مُسْلِمَيْنِ (فَقَالَا) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَا وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ لَا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَا بِقَوْلِهِمَا (نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ) أَرَادَا بِذَلِكَ أَنَّهُمَا مِنْ أَتْبَاعِ مُسَيْلِمَةَ لَا غَيْرَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ وَلَا لِنَفْسِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَدِ ادَّعَيْتُ الرِّسَالَةَ وَصَدَّقْتُهَا بِمُعْجِزَةٍ فَأَقِرَّا بِذَلِكَ، فَقَوْلُهُمَا نَشْهَدُ إِلَخْ رَدٌّ لِهَذَا الْمَعْنَى كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنَّ الرِّسَالَةَ تَثْبُتُ بِالْمُعْجِزَاتِ فَكَانَ جَوَابُهُمْ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْأَحْمَقِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمُضَافِ الْجِنْسُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ وَرُسُلِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى السَّابِقِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِي بَلْ قَالَ وَرَسُولِهِ ; أَيْ مَنِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ وَأَثْبَتَهَا بِالْمُعْجِزَةِ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَهُوَ كَلَامُ الْمُنْصِفِ يَعْنِي وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَلَا بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ لِمُدَّعِي الرِّسَالَةِ أَظْهِرِ الْمُعْجِزَةَ كَفَرَ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَأَنَّهُمْ تَرَقَّبُوا أَنْ يُشْرِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسَيْلِمَةَ فِي الرِّسَالَةِ فَنَفَاهُ بِقَوْلِهِ وَرَسُولِهِ ; أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى الرِّسَالَةِ فِي شَيْءٍ فَيَكُونُ كَلَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ اهـ. وَفِي كَوْنِهِمْ مُرَاقِبِينَ لِشِرْكِهِ مَحَلُّ بَحْثٍ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ لَأَقَرَّا بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ (لَوْ كُنْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ وَلَوْ كُنْتُ (قَاتِلًا رَسُولًا) ; أَيْ قَادِمًا بِالْخَبَرِ مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ بِأَمَانٍ (لَقَتَلْتُكُمَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) ; أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ الرَّاوِي بَلْ هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُقْتَلُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ جَرَتِ السُّنَّةُ عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فَجَعَلَتْهَا سُنَّةً (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

[باب قسمة الغنائم والغلول فيها]

[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3985 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 3985 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " فَلَمْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ لَمْ (تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبَلْنَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى كَلَامٍ سَابِقٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا وَلَفْظِهِ، قَالَ الرَّاوِي يُوَضِّحُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا) : أَيْ: أَحَلَّهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْإِشَارَةُ إِلَى تَحْلِيلِ اللَّهِ الْغَنَائِمَ لَنَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ مَا فِي الذِّهْنِ بَيَّنَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ اسْتِقْرَارُ حِلٍّ يُوجِبُهُ الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ اهـ. وَكَلَامُ الْمُظْهِرِ أَظْهَرُ كَمَا لَا يَخْفَى، قِيلَ: كَانَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ إِذَا غَزَوْا كَانُوا يَجْمَعُونَ الْغَنَائِمَ، فَإِنْ نَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَأَحْرَقَتْهَا عَلِمُوا أَنَّ غَزْوَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ وَإِلَّا فَلَا اهـ. فَعَلَى هَذَا تَسْتَمِرُّ أَيْضًا لِحَالِ غُزَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3986 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ، ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ، فَقُمْتُ، فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ، وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ، إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " صَدَقَ فَأَعْطِهِ " فَأَعْطَانِيهِ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ ; فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3986 - (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حُنَيْنٍ) : فِي الْقَامُوسِ: هُوَ كَزُبَيْرٍ مَوْضِعٌ بَيْنَ الطَّائِفِ وَمَكَّةَ (فَلَمَّا الْتَقَيْنَا) : أَيْ نَحْنُ وَالْمُشْرِكُونَ (كَانَتْ) : أَيْ: صَارَتْ (لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ مِنَ الْجَوَلَانِ ; أَيْ: هَزِيمَةٌ قَلِيلَةٌ كَأَنَّهَا جَوَلَانٌ وَاحِدٌ، يُقَالُ: جَالَ فِي الْحَرْبِ جَوْلَةً ; أَيْ دَارَ، وَقَدْ فُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ بِالْهَزِيمَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْجَوْلَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاضْطِرَابِ وَعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ، فَفِي النِّهَايَةِ: جَالَ وَاجْتَالَ إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَمِنْهُ الْجَوَلَانُ فِي الْحَرْبِ، وَالْجَائِلُ الزَّائِلُ عَنْ مَكَانِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَى الصَّحَابِيَّ كَرِهَ لَهُمْ لَفْظَ الْهَزِيمَةِ فَكَنَى عَنْهَا بِالْجَوْلَةِ وَلَمَّا كَانَتِ الْجَوْلَةُ مِمَّا لَا اسْتِقْرَارَ عَلَيْهِ اسْتَعْمَلَهَا فِي الْهَزِيمَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا اسْتَقَرُّوا عَلَيْهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ مِنْ بَعْضِ الْجَيْشِ. وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَائِفَةٌ مَعَهُ فَلَمْ يَزَالُوا. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ، وَلَمْ يَرَ وَاحِدٌ قَطُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْهَزَمَ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ، بَلْ يَثْبُتُ فِيهَا بِإِقْدَامِهِ وَثَبَاتِهِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ. (فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا) : أَيْ: غَلَبَ (رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ) : أَيِ: الْمُشْرِكَ (مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ) : بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالْكَتِفِ (بِالسَّيْفِ، فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ) : أَيْ: دِرْعَهُ وَأَوْصَلْتُ الْجِرَاحَةَ إِلَى بَدَنِهِ (وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي) : أَيْ: ضَغَطَنِي وَعَصَرَنِي (ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ) : اسْتِعَارَةٌ عَنْ أَثَرِهِ ; أَيْ: وَجَدْتُ مِنْهُ شِدَّةً كَشِدَّةِ الْمَوْتِ، وَالْمَعْنَى قَدْ قَارَبْتُ الْمَوْتَ (ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي) : أَيْ: فَخَلَّى سَبِيلِي فَخَلَّيْتُهُ (فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ) : أَيْ: مُنْهَزِمِينَ (قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ) : أَيْ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوْ مَا حَالُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الِانْهِزَامِ؟ فَقَالَ: أَمْرُ اللَّهِ غَالِبٌ وَالنُّصْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ (ثُمَّ رَجَعُوا) : أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (وَجَلَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا ") : أَوْقَعَ الْقَتْلَ عَلَى الْمَقْتُولِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] (لَهُ) : أَيْ: لِلْقَاتِلِ (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى قَتْلِهِ لِلْمَقْتُولِ (بَيِّنَةٌ) : أَيْ: شَاهِدٌ وَلَوْ وَاحِدًا (فَلَهُ سَلَبُهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ فَعَلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ; أَيْ مَا عَلَى الْقَتِيلِ وَمَعَهُ مِنْ ثِيَابٍ وَسِلَاحٍ وَمَرْكَبٍ وَجَنِيبٍ يُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ: أَنَّ السَّلَبَ لَا يُعْطَى إِلَّا لِمَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ قَتَلَ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُحَلِّفْهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ أَنَّهُ الْقَاتِلُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَقَدْ صَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا يَكْفِي الْوَاحِدُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِإِقْرَارِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا كَانَ الْمَالُ مَنْسُوبًا إِلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَهُنَا مَنْسُوبٌ إِلَى جَمِيعِ الْجَيْشِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: السَّلَبُ لَا يَكُونُ لِلْقَاتِلِ إِذَا لَمْ يُنَفِّلُ الْإِمَامُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثٍ آخَرَ «لَيْسَ لَكَ مِنْ سَلَبِ قَتِيلِكَ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِكَ» . وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ: يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ السَّلَبَ، سَوَاءٌ قَالَ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ ذَلِكَ هَذَا الْقَوْلَ أَمْ لَا. قَالُوا: وَهَذَا فَتْوَى مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ قَبْلَ الْقِتَالِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَجَعَلُوا هَذَا إِطْلَاقًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ بِفَتْوَى مِنْهُ وَلَا إِخْبَارٍ عَامٍّ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ، قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِعَادَةً لِمَا قَالَهُ قَبْلَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَوْفٍ: قَضَى فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ فَقَبْلَ التَّقْيِيدِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ: " «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ فَصَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ بَعْدَ الْقَوْلِ فَيُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ بِهِ، وَفِي التَّكْرَارِ الْآتِي دَلِيلٌ ; أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِفْتَاءٍ وَإِخْبَارٍ، بَلْ لِإِجْرَاءِ الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ مِنْ قَبْلُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا لَمْ يُجْعَلِ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. (فَقُلْتُ) : أَيْ: فِي نَفْسِي، أَوْ جِهَارًا وَفِي رِوَايَةٍ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ (مَنْ يَشْهَدُ لِي؟) : أَيْ: بِأَنِّي قَتَلْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ سَلَبُهُ لِي (ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ) : أَيْ: مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ (فَقُلْتُ) : أَيْ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ (مَنْ يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْتُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ، ثُمَّ قُمْتُ فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟) ; أَيْ تَقُومُ وَتَجْلِسُ عَلَى هَيْئَةِ طَالِبٍ لِغَرَضٍ، أَوْ صَاحِبِ غَرَضٍ (فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ رَجُلٌ صَدَقَ) ; أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ (وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي) : مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; أَيْ: فَأَعْطِهِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ السَّلَبِ لِيَكُونَ لِي، أَوْ أَرْضِهِ بِالْمُصَالَحَةِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَنْ " فِيهِ ابْتِدَائِيَّةٌ ; أَيْ: أَرْضِ أَبَا قَتَادَةَ لِأَجْلِي وَمِنْ جِهَتِي، وَذَلِكَ إِمَّا بِالْهِبَةِ، أَوْ بِأَخْذِهِ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ بَدَلِهِ. (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ) : بِالْجَرِّ ; أَيْ: لَا وَاللَّهِ (إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ ; أَيْ: إِذَا صَدَقَ أَبُو قَتَادَةَ (لَا يَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الدَّالِ (إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ، وَقِيلَ بِضَمِّهِمَا جَمْعُ أَسَدٍ، وَالْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى لَا يَقْصِدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى إِبْطَالِ حَقِّهِ وَإِعْطَاءِ سَلَبِهِ إِيَّاكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إِذًا بِالْأَلِفِ قَبْلَ الذَّالِ، وَأَنْكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ اهـ كَلَامُهُ. وَلَقَدْ أَطَالَ الطِّيبِيُّ مِنْ مَقَالِ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُعْرِبِينَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَعَ تَعَارُضِ تَقْدِيرَاتِهِمْ وَتَنَاقُضِ تَقْدِيرَاتِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَكُونُ يَمِينًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَتْ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَ مُتَعَارَفَةً فِي الْأَيْمَانِ (يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) : أَيْ: لِرِضَاهُمَا وَنُصْرَةِ دِينِهِمَا (فَيُعْطِيكَ) : أَيْ: هُوَ، أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (سَلَبَهُ) : أَيْ جَمِيعَهُ، أَوْ بَعْضَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ:، قَوْلُهُ: عَنِ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ

يَكُونَ عَيْنَ صِلَةٍ فَيَكُونُ الْمَعْنَى يَصْدُرُ قِتَالُهُ عَنْ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; أَيْ: بِسَبَبِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ: يُقَاتِلُ ذَابًّا عَنْ دِينِ اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ نَاصِرًا لِأَوْلِيَائِهِ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَدَقَ ": أَيِ: الصِّدِّيقُ (فَأَعْطِهِ) : أَيْ: أَبَا قَتَادَةَ سَلَبَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْنَى يُقَاتِلُ لِنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ وَشَرِيعَةِ رَسُولِهِ، لِتَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى فَضْلِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِفْتَائِهِ بِحَضْرَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ لَهُ، وَعَلَى مَنْقَبَةِ أَبِي قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ سَمَّاهُ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ (فَأَعْطَانِيهِ، فَابْتَعْتُ) : أَيِ: اشْتَرَيْتُ (بِهِ) : أَيْ: بِذَلِكَ السَّلَبِ (مَخْرَفًا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَرُوِيَ بِالْكَسْرِ ; أَيْ: بُسْتَانًا (فِي بَنِي سَلِمَةَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ (فَإِنَّهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَإِنَّهُ (لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ) : أَيِ: اقْتَنَيْتُهُ وَتَأَصَّلْتُهُ يَعْنِي جَمَعْتُهُ وَجَعَلْتُهُ أَصْلَ مَالِي (فِي الْإِسْلَامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ أَنَّ هَذَا مِنْهُ نَصْبُ الشَّرْعِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، أَوْ كَانَ تَحْرِيضًا بِالتَّنْفِيلِ قَالَهُ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ وَغَيْرِهَا يَخُصُّهَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَصْبُ الشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي قَوْلِهِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ لِذَلِكَ، وَقُلْنَا: كَوْنُهُ تَنْفِيلًا هُوَ أَيْضًا مِنْ نَصْبِ الشَّرْعِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ: " «لَيْسَ لَكَ مِلْكٌ مِنْ سَلَبِ قَتِيلِكَ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِكَ» " فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْ قَوْلِهِ: " «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " وَهُوَ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ لَا نَصْبٌ عَامٌّ لِلشَّرْعِ، وَهُوَ حَسَنٌ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ، أَوْ حَسَنٌ لَكِنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ وَالْوَسَطِ، «بَلَغَ حَبِيبَ بْنَ سَلَمَةَ أَنَّ صَاحِبَ قُبْرُصَ خَرَجَ يُرِيدُ طَرِيقَ أَذْرَبِيجَانَ وَمَعَهُ زُمُرُّدٌ وَيَاقُوتٌ وَلُؤْلُؤٌ وَغَيْرُهَا فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ بِمَا مَعَهُ، وَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُخَمِّسَ فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ سَلَمَةَ: لَا تَحْرِمْنِي رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ يَا حَبِيبُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إِنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ نَفْسُ إِمَامِهِ» ، وَهُنَا مَعْلُولٌ بِعَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ وَقَدْ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: «كُنَّا مُعَسْكِرِينَ بِدَانِفَاءَ، وَذَكَرَ لِحَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ الْفِهْرِيِّ إِلَى أَنْ قَالَ: فَجَاءَ بِسَلَبِهِ عَلَى خَمْسَةِ أَبْغَالٍ مِنَ الدِّيبَاجِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، فَأَرَادَ حَبِيبٌ أَنْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ بَعْضَهُ، فَقَالَ حَبِيبٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِلْأَبَدِ، فَسَمِعَ مُعَاذٌ ذَلِكَ، فَأَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ وَحَبِيبٌ يُخَاصِمُهُ فَقَالَ مُعَاذٌ: أَلَا تَتَّقِي وَتَأْخُذْ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِكَ، فَإِنَّ مَا لَكَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِكَ، فَحَدَّثَهُمْ بِذَلِكَ مُعَاذٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَعْطَوْهُ مِنَ الْخُمُسِ، فَبَاعَهُ حَبِيبٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ» ، وَفِيهِ كَمَا تَرَى مَجْهُولٌ وَلَكِنْ قَدْ لَا يَضُرُّ ضَعْفُهُ فَإِنَّا إِنَّمَا نَسْتَأْنِسُ لِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْ لَفْظٍ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ يَتَأَيَّدُ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ بَعْدَمَا رَأَى سَيْفَهُمَا: " كِلَاكُمَا قَتَلَهُ "، ثُمَّ قَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْقَاتِلِ لَقَضَى بِهِ لَهُمَا إِلَّا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَفَعَهُ: بِأَنَّ غَنِيمَةَ بَدْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَصِّ الْكِتَابِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ قَسَمَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَحْضُرُوا، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ بَدْرٍ، فَقَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ اهـ.

يَعْنِي مَا كَانَ إِذْ ذَاكَ قَالَ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ، وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهُ قَالَ فِي بَدْرٍ ; أَيْضًا عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ: «قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَجَاءَ أَبُو الْيُسْرِ بِأَسِيرَيْنِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَظُنُّ بِنَا جُبْنًا عَنِ الْعَدُوِّ، وَلَا ضَنًّا بِالْحَيَاةِ أَنْ نَصْنَعَ مَا صَنَعَ إِخْوَانُنَا، وَلَكِنْ رَأَيْنَاكَ قَدْ أَفْرَدْتَ فَكَرِهْنَا نَدْعُوكَ بِضَيْعَةٍ. قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوَزِّعُوا تِلْكَ الْغَنَائِمَ بَيْنَهُمْ» ، فَظَهَرَ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَهُ لَيْسَ نَصْبَ الشَّرْعِ لِلْأَبَدِ، وَهُوَ - وَإِنْ ضَعُفَ سَنَدُهُ - فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا " فِي أَبِي دَاوُدَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَذَا كَذَا، فَإِنَّمَا كَنَى بِهِ الرَّاوِي عَنْ خُصُوصِ مَا قَالَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَا دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ. فَإِنَّ الْحَالَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلَا الْحَالُ تَقْتَضِي ذَلِكَ لِقِلَّتِهَا، أَوْ عَدَمِهَا، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الْمُكْنَى عَنْهُ لِلرَّاوِي هُوَ السَّلَبُ وَمَا أُخِذَ ; لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْحَرْبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا رُوِيَ بِطَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ بَاطِلًا، فَيَقَعُ الظَّنُّ بِصِحَّةِ جَعْلِهِ فِي بَدْرٍ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ وَالْمَأْخُوذَ لِلْآخِذِ، فَيَجِبُ قَبُولُهُ، غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَظَافَرَتْ بِهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِهِ: " «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " لَيْسَ نَصْبًا عَامًّا مُسْتَمِرًّا وَالضَّعِيفُ إِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ ارْتَقَى إِلَى الْحَسَنِ، فَيَغْلِبُ الظَّنُّ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ بَقِيَّةُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَذَا وَكَذَا فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رَدًّا لَكُمْ لَوِ انْهَزَمْتُمْ فِئْتُمْ إِلَيْنَا فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى، فَأَبَى الْفِتْيَانُ ذَلِكَ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَا، الْحَدِيثَ فَقَوْلُهُ جَعَلَهُ يُبَيِّنُ أَنَّ كَذَا وَكَذَا هُوَ جَعْلُهُ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِينَ وَالْمَأْخُوذَ لِلْآخِذِينَ وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّهُ كَمَا قُلْنَا. قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مَؤْتَةَ وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذْهَبٌ وَسِلَاحٌ مُذْهَبٌ، فَجَعَلَ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ شَجَرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ، فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ فَخَرَّ فَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ، فَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْهُ سَلَبَ الرُّومِيِّ. قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْتُ خَالِدًا فَقُلْتُ لَهُ: يَا خَالِدُ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. قُلْتُ: أَتَرُدَّنَّهُ، أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ. قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ، وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِخَالِدٍ: " رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ ". قَالَ عَوْفٌ: دُونَكَ يَا خَالِدُ لَمْ أُوَفِّ لَكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَمَا ذَاكَ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: " يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ هَلْ أَنْتُمْ تَارَكُو لِي أُمَرَائِي، لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ» فَفِيهِ أَمْرَانِ. الْأَوَّلُ: رَدَّ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقُلْ: " «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " إِلَّا فِي حُنَيْنٍ، فَإِنَّ مَوْتَهُ كَانَتْ قَبْلَ حُنَيْنٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ عَوْفٌ وَخَالِدٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مَنَعَ خَالِدًا مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ مَا أَمَرَ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَنْفِيلًا، وَأَنَّ أَمْرَهُ ; إِيَّاهُ بِذَلِكَ كَانَ تَنْفِيلًا طَابَتْ نَفْسُ الْإِمَامِ لَهُ وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَازِمًا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: إِنَّمَا مَنَعُهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى عَوْفٍ سَلَبَهُ زَجْرًا لِعَوْفٍ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَخَالِدٌ كَانَ مُجْتَهِدًا فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْيَسِيرُ مِنَ الضَّرَرِ يُتَحَمَّلُ لِلْكَثِيرِ مِنَ النَّفْعِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّ السَّلَبَ لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي تَجَرَّأَ، وَهُوَ عَوْفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلْمَدَدِيِّ فَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَغَضَبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ عَلَى عَوْفٍ مِنْ مَنْعِ السَّلَبِ وَأَزْجَرَ لَهُ مِنْهُ، فَالْوَجْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَبَّ أَوَّلًا أَنْ يُمْضِيَ شَفَاعَتَهُ لِلْمَدَدِيِّ فِي التَّنْفِيلِ، فَلَمَّا غَضِبَ مِنْهُ رَدَّ شَفَاعَتَهُ، وَذَلِكَ بِمَنْعِ السَّلَبِ، لَا أَنَّهُ لِغَضَبِهِ وَسِيَاسَتِهِ يَزْجُرُ بِمَنْعِ حَقِّ آخَرَ لَمْ يَقَعْ لَهُ جِنَايَةٌ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْعًا عَامًّا لَازِمًا.

3987 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَئسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3987 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: اللَّامُ فِي لَهُ لِلتَّمْلِيكِ، وَفِي لِفَرَسِهِ لِلتَّسَبُّبِ ; أَيْ: لِأَجْلِ فَرَسِهِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لِفَنَائِهِ فِي الْحَرْبِ، إِذْ مُؤْنَةُ فَرَسِهِ إِذَا كَانَ مَعْلُوفًا تُضَاعَفُ عَلَى مُؤْنَةِ صَاحِبِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَقِيلَ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ أَخْذًا بِمَا سَيَأْتِي فِي الْحِسَانِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ اهـ. فَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْمُتَيَقَّنِ وَتَرَكَ الْمَشْكُوكَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا يَرْوُونَ خِلَافَهُ، وَإِنَّمَا تَرَكَ أَبُو حَنِيفَةَ الْعَمَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَا لِرَأْيِهِ، بَلْ لِمَا يُعَارِضُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» ". وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِحَدِيثِ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْحِسَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ فَقَطْ سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمٌ لَهَا، وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِهِ هَذَا أَحَدٌ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي يُوسُفَ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ هَذَا الْحَدِيثُ وَهُوَ صَرِيحٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، فِيهِ قَسَمَ فِي النَّفْلِ: «لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا» هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي بَعْضِهَا: «لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» بِالْأَلِفِ، وَفِي بَعْضِهَا لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْلِ هُنَا الْغَنِيمَةُ لُغَةً، فَإِنَّ النَّفْلَ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَالْغَنِيمَةُ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ رَوَى الرَّاجِلَ بِالْأَلِفِ، فَرِوَايَةٌ مُحْتَمَلَةٌ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَوَّلِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ الرِّوَايَتَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَعْنِي فَارِسًا وَفَرَسًا وَرَاجِلًا وَرَجُلًا، فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَجَّحَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى، فَرَجَّحْنَا الْأُولَى لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ رُوَاةَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْأُخْرَى، وَأَنْ تُؤَوَّلَ الْأُخْرَى بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّهْمِ النَّصِيبُ عَلَى الْإِجْمَالِ ; أَيْ: لِلْفَارِسِ نَصِيبَانِ نَصِيبٌ لَهُ وَنَصِيبٌ لِفَرَسِهِ، فَيَكُونُ الْمُبَيِّنَ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يُبَيِّنُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتْلُوهُ فِي قَوْلِ ابْنِ الْأَكْوَعِ: أَعْطَانِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَيْنِ، إِذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْمُسَاوَاةَ لِقَوْلِهِ: " «سَهْمٌ لِلْفَارِسِ وَسَهْمٌ لِلرَّاجِلِ» ". قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَعِنْدَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، لَهُمْ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهَا سَهْمًا» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْهُ: «قَسَمَ النَّفْلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ بِإِسْقَاطٍ لَفْظِ النَّفْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ «أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ» ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ أَوَّلَ مِنَ الشُّرَّاحِ كَوْنَ الْمُرَادِ مِنَ الرَّاجِلِ الرَّجَّالَةَ، وَمِنَ الْخَيْلِ الْفُرْسَانَ، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْقَابِلَةِ: قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الرَّجَّالَةُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمَيْنِ» ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلِ الَّذِي رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مَسْنَدِهِ عَنْهُ قَالَ: «أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» ، لَكِنْ فِي هَذَا أَحَادِيثُ مِنْهَا. مَا فِي أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُجَمِّعٍ يَعْنِي مَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، وَمِنْهَا: مَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو، «أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ سَبْحَةٌ، فَأَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَيْنِ: لِفَرَسِهِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ» ، وَكَذَا فِي مُسْنَدِ الْوَاقِدِيِّ، وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ ; أَيْضًا فِي الْمَغَازِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: «شَهِدْتُ بَنِي قُرَيْظَةَ فَارِسًا فَضَرَبَ لِي بِسَهْمٍ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ إِلَى عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَخْرَجَ الْخُمُسَ مِنْهَا، ثُمَّ قَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا» ، وَمِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي عَارَضَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» اهـ.

وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ بِالشَّكِّ، فِي الْفَارِسِ، أَوِ الْفَرَسِ، وَمِنْ طَرِيقٍ جَزَمَ بِالْفَارِسِ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ; أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، بَلْ فِي فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُطْلَقًا نَظَرًا إِلَى تَعَارُضِ رِوَايَةِ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ ; أَيْضًا تُرَجِّحُ النَّفْيَ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ وَاحِدٌ وَالثَّبَاتَ جِنْسٌ، فَهُمَا اثْنَانِ لِلْفَارِسِ وَلِلرَّاجِلِ أَحَدُهُمَا وَلَهُ ضِعْفُ مَا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُعَارَضَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّرْكِ فَرْعُ الْمُسَاوَاةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ فَهُوَ أَصَحُّ. قُلْنَا: قَدَّمْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ كَوْنَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ فِي غَيْرِهِ، مَعَ فَرْضِ أَنَّ رِجَالَهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، أَوْ رِجَالٌ رَوَى عَنْهُمُ الْبُخَارِيُّ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا نَقُولُ بِهِ، مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنَ الْآخَرِ أَوْلَى مِنْ إِبْطَالِ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا بِحَمْلِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى التَّنْفِيلِ، وَكَذَا حَدِيثُ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ، وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزَاةً، فَأَعْطَى الْفَارِسَ مِنَّا ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا» ، بَلْ هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرَهُ الْمُسْتَمِرَّ، وَإِلَّا لَقَالَ: كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْوَهُ، فَلَمَّا قَالَ غَزَاةً، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزَوَاتٍ، ثُمَّ خَصَّ هَذَا الْفِعْلَ بِغَزَاةٍ مِنْهَا، كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، «أَنَّهُ شَهِدَ حُنَيْنًا فَأَسْهَمَ لِفَرَسِهِ سَهْمَيْنِ وَلَهُ سَهْمًا» ، لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنِّي جَعَلْتُ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلْفَارِسِ سَهْمًا فَمَنْ نَقَصَهُمَا نَقْصَهُ اللَّهُ» ". فَلَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْقَيْسِيِّ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَضْعِيفِهِ وَتَوْهِينِهِ اهـ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِّي جَعَلْتُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ.

3988 - وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: «كَتَبَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ، هَلْ يُقَسَمُ لَهُمَا؟ فَقَالَ يَزِيدُ: اكْتُبْ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا سَهْمٌ، إِلَّا أَنْ يُحْذَيَا. وَفِي رِوَايَةٍ: كَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ ; فَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ يُدَاوِينَ الْمَرْضَى وَيُحْذَيْنَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا السَّهْمُ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ بِسَهْمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3988 - (عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ غَيْرُ مَصْرُوفٍ وَقِيلَ: مَصْرُوفٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَمْدَانِيٌّ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ، رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ. (قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ) : بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ جِيمٍ رَئِيسُ الْخَوَارِجِ. وَفِي الْقَامُوسِ: نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ خَارِجِيٌّ (الْحَرُورِيُّ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ نِسْبَةُ الْخَوَارِجِ إِلَيْهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحَلُّ اجْتِمَاعِهِمْ حِينَ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فِي الْقَامُوسِ: حَرُورَاءُ كَجَلُولَاءِ، وَقَدْ يُقْصَرُ قَرْيَةٌ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ حَرُورِيٌّ، وَالْحَرُورِيَّةُ هُمْ نَجْدَةُ وَأَصْحَابُهُ (إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ، هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا؟ فَقَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (لِيَزِيدَ) : أَيِ ابْنِ هُرْمُزَ (اكْتُبْ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى نَجْدَةَ (أَنَّهُ) : بِالْفَتْحِ وَيَجُوزُ الْكَسْرُ عَلَى الْحِكَايَةِ ; أَيِ: اكْتُبْ هَذَا الْكَلَامَ أَنَّهُ ; أَيِ الشَّأْنَ (لَيْسَ لَهُمَا سَهْمٌ) : أَيْ نَصِيبٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: شَيْءٌ ; أَيْ مِنَ الْغَنِيمَةِ (إِلَّا أَنْ يُحْذَيَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ يُعْطَيَا شَيْئًا قَلِيلًا. قِيلَ: أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ السَّهْمِ، وَقِيلَ: أَقَلَّ مِنَ السَّهْمِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَفِي النِّهَايَةِ: فِي الْحَدِيثِ إِنْ لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْرِهِ عَلَقَكَ مِنْ رِيحِهِ ; أَيْ إِنْ لَمْ يُعْطِكَ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ (كَتَبَ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى نَجْدَةَ (ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ) : بِالْفَتْحِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ وَيَجُوزُ الْكَسْرُ عَلَى أَنَّ الْمَكْتُوبَ هَذَا اللَّفْظُ. وَقَالَ مِيرَكُ: الظَّاهِرُ فِيهِ الْكَسْرُ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ عَلَى الْمَعْنَى ; أَيْ: كَتَبَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ (كَتَبْتَ) : أَيْ إِلَيَّ (تَسْأَلُنِي) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، أَوْ حَالٌ (هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ؟ فَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ: أَيْ: يُسَافِرُ بِهِنَّ فِي غَزْوِهِ (يُدَاوِينَ الْمَرْضَى) :

أَيْ وَيُعَالِجْنَ الْجَرْحَى وَيَسْقِينَ الْغُزَاةَ وَيُهَيِّئْنَ لَهُمْ أُمُورَهُمْ كَمَا سَبَقَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ (وَيُحْذَيْنَ) ; أَيْ يُعْطَيْنَ (مِنَ الْغَنِيمَةِ) : وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَذْهَبِنَا كَمَا سَيَأْتِي (وَأَمَّا السَّهْمُ) : أَيْ سُؤَالُهُ (فَلَمْ يَضْرِبْ) : أَيْ لَمْ يَقْسِمْ وَلَمْ يُعَيِّنْ وَلَمْ يُبَيِّنْ (لَهُنَّ بِسَهْمٍ) : أَيْ تَامٍّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: فَأَمَّا أَنْ يَضْرِبَ لَهُنَّ بِسَهْمٍ فَلَا، وَقَدْ كَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِيهِ أَنَّهُ مُوهِمٌ أَنَّ مَرْوِيَّ أَبِي دَاوُدَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ; أَيْضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانَ إِذَا حَضَرُوا الْقِتَالَ يُرْضَخُ لَهُمْ وَلَا يُسْهَمُ اهـ. وَالرُّضْخُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْمُعْجَمَتَيْنِ إِعْطَاءُ الْقَلِيلِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يُسْهَمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُمْ وَيُعْطَوْنَ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، فَإِنَّ الرُّضْخَ فِي الْإِعْطَاءِ كَذَلِكَ وَالْكَثِيرُ السَّهْمِ، فَالرُّضْخُ لَا يَبْلُغُ السَّهْمَ، وَلَكِنْ دُونَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَسَوَاءٌ قَاتَلَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ قَالَ: «شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي إِلَى أَنْ قَالَ: فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ» ، وَأَمَّا مَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ جَدَّةِ حَشْرَجِ بْنِ زِيَادٍ أُمِّ أَبِيهِ: «أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَادِسَةَ سِتٍّ مِنَ النِّسْوَةِ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَعَثَ إِلَيْنَا فَجِئْنَا فَرَأَيْنَا فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ فَقَالَ: " مَعَ مَنْ خَرَجْتُنَّ وَبِإِذْنِ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْنَا نَغْزِلُ الشَّعَرَ، وَنُعِينُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَعَنَا دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى، وَنُنَاوِلُ السِّهَامَ، وَنَسَقِي السَّوِيقَ: فَقَالَ: " قُمْنَ " حَتَّى إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ أَسْهَمَ لَنَا كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ» ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لِجَهَالَةِ رَافِعٍ وَحَسِيرٍ حِينَئِذٍ مِنْ رُوَاتِهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَطَابَ أَهْلَ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُشْبِهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُنَّ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي أَصْلِ الْعَطَاءِ وَإِرَادَةً بِالسَّهْمِ مَا خُصِّصْنَ بِهِ، وَالْمَعْنَى خَصَّنَا بِشَيْءٍ كَمَا فَعَلَ بِالرِّجَالِ، ثُمَّ الرُّضْخُ عِنْدَنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَفِي قَوْلٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، وَفِي قَوْلِ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقَالَ مَالِكٌ: مِنَ الْخُمُسِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يُرْضَخُ لَهُ إِذَا قَاتَلَ، وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالذِّمِّيُّ ; لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْقِتَالِ إِذَا فَرَضَ الصَّبِيُّ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَلَا يُقَامُ غَيْرُ الْقِتَالِ فِي حَقِّهِمْ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُعْطَى بِالْقِتَالِ وَبِالْخِدْمَةِ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلْ ; لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْهُ، فَأَقَامَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مِنْهَا مَقَامَهُ.

3989 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مَعَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقُمْتُ عَلَى أَكَمَةٍ، فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا: يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ، وَأَرْتَجِزُ وَأَقُولُ: أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعْ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ فَمَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ حَتَّى مَا خَلَقَ لِلَّهِ مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي، ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ، حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً وَثَلَاثِينَ رُمْحًا يَسْتَخِفُّونَ، وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنَ الْحِجَارَةِ، يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ ". قَالَ، ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ: سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ، فَجَمَعَهُمَا إِلَيَّ جَمِيعًا، ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ رَاجِعَيْنِ إِلَى الْمَدِينَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3989 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِظَهْرِهِ) : أَيْ إِبِلِهِ وَمَرْكُوبِهِ. فِي النِّهَايَةِ: الظَّهْرُ الْإِبِلُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَيُرْكَبُ يُقَالُ: عِنْدَ فُلَانٍ ظَهْرٌ ; أَيْ إِبِلٌ (مَعَ رَبَاحٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ (غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ مَوْلًى لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (وَأَنَا مَعَهُ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا) : أَيْ فِي مَنْزِلٍ (إِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالزَّايِ، رُوِيَ بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ (قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قُمْتُ عَلَى أَكَمَةٍ) : بِفَتَحَاتٍ ; أَيْ: مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ (فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا) : أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (يَا صَبَاحَاهْ) : كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُسْتَغِيثُ، وَأَصْلُهَا إِذَا صَاحُوا لِلْغَارَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَكْثَرَ مَا يُغِيرُونَ عِنْدَ الصَّبَاحِ فَكَأَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يَقُولُ: قَدْ غَشِيَنَا الْعَدُوُّ، وَقِيلَ: هُوَ نِدَاءُ الْمُقَاتِلِ عِنْدَ الصَّبَاحِ يَعْنِي: قَدْ جَاءَ وَقْتُ الصَّبَاحِ فَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ، (ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ) : أَيْ أَعْقَابِهِمْ (أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ) : أَيِ السَّهْمِ (وَأَرْتَجِزُ) : فِي الْقَامُوسِ: الرَّجَزُ مُحَرَّكَةٌ ضَرْبٌ مِنَ الشِّعْرِ وَزَنُهُ مُسْتَفْعِلُنْ سِتَّ مَرَّاتٍ، سُمِّيَ لِتَقَارُبِ أَجْزَائِهِ وَقِلَّةِ حُرُوفِهِ، وَزَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَبِهَا هُوَ أَنْصَافُ أَبْيَاتٍ وَأَثْلَاثٌ، وَالْأُرْجُوزَةُ الْقَصِيدَةُ مِنْهُ، وَقَدْ رَجَزَ وَارْتَجَزَ وَرَجَزَ بِهِ وَرَجَّزَهُ أَنْشَدَ أُرْجُوزَةً. (أَقُولُ) : بَدَلٌ، أَوْ حَالٌ ; أَيْ قَائِلًا (أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعْ) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا (وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ

رَاضِعٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْ: يَوْمُ هَلَاكِ اللِّئَامِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَئِيمٌ رَاضِعٌ أَيْ: رَضِيعُ اللُّؤْمِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَمُصُّ حَلَمَةَ الشَّاءِ وَالنَّاقَةِ؛ لِئَلَّا يَسْمَعَ السُّؤَّالُ، وَالضِّيفَانُ صَوْتَ الْحِلَابِ فَيَقْصِدُوهُ، وَقِيلَ: الْيَوْمَ يُعْرَفُ مَنْ أَرْضَعَتْهُ كَرِيمَةٌ فَأَشْجَعَتْهُ، أَوْ لَئِيمَةٌ فَهَجَنَتْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْيَوْمُ يُعْرَفُ مَنْ أَرْضَعَتْهُ الْحَرْبُ مِنْ صِغَرِهِ وَتَدَرَّبَ بِهَا وَيُعْرَفُ غَيْرُهُ اهـ. أَوِ الْمَعْنَى الْيَوْمَ تَهْلَكُونَ أَيُّهَا الْكُفَّارُ بِأَيْدِينَا، فَإِنَّكُمْ عَاجِزُونَ كَالْأَطْفَالِ الَّذِينَ يَرْضَعُونَ عِنْدَنَا، (فَمَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَعْقِرُ بِهِمْ) أَيْ: أَقْتُلُ مَرْكُوبَهُمْ وَأَجْعَلُهُمْ رَاجِلِينَ بِعَقْرِ دَوَابِّهِمْ (حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ) : " مَا " نَافِيَةٌ (مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مِنْ إِبِلِهِ بَيَانُ قَوْلِهِ مِنْ بَعِيرٍ، وَمِنْ فِيهِ زَائِدَةٌ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا (إِلَّا خَلَّفْتُهُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: تَرَكْتُهُ (وَرَاءَ ظَهْرِي) : فِيهِ تَجْرِيدٌ، أَوْ تَأْكِيدٌ (ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْأُولَى (أَرْمِيهِمْ، حَتَّى أَلْقَوْا) أَيْ: طَرَحُوا وَرَمَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً) : وَهِيَ شَمْلَةٌ مُخَطَّطَةٌ، أَوْ كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ صَغِيرٌ يَلْبَسُهُ الْأَعْرَابُ (وَثَلَاثِينَ رُمْحًا، يَسْتَخِفُّونَ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: يَطْلُبُونَ الْخِفَّةَ بِإِلْقَائِهَا فِي الْفِرَارِ (وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْبُرُدِ وَالرُّمْحِ وَغَيْرِهِمَا (إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا) : بِمَدٍّ فِي أَوَّلِهِ جَمْعُ إِرَمٍ كَعِنَبٍ وَأَعْنَابٍ وَهُوَ الْعَلَامَةُ فَقَوْلُهُ: (مِنَ الْحِجَارَةِ) : تَجْرِيدٌ، أَوْ تَأْكِيدٌ (إِلَّا يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ) : فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وَجَدُوا شَيْئًا فِي طَرِيقِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمُ اسْتِصْحَابُهُ تَرَكُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً يَعْرِفُونَهُ بِهَا، حَتَّى إِذَا عَادُوا أَخَذُوهُ (حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أَقْبَلُوا (وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مِنْهُمْ (بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: الْفَزَارِيِّ (فَقَتَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ فُرْسَانِنَا ") جَمْعُ فَارِسٍ رَاكِبُ الْفَرَسِ (الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ جَمْعُ رَاجِلٍ بِمَعْنَى الْمَاشِي عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَنَظِيرُهُ السَّيَّارَةُ جَمْعُ سَائِرٍ، وَالنَّظَّارَةُ جَمْعُ نَاظِرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةُ الشَّهَادَةِ وَمَنْقَبَةٌ لِسَلَمَةَ وَأَبِي قَتَادَةَ، وَجَوَازُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ فَعَلَ جَمِيلًا، وَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ وَجَوَازُ عَقْرِ خَيْلِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ، وَاسْتِحْبَابُ الرَّجَزِ فِي الْحَرْبِ وَجَوَازُ الْقَوْلِ: بِأَنِّي أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَجَوَازُ الْمُبَارَزَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَحَبُّ الشَّهَادَةِ وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا، وَإِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَلَمَةَ ( «ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ: سَهْمَ الْفَارِسِ» ) : وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، أَوْ سَهْمَانِ عَلَى مَا سَبَقَ، (وَسَهْمَ الرَّاجِلِ) أَيْ: أَعْطَانِي سَهْمَ فَارِسٍ مَعَ سَهْمِ رَاجِلٍ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ أَخْذِ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ كَانَتْ بِسَبَبِ سَلَمَةَ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ أَكْثَرَ سَعْيَهُ فِي الْجِهَادِ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى نَصِيبِهِ لِتَرْغِيبِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمِيعَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُنَفِّلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ حَضَرَ الْحَرْبَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا بِنِيَّةِ الْحَرْبِ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْغَنِيمَةِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْغَزْوَةُ غَزْوَةَ ذِي قَرَدٍ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَالرَّاءِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، (فَجَمَعَهُمَا إِلَيَّ جَمِيعًا) أَيْ: هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِي. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ سَهْمَ الرَّاجِلِ فَحَسْبُ ; لِأَنَّ سَلَمَةَ كَانَ رَاجِلًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَعْطَاهُ الزِّيَادَةَ نَفَلًا لِمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ بَلَائِهِ. (ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أَرْكَبَنِي (وَرَاءَهُ) أَيْ: وَرَاءَ ظَهْرِهِ (عَلَى الْعَضْبَاءِ) : نَاقَةٍ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَاجِعَيْنِ) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ (إِلَى الْمَدِينَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا مُسْلِمٌ

3990 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا ; لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمَةِ عَامَّةِ الْجَيْشِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3990 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: يُعْطِيهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ زَائِدًا (بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا ; لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمَةِ عَامَّةِ الْجَيْشِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3991 - وَعَنْهُ، قَالَ «نَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ نَفَلًا سِوَى نَصِيبِنَا مِنَ الْخُمُسِ، فَأَصَابَنِي شَارِفٌ، وَالشَّارِفُ: الْمُسِنُّ الْكَبِيرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3991 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: نَفَّلَنَا) أَيْ: أَعْطَانَا (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلًا) : بِالتَّحْرِيكِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: زِيَادَةً، أَوْ غَنِيمَةً. فَفِي النِّهَايَةِ: النَّفَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْغَنِيمَةُ وَجَمْعُهُ الْأَنْفَالُ، وَبِالسُّكُونِ وَقَدْ يُحَرَّكُ الزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ نَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ ; لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ (سِوَى نَصِيبِنَا مِنَ الْخُمُسِ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الْمِيمُ (فَأَصَابَنِي شَارِفٌ) أَيْ: نَاقَةٌ مُسِنَّةٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. (وَالشَّارِفُ الْمُسِنُّ الْكَبِيرُ) : هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: النَّفَلُ اسْمٌ لِزِيَادَةٍ يُعْطِيهَا الْإِمَامُ بَعْضَ الْجَيْشِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ النَّافِلَةُ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي إِعْطَاءِ النَّفَلِ، وَفِي أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ يُعْطَى، بِتَمَامِهِ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ اهـ. وَتَقَدَّمَ حَاصِلُهُ مِمَّا فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3992 - وَعَنْهُ، قَالَ: «ذَهَبَتْ فَرَسٌ لَهُ فَأَخَذَهَا الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَبَقَ عَبْدٌ لَهُ، فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3992 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: ذَهَبَتْ فَرَسٌ لَهُ) أَيْ: نَفَرَتْ وَشَرَدَتْ إِلَى الْكُفَّارِ (فَأَخَذَهَا الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ) أَيْ: غَلَبَ (عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى الْعَدُوِّ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ (الْمُسْلِمُونَ فَرُدَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: الْفَرَسُ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَفِي الصِّحَاحِ: الْفَرَسُ يُؤَنَّثُ وَقَدْ يُذَكَّرُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْفَرَسُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، لَكِنْ عَدَّهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي رِسَالَتِهِ مِمَّا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَأْنِيثِهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْجَارُّ نَائِبَ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَرُدَّتْ عَلَيْهِ (فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي رِوَايَةٍ: «أَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ عَبْدًا آبِقًا، فَإِذَا أَخَذُوهُ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا، وَبِهِ قُلْنَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا أَحْرَزُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا لَا يَتَمَلَّكُونَهَا، وَإِذَا اسْتَنْقَذَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ تُرَدُّ إِلَى مُلَّاكِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَهَا خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِنْ أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ دَارَ الْحَرْبِ، فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَمْلِكُونَهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَأَمَّا لَوِ ارْتَدَّ فَأَبَقَ إِلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إِذَا نَدَّ بِعِيرٌ إِلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى مِلْكِهِمْ إِيَّاهُ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَالِكُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إِنْ شَاءَ، وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، إِلَّا أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ يَمْلِكُونَهَا، وَلِأَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ كَقَوْلِنَا وَقَوْلِ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُونَهَا لِمَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مُسْنَدًا إِلَى عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: «كَانَتِ الْعَضْبَاءُ مِنْ سَوَابِقِ الْحَاجِّ، فَأَغَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ الْعَضْبَاءُ، وَأَسَرُوا امْرَأَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا يُرِيحُونَ إِبِلَهُمْ فِي أَفْنِيَتِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَامَتِ الْمَرْأَةُ وَقَدْ نُوِّمُوا فَجَعَلَتْ لَا تَضَعُ يَدَهَا عَلَى بَعِيرٍ إِلَّا رَغَا حَتَّى أَتَتْ عَلَى الْعَضْبَاءِ فَأَتَتْ عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ، فَرَكِبَتْهَا، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَنَذَرَتْ لَئِنِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَجَّاهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عُرِفَتِ النَّاقَةُ، فَأَتَوْا بِهَا النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَتِ الْمَرْأَةُ بِنَذْرِهَا فَقَالَ: " بِئْسَ مَا جَزَيْتِهَا، أَوْ فَدَيْتِهَا لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . وَفِي لَفْظٍ: فَأَخَذَ نَاقَتَهُ، وَلِلْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ، وَالْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَلَكُوا أَمْوَالَهُمُ الَّتِي خَلَّفُوهَا وَهَاجَرُوا عَنْهَا، وَلَيْسَ مَنْ يَمْلِكُ مَالًا وَهُوَ فِي مَكَانٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ فَقِيرًا، بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِابْنِ السَّبِيلِ، وَلِذَا عُطِفُوا عَلَيْهِمْ فِي نَصِّ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّارِحُونَ مِمَّا فِي الصَّحِيحَيْنِ، «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْفَتْحِ: أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: " هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَتَنْزِلُ بِدَارِكَ؟ قَالَ: " فَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» . وَإِنَّمَا قَالَ ; لِأَنَّ عَقِيلًا كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا هُوَ دَلِيلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، فَإِنَّ عَقِيلًا إِنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى الرِّبَاعِ بِإِرْثِهِ إِيَّاهَا مِنْ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا مُسْلِمَيْنِ، وَعَقِيلًا وَطَالِبًا كَافِرَيْنِ، فَوَرِثَاهُ ; لِأَنَّ الدِّيَارَ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا هَاجَرُوا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا فَمَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ قَالَ: «وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ نَاقَةً لَهُ، فَارْتَفَعَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الْعَدُوِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَأَنْتَ أَحَقُّ وَإِلَّا فَخَلِّ عَنْ نَاقَتِهِ» ". وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مُسْنَدًا، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَفِي سَنَدِهِ يَس الزَّيَّاتُ مُضَعَّفٌ، وَأَخْرَجَ الدَّارُقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «فِيمَا أَحْرَزَ الْعَدُوُّ فَاسْتَنْفَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ إِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قُسِّمَ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ» . وَضُعِّفَ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ. وَأَخْرَجَ الدَّارُقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ وَجَدَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَ مَا قُسِّمَ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ» " وَضُعِّفَ بِإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فِيهِ رَشْدِينُ وَضُعِّفَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ أَدْرَكَ بَعْدَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالثَّمَنِ» " وَفِيهِ يس ضُعِّفَ بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ مَا أَخَذَ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَمَا قُسِّمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ إِلَّا بِالْقِيمَةِ. قَالَ: وَهَذَا إِنَّمَا رَوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَعَنْ عَمْرٍو، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا، وَكِلَاهُمَا لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: فِيمَا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَأَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فَعَرَفَهَ صَاحِبُهُ إِنْ أَدْرَكَ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ جَرَتْ فِيهِ السِّهَامُ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إِلَى قَتَادَةَ عَنْ جُلَاسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنِ اشْتَرَى مَا أَحْرَزَ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَشُكُّ بَعْدَ هَذِهِ الْكَثْرَةِ فِي أَصْلِ هَذَا الْحُكْمِ، وَيَدُورُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَضْعِيفٍ بِالْإِرْسَالِ، أَوِ التَّكَلُّمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَإِنَّ الظَّنَّ بِلَا شَكٍّ يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ، وَأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْكَذِبَ، وَيَبْعُدُ أَنَّهُ وَقَعَ غَلَطٌ لِلْكُلِّ فِي ذَلِكَ، وَتَوَافَقُوا فِي هَذَا الْغَلَطِ، بَلْ لَا شَكَّ أَنَّ الرَّاوِيَ الضَّعِيفَ إِذَا كَثُرَ مَجِيءُ مَعْنَى مَا رَوَاهُ يَكُونُ مِمَّا أَجَادَ فِيهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ الضَّعِيفَ الْغَلَطُ دَائِمًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ حَالِهِ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ، هَذَا مَعَ اعْتِضَادِهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَحَدِيثُ الْعَضْبَاءِ كَانَ قَبْلَ إِحْرَازِهِمْ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا إِلَخْ. فَإِنَّهُ يُفْهَمُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ وَهُمْ فِي الطَّرِيقِ اهـ. وَبِهِ يُعْلَمُ حُكْمُ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْأَصْلِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

3993 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ؟ ! فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ " قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3993 - (عَنْ جُبَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ مُطْعِمٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمُحْسِنٍ ابْنِ عَدِيٍّ. مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ النَّوْفَلِيُّ، أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَنَزَلَ الْمَدِينَةَ، مَاتَ بِهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ مِنْ أَنْسَبِ قُرَيْشٍ. (قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) : وَهُوَ أُمَوِيٌّ قُرَشِيٌّ (إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ) أَيْ: مِنْ كَوْنِنَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّ هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وَنَوْفَلًا وَعَبْدَ شَمْسٍ، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدُ مَنَافٍ هُوَ الْجَدُّ الرَّابِعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجُبَيْرٌ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ، وَعُثْمَانُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. (فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ:) أَيْ: كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِأَنْ كَانُوا مُتَرَافِقَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ مُتَعَاوِنَيْنِ، فَلَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ مُخَالَفَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَرَادَ الْحِلْفَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبِنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنَّمَا لَمْ تَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا فِي إِسْلَامٍ وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَرْوِيهِ سِيٌّ وَاحِدٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ يَعْنِي وَبِالتَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: سَوَاءٌ يُقَالُ: هَذَا سِيُّ هَذَا أَيْ: مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ، وَالْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَرِنٌ بِالْآخَرِ مُلَاصِقٌ بِهِ، لَا يُقَالُ لَهُمَا سِيَّانِ بَلْ سِيٌّ وَاحِدٌ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى. ( «قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا» ) : لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ مُوَافَقَةٌ، بَلْ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَلِهَذَا أَحْرَمَهُمْ عَنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] لِلتَّبَرُّكِ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ سَهْمًا كَمَا لِكُلٍّ مِنَ الْأَصْنَافِ سَهْمٌ، فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَسَهْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاحِدٌ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَهْمُ اللَّهِ ثَابِتٌ يُصْرَفُ إِلَى بِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَتْ خَرِبَةً وَإِلَّا فَإِلَى كُلِّ مَسْجِدٍ مِنْ كُلِّ بَلْدَةٍ ثَبَتَ فِيهَا الْخُمُسُ، وَدَفَعَهُ أَنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِمَا ذُكِرَ أَوَّلًا. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَرَأَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مِفْتَاحُ الْكَلَامِ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284] وَفِي غَيْرِهِ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ فَصَرَفَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خَمْسَةٍ وَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ تَكُونُ سِتَّةً. وَكَذَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِيهِ. قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ، وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مِثْلُ دِرْعٍ وَسَيْفٍ وَجَارِيَةٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَإِخْرَاجِ الْخُمُسِ، كَمَا اصْطَفَى ذَا الْفَقَارِ، وَهُوَ سَيْفُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ حِينَ أَتَى بِهِ عَلِيٌّ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مُنَبِّهًا، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَكَمَا اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ غَنِيمَةِ خَيْبَرَ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَلِيفَةِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِإِمَامَتِهِ لَا بِرِسَالَتِهِ، وَدُفِعَ بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ إِنَّمَا قَسَّمُوا عَلَى ثَلَاثَةٍ فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ لَقَسَّمُوهُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَرَفَعُوا سَهْمَهُ لَا يُقْسَمُ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ، وَأَيْضًا فَهُوَ حُكْمٌ عُلِّقَ بِمُشْتَقٍّ وَهُوَ الرَّسُولُ، فَيَكُونُ مَبْدَأُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً وَهُوَ الرِّسَالَةُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْخُمُسَ يُقْسَمُ عِنْدَنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ، فَيُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَذَوِي الْقُرْبَى لَا يَحِلُّ لَهُمْ، هَذَا رَأْيُ الْكَرْخِيِّ وَرَأْيُ الطَّحَاوِيِّ، أَنَّهُ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْيَتَامَى مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي سَهْمِ الْيَتَامَى الْمَذْكُورِينَ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، وَالْيَتِيمُ صَغِيرٌ لَا أَبَ لَهُ، وَالْمَسَاكِينُ مِنْهُمْ فِي سَهْمِ الْمَسَاكِينِ، وَفُقَرَاءُ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي أَبْنَاءِ السَّبِيلِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلَا فَائِدَةَ حِينَئِذٍ فِي ذِكْرِ سَهْمِ الْيَتِيمِ حَيْثُ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ لَا بِالْيَتِيمِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ فَائِدَتَهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْجِهَادِ وَالْيَتِيمُ صَغِيرُ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا، وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ: لَمَّا كَانَ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ بِالْفَقْرِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ. أَجَابَ: بِأَنَّ أَفْهَامَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ تَقْضِي إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الصَّدَقَةِ وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ وَفِي التُّحْفَةِ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَصَارِفُ الْخُمُسِ عِنْدَنَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ، حَتَّى لَوْ صُرِفَ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِذَوِي الْقُرْبَى خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَحْمَدُ وَعِنْدَ مَالِكٍ: الْأَمْرُ مُفَوَّضٌ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى غَيْرَهُمْ إِنْ كَانَ أَمْرُهُمْ أَهَمَّ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَرَابَاتِ، وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُرَادَةَ هُنَا تَخُصُّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَالْخِلَافُ فِي دُخُولِ الْغَنِيِّ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَعَدَمِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَيُدْفَعُ لِلْقَاصِي وَالدَّانِي، وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ النَّصِّ لِلشَّافِعِيِّ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِوَصْفٍ يُوجِبُ أَنَّ مَبْدَأَ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لَهُ، وَلَا تَفْصِيلَ فِيهَا بِخِلَافِ الْيَتَامَى، فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِيهِمُ الْفَقْرَ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِنَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ، فَكَانَ مُقَيَّدًا مَعْنًى بِهَا بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى، ثُمَّ لَا يَنْتَفِي مُنَاسَبَتُهَا بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ كَوْنُ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الْكَرَامَةِ. وَلَنَا: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَحَدٌ مَعَ عِلْمِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَتَوَافُرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَلَامُ فِي إِثْبَاتِهِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: «أَنَّ الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، لِلَّهِ وَالرَّسُولِ سَهْمٌ، وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ» . وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَدَعَا مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، كَيْفَ صَنَعَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى؟ قَالَ: سَلَكَ أَبِي وَاللَّهِ سَبِيلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. فَقُلْتُ: وَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا كَانَ أَهْلُهُ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ. قُلْتُ: فَمَا مَنَعَهُ؟ قَالَ: كَرِهَ وَاللَّهِ أَنْ يُدْعَى بِخِلَافِ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اهـ. وَكَوْنُ الْخُلَفَاءِ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَبِهِ تَصِحُّ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّ الْكَلْبِيَّ مُضَعَّفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ وَافَقَ النَّاسَ، وَإِنَّمَا الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لَا إِجْمَاعَ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَحِينَ ثَبَتَ هَذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادَهُ لِاجْتِهَادِهِمَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي أَشْيَاءَ لَمْ تُوَافِقْ رَأْيَهُ، كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَحِينَ وَافَقَهُمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى رَأْيِهِمَا إِنْ كَانَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ، وَكَذَا يَنْدَفِعُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَ: وَلَا إِجْمَاعَ دُونَ أَهْلِ الْبَيْتِ ; لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ لِكَرَاهَةِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ خِلَافُهُمَا، وَكَيْفَ وَفِيهِ مَنْعُ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنْ حَقِّهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَنْعُهُ إِلَّا لِرُجُوعِهِ وَظُهُورِ الدَّلِيلِ لَهُ. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَعَ فَالْأَخْذُ بِقَوْلِ الرَّاشِدِينَ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِعَدَمِ التَّنْكِيرِ مِنْ أَحَدٍ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ سَهْمٌ مُسْتَحَقًّا لِذَوِي الْقُرْبَى أَصْلًا ; لَأَنَّ الْخُلَفَاءَ لَمْ يُعْطُوهُمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَلِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; لِأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ بِلَا شُبْهَةٍ. أُجِيبَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ السَّهْمَ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ، لِمَا أَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَعَثَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا إِلَى عَمِّكُمَا لَعَلَّهُ يَسْتَعِينُ بِكُمَا عَلَى صَدَقَاتٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ بِحَاجَتِهِمَا، فَقَالَ لَهُمَا: لَا

يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَيْتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ وَلَا غُسَالَةِ الْأَيْدِي إِنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ وَيَكْفِيكُمْ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ: رَغِبْتُ عَنْ غُسَالَةِ أَيْدِ النَّاسِ إِنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ، وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى، فَيَقْتَضِي اعْتِقَادَ اسْتِحْقَاقِ فُقَرَائِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مَصْرَفًا مُسْتَمِرًّا، وَيُنَافِيهِ اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ مَنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إِيَّاهُمْ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَيْنَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى شَيْئًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ فُقَرَائِهِمْ، وَكَذَا يُنَافِيهِ إِعْطَاؤُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ كَمَا رُوِيَ: أَنَّهُ أَعْطَى الْعَبَّاسَ، وَكَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا يَتَّجِرُونَ. وَقَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ يَدْفَعُ السُّؤَالَ الثَّانِيَ، لَكِنْ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْمُنَاقَضَةَ مَعَ مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ نَصَرَتْهُ، وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ، وَمِنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْ تَأَخَّرَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالْعَبَّاسِ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْخُلَفَاءِ أَنْ يُعْطُوهُمْ، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوهُمْ، بَلْ حَصَرُوا الْقِسْمَةَ فِي الثَّلَاثَةِ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا سَيَرْوِيهِ فِي تَصْحِيحِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ عُمَرَ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ سَهْمًا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ إِعْطَاءُ عُمَرَ بِقَيْدِ الْفُقَرَاءِ مَرْوِيًّا، بَلِ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مَا فِي أَبِي دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حَدَّثَنَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَا لَبَنِي نَوْفَلٍ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقْسِمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا كَانَ يُعْطِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عُمَرُ يُعْطِيهِمْ وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى سَمِعْتُ عَلِيًّا قَالَ: اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنِي حَقَّنَا فِي هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أُقَسِّمُهُ فِي حَيَاتِكَ لِئَلَّا يُنَازِعَنِيَ أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ. قَالَ: فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقَسَمْتُهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وِلَايَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى كَانَ آخِرَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ أَتَاهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَعَزَلَ حَقَّنَا، ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَيَّ فَقُلْتُ: بِنَا الْعَامُ غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ فَرَدَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَدْعُنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ، فَلَقِيتُ الْعَبَّاسَ بَعْدَ مَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ! حَرَمْتَنَا الْغَدَاةَ شَيْئًا لَا يُرَدُّ عَلَيْنَا، فَكَانَ رَجُلًا ذَاهِبًا، فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدُ الْإِعْطَاءِ بِفَقْرِ الْمُعْطَى مِنْهُمْ، وَكَيْفَ الْعَبَّاسُ كَانَ مِمَّنْ يُعْطَى وَلَمْ يَتَّصِفْ بِالْفَقْرِ، مَعَ أَنَّ الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: وَفِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَقْسِمْ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَفِي حَدِيثِ: أَنَّهُ قَسَمَ لَهُمْ، وَحَدِيثُ جُبَيْرٍ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ اهـ. وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى لِبَيَانِ مَصْرِفِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُمْ مَنْعُهُمْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْبَى وَإِنْ قُيِّدَتْ بِالنُّصْرَةِ وَالْمُؤَازَرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ بَقُوا بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يُعْطُوهُمْ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ حَتَّى جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ كَأَنْ يُعْطَى تَمَامُ الْخُمُسِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَنْ يُعْطَى تَمَامُهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَأَنْ يُعْطَى تَمَامُهُ لِلْيَتَامَى، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ التُّحْفَةِ، فَجَازَ لِلرَّاشِدِينَ أَنْ يَصْرِفُوهُ إِلَى غَيْرِهِمْ خُصُوصًا، وَقَدْ رَأَوْهُمْ أَغْنِيَاءَ مُتَمَوِّلِينَ إِذْ ذَاكَ، وَرَأَوْا صَرْفَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ أَنْفَعُ، وَنَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ مَصْرِفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا أَنَّهُ يَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ كَوْنَهُمْ مَصَارِفَ كَانَ لِلنُّصْرَةِ، فَلِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ بِسَنَدِهِ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَضَعَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ، وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وُضِعَ فِيهِمْ فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى نُصْرَتِهِمْ إِيَّاهُ نُصْرَةَ الْمُؤَانَسَةِ وَالْمُوَافَقَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ إِذْ ذَاكَ آخِرَ قِتَالٍ، فَهُوَ يُشِيرُ إِلَى دُخُولِهِمْ مَعَهُ فِي الشِّعْبِ حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَالْقِصَّةُ فِي السِّيرَةِ شَهِيرَةٌ وَعَنْ هَذَا اسْتَحَقَّتْ ذَرَّارِيهِمْ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي نُصْرَةٌ مِنْهُمْ. وَهَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.

3994 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا وَأَقَمْتُمْ بِهَا، فَسَهْمُكُمْ فِيهَا وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ; فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3994 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا ") أَيْ: بِلَا قِتَالٍ بِأَنْ خَلَا أَهْلُهَا، أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهَا، (" وَأَقَمْتُمْ فِيهَا، فَسَهْمُكُمْ فِيهَا ") أَيْ: لَا يَخْتَصُّ بِكُمْ بَلْ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْكُمْ مِنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَالِ يَكُونُ فَيْئًا، وَالْفَيْءُ لَا يَخْتَصُّ بِالْخَارِجِينَ لِلْمُحَارَبَةِ. (" وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ") أَيْ: فَأَخَذْتُمْ مِنْهُمْ مَالًا بِإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ (" فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ ") أَيْ: بَقِيَّةُ أَمْوَالِهِمْ وَأَرَاضِيهَا (" لَكُمْ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: ذَلِكَ الْمَالُ يَكُونُ غَنِيمَةً وَيُؤْخَذُ خُمُسُهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي مِنْهَا، وَفِيهِ أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ لَا يُخَمَّسُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ يُخَمَّسُ كَمَالِ الْغَنِيمَةِ، فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: الْمُرَادُ بِالْأُولَى مَا فَتَحَهُ الْعَسْكَرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ لِلْعَسْكَرِ، وَبِالثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فَيَأْخُذُ الْخُمُسَ وَالْبَاقِي لَهُمْ وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأُولَى الْفَيْءَ الَّذِي يُوجِفُ الْمُسْلِمُونَ بَخِيلٍ وَلَا رِكَابٍ، بَلْ خَلَا عَنْهُ أَهْلُهُ وَصَالَحُوا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ سَهْمُهُمْ فِيهَا أَيْ: حَقُّهُمْ مِنَ الْعَطَاءِ كَمَا يُصْرَفُ الْفَيْءُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالثَّانِيَةِ مَا أَخَذَهُ عَنْوَةً فَيَكُونُ غَنِيمَةً يَخْرُجُ مِنْهَا الْخُمُسُ، وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ الْخُمُسَ فِي الْفَيْءِ كَمَا أَوْجَبُوهُ كُلُّهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ سَوَاءً: لَا خُمُسَ فِي الْفَيْءِ. قَالَ الْأَشْرَفُ أَيْ: كُلُّ قَرْيَةٍ غَزَوْتُمُوهَا وَاسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ أَكُنْ أَنَا فِيكُمْ وَقَسَمْتُمُ الْغَنَائِمَ بِأَنْفُسِكُمْ، فَسَهْمُكُمْ فِي تِلْكَ الْغَنَائِمِ، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ أَيْ: وَأَنَا قَدْ حَضَرْتُ قِتَالَهَا بِنَفْسِي، فَأَنَا أُخَمِّسُ الْغَنَائِمَ، ثُمَّ أُقَسِّمُ عَلَيْكُمْ بِنَفْسِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: "، ثُمَّ " هِيَ لَكُمْ لِلتَّرَاخِي فِي الْإِخْبَارِ، وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلْقَرْيَةِ، وَالْمُرَادُ هِيَ وَمَا فِيهَا، وَلِذَلِكَ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْقَرْيَةِ أَيِ: الْقَرْيَةُ مَعَ مَا فِيهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ لَكُمْ، وَكَنَّى عَنْ مُقَاتَلَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُخَاطَبِينَ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ فِي اللَّهِ وَيُجَاهِدُونَ لِلَّهِ، فَمَنْ قَاتَلَهُمْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مَعَ رُءُوسِ أَهْلِهَا اسْتِرْقَاقًا وَأَمْوَالِهِمْ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ لِجِهَاتِهِ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَقَسَمَ مَا سِوَاهُمْ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَارِي، وَيَضَعُ عَلَى الْأَرَاضِي الْمَقْسُومَةِ الْعُشُرَ ; لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى الرُّءُوسِ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْمَاءِ الَّذِي يُسْقَى بِهِ أَهُوَ مَاءُ الْعُشُرِ، كَمَاءِ السَّمَاءِ وَالْعُيُونِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْآبَارِ، أَوْ مَاءُ الْخَرَاجِ كَالْآبَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ ; لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ فَقَطْ فَمَكْرُوهٌ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ مَا يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْعَمَلِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى الْأَرَاضِي إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْعِلَاقُ، وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَأَمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ مَعَ الْمَالِ دُونَ الْأَرْضِ، أَوْ بِرِقَابِهِمْ فَقَطْ، فَلَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ إِضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِرَدِّهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، نَعَمْ لَهُ أَنْ يُبْقِيَهُمْ أَحْرَارَ ذِمَّةٍ بِوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِلَا مَالٍ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِمْ، فَيَكُونُونَ فُقَرَاءَ يَكْتَسِبُونَ بِالسَّعْيِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الْأَرْضِ بِقِسْمَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَيْبَرَ مِمَّا فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ بَلْدَةً وَلَا قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا، كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ:

لَوْلَا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ مَا فُتِحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا سُهْمَانًا، كَمَا قَسَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهْمَانًا، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَسَّمَهَا كُلَّهَا، فِي أَبِي دَاوُدَ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ قَسَمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ لِنَوَائِبِهِ وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَسْمًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كَلُّ سَهْمٍ مِائَةً. يَعْنِي أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ سَهْمًا، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: وَكَانَ النِّصْفُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ نِصْفُ النِّصْفِ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَعْنَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ كَانَ الْوَطِيخُ وَالْكَثِيبَةُ وَالسَّلَالِمُ وَتَوَابِعُهَا، فَلَمَّا صَارَتِ الْأَمْوَالُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُمَّالٌ يَكْفُونَهُمْ عَمَلَهَا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ فَعَامَلَهُمْ. زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: فَعَامَلَهُمْ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى كَانَ عُمَرُ، فَكَثُرَ الْعُمَّالُ فِي الْمُسْلِمِينَ وُقُوفًا عَلَى الْعَمَلِ، فَأَجْلَى عُمَرُ الْيَهُودَ إِلَى الشَّامِ وَقَسَمَ الْأَمْوَالَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَوْمِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي فِي أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ كُلُّهَا عَنْوَةً، أَوْ بَعْضُهَا صُلْحًا، وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَوَّلَ وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ الثَّانِيَ، وَغَلَّطَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: فَإِنَّمَا دَخَلَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحِصْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَهُمَا أَهْلُهُمَا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَهُمَا الْوَطِيخُ وَالسَّلَالِمُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَصَرَهُمْ فِيهِمَا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ، وَأَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، فَفَعَلَ فَحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْوَالَ وَجَمِيعَ الْحُصُونِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنَكَ الْحِصْنَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ ذَيْنَكَ الْحِصْنَيْنِ مَغْنُومِينَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ صُلْحٌ، وَلَعَمْرِي أَنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَضَرْبٌ مِنَ الصُّلْحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا أَرْضَهُمْ إِلَّا بِالْحِصَارِ وَالْقِتَالِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً دُونَ مَا قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْهُ اهـ. وَلَا شَكَّ فِي إِقْرَارِ عُمَرَ أَهْلَ السَّوَادِ وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرَاضِيهِمْ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ عَامِرٍ، أَوْ غَامِرٍ عَمَلَهُ صَاحِبُهُ، أَوْ لَمْ يَعْمَلْهُ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَفَرَضَ عَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةً، وَعَلَى الرِّطَابِ خَمْسَةً، وَفَرَضَ عَلَى رِقَابِ الْمُوسِرِينَ فِي الْعَامِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَعَلَى مَنْ دُونَهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَحُمِلَ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ إِلَى عُمَرَ ثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، إِلَّا أَنَّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَجُعِلَتْ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَالْمَنْقُولَاتُ لِلْغَانِمِينَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّهَا بِأَهْلِ الْخُمُسِ، لَكِنَّهُ اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ وَاسْتَرَدَّهَا وَرَدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ كُلَّ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: بَاعَهَا مِنْ أَهْلِهَا بِثَمَنٍ مُنَجَّمٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي أَنَّ السَّوَادَ فُتِحَ عَنْوَةً وَأَنَّ عُمَرَ وَظَّفَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يُقَسِّمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] أَيِ: الْغَنِيمَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَصْحَابِهِ، وَلِلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لَهُمْ بِالْمَنِّ وَبِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ، وَتَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعَا عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَلَمْ يُحْمَدُوا وَنَدِمُوا وَرَجَعُوا إِلَى رَأْيِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْأَرَاضِي لَيْسَ حَتْمًا أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَهَا، وَلِذَا ذَهَبَ مَالِكٌ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ تَصِيرُ الْأَرْضُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَدْعَى بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ اهـ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَعْوَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، بَلْ عَلَى نَقِيضِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

3995 - وَعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3995 - (وَعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ صَحَابِيَّةٌ بِنْتُ تَامِرٍ، حَدِيثُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ ") : بِالْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ: يُسْرِعُونَ وَيَدْخُلُونَ وَيَتَصَرَّفُونَ (" فِي مَالِ اللَّهِ ") أَيْ: فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ وَالزَّكَاةِ (" بِغَيْرِ حَقٍّ ") أَيْ: بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ (" فَلَهُمُ النَّارُ ") أَيْ: أَبَدًا إِنِ اسْتَحَلُّوا وَإِلَّا فَمُدَّةٌ شَاءَهَا اللَّهُ تَعَالَى (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ دُخُولِهِمُ النَّارَ قَبْلَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3996 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: " لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فُرْسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفُقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَتَمُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3996 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ) أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ. وَذَاتُ مُقْحَمَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ كَوْنِ الْيَوْمِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ الْمُطْلَقِ (فَذَكَرَ الْغُلُولَ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْخِيَانَةُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَعَمُّ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ (فَعَظَّمَهُ) أَيْ: شَأْنَهُ عُطِفَ عَلَى فَذَكَرَ تَفْسِيرًا لَهُ (وَعَظَّمَ أَمْرَهُ) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ وَقَالَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى فَعَظَّمَهُ عَلَى طَرِيقَةِ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرْمُهُ أَيْ: كَرَمُ زَيْدٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] وَقَوْلُهُ فَعَظَّمَهُ عُطِفَ عَلَى فَذَكَرَ الْغُلُولَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ اهـ. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى (ثُمَّ قَالَ: " لَا أُلْفِيَنَّ ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ لَا أَجِدَنَّ (" أَحَدَكُمْ ") : كَقَوْلِهِمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا نَهَى نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَجِدَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَبْلَغُ وَقَوْلُهُ: (" يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : حَالٌ مِنْ أَحَدِكُمْ وَقَوْلُهُ: (" عَلَى رَقَبَتِهِ ") : مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَجِيءُ وَقَوْلُهُ: (" بَعِيرٌ ") : فَاعِلُ الظَّرْفِ لِاعْتِمَادِهِ أَيْ: هَذِهِ حَالَةٌ فَظِيعَةٌ شَنِيعَةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَرَاكُمْ عَلَيْهَا لِفَضِيحَتِكُمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ عَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (" لَهُ ") أَيْ: لِلْبَعِيرِ (رُغَاءٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ صَوْتُ الْإِبِلِ يُقَالُ: رَغَا يَرْغُو رُغَاءً ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ (يَقُولُ) أَيْ: أَحَدُكُمْ (" يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي ") : أَمْرٌ مِنَ الْإِغَاثَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ (" فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ ") أَيْ: مِنَ اللَّهِ (" لَكَ ") أَيْ: لِأَجْلِكَ (" شَيْئًا ") أَيْ: مِنَ الدَّفْعِ وَالنَّفْعِ، وَالْمَعْنَى لَا أَدْفَعُ عَنْكَ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ (" قَدْ أَبْلَغْتُكَ ") أَيْ: وَثَبَتَتْ عَلَيْكَ الْحُجَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] (" «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فُرْسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ» ") : بِالْحَاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ صَوْتُ الْفَرَسِ دُونَ الصَّهِيلِ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَرَّدَ وَيُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ صَوْتِهِ، وَسَبَقَ عَنِ الْقَامُوسِ أَنَّ الْفَرَسَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. ( «فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ» ") : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ صَوْتُ الشَّاءِ (" «يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ» ") : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ بِالنَّفْسِ

الْمَمْلُوكَ الَّذِي يَكُونُ قَدْ غَلَّهُ مِنَ السَّبْيِ وَقِيلَ: الْمَقْتُولُ بِغَيْرِ حَقٍّ (" «فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ» ") : بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رُقْعَةٍ. وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الثَّوْبِ أَيْ: ثِيَابٌ يَغُلُّهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، أَوْ يَأْخُذُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ يَلْبَسُهَا بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ كَمُرَقَّعَاتِ الصُّوفِيَّةِ الْجَهَلَةِ. (" تَخْفِقُ ") : بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ اضْطِرَابَ الرَّايَةِ (" «فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ» ") : خِلَافُ نَاطِقٍ. أَيْ: ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا (" فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: مَعْنًى (وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ) أَيْ: لَفْظُ مُسْلِمٍ (أَتَمُّ) أَيْ: أَتَمُّ تَفْصِيلًا مِنْ لَفْظِ الْبُخَارِيِّ، وَلِذَا اخْتِيرَ.

3997 - (وَعَنْهُ) قَالَ: «أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ فَبَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَصَابَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا ". فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ، أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3997 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا) أَيْ: مَمْلُوكًا (يُقَالُ لَهُ) أَيْ: لِلْغُلَامِ (مِدْعَمٌ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مِدْعَمٌ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَبْدٌ أَسْوَدُ كَانَ عَبْدًا لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَأَهْدَاهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْغُلُولِ (فَبَيْنَمَا) : بِالْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَبَيْنَا (مِدْعَمٌ يَحُطُّ) أَيْ: يَضَعُ (رَحْلًا) أَيْ: عَنْ ظَهْرِ مَرْكُوبٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ) : بِسُكُونِ الذَّالِ لِلْمُفَاجَأَةِ وَفِي نُسْخَةٍ إِذَا (أَصَابَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ الْمُبْدَلَةِ أَيْ: لَا يُدْرَى مَنْ رَمَاهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هُوَ الْعَائِدُ عَنْ قَصْدِهِ، وَمِنْهُ عَارَ الْفَرَسُ إِذَا ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ كَأَنَّهُ مُنْفَلِتٌ (قَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ) أَيْ: لِمِدْعَمٍ (الْجَنَّةُ) ; لِأَنَّهُ مَاتَ فِي خِدْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَّا ") : لِلرَّدْعِ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَظُنُّونَ (" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ ") : وَهِيَ كِسَاءٌ يَشْتَمِلُ بِهِ الرَّجُلُ (" الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ ") : وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْغَنَائِمِ (" لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ ") : الضَّمِيرُ لِلشَّمْلَةِ، أَوْ لِلْغَنَائِمِ، وَالْمَعْنَى أَخَذَهَا قَبْلَ قِسْمَتِهَا، أَوْ قَبْلَ إِدْخَالِهَا فِي الْقِسْمَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ مَنْصُوبِ أَخَذَهَا أَيْ: غَيْرُ مَقْسُومَةٍ أَيْ: أَخَذَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَكَانَ غُلُولًا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَمْ يُفِدِ الرَّدُّ شَيْئًا (" لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا ") أَيْ: إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ فَفِيهِ رَدٌّ لِكَلَامِهِمُ الْمَفْهُومِ مِنْهُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ سَابِقَةِ عُقُوبَةٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: إِنَّ الشَّمْلَةَ إِلَخْ. جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَى أَنَّهُ الْآنَ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُ فِيهَا، وَأَدْخَلَ كَلَّا لِيَكُونَ رَدْعًا لِحُكْمِهِمْ وَإِثْبَاتًا لِمَا بَعْدَهُ، وَيَنْصُرُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ، وَقَوْلُهُ: نَارًا تَمْيِيزٌ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ أَيِ: الشَّمْلَةُ اشْتَعَلَتْ وَصَارَتْ بِجُمْلَتِهَا نَارًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] () (فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ) أَيِ: الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ (النَّاسُ) أَيِ: الَّذِينَ تَهَاوَنُوا فِي أَمْرِ خِيَانَةِ الْمَغْنَمِ، وَظَنُّوا أَنَّ مُحَقَّرَاتِهَا مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيهَا (جَاءَ رَجُلٌ بِشَرَاكٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ (أَوْ بِشِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِالشَّكِّ (قَالَ: شِرَاكٌ مِنَ النَّارِ ") أَيْ: إِنْ لَمْ يُرَدَّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ ("، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ ") أَيْ: يُعَذَّبُ بِهِمَا حَالَ كَوْنِهِمَا مَجْعُولَيْنِ مِنَ النَّارِ، أَوْ بِمِقْدَارِهِمَا مِنْهَا، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وَوَعِيدٌ جَسِيمٌ فِي حَقِّ مَنْ يَأْكُلُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَالِ الْأَوْقَافِ وَكَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الِاسْتِحْلَالِ، أَوْ رَدَّ حُقُوقِ الْعَامَّةِ مُتَعَذِّرٌ، أَوْ مُتَعَسِّرٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ بِهِمَا إِمَّا بِنَفْسِهِمَا أَيْ: يُغْلَى بِهِمَا وَهُمَا مِنْ نَارٍ، أَوْ هُمَا سَبَبَانِ لِعَذَابِ النَّارِ، وَفِيهِ غِلَظُ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي التَّحْرِيمِ حَتَّى الشِّرَاكِ، وَأَنَّ الْغُلُولَ يَمْنَعُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ غَلَّ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ؛ إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ شَهَادَتِهِ، كَيْفَ وَقَدْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهِيدِ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ ذَنَبٌ، أَوْ دَيْنٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَجَوَازُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ قَالَتْ بَلْ هُوَ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِمَّا غَلَّ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُحْرَقُ مَتَاعُهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ: «مَنْ غَلَّ فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ» ، فَضَعِيفٌ بَيَّنَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ ضَعْفَهُ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَنْسُوخًا اهـ. وَفِيهِ: أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى رَدِّهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ بَعْدَهَا حَيْثُ يُتَعَذَّرُ وُصُولُهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَلَمْ يَقْبَلْهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

3998 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ فِي النَّارِ " فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3998 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) ، بِالْوَاوِ (قَالَ: كَانَ) أَيْ: فِي بَعْضِ الْمَغَازِي (عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: رَحْلِهِ وَمَتَاعِهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْقَافِ الْمَتَاعُ الْمَحْمُولُ عَلَى الدَّابَّةِ عَلَى مَا فِي الْفَائِقِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: يُقَالُ لِكُلِّ خَطِيرٍ نَفِيسٍ ثَقَلٌ، وَقَالَ عِيَاضٌ: وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ: هُوَ الْمَتَاعُ وَنَحْوُهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الثِّقَلُ كَعِنَبٍ ضِدَّ الْخِفَّةِ، وَالثَّقَلُ مُحَرَّكَةٌ مَتَاعُ الْمُسَافِرِ وَالْأَثْقَالُ كُنُوزُ الْأَرْضِ وَمَوْتَاهَا، وَالذُّنُوبُ وَالْأَحْمَالُ الثَّقِيلَةُ وَاحِدَةُ الْكُلِّ ثِقَلٌ بِالْكَسْرِ (رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ) ، بِفَتْحِ الْكَافَيْنِ وَكَسْرِهِمَا، كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ الْأُولَى وَكَسْرِهَا وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِكَسْرِهِمَا اسْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ كَانَ يَحْمِلُ أَمْتِعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْقُلُهَا مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ اهـ. وَأَكْثَرُ الْأُصُولِ بِفَتْحِ الْكَافَيْنِ (فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقَّقُوا أَنَّ سَبَبَ وُرُودِهِ النَّارَ هُوَ الْغُلُولُ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى ثَقَلِهِ فَذَهَبُوا (يَنْظُرُونَ) أَيْ: يَتَأَمَّلُونَ، أَوْ يُبْصِرُونَ فِي مَتَاعِهِ (فَوَجَدُوا عَبَاءَةً) : بِالْمَدِّ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ كِسَاءٌ وَاسِعٌ مُخَطَّطٌ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتٍ بِنُقْطَتَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ وَالْعَبَاءَةُ لُغَةٌ فِيهَا وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَبَاةُ وَالْعَبَاءَةُ ضَرْبٌ مِنَ الْأَكْسِيَةِ وَفِي بَابِ الْهَمْزِ مِنَ الْقَامُوسِ وَالْعَبَاءُ كِسَاءٌ مَعْرُوفٌ كَالْعَبَاءَةِ، وَفِي بَابِ الْيَاءِ ضَرْبٌ مِنَ الْأَكْسِيَةِ كَالْعَبَاءَةِ (قَدْ غَلَّهَا) . أَيْ: خَانَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

3999 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3999 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا) : جَمْعُ الْمَغْزَى وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَوِ اسْمُ زَمَانٍ، أَوْ مَكَانٍ مِنْ غَزَا يَغْزُو فَأَصْلُ مَغَازِينَا أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى نَلْقَى فِيهَا (الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ) أَيْ: كُلًّا مِنْهُمَا وَنَحْوَهُمَا (وَلَا نَرْفَعُهُ) . أَيْ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ الْقِسْمَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْغُزَاةِ طَعَامَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ وَغَيْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ إِنَّا لَا نَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسْتَأْذِنُهُ فِي أَكْلِهِ لِمَا سَبَقَ مِنْهُ مِنَ الْإِذْنِ وَأَنْ يُرِيدَ وَلَا نَدَّخِرُهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَأْكُلُوا مَا وَجُدُوهُ مِنَ الطَّعَامِ، حَاصِلُ مَا هُنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا مَا يُؤْكَلُ أَوَّلًا وَمَا يُؤْكَلُ إِمَّا يُتَدَاوَى بِهِ كَالْهَلِيلِجِ أَوَّلًا. فَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُمُ اسْتِعْمَالُهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ السِّلَاحِ وَالْكَرْعِ كَالْفَرَسِ، فَيَحُوزُ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ بِأَنْ مَاتَ فَرَسُهُ، أَوِ انْكَسَرَ سَيْفُهُ، أَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ سَيْفَهُ وَفَرَسَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَوْ أُتْلِفَ نَحْوَ الْحَطَبِ، بِخِلَافِ الْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ ; لَأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا يُخْتَصُّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَثَرُ الْمِلْكِ فَضْلًا عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّهَا سَبَبُ الرُّخْصَةِ فَيَسْتَعْمِلُهُ، نَعَمْ يَرُدُّهُ إِلَى الْغَنِيمَةِ إِذَا انْقَضَى الْحَرْبُ، وَكَذَا الثَّوْبُ إِذَا ضَرَّهُ الْبَرْدُ يَسْتَعْمِلُهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ

إِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ الرَّدِّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوِ احْتَاجَ الْكُلُّ إِلَى الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ قَسَمَهَا حِينَئِذٍ بِخِلَافِ السَّبْيِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْسَمُ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ لَا أُصُولِهَا، وَأَمَّا مَا يُتَدَاوَى بِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ تَنَاوُلُهُ، وَكَذَا الطِّيبُ وَالْأَدْهَانُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ إِلَى الْفُضُولِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ» " وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ بِأَحَدِهِمْ مَرَضٌ يُحْوِجُهُ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ كَلُبْسِ الثَّوْبِ، فَالْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا مَا يُوكَلُ لَا لِلتَّدَاوِي سَوَاءً كَانَ مُهَيَّئًا لِلْإِبِلِ كَاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ وَالْخُبْزِ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالْفَاكِهَةِ الْيَابِسَةِ وَالرَّطْبَةِ وَالْبَصَلِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْأَدْهَانِ الْمَأْكُولَةِ كَالزَّيْتِ، فَلَهُمُ الْأَكْلُ وَالِادِّهَانُ بِتِلْكَ الْأَدْهَانِ ; لِأَنَّ الِادِّهَانَ انْتِفَاعٌ فِي الْبَدَنِ كَالْأَكْلِ، وَكَذَا تَرْقِيحُ الدَّابَّةِ وَهُوَ تَصْلِيبُ حَافِرِهَا بِالدُّهْنِ، وَكَذَا كُلُّ مَا لَا يَكُونُ مُهَيَّئًا كَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، فَلَهُمْ ذَبْحُهَا وَأَكْلُهَا، وَيَرُدُّونَ الْجِلْدَ إِلَى الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ شَرَطَ فِي السَّيْرِ الصَّغِيرِ الْحَاجَةَ إِلَى التَّنَاوُلِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَبِهِ قَالَتِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ تَنَاوُلُهُ إِلَّا لِتَاجِرٍ، وَالرَّاجِلُ وَالْجُنْدِيُّ بِأَجْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَلَوْ فَعَلُوا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، وَيَأْخُذُ مَا يَكْفِيهِمْ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَنِسَائِهِ وَصِبْيَانِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا مَعَهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ: " «كُلُوا وَاعْلِفُوا وَلَا تَحْمِلُوا» ". وَأَخْرَجَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِغَيْرِ هَذَا السَّنَدِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هَانِئِ بْنِ كُلْثُومٍ، أَنَّ صَاحِبَ جَيْشِ الشَّامِ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ: إِنَّا فَتَحْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَقَدَّمَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: دَعْ يَأْكُلُونَ وَيَعْلِفُونَ، فَمَنْ بَاعَ شَيْئًا بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ فَفِيهِ خُمُسٌ لِلَّهِ وَسِهَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

4000 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ " مَا أُعْطِيكُمْ " فِي بَابِ " رِزْقِ الْوُلَاةِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4000 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، مُزَنِيٌّ، سَكَنَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عُمَرُ إِلَى الْبَصْرَةِ يُفَقِّهُونَ النَّاسَ، وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ سِتِّينَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ " وَقَالَ: مَا نَزَلَ الْبَصْرَةَ أَشْرَفَ مِنْهُ اهـ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِمُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ كَمُحَمَّدٍ فَرْدٌ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ. (قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وِعَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ: لَا يُفْتَحُ الْجِرَابُ وَلَا يُكْسَرُ الْقَنْدِيلُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجِرَابُ بِالْكَسْرِ وَلَا يُفْتَحُ، أَوْ لُغَيَّةٌ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ (مِنْ شَحْمٍ) أَيْ: فِيهِ بَعْضٌ مِنْهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ بَيَانٌ وَهُوَ صِفَةُ جِرَابًا أَيْ: جِرَابًا مَمْلُوءًا مِنْ شَحْمٍ (يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ) أَنْ عَانَقْتُهُ وَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ (قُلْتُ) أَيْ: سِرًّا، أَوْ جَهْرًا (لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ مُضْطَرًا إِلَيْهِ، وَبَلَغَ الِاضْطِرَارُ إِلَى أَنْ يَسْتَأْثِرَ نَفْسَهُ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وَمِنْ ثَمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَالْتَفَتُّ) أَيْ: فَنَظَرْتُ إِلَى أَحَدِ جَوَانِبِي (فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ قَدْرَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ اهـ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأَدْهَانِ فِي الْبَدَنِ لَهُ حُكْمُ أَكْلِ الطَّعَامِ، وَقَدْ يُحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى الشَّحْمِ لِلسِّرَاجِ وَنَحْوِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِبَاحَةُ أَكْلِ الطَّعَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ طَعَامِ الْحَرْبِيِّينَ مَا دَامَ الْمُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْتِئْذَانَ الْإِمَامِ إِلَّا الزُّهْرِيَّ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَى عِمَارَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْكَبَ دَوَابَّهُمْ، وَيَلْبَسَ ثِيَابَهُمْ، وَيَسْتَعْمِلَ سِلَاحَهُمْ فِي حَالِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ الِاسْتِئْذَانِ وَشَرَطَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ شُحُومِ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَا أُعْطِيكُمْ ") أَيْ: وَلَا أَمْنَعُكُمْ أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ. (فِي بَابِ " رِزْقِ الْوُلَاةِ ") : يَعْنِي فَلِتَكْرَارِهِ أُسْقِطُهُ هُنَا.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4001 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَنِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ قَالَ فَضَّلَ أُمَّتِي عَلَى الْأُمَمِ وَأَحَلَّ لَنَا الْغَنَائِمَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثانِي 4001 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَنِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ") أَيْ: سَائِرِهِمْ، وَمِنْهُمُ الرُّسُلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". (أَوْ قَالَ فَضَّلَ أُمَّتِي عَلَى الْأُمَمِ ") : لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُمْ خَيْرَ الرُّسُلِ، وَقَدْ يُقَالُ: خَيْرِيَّةُ أُمَّتِهِ إِنَّمَا هِيَ لِخَيْرِيَّةِ رَسُولِهِمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ: لَمَّا دَعَا اللَّهُ دَاعِيَنَا لِدَعْوَتِهِ ... بِأَفْضَلِ الرُّسُلِ كُنَّا أَفْضَلَ الْأُمَمِ (" وَأَحَلَّ لَنَا الْغَنَائِمَ ") : يَعْنِي أَنَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِنَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الِاخْتِصَاصِ هِيَ الْأَفْضَلِيَّةُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي عِلَّةً أُخْرَى حَيْثُ وَرَدَ: إِنَّهُ أَحَلَّهَا لَنَا لِعَجْزِنَا وَضَعْفِنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَ أَحَلَّ عَلَى فَضَّلَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحُصُولِ وَالْوُجُودِ، وَفَوَّضَ تَرَتُّبَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] وَفِي " لَنَا " عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَعْظِيمٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَهَرَ ; لِأَنَّ الْعُدُولَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلَ نَفْسَهُ الزَّكِيَّةَ فِي غِمَارِ الْأُمَّةِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا أَنَّ الْفَضِيلَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: أَوْ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْفَضْلَ وَهْبِيٌّ لَا كَسْبِيٌّ وَأَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الضَّعِيفَ بِحَيْثُ يَسْتَعْجِبُ الْقَوِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4002 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَعْنِي: يَوْمَ حُنَيْنٍ: " مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ ". فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4002 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ) : تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (" «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» ") . فِيهِ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، سَوَاءً كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي الْغَنِيمَةِ أَمْ لَا. كَذَا قِيلَ، وَهَذَا بِطَرِيقٍ التَّنْفِيلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَاءُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ: (فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ) : يَعْنِي زَوْجَ أُمِّ أَنَسٍ (يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

4003 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ. وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4003 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَانَ مَعَ رَايَةِ أَشْجَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) : أَحَدُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَأَحَدُ شُجْعَانِ هَذِهِ الْأُمَّةِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى) أَيْ: حَكَمَ وَأَمَرَ (فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ) أَيْ: تَنْفِيلًا، أَوْ تَشْرِيعًا عَلَى مَا سَبَقَ (وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ) أَيْ: الْمَعْهُودَ، أَوِ الْجِنْسَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ دَفَعَ السَّلَبَ كُلَّهُ إِلَى الْقَاتِلِ وَلَمْ يُقَسِّمْهُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَكَلَّمَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ فِيهِ وَأَطَالَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اهـ. وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4004 - وَعَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَفَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ قَتَلَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4004 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: نَفَّلَنِي) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجِيءُ بَحْثُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ اهـ. وَالْمَعْنَى أَعْطَانِي نَفَلًا زَائِدًا عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ (يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ) أَيْ: ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَتَلَهُ) . أَيْ: أَبَا جَهْلٍ يَعْنِي حَزَّ رَأْسَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، وَإِلَّا فَقَدَ قَتَلَهُ الْأَنْصَارِيَّانِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى التَّجْرِيدِ، أَوِ الِالْتِفَاتِ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ كَانَ قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا جَهْلٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4005 - وَعَنْ «عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ، قَالَ: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمُوهُ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَنِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ رُقْيَةً كَنْتُ أَرْقِي بِهَا الْمَجَانِينَ، فَأَمَرَنِي بِطَرْحِ بَعْضِهَا وَحَبْسِ بَعْضِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ انْتَهَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: الْمَتَاعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4005 - (وَعَنْ عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ) أَيْ: مَمْلُوكِهِ لِمَا سَيَأْتِي، أَوْ مَعْتُوقِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَى يَأْبَى، وَكُنِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مَوْلَاهُ غِفَارِيٌّ حِجَازِيٌّ، وَهُوَ شَهِدَ فَتْحَ خَيْبَرَ مَعَ مَوْلَاهُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَسَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَفِظَ عَنْهُ (قَالَ: شَهِدْتُ) أَيْ: حَضَرْتُ (خَيْبَرَ) أَيْ: غَزْوَتَهُ (مَعَ سَادَتِي) أَيْ: كِبَارِ أَهْلِي (فَكَلَّمُوا فِيَّ) أَيْ: فِي حَقِّي وَشَأْنِي (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِمَا هُوَ مَدْحٌ لِي، أَوْ بِأَنْ يَأْخُذَنِي لِلْغَزْوِ (وَكَلَّمُوهُ) أَيْ: وَأَعْلَمُوهُ (أَنِّي مَمْلُوكٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَكَلَّمُوا فِيَّ أَيْ: كَلَّمُوا فِي حَقِّي وَشَأْنِي أَوَّلًا بِمَا هُوَ مَدْحٌ لِي، ثُمَّ أَتْبَعُوهُ بِقَوْلِهِمْ: أَنِّي مَمْلُوكٌ (فَأَمَرَنِي) أَيْ: بِأَنْ أَحْمِلَ السِّلَاحَ، وَأَكُونَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ لِأَتَعَلَّمَ الْمُحَارَبَةَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا، أَوْ لِأُقَاتِلَ مَعَهُمْ (فَقُلِّدْتُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ (سَيْفًا) أَيْ: جَعَلُونِي مُقَلَّدًا بِسَيْفٍ (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (أَنَا أَجُرُّهُ) أَيْ: أَسْحَبُ السَّيْفَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ صِغَرِ سِنِّي، أَوْ قِصَرِ قَامَتِي (فَأَمَرَ لِي) أَيْ: عِنْدِ تَقْسِيمِ الْغَنَائِمِ (بِشَيْءٍ) أَيْ: قَلِيلٌ دُونَ السَّهْمِ (مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ) ، بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: أَثَاثُ الْبَيْتِ وَإِسْقَاطُهُ كَالْقِدْرِ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا رَضَخَهُ بِهَذَا ; لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا (وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ رُقْيَةً) . بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: تَعْوِيذًا (كُنْتُ أَرَقِي) : بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: أُعِيذُ (بِهَا الْمَجَانِينَ فَأَمَرَنِي بِطَرْحِ بَعْضِهَا) أَيْ: بِتَرْكِهِ (وَحَبْسِ بَعْضِهَا) . أَيْ: إِبْقَائِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (انْتَهَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: الْمَتَاعِ) .

4006 - وَعَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأُعْطِيَ الْفَارِسُ سَهْمَيْنِ، وَالرَّاجِلُ سَهْمًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَأَتَى الْوَهْمُ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعٍ أَنَّهُ قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4006 - (وَعَنْ مَجَمِّعِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنِ جَارِيَةَ) ، بِالْجِيمِ وَالتَّحْتِيَّةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْحَاءِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، أَوْ ضَعِيفٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَدَنِيٌّ، وَكَانَ أَبُوهُ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَكَانَ مُجَمِّعٌ مُسْتَقِيمًا، وَكَانَ قَارِئًا يُقَالُ: أَخَذَ مِنْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ، مَاتَ فِي آخِرِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. (قَالَ: قُسِّمَتْ خَيْبَرُ) أَيْ: غَنَائِمُهَا وَأَرَاضِيهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ أَرَاضِي خَيْبَرَ، وَحَفِظَ نِصْفَ أَرْضِهَا لِنَفْسِهِ، وَلِمَا عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ أَهْلِهِ وَأَضْيَافِهِ اهـ. وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ. (عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ) ، بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ

فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأُعْطِيَ الْفَارِسُ) أَيْ: صَاحِبُ الْفَرَسِ مَعَ فَرَسِهِ (سَهْمَيْنِ، وَالرَّاجِلُ) بِالْأَلِفِ أَيْ: الْمَاشِي (سَهْمًا) وَالْمَعْنَى أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةٍ مِنَ الْفَوَارِسِ سَهْمَيْنِ، فَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا، فَيَكُونُ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ سَهْمٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَيُرِيدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ» ". قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لِكُلِّ فَارِسٍ سَهْمَانِ ; لِأَنَّ الرَّجَّالَةَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُمُ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا الْكُلُّ مِائَةُ سَهْمٍ وَلِلْفُرْسَانِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، لِكُلِّ مِائَةٍ سَهْمَانِ، فَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَمُشْكِلٌ ; لِأَنَّ سِهَامَ الْفُرْسَانِ تِسْعَةٌ، وَسِهَامَ الرِّجَالِ اثْنَا عَشَرَ، فَالْمَجْمُوعُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ) : تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَهُمَا مُتَعَارِضَانِ وَالْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ وَهُوَ الْأَقَلُّ أَوْلَى (وَالْعَمَلُ) : أَنَّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (وَأَتَى الْوَهْمُ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعٍ أَنَّهُ) أَيْ: مِنْ أَنَّهُ (قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ) . فَعَلَى هَذَا كَانَ نَصِيبُ الْفُرْسَانِ سِتَّةً، وَنُصِيبُ الرَّجَّالَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْجَيْشَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَصَارَ الْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ لَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَإِذًا هَذِهِ الْقِسْمَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، فَقِيلَ: كَانَ فِيهِمْ مِائَةُ عَبْدٍ وَلَمْ يُقْسَمْ لَهُمْ سَهْمٌ، إِذْ لَا سَهْمَ لِلْعَبْدِ، بَلْ يُعْطَى رَضْخًا كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْحَدِيثُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ قَسَمَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَأَعْطَى سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْهَا الْفُرْسَانَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْهُمْ سَهْمَانِ، وَأَعْطَى الْبَاقِيَ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا الرَّجَّالَةَ، وَهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ مِائَةِ سَهْمٌ، فَيَكُونُ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُسَاعِدْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ مَشَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ; لِأَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ صَرِيحًا، بَلْ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ شَيْءٌ يَقْتَضِي الْحِسَابَ وَالتَّخْمِينَ، مَعَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيَّ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَثْبَتَهُ فِي دِيوَانِهِ وَهُوَ قَالَ: وَهَذَا وَهْمٌ وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَجْمُوعُ الْغَانِمِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ نَفَرٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: قُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ جَابِرٍ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَكُونُ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحِسَابُ، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» " فَلَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ أَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَحْفَظُ وَأَثْبَتُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كُلِّهِمْ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي جَامِعَيْهِمَا، وَرَوَيَا عَنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتَا إِلَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ اهـ. وَقَدْ أَسْمَعْنَاكَ فِيمَا أَسْلَفْنَا لَكَ تَحْقِيقَ هَذَا الْمَرَامِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ.

4007 - وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4007 - (وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ (الْفِهْرِيِّ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ قُرَشِيٌّ فِهْرِيٌّ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ حَبِيبُ الرُّومِ لِكَثْرَةِ مُجَاهَدَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَكَانَ فَاضِلًا مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَمَاتَ بِالشَّامِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ مُلَيْكَةَ وَغَيْرُهُ (قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبُعَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَيُسَكَّنُ وَالتَّنْفِيلُ إِعْطَاءُ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ (فِي الْبَدْأَةِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: ابْتِدَاءُ سَفَرِ الْغَزْوِ (وَالثُّلُثَ) بِضَمِّ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: وَنَفَّلَ الثُّلُثَ (فِي الرَّجْعَةِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْغَزْوِ، وَهُمْ فِي السَّفَرِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: إِذَا نَهَضَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ فَوَقَعَتْ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْعَدُوِّ قَبْلَ وُصُولِ الْجَيْشِ كَانَ لَهُمُ الرُّبُعُ مِمَّا غَنِمُوا، وَيُشَارِكُهُمْ سَائِرُ الْعَسْكَرِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، وَإِنْ رَجَعُوا مِنَ الْغَزْوِ، ثُمَّ وَقَعَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ بِالْعَدُوِّ كَانَ لَهُمُ الثُّلُثُ مِمَّا غَنِمُوا لِزِيَادَةِ مَشَقَّتِهِمْ وَخَطَرِهِمْ، وَيُشَارِكُهُمْ سَائِرُهُمْ فِي الثُّلُثَيْنِ ; لِأَنَّ وُجْهَةَ السَّرِيَّةِ وَالْجَيْشِ فِي الْبَدْأَةِ وَاحِدَةٌ، فَيَصِلُ مَدَدُهُمْ إِلَيْهِمْ بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4008 - وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ» . إِذَا قَفَلَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4008 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حَبِيبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ) أَيْ: فِي الْبَدْأَةِ (بَعْدَ الْخُمُسِ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ يُخْرِجَ الْخُمُسَ (وَالثُّلُثَ) أَيْ: وَيُنَفِّلُ الثُّلُثَ (بَعْدَ الْخُمُسِ إِذَا قَفَلَ) . قَيْدٌ لِلْمَعْطُوفِ أَيْ: إِذَا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا الْحَدِيثُ كَالَّذِي قَبْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ فِي الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ إِعْطَاءَهُ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَبَيَّنَ هَاهُنَا أَنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ أَوَّلًا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ وَيَصْرِفُهُ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ يُعْطِي رُبُعَ، أَوْ ثُلُثَ مَا بَقِيَ لِأَهْلِ الْبَدْأَةِ وَالرَّجْعَةِ. قَالَ الْقَاضِي: النَّفَلَ اسْمٌ لِزِيَادَةٍ يَخُصُّ بِهَا الْإِمَامُ بَعْضَ الْجَيْشِ عَلَى مَا يُعَايِنُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِمَزِيدِ سَعْيٍ وَاقْتِحَامِ خَطَرٍ، وَالتَّنْفِيلُ إِعْطَاءُ النَّفَلِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ أَيْ: فِي الْبَدْأَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَهِيَ ابْتِدَاءُ سَفَرِ الْغَزْوِ، وَكَانَ إِذَا نَهَضَتْ سَرِيَّةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ وَابْتَدَرُوا إِلَى الْعَدُوِّ، وَأَوْقَعُوا بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَمَا غَنِمُوا كَانَ يُعْطِيهِمْ مِنْهَا الرُّبُعَ، وَيُشْرِكُهُمْ سَائِرَ الْعَسْكَرِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، وَكَانَ يُنَفِّلُ الثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ وَهِيَ قُفُولُ الْجَيْشِ مِنَ الْغَزْوِ، فَإِذَا قَفَلُوا وَرَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَوْقَعُوا بِالْعَدُوِّ مَرَّةً ثَانِيَةً كَانَ يُعْطِيهِمْ مِمَّا غَنِمُوا الثُّلُثَ ; لِأَنَّ نُهُوضَهُمْ بَعْدَ الْقَفْلِ أَشَقُّ وَالْخَطَرَ فِيهِ أَعْظَمُ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّنْفِيلَ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ الْخُمُسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْطِي مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ لِلْغَانِمِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا يُعْطِي النَّفَلَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَعْدَ الْخُمُسِ وَهْمٌ مِنَ الرَّاوِي، أَوْ زِيَادَةٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَدَمُهَا فِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْمَعْنَى. قُلْتُ: فَتْحُ هَذَا الْبَابِ يَسُدُّ اسْتِنْبَاطَ الْحُكْمِ مِنَ الْمَبْنِيِّ وَعَدَمِهَا فِي حَدِيثِ: كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى وَهْمِ وُجُودِهَا فِي آخَرَ، مَعَ أَنَّ الْإِثْبَاتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ وَالْقَيْدَ وَالتَّبْيِينَ حُكْمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْإِجْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُعْطَى النَّفَلُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ كَالسَّلَبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4009 - وَعَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَّةِ الْجَرْمِيِّ، قَالَ: أَصَبْتُ بِأَرْضِ الرُّومِ جَرَّةً حَمْرَاءَ فِيهَا دَنَانِيرُ فِي إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، يُقَالُ لَهُ: مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْطَانِي مِنْهَا مِثْلَ مَا أَعْطَى رَجُلًا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَا نَفَلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ لَأَعْطَيْتُكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4009 - (وَعَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَّةِ) : تَصْغِيرُ الْجَارِيَةِ (الْجَرْمِيِّ) ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ حِطَّانُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالنُّونِ ابْنُ خُفَافٍ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ الْأُولَى تَابِعِيٌّ، مَشْهُورٌ، سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَمَعْنَ بْنَ يَزِيدَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: أَصَبْتُ بِأَرْضِ الرُّومِ جَرَّةً) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ظَرْفٌ مَعْرُوفٌ مِنَ الْخَزَفِ (حَمْرَاءَ فِيهَا دَنَانِيرُ فِي إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ) ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ فِي الْقَامُوسِ: الْإِمْرُ مَصْدَرُ أُمِّرَ عَلَيْنَا مُثَلَّثَةٌ إِذَا وُلِّيَ، وَالِاسْمُ الْإِمْرَةُ بِالْكَسْرِ، وَقَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ مَصْدَرٌ وَهْمٌ، وَالْمَعْنَى فِي زَمَانِ إِمَارَتِهِ، أَوْ خِلَافَتِهِ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ (وَعَلَيْنَا رَجُلٌ) أَيْ: أَمِيرٌ (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَمَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ) ، بِالتَّصْغِيرِ (يُقَالُ لَهُ: مَعْنُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنُ يَزِيدَ) أَيْ: ابْنُ الْأَخْنَسِ السُّلَمِيُّ، لَهُ وَلِأَبِيهِ وَلِجَدِّهِ صُحْبَةٌ، شَهِدُوا بَدْرًا فِيمَا قِيلَ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ وَائِلُ بْنُ كُلَيْبٍ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (فَأَتَيْتُهُ بِهَا) أَيْ: فَجِئْتُ إِلَى مَعْنٍ بِالْجَرَّةِ (فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: مِنَ الْغُزَاةِ (وَأَعْطَانِي مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْجَرَّةِ (مِثْلَ مَا أَعْطَى رَجُلًا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا نَفَلَ ") : بِفَتْحَتَيْنِ (" إِلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ لَأَعْطَيْتُكَ ") . أَيْ: بَعْضُهَا (" نَفَلًا ") . قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنَفِّلْ أَبَا الْجُوَيْرِيَّةِ مِنَ الدَّنَانِيرِ الَّتِي وَجَدَهَا لِسَمَاعِهِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا نَفَلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ» " وَأَنَّهُ الْمَانِعُ لِتَنْفِيلِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ لِلْغَانِمِينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَلَعَلَّ الَّتِي وَجَدَهَا كَانَتْ مِنْ عِدَادِ الْفَيْءِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَ النَّفَلَ مِنْهُ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الرَّاوِيَ كَانَ يَرَى النَّفَلَ بَعْدَ التَّخْمِيسِ، وَرَآهُ مِنَ الْخُمُسِ، وَيَرَى ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَلَمَّا كَانَ هُوَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْخُمُسِ دُونَ الْإِمَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُرْوَ عَلَى وَجْهِهِ، وَوَقَعَ السَّهْوُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ فِيهِ: لَا نَفَلَ بَعْدَ الْخُمُسِ أَيْ: لَا نَفَلَ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ وَوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ وَالْأَمْثَلُ اهـ. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4010 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ، أَسْهَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4010 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمْنَا) أَيْ: مِنَ الْحَبَشَةِ (فَوَافَقْنَا) : بِالْفَاءِ وَالْقَافِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالتَّحْتِيَّةِ أَيْ: صَادَفْنَا. (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ) ، تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ السَّابِقَانِ عَلَيْهِ (فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا) أَيْ: مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ (وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ) ، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِلتَّأْكِيدِ وَقَوْلُهُ: (إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا) : اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَحَدٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: جَعْلُهُ بَدَلًا أَظْهَرُ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالنَّصْبِ، وَوَهِمَ بَعْضُهُمْ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ أَصْحَابُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَلَيْسَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ حَضَرَ فَتْحَ خَيْبَرَ هُمْ أَصْحَابُ الْحُدَيْبِيَةِ لَا غَيْرُ (جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ) ، عَطْفُ بَيَانٍ لِأَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا هَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَلَمَّا عَلِمُوا بِهِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُوَّةِ دِينِهِ رَجَعُوا، وَكَانُوا رَاكِبِينَ فِي السَّفِينَةِ، فَلَمَّا وَافَقَ قُدُومُهُمْ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِهِمْ (أَسْهَمَ لَهُمْ) أَيْ: لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ (مَعَهُمْ) . أَيْ: مَعَ مَنْ شَهِدُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَحَضَرُوا مَعَهُ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا أَسْهَمَ لَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ وَرَدُوا عَلَيْهِ قَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: مَنْ حَضَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَقَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ شَارَكَ فِيهَا الْغَانِمِينَ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهُمْ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَرِضَاهُمْ بِهِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَظْهَرُ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ دُونَ حُقُوقِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: فَأَسْهَمَ يَقْتَضِي الْقِسْمَةَ مِنْ نَفْسِ الْغَنِيمَةِ، وَمَا يُعْطَى مِنَ الْخُمُسِ لَيْسَ بِسَهْمٍ. قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالسَّهْمِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ وَهُوَ النَّصِيبُ فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ: أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا أَيْ: مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلْخُمُسِ وَغَيْرِهِ، وَ (أَوْ) لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَوْ أَعْطَاهُمْ بِرِضَا الْغُزَاةِ لَشَاعَ فِيهِمْ، وَنُقِلَ إِلَيْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَأَيْضًا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْقِسْمَةِ لَهُمْ، وَالْقِسْمَةُ لَا تَكُونُ مِنَ الْخُمُسِ. قُلْتُ: الْقِسْمَةُ لُغَوِيَّةٌ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ شَيْءٍ فِي الْجُمْلَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّ سِيَاقَ كَلَامِ أَبِي مُوسَى وَارِدٌ عَلَى الِافْتِخَارِ وَالْمُبَاهَاةِ، فَيُسْتَدْعَى اخْتِصَاصُهُمْ بِمَا لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ. قُلْتُ: الْمُبَاهَاةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ خُمُسِ خُمُسِهِ أَظْهَرُ وَأَطْهَرُ. قَالَ: وَالرَّضْخُ وَالْخُمُسُ مُشْتَرِكٌ فِيهِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ وَغَيْرُهُمَا، فَلَا مَزِيَّةَ لَهُمْ فِيهِ. قُلْتُ: هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَالْكَلَامُ فِي الْغَائِبِينَ، فَحَصَلَ اخْتِصَاصُهُمْ لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ. قَالَ: وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ قِسْمَةَ خَيْبَرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا. قُلْتُ: وَكَذَا نَزِيدُ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا عَلَى مَا سَبَقَ. قَالَ: وَهَذَا وَهْمٌ آخَرُ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعٍ. قُلْتُ: ثَبِّتِ الْعَرْشَ، ثُمَّ انْقُشْ. قَالَ: فَلَا يَنْتَهِي دَلِيلًا عَلَى أَنَّ سَهْمَا الْفَارِسِ سَهْمَانِ. قُلْتُ: سَبَقَ إِثْبَاتُهُ بِهِ وَبِأَدِلَّةٍ أُخْرَى مَبْسُوطَةٍ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا لَحِقَهُ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَارَكَهُمُ الْمَدَدُ فِيهَا. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: فِيهِ قَوْلَانِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَا مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَجَازَ أَنْ يُشَارِكَهُمُ الْمَدَدُ إِذَا قَامَ بِهِ الدَّلِيلُ، وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَدَدِ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْقِسْمَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَبَيْعُ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ لِحَاقِ الْمَدَدِ، هَذَا وَعَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ الْمَبْنِيَّ تَأَكُّدُ الْحَقِّ وَعَدَمُهُ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «بَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَانًا عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَمْ يَقَسِمْ لَهُمْ» لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّ وُصُولَ الْمَدَدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُوجِبُ شَرِكَةً، وَخَيْبَرُ صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ بِمُجَرَّدِ فَتْحِهَا، فَكَانَ قُدُومُهُمْ وَالْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا إِسْهَامُهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ: «بَلَغَنَا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغُرُهُمْ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ أَكْبُرُهُمْ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنَا هَاهُنَا، وَأَمَرَنَا بِالْإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا فَأَقَمْنَا حَتَّى قَدِمَا، فَوَافَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا وَلَمْ يُسْهِمْ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ خَيْبَرَ إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا» . قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ لِيَسْتَمِيلَ قُلُوبَهُمْ، لَا مِنَ الْغَنِيمَةِ فَهُوَ حَسَنٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْهَا، وَحَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ شَهِدُوا قَبْلَ حَوْزِ الْغَنَائِمِ خِلَافَ مَذْهَبِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَ كَوْنِ الْوُصُولِ قَبْلَ الْحَوْزِ وَبَعْدَ كَوْنِهِ بَعْدَ الْفَتْحِ، ثُمَّ لَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ لَا سَهْمَ وَلَا رَضْخَ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا، فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: كَقَوْلِنَا، وَالْآخَرُ يُسْهَمُ لَهُ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» ". وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ، فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَعَلَيْهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَظَهَرُوا، فَأَرَادَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا يَقْسِمُوا لِأَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الْأَجْدَعُ! تُرِيدُ أَنْ تُشَارِكَنَا مِنْ غَنَائِمِنَا، وَكَانَتْ أُذُنُهُ جُدِعَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خَيْرَ أُذُنٍ سَبَبْتَ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، وَهَذَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الْمُجْتَهِدِ إِيَّاهُ، وَكَذَا عِنْدَ الْكَرْخِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ، تَأْوِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَالْوَقْعَةُ هِيَ الْقِتَالُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمُجْمَلِ: الْوَقْعَةُ صَدْمَةُ الْحَرْبِ وَشُهُودُهُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: بِإِظْهَارِ خُرُوجِهِ لِلْجِهَادِ، وَالتَّجْهِيزِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَأَمَّا تَحْقِيقُهُ قِتَالَهُ بِأَنْ كَانَ خُرُوجُهُ ظَاهِرًا لِغَيْرِهِ، كَالسُّوقِيِّ وَسَائِسِ الدَّوَابِّ، فَإِنَّ خُرُوجَهُ ظَاهِرٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ شُهُودِهِ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، فَإِذَا قَاتَلَ ظَهَرَ أَنَّهُ قَصَدَهُ غَيْرَ أَنَّهُ ضَمَّ إِلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ كَالتِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لَا يَنْقُصُ بِهِ ثَوَابُ حَجِّهِ.

4011 - وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ: «أَنِّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ " فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ. فَقَالَ: " إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودَ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4011 - (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) . لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَهُوَ فِي النُّسَخِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُغْنِي بِتَحْتِيَّةٍ وَزَايٍ وَلَدُ خَالِدٍ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ حَذْفُهَا إِذْ لَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ إِنَّمَا فِيهَا زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، وَوَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوا) أَيْ: خَبَرَ مَوْتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ") : وَالْمَعْنَى أَنَا لَا أُصَلِّي عَلَيْهِ (فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ) أَيْ: لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوا سَبَبَهُ، (فَقَالَ: " إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا) : بِفَتْحَتَيْنِ مَا يَنْتَظِمُ مِنْ جَوْهَرٍ وَلُؤْلُؤٍ وَغَيْرِهِمَا (مِنْ خَرَزِ يَهُودَ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

4012 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً، أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ، فَيُخَمِّسُهُ وَيُقَسِّمُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، قَالَ: " أَسْمَعْتَ بِلَالًا نَادَى ثَلَاثًا؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ " فَاعْتَذَرَ. قَالَ: " كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4012 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً) أَيْ: وَأَرَادَ جَمْعَهَا وَتَقْسِيمَهَا (أَمَرَ بِلَالًا:) أَيْ: بِالنِّدَاءِ (فَنَادَى) أَيْ: بِلَالٌ (فِي النَّاسِ) أَيْ: فِي مَحَاضِرِهِمْ (فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: يُحْضِرُونَهَا (فَيُخَمِّسُهُ) أَيْ: مَا يَجِيئُونَ بِهِ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَتُخَفَّفُ (وَيُقَسِّمُهُ) : بِفَتْحِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا وَبِتَشْدِيدِ السِّينِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَهِيَ امْتِثَالُهُمْ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي حِينَ أَمَرَهُمْ بِإِحْضَارِ الْغَنَائِمِ لَمْ يَمْكُثُوا وَلَمْ يَلْبَثُوا وَلَمَّا مَكَثَ الرَّجُلُ وَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ عَادَ إِلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَقَالَ: (فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ: بَعْدَ التَّخْمِيسِ (بِزِمَامٍ) : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: بِخِطَامٍ (مِنْ شَعَرٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا) أَيِ: الزِّمَامُ (فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ) أَيْ: فِيهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا (قَالَ: أَسْمِعْتَ بِلَالًا، نَادَى ثَلَاثًا "؟) أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ، أَوْ أَيَّامٍ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهَا) أَيْ: أَوَّلًا (فَاعْتَذَرَ) أَيْ: لِلتَّأْخِيرِ اعْتِذَارًا غَيْرَ مَسْمُوعٍ (قَالَ: كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَهِيَ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ، وَبِنَاءُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ سَبِيلِ التَّقْوَى وَتَخْصِيصُ الْكَيْنُونَةِ، قُلْتُ: وَكَذَا تَأْكِيدُهُ وَتَأْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: (" فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ ") : قَالَ: وَالْأَنْسَبُ أَنْ يَكُونَ أَنْتَ مُبْتَدَأً، وَتَجِيءُ خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرَ كَانَ، وَقَدَّمَ الْفَاعِلَ الْمَعْنَوِيَّ لِلتَّخْصِيصِ أَيْ: أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ لَا غَيْرُكَ. قَالَ الرَّاغِبُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ كَانَ فِي جِنْسِ الشَّيْءِ مُتَعَلِّقًا بِوَصْفٍ لَهُ هُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ، فَبَيَّنَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَازِمٌ لَهُ قَلِيلُ الِانْفِكَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] قَالَ الْمُظْهِرُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْغَانِمِينَ فِيهِ شَرِكَةٌ، وَقَدْ تَفَرَّقُوا، وَتَعَذَّرَ إِيصَالُ نَصِيبِ كَلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فَتَرَكَهُ فِي يَدِهِ لِيَكُونَ إِثْمُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْغَاصِبُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ لَا أَنَّ تَوْبَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَا أَنَّ رَدَّ الْمَظَالِمِ عَلَى أَصْحَابِهَا، أَوِ الِاسْتِحْلَالَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِيهِ أَنَّ رَدَّ الْمَظْلَمَةِ وَحُصُولَ الِاسْتِحْلَالِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ، وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَعَسِّرًا، أَوْ مُتَعَذِّرًا، وَيَتَوَقَّفُ قَبُولُهَا عَلَى حُصُولِهِمَا، فَهُوَ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ وَالتَّأْكِيدِ، لَا عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ، فَكَلَامُ الْمُظْهِرِ أَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4013 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4013 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: أَحْرَقُوا (مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ يَعْنِي مَتْنًا، قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. مِنْهُمُ الْحَسَنُ قَالَ: يُحَرَّقُ مَالُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا، أَوْ مُصْحَفًا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَالُوا: وَلَا يُحَرَّقُ مَا غَلَّ ; لِأَنَّهُ حَقُّ الْغَانِمِينَ يُرَدُّ عَلَيْهَا فَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ غَرِمَ قِيمَتَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ الَّذِي غَزَا بِهِ سَرْجُهُ وَإِكَافُهُ، وَلَا يُحَرَّقُ دَابَّتُهُ وَلَا نَفَقَتُهُ وَلَا سِلَاحُهُ وَلَا ثِيَابُهُ الَّتِي عَلَيْهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَرَّقُ رَحْلُهُ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ دُونَ الْإِيجَابِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَالِّ وَلَمْ يَأْمُرْ بِحَرْقِ مَتَاعِهِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْوِيَّاتِ فِيمَنْ أَتَى بِهِ وَهُوَ تَائِبٌ، وَالْكَلَامُ فِيمَنْ يُؤْخَذُ فِي يَدِهِ.

4014 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ يَكْتُمُ غَالًّا فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4014 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : مَرَّ مِرَارًا (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ": مَنْ يَكْتُمُ ") : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ " مَنْ " مَوْصُولَةٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ " مَنْ " شَرْطِيَّةٌ أَيْ: يَسْتُرُ (" غَالًّا ") أَيْ: غُلُولَهُ، وَلَا يُظْهِرُهُ عِنْدَ الْأَمِيرِ (" فَإِنَّهُ ") أَيِ: الْكَاتِمُ (" مِثْلُهُ ") أَيْ: مِثْلُ الْغَالِّ فِي الْإِثْمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4015 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4015 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ» ) أَيْ: عَنْ بَيْعِهَا (وَاشْتِرَائِهَا حَتَّى تُقْسَمَ) : قَالَ الْقَاضِي: الْمُقْتَضِي لِلنَّهْيِ عَدَمُ الْمِلْكِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمِلْكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْقِسْمَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ الْمُقْتَضِي لَهُ الْجَهْلُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ وَصِفَتِهِ إِذَا كَانَ فِي الْمَغْنَمِ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي: لَوْ بَاعَ أَحَدٌ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ نَصِيبَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ لَا يَجُوزُ ; لَأَنَّ نَصِيبَهُ مَجْهُولٌ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ ضَعِيفٌ يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ، وَالْمِلْكُ الْمُسْتَقِرُّ لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4016 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّهَامُ حَتَّى تُقْسَمَ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4016 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّهَامُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ السَّهْمِ وَهُوَ النَّصِيبُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَفِي نُسْخَةٍ الْأَسْهَامُ (حَتَّى تُقْسَمَ، رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

4017 - وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ هَذِهِ الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4017 - (وَعَنْ خَوْلَةَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ (بِنْتِ قَيْسٍ) : صَحَابِيَّةٌ جُهَيْنِيَّةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ هَذِهِ الْمَالَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنَّثَ الْمَالَ عَلَى تَأْوِيلِ الْغَنِيمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ: " مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَالِ الْجِنْسُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ أَيْ: جِنْسَهُ، أَوْ مَالَ الْغَنِيمَةِ، أَوْ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (" خَضِرَةٌ ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ (" حُلْوَةٌ ") : بِضَمِّ الْحَاءِ أَيْ: لَذِيذَةُ الْمَذَاقِ، لِحُصُولِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَمَشَقَّةِ بَدَنٍ، وَقَالَ ابْنُ

الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالْخَضِرَةِ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي النَّاعِمَ خَضِرًا، أَوْ لِشِبْهِهِ بِالْخَضْرَاوَاتِ فِي سُرْعَةِ الزَّوَالِ، (" فَمَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ ") أَيْ: أَخَذَهُ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ (" بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ ") أَيْ: مُتَكَلِّفٌ لِلْخَوْضِ، وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الْمَاءِ وَتَحْرِيكُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي التَّلَبُّسِ وَالتَّصَرُّفِ أَيْ: رُبَّ شَارِعٌ وَمُتَصَرِّفٌ (" فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ") أَيْ: مِنْ زَكَاةٍ وَغَنِيمَةٍ (" لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي فَمَنْ أَصَابَهُ تَفْصِيلِيَّةٌ، وَكَانَ فِي الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَمَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ، فَلَهُ كَذَا. وَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ بِحَقِّهِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا النَّارُ، فَعَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَأْخُذُهَا بِحَقِّهَا قَلِيلٌ، وَالْأَكْثَرُ مَنْ يَتَخَوَّضُ فِيهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْأَوَّلِ: حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ أَيْ: مُشْتَهَاةٌ، وَالنُّفُوسُ إِلَيْهَا مَائِلَةٌ جِدًّا، وَفِي الْقَرِينَةِ الثَّانِيَةِ قِيلَ: فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ، وَمِنْ مَالِ اللَّهِ مُظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّخَوُّضُ فِي مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَهُوَ الْخَوْضُ فِي مَالِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ مُشْعِرًا بِعِلِّيَّتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَلِلشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بِلَفْظِ: " «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» ".

4018 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَفَّلَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4018 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَفَّلَ سَيْفَهُ) أَيِ: الَّذِي صَارَ لَهُ (ذَا الْفَقَارِ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَامَّةُ يَكْسِرُونَهَا، وَكَذَا فِي الْفَائِقِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ سَيْفِهِ (يَوْمَ بَدْرٍ) أَيِ: اصْطَفَاهُ وَجَعَلَهُ صَفِيَّ الْمَغْنَمِ الَّذِي لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ دُونَهُ قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: أَخَذَهُ زِيَادَةً لِنَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ الصَّفِيُّ، وَهُوَ مَا يَتَخَيَّرُهُ مِنَ الْمَغْنَمِ وَلَمْ أَجِدْ تَنَفَّلَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالرِّوَايَةُ وَجَدْنَاهَا كَذَلِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ وَجَدْنَاهُ فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ} [آل عمران: 6] حَيْثُ قَالَ، وَقَرَأَ طَاوُسٌ: تَصَوَّرَكُمْ أَيْ: صَوَّرَكُمْ لِنَفْسِهِ وَلِتَعَبُّدِهِ كَقَوْلِكَ: أَثَّلْتُهُ مَالًا إِذَا جَعَلْتُهُ أَثَلَةً أَيْ: أَصْلًا وَتَأَثَّلْتُهُ إِذَا أَثَّلْتَهُ لِنَفْسِكَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الشَّيْخِ فِي عَدَمِ وُجُودِ التَّنَفُّلِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، لَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَظَرٌ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى طَلَبِ النَّافِلَةِ، وَهِيَ الْعِبَادَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى قَدْرِ الْفَرِيضَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قِيلَ: كَانَ هَذَا السَّيْفُ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قُتِلَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَتَنَفَّلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَشْهَدُ بِهِ الْحُرُوبَ دُونَ سَائِرِ سُيُوفِهِ، سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي ظَهْرِهِ حُفَرٌ مُتَسَاوِيَةٌ، وَقِيلَ: كَانَ فِي شَفْرَتَيْهِ خَرَزَاتٌ تُشْبِهُ فَقَرَاتِ الظَّهْرِ، وَفِي الْقَامُوسِ: ذُو الْفَقَارِ سَيْفُ الْعَاصِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، فَصَارَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَارَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اهـ. وَأَمَّا حَدِيثُ: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ وَلَا فَتًى إِلَّا عَلِيٌّ، فَيُرْوَى فِي أَثَرٍ وَاهٍ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ. قَالَ: نَادَى مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَالُ لَهُ رِضْوَانُ: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ لَا فَتًى إِلَّا عَلِيٌّ، وَالْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ قَلْبُ الْجُمْلَتَيْنِ، وَلَعَلَّهُ مُرَاعَاةٌ لِتَقْدِيمِ عَلِيٍّ، أَوْ لِكَوْنِهِ مَوْزُونًا عَلَى تَخْفِيفِ يَاءِ عَلِيٍّ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ) أَيْ: ذُو الْفَقَارِ (الَّذِي رَأَى) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالرُّؤْيَا الَّتِي رَأَى فِيهِ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ يَوْمَ أُحُدٍ: أَنَّهُ هَزَّ ذَا الْفَقَارِ، فَانْقَطَعَ مِنْ وَسَطِهِ، ثُمَّ هَزَّهُ هَزَّةً أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ، وَقِيلَ: الرُّؤْيَا هِيَ مَا قَالَ فِيهِ: رَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثُلْمًا، فَأَوَّلْتُهُ هَزِيمَةً، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ. الْحَدِيثَ.

4019 - وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4019 - (وَعَنْ رُوَيْفِعِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ تَصْغِيرُ رَافِعٍ (ابْنِ ثَابِتٍ) أَيِ: الْأَنْصَارِيُّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ» ") أَيْ: غَنِيمَتِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (" حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا ") أَيْ: أَضْعَفَهَا (" رَدَّهَا فِيهِ ") أَيْ: فِي الْفَيْءِ بِمَعْنَى الْمَغْنَمِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الرُّكُوبَ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى الْعَجْفِ، فَلَا بَأْسَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (" «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ» ") أَيْ: مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُلْجِئَةٍ (" حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ ") : بِالْقَافِ أَيْ: أَبْلَاهُ (" رَدَّهُ فِيهِ ") سَبَقَ تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4020 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: قُلْتُ: «هَلْ كُنْتُمْ تُخَمِّسُونَ الطَّعَامَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4020 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ كُوفِيٌّ، سَمِعَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَشُعْبَةُ وَغَيْرُهُمَا. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْفَى) أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، رَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ (قَالَ: قُلْتُ) أَيْ: لِلصَّحَابَةِ (هَلْ كُنْتُمْ تُخَمِّسُونَ الطَّعَامَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنَ التَّخْمِيسِ (فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: فِي زَمَانِهِ (قَالَ) أَيْ: بَعْضُهُمْ (أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَإِنَّ) : بِالْفَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَكَانَ (الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ) : تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4021 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا وَعَسَلًا، فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْخُمُسُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4021 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا) : بِكَسْرِ النُّونِ (فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا وَعَسَلًا) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوْ أَرَادَ بِالطَّعَامِ أَنْوَاعَ الْحُبُوبِ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا، (فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْخُمُسُ) أَيْ: فِيمَا أَكَلُوا مِنْهُمَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4022 - وَعَنِ الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ الْجَزُورَ فِي الْغَزْوِ، لَا نُقَسِّمُهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا لَنَرْجِعُ إِلَى رِحَالِنَا وَأَخْرِجَتُنَا مِنْهُ مَمْلُوَّةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4022 - (وَعَنِ الْقَاسِمِ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ الشَّامِيُّ (مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: ابْنُ خَالِدٍ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ، وَرَوَى عَنْهُ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنَ الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ الْجَزُورَ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيِ: الْبَعِيرَ (فِي الْغَزْوِ، وَلَا نُقَسِّمُهُ) أَيْ: لِإِخْرَاجِ الْخُمُسِ مِنْهُ، أَوْ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، نَأْكُلُ مِنْهُ (حَتَّى إِذَا كُنَّا لَنَرْجِعُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ الْجَاعِلَةُ لِلْمُضَارِعِ حَالًا أَيْ: لَنَعُودُ (إِلَى رِحَالِنَا) أَيْ: مَنَازِلِنَا (وَأَخْرِجَتُنَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى وَزْنِ أَفْعِلَةٍ جَمْعُ خُرْجٍ بِالضَّمِّ، وَهِيَ الْجَوَالِقُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأَخْرِجَةُ جَمْعُ الْخُرْجِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَوْعِيَةِ، وَالصَّوَابُ فِيهِ الْخِرَجَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَتَحْرِيكِ الرَّاءِ عَلَى مِثَالِ حِجَرَةٍ. فِي الْقَامُوسِ: الْأَخْرِجَةُ جَمْعُ الْخُرْجِ وَالْخُرْجُ بِالضَّمِّ، وِعَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُ أَخْرِجَةٍ، وَالْمَعْنَى نَرْجِعُ حَالَ كَوْنِ أَوْعِيَتِنَا (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ (مَمْلُوَّةٌ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَيَجُوزُ بِالْهَمْزِ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: مُمْلَاةٌ أَيْ: مَلْآنَةٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الرِّحَالِ مَنَازِلُهُمْ فِي سَفَرِ الْغَزْوِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْلِفُوا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا يَأْكُلُوا مِنْهَا ; لِأَنَّ الضَّرُورَةَ انْدَفَعَتْ، وَالْإِبَاحَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنَّمَا كَانَتْ بِاعْتِبَارِهَا؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُورَثَ نَصِيبُهُ، وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، وَمَنْ فَضُلَ مَعَهُ طَعَامٌ، أَوْ عَلَفٌ يَرُدُّهُ إِلَى الْغَنِيمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِشَرْطِهِ، وَلَوِ انْتَفَعَ بِهِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا بَعْدَ الْإِفْرَازِ يَرُدُّ قِيمَتَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ، وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الدَّاخِلُ وَالِاثْنَانِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ إِذَا أَخَذَ شَيْئًا فَأَخْرَجَهُ يَخْتَصُّ بِهِ. قُلْنَا: مَالٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ وَالِاخْتِصَاصُ كَانَ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ زَالَتْ بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ ; لِأَنَّهُ دَائِمًا أَحَقُّ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَبَعْدَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَتَصَدَّقُونَ بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِقِيمَتِهِ إِنْ كَانُوا بَاعُوهُ، هَذَا إِذَا كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَانْتَفَعُوا بِهِ إِنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ ; لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ لِتَفَرُّقِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا تَصَرَّفُوا فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا قِيمَةُ مَا انْتَفَعَ بِهِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ يَتَصَدَّقُ بِهِ الْغَنِيُّ لَا الْفَقِيرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4023 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: " «أَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ، فَإِنَّهُ عَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4023 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: " أَدُّوا الْخِيَاطَ ") بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيِ: الْخَيْطُ، أَوْ جَمْعُهُ (" وَالْمِخْيَطَ ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ هُوَ الْإِبْرَةُ (" «وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ» ") : بِالضَّمِّ أَيِ: اتَّقُوا الْخِيَانَةَ فِي الْمَغْنَمِ، أَوْ مُطْلَقًا (" فَإِنَّهُ ") أَيِ: الْغُلُولُ (عَارٌ عَلَى أَهْلِهِ ") أَيْ: عَيْبٌ فِي الدُّنْيَا وَفَضِيحَةٌ وَتَشْوِيهٌ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْعُقْبَى (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: " عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ " الْحَدِيثَ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) أَيْ: عَنْ عُبَادَةَ.

4024 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4024 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) .

4025 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «دَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعِيرٍ فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءِ شَيْءٌ وَلَا هَذَا وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ " فَقَامَ رَجُلٌ فِي يَدِهِ كُبَّةٌ مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: أَخَذْتُ هَذِهِ لِأُصْلِحَ بِهَا بَرْدَعَةً. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطِّلِبِ فَهُوَ لَكَ " فَقَالَ: أَمَّا إِذْ بَلَغَتْ مَا أَرَى فَلَا أَرَبَ لِي فِيهَا، وَنَبَذَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4025 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: دَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعِيرٍ فَأَخَذَ وَبَرَةً) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: شَعْرَةٌ (مِنْ سَنَامِهِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (ثُمَّ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنُ (" لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءِ شَيْءٌ وَلَا هَذَا ") : يُشِيرُ إِلَى مَا أَخَذَ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا هَذَا تَأْكِيدٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَبَرَةِ عَلَى تَأْوِيلِ شَيْءٍ (وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ) أَيْ: وَقَدْ رَفَعَ إِصْبَعَهُ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْوَبَرَةَ لِإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهَا (" إِلَّا الْخُمُسَ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ وَهُوَ بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُسْتَثْنَى بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ (" وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ ") أَيْ: مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِكُمْ مِنَ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، (" فَأَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ ") : أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ (فَقَامَ رَجُلٌ فِي يَدِهِ كُبَّةٌ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: قِطْعَةٌ مُكَبْكَبَةٌ مِنْ غَزْلِ شَعَرٍ فَقَوْلُهُ: (مِنْ شَعَرٍ) : فِيهِ تَجْرِيدٌ أَيْ: قِطْعَةٌ مِنْ شَعَرٍ (فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (أَخَذْتُ هَذِهِ) أَيِ: الْكُبَّةَ (لِأُصْلِحَ بِهَا بَرْدَعَةً) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: إِهْمَالُ الدَّالِ أَكْثَرُ، وَفِي الْمُغْرِبِ: هِيَ الْحِلْسُ الَّذِي تَحْتَ رَحْلِ الْبَعِيرِ، (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكَ ") أَيْ: أَمَّا مَا كَانَ نَصِيبِي وَنَصِيبُهُمْ فَأَحْلَلْنَاهُ لَكَ، وَأَمَّا مَا بَقِيَ مِنْ أَنْصِبَاءِ

الْغَانِمِينَ، فَاسْتِحْلَالُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا لِلتَّفْصِيلِ وَقَرِينَتُهَا مَحْذُوفَةٌ أَيْ: أَمَّا مَا كَانَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلْغَانِمِينَ فَعَلَيْكَ بِالِاسْتِحْلَالِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ. (فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (أَمَّا إِذْ بَلَغَتْ) أَيْ: وَصَلَتْ (هَذِهِ) أَيِ: الْكُبَّةُ، أَوِ الْقَصَّةُ (مَا أَرَى) أَيْ: إِلَى مَا أَرَى مِنَ التَّبِعَةِ وَالْمُضَايَقَةِ، أَوْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ (فَلَا أَرَبَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ أَيْ: لَا حَاجَةَ (لِي فِيهَا) أَيْ: إِلَيْهَا (وَنَبَذَهَا) أَيْ: أَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4026 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ قَالَ: " وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4026 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ) : بِفَتَحَاتٍ (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ) أَيْ: مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى اسْتَقْبَلَ فِي صَلَاتِهِ إِلَى جِهَةِ بَعِيرٍ وَجَعَلَهُ سُتْرَةً لَهُ، (فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ) أَيْ: مِنْ طَرَفِهِ الصَّادِقِ عَلَى السَّنَامِ، فَتَكُونُ الْقِصَّةُ مُتَّحِدَةً، أَوْ مِنْ ضِلْعِهِ فَتَكُونُ الْقَضِيَّةُ مُتَعَدِّدَةً. (ثُمَّ قَالَ: " وَلَا يَحِلُّ ") : عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ هُوَ مَقُولُ الْقَوْلِ أَيْ: لَا أَتَصَرَّفُ وَلَا يَحِلُّ (" لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلَّا الْخُمُسُ ") : بِالرَّفْعِ لَا غَيْرُ (" وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ") أَيْ: فِي مَصَالِحِكُمْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4027 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا قَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَكَذَا " وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ وَفِيهِ: " «إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ» ". وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4027 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) : مَرَّ مِرَارًا (قَالَ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) : مِنْ بَيَانِيَّةٌ (لَا نُنْكِرُ) أَيْ: نَحْنُ (فَضْلَهُمْ) أَيْ: وَإِنْ كُنَّا مُتَسَاوِينَ فِي النَّسَبِ (لِمَكَانِكَ) أَيْ: لِأَجْلِ مَوْضِعِكَ (الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ بَنِي هَاشِمٍ خَاصَّةً مِنْ بَيْنِنَا، فَإِنَّهُمْ صَارُوا أَفْضَلَ مِنَّا لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنَّا ; لِأَنَّ جَدَّكَ وَجَدَّهُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ هَاشِمٌ، وَإِنْ كَانَ جَدُّهُمْ وَجَدُّنَا وَاحِدًا، وَهُوَ عَبْدُ مَنَافٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كُنِّيَ بِمَكَانِكَ عَنْ ذَاتِهِ الذَّكِيَّةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] عَلَى قَوْلٍ، " وَكَمَا تَقُولُ: أَخَافَ جَانِبَ فُلَانٍ، وَفَعَلْتُ هَذَا لِمَكَانِكَ، فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيِّ قَبِيلٍ هُوَ مِنْ فَنِّ الْبَيَانِ؟ قُلْتُ: مِنْ فَنِّ التَّعْرِيضِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْمُسَمَّى بِالْمَجْلِسِ وَالْجَانِبِ وَالْمَكَانِ إِجْلَالًا لَهُ، وَتَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ وَأَنْشَدَ فِي مَعْنَاهُ زُهَيْرٌ: فَعَرِّضْ إِذَا مَا جِئْتَ بِالْبَابِ وَالْحِمَى وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْسَى فَتَذْكُرَ زَيْنَبَا سَيَكْفِيكَ مِنْ ذَاكَ الْمُسَمَّى إِشَارَةٌ فَدَعْهُ مَصُونًا بِالْجَلَالِ مُحْجَبَا وَنَظِيرُهُ مِثْلُكَ يَجُودُ بِمَعْنَى أَنْتَ تَجُودُ، وَلَا يُرِيدُونَ بِالْمِثْلِ الشَّبِيهُ وَالنَّظِيرُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ هُوَ بِمَنْزِلِكَ مِنَ الْأَرْيَحِيَّةِ وَالسَّمَاحَةِ يَجُودُ وَحَقُّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: الَّذِي وَضَعَهُ لِيَرْجِعَ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَقَامَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ مَقَامَ ضَمِيرِ الْغَائِبِ نَظَرًا إِلَى لَفْظَةِ مَكَانِكَ وَقَرِيبٌ مِنْهُ. أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَةَ

" وَمِنْ " فِي مِنْهُمُ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَضَعَ أَيْ: أَنْشَأَ وَأَصْدَرَ وَضْعَكَ مِنْهُمْ أَيْ: لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْشَأَكَ مِنْهُمْ لَا مِنَّا. (أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنَا (إِخْوَانَنَا) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ) : بَيَانٌ لِإِخْوَانِنَا (أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا) عَطْفٌ، أَوْ حَالٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ نَصْبُ إِخْوَانِنَا عَلَى شَرِيطَةِ النَّفْسِ، يَعْنِي أَعْطَيْتَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ حَالٌ وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ،. وَمِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ خَبَرُهُ أَعْطَيْتَهُمْ وَهُوَ الْمُسْتَخْبَرُ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ مُوَطِّئَةٌ (وَإِنَّمَا قَرَابَتُنَا) أَيْ: بَنُو نَوْفَلٍ، وَمِنْهُمْ جُبَيْرٌ، وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ، وَمِنْهُمْ عُثْمَانُ (وَقَرَابَتُهُمْ) : يَعْنِي بَنِي الْمُطَّلِبِ (وَاحِدَةٌ) أَيْ: مُتَّحِدَةٌ ; لِأَنَّ أَبَاهُمْ أَخُو هَاشِمٍ وَآبَاؤُنَا كَذَلِكَ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَكَذَا (وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) : تَفْسِيرٌ لِهَذَا، وَالتَّشْبِيكُ إِدْخَالُ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ أَيْ: أَدْخَلَ أَصَابِعَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى كَمَا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَصَابِعِ دَاخِلَةٌ فِي بَعْضٍ، كَذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، كَانُوا مُتَرَافِقِينَ مُخْتَلِطِينَ فِي الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ أَقَارِبِنَا، فَلَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِبَنِي هَاشِمٍ، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْمُخَالَطَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قُرَيْشًا وَبِنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ) عَلَى أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ) أَيْ: مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْمَبْنَى (وَفِيهِ) أَيْ: فِي مَرْوِيِّهِمَا (" أَنَا ") : بِالتَّخْفِيفِ (" وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ") : بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ إِنَّا بِالتَّشْدِيدِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بِالْيَاءِ (" «لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ» ") : بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسَبَقَ مَا فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْحُكْمِ الْفِقْهِيِّ (وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4028 - «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: إِنِّي وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا بِغُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ أَيْ عَمِّ! هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، قَالَ: وَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِي عَنْهُ. قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ، قَالَ: " أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ " فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: " هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَكُمَا؟ " فَقَالَا: لَا فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: " كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ". وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو الْجَمُوحِ وَالرَّجُلَانِ: مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4028 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ) : رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفَرًا، وَمَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ وَقِيلَ فَرَسَانِ وَكَانَ الْكُفَّارُ قَرِيبَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَمَعَهُمْ مِائَةُ فَرَسٍ (فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي) أَيْ: مَرَّةً (وَعَنْ شِمَالِي) أَيْ: أُخْرَى، وَهَذِهِ نُكْتَةُ إِعَادَةِ الْجَارِ (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (أَنَا) أَيْ: حَاضِرٌ مَحْفُوفٌ (بِغُلَامَيْنِ) أَيْ: شَابَّيْنِ (مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ) : بِالْجَرِّ أَيْ: جَدِيدَةٌ (أَسْنَانُهُمَا) أَيْ: أَعْمَارُهُمَا (فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ) أَيْ: وَاقِفًا أَيْ: وَاقِعًا (بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا) : فِي النِّهَايَةِ أَيْ: بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقْوَى مِنَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ كُنْتُ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى أَنِّي حَقَّرْتُ أَمْرَهُمَا فِي الشَّجَاعَةِ، لِكَوْنِهِمَا شَابَّيْنِ، وَمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالشُّيُوخِ، لَا سِيَّمَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَقْوَى فِي النَّجْدَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ، وَلِذَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ: فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ كَانَا شُجَاعَيْنِ، وَبِالْمُهِمَّةِ قَوِيَّيْنِ (فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا) أَيْ: أَشَارَ إِلَيَّ بِالْعَيْنِ، أَوْ بِالْمَدِّ وَقَالَ: الْغَمْزُ الْعَصْرُ وَالْكَيْسُ بِالْيَدِ (فَقَالَ أَيْ: عَمِّ!) أَيْ: يَا عَمِّي (هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ:

أُخْبِرْتُ) أَيْ: أُنْبِئْتُ (أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: يَشْتُمُهُ وَيَذُمُّهُ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ) أَيْ: أَبْصَرْتُهُ وَعَرَفْتُهُ (لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ) أَيْ: شَخْصِي شَخْصَهُ، وَفِيهِ اسْتِهَانَةٌ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يُقَرِّبُهَا لِلَّهِ، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ) أَيِ: الْأَقْرَبُ أَجَلًا (مِنَّا) أَيْ: مِنِّي وَمِنْهُ (قَالَ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ) : يَعْنِي لِمَا كُنْتُ لَمْ أَظُنَّ بِهِ ذَلِكَ (قَالَ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (وَغَمَزَنِي الْآخَرُ) : عَطْفٌ عَلَى فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا (فَقَالَ لِي مِثْلَهَا) أَيْ: مِثْلُ تِلْكَ الْمَقَالَةِ (فَلَمْ أَنْشَبْ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَمْ أَلْبَثْ وَلَمْ أَمْكُثْ (أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ) : بِالْجِيمِ أَيْ: يَدُورُ (فِي النَّاسِ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَ قَوْمِهِ مِنَ الْكُفَّارِ (قُلْتُ) أَيْ: لَهُمَا (أَلَا تَرَيَانِ؟) أَيْ: أَلَا تُبْصِرَانِ وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ (هَذَا صَاحِبُكُمَا) : بِالرَّفْعِ أَيْ: مَطْلُوبُكُمَا (الَّذِي تَسْأَلَانِّي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: يَسْأَلُنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا (عَنْهُ) : فِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ صَاحِبِكُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بَدَلًا مِنْ هَذَا، وَمَرْفُوعًا عَلَى أَنَّ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَهُوَ خَبَرٌ وَتَرَيَانِ مَفْعُولُهُ لَا يُقَدَّرُ، إِذَا الْمُرَادُ إِيجَادُ الرُّؤْيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23] الْكَشَّافُ: تَرْكُ الْمَفْعُولِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الْفِعْلُ لَا الْمَفْعُولُ (قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ) أَيْ: قَارَبَا قَتْلَهُ (ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ) أَيْ: بِمَا جَرَى لَهُمَا (قَالَ: " أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، قَالَ: " هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَكُمَا؟ ") : بِالتَّثْنِيَةِ (قَالَا: لَا. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّيْفَيْنِ) أَيْ: إِلَى مَحَلِّ الدَّمَّيْنِ مِنْهُمَا (فَقَالَ: " كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ") : بِإِفْرَادِ الضَّمِيرِ فِي قَتَلَهُ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ كِلَا وَهُوَ أَفْصَحُ مِنَ التَّثْنِيَةِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَاهُ. قَالَ تَعَالَى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمُشَارَكَةِ فِي قَتْلِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي السَّبْقِ وَالتَّأْثِيرِ. (وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَلَبِهِ) أَيْ: بِمَسْلُوبِ أَبِي جَهْلٍ (لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ ; لِأَنَّهُ أَثْخَنَهُ بِالْجِرَاحَةِ أَوَّلًا، فَاسْتَحَقَّ السَّلَبَ، ثُمَّ شَارَكَهُ الثَّانِي، ثُمَّ ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَدَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَحَزَّ رَأْسَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ. (وَالرَّجُلَانِ) أَيِ: الْغُلَامَانِ (مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ) : هِيَ أُمُّهُ وَهُمَا أَخَوَانِ أُمُّهُمَا وَاحِدٌ وَأَبُوهُمَا مُخْتَلِفٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: اشْتَرَكَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ فِي جِرَاحَتِهِ لَكِنَّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو أَثْخَنَهُ أَوَّلًا، فَاسْتَحَقَّ السَّلَبَ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كِلَاكُمَا قَتَلَهُ " تَطْيِيبًا لِقَلْبِ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَهُ مُشَارَكَةً فِي قَتْلِهِ، وَإِلَّا فَالْقَتْلُ الشَّرْعِيُّ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ وَهُوَ الْإِثْخَانُ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُمْتَنِعًا، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو، فَلِهَذَا قَضَى لَهُ بِالسَّلَبِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ السَّيْفَيْنِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِمَا عَلَى حَقِيقَةِ كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِمَا، فَعَلِمَ أَنَّ ابْنَ الْجَمُوحِ أَثْخَنَهُ، ثُمَّ شَارَكَهُ الثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ السَّلَبَ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِأَحَدِهِمَا ; لِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي السَّلَبِ يُنَفِّلُ فِيهِ مَا شَاءَ، وَذُكِرَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ الَّذِي ضَرَبَهُ ابْنُ عَفْرَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ ابْنَيْ عَفْرَاءَ ضَرْبَاهُ حَتَّى بَرَدَ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ هُوَ الَّذِي أَجْهَزَ وَأَخَذَ رَأْسَهُ. قَالَ الشَّيْخُ: يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ، فَكَانَ إِثْخَانُهُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَفِيهِ رَمَقٌ فَحَزَّ رَأْسَهُ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْحَرْبِ وَالْغَضَبُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَقِرَ أَحَدًا لِصِغَرِهِ وَنَحَافَةِ جِسْمِهِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ أَمْرٌ خَطِيرٌ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْقَاتِلِ السَّلَبَ بِقَوْلِهِ: بِلَا بَيِّنَةٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ عَرِفَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَنْفِيلٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَا أَعْطَى سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمْ يُعْطِ لِابْنِ عَفْرَاءَ شَيْئًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4029 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: " «مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟ " فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ. قَالَ: " فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ . فَقَالَ: " وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ . وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4029 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ يَنْظُرُ ") أَيْ: يُبْصِرُ وَيَتَحَقَّقُ (" لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ ") : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَيْ: مِنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَالْهَلَاكِ وَالْخَلَاصِ، وَلَوْ رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ أَيْ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَا " اسْتِفْهَامِيَّةٌ عُلِّقَ لِمَعْنَى يَنْظُرُ أَيْ: مَنْ يَتَأَمَّلُ لِأَجْلِنَا مَا حَالُ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَسَبَبُ السُّؤَالِ أَنْ يُسَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، (فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ) أَيْ: قَرُبَ مِنَ الْمَوْتِ، وَفِي الْقَامُوسِ: بَرَدَ مَاتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَحْمُولٌ عَلَى الْمُشَارَفَةِ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَبِدَلِيلِ رِوَايَةٍ أُخْرَى: حَتَّى بَرَكَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْكَافِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: بَرَكَ بِالْكَافِ، وَالْمُرَادُ بِهِ سَقَطَ يَعْنِي أَنَّ ابْنَ عَفْرَاءَ بَرَكَاهُ عَقِيرًا (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فَأَخَذَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (بِلِحْيَتِهِ) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ أَيْ: تَنَاوَلَهَا (فَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ. فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ) أَيْ: مِنِّي (قَتَلْتُمُوهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا بَالَغَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي إِهَانَتِهِ وَتَحْقِيرِهِ بِأَخْذِ لِحْيَتِهِ وَنَبْزِهِ بِأَبِي جَهْلٍ أَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ اهـ. وَالْأَزْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْظِيمَ شَأْنِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَيْضًا، فَإِنَّ الشَّخْصَ كَمَا يَعِيشُ يَمُوتُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ وَاحِدٍ قَتَلْتُمُوهُ لِعَدَمِ إِطْلَاعِهِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ. قَالَ فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ، وَالْمَعْنَى لَا عَارَ عَلَيَّ مِنْ قَتْلِكُمْ إِيَّايَ فَلَوْ غَيْرُ زَرَّاعٍ (قَتَلَنِي) : لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَأَعْظَمَ لِشَأْنِي فِي النِّهَايَةِ: الْأَكَّارُ الزَّرَّاعُ أَرَادَ بِهِ احْتِقَارَهُ وَانْتِقَاصَهُ كَيْفَ مِثْلُهُ لِقَتْلِ مِثْلِهِ؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَشَارَ أَبُو جَهْلٍ بِهِ إِلَى ابْنَيْ عَفْرَاءَ اللَّذَيْنِ قَتَلَاهُ وَهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ وَنَخْلٍ، وَمَعْنَاهُ لَوْ كَانَ الَّذِي قَتَلَنِي غَيْرُ أَكَّارٍ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَأَعْظَمَ لِشَأْنِي. قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّ مَدْخُولَ لَوْ فَعَلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} [الإسراء: 100] يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ لَوْ عَلَى التَّمَنِّي فَلَا يَقْتَضِي جَوَابًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4030 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ رَجُلًا وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "، أَوْ مُسْلِمًا " ذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ ثَلَاثًا وَأَجَابَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ، وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4030 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) : أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْعَطَاءِ (رَهْطًا) أَيْ: جَمَاعَةً (وَأَنَا جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنَ الرَّهْطِ (رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمُ إِلَيَّ) أَيْ: أَرْضَاهُمْ دِينًا عِنْدِي (فَقُمْتُ) أَيْ: لِيَتَوَجَّهَ إِلَيَّ وَهَذَا مَسْلَكُ أَدَبٍ (فَقُلْتُ: مَا لَكَ) أَيْ: مَا شَأْنُكَ (عَنْ فُلَانٍ؟ : حَالٌ أَيْ: مُتَجَاوِزًا عَنْهُ (وَاللَّهِ إِنِّي لَأُرَاهُ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: لَأَظُنُّهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ أَيْ: لَأَعْلَمُهُ (مُؤْمِنًا) أَيْ: مُصَدِّقًا بَاطِنًا وَمُنْقَادًا ظَاهِرًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "، أَوْ ") : بِسُكُونِ الْوَاوِ أَيْ: بَلْ (" مُسْلِمًا ") أَيْ: أَظُنُّهُ مُسْلِمًا، أَوْ ظُنَّهُ أَنْتَ مُسْلِمًا وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا وَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ، بَلْ هُوَ إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِ سَعْدٍ، وَلَيْسَ الْإِضْرَابُ هُنَا بِمَعْنَى إِنْكَارِ كَوْنِ الرَّجُلِ مُؤْمِنًا، بَلْ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْقَطْعِ بِإِيمَانِ مَنْ لَمْ يُخْتَبَرْ حَالُهُ بِالْخَبَرِ الْبَاطِنِ ; لِأَنَّ الْبَاطِنَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، فَالْأَوْلَى التَّعْبِيرُ بِالْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ، أَوْ بِمَعْنَى " بَلْ " كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ أَضْرَبَ عَنْ كَلَامِهِ وَتَرَقَّى أَيْ: أَنَا أَعْلَمُهُ فَوْقَ مَا تَعْلَمُ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْإِسْلَامُ فِي الشَّرْعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: دُونَ الْإِيمَانِ وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِاللِّسَانِ، بِهِ يُحْصَنُ الدَّمُ حَصَلَ مَعَهُ الِاعْتِقَادُ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ وَإِيَّاهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ

تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وَالثَّانِي فَوْقَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الِاعْتِرَافِ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَوَفَاءٌ بِالْفِعْلِ، وَاسْتِسْلَامٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ مَا قَضَى وَقَدَّرَ، كَمَا ذُكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] (ذَكَرَ ذَلِكَ) أَيِ: الْقَوْلَ (سَعْدٌ ثَلَاثًا وَأَجَابَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَأَجَابَهُ (بِمِثْلِ ذَلِكَ) أَيْ: فِي كُلِّ مَرَّةٍ (ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ ") : أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ أَيْ: رَجُلًا مِنَ الرِّجَالِ (" وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ ") : الْجُمْلَةُ حَالٌ (" خَشْيَةَ ") : بِالتَّنْوِينِ وَتَرْكِهِ وَهُوَ أَصَحُّ أَيْ: مَخَافَةَ (" أَنْ يُكَبَّ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُوقَعُ (" فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ") : لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، أَوْ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضُعَفَاءِ الْيَقِينِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ سَعْدًا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي نَاسًا وَيَتْرُكُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فِي الدِّينِ، فَظَنَّ أَنَّ الْعَطَاءَ بِحَسَبِ الْفَضَائِلِ فِي الدِّينِ، وَظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ حَالَ هَذَا الْإِنْسَانِ، فَأَعْلَمَهُ بِهِ، وَلَمْ يَفْهَمْ سَعْدٌ مِنْ قَوْلِهِ مُسْلِمًا فِيهِ عَنِ الشَّفَاعَةِ مُكَرَّرًا، فَأَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَطَاءَ لَيْسَ عَلَى حَسَبِ الْفَضَائِلِ فِي الدِّينِ، وَقَالَ: " إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ " إِلَخْ وَالْمَعْنَى إِنِّي أُعْطِي أُنَاسًا مُؤَلَّفَةً فِي إِيمَانِهِمْ ضَعْفٌ لَوْ لَمْ أُعْطِهِمْ لَكَفَرُوا، وَأَتْرُكُ قَوْمًا هُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِينَ أُعْطِيهِمْ وَلَا أَتْرُكُهُمُ احْتِقَارًا لَهُمْ وَلَا لِنَقْصِ دِينِهِمْ، بَلْ أَكِلُهُمْ إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النُّورِ وَالْإِيمَانِ التَّامِّ. قُلْتُ: وَهَذَا تَخَلُّقٌ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ هَكَذَا فَعَلَ بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنْ حُسْنِ بَلَائِهِ، وَأَعْطَى الدُّنْيَا لِأَعْدَائِهِ. قَالَ مَوْلَانَا الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ فِي كِتَابِهِ فُتُوحِ الْغَيْبِ: لَا تَقُولَنَّ يَا فَقِيرَ الْيَدِ، يَا عُرْيَانَ الْجَسَدِ، يَا ظَمْآنَ الْكَبِدِ، يَا مُوَلًّى عَنْهُ الدُّنْيَا بِأَصْحَابِهَا، يَا خَامِلَ الذِّكْرِ بَيْنَ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَأَرْبَابِهَا، يَا جَائِعَ يَا نَائِعَ يَا مُشَتَّتًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ أَرْضٍ وَبِقَاعٍ خَرَابٍ، وَمَرْدُودًا مِنْ كُلِّ بَابٍ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْقَرَنِي وَزَوَى عَنِّي الدُّنْيَا، وَتَرَكَنِي وَقَلَانِي وَلَمْ يَرْفَعْ ذِكْرِي بَيْنَ إِخْوَانِي، وَأَسْبَلَ عَلَى غَيْرِي نِعَمَهُ سَابِغَةً يَتَقَلَّبُ بِهَا فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَيَتَنَعَّمُ بِهَا فِي دَارِهِ وَدِيَارِهِ وَكِلَانَا مُسْلِمَانِ وَمُؤْمِنَانِ، سَوَاءً، وَأَبُونَا آدَمُ وَأُمُّنَا حَوَّاءُ، وَأَمَّا أَنْتَ فَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِكَ ; لِأَنَّ طِينَتَكَ حُرَّةٌ، وَنَدِيُّ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ مُتَقَاطِرَةٌ، وَأَنْوَاعٌ مِنَ الصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالْيَقِينِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَأَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ لَدَيْكَ مُتَوَاتِرَةٌ، فَشَجَرَةُ إِيمَانِكَ وَغَرْسُهَا وَبَذْرُهَا ثَابِتَةٌ مَكِينَةٌ مُورِقَةٌ مُسْتَزِيدَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ مُطِلَّةٌ مُتَفَرِّعَةٌ، فَهِيَ كُلُّ يَوْمٍ فِي نُمُوٍّ وَزِيَادَةٍ فَلَا حَاجَةَ لَهَا إِلَى عِلَقٍ وَسُبَاطَةٍ لِتُنَمَّى وَتُرَبَّى وَتُزَكَّى، وَقَدْ فَرَغَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِكَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَاكَ فِي الْآخِرَةِ فِي دَارِ الْبِقَاءِ دُخُولَكَ فِيهَا، وَأَجْزَلَ عَطَاءَكَ فِي الْعُقْبَى مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] أَيْ: مِنْ أَدَاءِ الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ الْمَنَاكِرِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ فِي الْمَقْدُورِ، وَالِاعْتِمَادِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْغَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ مِنَ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا وَخَوَّلَهُ نِعَمَهُ فِيهَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَحَلَّ إِيمَانِهِ أَرْضٌ سَبِخَةٌ وَصَخْرٌ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ فِيهَا الْمَاءُ، وَتَنْبُتُ فِيهَا الْأَشْجَارُ وَتَتَرَبَّى فِيهَا الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَصَبَّ عَلَيْهَا أَنْوَاعَ سِبَاطٍ، وَغَيْرَهَا مِمَّا يُرَبَّى بِهِ النَّبَاتُ وَهِيَ الدُّنْيَا وَحُطَامُهَا لِيَسْتَحْفِظَ بِذَلِكَ مَا أَنْبَتَ فِيهَا مِنْ شَجَرَةِ الْإِيمَانِ، وَغَرْسِ الْأَعْمَالِ، فَلَوْ قَطَعَ ذَلِكَ عَنْهَا لَجَفَّ النَّبَاتُ وَالْأَشْجَارُ، وَانْقَطَعَتِ الثِّمَارُ، وَخَرِبَتِ الدِّيَارُ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يُرِيدُ عِمَارَتَهَا، فَشَجَرَةُ إِيمَانِ الْغَنِيِّ ضَعِيفَةُ الْمَنْبَتِ خَالٍ عَمَّا هُوَ مَشْحُونٌ بِهِ مَنْبَتُ شَجَرَةِ إِيمَانِكَ يَا فَقِيرُ فَقُوَّتُهَا وَبَقَاؤُهَا بِمَا تَرَى عِنْدَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَنْوَاعِ نَعِيمِهَا، فَلَوْ قَطَعَهَا مَعَ ضَعْفِ الشَّجَرَةِ جَفَّتِ الشَّجَرَةُ، فَكَانَ كُفْرًا وَجُحُودًا وَلَحَاقًا بِالْمُنَافِقِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ وَالْكُفَّارِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ

عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْغَنِيِّ عَسَاكِرَ مِنَ الصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالْيَقِينِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْعِلْمِ وَأَنْوَارِ الْمَعَارِفِ، فَيُقَوِّيَ الْإِيمَانَ بِهَا حِينَئِذٍ حَتَّى لَا يُبَالِيَ بِانْقِطَاعِ الْغِنَى وَالنَّعِيمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَنُرَى: بِضَمِّ النُّونِ وَيُفْتَحُ (أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ) أَيْ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ (وَالْإِيمَانَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (الْعَمَلُ الصَّالِحُ) أَيِ: الشَّامِلُ لِلْعَمَلِ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ التَّصْدِيقُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ الزُّهْرِيِّ، فَيَجِبُ حَمْلُ "، أَوْ " عَلَى التَّنْوِيعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] أَيْ: مُؤْمِنٌ وَمُسْلِمٌ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا بَاطِنًا

4031 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: " إِنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ، وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، وَإِنِّي أُبَايِعُ لَهُ " فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمٍ، وَلَمْ يَضْرِبْ بِشَيْءٍ لِأَحَدٍ غَابَ غَيْرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4031 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ) : تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ (فَقَالَ: " إِنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ ") أَيْ: خِدْمَتِهِ وَفِي سَبِيلِهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِ دِينِهِ (" وَحَاجَةِ رَسُولِهِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ حَاجَةَ اللَّهِ تَوْطِئَةً لِقَوْلِ حَاجَةِ رَسُولِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وَكَرَّرَ الْحَاجَّةَ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدٍ، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَخَلَّفَ فِي الْمَدِينَةِ لِتَمْرِيضِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ اهـ. وَهِيَ رُقَيَّةُ فَإِنَّهَا مَاتَتْ وَدُفِنَتْ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ، (" وَإِنِّي أُبَايِعُ لَهُ ") أَيْ: لِأَجْلِهِ وَبَدَلِهِ، فَضَرَبَ بِيَمِينِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شِمَالِهِ وَقَالَ: هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ. (فَضَرَبَ) أَيْ: جَعَلَ وَبَيَّنَ (لَهُ) أَيْ: لِعُثْمَانَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمٍ، وَلَمْ يَضْرِبْ لِأَحَدٍ غَابَ غَيْرَهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، أَوِ الْوَصْفِيَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4032 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُ فِي قَسْمِ الْمَغَانِمِ عَشْرًا مِنَ الشَّاءِ بِبَعِيرٍ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4032 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُ فِي قَسْمِ الْمَغَانِمِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ مَصْدَرٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ قِسْمَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ الْغَنَائِمُ (عَشْرًا مِنَ الشَّاءِ) : بِالْهَمْزِ اسْمُ جِنْسٍ مُفْرَدُهُ الشَّاةُ بِالتَّاءِ (بِبَعِيرٍ) أَيْ: بَلْ بَعِيرٌ وَفِي مُقَابَلَتِهِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

4033 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعُنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلَا رَجُلٌ، اشْتَرَى غَنَمًا، أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا، فَغَزَا، فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ، احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا، بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعَهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ". زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبْلَنَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ، رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4033 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ") : هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ أَيْ: أَرَادَ الْغَزْوَ (" فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتَّبِعُنِي ") : بِتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَكَسْرِهَا أَيْ: لَا يُرَافِقُنِي (" رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ ") : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: فَرْجَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبُضْعُ يُطْلَقُ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْجِمَاعِ مَعًا، وَعَلَى الْفَرْجِ، وَالْمَعْنَى نَكَحَ امْرَأَةً وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا. (" وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا ") أَيْ: يَدْخُلُ عَلَيْهَا (" وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا بَعْدُ (" وَلَا أَحَدٌ ") أَيْ: وَلَا يَتَّبِعُنِي أَحَدٌ (" بَنَى بُيُوتًا ") : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا (" وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا ") أَيْ:

وَلَمْ يُكْمِلْ مَا يَتَعَلَّقُ بِضَرُورَةِ عِمَارَتِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَيْدَ الْجَمْعِ اتِّفَاقِيٌّ، أَوْ عَادِيٌّ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ مُتَابَعَةِ هَذِهِ الْأَشْخَاصِ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ ; لِأَنَّ تَعَلُّقَ النَّفْسِ يُوهِنُ عَزْمَ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ فَتَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ: قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُفَوَّضَ إِلَّا إِلَى أُولِي الْحَزْمِ وَفَرَاغِ الْبَالِ لَهَا، وَلَا تُفَوَّضَ إِلَى مُتَعَلِّقِي الْقَلْبِ بِغَيْرِهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُ عَزْمَهُ. (" وَلَا رَجُلٌ اشْتَرَى غَنَمًا ") : جِنْسٌ ("، أَوْ خَلِفَاتٍ ") : جَمْعُ الْخَلِفَةِ بِفَتْحٍ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْحَامِلُ مِنَ النُّوقِ وَ (أَوْ) : لِلتَّنْوِيعِ (" وَهُوَ يَنْتِظَرُ وِلَادَهَا ") : بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: نِتَاجَهَا، وَالضَّمِيرُ إِلَى الْخَلِفَاتِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ ; لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ الْأُخْرَى؛ إِذِ التَّقْدِيرُ: وِلَادَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، أَوْ وِلَادَ الْمَذْكُورَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ عَلَى التَّغْلِيبِ، (" فَغَزَا ") أَيْ: قَصَدَ الْغَزْوَ وَشَرَعَ فِي سَفَرِهِ (" فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَفِي مُسْلِمٍ: فَأَدْنَى. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِهَمْزِ الْقَطْعِ، وَكَذَا عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَيْضًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْدِيَةً لَدَنَا. بِمَعْنَى قَرُبَ أَيْ: أَدْنَى جُيُوشَهُ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَانَ أَيْ: حَانَ فَتْحُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَدْنَتِ النَّاقَةُ إِذَا حَانَ وَقْتُ نِتَاجِهَا، وَلَمْ يَقُلْ فِي غَيْرِ النَّاقَةِ. فِي النِّهَايَةِ: فَأَدْنَى بِالْقَرْيَةِ هَكَذَا جَاءَ فِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ الدُّنُوِّ وَأَصْلُهُ أَدْتَنَى فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الدَّالِ اهـ. فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: أَدَانَ مِنَ الدَّيْنِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ قَرُبَ مِنَ الْقَرْيَةِ (" صَلَاةَ الْعَصْرِ ") أَيْ: وَقْتَهَا، وَالْمُرَادُ آخِرُ أَجْزَائِهِ لِقَوْلِهِ: ("، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ") أَيْ: مِنْ آخِرِ الْعَصْرِ، فَأَوْ لِلتَّرْدِيدِ احْتِيَاطًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي (" فَقَالَ ") أَيْ: ذَلِكَ النَّبِيُّ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ) أَيْ: بِالسَّيْرِ (وَأَنَا مَأْمُورٌ) أَيْ: بِفَتْحِ الْقَرْيَةِ فِي النَّهَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَاتَلَ الْجَبَّارِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا أَدْبَرَتِ الشَّمْسُ خَافَ أَنْ تَغِيبَ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْهُمْ، وَيَدْخُلَ السَّبْتُ فَلَا يُحِلُّ لَهُ قِتَالُهُمْ فِيهِ فَدَعَا اللَّهَ. (" وَقَالَ: اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ ") أَيِ: الشَّمْسُ (" حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ ") . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي حَبْسِ الشَّمْسِ، فَقِيلَ رُدَّتْ عَلَى أَدْرَاجِهَا، وَقِيلَ: وَقَفَتْ بِلَا رَدٍّ، وَقِيلَ: بَطَأَ تَحَرُّكُهَا. قُلْتُ: أَوْسَطُهَا ; لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْحَبْسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَتْ لَهُ الشَّمْسُ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ شُغِلُوا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَرَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ» قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَقَالَ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَالثَّانِيَةُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ انْتَظَرَ الْعِيرَ الَّتِي أَخْبَرَ بِوُصُولِهَا مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ. وَفِي الْمَوَاهِبِ: وَأَمَّا رَدُّ الشَّمْسِ لِحُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَرَأَسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَصْلَيْتَ يَا عَلِيُّ "؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْسَ، ". قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَرَأَيْتُهَا غَرَبَتْ، ثُمَّ رَأَيْتُهَا طَلَعَتْ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ، وَوَقَعَتْ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ بِالصَّهْبَاءِ فِي خَيْبَرَ» ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْحَدِيثِ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي الشِّفَاءِ، وَقَالَ شَيْخُنَا يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَصْلَ لَهُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَأَوْرَدَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَلَكِنْ قَدْ صَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ شَاهِينَ وَغَيْرُهُمْ فِي الشِّفَاءِ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِالرُّفْقَةِ وَالْعَلَامَةِ الَّتِي فِي الْعِيرِ قَالُوا: مَتَى تَجِيءُ، قَالَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَشْرَفَتْ قُرَيْشٌ يَنْظُرُونَ وَقَدْ وَلَّى النَّهَارُ، وَلِمَ تَجِئْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِيدَ لَهُ فِي النَّهَارِ سَاعَةً وَحُبِسَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ الشَّمْسَ فَتَأَخَّرَتْ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ» اهـ.

وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الشَّمْسِ بِمَعْنَى تَأْخِيرِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ فَحَبَسَهَا فَيَنْدَفِعُ بِذَلِكَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَمِنْ تَغَفُّلِ وَاضِعِهِ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى صُورَةِ فَضِيلَةٍ، وَلَمْ يَلْمَحْ إِلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهَا، فَإِنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ تَصِيرُ قَضَاءً، وَرُجُوعَ الشَّمْسِ لَا يُعِيدُهَا أَدَاءً اهـ. مَعَ إِنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخُصُومَاتِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي بَابِ الْمُعْجِزَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَحْقِيقِ الْحَالَاتِ. قِيلَ: يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «لَمْ تُحْبَسِ الشَّمْسُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا لِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ» " وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمَعْنَى لَمْ تُحْبَسْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِي إِلَّا لِيُوشِعَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ ") : تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (" لِتَأْكُلَهَا ") : مُتَعَلِّقٌ بِجَمَعَ (" فَلَمْ تَطْعَمْهَا ") أَيْ: لَمْ تَأْكُلْهَا فَفِيهِ تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ وَالْمَعْنَى فَلَمْ تَحْرِقْهَا وَلَمْ تَعْدِمْهَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَانَتْ عَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنْ يَجْمَعُوا الْغَنَائِمَ فَتَجِيءَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلَهَا عَلَامَةً لِقَبُولِهَا وَعَدَمِ الْغُلُولِ فِيهَا (" فَقَالَ ") أَيْ: ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِهِ: (" إِنَّ فِيكُمْ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَكُمْ إِجْمَالًا (" غُلُولًا ") : بِالضَّمِّ، وَيُحْتَمَلُ الْفَتْحُ بِمَعْنَى غَالٍّ (" فَلْيُبَايِعْنِي ") : بِسُكُونِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ (" مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ. فَلَزِقَتْ ") : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: فَفَعَلُوا فَلَصِقَتْ (" يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمْ ") أَيْ: عَلَى الْخُصُوصِ (" الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ ") : بِجَرِّ مِثْلِ عَلَى الْوَصْفِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ أَيْ: مُمَاثِلًا لِرَأْسِ بَقَرَةٍ وَقَوْلُهُ: " مِنَ الذَّهَبِ ") : بَيَانٌ لِرَأْسٍ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ (" فَوَضَعَهَا ") أَيِ: النَّبِيُّ الرَّأْسَ وَأَنَّثَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغَنِيمَةُ (" فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ". زَادَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، أَوْ لِغَيْرِهِمَا (" فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبْلَنَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ الْغَنَائِمَ ") أَيْ: سَتْرًا عَلَيْنَا وَتَوْسِعَةً لِلدُّنْيَا وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا (وَرَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (" فَأَحَلَّهَا لَنَا ") : إِعَادَةٌ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ وَالْأَوَّلُ لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4034 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " «لَمَّا كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، وَفُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا، أَوْ عَبَاءَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ " ثَلَاثًا. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، ثَلَاثًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4034 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ) : لَيْسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُصُولِ (قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِالْفَتْحِ جَمْعُ صَاحِبٍ وَلَمْ يُجْمَعْ فَاعِلٌ عَلَى فَعَالَةٍ إِلَّا هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ (فُلَانٌ) أَيْ: مِمَّنْ قُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ (شَهِيدٌ، وَفُلَانٌ شَهِيدٌ) أَيْ: وَهَكَذَا (حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ) أَيِ: الْمَمْرُورُ عَلَيْهِ (شَهِيدٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَّا ") : رَدْعٌ لِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ شَهِيدٌ أَنَّ رُوحَهُ فِي الْجَنَّةِ (" إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ ") أَيْ: لِأَجْلِ قِطْعَةِ ثَوْبٍ مُخَطَّطٍ (غَلَّهَا ") أَيْ: خَانَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ ("، أَوْ عَبَاءَةٍ ") : بِفَتْحِ أَوَّلِهَا مَمْدُودًا وَيُقْصَرُ كِسَاءٌ لَبِسَهَا الْأَعْرَابُ وَهِيَ ذَاتُ خُطُوطٍ أَيْ:، أَوْ فِي عَبَاءَةٍ غَلَّهَا وَالشَّكُّ لِأَحَدٍ مِنَ الرُّوَاةِ (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ: أَنَّهُ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُكْسَرُ وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (" لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ") أَيِ: ابْتِدَاءً (" إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ") أَيِ: الْكَامِلُونَ (ثَلَاثًا) : مُتَعَلِّقٌ بِنَادِ (وَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ (فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: أَلَا إِنَّهُ) : لِلتَّنْبِيهِ (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، ثَلَاثًا) .

قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُؤْمِنُ فِي الْعُرْفِ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَمَنْ غَلَّ كَأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْهُ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مُوجِبِ تَصْدِيقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَبِالدُّخُولِ بِلَا عَذَابٍ، وَقَوْلُهُ: " إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ يَدْخُلُهَا، وَيُعَذَّبُ فِيهَا قَبْلَ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ ; لِأَنَّ النُّصُوصَ شَاهِدَةٌ عَلَى أَنَّ دُخُولَ النَّارِ حَقِيقَةً يَكُونُ بَعْدَ الْحَشْرِ، فَتُحْمَلُ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ كَذَلِكَ، كَمَا مُثِّلَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولُ بِلَالٍ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ مَوْتِهِ، نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ، لَكِنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ لَا بِهَذَا الْوَجْهِ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ مَجَازٌ أَيْ: عَلِمْتُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ - يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الانفطار: 13 - 15] وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّارِ نَارُ الْبَرْزَخِ، كَمَا فِي حَدِيثِ: " «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» "، أَوِ الرُّؤْيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْكَشْفِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَآلَهُ إِلَى النَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْكَلَامُ فِي الشَّهَادَةِ لَا فِي الْإِيمَانِ فَمَا مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ؟ قُلْتُ: هُوَ تَغْلِيظٌ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ يَعْنِي جَزَمْتُمْ أَنَّهُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فَدَعُوا هَذَا الْكَلَامَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِيمَانِهِ زَجْرًا وَرَدْعًا عَنِ الْغُلُولِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنَّهُ انْكَشَفَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فِي النَّارِ، وَمَا انْكَشَفَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَحَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، كَمَا أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِالشَّهَادَةِ. لَا سِيَّمَا وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ بَعْضُ أَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ، وَإِنْ كَانَ حَصَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَحْوَالِ السَّعَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

[باب الجزية]

[بَابُ الْجِزْيَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4035 - عَنْ بَجَالَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ. وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَذَكَرَ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ فِي " بَابِ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْجِزْيَةِ قَالَ الرَّاغِبُ: الْجِزْيَةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ لِلِاجْتِزَاءِ بِهَا فِي حَقْنِ دَمِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] أَيْ: ذَلِيلُونَ حَقِيرُونَ مُنْقَادُونَ. وَفِي الْهِدَايَةِ: لَوْ بَعَثَ بِهَا عَلَى يَدِ نَائِبِهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا نَفْسُهُ فَيُعْطِيَ قَائِمًا، وَالْقَابِضُ جَالِسٌ وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُهُ بِتَلَابِيبِهِ وَهُوَ مَا يَلِي صَدْرَهُ مِنْ ثِيَابِهِ، وَيَقُولُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْجِزْيَةُ فِي اللُّغَةِ الْجَزَاءُ وَإِنَّمَا بُنِيَتْ عَلَى فِعْلَةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى هَيْئَةِ الْإِذْلَالِ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ عَلَيْهَا فَتَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ، فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ، وَأَصْلُهُ صُلْحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ نَصَارَى بِقُرْبِ الْيَمَنِ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ فِي الْعَامِ، عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُدَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ. النِّصْفُ فِي صِفْرٍ، وَالنِّصْفُ فِي رَجَبٍ» اهـ. وَالْحُلَّةُ: ثَوْبَانِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَفِي رِوَايَةٍ: كُلُّ حُلَّةٍ أُوقِيَةٌ بِمَعْنَى قِيمَتُهَا أُوقِيَةٌ. وَصَالَحَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ مُسْلِمٍ مِنَ الْمَالِ الْوَاجِبِ، وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ جِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ بِتَوْظِيفِهَا إِذَا غَالَبَ عَلَى الْكُفَّارِ، فَفَتَحَ بِلَادَهُمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، فَهَذِهِ مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ شَاءُوا، أَوْ أَبَوْا، رَضُوا، أَوْ لَمْ يَرْضَوْا، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ فِي سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهْمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمٍا وَاحِدًا، وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَاكِسَهُمْ حَتَّى يَأْخُذَ مِنَ الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ، وَمِنَ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوضَعُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ أَيْ: بَالِغٍ دِينَارًا، أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَقَالَ

مَالِكٌ: يَأْخُذُ مِنَ الْغَنِيِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَمِنَ الْفَقِيرِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ دِينَارًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ هِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، بَلْ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ مُعَاذًا يَأْخُذُ الدِّينَارَ، وَصَالَحَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَصَارَى نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4035 - (عَنْ بَجَالَةَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ابْنُ عَبْدٍ التَّمِيمِيُّ مَكِّيٌّ ثِقَةٌ، وَيُعَدُّ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ، سَمِعَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، وَعَنْهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ (قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِهَمْزَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَا يَرْوِيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، وَيَقُولُونَهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ: بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ أَيْ: مِمَّا ذُكِرَ فِي اسْمِهِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَقِيلَ: بِكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ تَمِيمِيٌّ تَابِعِيٌّ، وَكَانَ وَالِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْأَهْوَازِ (عَمِّ الْأَحْنَفِ) أَيِ: ابْنِ قَيْسٍ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ جَزْءٍ (فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: فَرِّقُوا) أَيْ: فِي النِّكَاحِ (بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ) : أَمَرَهُمْ بِمَنْعِ الْمَجُوسِيِّ الذِّمِّيِّ عَنْ نِكَاحِ الْمَحْرَمِ كَالْأُخْتِ وَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ ; لِأَنَّهُ شِعَارٌ مُخَالِفٌ لِلْإِسْلَامِ، فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنْ دِينِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَحْرَمُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَحْرُمُ أَذَاكَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: مُسْلِمٌ مَحْرَمٌ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا يَرْفَعُ بِهِ قِيلَ: مَعْنَاهُ بَعِّدُوا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْمَجُوسِ (وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ) أَيْ: عَبَدَةِ النَّارِ (حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا) أَيِ: الْجِزْيَةَ (مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ) : بِفَتْحِ هَاءٍ وَجِيمٍ قَاعِدَةُ أَرْضِ الْبَحْرِينِ كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَجَرُ بَلْدَةٌ فِي الْبَحْرِينِ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ بَلَدٍ بِالْيَمَنِ يَلِي الْبَحْرِينِ وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالصَّرْفِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَجَرُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا وَبِفَتْحِ الْجِيمِ اسْمُ بَلَدٍ فِي الْيَمَنِ، وَقِيلَ: اسْمُ قَرْيَةٍ بِالْمَدِينَةِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَسْرَ الْهَاءِ سَهْوُ قَلَمٍ لِمُخَالَفَتِهِ أَرْبَابَ اللُّغَةِ وَأَصْحَابَ الْحَدِيثِ، فَفِي الْقَامُوسِ: هَجَرُ مُحَرَّكَةٌ بَلَدٌ بِالْيَمَنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَثَرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مَذْكُورٌ مَصْرُوفٌ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَيُمْنَعُ، وَاسْمٌ لِجَمِيعِ أَرْضِ الْبَحْرِينِ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ: كَمُبَضِّعِ تَمْرٍ إِلَى هَجَرَ، وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَجِبْتُ لِتَاجِرِ هَجَرَ كَأَنَّهُ أَرَادَ لِكَثْرَةِ مَائِهِ، أَوْ لِرُكُوبِ الْبَحْرِ، وَقَرْيَةٌ كَانَتْ قُرْبَ الْمَدِينَةِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا الْقِلَالُ، أَوْ تُنْسَبُ إِلَى هَجَرِ الْيَمَنِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ بِالسُّنَّةِ، كَمَا أُخِذَتْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْكِتَابِ، وَقِيلَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ يَدْرُسُونَهُ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.

(وَذَكَرَ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ، إِذَا أَمَّرَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: عَيَّنَ (أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى جَيْشِهِ، الْحَدِيثُ بِطُولِهِ (فِي بَابِ: الْكِتَابِ) أَيِ: الْكِتَابَةُ (إِلَى الْكُفَّارِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4036 - عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ ـ يَعْنِي: مُحْتَلِمٍ ـ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِيِّ: ثِيَابٌ تَكُونُ بِالْيَمَنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4036 - (عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَّهَهُ) أَيْ: أَرْسَلَهُ (إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ) أَيْ: بَالِغٍ (يَعْنِي: مُحْتَلِمٍ) : تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ بِمَعْنَى أَيْ: وَلِذَا جَرَّ مُحْتَلِمٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنَ الرَّجُلِ الْبَالِغِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ، وَكَذَا عَلَى مَجْنُونٍ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنْ قَتْلِهِمْ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ عَنْ قِتَالِهِمْ نُصْرَةً لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْلِنَا، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَذَلِكَ، وَلَا عَلَى أَعْمَى وَزَمِنٍ وَمَفْلُوجٍ، وَلَا مِنَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى قِتَالٍ وَلَا كَسْبٍ، وَلَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ يَعْنِي الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فِي ذِمَّتِهِ لَهُ إِطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ " وَلَنَا: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ بَعَثَهُ عُمَرُ لَمْ يُوَظِّفِ الْجِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ، وَرَوَى ابْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ بِسَنَدِهِ قَالَ: أَبْصَرَ عُمَرُ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ وَإِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنِّي فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَنْصَفْنَاكَ أَكَلْنَا شَبِيبَتَكَ، ثُمَّ نَأْخُذُ مِنْكَ الْجِزْيَةَ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ لَا تَأْخُذُوا الْجِزْيَةَ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ، وَلَا يُوضَعُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ اتِّفَاقًا، وَلَا يُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ جَمْعُ رَاهِبٍ، وَقَدْ يُقَالُ: لِلْوَاحِدِ رُهْبَانٌ أَيْضًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِطَ النَّاسَ، وَمَنْ خَالَطَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ. (دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَا يُسَاوِي الشَّيْءَ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِالْكَسْرِ هُوَ الْمِثْلُ كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: مَا يُسَاوِيهِ، وَهُوَ مَا يُعَادِلُ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَتَحُوا عَيْنَهُ لِلتَّفَرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْمِثْلُ اهـ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُضْبَطَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا غَيْرُ، لَكِنَّهُ فِي النُّسَخِ مَضْبُوطًا بِالْوَجْهَيْنِ، فَكَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: الْعَدْلُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ الْمِثْلُ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ مَا عَادَلَهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِالْكَسْرِ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ. (مِنَ الْمَعَافِرِيِّ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَعَافِرُ عَلَمُ قَبِيلَةٍ مِنْ هَمْدَانَ لَا يَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ ; لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى مِثَالِ مَا لَا يَنْصَرِفُ مِنَ الْجَمْعِ، وَإِلَيْهِمْ تُنْسَبُ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ تَقُولُ: ثَوْبٌ مَعَافِرِيٌّ فَتَصْرِفُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: مَعَافِرُ كَذَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ مِنَ الْمَعَافِرِيِّ كَمَا فِي الْمَتْنِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمَعَافِرِيُّ ثَوْبٌ مَنْسُوبٌ إِلَى مَعَافِرَ بْنِ مُرَّةَ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلثَّوْبِ بِلَا نِسْبَةٍ، ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ. وَفِي الْجَمْهَرَةِ لِابْنِ دُرَيْدٍ: مَعَافِرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ، وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلْقُتَيْبِيِّ: الْبُرُدُ الْمَعَافِرِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى مَعَافِرَ مِنَ الْيَمَنِ، وَفِي الْجَمْهَرَةِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَوْبٌ مَعَافِرُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، فَمَنْ نَسَبَ فَقَدْ أَخْطَأَ عِنْدَهُ اهـ.

وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ قَوْلُهُ: مَعَافِرُ أَيْ: ثِيَابٌ مَعَافِرُ بِحَذْفِ الْمُضَافِ. (ثِيَابٌ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: هِيَ ثِيَابٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ (تَكُونُ بِالْيَمَنِ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْيَمَنِ، قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّمَ الْحُكْمَ وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤْخَذُ مِنَ الْمُوسِرِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَمِنَ الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَانِ، وَمِنَ الْمُعْسِرِ دِينَارٌ اهـ. وَسَبَقَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، بَلِ الْمُسْتَحَبُّ، ثُمَّ مَذْهَبُنَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَّهَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ إِلَى السَّوَادِ، فَمَسَحَا أَرْضَهَا وَوَضَعَا عَلَيْهِ الْخَرَاجَ، وَجَعَلَا النَّاسَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ عَلَى مَا قُلْنَا، فَلَمَّا رَجَعَا أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ عَمِلَ عُثْمَانُ كَذَلِكَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَعْدِلٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ عُمَرَ وَضَعَ إِلَى آخِرِهِ، وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ إِلَى أَبِي نُصْرَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فِيمَا فُتِحَ مِنَ الْبِلَادِ، وَوَضَعَ عَلَى الْغَنِيِّ إِلَخْ. وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَسْنَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ إِلَى حَارِثَةَ بْنِ مَضْرِبٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَوَضَعَ عَلَيْهِمْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِلَا نَكِيرٍ، فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَمَا رُوِيَ مِنْ وَضْعِ الدِّينَارِ عَلَى الْكُلِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صُلْحًا، فَإِنَّ الْيَمَنَ لَمْ يُفْتَحْ عَنْوَةً، بَلْ صُلْحًا، فَوَضَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهِ قُلْنَا، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ كَانُوا أَهْلَ فَاقَةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ، فَفَرَضَ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْفُقَرَاءِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ، قَالَ: ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ، فَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَهُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَهُوَ مُوسِرٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَانِ فَصَاعِدًا مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْعَشَرَةَ فَمُتَوَسِّطٌ فَمَنْ كَانَ مُعْتَمِلًا أَيْ: مُكْتَسِبًا فَهُوَ مُعْسِرٌ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: وَيُنْظَرُ إِلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ خَمْسِينَ أَلْفًا بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنَ الْمُكْثِرِينَ، وَفِي الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ لَا يُعَدُّ مُكْثِرًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَرْبَعَةِ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنَ الْبَقَرِ مَنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، أَوْ تَبِيعَةً، وَمَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمَنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، قَالَ: وَهُوَ أَصَحُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْحَالِمِ، وَفِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى أَنْ قَالَ: " وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ، أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرَ ". وَكَانَ مَعْمَرٌ يَقُولُ: هَذَا غَلَطٌ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ شَيْءٌ، وَفِيهِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا ذِكْرُ الْحَالِمَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا نَرَى مَنْسُوخٌ إِذْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَوِلْدَانُهُمْ يُقْتَلُونَ مَعَ رِجَالِهِمْ، وَيُسْتَضَاءُ لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ: «أَنَّ خَيْلًا أَصَابَتْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ» . ثُمَّ أَسْنَدَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ أَنَقْتُلُهُمْ مَعَهُمْ؟ قَالَ: " نَعَمْ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ» ، ثُمَّ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِمْ يَوْمَ خَيْبَرَ.

4037 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4037 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ ") أَيْ: أَهْلُهُمَا يَعْنِي دِينَيْنِ (" فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ ") : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: لَا يَسْتَقِيمُ دِينَانِ بِأَرْضٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُظَاهَرَةِ وَالْمُعَادَلَةِ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْإِقَامَةَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمٍ كُفَّارٍ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا صَنَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَحَلَّ نَفْسَهُ فِيهِمْ مَحَلَّ الذِّمِّيِّ فِينَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجُرَّ إِلَى نَفْسِهِ الصَّغَارَ وَيَتَوَسَّمَ بِسِمَةٍ مَنْ ضُرِبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَأَنَّى لَهُ الصَّغَارُ وَالذِّلَّةُ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا الَّذِي يُخَالِفُ دِينُهُ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي الْإِشَاعَةِ بِدِينِهِ، وَوَجْهُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِنَّمَا أُقِرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَالذِّمِّيُّ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ، فَصَارَ ذَلِكَ رَافِعًا لِإِحْدَى الْقِبْلَتَيْنِ وَاضِعًا لِإِحْدَاهُمَا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مَعْنَى: وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ الْخَرَاجُ الَّذِي وُضِعَ عَلَى الْأَرَاضِي الَّتِي تُرِكَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَبْلَ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِزْيَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ، وَهَذَا قَوْلٌ سَدِيدٌ لَوْ صَحَّ لَنَا وَجْهُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ وَجْهَ التَّنَاسُبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سَمِعَ الْفَصْلَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَتِهِ، وَأَظْهَرَ الْحُكْمَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُفْرِدًا قَوْلَهُ: لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ. وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ قَطَعَهُ عَنِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ إِشَارَةٌ إِلَى إِجْلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْكُنَ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ. فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْخَرَاجُ الَّذِي وُضِعَ عَلَى أَرَاضِي بَلَدٍ فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَرَاضِيهِ لِأَهْلِهَا بِخَرَاجٍ مَضْرُوبٍ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَسْلَمُوا سَقَطَ الْخَرَاجُ عَنْ أَرَاضِيهِمْ، وَتَسْقُطُ الْجِزْيَةُ عَنْ رُءُوسِهِمْ حَتَّى يَجُوزَ لَهُمْ بَيْعُهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ صُولِحُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرَاضِي لَأَهِلَ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ يَسْكُنُونَ فِيهَا بِخَرَاجٍ وُضِعَ عَلَيْهِمْ، أَوْ فُتِحَ عَنْوَةً، وَأُسْكِنَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِخَرَاجٍ، أَوْ دُونَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ وَلَا بِالْمَوْتِ. (رَوَاهُ أَحَمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ بِأَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كَمَالِ السَّنَةِ سَقَطَتْ عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَائِهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا، وَلَنَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبُو ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» ". قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَسُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: يَعْنِي إِذَا أَسْلَمَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ أَسْلَمَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ» ". وَضَعَّفَ ابْنُ الْقَطَّانِ قَابُوسًا، وَلَيْسَ قَابُوسٌ فِي مُسْنَدِ الطَّبَرَانِيِّ، فَهَذَا بِعُمُومِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ مَا كَانَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، بَلْ هُوَ الْمُرَادُ بِخُصُوصِهِ ; لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْفَائِدَةِ إِذْ عَدَمُ الْجِزْيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْفَائِدَةِ لَيْسَ كَالْإِخْبَارِ بِسُقُوطِهَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ بِالْإِسْلَامِ، فَلَا يَرِدُ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ إِذْ كَلٌّ مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ لَا يَرْتَفِعُ الِاسْتِرْقَاقُ بِالْإِسْلَامِ، وَكَذَا خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَتَرْتَفِعُ الْجِزْيَةُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ عُقِلَتْ حِكْمَتُهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا وَجَبَ الِاتِّبَاعُ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ خَرَاجِ الْأَرْضِ وَالْجِزْيَةِ وَاضِحٌ؛ إِذْ لَا إِذْلَالَ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ كَيْ تَبْقَى فِي أَيْدِينَا، وَالْمُسْلِمُ مِمَّنْ يَسْعَى فِي بَقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ ; لِأَنَّهَا ذُلٌّ ظَاهِرٌ وَشِعَارٌ، وَأَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ فَلِأَنَّ إِسْلَامَهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ مِلْكِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ اسْتِحْقَاقٌ لِلْعُمُومِ، وَالْحَقُّ الْخَاصُّ فَضْلًا عَنِ الْعَامِّ لَيْسَ كَالْمِلْكِ الْخَاصِّ.

4038 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ فَأَخَذُوهُ، فَأَتَوْا بِهِ، فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4038 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ فَدَالٌ مُهْمِلَةٌ مَكْسُورَةٌ فَرَاءٌ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْكِنْدِيُّ اسْمُ مَلِكِ دُومَةَ بِضَمِّ الدَّالِ، وَقَدْ يُفْتَحُ بَلَدٌ، أَوْ قَلْعَةٌ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ قَرِيبُ تَبُوكَ، أُضِيفَ إِلَيْهَا كَمَا أُضِيفَ زِيدٌ إِلَى الْخَيْلِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَعْرَابٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَخَالِدًا عَلَى الْأَعْرَابِ، وَقَالَ لِخَالِدٍ: إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ، فَانْتَهَتِ السَّرِيَّةُ إِلَى الْحِصْنِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ وَهُوَ عَلَى السَّطْحِ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَجَاءَتْ بَقَرَةٌ وَجَعَلَتْ تَحُكُّ بَابَ قَصْرِهِ بِقَرْنَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ لَا وَاللَّهِ. قَالَ: أَفَنَتْرُكُ مِثْلَ هَذِهِ، فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ وَسُرِجَ وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَعَهُمْ أَخُوهُ، يُقَالُ لَهُ: حَسَّانُ فَتَلَقَّاهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (فَأَخَذُوهُ) أَيْ: أُكَيْدِرُ وَقَتَلُوا حَسَّانَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّاهُمْ أَنْ لَا يَقْتُلُوهُ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَتَوْا بِهِ، فَحَقَنَ) أَيْ: وَهَبَ (لَهُ دَمَهُ) : فِي الْمُغْرِبِ: حَقَنَ دَمَهُ إِذَا مَنَعَهُ أَنْ يُسْفَكَ، وَذَلِكَ إِذَا حَلَّ بِهِ الْقَتْلُ فَأَنْقَذَهُ (وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ) : ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4039 - وَعَنْ حَرْبِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَبِي أُمِّهِ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِنَّمَا الْعُشُورُ: عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4039 - (وَعَنْ حَرْبِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) : بِالتَّصْغِيرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (عَنْ جَدِّهِ، أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ حَرْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ مُخْتَلَفٌ فِي اسْمِ أَبِيهِ، وَفِي حَدِيثِهِ، فَرَوَى حَدِيثَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَنْهُ فَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ خَالٍ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَحْوَصِ: عَنْ عَطَاءٍ عَنْ حَرْبٍ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ، عَنْ أَبِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَنْ عَطَاءٍ عَنْ حَرْبِ بْنِ هِلَالٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: وَعَنْ حَرْبِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّمَا الْعُشُورُ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ عُشُرٍ (عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِهِ عُشُرَ مَالِ التِّجَارَةِ لَا عُشُرَ الصَّدَقَاتِ فِي غَلَّاتِ أَرْضِهِمْ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دُونَ عُشُرِ الصَّدَقَاتِ، وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَالَّذِي يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْعُشُورِ وَهُوَ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَإِنْ لَمْ يُصَالَحُوا عَلَى شَيْءٍ فَلَا عُشُورَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ شَيْءٌ أَكْثَرُ مِنَ الْجِزْيَةِ، فَأَمَّا عُشُورُ أَرَاضِيهِمْ وَغَلَّاتِهِمْ، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَخَذُوا مِنَّا عُشُورًا فِي بِلَادِهِمْ إِذَا تَرَدَّدْنَا إِلَيْهِمْ فِي التِّجَارَاتِ أَخَذْنَا مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا لَمْ نَأْخُذِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، لَكِنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْمَذْهَبِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ أَنَّ الْعُشُرَ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَنِصْفَ الْعُشُرِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَرُبُعَ الْعُشُرِ مِنَ الْمُسْلِمِ بِشُرُوطٍ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، نَعَمْ يُعَامَلُ الْكُفَّارُ بِمَا يُعَامِلُونَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِلَادَ الْإِسْلَامِ تُجَّارًا فَإِنْ دَخَلُوا بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلَا رِسَالَةٍ غُنِمُوا، وَإِنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَشَرْطُهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عُشْرٌ، أَوْ أَقَلُّ، أَوْ أَكْثَرُ أُخِذَ الْمَشْرُوطُ، وَإِذَا طَافُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

4040 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَمَرُّ بِقَوْمٍ، فَلَا هُمْ يُضَيِّفُونَا، وَلَا هُمْ يُؤَدُّونَ مَا لَنَا عَلَيْهِمْ مِنْ حَقٍّ، وَلَا نَحْنُ نَأْخُذُ مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ أَبَوْا إِلَّا أَنْ تَأْخُذُوا كَرْهًا فَخُذُوا) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4040 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا) أَيْ: مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (نَمُرُّ بِقَوْمٍ) أَيْ: فِي مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ (فَلَا هُمْ) أَيْ: مِنْ كَرَمِهِمْ وَمُرُوءَتِهِمْ (يُضَيِّفُونَا) : بِالتَّشْدِيدِ وَتُخَفَّفُ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ وَالْإِفْعَالِ وَالنُّونُ مُخَفَّفَةٌ وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهَا (وَلَا هُمْ يُؤَدُّونَ مَا لَنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ) أَيْ: مِنْ حَقِّ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْمُوَاسَاةُ وَالْمُعَاوَنَةُ بِالدِّينِ وَنَحْوِهِ (وَلَا نَحْنُ نَأْخُذُ مِنْهُمْ) أَيْ: كُرْهًا فَيَحْصُلُ لَنَا بِذَلِكَ اضْطِرَارٌ وَضَرَرٌ عَظِيمٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ أَبَوْا) أَيِ: امْتَنَعُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الضِّيَافَةِ، وَالْبَيْعِ مُعَجَّلًا، أَوْ مُؤَجَّلًا

(إِلَّا أَنْ تَأْخُذُوا كَرْهًا) : بِضَمِّ الْكَافِ وَيُفْتَحُ (فَخُذُوا) أَيْ: كَرْهًا. وَذَكَرَ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا عَنْ مُحْيِي السُّنَّةِ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ كَانَ مُرُورُهُمْ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ كَانَ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ وَالنَّازِلُ غَيْرَ مُضْطَرٍّ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ إِلَّا عَنْ طِيبَةِ نَفْسٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ. وَقَالَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي الْغَزْوِ، فَيَمُرُّونَ بِقَوْمٍ وَلَا يَجِدُونَ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَشْتَرُونَ بِالثَّمَنِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوا إِلَّا أَنْ تَأْخُذُوا كَرْهًا فَخُذُوا) هَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مُفَسَّرًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَا يَجِدُونَ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَشْتَرُونَ، هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَلَا هُمْ يُؤَدُّونَ مَا لَنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ، عَلَى مَعْنَى أَنَّا إِذَا مِلْنَا الِاضْطِرَارَ إِلَى الطَّعَامِ الَّذِي عِنْدَهُمْ، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْثِرُوا عَلَيْنَا إِمَّا بِالْبَيْعِ، أَوِ الضِّيَافَةِ، فَإِذَا امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ نَفْعَلُ بِهِمْ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ أَبَوْا) إِلَخْ. وَفِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ الْمُصَحِّحِ لِلِاسْتِثْنَاءِ أَيْ: إِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْأَخْذُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِأَنْ تَأْخُذُوا كَرْهًا فَخُذُوهُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4041 - عَنْ أَسْلَمَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَالْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4041 - (عَنْ أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَوْلَى عُمَرَ، كُنْيَتُهُ أَبُو خَالِدٍ، كَانَ حَبَشِيًّا ابْتَاعَهُ عُمَرُ بِمَكَّةَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، سَمِعَ عُمَرُ، وَرَوَى عَنْهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ، مَاتَ فِي وِلَايَةِ مَرْوَانَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. (أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ) : أَيِ الْمُكْثِرِينَ مِنْهُ (أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيِ: الْفِضَّةِ (أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، مَعَ ذَلِكَ) أَيْ: مُنْضَمًّا مَعَ مَا ذُكِرَ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَمَعَ ذَلِكَ (أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ الظَّرْفِ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَهُوَ أَيِ: الظَّرْفُ خَبَرُهُ (وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) . عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، وَأَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ زِيَادَةً عَلَى أَصْلِ الْجِزْيَةِ، وَيُبَيَّنَ عَدَدُ الضِّيفَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالْفُرْسَانِ، وَعَدَدَ أَيَّامِ الضِّيَافَةِ، وَيُبَيَّنَ جِنْسُ أَطْعِمَتِهِمْ وَعَلَفَ دَوَابِّهِمْ وَيُفَاوَتَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْوَسَطِ فِي الْقَدْرِ دُونَ جِنْسِ الْأَطْعِمَةِ. رَوَاهُ مَالِكٌ. وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ يَقُولُ: الْقِتَالُ وَاجِبٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ} [البقرة: 193] إِلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَ تَرْكِهِ إِلَى الْجِزْيَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] وَفِي الْمَجُوسِ بِالْخَبَرِ الَّذِي ذُكِرَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، فَبَقِيَ مَنْ وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ تَخْصِيصَ عُمُومِ وُجُوبِ الْقِتَالِ الَّذِي اسْتُدِلَّ بِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ عِنْدَ قَبُولِهِمُ الْجِزْيَةَ كَمَا ذُكِرَ، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. قَالَ: وَلَا تُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ ; لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلَّظَ، فَلَمْ يَكُونُوا فِي مَعْنَى الْعَجَمِ، أَمَّا الْعَرَبُ فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ، فَكَفْرُهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ الْعَجَمِ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ؛ فَلِأَنَّ كُفْرَهُمْ بَعْدَمَا هُدُوا لِلْإِسْلَامِ وَوَقَفُوا عَلَى مَحَاسِنِهِ فَكَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا الْإِسْلَامُ، أَوِ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْتَرَقُّ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ; لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ إِتْلَافٌ حُكْمًا فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ إِتْلَافُ نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ، وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] أَيْ: إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: ( «لَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِلَّا الْإِسْلَامُ، أَوِ السَّيْفُ» ) . وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ يَعْقُوبَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: (أَوِ الْقَتْلُ) مَكَانَ

(أَوِ السَّيْفُ) . وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَلَا رِقَّ عَلَى عَرَبِيٍّ) . وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «لَوْ كَانَ ثَابِتٌ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ رِقٌّ لَكَانَ الْيَوْمَ» ) قَالَ: وَإِذَا ظُهِرَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ وَيُسْتَرَقُّونَ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَرَقَّ ذَرَارِيَّ أَوْطَاسٍ وَهَوَازِنَ، وَأَبُو بَكْرٍ اسْتَرَقَّ بَنِي حَنِيفَةَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَدْ رَأَيْتُ أُمَّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَتْ مِنْ سَبْيِ حَنِيفَةَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْحَنَفِيَّةَ، وَيُسَمَّى ابْنُهَا مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ذَرَارِيَّ الْمُرْتَدِّينَ وَنِسَاءَهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ، بِخِلَافِ ذَرَارِيِّ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَا يُجْبَرُونَ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَأَمَّا الزَّنَادِقَةُ فَقَالُوا: لَوْ جَاءَ زِنْدِيقٌ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ وَتَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، فَإِنْ أُخِذَ ثُمَّ تَابَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَيُقْتَلُ ; لِأَنَّهُمْ بَاطِنِيَّةٌ يَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاطِنِ خِلَافَ ذَلِكَ فَيُقْتَلُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ. قَالَ: وَتَغْلِبُ بْنُ وَائِلٍ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ رَبِيعَةَ تَنَصَّرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ زَمَنَ عُمَرَ دَعَاهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ فَأَبَوْا وَأَنِفُوا، وَقَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً، فَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالرُّومِ، فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْقَوْمَ لَهُمْ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَهُمْ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنَ الْجِزْيَةِ، فَلَا تُعِنْ عَلَيْهِمْ عَدُوَّكَ بِهِمْ وَخُذْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ عُمَرُ فِي طَلَبِهِمْ وَضَعَّفَ عَلَيْهِمْ، فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ الْفُقَهَاءُ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ لَهُمْ شَاتَانِ، وَلَا زِيَادَةَ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَعَلَى هَذَا فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عُمَرُ: هَذِهِ جِزْيَةٌ سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

[باب الصلح]

[بَابُ الصُّلْحِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4042 - عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَا: «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ الْهَدْيَ، وَأَشْعَرَ، وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، وَسَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ، خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ فَقَالَ النَّبِيُّ: (مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ) ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) ، ثُمَّ زَجَرَهَا، فَوَثَبَتْ، فَعَدَلَ عَنْهُمْ، حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يَلْبَثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشَ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَازَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ فِي خُزَاعَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) . فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي ". اكْتُبْ: مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا) ثُمَّ جَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوهُنَّ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الصَّدَاقَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ. نَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا، أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ. فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الْآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا؟) فَقَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ. فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَيْلَ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ) فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وَانْفَلَتَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [9] بَابُ الصُّلْحِ الْمُغْرِبُ: الصَّلَاحُ خِلَافُ الْفَسَادِ، وَالصُّلْحُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ، وَالتَّصَالُحُ خِلَافُ الْمُخَاصَمَةِ وَالتَّخَاصُمِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ جِهَادٌ مَعْنًى لَا صُورَةً فَأَخَّرَهُ عَلَى الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ الْحَرْبِ، أَوْ فَرِيقًا مِنْهُمْ بِمَالٍ، أَوْ بِلَا مَالٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً، لَكِنَّ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَقْيِيدِهَا بِرُؤْيَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةٌ فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالسِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا مَعَ سُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: 90] . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4042 - (عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : سَبَقَ ذِكْرُهُمَا وَلَعَلَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لِتَصْدِيقِ مَرْوَانَ فِي رِوَايَتِهِ وَتَقْوِيَتِهِ (قَالَا: خَرَجَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ هِلَالَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: (عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَقَدْ يُشَدَّدُ، مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ، ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ. وَفِي النِّهَايَةِ: قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ سُمِّيَتْ بِبِئْرٍ هُنَاكَ، وَهِيَ مُخَفَّفَةُ الْيَاءِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يُشَدِّدُونَهَا. أَقُولُ: وَهِيَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ بِالْجِيمِ قَرِيبُ قَرْيَةٍ تُسَمَّى حِدَّةَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَتُسَمَّى بِبِئْرِ شَمْسٍ، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي حَدُّ الْحَرَمِ مِنْ ذَلِكَ الصَّوْبِ، وَهِيَ مِنَ الْحِلِّ وَبَعْضُهَا مِنَ الْحَرَمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ

لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: الْحُدَيْبِيَةُ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ أَكْثَرُهَا فِي الْحَرَمِ، وَهِيَ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ خَارِجُ الْحَرَمِ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا أَضَافَ الْعَامَ إِلَيْهَا لِنُزُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا حِينَ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ اهـ. (فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَتُكْسَرُ، وَالْبِضْعُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُفْتَحُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ أَيْ: مَعَ أَلْفٍ وَمِائَةٍ (مِنْ أَصْحَابِهِ) ، وَقَدْ سَبَقَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ جَمْعٍ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَقِيلَ: أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ. وَعَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ. قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاهِبِ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَمَنْ قَالَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ جَبَرَ الْكَسْرَ وَمَنْ قَالَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ فَيُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَاطَّلَعَ غَيْرُهُ عَلَى زِيَادَةِ مِائَتَيْنِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِمْ وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ فَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ قَالَ اسْتِنْبَاطًا مِنْ قَوْلِ جَابِرٍ نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ عَشَرَةٍ، وَكَانُوا نَحَرُوا سَبْعِينَ بَدَنَةً وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا نَحَرُوا غَيْرَ الْبُدْنِ مَعَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَكُنْ أَحْرَمَ أَصْلًا، وَجَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ. وَحَكَى ابْنُ سَعْدٍ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، (فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ الْهَدْيَ، وَأَشْعَرَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَقْلِيدُهُ أَنْ يُعَلَّقَ شَيْءٌ عَلَى عُنُقِ الْبَدَنَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ، وَإِشْعَارُهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي سَنَامِهِ الْأَيْمَنِ، أَوِ الْأَيْسَرِ، حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ مِنْهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ (وَأَحْرَمَ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ (بِعُمْرَةٍ، وَسَارَ) : فِي الْمَوَاهِبِ نَقْلًا عَنِ الْبُخَارِيِّ: وَأَحْرَمَ مِنْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: أَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ، فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ أَيْ: أَحْيَاءً مِنَ النَّادَّةِ انْضَمُّوا إِلَى بَنِي لَيْثٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ وَمَانِعُوكَ. فَقَالَ أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إِلَى عِيَالِهِمْ وَذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِي يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ، وَفِيهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ بِنَا فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ. قَالَ: امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ) . فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّرِيقُ (الَّتِي يُهْبَطُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الثَّنِيَّةِ (بَرَكَتْ بِهِ) أَيْ: بِالنَّبِيِّ (رَاحِلَتُهُ) ، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ (فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ) : بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَلَامٍ مُخَفَّفَةٍ زَجْرٌ لِلْبَعِيرِ إِذَا حَثَثْتَهُ عَلَى الِانْبِعَاثِ، وَالثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ فِي الزَّجْرِ، وَيُنَوَّنُ الْأَوَّلُ إِذَا وُصِلَتْ بِالْأُخْرَى، وَالْمُحَدِّثُونَ يُسَكِّنُونَهَا فِي الْوَصْلِ. وَفِي الْمَوَاهِبِ: فَالْحَثُّ أَيْ: تَمَادَتْ عَلَى عَدَمِ الْقِيَامِ (فَقَالُوا: خَلَأَتِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَالْهَمْزَةِ أَيْ: بَرَكَتْ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَحَزِنَتْ (الْقَصْوَاءُ) بِفَتْحِ الْقَافِ مَمْدُودًا لِلنَّاقَةِ الْمَقْطُوعِ طَرَفُ أُذُنِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةٌ تُسَمَّى قَصْوَاءَ وَلَمْ تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الْأُذُنِ (خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ) كُرِّرَ تَأْكِيدًا لِعَدَمِ انْبِعَاثِهَا وَحَسِبُوا أَنَّهُ بِسَبَبِ تَعَبِهَا، أَوْ أَنَّهُ مِنْ عَادَتِهَا (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ) أَيْ: لِلْعِلَّةِ الَّتِي تَظُنُّونَهَا (وَمَا ذَاكَ) أَيِ: الْخَلَأُ وَهُوَ لِلنَّاقَةِ كَالْحِرَانِ لِلْفَرَسِ (لَهَا بِخُلُقٍ) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ: بِعَادَةٍ (وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ) أَيْ: مَنَعَهَا مِنَ السَّيْرِ كَيْلَا تَدْخُلَ مَكَّةَ مَعَ أَصْحَابِ الْفِيلِ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِئَلَّا تَقَعَ مُحَارَبَةٌ وَإِرَاقَةُ دَمٍ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ أَوَانِهِ لَوْ قُدِّرَ دُخُولُهَا، كَمَا لَوْ قُدِّرَ دُخُولُ الْفِيلِ، لَكِنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ، وَسَيَخْرُجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ نَاسٌ يُسْلِمُونَ وَيُجَاهِدُونَ. قَالَ الْقَاضِي: رُوِيَ أَنَّ أَبَرْهَةَ لَمَّا هَمَّ بِتَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ وَاسْتِبَاحَةِ أَهْلِهَا تَوَجَّهَ إِلَيْهَا فِي عَسْكَرِهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى ذِي الْمَجَازِ امْتَنَعَتِ الْفِيَلَةُ مِنَ التَّوَجُّهِ نَحْوَ مَكَّةَ، وَإِذَا صُرِفَتْ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا أَسْرَعَتْ. اهـ.

وَذُو الْمَجَازِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: سُوقٌ كَانَتْ لَهُمْ عَلَى فَرْسَخٍ وَمِنْ عَرَفَةَ بِنَاحِيَةِ كَبْكَبَ. (ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي) : بِتَخْفِيفِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمَعْنَى لَا يَطْلُبُونَنِي (خُطَّةً) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: خَصْلَةً أُرِيدَ بِهَا الْمُصَالَحَةُ حَالَ كَوْنِهِمْ (يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ) : جَمْعُ حُرْمَةٍ أَرَادَ بِهَا حُرْمَةَ الْحَرَمِ، وَالْإِحْرَامُ بِالْكَفِّ فِيهَا عَنِ الْقِتَالِ (إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) أَيْ: تِلْكَ الْخُطَّةَ الْمَسْئُولَةَ قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى لَا يَسْأَلُونِي خَصْلَةً يُرِيدُونَ بِهَا تَعْظِيمَ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ وَتَحْرِيمَ هَتْكِ حُرْمَتِهِ إِلَّا أُسْعِفُهُمْ إِلَيْهَا، وَوَضَعَ الْمَاضِيَ مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ مُبَالَغَةً فِي الْإِسْعَافِ (ثُمَّ زَجَرَهَا) أَيِ: الْإِبِلُ (فَوَثَبَتْ) أَيْ: قَامَتْ بِسُرْعَةٍ (فَعَدَلَ عَنْهُمْ) أَيْ: مَالَ عَنْ طَرِيقِ أَهْلِ مَكَّةَ وَدُخُولِهَا وَتَوَجَّهَ غَيْرَ جَانِبِهِمْ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ فَقَالَ أَيِ: انْحَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَذَهَبَ أَمَامَهُمْ، (حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ) أَيْ: بِآخِرِهَا مِنْ جَانِبِ الْحَرَمِ (عَلَى ثَمَدٍ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ أَيْ: مَاءٍ قَلِيلٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَوْضِعُهُ، مَجَازٌ لِإِطْلَاقِ الِاسْمِ الْحَالِّ عَلَى الْمَحَلِّ، كَانَ هُنَاكَ حُفْرَةٌ فِيهَا مَاءٌ قَلِيلٌ بِدَلِيلِ وَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: (قَلِيلِ الْمَاءِ) : وَقِيلَ: إِنَّهُ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ فَوَصَفَهُ بِالْقِلَّةِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِلَفْظِ الثَّمَدِ إِرَادَةً لِلتَّأْكِيدِ فِي كَوْنِهِ أَقَلَّ الْقَلِيلِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالثَّمَدُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا مَادَّةَ لَهُ، وَسُمِّيَ قَوْمُ صَالِحٍ ثَمُودَ لِنُزُولِهِمْ عَلَى ثَمَدٍ. (يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ) : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: يَأْخُذُونَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا (تَبَرُّضًا) ، مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (فَلَمْ يَلْبَثْهُ النَّاسُ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ مِنْ أَلْبَثَ وَلَبِثَ بِمَعْنًى عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ: لَمْ يَجْعَلُوا لُبْثَ ذَلِكَ الْمَاءِ طَوِيلًا فِي تِلْكَ الْبِئْرِ (حَتَّى نَزَحُوهُ) أَيِ: الْمَاءَ (وَشُكِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشُ) أَيْ: شَكَوْا عَدَمَ الْمَاءِ الْمُوجِبَ لِلْعَطَشِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَانْتَزَعَ) أَيْ: أَخْرَجَ (سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ) ، بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: جَعْبَتِهِ (ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ) أَيِ: السَّهْمَ (فِيهِ) أَيْ: فِي مَكَانِ الْمَاءِ (فَفَعَلُوا) : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى إِجْرَاءِ خَرْقِ الْعَادَةِ عَلَى أَيْدِي أَتْبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ) أَيْ: يَفُورُ مَاؤُهُ (لَهُمْ بِالرِّيِّ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: بِمَا يَرْوِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ، أَوْ بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَيْنٌ رَيَّةٌ أَيْ: كَثِيرَةُ الْمَاءِ (حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ) أَيْ: رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَاءِ رَاضِينَ، (فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (فِي نَفَرٍ فِي خُزَاعَةَ) ، قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْعَرَبِ (ثُمَّ أَتَاهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ) أَيْ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. (إِلَى أَنْ قَالَ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاخْتِصَارَ مِنْ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَالَ الْبُخَارِيُّ رَاوِيًا بِسَنَدِهِ عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ. (إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اكْتُبْ) أَيْ: يَا عَلِيُّ (هَذَا مَا قَاضَى) أَيْ: صَالَحَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ قَضَى (عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: فَصَلَ بِهِ أَمْرَ الْمُصَالَحَةِ مِنْ قَضَى الْحُكْمَ إِذَا فَصَلَ الْحُكُومَةَ، وَإِنَّمَا أَتَى بِهِ عَلَى زِنَةِ فَاعَلَ ; لِأَنَّ فَصْلَ الْقَضِيَّةِ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَيْ: هَذَا مَا صَالَحَ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ اعْلَمْ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ هَكَذَا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلٌ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ أَيْ: ذَوَاتِ الْمَادَّةِ كَالْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ وَالْعُوذُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ عَائِذٍ وَهِيَ النَّاقَةُ ذَاتُ اللَّبَنِ، وَالْمَطَافِيلُ الْأُمَّهَاتُ الَّتِي مَعَهَا أَطْفَالُهَا يُرِيدُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ لِإِرَادَةِ طُولِ الْمَقَامِ؛ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى عَدَمِ الْفِرَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الْحَرْبُ أَيْ: أَضْعَفَتْهُمْ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ إِنْ شَاءُوا فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدَ جَمُّوا يَعْنِي اسْتَرَاحُوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ

98 - سَالِفَتِي» ) أَيْ: صَفْحَةُ الْعُنُقِ كَنَّى بِذَلِكَ عَنِ الْقَتْلِ (وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ) . فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا. فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ. قَالَ ذُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ: يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ أَيْ: طَلَبْتُ مِنْهُمُ الْخُرُوجَ إِلَيْكُمْ؟ وَفِي الْقَامُوسِ عُكَاظٌ هُوَ كَغُرَابٍ سُوقٌ بِصَحْرَاءَ بَيْنَ نَخْلَةَ وَالطَّائِفِ كَانَتْ تَقُومُ هِلَالَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَتَسْتَمِرُّ عِشْرِينَ يَوْمًا يَجْتَمِعُ قَبَائِلُ الْعَرَبِ فَيَتَعَاكَظُونَ يَتَفَاخَرُونَ اهـ. فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ وَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: تَمَنَّعُوا مِنَ الْإِجَابَةِ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ أَيْ: خَصْلَةَ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرَى وُجُوهًا وَإِنِّي لَأَرَى أَوْبَاشًا يَعْنِي أَخْلَاطًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ قِيلَ: وَهَذَا مُبَالَغَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ فِي سَبِّ عُرْوَةَ، فَإِنَّهُ أَقَامَ مَعْبُودَ عُرْوَةَ وَهُوَ صَنَمٌ مَقَامَ أُمِّهِ، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَغْضَبَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الْفِرَارِ، وَالْبَظْرُ بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ السَّاكِنَةِ قِطْعَةٌ تَبْقَى بَعْدَ الْخِتَانِ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَاللَّاتُ اسْمُ صَنَمٍ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَعْرَضِ الذَّمِّ اهـ. فَقَالَ عُرْوَةُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ. فَقَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَصْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ لِحْيَةَ مَنْ يُكَلِّمُهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمُلَاطَفَةِ، وَفِي الْغَالِبِ إِنَّمَا يَصْنَعُ ذَلِكَ النَّظِيرُ بِالنَّظِيرِ، لَكِنْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْضِي لِعُرْوَةَ اسْتِمَالَةً لَهُ وَتَأْلِيفًا وَالْمُغِيرَةُ يَمْنَعُهُ إِجْلَالًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمًا اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَاسًا مِنَ الْمَكِيدَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ وَهُوَ مَعْدُولٌ عَنْ غَادِرٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِهِ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا يَتَنَخَّمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ» ) . قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَا خَشِيَهُ مِنْ فِرَارِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا بِلِسَانِ الْحَالِ: مَنْ يُحِبُّهُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ وَيُعَظِّمُهُ هَذَا التَّعْظِيمَ، كَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنْ يَنْفِرَ عَنْهُ وَيُسْلِمَهُ إِلَى عَدُوِّهِ؟ بَلْ هُمْ أَشَدُّ اغْتِبَاطًا بِهِ وَبِدِينِهِ وَنَصْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْقَبَائِلِ الَّتِي تُرَاعِي بَعْضَهَا بِمُجَرَّدِ الرَّحِمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. قَالَ: فَخَرَجَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ. وَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا وَاللَّهِ إِنْ يَتَنَخَّمْ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ

رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ) فَابْعَثُوا لَهُ، فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مِكْرَزٌ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُهِّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ " وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَدَعَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَتِ: اذْهَبْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَصَالِحْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ أَرَادَتْ قُرَيْشٌ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثَتْ هَذَا) . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرَى بَيْنَهُمَا الْقَوْلُ، حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يُوضَعَ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ عَامَهُمْ هَذَا. وَقَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ الْكَاتِبَ يَعْنِي عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَقَالَ - أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . فَقَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ مَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ) ، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَكَتَبَ: (هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَهْلَ مَكَّةَ) الْحَدِيثَ اهـ. مَا بَيْنَهُمَا. قَالَ: وَقَوْلُهُ: اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَوْلُهُ أَمَّا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِلَخْ. فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَرْكِ كِتَابَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَتَبَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْد اللَّهِ، وَتَرَكَ كِتَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّةِ الْحَاصِلَةِ بِالصُّلْحِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ وَبِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَكَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْد اللَّهِ هُوَ أَيْضًا رَسُولُهُ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ وَلَا فِي تَرْكِ وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِالرِّسَالَةِ مَا يَنْفِيهَا فَلَا مَفْسَدَةَ فِيمَا طَلَبُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ تَكُونُ لَوْ طَلَبُوا أَنْ يَكْتُبُوا مَا لَا يَحِلُّ مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ اهـ. (فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ: حَقًّا (مَا صَدَدْنَاكَ) أَيْ: مَا مَنَعْنَاكَ (عَنِ الْبَيْتِ) أَيْ: عَنْ طَوَافِ بَيْتِ اللَّهِ لِلْعُمْرَةِ (وَلَا قَاتَلْنَاكَ) أَيْ: أَوَّلًا وَلَا هَمَمْنَا بِقِتَالِكَ آخِرًا، (وَلَكِنِ اكْتُبْ) أَيْ: مُرِ الْكَاتِبَ أَنْ يَكْتُبَ (مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) ، بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ فَإِنَّهُ فَاعِلُ قَاضَى وَصَالَحَ (فَقَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي: (اكْتُبْ) أَيْ: يَا عَلِيُّ (مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) : فِيهِ الْوَجْهَانِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاهِبِ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: (امْحُهُ) فَقَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ وَهِيَ لُغَةٌ فِي أَمْحُوهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ عَلِيٌّ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ الْمُسْتَحَبِّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتِيمَ مَحْوٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَتَّمَ مَحْوَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَلِيٍّ تَرْكُهُ اهـ. (ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرِنِي مَكَانَهَا) فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهُ، وَكَتَبَ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي الْمَغَازِي: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَقَدِيمًا تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ; فَادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ بِيَدِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ، فَشَنَّعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَانِهِ وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَأَنَّ الَّذِي قَالَهُ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ شِعْرًا: بَرِئْتُ مِمَّنْ شَرَى دُنْيَا بِآخِرَةٍ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَتَبَا فَجَمَعَهُمُ الْأَمِيرُ فَاسْتَظْهَرَ الْبَاجِيَّ عَلَيْهِمْ بِمَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَقَالَ: هَذَا لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَ النَّفْيَ بِمَا قَبْلَ وُرُودِ الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وَبَعْدَ مَا تَحَقَّقَتْ وَتَقَرَّرَتْ بِذَلِكَ مُعْجِزَتُهُ وَأُمِنَ الِارْتِيَابُ فِي ذَلِكَ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ الْكِتَابَةَ بَعْدَ ذَلِكَ

مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ، فَيَكُونَ مُعْجِزَةً أُخْرَى، وَذَكَرَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ وَافَقُوا الْبَاجِيَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ شَيْخُهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ النَّيْسَابُورِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ أَفْرِيقِيَّةَ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْد اللَّهِ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَتَبَ وَقَرَأَ. قَالَ مُجَالِدٌ: فَذَكَرْتُهُ لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ: صَدَقَ قَدْ سَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَرَدَتْ آثَارٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ حُرُوفَ الْخَطِّ وَحُسْنَ تَصْوِيرِهَا كَقَوْلِهِ لِكَاتِبِهِ: ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنَيْكَ، فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لَكَ وَقَوْلِهِ لِمُعَاوِيَةَ: (أَلْقِ الدَّوَاةَ وَحَرِّفِ الْقَلَمَ وَفَرِّقِ السِّينَ وَلَا تُغَوِّرِ الْمِيمَ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّهُ كَتَبَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْزَقَ عِلْمَ وَضْعِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ أُوتِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِضَعْفِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَعَنْ قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالْكَاتِبَ فِيهَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ بِأَنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي كَتَبَ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّكْتَةَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ لِبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَرِنِي مَكَانَهَا) أَنَّهُ مَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الْكَلِمَةِ الَّتِي امْتَنَعَ عَلِيٌّ مِنْ مَحْوِهَا إِلَّا لِكَوْنِهِ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَكَتَبَ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَمَحَاهَا، فَأَعَادَهَا لِعَلِيٍّ فَكَتَبَ، أَوْ أَطْلَقَ بِمَعْنَى أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، وَهُوَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كِتَابَةِ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ لَا يَحْسِنُ الْكِتَابَةَ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا بِالْكِتَابَةِ، وَيَخْرُجَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا كَكَثِيرٍ مِنَ الْمُلُوكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَرَتْ يَدُهُ بِالْكِتَابَةِ حِينَئِذٍ وَهُوَ لَا يُحْسِنُهَا، فَخَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ فَيَكُونُ مُعْجِزَةً أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَاصَّةً، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا، وَبِهَذَا أَجَابَ أَبُو جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ: بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا وَيَكُونُ آيَةً أُخْرَى لَكِنَّهُ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْحُجَّةُ، وَأَفْحَمَ الْجَاحِدَ، وَانْحَسَمَتِ الشُّبْهَةُ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ يَكْتُبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَعَادَتِ الشُّبْهَةُ. وَقَالَ الْمُعَانِدُ: كَانَ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ، لَكِنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ ذَلِكَ وَالْمُعْجِزَاتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَالْحَقُّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكَتَبَ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يُكْتَبَ اهـ. قَالَ: وَفِي دَعْوَى أَنَّ كِتَابَةَ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فَقَطْ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ يَسْتَلْزِمُ مُنَاقَضَةَ الْمُعْجِزَةِ، إِذْ يَثْبُتُ كَوْنُهُ غَيْرَ أُمِّيٍّ نَظَرٌ كَبِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. أَقُولُ: وَوَجْهُ النَّظَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُعَانِدَ كَالْغَرِيقِ بِكُلِّ حَشِيشٍ، وَالْمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِيَّةُ ثَابِتَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ أَنَّهُ الْآتِي بِهَا أُمِّيٌّ، وَإِنَّمَا زِيدَ فِيهَا وَصْفُ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، لِكَمَالِ ظُهُورِ الْحُجَّةِ وَبُطْلَانِ كَلَامِ مُعَانِدِيهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] وَالْمَعْنَى لَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَخُطُّ وَيَقْرَأُ لَقَالُوا تَعَلَّمَهُ، أَوِ الْتَقَطَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَقْدَمِينَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ مُبْطِلِينَ لِارْتِيَابِهِمْ بِانْتِفَاءِ وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ الْمُتَكَاثِرَةِ اهـ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ قَارِئًا كَاتِبًا مِنْ أَوَّلِ الْوَهْلَةِ، وَأَتَى بِالْقُرْآنِ لَكَانَ مُعْجِزَةً، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا لَيْسَ فِيهِ مِرْيَةٌ. قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفُ بِهِ) فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً أَيْ: ضِيقًا وَإِكْرَاهًا وَشِدَّةً، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ (فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى) عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: عَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَنَا فِي هَذَا الْعَامِ، وَعَلَى أَنْ تَأْتِيَنَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَعَلَى (أَنْ لَا يَأْتِيَكَ مِنَّا رَجُلٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَحَدٌ (وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ عَلَيْنَا) . وَفِي الْمَوَاهِبِ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (فَلَمَّا فَرَغَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا) : قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ فَأُحْصِرَ، فَإِنَّهُ

يَنْحَرُ الْهَدْيَ مَكَانَهُ وَيَحِلُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَلَغَ هَدْيُهُ الْحَرَمَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مُنِعَ عَنْ إِتْمَامِهَا فَإِنَّهُ يَنْحَرُ الْهَدْيَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ، وَيُفَرِّقُ اللَّحْمَ عَلَى مَسَاكِينِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَيَحْلِقُ وَيَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَدْيُهُ الْحَرَمَ اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ إِلَّا فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَقَالُوا: إِنَّ بَعْضَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْحَرَمِ وَسَبَقَ نَقْلُهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ أَيْضًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] أَيْ: حَرَمِهَا. (ثُمَّ جَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ) أَيْ: مِنْ مَكَّةَ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] أَيْ: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوهُنَّ) ، قِيلَ: هُنَّ غَيْرُ دَاخِلَاتٍ فِي الشَّرْطِ لِرِوَايَةِ: مِنَّا رَجُلٌ، وَعَلَى هَذَا لَا إِشْكَالَ، وَعَلَى رِوَايَةِ: مِنَّا أَحَدٌ، فَإِنَّ لَفْظَةَ أَحَدٍ وَإِنْ يَتَنَاوَلْهُنَّ، لَكِنَّ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِذَلِكَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَوْضِيحُهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الصُّلْحَ هَلْ وَقَعَ عَلَى رَدِّ النِّسَاءِ أَمْ لَا؟ قِيلَ: إِنَّهُ وَقَعَ عَلَى رَدِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، لِمَا رَوَيْنَا: أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا رَدَدْتَهُ، ثُمَّ صَارَ الْحُكْمُ فِي رَدِّ النِّسَاءِ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وَقِيلَ: أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَقَعْ عَلَى رَدِّ النِّسَاءِ لِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ) وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ. (وَأَمَرَهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةَ (أَنْ يَرُدُّوا الصَّدَاقَ) أَيْ: صَدَاقَهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: إِنْ جَاءُوا فِي طَلَبِهِنَّ وَقَدْ سَلَّمُوا الصَّدَاقَ إِلَيْهِنَّ وَإِلَّا لَا يُعْطَوْنَ شَيْئًا اهـ. وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوْ شَرَطُوا فِي الصُّلْحِ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ بَطَلَ الشَّرْطُ، فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَلَا يُرَدُّ مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا مِنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَّا لَوْ شَرَطَ مِثْلَهُ فِي النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ رَدُّهُنَّ، وَلَا شَكَّ فِي انْفِسَاخِ نِكَاحِهَا، فَلَوْ طَلَبَ زَوْجُهَا الْحَرْبِيُّ هَلْ يُعْطَاهُ؟ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ. فِي قَوْلٍ لَا يُعْطَاهُ وَهُوَ قَوْلُنَا، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدُ، وَفِي قَوْلٍ يُعْطَاهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ النَّسْخِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ أَيْضًا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، بَلْ مَفْسَدَةُ رَدِّ الْمُسْلِمِ إِلَيْهِمْ أَكْثَرُ، وَحِينَ شَرَعَ ذَلِكَ كَانَ فِي قَوْمٍ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ لَا يُبَالِغُونَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنَ الْقَيْدِ وَالسَّبِّ وَالْإِهَانَةِ، وَلَقَدْ كَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِثْلُ أَبِي بَصِيرٍ، وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو إِلَى نَحْوِ سَبْعِينَ لَمْ يَبْلُغُوا فِيهِمُ النِّكَايَةَ لِعَشَائِرِهِمْ، وَالْآنَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ اهـ. وَفِي الْمَدَارِكِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} [الممتحنة: 10] هُوَ مَنْسُوخٌ فَلَمْ يَبْقَ سُؤَالُ الْمَهْرِ لَا مِنَّا وَلَا مِنْهُمْ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَى الْمُهَاجِرَةِ، وَفِي الْمَعَالِمِ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْمَهْرَ كَانَ وَاجِبًا، أَوْ مَنْدُوبًا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ الْيَوْمَ فِي رَدِّ الْمَالِ إِذَا شُرِطَ فِي مُعَاقَدَةِ الْكُفَّارِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجِبُ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ. (ثُمَّ رَجَعَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَى الْمَدِينَة، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ (رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ أَسِيدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقَفِيُّ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ

وَالصُّحْبَةِ، مَاتَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (فَأَرْسَلُوا) أَيْ: أَهْلُ مَكَّةَ (فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ) ، يَعْنِي: إِلَيْهِمَا (فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى إِذَا بَلَغَا) أَيْ: مَعَهُ (ذَا الْحُلَيْفَةِ نَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى) أَيْ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَيُفْتَحُ أَيْ: أَظُنُّ (سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا، أَرِنِي) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا وَاخْتِلَاسُهَا (أَنْظُرْ إِلَيْهِ) . بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ (فَأَمْكَنَهُ) أَيْ: فَأَقْدَرَهُ وَمَكَّنَهُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ السَّيْفِ حَتَّى أَخَذَهُ (فَضَرَبَهُ) أَيْ: بِهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (حَتَّى بَرَدَ) أَيْ: مَاتَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَكَنَتْ مِنْهُ حَرَكَةُ الْحَيَاةِ وَحَرَارَتُهَا فَأَطْلَقَ اللَّازِمَ عَلَى الْمَلْزُومِ. قَالَ الْقَاضِي: يُقَالُ بَرَدَهُ فُلَانٌ إِذَا قَتَلَهُ عَلَى سَبِيلِ النِّكَايَةِ، فَإِنَّ الْبُرُودَةَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَوْتِ وَلَوَازِمِهِ، وَمِنْهُ السُّيُوفُ الْبَوَارِدُ (وَفَرَّ الْآخَرُ) أَيْ: هَرَبَ (مِنْهُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو) أَيْ: يَجْرِي مِنْ خَوْفِ الْقَتْلِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا) : بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: خَوْفًا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، أَوْ مَا خَافَ مِنْهُ ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ: الذُّعْرُ بِالضَّمِّ الْخَوْفُ، وَبِالْفَتْحِ التَّخْوِيفُ وَبِالتَّحْرِيكِ الدَّهِشُ وَكَصُرَدٍ الْأَمْرُ الْمَخُوفُ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكُلَّ يَصْلُحُ هُنَا، لَكِنَّ النُّسَخَ عَلَى الضَّمِّ (فَقَالَ: قُتِلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ) . أَيْ: وَإِنِّي لِأَخَافَ الْقَتْلَ، أَوْ دَنَوْتُ مِنْ أَنْ يَقْتُلَنِي (فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَ أُمِّهِ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَمَعْنَاهُ الْحُزْنُ وَالْمَشَقَّةُ وَالْهَلَاكُ وَقَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجَّبَ مِنْ حُسْنِ نَهْضَتِهِ لِلْحَرْبِ وَجَوْدَةِ مُعَالَجَتِهِ لَهَا مَعَ مَا فِيهِ خُلَاصَةً مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ (مِسْعَرَ حَرْبٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ وَيُرْفَعُ أَيْ: هُوَ مَنْ يُحْمِي الْحَرْبَ وَيُهَيِّجُ الْقِتَالَ (لَوْ كَانَ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي بَصِيرٍ (أَحَدٌ) . أَيْ: صَاحِبٌ يَنْصُرُهُ وَيُعِينُهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَيَّ حَتَّى لَا أَرُدَّهُ إِلَيْهِمْ وَهَذَا أَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَأَصْلُ الْمِسْعَرِ وَالْمِسْعَارِ مَا يُحَرَّكُ بِهِ النَّارُ مِنْ آلَةِ الْحَدِيدِ يُقَالُ: سَعَّرْتُ النَّارَ وَالْحَرْبَ إِذَا أَوْقَدَتُهَا يَصِفُهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْحَرْبِ وَالنَّجْدَةِ. قَالَ الْقَاضِي: لَمَّا شَبَّهَ الْحَرْبَ بِالنَّارِ مَثَّلَ الَّذِي يُهَيِّجُهُ بِمِسْعَرِ التَّنُّورِ اهـ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَمِيَ الْوَطِيسُ) أَيِ: التَّنُّورُ، وَقِيلَ: هِيَ حِجَارَةٌ مُدَوَّرَةٌ إِذَا حَمِيَتْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَطَأَهَا، وَحَمِيَ الْوَطِيسُ كِنَايَةٌ عَنِ اشْتِبَاكِ الْحَرْبِ وَقِيَامِهَا عَلَى سَاقٍ، وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. (فَلَمَّا سَمِعَ) أَيْ: أَبُو بَصِيرٍ (ذَلِكَ) أَيِ: الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ (عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ) ، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ شَعَرَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْوِيهِ وَلَا يُعِينُهُ، وَإِنَّمَا خَلَاصُهُ عَنْهُمْ بِأَنْ يَسْتَظْهِرَ بِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ (فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ) بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ: سَاحِلُهُ وَالْإِضَافَةُ لِمُجَرَّدِ الْبَيَانِ، فَإِنَّ السِّيفَ سَاحِلُ الْبَحْرِ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى التَّجْرِيدِ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (وَانْفَلَتَ) أَيْ: تَخَلَّصَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ (أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ) أَيْ: ابْنُ عَمْرٍو الْقُرَشِيُّ، وَكَانَ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ وَوَضَعَهُ أَبُوهُ فِي الْقَيْدِ، فَخَرَجَ أَوَّلًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فَخَرَجَ ثَانِيًا، (فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ) ، لَمَّا عَرَفَ أَنَّ النَّبِيَّ يَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ (فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ وَطَفِقَ (لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ) أَيْ: سَابِقًا، أَوْ لَاحِقًا (إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ) ، تَحْقِيقًا لِتَمْكِينِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ (حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: جَمَاعَةٌ قَوِيَّةٌ.

(فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ) أَيِ: الْعِصَابَةُ (بِعِيرٍ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعِيرُ: يُقَالُ لِلْإِبِلِ بِأَحْمَالِهَا، وَالْمَعْنَى بِقَافِلَةٍ (خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا) أَيْ: تَعَرَّضُوا وَاسْتَقَلُّوا أَهْلَهَا بِالْمُحَارَبَةِ (فَقَتَلُوهُمْ) أَيْ: أَهْلَ الْقَافِلَةِ (وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ) : لَمَّا أُخِذُوا بِالْمَوْتِ رَضُوا بِالْحُمَّى (فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ) مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ (إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ) : مَنْصُوبَانِ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: تُقْسِمُ قُرَيْشٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالرَّحِمِ يَعْنِي: بِالْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ (لَمَّا) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِمَعْنَى إِلَّا (أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ) أَيْ: لَا يُعَامِلُهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا إِرْسَالَهُ إِلَى أَبِي بَصِيرٍ وَأَتْبَاعِهِ أَحَدًا، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَدِينَة كَيْلَا يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ فِي السَّبِيلِ (فَمَنْ أَتَاهُ) أَيْ: وَأَجَازُوا أَنَّ مَنْ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَهُوَ آمِنٌ) ، وَفِي النِّهَايَةِ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ، وَأَنْشَدْتُكَ اللَّهَ، وَنَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَبِاللَّهِ أَيْ: سَأَلْتُكَ وَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ وَتَعْدِيَتُهُ فِي مَفْعُولَيْنِ إِمَّا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ دَعَوْتُ حَيْثُ قَالُوا: نَشَدْتُكَ اللَّهَ وَبِاللَّهِ؛ أَوْ لِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ مَعْنَى ذَكَرْتُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرِّوَايَةُ فِي لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ إِلَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ هَذَا الْحَرْفَ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ إِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي الْمُطَالَبَةِ كَأَنَّهُمْ يَبْتَغُونَ مِنَ الْمَسْئُولِ أَنْ لَا يَهْتَمَّ إِلَّا بِذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَتَاهُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى أَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ مَا تَطْلُبُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا إِلَّا رَدَّهُمْ إِلَى الْمَدِينَة، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَمَنْ أَتَاهُ مِنْ مَكَّةَ مُسْلِمًا بَعْدُ فَهُوَ آمِنٌ مِنَ الرَّدِّ إِلَى قُرَيْشٍ، (فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ) . أَيْ: إِلَى أَبِي بَصِيرٍ وَأَصْحَابِهِ وَطَلَبَهُمْ إِلَى الْمَدِينَة. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4043 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابَلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ وَالسَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ، فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجِلُ فِي قُيُودِهِ، فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4043 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ) أَيْ: خِصَالٍ، أَوْ شُرُوطٍ (عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: مُسْلِمًا (رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ) أَيْ: إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَوَّلُ (وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابَلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) أَيْ: وَعَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَهُمْ فِي هَذَا الْعَامِ وَهَذَا هُوَ الثَّانِي. (وَلَا يَدْخُلَهَا) أَيْ: وَعَلَى أَنْ لَا يَدْخُلَهَا حِينَ يَدْخُلُهَا (إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ جِرَابٌ مِنْ أَدَمٍ يُوضَعُ فِيهِ السَّيْفُ مَغْمُودًا، وَيُطْرَحُ فِي السَّوْطِ وَالْآلَاتِ، فَيُعَلَّقُ مِنْ أَخِرَةِ الرَّحْلِ، وَيُرْوَى بِسُكُونِ اللَّامِ (وَالسَّيْفِ، وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ) بَدَلٌ مِنَ السِّلَاحِ، وَالْمُرَادُ أَنْ تَكُونَ الْأَسْلِحَةُ فِي أَغْمَادِهَا بِلَا تَشْهِيرِ السِّلَاحِ، كَمَا فِي صُورَةِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُمْ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ مَكَّةَ كَاشِفِينَ سِلَاحَهُمْ مُتَأَهِّبِينَ لِلْحَرْبِ، وَبِهَا شَرَطُوهُ لِيَكُونَ أَمَارَةً لِلسِّلْمِ فَلَا يُظَنُّ أَنَّهُمْ دَخَلُوهَا قَهْرًا، وَاشْتِرَاطُهُ هَذِهِ الشُّرُوطَ كَانَ لِضَعْفِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعَجْزِهِمْ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْكُفَّارِ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ اهـ. وَتَبِعَ الْقَاضِي فِيهِ حَيْثُ قَالَ: شَرْطُ رَدِّ الْمُسْلِمِ إِلَى الْكُفَّارِ فَاسِدٌ يُفْسِدُ الصُّلْحَ إِلَّا إِذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ خَوَرٌ وَعَجْزٌ ظَاهِرٌ، وَلِذَلِكَ شَرَطَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ اهـ. وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ حِينَئِذٍ وَهُمْ قَرِيبُ أَلْفَيْنِ مِنْ شُجْعَانِ الْعَرَبِ، وَقَدْ غَلَبُوا وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ أَهْلَ مَكَّةَ بِبَدْرٍ، وَهُمْ أَلْفَانِ بَلْ إِنَّمَا كَانَ الصُّلْحُ لِكَوْنِهِمْ فِي الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، وَلَمْ يُؤْذَنُوا بِالْقِتَالِ فِيهِ، وَلِمَا رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ الْآتِي بَعْضُهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25] الْآيَاتِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوْ حَاصَرَ الْعَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ لَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ أَيِ: النَّقِيصَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ مُتَجَانِفًا عَنِ الصُّلْحِ: أَلَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ؟ بَلَى، قَالَ: أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْزَمْ غَرْزَهُ فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السِّيَرِ. وَفِي الْحَدِيثِ: لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، فَالْعِزَّةُ خَاصِّيَّةُ الْإِيمَانِ

قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] إِلَّا إِذَا خَافَ الْإِمَامُ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَلَا بَأْسَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ الْبَلَاءُ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ أَرْسَلَ إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُزَنِيِّ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ وَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَيْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا بِمَنْ مَعَهُمَا، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ وَلَا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ بَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ، فَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرًا تُحِبُّهُ فَتَصْنَعَهُ أَمْ شَيْئًا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، أَمْ شَيْئًا تَصْنَعَهُ لَنَا؟ قَالَ: (بَلْ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إِلَى أَمْرٍ مَا) . فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنَّا وَنَحْنُ وَهَؤُلَاءِ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ثَمَرَةً إِلَّا شِرَاءً أَوْ بَيْعًا فَحِينَ كَرَّمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ وَعَزَّنَا بِكَ وَبِهِ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللَّهِ مَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَأَنْتَ وَذَاكَ) فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيفَةَ فَمَحَا مَا فِيهَا مِنَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَجْهِدُوا عَلَيْنَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بِهِ عَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ، وَمَنْ لَا أَتَّهِمُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْد اللَّهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ اهـ. وَقَدْ سَبَقَ لَهُ تَحْقِيقٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَقَامِ أَيْضًا فَتَدَبَّرْ. وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ: لَمْ يَرُدُّوهُ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَتَى الْجَزَاءُ هُنَا بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَفِيمَا سَبَقَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَمَا فَائِدَتُهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي؟ قُلْتُ: اهْتِمَامُهُمْ بِشَأْنِ رَدِّ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَشَدُّ وَأَوْلَى مِنْ رَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمُ اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَرُدُّوهُ مَاضٍ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُضَارِعًا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَمْ يَرُدُّوا وَبَيْنَ مَا رَدُّوهُ فِي الْمَعْنَى، وَالْعِبْرَةُ بِالْمَعْنَى عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَعَانِي مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَعْدَ دُخُولِ حِرَفِ الْجَزَاءِ يَصِيرُ مُضَارِعًا فِي الْمَعْنَى. (فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ) أَيِ: ابْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْد شَمْسِ بْنِ عَبْد وُدٍّ، أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، فَقَيَّدَهُ الْمُشْرِكُونَ فَانْفَلَتَ مِنْهُمْ مَعَ قَيْدِهِ (يَحْجِلُ) : بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: يَمْشِي (فِي قُيُودِهِ) : عَلَى دِينِهِ كَمَا يَمْشِي الْغُرَابُ، وَالْحَجْلُ مَشْيُ الْغُرَابِ (فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ) أَيْ: مُحَافَظَةً لِلْعَهْدِ وَمُرَاعَاةً لِلشَّرْطِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَصَارَ يُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي عَنْ دِينِي فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِلْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاهِبِ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ) أَيْ: لَمْ نَفْرَغْ. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَا أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَأَجِزْهُ لِي) قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزٍ ذَلِكَ. قَالَ: (بَلَى فَافْعَلْ) . قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ مِكْرَزٌ: بَلَى قَدْ أَجَرْنَاهُ لَكَ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَيْ: مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ، وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ فِي اللَّهِ عَذَابًا شَدِيدًا. زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّا لَا نَغْدِرُ وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) . وَوَثَبَ عُمَرُ يَمْشِي إِلَى يَمِينِهِ وَيَقُولُ: اصْبِرْ فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَدَمُ أَحَدِهِمْ كَدَمِ كَلْبٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ التَّقِيَّةَ لِمُسْلِمٍ إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ وَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مَعَ إِضْمَارِ الْإِيمَانِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّوْرِيَةُ، فَلَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِسْلَامًا لِأَبِي جَنْدَلٍ إِلَى الْهَلَاكِ، مَعَ وُجُودِ السَّبِيلِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْمَوْتِ بِالتَّقِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ أَبَاهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ، وَإِنْ عَذَّبَهُ، أَوْ سَجَنَهُ، فَلَهُ مَنْدُوحَةٌ بِالتَّقِيَّةِ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ يَبْتَلِي بِهِ خَيْرَ عِبَادِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

4044 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ جَاءَنَا مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: ( «نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4044 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ جَاءَنَا مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ) : بِضَمِّ الدَّالِّ وَبِفَتْحٍ (عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: حِكَايَةُ مَا تَلَفَّظُوا بِهِ وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ (فَقَالُوا) أَيِ: الصَّحَابَةُ اسْتِبْعَادًا لِهَذَا الشَّرْطِ كَمَا سَبَقَ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ. (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ) أَيْ: نَحْنُ (هَذَا) ؟ أَيِ: الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ (قَالَ: نَعَمْ إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ) أَيْ: مِنْ رَحْمَتِهِ بِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ (وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ) أَيْ: وَرَدَدْنَاهُ إِلَيْهِمْ (سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا) أَيْ: خَلَاصًا (وَمَخْرَجًا) : خُرُوجًا، وَالْمَعْنَى سَوْفَ يُخْرِجُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَخْ. بَيَانٌ لِنَعَمْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَهُوَ جَوَابٌ لِإِنْكَارِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: أَنَكْتُبُ؟ كَأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الشَّرْطَ فَرَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شُبْهَتَهُمْ. بِمَا ذَكَرَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: (بَلَى) . قَالَ: أَلَسْنًا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: (بَلَى) . قَلْتُ فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: ( «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي» ) قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: (بَلَى فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟) قُلْتُ: لَا. قَالَ: (فَإِنَّكَ آتِيهِ وَتَطُوفُ بِهِ) . قَالَ: فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ الْحَقُّ. قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: إِنَّكَ آتِيهِ فَمُطَوِّفٌ بِهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ لَمْ يَكُنْ سُؤَالُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَلَامُهُ الْمَذْكُورُ شَكًّا، بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ، وَحَثًّا عَلَى إِذْلَالِهِ لِلْكُفَّارِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ، كَمَا عُرِفَ فِي خُلُقِهِ وَقْتَهُ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ، وَإِذْلَالِ الْمُبْطِلِينَ. وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمِثْلِ جَوَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ عَلَى عِظَمِ فَضْلِهِ، وَبَارِعِ عِلْمِهِ، وَزِيَادَةِ عِرْفَانِهِ، وَرُسُوخِهِ وَزِيَادَتِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، كَذَا فِي الْمَوَاهِبِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ لَا يَخْفَى، وَهُوَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَ جَوَابَهُ مُفَصَّلًا، وَمِنْ جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُ إِعَادَةُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ امْتِحَان مَا عِنْدَ الصِّدِّيقِ مِنَ التَّحْقِيقِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. هَذَا وَفِي كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ أَنَّ الصُّلْحَ مَا وَقَعَ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ لِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ حَقِيقَةً بِوَحْيٍ، أَوْ بِإِشَارَةٍ، كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ) ، أَوْ بِإِلْهَامِ اسْتِنْبَاطٍ لَمَّا رَأَى الْمَصْلَحَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى إِتْمَامِ هَذَا الصُّلْحِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ ثَمَرَاتِهِ الْبَاهِرَةِ، وَفَوَائِدِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ الَّتِي كَانَ أَوَّلُهَا فَتَحَ خَيْبَرَ وَتَقَوِّي الْمُسْلِمِينَ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، عَاقِبَتُهَا فَتْحُ مَكَّةَ وَإِسْلَامُ أَهْلِهَا كُلِّهِمْ، وَدُخُولُ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَبْلَ الصُّلْحِ لَمْ يَكُونُوا يَخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَظَاهَرُ عِنْدَهُمْ أُمُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هِيَ، وَلَا يَخْتَلِطُونَ بِمَنْ يُعْلِمُهُمْ بِهَا مُفَصَّلَةً فَلَمَّا حَصَلَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَة وَذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَكَّةَ، وَخَلَوْا بِأَهْلِهِمْ وَبِأَصْدِقَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَسْتَنْصِحُونَهُ، وَسَمِعُوا مِنْهُمْ أَحْوَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُعْجِزَاتِهِ الظَّاهِرَةَ، وَأَعْلَامَ نُبُوَّتِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ، وَحُسْنَ سِيرَتِهِ وَجَمِيلَ طَرِيقَتِهِ وَعَايَنُوا بِأَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، فَمَالَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، حَتَّى بَادَرَ خَلْقٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَأَسْلَمُوا بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَازْدَادَ الْآخَرُونَ مَيْلًا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ لِمَا كَانَ قَدْ تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْمَيْلِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ غَيْرَ قُرَيْشٍ فِي الْبَوَادِي يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ إِسْلَامَ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمَتِ الْعَرَبُ فِي الْبَوَادِي. قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2] فَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْمَوَاهِبِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْ عِنْدِهِمْ أَمْ لَا. فَقِيلَ؟ نَعَمْ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَبِي جَنْدَلٍ وَأَبِي بَصِيرٍ، وَقِيلَ: لَا، وَأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقِصَّةِ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ نَاسِخَهُ حَدِيثُ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكِينَ» ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُفْصَلُ بَيْنَ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ فَلَا يُرَدَّانِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: ضَابِطُ جَوَازِ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ بِحَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي. وَقَالَ ابْنُ مَكِّيِّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَبَعَثَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكِتَابِ إِلَيْهِمْ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَمْسَكَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عِنْدَهُ، فَأَمْسَكَ الْمُشْرِكُونَ عُثْمَانَ فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ مُغْلَطَايْ: فَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهُمْ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا اهـ. وَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِمَالَهُ فِي يَمِينِهِ وَقَالَ: هَذِهِ عَنْ عُثْمَانَ، وَفِي الْبُخَارِيِّ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: هَذِهِ بَيْعَةُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدَيْهِ. الْحَدِيثَ. وَلَمَّا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ بِهَذِهِ الْبَيْعَةِ خَافُوا وَبَعَثُوا بِعُثْمَانَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي هَذِهِ الْبَيْعَةُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] وَأَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَفَلَ فِي نُفُوسِ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ الْفَتْحِ يُسَلِّيهِمْ وَيُذَكِّرُهُمْ نِعَمَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: الْفَتْحُ هَنَا فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَوُقُوعُ الصُّلْحِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَظُنُّونَ أَنْ لَا يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا أَيْ: حَسِبُوا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ بَلْ كُلُّهُمْ يُقْتَلُونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] فَالْمُرَادُ فَتْحُ خَيْبَرَ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهَا الْمَغَانِمُ الْكَثِيرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ قَالَ: شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا وَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ وَقَدْ جَمَعَ النَّاسَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] الْآيَةَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: (إِي، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ) . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] الْحُدَيْبِيَةُ، وَغُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَتَبَايَعُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأُطْعِمُوا نَخِيلَ خَيْبَرَ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] وَقَوْلُهُ: ( «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ) فَفَتْحُ مَكَّةَ بِاتِّفَاقٍ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: فَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ وَتَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ اهـ. وَقِصَّةُ فَتْحِ مَكَّةَ مَشْهُورَةٌ، وَفِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي مَسْطُورَةٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، أَوْ صُلْحًا، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرُ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْجَيْشِ، وَأَخَذُوا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةٍ أَيْ: قِطْعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْجَيْشِ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ( «اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ فَلَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ» ) . فَهَتَفْتُ بِهِمْ فَجَاءُوا، فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا فَقَالَ لَهُمْ: ( «أَلَا تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعَهُمْ» ؟) ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَضَرَبَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى وَقَالَ: ( «احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي عَلَى الصَّفَا» ) فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ مِنَّا أَحَدٌ أَنْ يَقْتُلَ مَا شَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا قَتَلَهُ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي الْمَغَانِمِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4045 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ «فِي بَيْعَةِ النِّسَاءِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] فَمَنْ أَقَرَّتْ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا: (قَدْ بَايَعْتُكِ) كَلَامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4045 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ فِي بَيْعَةِ النِّسَاءِ) أَيْ: فِي سَبَبِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ) أَيِ: الْمُؤْمِنَاتِ كُلَّهُنَّ، أَوِ الْوَارِدَاتِ مِنْ مَكَّةَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ.

قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مَعِيطٍ، خَرَجَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يُرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] قَالَ عُرْوَةُ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَكَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] أَيْ: إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَهِيَ: {عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12] (فَمَنْ أَقَرَّتْ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ) أَيْ: قَبِلَتْهُ بِمَجْمُوعِهِ وَقَرَّرَتْهُ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ (قَالَ لَهَا: (قَدْ بَايَعْتُكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ (كَلَامًا) : نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ قَالَ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ (يُكَلِّمُهَا بِهِ) ، اسْتِئْنَافٌ، أَوْ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ التَّجَوُّزِ أَيْ: يُكَلِّمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ الْمُقِرَّةَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ وَيَعْقِدُهَا بِهِ، وَقِيلَ كَلَامًا نَصَبَهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولٍ قَالَ: وَالْحَاصِلُ لِأَنَّهَا تُرِيدُ أَنَّ مُبَايَعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ كَانَتْ بِالْكَلَامِ لَهُنَّ لَا بِوَضْعِ الْيَدِ فِي أَيْدِيهِنَّ وَلِذَا قَالَتْ: (وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ) . احْتِرَازٌ مِنْ إِحْدَى نِسَائِهِ وَمَحَارِمِهِ فِي غَيْرِ حَالِ الْمُبَايَعَةِ. وَزَادَ الْبَغَوِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا مَا بَايَعَهُنَّ إِلَّا بِقَوْلِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَمِرًا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ صَالَحَهُ مُشْرِكُو مَكَّةَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ وَمَنْ أَتَى أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَكَتَبُوا عَلَيْهِ كِتَابًا، وَخَتَمُوا عَلَيْهِ فَجَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكِتَابِ، فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا مُسَافِرٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الْوَاهِبِ فِي طَلَبِهَا، وَكَانَ كَافِرًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَإِنَّكَ قَدْ شَرَطْتَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيْنَا مَنْ أَتَاكَ مِنَّا، وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] أَيْ: مِنْ دَارِ السَّلَامِ (فَامْتَحِنُوهُنَّ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: امْتِحَانًا أَنْ تُسْتَحْلَفَ مَا خَرَجَتْ لِبُغْضِ زَوْجِهَا، وَلَا عِشْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا رَغْبَةً بِأَرْضٍ عَنْ أَرْضٍ، وَلَا لِحَدَثٍ أَحْدَثَتْ وَلَا الْتِمَاسَ الدُّنْيَا، وَلَا خَرَجَتْ إِلَّا حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَرَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، فَاسْتَحْلَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَحَلَفَتْ فَلَمْ يَرُدَّهَا، وَأَعْطَى زَوْجَهَا مَهْرَهَا وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَا فِي الْمَعَالِمِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4046 - عَنِ الْمِسْوَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَرْوَانَ: أَنَّهُمُ اصْطَلَحُوا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَعَلَى أَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَأَنَّهُ لَا إِسْلَالَ وَلَا إِغْلَالَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4046 - (عَنِ الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمْ) أَيْ: أَهْلُ مَكَّةَ (اصْطَلَحُوا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ) أَيْ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ: صَالَحُوا مَعَ الرَّسُولِ عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَلَمَّا مَضَى بَعْدَ هَذَا الصُّلْحِ ثَلَاثَ سِنِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ بِإِعَانَتِهِمْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى حَرْبِ خُزَاعَةَ حُلَفَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُحَارِبُ حَلِيفِ الشَّخْصِ مُحَارِبٌ ذَلِكَ الشَّخْصَ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا صَالَحُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ، لَكِنِ الْمُشْرِكُونَ نَقَضُوهُ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُسْتَدَلُّ بِنَبْذِ الْمُوَادَعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَنَّ الْمُعَاهِدِينَ إِذَا بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ نُقَاتِلُهُمْ وَلَمْ نَنْبِذْ إِلَيْهِمْ إِذَا كَانَ بِاتِّفَاقِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَقْضِهِ، وَكَذَا إِذَا دَخَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَانِيَةً يَكُونُ نَقْضًا فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً، فَيُقْتَلُونَ وَيُسْتَرَقُّونَ هُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الذَّرَارِيِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ مَلِكِهِمْ، فَيَكُونُ نَقْضًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لَا فِي حَقِّهِمْ وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْدَأْ أَهْلَ

مَكَّةَ، بَلْ هُمْ بَدَءُوا بِالْغَدْرِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَنْبِذْ إِلَيْهِمْ، بَلْ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَبْغَتَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ لِجَمِيعِ أَصْحَابِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، وَمَنْ تَلَقَّى الْقِصَّةَ وَرَوَاهَا كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَا: وَكَانَا فِي صُلْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ، فَمَكَثُوا فِي الْهُدْنَةِ نَحْوَ السَّبْعَةِ، أَوِ الثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إِنَّ بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَثَبُوا عَلَى خُزَاعَةَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا بِمَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: الْوَثِيرُ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا لَيْلٌ وَلَا يَعْلَمُ بِنَا مُحَمَّدٌ، وَلَا يَرَانَا أَحَدٌ، فَأَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَقَاتَلُوا خُزَاعَةَ مَعَهُمْ، وَرَكِبَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَنْشَدَهُ: لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَثِيرِ هُجَّدًا فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا عُتَّدَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ) . ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ فَتَجَهَّزُوا، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَى قُرَيْشٍ خَبَرَهُمْ حَتَّى يَبْغَتَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ نَحْوَ هَذَا، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يَكُنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مُدَّةٌ؟ قَالَ: (أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا صَنَعُوا بِبَنِي كَعْبٍ) ؟ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُرْسَلًا عَنْ عُرْوَةَ، وَرَوَاهُ مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ كَثِيرٍ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَفِيهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُدَّةٌ؟ فَقَالَ: (إِنَّهُمْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ فَأَنَا غَازِيهِمْ) اهـ. كَلَامُ ابْنِ الْهُمَامِ. وَفِي الْمَوَاهِبِ: كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ كَمَا فِي السِّيَرِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ: كَانَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْبُيُوعِ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا حَدِيثُ مُوَادَعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ، فَنَظَرَ فِيهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَغَازِي أَنَّهَا سَنَتَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ أَنَّ أَهْلَ النَّقْلِ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَوَقَعَ فِي سِيرَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَتَيْنِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مُرْسَلًا، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَوْلُهُ: سَنَتَيْنِ يُرِيدُ أَنَّ بَقَاءَهُ كَانَ سَنَتَيْنِ إِلَى أَنْ نَقَضَ الْمُشْرِكُونَ عَهِدَهُمْ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَأَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا عَقْدُ الصُّلْحِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْفُوظُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سِيرَتِهِ وَسِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ، الْحَدِيثَ. عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ مُطَوَّلًا بِقِصَّةِ الْفَتْحِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ فَسَاقَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكْفِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَكَذَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرٍو، وَذَكَرَ قِصَّةَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَضَعَ الْحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ إِلَى آخِرِهِ، فَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجْهٌ حَسَنٌ بِهِ تَنْتَفِي الْمُعَارَضَةُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، فَإِنَّ الْكُلَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْفَتْحِ كَانَ نَقْضَ قُرَيْشٍ بَعْضَ الْعَهْدِ، حَيْثُ أَعَانُوا عَلَى خُزَاعَةَ، وَكَانُوا دَخَلُوا فِي حِلْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الصُّلْحِ، فَرَفْعُ الْخِلَافِ ظَاهِرٌ بِأَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ سَنَتَيْنِ أَنَّ بَقَاءَهُ سَنَتَيْنِ، وَمَنْ قَالَ عَشْرًا قَالَ: إِنَّهُ عَقَدَهُ عَشْرًا، كَمَا رَوَاهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. أَقُولُ: بَقِيَ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَلَعَلَّهُ حَاسِبٌ سَنَتَيِ الْعَهْدِ وَالنَّقْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا هَادَنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ أَقْصَى مُدَّةِ الْمُهَادَنَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَلَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا الْقَدْرُ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ إِذِ الصُّلْحُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْفَتْحُ ضَعْفُهُ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ: لَا حَدَّ لَهَا وَأَنَّ تَقْدِيرَ مُدَّتِهَا مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاقْتِضَاءِ الْحَالِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا يَقْتَصِرُ جَوَازُ مُدَّةِ الْمُوَادَعَةِ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ ; لِأَنَّ مَا عَلَّلَ جَوَازَهَا بِهِ هُوَ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ ثُبُوتُ مَصْلَحَتِهِمْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِأَكْثَرَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَادَعَةُ، أَوِ الْمُدَّةُ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى وَمَا أُبِيحَ إِلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جِهَادٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا فَهُوَ تَرْكٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ مَنْعِهِ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ غَيْرُهُ مُسْتَظْهِرٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَقَدْ كَانَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ النَّاسَ لَمَّا تَقَارَبُوا انْكَشَفَتْ مَحَاسِنُ الْإِسْلَامِ لِلَّذِينَ كَانُوا مُتَبَاعِدِينَ لَا يَعْقِلُونَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا قَارَبُوهُمْ وَخَالَطُوهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: (وَعَلَى أَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الثِّيَابُ (مَكْفُوفَةً) أَيْ: مَشْدُودَةٌ وَمَمْنُوعَةٌ، قِيلَ أَيْ: صَدْرًا نَقِيًّا عَنِ الْغِلِّ وَالْخِدَاعِ، مَطْوِيًّا عَلَى حُسْنِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِالصُّلْحِ، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الصَّدْرِ بِالْعَيْبَةِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَوْدَعُ الْأَسْرَارِ، كَمَا أَنَّ الْعَيْبَةَ مُسْتَوْدَعُ الْأَمْتِعَةِ وَالثِّيَابِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ نَقَاوَةَ الصَّدْرِ مِنَ الْغِلِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ تَرْكَ مَا كَانَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ مِنَ الْأَضْغَانِ وَالدِّمَاءِ وَالِانْتِهَابِ، أَوِ الْمَعْنَى نَحْفَظُ الْعَهْدَ وَالشَّرْطَ وَلَا نَنْقُضُهُ، كَمَا نَحْفَظُ مَا فِي الْعَيْبَةِ بِشَدِّ رَأْسِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُوَادَعَةٌ مُصَادَقَةٌ تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَصَادِقَيْنِ الْمُتَشَاوِرَيْنِ فِي الْأُمُورِ، فَيَكُونُ كُلٌّ صَاحِبَ مُشَاوَرَةٍ لِلْآخَرِ وَعَيْبَةَ سِرِّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي) . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا سَلَفَ مِنَّا فِي عَيْبَةٍ مَكْفُوفَةٍ أَيْ: مَشْرُوجَةٌ مُشَدَّدَةٌ لَا يَظْهَرُ أَحَدٌ مَا وَلَا يَذْكُرُهُ. قَالَ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95] . (وَأَنَّهُ) أَيْ: وَعَلَى أَنَّ الشَّأْنَ (لَا إِسْلَالَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: سَرِقَةً خَفِيَّةً (وَلَا إِغْلَالَ) أَيْ: خِيَانَةً، وَالْمَعْنَى لَا يَأْخُذُ بَعْضُنَا مَالَ بَعْضٍ لَا فِي السِّرِّ وَلَا فِي الْعَلَانِيَةِ، وَقِيلَ: الْإِسْلَالُ سَلُّ السَّيْفِ، وَالْإِغْلَالُ لُبْسُ الدِّرْعِ أَيْ: لَا يُحَارِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَنَا يَأْمَنُ بَعْضًا فَلَا يَتَعَرَّضُ لِدَمِهِ وَلَا مَالِهِ سِرًّا وَلَا جَهْرًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ الْإِسْلَالَ وَالْإِغْلَالَ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْفَسَادِ وَأَتَى بِضَمِيرِ الشَّأْنِ؟ قُلْتُ: لَمَّا نَفَى الدُّخُولَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ بِأَنْ لَا يَنْشُرُوهَا، بَلْ يَتَكَافَوْنَ عَنْهَا مَا أَتْبَعَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِلِاسْتِيعَابِ، وَمِنْ ثَمَّةَ كَرَّرَ (لَا) الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ وَحَذَفَ الْخَبَرَ نَسْيًّا مَنْسِيًّا، وَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] كَأَنَّهُ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَوَاطِنُنَا خَالِيَةً عَنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ وَظَوَاهِرُنَا كَذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4047 - وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ آبَائِهِمْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4047 - (وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَوْلَى حُمَيْدِ بْنِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَابِعِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَنَفَرٍ مِنَ التَّابِعِينَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَضَعْ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيَقُولُونَ: إِنَّ جَبْهَتَهُ نُقِبَتْ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ. (عَنْ عِدَّةٍ) أَيْ: جَمَاعَةٍ (مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : يُحْتَمَلُ كَوْنُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوِ التَّابِعِينَ (عَنْ آبَائِهِمْ) : يَعْنِي الصَّحَابَةَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا) : بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ: ذِمِّيًّا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا (أَوِ انْتَقَصَهُ) أَيْ: نَقَصَ حَقَّهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: عَابَهُ لِمَا فِي الْأَسَاسِ اسْتَنْقَصَهُ وَانْتَقَصَهُ عَابَهُ اهـ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي الْمَعْنَى مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: نَقَضَ الْأَجَلَ الْمَضْرُوبَ لِأَمْنِهِ وَأَمَانَهِ (أَوْ كَلَّفَهُ) أَيْ: فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، أَوِ الْخَرَاجِ (فَوْقَ طَاقَتِهِ) : بِأَنْ أَخَذَ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ عَلَى مَا سَبَقَ، أَوْ أَخَذَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَطِيقُ، أَوْ فَوْقَ نِصْفِ الْعُشْرِ مِنْ مَالِ تِجَارَتِهِ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا. وَفَوْقَ عُشْرِ مَالِ تِجَارَتِهِ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا (أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، أَوْ تَقْيِيدٌ وَتَأْكِيدٌ (فَأَنَا حَجِيجُهُ) أَيْ: خَصْمُهُ وَمُحَاجُّهُ وَمُغَالِبُهُ بِإِظْهَارِ الْحُجَجِ عَلَيْهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَالْحُجَّةُ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ، يُقَالُ: حَاجَجَهُ وَمُحَاجُّهُ، فَأَنَا مُحَاجٌّ وَحَجِيجٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَذَا النِّهَايَةُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4048 - وَعَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقِيْقَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَنَا: (فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ) قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا بِأَنْفُسِنَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْنَا تَعْنِي: صَافِحْنَا قَالَ: (إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4048 - (وَعَنْ أُمَيْمَةَ) . بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمَيْنِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ بَيْنَهُمَا أَبُوهَا عَبْدُ اللَّهِ (بِنْتُ رُقِيْقَةَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافَيْنِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ أُمُّهَا بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَتْ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ) أَيْ: مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَمَا قَيَّدْنَا الْمُبَايَعَةَ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ (فَقَالَ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ) : مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: أُبَايِعُكُنَّ فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْفَقَ عَلَيْهِنَّ حَيْثُ قَيَّدَ الْمُبَايَعَةَ فِي التَّكَالِيفِ بِالِاسْتِطَاعَةِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا بِأَنْفُسِنَا) : ذِكْرُ اللَّهَ لِلتَّزْيِينِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَحْمَةَ رَسُولِهِ أَثَرٌ مِنْ أَثَرِ رَحْمَتِهِ، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] قَالَ الطِّيبِيُّ: (بِنَا) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ أَرْحَمُ وَبِأَنْفُسِنَا تَأْكِيدٌ لَهُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ بِأَنْفُسِنَا مُتَعَلِّقٌ بِالرَّحْمَةِ الْمُقَدَّرَةِ؛ إِذِ التَّقْدِيرُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ رَحْمَتِنَا بِأَنْفُسِنَا. (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْنَا) أَيْ: بِالْفِعْلِ كَمَا بَايَعْتَنَا بِالْقَوْلِ قِيَاسًا عَلَى مُبَايَعَةِ الرِّجَالِ حَيْثُ كَانَتْ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ جَمِيعًا وَلِذَا قَالَ الرَّاوِي (تَعْنِي) أَيْ: تُرِيدُ أُمَيْمَةُ بِقَوْلِهَا بَايِعْنَا (صَافِحْنَا) أَيْ: ضَعْ يَدَكَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَّا (قَالَ: إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) : مُجْمَلُ الْكَلَامِ ; لِأَنَّهَا طَلَبَتِ الْمُصَافَحَةَ بِالْيَدِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الْقَوْلَ كَافٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمُصَافَحَةِ، وَلَا إِلَى تَخْصِيصِ كُلِّ امْرَأَةٍ بِالْمُبَايَعَةِ الْقَوْلِيَّةِ، وَفِي قَوْلِهِ مِائَةِ امْرَأَةٍ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى، وَهَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ حَيْثُ أَطَالَ وَقَالَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُطَابِقُ قَوْلُهُ: إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهَا صَافِحْنَا ; لِأَنَّهَا طَلَبَتِ الْمُصَافَحَةَ بِالْيَدِ، وَأَجَابَهَا بِالْقَوْلِ وَطَلَبَتِ الْمُصَافَحَةَ لِسَائِرِهِنَّ فَقَالَ: قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ. قُلْتُ: قَوْلُهُ إِنَّمَا قَوْلِي رَدٌّ لِقَوْلِهَا صَافِحْنَا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُبَايَعَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَوْلِي لَكِ هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنَ النِّسَاءِ كَقَوْلِي لِسَائِرِهِنَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) : هُنَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ، وَأُلْحِقَ بِهِ فِي الْحَاشِيَةِ بِخَطِّ مِيرَكَ: التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أُمَيْمَةَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ فِي الْهَامِشِ أَيْضًا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4049 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ يَعْنِي: مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ يُقِيمُ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ، كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَا، فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَنَعَاكَ، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: (أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) . ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: (امْحُ: رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا. فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ، فَكَتَبَ: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ بِالسِّلَاحِ إِلَّا السَّيْفَ فِي الْقِرَابِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا) فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ، أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ، اخْرُجْ عَنَّا، فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4049 - (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ) أَيْ: نَهَارُ الِاثْنَيْنِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ (فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ) : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: يَتْرُكُوهُ (يَدْخُلُ مَكَّةَ) مَفْعُولٌ بِهِ بِتَقْدِيرِ أَنْ فَحُذِفَ أَنْ وَارْتَفَعَ الْفِعْلُ (حَتَّى قَاضَاهُمْ) أَيْ: صَالَحَهُمْ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْهَا: عَلَى أَنْ يَرْجِعَ هَذَا الْعَامَ وَمِنْهَا: (عَلَى أَنْ يَدْخُلَ يَعْنِي: مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ) : تَفْسِيرُ كَلَامِ الرَّاوِي لِكَلَامِ الْبَرَاءِ أَيْ: يُرِيدُ الْبَرَاءُ بِدُخُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ لِئَلَّا يُنَاقِضَ قَوْلَهُ السَّابِقَ، فَتَرَكَهُ الْبَرَاءُ لِظُهُورِهِ، وَقَوْلُهُ: (يُقِيمُ بِهَا) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَدْخُلُ أَيْ: يَسْكُنُ بِمَكَّةَ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُكْثَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلْمُسَافِرِ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْإِقَامَةِ. قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهَا لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، بَلْ ظَاهِرُهُ الْإِثْبَاتُ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْإِقَامَةِ، (فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ) :

أَيْ: أَرَادُوا أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابَ الصُّلْحِ (كَتَبُوا) أَيْ: كَتَبَ كَاتِبُهُمْ وَهُوَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرِضَاهُمْ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ (هَذَا) : إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ، أَوْ إِلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْخَارِجِ (مَا قَاضَى) أَيِ: الَّذِي صَالَحَ (عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا) أَيْ: قَالَ بَعْضُ كَفَّارِ مَكَّةَ وَهُوَ سُهَيْلٌ (لَا نُقِرُّ بِهَا) أَيْ: لَا نَعْتَرِفُ بِرِسَالَتِكَ وَلَا نَرْضَى بِكِتَابِكَ (فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَنَعْنَاكَ) : هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيلٍ لِقَوْلِهِ: لَا نُقِرُّ بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ تَقْتَضِي أَنْ يَلِيَهَا الْمَاضِي فَمَا فَائِدَةُ الْعُدُولِ إِلَى الْمُضَارِعِ؟ قُلْتُ: لِيَدُلَّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ أَيِ: اسْتَمَرَّ عَدَمُ عِلْمِنَا بِرِسَالَتِكَ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] . وَقَوْلِكَ: لَوْ تُحْسِنُ إِلَيَّ لَشَكَرْتَ (وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) . فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ: هُمَا مُتَلَازِمَانِ لَا يَنْفَكَّانِ سَوَاءً ذُكِرَا جَمِيعًا، أَوِ اقْتُصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ يَعْنِي اسْتِدْرَاكُكُمْ بِقَوْلِكُمْ: أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بَدَلَ قَوْلِي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَثْبُتُ بِدَعْوَاهَا وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ لَهَا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِ الرُّسُلِ: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16] جَوَابًا عَلَى قَوْلِهِمْ: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] اهـ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ بِقَوْلِهِ: فَمَبْلَغُ الْعِلْمِ مِنْهُ أَنَّهُ بَشَرٌ وَأَنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ كُلِّهِمُ (ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) : لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ الْكَاتِبُ (امْحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ، وَحُكِيَ الرَّفْعُ عَلَى الْحِكَايَةِ (قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ) أَيْ: اسْمَكَ (أَبَدًا. فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ) : مِنَ الْإِحْسَانِ بِمَعْنَى الْإِجَادَةِ (يَكْتُبُ) أَيْ: أَنْ يَكْتُبَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ فَحُذِفَ أَنْ وَرُفِعَ الْفِعْلُ، وَهُوَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَيْ: فَأَخَذَ الْكِتَابَ مِنْ يَدِ عَلِيٍّ (فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) : وَهُوَ كَذَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَخَذَ فَكَتَبَ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ صَرِيحٌ فِي كِتَابَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى كَتَبَ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يُكْتَبَ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ فَأَخَذَ لِلْمَحْوِ فَمَحَاهُ بِيَدِهِ لِامْتِنَاعِ عَلِيٍّ بِمُقْتَضَى أَدَبِهِ، فَكَتَبَ أَيْ: أَمَرَهُ بِالْكِتَابَةِ، أَوْ فَكَتَبَ عَلِيٌّ بَعْدَ مَحْوِهِ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا مِنْ قَبْلِ الْمَحْوِ أَيْضًا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] أَيْ: لَا كِتَابَةَ وَلَا إِجَادَةَ وَلَا اعْتِذَارَ وَلَا إِيذَانَ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ كِتَابَةٌ، وَلَكِنْ لَا إِجَادَةَ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ. قُلْتُ: قَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيمَا سَبَقَ وَنَذْكُرُ هُنَا أَيْضًا مَا يُنَاسِبُ أَنْ يُلْحَقَ، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: احْتَجَّ بِهَذَا نَاسٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ بِيَدِهِ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ إِمَّا بِأَنْ كَتَبَ الْقَلَمُ بِيَدِهِ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا كَتَبَ، أَوْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ زِيَادَةً فِي مُعْجِزَتِهِ، كَمَا عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَجَعَلَهُ تَالِيًا بَعْدَ النُّبُوَّةِ بَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ يَتْلُو قَبْلَهَا، وَهُوَ لَا يَقْدَحُ فِي وَصْفِهِ بِالْأُمِّيِّ، وَاحْتَجُّوا بِآثَارٍ جَاءَتْ فِي هَذَا عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَتَبَ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِلَى جَوَازِ هَذَا ذَهَبَ الْبَاجِيُّ، وَحَكَاهُ عَنِ السِّمْنَانِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمَا، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي زَعَمُوا يُبْطِلُهُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا} [العنكبوت: 48] ،

{تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وَقَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ كَتَبَ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، كَمَا يُقَالُ: رَجَمَ مَاعِزًا قَالَ الْقَاضِي: فَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ كُنْتَ تَقْرَأُ وَتَكْتُبُ قَبْلَ الْوَحْيِ لَشَكَّ الْمُبْطِلُونَ، وَكَمَا جَازَ أَنْ يَتْلُوَ جَازَ أَنْ يَخُطَّ وَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا إِذْ لَيْسَتِ الْمُعْجِزَةُ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا فَإِنَّ الْمُعْجِزَةَ حَاصِلَةٌ بِكَوْنِهِ أَوَّلًا كَذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ وَبِعُلُومٍ لَا يَعْلَمُهَا الْأُمِّيُّونَ قُلْتُ: وَبِعُلُومٍ لَا يَعْلَمُهَا الْعُلَمَاءُ أَجْمَعُونَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أُمِّيًّا مِنْ أَصْلِهِ لَكَانَ مُعْجِزَةً أَيْضًا، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: فَكَتَبَ أَيْ: أَمَرَ أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَيْسَ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ، فَكَتَبَ كَالنَّصِّ فِي أَنَّهُ كَتَبَ بِنَفْسِهِ اهـ. وَقَدْ حَصَلَ تَوَارُدٌ لِي فِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَا سَبَقَ مِنِّي كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ سَبِيلُ هَذِهِ الْكِتَابَةِ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَوْنُهُ أُمِّيًّا سَبِيلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» وَنَحْوُهُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] قَالُوا: مَا هُوَ إِلَّا كَلَامٌ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي يُرْمَى عَلَى السَّلِيقَةِ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ وَقَصْدٍ إِلَى ذَلِكَ وَلَا الْتِفَاتٍ مِنْهُ إِلَيْهِ. قُلْتُ: مِثْلُ هَذَا يُتَصَوَّرُ فِي الْقَوْلِ، وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِالْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي كَلَامِهِمُ السَّابِقِ فَالْمَدَارُ عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَّا إِلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْكَتَبَةِ فِي أَوَّلِ الْوَثَائِقِ وَكُتُبِ الْأَمْلَاكِ وَالصَّدَاقِ وَنَحْوِهَا، هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ، أَوْ هَذَا مَا أَصْدَقَ، أَوْ وَقَفَ، أَوْ أَعْتَقَ وَنَحْوَهَا، قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكِتَابَةِ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَبِلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُصَالَحَةِ فَالْأَوْلَى الِاسْتِدْلَالُ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا بِآيَةِ الْمُدَايَنَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَمْرُ الْوُجُوبِ، أَوِ النَّدْبِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. قَالَ وَعَلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي الِاسْمِ الْمَشْهُورِ أَنْ يُضَمَّ مَعَ الْأَبِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَنَسَبَتِهِ. قُلْتُ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الشُّهْرَةِ وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ زَمَانًا وَمَكَانًا حَتَّى فِي الِاصْطِلَاحِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ إِذَا قَالُوا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَذَا إِذَا قَالُوا عَنِ الْحَسَنِ فَهُوَ الْبَصْرِيُّ مَعَ كَثْرَةِ الِاسْمَيْنِ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الصُّلْحَ عَلَى مَا رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، وَفِي احْتِمَالِ الْمَفْسَدَةِ الْيَسِيرَةِ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَوْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ فِي هَذِهِ الْمُصَالَحَةِ فَتَدَبَّرْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ وَمَا قَاضَى خَبَرُهُ مُفَسِّرٌ لَهُ وَقَوْلُهُ: (لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ) : تَفْسِيرٌ لِلتَّفْسِيرِ اهـ. وَقَوْلُهُ: (بِالسِّلَاحِ) : أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْكِيرِ (إِلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْقِرَابِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: جَعْبَتِهِ، وَهُوَ وِعَاءٌ يُجْعَلُ فِيهِ السَّيْفُ بِغِمْدِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْقِرَابِ عَلَى أَنَّ الْبَاءَ ظَرْفِيَّةٌ (وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ) أَيْ: حِينِ يَخْرُجُ بَعْدَ دُخُولِهَا (إِنْ أَرَادَ) أَيْ: أَحَدٌ (أَحَدٌ أَنْ يَتْبَعَهُ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يُوَافِقُهُ فِي الْخُرُوجِ (وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (مِنْ أَصْحَابِهِ) أَيْ: بَعْضِهِمْ (إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا) : وَبِهَذَا وَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي يُعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوطَ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ السَّابِقِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي الشُّرُوطِ هِيَ الثَّلَاثَةُ، (فَلَمَّا دَخَلَهَا) :

يَعْنِي فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ (وَمَضَى الْأَجَلُ) أَيْ: قَرُبَ انْقِضَاءُ الْأَجَلِ، أَوْ شَارَفَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ الْأَجَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وَلَا بُدَّ مِنْ وُرُودِ التَّأْوِيلِ لِئَلَّا يَلْزَمَ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ (أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ: اخْرُجْ عَنَّا، فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلِإِظْهَارِ كَرَاهَةِ الْمُشْرِكِينَ إِقَامَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا قَالُوا ذَلِكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَوْفًا مِنْهُ وَإِظْهَارًا لِلشَّوْكَةِ وَالْغَلَبَةِ (فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: قَبْلَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، أَوْ فِي ابْتِدَاءِ انْتِهَائِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَزَادَ الْبُخَارِيُّ: فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمِّ يَا عَمِّ فَتَنَاوَلْهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ بِنْتَ عَمِّكَ، فَحَمَلَتْهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ. قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، فَقَالَ زَيْدٌ: بِنْتُ أَخِي، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: (الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ) الْحَدِيثَ. وَإِنَّمَا أَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَخْذِهَا مَعَ اشْتِرَاطِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا أَرَادَ الْخُرُوجَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوهَا، هَذَا وَقَضِيَّةُ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مُجْمَلًا عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ هُوَ مَا قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ: تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَهَلَّ ذُو الْقَعْدَةِ يَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا قَضَاءً لِعُمْرَتِهِمُ الَّتِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ إِلَّا رِجَالٌ مَاتُوا، وَخَرَجَ مَعَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَلْفَانِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ وَسَاقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِتِّينَ بَدَنَةً، وَحَمَلَ السِّلَاحَ وَالْبَيْضَ وَالدُّرُوعَ وَالرِّمَاحَ وَقَادَ مِائَةَ فَرَسٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ قَدَّمَ الْخَيْلَ أَمَامَهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَقَدَّمَ السِّلَاحَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ بِشْرُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَبَّى، وَالْمُسْلِمُونَ يُلَبُّونَ مَعَهُ، وَمَضَى مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ فِي الْخَيْلِ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ فَوَجَدَ بِهَا نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ هَذَا الْمَنْزِلَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَتَوْا قُرَيْشًا فَأَخْبَرُوهُمْ فَفَزِعُوا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَقَدَّمَ السِّلَاحَ إِلَى بَطْنِ يَأْجَجَ كَيَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَضْرِبُ مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى نِصَابِ الْحَرَمِ، وَخَلَّفَ عَلَيْهِ أَوْسَ بْنَ خَوْلِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْيَ أَمَامَهُ، فَحُبِسَ بِذِي طُوًى، وَخَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَالْمُسْلِمُونَ مُتَوَشِّحُونَ السُّيُوفَ مُحْدِقُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُلَبُّونَ، فَدَخَلَ فِي الثَّنِيَّةِ الَّتِي تُطْلِعُهُ عَلَى الْحَجُونِ، وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذًا بِزِمَامٍ رَاحِلَتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيَّ فِي الشَّمَائِلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَابْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ... ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ شِعْرًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ» ) قَالُوا: وَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ مُضْطَبِعًا بِثَوْبِهِ، وَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَالْمُسْلِمُونَ يَطُوفُونَ مَعَهُ، وَقَدِ اضْطَبَعُوا بِثِيَابِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ارْمُلُوا لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُمْ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلَ قُعَيْقِعَانَ وَهُوَ جَبَلٌ بِمَكَّةَ وَجْهُهُ إِلَى أَبِي قُبَيْسٍ، ثُمَّ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ الطَّوَافُ السَّابِعُ عِنْدَ فَرَاغِهِ وَقَدْ وَقَفَ الْهَدْيُ عَنِ الْمَرْوَةِ وَقَالَ: ( «هَذَا الْمَنْحَرُ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ» ) فَنَحَرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَحَلَقَ هُنَاكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْهُمْ إِلَى أَصْحَابِهِمْ بِبَطْنِ يَأْجَجَ فَيُقِيمُوا السِّلَاحَ، وَيَأْتِيَ الْآخَرُونَ فَيَقْضُوا نُسُكَهُمْ فَفَعَلُوا، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ يَعْنِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَة السَّكِينَةِ.

[باب إخراج اليهود من جزيرة العرب]

[بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ]

بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4050 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ، خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ " فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، اعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي النِّهَايَةِ: الْجَزِيرَةُ اسْمُ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ حَفْرِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فِي الطُّولِ، وَمَا بَيْنَ رَمْلِ يَزَنَ إِلَى مُنْقَطَعِ السَّمَاوَةِ فِي الْعَرْضِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مِنْ أَقْصَى عَدَنَ أَبْيَنَ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ طُولًا، وَمِنْ جُدَّةَ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سُمِّيَتْ جَزِيرَةً لِأَنَّ بَحْرَ فَارِسَ وَبَحْرَ السُّودَانِ أَحَاطَ بِجَانِبَيْهَا، وَأَحَاطَ بِالْجَانِبِ الشَّمَالِ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ اهـ. وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ. وَفِي الْقَامُوسِ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا أَحَاطَ بِهِ بَحْرُ الْهِنْدِ وَبَحْرُ الشَّامِ، ثُمَّ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4050 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ بَيْنَمَا بِالْمِيمِ أَيْ: بَيْنَ أَوْقَاتٍ (نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ، خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " انْطَلِقُوا ") أَيِ: اذْهَبُوا مَعِيَ (إِلَى يَهُودَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ) أَيْ: مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ مِنَ الْمَدِينَةِ (حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ) : قَالَ الْقَاضِي مِفْعَالٌ مِنَ الدِّرَاسَةِ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ كَالْمِكْثَارِ وَالْمِعْطَاءِ وَالْمُرَادُ صَاحِبُ دِرَاسَةِ كُتُبِهِمُ الَّذِي يُدَارِسُهَا لِلنَّاسِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمَدْرَسَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَقْرَأُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كُتُبَهُمْ وَيَدْرُسُونَهَا فِيهِ إِضَافَةَ الْبَيْتِ كَإِضَافَةِ الْمَسْجِدِ إِلَى الْجَامِعِ وَيَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصِّحَاحِ حَتَّى أَتَى الْمِدْرَاسَ (فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى فَثَبَتَ قَائِمًا وَلَمْ يَجْلِسْ (قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا) أَمْرٌ مِنَ الْإِسْلَامِ (تَسْلَمُوا) جَوَابُ الْأَمْرِ مِنَ السَّلَامَةِ أَيْ: تَنْجُوا مِنَ الذُّلِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْعُقْبَى قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ تَسْلَمُوا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَيْ: تَسْلَمُوا مِنَ الْإِجْلَاءِ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا يَسْلَمُونَ مِنَ الْآفَاتِ هُوَ الْإِجْلَاءُ، وَمُفَارَقَةُ الْأَوْطَانِ الْمَأْلُوفَةِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْبَلَاءِ وَمِنْ ثَمَّ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ ; لِأَنَّهُ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: 191] وَأَنْشَدَ: لَقَتْلٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعًا ... عَلَى النَّفْسِ مِنْ قَتْلٍ بِحَدِّ فِرَاقِ وَقَالَ: يَقُولُونَ إِنَّ الْمَوْتَ صَعْبٌ وَإِنَّمَا ... مُفَارَقَةُ الْأَوْطَانِ وَاللَّهِ أَصْعَبُ (اعْلَمُوا) اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ تَوْطِئَةٌ لِمَا بَعْدَهُ بَعْدَ الْيَأْسِ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ اعْلَمُوا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: (أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا) اتَّجَهَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِمَ إِذًا تُخَاطِبُنَا بِهَذَا وَمَا سَنَحَ لَكَ مِنَ الرَّأْيِ؟ قَالَ: (اعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) أَيْ: حَقِيقَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] وَتَبَعًا وَعَاقِبَةً قَالَ الطِّيبِيُّ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:) {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] (أَيْ: أَرْضُكُمْ هَذِهِ قَدْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يُورِثَهَا الْمُسْلِمِينَ فَفَارِقُوهَا، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ الْجَلَاءَ إِلَى نَفْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَأَنَّ إِجْلَاءَهُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ لِلتَّزْيِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] . (وَأَنِّي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى مَا سَبَقَ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنِّي (أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ) : مِنَ الْإِجْلَاءِ أَيْ: أُبْعِدُكُمْ وَأُخْرِجُكُمْ " مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ ":

أَيْ: مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَالْخِطَابُ لِمَنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْيَهُودِ بَعْدَ إِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلِ قُرَيْظَةَ كَيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَإِنَّ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقَتْلَ قُرَيْظَةَ فِي خَامِسِهَا، وَإِسْلَامَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ، فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ (فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ) أَيْ: مِنْ مَالِهِ فَالْبَاءُ بِمَعْنَى (مِنْ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] (شَيْئًا) أَيْ: مِمَّا لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ نَقْلُهُ كَالْعَقَارِ وَالْأَشْجَارِ، وَقِيلَ الْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي) وَقِيلَ الْبَاءُ لِلْبَدَلِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ بِعْتُ هَذَا بِهَذَا، وَالْمَعْنَى مَنْ صَادَفَ عِوَضَ مَالِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ حَمْلُهُ (فَلْيَبِعْهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ أَشْبَهَ، وَأَمَا الْمَكْرُوهُ عَلَى الْبَيْعِ فَهُوَ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَى بَيْعِ الشَّيْءِ شَاءَ، أَوْ أَبَى، وَالْيَهُودُ لَوْ لَمْ يَبِيعُوا أَرَاضِيَهُمْ لَمْ يُحْمَلُوا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَشْفَقُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَاخْتَارُوا بَيْعَهَا، فَصَارُوا كَأَنَّهُمُ اضْطُرُّوا إِلَى بَيْعِهَا كَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى بَيْعِ مَالِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَوْجَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ إِخْرَاجَ الْكَافِرِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ سُكْنَاهَا وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ خَصَّ هَذَا الْحُكْمَ بِالْحِجَازِ وَهُوَ عِنْدَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَامَةِ وَأَعْمَالِهَا دُونَ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِ وَقَالُوا: لَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنَ التَّرَدُّدِ مُسَافِرِينَ فِي الْحِجَازِ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلَّا مَكَّةَ وَحَرَمَهَا فَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُ كَافِرٍ مِنْ دُخُولِهَا بِحَالٍ، فَإِنْ دَخَلَهَا بِخُفْيَةٍ وَجَبَ إِخْرَاجُهُ فَإِنْ مَاتَ وَدُفِنَ فِيهَا نُبِشَ، وَأُخْرِجَ مِنْهَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ دُخُولَهُمُ الْحَرَمَ، وَحُجَّةُ الْجَمَاهِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] اهـ. وَفِي الْمَعَالِمِ: أَرَادَ مَنْعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ ; لِأَنَّهُمْ إِنْ دَخَلُوا الْحَرَمَ فَقَدْ قَرُبُوا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ وَجَوَّزَ أَهْلُ الْكُوفَةِ لِلْمُعَاهَدِ دُخُولَ الْحَرَمِ، وَفِي الْمَدَارِكِ: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَلَا يَحُجُّوا وَلَا يَعْتَمِرُوا كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَهُوَ عَامُ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ حَيْثُ أُمِّرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمَوْسِمِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُمْنَعُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً، وَعِنْدَ مَالِكٍ يُمْنَعُونَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4051 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَالَ " «نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ» " وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلَاءَهُمْ فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا قَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ وَعَامَلَنَا عَلَى الْأَمْوَالِ؟ فَقَالَ عُمَرُ أَظْنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَكَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ؟ فَقَالَ هَذِهِ كَانَتْ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ فَقَالَ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ مَالًا وَإِبِلًا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4051 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ) أَيْ: أَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَسَاقَاهُمْ (وَقَالَ) أَيْ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَقَرَّهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ (نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ) أَيْ: مَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِإِخْرَاجِكُمْ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: نَتْرُكُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ بِإِعْطَائِكُمُ الْجِزْيَةَ أَيْ: مَا دُمْتُمْ تُعْطُونَهَا، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ فَتَأَمَّلْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ جَوَّزَ الْمُسَاقَاةَ مُدَّةً مَجْهُولَةً، وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مُدَّةِ الْعَهْدِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَازِمًا عَلَى إِخْرَاجِ الْكُفَّارِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَقِيلَ جَازَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلَاءَهُمْ) هَذَا كَلَامُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الرَّأْيِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ: وَرَأَيْتُ الْآنَ الْمَصْلَحَةَ فِي إِجْلَائِهِمْ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيَانُ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ (مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ) (فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: صَمَّمَ عَزْمَهُ عَلَى إِجْلَائِهِمْ وَاتَّفَقَ آرَاؤُهُ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ (أَتَاهُ أَحَدُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْقَافِ الْأُولَى قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَهُودِ أَيْ: جَاءَهُ أَمِيرُهُمْ، أَوْ كَبِيرُهُمْ (فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ أَيْ: عَلَى أَرَاضِي دِيَارِنَا (وَعَامَلَنَا عَلَى الْأُصُولِ) أَيْ: وَجَعَلَنَا عَامِلِينَ عَلَى أَرَاضِي خَيْبَرَ بِالْمُسَاقَاةِ (فَقَالَ عُمَرُ: أَظْنَنْتَ

أَنِّي نَسِيتُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ (قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: لَكَ كَيْفَ بِكَ أَيْ: كَيْفَ كَوْنُ حَالِكَ (إِذَا أُخْرِجْتَ) أَيْ: وَقْتَ إِخْرَاجِكَ (مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو) أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ تُسْرِعُ (بِكَ قَلُوصُكَ) بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ: نَاقَتُكَ الشَّابَّةُ الْقَوِيَّةُ (لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ فَقَالَ هَذِهِ) أَيِ: الْكَلِمَةُ (كَانَتْ هُزَيْلَةً) تَصْغِيرُ هَزْلَةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْهَزْلِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْجَدِّ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمِزَاحِ وَالْمُطَايَبَةِ (مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ) أَيِ: النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ) أَيْ: فِي قَوْلِكَ إِنَّمَا هَزْلٌ بَلْ جَدٌّ وَفَصْلٌ وَإِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ الْوَاقِعِ بَعْدَهُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَضَمُّ الْأَوَّلِ أَيْ: أَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا ثَبَتَ لَهُمْ بِاعْتِمَالِهِمْ فِي النَّخِيلِ بِالسَّقْيِ وَالتَّأْبِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حِصَّةِ التَّمْرِ فِي سَنَتِهِمْ تِلْكَ (مَالًا) بَدَلٌ مِنْ قِيمَةِ مَا كَانَ لَهُمْ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَإِبِلًا، وَعُرُوضًا) بِضَمَّتَيْنِ أَيْ: أَمْتِعَةً بَيَانُهَا قَوْلُهُ (مِنْ أَقْتَابٍ) جَمْعُ قَتَبٍ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: رَحْلٌ وَهُوَ لِلْجَمَلِ كَالْإِكَافِ لِغَيْرِهِ (وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ) أَيْ: غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْعُرُوضِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4052 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْصَى بِثَلَاثَةٍ قَالَ: " أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ نَحْوَ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَالَ فَأُنْسِيتُهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4052 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِثَلَاثَةٍ) أَيْ: أَشْيَاءَ (قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِهِمُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى (مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا) مِنَ الْإِجَازَةِ بِالزَّايِ إِعْطَاءُ الْأَمِيرِ (الْوَفْدَ) هُمُ الَّذِينَ يَقْصِدُونَ الْأُمَرَاءَ لِزِيَارَةٍ، أَوِ اسْتِرْفَادٍ، أَوْ رِسَالَةٍ وَغَيْرِهَا وَالْمَعْنَى أَعْطُوهُمْ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ (بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) فِي التَّعْبِيرِ بِالنَّحْوِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ الْعَطَاءِ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِهِمْ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ عَنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعُظْمَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَافِدَ سَفِيرُ قَوْمِهِ، وَإِذَا لَمْ يُكْرَمُ رَجَعَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُنَفِّرُ دُونَهُمْ رَغْبَةَ الْقَوْمِ فِي الطَّاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ سَفِيرُهُمْ فَفِي تَرْغِيبِهِ تَرْغِيبُهُمْ وَبِالْعَكْسِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَافِدَ إِنَّمَا يَفِدُ عَلَى الْإِمَامِ، فَيَجِبُ رِعَايَتُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي أُقِيمَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَإِضَاعَتُهُ تُفْضِي إِلَى الدَّنَاءَةِ الَّتِي أَجَارَ اللَّهُ عَنْهَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَأَنَّ ضَمِيرَ قَالَ رَاجِعٌ إِلَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ; لِأَنَّ الْفَاعِلَ فِي قَوْلِهِ (وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ) هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَذَا فِي قَوْلِهِ (أَوْ قَالَ: فَأُنْسِيتُهَا) وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِهِ لِلْمَشَارِقِ حَيْثُ قَالَ: الضَّمِيرُ فِي قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِي سَكَتَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: النَّاسِي هُوَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَعَلَى هَذَا ضَمِيرُ قَالَ لِسَعِيدٍ، وَضَمِيرُ سَكَتَ لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي مَتْنِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِلَفْظِ: وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ اهـ. وَهَذَا صَحِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ صَحِيحٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا نَظَرًا إِلَى سَابِقِ الْحَدِيثِ وَلَاحِقِهِ، وَإِلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الثَّالِثَةِ كَمَا سَيَأْتِي وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ: إِنَّ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ سُلَيْمَانُ الْأَجْوَدُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ لَا أَدْرَى مَا رَأَى سَعِيدٌ مَصْلَحَةً فِي بَيَانِ الثَّالِثَةِ وَسَكَتَ عَنْهَا، أَوْ قَالَهَا وَلِكِنِّي نَسِيتُ، ثُمَّ قِيلَ إِنَّهَا إِنْقَاذُ جَيْشِ أُسَامَةَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْمُهَلَّبِ وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّالِثَةُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» " فَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَعَ إِجْلَاءِ الْيَهُودِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

4053 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَأُخْرِجَّنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ «لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4053 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ « (لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ) أَيْ: لَا أَتْرُكُ (فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا) » (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِلتِّرْمِذِيِّ « (لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَيْدٌ لِقَوْلِهِ (لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) »

الْفَصْلُ الثَّانِي لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ " «لَا تَكُونُ قِبْلَتَانِ» وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي (لَيْسَ فِيهِ) أَيْ: فِي حِسَانِ الْمَصَابِيحِ (إِلَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ( «لَا تَكُونُ قِبْلَتَانِ» ) أَيْ: فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ (وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ) يَعْنِي لِتَكْرَارِهِ أَسْقَطْتُهُ فَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَاعْتِذَارٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4054 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا وَكَانَتِ الْأَرْضُ لَمَّا ظُهِرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «نُقِرُّكُمْ عَلَى مَا شِئْنَا» " فَأُقِرُّوا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ فِي إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4054 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ) أَيْ: مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ لِيُوَافِقَ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ) أَيْ: غَلَبَ (عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ) أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ خَيْبَرَ (وَكَانَتِ الْأَرْضُ) أَيْ: جِنْسُهَا (لَمَّا ظُهِرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: غَلَبَ (عَلَيْهَا) وَالْجَارُّ هُوَ النَّائِبُ وَقَوْلُهُ (لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ) مُتَعَلِّقَةٌ بِكَانَتْ (فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ) أَيْ: فِي أَرَاضِيهِمْ (عَلَى أَنْ يَكْفُوا) بِسُكُونِ الْكَافِ وَضَمِّ الْفَاءِ (الْعَمَلَ) أَيْ: يَكْفُوا مُؤْنَتَهُ بِأَنْ يَقُومُوا بِسَقْيِ الْأَرْضِ وَتَأْبِيرِ الْأَشْجَارِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِعَمَلِ الزَّرْعِ (وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ) بِالْمُثَلَّثَةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) أَيْ: مَعَاشِرَ الْإِسْلَامِ (فَأُقِرُّوا) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَأَقَرَّهُمُ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ (حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ فِي إِمَارَتِهِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ: خِلَافَتِهِ (إِلَى تَيْمَاءَ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ (وَأَرِيحَاءَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَهُمَا مَمْدُودَتَانِ قَرْيَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فَتَيْمَاءُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَرِيحَاءَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ قَرْيَةٌ بِقُرْبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ هُمَا مَوْضِعَانِ بِالشَّامِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ بَعْضِهَا، وَهُوَ الْحِجَازُ خَاصَّةً ; لِأَنَّ تَيْمَاءَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحِجَازِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

[باب الفيء]

[بَابُ الْفَيْءِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4055 - عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ. ثُمَّ قَرَأَ {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] إِلَى قَوْلِهِ (قَدِيرٌ) فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْفَيْءِ فِي الْمُغْرِبِ: الْفَيْءُ مَا نِيلَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ مَا تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَتَصِيرُ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ وَحُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُخَمَّسُ، وَفِي الْمَفَاتِيحِ الْفَيْءُ الْمَالُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ الْكُفَّارِ بِلَا قِتَالٍ، أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ خَاصَّةً يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِيَالِهِ وَيُجَهِّزُ الْجَيْشَ وَيُطْعِمُ الْأَضْيَافَ وَمَنْ جَاءَهُ

بِرِسَالَةٍ، أَوْ حَاجَةٍ وَيُقْسَمُ الْخُمُسُ مِنْهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُصْرَفُ الْخَرَاجُ، وَكَذَا الْجِزْيَةُ مِنْ عِمَارَةِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَسَدِّ الثُّغُورِ وَكِرَى الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا كَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَإِلَى أَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ وَالْمُقَاتِلَةِ وَحِفْظِ الطَّرِيقِ مِنَ اللُّصُوصِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ أَحَدٌ قَالُوا: وَهِيَ مِثْلُ الْأَرَاضِي الَّتِي أَجْلَوْا أَهْلَهَا عَنْهَا وَالْجِزْيَةُ وَلَا خُمُسَ فِي ذَلِكَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَالٍ أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ بِلَا قِتَالٍ عَنْ خَوْفٍ، أَوْ أُخِذَ مِنْهُمْ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ يُخَمَّسُ، وَمَا أُخِذَ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ كَالْجِزْيَةِ وَعُشْرِ التِّجَارَةِ وَمَالِ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَفِي الْقَدِيمِ لَا يُخَمَّسُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَفِي الْحَدِيثِ يُخَمَّسُ، وَلِأَحْمَدَ فِي الْفَيْءِ رِوَايَتَانِ الظَّاهِرُ مِنْهَا لَا يُخَمَّسُ هَذَا الْخُمُسُ بَلْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصْرَفُ إِلَى مَنْ لَا يُصْرَفُ إِلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ، وَذَكَرُوا أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْجِزْيَةِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: مَا قَالَ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا فِي عَصْرِهِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْغَنِيمَةِ بِجَامِعِ أَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكُفَّارِ عَنْ قُوَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِعَمَلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ وَفَرَضَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ خَمَّسَهُ، بَلْ كَانَ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَوْ بِطَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَلَى مَا قَضَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَمُخَالَفَةُ مَا قَضَتْ بِهِ الْعَادَةُ بَاطِلٌ فَوُقُوعُهُ بَاطِلٌ، بَلْ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ خِلَافُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْن الْعَدِيِّ بْنِ الْعَدِيِّ الْكِنْدِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى مَنْ سَأَلَهُ عَنْ مَوَاضِعِ الْفَيْءِ أَنَّهُ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَآهُ الْمُؤْمِنُونَ عَدْلًا مُوَافِقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ، فَرَضَ الْأُعْطِيَّةَ وَعَقَدَ لِأَهْلِ الْأَدْيَانِ ذِمَّةً بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجِزْيَةِ لَمْ يَضْرِبْ فِيهَا بِخُمُسٍ وَلَا مَغْنَمٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4055 - (عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ وَقَالَ هُوَ بَصْرِيٌّ، وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى إِثْبَاتِهَا وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: لَا تَثْبُتُ، وَرِوَايَتُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلَةٌ، وَأَمَّا رِوَايَتُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ فَكَثِيرَةٌ رَوَى عَنِ الْعَشَرَةِ، وَأَكْثَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: الزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ (قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] (بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ) قَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: الضَّمِيرُ الْمَفْعُولُ فِي لَمْ يُعْطِهِ يَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا اخْتُصَّ بِهِ مِنَ الْفَيْءِ، وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ حَيْثُ خَالَفَ مَذْهَبَهُ عَلَى مَا سَبَقَ، مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الْمَذْكُورِ، بَلْ خُصَّ بِعُمُومِ الْفَيْءِ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِيهِ وَيَتَصَرَّفُ كَيْفَ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ وَتَقْسِيمٍ لِلْغَانِمِينَ، كَمَا عُلِمَ مَنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَلِ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ (ثُمَّ قَرَأَ) أَيْ: عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} [الحشر: 7] وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْقُرْآنِ (عَلَى رَسُولِهِ) أَيْ: مَا جَعَلَهُ فَيْئًا لَهُ خَالِصَةً وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ خَاصَّةً (مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ إِلَى قَوْلِهِ: (قَدِيرٌ) هَذَا اخْتِصَارٌ مَنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ وَتَمَامُهُ مَشْرُوحًا هَذَا فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مَنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ مِنَ الْوَجِيفِ وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ أَيْ: مَا أَسْرَعْتُمْ، وَمَا نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِإِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ مِنْكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَالرِّكَابُ: الْإِبِلُ وَحَاصِلُهُ فَمَا أَجْرَيْتُمْ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَتَغْنِيمِهِ

خَيْلًا وَلَا رِكَابًا وَلَا تَعِبْتُمْ فِي الْقِتَالِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَشَيْتُمْ إِلَيْهِ عَلَى أَرْجُلِكُمْ ; لِأَنَّهُ عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حِمَارٍ فَحَسْبُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ أَيْ: يَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا خَوَّلَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ شَيْءٌ لَمْ تُحَصِّلُوهُ بِالْقِتَالِ وَالْغَلَبَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا كَانَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَالْأَمْرُ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ وَلَا يَقْسِمُهُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ الَّتِي قُوتِلَ عَلَيْهَا وَأُخِذَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا إِلَّا ثَلَاثَةً مِنْهُمْ لِفَقْرِهِمْ ذَكَرَهُ فِي الْمَدَارِكِ وَغَيْرِهِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ تَارَةً بِالْوَسَائِطِ الظَّاهِرَةِ، وَتَارَةً بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَمَرَّةً يَحْكُمُ عَامًّا وَأُخْرَى خَاصًّا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَشِيئَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَدْ جَعَلَهَا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي غَنَائِمِ كُلِّ قَرْيَةٍ تُؤْخَذُ بِقُوَّةِ الْغُزَاةِ، وَفِي الْآيَةِ بَيَانُ مَصْرِفِ خُمُسِهَا فَهِيَ مُبْتَدَأٌ لَا بَيَانِيَّةٌ (فَكَانَتْ هَذِهِ) أَيِ: الْأَمْوَالُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْفَيْءِ (خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: لَيْسَ لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا تَصَرُّفًا بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَضَعُوهَا فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَفِيمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ (يُنْفِقُ) (سَنَتِهِمْ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: لَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ ; لِأَنَّ الِادِّخَارَ لِنَفْسِهِ وَهَذَا لِغَيْرِهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي جَوَازِ ادِّخَارِ قُوتِ سَنَةٍ وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الِادِّخَارِ فِيمَا يَحْصُلُ مِنْ قَرْيَتِهِ وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ السُّوقِ وَيَدَّخِرَ لِعِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ ضِيقِ الطَّعَامِ لَمْ يَجُزْ بَلْ يَشْتَرِي قُوتَ أَيَّامٍ، أَوْ أَشْهُرَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ قَدْرَ كِفَايَتِهِ إِلَى حُصُولِ الزَّرْعِ قِيَاسًا عَلَى الِادِّخَارِ سَنَةً (مِنْ هَذَا الْمَالِ) قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَكَانَتْ هَذِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْفَيْءَ بِاعْتِبَارِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ قَوْلَهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِبَيَانِ أَنَّ نَفَقَتَهُ كَانَتْ مِنْهُ فَقَوْلُهُ: يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ تَفْصِيلًا لِلْإِجْمَالِ، كَمَا فِي الْآيَةِ (ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ) أَيْ: يَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: يَقْسِمُ مِنْهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَهْمٌ لِأَقْرِبَائِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ. وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا تَبِعَ النَّوَوِيَّ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ لَهُ فِي الْفَيْءِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ وَخُمُسُ خُمُسِ الْبَاقِي، وَكَانَ لَهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ لِذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَفِي الْمَعَالِمِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَصْرِفِ الْفَيْءِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا هُوَ لِلْمُقَاتِلَةِ وَالثَّانِي لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَيُبْدَأُ بِالْمُقَاتِلَةِ، ثُمَّ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْمِيسِ مَالِ الْفَيْءِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُخَمَّسُ فَخُمُسُهُ لِأَهْلِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَأَرْبَعُ أَخْمَاسِهِ لِلْمُقَاتِلَةِ، أَوْ لِلْمَصَالِحِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ لَا يُخَمُّسُ، بَلْ مَصْرِفُ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَقٌّ. قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] حَتَّى بَلَغَ {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُهَاجِرِينَ - الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 8 - 10] ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً وَقَالَ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُسْلِمٌ إِلَّا لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ حَقٌّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْمَعَالِمِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يَعْنِي: الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ الْبَصْرِيُّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَعَاهُ إِذْ جَاءَ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ نَعَمْ، فَأَدْخِلْهُمْ فَلَبِثَ قَلِيلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَلَمَّا دَخَلَا قَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا وَمَا يَخْتَصِمَانِ فِي الْفَيْءِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ فَقَالَ الرَّهْطُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ. قَالَ اهْدَءُوا أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ.

الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» " يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ. قَالُوا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَقَالَ، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] إِلَى قَوْلِهِ: (قَدِيرٌ) فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا اخْتَارَهَا دُونَكُمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَقَسَمَهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ هَذَا الْمَالُ مِنْهَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهُ فَعَمِلَ فِيهِ بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ وَقَالَ: تَذْكُرَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهِ كَمَا تَقُولَانِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي فِيهِ لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ فَقَبَضْتُهُ سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي أَعْمَلُ فِيهِ بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقٌ بَارٌّ رَادٌّ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي كِلَاكُمَا وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ، فَقَلْتُ لَكُمَا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» " فَمَا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَانِ فِيهِ بِمَا عَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَمَا عَمِلْتُ فِيهِ مُنْذُ وُلِّيتُ وَإِلَّا فَلَا تُكَلِّمَانِي. فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهُ إِلَيْنَا بِذَلِكَ، فَدَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي أَنْ أَقْضِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهِ بِقَضَاءٍ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهُ فَادْفَعَاهُ إِلَيَّ، وَإِنِّي أَكْفِيكُمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4056 - وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4056 - (وَعَنْ عُمَرَ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى مَالِكٍ، لَكِنَّ صِحَّتَهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) مِنْ بَيَانِيَّةٌ، أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيْ: أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَقَوْلُهُ: (مِمَّا لَمْ يُوجِفْ) : خَبَرُ كَانَتْ أَيْ: مِمَّا لَمْ يُسْرِعِ (الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) : وَهِيَ الْإِبِلُ الَّتِي يُسَافَرُ عَلَيْهَا لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَاحِدُهُ رَاحِلَةٌ بَلْ حَصَلَ بِغَيْرِ قِتَالٍ مِنْهُمْ (فَكَانَتْ) أَيْ: تِلْكَ الْأَمْوَالُ (لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً) أَيْ: فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ) أَيْ: نِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ وَخَدَمِهِ (نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ) وَفِي نُسْخَةٍ: سَنَتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْكِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْهُمَامِ: قُوتَ سَنَةٍ (ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ (فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ) بِضَمِّ الْكَافِ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْخَيْلِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْمُغْرِبِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: الْكُرَاعُ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لَكِنَّ قَوْلَهُ (عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَهِيَ مَا أُعِدَّ لِلْحَوَادِثِ أُهْبَةً وَجِهَازًا لِلْغَزْوِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُرَاعِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْحَرْبِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مَعْنَاهُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا كَانَ إِلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّ مَصَالِحَ بَيْتِ الْمَالِ إِذْ ذَاكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَةِ الْأَئِمَّةِ وَآلَاتِ الْجِهَادِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَنَفَقَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ قُضَاةٌ وَلَا جُسُورٌ وَلَا قَنَاطِرُ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ مَا تَحَقَّقَتْ لَهُ أَدْنَى قُدْرَةٍ عَلَيْهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4057 - عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ، فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ، وَأَعْطَى الْأَعْزَبَ حَظًّا، فَدُعِيتُ فَأَعْطَانِي حَظَّيْنِ وَكَانَ لِي أَهْلٌ، ثُمَّ دُعِيَ بَعْدِي عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَأُعْطِيَ حَظًّا وَاحِدًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. الْفَصْلُ الثَّانِي 4057 - (عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَيِ: الْأَشْجَعِيِّ: أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ خَيْبَرُ وَكَانَ مَعَ رَايَةِ أَشْجَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ) أَيْ: بَعْدَ مَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَتِهِ وَضَرُورِيَّاتِهِ (فَأَعْطَى الْآهِلَ) : بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْهَاءِ أَيِ: الْمُتَأَهِّلَ الَّذِي لَهُ

زَوْجَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَهِلَ يَأْهِلُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا أُهُولًا إِذَا تَزَوَّجَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي مَعْنَاهُ مَنْ لَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ (حَظَّيْنِ) أَيْ: نَصِيبَيْنِ (وَأَعْطَى الْأَعْزَبَ) أَيِ: الَّذِي لَا زَوْجَةَ لَهُ (حَظًّا، فَدُعِيتُ فَأَعْطَانِي حَظَّيْنِ، وَكَانَ لِي أَهْلٌ، ثُمَّ دُعِيَ بَعْدِي عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَأُعْطِيَ حَظًّا وَاحِدًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4058 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا جَاءَهُ شَيْءٌ بَدَأَ بِالْمُحَرَّرِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4058 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا جَاءَهُ شَيْءٌ مِنَ الْفَيْءِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوَّلَ مَنْصُوبٌ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: (بَدَأَ) وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لَرَأَيْتُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالْمُرَادُ. بِالْمُحَرَّرِينَ) : الْمُعْتَقُونَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا دِيوَانَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُونَ فِي جُمْلَةِ مَوَالِيهِمْ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَيْ: بَدَأَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ مَجِيءِ الْفَيْءِ بِإِعْطَائِهِ نَصِيبَ الْمُكَاتِبِينَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ أَيِ: الْمُنْفَرِدِينَ لِطَاعَةِ اللَّهِ خُلُوصًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)

4059 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِظَبْيَةٍ فِيهِ خَرَزٌ، فَقَسَمَهَا لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ أَبِي يَقْسِمُ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4059 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَتْ: كَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: جِيءَ (بِظَبْيَةٍ) : بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ جِرَابٌ صَغِيرٌ عَلَيْهِ شَعْرٌ، وَقِيلَ: هِيَ شِبْهُ الْخَرِيطَةِ وَالْكِيسِ (فِيهَا خَرَزٌ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ فَزَايٌ. فِي الْقَامُوسِ: الْخَرَزَةُ مُحَرَّكَةٌ الْجَوْهَرُ وَمَا يَنْتَظِمُ (فَقَسَمَهَا لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ) أَيْ: لِلْجِنْسَيْنِ مِنْهُمَا مِمَّنْ حَضَرَ عِنْدَهُ، أَوْ مِمَّنْ عَرَفَهُ (قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ أَبِي يَقْسِمُ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ) أَيْ: يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ مِنَ الْفَيْءِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ الْمَعْتُوقَيْنِ، أَوِ الْمُكَاتَبَيْنِ؛ إِذِ الْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَنَفَقَتُهُ عَلَى مَالِكِهِ لَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4060 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا الْفَيْءَ فَقَالَ مَا أَنَا أَحَقُّ بِهَذَا الْفَيْءِ مِنْكُمْ، وَمَا أَحَدٌ مِنَّا بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «وَقَسْمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالرَّجُلُ وَقِدَمُهُ، وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَعِيَالُهُ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4060 - (وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا الْفَيْءَ فَقَالَ: مَا أَنَا أَحَقُّ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ: لَسْتُ أَوْلَى (بِهَذَا الْفَيْءِ مِنْكُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَحَقُّ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ تَمِيمٍ وَالنَّصْبُ أَوْجَهُ بِدَلِيلِ إِعْمَالِ مَا فِي قَوْلِهِ: (وَمَا أَحَدٌ مِنَّا بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) : أَقُولُ فِيهِ بَحْثٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْجَارِّ مَرْفُوعًا، أَوْ مَنْصُوبًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الرَّفْعُ هُنَا أَوْجَهُ لِيَكُونَ عَمَلًا بِاللُّغَتَيْنِ وَتَفَنُّنًا فِي الْعِبَارَتَيْنِ، ثُمَّ فِي أَحَقَّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ أَحَقَّ بِهِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحَقَّ بِهِ (إِلَّا أَنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَثْنًى مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْمَفْعُولِ لَهُ أَيِ: الشَّيْءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِأَنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا وَقَوْلُهُ: (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) : حَالٌ مِنْ مَنَازِلِنَا أَيْ: حَاصِلَةٌ مِنْهُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنْ نَحْنُ عَلَى مَنَازِلِنَا وَمَرَاتِبِنَا الْمُبَيَّنَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] الْآيَةَ. وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْآيَاتِ

الدَّالَّةَ عَلَى تَفَاوُتِ مَنَازِلِ الْمُسْلِمِينَ (وَقَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَيْ: وَمِنْ قَسْمِهِ مِمَّا كَانَ يَسْلُكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُرَاعَاةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَهْلِ بَدْرٍ وَأَصْحَابِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَذَوِي الْمَشَاهِدِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحُرُوبَ وَبَيْنَ الْمُعِيلِ وَغَيْرِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَالرَّجُلُ) : بِالرَّفْعِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَقِدَمُهُ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: سَبَقُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا أَيْ: ثَبَاتُ قَدَمِهِ فِي الدِّينِ، قِيلَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَالرَّجُلُ يُقْسَمُ لَهُ وَيُرَاعَى قِدَمُهُ فِي الْقَسْمِ، أَوِ الرَّجُلِ وَنُصِيبُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ قِدَمُهُ، أَوِ الرَّجُلُ وَقِدَمُهُ يُعْتَبَرَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَقَبُولُ التَّفَاضُلِ كَقَوْلِهِمْ: الرَّجُلُ وَضَيْعَتُهُ وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ) أَيْ: شَجَاعَتُهُ وَجَبَانُهُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مَشَقَّتُهُ وَسَعْيُهُ، (وَالرَّجُلُ وَعِيَالُهُ) أَيْ: مِمَّنْ يُمَوِّنُهُ (وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ) أَيْ: مِقْدَارُ حَاجَتِهِ. قَالَ شَارِحٌ: وَفِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ: وَالرَّجُلُ بِالْوَاوِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْفَاءِ التَّفْصِيلِيَّةِ، فَالرَّجُلُ وَقِدَمُهُ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: إِلَّا أَنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا إِلَخْ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَانَ رَأْيُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ الْفَيْءَ لَا يُخَمَّسُ، وَأَنَّ جُمْلَتَهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى آخَرَ فِي أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي التَّفَاضُلِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ وَالْمَنَازِلِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِتَنْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ كَالْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ، خُصُوصًا مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] ، أَوْ بِتَقْدِيمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْضِيلِهِ إِمَّا لِسَبْقِ إِسْلَامِهِ، وَإِمَّا بِحَسَبِ بَلَائِهِ وَإِمَّا لِشِدَّةِ احْتِيَاجِهِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4061 - وَعَنْهُ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، حَتَّى بَلَغَ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فَقَالَ هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ {وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 40] حَتَّى بَلَغَ (ابْنِ السَّبِيلِ) ، ثُمَّ قَالَ هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] 4) حَتَّى بَلَغَ (لِلْفُقَرَاءِ) ، ثُمَّ قَرَأَ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] . ثُمَّ قَالَ هَذِهِ اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، فَلَئِنْ عِشْتُ فَلَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبُهُ مِنْهَا، لَمْ يَعْرَقْ فِيهَا جَبِينُهُ. رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4061 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] حَتَّى بَلَغَ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يَعْنِي: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] (فَقَالَ: هَذِهِ) أَيِ الْآيَةُ (لِهَؤُلَاءِ) أَيْ: لِأَهْلِ الزَّكَاةِ وَهُمْ مَصَارِفُهَا، ثُمَّ قَرَأَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] حَتَّى بَلَغَ (وَابْنِ السَّبِيلِ) : يَعْنِي {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] (ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ) أَيْ: لِأَهْلِ الْخُمُسِ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] " حَتَّى بَلَغَ (لِلْفُقَرَاءِ) : كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقْرَأُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ} [الحشر: 6] الْآيَةَ فَإِنَّهَا نَصٌّ فِي الْفَيْءِ الَّذِي لَا يُقْسَمُ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَتَمَامُهَا {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي التَّخْمِيسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُ لِلَّهِ حَقِيقَةً وَلِلرَّسُولِ خَاصَّةً يُصْرَفُ فِي الْمَذْكُورِينَ، ثُمَّ أُبْدِلَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (لِلْفُقَرَاءِ) الْآيَاتِ {وَالَّذِينَ جَاءُوا} [الحشر: 10] : كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالَّذِينَ جَاءُوا) فَطَوَى الْأَنْصَارَ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَفِي نُسْخَةٍ، ثُمَّ قَرَأَ {وَالَّذِينَ جَاءُوا} [الحشر: 10] فَالتَّقْدِيرُ حَتَّى بَلَغَ " لِلْفُقَرَاءِ " الْآيَتَيْنِ، ثُمَّ قَرَأَ {وَالَّذِينَ جَاءُوا} [الحشر: 10] ، (مِنْ بَعْدِهِمْ) أَيْ: بَعْدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ الَّذِينَ سَبَقُونَا فِي الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا أَيْ: حِقْدًا وَعَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: لَهُمْ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِشَارَةً إِلَى الْعِلَّةِ لِتَسْرِيَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحْتِرَازًا عَنِ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْخَوَارِجَ وَالرَّوَافِضَ مَحْرُومُونَ عَنِ الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ حَظٌّ فِي الْفَيْءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(ثُمَّ قَالَ) أَيْ: عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (هَذِهِ) أَيِ: الْآيَاتُ (اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً) : يَعْنِي بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ حَيْثُ خُصَّتْ إِحْدَاهُمَا بِأَهْلِ الزَّكَاةِ وَالْأُخْرَى بِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَمْوَالِ الْفَيْءِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِمَا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ قَوْلِهِ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] أَيْ: هِيَ مُعَدَّةٌ لِمَصَالِحِهِمْ وَنَوَائِبِهِمْ، وَكَانَ رَأْيُ عُمَرَ أَنَّ الْفَيْءَ لَا يُخَمَّسُ كَمَا تُخَمَّسُ الْغَنِيمَةُ، بَلْ تَكُونُ بِجُمْلَتِهِ مُعَدَّةً لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَمَجْعُولَةً لِنَوَائِبِهِمْ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ وَتَفَاوُتِ طَبَقَاتِهِمْ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْفَتْوَى، غَيْرَ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يُخَمَّسَ الْفَيْءُ وَيُصْرَفَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ وَالْمَصَالِحِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ ذَهَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَنْسُوخٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ، وَأَنَّ جُلَّةَ الْفَيْءِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يَصْرِفُهَا الْإِمَامُ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنَ التَّرْتِيبِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْفَتْوَى وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلِ عَلَى السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يُفَضِّلْ بِالسَّابِقَةِ حَتَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتَجْعَلُ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَاجَرُوا مِنْ دِيَارِهِمْ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كُرْهًا؟ فَقَالَ: إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفَضِّلُ بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ، فَكَانَ يُفَضِّلُ عَائِشَةَ عَلَى حَفْصَةَ وَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكِ وَأَبُوهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِيكِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: فَرَضَ عُمَرُ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَكْثَرَ مِمَّا فَرَضَ لِي، فَقُلْتُ: إِنَّمَا هِجْرَتِي وَهِجْرَتُهُ وَاحِدَةٌ. قَالَ إِنَّ أَبَاهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِيكَ، وَإِنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكَ وَإِنَّمَا هَاجَرَ بِكَ أَبُوكَ. وَمَالَ الشَّافِعِيُّ إِلَى التَّسْوِيَةِ وَشَبَّهَهُ بِالْمِيرَاثِ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْوَلَدِ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ، وَسَهْمُ الْغَنِيمَةِ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ الشُّجَاعِ الَّذِي حَصَلَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ، وَبَيْنَ الْجَبَانِ إِذَا شَهِدَا جَمِيعًا الْوَاقِعَةَ (فَلَئِنْ عِشْتُ) أَيْ: حَيِيتُ إِلَى فَتْحِ بِلَادِ الْكُفْرِ وَكَثْرَةِ الْفَيْءِ لَأُوصِلَنَّ جَمِيعَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ (فَلَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ) بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ اسْمُ مَوْضِعٍ بِنَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَحِمْيَرُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَهُوَ أَبُو قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ مَحَلَّتُهُمْ، وَقِيلَ: سَرْوُ حِمْيَرَ مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ وَأَصْلُ السَّرْوِ مَا ارْتَفَعَ مِنْ مُنْحَدَرٍ، أَوْ مَا انْحَدَرَ مِنْ مُرْتَفَعٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ سَرْوَ حِمْيَرَ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمَسَافَةِ الشَّاقَّةِ وَذَاكَ الرَّاعِي مُبَالَغَةً فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَرَادَهُ مِنْ مَعْنَى التَّعْمِيمِ فِي إِيصَالِ الْقَسْمِ إِلَى الطَّالِبِ وَغَيْرِهِ وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَالْفَقِيرِ وَالْحَقِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّاعِيَ يَشْغَلُهُ عَنْ طَلَبِ حَقِّهِ، أَوْ لِحَقَارَتِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُعْطَى لَهُ شَيْءٌ، بَلْ قَلَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَهُ حَقًّا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَاعِلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ (نَصِيبُهُ) أَيْ: حِصَّتُهُ، أَوِ الْمِقْدَارُ الْمُقَدَّرُ لَهُ (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ (لَمْ يَعْرَقْ فِيهَا) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ لَمْ يَتْعَبْ فِي تَحْصِيلِهَا وَأَخْذِهَا (جَبِينُهُ. رَوَاهُ) أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

4062 - وَعَنْهُ قَالَ كَانَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ عُمَرُ أَنْ قَالَ «كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ صَفَايَا بَنُو النَّضِيرِ، وَخَيْبَرُ وَفَدَكُ أَفَاءَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَتْ حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ وَأَمَّا فَدَكُ فَكَانَتْ حَبْسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَجُزْءًا نَفَقَةً لِأَهْلِهِ فَمَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4062 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: كَانَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَيِ: اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ لَا يُقْسَمُ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ (أَنْ قَالَ) : اسْمُ كَانَ (كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ صَفَايَا) : بِالْإِضَافَةِ وَهِيَ جَمْعُ صَفِيَّةٍ وَهِيَ مَا يُصْطَفَى وَيُخْتَارُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الصَّفِيُّ مَا يَصْطَفِيهِ الْإِمَامُ عَنْ عُرْضِ الْغَنِيمَةِ مِنْ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ مِنْ عَبْدٍ، أَوْ جَارِيَةٍ، أَوْ فَرَسٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ غَيْرِهَا وَكَانَ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ مَعَ الْخُمُسِ لَهُ خَاصَّةً وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصَّفِيِّ أَيْ: كَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَفِيِّ الْمَغْنَمِ (بَنُو النَّضِيرِ) أَيْ: أَرَاضِيهِمْ (وَخَيْبَرُ وَفَدَكُ) : بِفَتْحَتَيْنِ قَرْيَةٌ بِنَاحِيَةِ الْحِجَازِ (أَفَاءَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهَا عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ فَدَفَعَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِمَا كَذَا قِيلَ وَفِي الْقَامُوسِ وَفَدَكُ مُحَرَّكَةٌ قَرْيَةٌ بِخَيْبَرَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الثَّلَاثَةَ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِ ثَلَاثٍ وَصَفَايَا بْنِ النَّضِيرِ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَجْرُورٌ بِإِضَافَةِ صَفَايَا إِلَيْهِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ خَيْبَرَ وَفَدَكَ بِفَتْحِ آخِرِهِمَا وَالنُّسَخُ الْمُصَحَّحَةُ وَالْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الدِّرَايَةِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ. (فَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ) أَيِ: الْأَمْوَالُ الْحَاصِلَةُ مِنْ عَقَارِهِمْ (فَكَانَتْ حُبُسًا) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مَحْبُوسَةٌ (لِنَوَائِبِهِ) أَيْ: لِحَوَائِجِهِ وَحَوَادِثِهِ مِنَ الضِّيفَانِ وَالرُّسُلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ قَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ جَمْعُ نَائِبَةٍ وَهِيَ مَا يَنُوبُ الْإِنْسَانَ أَيْ: يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ وَالْحَوَائِجِ، (وَأَمَّا فَدَكُ فَكَانَتْ حَبْسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، أَوْ مُعَدَّةً لِوَقْتِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا وَقْفًا شَرْعِيًّا (وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزٌ أَيْ: قَسَمَهَا وَجَعَلَهَا (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْأَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَجُزْءًا نَفَقَةً لِأَهْلِهِ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ لَهَا قُرًى كَثِيرَةٌ فُتِحَ بَعْضُهَا عَنْوَةً، وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا خُمُسُ الْخُمُسِ وَفُتِحَ بَعْضُهَا صُلْحًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ، كَانَ فَيْئًا خَالِصًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهُ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَاجَتِهِ وَنَوَائِبِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَاقْتَضَتِ الْقِسْمَةُ وَالتَّعْدِيلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَيْشِ أَثْلَاثًا اهـ. وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ (فَمَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4063 - عَنِ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ بَنِي مَرْوَانَ حِينَ اسْتُخْلِفَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ فَدَكُ، فَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا، وَيَعُودُ مِنْهَا عَلَى صَغِيرِ بَنِي هَاشِمٍ، وَيُزَوِّجُ مِنْهَا أَيِّمَهُمْ، وَإِنَّ فَاطِمَةَ سَأَلَتْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهَا فَأَبَى فَكَانَتْ كَذَلِكَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ فَلَمَّا (أَنْ) وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ فَلَمَّا أَنْ وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمِلَ فِيهَا بِمِثْلِ مَا عَمِلَا حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، ثُمَّ اقْتَطَعَهَا مَرْوَانُ، ثُمَّ صَارَتْ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَرَأَيْتُ أَمْرًا مَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي رَدَدْتُهَا عَلَى مَا كَانَتْ. يَعْنِي: عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4063 - (عَنِ الْمُغِيرَةِ) : اعْلَمْ أَنَّ الْمُغِيرَةَ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْمُصَنِّفِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمْ: ابْنُ شُعْبَةَ وَتَقَدَّمَ تَرْجَمَتُهُ وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ الْمُرَادُ. وَثَانِيهِمْ: الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ الْمَوْصِلِيُّ رَوَى عَنْ عِكْرِمَةَ وَمَكْحُولٍ، وَعَنْهُ وَكِيعٌ وَعَاصِمٌ وَجَمَاعَةٌ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَثَالِثُهُمْ: الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ الْأَعْمَى رَوَى عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَالْفُضَيْلُ وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْهُ قَالَ: مَا وَقَعَ فِي مَسَامِعِي شَيْءٌ فَنَسِيتُهُ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَهُمَا تَابِعِيَّانِ لَكِنْ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ فَلَا يَثْبُتُ اجْتِمَاعُهُمَا حِينَئِذٍ وَيَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْأَخِيرَيْنِ وَالثَّالِثُ أَوْلَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَيْ: ابْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيُّ الْقُرَشِيُّ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا حَفْصٍ أُمُّهُ بِنْتُ عَاصِمِ بْنِ الْخَطَّابِ وَاسْمُهَا لَيْلَى، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ فِي رَجَبٍ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ أَرْضِ حِمْصٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وَلَايَتِهِ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَقِيلَ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا وَكَانَ

عَلَى صِفَةٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالتُّقَى وَالْعِفَّةِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ لَا سِيَّمَا أَيَّامَ وِلَايَتِهِ قِيلَ لَمَّا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ سُمِعَ مِنْ مَنْزِلِهِ بُكَاءٌ عَالٍ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّ عُمَرَ خَيَّرَ جَوَارِيهِ فَقَالَ: نَزَلَ بِي مَا شَغَلَنِي عَنْكُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ أُعْتِقَهُ أَعْتَقْتُ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ أُمْسِكَهُ أَمْسَكْتُ وَلَمْ يَكُنْ لِي إِلَيْهَا شَيْءٌ وَسَأَلَ عُقْبَةُ بْنُ نَافِعٍ زَوْجَتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ أَلَا تُخْبِرِينِي عَنْ عُمَرَ؟ فَقَالَتْ مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ اغْتَسَلَ لَا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَا مِنَ احْتِلَامٍ مُنْذُ اسْتَخْلَفَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ وَقَالَتْ قَدْ يَكُونُ فِي الرِّجَالِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ صَلَاةً وَصِيَامًا مِنْ عُمَرَ وَلَكِنِّي لَمْ أَرَ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا قَطُّ أَشَدَّ خَوْفًا مِنْ رَبِّهِ مِنْهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي مَسْجِدِهِ فَلَا يَزَالُ يَبْكِي وَيَدْعُو حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنَاهُ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لَيْلَهُ أَجْمَعَ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ ظَاهِرَةٌ وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ (جَمَعَ بَنِي مَرْوَانَ حِينَ اسْتُخْلِفَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: جُعِلَ خَلِيفَةً (فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ فَدَكُ) أَيْ: خَاصَّةً (فَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا) أَيْ: عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ (وَيَعُودُ مِنْهَا عَلَى صَغِيرِ بَنِي هَاشِمٍ) أَيْ: يُحْسِنُ مِنْهَا عَلَى صِغَارِهِمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كُلَّمَا فَرَغَ نَفَقَتُهُمْ رَجَعَ عَلَيْهِمْ وَعَادَ إِلَيْهِمْ بِنَفَقَةٍ أُخْرَى فَالْعَائِدَةُ أَخَصُّ مِنَ الْفَائِدَةِ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ يُقَالُ عَادَ فُلَانٌ بِمَعْرُوفِهِ وَهَذَا الْأَمْرُ أَعْوَدُ عَلَيْكَ أَيْ: أَرْفَقُ بِكَ مِنْ غَيْرِهِ وَمَا أَكْثَرُ عَائِدَةُ فُلَانٍ عَلَى قَوْمِهِ وَإِنَّهُ لِكَثِيرُ الْعَوَائِدِ عَلَيْهِمْ (وَيُزَوِّجُ مِنْهَا أَيِّمَهُمْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: عُزَّابُهُمْ فِي الْقَامُوسِ: الْأَيِّمُ كَكَيِّسُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا، أَوْ ثَيِّبًا وَمَنْ لَا امْرَأَةَ لَهُ. (وَإِنَّ فَاطِمَةَ سَأَلَتْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهَا فَأَبَى فَكَانَتْ كَذَلِكَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) أَيْ: لِمَا هَيَّأَهُ اللَّهُ مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ وَالْوُصُولِ إِلَى لِقَائِهِ تَعَالَى ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَتَّى ذَهَبَ الرَّسُولُ بَعْدَ تَبْلِيغِ كَمَالِ الرِّسَالَةِ لِسَبِيلِهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ إِلَى رَبِّهِ وَمُرْسِلِهِ (فَلَمَّا أَنْ وُلِّيَ) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ مَكْسُورٍ أَيْ: تَوَلَّى (أَبُو بَكْرٍ، عَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِهِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) أَيْ: مَاتَ وَرَجَعَ إِلَى حُكْمِ رَبِّهِ (فَلَمَّا أَنْ وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَمِلَ فِيهِ بِمِثْلِ مَا عَمِلَا حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، ثُمَّ اقْتَطَعَهَا مَرْوَانُ) أَيْ: فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى جَعَلَهَا قَطِيعَةً لِنَفْسِهِ وَتَوَابِعِهِ، وَالْقَطِيعَةُ الطَّائِفَةُ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ يُقْطِعُهَا السُّلْطَانُ مَنْ يُرِيدُ، وَمَرْوَانُ هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ جَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى أَبَاهُ إِلَى الطَّائِفِ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى وُلِّيَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمَهَا وَابْنُهُ مَعَهُ (ثُمَّ صَارَتْ) أَيِ: الْوَلَايَةُ، أَوْ فَدَكُ (لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) : وُضِعَ مَوْضِعَ إِلَيَّ مُلْتَفِتًا لِيُشْعِرَ بِأَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ رَاضِيَةٍ بِهَذَا (فَرَأَيْتُ أَمْرًا مَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أَيْ: لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا اسْتِحْقَاقٌ وَلَوْ كَانَ خَلِيفَةً فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ (وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي رَدَدْتُهَا) أَيْ: فَدَكَ عَلَى مَا كَانَتْ (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ (عَلَى مَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

[كتاب الصيد والذبائح]

[كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

[19] كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4064 - «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَ. وَإِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [19] كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ الصَّيْدُ: مَصْدَرٌ. بِمَعْنَى الِاصْطِيَادِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الصَّيْدِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا لِمُقَابَلَةِ الذَّبَائِحِ، فَإِنَّهَا جَمْعُ الذَّبِيحَةِ. بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ، ثُمَّ الِاصْطِيَادُ يَحِلُّ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ، وَالصَّيْدُ يَحِلُّ إِنْ كَانَ مَأْكُولًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّهُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ. بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ فَكَانَ مُبَاحًا كَالِاحْتِطَابِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] بِالْعَطْفِ عَلَى الطَّيِّبَاتِ أَيْ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ، أَوْ مَا شُرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهُ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَالْجَوَارِحُ: الْكَوَاسِبُ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالْعُقَّابِ وَالصَّقْرِ وَالْبَازِي، وَالْكِلْبُ بِكَسْرِ الْكَافِ مُؤَدِّبُ الْجَوَارِحِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَلْبِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْكِلَابِ، أَوْ لِأَنَّ السَّبُعَ يُسَمَّى كَلْبًا، ثُمَّ يُعْلَمُ الْمُعَلَّمُ بِتَرْكِ أَكْلِ الْكَلْبِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَرُجُوعِ الْبَازِي بِدُعَائِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4064 - (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَيِ: الطَّائِيِّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَسَكَنَ بِهَا، وَفُقِئَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ الْجَمَلِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَشَهِدَ صِفِّينَ وَالنَّهْرَوَانَ، وَمَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ مَاتَ بِقَرْقِلِيسَا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَرْسَلْتَ) أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُرْسِلَ (كَلْبَكَ) أَيِ: الْمُعَلَّمُ (فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ) أَيْ: حَالَةَ إِرْسَالِهِ إِذِ الْإِرْسَالُ بِمَنْزِلَةِ الرَّمْيِ وَإِمْرَارِ السِّكِّينِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَهُ، أَمَّا لَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا فَيَحِلُّ، وَلَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا عِنْدَ الْإِرْسَالِ، ثُمَّ زَجَرَ الْكَلْبَ فَانْزَجَرَ وَسَمَّى بَعْدَ الزَّجْرِ وَأَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَ لَا يَحِلُّ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ: (فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى الْإِرْسَالِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ حَالَ إِرْسَالِهِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ رَجْعُ الضَّمِيرِ إِلَى الْكَلْبِ، فَإِنَّهُ الْمُتَبَادَرُ الْأَقْرَبُ، (فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ) : فِي الْأَسَاسِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ مَالَهُ حَبَسَهُ أَيْ: إِنْ حَبَسَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ لَكَ (فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ) : فَلَوْ تَرَكَ الذَّكَاةَ عَمْدًا حَرُمَ ; لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ (وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ) أَيِ: الصَّيْدَ (قَدْ قَتَلَ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: قَتَلَهُ الْكَلْبُ، وَفِي نُسْخَةٍ قُتِلَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ (وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ) : أَمْرُ إِبَاحَةٍ (وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ) : نَهْيُ تَحْرِيمٍ (فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ) أَيِ: أَمْسَكَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ لِنَفْسِهِ لَا لَكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ الْكَلْبُ بَعْدَ تَرْكِهِ ثَلَاثًا تَبَيَّنَ جَهْلُهُ، (فَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ غَيْرَهُ) أَيْ: كَلْبًا لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ، أَوْ أَرْسَلَهُ مَنْ لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ كَالْمَجُوسِيِّ (وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ) : وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَأَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِرْسَالَ شَرْطٌ حَتَّى إِنَّ الْكَلْبَ إِذَا انْفَلَتَ مِنْ صَاحَبِهِ وَأَخَذَ صَيْدًا وَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبُرْجَنْدِيُّ. (فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: قَتَلَ بِلَا ضَمِيرٍ، ثُمَّ أَيُّهُمَا مُبْتَدَأٌ وَقَتَلَهُ خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِتَدْرِي، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْعَمَلِ لَفْظًا ; لِأَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] .

قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَفِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ. فَقَالَ: لَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ» . وَلِذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُشَارِكَ الْمُعَلَّمَ مَا لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ، وَهُوَ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، أَوْ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ، أَوْ كَلْبٌ لَمْ يُرْسَلْ لِلصَّيْدِ، أَوْ كَلْبٌ أُرْسِلَ لَهُ، وَتُرِكَ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ عَمْدًا، وَاجْتَمَعَ الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ فَغُلِّبَتِ الْحُرْمَةُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عُلَمَاؤُنَا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الذَّابِحِ أَنْ لَا يَكُونَ تَارِكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، وَمُسْلِمًا كَانَ، أَوْ كِتَابِيًّا، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ عَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، وَأَمَّا نَسْيُ التَّسْمِيَةِ صَحَّ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مَرْفُوعُ الْحُكْمِ عَنِ الْأُمَّةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ ثَوْبَانَ؛ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ حَرَجًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ النِّسْيَانِ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ فِي الشَّرْعِ. (وَإِذَا رَمَيْتَ) أَيْ: أَرَدْتَ أَنْ تَرْمِيَ (بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا) أَيِ: الصَّيْدُ (فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ) : وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ هُنَا وَأَطْلَقَهُ هُنَاكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِمَا لِلْإِبَاحَةِ إِيمَاءً إِلَى الشُّبْهَةِ هُنَا، فَإِنَّ فِي غَيْبَتِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ مَعْلُومٍ لَنَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: شَرْطُ الْحِلِّ بِالرَّمْيِ التَّسْمِيَةُ وَالْجَرْحُ، وَأَنْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ إِنْ غَابَ الصَّيْدُ حَالَ كَوْنِهِ مُتَحَامِلًا سَهْمَهُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّيْدِ يَتَوَارَى عَنْ صَاحِبِهِ قَالَ: لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ نَحْوَهُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. (وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ) أَيْ: لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ الْمَاءِ لَا بِسَبَبِ رَمْيِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ فَوَائِدَ مِنْ أَحْكَامِ الصَّيْدِ: مِنْهَا: أَنَّ مَنْ أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ يَكُونُ حَلَالًا، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ مِنَ الْفَهْدِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهَا، وَالشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ الْجَارِحَةُ مُعَلَّمَةً، وَلَا يَحِلُّ قَتِيلُ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ، وَالتَّعْلِيمُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ: إِذَا أُشْلِيَ اسْتَشْلَى، وَإِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ، وَإِذَا أَخَذَ الصَّيْدَ أَمْسَكَ وَلَمْ يَأْكُلْ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا وَأَقَلُّهُ ثَلَاثٌ كَانَ مُعَلَّمًا يَحِلُّ بَعْدَ ذَلِكَ قَتْلُهُ، وَقَوْلُهُ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِرْسَالَ مِنْ جِهَةِ الصَّائِدِ شَرْطٌ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الْكَلْبُ بِنَفْسِهِ فَأَخَذَ صَيْدًا، وَقَتَلَهُ لَا يَكُونُ حَلَالًا، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ شَرْطٌ فِي الذَّبِيحَةِ حَالَةَ مَا تُذْبَحُ، وَفَى الصَّيْدِ حَالَةَ مَا يُرْسِلُ الْجَارِحَةَ، أَوِ السَّهْمَ، فَلَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَلَالٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ ذِكْرُ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِرْسَالُهُ الْكَلْبَ عَلَى قَصْدِ الِاصْطِيَادِ بِهِ لَا عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ سَوَاءٌ تُرِكَ عَامِدًا، أَوْ نَاسِيًا، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا لَا يَحِلُّ، وَإِنْ تَرَكَ نَاسِيًا يَحِلُّ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ.

4065 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ، قَالَ: " كُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ " قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: " وَإِنْ قَتَلْنَ " قُلْتُ: إِنَّا نَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ. قَالَ: " كُلُّ مَا خَزَقَ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4065 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ عَدِيٍّ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ) : بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: فَبَيِّنْ مَا يَجُوزُ لَنَا أَكْلُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ. (قَالَ: كُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ) : فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ الْمُطَابِقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالْجَرْحِ تَأْيِيدٌ لِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجُرْحُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ جُرْحُ ذِي النَّابِ وَذِي الْمِخْلَبِ لِلصَّيْدِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ لِتُحَقُّقِ الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، قَالُوا: وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِخْرَاجُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَهُوَ بِالْجُرْحِ عَادَةً فَأُقِيمَ الْجُرْحُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي

الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالرَّمْيِ بِالسَّهْمِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْرَحْهُ صَارَ مَوْقُوذَةً. وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالنَّصِّ. (قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟) أَيِ: الصَّيْدُ، وَإِنْ وَصْلِيَّةٌ (قَالَ: وَإِنْ قَتَلْنَ قُلْتُ: إِنَّا نَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ هُوَ السَّهْمُ الثَّقِيلُ الَّذِي لَا رِيشَ لَهُ وَلَا نَصْلَ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: سَهْمٌ لَا رِيشَ عَلَيْهِ يُمْضَى عَرْضًا فَيُصِيبُ بِعَرْضِ الْعُودِ لَا بِحَدِّهِ، وَفِي الْقَامُوسِ: كَمِحْرَابٍ سَهْمٌ بِلَا رِيشٍ رَقِيقُ الطَّرَفَيْنِ غَلِيظُ الْوَسَطِ يُصِيبُ بِعَرْضِهِ دُونَ حَدِّهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: بِكَسْرِ الْمِيمِ خَشَبَةٌ ثَقِيلَةٌ، أَوْ عَصًا فِي طَرَفِهَا حَدِيدَةٌ، وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ حَدِيدَةٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: هُوَ سَهْمٌ لَا رِيشَ فِيهِ وَلَا نَصْلَ، وَقِيلَ سَهْمٌ طَوِيلٌ لَهُ أَرْبَعُ قِدَدٍ رِقَاقٍ، فَإِذَا رُمِيَ بِهِ اعْتَرَضَ، وَقِيلَ هُوَ رَقِيقُ الطَّرَفَيْنِ غَلِيظُ الْوَسَطِ إِذَا رَمَى بِهِ ذَهَبَ مُسْتَوِيًا اهـ. وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْكُلِّ كَمَا لَا يَخْفَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ (قَالَ: كُلْ مَا خَزَقَ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ بَعْدَهَا قَافٌ أَيْ: نَفَذَ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. وَفِي النِّهَايَةِ: خَزَقَ السَّهْمُ أَصَابَ الرَّمِيَّةَ وَنَفَذَ فِيهَا وَقَالَ النَّوَوِيُّ: خَزَقَ بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ مَعْنَاهُ نَفَذَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: الْخَزْقُ الطَّعْنُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ خَزَقَهُ، طَعَنَهُ، وَالْخَازِقُ السِّنَانُ، وَمِنَ السِّهَامِ الْمُقَرْطَسُ، وَفِيهِ رَمَى فَقَرْطَسَ أَيْ: أَصَابَ الْقِرْطَاسَ، فَالْمَعْنَى كُلْ مَا جَرَحَ وَقَتَلَ وَهُوَ مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ لِقَوْلِهِ: (وَمَا أَصَابَ) أَيِ: الْمِعْرَاضُ وَغَيْرُهُ (بِعَرْضِهِ) أَيْ: بِحَيْثُ مَا جَرَحَهُ (فَقَتَلَ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: فَقَتَلَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ يَعْنِي بِثِقْلِهِ (فَإِنَّهُ وَقِيذٌ) : بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ: مَوْقُوذٌ مَضْرُوبٌ ضَرْبًا شَدِيدًا بِعَصًا، أَوْ حَجَرٍ حَتَّى مَاتَ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْوَقِيذُ مَا قُتِلَ بِعَصًا، أَوْ حَجَرٍ، أَوْ مَا لَا حَدَّ لَهُ. (فَلَا تَأْكُلْ) : جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوْ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ وَقِيذٌ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ هِيَ الْجَزَاءَ، وَالنَّهْيُ فَرْعٌ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] قَالَ النَّوَوِيُّ: الْوَقِيذُ وَالْمَوْقُوذُ هُوَ الَّذِي يُقْتَلُ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ مِنْ عَصًا، أَوْ حَجَرٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا اصْطَادَ بِالْمِعْرَاضِ فَقَتَلَ الصَّيْدَ بِحَدِّهِ حَلَّ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِعَرْضِهِ لَمْ يَحِلَّ. وَقَالُوا: لَا يَحِلُّ مَا قَتَلَهُ بِالْبُنْدُقَةِ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ الْمِعْرَاضِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ: يَحِلُّ مَا قُتِلَ بِالْمِعْرَاضِ وَالْبُنْدُقَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفَى الشُّمُنِّيِّ: رَوَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَرَمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأَصِيدُ. قَالَ: إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ» قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ وَعَرْضُ الْمِعْرَاضِ لَا يَجْرَحُ، وَلِذَا لَوْ قَتَلَهُ بِبُنْدُقَةٍ ثَقِيلَةٍ ذَاتِ حِدَّةِ حَرُمَ الصَّيْدُ ; لَأَنَّ الْبُنْدُقَةَ تَكْسِرُ وَلَا تَجْرَحُ، فَكَانَتْ كَالْمِعْرَاضِ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ خَفِيفَةً ذَاتَ حِدَّةٍ لَمْ يَحْرُمْ لِتَيَقُّنِ الْمَوْتِ بِالْجُرْحِ، فَلَوْ رَمَى صَيْدًا بِسِكِّينٍ، أَوْ بِسَيْفٍ إِنْ أَصَابَهُ بِحَدِّهِ أَكَلَ، وَإِلَّا لَا. وَلَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ إِنْ كَانَ ثَقِيلًا لَا يُؤْكَلُ، وَإِنْ جَرَحَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَتَلَ بِثِقْلِهِ وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا، وَبِهِ حِدَّةٌ وَجَرَحَ، يُؤْكَلُ لِتَيَقُّنِ الْمَوْتِ بِالْجَرْحِ، وَالْأَصْلُ هُنَا أَنَّ الْمَوْتَ إِنْ حَصَلَ بِالْجُرْحِ بِيَقِينٍ يُؤْكَلُ، وَإِنْ حَصَلَ بِالثِّقَلِ أَوْ شُكَّ فِيهِ لَا يُؤْكَلُ حَتْمًا، أَوِ احْتِيَاطًا.

4066 - «وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ. أَفَنَأْكَلُ فِي آنِيَتِهِمْ: وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4066 - (وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ فَأَسْلَمُوا، نَزَلَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. (قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ!) : وَفِي نُسْخَةٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (إِنَّا) أَيْ: نَحْنُ (بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ) : بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ (أَفَنَأْكَلُ فِي آنِيِتِهِمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَمْزَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُقْحَمَةً ; لِأَنَّ الْكَلَامَ سِيقَ لِلِاسْتِخْبَارِ، وَقَوْلُهُ: فَنَأْكُلُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ يَعْنِي فَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا نَكُونُ بِأَرْضِ قَوْمٍ فَنَأْكُلُ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَاهَا فَيُقَدَّرُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بَعْدَهَا أَيْ: أَتَأْذَنُ لَنَا فَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ (وَبِأَرْضِ صَيْدٍ) : الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ أَيْ: بِأَرْضٍ يُوجَدُ فِيهَا الصَّيْدُ، أَوْ يَصِيدُ أَهْلُهَا حَالَ كَوْنِي (أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي

الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟) أَيْ: وَمَا لَا يَصْلُحُ لِي أَكْلُهُ وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ مُرَكَّبًا مِنْ مَسْأَلَتَيْنِ قَالَ) : مُفَصِّلًا فِي الْجَوَابِ (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ) أَيْ: وَمِنَ الْأَكْلِ فِيهَا (فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا) أَيِ: احْتِيَاطًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ. وَتَنَزُّهًا عَنِ اسْتِعْمَالِ ظُرُوفِهِمُ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَوْ بَعْدَ الْغَسْلِ، وَتَنْفِيرًا عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا هُوَ التَّقْوَى وَمَا بَعْدَهُ حُكْمُ الْفَتْوَى، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ الْآتِي ذِكْرُهُ، (وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) أَيْ: غَيْرَهَا (فَاغْسِلُوهَا) : أَمْرُ وُجُوبٍ إِذَا كَانَ هُنَاكَ غَلَبَةُ الظَّنِّ عَلَى نَجَاسَتِهَا وَأَمْرُ نَدْبٍ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ إِنَاءَ الْكُفَّارِ فِيمَا إِذَا تُيُقِّنَ نَجَاسَتُهُ وَمَا لَا فَكَرَاهَتُهُ تَنْزِيهِيَّةٌ (وَكُلُوا فِيهَا) : قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَعْمِلُ آنِيَتَهُمْ بَعْدَ الْغَسْلِ إِذَا وَجَدَ غَيْرَهَا، وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ آنِيَتِهِمْ بَعْدَ الْغَسْلِ بِلَا كَرَاهِيَّةٍ سَوَاءً وَجَدَ غَيْرَهَا، أَوْ لَا، فَتُحْمَلُ الْكَرَاهِيَّةُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْآنِيَةُ الَّتِي كَانُوا يَطْبُخُونَ فِيهَا لُحُومَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ فِيهَا الْخَمْرَ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا بَعْدَ الْغَسْلِ لِلِاسْتِقْذَارِ وَكَوْنِهَا مُعْتَادَةَ النَّجَاسَةِ، وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ الْأَوَانِي الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي النَّجَاسَاتِ غَالِبًا، وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ صَرِيحًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مُطْلَقًا، وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ مُقَيَّدًا. قَالَ: إِنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمُ الْخِنْزِيرَ، وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمُ الْخَمْرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْبِرْمَاوِيِّ وَقَالَ: فَالنَّهْيُ بَعْدَ الْغَسْلِ لِلِاسْتِقْذَارِ كَمَا يُكْرَهُ الْأَكْلُ فِي الْمِحْجَمَةِ الْمَغْسُولَةِ (وَمَا صِدْتَ) : بِكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: وَأَمَّا مَا صِدْتَهُ (بِقَوْسِكَ) : أَوْ بِرَمْيِكَ السَّهْمَ بِمَعُونَةِ قَوْسِكَ (فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ) أَيْ: فِي أَوَّلِ رَمْيِكَ (فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ) أَيْ: حِينَ إِرْسَالِكَ إِيَّاهُ (فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ) : بِجَرِّ غَيْرِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَفَى نُسْخَةٍ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ بِالتَّعْرِيفِ (فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ) : بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: ذَبْحَهُ، وَالْمَعْنَى أَدْرَكْتَهُ حَيًّا وَذَبَحْتَهُ (فَكُلْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4067 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْ مَا لَمْ يُنْتِنْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4067 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمٍ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسَهْمِكَ، وَفِي أُخْرَى سَهْمَكَ بِالنَّصْبِ، فَفِي الْقَامُوسِ: رَمَى الشَّيْءَ وَبِهِ، فَالتَّقْدِيرُ إِذَا رَمَيْتَ السَّهْمَ عَلَى صَيْدٍ، أَوْ إِذَا رَمَيْتَ الصَّيْدَ بِسَهْمٍ (فَغَابَ عَنْكَ) أَيْ: يَوْمًا، أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ (فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْ) أَيْ: إِنْ شِئْتَ لِمَا سَبَقَ فِي نُسْخَةٍ فَكُلْ أَيْ: مِنْهُ (مَا لَمْ يُنْتِنْ) . بِضَمِّ الْيَاءِ وَيُفْتَحُ وَكَسْرِ التَّاءِ مِنْ نَتُنَ الشَّيْءُ وَأَنْتَنَ إِذَا صَارَ ذَا نَتَنٍ وَفِي الصِّحَاحِ: وَنَتُنَ الشَّيْءُ كَكَرُمَ فَهُوَ نَتِينٌ كَقَرِيبٍ وَنَتَنَ كَضَرَبَ وَفَرِحَ وَأَنْتَنَ انْتَانًا اهـ. فَيَجُوزُ فِي الْمُجَرَّدِ تَثْلِيثُ الْعَيْنِ مَاضِيًا وَمُضَارِعًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ وَإِلَّا فَالنَّتَنُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحُرْمَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَلَ مُتَغَيِّرَ الرِّيحِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمُنْتِنِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَطْعِمَةِ الْمُنْتِنَةِ إِلَّا أَنْ يُخَافَ فِيهَا ضَرَرٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4068 - وَعَنْهُ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ: " فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4068 - (وَعَنْهُ) أَيْ: أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ: فَكُلْهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَكُلْ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الْمُدْرَكِ: إِذَا أَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ، (مَا لَمْ يُنْتِنْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4069 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي أَيَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ قَالَ: " اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4069 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (إِنَّ هُنَا) أَيْ: فِي الْمَدِينَةِ، أَوْ غَيْرِهَا (أَقْوَامًا) : جَمْعُ قَوْمٍ أَيْ: جَمَاعَةً كَثِيرِينَ إِشَارَةً إِلَى عُمُومِ الْبَلْوَى الْمَانِعِ مِنْ مُرَاعَاةِ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّقْوَى الْمُحْتَاجِ إِلَى الرُّجُوعِ لِلْفَتْوَى (حَدِيثٌ) : بِالتَّنْوِينِ أَيْ: جَدِيدٌ (عَهْدُهُمْ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ إِمَّا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ قُدِّمَ خَبَرُهَا عَلَى اسْمِهَا وَوَقَعَتْ صِفَةً (لِأَقْوَامًا) ، أَوْ يَكُونُ حَدِيثٌ: خَبَرًا ثَانِيًا لِأَنَّ، وَعَهْدُهُمْ: فَاعِلًا لَهُ. (بِشِرْكٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِحَدِيثٍ أَيْ: بِكُفْرٍ (يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ) : بِضَمِّ اللَّامِ جَمْعُ لَحْمٍ (لَا نَدْرِي أَيَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى ذَوَاتِ اللُّحُومِ عِنْدَ ذَبْحِهَا (أَمْ لَا؟ قَالَ: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ اللَّهِ (وَكُلُوا) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ تَسْمِيَتَكُمُ الْآنَ تَنُوبُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمُذَكِّي، بَلْ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَأَنَّ مَا لَمْ تَعْرِفُوا أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ يَصِحُّ أَكْلُهُ إِذَا كَانَ الذَّابِحُ مِمَّنْ يَصِحُّ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ حَمْلًا لِحَالِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ التَّسْمِيَةَ شَرْطًا بِهَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ شَرْطَ الْإِبَاحَةِ كَانَ الشَّكُّ فِي وُجُودِهَا مَانِعًا مَنْ أَكْلِهَا كَالشَّكِّ فِي أَصْلِ الذَّبْحِ، وَاحْتَجَّ مَنْ شَرَطَ التَّسْمِيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وَتَأَوَّلَهُ مَنْ لَمْ يَرَهَا شَرْطًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وَالْفِسْقُ فِي ذِكْرِ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] إِلَى قَوْلِهِ: (، {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وَفِي الْمَدَارِكِ الْآيَةُ تُحَرِّمُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ. وَخُصَّتْ حَالَةُ النِّسْيَانِ بِالْحَدِيثِ، أَوْ يُجْعَلُ النَّاسِي ذَاكِرًا تَقْدِيرًا، وَمِنْ حَقِّ الْمُتَدَيِّنِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ التَّشْدِيدِ الْعَظِيمِ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] وَهُوَ وَإِنْ نَزَلَ فِي الْمَيْتَةِ لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. قَالَ: وَمَنْ أَوَّلَ الْآيَةَ بِالْمَيْتَةِ وَبِمَا ذُكِرَ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: (، {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] فَقَدْ عَدَلَ عَنِ الظَّاهِرِ اهـ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُذَكَّاةٍ بِالتَّسْمِيَةِ، فَالْعِلَّةُ مُرَكَّبَةٌ، وَلِهَذَا ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ حَرَامٌ وَذَبِيحَةُ الذِّمِّيِّ حَلَالٌ لِكَوْنِهِمْ مِمَّنْ يُسَمُّونَ عَلَى الذَّبِيحَةِ، ثُمَّ التَّسْمِيَةُ الْقَلْبِيَّةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، فَإِنَّ كُلَّ ذِكْرٍ مَشْرُوعٍ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مَا لَمْ يُتَلَفَّظْ لَهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَحَادِيثُ الْبَابِ حَيْثُ شَرَطَ التَّسْمِيَةَ فِي حَالَةِ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ اللَّذَيْنِ قَامَا مَقَامَ الذَّبْحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4070 - وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: «سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا، فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً فِيهَا: " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ " ـ وَفِي رِوَايَةٍ: " مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4070 - (وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) : بِالتَّصْغِيرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِي سِنِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ خَصَّكُمْ) أَيْ: أَهْلَ بَيْتِ النُّبُوَّةِ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ) أَيْ: مِنْ آيَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ (فَقَالَ: مَا خَصَّنَا بِشَيْءٍ) أَيْ: بِتَحْدِيثِ شَيْءٍ (لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي) : بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ وِعَاءٌ يَكُونُ فِيهِ السَّيْفُ بِغِمْدِهِ أَيْ: مَا هُوَ مَدْسُوسٌ فِي غِلَافِ سَيْفِي (هَذَا) : وَلَعَلَّهُ ذُو الْفَقَارِ الَّذِي وَهَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ مَبْنِيًّا عَلَى ظَنِّهِ، أَوْ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَكِنْ مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي مَا أَدْرِي هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِنَا، أَوْ يَعُمُّ النَّاسَ أَيْضًا؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ وَفِي بَيَانِ التَّخْصِيصِ (فَأَخْرَجَ) أَيْ: عَلِيٌّ مَنِ الْقِرَابِ (صَحِيفَةً) أَيْ: كِتَابًا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْقَامُوسِ (فِيهَا: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ مَنَارَةٍ، وَهَى عَلَامَةُ الْأَرَاضِي الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا حُدُودُهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: يُرِيدُ اسْتِبَاحَةَ مَا لَيْسَ لَهُ مِنْ حَقِّ الْجَارِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَنَارُ الْعَلَمُ وَالْحَدُّ بَيْنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُسَوِّيَهُ، أَوْ يُغَيِّرَهُ لِيَسْتَبِيحَ بِذَلِكَ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ مِنْ مِلْكٍ، أَوْ طَرِيقٍ. (وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ) أَيْ: رَفَعَهَا وَجَعَلَهَا فِي أَرْضِهِ وَرَفَعَهَا لِيَقْتَطِعَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْجَارِ إِلَى جَارِهِ. (وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ) أَيْ: صَرِيحًا، أَوْ تَسَبُّبًا بِأَنْ لَعَنَ وَالِدَ أَحَدٍ فَيَسُبُّ وَالِدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فَالنَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ احْتِرَازٌ عَنِ التَّسَبُّبِ. (وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى) : بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْقَصْرَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ فَصِيحَةٌ، كَذَا ذَكَرَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ. (مُحْدِثًا) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَهُوَ مَنْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ جِنَايَةً وَإِيوَاؤُهُ إِجَارَتُهُ مِنْ خَصْمِهِ وَحِمَايَتِهِ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَحِقُّ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ قِصَاصٍ، أَوْ عِقَابٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْجَانِي عَلَى الْإِسْلَامِ بِإِحْدَاثِ بِدْعَةٍ إِذَا حَمَاهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ، وَالْأَخْذِ عَلَى يَدِهِ لِدَفْعِ عَادِيَتِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

4071 - «وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا لَاقُوا الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ قَالَ: " مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ، فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْهُ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشِ " وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ فَنَدَّ مِنْهَا بِعِيرٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4071 - (وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا لَاقُو الْعَدُوَّ) : بِضَمِّ الْقَافِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ لَقِيَ وَحُذِفَ النُّونُ بِالْإِضَافَةِ أَيْ: نَحْنُ مُلَاقُو الْكُفَّارِ (كَذَا) : يُحْتَمَلُ حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا أَيْ: فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، وَالْمُرَادُ إِنَّا نَكُونُ فِي حَالَةِ ضِيقٍ (وَلَيْسَتْ مَعَنَا) أَيْ: مَعَ جَمِيعِنَا، وَفِي رِوَايَةٍ: لَنَا (مُدًى) : بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ جَمْعُ مُدْيَةٍ وَهِيَ السِّكِّينُ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟) : بِفَتْحَتَيْنِ فِي النِّهَايَةِ: الْقَصَبُ مِنَ الْعِظَامِ كُلُّ عَظِيمٍ عَرِيضٍ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْقَصَبُ مُحَرَّكَةٌ كُلُّ نَبَاتٍ ذِي أَنَابِيبَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ الشُّمُنِّيُّ، وَهُوَ الذَّبْحُ بِكُلِّ مَا فِيهِ حَدٌّ وَلَوْ كَانَ لِيفَةً وَهُوَ الْقَصَبُ، أَوْ مَرْوَةً وَهِيَ الْحَجَرُ. (قَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِنْهَارُ الْإِسَالَةُ، وَالصَّبُّ بَكَثْرَةٍ وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِجَرْيِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ، فَالْمَعْنَى مَا أَسَالَ الدَّمَ. (وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ) أَيْ: عَلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَرِوَايَةٍ. (فَكُلْ) أَيْ: فَكُلْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) شَرْطِيَّةً وَمَوْصُولَةً. وَقَوْلُهُ فَكُلْ جَزَاءٌ، أَوْ خَبَرٌ وَاللَّامُ فِي الدَّمِ بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ: دَمُ صَيْدٍ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ حَالٌ مِنْهُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ أَعَمُّ مِنَ الصَّيْدِ لِيَشْمَلَ كُلَّ ذَبِيحَةٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السُّؤَالُ بِقَوْلِهِمْ: أَفَنَذْبَحُ؟ وَإِنَّ قَوْلَهُ: ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَطْفٌ عَلَى أَنْهَرَ الدَّمَ، سَوَاءٌ تَكُونُ (مَا) شَرْطِيَّةً، أَوْ مَوْصُولَةً. فَالْحُكْمُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمُرَكَّبِ. (لَيْسَ) أَيِ: الْمُنْهِرُ (السِّنَّ وَالظُّفُرَ) : بِضَمَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الثَّانِي وَبِكَسْرِ أَوَّلِهِ شَاذٌّ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا السِّنَّ وَالظُّفُرَ، فَإِنَّ الذَّبْحَ لَا يَحْصُلُ بِهِمَا، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَفَى الْفَائِقِ: لَيْسَ تَقَعُ فِي كَلِمَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ يَقُولُونَ: جَاءَ الْقَوْمُ لَيْسَ زَيْدًا. بِمَعْنَى إِلَّا زَيْدًا، وَتَقْدِيرُهُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لَيْسَ بَعْضُهُمْ زَيْدًا، أَوْ لَا يَكُونُ بَعْضُهُمْ زَيْدًا وَمُؤَدَّاهُ مُؤَدَّى إِلَّا (وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الْمُسْتَثْنَى، وَالسِّينُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى أُخْبِرُكَ عَنْ سَبَبِ اسْتِثْنَائِهِمَا مُفَصَّلًا وَإِنْ أَجْمَلْتُهُمَا فِي حُكْمِ عَدَمِ الْجَوَازِ الْمَفْهُومِ مِنَ اسْتِثْنَائِهِمَا (أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ) أَيْ: وَكُلُّ عَظْمٍ لَا يَحِلُّ بِهِ الذَّبْحُ، وَطَوَى النَّتِيجَةَ لِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا.

ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسٌ حُذِفَ مِنْهُ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ لِتَقَرُّرِهَا وَظُهُورِهَا عِنْدَهُمْ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ عَظْمٍ لَا يَحِلُّ الذَّبْحُ بِهِ، وَذَكَرَهُ دَلِيلًا " عَلَى اسْتِثْنَاءِ السِّنِّ. أَقُولُ: وَلَا يُحْتَاجُ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً وَمُقَرَّرَةً عِنْدَهُمْ بَلْ نَأْخُذُ مِنْ تَعْلِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَظْمٌ أَنَّ كُلَّ عَظْمٍ يَكُونُ حُكْمُهُ كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَمْ أَرَ بَعْدَ الْبَحْثِ مَنْ نَقَلَ لِلْمَنْعِ مِنَ الذَّبْحِ بِالْعَظْمِ مَعْنًى يُعْقَلُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَعَلَّلَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْعَظْمَ يَنْجُسُ بِالدَّمِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْ تَنْجِيسِهِ ; لِأَنَّهُ زَادُ الْجِنِّ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَهِمْنَا أَنَّ الْعِظَامَ لَا يَحِلُّ الذَّبْحُ بِهَا لِتَعْلِيلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: (أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ) فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُ عَظْمًا، وَكُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَظْمِ لَا تَجُوزُ الذَّكَاةُ بِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ بِالسِّنِّ وَالْعَظْمِ الْمُتَّصِلَيْنِ، وَيَجُوزُ بِالْمُنْفَصِلَيْنِ. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَاتٌ أَشْهَرُهَا جَوَازُهُ بِالْعَظْمِ دُونَ السِّنِّ كَيْفَ كَانَ اهـ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. (وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ كَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَعَلَيْهِ صَحَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا وَهُوَ الصَّوَابُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْحُبَشُ وَالْحَبَشُ مُحَرَّكَتَيْنِ وَالْأَحْبُشُ بِضَمِّ الْبَاءِ جِنْسٌ مِنَ السُّودَانِ جَمْعُهُ حُبْشَانُ، أَوْ أَحَابِشُ، وَكَذَا فِي الصِّحَاحِ وَشَمْسِ الْعُلُومِ وَالْمِصْبَاحِ، بَلْ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، الْحَبَشَةُ بِالتَّاءِ وَالْحُبْشُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ إِنَّمَا هُوَ بَطْنٌ، أَوْ جَدٌّ كَمَا فِي كُتُبِ الْأَنْسَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَظْفَارَ سَكَاكِينُهُمْ فَإِنَّهُمْ يَذْبَحُونَ بِهَا مَا يُمْكِنُ ذَبْحُهُ، وَلَا يَجُوزُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ، وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنِ التَّشْبِيهِ بِهِمْ وَبِشِعَارِهِمْ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: وَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُمَا وَمَنَعَ الذَّبْحَ بِهِمَا ; لِأَنَّهُمَا تَوْقِيذٌ وَتَخْنِيقٌ وَلَيْسَ بِذَبْحٍ، فَفِي الذَّبْحِ الِانْقِطَاعُ بِقُوَّتِهِ لَا بِحِدَّةِ الْآلَةِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَنْزُوعِ، أَمَّا فِي الْمَنْزُوعِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحْرُمُ أَكْلُهُ. قَالَ الشُّمُنِّيُّ: لَهُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ حَيْثُ لَمْ يَفْصِلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْقِيَامِ وَغَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الذَّبْحِ بِهِمَا مُطْلَقًا، وَلَنَا مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا «عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تُرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا فَقَالَ لِأَهْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ، أَوْ حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بَعَثَ إِلَيْهِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِهِ» ، وَإِذَا صَلُحَ الْحَجَرُ آلَةً لِلذَّبْحِ بِمَعْنَى الْجُرْحِ، فَكَذَا الظُّفُرُ الْمَنْزُوعُ وَالسِّنُّ الْمَنْزُوعُ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمَوْتَ بِالثِّقَلِ مَعَ الْحِدَّةِ فَتَصِيرُ الذَّبِيحَةُ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ. نَعَمْ يُكْرَهُ الذَّبْحُ بِالْمَنْزُوعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْحَيَوَانِ كَمَا لَوْ ذَبَحَ بِشَفْرَةٍ كَلَيْلَةٍ. وَحَدِيثُ رَافِعٍ يُحْمَلُ عَلَى الْقَائِمَتَيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ؛ وَلِأَنَّ الْحَبَشَةَ يُحَدِّدُونَ أَسْنَانَهُمْ وَلَا يُقَلِّمُونَ أَظْفَارَهُمْ، وَيُقَاتِلُونَ بِالْخَدْشِ وَالْعَضِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ كَانَ الذَّبْحُ بِالظُّفُرِ مُحَرَّمًا لِكَوْنِهِ تَشْبِيهًا بِالْكَفَّارِ لَكَانَ يَنْبَغِي تَحْرِيمُهُ بِالسِّكِّينِ أَيْضًا. قُلْتُ: إِنْهَارُ الدَّمِ بِالسِّكِّينِ هُوَ الْأَصْلُ، وَأَمَّا الْمُلْحَقَاتُ الْمُتَفَرِّعَةُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا التَّشَبُّهُ لِضَعْفِهَا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّشَبُّهَ الْمَمْنُوعَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ شَعَارًا لَهُمْ مُخْتَصًّا بِهِمْ، فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ مِنْ أَصِلِهِ. (وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ) أَيْ: غَارَتَهُمَا، وَالْمَعْنَى أَغَرْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ فَوَجَدْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا (فَنَدَّ) أَيْ: شَرَدَ وَفَرَّ (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهَا الصَّادِقَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا (بِعِيرٌ) : وَاسْتَعْصَى (فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ) أَيْ: مَنَعَهُ مِنَ التَّوَحُّشِ وَأَمَاتَهُ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ حَبَسَهُ مِنَ الشِّرَادِ بِأَنْ أَثَّرَ فِيهِ السَّهْمُ فَمَاتَ بِهِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الْإِبِلِ وَاللَّامُ فِيهِ بِمَعْنَى (مِنْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَمَلَ اللَّامُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَالْبَعْضِيَّةُ تُسْتَفَادُ مِنَ اسْمِ إِنَّ ; لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] أَيْ: بَعْضَ اللَّيْلِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا غَفْلَةٌ مِنْهُ عَنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ اللَّامِ عَلَى بَابِهَا، وَالْأَوَابِدُ: جَمْعُ آبِدَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَوَحَّشَتْ وَنَفَرَتْ (كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ) أَيْ: حَيَوَانُ الْبَرِّ (فَإِذَا غَلَبَكُمْ فِيهَا) أَيْ: مِنْ أَوَابِدِ الْإِبِلِ (شَيْءٌ) أَيْ: وَاحِدٌ (فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا) أَيْ: فَارْمُوهُ بِسَهْمٍ وَنَحْوِهِ، وَالْمَعْنَى مَا نَفَرَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَكَالصَّيْدِ الْوَحْشِيِّ فِي حُكْمِ الذَّبْحِ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ اضْطِرَارِيَّةٌ، فَجَمِيعُ أَجْزَائِهِ مَحَلُّ الذَّبْحِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْإِبِلِ لِأَنَّ التَّوَحُّشَ فِيهِ أَكْثَرُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْإِنْسِيَّ إِذَا تَوَحَّشَ وَنَفَرَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى قَطْعِ مَذْبَحِهِ يَصِيرُ جَمِيعُ بَدَنِهِ فِي حُكْمِ الْمَذْبَحِ كَالصَّيْدِ الَّذِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ مَنْكُوسًا، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى قَطْعِ حُلْقُومِهِ فَطُعِنَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ فَمَاتَ كَانَ حَلَالًا؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي الْعُشَرَاءِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّانِي مِنْ أَحَادِيثِ حِسَانِ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ، وَأَرَادَ بِهِ غَيْرَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَعَلَى عَكْسِهِ لَوِ اسْتَأْنَسَ الصَّيْدَ وَصَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِقَطْعِ مَذْبَحِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4072 - «وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ تُرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4072 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: كَانَتْ (لَهُ غَنَمٌ) أَيْ: قِطْعَةٌ مِنَ الْغَنَمِ (تُرْعَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُرْعِيهَا الرَّاعِي (بِسَلْعٍ) : بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ فَعَيْنٌ مُهْمَلَةٌ اسْمُ جَبَلٍ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ شِعْبٌ (فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ) أَيْ: بِنْتٌ، أَوْ مَمْلُوكَةٌ (لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا) أَيْ: أَثَرُ مَوْتٍ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ (فَكَسَرَتْ حَجَرًا) : لِتَحْصِيلِ الْحِدَّةِ (فَذَبَحَتْهَا) أَيْ: هِيَ (بِهِ) أَيْ: بِالْحَجَرِ الْمَكْسُورِ (فَسَأَلَ) أَيْ: كَعْبٌ (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا) أَيْ: فَأَجَازَ لَهُ أَكْلَهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4073 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4073 - (وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ) أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ) أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُهُ وَبِرُّهُ (وَتَعَالَى) أَيْ: تَعَظَّمُ شَأْنُهُ وَبُرْهَانُهُ (كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) : إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ عَلَى بِمَعْنَى فِي أَيْ: أَمَرَكُمْ بِالْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} [القصص: 15] وَقَدْ قَالَ شَارِحٌ أَيْ: كَتَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ اهـ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعُمُومُ الشَّامِلُ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَأَنَّهُ بُعِثَ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَنَّ لِأُمَّتِهِ نَصِيبًا وَحَظًّا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ بِمُتَابَعَتِهِ، وَلِذَا أَتَى بِالِاسْمِ الْجَامِعِ، وَلَمْ يَقُلْ أَنَّهُ الرَّحْمَنَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ رَحْمَتِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: أَوْجَبَ مُبَالَغَةً ; لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُنَا مُسْتَحَبٌّ وَضَمَّنَ الْإِحْسَانَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ وَعَدَّاهُ بِعَلَى، وَالْمُرَادُ بِالتَّفَضُّلِ إِرَاحَةُ الذَّبِيحَةِ بِتَحْدِيدِ الشَّفْرَةِ وَتَعْجِيلِ إِمْرَارِهَا وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الشُّمُنِّيُّ: عَلَى هُنَا بِمَعْنَى اللَّامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِحْسَانِ، أَوْ بِكَتَبَ، وَلَا بُدَّ مِنْ عَلَى أُخْرَى مَحْذُوفَةٍ. بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَتَبَ، وَالتَّقْدِيرُ كَتَبَ عَلَى النَّاسِ الْإِحْسَانَ لِكُلِّ شَيْءٍ، (فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ) : بِكَسْرِ الْقَافِ الْحَالَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْقَاتِلُ فِي قَتْلِهِ كَالْجِلْسَةِ وَالرِّكْبَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُسْتَحِقَّةُ قِصَاصًا، أَوْ حَدًّا، وَالْإِحْسَانُ فِيهَا اخْتِيَارُ أَسْهَلِ الطُّرُقِ وَأَظُنُّهَا أَقَلَّهَا إِيلَامًا (وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: يُرْوَى بِفَتْحِ الذَّالِ وَبِغَيْرِ هَاءٍ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا بِكَسْرِ الذَّالِ وَبِالْهَاءِ كَالْقِتْلَةِ (وَلْيُحِدَّ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا (أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ) : بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ: سِكِّينَتَهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُحِدَّ بِحَضْرَةِ الذَّبِيحَةِ وَلَا يَذْبَحَ وَاحِدَةً بِحَضْرَةِ الْأُخْرَى وَلَا يَجُرَّهَا إِلَى مَذْبَحِهَا (وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَسْتَرِيحَ وَتَبْرُدَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرَاحَ الرَّجُلُ إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ بَعْدَ الْإِعْيَاءِ، وَالِاسْمُ الرَّاحَةُ، وَهَذَانِ الْفِعْلَانِ كَالْبَيَانِ لِلْإِحْسَانِ فِي الذَّبْحِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْحَدِيثُ عَامٌّ فِي كُلِّ قَتْلٍ مِنَ الذَّبَائِحِ وَالْقَتْلِ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْجَوَامِعِ اهـ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَكُرِهَ السَّلْخُ قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ وَكُلُّ تَعْذِيبٍ بِلَا فَائِدَةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلِمَا أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهَا وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَتَيْنِ؟ هَلَّا حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا؟» . قَالُوا: وَكُرِهَ النَّخْعُ بِنُونٍ فَمُعْجَمَةٍ فَمُهْمَلَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ السِّكِّينُ النُّخَاعَ وَهُوَ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي جَوْفِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ، لِمَا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الذَّبِيحَةِ أَنْ تُفْرَسَ» . وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ: الْفَرْسُ أَنْ تُذْبَحَ الشَّاةُ فَتُنْخَعَ، وَقِيلَ مَعْنَى النَّخْعِ أَنْ يَمُدَّ رَأْسَهُ حَتَّى يَظْهَرَ مَذْبَحُهُ، وَقِيلَ أَنْ يَكْسِرَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ الِاضْطِرَابُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ الشُّمُنِّيُّ: أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ.

4074 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَنْهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ، أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4074 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى أَنْ تُصْبَرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُحْبَسُ (بَهِيمَةٌ، أَوْ غَيْرُهَا) أَيْ: مِنْ ذَوَاتِ الرُّوحِ بِلَا أَكْلٍ وَشُرْبٍ حَتَّى تَمُوتَ فَقَوْلُهُ: (لِلْقَتْلِ) أَيْ: لِأَجْلِ قَتْلِهِ بِالْحَبْسِ الْمَوْصُوفِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَرَادَ بِهِ أَنْ يُحْبَسَ الْحَيَوَانُ فَيُرْمَى إِلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَى أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا» أَيْ: حَبْسًا، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَلَفْظُهُ: «نَهَى عَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ» ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا ذُكِرَ فِي التَّوَارِيخِ أَنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ وَأَلْفًا صَبْرًا أَيْ: غَيْرُ مَنْ قَتَلَهُ عَسْكَرُهُ فِي الْحَرْبِ مَا بَيْنَ صَحَابِيٍّ وَتَابِعِيٍّ وَشَرِيفٍ وَضَعِيفٍ.

4075 - وَعَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4075 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا لَهُ الرُّوحُ غَرَضًا» ) : بِمُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ أَيْ: هَدَفًا زِنَةً وَمَعْنًى، وَهُوَ مَا يَنْصِبُهُ الرُّمَاةُ وَيَقْصِدُونَ إِصَابَتَهُ مِنْ قِرْطَاسٍ وَغَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: ( «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ» ) أَيْ: قَطَعَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ كَالْأُذُنِ وَالذَّنَبِ وَغَيْرِهِمَا، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ.

4076 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4076 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا) وَلِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَإِتْلَافٌ لِنَفْسِهِ وَتَضْيِيعٌ لِمَالِيَّتِهِ، وَتَفْوِيتٌ لِذَكَاتِهِ إِنْ كَانَ مُذَكًّى، وَلِمَنْفَعَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُذَكًّى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ فِيهِ الرُّوحٌ غَرَضًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

4077 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ، وَعَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4077 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ» ) أَيْ: فِي وَجْهِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْكَافِرَ حَالَ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَلْجَأُ الْمُسْلِمُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ (وَعَنِ الْوَسْمِ) أَيِ: الْكَيِّ (فِي الْوَجْهِ) : سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَحُكْمُهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «نَهَى عَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ وَالضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ» . وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ جَابِرٍ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَسِمُ فِي الْوَجْهِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: نَهَى عَنِ الْكَيِّ.

4078 - وَعَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ وَقَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4078 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ) أَيْ: مَرَّ بِهِ (وَقَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ) أَيْ: وَسْمًا فَاحِشًا وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ) أَيْ: كَوَاهُ هَذَا الْكَيَّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لُعِنَ الْوَاسِمُ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ لَعْنِ الْمُسْلِمِ؟ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَاسِمَ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا، أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الِانْزِجَارِ عَمَّا زَجَرَ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ دُعَاءً بَلْ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ، وَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ بِالنَّهْيِ فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ مُسْتَهِينًا بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَنْزُوعَ الرَّحْمَةِ، وَقَدْ صَحَّ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ» . وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاسِمُ كَافِرًا وَأَنْ يَكُونَ لِلتَّغْلِيظِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَعَنَ اللَّهُ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» ) قَالَ النَّوَوِيُّ: الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَمَّا وَسْمُ الْآدَمِيِّ فَحَرَامٌ لِكَرَامَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا يَجُوزُ فَأَشَارَ إِلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِهَذَا الْحَدِيثِ إِذِ اللَّعْنُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَجْهِ فَمُسْتَحَبٌّ فِي نَعَمِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَجَائِزٌ فِي غَيْرِهَا، وَإِذَا وَسَمَ فَمُسْتَحَبٌّ أَنْ يَسِمَ الْغَنَمَ فِي آذَانِهَا وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ فِي أُصُولِ أَفْخَاذِهَا، وَفَائِدَةُ الْوَسْمِ التَّمْيِيزُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4079 - «وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4079 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: غَدَوْتُ) أَيْ: ذَهَبْتُ غَدْوَةً (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) أَيْ: مَصْحُوبًا مَعَهُ وَهُوَ أَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ (لِيُحَنِّكَهُ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَفِي الْفَائِقِ يُقَالُ: حَكَنَهُ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا أَيْ: لِيَمْضُغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرًا، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحُلْوِ وَيُدَلِّكَ دَاخِلَ حَنَكِهِ، وَهُوَ أَقْصَى الْفَمِ، وَهَذَا سُنَّةٌ فِي الصِّغَارِ لِوُصُولِ الْبَرَكَةِ. (فَوَافَيْتُهُ) أَيْ: صَادَفْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (فِي يَدِهِ الْمِيسَمُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ آلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ يُكْوَى بِهَا (يَسِمُ) : مُضَارِعُ وَسَمَ كَيَعِدُ أَيْ: يَكْوِي (إِبِلَ الصَّدَقَةِ) : لِلْعَلَامَةِ الْمُمَيِّزَةِ لَهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ وَالنَّهْيُ خَاصٌّ بِهِ، أَوْ بِلَا ضَرُورَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4080 - وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مِرْبَدٍ فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاءً، حَسِبْتُهُ قَالَ: فِي آذَانِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4080 - (وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ: ابْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، رَوَى عَنْ جَدِّهِ أَنَسٍ. وَسَمِعَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ، يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مِرْبَدٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، مَوْضِعٌ يُحْبَسُ فِيهِ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَالرَّبْدُ: الْحَبْسُ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُحْبَسُ فِيهِ الْإِبِلُ، وَهُوَ مِثْلُ الْحَظِيرَةِ لِلْغَنَمِ، وَالْمِرْبَدُ، هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَظِيرَةُ الْغَنَمِ مَجَازًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّهُ أَدْخَلَ الْغَنَمَ فِي مِرْبَدِ الْإِبِلِ لِيَسِمَهَا اهـ. وَفِي النِّهَايَةِ الْمِرْبَدُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُحْبَسُ فِيهِ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ، وَأَطْلَقَ فِي الْقَامُوسِ وَقَالَ: الْمِرْبَدُ كَمِنْبَرٍ الْمَحْبَسُ (فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاءً) : بِشِينٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ فَهَمْزَةٌ جَمْعُ شَاةٍ. وَفِي نُسْخَةٍ شِيَاهٌ بِكَسْرِ الشِّينِ بَعْدَهَا يَاءٌ فَفِي الْقَامُوسِ: الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْغَنَمِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى جَمْعُهُ شَاءٌ أَصْلُهُ شَاءٌ وَشَاهٌ اهـ. وَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لِيَسِمَ، وَفِي آذَانِهَا مَفْعُولٌ فِيهِ، وَتَبْيِينٌ لِلْإِجْمَالِ وَتَصَحَّفَ عَلَى الطِّيبِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَشَيْئًا ظَرْفٌ بِمَعْنَى يَسِمُ فِي شَيْءٍ، وَفِي آذَانِهَا بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّهِ انْتَهَى. وَهُوَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ ; لِأَنَّهُ يَبْقَى مَرْجِعًا حِينَئِذٍ لِضَمِيرِ آذَانِهَا، وَلَا مَعْنَى بِدُونِهِ لَا سِيَّمَا مَعَ إِبْهَامِ شَيْئًا مُنَكَّرًا (حَسِبْتُهُ) أَيْ: أَنَسًا (قَالَ) أَيْ: زِيَادَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ (فِي آذَانِهَا) : بِالْمَدِّ جَمْعُ الْأُذُنِ أَيْ: يَسِمُ شَيْئًا فِي آذَانِهَا لِمَا سَبَقَ مِنَ اسْتِحْبَابِ وَسْمِ الْغَنَمِ فِي الْأُذُنِ، وَقَالَ شَارِحٌ، قَالَ فِي آذَانِهَا أَيْ: يَسِمُوهَا فِي آذَانِهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَ لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ ; لِأَنْكَارِهِ عَلَى مَا رَأَى مِنْ وَسْمِ وَجْهِ الْحِمَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4081 - «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ أَحَدُنَا أَصَابَ صَيْدًا وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ أَيَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشِقَّةِ الْعَصَا؟ فَقَالَ: " أَمْرِرِ الدَّمَ بِمَ شِئْتَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4081 - (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي (أَحَدُنَا) : بِالرَّفْعِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ (أَصَابَ صَيْدًا وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ أَصَابَ، وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِأَرَأَيْتَ، وَمَحَطُّ الِاسْتِخْبَارِ قَوْلُهُ: (أَيَذْبَحُ) أَيْ: أَحَدُنَا الْمَذْكُورَ (بِالْمَرْوَةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ أَحَدِنَا، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِ الطِّيبِيِّ أَيْ: أَخْبِرْ أَحَدَنَا، وَالْمُسْتَخْبَرُ عَنْهُ قَوْلُهُ: أَيَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْبَيْضَاءُ، وَبِهِ سُمِّيَتْ مَرْوَةُ مَكَّةَ اهـ. وَفِي الْمُغْرِبِ: الْمَرْوَةُ حَجَرٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ، وَقَدْ يُسَمَّى بِهَا الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ شَارِحٌ: هِيَ حَجَرٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ يُجْعَلُ مِنْهُ كَالسِّكِّينِ وَيُذْبَحُ بِهَا. (وَشِقَّةِ الْعَصَا؟) : بِكَسْرِ الشِّينِ أَيْ: شَظِيَّةٌ تَتَشَظَّى مِنْهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ الطِّيبِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] أَنَّ الْمَوْصُولَ مَعَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ هُمَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَمَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، وَالْمَوْصُولُ هُوَ الْآخَرُ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِأَرَأَيْتَ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى} [النجم: 33] أَعْنَدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ؟ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] أَطَّلَعَ الْغَيْبَ. وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58 - 59] وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، فَتُخَرَّجُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ الْقَانُونِ اهـ. فَكَذَلِكَ نَحْنُ نُخَرِّجُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى قَانُونِ تِلْكَ الْآيَاتِ مُوَافَقَةً بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَفْظًا وَمَعْنًى وَإِعْرَابًا وَبَيَانًا. (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَمْرِرِ الدَّمَ) : أَمْرٌ مِنَ

الْإِمْرَارِ بِالْفَكِّ، وَفَى نُسْخَةٍ أَمِرَّ بِالْإِدْغَامِ وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَمْرٌ مِنْ مَرَى يَمْرِي إِذَا مَسَحَ الضَّرْعَ، وَالْمَعْنَى سَيْلُهُ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ شَارِحٌ وَقَالَ: وَتَشْدِيدُ الرَّاءِ مِنَ الْإِمْرَارِ لَحْنٌ، ثُمَّ قَالَ: وَيُرْوَى أَمِرِ بِفَتْحِ هَمْزَةِ الْقَطْعِ يَعْنِي وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ مَنْ أَمَارَ الدَّمَ أَيْ: أَجْرَاهُ وَمَارَ بِنَفْسِهِ أَيْ: جَرَى اهـ. وَهُوَ كَذَا فِي نُسْخَةٍ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ أَمِرَّ الدَّمَ شَدَّدَ الرَّاءَ وَهُوَ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ مِنْ مَرَى يَمْرِي، وَرَوَى بَعْضُهُمْ بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ وَقَطْعِ الْأَلِفِ مِنْ أَمَارَ الَّذِي هُوَ أَفْعَلَ مِنْ مَارَ الدَّمَ مَوْرًا إِذَا جَرَى. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَلْحَنُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَيُشَدِّدُونَ الرَّاءَ وَيُحَرِّكُونَ الْمِيمَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ مِنَ الْإِمْرَارِ، وَلَيْسَ بِقَوِيمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ مِنْ مَرَى يَمْرِي إِذَا مَسَحَ الضَّرْعَ لِيَدِرَّ، وَالْمَعْنَى اسْتِخْرَاجُ الدَّمِ وَسَيْلُهُ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْخَطَّابِيِّ. قَالَ صَاحِبُ الْجَامِعِ: وَالَّذِي قَرَأْتُهُ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ بَرَّاءَيْنِ مُظْهَرَتَيْنِ بِغَيْرِ إِدْغَامٍ، وَفِي إِحْدَى رِوَايَاتِ النَّسَائِيِّ كَذَلِكَ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ كَإِمْرَارِ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّسْتِ الْجَدِيدِ أَمْرَرْتُ الشَّيْءَ أَمُرُّهُ إِمْرَارًا إِذَا جَعَلْتُهُ بِمَرْأَى لِيَذْهَبَ يُرِيدُ كَجَرِّ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّسْتِ اهـ. كَلَامُهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الدَّمُ عِبَارَةً عَنْ سَيَلَانِهِ ; لِأَنَّ سَيَلَانَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِإِمْرَارِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْقَامُوسِ: مَرَّ الشَّيْءَ اسْتَخْرَجَهُ، وَأَمَارَهُ أَيْ: أَسَالَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، وَقَوْلُهُ: (بِمَ شِئْتَ) أَيْ: بِمَا شِئْتَ، حُذِفَ الْأَلِفُ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ أَيْ: أَنْهِرِ الدَّمَ بِأَيِّ شَيْءٍ شِئْتَ مَا عَدَا السِّنَّ وَالظُّفُرَ. (وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ) أَيْ: عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

4082 - «وَعَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ فَقَالَ: " لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذِهِ ذَكَاةُ الْمُتَرَدِّي. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا فِي الضَّرُورَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4082 - (وَعَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ (عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أُسَامَةُ بْنُ مَالِكٍ الدَّارِمِيُّ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، وَفِي اسْمِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ وَهَذَا أَشْهَرُ مَا قِيلَ فِيهِ. (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمَا يَكُونُ) : الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَ (مَا) نَافِيَةٌ وَالْمُرَادُ التَّقْرِيرُ أَيْ: أَمَا تَحْصُلُ (الذَّكَاةُ) : الذَّالُ الْمُعْجَمَةُ أَيِ: الذَّبْحُ الشَّرْعِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَيْسَتْ أَمَا لِلتَّنْبِيهِ وَإِنْ كَانَتْ حَرْفَ التَّنْبِيهِ. فَأُجِيبَ: لَا إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ. أَقُولُ: لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ التَّنْبِيهُ فِي كَلَامِ السَّائِلِ مَعَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ (مَا) لِلنَّفْيِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، بَلْ يَفْسُدُ الْمَعْنَى إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ تَنَبَّهْ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الذَّبْحُ (إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهِيَ الْهَزْمَةُ الَّتِي فَوْقَ الصَّدْرِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ قِيلَ: وَهِيَ آخِرُ الْحَلْقِ (فَقَالَ: لَوْ طَعَنْتَ) أَيْ: أَنْتَ (فِي فَخِذِهَا) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَيَجُوزُ الْكَسْرُ فَالسُّكُونُ أَيْ: فِي فَخِذِ الْمُذَكَّاةِ لِمَفْهُومِهِ مِنَ الذَّكَاةِ وَجَرَحْتَ (لَأَجْزَأَ عَنْكَ) أَيْ: لَكَفَى طَعْنُ فَخِذِهَا عَنْ ذَبْحِكَ إِيَّاهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، (وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ وَهَذَا أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ، أَوْ قَوْلُهُ: لَوْ طَعَنْتَ إِلَخْ (ذَكَاةُ الْمُتَرَدِّي) أَيِ: السَّاقِطُ فِي الْبِئْرِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا فِي الضَّرُورَةِ) : وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي دَاوُدَ لِشُمُولِهِ الْبَعِيرَ النَّادَّ عَلَى مَا سَبَقَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ أَبُو عِيسَى: لَا نَعْرِفُ لِأَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ اهـ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: حَرُمَ ذَبِيحَةٌ لَمْ تُذَكَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وَذَكَاةُ الضَّرُورَةِ جَرْحٌ أَيْنَ كَانَ مِنَ الْبَدَنِ، وَذَكَاةُ الِاخْتِيَارِ ذَبْحٌ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَعُرُوقُ الذَّبْحِ الْحُلْقُومُ، وَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ وَالْمَرِيءُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْوَدَجَانِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُمَا مَجْرَى الدَّمِ وَحِلُّ الذَّبْحِ يَقْطَعُ أَيْ: ثَلَاثٌ مِنْهَا.

4083 - وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ، أَوْ بَازٍ، ثُمَّ أَرْسَلْتَهُ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْكَ ". قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلَ؟ قَالَ: إِذَا قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَيْكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4083 - (وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا عَلَّمْتَ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَمَا شَرْطِيَّةٌ، أَوْ مَوْصُولَةٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ: مَا عَلَّمْتَهُ (مِنْ كَلْبِ، وَبَازٍ) أَيْ: أَحَدٌ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِمَا إِمَّا مَثَلًا، أَوْ بِنَاءً عَلَى الْأَغْلَبِ (ثُمَّ أَرْسَلْتَهُ) أَيْ: أَحَدُهُمَا إِلَى الصَّيْدِ (وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ) أَيْ: عِنْدَ إِرْسَالِهِ (فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْكَ) أَيْ: بِأَنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا. (قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلَ؟) : وَصْلِيَّةٌ أَيْ: آكُلُهُ وَلَوْ قَتَلَهُ أَحَدُهُمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِنْ شَرْطِيَّةٌ وَالْجَزَاءُ مُقَدَّرٌ أَيْ: فَمَا حُكْمُهُ؟ (قَالَ: إِذَا قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَيْكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: جِيءَ بِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ وَإِنْ قَتَلَ ; لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنْ تَرَدُّدٍ ; لِأَنَّ إِنِ الشَّرْطِيَّةَ تَقْتَضِي عَدَمَ الْجَزْمِ. وَأَجَابَ بِإِذَا الَّتِي تَقْتَضِي الْجَزْمَ وَالتَّحْقِيقَ، وَأَعَادَ قَوْلَهُ: فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَيْكَ دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَحُومُ الشَّكُّ حَوْلَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4084 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرْمِي الصَّيْدَ فَأَجِدُ فِيهِ مِنَ الْغَدِ سَهْمِي. قَالَ: " إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ وَلَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ فَكُلْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4084 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرْمِي الصَّيْدَ فَأَجِدُ فِيهِ مِنَ الْغَدِ) أَيْ: فِي بَعْضِ زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ (سَهْمِي) : فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] ، أَوْ بِمَعْنَى (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: (مِنْ) فِيهِ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] الْكَشَّافُ: قُرِئَ مِنْ قَبْلِ وَمِنْ بَعْدِ عَلَى الْجَرِّ كَأَنَّهُ قِيلَ قَبْلًا وَبَعْدًا. (قَالَ: إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ) أَيْ: بِأَنْ أَصَابَهُ بِهَذِهِ وَجَرَحَهُ (وَلَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ) أَيْ: آخَرُ مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ (فَكُلْ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنْ رَأَيْتَ فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ فَلَا تَأْكُلْ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ سَبَبُ قَتْلِهِ يَقِينًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4085 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نُهِينَا عَنْ صَيْدِ كَلْبِ الْمَجُوسِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4085 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نُهِينَا عَنْ صَيْدِ كَلْبِ الْمَجُوسِ) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ مِنَ الْكَفَرَةِ لَا يَحِلُّ صَيْدُ جَارِحَةٍ أَرْسَلَهَا هُوَ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَحِلُّ مَا اصْطَادَ الْمُسْلِمُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، وَلَا يَحِلُّ مَا اصْطَادَهُ الْمَجُوسِيُّ بِكَلْبِ الْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ يُدْرِكَهُ الْمُسْلِمُ حَيًّا فَيَذْبَحُهُ، وَإِنِ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فِي إِرْسَالِ كَلْبٍ، أَوْ سَهْمٍ عَلَى صَيْدٍ فَأَصَابَهُ وَقَتَلَهُ فَهُوَ حَرَامٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى مَجُوسِ هَجَرَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمِ الْإِسْلَامَ، فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» . وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: شَرْطُ كَوْنِ الذَّابِحِ مُسْلِمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، أَوْ كِتَابِيًّا وَلَوْ كَانَ الْكِتَابِيُّ حَرْبِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وَالْمُرَادُ بِهِ مُذَكَّاتُهُمْ ; لِأَنَّ مُطْلَقَ الطَّعَامِ غَيْرُ الْمُذَكِّي يَحِلُّ مِنْ أَيِّ كَافِرٍ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَذْكُرَ الْكِتَابِيُّ غَيْرَ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ حَتَّى لَوْ ذَبَحَ بِذِكْرِ الْمَسِيحِ، أَوْ عُزَيْرٍ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] لَا مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ، مَجُوسِيًّا لِمَا سَبَقَ، أَوْ وَثَنِيًّا مِثْلُ الْمَجُوسِيِّ فِي عَدَمِ التَّوْحِيدِ.

4086 - «وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا أَهْلُ سَفَرٍ، نَمُرُّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، فَلَا نَجِدُ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ. قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ، ثُمَّ كُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4086 - (وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا أَهْلُ سَفَرٍ) : بِالرَّفْعِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالْخَبَرُ (نَمَرُّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، فَلَا نَجِدُ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ، ثُمَّ كُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا) أَيْ: فِيهَا وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4087 - وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَعَامِ النَّصَارَى وَفِي رِوَايَةٍ: سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ مِنَ الطَّعَامِ طَعَامًا أَتَحَرَّجُ مِنْهُ فَقَالَ: " لَا يَتَخَلَّجَنَّ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ ضَارَعْتَ فِيهِ النَّصْرَانِيَّةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4087 - (وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ) : بِضَمِّ هَاءٍ وَسُكُونِ لَامٍ (عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، رَوَى عَنْهُ سِمَاكٌ وَهُلْبٌ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالُوا: وَالصَّوَابُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ اهـ. وَفِي الْمُغْنِي: قَبِيصَةُ بْنُ هُلْبٍ بِمَضْمُومَةٍ وَسُكُونِ لَامٍ وَبِمُوَحَّدَةٍ، كَذَا يَرْوِيهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَالصَّوَابُ بِفَتْحِ هَاءٍ وَكَسْرِ لَامٍ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْهُلْبُ لَقَبُ أَبِي قَبِيصَة يَزِيدَ بْنِ قُنَافَةَ الطَّائِيِّ يَضُمُّهُ الْمُحَدِّثُونَ، وَصَوَابُهُ كَكَتِفٍ. قُلْتُ: سُنَّةُ الْمُحَدِّثِينَ أَصَحُّ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَوِيِّينَ. (قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَعَامِ النَّصَارَى وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِلتِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، أَوْ لِغَيْرِهِمَا (سَأَلَهُ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَجُلٌ) : يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ غَيْرَهُ (فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (إِنَّ مِنَ الطَّعَامِ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَطْعِمَةِ (طَعَامًا) : قِيلَ: أَرَادَ بِهِ طَعَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (أَتَحَرَّجُ) أَيْ: أَتَجَنَّبُ وَأَمْتَنِعُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ، فِي النِّهَايَةِ: الْحَرَجُ فِي الْأَصْلِ الضِّيقُ، وَيَقَعُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْحَرَامِ، وَقِيلَ: الْحَرَجُ أَضْيَقُ الضِّيقِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] (فَقَالَ: لَا يَتَخَلَّجَنَّ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَغَيْرِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِالْمُهْمَلَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرْوَى بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ لَا يَتَحَرَّكَنَّ الشَّكُّ فِي قَلْبِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ. قُلْتُ: الْأَبْلَغِيَّةُ إِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ الشَّيْءِ وَخُصُوصُ الشَّكِّ فَشَيْءٌ مَوْجُودٌ فِي الْأَصْلِ، مَعَ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِالتَّجْرِيدِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّقْيِيدِ، فَالتَّحْرِيكُ أَبْلَغُ مِنَ الدُّخُولِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَأَبْلَغُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2] . (ضَارَعْتَ فِيهِ النَّصْرَانِيَّةَ) أَيْ: شَابَهْتَ لِأَجْلِهِ أَهْلَ الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ حَيْثُ امْتِنَاعِهِمْ إِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا فِي الْمَعْنَى تَعْلِيلُ النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَحَرَّجْ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ ضَارَعْتَ فِيهِ النَّصْرَانِيَّةَ، فَإِنَّهُ مِنْ دَأْبِ النَّصَارَى وَتَرْهِيبِهِمْ، وَالرَّجُلُ السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَكَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ نَصْرَانِيًّا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ ضَارَعْتَ فِيهِ صِفَةَ شَيْءٍ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُضَارِعِ بِالْمَاضِي مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِ الْمُضَارَعَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ الْمُوجِبِ أَيْ: لَا يَدْخُلَنَّ فِي قَلْبِكَ ضِيقٌ وَحَرَجٌ ; لِأَنَّكَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ فَإِنَّكَ إِذَا شَدَّدْتَ عَلَى نَفْسِكَ بِمِثْلِ هَذَا شَابَهْتَ فِيهِ الرَّهْبَانِيَّةَ فَإِنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ وَعَادَتُهُمْ قَالَ تَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] الْآيَةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4088 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الْمُجَثَّمَةِ وَهِيَ الَّتِي تُصْبَرُ بِالنَّبْلِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4088 - (وَعَنْ) أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الْمُجَثَّمَةِ» ) : بِتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَضَبَطَهُ الشُّمُنِّيُّ بِكَسْرِهَا. فِي النِّهَايَةِ: هِيَ كُلُّ حَيَوَانٍ يُنْصَبُ وَيُرْمَى لِيُقْتَلَ إِلَّا أَنَّهُ يَكْثُرُ فِي الطَّيْرِ وَالْأَرْنَبِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْثُمُ بِالْأَرْضِ أَيْ: يَلْزَمُهَا وَيَلْتَصِقُ بِهَا (وَهِيَ الَّتِي تُصْبَرُ) أَيْ: تُحْبَسُ وَيُرْمَى إِلَيْهَا (بِالنَّبْلِ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: بِالسَّهْمِ حَتَّى تَمُوتَ وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ وَالنَّهْيُ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ لَيْسَ بِذَبْحٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4089 - وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَعَنِ الْمُجَثَّمَةِ، وَعَنِ الْخَلِيسَةِ، وَأَنْ تُوطَأَ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ» . قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: سُئِلَ أَبُو عَاصِمٍ عَنِ الْمُجَثَّمَةِ، فَقَالَ: أَنْ يُنْصَبَ الطَّيْرُ، أَوِ الشَّيْءُ فَيُرْمَى وَسُئِلَ عَنِ الْخَلِيسَةِ، فَقَالَ: الذِّئْبُ، أَوِ السَّبُعُ يُدْرِكُهُ الرَّجُلُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ، فَيَمُوتُ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُذَكِّيهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4089 - (وَعَنِ الْعِرْبَاضِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (ابْنِ سَارِيَةَ) : مَرَّ ذِكْرُهُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ) أَيْ: عَامَهُ، أَوْ وَقْتَ فَتْحِهِ، أَوْ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ غَزْوَةٍ (عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ) أَيْ: أَكْلِهِ (مِنَ السِّبَاعِ) أَيْ: سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالدُّبِّ وَالْقِرَدَةِ وَالْخِنْزِيرِ (وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ) : بِكَسْرِ مِيمٍ وَفَتْحِ لَامٍ (مِنَ الطَّيْرِ) أَيْ: مِنْ أَكْلِ سِبَاعِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَرَادَ بِكُلِّ ذِي نَابٍ مَا يَعْدُو بِنَابِهِ عَلَى النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ، كَالذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالْكَلْبِ وَنَحْوِهَا، وَأَرَادَ بِذِي مِخْلَبٍ مَا يَقْطَعُ وَيَشُقُّ بِمِخْلَبِهِ كَالنَّسْرِ وَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَنَحْوِهَا. (وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حِمَارٍ (الْأَهْلِيَّةِ) أَيِ: الْإِنْسِيَّةِ ضِدَّ الْوَحْشِيَّةِ (وَعَنِ الْمُجَثَّمَةِ) : سَبَقَ ذِكْرُهَا وَسَيَأْتِي أَيْضًا (وَعَنِ الْخَلِيسَةِ) أَيِ: الْمَأْخُوذَةُ مِنْ فَمِ السِّبَاعِ فَتَمُوتُ قَبْلَ أَنْ تُذَكَّى، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا مَخْلُوسَةً مِنَ السَّبُعِ أَيْ: مَسْلُوبَةٌ مِنْ خَلَسَ الشَّيْءَ إِذَا سَلَبَهُ، وَسَيَأْتِي مَعْنَاهَا فِي الْأَصْلِ (وَأَنْ تُوطَأَ) أَيْ: وَعَنْ أَنْ تُجَامَعَ (الْحَبَالَى) : بِفَتْحِ الْحَاءِ جَمْعُ الْحُبْلَى بِالضَّمِّ (حَتَّى يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ) : يَعْنِي إِذَا حَصَلَتْ لِشَخْصٍ جَارِيَةٌ حُبْلَى لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَكَذَا إِذَا تَزَوَّجَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: إِذَا حَصَلَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ فِي السَّبْيِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَحَتَّى تَحِيضَ وَيَنْقَطِعَ دَمُهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا. (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) : شَيْخُ التِّرْمِذِيِّ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (سُئِلَ أَبُو عَاصِمٍ) : يَعْنِي شَيْخَهُ (عَنِ الْمُجَثَّمَةِ) أَيْ: عَنْ تَصْوِيرِهَا (فَقَالَ: أَنْ يُنْصَبَ الطَّيْرُ، أَوِ الشَّيْءُ) أَيْ: مِنْ ذِي الرُّوحِ وَغَيْرِهِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّكِّ فَالْمُرَادُ بِالطَّيْرِ مَثَلًا (فَيُرْمَى) أَيِ: الْمَنْصُوبُ حَتَّى يَمُوتَ (وَسُئِلَ) أَيْ: أَبُو عَاصِمٍ (عَنِ الْخَلِيسَةِ، فَقَالَ: الذِّئْبُ) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ يَاؤُهُ أَيْ: خَلِيسَتُهُ (أَوِ السَّبُعُ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ وَفِيهِ مَا سَبَقَ (يُدْرِكُهُ) أَيِ: السَّبُعَ (رَجُلٌ فَيَأْخُذُ) أَيِ: الْخَلِيسَةَ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ السَّبُعِ (فَتَمُوتُ) أَيِ: الْخَلِيسَةُ (فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُذَكِّيَهَا) أَيْ: يَذْبَحُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيِ: الْخَلِيسَةُ هِيَ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ الذِّئْبِ، أَوِ السُّبُعِ فَتَمُوتُ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَتُؤْخَذُ الْمُخْتَلَسَةُ مِنْهُ، وَالضَّمِيرُ فِي تَمُوتُ وَيُذَكِّيهَا رَاجِعٌ إِلَيْهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4090 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ: زَادَ ابْنُ عِيسَى: هِيَ الذَّبِيحَةُ يُقْطَعُ مِنْهَا الْجِلْدُ وَلَا تُفْرَى الْأَوْدَاجُ، ثُمَّ تُتْرَكُ حَتَّى تَمُوتَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4090 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ» ) أَيِ: الذَّبِيحَةُ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ أَوْدَاجُهَا وَلَا يُسْتَقْصَى ذَبْحُهَا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ شَرْطِ الْحَجَّامِ. وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْطَعُونَ بَعْضَ حَلْقِهَا وَيَتْرُكُونَهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَى الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَحَسَّنَ هَذَا الْفِعْلَ لِيَدِهِمْ وَسَوَّلَهُ لَهُمْ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الشَّرْطِ الذى هُوَ الْعَلَامَةُ أَيْ: شَارَطَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ. (زَادَ ابْنُ عِيسَى) أَيْ: أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ هَذَا التَّفْسِيرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: (هِيَ) أَيْ: شَرِيطَةُ الشَّيْطَانِ هِيَ (الذَّبِيحَةُ) أَيِ: الْمَذْبُوحَةُ مَآلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] (يُقْطَعُ مِنْهَا الْجِلْدُ) أَيْ: يُشَقُّ مِنْهَا جِلْدُهَا وَهِيَ حَيَّةٌ (وَلَا تُفْرَى الْأَوْدَاجُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَتُذَكَّرُ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْفَرْيِ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَفِي طِلْبَةِ الطَّلَبَةِ الْفَرْيُ: مِنْ حَدِّ ضَرَبَ هُوَ الْقَطْعُ عَلَى وَجْهِ الِاصْطِلَاحِ، وَالْإِفْرَاءُ الْقَطْعُ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوْدَاجِ الْعُرُوقُ الْمُحِيطَةُ بِالْعُنُقِ الَّتِي تُقْطَعُ حَالَةَ الذَّبْحِ، وَاحِدُهَا وَدَجٌ مُحَرَّكَةٌ، وَالْمَعْنَى يُشَقُّ مِنْهَا جِلْدُهَا وَلَا يُقْطَعُ أَوْدَاجُهَا حَتَّى يَخْرُجَ مَا فِيهَا مِنَ الدَّمِ وَيُكْتَفَى بِذَلِكَ. (ثُمَّ تُتْرَكُ) أَيِ: الذَّبِيحَةُ (حَتَّى تَمُوتَ) : وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْطَعُونَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ حَلْقِ الْبَهِيمَةِ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ ذَكَاتَهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4091 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4091 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» ) : بِالرَّفْعِ فِي الثَّانِي، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالنَّصْبِ، وَحُكِيَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. فِي النِّهَايَةِ: التَّذْكِيَةُ الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ، وَيُرْوَى الْحَدِيثُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَمَنْ رَفَعَ جَعَلَهُ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ ذَكَاةُ فَيَكُونُ ذَكَاةُ الْأُمِّ هِيَ ذَكَاةَ الْجَنِينِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَبْحٍ مُسْتَأْنَفٍ، وَمَنْ نَصَبَ كَانَ التَّقْدِيرُ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ نُصِبَ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ يُذَكَّى تَذْكِيَةً مِثْلُ ذَكَاةِ أُمِّهِ فَحُذِفَ الْمَصْدَرُ وَصِفَتُهُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَلَا بُدَّ عِنْدَهُ مِنْ ذَبَحِ الْجَنِينِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي بِنَصْبِ الذَّكَاتَيْنِ اهـ. وَلَعَلَّ نَصْبَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ بِأَنْ تَنْصِبَ الْأُولَى وَتَرْفَعَ الثَّانِيَةَ وَتَعْكِسَ، وَيُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُمَا عَلَى الْإِغْرَاءِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ التَّرْكِيبِ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَحْكُومِ بِهِ وَهُنَا عَكْسٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ أَصْلَ الْكَلَامِ ذَكَاةُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ ذَكَاةِ الْجَنِينِ فِي الْحِلِّ أَيْ: مُغْنِيَةٌ عَنْ ذَكَاةِ الْجَنِينِ فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: سِلْمِي سِلْمُكَ وَحَرْبِي حَرْبُكَ وَدَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَكَقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا يُرِيدُ طِهَارَتَهَا مِنَ النَّجَاسَةِ جَعَلَ يُبْسَهَا مِنَ النَّجَاسَةِ الرَّطْبَةِ فِي التَّطْهِيرِ بِمَنْزِلَةِ تَذْكِيَةِ الشَّاةِ فِي الْإِحْلَالِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: سِلْمِي سِلْمُكَ مِنْ قَبِيلِ زَيْدٍ الْمَنْطَلِقِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِهِ وَمَحْكُومًا عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: فَلَهُ صَارِفٌ عَقْلِيٌّ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَفَى الْفَائِقِ: الذَّكَاةُ هِيَ التَّذْكِيَةُ، كَمَا أَنَّ الزَّكَاةَ هِيَ التَّزْكِيَةُ أَيْ: ذَكَاةُ الْأُمِّ كَافِيَةٌ فِي حِلِّ الْجَنِينِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنِينَ الَّذِي فِي بَطْنِ الْأُمِّ حَالَ ذَكَاةِ الْأُمِّ كَالْعُضْوِ الْمُتَّصِلِ بِالْأُمِّ، فَإِنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ يَحِلُّ بِذَكَاتِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ كَذَلِكَ الْجَنِينُ الْمُتَّصِلُ بِهِ حَالَةَ الذَّبْحِ إِذَا انْفَصَلَ مَيِّتًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ ذَبَحَ حَيَوَانًا فَخَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ يَكُونُ حَلَالًا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ بَعْدَهَمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ،

وَشَرَطَ بَعْضُهُمُ الْإِشْعَارَ، فَأَمَّا إِذَا خَرَجَ الْجَنِينُ حَيًّا فَيُذْبَحُ وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَإِنَّمَا يَحِلُّ الْجَنِينُ لَوْ سَكَنَ فِي الْبَطْنِ عَقِيبَ الذَّبْحِ إِذْ لَوْ تَحَرَّكَ زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ سَكَنَ حَرُمَ، وَإِنْ خَرَجَ فِي الْحَالِ وَبِهِ حَرَكَةُ الْمَذْبُوحِ حَلَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ يُذْبَحُ اتِّفَاقًا لِيَحِلَّ، وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ وَذُبِحَتِ الْأُمُّ قَبْلَ انْفِصَالِهِ حَلَّ أَكْلُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ أَكْلُ الْجَنِينِ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا وَيُذْبَحَ. قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَلَا يَحِلُّ جَنِينٌ مَيِّتٌ وُجِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ سَوَاءٌ أَشَعَرَ، أَوْ لَمْ يُشْعِرْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا تَمَّ خَلْقُهُ حَلَّ لِلْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أُمِّهِ حَقِيقَةً ; لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا، وَيَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا، وَيَتَنَفَّسُ بِنَفَسِهَا، وَحُكْمًا ; لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْتِ الْوَارِدِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ جُرْحُهَا ذَكَاةً لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاتِهِ كَالصَّيْدِ بِجَامِعِ الْعَجْزِ عَنِ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَنِينَ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْحَيَاةِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ فَيَجِبُ إِفْرَادُهُ بِالذَّكَاةِ لِيَخْرُجَ دَمُهُ فَيَطِيبَ لَحْمُهُ، وَلِيُجْعَلَ تَبَعًا لِأُمِّهِ فِيهَا ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَكَاتِهِ وَهُوَ إِخْرَاجُ دَمِهِ لَا يَحْصُلُ بِذَبْحِهَا بِخِلَافِ جَرْحِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ مُخْرِجٌ لِدَمِهِ فَيَقُومُ مَقَامَ ذَبْحِهِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالتَّشْبِيهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ رُوِيَ ذَكَاةَ أُمِّهِ بِالنَّصْبِ أَيْ: يُذَكَّى ذَكَاةً مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ اهـ. فَإِطْلَاقُ الْجَنِينِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَوَّلًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ.

4092 - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4092 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ ذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ: ( «ذَكَاةُ الْجَنِينِ إِذَا أَشْعَرَ ذَكَاةُ أُمِّهِ» ) وَلَكِنَّهُ يُذْبَحُ حَتَّى يَنْصَبَّ مَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ.

4093 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَنْحَرُ النَّاقَةَ، وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ، فَنَجِدُ فِي بَطْنِهَا الْجَنِينَ، أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ قَالَ: " كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4093 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَنْحَرُ) أَيْ: نَحْنُ (النَّاقَةَ، وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ) : فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ وَهُوَ قَطْعُ مَوْضِعِ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ وَفِي الْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ الذَّبْحُ وَهُوَ فِي الْحَلْقِ. قَالَ الشُّمُنِّيُّ: نُدِبَ نَحْرُ الْإِبِلِ وَهُوَ قَطْعُ الْعُرُوقِ فِي أَسْفَلِ الْعُنُقِ عِنْدَ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ فِيهَا أَيْسَرُ ; لِأَنَّ الْعُرُوقَ مُجْتَمِعَةٌ لَهَا فِي الْمَنْحَرِ، وَكُرِهَ ذَبْحُهَا ; لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ وَالْإِعْجَالُ، وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ عَكْسُهُ فَنُدِبَ ذَبْحُهَا ; لِأَنَّ الذَّبْحَ فِيهَا أَيْسَرُ وَعُرُوقُ الذَّبْحِ فِيهَا مُجْتَمِعَةٌ فِي الْمَذْبَحِ، وَكُرِهَ نَحْرُهَا ; لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وَحَلَّ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ. (فَنَجِدُ) أَيْ: أَحْيَانًا (فِي بَطْنِهَا) أَيِ: الْمَذْكُورَاتِ (الْجَنِينَ) أَيِ: الْمَيِّتَ، وَيُحْتَمَلُ الْإِطْلَاقُ وَمَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ. (أَنُلْقِيهِ) أَيْ: حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ (أَمْ نَأْكُلُهُ؟) : بِأَنْ نَذْبَحَهُ، أَوْ نَكْتَفِيَ بِذَبْحِ أُمِّهِ؟ (قَالَ: كُلُوهُ) : الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ لِقَوْلِهِ: (إِنْ شِئْتُمْ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ تَرَدُّدِهِمْ هُوَ أَنَّ الْجَنِينَ هَلْ يَحِلُّ ذَبْحُهُ أَمْ لَا نَظَرًا إِلَى الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ صَغِيرًا؟ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَنِينِ وَأُمِّهِ فِي الذَّكَاةِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ذَاتُ رُوحٍ، وَقَدْ أَحَلَّهُمَا اللَّهُ لَنَا بِالذَّبْحِ، وَإِلَّا فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ كَوْنِهِ أَنْ لَا يَحِلَّ أَكْلُهُ لِشُمُولِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَلَا وَجْهَ لِسُؤَالِهِمْ حِينَئِذٍ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ حَلَالًا مَا خَيَّرَهُمْ فَإِنَّ فِي عَدَمِ أَكْلِهِ إِضَاعَةَ الْمَالِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ لَمَا حَلَّ ذَبْحُ أُمِّهِ ; لَأَنَّ فِي ذَبْحِهَا إِضَاعَتَهُ أُجِيبَ: بِأَنَّ مَوْتَهُ لَيْسَ بِمُتَيَقَّنٍ، بَلْ يُرْجَى إِدْرَاكُهُ فَيُذْبَحُ فَلَا يَحْرُمُ ذَبْحُ أُمِّهِ. (فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ) : الْكَلَامُ فِيهِ كَمَا سَبَقَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

4094 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: " أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَأْكُلَهَا، وَلَا يَقْطَعَ رَأْسَهَا فَيَرْمِيَ بِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4094 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا) : بِالضَّمِّ وَهُوَ طَائِرٌ صَغِيرٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقَامُوسِ: وَهِيَ بِهَاءٍ اهـ. فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَلِذَا أُنِّثَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (فَمَا فَوْقَهَا) أَيْ: فِي الْحَقَارَةِ وَالصِّغَرِ، أَوْ فِي كِبَرِ الْجُثَّةِ وَالْعِظَمِ (بِغَيْرِ حَقِّهَا) : وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِأَكْلِهَا (سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِ) أَيْ: عَاتَبَهُ وَعَذَّبَهُ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنَّثَ ضَمِيرُ الْعُصْفُورِ تَارَةً نَظَرًا إِلَى الْجِنْسِ، وَذَكَّرَهُ أُخْرَى بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ. (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا حَقُّهَا؟) : بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ جَرُّهَا عَلَى الْحِكَايَةِ (قَالَ: أَنْ يَذْبَحَهَا) أَيْ: إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهَا بِنَوْعٍ آخَرَ. (فَيَأْكُلَهَا) أَيْ: فَيَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا يَرْمِيهَا فَيُضَيِّعُهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ كَرَاهَةُ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ الْأَكْلِ اهـ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَلِهَذَا «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ» كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَقُّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، كَمَا أَنَّ قَطْعَ الرَّأْسِ وَالرَّمْيَ عِبَارَةٌ عَنْ ضَيَاعِ حَقِّهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (وَلَا يَقْطَعَ رَأْسَهَا فَيَرْمِيَ بِهَا) : كَالتَّأْكِيدِ لِلسَّابِقِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنْ قَطْعِ الرَّأْسِ وَالرَّمْيِ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ عِبَارَةِ الطِّيبِيِّ ; لِأَنَّ الرَّمْيَ مُتَعَيَّنٌ مَعَ قَطْعِ الرَّأْسِ، وَإِنَّمَا الرَّمْيُ الْمَنْهِيُّ بَعْدَ ذَبْحِهَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ كَرَاهَةُ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ عِنْدَ قُدُومِ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَأَوَانِ حُدُوثِ نِعْمَةٍ تَتَجَدَّدُ لَهُمْ، وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ ذَبْحَهُ وَأَكْلَهُ، أَوْ إِطْعَامَهُ لِلْفُقَرَاءِ لَا وَجْهَ لِكَرَاهَتِهِ، بَلْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَحَرَ جَزُورًا، أَوْ بَقَرَةً» . وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: الضِّيَافَةُ سُنَّةٌ بَعْدَ الْقُدُومِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ( «مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا بِغَيْرِ حَقٍّ سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «مَا مِنْ دَابَّةٍ طَائِرٍ وَلَا غَيْرِهِ يُقْتَلُ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا سَتُخَاصِمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

4095 - وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَجُبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ، وَيَقْطَعُونَ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ. فَقَالَ: " مَا يُقْطَعُ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4095 - (وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو وَاقِدٍ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ اللَّيْثِيُّ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ سَنَةً وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَدُفِنَ بِفَتْحٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَجُبُّونَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَقْطَعُونَ (أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ) : بِكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ سَنَامٍ (وَيَقْطَعُونَ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا جَمْعُ أَلْيَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ طَرَفُ الشَّاةِ (فَقَالَ: مَا يُقْطَعُ) : (مَا) مَوْصُولَةٌ وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: (مِنَ الْبَهِيمَةِ) : بَيَانِيَّةٌ (وَهِيَ حَيَّةٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَهِيَ) أَيْ: مَا يُقْطَعُ وَأُنِّثَ لِتَأْنِيثِ خَبَرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (مَيْتَةٌ) : وَالْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ: (لَا تُؤْكَلُ) : صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ: كَمَيْتَةٍ، وَالْمَعْنَى حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَيْتَةِ فِي أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ، أَوِ الْمَعْنَى فَهِيَ مَيْتَةٌ شَرْعًا، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الشَّيْءِ حَيًّا وَبَعْضُهُ مَيْتًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: كُلُّ عُضْوٍ قُطِعَ فَذَلِكَ الْعُضْوُ حَرَامٌ ; لِأَنَّهُ مَيِّتٌ بِزَوَالِ الْحَيَاةِ عَنْهُ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَنُهُوا عَنْهُ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَنْشَأُ سُؤَالِ الصَّحَابَةِ عَنِ الْجَنِينِ، فَإِنَّهُ كَالْجُزْءِ الْمُنْفَصِلِ عَنِ الْمَيِّتِ، فَالْقِيَاسُ بِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) : وَلَفْظُ الشُّمُنِّيِّ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ( «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَكَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي تَمِيمٍ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ. 4096 - عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، «عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَرْعَى لِقْحَةً بِشِعْبٍ مِنْ شِعَابِ أُحُدٍ، فَرَأَى بِهَا الْمَوْتَ، فَلَمْ يَجِدْ مَا يَنْحَرُهَا بِهِ، فَأَخَذَ وَتِدًا فَوَجَأَ بِهِ فِي لَبَّتِهَا حَتَّى أَهْرَاقَ دَمَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَمَالِكٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ فَذَكَّاهَا بِشِظَاظٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ. 4096 - (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّابِعِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْمَدِينَةِ، كَانَ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. (عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ) : يَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَجَهَالَتُهُ لَا تَضُرُّ بِالرِّوَايَةِ (أَنَّهُ) أَيِ: الرَّجُلُ (كَانَ يَرْعَى لَقْحَةً) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُفْتَحُ وَبِسُكُونِ الْقَافِ أَيْ: نَاقَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالنِّتَاجِ (بِشِعْبٍ مِنْ شِعَابِ أُحُدٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا، وَأُحُدٌ بِضَمِّهِمَا جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ. وَالشِّعْبُ هُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ، وَمَسِيلُ الْمَاءِ فِي بَطْنِ أَرْضٍ، وَمَا انْفَرَجَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ بِالْفَارِسِيَّةِ دره كَذَا فِي الْقَامُوسِ، (فَرَأَى) أَيِ: الرَّجُلُ (بِهَا) أَيْ: بِاللِّقْحَةِ (الْمَوْتَ) أَيْ: أَثَرَهُ (فَلَمْ يَجِدْ مَا يَنْحَرُهَا بِهِ) أَيْ: مِنْ سِكِّينٍ وَنَحْوِهِ (فَأَخَذَ وَتِدًا) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ بِالْفَتْحِ وَالتَّحْرِيكِ كَكَتِفٍ (فَوَجَأَ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْجِيمِ وَالْهَمْزِ أَيْ: ضَرَبَ (بِهِ) أَيْ: بِالْوَتِدِ يَعْنِي بِحَدِّهِ (فِي لَبَّتِهَا) : مِنْ قَبِيلِ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي أَيْ: فَأَوْقَعَ الضَّرْبَ بِهِ فِي لَبَّتِهَا (حَتَّى أَهْرَاقَ) : بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَرَاقَ وَأَسَالَ (دَمَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بِمَا جَرَى لَهُ مَعَهَا (فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَمَالِكٌ) : وَلَعَلَّ تَقَدُّمَ أَبِي دَاوُدَ لِكَوْنِ لَفْظِ الْحَدِيثِ لَهُ أَوْ لِيَصِيرَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: (وَفِي رُوَاتِهِ: قَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ بَدَلَ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَخَذَ وَتِدًا فَوَجَأَ بِهِ فِي لَبَّتِهَا حَتَّى أَهْرَاقَ دَمَهَا (فَذَكَّاهَا) أَيْ: ذَبَحَهَا (بِشِظَاظٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِ الْمُعْجَمَاتِ، وَهُوَ خَشَبَةٌ مُحَدَّدَةُ الطَّرَفِ تُدْخَلُ فِي عُرْوَتَيِ الْجَوْلَقِيِّ لِيَجْمَعَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ حَمْلِهِمَا عَلَى الْبَعِيرِ وَالْجَمْعُ أَشِظَّةٌ.

4097 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ إِلَّا وَقَدْ ذَكَّاهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4097 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ إِلَّا وَقَدْ ذَكَّاهَا لِبَنِي آدَمَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى أَحَلَّهَا لَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَتِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُبَاحُ مَيْتَاتُ الْبَحْرِ كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا مَاتَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاصْطِيَادِهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى إِبَاحَةِ السَّمَكِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يَحْرُمُ الضُّفْدَعُ لِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا. قَالُوا: وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا يَحِلُّ جَمِيعُهُ لِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالثَّانِي لَا يَحِلُّ، وَالثَّالِثُ يَحِلُّ مَا لَهُ نَظِيرٌ مَأْكُولٌ فِي الْبَرِّ دُونَ مَا لَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ، فَعَلَى هَذَا يُؤْكَلُ خَيْلُ الْبَحْرِ وَغَنَمُهُ وَظِبَاؤُهُ دُونَ كَلْبِهِ وَخِنْزِيرِهِ وَحِمَارِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، أَبَاحَ مَالِكٌ الضُّفْدَعَ وَالْجَمِيعَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ غَيْرُ السَّمَكِ، دَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى: صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: طَعَامُهُ إِلَّا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: رَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ، وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلْحِفَاةِ بَأْسًا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِالسَّرَطَانِ بَأْسٌ اهـ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يَحِلُّ حَيَوَانٌ مَائِيٌّ سِوَى السَّمَكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَمَا سِوَى السَّمَكِ خَبِيثٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْقُرَشِيِّ: ( «أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الضُّفْدَعِ يَجْعَلُهَا فِي الدَّوَاءِ؟ . فَنَهَى عَنْ قَتْلِهَا» ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الضُّفْدَعِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ (إِمَّا لِحُرْمَتِهِ كَالْآدَمِيِّ وَإِمَّا لِتَحْرِيمِ أَكْلِهِ كَالصُّرَدِ وَالضُّفْدَعِ لَيْسَ بِمُحْتَرَمٍ، فَكَانَ النَّهْيُ مُنْصَرِفًا إِلَى أَكْلِهِ، ثُمَّ جَوَازُ أَكْلِ السَّمَكِ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَطْفُ أَيْ لَمْ يَعْلُ عَلَى الْمَاءِ، لِأَنَّ السَّمَكَ الطَّافِيَ يُكْرَهُ أَكْلُهُ عِنْدَنَا لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ

جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ» ) . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا كَرَاهَةَ أَكْلِ الطَّافِي، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ. (رَوَاهُ الْدَارَقُطْنِيُّ) .

[باب ذكر الكلب]

[بَابُ ذِكْرِ الْكَلْبِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 4098 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [1]- بَابُ ذِكْرِ الْكَلْبِ. أَيْ هَذَا بَابٌ ذُكِرَ فِي أَحَادِيثِهِ حُكْمُ الْكَلْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ مَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ مِنَ الْكِلَابِ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَهُوَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِلْبَابِ السَّابِقِ. قُلْتُ: أَوْ كَالتَّوْطِئَةِ وَالْمُقَدِّمَةِ لِلْبَابِ اللَّاحِقِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 4098 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اقْتَنَى) أَيْ: حَفِظَ وَحَبَسَ وَأَمْسَكَ (كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِلَّا هُنَا. بِمَعْنَى غَيْرٍ صِفَةٌ " لِكَلْبًا " لَا لِلِاسْتِثْنَاءِ لِتَعَذُّرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُنَزَّلَ النَّكِرَةُ مَنْزِلَةَ الْمَعْرِفَةِ، فَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً لَا صِفَةً كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنِ اقْتَنَى الْكَلْبَ إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ (أَوْ ضَارٍ) : بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ الْمُنَوَّنَةِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَاشِيَةٍ أَيْ: وَإِلَّا كَلْبٌ مُعَلَّمٌ لِلصَّيْدِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الضَّارِي مِنَ الْكِلَابِ مَا يَهِيجُ بِالصَّيْدِ، يُقَالُ: ضَرَى الْكَلْبُ بِالصَّيْدِ ضَرَاوَةً أَيْ تَعَوَّدَهُ، وَمِنْ حَقِّ اللَّفْظِ أَوْ ضَارِيًا عَطْفًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَتَحَقَّقَ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَرْكَ التَّنْوِينِ فِيهِ خَطَأٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ: ضَارِي بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضِهَا ضَارِيًا بِالْأَلِفِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَأَمَّا ضَارِيًا فَهُوَ ظَاهِرُ الْإِعْرَابِ، وَأَمَا ضَارٍ وَضَارِي فَهُمَا مَجْرُورَانِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَاشِيَةٍ، وَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ كَمَاءِ الْمَاوَرْدِ، وَمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَثُبُوتُ الْيَاءِ فِي ضَارِي عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ فِي إِثْبَاتِهَا فِي الْمَنْقُوصِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَإِضَافَةُ الْكَلْبِ إِلَى ضَارٍ عَلَى قَصْدِ الْإِبْهَامِ وَالتَّخْصِيصِ، فَإِنَّ الْكَلْبَ قَدْ يَكُونُ ضَارِيًا وَقَدْ لَا يَكُونُ ضَارِيًا (نُقِصَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَعْلُومِ وَهُوَ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا اللُّزُومُ أَيِ: انْتَقَصَ (مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (قِيرَاطَانِ) : فَاعِلٌ أَوْ نَائِبُهُ أَيْ: مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ الْمَاضِي، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى التَّهْدِيدِ؛ لِأَنَّ حَبْطَ الْحَسَنَةِ بِالسَّيِّئَةِ لَيْسَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ: أَيْ: مِنْ ثَوَابِ عَمَلِ الْمُسْتَقْبَلِ حِينَ يُوجَدُ، وَهَذَا أَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا نَقَصَ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهِ، وَلَا يُكْتَبُ لَهُ كَمَا يُكْتَبُ لِغَيْرِهِ مِنْ كَمَالِ فَضْلِهِ لَا يَكُونُ حَبْطًا لِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اقْتَنَى النَّجَاسَةَ مَعَ وُجُوبِ التَّجَنُّبِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ، وَجَعَلَهَا وَسِيلَةً لِرَدِّ السَّائِلِ وَالضَّعِيفِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُقْصَانِ الْأَجْرِ بِاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ، فَقِيلَ: لِامْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ دُخُولِ بَيْتِهِ، وَقِيلَ: لِمَا يَلْحَقُ الْمَارِّينَ مِنَ الْأَذَى مِنْ تَرْوِيعِ الْكَلْبِ لَهُمْ وَقَصْدِهِ إِيَّاهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ لِاتِّخَاذِهِمْ مَا نُهِيَ عَنِ اتِّخَاذِهِ وَعِصْيَانِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: لِمَا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ وُلُوغِهِ فِي الْأَوَانِي عِنْدَ غَفْلَةِ صَاحِبِهِ وَلَا يَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

4099 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ، انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4099 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا) أَيِ: اقْتَنَاهُ وَحَفِظَهُ (إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ، انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ) : التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ، فَالْقِيرَاطَانِ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِفَضْلِهِمَا، وَالْقِيرَاطُ فِي غَيْرِهِمَا كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَيَّنَهُ الشَّارِعُ، وَقِيلَ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانَيْنِ، فَالْقِيرَاطَانِ لِلتَّغْلِيظِ لِكَثْرَةِ إِلْفَتِهِمْ بِالْكِلَابِ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مَعَهَا، بَلْ يَأْكُلُونَهَا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُ هَذَا فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي نَوْعَيْنِ مِنَ الْكِلَابِ. أَحَدُهُمَا أَشَدُّ أَذًى مِنَ الْآخَرِ، أَوْ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ، فَيَكُونُ الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِزِيَادَةِ فَضْلِهَا، وَالْقِيرَاطُ فِي غَيْرِهَا. قُلْتُ: لِكَوْنِهَا مَهْبِطَ الْوَحْيِ حِينَئِذٍ، وَهُوَ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْبَيْتِ فَلَا يُرَدُّ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَمَا وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ؟ قَالَ: أَوِ الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وَالْقِيرَاطُ فِي الْبَوَادِي، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي زَمَانَيْنِ، فَذَكَرَ الْقِيرَاطَ أَوَّلًا ثُمَّ زَادَ لِلتَّغْلِيظِ، فَذِكْرُ الْقِيرَاطَيْنِ وَالْقِيرَاطِ هُنَا مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ نَقْصُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ عَمَلِهِ اهـ. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ نِصْفُ دَانِقٍ وَهُوَ سُدُسُ الدِّرْهَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4100 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدَمُ مِنَ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4100 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْكِلَابِ) أَيْ: كِلَابِ الْمَدِينَةِ (حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ) : بِكَسْرِ إِنَّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرْأَةِ الْجِنْسُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ (تَقْدَمُ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ أَيْ: تَجِيءُ (مِنَ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ) : بِالنُّونِ أَيْ: نَحْنُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّاءِ أَيْ: هِيَ بِنَفْسِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَهِيَ غَايَةُ الْمَحْذُوفِ أَيْ: أَمَرَنَا بِقَتْلِ الْكِلَابِ فَقَتَلْنَا وَلَمْ نَدَعْ فِي الْمَدِينَةِ كَلْبًا إِلَّا قَتَلْنَاهُ، حَتَّى نَقْتُلَ كَلْبَ الْمَرْأَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَكَذَا نُصَّ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. (ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا) أَيْ: عَنْ قَتْلِ الْكِلَابِ بِعُمُومِهَا (وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ) أَيْ: بِقَتْلِهِ (الْبَهِيمِ) أَيِ: الَّذِي لَا بَيَاضَ فِيهِ (ذِي النُّقْطَتَيْنِ) أَيِ: الَّذِي فَوْقَ عَيْنَيْهِ نُقْطَتَانِ بَيْضَاوَانِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ) : قَالَ الْقَاضِي أَبُو لَيْلَى، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ: (إِنَّهُ شَيْطَانٌ) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنْ كَلْبٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْإِبِلِ إِنَّهَا جِنٌّ وَهُوَ مَوْلُودَةٌ مِنَ النُّوقِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ لَهُمَا بِالشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ، لِأَنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَرُّ الْكِلَابِ وَأَقَلُّهَا نَفْعًا، وَالْإِبِلُ شِبْهُ الْجِنِّ فِي صُعُوبَتِهَا وَصَاتِهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قِيلَ فِي تَخْصِيصِ كِلَابِ الْمَدِينَةِ بِالْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ مَهْبِطَ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ، وَهُمْ لَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَجَعَلَ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ شَيْطَانًا لِخُبْثِهِ، فَإِنَّهُ أَضُرُّ الْكِلَابِ وَأَعْقَرُهَا، وَالْكَلْبُ أَسْرَعُ إِلَيْهِ مِنْهُ إِلَى جَمِيعِهَا، وَهِيَ مَعَ هَذَا أَقَلُّهَا نَفْعًا، وَأَسَوَؤُهَا حِرَاسَةً، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الصَّيْدِ، وَأَكْثَرُهَا نُعَاسًا، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَحِلُّ صَيْدُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ الْعَقُورِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهَا كُلِّهَا، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ إِلَّا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ جَمِيعِ الْكِلَابِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ فِيهَا حَتَّى الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ اهـ. وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ وَإِفَادَةِ بُرْهَانٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4101 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ مَاشِيَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4101 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ) أَيْ: كُلِّهَا أَوْ كِلَابِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ كَمَا فِيمَا قَبْلَهَا أَوْ لِلشَّكِّ هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: أَوِ الْأُولَى لِلتَّنْوِيعِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّرْدِيدِ وَشَكَّ الرَّاوِي فَفِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي. 4102 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ، لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا كُلِّهَا فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ: " «وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَرْتَبِطُونَ كَلْبًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي. 4102 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُمَا صَحَابِيَّانِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ) أَيْ: جِنْسَهَا (أَمَةٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ (مِنَ الْأُمَمِ) : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] ، فَخَلْقُ كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَخْلُو مِنْ حِكْمَةٍ تَقْتَضِيهِ وَمَصْلَحَةٍ تَرْتَضِيهِ، فَلَوْلَا هَذَا (لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا كُلِّهَا، فَاقْتُلُوا) : جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إِلَى قَتْلِ الْكُلِّ لِهَذَا الْمَعْنَى فَاقْتُلُوا (مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ) : وَابْقُوا مَا

سِوَاهُ لِتَنْتَفِعُوا بِهِ فِي الْحِرَاسَةِ وَغَيْرِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: فَاقْتُلُوا مِنْهَا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ إِفْنَاءَ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَإِعْدَامَ جِيلٍ مِنَ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ خَلْقٍ لِلَّهِ تَعَالَى إِلَّا وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْحِكْمَةِ وَضَرْبٌ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا وَلَا سَبِيلَ إِلَى قَتْلِهِنَّ فَاقْتُلُوا شِرَارَهُنَّ وَهِيَ السُّودُ الْبُهْمُ، وَأَبْقُوا مَا سِوَاهَا لِتَنْتَفِعُوا بِهِنَّ فِي الْحِرَاسَةِ. قَالَ الطَّيبِيُّ قَوْلُهُ: أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] أَيْ: أَمْثَالُكُمْ فِي كَوْنِهَا دَالَّةً عَلَى الصَّانِعِ وَمُسَبِّحَةً لَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] " أَيْ: يُسَبِّحُ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوِ الْحَالِ، حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهَا بِالْقَتْلِ وَالْإِفْنَاءِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ كَقَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ، أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ كَذَبْحِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ جَازَ ذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) أَيْ: مُقْتَصِرِينَ عَلَى ذَلِكَ (وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ: وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَرْتَبِطُونَ كَلْبًا) أَيْ: يَحْبِسُونَهُ وَلَا يَطْرُدُونَهُ (إِلَّا نُقِصَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَعْلُومِ أَيِ: انْتَقَصَ (مِنْ عَمَلِهِمْ) أَيْ: مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ (كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ) أَيْ: يُصَادُ بِهِ (أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ) أَيْ: زَرْعٍ مِنْ حَبٍّ وَغَيْرِهِ يُحْرَسُ بِهِ (أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ) أَيْ: يَطْرُدُ الذِّئْبَ عَنْهَا، وَفِي مَعْنَاهَا سَائِرُ الْمَوَاشِي.

4103 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4103 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ» ) أَيْ: عَنِ الْإِغْرَاءِ بَيْنَهَا بِأَنْ يَنْطِحَ بَعْضُهَا بَعْضًا أَوْ يَدُوسَ أَوْ يَقْتُلَ. فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْإِغْرَاءُ وَتَمْيِيجُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا يُفْعَلُ بَيْنَ الْجِمَالِ وَالْكِبَاشِ وَالدُّيُوكِ وَغَيْرِهَا، يَعْنِي كَالْفِيلِ وَالْبَقَرِ وَكَمَا بَيْنَ الْبَقَرِ وَالْأَسَدِ، وَإِذَا كَانَ الْإِغْرَاءُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ مَنْهِيًّا، فَبِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَنْهِيًّا وَهُوَ كَثِيرٌ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

[باب ما يحل أكله وما يحرم]

[بَابُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 4104 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [2] بَابُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ. قَدَّمَ الْحَلَّالَ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَضْعًا وَالْمَطْلُوبُ شَرْعًا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4104 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ) : سَبَقَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ (فَأَكْلُهُ حَرَامٌ) : الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

4105 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4105 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ» ) أَيْ: عَنْ أَكْلِهِ وَأَبَاحَ مَالِكٌ ذَلِكَ مَعَ الْكَرَاهَةِ (وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ: وَأَبَاحَ ذَلِكَ مَالِكٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كُلُّ حَيَوَانٍ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ فَلَا يَحِلُّ شُرْبُ لَبَنِهِ إِلَّا الْآدَمَيَّاتِ، يَعْنِي لِلْأَطْفَالِ، وَكُلُّ طَيْرٍ لَا يَحِلُّ لَحْمُهُ لَا يَحِلُّ بَيْضُهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ» ، رَوَاهُ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

4106 - وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4106 - (وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ) أَيِ: الْخُشَنِيِّ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ (قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْبَرَاءِ، وَعَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ.

4107 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4107 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ» ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي إِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِبَاحَتِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى تَحْرِيمِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَكْلَ، وَذَكَرَ الْأَكْلَ فِي الْأَنْعَامِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَبِحَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنَ مَاجَهْ. وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنِ الْآيَةِ: بِأَنَّ ذِكْرَ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْفَعَتَهَا مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخَيْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] ، فَذَكَرَ اللَّحْمَ؛ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ وَدَمِهِ وَأَجْزَائِهِ. قُلْتُ: وَفِي كَوْنِهِ نَظِيرًا لِذَلِكَ نَظَرٌ ظَاهِرٌ. قَالَ: وَلِهَذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى الْخَيْلِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7] وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ هَذَا مَنْعُ حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى الْخَيْلِ. قُلْتُ: فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ السُّكُونِيِّ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ إِذْلَالِ الْخَيْلِ» وَهُوَ امْتِهَانُهَا فِي الْحَمْلِ عَلَيْهَا وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الذُّلِّ، وَأَنْشَدَ أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَحِبُّوا الْخَيْلَ وَاصْطَبِرُوا عَلَيْهَا ... فَإِنَّ الْعِزَّ فِيهَا وَالْجِمَالَا إِذَا مَا الْخَيْلُ ضَيَّعَهَا أُنَاسٌ ... رَبَطْنَاهَا فَأَشْرَكَتِ الْعِيَالَا نِقَاسِمُهَا الْمَعِيشَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... وَنَكْسُوهَا الْبَرَاقِعَ وَالْجَلَالَا قَالَ: وَعَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدِيثُ الْإِبَاحَةِ أَصَحُّ، وَيُشْبِهُ إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَحَادِيثِ الْإِبَاحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النَّهْيِ صَحِيحٌ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنْ أَنَّ دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيَّ مُخَالِفٌ لِدَعْوَاهُ مِنِ اتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ضَعِيفًا لَمَا احْتَاجُوا إِلَى الْقَوْلِ بِنَسْخِهِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ النَّسَائِيِّ: حَدِيثُ الْإِبَاحَةِ أَصَحُّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ حَدِيثَ التَّحْرِيمِ صَحِيحٌ، وَإِذَا

ثَبَتَ أَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ حَدِيثَ مُعَارِضِهِ أَصَحُّ لِعُرُوضِ الْفَسَادِ فِي الْإِسْنَادِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ بِإِسْنَادِهِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَتَتَرَجَّحُ الْحُرْمَةُ احْتِيَاطًا، وَأَمَّا دَعْوَى النَّسْخِ مَعَ كَوْنِهَا مُشْتَرَكَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ التَّارِيخِ مِنْ تَقْدِيمِ أَحَدِهَا عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ إِدْرَاجِ الْخَيْلِ مَعَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ يُقَوِّي الْحَدِيثَ وَيُؤَيِّدُهُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُهُ كَوْنُهَا آلَةً لِلْجِهَادِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] وَقَدْ أَقْسَمَ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] وَهِيَ خَيْلُ الْغَزْوِ الَّتِي تَعْدُو فَتَصِيحُ أَيْ تُصَوِّتُ بِأَجْوَافِهَا، فَلَا يُلَائِمُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُذْبَحُ فَيُؤْكَلُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْوِي نَاصِيَةَ فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» : الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ) . وَمَعْنَى عَقْدِ الْخَيْرِ بِنَوَاصِيهَا أَنَّهُ مُلَازِمٌ لَهَا كَأَنَّهُ مَعْقُودٌ فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالنَّاصِيَةِ هُنَا الشَّعْرُ الْمُسْتَرْسِلُ عَلَى الْجَبْهَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالُوا: وَكَنَّى بِالنَّاصِيَةِ عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْفَرَسِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ بَعْدَ النِّسَاءِ مِنَ الْخَيْلِ» . وَرُوِيَ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلُ مَنْ رَكِبَهَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْعِرَابَ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَحْشِيًّا كَسَائِرِ الْوُحُوشِ، فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِرَفْعِ الْقَوَاعِدِ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنِّي مُعْطِيكُمَا كَنْزًا ادَّخَرْتُهُ لَكُمَا) ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِسْمَاعِيلَ أَنِ اخْرُجْ فَادْعُ بِذَلِكَ الْكَنْزِ، فَخَرَجَ إِلَى أَجْيَادٍ وَكَانَ لَا يَدْرِي مَا الدُّعَاءُ وَالْكَنْزُ، فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الدُّعَاءَ، فَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَرَسٌ إِلَّا أَجَابَتْهُ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَوَاصِيهَا وَتَذَلَّلَتْ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «ارْكَبُوا الْخَيْلَ فَإِنَّهَا مِيرَاثُ أَبِيكُمْ إِسْمَاعِيلَ» ) وَلَعَلَّ حَدِيثَ الْإِبَاحَةِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، كَمَا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا قَالَ بِكَرَاهَةِ لَحْمِ الْخَيْلِ وَالْمُرَجَّحُ مِنْ مَذْهَبِهِ التَّحْرِيمُ، وَأَمَّا لَحْمُ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ الْأَهْلِيَّةِ فَحَرَامٌ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، وَاخْتَلَفُوا عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ مُغَلَّظَةٌ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ مُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ التَّحْرِيمُ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَكْلُ لَحْمِ الْبِغَالِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِبَاحَةُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ.

4108 - «وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ رَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَعَقَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟ " قَالَ: مَعَنَا رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا فَأَكَلَهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4108 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ رَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَعَقَرَهُ) أَيْ: جَرَحَهُ وَقَتَلَهُ وَسَأَلَ عَنْ جَوَازِ أَكْلِهِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: مَعَنَا رِجْلُهُ فَأَخَذَهَا فَأَكَلَهَا) : تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مُفَصَّلًا فِي بَابِ الْإِحْرَامِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4109 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَرِكِهَا وَفَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4109 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَنْفَجْنَا) : مِنَ الْإِنْفَاجِ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ وَالْجِيمِ أَيْ: هَيَّجْنَا وَأَثَرْنَا (أَرْنَبًا) أَيْ: مِنْ حِجْرِهَا، فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَنْفَجْتُ الْأَرْنَبَ مِنْ حِجْرِهِ فَنَفَجَ أَيْ: أَثَرْتُهُ فَثَارَ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرْنَبُ مَعْرُوفٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَوْ لَهَا، وَالْمَعْنَى أَقَمْنَاهَا مِنْ مَكَانِهَا. (بِمَرِّ الظَّهْرَانِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، مَوْضِعٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ قُرَيْبَ مَكَّةَ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، (فَأَخَذْتُهَا) أَيْ: مِمَّا بَيْنَهُمْ (فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ) : وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ أَنَسٍ (فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَرِكِهَا) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَرِكُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَكَتِفِ مَا فَوْقَ الْفَخِذِ مُؤَنَّثَةٌ، (وَفَخِذَيْهَا) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: هُمَا. وَفِي الْقَامُوسِ: الْفَخِذُ كَكَتِفِ مَا بَيْنَ السَّاقِ وَالْوَرِكِ كَالْفَخِذِ وَيُكْسَرُ (فَقَبِلَهُ) : يَعْنِي وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا لَمَا قَبِلَهُ وَلَنَهَى عَنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَبْعُوثِ أَوْ بِمَعْنَى اسْمِ الْإِشَارَةِ أَيْ: ذَاكَ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي الْأَرْنَبِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى إِبَاحَتِهِ وَكَرِهَهُ جَمَاعَةٌ، قَالُوا: إِنَّهَا تُدْمِي، وَفِي كِتَابِ الرَّحْمَةِ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْأَرْنَبَ حَلَالٌ بِالِاتِّفَاقِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4110 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4110 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الضَّبُّ) : فِي الْقَامُوسِ: هُوَ مَعْرُوفٌ وَهِيَ بِهَاءٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: دُوَيْبَةٌ لَطِيفَةٌ مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّ لَهُ ذَكَرَيْنِ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ يَعِيشُ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ، بَلْ يَكْتَفِي بِالنَّسِيمِ، وَيَبُولُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَطْرَةً، وَلَا يَسْقُطُ لَهُ سِنٌّ اهـ. وَهُوَ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ (لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ بَيَانُ إِظْهَارِ الْكَرَاهِيَةِ مِمَّا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: (فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ) اهـ. وَقِيلَ: عَدَمُ أَكْلِهِ لِعِيَافَةِ الطَّبْعِ وَعَدَمِ تَحْرِيمِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ يَعْنِي بَعْدُ، وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَتِهِ مِنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4111 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا، فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ. فَقَالَ خَالِدٌ: أَحْرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ " قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَيَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4111 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَخْبَرَهُ) أَيْ: حَدَّثَ خَالِدٌ ابْنَ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ) أَيْ: خَالِدٌ (دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَيْمُونَةَ) أَيْ: زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَهِيَ خَالَتُهُ) أَيْ: خَالَةُ خَالِدٍ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِوَجْهِ دُخُولِ خَالِدٍ عَلَيْهَا (وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ) : ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ أَوْ تَجْرِيدٌ (فَوَجَدَ) أَيْ: صَادَفَ خَالِدٌ (عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا) أَيْ: مَشْوِيًّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ} [الذاريات: 26] حَنِيذٍ وَقِيلَ الْمَشْوِيُّ عَلَى الرَّضَفِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ (فَقَدَّمَتْ) أَيْ: مَيْمُونَةُ (الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ) أَيِ: امْتَنَعَ ابْتِدَاءً عَنْ أَكْلِهِ (قَالَ خَالِدٌ: أَحْرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا) أَيْ: لَا أُحَرِّمُهُ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ (وَلَكِنْ) أَيْ: عَدَمُ أَكْلِي لِكَوْنِهِ (لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي) أَيْ: مِنْ قُرَيْشٍ، أَوْ مِنْ قَبِيلَةِ حَلِيمَةَ مُرْضِعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَأَجِدُنِي) أَيْ: أَرَى نَفْسِي (أَعَافُهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ أَيْ: أَكْرَهُهُ طَبْعًا لَا شَرْعًا (قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ) : بِالْجِيمِ أَيْ: جَرَرْتُهُ وَجَذَبْتُهُ إِلَيَّ (فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَيَّ) : أَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، وَقَالَ: فِيهِ إِبَاحَةُ أَكْلِ الضَّبِّ، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ، إِذْ لَوْ حُرِّمَ لَمَا أُكِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَقُولُ: وَكَذَا لَمَا قَالَ: لَا، لَكِنَّ هَذَا قَبْلَ النَّهْيِ الْآتِي عَنْ أَكْلِهِ، فَيَكُونُ مَنْسُوخًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الضَّبَّ حَلَالٌ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ كَرَاهَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَعَنْ قَوْمٍ هُوَ حَرَامٌ وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ اهـ. وَكَأَنَّهُ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4112 - «وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4112 - ( «وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ الدَّجَاجَ» ) أَيْ: لَحْمَهَا. وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ الدَّجَاجُ مُثَلَّثُ الدَّالِ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ دَجَاجَةٌ بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الدَّالِ لِلْمُذَكَّرِ وَبِفَتْحِهَا لِلْمُؤَنَّثِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي الشَّمَائِلِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى زُهْدُمٍ الْجِرْمِيِّ. قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَأَتَى بِلَحْمِ دَجَاجٍ فَتَنَحَّى رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ مَا لَكَ، قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهَا تَأْكُلُ شَيْئًا. وَفِي رِوَايَةٍ نَتَنًا، فَحَلَفْتُ أَنْ لَا آكُلَهَا. قَالَ: ادْنُ فَإِنِّي «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ لَحْمَ دَجَاجٍ» اهـ. وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ وَالدَّابَّةِ الْجَلَّالَةِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْأَغْنِيَاءَ بِاتِّخَاذِ الْغَنَمِ، وَأَمَرَ الْفُقَرَاءَ بِاتِّخَاذِ الدَّجَاجِ، وَقَالَ عِنْدَ اتِّخَاذِ الْأَغْنِيَاءِ الدَّجَاجَ: يَأْذَنُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَلَاكِ الْقُرَى، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ عُرْوَةَ الدِّمَشْقِيُّ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ. قَالَ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَ الْأَغْنِيَاءَ بِاتِّخَاذِ الْغَنَمِ، وَالْفُقَرَاءَ بِاتِّخَاذِ الدَّجَاجِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ بِحَسَبِ مَقْدِرَتِهِمْ وَمَا تَصِلُ إِلَيْهِ قُوَّتُهُمْ، وَالْقَصْدُ فِي تِلْكَ كُلِّهِ أَنْ لَا يَقْعُدَ النَّاسُ عَنِ الْكَسْبِ وَإِنْمَاءِ الْمَالِ وَعِمَارَةِ الدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يَدَعُوا التَّسَبُّبَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّعَفُّفَ وَالْقَنَاعَةَ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ، وَنَبْذُ ذَلِكَ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ يُوجِبُ الْحَاجَةَ وَالْمَسْأَلَةَ لِلنَّاسِ وَالتَّكَفُّفَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ شَرْعًا، وَأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ إِذَا ضَيَّقُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ فِي مَكَاسِبِهِمْ وَخَالَطُوهُمْ فِي مَعَايِشِهِمْ تَعَطَّلَ الْفُقَرَاءُ، وَفِي ذَلِكَ هَلَاكُ الْقُرَى.

وَمِنْ غَرَائِبِ اللَّطَائِفِ: مَا حَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ فِي تَرْجَمَتِهِ الْهَيْثَمَ بْنَ عَدِيٍّ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَوَّلِينَ كَانَ يَأْكُلُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ دَجَاجَةٌ مَشْوِيَّةٌ، فَجَاءَهُ سَائِلٌ فَرَدَّهُ خَائِبًا، وَكَانَ الرَّجُلُ مُتْرَفًا، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فُرْقَةٌ، وَذَهَبَ مَالُهُ وَتَزَوَّجَتِ امْرَأَتُهُ، فَبَيْنَمَا الزَّوْجُ الثَّانِي يَأْكُلُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ دَجَاجَةٌ مَشْوِيَّةٌ جَاءَهُ سَائِلٌ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: نَاوِلِيهِ الدَّجَاجَةَ فَنَاوَلَتْهُ وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ، فَأَخْبَرَتْهُ بِالْقِصَّةِ فَقَالَ الزَّوْجُ الثَّانِي: أَنَا وَاللَّهِ ذَلِكَ الْمِسْكِينُ الْأَوَّلُ خَوَّلَنِي اللَّهُ نِعْمَتَهُ وَأَهْلَهُ لِقِلَّةِ شُكْرِهِ.

4113 - «وَعَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَ غَزَوَاتٍ كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4113 - (وَعَنِ ابْنِ أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، بَلْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى هُوَ عَبْدُ بْنُ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، رَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ. (قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَ غَزَوَاتٍ كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ» ) : لَفْظُ: (مَعَهُ) لَيْسَ فِي مُسْلِمٍ وَلَا التِّرْمِذِيِّ. قَالَ. التُّورِبِشْتِيُّ: رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَعَهُ مُئَوَّلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَكَلُوهُ وَهُوَ مَعَهُ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ وَلَوْ صَرَفَهُ مُئَوِّلٌ إِلَى الْأَكْلِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَإِنَّمَا رَجَّحْنَا التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ لِخُلُوِّ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ الْجَرَادَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْجَرَادِ فَقَالَ: (أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ) . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتْرَكُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ قُلْنَا: لَمْ نَتْرُكْهُ، وَإِنَّمَا أَوَّلْنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ كَيْ يُوَافِقَ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ، وَلَا يُرَدُّ الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ وَهُوَ مِنَ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ اهـ. وَهُوَ مَعَ وُضُوحِهِ الْجَلِيِّ خَفِيَ عَلَى الطِّيبِيِّ فَقَالَ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَكَلُوهُ وَهُمْ مَعَهُ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْفِعْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ. قُلْتُ: التَّأْوِيلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعِيدًا مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ، ثُمَّ الْمَعِيَّةُ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْأَكْلِ لَوْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِهِ، وَجَعَلَهَا الشَّيْخُ مُتَعَلِّقَةً بِمُقَدَّرٍ، وَجَعَلَهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَلِذَا قَالَ: وَهُوَ مَعَهُ أَيْ: مُصَاحِبُونَ لَهُ فَلَا غُبَارَ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَتَعَيَّنُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الْخَالِيَةُ عَنْهُ مُطْلَقَةٌ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ، فَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. قُلْتُ: الْمُنَاقَشَةُ فِي تَحْقِيقِ التَّقْيِيدِ وَالْمُطْلَقِ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَكُفِيَ بِهِ لِلتَّأْيِيدِ قَالَ: وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْجَرَادِ: الْحَدِيثُ ضَعَّفَهُ مُحْيِي السُّنَّةِ، قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ تَضْعِيفِهِ تَضْعِيفُ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَدَّعِ تَصْحِيحَهُ لَا سِيَّمَا وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ضَعْفِهِ بِالتَّصْرِيحِ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ أَنَّهُ يُقَوِّيهِ، الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ الْجَرَادَ إِذْ نَفْيُ الْكَوْنِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ لُغَةً وَعُرْفًا، فَقَوْلُ الطِّيبِيِّ وَرِوَايَةُ الرَّاوِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ الْجَرَادَ إِخْبَارٌ عَنْ عَدَمِ الْأَكْلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَلَمْ يُشَاهِدْ اهـ. فَغَفْلَةٌ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ الْجَرَادُ يُؤْكَلُ مَيِّتًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُصْنَعُ بِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

4114 - «وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: غَزَوْتُ جَيْشَ الْخَبْطِ، وَأُمِّرَ عَلَيْنَا أَبُو عُبَيْدَةَ فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا، فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ، يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَأَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ " قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ فَأَكَلَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4114 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: غَزَوْتُ جَيْشَ الْخَبْطِ) ؟ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِهَا فَقِيلَ بِالتَّحْرِيكِ وَرَقُ الشَّجَرِ، وَبِالسُّكُونِ هَشُّ وَرَقِهَا بِالْعَصَا، وَسُمُّوا جَيْشَ الْخَبْطِ؛ لِأَنَّهُمْ أَكَلُوهُ مِنَ الْجُوعِ حَتَّى قَرَحَتْ أَشْدَاقُهُمْ بِسَبَبِ حَرَارَةِ ذَلِكَ الْوَرَقِ، فَصَارَتْ شِفَاهُهُمْ كَشِفَاهِ الْإِبِلِ، وَقَدْ ضُمِّنَ الْغَزْوُ مَعْنَى الصُّحْبَةِ أَيْ: صَحِبْتُ جَيْشَهُ وَغَزَوْتُ مَعَهُمْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَيْشُ الْخَبْطِ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: غَزَوْتُ مُصَاحِبًا لِجَيْشِ الْخَبْطِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ أَحَدُ نَوْعَيِ التَّضْمِينِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِيرَادِ الْبَاءِ حِينَئِذٍ إِلَّا لِلتَّقْوِيَةِ، وَلَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ فِي تَصْحِيحِ الْكَلَامِ. (وَأُمِّرَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ التَّأْمِيرِ أَيْ: وَجُعِلَ أَمِيرًا (عَلَيْنَا أَبُو عُبَيْدَةَ) أَيِ: ابْنُ الْجَرَّاحِ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا) أَيْ: وَأَكَلْنَا الْخَبْطَ (فَأَلْقَى الْبَحْرُ)

أَيْ: إِلَى السَّاحِلِ (حُوتًا مَيِّتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ) : فِي الْقَامُوسِ: مِنَ الطِّيبِ رَوْثُ دَابَّةٍ بِحْرِيَّةٍ أَوْ نَبْعُ عَيْنٍ فِيهِ وَيُؤَنَّثُ، وَسَمَكَةٌ بَحْرِيَّةٌ وَالتُّرْسُ مِنْ جِلْدِهَا، (فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ) : وَفِي رِوَايَةٍ: قُمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا، وَفِي أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْهُ الْجَيْشُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ مَنْ رَوَى شَهْرًا هُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ، وَمَنْ رَوَى دُونَهُ لَمْ يَنْفِ الزِّيَادَةَ وَلَوْ نَفَاهَا قُدِّمَ الْمُثْبَتُ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَا حُكْمَ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُ الزِّيَادَةِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ إِثْبَاتُ الزِّيَادَةِ، فَكَيْفَ وَقَدْ عَارَضَهُ؟ فَوَجَبَ قَبُولُ الزِّيَادَةِ. ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْأَظْهَرُ فِي وَجْهِ الْجَمْعِ أَنَّ نِصْفَ الشَّهْرِ كَانَ لِكُلِّهِمْ، وَإِلَى آخِرِ الشَّهْرِ كَانَ لِبَعْضِهِمْ، أَوْ نِصْفُهُ فِي الْإِقَامَةِ وَنِصْفُهُ الْآخَرُ فِي السَّفَرِ، أَوْ نِصْفُ شَهْرٍ فِي الذَّهَابِ وَنِصْفُهُ فِي الْإِيَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ) أَيْ: أَوْقَفَهُ (فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ) أَيْ: بِحَيْثُ لَمْ يَصِلْ رَأْسُهُ إِلَى مُنْتَهَى عَظْمِهِ (فَلَمَّا قَدِمْنَا) أَيِ: الْمَدِينَةَ (ذَكَرْنَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كُلُوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْضَرَ تِلْكَ الْحَالَةَ وَاسْتَحْمَدَهُمْ عَلَيْهَا، فَأَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: (رِزْقًا) : وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ (أَخْرَجَهُ اللَّهُ) : وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: (أَطْعِمُونَا) اهـ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، (وَأَطْعِمُونَا) أَيْ: مِنْهُ (إِنْ كَانَ مَعَكُمْ) أَيْ: شَيْءٌ مِنْهُ. (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ (فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ) أَيْ: بَعْضَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ (فَأَكَلَهُ) : وَإِنَّمَا طَلَبَهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ جَوَازُ أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ لِلضَّرُورَةِ وَأَكْلِهِ تَبَرُّكًا بِهِ حَيْثُ كَانَ رِزْقًا لِدُنْيَا لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ كَوْنِهِ مِنْ عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّمَا طَلَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَمُبَالَغَةً فِي حِلِّهِ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي إِبَاحَتِهِ، أَوْ قَصَدَ اسْتِحْبَابَ الْمُفْتِي أَنْ يَتَعَاطَى بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يَشُكُّ فِيهَا الْمُسْتَفْتِي إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى الْمُفْتِي، وَكَانَ فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ لِلْمُسْتَفْتِي اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: ذَكَرْنَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْمَشَقَّةِ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمُسْتَغْرَبَةِ، لَا أَنَّهُمْ شَكَّوا فِي حِلَّيَّتِهِ، كَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَكْلِهِ وَحَمْلِهِ إِلَى الْبَلَدِ مَعَ أَنَّ الْحَالَ حَالُ الِاضْطِرَارِ، وَقَدْ أُحِلَّتِ الْمَيْتَةُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4115 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدٍ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ ; فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الْآخَرِ دَاءً» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4115 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ) : قِيلَ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا ذُبَّ آبَ أَيْ: سَقَطَ (فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيَمْقُلْهُ أَيْ: فَلْيُدْخِلْهُ (كُلَّهُ) أَيْ: بِجَنَاحَيْهِ فِيمَا فِي الْإِنَاءِ مِنْ مَاءٍ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ ظَاهِرٌ لَا يُنَجِّسُهُ إِذْ لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ. (ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا أَيْ: يُخْرِجُهُ وَيَرْمِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِيَتْرَعْهُ (فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: طَرَفَيْهِ (شِفَاءً) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: دَوَاءً (وَفِي الْآخَرِ دَاءً) : وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدَّاءَ وَالشِّفَاءَ مَحْمُولَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِذْ لَا بَاعِثَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ وَجَدْنَا لِكَوْنِ أَحَدِ جَنَاحَيِ الذُّبَابِ دَاءً وَلِلْآخَرِ دَوَاءً فِيمَا أَقَامَهُ اللَّهُ لَنَا مِنْ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ وَبَدَائِعِ فِطْرَتِهِ شَوَاهِدَ وَنَظَائِرَ، فَمِنْهَا النَّحْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِهَا الشَّرَابُ النَّافِعُ، وَيَنْبُتُ مِنْ إِبْرَتِهَا السَّمُّ النَّاقِعُ، وَالْعَقْرَبُ تُهَيِّجُ الدَّاءَ بِإِبْرَتِهَا وَيُتَدَاوَى مِنْ ذَلِكَ بِجِرْمِهَا، وَأَمَّا اتِّقَاؤُهُ بِالْجَنَاحِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ فِي الْحِسَانِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَ الْحَيَوَانَ بِطَبْعِهِ الَّذِي جَبَلَهُ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَنْظُرِ الْمُتَعَجِّبُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى النَّمْلَةِ الَّتِي هِيَ أَصْغَرُ وَأَحْقَرُ مِنَ الذُّبَابِ كَيْفَ تَسْعَى فِي جَمْعِ الْقُوتِ، وَكَيْفَ تَصُونُ الْحَبَّ عَنِ النَّدَى بِاتِّخَاذِ الرَّيْعَةِ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ لِيَنْظُرْ إِلَى تَجْفِيفِهَا الْحَبَّ فِي الشَّمْسِ إِذَا أَثَّرَ فِيهِ النَّدَى، ثُمَّ إِنَّهَا تَقْطَعُ الْحَبَّ لِئَلَّا يَنْبُتَ وَتَتْرُكُ الْكُزْبَرَةَ بِحَالِهَا لِأَنَّهَا لَا تَنْبُتُ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ! وَأَيَّةُ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَى مَا أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا الْحَذَرُ مِنِ اضْطِرَابِ الطَّبَائِعِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى عَقَائِدِ ذَوِي الْأَوْضَاعِ الْوَاهِيَةِ وَإِلَى اللَّهِ لِلْجَارِ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَالنِّجَاءُ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذُّبَابَ طَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ أَجْسَامُ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ مِنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً إِذَا مَاتَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ شَرَابٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ الذُّبَابِ وَالنَّحْلِ وَالْعَقْرَبِ وَالْخُنْفِسَاءِ وَالزُّنْبُورِ وَنَحْوِهَا. وَهَذَا لِأَنَّ غَمْسَ الذُّبَابِ فِي الْإِنَاءِ قَدْ يَأْتِي عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ يُنَجِّسُهُ إِذَا مَاتَ فِيهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْغَمْسِ لِلْخَوْفِ مِنْ تَنَجُّسِ الطَّعَامِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ اهـ.

وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ: لَا يُفْسِدُ الْمَائِعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، وَالرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَائِعَ، وَلَكِنَّهُ يَنْجُسُ فِي نَفْسِهِ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: ( «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزَعْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي رِوَايَاتٌ أُخَرُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ.

4116 - وَعَنْ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4116 - (وَعَنْ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفِي نُسْخَةٍ قَالَتْ: إِنَّ (فَأْرَةً) : بِهَمْزَةٍ، وَالْمَشْهُورُ إِبْدَالُهَا (وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ) أَيْ: جَامِدٍ (فَمَاتَتْ) أَيْ: فِيهِ (فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا) أَيْ: عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَوْتِهَا (فَقَالَ: أَلْقُوهَا) أَيْ: أَخْرِجُوا الْفَأْرَةَ وَاطْرَحُوهَا (وَمَا حَوْلَهَا) أَيْ: كَذَلِكَ إِذَا كَانَ جَامِدًا (وَكُلُوهُ) أَيِ: السَّمْنُ يَعْنِي بَاقِيَهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنْ كَانَ مَائِعًا كَالزَّيْتِ يَتَنَجَّسُ الْكُلُّ، وَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ اتِّفَاقًا وَلَا بَيْعُهُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ يَنْجُسُ قَلَّ ذَلِكَ الْمَائِعُ أَوْ كَثُرَ، بِخِلَافِ الْمَاءِ حَيْثُ لَا يَنْجُسُ عِنْدَ الْكَثْرَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّيْتَ إِذَا مَاتَ فِيهِ فَأْرَةٌ أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَا تَقْرَبُوهُ) . وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِالِاسْتِصْبَاحِ وَتَدْهِينِ السُّفُنِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَا تَقْرَبُوهُ أَكْلًا وَطُعْمًا لَا انْتِفَاعًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

4117 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ، وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ، وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ " قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً أَقْتُلَهَا، نَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ: لَا تَقْتُلْهَا. فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ. فَقَالَ: إِنَّهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ، وَهُنَّ الْعَوَامِرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4117 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ) أَيْ: كُلَّهَا عُمُومًا (وَاقْتُلُوا) أَيْ: خُصُوصًا (ذَا الطُّفْيَتَيْنِ) : بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالتَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى صِيغَةِ التَّصْغِيرِ، أَيْ: صَاحِبَهَمَا وَهِيَ حَيَّةٌ خَبِيثَةٌ عَلَى ظَهْرِهَا خَطَّانِ أَسْوَدَانِ كَالطُّفْيَتَيْنِ، وَالطُّفْيَةُ بِالضَّمِّ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ خُوصَةُ الْمُقْلِ وَالْخُوَاصُ بِالضَّمِّ وَرَقُ النَّخْلِ الْوَاحِدَةُ بَهَاءٍ، وَالْمُقْلُ بِالضَّمِّ صَمْغُ شَجَرَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: الطُّفْيَةُ خُوصَةُ الْمُقْلِ شُبِّهَ بِهِ الْخَطَّانِ اللَّذَانِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ فِي قَوْلِهِ: (ذَا الطُّفْيَتَيْنِ) . (وَالْأَبْتَرَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى ذَا قِيلَ: هُوَ الَّذِي يُشْبِهُ الْمَقْطُوعَ الذَّنَبِ لِقَصَرِ ذَنَبِهِ، وَهُوَ مِنْ أَخْبَثِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ. (فَإِنَّمَا يَطْمِسَانِ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: يُعْمِيَانِ (الْبَصَرَ) أَيْ: بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا لِخَاصِّيَّةِ السَّمِّيَّةِ فِي بَصَرِهِمَا (وَيَسْتَسْقِطَانِ) : مِنْ بَابِ الِاسْتِفْعَالِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: وَيُسْقِطَانِ (الْحَبَلَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ الْجَنِينَ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا بِالْخَاصَّةِ السَّمِّيَّةِ، أَوْ مِنَ الْخَوْفِ النَّاشِئِ مِنْهُمَا لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: جَعَلَ مَا يَفْعَلَانِ بِالْخَاصَّةِ كَالَّذِي يُفْعَلُ بِقَصْدٍ وَطَلَبٍ، وَفِي خَوَاصِّ الْحَيَوَانِ عَجَائِبُ لَا تُنْكَرُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي خَوَاصِّ الْأَفْعَى أَنَّ الْحَبَلَ يَسْقُطُ عِنْدَ مُرَافَقَةِ النَّظَرَيْنِ، وَفِي خَوَاصِّ بَعْضِ الْحَيَّاتِ أَنَّ رُؤْيَتَهَا تُعْمِي، وَمِنَ الْحَيَّاتِ نَوْعٌ يُسَمَّى النَّاظُورَ مَتَى وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى إِنْسَانٍ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَنَوْعٌ آخَرُ إِذَا سَمِعَ الْإِنْسَانُ صَوْتَهُ مَاتَ. قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ أَيْ يَخْطَفَانِهِ لِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمَا إِلَيْهِ بِخَاصِّيَّةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي بَصَرِهِمَا إِذَا وَقَعَ عَلَى بَصَرِ الْإِنْسَانِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لِمُسْلِمٍ: يَخْطَفَانِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَفِي الْحَيَّاتِ نَوْعٌ يُسَمَّى النَّاظِرَ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى عَيْنِ الْإِنْسَانِ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - بِقَرِينَةِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ وَإِلَّا فَاصْطِلَاحُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ فَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْ: قَالَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: (فَبَيِنَا أَنَا أُطَارِدُ) : مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ

لِلْمُغَالَبَةِ أَوِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ: أَطْرُدُ (حَيَّةً) : وَأَتْبَعُهَا لِأَلْحَقَهَا (أَقْتُلَهَا) أَيْ: حَالَ كَوْنِي أُرِيدُ قَتْلَهَا (نَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ) : بِضَمِّ اللَّامِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (لَا تَقْتُلْهَا) : أَيْ قَالَ: لَا تَقْتُلْهَا أَوْ بِقَوْلِهِ: لَا تَقْتُلْهَا. وَفِي نُسْخَةٍ: لِمَ تَقْتُلُهَا؟ أَيْ: لِأَيِّ شَيْءٍ تُرِيدُ قَتْلَهَا؟ (فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ) أَيْ: جَمِيعِهَا (فَقَالَ: إِنَّهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ) : بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ: صَوَاحِبِهَا لِمُلَازَمَتِهَا (وَهُنَّ) أَيْ: ذَوَاتُ الْبُيُوتِ (الْعَوَامِرُ) أَيْ: لِلْبُيُوتِ حَيْثُ تَسْكُنُهَا وَلَمْ تُفَارِقْهَا. وَاحِدَتُهَا عَامِرَةٌ، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِهَا لِطُولِ عُمْرِهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ: وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: عُمَّارُ الْبُيُوتِ وَعَوَامِرُهَا سُكَّانُهَا مِنَ الْجِنِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا ( «اقْتُلُوا الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ» ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَرْفُوعًا ( «اقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ» ) . وَرَوَى الْخَطِيبُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ قَتَلَ حَيَّةً أَوْ عَقْرَبًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَ كَافِرًا. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ قَتَلَ حَيَّةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ رَجُلًا مُشْرِكًا قَدْ حَلَّ دَمُهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَرِيرٍ وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ مَرْفُوعًا: ( «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهُنَّ فَمَنْ خَافَ ثَأْرَهُنَّ فَلَيْسَ مِنِّي» ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُطْلَقَةٌ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا عَدَا سِوَاكِنَ الْبُيُوتِ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ وَلِمَا يَلِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ.

4118 - وَعَنْ أَبِي السَّائِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «دَخَلْنَا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ، إِذْ سَمِعْنَا تَحْتَ سَرِيرِهِ حَرَكَةً فَنَظَرْنَا، فَإِذَا فِيهِ حَيَّةٌ، فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا وَأَبُو سَعِيدٍ يُصَلِّي، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ، فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْصَافِ النَّهَارِ، فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَى " عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ "، فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ، فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةٌ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ، وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ. فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ، وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ، فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ، فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا: الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى؟ قَالَ: فَجِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لَنَا. فَقَالَ: " اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ " ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِذَا ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ " وَقَالَ لَهُمْ: " اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4118 - (وَعَنْ أَبِي السَّائِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : هُوَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ تَابِعِيٌّ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ، إِذْ سَمِعْنَا تَحْتَ سَرِيرِهِ حَرَكَةً) أَيْ: خَشْخَشَةً (فَنَظَرْنَا، فَإِذَا فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ (حَيَّةٌ، فَوَثَبْتُ) أَيْ: قُمْتُ بِسُرْعَةٍ لِأَقْتُلَهَا وَأَبُو سَعِيدٍ يُصَلِّي، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ) : أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْبَاءُ مُقَدَّرَةٌ قَبْلَهَا، أَوْ تَفْسِيرِيَّةٌ؛ لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ مَعْنَى الْقَوْلِ، (فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ) أَيْ: فِي جُمْلَتِهَا وَمِنْ حَوَالَيْهَا (فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقَلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: كَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ إِنْ كَانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ أَيْ إِنَّهُ كَانَ (فِيهِ فَتًى) أَيْ: شَابٌّ (مِنَّا) أَيْ: مِنْ قَرَابَتِنَا أَوْ جَمَاعَتِنَا (حَدِيثُ عَهْدٍ) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مِنَّا اهـ. وَالْمَعْنَى حَدِيثُ عَهْدٍ (بِعُرْسٍ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ فَفِي الْمُغْرِبِ: أَعْرَسَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ بَنَى عَلَيْهَا، وَالْعُرْسُ بِالضَّمِّ الِاسْمُ، وَمِنْهُ إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ أَيْ: إِلَى طَعَامِ أَعْرَاسٍ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَخَرَجْنَا) أَيْ: نَحْنُ وَالشَّابُّ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ) أَيْ: غَزْوَتِهِ (فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِلرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ لِتَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِحُبِّهِ وَلُبِّهِ (بِأَنْصَافِ النَّهَارِ) أَيْ: فِي أَوَّلِ أَوْسَاطِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: مُنْتَصَفُهُ، وَكَأَنَّهُ وَقْتُ آخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَأَوَّلُ النِّصْفِ الثَّانِي فَجَمَعَهُ كَمَا قَالُوا: ظُهُورُ التُّرْسَيْنِ وَرُجُوعُهُ إِلَى أَهْلِهِ لِيُطَالِعَ حَالَهُمْ، وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُمْ وَيُؤْنِسَ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهَا كَانَتْ عَرُوسًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّهَارِ الْجِنْسُ، وَأَتَى بِالْإِفْرَادِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ (فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ) أَيْ: ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْخَنْدَقِ أَوْ يُتِمُّ عِنْدَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ، ثُمَّ فِي الصُّبْحِ يَرْجِعُ إِلَى الْغَزْوِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ) أَيِ: احْمِلْ عَلَيْكَ السِّلَاحَ آخِذًا حَذَرَكَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَهُمْ

طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ سُكَّانٍ حَوْلَ الْمَدِينَةِ السَّكِينَةِ (فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ) أَيْ: بَعْدَ أَخْذِ السِّلَاحِ إِلَى أَهْلِهِ (فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ) أَيْ: بَابِ بَيْتِهَا وَبَابِ غَيْرِهَا أَوْ بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ (قَائِمَةٌ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ) أَيْ: قَصَدَ مَا بِهِ، أَوْ أَشَارَ بِهِ إِلَيْهَا، أَوْ مَدَّهُ إِلَيْهَا (لِيَطْعَنَهَا بِهِ، وَأَصَابَتْهُ) : حَالٌ مِنَ الْمَسْتَكِنِّ فِي أَهْوَى أَيْ: وَقَدْ أَصَابَ الْفَتَى (غَيْرَةٌ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: حَمِيَّةٌ (قَالَتْ) : أَيِ امْرَأَتُهُ لَهُ: اكْفُفْ) : بِضَمِّ الْفَاءِ الْأُولَى أَيِ: احْفَظْ (عَلَيْكَ رُمْحَكَ، وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ) أَيْ: مُلْتَوِيَةٍ مُرْتَمِيَةٍ (عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ، فَانْتَظَمَهَا بِهِ) أَيْ: غَرَزَ الرُّمْحَ فِي الْحَيَّةِ حَتَّى طَوَّقَهَا فِيهِ فَشَبَّهَهُ بِالسِّلْكِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْخَرَزِ، وَفِي الْأَسَاسِ رَمَى صَيْدًا فَانْتَظَمَهُ بِسَهْمٍ وَطَعَنَهُ فَانْتَظَمَ بِسَاقَيْهِ أَوْ جَنْبَيْهِ، (ثُمَّ خَرَجَ أَيْ: مِنَ الْبَيْتِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهِ أَيْ: مُلْتَبِسًا بِالْحَيَّةِ، (فَرَكَزَهُ) أَيْ: غَرَزَ الرُّمْحَ فِي الدَّارِ (فَاضْطَرَبَتْ) أَيِ: الْحَيَّةُ (عَلَيْهِ) أَيْ: صَائِلَةً عَلَى الْفَتَى (فَمَا يُدْرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: مَا يُعْلَمُ (أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى؟) : بِالرَّفْعِ بَيَانٌ لِأَيُّهُمَا. (قَالَ) : أَيْ أَبُو سَعِيدٍ (فَجِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لَنَا) . بِالرَّفْعِ أَيْ هُوَ يُحْيِي الْفَتَى بِدُعَائِكَ. (قَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الَّذِي يَنْفَعُهُ هُوَ اسْتِغْفَارُكُمْ لَا الدُّعَاءُ بِالْإِحْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَضَى سَبِيلُهُ اهـ. وَلَيْسَ فِيهِ عَجْزُهُ عَنِ الْمُعْجِزَةِ مِنْهُ، بَلْ سَدٌّ لِهَذَا الْبَابِ، وَبِهِ يَتِمُّ الْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (ثُمَّ قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ» ، أَيْ سِوَاكِنَ (فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا) : أَيْ مِنَ الْعَوَامِرِ يَعْنِي مِنْ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْهُمْ أَيْ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ (شَيْئًا) : أَيْ أَحَدًا تَصَوَّرَ بِصُورَةِ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَّاتِ (فَحَرِّجُوا) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ ضَيِّقُوا (عَلَيْهَا ثَلَاثًا) ، أَيْ قُولُوا لَهَا: أَنْتِ فِي حَرَجٍ أَيْ ضِيقٍ إِنْ عُدْتِ إِلَيْنَا فَلَا تَلُومِينَا أَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْكُمْ بِالتَّتَبُّعِ وَالطَّرْدِ وَالْقَتْلِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رَوَى ابْنُ الْحَبِيبِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَقُولُ: ( «أُنْشِدُكُمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنْ لَا تُؤْذُونَا وَلَا تَظْهَرُوا لَنَا» ) . وَنَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ. (فَإِنْ ذَهَبَ) : أَيْ بِالتَّحْرِيجِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ (وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ) . قَالَ شَارِحٌ: أَيْ شَدِّدُوا عَلَى الْحَيَّةِ وَنَفِّرُوهَا، فَإِنْ نَفَرَ وَتَوَارَى فَذَاكَ، وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ أَيْ كَالْكَافِرِ فِي جَرَاءَتِهِ وَصَوْلَتِهِ وَقَصْدِهِ وَكَوْنِهِ مُؤْذِيًا، وَقِيلَ: أَرَادَ بِعَوَامِرِ الْبَيْتِ سُكَّانَهَا مِنَ الْجِنِّ أَيْ أَنَّهَا حِينًا تُشَكَّلُ بِشَكْلِ الْحَيَّاتِ، وَأَرَادَ بِالتَّحْرِيجِ التَّشْدِيدَ بِالْحَلِفِ عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ لَهَا: (أَسْأَلُكِ بِعَهْدِ نُوحٍ وَبِعَهْدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنْ لَا تُؤْذِينَا) . (وَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَهُمْ) : أَيْ لِأَصْحَابِ الْبَيْتِ (اذْهَبُوا) : أَمْرُ وُجُوبٍ عَلَى الْكِفَايَةِ أَيِ ارْجِعُوا وَجَهِّزُوا (فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ) . أَيْ بَعْدِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ لِمُسْلِمٍ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ السَّابِقِ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ إِلَخْ. (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا) : أَيْ طَائِفَةً مِنْهُمْ (قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْهَا أَيْ مِنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ (شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) ،. بِمَدِّ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الذَّالِ أَمْرٌ مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْذَارُ وَالِاعْتِذَارُ، وَالْمَعْنَى قُولُوا لَهُ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ أَوْ حَلِّفُوهُ وَقُولُوا: بِاللَّهِ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. (فَإِنْ بَدَا) : بِالْأَلِفِ أَيْ ظَهَرَ (لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) . أَيْ فَلَيْسَ بِجِنِّيٍّ مُسْلِمٍ، بَلْ هُوَ إِمَّا جِنِّيٌّ كَافِرٌ، وَإِمَّا حَيَّةٌ، وَإِمَّا وَلَدٌ مِنْ أَوْلَادِ إِبْلِيسَ، أَوْ سَمَّاهُ شَيْطَانًا لِتَمَرُّدِهِ وَعَدَمِ ذَهَابِهِ بِالْإِيذَانِ، وَكُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّابَّةِ يُسَمَّى شَيْطَانًا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِالْإِنْذَارِ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ، وَلَا مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْجِنِّ، بَلْ هُوَ شَيْطَانٌ، فَلَا حُرْمَةَ لَهُ فَاقْتُلُوهُ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ سَبِيلًا إِلَى الْإِضْرَارِ بِكُمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. وَمَالِكٌ فِي آخِرِ الْمُوَطَّأِ وَغَيْرُهُمْ.

4119 - وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَقَالَ: " كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4119 - (وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) : وَهِيَ عَزْمَةُ بِنْتُ دُودَانَ بِضَمِّ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ لَهَا صُحْبَةٌ، أَوْ أُمُّ شَرِيكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ» ) : بِوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ وَزَايٍ كَذَلِكَ وَبِمُعْجَمَةٍ وَاحِدُهَا وَزَغَةٌ، وَهِيَ دُوَيْبَةٌ مُؤْذِيَةٌ وِسَامُّ أَبْرَصَ كَبِيرُهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْوَزَغُ جَمْعُ وَزَغَةٍ بِالتَّحْرِيكِ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا سَامُّ أَبْرَصَ (وَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَانَ) : أَيِ الْوَزَغُ (يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) . أَيْ عَلَى نَارٍ تَحْتَهُ. قَالَ الْقَاضِي: بَيَانٌ لِخُبْثِ هَذَا النَّوْعِ وَفَسَادِهِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ فِي ذَلِكَ مَبْلَغًا اسْتَعْمَلَهُ الشَّيْطَانُ، فَحَمَلَهُ عَلَى أَنْ نَفَخَ فِي النَّارِ الَّتِي أُلْقِيَ فِيهَا خَلِيلُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَسَعَى فِي اشْتِعَالِهَا، وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ الْمُؤْذِيَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَمِنْ شَغَفِهَا إِفْسَادُ الطَّعَامِ خُصُوصًا الْمِلْحَ، فَإِنَّهَا إِذَا لَمْ تَجِدْ طَرِيقًا إِلَى إِفْسَادِهِ ارْتَقَتِ السَّقْفَ وَأَلْقَتْ خَرَأَهَا فِي مَوْضِعٍ يُحَاذِيهِ. وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ جِبِلَّتَهَا عَلَى الْإِسَاءَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4120 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4120 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا» ) ، تَصْغِيرُ فَاسِقٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: تَسْمِيَتُهُ فُوَيْسِقًا؛ لِأَنَّهُ نَظِيرُ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ الَّتِي تُقْتَلُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَأَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ خَرَجَتْ عَنْ خُلُقِ مُعْظَمِ الْحَشَرَاتِ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ وَالْأَذَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا تَصْغِيرُهُ فَلِلتَّعْظِيمِ كَمَا فِي دُوَيْهِيَةٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ أَوْ لِلتَّحْقِيرِ لِإِلْحَاقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ اهـ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4121 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ، وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4121 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ» ) : بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ (كُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ) : أَيْ وَمَنْ قَتَلَ فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ (دُونَ ذَلِكَ) ، أَيْ كُتِبَ لَهُ أَقَلُّ مِمَّا ذُكِرَ، أَوِ التَّقْدِيرُ وَقَتَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ فِي الثَّوَابِ (وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ) أَيْ أَقَلُّ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهَكَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: سَبَبُ تَكْثِيرِ الثَّوَابِ فِي قَتْلِهِ أَوَّلَ ضَرْبَةٍ الْحَثُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِقَتْلِهِ، وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ فَاتَهُ رُبَّمَا انْفَلَتَ وَفَاتَ قَتْلُهُ، وَالْمَقْصُودُ انْتِهَازُ الْفُرْصَةِ بِالظَّفَرِ عَلَى قَتْلِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَلَهُ سَبْعُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فَلَهُ حَسَنَةٌ» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ قَتَلَ وَزَغًا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعَ خَطِيئَاتٍ» ) .

4122 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ؟» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4122 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَرَصَتْ) : أَيْ لَسَعَتْ وَلَدَغَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَرْصُ الْأَخْذُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَهُنَا يُرَادُ بِهِ الْعَضُّ، فَالْمَعْنَى عَضَّتْ (نَمْلَةٌ) : أَيْ وَاحِدَةٌ (نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) : قِيلَ: مُوسَى، وَقِيلَ: دَاوُدُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ) : أَيْ مَسْكَنِهَا وَمَنْزِلِهَا سُمِّيَ قَرْيَةً لِاجْتِمَاعِهَا فِيهِ، وَمِنْهُ الْقَرْيَةُ الْمُتَعَارَفَةُ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا، وَالْمَعْنَى فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ قَرْيَةِ النَّمْلِ (فَأُحْرِقَتْ) ؟ قِيلَ الْمَعْنَى أَمَرَ بِإِحْرَاقِ شَجَرَةٍ فِيهَا تِلْكَ النَّمْلَةُ، وَسَبَبُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: يَا رَبِّ تُعَذِّبُ أَهْلَ قَرْيَةٍ بِمَعَاصِيهِمْ وَفِيهِمُ الْمُطِيعُ، فَأَرَادَ أَنْ يُرِيَهُ الْعِبْرَةَ فِي ذَلِكَ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْحَرَّ حَتَّى الْتَجَأَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ وَعِنْدَهَا بَيْتُ النَّمْلَةِ! فَغَلَبَهُ النَّوْمُ، فَلَمَّا وَجَدَ لَذَّةَ النَّوْمِ لَدَغَتْهُ، فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ النَّمْلِ جَمِيعِهِ إِمَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِخُصُوصِ الْقَارِصَةِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مُؤْذِيَةً، وَيَجُوزُ قَتْلُ جِنْسِ الْمُؤْذِي، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ نَهَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ قَتْلِ كُلِّ ذِي رُوحٍ إِلَّا أَنْ يُؤْذِيَ» ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا نَظِيرٌ لِفِعْلِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطِيعِ، وَالْعَاصِي، وَلَا يَكُونُ تَعْذِيبُهُ تَشَفِّيًا بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ، بَلْ فِعْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الَّذِي يَعْجَزُ عَنْ كُنْهِهِ عِلْمُ الْبَشَرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْمُطِيعَ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ عَذَابِهِمْ وَخُصَّ بِالْإِخْلَاصِ لَصَدَرَ عَنْهُ مَا يُوجِبُ

تَعْذِيبَهُ، أَوْ مَا يُوجِبُ تَعْذِيبَهُ أَوِ الْمُطِيعُ إِذَا رَضِيَ بِفِعْلِ الْعَاصِي أَوْ لَمْ يُنْكِرْ أَوْ سَاكَنَهُ وَمَا شَاءَ وَعَاشَرَهُ فِي مَأْوَاهُ لَا يَخْلُوا عَنِ اسْتِحْقَاقِ تَعْذِيبٍ مَا، أَوْ تَعْذِيبُهُ صُورَةَ تَعْذِيبٍ. وَفِي الْحَقِيقَةِ تَكْفِيرٌ وَتَهْذِيبٌ، فَسُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ إِلَّا الْعَدْلُ أَوِ الْفَضْلُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] (فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَقْدِيرِ اللَّامِ أَيْ أَوْصَى بِهَذَا الْكَلَامِ يُعَيِّنُ لِأَجَلِ (قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ) : أَيْ وَاحِدَةٌ (أَحْرَقْتَ أُمَّةً) : أَيْ أَمَرْتَ بِإِحْرَاقِ طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ (مِنَ الْأُمَمِ) : حَالَ كَوْنِهَا (تُسَبِّحُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أُمَّةً مُسَبِّحَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا وُضِعَ الْمُضَارِعُ مَوْضِعَ مُسَبِّحَةٍ لِيَدُلَّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَمَزِيدًا لِلْإِنْكَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} [ص: 18] الْكَشَّافُ: فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى حُدُوثِ التَّسْبِيحِ مِنَ الْجِبَالِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَكَأَنَّ السَّامِعَ يُحَاضِرُ تِلْكَ الْحَالَ وَيَسْمَعُهَا، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: أَحْرَقْتَ أُمَّةً جَوَازُ إِحْرَاقِ تِلْكَ الْقَارِصَةِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ ذَلِكَ النَّبِيِّ كَانَ فِيهِ جَوَازُ قَتْلِ النَّمْلِ وَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَلِذَا لَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ، بَلْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى نَمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا فِي شَرْعِنَا فَلَا يَجُوزُ إِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ إِلَّا بِالِاقْتِصَاصِ، وَسَوَاءٌ فِي مَنْعِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ الْقَمْلُ وَغَيْرُهُ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: (لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى) . وَأَمَّا قَتْلُ النَّمْلِ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَسَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي اهـ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّمْلِ عَلَى غَيْرِ الْمُؤْذِي مِنْهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَقِيَاسًا عَلَى الْقَمْلِ، فَإِنْ أَذَى النَّمْلِ قَدْ يَكُونُ أَشَدَّ مِنَ الْقَمْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْهِرِّ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا إِذَا حَصَلَ مِنْهُ الْأَذَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَاقُ مَنْسُوخًا، أَوْ مَحْمُولًا عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ قَتْلُهُ إِلَّا بِهِ ضَرُورَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4123 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4123 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ فِي الْأَصْلِ وَيُبْدَلُ أَيْ سَقَطَتْ (فِي السَّمْنِ) : أَيْ وَمَاتَتْ فِيهِ (فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا) ، أَيْ وَكُلُوا مِمَّا بَقِيَ (وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ) . أَيِ السَّمْنَ لِلْأَكْلِ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ نَحْوَ الِاسْتِصْبَاحِ عَلَى مَا سَبَقَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) . أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

4124 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4124 - (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) .

4125 - وَعَنْ سَفِينَةَ، قَالَ: «أَكَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمَ حُبَارَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4125 - (وَعَنْ سَفِينَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، أَيْ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: «أَكَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمَ حُبَارَى» ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ مَقْصُورًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحُبَارَى طَائِرٌ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَاحِدُهَا وَجَمْعُهُمَا سَوَاءٌ،: إِنْ شِئْتَ قُلْتَ الْجَمْعُ حُبَارِيَّاتٌ وَأَلِفُهُ لَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ وَلَا لِلْإِلْحَاقِ، وَإِنَّمَا بُنِيَ الِاسْمُ بِهَا فَصَارَ كَأَنَّهَا مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ لَا يَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: أَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ، وَغَلِطَ الْجَوْهَرِيُّ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ لَانْصَرَفَتْ هَذَا. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ: الْحُبَارَى طَائِرٌ كَبِيرُ الْعُنُقِ رَمَادِيُّ اللَّوْنِ فِي مِنْقَارِهِ بَعْضُ طُولٍ، وَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُصَادَ وَلَا تَصِيدَ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَذَبَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوتُ هُزَالًا مِنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، يَعْنِي إِذَا كَثُرَتِ الْخَطَايَا مَنَعَ اللَّهُ الْقَطْرَ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَهِيَ مِنْ أَكْثَرِ الطَّيْرِ حِيلَةً فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَمُوتُ جُوعًا لِلْحُكْمِ يَحِلُّ أَكْلُهَا. قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ

4126 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: قَالَ: «نُهِيَ عَنْ رُكُوبِ الْجَلَّالَةِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4126 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ» ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْأُولَى وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ مِنَ الْجِلَّةِ وَهِيَ الْبَعْرَةُ. فِي الْفَائِقِ كَنَّى عَنِ الْعَذِرَةِ بِالْجِلَّةِ وَهِيَ الْبَعْرُ فَقِيلَ لِآكِلِهَا جَلَّالَةٌ. (وَأَلْبَانِهَا) ، أَيْ وَعَنْ شُرْبِ لَبَنِهَا وَجُمِعَ مُبَالَغَةً. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ إِذَا ظَهَرَ فِي لَحْمِهَا نَتَنٌ، وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تُحْبَسَ أَيَّامًا حَتَّى يَطِيبَ لَحْمُهَا ثُمَّ تُذْبَحَ اهـ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَ ثَلَاثًا. وَفِي الْفَتَاوَى الْكَبِيرِ: كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَةَ الْمُخَلَّاةَ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ، وَالْجَلَّالَةَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْحُكْمُ فِي الدَّابَّةِ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَأْكُلُهَا أَحْيَانًا فَلَيْسَتْ بِجَلَّالَةٍ وَلَا يَحْرُمُ بِذَلِكَ أَكْلُهَا كَالدَّجَاجِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ عَلَفِهَا مِنْهَا حَتَّى ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى لَحْمِهَا وَلَبَنِهَا، فَاخْتَلَفُوا فِي أَكْلِهَا، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا إِلَّا أَنْ تُحْبَسَ أَيَّامًا وَتُعْلَفَ مِنْ غَيْرِهَا حَتَّى يَطِيبَ لَحْمُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَى بَأْسًا بِأَكْلِ لُحُومِ الْجَلَّالَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا بَعْدَ أَنْ يُغْسَلَ غَسْلًا جَيِّدًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: قَالَ) : أَيْ ابْنُ عُمَرَ (نَهَى) : أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ (عَنْ رُكُوبِ الْجَلَّالَةِ) : لِأَنَّهَا إِذَا عَرَقَتْ يَنْتُنُ لَحْمُهَا.

4127 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4127 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَنْصَارِيٌّ، يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ تَمِيمُ بْنُ مَحْمُودٍ وَأَبُو رَاشِدٍ. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ» ) . وَفِي نُسْخَةٍ وَهِيَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَتِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ.

4128 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْهِرَّةِ وَأَكْلِ ثَمَنِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4128 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْهِرَّةِ وَأَكْلِ ثَمَنِهَا» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَنْ أَكْلِ ثَمَنِهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَكَلُ لَحْمِ الْهِرِّ حَرَامٌ بِلَا خِلَافِ، وَأَمَّا بَيْعُهَا وَأَكْلُ ثَمَنِهَا فَلَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ.

4129 - وَعَنْهُ، قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ - الْحُمُرَ الْإِنْسِيَّةَ، وَلُحُومَ الْبِغَالِ، وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4129 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ) : تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ (الْحُمُرَ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حِمَارٍ (الْإِنْسِيَّةَ) ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ لِلنِّسْبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، فَفِي الْمُقَدِّمَةِ قَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: بِفَتْحَتَيْنِ وَالْمَشْهُورُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَالْأَنْسُ بِالْفَتْحِ النَّاسُ، وَجَوَّزَ أَبُو مُوسَى ضَمَّ أَوَّلِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْوَحْشِيَّةِ، وَالْمَعْنَى حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ (وَلُحُومَ الْبِغَالِ، وَكُلِّ) : بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْبِغَالِ أَيْ: وَلُحُومُ كُلِّ (ذِي نَابٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمُضَافِ أَيْ: وَحَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ (مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ) : بِالْوِجْهَتَيْنِ فِي كُلٍّ (مِنَ الطَّيْرِ) . أَيْ مِنْ سِبَاعِهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . يَعْنِي بِاعْتِبَارِ هَذَا اللَّفْظِ بِإِسْنَادِهِ الْمَخْصُوصِ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنِ الْبَرَاءِ، وَعَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» .

وَرَوَى أَصْحَابُ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَزَادَ: وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَلَا يَحِلُّ الضَّبُعُ وَلَا الْيَرْبُوعُ، لِمَا رَوَى أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ السَّعْدِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَنَّ نَاسًا مِنْ قَوْمِي يَأْكُلُونَ الضَّبُعَ؟ فَقَالَ إِنَّ أَكْلَهَا لَا يَحِلُّ، وَكَانَ عِنْدَهُ شَيْخٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَقَالَ ذَلِكَ الشَّيْخُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَا أُخْبِرُكَ. بِمَا سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ فِيهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ خَطْفَةٍ وَنَهْبَةٍ وَمُجَثَّمَةٍ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ» ، فَقَالَ سَعِيدٌ: صَدَقَ.

4130 - وَعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4130 - (وَعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» ) . فِي إِدْمَاجِ الْخَيْلِ مَعَ الْمُحَرَّمَيْنِ اتِّفَاقٌ تَقْوِيَةً لِحُرْمَتِهِ، وَإِشَارَةً إِلَى مُوَافَقَةِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِحُرْمَةِ لَحْمِهِ مُسْتَدِلًّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِأَنَّهُ آلَةُ إِرْهَابِ الْعَدُوِّ فَلَا يُؤْكَلُ احْتِرَامًا لَهُ، وَلِهَذَا يُضْرَبُ لَهُ سَهْمٌ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلِأَنَّ فِي إِبَاحَتِهِ تَقْلِيلَ الْجِهَادِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ الْخَيْلِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ إِلَخْ عِلَّةٌ لِلضَّعْفِ وَالنَّسْخِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَكَانَ أَكْلُهُمْ لَحْمَ الْخَيْلِ إِمَّا مُقَدَّمٌ فَهُوَ مَنْسُوخٌ، وَإِمَّا مُؤَخَّرٌ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مَا بَلَغَهُمُ الْحَدِيثُ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى تَصْحِيحِهِ وَالْخِلَافِ فِي تَحْرِيمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4131 - وَعَنْهُ، قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ، فَأَتَتِ الْيَهُودُ، فَشَكَوْا أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْرَعُوا إِلَى خَضَائِرِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا لَا يَحِلُّ أَمْوَالُ الْمُعَاهَدِينَ إِلَّا بِحَقِّهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4131 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ خَالِدٍ (قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ، فَأَتَتِ الْيَهُودُ) ، أَيْ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ فَشَكَوْا أَنَّ النَّاسَ) : أَيِ الْمُسْلِمِينَ (قَدْ أَسْرَعُوا إِلَى خَضَائِرِهِمْ) ، أَيْ إِلَى أَخْذِ ثِمَارِ نَخِيلِ الْيَهُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْعَهْدِ، وَالْخَضِيرَةُ بِالْخَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ النَّخْلَةُ الَّتِي يَنْتَشِرُ بُسْرُهَا وَهُوَ أَخْضَرُ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ لَا يَحِلُّ أَمْوَالُ الْمُعَاهِدِينَ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيْ: أَهِلِ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ (إِلَّا بِحَقِّهَا) . أَيْ: إِلَّا بِحَقِّ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ حَقَّ مَالِ الْمُعَاهِدِ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَالْجِزْيَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْنَفًا وَمَالُهُ لِلتِّجَارَةِ فَالْعُشْرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4132 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ. الْمَيْتَتَانِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ: الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4132 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» ) . أَيْ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَالِاضْطِرَارِ (الْمَيْتَتَانِ: الْحُوتُ، وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ: الْكَبِدُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ مَعْرُوفٌ (وَالطِّحَالُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُمَا دَمَانِ جَامِدَانِ، فَقَوْلُ صَاحِبِ الْقَامُوسِ الطِّحَالُ كَكِتَابٍ لَحْمَةٌ مَعْرُوفَةٌ مَحَلُّ بَحْثٍ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» ، فَأَمَّا الْمَيتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ.

4133 - وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلُوهُ. وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4133 - (وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ مَوْلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانَيَةِ مِنْ تَابِعِي مَكَّةَ، جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. (عَنْ جَابِرٍ) ، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ: أَيْ كُلُّ مَا قَذَفَهُ إِلَى السَّاحِلِ (أَوْ جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ) : أَيْ نَقَصَ وَذَهَبَ عَنْهُ مَاءُ الْبَحْرِ مِنَ الْجَزْرِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْمَدِّ، وَمِنْهُ الْجَزِيرَةُ وَالْمَعْنَى وَمَا انْكَشَفَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، (فَكُلُوهُ وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا) : أَيِ ارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ بَعْدَ أَنْ مَاتَ (فَلَا تَأْكُلُوهُ) . فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي إِبَاحَةِ السَّمَكِ الطَّافِي، فَأَبَاحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَكَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) (وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ) : أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ) . قُلْتُ: لَا يَضُرُّ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ.

4134 - وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْجَرَادِ، فَقَالَ: " أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدُ، وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4134 - (وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْجَرَادِ» ) ، أَيْ عَنْ حِكْمَةِ خَلْقِهِ وَحُكْمِ أَكْلِهِ. فَقَالَ: أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ) ، أَيْ هُوَ أَكْثَرُ جُنُودِهِ تَعَالَى مِنَ الطُّيُورِ، فَإِذَا غَضِبَ عَلَى قَوْمٍ أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ لِيَأْكُلَ زَرْعَهُمْ وَأَشْجَارَهُمْ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ الْقَحْطُ إِلَى أَنْ يَأْكُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَفِئَ الْكُلُّ وَإِلَّا فَالْمَلَائِكَةُ أَكْثَرُ الْخَلَائِقِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عِزَّ وَجَلَّ فِي حَقِّهِمْ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] (لَا آكُلُهُ) أَيْ: أَطْعَمُهُ لِأَنِّي أَكْرَهُ " طَبْعًا (وَلَا أُحَرِّمُهُ) . أَيْ عَلَى غَيْرِي شَرْعًا لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ السَّائِلِ أَتَأْكُلُ الْجَرَادَ أَمْ لَا؟ أَوْ هُوَ حَرَامٌ أَمْ لَا؟ فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَقَوْلُهُ: أَكْثَرُ جُنْدِ اللَّهِ كَالتَّوْطِئَةِ لِلْجَوَابِ وَالتَّعْلِيلِ لَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: هُوَ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ يَبْعَثُهُ أَمَارَةً لِغَضَبِهِ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، فَإِذَا نُظِرَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْكَلُ وَإِذَا نُظِرَ إِلَى كَوْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْغَدَاءِ يَحِلُّ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَدَّدَ فِي كَوْنِهِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، وَهُوَ لَا يُلَائِمُ التَّصْرِيحَ بِحِلِّيَّتِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، مَعَ أَنَّ دَلِيلَ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ إِذَا تَعَارَضَا تُرَجَّحُ الْحُرْمَةُ، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ فِي حَقِّ الْجَرَادِ، فَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ، أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِهِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَقَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ، فَيَبْقَى الْحُكْمُ مَوْقُوفًا بَيْنَ الْعِبَادِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ: يَحِلُّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِذَكَاةٍ أَوْ بِاصْطِيَادِ مَجُوسِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ قُطِعَ شَيْءٌ مِنْهُ أَمْ لَا. وَعَنْ أَحْمَدَ: إِذَا قَتَلَهُ الْبَرْدُ لَمْ يُؤْكَلْ، وَمُلَخَّصُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ إِنْ قُطِعَتْ رَأْسُهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى عُمُومِ حِلِّهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ» ) . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ، ضَعِيفٌ) . أَيْ إِسْنَادُهُ أَوْ مَعْنَاهُ لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَفِيهِ: وَيَأْكُلُهُ مَعَنَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَهَادَيْنَ الْجَرَادَ فِي الْأَطْبَاقِ، وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ سُئِلَ عَنِ الْجَرَادِ؟ فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي قُفَّةً آكُلُ مِنْهَا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّ

رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ سَأَلَتْ رَبَّهَا أَنْ يُطْعِمَهَا لَحْمًا لَا دَمَ لَهُ، فَأَطْعَمَهَا الْجَرَادَ» ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْشِهَا بِغَيْرِ رِضَاعٍ وَتَابِعْ بَيْنَهَا بِغَيْرِ شِيَاعٍ) . قُلْتُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ! مَا الشِّيَاعُ؟ قَالَ: الصَّوْتُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ طَعَامُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْجَرَادَ وَقُلُوبَ الشَّجَرِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَنْعَمُ مِنْكَ يَا يَحْيَى طَعَامُكَ الْجَرَادُ وَقُلُوبُ الشَّجَرِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ» ) . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ عَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقْتُلُوا الْجَرَادَ فَإِنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ» ) وَهَذَا إِنْ صَحَّ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ إِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِفْسَادِ الْأَرْضِ، فَإِنْ تَعَرَّضَ لَهُ جَازَ دَفْعُهُ بِالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ، وَأَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ، «عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كُنَّا عَلَى مَائِدَةٍ نَأْكُلُ أَنَا وَأَخِي مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَنُو عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ وَقُثَمٌ وَالْفَضْلُ أَبْنَاءُ الْعَبَّاسِ، فَوَقَعَتْ جَرَادَةٌ عَلَى الْمَائِدَةِ، فَأَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ لِي: مَا مَكْتُوبٌ عَلَى هَذِهِ فَقُلْتُ: سَأَلْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا رَبُّ الْجَرَادِ وَرَازِقُهَا إِذَا شِئْتُ بَعَثْتُهَا رِزْقًا لِقَوْمٍ، وَإِنْ شِئْتُ بَعَثْتُهَا بَلَائًا عَلَى قَوْمٍ فَقَالَ عَبْدٌ هَذَا مِنَ الْعِلْمِ الْمَكْنُونِ» . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَرَادِ هَلْ هُوَ صَيْدٌ بَرِّيٌّ أَوْ بَحْرِيٌّ؟ فَقِيلَ: بَحْرِيٌّ. لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعَا عَلَى الْجَرَادِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَهْلِكْ كِبَارَهُ وَأَفْسِدْ صِغَارَهُ وَاقْطَعْ دَابِرَهُ وَخُذْ فَأَفْوَاهِهِ عَنْ مَعَايِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا، فَإِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَدْعُو عَلَى جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ اللَّهِ بِقَطْعِ دَابِرِهِ؟ قَالَ: (الْجَرَادُ نَثْرَةُ الْحُوتِ مِنَ الْبَحْرِ أَيْ عَطْسَتُهُ» ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ صَيْدُهُ، وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَاسْتَقْبَلَنَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَجَعَلْنَا نَضْرِبُهُنَّ بِنِعَالِنَا وَأَسْوَاطِنَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُوهُ لِأَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ» . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بَرِّيٌّ، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ إِذَا أَتْلَفَهُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَافَّةً إِلَّا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا جَزَاءَ فِيهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فَإِنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ لَا جَزَاءَ فِيهِ. وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي الْمُهَزِّمِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَصَبْنَا ضَرْبًا مِنَ الْجَرَادِ، وَكَانَ رَجُلٌ يَضْرِبُ بِسَوْطٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (إِنَّمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ لِتَضْعِيفِ أَبِي الْمُهَزِّمِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ. بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ، أَوِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي أُنَاسٍ مُحَرِمِينَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِعُمْرَةٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَكَعْبٌ عَلَى نَارٍ يَصْطَلِي، فَمَرَّتْ بِهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَأَخَذَ جَرَادَتَيْنِ قَتَلَهُمَا وَنَسِيَ إِحْرَامَهُ ثُمَّ ذَكَرَ إِحْرَامَهُ فَأَلْقَاهُمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ دَخَلَ الْقَوْمُ عَلَى عُمَرَ، وَدَخَلْتُ مَعَهُمْ فَقَصَّ كَعْبٌ قِصَّةَ الْجَرَادَتَيْنِ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: مَا جَعَلْتَ عَلَى نَفْسِكَ يَا كَعْبُ؟ قَالَ: دِرْهَمَيْنِ. فَقَالَ بَخٍ بَخٍ دِرْهَمَانِ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَتَيْنِ اجْعَلْ مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ. وَفِي الْأَمْثَالِ: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.

4135 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبِّ الدِّيكِ وَقَالَ: إِنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4135 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبِّ الدِّيكِ» ، وَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ (إِنَّهُ) : أَيِ الدِّيكُ أَوِ الشَّأْنُ (يُؤَذِّنُ) : بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَيَجُوزُ تَحْقِيقُهَا وَإِبْدَالُ هَمْزِهَا فِي الْوَجْهَيْنِ أَيْ: يُعْلِمُ النَّاسَ وَيَدْعُوهُمْ (لِلصَّلَاةِ) : أَيْ لِدُخُولِ وَقْتِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَفِيهِ أَنَّ بَعْضَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فِي الْحَيَوَانِ مَانِعٌ مِنْ سَبِّهِ، فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِ مِنَ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَلِيمِيَّ قَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُفِيدَ مِنْهُ خَيْرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَبَّ وَيُسْتَهَانَ، بَلْ حَقُّهُ أَنْ يُكْرَمَ وَيُشْكَرَ وَيُتَلَقَّى بِالْإِحْسَانِ. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.

4136 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ إِنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلَاةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4136 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ فَإِنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلَاةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ. قَالَ: وَأَعْظَمُ مَا فِي الدِّيكِ مِنَ الْعَجَائِبِ مَعْرِفَةُ الْأَوْقَاتِ اللَّيْلِيَّةِ، فَيُقَسِّطُ أَصْوَاتَهُ عَلَيْهَا تَقْسِيطًا لَا يُغَادِرُ مِنْهُ شَيْئًا سَوَاءٌ طَالَ أَوْ قَصُرَ، وَيُوَالِي صِيَاحَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَهُ، فَسُبْحَانَ مَنْ هُدَاهُ لِذَلِكَ، وَقَدْ أَفْتَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْمُتَوَلِّي، وَالرَّافِعِيُّ بِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الدِّيكِ الْمُجَرَّبِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ. وَرَوَى عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ نَافِعٍ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «الدِّيكُ الْأَبْيَضُ خَلِيلِي» ) . وَإِسْنَادُهُ لَا يَثْبُتُ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ بِلَفْظِ ( «الدِّيكُ الْأَبْيَضُ صَدِيقِي، وَعَدُوٌّ لِلشَّيْطَانِ يَحْرُسُ صَاحِبَهُ وَسَبْعَ دُورٍ خَلْفَهُ» ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رِوَايَاتٌ فِي فَضْلِهِ، وَرَوَى الشَّيْخُ مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَهُ دِيكٌ أَبْيَضُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يُسَافِرُونَ مَعَهُ بِالدِّيَكَةِ لِتُعَرِّفَهُمْ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ» . وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دِيكًا أَبْيَضَ، جَنَاحَاهُ مُوَشَّيَانِ بِالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ، جَنَاحٌ بِالْمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ بِالْمَغْرِبِ، رَأْسُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَقَوَائِمُهُ فِي الْهَوَاءِ، يُؤَذِّنُ فِي كُلِّ سَحَرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، فَيَسْمَعُ تِلْكَ الصَّيْحَةَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُجِيبُهُ دُيُوكُ الْأَرْضِ، فَإِذَا دَنَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ضُمَّ جَنَاحَكَ وَغُضَّ مِنْ صَوْتِكَ، فَيَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا الثِّقْلَيْنِ أَنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ» . وَعَنْ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ الْوَاسِطِيِّ أَنَّهُ كَانَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ دِيكٌ يَقُومُ اللَّيْلَ بِصِيَاحِهِ، فَلَمْ يَصِحْ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، فَلَمْ يُصَلِّ سَعِيدٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَشَقَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَهُ قَطَعَهُ اللَّهُ صَوْتَهُ فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ صَوْتٌ بَعْدَ ذَلِكَ اهـ. وَيَحِلُّ أَكْلُهُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الدَّجَاجِ.

4137 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: قَالَ أَبُو لَيْلَى: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا ظَهَرَتِ الْحَيَّةُ فِي الْمَسْكَنِ فَقُولُوا لَهَا: إِنَّا نَسْأَلُكِ بِعَهْدِ نُوحٍ وَبِعَهْدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ أَنْ لَا تُؤْذِينَا، فَإِنْ عَادَتْ فَاقْتُلُوهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4137 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : أَنْصَارِيٌّ، وُلِدَ لِسِتِّ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَقُتِلَ بِدُجَيْلٍ، وَقِيلَ: غَرِقَ بِنَهْرِ الْبَصْرَةِ، وَقِيلَ: فُقِدَ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، فِي وَقْعَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، حَدِيثُهُ فِي الْكُوفِيِّينَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ، وَهُوَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِي الْكُوفِيِّينَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي حَرْفِ الْعَيْنِ. وَقَالَ فِي حَرْفِ اللَّامِ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَاسِمِ بْنِ أَبِي لَيْلَى يَسَارٍ الْأَنْصَارِيُّ وُلِدَ إِلَخْ. وَقَالَ: سَمِعَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَبِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَيْضًا لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ إِمَامٌ مَشْهُورٌ فِي الْفِقْهِ صَاحِبُ مَذْهَبٍ وَقَوْلٍ، وَإِذَا أَطْلَقَ الْمُحَدِّثُونَ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّمَا يَعْنُونَ إِيَّاهُ، وَإِذَا أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّمَا يَعْنُونَ مُحَمَّدًا، وَوُلِدَ مُحَمَّدٌ هَذَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. (قَالَ: قَالَ أَبُو لَيْلَى) : قَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ ( «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ظَهَرَتِ الْحَيَّةُ فِي الْمَسْكَنِ: بِفَتْحِ الْكَافِ وَيُكْسَرُ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَسْكَنِ (قُولُوا لَهَا: إِنَّا نَسْأَلُكِ بِعَهْدِ نُوحٍ: وَلَعَلَّ الْعَهْدَ كَانَ عِنْدَ إِدْخَالِهَا فِي السَّفِينَةِ (وَبِعَهْدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ أَنْ لَا تُؤْذِينَا» ) هَذِهِ الْيَاءُ يَاءُ الضَّمِيرِ لَا يَاءَ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّهَا سَقَطَتْ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ فَتَكُونُ سَاكِنَةً سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ وَلَا نَافِيَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ نَطْلُبُ مِنْكِ عَدَمَ الْإِيذَاءِ، أَوْ مُفَسِّرَةٌ وَلَا نَاهِيَةٌ لِأَنَّ فِي السُّؤَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ لَا تُؤْذِينَا (فَإِنْ عَادَتْ فَاقْتُلُوهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ زَعَمُوا أَنَّ الْحَيَّةَ تَعِيشُ أَلْفَ سَنَةٍ وَهِيَ كُلَّ سَنَةٍ تَسْلَخُ جِلْدَهَا، وَإِذَا لَدَغَتْهَا الْعَقْرَبُ مَاتَتْ، وَعَيْنُهَا لَا تَدُورُ فِي رَأْسِهَا بَلْ كَأَنَّهَا مِسْمَارٌ ضُرِبَ فِي رَأْسِهَا، وَكَذَلِكَ عَيْنُ الْجَرَادِ، وَإِذَا قُلِعَتْ عَادَتْ، وَكَذَلِكَ نَابُهَا إِذَا قُلِعَ عَادَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيْامٍ، وَكَذَلِكَ ذَنَبُهَا إِذَا قُطِعَ نَبَتَ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهَا أَنَّهَا تَهْرَبُ مِنَ الرَّجُلِ الْعُرْيَانِ، وَتَفْرَحُ بِالنَّارِ وَتَطْلُبُهَا، وَيُتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِهَا، وَتُحِبُّ اللَّبَنَ حُبًّا شَدِيدًا، وَتُذْبَحُ وَتَبْقَى أَيْامًا لَا تَمُوتُ، وَإِذَا عَمِيَتْ تَطْلُبَ الرَّازْيَانْجَ الْأَخْضَرَ فَتَحُكُّ بِهِ بَصَرَهَا فَتَبْرَأُ، فَسُبْحَانَ مَنْ قَدَّرَ فَهَدَى، قَدَّرَ عَلَيْهَا الْعَمَى وَهَدَاهَا إِلَى مَنَافِعِهَا قَالَ: وَيَحْرُمُ أَكْلُهَا لِضَرَرِهَا وَكَذَا يَحْرُمُ أَكْلُ التِّرْيَاقِ الْمَعْمُولِ مِنْ لُحُومِهَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَرِهَ أَكْلُهُ ابْنُ سِيرِينَ قَالَ أَحْمَدُ: وَلِهَذَا كَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ حَيْثُ تَجُوزُ الْمَيْتَةُ.

4138 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا رَفَعَ الْحَدِيثَ: أَنَّهُ «كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ، وَقَالَ: مَنْ تَرَكَهُنَّ خَشْيَةَ ثَائِرٍ فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4138 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : أَيْ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ) : أَيْ عِكْرِمَةُ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ أَيُّوبُ لَا أَعْلَمُهُ) : أَيْ لَا أَعْلَمُ ابْنَ عَبَّاسٍ (إِلَّا رَفَعَ الْحَدِيثَ) : أَيْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ) : مُحْتَمَلٌ لِأَنْ يُنْسَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَكُونَ الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا، ثُمَّ قَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ بَدَلٌ مِنَ الْحَدِيثِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَ التَّرْكِيبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ، وَقَوْلُهُ: قَالَ: لَا أَعْلَمُ إِلَخْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُمَا مُبِيِّنَةٌ أَنَّ الْقَضِيَّةَ مَرْفُوعَةٌ لَا مَوْقُوفَةٌ إِمَّا ظَنًّا وَإِمَّا حَقِيقَةً، وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ. (وَقَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا لِمَا سَبَقَ (مَنْ تَرَكَهُنَّ) : أَيْ قَتْلَهُنَّ وَالتَّعَرُّضَ لَهُنَّ (خَشْيَةَ ثَائِرٍ) : وَالثَّائِرُ طَالِبُ الثَّأْرِ وَهُوَ الدَّمُ وَالِانْتِقَامُ وَالْمَعْنَى مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ صَاحِبٌ يَطْلُبُ ثَأْرَهَا (فَلَيْسَ مِنَّا) : أَيْ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِسُنَّتِنَا الْآخِذِينَ بِطَرِيقِنَا. قَالَ شَارِحٌ: قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى نَهْجِ الْجَاهِلِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا تَقْتُلُوا الْحَيَّاتِ فَإِنَّكُمْ لَوْ قَتَلْتُمْ لَجَاءَ زَوْجُهَا وَيَلْسَعُكُمْ لِلِانْتِقَامِ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ. (رَوَاهُ) : أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ بِإِسْنَادِهِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ بِمِنًى، وَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] 3 هـ فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ: (اقْتُلُوهَا) فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا فَسَبَقَتْنَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَقَاهَا اللَّهُ شَرَّكُمْ كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا» ) . قُلْتُ: وَفِيهِ مُشَارَكَةٌ سَابِقَةٌ، وَالْغَالِبُ أَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ لَاحِقَةً.

4139 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا سَالَمْنَاهُمْ مُنْذُ حَارَبْنَاهُمْ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُمْ خِيفَةً فَلَيْسَ مِنَّا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4139 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا سَالَمْنَاهُمْ) : أَيْ مَا صَلَحْنَاهُمْ (مُنْذُ حَارَبْنَاهُمْ) : وَفِي رِوَايَةٍ: مُنْذُ عَادَيْنَاهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مَا صَلَحْنَا الْحَيَّاتِ مُنْذُ وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الْحَرْبُ، فَإِنَّ الْمُحَارَبَةَ وَالْمُعَادَاةَ بَيْنَ الْحَيَّةِ وَالْإِنْسَانِ جِبِلِّيَّةٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَجْبُولٌ عَلَى طَلَبِ قَتْلِ الْآخَرِ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْعَدَاوَةَ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا يُقَالُ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَصَدَ دُخُولَ الْجَنَّةِ فَمَنَعَهُ الْخَزَنَةُ، فَأَدْخَلَتْهُ الْحَيَّةُ فِي فِيهَا فَوَسْوَسَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ حَتَّى أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَنْهِيَّةِ فَأُخْرِجَا عَنْهَا. قَالَ تَعَالَى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ وَالْحَيَّةِ، وَكَانَتْ فِي أَحْسَنِ الصُّورَةِ فَمُسِخَتْ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَدُومَ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ، وَأَتَى بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ لِلْحَيَّاتِ وَأَجْرَاهَا مَجْرَاهُمْ لِإِضَافَةِ الصُّلْحِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ إِلَيْهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وَإِلَّا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُمْ) : أَيْ مَنْ تَرَكَ التَّعَرُّضَ لَهُنَّ (خِيفَةً) : أَيْ لِخَوْفِ ضَرَرٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ صَاحِبِهَا (فَلَيْسَ مِنَّا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَا سَالَمْنَاهُمْ لِلْحَيَّاتِ وَالْقَرِينَةُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ تَرَكَ الْحَيَّاتِ مَخَافَةَ طَلَبِهِنَّ فَلَيْسَ مِنَّا مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ.

4140 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهُنَّ، فَمَنْ خَافَ ثَأْرَهُنَّ فَلَيْسَ مِنِّي» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4140 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهُنَّ، فَمَنْ خَافَ ثَأْرَهُنَّ فَلَيْسَ مِنَّا» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ رَجُلًا مُشْرِكًا، وَمَنْ تَرَكَ حَيَّةً مَخَافَةَ عَاقِبَتِهَا فَلَيْسَ مِنَّا» ".

4141 - وَعَنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَكْنُسَ زَمْزَمَ وَإِنَّ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْجِنَّانِ - يَعْنِي: الْحَيَّاتِ الصِّغَارِ - فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهِنَّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4141 - (وَعَنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَكْنُسَ زَمْزَمَ) بِضَمِّ النُّونِ الثَّانِيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَفِي الْمُغْرِبِ وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ: كَنَسَ الْبَيْتَ كَنْسًا مِنْ بَابِ ضَرْبَ، وَفِي الْمَصَابِيحِ كَنَصَرَ (وَإِنَّ فِيهَا) : أَيْ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ (مِنْ هَذِهِ الْجِنَّانِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعُ جَانٍّ كَحِيطَانٍ وَحَائِطٍ، وَمِنْ هَذِهِ تَبْعِيضِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ إِنَّ أَيْ إِنَّ فِيهَا بَعْضَ هَذِهِ الْجِنَّانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ أَيْ بَعْضِهَا. وَقَالَ الرَّاوِي (يَعْنِي) : أَيْ يُرِيدُ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِالْجِنَّانِ (الْحَيَّاتِ الصِّغَارَ - فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهِنَّ) : فِي الْفَائِقِ: وَإِنَّمَا) أَمَرَ بِقَتْلِهِنَّ هُنَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْآتِي تَطْهِيرًا لِمَاءِ زَمْزَمَ مِنْهُنَّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُ كَنْسُهَا إِلَّا بِقَتْلِهِنَّ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِثْنَاءُ الْبِيضِ مِنْهُنَّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4142 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ. عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهَا إِلَّا الْجَانَّ الْأَبْيَضَ الَّذِي كَأَنَّهُ قَضِيبُ فِضَّةٍ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4142 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهَا إِلَّا الْجَانَّ الْأَبْيَضَ الَّذِي كَأَنَّهُ قَضِيبُ فِضَّةٍ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَعَلَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحَيَّاتِ إِنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ ضَرَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سُمَّ لَهُ. قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِمَا لَا ضَرَرَ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ سَمٌّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْحَيَّاتِ مَسْخُ الْجِنِّ، كَمَا مُسِخَتِ الْقِرَدَةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ: وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْبُيُوتِ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُنْذَرَ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ» " حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَحْدَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ بَلَدٍ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُنْذَرَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِنْذَارِ هَلْ هُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ؟ وَالْأَوَّلُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ) أَنْ يَقُولَ: أُنْشِدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْكُنَّ نُوحٌ وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنْ لَا تَبْدُونَ وَلَا تُؤْذُونَا، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتُلَ الْحَيَّةُ الْبَيْضَاءُ فَإِنَّهَا مِنَ الْجَانِّ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ لَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْجَمِيعِ، وَالْأَوْلَى هُوَ الْإِنْذَارُ، وَأَمَّا حَيَّةُ الْهَوَى الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَصَاحِبِ الْعَوَارِفِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْشَدَ بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ: قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي ... فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِيَ إِلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ ... فَإِنَّهُ عِلَّتِي وَتِرْيَاقِي قَالَ: فَتَوَاجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَوَاجَدَ أَصْحَابُهُ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبِهِ، فَلَمَّا فَرَغُوا أَوَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ، ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَيْسَ بِكَرِيمٍ مَنْ لَمْ يَهْتَزَّ عِنْدَ السَّمَاعِ " ثُمَّ قَسَّمَ رِدَاءَهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ أَرْبَعَمِائَةِ قِطْعَةٍ» ، فَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ كَانَ وَضَعَهُ عَمَّارُ بْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّ بَاقِيَ الْإِسْنَادِ ثِقَةٌ، هَكَذَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مِمَّا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ.

4143 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً فَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4143 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ» ") : بِضَمِّ الْقَافِ. فِي الْمُغْرِبِ: هَكَذَا فِي الْأُصُولِ، وَأَمَّا فَامْقُلُوهُ ثُمَّ انْقُلُوهُ فَمَصْنُوعٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيِ: اغْمِسُوهُ فِي الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ لِيَخْرُجَ الشِّفَاءُ كَمَا) خَرَجَ الدَّاءُ، وَذَلِكَ بِإِلْهَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي النَّحْلِ وَالنَّمْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً» ، فَإِنَّهُ " بِالْفَاءِ أَيْ لِأَنَّ الذُّبَابَ " يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ " يُقَالُ: اتَّقَى بِحَقٍّ عَمْرًا إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِهِ وَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ أَيْ أَنَّهُ يُقَدَّمُ بِجَنَاحِهِ " الَّذِي لَهُ الدَّاءُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِنَّهُ يَحْفَظُ نَفْسَهُ بِتَقْدِيمِ ذَلِكَ الْجَنَاحِ مِنْ أَذِيَّةٍ تَلْحَقُهُ مِنْ حَرَارَةِ ذَلِكَ الطَّعَامِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ بَحْثٌ، لَا يَخْفَى، وَقَدْ قَالُوا: الذُّبَابُ أَجْهَلُ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْهَلَكَةِ. (" فَلْيَغْمِسْهُ ") : أَيْ أَحَدُكُمْ فِي إِنَائِهِ إِيَّاهُ " كُلَّهُ: جَمِيعَ الذُّبَابِ لِيَتَعَادَلَ دَاؤُهُ وَدَوَاؤُهُ، وَفِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ وَاعْتِنَاءٌ بِالْأَمْرِ وَتَأْكِيدٌ لَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4144 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمًّا وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً وَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السَّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4144 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الطَّعَامِ ") أَيْ فِيمَا يُطْعَمُ مِنَ الْمَأْكُولِ الَّذِي يُمْكِنُ غَمْسُهُ فِيهِ وَفِي مَعْنَاهُ الْمَشْرُوبُ (" فَامْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سَمًّا ") أَيْ نَوْعًا مِنَ السَّمِّ، وَهُوَ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ ضَرَرٌ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ وَكَسْرُهُ. قَالَ الْأَكْمَلُ: السَّمُّ مُثَلَّثُ السِّينِ بِمَعْنَى الْقَاتِلِ. وَفِي الْقَامُوسِ السَّمُّ الثُّقْبُ وَهَذَا الْقَاتِلُ الْمَعْرُوفُ وَيُثَلَّثُ فِيهِمَا. (وَفِي الْآخَرِ) : أَيْ وَفِي جَنَاحِهِ الْآخَرِ " شِفَاءً: أَيْ لِذَلِكَ السَّمِّ أَوْ نَوْعُ شِفَاءٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " وَإِنَّهُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الذُّبَابَ " يُقَدِّمُ السَّمَّ ": أَيِ الْجَنَاحَ الَّذِي فِيهِ السَّمُّ وَقْتَ الْوُقُوعِ " وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ " أَيْ وَيُصَعِّدُ الْجَنَاحَ الَّذِي فِيهِ الشِّفَاءُ وَهُوَ إِمَّا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَتَضَرَّرَ بِوَضْعِ الْجَنَاحَيْنِ أَوْ قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ أَوْ يَحْصُلُ لَهُ تَسْكِينٌ مِنْ حَرَارَةِ السَّمِّ بِغَمْسِ ذَلِكَ الْجَنَاحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: «إِنَّ أَحَدَ جَنَاحَيِ الذُّبَابِ سَمٌّ، وَالْآخَرَ شِفَاءٌ، فَإِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السَّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ» . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ. وَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الدَّاءُ وَالشِّفَاءُ فِي جَنَاحَيِ الذُّبَابِ، وَكَيْفَ تَعْلَمُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهَا حَتَّى تُقَدِّمَ جَنَاحَ الدَّاءِ وَتُؤَخِّرَ جَنَاحَ الشِّفَاءِ؟ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَهَذَا سُؤَالُ جَاهِلٍ أَوْ مُتَجَاهِلٍ، فَإِنَّ الَّذِي يَجِدُ نَفْسَهُ وَنُفُوسَ عَامَّةِ الْحَيَوَانِ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِيهَا بَيْنَ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَالْيُبُوسَةِ وَهِيَ أَشْيَاءُ مُتَضَادَّةٌ إِذَا تَلَاقَتْ تَفَاسَدَتْ، ثُمَّ يَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَلَّفَ بَيْنَهَا وَقَهَرَهَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ، وَجَعَلَ مِنْهَا قُوَى الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي بِهَا فَسَادُهَا وَصَلَاحُهَا لَجَدِيرٌ أَنْ لَا يُنْكِرَ الدَّاءَ وَالشِّفَاءَ فِي جُزْأَيْنِ مِنْ حَيَوَانٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الَّذِي أَلْهَمَ النِّحْلَةَ أَنْ تَتَّخِذَ الْبَيْتَ الْعَجِيبَ الصَّنْعَةِ، وَأَنْ تَعْسِلَ فِيهِ، وَأَلْهَمَ الذَّرَّةَ أَنَّ تَكْسِبَ قُوتَهَا وَتَدَّخِرَهُ لِأَوَانِ حَاجَتِهَا إِلَيْهِ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ الذُّبَابَةَ وَجَعَلَ لَهَا الْهِدَايَةَ إِلَى أَنْ تُقَدِّمَ جَنَاحًا وَتُؤَخِّرَ جَنَاحًا لِمَا أَرَادَ مِنَ الِابْتِلَاءِ الَّذِي هُوَ مَدْرَجَةُ الْعَبْدِ، وَالِامْتِحَانُ الَّذِي هُوَ مِضْمَارُ التَّكْلِيفِ، وَلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِكْمَةٌ وَعُنْوَانُ صَوَابٍ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. قَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَقَدْ تَأَمَّلْتُ الذُّبَابَ فَوَجَدْتُهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الْأَيْسَرِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلدَّاءِ كَمَا أَنَّ الْأَيْمَنَ مُنَاسِبٌ لِلشِّفَاءِ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ يُبْقِي رَجِيعَهُ عَلَى الْأَبْيَضِ أَسُودَ وَعَلَى الْأَسْوَدِ أَبْيَضَ، وَلَا يَقَعُ عَلَى شَجَرَةِ الْيَقْطِينِ، وَلِذَلِكَ أَنْبَتَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ، فَلَوْ

وَقَعَتْ عَلَيْهِ ذُبَابَةٌ لَآلَمَتْهُ، فَمَنَعَ اللَّهُ عَنْهُ الذُّبَابَ، وَلَا يَظْهَرُ كَثِيرًا إِلَّا فِي أَمَاكِنِ الْعُفُونَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ عُدَّ مِنَ الْغَرَائِبِ عَدَمُ وُجُودِهَا فِي مِنًى أَيَّامَهُ مَعَ كَثْرَةِ الْخَلَائِقِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَكَثْرَةِ الْعُفُونَاتِ، هَذَا وُفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ( «عُمْرُ الذُّبَابِ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً وَالذُّبَابُ كُلُّهُ فِي النَّارِ إِلَّا النَّحْلَ» ) . قِيلَ: كَوْنُهُ فِي النَّارِ لَيْسَ لِعَذَابٍ لَهُ، وَإِنَّمَا لِيُعَذِّبَ أَهْلَ النَّارِ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِمْ. وَفِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَأْمُونَ سَأَلَهُ فَقَالَ: لِأَيْ حِكْمَةٍ خَلَقَ اللَّهُ الذُّبَابَ؟ فَقَالَ: مَذَلَّةٌ لِلْمُلُوكِ فَضَحِكَ الْمَأْمُونُ وَقَالَ: رَأَيْتَهُ قَدْ سَقَطَ عَلَى خَدِّي. قَالَ نَعَمْ وَلَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْهُ وَمَا عِنْدِي جَوَابٌ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قَدْ سَقَطَ مِنْكَ بِمَوْضِعٍ لَا يَنَالُهُ مِنْكَ أَحَدٌ فُتِحَ لِيَ فِيهِ الْجَوَابُ، فَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّكَ. قُلْتُ حُكِيَ أَنَّ مَجْذُوبًا جَاءَهُ سُلْطَانٌ، فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: أَنْ تَدْفَعَ عَنِّي الذُّبَابَ، وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى حِكْمَةِ خَلْقِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِإِذْلَالِ مَا سِوَاهُ بِقَوْلِهِ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] وَفِي شِفَاءِ الصُّدُورِ، وَتَارِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ مُسْنَدًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا ثِيَابِهِ ذُبَابٌ أَصْلًا» . وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ كُلُّ أَنْوَاعِهِ يَحْرُمُ أَكْلُهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَفِي الْإِحْيَاءِ: لَوْ وَقَعَتْ ذُبَابَةٌ أَوْ نَمْلَةٌ فِي قِدْرِ طَبِيخٍ وَتَهَرَّى أَجْزَاؤُهُ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُ ذَلِكَ الطَّبِيخِ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الذُّبَابِ وَالنَّمْلِ وَنَحْوِهِ إِنَّمَا كَانَ لِلِاسْتِقْذَارِ وَهَذَا لَا يُعَدُّ اسْتِقْذَارًا.

4145 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةُ، وَالنَّحْلَةُ، وَالْهُدْهُدُ، وَالصُّرَدُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4145 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةُ» ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلَيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَالنَّحْلَةُ، وَالْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ طَائِرٌ ضَخْمُ الرَّأْسِ وَالْمِنْقَارِ لَهُ رِيشٌ عَظِيمٌ نِصْفُهُ أَبْيَضُ وَنِصْفُهُ أَسْوَدُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ فِي قَتْلِ النَّمْلَةِ عَنْ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْهُ وَهُوَ الْكِبَارُ ذَوَاتُ الْأَرْجُلِ الْكِبَارِ؛ لِأَنَّهَا قَلِيلَةُ الْأَذَى وَالضَّرَرِ، وَأَمَّا النَّحْلَةُ فَلِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الْعَسَلُ وَالشَّمْعُ، وَأَمَّا الْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ فَلِتَحْرِيمِ لَحْمِهِمَا لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِاحْتِرَامِهِ وَلِضَرَرٍ فِيهِ كَانَ لِتَحْرِيمِ لَحْمِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْهُدْهُدَ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَصَارَ فِي مَعْنَى الْجَلَّالَةِ، وَالصُّرَدُ يَتَشَاءَمُ بِهِ الْعَرَبُ وَيُتَطَيَّرُ بِصَوْتِهِ وَشَخْصِهِ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِهِ لِيَخْلَعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ مَا ثَبَتَ فِيهَا مِنَ اعْتِقَادِهِمُ الشُّؤْمَ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ: «اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا يَصْرِفُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ (وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَفْظُهُ: «نُهِيَ عَنْ قَتْلِ الصُّرَدِ وَالضُّفْدَعِ وَالنَّمْلَةِ وَالْهُدْهُدِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: الْأَصَحُّ تَحْرِيمُ أَكْلِ الصُّرَدِ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُؤْكَلُ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَ فِيهِ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُقَالُ لَهُ الصُّرَدُ الصَّوَّامُ، وَرُوِّينَا فِي مُعْجَمِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ عَنْ أَبِي غَلِيظِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ قَالَ: " «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى يَدَيَّ صُرَدٌ فَقَالَ " هَذَا أَوَّلُ طَائِرٍ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ» " وَالْحَدِيثُ مِثْلُ اسْمِهِ غَلِيظٌ. قَالَ الْحَاكِمُ: وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَضَعَهَا قَتَلَةُ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ وَرُوَاتُهُ مَجْهُولُونَ، هَذَا وُفِي مُسْتَدْرَكِ الدَّارِمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: كُونُوا فِي النَّاسِ كَالنَّحْلَةِ فِي الطَّيْرِ، لَيْسَ فِي الطَّيْرِ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَضْعِفُهَا، وَلَوْ يَعْلَمُ الطَّيْرُ مَا فِي أَجْوَافِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِهَا، خَالِطُوا النَّاسَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ وَزَايِلُوهَا بِأَعْمَالِكِمْ وَقُلُوبِكُمْ، وَإِنَّ لِلْمَرْءِ مَا اكْتَسَبَ، وَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِ النَّحْلِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ مُحَقِّرًا لِلدُّنْيَا: أَشْرَفُ لِبَاسِ ابْنِ آدَمَ فِيهَا لُعَابُ دُودَةٍ،

وَأَشْرَفُ شَرَابِهِ رَجِيعُ نَحْلَةٍ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْفَمِ كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ: مَطْعُومٌ وَمَشْرُوبٌ وَمَلْبُوسٌ وَمَرْكُوبٌ وَمَنْكُوحٌ وَمَشْمُومٌ، وَأَشْرَفُ الْمَطْعُومَاتِ الْعَسَلُ وَهُوَ مَذْقَةُ ذُبَابٍ، وَأَشْرَفُ الْمَشْرُوبَاتِ الْمَاءُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَاشَرَفُ الْمَلْبُوسَاتِ الْحَرِيرُ وَهُوَ نَسْجُ دُودَةٍ، وَأَشْرَفُ الْمَرْكُوبَاتِ الْفَرَسُ وَعَلَيْهَا يُقْتَلُ الرِّجَالُ وَأَشْرَفُ الْمَشْمُومَاتِ الْمِسْكُ وَهُوَ دَمُ حَيَوَانٍ، وَأَشْرَفُ الْمَنْكُوحَاتِ الْمَرْأَةُ وَهُوَ مُبَالٌ فِي مُبَالٍ قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَشْرَفَ الْمَشْرُوبَاتِ اللَّبَنُ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَأَشْرَفُ الْمَرْكُوبَاتِ الْفَرَسُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ صَدِيقِهِ وَعَدُوِّهُ حَيْثُ قِيلَ: لَا وَفَاءَ فِي السَّيْفِ وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ، وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ كَرِهَ مُجَاهِدٌ قَتْلَ النَّحْلِ وَيَحْرُمُ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَ الْعَسَلُ حِلًّا لِأَنَّ الْآدَمِيَّةَ لِبَنُهَا حَلَالٌ وَلَحْمُهَا حَرَامٌ، وَأَبَاحَ بَعْضُ السَّلَفِ أَكْلَهُ كَالْجَرَادِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْحُرْمَةِ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا وَفِي الْإِبَانَةِ يُكَرَهُ بَيْعُ النَّحْلِ وَهُوَ فِي الْكَوَارِهِ، صَحِيحٌ إِنْ رُؤِيَ جَمِيعُهُ وَإِلَّا فَهُوَ بَيْعُ غَائِبٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ بَيْعُ النَّحْلِ وَالزَّنْبُورِ وَسَائِرِ الْحَشَرَاتِ، وَأَمَّا النَّمْلُ فَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَهُ فِيهِ: اقْنَعْ فَمَا تَبْقَى بِلَا بُلْغَةٍ ... فَلَيْسَ يَنْسَى رَبُّنَا نَمْلَهُ إِنْ أَقْبَلَ الدَّهْرُ فَقُمْ قَائِمًا ... وَإِنْ تَوَلَّى مُدْبِرًا نَمْ لَهْ وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ يُخَبِّئُ قُوتَهُ إِلَّا الْإِنْسَانَ وَالنَّمْلَ وَالْفَأْرَ، وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ الْإِحْيَاءِ فِي كِتَابِ التَّوَكُّلِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ: وَكَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ يَفُتُّ الْخُبْزَ لِلنَّمْلِ وَيَقُولُ: إِنَّهُنَّ جَارَاتٌ وَلَهُنَّ عَلَيْنَا حَقُّ الْجِوَارِ قُلْتُ: هُوَ صَحِيحٌ لَكِنَّهُنَّ مُؤْذِيَاتٌ وَمَا يُخَلِّينَ لَنَا حَلَاوَةً فِي الدَّارِ، وَعَنِ الْفَتْحِ بْنِ سَجْزٍ الزَّاهِدِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَفُتُ الْخُبْزَ لَهُنَّ كُلَّ يَوْمٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يَأْكُلْهُ وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ يُكْرَهُ أَكْلُ مَا حَمَلَتِ النَّمْلُ بِفِيهَا وَقَوَائِمِهَا، لِمَا رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حُوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَيَ عَنْ قَتْلِهِ، وَقَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يُؤْكَلَ مَا حَمَلَتْهُ النَّمْلُ بِفِيهَا وَقَوَائِمِهَا وَيُحَرِّمُ أَكْلَ النَّمْلِ الْوَرُودِ النَّهْرُ بْنُ الْكَوَّارِ، حَدَّثَتْنِي حَبِيبَةُ مَوْلَاةُ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَرَآهَا تَقْتُلُ نَمْلَةً فَقَالَ: لَا تَقْتُلِيهَا، ثُمَّ دَعَا بِكُرْسِيٍّ فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُنَّ إِلَّا خَرَجْتُنَّ مِنْ دَارِي، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تُقْتَلْنَ فِي دَارِي قَالَ: فَخَرَجْنَ فَمَا رُؤِيَ مِنْهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاحِدَةٌ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: وَرَأَيْتُ أَبِي فَعَلَ ذَلِكَ، وَكَثُرَ عِلْمِي أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيٍّ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ لِوُضُوءِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ النَّمْلَ خَرَجْنَ بَعْدَ ذَلِكَ. قِيلَ: وَقَدْ أُهْلِكَ بِالنَّمْلِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَهِيَ جُرْهُمٌ. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبُخَارِ الْأَسْوَدِ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ لَمْ أَشُكُّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةَ الْقَوْمِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَقْتُلُوا النَّمْلَةَ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ يَسْتَسْقِي وَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ مُسْتَلْقِيَةٍ عَلَى قَفَاهَا رَافِعَةً قَوَائِمِهَا تَقُولُ " اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، وَلَا غِنَى لَنَا عَنْ فَضْلِكَ، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنَا بِذُنُوبِ عِبَادِكَ الْخَاطِئِينَ، وَاسْقِنَا مَطَرًا تُنْبِتُ لَنَا بِهِ شَجَرًا وَأَطْعِمْنَا ثَمَرًا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: ارْجِعُوا فَقَدْ كُفِينَا وَسُقِينَا بِغَيْرِكُمْ» " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ) أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا وَأَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ: لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى تَحْرِيقِهَا إِنَّمَا عَاتَبَهُ لِكَوْنِهِ أَخَذَ الْبَرِيءَ بِغَيْرِ الْبَرِيءِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا النَّبِيُّ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ تُعَذِّبُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. بِمَعَاصِيهِمْ وَفِيهِمُ الطَّائِعُ، فَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُرِيَهُ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ فَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْحَرَّ حَتَّى الْتَجَأَ إِلَى شَجَرَةٍ مُتَرَوِّحًا إِلَى ظِلِّهَا، وَعِنْدَهَا قَرْيَةُ النَّمْلِ فَغَلَبَهُ النَّوْمُ، فَلَمَّا وَجَدَ لَذَّةَ النَّوْمِ لَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَدَلَكَهُنَّ بِقَدَمِهِ فَأَهْلَكَهُنَّ وَأَحْرَقَ مَسْكَنَهُنَّ فَأَرَاهُ الْآيَةَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَيَّرَهُ لَمَّا لَدَغَتْهُ كَيْفَ أَصَابَ الْبَاقِينَ بِعُقُوبَتِهَا، يُرِيدُ أَنْ يُنَبِّهَهُ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَصِيرُ رَحْمَةً عَلَى الْمُطِيعِ، وَنِقْمَةً عَلَى الْعَاصِي، وَعَلَى هَذَا لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَلَا خَطَرَ فِي قَتْلِ النَّمْلِ، فَإِنَّ مَنْ أَذَاكَ حَلَّ

لَكَ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَلَا أَحَدَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ أُبِيحَ لَكَ دَفْعُهُ عَنْكَ بِضَرْبٍ وَقَتْلٍ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْمِقْدَارِ، فَكَيْفَ بِالْهَوَامِّ وَالدَّوَابِّ الَّتِي قَدْ سُخِّرَتْ لَهُ وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِ؟ فَإِذَا آذَيْنَهُ أُبِيحَ لَهُ قَتْلُهَا. وَقَوْلُهُ: فَهَلَّا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي يُقْتَلُ، وَكُلُّ قَتْلٍ كَانَ لِنَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَخُصَّ تِلْكَ النَّمْلَةَ الَّتِي لَدَغَتْ مِنْ غَرَرِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْقَصَّاصَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَقَالَ: هَلَّا نَمْلَتُكَ الَّتِي لَدَغَتْكَ، وَلَكِنْ قَالَ: هَلَّا نَمْلَةٌ فَكَانَ يَعُمُّ الْبَرِيءَ وَالْجَانِيَ، وَذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ أَرَادَ تَنْبِيهَهُ لِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ فِي عَذَابِ أَهْلِ قَرْيَةٍ فِيهِمُ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي، وَقَدْ قِيلَ فِي شَرْعِ هَذَا النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَتِ الْعُقُوبَةُ لِلْحَيَوَانِ بِالتَّحْرِيقِ جَائِزَةً، فَلِذَلِكَ إِنَّمَا عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِحْرَاقِ الْكَثِيرِ لَا فِي أَصْلِ الْإِحْرَاقِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلَّا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ بِخِلَافِ شَرْعِنَا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ وَقَالَ: لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا يَجُوزُ إِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ إِلَّا إِذَا أَحْرَقَ إِنْسَانًا فَمَاتَ بِالْإِحْرَاقِ فَلِوَارِثِهِ الِاقْتِصَاصُ بِالْإِحْرَاقِ. قَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَأَمَّا قَتْلُ النَّمْلِ فَمَذْهَبُنَا لَا يَجُوزُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَالْمُرَادُ النَّمْلُ السُّلَيْمَانِيُّ كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُسَمَّى بِالذَّرِّ فَقَتْلُهُ جَائِزٌ، وَكَرِهَ مَالِكٌ قَتْلَ النَّمْلِ إِلَّا أَنْ يَضُرَّ وَلَا يُقْدَرَ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِالْقَتْلِ، وَقِيلَ إِنَّمَا عَاتَبَ اللَّهُ هَذَا النَّبِيَّ لِانْتِقَامِهِ لِنَفْسِهِ بِإِهْلَاكِ جَمْعٍ، وَإِنَّمَا أَذَاهُ وَاحِدٌ مِنْهُ وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الصَّبْرَ وَالصَّفْحَ، لَكِنْ وَقَعَ لِلنَّبَيِّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُؤْذٍ لِبَنِي آدَمَ وَحُرْمَةُ بَنِي آدَمَ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَلَوِ انْفَرَدَ لَهُ النَّظَرُ وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ التَّشَفِّي الطَّبِيعَيُّ لَمْ يُعَاتَبْ، فَعُوتِبَ عَلَى التَّشَفِّي بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْهُدْهُدُ فَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْأَصَحُّ تَحْرِيمُ أَكْلِهِ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِ، وَلِأَنَّهُ مُنْتِنُ الرِّيحِ وَيَقْتَاتُ الدُّودَ وَقِيلَ: يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ يُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَعِنْدَهُ لَا يَفْتَدِي إِلَّا الْمَأْكُولُ. وَفِي الْكَامِلِ وَشُعَبِ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ نَافِعًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُلْكِ وَأَعْطَاهُ كَيْفَ عُنِيَ بِالْهُدْهُدِ مَعَ صِغَرِهِ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ، وَالْهُدْهُدُ كَانَتِ الْأَرْضُ لَهُ مِثْلَ الزُّجَاجِ، وَكَانَ دَلِيلًا عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: قِفْ يَا وَقَّافُ، كَيْفَ يُبْصِرُ الْمَاءَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ وَلَا يَرَى الْفَخَّ إِذَا غُطِّيَ لَهُ بِقَدْرِ أُصْبُعٍ مِنْ تُرَابٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ عَمِيَ الْبَصَرُ. قُلْتُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ إِقْنَاعِيٌّ يَشْمَلُ مَا بِهِ أَمْرٌ قُدِّرَ فَإِنَّهُ كَانَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مِنْ خُصُوصِيَّتِهِ لَا كُلُّ شَيْءٍ مَدْفُونٍ فِي الْأَرْضِ لَكِنْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْعَطَشِ لَأُغْمِيَ عَلَيْهِ الْمَاءُ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مُقَدَّرًا. فَإِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ ضَاقَ الْفَضَاءُ وَإِذَا حَصَلَ الْقَدَرُ بَطَلَ الْحَذَرُ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ مَا حَكَى الْقَزْوِينِيُّ أَنَّ الْهُدْهُدَ قَالَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فِي ضِيَافَتِي. قَالَ أَنَا وَحْدِي. قَالَ: لَا، أَنْتَ وَأَهْلُ عَسْكَرِكَ فِي جَزِيرَةِ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا، فَحَضَرَ سُلَيْمَانُ بِجُنُودِهِ فَطَارَ الْهُدْهُدُ وَاصْطَادَ جَرَادَةً، فَخَنَقَهَا وَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ: كُلُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ فَاتَهُ اللَّحْمُ نَالَهُ الْمَرَقُ فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ مِنْ ذَلِكَ حَوْلًا كَامِلًا. وَأَمَّا الضُّفْدَعُ، فَمِثَالُ الْخِنْصَرِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ الدَّالِّ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الْأَشْهَرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ كَسْرُ الدَّالِّ وَفَتْحُهَا أَشْهَرُ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْخَاصَّةِ. وَفِي كَامِلِ ابْنِ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ الْقُرَظِيِّ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " مَنْ قَتَلَ ضُفْدَعًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ حِلًّا، " قَالَ سُفْيَانُ: يُقَالُ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَكْثَرَ ذِكْرًا لِلَّهِ مِنْهُ، وَفِي كَامِلِ ابْنِ عِدَيٍّ فِي تَرْجَمَةِ حَمَّادِ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّهُ رَوَى عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضُفْدَعًا أَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَثَابَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى بَرْدَ الْمَاءِ، وَجَعَلَ نَعِيقَهُنَّ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَقَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَالصُّرَدِ وَالنَّحْلَةِ» وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لِحَمَّادِ بْنِ عُبَيْدٍ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِصَحِيحِ الْحَدِيثِ، وُفِي كِتَابِ الزَّاهِدِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ، أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَأُسَبِّحَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اللَّيْلَةَ تَسْبِيحًا مَا يُسَبِّحُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَنَادَتْهُ ضُفْدَعٌ مِنْ سَاقِيَةٍ فِي دَارِهِ: يَا دَاوُدُ تَفْخَرُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَسْبِيحِكَ وَإِنَّ لِي سَبْعِينَ سَنَةً مَا جَفَّ لِسَانِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّ لِي لَعَشْرَ لَيَالٍ مَا طَعِمْتُ خَضِرًا وَلَا شَرِبْتُ مَاءً اشْتِغَالًا بِكَلِمَتَيْنِ. فَقَالَ مَا هُمَا؟ فَقَالَتْ يَا مُسَبَّحًا بِكُلِّ لِسَانٍ وَيَا مَذْكُورًا بِكُلِّ مَكَانٍ. فَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفْسِهِ: وَمَا عَسَى أَنْ أَقُولَ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ظَنَّ فِي نَفْسِهِ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَمْدَحْ خَالِقَهُ بِأَفْضَلِ مِمَّا يَمْدَحُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا وَهُوَ قَاعِدٌ فِي مِحْرَابِهِ وَالْبِرْكَةُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ افْهَمْ مَا تُصَوِّتُ بِهِ الضُّفْدَعُ، فَأَنْصَتَ لَهَا فَإِذَا هِيَ تَقُولُ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ مُنْتَهَى عِلْمِكَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: كَيْفَ تَرَى؟ فَقَالَ وَالَّذِي جَعَلَنِي نَبِيًّا إِنِّي لَمْ أَمْدَحْهُ كَذَا. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: يَحْرُمُ أَكْلُهَا لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَيَ عَنْ قَتْلِ خَمْسٍ: النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالضُّفْدَعُ وَالصُّرَدُ وَالْهُدْهُدُ» وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَالْحَاكِمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ ضُفْدَعٍ فِي دَوَاءٍ، فَنَهَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الضُّفْدَعَ يَحْرُمُ أَكْلُهَا وَأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِيمَا أُبِيحَ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «لَا تَقْتُلُوا الضَّفَادِعَ فَإِنَّ نَعِيقَهَا تَسْبِيحٌ» ". قَالَ سُلَيْمٌ: سَأَلْتُ الدَّارَقُطْنِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ رَوَى أَبُو الْحُوَيْرِثِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الْخَطَاطِيفِ، وَقَالَ " لَا تَقْتُلُوا هَذِهِ الْعَوْذَاءَ إِنَّهَا تَعُوذُ بِكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: مُنْقَطِعٌ قَالَ: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْخَطَاطِيفِ عَوْذَاءِ الْبُيُوتِ» ، وَمِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا لَكِنْ صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا أَنَّهُ قَالَ «وَلَا تَقْتُلُوا الضَّفَادِعَ فَإِنَّ نَعِيقَهَا تَسْبِيحٌ، وَلَا تَقْتُلُوا الْخُطَّافَ فَإِنَّهُ لَمَّا خُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ قَالَ يَا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلَى الْبَحْرِ حَتَّى أُغْرِقَهُمْ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنَّهُ حَلَالٌ لِأَنَّهُ يَتَقَوَّتُ بِالْحَلَالِ غَالِبًا. قَالَ أَبُو الْعَاصِمِ الْعَبَّادِيُّ: وَهَذَا مُحْتَمَلٌ عَلَى أَصْلِنَا وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ الْخُطَّافُ جَمْعُهُ الْخَطَاطِيفُ، وَيُسَمَّى زَوَّارَ الْهِنْدِ وَهُوَ مِنَ الطُّيُورِ الْقَوَاطِعِ إِلَى النَّاسِ يَقْطَعُ الْبِلَادَ إِلَيْهِمْ رَغْبَةً فِي الْقُرْبِ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهَا تَبْنِي بُيُوتًا فِي أَبْعَدِ الْمَوَاضِعِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَهَذَا الطَّائِرُ يُعْرَفُ عِنْدَ النَّاسِ بِعُصْفُورِ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُ زَهِدَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَقْوَاتِ فَأَحَبُّوهُ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّتُ بِالْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ. وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ فِي آخِرِ بَابِ الْمَحَبَّةِ أَنَّ خُطَّافًا رَاوَدَ خُطَّافَةً عَلَى قُبَّةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَامْتَنَعَتْ مِنْهُ فَقَالَ لَهَا: تَمْتَنِعِينَ عَلَيَّ وَلَوْ شِئْتُ قَلَبْتُ الْقُبَّةَ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَدَعَاهُ سُلَيْمَانُ وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا قُلْتَ؟ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ الْعُشَّاقُ لَا يُؤَاخَذُونَ بِأَقْوَالِهِمْ، فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا نَوْعٌ يُسَمَّى السِّنُونُو وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَبِمَكَّةَ وَيُعَشِّشُ فِي سَقْفِ الْبَيْتِ عِنْدَ بَابِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَبَعْضُ النَّاسِ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ طَيْرُ الْأَبَابِيلِ الَّذِي عَذَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَصْحَابَ الْفِيلِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّمْلِ: إِنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ اشْتَكَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْوَحْشَةَ فَآنَسَهُ اللَّهُ بِالْخُطَّافِ وَأَلْزَمَهَا الْبُيُوتَ، فَهِيَ لَا تُفَارِقُ بَنِي آدَمَ أَنْسَابَهُمْ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4146 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، وَتَلَا {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] الْآيَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4146 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلَيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ) أَيْ. بِمُقْتَضَى طِبَاعِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ (وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ) أَيْ لَا يَأْكُلُونَهَا (تَقَذُّرًا) : أَيْ كَرَاهَةً وَيَعُدُّونَهَا مِنَ الْقَاذُورَاتِ، (فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ) : أَيْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ (وَأَحَلَّ حَلَالَهُ) : أَيْ مَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا بِإِبَاحَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَلَالُهُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ أَيْ: أَظْهَرَ اللَّهُ بِالْبَعْثِ وَالْإِنْزَالِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى. (وَحَرَّمَ حَرَامَهُ) : أَيْ بِالْمَنْعِ عَنْ أَكْلِهِ (فَمَا أَحَلَّ) : أَيْ مَا بَيَّنَ إِحْلَالَهُ (فَهُوَ حَلَالٌ) : أَيْ لَا غَيْرَ (وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ) أَيْ مَا لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَهُ (فَهُوَ عَفْوٌ) أَيْ مُتَجَاوَزٌ عَنْهُ لَا تُؤَاخَذُونَ بِهِ (وَتَلَا) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَدًّا لِفِعْلِهِمْ وَأَكْلِهِمْ مَا يَشْتَهُونَهُ أَوْ تَرْكِهِمْ مَا يَكْرَهُونَهُ تَقَذُّرًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْمُحَلَّلُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمُحَرَّمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ

وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ بِهَوَى النَّفْسِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] أَيْ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُطْلَقًا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْوَحْيِ لَا بِالْهَوَى (مُحَرَّمًا) : أَيْ طَعَامًا مُحَرَّمًا (عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ) : بِالتَّذْكِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّأْنِيثِ (مَيْتَةً) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ دَمًا (الْآيَةَ) : بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ أُخْتَاهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِالْوَحْيِ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ حَرَامٌ فِي وَقْتٍ إِلَّا فِي وَقْتِ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مَيْتَةً، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ " تَكُونُ " بِالتَّأْنِيثِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ وَرَفْعِ مَيْتَةٍ عَلَى أَنَّ كَانَ هِيَ التَّامَّةُ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] عَطْفٌ عَلَى " أَنْ " مَعَ مَا فِي حَيِّزِهِ أَيْ إِلَّا وُجُودَ مَيْتَةٍ " أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا " أَيْ مَصْبُوبًا سَائِلًا كَالدَّمِ فِي الْعُرُوقِ لَا الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ لِمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، أَيْ فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ أَوْ لَحْمَهُ قَذِرٌ لِتَعَوُّدِهِ أَكْلَ النَّجَاسَةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: حَرَامٌ (أَوْ فِسْقًا) عَطْفٌ عَلَى لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِلتَّعْلِيلِ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صِفَةٌ لَهُ مُوَضِّحَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ مُحَرَّمًا غَيْرَ هَذِهِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي وُرُودَ التَّحْرِيمِ فِي شَيْءٍ آخَرَ بَعْدَ هَذَا، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى نُسَخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا عَلَى حِلِّ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهَا إِلَّا مَعَ الِاسْتِصْحَابِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4147 - وَعَنْ زَاهِرٍ الْأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنِّي لَأُوقِدُ تَحْتَ الْقُدُورِ بِلُحُومِ الْحُمُرِ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4147 - (وَعَنْ زَاهِرٍ الْأَسْلَمِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: زَاهِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْأَسْلَمِيُّ كَانَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، سَكَنَ الْكُوفَةَ وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِهَا. (قَالَ: إِنِّي لَأُوقِدُ) : أَيِ النَّارَ (تَحْتَ الْقُدُورِ بِلُحُومِ الْحُمُرِ) : أَيِ الْأَهْلِيَّةِ (إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا أَيْ إِنَّهُ ( «يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ» ) : أَيْ عَنْ أَكْلِهَا يَعْنِي فَقَلَبْنَا الْقُدُورَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4148 - وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَرْفَعُهُ " «الْجِنُّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَصِنْفٌ يَحُلُّونَ وَيَظْعَنُونَ» ، رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4148 - (وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ (يَرْفَعُهُ) : أَيِ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْجِنُّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ) وَهُمْ أَجْسَامٌ هَوَائِيَّةٌ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ لَهَا عُقُولٌ وَأَفْهَامٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ (صِنْفٌ) وَفِي رِوَايَةٍ: فَصِنْفٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ مِنْهُمْ صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ (يَطِيرُونَ) أَيْ بِهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ " فِي الْهَوَاءِ وَصِنْفٌ " أَيْ وَمِنْهُمْ صِنْفُ " حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَصِنْفٌ يَحُلُّونَ " بِضَمِّ الْحَاءِ وَبِكَسْرٍ أَيْ يَنْزِلُونَ وَيُقِيمُونَ تَارَةً " وَيَظْعَنُونَ " أَيْ يُسَافِرُونَ وَيَحِلُّونَ أَيْ مَرَّةً أُخْرَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80] فَفِي الْقَامُوسِ: ظَعَنَ كَمَنَعَ ظَعْنًا وَيُحَرَّكُ سَارَ (رَوَاهُ) : أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِنَّ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ وَخَشَاشُ الْأَرْضِ، هُوَ بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ: حَشَرَاتُهَا وَهَوَامُّهَا، وَصِنْفٌ كَالرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ وَصِنْفٌ عَلَيْهِ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ. وَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صَنْفٌ كَالْبَهَائِمِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا. وَصِنْفٌ أَجْسَادُهُمْ أَجْسَادُ بَنِي آدَمَ وَأَرْوَاحُهُمْ أَرْوَاحُ الشَّيَاطِينِ. وَصِنْفٌ كَالْمَلَائِكَةِ فِي ظِلِّ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظَلُّهُ ".

[باب العقيقة]

[بَابُ الْعَقِيقَةِ]

بَابُ الْعَقِيقَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 4149 - عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْعَقِيقَةِ. الْمُغْرِبُ: الْعَقُّ الشَّقُّ وَمِنْهُ عَقِيقَةُ الْمَوْلُودِ وَهِيَ شَعْرُهُ، لِأَنَّهُ يُقْطَعُ عَنْهُ يَوْمَ أُسْبُوعِهِ وَبِهَا سُمِّيَتِ الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنْهُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 4149 - (عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : بِفَتْحِ الضَّادِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحِّدَةِ وَيَاءِ النِّسْبَةِ وَعِدَادُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ مِنَ الرُّوَاةِ ضَبِّيٌّ غَيْرُهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَعَ الْغُلَامِ ") أَيْ مَعَ وِلَادَتِهِ (عَقِيقَةٌ) أَيْ ذَبِيحَةٌ مَسْنُونَةٌ وَهِيَ شَاةٌ تُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ الْيَوْمَ السَّابِعَ مِنْ وِلَادَتِهِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تُذْبَحُ حِينَ يُحْلَقُ عَقِيقُهُ، وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْمَوْلُودِ حِينَ يُولَدُ مِنَ الْعَقِّ وَهُوَ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ يُحْلَقُ وَلَا يُتْرَكُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (فَأَهْرِيقُوا) بِسُكُونِ الْهَاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ أَرِيقُوا (عَنْهُ دَمًا) يَعْنِي اذْبَحُوا عَنْهُ ذَبِيحَةً (وَأَمِيطُوا) أَيْ أَزِيلُوا وَأَبْعِدُوا (عَنْهُ الْأَذَى) : أَيْ بِحَلْقِ شَعْرِهِ، وَقِيلَ: بِتَطْهِيرِهِ عَنِ الْأَوْسَاخِ الَّتِي تَلَطَّخَ بِهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَقِيلَ: بِالْخِتَانِ وَهُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَلَفْظُهُ (الْغُلَامُ «مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ الدَّمَ وَأَمِيطُوا الْأَذَى» ) .

4150 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ، وَيُحَنِّكُهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4150 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ) : وَكَذَا بِالصَّبِيَّاتِ فَفِيهِ تَغْلِيبٌ (فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يَدْعُو لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمَوْلُودِ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ. فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ، يُقَالُ: وَبَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَبَارَكَ لَهُ، وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَبَارَكَهُ، وَبَرَّكَ عَلَى الطَّعَامِ، وَبَرَّكَ فِيهِ إِذَا دَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَارَكَ عَلَيْهِ أَبْلَغُ فَإِنَّ فِيهِ تَصْوِيرَ صَبِّ الْبَرَكَاتِ، وَإِفَاضَتِهَا مِنَ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] (وَيُحَنِّكُهُمْ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ يَمْضُغُ التَّمْرَ أَوْ شَيْئًا حُلْوًا، ثُمَّ يُدَلِّكُ بِهِ حَنَكَهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَكَذَا الْبُخَارِيُّ

4151 - «وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ: فَوَلَدْتُ بِقُبَاءَ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، ثُمَّ حَنَّكَهُ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4151 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا حَمَلَتْ) : أَيْ حَبَلَتْ (بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ) : أَيْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ (قَالَتْ: فَوَلَدْتُ بِقُبَاءَ) : بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ قَرْيَةٌ بِالْمَدِينَةِ يُنَوَّنُ وَلَا يُنَوَّنُ. كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالصَّرْفُ أَصَحُّ (ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ) : أَيْ بِالْمَوْلُودِ أَوْ بِعَبْدِ اللَّهِ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَبِكَسْرٍ أَيْ فِي حِضْنِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْحِجْرُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الثَّوْبُ (ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ) أَيْ وَضَعَ وَأَلْقَى ذَلِكَ التَّمْرَ الْمُخْتَلِطَ بِرِيقِهِ (فِي فِيهِ) : أَيْ فِي فَمِهِ (ثُمَّ حَنَّكَهُ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ دَلَّكَ بِهِ حَنَكَهُ (ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالْعَطْفُ يَحْتَمِلُ التَّفْسِيرَ وَالتَّخْصِيصَ (فَكَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْوَاوِ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَعْنِي أَنَّهَا هَاجَرَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ هَاجَرَتْ حَامِلًا وَوَضَعَتْهُ بِقُبَاءَ فَكَانَ أَيْ عَبْدُ اللَّهِ (أَوَّلَ مَوْلُودٍ) : أَيْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ (وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ) : أَيْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعْنِي أَوَّلَ مَنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِلَّا فَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَفِيهِ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَيْهِ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي. 4152 - عَنْ أُمِّ كُرْزٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا " قَالَتْ؟ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ " عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ وَلَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إِنَاثًا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: يَقُولُهُ " عَنِ الْغُلَامِ إِلَى آخِرِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي. 4152 - (عَنْ أُمِّ كُرْزٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) : بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ فَزَاي كَعْبِيَّةٌ خُزَاعِيَّةٌ مَكِّيَّةٌ، رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثَ، رَوَى عَنْهَا عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا حَدِيثَهَا فِي الْعَقِيقَةِ. (قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ " أَقِرُّوا ") بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ أَبْقُوا وَخَلُّوا (الطَّيْرَ) أَيْ جِنْسَهَا (عَلَى مَكِنَاتِهَا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَيُفْتَحُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهِمَا أَيْ أَمَاكِنِهَا الَّتِي مَكَّنَهَا اللَّهُ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ جُمْعُ مَكِنَةٍ وَهِيَ. بَيْضَةُ الضَّبِّ وَيُضَمُّ الْحَرْفَانِ مِنْهَا أَيْضًا. فِي النِّهَايَةِ: جَمْعُ مَكِنَةٍ بِكَسْرِ الْكَافِ وَقَدْ يُفْتَحُ أَيْ بَيْضُهَا وَهِيَ فِي الْأَصْلِ بَيْضُ الضِّبَابِ، وَقِيلَ: عَلَى أَمْكِنَتِهَا وَمَسَاكِنِهَا. كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلَيَّةِ إِذَا أَرَادَ حَاجَةً أَتَى طَيْرًا فِي وَكْرِهِ فَنَفَّرَهُ، فَإِذَا طَارَ ذَاتَ الْيَمِينِ مَضَى لِحَاجَتِهِ، وَإِنْ طَارَ ذَاتَ الشِّمَالِ رَجَعَ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ أَيْ لَا تَزْجُرُوهَا وَأَقِرُّوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَقِيلَ: الْمَكِنَةُ التَّمَكُّنُ كَالطَّلِبَةِ وَالتَّبِعَةِ مِنَ التَّطَلُّبِ وَالتَّتَبُّعِ أَيْ: أَقِرَّاهَا عَلَى كُلِّ مَكِنَةٍ تَرَوْنَهَا وَدَعُوا التَّطَيُّرَ بِهَا، وَيُرْوَى بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْكَافِ جَمْعُ مَكَانٍ كَصُعُدٍ فِي صُعُدَاتٍ. (قَالَتْ) أَيْ أُمُّ كُرْزٍ (وَسَمِعْتُهُ) : أَيِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي نُسْخَةٍ وَسَمِعْتُ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ (يَقُولُ) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا سَمِعَتْهُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَفْصُولًا مِمَّا بَعْدَهُ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ الْآتِي، وَلِلتِّرْمِذِيِّ إِلَخْ تَصْرِيحٌ بِاسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا سَمِعَتْهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الرَّبْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَهُمْ عَنِ التَّطَيُّرِ فِي شَأْنِ الْمَوْلُودِ وَأَمَرَهُمْ بِالذَّبْحِ وَالصَّدَقَةِ بِقَوْلِهِ: (عَنِ الْغُلَامِ) : أَيْ يُذْبَحُ عَنِ الصَّبِيِّ (شَاتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ) أَيِ الْبِنْتِ (شَاةٌ، وَلَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إِنَاثًا) : الضَّمِيرُ فِي كُنَّ لِلشِّيَاةِ الَّتِي يُعَقُّ بِهِمَا عَنِ الْمَوْلُودِينَ وَذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إِنَاثًا فَاعِلُ يَضُرُّكُمْ أَيْ: لَا يَضُرُّكُمْ كَوْنُ شَاةِ الْعَقِيقَةِ ذُكْرَانًا أَوْ إِنَاثًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي كُنَّ عَائِدٌ إِلَى الشَّاتَيْنِ وَالشَّاةِ الْمَذْكُورَةِ، وَغَلَّبَ الْإِنَاثَ عَلَى الذُّكُورِ تَقْدِيمًا لِلنِّعَاجِ فِي النُّسُكِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ نَحْوَ شَاةٍ وَنَمْلَةٍ وَحَمَامَةٍ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ بِانْتِهَاضِ الْقَرِينَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (وَالتِّرْمِذِيُّ) : بِاللَّامِ (وَالنَّسَائِيُّ مِنْ قَوْلِهِ) : أَيْ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي (يَقُولُ) : أَيْ هُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (عَنِ الْغُلَامِ " إِلَى آخِرِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «عَنِ الْغُلَامِ عَقِيقَتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ عَقِيقَةٌ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أُمِّ كُرْزٍ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بِلَفْظِ: «عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أُمِّ كُرْزٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: «عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاتَانِ لَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَمْ إِنَاثًا» بِلَفْظِ " أَمْ "، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4153 - وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُسَمَّى، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ لَكِنْ فِي رِوَايَتِهِمَا " رَهِينَةٌ " بَدَلَ مُرْتَهَنٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَيُدْمَى مَكَانَ " وَيُسَمَّى وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ وَيُسَمَّى أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4153 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) أَيِ الْبَصْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (عَنْ سَمُرَةَ) أَيِ ابْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ أَيْ مَرْهُونٌ بِعَقِيقَتِهِ: يَعْنِي أَنَّهُ مَحْبُوسُ سَلَامَتِهِ عَنِ الْآفَاتِ بِهَا أَوْ إِنَّهُ كَالشَّيْءِ الْمَرْهُونِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ دُونَ أَنْ يُقَابِلَ بِهَا لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى

وَالِدَيْهِ، فَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنَ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ شَفَاعَتُهُ لَهُمَا لَا يَشْفَعُ لَهُمَا إِنْ مَاتَ طِفْلًا وَلَمْ يُعَقَّ عَنْهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي قَوْلِهِ: مُرْتَهَنٌ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرْتَهَنَ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الرَّهْنَ، وَالشَّيْءُ مَرْهُونٌ وَرَهِينٌ، وَلَمْ نَجِدْ فِيمَا يُعْتَمَدُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِنَاءُ الْمَفْعُولِ مِنَ الِارْتِهَانِ، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ أَتَى بِهِ مَكَانَ الرَّهِينَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: طَرِيقُ الْمَجَازِ غَيْرُ مَسْدُودٍ وَلَيْسَ. بِمَوْقُوفٍ عَلَى السَّمَاعِ، وَلَا يُسْتَرَابُ أَنَّ الِارْتِهَانَ هُنَا لَيْسَ مَأْخُوذًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ فِي قِسْمِ الْمَجَازِ: فُلَانٌ رَهْنٌ بِكَذَا وَرَهِينٌ وَرَهِينَتُهُ وَمُرْتَهَنٌ بِهِ مَأْخُوذٌ بِهِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ أَنَّ الْعَقِيقَةَ لَازِمَةٌ لَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فَشَبَّهَهُ فِي لُزُومِهَا لَهُ، وَعَدَمِ انْفِكَاكِهِ مِنْهُ بِالرَّهْنِ فِي يَدِ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ، وَالْهَاءُ فِي الرَّهِينَةِ لِلْمُبَالَغَةِ لَا لِلتَّأْنِيثِ كَالشَّتْمِ وَالشَّتِيمَةِ. وَهُوَ بَحْثٌ غَرِيبٌ وَاعْتِرَاضٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّ كَلَامَ التُّورِبِشْتِيِّ فِي أَنَّ لَفْظَ الْمُرْتَهِنِ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، وَأَنَّ الرَّاوِيَ ظَنَّ أَنَّ الْمُرْتَهَنَ يَأْتِي بِمَعْنَى الرَّهِينَةِ الثَّابِتَةِ فِي الرِّوَايَةِ فَنَقَلَهُ بِالْمَعْنَى عَلَى حُسْبَانِهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الرَّهْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ بَلْ عَلَى الْمَجَازِ فَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ وَتَعَقُّلٍ، فَكَيْفَ عَلَى الْإِمَامِ الْجَلِيلِ الْمُحَقِّقِ فِي الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، وَالْجَامِعِ بَيْنَ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، بَلْ مَا ذَكَرَهُ عَنِ الْأَسَاسِ وَالنِّهَايَةِ يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ وَبَحْثِهِ فِي الْغَايَةِ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ أَيْضًا مَا يُبَيِّنُ هَذَا الْمَبْحَثَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ، وَأَجْوَدُهَا مَا قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ طِفْلًا وَلَمْ يُعَقَّ عَنْهُ لَمْ يَشْفَعْ فِي وَالِدَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ يَحْرُمُ شَفَاعَتُهُمْ. قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: وَلَا أَدْرِي بِأَيِّ سَبَبٍ تَمَسَّكَ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لَا يُسَاعِدُ الْمَعْنَى الَّذِي أَتَى بِهِ بَلْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُبَايَنَةِ مَالَا يَخْفَى عَلَى عُمُومِ النَّاسِ، فَضْلًا عَنْ خُصُوصِهِمْ، وَالْحَدِيثُ إِذَا اسْتُبْهِمَ مَعْنَاهُ فَأَقْرَبُ السَّبَبِ إِلَى إِيضَاحِهِ اسْتِيفَاءُ طُرُقِهِ، فَإِنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ إِشَارَةٍ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا رِوَايَةً فَيَسْتَكْشِفُ بِهَا مَا أُبْهِمَ مِنْهُ وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ» أَيْ مَرْهُونٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَالشَّيْءِ الْمَرْهُونِ لَا يَتِمُّ الِانْتِفَاعُ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهِ دُونَ فَكِّهِ، وَالنِّعْمَةُ إِنَّمَا تَتِمُّ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِقِيَامِهِ بِالشُّكْرِ وَوَظِيفَةُ الشُّكْرِ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا سَنَّهُ نَبِيُّهُ النَّبِيهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَنْ يُعَقَّ عَنِ الْمَوْلُودِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَطَلَبًا لِسَلَامَةِ الْمَوْلُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ سَلَامَةَ الْمَوْلُودِ وَنُشُوَّهُ عَلَى النَّعْتِ الْمَحْبُوبِ رَهِينَةٌ بِالْعَقِيقَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مُتَلَقًّى مِنْ قِبَلِ الصَّحَابَةِ، وَيَكُونُ الصَّحَابِيُّ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ أَوْ قَضِيَّةِ الْحَالِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ شَفَاعَةُ الْغُلَامِ لِأَبَوَيْهِ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ مَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا بَعْدَ مَا تَلَقَّى مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَنَّهُ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ يَجِبُ أَنْ يُتَلَقَّى كَلَامُهُ بِالْقَبُولِ وَيُحْسَنَ الظَّنُّ بِهِ. وَفِيهِ أَنَّ عَدَمَ الرَّيْبِ فِي تَلَقِّيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّ وُجُوبَ قَبُولِ كَلَامِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُقَلِّدِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ رِبْقَةِ التَّقْلِيدِ، وَدَخَلُوا فِي مَقَامِ تَحْقِيقِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّسْدِيدِ وَالتَّأْبِيدِ، ثُمَّ إِنَّ كَلَامَ التُّورِبِشْتِيِّ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَوْنُ الشَّفَاعَةِ لَا غَيْرَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَتِمُّ الِانْتِفَاعُ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهِ دُونَ فَكِّهِ يَقْتَضِي عُمُومَهُ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَنَظَرُ الْأَلِبَّاءِ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَوَّلِ وَأَوْلَى الِانْتِفَاعِ بِالْأَوْلَادِ فِي الْآخِرَةِ شَفَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَقَوْلِهِ {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ عَلَى الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ إِخْرَاجُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ " آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ " إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْفَاذَهَا أَنْفَعُ لَكُمْ مِمَّا تُرِكَ لَهُمْ وَلَمْ يُوصَ بِهِ. الْكَشَّافُ: أَيْ لَا تَدْرُونَ مَنْ أَنْفَعُ لَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ أَمَنْ أَوْصَى مِنْهُمْ إِنْ لَمْ يُوصِ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ وَعَرَّضَكُمْ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ بِإِمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، فَهُوَ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا وَأَحْضُرُ جَدْوًى مِنْ تَرْكِ الْوَصِيَّةِ فَوَفَّرَ عَلَيْكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا وَجَعَلَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ أَقْرَبَ وَأَحْضَرَ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا ذَهَابًا إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ عَرَضَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ عَاجِلًا قَرِيبًا فِي الصُّورَةِ إِلَّا أَنَّهُ فَانٍ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَبْعَدُ الْأَقْصَى، وَثَوَابُ الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ

آجِلًا إِلَّا أَنَّهُ بَاقٍ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَقْرَبُ الْأَدْنَى اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَارِيَةَ فِي حُكْمِ الْغُلَامِ. " تُذْبَحُ " بِالتَّأْنِيثِ أَيْ عَقِيقَتُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ فَنَائِبُ الْفَاعِلِ قَوْلُهُ " عَنْهُ: أَيْ عَنِ الْغُلَامِ " يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُسَمَّى " أَيِ الْغُلَامُ. بِمَا يُسَمَّى حِينَئِذٍ لَا قَبْلَهُ " وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ " أَيْ يَوْمَئِذٍ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ (وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ لَكِنْ فِي رِوَايَتِهِمَا " رَهِينَةٌ " بَدَلَ مُرْتَهَنٌ " وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ: " وَيُدَمَّى ") : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ يُلَطَّخُ رَأْسُهُ بِدَمِ الْعَقِيقَةِ (كَانَ: وَيُسَمَّى) أَيْ بَدَلَهُ وَفِي مَوْضِعِهِ (وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَيُسَمَّى " أَصَحُّ) أَيْ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: يُطْلَى رَأْسُ الْمَوْلُودِ بِدَمِ الْعَقِيقَةِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَصِفُ الدَّمَ وَيَقُولُ إِذَا ذُبِحَتِ الْعَقِيقَةُ تُؤْخَذُ صُوفَةٌ مِنْهَا فَيُسْتَقْبَلُ بِهَا أَوْدَاجُ الذَّبِيحَةِ، ثُمَّ تُوضَعُ عَلَى يَافُوخِ الصَّبِيِّ حَتَّى إِذَا سَالَ شِبْهُ الْخَيْطِ غَسَلَ رَأْسَهُ ثُمَّ حُلِقَ بَعْدُ، وَكَرِهَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَطْخَ رَأْسِهِ بِدَمِ الْعَقِيقَةِ وَقَالُوا: كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَضَعَّفُوا رِوَايَةَ مَنْ رَوَى يُدَمَّى، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ يُسَمَّى وَيُرْوَى لَطَّخَ الرَّأْسَ بِالْخَلُوقِ وَالزَّعْفَرَانِ مَكَانَ الدَّمِ اهـ. وَأَيْضًا يُسَنُّ إِمَاطَةُ الْأَذَى، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِازْدِيَادِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْخِتَانُ، وَهَذَا أَقْرَبُ لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ.

4154 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْحَسَنِ بِشَاةٍ وَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ احْلِقِي رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً " فَوَزَنَّاهُ فَكَانَ وَزْنُهُ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضَ دِرْهَمٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4154 - (وَعَنْ مُحَمَّدٍ) أَيِ الْبَاقِرِ (ابْنِ عَلِيٍّ) : أَيْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ (ابْنِ الْحُسَيْنِ) أَيِ ابْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْبَاقِرَ؛ لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْمَ أَيْ شَقَّهُ وَعَلِمَ حَقِيقَتَهُ وَأَصْلَهُ. رُوِيَ «أَنَّ جَابِرًا قَالَ لِمُحَمَّدٍ وَهُوَ صَغِيرٌ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحُسَيْنُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يُلَاعِبُهُ، فَقَالَ: يَا جَابِرُ يُولَدُ لَهُ مَوْلُودٌ اسْمُهُ عَلِيٌّ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: لِيَقُمْ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ، فَيَقُومُ وَلَدُهُ، ثُمَّ يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ» . قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ زَيْنَ الْعَابِدِينَ كَانَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ حَتَّى مَاتَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: يُكَنَّى أَبَا جَعْفَرٍ الصَّادِقَ الْمَعْرُوفَ بِالْبَاقِرِ، سَمِعَ أَبَاهُ زَيْنَ الْعَابِدِينَ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَغَيْرُهُ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَسُمِّيَ الْبَاقِرَ، لِأَنَّهُ تَبَقَّرَ فِي الْعِلْمِ أَيْ تَوَسَّعَ. (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ ذَبَحَ (عَنِ الْحَسَنِ بِشَاةٍ) ، الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوْ مَزِيدَةٌ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ لَا يَنْدُبَانِ عَلَى الْجَارِيَةِ عَقِيقَةٌ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ يَعُقُّ عَنْ وَلَدِهِ بِشَاةٍ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَمِثْلُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَذْبَحُ عَنِ الْغُلَامِ بِشَاتَيْنِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ. قُلْتُ: أَمَّا نَفْيُ الْعَقِيقَةِ عَنِ الْجَارِيَةِ فَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا الْغُلَامُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ النَّدْبِ فِي حَقِّهِ عَقِيقَةً وَاحِدَةً وَكَمَالُهُ ثِنْتَانِ، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْأَقَلِّ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَبْحِ الشَّاتَيْنِ أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِ السَّابِعِ، فَيُمْكِنُ أَنَّهُ ذَبَحَ عَنْهُ فِي يَوْمِ الْوِلَادَةِ كَبْشًا وَفِي السَّابِعِ كَبْشًا، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، أَوْ عَقَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِهِ كَبْشًا. وَأَمَرَ عَلِيًّا أَوْ فَاطِمَةَ بِكَبْشٍ آخَرَ، فَنُسِبَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَقَّ كَبْشًا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَبْشَيْنِ مَجَازًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ احْلِقِي) : حَقِيقَةً أَوْ مُرِي مَنْ يَحْلِقُ وَهُوَ أَمُرُ نَدْبٍ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ (رَأْسَهُ) أَيْ رَأْسَ الْحَسَنِ (وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ) : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ بِوَزْنِ

شَعْرِ رَأْسِهِ (فِضَّةً فَوَزَنَّاهُ فَكَانَ وَزْنُهُ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضَ دِرْهَمٍ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَأَنْ يَكُونَ. بِمَعْنَى بَلْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) أَيْ يَقْوَى أَوْ رِجَالُهُ رِجَالُ حَسَنٍ (غَرِيبٌ) أَيْ إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا (وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ) أَيْ بَلْ مُرْسَلٌ عَلَى قَوْلٍ وَمُنْقَطِعٌ عَلَى قَوْلٍ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) أَيْ جَدَّهُ الْكَبِيرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

4155 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَبْشًا كَبْشًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ: كَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4155 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) : أَيْ ذَبَحَ عَنْ كُلٍّ (كَبْشًا كَبْشًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: عَقَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا كَانَ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالتَّكْرِيرُ بِاعْتِبَارِ مَا عُقَّ عَنْهُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ أَيْ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِكَبْشٍ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: عَقَّ شَقَّ، وَعَنِ الْمَوْلُودِ ذَبَحَ عَنْهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ: كَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ) : وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

4156 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْعَقِيقَةِ. فَقَالَ " لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ " كَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ، وَقَالَ " مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسِكَ عَنْهُ فَلْيَنْسِكْ. عَنِ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةً» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4156 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ» ") أَيْ فَمَنْ شَاءَ أَنْ لَا يَكُونَ وَلَدُهُ عَاقًّا لَهُ فِي كِبْرَهِ فَلْيَذْبَحْ عَنْهُ عَقِيقَةً فِي صِغَرِهِ، لِأَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدِ يُورِثُ عُقُوقَ الْوَلَدِ وَلَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ، وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ وُلِدَ لَهُ إِلَخْ وَ (كَأَنَّهُ) أَيِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَرِهَ الِاسْمَ) هَذَا كَلَامُ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَيْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَقْبِحُ أَنْ يُسَمَّى عَقِيقَةً لِئَلَّا يُظَنُّ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعُقُوقِ، وَأَحَبَّ أَنْ يُسَمَّى بِأَحْسَنَ مِنْهُ مِنْ ذَبِيحَةٍ أَوْ نَسِيكَةٍ عَلَى دَأْبِهِ فِي تَغْيِيرِ الِاسْمِ الْقَبِيحِ إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ كَلَامٌ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْعَقِيقَةَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَلَوْ كَانَ يَكْرَهُ الِاسْمَ لَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْ عَادَتِهِ تَغْيِيرُ الِاسْمِ إِذَا كَرِهَهُ، أَوْ يُشِيرُ إِلَى كَرَاهَتِهِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: «لَا تَقُولُوا لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ» وَنَحْوِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْهَا لِاشْتِبَاهِ تَدَاخُلِهِ مِنَ الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَأَحَبَّ أَنْ يَعْرِفَ الْفَضِيلَةَ فِيهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَقِيقَةُ مِنَ الْفَضِيلَةِ بِمَكَانٍ لَمْ يُخْفِ عَلَى الْأُمَّةِ مَوْقِعَهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَجَابَهُ. بِمَا ذَكَرَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَبْغَضُهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ هُوَ الْعُقُوقُ لَا الْعَقِيقَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ ظَنَّ أَنَّ اشْتِرَاكَ الْعَقِيقَةِ مَعَ الْعُقُوقِ فِي الِاشْتِقَاقِ مِمَّا يُوهِنُ أَمْرَهَا، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُقُوقُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَعَارٌ لِلْوَالِدِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَوْلُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْلُودَ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ أَبَوَيْهِ وَأَبَى عَنْ أَدَائِهِ صَارَ عَاقًّا فَجَعَلَ إِبَاءَ الْوَالِدِ عَنْ أَدَاءِ حَقِّ الْمَوْلُودِ عُقُوقًا عَلَى الِاتِّسَاعِ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ أَيْ تَرْكُ ذَلِكَ مِنَ الْوَالِدِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ يُشْبِهُ إِضَاعَةَ الْمَوْلُودِ حَقَّ أَبَوَيْهِ، وَلَا يُحِبُّ اللَّهُ ذَلِكَ اهـ. وَلِلطِّيبِيِّ هُنَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، فَرَأَيْنَا أَنَّ تَرْكَ ذِكْرِهِ أَوْلَى. (وَقَالَ) : عَطْفٌ عَلَى فَقَالَ وَمَا بَيْنَهُمَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مِنَ الرَّاوِي أَدْرَجَهَا فِي الْحَدِيثِ، وَهَذَا إِلَى آخِرِهِ مِنْ تَمَامِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ (مَنْ وُلِدَ لَهُ) أَيْ وَلَدٌ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ) بِضَمِّ السِّينِ أَيْ يَذْبَحَ (عَنْهُ) أَيْ عَنِ الْمَوْلُودِ أَوْ عَنِ الْوَلَدِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (فَالْيَنْسِكْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

4157 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلَاةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4157 - (وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيْ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ» ) بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ (حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ) : يَحْتَمِلُ السَّابِعَ وَقَبْلَهُ (بِالصَّلَاةِ) . أَيْ بِأَذَانِهَا وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأُذُنٍ، وَالْمَعْنَى أَذَّنَ بِمِثْلِ أَذَانِ الصَّلَاةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُنِّيَّةِ الْأَذَانِ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُؤَذِّنُ فِي الْيُمْنَى وَيُقِيمُ فِي الْيُسْرَى إِذَا وُلِدَ الصَّبِيُّ. قُلْتُ: قَدْ جَاءَ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: «مَنْ وُلِدَ لَهُ وُلَدٌ فَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى لَمْ تَضُرَّهُ أُمُّ الصِّبْيَانِ» " كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي أُذُنِهِ " {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] " قَالَ الطِّيبِيُّ وَلَعَلَّ مُنَاسَبَةَ الْآيَةِ بِالْأَذَانِ أَنَّ الْأَذَانَ أَيْضًا يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ» " وَذِكْرُ الْأَذَانِ وَالتَّسْمِيَةِ فِي بَابِ الْعَقِيقَةِ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ حِكْمَةَ الْأَذَانِ فِي الْأُذُنِ أَنَّهُ يَطْرُقُ سَمْعَهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْأَرْكَانِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ. 4158 - «عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلَيَّةِ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كُنَّا نَذْبَحُ الشَّاةَ يَوْمَ السَّابِعِ، وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ رَزِينٌ: وَنُسَمِّيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ. 4158 - (عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ ابْنُ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ (قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلَيَّةِ إِذَا) : بِالْأَلِفِ وَفِي نُسْخَةٍ إِذْ (وُلِدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَخَ) بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ (رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كُنَّا نَذْبَحُ الشَّاةَ) أَيْ جِنْسَهَا الشَّامِلَ لِلِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ (يَوْمَ السَّابِعِ، وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنَلْطَخُهُ) بِفَتْحِ الطَّاءِ (بِزَعْفَرَانٍ) أَيْ بَعْدِ غَسْلِهِ تَطْيبًا بَعْدَ التَّطْهِيرِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الزَّعْفَرَانُ مَعْرُوفٌ وَإِذَا كَانَ فِي بَيْتٍ لَا يَدْخُلُهُ سَامُّ أَبْرَصَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ رَزِينٌ: وَنُسَمِّيهِ) أَيْ بِاسْمِهِ فِي السَّابِعِ.

[كتاب الأطعمة]

[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 4159 - «عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (20) كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ. فِي الْقَامُوسِ: الطَّعَامُ، الْبُرُّ مَا يُؤْكَلُ وَجَمْعُهُ أَطْعِمَةٌ وَالْمُرَادُ مَا يُؤْكَلُ بَلْ وَمَا يُشْرَبُ أَيْضًا فَفِيهِ تَغْلِيبٌ، أَوْ مِنْ طَعِمَ كَعَلِمَ طُعْمًا - بِالضَّمِّ - ذَاقَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 4159 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ) ، أَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيِّ الْقُرَشِيِّ، وَعُمْرُ هَذَا رَبِيبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، السَّنَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ، فَمَاتَ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، حَفِظَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا) : أَيْ صَبِيًّا (فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ فِي حِضْنِهِ يُرَبِّينِي تَرْبِيَةَ الْأَوْلَادِ (وَكَانَتْ يَدِي) : أَيْ أَحْيَانًا عَلَى مُقْتَضَى عَادَةِ الصِّغَارِ (تَطِيشُ) : أَيْ تَدُورُ إِلَى الصَّحْفَةِ) . أَيْ حَوَالَيْهَا مِنْ: طَاشَ السَّهْمُ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْهَدَفِ، وَقِيلَ: أَيْ تَخِفُّ وَتَتَنَاوَلُ فِيِ الْقَصْعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، قِيلَ: الصَّحْفَةُ مَا يَشْبَعُ مِنْهَا خَمْسَةٌ، وَالْقَصْعَةُ مَا يَشْبَعُ مِنْهَا عَشَرَةٌ. (فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِّ اللَّهَ: أَيْ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ أَوِ اذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ (وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) . أَيْ مِمَّا يَقْرَبُكَ لَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَوَامِرَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلنَّدْبِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ لِلْوُجُوبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: " فِي اسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الطَّعَامِ، وَأَنْ يَجْهَرَ بِهَا لِيُسْمِعَ غَيْرَهُ ". قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْجَهْرِ، وَلَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ. قَالَ: وَالتَّسْمِيَةُ فِي شُرْبِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْمَرَقِ وَالدَّوَاءِ وَسَائِرِ الْمَشْرُوبَاتِ كَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْآكِلِينَ، فَإِنْ سَمَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ. قُلْتُ: هُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، قَالَ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ؛ لِأَنَّ أَكْلَهُ مِنْ مُوَضِعِ يَدِ صَاحِبِهِ سُوءُ عِشْرَةٍ وَتَرْكُ مَوَدَّةٍ لِنُفُورِهِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَمْرَاقِ وَأَشْبَاهِهَا. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ أَكْلَ مَا يَلِيهِ سُنَّةٌ، وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ تَمْرًا فَقَدْ نَقَلُوا إِبَاحَةَ اخْتِلَافِ الْأَيْدِي فِي الطَّبَقِ، وَالَّذِي يَنْبَغِي تَعْمِيمُ النَّهْيِ حَمْلًا عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ. قُلْتُ: سَيَأْتِي حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ فِي أَكْثَرِ التَّمْرِ: " يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ ; فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ لَوْنٍ وَاحِدٍ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ «عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ طَعَامٌ فَقَالَ: " ادْنُ يَا بُنَيَّ فَسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» " فَتَأَمَّلْ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ إِيمَاءٌ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّطْبِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.

4160 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4160 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ» ) : أَيْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَكْلِهِ أَوْ تَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ (أَنْ) : أَيْ بِأَنْ أَوْ لِأَجْلِ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) ، أَيِ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ التَّذَكُّرِ، وَلَوْ أَثْنَاءً أَوِ انْتِهَاءً، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَكْفِي عُمُومُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ بِالْجَنَانِ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ التَّسْمِيَةِ بِاللِّسَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: " وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ حَقِيقَةً، إِذِ الْعَقْلُ لَا يُحِيلُهُ وَالشَّرْعُ لَمْ يُنْكِرْهُ، بَلْ ثَبَتَ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُهُ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: " الْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِدُ سَبِيلًا إِلَى تَطْيِيرِ بَرَكَةِ الطَّعَامِ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمُتَنَاوِلُونَ، وَذَلِكَ حَظُّهُ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ، وَمَعْنَى الِاسْتِحْلَالِ هُوَ أَنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَمْنَعُهُ عَنِ الطَّعَامِ، كَمَا أَنَّ التَّحْرِيمَ يَمْنَعُ الْمُؤْمِنَ عَنْ تَنَاوُلِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِحْلَالُ اسْتِنْزَالُ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ مَحَلَّ الْحَلَالِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مُسْتَعَارٌ مَنْ حَلَّ الْعُقْدَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ إِذْنٌ لِلشَّيْطَانِ مِنَ اللَّهِ فِي تَنَاوُلِهِ، كَمَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَنْعٌ لَهُ مِنْهُ، فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، " وَأَنْ " فِي أَنْ لَا يَذْكُرَ مَصْدَرِيَّةٌ وَاللَّامُ مَقَدَّرَةٌ أَوِ الْوَقْتُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

4161 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ؟ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ. وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ ; قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4161 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ) : أَيْ مَسْكَنَهُ الَّذِي يَبِيتُ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَعَمُّ مِنْهُ (فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ) : أَيْ مُطْلَقًا (قَالَ الشَّيْطَانُ) : أَيْ لِأَتْبَاعِهِ (لَا مَبِيتَ) أَيْ لَا مَوْضِعَ بَيْتُوتَةٍ (لَكُمْ) : وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ لَا مُقَامَ لَكُمْ (وَلَا عَشَاءَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَالْمَدِّ، هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُؤْكَلُ فِي الْعَشِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إِلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَيُقَالُ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ تَغْلِيبًا، وَالْمَعْنَى: لَا يَتَيَسَّرُ لَكُمُ الْمُقَامُ وَلَا الطَّعَامُ فِي هَذَا الْمَكَانِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُخَاطَبُ بِهِ أَعْوَانُهُ أَيْ لَا حَظَّ وَلَا فُرْصَةَ لَكُمُ اللَّيْلَةَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ؟ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَحْرَزُوا عَنْكُمْ أَنْفُسَهُمْ وَطَعَامَهُمْ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ انْتِهَازَ الشَّيْطَانِ فُرْصَةً مِنَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَكُونُ حَالَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُتَيَقِّظًا مُحْتَاطًا ذَاكِرًا لِلَّهِ فِي جُمْلَةِ حَالَاتِهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِغْوَائِهِ وَتَسْوِيلِهِ، وَأَيِسَ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ، وَالْأَشْرَفُ: " وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهِ الرَّجُلَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّيْطَانِ ". قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: " أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ ". وَالْمُخَاطَبُونَ أَعْوَانُهُ. قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْمَبِيتِ وَالْعَشَاءِ فَلِغَالِبِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ صَادِقٌ فِي عُمُومِ الْأَفْعَالِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَدْ قَالَ شَارِحٌ: الْمَبِيتُ مَصْدَرٌ أَوْ مَكَانٌ، وَالْعَشَاءُ بِالْفَتْحِ مَا يُؤْكَلُ وَقْتَ الْعِشَاءِ وَبِالْكَسْرِ وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُؤْكَلُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْعِشَاءِ أَيْضًا، وَالْخِطَابُ إِمَّا لِأَوْلَادِهِ وَأَعْوَانِهِ أَيْ لَا يَحْصُلُ لَكُمْ مَسْكَنٌ وَطَعَامٌ، بَلْ صِرْتُمْ مَحْرُومِينَ بِسَبَبِ التَّسْمِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نِسْيَانَ الذِّكْرِ يَقَعُ مِنْهُ مَوْقِعَ الْغِذَاءِ مِنَ الْإِنْسَانِ لِتَلَذُّذِهِ بِذَلِكَ وَتَقَوِّيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِصَابَتُهُ مِنَ الطَّعَامِ التَّقَوِّي بِرَائِحَتِهِ، وَالذِّكْرُ هُوَ الْمَانِعُ لَهُ عَنْ حُضُورِ الطَّعَامِ، وَإِمَّا لِأَهْلِ الْبَيْتِ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ أَيْ جُعِلْتُمْ مَحْرُومِينَ كَمَا جَعَلْتُمُونِي مَحْرُومًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4162 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4162 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ» ) : أَيْ أَحَدُكُمْ مَائِعًا (فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ) ، ظَاهِرُ الْأَمْرِ فِيهِمَا لِلْوُجُوبِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا يَأْكُلُ بِشِمِالِهِ فَقَالَ لَهُ: كُلْ بِيَمِينِكَ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ: لَا اسْتَطَعْتَ " فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدُ» ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ تَأْكُلُ بِشِمَالِهَا فَدَعَا عَلَيْهَا، فَأَصَابَهَا طَاعُونٌ فَمَاتَتْ» ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الزَّجْرِ وَالسِّيَاسَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4163 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4163 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا» ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْمِلُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ الْإِنْسِ عَلَى ذَلِكَ الصَّنِيعِ لِيُضَادَّ بِهِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ إِنَّ مِنْ حَقِّ نِعْمَةِ اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِشُكْرِهَا أَنْ تُكْرَمَ وَلَا يُسْتَهَانَ بِهَا، وَمِنْ حَقِّ الْكَرَامَةِ أَنْ تُتَنَاوَلَ بِالْيَمِينِ وَيُمَيَّزَ بِهَا بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الْأَذَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ الْإِنْسِ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُشْبِهُ أَفْعَالَ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّ لِلشَّيْطَانِ يَدَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ: " «لَا تَأْكُلُوا

بِالشِّمَالِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ» . وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: " «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَلِيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ وَلِيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ» ".

4164 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4164 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْكُلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ» ) ، أَيِ الْإِبْهَامِ وَالْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَكْلُ بِالثَّلَاثِ سُنَّةٌ، فَلَا يَضُمُّ إِلَيْهَا الرَّابِعَةَ وَالْخَامِسَةَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ (وَيَلْعَقُ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ يَلْحَسُ (يَدَهُ) : أَيْ أَصَابِعَهَا، وَيُقَدِّمُ الْوُسْطَى ثُمَّ مَا يَلِيهَا ثُمَّ الْإِبْهَامَ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا) أَيْ بِالْمَنْدِيلِ قَبْلَ اللَّعْقِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ الْجَبَابِرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مِنْ سُنَنِ الْأَكْلِ لَعْقُ الْيَدِ مُحَافَظَةً عَلَى بَرَكَةِ الطَّعَامِ وَتَنْظِيفًا لَهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ وَالثَّلَاثَةُ: " «كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعَقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَةَ» ". وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثَةِ وَيَلْعَقُهُنَّ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِلَفْظِ: " «كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَيَسْتَعِينُ بِالرَّابِعَةِ» ". وَفِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَكَلَ بِخَمْسٍ، وَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَائِعِ، أَوْ عَلَى الْقَلِيلِ النَّادِرِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَإِنَّ عَادَتَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ هُوَ الْأَكْلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَلَعْقُهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهُ الْأَنْفَعُ، إِذِ الْأَكْلُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الْمُتَكَبِّرِينَ لَا يَسْتَلِذُّ بِهِ الْآكِلُ، وَلَا يَسْتَمْرِئُ بِهِ لِضَعْفِ مَا يَنَالُهُ مِنْهُ كُلَّ مَرَّةٍ، فَهُوَ كَمَنْ أَخَذَ حَقَّهُ حَبَّةً حَبَّةً، وَبِالْأُصْبُعَيْنِ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الشَّيَاطِينِ لَيْسَ فِيهِ اسْتِلْذَاذٌ كَامِلٌ، مَعَ أَنَّهُ يُفَوِّتُ الْفَرْدِيَّةَ، وَاللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَبِالْخَمْسِ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الْحَرِيصِينَ يُوجِبُ ازْدِحَامَ الطَّعَامِ عَلَى مَجْرَاهُ مِنَ الْعَادَةِ، وَرُبَّمَا اسْتَدَّ مَجْرَاهُ فَأَوْجَبَ الْمَوْتَ فَوْرًا وَفَجْأَةً.

4165 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّفْحَةِ، وَقَالَ: " إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ: فِي أَيَّهِ الْبَرَكَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4165 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: إِنَّ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ» ) : أَيْ بِلَعْقِهِمَا، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ الصَّحْفَةَ تُلْعَقُ أَوَّلًا، وَقَالَ: (إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيَّةٍ) : بِتَاءِ التَّأْنِيثِ أَيْ فِي أَيِّ إِصْبَعٍ وَلُقْمَةٍ مِنَ الطَّعَامِ (الْبَرَكَةُ؟) : أَيْ حَاصِلَةٌ أَوْ تَكُونُ الْبَرَكَةُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: " الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ أَيْ أَيَّةِ أُكْلَةٍ أَوْ طُعْمَةٍ " اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ " أَيِّهِ " بَهَاءِ الضَّمِيرِ،) أَيْ فِي أَيِّ طَعَامِهِ يَعْنِي فِي الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلَهُ، أَمْ فِي الَّذِي لَعِقَ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4166 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4166 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا» ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْعَيْنِ أَيْ يَلْحَسَ أَصَابِعَ يَدِهِ (أَوْ يُلْعِقَهَا) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: يُلْعِقَهَا غَيْرَهُ مِمَّنْ لَمْ يَقْذُرْهُ كَالزَّوْجَةِ، وَالْجَارِيَةِ وَالْوَلَدِ وَالْخَادِمِ؟ لِأَنَّهُمْ يَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ، وَفِي مَعْنَاهُمُ التِّلْمِيذُ، وَمَنْ يَعْتَقِدُ التَّبَرُّكَ بِلَعْقِهَا، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ بِزِيَادَةِ: " فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ ".

4167 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ " حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ يَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعُهَا لِلشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي: فِي أَيِّ طَعَامِهِ يَكُونُ الْبَرَكَةُ؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4167 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ» ) : صِفَةٌ " شَيْءٍ " أَيْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ الْأَحَدِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ

شَيْءٌ كَائِنٌ مِنْ شَأْنِ الشَّيْطَانِ حُضُورُهُ عِنْدَهُ. (حَتَّى يَحْضُرَهُ) : أَيِ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ الْأَحَدَ ( «عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ» ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: فَلْيُزِلْ (مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى) : أَيْ مَا يُسْتَقْذَرُ بِهِ مِنْ نَحْوِ تُرَابٍ (ثُمَّ لِيَأْكُلْهَا) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى نَجَسٍ فَلْيَغْسِلْهَا إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا أَطْعَمَهَا نَحْوَ هِرَّةٍ أَوْ كَلْبٍ (وَلَا يَدَعْهَا) : بِفَتْحِ الدَّالِّ أَيْ لَا يَتْرُكْهَا لِلشَّيْطَانِ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّمَا صَارَ تَرْكُهَا لِلشَّيْطَانِ لِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ نِعْمَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِحْقَارَ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ، ثُمَّ إِنَّهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَالْمَانِعُ عَنْ تَنَاوُلِ تِلْكَ اللُّقْمَةِ فِي الْغَالِبِ هُوَ الْكِبْرُ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. ( «فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي: فِي أَيِّ طَعَامِهِ» ) : أَيْ أَجْزَائِهِ (تَكُونُ) : بِالتَّأْنِيثِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ أَيْ تَحْصُلُ وَتُوجَدُ (الْبَرَكَةُ) أَيِ الْمُفِيدَةُ لِلْقَنَاعَةِ أَوِ الْمُعِينَةُ عَلَى الطَّاعَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَفِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: " «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامٍ تَكُونُ الْبَرَكَةُ» ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَلَفْظُهُ: " «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَسَقَطَتْ لُقْمَتُهُ فَلْيُمِطْ مَا رَابَهُ مِنْهَا ثُمَّ لِيَطْعَمْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ» ".

4168 - وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4168 - (وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ، ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ، وَهُوَ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، وَلَكِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ وَرَوَى عَنْهُ، مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْسَبُ أَكْثَرُ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمُتَّكِئَ هُوَ الْمَائِلُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُتَّكِئَ، هَاهُنَا هُوَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى الْوِطَاءِ، الَّذِي تَحْتَهُ، وَكُلُّ مَنِ اسْتَوَى قَاعِدًا عَلَى وِطَاءٍ فَهُوَ مُتَّكِئٌ، وَالْمَعْنَى أَنِّي إِذَا أَكَلْتُ لَمْ أَقْعُدْ مُتَمَكِّنًا عَلَى الْأَوْطِئَةِ، فِعْلَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَلَكِنِّي آكُلُ عُلْقَةً مِنَ الطَّعَامِ، فَيَكُونُ قُعُودِي مُسْتَوْفِزًا لَهُ اهـ. وَفَسَّرَ الْأَكْثَرُونَ الِاتِّكَاءَ بِالْمَيْلِ عَلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْآكِلِ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مَجْرَى الطَّعَامِ الطَّبِيعِيَّ عَنْ هَيْئَتِهِ وَيَعُوقُهُ عَنْ سُرْعَةِ نُفُوذِهِ إِلَى الْمَعِدَةِ وَيَضْغَطُ الْمُعِدَةَ فَلَا يَسْتَحْكِمُ فَتْحَهَا لِلْغِذَاءِ، وَنُقِلَ فِي الشِّفَاءِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوهُ بِالتَّمَكُّنِ لِلْأَكْلِ، وَالْقُعُودِ فِي الْجُلُوسِ كَالْمُتَرَبِّعِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى وِطَاءٍ تَحْتَهُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ تَسْتَدْعِي كَثْرَةَ الْأَكْلِ، وَتَقْتَضِي الْكِبْرَ، وَوَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَجَرَ أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عِنْدَ الْأَكْلِ» ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مُتَّكِئِينَ مَخَافَةَ أَنْ تَعْظُمَ بُطُونُهُمْ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَيُذْكَرُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ لِلْأَكْلِ مُتَوَكِّئًا عَلَى رُكْبَتِهِ، وَيَضَعُ بَطْنَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَدَبًا بَيْنَ يَدَيْهِ» . قَالَ: وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ أَنْفَعُ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَأَفْضَلُهَا؟ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَكُونُ عَلَى وَضْعِهَا الطَّبِيعِيِّ الَّذِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: " أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا ". وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «لَا آكُلُ وَأَنَا مُتَّكِئٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

4169 - وَعَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «مَا أَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خِوَانٍ، وَلَا فِي سُكُرَّجَةٍ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ. قِيلَ لِقَتَادَةَ: عَلَامَ يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُفَرِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4169 - وَعَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : زِيَادَةُ قَتَادَةَ لِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْفَائِدَةِ (قَالَ) : أَيْ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مَا أَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ طَعَامًا (عَلَى خِوَانٍ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُضَمُّ أَيْ مَائِدَةٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْخُوَانُ الَّذِي يُؤْكَلُ عَلَيْهِ مُعَرَّبٌ، وَالْأَكْلُ عَلَيْهِ لَمْ يَزَلْ مِنْ دَأْبِ الْمُتْرَفِينَ وَصَنِيعِ الْجَبَّارِينَ لِئَلَّا يَفْتَقِرُوا إِلَى التَّطَاطُؤِ عِنْدَ الْأَكْلِ. (وَلَا فِي سُكُرَّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ

وَبِفَتْحِ الْأَخِيرِ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ إِنَاءٌ صَغِيرٌ فَارِسِيَّةٌ اهـ. وَقِيلَ: هِيَ قَصْعَةٌ صَغِيرَةٌ وَالْأَكْلُ مِنْهَا تَكَبُّرٌ وَمِنْ عَلَامَاتِ الْبُخْلِ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرُّوَاةُ يَضُمُّونَ الْأَحْرُفَ الثَّلَاثَةَ مِنْ أَوَّلِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الصَّوَابَ فَتْحُ الرَّاءِ مِنْهَا وَهُوَ الْأَشْبَهُ؛ لِأَنَّهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالرَّاءُ فِي الْأَصْلِ مِنْهُ مَفْتُوحَةٌ، وَالْعَجَمُ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُهَا فِي الْكَوَامِيخِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْجَوَارِشَاتِ - يَعْنِي الْمُخَلَّلَاتِ - عَلَى الْمَوَائِدِ حَوْلَ الْأَطْعِمَةِ لِلتَّشَهِّي وَالْهَضْمِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْكُلْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ قَطُّ. (وَلَا خُبِزَ) : مَاضٍ مَجْهُولٌ (لَهُ) : أَيْ لِأَجْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مُرَقَّقٌ) : أَيْ مُلَيَّنٌ مُحَسَّنٌ، كَخُبْزِ الْحُوَّارَى وَشِبْهِهِ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُبْزُ الرِّقَاقِ وَهُوَ الْمُوَسَّعُ الدِّقَاقِ كَمَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ. (قِيلَ لِقَتَادَةَ: عَلَامَ يَأْكُلُونَ؟) : أَيِ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ يَقْتَدُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَفُونَ آثَارَ طَرِيقَتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْخِطَابِ،: وَهُوَ خِلَافُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَيَرُدُّهُ رِوَايَةُ: مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ ، وَفِي رِوَايَاتِ التِّرْمِذِيِّ. " قَالَ يُونُسُ: فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: فَعَلَى مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ "، قَالَ مِيرَكْشَاهْ: كَذَا هُوَ فِي نُسَخِ الشَّمَائِلِ بِإِشْبَاعِ فَتْحَةِ الْمِيمِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ وَعِنْدَ أَكْثَرِهِمْ فَعَلَامَ. بِمِيمٍ مُفْرَدَةٍ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ إِذَا دَخَلَ عَلَى " مَا " الِاسْتِفْهَامِيَّةِ حُذِفَ الْأَلِفُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، لَكِنْ قَدْ تَرِدُ فِي الِاسْتِعْمَالَاتِ الْقَلِيلَةِ عَلَى الْأَصْلِ نَحْوَ قَوْلِ حَسَّانَ: عَلَى مَا قَالَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا اتَّصَلَ الْجَارُّ بِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْمَحْذُوفَةِ الْأَلِفِ نَحْوَ: حَتَّامَ وَعَلَامَ كُتِبَ مَعَهَا بِالْأَلِفِ لِشِدَّةِ الِاتِّصَالِ بِالْحُرُوفِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَأْكُلُونَ. (قَالَ) : أَيْ قَتَادَةُ (عَلَى السُّفَرِ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ جَمْعُ سُفَرَةٍ. فِي النِّهَايَةِ: السُّفْرَةُ الطَّعَامُ يَتَّخِذُهُ الْمُسَافِرُ، وَأَكْثَرُ مَا يُحْمَلُ فِي جِلْدٍ مُسْتَدِيرٍ، فَنُقِلَ اسْمُ الطَّعَامِ إِلَى الْجِلْدِ وَسُمِّيَ بِهِ كَمَا سُمِّيَتِ الْمَزَادَةُ رَاوِيَةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ اهـ. ثُمَّ اشْتُهِرَتْ لِمَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، مَا عَدَا الْمَائِدَةَ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهَا شِعَارُ الْمُتَكَبِّرِينَ غَالِبًا، فَالْأَكْلُ عَلَيْهَا سُنَّةٌ وَعَلَى الْخِوَانِ بِدْعَةٌ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4170 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4170 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا» ) : أَيْ مَشْوِيًّا مَعَ جِلْدِهِ مَعَ إِزَالَةِ شَعْرِهِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ؟ لِأَنَّ فِيهِ تَنَعُّمًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ تَكَرُّمًا، وَقَوْلُهُ: (بِعَيْنِهِ) تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ وَرَفْعِ احْتِمَالِ التَّجَوُّزِ، وَفِي قَوْلِهِ (قَطُّ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ مُطْلَقًا لَا فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي بَيْتِ غَيْرِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنَفْيِ الْعِلْمِ نَفْيَ الْمَعْلُومِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [يونس: 18] وَهُوَ مِنْ بَابِ نَفْيِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ لَازِمِهِ، وَإِنَّمَا صَحَّ مِنْ أَنَسٍ لِأَنَّهُ لَازَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَزِمَهُ وَلَمْ يُفَارِقْهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)

4171 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّقِيَّ مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. وَقَالَ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْخُلًا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، قِيلَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ ، قَالَ كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4171 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ رَأْسَ النَّقِيِّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيِ الْخُبْزِ الْخَالِي مِنَ النُّخَالَةِ، قِيلَ: هُوَ الْحُوَّارَى بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَهُوَ مَا بَقِيَ دَقِيقُهُ مِنَ النُّخَالَةِ وَمَا يَعِيبُهُ، وَقِيلَ: أَيْ مَا نُخِلَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَصِيرَ نَظِيفًا أَبْيَضَ، وَيُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ " تَنِيدَهْ، وَالْمَعْنَى مَا رَآهُ فَضْلًا عَنْ أَكْلِهِ، فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى (مِنْ حِينَ) : بِفَتْحِ النُّونِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِهِ مَجْرُورًا أَيْ مِنْ زَمَانِ (ابْتَعَثَهُ اللَّهُ) أَيْ أَوْحَى إِلَيْهِ (حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ) أَيْ: تَوَفَّاهُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَظُنُّ أَنَّ سَهْلًا احْتَرَزَ عَمَّا كَانَ قَبْلَ الْبَعْثِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَجَّهَ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ مَرَّتَيْنِ إِلَى جَانِبِ الشَّامِ تَاجِرًا، وَوَصَلَ إِلَى بُصْرَى وَحَضَرَ فِي ضِيَافَةِ " بَحِيرَاءَ " الرَّاهِبِ، وَكَانَتِ الشَّامُ إِذْ ذَاكَ مَعَ الرُّومِ، وَالْخُبْزُ

النَّقِيُّ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا بَعْدَ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْمَدِينَةِ، وَقَدِ اشْتَهَرَ أَنَّ سَبِيلَ الْعَيْشِ صَارَ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ اضْطِرَارًا أَوِ اخْتِيَارًا. (وَقَالَ) : أَيْ سَهْلٌ (مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْخُلًا) بِضَمَّتَيْنِ وَيُفْتَحُ فَاؤُهُ مَا يُنْخَلُ بِهِ (مِنْ حِينَ " ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى) : أَيْ إِلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا وَاخْتَارَ الْعُقْبَى وَالْمَلَأَ الْأَعْلَى وَحَضْرَةَ الْمَوْلَى (قَالَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ) حَالٌ (قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ فِي الْقَامُوسِ: طَحَنَهُ كَمَنَعَ وَطَحَنَهُ جَعَلَهُ دَقِيقًا (وَنَنْفُخُهُ) : بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ نُطَيِّرُهُ إِلَى الْهَوَاءِ بِأَيْدِينَا أَوْ بِأَفْوَاهِنَا (فَيَطِيرُ مَا طَارَ) : أَيْ يَذْهَبُ مِنْهُ مَا ذَهَبَ مِنَ النُّخَالَةِ وَمَا فِيهِ خِفَّةٌ (وَمِمَّا بَقِيَ) : أَيْ مِمَّا فِيهِ رَزَانَةٌ كَالدَّقِيقِ ثَرَّيْنَا،) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ عَجَنَّاهُ وَخَبَزْنَاهُ، وَقِيلَ: بَلَّلْنَاهُ بِالْمَاءِ مِنْ ثَرَّى التُّرَابَ تَثْرِيَةً أَيْ رَشَّ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلْنَاهُ مَرَقًا وَطَبَخْنَاهُ (فَأَكَلْنَاهُ) : وَفِي هَذَا بَيَانُ تَرْكِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسْمَ التَّكَلُّفِ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَنِي بِهِ إِلَّا أَهْلُ الْحَمَاقَةِ وَالْغَفْلَةِ وَالْبِطَالَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَفِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ، «عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: " أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّقِيَّ يَعْنِي الْحُوَّارَى؟ ، فَقَالَ سَهْلٌ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّقِيَّ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ كَانَتْ لَكُمْ مَنَاخِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: مَا كَانَتْ لَنَا مَنَاخِلُ. فَقِيلَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِالشَّعِيرِ؟ قَالَ: كُنَّا نَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مِنْهُ مَا طَارَ ثُمَّ نَعْجِنُهُ» .

4172 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «مَا عَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4172 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا عَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ» ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الْعَيْبُ هُوَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَالِحٌ، قَلِيلُ الْمِلْحِ، حَامِضٌ رَقِيقٌ غَلِيظٌ غَيْرُ نَاضِجٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَمَّا «قَوْلُهُ لِلضَّبِّ: " لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» " فَبَيَانٌ لِكَرَاهِيَتِهِ لَا إِظْهَارِ عَيْبِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4173 - وَعَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا، فَأَسْلَمَ، فَكَانَ يَأْكُلُ قَلِيلًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4173 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ رَجُلًا) : أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ (كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا) : أَيْ زَائِدًا عَلَى عَادَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ (فَأَسْلَمَ، وَكَانَ) : بِالْوَاوِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ بِالْفَاءِ أَيْ فَكَانَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ (يَأْكُلُ قَلِيلًا) : أَيْ شَيْئًا قَلِيلًا أَوْ أَكْلًا قَلِيلًا، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْ قَلِيلًا بِالْمَرَّةِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُرْتَاضِينَ أَوْ قَلِيلًا عُرْفِيًّا عَلَى دَأْبِ غَالِبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ، (فَذُكِرَ ذَلِكَ) : أَيْ تَقْلِيلُ أَكْلِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ( «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ» ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ مُنَوَّنًا وَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْمَعْنَى بِالْفَتْحِ وَكَإِلَى مِنْ أَعْفَاجِ الْبَطْنِ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ أَمْعَاءٌ (وَالْكَافِرُ) : بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ رَفْعُهُ (يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) : اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَافِرِ زِيَادَةُ أَمْعَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُقَلَّلُ حِرْصُهُ وَشَرَهُهُ عَلَى الطَّعَامِ، وَيُبَارَكُ لَهُ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ، فَيَشْبَعُ مِنْ قَلِيلٍ. وَالْكَافِرُ يَكُونُ كَثِيرَ الْحِرْصِ شَدِيدَ الشَّرَهِ، لَا مَطْمَحَ لِبَصَرِهِ إِلَّا إِلَى الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ كَالْأَنْعَامِ، فَمِثْلُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الشَّرَهِ. بِمَا بَيْنَ مَنْ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَبَيْنَ مَنْ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قِيلَ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقِيلَ لَهُ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ يَعْنِي فَلَامُ الْمُؤْمِنِ لِلْعَهْدِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ طَعَامِهِ فَلَا يُشْرِكُهُ فِيهِ الشَّيْطَانُ، وَالْكَافِرُ لَا يُسَمِّيهِ فَيُشَارِكُهُ الشَّيْطَانُ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقْتَصِدُ فِي أَكْلِهِ فَيُشْبِعُهُ امْتِلَاءُ بَعْضِ أَمْعَائِهِ، وَالْكَافِرُ لِشَرَهِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى الطَّعَامِ لَا يَكْفِيهِ إِلَّا مَلْءُ كُلِّ الْأَمْعَاءِ. وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَعْضِ الْكُفَّارِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يُرَادَ بِالسَّبْعَةِ صِفَاتُ الْحِرْصِ وَالشَّرَهِ وَطُولِ الْأَمَلِ وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الطَّبْعِ وَالْحَشَدِ وَالسِّمَنِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْمِنِ تَامُّ الْإِيمَانِ الْمُعْرِضُ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ خَلَّتِهِ. وَسَابِعُهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ: أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ يَأْكُلُونَ فِي سَبْعَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ مِثْلُ مِعَى الْمُؤْمِنِ. اهـ. وَفِي كَوْنِهِ هُوَ الْمُخْتَارَ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِلنُّظَّارِ، وَاخْتَارَ السُّيُوطِيُّ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُبَارَكُ لَهُ فِي طَعَامِهِ بِبَرَكَةِ التَّسْمِيَةِ حَتَّى تَقَعَ النِّسْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِ، كَنِسْبَةِ مَنْ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ. اهـ. وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إِذَا قَدَّرْتَ ذَلِكَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي أَشْخَاصٍ مُتَمَاثِلِينَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ، فَتَجِدُ حَالَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي الْأَكْلِ وَهُوَ الْكَافِرُ خِلَافَ حَالِهِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَشْخَاصِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُوجَدُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَزْدَادُ شَهْوَتُهُ فِي الْأَكْلِ عَلَى الْكَافِرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَا فِيمَا يَلِيهِ مِنْ حَدِيثٍ ضَافَهُ ضَيْفٌ كَافِرٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَأْكُلُ الْكَافِرُ فِي سَبْعَةٍ أَمْثَالِ أَكْلِ الْمُؤْمِنِ، أَيْ يَكُونُ شَهْوَتُهُ أَمْثَالَ شَهْوَةِ الْمُؤْمِنِ، فَتَكُونُ الْأَمْعَاءُ كِنَايَةً عَنِ الشَّهَوَاتِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مُجَرَّدُ الْحَلَالِ، وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مَشُوبَةٍ وَهِيَ سَبْعٌ: الْغَارَةُ وَالْغَضَبُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالرِّبَا وَالْخِيَانَةُ وَالْحَلَالُ، وَقِيلَ: هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَقِلَّتِهِ أَيْ خُلُقُ الْمُؤْمِنِ قِلَّةُ الْأَكْلِ، وَخُلُقُ الْكَافِرِ كَثْرَتُهُ. يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعَةِ التَّكْثِيرُ، وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزُهْدِ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَحِرْصِ الْكَافِرِ عَلَيْهَا، فَهَذَا يَأْكُلُ بِلُغَةً وَقُوتًا فَيُشْبِعُهُ الْقَلِيلُ، وَذَاكَ يَأْكُلُ شَهْوَةً وَحِرْصًا فَلَا يَكْفِيهِ الْكَثِيرُ. وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: جُمَّاعُ الْقَوْلِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَامِلِ إِيمَانُهُ أَنْ يَحْرِصَ فِي الزَّهَادَةِ وَقِلَّةِ الْغِذَاءِ، وَيَقْنَعَ بِالْبُلْغَةِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ عَلَى خِلَافِ هَذَا فَلَا يُقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: مَقْصُودُ الْحَدِيثِ التَّقَلُّلُ مِنَ الدُّنْيَا وَالْحَثُّ عَلَى الزُّهْدِ فِيهَا وَالْقَنَاعَةُ، مَعَ أَنَّ قِلَّةَ الْأَكْلِ مِنْ مَحَاسِنِ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ، وَكَثْرَةَ الْأَكْلِ بِضِدِّهَا، وَأَمَّا «قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمِسْكِينِ الَّذِي أَكَلَ عِنْدَهُ كَثِيرًا: لَا يَدْخُلُ هَذَا عَلَيَّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ» " الْحَدِيثَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْكُفَّارَ، وَمَنْ أَشْبَهَ الْكُفَّارَ كُرِهَتْ مُخَالَطَتُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ " عُدِيَّ الْأَكْلُ بِفِي عَلَى مَعْنَى أَوْقَعَ الْأَكْلَ فِيهَا، وَجَعَلَهَا أَمْكِنَةً لِلْمَأْكُولِ لِيَشْعُرَ بِامْتِلَائِهَا كُلِّهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلنَّفَسِ فِيهِ مَجَالٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] أَيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ، وَتَخْصِيصُ السَّبْعَةِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27] اهـ. وَيَعْنِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ ثُلُثُ بَطْنِهِ لِلْأَكْلِ، وَثُلُثُهُ لِلشُّرْبِ، وَثُلُثُهُ لِلنَّفَسِ، وَأَمَّا مَذْهَبُ الْقَلَنْدَرِيَّةِ الْمُشَابِهَةِ بِالْكَفَرَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَمْلَأُ الْبَطْنَ مِنَ الْأَكْلِ، وَيَحْصُلُ الْمَاءُ مَكَانَهُ، وَالنَّفَسُ إِنْ أَحَبَّ يَطْلُعُ وَإِلَّا فَلَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ، وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى.

4174 - وَ 4175 - وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَابْنِ عُمَرَ الْمُسْنَدَ مِنْهُ فَقَطْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4174 - وَ 4175 - (وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَابْنِ عُمَرَ الْمُسْنَدَ مِنْهُ) : اللَّامُ فِيهِ مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ) رَاجِعٌ إِلَيْهِ أَيِ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ " الْحَدِيثَ. (فَقَطْ) : سَاكِنَةُ الطَّاءِ. بِمَعْنَى فَحَسْبُ أَيْ دُونَ الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ.

4176 - وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى، فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4176 - (وَفِي أُخْرَى لَهُ) : أَيْ لِمُسْلِمٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَافَهُ ضَيْفٌ) : أَيْ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ (وَهُوَ) : أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الضَّيْفَ (كَافِرٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ) : أَيْ بِإِحْلَابِهَا (فَحُلِبَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَشَرِبَ) : أَيِ الضَّيْفُ أَوِ الْكَافِرُ (حِلَابَهَا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ لَبَنَهَا (ثُمَّ أُخْرَى) : أَيْ ثُمَّ حُلِبَتْ شَاةٌ أُخْرَى (فَشَرِبَهُ) : أَيْ حِلَابَهَا (ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ، حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ) : أَيِ الضَّيْفُ الْكَافِرُ (أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا) : أَيْ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَشْرَبَ لَبَنَ الشَّاةِ الثَّانِيَةِ عَلَى التَّمَامِ (فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» ) : كَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

4177 - وَعَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4177 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامُ الِاثْنَيْنِ) : أَيْ مَا يُشْبِعُهُمَا (كَافِي الثَّلَاثَةِ) : أَيْ يَكْفِيهِمْ عَلَى وَجْهِ الْقَنَاعَةِ وَيُقَوِّيهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُزِيلُ الضَّعْفَ عَنْهُمْ، لَا أَنَّهُ يُشْبِعُهُمْ، فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ ; وَلِذَا وَرَدَ: " «أَكْثَرُكُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُكُمْ جُوعًا فِي الْآخِرَةِ» ". وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْنَعَ بِدُونِ الشِّبَعِ، يَصْرِفُ الزَّائِدَ إِلَى مُحْتَاجٍ آخَرَ. (وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيْ شِبَعُ الْأَقَلِّ قُوتٌ بِالْأَكْثَرِ، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّقَنُّعِ بِالْكِفَايَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ.

4178 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4178 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ) : بِكَسْرِ اللَّامِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ بَعْدَ حَذْفِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ ( «وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، حَكَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: تَأْوِيلُهُ شِبَعُ الْوَاحِدِ قُوتُ الِاثْنَيْنِ، وَشِبَعُ الِاثْنَيْنِ قُوتُ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ: تَفْسِيرُ هَذَا مَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَامَ الرِّفَادَةِ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُنْزِلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ مِثْلَ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَهْلِكُ عَلَى نِصْفِ بَطْنِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا حَصَلَتْ مِنْهُ الْكِفَايَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَوَقَعَتْ فِيهِ بَرَكَةٌ تَعُمُّ الْحَاضِرِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِلَفْظِ: " «طَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ، فَاجْتَمِعُوا عَلَيْهِ وَلَا تَفَرَّقُوا» "، فَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي الْأَكْلِ مَعَ الْجَمَاعَةِ.

4179 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحَزَنِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4179 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: التَّلْبِينَةُ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَنُونٍ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ حَسْوٌ رَقِيقٌ يُتَّخَذُ مِنَ الدَّقِيقِ وَاللَّبَنِ. وَقِيلَ: مِنَ الدَّقِيقِ أَوِ النُّخَالَةِ، وَقَدْ يُجْعَلُ فِيهِ الْعَسَلُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِاللَّبَنِ لِبَيَاضِهَا وَرِقَّتِهَا، وَهُوَ مَرَّةٌ مِنَ التَّلْبِينِ مَصْدَرُ لَبَّنَ الْقَوْمَ إِذَا سَقَاهُمُ اللَّبَنَ وَقَوْلُهُ: (مُجِمَّةٌ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ أَيْ مُرِيحَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلَيْهِمَا أَيْ رَاحَةٌ أَوْ مَكَانُ اسْتِرَاحَةٍ مِنَ الْجَمَامِ وَهُوَ الرَّاحَةُ (لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ)

بِالْهَمْزِ أَيْ لِقَلْبِهِ وَبِالْوَاوِ أَيْ لِوَجَعِ قَلْبِهِ (تَذْهَبُ) : اسْتِئْنَافٌ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: مُجِمَّةٌ (بِبَعْضِ الْحَزَنِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ يُزِيلُ بَعْضَ هَمِّهِ أَوْ هَمِّ صَاحِبِهِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

4180 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " «أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِطَعَامٍ صَنَعَهُ فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءُ وَقَدِيدٌ (قَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ يَوْمِئِذٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4180 - (وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِطَعَامٍ» ) : أَيْ إِلَى طَعَامٍ أَوْ لِأَجْلِ طَعَامٍ (صَنَعَهُ، فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ إِمَّا بِطَلَبٍ مَخْصُوصٍ أَوْ بِالتَّبَعِيَّةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَوْنِهِ خَادِمًا لَهُ عَمَلًا بِالرِّضَا الْعُرْفِيِّ (فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا) : بِفَتْحَتَيْنِ (فِيهِ دُبَّاءُ) : بِضَمِّ الدَّالِّ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ، وَقَدْ يُقْصَرُ: الْقَرْعُ وَالْوَاحِدَةُ دُبَّاءَةٌ، (وَقَدِيدٌ) : أَيْ لَحْمٌ مَمْلُوحٌ مُجَفَّفٌ فِي الشَّمْسِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْقَدُّ الْقَطْعُ طُولًا. وَفِي السُّنَنِ عَنْ رَجُلٍ: " «دَخَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ وَنَحْنُ مُسَافِرُونَ فَقَالَ: " أَمَالِحٌ لَحْمُهَا "، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ» ". (قَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ» ) : أَيْ يَتَطَلَّبُهُ (مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَإِنَّمَا كَسْرُهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، يُقَالُ: رَأَيْتُ النَّاسَ حَوْلَهُ وَحَوْلَيْهِ وَحَوَالَيْهِ، وَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا يَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَتَقُولُ حَوَالَيِ الدَّارِ. قِيلَ: كَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ حَوَالَيْنِ كَقَوْلِكَ جَامَيْنِ، فَسَقَطَتِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا» ". قَالَ الطِّيبِيُّ: كُلُّهُ. بِمَعْنًى وَهُوَ ظَرْفٌ اهـ، وَهُوَ مُفْرَدُ اللَّفْظِ جَمْعُ الْمَعْنَى أَيْ جَوَانِبِ الْقَصْعَةِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَهِيَ مَا يُشْبِعُ عَشَرَةَ أَنْفُسٍ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ "، وَهِيَ مَا يُشْبِعُ خَمْسَةَ أَنْفُسٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ إِمَّا بِالنِّسْبَةِ لِجَانِبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ جَانِبِ الْبَقِيَّةِ أَوْ مُطْلَقًا، وَلَا يُعَارِضُهُ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لِلتَّقَذُّرِ وَالْإِيذَاءِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوَدُّونَ ذَلِكَ مِنْهُ لِتَبَرُّكِهِمْ بِآثَارِهِ، حَتَّى نَحْوَ بُصَاقِهِ وَمُخَاطِهِ يُدَلِّكُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، وَقَدْ شَرِبَ بَعْضُهُمْ بَوْلَهُ وَبَعْضُهُمْ دَمَهُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ مُخْتَلِفًا يَجُوزُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ صَاحِبِهِ كَرَاهِيَتَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: " «فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ إِلَيْهِ وَلَا أَطْعَمُهُ وَأَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ» "، (فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ) : أَيْ مَحَبَّةً شَرْعِيَّةً لَا طَبْعِيَّةً شَهْوِيَّةً، أَوِ الْمُرَادُ أُحِبُّهَا مَحَبَّةً زَائِدَةً (بَعْدَ) : بِفَتْحِ دَالِهَا وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا، وَقَوْلُهُ: (يَوْمَئِذٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَبِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الثَّانِي، وَفِي الشَّمَائِلِ " مِنْ يَوْمِئِذٍ " بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ مُعْرَبٌ مَجْرُورٌ بِمِنْ أَوْ بِفَتْحِهَا عَلَى اكْتِسَابِ الْبِنَاءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " بَعْدَ " مُضَافًا إِلَى مَا بَعْدَهُ، كَمَا جَاءَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، وَقَوْلُهُ: (يَوْمِئِذٍ) بَيَانٌ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ فَيَجُوزُ الْوَجْهَانِ حِينَئِذٍ كَمَا قُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ أَكْلِ الشَّرِيفِ طَعَامَ مَنْ دُونَهُ مِنْ مُحْتَرِفٍ وَغَيْرِهِ، وَإِجَابَتُهُ دَعْوَتَهُ، وَمُؤَاكَلَةُ الْخَادِمِ، وَبَيَانُ مَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَاللُّطْفِ بِأَصْحَابِهِ، وَأَنَّهُ يُسَنُّ مَحَبَّةُ الدُّبَّاءِ، وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُحِبُّهُ، وَأَنَّ كَسْبَ الْخَيَّاطِ لَيْسَ بِدَنِيءٍ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

4181 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4181 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ الضَّمْرِيُّ بِفَتْحِ الضَّادِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ حِينَ انْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ مِنْ رِجَالِ الْعَرَبِ، وَأَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمُ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَأَسَرَهُ عَامِرُ بْنُ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ بَعْدَ أَنْ جَزَّ نَاصِيَتَهُ، بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

" فِي سَنَةِ سِتٍّ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ النَّجَاشِيُّ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ. رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ وَابْنُ أَخِيهِ الزِّبْرِقَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مَاتَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتِّينَ. (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَزُّ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ بَعْدَهَا، وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي بَابِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ أَيْ يَقْتَطِعُ (مِنْ كَتِفِ شَاةٍ) : وَالْكَتِفُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: كَفَرِحٍ وَمِثْلٍ وَحَبْلٍ (فِي يَدِهِ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا) : أَيِ الْكَتِفَ (وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا) : فِي الْقَامُوسِ: السِّكِّينُ مَعْرُوفٌ كَالسِّكِّينَةِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) : ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ وُضُوءًا شَرْعِيًّا وَلَا عُرْفِيًّا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4182 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4182 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ» ) : بِالْمَدِّ وَيَجُوزُ قَصْرُهُ، فَفِي الْمُغْرِبِ الْحَلْوَاءُ الَّتِي تُؤْكَلُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَالْجَمْعُ الْحَلَاوَى نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَنُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ مَقْصُورٌ يُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مَمْدُودٌ وَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَقِيلَ: الْحَلْوَاءُ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ حَلَاوَةٌ، فَقَوْلُهُ: (وَالْعَسَلَ) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمَجِيعُ وَهُوَ تَمْرٌ يُعْجَنُ بِاللَّبَنِ، وَقِيلَ: مَا صُنِعَ وَعُولِجَ مِنَ الطَّعَامِ بِحُلْوٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْفَاكِهَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ مِنْ جُمْلَةِ الطَّيِّبَاتِ وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَدَخَلَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّ مَا شَابَهَ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَآكِلِ اللَّذِيذَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ حُبُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا عَلَى مَعْنَى كَثْرَةِ التَّشَهِّي وَشِدَّةِ نَزْعِ النَّفْسِ لِأَجْلِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ يَنَالُ مِنْهُمَا إِذَا حَضَرَا نَيْلًا صَالِحًا فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُعْجِبُهُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي رِيَاضِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَبَصَ فِي الْإِسْلَامِ عُثْمَانُ، قَدِمَتْ عَلَيْهِ عِيرٌ تَحْمِلُ دَقِيقًا وَعَسَلًا فَخَلَطَهُمَا. «وَصَحَّ أَنَّ عِيرًا قَدِمَتْ فِيهَا جَمَلٌ لَهُ عَلَيْهِ دَقِيقٌ حُوَّارَى وَعَسَلٌ وَسَمْنٌ، فَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ دَعَا بِبُرْمَةٍ فَنُصِبَتْ عَلَى النَّارِ، وَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الْعَسَلِ وَالدَّقِيقِ وَالسَّمْنِ، ثُمَّ عَصَدَ حَتَّى نَضِجَ، ثُمَّ أُنْزِلَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُوا، هَذَا شَيْءٌ تُسَمِّيهِ فَارِسُ الْخَبِيصَ» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ: رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.

4183 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ أَهْلَهُ الْأُدْمَ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ، فَدَعَا بِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ وَيَقُولُ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4183 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ أَهْلَهُ) : أَيْ أَهْلَ بَيْتِهِ وَخَدَمَهُ مِنْ أَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، الْمَعْنَى طَلَبَ مِنْهُمُ (الْأُدُمَ) : بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِي مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ جَمْعُ الْإِدَامِ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ. وَفِي الْفَائِقِ: الْأُدُمُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُؤْتَدَمُ وَيُصْطَبَغُ، وَحَقِيقَتُهُ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ الطَّعَامُ أَيْ يُصْلَحُ، وَهَذَا الْوَزْنُ يَجِيءُ لِمَا يُفْعَلُ بِهِ كَالرِّكَابِ لِمَا يُرْكَبُ بِهِ، وَالْحِزَامِ لِمَا يُحَزَّمُ بِهِ (فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا) أَيْ مِنَ الْإِدَامِ (إِلَّا خَلٌّ، فَدَعَا بِهِ) : أَيْ طَلَبَهُ (فَجَعَلَ) : أَيْ شَرَعَ (يَأْكُلُ) : أَيِ الْخُبْزَ (بِهِ) : أَيْ بِالْخَلِّ ( «وَيَقُولُ: نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» ) : كَرَّرَهُ مُبَالَغَةً فِي مَدْحِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ مَدْحُ الِاقْتِصَادِ فِي الْمَأْكَلِ وَمَنْعُ النَّفْسِ عَنْ مَلَاذِّ الْأَطْعِمَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ مَا يَخِفُّ مُؤْنَتُهُ وَلَا يَعِزُّ وُجُودُهُ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْتَدِمَ فَأْتَدَمَ بِخَلٍّ يَحْنَثُ اهـ. وَهُوَ كَذَلِكَ لِقَضَاءِ الْعُرْفِ أَيْضًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَفِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» "، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الْخَلِّ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «فَإِنَّهُ كَانَ إِدَامَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» "، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «لَمْ يَفْتَقِرْ بَيْتٌ فِيهِ خَلٌّ» "، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَدِيثُ: ( «نِعْمَ الْإِدَمُ الْخَلُّ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ جَابِرٍ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.

4184 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ» - ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4184 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ) : أَيِ الْعَدَوِيِّ " أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَمْأَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، نَبْتٌ بِالْبَرِّيَّةِ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ لَهُ أَصْلٌ يُؤْكَلُ. وَقَالَ شَارِحٌ: هِيَ شَيْءٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الشَّحْمِ يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ يُقَالُ لَهَا: سَمَارُوعٌ (مِنَ الْمَنِّ) : أَيْ مِمَّا مَنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْمَنِّ النِّعْمَةَ، وَقِيلَ: هُوَ التَّرَنْجَبِينُ، وَقِيلَ: شَيْءٌ، يُشْبِهُهُ، الْمَعْنَى أَنَّهَا مِمَّا يُشَابِهُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَحْصُلُ بِغَيْرِ تَعَبٍ أَوْ فِي الطَّبْعِ وَالنَّفْعِ (وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) : قِيلَ: مَخْلُوطًا بِالْأَدْوِيَةِ، وَقِيلَ: مُنْفَرِدًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَسَيَجِيءُ بِحْثُهُ فِي الْحَدِيثِ الرَّابِعِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الطِّبِّ وَالرُّقَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَائِشَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَالْمَنُّ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» ". (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ تُعَالَى عَلَى - مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ» -) .

4185 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4185 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) : أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ( «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ» ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ مَمْدُودًا. وَفِي الْمِصْبَاحِ: هُوَ فِعَّالٌ وَكَسْرُ الْقَافِ أَكْثَرُ مِنْ ضَمِّهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ،: فِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ وَلَفْظُهُ: " «يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ» "، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَوِ الْمُقَدَّمُ أَصْلٌ فِي الْمَأْكُولِ كَالْخُبْزِ وَالْمُؤَخَّرُ كَالْإِدَامِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: " «رَأَيْتُ فِي يَمِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِثَّاءً، وَفِي شِمَالِهِ رُطَبًا، وَهُوَ يَأْكُلُ مِنْ ذَا مَرَّةً وَمِنْ ذَا مَرَّةً» " اهـ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَبْدِيلِ مَا فِي يَدِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْأَكْلُ بِالشِّمَالِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الطَّعَامَيْنِ مَعًا وَالتَّوَسُّعُ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِهِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ خِلَافِ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ هَذَا التَّوَسُّعِ وَالتَّرْفِيهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ بِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ.: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ مُرَاعَاةِ صِفَاتِ الْأَطْعِمَةِ وَطَبَائِعِهَا، وَاسْتِعْمَالِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَلْيَقِ بِهَا عَلَى قَاعِدَةِ الطِّبِّ؛ لِأَنَّ فِي الرُّطَبِ حَرَارَةً، وَفِي الْقِثَّاءِ بُرُودَةً، فَإِذَا أُكِلَا مَعًا اعْتَدَلَا، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْمُرَكَّبَاتِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ. وَمِنْ فَوَائِدِ أَكْلِ هَذَا الْمُرَكَّبِ الْمُعْتَدِلِ تَعْدِيلُ الْمَزَاجِ، وَتَسْمِينُ الْبَدَنِ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ صَحَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " «أَرَادَتْ أُمِّي أَنْ تُهَيِّئَنِي لِلسِّمَنِ لِتُدْخِلَنِي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْتُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ فَسَمِنْتُ كَأَحْسَنِ السِّمَنِ» " اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ وَيَقُولُ: " يُكْسَرُ حَرُّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا وَبَرْدُ هَذَا بِحَرِّ هَذَا» ". وَفِي الْقَامُوسِ: الْبِطِّيخُ كَسِكِّينٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الطِّبِّ لَهُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَأْخُذُ الرُّطَبَ بِيَمِينِهِ وَالْبِطِّيخَ بِشِمَالِهِ، فَكَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْبِطِّيخِ، وَكَانَ أَحَبَّ الْفَاكِهَةِ إِلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْمَعُ بَيْنَ الْخِرْبِزِ وَالرُّطَبِ» وَهُوَ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ آخِرُهَا زَايٌ، وَهُوَ الْبِطِّيخُ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبِطِّيخِ وَهُوَ الْأَصْفَرُ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَخْضَرُ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ لِأَنَّ الْأَصْفَرَ فِيهِ حَرَارَةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِلرُّطَبِ بُرُودَةٌ ; وَإِنْ كَانَ فِيهِ لِحَلَاوَتِهِ طَرَفُ حَرَارَةٍ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى نَوْعٍ مِنْهُ لَمْ يَتِمَّ نُضْجُهُ، فَإِنَّ فِيهِ بُرُودَةً يَعْدِلُهَا الرُّطَبُ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، وَيَقُولُ: " يَدْفَعُ حَرُّ هَذَا بَرْدَ هَذَا وَبَرْدُ هَذَا حَرَّ هَذَا» ". وَفِي الْبِطِّيخِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَخْضَرُ، وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ فِيهِ حَلَاوَةٌ، وَهُوَ أَسْرَعُ انْحِدَارًا مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ.

4186 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْنِي الْكَبَاثَ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَطْيَبُ "، فَقِيلَ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ ، قَالَ: نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَاهَا؟» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4186 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَرِّ الظَّهْرَانِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، ثُمَّ بِفَتْحِ الظَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ اسْمُ مَوْضِعٍ قُرْبَ مَكَّةَ، (نَجْنِي الْكَبَاثَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَمُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، ثُمَّ أَلِفٍ، ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ، النَّضِيجُ مِنْ تَمْرِ الْأَرَاكِ (فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ) : أَيِ اقْصُدُوا مَا كَانَ أَسْوَدَ مِنْهُ (فَإِنَّهُ أَطْيَبُ) : أَيْ أَكْثَرُ لَذَّةً وَأَزْيَدُ مَنْفَعَةً (فَقِيلَ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟) : أَيْ حَتَّى تَعْرِفَ الْأَطْيَبَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الرَّاعِيَ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ فِي الصَّحْرَاءِ تَحْتَ الْأَشْجَارِ يَكُونُ أَعْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ. (قَالَ: نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَاهَا؟) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعِ النُّبُوَّةَ فِي أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَمُلُوكِهَا، وَلَكِنْ فِي رِعَاءِ الشَّاءِ، وَأَهْلِ التَّوَاضُعِ مِنْ أَصْحَابِ الْحِرَفِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ خَيَّاطًا، وَزَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا، وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَكَوْنِهِ أَجِيرًا لِشُعَيْبٍ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ مَا قَصَّ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ أَنَّهُمْ غُذُّوا بِالْحَلَالِ وَعَمِلُوا بِالصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] ثُمَّ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ زِيَادَةً عَلَى الْكَسْبِ الطَّيِّبِ التَّفَرُّدُ وَالْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ، وَالْخَلْوَةُ، وَالْجَلْوَةُ مَعَ الرَّبِّ وَالِاسْتِئْنَاسُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِي رَعْيِ الْأَنْبِيَاءِ لِلْغَنَمِ أَنْ يَأْخُذُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوَاضُعِ. بِمُؤَانَسَةِ الضُّعَفَاءِ، وَتَصْفَى قُلُوبُهُمْ بِالْخَلْوَةِ، وَيَتَرَقَّوْا مِنْ سِيَاسَتِهَا بِالنَّصِيحَةِ إِلَى سِيَاسَةِ أُمَمِهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالشَّفَقَةِ. وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي التَّجَبُّرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ لَهُ. أَتَدْرِي لِمَ رَزَقْتُكَ النُّبُوَّةَ؟ ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، فَقَالَ: تَذْكُرُ الْيَوْمَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ بِالْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ، فَهَرَبَتْ شَاةٌ فَغَدَوْتَ خَلْفَهَا، فَلَمَّا لَحِقْتَهَا لَمْ تَضُرَّهَا، وَقُلْتَ: أَتْعَبْتِنِي وَأَتْعَبْتِ نَفْسَكِ، فَحِينَ رَأَيْتُ مِنْكَ تِلْكَ الشَّفَقَةَ عَلَى ذَلِكَ الْحَيَوَانِ رَزَقْتُكَ النُّبُوَّةَ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ حَمَلَهَا عَلَى كَتِفِهِ وَرَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، «فَالرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» ، «وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4187 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْعِيًا يَأْكُلُ تَمْرًا» . وَفِي رِوَايَةٍ: «يَأْكُلُ مِنْهُ أَكْلًا ذَرِيعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4187 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْعِيًا» ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِقْعَاءِ (يَأْكُلُ تَمْرًا) : حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَمُقْعِيًا حَالٌ أَيْ: جَالِسًا عَلَى وَرِكَيْهِ رَافِعًا رُكْبَتَهُ وَهِيَ الْجِلْسَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَقِيلَ: الْإِقْعَاءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ، هُوَ أَنْ يَجْلِسَ وَاضِعًا إِلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَكْرُوهٌ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُكْرَهْ هُنَا لِأَنَّ ثَمَّ فِيهِ تَشْبِيهٌ بِالْكِلَابِ، وَهُنَا تَشْبِيهٌ بِالْأَرِقَّاءِ، فَفِيهِ غَايَةُ التَّوَاضُعِ أَوْ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى التَّأَنِّي فَلَا يُنَاسِبُهُ الْإِقْعَاءُ، بِخِلَافِ حَالِ الْأَكْلِ، فَإِنَّهُ يُلَائِمُهُ الْعَجَلَةُ لِيَفْرُغَ لِلْعِبَادِةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَالِسًا عَلَى إِلْيَتَيْهِ نَاصِبًا سَاقَيْهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: " «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» " عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ يَعْنِي: لَا آكُلُ أَكْلَ مَنْ يُرِيدُ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الطَّعَامِ، وَيَقْعُدُ لَهُ مُتَمَكِّنًا، بَلْ أَقْعُدُ مُسْتَوْفِزًا وَآكُلُ قَلِيلًا، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ: " «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» ". (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِمُسْلِمٍ (يَأْكُلُ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ التَّمْرِ (أَكْلًا ذَرِيعًا) : أَيْ مُسْتَعْجِلًا سَرِيعًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَانَ اسْتِعْجَالُهُ لِاسْتِيفَازِهِ لِأَمْرٍ أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَأَسْرَعَ فِي الْأَكْلِ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ وَيَرُدَّ الْجَوْعَةَ، ثُمَّ يَذْهَبَ فِي ذَلِكَ الشُّغْلِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ فَرَأَيْتُهُ يَأْكُلُ وَهُوَ مُقْعٍ مِنَ الْجُوعِ» أَيْ: لِأَجْلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِقْعَاءَهُ وَإِسْرَاعَهُ كَانَ لِأَجْلِ جُوعِهِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " وَهُوَ مُحْتَفِزٌ ". قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِقْعَاءُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يُلْصِقَ الرَّجُلُ إِلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ،: وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ، وَيَتَسَانَدَ ظَهْرَهُ، وَقَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِقْعَاءِ الْمَنْهِيِّ لِلصَّلَاةِ هُوَ أَنْ يَضَعَ إِلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ بَيْنَ

السَّجْدَتَيْنِ. قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ: وَمِنَ الْأَوَّلِ حَدِيثُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ مُقْعِيًا أَيْ: يَجْلِسُ عِنْدَ الْأَكْلِ عَلَى وَرِكَيْهِ مُسْتَوْفِزًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، وَتَبِعَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَقْعَى فِي جُلُوسِهِ أَيْ: تَسَانَدَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، وَحِينَئِذٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَنَقْلِ الْجَوْهَرِيِّ عَنِ اللُّغَوِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَيْئَةِ الِاحْتِبَاءِ وَالتَّسَانُدِ إِلَى الْوَرَاءِ، فَمَعْنَى " وَهُوَ مُقْعٍ مِنَ الْجُوعِ " مُحْتَبِيًا مُسْتَنِدًا لِمَا وَرَاءَهُ مِنَ الضَّعْفِ الْحَاصِلِ لَهُ بِسَبَبِ الْجُوعِ، وَبِمَا تَحَرَّرَ تَقَرَّرَ أَنَّ الِاسْتِنَادَ لَيْسَ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الْأَكْلِ، بَلْ مِنْ ضَرُورَاتِهِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا لِذَلِكَ الضَّعْفِ الْحَاصِلِ لَهُ الْحَامِلِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4188 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4188 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْرُنَ» ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، فَفِي الْمِصْبَاحِ: قَرَنَ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَفِي لُغَةٍ مِنْ بَابِ ضَرَبَ. وَفِي الْقَامُوسِ: قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ قَرْنًا جَمَعَ كَأَقْرَنَ فِي لُغَةٍ، وَالْقِرَانُ كَكِتَابٍ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ فِي الْأَكْلِ أَيْ: يَجْمَعَ (الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ) : أَيْ: بِأَنْ يَأْكُلَهُمَا دُفْعَةً (حَتَّى يَسْتَأْذِنَ) : أَيِ الرَّجُلُ (أَصْحَابَهُ) : أَيْ رُفَقَاءَهُ أَوْ أَصْحَابَ الطَّعَامِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: هَذَا إِذَا أَضَافَهُمْ أَحَدٌ، فَإِنْ خَلَطُوا طَعَامَهُمْ وَأَكَلُوا مَعًا يَجُوزُ أَمْ لَا؟ قَالَ الْأَئِمَّةُ: يَجُوزُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لُقْمَةً مِنْ لُقْمَةِ صَاحِبِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَكْلُ أَحَدِهِمْ أَكْثَرَ بِلَا قَصْدٍ جَازَ اهـ. وَقِيلَ: هَذَا إِذَا كَانَ زَمَانُ قَحْطٍ، أَوْ كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلًا وَالْآكِلُونَ كَثِيرًا، فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: فِي الْحَدِيثِ نَهْيٌ عَنِ الْقِرَانِ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي ضِيقٍ مِنَ الْعَيْشِ ثُمَّ نُسِخَ لَمَّا حَصَلَتِ التَّوْسِعَةُ لِخَبَرِ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ وَإِنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ فَقَارِنُوا» " أَيْ: إِنْ شِئْتُمْ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُنَاهَدَةِ، وَهِيَ أَنْ يُخْرِجُوا نَفَقَاتِهِمْ عَلَى قَدْرِ عَدَدِ الرُّفْقَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَرَوْا بِهَا بَأْسًا وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي الْأَكْلِ عَادَةً إِذَا لَمْ يَقْصِدْ مُغَالَبَةَ صَاحِبِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الْقِرَانِ لِعِلَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَهِيَ مَا كَانَ الْقَوْمُ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَيْشِ وَضِيقِ الطَّعَامِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ مَعَ اتِّسَاعِ الْحَالِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِذْنِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ، بَلِ الصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَوْ ثَبَتَ، فَكَيْفَ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ، فَالْإِقْرَانُ حَرَامٌ إِلَّا بِرِضَاهُمْ إِمَّا تَصْرِيحًا مِنْهُمْ أَوْ ظَنًّا قَوِيًّا مِنْهُ، وَإِنْ شُكَّ فِيهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِنَفْسِهِ وَقَدْ ضَيَّفَهُمْ بِهِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْقِرَانُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي الطَّعَامِ قِلَّةٌ فَلَا يَحْسُنُ الْقِرَانُ، بَلْ يُسَاوِيهِمْ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، بِحَيْثُ يَفْضُلُ عَنْهُمْ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لَكِنَّ الْأَدَبَ مُطْلَقًا التَّأْدِيبُ فِي الْأَكْلِ وَتَرْكُ الشَّرَهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْجِلًا كَمَا سَبَقَ، وَفِيهِ أَنَّ الْخَطَّابِيَّ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الِاتِّسَاعِ الْأَغْلَبِيِّ، فَمَا خَرَجَ عَنْ حَيِّزِ الصَّوَابِ إِلَى صَوْبِ الْخَطَأِ، مَعَ أَنَّ الْخَطَّابِيَّ ثَبْتٌ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ، وَيُؤَيِّدُهُ نَقْلُ السُّيُوطِيِّ مَعَ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، فَتَأَمَّلْ وَأَنْصِفْ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ وَتُرِيدُ طَرِيقَ التَّحْقِيقِ وَالتَّأْيِيدِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «نَهَى عَنِ الْإِقْرَانِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْهُ، نَهَى أَنْ يُلْقِيَ النَّوَاةَ عَلَى الطَّبَقِ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ الرُّطَبُ وَالتَّمْرُ. رَوَاهُ الشِّيرَازِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

4189 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَجُوعُ أَهْلُ بَيْتٍ عِنْدَهُمُ التَّمْرُ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: " «يَا عَائِشَةُ بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ، جِيَاعٌ أَهْلُهُ " قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4189 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا يَجُوعُ أَهْلُ بَيْتٍ عِنْدَهُمُ التَّمْرُ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «يَا عَائِشَةُ بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ، جِيَاعٌ» ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ جَائِعٍ (أَهْلُهُ) : قِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَمَنْ كَانَ قُوتُهُمُ التَّمْرَ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُ شَأْنِ التَّمْرِ (قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةُ التَّمْرِ وَجَوَازُ الِادِّخَارِ لِلْأَهْلِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْقَنَاعَةِ فِي بَلَدٍ يَكْثُرُ فِيهِ التَّمْرُ، يَعْنِي بَيْتًا فِيهِ تَمْرٌ وَقَنِعُوا بِهِ لَا يَجُوعُ أَهْلُهُ، وَإِنَّمَا الْجَائِعُ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ تَمْرٌ، وَيَنْصُرُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي: كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَى الْفَصْلَ الْأَوَّلَ مِنَ الْحَدِيثِ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْفَصْلُ الثَّانِي مِنْهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

4190 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4190 - (وَعَنْ سَعْدٍ) : أَيِ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدِ الْعَشَرَةِ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ تَصَبَّحَ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: يَأْكُلُهَا فِي الصَّبَاحِ قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ: (عَجْوَةٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لِتَمَرَاتٍ، وَهُوَ نَوْعٌ جَيِّدٌ مِنْ تَمْرِ الْمَدِينَةِ، لَوْنُهُ أَسْوَدُ كَذَا فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَجْوَةً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. (لَمْ يَضُرَّهُ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا، وَأَمَّا كَسْرُهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ مَعَ الضَّمِيرِ (ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَيَجُوزُ تَثْلِيثُهَا (وَلَا سِحْرٌ) : فِي النِّهَايَةِ: الْعَجْوَةُ نَوْعٌ مِنْ تَمْرِ الْمَدِينَةِ أَكْبَرُ مِنَ الصَّبْحَانِيِّ يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ مِنْ غَرْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْمُظْهِرُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ التَّمْرِ مَا يَدْفَعُ السَّمَّ وَالسِّحْرَ، وَأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ دَعَا لِذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ التَّمْرِ بِالْبَرَكَةِ وَبِمَا كُوِّنَ فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ فَضِيلَةُ تَمْرِ الْمَدِينَةِ وَعَجْوَتِهَا، وَفَضِيلَةُ التَّصَبُّحِ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْهُ، وَتَخْصِيصُ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ، وَعَدَدِ التَّسْبِيعِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي عَلِمَهَا الشَّارِعُ لَا نَعْلَمُ نَحْنُ حِكْمَتَهَا، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَاعْتِقَادُ فَضْلِهَا وَالْحِكْمَةِ فِيهَا، وَهَذَا كَأَعْدَادِ الصَّلَاةِ وَنُصُبِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.

4191 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءً، وَإِنَّهَا تِرْيَاقٌ أَوَّلَ الْبُكْرَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4191 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ) : اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ (شِفَاءً) : أَيْ شِفَاءً زَائِدًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَجْوَةِ غَيْرِهَا، أَوْ تَقْيِيدٌ لِلْإِطْلَاقِ السَّابِقِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعَالِيَةُ مَا كَانَ مِنَ الْحَوَائِطِ وَالْقُرَى وَالْعُمْرَانِ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ الْعَلْيَاءِ مِمَّا يَلِي نَجْدًا، وَالسَّافِلَةُ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى مِمَّا يَلِي تِهَامَةَ، وَأَدْنَى الْعَالِيَةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَأَبْعَدُهَا ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ (وَإِنَّهَا) : أَيْ: عَجْوَةُ الْعَالِيَةِ (تِرْيَاقٌ) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُضَمُّ مَعْجُونٌ مَعْرُوفٌ يَنْفَعُ لِأَنْوَاعِ السَّمِّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِكَسْرِ التَّاءِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ، وَيُقَالُ دِرْيَاقٌ أَيْضًا وَقَوْلُهُ: (أَوَّلَ الْبُكْرَةِ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ ظَرْفٌ أَيْ: أَكْلُهَا فِي أَوَّلِ الصُّبْحِ يُفِيدُ كَالتِّرْيَاقِ: وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ ظَرْفٌ لِلْخَبَرِ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّهَا نَافِعَةٌ لِلسَّمِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: 3] أَيْ: مَعْبُودٌ فِيهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأُولَى إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} [البقرة: 74] أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ خَاصٍّ عَلَى الْعَامِّ اخْتِصَاصًا وَمَزِيَّةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا تُصِيبُهُ أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا» ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4192 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنْ يُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4192 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (قَالَتْ: كَانَ يَأْتِي) : أَيْ يَمُرُّ وَيَمْضِي (عَلَيْنَا) : أَيْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ (الشَّهْرُ) : أَيْ شَهْرٌ مِنَ الْأَشْهُرِ (مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا) : أَيْ لَا نَخْبِزُ وَلَا نَطْبُخُ فِيهِ شَيْئًا (إِنَّمَا هُوَ) : أَيِ الْمَأْكُولُ وَالْمُتَنَاوَلُ (التَّمْرُ وَالْمَاءُ) : وَفِي عَطْفِ الْمَاءِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى (إِلَّا أَنْ نُؤْتَى) : أَيْ نَحْنُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْيَاءِ أَيِ: الْمَأْكُولُ (بِاللُّحَيْمِ) : تَصْغِيرُ اللَّحْمِ، مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَا يُؤْتَى إِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا، وَقِيلَ الْمَعْنَى لَا نُوقِدُ النَّارَ لِلطَّبْخِ، وَنَكْتَفِي بِالتَّمْرِ بَدَلَ الطَّعَامِ إِلَى أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْنَا قِطْعَةُ لَحْمٍ، فَالتَّصْغِيرُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلْمَحَبَّةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الِاشْتِهَاءِ لِكَوْنِهِ سَيِّدَ الْإِدَامِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ لَا نَطْبُخُ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُؤْتَى بِاللَّحْمِ، فَحِينَئِذٍ نُوقِدُ النَّارَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ظَاهِرٌ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا لِأَنَّ (أَنْ يُؤْتَى) مَصْدَرٌ وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ، فَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَجْرُورَ فِي (فِيهِ) الْعَائِدَ إِلَى الشَّهْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِمَّا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهَا: (إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ) ، وَالْمَعْنَى مَا الْمَأْكُولُ إِلَّا تَمْرٌ وَمَاءٌ، إِلَّا أَنْ يُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَأْكُولُ لَحْمًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4193 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا تَمْرٌ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4193 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ) : أَيْ أَهْلُ بَيْتِهِ (يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ) : أَيْ: حِنْطَةٍ (إِلَّا وَأَحَدُهُمَا) : أَيْ أَحَدُ الْيَوْمَيْنِ (تَمْرٌ) : أَيْ وَالْآخَرُ خُبْزٌ فَلَمْ يَتَوَالَ الْخُبْزُ وَلَا الشِّبَعُ مِنْهُ فِي يَوْمَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُسْتَثْنَى مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْأَحْوَالِ أَوِ الْأَوْصَافِ عَلَى مَذْهَبِ الْكَشَّافِ: يَعْنِي اسْتَقْرَيْتُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ يَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ، فَلَمْ أَجِدْ يَوْمَيْنِ مَوْصُوفَيْنِ بِصِفَةٍ مِنَ الْأَوْصَافِ إِلَّا بِأَنَّ أَحَدَ الْيَوْمَيْنِ يَوْمُ تَمْرٍ وَالْآخَرُ يَوْمُ خُبْزٍ، وَقَدْ عُرِفَ عُرْفًا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِبَعٍ، فَلَا يَكُونُ ثَمَّةَ شِبَعٌ، وَيَنْصُرُهُ قَوْلُهَا: مَا شَبِعْنَا مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ ". قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ الشِّبَعُ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا فِي الشَّمَائِلِ مِنْ قَوْلِهَا: " «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهَا: " مَا شَبِعْنَا مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ " مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الدَّوَامِ أَوِ التَّتَابُعِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4194 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا شَبِعْنَا مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 4194 - (وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا شَبِعْنَا» ) : أَيْ: حَيَاتَهُ تَنَزُّهًا عَنِ الدُّنْيَا، وَتَقَوًى عَنِ الْهَوَى وَإِيثَارًا لِلْفَقْرِ لَا مِنَ الْعَوَزِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ (مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ) : أَيِ: التَّمْرِ وَالْمَاءِ، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ كَالْقَمَرَيْنِ وَالْعُمَرَيْنِ تَغْلِيبًا لِلْمَأْكُولِ عَلَى الْمَشْرُوبِ، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ، كَمَا غُلِّبَ الشِّبَعُ عَلَى الرِّيِّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، وَالسَّوَادُ لِلتَّمْرِ دُونَ الْمَاءِ، فَنُعِتَا بِنَعْتٍ وَاحِدٍ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الشَّيْئَيْنِ يَصْطَحِبَانِ وَيُسَمَّيَانِ مَعًا لِاسْمِ الْأَشْهَرِ مِنْهُمَا، هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الْغَرِيبِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ يُغَلِّبُونَ الْمُذَكَّرَ تَارَةً كَالْقَمَرَيْنِ وَالْأَخَفَّ أُخْرَى كَالْعُمَرَيْنِ، وَأَيَّهُمَا أَحْرَى كَالْوَالِدَيْنِ، وَهُوَ يَعُمُّ الْعَلَمَ وَالْوَصْفَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ بَقِيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُثْبِتُوا وَجْهَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّمْرِ فِي الْعَوَزِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سِعَةٍ مِنَ الْمَاءِ، إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ الرِّيَّ مِنَ الْمَاءِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ دُونِ الشِّبَعِ مِنَ الطَّعَامِ - فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأُمَمِ لَا سِيَّمَا الْعَرَبُ يَرَوْنَ شُرْبَ الْمَاءِ عَلَى الرِّيقِ بَالِغًا فِي الْمَضَرَّةِ فَقَرَنَتْ بَيْنَهُمَا لِعَوَزِ التَّمَتُّعِ بِأَحَدِهَا بِدُونِ الْإِصَابَةِ مِنَ الْآخَرِ، وَعَبَّرَتْ عَنِ الْأَمْرَيْنِ - أَعْنِي الشِّبَعَ وَالرِّيَّ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ، كَمَا عَبَّرَتْ عَنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

4195 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَلَسْتُمْ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4195 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (ابْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَلَسْتُمْ) : الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِلتَّابِعِينَ (فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَلَسْتُمْ مُنْغَمِسِينَ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مِقْدَارَ مَا شِئْتُمْ مِنَ التَّوْسِعَةِ وَالْإِفْرَاطِ. فِيهِ، فَمَا مَوْصُولَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " مَا " اسْتِفْهَامِيَّةً بَدَلًا مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ شِئْتُمْ مِنْهُمَا؟ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ تَعْيِيرٌ وَتَوْبِيخٌ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: (لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَأَضَافَهُ لِإِلْزَامٍ حِينَ لَمْ يَقْتَدُوا بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَمُسْتَلَذَّاتِهَا وَفِي التَّقَلُّلِ لِمُشْتَهَيَاتِهَا مِنْ مَأْكُولَاتِهَا وَمَشْرُوبَاتِهَا، وَأَمَّا قَتْلُ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ لَمَّا قَالَ لَهُ: كَانَ صَاحِبُكُمْ يَقُولُ كَذَا، فَقَالَ خَالِدٌ: هُوَ صَاحِبُنَا وَلَيْسَ بِصَاحِبِكُمْ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ لَمْ يَكُنْ لِمُجَرَّدِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، بَلْ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُ الرِّدَّةُ، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ. بِمَا أَبَاحَ لَهُ بِهِ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى النَّظَرِ فَقَوْلُهُ: (وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ) : حَالٌ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَأَدْخَلَ الْوَاوَ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ، وَالدَّقَلُ: بِفُتْحَتَيْنِ التَّمْرُ الرَّدِيءُ وَيَابِسُهُ، وَمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ فَتَرَاهُ لِيُبْسِهِ وَرَدَاءَتِهِ لَا يَجْتَمِعُ، وَيَكُونُ مَنْثُورًا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ) : مَفْعُولُ " يَجِدُ، وَمَا: مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَمِنَ الدَّقَلِ بَيَانٌ لِمَا قُدِّمَ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

4196 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ أَكَلَ مِنْهُ وَبَعَثَ بِفَضْلِهِ إِلَيَّ، وَإِنَّهُ بَعَثَ إِلَيَّ يَوْمًا بِقَصْعَةٍ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا لِأَنَّ فِيهِ ثُومًا، فَسَأَلْتُهُ: أَحْرَامٌ هُوَ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ "، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا كَرِهْتَ» . رَوَاهُ، مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4196 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ) : أَيِ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ) : أَيْ أُحْضِرَ طَعَامٌ لَهُ (أَكَلَ مِنْهُ، وَبَعَثَ بِفَضْلِهِ إِلَيَّ) : وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُزُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْهِجْرَةِ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: كَانَ هُوَ مِنْ أَفْقَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (وَإِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنُ أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَعَثَ إِلَيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ (إِلَيْهِ) وَهُوَ ضَعِيفٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً (يَوْمًا بِقَصْعَةٍ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي سَائِرِهَا لَفْظَةُ " قَصْعَةٌ " وَ " مِنْهَا " سَاقِطَتَانِ (لِأَنَّ فِيهَا) : أَيْ فِي طَعَامِ الْقَصْعَةِ (ثُومًا، فَسَأَلَهُ: أَحْرَامٌ هُوَ؟) : أَيِ الثُّومُ أَوِ الطَّعَامُ الَّذِي هُوَ فِيهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: السُّؤَالُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَهُ إِلَيْهِ لِيَأْكُلَهُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَرَامًا؟ وَلِذَلِكَ (قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ) : وَهَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ لِلطَّعَامِ، بَلْ بَيَانٌ لِلْمَانِعِ مِنَ الْحُضُورِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَمُخَاطَبَةِ الْكِبَارِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَصْرِيحٌ بِإِبَاحَةِ الثُّومِ، لَكِنْ يَكُونُ لِمَنْ أَرَادَ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ وَيُلْحَقُ بِهِ كُلُّ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْرُكُ الثُّومَ دَائِمًا» ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ مَجِيءَ الْوَحْيِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هِيَ مُحَرَّمَةٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: أَحْرَامٌ هُوَ؟ ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ يَقُولُ: مَعْنَاهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فِي حَقِّكُمْ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ أَنْ يُفَضِّلَ مِمَّا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، أَيْ: وَيَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ (قَالَ) : أَيْ: أَبُو أَيُّوبَ (فَإِنِّي) : وَفِي نُسْخَةٍ (إِنِّي) ، (أَكْرَهُ مَا كَرِهْتَ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْمُتَابَعَةِ، أَوْ أَرَادَ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4197 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا. أَوْ لِيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» ". «وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَقَالَ: " قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ - وَقَالَ: " كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4197 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا) : أَيْ: غَيْرَ مَطْبُوخَيْنِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ مَا فِيهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ كَالْفِجْلِ وَالْكُرَّاثِ. (فَلْيَعْتَزِلْنَا) : أَيْ: لِيَبْعُدْ عَنَّا وَلَا يَحْضُرْ مَجَالِسَنَا، قَالَ: (أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا) : فَإِنَّهُ مَعَ أَنَّهُ مَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مَهْبِطُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّهْيُ عَنْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ رِوَايَةُ: فَلَا يَقْرَبْنَ مَسَاجِدَنَا "، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْعُمُومِ (أَوْ لِيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ) : قِيلَ: " أَوْ " لِلشَّكِّ وَقِيلَ لِلتَّنْوِيعِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْوَاوِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ لِلتَّوْكِيدِ، (وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ وَبِفَتْحِهَا عَطْفًا عَلَى " أَنْ " الْأُولَى وَهُوَ الْأَوْلَى (أُتِيَ) : أَيْ: جِيءَ (بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ) : وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ جَمْعُ خَضِرَةٍ أَيْ: بِقَوْلٌ خَضِرَاتٌ، وَيُرْوَى بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ جَمْعُ خُضْرَةٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهُ: " بِقَدْرٍ " كَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ بِالْقَافِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الصَّوَابَ فِيهِ " أُتِيَ بِبَدْرٍ " بِالْبَاءِ أَيْ: بِطَبَقٍ وَهُوَ طَبَقٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْخُوصِ وَهُوَ وَرَقُ النَّخْلِ، وَلَعَلَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِدَارَتِهِ اسْتِدَارَةَ الْبَدْرِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أُتِيَ بِقِدْرٍ " هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ بِبَدْرٍ بِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَفَسَّرَ الرُّوَاةُ وَأَهْلُ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ الْبَدْرَ بِالطَّبَقِ انْتَهَى. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نُسَخَ الْبُخَارِيِّ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ رِوَايَةَ الْبَدْرِ بِالْبَاءِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ بِأَنَّ رِوَايَةَ الْقِدْرِ تُشْعِرُ بِالطَّبْخِ، وَقَدْ وَرَدَ الْإِذْنُ بِأَكْلِ الْبُقُولِ الْمَطْبُوخَةِ. وَذَكَرَ الْعَسْقَلَانِيُّ أَنَّ رِوَايَةَ الْقِدْرِ بِالْقَافِ أَصَحُّ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ امْتِنَاعِهِ مِنْ أَكْلِ الثُّومِ مَطْبُوخًا وَإِذْنِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: " «فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي» ". قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَطْبُوخًا وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِي الْقِدْرِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَسْتَوِي فِيهِ الطَّعَامُ فَضْلًا عَنْ أَمْثَالِ الثُّومِ، وَرُبَّمَا رُمِيَ فِي آخِرِ الطَّبْخِ فَبَقِيَ الرِّيحُ فَائِحًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَقَالَ) : أَيْ لِبَعْضِ خُدَّامِهِ (قَرِّبُوهُمَا) : أَيِ: الْخَضِرَاتِ مَغْرُوفَةً (إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ) : أَبْهَمَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِاسْمِهِ (وَقَالَ) : أَيْ لَهُ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ (كُلْ) : وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ لَفْظَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَرِّبُوهَا إِلَى فُلَانٍ) بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:

" كُلْ " فَأَتَى الرَّاوِي مَعْنَى مَا تَلَفَّظَ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَذَكَّرِ التَّصْرِيحَ بِاسْمِهِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ ( «فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي» ) : أَيْ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ أَرَادَ بِهِ جِبْرِيلَ، وَالْمَعْنَى أَنَا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، وَأَنْتَ لَا تَتَكَلَّمُ مَعَهُ، فَيَجُوزُ لَكَ مَا لَا يَجُوزُ لِي، فَلَا تَقِسِ الْمُلُوكَ بِالْحَدَّادِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.

4198 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَيِّلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4198 - (وَعَنِ الْمِقْدَامِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : سَبَقَ ذِكْرُهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَيَّلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ» ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ بِزِيَادَةِ " فِيهِ ". قَالَ الْمُظْهِرُ: الْغَرَضُ مِنْ كَيْلِ الطَّعَامِ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ مَا يَسْتَقْرِضُ الرَّجُلُ وَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكِلْ لَكَانَ مَا يَبِيعُهُ وَيَشْتَرِيهِ مَجْهُولًا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكِلْ مَا يُنْفِقُ عَلَى عِيَالِهِ رُبَّمَا يَكُونُ نَاقِصًا عَنْ قَدْرِ كِفَايَتِهِمْ، فَيَكُونُ النُّقْصَانُ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهِمْ، وَلَمْ يَعْرِفْ مَا يَدَّخِرُ لِتَمَامِ السَّنَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكَيْلِ لِيَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَيَقِينٍ فِيمَا يَعْمَلُونَ، فَمَنْ رَاعَى سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجِدْ بَرَكَةً عَظِيمَةً فِي الدُّنْيَا وَأَجْرًا عَظِيمًا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا لِيَ شَيْءٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرَ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ، وَكُنْتُ آكُلُ مِنْهُ مُدَّةً، فَكِلْتُهُ فَذَهَبَتْ بَرَكَتُهُ؟ ، قُلْتُ: الْكَيْلُ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَأْمُورٌ بِهِ لِإِقَامَةِ الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ، وَفِيهِ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ، وَعِنْدَ الْإِنْفَاقِ إِحْصَاؤُهُ وَضَبْطُهُ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنْفِقْ بِلَالًا وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَرَوَاهُ ابْنُ النَّجَّارِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ: " «كِيلُوا طَعَامَكُمْ، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ فِي الطَّعَامِ الْمَكِيلِ» ".

4199 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبُّنَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4199 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إِذَا رَفَعَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا رُفِعَتْ " (مَائِدَتَهُ) : أَيْ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْمَائِدَةَ بِأَنَّهَا خِوَانٌ عَلَيْهِ طَعَامٌ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِرِوَايَةِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْكُلْ عَلَى خِوَانٍ» كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكِتَابِ، فَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: بِأَنَّهُ أَكَلَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَبِأَنَّ أَنَسًا مَا رَأَى وَرَآهُ غَيْرُهُ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخِوَانِ مَا يَكُونُ بِخُصُوصِهِ، وَالْمَائِدَةُ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَادَ يَمِيدُ إِذَا تَحَرَّكَ أَوْ أَطْعَمَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْمَائِدَةُ وَيُرَادُ بِمَا نَفْسُ الطَّعَامِ أَوْ بَقِيَّتُهُ أَوْ آثَارُهُ، فَيَكُونُ مُرَادُ أَبِي أُمَامَةَ إِذَا رُفِعَ مِنْ عِنْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا وُضِعَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ أَوْ بَقِيَّتُهُ. (قَالَ) : وَفِي رِوَايَةٍ " يَقُولُ: أَيْ رَافِعًا صَوْتَهُ، فَإِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْحَمْدِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَكْلِ إِذَا لَمْ يَفْرَغْ جُلَسَاؤُهُ كَيْلَا يَكُونَ مَنْعًا لَهُمْ. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أَيِ الثَّنَاءِ بِالْجَمِيلِ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِنْعَامُ بِالْإِطْعَامِ (حَمْدًا) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلْحَمْدِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ تَضْمِينِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ أَوْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ (كَثِيرًا) : أَيْ لَا نَاهِيَةَ لِحَمْدِهِ كَمَا لَا غَايَةَ لِنِعَمِهِ، (طَيِّبًا) : أَيْ خَالِصًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، (مُبَارَكًا) : هُوَ وَمَا قَبْلُهُ صِفَاتٌ لِـ " حَمْدًا "، وَقَوْلُهُ: (فِيهِ) : ضَمِيرُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَمْدِ أَيْ: حَمْدًا ذَا بَرَكَةٍ دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ؟ لِأَنَّ نِعَمَهُ لَا تَنْقَطِعُ عَنَّا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَمْدُنَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ أَيْضًا. وَلَوْ نِيَّةً وَاعْتِقَادًا، (غَيْرَ مَكْفِيٍّ) : بِنَصْبِ " غَيْرَ " فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الْحَمْدِ وَهُوَ أَقْرَبُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، وَالْمَرْجِعُ هُوَ هُوَ، وَمَكْفِيٌّ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْكِفَايَةِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَمْدِ أَيْ: لَا يَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْحَمْدِ، فَإِنَّ كُلَّ حَمْدٍ يَحْمَدُ بِهِ الْحَامِدُونَ فَهُمْ فِيهِ مُقَصِّرُونَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى أَحَدٍ فَيَكْفِي، لَكِنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، وَيَكْفِي وَلَا يُكْفَى، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ

كِفَاتِ الْإِنَاءِ أَيْ: غَيْرُ مَرْدُودٍ عَلَيْهِ إِنْعَامُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلطَّعَامِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْفِيٍّ مِنْ عِنْدِنَا، بَلْ هُوَ الْكَافِي وَالرَّازِقُ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِقِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ غَيْرُ مُكَافَأٍ بِالْهَمْزِ أَيْ نِعْمَةُ اللَّهِ لَا تُكَافَأُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ هَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِالْيَاءِ، وَلِكُلٍّ مَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَلَا مُوَدَّعٍ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: غَيْرُ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ فَيُعْرَضُ عَنْهُ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْقَائِلِ أَيْ: غَيْرُ تَارِكٍ الْحَمْدَ، أَوْ تَارِكُ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مَعَ بُعْدِهِ لَا يُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ) : إِذِ الرِّوَايَةُ فِيهِ لَيْسَتْ إِلَّا عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرَّسْمِ، وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَطْرُوحٍ وَلَا مُعْرَضٍ عَنْهُ، بَلْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ بِدَلِيلِ " لَا " لَا عَطْفُ تَفْسِيرٍ كَمَا قِيلَ وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّهُ، بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ تُسْتَمَدُّ مِنْ سَابِقِهِ نَصًّا وَهِيَ أَنَّهُ لَا اسْتِغْنَاءَ لِأَحَدٍ عَنِ الْحَمْدِ لِوُجُوبِهِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةٍ، بَلْ نِعَمُهُ لَا تُحْصَى، وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ وَاجِبٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، لَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِوُجُوبِهِ أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَفْظًا يَأْثَمُ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَتَى بِهِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، وَمَنْ أَتَى بِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْمَنْدُوبِ، أَمَّا شُكْرُ الْمُنْعِمِ بِمَعْنَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ زَوَاجِرِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ إِجْمَاعًا. وَقَوْلُهُ: (رَبُّنَا) : رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ رَبُّنَا أَوْ أَنْتَ رَبُّنَا اسْمَعْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ " غَيْرُ " بِالرَّفْعِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِ شَمَائِلِهِ حَيْثُ قَالَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: رَبُّنَا هَذَا، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ أَوْ إِضْمَارِ أَعْنِي، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ شَمَائِلِهِ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي " عَنْهُ " وَاضِحُ الْفَسَادِ، إِذْ ضَمِيرُ عَنْهُ لِلْحَمْدِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ " عَنْهُ " لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُوَ الْأَظْهَرُ، فَلَا فَسَادَ فِيهِ حِينَئِذٍ أَصْلًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - بِلَفْظِ: " «كَانَ إِذَا رُفِعَتْ مَائِدَتُهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا، فِيهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبُّنَا» ".

4200 - وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَيِ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا فِي " بَابُ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ "، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4200 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ) : اللَّامُ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ (أَنْ يَأْكُلَ) : أَيْ بِسَبَبِ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ وَقْتَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ لِيَرْضَى يَعْنِي يُحِبُّ مِنْهُ أَنْ يَأْكُلَ (الْأَكْلَةَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيِ: الْمَرَّةَ مِنَ الْأَكْلِ حَتَّى يَشْبَعَ وَيُرْوَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيِ: اللُّقْمَةُ وَهِيَ أَبْلَغُ فِي بَيَانِ اهْتِمَامِ أَدَاءِ الْحَمْدِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْفَقُ مَعَ قَوْلِهِ: أَوْ يَشْرَبُ الشَّرْبَةَ، فَإِنَّهَا بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِهِ (فَيَحْمَدُهُ) : بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: فَهُوَ - أَيِ الْعَبْدُ - يَحْمَدُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: " فَيَحْمَدُ اللَّهَ "، (عَلَيْهَا) : أَيْ عَلَى الْأَكْلَةِ (أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا) : أَيْ عَلَى الشَّرْبَةِ، وَ " أَوْ ": لِلتَّنْوِيعِ، وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ وَقَالَ: لَعَلَّ هَذَا شَكُّ رَاوٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ) : أَيِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ هُنَا أَوَّلُهُمَا: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ) : أَيْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ (وَخَرَجَ) : أَيْ وَثَانِيهِمَا: خَرَجَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا) : أَيْ وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ (فِي بَابِ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ) : أَيْ لِكَوْنِهِمَا أَنْسَبَ لَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : مُتَعَلِّقٌ بِسَنَذْكُرُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي. 4201 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُرِّبَ طَعَامٌ، فَلَمْ أَرَ طَعَامًا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ أَوَّلَ مَا أَكَلْنَا، وَلَا أَقَلَّ بَرَكَةً فِي آخِرِهِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ هَذَا؟ قَالَ: " إِنَّا ذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ أَكَلْنَا، ثُمَّ قَعَدَ مَنْ أَكَلَ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ فَأَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي. 4201 - (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُرِّبَ طَعَامٌ) : أَيْ: إِلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَلَمْ أَرَ طَعَامًا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ أَوَّلَ مَا أَكَلْنَا) : أَيْ أَوَّلَ وَقْتِ أَكْلِنَا، فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَوَّلَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَلَا أَقَلَّ بَرَكَةً) : أَيْ مِنْهُ (فِي آخِرِهِ) : أَيْ فِي آخِرِ وَقْتٍ أَكَلْنَا إِيَّاهُ (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ هَذَا؟) : أَيْ بَيِّنْ لَنَا الْحِكْمَةَ وَالسَّبَبَ فِي حُصُولِ عَظَمَةِ الْبَرَكَةِ وَكَثْرَتِهَا فِي أَوَّلِ أَكْلِنَا هَذَا الطَّعَامَ، وَقِلَّتِهَا فِي آخِرِهِ وَانْعِدَامِ الْبَرَكَةِ مِنْهُ. (قَالَ: " إِنَّا ") : أَيْ جَمِيعُنَا عَلَى مُقْتَضَى السُّنَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى مُوجِبِ دَأْبِهِ الْمُسْتَمِرِّ مَعَ أَصْحَابِهِ (ذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ حِينَ أَكَلْنَا) : وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ سُنَّةَ التَّسْمِيَةِ تَحْصُلُ بِسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهِيَ أَكْمَلُ، كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَإِذَا اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ لِأَفْضَلِيَّةِ ذَلِكَ دَلِيلًا خَاصًّا، وَتُنْدَبُ الْبَسْمَلَةُ حَتَّى لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ إِنْ لَمْ يَقْصِدُوا بِهَا قُرْآنًا: وَإِلَّا حَرُمَتْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: لَا تُنْدَبُ فِي مَكْرُوهٍ وَلَا حَرَامٍ، بَلْ لَوْ سَمَّى عَلَى خَمْرٍ كَفَرَ عَلَى مَا فِيهِ مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَحَلِّهِ. ( «ثُمَّ قَعَدَ مَنْ أَكَلَ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ، فَأَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ» ) : أَيْ فَانْعَدَمَ بَرَكَتُهُ بِسُرْعَةٍ وَلَمْ يَمْتَنِعْ شَيْطَانُهُ بِمُجَرَّدِ تَسْمِيَتِنَا، وَأَكْلُ الشَّيْطَانِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا لِإِمْكَانِهِ عَقْلًا وَإِثْبَاتِهِ شَرْعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ سَبَقَ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ النَّوَوِيُّ أَنَّ وَاحِدًا لَوْ سَمَّى فِي جَمَاعَةٍ يَأْكُلُونَ لَكَفَى ذَلِكَ، وَسَقَطَ عَنِ الْكُلِّ، فَتَنْزِيلُهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثُمَّ قَعَدَ) أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنَ الطَّعَامِ وَلَمْ يُسَمِّ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ شَيْطَانَ هَذَا الرَّجُلِ جَاءَ مَعَهُ، فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُنَا مُؤَثِّرَةً فِيهِ وَلَا هُوَ سَمَّى، يَعْنِي لِتَكُونَ تَسْمِيَتُهُ مَانِعَةً مِنْ أَكْلِ شَيْطَانِهِ مَعَهُ، وَتَعَقَّبَهُ مِيرَكُ شَاهْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ التَّوْجِيهَ الْأَوَّلَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ ; إِنَّ كَلِمَةَ " ثُمَّ " لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى تَرَاخِي قُعُودِ الرَّجُلِ عَنْ أَوَّلِ اشْتِغَالِهِمْ بِالْأَكْلِ، وَأَمَّا عَلَى تَرَاخِيهِ عَنْ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ كَمَا ادَّعَاهُ فَلَا، وَأَمَّا التَّوْجِيهُ الثَّانِي فَحَسَنٌ، لَكِنْ لَيْسَ صَرِيحًا فِي رَفْعِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا اشْتَغَلَ جَمَاعَةٌ بِالْأَكْلِ مَعًا وَسَمَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ تَسْمِيَةُ هَذَا الْوَاحِدِ تُجْزِئُ عَنِ الْبَوَاقِي مِنَ الْحَاضِرِينَ لَا عَنْ شَخْصٍ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُمْ وَقْتَ التَّسْمِيَةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّسْمِيَةِ عَدَمُ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ مَعَ الْأَكْلِ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ إِنْسَانٌ فِي وَقْتِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ لَمْ تُؤَثِّرْ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ فِي عَدَمِ تَمَكُّنِ شَيْطَانِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَكْلِ مَعَهُ، تَأَمَّلْ. (رَوَاهُ) : أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

4202 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ ; فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4202 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَنَسِيَ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُخَفَّفَةِ، فَفِيهِ بَيَانُ الْجَوَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ - عَنْ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ نَسِيتُ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: أُنْسِيتُ أَوْ نُسِّيتُ بِالتَّشْدِيدِ إِذِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْسَاهُ - تَنْزِيهِيٌّ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ.

الْأَدَبُ اللَّفْظِيُّ الَّذِي لَا حُرْمَةَ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] وَالْمَعْنَى تَرَكَ نِسْيَانًا (أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ " عَلَى الطَّعَامِ " أَيِ: الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مُطْلَقَ الذِّكْرِ لِلَّهِ كَافٍ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ، وَلَكِنَّ الْبَسْمَلَةَ أَفْضَلُ، فَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ، فَكَذَا فِي أَوَّلِ الْأَكْلِ ; لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ آكَدُ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهِمَا، وَقِيلَ بِكَوْنِهَا شَرْطًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْأَكْلِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فِي أَثْنَائِهِ أَنَّهُ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَوَّلًا (فَلْيَقُلْ) : أَيْ نَدْبًا (بِسْمِ اللَّهِ) : الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوِ الِاسْتِعَانَةِ (أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ) : بِنَصْبِهِمَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ: فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، كَمَا يَشْهَدُ لَهُ الْمَعْنَى الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ التَّسْمِيَةُ، فَلَا يُقَالُ ذِكْرُهُمَا يُخْرِجُ الْوَسَطَ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ النِّصْفُ الْأَوَّلُ، وَبِآخِرِهِ النِّصْفُ الثَّانِي، فَيَحْصُلُ الِاسْتِيفَاءُ وَالِاسْتِيعَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقِيلَ: نَصْبُهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَا فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَكَلْتُ أَوَّلَهُ وَآكُلُ آخِرَهُ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ أَيْ: آكُلُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ مُسْتَعِينًا بِاسْمِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ أَكْلَ أَوَّلِهِ لَيْسَ فِي زَمَانِ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْمِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْتِ أَكْلِ أَوَّلِهِ مُسْتَعِينًا بِهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِي وَقْتِ أَكْلِ أَوَّلِهِ مُسْتَعِينٌ بِهِ حُكْمًا ; لِأَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَثَنَاءَهُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ ; وَإِنْ لَمْ يَجْرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ لِنِسْيَانِهِ، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نِسْيَانَ التَّسْمِيَةِ حَالَ الذَّبْحِ مَعْفُوٌّ مَعَ أَنَّهَا شَرْطٌ، فَكَيْفَ وَالتَّسْمِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَكْلِ إِجْمَاعًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ كَلَامِ شَارِحٍ قَالَ: فَنَسِيَ أَوْ تَرَكَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، فَإِنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ بِخِلَافِ الْمُتَعَمِّدِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: وَأَلْحَقَ بِهِ أَئِمَّتُنَا مَا إِذَا تَعَمَّدَ أَوْ جَهِلَ أَوْ أُكْرِهَ اهـ. أَمَّا الْعَمْدُ ; فَقَدْ عَرَفْتَهُ، وَأَمَّا الْجَهْلُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا تَرَكَ ذِكْرَ اللَّهِ أَوَّلَ أَكْلِهِ جَهْلًا تَكُونُ التَّسْمِيَةُ سُنَّةً، فَلْيَقُلْ فِي أَثْنَائِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْمَسْأَلَةَ فِي أَثْنَاءِ أَكْلَتِهِ، وَلَا يَخْفَى نُدْرَتُهُ مَعَ أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْجَهْلَ عُذْرٌ كَالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ الْعَمْدِ فَلَا يَسْتَوِيَانِ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَأَشَدُّ مِنْهُمَا عُذْرًا، مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَنْعُهُ عَنِ الْبَسْمَلَةِ إِلَّا جَهْرًا أَوْ نِسْيَانًا، فَحِينَئِذٍ يَكْتَفِي بِذِكْرِ اللَّهِ جَنَانًا. فَأَيْنَ هَذَا مِنَ التَّعَمُّدِ؟ وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فَذَكَرَهَا فِي خِلَالِ الْوُضُوءِ فَسَمَّى لَا تَحْصُلُ السُّنَّةُ بِخِلَافِ نَحْوِهِ فِي الْأَكْلِ، كَذَا فِي الْغَايَةِ مُعَلِّلًا بِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ فِي الْأَكْلِ تَحْصِيلُ السُّنَّةِ فِي الْبَاقِي لَا اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَوْ سَمَّى بَعْدَ فَرَاغِ الْأَكْلِ لَا يَكُونُ آتِيًا بِالسُّنَّةِ، لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَشْمَلُهُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِ الطَّعَامِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ لِيُمْنَعَ الشَّيْطَانُ، وَبِالْفَرَاغِ لَا يُمْنَعُ - مَرْدُودٌ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ لِذَلِكَ فَحَسْبُ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَيْضًا لِيَقِيءَ الشَّيْطَانُ مَا أَكَلَهُ، وَالْمَقْصُودُ حُصُولُ ضَرُورَةٍ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْحَالَيْنِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِهَذَا الْغَرَضِ أَيْضًا لَأَمَرَ مَنْ قَعَدَ لِلْأَكْلِ وَلَمْ يُسَمِّ سَابِقًا بِالتَّسْمِيَةِ لَاحِقًا، وَسَيَأْتِي التَّقْيِيدُ بِاللُّقْمَةِ الْبَاقِيَةِ لِلِاسْتِقْصَاءِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: " «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ» ".

4203 - وَعَنْ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يَأْكُلُ فَلَمْ يُسَمِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إِلَّا لُقْمَةٌ، فَلَمَّا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: " مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ اسْتَقَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4203 - (وَعَنْ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ مَخْشِيٍّ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: خُزَاعِيٌّ أَسَدِيٌّ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ، حَدِيثُهُ فِي الطَّعَامِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ الْمُثَنَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: (قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يَأْكُلُ فَلَمْ يُسَمِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إِلَّا لُقْمَةٌ» ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ (فَلَمَّا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ) : أَيْ فَمِهِ ( «قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) : أَيْ تَعَجُّبًا لِمَا كُشِفَ لَهُ فِي ذَلِكَ (ثُمَّ قَالَ: «مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ اسْتَقَاءَ» ) : أَيِ الشَّيْطَانُ (مَا فِي بَطْنِهِ) : أَيِ اسْتَرَدَّ مِنْهُ مَا اسْتَبَاحَهُ، وَالِاسْتِقَاءُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْقَيْءِ بِمَعْنَى الِاسْتِفْرَاغِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْمُرَادُ الْبَرَكَةُ الذَّاهِبَةُ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ، كَأَنَّهَا كَانَتْ فِي جَوْفِ الشَّيْطَانِ أَمَانَةً فَلَمَّا سَمَّى رَجَعَتْ إِلَى الطَّعَامِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ صَارَ مَا كَانَ لَهُ وَبَالًا عَلَيْهِ مُسْتَلَبًا عَنْهُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِمَالِ غَيْرُ مَوْثُوقٍ فِيهِ، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطَّلِعُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي بَرِيَّتِهِ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِالتَّوْفِيقِ مِنْ جِهَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَهُ حَظٌّ مِنْ تَطْيِيرِ الْبَرَكَةِ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى تَفْسِيرِهِ، وَعَلَى تَفْسِيرِ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَقُولُ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ، فَيَنْدَفِعُ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ، وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ يَأْكُلُ وَحْدَهُ بِحَضْرَتِهِمْ أَوْ صَارَ مُلْحَقًا بِهِمْ فَبَعِيدٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4204 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4204 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ» ) : أَيْ مِنْ أَكْلِ مَأْكُولِهِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْهُ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ، أَوْ مَعَ أَضْيَافِهِ، أَوْ فِي مَنْزِلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ الْآتِي، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ شَارَكَ أُمَّتَهُ الضَّعِيفَةَ مِنْ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ. (قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» ) : أَيْ مُوَحِّدِينَ مُنْقَادِينَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ، ثُمَّ فَائِدَةُ الْحَمْدِ بَعْدَ الطَّعَامِ أَدَاءُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَطَلَبُ زِيَادَةِ النِّعْمَةِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَجْدِيدِ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعْمَةِ مِنْ حُصُولِ مَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَتَوَقَّعُ حُصُولَهُ، وَانْدِفَاعِ مَا كَانَ يَخَافُ وُقُوعَهُ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْبَاعِثُ هُنَا هُوَ الطَّعَامَ ذَكَرَهُ أَوَّلًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَكَانَ السَّقْيُ مَنْ تَتِمَّتِهِ لِكَوْنِهِ مُقَارِبًا لَهُ فِي التَّحْقِيقِ غَالِبًا، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ النِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ إِلَى النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ، فَذَكَرَ مَا هُوَ أَشْرَفُهَا، وَخَتَمَ بِهِ ; لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى كَمَالِ الِانْقِيَادِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا قَدَرًا وَوُصْفًا وَوَقْتًا، احْتِيَاجًا وَاسْتِغْنَاءً بِحَسَبِ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.

4205 - وَعَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كَالصَّائِمِ الصَّابِرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4205 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الطَّاعِمُ) : أَيِ: الْآكِلُ الشَّارِبُ (الشَّاكِرُ) : قِيلَ: أَقَلُّ شُكْرِهِ أَنْ يُسَمِّيَ إِذَا أَكَلَ، وَيَحْمَدَ إِذَا فَرَغَ.

(كَالصَّائِمِ الصَّابِرِ) : وَأَقَلُّ صَبْرِهِ أَنْ يَحْبِسَ نَفْسَهُ عَنْ مُفَسِدَاتِ الصَّوْمِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا تَشْبِيهٌ فِي أَصْلِ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَجْرَ لَا فِي الْمِقْدَارِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ كَعَمْرٍو، وَمَعْنَاهُ زَيْدٌ يُشْبِهُ عَمْرًا فِي بَعْضِ الْخِصَالِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُمَاثَلَةُ فِي جَمِيعِهَا، فَلَا يَلْزَمُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْأَجْرِ أَيْضًا اهـ. وَمَحْمِلُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ عَلَى مَا وَرَدَ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ ; لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

4206 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَنَّةَ، عَنْ أَبِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4206 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ سِنَانِ) . بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ (ابْنِ سَنَّةَ) : بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ " سَنَّةَ ". وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ " بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سِنَانِ بْنِ سَنَّةَ، وَلَفْظُهُ: " «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ» ".

4207 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى، وَسَوَّغَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4207 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ» ) : الظَّاهِرُ أَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، أَيْ: إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ( «قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى» ) : وَلَعَلَّ حَذْفَ الْمَفْعُولِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ (وَسَوَّغَهُ) : أَيْ سَهَّلَ دُخُولَ كُلٍّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْحَلْقِ (وَجَعَلَ لَهُ) : أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا (مَخْرَجًا) : أَيْ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، فَتَخْرُجُ مِنْهُمَا الْفَضْلَةُ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِلطَّعَامِ مُقَامًا فِي الْمَعِدَةِ زَمَانًا كَيْ تَنْقَسِمَ مَضَارُّهُ وَمَنَافِعُهُ، فَيَبْقَى مَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّحْمِ وَالدَّمِ وَالشَّحْمِ، وَيَنْدَفِعُ بَاقِيهِ، وَذَلِكَ مِنْ عَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَمِنْ كَمَالِ فَضْلِهِ وَلُطْفِهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ! ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَكَرَ هُنَا نِعَمًا أَرْبَعًا: الْإِطْعَامُ، وَالسَّقْيُ، وَالتَّسْوِيغُ وَهُوَ تَسْهِيلُ الدُّخُولِ فِي الْحَلْقِ فَإِنَّهُ خَلَقَ الْأَسْنَانَ لِلْمَضْغِ، وَالرِّيقَ لِلْبَلْعِ، وَجَعَلَ الْمَعِدَةَ مُقَسِّمًا لِلطَّعَامِ لَهَا مَخَارِجُ، فَالصَّالِحُ مِنْهُ يَنْبَعِثُ إِلَى الْكَبِدِ، وَغَيْرُهُ يَنْدَفِعُ مِنْ طَرِيقِ الْأَمْعَاءِ، كُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَنِعْمَةٌ يَجِبُ الْقِيَامُ بِوَاجِبِهَا مِنَ الشُّكْرِ بِالْجَنَانِ وَالْبَثِّ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلِ بِالْأَرْكَانِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.

4208 - وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ بَرَكَةَ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4208 - (وَعَنْ سَلْمَانَ) : أَيِ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ) : أَيْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ (أَنَّ بَرَكَةَ الطَّعَامِ) : بِفَتْحِ أَنَّ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا (الْوُضُوءُ) : أَيْ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ مِنَ الزُّهُومَةِ إِطْلَاقًا لِلْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ مَجَازًا أَوْ بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْعُرْفِيِّ (بَعْدَهُ) : أَيْ بَعْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ (فَذَكَرْتُ) : أَيْ ذَلِكَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ أَيِ الْمَقْرُوءَ الْمَذْكُورَ (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ: " وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ "، وَهُوَ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَذَكَرْتُ، أَيْ سَأَلْتُ هَلْ بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ، وَالْحَالُ أَنِّي أَخْبَرْتُهُ بِمَا قَرَأْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الِاخْتِصَارِ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ بِمَا بَعْدَهُ، ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ» ) : تَكْرِيمًا لَهُ (وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ) : إِزَالَةً لِمَا لَصِقَ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ

مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى تَحْرِيفِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنْ يَكُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ زَادَتِ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ أَيْضًا اسْتِقْبَالًا لِلنِّعْمَةِ بِالطَّهَارَةِ الْمُشْعِرَةِ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى مَا وَرَدَ: " «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» "، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّ الْجَوَابَ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي الْوُضُوءِ أَوَّلًا أَيْضًا أَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ يَكُونُ أَهْنَأَ وَأَمْرَأَ؟ وَلِأَنَّ الْيَدَ لَا تَخْلُو عَنْ تَلَوُّثٍ فِي تَعَاطِي الْأَعْمَالِ، فَغَسْلُهَا أَقْرَبُ إِلَى النَّظَافَةِ وَالنَّزَاهَةِ، وَلِأَنَّ الْأَكْلَ يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الطَّهَارَةِ مِنَ الصَّلَاةِ. فَيَبْدَأُ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْوُضُوءِ الثَّانِي غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ مِنَ الدُّسُومَاتِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ» ) بِفَتْحَتَيْنِ - وَ «لَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» ". أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَوَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: " «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ اللُّحُومِ شَيْئًا فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ مِنْ رِيحٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُؤْذِي مَنْ حَذَاهُ» ". قِيلَ: وَمَعْنَى بَرَكَةِ الطَّعَامِ مِنَ الْوُضُوءِ قَبْلَهُ النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ نَفْسِهِ، وَبِعْدَهُ النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ فِي فَوَائِدِهَا وَآثَارِهَا لِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِسُكُونِ النَّفْسِ وَقَرَارِهَا، وَسَبَبًا لِلطَّاعَاتِ، وَتَقْوِيَةً لِلْعِبَادَاتِ فِي الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ، وَالْأَفْعَالِ السَّنِيَّةِ، وَجَعْلُهُ مَعْنَى الْبَرَكَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِلَّا فَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَنْشَأُ عَنْهُ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ هُنَا الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ مِنْ أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَ الْأَكْلِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: الْإِتْيَانُ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ التَّنَاوُلِ وَالْفَرَاغِ إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فِي طَعَامٍ تَتَلَوَّثُ عَنْهُ الْيَدُ وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْوَضَرُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ فِي جَامِعِهِ وَشَمَائِلِهِ (وَأَبُو دَاوُدَ) ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي جَامِعِهِ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ - يَعْنِي حَدِيثَ سَلْمَانَ - إِلَّا مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَهُوَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْمَدَنِيِّ، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُوضَعَ الرَّغِيفُ تَحْتَ الْقَصْعَةِ اهـ. كَلَامُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَاشِفِ فِي تَرْجَمَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ: كَانَ شُعْبَةُ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ، مَحَلُّهُ الصِّدْقُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ رِوَايَاتِهِ مُسْتَقِيمَةٌ اهـ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ تَغَيَّرَ بِالْآخِرَةِ لَمَّا كَبِرَ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ، بَلْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْهُ، وَفِي طَرِيقٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجُرْجَانِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ، وَالطُّرُقُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.

4209 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ، فَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ، فَقَالُوا: أَلَا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ؟ قَالَ: " إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4209 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ» ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ مَمْدُودًا: الْمَكَانُ الْخَالِي، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (فَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ، فَقَالُوا) : أَيْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (أَلَا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ مَاءٍ يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْعَرْضِ نَحْوَ: أَلَا تَنْزِلُ عِنْدَنَا؟ ، وَالْمَعْنَى أَلَا نَتَوَضَّأُ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْوُضُوءَ وَاجِبٌ قَبْلَ الْأَكْلِ. (قَالَ: إِنَّمَا أُمِرْتُ) : أَيْ وُجُوبًا (بِالْوُضُوءِ) : أَيْ بَعْدَ الْحَدَثِ (إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ) : أَيْ أَرَدْتُ الْقِيَامَ لَهَا، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَإِلَّا فَيَجِبُ الْوُضُوءُ عِنْدَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَحَالِ الطَّوَافِ، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ الطَّعَامِ وَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ، فَنَفَاهُ عَلَى طَرِيقِ الْأَبْلَغِ حَيْثُ أَتَى بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، وَأَسْنَدَ الْأَمْرَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يُنَافِي جَوَازَهُ، بَلِ اسْتِحْبَابُهُ فَضْلًا عَنِ اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الْعُرْفِيِّ سَوَاءٌ غَسَلَ يَدَيْهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْأَكْلِ أَمْ لَا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَا غَسَلَهُمَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ مَعَ أَنَّهُ آكَدُ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ الْمَفْهُومِ مِنْ جَوَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْجُمْلَةِ لَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُ مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا قَبْلَ الطَّعَامِ، مَعَ أَنَّ فِي نَفْسِ السُّؤَالِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ كَانَ الْوُضُوءُ عِنْدَ الطَّعَامِ مِنْ دَأْبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا نَفَى الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، فَبَقِيَ الْوُضُوءُ الْعُرْفِيُّ عَلَى حَالِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْمَفْهُومُ أَيْضًا، فَمَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

4210 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4210 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) .

4211 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ. فَقَالَ: " كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا ; فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: " «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ، وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْ أَسْفَلِهَا ; فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4211 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا) : لَمْ يَقُلْ عَنْهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْنَوْنُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ هُوَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أَتَى بِقَصْعَةٍ) : أَيْ قَدَحٍ كَبِيرٍ (مِنْ ثَرِيدٍ) : وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ يَثْرُدُ الْخُبْزَ أَيْ يُكَسِّرُ وَيُفَتِّتُ فِي مَرَقِ اللَّحْمِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ اللَّحْمُ، وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ: " «أَثْرِدُوا وَلَوْ بِالْمَاءِ» ". (فَقَالَ: كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا) : فِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ: أَيْ لِيَأْكُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ جَانِبِهِ (وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا) : بِسُكُونِ السِّينِ وَيُفْتَحُ ( «فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا» ) : وَالْوَسَطُ أَعْدَلُ الْمَوَاضِعِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِنُزُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: " «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ، وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْ أَسْفَلِهَا» ) : أَيْ مِنْ جَانِبِهَا الَّذِي يَلِيهِ ( «فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا» ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ مَا يَزِيدُ فِي الطَّعَامِ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ الْأَعَالِي مِنَ الْمَائِعِ وَمَا يُشْبِهُهُ، فَهُوَ يَنْصَبُّ إِلَى الْوَسَطِ، ثُمَّ يَنْبَثُّ مِنْهُ إِلَى الْأَطْرَافِ، وَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنَ الطَّرَفِ يَجِيءُ مِنَ الْأَعْلَى بَدَلُهُ، فَإِذَا أَخَذَ مِنَ الْأَعْلَى انْقَطَعَ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الْأَعْلَى قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَإِذَا حَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهُ فَيَنْقَطِعُ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ مِنْ شَآمَتِهِ، فَإِنَّ الْحِرْصَ شُؤْمٌ وَالْحَرِيصُ مَحْرُومٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ: " «كُلُوا مِنْ حَوَالَيْهَا وَذَرُوا ذُرْوَتَهَا يُبَارَكُ فِيهَا» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ عَنْ وَاثِلَةَ: " «كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ مِنْ حَوَالَيْهَا، وأَعْفُوا رَأْسَهَا ; فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَأْتِيهَا مِنْ فَوْقِهَا» ".

4212 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مُتَّكِئًا قَطُّ، وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ رَجُلَانِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4212 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَ: «مَا رُؤِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مُتَّكِئًا» ) : أَيْ مُتَرَبِّعًا أَوْ مَائِلًا إِلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ قَطُّ، (وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ رَجُلَانِ) : أَيْ لَا يَمْشِي قُدَّامَ الْقَوْمِ، بَلْ يَمْشِي فِي وَسَطِ الْجَمْعِ، أَوْ فِي آخِرِهِمْ تَوَاضُعًا، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: التَّثْنِيَةُ فِي " رَجُلَانِ " لَا تُسَاعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَلَعَلَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ تَوَاضُعِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْشِي مَشْيَ الْجَبَابِرَةِ مَعَ الْأَتْبَاعِ وَالْخَدَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ اقْتِرَانُهُ بِقَوْلِهِ: " «مَا رُؤِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مُتَّكِئًا» " فَإِنَّهُ كَانَ مَنْ دَأْبِ الْمُتْرَفِينَ، وَدَعَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ قَالَ: " «اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَذَبَ فَاجْعَلْهُ مُوَطَّأَ الْعَقِبِ» " أَيْ كَثِيرَ الْأَتْبَاعِ، دَعَا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ سُلْطَانًا أَوْ مُقَدَّمًا أَوْ ذَا مَالٍ، فَيَتْبَعُهُ النَّاسُ وَيَمْشُونَ وَرَاءَهُ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَا يُنَافِي كَلَامَ غَيْرِهِ، وَفَائِدَةُ التَّثْنِيَةِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ وَرَاءَهُ كَأَنَسٍ وَغَيْرِهِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ بِهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي التَّوَاضُعَ مِنْ أَصْلِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4213 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَكَلَ وَأَكَلْنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَلَمْ نَزِدْ عَلَى أَنْ مَسَحْنَا أَيْدِيَنَا بِالْحَصْبَاءِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4213 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ زَايٍ، بَعْدَهَا هَمْزٌ، وَقِيلَ بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدِ زَايٍ بِلَا هَمْزٍ، وَقِيلَ بِكَسْرِ زَايٍ وَتَشْدِيدِ يَاءٍ، وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا.

(قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَكَلَ وَأَكَلْنَا مَعَهُ» ) : وَلَعَلَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا أَوْ عِنْدَهُ أَضْيَافٌ أَوْ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ مَا لَمْ يَتَلَوَّثِ الْمَسْجِدُ ( «ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَلَمْ نَزِدْ عَلَى أَنْ مَسَحْنَا أَيْدِيَنَا بِالْحَصْبَاءِ» ) : مَمْدُودًا أَيْ بِالْحِجَارَاتِ الصِّغَارِ اسْتِعْجَالًا لِلصَّلَاةِ، أَوْ بَيَانًا لِلْجَوَازِ، وَإِشْعَارًا بِعَدَمِ التَّكَلُّفِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْظِيفِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ صَدَّرَ الْحَدِيثَ وَلَفْظُهُ: " «أَكَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِوَاءً فِي الْمَسْجِدِ» .

4214 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4214 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ» ) : أَيْ تَطِيبُ وَتَحْسُنُ فِي نَظَرِهِ وَيُحِبُّهَا لِمَا فِيهَا مِنْ قُوَّةِ الْقَوِيِّ وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى الْقَنَاعَةِ وَالتَّوَاضُعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَبَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلذِّرَاعِ لِنُضْجِهَا وَسُرْعَةِ اسْتِمْرَائِهَا مَعَ زِيَادَةِ لَذَّتِهَا وَحَلَاوَةِ مَذَاقِهَا، وَبُعْدِهَا عَنْ مَوَاضِعِ الْأَذَى. (فَنَهَسَ مِنْهَا) : بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ فَفِي النِّهَايَةِ: النَّهْسُ وَبِالْمُهْمَلَةِ الْأَخْذُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَبِالْمُعْجَمَةِ الْأَخْذُ بِجَمِيعِهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَاسْتُحِبَّ النَّهْسُ لِلتَّوَاضُعِ وَعَدَمِ التَّكَبُّرِ. قُلْتُ: وَلِأَنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

4215 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ ; فَإِنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْأَعَاجِمِ، وَانْهَسُوهُ فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَا: لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4215 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ فَإِنَّهُ» ) : أَيْ قَطْعُهُ بِالسِّكِّينِ: لَوْ كَانَ مَنْضُوجًا (مِنْ صَنِيعِ الْأَعَاجِمِ) : أَيْ مِنْ دَأْبِ أَهْلِ فَارِسَ الْمُتَكَبِّرِينَ الْمُتَرَفِّهِينَ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ لِأَنَّ فِيهِ تَكَبُّرًا وَأَمْرًا عَبَثًا بِخِلَافِ مَا إِذَا احْتَاجَ قَطْعُ اللَّحْمِ إِلَى السِّكِّينِ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ نَضِيجٍ تَامٍّ، فَلَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْتَزُّ بِالسِّكِّينِ، اهـ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ التَّنْزِيهُ وَفَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ ; وَلِذَا قَالَ: (وَانْهَسُوهُ) : أَيْ كُلُوهُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ (فَإِنَّهُ) : أَيِ النَّهْسُ (أَهْنَأُ) : مِنَ الْهَنِيءِ وَهُوَ اللَّذِيذُ الْمُوَافِقُ لِلْغَرَضِ (وَأَمْرَأُ) : مِنَ الِاسْتِمْرَاءِ، وَهُوَ ذَهَابُ كَظَّةِ الطَّعَامِ وَثِقَلِهِ، وَيُقَالُ: هَنَأَ الطَّعَامُ وَمَرَأَ إِذَا كَانَ سَائِغًا وَجَارِيًا فِي الْحَلْقِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] كُلُّ عَامِلٍ لَا يُسَمَّى صَانِعًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِيهِ وَيَتَدَرَّبَ، فَالْمَعْنَى لَا تَجْعَلُوا الْقَطْعَ بِالسِّكِّينِ دَأْبَكُمْ وَعَادَتَكُمْ كَالْأَعَاجِمِ، بَلْ إِذَا كَانَ نَضِيجًا فَانْهَسُوهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَضِيجًا فَحُزُّوهُ بِالسِّكِّينِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ: النَّهْيُ عَنْ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ فِي لَحْمٍ قَدْ تَكَامَلَ نُضْجُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَا) : أَيْ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ أَيِ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ. (لَيْسَ) : أَيْ هُوَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ يَعْنِي لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ الْمُعَارَضُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. (بِالْقَوِيِّ) : أَيْ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا أَوْ وَسَطًا بَيْنَهُمَا، وَلَا يَكُونُ مُقَاوِمًا لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ، لَكِنْ بِالْجَمْعِ السَّابِقِ بَيْنَهُمَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

4216 - وَعَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ عَلِيٌّ، وَلَنَا دَوَالٍ مُعَلَّقَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ وَعَلِيٌّ مَعَهُ يَأْكُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلِيٍّ: " مَهْ يَا عَلِيُّ، فَإِنَّكَ نَاقِهٌ "، قَالَتْ: فَجَعَلْتُ لَهُمْ سِلْقًا وَشَعِيرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَلِيُّ! مِنْ هَذَا فَأَصِبْ ; فَإِنَّهُ أَوْفَقُ لَكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4216 - (وَعَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ بِنْتُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَيُقَالُ الْعَدَوِيَّةُ، لَهَا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، رَوَى عَنْهَا يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ. (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ عَلِيٌّ، وَلَنَا دَوَالٍ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ جَمْعُ دَالِيَةٍ، وَهِيَ الْعِذْقُ مِنَ الْبُسْرِ يُعَلَّقُ، فَإِذَا أَرْطَبَ أُكِلَ وَالْوَاوُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْأَلِفِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ فَقَوْلُهُ: (مُعَلَّقَةٌ) ، صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِدَوَالٍ، وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لَقَوْلِهَا: دَوَالٍ، فَخِلَافُ الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِالتَّجْرِيدِ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، (فَجَعَلَ) : أَيْ شَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ) : قَالَ الْعِصَامُ: أَيْ قَائِمًا وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلْمَقَامِ، لَكِنَّ الْجَزْمَ بِهِ غَيْرُ قَائِمٍ. (وَعَلِيٌّ مَعَهُ يَأْكُلُ) : أَيْ قَائِمًا لِقَوْلِهَا بَعْدُ: " فَجَلَسَ عَلِيٌّ " عَلَى مَا فِي رِوَايَةٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلِيٍّ: مَهْ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ أَيِ امْتَنِعْ مِنْ أَكْلِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ كَلِمَةٌ بُنِيَتْ عَلَى السُّكُونِ، وَهُوَ اسْمٌ سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ مَعْنَاهُ: اكْفُفْ يَا عَلِيُّ (فَإِنَّكَ نَاقِهٌ) : بِكَسْرِ الْقَافِ بَعْدَهُ هَاءٌ اسْمُ فَاعِلٍ، أَيْ قَرِيبُ الْعَهْدِ مِنَ الْمَرَضِ مِنْ نَقَهَ الشَّخْصُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، فَيَكُونُ مِنْ حَدِّ سَأَلَ أَوْ عَلِمَ، وَالْمَصْدَرُ النُّقْهَةُ وَمَعْنَاهُ بَرِئَ مِنَ الْمَرَضِ، وَكَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ كَمَالُ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهِ قَبْلَ الْمَرَضِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْحُكَمَاءِ بِالْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ وَالنَّقَاهَةُ، وَهِيَ حَالَةٌ بَيْنِ الْحَالَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، كَذَا أَفَادَهُ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ قَالَتْ: " فَجَلَسَ عَلِيٌّ ": أَيْ وَتَرَكَ أَكْلَ الرُّطَبِ " وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ ". قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ رُفَقَائِهِ غَيْرِ عَلِيٍّ. (قَالَتْ: فَجَعَلْتُ لَهُمْ) : بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَيْ طَبَخْتُ لِأَضْيَافِي، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: " فَجَعَلْتُ لَهُ " بِإِفْرَادِ الضَّمِيرِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ شُرَّاحِهِ رَاجِعًا إِلَى عَلِيٍّ، وَبِهَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ قَالَ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: " فَجَعَلْتُ " جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ يَعْنِي إِذَا تَرَكَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَكْلَ الرُّطَبِ جَعَلْتُ لَهُ. . إِلَخْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. لَكِنْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ لَفْظَةُ " لَهُ " بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ أَيْضًا، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَتْبُوعُ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ، فَالْمَعْنَى لَهُ أَصَالَةً وَلِغَيْرِهِ تَبَعًا، مَعَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ قَدْ يَكُونُ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، فَالْمَعْنَى لَهُ أَصْلًا وَلَعَلِيٍّ تَبَعًا، وَمَا أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي " لَهُ " لِابْنِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَكَذَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ لِأَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: " مُغَيَّرٌ " جَعَلُوا الضَّمِيرَ فِي " لَهُمْ " مُفْرَدًا لِيَرْجِعَ إِلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهَا وَالضِّيفَانِ اهـ. فَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ أَيْ بَعْدَ عَرْضِ أَكْلِ الرُّطَبِ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهُ جَعَلْتُ لَهُمْ (سِلْقًا) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ نَبْتٌ يُطْبَخُ وَيُؤْكَلُ، وَيُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ جَغَنْدَرَقْ (وَشَعِيرًا) ، أَيْ نَفْسَهُ أَوْ مَاءِهُ أَوْ دَقِيقَهُ، وَالْمَعْنَى فَطَبَخْتُ وَقَدَّمْتُ لَهُمْ. وَتَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ وَقَالَ: قَوْلُهَا: " فَجَعَلْتُ " عَطْفٌ عَلَى " فَقَالَ ": وَالْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا مَنَعْتَ عَلِيًّا مِنْ أَكِلِ الرُّطَبِ لِكَوْنِهِ نَاقِهًا، فَأُعْلِمُكُمْ أَنِّي جَعَلْتُ لِعَلِيٍّ سِلْقًا وَشَعِيرًا. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عَلِيُّ! مِنْ هَذَا) : أَيِ الطَّبِيخِ أَوِ الطَّعَامِ (فَأَصِبْ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِصَابَةِ أَيْ أَدْرِكْ مِنْ هَذَا يَعْنِي فَكُلْ مِنْ هَذَا الْمُرَكَّبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا حَصَلَ هَذَا فَخُصَّهُ بِالْإِصَابَةِ مُتَجَاوِزًا عَنْ أَكْلِ الْبُسْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ تَقْدِيمُ الْجَارِّ عَلَى عَامِلِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] ، (فَإِنَّهُ) وَفِي رِوَايَةٍ: " فَإِنَّ هَذَا " (أَوْفَقُ لَكَ) : أَيْ مِنَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، فَيَكُونُ أَفْعَلُ لِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَصَرَّحَ بِهِ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ: الظَّاهِرُ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ هُنَا

وَرَدَتْ لِمُجَرَّدِ الْمُوَافَقَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِطَرِيقِ الْإِمْكَانِ فَتُتَصَوَّرُ الزِّيَادَةُ أَوْ بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّمَا مَنَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرُّطَبِ ; لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تَضُرُّ بِالنَّاقِهِ لِسُرْعَةِ اسْتِحَالَتِهَا، وَضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِهَا لِعَدَمِ الْقُوَّةِ، فَأَوْفَقُ بِمَعْنَى " مُوَافِقٌ " ; إِذْ لَا أَوْفَقِيَّةَ فِي الرُّطَبِ لَهُ أَصْلًا، وَيَصِحُّ كَوْنُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِأَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ فِي الرُّطَبِ مُوَافَقَةً لَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّ ضَرَّهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ السِّلْقِ وَالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ الْأَغْذِيَةِ لِلنَّاقِهِ؛ لِأَنَّ فِي مَاءِ الشَّعِيرِ مِنَ التَّغْذِيَةِ وَالتَّلَطُّفِ وَالتَّلْيِينِ وَتَقْوِيَةِ الطَّبِيعَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي الْحِمْيَةُ لِلْمَرِيضِ وَالنَّاقِهِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: أَنْفَعُ مَا تَكُونُ الْحِمْيَةُ لِلنَّاقِهِ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيطَ يُوجِبُ انْعِكَاسَهُ وَهُوَ أَصْعَبُ مِنَ ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ، وَالْحِمْيَةُ لِلصَّحِيحِ مَضَرَّةٌ كَالتَّخْلِيطِ لِلنَّاقِهِ وَالْمَرِيضِ، وَقَدْ تَشْتَدُّ الشَّهْوَةُ وَالْمَيْلُ إِلَى ضَارٍّ فَيَتَنَاوَلُ مِنْهُ يَسِيرًا فَتَقْوَى الطَّبِيعَةُ عَلَى هَضْمِهِ فَلَا يَضُرُّ، بَلْ رُبَّمَا يَنْفَعُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ دَوَاءٍ يَكْرَهُهُ الْمَرِيضُ، وَلِذَا «أَقَرَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُهَيْبًا وَهُوَ أَرْمَدُ عَلَى تَنَاوُلِ التَّمْرَاتِ الْيَسِيرَةِ» ، وَخَبَرُهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: «قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُبْزٌ وَتَمْرٌ فَقَالَ: " ادْنُ وَكُلْ " ; فَأَخَذْتُ تَمْرًا فَأَكَلْتُ فَقَالَ: " أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِكَ رَمَدٌ؟ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمْضُغُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَتَبَسَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

4217 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4217 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ» ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَيُكْسَرُ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: مَا يَرْسُبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ يَبْقَى بَعْدَ الْعَصْرِ، وَفُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِالثَّرِيدِ وَبِمَا يُقْتَاتُ وَبِمَا يَلْتَصِقُ بِالْقِدْرِ وَبِطَعَامٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحُبُوبِ وَالدَّقِيقِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا بَقِيَ فِي آخِرِ الْوِعَاءِ، فَفِي النِّهَايَةِ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: " «مَنْ كَانَ مَعَهُ ثُفْلٌ فَلْيَصْطَنِعْ» " أَرَادَ بِالثُّفْلِ الدَّقِيقَ وَالسَّوِيقَ وَنَحْوَهُمَا، وَقِيلَ: الثُّفْلُ هُنَا الثَّرِيدُ وَأَنْشَدَ: يَحْلِفُ بِاللَّهِ وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ ... مَا ذَاقَ ثُفْلًا مُنْذُ عَامِ أَوَّلْ اهـ. وَقِيلَ: سُقُوطُ الْفَاكِهَةِ. وَفَسَّرَهُ شَيْخُ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ الدَّارِمِيُّ بِمَا بَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ بِمَا بَقِيَ فِي الْقِدْرِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمَسْمُوعُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ إِعْجَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَنْضُوجٌ غَايَةَ النُّضْجِ الْقَرِيبِ إِلَى الْهَضْمِ، وَيَكُونُ أَقَلَّ دَهَانَةٍ فَهُوَ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَوَاضُعٍ وَإِيمَاءٌ إِلَى الْقَنَاعَةِ وَإِشْعَارٌ إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: «سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا» . وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: أَيْ مَا بَقِيَ فِي الْقَصْعَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي فِي فَضِيلَةِ اللَّحْسِ، وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ الْمُظْهِرِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَعَانِيَ السَّابِقَةَ، وَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ دَأْبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْإِيثَارُ وَمُلَاحَظَةُ الْغَيْرِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ وَالضِّيفَانِ وَأَرْبَابِ الْحَوَائِجِ، وَتَقْدِيمُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ يَصْرِفُ الطَّعَامَ الْوَاقِعَ فِي أَعَالِي الْقُدُورِ وَالظُّرُوفِ إِلَيْهِمْ، وَيَخْتَارُ لِخَاصَّتِهِ مَا بَقِيَ مِنْهُ مِنَ الْأَسَافِلِ رِعَايَةً لِسُلُوكِ سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَطَرِيقِ الصَّبْرِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَغْبِيَاءِ الْأَغْنِيَاءِ حَيْثُ يَتَكَبَّرُونَ وَيَأْنَفُونَ مِنْ أَكْلِ الثُّفْلِ وَيَصُبُّونَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بِجَمِيلِ حِكْمَتِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُنُوفَ اللَّطَائِفِ، وَأُلُوفَ الْمَعَارِفِ وَالطَّرَائِفِ، فَطُوبَى لِمَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِمَا قَدَّرَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4218 - وَعَنْ نُبَيْشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ فَلَحَسَهَا اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4218 - (وَعَنْ نُبَيْشَةَ) : بِضَمِّ نُونٍ وَفَتَحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ نُبَيْشَةُ الْخَيْرِ الْهُذَلِيُّ، رَوَى عَنْهُ أَبُو الْمَلِيحِ وَأَبُو قُلَابَةَ، يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ. (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَكَلَ) : أَيْ طَعَامًا (فِي قَصْعَةٍ) : أَيْ وَنَحْوِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: جِيءَ بِفِي

بَدَلَ " مِنْ " مُرِيدًا لِلتَّمَكُّنِ - مِنَ الْأَكْلِ وَاقِعًا فِي الْقَصْعَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وَمِنْ ثَمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَحِسَهَا) : بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ وَالْمِصْبَاحِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ سَمِعَ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِفَتْحِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَحِسَ مَا فِيهَا مِنْ طَعَامٍ تَوَاضُعًا وَتَعْظِيمًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَزَقَهُ وَصِيَانَةً لَهُ عَنِ التَّلَفِ. (اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ) . وَلَعَلَّهُ أَظْهَرُ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ: " اسْتَغْفَرَتْ " بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، هَذَا وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْمَغْفِرَةُ بِسَبَبِ لَحْسِ الْقَصْعَةِ وَتَوَسُّطِهَا جُعِلَتِ الْقَصْعَةُ كَأَنَّهَا تَسْتَغْفِرُ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اسْتِغْفَارُ الْقَصْعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا تُعُورِفَ فِيهِ مِنْ أَمَارَةِ التَّوَاضُعِ مِمَّنْ أَكَلَ مِنْهَا، وَبَرَاءَتِهِ مِنَ الْكِبْرِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ لَهُ الْمَغْفِرَةَ فَأَضَافَ إِلَى الْقَصْعَةِ؛ لِأَنَّهَا كَالسَّبَبِ لِذَلِكَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ ضَبْطٌ عَادِلٌ مِنْ سَائِرِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الصِّحَّةَ وَيَجْتَمِعُ مَعَ الْحُسْنِ وَالضَّعْفِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

4219 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ لَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4219 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَاتَ) : أَيْ نَامَ لَيْلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَعَمُّ فَفِيهِ تَجْرِيدٌ. (وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ دَسَمٌ وَوَسَخٌ (لَمْ يَغْسِلْهُ) : أَيْ ذَلِكَ الْغَمَرَ عَنْ يَدِهِ، فَالْجُمْلَةُ صِفَةُ غَمَرٍ وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى حَالِيَّةٌ وَقَوْلُهُ: (فَأَصَابَهُ شَيْءٌ) : عَطْفٌ عَلَى بَاتَ، وَالْمَعْنَى وَصَلَهُ شَيْءٌ مِنْ إِيذَاءِ الْهَوَامِّ، وَقِيلَ: أَوْ مِنَ الْجَانِّ؟ لِأَنَّ الْهَوَامَّ وَذَوَاتِ السُّمُومِ رُبَّمَا تَقْصِدُهُ فِي الْمَنَامِ لِرَائِحَةِ الطَّعَامِ فِي يَدِهِ فَتُؤْذِيهِ، وَقِيلَ مِنَ الْبَرَصِ وَنَحْوِهِ؟ لِأَنَّ الْيَدَ حِينَئِذٍ إِذَا وَصَلَتْ إِلَى شَيْءٍ، مِنْ بَدَنِهِ بَعْدَ عَرَقِهِ فَرُبَّمَا أَوْرَثَ ذَلِكَ. (فَلَا يَلُومُنَّ إِلَّا نَفْسَهُ) : لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي حَقِّهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ (وَأَبُو دَاوُدَ) : أَيْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ (وَابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ فِي سُنَنِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: ( «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» ". وَالْوَضَحُ بِفَتْحَتَيْنِ الْبَرَصُ.

4220 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّرِيدُ مِنَ الْخُبْزِ، وَالثَّرِيدُ مِنَ الْحَيْسِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4220 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ) : يَجُوزُ رَفْعُهُ وَالنَّصْبُ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ بِالْوَصْفِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرَ الْمَحْكُومَ بِهِ، وَأَفْعَلُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْلُهُ: (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَقَوْلُهُ (الثَّرِيدُ) : مَرْفُوعٌ وَيَجُوزُ نَصْبُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ الْمُبْتَدَأُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنَ الْخُبْزِ) ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَالثَّرِيدُ مِنَ الْحَيْسِ) : وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ تَمْرٌ يُخْلَطُ بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْخَلْطُ وَمِنْ قَوْلِ الرَّاجِزِ: التَّمْرُ وَالسَّمْنُ جَمِيعًا وَالْأَقِطْ الْحَيْسُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِطْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

4221 - وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كَلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ ; فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4221 - (وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ لَا ضَمٍّ فَفَتْحٍ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ، وَفِي الْمُغْنِي: أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ كُنْيَةُ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ، آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ، وَقِيلَ بِفَتْحِ هَمْزَةٍ فَمَكْسُورَةٍ وَالصَّوَابُ التَّصْغِيرُ، وَهُوَ وَالِدُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي التَّبْصِيرِ: أُسَيْدٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ كَعِيرٍ وَبِالضَّمِّ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، شَهِدَ الْمُشَاهِدَ كُلَّهَا، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً بَعْدَ أَنْ كُفَّ بَصَرُهُ، وَأُسَيْدٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ اهـ. وَلَيْسَ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ غَيْرُهُ، لَكِنْ قَالَ فِي الْإِكْمَالِ: أَبُو أَسِيدٍ هَذَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَقِيلَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مُصَغَّرًا وَلَا يَصِحُّ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ: " «كُلُوا الزَّيْتَ» ". وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: أَبُو أُسَيْدِ بْنُ ثَابِتٍ الْمَدَنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، لَهُ حَدِيثٌ وَالصَّحِيحُ فِيهِ فَتْحُ الْهَمْزَةِ قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ اهـ. فَهَذَا الْإِطْلَاقُ أَوْقَعَ الِاشْتِبَاهَ حَتَّى مَا حَصَلَ لِلْمُؤَلِّفِ أَيْضًا الِانْتِبَاهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ عَلَى الصَّحِيحِ لَا مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ كَمَا تَوَهَّمَ، وَهُوَ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ عَلَى الصَّحِيحِ. (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا الزَّيْتَ» ) : أَيْ مَعَ الْخُبْزِ وَاجْعَلُوهُ إِدَامًا، فَلَا يُرَدُّ أَنَّ الزَّيْتَ مَائِعٌ فَلَا يَكُونُ تَنَاوُلُهُ أَكْلًا (وَادَّهِنُوا بِهِ) ، أَمْرٌ مِنَ الِادِّهَانِ بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ. وَقَالَ شَارِحٌ: يُقَالُ ادَّهَنَ رَأْسَهُ عَلَى افْتَعَلَ أَيْ طَلَاهُ بِالدُّهْنِ، وَتَرَكَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ مَفْعُولَهُ فِي الْحَدِيثِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالرَّأْسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّوَلِّي بِالنَّفْسِ، وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ لِلْإِبَاحَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْلِيلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّهُ) أَيِ الزَّيْتُ يَحْصُلُ (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) . يَعْنِي: {زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] ثُمَّ وَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا وَانْتِفَاعِ أَهْلِ الشَّامِ بِهَا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ لِكَوْنِهَا تَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، قِيلَ بَارَكَ فِيهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ: إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَغَيْرُهُمْ، وَيَلْزَمُ مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ بَرَكَةُ ثَمَرَتِهَا، وَهِيَ الزَّيْتُونُ، وَبَرَكَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُوَ الزَّيْتُ، وَكَيْفَ لَا وَفِيهِ التَّأَدُّمُ وَالتَّدَهُّنُ، وَهُمَا نِعْمَتَانِ عَظِيمَتَانِ، وَفِيهِ تَسْرِيجُ الْقَنَادِيلِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، فَمَا أَبْرَكَهَا زَمَانًا وَمَكَانًا. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: " «عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ زَيْتِ الزَّيْتُونِ فَتَدَاوَوْا بِهِ، فَإِنَّهُ مَصَحَّةٌ مِنَ الْبَاسُورِ» "، وَالْبَاسُورُ عِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ وَالْجَمْعُ الْبَوَاسِيرُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: " «كَلُّوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ طَيِّبٌ مُبَارَكٌ» ". وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ سَبْعِينَ دَاءً مِنْهَا الْجُذَامُ» ".

4222 - وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ " قُلْتُ: لَا، إِلَّا خُبْزٌ يَابِسٌ وَخَلٌّ. فَقَالَ: " هَاتِي " مَا أَقْفَرَ بَيْتٌ مِنْ أَدَمٍ فِيهِ خَلٌّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4222 - (وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) بِكَسْرِ النُّونِ فَهَمْزٍ هِيَ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، أُخْتُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاسْمُهَا فَاخِتَةُ، وَقِيلَ هِنْدُ، وَلَهَا صُحْبَةٌ وَأَحَادِيثُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَخَطَبَهَا هُبَيْرَةُ بْنُ وَهْبٍ فَزَوَّجَهَا أَبُو طَالِبٍ مِنْ هُبَيْرَةَ، وَأَسْلَمَتْ فَفَرَّقَ الْإِسْلَامُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هُبَيْرَةَ، فَخَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ لَأُحِبُّكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ فِي الْإِسْلَامِ؟ وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ فَسَكَتَ عَنْهَا» . رَوَى عَنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.

(قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَعِنْدَكِ شَيْءٌ» ؟) : أَيْ مِمَّا يُؤْكَلُ (قُلْتُ: لَا إِلَّا خُبْزٌ يَابِسٌ) : صِفَةٌ (وَخَلٌّ) ، عَطْفٌ عَلَى خُبْزٍ قِيلَ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ، وَالْمُسْتَثْنَى بَدَلٌ مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ فِي الصِّحَاحِ قَوْلُ عَائِشَةَ: إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ. قَالَ الْمَالِكِيُّ: فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى إِبْدَالِ مَا بَعْدَ إِلَّا مِنْ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا شَيْءَ عِنْدَنَا إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ وَقَالَ: أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ عِنْدَنَا، فَلَيْسَتْ " لَا " الَّتِي لِنَفْسِ الْجِنْسِ مِمَّا بَعُدَ إِلَّا مُسْتَثْنًى اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِمَّا قَبْلَهَا، الدَّالُّ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ اهـ. وَبُعْدُهُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ لَا يَخْفَى، ثُمَّ قِيلَ: مِنْ حَقِّ أُمِّ هَانِئٍ أَنْ تُجِيبَ بِبَلَى عِنْدِي خُبْزٌ، فَلِمَ عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى تِلْكَ الْعِبَارَةِ؟ وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا لَمَّا عَظَّمَتْ شَأْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَتْ أَنَّ الْخُبْزَ الْيَابِسَ وَالْخَلَّ لَا يَصْلُحَانِ أَنْ يُقَدَّمَا إِلَى ذَلِكَ الضَّيْفِ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ، فَمَا عَدَّتْهُمَا بِشَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ طَيَّبَ خَاطِرَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَبَرَ حَالَهَا (فَقَالَ: هَاتِي) ، أَيْ أَعْطِي اسْمُ فِعْلٍ قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْضِرِي أَيْ مَا عِنْدَكِ (مَا أَقْفَرَ) : بِالْقَافِ قَبْلَ الْفَاءِ أَيْ مَا خَلَا (بَيْتٌ مِنْ أَدَمٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِأَقْفَرَ، وَقَوْلُهُ: (فِيهِ خَلٌّ) : صِفَةٌ لِبَيْتٍ وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَالٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَوْصُوفِ أَيْ بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ كَذَا قَالَهُ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ. وَفِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ لِلسَّيِّدِ فِي بَحْثِ الْفَصَاحَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَأَنْ يَجِيءَ الْحَالُ عَنِ النَّكِرَةِ الْعَامَّةِ بِالنَّفْيِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ صِفَةُ بَيْتٍ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّ " أَقْفَرَ " عَامِلٌ فِي بَيْتٍ وَصِفَتِهِ وَفِيمَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ مَا خَلَا مِنَ الْإِدَامِ وَلَا عَدِمَ أَهْلُهُ الْأُدْمَ، وَالْقِفَارُ الطَّعَامُ بِلَا إِدَامٍ، وَأَقْفَرَ الرَّجُلُ إِذَا أَكَلَ الْخُبْزَ وَحْدَهُ مِنَ الْقَفْرِ وَالْقَفَارِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ الَّتِي لَا مَاءَ بِهَا، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ: وَقَدْ صَحَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ فَنِّ السِّيَرِ، وَقَدَّمَ الْفَاءَ عَلَى الْقَافِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ وَقَالَ: وَتَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ بِالْفَاءِ وَالْقَافِ، وَلَيْسَ بِرِوَايَةٍ وَدِرَايَةٍ. قُلْتُ: أَمَّا الدِّرَايَةُ فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ إِذْ مَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ: مَا احْتَاجَ وَلَا افْتَقَرَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ أَجْلِ الْإِدَامِ، وَيَكُونُ فِي بَيْتِهِمْ خَلٌّ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ قَدْ وَجَدْنَا بِخَطِّ السَّيِّدِ نُورِ الدِّينِ الْإِيجِيِّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - الصَّفِيِّ: أَنَّ أَفْقَرَ نُسْخَةٌ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْحَثَّ عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ لِلْخُبْزِ وَالْخَلِّ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِسُؤَالِ الطَّعَامِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِيِ السَّائِلُ مِنْهُ لِصِدْقِ الْمَحَبَّةِ وَالْعِلْمِ بِمَوَدَّةِ الْمَسْئُولِ بِذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي الشَّمَائِلِ وَكَذَا فِي جَامِعِهِ (وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْهَا، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَلَفْظُهُمْ: " «مَا أَقْفَرَ مِنْ أَدَمٍ بَيْتٌ فِيهِ خَلٌّ» ". وَهُوَ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ، وَيَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ، فَالتَّغْيِيرُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

4223 - وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا تَمْرَةً، فَقَالَ: " هَذِهِ إِدَامُ هَذِهِ " وَأَكَلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4223 - (وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) : رِضَيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (ابْنُ سَلَامٍ) : بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، صَحَابِيَّانِ قِيلَ: وَرَوَى يُوسُفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، وَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ مِائَةٍ، وَلَهُ رِوَايَةٌ عَنْ عُثْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لِلشَّمَائِلِ زِيَادَةٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُكَنَّى أَبَا يَعْقُوبَ، وَكَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ وَلَدِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُمِلَ إِلَيْهِ، وَأَقْعَدَهُ فِي حِجْرِهِ، وَسَمَّاهُ يُوسُفَ وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَهُ رِوَايَةٌ وَلَا رُؤْيَةَ لَهُ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قُلْتُ: أَصْلُ الشَّمَائِلِ وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ مُرْسَلًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ رُؤْيَةً

فَتَأَمَّلْ، مَعَ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ إِجْمَاعًا. قَالَ: وَأَمَّا أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، فَيُكَنَّى أَبَا يُوسُفَ أَحَدُ الْأَحْبَابِ، وَأَحَدُ مَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ يُوسُفَ وَغَيْرُهُ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ. (قَالَ) : أَيْ عَبْدُ اللَّهِ أَوِ ابْنُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ (رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (أَخَذَ كِسْرَةً) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ قِطْعَةً (مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ: وَفِي رِوَايَةٍ بِالتَّنْكِيرِ (فَوَضَعَ عَلَيْهَا تَمْرَةً، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ) : أَيِ التَّمْرَةُ (إِدَامُ هَذِهِ) : أَيِ الْكِسْرَةِ (وَأَكَلَ) : وَفِي رِوَايَةٍ " فَأَكَلَ ". قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ التَّمْرُ طَعَامًا مُسْتَقِلًّا، وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا بِالْأَدْوِيَةِ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَالِحٌ لَهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَنْ حَلَفْتُ أَنْ لَا يَأْكُلَ خُبْزًا بِإِدَامٍ فَأَكَلَهُ بِتَمْرٍ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَكَلَهُ بِتَمْرٍ يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَكَلَهُ بِمِلْحٍ أَوْ ثُومٍ أَوْ بَصَلٍ وَقَالَ مِيرَكُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ التَّمْرَ إِدَامٌ كَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَيُرَدُّ قَوْلُ مَنْ شَرَطَ الِاصْطِبَاغَ مِنَ الْإِدَامِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ، لَكِنْ خُصِّصَ مِنَ الْإِدَامِ مَا يُؤْكَلُ غَالِبًا وَحْدَهُ كَالتَّمْرِ، وَلَمْ يَعُدَّهُ مِنَ الْإِدَامِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ إِطْلَاقُ الْإِدَامِ عَلَى التَّمْرِ فِي الْحَدِيثِ مَجَازًا أَوْ تَشْبِيهًا بِالْإِدَامِ، حَيْثُ أَكَلَهُ مَعَ الْخُبْزِ. قُلْتُ: هَذَا الْمُحْتَمَلُ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، وَإِلَّا لَكَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَأَمَّا مَبْنَى الْإِيمَانِ وَالْحِنْثِ فَعَلَى الْعُرْفِ الْمُخْتَلِفِ زَمَانًا وَمَكَانًا، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِتَدْبِيرِ الْغِذَاءِ، فَإِنَّ الشَّعِيرَ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالتَّمْرُ حَارٌّ رَطِبٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِيهِ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا مَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

4224 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرِضْتُ مَرَضًا أَتَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيِيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي، وَقَالَ: " إِنَّكَ رَجُلٌ مَفْئُودٌ، ائْتِ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ أَخَا ثَقِيفٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَتَطَبَّبُ، فَلْيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ، فَلْيَجَأْهُنَّ بِنَوَاهُنَّ، ثُمَّ لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4224 - (وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا) : أَيْ شَدِيدًا وَكَانَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ (أَتَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ فِيهِ (يَعُودُنِي) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانٍ (فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا) : أَيْ بَرْدَ يَدِهِ (عَلَى فُؤَادِي) : أَيْ قَلْبِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّهُ كَانَ مَكْشُوفًا (وَقَالَ: إِنَّكَ رَجُلٌ مَفْئُودٌ) : اسْمُ مَفْعُولٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفُؤَادِ، وَهُوَ الَّذِي أَصَابَهُ دَاءٌ فِي فُؤَادِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ الْفُؤَادُ هُوَ الْقَلْبُ، وَقِيلَ: غِشَاءُ الْقَلْبِ، أَوْ كَانَ مَصْدُورًا فَكَنَّى بِالْفُؤَادِ عَنِ الصَّدْرِ لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ (ائْتِ) : أَمْرٌ مِنْ أَتَى يَأْتِي وَمَفْعُولُهُ (الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَاللَّامِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (أَخَا ثَقِيفٍ) : أَيْ أَحَدًا مَنْ بَنِي ثَقِيفٍ وَنَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَتَطَبَّبُ) : أَيْ يَعْرِفُ الطِّبَّ مُطْلَقًا أَوْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَضِ، فَيَكُونُ مَخْصُوصًا بِالْمَهَارَةِ وَالْحَذَاقَةِ، قَالَ الشُّرَّاحُ: وَفِيهِ جَوَازُ مُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الطِّبِّ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ (فَلْيَأْخُذْ) : أَيِ الْحَارِثُ (سَبْعَ تَمَرَاتٍ) : بِفَتَحَاتٍ (مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ) : قَالَ الْقَاضِي: ضَرْبٌ مِنْ أَجْوَدِ التَّمْرِ بِالْمَدِينَةِ وَنَخْلِهَا يُسَمَّى (لِينَةً) . قَالَ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] وَتَخْصِيصُ الْمَدِينَةِ إِمَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ الَّتِي جُعِلَتْ فِيهَا بِدُعَائِهِ، أَوْ لِأَنَّ ثَمَرَهَا أَوْفَقُ لِمِزَاجِهِ مِنْ أَجْلِ تَعَوُّدِهِ بِهَا، وَقَوْلُهُ: (فَلْيَجَأْهُنَّ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ أَيْ فَلْيَكْسِرْهُنَّ وَلْيَدُقَّهُنَّ (بِنَوَاهِنَّ) : أَيْ مَعَهَا (ثُمَّ لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ لِيَشْفِكَ مِنْ لَدِّهِ الدَّوَاءَ إِذَا صَبَّهُ فِي فَمِهِ، وَاللَّدَدُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَا يُصَبُّ مِنَ الْأَدْوِيَةِ فِي أَحَدِ شِقَّيِ الْفَمِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْمَرَضِ لَمْ يَكُنْ يَسْهُلُ لَهُ تَنَاوُلُ الدَّوَاءِ إِلَّا عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ، أَوْ عَلِمَ أَنَّ تَنَاوُلَهُ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ أَنْجَحُ وَأَنْفَعُ وَأَيْسَرُ وَأَلْيَقُ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا أَمَرَ الطَّبِيبُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَعْلَمَ بِاتِّخَاذِ الدَّوَاءِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا نَعَتَ لَهُ الْعِلَاجَ بَعْدَ مَا أَحَالَهُ إِلَى الطَّبِيبِ لَمَّا رَأَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعِلَاجِ أَيْسَرَ وَأَنْفَعَ، أَوْ لِيَثِقَ عَلَى قَوْلِ الطَّبِيبِ إِذَا رَآهُ مُوَافِقًا لِمَا نَعَتَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4225 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: وَيَقُولُ: " «يَكْسِرُ حَرَّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا، وَبَرْدَ هَذَا بِحَرِّ هَذَا» ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4225 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ: الطَّبِيخُ وَهُوَ مَقْلُوبُ الْبِطِّيخِ لُغَةٌ فِيهِ. (وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ (وَالتِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَةٍ يَقُولُ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَكْسِرُ حَرَّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا وَبَرْدَ هَذَا بِحَرِّ هَذَا) : وَفِي رِوَايَةٍ: " «يَدْفَعُ حَرَّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا وَبَرْدَ هَذَا بِحَرِّ هَذَا» ". قَالُوا: فَإِنَّ التَّمْرَ حَارٌّ رَطْبٌ، وَالْبِطِّيخُ بَارِدٌ رَطْبٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْبِطِّيخَ كَانَ نَيِّئًا غَيْرَ نَضِجٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ بَارِدٌ اهـ. وَلَعَلَّ حَمَلَهُ عَلَى الْخِرْبِزِ وَهُوَ الْأَصْفَرُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَخْضَرُ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ الْمَرَامِ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

4226 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ عَتِيقٍ، فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ وَيُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4226 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ عَتِيقٍ» ) : أَيْ قَدِيمٍ (فَجَعَلَ) : أَيْ شَرَعَ (يُفَتِّشُهُ وَيُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ) : وَهُوَ دُودٌ فِي الطَّعَامِ وَالصُّوفِ، وَقَدْ قِيلَ فِي حِكْمَةِ وُجُودِهِ: لَوْلَا السُّوسُ مَا خَرَجَ الْمَدْسُوسُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «نَهَى عَنْ أَنْ يُفَتَّشَ التَّمْرُ عَمَّا فِيهِ» "، فَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّمْرِ الْجَدِيدِ دَفْعًا لِلْوَسْوَسَةِ، أَوْ فِعْلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ. قِيلَ: وَفِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ لَا يُنَجَّسُ بِوُقُوعِ الدُّودِ فِيهِ وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ.

4227 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجُبُنَّةٍ فِي تَبُوكَ، فَدَعَا بِالسِّكِّينِ، فَسَمَّى وَقَطَعَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4227 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ جِيءَ (بِجُبُنَّةٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيِ الْقُرْصِ مِنَ الْجُبْنِ كَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْجُبْنِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْجُبْنُ: بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ وَكَعُتُلٍّ مَعْرُوفٌ (فِي تَبُوكَ) : بِغَيْرِ صَرْفٍ وَقَدْ يُصْرَفُ (فَدَعَا بِالسِّكِّينِ فَسَمَّى وَقَطَعَ) : بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ الْأَنْفِحَةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَكَانَ الْجُبْنُ نَجِسًا لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)

4228 - وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ، فَقَالَ: " الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَمَوْقُوفٌ عَلَى الْأَصَحِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4228 - (وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبُنِّ» ) : بِضَمَّتَيْنِ فَتَشْدِيدٍ (وَالْفِرَاءِ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ جَمْعُ الْفَرَاءُ بِفَتْحِ الْفَاءِ مَدًّا وَقَصْرًا وَهُوَ حِمَارُ الْوَحْشِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: " كُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفِرَاءِ ". قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ هُوَ هَاهُنَا جَمْعُ الْفَرْوِ الَّذِي يُلْبَسُ وَيَشْهَدُ لَهُ صَنِيعُ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ كَالتِّرْمِذِيِّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي بَابِ لُبْسِ الْفَرْوِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي بَابِ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَقِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، بَلْ جَمْعُ الْفَرْوِ الَّذِي يُلْبَسُ، وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْهَا حَذَرًا مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْفِرَاءَ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ مِنْ غَيْرِ دِبَاغٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ أَوْرَدُوا هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ اهـ. فَإِيرَادُ الْمُصَنِّفِ إِيَّاهُ فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ نَظَرًا إِلَى أَغْلَبِ مَا فِي الْحَدِيثِ وَأَسْبَقِهِ وَيُؤَيِّدُهُ الْجَوَابُ أَيْضًا (فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ) : أَيْ بَيَّنَ تَحْلِيلَهُ (فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) : أَيْ بَيَّنَ تَحْرِيمَهُ (فِي كِتَابِهِ) : يَعْنِي إِمَّا مُبَيَّنًا وَإِمَّا مُجْمَلًا لِقَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] لِئَلَّا يُشْكِلَ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي صَحَّ تَحْرِيمُهَا بِالْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْكِتَابِ

(وَمَا سَكَتَ) : أَيِ الْكِتَابُ (عَنْهُ) : أَيْ عَنْ بَيَانِهِ، أَوْ وَمَا أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْ بَيَانِ تَحْرِيمِهِ وَتَحْلِيلِهِ رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ. (فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ) : أَيْ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ وَأَبَاحَ فِي أَكْلِهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَقَدْ قِيلَ: كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَ لِعِبَادِهِ وَخُلِقُوا لِعِبَادَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ (وَقَالَ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَمَوْقُوفٌ عَلَى الْأَصَحِّ) : أَيْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ أَوْ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَصَحِّ.

4229 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي خُبْزَةً بَيْضَاءَ سَمْرَاءَ مُلَبَّقَةً بِسَمْنٍ وَلَبَنٍ " فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَاتَّخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ، فَقَالَ: " فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ هَذَا؟ " قَالَ: فِي عُكَّةِ ضَبٍّ. قَالَ: " ارْفَعْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4229 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَدِدْتُ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا فَفِي الْقَامُوسِ: الْوُدُّ وَالْوِدَادُ الْحُبُّ وَيُثَلَّثَانِ وَوَدِدْتُهُ أَوَدُّهُ فِيهِمَا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ فَتْحَ الْعَيْنِ فِيهِمَا شَاذٌّ لِعَدَمِ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَعَلَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْمُدْغَمِ، وَالْمَعْنَى أَحْبَبْتُ وَتَمَنَّيْتُ (أَنَّ عِنْدِي خُبْزَةً بَيْضَاءَ مِنْ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ) : أَيْ حِنْطَةٍ فِيهَا سَوَادٌ خَفِيٌّ فَهِيَ وَصْفٌ لِبُرَّةٍ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنْ تَكُونَ مُقْمِرَةً، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ، وَلِئَلَّا يَحْصُلَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْبَيْضَاءِ وَالسَّمْرَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ السَّمْرَاءَ هِيَ الْحِنْطَةُ فَهِيَ بَدَلٌ مِنْ بُرَّةٍ. قَالَ الْقَاضِي: السَّمْرَاءُ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ غَلَبَتْ عَلَى الْحِنْطَةِ فَاسْتَعْمَلَهَا هُنَا عَلَى الْأَصْلِ، وَقِيلَ هِيَ نَوْعٌ مِنَ الْحِنْطَةِ فِيهَا سَوَادٌ خَفِيٌّ، وَلَعَلَّهُ أَحْمَدُ الْأَنْوَاعِ عِنْدَهُمْ، وَفِي الْقَامُوسِ: السُّمْرَةُ بِالضَّمِّ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ فِيمَا يَقْبَلُ ذَلِكَ، وَالْأَسْمَرُ لَبَنُ الظَّبْيَةِ، وَالْأَسْمَرَانِ الْمَاءُ وَالْبُرُّ وَالسَّمْرَاءُ الْحِنْطَةُ وَالْخُشْكَارُ. (مُلَبَّقَةً) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحِّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ مَبْلُولَةً مَخْلُوطَةً خَلْطًا شَدِيدًا (بِسَمْنٍ وَعَسَلٍ) : وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ خُبْزَةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِجَرِّهَا عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ بُرَّةٍ، وَكَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ جَرِّ الْجِوَارِ (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَاتَّخَذَهُ) : أَيْ صَنَعَ مَا ذَكَرَ (فَجَاءَ بِهِ، فَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ هَذَا؟) أَنَّ سَمْنَهُ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَ فِيهِ رَائِحَةً كَرِيهَةً. (قَالَ: فِي عُكَّةِ ضَبٍّ) . الْعُكَّةُ بِالضَّمِّ آنِيَةُ السَّمْنِ، وَقِيلَ وَعِاءٌ مُسْتَدِيرٌ لِلسَّمْنِ وَالْعَسَلِ، وَقِيلَ: الْعُكَّةُ الْقِرْبَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ فِي وِعَاءٍ مَأْخُوذٍ مَنْ جِلْدِ ضَبٍّ (قَالَ: ارْفَعْهُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَمَرَ بِرَفْعِهِ لِتَنَفُّرِ طَبْعِهِ عَنِ الضَّبِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ خَالِدٍ، لَا لِنَجَاسَةِ جِلْدِهِ، وَإِلَّا لَأَمَرَهُ بِطَرْحِهِ وَنَهَاهُ عَنْ تَنَاوُلِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ) . الْمُنْكَرُ - فِي اصْطِلَاحِ أَرْبَابِ الْأُصُولِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ - حَدِيثُ مَنْ فَحُشَ غَلَطُهُ، أَوْ كَثُرَتْ غَفْلَتُهُ، أَوْ ظَهَرَ فِسْقُهُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شِيمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ وَقَدْ أُخْرِجَ مَخْرَجَ التَّمَنِّي، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ لَأَمْكَنَ تَوْجِيهُهُ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، ثُمَّ فِيهِ إِيمَاءٌ لِطَيْفٌ إِلَى صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ فِي تَعْسِيرِ حُصُولِ شَهَوَاتِهِمْ، وَتَكْدِيرِ وَصُولِ مُتَمَنِّيَاتِهِمْ، عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ مَلَكَيْنِ تَلَاقَيَا أَحَدُهُمَا نَازِلٌ وَالْآخَرُ طَالِعٌ، فَتَسَاءَلَا عَنْ حَالَيْهِمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اشْتَهَى يَهُودِيٌّ سَمَكًا طَرِيًّا فَأُمِرْتُ بِتَحْصِيلِهِ لَهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: مُسْلِمٌ صَالِحٌ تَمَنَّى لَبَنًا أَوْ عَسَلًا وَقَدِ اشْتَرَاهُ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَصُبَّهُ وَأَحْرِمَهُ مِنْهُ.

4230 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الثُّومِ إِلَّا مَطْبُوخًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4230 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الثُّومِ» ) : وَفِي مَعْنَاهُ نَحْوَ الْبَصَلِ، بَلْ قَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: " «لَا تَأْكُلُوا الْبَصَلَ النِّيءَ» ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ: ( «إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ الْبَقْلَتَيْنِ الْمُنْتِنَتَيْنِ أَنْ تَأْكُلُوهَا وَتَدْخُلُوا مَسْجِدَنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ آكِلِيهِمَا فَاقْتُلُوهَا بِالنَّارِ قَتْلًا» ) . (إِلَّا مَطْبُوخًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ تَقْيِيدَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي النَّهْيِ، فَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «نَهَى عَنْ أَكْلِ الثُّومِ» ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ» ، وَلِلطَّيَالِسِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ وَالثُّومِ» ، وَقَدْ سَبَقَ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ جَابِرٍ: " «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا» "، فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ.

4231 - وَعَنْ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: «سُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ الْبَصَلِ. فَقَالَتْ: إِنَّ آخِرَ طَعَامٍ أَكَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامٌ فِيهِ بَصَلٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4231 - (وَعَنْ أَبِي زِيَادٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنِ الْبَصَلِ» ) : أَيْ عَنْ أَكْلِهِ مُطْلَقًا أَوْ عَنْ نِيئِهِ أَوْ عَنْ مَطْبُوخِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، ( «فَقَالَتْ: إِنَّ آخِرَ طَعَامٍ أَكَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامٌ فِيهِ بَصَلٌ» ) : أَيْ مَطْبُوخٌ بِشَهَادَةِ الطَّعَامِ ; لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ قِيلَ: إِنَّمَا أَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ اهـ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُظْهِرِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: لَا يُنَافِيهِ نَهْيُهُ عَنْهُ كَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ وَالْفِجْلِ ; لِأَنَّ مَحَلَّهَا فِي النِّيءِ، عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ بُيِّنَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْرَهُهُ لِأَجْلِ رِيحِهِ، وَمَا كَانَ مَطْبُوخًا، وَلَا سِيَّمَا الْبَصَلُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَائِحَةٌ. وَقَالَ الطَّحَّاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ بَعْدَ مَا سَرَدَ الْأَحَادِيثَ: فَهَذِهِ الْآثَارُ دَلَّتْ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ نَحْوِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ وَالثُّومِ مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْبُوخٍ لِمَنْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ، وَكَرَاهَةِ حُضُورِ الْمَسْجِدِ وَرِيحُهُ مَوْجُودٌ لِئَلَّا يُؤْذِيَ بِذَلِكَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَنِي آدَمَ. قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4232 - وَعَنِ ابْنَيْ بُسْرٍ السُّلَمِيَّيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: «دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدَّمْنَا زُبْدًا وَتَمْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4232 - (وَعَنِ ابْنِي بُسْرٍ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ فِرَاءٌ (السُّلَمِيَّيْنِ) : بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْأُولَى الْمُشَدَّدَةِ وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ الْمُخَفَّفَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي حَرْفِ الْبَاءِ مِنْ فَصْلِ الصَّحَابَةِ هُمَا: عَطِيَّةُ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَسَيَجِيءُ ذِكْرُهُمَا فِي حَرْفِ الْعَيْنِ، لَهُمَا حَدِيثٌ فِي أَكْلِ التَّمْرِ وَالزُّبْدِ، وَقَالَ فِي حَرْفِ الْعَيْنِ مِنْ فَصْلِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا: عَطِيَّةُ بْنُ بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ هُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثَهُ مَقْرُونًا بِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَنِ ابْنَيْ بُسْرٍ وَلَمْ يُسَمِّهِمَا، وَهُوَ فِي أَكْلِ الزُّبْدِ وَالتَّمْرِ فِي كِتَابِ الطَّعَامِ، رَوَى عَنْهُ مَكْحُولٌ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا صَحَابِيَّانِ فَلَا يَضُرُّ جَهَالَةُ اسْمِهِمَا، بَلْ وَلَا جَهَالَةَ حَالِهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. (قَالَا: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدَّمْنَا) : أَيْ فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ (زُبْدًا) : بِضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ زَبُدَ اللَّبَنُ بِالضَّمِّ زَبَدَةً بِفَتْحَتَيْنِ (وَتَمْرًا) : أَيْ وَأَكَلَ مِنْهُمَا (وَكَانَ يُحِبُّ الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ) : أَيْ ; وَلِذَا قَدَّمْنَاهُمَا لَهُ، أَوْ وَلِذَا أَكْثَرَ مِنْ أَكْلِهِمَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

4233 - وَعَنْ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: «أُتِينَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَذْرِ، فَخَبَطْتُ بِيَدِي فِي نَوَاحِيهَا، وَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَقَبَضَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِيَ الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ: " يَا عِكْرَاشُ! كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ; فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ "، ثُمَّ أَتَيْنَا بِطَبَقٍ فِي أَلْوَانِ التَّمْرِ، فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّبَقَ، قَالَ: " يَا عِكْرَاشُ! كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ ; فَإِنَّهُ غَيْرُ لَوْنٍ وَاحِدٍ "، ثُمَّ أَتَيْنَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ وَمَسَحَ بِبَلَلِ كَفَّيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ، وَقَالَ: " يَا عِكْرَاشُ! هَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4233 - (وَعَنْ عِكْرَاشِ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَبِالرَّاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ (ابْنِ ذُؤَيْبٍ) : بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَدْ يُبَدُّلُ وَاوًا فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَمِيمِيٌّ يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَدَقَاتِ قَوْمِهِ. (قَالَ: أُتِينَا) : أَيْ جِيءَ لَنَا (بِجَفْنَةٍ) : بِفَتْحِ جِيمٍ فَسُكُونِ فَاءٍ: أَيْ قَصْعَةٍ (كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَذْرِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ وَذْرَةٍ وَهِيَ قِطَعٌ مِنَ اللَّحْمِ لَا عَظْمَ فِيهَا عَلَى مَا فِي الْفَائِقِ وَغَيْرِهِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَذْرَةُ مِنَ اللَّحْمِ الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ لَا عَظْمَ فِيهَا وَيُحَرَّكُ، (فَخَبَطْتُ) : أَيْ ضَرَبْتُ (يَدِي فِي نَوَاحِيهَا) ، مِنْ خَبَطَ الْبَعِيرَ بِيَدِهِ إِذَا ضَرَبَهُ بِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ ضَرَبْتُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِوَاءٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَبَطَ خَبْطَ عَشْوَاءَ وَرَاعَى الْأَدَبَ حَيْثُ قَالَ فِي جَانِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْنَى الْجَوَلَانِ، وَالْمَعْنَى أَدْخَلْتُ يَدِي أَوْ أَوْقَعْتُهَا فِي نَوَاحِي الْقَصْعَةِ. ( «وَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» ) : أَيْ مِمَّا يَلِيهِ ( «فَقَبَضَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِيَ الْيُمْنَى» ) . يَجُوزُ فَتْحُ يَاءِ الْإِضَافَةِ وَسُكُونُهَا، وَهَذِهِ مُلَاحَظَةٌ فِعْلِيَّةٌ ( «ثُمَّ قَالَ: يَا عِكْرَاشُ! كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ» ) : أَيْ مِمَّا يَلِيكَ (فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ) . أَيْ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى جَانِبٍ آخَرَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّطَلُّعِ عَلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَالشَّرَهِ وَالْحِرْصِ وَالطَّمَعِ الزَّائِدِ، ( «ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ التَّمْرِ، فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» ) : أَيْ تَأَدُّبًا. (وَجَالَتْ) : بِالْجِيمِ مِنَ الْجَوَلَانِ أَيْ وَدَارَتْ (يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّبَقِ) : أَيْ فِي جَوَانِبِهِ وَحَوَالَيْهِ - وَهَذَا تَعْلِيمٌ فِعْلِيٌّ لِبَيَانِ الْجَوَازِ (فَقَالَ) : تَأْكِيدًا لِمَا فُهِمْ مِنَ الْفِعْلِ (يَا عِكْرَاشُ! كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ) : أَيِ الْآنَ، وَالظَّاهِرُ اسْتِثْنَاءُ الْأَوْسَطِ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا لِلَوْنٍ وَاحِدٍ أَوْ بِالْمُخْتَلِطِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، (فَإِنَّهُ) : أَيِ التَّمْرَ الْمَوْجُودَ فِي الطَّبَقِ (غَيْرُ لَوْنٍ وَاحِدٍ) : بَلْ أَلْوَانٌ كَمَا! سَبَقَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْفَاكِهَةَ إِذَا كَانَ لَوْنُهَا وَاحِدًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْبِطَ بِيَدِهِ كَالطَّعَامِ، وَعَلَى أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ ذَا أَلْوَانٍ يَجُوزُ أَنْ يَخْبِطَ وَيَأْكُلَ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ يُرِيدُهُ. ( «ثُمَّ أُتِينَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ وَمَسَحَ بِبَلَلِ كَفَّيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ، وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ! هَذَا الْوُضُوءُ» ) : أَيِ الْعُرْفِيُّ (مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ) : أَيْ مَسَّتْهُ، فَإِنَّ الْمَاءَ يُطْفِئُ الْحَرَارَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: " مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ " خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَ " مِنْ " ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْ: هَذَا الْوُضُوءُ لِأَجْلِ طَعَامٍ طُبِخَ بِالنَّارِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4234 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعْكُ أَمَرَ بِالْحَسَاءِ فَصُنِعَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ: " إِنَّهُ لَيَرْتُو فُؤَادُ الْحَزِينِ، وَيَسْرُو عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ كَمَا تَسْرُو إِحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4234 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ أَهْلَهُ) : أَيْ أَهْلَ بَيْتِهِ (الْوَعْكُ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيِ الْحُمَّى أَوْ شِدَّتُهَا (أَمَرَ بِالْحَسَاءِ) : بِفَتْحٍ وَمَدٍّ طَبِيخٌ مَعْرُوفٌ يُتَّخَذُ مِنْ دَقِيقٍ وَمَاءٍ وَدُهْنٍ وَيَكُونُ رَقِيقًا يُحْسَى، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمُ السَّمْنَ بَدَلَ الدُّهْنِ وَأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَهُ بِالْحَرِيرَةِ، (فَصُنِعَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا) : بِفَتْحِ السِّينِ أَيْ فَشَرِبُوا (مِنْهُ) ، وَصِيغَةُ الْجَمْعِ إِمَّا لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْأَكْلِ أَوْ فِي الْحُمَّى (وَكَانَ يَقُولُ: " إِنَّهُ) : أَيِ الْحِسَاءَ (لَيَرْتُو) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ يَشُدُّ وَيُقَوِّي (فُؤَادَ الْحَزِينِ) : أَيْ قَلْبَهُ (وَيَسْرُو) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ أَيْ: يَكْشِفُ وَيَرْفَعُ الضِّيقَ وَالتَّعَبَ (عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ كَمَا تَسْرُو) : بِالتَّأْنِيثِ وَجُوِّزَ التَّذْكِيرُ أَيْ تُزِيلُ وَتَدْفَعُ (إِحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) . وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ.

4235 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ، وَالْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4235 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ» ) : أَيْ أَصْلُهَا مِنْهَا أَوْ أَنَّهَا لِلَطَافَتِهَا كَأَنَّهَا مِنْ ثِمَارِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: " «الْعَجْوَةُ مِنْ فَاكِهَةِ الْجَنَّةِ» ". قَالَ شَارِحٌ: يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْبَرَكَةِ، فَكَأَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ لِأَنَّ طَعَامَ الْجَنَّةِ يُزِيلُ الْأَذَى وَالتَّعَبَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا أَذًى وَلَا تَعَبٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا وَصَبٌ، حَتَّى يُزِيلَهُ طَعَامُهَا، بَلْ إِنَّمَا يُؤْكُلُ مِنْ طَعَامِهَا وَثَمَرَاتِهَا وَيُشْرَبُ مِنْ مَشْرُوبَاتِهَا تَلَذُّذًا. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] . {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118] . {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 119] رَزَقَنَا اللَّهُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً - رُؤْيَةُ الْمَوْلَى. (فِيهَا) : أَيْ فِي الْعَجْوَةِ مُطْلَقًا أَوْ فِي عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ (شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ) ، بِتَثْلِيثِ السِّينِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَالضَّمُّ أَشْهَرُ (وَالْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) . وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ، وَزَادَ ابْنُ النَّجَّارِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنَّهُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، «وَالْكَبْشُ الْعَرَبِيُّ الْأَسْوَدُ شِفَاءٌ مِنْ عِرْقِ النَّسَا يُؤْكَلُ مَنْ لَحْمِهِ وَيُحْسَى مِنْ مَرَقِهِ» .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4236 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ضِفْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ فَجَعَلَ يَحُزُّ لِي بِهَا مِنْهُ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَأَلْقَى الشَّفْرَةَ، فَقَالَ: " مَا لَهُ تَرِبَتْ يَدَاهُ؟ " قَالَ: وَكَانَ شَارِبَهُ وَفَاءً. فَقَالَ لِي: " أَقُصُّهُ لَكَ عَلَى سِوَاكٍ؟ - أَوْ - " قُصَّهُ عَلَى سِوَاكٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4236 - (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: ضِفْتُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ صِرْتُ ضَيْفًا لِرَجُلٍ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ نَزَلْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ضَيْفَيْنِ لَهُ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ: أَيْ كُنْتُ لَيْلَةً ضَيْفَهُ، وَزَيَّفَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِ قَوْلِهِ " مَعَ "، قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: ضَافَ الْقَوْمَ وَيَضِيفُهُمْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ ضَيْفًا وَأَضَافُوهُ وَضَيَّفُوهُ أَنْزَلُوهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَفْظُهُ: " ضِفْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ صَارَ ضَيْفًا لِلنَّبِيِّ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ضِفْتُ الرَّجُلَ إِذَا نَزَلْتَ بِهِ فِي ضِيَافَتِهِ، وَأَضَفْتُهُ إِذَا أَنْزَلَتَهُ، وَتَضَيَّفْتُهُ إِذَا نَزَلْتَ بِهِ، وَتَضَيَّفَنِي إِذَا أَنْزَلَنِي. وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: ضِفْتُهُ أَضِيفُهُ ضَيْفًا نَزَلُتُ عَلَيْهِ ضَيْفًا كَتَضَيَّفْتُهُ. وَفِي الصِّحَاحِ: أَضَفْتُ الرَّجُلَ وَضَيَّفْتُهُ إِذَا أَنْزَلْتَهُ لَكَ ضَيْفًا وَقَرَّبْتَهُ، ضِفْتُ الرَّجُلَ ضِيَافَةً إِذَا نَزَلْتَ عَلَيْهِ ضَيْفًا وَكَذَا تَضَيَّفْتُهُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ " مَعَ " فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مُقْحَمَةٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ زَيْنِ الْعَرَبِ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْمُغْنِي بِأَنَّ لِمَعَ عِنْدَ الْإِضَافَةِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ، الْأَوَّلُ: مَوْضِعُ الِاجْتِمَاعِ، الثَّانِي: زَمَانُهُ، الثَّالِثُ: مُرَادِفَةٌ عِنْدَ هَذَا، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الضِّيَافَةُ فِي بَيْتِ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنَةِ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا أَفَادَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالِي عَنْهَا - وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ جَعَلْتُهُ ضَيْفًا لِي حَالَ كَوْنِي مَعَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ مَعْنَى ضِفْتُ لُغَةً. أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِالرِّوَايَاتِ وَالْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ صَارَ ضَيْفًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانَ أَضَافَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَذَهَبَ الْمُغِيرَةُ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَعًا لَهُ. (فَأَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ) ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّمَائِلِ: " فَأُتِيَ بِجَنْبٍ مَشْوِيٍّ "، (ثُمَّ أَخَذَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الشَّفْرَةَ) : " بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ السِّكِّينُ الْعَرِيضُ الَّذِي امْتُهِنَ بِالْعَمَلِ (فَجَعَلَ يَحُزُّ) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ، أَيْ يَقْطَعُ (لِي) : أَيْ لِأَجْلِي (بِهَا) : أَيْ بِالشَّفْرَةِ وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا فِي: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، فَيَكُونُ الْجَارُّ مُتَعَلِّقًا بِيَحُزُّ أَيْضًا (مِنْهُ) : أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْجَنْبِ الْمَشْوِيِّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَطْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَهْيِهِ قَدْ سَبَقَ، وَإِنَّمَا حَزَّ لِلْمُغِيرَةِ تَوَاضُعًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِكْرَامًا لَهُ لِكَوْنِهِ ضَيْفَهُ

عَلَى مَا مَرَّ، وَإِظْهَارًا لِمَحَبَّتِهِ لَهُ لِيَتَأَلَّفَهُ لِقُرْبِ إِسْلَامِهِ وَحَمْلًا لِغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ - وَإِنْ جَلَّتْ مَرْتَبَتُهُ - فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ صُدُورِ مِثْلِ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ، بَلْ لِأَصَاغِرِهِمْ. (فَجَاءَ بِلَالٌ) : هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانَ يُعَذَّبُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَعْتَقَهُ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، مَاتَ بِدِمَشْقَ مِنْ غَيْرِ عَقِبٍ. (يُؤْذِنَهُ) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبَدَّلُ أَيْ يُعْلِمَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَاهُ، لَكِنْ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْمُشَدَّدَ مُخْتَصٌّ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِإِعْلَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (بِالصَّلَاةِ) ، يُفِيدُ التَّجْرِيدَ وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى قَوْلُهُ: (فَأَلْقَى) : أَيْ طَرْحَ وَرَمَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الشَّفْرَةَ فَقَالَ: مَا لَهُ) : أَيْ لِبِلَالٍ يُؤَذِّنُ فِي هَذَا الْوَقْتِ (تَرِبَتْ يَدَاهُ؟) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ لُصِقَتْ بِالتُّرَابِ مِنْ شِدَّةِ الِافْتِقَارِ، وَهَى كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ اللَّوْمِ، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِالْفَقْرِ وَالْعَدَمِ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهَا وَلَا يُرِيدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ إِيذَانَهُ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالطَّعَامِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَّسِعٌ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ الْعَشَاءِ، فَإِنَّ التَّأْخِيرَ فِيهِ أَفْضَلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَالِ الضَّيْفِ، وَقِيلَ قِيَامُهُ كَانَ لِلْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِجَابَةِ، مَعْنَى تَرِبَتْ يَدَاهُ: لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَحْلَاهُ. (قَالَ) : أَيِ الْمُغِيرَةُ وَفِي نُسْخَةٍ " فَقَالَ "، (وَكَانَ شَارِبُهُ) : أَيْ شَارِبُ الْمُغِيرَةِ (وَفَاءً) : أَيْ تَمَامًا يَنْحَطُّ كَبِيرًا طَوِيلًا، وَفِي رِوَايَةٍ: " وَكَانَ شَارِبُهُ قَدْ وَفَى " أَيْ طَالَ وَتَعَدَّى، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَشَارِبِي، فَوَضَعَ مَكَانَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْغَائِبَ إِمَّا تَجْرِيدًا أَوِ الْتِفَاتًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي شَارِبِهِ لِبِلَالٍ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: قَالَ لِبِلَالٍ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ " فَقَالَ لَهُ "، (أَقُصُّهُ لَكَ) : أَيْ لِنَفْعِكَ أَوْ لِأَجْلِ قُرْبِكَ مِنِّي، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي شَارِبِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " أَقُصُّهُ لَكَ " أَيْ لِأَجْلِكَ تَتَبَرَّكُ بِهِ. قَالَ: وَكَانَ هَذَا تَكَلُّفَاتٍ لَا تُشْفِي الْغَلِيلَ، وَمِنْ تَرَدُّدِ الْإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ يَعْنِي حَيْثُ قَالَ: " عَلَى سِوَاكٍ؟ - أَوْ - قُصَّهُ عَلَى سِوَاكٍ) ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَلْتُ قَدْ «رَأَيْتُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا طَوِيلَ الشَّارِبِ، فَدَعَا بِسِوَاكٍ وَشَفْرَةٍ، فَوَضَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السِّوَاكَ تَحْتَ شَارِبِهِ، ثُمَّ جَزَّهُ» اهـ. وَيُحْتَمَلُ جَزُّهُ بِالشَّفْرَةِ أَوْ بِمِقْرَاضٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّكَّ مِنَ الْمُغِيرَةِ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَقُصَّهُ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَجُوِّزَ ضَمُّهُ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ: أَيْ قُصَّهُ أَنْتَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ فَقِيلَ هُوَ عَطْفٌ عَلَى " قَالَ " أَيْ قَالَ: " وَكَانَ شَارِبُهُ وَفَاءً " فَقَصَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى " قَالَ " فِي ضِمْنٍ، فَقَالَ أَيْ فَقَالَ: أَقُصُّهُ أَوْ فَقَصَّهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: " وَكَانَ شَارِبِي وَفَى فَقَصَّهُ لِي عَلَى سِوَاكِهِ، ثُمَّ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: " قَالَ: وَكَانَ شَارِبُهُ " لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَلَا يُرَدُّ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يُلَائِمُ وُقُوعَهُ بَعْدَ الْإِيذَانِ وَرَمْيِ الشَّفْرَةِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا يُزَيِّفُ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي شَارِبِهِ لِبِلَالٍ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ ثَبَتَ كَوْنُ بِلَالٍ قَبْلَ الْإِيذَانِ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي أَمْرِ الشَّارِبِ أَنْ لَا يُبَالَغَ فِي إِحْفَائِهِ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا تَظْهَرُ لَهُ حُمْرَةُ الشَّفَةِ وَطَرْفِهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَقِيلَ الْأَفْضَلُ حَلْقُهُ لِحَدِيثِ: " وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْقَصِّ "، بَلْ رَأَى مَالِكٌ تَأْدِيبَ الْحَالِقِ، وَمَا مَرَّ عَنِ النَّوَوِيِّ يُخَالِفُهُ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ عَنِ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ، أَنَّهُمَا كَانَا يُحْفِيَانِهِ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ: الْإِحْفَاءُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يُحْفِيهِ شَدِيدًا، وَرَأَى الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ السِّبَالَيْنِ اتْبَاعًا لِعُمْرَ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتُرُ الْفَمَ، وَلَا يَبْقَى فِيهِ غِمْرُ الطَّعَامِ إِذْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَكَرِهَ الزَّرْكَشِيُّ إِبْقَاءَهُ لِخَبَرٍ صَحِيحٍ لِابْنِ حِبَّانَ: «ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَجُوسُ فَقَالَ: " إِنَّهُمْ قَوْمٌ يُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ، وَيَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ فَخَالِفُوهُمْ» " اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّبَالِ الشَّوَارِبُ أُطْلِقَ عَلَيْهَا مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا مَذْكُورٌ فِي قِسْمِ الصِّحَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادِ التِّرْمِذِيِّ، فَالْحَدِيثُ مُلْحَقٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِهِ اهـ. وَهُوَ وَهْمٌ مِنَ الطِّيبِيِّ، فَإِنَّ الْفَصْلَ الثَّالِثَ كُلَّهُ مِنَ الْمُؤَلِّفِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَضْعُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصِّحَاحِ كَمَا لَا يَخْفَى.

4237 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعُ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ هَذِهِ الْجَارِيَةُ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا» . زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " «ثُمَّ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَأَكَلَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4237 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ) : أَيْ ابْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي نُسْخَةٍ: مَعَ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا) : أَيْ فِي الطَّعَامِ (حَتَّى يَبْدَأَ) رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَيَضَعُ يَدَهُ) ، أَيْ تَأَدُّبًا مَعَهُ وَتَبَرُّكًا بِفِعْلِهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ مُرْسَلًا: " «إِذَا وُضِعَ الطَّعَامُ فَلْيَبْدَأْ أَمِيرُ الْقَوْمِ، أَوْ صَاحِبُ الطَّعَامِ، أَوْ خَيْرُ الْقَوْمِ» " (وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ) : أَيْ بِنْتٌ صَغِيرَةٌ (كَأَنَّهَا تُدْفَعُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ " تُطْرَدُ " يَعْنِي لِشِدَّةِ سُرْعَتِهَا كَأَنَّهَا مَطْرُودَةٌ أَوْ مَدْفُوعَةٌ، (فَذَهَبَتْ) : أَيْ أَرَادَتْ وَشَرَعَتْ (لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ) : أَيْ قَبْلَنَا (فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهَا) : الْبَاءُ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، (ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) : أَيْ بَدَوِيٌّ (كَأَنَّمَا يُدْفَعُ) : أَيْ كَأَنَّهُ يُدْفَعُ وَ " مَا " كَافَّةٌ (فَأَخَذَ بِيَدِهِ) : أَيْ بِيَدِ الْأَعْرَابِيِّ أَيْضًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَأَخَذَ يَدَ الْأَعْرَابِيِّ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، فَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ» ) : أَيْ جِنْسَهُ (أَنْ لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) : أَيْ وَقْتَ عَدَمِ ذِكْرِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ وَبِسَبَبِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَكْلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ، وَكَانَ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ إِذَنْ مِنَ اللَّهِ لِلشَّيْطَانِ مِنْ تَنَاوُلِهِ، كَمَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَنْعٌ لَهُ عَنْهُ، أَوِ الْمَعْنَى يَصْرِفُ قُوَّتَهُ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ: لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. (وَإِنَّهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: " فَإِنَّهُ ": أَيِ الشَّيْطَانَ ( «جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَالَّذِي نَفْسِي» ) : أَيْ ذَاتِي أَوْ رُوحِي (بِيَدِهِ) : أَيْ فِي قَبْضَةِ أَيْ إِرَادَتِهِ (إِنَّ يَدَهُ) : أَيْ يَدَ الشَّيْطَانِ (فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا) : أَيْ وَكَذَلِكَ يَدُهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا وَحَذْفُهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ " يَدِهِمَا " كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَيْ يَدِ الشَّيْطَانِ مَعَ يَدِ الرَّجُلِ وَالْجَارِيَةُ فِي يَدِي. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ يَدِهَا بِالْإِفْرَادِ فَالضَّمِيرُ لِلْجَارِيَةِ وَهِيَ أَيْضًا مُسْتَقِيمَةٌ ; لِأَنَّ إِثْبَاتَهَا لَا يَنْفِي إِثْبَاتَ يَدِ الْأَعْرَابِيِّ، وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالْإِفْرَادِ وَجَبَ قَبُولُهَا وَتَأْوِيلُهَا، (زَادَ) : أَيْ حُذَيْفَةُ أَوْ مُسْلِمٌ (فِي رِوَايَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اسْمَ اللَّهِ وَأَكَلَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

4238 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ غُلَامًا فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيْهِ تَمْرًا فَأَكَلَ الْغُلَامُ، فَأَكْثَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ شُؤْمٌ " وَأَمَرَ بِرَدِّهِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4238 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ غُلَامًا، فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيْهِ تَمْرًا» ) : أَيْ كَثِيرًا ( «فَأَكَلَ الْغُلَامُ فَأَكْثَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ شُؤْمٌ» ) : أَيْ وَصَاحِبُهُ مَشْؤُومٌ، وَالشُّؤْمُ بِالْهَمْزِ وَيُبَدَّلُ ضِدُّ الْيُمْنِ يَعْنِي: لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَالْكَافِرَ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، الْحَدِيثَ. (وَأَمَرَ بِرَدِّهِ) : أَيْ إِلَى صَاحِبِهِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4240 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا وُضِعَ الطَّعَامُ فَاخْلَعُوا نِعَالَكُمْ؟ فَإِنَّهُ أَرْوَحُ لِأَقْدَامِكُمْ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4240 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا وُضِعَ الطَّعَامُ) : أَيْ لِأَكْلِكُمْ (فَاخْلَعُوا نِعَالَكُمْ، فَإِنَّهُ) : أَيِ الْخَلْعَ (أَرْوَحُ) : أَيْ أَكْثَرُ رَاحَةً (لِأَقْدَامِكُمْ) .

4241 - «وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا أَتَيْتُ بِثَرِيدٍ أَمَرَتْ بِهِ فَغُطِّيَ، حَتَّى تَذْهَبَ فَوْرَةُ دُخَانِهِ، وَتَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: هُوَ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ» . رَوَاهُمَا الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4241 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا أَتَيَتْ بِثَرِيدٍ) : أَيْ مَثَلًا (أَمَرَتْ بِهِ فَغُطِّيَ، حَتَّى تَذْهَبَ فَوْرَةُ دُخَانِهِ) : أَيْ غَلَيَانُ بُخَارِهِ، وَكَثْرَةُ حَرَارَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَحَتَّى لَيْسَتْ بِمَعْنَى " كَيْ "، بَلْ لِمُطْلَقِ الْغَايَةِ (وَتَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: هُوَ) : أَيِ الذِّهَابُ الْمَذْكُورُ (أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ) : أَيْ لِحُصُولِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ " أَعْظَمُ الْبَرَكَةِ " بِالْإِضَافَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ عَظِيمُ الْبَرَكَةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِضَافَةَ بِمَعْنَى " اللَّامِ " لِتَتَوَافَقَ الرِّوَايَتَانِ. (رَوَاهُمَا الدَّارِمِيُّ) . وَرَوَى الْحَاكِمُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ: وَفِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الثَّانِي مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «أَبْرِدُوا بِالطَّعَامِ، فَإِنَّ الْحَارَّ لَا بَرَكَةَ فِيهِ» ". رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ جَابِرٍ. وَعَنْ أَسْمَاءَ وَمُسَدَّدٌ عَنْ أَبِي يَحْيَى، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا: «نَهَى عَنِ الطَّعَامِ الْحَارِّ حَتَّى يَبْرُدَ» .

4242 - وَعَنْ نُبَيْشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ، ثُمَّ لَحِسَهَا، تَقُولُ لَهُ الْقَصْعَةُ: " أَعْتَقَكَ اللَّهُ مِنَ النَّارِ كَمَا أَعْتَقْتَنِي مِنَ الشَّيْطَانِ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4242 - (وَعَنْ نُبَيْشَةَ) : مَرَّ ذِكْرُهُ قَرِيبًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ، ثُمَّ لَحِسَهَا) : بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَ " ثُمَّ " لِلتَّرَاخِي فِي الْمَرْتَبَةِ أَيْ لَحْسُهَا أَكْمَلُ مِنْ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ مِنْهَا ; وَلِذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: (تَقُولُ لَهُ الْقَصْعَةُ) : بِلِسَانِ الْحَالِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِلِسَانِ الْمَقَالِ (أَعْتَقَكَ اللَّهُ مِنَ النَّارِ كَمَا أَعْتَقْتَنِي مِنَ الشَّيْطَانِ) : أَيْ مِنْ أَكْلِهِ أَوْ فَرَحِهِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) : وَقَدْ سَبَقَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيِّ: " اسْتَغْفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ ". رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْعِرْبَاضِ وَلَفْظُهُ: " مَنْ «لَعِقَ الصَّحْفَةَ وَلَعِقَ أَصَابِعَهُ أَشْبَعَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» .

4239 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيِّدُ إِدَامِكُمُ الْمِلْحُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4239 - (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «سَيِّدُ إِدَامِكُمُ الْمِلْحُ» ) : أَيْ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مُؤْنَةً وَأَقْرَبُ إِلَى الْقَنَاعَةِ، وَمِنْ ثَمَّ اقْتَنَعَ بِهِ أَكْثَرُ الْعَارِفِينَ، فَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ، وَسَيِّدُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْمَاءُ. وَسَيِّدُ الرَّيَاحِينِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْفَاغِيَةُ» ) عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سِيَادَةُ الْمِلْحِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يُلَذُّ الْعَيْشُ بِدُونِهِ خُبْزًا أَوْ طَعَامًا مَطْبُوخًا، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْأُدْمِ فَأَمْرٌ زَائِدٌ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ، فَيَكُونُ فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى الَّتِي أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا فَضْلًا عَنْ شُكْرِهَا غَافِلُونَ، يُنَاسِبُهُ كَلَامُ بَعْضِ أَرْبَابِ اللَّطَائِفِ: عَجِبْتُ - مِنَ النَّاسِ كَيْفَ يَبِيعُونَ الزَّعْفَرَانَ بِالْمِثْقَالِ وَالْمِلْحَ بِالْأَحْمَالِ! . (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ.

[باب الضيافة]

[بَابُ الضِّيَافَةِ]

(1) بَابُ الضِّيَافَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4243 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ". وَفِي رِوَايَةٍ بَدَلَ: (الْجَارِ) : وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (1) بَابُ الضِّيَافَةِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ. فَفِي الْقَامُوسِ: ضِفْتُهُ أَضِيفُهُ ضَيْفًا وَضِيَافَةً بِالْكَسْرِ نَزَلْتُ عَلَيْهِ ضَيْفًا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الضَّيْفِ الْمَيْلُ. يُقَالُ: ضِفْتُ إِلَى كَذَا، وَأَضَفْتُ كَذَا إِلَى كَذَا. وَالضَّيْفُ مَنْ مَالِ إِلَيْكَ نَازِلًا بِكَ، وَصَارَتِ الضِّيَافَةُ مُتَعَارَفَةً فِي الْقُرَى، وَأَصْلُ الضَّيْفِ مَصْدَرٌ، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ فِي عَامَّةِ كَلَامِهِمْ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4243 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» ) ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24] قِيلَ: أَكْرَمَهُمْ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتَعْجِيلِ قِرَاهُمْ وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ لَهُمْ، وَكَانَ سَلْمَانُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَدَعَا مَا حَضَرَ خُبْزًا وَمِلْحًا. وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ نُهِينَا أَنْ يُكَلِّفَ بَعْضُنَا بَعْضًا لَتَكَلَّفْتُ لَكَ اهـ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَوَّقُفَ الْإِيمَانِ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ، بَلْ هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِتْيَانِ بِهَا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِوَلَدِهِ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَأَطِعْنِي تَحْرِيضًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ، أَوِ الْمُرَادُ مَنْ كَانَ كَامِلَ الْإِيمَانِ فَلْيَأْتِ بِهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ طَرَفَيِ الْمُؤْمِنِ بِهِ إِشْعَارًا بِجَمِيعِهَا. وَقِيلَ: تَخْصِيصُ الْيَوْمِ الْآخِرِ بِالذِّكْرِ دُونَ شَيْءٍ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَثُوبَةَ وَرَجَاءَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ لَا يَرْتَدِعُ عَنْ شَرٍّ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى خَيْرٍ وَتَكْرِيرُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاعْتِنَاءِ بِكُلِّ خَصْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. قَالُوا: وَإِكْرَامُ الضَّيْفِ بِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَطَيِّبِ الْكَلَامِ، وَالْإِطْعَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْأَوَّلِ بِمَقْدُورِهِ وَمُيَسَّرِهِ، وَالْبَاقِي بِمَا حَضَرَهُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، لِئَلَّا يَثْقُلَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَفْسِهِ وَبَعْدَ الثَّلَاثَةِ يُعَدُّ مِنَ الصَّدَقَةِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِلَّا فَلَا. قَالُوا: وَيُشْعِرُ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ لَيْسَتْ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، لَكِنَّهَا نُسِخَتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، أَوْ جُعِلَتْ كَالْوَاجِبِ لِلْعِنَايَةِ بِهَا، وَأَرَادُوا بِمَا بَعْدَهَا التَّبَرُّعَ الْمُبَاحَ، وَالضَّيْفُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا. ( «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ» ) : أَيْ أَقَلُّهُ هَذَا وَإِلَّا فَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ " أَيْ بِأَنْ يُعِينَهُ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَيَدْفَعَ عَنْهُ السُّوءَ وَيُخَصِّصَهُ بِالنَّيْلِ لِئَلَّا يَسْتَحِقَّ الْوَعِيدَ وَالْوَيْلَ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ الْجَارِ؟ إِنِ اسْتَعَانَكَ أَعَنْتَهُ، وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِنِ افْتَقَرَ جُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ اتَّبَعْتَ جَنَازَتَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَلَا تَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ فَتَحْجِزَ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِنِ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً فَاهْدِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهُ سِرًّا، وَلَا يَخْرُجْ بِهَا وَلَدُكَ لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ، وَلَا تُؤْذِ بِغُبَارِ قِدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا. أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ الْجَارِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَبْلُغُ حَقَّ الْجَارِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ تَعَالَى» ". رَوَاهُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَرْبَعِينَ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَنِ الْتَزَمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ إِكْرَامُ جَارِهِ وَضَيْفِهِ وَبَرِّهِمَا، وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ، وَالضِّيَافَةِ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَقَدْ أَوْجَبَهَا اللَّيْثُ لَيْلَةً وَاحِدَةً، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ: " «إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِحَقِّ الضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» "، وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " وَالْجَائِزَةُ: الْعَطِيَّةُ وَالْمِنْحَةُ وَالصِّلَةُ، فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الِاخْتِيَارِ، وَقَوْلُهُ: (فَلْيُكْرِمْ) يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا إِذْ لَيْسَ يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهُ فِي الْوَاجِبِ، وَتَأَوَّلُوا الْأَحَادِيثَ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، أَنْ كَانَتِ الْمُوَاسَاةُ وَاجِبَةً. وَاخْتُلِفَ أَنَّهَا

" عَلَى الْحَاضِرِ وَالْبَادِي أَمْ عَلَى الْبَادِي؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّهَا عَلَيْهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْبَوَادِي لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَجِدُ فِي الْحَضَرِ الْمَنَازِلَ وَمَا يَشْتَرِي فِي الْأَسْوَاقِ. ( «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ» ) : بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ لِيَسْكُتْ كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَقَدْ وَرَدَ: " مَنْ صَمَتَ نَجَا "، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَيَعْنِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ خَيْرًا يُثَابُ عَلَيْهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا فَلْيَتَكَلَّمْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرُهُ سَوَاءً ظَهَرَ أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ، فَلْيُمْسِكْ عَنْهُ فَالْكَلَامُ الْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِهِ مَخَافَةَ انْجِرَارِهِ إِلَى الْحَرَامِ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ لِلْبُخَارِيِّ (بَدَلَ الْجَارِ) : أَيْ بَدَلَ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا ذُكِرَ الْجَارُ ( «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَاطِعَ كَأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِعَدَمِ خَوْفِهِ مِنْ شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْقَطِيعَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَالْحَدِيثُ فِي الْأَرْبَعِينَ لِلنَّوَوِيِّ بِتَأْخِيرِ الْجَارِ وَالضَّيْفِ، وَلَعَلَّهُ رِوَايَاتٌ. وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ تَقْدِيمَ الضَّيْفَةِ لِمُنَاسَبَةِ الْبَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَلَا يَدْخُلِ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ رُوَيْفِعٍ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِي مَاءَهُ وَلَدَ غَيْرِهِ» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ: ( «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُرَوِّعَنَّ مُسْلِمًا» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسُ خُفَّيْهِ حَتَّى يَنْفُضَهُمَا» ". وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسْ حَرِيرًا وَلَا ذَهَبًا» ".

4244 - وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحَرِّجَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4244 - وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : بِالتَّصْغِيرِ (الْكَعْبِيِّ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو الْكَعْبِيُّ الْعَدَوِيُّ الْخُزَاعِيُّ، أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ» ) : بِالرَّفْعِ أَيْ عَطِيَّتُهُ (يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) ، فِي الْفَائِقِ: الْجَائِزَةُ مِنْ أَجَازَهُ بِكَذَا إِذَا أَتْحَفَهُ وَأَلْطَمَهُ كَالْفَاضِلَةِ وَاحِدَةُ الْفَوَاضِلِ مِنْ أَفْضَلَ عَلَيْهِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَقَالَ: يُكْرِمُهُ وَيُتْحِفُهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ( «وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» ) ، فِي النِّهَايَةِ: أَيْ يُضَافُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَيَتَكَلَّفُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَا اتَّسَعَ لَهُ مِنْ بِرٍّ وَإِلْطَافٍ، وَيُقَدِّمُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا حَضَرَ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ يُعْطِهِ مَا يَجُوزُ بِهِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَتُسَمَّى " الْجِيزَةَ " وَهُوَ قَدْرُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ (فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ) : أَيْ مِمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ (فَهُوَ صَدَقَةٌ) ، أَيْ مَعْرُوفٌ إِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِلَّا فَلَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَدْ صَحَّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» ". قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَائِزَةَ بَعْدَ الضِّيَافَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقْرَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُعْطَى مَا يَجُوزُ بِهِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَائِزَتُهُ الْخَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِلْأُولَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يُكْرِمُهُ؟ فَأُجِيبَ: جَائِزَتُهُ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ زَمَانِ جَائِزَتِهِ أَيْ: بِرُّهُ وَإِلْطَافُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تُحْمَلُ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ قَدْرَ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مَا يَكْفِيهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ. (وَلَا يَحِلُّ لَهُ) : أَيْ لِلْمَضِيفِ (أَنْ يَثْوِيَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ مِنَ الثَّوَاءِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ أَيْ يُقِيمَ (عِنْدَهُ) : أَيْ عِنْدَ مُضِيفِهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَا اسْتِدْعَائِهِ (حَتَّى يُحَرِّجَهُ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يُضَيِّقَ صَدْرَهُ وَيُوقِعَهُ فِي الْحَرَجِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ حَيْثُ قَالَ: وَالْإِحْرَاجُ التَّضْيِيقُ عَلَى الْمُضِيفِ بِأَنْ يُطِيلَ الْإِقَامَةَ عِنْدَهُ حَتَّى يُضَيِّقَ عَلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4245 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يُقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا: " إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا؟ ، فَانْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4245 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) : صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا) : أَيْ: وَفْدًا أَوْ غُزَاةً (فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يُقْرُونَنَا) : وَفِي رِوَايَةٍ: (لَا يُقْرُونَا) بِحَذْفِ نُونِ الْإِعْرَابِ مَعَ نُونِ الضَّمِيرِ تَخْفِيفًا، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتُحَاجُّونِّي قُرِئَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهَا (فَمَا تَرَى) : مِنَ الرَّأْيِ، أَيْ: مَا تَقُولُ فِي أَمْرِنَا؟ (فَقَالَ لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا) : أَيْ مِنْهُمْ (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ) : أَيِ الضَّيْفِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْمَوْصُولُ صِفَةٌ لِلْحَقِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالْحُمَيْدِيِّ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَقَدْ غَيَّرُوا فِي الْمَصَابِيحِ إِلَى " لَهُ "، وَلَمْ يَتَنَبَّهُوا عَلَى أَنَّ الضَّيْفَ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24] ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَخْذِ حَقِّ الضَّيْفِ عِنْدَ عَدَمِ أَدَائِهِ وَهُوَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَشْرُوطَةِ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةُ الْمَارِّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي الْمُضْطَرِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمَخْمَصَةِ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ، وَعَنْ هَذَا أَوْجَبَ قَوْمٌ ضَمَانَ الْقِيمَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: لَا ضَمَانَ فِيهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَمَلَ أَحْمَدُ وَاللَّيْثُ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ، فَإِنَّ ضِيَافَتَهُمْ وَاجِبَةٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ أَعْرَاضِهَا بِأَلْسِنَتِكُمْ تَذْكُرُوا لِلنَّاسِ لَوْمَهُمْ. قُلْتُ: وَمَا أَبْعَدَ هَذَا التَّأْوِيلَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. قَالَ: وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتِ الْمُوَاسَاةُ وَاجِبَةً، فَلَمَّا أُشِيعَ الْإِسْلَامُ نُسِخَ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُؤَوِّلُ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ مَرَّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ شُرِطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَارَ هَذَا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4246 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: " مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ ! قَالَا: الْجُوعُ. قَالَ: " وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا "، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْنَ فُلَانٌ؟ "، قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ. إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ " فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ، وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذُكِرَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: " كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. . " فِي " بَابِ الْوَلِيمَةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4246 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ؟ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا) : أَيْ لَاحِقٌ بِهِمَا (فَقَالَ: " مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ: مِنْ مَحَلِّكُمَا (هَذِهِ السَّاعَةَ؟) : فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَقْتَ الْخُرُوجِ فِي الْعَادَةِ (قَالَا: الْجُوعُ) : أَيْ أَخْرَجَنَا الْجُوعُ أَوِ الْجُوعُ أَخْرَجَنَا. وَفِي الشَّمَائِلِ عَنْهُ قَالَ: " «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاعَةً لَا يَخْرُجُ فِيهَا وَلَا يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: خَرَجْتُ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ! فَتَأَمَّلْ فِي الرِّوَايَتَيْنِ لِيَحْصُلَ التَّطْبِيقُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (قَالَ: وَأَنَا) : وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالْفَاءِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا) : وَفِي الشَّمَائِلِ: " وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ ": أَيِ الْجُوعَ قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ مَا نَالَهُ مِنْ أَلَمٍ وَنَحْوِهِ، لَا عَلَى التَّشَكِّي وَعَدَمِ الرِّضَا وَإِظْهَارِ الْجُوعِ، وَلَمَّا كَانَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَى لُزُومِ الطَّاعَةِ، فَعَرَضَ لَهُمَا هَذَا الْجُوعُ الْمُفْرِطُ الْمَانِعُ مِنْ كَمَالِ النَّشَاطِ بِالْعِبَادَةِ وَكَمَالِ التَّلَذُّذِ بِهَا سَعْيًا فِي إِزَالَتِهِ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ سَبَبٍ مُبَاحٍ لِيَدْفَعَاهُ بِهِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ وَبِحَضْرَةِ الطَّعَامِ انْتَهَى. وَقَدِ اتَّفَقَ خُرُوجُهُمْ غَيْرَ قَاصِدِينَ ضِيَافَةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا:

(قُومُوا، فَقَامُوا مَعَهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَهُوَ جَائِزٌ، فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَظَاهِرٌ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثَةٌ فَمَجَازٌ يَعْنِي بِأَنْ أَعْطَى الْأَكْثَرَ حُكْمَ الْكُلِّ. (فَأَتَى) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمَا (رَجُلًا) : أَيْ بَيْتَ رَجُلٍ (مِنَ الْأَنْصَارِ) : قِيلَ: هُوَ خُزَاعِيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْأَشْرَفُ: إِفْرَادُ الضَّمِيرِ أَيْ: فِي " أَتَى " وَإِسْنَادُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قَوْلِهِ: " قُومُوا، فَقَامُوا " إِيذَانٌ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُطَاعُ، وَأَنَّهُمَا كَانَا مُطِيعَيْنِ لَهُ مُنْقَادَيْنِ كَمَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ انْتَهَى. وَفِي الشَّمَائِلِ: " فَانْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ النَّخْلِ وَالشَّاءِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ فَلَمْ يَجِدُوهُ "، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَإِذَا هُوَ) : أَيِ الرَّجُلُ (لَيْسَ فِي بَيْتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَتَى بَيْتَ رَجُلٍ أَوْ قَصَدَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ بَيْتَهُ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ أَيْ: فَاجَأَهُ وَقْتَ خُلُوِّهِ مِنْ بَيْتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48] : أَيْ: فَاجَئُوا وَقْتَ الِاسْتِبْشَارِ. (فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ) : أَيْ أَبْصَرَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَتْ؟ مَرْحَبًا: أَيْ أَتَيْتَ مَكَانًا وَاسِعًا (وَأَهْلًا) : أَيْ وَجِئْتَ أَهْلًا (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ فُلَانُ؟) : وَلَفْظُ الشَّمَائِلِ: " أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ " (قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ) : أَيْ يَطْلُبُ الْعَذْبَ وَهُوَ الْحُلْوُ (لَنَا مِنَ الْمَاءِ) : فَإِنَّ أَكْثَرَ مِيَاهِ الْمَدِينَةِ كَانَ مَالِحًا (إِذْ جَاءَ) : أَيْ: هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ جَاءَ (الْأَنْصَارِيُّ) : وَفِي الشَّمَائِلِ: " «فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ يَزْعَبُهَا فَوَضَعَهَا، ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَفْدِيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ» ". قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرَّجُلُ هُوَ أَبُو الْهَيْثَمِ مَالِكُ بْنُ التَّيِّهَانِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَتَشْدِيدِهَا، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِدْلَالِ عَلَى الصَّاحِبِ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ، وَاسْتِتْبَاعُ جَمَاعَةٍ إِلَى بَيْتِهِ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لَهُ وَكَفَى لَهُ شَرَفًا بِذَلِكَ، قُلْتُ: وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا. رَوَى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِكْرَامِ الضَّيْفِ بِقَوْلِهِ مَرْحَبًا وَأَهْلًا أَيْ: صَادَفْتَ رَحْبًا وَسِعَةً وَأَهْلًا تَسْتَأْنِسُ بِهِمْ، وَفِيهِ جَوَازُ سَمَاعِ كَلَامِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَمُرَاجَعَتِهَا الْكَلَامَ لِلْحَاجَةِ، وَجَوَازُ إِذْنِ الْمَرْأَةِ فِي دُخُولِ مَنْزِلِ زَوْجِهَا لِمَنْ عَلِمَتْ عِلْمًا مُحَقَّقًا أَنَّهُ لَا يَكْرَهُهُ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو بِهَا الْخُلْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ. (فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: أَكْرَمَ عَلِيَّ اللَّهُ (أَضْيَافًا مِنِّي) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ الشُّكْرِ عِنْدَ هُجُومِ نِعْمَةٍ وَانْدِفَاعِ نِقْمَةٍ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِظْهَارِ الْبِشْرِ وَالْفَرَحِ بِالضَّيْفِ فِي وَجْهِهِ (قَالَ) : أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ أَوْ سَمِعَ مِنْهُمْ (فَانْطَلَقَ) : أَيْ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَتِهِ. فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الشَّمَائِلِ، (فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ " بِقِنْوٍ " كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ مِنَ النَّخْلِ بِمَنْزِلَةِ الْعُنْقُودِ مِنَ الْعِنَبِ (فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ) : أَيْ فَوَضَعَهُ فَقَالَ: (كُلُوا مِنْ هَذِهِ) : أَيِ التَّمَرَاتِ وَأَنْوَاعِهَا. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفَلَا تَنَقَّيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ؟ "، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْئَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ظِلٌّ بَارِدٌ وَرُطَبٌ طِيِّبٌ وَمَاءٌ بَارِدٌ» " فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ لِيَضَعَ لَهُمْ طَعَامًا انْتَهَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْعِذْقُ هُنَا بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْكِبَاسَةُ وَهِيَ الْغُصْنُ مِنَ النَّخْلِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الضَّيْفِ بِمَا تَيَسَّرَ، وَإِكْرَامُهُ بَعْدَهُ بِمَا يَصْنَعُ لَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ: وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ التَّكَلُّفَ لِلضَّيْفِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ مَشَقَّةً ظَاهِرَةً لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَكَمَالِ السُّرُورِ بِالضَّيْفِ، وَأَمَّا فِعْلُ الْأَنْصَارِيِّ وَذَبْحُهُ الشَّاةَ، فَلَيْسَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ ذَبَحَ أَغْنَامًا لَكَانَ مَسْرُورًا بِذَلِكَ مَغْبُوطًا فِيهِ انْتَهَى. وَسَبَبُهُ أَنَّهُ صَارَ صَدِيقًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِصَاحِبَيْهِ، حَيْثُ عَلِمُوا رِضَاهُ وَفَرَحَهُ بِمَا أَتَاهُمْ، وَنَظِيرُهُ مَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ صَارَ ضَيْفًا لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَرَأَى فِي يَدِ عَبْدِ الْمُضِيفُ وَرَقَةً فِيهَا شِرَاءُ أَسْبَابِ أَنْوَاعِ الطَّبِيخِ الَّتِي

أَرَادَهَا سَيِّدُهُ، فَأَخَذَهَا الشَّافِعِيُّ، وَأَلْحَقَ فِيهَا نَوْعَ طَبِيخٍ كَانَ مُشْتَهًى لَهُ، فَلَمَّا مَدَّ السِّمَاطَ اسْتَغْرَبَ الْمُضِيفُ ذَلِكَ النَّوْعَ، وَنَادَى عَبْدَهُ سِرًّا وَسَأَلَهُ فَذَكَرَ لَهُ فَأَعْتَقَ عَبْدَهُ فَرَحًا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرَ اسْتِبْشَارًا عَظِيمًا. وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِثْلَ هَذَا الْإِمَامِ الْهُمَامِ رَاضِيًا لِأَنْ أَكُونَ صَدِيقًا لَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] (وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَقَدْ يُكْسَرُ أَوَّلُهُ وَاحِدُ الْمُدَى، وَهَى سِكِّينُ الْقَصَّابِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْمُدْيَةُ مُثَلَّثَةُ الشَّفْرَةِ. (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ» ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ ذَاتَ اللَّبَنِ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَرَكُوبٍ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ لَا تَذْبَحَنَّ لَنَا شَاةً ذَاتَ دَرٍّ (فَذَبَحَ لَهُمْ) : أَيْ عَنَاقًا أَوْ جَدْيًا فَأَتَاهُمْ بِهَا، كَمَا فِي رِوَايَةِ (فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ، وَشَرِبُوا) : أَيْ: ثَانِيًا أَوِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، (فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا) : بِضَمِّ الْوَاوِ وَأَصْلُهُ رَوَيُوا فَنُقِلَتْ ضَمَّةُ الْيَاءِ إِلَى مَا قَبْلَهَا بَعْدَ سَلْبِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا فَحُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ ثَانِيًا جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ (لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» ) . قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: أَخْرَجَكُمْ. . الَخْ، جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِمُوجَبِ السُّؤَالِ عَنِ النَّعِيمِ يَعْنِي: حَيْثُ كُنْتُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى الطَّعَامِ مُضْطَرِّينَ إِلَيْهِ، فَنِلْتُمْ غَايَةَ مَطْلُوبِكُمْ مِنَ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ يَجِبُ أَنْ تَسْأَلُوا، وَيُقَالُ لَكُمْ: هَلْ أَدَّيْتُمْ شُكْرَهَا أَمْ لَا؟ ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الشِّبَعِ، وَمَا جَاءَ فِي كَرَاهَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ؟ لِأَنَّهُ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُنْسِي حَالَ الْمُحْتَاجِينَ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ؟ ، فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِهِ السُّؤَالُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ شُكْرِهِ، وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ السُّؤَالَ هَذَا سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ، وَإِعْلَامٌ بِالِامْتِنَانِ بِهَا، وَإِظْهَارُ الْكَرَامَةِ بِإِسْبَاغِهَا لَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَمُحَاسَبَةٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَسَيَأْتِي لِهَذَا تَتِمَّةٌ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّانِي، ثُمَّ فِي الشَّمَائِلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «هَلْ لَكَ خَادِمٌ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَأْتِنَا، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْسَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ؟ فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اخْتَرْ مِنْهُمَا) فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! اخْتَرْ لِي. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ. خُذْ هَذَا، فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّى وَاسْتَوْصِ "، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا "، فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا أَنْ تُعْتِقَهُ. قَالَ: فَهُوَ عَتِيقٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ» "، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الْحَدِيثِ بِكَمَالِهِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ: " كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. فِي " بَابِ الْوَلِيمَةِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4247 - عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «أَيُّمَا مُسْلِمٍ ضَافَ قَوْمًا، فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا؟ كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نَصْرُهُ حَتَّى يَأْخُذَ لَهُ بِقِرَاهُ مِنْ مَالِهِ وَزَرْعِهِ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " «وَأَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمًا فَلَمْ يُقْرُوهُ، كَانَ لَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4247 - (عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ ضَافَ قَوْمًا) : أَيْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ ضَيْفًا (فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ) : أَيْ صَارَ (مَحْرُومًا كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نَصْرُهُ) : وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ عَنْهُ: " فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ". قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مُظْهَرًا أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي ضَافَ قَوْمًا يَسْتَحِقُّ لِذَاتِهِ أَنْ يَقْرِيَ فَمَنْ مَنَعَ حَقَّهُ فَقَدْ ظَلَمَهُ، فَحَقَّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَصْرُهُ. (حَتَّى يَأْخُذَ لَهُ بِقِرَاهُ) : بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ بِضِيَافَتِهِ، وَالْمَعْنَى " بِمِثْلِ قِرَاهُ " كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَفِي رِوَايَةٍ " بِقِرَى لَيْلَتِهِ " أَيْ: بِقَدْرِ أَنْ يَصْرِفَ فِي ضِيَافَتِهِ

مِنْ مَالِهِ وَزَرْعِهِ) : وَتَوْحِيدُ الضَّمِيرِ مَعَ ذِكْرِ الْقَوْمِ بِاعْتِبَارِ الْمُنْزَلِ عَلَيْهِ، وَالْمُضِيفِ وَهُوَ وَاحِدٌ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ،. وَأَبُو دَاوُدَ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) : أَيْ لِأَبِي دَاوُدَ (وَأَيُّمَا رَجُلٍ) : الظَّاهِرُ حَذْفُ الْعَاطِفِ، فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا، فَإِنَّ مُؤَدَّاهَا وَاحِدٌ (ضَافَ قَوْمًا فَلَمْ يُقْرُوهُ) : بِسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: لَمْ يُضَيِّفُوهُ (كَانَ لَهُ) : أَيْ لِلضَّيْفِ (أَنْ يُعْقِبَهُمْ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: يُتْبِعَهُمْ وَيُؤَاخِذَهُمْ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِمْ عَقِيبَ صُنْعِهِمْ. (بِمِثْلِ قِرَاهُ) : أَيْ قَدْرِ قِرَاهُ عَادَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ سُكَّانِ الْبَوَادِي إِذَا نَزَلَ بِهِمْ مُسْلِمٌ اهـ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُضْطَرُّ النَّازِلُ بِأَحَدٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضِيَافَتُهُ. مِمَّا يَحْفَظُ عَلَيْهِ إِمْسَاكَ رَمَقَهِ، وَقِيلَ بِمِقْدَارِ مَا يُشْبِعُهُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ، فَإِنِ امْتَنَعَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَفْظُهُ: " «أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ» ".

4248 - وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ فَلَمْ يُقِرْنِي وَلَمْ يُضِفْنِي، ثُمَّ مَرَّ بِي بَعْدَ ذَلِكَ، أَأَقْرِيهِ أَمْ أَجْزِيهِ؟ قَالَ: " بَلِ اقْرِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4248 - (وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : بِحَاءٍ وَصَادٍ مُهْمَلَتَيْنِ (الْجُشَمِيِّ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَضْرٍ، سَمِعَ أَبَاهُ وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ مَالِكِ بْنِ نَضْرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخَبِرْنِي (إِنْ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ فَلَمْ يُقِرْنِي) : بِكَسْرِ الرَّاءِ تَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُضِفْنِي) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (ثُمَّ مَرَّ بِي بَعْدَ ذَلِكَ، أَأَقْرِيهِ أَمْ أَجْزِيهِ؟) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ أُكَافِئُهُ بِتَرْكِ الْقِرَى وَمَنْعِ الطَّعَامِ كَمَا فَعَلَ بِي (قَالَ: " بَلِ اقْرِهِ) : فِيهِ حَثٌّ عَلَى الْقِرَى الَّذِي هُوَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْهَا دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4249 - وَعَنْ أَنَسٍ - أَوْ غَيْرِهِ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ "، فَقَالَ سَعْدٌ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَلَمْ يُسْمِعِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُسْمِعْهُ، فَرَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا سَلَّمْتَ تَسْلِيمَةً إِلَّا هِيَ بِأُذُنِي، وَلَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ أُسْمِعْكَ، أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْتَكْثِرَ مِنْ سَلَامِكَ وَمِنَ الْبَرَكَةِ، ثُمَّ دَخَلُوا الْبَيْتَ، فَقَرَّبَ لَهُ زَبِيبًا، فَأَكَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " أَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4249 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوْ غَيْرِهِ) : أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَهُوَ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَقَدْ جَزَمَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) : أَيْ: طَلَبَ الْإِذْنَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلِاسْتِئْذَانِ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) : وَهَلْ قَالَ: " أَدْخُلُ؟ " يُحْتَمَلُ (فَقَالَ سَعْدٌ) : أَيْ سِرًّا (وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ زَادَ: " وَبَرَكَاتُهُ "، فَاخْتَصَرَهُ الرَّاوِي نِسْيَانًا (وَلَمْ يُسْمِعِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنَ الْإِسْمَاعِ أَيْ لَمْ يَقْصِدْ سَعْدٌ سَمَاعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ لَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ لِغَرَضِهِ الْآتِي وَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّمَاعِ وَهُوَ لَازِمُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَقَعَ سَلَامُ الِاسْتِئْذَانِ جَهْرًا وَجَوَابُهُ سِرًّا (حَتَّى سَلَّمَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ ثَلَاثًا) : ظَرْفٌ لِلْفِعْلَيْنِ، (وَلَمْ يُسْمِعْهُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ (فَرَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّبَعَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ فَتَبِعَهُ (سَعْدٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ) : أَيْ مُفَدًّى أَوْ أَفْدِيكَ بِأَبِي (وَأُمِّي) :

أَيْ وَبِأُمِّي، وَالْمَعْنَى أَجْعَلُكَ مَفْدِيًّا بِأَيِّهِمَا وَأُصَيِّرُهُمَا فِدَاءً لَكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِ، كَذَا فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ لِلسُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَكِنْ وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي "، وَكَذَا لِلزُّبَيْرِ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا، وَلَعَلَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ. (مَا سَلَّمْتُ تَسِلِيمَةً إِلَّا هِيَ) : وَفِي نُسْخَةٍ " إِلَّا وَهِيَ ": أَيِ التَّسْلِيمَةُ (بِأُذُنَيَّ) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ فِي مَسْمُوعِي (وَلَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ) : أَيْ أَجَبْتُكَ سِرًّا كُلَّ مَرَّةٍ (وَلَمْ أُسْمِعْكَ ; أَحْبَبْتُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، أَيْ وَدِدْتُ (أَنْ أَسْتَكْثِرَ مِنْ سَلَامِكَ وَمِنَ الْبَرَكَةِ) : أَيْ فِي سَلَامِكَ وَكَلَامِكَ. قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَضُمُّ " وَبَرَكَاتُهُ "، وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ عَدَمِ إِسْمَاعِ رَدِّ السَّلَامِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ الْخَطِيرِ، يَعْنِي لِتَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مِنْ غَيْرِ إِسْمَاعٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَرَضِ، وَلَعَلَّهُ وَقَعَ الْإِسْمَاعُ حَالَ الِاتِّبَاعِ (ثُمَّ دَخَلُوا الْبَيْتَ فَقَّرَبَ لَهُ زَبِيبًا) : أَيْ قَدَّمَ بَعْضًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَبِيبٍ " (فَأَكَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ مِنْهُ (فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ) : أَيْ دَعَا (أَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ يَجُوزُ أَنَ يَكُونَ هَذَا دُعَاءً مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا، وَهَذَا الْمَوْصُوفُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ أَبَرُّ الْأَبْرَارِ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ دُعَاءً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ أَحَدٌ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ بَرٌّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ إِطْلَاقَ الْأَبْرَارِ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى نَفْسِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِلتَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] قُلْتُ: وَكَذَا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: (وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ) : أَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَإِخْبَارًا وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَأَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ) : فَدُعَاءٌ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِهِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً تَامَّةً، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا كَانَ وَقْتَ الْإِفْطَارِ، وَلَا يُنَافِيهِ تَقْيِيدُهُ فِي رِوَايَةٍ بِقَوْلِهِ: " إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ قَوْمٍ دَعَا لَهُمْ "، بَلْ فِيهِ تَأْيِيدٌ لَهُ، فَتَأَمَّلْ غَايَتَهُ أَنَّهُ قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ لَا احْتِرَازِيٌّ (رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ جَاءَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَبِيبٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ» "، هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ قَوْمٍ دَعَا لَهُمْ فَقَالَ: " أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ ". . الْخَ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ: " أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ ". . الْخَ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَعِنْدَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بَدَلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِتَعَدُّدِ الْقَضِيَّةِ.

4250 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَمَثَلُ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي آخِيَّتِهِ يَجُولُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى آخِيَّتِهِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْهُو، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَأَطْعِمُوا طَعَامَكُمُ الْأَتْقِيَاءَ، وَأَوْلُوا مَعْرُوفَكُمُ الْمُؤْمِنِينَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4250 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : أَيِ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ صِفَتُهُ الْعَجِيبَةُ (وَمَثَلُ الْإِيمَانِ) : أَيْ: فِي حَالَتِهِ الْغَرِيبَةِ (كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي آخِيَّتِهِ) : هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ فَمُعْجَمَةٌ مَكْسُورَةٌ فَتَحْتِيَّةٌ مَشْدُودَةٌ، عُرْوَةُ حَبْلٍ فِي وَتَدٍ يُدْفَنُ طَرَفَا الْحَبْلِ فِي أَرْضٍ فَيَصِيرُ وَسَطُهُ كَالْعُرْوَةِ، وَيُشَدُّ بِهَا الدَّابَّةُ فِي الْعَلَفِ (يَجُولُ) : أَيْ يَدُورُ (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى آخِيَّتِهِ) : وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَرْبُوطٌ بِالْإِيمَانِ لَا انْفِصَامَ لَهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ إِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَحُومَ حَوْلَ الْمَعَاصِي يَتَبَاعَدُ عَنْ قَضِيَّةِ الْإِيمَانِ مِنْ مُلَازَمَةِ الطَّاعَةِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ بِالْآخِرَةِ إِلَيْهِ بِالنَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَيَتَدَارَكُ مَا فَاتَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْهُو) : أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْغَفْلَةِ عَنْ مَرَاتِبِ الْإِحْسَانِ (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْإِيمَانِ) : أَيْ بِعَوْنِ الرَّحْمَنِ (فَأَطْعِمُوا) : جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا كَانَ حُكْمُ الْإِيمَانِ حُكْمَ الْآخِيَّةِ فَقَوُّوا الْوَسَائِلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ وَأَطْعِمُوا (طَعَامَكُمُ الْأَتْقِيَاءَ) : وَإِنَّمَا خَصَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَتْقِيَاءَ بِالْإِطْعَامِ ; لِأَنَّ الطَّعَامَ يَصِيرُ جُزْءًا

لِبَدَنٍ فَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ ; فَيَدْعُو لَكَ، وَيُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُ فِي حَقِّكَ. وَرُوِيَ: " «لَا تَأْكُلْ إِلَّا طَعَامَ تَقِيٍّ، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» "، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعْرُوفِ، وَلِهَذَا عَمَّمَهُ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: (وَأَوْلُوا) : مِنَ الْإِيلَاءِ وَهُوَ الْإِعْطَاءُ، أَيْ خُصُّوا (مَعْرُوفَكُمْ) : أَيْ إِحْسَانَكُمْ (الْمُؤْمِنِينَ) : أَيْ أَجْمَعِينَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ) .

4251 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْعَةٌ، يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ، يُقَالُ لَهَا: الْغَرَّاءُ، فَلَمَّا أَضْحَوْا وَسَجَدُوا الضُّحَى، أُتِيَ بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ وَقَدْ ثُرِدَ فِيهَا، فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَثُرُوا، جَثَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا " ثُمَّ قَالَ: " كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَدَعُوا ذِرْوَتَهَا يُبَارَكْ فِيهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4251 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) : بِمُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سُلَمِيٌّ مَازِنِيٌّ، لَهُ وَلِأَبِيهِ بُسْرٍ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ عَطِيَّةَ وَأُخْتِهِ الصَّمَّاءِ صُحْبَةٌ، نَزَلَ الشَّامَ، وَمَاتَ بِحِمْصَ فَجْأَةً، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْعَةٌ) : أَيْ كَبِيرَةٌ (يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ، يُقَالُ لَهَا: الْغَرَّاءُ) : تَأْنِيثُ الْأَغَرِّ، بِمَعْنَى الْأَبْيَضِ الْأَنْوَرِ (فَلَمَّا أَضْحَوْا) : بِسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ دَخَلُوا فِي الضُّحَى (وَسَجَدُوا الضُّحَى) : أَيْ صَلَّوْهَا (أُتِيَ بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ) : أَيْ جِيءَ بِهَا. (وَقَدْ ثُرِدَ) : بِضَمِّ مُثَلَّثَةٍ وَكَسْرِ رَاءٍ مُشَدَّدَةٍ (فِيهَا) : أَيْ فِي الْقَصْعَةِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (فَالْتَفُّوا) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَضْمُومَةِ أَيِ اجْتَمَعُوا (عَلَيْهَا) : أَيْ حَوْلَهَا (فَلَمَّا كَثُرُوا) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ (جَثَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ مِنْ جِهَةِ ضِيقِ الْمَكَانِ تَوْسِعَةً عَلَى الْإِخْوَانِ. وَفِي الْقَامُوسِ: جَثَا كَدَعَا وَرَمَى جُثُوًّا وَجِثِيًّا بِضَمِّهِمَا جَلَسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ (فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟) : بِكَسْرِ الْجِيمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ نَحْوُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 64] : كَأَنَّهُ اسْتَحْقَرَهَا وَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُ عَنْ مِثْلِهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا) : أَيْ مُتَوَاضِعًا سَخِيًّا، وَهَذِهِ الْجِلْسَةُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَأَنَا عَبْدٌ وَالتَّوَاضُعُ بِالْعَبْدِ أَلْيَقُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ هَذِهِ جِلْسَةُ تَوَاضُعٍ لَا حَقَارَةٍ ; وَلِذَلِكَ وَصَفَ " عَبْدًا " بِقَوْلِهِ " كَرِيمًا " اهـ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْجِلْسَةِ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالتَّكَبُّرِ ; وَلِذَا قَالَ: (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا) : أَيْ مُتَكَبِّرًا مُتَمَرِّدًا (عَنِيدًا) : أَيْ مُعَانِدًا جَائِرًا عَنِ الْقَصْدِ، وَأَدَاءِ الْحَقِّ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ. (ثُمَّ قَالَ: كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا) : مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ أَيْ: لِيَأْكُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِيهِ مِنْ أَطْرَافِ الْقَصْعَةِ (وَدَعُوا) : أَيِ اتْرُكُوا (ذِرْوَتَهَا) : بِتَثْلِيثِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْكَسْرُ أَصَحُّ أَيْ وَسَطَهَا وَأَعْلَاهَا (يُبَارَكْ) : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ هُوَ سَبَبٌ أَنْ تَكْثُرَ الْبَرَكَةُ (فِيهَا) : أَيْ فِي الْقَصْعَةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أُكِلَ مِنْ أَعْلَاهَا انْقَطَعَ الْبَرَكَةُ مِنْ أَسْفَلِهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ. وَقَدْ سَبَقَ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ.

4252 - وَعَنْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ. قَالَ: " فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4252 - (وَعَنْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) : حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ عَنْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ، وَقَالَ: وَرَوَى عَنْهُ صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ وَغَيْرُهُ، وَيُعَدُّ فِي الشَّامِيِّينَ. وَقَالَ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ: وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْحَبَشِيُّ مِنْ سُودَانِ مَكَّةَ، مَوْلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ وَحْشِيٌّ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا، فَأَسْلَمَ بَعْدَ الطَّائِفِ وَشَهِدَ الْيَمَامَةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ قَتَلَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ فَقَالَ: قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ وَشَرَّ النَّاسِ، تُجْزِينِي هَذِهِ عَنْ هَذِهِ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ إِسْحَاقُ وَحَرْبٌ

وَغَيْرُهُمَا اهـ. وَلَمْ يَذْكُرْ وَلَدُهُ حَرْبٌ هَذَا فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ أَيْضًا كَوَلَدِهِ وَحْشِيٍّ. (أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَأْكُلُ) : أَيْ كَثِيرًا (وَلَا نَشْبَعُ) : أَيْ وَنَحْنُ نُرِيدُ الْقَنَاعَةَ، وَالْقُوَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ (قَالَ: فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ) : أَيْ حَالَ الْأَكْلِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: " فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ ". (قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) : أَيْ جَمِيعُكُمْ فِي ابْتِدَاءِ أَكْلِكُمْ (يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ) : فَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " «أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَى اللَّهِ مَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ الْأَيْدِي» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا: " «طَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» "، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] فَمَحْمُولٌ عَلَى الرُّخْصَةِ أَوْ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَلَى الشَّخْصِ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4253 - عَنْ أَبِي عَسِيبٍ، قَالَ: " «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلًا، فَمَرَّ بِي فَدَعَانِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: " أَطْعِمْنَا بُسْرًا " فَجَاءَ بِعِذْقٍ، فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ، فَشَرِبَ فَقَالَ: " لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ، قَالَ: " نَعَمْ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: خِرْقَةٍ لَفَّ بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ حُجْرٍ تَدْخُلُ فِيهِ مَنِ الْحَرِّ وَالْقُرِّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالُثُ 4253 - (عَنْ أَبِي عَسِيبٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، رَوَى عَنْهُ مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْدٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلًا فَمَرَّ بِي فَدَعَانِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبَا الْهَيْثَمِ وَتَكُونُ الْقَضِيَّةُ مُتَعَدِّدَةً، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْصَارِ (فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: " أَطْعِمْنَا بُسْرًا " ;؟ فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ) : أَيْ بَيْنِ يَدَيْهِ (فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ) : أَيْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ (فَقَالَ: لَتُسْأَلُنَّ) : بِصِيغَةِ الْمُخَاطَبِ تَغْلِيبًا وَمُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْآيَةِ، أَوْ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ مَسْئُولِينَ عَنِ النَّعْمَاءِ (عَنْ هَذَا النَّعِيمِ) : أَيْ وَعَنْ أَمْثَالِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ جَانِبَهُ، وَهَذَا وَقَعَ لَهُ مِنْ كَمَالِ الْخَوْفِ وَالْهَيْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْكُلِّيَّةِ، (ثُمَّ) : أَيْ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ مِنْ حَالِ غَيْبَتِهِ لِأَجْلِ جَذْبَتِهِ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْعِذْقَ الْمُتَنَاثِرَ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ مَحَلَّ السُّؤَالِ هُوَ النَّعِيمُ الْمَأْكُولُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ أَيْضًا. (قَالَ: نَعَمْ) : أَيْ أَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنْ كُلِّ نَعِيمٍ تَتَنَعَّمُونَ وَتَنْتَفِعُونَ بِهِ، (إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ) : أَيْ مِنْ نِعَمٍ ثَلَاثٍ، وَالْمَعْنَى مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ (خِرْقَةٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (لَفَّ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ سَتَرَ (بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ كَفَّ بِالْكَافِ أَيْ مَنْعَهَا عَنِ الْكَشْفِ (أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ) :

بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ مَصْدَرُ مَرَّةٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْجُوعُ ضِدُّ الشِّبَعِ وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ (أَوْ حُجْرًا) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ فَرَاءٍ أَيْ مَكَانٌ مُحْجَرٌ، وَمِنْهُ الْحُجْرَةُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَجْرِ مُثَلَّثَةً: الْمَنْعُ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ يَدْفَعُ وُصُولَ الشَّمْسِ وَحُصُولَ الْهَوَاءِ الْمُخَالِفِ إِلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (يَتَدَخَّلُ فِيهِ) : أَيْ يَتَكَلَّفُ فِي دُخُولِهِ لِكَوْنِهِ ضَيِّقًا أَوْ حَبْسًا (مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ) : أَيْ مِنْ أَجْلِهِمَا وَالْقُرُّ بِالضَّمِّ وَيُخَصُّ بِالشِّتَاءِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: " لَا حَرَّ وَلَا قُرَّ "، وَأَمَّا الْقَرُّ بِفَتْحِ الْقَافِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْبَارِدِ، وَأَمَّا مَا ضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْفَتْحِ فَهُوَ إِمَّا غَفْلَةٌ أَوْ أَرَادَ الْمُشَاكَلَةَ، وَأَرَادَ بِالْحَرِّ الْحَارِّ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " أَوْ حُجْرٍ " بِضَمِّ جِيمٍ فَسُكُونٍ: قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْأَنْسَبَ فِيهِ ضَمُّ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا جَاءَ سَاكِنَةً لِيُوَافِقَ الْقَرِينَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ فِي الْحَقَارَةِ تَشْبِيهًا بِجُحْرِ الْيَرَابِيعِ وَنَحْوِهَا فِي الْحَقَارَةِ، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ " يَتَدَخَّلُ "، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، بَلْ أَقَلُّ وَأَقَلُّهُ يَدْفَعُ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ زَادَ: مُرْسَلًا وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ، وَلَعَلَّهُ قُيِّدَ لِرِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي بَعْدَ هَذَا، فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَزَادَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: فَلَمَّا كَبَّرَ عَلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: " «إِنْ أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا وَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَإِذَا شَبِعْتُمْ فَقُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا وَرَوَانَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ، فَإِنَّ هَذَا كَفَافُ هَذَا» ".

4254 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ فَلَا يَقُومُ رَجُلٌ حَتَّى تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ، وَلَا يَرْفَعْ يَدَهُ وَإِنْ شَبِعَ حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ، وَلْيُعْذِرْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ، فَيَقْبِضُ يَدَهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةٌ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4254 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ) : أَيِ السُّفْرَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا لَا الْخِوَانِ، فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ (فَلَا يَقُومُ رَجُلٌ) : أَيْ أَحَدٌ (حَتَّى تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ، وَلَا يَرْفَعُ) : أَيْ رَجُلٌ (يَدَهُ وَإِنْ شَبِعَ) : أَيْ وَلَوْ شَبِعَ (حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ وَلْيُعْذِرْ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ. فَفِي الْقَامُوسِ عَذَرَ وَأَعْذَرَ أَبْدَى عُذْرًا. أَيْ: لِيَعْتَذِرْ وَيَذْكُرْ عُذْرَهُ إِنْ قَامَ وَرَفَعَ (فَإِنَّ ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقِيَامِ وَالرَّفْعِ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (يُخْجِلُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَيُشَدَّدُ (جَلِيسَهُ) : أَيْ مُجَالِسَهُ. فَفِي الْقَامُوسِ خَجِلَ كَفَرِحَ اسْتَحْيَى وَدُهِشَ وَأَخْجَلَهُ خَجَّلَهُ (فَيَقْبِضُ) : أَيْ فَيَمْسِكُ حِينَئِذٍ جَلِيسُهُ (يَدَهُ) : وَيَمْتَنِعُ عَنِ الْأَكْلِ (وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةٌ) : أَيْ بَاقِيَةٌ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ مُقَدَّرٌ أَيْ وَلْيُعْذِرْ إِنْ رَفَعَ يَدَهُ، فَإِنَّ رَفْعَ يَدِهِ عَنِ الطَّعَامِ بِلَا عُذْرٍ يُخْجِلُ صَاحِبَهُ، وَمِنْهُ أَخَذَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَا يُمْسِكُ يَدَهُ قَبْلَ إِخْوَانِهِ إِذَا كَانُوا يَحْتَشِمُونَ الْأَكْلَ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْأَكْلِ تَوَقَّفَ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَلَّلَ الْأَكْلَ، وَإِنِ امْتَنَعَ بِسَبَبٍ فَلْيَعْتَذِرْ إِلَيْهِمْ دَفْعًا لِلْخَجْلَةِ عَنْهُمْ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُرْسَلًا، وَهُوَ خَطَأٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

4255 - وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَكَلَ مَعَ قَوْمٍ كَانَ آخِرَهُمْ أَكْلًا» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4255 - (وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ) : رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَهُوَ الْإِمَامُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ (عَنْ أَبِيهِ) : أَيِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ كَمَا سَبَقَ، سَمِعَ أَبَاهُ الْإِمَامَ زَيْنَ الْعَابِدِينَ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَكَلَ مَعَ قَوْمٍ كَانَ آخِرَهُمْ أَكْلًا. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : أَيْ مُرْسَلًا كَمَا هُوَ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ ; وَلِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُرْسَلِ صَادِقٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ التَّابِعِيَّ إِذَا رَفَعَ الْحَدِيثَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصَّحَابِيِّ فَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُرْسَلَ هَلْ حُجَّةٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَمْ لَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؟ ، فَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ تَرْكِ قَوْلِهِ مُرْسَلًا مُوهِمٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُتَّصِلًا، وَهُوَ مُخِلٌّ بِالْمَقْصُودِ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ تَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى وُضُوحِهِ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4256 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَعَامٍ، فَعَرَضَ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: لَا نَشْتَهِيهِ. قَالَ: " لَا تَجْتَمِعْنَ جُوعًا وَكَذِبًا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4256 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) : لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ جِيءَ (بِطَعَامٍ فَعُرِضَ عَلَيْنَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ (فَقُلْنَا: لَا نَشْتَهِيهِ) : أَيْ عَلَى مَا هُوَ الْعَادَةُ (قَالَ: لَا تَجْتَمِعْنَ) : مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ، وَفِي نُسْخَةٍ " لَا تَجْمَعْنَ " (جُوعًا وَكَذِبًا) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَيَجُوزُ كَسْرُ الْكَافِ وَسُكُونُ الذَّالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي إِبَاؤُكُنَّ عَنِ الطَّعَامِ بِقَوْلِكُنَّ: لَا نَشْتَهِيهِ وَأَنْتُنَّ جَائِعَاتٌ جَمْعٌ بَيْنَ الْجُوعِ وَالْكَذِبِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ: " الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ " اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِيهِ تَحْذِيرًا لَهُنَّ عَنِ الْكَذِبِ ; فَإِنَّهُ يُورِثُ فِي هَذَا الْمَقَامِ جَمْعًا بَيْنَ خَسَارَتَيِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا الْجَزْمَ بِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُنَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَتَأَمَّلْ ; فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

4257 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ; فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4257 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُوا جَمِيعًا) : أَيْ حَالَ كَوْنِكُمْ مُجْتَمِعِينَ (وَلَا تَفَرَّقُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ (فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَقَدْ سَبَقَ لَهُ نَظَائِرُ.

4258 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مِنَ السَّنَةِ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مَعَ ضَيْفِهِ إِلَى بَابِ الدَّارِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4258 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِنَ السُّنَّةِ) : أَيِ الْعَادَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ أَوْ مِنْ سُنَنِي وَطَرِيقَتِي (أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مَعَ ضَيْفِهِ إِلَى بَابِ الدَّارِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ زِيَادَةِ الْإِكْرَامِ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ دَفْعُ مَا يَتَوَهَّمُ جِيرَانُهُ مِنْ دُخُولِ الْأَجْنَبِيِّ بَيْتَهُ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ عَنْهُ وَحْدَهُ.

4259 - وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4259 - (وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " عَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَيْ أَيْضًا وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ عَنْهُمَا، أَوْ بِإِسْنَادَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِسْنَادٌ. (وَقَالَ) : أَيِ الْبَيْهَقِيُّ (فِي إِسْنَادِهِ) : أَيْ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ (ضَعْفٌ) : لَكِنَّهُ يَنْجَبِرُ بِتَعَدُّدِ إِسْنَادِهِ مَعَ أَنَّهُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.

4260 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْخَيْرُ أَسْرَعُ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي يُؤْكَلُ فِيهِ مِنَ الشَّفْرَةِ إِلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4260 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْخَيْرُ أَسْرَعُ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي يُؤْكَلُ فِيهِ» ) : أَيْ لِلضِّيَافَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " الَّذِي يُغْشَى ": أَيْ يَغْشِيهِ الضِّيفَانُ (مِنَ الشَّفْرَةِ إِلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ) : بِفَتْحِ السِّينِ فَفِي الْقَامُوسِ: السَّنَامُ كَسَحَابِ مَعْرُوفٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ سُرْعَةَ وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي يَتَثَاوَبُ الضِّيفَانُ فِيهِ بِسُرْعَةِ وُصُولِ الشَّفْرَةِ إِلَى السَّنَامِ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يُقْطَعُ وَيُؤْكَلُ لِاسْتِلْذَاذِهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) هَذَا الْبَابُ لَيْسَ لَهُ تَرْجَمَةٌ، بَلْ مِنْ مُلْحَقَاتِ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، وَلَوْ عَنْوَنُوا بِبَابِ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ لَكَانَ مُنَاسِبًا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ) : أَيْ فِي الْمَصَابِيحِ (عَنِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) : يَعْنِي عَنِ الصِّحَاحِ فَهَذَا اعْتِذَارٌ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنَ الْأَصْلِ أَصْلًا، وَهُوَ خَالٍ أَيْضًا عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الِاعْتِذَارِ، وَلِهَذَا يُتَعَرَّضُ لَهُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: " وَعَنِ الثَّالِثِ " أَيْ وَعَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ

[باب في متى يكون المرء مضطرا لتحل له الميتة]

[بَابٌ فِي مَتَى يَكُونُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا لِتَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ]

(2) بَابٌ فِي مَتَى يَكُونُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا لِتَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْفَصْلُ الثَّانِي 4261 - «عَنِ الْفُجَيْعِ الْعَامِرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الْمِيتَةِ؟ ، قَالَ: " مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَ: نَغْتَبِقُ وَنَصْطَبِحُ ". قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَسَّرَهُ لِي عُقْبَةُ: قَدَحٌ غُدْوَةً، وَقَدَحٌ عَشِيَّةً. قَالَ: " ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ "، فَأَحَلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (2) بَابٌ فِي مَتَى يَكُونُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا لِتَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْفَصْلُ الثَّانِي 4261 - (عَنِ الْفُجَيْعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحَ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ وَالْمُغَنِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ (الْعَامِرِيِّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي عَامِرٍ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْمِهِ وَسَمِعَ مِنْهُ، وَرَوَى عَنْهُ وَهْبُ بْنُ عُقْبَةَ (أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لَنَا؟) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ مَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ (مِنَ الْمَيْتَةِ؟) : وَنَحْنُ الْقَوْمُ الْمُضْطَرُّونَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ: " مَا يُحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةَ؟ " يَعْنِي بِضَمِّ الْيَاءِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِنَسَقِ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الْإِبَاحَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: السُّؤَالُ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْمِقْدَارِ نَظَرٌ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِهِ، وَهَلْ يَصِحُّ تَفْسِيرُ عُقْبَةَ: قَدَحٌ غُدْوَةً وَقَدَحٌ عَشِيَّةً إِلَّا عَلَى هَذَا، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقَوْمَ جَاءُوا يَشْكُونَ الْجُوعَ، وَأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَسُدُّ بِهِ جَوْعَتَهُمْ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ: " إِنَّمَا نَكُونُ بِأَرْضٍ فَتُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ "، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا عِنْدَنَا مَا نَسُدُّ بِهِ جَوْعَتَنَا، فَمَا مِقْدَارُ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الْمَيْتَةِ؟ وَلِهَذَا سَأَلَ عَنْ مِقْدَارِ طَعَامِهِمْ، فَأَجَابُوا: قِدْرُ لَبَنٍ غُدْوَةً وَقَدَحُ لَبَنِ عَشِيَّةً، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا فَوْرَ جُوعِهِمْ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: " ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ "، فَأَبَاحَ لَهُمْ مِقْدَارَ مَا يَسُدُّ بِهِ جَوْعَتَهُمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْمِقْدَارِ تَفْسِيرُ أَبِي نُعَيْمٍ قَدَحٌ غُدْوَةً وَقَدَحٌ عَشِيَّةً لِقَوْلِهِ: نَغْتَبِقُ وَنَصْطَبِحُ. أَيْ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ قَدَحٌ غُدْوَةً، وَجُعِلَ اللَّبَنُ طَعَامًا لِأَنَّهُ يُجْزِي عَنْهُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ التَّاسِعُ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي بَابِ الْأَشْرِبَةِ اهـ. وَقَدْ أَغْرَبَ فِي كَلَامِهِ حَيْثُ لَمْ يُفْهَمْ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيْخِ فِي الْبَحْثِ اللَّفْظِيِّ الْمُتَعَلِّقِ بِقَوْلِهِ: " يَحِلُّ "، فَأَنْكَرَهُ، وَتَبِعَهُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ الَّذِي قَالَ بِهِ الشَّيْخُ، فَإِنَّ الْمَعْنَى عِنْدَ الْكُلِّ أَنَّ مِقْدَارَ الْإِحْلَالِ هُوَ الْقَدَحَانِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: " مَا يُحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةَ؟ " كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لَا عَلَى رِوَايَةِ الْكِتَابِ، وَهُوَ " مَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الْمَيْتَةِ؟ "، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَيُّ مِقْدَارٍ مِنَ الْمَيْتَةِ يَحِلُّ لَنَا، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ اتِّفَاقًا، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَكَلَّفَ فِي الْجَوَابِ عَنْ رِوَايَةِ الْكِتَابِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ هِيَ الْحَالَةُ، فَالْمَعْنَى حَالَةٌ يَحِلُّ لَنَا فِيهَا بَعْضُ الْمَيْتَةِ عَلَى أَنَّ " مِنْ " تَبْعِيضِيَّةٌ، أَوِ الْمَيْتَةُ عَلَى أَنَّ " مِنْ " زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ: " فَمَتَى يَحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةُ؟ " أَيْ أَكْلُهَا، فَلَمَّا تَقَرَّرَ السُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ (قَالَ) : فِي تَحْقِيقِ الْحَالِ (مَا طَعَامُكُمْ؟) : أَيْ مَا مِقْدَارُ مَذُوقِكُمُ الَّذِي تَجِدُونَهُ، فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا حُكْمُهُ مَعْلُومٌ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى السُّؤَالِ (قُلْنَا: نَغْتَبِقُ) : بِسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (وَنَصْطَبِحُ) : بِإِبْدَالِ التَّاءِ طَاءً أَحُطُّ مَرَّةً فِي الْعَشَاءِ وَمَرَّةً فِي الْغَدَاءِ، وَلَعَلَّهُ قَدَّمَ الْعَشَاءَ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ أَتَمُّ. وَفِي النِّهَايَةِ: الصَّبُوحُ الْغَدَاءُ وَالْغَبُوقُ الْعَشَاءُ، وَأَصْلُهُمَا فِي الشَّرَابِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَا فِي الْأَكْلِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّهُمَا مُسْتَعْمَلَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَصْلِهِمَا، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: وَيُسْتَعْمَلَانِ فِي الْأَكْلِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ إِطْلَاقُ الِاغْتِبَاقِ، وَالِاصْطِبَاحِ مُشْكِلًا، فَإِنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَعِيشُ بِهِمَا عَلَى وَجْهِ الشِّبَعِ عُمْرًا طَوِيلًا، فَكَيْفَ تَكُونُ حَالَةُ الِاضْطِرَارِ؟ . (قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ) : أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (فَسَّرَهُ لِي) : أَيْ بَيَّنَ الْمُرَادَ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، وَأَوَّلَهُ لِأَجْلِي (عُقْبَةُ) : يَعْنِي شَيْخَهُ وَهُوَ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ أَيْضًا (قَدَحٌ) : أَيْ مِلْءَ قَدَحٍ مِنَ اللَّبَنِ (غُدْوَةً، وَقَدَحٌ عَشِيَّةً) : فَيَصِيرُ مَعْنَى الْحَدِيثِ نَشْرَبُ وَقْتَ الصَّبَاحِ قَدَحًا، وَوَقْتَ الْعَشَاءِ قَدَحًا (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ) : قِيلَ:

وَلَعَلَّ هَذَا الْحَلِفَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الْقَسَمِ بِالْآبَاءِ، أَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ بِلَا قَصْدٍ إِلَى الْيَمِينِ، وَلَا قَصْدٍ إِلَى تَعْظِيمِ الْأَبِ، كَمَا فِي: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هِيَ كَلِمَةٌ جَاءَ بِهَا عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ، يَسْتَعْمِلُهَا كَثِيرٌ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ يُرِيدُ بِهَا التَّوْكِيدَ. قُلْتُ: وَهُوَ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيدٌ جِدًّا، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَ " أَبِي " جُمْلَةُ قَسَمِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ الدَّالَّيْنِ عَلَى الْجَوَابِ يَعْنِي مُجْمَلًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ الشُّرْبُ الَّذِي تَقُولُونَ قَلِيلٌ تَجُوعُونَ فِيهِ وَتَحْتَاجُونَ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: (فَأَحَلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ مَعَ أَدْنَى شِبَعٍ، وَالتَّنَاوُلَ مِنْهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ، وَقَدْ خَالَفَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي يُبِيحُ لَهُ الْمَيْتَةَ هُوَ الِاضْطِرَارُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ مَا يَتَبَلَّغُ بِهِ مِنَ الْغَبُوقِ وَالصَّبُوحِ فَيُمْسِكُ الرَّمَقَ، فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: الِاغْتِبَاقُ بِقَدَحٍ وَالِاصْطِبَاحُ بِآخَرَ كَانَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ قَوْلُ السَّائِلِ: (مَا يَحِلُّ لَنَا؟) كَأَنَّهُ كَانَ وَافِدَ قَوْمِهِ فَلَمْ يَسْأَلْ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، وَكَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا طَعَامُكُمْ؟) ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْمَ مُضْطَرُّونَ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِعَدَمِ الْغِنَى فِي إِمْسَاكِ الرَّمَقِ بِمَا وَصَفَهُ مِنَ الطَّعَامِ، أَبَاحَ لَهُمْ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ. هَذَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْقَدَحُ مِنَ اللَّبَنِ بِالْغُدْوَةِ وَالْقَدَحُ بِالْعَشِيِّ يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيُقَيِّمُ النَّفْسَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِعُ الشِّبَعَ التَّامَّ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ، وَكَانَ دَلَالَتَهُ أَنَّ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ مُبَاحٌ إِلَى أَنْ تَأْخُذَ مِنَ الْقُوتِ الشِّبَعِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ اهـ. وَأَغْرَبَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَ لَا يَشْبَعُ الشِّبَعَ التَّامَّ حَيْثُ يَشْعُرُ بِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ يَحِلُّ مَعَ الشِّبَعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَامًّا، وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا قَالَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ ; فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَالِ فَمَمْنُوعٌ، إِذْ لَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مَعَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ وَمُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ كَمَا سَبَقَ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ، لَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدَةَ تَرْجِيحُ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُبَاحِ احْتِيَاطًا، وَقَدْ خَطَرَ بِالْبَالِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ - أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّائِرِينَ الْمُسَافِرِينَ الْمُضْطَرِّينَ إِلَى سَيْرِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شُرْبَ الْقَدَحَيْنِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ قَلِيلٌ جِدًّا لَا يَسُدُّ مَسَدَّ شَيْءٍ لِاحْتِرَاقِهِ بِحَرَارَةِ حَرَكَةِ الْمَشْيِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَاطِنِينَ فِي أَمَاكِنِهِمْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسُدُّ مَسَدَّ رَمَقِهِمْ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ ; فَبَعْضُهُمْ يَصُومُونَ وِصَالًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ إِلَى أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مَاءً، أَوْ يَأْكُلُونَ لَوْزَةً، وَبَعْضُهُمْ لَهُمْ قُوَّةُ الشَّهِيَّةِ بِحَيْثُ يَأْكُلُونَ غَنَمًا أَوْ بَقَرًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ السَّائِلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ هُوَ الْوَافِدُ، وَفِي الثَّانِي قَالَ سَائِلُهُمْ: إِنَّمَا نَكُونُ بِأَرْضٍ فَتُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

4262 - وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَكُونُ بِأَرْضٍ فَتُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ، فَمَتَى يَحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةُ؟ قَالَ: " مَا تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَحْتَفِئُوا بِهَا بَقْلًا، فَشَأْنَكُمْ بِهَا " مَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ تَجِدُوا صَبُوحًا أَوْ غَبُوقًا وَلَمْ تَجِدُوا بَقْلَةً تَأْكُلُونَهَا حَلَّتْ لَكُمُ الْمَيْتَةُ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4262 - (وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (اللَّيْثِيِّ) : صَحَابِيٌّ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ، مَاتَ بِمَكَّةَ. (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَكُونُ بِأَرْضٍ فَتُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ) : أَيِ الْمَجَاعَةُ (فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةُ؟) قَالَ: " مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " أَوْ " لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ أَيْ مَا لَمْ يَجِدُوا أَحَدَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ، أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ لَمْ تَجِدُوا صَبُوحًا وَلَا غَبُوقًا،

(أَوْ تَحْتَفِئُوا) : بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ أَيْ أَوْ لَمْ تَعْتَلِفُوا (بِهَا) : أَيْ مِنَ الْأَرْضِ (بَقْلًا، فَشَأْنَكُمْ) : بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمُوا شَأْنَكُمْ (بِهَا) : أَيْ بِالْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا حَلَّتْ لَكُمْ حِينَئِذٍ. وَفِي النِّهَايَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: صَوَابُهُ مَا لَمْ يُحْتِفُوا بِغَيْرِ هَمْزٍ مِنْ إِحْفَاءِ الشَّعْرِ، وَمَنْ قَالَ تَحْتَفِئُوا مَهْمُوزًا مِنَ الْحَفَأِ وَهُوَ الْبَرْدِيُّ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّ الْبَرْدِيَّ لَيْسَ مِنَ الْبُقُولِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مِنَ الْحَفَأِ مَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ وَهُوَ أَصْلُ الْبَرْدِيِّ الْأَبْيَضِ الرَّطْبِ مِنْهُ، وَقَدْ يُؤْكَلُ بِقَوْلِهِ: مَا لَمْ تَعْتَلِفُوا، وَهَذَا بِعَيْنِهِ فَيَأْكُلُونَهُ، وَيُرْوَى " مَا لَمْ تَحْتَفُّوا " بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ مِنِ احْتَفَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخَذْتَهُ كُلَّهُ كَمَا تَحُفُّ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا مِنَ الشَّعْرِ. وَيُرْوَى مَا لَمْ يَحْتَفُوا بَقْلًا أَيْ: يَقْلَعُوهُ وَيَرْمُوا بِهِ مِنْ حَفَأَتِ الْقِدْرُ إِذَا رَمَيْتَ بِمَا يَجْتَمِعُ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الزَّبَدِ وَالْوَسَخِ، وَيُرْوَى بِالْخَاءِ يُقَالُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَأَخْفَيْتُهُ إِذَا سَتَرْتَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " أَوْ " فِي الْقَرِينَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] ، وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخِلَالِ الثَّلَاثِ حَتَّى يَحِلَّ تَنَاوُلُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ كَمَا عَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ: إِذَا اصْطَبَحَ الرَّجُلُ أَوْ تَغَدَّى بِطَعَامٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ نَهَارَهُ ذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةَ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَعَشَّى أَوْ شَرِبَ غَبُوقًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ لَيْلَتَهُ تِلْكَ لِأَنَّهُ يَتَبَلَّغُ بِتِلْكَ الشَّرْبَةِ اهـ. وَالِاخْتِلَافُ اللَّاحِقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الِاصْطِبَاحِ وَالِاغْتِبَاقِ هُنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشِّبَعِ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الِاصْطِبَاحِ وَالِاغْتِبَاقِ الْمُؤَوَّلِ بِالْقَدَحَيْنِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُمَا مِمَّا لَا يُكْتَفَى بِهِمَا فِي دَفْعِ الْجُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِهِ أَيْضًا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَتَدَبَّرْ، وَيُسْتَفَادُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ إِذَا كَانَتْ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ: فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ لَمْ تَحِلَّ الْمَيْتَةُ وَإِلَّا حَلَّتْ فَيُوَافِقُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي حِلِّهَا مَعَ اجْتِمَاعِ الصَّبُوحِ وَالْغَبُوقِ، وَكَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ " أَوْ " لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَيْ مَا دَامَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَيْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى حَدِّ {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ لِأَنَّهُ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَالْمَعْنَى فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أَيْ بِطَرِيقِ الشِّبَعِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ، ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا لِلْمَصَابِيحِ مِنْ عُلَمَائِنَا ذَهَبَ فِي وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ إِلَى نَحْوِ مَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ فِيمَا حَرَّرْتُهُ فَقَالَ: وَقِيلَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " نَغْتَبِقُ وَنَصْطَبِحُ " أَنَّ غَايَةَ مَا نَتَعَشَّى بِهِ وَنَتَغَدَّى فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، قَدَحٌ فِي الْعَشَاءِ، وَقَدَحٌ فِي الْغَدَاءِ، وَيُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: " مَا طَعَامُكُمْ؟ "، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عُرْفًا عَلَى السُّؤَالِ عَمَّا هُوَ الْغَالِبُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ يُفْضِي إِلَى مُكَابَدَةِ الْجُوعِ وَتَحَلُّلِ الْبَدَنِ وَتَعَطُّلِ الْجَوَارِحِ ; وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ " وَأَلْحَقَهُمْ بِالْمُضْطَرِّينَ وَرَخَّصَ لَهُمْ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، وَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ (مَا لَمْ يَصْطَحِبُوا) . . الَخْ فِي زَمَانِ الْمَخْمَصَةِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَحَالٍ دُونَ حَالٍ، أَوْ بِالِاغْتِبَاقِ وَالِاصْطِبَاحِ تَنَاوَلَ مَا يُشْبِعُهُمْ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْفِيهِمْ وَيَحْفَظُ قُوَاهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُهُ: " مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا " " مَا " لِلْمُدَّةِ، وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَحِلُّ لَكُمْ مُدَّةَ عَدَمِ اصْطِبَاحِكُمْ. . الَخْ. وَالْفَاءُ فِي " فَشَأْنَكُمْ " جَزَاؤُهُ أَيْ: مَهْمَا فَقَدْتُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَالْتَزِمُوا تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا} [المائدة: 4] ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ مَسْرُوقٌ: " مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى يَمُوتَ دَخَلَ النَّارَ " قَالَ مَعْمَرٌ: وَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْخَمْرِ رُخْصَةٌ ". قُلْتُ: وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا أَيْضًا بِمَا سَبَقَ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ شُرْبِ الدَّمِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ مَعَ نَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ فِي الْخَمْرِ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا، فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِجَوَازِ إِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ فِي الْحَلْقِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهَا. (رَوَاهُ الدَّارِمِيِّ) . وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ.

[باب الأشربة]

[بَابُ الْأَشْرِبَةِ]

(3) بَابُ الْأَشْرِبَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4263 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتَيْنِ وَيَقُولُ: " إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ (3) بَابُ الْأَشْرِبَةِ جَمْعُ شَرَابٍ وَهُوَ مَا يُشْرَبُ مِنْ مَاءٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4263 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ) : أَيْ أَثْنَاءَ شُرْبِهِ (ثَلَاثًا) : أَيْ غَالِبًا، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا شَرِبَ يَتَنَفَّسُ مَرَّتَيْنِ» أَيْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَتِهِ فِي جَامِعِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَيْضًا مَرْفُوعًا: " «لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ» ". قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُشْرَبَ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُبَيِّنُ الْإِنَاءَ عَنْ فَمِهِ فَيَتَنَفَّسُ، ثُمَّ يَعُودُ، وَالْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ، هُوَ أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَهُ عَنْ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: الشُّرْبُ بِثَلَاثِ دَفَعَاتٍ أَقْمَعُ لِلْعَطَشِ، وَأَقْوَى عَلَى الْهَضْمِ، وَأَقَلُّ أَثَرًا فِي بَرْدِ الْمَعِدَةِ وَضَعْفِ الْأَعْصَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا "، وَ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ ; لِأَنَّهُ إِنْ رُوِيَ بِنَفَسَيْنِ اكْتَفَى بِهِمَا وَإِلَّا فَثَلَاثٌ، وَهَذَا لَيْسَ نَصًّا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَرَّتَيْنِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنَفُّسَ فِي الْأَثْنَاءِ وَسَكَتَ عَنِ التَّنَفُّسِ الْأَخِيرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَتْمِ عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ لِوُضُوحِهِ، (وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ وَيَقُولُ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّهُ) : أَيْ تَعَدُّدَ التَّنَفُّسِ أَوِ التَّثْلِيثَ (أَرْوَى) : أَيْ: أَكْثَرُ رِيًّا وَأَدْفَعُ لِلْعَطَشِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ أَشَدُّ رِوَاءً فَحَذَفَ الْوَصْلَةَ، كَقَوْلِهِ: " أَذْهَبُ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ ". (وَأَبْرَأُ) : مِنَ الْبُرْءِ أَيْ وَأَكْثَرُ بُرْءًا أَيْ صِحَّةً لِلْبَدَنِ. قَالَهُ الْمُظْهِرُ وَغَيْرُهُ. (وَأَمْرَأُ) : مِنْ مَرَأَ الطَّعَامُ إِذَا وَفَقَ الْمَعِدَةَ أَيْ أَكْثَرُ انْسِيَاغًا وَأَقْوَى هَضْمًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: وَوَرَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَشْرَبُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ إِذَا أَدْنَى الْإِنَاءَ إِلَى فِيهِ سَمَّى اللَّهَ، وَإِذَا أَخَّرَهُ حَمِدَ اللَّهَ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا.

4264 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4264 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الشُّرْبِ) : بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ، مَصْدَرٌ وَالضَّمُّ أَشْهَرُ، ثُمَّ الْفَتْحُ وَقُرِئَ، بِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] ، وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ أَيْضًا، لَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ مِنَ الْمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] ، (مِنْ فِي السِّقَاءِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَذَلِكَ أَنَّ جَرَيَانَ الْمَاءِ دَفْعَةً وَانْصِبَابَهُ فِي الْمَعِدَةِ مُضِرٌّ بِهَا، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدَّفَعَاتِ كَمَا سَبَقَ اهـ ; وَلِأَنَّ الْعَبَّ مَذْمُومٌ وَلَا يُمْكِنُ مَصُّ الْمَاءِ عِنْدَ شُرْبِهِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِىُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «مُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا وَلَا تَعُبُّوهُ عَبًّا» ". وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَبُّ الشُّرْبُ بِلَا تَنَفُّسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي شِهَابٍ مُرْسَلًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْعَبِّ نَفَسًا وَاحِدًا وَقَالَ: " ذَلِكَ شُرْبُ الشَّيْطَانِ ". وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا " «إِذَا شَرِبْتُمْ فَاشْرَبُوهُ مَصًّا، وَلَا تَشْرَبُوهُ عَبًّا» " ; فَإِنَّ الْعَبَّ يُورِثُ الْكُبَادَ ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ حُسَيْنٍ مُرْسَلًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

4265 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَ " وَاخْتِنَاثُهَا ": أَنْ يُقْلَبَ رَأْسُهَا، ثُمَّ يُشْرَبَ مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4265 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ» ) : جَمْعُ السِّقَاءِ وَهِيَ الْقِرْبَةُ، (زَادَ) : أَيْ أَبُو سَعِيدٍ (فِي رِوَايَةٍ وَ " اخْتِنَاثُهَا ": أَنْ يُقْلَبَ رَأْسُهَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُشْرَبَ مِنْهُ) : وَيَجُوزُ كَوْنُهُمَا مَعْلُومَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الِاخْتِنَاثُ أَنْ يَكْسِرَ شَفَةَ الْقِرْبَةِ وَيَشْرَبَ مِنْهَا. قِيلَ: إِنَّ الشُّرْبَ مِنْهَا كَذَلِكَ إِذَا دَامَ مِمَّا يُغَيِّرُ رِيحَهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ إِبَاحَةُ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ السِّقَاءِ الْكَبِيرِ دُونَ الْأَدَاوَةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ أَنَّهُ أَبَاحَهُ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَالنَّهْيِ لِئَلَّا يَكُونَ عَادَةً، وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَاهُ لِسِعَةِ فَمِ السِّقَاءِ لِئَلَّا يَنْصَبَّ الْمَاءُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ يَكُونُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ دَابَّةٌ. وَرَوَى عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ مِنْهُ حَيَّةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

4266 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4266 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى) : أَيْ فِي تَنْزِيهٍ وَتَأْدِيبٍ وَتَنْبِيهٍ. (أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ " حَذِرٌ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ» "، وَفِي أُخْرَى: " «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ» "، وَرُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - شَرِبَ قَائِمًا وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ» ، وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَأَوَّلُوا فِيهَا بِمَا لَا جَدْوَى فِي نَقْلِهِ، وَالصَّوَابُ فِيهَا أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَأَمَّا شُرْبُهُ قَائِمًا فَبَيَانٌ لِلْجَوَازِ، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ النَّسْخَ أَوِ الضَّعْفَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَكَيْفَ يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخُ، وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ وَإِلَى الْقَوْلِ بِالضَّعْفِ مَعَ صِحَّةِ الْكُلِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ) فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَتَقَيَّأَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَقَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا النَّهْيُ مِنْ قَبِيلِ التَّأْدِيبِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَا هُوَ الْأَخْلَقُ وَالْأَوْلَى، وَلَيْسَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ حَتَّى يُعَارِضَهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَاهُ الضِّيَاءُ وَزَادَ: " وَالْأَكْلُ قَائِمًا ".

4267 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَقِئْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4267 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ) : أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ) : أَيْ مِنْكُمْ كَمَا فِي نُسْخَةِ (فَلْيَسْتَقِئْ) : أَيْ فَلْيَتَكَلَّفْ لِلْقَيْءِ، فَإِنَّ الِاسْتِقَاءَ وَالتَّقَيُّؤَ التَّكَلُّفَ فِي الْقَيْءِ وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: " فَمَنْ نَسِيَ " لَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْعَامِدِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَدْ يُطْلَقُ النِّسْيَانُ وَيُرَادُ بِهِ التَّرْكُ مُطْلَقًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا ; لِأَنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا نَبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَامِدَ لَا يَفْعَلُ، مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ يَبْعُدُ مِنْهُ التَّوْبَةُ عَنْهُ سَرِيعًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4268 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4268 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ» ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَذَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنِ النَّوَوِيِّ، وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلْقُعُودِ لِازْدِحَامِ النَّاسِ عَلَى مَاءِ زَمْزَمَ، أَوِ ابْتِلَالِ الْمَكَانِ مَعَ احْتِمَالِ النَّسْخِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُهُ صَنَعَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْهَى عَنْهُ "، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ التَّحْقِيقِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4269 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ، حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أُنَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4269 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى الظَّهْرُ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ) : أَيْ لِأَجْلِ حَاجَاتِهِمْ وَقَضَاءِ خُصُومَاتِهِمْ (فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْحَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: فِي مَوْضِعٍ ذِي فَضَاءٍ وَفُسْحَةٍ بِالْكُوفَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ: رَحَبَةُ الْمَكَانِ مُحَرَّكَةً وَيُسَكَّنُ سَاحَتُهُ وَمُتَّسَعُهُ، وَفِي الْمُغْرِبِ: رَحَبَةُ الدَّارِ سَاحَتُهَا بِالتَّحْرِيكِ وَالتَّسْكِينِ وَالتَّحْرِيكُ أَحْسَنُ، وَفِي الصِّحَاحِ: رَحَبَةُ الْمَسْجِدِ بِالتَّحْرِيكِ سَاحَتُهُ، وَالْمَعْنَى اسْتَمَرَّ عَلَى قُعُودِهِ هُنَاكَ لِلنَّاسِ (حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ) : أَيْ جِيءَ بِهِ (فَشَرِبَ) : أَيْ أَوَّلًا، وَلَعَلَّهُ كَانَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاسْتِحْبَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمُضُ وَبَلَعَ الْمَاءَ ; فَعَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: فَشَرِبَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ شَرِبَ أَوَّلًا حَتَّى يَدُلَّ عَلَى أَنَّ شُرْبَهُ الْأَخِيرَ قُصِدَ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اتَّفَقَ لَهُ الشُّرْبُ بِنَاءً عَلَى عَطَشِهِ حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ) : أَيِ الرَّاوِي بَعْدَ قَوْلِهِ: وَجْهَهُ وَيَدَهُ ; (رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ) : وَفَائِدَةُ الذِّكْرِ أَنَّ رَاوِيَ الرَّاوِي نَسِيَ مَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي فِي شَأْنِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ اللَّاحِقَ نَسِيَ تَفْصِيلَ قَوْلِ الرَّاوِي السَّابِقِ: أَنَّهُ هَلْ قَالَ: مَسَحَ رَأْسَهُ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ قَالَ: وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ؟ وَالْمُرَادُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ غَسْلُهُمَا خَفِيفًا أَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَسْحِ تَغْلِيبًا أَوْ مِنْ قَبِيلِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَوْ كَانَ لَابِسًا لِلْخُفِّ أَوْ أَرَادَ بِهِ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ، وَيَمْسَحُ أَعْضَاءَهُ لِيَكُونَ نُورًا عَلَى نُورٍ، أَوْ أَرَادَ التَّبْرِيدَ وَالتَّنْظِيفَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا تَرْكُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَسَائِرِ السُّنَنِ، وَسَيَأْتِي مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ قَالَ الرَّاوِي: وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ عَطَفًا عَلَى الْمَغْسُولَيْنِ اعْتِمَادًا عَلَى الْفَهْمِ بِأَنَّ الرَّأْسَ يُمْسَحُ وَلَا يُغْسَلُ، وَاخْتَارَ الرَّاوِي الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ لِيَتَخَلَّصَ مِنَ الْعُقْدَةِ بِيَقِينٍ. (ثُمَّ قَامَ) : أَيْ عَنْ مَكَانِ وُضُوئِهِ قَاصِدًا لِلصَّلَاةِ أَوْ لِمَكَانِهَا، (فَشَرِبَ فَضْلَهُ) : أَيْ فَضْلَ مَاءِ الْوُضُوءِ وَهُوَ بَقِيَّتُهُ. (وَهُوَ قَائِمٌ) : أَيْ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى قِيَامِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَشَرِبَ عَطْفٌ عَلَى قَامَ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ قَائِمٌ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ بَعْدَ الْقِيَامِ قَعَدَ فَشَرِبَ، (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (إِنَّ أُنَاسًا) : أَيْ جَمَاعَةً (يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِنَّ أُنَاسًا وَهُوَ لُغَةٌ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّحْقِيرِ ذَمًّا لَهُمْ - عَلَى مَا زَعَمُوا - كَرَاهَةَ الشُّرْبِ فِي حَالِ الْقِيَامِ، وَيَصِحُّ وُقُوعُهُ اسْمًا لِأَنَّ مَعْنَى التَّنْكِيرِ فِيهِ كَقَوْلِهِمْ: شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ، وَالْكَلَامُ فِيهِ إِنْكَارٌ وَقَوْلُهُ: (وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِنَّ النَّبِيَّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ) : حَالٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ الْإِشْكَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ زَعْمَ مَنْ أَثْبَتَ النَّسْخَ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا لِأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَ ذَلِكَ بِالْكُوفَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قُلْتَ مَا ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا لَمْ يُنْسَخْ، قُلْتُ: يَجُوزُ خَفَاءُ النَّهْيِ عَنْ عَلِيٍّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الشُّرْبُ الَّذِي يَتَّخِذُهُ النَّاسُ عَادَةً اهـ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ النَّهْيُ عِنْدَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَوِ النَّهْيُ عِنْدَهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; فَإِنَّهُ مُخَصَّصٌ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَشُرْبِ فَضْلِ الْوُضُوءِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَجَعَلُوا الْقِيَامَ فِيهِمَا مُسْتَحَبًّا وَكَرِهُوهُ فِي غَيْرِهِمَا، إِلَّا إِذَا كَانَ ضَرُورَةً، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي مَاءِ زَمْزَمَ التَّضَلُّعُ وَوُصُولُ بَرَكَتِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَكَذَا فَضْلُ الْوُضُوءِ مَعَ إِفَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَكِلَاهُمَا حَالَ الْقِيَامِ أَعَمُّ، وَبِالنَّفْعِ أَتَمُّ، فَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ: وَمِنَ الْأَدَبِ أَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ مَاءِ وُضُوئِهِ مُسْتَقْبِلًا قَائِمًا ; وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا اهـ. وَظَاهِرُ سِيَاقِ كَلَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الْقِيَامَ مُسْتَحَبٌّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مِمَّنْ رَخَّصَ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا عَلِيٌّ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَمَّا النَّهْيُ فَنَهْيُ أَدَبٍ وَإِرْفَاقٍ لِيَكُونَ تَنَاوُلُهُ عَلَى سُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، فَيَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الْفَسَادِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ

الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ " مَجْمُوعُ فِعْلِهِ مِنْ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَشُرْبِهِ مِنْ فَضْلِهِ قَائِمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ الشَّاهِدِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الشَّمَائِلِ عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: " أُتِيَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ وَهُوَ فِي الرَّحَبَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ كَفًّا فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " وَرِجْلَيْهِ "، ثُمَّ شَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ، هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْ وَجْهَهُ وَلَا ذِرَاعَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ غَسَلَهُمَا، فَالْمُرَادُ بِمَسْحِهِمَا غَسْلُهُمَا خَفِيفًا أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْهُمَا، فَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ فِي كَلَامِهِ الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّنْظِيفِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4270 - وَعَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَسَلَّمَ فَرَدَّ الرَّجُلُ وَهُوَ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ وَإِلَّا كَرَعْنَا؟ " فَقَالَ: عِنْدِي مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَى الْعَرِيشِ فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ مَاءً، ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ، فَشَرِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَعَادَ فَشَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ» . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4270 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) : قِيلَ: هُوَ أَبُو الْهَيْثَمِ الْمَذْكُورُ سَابِقًا (وَمَعَهُ) : أَيْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (صَاحِبٌ لَهُ) ، وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمَخْصُوصُ بِأَنَّهُ صَاحِبُهُ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40] ، (فَسَلَّمَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَرَدَّ الرَّجُلُ) : أَيْ جَوَابَهُ (وَهُوَ يُحَوِّلُ الْمَاءَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ يَنْقُلُهُ مِنْ عُمْقِ الْبِئْرِ إِلَى ظَاهِرِهَا، قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ: أَوْ يُجْرِي الْمَاءَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ، قَالَهُ الْمُظْهِرُ. (فِي حَائِطٍ) : أَيْ بُسْتَانٍ لَهُ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ قِرْبَةٍ عَتِيقَةٍ، وَهِيَ أَشَدُّ تَبْرِيدًا لِلْمَاءِ مِنَ الْجَدِيدِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مُقَدَّرٌ أَيْ فَأَعْطِنَا (وَإِلَّا) : إِنْ فِيهِ شَرْطِيَّةٌ أُدْغِمَتْ فِي " لَا " النَّافِيَةِ، فَحُذِفَتْ خَطًّا كَمَا حُذِفَتْ لَفْظًا أَيْ وَإِنْ لَا تُعْطِنَاهُ (كَرَعْنَا) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ شَرِبْنَا مِنَ الْكَرْعِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَاءُ السَّمَاءِ، أَوْ مِنَ الْجَدْوَلِ وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ، أَوْ تَنَاوَلْنَا مِنَ النَّهْرِ بِلَا كَفٍّ وَلَا إِنَاءٍ قِيلَ: الْكَرْعُ تَنَاوُلُ الْمَاءِ بِالْفَمِ مِنْ غَيْرِ إِنَاءٍ وَلَا كَفٍّ، كَشُرْبِ الْبَهَائِمِ لِإِدْخَالِهَا إِكْرَاعَهَا فِي الْمَاءِ وَشُرْبِهَا بِفَمِهَا. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْكَرْعِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ، وَهُوَ لِلتَّنْزِيهِ، فَمَا هُنَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ ذَاكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا انْبَطَحَ الشَّارِبُ عَلَى بَطْنِهِ، (فَقَالَ) : أَيِ الْأَنْصَارِيُّ (عِنْدِي مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ) : هُوَ بِمَعْنَى شَنَّةٍ (فَانْطَلَقَ إِلَى الْعَرِيشِ) : وَهُوَ السَّقْفُ فِي الْبُسْتَانِ بِالْأَغْصَانِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْكُرُومِ يَسْتَظِلُّ بِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ " عَرَشَ " أَيْ بَنَى، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَرِيشُ بِمَعْنَى الْمَعْرُوشِ وَهُوَ الْمَرْفُوعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141] ، (فَسَكَبَ) : أَيْ فَصَبَّ الْأَنْصَارِيُّ (فِي قَدَحٍ مَاءً) : أَيْ بَعْضَ مَاءٍ (ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الْمَاءِ لَبَنًا (مِنْ دَاجِنٍ) : أَيْ شَاةٍ تُعْلَفُ فِي الْمَنْزِلِ وَلَا تَخْرُجُ إِلَى الرَّعْيِ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي أَلِفَتِ الْبُيُوتَ وَاسْتَأْنَسَتْ، مِنْ دَجِنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، (فَشَرِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَعَادَ) : أَيِ الْأَنْصَارِيُّ الْمَاءَ مَعَ اللَّبَنِ (فَشَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ) : أَيْ مِنْ أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4271 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " إِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4271 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ) : وَزْنُهَا أَفْعِلَةٌ جَمْعُ إِنَاءٍ (إِنَّمَا يُجَرْجِرُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ الثَّانِيَةِ أَيْ يُحَرِّكُ ذَلِكَ الشُّرْبُ (فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ. قَالَ الْأَكْمَلُ: مَعْنَاهُ يُرَدِّدُ مَنْ جَرْجَرَ الْفَحْلُ إِذَا رَدَّدَ صَوْتَهُ فِي حَنْجَرَتِهِ، وَ " نَارًا " مَنْصُوبٌ عَلَى مَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنَ الثِّقَاتِ اهـ. وَمَنْ رَوَى بِرَفْعِ نَارٍ فَسَّرَ يُجَرْجِرُ بِيُصَوِّتُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَبَرُ إِنَّ،

وَ " مَا " مَوْصُولَةٌ وَفِيهِ: أَنَّ كِتَابَتَهَا مَوْصُولَةٌ تَأْتِي كَوْنَهَا مَوْصُولَةً. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا جُعِلَ الْمَشْرُوبُ فِيهِ نَارًا مُبَالَغَةً ; لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهَا كَمَا فِي: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَمَنْصُوبٌ أَمْ مَرْفُوعٌ؟ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ النَّصْبُ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَالْخَطَّابِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ " نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ "، وَرُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِسْفَرَايِينِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: " فِي جَوْفِهِ نَارٌ " مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَهَنَّمَ. وَفِي الْفَائِقِ: الْأَكْثَرُ النَّصْبُ، فَالشَّارِبُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَالنَّارُ مَفْعُولُهُ. يُقَالُ: جَرْجَرَ فُلَانٌ الْمَاءَ إِذَا جَرَعَهُ جَرْعًا مُتَوَاتِرًا لَهُ صَوْتٌ، فَالْمَعْنَى كَأَنَّمَا يَجْرَعُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَمَجَازٌ ; لِأَنَّ جَهَنَّمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ، وَالْجَرْجَرَةُ صَوْتُ الْبَعِيرِ عِنْدَ الضَّجَرِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ صَوْتَ جَرْعِ الْإِنْسَانِ لِلْمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي الْمَخْصُوصَةِ لِوُقُوعِ النَّهْيِ عَنْهَا، وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا كَجَرْجَرَةِ نَارِ جَهَنَّمَ فِي بَطْنِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَقَدْ ذَكَرَ يُجَرْجِرُ بِالْيَاءِ لِيَفْصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَارٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِنَّ الَّذِي) : أَيْ بِزِيَادَةِ إِنَّ قَبْلَ الْمَوْصُولِ (يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ) : أَيْ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: " إِلَّا أَنْ يَتُوبَ "، وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَلَى الشُّرْبِ وَالْفِضَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالذَّهَبَ مَمْنُوعَانِ لِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا مَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا قَدِيمًا: أَنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يُحَرَّمُ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ تَحْرِيمُ الشُّرْبِ وَجَوَازُ الْأَكْلِ وَسَائِرُ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُمَا بَاطِلَانِ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ وَالْأَكْلِ بِالْمِلْعَقَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالتَّجَمُّرِ بِمِجْمَرَتِهِ، وَالْبَوْلِ فِي الْإِنَاءِ وَسَائِرِ اسْتِعْمَالِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَالُوا: وَإِنِ ابْتُلِيَ بِطَعَامٍ فِيهِمَا فَلْيُخْرِجْهُمَا إِلَى إِنَاءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِالدُّهْنِ فِي قَارُورَةِ فِضَّةٍ فَلْيَضُمَّهُ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَصُبَّهُ فِي الْيُمْنَى وَيَسْتَعْمِلْهُ، وَيَحْرُمُ تَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَغَيْرِهِمَا بِأَوَانِيهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَصَى بِالْفِعْلِ وَصَحَّ وُضُوءُهُ وَغَسْلُهُ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْهُ يَعْصِي وَلَا يَكُونُ الْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ حَرَامًا، وَأَمَّا إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِمَا فَلَهُ اسْتِعْمَالُهُ، كَمَا يُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَبَيْعُهُمَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْنٌ طَاهِرُةٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الْكَسْرِ.

4272 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4272 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ» ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْتُهُ لِلُبْسِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الطَّلَبَةِ (وَلَا الدِّيبَاجَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَيُفْتَحُ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ أَعْجَمِيٌّ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْحَرِيرِ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فِي أَطْرَافِ الثَّوْبِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَالْمَخْلُوطُ بِهِ إِنْ كَانَ لُحْمَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَسَدَاهُ مِنَ الْحَرِيرِ فَمُبَاحٌ، وَعَكْسُهُ لَا إِلَّا فِي الْحَرْبِ وَقَدْ يُبَاحُ الْحَرِيرُ لِعِلَّةِ الْحُكَاكِ وَبِكَثْرَةِ الْقَمْلِ. ( «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا» ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ صَحْفَةٍ وَهِيَ الْقَصْعَةُ الْعَرِيضَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الْمَعْنَى الْأَعَمُّ أَيْ فِي صِحَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبُ مُؤَنَّثٌ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي رِسَالَتِهِ الْمَنْظُومَةِ، أَوِ الضَّمِيرُ إِلَى الْفِضَّةِ، وَاخْتِيرَتْ لِقُرْبِهَا وَكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ، وَلِأَنَّ الذَّهَبَ يُعْلَمُ بِالْمُقَايَسَةِ أَوْ فِي صِحَافِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَعِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] (فَإِنَّهَا) : أَيْ صِحَافَهَا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْحَرِيرِ وَالْآنِيَةِ وَالصَّحْفَةِ. (لَهُمْ) : أَيْ لِلْكُفَّارِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ (فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ) : أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (فِي الْآخِرَةِ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِإِبَاحَتِهِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْوَاقِعِ فِي الْعَادَةِ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4273 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةٌ دَاجِنٌ، وَشِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ، فَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَدَحَ، فَشَرِبَ وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ! ; فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: " الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ، أَلَا فَيَمِّنُوا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4273 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: حُلِبَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةٌ دَاجِنٌ) : وَهُوَ الشَّاةُ الَّتِي أَلِفَتِ الْبُيُوتَ وَاسْتَأْنَسَتْ وَلَمْ تَخْرُجْ إِلَى الْمَرْعَى مِنْ دَجَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِنَاثِ مَا احْتِيجَ إِلَى إِلْحَاقِ التَّاءِ فِي آخِرِهِ، مَعَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلشَّاةِ، وَنَظِيرُهُ: طَالِقٌ وَحَائِضٌ. (وَشِيبَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ خُلِطَ (لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ فَأُعْطِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَدَحَ) : مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ (فَشَرِبَ) : أَيْ مِنْهُ (وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ " عَنْ " وَ " عَلَى " تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَقَدْ حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ اسْتَعْمَلَ " عَلَى " هُنَا وَ " عَنْ " أَوَّلًا؟ قُلْتُ: الْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُجَرَّدَ عَنْ وَعَلَى عَنْ مَعْنَى التَّجَاوُزِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَيُرَادُ بِهِمَا الْحُصُولُ مِنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ، وَلَوْ قَصَدْتَ مَعْنَاهَا رَكِبْتَ شَطَاطًا الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] ، الْمَفْعُولُ فِيهِ عُدِّيَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ نَحْوَ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، فَكَمَا اخْتَلَفَتْ حُرُوفُ التَّعْدِيَةِ فِي ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ فِي هَذَا، وَكَانَتْ لُغَةً تُؤْخَذُ وَلَا تُقَاسُ، وَإِنَّمَا يُفَتَّشُ عَنْ صِحَّةِ مَوْقِعِهَا فَقَطْ، فَلَمَّا سَمِعْنَاهُمْ يَقُولُونَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَلَى يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَعَلَى شَمَالِهِ قُلْنَا: مَعْنَى عَلَى يَمِينِهِ أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَمَعْنَى عَنْ يَمِينِهِ أَيْ جَلَسَ مُتَجَافِيًا عَنْ صَاحِبِ الْيَمِينِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي الْمُتَجَافِي وَغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى. (فَقَالَ عُمَرُ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ) : لَعَلَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ قُبَالَتَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُنَاوِلَهُ فَقَالَ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ يَمِينِهِ (ثُمَّ قَالَ: الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ) : بِالرَّفْعِ فِيهِمَا أَيْ يُقَدَّمُ الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِهِمَا أَيْ أُنَاوِلُ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ، وَيُؤَيِّدُ الرَّفْعَ قَوْلُهُ: (وَفِي رِوَايَةٍ: " الْأَيْمَنُونَ فَالْأَيْمَنُونَ، أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (فَيَمِّنُوا) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَمِّنُوا أَنْتُمْ أَيْضًا وَرَاعَوُا الْيَمِينَ وَابْتَدِئُوا بِالْأَيْمَنِ فَالْأَيْمَنِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَضَبْطُ الْأَيْمَنِ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ، النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ أُعْطِي الْأَيْمَنَ، وَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَيْمَنُ أَحَقُّ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: الْأَيْمَنُونَ تُرَجِّحُ الرَّفْعَ وَفِيهِ بَيَانُ اسْتِحْبَابِ التَّيَامُنِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ، وَأَنَّ الْأَيْمَنَ فِي الشَّرَابِ وَنَحْوِهِ يُقَدَّمُ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَمَفْضُولًا ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ الْأَعْرَابِيَّ، وَالْغُلَامَ أَيْ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَفَاضِلِ وَالْأَكَابِرِ فَهُوَ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي بَاقِي الْأَوْصَافِ، وَلِهَذَا يُقَدَّمُ الْأَعْلَمُ وَالْأَقْرَأُ عَلَى الْأَسَنِّ وَالنَّسِيبِ فِي الْإِمَامَةِ لِلصَّلَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا اسْتَأْذَنَ الْغُلَامُ دُونَ الْأَعْرَابِيِّ أَدْلَاءً عَلَى الْغُلَامِ، وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَتَطيْيِبًا لِنَفْسِهِ بِالِاسْتِئْذَانِ نَفْسِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْأَشْيَاخُ أَقَارِبُهُ، وَمِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: عَمُّكَ وَابْنُ عَمِّكَ، وَفَعَلَ ذَلِكَ اسْتِئْنَاسًا لِقُلُوبِ الْأَشْيَاخِ وَإِعْلَامًا بِوُدِّهِمْ وَإِيثَارِ كَرَامَتِهِمْ وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَأْذِنِ الْأَعْرَابِيَّ مَخَافَةَ إِيحَاشِهِ، وَتَأَلُّفًا لِقَلْبِهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا يُؤْثَرَ فِي الْقُرَبِ الدِّينِيَّةِ وَالطَّاعَاتِ، وَإِنَّمَا الْإِيثَارُ مَا كَانَ فِي حُظُوظٍ النَّفْسِ، فَيَكْرَهُ أَنْ يُؤْثَرَ غَيْرُهُ مَوْضِعَهُ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَثَلًا. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مُبَاحٍ، أَوْ مِنْ مَجْلِسِ الْعَالِمِ وَالْكَبِيرِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ إِنَّمَا قَالَهُ لِلتَّذَكُّرِ لِأَبِي بَكْرٍ مَخَافَةً مِنْ نِسْيَانِهِ، أَوْ إِعْلَامًا لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَى الْيَمِينِ بِجَلَالَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ " مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالسِّتَّةُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

4274 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَدَحٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ. فَقَالَ: " يَا غُلَامُ! أَتَأْذَنُ أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ؟ "، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلٍ مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ سَنَذْكُرُهُ فِي " بَابِ الْمُعْجِزَاتِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4274 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : أَيِ السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ جِيءَ (بِقَدَحٍ) : أَيْ فِيهِ مَاءٌ أَوْ لَبَنٌ (فَشَرِبَ مِنْهُ) : أَيْ بَعْضَ مَا فِيهِ (وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ) : تَقَدَّمَ أَنَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (أَصْغَرُ الْقَوْمِ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ غُلَامٍ (وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ) : وَمِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ (فَقَالَ: " يَا غُلَامُ! أَتَأْذَنُ) : أَيْ لِي (أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ؟) : أَيْ أَوَّلًا أَوْ لَا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّقْرِيرِ (فَقَالَ: مَا كُنْتُ) : فِي عُدُولِهِ مِنَ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي مُبَالَغَةٌ وَقَوْلُهُ: (لِأُوثِرَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَنَصْبِ الرَّاءِ أَيْ مَا كُنْتُ لِأَخْتَارَ عَلَى نَفْسِي (بِفَضْلٍ) : أَيْ بِسُؤْرٍ مُتَفَضِّلٍ (مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ! ، فَأَعْطَاهُ) : أَيِ الْقِدْرَ أَوْ سُؤْرَهُ (إِيَّاهُ) : أَيِ الْغُلَامَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِمَا سَبَقَ عَنِ النَّوَوِيِّ: الْإِيثَارُ فِي الْقُرْبِ مَكْرُوهٌ، وَفِي حُظُوظِ النَّفْسِ مُسْتَحَبٌّ اهـ. وَفِي كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلًا لِهَذَا الْمَطْلَبِ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِزْ إِيثَارَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَمَا اسْتَأْذَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. نَعَمْ بِتَقْرِيرِهِ فِيمَا فَعَلَهُ تَنْبِيهٌ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ أَنَّ رِعَايَةَ الْأَدَبِ، لَا سِيَّمَا مَعَ حُسْنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُقْتَضِي لِلتَّوَاضُعِ مِنَ الْأَكَابِرِ الْفِخَامِ - هُوَ الْإِيثَارُ الْمُسْتَفَادُ عُمُومُهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] عَلَى أَنَّ مَا قَصَدَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْفَضْلَةِ لَمْ يَكُنْ يَفُوتُهُ، بَلْ كَانَ مَعَ الْإِيثَارِ زِيَادَةُ فَائِدَةِ سُؤْرِ بَقِيَّةِ الْأَفَاضِلِ الْأَبْرَارِ ; وَلِذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلَّمَا كَثُرَ الْوَاسِطَةُ فِي الْخِرْقَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَجْلِ حُصُولِ بَرَكَةِ الْبَقِيَّةِ بِخِلَافِ الْإِسْنَادِ حَيْثُ كُلَّمَا قَلَّتِ الْوَسَائِطُ فِيهِ فَهُوَ أَعْلَى دَرَجَةً ; لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْخَطَأِ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قُرْبَ فَضْلِهِ مَعَ احْتِمَالِهِ قُوَّتَهُ، فَهُوَ مُصِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَشَايِخِ قَالُوا: لَا إِيثَارَ إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا خَطَرَ وَلَا عَظَمَةَ لِلْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الدَّنِيَّةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ أَصْلُ الطَّاعَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَسَنَذْكُرُ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنْ كَانَتِ الْقَضِيَّةُ وَاحِدَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى التَّطْبِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ فِي آخِرِهِ أَنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا. (سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْمُعْجِزَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : أَيْ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِهَا مِنْ هَا هُنَا.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4275 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَمْشِي وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4275 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ فِي زَمَانِهِ (وَنَحْنُ نَمْشِي) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (وَنَشْرَبُ) : عَطْفٌ عَلَى نَأْكُلُ (وَنَحْنُ قِيَامٌ) : قَيْدٌ لِلْأَخِيرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جِوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَا كَرَاهَةٍ، لَكِنْ بِشَرْطِ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقْرِيرِهِ، وَإِلَّا فَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ رَاكِبًا وَلَا مَاشِيًا وَلَا قَائِمًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الشُّرْبِ حَالَ الْقِيَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيِّ) : إِنَّمَا أَخَّرَهُ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ شَيْخُ التِّرْمِذِيِّ، بَلْ وَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) : سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا (غَرِيبٌ) : أَيْ إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا.

4276 - وَعَنْ عَمْرُو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ قَائِمًا وَقَاعِدًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4276 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (يَشْرَبُ قَائِمًا) : أَيْ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ (وَقَاعِدًا) : أَيْ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِهِ وَأَحْسَنِ عَادَاتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4277 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ، أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4277 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُتَنَفَّسَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (فِي الْإِنَاءِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَيْ لِخَوْفِ بُرُوزِ شَيْءٍ مِنْ رِيقِهِ فَيَقَعُ فِي الْمَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ مُتَغَيِّرَ الْفَمِ فَتَعْلَقُ الرَّائِحَةُ بِالْمَاءِ لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الدَّوَابِ إِذَا كَرَعَتْ فِي الْأَوَانِي جَرَعَتْ، تَمَّ تَنَفَّسَتْ فِيهَا، وَعَادَتْ فَشَرِبَتْ، فَالْأَوْلَى - وَعِبَارَةُ شَرْحِ السُّنَّةِ: فَالْأَحْسَنُ - أَنْ يَتَنَفَّسَ بَعْدَ إِبَانَةِ الْإِنَاءِ عَنْ فَمِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْأَحْسَنِ وَالْأَوْلَى خِلَافُ الْأُولَى. (أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ) : أَيْ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْضًا. قِيلَ: إِنْ كَانَ النَّفْخُ لِلْبَرْدِ فَلْيَصْبِرْ، وَإِنْ كَانَ لِلْقَذَى فَلْيُمِطْهُ بِخِلَالٍ وَنَحْوِهِ، لَا بِالْإِصْبَعِ ; لِأَنَّهُ يَنْفُرُ الطَّبْعُ مِنْهُ أَوْ لِيُرِقَ الْمَاءَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا: " «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيُنَحِّ الْإِنَاءَ، ثُمَّ لِيَعُدْ إِنْ كَانَ يُرِيدُ» ".

4278 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثَلَاثًا، وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ، وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4278 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا) : أَيْ شُرْبًا وَاحِدًا (كَشُرْبِ الْبَعِيرِ) : بِضَمِّ الشِّينِ وَيُفْتَحُ أَيْ كَمَا يَشْرَبُ الْبَعِيرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ( «وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثَلَاثًا» ) : مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَا مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ نَاصِبُهُمَا أَيْ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ( «وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ» ) : أَيْ أَرَدْتُمُ الشُّرْبَ، وَفِي مَعْنَاهُ الْأَكْلُ (وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ) : أَيِ الْإِنَاءَ عَنِ الْفَمِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَوْ فِي الْآخِرِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَسَبَقَ لِلْحَدِيثِ مَزِيدُ التَّحْقِيقِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.

4279 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ. فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةَ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ. قَالَ: " أَهْرِقْهَا ". قَالَ: فَإِنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ. قَالَ: " فَأَبِنِ الْقَدَحَ عَنْ فِيكَ، ثُمَّ تَنَفَّسْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4279 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ) : وَفِي مَعْنَاهُ الطَّعَامُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: " «نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ» "، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِلَفْظٍ: " «نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ» ". (فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةَ) : بِفَتْحِ الْقَافِ مَا يَسْقُطُ فِي الشَّرَابِ وَالْعَيْنِ وَهِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ (أَرَاهَا) : أَيْ أُبْصِرُهَا (فِي الْإِنَاءِ قَالَ: " أَهْرِقْهَا) : أَيْ بَعْضَ الْمَاءِ لِتُخْرِجَ تِلْكَ الْقَذَاةَ مِنْهَا، وَالْمَاءُ قَدْ يُؤَنَّثُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ فِي حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ بِقَوْلِهِ: مُوَيْهٌ وَمُوَيْهَةٌ. (قَالَ: فَإِنِّي لَا أُرْوَى) : بِفَتْحِ الْوَاوِ (مِنْ نَفَسٍ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ بِتَنَفُّسٍ (وَاحِدٍ. قَالَ: فَأَبِنِ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِبَانَةِ أَيْ أَبْعِدِ الْقَدَحَ (عَنْ فِيكَ) : أَيْ فَمِكَ (ثُمَّ تَنَفَّسْ) : أَيْ خَارِجَ الْإِنَاءِ، ثُمَّ اشْرَبْ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ التَّثْلِيثُ أَنْفَسَ لِكَوْنِهِ أَمْرًا

وَأَهْنَأُ وَأَرْوَى ; وَلِأَنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهِ مِنْ عَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرِدْ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَرَ عَلَى مَرَّةٍ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ جَوَازَهُ إِذَا رُوِيَ مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " أَبِنِ الْقَدَحَ عَنْ فِيكَ "، رَوَاهُ سِمَوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اهـ. وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ غَفْلَةٌ عَنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالدَّارِمِيِّ.

4280 - وَعَنْهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ، وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4280 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ هِيَ مَوْضِعُ الْكَسْرِ مِنْهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ ; لِأَنَّهَا لَا تَتَمَاسَكُ عَلَيْهَا شَفَةُ الشَّارِبِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ مِنْهَا يَنْصَبُّ الْمَاءُ وَيَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ وَثَوْبِهِ. زَادَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا لَا يَنَالُهُ التَّنْظِيفُ التَّامُّ عِنْدَ غَسْلِ الْإِنَاءِ (وَأَنْ يُنْفَخَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ وَعَنِ النَّفْخِ (فِي الشَّرَابِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

4281 - وَعَنْ كَبْشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا، فَقُمْتُ إِلَى فِيهَا فَقَطَعْتُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4281 - (وَعَنْ كَبْشَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، هِيَ بِنْتُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيَّةِ، أُخْتُ حَسَّانَ، لَهَا صُحْبَةٌ وَحَدِيثٌ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا الْبَرْضَا، وَيُقَالُ فِيهَا: كُبَيْشَةُ بِالتَّصْغِيرِ، وَأَيْضًا بِنْتُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ، زَوْجُ عَبْدِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، لَهَا صُحْبَةٌ. كَذَا فِي التَّقْرِيبِ قَالَهُ مِيرَكُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّاوِيَةَ هُنَا هِيَ الْأُولَى. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ الثَّانِيَةُ ; لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي أَسْمَاءِ الْمُؤَلِّفِ دُونَ الْأُولَى، لَكِنْ قَالَ: حَدِيثُهَا فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ، رَوَتْ عَنْ أُمِّ قَتَادَةَ وَعَنْهَا حَمِيدَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ اهـ. فَحَيْثُ تَحَقَّقَ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا صَحَابِيَّةٌ لَا يَضُرُّ الْإِبْهَامُ فِيهَا، (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ) : أَيْ مِنْ فَمِ سِقَايَةٍ (مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا، فَقُمْتُ) : أَيْ مُتَوَجِّهَةً (إِلَى فِيهَا) : أَيْ فَمِهَا (فَقَطَعْتُهُ) : أَيْ فَمَ الْقِرْبَةِ وَحَفِظْتُهُ فِي بَيْتِي وَاتَّخَذْتُهُ شَمَّاءَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ، لِوُصُولِ فَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهَا إِيَّاهُ لِعَدَمِ الِابْتِذَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ بِمَعْنَاهُ. وَزَادَ أَبُو الشَّيْخُ وَقَالَتْ: " لَا يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ بَعْدَ شُرْبِ رَسُولِ اللَّهِ " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا وَيُمْكِنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ رَأَتْ مَلْحَظًا وَنَوَتْ نِيَّةً وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ نَاقِلًا عَنِ التِّرْمِذِيِّ: وَقَطْعُهَا لِفَمِ الْقِرْبَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَصُونَ مَوْضِعًا أَصَابَهُ فَمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبْتَذَلَ وَيَمَسَّهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالثَّانِي: أَنْ يُحْفَظَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ فَمِ السِّقَاءِ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) .

4282 - وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُلْوَ الْبَارِدَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4282 - (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ) : - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ عُرْوَةَ) : أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: عُرْوَةُ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُ. (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ) : بِالرَّفْعِ وَنَصْبُهُ أَحَبَّ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُلْوَ الْبَارِدَ) : بِالنَّصْبِ وَرَفْعُهُ أَرْفَعُ، وَمَعْنَى أَحَبَّ: أَلَذُّ ; لِأَنَّ مَاءَ زَمْزَمَ أَفْضَلُ، وَكَذَا اللَّبَنُ عِنْدَهُ أَحَبُّ كَمَا سَيَأْتِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَعَمِّ، فَيَشْمَلُ الْمَاءَ الْقَرَاحَ وَاللَّبَنَ، وَالْمَاءَ الْمَخْلُوطَ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ كَالْعَسَلِ أَوِ الْمَنْقُوعِ فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ اللَّبَنَ» "، وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي

الطِّبِّ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " «كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ الْعَسَلَ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . مُسْنَدًا أَوْ مُرْسَلًا عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي الشَّمَائِلِ (وَقَالَ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ (وَالصَّحِيحُ) : أَيْ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ (مَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا) : أَيْ لِكَوْنِهِ حَذَفَ الصَّحَابِيَّةَ، وَعَلَّلَ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ رَوَوْهُ مُرْسَلًا، وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ اهـ. وَهَذَا كَمَا تَرَى فِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ مِنْ أَحَدِ التَّابِعِينَ، بِحَيْثُ أَسْنَدَهُ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَرْفُوعًا، فَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إِسْنَادِهِ ; وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ فِي الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَلَا عِبْرَةَ فِي الْمَذْهَبِ الْمَنْصُورِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ بِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، مَعَ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمُعْتَبَرٌ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ الْكُلِّ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا.

4283 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ. وَإِذَا سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَزِدْنَا مِنْهُ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا اللَّبَنُ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4283 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَإِذَا سُقِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: شَرِبَ أَحَدُكُمْ (لَبَنًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَزِدْنَا مِنْهُ) : فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ خَيْرٌ مِنَ اللَّبَنِ ; وَلِذَا جُعِلَ غِذَاءَ الصَّبِيِّ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] ، وَقَدْ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْلِيلِهِ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: (فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزٌ، أَيْ يَكْفِي فِي دَفْعِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ مَعًا (مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) : أَيْ مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ (إِلَّا اللَّبَنُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَّلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي " يُجْزِئُ "، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي شَرْحِ الطَّيِبِيِّ، قَالَ الْخَطَابِيُّ: قَوْلُهُ:، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ، هَذَا لَفْظُ مُسَدَّدٍ وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مِنَ الْمَرْفُوعِ الْمُسْنَدِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى مُسَدَّدٍ غَيْرُ مُسَدَّدٍ، فَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ فِي الشَّمَائِلِ وَلَفْظُهُ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مَيْمُونَةَ، فَجَاءَتْنَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عَلَى يَمِينِهِ وَخَالِدٌ عَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ لِي: الشَّرْبَةُ لَكَ، فَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِدًا. فَقُلْتُ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ عَلَى سُؤْرِكَ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ» ". قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا شَيْءَ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» " اهـ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ.

4284 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنَ السُّقْيَا. قِيلَ: هِيَ عَيْنٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4284 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُجَاءُ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ، وَهُوَ الطَّيِّبُ الَّذِي لَا مُلُوحَةَ فِيهِ ; لِأَنَّ مِيَاهَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ مَالِحَةً (مِنَ السُّقْيَا) : بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَمُثَنَّاةٍ مَقْصُورًا (قِيلَ: هِيَ) : أَيِ السُّقْيَا (عَيْنٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ) . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: هِيَ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: السُّقْيَا بِالضَّمِّ مَوْضِعٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَوَادٍ بِالصَّفْرَاءِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " «كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ بِئْرِ السُّقْيَا» ". وَفِي لَفْظٍ: " «يُسْتَقَى لَهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنْ بِئْرِ السُّقْيَا» ". قُلْتُ: وَلَعَلَّهُمَا مَكَانَانِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهَا عَيْنًا وَبِئْرًا، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَمْكِنَةً مُتَعَدِّدَةً.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4285 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» "، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4285 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إِنَاءٍ) : أَيْ فِي إِنَاءٍ (فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ) : أَيْ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. (فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) ، سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: " فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ "، فَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا: إِنْ كَانَتِ الضَّبَّةُ صَغِيرَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ ; وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَفَوْقَ الْحَاجَةِ حَرُمَ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِ الْأَوَانِي مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمُضَبَّبِ مِنْهُمَا سَوَاءٌ، وَقَالَ قَاضِيخَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالِادِّهَانُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَذَا الْمَجَابِرُ وَالْمَكَاحِلُ وَالْمَدَاهِنُ، وَكَذَا الِاكْتِحَالُ بِمَيْلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَذَا السُّرُرُ وَالْكَرَاسِيُّ إِذَا كَانَتْ مُفَضَّضَةً أَوْ مُذَهَّبَةً، وَكَذَا السَّرْجُ إِذَا كَانَ مُفَضَّضًا أَوْ مُذَهَّبًا، وَكَذَا اللِّجَامُ وَالرِّكَابُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ فِي الْآنِيَةِ الْمُفَضَّضَةِ وَالْمُذَهَّبَةِ إِذَا وُضِعَ فَمُهُ عَلَى الْعُودِ، وَفِي الْكُرْسِيِّ وَالسَّرِيرِ يَقْعُدُ عَلَى الْعُودِ وَالْخَشَبِ دُونَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالنِّسَاءُ فِيمَا سِوَى الْحُلِيِّ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالِادِّهَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقُعُودِ بِمَنْزِلَةِ الرِّجَالِ، وَلَا رُخْصَةَ لِلرِّجَالِ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ أَوْ كَانَ مُفَضَّضًا أَوْ مُذَهَّبًا، مَا خَلَا الْخَتْمَ مِنَ الْفِضَّةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ لِرُخْصَةٍ جَاءَتْ فِيهِ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) .

[باب النقيع والأنبذة]

[بَابُ النَّقِيعِ وَالْأَنْبِذَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4286 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَدَحِي هَذَا الشَّرَابَ كُلَّهُ: الْعَسَلَ، وَالنَّبِيذَ، وَالْمَاءَ وَاللَّبَنَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (4) بَابُ النَّقِيعِ وَالْأَنْبِذَةِ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ النَّبِيذِ. فِي النِّهَايَةِ: النَّقِيعُ هُنَا شَرَابٌ يُتَّخَذُ مِنْ زَبِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ، وَالنَّبِيذُ هُوَ مَا يُعْمَلُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. يُقَالُ: نَبَذْتُ التَّمْرَ وَالْعِنَبَ إِذَا تَرَكْتُ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِيَصِيرَ نَبِيذًا فَصُرِفَ مِنْ مَفْعُولٍ إِلَى فَعِيلٍ اهـ. وَهَذَا النَّبِيذُ لَهُ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ فِي زِيَادَةِ الْقُوَّةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ حَلَالٌ اتِّفَاقًا مَا دَامَ حُلْوًا، وَلَمْ يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ". الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4286 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَدَحِي هَذَا) : وَفِي الشَّمَائِلِ بِهَذَا الْقَدَحِ يَعْنِي قَدَحَ خَشَبٍ غَلِيظًا مُضَبَّبًا (الشَّرَابَ) : أَيْ جِنْسَ مَا يُشْرَبُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ مَفْعُولُ سَقَيْتُ (كُلَّهُ) : تَأْكِيدٌ، أَيْ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُ (الْعَسَلَ) : بَدَلُ بَعْضٍ مِنَ الْكُلِّ اهْتِمَامًا بِهَا، وَلِكَوْنِهَا أَشْهَرَ أَنْوَاعِهِ، وَقِيلَ: عَطْفُ بَيَانٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَاءُ الْعَسَلِ، فَهُوَ لَا يُشْرَبُ، بَلْ يُلْحَسُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّغْلِيبِ (وَالنَّبِيذَ، وَالْمَاءَ، وَاللَّبَنَ) : وَالْوَاوُ فِيهَا لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَفِي الشَّمَائِلِ الْمَاءُ وَالنَّبِيذُ وَالْعَسَلُ وَاللَّبَنُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَا الْقَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا "، وَعَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رَآهُ بِالْبَصْرَةِ وَشَرِبَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَاشْتُرِيَ هَذَا الْقَدَحُ مِنْ مِيرَاثِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ بِثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ.

4287 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنَّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِقَاءٍ يُوكَأُ أَعْلَاهُ، وَلَهُ عَزْلَاءُ نَنْبِذُهُ غُدْوَةً، فَيَشْرَبُهُ عِشَاءً، وَنَنْبِذُهُ عِشَاءً فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4287 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كُنَّا نَنْبِذُ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ لَا غَيْرُ، وَيَجُوزُ ضَمُّ النُّونِ الْأُولَى مَعَ تَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِهَا. وَفِي الْقَامُوسِ: النَّبْذُ. الطَّرْحُ وَالْفِعْلُ كَضَرَبَ، وَالنَّبِيذُ الْمُلْقَى وَمَا نُبِذَ مِنْ عَصِيرٍ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ نَبَذَهُ وَأَنْبَذَهُ وَانْتَبَذَهُ وَنَبَذَهُ أَيْ نَطْرَحُ الزَّبِيبَ وَنَحْوَهُ. (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِقَاءٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَمْدُودًا (يُوكَأُ أَعْلَاهُ) : أَيْ يُشَدُّ رَأْسُهُ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الرِّبَاطُ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يُوكَأُ بِالْهَمْزِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ،

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْأَلِفِ الْمَقْصُورَةِ عَلَى صُورَةِ الْيَاءِ، فَفِي الْمِصْبَاحِ: أَوْكَأْتُ السِّقَاءَ بِالْهَمْزِ شَدَدْتُ فَمَهُ بِالْوِكَاءِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: أَوْكَأَ السِّقَاءَ شَدَّهُ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الرِّبَاطُ، وَمِنْهُ السِّقَاءُ الْمُوكَأُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي الْمَهْمُوزِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُعْتَلِّ، وَقَالَ: الْوِكَاءُ كَكِسَاءٍ رِبَاطُ الْقِرْبَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ وَكَاهَا وَأَوْكَاهَا وَعَلَيْهَا اهـ. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُعْتَلٌّ، وَقَوْلُهُ: بِالْهَمْزِ فِي عِبَارَةِ الْمَصَابِيحِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلسِّقَاءِ فَتُوُهِّمَ أَنَّهُ لِلْفِعْلِ فَكُتِبَ بِالْهَمْزِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُكْتَبَ أَوَكَيْتُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: " أَوْكُوا " فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَغْطِيَةِ الْأَوَانِي وَشَدِّ أَفْوَاهِ الْأَسْقِيَةِ حِذْرًا مِنَ الْهَوَامِّ. (وَلَهُ) : أَيْ لِلسِّقَاءِ، (عَزْلَاءُ) : بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَزَايٍ سَاكِنَةٍ مَمْدُودَةٍ أَيْ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَالْمُرَادُ بِهِ فَمُ الْمَزَادَةِ الْأَسْفَلَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَهُ ثُقْبَةٌ فِي أَسْفَلِهِ لِيُشْرَبَ مِنْهُ الْمَاءُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَزْلَاءُ مَصَبُّ الْمَاءِ مِنَ الرَّاوِيَةِ وَنَحْوِهَا اهـ. وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَقَوْلُهُ: (نَنْبِذُهُ) : اسْتِئْنَافٌ أَيْ نَحْنُ نَطْرَحُ التَّمْرَ وَنَحْوَهُ فِي السِّقَاءِ (غُدْوَةً) : بِالضَّمِّ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغُدْوَةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ (فَيَشْرَبُهُ) : أَيْ هُوَ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ الْمَنْبُوذِ (عِشَاءً) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. (وَنَنْبِذُهُ عِشَاءً فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4288 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْبَذُ لَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَيَشْرَبُهُ إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَاللَّيْلَةَ الَّتِي تَجِيءُ، وَالْغَدَ، وَاللَّيْلَةَ الْأُخْرَى، وَالْغَدَ إِلَى الْعَصْرِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ، أَوْ أَمَرَ بِهِ فَصُبَّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4288 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْبَذُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُطْرَحُ الزَّبِيبُ وَنَحْوُهُ فِي الْمَاءِ (لَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَيَشْرَبُهُ، إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ) : بِالنَّصْبِ ظَرْفٌ لِيَشْرَبَهُ أَيْ جَمِيعَ يَوْمِهِ (ذَلِكَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ صِفَةُ قَوْلِهِ " يَوْمَهُ " أَيْ يَوْمَ اللَّيْلِ الَّذِي يُنْبَذُ لَهُ فَيَشْرَبُهُ وَقْتَ دُخُولِهِ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ (وَاللَّيْلَةَ الَّتِي تَجِيءُ وَالْغَدَ) : عَطْفٌ عَلَى يَوْمِهِ عَلَى سَبِيلِ الِانْسِحَابِ لَا التَّقْدِيرِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَاللَّيْلَةَ الْأُخْرَى، وَالْغَدَ إِلَى الْعَصْرِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ) : أَيْ مِنَ النَّبِيذِ (سَقَاهُ الْخَادِمَ) : لِكَوْنِهِ دُرْدِيًّا لَا لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا (أَوْ أَمَرَ بِهِ) : أَيْ بِالْمَنْبُوذِ الْبَاقِي (فَصُبَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: كُبَّ لِمَخَافَةِ التَّغَيُّرِ، أَوْ إِذَا بَلَغَ حَدَّ الْإِسْكَارِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ. قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنَّمَا لَمْ يَشْرَبْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ كَانَ دُرْدِيًّا وَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِسْكَارِ، فَإِذَا بَلَغَ صَبَّهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شُرْبِ الْمَنْبُوذِ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا، وَعَلَى جَوَازِ أَنْ يُطْعِمَ السَّيِّدُ مَمْلُوكَهُ طَعَامًا أَسْفَلَ وَيَطْعَمَ هُوَ طَعَامًا أَعْلَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَنْبِذُهُ غُدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عِشَاءً لَا يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّ الشُّرْبَ فِي الْيَوْمِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَقِيلَ: لَعَلَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - كَانَ فِي زَمَنِ الْحَرِّ حَيْثُ يُخْشَى فَسَادُهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي زَمَانٍ يُؤْمَنُ فِيهِ التَّغَيُّرُ قَبْلَ الثَّلَاثِ، وَقِيلَ: حَدِيثُهَا مَحْمُولٌ عَلَى نَبِيذٍ قَلِيلٍ يُفْرَغُ مِنْهُ فِي يَوْمِهِ، وَحَدِيثُهُ عَلَى كَثِيرٍ لَا يُفْرَغُ مِنْهُ فِي يَوْمٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4289 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ يُنْبَذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِقَائِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا سِقَاءً يُنْبَذُ لَهُ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4289 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ يُنْبَذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِقَاءٍ، فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا سِقَاءً) : أَيْ فَارِغًا (يُنْبَذُ) : أَيْ كَانَ يُنْبَذُ (لَهُ فِي تَوْرٍ) : بِفَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ أَيْ ظَرْفٍ (مِنْ حِجَارَةٍ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّوْرُ إِنَاءٌ صَغِيرٌ يُشْرَبُ فِيهِ وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهُوَ ظَرْفٌ يُشْبِهُ الْقِدْرَ يُشْرَبُ مِنْهُ. وَفِي النِّهَايَةِ: إِنَاءٌ مِنْ صُفْرٍ أَوْ حِجَارَةٍ كَالْإِجَّانَةِ، وَقَدْ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: إِنَاءٌ يُشْرَبُ مِنْهُ مُذَكَّرٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4290 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَالنَّقِيرِ، وَأَمَرَ أَنْ يُنْبَذَ فِي أَسْقِيَةِ الْأَدَمِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4290 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الدُّبَّاءِ) : مَمْدُودًا وَيُقْصَرُ أَيْ عَنْ ظَرْفٍ يُعْمَلُ مِنْهُ (وَالْحَنْتَمِ) : أَيِ الْجَرَّةِ الْخَضْرَاءِ (وَالْمُزَفَّتِ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ وَهُوَ الْقِيرُ (وَالنَّقِيرِ) : أَيِ الْمَنْقُورِ مِنَ الْخَشَبِ (وَأَمَرَ أَنْ يُنْبَذَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِي أَسْقِيَةِ الْأَدَمِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ الْأَدِيمِ وَهُوَ الْجِلْدُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا وَلَا يُعْلَمُ بِهِ، فَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ وَعُلِمَ حُرْمَةُ السُّكْرِ وَاشْتَهَرَتْ أُبِيحَ الِانْتِبَاذُ فِي كُلِّ وِعَاءٍ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَدْ سَبَقَ زِيَادَةٌ لَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4291 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «نَهَيْتُكُمْ عَنِ الظُّرُوفِ، فَإِنَّ ظَرْفًا لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ". وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: " نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ إِلَّا فِي ظُرُوفِ الْأَدَمِ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4291 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " نَهَيْتُكُمْ عَنِ الظُّرُوفِ) : أَيْ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي ظَرْفٍ مِنْ هَذِهِ الظُّرُوفِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا. (فَإِنَّ ظَرْفَهَا) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَاءُ فِيهِ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الظُّرُوفِ وَظَنَنْتُمْ أَنَّهَا تُحِلُّ وَتُحَرِّمُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ ظَرْفًا (لَا يُحِلُّ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يُبِيحُ (شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: كَانَ الْإِنْبَاذُ فِي الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا فِيهَا، وَلَا يُعْلَمُ بِهِ لِكَثَافَتِهَا، فَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ، وَاشْتُهِرَ تَحْرِيمُ الْمُسْكِرَاتِ وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُبِيحَ الْإِنْبَاذُ فِي كُلِّ وِعَاءٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مُسْكِرًا (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ لِمُسْلِمٍ (قَالَ: " نَهَيْتُكُمْ) : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ (عَنِ الْأَشْرِبَةِ إِلَّا فِي ظُرُوفِ الْأَدَمِ) : اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هِيَ الْأَشْرِبَةُ فِي الظُّرُوفِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَيْسَتْ ظُرُوفَ الْأَدَمِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ أَوْعِيَةٌ مُنْتِنَةٌ قَدْ يَتَغَيَّرُ فِيهَا الشَّرَابُ وَلَا يُشْعَرُ بِهِ، فَنَهَى عَنِ الِانْتِبَاذِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَسْقِيَةِ لِرِقَّتِهَا، فَإِذَا تَغَيَّرَ الشَّرَابُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَنْشَقَّ، فَيَكُونُ أَمَارَةً يُعْلَمُ بِهَا تَغَيُّرُهُ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَاشْرَبُوا) : مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ نَهَيْتُكُمْ أَوَّلًا عَنْ ذَلِكَ فَالْآنَ نَسَخَتْهُ " فَاشْرَبُوا " (فِي كُلِّ وِعَاءٍ) : وَقَوْلُهُ: (غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) : مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مُنْقَطِعٌ، وَتَقْرِيرُهُ أُبِيحَ لَكُمْ شُرْبُ مَا فِي كُلِّ إِنَاءٍ غَيْرَ شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَلَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَوْعِيَةِ، فَانْبِذُوا وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ» " اهـ. وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْأَحَادِيثِ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4292 - عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4292 - (عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ أَبُو مَالِكٍ كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ كَذَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ أَوْ أَبُو عَامِرٍ بِالشَّكِّ. قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: وَأَبُو مَالِكٍ هُوَ الصَّوَابُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَيَشْرَبَنَّ) : أَيْ وَاللَّهِ لَيَشْرَبَنَّ (نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِخْبَارٌ فِيهِ شَائِبَةُ إِنْكَارٍ (يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ يَتَسَتَّرُونَ فِي شُرْبِهَا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِذَةِ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يَتَوَصَّلُونَ إِلَى شُرْبِهَا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِذَةِ الْمُبَاحَةِ كَمَاءِ الْعَسَلِ وَمَاءِ الذُّرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَهُمْ فِيهِ كَاذِبُونَ ; لِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ اهـ. فَالْمَدَارُ عَلَى حُرْمَةِ الْمُسْكِرِ فَلَا يَضُرُّ شُرْبُ الْقَهْوَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قِشْرِ شَجَرٍ مَعْرُوفٍ حَيْثُ لَا سُكْرَ فِيهَا مَعَ الْإِكْثَارِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْقَهْوَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ ; لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمُسَمَّى كَمَا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّشَبُّهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذَا تَحَقَّقَ، وَلَوْ فِي شُرْبِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَغَيْرِهِا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَتِهِمْ عَنْهُ: " «وَيُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْقَيْنَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» ".

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4293 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ قُلْتُ: أَنَشْرَبُ فِي الْأَبْيَضِ؟ قَالَ: لَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4293 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ» ) : الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى " فِي " وَالْجِرَارُ وَالْجَرُّ جَمْعُ جَرَّةٍ بِالْفَتْحِ هِيَ كُلُّ مَا يُصْنَعُ مِنْ مَدَرٍ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَهِيَ الْإِنَاءُ الْمَعْرُوفُ مِنَ الْفَخَّارِ، وَأَرَادَ بِالنَّهْيِ الْجِرَارَ الْمَدْهُونَةَ ; لِأَنَّهَا أَسْرَعُ فِي الشِّدَّةِ وَالتَّخْمِيرِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُ الْأَخْضَرِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْجِرَارَ الَّتِي كَانُوا يَنْتَبِذُونَ فِيهَا كَانَتْ خَضْرَةً، وَالْأَبْيَضُ بِمَثَابَتِهِ يَعْنِي وَلِذَا قَالَ الرَّاوِي: (قُلْتُ: أَنَشْرَبُ فِي الْأَبْيَضِ؟ قَالَ: لَا) . فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَا اعْتِبَارَ بِالْمَفْهُومِ فِي الدَّلِيلِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)

[باب تغطية الأواني]

[بَابُ تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4294 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ جِنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ فَخَلَّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْهِ شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (5) بَابُ تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ زِيَادَةُ " وَغَيْرُهَا "، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى التَّغْطِيَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَخُصَّ الْأَوَانِيَ بِأَوْعِيَةِ الْمَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الْأَوَانِيَ جَمْعُ كَثْرَةٍ لِلْإِنَاءِ وَهُوَ وِعَاءُ الْمَاءِ وَالْآنِيَةُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِنَاءُ مَعْرُوفٌ، وَالْمُرَادُ سَتْرُ الظُّرُوفِ كُلِّهَا، وَعَدَمُ تَكَشُّفِهَا لَا سِيَّمَا فِي اللَّيْلِ ; فَإِنَّهُ وَقْتُ انْتِشَارِ الْهَوَامِّ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4294 - (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ جِنْحُ اللَّيْلِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: بِضَمِّهَا وَجَنَحَ اللَّيْلُ بِفَتْحِ النُّونِ أَقْبَلَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ، كَذَا فِي سِلَاحِ الْمُؤْمِنِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجِنْحُ بِالْكَسْرِ مِنَ اللَّيْلِ الطَّائِفَةُ وَيُضَمُّ، وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ، وَتَبِعَهُ الطِّيبِيُّ: جَنْحُ اللَّيْلِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ طَائِفَةٌ مِنْهُ، وَأَرَادَ بِهِ هُنَا الطَّائِفَةَ الْأُولَى، وَقِيلَ: ظُلْمَتُهُ وَظَلَامُهُ، وَقِيلَ: أَوَّلُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، بِقَوْلِهِ: (أَوْ أَمْسَيْتُمْ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيِ امْنَعُوهُمْ عَنِ التَّرَدُّدِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ) : أَيِ الْجِنَّ (يَنْتَشِرُ) : وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحِصْنِ: " فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ " أَيْ تَفْتَرِقُ وَتَنْبَثُّ وَتَخْتَطِفُ (حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ " ذَهَبَتْ "، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ " ذَهَبَ "، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ، أَوْ لِأَنَّ تَأْنِيثَ السَّاعَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. (مِنَ اللَّيْلِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: " مِنَ الْعِشَاءِ " (فَخَلُّوهُمْ) : أَيِ اتْرُكُوا صِبْيَانَكُمْ (وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنَ الْإِغْلَاقِ. فَفِي الْقَامُوسِ: غَلَقَ الْبَابَ يَغْلِقُهُ لُثْغَةٌ أَوْ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ فِي أَغْلَقَهُ. (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) : أَيْ حِينَ الْإِغْلَاقِ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ) : أَيْ جِنْسَهُ (لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا) : أَيْ بَابًا أُغْلِقَ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، يُوَضِّحُهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: " «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا إِذَا أُجِيفَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» "، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا، لَكِنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيْطَانِ شَيْطَانُ الْإِنْسِ ; لِأَنَّ غَلْقَ الْأَبْوَابِ لَا يَمْنَعُ شَيَاطِينَ الْجِنِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَلْقِ الْغَلْقُ الْمَذْكُورُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ مَمْنُوعًا بِبَرَكَةِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْبَابَ بِالذِّكْرِ لِسُهُولَةِ الدُّخُولِ مِنْهُ، فَإِذَا مُنِعَ مِنْهُ كَانَ الْمَنْعُ مِنَ الْأَصْعَبِ بِالْأَوْلَى، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «أَجِيفُوا أَبْوَابَكُمْ وَأَكْفُوا آنِيَتَكُمْ وَأَوْكُوا أَسْقِيَتَكُمْ وَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ بِالتَّسَوُّرِ عَلَيْكُمْ» " (وَأَوْكُوا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْكَافِ أَيْ شُدُّوا وَارْبُطُوا

(قِرَبَكُمْ) : جَمْعُ قِرْبَةٍ أَيْ رُءُوسَهَا وَأَفْوَاهَهَا بِالْوِكَاءِ، وَهُوَ الْحَبْلُ؟ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ حَيَوَانٌ أَوْ يَسْقُطَ فِيهِ شَيْءٌ، وَأَمَّا مَا ضَبَطَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ كَسْرِ الْكَافِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، بَلْ وَلِكُتُبِ اللُّغَةِ أَيْضًا فَهُوَ مُنَافٍ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) : أَيْ وَفْقَ الْإِيكَاءِ وَرَبْطِ السِّقَاءِ بِالْوِكَاءِ (وَخَمِّرُوا) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ أَيْ غَطُّوا (آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَرُضُّوا) : بِضَمِّ الرَّاءِ أَفْصَحُ مِنْ كَسْرِهَا (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الْإِنَاءِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْآنِيَةِ (شَيْئًا) : وَالْمَعْنَى: وَلَوْ أَنْ تَضَعُوا عَلَى رَأْسِ الْإِنَاءِ شَيْئًا بِالْعَرْضِ مِنْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ، وَ " أَنْ " مَعَ مَدْخُولِهَا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ، وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْ كَانَ تَخْمِيرُكُمْ عَرْضًا، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِوَضْعِ الْعُودِ عَرْضًا أَنَّ تَعَاطِيَ التَّغْطِيَةِ، إِذِ الْغَرَضُ أَنْ تَقْتَرِنَ التَّغْطِيَةُ بِالتَّسْمِيَةِ فَيَكُونُ الْمَرَضُ عَلَامَةً عَلَى التَّسْمِيَةِ فَيَمْتَنِعُ الشَّيْطَانُ مِنَ الدُّنُوِّ مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمَذْكُورُ بَعْدَ " لَوْ " فَاعِلُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ وَلَوْ ثَبَتَ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهِ شَيْئًا وَجَوَابُ " لَوْ " مَحْذُوفٌ، أَيْ وَلَوْ خَمَّرْتُمُوهَا عَرْضًا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْعُودِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرْتُمُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ لَكَانَ كَافِيًا، وَالْمَقْصُودُ هُوَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ كُلِّ فِعْلٍ صِيَانَةً عَنِ الشَّيْطَانِ وَالْوَبَاءِ وَالْحَشَرَاتِ أَوِ الْهَوَامِّ عَلَى مَا وَرَدَ بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (وَأَطْفِئُوا) : بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ فَاءٍ فَهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ (مَصَابِيحَكُمْ) : جَمْعُ مِصْبَاحٍ وَهُوَ السِّرَاجُ وَفِي مَعْنَاهُ الشَّمْعُ الْمَسْرُوجُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَأَغْرَبَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ إِلَى قَوْلِهِ: (فَخَلُّوهُمْ) ، ثُمَّ أَفْرَدَ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: (وَأَغْلِقْ بَابَكَ. . إِلَخْ) ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4295 - وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: " «خَمِّرُوا الْآنِيَةَ، وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ، وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ، وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْمَسَاءِ، فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ ; فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا اجْتَرَّتِ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4295 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: " خَمِّرُوا الْآنِيَةَ، وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ، وَأَجِيفُوا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَضَمِّ الْفَاءِ أَيْ رُدُّوا (الْأَبْوَابَ، وَاكْفِتُوا) : بِهَمْزِ وَصْلٍ وَكَسْرِ فَاءٍ وَضَمِّ فَوْقِيَّةٍ أَيْ ضُمُّوا (صِبْيَانَكُمْ) : إِلَى أَنْفُسِكُمْ وَامْنَعُوهُمْ مِنَ الِانْتِشَارِ (عِنْدَ الْمَسَاءِ) : أَيْ مِنْ أَوَّلِهِ (فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا) : أَيْ كَثِيرًا حِينَئِذٍ (وَخَطْفَةً) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ سَلْبًا سَرِيعًا أَيْضًا ( «وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ» ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ عِنْدَ النَّوْمِ أَيْ إِرَادَتِهِ (فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ) : تَصْغِيرُ فَاسِقَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْفَأْرَةُ لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا عَلَى النَّاسِ وَإِفْسَادِهَا (رُبَّمَا) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفٍ أَيْ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا (اجْتَرَّتِ الْفَتِيلَةَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ طَلَبَتْ جَرَّهَا (فَأَحْرَقَتْ) : أَيِ الْفَتِيلَةُ أَوِ الْفَأْرَةُ فَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ (أَهْلَ الْبَيْتِ) : إِمَّا بِإِعْيَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ نَائِمُونَ غَافِلُونَ عَنْهَا، أَوْ بِسَبَبِ إِحْرَاقِ بَعْضِ أَثْيَابِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ " تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ ".

4296 - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " «غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا، وَيَذْكُرَ اللَّهَ فَلْيَفْعَلْ ; فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4296 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «غَطَّوُا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ» ) : وَلَعَلَّ إِيرَادَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ خُصُوصًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ (وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ) : بِضَمِّ الْحَاءِ (سِقَاءً وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً) : أَيْ بِشَرْطِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَفْعَالِ جَمِيعِهَا (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ) : أَيْ مَا يُغَطِّي بِهِ الْإِنَاءَ (إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ) : أَيْ يَضَعَ بِالْعَرْضِ (عَلَى إِنَائِهِ عُودًا وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ) : أَيْ عَلَيْهِ عِنْدَ وَضْعِهِ (فَلْيَفْعَلْ) : أَيْ نَدْبًا (فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ) : تَعْلِيلُ قَوْلِهِ: وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ، وَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا بِالْعِلَلِ لِلْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ الرِّوَايَةُ هُنَا بِالْوَاوِ لَكَانَتِ الْعِلَلُ مُرَتَّبَةً عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْقَامُوسِ، أَنَّ الْفَاءَ تَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، الْمَعْنَى أَنَّ الْفَأْرَةَ، (تُضْرِمُ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِهَا أَيْ تُوقِدُ النَّارَ وَتَحْرِقُ (عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ السِّرَاجُ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الْقَنَادِيلُ الْمُعَلَّقَةُ، فَإِنْ خِيفَ بِسَبَبِهَا حَرِيقٌ دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ "، وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَمِيعُ أَوَامِرِ هَذَا الْبَابِ مِنْ بَابِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلنَّدْبِ لَا سِيَّمَا فِيمَنْ يَنْوِي امْتِثَالَ الْأَمْرِ، وَالْإِغْلَاقُ مُقَيَّدٌ بِاللَّيْلِ، وَالْأَصْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الشَّيْطَانِ؟ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسُوقُ الْفَأْرَةَ إِلَى الْإِحْرَاقِ.

4297 - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، قَالَ: " «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ. حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْعَثُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ» " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4297 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) : أَيْ لِمُسْلِمٍ (قَالَ) : أَيْ جَابِرٌ مَرْفُوعًا (لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ مَوَاشِيَكُمْ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَوَاشِي كُلُّ شَيْءٍ مُنْتَشِرٍ مِنَ الْأَمْوَالِ أَيْ لَا تُسَيِّبُوا سَوَائِمَكُمْ (وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ) : أَيْ أَوَّلَ ظُلْمَتِهِ وَسَوَادِهِ وَهُوَ أَشَدُّ اللَّيْلِ سَوَادًا (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ) : أَيْ جِنْسَهُ (يُبْعَثُ) : بِصِيَغةِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُرْسَلُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، فَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ رَئِيسُهُمْ أَيْ يَبْعَثُ جُنُودَهُ (إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ) .

4298 - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، قَالَ: " «غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ ; فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ أَوْ سِقَاءٌ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4298 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) : أَيْ لِمُسْلِمٍ وَكَذَا لِأَحْمَدَ (قَالَ) : أَيْ مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَّصِلِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ ; فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ وَيُقْصَرُ الطَّاعُونُ وَالْمَرَضُ الْعَامُّ (لَا يَمُرُّ) : أَيِ الْوَبَاءُ فَكَأَنَّهُ مُجَسَّدٌ (بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ) : وَفِي رِوَايَةٍ: " لَمْ يُغَطَّ " (أَوْ سِقَاءٍ) : بِالْجَرِّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ يَعْنِي أَوْ سِقَاءٍ (لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ) : أَيْ رِبَاطٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: " لَمْ يُوكَ " (إِلَّا نَزَلَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: " وَقَعَ " (فِيهِ) : أَيْ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ وَالسِّقَاءِ (مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ) : فَاعِلُ نَزَلَ أَيْ بَعْضُ ذَلِكَ الْوَبَاءِ أَوْ ذَلِكَ الْوَبَاءُ وَ " مِنْ " زَائِدَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جُمَلٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالْآدَابِ الْجَامِعَةِ. جِمَاعُهَا تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، لِتَحْصِيلِ السَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.

4299 - وَعَنْهُ، قَالَ: «جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ - رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - مِنَ النَّقِيعِ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَّا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4299 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (رَجُلٌ) : أَيْ هُوَ رَجُلٌ (مِنَ الْأَنْصَارِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ الْخَزْرَجِيُّ السَّاعِدِيُّ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ، مَاتَ فِي آخِرِ وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ، (مِنَ النَّقِيعِ) : بِالنُّونِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ بِالنُّونِ وَالْبَاءِ، وَالصَّحِيحُ الْأَشْهَرُ الَّذِي قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ بِالنُّونِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِوَادِي الْعَقِيقِ، وَهُوَ الَّذِي حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ: وَمَنْ قَالَ بِالْبَاءِ وَهُوَ مَقْبَرَةُ الْمَدِينَةِ فَقَدْ صَحَّفَ، وَالْمَعْنَى جَاءَ مِنْهُ (بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ مَكْشُوفًا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَّا) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ هَلَّا (خَمَّرْتَهُ) : أَيْ لِمَ لَا سَتَرْتَهُ وَغَطَّيْتَهُ؟ (وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَلَّا حَرْفُ التَّحْضِيضِ دَخَلَ عَلَى الْمَاضِي لِلَّوْمِ عَلَى التَّرْكِ، وَاللَّوْمُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَطْلُوبِ تَرْكٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ جَاءَ بِالْإِنَاءِ مَكْشُوفًا غَيْرَ مُخَمَّرٍ ; فَوَبَّخَهُ، يُقَالُ: عَرَضْتُ الْعُودَ عَلَى الْإِنَاءِ أَعْرِضُهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ النَّاسِ إِلَّا الْأَصْمَعِيَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَعْرُضُهُ مَضْمُومَةُ الرَّاءِ فِي هَذَا خَاصَّةً، وَالْمَعْنَى هَلَّا تُغَطِّيهِ بِغِطَاءٍ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ شَيْئًا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4300 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4300 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:، لَا تَتْرُكُوا النَّارَ) : أَيِ الَّتِي يُخَافُ مِنْ إِحْرَاقِهَا (فِي بُيُوتِكُمْ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا (حِينَ تَنَامُونَ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

4301 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: «احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ هَذِهِ النَّارُ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4301 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى) : - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ) : إِمَّا حَالٌ أَيْ سَاقِطًا عَلَيْهِمْ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِاحْتِرَاقٍ أَيْ ضَرَرُهُ عَلَيْهِمْ (فَحُدِّثَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: فَحُكِيَ وَأُخْبِرَ (بِشَأْنِهِ) : أَيْ بِإِحْرَاقِ بَيْتِهِمْ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) : كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ " فَقَالَ "، وَلَعَلَّهُ اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الْمَقَالِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْحَالِ قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ النَّارَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذِهِ النَّارِ نَارٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهِيَ الَّتِي يُخَافُ عَلَيْهَا مِنَ الِانْتِشَارِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ النَّارِ الْمَخْصُوصَةِ، وَأَمَّا فِي التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ) : فَالْمُرَادُ بِهَا جِنْسُهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا عَدُوًّا لَنَا أَنَّهَا تُنَافِي أَبْدَانَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَإِنْ كَانَتْ لَنَا فِيهَا مَنْفَعَةٌ، لَكِنْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ، فَأَطْلَقَ أَنَّهَا عَدُوٌّ لَنَا، وَأَتَى بِعِبَارَةِ الْقَصْرِ بِطَرِيقِ الِادِّعَاءِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ عَنْ إِبْقَائِهَا، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَنَافِعِ مَرْبُوطٌ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا الْمَخْصُوصَةِ بِأَمْرِ الْمَعِيشَةِ (فَإِذَا نِمْتُمْ) : بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ نَامَ يَنَامُ أَيْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَنَامُوا (فَأَطْفِئُوهَا) : وَقَوْلُهُ: (عَنْكُمْ) : مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ مُجَاوِزِينَ إِضْرَارَهَا عَنْكُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ، وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ مَرْفُوعًا " «إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا الْمِصْبَاحَ، فَإِنَّ الْفَأْرَةَ تَأْخُذُ الْفَتِيلَةَ فَتَحْرِقُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الشَّرَابَ» ".

الْفَصْلُ الثَّانِي 4302 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ وَنَهِيقَ الْحَمِيرِ مِنَ اللَّيْلِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ; فَإِنَّهُنَّ يَرَيْنَ مَا لَا تَرَوْنَ. وَأَقِلُّوا الْخُرُوجَ إِذَا هَدَأَتِ الْأَرْجُلُ ; فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبُثُّ مِنْ خَلْقِهِ فِي لَيْلَتِهِ مَا يَشَاءُ. وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا إِذَا أُجِيفَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَغَطُّوا الْجِرَارَ، وَأَكْفِئُوا الْآنِيَةَ، وَأَوْكُوا الْقِرَبَ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي. 4302 - (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولَ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ) : بِضَمِّ النُّونِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ صِيَاحَهَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " الْكَلْبِ " بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَالْمُرَادُ جِنْسُهُ (وَنَهِيقَ الْحَمِيرِ مِنَ اللَّيْلِ) : أَيْ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، وَهُوَ قَيْدٌ لَهُمَا أَوْ لِلْأَخِيرِ، وَلَعَلَّ الْقَيْدَ بِهِ لِأَنَّهُ أَقْبَحُ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُصُولِ، فَفِي الْحِصْنِ الْحَصِينِ: " «وَإِذَا سَمِعَ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ قَالَ: " وَكَذَلِكَ إِذَا سَمِعَ نُبَاحَ الْكِلَابِ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. (فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِنَّهُنَّ) : أَيِ الْجِنْسَيْنِ عَلَى حَدِّ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الحج: 19] ، أَوْ كُلًّا مِنَ الْكِلَابِ وَالْحَمِيرِ (يَرَيْنَ) : أَيْ يُبْصِرْنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ (مَا لَا تَرَوْنَ) : أَيْ مَا لَا تُبْصِرُونَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِرِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيَّ، وَالنَّسَائِيِّ: " «وَإِذَا سَمِعَ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ; فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا» ". قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: سَبَبُهُ رَجَاءُ تَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الدُّعَاءِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ بِالتَّضَرُّعِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُضُورِ الصَّالِحِينَ وَالتَّبَرُّكُ بِهِمْ اهـ. وَكَذَا يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ، بَلِ الْمُبْتَلِينَ بِالدُّنْيَا، كَمَا كَانَ الشِّبْلِيُّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - إِذَا رَأَى أَحَدًا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ "، وَالْحَاصِلُ أَنَّ رُؤْيَةَ الصَّالِحِينَ وَالْفَاسِقِينَ بِمَنْزِلَةِ سَمَاعِ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ فِي الْأَوَّلِ، وَيَسْتَعِيذَ فِي الثَّانِي.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «إِذَا سَمِعْتُمْ أَصْوَاتَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ؟ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا» " (وَأَقِلُّوا الْخُرُوجَ) : أَيْ مِنْ بُيُوتِكُمْ (إِذَا هَدَأَتِ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْهَمْزَةِ أَيْ سَكَنَتْ (الْأَرْجُلُ) : جَمْعُ رِجْلٍ أَيْ إِذَا قَلَّ تَرَدُّدُ النَّاسِ فِي الطُّرُقِ بِاللَّيْلِ وَسَكَنَ النَّاسُ عَنِ الْمَشْيِ مِنَ الْهَدْأَةِ وَالْهَدْءُ السُّكُونُ عَنِ الْحَرَكَةِ (فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ) : أَيْ شَأْنُهُ (وَجَلَّ) : أَيْ بُرْهَانُهُ (يَبُثُّ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ يَنْشُرُ وَيُفَرِّقُ (مِنْ خَلْقِهِ) : أَيْ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُضِرَّةِ وَغَيْرِهَا كَالْفَسَقَةِ وَالْحَرَامِيَّةِ (فِي لَيْلَتِهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: " فِي لَيْلَةٍ " (مَا يَشَاءُ) : مَفْعُولُ يَبُثُّ وَمِنْ خَلْقِهِ بَيَانُ " مَا " مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا (وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ) : أَيْ رُدُّوهَا وَأَغْلِقُوهَا (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى إِغْلَاقِهَا، وَفِي حَالِ رَدِّهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْأَبْوَابِ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا إِذَا أُجِيفَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: بَابًا أُجِيفَ أَيْ رُدَّ (وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) : أَيْ حِينَ رَدِّهِ (وَغَطُّوا الْجِرَارَ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ الْجَرَّةِ أَيِ الظُّرُوفَ وَالْأَوَانِيَ إِذَا كَانَ فِيهَا الْمَشْيُ (وَأَكْفِئُوا الْآنِيَةَ) : بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، وَقِيلَ بِوَصْلِهَا فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ: كَفَأْتُ الْإِنَاءَ إِذَا كَبَبْتَهُ وَأَكْفَأْتَهُ وَكَفَأْتُهُ أَيْضًا إِذَا أَمَلْتَهُ لِيُفْرَغَ مَا فِيهَا، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ: الْمُرَادُ بِإِكْفَاءِ الْآنِيَةِ هَاهُنَا قَلْبُهَا كَيْلَا يَدِبَّ عَلَيْهَا شَيْءٌ يُنَجِّسُهَا (وَأَوْكُوا الْقِرَبَ) : أَيْ شُدُّوا أَفْوَاهَهَا خُصُوصًا بِاللَّيْلِ، فَإِنَّهُ أَدْهَى لِلْوَيْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ تَقْدِيمُ جُمْلَةِ أَوْكُوا عَلَى أَكْفِئُوا (رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : وَغَالِبُ هَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَعَ اخْتِلَافَاتٍ قَلِيلَةٍ أَشَرْتُ إِلَيْهَا فِي الْأَثْنَاءِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ جَابِرٍ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْرِجِينَ، وَلِهَذَا نَسَبَ الْحَدِيثَ إِلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ فِي كِتَابِهِ: (شَرْحِ السُّنَّةِ) : مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ.

4303 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَتْ فَأْرَةٌ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ، فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخَمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا، فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا مِثْلَ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ. فَقَالَ: " إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا ; فَيَحْرِقُكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ: عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4303 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: جَاءَتْ فَأْرَةٌ) : بِالْهَمْزِ وَيُبَدَّلُ بَلْ هُوَ أَشْهَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَأَكْثَرُ (تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ (فَأَلْقَتْهَا) : عَطْفٌ عَلَى جَاءَتْ أَيْ فَرَمَتِ الْفَأْرَةُ الْفَتِيلَةَ الْمَجْرُورَةَ (بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُمْرَةِ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ، وَهِيَ السَّجَّادَةُ وَهِيَ الْحُصْرُ الَّذِي يَسْجُدُ عَلَيْهِ سُمِّيَ بِهَا ; لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْأَرْضَ أَيْ تَسْتُرُهَا وَتَقِي الْوَجْهَ مِنَ التُّرَابِ. وَفِي الْفَائِقِ: هِيَ السَّجَّادَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ الْحَصِيرِ ; لِأَنَّهَا مُرَمَّلَةٌ مُخَمَّرٌ خُيُوطُهَا بِسَعَفِهَا (الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا، فَأَحْرَقَتْ) : أَيِ الْفَتِيلَةُ، وَالْمَعْنَى نَارُهَا (مِنْهَا مِثْلَ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ. فَقَالَ: إِذَا نِمْتُمْ) : قَيَّدَهُ بِالنَّوْمِ لِحُصُولِ الْغَفْلَةِ بِهِ غَالِبًا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَتِ الْغَفْلَةُ حَصَلَ النَّهْيُ (فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ) : أَيِ الْفَأْرَةَ (عَلَى هَذَا) : أَيِ الْفِعْلِ وَهُوَ جَرُّ الْفَتِيلَةِ (فَيُحْرِقُكُمْ) : أَيِ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِهَا، وَحَاصِلُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

[كتاب اللباس]

[كِتَابُ اللِّبَاسِ]

كِتَابُ اللِّبَاسِ الْفَصْلُ الْأَوْلُ 4304 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْبَسَهَا - الْحِبَرَةُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ اللِّبَاسِ فِي الْقَامُوسِ: لَبِسَ الثَّوْبَ كَسَمِعَ لُبْسًا بِالضَّمِّ، وَاللِّبَاسُ بِالْكَسْرِ، وَأَمَّا لَبَسَ كَضَرَبَ لَبْسًا بِالْفَتْحِ، فَمَعْنَاهُ خَلَطَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ لِلِالْتِبَاسِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4304 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ أَحَبَّ الثِّيَابِ) : بِالنَّصْبِ أَوِ الرَّفْعِ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْبَسَهَا) : قِيلَ: بَدَلٌ مِنَ الثِّيَابِ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِدُونِ " أَنْ " فَقِيلَ: الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِأَحَبَّ أَوِ الثِّيَابِ وَخَرَجَ بِهِ مَا يَفْرِشُهُ وَنَحْوُهُ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِلثِّيَابِ أَوْ لِأَحَبَّ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: " يَلْبَسُهُ "، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ يَلْبَسَهَا مُتَعَلِّقٌ بِأَحَبَّ أَيْ كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ لِأَجْلِ اللُّبْسِ. (الْحِبَرَةُ) : لِاحْتِمَالِ الْوَسَخِ، ثُمَّ الْحِبَرَةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْحِبَرَةُ مِنَ الْبُرُودِ مَا كَانَ مَوْشِيًّا مُخَطَّطًا. يُقَالُ: بُرْدٌ حِبَرَةٌ بِوَزْنِ عِنَبَةٍ عَلَى الْوَصْفِ وَالْإِضَافَةِ، وَهُوَ بُرْدٌ يَمَانِيٌّ. قَالَ مِيرَكُ: وَالرِّوَايَةُ عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ رَفْعُ الْحِبَرَةِ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ، وَ " أَحَبَّ " خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحُوهُ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ. قُلْتُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ وَإِلَّا يُقَالُ: كَانَ الْحِبَرَةُ أَحَبَّ، وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ أَحَبَّ وَصْفٌ فَهُوَ أَوْلَى بِكَوْنِهِ حُكْمًا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي زِيَادَةٌ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ، ثُمَّ الْحِبَرَةُ نَوْعٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ، رُبَّمَا تَكُونُ بِخُضْرٍ أَوْ زُرْقٍ، فَقِيلَ: هِيَ أَشْرَفُ الثِّيَابِ عِنْدَهُمْ تُصْنَعُ مِنَ الْقُطْنِ ; فَلِذَا كَانَ أَحَبَّ، وَقِيلَ لِكَوْنِهَا خَضْرَاءَ وَهِيَ مِنْ ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّهُ كَانَ أَحَبُّ الْأَلْوَانِ إِلَيْهِ الْخُضْرَةَ عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنِ السُّنِّيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سُمِّيَتْ حِبَرَةً لِأَنَّهَا تُحَبِّرُ أَيْ تُزَيِّنُ وَالتَّحْبِيرُ التَّحْسِينُ. قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَتْ هِيَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ زِينَةٍ، وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ احْتِمَالًا لِلْوَسَخِ، قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الْحِبَرَةِ، وَعَلَى جِوَازِ لُبْسِ الْمُخَطَّطِ. قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ مُجْمِعٌ عَلَيْهِ اهـ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ أَحَبَّ الثِّيَابِ عِنْدَهُ كَانَ الْقَمِيصَ، إِمَّا بِمَا اشْتُهِرَ فِي مَثَلِهِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَبِّ كَمَا قِيلَ فِيمَا وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ: أَنَّهُ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَإِمَّا بِأَنَّ التَّفْضِيلَ رَاجِعٌ إِلَى الصِّفَةِ، فَالْقَمِيصُ أَحَبُّ الْأَنْوَاعِ بِاعْتِبَارِ الصُّنْعِ، وَالْحِبَرَةُ أَحَبُّهَا بِاعْتِبَارِ اللَّوْنِ أَوِ الْجِنْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

4305 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ جُبَّةً رُومِيَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4305 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ،: أَيْ فِي السَّفَرِ (جُبَّةً) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ ثَوْبَانِ بَيْنَهُمَا قُطْنٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ صُوفٍ، فَقَدْ تَكُونُ وَاحِدَةً غَيْرَ مَحْشُوَّةٍ. وَقَدْ قِيلَ: جُبَّةُ الْبَرْدِ جُنَّةُ الْبَرْدِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا (رُومِيَّةً) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، لَا غَيْرُ قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَلِأَبِي دَاوُدَ: " جُبَّةً مِنْ صُوفٍ مِنْ جِبَابِ الرُّومِ "، لَكِنْ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا " جُبَّةً شَامِيَّةً "، وَقَدْ ضَبَطَهَا الْعَسْقَلَانِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الشَّامَ حِينَئِذٍ دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَكَأَنَّهَا وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمُلْكِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نِسْبَةُ هَيْئَتِهَا الْمُعْتَادِ لُبْسُهَا إِلَى أَحَدِهِمَا، وَنِسْبَةُ خِيَاطَتِهَا أَوْ إِتْيَانِهَا إِلَى الْأُخْرَى (ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ) : بَيَانُ رُومِيَّةٍ أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهَذَا كَانَ فِي سَفَرٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ ذَكَرِيَّا ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَقَالَ: " أَمَعَكَ مَاءٌ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ

فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ الْأَدَاوَةَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَصْلِ الْجُبَّةِ» ، وَلَهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى: " «فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ، فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَ مِنْ تَحْتِ بَدَنِهِ» " بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ فَمُهْمَلَةٍ فَنُونٍ أَيْ جَنْبِهِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَالْبَدَنُ بِفَتْحَتَيْنِ دِرْعٌ قَصِيرَةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ زَادَ مُسْلِمٌ: وَ " «أَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى كَتِفَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَخُفَّيْهِ» "، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ وَمُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ «عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فَأَقْبَلْتُ مَعَهُ حَتَّى وَجَدَ النَّاسَ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَصَلَّى بِهِمْ، فَأَدْرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُتِمُّ صَلَاتَهُ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ النَّاسَ، وَفِي أُخْرَى قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَأَرَدْتُ تَأْخِيرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (. . .» ) ذَكَرَهُ مِيرَكُ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ: الِانْتِفَاعُ بِثِيَابِ الْكُفَّارِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ نَجَاسَتُهَا، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ الْجُبَّةَ الرُّومِيَّةَ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى أَنَّ الصُّوفَ لَا يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْجُبَّةَ كَانَتْ شَامِيَّةً، وَكَانَتِ الشَّامُ إِذْ ذَاكَ دَارَ كُفْرٍ، وَمِنْهَا: جَوَازُ لُبْسِ الصُّوفِ، وَكَرِهَ مَالِكٌ لُبْسَهُ لِمَنْ يَجِدُ غَيْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الشُّهْرَةِ بِالزُّهْدِ ; لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْعَمَلِ أَوْلَى قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَمْ يَنْحَصِرِ التَّوَاضُعُ فِي لُبْسِهِ، لِمَنْ فِي الْقُطْنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ بِدُونِ ثَمَنِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ رِقَّةِ الثِّيَابِ وَغِلَظِهَا وَلِينِهَا وَخُشُونَتِهَا وَطُولِهَا وَقِصَرِهَا، وَلَكِنْ سَدَادٌ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَاقْتِصَادٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ السَّادَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ، وَأَمَّا أَكْثَرُ طَوَائِفِ الصُّوفِيَّةِ فَاخْتَارُوا لُبْسَ الصُّوفِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَسُوا لِحُظُوظِ النَّفْسِ مَا لَانَ مَسُّهُ وَحَسُنَ مَنْظَرُهُ، وَإِنَّمَا لَبِسُوا لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْقُرِّ، فَاجْتَزُّوا بِالْخَشِنِ مِنَ الشَّعْرِ وَالْغَلِيظِ مِنَ الصُّوفِ، وَقَدْ وَصَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ، بِأَنَّهُمْ كَانَ لِبَاسَهُمُ الصُّوفَ حَتَّى إِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِيَعْرَقَ فِيهِ، فَيُوجَدُ مِنْهُ رِيحُ الضَّأْنِ إِذَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ، وَقَدْ نَقَلَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبِسَ الصُّوفَ آدَمُ وَحَوَّاءُ لَمَّا هَبَطَا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِي التَّعَرُّفِ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَرَّ بِالصَّخْرَةِ مِنَ الرَّوْحَاءِ سَبْعُونَ نَبِيًّا حُفَاةً، عَلَيْهِمُ الْعَبَاءُ، يَؤُمُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ» "، وَالرَّوْحَاءُ مَوْضِعٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ عَلَى ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَلْبَسُ الشَّعْرَ، وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَيَبِيتُ حَيْثُ أَمْسَى. «وَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَلْبَسُ الشَّعْرَ» ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا مَا كَانَ لِبَاسُهُمْ إِلَّا الصُّوفَ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ أَنَّ فَرْقَدًا السَّبْخِيِّ دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ وَعَلَى الْحَسَنِ حُلَّةٌ، فَجَعَلَ يَلْمِسُهَا فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَى ثِيَابِي؟ ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَثِيَابُكَ ثِيَابُ أَهْلِ النَّارِ. بَلَغَنِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ أَصْحَابُ الْأَكْسِيَةِ، ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلُوا الزُّهْدَ فِي ثِيَابِهِمْ، وَالْكِبْرَ فِي صُدُورِهِمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَأَحَدُكُمْ لِكِسَائِهِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ. بِمِطْرَفِهِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ حَيْثُ قَالَ: تَصَوَّفَ فَازْدَهَى بِالصُّوفِ جَهْلًا ... وَبَعْضُ النَّاسِ يَلْبَسُهُ مَجَانَةْ يُرِيكَ مَهَانَةً وَيُرِيكَ كِبْرًا ... وَلَيْسَ الْكِبْرُ مِنْ شَكْلِ الْمَهَانَةْ تَصَوَّفَ كَيْ يُقَالَ لَهُ أَمِينٌ ... وَمَا يُغْنِي تَصَوُّفُهُ الْأَمَانَةْ وَلَمْ يُرِدِ الْإِلَهُ بِهِ وَلَكِنْ ... أَرَادَ بِهِ الطَّرِيقَ إِلَى الْخِيَانَةْ هَذَا: وَقِيلَ فِيهِ نَدْبِ اتِّخَاذِ ضَيِّقِ الْكُمِّ فِي السَّفَرِ لَا فِي الْحَضَرِ ; لِأَنَّ أَكْمَامَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَتْ وَاسِعَةً، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَحَرَّاهَا لِلسَّفَرِ، وَإِلَّا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَبِسَهَا لِلدِّفَاءِ مِنَ الْبَرْدِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنِ اتِّسَاعِ الْكُمِّ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْأَكْمَامَ جَمْعُ كُمٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ جَمْعُ كُمَّةٍ، وَهِيَ مَا يُجْعَلُ عَلَى الرَّأْسِ كَالْقَلُنْسُوَةِ، فَكَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ مِنَ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ اتِّسَاعَ الْكُمَّيْنِ اهـ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا عَلَى السِّعَةِ الْمُفْرِطَةِ وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، بَلْ مُتَعَيِّنٌ ; وَلِذَا قَالَ فِي النَّتْفِ مَنْ كُتُبِ أَئِمَّتِنَا: إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ اتِّسَاعُ الْكُمِّ قَدْرَ شِبْرٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

4306 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: «أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كِسَاءً مُلَبَّدًا وَإِزَارًا غَلِيظًا، فَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَيْنِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4306 - (وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهَمْزٍ فِي آخِرِهِ مَعْرُوفٌ (مُلَبَّدًا) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ. فِي النِّهَايَةِ: أَيْ مُرَقَّعًا. يُقَالُ: لَبَّدْتُ الْقَمِيصَ وَأَلْبَدْتُهُ (وَإِزَارًا غَلِيظًا) : وَفِي نُسْخَةٍ " رِدَاءً " وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْكِسَاءَ مَا يَسْتُرُ أَعَالِيَ الْبَدَنَ ضِدُّ الْإِزَارِ (فَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَيْنِ) : أَيْ فِي الثَّوْبَيْنِ، وَكَأَنَّهُ إِجَابَةٌ لِدُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا» ". قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي أَمْثَالِ هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ مَتَاعِهَا وَمَلَاذِّهَا، فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَقْتَدُوا، وَأَنْ يَقْتَفُوا عَلَى أَثَرِهِ فِي جَمِيعِ سَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِسَاءٌ مُلَبَّدٌ يَلْبَسُهُ، يَقُولُ: " «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ أَلْبَسَ كَمَا يَلْبَسُ الْعَبْدُ» ".

4307 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ فِرَاشُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أَدَمًا، حَشْوُهُ لِيفٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4307 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِكَسْرِ الْفَاءِ (الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أَدَمًا) : بِفَتْحَتَيْنِ اسْمُ الْأَدِيمِ، وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ (حَشْوُهُ لِيفٌ) : فِي الْقَامُوسِ: لِيفُ النَّخْلِ بِالْكَسْرِ مَعْرُوفٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةِ الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ، عَنْ حَفْصَةَ: كَانَ فِرَاشُهُ مِسْحًا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ بَلَاسًا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ بَعْضِ آلِ أُمِّ سَلَمَةَ: كَانَ فِرَاشُهُ نَحْوًا مِمَّا يُوضَعُ لِلْإِنْسَانِ فِي قَبْرِهِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عِنْدَ رَأْسِهِ.

4308 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ وِسَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَتَّكِئُ عَلَيْهِ مَنْ أَدَمٍ، حَشْوُهُ لِيفٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4308 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - (قَالَتْ: كَانَ وِسَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِكَسْرِ الْوَاوِ (الَّذِي يَتَّكِئُ عَلَيْهِ) : أَيْ عِنْدَ الِاسْتِنَادِ، أَوْ يَتَوَسَّدُ عَلَيْهِ عِنْدَ الرُّقَادِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْوِسَادُ الْمُتَّكَأُ الْمُخَلَّدُ كَالْوِسَادَةِ وَيُثَلَّثُ (مَنْ أَدَمٍ، حَشْوُهُ لِيفٌ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: كَانَ وِسَادَتُهُ الَّتِي يَنَامُ عَلَيْهَا مَنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْفِرَاشِ وَالْوِسَادَةِ، وَالنَّوْمِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ بِالِاسْتِحْبَابِ لِمُدَاوَمَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ لِلِاسْتِرَاحَةِ الَّتِي قُصِدَتْ بِالنَّوْمِ لِلْقِيَامِ عَلَى النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ.

4309 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «بَيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْبِلًا مُتَقَنِّعًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4309 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ: بَيْنَمَا نَحْنُ) : أَيْ آلُ أَبِي بَكْرٍ (جُلُوسٌ) : أَيْ جَالِسُونَ، (فِي بَيْتِنَا) : أَيْ بِمَكَّةَ (فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ) : أَيْ شِدَّةِ الْحَرِّ نِصْفَ النَّهَارِ، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ الْهِجْرَةِ (قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ) : أَيْ مُبَشِّرًا لَهُ (هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْبِلًا) : أَيْ مُتَوَجِّهًا (مُتَقَنِّعًا) : بِكَسْرِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مُغَطِّيًا رَأَّسَهُ بِالْقِنَاعِ أَيْ بِطَرَفِ رِدَائِهِ عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْعَرَبِيِّ لِحَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ لَهُ التَّسَتُّرَ لِكَيْلَا يَعْرِفَهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَهُمَا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ، وَالْعَامِلُ مَعْنَى اسْمِ الْإِشَارَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4310 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: " فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ، وَفِرَاشٌ لِامْرَأَتِهِ، وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ، وَالرَّابِعُ. لِلشَّيْطَانِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4310 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَيْ لِجَابِرٍ فَهُوَ الْمَقُولُ لَهُ فِي الْمَقُولِ (فِرَاشُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مُبْتَدَأٌ مُخَصِّصُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الثَّالِثُ لِلضِّيقِ أَيْ فِرَاشٌ وَاحِدٌ كَافٍ (لِلرَّجُلِ وَفِرَاشٌ) : أَيْ آخَرُ (لِامْرَأَتِهِ، وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ، وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ) : أَيْ لِأَنَّهُ يَرْتَضِيهُ وَيَأْمُرُ لَهُ، فَكَأَنَّهُ لَهُ، أَوْ

لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ كَانَ مَبِيتُهُ وَمَقِيلُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُ مَعَ إِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ لَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ إِلَى الْمَجَازِ، وَكَانَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ هُنَا ; فَقَالَ: أَيْ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ وَاتِّخَاذٍ لِلْمُبَاهَاةِ وَالِاخْتِيَالِ وَالْإِلْهَاءِ بِزِينَةِ الدُّنْيَا، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَكُلُّ مَذْمُومٍ يُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ يَرْتَضِيهِ، وَأَمَّا تَعْدِيدُ الْفِرَاشِ لِلزَّوْجِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى فِرَاشٍ عِنْدَ الْمَرَضِ وَنَحْوِهُ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ النَّوْمُ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَأَنَّ لَهُ الِانْفِرَادَ عَنْهَا بِفِرَاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ النَّوْمَ مِنَ الزَّوْجَةِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ أَنَّ النَّوْمَ مَعَهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ أَفْضَلُ: هُوَ ظَاهِرُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلِأَنَّ قِيَامَهُ مِنْ فِرَاشِهَا مَعَ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى التَّهَجُّدِ أَصْعَبُ وَأَشَقُّ: وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: " «عَجِبَ رَبُّنَا مِنَّ رَجُلَيْنِ، رَجُلٌ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقًا فِيمَا عِنْدِي» . " الْحَدِيثَ. قُلْتُ: لَا كَلَامَ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ وَعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْأَفْضَلِيَّةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ سَائِرِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ غَيْرُ صَحِيحٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ: أَبُو دَاوُدَ: النَّسَائِيُّ.

4311 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4311 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ نَظَرَ رَحْمَةٍ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا، عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوْ عَلَى الزَّجْرِ، أَوْ مُقَيَّدًا بِابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ يَنْظُرَ نَظَرَ لُطْفٍ وَعِنَايَةٍ (إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ تَكَبُّرًا أَوْ فَرَحًا وَطُغْيَانًا بِالْغِنَى قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ جَرَّهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، يَكُونُ حَرَامًا، لَكِنَّهُ مُكْرَهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا» ". رَوَاهُ احْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى مُسْبِلِ إِزَارِهِ» ".

4312 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4312 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَنِ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ) : وَهُوَ شَامِلٌ لِإِزَارِهِ وَرِدَائِهِ وَغَيْرِهِمَا (خُيَلَاءَ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ: بِالْمَدِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ وَالْمَخْيَلَةُ وَالْبَطَرُ وَالْكِبْرُ وَالزُّهْوِ وَالتَّبَخْتُرُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ (لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ لَا يَرْحَمُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ.

4313 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4313 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ) : عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالضَّمِيرُ لِلرِّجَالِ أَيْ أُدْخِلَ فِي الْأَرْضِ (فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ) : بِجِيمَيْنِ أَيْ يَتَحَرَّكُ مُضْطَرِبًا وَمُنْدَفِعًا مِنْ شَقٍّ إِلَى شَقٍّ: وَالْجَلْجَلَةُ الْحَرَكَةُ مَعَ الصَّوْتِ: وَمِنْهُ الْجَلَاجِلُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَسُوخُ فِيهَا أَبَدًا (فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَأَخْبَرَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَيَقَعُ: وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لتَّحْقِيقِ وُقُوعِهِ: وَأَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَمَّنْ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ; وَلِذَلِكَ أَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَإِبْهَامِ الرَّجُلِ أَنَّهُ غَيْرُ قَارُونَ: (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4314 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4314 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَسْفَلَ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ مَا نَزَلَ (مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ) : بَيَانٌ لِمَا أَيْ مِنْ إِزَارِ الرَّجُلِ (فِي النَّارِ) : أَيْ فَهُوَ أَيْ صَاحِبُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِسَبَبِ الْإِسْبَالِ النَّاشِئِ عَنِ التَّكَبُّرِ وَالِاخْتِيَالِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: " مَا " مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهُ مَحْذُوفَةٌ وَهُوَ كَانَ، وَأَسْفَلَ مَنْصُوبٌ خَبَرًا

لِكَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ أَسْفَلَ أَيِ الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ هُوَ أَفْعَلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلًا وَهُوَ مَعَ فَاعِلِهِ صِلَتُهُ أَيِ الَّذِي سَفَلَ مِنَ الْإِزَارِ مِنَ الْكَعْبَيْنِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَيَجُوزُ كَوْنُ " مَا " شَرْطِيَّةً وَأَسْفَلَ فِعْلٌ مَاضٍ اهـ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَفِي غَيْرِهِ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَتُهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: (فَفِي النَّارِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُتَنَاوَلُ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ قَدَمِ صَاحِبِهِ فِي النَّارِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ فِي النَّارِ أَيْ هُوَ مَعْدُودٌ وَمَحْسُوبٌ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْإِسْبَالُ يَكُونُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْإِسْبَالُ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ إِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِالْخُيَلَاءِ لِدَلَالَةِ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مَنْعَ تَحْرِيمٍ، وَإِلَّا فَمَنْعُ تَنْزِيهٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْإِسْبَالِ لِلنِّسَاءِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَهُنَّ فِي إِرْخَاءِ ذُيُولِهِنَّ "، وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ فِيمَا يَنْزِلُ إِلَيْهِ طَرَفُ الْقَمِيصِ وَالْإِزَارِ فَنِصْفُ السَّاقَيْنِ، وَالْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ مَا تَحْتَهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَبِالْجُمْلَةِ يُكْرَهُ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ، وَالْمُعْتَادُ فِي اللِّبَاسِ مِنَ الطُّولِ وَالسِّعَةِ اهـ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُعْتَادُ الشَّرْعِيُّ لَا الْمُعْتَادُ الْعُرْفِيُّ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ قَمِيصًا قَصِيرَ الْكُمَّيْنِ وَالطُّولِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْهُ: " «كَانَ يَلْبَسُ قَمِيصًا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مُسْتَوِيَ الْكُمَّيْنِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ» "، وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

4315 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ، أَوْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ، أَوْ يَجْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4315 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ) : أَيْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ عَلَى مَا سَبَقَ، (أَوْ يَمْشِيَ) : عَطْفٌ عَلَى يَأْكُلَ وَ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ (فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: لِأَنَّهُ تَشْوِيهٌ وَمُخَالِفٌ لِلْوَقَارِ، وَإِنَّ الرِّجْلَ الْمُنَعَّلَةَ تَصِيرُ أَرْفَعَ مِنَ الْأُخْرَى، فَيَعْسُرُ مَشْيُهُ، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْعِثَارِ (وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ) : بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتُشَدُّ الْمِيمُ وَبِالْمَدِّ أَيْ وَنَهَى عَنِ اللِّبْسَةِ الصَّمَّاءِ وَهِيَ عِنْدَ الْعَرَبِ تَجْلِيلُ الْجَسَدِ كُلِّهِ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ بِلَا رَفْعِ جَانِبٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الْيَدُ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ يَجْعَلُ اللَّابِسِ كَالْمَغْلُولِ، وَسُمِّيَتْ صَمَّاءَ ; لِأَنَّهَا سَدَّتِ الْمَنَافِذَ كُلَّهَا كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خَرْقٌ وَلَا صَدْعٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُكْرَهُ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ رَأْسَهُ وَسَائِرَ جَسَدِهِ، وَلَا يَدَعُ مَنْفَذًا لِيَدَيْهِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِزَارِ مَعَ ذَلِكَ؟ عَنْ مُحَمَّدٍ يُشْتَرَطُ، وَعَنْ غَيْرِهِ لَا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَهُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ فَيَضَعُهُ عَلَى أَحَدِ مَنْكِبَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ يَنْكَشِفُ بِهِ بَعْضُ عُرْوَتِهِ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، (أَوْ يَحْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ) : أَيْ عَنْ عَوْرَتِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: الِاحْتِبَاءُ بِالْمَدِّ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَيَنْصُبَ سَاقَيْهِ، وَيَحْتَوِيَ عَلَيْهِمَا بِثَوْبٍ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ بِيَدِهِ، وَهُوَ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي مَجَالِسِهِمْ اهـ. فَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ بِقَيْدِ الْكَشْفِ، وَإِلَّا فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ فِي غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «نَهَىَ عَنِ الصَّمَّاءِ، وَالِاحْتِبَاءِ، فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ» ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: " «نُهِيَ أَنْ يَمَسَّ الرَّجُلُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَأَنْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» ".

4316 -، 4317، 4318، 4319 - وَعَنْ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4316 -، 4317، 4318، 4319 - (وَعَنْ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي أُمَامَةَ) : رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِرِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِسْنَادًا مُتَّحِدَةً مَتْنًا (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ " مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ) : أَيْ غَيْرَ الْمَشْرُوعِ (فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ) : مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوْ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ، أَوْ عَلَى مُدَّةٍ قَبْلَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ: تَأْوِيلُ الْأَكْثَرِينَ هُوَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَعَ السَّابِقِينَ الْفَائِزِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ جُوَيْرِيَةَ: " «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبًا مِنْ نَارٍ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ.

4320 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4320 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ) : أَيْ لَا حِصَّةَ أَوْ لَا حَظَّ كَامِلًا (فِي الْآخِرَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا حَظَّ لَهُ فِي النَّعِيمِ، وَثَانِيهُمَا: لَا حَظَّ لَهُ فِي الِاعْتِقَادِ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ مَنْ لَا دِينَ لَهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَلَى الْآخَرِ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَظَاهِرٌ، وَفِي الْمُؤْمِنِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ اهـ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ ابْتِدَاءً أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَذَّبَ بِثَوْبٍ مِنْ نَارِ الْمَشِيئَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ اهـ. فَيُنْظَرُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ هُوَ ابْنُ عُمَرَ، أَوْ عُمَرُ، أَوِ ابْنُ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4321 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4321 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَيُفْتَحُ نَوْعٌ مِنْهُ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الِاسْمِ، فَتَخْصِيصُهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمُسَمَّى لَا بِالِاسْمِ كَمَا سَبَقَ فِي الْخَمْرِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدًا أَفْرَدَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى الْحَرِيرِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ) : أَيْ نَحْنُ وَغَيْرُنَا تَبَعٌ لَنَا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانَ: لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ حَرَامٌ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَكَمَا يُكْرَهُ فِي حَقِّ الْبَالِغِ يُكْرَهُ لِبَاسُ الصِّبْيَانِ الذُّكُورِ أَيْضًا، وَيَكُونُ الْإِثْمُ عَلَى مَنْ أَلْبَسَهُمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ لِلْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ سَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ وَلُحْمَتُهُ حَرِيرٌ يُكْرَهُ لُبْسُهُ عِنْدَهُمْ، وَجَازَ لُبْسُهُ فِي الْحَرْبِ، أَمَّا مَا كَانَ سَدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ جَازَ لُبْسُهُ فِي كُلِّ حَالٍ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِافْتِرَاشِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِمَا، وَكَذَا الْوَسَائِدُ وَالْمَرَافِقُ وَالْبُسُطُ وَالسُّتُورُ مِنَ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَمَاثِيلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ جَمِيعُ ذَلِكَ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ عَلَى التَّنْزِيهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا بَأْسَ، فَإِنَّ الْوَرِعَ مَنْ يَدَعُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: " «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» ". وَكَأَنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ مَا حَصَلَ لَهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى كَوْنِ نَهْيِهِ لِلتَّحْرِيمِ، وَالنُّصُوصُ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَا تَشْمَلُهُ ; لِأَنَّ الْقُعُودَ عَلَى شَيْءٍ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ، فَلِهَذَا حَكَمَ بِالتَّنْزِيهِ، وَهَذَا مِنْ وَرَعِهِ فِي الْفَتْوَى، وَأَمَّا عَمَلُهُ بِالتَّقْوَى فَمَشْهُورٌ لَا يَخْفَى، وَمَذْكُورٌ فِي مَنَاقِبِهِ مِمَّا لَا يُحْصَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4322 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَيَّ فَلَبِسْتُهَا، فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4322 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أُهْدِيَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةٌ) : بِالتَّنْوِينِ،: وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ إِزَارًا وَرِدَاءً، وَقَدْ يُنَوَّنُ ; وَلِذَا جَاءَ صِفَتُهُ (سِيَرَاءَ) : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُهَا مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَوْصُوفِهَا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْإِضَافَةِ، وَهِيَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ تَحْتِيَّةٍ، ثُمَّ رَاءٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ مَمْدُودَةٌ، بُرْدَةٌ يُخَالِطُهَا حَرِيرٌ، وَقِيلَ: هِيَ حَرِيرٌ مَحْضٌ وَهُوَ أَشْبَهُ لِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِمُسْلِمٍ: " حُلَّةٌ مِنْ دِيبَاجٍ "، وَفِي أُخْرَى مِنْ سُنْدُسٍ، وَلِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَرَّمَةُ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِطَةُ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ، فَفِيهِ كَلَامٌ سَبَقَ (قَالَ) : عَلِيٌّ (فَبَعَثَ بِهَا) : أَيْ فَأَرْسَلَهَا (إِلَيَّ فَلَبِسْتُهَا) : أَيْ وَجِئْتُهُ، لَابِسًا (فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ) : وَهُوَ إِمَّا لِأَنَّ أَكْثَرَهَا أَوْ كُلَّهَا إِبْرَيْسِيمٌ ; أَوْ لِأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَتَفَكَّرْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ثِيَابِ الْمُتَّقِينَ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا وَيُقَسِّمَهَا، فَلَمَّا

غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى وَلَبِسَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ لُبْسُهَا لَمَا أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ غَضِبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا) : بِكَسْرِ الْقَافِ الْأُولَى الْمُشَدَّدَةِ أَيْ لِتُقَطِّعَهَا (خُمُرًا) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ خِمَارٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهُ وَهُوَ الْمِقْنَعَةُ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ: خِطْتُهُ قَمِيصًا، وَقَوْلُهُ: (بَيْنَ النِّسَاءِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَوْ صِفَةً لِخُمُرًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمَعْنَى لِتُقَطِّعَهَا قِطْعَةً قِطْعَةً، كُلُّ قِطْعَةٍ قَدْرَ خِمَارٍ، وَتُقَسِّمَهَا بَيْنَ النِّسَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " بَيْنَ الْفَوَاطِمِ "، وَهِيَ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ الْبَتُولُ بِنْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ أُمُّ عَلِيٍّ وَجَعْفَرَ وَعَقِيلٍ وَطَالِبٍ، وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وَلَدَتْ بِهَاشِمِيٍّ، وَفَاطِمَةُ أُمُّ أَسْمَاءَ بِنْتِ حَمْزَةَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4323 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا هَكَذَا، وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِصْبَعَيْنِ: الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ وَضَمَّهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4323 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا هَكَذَا) : أَيْ قَدْرَ إِصْبَعَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ عَلَمًا أَوْ فَرَاوِيزَ (وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِصْبَعَيْهِ: السَّبَّابَةَ) : أَيِ الْمُسَبِّحَةَ (وَالْوُسْطَى) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِإِصْبَعَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِتَقَدُّمِ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ (وَضَمِّهِمَا) : عَطْفٌ عَلَى " وَرَفَعَ "، وَهُوَ بِتَقْدِيرِ قَدْ حَالٌ وَفِي الْمَعْنَى عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ " هَكَذَا " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4324 - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: أَنَّهُ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4324 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: أَنَّهُ) : أَيْ عُمَرَ (خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ) : بِالْجِيمِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ (فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ) : أَيْ مِقْدَارَ إِصْبَعَيْنِ (أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ) : فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِبَاحَةُ الْعَلَمِ مِنَ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، قَالَ قَاضِيخَانُ: رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْعَلَمِ مِنَ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ إِذَا كَانَ أَرْبَعَ أَصَابِعَ أَوْ دُونَهَا وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرْخَسِيُّ فِي السِّيَرِ: لَا بَأْسَ بِالْعَلَمِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ وَلَمْ يُقَدِّرْ اهـ. وَلَعَلَّ عَدَمَ تَقْدِيرِهِ اعْتِمَادًا عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُقَدَّرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَرْبَابِ الشَّرْعِ.

4325 - «وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيَّةٍ لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ، وَفُرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ، وَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرَضِ نَسْتَشْفِي بِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4325 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ) : بِالْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَصْفِ وَهِيَ بِكَسْرِ اللَّامِ جَمْعُ طَيْلَسَانٍ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ مُعَرَّبُ " تَالَسَانٍ "، وَهُوَ مِنْ لِبَاسِ الْعَجَمِ مُدَوَّرٌ أَسْوَدُ، وَجَمْعُ التَّفَارِيقِ الطَّيَالِسَةُ لُحْمَتُهَا وَسَدَاهَا صُوفٌ وَالتَّاءُ فِي جُبَّةٍ لِلْمُوَحَّدَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: جُبَّةُ صُوفٍ سَوْدَاءُ، هَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ النَّوَوِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا الْإِضَافَةِ لِلْبَيَانِ (كِسَرْوَانِيَّةٍ) : بِكَسْرِ الْكَافِ وَيُفْتَحُ مَنْسُوبٌ إِلَى كِسْرَى مَلَكِ فَارِسَ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ، وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ صِفَةٌ لِجُبَّةٍ، وَقِيلَ مَجْرُورَةٌ صِفَةُ طَيَالِسَةٍ عَلَى رِوَايَةِ الْإِضَافَةِ، هَذَا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْجُبَّةُ ثَوْبَانِ بِطَارِقَانِ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا حَشْوٌ، وَقَدْ يُقَالُ لِمَا لَا حَشْوَ لَهُ إِذَا كَانَتْ ظِهَارَتُهُ مِنْ صُوفٍ. وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ إِضَافَتُهَا إِلَى الطَّيَالِسَةِ، وَفُسِّرَتْ بِالْخَلِقِ كَأَنَّهُمْ كَنَّوْا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الطَّيَالِسَةِ عَنِ الْخِلِقِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ الْخَلِقِ لَمْ يَكُنْ لِيَلْبَسَهُ إِلَّا بِطَيْلَسَانٍ لِيُوَارِيَ مَا تَخَرَّقَ مِنْهُ، (لَهَا) : أَيْ لِلْجُبَّةِ (لِبْنَةُ دِيبَاجٍ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَنُونٍ رُقْعَةٌ تُوضَعُ فِي جَيْبِ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةُ كَمَا مَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ شَارِحٌ: هِيَ مَا يُرَقَّعُ بِهِ قَبُّ الثَّوْبِ، وَيُقَالُ لَهُ الْجَرَيَانُ أَيْضًا وَهُوَ مُعَرَّبٌ كَرَبَيَانٍ، وَقِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا تُوضَعُ تَحْتَ الْإِبِطِ (وَفُرْجَيْهَا) : بِضَمِّ الْفَاءِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا أَيْ شِقَّيْهَا شِقٌّ مِنْ خَلْفُ وَشِقٌّ مِنْ قُدَّامُ (مَكْفُوفَيْنِ) : أَيْ مُخَيَّطِينِ (بِالدِّيبَاجِ) : أَيْ بِثَوْبٍ مِنْ حَرِيرٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ خُيِّطَ عَلَى طَرَفِ كُلِّ شِقٍّ قِطْعَةٌ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلُ: قَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ: أَيْ خُيِّطَ شِقَّاهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ، وَالْكَفُّ عَطْفُ أَطْرَافِ الثَّوْبِ. يُقَالُ: ثَوْبٌ مُكَفَّفٌ أَيْ مَوْقِعُ جَيْبِهِ، أَطْرَافُ كَفَّيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّيبَاجِ وَنَصَبَ

فُرْجَيْهَا بِمُقَدَّرٍ مِثْلُ وَجَدْتُ، وَالرِّوَايَةُ الْفَاشِيَةُ بِالرَّفْعِ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رُوِيَ فِي الْحِسَانِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: وَلَا أَلْبَسُ الْقَمِيصَ الْمَكْفُوفَ بِالْحَرِيرِ أَنَّهُ رُبَّمَا رَأَى الْكَرَاهَةَ فِي الْكَرَاهَةِ ; لِأَنَّ فِيهِ مَزِيدَ تَرَفُّهٍ وَتَجَمُّلٍ، وَلَمْ يَرَهَا فِي الْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ اهـ. وَلَعَلَّ هَذَا مَأْخَذُ قَوْلٍ ضَعِيفٍ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ لُبْسُ الْحَرِيرِ هَكَذَا إِذَا اتَّصَلَ بِالْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا، هَذَا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: وَفُرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَهُمَا مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَرَأَيْتُ. وَوَافَقَهُ الْقَاضِي، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا إِخْرَاجُ أَسْمَاءَ جُبَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَكْفُوفَةَ بِالْحَرِيرِ، فَقَصَدَتْ بِهِ بَيَانَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُحَرَّمًا مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ اهـ، وَفِيهِ أَنَّ مِقْدَارَ الْحَرِيرِ فِي الْجُبَّةِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ وَمُعَيَّنٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنَ الْخَارِجِ، وَإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ قَدْرٌ زَائِدٌ لَقُلْنَا بِهِ كَمَا قُلْنَا بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ بَعْدَ تَجْوِيزِهِ قَدْرَ إِصْبَعَيْنِ، مَرَّةً أَنَّ الْقَصْدَ الْمَذْكُورَ مِنْهَا مُحْتَمَلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَقَالَتْ) : عَطْفٌ عَلَى " أَخْرَجَتْ "، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " فَقَالَتْ " (هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ) : لَعَلَّهَا بِالْهِبَةِ لَهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدَمِ الْإِرْثِ فِي الْأَنْبِيَاءِ (فَلَمَّا قُبِضَتْ) : أَيْ تُوُفِّيَتْ (قَبَضْتُهَا) : أَيْ أَخَذْتُهَا بِالْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا أُخْتُهَا (وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُهَا) : أَيْ أَحْيَانًا (فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى) : وَنَسْقِي مَاءَ غَسْلِهَا لَهُمْ (نَسْتَشْفِي بِهَا) : أَيْ. بِمَائِهَا أَوْ بِالْجُبَّةِ نَفْسِهَا بِوَضْعِهَا عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَالتَّبَرُّكِ بِلَمْسِ الْيَدَيْنِ، وَتَقْبِيلِ الشَّفَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4326 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ بِهِمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: «إِنَّهُمَا شَكَوَا الْقَمْلَ، فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4326 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ لِحُكَاكٍ (بِهِمَا) لِجَرَبٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْحِكَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً بِسَبَبِ الْقَمْلِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَيَأْتِي مِنَ الرِّوَايَةِ، مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ اجْتِمَاعًا وَافْتِرَاقًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ جَوَازُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلْجَرَبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: دَلَّ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِعُذْرٍ، وَأَمَّا لُبْسَهُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْجَرَبِ أَوْ دَفْعِ الْقَمْلِ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، كَمَا إِذَا فَاجَأَهُ الْجَرَبُ أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ بِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، فَيَجُوزُ لِلْحَاجَةِ كَالْجَرَبِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مُنْكَرٌ، وَيَجُوزُ لِدَفْعِ الْقَمْلِ فِي السَّفَرِ، وَكَذَا فِي الْحَضَرِ عَلَى الْأَصَحِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ) : أَيْ أَنِّي (إِنَّهُمَا شَكَوَا الْقَمْلَ) : وَهُوَ أَفْصَحُ مَنْ شَكَيَا، فَفِي الْقَامُوسِ: شَكَيْتُ لُغَةً فِي شَكَوْتُ (فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَالْمِيمِ جَمْعُ قَمِيصٍ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ لُبْسَ الْحَرِيرَ فَوْقَ الْقَمِيصِ لَا يَجُوزُ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.

4327 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ. فَقَالَ: " إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ، فَلَا تَلْبَسْهُمَا ". وَفِي رِوَايَةٍ: قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا؟ قَالَ: " بَلْ أَحْرِقْهُمَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَائِشَةَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ فِي " بَابِ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4327 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ) : أَيْ عَلَى بَدَنِي (ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ مَصْبُوغَيْنِ بِالْعُصْفُرِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ: الْمَنْهِيُّ الْمَصْبُوغُ بَعْدَ النَّسْجِ، دُونَ مَا صُبِغَ غَزْلُهُ، ثُمَّ نُسِجَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَائِحَةٌ، فَإِنَّهُ مُرَخَّصٌ عِنْدَ الْبَعْضِ اهـ. وَسَيَأْتِي لَهُ تَتِمَّةٌ (فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ) : إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ (مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ) : أَيِ الَّذِينَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ فِي اللِّبَاسِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ (فَلَا تَلْبَسْهُمَا) : مَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا نُهِيَ الرِّجَالُ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ (وَفِي رِوَايَةٍ: قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا؟) : أَيْ لِتَرُوحَ رَائِحَتُهُمَا، وَتَذْهَبَ بَهْجَتُهُمَا وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةٌ فِي أَوَّلِهِ. (قَالَ: بَلْ أَحْرِقْهُمَا) : الْأَمْرُ لِلتَّغْلِيظِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْغَسْلِ ; لِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ وَإِنْ كُرِهَ لِلرِّجَالِ لَمْ يُكْرَهْ لِلنِّسَاءِ، فَغَسْلُهُ

تَضْيِيعٌ اهـ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ مِنْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالرَّائِحَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلَّوْنِ وَهُوَ لَا يَذْهَبُ بِالْغَسْلِ وَلَيْسَ فِيهِ تَضْيِيعٌ، هَذَا، وَفِي فَتَاوَىَ قَاضِيخَانَ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْبَسَ الْمَصْبُوغَ بِالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ. قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ أَرَادَ بِالْإِحْرَاقِ إِفْنَاءَ الثَّوْبَيْنِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلَعَلَّهُ اسْتَعَارَ بِهِ عَنْهُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّشْدِيدِ فِي النَّكِيرِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْغَسْلِ ; لِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا لِلرِّجَالِ فَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِلنِّسَاءِ، فَيَكُونُ غَسْلُهُ تَضْيِيعًا وَإِتْلَافًا لِلْمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رُوِيَ: أَنَّهُ أَتَى أَهْلَهُ وَهُمْ يَسْجُرُونَ التَّنُّورَ فَقَذَفَهَا فِيهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا فَعَلْتَ؟ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: أَفَلَا كَسَوْتَهُمَا بَعْضَ أَهْلِكَ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِمَا لِلنِّسَاءِ؟ ، قُلْتُ: وَكَوْنُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ دَالَّةً عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ مَحَلُّ بَحْثٍ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ مَا فَعَلَ لِمَا رَأَى مِنْ شِدَّةِ كَرَاهَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِفَهْمِهِ الظَّاهِرِ، أَوْ لِتَوَهُّمِهِ عُمُومَ الْكَرَاهَةِ اهـ. وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَخِيرِ أَوْلَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الثِّيَابِ الَّتِي صُبِغَتْ بِالْعُصْفُرِ، فَأَبَاحَهَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: غَيْرُهَا أَفْضَلُ مِنْهَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى هَذَا ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ حُلَّةً حَمْرَاءَ قُلْتُ: هُوَ مُؤَوَّلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبُرُودِ الْيَمَانِيَّةِ، وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَحْمَرِ، قَالَ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِالْعُصْفُرِ» "، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِلرِّجَالِ. قَالَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّهْيُ يُصْرَفُ إِلَى مَا صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ، فَأَمَّا مَا صُبِغَ غَزْلُهُ، ثُمَّ نُسِجَ، فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي النَّهْيِ. قُلْتُ: وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، قَالَ: وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ هُنَا عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ ; لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " «نُهِيَ الْمُحْرِمُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ» ". قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ حُرْمَتُهُ بِالْغَسْلِ إِلَى أَنْ تَنْفَضَّ رَائِحَتُهُ، وَمَعَ إِبْقَائِهَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءِ. قَالَ: وَأَمَّا الْبَيْهَقِيُّ فَأَتْقَنَ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِهِ مَعْرِفَةِ السُّنَنِ: نَهْىَ الشَّافِعِيُّ الرَّجُلَ عَنِ الْمُزَعْفَرِ وَأَبَاحَ لَهُ الْمُعَصْفَرَ، فَقَالَ: أَيِ الشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا رُخِّصَتْ فِي الْمُعَصْفَرِ ; لِأَنِّي لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَحْكِي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَانِي، وَلَا أَقُولُ: نَهَاكُمْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو هَذَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحَادِيثَ أُخَرَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الشَّافِعِيَّ لَنَهَاهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادٍ مَا صَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا صَحَّ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافَ قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ وَدَعُوا قَوْلِي فَهُوَ مَذْهَبِي. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَ كُلِّ مُسْلِمٍ. قَالَ: وَأَمَّا الْأَمْرُ بِإِحْرَاقِهِمَا فَقِيلَ: هُوَ عُقُوبَةٌ وَتَغْلِيظٌ لِزَجْرِهِ وَزَجْرِ غَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ أَمْرُهُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَعَنَتِ النَّاقَةَ فَأَرْسَلَهَا أَيْ وَأَخْرَجَهَا مِنَ الْقَافِلَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَأَمَّا مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِرِوَايَةِ الْخَطِيبِ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِلْحَفَةٌ مَصُوغَةٌ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ يَدُورُ بِهَا عَلَى نِسَائِهِ، فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ هَذِهِ رَشَّتْهَا بِالْمَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ هَذِهِ رَشَّتْهَا، فَقَدْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْتَحِفُ بِهَا، أَوْ كَانَتْ تَفْتَرِشُ لَهُ أَوْ لَهُمَا، أَوْ تُسْتَثْنَى تِلْكَ الْهَيْئَةُ وَالْحَالَةُ، أَوْ تُعَدُّ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَائِشَةَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ) : أَيْ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَجَّلٌ. . إِلَخْ، وَسَيَأْتِي ضَبْطُهُمَا وَمَعْنَاهُمَا أَيْضًا. (فِي بَابِ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَبْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4328 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمِيصَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4328 - (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ) : بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ ; وَلِذَا لَمْ يَتَأَخَّرْ، وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِمَا يَسْتُرُ بِهِ الشَّخْصُ نَفْسَهُ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَجَمْعُهُ الثِّيَابُ بِإِبْدَالِ الْوَاوِ يَاءً لِإِنْكَارِ مَا قَبْلَهَا، وَ " أَحَبُّ " أَفْعَلُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ أَفْضَلَهَا (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمِيصَ) بِالنَّصْبِ أَوِ الرَّفْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ اسْمُ كَانَ، وَالثَّانِيَ خَبَرُهَا، أَوْ بِالْعَكْسِ. وَالْقَمِيصُ: اسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ مِنَ الْمَخِيطِ

الَّذِي لَهُ كُمَّانِ وَجَيْبٌ، هَذَا وَقَدْ قَالَ مِيرَكُ قِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: نَصْبُ الْقَمِيصِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَمِيصُ مَرْفُوعًا بِالِاسْمِيَّةِ، وَأَحَبَّ مَنْصُوبًا بِالْخَبَرِيَّةِ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنَّهُمَا رِوَايَتَانِ. قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَعْيِينَ الْأَحَبِّ، فَالْقَمِيصُ خَبَرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ حَالِ الْقَمِيصِ عِنْدَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهُوَ اسْمُهُ، وَرَجَّحَهُ الْعِصَامُ بِأَنَّ أَحَبَّ وَصْفٌ، فَهُوَ أَوْلَى بِكَوْنِهِ حُكْمًا، وَأَمَّا تَرْجِيحُهُ بِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِالْبَابِ لِأَنَّهُ مُنْعَقِدٌ لِإِثْبَاتِ أَحْوَالِ اللِّبَاسِ، فَجَعَلَ الْقَمِيصَ مَوْضُوعًا، وَإِثْبَاتُ الْحَالِ لَهُ أَنْسَبُ مِنَ الْعَكْسِ، فَلَيْسَ بِذَاكَ ; لِأَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ لَمْ تَذْكُرِ الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ الْمُنْعَقِدِ لِلِّبَاسِ، ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الثَّوْبَ مَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ مِنَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْخَزِّ وَالْفِرَاءِ، وَأَمَّا السُّتُورُ فَلَيْسَ مِنَ الثِّيَابِ وَالْقَمِيصِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ وَغَيْرُهُ ثَوْبٌ مَخِيطٌ بِكُمَّيْنِ غَيْرُ مُفَرَّجٍ يُلْبَسُ تَحْتَ الثِّيَابِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْقَمِيصُ مَعْلُومٌ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْقُطْنِ، وَأَمَّا الصُّوفُ فَلَا اهـ. وَلَعَلَّ حَصْرَهُ الْمَذْكُورَ لِلْغَالِبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْقُطْنِ مُرَادًا هُنَا؛ لِأَنَّ الصُّوفَ يُؤْذِي الْبَدَنَ وَيُدِرُّ الْعَرَقَ، وَرَائِحَتُهُ يُتَأَذَّى بِهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ الدِّمْيَاطِيُّ: «كَانَ قَمِيصُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُطْنًا قَصِيرَ الطُّولِ وَالْكُمَّيْنِ» ، ثُمَّ قِيلَ وَجْهُ أَحَبِّيَّةِ الْقَمِيصِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَسْتَرُ لِلْأَعْضَاءِ مِنَ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ ; لِأَنَّهُ أَقَلُّ مُؤْنَةً وَأَخَفُّ عَلَى الْبَدَنِ وَلَابِسُهُ أَكْثَرُ تَوَاضُعًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ (وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ.

4329 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ كُمُّ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرُّصْغِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4329 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) : أَيِ ابْنِ السَّكَنِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَسْمَاءِ (قَالَتْ: كَانَ كُمُّ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرُّصْغِ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى الرُّسْغِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَكَذَا هُوَ بِالصَّادِّ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ وَفِي الْجَامِعِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. قُلْتُ: أَرَادَ بِالتِّرْمِذِيِّ فِي جَامِعِهِ، وَإِلَّا فَنُسَخُ الشَّمَائِلِ بِالسِّينِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَرَادَ بِالْجَامِعِ جَامِعَ الْأُصُولِ، ثُمَّ هُوَ كَذَا بِالسِّينِ فِي الْمَصَابِيحِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالصَّادُ لُغَةٌ فِيهِ، وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ هُوَ بِالسِّينِ وَالصَّادِ لُغَةً فِيهِ، وَهُوَ مِفْصَلُ مَا بَيْنَ الْكَفِّ وَالسَّاعِدِ اهـ، وَيُسَمَّى الْكُوعَ. وَفِي الْقَامُوسِ: الرُّسْغُ بِضَمٍّ وَضَمَّتَيْنِ، وَالرُّصْغُ بِالضَّمِّ الرُّسْغُ. قَالَ الْجَزَرِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ كُمُّ الْقَمِيصِ الرُّسْغَ، وَأَمَّا غَيْرُ الْقَمِيصِ فَقَالُوا: السُّنَّةُ فِيهِ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ رُءُوسَ الْأَصَابِعِ - جُبَّةٌ وَغَيْرُهَا اهـ وَنُقِلَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَنَّ أَبَا الشَّيْخِ ابْنَ حِبَّانَ أَخْرَجَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: «كَانَ يَدُ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْفَلَ مِنَ الرُّسْغِ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ قَمِيصًا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مُسْتَوِيَ الْكُمَّيْنِ لِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ» ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ نَقْلًا عَنِ ابْنِ حِبَّانَ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ قَمِيصًا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ» . الْحَدِيثَ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْهُ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: كَانَ قَمِيصُهُ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ، وَكَانَ كُمَّهُ مَعَ الْأَصَابِعِ، فَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَجَاوَزَ بِكُمِّ الْقَمِيصِ إِلَى رُوُسِ الْأَصَابِعِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ الْكِتَابِ، إِمَّا بِالْحَمْلِ عَلَى تَعَدُّدِ الْقَمِيصِ، أَوْ بِحَمْلِ رِوَايَةِ الْكِتَابِ عَلَى رِوَايَةِ التَّخْمِينِ، أَوْ بِحَمْلِ الرُّسْغِ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ، وَحَمْلِ الرُّءُوسِ عَلَى نِهَايَةِ الْجَوَازِ، وَأَغْرَبَ الْعِصَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْكُمِّ، فَعَقِيبَ غَسْلِ الْكُمِّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَثَنٍّ فَيَكُونُ أَطْوَلَ، وَإِذَا بَعُدَ عَنِ الْغَسْلِ وَوَقَعَ فِيهِ الثَّنْيُ كَانَ أَقْصَرَ اهـ، وَلَوْ قَالَ: يَكُونُ الثَّوْبُ قَبْلَ الْغُسْلِ أَطْوَلَ، ثُمَّ بِالْغُسْلِ يَصِيرُ أَقْصَرَ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا هَذَا التَّفَاوُتُ فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

4330 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَبِسَ قَمِيصًا بَدَأَ بِمَيَامِنِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4330 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَبِسَ قَمِيصًا) : أَيْ مَثَلًا (بَدَأَ) : بِالْهَمْزِ أَيِ ابْتَدَأَ فِي اللُّبْسِ (بِمَيَامِنِهِ) : أَيْ بِجَانِبِ يَمِينِ الْقَمِيصِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْ جَانِبِ يَمِينِ الْقَمِيصِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ لِإِرَادَةِ التَّعْظِيمِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ الْيَدَ الْيُمْنَى مِنَ الْكُمِّ قَبْلَ الْيُسْرَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4331 - وَفِي أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ " قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " وَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4331 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ " إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ) : الْإِزْرَةُ بِكَسْرِ هَمْزٍ وَسُكُونِ زَايٍ الْحَالَةُ وَهَيْئَةُ الِاتِّزَارِ مِثْلَ الرُّكْبَةِ وَالْجِلْسَةِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ (إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) : أَيْ مُنْتَهِيَةً إِلَيْهَا يَعْنِي الْحُلَّةَ وَالْهَيْئَةَ الَّتِي يَرْتَضِي مِنْهَا الْمُؤْمِنُ فِي الِاتِّزَارِ هِيَ أَنْ يَكُونَ عَلَى هُذِهِ الصِّفَةِ: وَفِي جَمْعِ الْأَنْصَافِ إِشْعَارٌ بِالتَّوْسِعَةِ لَا التَّضْيِيقِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَدِّ: قَطَعْتُ رُءُوسَ الْكَبْشَيْنِ، وَمِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) : أَيْ لَا إِثْمَ أَوْ لَا بَأْسَ عَلَى الْمُؤْمِنَ الْكَامِلِ (فِيمَا بَيْنَهُ) : أَيْ بَيْنَ نِصْفِ السَّاقِ (وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِيمَا بَيْنَهُ رَاجِعٌ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِي تَقَعُ عَلَيْهِ الْإِزْرَةُ (وَمَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ) : سَبَقَ بَيَانُهُ (قَالَ ذَلَكِ) : أَيْ قَوْلَهُ مَا أَسْفَلَ. . إِلَخْ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : أَيْ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ (وَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا) : أَيْ تَكَبُّرًا، وَقَدْ مَرَّ أَيْضًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ صَدْرَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ: " «إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ» ". وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «الْإِزَارُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، لَا خَيْرَ فِي أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ» "

4332 - وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، مِنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4332 - (وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْإِسْبَالُ) : يُقَالُ: أَسْبَلَ إِزَارَهُ إِذَا رَخَاهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ (فِي الْإِزَارِ) : أَيِ الْإِسْبَالُ الَّذِي يُتَكَلَّمُ فِي جَوَازِهِ وَعَدَمِهِ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْإِزَارِ (وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْعِصَامِ بِفَتْحِهَا عَلَى وَزْنِ الْغَمَامَةِ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ مِنَ الْعَلَّامَةِ، وَالْمُرَادُ عَذَبَتُهَا (مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا) : أَيْ أَرْخَى وَزَادَ عَلَى الْمِقْدَارِ الشَّرْعِيِّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ (خُيَلَاءَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: " تَخَيُّلًا ": أَيْ تَبَخْتُرًا وَتَكَبُّرًا عَلَى مَا فِي خَيَالِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ (لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ نَظَرَ رَحْمَةٍ أَوْ بِعَيْنِ عِنَايَةٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

4333 - «وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ كِمَامُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُطْحًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4333 - (وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ فَمُعْجَمَةٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، نَزَلَ بِالشَّامِ، رَوَى عَنْهُ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعَدِ، وَنَعِيمُ بْنُ زِيَادٍ (قَالَ: كَانَ كِمَامُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِكَسْرِ الْكَافِ جَمْعُ كُمَّةٍ بِالضَّمِّ كَقِبَابٍ وَقُبَّةٍ، وَهِيَ الْقَلَنْسُوَةُ الْمُدَوَّرَةُ سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّهَا

تُغَطِّي الرَّأْسَ (بُطْحًا) : بِضَمِّ الْوَحْدَةِ فَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ بَطْحَاءَ أَيْ كَانَتْ مَبْسُوطَةً عَلَى رُءُوسِهِمْ لَازِقَةً غَيْرَ مُرْتَفِعَةٍ عَنْهَا قِيلَ: هِيَ جَمْعُ كُمٍّ بِالضَّمِّ كَقِفَافٍ وَقُفَّةٍ ; لِأَنَّهُمْ قَلَّمَا كَانُوا يَلْبَسُونَ الْقَلَنْسُوَةَ وَمَعْنَى بُطْحًا حِينَئِذٍ أَنَّهَا كَانَتْ عَرِيضَةً وَاسِعَةً، فَهُوَ جَمْعُ أَبْطَحَ مِنْ قَوْلِهِمْ لِلْأَرْضِ الْمُتَّسِعَةِ بَطْحَاءُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَا كَانَتْ ضَيِّقَةً رُومِيَّةً أَوْ هِنْدِيَّةً، بَلْ كَانَ وُسْعُهَا مِقْدَارَ شِبْرٍ كَمَا سَبَقَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ انْتِصَابَ الْقَلَنْسُوَةِ مِنَ السُّنَّةِ بِمَعْزِلٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْفَسَقَةُ. قُلْتُ: وَالْآنَ صَارَ شِعَارَ الْمَشَايِخِ مِنَ الْيَمَنِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: بُطْحًا بِالنَّصْبِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بُطْحٌ بِالرَّفْعِ، قِيلَ: فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ بِالرَّفْعِ، لَكِنْ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ بِالنَّصْبِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ رَوَوْهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَكَذَا لَفَظُ الْمَصَابِيحُ بِغَيْرِ أَلِفِ التَّنْوِينِ وَهُوَ خَطَأٌ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ فِي كِتَابِهِ كَذَلِكَ، فَاتَّبَعَ الرُّوَاةُ رَسْمَ خَطِّهِ، وَهَذَا دَأْبُهُمْ لَا يَتَخَطَّوْنَ لَفْظَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ، فَلَا يَكُونُ لِلطَّعْنِ مَجَالٌ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُوَجِّهَ الْكَلَامَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي " كَانَ " ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهُ مُبَيِّنٌ لِلِاسْمِ، أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: بُطْحٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَعْنِي هِيَ بُطْحٌ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ: قَالَ: نَعَمِ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ أَظْهَرُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرُ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: كَانَ يَلْبَسُ قَلَنْسُوَةً بَيْضَاءَ» . وَرَوَى الرُّويَانِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ تَحْتَ الْعَمَائِمِ وَبِغَيْرِ الْعَمَائِمِ، وَيَلْبَسُ الْعَمَائِمَ بِغَيْرِ قَلَانِسَ، وَكَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ الْيَمَانِيَةَ، وَهُنَّ الْبِيضُ الْمُضَرِيَّةُ، وَيَلْبَسُ ذَوَاتَ الْآذَانِ فِي الْحَرْبِ، وَكَانَ رُبَّمَا نَزَعَ قَلَنْسُوَتَهُ فَجَعَلَهَا سُتْرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَكَانَ مِنْ خُلُقِهِ أَنْ يُسَمِّي سِلَاحَهُ وَدَوَابَّهُ وَمَتَاعَهُ» ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ.

4334 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ ذَكَرَ الْإِزَارَ: فَالْمَرْأَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " تُرْخِي شِبْرًا "، فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ عَنْهَا. قَالَ: " فَذِرَاعًا لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ» " رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4334 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ) : أَيْ أُمُّ سَلَمَةَ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ ذَكَرَ الْإِزَارَ) : أَيْ ذَمَّ إِسْبَالَهُ (فَالْمَرْأَةُ) : عَطْفٌ عَلَى الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّ الْمُقَدَّرَ قَوْلُهُ: " إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ": أَيْ فَمَا تَصْنَعُ الْمَرْأَةُ؟ ، أَوْ فَالْمَرْأَةُ مَا حُكْمُهَا؟ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: تُرْخِي) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ تُرْسِلُ الْمَرْأَةُ مِنْ ثَوْبِهَا (شِبْرًا) : أَيْ مِنْ نِصْفِ السَّاقَيْنِ، وَقِيلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ (فَقَالَتْ: إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ (تَنْكَشِفُ) : بِالرَّفْعِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ. وَفِي نَسْخِهِ السَّيِّدِ: بِالنَّصْبِ أَيْ تَظْهَرُ الْقَدَمُ (عَنْهَا) : أَيْ عَنِ الْمَرْأَةِ إِذَا مَشَتْ (قَالَ: فَذِرَاعًا) : أَيْ فَتُرْخِي ذِرَاعًا، وَالْمَعْنَى تُرْخِي قَدْرَ شِبْرٍ أَوْ ذِرَاعٍ بِحَيْثُ يَصِلُ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ إِلَى الْأَرْضِ ; لِتَكُونَ أَقْدَامُهُنَّ مَسْتُورَةً، ثُمَّ بَالَغَ فِي النَّهْيِ عَنِ الزِّيَادَةِ بِقَوْلِهِ: (لَا تَزِيدُ) : أَيِ الْمَرْأَةُ (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى قَدْرِ الذِّرَاعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ الذِّرَاعُ الشَّرْعِيُّ إِذْ هُوَ أَقْصَرُ مِنَ الْعُرْفِيِّ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

4335 - وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: " فَيُرْخِينَ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4335 - (وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَتْ) : أَيْ أُمُّ سَلَمَةَ (إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: " فَيُرْخِينَ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ) .

4336 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَهْطٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَبَايَعُوهُ وَإِنَّهُ لَمُطْلَقُ الْأَزْرَارِ، فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ، فَمَسِسْتُ الْخَاتَمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4336 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) : بِضَمِّ قَافٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: يُكَنَّى أَبَا إِيَاسٍ الْبَصْرِيِّ، سَمِعَ أَبَاهُ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، وَرَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ وَشُعْبَةُ وَالْأَعْمَشُ (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ الْمُزَنِيِّ، سَكَنَ الْبَصْرَةَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ مُعَاوِيَةَ، قَتَلَهُ الْأَزَارِقَةُ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ. (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَهْطٍ) : أَيْ مَعَ طَائِفَةٍ (مِنْ مُزَيْنَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ مُضَرَ، وَالْجَارُّ صِفَةٌ لِرَهْطٍ وَهُوَ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَيُحَرَّكُ، قَوْمُ الرَّجُلِ وَقَبِيلَتُهُ، أَوْ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَقِيلَ: إِلَى الْأَرْبَعِينَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةِ رَاكِبٍ وَأَسْلَمُوا ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجِيئُهُمْ رَهْطًا رَهْطًا، أَوْ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْقَوْمِ كَمَا قَدَّمَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَ " فِي " تَأْتِي بِمَعْنَى " مَعَ " كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38] ، (فَبَايَعُوهُ) : أَيِ الرَّهْطُ وَهُوَ مَعَهُمْ (وَإِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ لِلْحَالِ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَمُطْلَقُ الْأَزْرَارِ) : أَيْ مَحْلُولُهَا أَوْ مَتْرُوكُهَا مُرَكَّبَةً، وَالْأَزْرَارُ جَمْعُ زِرِّ الْقَمِيصِ. قَالَ مِيرَكُ: أَيْ غَيْرُ مَشْدُودِ الْأَزْرَارِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ غَيْرُ مَزْرُورٍ، وَلَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ عَنْ قُرَّةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَهْطٍ مِنْ مُزَيْنَةَ لِنُبَايِعَهُ، وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ أَوْ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ بِزِرَارٍ، وَقَالَ: زِرُّ قَمِيصِهِ مُطْلَقٌ أَيْ غَيْرُ مَرْبُوطٍ، وَالشَّكُّ مِنْ شَيْخِ التِّرْمِذِيِّ. زَادَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ سَعْدٍ قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ وَلَا أَبَاهُ إِلَّا مُطْلَقَ الْأَزْرَارِ فِي شِتَاءٍ وَلَا خَرِيفٍ، وَلَا يَزِرَّانِ أَزْرَارَهُمَا. هَذَا وَفِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ جَمِيعِهَا بِالرَّاءَيْنِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَأَنَّهُ لَمُطْلَقُ الْأَزْرَارِ، قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: كَذَا وَقَعَ فِي أُصُولِنَا وَرِوَايَتِنَا الْأُزُرُ بِغَيْرِ رَاءٍ بَعْدَ الزَّايِ، وَهُوَ جَمْعُ الْإِزَارِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الثَّوْبُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أَوْ أَكْثَرِهَا الْأَزْرَارُ جَمْعُ زِرٍّ بِكَسْرِ الزَّايِ وَشَدِّ الرَّاءِ، وَهُوَ خَرِيزَةُ الْجَيْبِ، وَبِهِ شَرَحَ شُرَّاحُهُ، وَجَيْبُ الْقَمِيصِ طَوْقُهُ الَّذِي يُخْرِجُ مِنْهُ الرَّأْسَ، وَعَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ يَجْعَلُوهُ وَاسِعًا وَلَا يَزِرُّونَهُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْأَزْرَارَ لَا غَيْرُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ اهـ. قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: " وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ "، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: " فَرَأَيْتُهُ مُطْلَقَ الْقَمِيصِ "، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْأَزْرَارِ بِرَائِينِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ زِرٌّ وَعُرْوَةٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ جَيْبَ قَمِيصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَفْتُوحًا بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ الْيَدَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَمِيصًا لَهُ زِرٌّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْعِصَامِ: فِيهِ حِلُّ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَحِلُّ الزِّرِّ فِيهِ وَحِلُّ إِطْلَاقِهِ، وَأَنَّ طَوْقَهُ كَانَ مَفْتُوحًا بِالطُّولِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي يُتَّخَذُ لَهُ الْأَزْرَارُ عَادَةً اهـ. وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْعَادَاتِ مُخْتَلِفَةٌ زَمَانًا وَمَكَانًا، وَفِي الْأَوَّلِ أَيْضًا بَحْثٌ لِأَنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهِ أَحَبَّ أَنْ يُسْتَحَبَّ وَحُكْمُ مَا بَيْنَهُمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأَدْخَلْتُ يَدِي) : بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ (فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: فِيهِ أَنَّ جَيْبَهُ كَانَ عَلَى الصَّدْرِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ الْآنَ، فَظَنَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَيْبَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَا يُقْطَعُ مِنَ الثَّوْبِ لِيُخْرِجَ الرَّأْسَ أَوِ الْيَدَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، يُقَالُ: جَابَ الْقَمِيصَ يَجُوبُهُ وَيَجِيبُهُ أَيْ قَدَّرَ جَيْبَهُ، وَجَيَّبَهُ أَيْ جَعَلَ لَهُ جَيْبًا، وَأَصْلُ الْجَيْبِ الْقَطْعُ وَالْخَرْقُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُجْعَلُ فِي صَدْرِ الثَّوْبِ لِيُوضَعَ فِيهِ الشَّيْءُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَيْبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ طَرَفُهُ الَّذِي يُحِيطُ بِالْعُنُقِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: جَيْبُ الثَّوْبِ أَيْ جَعَلَهُ فِيهِ ثُقْبًا يُخْرِجُ مِنْهُ الرَّأْسَ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهُ: فَأَدْخَلْتُ يَدِي. . إِلَخْ يَقْتَضِي أَنَّ جَيْبَ قَمِيصِهِ كَانَ فِي صَدْرِهِ لِمَا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ رُؤِيَ مُطْلَقَ الْقَمِيصِ أَيْ غَيْرَ مَزْرُورٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَمَسِسْتُ) : بِكَسْرِ السِّينِ الْأُولَى وَيُفْتَحُ، وَالْأُولَى هِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] أَيْ لَمَسْتُ (الْخَاتَمَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ، وَيُكْسَرُ أَيْ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ سَعْدٍ.

4337 - وَعَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْبَسُوا الثِّيَابَ الْبِيضَ ; فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4337 - (وَعَنْ سَمُرَةَ) : أَيِ ابْنُ جُنْدَبٍ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْبَسُوا الثِّيَابَ الْبِيضَ) : جَمْعُ الْأَبْيَضِ وَأَصْلُهُ فُعْلٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ كَحُمْرٍ وَصُفْرٍ وَسُودٍ، فَكَانَ الْقِيَاسُ بَوْضٍ لَكِنْ كُسِرَ أَوَّلُهُ إِبْقَاءً عَلَى أَصْلِ الْيَاءِ فِيهِ، (فَإِنَّهَا أَطْهَرُ) : أَيْ لَا دَنَسَ وَلَا وَسَخَ فِيهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ الْبِيضَ أَكْثَرُ تَأَثُّرًا مِنَ الثِّيَابِ الْمُلَوَّنَةِ، فَتَكُونُ أَكْثَرَ غَسْلًا مِنْهَا فَتَكُونُ أَطْهَرَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا أَطْهَرُ لِكَوْنِهَا حَاكِيَةً عَنْ ظُهُورِ النَّجَاسَةِ فِيهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّبْغِ نَجَاسَةٌ، وَالْأَبْيَضُ بَرِيءٌ مِنْهَا (وَأَطْيَبُ) : أَيْ أَحْسَنُ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِمَا قَبْلَهُ، لَكِنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ فِي الْقَوْلِ السَّدِيدِ، وَقِيلَ: أَطْيَبُ لِدَلَالَتِهِ غَالِبًا عَلَى التَّوَاضُعِ، وَعَدَمِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْعُجْبِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الطَّيِّبَةِ، (وَكَفِّنُوا) : عَطْفٌ عَلَى الْبَسُوا أَيِ الْبَسُوهَا فِي حَيَاتِكُمْ وَكَفِّنُوا (فِيهَا مَوْتَاكُمْ) : وَأَمَّا مَا جَاءَ نَصٌّ فِي اسْتِحْبَابِ تَغْيِيرِهِ كَخِضَابِ الْمَرْأَةِ يَدَهَا بِالْحِنَّاءِ، وَمَا كَانَ هُنَاكَ غَرَضٌ مُبَاحٌ أَوْ ضَرُورَةٌ، كَمَا اخْتَارَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ الثَّوْبَ الْأَزْرَقَ لِقِلَّةِ مُؤْنَةِ غَسْلِهِ وَرِعَايَةِ حَالِهِ، فَخَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ وَقِيلَ: إِنَّهَا أَطْهَرُ لِأَنَّهَا تُغْسَلُ مِنْ غَيْرِ مَخَافَةٍ عَلَى ذَهَابِ لَوْنِهَا، وَأَطْيَبُ أَيْ أَلَذُّ ; لِأَنَّ لَذَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي طَهَارَةِ ثَوْبِهِ، وَأَمَّا مَا تَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَفِيهِ مِنَ الرَّكَاكَةِ مَا لَا يَخْفَى، فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْخَفَاءِ مَعَ ظُهُورِ الْخَفَاءِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى أَطْيَبُ بِمَعْنَى أَحَلُّ، فَفِي النِّهَايَةِ: أَكْثَرُ مَا يَرِدُ الطَّيِّبُ بِمَعْنَى الْحَلَالِ، كَمَا أَنَّ الْخَبِيثَ بِمَعْنَى الْحَرَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا " «إِنَّ أَحْسَنَ مَا زُرْتُمُ اللَّهَ فِي قُبُورِكُمْ وَمَسَاجِدِكُمُ الْبَيَاضُ» " قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ الْغِفَارِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَبَاقِي رِجَالِهِ ثِقَاتٌ اهـ. قِيلَ: مَعْنَى أَطْيَبُ أَحْسَنُ لِبَقَائِهِ عَلَى اللَّوْنِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ جِدًّا لِاقْتِرَانِهِ بِقَوْلِهِ: " وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ " فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا - حَيًّا وَمَيِّتًا - بِالْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْبَيَاضِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْجِبِلِّيُّ بِحَيْثُ لَوْ خَلَى وَطَبْعُهُ لَاخْتَارَهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ، وَإِنَّمَا يُغَيِّرُهُ الْعَوَارِضُ الْمَصْنُوعَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِالْمَصْبُوغَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: " «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» " بِالتَّقْلِيدِ الْمَحْضِ الْغَالِبِ عَلَى عَامَّةِ الْأُمَّةِ حَيْثُ قَالُوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] ، وَفِي الْبَيَاضِ إِشْعَارٌ إِلَى طَهَارَةِ الْبَاطِنِ أَيْضًا مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْعَدَاوَةِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ الدَّنِيَّةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالنَّجَاسَاتِ الْحُكْمِيَّةِ، بَلِ الْحَقِيقِيَّةِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الظَّاهِرَ عِنْوَانُ الْبَاطِنِ، وَأَنَّ نَظَافَةَ الظَّاهِرِ مِنَ الْبَدَنِ وَمَا يُلَاقِيهِ مِنَ الثِّيَابِ، لِطَهَارَتِهِ وَتَزْيِينِهِ لَهُ تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ فِي أَمْرِ الْبَاطِنِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 3] فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّ أَطْيَبِيَّةَ لُبْسِ الْبَيَاضِ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا تَكُونُ لِتَذْكِيرِ لُبْسِ أَهْلِ الْعُقْبَى، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَآلَهُ إِلَى الْبِلَى، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَحَمَّلَ فِي تَحْصِيلِهِ الْبَلَاءَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْبَيَاضَ فِي الْكَفَنِ أَفْضَلُ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِصَدَدِ مُوَاجَهَةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا أَنَّ لُبْسَهُ أَفْضَلُ لِمَنْ يَحْضُرُ الْمَحَافِلَ، كَدُخُولِ الْمَسْجِدِ لِلْجَمَاعَةِ وَمُلَاقَاةِ الْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ، وَأَمَّا فِي الْعِيدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَفْضَلُ فِيهِ مَا يَكُونُ أَرْفَعَ قِيمَةً نَظَرًا إِلَى إِظْهَارِ مَزِيدِ النِّعْمَةِ وَآثَارِ الزِّينَةِ وَمَزِيَّةِ الْمِنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، عَنْ جَابِرٍ: «إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ» ، وَالْمُرَادُ بِالْأَحْمَرِ كَوْنُ خُطُوطِهِ حُمْرًا، فَإِنَّ الْبُرْدَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخُطُوطٍ حُمْرٍ وَصُفْرٍ أَوْ نَحْوِهَا، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومُ لُغَةً وَعُرْفًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي الشَّمَائِلِ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " «عَلَيْكُمْ بِالْبَيَاضِ مِنَ الثِّيَابِ لِيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ ; فَإِنَّهَا مِنْ خِيَارِ ثِيَابِكُمْ» ". وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَسْنَدَ هَذَا اللَّفْظَ إِلَى سَمُرَةَ أَيْضًا وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ.

4338 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4338 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اعْتَمَّ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ لَفَّ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ (سَدَلَ) : أَيْ أَرْسَلَ وَأَرْخَى (عِمَامَتَهُ) : أَيْ طَرَفَهَا الَّذِي يُسَمَّى الْعَلَامَةَ وَالْعَذَبَةَ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ) : بِالتَّثْنِيَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " أَرْسَلَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ "، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ: «قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَمُّ؟ ، قَالَ: يُدِيرُ كَوْرَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَفْرِشُهَا مِنْ وَرَائِهِ، وَيُرْخِي لَهَا ذُؤَابَةً بَيْنَ كَتِفَيْهِ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ عُبَيْدِ اللَّهِ: وَرَأَيْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَسَالِمًا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ. أَيْ مَا ذُكِرَ مِنَ إِسْدَالِ طَرَفِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

4339 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَدَلَهَا بَيْنَ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4339 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: عَمَّمَنِي) . بِيَمِينٍ أَيْ لَفَّ عِمَامَتِي عَلَى رَأْسِي (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَدَلَهَا بَيْنَ يَدِي وَمِنْ خَلْفِي) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَرْسَلَ لِعِمَامَتِي طَرَفَيْنِ أَحَدُهَا عَلَى صَدْرِي وَالْآخَرُ مِنْ خَلْفِي. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُصَنِّفُ فِي الْجَامِعِ بِسَنَدِهِمَا عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: «سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَقُولُ: عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَدَلَهَا بَيْنَ يَدِي وَمِنْ خَلْفِي» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، «عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ وَأَسْدَلَ طَرَفَيْهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ» ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُعْتَمًّا قَدْ أَرْسَلَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيَرِ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرْخِي عَلَامَتَهُ أَحْيَانًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَحْيَانًا يَلْبَسُ الْعِمَامَةَ مِنْ غَيْرِ عَلَامَةٍ» ، فَعَلِمَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ سُنَّةٌ.

4340 - وَعَنْ رُكَانَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَائِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4340 - (وَعَنْ رُكَانَةَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَبِالنُّونِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ ابْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ، كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ حَدِيثًا فِي الْحِجَازِيِّينَ، بَقِيَ إِلَى زَمَنِ عُثْمَانَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " فَرْقُ مَا بَيْنَنَا) : أَيِ الْفَارِقُ فِيمَا بَيْنَنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ قَلَنْسُوَةٍ، وَهِيَ الطَّاقِيَّةُ وَغَيْرُهَا مِمَّا يُلَفُّ الْعِمَامَةُ عَلَيْهَا أَيْ نَحْنُ نَتَعَمَّمُ عَلَى الْقَلَانِسِ، وَهُمْ يَكْتَفُونَ بِالْعَمَائِمِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ، وَتَبِعَهُمَا ابْنُ الْمَلَكِ وَسَيَأْتِي مَا يُنَافِيهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَائِمِ) . قُلْتُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَلَعَلَّ إِسْنَادَهُ قَائِمًا وَيَحْصُلُ الْقِيَامُ بِهِ. وَعَنِ الْجَزَرِيِّ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ السُّنَّةُ: أَنْ يَلْبَسَ الْقَلَنْسُوَةَ وَالْعِمَامَةَ، فَأَمَّا لُبْسُ الْقَلَنْسُوَةِ فَهُوَ زِيُّ الْمُشْرِكِينَ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيَّ عَنْ رُكَانَةَ. الْحَدِيثَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يُنَافِيهِ مَا سَبَقَ مِنَ الشُّرَّاحِ، لَكِنْ قَالَ مِيرَكُ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ تَحْتَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُ بِغَيْرِ الْقَلَانِسِ اهـ. وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ الْقَلَنْسُوَةَ بِغَيْرِ الْعِمَامَةِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا زِيُّ الْمُشْرِكِينَ، وَرَوَى الْقُضَاعِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مَرْفُوعًا " «الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ وَالِاحْتِبَاءُ حِيطَانُهُا وَجُلُوسُ الْمُؤْمِنِ فِي الْمَسْجِدِ رِبَاطٌ» ".

وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ، فَإِذَا وَضَعُوا الْعَمَائِمَ وَضَعُوا عِزَّهُمْ» . وَرَوَى الْبَارُودِيُّ عَنْ رُكَانَةَ بِلَفْظِ: " «الْعِمَامَةُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ فَصْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكُلِّ كَوْرَةٍ يُدَوِّرُهَا عَلَى رَأْسِهِ نُورًا» ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «صَلَاةُ تَطَوُّعٍ أَوْ فَرِيضَةٍ بِعِمَامَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً بِلَا عِمَامَةٍ، وَجُمُعَةٌ بِعِمَامَةٍ تَعْدِلُ سَبْعِينَ جُمُعَةً بِلَا عِمَامَةٍ» ". فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِمَامَةِ مُطْلَقًا، نَعَمِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا مَعَ الْقَلَنْسُوَةِ أَفْضَلُ إِمَّا لِيَحْصُلَ بِهَا الْبَهَاءُ الزَّائِدُ، أَوْ لِأَنَّ الْقَلَنْسُوَةَ تَقِيهَا مِنَ الْعَرَقِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى عَرَقِيَّةً، فَلُبْسُهَا وَحْدَهَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، كَيْفَ وَهِيَ زِيُّ الْكَفَرَةِ، وَكَذَا الْمُبْتَدَعِةُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، لَكِنْ صَارَ شِعَارًا لِبَعْضِ مَشَايِخِ الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَقَاصِدِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ قَدْ تَتَبَّعْتُ الْكُتُبَ وَتَطَلَّبْتُ مِنَ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ لِأَقِفَ عَلَى قَدْرِ عِمَامَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ، حَتَّى أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ «كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِمَامَةٌ قَصِيرَةٌ، وَعِمَامَةٌ طَوِيلَةٌ، وَأَنَّ الْقَصِيرَةَ كَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، وَالطَّوِيلَةَ اثْنَى عَشَرَ ذِرَاعًا» اهـ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُدْخِلِ أَنَّ عِمَامَتَهُ كَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، وَقَدْ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي مَلْبَسِهِ كَسَائِرِ سِيَرِهِ عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ، وَنَفْعُهُ لِلنَّاسِ أَعَمُّ، إِذْ كِبَرُ الْعِمَامَةِ يُعَرِّضُ الرَّأْسَ لِلْآفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْفُقَهَاءِ الْمَكِّيَّةِ وَالْقُضَاةِ الرُّومِيَّةِ، وَصِغَرُهَا لَا يَقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَكَانَ يَجْعَلُهَا وَسَطًا بَيْنَ ذَلِكَ ; تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ تَعْتَدِلَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِكَ. قَالَ صَاحِبُ الْمُدْخِلِ: وَعَلَيْكَ أَنْ تَتَسَرْوَلَ قَاعِدًا وَتَتَعَمَّمَ قَائِمًا، وَفِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ لِابْنِ حَجَرٍ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ، عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ: أَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئًا بَدِيعًا، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى رَبَّهُ وَاضِعًا يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ أَكْرَمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالْعَذَبَةِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ أَصْلًا يَعْنِي مِنَ السُّنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ:، بَلْ هَذَا مِنْ قَبِيلِ رَأْيِهِمَا وَضَلَالِهِمَا، إِذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ وَأَطَالَا فِي الِاسْتِدْلَالِ لَهُ، وَالْحَطِّ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَفْيِهِمْ لَهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْجِهَةِ وَالْجِسْمِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَهُمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْقَبَائِحِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ مَا تُصَمُّ عَنْهُ الْآذَانُ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، قَبَّحَهُمَا اللَّهُ وَقَبَّحَ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَجِلَّاءُ مَذْهَبِهِ مُبَرَّءُونَ عَنْ هَذِهِ الْوَصْمَةِ الْقَبِيحَةِ، كَيْفَ وَهِيَ كُفْرٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ. أَقُولُ: صَانَهُمَا اللَّهُ عَنْ هَذِهِ السِّمَةِ الشَّنِيعَةِ وَالنِّسْبَةِ الْفَظِيعَةِ، وَمَنْ طَالَعَ شَرْحَ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ لِنَدِيمٍ الْبَارِيِّ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ الْحَنْبَلِيُّ - قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى سِرَّهُ الْجَلِيَّ - وَهُوَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ حَالَ الْإِطْلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بَلْ وَمِنْ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمِمَّا ذُكِرَ فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ عَلَى وَفْقِ الْمَسْطُورِ هُوَ قَوْلُهُ عَلَى بَعْضِ صُبَاةِ الْمَنَازِلِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يُبَيِّنُ مَرْتَبَتَهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَمِقْدَارَهُ فِي الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا رَمَاهُ أَعْدَاؤُهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ عَلَى عَادَاتِهِمْ فِي رَمْيِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ بِذَلِكَ، كَرَمْيِ الرَّافِضَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَوَاصِبُ، وَالنَّوَاصِبِ بِأَنَّهُمْ رَوَافِضُ، وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُمْ نَوَائِبُ حَشْوِيَّةٌ، وَذَلِكَ مِيرَاثٌ مِنْ أَعْدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمْيِهِ وَرَمْيِ أَصْحَابِهِ، بِأَنَّهُمْ صُرَاةٌ قَدِ ابْتَدَعُوا دِينًا مُحْدَثًا، وَهَذَا مِيرَاثٌ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمَيْمَنَةِ مِنْ نَبِيِّهِمْ بِتَلْقِيبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَهُمْ بِالْأَلْقَابِ الْمَذْمُومَةِ، وَقَدَّسَ اللَّهُ رُوحَ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ، وَقَدْ نُسِبَ إِلَيْهِ الرَّفْضُ: إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي رَافِضِيٌّ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَةَ حَيْثُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ نَصْبًا حُبُّ صَحْبِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثِّقْلَانِ أَنِّي نَاصِبِيُّ وَعَفَا اللَّهُ عَنِ الثَّالِثِ حَيْثُ يَقُولُ: فَإِنْ كَانَ تَجْسِيمًا ثُبُوتُ صِفَاتِهِ ... وَتَنْزِيهُهَا عَنْ كُلِّ تَأْوِيلٍ مُفْتَرٍ فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ رَبِّي مُجَسِّمٌ ... هَلُمُّوا شُهُودًا وَامْلَئُوا كُلَّ مَحْضَرِ

ثُمَّ بُيِّنَ فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنَ التَّشْنِيعِ الْمَسْطُورِ، وَالتَّقْبِيحِ الْمَزْبُورِ، وَهُوَ مَا نَصُّهُ: إِنَّ حِفْظَهُ حُرْمَةُ نُصُوصِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِإِجْرَاءِ أَخْبَارِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَهُوَ اعْتَقِادُ مَفْهُومِهَا الْمُتَبَادِرِ إِلَى أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، وَلَا نَعْنِي بِالْعَامَّةِ الْجُهَّالَ، بَلْ عَامَّةَ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ ، فَأَطْرَقَ مَالِكٌ رَأْسَهُ حَتَّى عَلَاهُ الرَّحَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. فَرْقٌ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَبَيْنَ الْكَيْفِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ الْبَشَرُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَافٍ عَامٍّ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالنُّزُولِ وَالْغَضَبِ وَالرَّحْمَةِ وَالضَّحِكِ، فَمَعَانِيهَا كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ، وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَغَيْرُ مَعْقُولَةٍ، إِذْ تَعَقُّلُ الْكَيْفِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الذَّاتِ وَكُنْهِهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ لَهُمْ كَيْفِيَّةُ الصِّفَاتِ؟ وَالْعِصْمَةُ النَّافِعَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَصِفَ اللَّهَ - بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ: وَوَصَفَ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيرٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، بَلْ يُثْبِتُ لَهُ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ، وَيَنْفِي عَنْهُ مُشَابَهَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيَكُونُ إِثْبَاتُكُ مُنَزَّهًا عَنِ التَّشْبِيهِ، وَنَفْيُكَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّعْطِيلِ، فَمَنْ نَفَى حَقِيقَةَ الِاسْتِوَاءِ فَهُوَ مُعَطِّلٌ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَهُوَ مُشَبِّهٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ اسْتِوَاءٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَهُوَ الْمُوَحِّدُ الْمُنَزِّهُ اهـ كَلَامَهُ. وَتَبَيَّنَ مَرَامُهُ، وَظَهَرَ أَنَّ مُعْتَقَدَهُ مُوَافِقٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ، فَالطَّعْنُ الشَّنِيعُ وَالتَّقْبِيحُ الْفَظِيعُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ عَلَيْهِ وَلَا مُتَوَجِّهٍ إِلَيْهِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ بِعَيْنِهِ مُطَابِقٌ لِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْمُجْتَهِدُ الْأَقْدَمُ فِي فِقْهِهِ الْأَكْبَرِ مَا نَصُّهُ: " وَلَهُ تَعَالَى يَدٌ وَوَجْهٌ وَنَفْسٌ، فَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالنَّفْسِ فَهُوَ لَهُ صِفَاتٌ بِلَا كَيْفٍ، وَلَا يُقَالُ إِنَّ يَدَهُ قُدْرَتُهُ أَوْ نِعْمَتُهُ ; لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالَ الصِّفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْقَدَرِ وَالِاعْتِزَالِ، وَلَكِنَّ يَدَهُ صِفَتُهُ بِلَا كَيْفٍ، وَغَضَبُهُ وَرِضَاهُ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ بِلَا كَيْفٍ اهـ. وَحَيْثُ انْتَفَى عَنْهُ اعْتِقَادُ التَّجْسِيمِ، بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْكَرِيمِ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ ظَاهِرٌ، وَتَوْجِيهٌ لِأَهْلِ - التَّنْبِيهِ بَاهِرٌ، سَوَاءٌ رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ، أَوْ تَجَلَّى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَيْهِ بِالتَّجَلِّي الصُّورِيِّ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ وَالْمَقَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُذَكِّرًا بِهَيْئَتِهِ، وَمُفَكِّرًا بِرُؤْيَتِهِ الْحَاصِلَةِ مِنْ كَمَالِ تَجْلِيَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ أَنْبِيَائِهِ أَوْ أَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ رَبَّاهُمْ بِحُسْنِ تَرْبِيَتِهِ، وَجَلَّى مَرَائِيَ قُلُوبِهُمْ بِحُسْنِ تَجْلِيَتِهِ، حَتَّى شَهِدُوا مَقَامَ الْحُضُورِ وَالْبَقَاءِ، وَتَخَلَّصُوا عَنْ صِدَاءِ الْحُظُورِ وَالْفَنَاءِ، رَزَقَنَا اللَّهُ أَشْوَاقَهُمْ، وَأَذَاقَنَا أَحْوَالَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ، وَأَحْيَانًا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَأَمَاتَنَا عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ.

4341 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4341 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أُحِلَّ) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَيْ أُبِيحَ (الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ (مِنْ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ) : أَيْ مَا ذُكِرَ أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا (عَلَى ذُكُورِهَا) : أَيْ ذُكُورِ أُمَّتِي وَالذُّكُورُ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الصِّبْيَانَ أَيْضًا، لَكِنَّهُمْ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ حَرُمَ عَلَى مَنْ أَلْبَسَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنَ الذَّهَبِ حُلِيَّهُ،: وَإِلَّا فَالْأَوَانِي مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَكَذَا حُلِيُّ الْفِضَّةِ مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ، إِلَّا مَا اسْتُثْنَى لِلرِّجَالِ مِنَ الْخَاتَمِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا سَبَقَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) : وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ.

4342 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ، عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً، ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، كَمَا كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَمَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4342 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا) : أَيْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا، وَأَصْلُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: صَيَّرَ ثَوْبَهُ جَدِيدًا، وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ: طَلَبَ ثَوْبًا جَدِيدًا، وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا لَبِسَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ» ، وَكَذَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، فَالْمَعْنَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا جَدِيدًا أَلْبَسَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: (سَمَّاهُ) : أَيِ الثَّوْبَ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ (بِاسْمِهِ) : أَيِ الْمُتَعَارَفُ الْمُتَعَيَّنُ الْمُشَخَّصُ الْمَوْضُوعُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ (عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا، أَوْ رِدَاءً) : أَيْ أَوْ غَيْرَهَا، كَالْإِزَارِ وَالسِّرْوَالِ وَالْخُفِّ وَنَحْوِهَا، وَالْمَقْصُودُ التَّعْمِيمُ، فَالتَّخْصِيصُ لِلتَّمْثِيلِ بِأَنْ يَقُولَ: رَزَقَنِي اللَّهُ أَوْ أَعْطَانِي أَوْ كَسَانِي هَذِهِ الْعِمَامَةَ أَوِ الْقَمِيصَ أَوِ الرِّدَاءَ، وَ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ. أَوْ يَقُولُ: هَذَا قَمِيصٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ عِمَامَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالْفَائِدَةُ لَهُ أَتَمُّ وَأَكْثَرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُظْهِرِ، وَالثَّانِي مُخْتَارُ الطِّيبِيِّ فَتَدَبَّرْ. (ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، كَمَا كَسَوْتَنِيهِ) : الْكَافُ تَعْلِيلِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى " عَلَى " وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسَمَّى، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَسْمِيَتَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا كَسَوْتَنِي هَذَا الْقَمِيصَ أَوِ الْعِمَامَةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِدَلَالَةِ الْعَطْفِ بِثُمَّ اهـ. وَتَوْضِيحُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ أَنْ يَقُولَ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِ بَدَلٌ عَنْ ضَمِيرِ كَسَوْتَنِيهِ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ لَا يُلَائِمُ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ لَفْظِ الدُّعَاءِ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: " كَمَا كَسَوْتَنِيهِ " مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ بِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ (أَسْأَلُكَ) :. . إِلَخْ. وَهُوَ الْمُشَبَّهُ أَيْ مِثْلَ مَا كَسَوْتَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ أَسْأَلُكَ (خَيْرَهُ) : أَيْ أَنْ تُوصِلَ. . إِلَخْ. (وَخَيْرَ مَا صُنِعَ) : أَيْ خُلِقَ (لَهُ) : مِنَ الشُّكْرِ بِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ وَالْحَمْدُ لِمُوَلِّيهِ بِاللِّسَانِ اهـ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوْلَى فَقَوْلُهُ: أَسْأَلُكَ اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ تَقَدُّمِ ثَنَاءٍ، (وَأَعُوذُ بِكَ) : عَطْفٌ عَلَى أَسْأَلُكَ، أَيْ أَسْتَعِيذُ بِكَ (مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ) : أَيْ مِنَ الْكُفْرَانِ، هَذَا وَيُحْتَمَلُ تَعَلُّقُ قَوْلِهِ: " كَمَا " بِقَوْلِهِ: " أَسْأَلُكَ "، وَالْمَعْنَى أَسْأَلُكَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خُلُقِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ بِهِ، وَصَرْفُهُ فِيمَا فِيهِ رِضَاكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا تَرْضَى بِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَكَوْنِي أُعَاقَبُ بِهِ لِحُرْمَتِهِ، وَقَالَ مِيرَكُ: خَيْرُ الثَّوَابِ بَقَاؤُهُ وَنَقَاؤُهُ وَكَوْنُهُ مَلْبُوسًا لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَخَيْرُ مَا صُنِعَ لَهُ هُوَ الضَّرُورَاتُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يُصْنَعُ اللِّبَاسُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالْمُرَادُ سُؤَالُ الْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَنْ يَكُونَ مُبَلِّغًا إِلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي صُنِعَ لِأَجْلِهِ الثَّوْبُ مِنَ الْعَوْنِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ لِمُوَلِّيهِ، وَفِي الشَّرِّ عَكْسُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، وَهُوَ كَوْنُهُ حَرَامًا وَنَجِسًا وَلَا يَبْقَى زَمَانًا طَوِيلًا، أَوْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ وَالِافْتِخَارِ وَالْعُجْبِ وَالْغُرُورِ، وَعَدَمِ الْقَنَاعَةِ بِثَوْبِ الدُّونِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْهُ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَى عُمَرَ قَمِيصًا أَبْيَضَ فَقَالَ: " أَجَدِيدٌ قَمِيصُكَ هَذَا أَمْ غَسِيلٌ؟ " قَالَ: بَلْ غَسِيلٌ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْبَسْ جَدِيدًا وَعِشْ حَمِيدًا وَمُتْ شَهِيدًا» ) .

4343 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ لِي وَلَا قُوَّةٍ، غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: ( «وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4343 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ) : أَيِ الْجُهَنِيِّ مَعْدُودٌ فِي أَهْلِ مِصْرَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَهْلٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ هُنَا لَفْظٌ وَمَا

تَأَخَّرَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ أُلْحِقَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ تَوَهُّمًا مِنَ الْقَرِينَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: (وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: " مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا) : أَيْ هَذَا الثَّوْبَ (وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ) : قَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَحَسَّنَهُ وَأَبُو دَاوُدَ، الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ: " وَمَا تَأَخَّرَ " اهـ. وَذُكِرَ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى أَنَّهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ اهـ، وَكَذَلِكَ فِي الْحِصْنِ، فَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ مُوهِمٌ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى لَمْ يَرْوِهَا التِّرْمِذِيُّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. هَذَا وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ثَوْبًا بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهِ إِلَّا لَمْ يَبْلُغْ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ» . قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا أَعْلَمُ فِي إِسْنَادِهِ أَحَدًا ذُكِرَ بِجَرْحٍ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي السُّوقَ فَيَبْتَاعُ الْقَمِيصَ بِنِصْفِ أَوْ ثُلُثِ دِينَارٍ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا لَبِسَهُ فَلَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ.

4344 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَا عَائِشَةُ إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ، وَلَا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ حَسَّانَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: صَالِحُ بْنُ حَسَّانَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4344 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي) : أَيْ خَاطَبَنِي بِالْخُصُوصِ (رَسُولُ اللَّهِ " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَائِشَةُ إِنْ أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي) : أَيِ الْوِصَالَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فِي مَنَصَّةِ الْجَمَالِ (فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ) : أَيْ مِثْلَهُ وَهُوَ فَاعِلُ يَكُفُّ أَيِ اقْتَنِعِي بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّكَ عَابِرُ سَبِيلٍ إِلَى مَنْزِلِ الْعُقْبَى (وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ) : أَيْ فَضْلًا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّ مُجَالَسَتَهُمْ تَجُرُّ إِلَى مَحَبَّةِ الشَّهَوَاتِ وَاللَّهَوَاتِ ; وَلِذَا قِيلَ: " لَا تَنْظُرُوا إِلَى أَرْبَابِ الدُّنْيَا ; فَإِنَّ بَرِيقَ أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ، يَذْهَبُ بِرَوْنَقِ حَلَاوَةِ الْفُقَرَاءِ "، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] الْآيَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ: " اتَّقُوا مُجَالَسَةَ الْمَوْتَى " قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الْأَغْنِيَاءُ "، وَذَكَرَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " اتْرُكُوا الدُّنْيَا لِأَهْلِهَا ; فَإِنَّهُ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ أَخَذَ مِنْ حَتْفِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ "، (وَلَا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ أَيْ لَا تَعُدِّيهِ خَلِقًا مِنِ اسْتَخْلَقَ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ اسْتَجَدَّ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: وَرُوِيَ بِالْفَاءِ مِنِ اسْتَخْلَفَ لَهُ إِذَا طَلَبَ لَهُ خَلَفًا، أَيْ عِوَضًا، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَصْلِ بِمِنْ، لَكِنِ اتَّسَعَ فِيهِ بِحَذْفِهَا كَمَا اتَّسَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ، (حَتَّى تُرَقِّعِيهِ) : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ تُخِيطِي عَلَيْهِ رُقْعَةً، ثُمَّ تَلْبَسِيهِ مَرَّةً، وَفِيهِ تَحْرِيضٌ لَهَا عَلَى الْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِالثَّوْبِ الْحَقِيرِ، وَالتَّشْبِيهِ بِالْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، قَالَ أَنَسٌ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ رَقَّعَ ثَوْبَهُ بِرِقَاعٍ ثَلَاثٍ لَبَّدَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: خَطَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ خَلِيفَةٌ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً اهـ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ حَسَّانَ) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ يَنْصَرِفُ وَلَا يَنْصَرِفُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) : أَيِ الْبُخَارِيُّ (صَالِحُ بْنُ حَسَّانَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ) : وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيُرَقِّعُ الْقَمِيصَ، وَيَلْبَسُ الصُّوفُ، وَيَقُولُ: " مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي» ".

4345 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ إِيَاسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا تَسْمَعُونَ؟ أَلَا تَسْمَعُونَ أَنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الْإِيمَانِ، أَنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الْإِيمَانِ» ؟ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4345 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ إِيَاسِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (ابْنِ ثَعْلَبَةَ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا تَسْمَعُونَ؟) : بِتَخْفِيفِ اللَّامِ (أَلَا تَسْمَعُونَ؟) : أَيِ اسْمَعُوا وَكُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ (أَنَّ الْبَذَاذَةَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالذَّالَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ (مِنَ الْإِيمَانِ) : أَيْ مِنْ كَمَالِ أَهْلِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُقَالُ رَجُلٌ بَذُّ الْهَيْئَةِ أَيْ رَثُّ اللِّبْسَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ التَّوَاضُعَ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّوَقِّيَ عَنِ الْفَائِقِ فِي الزِّينَةِ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ. (أَنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الْإِيمَانِ) : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، فَفِيهِ اخْتِيَارُ الْفَقْرِ وَالْكَسْرِ، فَلُبْسُ الْخَلِقِ مِنَ الثِّيَابِ مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " «الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْحَارِثِيِّ.

4346 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4346 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ) : أَيْ ثَوْبَ تَكَبُّرٍ وَتَفَاخُرٍ وَتَجَبُّرٍ، أَوْ مَا يَتَّخِذُهُ الْمُتَزَهِّدُ لِيُشْهِرَ نَفْسَهُ بِالزُّهْدِ، أَوْ مَا يَشْعُرُ بِهِ الْمُتَسَيِّدُ مِنْ عَلَامَةِ السِّيَادَةِ كَالثَّوْبِ الْأَخْضَرِ، أَوْ مَا يَلْبَسُهُ الْمُتَفَقِهَةُ مِنْ لُبْسِ الْفُقَهَاءِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ السُّفَهَاءِ. (فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبُ مَذَلَّةٍ) : ضِدُّ الْمَعَزَّةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ جَزَاءً وِفَاقًا ; فَإِنَّ الْمُعَالَجَةَ بِالْأَضْدَادِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنِ اخْتَارَ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ وَتَوَاضُعٍ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَعَزَّةٍ فِي الْعُقْبَى، قَالَ الْقَاضِي: الشُّهْرَةُ ظُهُورُ الشَّيْءِ فِي شَيْئِهِ بِحَيْثُ يُشْهَرُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَالْمُرَادُ بِثَوْبِ شُهْرَةٍ مَا لَا يَحِلُّ لُبْسُهُ، وَإِلَّا لَمَا رَتَّبَ الْوَعِيدَ عَلَيْهِ، أَوْ مَا يُقْصَدُ بِلُبْسِهِ التَّفَاخُرُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْإِذْلَالُ بِهِمْ وَكَسْرُ قُلُوبِهِمْ، أَوْ مَا يَتَّخِذُهُ الْمُسَاخِرُ لِيَجْعَلَ بِهِ نَفْسَهُ ضُحَكَةً بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ مَا يُرَائِي بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَكُنِّيَ بِالثَّوْبِ عَنِ الْعَمَلِ وَهُوَ شَائِعٌ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ أَيْ أَشْمَلَهُ بِالذُّلِّ كَمَا يَشْمَلُ الثَّوْبُ الْبَدَنَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالضِّيَاءُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِلَفْظِ: " «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يَضَعَهُ» ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا بِلَفْظِ: " «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبًا مِثْلَهُ، ثُمَّ يُلْهِبُ فِيهِ النَّارَ» "، وَرَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي سُنَنِ الصُّوفِيَّةِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا " «احْذَرُوا الشُّهْرَتَيْنِ: الصُّوفَ وَالْخَزَّ» ". وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: " «لَيْسَ الْبِرُّ فِي حُسْنِ اللِّبَاسِ وَالزِّيِّ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ» "، وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ قَدْ تَقَدَّمَ.

4347 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4347 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ) : أَيْ مَنْ شَبَّهَ نَفْسَهُ بِالْكُفَّارِ مَثَلًا فِي اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ، أَوْ بِالْفُسَّاقِ أَوِ الْفُجَّارِ أَوْ بِأَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالصُّلَحَاءِ الْأَبْرَارِ. (فَهُوَ مِنْهُمْ) : أَيْ فِي الْإِثْمِ وَالْخَيْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا عَامٌّ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ وَالشِّعَارِ، وَلِمَا كَانَ الشِّعَارُ أَظْهَرُ فِي التَّشَبُّهِ ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ. قُلْتُ: بَلِ الشِّعَارُ هُوَ الْمُرَادُ بِالتَّشَبُّهِ لَا غَيْرُ، فَإِنَّ الْخُلُقَ الصُّورِيَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّشَبُّهُ، وَالْخُلُقَ الْمَعْنَوِيَّ لَا يُقَالُ فِيهِ التَّشَبُّهُ، بَلْ هُوَ التَّخَلُّقُ، هَذَا وَقَدْ حَكَى حِكَايَةً غَرِيبَةً وَلَطِيفَةً عَجِيبَةً، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - فِرْعَوْنَ وَآلَهُ لَمْ يُغْرِقْ مَسْخَرَتَهُ الَّذِي كَانَ يُحَاكِي سَيِّدَنَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي لُبْسِهِ وَكَلَامِهِ وَمَقَالَاتِهِ، فَيَضْحَكُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ ; فَتَضَرَّعَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ: يَا رَبِّ! هَذَا كَانَ يُؤْذِي أَكْثَرَ مِنْ بَقِيَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى: مَا أَغْرَقْنَاهُ ; فَإِنَّهُ كَانَ لَابِسًا مِثْلَ لِبَاسِكَ، وَالْحَبِيبُ لَا يُعَذِّبُ مَنْ كَانَ عَلَى صُورَةِ الْحَبِيبِ، فَانْظُرْ مَنْ كَانَ مُتَشَبِّهًا بِأَهْلِ الْحَقِّ عَلَى قَصْدِ الْبَاطِلِ حَصَلَ لَهُ نَجَاةٌ صُورِيَّةٌ، وَرُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى النَّجَاةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَشَبَّهُ بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ عَلَى قَصْدِ التَّشَرُّفِ وَالتَّعْظِيمِ، وَغَرَضِ الْمُشَابِهَةِ الصُّورِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرِيمِ؟ ، وَقَدْ بَسَطَ أَنْوَاعَ التَّشَبُّهِ بِالْمَعَارِفِ فِي تَرْجَمَةِ عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4348 - وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَةٍ تَوَاضُعًا، كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، وَمَنْ تَزَوَّجَ لِلَّهِ تَوَجَّهُ اللَّهُ تَاجَ الْمُلْكِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4348 - (وَعَنْ سُوَيْدِ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ وَهْبٍ) : شَيْخٌ لِابْنِ عَجْلَانَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ الصَّحَابِيِّ عَدْلٌ كَأَبِيهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ أَيْضًا، فَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ) : أَيْ زِينَةٍ (وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ) : أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى لُبْسِ ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ خَوْفًا لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ رَجَاءً لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَقَامِ الْأَعْلَى، أَوِ اسْتِحْقَارًا لِزِينَةِ الدُّنْيَا. (وَفِي رِوَايَةٍ: " تَوَاضُعًا) : وَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ لِتَرَكَ (كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ) : أَيْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ وَأَلْبَسَهُ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ (وَمَنْ تَزَوَّجَ لِلَّهِ) : أَيْ بِأَنْ يَنْزِلَ عَنْ دَرَجَتِهِ فَيَتَزَوَّجَ مَنْ هِيَ أَدْنَى مَرْتَبَةً مِنْهُ، كَيَتِيمَةٍ حَقِيرَةٍ، أَوْ مِسْكِينَةٍ فَقِيرَةٍ، أَوْ مَعْتُوقَةٍ صَالِحَةٍ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ رَبِّهِ، أَوْ أَرَادَ بِالتَّزَوُّجِ صِيَانَةَ دِينِهِ، وَحِفْظَ نَسْلِهِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ رَبِّهِ (تَوَّجَهُ اللَّهُ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ أَلْبَسَهُ (تَاجَ الْمُلْكِ) : وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِجْلَالِهِ وَتَوْقِيرِهِ، أَوْ أُعْطِيَ تَاجًا وَمَمْلَكَةً فِي الْجَنَّةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أُلْبِسَ وَالِدَاهُ حُلَّةً لَا تَقُومُ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: مَنْ تَزَوَّجَ لِلَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ تَصَدَّقَ بِزَوْجَيْنِ أَيْ بِصِنْفَيْنِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتَدَرَتْهُ حَجَبَةُ الْجَنَّةِ» " قِيلَ: وَمَا زَوْجَانِ. . إِلَخْ؟ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي، وَأَمَّا شَرْحُ تَزَوَّجَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ، فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، بَلْ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحَالِ، نَعَمْ ذَكَرَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ: مَنْ زَوَّجَ بِغَيْرِ تَاءٍ، فَقَالَ أَيْ أَعْطَى لِلَّهِ اثْنَيْنِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَقِيلَ: مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4349 - وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ حَدِيثَ اللِّبَاسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4349 - (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْحَدِيثِ (عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ) : أَيْ لَا عَنْ سُوَيْدٍ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيَّ الْمُبْهَمَ (حَدِيثَ اللِّبَاسِ) : أَيْ دُونَ حَدِيثِ التَّزَوُّجِ، لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، أَنَّهُ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ بِلَفْظِ: " «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا» ".

4350 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى آثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4350 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُبْصَرَ وَيَظْهَرُ (أَثَرُ نِعَمَهِ) : أَيْ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ تَعَالَى (عَلَى عَبْدِهِ) : فَمِنْ شُكْرِهَا إِظْهَارُهَا، وَمِنْ كُفْرَانِهَا كِتْمَانُهَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِذَا آتَى اللَّهُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا فَلْيُظْهِرْهَا مِنْ نَفْسِهِ، بِأَنْ يَلْبَسَ لِبَاسًا يَلِيقُ بِحَالِهِ، لِإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِيَقْصِدَهُ الْمُحْتَاجُونَ لِطَلَبِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ يُظْهِرُوا عِلْمَهُمْ لِيَسْتَفِيدَ النَّاسُ مِنْهُمُ اهـ. فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ حَثَّ عَلَى الْبَذَاذَةِ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا حَثَّ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَعْدِلَ عَنْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا يَتَكَلَّفُ لِلثِّيَابِ الْمُتَكَلِّفَةِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي عَادَةِ النَّاسِ، حَتَّى فِي الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، فَأَمَّا مَنِ اتَّخَذَ ذَلِكَ دَيْدَنًا وَعَادَةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْجَدِيدِ وَالنَّظَافَةِ، فَلَا ; لِأَنَّهُ خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَبَذِّلَ الَّذِي لَا يُبَالِي مَا لَبِسَ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

4351 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِرًا، فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ رَأْسَهُ؟ وَرَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ: أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ؟» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4351 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِرًا، فَرَأَى) : أَيْ فِي الطَّرِيقِ أَوْ عِنْدَنَا (رَجُلًا شَعِثًا) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ (قَدْ تَفَرَّقَ شَعَرُهُ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ (فَقَالَ: مَا كَانَ) " مَا " نَافِيَةٌ وَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ مُقَدَّرَةٌ أَيْ أَلَمْ يَكُنْ (يَجِدُ هَذَا) : أَيِ الرَّجُلُ (مَا يُسَكِّنُ بِهِ رَأْسَهُ؟) : أَيْ مَا يُلِمُّ شَعَثَهُ وَيَجْمَعُ تَفَرُّقَهُ فَعَبَّرَ بِالتَّسْكِينِ عَنْهُ (وَرَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (فَقَالَ: " أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ) : أَيْ مِنَ الصَّابُونِ أَوِ الْأُشْنَانِ أَوْ نَفْسِ الْمَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْكَرَ عَلَيْهِ بَذَاذَتَهُ لِمَا يُؤَدِّي إِلَى ذِلَّتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ " فَإِثْبَاتُ التَّوَاضُعِ لِلْمُؤْمِنِ، كَمَا جَاءَ: الْمُؤْمِنُ مُتَوَاضِعًا وَلَيْسَ بِذَلِيلٍ، وَلَهُ الْعِزَّةُ دُونَ التَّكَبُّرِ "، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ: " إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ " قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّ الْبَذَاذَةَ وَهِيَ الْقَنَاعَةُ بِالدُّونِ مِنَ الثِّيَابِ لَا تُنَافِي النَّظَافَةَ الَّتِي وَرَدَ: أَنَّهَا مِنَ الدِّينِ، وَلَا تَسْتَلْزِمُ الْمَذَلَّةَ عِنْدَ أَرْبَابِ الْيَقِينَ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ) .

4352 - «وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ ثَوْبٌ دُونٌ، فَقَالَ لِي: " أَلَكَ مَالٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ " قُلْتُ: مِنْ كُلِّ الْمَالِ، قَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ. قَالَ: (فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4352 - (وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ) : اسْمُهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَضْرٍ، سَمِعَ أَبَاهُ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَأَبَا مُوسَى، رَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ. (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ مَالِكِ بْنِ نَضْرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اسْمَهُ كَمَا سَبَقَ. (قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ ثَوْبٌ دُونٌ) : أَيْ دَنِيءٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِحَالِي مِنَ الْغِنَى، فَفِي الْقَامُوسِ: دُونٌ عَلَى الشَّرِيفِ، وَالْخَسِيسُ ضِدٌّ (فَقَالَ لِي: " أَلَكَ مَالٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟) : أَيْ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ مِنْ جِنْسِ الْأَمْوَالِ؟ (قُلْتُ: مِنْ كُلِّ الْمَالِ) : أَيْ مِنْ كُلِّ هَذَا الْجِنْسِ وَلِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى بَعْضُ كُلِّ هَذَا الْجِنْسِ (قَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ) : أَيْ أَعْطَانِيهِ وَقَوْلُهُ: (مِنَ الْإِبِلِ) : بَيَانٌ لِمَنِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَعْضُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ أَعْطَانِي اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ قَوْلِهِ: " فَقَدَ " بِالْفَاءِ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ الطِّيبِيِّ أَيْ مِنْ كُلِّ مَا تُعُورِفَ بِالْمَالِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْجِنْسِ، وَقَوْلُهُ: فَأَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْإِبِلِ بَيَانٌ لَهُ وَتَفْصِيلٌ اهـ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ لَفْظَ الْمِشْكَاةِ لَيْسَ فَأَعْطَانِي، بَلْ قَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْإِبِلِ (وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ) : أَيْ مِنَ الْمَمَالِيكِ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ (قَالَ: فَإِذَا آتَاكَ) : بِالْمَدِّ أَيْ أَعْطَاكَ (اللَّهُ مَالًا) : أَيْ كَثِيرًا أَوْ عَظِيمًا (فَلْيُرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَلْيُبْصَرْ وَلْيَظْهَرْ (أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ) : أَيِ الظَّاهِرَةِ، وَالْمَعْنَى الْبَسْ ثَوْبًا جَيِّدًا لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّكَ غَنِيٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا فِي تَحْسِينِ الثِّيَابِ بِالتَّنْظِيفِ وَالتَّجْدِيدِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَالِغَ فِي النَّعَامَةِ وَالدِّقَّةِ، وَمُظَاهَرَةِ الْمَلْبَسِ عَلَى اللَّبْسِ عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْعَجَمِ، قُلْتُ: الْيَوْمَ زَادَ الْعَرَبُ عَلَى الْعَجَمِ، وَقَدْ قِيلَ: مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْإِزْفَا اهـ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ: رِقَّةِ الثِّيَابِ وَغِلَظِهَا وَلِينِهَا وَخُشُونَتِهَا وَطُولِهِا وَقِصَرِهَا، وَلَكِنْ سَدَادٌ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَاقْتِصَادٌ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ) .

4353 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4353 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ) : فَهَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ لِلرِّجَالِ، وَعَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَنْهِيِّ حَالَ التَّسْلِيمِ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ وَالتَّسْلِيمَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا " «إِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ ; فَإِنَّهَا أَحَبُّ الزِّينَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ» " وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي شَمَائِلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ إِمَامُنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى حِلِّ لُبْسِ الْأَحْمَرِ، وَإِنْ كَانَ قَانِيًا، قُلْتُ: قَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا ثِيَابٌ ذَاتُ خُطُوطٍ أَيْ لَا حَمْرَاءُ خَالِصَةٌ وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي بُرُودِ الْيَمَنِ، وَهُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ ; وَلِذَا أَنْصَفَ مِيرَكُ شَاهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: فَعَلَى هَذَا - أَيْ نَقْلِ الْعَسْقَلَانِيِّ - لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لِمَنْ قَالَ بِجَوَازِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ، قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا» ".

4354 - وَعَنْ «عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: لَا أَرْكَبُ الْأُرْجُوَانَ، وَلَا أَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ، وَلَا أَلْبَسُ الْقَمِيصَ الْمُكَفَّفَ بِالْحَرِيرِ " وَقَالَ: " أَلَا وَطِيبُ الرِّجَالِ رِيحٌ لَا لَوْنَ لَهُ، وَطِيبُ النِّسَاءِ لَوْنٌ لَا رِيحَ لَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4354 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا أَرْكَبُ الْأُرْجُوَانَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ وِسَادَةٌ صَغِيرَةٌ حَمْرَاءُ تُتَّخَذُ مِنْ حَرِيرٍ تُوضَعُ عَلَى السَّرْجِ، وَالْمَعْنَى لَا أَرْكَبُ دَابَّةً عَلَى سَرْجِهَا الْأُرْجُوَانُ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ مُعَرَّبُ أُرْغُوَانَ، وَهُوَ شَجَرٌ لَهُ نُورٌ أَحْمَرُ، وَكُلُّ لَوْنٍ يُشْبِهُهُ فَهُوَ أُرْجُوَانُ. وَقِيلَ: هُوَ الصَّبْغُ الْأَحْمَرُ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْأُرْجُوَانُ بِالضَّمِّ الْأَحْمَرُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَاهُ أَرَادَ الْمَيَاثِرَ الْحُمْرَ، وَقَدْ تُتَّخَذُ مِنْ دِيبَاجٍ وَحَرِيرٍ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ السَّرَفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ لُبْسِ الرِّجَالِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُرْجُوَانِ فِي الْحَدِيثِ الْأَحْمَرُ، سَوَاءً كَانَ مُتَّخَذًا مِنْ حَرِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ عَنِ اجْتِنَابِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ، فَإِنَّ الرُّكُوبَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اللُّبْسُ إِذَا كَانَ مَنْفِيًّا، وَالْقُعُودُ عَلَى الْحَرِيرِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ، فَكَيْفَ بِلُبْسِ الْأَحْمَرِ، فَتَدَبَّرْ. وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ بِالْعَطْفِ عَلَيْهِ (وَلَا أَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ) : أَيِ الْمَصْبُوغَ بِالْعُصْفُرِ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ مَا صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ وَقَبْلَهُ، فَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: مَا صُبِغَ غَزْلُهُ، ثُمَّ نُسِجَ، فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. (وَلَا أَلْبَسُ الْقَمِيصَ الْمُكَفَّفَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ الْأُولَى مُشَدَّدَةٍ أَيِ الْمَكْفُوفَ (بِالْحَرِيرِ) : فَفِي النِّهَايَةِ: أَيِ الَّذِي عُمِلَ عَلَى ذَيْلِهِ وَأَكْمَامِهِ وَجَيْبِهِ كَفَافٌ مِنْ حَرِيرٍ، وَكُفَّةُ كُلِّ شَيْءٍ بِالضَّمِّ طَرَفُهُ وَحَاشِيَتُهُ، وَكُلُّ مُسْتَدِيرٍ كِفَّةٌ بِالْكَسْرِ كَكِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَكُلُّ مُسْتَطِيلٍ كِفَّةٌ كَكِفَّةِ الثَّوْبِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا لَا يُعَارِضُ حَدِيثَ أَسْمَاءَ: " «لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ، وَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ الْمُكَفَّفَ بِالْحَرِيرِ ; لِأَنَّ فِيهِ مَزِيدَ تَجَمُّلٍ وَتَرَفُّهٍ وَلُبْسِ الْجُبَّةِ الْمُكَفَّفَةِ اهـ. وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِ أَسْمَاءَ أَنَّ قَدْرَ مَا كُفَّ بِالْحَرِيرِ هُنَا أَكْثَرُ مِنَ الْقَدْرِ الْمُرَخَّصِ ثَمَّةَ وَهُوَ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، أَوْ يُحْمَلُ هَذَا عَلَى الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى، وَذَاكَ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَبَيَانُ الْجَوَازِ وَالْفَتْوَى، وَقِيلَ: هَذَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى لُبْسِ الْجُبَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَقَالَ: أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (وَطِيبُ الرِّجَالِ) : أَيِ الْمَأْذُونُ لَهُمْ فِيهِ (رِيحٌ) : أَيْ مَا فِيهِ رِيحٌ (لَا لَوْنَ لَهُ) : كَمِسْكٍ وَكَافُورٍ وَعُودٍ (وَطِيبُ النِّسَاءِ لَوْنٌ لَا رِيحَ لَهُ) : كَالزَّعْفَرَانِ وَالْخَلُوقِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ الطِّيبُ بِمَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَيَجُوزُ إِذَا لَمْ يَخْرُجْنَ، وَالْحَدِيثُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى لِيَكُنْ طِيبُ الرِّجَالِ رِيحًا دُونَ لَوْنٍ، وَطِيبُ النِّسَاءِ لَوْنًا دُونَ رِيحٍ. وَفِي الْفَائِقِ عَنِ النَّخَعِيِّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الْمُؤَنَّثَ فِي الطِّيبِ، وَلَا يَرَوْنَ بِذُكُورَتِهِ بَأْسًا، وَالْمُؤَنَّثُ مَا يَتَطَيَّبُ بِهِ النِّسَاءُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَالْخَلُوقِ وَمَا لَهُ رَدْعٌ، وَالذُّكُورَةُ طِيبُ الرِّجَالِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ رَدْعٌ كَالْكَافُورِ وَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَغَيْرِهَا، وَالتَّاءُ فِي الذُّكُورَةِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ مِثْلُهَا فِي الْحُزُونَةِ وَالسُّهُولَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4355 - وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَشْرٍ: عَنِ الْوَشْرِ، وَالْوَشْمِ، وَالنَّتْفِ، وَعَنْ مُكَامَعَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ بِغَيْرِ شِعَارٍ، وَمُكَامَعَةِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ شِعَارٍ، وَأَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي أَسْفَلِ ثِيَابِهِ حَرِيرًا مِثْلَ الْأَعَاجِمِ، أَوْ يَجْعَلَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ حَرِيرًا مِثْلَ الْأَعَاجِمِ، وَعَنِ النُّهْبَى، وَعَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ، وَلُبُوسِ الْخَاتَمِ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4355 - (وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ) : أَيْ سُرِّيَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: شَمْعُونَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو رَيْحَانَةَ بْنُ سَمْعُونَ بْنِ يَزِيدَ الْقُرْظِيُّ الْأَنْصَارِيُّ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَيُقَالُ لَهُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتِ ابْنَتُهُ رَيْحَانَةً، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا، نَزَلَ الشَّامَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَشْرٍ) : أَيْ خِصَالٍ (عَنِ الْوَشْرِ) : بِوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ فَرَاءٍ، وَهُوَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ تَحْدِيدُ الْأَسْنَانِ وَتَرْقِيقُ أَطْرَافِهَا، تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ تَتَشَبَّهُ بِالشَّوَابِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ وَتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، (وَالْوَشْمِ) : أَيْ وَعَنِ الْوَشْمِ، وَهُوَ أَنْ يُغْرَزَ الْجِلْدُ بِإِبْرَةٍ، ثُمَّ يُحْشَى بِكُحْلٍ أَوْ نِيلٍ فَيَزْرَقُّ أَثَرُهُ أَوْ يَخْضَرُّ (وَالنَّتْفِ) : أَيْ وَعَنْ نَتْفِ النِّسَاءِ الشُّعُورَ مِنْ وُجُوهِهِنَّ، أَوْ نَتْفِ اللِّحْيَةِ أَوِ الْحَاجِبِ بِأَنْ يُنْتَفَ الْبَيَاضُ مِنْهُمَا، أَوْ نَتْفِ الشَّعْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْوَشْرِ وَالْوَشْمِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ (وَعَنْ مُكَامَعَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ بِغَيْرِ شِعَارٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ ثَوْبٍ يَتَّصِلُ بِشَعْرِ الْبَدَنِ، وَالنِّهَايَةُ: أَيْ مُضَاجَعَةِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا حَاجِزَ بَيْنَهُمَا يَحُثُّ بِأَنْ يَكُونَا عَارِيَيْنِ، وَالظَّاهِرُ الْإِطْلَاقُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مُقَيَّدًا بِمَا إِذَا لَمْ يَكُونَا سَاتِرَيِ الْعَوْرَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ؟ (وَمُكَامَعَةِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ شِعَارٍ، وَأَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي أَسْفَلِ ثِيَابِهِ) : أَيْ فِي ذَيْلِهَا وَأَطْرَافِهَا (حَرِيرًا) : أَيْ كَثِيرًا زَائِدًا عَلَى قَدْرِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ لِمَا مَرَّ مِنْ جَوَازِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: (مِثْلَ الْأَعَاجِمِ) : أَيْ مِثْلَ ثِيَابِهِمْ فِي تَكْثِيرِ سِجَافِهَا، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ أَيْضًا عَلَى ظِهَارَةِ ثِيَابِهِمْ تَكَبُّرًا وَافْتِخَارًا، قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي (لُبْسُ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ) ، سَوَاءً كَانَ تَحْتَ الثِّيَابِ أَوْ فَوْقَهَا،: وَعَادَةُ جُهَّالِ الْعَجَمِ أَنْ يَلْبَسُوا تَحْتَ الثِّيَابِ ثَوْبًا قَصِيرًا مِنَ الْحَرِيرِ لِيُلِينَ أَعْضَاءَهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ لَفْظَيْ " يَجْعَلُ " وَ " أَسْفَلَ " يَنْبُوَانِ عَنْهُ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: وَأَنْ يُلْبَسَ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (أَوْ يَجْعَلَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ حَرِيرًا) : أَيْ عَلَمًا مِنْ حَرِيرٍ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ (مِثْلَ الْأَعَاجِمِ، وَعَنِ النُّهْبَى) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ مَصْدَرٌ. بِمَعْنَى النَّهْبِ وَالْغَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ اسْمًا لِمَا يُنْهَبُ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ إِغَارَةِ الْمُسْلِمِينَ. (وَعَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ نَمِرٍ أَيْ جُلُودِهَا، قِيلَ: لِأَنَّهَا مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُقْتَضِي لِلنَّهْيِ مَا فِيهِ مِنَ الزِّينَةِ وَالْخُيَلَاءِ أَوْ نَجَاسَةِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الشُّعُورِ، فَإِنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ اهـ. وَالْقَوْلُ الْأَخِيرُ سَاقِطٌ عَنِ الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّ كُلَّ إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ، إِلَّا جِلْدَ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ عَلَى قَوْلٍ، مَعَ أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ عِنْدَنَا طَاهِرٌ مِنْ أَصْلِهِ. (وَلُبُوسِ الْخَاتَمِ) : بِضَمِّ اللَّامِ مَصْدَرٌ كَالدُّخُولِ أَيْ وَعَنْ لُبْسِ الْخَاتَمِ وَهُوَ بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُفْتَحُ، وَنَهْيُهُ عَنْهُ لِأَنَّ فِيهِ زِينَةً وَلَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي لُبْسِهِ ضَرُورَةٌ. (إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ) : فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِخَتْمِ الْكِتَابِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْخَاتَمِ مُقْتَضِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مُحْتَاجٍ إِلَى ذَلِكَ كَالْقَاضِي وَالْأَمِيرِ وَنَحْوِهِمَا، فَيَسْتَحْصِلُ مِنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ التَّخَتُّمَ لِلزِّينَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا يَشُوبُهَا أَمْرٌ مِنْ بَابِ الْمَصْلَحَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ التَّنْزِيهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: مَسْمُوحٌ بِدَلِيلِ تَخَتُّمِ الصَّحَابَةِ فِي عَصْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَصْرِ خُلَفَائِهِ بِلَا نَكِيرٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَبَاحَ لُبْسَ الْخَاتَمِ لِذِي سُلْطَانٍ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لَخَتْمِ الْكُتُبِ، وَكَرِهَهُ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ زِينَةً مَحْضَةً لَا حَاجَةَ فِيهِ اهـ كَلَامُهُ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: " لِذِي سُلْطَانٍ " لِلتَّأْكِيدِ، وَتَقْدِيرُهُ نَهَى عَنْ لُبُوسِ الْخَاتَمِ جَمِيعًا إِلَّا ذَا سُلْطَانٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

4356 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَالْمَيَاثِرِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَقَالَ: " «نَهَى عَنْ مَيَاثِرِ الْأُرْجُوَانِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4356 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ نِسْبَةً إِلَى قَسٍّ بَلَدٌ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ، نُسِبَ إِلَيْهَا الثِّيَابُ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الثِّيَابِ فِيهَا خُطُوطٌ مِنَ الْحَرِيرِ اهـ. فَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ وَالْوَرَعِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِذَا كَانَ مِنْ حَرِيرٍ أَيْ إِذَا كَانَ كُلُّهُ أَوْ لُحْمَتُهُ مِنَ الْحَرِيرِ، فَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، وَفِي النِّهَايَةِ هِيَ ثِيَابٌ مِنْ كَتَّانٍ مَخْلُوطٍ بِحَرِيرٍ، يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ، نُسِبَتْ إِلَى قَرْيَةٍ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، يُقَالُ لَهَا: الْقَسُّ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَكْسِرُهَا، وَقِيلَ: أَصْلُ الْقَسِّيِّ الْقَزِّيِّ بِالزَّايِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَزِّ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ، فَأُبْدِلَ مِنَ الزَّايِ سِينًا اهـ، وَقِيلَ: الْخَزُّ ثِيَابٌ مِنْ حَرِيرٍ خَالِصٍ، وَقِيلَ مَخْلُوطٌ بِصُوفٍ، وَالثَّانِي جَائِزٌ، فَالْمُرَادُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: قَدَّمْتُ التَّفْصِيلَ، فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ زَلَلٍ. (وَالْمَيَاثِرِ) : أَيْ وَعَنِ اسْتِعْمَالِهَا وَهِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ مِيثَرَةٍ بِالْكَسْرِ وَهِيَ وِسَادَةٌ صَغِيرَةٌ حَمْرَاءُ يَجْعَلُهَا الرَّاكِبُ تَحْتَهُ، وَالنَّهْيُ إِذَا كَانَتْ مِنْ حَرِيرٍ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، وَلِكَوْنِهَا مِنْ مَرَاكِبِ الْعَجَمِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمَيَاثِرُ مُطْلَقٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى اهـ. وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمِيثَرَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا حَمْرَاءَ، فَالتَّقْيِيدُ إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ بِنَاءً عَلَى التَّجْرِيدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ " وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَقَالَ أَيْ عَلِيٌّ ( «نَهَى عَنْ مَيَاثِرِ الْأُرْجُوَانِ» ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «نَهَى عَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقَسِّيِّ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَفْظُهُ: عَنِ الْمِيثَرَةِ الْأُرْجُوَانُ.

4357 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْكَبُوا الْخَزَّ وَلَا النِّمَارَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4357 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ) : الظَّاهِرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَرْكَبُوا الْخَزَّ) : بِفَتْحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ زَايٍ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: أَرَادَ الثَّوْبَ الَّذِي كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ إِبْرَيْسَمٌ، وَهُوَ ثَوْبٌ يُتَّخَذُ مِنْ وَبَرٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الثَّوْبِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ وَالصُّوفِ، وَفِي الثَّوْبِ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ اهـ. وَالتَّفْصِيلُ السَّابِقُ عَلَيْكَ لَا يَخْفَى، (وَلَا النِّمَارَ) : جَمْعُ نَمِرٍ وَالْمَشْهُورُ فِي جَمْعِهِ النُّمُورُ كَمَا سَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جَمْعُ نَمِرَةٍ وَهُوَ كِسَاءٌ مُخَطَّطٌ، فَالْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ اهـ. وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْخُطُوطُ بِالْحُمْرَةِ فَتُشَابِهُ الْمِيثَرَةَ حِينَئِذٍ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَعْنِي بِالنِّمَارِ جُلُودَ النُّمُورِ، وَالصَّوَابُ فِيهِ النُّمُورُ ; قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ جَمْعُ نَمِرَةٍ وَهِيَ الْكِسَاءُ الْمُخَطَّطُ، وَلَوْ صَحَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ، فَلَعَلَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّينَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ النِّمَارَ جَاءَ فِي جَمْعِ نَمِرٍ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا رُوِيَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ رُكُوبِ النِّمَارِ، وَفِي رِوَايَةٍ: النُّمُورَ. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَنَازَعٌ فِيهِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ؟ ، نَعَمْ فِي الْقَامُوسِ تَصْرِيحٌ لِأَنَّ النِّمَارَ فِي مَعْنَى النُّمُورِ صَحِيحٌ حَيْثُ قَالَ: وَالنُّمْرَةُ بِالضَّمِّ النُّكْتَةُ لَا مِنْ أَيْ لَوْنٍ كَانَ، وَالنَّمِرُ كَكَتِفٍ وَبِالْكَسْرِ سَبُعٌ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِهِ لِلنَّمِرِ الَّتِي فِيهِ جَمْعُهُ أَنْمُرٌ وَأَنْمَارٌ وَنُمُرٌ وَنُمْرٌ وَنِمَارٌ وَنِمَارَةٌ وَنُمُورَةٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «نَهَى عَنِ الرُّكُوبِ عَلَى جُلُودِ النِّمَارِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: " «نَهَى عَنِ النَّوْحِ وَالشَّعْرِ وَالتَّصَاوِيرِ وَجُلُودِ السِّبَاعِ وَالتَّبَرُّجِ وَالْغِنَاءِ وَالذَّهَبِ وَالْخَزِّ وَالْحَرِيرِ» .

4358 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4358 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ. رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوَيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

4359 - وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ التَّيْمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، وَلَهُ شَعَرٌ قَدْ عَلَاهُ الشَّيْبُ وَشَيْبُهُ أَحْمَرُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: وَهُوَ ذُو وَفْرَةٍ وَبِهَا رَدْعٌ مِنْ حِنَّاءٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4359 - (وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ) : بِكَسْرِ رَاءٍ فَسُكُونِ مِيمٍ فَمُثَلَّثَةٍ رِفَاعَةُ بْنُ يَثْرِبِيِّ (الْتَّيْمِيِّ) : بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، زَادَ فِي الشَّمَائِلِ: تَيْمُ الرَّبَابِ، وَاحْتَرِزْ بِهِ عَنْ تَيْمِ قُرَيْشٍ قَبِيلَةِ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ، وَيُقَالُ: التَّمِيمِيُّ بِمِيمَيْنِ، قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِيهِ، وَعِدَادُهُ فِي الْكُوفِيِّينِ، رَوَى عَنْهُ إِيَادُ بْنُ لَقِيطٍ. (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ) : أَيْ مَصْبُوغَانِ بِلَوْنِ الْخُضْرَةِ، وَهُوَ أَكْثَرُ لِبَاسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ} [الإنسان: 21] ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا مَخْطُوطَيْنِ بِخُطُوطٍ خُضْرٍ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: بَرْدَانِ بَدَلَ ثَوْبَانِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْبُرُودَ ذَوَاتُ الْخُطُوطِ. قَالَ الْعِصَامُ: الْمُرَادُ بِالثَّوْبَيْنِ الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ، وَمَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ لُبْسَ الثَّوْبِ الْأَخْضَرِ سُنَّةٌ ضَعْفُهُ ظَاهِرٌ، إِذْ غَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ اهـ. وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مُبَاحَةٌ عَلَى أَصْلِهَا، فَإِذَا اخْتَارَ شَيْئًا مِنْهَا يَلْبَسُهُ لَا شَكَّ فِي إِفَادَةِ الِاسْتِحْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَلَهُ) : أَيْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (شَعَرٌ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا نَكَّرَهُ لِيَدُلَّ عَلَى الْقِلَّةِ أَيْ لَهُ شَعَرٌ قَلِيلٌ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةً عَلَى مَا ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ، فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَنَسٍ: مَا عَدَدْتُ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِحْيَتِهِ إِلَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ (قَدْ عَلَا) : صِفَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ " وَقَدْ عَلَاهُ " حَالٌ أَيْ غَلَبَ ذَلِكَ الشَّعَرَ الْقَلِيلَ (الشَّيْبُ) : أَيِ الْبَيَاضُ (وَشَيْبُهُ أَحْمَرُ) : أَيْ مَصْبُوغٌ بِالْحِنَّاءِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّعَرَ الْقَلِيلَ مَصْبُوغٌ بِالْحِنَّاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " بِهَا رَدْعٌ مِنْ حِنَّاءٍ " وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ أَيْضًا: أَنَّ شَيْبَهُ أَحْمَرُ مَصْبُوغٌ بِالْحِنَّاءِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنْ يُخَالِطَ شَيْبَهُ حُمْرَةٌ فِي أَطْرَافِ تِلْكَ الشَّعْرَاتِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يَشِيبُ أُصُولُ الشَّعَرِ، وَأَنَّ الشَّعَرَ إِذَا قَرُبَ شَيْبُهُ صَارَ أَحْمَرَ، ثُمَّ أَبْيَضَ. وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ خَضَبَ أَمْ لَا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مَعَ اخْتِلَافٍ بَيَّنْتُ تَوْجِيهَهُ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: وَهُوَ ذُو وَفْرَةٍ) : وَهُوَ الشَّعَرُ الَّذِي وَصَلَ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ (وَبِهَا) : أَيْ وَبِالْوَفْرَةِ (رَدْعٌ) : بِفَتْحِ رَاءٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَقِيلَ مُعْجَمَةٌ أَيْ أَثَرٌ وَلَطْخٌ (مِنْ حِنَّاءٍ) : فِي الْمُقَدِّمَةِ بِسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ صَبْغٌ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ طِينٌ كَثِيرٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الرَّدْعُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ لَطْخٌ مِنْهُ، وَأَثَرُ الطِّيبِ فِي الْجَسَدِ، وَقَالَ فِي الْمُعْجَمَةِ الرَّدَغَةُ: مُحَرَّكَةٌ الْمَاءُ وَالطِّينُ وَالْوَحْلُ الشَّدِيدُ اهـ، فَالصَّوَابُ رِوَايَةُ الرَّدْعِ هُنَا بِالْمُهْمَلَةِ.

4360 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ شَاكِيًا، فَخَرَجَ يَتَوَكَّأُ عَلَى أُسَامَةَ، وَعَلَيْهِ ثَوْبُ قِطْرٍ قَدْ تَوَشَّحَ بِهِ فَصَلَّى بِهِمْ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4360 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ شَاكِيًا) أَيْ مَرِيضًا مِنَ الشَّكْوَى، وَالشِّكَايَةُ يَعْنِي الْمَرَضَ. قِيلَ: وَهَذَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَخَرَجَ) : أَيْ مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (يَتَوَكَّأُ) : أَيْ يَعْتَمِدُ (عَلَى أُسَامَةَ) : أَيِ ابْنِ زَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَعَلَيْهِ ثَوْبُ قِطْرٍ: بِالْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَصْفِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، ضَرْبٌ مِنَ الْبُرُودِ الْيَمَانِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ قُطْنٍ، وَيَكُونُ فِيهِ حُمْرَةٌ وَلَهَا أَعْلَامٌ، وَفِيهِ بَعْضُ الْخُشُونَةِ، وَقِيلَ: هِيَ حُلَلُ جِيَادٍ تُحْمَلُ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِينِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: فِي إِعْرَاضِ الْبَحْرَيْنِ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا الْقِطْرِيَّةُ. (وَقَدْ تَوَشَّحَ) : أَيْ جَعَلَ طَرَفَيْهِ عَلَى عُنُقِهِ كَالْوِشَاحِ ; لِأَنَّهُ كَانَ شِبْهَ رِدَاءٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَدْخَلَهُ تَحْتَ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُحْرِمُ، وَقِيلَ: أَيْ تَغَشَّى لَهُ (فَصَلَّى بِهِمْ) : أَيْ إِمَامًا بِأَصْحَابِهِ (رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوَيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

4361 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبَانِ قِطْرِيَّانِ غَلِيظَانِ، وَكَانَ إِذَا قَعَدَ فَعَرِقَ ثَقُلَا عَلَيْهِ، فَقَدِمَ بَزٌّ مِنَ الشَّامِ لِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ. فَقُلْتُ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَاشْتَرَيْتَ مِنْهُ ثَوْبَيْنِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ مَا تُرِيدُ، إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تَذْهَبَ بِمَالِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبَ، قَدْ عَلِمَ أَنِّي مِنْ أَتْقَاهُمْ وَآدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4361 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبَانِ قِطْرِيَّانِ غَلِيظَانِ، وَكَانَ إِذَا قَعَدَ) : أَيْ كَثِيرًا (فَعَرِقَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ (ثَقُلَا) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ وَزْنُ الثَّوْبَيْنِ (عَلَيْهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ كِنَايَةٌ عَنْ لُحُوقِ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ مِنَ الثَّوْبَيْنِ (فَقَدِمَ بَزٌّ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ فَتَشْدِيدِ زَايٍ أَمْتِعَةُ الْبَزَّازِينَ مِنْ ثَوْبٍ وَنَحْوِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ثِيَابُ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ، لَا ثِيَابُ الصُّوفِ وَالْخَزِّ، وَإِسْنَادُهُ الْقُدُومَ إِلَى الْبَزِّ مَجَازِيٌّ أَيْ قَدِمَ أَصْحَابُ الْبَزِّ (مِنَ الشَّامِ لِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ، فَقُلْتُ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ) : أَيْ لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَى ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ (فَاشْتَرَيْتَ مِنْهُ ثَوْبَيْنِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَيُضَمُّ، وَيُحْكَى كَسْرُهَا أَيْضًا وَهِيَ السُّهُولَةُ وَالْغِنَى، وَالْمَعْنَى بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَكَانَ حَسَنًا حَتَّى لَا تَتَأَذَّى بِهَذَيْنَ الثَّوْبَيْنِ، وَكَانَا مِنَ الصُّوفِ، وَقِيلَ: " لَوْ " لِلتَّمَنِّي (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ) : رَسُولًا (فَقَالَ) : أَيِ الْيَهُودِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي " فَقَالَ " عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ فَأَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْيَهُودِيِّ يَسْتَسْلِفُ بَزًّا إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَطَلَبَ الرَّسُولُ مِنْهُ ; فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: (قَدْ عَلِمْتُ) : أَيْ أَنَا (مَا تُرِيدُ) : أَيْ أَنْتَ أَوْ هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ النُّسَخِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَا " اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَّقَتِ الْعِلْمَ عَنِ الْعَمَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مَا " مَوْصُولَةٌ وَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْعِرْفَانِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ نَقْلًا مِنَ الرَّسُولِ مَا قَالَهُ الْيَهُودِيُّ لَا لَفْظُهُ ; لِأَنَّ لَفْظَهُ هُوَ " عَلِمْتُ مَا يُرِيدُ " عَلَى الْغَيْبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ (إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تَذْهَبَ بِمَالِي) : أَيْ وَأَنْ لَا تُؤَدِّيَ إِلَيَّ ثَمَنَهُ وَهُمَا بِالْخِطَابِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْغَيْبَةِ عَلَى مَا سَبَقَ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَبَ) : أَيِ الْيَهُودِيُّ وَصَدَقَ الْحَقُّ (قَدْ عَلِمَ) : أَيِ الْيَهُودِيُّ مِنَ التَّوْرَاةِ (أَنِّي مِنْ أَتْقَاهُمْ) : وَلَكِنْ إِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ مِنَ الْحَسَدِ، وَالْمُرَادُ أَتْقَى النَّاسِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ مِنْ زُمْرَةِ مَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَهَذَا الْعِلْمُ كَالْعِرْفَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] ، (وَآدَاهُمْ) : بِأَلْفٍ مَمْدُودَةٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةٍ أَيْ أَشَدُّهُمْ أَدَاءٍ (لِلْأَمَانَةِ) : وَأَقْضَاهُمْ لِلدَّيْنِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الدَّيْنُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .

4362 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ مُوَرَّدًا، فَقَالَ: " مَا هَذَا " فَعَرَفْتُ مَا كَرِهَ، فَانْطَلَقْتُ، فَأَحْرَقْتُهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا صَنَعْتَ بِثَوْبِكَ؟ قُلْتُ: أَحْرَقْتُهُ. قَالَ: " أَفَلَا كَسَوْتَهُ بَعْضَ أَهْلِكَ؟ ; فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِلنِّسَاءِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4362 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ مَوْرَّدًا) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ صَبْغًا مُوَرَّدًا أَقَامَ الْوَصْفَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ الْمَوْصُوفِ، وَالْمُوَرَّدُ مَا صُبِغَ عَلَى لَوْنِ الْوَرْدِ اهـ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ (فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هَذَا؟ فَعَرَفْتُ مَا كَرِهَ) : أَيْ مِنَ الثَّوْبِ الْمُنْكَرِ لَوْنُهُ (فَانْطَلَقْتُ، فَأَحْرَقْتُهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا صَنَعْتَ بِثَوْبِكَ؟ قُلْتُ: أَحْرَقْتُهُ. قَالَ) : وَفِي نُسَخَةٍ " فَقَالَ " (أَفَلَا كَسَوْتَهُ بَعْضَ أَهْلِكَ؟) : أَيْ مِنِ امْرَأَةٍ أَوْ جَارِيَةٍ (فَإِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنَ أَوِ الْأَحْمَرَ (لَا بَأْسَ بِهِ لِلنِّسَاءِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَسَبَقَ نَحْوُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ الْحُمْرَةِ عَلَى الرِّجَالِ.

4363 - وَعَنْ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى يَخْطُبُ عَلَى بَغْلَةٍ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ، وَعَلِيٌّ أَمَامَهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4363 - (وَعَنْ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ) : أَيِ الْمُزَنِيُّ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَسَمِعَ رَافِعًا الْمُزَنِيَّ وَرَوَى عَنْهُ يَعْلَى غَيْرُهُ (عَنْ أَبِيهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ أَسْلَمَ قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنًا) : بِالْأَلْفِ مُنْصَرِفٌ وَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَيُمْنَعُ عَنِ الصَّرْفِ (يَخْطُبُ عَلَى بَغْلَةٍ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ) ، وَتَأْوِيلُهُ كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ أَحْمَرُ، بَلْ كَانَ فِيهِ خُطُوطٌ حُمْرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ الْبُرْدُ بِالضَّمِّ ثَوْبٌ مُخَطَّطٌ (وَعَلِيٌّ) : أَيِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (أَمَامَهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ أَيْ قُدَّامَهُ (يُعَبِّرُ عَنْهُ) : أَيْ يُبَلِّغُ عَنْهُ الْكَلَامَ إِلَى النَّاسِ لِاجْتِمَاعِهِمْ وَازْدِحَامِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ لَمْ يَكُنْ لِيَبْلُغَ أَهْلَ الْمَوْسِمِ، وَيَسْمَعُ سَائِرُهُمُ الصَّوْتَ الْوَاحِدَ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْكَثْرَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4364 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «صُنِعَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُرْدَةٌ سَوْدَاءُ، فَلَبِسَهَا، فَلَمَّا عَرِقَ فِيهَا وَجَدَ رِيحَ الصُّوفِ، فَقَذَفَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4364 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صُنِعَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُرْدَةٌ) : نَائِبُ الْفَاعِلِ (سَوْدَاءُ) : صِفَتُهَا (فَلَبِسَهَا، فَلَمَّا عَرِقَ فِيهَا وَجَدَ رِيحَ الصُّوفِ، فَقَذَفَهَا) : أَيْ أَخْرَجَهَا وَطَرَحَهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4365 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْتَبٍ بِشَمْلَةٍ قَدْ وَقَعَ هُدْبُهَا عَلَى قَدَمَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4365 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْتَبٍ بِشَمْلَةٍ) : أَيْ شَالٍ أَوْ كِسَاءٍ (وَقَدْ وَقَعَ هُدْبُهَا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ خُيُوطُ أَطْرَافِهَا (عَلَى قَدَمَيْهِ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عَلَى هَيْئَةِ الِاحْتِبَاءِ وَأَلْقَى شَمْلَتَهُ خَلْفَ رُكْبَتَيْهِ، وَأَخَذَ لِكُلِّ يَدٍ طَرْفًا مِنْ تِلْكَ الشَّمْلَةِ لِيَكُونَ كَالْمُتَّكِئِ عَلَى شَيْءٍ، وَهَذَا عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا لَمْ يَتَّكِئُوا عَلَى شَيْءٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4366 - وَعَنْ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَبَاطِيَّ، فَأَعْطَانِي مِنْهَا قُبْطِيَّةً، فَقَالَ: " اصْدَعْهَا صَدْعَيْنِ، فَاقْطَعْ أَحَدَهُمَا قَمِيصًا، وَأَعْطِ الْآخَرَ امْرَأَتَكَ تَخْتَمِرُ بِهِ ". فَلَمَّا أَدْبَرَ، قَالَ: " وَأْمُرِ امْرَأَتَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَحْتَهُ ثَوْبًا لَا يَصِفُهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4366 - (وَعَنْ دِحْيَةَ) : بِكَسْرِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَيُفْتَحُ وَبِسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَتَحْتِيَّةٍ (بْنِ خَلِيفَةَ) : أَيِ الْكَلْبِيِّ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ التَّابِعِينَ (قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ جِيءَ (بِقَبَاطِيَّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَمُوَحَّدَةٍ وَكَسْرِ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ جَمْعُ قُبْطِيَّةٍ، وَهِيَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِ مِصْرَ رَقِيقَةٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقِبْطِ، وَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ، وَضَمُّ الْقَافِ مِنْ تَغْيِيرِ النَّسَبِ، وَهَذَا فِي الثِّيَابِ، فَأَمَّا فِي النَّاسِ فَقِبْطِيٌّ بِالْكَسْرِ (فَأَعْطَانِي مِنْهَا قُبْطَيَّةً) : بِضَمِّ الْقَافِ وَيُكْسَرُ (فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ " قَالَ " (اصْدَعْهَا) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ شُقَّهَا (صَدْعَيْنِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَصْدَرٌ وَبِكَسْرِهِ اسْمٌ، وَالْمَعْنَى اقْطَعْهَا نِصْفَيْنِ (فَاقْطَعْ) : أَيْ فَفَصِّلْ (أَحَدَهُمَا قَمِيصًا) : أَيْ لَكَ (وَأَعْطِ الْآخَرَ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ ثَانِيهَا (امْرَأَتَكَ تَخْتَمِرُ) : أَيْ تَتَقَنَّعُ (بِهِ) : وَهُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ جَزْمُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ (فَلَمَّا أَدْبَرَ) : أَيْ دِحْيَةُ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ أَوْ نَقْلٌ بِالْمَعْنَى (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ لَهُ (وَأْمُرْ) : أَمَرَ مِنَ الْأَمْرِ (امْرَأَتَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَحْتَهُ ثَوْبًا لَا يَصِفُهَا) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْمُوجِبِ، وَقِيلَ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، أَيْ لَا يَنْعَتُهَا وَلَا يُبَيِّنُ لَوْنَ بَشْرَتِهَا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْقُبْطِيِّ رَقِيقًا، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهَا بِهَذَا اهْتِمَامٌ بِحَالِهَا، وَلِأَنَّهَا قَدْ تُسَامَحَ فِي لُبْسِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَفِإِنَّهُ غَالِبًا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ وَالْإِزَارِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4367 - «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَخْتَمِرُ فَقَالَ: " لَيَّةً لَا لَيَّتَيْنِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4367 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَخْتَمِرُ) : أَيْ تَلْبَسُ خِمَارَهَا (فَقَالَ: لَيَّةً) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَالتَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ لَوَى لَيَّةً وَاحِدَةً (لَا لَيَّتَيْنِ) : أَيْ لَفَّةً لَا لَفَّتَيْنِ حَذَرًا مِنَ الْإِسْرَافِ أَوِ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ، فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ يَلْبَسْنَ مِثْلَ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَبِالْعَكْسِ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ» " عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الْقَاضِي: أَمَرَهَا بِأَنْ تَجْعَلَ الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَتَحْتَ حَنَكِهَا عَطْفَةً وَاحِدَةً لَا عَطْفَتَيْنِ، حَذَرًا مِنَ الْإِسْرَافِ أَوِ التَّشَبُّهِ بِالْمُتَعَمِّمِينَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4368 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي إِزَارِي اسْتِرْخَاءٌ. فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ! ارْفَعْ إِزَارَكَ " فَرَفَعْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: " زِدْ " فَزِدْتُ. فَمَا زِلْتُ أَتَحَرَّاهَا بَعْدُ. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: " إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4368 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي إِزَارِي اسْتِرْخَاءٌ) : أَيِ اسْتِنْزَالٌ (فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! ارْفَعْ إِزَارَكَ " فَرَفَعْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: " زِدْ) : أَيْ فِي الرَّفْعِ (فَزِدْتُ) : أَيْ فَسَكَتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَمَا زِلْتُ أَتَحَرَّاهَا) : أَيْ أَتَحَرَّى الْفِعْلَةَ وَهِيَ رَفْعُ الْإِزَارِ شَيْئًا فَشَيْئًا. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الرَّفْعَةِ الْأَخِيرَةِ، وَالْمَعْنَى دَائِمًا أَجْتَهِدُ وَأَبْذُلُ الْجُهْدَ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَفْعُ إِزَارِي عَلَى وَفْقِ تَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَعْدُ) : مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ أَيْ بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْفَعْ " ثُمَّ " زِدْ " (فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِلَى أَيْنَ؟) : أَيْ رَفَعْتَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ (قَالَ: إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الشَّمَائِلِ، «عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي بِالْمَدِينَةِ إِذْ إِنْسَانٌ خَلْفِي يَقُولُ: ارْفَعْ إِزَارَكَ ; فَإِنَّهُ أَتْقَى. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنْقَى بِالنُّونِ وَأَبْقَى بِالْمُوَحَّدَةِ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا هِيَ بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ، قَالَ: " أَمَّا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ " فَنَظَرْتُ، فَإِذَا إِزَارُهُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ» . وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَأْتَزِرُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَقَالَ: هَكَذَا كَانَتْ إِزْرَةَ صَاحِبِي، يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَضَلَةِ سَاقِي أَوْ سَاقِهِ فَقَالَ: " هَذَا مَوْضِعُ الْإِزَارِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَأَسْفَلُ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَلَا حَقَّ لِلْإِزَارِ فِي الْكَعْبَيْنِ» " هَذَا وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فِي النَّارِ» .

4369 - وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِزَارِي يَسْتَرْخِي، إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4369 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ نَظَرَ رَحْمَةٍ أَوْ بِعَيْنِ عِنَايَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ أَيْضًا. (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِزَارِي يَسْتَرْخِي) : أَيْ قَدْ يِسْتَنْزِلُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِي، وَرُبَّمَا يَصِلُ إِلَى كَعْبَيَّ وَقَدَمَيَّ (إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَهُ) : مِنَ التَّعَاهُدِ وَهُوَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ يَعْنِي: وَرُبَّمَا يَقَعُ مِنْ عَدَمِ التَّعَاهُدِ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ) . وَالْمَعْنَى أَنَّ اسْتِرْخَاءَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا يَضُرُّ، لَا سِيَّمَا بِمَنْ لَا يَكُونُ مِنْ شِيمَتِهِ الْخُيَلَاءُ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْمُتَابَعَةُ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّهُ سَبَبُ الْحُرْمَةِ فِي جَرِّ الْإِزَارِ هُوَ الْخُيَلَاءُ كَمَا هُوَ مُقَيَّدٌ فِي الشَّرْطِيَّةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُصَدَّرِ بِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4370 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَأْتَزِرُ فَيَضَعُ حَاشِيَةَ إِزَارِهِ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ، وَيَرْفَعُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، قُلْتُ: لِمَ تَأْتَزِرُ هَذِهِ الْإِزْرَةَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتَرِزُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4370 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ) : أَيْ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَأْتَزِرُ) : أَيْ يَلْبَسُ الْإِزَارَ (فَيَضَعُ حَاشِيَةَ إِزَارِهِ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ وَيَرْفَعُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، قُلْتُ: لِمَ تَأْتَزِرُ هَذِهِ الْإِزْرَةَ؟) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّزَارِ (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتَزِرُهَا) : أَيْ تِلْكَ الْإِزَارَةَ وَلَعَلَّهَا وَقَعَتْ مَرَّةً فَصَادَفَتْ رُؤْيَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ ; وَلِذَا خُصَّ بِهَذِهِ الْإِزْرَةِ مِنْ بَيْنِ الْأَصْحَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4371 - وَعَنْ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ بِالْعَمَائِمِ ; فَإِنَّهَا سِيمَاءُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَرْخُوهَا خَلْفَ ظُهُورِكُمْ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4371 - (وَعَنْ عُبَادَةَ) : أَيِ ابْنِ الصَّامِتِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِالْعَمَائِمِ ; فَإِنَّهَا سِيمَاءُ الْمَلَائِكَةِ) : سَيْمَا مَقْصُورٌ وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ عَلَامَتُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ تَعَالَى: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] . قَالَ الْكَلْبِيُّ: مُعْتَمِّينَ بِعَمَائِمَ صُفْرٍ مُرْخَاةٍ عَلَى أَكْتَافِهِمْ (وَأَرْخُوهَا) : بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَيْ أَرْسَلُوا أَطْرَافَهَا (خَلْفَ ظَهْرِكُمْ) : الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَوْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " خَلْفَ ظُهُورِكُمْ " عَلَى مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ سَبَقَ بَقِيَّةُ الْأَلْفَاظِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعَانِيهَا.

4372 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَالَ: " يَا أَسْمَاءُ! إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَنْ يَصْلُحَ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4372 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ) : أَيِ الصِّدِّيقِ (دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رَقِيقٍ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْحِجَابِ (فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ) : أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُعْرِضًا (يَا أَسْمَاءُ! إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ) : أَيْ زَمَانَ الْبُلُوغِ وَخَصَّ الْمَحِيضَ لِلْغَالِبِ (لَنْ يَصْلُحَ أَنْ يُرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُبْصَرَ (مِنْهَا) : أَيْ مِنْ بَدَنِهَا وَأَعْضَائِهَا (إِلَّا هَذَا وَهَذَا. وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجَاءَ بِلَنْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَبِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِمَزِيدِ التَّقْرِيرِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4373 - وَعَنْ أَبِي مَطَرٍ، قَالَ: «إِنْ عَلِيًّا اشْتَرَى ثَوْبًا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، فَلَمَّا لَبِسَهُ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي مِنَ الرِّيَاشِ مَا أَتَجَمَّلُ بِهِ فِي النَّاسِ وَأُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي " قَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4373 - (وَعَنْ أَبِي مَطَرٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ. (قَالَ: إِنًّ عَلِيًّا اشْتَرَى ثَوْبًا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، فَلَمَّا لَبِسَهُ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي مِنَ الرِّيَاشِ) : جَمْعُ الرِّيشِ وَهُوَ لِبَاسُ الزِّينَةِ اسْتُعِيرَ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ ; لِأَنَّهُ لِبَاسُهُ وَزِينَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26] (مَا أَتَجَمَّلُ بِهِ فِي النَّاسِ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ (وَأُوَارِي) : أَيْ وَمَا أَسْتُرُ بِهِ (عَوْرَاتِي) : وَلَعَلَّ صِيغَةَ الْمُغَالَبَةِ لِلْمُبَالَغَةِ (ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

4374 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَبِسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَوْبًا جَدِيدًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي، وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي أَخْلَقَ فَتَصَدَّقَ بِهِ، كَانَ فِي كَنَفِ اللَّهِ، وَفِي حِفْظِ اللَّهِ وَفِي سِتْرِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4374 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبُو أُمَامَةَ سَعْدُ بْنُ حَنِيفٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامَيْنِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ وَكَنَّاهُ بِكُنْيَتِهِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا لِصِغَرِهِ ; وَلِذَلِكَ قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الَّذِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَأَثْبَتَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَحَدُ الْحَمَلَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ سَمِعَ أَبَاهُ وَأَبَا سَعِيدٍ وَغَيْرَهُمَا، وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً. (قَالَ: «لَبِسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ عَمَدَ» ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ قَصَدَ (إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي أَخْلَقَ) : أَيْ عَدَّهُ خَلِقًا (فَتَصَدَّقَ بِهِ، كَانَ) : جَزَاءُ الشَّرْطِ (فِي كَنَفِ اللَّهِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ أَيْ فِي حِرْزِهِ وَسِتْرِهِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْجَانِبُ وَالظِّلُّ وَالنَّاحِيَةُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ فَقَوْلُهُ: (وَفِي حِفْظِ اللَّهِ وَفِي سِتْرِ اللَّهِ) : تَأْكِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ، وَفِي الصِّحَاحِ السِّتْرُ بِالْكَسْرِ وَاحِدُ السُّتُورِ وَبِالْفَتْحِ مَصْدَرُ سَتَرَ. (حَيًّا وَمَيِّتًا) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيُخَفَّفُ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ.

4375 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: دَخَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى عَائِشَةَ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ رَقِيقٌ، فَشَقَّتْهُ عَائِشَةُ وَكَسَتْهَا خِمَارًا كَثِيفًا. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4375 - (وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَاسْمُ أَبِي عَلْقَمَةَ بِلَالٌ مَوْلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَنْ أَبِيهِ، وَعَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ. (عَنْ أُمِّهِ) : أَيْ أُمِّ عَلْقَمَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَسْمَاءِ (قَالَتْ: دَخَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : أَيِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، زَوْجَةُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (عَلَى عَائِشَةَ وَعَلَيْهَا) : أَيْ عَلَى حَفْصَةَ (خِمَارٌ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا (رَقِيقٌ) : أَيْ رَفِيعٌ دَقِيقٌ (فَشَقَّتْهُ عَائِشَةُ) : أَيْ قَطَعَتْهُ نِصْفَيْنِ غَضَبًا عَلَيْهَا وَجَعَلَتْهُمَا مَنْدِيلَيْنِ، فَلَا يُرَدُّ أَنَّ فِي شَقِّهَا تَضْيِيعًا (وَكَسَتْهَا) : أَيْ أَلْبَسَتْهَا بَدَلَ الْخِمَارِ الرَّقِيقِ (خِمَارًا كَثِيفًا) : أَيْ غَلِيظًا خَشِنًا تَأْدِيبًا لَهَا وَتَرْبِيَةً بِآدَابِهَا الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمُرَبِّي الْأَكْمَلِ فِي تَرْكِ الدُّنْيَا وَحُسْنِ مَلَابِسِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْخِمَارَ كَانَ مِمَّا يَنْكَشِفُ مَا تَحْتَهَا مِنَ الْبَدَنِ وَالشَّعَرِ فَغَيَّرَتْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

4376 - وَعَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ وَعَلَيْهَا دِرْعٌ قِطْرِيٌّ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَقَالَتْ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي، انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْبَيْتِ، وَكَانَ لِي مِنْهَا دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4376 - (وَعَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيِ الْمَخْزُومِيِّ وَالِدِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ مِنَ التَّابِعِينَ وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَاهُ أَصْلًا (عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَائِشَةُ وَعَلَيْهَا دِرْعٌ) : أَيْ قَمِيصٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: دِرْعُ الْمَرْأَةِ قَمِيصُهَا، وَفِي الْمُغْرِبِ: دِرْعُ الْحَدِيدِ مُؤَنَّثٌ، وَدِرْعُ الْمَرْأَةِ مَا يُلْبَسُ فَوْقَ الْقَمِيصِ يُذَكَّرُ (قِطْرِيٌّ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مِصْرِيٌّ (ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ) : بِرَفْعِ الثَّمَنِ أَيْ ذُو ثَمَنِهَا. وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الدِّرْعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُ الْكَلَامِ ثَمَنُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَقَلُبِ وَجُعِلَ الْمُثَمَّنُ ثَمَنًا (فَقَالَتْ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي وَانْظُرْ إِلَيْهَا) : أَيْ نَظَرَ تَعَجُّبٍ (فَإِنَّهَا) : أَيْ مَعَ حَقَارَتِهَا

(تُزْهَى) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُفْتَحُ وَالْهَاءُ مَفْتُوحَةٌ لَا غَيْرَ أَيْ تَتَرَفَّعُ وَلَا تَرْضَى (أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْبَيْتِ) : أَيْ فَضْلًا أَنْ تَخْرُجَ بِهِ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: تُزْهَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ تَأْنَفُ وَتَتَكَبَّرُ وَهُوَ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ الْبَنَّاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ يَعْنِي كَمَا يَقُولُونَ عُنِيَ بِالْأَمْرِ وَنَتَجَتِ النَّاقَةُ، قَالَ: وَلِأَبِي ذَرٍّ تَزْهَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَا يُقَالُ بِالْفَتْحِ اهـ. قُلْتُ: إِثْبَاتُ الْمُحَدِّثِ أَوْلَى مِنْ نَفْيِ اللُّغَوِيِّ (وَقَدْ كَانَ لِي مِنْهَا) : أَيْ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الثِّيَابِ الَّتِي لَا يُؤْبَهُ بِهَا (دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي) : أَيْ فِي زَمَانِهِ (فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ التَّقْيِينِ وَهُوَ التَّزْيِينُ وَالْمُقَيَّنَةُ الْمَاشِطَةُ أَيْ تُزَيَّنُ لِزِفَافِهَا. (بِالْمَدِينَةِ إِلَّا أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ) . وَالْمَقْصُودُ تَغَيُّرُ أَهْلِ الزَّمَانِ مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ، فَصَحَّ: كُلُّ عَامٍ تُرْذَلُونَ، بَلْ صَحَّ فِي الْخَبَرِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ وَلَا يَوْمٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» " وَالسَّبَبُ هُوَ الْبُعْدُ عَنْ أَنْوَارِهِ وَالِاحْتِجَابُ عَنْ أَسْرَارِهِ الْمُقْتَضِي لِظُلُمَاتِ الظُّلْمِ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ فِي أَنْفُسِ أَنْفُسِنَا، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4377 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا قَبَاءَ دِيبَاجٍ أُهْدِيَ لَهُ، ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقِيلَ: قَدْ أَوْشَكَ مَا انْتَزَعْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: " نَهَانِي عَنْهُ جِبْرَائِيلُ " فَجَاءَ عُمَرُ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَرِهْتَ أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ، فَمَا لِي؟ فَقَالَ: " إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهُ تَلْبَسُهُ، إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ تَبِيعُهُ ". فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4377 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا قَبَاءَ دِيبَاجٍ) : بِكَسْرِ الدَّالِّ وَيُفْتَحُ (أُهْدِيَ لَهُ) : أَيْ أُرْسِلَ لَهُ هَدِيَّةً فَكَأَنَّهُ لَبِسَهُ مُرَاعَاةً لِخَاطِرِ الْمُهْدِيِّ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَكَانَ لُبْسُهُ إِذْ ذَاكَ مُبَاحًا (ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ) : أَيْ أَسْرَعِ إِلَى نَزْعِهِ (فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقِيلَ: قَدْ أَوْشَكَ مَا انْتَزَعْتَهُ) : أَيْ قَدْ أُسْرِعَ انْتِزَاعُكَ إِيَّاهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: " نَهَانِي عَنْهُ) : أَيْ عَنْ لُبْسِهِ (جِبْرِيلُ فَجَاءَ عُمَرُ) : عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ فَسَمِعَ عُمَرُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَجَاءَ (يَبْكِي) : أَيْ بَاكِيًا (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَرِهْتَ أَمْرًا) : أَيْ لُبْسَ هَذَا الثَّوْبِ (وَأَعْطَيْتَنِيهِ) : أَيْ لِأَلْبَسُهُ (فَمَا لِي؟) : أَيْ فَكَيْفَ حَالِي وَمَآلِي (فَقَالَ: " إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهُ تَلْبَسُهُ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ تَبِيعُهُ) : بِالْوَجْهَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَلْبَسُهُ وَتَبِيعُهُ مَرْفُوعًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِبَيَانِ الْغَرَضِ مِنَ الْإِعْطَاءِ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ النَّصْبِ أَنَّ أَصْلَهُ لِأَنْ تَلْبَسَهُ وَلِأَنْ تَبِيعَهُ فَحَذَفَ اللَّامَ، ثُمَّ حَذَفَ (أَنْ) وَأَبْقَى الْإِعْرَابَ عَلَى أَصْلِهِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: تَسْمَعُ بِالْمُعِيدِيِّ (فَبَاعَهُ) : أَيْ عُمَرُ الثَّوْبَ (بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4378 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَوْبِ الْمُصْمَتِ مِنَ الْحَرِيرِ، فَأَمَّا الْعَلَمُ وَسَدَى الثَّوْبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4378 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَكُونُ سَدَاهُ وَلُحْمَتُهُ مِنَ الْحَرِيرِ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فَقَوْلُهُ: (مِنَ الْحَرِيرِ) : لِلتَّأْكِيدِ أَوْ بِنَاءً عَلَى التَّجْرِيدِ، وَفِي الْقَامُوسِ " ثَوْبٌ مُصْمَتٌ " لَا يُخَالِطُ لَوْنَهُ لَوْنٌ (فَأَمَّا الْعَلَمُ) : أَيْ مِنَ الْحَرِيرِ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ (وَسَدَى الثَّوْبِ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَالدَّالِّ الْمُهْمَلَتَيْنِ ضِدُّ اللُّحْمَةِ وَهِيَ الَّتِي تُنْسَجُ مِنَ الْعَرْضِ وَذَاكَ مِنَ الطُّولِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ السَّدَى مِنَ الْحَرِيرِ وَاللُّحْمَةُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْقُطْنِ وَالصُّوفِ (فَلَا بَأْسَ بِهِ) ; لِأَنَّ تَمَامَ الثَّوْبِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِلُحْمَتِهِ، وَعَكْسُهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْجَرَبِ، وَعَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا، وَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْحُرْمَةِ وَالْحَلِّ بِالْأَكْثَرِيَّةِ وَالْأَغْلَبِيَّةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4379 - وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَعَلَيْهِ مِطْرَفٌ مِنْ خَزٍّ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4379 - (وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عِمْرَانُ بْنُ تَمِيمٍ الْعُطَارِدِيُّ، أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهُمَا وَعَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ عَالِمًا عَامِلًا مُعَمِّرًا، وَكَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ (قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَعَلَيْهِ مِطْرَفٌ) : بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ فِرَاءٌ مَفْتُوحَةٌ فَفَاءٍ ثَوْبٌ فِي طَرَفَيْهِ عَلَمَانِ وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ الضَّمُّ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ أَطْرَفَ أَيْ جَعَلَ طَرَفَيْهِ لِعَلَمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا الضَّمَّةَ فَكَسَرُوهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتَحَ وَأَنَّ الْكَسْرَ أَفْصَحُ، لَكِنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ اقْتَصَرَ عَلَى الضَّمِّ حَيْثُ قَالَ: وَالْمُطْرَفُ كَمُكْرَمٍ رِدَاءٌ مِنْ خَزٍّ مُرَبَّعٌ ذُو أَعْلَامٍ اهـ. فَقَوْلُهُ: (مِنْ خَزٍّ) إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ بِنَاءً عَلَى التَّجْرِيدِ، وَالْخَزُّ ثَوْبٌ مِنْ حَرِيرٍ خَالِصٍ. وَقِيلَ: هُوَ الثَّوْبُ الْمَنْسُوجُ مَنْ إِبْرَيْسَمٍ وَصُوفٍ وَهُوَ مُبَاحٌ، فَالْمُرَادُ هُنَا الثَّانِي. (وَقَالَ) : أَيْ عِمْرَانُ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً) : أَيْ وَلَوْ وَاحِدَةً (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُبْصَرَ وَيُظْهَرَ (أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ إِشْعَارًا بِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَثَرِ رُؤْيَةِ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ رَبُّهُ وَمَالِكُهُ، وَفِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: ذُكِرَ أَنَّ فَرْقَدَ السِّنْجِيَّ دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ وَعَلَى الْحَسَنِ حُلَّةٌ، فَجَعَلَ يَلْمَسُهَا فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَى ثِيَابِي؟ ثِيَابِي ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَثِيَابُكَ ثِيَابُ أَهْلِ النَّارِ، بَلَغَنِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ أَصْحَابُ الْأَكْسِيَةِ، ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلُوا الزُّهْدَ فِي ثِيَابِهِمْ وَالْكِبْرَ فِي صُدُورِهِمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَأَحَدُكُمْ بِكِسَائِهِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ اهـ. وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ مُخْتَارُ فَرِيقِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ، وَالسَّادَةِ الشَّاذِلِيَّةِ، وَالسَّادَةِ الْبَكْرِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِلِبَاسٍ خَاصٍّ مِنْ صُوفٍ أَوْ غَيْرِهِ كَسَائِرِ الصُّوفِيَّةِ، نَفَعَنَا اللَّهُ بِبَرَكَاتِهِمْ وَحُسْنِ مَقَاصِدِهِمْ فِي نِيَّتِهِمْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

4380 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4380 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ) : أَيْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ فِيهَا (مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ) : مَا لِلدَّوَامِ أَيْ مُدَّةَ تَجَاوُزِ الْخَصْلَتَيْنِ عَنْكَ (سَرَفٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ إِسْرَافٌ (وَمَخِيلَةٌ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ كِبْرٌ وَخُيَلَاءُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ» " وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَلْبَسَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَنَفْيُ السَّرَفِ مُطْلَقًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَخِيلَةِ، فَنَفْيُ الْمَخِيلَةِ بَعْدَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَاسْتِيعَابِ مَا يُعْرَفُ مِنْهُمَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَظِيرُ الْحَدِيثِ لِكَوْنِ الِانْتِهَارِ يَشْمَلُ الْأُفَّ. نَعَمْ مَفْهُومُ النَّهْيِ النَّهْيُ عَنِ الِانْتِهَارِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، بَلِ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ الْإِسْرَافَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكِمِّيَّةِ وَالْمَخِيلَةَ بِالْكَيْفِيَّةِ ; وَلِذَا قِيلَ: لَا خَيْرَ فِي سَرَفٍ وَلَا سَرَفَ فِي خَيْرٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ) : يَعْنِي تَعْلِيقًا بِلَا إِسْنَادٍ وَهُوَ مَوْقُوفٌ، لَكِنْ فِي مَعْنَى الْمَرْفُوعِ الَّذِي يَلِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ.

4381 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُوا، وَاشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا، مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ وَلَا مَخِيلَةٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4381 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا، وَاشْرَبُوا) : أَيْ مِقْدَارَ حَاجَتِكُمْ (وَتَصَدَّقُوا) : أَيْ بِمَا زَادَ عَلَيْكُمْ (وَالْبِسُوا) : أَيْ كَذَلِكَ (مَا لَمْ يُخَالِطْهُ) : أَيْ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ (إِسْرَافٌ وَلَا مَخِيلَةٌ) : وَهُوَ قَيْدٌ لِلْأَخِيرِ بِقَرِينَةِ نَفْيِ الْمَخِيلَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْأَوَامِرُ كُلُّهَا مَعَ تَكَلُّفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

4382 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَحْسَنَ مَا زُرْتُمُ اللَّهَ فِي قُبُورِكُمْ وَمَسَاجِدِكُمُ الْبَيَاضُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4382 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا زُرْتُمُ اللَّهَ) : مَا مَوْصُوفَةٌ، أَوْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَحْسَنَ شَيْءٍ زُرْتُمُ اللَّهَ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا زُرْتُمُ اللَّهَ بِهِ. (فِي قُبُورِكُمْ) : أَيْ لِلْكَفَنِ (وَمَسَاجِدِكُمْ) : أَيْ لِلْعِبَادَةِ (الْبَيَاضُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا فِي الْمَسَاجِدِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ اللَّهِ وَأَمَّا فِي الْقُبُورِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَكْفَانُ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَلْقَى اللَّهَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ يَعْنِي حَيًّا وَمَيِّتًا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، وَسَاقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَدْرِ الْبَابِ مُسْتَوْفًى.

[باب الخاتم]

[بَابُ الْخَاتَمِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4383 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: " «اتَّخَذَ النَّبِيُّ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ " وَفِي رِوَايَةٍ: وَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَلْقَاهُ، ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ نُقِشَ فِيهِ: " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " وَقَالَ: " لَا يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِي هَذَا " وَكَانَ إِذَا لَبِسَهُ جَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (1) بَابُ الْخَاتَمِ بِفَتْحِ التَّاءِ بِمَعْنَى الطَّابِعِ وَهُوَ مَا يُخْتَمُ بِهِ وَبِكَسْرِهَا اسْمُ فَاعِلٍ، وَإِسْنَادُ الْخَتْمِ إِلَيْهِ مَجَازٌ، وَسَيَأْتِي سَبَبُ اتِّخَاذِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رُوِيَ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْعَجَمِ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعَجَمَ لَا يَقْبَلُونَ إِلَّا كِتَابًا عَلَيْهِ خَاتَمًا، فَاصْطَنَعَ خَاتَمًا كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي كَفِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4383 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمًا) : أَيْ أَمَرَ بِصِيَاغَتِهِ أَوْ وُجِدَ مَصُوغًا فَاتَّخَذَهُ وَلَبِسَهُ (مِنْ ذَهَبٍ) : أَيِ ابْتِدَاءً قَبْلَ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ، قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ فِي مُوَطِّئِهِ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَخَتَّمَ بِذَهَبٍ وَلَا حَدِيدٍ وَلَا صُفْرٍ وَلَا يَتَخَتَّمُ إِلَّا بِالْفِضَّةِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا بَأْسَ بِتَخَتُّمِ الذَّهَبِ لَهُنَّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى إِبَاحَةِ خَاتَمِ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، وَعَلَى تَحْرِيمِهِ عَلَى الرِّجَالِ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ (وَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَلْقَاهُ) : أَيْ طَرَحَهُ بَعْدَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِتَحْرِيمِهِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ تَبَدَّلَ الْأَمْرُ فِيهِمَا مِنْ بَعْدُ، أَحَدُهُمَا لُبْسُ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَصَارَ الْحُكْمُ فِيهِ أَيِ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَثَانِيهِمَا لُبْسُ الْخَاتَمِ فِي الْيَمِينِ، وَكَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُبْسَهُ فِي الْيَسَارِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ: وَرَدَتْ أَحَادِيثُ بِلُبْسِ الْخَاتَمِ فِي الْيَمِينِ، وَأَحَادِيثُ بِلُبْسِهِ فِي الْيَسَارِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ مَنْسُوخٌ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخَتَّمَ فِي يَمِينِهِ، ثُمَّ حَرَّكَهُ فِي يَسَارِهِ» . (ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتُسْكَنُ (نُقِشَ فِيهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فَنَائِبُ الْفَاعِلِ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) : بِجُمْلَتِهِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ. بِمَعْنَى أَمَرَ بِالنَّقْشِ فِيهِ، فَالْجُمْلَةُ مَفْعُولُهُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ أَوِ الرَّفْعِ عَلَى حِكَايَةِ مَا كَانَ مَنْقُوشًا فِيهِ (وَقَالَ: لَا يَنْقُشَنَّ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ أَيْ لَا يَفْعَلَنَّ خَاتَمَهُ (أَحَدٌ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِي هَذَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَارُّ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ ; لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَيْ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ نَاقِشًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِي، وَمُمَاثِلًا لَهُ، أَوْ نَقْشًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِي هَذَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ هَذَا الْقَوْلَ ; لِيَخْتِمَ بِهِ كُتُبَهُ إِلَى الْمُلُوكِ، فَلَوْ نَقَشَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ لَدَخَلَتِ الْمَفْسَدَةُ وَحَصَلَ الْخَلَلُ اهـ. وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أُمَمًا سَيُتَابِعُونَهُ فِي هَذَا كَمَا هِيَ عَادَتُهُمْ فِي كَمَالِ الْمُتَابَعَةِ، فَأَجَازَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْخَاتَمِ عَلَى مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ ضِمْنِ النَّهْيِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مُجَرَّدِ النَّقْشِ الْخَاصِّ لِمَا يَفُوتُهُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، (وَكَانَ إِذَا لَبِسَهُ) : فِيهِ إِشْعَارٌ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَلْبَسُهُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، فَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ فِي الشَّمَائِلِ عَنْهُ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ، وَلَا يَلْبَسُهُ» . قَالَ مِيرَكُ: وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ الْخَاتَمَ، هُوَ

أَنَّ جُمْلَةَ " وَلَا يَلْبَسُهُ " حَالٌ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ بِهِ فِي حَالِ عَدَمِ اللُّبْسِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ مُطْلَقًا، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ إِظْهَارُ التَّوَاضُعِ وَتَرْكُ الْإِرَاءَةِ وَالْكِبْرِ ; لِأَنَّ الْخَتْمَ فِي حَالِ اللُّبْسِ لَا يَخْلُو عَنْ تَكَبُّرٍ وَخُيَلَاءَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: (وَلَا يَلْبَسُهُ) مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ (يَخْتِمُ بِهِ) ، وَالْمُرَادُ بِهِ لَا يَلْبَسُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ضَرُورَةَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ لِلْخَتْمِ بِهِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَلُبْسُهُ حَالَ الْخَتْمِ بَعِيدٌ لَا يُحْتَاجُ لِنَفْيِهِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ خَاتَمُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا يَكُونُ لِلسَّلَاطِينِ وَالْحُكَّامِ، وَكَانَ يَلْبَسُ مِنْهَا بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وَتَعَقَّبَهُ الْعِصَامُ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُتَّخَذُ لِلْحَاجَةِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَتَّخِذَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَدِّدًا اهـ. وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ التَّعَدُّدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ لُبْسَ الْخَاتَمِ مُطْلَقًا وَهُوَ شَاذٌّ. نَعَمْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ وَاتَّخَذُوا مِثْلَهُ طَرَحَهُ، فَطَرَحُوا خَوَاتِيمَهُمْ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نَدْبِ الْخَاتَمِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى الْخَتْمِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا طَرَحَهُ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَهْمٌ مِنَ الزُّهْرِيِّ رَاوِيهِ، وَأَنَّ مَا لَبِسَهُ يَوْمًا، ثُمَّ أَلْقَاهُ خَاتَمُ ذَهَبٍ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، أَوْ خَاتَمُ حَدِيدٍ، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ «أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَاتَمُ حَدِيدٍ مَلْوِيٌّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ» ، فَلَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي طَرَحَهُ، وَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ وَلَا يَلْبَسُهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُكْرَهُ إِذَا قُصِدَ بِهِ الزِّينَةُ، وَآخَرُونَ يُكْرَهُ لِغَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ لِلنَّهْيِ عَنْهُ بِغَيْرِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، لَكِنْ نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا لَبِسَهُ (جَعَلَ فَصَّهُ) : بِتَثْلِيثِ فَائِهِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَتَشْدِيدُ صَادِهِ مَا يُنْقَشُ فِيهِ اسْمُ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فِي الْقَامُوسِ الْفَصُّ لِلْخَاتَمِ مُثَلَّثَةٌ، وَالْكَسْرُ غَيْرُ لَحْنٍ، وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَامَّةُ تَكْسِرُهَا، وَأَثْبَتُهَا بِضَمِّهِمْ لُغَةً، وَزَادَ بَعْضُهُمُ الضَّمَّ، وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ الْمَلَكِ فِي الْمُثَلَّثِ. (مِمَّا يَلِي) : أَيْ يَقْرُبُ (بَطْنَ كَفِّهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الزَّهْوِ وَالْإِعْجَابِ، وَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ جَازَ جَعْلُ فَصِّفِهِ فِي ظَاهِرِ الْكَفِّ، وَقَدْ عَمِلَ السَّلَفُ بِالْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: لَعَلَّ وَجْهَ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الْمُخَالَفَةِ عَدَمُ بُلُوغِهِمُ الْحَدِيثُ الْمُقْتَضِي لِلْمُتَابَعَةِ، قَالَ الْقَاضِيخَانْ: التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُبَاحُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ. قَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ، وَإِذَا تَخَتَّمَ بِالْفِضَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَصُّ إِلَى بَاطِنِ الْكَفِّ مِنَ الْيُسْرَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَوِ اتَّخَذَ الرَّجُلُ خَوَاتِمَ كَثِيرَةً لِيَلْبَسَ الْوَاحِدَ مِنْهَا بَعْدَ الْوَاحِدِ جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: الْإِبَاحَةُ وَعَدَمُهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4384 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَعَنْ تَخْتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4384 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ) ، تَقَدَّمَا (وَعَنْ تَخْتُّمِ الذَّهَبِ) : أَيْ عَنْ لُبْسِهِ لِلرِّجَالِ لِمَا سَيَأْتِي عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ. وَقَالَ: " إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» " وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ مَخَاتِيمُ ذَهَبٍ، حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ خَاتَمُ الْفِضَّةِ، لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الرِّجَالِ، فَإِنْ لَمْ تَجُدْ إِلَّا خَاتَمَ فِضَّةٍ تُصَفِّرُهُ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ نَحْوِهِ. (وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ) . لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَسْبِيحٍ وَكَذَا حُكْمُ السُّجُودِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4385 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ، فَطَرَحَهُ، فَقَالَ: " يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ؟ فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4385 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ) : أَيْ أُصْبُعِهِ (فَنَزَعَهُ) : أَيْ فَأَخْرَجَهُ (فَطَرَحَهُ) : وَهَذَا أَبْلَغُ فِي بَابِ الْإِنْكَارِ ; وَلِذَا قَدَّمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: " «إِذَا رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» " الْحَدِيثَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ إِزَالَةُ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا (فَقَالَ) : أَيْ نَاصِحًا (يَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيُفْتَحُ وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ مُقَدَّرَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْإِنْكَارَ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ، وَعَمَّمَ الْخِطَابَ بَعْدَ نَزْعِ الْخَاتَمِ مِنْ يَدِهِ وَطَرْحِهِ، فَدَلَّ عَلَى غَضَبٍ عَظِيمٍ وَتَهْدِيدٍ شَدِيدٍ اهـ: أَيْ أَيَقْصِدُ (أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ؟) : فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَيْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ إِلَى جَمْرَةٍ، كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِالتَّاءِ، وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي " فَيَجْعَلُهَا " وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِغَيْرِ التَّاءِ، وَالضَّمِيرُ يُذَّكَرُ (فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ) : أَيْ بِبَيْعِهِ أَوْ بِإِعْطَائِهِ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ (قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ الْمُبَالَغَةُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَمُ التَّرَخُّصِ فِيهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الضَّعِيفَةِ. فَكَانَ تَرْكُ الرَّجُلِ أَخْذَ خَاتَمِهِ إِبَاحَةً لِمَنْ أَرَادَ أَخْذَهُ مِنَ الْفُقَرَاءِ، فَمَنْ أَخْذَهُ صَارَ مُتَصَرِّفًا فِيهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4386 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا بِخَاتَمٍ، فَصَاغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمًا حَلْقَةَ فِضَّةٍ نُقِشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: كَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: (مُحَمَّدٌ) سَطْرٌ، وَ (رَسُولُ) سَطْرٌ، وَ (اللَّهِ) سَطْرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4386 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ) : أَيْ حِينِ رَجَعَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ (أَنْ يَكْتُبَ) : أَيْ يَأْمُرَ كُتَّابَهُ بِكِتَابَةِ الْمَكَاتِيبِ فِيهَا الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُرْسِلُهَا (إِلَى كِسْرَى) : بِكَسْرِ الْكَافِ وَيُفْتَحُ فَفِي الْمُغْرِبِ: بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ، لَكِنَّ فِي الْقَامُوسِ كِسْرَى وَيُفْتَحُ مَلِكُ الْفُرْسِ مُعَرَّبُ " خُسْرُو " أَيْ وَاسِعُ الْمُلْكِ (وَقَيْصَرَ) : مَلِكُ الرُّومِ، وَلَمَّا جَاءَ كِتَابُهُ إِلَى كِسْرَى فَمَزَّقَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْزِيقِ مُلْكِهِ. فَمُزِّقَ، وَإِلَى هِرَقْلَ مَلِكُ الرُّومِ حَفِظَهُ، حُفِظَ مُلْكُهُ (وَالنَّجَاشِيِّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَيُكْسَرُ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَيُشَدَّدُ، وَهُوَ لَقَبُ مَلِكِ الْحَبَشَةِ. وَكَتَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ وَاسْمُهُ " أَصْخَمَةُ " يَطْلُبُ إِسْلَامَهُ فَأَجَابَهُ، وَقَدْ أَسْلَمَ سَنَةَ سِتٍّ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ حِينَ كُشِفَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ الَّذِي بَعْدَهُ وَكَتَبَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ اسْمٌ وَلَا إِسْلَامٌ، وَالْكِتَابَةُ هَذِهِ لِهَذَا وَأَنَّهُ غَيْرُ أَصْخَمَةَ عَلَى مَا صَحَّ فِي مُسْلِمٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَكَتَبَ لِأَصْخَمَةَ كِتَابًا ثَانِيًا لِيُزَوِّجَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَدْ صَوَّرْنَا صُوَرَ بَعْضِ الْمَكَاتِيبِ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْكِتَابِ، (فَقِيلَ) : أَيْ لَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ قِيلَ: قَائِلُهُ مِنَ الْعَجَمِ، وَقِيلَ: مِنْ قُرَيْشٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُرْسَلِ طَاوُسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ قُرَيْشًا هُمُ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ) : أَيْ بِطَرِيقِ الِاعْتِمَادِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِبَارِ (كِتَابًا إِلَّا بِخَاتَمٍ) : أَيْ مَوْضُوعًا عَلَيْهِ بِخَاتَمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَّا عَلَيْهِ خَاتَمٌ أَيْ وُضِعَ عَلَيْهِ خَاتَمٌ، وَقِيلَ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ أَيْ عَلَيْهِ نَقْشُ خَاتَمٍ، قِيلَ: وَسَبَبُ عَدَمِ اعْتِمَادِهِمْ لَهُ عَدَمُ الثِّقَةِ بِمَا فِيهِ، أَوْ أَنَّهُ تَرَكَ مَنْعَ شِعَارِ تَعْظِيمِهِمْ، وَهُوَ الْخَتْمُ أَوِ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخَتْمَ الَّذِي هُوَ شِعَارُهُمْ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ اطِّلَاعِ غَيْرِهِمْ، هُوَ خَتْمُ الْوَرِقِ وَهُوَ لَا يُلَائِمُ اصْطِنَاعَ الْخَاتَمِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (فَصَاغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمًا) : أَيْ أَمَرَ بِصِيَاغَتِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " فَاصْطَنَعَ خَاتَمًا " أَيْ أَمَرَ أَنْ يُصْنَعَ لَهُ (حَلَقَةَ فِضَّةٍ) : بِالْإِضَافَةِ مَعَ فَتْحِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ بَدَلٌ مِنْ خَاتَمًا أَوْ بَيَانٌ لَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: حَلَقَتُهُ فِضَّةٌ. فَالْجُمْلَةُ وَصْفٌ لِلْخَاتَمِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ فَصَّهُ لَمْ يَكُنْ فِضَّةً (نُقِشَ فِيهِ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَقِيلَ بِالْفَاعِلِ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) : سَبَقَ إِعْرَابُهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ الْبَغَوَيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَكَانَ هَذَا الْخَاتَمُ فِي يَدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ بَعْدَهُ فِي يَدِ عُثْمَانَ، حَتَّى وَقَعَ فِي بِئْرِ أَرَيْسَ مِنْ مُعَيْقِيبٍ، وَبِئْرُ أَرَيْسَ هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بِئْرٌ مَعْرُوفَةٌ قَرِيبًا مِنْ مَسْجِدِ قُبَاءَ عِنْدَ الْمَدِينَةِ اهـ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا. (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ (كَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ) : أَيْ خَاتَمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ) : مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرٌ (وَرَسُولُ) : بِالرَّفْعِ بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى الْحِكَايَةِ، فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ مُضَافٌ، وَجُوِّزَ التَّنْوِينُ عَلَى الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (سَطْرٌ) ، (وَاللَّهِ) : بِالرَّفْعِ أَوِ الْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ وَهُوَ أَوْلَى وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: (سَطْرٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رِوَايَةِ عَرْعَرَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ فَصُّ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَشِيًّا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» . وَعَرْعَرَةُ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فَزِيَادَةُ هَذِهِ شَاذَّةٌ وَكَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ سِيرِينَ بِزِيَادَةِ: بِسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ شَاذَّةٍ أَيْضًا، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ. قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ مِنْ مُرْسَلِ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَغَيْرِهِمْ، لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " أَقُولُ: عَلَى تَقْدِيرِ تَوْثِيقِهِ لَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، فَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الِاقْتِصَارِ، وَبَيَانُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ زَمَنَ تَخْصِيصِ اسْمِهِ، أَوْ عَلَى تَعَدُّدِ الْخَوَاتِيمِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الرُّوَاةِ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ، لَكِنَّ كِتَابَتَهُ عَلَى السِّيَاقِ الْعَادِيِّ، فَإِنَّ ضَرُورَةَ الْخَتْمِ بِهِ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْأَحْرُفُ الْمَنْقُوشَةُ مَقْلُوبَةً لِيَخْرُجَ الْخَتْمُ مُسْتَوِيًا، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشُّيُوخِ: إِنَّ كِتَابَتَهُ كَانَتْ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى فَوْقٍ يَعْنِي أَنَّ الْجَلَالَةَ فِي أَعْلَى الْأَسْطُرِ الثَّلَاثَةِ، وَمُحَمَّدٌ فِي أَسْفَلِهَا، فَلَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، بَلْ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يُخَالِفُ ظَاهِرُهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: مُحَمَّدٌ " سَطْرٌ " وَالسَّطْرُ الثَّانِي " رَسُولُ " وَالسَّطْرُ الثَّالِثُ " اللَّهِ " اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْشُ اسْمِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. أَقُولُ: لَكِنْ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ لَا يَخْفَى، وَهُوَ تَعْظِيمُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُمْتَهَنَ، وَلَوْ كَانَ أَحْيَانًا كَمَا قَالُوا بِكَرَاهَةِ كِتَابَةِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى جُدْرَانِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، وَنَقْشِهِ عَلَى حِجَارَةِ الْقُبُورِ وَغَيْرِهَا. نَعَمْ إِذَا كَانَ اسْمُ اللَّهِ مِنْ جُمْلَةِ الْعَلَمِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلضَّرُورَةِ.

4387 - وَعَنْهُ «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4387 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَكَانَ فَصُّهُ) : أَيْ فَصُّ الْخَاتَمِ (مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ، وَتَذْكِيرُهُ لِأَنَّهُ بِتَأْوِيلِ الْوَرِقِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا صُنِعَ مِنْهُ الْخَاتَمُ وَهُوَ الْفِضَّةُ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " مِنْ " فِي " مِنْهُ " لِلتَّبْعِيضِ، وَالضَّمِيرُ لِلْخَاتَمِ أَيْ فَصُّهُ بَعْضٌ مِنَ الْخَاتَمِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ حَجَرًا، فَإِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ مُجَاوِرٌ لَهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَلَفْظُهُ: " مِنْ فِضَّةٍ كُلِّهِ ". قَالَ مِيرَكُ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْخَوَاتِيمِ لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِيَاسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ، فَرُبَّمَا كَانَ فِي يَدِهِ، قَالَ: وَكَانَ مُعَيْقِيبٌ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - يَعْنِي كَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ ابْنُ سَعْدٍ شَاهِدًا مُرْسَلًا عَنْ مَكْحُولٍ، «أَنَّ خَاتَمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ غَيْرَ أَنَّ فَصَّهُ بَارِزٌ» ، أَخْرَجَ مُرْسَلًا أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِثْلَهُ دُونَ مَا فِي آخِرِهِ، وَثَالِثًا مُسْنَدًا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَلَبِسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ حَتَّى قُبِضَ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَخِي خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَلَفْظُهُ قَالَ: «دَخَلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ كَانَ فِي الْحَبَشَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " مَا هَذَا الْخَاتَمُ فِي يَدِكَ يَا عَمْرُو " قَالَ: هَذَا حَلَقَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " فَمَا نَقْشُهَا؟ " قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ فِي يَدِهِ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ فِي يَدِ عُمَرَ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ لَبِسَهُ عُثْمَانُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحْفُرُ بِئْرًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا بِئْرُ أَرَيْسَ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى شَفَتِهَا يَأْمُرُ بِحَفْرِهَا سَقَطَ الْخَاتَمُ فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُكْثِرُ إِخْرَاجَ خَاتَمِهِ مِنْ يَدِهِ وَإِدْخَالِهِ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ» ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْخَاتَمَ هُوَ الَّذِي كَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا حَيْثُ أُتِي بِهِ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ وَرِقٍ أَيْ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَلَا يُلَائِمُهُ قَوْلُ أَنَسٍ: كَانَ يَخْتِمُ بِهِ أَيْ أَحْيَانًا وَلَا يَلْبَسُهُ أَيْ أَبَدًا، قَالَ مِيرَكُ: وَإِنَّمَا أَخَذَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خَالِدٍ أَوْ عَمْرٍو لِئَلَّا يُشْتَبَهَ عِنْدَ الْخَتْمِ بِخَاتَمِهِ الْخَاصِّ، إِذْ نَقْشُهُ مُوَافِقٌ لِنَقْشِهِ، فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْخَتْمِ بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي سَبَبِ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَنْ يَنْقُشَ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ، وَأَمَّا الَّذِي فَصُّهُ مِنْ فِضَّةٍ، فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِيَاغَتِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: أَنَا صَنَعْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمًا لَمْ يُشْرِكْنِي فِيهِ أَحَدٌ، نَقَشْتُ فِيهِ " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " وَكَانَ اتِّخَاذُهُ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ مِنْ خَالِدٍ أَوْ عَمْرٍو، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، أَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُمْ خَاتَمًا، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُهُ، فِيهِ تِمْثَالُ أَسَدٍ» ، قَالَ مَعْمَرٌ: فَغَسَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَشَرِبَهُ، فَفِيهِ مَعَ إِرْسَالِهِ ضَعْفٌ ; لِأَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ، فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، فَلَعَلَّهُ لَبِسَهُ مَرَّةً قَبْلَ النَّهْيِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا وَفِي الشَّمَائِلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَكَانَ فِي يَدِهِ» أَيْ حَقِيقَةً بِأَنْ كَانَ لَابِسَهُ أَوْ فِي تَصَرُّفِهِ بِأَنْ كَانَ عِنْدَهُ لِلْخَتْمِ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْ لِلْخَتْمِ بِهِ، أَوْ لِلتَّبَرُّكِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْ فِي أُصْبُعِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ لَبِسُوهُ أَحْيَانًا لِأَجْلِ التَّبَرُّكِ بِهِ، وَكَانَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ عِنْدَ مُعَيْقِيبٍ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الْخَاتَمِ فِي أَيْدِيهِمْ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: أَنَّ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ فِي يَدِ فُلَانٍ وَهُوَ ذُو الْيَدِ أَيْ عِنْدَهُ فَيَأْبَى ظَاهِرُ قَوْلِهِ: حَتَّى وَقَعَ أَيْ سَقَطَ الْخَاتَمُ مِنْ يَدِ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرَيْسَ، ثُمَّ ظَاهَرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ يَدِ عُثْمَانَ، وَصَرِيحُ مَا وَرَدَ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ مُعَيْقِيبٍ مَوْلَى سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ، وَلَا تَنَافِيَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ اسْتَقْبَلَهُ بِأَخْذِهِ فَسَقَطَ، فَنُسِبَ سُقُوطُهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إِلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ بِمَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرَيْسَ، فَأَخَرَجَ الْخَاتَمَ، فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ نَنْزِحُ الْبِئْرَ، فَلَمْ نَجِدْهُ. وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ أَنَّ عُثْمَانَ طَلَبَ الْخَاتَمَ مِنْ مُعَيْقِيبٍ لِيَخْتِمَ بِهِ شَيْئًا، وَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهِ وَهُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي شَيْءٍ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْوَاقِعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ نِسْبَةِ الْعَبَثِ بِهِ، حَيْثُ

كَانَ سَبَبُ الْعَبَثِ بِهِ هُوَ التَّفَكُّرُ الْبَاعِثُ عَلَى التَّحَيُّرِ فِي الْأَمْرِ، وَالِاضْطِرَابِ فِي الْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِوُقُوعِ الْخَاتَمِ مِنَ الْيَدِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَغَيُّرِ حَالِهِ، وَاضْطِرَابِ النَّاسِ فِي إِبْقَاءِ نَصْبِهِ، وَإِنْشَاءِ عَزْلِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَبَثًا صُورَةً، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ نَشَأَ عَنْ فِكْرَةٍ وَفِكْرَةُ مِثْلِهِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْحَيْرَةِ، وَهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ الشِّيعَةِ عَلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَلُبْسِ مَلَابِسِهِمْ وَجَوَازُ لُبْسِ الْخَاتَمِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوَرَّثْ، إِذْ لَوْ وَرَّثَ لَدَفَعَ الْخَاتَمَ إِلَى وَرَثَتِهِ، بَلْ كَانَ الْخَاتَمُ وَالْقَدَحُ وَالسِّلَاحُ وَنَحْوُهَا مِنْ آثَارِهِ الصُّورِيَّةِ صَدَقَةً لِلْمُسْلِمِينَ تَصَرُّفُهَا مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ حَيْثُ رَأَى الْمَصَالِحَ، فَجُعِلَ الْقَدَحُ عِنْدَ أَنَسٍ إِكْرَامًا لَهُ بِخِدْمَتِهِ، وَمِنَ الْمُرَادِ التَّبَرُّكُ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ، وَجُعِلَ بَاقِي الْأَثَاثِ عِنْدَ نَاسٍ مَعْرُوفِينَ، وَاتُّخِذَ الْخَاتَمُ عِنْدَهُ لِلْحَاجَةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثِ اهـ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْعَسْقَلَانِيُّ وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَاتَمُ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ، فَانْتَقَلَ لِلْإِمَامِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِيمَا صُنِعَ لَهُ. قُلْتُ: الْأَصْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ فَتَأَمَّلْ. وَفِي الْبَابِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ اسْتَوْفَيْنَا بَعْضَهَا فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ.

4388 - وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِي يَمِينِهِ، فِيهِ فَصٌّ حَبَشِيٌّ كَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4388 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِي يَمِينِهِ) : أَيْ فِي أَوَائِلِ زَمَانِهِ (فِيهِ) : أَيْ مُرَكَّبٌ فِي الْخَاتَمِ (فَصٌّ حَبَشِيٌّ) : قِيلَ: صَانِعُهُ أَوْ صَانِعُ نَقْشِهِ حَبَشِيٌّ أَوْ أُتِيَ بِهِ مِنَ الْحَبَشِ كَمَا سَبَقَ، فَلَا يُنَافِيهِ كَوْنُ فَصِّهِ مِنْهُ عَلَى أَنَّ التَّعَدُّدَ مُتَعَيِّنٌ فِيهِ لِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، مِنْهَا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّهُ أَصَحُّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: مَعْنَاهُ أَسْوَدُ اللَّوْنِ يَعْنِي الْعَقِيقَ اهـ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَسْوَدُ عَلَى لَوْنِ الْحَبَشَةِ بِأَنْ تَضْرِبَ حُمْرَتُهُ إِلَى السَّوَادِ، وَإِلَّا فَمَعْدِنُ الْعَقِيقِ هُوَ الْيَمَنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ قَاضِيخَانْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَتَخَتَّمُ بِالْعَقِيقِ، وَكَانَ فِي شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ وَالْعَقِيقِ سُنَّةً، لَكِنْ قَالَ شَارِحُهُ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْعَقِيقِ قِيلَ: حَرَامٌ لِكَوْنِهِ حَجَرًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ التَّخَتُّمُ بِالْعَقِيقِ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ ; فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» " اهـ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْحَلَقَةِ لَا الْفَصِّ، حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْفَصُّ مِنَ الْحَجَرِ، وَالْحَلْقَةُ مِنَ الْفِضَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ: أَنَّ فَصَّ خَاتَمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَقِيقًا. وَفِي النِّهَايَةِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الْجَزْعِ أَوْ مِنَ الْعَقِيقِ ; لِأَنَّ مَعْدِنَهُمَا الْيَمَنُ وَالْحَبَشَةُ، أَوْ نَوْعًا آخَرَ يُنْسَبُ إِلَيْهَا اهـ، وَقِيلَ: كَانَ جَزْعًا أَوْ عَقِيقًا، وَقِيلَ حَبَشِيًّا ; لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَهُوَ مِنْ كُورَةِ الْحَبَشَةِ وَقِيلَ: مَعْنَى فَصِّهُ مِنْهُ أَنَّ مَوْضِعَ فَصِّهِ مِنْهُ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَ فَصِّهِ حَجَرًا. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي التَّخَتُّمِ بِالْعَقِيقِ مِنْ أَنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ وَأَنَّهُ مُبَارَكٌ، وَأَنَّ مَنْ تَخْتَّمَ بِهِ لَمْ يَزَلْ فِي خَيْرٍ، فَكُلُّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحُفَّاظُ، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْيَاقُوتِ الْأَصْفَرِ يَمْنَعُ الطَّاعُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: حَدِيثُ: " «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ ; فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» " رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَابْنُ لَالٍ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَثْرَةُ الطَّرْقِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَهُ أَصْلٌ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيِّ فِي الْكَامِلِ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: " «تَخْتَّمُوا بِالْعَقِيقِ ; فَإِنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ» ". (كَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَحَدِيثُ " كَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا. قَالَ الْقَاضِي: رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْ لُبْسُ الْخَاتَمِ فِي الْيَمِينِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ وَقَدْ رَوَى ثَالِثٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصِرِ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى» ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنِهِمَا لِجَوَازِ أَنَّهُ فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ، فَكَانَ يَتَخَتَّمُ فِي الْيَمِينِ مَرَّةً وَفِي الْيُسْرَى أُخْرَى حَسْبَمَا اتَّفَقَ، وَلَيْسَ، فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يَدُلُّ صَرِيحًا عَلَى الْمُدَاوَمَةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدَيٍّ وَغَيْرُهُ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْتَّمَ فِي يَمِينِهِ، ثُمَّ حَوَّلَهُ فِي يَسَارِهِ» اهـ. فَكَأَنَّ مَنْ فَعَلَ خِلَافَهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ النَّسْخُ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يُقَالَ: التَّخَتُّمُ فِي الْيُسْرَى أَفْضَلُ " كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا ; لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْإِعْجَابِ وَالزَّهْوِ كَجَعْلِ فَصِّهِ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ، وَعَلَى جَوَازِهِ فِي الْيُسْرَى، وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ، وَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْيَمِينَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَالْيَمِينُ أَشْرَفُ وَأَحَقُّ بِالزِّينَةِ وَالْإِكْرَامِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَقْصِدَ بِلُبْسِهِ الزِّينَةَ، فَإِنَّهُ قِيلَ بِكَرَاهَتِهِ، بَلْ يَلْبَسُهُ لِلْحَاجَةِ أَوْ مُتَابَعَةً لِلسُّنَّةِ.

4389 - وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصِرِ مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4389 - (وَعَنْهُ) : أَيْ وَعَنْ أَنَسٍ (قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ فِي آخِرِ الْأَمْرَيْنِ (فِي هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصِرِ) : وَهُوَ أَصْغَرُ أَصَابِعِ الْيَدِ (مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4390 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَتَخَتَّمَ فِي إِصْبَعِي هَذِهِ أَوْ هَذِهِ، قَالَ: فَأَوْمَأَ إِلَى الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4390 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَتَخَتَّمَ) : أَيْ أَلْبَسَ الْخَاتَمَ (فِي إِصْبَعِي هَذِهِ أَوْ هَذِهِ) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ هَذِهِ لَيْسَتْ لِتَرْدِيدِ الرَّاوِي بَلْ لِلتَّقْسِيمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] ، (فَأَوْمَأَ) : بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ " فَأَوْمَى " أَيْ فَأَشَارَ (إِلَى الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا) : أَيِ الْمُسَبِّحَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْإِبْهَامِ وَالْبِنْصِرِ رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَيَثْبُتُ نَدْبُهُ فِي الْخِنْصِرِ، وَإِلَيْهِ جَنَحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَظَاهِرُ الْقِيَاسِ أَنَّ لُبْسَهُ فِي الْإِبْهَامِ وَالْبِنْصِرِ مَنْهِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ جَعْلُ الْخَاتَمِ فِي الْوُسْطَى، وَالَّتِي تَلِيهَا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَهَا التَّخَتُّمُ فِي الْأَصَابِعِ كُلِّهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4391 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4391 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

4392 - وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4392 - (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) .

4393 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِه» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4393 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: حَدِيثُ: كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَنَسٍ. وَأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَحَدِيثُ: كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ: «كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ، ثُمَّ حَوَّلَهُ فِي يَسَارِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ عَدَيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ.

4394 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4394 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ حَرِيرًا) : أَيْ ثَوْبَ حَرِيرٍ (فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ هَذَيْنِ) : أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي) : وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قِيلَ: الْقِيَاسُ حَرَامَانِ إِلَّا أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَهُوَ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، أَوِ التَّقْدِيرُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرَامٌ فَأُفْرِدَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْجَمْعُ. قُلْتُ: وَهْمُ الْجَمْعِ فِي الْإِفْرَادِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الْفَهْمِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ وَاثِلَةَ: «الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ حِلٌّ لِإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحَرَامٌ عَلَى ذُكُورِهَا» .

4395 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ، وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلَّا مُقَطَّعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4395 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ) : أَيْ جُلُودِهَا. وَقَدْ سَبَقَ وَهُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِنَّمَا الْغَالِبُ وُقُوعُهُ مِنَ الرِّجَالِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: نَهَى عَنِ الرُّكُوبِ عَلَى جُلُودِ النِّمَارِ فَقَطْ. وَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. (وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ) : أَيْ لِلرِّجَالِ (إِلَّا مُقَطَّعًا) : بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مُكَسَّرًا قِطَعًا صِغَارًا مِثْلَ الضِّبَابِ عَلَى الْأَسْلِحَةِ وَالْخَوَاتِيمِ الْفِضِّيَّةِ وَأَعْلَامِ الثِّيَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَوَّلَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ، وَأَحَلَّهُ مَحَلَّ التَّنْزِيهِ وَالْكَرَاهَةِ، فَجَعَلَ النَّهْيَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ مَصْرُوفًا إِلَى النِّسَاءِ، وَقَالَ: أَرَادَ بِالْمُقَطَّعِ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ نَحْوَ السَّيْفِ وَالْخَاتَمِ، وَكَرِهَ مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرَ الَّذِي هُوَ عَادَةُ أَهْلِ السَّرَفِ، وَزِينَةُ أَهْلِ الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَهَذَا تَقْدِيرٌ جَيِّدٌ، غَيْرَ أَنَّ لَفْظَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ مَا هُوَ بِمُنْبِئٍ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا تَمَيُّزَ فِي صِيغَةِ النَّهْيِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَتَّبَ النَّهْيَ عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَوَى النَّهْيَ عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ كَمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْيَسِيرَ التَّافِهَ مِنْهُ إِذَا رُكِّبَ عَلَى الْفِضَّةِ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلرِّجَالِ فَتُحَلَّى بِهِ قَبِيعَةُ السَّيْفِ، أَوْ حَلَقَةُ الْمِنْطَقَةِ، أَوْ يُشَدُّ بِهِ فَصُّ الْخَاتَمِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي النَّهْيِ قِيَاسًا عَلَى الْيَسِيرِ مِنَ الْحَرِيرِ، فَاسْتَدْرَكَ ذَلِكَ بِالْإِنْشَاءِ مِنْ كَلَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْخَطَّابِيُّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَا لَا يَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بَيَانَ الْيَسِيرِ مِنْهُ لَا أَنَّ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ زَكَاةً أَيَّ قَدْرٍ كَانَ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ أَيْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ قَوْلَهُ: عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ فَقَطْ.

4396 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ: " مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْأَصْنَامِ؟ " فَطَرَحَهُ، ثُمَّ جَاءَ، وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: " مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ؟ " فَطَرَحَهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَالَ: " مِنْ وَرِقٍ وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ صَحَّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الصَّدَاقِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ: " «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4396 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ شَيْءٌ يُشْبِهُ الصُّفْرَ، وَبِالْفَارِسِيَّةِ " يُقَالُ لَهُ: بَرْبَخُ سُمِّيَ بِهِ لِشَبَهِهِ بِالذَّهَبِ لَوْنًا. وَفِي الْقَامُوسِ: الشَّبَهُ مُحَرَّكَةٌ النُّحَاسُ الْأَصْفَرُ وَيُكْسَرُ. (مَا لِي) : مَقُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَنَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُخَاطَبُ أَيْ مَا لَكَ (أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْأَصْنَامِ؟) ; لِأَنَّ الْأَصْنَامَ كَانَتْ تُتَّخَذُ مِنَ الشَّبَهِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ. (فَطَرَحَهُ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَيَأْتِي أَوِ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ (ثُمَّ جَاءَ، وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ: فَقَالَ: مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ؟) : بِكَسْرِ الْحَاءِ جَمْعُ الْحُلِيِّ أَيْ زِينَةَ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا أَوْ زِينَتَهُمْ فِي النَّارِ بِمُلَابَسَةِ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَتِلْكَ فِي الْمُتَعَارَفِ بَيْنَنَا مُتَّخَذَةٌ مِنَ الْحَدِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَرِهَهُ لِأَجَلِ نَتَنِهِ (فَطَرَحَهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَالَ: " مِنْ وَرِقٍ) : أَيِ اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ (وَلَا تُتِمَّهُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ مِيمِهِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ وَلَا تُكَمِّلْ وَزْنَ الْخَاتَمِ مِنَ الْوَرِقِ (مِثْقَالًا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلْمُظْهِرِ: هَذَا نَهْيُ إِرْشَادٍ إِلَى الْوَرَعِ ; فَإِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْخَاتَمُ أَقَلَّ مِنْ مِثْقَالٍ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ السَّرَفِ. قُلْتُ: وَكَذَا أَبْعَدُ مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْمِثْقَالِ، لَكِنْ رَجَّحَ الْآخَرُونَ الْجَوَازَ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ، فَإِنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ عَلَى التَّنْزِيهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : أَيْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، بَلْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا مِنْهُمْ: قَاضِيخَانْ بِكَرَاهَةِ لُبْسِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ صَاحِبِ الْإِبَانَةِ كَرَاهَتَهُمَا، وَعَنِ الْمُتَوَلِّي لَا يُكْرَهُ، وَاخْتَارَهُ فِيهِ، وَصَحَّحَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ: " اطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ " وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ. قُلْتُ: سَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ " قَالَ: وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ: «وَكَانَ خَاتَمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ» . قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ بِهِ وَلَا يَلْبَسُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْحَدِيثُ فِي النَّهْيِ ضَعِيفٌ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ لَهُ شَوَاهِدُ عِدَّةٌ إِنْ لَمْ تُرَّقِهِ إِلَى دَرَجَةِ الصِّحَّةِ لَمْ تَدَعْهُ يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ، كَيْفَ وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَقَالَ (مُحْيِي السُّنَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ صَحَّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الصَّدَاقِ) : أَيْ فِي بَابِ الصَّدَاقِ بِفَتْحِ الصَّادِ وَيُكْسَرُ وَهُوَ الْمَهْرُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ) : أَيْ مِمَّنْ أَرَادَ النِّكَاحَ (الْتَمِسْ) : أَيِ اطْلُبْ لِلصَّدَاقِ الْمُعَجَّلِ (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَذْلِ مَا يُمْكِنُهُ تَقْدِيمُهُ لِلنِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي بَابِهِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: أَعْطِنِي وَلَوْ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، وَخَاتَمُ الْحَدِيدِ، وَإِنَّ نُهِيَ عَنِ التَّخَتُّمِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةِ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ، هَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّكِيرُ عَنِ التَّخَتُّمِ بِخَاتَمِ الْحَدِيدِ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ: (الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ; لِأَنَّ حَدِيثَ سَهْلٍ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ السُّنَنِ وَاسْتِحْكَامِ الشَّرَائِعِ، وَحَدِيثَّ بُرَيْدَةَ بَعْدَ ذَلِكَ.

4397 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ عَشْرَ خِلَالٍ: الصُّفْرَةَ - يَعْنِي: الْخَلُوقَ - وَتَغْيِيرَ الشَّيْبِ، وَجَرَّ الْإِزَارِ، وَالتَّخَتُّمَ بِالذَّهَبِ، وَالتَّبَرُّجَ بِالزِّينَةِ لِغَيْرِ مَحِلِّهَا، وَالضَّرْبَ بِالْكِعَابِ، وَالرُّقَى إِلَّا بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَعَقْدَ التَّمَائِمِ وَعَزْلَ الْمَاءِ لِغَيْرِ مَحِلِّهِ، وَفَسَادَ الصَّبِيِّ غَيْرَ مُحَرِّمِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4397 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ عَشْرَ خِلَالٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ خِلَّةٍ بِمَعْنَى خِصْلَةٍ (الصُّفْرَةَ) : بِالنَّصْبِ وَجُوِّزَ رَفْعُهُ وَجَرُّهُ وَنَهْيُهُ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، هِيَ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ (يَعْنِي: الْخَلُوقَ) : وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّوَاةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اسْتِعْمَالُهُ وَهُوَ طِيبٌ مُرَكَّبٌ يُتَّخَذُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ، وَتَغْلُبُ عَلَيْهِ الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ. وَقَدْ وَرَدَ تَارَةً بِإِبَاحَتِهِ، وَتَارَةً بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَالنَّهْيُ أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ طِيبِ النِّسَاءِ وَكُنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا لَهُ مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ نَاسِخَةٌ (وَتَغْيِيرَ الشَّيْبِ) : عَطْفٌ عَلَى الصُّفْرَةِ وَهُوَ ثَانِي الْعَشَرَةِ، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: يَعْنِي خِضَابَ الشَّيْبِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ بِهِ إِلَى السَّوَادِ فَيَتَشَبَّهُ بِالشَّبَابِ إِخْفَاءً لِشَيْبِهِ وَتَعْمِيَةً عَلَى أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ دُونَ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ لَا يُلْتَبَسُ مَعَهُ حَقِيقَةُ الشَّيْبِ اهـ. وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ فِي مُوَطَّئِهِ: لَا نَرَى بِالْخِضَابِ بِالْوَشْمَةِ وَالْحِنَّاءِ وَالصُّفْرَةِ بَأْسًا، وَإِنْ تَرَكَهُ أَبْيَضَ فَلَا بَأْسَ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ اهـ. وَقِيلَ: أَرَادَ تَغْيِيرَهُ بِالنَّتْفِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِتَغْيِيرِ الشَّيْبِ التَّسْوِيدُ الْمُلَبَّسُ دُونَ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ، وَمَا يُضَاهِيهِ إِذْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ: " «غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَقْرُبُوا السَّوَادَ» ". (وَجَرَّ الْإِزَارِ) ، أَيْ إِسْبَالَهُ وَغَيْرَهُ خُيَلَاءَ كَمَا سَبَقَ (وَالتَّخَتُّمَ بِالذَّهَبِ) : أَيْ لِلرِّجَالِ (وَالتَّبَرُّجَ بِالزِّينَةِ) : أَيْ إِظْهَارَ الْمَرْأَةِ زِينَتَهَا وَمَحَاسِنَهَا لِلرِّجَالِ (لِغَيْرِ مَحِلِّهَا) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَمَحَارِمِهَا، وَالْمَحِلُّ حَيْثُ يَحِلُّ لَهَا إِظْهَارُ الزِّينَةِ وَبَيَّنَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ، (وَالضَّرْبَ بِالْكِعَابِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ جَمْعُ كَعْبٍ، وَهُوَ فُصُوصُ النَّرْدِ، وَيُضْرَبُ بِهَا عَلَى عَادَتِهِمْ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَهُوَ حَرَامٌ كَرِهَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالصَّحَابَةُ. وَقِيلَ: كَانَ ابْنُ مُغَفَّلٍ يَلْعَبُ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَرَخَصَّ فِيهِ ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَلَى غَيْرِ قِمَارٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا " «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ". وَفِي مَعْنَاهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا، مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِشُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ لَهُمْ. (وَالرُّقَى) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ جَمْعُ رُقْيَةٍ (إِلَّا بِالْمُعَوِّذَاتِ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُفْتَحُ وَهِيَ الْمُعَوِّذَتَانِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ وَالتَّعَوُّذِ بِأَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: الْمُعَوِّذَتَانِ وَالْإِخْلَاصُ وَالْكَافِرُونَ. (وَعَقْدَ التَّمَائِمِ) : جَمْعُ تَمِيمَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا التَّعَاوِيذُ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَى رُقَى الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ وَأَلْفَاظٍ لَا يُعْرَفُ.

مَعْنَاهَا، وَقِيلَ: التَّمَائِمُ خَرَزَاتٌ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُعَلِّقُهَا عَلَى أَوْلَادِهِمْ يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ فِي زَعْمِهِمْ، فَأَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدْفَعُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى (وَعَزْلَ الْمَاءِ لِغَيْرِ مَحِلِّهِ) : اللَّامُ بِمَعْنَى " عَنْ " أَيْ إِخْرَاجَ الْمَنِيِّ عَنِ الْفَرَجِ وَإِرَاقَتَهُ خَارِجَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى لِغَيْرِ مَحِلِّهِ بِغَيْرِ الْإِمَاءِ، فَإِنَّ مَحِلَّ الْعَزْلِ الْإِمَاءُ دُونَ الْحَرَائِرِ، وَهُوَ فِي الْحُرَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ إِذْنِهَا، وَقِيلَ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِإِتْيَانِ الدُّبُرِ أَيْ صَبِّهِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحِلُّ أَنْ يَصُبَّ فِيهِ، إِذْ مَحِلُّ الْمَاءِ فَرْجُ الْمَرْأَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: سَمِعْتُ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَزْلَ الْمَاءِ عَنْ مَحِلِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَعْزِلَ مَاءَهُ عَنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ مَحِلُّ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ النَّسْلِ، وَالْمَكْرُوهُ مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرَائِرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِنَّ، فَأَمَّا الْمَمَالِيكُ فَلَا بَأْسَ بِالْعَزْلِ عَنْهُنَّ، وَلَا إِذْنَ لَهُنَّ مَعَ أَرْبَابِهِنَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَرْجِعُ مَعْنَى الرِّوَايَتَيْنِ أَعْنِي إِثْبَاتَ لَفْظِ عَنْ وَغَيْرِهِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ فِي مَحِلِّهِ يَرْجِعُ إِلَى لَفْظِ الْمَاءِ، وَإِذَا رُوِيَ بِغَيْرِ مَحِلِّهِ يَرْجِعُ إِلَى لَفْظِ الْعَزْلِ (وَفَسَادَ الصَّبِيِّ) : وَهُوَ أَنْ يَطَأَ الْمَرْأَةَ الْمُرْضِعَ، فَإِذَا حَمَلَتْ فَسَدَ لَبَنُهَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ فَسَادُ الصَّبِيِّ، ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَزَادَ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ فَيُخِلُّ بِالرَّضِيعِ وَبِقُوَّةِ اللَّبَنِ. (غَيْرَ مُحَرِّمِهِ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ قَالَ الْقَاضِي: (غَيْرَ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَكْرَهُ أَيْ يَكْرَهُهُ غَيْرَ مُحَرِّمٍ إِيَّاهُ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ لِفَسَادِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ. وَقَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: يَعْنِي كُرْهَ جَمِيعِ هَذِهِ الْخِصَالِ وَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّحْرِيمِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: (غَيْرَ مُحَرِّمِهِ) عَائِدٌ إِلَى فَسَادِ الصَّبِيِّ فَقَطْ ; فَإِنَّهُ أَقْرَبُ، وَإِلَّا فَالتَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ حَرَامٌ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الْجَمِيعِ لَقَالَ مُحَرِّمِهَا اهـ. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِلْفِعْلِ فَمَا أَمْكَنَ تَعَلُّقُهُ بِهِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ خَصَّهُ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: فِي مِثْلِ هَذَا تَرْكُ الْعَمَلِ فِيهِ لِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُتْرَكْ فِي الْبَاقِي، وَأَمَّا امْتِنَاعُهُ بِقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الْجَمِيعِ لَقَالَ (مُحَرِّمِهَا) ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُفْرَدَ وُضِعَ مَوْضِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ اهـ. وَمَآلُهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ مُعَاوِيَةَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ النَّوْحِ وَالشِّعْرِ وَالتَّصَاوِيرِ وَجُلُودِ السِّبَاعِ وَالتَّبَرُّجِ وَالْغِنَاءِ وَالذَّهَبِ وَالْخَزِّ وَالْحَرِيرِ» .

4398 - وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ مَوْلَاةً لَهُمْ ذَهَبَتْ بِابْنَةِ الزُّبَيْرِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي رِجْلِهَا أَجْرَاسٌ، فَقَطَعَهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: " مَعَ كُلِّ جَرَسٍ شَيْطَانٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4398 - (وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ) : الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِهِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ (أَنَّ مَوْلَاةً) : أَيْ مَعْتُوقَةً (لَهُمْ) : أَيْ لِلزُّبَيْرِيِّينَ أَوْ لِأَهْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ (ذَهَبَتْ بِابْنَةِ الزُّبَيْرِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي رِجْلِهَا أَجْرَاسٌ) : جَمْعُ جَرَسٍ بِفَتْحَتَيْنِ (فَقَطَعَهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَعَ كُلِّ جَرَسٍ شَيْطَانٌ) : أَيْ يُزَيِّنُهُ عِنْدَ أَهْلِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " " «الْجَرَسُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ» " هَذَا وَفِي إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى الْفَصْلِ مِمَّا لَا يَخْفَى مُنَاسَبَتُهُ لِتَرْجَمَةِ الْبَابِ.

4399 - وَعَنْ بُنَانَةَ مَوْلَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَيَّانَ الْأَنْصَارِيِّ، «كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إِذْ دُخِلَتْ عَلَيْهَا بِجَارِيَةٍ، وَعَلَيْهَا جَلَاجِلُ يُصَوِّتْنَ. فَقَالَتْ: لَا تُدْخِلُنَّهَا عَلَيَّ إِلَّا أَنْ تُقَطِّعُنَّ جَلَاجِلَهَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جَرَسٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4399 - (وَعَنْ بُنَانَةَ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَخِفَّةِ النُّونَيْنِ (مَوْلَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَيَّانَ) : بِفَتْحِ حَاءٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (الْأَنْصَارِيِّ) : تَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْهَا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَدِيثُهَا فِي الْجَلَاجِلِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ، إِذْ دُخِلَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُدْخِلَتْ (عَلَيْهَا) : أَيْ عَلَى عَائِشَةَ (بِجَارِيَةٍ) : أَيْ بِنْتٍ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ نَائِبُ فَاعِلِ دُخِلَتْ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَجْرُورَ مُؤَنَّثٌ (وَعَلَيْهَا) : أَيْ عَلَى بَعْضِ أَعْضَاءِ الْجَارِيَةِ (جَلَاجِلُ) : بِفَتْحِ.

الْجِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ - جَمْعُ جُلْجُلٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ مَا يُعَلَّقُ لِعُنُقِ الدَّابَّةِ، أَوْ بِرِجْلِ الْبَازِيِّ، وَالْمَعْنَى أَجْرَاسٌ (يُصَوِّتْنَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ يَتَحَرَّكْنَ وَيَحْصُلُ مِنْ تَحَرُّكِهِنَّ أَصْوَاتٌ لَهُنَّ (فَقَالَتْ) : أَيْ عَائِشَةُ (لَا تُدْخِلُنَّهَا عَلِيَّ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِلْغَائِبَةِ، أَيْ لَا تُدْخِلُنَّهَا عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ الْحَاضِرِ (إِلَّا أَنْ تُقَطِّعُنَّ جَلَاجِلَهَا) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَكْسُورَةِ مَعَ ضَمِّ التَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الطَّاءِ مُخَفَّفَةٍ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهَا وَالنُّونُ مُؤَكِّدَةٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَخْفِيفِهَا عَلَى أَنَّهَا ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، وَالْفَاعِلُ غَائِبَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَمُخَاطَبَةٌ عَلَى الثَّانِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أُدْخِلَ نُونُ التَّأْكِيدِ فِي الْمُضَارِعِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْأَمْرِ، كَمَا أُدْخِلَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُصِيبَنَّ} [الأنفال: 25] : عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} [الأنفال: 25] تَشْبِيهًا لَهُ بِالنَّهْيِ قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ. (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ) : أَيْ بِالتَّأْنِيثِ وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ أَيْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ (بَيْتًا فِيهِ جَرَسٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ عَنْ بُنَانَةَ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4400 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَرَفَةَ، «أَنَّ جَدَّهُ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4400 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَرَفَةَ) : بِفَتْحَتَيْنِ (أَنَّ جَدَّهُ عَرَفَجَةَ بْنَ أَسَدٍ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ طَرَفَةُ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ ذَهَبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ بِضَمِّ الْكَافِ اهـ، وَلَمْ يَذْكُرْ طَرَفَةَ وَلَا أَبَاهُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ، وَالْحَدِيثُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مُوهِمٌ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ صَحَابِيٌّ، وَأَنَّهُ شَهِدَ الْقَضِيَّةَ حَيْثُ قَالَ: (قُطِعَ أَنْفُهُ) : أَيْ أَنْفُ جَدِّهِ عَرَفَجَةَ (يَوْمَ الْكُلَابِ) : وَهُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ اسْمُ مَاءٍ، كَانَ هُنَاكَ وَقْعَةٌ، بَلْ وَقْعَتَانِ مَشْهُورَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا: الْكُلَابُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَاءٌ عَنْ يَمِينِ جَبَلَةَ وَالشَّامِ وَهُمَا جَبَلَانِ وَيَوْمُهُ يَوْمَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلِلْعَرَبِ بِهِ يَوْمَانِ مَشْهُورَانِ فِي أَيَّامِ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ يَوْمَ الْكُلَابِ اسْمُ حَرْبٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ حُرُوبِهِمْ. ( «فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ» ) : وَبِهِ أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ اتِّخَاذَ الْأَنْفِ ذَهَبًا، وَكَذَا رَبْطُهُ الْأَسْنَانِ بِالذَّهَبِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

4401 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ حَلَقَةً مِنْ نَارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حَلَقَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ سِوَارًا مِنْ نَارٍ، فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِنْ ذَهَبٍ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4401 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ فَقَوْلُهُ (حَبِيبَهُ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَرَفْعِهِ وَأَرَادَ بِهِ الْمَحْبُوبَ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ غَيْرِهَا (حَلْقَةً) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَيُفْتَحُ وَنَصْبِهَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ حَلَقَةً كَائِنَةً (مِنْ نَارٍ) : أَيْ بِاعْتِبَارِ مَآلِهَا (فَلْيُحَلِّقْهُ حَلَقَةً مِنْ ذَهَبٍ) : أَيْ لِأُذُنِهِ أَوْ لِأَنْفِهِ (وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ بِطَوْقٍ مِنْ نَارٍ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مَنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ وَيُفْتَحُ عَلَى مَا سَبَقَ (حَبِيبَهُ سِوَارًا مِنْ نَارٍ، فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِنْ ذَهَبٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّحْلِيقُ فِي الْحَدِيثِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: إِبِلٌ مُحَلَّقَةٌ إِذَا كَانَ وَسْمُهُ الْحِلْقَ، وَلَا يُحْمَلُ هَذَا النَّكِيرُ عَلَى التَّهْدِيدِ، بَلْ عَلَى.

النَّظَرِ لَهُ، وَالْمَعْنَى، أَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِحَبِيبِهِ مَضَرَّةَ النَّارِ (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ) : هُوَ لِلتَّرْغِيبِ (بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّحْلِيَةَ الْمُبَاحَةَ مَعْدُودَةٌ فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْأَخْذِ بِمَا لَا يَعْنِيهِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اللَّعِبُ بِالشَّيْءِ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ أَيِ اجْعَلُوا الْفِضَّةَ فِي أَيْ نَوْعٍ شِئْتُمْ مِنَ الْأَنْوَاعِ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، إِلَّا التَّخَتُّمَ وَتَحْلِيَةَ السَّيْفِ وَغَيْرِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)

4402 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَقَلَّدَتْ قِلَادَةً مِنْ ذَهَبٍ قُلِّدَتْ فِي عُنُقِهَا مِثْلُهَا مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ جَعَلَتْ فِي أُذُنِهَا خُرْصًا مِنْ ذَهَبٍ جَعَلَ اللَّهُ فِي أُذُنِهَا مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4402 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) : أَيِ ابْنِ السَّكَنِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَقَلَّدَتْ قِلَادَةً) : بِكَسْرِ الْقَافِ (مِنْ ذَهَبٍ قُلِّدَتْ فِي عُنُقِهَا مِثْلُهَا مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ جَعَلَتْ فِي أُذُنِهَا خُرْصًا) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْخُرْصُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ الْحَلَقَةُ الصَّغِيرَةُ وَهِيَ مِنْ حُلِيِّ الْأُذُنِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْخُرْصُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْخَاءِ، قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْخُرْصُ بِالضَّمِّ وَيُكْسَرُ حَلَقَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ حَلَقَةُ الْقِرْطِ أَوِ الْحَلَقَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ الْحُلِيِّ. (جَعَلَ اللَّهُ فِي أُذُنِهَا مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا يَتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ ثُمَّ نُسِخَ وَأُبِيحَ لِلنِّسَاءِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ إِنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ الذَّهَبِ دُونَ مَنْ أَدَّاهَا، قَالَ الْأَشْرَفُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لَمَا خَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذَّهَبَ بِالذِّكْرِ، وَلَا رَخَصَّ فِي الْفِضَّةِ حَيْثُ قَالَ: " وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا " ; إِذْ لَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْحَدِيثَانِ يُنَادِيَانِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُلِيَّ الَّذِي يُصَاغُ مِنَ الذَّهَبِ إِذَا أُرِيدَ أَنْ يُصَاغَ مِنَ الْفِضَّةِ، وَكَانَ حَجْمُهُ مِثْلَ حَجْمِهِ، وَوَزْنُهُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ بِقَرِيبٍ مِنْ نِصْفِهِ، فَالذَّهَبُ يَبْلُغُ مَبْلَغَ النِّصَابِ بِخِلَافِ الْفِضَّةِ اهـ. وَمَا قَالُوهُ كُلُّهُمْ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ دُونَ مَذْهَبِهِمْ حَيْثُ لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ لِأَجْلِ الْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ فَمَرْدُودٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ)

4403 - وَعَنْ أُخْتٍ لِحُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ أَمَا لَكُنَّ فِي الْفِضَّةِ مَا تُحَلَّيْنَ بِهِ؟ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُحَلَّى ذَهَبًا تُظْهِرُهُ إِلَّا عُذِّبَتْ بِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4403 - (وَعَنْ أُخْتٍ لِحُذَيْفَةَ) : الظَّاهِرُ أَنَّهَا صَحَابِيَّةٌ فَلَا تَضُرُّ جَهَالَتُهَا. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ: أَمَا لَكُنَّ) : الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَ " مَا " نَافِيَةٌ أَيْ أَلَيْسَ لَكُنَّ كِفَايَةٌ (فِي الْفِضَّةِ مَا تُحَلَّيْنَ بِهِ؟) : بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ وَيُفْتَحُ وَبِسُكُونِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ لَامٍ مَفْتُوحَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجِيمِ بَدَلَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَا هَذِهِ مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لَكُنَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمَا حَرْفُ التَّنْبِيهِ (أَمَا) : بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ بِمَعْنَى أَلَا (إِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنَ (لَيْسَ مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُحَلَّى ذَهَبًا) : أَنْ تَلْبَسَ حُلِيَّ ذَهَبٍ (تُظْهِرُهُ) : أَيْ لِلْأَجَانِبِ أَوْ تَكَبُّرًا أَوِ افْتِخَارًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ تُظْهِرُهُ النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] وَالنَّهْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى الْجُزْأَيْنِ مَعًا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّبَرُّجِ بِالْفِضَّةِ (إِلَّا عُذِّبَتْ بِهِ) : وَالتَّعْذِيبُ مُرَتَّبٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ وَالْإِظْهَارِ مَعًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا إِنَّهُ مَنْسُوخٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4404 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحِلْيَةَ وَالْحَرِيرَ، وَيَقُولُ: " إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ وَحَرِيرَهَا فَلَا تَلْبَسُوهَا فِي الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4404 - (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحِلْيَةَ وَالْحَرِيرَ) : أَيْ مِنْ إِكْثَارِهَا أَوْ مِنْ أَصْلِهُمَا زُهْدًا فِيهِمَا (وَيَقُولُ: " إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ حِلْيَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَحَرِيرَهَا) : أَيْ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ (فَلَا تَلْبَسُوهَا) : أَيِ الْحِلْيَةَ كَثِيرًا أَوْ مُطْلَقًا، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَإِلَّا فَظَاهَرُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: فَلَا تَلْبَسُوهَا (فِي الدُّنْيَا) : فَإِنَّ الْأَمْرَ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: " «مَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» " وَكَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «أَشْبَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَجْوَعُكُمْ فِي الْعُقْبَى، وَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ» " قَالَ الْبَغَوَيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " «أَحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي» ". (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

4405 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَ خَاتَمًا، فَلَبِسَهُ قَالَ: " شَغَلَنِي هَذَا عَنْكُمْ مُنْذُ الْيَوْمَ، إِلَيْهِ نَظْرَةٌ، وَإِلَيْكُمْ نَظْرَةٌ " ثُمَّ أَلْقَاهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4405 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَ خَاتَمًا) : أَيْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. (فَلَبِسَهُ، قَالَ: " شَغَلَنِي هَذَا) : أَيِ الْخَاتَمُ عَنْكُمْ أَيْ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَيْكُمْ وَالنَّظَرِ فِي أُمُورِكُمْ (مُنْذُ الْيَوْمَ) : بِنَصْبِ الْيَوْمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ،: فِي أُخْرَى بِجَرِّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مُنْذُ الْيَوْمَ ظَرْفٌ لَشَغَلَنِي مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةٍ حُذِفَ صَدْرُهَا تَقْدِيرُهُ، مُنْذُ كَانَ الْيَوْمُ، هَكَذَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مُنْذُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ مُنْذُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَمُذْ يَوْمَانِ تَلْقَى أَوَّلَ الْمُدَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَجَمِيعُ الْمُدَّةِ يَوْمَانِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَهُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، قِيلَ: إِنَّهُ وَهْمٌ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَاهُ، فَإِنَّكَ مُخْبِرٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُدَّةِ بِأَنَّهُ يَوْمَانِ، وَكَذَا اللَّفْظُ لِأَنَّ يَوْمَانِ نَكِرَةٌ لَا مُصَحِّحَ لَهُ، فَلَا يَكُونُ مُبْتَدَأً، فَإِنَّ الظَّرْفَ إِنَّمَا يَكُونُ مُصَحِّحًا لِلْمُبْتَدَأِ إِذَا كَانَ ظَرْفًا لَهُ، وَلَوْ كَانَ ظَرْفًا لَهُ لَكَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ: الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى طَرِيقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ (إِلَيْهِ نَظْرَةٌ وَإِلَيْكُمْ نَظْرَةٌ) : الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ لِي نَظْرَةٌ إِلَيْهِ وَلِي نَظْرَةٌ إِلَيْكُمْ، وَالْجُمْلَتَانِ مُبَيِّنَتَانِ لِقَوْلِهِ: شَغَلَنِي (ثُمَّ أَلْقَاهُ) : أَيْ طَرَحَ الْخَاتَمَ مِنْ يَدِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ أَلْقَاهُ» ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا وَهْمٌ مِنَ الزُّهْرِيِّ ; لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَاتَمَ الَّذِي طَرَحَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا هُوَ خَاتَمُ الذَّهَبِ لَا الْوَرِقِ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنْ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ; إِنَّ الزُّهْرِيَّ وَهِمَ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ وَأَجَابَ عَنْ هَذَا الْوَهْمِ بِأَجْوِبَةٍ، أَقْرَبُهَا مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ مِنْ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اتَّخَذَ خَاتَمَ الذَّهَبِ لِلزِّينَةِ، فَلَمَّا تَتَابَعَ النَّاسُ فِيهِ وَافَقَ تَحْرِيمُهُ فَطَرَحَهُ ; وَلِذَا قَالَ: لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا وَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ تِبَعًا لَهُ، وَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ لُبْسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى الْخَاتَمِ لِأَجْلِ الْخَتْمِ بِهِ، فَاتَّخَذَهُ مِنَ الْفِضَّةِ وَنَقَشَ عَلَيْهِ اسْمَهُ الْكَرِيمَ فَتَبِعَهُ النَّاسُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ، فَرَمَى بِهِ حَتَّى رَمَى النَّاسُ كُلُّهُمْ تِلْكَ الْخَوَاتِيمَ الْمَنْقُوشَةَ عَلَى اسْمِهِ، لِئَلَّا تَفُوتَ مَصْلَحَةُ النَّقْشِ لِوُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ، فَلَمَّا عُدِمَتْ خَوَاتِيمُهُمْ بِرَمْيِهَا رَجَعَ إِلَى خَاتَمِهِ الْخَاصِّ بِهِ، فَصَارَ يَخْتِمُ بِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: «إِنَّمَا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا وَنَقَشْنَا فِيهِ فَلَا يَنْقُشْ عَلَيْهِ أَحَدٌ» اهـ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ تَحْرِيمِ خَاتَمِ الذَّهَبِ لَبِسَ خَاتَمَ الْفِضَّةِ عَلَى قَصْدِ الزِّينَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْشٍ، فَتَبِعَهُ النَّاسُ مُحَافَظَةً عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، فَرَأَى فِي لُبْسِهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُيَلَاءِ فَرَمَاهُ، فَرَمَاهُ النَّاسُ، فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى لُبْسِ الْخَاتَمِ لِأَجْلِ الْخَتْمِ لَهُ لَبِسَهُ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: " «إِنَّمَا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا لِلْمَصْلَحَةِ فَلَا يَنْقُشْ عَلَيْهِ أَحَدٌ اسْمَنَا، بَلْ يَنْقُشُ اسْمَهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ» " وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ بِكَرَاهَةِ لُبْسِ الْخَاتَمِ لِغَيْرِ الْحُكَّامِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ الْخَاتَمِ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ» .

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ، وَكَرِهَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّامِ الْمُتَقَدِّمِينَ لُبْسَهُ لِغَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ، وَرَوَوْا فِيهِ أَثَرًا وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَلْقَى خَاتَمَهُ أَلْقَى النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ إِلَى آخِرِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الْخَاتَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ. قُلْتُ: كَيْفَ يَكُونُ الظَّاهِرُ الْعَامُّ الْمُحْتَمَلُ سَبَبًا لِرَدِّ الْخَاصِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ أَوَائِلِ الْأَمْرِ، وَقَدْ نُسِخَ حُكْمُهُ، وَحَدِيثُ أَبِي رَيْحَانَةَ مِمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْجَوَازِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَكَرَاهَتُهُ لِبَعْضِ النَّاسِ بِالْخُصُوصِ ; وَلِذَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ لُبْسَ الْخَاتَمِ لِغَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ خِلَافُ الْأَوْلَى ; لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّزَيُّنِ، وَالْأَلْيَقُ بِحَالِ الرِّجَالِ خِلَافُهُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَتَكُونُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَوَازِ هِيَ الصَّارِفَةُ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْخَبَرِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الزِّينَةِ وَالْخَاتَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

4406 - وَعَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَنَا أَكْرَهُ أَنْ يُلْبَسَ الْغِلْمَانُ شَيْئًا مِنَ الذَّهَبِ ; لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ» ، فَأَنَا أَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ، الْكَبِيرِ مِنْهُمْ وَالصَّغِيرِ. رَوَاهُ فِي " الْمُوَطَّأِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4406 - (وَعَنْ مَالِكٍ) : أَيِ ابْنِ أَنَسٍ صَاحِبِ الْمُوَطَّأِ (قَالَ: أَنَا أَكْرَهُ أَنْ يُلْبَسَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْإِلْبَاسِ أَيْ يُكْسَى (الْغِلْمَانُ) : أَيِ الصِّبْيَانُ (شَيْئًا مِنَ الذَّهَبِ) : وَكَذَا الْفِضَّةِ إِلَّا نَحْوَ الْخَاتَمِ وَالْحَرِيرِ فِي مَعْنَاهُمَا (لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ) : أَيْ فَإِذَا كَانَ خَاتَمُ الذَّهَبِ مَنْهِيًّا فَغَيْرُهُ أَوْلَى (فَأَنَا أَكْرَهُ لِلرِّجَالِ) : قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الذُّكُورُ، وَإِلَّا فَالرَّجُلُ ذَكَرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ بَلَغَ حَدَّ الْبُلُوغِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْمِيمُ قَوْلِهِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ (الْكَبِيرِ مِنْهُمْ وَالصَّغِيرِ) : وَقِيلَ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَفِي عِبَارَتِهِ مُسَامَحَةٌ ; لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالصَّغِيرِ، بَلْ بِمَنْ يُلْبِسُهُ مِنَ الْكَبِيرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَلْ يَجُوزُ إِلْبَاسُ حُلِيٍّ كَالذَّهَبِ لِلْأَطْفَالِ، الْمَذْكُورُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ جَوَازُهُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ عِنْدَنَا مَنْعُهُ. (رَوَاهُ) : أَيْ مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) : بِالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ، وَقَدْ يُقَالُ بِالْأَلْفِ وَهُوَ اسْمُ كِتَابِهِ، وَفِيهِ مُسَامَحَةٌ كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.

[باب النعال]

[بَابُ النِّعَالِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4407 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (2) بَابُ النِّعَالِ بِكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ نَعْلٍ كَالْبِغَالِ وَالْبَغْلُ، وَهُوَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: مَا وُقِيَتْ بِهِ الْقَدَمُ مِنَ الْأَرْضِ كَالنَّعْلَةِ مُؤَنَّثَةٌ اهـ: وَهُوَ كَذَا فِي الْمُحْكَمِ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْآنَ التَّاسُومَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّعْلُ يَجِيءُ مَصْدَرًا وَقَدْ يَجِيءُ اسْمًا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَلَوْ قَالَ: بَابُ النَّعْلِ لَاحْتَمَلَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْهَرُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: النَّعْلُ لِبَاسُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَ النَّاسُ غَيْرَهُ لِمَا فِي أَرْضِهِمْ مِنَ الطِّينِ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالِيَ لِمُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ لُبْسِ نَعْلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَاحِبَ النَّعْلَيْنِ وَالْوِسَادَةِ وَالسِّوَاكِ وَالطَّهُورِ، وَكَانَ يَلْبَسُ نَعْلَيْهِ إِذَا قَامَ وَإِذَا جَلَسَ جَعَلَهُمَا فِي ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يَقُومَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4407 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيَّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ أَيْ يَلْبَسُ النِّعَالَ الْمَصْنُوعَةَ مِنْ جُلُودٍ نُقِّيَتْ عَنِ الشَّعَرِ. زَادَ التِّرْمِذِيُّ: وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا أَيْ لِمُتَابَعَةِ الْهُدَى لَا لِمُوَافَقَةِ الْهَوَى، فَإِنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ لَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ: رَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ

السِّبْتِيَّةَ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثْنَاةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السِّبْتِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الْمَدْبُوغَةُ. قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: وَإِنَّمَا اعْتُرِضَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهَا نِعَالُ أَهْلِ النِّعْمَةِ وَالسَّعَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَلْبَسْهَا الصَّحَابَةُ، كَمَا أَفَادَهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ السَّائِلَ قَالَ: رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ لَمْ يَفْعَلْ أَصْحَابُنَا، وَعَدَّ هَذِهِ مِنْهَا. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ مِنْهُ أَنْ يَعْرِفَ مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهِ إِيَّاهَا وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يَتَقَيَّدُونَ بِنَوْعٍ مِنَ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ إِلَّا مَا فِيهِ الْمُتَابَعَةُ، هَذَا وَفِي قَوْلِهِ: يَتَوَضَّأُ فِيهَا إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْتَرِزُ عَنْهَا اعْتِمَادًا عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهَا، أَوْ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِدِبَاغَتِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الشَّعَرَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الدِّبَاغُ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِذَلِكَ اهـ. وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُهَا فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُكْرَهُ لُبْسُهَا فِي الْمَقَابِرِ لِحَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَّةَ قَالَ: «بَيَنَا أَنَا أَمْشِي فِي الْقُبُورِ وَعَلَيَّ نَعْلَانِ إِذَا رَجُلٌ يُنَادِي مِنْ خَلْفِي: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ! إِذَا كُنْتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَاحْتَجَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخَلْعِهِمَا لِأَذًى كَانَ فِيهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: " «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ» " وَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ النِّعَالِ فِي الْمَقَابِرِ. قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ» ، قَالَ: فَإِذَا جَازَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِالنَّعْلِ فَالْمَقْبَرَةُ أَوْلَى. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ إِكْرَامَ الْمَيِّتِ، كَمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ، وَلَيْسَ ذِكْرُ السِّبْتِيَّتَيْنِ لِلتَّخْصِيصِ، بَلِ اتَّفَقَ ذَلِكَ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَشْيِ عَلَى الْقُبُورِ بِالنِّعَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَشْيَ عَلَى الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ بِالنِّعَالِ وَبِغَيْرِهَا، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَشْيُهُ عَلَى الْقُبُورِ، فَنَبَّهَهُ بِأَمْرِ الْخَلْعِ عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ أَدَبٍ وَتَوَاضُعٍ، لَا مَكَانَ تَكَبُّرٍ وَاخْتِيَالٍ، فَعَالَجَهُ بِالضِّدِّ وَأَمَرَهُ بِالْأَمْرِ الْأَشَدِّ، وَهُوَ لَا يُنَافِي جَوَازَ لُبْسِهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

4408 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ نَعْلَ النَّبِيِّ كَانَ لَهَا قِبَالَانِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4408 - (وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إِنَّ نَعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهَا قِبَالَانِ) : الْقِبَالُ بِكَسْرِ الْقَافِ زِمَامُ النَّعْلِ وَهُوَ السَّيْرُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ لِنَعْلِهِ زِمَامَانِ يُجْعَلَانِ بَيْنَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُصْبُعَيْنِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: يَعْنِي كَانَ لِكُلِّ نَعْلٍ زِمَامَانِ يُدْخِلُ الْإِبْهَامَ وَالَّتِي تَلِيهِ فِي قِبَالٍ، وَالْأَصَابِعَ الْأُخَرَ فِي قِبَالٍ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الشَّمَائِلِ عَنْ قَتَادَةَ، «قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: كَيْفَ كَانَ نَعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: هُمَا قِبَالَانِ» أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَالْإِفْرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِاعْتِبَارِ جِنْسِهَا، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْقِبَالُ هُوَ الزِّمَامُ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّسْعُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الرِّجْلِ. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيْرَانِ يَضَعُ أَحَدَهُمَا بَيْنَ إِبْهَامِ رِجْلِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَيَضَعُ الْآخَرَ بَيْنَ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا، وَمَجْمَعُ السَّيْرَيْنِ إِلَى السَّيْرَيْنِ الَّذِي عَلَى وَجْهِ قَدَمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الشِّرَاكُ اهـ. وَسَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَالَانِ مُثَنًّى شِرَاكُهُمَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4409 - وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا يَقُولُ: " اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4409 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا يَقُولُ: " اسْتَكْثِرُوا) : أَيِ اتَّخَذُوا كَثِيرًا (مِنَ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ) : أَيْ مَا دَامَ الرَّجُلُ لَابِسَ النَّعْلِ يَكُونُ كَالرَّاكِبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالرَّاكِبِ فِي خِفَّةِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ وَقِلَّةِ تَعَبِهِ وَسَلَامَةِ رِجْلِهِ مِمَّا يَلْقَى فِي الطَّرِيقِ مِنْ خُشُونَةٍ وَشَوْكٍ وَأَذًى وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِظْهَارِ فِي السَّفَرِ بِالنِّعَالِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَفِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا: " «نَعْلَانِ أُجَاهِدُ فِيهِمَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ وَلَدَ الزِّنَا» ".

4410 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ، لِتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4410 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ) : أَيْ أَرَادَ لُبْسَ النَّعْلِ (فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ بِالْيَمِينِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الشَّمَائِلِ (وَإِذَا نَزَعَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: خَلَعَ أَيْ أَرَادَ خَلْعَهَا (فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ بِالْيُسْرَى كَمَا فِي رِوَايَةٍ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضُ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحِذَاءُ كَرَامَةٌ لِلرِّجْلِ حَيْثُ إِنَّهُ وِقَايَةٌ مِنَ الْأَذَى، وَإِذَا كَانَتِ الْيُمْنَى أَفْضَلَ مِنَ الْيُسْرَى اسْتُحِبَّ الْبَدْءُ بِهَا فِي لُبْسِ النَّعْلِ، وَالتَّأْخِيرُ فِي نَزْعِهِ لِيَتَوَفَّرَ بِدَوَامِ لُبْسِهَا حَظُّهَا مِنَ الْكَرَامَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (لِتَكُنِ الْيُمْنَى) : وَفِي رِوَايَةٍ: فُلْتَكُنِ الْيُمْنَى وَفِي أُخْرَى فَلْتَكُنِ الْيَمِينَ وَيَنْصُرُهُ قَوْلُهُ: (أَوَّلَهُمَا) : وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (تُنْعَلُ) : عَلَى خِلَافٍ فِي تَأْنِيثِهِ وَتَذْكِيرِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ، فَيَكُونُ تَذْكِيرُهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْعُضْوِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَيُحْتَمَلُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَتُنْعَلُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ قَوْلُهُ: (وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ) : وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى خَبَرِ كَانَ أَوْ عَلَى الْحَالِ وَالْخَبَرُ تُنْعَلُ وَتُنْزَعُ وَضُبِطَا بِمُثَنَّاتَيْنِ فَوْقَانِيَّتَيْنِ وَبِتَحْتَانِيَّتَيْنِ مُذَكَّرَيْنِ. قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَوَّلُ فِي رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ رَاجِعَانِ إِلَى الْيُمْنَى، وَالثَّانِي مِمَّا ضَبَطَهُ الشَّيْخُ، وَأَفَادَ بِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ النَّعْلِ وَالْخَلْعِ يَعْنِي بِهِمَا الْمَصْدَرَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ، قَالَ الْعِصَامُ: وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأَمْرُ بِجَعْلِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ مَلَكَةً رَاسِخَةً ثَابِتَةً دَائِمَةً لِمَا أَنَّ النُّفُوسَ تَأْخُذُ هَذَا الْأَمْرَ هَيِّنًا، أَوْ أَنَّهَا اعْتَادَتْ بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى، فَكَانَتْ مَظِنَّةَ فَوْتِ تَقْدِيمِ الْيُسْرَى اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مُجَرَّدَةٌ لِتَأْكِيدِ الْأُولَى، وَأَقُولُ: بَلْ فِيهِ زِيَادَةُ إِفَادَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ عَلَى النَّهْجَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ إِنَّمَا هُوَ رِعَايَةُ إِكْرَامِ الْيُمْنَى فَقَطْ نَعْلًا وَخَلْعًا، حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ سَاوَى بَيْنَ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، بِأَنْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهُمَا ابْتِدَاءً فِي أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ، وَنَظِيرُهُ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَتَقْدِيمُ الْيُسْرَى فِي خُرُوجِهِ، وَعَكْسُهُ فِي دُخُولِ الْخَلَاءِ وَخُرُوجِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ثَبَتَ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - " «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي تَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَطَهُورِهِ» " وَبِهِ يَظْهَرُ ضَعْفُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّ فَائِدَتَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى فِي الْأَوَّلِ لَا يَقْتَضِي تَأْخِيرُ نَزْعِهَا لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ نَزْعِهِمَا مَعًا، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ فَقَدْ وَهِمَ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّفَ مَعْنًى غَيْرَ مَا قُلْتُ يُخْرِجُهُ بِهِ عَنِ التَّأْكِيدِ، فَقَدْ أَتَى بِمَا يَمُجُّهُ السَّمْعُ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ اهـ. وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ نَزْعَهُمَا مَعًا وَلُبْسَهُمَا مَعًا مِمَّا لَا يَكَادُ يُتَصَوَّرُ فِي أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ، فَهُوَ أَوْلَى بِمَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا يَمُجُّهُ السَّمْعُ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ مِيرَكُ: زَعَمَ بَعْضُ النُّقَّادِ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْحَدِيثِ انْتَهِي عِنْدَ قَوْلِهِ بِالشِّمَالِ، وَقَوْلُهُ فَلْتَكُنِ إِلَى قَوْلِهِ تُنْزَعُ مُدَرَّجٌ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الرُّوَاةِ شَرْحًا وَتَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَ اهـ، وَيَنْبَغِي فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَخُرُوجِهِ مِنْ مُرَاعَاةِ السُّنَّتَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ عِلْمِهِ جَاهِلُونَ، وَعَنْ عَمَلِهِ غَافِلُونَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

4411 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4411 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ) : نَفِيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِلتَّنْزِيهِ، وَفِي الشَّمَائِلِ: " لَا يَمْشِيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ ": وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّمَائِلِ: وَاحِدٍ بِالتَّذْكِيرِ لِتَأْوِيلِ النَّعْلِ بِالْمَلْبُوسِ (لِيُحْفِهِمَا) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ أَوْ مِنْ بَابِ عِلْمٍ. وَالْإِحْفَاءُ ضِدُّ الْإِنْعَالِ، وَهُوَ جَعْلُ الرِّجْلِ حَافِيَةً بِلَا نَعْلٍ وَخُفٍّ أَيْ لِيَمْشِ حَافِي الرِّجْلَيْنِ (جَمِيعًا أَوْ) : لِلتَّخْيِيرِ (لِيَنْعِلْهُمَا) : وَهُوَ بِالضَّبْطَيْنِ الْمَذْكُورِينَ (جَمِيعًا) : وَالضَّمِيرَانِ لِلْقَدَمَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمَا ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ، وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَجَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] ،

وَقَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61] ، لَكِنْ إِذَا رُوِيَ لِيَنْعَلَهُمَا بِفَتْحٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلنَّعْلَيْنِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ لِيَلْبَسَ نَعْلَ الْقَدَمَيْنِ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الْمُرُوءَةِ وَالِاخْتِلَالِ وَالْخَبْطِ فِي الْمَشْيِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " «رُبَّمَا مَشَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ» " - إِنْ صَحَّ - فَشَيْءٌ نَادِرٌ لَعَلَّهُ اتَّفَقَ فِي دَارِهِ بِسَبَبٍ. قُلْتُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَعْدَ النَّهْيِ يُحْمَلُ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ أَوْ بَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَشْيُ يَشُقُّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مَعَ سَمَاحَتِهِ فِي الشَّكْلِ، وَقُبْحِ مَنْظَرِهِ فِي الْعَيْنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَ جَوَارِحِهِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ فَاعِلُ ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَالِ الرَّأَيْ وَضَعْفِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهَا مِشْيَةُ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْكَرَاهَةُ لِلشُّهْرَةِ فَتَمْتَدُّ الْأَبْصَارُ لِمَنْ يُرَى ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الشُّهْرَةِ فِي اللِّبَاسِ، وَكُلِّ شَيْءٍ يَصِيرُ صَاحِبُهُ مَشْهُورًا، فَحَقُّهُ أَنْ يَجْتَنِبَ. كَذَا حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ: قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: " «لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ وَلَا فِي خُفٍّ وَاحِدٍ» " وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ إِخْرَاجَ أَحَدِ الْيَدَيْنِ مِنَ الْكُمِّ، وَإِلْقَاءَ الرِّدَاءِ عَلَى أَحَدِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَلُبْسَ نَعْلٍ فِي رِجْلٍ وَخُفٍّ فِي أُخْرَى. ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يُجْدِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4412 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ فَلَا يَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُصْلِحَ شِسْعَهُ، وَلَا يَمْشِ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ، وَلَا يَأْكُلْ بِشِمَالِهِ، وَلَا يَحْتَبِي بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَلْتَحِفِ الصَّمَّاءَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4412 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ) : بِكَسْرِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ أَيْ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. (فَلَا يَمْشِي) : بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " فَلَا يَمْشِ " (فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) : أَيْ فِي الْأُخْرَى، كَمَا فِي رِوَايَةٍ (حَتَّى يُصْلِحَ شِسْعَهُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ الْمَشْدُودِ فِي الزِّمَامِ، وَالزِّمَامُ هُوَ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّسْعُ، وَفِي رِوَايَةٍ " حَتَّى يُصْلِحَهَا ": أَيِ النَّعْلَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى حَتَّى أَنَّهُ لَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ إِذَا قَطَعَ شِسْعَ نَعْلِهِ الْأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَ شِسْعَهُ فَيَمْشِي بِالنَّعْلَيْنِ. صُحِّحَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ هَذَا اللَّفْظُ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ أَوْ شِرَاكِهِ فَلَا يَمْشِي فِي إِحْدَاهُمَا بِنَعْلٍ وَالْأُخْرَى حَافِيَةً لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا» ، فَلَا مَفْهُومَ لَهُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الْإِذْنِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى ; لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ مَعَ احْتِيَاجٍ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا دَالٌّ عَلَى ضَعْفِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَشَى فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى يُصْلِحَهَا» . قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا نَقَلَهُ الشِّيحُ عَنْ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَلَمْ أَجِدْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي أَصْلِ التِّرْمِذِيِّ، بَلْ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «رُبَّمَا مَشَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ» ، وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ، وَصَاحِبُ الْمِشْكَاةِ، وَالشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي فِي الْأَصْلِ، هَذَا وَذُكِرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الرُّخْصَةِ بِالْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ أَحَادِيثُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا. (وَلَا يَمْشِي) : بِالنَّفْيِ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَلَا يَأْكُلْ) : بِالْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ (بِشِمَالِهِ) : قِيلَ: هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ عَطْفٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْمُقَيَّدِ وَالْقَيْدِ، لَا عَلَى الْمُقَيَّدِ بِقَيْدِهِ مُتَقَدِّمٍ، حَتَّى يَلْزَمَ مُشَارَكَةُ الْمَعْطُوفِ لِلْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ هُنَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى صِيغَةِ النَّفْيِ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ نَهْيًا مَعْطُوفًا عَلَى النَّهْيَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى النَّهْيِ السَّابِقِ مَأْخُوذًا مَعَ شَرْحِهِ كَيْلَا يَتَقَيَّدَ بِالشَّرْطِ، وَحِينَئِذٍ لَا إِشْكَالَ سَوَاءً جُعِلَ نَهْيًا أَوْ نَفْيًا. (وَلَا يَجْتَبِي) : بِالنَّفْيِ فَقَطْ (بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ) : أَيْ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَوْرَتِهِ شَيْءٌ (وَلَا يَلْتَحِفِ الصَّمَّاءَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيِ الْتِحَافَ الصَّمَّاءِ وَهُوَ لُبْسُهَا، وَنَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَرَوَى الشَّرْطِيَّةَ الْأُولَى بِانْفِرَادِهَا مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ.

وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ، وَابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ، فَلْيَسْتَرْجِعْ ; فَإِنَّهَا مِنَ الْمَصَائِبِ» ". وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْهَى أَنْ يَمَسَّ الرَّجُلُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَأَنْ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ وَأَنْ يَجْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4413 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَالَانِ، مُثَنًّى شِرَاكُهُمَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4413 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ (مِنْ نَعْلَيْهِ قِبَالَانِ، مُثَنًّى) : اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّثْنِيَةِ أَوْ مِنَ الثَّنْيِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَهُوَ صِفَةٌ لَقِبَالَانِ، وَنَائِبُ الْفَاعِلِ قَوْلُهُ: (شِرَاكُهُمَا) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى وَجْهِهَا كَمَا فِي النِّهَايَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي الْجَامِعِ، وَرَوَاهُ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ مِثْلَهُ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَالَانِ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا» - وَأَوَّلُ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا وَاحِدًا أَيِ اتَّخَذَ قِبَالًا وَاحِدًا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ لُبْسَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُعْتَادِ لَا عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ لِلْعِبَادِ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ أَفْعَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةٌ: مُبَاحٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَوَاجِبٌ وَفَرْضٌ، وَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ عُثْمَانُ لَتُوُهِّمَ كَرَاهَةُ الِاقْتِصَارِ عَلَى قِبَالٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَنَّهُ خِلَافُ الْأُولَى ; لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَاهُ، وَلَهُ يُعْلَمُ أَنَّ تَرْكَ لُبْسِ النَّعْلَيْنِ وَلُبْسَ غَيْرِهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ أَيْضًا.

4414 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ قَائِمًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4414 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْتَعِلَ) : مِنْ بَابِ الِانْفِعَالِ أَيْ يَلْبَسُ نَعْلَهُ (الرَّجُلُ قَائِمًا) : قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا فِيمَا يَلْحَقُهُ التَّعَبُ فِي لُبْسِهِ قَائِمًا كَالْخُفِّ وَالنِّعَالِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى شَدِّ شِرَاكِهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ الضِّيَاءُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: «نَهَى أَنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ وَهُوَ قَائِمٌ» .

4415 - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4415 - (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) .

4416 - وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَتْ: «رُبَّمَا مَشَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا مَشَتْ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4416 - (وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) : أَيِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَأَبُوهُ، وُلِدَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَسَبَقَ ذِكْرُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، (عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رُبَّمَا) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِهَا وَهُوَ هُنَا لِلْقِلَّةِ أَيْ قَلِيلًا (مَشَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) : وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا) : أَيْ عَائِشَةَ (مَشَتْ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا (وَقَالَ: هَذَا) : أَيِ الْمَرْوِيُّ الثَّانِي وَهُوَ الْمَوْقُوفُ (أَصَحُّ) : أَيْ إِسْنَادًا أَوْ مَعْنًى.

4417 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ إِذَا جَلَسَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ فَيَضَعَهُمَا بِجَنْبِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4417 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ) : خَبَرٌ مُقَدَّمٌ (إِذَا جَلَسَ الرَّجُلُ) : ظَرْفٌ لِلْمُبْتَدَأِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ فَيَضَعَهُمَا بِجَنْبِهِ) : أَيِ الْأَيْسَرِ تَعْظِيمًا لِلْأَيْمَنِ، وَلَا يَضَعُ قُدَّامَهُ تَعْظِيمًا لِلْقِبْلَةِ، وَلَا وَرَاءَهُ خَوْفًا مِنَ السَّرِقَةِ، وَكَانَ فِي أَصْلِ الطِّيبِيِّ أَنَّ (مِنْ) بِزِيَادَةِ (أَنَّ) فَقَالَ: اسْمُ (أَنَّ) قَوْلُهُ: أَنْ يَخْلَعَ وَ (إِذَا جَلَسَ) ظَرْفٌ لَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4418 - وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ، فَلَبِسَهُمَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. (وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 4418 - (وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ اهـ. وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّهُ كُنْيَتُهُ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، سَبَقَ ذِكْرُهُ (أَنَّ النَّجَاشِيَّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَيُكْسَرُ وَبِتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَالْيَاءِ وَتُشَدَّدُ، وَقَدْ تُسَكَّنُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَهُوَ أَصْخَمَةُ مَلِكُ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ أَسْلَمَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا. (أَهَدَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاسْتِعْمَالَانِ شَائِعَانِ. فَفِي الصِّحَاحِ الْهَدِيَّةُ وَاحِدَةُ الْهَدَايَا، يُقَالُ: أَهْدَيْتُ إِلَيْهِ وَلَهُ بِمَعْنًى. (خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ) : بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مُعَرَّبُ (سَادَةٍ) عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ غَيْرَ مَنْقُوشَيْنِ، إِمَّا بِالْخِيَاطَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا، أَوْ لَا شِيَةَ فِيهِمَا تُخَالِفُ لَوْنَهُمَا، أَوْ مُجَرَّدَيْنِ عَنِ الشَّعْرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ. (فَلَبِسَهُمَا) : أَيْ عَلَى الطَّهَارَةِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ (عَنْ أَبِيهِ:، ثُمَّ تَوَضَّأَ) : أَيْ بَعْدَمَا أَحْدَثَ أَوْ بَعْدَمَا جَدَّدَ (وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا) : قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ دَلْهَمٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: «أَنَّ النَّجَاشِيَّ كَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُكَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي، وَهِيَ عَلَى دِينِكَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَهْدَيْتُكَ هَدِيَّةً جَامِعَةَ قَمِيصٍ وَسَرَاوِيلَ وَعِطَافٍ وَخُفَّيْنِ سَاذَجَيْنِ، فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا» . قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: رَاوِيهِ عَنِ الْهَيْثَمِ. قُلْتُ لِلْهَيْثَمِ: مَا الْعِطَافُ ; قَالَ: الطَّيْلَسَانُ. وَفِي الشَّمَائِلِ: «أَهَدَى دِحْيَةُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُفَّيْنِ وَجُبَّةً فَلَبِسَهُمَا حَتَّى تَخْرَّقَا لَا يَدْرِي أَذَكَّاهُمَا أَمْ لَا» . وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَجْهُولَةِ هُوَ الطَّهَارَةُ، ثُمَّ نَفَى الصَّحَابِيُّ دِرَايَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَّا لِتَصْرِيحِهِ لَهُ بِذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ قَرِينَةِ عَدَمِ سُؤَالِهِ وَتَفَحُّصِ حَالِهِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ الْخُفَّ وَمَسَحَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ.

[باب الترجل]

[بَابُ التَّرَجُّلِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4419 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا حَائِضٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (3) بَابُ التَّرَجُّلِ بِضَمِّ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ فِي النِّهَايَةِ: التَّرَجُّلُ وَالتَّرْجِيلُ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ وَتَنْظِيفُهُ وَتَحْسِينُهُ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: رَجَّلَ شَعْرَهُ أَيْ أَرْسَلَهُ بِالْمُشْطِ، وَتَرَجَّلَ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ اهـ. أَوْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ ذَلِكَ. وَفِي الْقَامُوسِ: شَعْرٌ رَجِلٌ وَكَكَتِفٍ وَكَجَبِلٍ بَيْنَ السُّبُوطَةِ وَالْجُعُودَةِ، وَقَدْ رَجِلَ كَفَرِحَ وَرَجَّلْتُهُ تَرْجِيلًا، وَفِي تَنْوِيرِ الْمَصَابِيحِ: التَّرَجُّلُ التَّطَهُّرُ وَالتَّزَيُّنُ وَالتَّرْجِيلُ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ بِالْمُشْطِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4419 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ شَعْرَ رَأْسِهِ (وَأَنَا حَائِضٌ) : فِيهِ جَوَازُ الْمُخَالَطَةِ مَعَ الْحَائِضِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ. قَالَ مِيرَكُ: كَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: «أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ يُخْرِجُهُ إِلَيْهَا» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى طَهَارَةِ بَدَنِ الْحَائِضِ وَعَرَقِهَا، وَأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْمَمْنُوعَةَ لِلْمُعْتَكِفِ هِيَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ كَذَا قَالُوا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُطْلَقًا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوُضُوءُ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِلَا فَضْلٍ بِالصَّلَاةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَمَسُّ الشَّعْرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

4420 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4420 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفِطْرَةُ) : أَيْ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ (خَمْسٌ) : قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: فُسِّرَتِ الْفِطْرَةُ بِالسُّنَّةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ، وَكَأَنَّهَا أَمْرٌ جَبْلِيٌّ فُطِرُوا عَلَيْهِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا وَأَجْمَعُهُ. (الْخِتَانُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: خَتَنَهُ يَخْتِنُهُ فَهُوَ خَتِينٌ وَمَخْتُونٌ قُطِعَ غُرْلَتُهُ، وَالِاسْمُ كَكِتَابٍ، وَالْغُرْلَةُ بِالضَّمِّ الْقُلْفَةُ. قَالَ فِي شَرْحِ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ: مِنَ السُّنَّةِ الْخِتَانُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّهُ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَشَدَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ وَقَالَ: الْأَقْلَفُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَصَلَاتُهُ وَذَبِيحَتُهُ، وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ اتِّفَاقًا، فَلَوْلَا وُجُوبُ الْخِتَانِ لَمْ يَجُزْ كَشْفُهَا، فَجَوَازُ الْكَشْفِ دَلِيلُ وُجُوبِهِ، كَذَا فِي التَّنْوِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنَّ مُرَادَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، لَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، لَكِنَّ غَالِبَ الْكُتُبِ مَشْحُونٌ بِأَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يُولَدْ مَخْتُونًا تَامًّا، وَإِنَّمَا قُيِّدْنَا بِهِ لِمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَمَجْمَعِ الْفَتَاوَى: صَبِيٌّ وُلِدَ مَخْتُونًا بِحَيْثُ لَوْ رَآهُ إِنْسَانٌ يَرَاهُ كَأَنَّهُ خُتِنَ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ الْخِتَانُ مَرَّةً أُخْرَى، وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ مِنَ الْحَجَّامِينَ تُرِكَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ. وَذَكَرَ زَيْنُ الْعَرَبِ: أَنَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَبِيًّا وُلِدُوا مَخْتُونِينَ: آدَمُ، وَشَيْثُ، وَنُوحٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَيُوسُفُ، وَمُوسَى، وَزَكَرِيَّا، وَسُلَيْمَانُ، وَعِيسَى، وَحَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ وَهُوَ نَبِيُّ أَصْحَابِ الرَّسِّ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الشِّرْعَةِ: أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ مَخْتُونِينَ مَسْرُورِينَ أَيْ مَقْطُوعِينَ السُّرَّةَ كَرَامَةً لَهُمْ، لِئَلَّا يَنْظُرَ أَحَدٌ إِلَى عَوْرَاتِهِمْ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ قَدْ خَتَنَ نَفْسَهُ لِيُسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ بَعْدَهَا، هَذَا لِلرَّجُلِ، وَأَمَّا لِلنِّسَاءِ فَمَكْرُمَةٌ، فَفِي خِزَانَةِ الْفَتَاوَى: خِتَانُ الرِّجَالِ سُنَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي خِتَانِ الْمَرْأَةِ، قَالَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: مَكْرُوهٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: سُنَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَاجِبٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَرْضٌ. قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ وَمَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ وَالِدِ أَبِي الْمَلِيحِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمَكْرُمَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَاحِدَةُ الْمَكَارِمِ، وَفِي فَتَاوَى الصُّوفِيَّةِ: أَنَّ وَقْتَ الْخِتَانِ سَبْعُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْوَقْتَ الْأَفْضَلَ الْأَعْدَلَ. (وَالِاسْتِحْدَادُ) : أَيْ حَلْقُ الْعَانَةِ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحَدِيدِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيدِ مِنْ نَحْوِ الْمُوسَى فِي حَلْقِ الْعَانَةِ ذِي الشَّعْرِ الَّذِي حَوَالَيْ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَفَرْجِ الْمَرْأَةِ. زَادَ ابْنُ شُرَيْحٍ: وَحَلْقَةُ الدُّبُرِ، فَجَعَلَ الْعَانَةَ مَنْبَتَ الشَّعْرِ مُطْلَقًا، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ أَزَالَ شَعْرَهُ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ لَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ. كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ شَيْئًا مِنْ شَعْرٍ وَهُوَ جُنُبٌ. (وَقَصُّ الشَّارِبِ) : وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى طَرَفِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَلِلنَّسَائِيِّ: وَحَلْقُ الشَّارِبِ، وَلَهُ أَيْضًا: وَتَقْصِيرُ الشَّارِبِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ يَقُصَّهُ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَلَا يَحْفِيهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ: أَحِفُّوا فَمَعْنَاهَا أَزِيلُوا مَا طَالَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَصُّ الشَّارِبِ أَنْ يَأْخُذَ مَا طَالَ عَلَى الشَّفَةِ بِحَيْثُ لَا يُؤْذِي الْآكِلَ، وَلَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْوَسَخُ. وَقَالَ: الْإِحْفَاءُ هُوَ الْقَصُّ الْمَذْكُورُ، وَلَيْسَ بِالِاسْتِئْصَالِ عِنْدَ مَالِكٍ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ: أَيْ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ الِاسْتِئْصَالُ، وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى التَّخْيِيرِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْإِحْفَاءَ الِاسْتِئْصَالُ، وَكَذَا النَّهْكُ بِالنُّونِ وَالْكَافِ الْمُبَالَغَةُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَلَا تَعَارُضَ ; فَإِنَّ الْقَصَّ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، وَالْإِحْفَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الْكُلِّ، وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَرَجَّحَ ذَلِكَ ثُبُوتُ الْأَمْرَيْنِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، كَذَا حَقَّقَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي الْمُحِيطِ: لَا يَحْلِقُ شَعْرَ حَلْقِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ شَعْرَ الْحَاجِبَيْنِ وَشَعْرَ وَجْهِهِ مَا لَمْ يَتَشَبَّهْ بِالْمُخَنَّثِينَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُكْرَهُ أَنْ يَحْلِقَ قَفَاهُ إِلَّا عِنْدَ الْحِجَامَةِ، وَأَمَّا حَلْقُ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالظَّهْرِ، فَفِيهِ تَرْكُ الْأَدَبِ كَذَا فِي الْقِنْيَةِ. (وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ) : وَالْمُسْتَحَبُّ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِحْيَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْيَدَيْنِ قَبْلَ الرِّجْلَيْنِ، فَيَبْدَأُ بِمُسَبِّحَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْبِنْصِرِ، ثُمَّ الْخِنْصِرِ، ثُمَّ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْيُسْرَى، فَيَبْدَأُ بِخِنْصِرِهَا، ثُمَّ بِنْصِرِهَا إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ يَبْدَأُ بِخِنْصِرِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى، وَيَخْتِمُ بِبِنْصِرِ الْيُسْرَى، وَفِي الْقِنْيَةِ:

إِذَا قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَوْ جَزَّ شَعْرَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَدْفِنَ قُلَامَتَهُ، فَإِنْ رَمَى بِهِ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الْكَنِيفِ أَوِ الْمُغْتَسَلِ يُكْرَهُ. وَفِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَقُصُّ شَارِبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّلَاةِ» . وَرَوَى النَّوَوِيُّ كَالْعِبَادِيِّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْغِنَى عَلَى كُرْهٍ فَلْيُقَلِّمْ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ: «يَا عَلِيُّ! قُصَّ الْأَظْفَارَ، وَانْتِفِ الْإِبِطَ، وَاحْلِقِ الْعَانَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَالْغُسْلُ وَالطِّيبُ وَاللِّبَاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . قِيلَ: وَلَمْ يَثْبُتْ فِي قَصِّ الظُّفْرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَدِيثٌ، بَلْ كَيْفَمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَلَا فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لَهُ شَيْءٌ وَمَا يُعْزَى مِنَ النَّظْمِ فِي ذَلِكَ لِعَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ بَاطِلٌ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَمِنَ الْفَوَائِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالظُّفْرِ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ الظُّفْرَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيشِ عَلَى الطَّيْرِ، فَلَمَّا عَصَى سَقَطَ مِنْهُ لِبَاسُهُ، وَتُرِكَتِ الْأَظْفَارُ زِينَةً وَمَنَافِعَ. وَرَوَى أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ آدَمُ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَكَسَاهُ اللَّهُ هَذَا الْجِلْدَ، وَأَعَانَهُ بِالظُّفْرِ يَحُكُّ بِهِ، كَذَا فِي إِتْمَامِ الدِّرَايَةِ لِقُرَّاءِ النُّقَايَةِ. (وَنَتْفُ الْإِبِطِ) : أَيْ نَتْفُ شَعْرِهِ، وَالْإِبِطُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ. وَحُكِيَ كَسْرُهَا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا أَيْ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا: الْآبَاطُ بِالْجَمْعِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِبِطُ بَاطِنُ الْمَنْكِبِ وَبِكَسْرِ الْبَاءِ وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ آبَاطٌ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: الْمَفْهُومُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ حَلْقَ الْإِبِطِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، بَلِ السُّنَّةُ نَتْفُهُ لِأَنَّ شَعْرَهُ يَغْلُظُ بِالْحَلْقِ، وَيَكُونُ أَعْوَنَ لِلرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّتْفُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ، لِمَا حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَحْلِقُ إِبِطَهُ فَقَالَ: عَلِمْتُ أَنَّ السُّنَّةَ نَتْفُهُ، لَكِنْ لَا أَقْوَى عَلَى الْوَجَعِ. وَفِي الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرْفُوعًا " «لَا تَنْتِفُوا الشَّعْرَ الَّذِي كُوِّنَ فِي الْأَنْفِ ; فَإِنَّهُ يُورِثُ الْآكِلَةَ وَلَكِنْ قُصُّوهُ قَصًّا» " ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ. . إِلَخْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: الْفِطْرَةُ خُمْسٌ مَعْنَاهُ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَلَيْسَتِ الْفِطْرَةُ مُنْحَصِرَةً فِي الْعَشْرِ، ثُمَّ إِنَّ مُعْظَمَ هَذِهِ الْخِصَالِ سُنَّةٌ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا خِلَافٌ كَالْخِتَانِ، وَلَا يُمْتَنَعُ قِرَانُ الْوَاجِبِ بِغَيْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، فَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ، وَالْأَكْلُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالْخِتَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ فِي الرَّجُلِ أَنْ يَقْطَعَ جَمِيعَ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ حَتَّى تَنْكَشِفَ، وَفِي الْمَرْأَةِ يَجِبُ قَطْعُ أَدْنَى جُزْءٍ مِنَ الْجِلْدَةِ الَّتِي فِي أَعْلَى الْفَرْجِ.

4421 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ: أَوْفِرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَنْهِكُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4421 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ) : أَيْ: فَإِنَّهُمْ يَقُصُّونَ اللِّحَى وَيَتْرُكُونَ الشَّوَارِبَ حَتَّى تَطُولَ، كَمَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (أَوْفِرُوا) : أَيْ أَكْثِرُوا (اللِّحَى) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَبِالْقَصْرِ جَمْعُ لِحْيَةٍ بِالْكَسْرِ مَا يَنْبُتُ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَالذَّقَنِ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَالْمَعْنَى اتْرُكُوا اللِّحَى كَثِيرًا بِحَالِهَا وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا وَاتْرُكُوهَا لِتَكْثُرَ. (وَأَحِفُّوا) : بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَيْ قُصُّوا (الشَّوَارِبَ) : فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: قَدَّمَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْأُولَى، ثُمَّ فِي الْمُغْرِبِ: أَحْفَى شَارِبَهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ بَالَغَ فِي جَزِّهِ. قِيلَ: الْإِحْفَاءُ قَرِيبٌ مِنَ الْحَلْقِ، وَأَمَّا الْحَلْقُ فَلَمْ يَرِدْ، بَلْ كَرِهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَرَآهُ بِدْعَةً. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: الْإِحْفَاءُ الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلِاسْتِقْصَاءِ فِي أَخْذِ الشَّارِبِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: (وَفِي رِوَايَةٍ: " أَنْهِكُوا الشَّوَارِبَ) : وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ وَفَتْحِ الْهَاءِ، يُقَالُ: نَهِكَ كَفَرِحَ وَأَنْهَكَ بَالَغَ فِي قَصِّهِ. (وَأَعْفُوا اللِّحَى) : بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ. بِمَعْنَى أَوْفِرُوا، وَفِي الْإِحْيَاءِ عَشْرُ خِصَالٍ مَكْرُوهَةٌ، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ خِضَابُهَا بِالسَّوَادِ، وَتَبْيِيضُهَا بِالْكَبْرِيتِ وَغَيْرِهِ، وَنَتْفُهَا وَنَتْفُ الشَّيْبِ، وَالنُّقْصَانُ مِنْهَا وَالزِّيَادَةُ فِيهَا، وَتَسْرِيحُهَا تَصَنُّعًا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ، وَتَرْكُهَا شَعِثَةً إِظْهَارًا لِلزُّهْدِ، وَالنَّظَرُ إِلَى سَوَادِهَا عَجَبًا بِالشَّبَابِ، وَإِلَى بَيَاضِهَا تَكْبُّرًا بِعَلَقِ السِّنِ، وَخِضَابُهَا بِالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ تَشْبِيهًا بِالصَّالِحِينَ لَا لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ. وَزَادَ النَّوَوِيُّ: وَعَقْدُهَا وَتَصْفِيفُهَا طَاقَةً فَوْقَ طَاقَةٍ وَحَلْقُهَا إِلَّا إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا حَلْقُهَا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَسَيَجِيءُ اسْتِحْبَابُ أَخْذِ اللِّحْيَةِ طُولًا وَعَرْضًا، لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ، وَهَذَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا بَعْدَمَا طَالَتْ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ قَصُّهَا كَرَاهَةَ أَنْ تَصِيرَ مِثْلَهُ. وَأَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُدْرَجَ فِي أَخْذِهَا لِتَصِيرَ مِقْدَارَ قَبْضَةٍ عَلَى مَا هُوَ السُّنَّةُ وَالِاعْتِدَالُ الْمُتَعَارَفُ، لَا أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِالْمَرَّةِ فَيَكُونُ مِثْلَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4422 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4422 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: وُقِّتَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّوْقِيتِ أَيْ وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَ وَعَيَّنَ (لَنَا) : أَيْ لِأَجْلِنَا (فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ) : أَيْ نَحْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ (أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) : وَالْمَعْنَى أَنْ لَا نَتْرُكَ تَرْكًا يَتَجَاوَزُ أَرْبَعِينَ، لَا أَنَّهُ وُقِّتَ لَهُمُ التَّرْكُ أَرْبَعِينَ ; لِأَنَّ الْمُخْتَارَ أَنْ يُضْبَطَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ وَالْقَصُّ بِالطُّولِ، فَإِذَا طَالَ حَلَقَ وَقَصَّ وَقَلَّمَ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُصُّ شَارِبَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَظْفَارِهِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ» اهـ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ حَلْقَ الْعَانَةِ وَنَتْفَ الْإِبِطِ كَانَ يُؤَخِّرُهُمَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ إِطَالَتِهِمَا فِي أُسْبُوعٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ أَظْفَارَهُ، وَيُحْفِي شَارِبَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَيَحْلِقُ الْعَانَةَ فِي عِشْرِينَ يَوْمًا، وَيَنْتِفُ الْإِبِطَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» ، وَفِي الْقِنْيَةِ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ وَيُحْفِيَ شَارِبَهُ وَيَحْلِقَ عَانَتَهُ وَيُنَظِّفَ بَدَنَهُ بِالِاغْتِسَالِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا عُذْرَ فِي تَرْكِهِ وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ، فَالْأُسْبُوعُ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ هُوَ الْأَوْسَطُ، وَالْأَرْبَعُونَ هُوَ الْأَبْعَدُ، وَلَا عُذْرَ فِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ، وَيَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ عِنْدَنَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ الْمَظْهِرُ: وَقَدْ جَاءَ فِي تَوْقِيتِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَحَادِيثُ لَيْسَتْ فِي الْمَصَابِيحِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُصُّ شَارِبَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَظْفَارِهِ كُلَّ جُمُعَةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ» ، وَقِيلَ: كَانَ يَحْلِقُ الْعَانَةَ وَيَنْتِفُ الْإِبِطَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ فِي كُلِّ شَهْرٍ اهـ. وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ قَاضِيخَانْ: رَجُلٌ وَقَّتَ لِقَلْمِ أَظَافِيرِهِ وَحَلْقِ رَأْسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. قَالُوا: إِنْ كَانَ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَخَّرَهُ إِلَى يَوْمِهَا تَأْخِيرًا فَاحِشًا كَانَ مَكْرُوهًا ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ ظُفْرُهُ طَوِيلًا كَانَ رِزْقُهُ ضَيِّقًا، فَإِنْ لَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ وَأَخَّرَهُ تَبَرُّكًا بِالْأَخْبَارِ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنَ الْبَلَايَا إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» " اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَ حَلْقِ الرَّأْسِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ لَا تَعْيِينَ لَهُ بِلَا كَلَامٍ، وَالصَّوَابُ فِي عِلَّةِ كَرَاهَةِ تَأْخِيرِ قَلْمِ الظُّفْرِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ لَا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ يُوجِبُ تَضْيِيقُ الرِّزْقِ، مَعَ أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى تِلْكَ الْمُخَالَفَةِ، لَا أَنَّهُ أَصْلٌ فِي التَّعْلِيلِ فَتَأَمَّلْ.

4423 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4423 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ» ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَفِي أُخْرَى بِكَسْرِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ صَبَغَ كَمَنَعَ وَضَرَبَ وَنَصَرَ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى لَا يَخْضِبُونَ لِحَاهُمْ (فَخَالِفُوهُمْ) : أَيْ فَأَخْضِبُوهَا أَنْتُمْ بِالْحِنَّاءِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

4424 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثُّغَامَةِ بَيَاضًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4424 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُتِيَ) : أَيْ جِيءَ (بِأَبِي قُحَافَةَ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ وَالِدُ الصِّدِّيقِ، وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرٍ قُرَشِيٌّ تَيْمِيٌّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَلَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ الصِّدِّيقُ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ. (يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ) : أَيْ أَوَّلَ مَا أَسْلَمَ (وَرَأَسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثُّغَامَةِ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَكَذَا ضَبَطَهُ مِيرَكُ شَاهْ. " وَقِيلَ بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، لَكِنَّ فِي الْقَامُوسِ: الثَّغَامُ كَسَحَابٍ نَبْتٌ فَارِسِيَّتُهُ " دَرْمَثَهْ " وَاحِدَتُهُ بِهَاءٍ، وَالرَّأْسُ صَارَ كَالثُّغَامَةِ بَيَاضًا، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ نَبْتٌ شَدِيدُ الْبَيَاضِ زَهْرُهُ وَثَمَرُهُ يُشَبَّهُ بِهِ الشَّيْبُ، وَقَوْلُهُ: (بَيَاضًا) : تَمْيِيزٌ عَنِ النِّسْبَةِ الَّتِي هِيَ التَّشْبِيهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ. (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غَيِّرُوا هَذَا) : أَيِ الْبَيَاضَ (بِشَيْءٍ) : أَيْ مِنَ الْخِضَابِ (وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْغُزَاةِ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْغُزَاةِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ لَا لِلتَّزْيِينِ فَلَا بَأْسَ لَهُ، رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ خَضَبُوا لِحَاهُمْ بِالسَّوَادِ لِلْمَهَابَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ:

«جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَحْمِلُهُ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ وَرَأَسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثُّغَامَةِ بَيَاضًا» . . إِلَخْ. وَزَادَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ: فَذَهَبُوا بِهِ وَحَمَّرُوهُ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ: غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تُقَرِّبُوهُ السَّوَادَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخِضَابِ أَقْوَالٌ، وَأَصَحُّهَا أَنَّ خِضَابَ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ يُسْتَحَبُّ وَبِالسَّوَادِ حَرَامٌ، وَقَدْ سَبَقَ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مُوَطِّئِهِ: لَا نَرَى بِالْخِضَابِ بِالْوَسْمَةِ وَالْحِنَّاءِ وَالصُّفْرَةِ بَأْسًا، وَإِنْ تَرَكَهُ أَبْيَضَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَفِي الشِّرْعَةِ: الْخِضَابُ سُنَّةٌ ثَبَتَ قَوْلًا وَفِعْلًا. قَالَ شَارِحُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَمَّا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَفِّرَ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ» ، وَسَيَأْتِي، وَفِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى: اخْتُلِفَتِ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ فَعَلَ الْخِضَابَ فِي عُمْرَةٍ؟ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، يَعْنِي الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الْخِضَابَ فِي لِحْيَتِهِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا خِضَابُ رَأْسِهِ بِالْحِنَّاءِ فَهُوَ مَشْهُورٌ وَقِيلَ: كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ لِدَفْعِ الصُّدَاعِ وَالْحَرَارَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْخِضَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ مِنْهَا: «اخْتَضِبُوا بِالْحِنَّاءِ ; فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي شَبَابِكُمْ وَجَمَالِكُمْ وَنِكَاحِكُمْ» ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَنَسٍ. وَمِنْهَا: «اخْتَضِبُوا بِالْحِنَّاءِ ; فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ يُسَكِّنُ الرَّوْعَ» . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ أَنَسٍ، وَمِنْهَا: «اخْتَضِبُوا وَافْرِقُوا وَخَالِفُوا الْيَهُودَ» ، رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا بَحْثٌ.

4425 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدُلُونَ أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرِقُونَ رُءُوسَهُمْ، فَسَدَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4425 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا) : أَيْ فِي أَمْرٍ (لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ) : أَيْ بِشَيْءٍ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ حُكْمٌ بِالْمُخَالَفَةِ (وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ) : أَيِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى (يَسْدُلُونَ) : بِضَمِّ الدَّالِّ وَيُكْسَرُ، فَفِي الْمُغْرِبِ: سَدَلَ مِنْ بَابِ (طَلَبَ) ، وَ (أَسْدَلَ) خَطَأٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: سَدَلَهُ يَسْدُلُهُ وَأَسْدَلَهُ أَرْخَاهُ وَأَرْسَلَهُ. (أَشْعَارَهُمْ) : وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِرْسَالُ الشَّعْرِ حَوْلَ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَسَّمَ نِصْفَيْنِ، نِصْفٌ مِنْ جَانِبِ يَمِينِهِ وَنَحْوَ صَدْرِهِ، وَنِصْفٌ مِنْ جَانِبِ يَسَارِهِ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: سَدَلَ الشَّعْرَ إِذَا أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَضُمَّ جَوَانِبَهُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ إِرْسَالُهُ عَلَى الْجَبِينِ وَاتِّخَاذُهُ كَالْقُصَّةِ وَالْفَرْقُ فَرْقُ الشَّعْرِ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: السَّدْلُ أَنْ يُرْسِلَ الشَّخْصُ شَعْرَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَلَا يَجْعَلَهُ فِرْقَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِرْقَتَيْنِ، كُلَّ فِرْقَةٍ ذُؤَابَةً. وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: (وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرِقُونَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِضَمٍّ وَرُوِيَ مِنَ التَّفْرِيقِ (رُءُوسَهُمْ) : أَيْ شَعْرَ رُءُوسِهِمْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ وَيَكْشِفُوا عَنْ جَبِينِهِمْ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْفَرْقُ قِسْمَةُ الشَّعْرِ، وَالْمِفْرَقُ: وَسَطُ الرَّأْسِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ (فَسَدَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاصِيَتَهُ) : أَيْ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ (ثُمَّ فَرَقَ) : بِالتَّخْفِيفِ وَقَدْ يُشَدَّدُ وَزَادَ فِي الشَّمَائِلِ رَأْسَهُ أَيْ شَعْرَهُ (بَعْدُ) : بِضَمِّ الدَّالِّ أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الزَّمَانِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ - الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَاهُ وَأَمَرَهُ بِالْفَرْقِ فَفَرَقَ الْمُسْلِمُونَ رُءُوسَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ، فَقِيلَ فَعَلَهُ ائْتِلَافًا لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَمُوَافَقَةً لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ خَالَفَهُمْ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: صَبْغُ الشَّيْبِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوهُ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا ; لِأَنَّهُ قَالَ: يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ، وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا لَتَحَتَّمَ اتِّبَاعُهُ. قَالُوا: وَالْفَرْقُ سُنَّةٌ ; لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ بِوَحْيٍ لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: نُسِخَ السَّدْلُ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، وَلَا اتِّخَاذُ النَّاصِيَةِ وَالْجُمَّةِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ الْفَرْقِ وَلَا وُجُوبُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَرْقَ كَانَ اجْتِهَادًا فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا بِوَحْيٍ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ مُسْتَحَبًّا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَّةٌ، فَإِنِ افْتَرَقَتْ فَرَقَهَا وَإِلَّا تَرَكَهَا» . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ جَوَازُ السَّدْلِ، وَالْفَرْقُ أَفْضَلُ اهـ.

وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: جَزَمَ الْحَازِمِيُّ أَنَّ السَّدْلَ نُسِخَ بِالْفَرْقِ، وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ: ثُمَّ أَمَرَ بِالْفَرْقِ، وَكَانَ الْفَرْقُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا وَالْأُمُورُ الَّتِي وَافَقَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الْكِتَابِ، ثُمَّ خَالَفَهُمُ السَّدْلُ، ثُمَّ الْفَرْقُ، وَتَرْكُ صَبْغِ الشَّعْرِ ثُمَّ فَعَلَهُ، وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ خَالَفَهُمْ بِصَوْمِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَاسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ الْكَعْبَةَ، وَتَرْكُ مُخَالَطَةِ الْحَائِضِ، ثُمَّ الْمُخَالَطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ، وَصَوْمُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنْهُ وَالْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ، ثُمَّ تَرْكُهُ. وَمِنْهَا: النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَنَاسِخُهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ يَتَحَرَّى ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ الْكُفَّارِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» . وَفِي لَفْظِ: «مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صِيَامِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: يَوْمَا عِيدٍ، إِنَّ السَّبْتَ عِيدُ الْيَهُودِ وَالْأَحَدَ عِيدُ النَّصَارَى» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4426 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنِ الْقَزَعِ. قِيلَ لِنَافِعٍ: مَا الْقَزَعُ؟ قَالَ: يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكُ الْبَعْضُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمُ التَّفْسِيرَ بِالْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4426 - (وَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولَ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنِ الْقَزَعِ) : بِفَتْحِ قَافٍ وَزَايٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَصْلُ الْقَزَعِ قِطَعُ السَّحَابِ الْمُتَفَرِّقَةُ، شَبَّهَ تَفَارِيقَ الشَّعْرِ فِي رَأْسِهِ بِهَا. (قِيلَ لِنَافِعٍ: مَا الْقَزَعُ ; قَالَ: يُحْلَقُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكُ الْبَعْضُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقَزَعُ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ الرَّاوِي وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهَةِ الْقَزَعِ إِذَا كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمُدَاوَاةٍ وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ) : أَيْ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنَ الْمُحْدَثِينَ (التَّفْسِيرَ) : أَيِ الْمَوْقُوفَ (بِالْحَدِيثِ) : أَيِ الْمَرْفُوعِ بِأَنْ حُذِفَ قَوْلُهُ لِنَافِعٍ، وَسُرِدَ الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ.

4427 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى صَبِيًّا قَدْ حُلِقَ بَعْضُ رَأْسِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: " احْلِقُوا كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوا كُلَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4427 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى صَبِيًّا قَدْ حُلِقَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (بَعْضُ رَأْسِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهَاهُمْ) : أَيْ أَهْلَ الصَّبِيِّ (عَنْ ذَلِكَ) : أَيْ عَمَّا ذُكِرَ مِنْ حَلْقِ الْبَعْضِ وَتَرْكِ الْبَعْضِ (فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَقَالَ (احْلِقُوا كُلَّهُ) : أَيْ كُلَّ الرَّأْسِ أَيْ شَعْرَهُ (أَوِ اتْرُكُوا كُلَّهُ) : فِي إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّ الْحَلْقَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَائِزٌ، وَأَنَّ الرَّجُلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحَلْقِ وَتَرْكِهِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَحْلِقَ إِلَّا فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَانْفَرَدَ مِنْهُمْ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - كَمَا سَبَقَ أَوَّلُ الْكِتَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ.

4428 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: " أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4428 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُخَنَّثِينَ) : بِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ وَكَسْرِهَا، وَالْأَوَّلُ أَشْهُرُ أَيِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ (مِنَ الرِّجَالِ) : فِي الزِّيِّ وَاللِّبَاسِ وَالْخِضَابِ وَالصَّوْتِ وَالصُّورَةِ وَالتَّكَلُّمِ وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ مِنْ خَنِثَ يَخْنَثُ كَعَلِمَ يَعْلَمُ إِذَا لَانَ وَتَكَسَّرَ، فَهَذَا الْفِعْلُ مَنْهِيٌّ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ (وَالْمُتَرَجِّلَاتِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ " الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ (مِنَ النِّسَاءِ) : زِيًّا وَهَيْئَةً وَمِشْيَةً وَرَفْعَ صَوْتٍ وَنَحْوَهَا لَا رَأْيًا وَعِلْمًا، فَإِنَّ التَّشَبُّهَ بِهِمْ مَحْمُودٌ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ رَجُلَةَ الرَّأْيِ أَيْ: رَأْيُهَا كَرَأْيِ الرِّجَالِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. (وَقَالَ) : أَيْ خِطَابًا عَامًّا (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ) : أَيْ مِنْ مَسَاكِنِكُمْ وَمِنْ بَلَدِكُمْ، فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى الْبَقِيعِ» ، فَفِي شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ الْحِنَّاءُ سُنَّةٌ لِلنِّسَاءِ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِنَّ مِنَ الرِّجَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِهِنَّ اهـ.

وَمَفْهُومُهُ أَنَّ تَخْلِيَةَ النِّسَاءِ عَنِ الْحِنَّاءِ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِتُشَبُّهِهِنَّ بِالرِّجَالِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي الْأَصْلِ وَالْعَجَبُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي أَنَّ رِجَالَهُمْ يَتَحَنَّوْنَ مَعَ أَنَّ هَذَا شِعَارُ الرَّافِضَةِ أَيْضًا، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

4429 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4429 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ) : يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ وَالدُّعَاءَ (الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخَنَّثُ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّفِ التَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِ النِّسَاءِ وَزِيِّهِنَّ وَكَلَامِهِنَّ وَحَرَكَاتِهِنَّ، وَهَذَا لَا ذَمَّ عَلَيْهِ وَلَا إِثْمَ وَلَا عَيْبَ وَلَا عُقُوبَةَ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَالثَّانِي مِنْ يَتَكَلَّفُ أَخْلَاقَ النِّسَاءِ وَحَرَكَاتِهِنَّ وَسَكَنَاتِهِنَّ وَكَلَامِهِنَّ وَزِيِّهِنَّ، فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَعْنُهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

4430 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4430 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ) : أَيِ الَّتِي تُوصِلُ شَعْرَهَا بِشِعْرٍ آخَرَ زُورًا وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَفْعَلَ بِنَفْسِهَا أَوْ تَأْمُرَ غَيْرَهَا بِأَنْ يَفْعَلَهُ، (وَالْمُسْتَوْصِلَةَ) : أَيِ الَّتِي تَطْلُبُ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِهَا، وَتَأْمُرُ مَنْ يَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ، وَهِيَ تَعُمُّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، فَالتَّاءُ إِمَّا بِاعْتِبَارِ النَّفْسِ ; أَوْ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْآمِرَةُ وَالرَّاضِيَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْوَصْلِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ، وَقَدْ فَصَّلَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: إِنْ وَصَلَتْ بِشَعْرِ آدَمِيٍّ فَهُوَ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهُ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ لِكَرَامَتِهِ، وَأَمَّا الشَّعْرُ الطَّاهِرُ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْحٌ وَلَا سَيِّدٌ فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا ; وَإِنْ كَانَ فَثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ، أَصَحُّهَا: إِنْ فَعَلَتْهُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ جَازَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ: عَلَى أَنَّ الْوَصْلَ مَمْنُوعٌ بِكُلِّ شَيْءٍ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ خِرَقٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ وَقَالَ اللَّيْثُ: النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِالشَّعْرِ فَلَا بَأْسَ بِوَصْلِهِ بِصُوفٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عَنْهَا كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. (وَالْوَاشِمَةَ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْوَشْمِ وَهُوَ غَرْزُ الْإِبْرَةِ أَوْ نَحْوِهَا فِي الْجِلْدِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ، ثُمَّ حَشْوُهُ بِالْكُحْلِ أَوِ النِّيلِ أَوِ النَّوْرَةِ فَيَخْضَرُّ ; (وَالْمُسْتَوْشِمَةَ) : أَيْ مَنْ أَمَرَ بِذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْفَاعِلَةِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي وُشِمَ يَصِيرُ نَجِسًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهُ بِالْعِلَاجِ وَجَبَتْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا بِالْجَرْحِ، فَإِنْ خَافَ مِنْهُ التَّلَفَ أَوْ فَوْتَ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَتَهُ أَوْ شَيْئًا فَاحِشًا فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ لَمْ يَجِبْ إِزَالَتُهُ، وَإِذَا تَابَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِثْمٌ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ إِزَالَتُهُ وَيَعْصَى بِتَأْخِيرِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ.

4431 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَقَالَ: مَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ. قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَالَ نَهَى عَنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4431 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ هِيَ الَّتِي تَطْلُبُ إِزَالَةَ الشَّعْرِ مِنَ الْوَجْهِ بِالْمِنْمَاصِ أَيِ الْمِنْقَاشِ، وَالَّتِي تَفْعَلُهُ نَامِصَةٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ حَرَامٌ إِلَّا إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ أَوْ شَوَارِبُ (وَالْمُتَفَلِّجَاتِ) : بِكَسْرِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَطْلُبُ الْفَلَجَ، وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ فُرْجَةٌ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ السِّنِينَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِنَّ النِّسَاءُ اللَّاتِي تَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَسْنَانِهِنَّ رَغْبَةً فِي التَّحْسِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الَّتِي تُبَاعِدُ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ بِتَرْقِيقِ الْأَسْنَانِ بِنَحْوِ الْمِبْرَدِ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي تُرَقِّقُ الْأَسْنَانَ وَتُزَيِّنُهَا، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِلْحُسْنِ) : لِلتَّعْلِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّنَازُعُ فِيهِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَخِيرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَرَامَ هُوَ الْمَفْعُولُ لِطَلَبِ الْحُسْنِ، أَمَّا لَوِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لِعِلَاجٍ أَوْ عَيْبٍ فِي السِّنِّ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. (الْمُغَيِّرَاتِ) : صِفَةٌ لِلْمَذْكُورَاتِ جَمِيعًا وَمَفْعُولُهُ

(خَلْقَ اللَّهِ) : وَالْجُمْلَةُ كَالتَّعْلِيلِ لِوُجُوبِ اللَّعْنِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (فَجَاءَتْهُ) : أَيْ: ابْنَ مَسْعُودٍ (امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنَ (بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ) : أَيِ الْوَاشِمَاتِ وَمَا بَعْدَهُنَّ، وَالْمَعْنَى أُخْبِرْتُ أَنَّكَ أَخْبَرْتَ عَنْ لَعْنِ اللَّهِ، أَوْ أَنْشَأْتَ اللَّعْنَ مِنْ عِنْدِكَ عَلَى الْمَذْكُورَاتِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ لَعْنُهُنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ لَعْنُ مَنْ لَمْ يَلْعَنْهُ اللَّهُ، (فَقَالَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (مَا لِي) : " مَا " نَافِيَةٌ أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالْمَعْنَى كَيْفَ (لَا أَلْعَنُ مِنْ لَعَنَ) : أَيْ لَعَنَهُ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : فَصَارَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا بَعْدَمَا كَانَ مَوْقُوفًا (وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ) : عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ أَيْ وَمَنْ هُوَ مَلْعُونٌ فِيهِ أَيْ مَذْكُورٌ فِيهِ لَعْنُهُ ضِمْنًا، وَلَمَّا أَبْهَمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا سَارَعَتْ (فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ) : فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ (مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ) : أَيِ الدَّفَّتَيْنِ، الْمُرَادُ أَوَّلُ الْقُرْآنِ وَآخِرُهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيعَابِ بِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ، وَكَأَنَّهَا أَرَادَتْ بِاللَّوْحَيْنِ جِلْدَيْ أَوَّلِ الْمُصْحَفِ وَآخِرِهِ أَيْ قَرَأْتُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ (فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ) : أَيْ صَرِيحًا (قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ) : بِإِشْبَاعِ كَسْرَةِ التَّاءِ إِلَى تَوَلُّدِ الْيَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ الْأُولَى مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَالثَّانِيَةُ لِجَوَابِ الْقَسَمِ الَّذِي سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ أَيْ لَوْ قَرَأْتِيهِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ لَعَرَفْتِ ذَلِكَ. (أَمَا قَرَأْتِ) : هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيَّةُ وَمَا النَّافِيَةُ وَمَفْعُولُهُ (قَوْلُهُ: مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] : فَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ (قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ) : أَيِ الرَّسُولَ الْمَذْكُورَ (قَدْ نَهَى عَنْهُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعِبَادُ مَأْمُورِينَ بِانْتِهَاءِ مَا نَهَاهُمُ الرَّسُولُ، وَقَدْ نَهَاهُمْ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، فَكَانَ جَمِيعُ مَنْهِيَّاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْهِيًّا مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لَعْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاشِمَاتِ. . إِلَخْ كَلَعْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى قَوْلِهِ: خَلْقَ اللَّهِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ.

4432 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ " وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4432 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَيْنُ) : أَيْ إِصَابَتُهَا (حَقٌّ) : أَيْ أَمْرٌ مُتَحَقِّقُ الْوُقُوعِ لَهَا تَأْثِيرٌ مَقْضِيٌّ بِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ. وَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: أَصَابَتْ فُلَانًا عَيْنٌ إِذَا نَطَرَ إِلَيْهِ عَدُوٌّ أَوْ حَسُودٌ، فَأَثَّرَتْ فِيهِ، فَمَرِضَ بِسَبَبِهَا. (وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ) : عَطْفٌ عَلَى قَالَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ اقْتِرَانَ النَّهْيِ عَنِ الْوَشْمِ بِإِصَابَةِ الْعَيْنِ رَدٌّ لِزَعْمِ الْوَاشِمَةِ أَنَّهُ يَرُدُّ الْعَيْنَ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اقْتِرَانِهِمَا فِي زَمَانِ تَكَلُّمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمَا فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : أَيِ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَإِلَّا فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْعَيْنُ حَقٌّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: الْعَيْنُ حَقٌّ تَسْتَنْزِلُ الْحَالِقَ أَيِ الْجَبَلَ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَدِيٍّ أَيْضًا عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ: «الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ» . وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقُ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَ (إِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» ) أَيْ إِذَا طَلَبَ مَنْ أَصَابَهُ الْعَيْنُ أَنْ يَغْتَسِلَ مَنْ أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ فَلْيُجِبْهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَرَوَى الْكَجِّيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: «الْعَيْنُ حَقٌّ يُحْضِرُهَا الشَّيْطَانُ وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ» .

4433 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُلَبِّدًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4433 - ( «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُلَبِّدًا» ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُفْتَحُ، فِي الْفَائِقِ: التَّلْبِيدُ أَنْ يَجْعَلَ فِي رَأْسِهِ لُزُوقًا صَمْغًا أَوْ عَسَلًا لِيَتَلَبَّدَ فَلَا يَقْمُلُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَنْ يَجْعَلَ رَأْسَهُ كَاللُّبَدِ بِالصَّبْغِ لِأَجْلِ السَّفَرِ لِئَلَّا يَتَلَوَّثَ بِالْغُبَارِ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّلْبِيدِ فِي غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4434 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4434 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» ) : أَيْ يَسْتَعْمِلَ الزَّعْفَرَانَ فِي ثَوْبِهِ وَبَدَنِهِ ; لِأَنَّهُ عَادَةُ النِّسَاءِ، وَأَمَّا الْقَلِيلُ مِنْهُ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْهُ لَمَّا رَآهَ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ، قَالَ أَبُو عِيسَى: مَعْنَى كَرَاهَةِ التَّزَعْفُرِ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرَّجُلِ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ، أَمَّا الْقَلِيلُ مِنْهُ فَقَدْ رُوِيَ التَّرْخِيصُ فِيهِ لِلْمُتَزَوِّجِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ عَلَيْهِ دِرْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ الْتَصَقَ بِثَوْبِهِ مِنَ الْعَرُوسِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ عَنِ التَّطَيُّبِ بِهِ الشَّامِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طِيبُ الرِّجَالِ مَا خَفِيَ لَوْنُهُ» " قَالَ: وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَلَّقُونَ وَلَا يَرَوْنَ بِالْخَلُوقِ بَأْسًا. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ مَا بَلَغَهُمُ النَّهْيُ أَوْ مَا صَحَّ عِنْدَهُمْ. قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: رَأَيْتُ الشَّعْبِيَّ دَخَلَ الْحَمَّامَ فَخُلِّقَ بِخَلُوقٍ، ثُمَّ غَسَلَهُ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ كَانَ لِمُدَاوَاةٍ ; مَعَ أَنَّ تَخَلُّقَهُ ثُمَّ غَسْلَهُ لَا يُسَمَّى تَطَيُّبًا فِي الْعُرْفِ، وَسَيَأْتِي أَحَادِيثُ أُخَرُ فِي الْمَنْعِ عَنِ الْخَلُوقِ مُطْلَقًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

4435 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَطْيَبِ مَا نَجِدُ، حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4435 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ) : بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ أُعَطِّرُ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَطْيَبِ مَا نَجَدُ) : أَيْ نُصَادِفُ نَحْنُ مَعْشَرَ النِّسَاءِ مِنْ أَنْوَاعِ طِيبِ الرِّجَالِ، وَجُرَّ (أَطْيَبِ) بِالْإِضَافَةِ (حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ) : بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ أَيْ بَرِيقَهُ وَلَمَعَانَهُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: وَلَا يُشْكِلُ هَذَا بِقَوْلِهِ: «طِيبُ الرِّجَالِ مَا خَفِيَ لَوْنُهُ» ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَهُ لَوْنٌ يُظْهِرُ زِينَةً وَجَمَالًا كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ فَهُوَ جَائِزٌ اهـ. وَفِي مَعْنَاهُمَا الْكَافُورُ وَالزَّبَادُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: كَانَ يَأْخُذُ الْمِسْكَ فَيَمْسَحُ بِهِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ.

4436 - وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اسْتَجْمَرَ اسْتَجْمَرَ بِأَلُوَّةٍ غَيْرِ مُطَرَّاةٍ، وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4436 - (وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اسْتَجْمَرَ) : أَيْ تَبَخَّرَ وَتَعَطَّرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اسْتَعْمَلَ الْجَمْرَ وَحَصَلَ الْجَمْرُ فِيهِ لِلْبَخُورِ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَمْرَةِ، وَمِنْهُ الْمِجْمَرَةُ وَهِيَ وِعَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ النَّارُ، ثُمَّ الْعُودُ وَيُتَبَخَّرُ بِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الِاسْتِجْمَارُ هُنَا اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ، وَالتَّبَخُّرُ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ مِجْمَرَةٍ وَهُوَ الْبَخُورُ اهـ. وَقَيَّدَهُ لِقَوْلِهِ هُنَا لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ أَوْ مُطْلَقًا (اسْتَجْمَرَ بِأَلُوَّةٍ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُضَمُّ، بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ بِكَسْرِ اللَّامِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتُشَدَّدُ وَتَخَفَّفُ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: أَرَاهَا فَارِسِيَّةً مُعَرَّبَةً وَهِيَ عَوْدٌ يُتَخَبَّرُ بِهِ وَقَوْلُهُ: (غَيْرُ مُطَرَّاةٍ) : صِفَةٌ، وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ غَيْرُ مَخْلُوطَةٍ بِغَيْرِهَا مِنَ الطِّيبِ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالْمُطَرَّاةُ هِيَ الْمُرَبَّاةُ بِمَا يَزِيدُ فِي الرَّائِحَةِ مِنَ الطِّيبِ، وَالْمَعْنَى اسْتَجْمَرَ بِهَذِهِ وَحْدَهَا تَارَةً (وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ) : صِفَةُ كَافُورٍ (مَعَ الْأَلُوَّةِ) : أَيْ تَارَةً أُخْرَى (ثُمَّ قَالَ) : أَيِ ابْنُ عُمَرَ (هَكَذَا) : أَيِ انْفِرَادًا وَاجْتِمَاعًا (كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4437 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُصُّ، أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - صَلَوَاتُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ - يَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4437 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُصُّ، أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ يَفْعَلُهُ) : أَيِ الْقَصَّ أَوِ الْأَخْذَ أَيْضًا، وَلَعَلَّ ذِكْرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ كَمَا سَيَأْتِي مُصَرَّحًا بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ، فَالِاقْتَدَاءُ بِالْحَبِيبِ بَعْدَ الْخَلِيلِ يُورِثُ الْأَجْرَ الْجَمِيلَ وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ، يَعْنِي: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّبِعُ سُنَّةَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] ، قِيلَ: الْكَلِمَاتُ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ الْفَرْقُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالسِّوَاكُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4438 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4438 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» ) : أَيْ مِنْ مُوَافِقِينَا فِي هَذَا الْفِعْلِ كَذَا قِيلَ، وَهُوَ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَقِيلَ لَيْسَ مِنَّا فِي وُصُولِ ثَوَابِ هَذِهِ السُّنَّةِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنْ كُمَّلِ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا، أَوْ تَهْدِيدٌ لِتَارِكِ هَذِهِ السُّنَّةِ، أَوْ تَخْوِيفٌ لَهُ عَلَى الْمَوْتِ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) .

4439 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4439 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا» ) : بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَعْفُوا اللِّحَى» " ; لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ هُوَ قَصُّهَا كَفِعْلِ الْأَعَاجِمِ أَوْ جَعْلُهَا كَذَنَبِ الْحَمَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِعْفَاءِ التَّوْفِيرُ مِنْهَا كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَالْأَخْذُ مِنَ الْأَطْرَافِ قَلِيلًا لَا يَكُونُ مِنَ الْقَصِّ فِي شَيْءٍ اهـ. وَعَلَيْهِ سَائِرُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ مِنْ زَيْنِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ، وَقُيِّدَ الْحَدِيثُ فِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ بِقَوْلِهِ: إِذَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْقُبْضَةِ، وَجَعَلَهُ فِي التَّنْوِيرِ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِي الشِّرْعَةِ: وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْخَمِيسِ أَوِ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَتْرُكُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً. وَفِي النِّهَايَةِ شَرْحُ الْهِدَايَةِ: وَاللِّحْيَةُ عِنْدَنَا طُولُهَا بِقَدْرِ الْقُبْضَةِ بِضَمِّ الْقَافِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَجِبُ قَطْعُهُ. رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ اللِّحْيَةِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا» . أَوْرَدَهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامِعِهِ وَقَالَ: مِنْ سَعَادَةِ الرَّجُلِ خِفَّةُ لِحْيَتِهِ اهـ. وَقَوْلُهُ: يَجِبُ بِمَعْنَى يَنْبَغِي، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى الْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَسْوِيَةُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ سُنَّةٌ وَهِيَ أَنْ يَقُصَّ كُلَّ شَعْرَةٍ أَطْوَلَ مِنْ غَيْرِهَا لِيَسْتَوِيَ جَمِيعُهَا. وَفِي الْإِحْيَاءِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا طَالَ مِنَ اللِّحْيَةِ، فَقِيلَ: إِنْ قَبَضَ الرَّجُلُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَأَخَذَ مَا تَحْتَ الْقُبْضَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمَا. وَقَالُوا: تَرْكُهَا عَافِيَةٌ أَحَبُّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «أَعْفُوا اللِّحَى» ) . لَكِنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الطُّولَ الْمُفْرِطَ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ، وَيُطْلِقُ أَلْسِنَةَ الْمُغْتَابِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ. قَالَ النَّخَعِيُّ: عَجِبْتُ لِرَجُلٍ عَاقِلٍ طَوِيلِ اللِّحْيَةِ كَيْفَ لَا يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ فَيَجْعَلُهَا بَيْنَ لِحْيَتَيْنِ أَيْ طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ، فَإِنَّ التَّوَسُّطَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنُ، وَمِنْهُ قِيلَ: خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: كُلَّمَا طَالَتِ اللِّحْيَةُ نَقَصَ الْعَقْلُ اهـ كَلَامُ الْإِمَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

4440 - «وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَيْهِ خَلُوقًا، فَقَالَ: " أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَاغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، ثُمَّ لَا تَعُدْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4440 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ) : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ، شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَيْهِ خَلُوقًا) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ لَهُ لَوْنٌ، وَقِيلَ: هُوَ طِيبٌ فِيهِ صُفْرَةٌ، وَقِيلَ: طِيبٌ مَعْرُوفٌ يُتَّخَذُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ. (فَقَالَ: " أَلَكَ امْرَأَةٌ؟) : قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِنْ كَانَ لَكَ امْرَأَةٌ أَصَابَكَ مِنْ بَدَنِهَا وَثَوْبِهَا الْخَلُوقُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْصِدَ اسْتِعْمَالَهُ فَأَنْتَ مَعْذُورٌ، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: وَقِيلَ: رُخِّصَ لِلْمُتَزَوِّجِ قَلِيلُهُ لَا الْكَثِيرُ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ قَوْلُ الْمُظْهِرِ لِمَا سَبَقَ لِمَا سَيَأْتِي. (قَالَ: لَا) : أَيْ لَيْسَ لِي امْرَأَةٌ (قَالَ: " فَاغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ) قَالَ الْمُظْهِرُ: أَمَرَهُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى لَوْنُهُ إِلَّا بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا (ثُمَّ لَا تَعُدْ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ لَا تَرْجِعْ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرِّجَالِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ)

4441 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ رَجُلٍ فِي جَسَدِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلُوقٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4441 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ رَجُلٍ فِي جَسَدِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلُوقٍ» ) : وَفِي تَنْكِيرِ شَيْءٍ الشَّامِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ رَدٌّ لِمَنْ تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْكَثِيرِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْمُرَادُ نَفْيُ ثَوَابِ الصَّلَاةِ الْكَامِلَةِ لِلتَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ تَهْدِيدٌ وَزَجْرٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْخَلُوقِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4442 - «وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ تَشَقَّقَتْ يَدَايَ، فَخَلَّقُونِي بِزَعْفَرَانٍ، فَغَدَوْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ وَقَالَ: " اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4442 - ( «وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ تَشَقَّقَتْ يَدَايَ، فَخَلَّقُونِي» ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ جَعَلُوا الْخَلُوقَ فِي شُقُوقِ يَدَيَّ لِلْمُدَاوَاةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، فَقَوْلُهُ: (بِزَعْفَرَانٍ) ، لِلتَّأْكِيدِ أَوْ بِنَاءً عَلَى التَّجْرِيدِ (فَغَدَوْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ جِئْتُهُ وَقْتَ الْغُدْوَةِ (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ) : وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ رَدٍّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ الْقَلِيلَ بِغَيْرِ عُذْرٍ (وَقَالَ: اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ) . وَلَعَلَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ عُذْرُهُ، أَوْ مَا أَعْجَبَهُ خُرُوجُهُ بِهِ، أَوْ إِبْقَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4443 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «طِيبُ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4443 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طِيبُ الرِّجَالِ) : الطِّيبُ قَدْ جَاءَ مَصْدَرًا وَاسْمًا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَمَعْنَاهُ: مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. (مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ) : كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ. ( «وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ، وَخَفِيَ رِيحُهُ» ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ سَعْدٌ: أَرَاهُمْ حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَطِيبُ النِّسَاءِ عَلَى مَا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا فَلْتَتَطَيَّبْ بِمَا شَاءَتْ. رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، فَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ وَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا وَكَذَا يَعْنِي زَانِيَةً اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدُ مَعَنَا الْعِشَاءَ» " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا خَفِيَ رِيحُهُ كَالزَّعْفَرَانِ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: وَكَالْحِنَّاءِ، وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُمْ إِذْ هُمْ شَافِعِيُّونَ، وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَحَسَّنَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ، وَالرَّاوِي ثِقَةٌ عَنْهُ، فَجَهَالَتُهُ تَنْتَفِي مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. قُلْتُ: أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى تَعَدُّدِ أَسَانِيدِهِ فَيَكُونُ حَسَنًا لِغَيْرِهِ. (وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَأَبُو دَاوُدَ بَيْنَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ اهـ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ.

4444 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُكَّةٌ يَتَطَيَّبُ مِنْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4444 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ) : وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُكَّةٌ،: بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ: نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ عَزِيزٌ، قِيلَ: يُتَّخَذُ مِنَ الْمِسْكِ، وَفِي الصِّحَاحِ: الْمِسْكُ مِنَ الطِّيبِ عَرَبِيٌّ، وَقِيلَ: هُوَ مَعْجُونٌ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ، وَفِي الْقَامُوسِ: السُّكَّةُ بِالضَّمِّ طِيبٌ يُتَّخَذُ مِنَ الرَّامِكِ مَدْقُوقًا مَنْخُولًا مَعْجُونًا بِالْمَاءِ وَيُعْرَكُ شَدِيدًا وَيُقْرَصُ وَيُتْرَكُ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يُثْقَبُ بِمِسَلَّةٍ وَيُنَظَمُ فِي خَيْطِ قُنَّبٍ، وَيُتْرَكُ سَنَةً، وَكُلَّمَا عُتِّقَ طَابَتْ رَائِحَتُهُ. قَالَ: وَالرَّامِكُ كَصَاحِبٍ وَيُفْتَحُ، شَيْءٌ أَسْوَدُ يَخْلَطُ بِالْمِسْكِ وَالْقُنَّبُ كَدُنَّمِ وَسُكَّرٍ نَوْعٌ مِنَ الْكَتَّانِ. وَفِي النِّهَايَةِ: السُّكَّةُ طِيبٌ مَعْرُوفٌ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الطِّيبِ وَيُسْتَعْمَلُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ طِيبٌ مُرَكَّبٌ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ظَرْفٌ فِيهَا طِيبٌ وَيُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: يَتَطَيَّبُ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا نَفْسَ الطِّيبِ لَقَالَ: (تَطَيَّبَ بِهَا) : قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: السُّكُّ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ طِيبٌ مَجْمُوعٌ مِنْ أَخْلَاطِ وَالسُّكَّةُ قِطْعَةٌ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وِعَاءً. قَالَ مِيرَكُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا نَفْسَ الطِّيبِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: كَلِمَةُ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ لِيُشْعِرَ بِأَنَّهُ كَانَ يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا بِدُفْعَاتٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِهَا، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا بِدُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْوِعَاءَ فَمِنْ لِلِابْتِدَاءِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

4445 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ، وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ، وَيُكْثِرُ الْقِنَاعَ، كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4445 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ) : مِنَ الْإِكْثَارِ (دَهْنَ رَأْسِهِ) : بِفَتْحِ الدَّالِ اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ بِضَمِّهَا (وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ) : مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى دَهْنَ وَمَنْ جَرَّهُ بِالْعَطْفِ عَلَى رَأْسِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَالْمُرَادُ تَمْشِيطُهَا وَإِرْسَالُ شَعْرِهَا، وَحَلُّهَا يُمَشِّطُهَا، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ وَمُشْطَهُ، فَإِذَا نَبَّهَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ اللَّيْلِ. . الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَمْسٌ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَعُهُنَّ فِي سِفْرٍ وَلَا حَضَرٍ: الْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَالْمُشْطُ وَالْمِدْرَى وَالسِّوَاكُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: وَقَارُورَةُ دُهْنٍ بَدَلُ الْمِدْرَى، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ لَا يُفَارِقُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَاكُهُ وَمُشْطُهُ، وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ إِذَا سَرَّحَ لِحْيَتَهُ» . وَرَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ عِلْوَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سَبْعٌ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْرُكُهُنَّ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ: الْقَارُورَةُ وَالْمُشْطُ وَالْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَالسِّوَاكُ وَالْمِقَصُّ وَالْمِدْرَى. قُلْتُ لِهِشَامٍ: الْمِدْرَى مَا بَالُهُ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ وَفْرَةٌ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، فَكَانَ يُحَرِّكُهَا بِالْمِدْرَى» ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، عُودٌ تُدْخِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي رَأْسِهَا لِئَلَّا يَنْضَمَّ بَعْضُ الشُّعُورِ إِلَى بَعْضٍ، وَالْمِقَصُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ آلَةُ الْقَصِّ بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَهِيَ الْمِقْرَاضُ، هَذَا وَذَكَرَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ هُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ فَيُجْتَنَبُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ» . قَالَ، فَإِنْ قُلْتَ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ دُهْنَ رَأْسِهِ وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ» . قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِكْثَارِ التَّسْرِيحُ كُلَّ يَوْمٍ، بَلِ الْإِكْثَارُ قَدْ يَصْدُقُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُفْعَلُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ. قُلْتُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا بِإِسْنَادٍ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ إِلَّا الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا. (وَيُكْثِرُ الْقِنَاعَ) : أَيْ لُبْسَهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ إِعَادَةِ الْعَامِلِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَخِفَّةِ النُّونِ وَفِي آخِرِهِ مُهْمَلَةٍ: خِرْقَةٌ تُلْقَى عَلَى الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ وِقَايَةً لِلْعِمَامَةِ مِنْ أَثَرِ الدُّهْنِ وَاتِّسَاخِهَا بِهِ، شُبِّهَتْ بِقِنَاعِ الْمَرْأَةِ. وَفِي الصِّحَاحِ: هُوَ أَوْسَعُ مِنَ الْمِقْنَعَةِ، وَهُوَ الَّذِي تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ فَوْقَ الْمِقْنَعَةِ. قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي يُكْثِرُ اتِّخَاذَهُ أَوِ اسْتِعْمَالَهُ بَعْدَ الدُّهْنِ.

(كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفِي الشَّمَائِلِ: حَتَّى كَانَ وَهِيَ غَايَةٌ لِيُكْثِرَ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: (ثَوْبَهُ) : أَيْ قِنَاعَهُ (ثَوْبُ زَيَّاتٍ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ بَائِعِ الزَّيْتِ أَوْ صَانِعِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِثَوْبِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى بَدَنِهِ لِإِكْثَارِ دَهْنِهِ وَلِمُلَابَسَةِ قِنَاعِهِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَنْظَفَ النَّاسِ ثَوْبًا، وَأَحْسَنَهُمْ هَيْئَةً، وَأَجْمَلَهُمْ سَمْتًا، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ: أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْلِحُوا ثِيَابَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالشَّامَةِ بَيْنَ النَّاسِ» ". وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ: كَانَ مِلْحَفَتُهُ مِلْحَفَةَ زَيَّاتٍ، أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، وَيُقَوِّيهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ التَّقَنُّعَ بِثَوْبٍ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ أَوْ دَهَّانٍ» ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ هَذَا لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقِنَاعِ فَائِدَةٌ، وَلَا لِغَايَةِ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ (ثَوْبُ زَيَّاتٍ) : لِقَوْلِهِ: كَانَ يُكْثِرُ الْقِنَاعَ نَتِيجَةً، بَلْ كَانَ الْمُنَاسِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ، هَذَا وَكَأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الْمُظْهَرِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَكَأَنَّهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْقِنَاعِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِثَوْبِهِ ثَوْبُهُ الْخَاصُّ الْمُسْتَعْمَلُ لِلدَّهْنِ لَا مُطْلَقَ ثَوْبِهِ، فَتَأَمَّلْ لِيَرْتَفِعَ الْخَلَلُ، لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي إِكْثَارِ الدُّهْنِ مَعَ التَّشْبِيهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (كَأَنَّ) يُفِيدُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ اللَّابِسَ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقِنَاعَ الَّذِي يُغَطَّى بِهِ الْمَدْهُونُ يُشْبِهُ ثَوْبَ الزَّيَّاتِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ ثَوْبُهُ عَلَى ثَوْبٍ خَاصٍّ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي لَابَسَهُ حِينَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُخِلَّ بِالنَّظَافَةِ، بَلْ كَانَ يَقْلَعُهُ وَيَلْبَسُ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْهُ خَادِمُهُ الْمَخْصُوصُ بِهِ الْمُطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وَهَذَا التَّجْوِيلُ أَتَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ مَعَ إِيرَادِهِ فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَعْفِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَشَمَائِلِهِ، وَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، فَلَا يَضُرُّ مَا قَالَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ أَحَدِ رُوَاةِ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ، أَنَّهُ كَانَ عَابِدًا، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، وَعَدُّوا مِنْ مَنَاكِيرِهِ قَوْلَهُ: كَانَ ثَوْبُهُ ثَوْبَ زَيَّاتٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ خِلَافُ عَادَتِهِ مِنَ النَّظَافَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ تَأْوِيلَهُ، فَارْتَفَعَ وَجْهُ الْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ قَرَّرَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْفَاسِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4446 - وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا بِمَكَّةَ قَدْمَةً، وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4446 - (وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ) : مَرَّ ذِكْرُهَا (قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا بِمَكَّةَ) : أَيْ يَوْمَ الْفَتْحِ (قَدْمَةً) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْقُدُومِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِـ (قَدِمَ) ، وَكَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدُومَاتٌ أَرْبَعَةٌ: بِمَكَّةَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ. وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَقْدِمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ اغْتَسَلَ وَصَلَّى الضُّحَى فِي بَيْتِهَا. (وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ جَمْعُ غَدِيرَةٍ بِمَعْنَى ضَفِيرَةٍ، وَيُقَالُ: لَهَا ذُؤَابَةٌ أَيْضًا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ، وَكَذَا فِي الشَّمَائِلِ (وَابْنُ مَاجَهْ) .

4447 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِذَا فَرَقْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ صَدَّعْتُ فَرْقَهُ عَنْ يَافُوخِهِ، وَأَرْسَلْتُ نَاصِيَتَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4447 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِذَا فَرَقْتُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ قَسَمْتُ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ) : أَيْ شَعْرَ رَأْسِهِ قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ جَانِبِ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ: مِنْ جَانِبِ يَسَارِهِ (صَدَّعْتُ فَرْقَهُ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ الْخَطُّ الَّذِي يَظْهَرُ بَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا قُسِمَ قِسْمَيْنِ، وَذَلِكَ الْخَطُّ هُوَ بَيَاضُ بَشْرَةِ الرَّأْسِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الشَّعْرِ، ذَكَرَهُ

الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى شَقَقْتُ وَفَرَقْتُ فَرْقَةً، أَيْ: جَعَلْتُ شَعْرَهُ الْمَفْرُوقَ نِصْفَيْنِ (عَنْ يَافُوخِهِ) : أَيْ جُلِّهِ وَمُعْظَمِهِ عَنْ جَانِبِ مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ مِمَّا يَلِي الْقَفَا أَوْ صَدْعًا صَادِرًا عَنْ يَافُوخِهِ، (وَأَرْسَلْتُ نَاصِيَتَهُ) : وَهِيَ شَعْرُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ (بَيْنَ عَيْنَيْهِ) : أَيْ مُحَاذِيًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قِبَلِ الْوَجْهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْيَافُوخُ وَسَطُ الرَّأْسِ وَمَوْضِعُ مَا يَتَحَرَّكُ مِنْ رَأْسِ الطِّفْلِ، وَالْمَعْنَى كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْ ذَلِكَ الْخَطِّ عِنْدَ الْيَافُوخِ، وَالطَّرْفُ الْآخَرُ عِنْدَ جَبْهَتِهِ مُحَاذِيًا لِمَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَوْلُهَا: وَأَرْسَلْتُ نَاصِيَتَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، أَيْ جَعَلْتُ رَأْسَ فَرْقِهِ مُحَاذِيًا لِمَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ نِصْفُ شَعْرِ نَاصِيَتِهِ مِنْ جَانِبِ يَمِينِ ذَلِكَ الْفَرْقِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرِ مِنْ جَانِبِ يَسَارِ ذَلِكَ الْفَرْقِ اهـ. وَتَأَمَّلْ فِيمَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنَ الْفَرْقِ، فَإِنَّهُ فَرْقٌ دَقِيقٌ، بِالتَّأَمُّلِ حَقِيقٌ لِمَنْ لَهُ تَوْفِيقٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4448 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًّا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4448 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّرَجُّلِ) : أَيِ التَّمَشُّطِ (إِلَّا غِبًّا) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ الْقَاضِي: الْغِبُّ أَنْ يَفْعَلَ يَوْمًا وَيَتْرُكَ يَوْمًا، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّزْيِينِ وَتَهَالُكٌ فِي التَّحْسِينِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْغِبُّ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا حِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَالْمَعْنَى نَهَى عَنْ دَوَامِ تَسْرِيحِ الرَّأْسِ وَتَدْهِينِهِ ; لِأَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّزْيِينِ اهـ. وَالظَّاهِرُ عَنْ عِبَارَتِهِ أَنَّ تَمْشِيطَ اللِّحْيَةِ كُلَّ يَوْمٍ لَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْغِبُّ بِالْكَسْرِ عَاقِبَةُ الشَّيْءِ، وَوِرْدُ يَوْمٍ وَظَمْءُ آخَرَ، وَفِي الزِّيَارَةِ أَنْ تَكُونَ كُلَّ أُسْبُوعٍ اهـ. فَالْغِبُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَفْعَالِ وَالْأَشْخَاصِ كَمَا وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْغِبُّ مِنْ أَوْرَادِ الْإِبِلِ أَنْ تُورِدَ الْإِبِلُ يَوْمًا وَتَدَعَهُ يَوْمًا، ثُمَّ تَعُودُ فَنُقِلَ إِلَى الزِّيَارَةِ أَنْ جَاءَ بَعْدَ أَيَّامٍ يُقَالُ: غِبُّ الرَّجُلِ إِذَا جَاءَ زَائِرًا بَعْدَ أَيَّامٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ اهـ. وَبِهِ ظَهَرَ الْمُدَّعِي ; لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مُغَفَّلٍ فَلَا تَغْفَلْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ، وَكَذَا فِي شَمَائِلِهِ بِإِسْنَادَيْنِ (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَرْبَعَ سِنِينَ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ» .

4449 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لِفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ: مَا لِي أَرَاكَ شَعِثًا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْإِرْفَاهِ. قَالَ: مَا لِي لَا أَرَى عَلَيْكَ حِذَاءً؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4449 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَسْلَمِيٌّ قَاضِي مَرْوَ، تَابِعِيٌّ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَوَى عَنِ ابْنِهِ سَهْلٍ وَغَيْرِهِ، مَاتَ بِمَرْوَ، وَلَهُ حَدِيثٌ كَثِيرٌ (قَالَ) : أَيْ أَبُو بُرَيْدَةَ (قَالَ رَجُلٌ لِفَضَالَةَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ (ابْنِ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ أَيِ الْأَنْصَارِيِّ الْأَوْسِيِّ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدُ، ثُمَّ شَهِدَ مَا بَعْدَهَا، وَبَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّامِ، سَكَنَ دِمَشْقَ وَقَضَى بِهَا لِمُعَاوِيَةَ زَمَنَ خُرُوجِهِ إِلَى صِفِّينَ، وَمَاتَ بِهَا فِي عَهْدِ مُعَاوِيَةَ. (مَا لِي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ تَعَجُّبِيَّةٌ: أَيْ كَيْفَ الْحَالُ إِنِّي (أَرَاكَ) : أَيْ أَحْيَانًا لِمَا سَيَأْتِي (شَعِثًا) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ مُتَفَرِّقَ الشَّعْرِ غَيْرَ مُتَرَجِّلٍ فِي شَعْرِكَ وَلَا مُتَمَشْطٍ فِي لِحْيَتِكَ (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْإِرْفَاهِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى التَّنَعُّمِ ; فَإِنَّ التَّعَوُّذَ بِهِ يَجْعَلُ النَّفْسَ مُتَكَبِّرَةً غَافِلَةً بَطْرَانَةً كَالْفَرَسِ الْجَمُوحِ، وَحِينَئِذٍ تَغَلِبُ عَلَى رَاكِبِهِ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ، وَلِأَنَّ اعْتِيَادَ ذَلِكَ يُحَوِّجُ صَاحِبَهُ إِلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَمَعَاصٍ كَثِيرَةٍ ; وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْدُثُ بِهِ فَقْرٌ وَسُوءُ عَيْشٍ، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَيَضُرُّهُ حَالُهُ، وَالِاقْتِصَادُ هُوَ

التَّوَسُّطُ الْعَدْلُ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ فِعْلٍ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ: أَصْلُهُ مِنْ وُرُودِ الْإِبِلِ فِي الْمَاءِ مَتَى شَاءَ، وَأَرْفَهَ الْقَوْمُ إِذَا فَعَلَتْ إِبِلُهُمْ ذَلِكَ، شَبَّهَ كَثْرَةَ التَّدَهُّنِ وَادِّهَانِهِ بِهِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: الْإِرْفَاهُ التَّنَعُّمُ وَمُظَاهَرَةُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ، وَاللِّبَاسِ عَلَى اللِّبَاسِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَمِنْهُ أُخِذَتِ الرَّفَاهِيَةُ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِفْرَاطَ فِي التَّنَعُّمِ مِنَ التَّدْهِينِ وَالتَّرْجِيلِ عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْأَعَاجِمِ، وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ الطَّهَارَةُ وَالتَّنْظِيفُ ; فَإِنَّ النَّظَافَةَ مِنَ الدِّينِ (قَالَ) : أَيِ الرَّجُلُ (مَا لِي لَا أَرَى عَلَيْكَ حِذَاءً؟) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَمْدُودًا أَيْ نَعْلًا (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ) : أَيْ نَمْشِيَ حُفَاةً تَوَاضُعًا وَكَسْرًا لِلنَّفْسِ وَتَمَكُّنًا مِنْهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: (أَحْيَانًا) : أَيْ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَهُوَ أَوْسَعُ مَعْنًى مِنْ غِبًّا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4450 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4450 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ كَانَ لَهُ شَعَرٌ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَعْرُ الرَّأْسِ (فَلْيُكْرِمْهُ) : أَيْ فَلْيُزَيِّنْهُ وَلْيُنَظِّفْهُ بِالْغَسْلِ وَالتَّدْهِينِ وَلَا يَتْرُكُهُ مُتَفَرِّقًا ; فَإِنَّ النَّظَافَةَ وَحُسْنَ الْمَنْظَرِ مَحْبُوبٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4451 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4451 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ (بِهِ) : لِلسَّبَبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: (الشَّيْبُ) : نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ (الْحِنَّاءُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ خَبَرُ إِنَّ (وَالْكَتَمُ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَتَخْفِيفُ التَّاءِ، فَفِي النِّهَايَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْكَتَّمُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَالْمَشْهُورُ التَّخْفِيفُ، وَهُوَ نَبْتٌ يُخْلَطُ مَعَ الْوَسْمَةِ وَيُصْبَغُ بِهِ الشَّعْرُ أَسْوَدَ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَسْمَةُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَصْبُغُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُرَادَ اسْتِعْمَالُ الْكَتَمِ مُفْرَدًا عَنِ الْحِنَّاءِ، فَإِنَّ الْحِنَّاءَ إِذَا خُضِّبَ بِهِ، مَعَ الْكَتَمِ جَاءَ أَسْوَدَ، وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ السَّوَادِ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ بِالْحِنَّاءِ أَوِ الْكَتَمِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ اهـ. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِالْحِنَّاءِ تَارَةً فَيَكُونُ لَوْنُهُ أَحْمَرَ، وَبِالْكَتَمِ أُخْرَى فَيَكُونُ لَوْنُهُ أَخْضَرَ. وَالْوَاوُ قَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى " أَوْ " وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَاهَا فِي التَّقْسِيمِ كَقَوْلِهِمْ: الْكَلِمَةُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَاهَا فِي الْإِبَاحَةِ، كَقَوْلِكَ: جَالَسَ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ، وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَاهَا فِي التَّخْيِيرِ: وَقَالُوا نَأْتِ فَاخْتَرْ لَهَا الصَّبْرَ وَالْبُكَا ... فَقُلْتُ الْبُكَا أَشْفَى إِذًا لِغَلِيلِي فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَوِ الْبُكَاءُ إِذْ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الصَّبْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاطِبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصِلْ وَاسْكُتْنَ إِذْ لَا جَمْعَ بَيْنَ الْوَصْلِ وَالسَّكْتِ، فَإِنَّهُ وَقْفٌ بِلَا تَنَفُّسٍ، وَبِهِ حَصَلَ الْفَصْلُ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ تَفَضُّلُهُمَا فِي تَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِهِمَا عَلَى غَيْرِهَا لَا لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّغْيِيرِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْكَتَمُ الصَّرَفُ يُوجِبُ سَوَادًا مَائِلًا إِلَى الْحُمْرَةِ، وَالْحِنَّاءُ تُوجِبُ الْحُمْرَةَ فَاسْتِعْمَالُهُمَا يُوجِبُ مَا بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الصِّحَاحِ: الْكَتَمُ نَبْتٌ يُخْلَطُ مَعَ الْوَسْمَةِ لِلْخِضَابِ، وَالْمَكْتُومَةُ دُهْنٌ لِلْعَرَبِ أَحْمَرُ، وَيُجْعَلُ مِنْهُ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الْكَتَمُ، وَيُقَوِّيهِ مَا فِي الْمُغْرِبِ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ: أَنَّ الْكَتَمَ نَبْتٌ فِيهِ حُمْرَةٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ كَانَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: قَدْ جَرَّبَ الْحِنَّاءَ وَالْكَتَمَ جَمِيعًا فَلَمْ يُسَوِّدْ، بَلْ يُغَيِّرُ صُفْرَةَ الْحِنَّاءِ وَحُمْرَتَهُ إِلَى الْخُضْرَةِ وَنَحْوِهَا فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى السَّوَادِ، كَذَا رَأَيْنَاهُ وَشَاهَدْنَاهُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَلْطَ يَخْتَلِفُ، فَإِنْ غَلَبَ

الْكَتَمُ اسْوَدَّ، وَكَذَا إِنِ اسْتَوَيَا، إِنْ غَلَبَ الْحِنَّاءُ احْمَرَّ، هَذَا وَفِي الشَّمَائِلِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ» ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ إِنَّمَا كَانَ شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةٍ شَيْبًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ، أَيْ فِيمَا بَيْنَ عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ، وَلَكِنْ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. قَالَ مِيرَكُ: الْحَدِيثُ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ، وَوَافَقَهُ ابْنُ سِيرِينَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْهُ يَذْكُرُ أَبِي بَكْرٍ فَقَطْ، وَلَفْظُهُ: قُلْتُ لَهُ: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْضِبُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِلَفْظٍ، مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ خَضَبَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَأَظُنُّ أَنَّ ذِكْرَ عُمَرَ فِيهِ وَهْمٌ، لِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا، أَيْ صِرْفًا. قُلْتُ: الْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً، وَوَافَقَ أَبَا بَكْرٍ أُخْرَى أَفْضَلُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْوَهْمِ، وَبِهَذَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا دَائِمًا، لَكِنَّ الدَّوَامَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) ، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

4452 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُونَ بِهَذَا السَّوَادِ، كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ، لَا يَجِدُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4452 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُونَ) : بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يُغَيِّرُونَ الشَّعْرَ الْأَبْيَضَ مِنَ الشَّيْبِ الْوَاقِعِ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ (بِهَذَا السَّوَادِ) : أَرَادَ جِنْسَهُ لَا نَوْعَهُ الْمُعَيَّنَ، فَمَعْنَاهُ بِاللَّوْنِ الْأَسْوَدِ وَكَأَنَّهُ كَانَ مُتَعَارَفًا فِي زَمَانِهِ الشَّرِيفِ، وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا السَّوَادِ، أَوْ أَرَادَ بِهِ السَّوَادَ الصِّرْفَ لِيُخْرِجَ الْأَحْمَرَ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ كَالْكَتَمِ وَالْحِنَّاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُهُ لِقَوْلِهِ: (كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ) : أَيْ كَصُدُورِهَا ; فَإِنَّهَا سُودٌ غَالِبًا، وَأَصْلُ الْحَوْصَلَةِ الْمَعِدَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا صَدْرُهُ الْأَسْوَدُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَيْسَ لِجَمِيعِ حَوَاصِلِ الْحَمَامِ سَوَادٌ، بَلْ لِبَعْضِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ فِي الْغَالِبِ ; لِأَنَّ حَوَاصِلَ بَعْضِ الْحَمَامَاتِ لَيْسَ بِسُودٍ. (لَا يَجِدُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) : يَعْنِي وَرِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ كَمَا فِي حَدِيثٍ. فَالْمُرَادُ بِهِ التَّهْدِيدُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوْ مُقَيَّدٌ بِمَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْقَبْرِ أَوِ الْمَوْقِفِ أَوِ النَّارِ. قَالَ مِيرَكُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ، وَجَنَحَ النَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ فِي الْجِهَادِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ; فَأَجَازَهُ لَهَا دُونَ الرَّجُلِ، وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ. وَأَمَّا خَضْبُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَيُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَيَحْرُمُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ إِلَّا لِلتَّدَاوِي. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: " «مَنْ خَضَبَ بِالسَّوَادِ سَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " وَسَنَدُهُ لَيَّنٌ.

4453 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَيَصْفِرُّ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4453 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ» ) : بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَفَوْقِيَّةٍ وَيَاءِ نِسْبَةٍ. فِي النِّهَايَةِ: السِّبْتُ بِالْكَسْرِ جُلُودُ الْبَقَرِ الْمَدْبُوغَةُ بِالْقَرَظِ يُتَّخَذُ مِنْهَا النِّعَالُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ شَعْرَهَا قَدْ سُبِتَ عَنْهَا أَيْ حُلِقَ وَأُزِيلَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا سَبِتَتْ بِالدِّبَاغِ أَيْ لَانَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَسْمِيَتِهِمْ لِلنَّعْلِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ السِّبْتِ سِبْتِيًّا اتِّسَاعٌ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَلْبَسُ الصُّوفَ وَالْقُطْنَ وَالْإِبْرَيْسَمَ أَيِ الثِّيَابَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْهَا اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ لِأَنَّ مَعَ وُجُودِ يَاءِ النِّسْبَةِ يَمْتَنِعُ مَعْنَى الِاتِّسَاعِ، كَمَا إِذَا قِيلَ: لَبِسَ الْقُطْنِيَّةَ (وَيَصْفِّرُ لِحْيَتَهُ) : بِتَشْدِيدِ

الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ يَجْعَلُهَا أَصْفَرَ (بِالْوَرْسِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ نَبْتٌ أَصْفَرُ بِالْيَمَنِ (وَالزَّعْفَرَانِ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ يَخْلِطُ بَيْنَهُمَا وَيَخْضِبُ بِهِمَا لِحْيَتَهُ، لَكِنْ يُنَافِيهِ مَا سَبَقَ عَنْ أَنَسٍ بِطُرُقٍ صَحِيحَةٍ، وَمِنْهَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَخْضِبْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الذَّقْنِ وَالشَّفَةِ السُّفْلَى، وَفِي الصُّدْغَيْنِ، وَفِي الرَّأْسِ نُبَذٌ: بِضَمٍّ فَفَتْحٍ أَوْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ شَعَرَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَجَمَعَ الْعَسْقَلَانِيُّ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مُرَادَ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَعْرِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: «سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَضَبَ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ» ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ «عَنْ أَنَسٍ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ لَفَعَلْتُ» . زَادَ ابْنُ سَعْدٍ وَالْحَاكِمُ: مَا شَأْنُهُ بِالشَّيْبِ؟ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَكَانَ إِذَا دَهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ، فَإِنْ لَمْ يَدْهُنْ تَبَيَّنَ» اهـ. كَلَامُهُ. قَالَ مِيرَكُ: لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ الْجَمْعِ بِمَا ذَكَرَ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ. أَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ مُقْتَطَعٌ، فَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ مَعَ تَضَمُّنِ الْجَوَابِ عَنِ الْإِشْكَالِ الْوَاقِعِ فِي الْبَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخِضَابُ، فَأَشَارَ إِلَى دَفْعِهِ بِأَنَّ مُرَادَ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَعْرِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْخِضَابَ الثَّابِتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ» ، وَحَاصِلُ الْجَمْعِ أَنَّهُ صَبَغَ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ الْقَلِيلَةَ فِي حِينٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَتَرَكَهُ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ بِمَا رَأَى، وَكِلَاهُمَا صَادِقَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ نَفَى الصَّبْغَ أَرَادَ نَفْيَهُ بِصِفَةِ الدَّوَامِ وَالْأَغْلَبِيَّةِ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ أَرَادَ إِثْبَاتَهُ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: رِوَايَةُ أَنَسٍ لَمْ يَخْضِبْ بِنَاءً عَلَى عِلْمِهِ فَبَعِيدٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ خَادِمُهُ اللَّازِمُ لَهُ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى، وَمَا أَبْعَدَ مَنْ قَالَ يُرِيدُ الْمُثْبِتَ أَيِ ابْنَ عُمَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ أَنَّهُ يَصْبُغُ ثَوْبَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ كَانَ يَصْفِّرُ لِحْيَتَهُ. (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ لُبْسِ النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ وَتَصْفِيرِ اللِّحْيَةِ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَى قَوْلِهِ: لِحْيَتَهُ، فَتَدَبَّرْ.

4454 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ قَدْ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ. فَقَالَ: " مَا أَحْسَنَ هَذَا ". قَالَ: فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ فَقَالَ: " هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا ". ثُمَّ مَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالصُّفْرَةِ. فَقَالَ: " هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4454 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ قَدْ خَضَبَ) : بِفَتْحِ الضَّادِ أَيْ صَبَغَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ (بِالْحِنَّاءِ. فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا) : وَهُوَ إِحْدَى صِيغَتَيِ التَّعَجُّبِ، (قَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ) : أَيْ بِحَيْثُ مَا وَصَلَ إِلَى السَّوَادِ، وَهُوَ يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ أَنَّ الْوَاوَ عَلَى بَابِهَا مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَسْطُورِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَبَيْنَ انْفِرَادِ الْحِنَّاءِ، أَنَّ فِي الْأَوَّلِ حُمْرَةً تَضْرِبُ إِلَى الْخُضْرَةِ، وَفِي الثَّانِي حُمْرَةً تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ. (فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا) : أَيْ بَقَاءً أَوْ بَهْجَةً (ثُمَّ مَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالصُّفْرَةِ) : أَيْ بِخَلْطِ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ كَمَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا) : أَيْ مِنْ جِنْسِ مَا سَبَقَ مِنَ الْجِنْسَيْنِ (كُلِّهِ) : لِلتَّأْكِيدِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

4455 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4455 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيِّرُوا الشَّيْبَ) : أَيْ بِالْخِضَابِ (وَلَا تَشْبَّهُوا) : حَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (بِالْيَهُودِ) : أَيْ فِي تَرْكِ خِضَابِ الشَّيْبِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ اخْتَصَّ بِالْحَالَةِ الَّتِي يَخْتَلِطُ الشَّعْرُ الْأَبْيَضُ فِيهَا بِالْأَسْوَدِ، لِمَا فِي اخْتِلَافِ اللَّوْنَيْنِ مِنْ قُبْحِ التَّضَادِّ، وَمُشَابَهَةِ الْمُوَافَقَةِ بِأَهْلِ

النِّفَاقِ، فَأَمَّا إِذَا ابْيَضَّ كُلُّهُ وَصَارَ اللَّوْنُ وَاحِدًا فَلَا يُغَيَّرُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَغْيِيرُ الشَّيْبِ يَخْتَصُّ بِمَنْ شَابَ فِي الْكُفْرِ، ثُمَّ أَسْلَمَ لِيَشِيبَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ التَّغْيِيرِ، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَضِيَّةُ أَبِي قُحَافَةَ أَوَّلَ مَا أَسْلَمَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ الْجِهَادِ إِظْهَارًا لِلْهَيْبَةِ وَتَرْهِيبًا لِلْعَدُوِّ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ غَالِبِ الْأُمَّةِ فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ. قَالَ: وَاحْتَمَلَ أَنَّ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى نَفْسِهِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ. قُلْتُ: وَهَذَا بِالْإِشَارَةِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهُ مِنَ الْعِبَارَاتِ الصُّورِيَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

4456 -، 4457 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4456 -، 4457 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، لَكِنْ بِزِيَادَةِ: وَالنَّصَارَى، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تُقَرِّبُوهُ السَّوَادَ» ، وَفِي الْإِحْيَاءِ: الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ خِضَابُ الْكُفَّارِ، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ خَضَبَ بِالسَّوَادِ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ.

4458 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ ; فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ. مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَكَفَّرَ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4458 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَنْتِفُوا) : بِكَسْرِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ (الشَّيْبَ) : أَيِ الشَّعْرَ الْأَبْيَضَ (فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ) : الْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ وَقَارُهُ الْمَانِعُ مِنَ الْغُرُورِ بِسَبَبِ انْكِسَارِ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْفُتُورِ، وَهُوَ الْمُؤَدِّي إِلَى نُورِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَيَصِيرُ نُورًا فِي قَبْرِهِ، وَيَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ فِي ظُلُمَاتِ حَشْرِهِ، وَلَا يُنَافِيهِ التَّغْيِيرُ السَّابِقُ لِإِرْغَامِ الْأَعْدَاءِ وَإِظْهَارِ الْجَلَّادَةِ لَهُمْ كَيْلَا يَظُنُّوا بِهِمُ الضَّعْفَ فِي سِنِّهِمْ، وَالْقَدْحَ فِي شَجَاعَتِهِمْ وَطَعْنِهِمْ (مَنْ شَابَ شَيْبَةً) : أَيْ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ (فِي الْإِسْلَامِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَكَفَّرَ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ شَابَ مِنْ بَنِي آدَمَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ فِي لِحْيَتِهِ قَالَ: مَا هَذَا يَا رَبِّ؟ قَالَ: هَذَا وَقَارٌ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَلَّ هَذَا الْوَقَارُ الصُّورِيُّ فِي الشَّعْرِ الْمُصْطَفَوِيِّ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ كَانَ مُولَعًا بِحُبِّ النِّسَاءِ، وَهُنَّ يَكْرَهْنَ الشَّيْبَ بِالصَّبْغِ، فَحُفِظْنَ بِهَذَا عَنِ الْكَرَاهَةِ الطَّبِيعِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ النُّبُوَّةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَانَهُ اللَّهُ بِبَيْضَاءَ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ ; لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ شَابَ بَعْضَ الشَّيْبِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ الْبِيضَ لَمْ تُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ حُسْنِهِ، بَلْ زَادَتْ جَمَالًا وَكَمَالًا لِحُصُولِ الْوَقَارِ مَعَ نُورِ الْأَنْوَارِ، فَصَارَ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَسُرُورًا عَلَى سُرُورٍ. قَالَ مِيرَكُ: نَتْفُ الشَّيْبِ يُكْرَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا " «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ» ; فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ " رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ يُكْرَهُ نَتْفُ الرَّجُلِ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّزَيُّنِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ النَّتْفِ دُونَ الْخَضْبِ ; لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ الْخِلْقَةِ مِنْ أَصْلِهَا بِخِلَافِ الْخَضْبِ، فَإِنَّهُ لَا يُغَيِّرُ الْخِلْقَةَ عَلَى النَّاظِرِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

4459 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4459 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا» ) : أَيْ ضِيَاءً وَمَخْلَصًا عَنْ ظُلُمَاتِ الْمَوْقِفِ وَشَدَائِدِهِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ أَيْضًا وَقَالَ: صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْرَهُ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ» . قَالَ مِيرَكُ: وَلِهَذَا لَمْ يَخْضِبْ عَلِيٌّ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَجَمٌّ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ خَضَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ بِيضٌ لِحَاهُمْ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ حَمِّرُوا أَوْ صَفِّرُوا، وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَبِأَحَادِيثَ أُخَرَ تَقَدَّمَتْ فِي الْكِتَابِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَجَمَعَ الطَّبَرِيُّ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخِضَابِ، وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى خِلَافِهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِمَنْ يَكُونُ شَيْبُهُ مُسْتَبْشَعًا، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْخِضَابُ، وَمَنْ كَانَ خِلَافَهُ فَلَا يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنَّ الْخِضَابَ مُطْلَقًا أَوْلَى ; لِأَنَّ فِيهِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ صِيَانَةً لِلشَّعْرِ عَنْ تَعَلُّقِ الْغُبَارِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا إِنْ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ تَرْكُ الصَّبْغِ، فَالتَّرْكُ فِي حَقِّهِ أَوْلَى اهـ. وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: مَا لَمْ يُغَيِّرْهَا أَيْ تَكَبُّرًا عَنِ الْكِبَرِ، وَتَسَتُّرًا عَنِ الْعِبَرِ، وَتَجَبُّرًا عَنِ الْغَيْرِ، فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنَ اسْتِحْبَابِ التَّغْيِيرِ فِي الْجِهَادِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: " «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ فَهِيَ لَهُ نُورٌ إِلَّا أَنْ يَنْتِفَهَا أَوْ يَخْضِبَهَا» " لَكِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ.

4460 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَهُ شَعْرٌ فَوْقَ الْجُمَّةِ، وَدُونَ الْوَفْرَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4460 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ مِيرَكُ شَاهْ قَوْلُهُ: وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَبِالرَّفْعِ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَأَبْرَزَ الضَّمِيرَ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ أَيْ: أَغْتَسِلُ أَنَا وَيَغْتَسِلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَطْفٌ عَلَى الْمُسْتَتِرِ، وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْغَائِبِ، وَفِيهِ: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْفَائِدَةُ فِي تَغْلِيبِ " اسْكُنْ " أَنَّ آدَمَ كَانَ أَصْلًا فِي سُكْنَى الْجَنَّةِ، وَحَوَّاءَ تَابِعَةٌ لَهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قُلْنَا: وَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنَّ النِّسَاءَ مَحَلُّ الشَّهَوَاتِ، أَوْ حَامِلَاتٌ لِلْغُسْلِ، فَكَأَنَّهُنَّ أَصْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ اهـ. وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الطِّيبِيِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِخْبَارُ الشَّخْصِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مُعَدًّا لِغُسْلِهَا، وَشَارَكَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا قِيلَ. وَلَكِنْ مَعَ بُعْدِهِ يَأْبَى عَنْهُ قَوْلُهَا: كُنْتُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عُرْفًا أَوْ لُغَةً عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، ثُمَّ قَوْلُهَا: (مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَغْتَسِلُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ الْغُسْلَانِ مُتَعَاقِبَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ تَقَدُّمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَدَبِ، وَيَحْتَمِلُ الْمَعِيَّةَ، وَعَلَى تَقْدِيرِهَا يَحْتَمِلُ التَّسَتُّرَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ جَمَالِ حَالِهِمَا وَكَمَالِ حَيَائِهِمَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّكَشُّفِ يَحْتَمِلُ عَدَمَ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ، بَلْ هُوَ صَرِيحٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَكَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْهَا، وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا: «مَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلَا رَأَى مِنِّي يَعْنِي الْفَرْجَ» ، وَبِهِ انْدَفَعَ مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ مِنْ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى عَوْرَةِ امْرَأَتِهِ وَبِالْعَكْسِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَا يَصِحُّ مَعَ الِاحْتِمَالِ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَعْنِي عَنِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى عَوْرَةِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَذَكَرَتْ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ اهـ. وَفِي كَوْنِهِ نَصًّا مَحَلَّ نَظَرٍ إِذْ عَلَى تَقْدِيرِهِ يُنَاقِضُ مَا سَبَقَ عَنْهَا، فَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ يُحْمَلُ عَلَى مَا عَدَا الْفَرْجَ مِنَ الْأَفْخَاذِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَنْكَشِفُ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. ثُمَّ قِيلَ: فِي

الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاغْتِرَافَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يَجْعَلُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا، وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا غَسْلُ أَيْدِيهِمَا خَارِجَ الْإِنَاءِ، ثُمَّ تَنَاوَلُهُمَا الْمَاءَ. قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ فَقِيلَ: " مِنْ " الْأُولَى ابْتِدَائِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مِنْ قَدَحٍ بَدَلَ مِنْ إِنَاءٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ، فَـ " مِنَ " الثَّانِيَةُ تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ مِنْ أَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَانَ هَذَا الْإِنَاءُ مِنْ شَبَهٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ نُحَاسٌ أَصْفَرُ، وَكَانَ مُسْتَنَدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَلَفْظُهُ: مِنْ تَوْرٍ مِنْ شَبَهٍ، وَالتَّوْرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ إِنَاءٌ يُشْرَبُ فِيمَا يُذْكَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: مِنْ إِنَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ، وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ، وَيُرْوَى بِتَسْكِينِ الرَّاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَقِيلَ: صَاعَانِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: قَدْرُهُ سِتَّةُ أَقْسَاطٍ، وَالْقِسْطُ بِكَسْرِ الْقَافِ نِصْفُ صَاعٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ التَّوْرِ وَالْفَرَقِ أَنَّ الْفَرَقَ كَانَ مَوْضُوعًا، وَالتَّوْرُ جُعِلَ آلَةً لِلْفَرَقِ، وَبِهِ بَطَلَ اسْتِدْلَالُ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ بِكُلِّ حَالٍ، هَذَا وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَوَازَ اغْتِسَالِ الرَّجُلِ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ وَعَكْسِهِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَبَعْضُهُمْ عَلَى جَوَازِ طَهَارَةِ الْمَرْأَةِ بِفَضْلِ الرَّجُلِ دُونَ الْعَكْسِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْمَنْعَ فِيمَا إِذَا خَلَيَا بِهِ، وَالْجَوَازُ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَا، وَتَمَسَّكَ كُلٌّ بِظَاهِرِ خَبَرٍ دَلَّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْجَمِيعِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى مَا تَسَاقَطَ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَالْجَوَازِ عَلَى مَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ بِذَلِكَ جَمَعَ الْخَطَّابِيُّ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْجَوَازَ فِيمَا إِذَا اغْتَرَفَا مَعًا، وَالْمَنْعُ فِيمَا إِذَا اغْتَرَفَ أَحَدُهَا قَبْلَ الْآخَرِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَظْهَرْ فَرْقٌ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا إِذَا تَسَاقَطَ الْمَاءُ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْإِنَاءِ، وَالْجَوَازُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْفِعْلَ عَلَى الْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَكَانَ لَهُ) : أَيْ لِرَأْسِهِ الشَّرِيفِ (شَعْرٌ) : أَيْ نَازِلٌ (فَوْقَ الْجُمَّةِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَا سَقَطَ مِنَ الْمَنْكِبَيْنِ (وَدُونَ الْوَفْرَةِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهُ رَاءٌ مَا وَصَلَ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَالنِّهَايَةِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَعْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَمْرًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجُمَّةِ وَالْوَفْرَةِ، وَلَيْسَ بِجُمَّةٍ وَلَا وَفْرَةٍ إِذْ مَعْنَى فَوْقَ الْجُمَّةِ أَنَّ شَعْرَهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَحَلِّ الْجُمَّةِ وَهُوَ الْمَنْكِبُ، وَمَعْنَى (دُونَ الْوَفْرَةِ) أَنَّ شَعْرَهُ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ شَحْمَةِ الْأُذُنِ، لَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ» ، وَهَذَا ظَاهِرُ أَنَّ شَعْرَهُ كَانَ جُمَّةً، وَعَلَى أَنَّ جُمَّتَهُ مَعَ عِظَمِهَا إِلَى أُذُنَيْهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ اهـ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ فِي شَمَائِلِهِ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَتْ: «كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوْقَ الْوَفْرَةِ دُونَ الْجُمَّةِ» ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي الشَّمَائِلِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: فَوْقَ الْوَفْرَةِ دُونَ الْجُمَّةِ، قِيلَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَوْقَ وَدُونَ تَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ، وَتَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِقْدَارِ، فَقَوْلُهُ: فَوْقَ الْجُمَّةِ أَيْ أَرْفَعَ مِنْهَا فِي الْمَحَلِّ، وَدُونَ الْجُمَّةِ أَيْ أَقَلَّ مِنْهَا فِي الْمِقْدَارِ، وَكَذَا فِي الْعَكْسِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَهُوَ جَمْعٌ جَيِّدٌ لَوْلَا أَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثِ مُتَّحِدٌ مَعْنًى اهـ. قَالَ الْحَنَفِيُّ: فِيهِ بَحْثٌّ لِأَنَّ مَآلَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَّحِدٌ مَعْنًى، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِبَارَةِ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ اتِّحَادُ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوْ مَنْ دُونَهَا أَدَّتْ أَوْ أَدَّى مَعْنًى وَاحِدًا لِعِبَارَتَيْنِ وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ اغْتِسَالَ عَائِشَةَ وَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَقَعَ مُتَعَدِّدًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ نَاشِئًا مِنِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ: وَكَانَ. . إِلَخْ. حَالٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَلَا تَعَلُّقَ بِهِ بِالِاغْتِسَالِ، وَيَكُونُ الْمَرْوِيُّ حَدِيثَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ، وَإِنْ كَانَا وَقَعَا مُتَعَاطِفَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا قَالَ مِنَ الْحَالِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ اغْتِسَالٍ يَخْتَلِفُ الْحَالُ، وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النَّهْيِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ ابْنَ حَجْرٍ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي شَمَائِلِهِ بِلَفْظِ: وَأَنْزَلَ مِنَ الْوَفْرَةِ. قَالَ: أَيْ مِنْ مَحَلِّهَا وَهُوَ شَحْمَةُ الْأُذُنِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِمَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ فِي نَسْخٍ هُنَا فَوْقَ الْجُمَّةِ دُونَ الْوَفْرَةِ، وَهَذِهِ عَكْسُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ اهـ. وَقَوْلُهُ: " أَنْزَلَ مِنَ الْوَفْرَةِ " غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الشُّرَّاحِ أَيْضًا ذَكَرَهُ.

4461 - وَعَنِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نِعْمَ الرَّجُلُ خُرَيْمٌ الْأَسْدِيُّ، لَوْلَا طُولُ جُمَّتِهِ، وَإِسْبَالُ إِزَارِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ خُرَيْمًا، فَأَخَذَ شَفْرَةً، فَقَطَعَ بِهَا جُمَّتَهُ إِلَى أُذُنَيْهِ، وَرَفَعَ إِزَارَهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4461 - (وَعَنِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، وَهِيَ أُمُّ جَدِّهِ، وَقِيلَ أُمُّهُ وَبِهَا يُعْرَفُ، وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ وَاسْمُ أَبِيهِ الرَّبِيعُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ سَهْلُ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَكَانَ فَاضِلًا مُعْتَزِلًا عَنِ النَّاسِ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَكَانَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِدِمَشْقَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. (رَجُلٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنِ (ابْنِ) ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا لِقَوْلِهِ: (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَنُطِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 15] وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَ الرَّجُلُ خُرَيْمٌ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مُصَغَّرًا كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَالْقَامُوسِ، وَتَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالزَّايِ، وَلَعَلَّهُ أُخِذَ مِنْ سِيَاقِ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ إِيَّاهُ بَعْدَ أَسْمَاءِ خُزَيْمَةَ بِالزَّايِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ أَسْمَاءَ رِجَالِهِ مَا وَقَعَتْ مُرَتَّبَةً، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَتَبُّعِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ رَاعَى أَوَّلَ الْحُرُوفِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَلَا نَظَرَ إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا خُرَيْمَ بْنَ الْأَخْرَمِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ فَاتِكٍ، عِدَادُهُ فِي الشَّامِيِّينَ، وَقِيلَ فِي الْكُوفِيِّينَ. رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ: (الْأَسْدِيُّ) ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْأَسْدُ الْأَزْدُ أَبُو حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ، وَهُوَ أَزْدُ بْنُ الْغَوْثِ وَبِالسِّينِ أَفْصَحُ، وَمِنْ أَوْلَادِهِ الْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ، وَيُقَالُ أَزْدُ شَنُوءَةَ وَعُمَانَ وَالسَّرَاةِ. (لَوْلَا طُولُ جُمَّتِهِ) ، لَا شَكَّ أَنَّ طُولَ الشَّعْرِ لَيْسَ مَذْمُومًا وَلَا جَاءَ أَمْرٌ بِقَطْعِ مَا زَادَ عَلَى مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ، فَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى هَذَا الرَّجُلَ يَتَبَخْتَرُ بِطُولِ جُمَّتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَإِسْبَالُ إِزَارِهِ) : أَيْ إِطَالَةُ ذَيْلِهِ، قَالُوا: وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ الْغَائِبَ بِمَا فِيهِ مِنْ مَكْرُوهٍ شَرْعًا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَرْتَدِعُ عَنْهُ وَيَتْرُكُهُ عِنْدَ سَمَاعِهِ، (فَبَلَغَ ذَلِكَ خُرَيْمًا فَأَخَذَ شَفْرَةً) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ سِكِّينًا (فَقَطَعَ بِهَا جُمَّتَهُ إِلَى أُذُنَيْهِ) : أَيْ دَفْعًا لِمَا يُورِثُ الْخُيَلَاءَ وَالتَّبَخْتُرَ، وَمِنْ لَطَائِفِ مَا حُكِيَ أَنَّ شَيْخًا كَانَ يَشْتَغِلُ دَائِمًا بِتَحْسِينِ لِحْيَتِهِ، فَأُلْهِمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا تَعَلُّقُهُ بِذَقْنِهِ، فَبَقِيَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ نَدَمًا عَلَى فِعْلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: الْآنَ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِمَا كُنْتَ مُتَعَلِّقًا بِهِ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا أَيْ جَوَازُ قَطْعِ الْجُمَّةِ إِلَى الْأُذُنِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ، فَإِنَّهُنَّ يُرْسِلْنَ شُعُورَهُنَّ لَا يَتَّخِذْنَ جُمَّةً. (وَرَفَعَ) : أَيْ خُرَيْمٌ (إِزَارَهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4462 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَتْ لِي ذُؤَابَةٌ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: لَا أَجُزُّهَا، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُدُّهَا، وَيَأْخُذُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4462 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ لِي ذُؤَابَةٌ) : بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ هَمْزَةٍ وَفَتْحِ هَمْزَةٍ وَيُبْدَلُ وَاوًا وَهِيَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: النَّاصِيَةُ أَوْ مَنْبَتُهَا مِنَ الرَّأْسِ (فَقَالَتْ لِي أُمِّي: لَا أَجُزُّهَا) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ لَا أَقْطَعُهَا (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُدُّهَا) : أَيِ الذُّؤَابَةَ (وَيَأْخُذُهَا) : أَيْ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ وَيَلْعَبُ بِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَسِطُ مَعَهُ، وَقِيلَ: يَمُدُّهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْأُذُنِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الزَّائِدَ مِنَ الْأُذُنِ فَيَقْطَعُهُ، وَجُمْلَةُ (كَانَ) اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُخَالِفُ الْحَدِيثَ السَّابِقَ ; لِأَنَّهَا عَلَّلَتْ عَدَمَ الْجَزِّ بِأَخْذِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهَا تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا اهـ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَزَّ مَا هُوَ أَمْرٌ مَحْتُومٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لِعُرُوضِ حَادِثٍ وَهُوَ التَّبَخْتُرُ، فَالْقَطْعُ الْمَخْصُوصُ مَخْصُوصٌ فِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ، أَوْ بِمَنْ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ إِرْسَالَ الشَّعْرِ الْمُتَجَاوِزِ عَنِ الْأُذُنِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4463 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: " لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدِ الْيَوْمِ ". ثُمَّ قَالَ: " ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي " فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ. فَقَالَ: " ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ " فَأَمَرَهُ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4463 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) : أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ) : أَيْ تَرَكَ أَهْلَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ يَبْكُونَ وَيَحْزَنُونَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا) : أَيْ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُنَاسِبُ لِظُلُمَاتِ الْحُزْنِ مَعَ أَنَّ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ مُتَلَازِمَانِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَوْضِعَ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَفِي مَكَانِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ هَذَا التَّفْسِيرِ لِلطِّيبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: أَيْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَبَعًا لِلشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ، إِنَّمَا قَالَ ثَلَاثًا عِنَايَةً لِلَّيَالِي مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَدْعَاهُ، بَلْ هُوَ مُشِيرٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ كَمَا يَظْهَرُ بِأَدْنَى عِنَايَةٍ، ثُمَّ الثَّالِثُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا يُزَادَ فِي الْبُكَاءِ وَالتَّحَزُّنِ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا التَّعْزِيَةِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. (ثُمَّ أَتَاهُمْ) : أَيْ مُسَلِّيًا لَهُمْ (فَقَالَ: لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي) : أَيْ فِي الدِّينِ، أَوْ فِي النَّسَبِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْقَرِيبَ أَخًا (بَعْدَ الْيَوْمِ) : أَيْ هَذَا الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا يُزَادَ فِي الْبُكَاءِ وَالتَّحَزُّنِ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا التَّعْزِيَةِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. (ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي) : أَيْ لِأَجْلِي (بَنَى أَخِي) : وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَعَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ أَوْلَادُ جَعْفَرٍ. (فَجِيءَ بِنَا) : أَيْ وَكُنَّا صِغَارًا (كَأَنَّا أَفْرُخٌ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ جَمْعُ فَرْخٍ، وَهُوَ وَلَدُ الطَّيْرِ، (فَقَالَ: ادْعُوا لِي) : أَيْ لِأَمْرِي (الْحَلَّاقَ) : أَيِ الْمُزَيِّنَ (فَأَمَرَهُ) : أَيْ بَعْدَ مَجِيئِهِ (فَحَلَقَ رُءُوسَنَا) . وَإِنَّمَا حَلَقَ رُءُوسَهُمْ مَعَ أَنَّ إِبْقَاءَ الشَّعْرِ أَفْضَلُ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ لِمَا رَأَى مِنِ اشْتِغَالِ أُمِّهِمْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ عَنْ تَرْجِيلِ شُعُورِهِمْ بِمَا أَصَابَهَا مِنْ قَتْلِ زَوْجِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَسَخِ وَالْقَمْلِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ التَّصَرُّفَ فِي الْأَطْفَالِ حَلْقًا وَخِتَانًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

4464 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُنْهِكِي، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ، وَأَحَبُّ إِلَى الْبَعْلِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَفِي رُوَاتِهِ مَجْهُولٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4464 - (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ) : بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتُمَرِّضُ الْمَرْضَى وَتُدَاوِي الْجَرْحَى (أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ تَخْتِنُ الْبَنَاتَ وَتُطَهِّرُهُنَّ بِالْخِتَانِ (فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُنْهِكِي) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا أَيْ لَا تُبَالِغِي فِي قَطْعِ مَوْضِعِ الْخِتَانِ، بَلِ اتْرُكِي بَعْضَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَيُرْوَى: أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي، فَقَوْلُهُ: لَا تُنْهِكِي تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَشِمِّي أَيْ لَا تَسْتَقْصِي (فَإِنَّ ذَلِكِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ عَدَمَ الْمُبَالَغَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ (أَحْظَى) : بِسُكُونِ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ مُعْجَمَةٍ أَيْ أَنْفَعُ (لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ) : أَيْ أَلَذُّ (إِلَى الْبَعْلِ) : أَيِ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ إِذَا بُولِغَ فِي خِتَانِهَا لَا تَلْتَذُّ هِيَ وَلَا هُوَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: هَذَا حَدِيثٌ (ضَعِيفٌ. وَفِي رُوَاتِهِ مَجْهُولٌ) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِرُوَاتِهِ جِنْسَ رُوَاتِهِ، وَيُؤَيِّدَهُ مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَرَاوِيهِ مَجْهُولٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ أَحَدَ رُوَاتِهِ مَجْهُولٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ، وَفِي رُوَاتِهِ مَجْهُولٌ، لَكِنْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَلَفْظُهُ: " «اخْفِضِي وَلَا تُنْهِكِي، فَإِنَّهُ أَنْضَرُ لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى عِنْدَ الزَّوْجِ» ".

4465 - وَعَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ هَمَّامٍ أَنَّ «امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ خِضَابِ الْحِنَّاءِ. فَقَالَتْ: لَا بَأْسَ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ، كَانَ حَبِيبِي يَكْرَهُ رِيحَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4465 - (وَعَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ هُمَامٍ) : بِضَمِّ هَاءٍ وَتَخْفِيفِ مِيمٍ، كَذَا ضَبَطَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، فِي الْمُغْنِي (هَمَّامٍ) مَفْتُوحَةٌ وَشَدَّةُ مِيمٍ جَمَاعَةٌ وَبِضَمِّ هَاءٍ وَخِفَّةِ مِيمٍ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَمَّامٍ، وَكَذَا فِي تَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ، عَنْ خِضَابِ الْحِنَّاءِ) :

الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الرَّأْسِ (فَقَالَتْ: لَا بَأْسَ) : أَيْ لَا بَأْسَ بِفِعْلِهِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَا خِلَافَ فِيهِ (وَلَكِنِّي) : وَفِي نُسْخَةٍ وَلَكِنْ (أَكْرَهُهُ) : أَيْ أَكْرَهُ فِعْلَهُ لِعَارِضٍ بَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا: (كَانَ حَبِيبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ رِيحَهُ) : اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَ بِطِيبٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الطِّيبَ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الطِّيبِ لَمْ يَكُنْ يُلَائِمُ طَبْعَهُ الطَّيِّبَ، كَمَا لَا يُلَائِمُ الزَّبَادُ مَثَلًا طَبْعَ الْبَعْضِ، وَكَمَا كَانَ يُحِبُّ اللَّحْمَ، وَامْتَنَعَ عَنْ أَكْلِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لِمَا تَعَافُّهُ نَفْسُهُ الشَّرِيفَةُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ كُرْهَهُ مُخْتَصٌّ بِالشَّعْرِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى فِيهِ زُهُومَتُهُ وَخَمَاجَتُهُ، وَلِذَا عَدَلَ عَنِ الْحِنَّاءِ فِي صَبْغِ لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ إِلَى الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَأَمَّا فِي يَدِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَكْرَهُهُ، لِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ تُكُنْ مُتَحَنِّيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

4466 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَايِعْنِي. فَقَالَ: " لَا أُبَايِعُكِ حَتَّى تُغَيِّرِي كَفَّيْكِ، فَكَأَنَّهُمَا كَفَّا سَبُعٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4466 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيِ ابْنِ رَبِيعَةَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ مُعَاوِيَةَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ بَعْدَ إِسْلَامِ زَوْجِهَا، فَأَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَكَانَ لَهَا فَصَاحَةٌ وَعَقْلٌ، فَلَمَّا بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءُ قَالَ لَهُنَّ: " «لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ". قَالَتْ: مَا رَضِيتُ بِالشِّرْكِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَكَيْفَ فِي الْإِسْلَامِ! فَقَالَ: " وَلَا تَسْرِقْنَ " قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ شَحِيحٌ. قَالَ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ". فَقَالَ: " وَلَا تَزْنِينَ ". قَالَتْ: وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟ ، فَقَالَ: " لَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ ". قَالَتْ: فَهَلْ تَرَكْتَ لَنَا وَلَدًا إِلَّا قَتَلْتَهُ يَوْمَ بَدْرٍ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلَتَهُمْ كِبَارًا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - مَاتَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، يَوْمَ مَاتَ أَبُو قُحَافَةَ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَوَتْ عَنْهَا عَائِشَةُ (قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! بَايِعْنِي) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ غَيْرُ مُبَايَعَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ حِينَ أَسْلَمَتْ عَلَى مَا سَبَقَ (فَقَالَ: لَا أُبَايِعُكِ) : أَيْ بِاللِّسَانِ (حَتَّى تُغَيِّرِي كَفَّيْكِ) ، أَيْ بِالْحِنَّاءِ (فَكَأَنَّهُمَا كَفَّا سَبُعٍ) : شَبَّهَ يَدَيْهَا حِينَ لَمْ تَخْضِبْهُمَا بِكَفَّيْ سَبُعٍ فِي الْكَرَاهِيَةِ ; لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ شَبِيهَةٌ بِالرِّجَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ، وَفِيهِ بَيَانُ كَرَاهِيَةِ خِضَابِ الْكَفَّيْنِ لِلرِّجَالِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4467 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «أَوَمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ، بِيَدِهَا كِتَابٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ. فَقَالَ: " مَا أَدْرِي أَيَدُ رَجُلٍ أَمْ يَدُ امْرَأَةٍ؟ " قَالَتْ: بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ، قَالَ: " لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ " يَعْنِي الْحِنَّاءَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4467 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: أَوْمَتِ) : هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِلَا هَمْزٍ بَعْدَ الْمِيمِ، وَهُوَ مُومٍ إِلَى أَنَّهُ مُعْتَلُّ اللَّامِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ الْقَامُوسِ مَادَّتَهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْمَهْمُوزَاتِ وَمَأَ كَوَضَعَ أَشَارَ كَأَوَمَا وَوَمَأَ، فَوَجَّهَهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ أَوْمَاتْ بِالْهَمْزِ فَخَفَّفَ بِإِبْدَالِهِ أَلْفًا، فَحُذِفَ بِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَشَارَتْ (امْرَأَةٌ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ حِجَابٍ (بِيَدِهَا كِتَابٌ) : الْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ الْمُؤَخَّرِ وَالْخَبَرِ الْمُقَدَّمِ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ،: وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ أَنَّ كِتَابًا فَاعِلٌ لِلْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لَا مُبْتَدَأٌ لِلُزُومِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ حَالًا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَإِنْ جَازَ عَلَى ضَعْفٍ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ صِحَّةَ الْحَالِ هُنَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَوْصُوفَةٌ بِقَوْلِهَا مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهَا أَوْمَتِ عَلَى أَنَّهَا لِلِابْتِدَاءِ، كَمَا تَعَلَّقَ بِهَا لِلِانْتِهَاءِ قَوْلُهَا: (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ) : أَيْ كَفَّ كُمَّهُ عَنْ كَفِّهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ مُبَايَعَتُهُ لِلنِّسَاءِ بِالْيَدِ أَيْضًا، وَالْمَشْهُورُ خِلَافُهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمُدُّ يَدَهُ فِي الْجُمْلَةِ إِيمَاءً إِلَى الْمُبَايَعَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَيَكْتَفِي بِالْمُبَايَعَةِ اللِّسَانِيَّةِ فِي النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَصِلَ يَدُهُ إِلَى يَدِ الْمَرْأَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ مَلْفُوفَةٌ، فَكُنَّ يَتَبَرَّكْنَ بِأَخْذِ كُمِّهِ الْقَائِمِ مَقَامَ يَدِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَقِّ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ الْأَسْعَدِ أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يُصَافِحُ بِهِ عِبَادَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَالْأَزْرَقِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْقُوفًا، وَلَفْظُهُمَا: الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فَمَنْ مَسَحَهُ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ.

(فَقَالَ) : أَيْ فِي سَبَبِ قَبْضِ قَبْضَتِهِ عَنِ الْيَدِ الْمَمْدُودَةِ (مَا أَدْرِي أَيَدُ رَجُلٍ) : أَيْ هِيَ (أَمْ يَدُ امْرَأَةٍ؟ قَالَتْ) : أَيِ الْمَرْأَةُ (بَلِ امْرَأَةٌ) : بِالرَّفْعِ أَيْ صَاحِبَتُهَا أَوْ أَنَا امْرَأَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ، بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ بِالْإِضَافَةِ (قَالَ: لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً) : أَيْ مُرَاعِيَةً شِعَارَ النِّسَاءِ (لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ) : أَيْ لَخَضَبْتِ لَوْنَهَا بِالْحُمْرَةِ أَوِ السَّوَادِ بِاسْتِعْمَالِ الْحِنَّاءِ أَوِ الْعَفْصِ. (يَعْنِي) : تَفْسِيرٌ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الرُّوَاةِ أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (تَغْيِيرَهَا بِالْحِنَّاءِ) : إِمَّا لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ، أَوْ لِكَوْنِهِ الْمُعْتَادَ الْمُتَعَارَفَ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْحِنَّاءُ مَثَلًا، فَيَشْمَلُ تَغْيِيرَهَا بِغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، وَبِهَذَا، يُعْرَفُ أَنَّ التَّفْسِيرَ السَّابِقَ مِنْ غَيْرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4468 - وَعَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «لُعِنَتِ الْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ، وَالنَّامِصَةُ، وَالْمُتَنَمِّصَةُ، وَالْوَاشِمَةُ، وَالْمُسْتَوْشِمَةُ مِنْ غَيْرِ دَاءٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4468 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لُعِنَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ؛ أَيْ لَعَنَهَا اللَّهُ أَوْ لُعِنَتْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الرِّوَايَاتِ (الْوَاصِلَةُ) : أَيْ شَعْرَ الْغَيْرِ بِشِعْرِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الزُّورِ (وَالْمُسْتَوْصِلَةُ) : أَيِ النَّفْسُ الطَّالِبَةُ لِذَلِكَ (وَالنَّامِصَةُ) ، أَيِ النَّاتِفَةُ لِلشَّعْرِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ. قِيلَ: هُوَ مِنَ النَّمْصِ وَهُوَ أَخْذُ الشَّعْرِ مِنَ الْوَجْهِ بِالْخَيْطِ أَوْ بِالْمِنْمَاصِ أَيْ بِالْمِنْقَاشِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا النَّاقِشَةُ أَيِ الْمَاشِطَةُ الَّتِي تُزَيِّنُ النِّسَاءَ بِالنَّمْصِ، (وَالْمُتَنَمِّصَةُ) : أَيِ الَّتِي تَطْلُبُ أَنْ تَنْتِفَ شَعْرَ وَجْهِهَا (وَالْوَاشِمَةُ) : أَيِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَغْرِزُ الْإِبْرَةَ أَوِ الشَّوْكَةَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهَا أَوْ سَاعِدِهَا أَوْ غَيْرِهِمَا لِيَخْرُجَ مِنْهَا الدَّمُ وَتَجْعَلَ فِيهَا كُحْلًا أَوْ نِيلًا، أَوْ غَيْرَهُمَا لِيَخْضَرَّ لَوْنُهُ، وَيَبْقَى نُقُوشًا أَوْ تَكْتُبَ بِهِ اسْمَهَا (وَالْمُسْتَوْشِمَةُ) : أَيِ الَّتِي تَطْلُبُ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا الْوَشْمُ، فَإِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بِصَغِيرَةٍ تَأْثَمُ فَاعِلَتُهُ، وَلَا تَأْثَمُ الْمُفَعْوِلَةُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا الْمَبْحَثِ (مِنْ غَيْرِ دَاءٍ) : مُتَعَلِّقٍ بِالْوَشْمِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى الْوَشْمِ لِلْمُدَاوَاةِ جَازَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ أَثَرٌ اهـ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ أَيْ لَوْ كَانَ بِهَا عِلَّةٌ فَاحْتَاجَتْ إِلَى أَحَدِهَا لَجَازَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِرِوَايَةِ الصِّحَاحِ السِّتِّ.

4469 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4469 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ) ، بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] ، (وَالْمَرْأَةَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الرَّجُلِ أَيْ وَلَعَنَ الْمَرْأَةَ (تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ. . إِلَخْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

4470 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: «قِيلَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ امْرَأَةً تَلْبَسُ النَّعْلَ. قَالَتْ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَةَ مِنَ النِّسَاءِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4470 - (وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: أَنَّ امْرَأَةً تَلْبَسُ النَّعْلَ) ، أَيِ الَّتِي يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ فَمَا حُكْمُهَا؟ (قَالَتْ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَةَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ (مِنَ النِّسَاءِ) : بَيَانٌ لِلرَّجُلَةِ لِأَنَّ التَّاءَ فِيهَا الْإِرَادَةُ الْوَصْفِيَّةُ أَيِ الْمُتَشَبِّهَةُ فِي الْكَلَامِ وَاللِّبَاسِ بِالرِّجَالِ، وَيُقَالُ: كَانَتْ عَائِشَةُ رَجُلَةَ الرَّأْيِ أَيْ رَأْيُهَا رَأْيُ الرِّجَالِ، فَالتَّشَبُّهُ بِالرَّأْيِ وَالْعِلْمِ غَيْرُ مَذْمُومٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

4471 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ، كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ بِإِنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ فَاطِمَةَ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَاطِمَةَ، فَقَدِمَ مِنْ غَزَاةٍ وَقَدْ عَلَّقَتْ مَسْحًا أَوْ سِتْرًا عَلَى بَابِهَا، وَحَلَّتِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قُلْبَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ، فَقَدِمَ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَظَنَّتْ أَنَّ مَا مَنَعَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَا رَأَى، فَهَتَكَتِ السِّتْرَ، وَفَكَّتِ الْقُلْبَيْنِ عَنِ الصَّبِيَّيْنِ، وَقَطَعَتْهُ مِنْهُمَا، فَانْطَلَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْكِيَانِ، فَأَخَذَهُ مِنْهُمَا فَقَالَ: " يَا ثَوْبَانُ! اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى فُلَانٍ، إِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي أَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا. يَا ثَوْبَانُ! اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ قِلَادَةً مِنْ عَصْبٍ، وَسُوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4471 - (وَعَنْ ثَوْبَانِ) : أَيْ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ مِنْ عَادَتِهِ (إِذَا سَافَرَ، كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ) : أَيْ وَصِيَّتُهُ وَأَمْرُهُ وَحَدِيثُهُ وَمُوَادَعَتُهُ (بِإِنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ) : أَيْ مِنْ بَيْنِ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ (فَاطِمَةَ) : أَيْ عَهِدَهَا لِيَصِحَّ الْحَمْلُ وَهِيَ خَبَرُ كَانَ (وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا) : أَيْ مِنْ أَهْلِهِ إِذَا قَدِمَ (فَاطِمَةَ) : بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ (فَقَدِمَ مِنْ غَزَاةٍ) : أَصْلُهَا عَزَوَةٌ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الزَّايِ، وَقُلِبَتْ أَلْفًا لِتَحَرُّكِهَا فِي الْأَصْلِ، وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا الْآنَ، وَقِيلَ: مَا قَبْلَ تَاءِ التَّأْنِيثِ مُتَحَرِّكٌ تَقْدِيرًا إِذِ السُّكُونُ عَارِضٌ (وَقَدْ عَلَّقَتْ) : أَيْ فَاطِمَةُ (مَسْحًا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ بَلَاسًا (أَوْ سِتْرًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَوْ لِلشَّكِّ (عَلَى بَابِهَا) : أَيْ لِلزِّينَةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلسُّتْرَةِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فِيهَا تَمَاثِيلُ فَالْإِنْكَارُ بِسَبَبِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَحَلَّتِ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَأَصْلُهُ حَلَّيَتْ مِنَ التَّحْلِيَةِ فَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلْفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ حُذِفَتِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَإِنَّمَا حُرِّكَتِ التَّاءُ هُنَا فِي الْوَصْلِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ أَيْضًا، فَحَرَكَتُهَا عَارِضِيَّةٌ لَا أَصْلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى زَيَّنَتْ فَاطِمَةُ بِإِلْبَاسِهَا (الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قُلْبَيْنِ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ سُوَارَيْنِ (مِنْ فِضَّةٍ) : وَفِيهِ احْتِمَالَانِ، وَهُوَ أَلْبَسَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُلْبَيْنِ أَوْ قُلْبًا (فَقَدِمَ) : تَأْكِيدٌ لِلطُّولِ بِالْجُمَلِ الْحَالِيَّةِ، وَتَقْرِيبٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ حُصُولِ الْفُصُولِ (فَلَمْ يَدْخُلْ) : أَيْ بَيْتَ فَاطِمَةَ لِمَا رَأَى بِنُورِ النُّبُوَّةِ وَظُهُورِ الْمُكَاشَفَةِ تَسَتُّرَ بَابِهَا وَتَغْيِيرَ جَنَابِهَا بِإِلْبَاسِ أَوْلَادِهَا مَا لَا يَجُوزُ لَهُمَا مِنَ اللُّبْسِ. (فَظَنَّتْ أَنَّ مَا) : هِيَ مَوْصُولَةٌ فَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً أَيْ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّ الَّذِي (مَنَعَهُ أَنْ يَدْخُلَ) : أَيْ مِنْ دُخُولِ بَيْتِهَا أَوَّلًا عَلَى وَجْهِ الْمُعْتَادِ (مَا رَأَى) : هِيَ صَدْرِيَّةٌ فَاعِلُ مَنَعَهُ، أَوْ مَوْصُولَةٌ أَيْ مَا رَآهُ مِنَ التَّسَتُّرِ وَالتَّغَيُّرِ، وَتَوْضِيحُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِحُصُولِ الْمَرَامِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ هُوَ أَنَّ (أَنَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَ " مَا " أَيْ أَنَّ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَافَّةً بِمَعْنَى " مَا " وَفَاعِلُ مَنَعَهُ مَا رَأَى أَيْ مَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَّا مَا رَآهُ مِنْ تَعْلِيقِ أَحَدِ السِّتْرَيْنِ وَتُحِلِّيهِ الْحَسَنَيْنِ، فَحِينَئِذٍ تُكْتَبُ " مَا " مَوْصُولَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَمَنَعَهُ صِلَتُهُ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى " مَا " وَرَأَى خَبَرُ أَنَّ أَيِ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ مَا رَآهُ، فَعَلَى هَذَا تُكْتَبُ " مَا " مَوْصُولَةً، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ، وَ " مَا " فِي رَأَى مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَهَتَكَتِ السِّتْرَ) : شَقَّتْهُ وَكَشَفَتْهُ (وَفَكَّتْ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ (الْقُلْبَيْنِ) : أَيْ تَقْلِيبَهُمَا وَتَطْوِيقَهُمَا (عَنِ الصَّبِيَّيْنِ، وَقَطَعَتْهُ) : أَيْ مَا بِأَيْدِي الصَّبِيَّيْنِ أَوْ كُلًّا مِنَ الْقَلْبَيْنِ (مِنْهُمَا) : أَيْ أَيْدِي الصَّبِيَّيْنِ أَوْ فَصَلَتْ كُلًّا مِنَ الصَّبِيَّيْنِ عَنِ الْقَلْبَيْنِ وَهُوَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَحَاصِلُهُ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُلْبَيْنِ بِالْقَلْبَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ} [الأحزاب: 4] (فَانْطَلَقَا) : أَيِ الْحَسَنَانِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْكِيَانِ) ، أَيْ عَلَى عَادَةِ الصِّغَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ وَلَوْ بِالْأَحْجَارِ (فَأَخَذَهُ مِنْهُمَا) ، قَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ أَخَذَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِمَا. قُلْتُ: لَا يُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَى تَقْدِيرِ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فَاطِمَةَ بَعْدَ فَكِّ الْقُلْبَيْنِ أَرْسَلَتْهُمَا فِي أَيْدِي الْحَسَنَيْنِ لِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِمَا، فَأَخَذَهُ أَيْ مَا فِي أَيْدِهِمَا أَوْ كُلًّا مِنَ الْقَلْبَيْنِ مِنْهُمَا أَيْ مِنَ الْحَسَنَيْنِ وَأَعْطَاهُ لِثَوْبَانَ (فَقَالَ يَا ثَوْبَانُ! اذْهَبْ بِهَذَا) أَيْ بِكُلٍّ مِنَ الْقُلْبَيْنِ، وَقِيلَ: إِشَارَةً إِلَى الْقَلْبِ، أَوْ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ (إِلَى آلِ فُلَانٍ) ، أَيْ أَهْلِ بَيْتٍ مَشْهُورٍ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الْأَشْرَفِ - وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ وَاقِعًا مَوْقِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ أَيِ الْقُلْبَ الْمُفَكَّكَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى اسْمِ الْإِشَارَةِ التَّصْرِيحُ لِقَوْلِهِ اذْهَبْ بِهَذَا وَهَذَا لِلتَّحْقِيرِ اهـ. وَفِي كَوْنِ الْإِشَارَةِ مَحَلَّ تَفْتِيشٍ وَتَنْقِيرٍ، نَعَمْ إِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّحْقِيرُ الْمَعْنَوِيُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ مِنْ زِيَادَةِ التَّنَعُّمِ الصُّورِيِّ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّ هَؤُلَاءِ) : أَيِ الْحَسَنَانِ وَوَالِدَاهُمَا

(أَهْلِي) : أَيْ أَهْلَ بَيْتِي بِالْخُصُوصِ مِنْ بَيْنِ الْعُمُومِ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِهَؤُلَاءِ وَخَبَرُ أَنَّ قَوْلُهُ: (أَكْرَهُ) : أَوْ أَهْلِي هُوَ الْخَبَرُ وَأَكْرَهُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ لِأَنِّي أَكْرَهُ لَهُمْ كَمَا لِنَفْسِي (أَنْ يَأْكُلُوا طَيِّبَاتِهِمْ) : أَيْ يَتَلَذَّذُوا بِطَيِّبِ طَعَامٍ وَلُبْسِ نَفِيسٍ وَنَحْوِهَا (فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا) ، بَلِ اخْتَارَ لَهُمُ الْفَقْرَ وَالرِّيَاضَةَ فِي حَيَاتِهِمْ لِيَكُونَ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى، وَمُقَدِّمَاتُهُمْ فِي مَرَاتِبِ لَذَّاتِهِمْ أَعْلَى، وَلِئَلَّا يَكُونُوا مُتَشَبِّهِينَ بِمَنْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شَبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: " إِنَّ هَؤُلَاءِ " اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْمُوجِبِ لِلْمَنْعِ، وَأَهْلِي خَبَرٌ لِـ (أَنَّ) فَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّعْظِيمِ، فَالْمَعْنَى لَا يَجُوزُ هَذَا الْمُحَقَّرُ لِهَؤُلَاءِ الْعِظَامِ، وَقَوْلُهُ: (أَكْرَهُ) اسْتِئْنَافٌ آخَرُ (يَا ثَوْبَانُ! اشْتَرِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَجُوِّزَ سُكُونُهَا (لِفَاطِمَةَ قِلَادَةً) : بِكَسْرِ الْقَافِ مَا يُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ (مِنْ عَصْبٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَيُفْتَحُ، سِنُّ حَيَوَانٍ فِي النِّهَايَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ: إِنْ تَكُنِ الثِّيَابَ الْيَمَانِيَةَ فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَمَا أَرَى أَنَّ الْقِلَادَةَ تَكُونُ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ الرِّوَايَةَ إِنَّمَا هِيَ الْعَصَبُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَهُوَ إِطْنَابُ مَفَاصِلِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ شَيْءٌ مُدَوَّرٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ عَصَبَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ فَيَقْطَعُونَهُ: وَيَجْعَلُونَهُ شِبْهَ الْخَرَزِ، فَإِذَا يَبِسَ يَتَّخِذُونَ مِنْهُ الْقَلَائِدَ، إِذَا جَازَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ عِظَامِ السُّلَحْفَاةِ وَغَيْرِهَا الْأَسْوِرَةُ جَازَ، وَأَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ عَصَبِ أَشْبَاهِهَا خَرَزٌ يُنْظَمُ مِنْهَا الْقَلَائِدُ. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ الْعَصَبَ مِنْ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ تُسَمَّى فَرَسَ فِرْعَوْنَ يُتَّخَذُ مِنْهَا الْخَرَزُ وَغَيْرُهَا مِنْ نِصَابِ سِكِّينٍ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونُ أَبْيَضَ. (وَسُوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْعَاجَ هُوَ الذَّيْلُ، وَهُوَ عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، وَمِنَ الْعَجِيبِ الْعُدُولُ عَنِ اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ إِلَى مَا لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْعَاجَ عَظْمُ أَنْيَابِ الْفِيَلَةِ، وَعَلَى هَذَا يُفَسِّرُهُ النَّاسُ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ، قُلْتُ: لَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ أَنَّ عَظْمَ الْمَيِّتِ نَجِسٌ عِنْدَهُمْ، بَلْ عِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْفِيلَ نَجِسُ الْعَيْنِ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: طَهَارَةُ عَظْمِ الْحَيَوَانِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالزَّكَاةِ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا قُلْنَا بِالضَّعِيفِ أَنَّ عِظَامَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَذَكَرَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَنَّهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ نَاقِلًا عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: إِنَّ الْعَاجَ هُوَ الذَّيْلُ وَهُوَ عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ جُزْءُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ بَحْرِيٍّ، وَأَمَّا الْعَاجُ أَيْ عَظْمُ الْفِيلِ فَنَجِسٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهِ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا فَلَا يَبْعُدُ حَمْلُهُ هَاهُنَا اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْعَاجُ الذَّيْلُ، وَعَظْمُ الْفِيلِ، وَالذَّيْلُ جِلْدُ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ أَوِ الْبَرِّيَّةِ، أَوْ عِظَامُ ظَهْرِ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ يُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَسْوِرَةُ وَالْأَمْشَاطُ اهـ. وَلَعَلَّ الْقُلْبَيْنِ كَانَا فِي يَدَيْ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَلْبَسَتْهُمَا الْحَسَنَيْنِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا لُبْسُهُمَا، فَلَمَّا عَاقَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِجْرَتِهَا، وَعَاتَبَهَا عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهَا فِي صُورَةِ عِصْيَانِهَا، وَكَفَّرَهَا بِالصَّدَقَةِ عَنْهَا وَعَنْ أَوْلَادِهَا جَبَرَهَا بِشِرَاءِ الْقِلَادَةِ وَالسُّوَارَيْنِ لِتَلْبَسَهُمَا احْتِرَازًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ، وَإِظْهَارًا لِلتَّقَنُّعِ بِأَخْشَنِ الْأَحْوَالِ الْمُوجِبِ لِأَحْسَنِ الْآمَالِ فِي الْمَآلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4472 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اكْتَحِلُوا بِالْإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ ". وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، ثَلَاثَةً فِي هَذِهِ وَثَلَاثَةً فِي هَذِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4472 - ( «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اكْتَحِلُوا بِالْإِثْمِدِ» ) : أَيْ دُومُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ بَيْنَهُمَا مُثَلَّثَةٌ سَاكِنَةٌ حَجَرٌ يُكْتَحَلُ بِهِ. قِيلَ: هُوَ الْكُحْلُ الْمَعْرُوفُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْهُ لِمَا فِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ خَيْرَ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ الْحَجَرُ الْمَعْدَنِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ الْكُحْلُ الْأَصْفَهَانِيُّ يُنَشِّفُ الدَّمْعَةَ وَالْقُرُوحَ وَيَحْفَظُ صِحَّةَ الْعَيْنِ وَيُقَوِّي غُصْنَهَا، لَا سِيَّمَا لِلشُّيُوخِ وَالصِّبْيَانِ. وَفِي تَاجِ الْأَسَامِي: الْإِثْمِدِ هُوَ التُّوتِيَاءُ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ، وَهُوَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْمِسْكُ الْخَالِصُ قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ،: قَالَ: لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ. وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ» ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، وَلِأَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِثْمِدٌ

يَكْتَحِلُ بِهِ عِنْدَ نَوْمِهِ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثًا» (فَإِنَّهُ) : أَيِ الْإِثْمِدَ أَوِ الِاكْتِحَالَ بِهِ (يَجْلُو الْبَصَرَ) : مِنَ الْجَلَاءِ أَيْ يُحْسِنُ النَّظَرَ، وَيَزِيدُ نُورَ الْعَيْنِ، وَيُنَظِّفُ الْبَاصِرَةَ لِدَفْعِ الْمَوَادِّ الرِّدْيَةِ النَّازِلَةِ إِلَيْهَا مِنَ الرَّأْسِ. (وَيُنْبِتُ) : مِنَ الْإِنْبَاتِ (الشَّعَرَ) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الْعَيْنِ، لَكِنْ قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ بِفَتْحِهَا. قُلْتُ: وَلَعَلَّ وِجْهَةَ مُرَاعَاةِ لِفْظِ الْبَصَرِ، وَهُوَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْبَدِيعِيَّةِ وَالْمُنَاسِبَاتِ السَّجْعِيَّةِ، وَنَظِيرُهُ وُرُودُ الْمُشَاكَلَةِ فِي لَا مَلْجًا وَلَا مَنْجًا، وَرِوَايَةُ: أَذْهَبَ الْبَاسَ رَبُّ النَّاسِ بِإِبْدَالِ هَمْزَةِ الْبَأْسِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِالشَّعَرِ هُنَا الْهُدَبُ وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ مَثْرَهْ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى أَشْفَارِ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي عَاصِمٍ وَالطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ مَنْبَتَةٌ لِلشَّعَرِ مَذْهَبَةٌ لِلْقَذَى مَصْفَاةٌ لِلْبَصَرِ. (وَزَعَمَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَارِحٌ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَرِوَايَاتٍ لِلتِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْرَبُ، وَبِالِاسْتِدْلَالِ أَنْسَبُ، وَقِيلَ: أَيْ مُحَمَّدُ بْنُ شَيْخِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَزَعَمَ بِالْفَاءِ، وَالزَّعْمُ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الْمُحَقَّقُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَشْكُوكِ فِيهِ. أَوْ فِي الظَّنِّ الْبَاطِلِ. قَالَ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التغابن: 7] ، وَفِي الْحَدِيثِ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا، عَلَى مَا رَوَاهُ فِي أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ حُذَيْفَةَ، فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ السِّيَاقِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الْمُحَقَّقُ «كَقَوْلِ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ أَخِيهَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ لِاثْنَيْنِ مِنْ أَصْهَارِهَا أَجَارَتْهُمَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ» . وَإِنْ كَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَلَى مَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، فَالزَّعْمُ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ مَعْنَاهُ الْمُتَبَادَرِ إِشَارَةً إِلَى ضَعْفِ حَدِيثِهِ بِإِسْقَاطِ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَائِلُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَقِيلَ: وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ (زَعَمَ) فَائِدَةٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ أَتَى بِهِ لِطُولِ الْفَصْلِ، كَمَا يَقَعُ عَادَةً. قَالَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَارَاتِ: وَجَاءَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، بِأَنَّ الْأُولَى حَدِيثٌ قَوْلِيٌّ، وَالثَّانِيَةُ حَدِيثٌ فِعْلِيٌّ، هَذَا وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ السُّيُوطِيَّ جَعَلَ الْحَدِيثَ حَدِيثَيْنِ. وَقَالَ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَةً فِي هَذِهِ، وَثَلَاثَةً فِي هَذِهِ» ، وَلَمَّا كَانَ زَعَمَ يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا بِمَعْنَى ظَنَّ ضَبَطَ قَوْلَهُ. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَخَبَّرَ أَنَّ قَوْلَهُ: (كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ) : بِضَمَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا سَاكِنَةٌ اسْمُ آلَةِ الْكُحْلِ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هَاهُنَا مَا فِيهِ الْكُحْلُ، (يَكْتَحِلُ بِهَا) : كَذَا بِالْبَاءِ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَفِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الشَّمَائِلِ بِلَفْظِ " مِنْهَا " فَالْبَاءُ بِمَعْنَى " مِنْ " كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ; {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِسَبَبِيَّةِ (كُلَّ لَيْلَةٍ) : أَيْ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَعِنْدَ النَّوْمِ كَمَا فِي أُخْرَى، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَبْقَى لِلْعَيْنِ، وَأَمْكَنُ فِي نُفُوذِ السَّرَايَةِ إِلَى طَبَقَاتِهَا (ثَلَاثَةً) : أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَةٍ (فِي هَذِهِ) : أَيِ الْيُمْنَى (وَثَلَاثَةً) : أَيْ مُتَتَابِعَةً (فِي هَذِهِ) : أَيِ الْيُسْرَى، وَالْمُشَارُ إِلَيْهَا عَيْنُ الرَّاوِي بِطْرِيقِ التَّمْثِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوْتِرْ» " عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي الْإِيتَارِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا سَبَقَ، وَعَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ، وَهُوَ أَقْوَى فِي الِاعْتِبَارِ لِتَكْرَارِ تَحَقُّقِ الْإِيتَارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ عُضْوٍ، كَمَا اعْتُبِرَ التَّثْلِيثُ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكْتَحِلَ فِيهِمَا خَمْسَةً، ثَلَاثَةً فِي الْيُمْنَى، وَمَرَّتَيْنِ فِي الْيُسْرَى، عَلَى مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ وَالِانْتِهَاءُ بِالْيَمِينِ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى الْيَسَارِ، كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْفَيْرُوزَآبَادِي، وَيُجَوِّزُ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَوَاحِدَةً بَيْنَهُمَا، أَوْ فِي الْيُمْنَى ثَلَاثًا مُتَعَاقِبَةً، وَفِي الْيُسْرَى اثْنَتَيْنِ، فَيَكُونُ الْوَتْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَأَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ حُصُولِ الْوَتْرِ شَفْعًا، مَعَ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكْتَحِلَ فِي كُلٍّ غَيْرَ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ وَثُمَّ وَيَئُوَلُ أَمْرُهُ إِلَى الْوَتْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُضْوَيْنِ، لَكِنَّ الْقِيَاسَ عَلَى بَابِ طَهَارَةِ الْأَعْضَاءِ بِجَامِعِ التَّنْظِيفِ وَالتَّزْيِينِ هُوَ الْأَوَّلُ فَتَأْمَّلْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ، وَكَذَا فِي الشَّمَائِلِ بِأَسَانِيدَ مُخْتَلِفَةٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا: ( «اكْتَحَلُوا بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ» ) . وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَا الْحَاكِمُ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ» " إِلَخْ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: " «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ مَنْبَتَةٌ لِلشَّعَرِ مَذْهَبَةٌ لِلْقَذَى مَصْفَاةٌ لِلْبَصَرِ» ". وَرَوَاهُ الْبَغَوَيُّ فِي مُسْنَدِ عُثْمَانَ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «عَلَيْكُمْ بِالْكُحْلِ، فَإِنَّهُ يُنْبِتُ الشَّعْرَ وَيَشُدُّ الْعَيْنَ» ". وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا اكْتَحَلَ اكْتَحَلَ وَتْرًا، وَإِذَا اسْتَجْمَرَ اسْتَجْمَرَ وَتْرًا» ".

4473 - وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْتَحِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ بِالْإِثْمِدِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ» . قَالَ: وَقَالَ: " «إِنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ: اللَّدُودُ، وَالسَّعُوطُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالْمَشِيُّ. وَخَيْرَ مَا اكْتَحَلْتُمْ بِهِ الْإِثْمِدُ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ، وَإِنَّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمُ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَيَوْمُ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَيَوْمُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ» " «وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ عُرِجَ بِهِ، مَا مَرَّ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: عَلَيْكَ بِالْحِجَامَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4473 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْتَحِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ بِالْإِثْمِدِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ» قَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (وَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ اللَّدُودُ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ وَهُوَ مَا يُسْقَى الْمَرِيضُ مِنَ الدَّوَاءِ فِي أَحَدِ شِقَّيْ فِيهِ (وَالسَّعُوطُ) : عَلَى وَزْنِهِ وَهُوَ مَا يُصَبُّ مِنَ الدَّوَاءِ فِي الْأَنْفِ (وَالْحِجَامَةُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ بِمَعْنَى الِاحْتِجَامِ (وَالْمَشِيُّ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ فَعِيلٌ مِنَ الْمَشْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَكَسْرٍ، وَجَوَّزَهُ فِي الْمُغْرِبِ وَقَالَ: وَهُوَ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ لِإِطْلَاقِ الْبَطْنِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الدَّوَاءُ الْمُسَهِّلُ مَشِيًّا لِأَنَّهُ يَحْمِلُ شَارِبَهُ عَلَى الْمَشْيِ وَالتَّرَدُّدِ إِلَى الْخَلَاءِ. (وَخَيْرَ مَا اكْتَحَلْتُمْ بِهِ) : بِالنَّصْبِ وَجُوِّزَ رَفْعُهُ (الْإِثْمِدُ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ، وَإِنَّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ) : أَيْ مِنَ الْأَيَّامِ (يَوْمُ سَبْعَ عَشْرَةَ) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَيُكْسَرُ وَيَوْمُ مُضَافٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ أَنَّ (وَيَوْمُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ) : كَذَا فِي النُّسَخِ، وَالظَّاهِرُ وَيَوْمُ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ (وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : إِلَخْ جُمْلَةٌ مُسْتَطْرِدَةٌ قَالَهُ الرَّاوِي حَثًّا عَلَى الْحِجَامَةِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ مَنْقُولًا بِالْمَعْنَى. (حَيْثُ عُرِجَ بِهِ) : أَيْ حِينِ صُعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ (مَا مَرَّ) : أَيْ هُوَ (عَلَى مَلَأٍ) : أَيْ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ تَمْلَأُ الْعُيُونَ مِنْ كَثْرَتِهَا (إِلَّا قَالُوا: عَلَيْكَ بِالْحِجَامَةِ) : أَيِ الْزَمْهَا لُزُومًا مُؤَكَّدًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجْهُ مُبَالِغَةِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْحِجَامَةِ سِوَى مَا عَرَفُوا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي تَعُودُ إِلَى الْأَبْدَانِ، هُوَ أَنَّ الدَّمَ رُكِّبَ مِنَ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ الْحَائِلَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ التَّرَقِّي إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَالْوُصُولِ إِلَى الْكُشُوفِ الرُّوحَانِيَّةِ وَبِغَلَبَتِهِ يَزْدَادُ جِمَاعُ النَّفْسِ وَصَلَابَتُهَا، فَإِذَا نَزَفَ الدَّمُ يُورِثُهَا ذَلِكَ خُضُوعًا وَخُمُودًا وَلِينًا وَرِقَّةً، وَبِذَلِكَ تَنْقَطِعُ الْأَدْخِنَةُ الْمُنْبَعِثَةُ عَنِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَتَنْحَسِمُ مَادَّتُهَا فَتَزْدَادُ الْبَصِيرَةُ نُورًا إِلَى نُورِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَمُرَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ عَلِيٍّ بِزِيَادَةِ: وَالْفِصَادُ، وَفِيهِ أَيْضًا: «الْحِجَامَةُ تَنْفَعُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ أَلَا فَاحْتَجِمُوا» . رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ تَنْفَعُ مِنَ الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَالْأَضْرَاسِ، وَالنُّعَاسِ. رَوَاهُ الْعَقِيلِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: «الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ شِفَاءٌ مِنْ سَبْعٍ إِذَا مَا نَوَى صَاحِبُهَا: مِنَ الْجُنُونِ، وَالصُّدَاعِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَالنُّعَاسِ، وَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَظُلْمَةٍ يَجِدُهَا فِي عَيْنِهِ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ أَمْثَلُ وَفِيهَا شِفَاءٌ وَبَرَكَةٌ وَتَزِيدُ فِي الْحِفْظِ وَالْعَقْلِ، فَاحْتَجِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ، وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي عَافَى اللَّهُ فِيهِ أَيُّوبَ مِنَ الْبَلَاءِ، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ابْتُلِيَ فِيهِ أَيُّوبُ، وَمَا يَبْدُو جُذَامٌ وَلَا بَرَصٌ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ» ". وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَضْرَمِيِّ مُعْضِلًا: الْحِجَامَةُ تُكْرَهُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ، وَلَا يُرْجَى نَفْعُهَا حَتَّى يَنْقُصَ الْهِلَالُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ لَهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَعْقَلِ بْنِ يَسَارٍ: " مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ كَانَ دَوَاءً لِدَاءِ سَنَةٍ ". وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ لَهُ شِفَاءٌ مَنْ كُلِّ دَاءٍ ". وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ فَرَأَى فِي جَسَدِهِ وَضَحًا فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ".

4474 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوا بِالْمَيَازِرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4474 - (وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوا بِالْمَيَازِرِ» ) : جَمْعُ مِئْزَرٍ وَهُوَ الْإِزَارُ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُدْخَلَ الْمَاءُ إِلَّا بِمِئْزَرٍ» . قَالَ الْمُظْهِرُ: وَإِنَّمَا لَمْ يُرَخِّصْ لِلنِّسَاءِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَعْضَائِهِنَّ عَوْرَةٌ وَكَشْفَهَا غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً تَدْخُلُ لِلدَّوَاءِ، أَوْ تَكُونَ قَدِ انْقَطَعَ نِفَاسُهَا تَدْخُلُ لِلتَّنْظِيفِ، أَوْ تَكُونَ جُنُبًا وَالْبَرْدُ شَدِيدٌ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى تَسْخِينِ الْمَاءِ وَتَخَافُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ ضَرَرًا، وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِزَارٍ سَاتِرٍ لِمَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ حِكْمَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي النَّهْيِ، فَإِنَّ النِّسَاءَ مَعَ النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ مَعَ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِي مَنْعِ النِّسَاءِ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ أَنَّهُنَّ فِي الْغَالِبِ لَا يَسْتَحْيِ بِعَضُهُنَّ مِنْ بَعْضٍ، وَيَنْكَشِفْنَ وَيَنْظُرُ بِعَضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى فِي الْأَجَانِبِ فَضْلًا عَنِ الْقَرَائِبِ، وَأَمَّا الْبِنْتُ مَعَ الْأُمِّ أَوْ مَعَ الْجَارِيَةِ وَأَمْثَالِهِمَا، فَلَا تَكَادُ تُوجَدُ أَنْ تَتَسَتَّرَ حَتَّى فِي الْبَيْتِ فَضْلًا عَنِ الْحَمَّامِ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَمَّامَاتِ لِلنِّسَاءِ خُصُوصًا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، وَأَنَّهُ لَا تَتَّزِرُ مِنْهَا إِلَّا نَادِرَةُ الْعَصْرِ مِنْ نِسْوَانِ السَّلَاطِينِ، أَوِ الْأُمَرَاءِ، فَإِنِ ائْتَزَرَتْ وَاحِدَةٌ مِنَ الرَّعَايَا عَزَّرْنَهَا فِي الْحَمَّامِ بِضَرْبِهَا وَطَرْدِهَا، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى بِنُورِ النُّبُوَّةِ مَا جَرَى فَسَدَّ عَنْهُنَّ هَذَا الْبَابَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4475 - وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، قَالَ: «قَدِمَ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نِسْوَةٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ. فَقَالَتْ: مَنْ أَيْنَ أَنْتُنَّ؟ قُلْنَ: مِنَ الشَّامِ قَالَتْ: فَلَعَلَّكُنَّ مِنَ الْكُورَةِ الَّتِي تَدْخُلُ نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَاتِ؟ قُلْنَ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا تَخْلَعُ امْرَأَةٌ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا هَتَكَتِ السِّتْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إِلَّا هَتَكَتْ سِتْرَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4475 - (وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ أُسَامَةَ الْهُذَلِيُّ الْبَصْرِيُّ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (قَالَ: قَدِمَ عَلَى عَائِشَةَ نِسْوَةٌ) : بِكَسْرِ النُّونِ اسْمُ جَمْعٍ لِلنِّسَاءِ (مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ) : بِكَسْرِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مِيمٍ فَمُهْمَلَةٍ بَلْدَةٌ مِنَ الشَّامِ، (فَقَالَتْ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُنَّ ; قُلْنَ: مِنَ الشَّامِ) : بِهَمْزٍ وَبَدَلٍ (قَالَتْ: فَلَعَلَّكُنَّ مِنَ الْكُورَةِ) : بِضَمِّ الْكَافِ أَيِ الْبَلْدَةِ أَوِ النَّاحِيَةِ (الَّتِي تَدْخُلُ نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَاتِ ; قُلْنَ: بَلَى) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمَلُ بَلَى فِي تَصْدِيقِ مَا بَعْدَ النَّفْيِ وَغَيْرِهِ (قَالَتْ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا تَخْلَعُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ لَا تَنْزِعُ (امْرَأَةٌ ثِيَابَهَا) : أَيِ السَّاتِرَةَ لَهَا (فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا) : أَيْ وَلَوْ فِي بَيْتِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا (إِلَّا هَتَكَتِ السِّتْرَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ حِجَابَ الْحَيَاءِ وَجِلْبَابَ الْأَدَبِ (بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا) : لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالتَّسَتُّرِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ أَنْ يَرَاهَا أَجْنَبِيٌّ حَتَّى لَا يَنْبَغِيَ لَهُنَّ أَنْ يَكْشِفْنَ عَوْرَتَهُنَّ فِي الْخَلْوَةِ أَيْضًا إِلَّا عِنْدَ أَزْوَاجِهِنَّ، فَإِنْ كَشَفَتْ أَعْضَاءَهَا فِي الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَقَدْ هَتَكَتِ السِّتْرَ الَّذِي أَمَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إِلَّا هَتَكَتْ سِتْرَهَا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُ (فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ لِبَاسًا لِيُوَارِيَ بِهِ سَوْآتِهِنَّ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، فَإِذَا لَمْ يَتَّقِينَ اللَّهَ وَكَشَفْنَ سَوْآتِهِنَّ هَتَكْنَ السِّتْرَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4476 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا، يُقَالُ لَهَا: الْحَمَّامَاتُ، فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إِلَّا بِالْأُزُرِ، وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ، إِلَّا مَرِيضَةً، أَوْ نُفَسَاءَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4476 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا) : قِيلَ: أَسْنَدَ الْوِجْدَانَ إِلَيْهِمْ دُونَ الْفَتْحِ لِأَنَّ الْفَتْحَ لَيْسَ مُضَافًا إِلَى فِعْلِهِمْ، بَلْ

بِأَمْرٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ (يُقَالُ لَهَا) : أَيْ لِتِلْكَ الْبُيُوتِ (الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ) : نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ (إِلَّا بِالْأُزُرِ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ إِزَارٍ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالشَّامِ: لَا يُدْخُلُ الرَّجُلُ الْحَمَّامَ إِلَّا بِمِئْزَرٍ، وَلَا تَدْخُلُهُ الْمَرْأَةُ إِلَّا مِنْ سَقَمٍ، وَاجْعَلُوا اللَّهْوَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْخَيْلِ وَالنِّسَاءِ وَالنِّصَالِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ فَيَقُولُ: نِعْمَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ يُذْهِبُ الصِّنَّةِ وَيُذَكِّرُ النَّارَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَرَادَ بِالصِّنَّةِ الصُّنَانَ يَعْنِي بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ: هُوَ زَفْرُ الْإِبِطِ، وَرَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ فَدَخَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِنَا شَيْئًا. قَالَ الْإِمَامُ فِي الْإِحْيَاءِ: دَخَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمَّامَاتِ الشَّامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نِعْمَ الْبَيْتُ بَيْتُ الْحَمَّامِ يُطَهِّرُ الْبَدَنَ وَيُذَكِّرُ النَّارَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ،: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِئْسَ الْبَيْتُ بَيْتُ الْحَمَّامِ يُبْدِي الْعَوْرَاتِ وَيُذْهِبُ الْحَيَاءَ، فَهَذَا يُعْرِضُ لِآفَتِهِ وَذَاكَ لِخَصْلَتِهِ وَلَا بَأْسَ لِطَلَبِ فَائِدَتِهِ عِنْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ آفَتِهِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ آدَابَ الْحَمَّامِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي كِتَابِهِ الْإِحْيَاءِ. (وَامْنَعُوهَا) : أَيِ الْحَمَّامَاتِ (النِّسَاءَ) : أَيْ وَلَوْ بِالْأُزُرِ (إِلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ) . فَتُدْخُلُهَا إِمَّا وَحْدَهَا أَوْ بِإِزَارٍ عَلَيْهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخُلَ الْحَمَّامَ إِلَّا بِضَرُورَةٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4477 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ تُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4477 - (وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، ذَكَرَ طَرَفَيِ الْإِيمَانِ اخْتِصَارًا وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُمَا الْأَصْلُ، وَالْمُرَادُ لَهُ كَمَالُ الْإِيمَانِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّهْدِيدُ. (فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ) : مِنْ بَابِ الْإِدْخَالِ أَيْ فَلَا يَأْذَنُ بِالدُّخُولِ (حَلِيلَتَهُ) : أَيْ زَوْجَتَهُ (الْحَمَّامَ) : وَفِي مَعْنَاهُمَا كَرِيمَتَهُ، مِنْ أُمِّهِ وَبِنْتِهِ وَأُخْتِهِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ يَكُنْ تَحْتَ حُكْمِهِ، فِي الْإِحْيَاءِ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَهَا أُجْرَةَ الْحَمَّامِ، فَيَكُونُ مُعِينًا لَهَا عَلَى الْمَكْرُوهِ. (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ) : أَيْ لَا يَحْضُرُ فِي بُقْعَةٍ (تُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ) : أَيْ وَيَشْرَبُهَا أَهْلُهَا، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ نَهْيُهُمْ عَنْهَا، فَإِذَا جَلَسَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعْرِضْ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْرِضْ عَلَيْهِمْ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا كَامِلًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَبُو دَاوُدَ بَدَلَ التِّرْمِذِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ الْأَوَّلُ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَخَبَرُ: " أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ " مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ زَعَمَ الدَّمِيرِيُّ وَغَيْرُهُ وُرُودَهُ، وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَتَنَوَّرُ، وَكَانَ إِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ أَيْ شَعْرُ عَانَتِهِ حَلَقَهُ» ، وَصَحَّ لَكِنْ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ أَنَّهُ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِعَانَتِهِ فَطَلَاهَا بِالنَّوْرَةِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ» .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4478 - عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: «سُئِلَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: لَوْ شِئْتَ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ ; فَعَلْتُ. قَالَ: وَلَمْ يَخْتَضِبْ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4478 - (عَنْ ثَابِتٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ثَابِتُ بْنُ أَسْلَمَ الْبُنَانِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ، تَابِعِيٌّ. مِنْ أَعْلَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَثِقَاتِهِمْ، اشْتَهَرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَصَحِبَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَلَهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ. (قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ، عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ عَنْ إِثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ (فَقَالَ) : أَيْ مُشِيرًا إِلَى عَدَمِ احْتِيَاجِهِ لِلْخِضَابِ (لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ أُحْصِيَ (شَمَطَاتٍ) : جَمْعُ الشَّمَطَةِ وَفِي

الْقَامُوسِ مُحَرَّكَةٌ: بَيَاضُ شَعْرِ الرَّأْسِ يُخَالِطُ سَوَادَهُ (كُنَّ فِي شَعْرِهِ) : فِي النِّهَايَةِ: الشَّمَطَاتُ الشَّعَرَاتُ الْبِيضُ الَّتِي كَانَتْ فِي شَعْرِ رَأْسِهِ يُرِيدُ: قِلَّتَهَا. (فَعَلْتُ) : أَيْ عَدَّدْتُ أَوْ فَعَلْتُ الْعَدَّ (قَالَ) : أَيْ صَرِيحًا (وَلَمْ يَخْتَضِبْ) : أَيْ رَأْسُهُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي اخْتِضَابُ لِحْيَتِهِ الْمَرْوِيَّ السَّابِقَ، وَالْآتِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَتَدَبَّرْ. (زَادَ) : أَيْ أَنَسٌ (فِي رِوَايَةٍ: وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ) ، وَتَحْقِيقُهُ تَقَدَّمَ (وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ) : أَيْ صِرْفًا وَمَحْضًا وَخَالِصًا، سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4479 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَصْفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالصُّفْرَةِ حَتَّى تَمْتَلِئَ ثِيَابُهُ مِنَ الصُّفْرَةِ فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تُصْبِغُ بِالصُّفْرَةِ؟ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا، حَتَّى عِمَامَتَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4479 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَصْفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالصُّفْرَةِ) : أَيْ بِالْوَرْسِ وَهُوَ نَبْتٌ يُشْبِهُ الزَّعْفَرَانَ، وَقَدْ يُخْلَطُ بِهِ كَمَا سَبَقَ (حَتَّى يَمْتَلِئَ) : بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ (ثِيَابُهُ) : أَيْ مِنَ الْقِنَاعِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعَالِيهِ (مِنَ الصُّفْرَةِ فَقِيلَ: لِمَ تَصْبُغُ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَيُفْتَحُ وَيُكْسَرُ (بِالصُّفْرَةِ؟) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ غَيْرَكَ لَمْ يَصْبُغْ. (قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِهَا) : أَيْ بِالصُّفْرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَصْبُغُ لِحْيَتَهُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ; وَلِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِصَبْغِ ابْنِ عُمَرَ لِحْيَتَهُ، وَفِي حَاشِيَةِ الْمُوَطَّأِ لِلسُّيُوطِيِّ قِيلَ: الْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ صَبْغُ الشَّعْرِ، وَقِيلَ: صَبْغُ الثَّوْبِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَبَغَ شَعْرَهُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: ثَبَتَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ لَبِسَ الثَّوْبَ الْمُعَصْفَرَ وَالْمُزَعْفَرَ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ؟ فَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَبَغَ فِي وَقْتٍ، وَتَرَكَ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، فَأَخَبَرَ كُلٌّ بِمَا رَأَى وَهُوَ صَادِقٌ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ كَالتَّعَيُّنِ لِلْجَمْعِ فِيهِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ اهـ. وَهُوَ نِهَايَةُ الْمُدَّعِي. (وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنْهَا) : أَيْ مِنَ الصُّفْرَةِ فِي اللِّحْيَةِ (وَقَدْ كَانَ) : أَيِ ابْنُ عُمَرَ (يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا، حَتَّى عِمَامَتَهُ) : وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ ثِيَابَهُ جَمِيعَهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ تَتَصَفَّرُ مِنْ أَثَرِ تِلْكَ الصُّفْرَةِ، لَا أَنَّهُ يَصْبُغُهَا بِهَا، ثُمَّ يَلْبَسُهَا، لِمَا سَبَقَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَصَفِّرُ لِحْيَتَهُ حِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَفِّرُونَ لِحَاهُمْ، وَكَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ، وَيَكْرَهُونَ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إِلَى نُورٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي وَجْهِهِ فَيُطْفِئُهُ. وَكَانَ شَدِيدَ بَيَاضِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ.

4480 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعْرًا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْضُوبًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4480 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ) : أَيِ التَّيْمِيِّ، رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَأَبُو عَوَانَةَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. وَقَالَ فِي أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ: هُوَ الْفِلَسْطِينِيُّ الشَّامِيُّ كَانَ قَاضِيَ فِلَسْطِينَ، رَوَى عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَسَمِعَ قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، وَقِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ تَمِيمًا، وَإِنَّمَا سَمِعَ قَبِيصَةَ عَنْ تَمِيمٍ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَوْهَبٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَاءِ فَمُوَحَّدَةٍ عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي وَحَاشِيَةِ الزَّرْكَشِيِّ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِي الْقَامُوسِ، مَوْهَبٌ كَمَقْعَدٍ اسْمٌ فَمَا ضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْهَاءِ فَهُوَ غَيْرُ ضَبْطٍ. (قَالَ) : أَيْ عُثْمَانُ ( «دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعْرًا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْضُوبًا» ) . قَالَ مِيرَكُ: وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ: بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ نُصَيْرِ بْنِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ: «أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَرَتْهُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْمَرَ» ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، «عَنْ أَنَسٍ: رَأَيْتُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْضُوبًا» ، وَقَدْ مَرَّ عَنْ أَنَسٍ فِيمَا صَحَّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَخْضِبْ» ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالنَّفْيِ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبِالْإِثْبَاتِ الْأَقَلَّ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْآخَرُ عَلَى الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّعَرَ كَانَ مُتَغَيِّرًا لَوْنُهُ بِسَبَبِ وَضْعِ الْحِنَّاءِ عَلَى الرَّأْسِ لِدَفْعِ الصُّدَاعِ

أَوْ بِسَبَبِ كَثْرَةِ التَّطَيُّبِ سَمَّاهُ مَخْضُوبًا أَوْ سَمَّى مُقَدِّمَةَ الشَّيْبِ مِنَ الْحُمْرَةِ خِضَابًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ نَفْيَ الْخِضَابِ مَحْمُولٌ عَلَى بِرِّ خِضَابِ الرَّأْسِ لِلشَّيْبِ وَإِثْبَاتِهِ عَلَى شَعْرِ بَعْضِ اللِّحْيَةِ مِنَ الْبَيَاضِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ: «كَانَ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ شَعْرِ لِحْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ أَثَرُ الْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ» ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنَ الْإِطْلَاقَاتِ كَمَا فِي الشَّمَائِلِ: «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلَ: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: نَعَمْ» ، وَقَدْ مَرَّ بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ.

4481 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُخَنَّثٍ، قَدْ خَضَبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَالُ هَذَا؟ " قَالُوا: يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى النَّقِيعِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا تَقْتُلُهُ ; فَقَالَ: " إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4481 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ جِيءَ (بِمُخَنَّثٍ) : تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَمَعْنَاهُ (قَدْ خَضَبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَالُ هَذَا؟) : أَيِ الشَّخْصِ أَوِ الرَّجُلِ (قَالُوا: يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ) : أَيْ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَاسْتِعْمَالِ الْحِنَّاءِ (فَأَمَرَ بِهِ) : أَيْ بِنَفْيِهِ (فَنُفِيَ) : أَيْ أُخْرِجَ (إِلَى النَّقِيعِ) : بِالنُّونِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ كَانَ حِمًى (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا نَقْتُلُهُ؟) : أَيْ نَحْنُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْخِطَابِ أَيْ أَلَا تَأْمُرُ بِقَتْلِهِ ; (فَقَالَ: إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ) : لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا يُقْتَلُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ وَصْفَ الْمُصَلِّي يَكُونُ لِمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ بِتَرْكِهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَلَا يُقَالُ الْمُصَلِّي فِي الْعُرْفِ لِمَنْ صَلَّى مَرَّةً أَوْ أَزْيَدَ، وَلَمْ يَكُنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: مَنْ قَالَ لِسُلْطَانِ زَمَانِنَا إِنَّهُ عَادِلٌ، فَهُوَ كَافِرٌ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَعْدِلُ، نَعَمْ يَدُلُّ بِالْمَفْهُومِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهُ أَنَّ تَارِكِي الصَّلَاةِ يُقْتَلُونَ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا أَكْبَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ قَتْلَهُمْ بِطَرِيقِ الْمُقَاتَلَةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: لَوْ تَرَكَ أَهْلُ بَلْدَةٍ أَذَانَ الصَّلَاةِ لَقَاتَلْتُهُمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4482 - وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ، جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ، فَيَدْعُو لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ، وَيَمْسَحُ رُءُوسَهُمْ، فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَأَنَا مُخَلَّقٌ، فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4482 - (وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا وَهْبٍ الْقُرَشِيَّ، أَخُو عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِأُمِّهِ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَدْ نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، وَلَّاهُ عُثْمَانُ الْكُوفَةَ. وَكَانَ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ وَشُعَرَائِهِمْ، رَوَى عَنْهُ أَبُو مُوسَى الْهَمْدَانِيُّ وَغَيْرُهُ، مَاتَ بِالرِّقَّةِ. (قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ) : أَيْ طَفِقُوا وَشَرَعُوا (يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ، فَيَدْعُو لَهُمْ) : أَيْ لِصِبْيَانِهِمْ أَوْ لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي صِبْيَانِهِمْ (بِالْبَرَكَةِ، وَيَمْسَحُ رُءُوسَهُمْ) : يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ فَتَأَمَّلْ. (فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَأَنَا مُخَلَّقٌ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ مُلَطَّخٌ بِالْخَلُوقِ: هُوَ طِيبٌ مَخْلُوطٌ بِالزَّعْفَرَانِ (فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. فِي الْمُهَذَّبِ: نَوْعُ طِيبٍ يَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ فَامْتِنَاعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ ; لِأَنَّهُ مَنْ طِيبِ النِّسَاءِ، فَيَلْزَمُ مَنْ مَسَّهِ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِلرِّجَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4483 - «وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِي جُمَّةً، أَفَأُرَجِّلُهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ، وَأَكْرِمْهَا ". قَالَ: فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَنَهَا فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَعَمْ، وَأَكْرِمْهَا» ) . رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4483 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ لِي جُمَّةً) : بِضَمِّ جِيمٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ أَيْ شَعْرًا يَصِلُ إِلَى الْمَنْكِبِ (أَفَأُرَجِّلُهَا؟) : بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ أُسَرِّحُهَا وَأُمَشِّطُهَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ) : أَيْ رَجِّلْهَا (وَأَكْرِمْهَا) : أَيْ بِزِيَادَةِ التَّدْهِينِ (قَالَ) : أَيِ الرَّاوِي (فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَّنَهَا) : بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَتُخَفَّفُ، فَفِي الْمُغْرِبِ: دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ شَارِبَهُ إِذَا طَلَاهُ بِالدُّهْنِ، وَفِي الْقَامُوسِ: دَهَنَ رَأْسَهُ إِذَا بَلَّهُ بِالدُّهْنِ. (فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ وَأَكْرِمْهَا) : قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ مِنْ مُنَازَعَةِ

الْعِرَاقِيِّ فِي ذَلِكَ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. " «إِذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» ".

4484 - وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ حَسَّانَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي الْمُغِيرَةُ، قَالَتْ: وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ، وَلَكَ قَرْنَانِ، أَوْ قُصَّتَانِ، فَمَسَحَ رَأْسَكَ، وَبَرَّكَ عَلَيْكَ، وَقَالَ: " احْلِقُوا هَذَيْنِ أَوْ قُصُّوهُمَا ; فَإِنَّ هَذَا زِيُّ الْيَهُودِ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4484 - (وَعَنِ الْحَجَّاجِ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْأُولَى (ابْنِ حَسَّانَ) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَصْرُوفًا وَقَدْ لَا يُصْرَفُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حَنَفِيٌّ يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ. (قَالَ: دَخَلْنَا) : أَيْ أَنَا وَأَهْلِي (عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي الْمُغِيرَةُ) : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ فَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (قَالَتْ) : بَدَلٌ مِنْ حَدَّثَتْ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ) : أَيْ حِينَ دَخَلْنَا عَلَى أَنَسٍ (غُلَامٌ) : أَيْ وَلَدٌ صَغِيرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ حَالٌ عَنْ مُقَدَّرٍ، يَعْنِي أَنَّا دَخَلْنَا عَلَى أَنَسٍ مَعَ جَمَاعَةٍ، وَلَكِنْ أُنْسِيتُ كَيْفِيَّةَ الدُّخُولِ. فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي وَقَالَتْ: أَنْتَ يَوْمَ دُخُولِكَ عَلَى أَنَسٍ غُلَامٌ. . إِلَخْ. وَالْمُغِيرَةُ هَذِهِ رَأَتْ أَنَسًا وَرَوَتْ عَنْهُ. زَادَ الْمُؤَلِّفُ: وَرَوَى عَنْهَا أَخُوهَا الْحَجَّاجُ حَدِيثَهَا فِي بَابِ التَّرَجُّلِ. (وَلَكَ قَرْنَانِ) : أَيْ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعْرٍ فِي الرَّأْسِ (أَوْ قُصَّتَانِ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ شَعْرُ النَّاصِيَةِ وَ " أَوْ " لِلشَّكِّ مِنَ الرُّوَاةِ الْمُتَأَخِّرَةِ (فَمَسَحَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَأْسَكَ، وَبَرَّكَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ. بِمَعْنَى بَارَكَ (عَلَيْكَ) : أَيْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ (وَقَالَ: احْلِقُوا هَذَيْنِ) : أَيِ الْقَرْنَيْنِ (أَوْ قُصُّوهُمَا) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لِلشَّكِّ (فَإِنَّ هَذَا) : أَيِ الزِّيَّ (زِيُّ الْيَهُودِ) : بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ زِينَتُهُمْ وَعَادَتُهُمْ فِي رُءُوسِ أَوْلَادِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَتَقَدَّمَ النَّهْيُّ عَنِ الْقَزَعِ، وَحَدِيثُ: " احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ " مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

4485 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4485 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» ) : وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّوَائِبَ لِلنِّسَاءِ كَاللِّحَى لِلرِّجَالِ فِي الْهَيْئَةِ وَالْجَمَالِ، وَفِيهِ بِطْرِيقِ الْمَفْهُومِ جَوَازُ حَلْقِ الرَّجُلِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، بَلْ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ لِمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَقَرَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ» " أَوْ لَيْسَ سُنَّةً لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ سَائِرِ أَصْحَابِهِ وَاظَبَ عَلَى تَرْكِ حَلْقِهِ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ فَالْحَلْقُ رُخْصَةٌ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

4486 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِإِصْلَاحِ شَعْرِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ رَجَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ثَائِرُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4486 - (وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّابِعِينَ الْمَشْهُورَيْنِ بِالْمَدِينَةِ، كَانَ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ. (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ) : أَيْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُهُ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ (فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ) : بِالْإِضَافَةِ أَيْ مُتَفَرِّقُ شَعْرِهَا (فَأَشَارَ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى الرَّجُلِ، أَوْ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِإِصْلَاحِ شَعْرِهِ وَلِحْيَتِهِ فَفَعَلَ) : أَيْ فَفَهِمَ الرَّجُلُ وَخَرَجَ وَأَصْلَحَهُمَا. (ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) :

أَيْ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِمُخَاطَبٍ (أَلَيْسَ هَذَا) : أَيِ الْإِصْلَاحُ (خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ثَائِرُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ) : أَيْ جِنِّيٌّ فِي قُبْحِ الْمَنْظَرِ مِنْ تَفْرِيقِ الشَّعْرِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : قَالَ مِيرَكُ: عَطَاءٌ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ: رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى شُهْرَتِهِ، وَإِلَّا فَكَانَ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ التَّنْبِيهُ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْأُولَى لِهَذَا الْمَعْنَى.

4487 - وَعَنِ ابْنِ الْمَسَيَّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُمِعَ يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا - أُرَاهُ قَالَ - أَفْنِيَتَكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» ". قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِيهِ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: " نَظِّفُوا أَفْنِيتَكُمْ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4487 - (وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ وَقَدْ تُكْسَرُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيَّ الْمَخْزُومِيَّ الْمَدَنِيَّ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ سَيِّدَ التَّابِعِينَ مِنَ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ، جَمَعَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبِقَضَايَا عُمَرَ، لَقِيَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُمْ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ مَكْحُولٌ: طُفْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، فَمَا لَقِيتُ أَعْلَمَ مِنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، حَجَجْتُ أَرْبَعِينَ حَجَّةً، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ. (سُمِعَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَضَمِيرُهُ رَاجِعٌ إِلَى ابْنِ الْمُسَيَّبِ (يَقُولُ) : حَالٌ مِنْهُ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ) : أَيْ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ مُقَدَّسٌ عَنِ الْعُيُوبِ (يُحِبُّ الطِّيبَ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ طِيبَ الْحَالِ وَالْقَالِ أَوِ الرِّيحَ الطَّيَّبِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّ اسْتِعْمَالَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَرْضَى عَنْهُمْ بِهَذَا الْفِعْلِ، وَهَذَا يُلَائِمُ مَعْنَى قَوْلِهِ: (نَظِيفٌ) : أَيْ طَاهِرٌ (يُحِبُّ النَّظَافَةَ) : أَيِ الطَّهَارَةَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُوصَفُ بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ. (كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ) : بِفَتْحِ جِيمٍ وَتَخْفِيفِ وَاوٍ (يُحِبُّ الْجُودَ) : قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْجُودِ وَالْكَرَمِ أَنَّ الْجُودَ بَذْلُ الْمُقْتَنَيَاتِ، وَيُقَالُ رَجُلٌ جَوَادٌ وَفَرَسٌ جَوَادٌ يَجُودُ بِمُدَّخَرِ عَدْوِهِ، وَالْكَرَمُ إِذَا وُصِفَ الْإِنْسَانُ بِهِ، فَهُوَ اسْمٌ لِلْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْهُ وَلَا يُقَالُ هُوَ كَرِيمٌ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْرَمَ الْأَفْعَالِ الْمَحْمُودَةِ وَأَشْرَفَهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى. فَمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ بِمَحَاسِنِ فِعْلِهِ فَهُوَ التَّقِيُّ، فَإِنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ تَشْرُفُ فِي بَابِهِ، فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْكَرَمِ. قَالَ تَعَالَى: {أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ - وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7 - 58] ، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] ، (فَنَظِّفُوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَطَيِّبُوا كُلَّ مَا أَمْكَنَ تَطْيِيبُهُ، وَنَظِّفُوا كُلَّ مَا سَهُلَ لَكُمْ تَنْظِيفُهُ حَتَّى أَفْنِيَةِ الدَّارِ، وَهِيَ مُتَّسَعٌ أَمَامَ الدَّارِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ نِهَايَةِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ، فَإِنَّ سَاحَةَ الدَّارِ إِذَا كَانَتْ وَاسِعَةً نَظِيفَةً طَيِّبَةً كَانَتْ أَدْعَى بِجَلْبِ الضِّيفَانِ، وَتَنَاوُبِ الْوَارِدِينَ وَالصَّادِرِينَ اهـ. (أُرَاهُ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهُ وَالْقَائِلُ هُوَ السَّامِعُ مِنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَيْ أَظُنُّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ (قَالَ: أَفْنِيتَكُمْ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ نَظِّفُوا وَهِيَ جَمْعُ الْفِنَاءِ بِالْكَسْرِ أَيْ سَاحَةَ الْبَيْتِ وَقُبَالَتَهُ وَقِيلَ: عَتَبَتَهُ وَسُدَّتَهُ، (وَلَا تَشَبَّهُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَطْفًا عَلَى نَظِّفُوا أَيْ لَا تَكُونُوا مُتَشَبِّهِينَ (بِالْيَهُودِ) : أَيْ فِي عَدَمِ النَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ وَقِلَّةِ التَّطَيُّبِ وَكَثْرَةِ الْبُخْلِ وَالْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ، وَذَلِكَ لَمَّا ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، بِخِلَافِ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ أُعْطُوا الْعِزَّةَ الظَّاهِرَةَ وَالسَّلْطَنَةَ، وَلَعَلَّ أَصْلَهُ مَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] .

(قَالَ) : أَيِ السَّامِعُ (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) : أَيِ الْمَقَالَ الْمَذْكُورَ الْمَسْمُوعَ مِنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ (لِمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ) : فَالْأَوَّلُ بِضَمِّ مِيمٍ وَكَسْرِ جِيمٍ وَالثَّانِي بِكَسْرِ أَوَّلِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الزُّهْرِيُّ مَوْلَاهُمْ، رَوَى عَنْهُ عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ وَقَّاصٍ، وَعَنْهُ ابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ وَغَيْرُهُ، ثِقَةٌ. (فَقَالَ) : أَيْ مُهَاجِرٌ (حَدَّثَنِيهِ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ) : أَيِ ابْنُ وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ، سَمِعَ أَبَاهُ وَعُثْمَانَ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ) : أَيْ مِثْلَ قَوْلِ سَعِيدٍ (إِلَّا أَنَّهُ) : أَيْ مُهَاجِرًا (قَالَ) : أَيْ فِي رِوَايَتِهِ بِلَا تَرَدُّدٍ (نَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ) : فَصَارَ الْحَدِيثُ لَهُ طَرِيقَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ سَعْدٍ، وَمَرْفُوعٌ، لَكِنَّ السَّامِعَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ مَجْهُولٌ، وَلَعَلَّهُ مَعْلُومٌ فِي أَصْلِ الْإِسْنَادِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا وَقَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعْدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ طَرِيقَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ.

4488 - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ - خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - أَوَّلَ النَّاسِ ضَيَّفَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشَّيْبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ: مَا هَذَا؟ قَالَ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4488 - (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَالسَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ وَخَلْقًا سِوَاهُمَا، وَرَوَى عَنْهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَشُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمْ، كَانَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، عَالِمًا مُتَوَرِّعًا صَالِحًا زَاهِدًا مَشْهُورًا بِالثِّقَةِ وَالدِّينِ. (أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ - خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - أَوَّلَ النَّاسِ ضَيَّفَ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ أَضَافَ الضَّيْفَ وَهُوَ خَبَرُ كَانَ، وَ (أَوَّلَ النَّاسِ) ظَرْفٌ لَهُ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ (أَوَّلَ النَّاسِ) خَبَرُ كَانَ، وَ (ضَيَّفَ) يَكُونُ مُؤَوَّلًا بِمَصْدَرٍ وَقَعَ تَمْيِيزًا. أَيْ أَوَّلَ تَضْيِيفًا. وَضَيَّفَ الضَّيْفَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يُؤَوَّلُ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَيَضِلُّ الضَّالَّةُ فَسُمِّي الْمُشَارِفُ لِلضَّيْفِ وَالْمَرَضِ وَالضَّلَالِ ضَيْفًا وَمَرِيضًا ضَالَّةً، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ضَيَّفَ هُنَا بِمَعْنَى أَطْعَمَ الضَّيْفَ وَأَكْرَمَهُمْ فَفِيهِ نَوْعُ تَجْرِيدٍ. (وَأَوَّلَ النَّاسِ اخْتَتَنَ) : لِأَنَّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يُولَدُونَ مَخْتُونِينَ، وَلَمْ يَكُنْ سَائِرُ النَّاسِ بِالْخِتَانِ مَأْمُورِينَ، وَلَمَّا اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَارَ سُنَّةً لِجَمِيعِ الْأَنَامِ إِلَّا مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا لِحُصُولِ الْمَرَامِ. (وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ شَارِبَهُ) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا طَالَ إِلَّا لَهُ، أَوْ مَا كَانَ الْأُمَمُ مُتَعَبِّدِينَ بِهِ، وَمُمْكِنٌ أَنْ يُحْمَلَ قَصُّهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ وَتَبِعَهُ مَنْ بَعْدَهُ. (وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى شَيْبًا) : أَيْ بَيَاضًا فِي لِحْيَتِهِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ وَيُشْعِرُ بِهِ السُّؤَالُ (فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟) : أَيِ الشَّيْبُ يَعْنِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّغْيِيرِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْدِيرِ؟ (قَالَ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ) : أَيْ هَذَا وَقَارٌ أَيْ سَبَبُهُ، وَالْوَقَارُ رَزَانَةُ الْعَقْلِ، وَالتَّأَنِّي فِي الْعَمَلِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ وَالْحِلْمُ وَالْعَفْوُ وَسَائِرُ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: سُمِّيَ الشَّيْبُ وَقَارًا لِأَنَّ زَمَانَ الشَّيْبِ أَوَانُ رَزَانَةِ النَّفْسِ وَالسُّكُونِ وَالثَّبَاتِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. قَالَ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكَمَ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَاقِبَةً ; لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ حَالُ اسْتِقْرَارِ الْأُمُورِ وَثَبَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. مِنْ وَقَرَ إِذَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ. (قَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا) : وَفِي الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ: " رَبِّ زِدْنِي شَيْبًا " نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لَا تَخْفَى، وَلِهَذَا زَادَ اللَّهُ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَارًا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَزِدْهُ شَيْبًا لِمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ مَالِكٌ) : أَيْ مُرْسَلًا وَتَرَكَهُ لِظُهُورِهِ ; لِأَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْمُوَطَّأِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلُ مَنْ قَصَّ أَظَافِيرَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ فَرَقَ أَيْ شَعْرَ الرَّأْسِ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَحَدَّ، وَأَوَّلُ مَنْ تَسَرْوَلَ، وَأَوَّلُ مَنْ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَوَّلُ مَنْ رَتَّبَ الْعَسْكَرَ فِي الْحَرْبِ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَمُقَدِّمَةً وَمُؤَخِّرَةً وَقَلْبًا، وَأَوَّلُ مَنْ عَانَقَ، وَأَوَّلُ مَنْ ثَرَدَ الثَّرِيدَ.

[باب التصاوير]

[بَابُ التَّصَاوِيرِ]

(4) بَابُ التَّصَاوِيرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4489 - عَنْ أَبِي طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا تَصَاوِيرُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (4) بَابُ التَّصَاوِيرِ جَمْعُ التَّصْوِيرِ، وَهُوَ فِعْلُ الصُّورَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يُصَوَّرُ مُشَبَّهًا بِخَلْقِ اللَّهِ مِنْ ذَوَاتِ الرُّوحِ مِمَّا يَكُونُ عَلَى حَائِطٍ أَوْ سِتْرٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4489 - (عَنْ أَبِي طَلْحَةَ) : أَيْ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، زَوْجِ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَدْخُلُ) : بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ وَجُوِّزَ تَذْكِيرُهُ (الْمَلَائِكَةُ) : أَيْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ لَا الْحَفَظَةُ وَمَلَائِكَةُ الْمَوْتِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَرَاهَتِهِمْ ذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. (بَيْتًا) أَيْ مَسْكَنًا (فِيهِ كَلْبٌ) : أَيْ إِلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَانِعٌ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اتِّخَاذُهُ حَرَامًا (وَلَا تَصَاوِيرُ) : يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصُّوَرِ، وَقَدْ رَخَّصَ فِيمَا كَانَ فِي الْأَنْمَاطِ الْمَوْطُؤَةِ بِالْأَرْجُلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ مِمَّا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ مِنَ الْكِلَابِ وَالصُّوَرِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ مِنْ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالزَّرْعِ وَالْمَاشِيَةِ وَمِنَ الصُّورَةِ الَّتِي تُمْتَهَنُ فِي الْبِسَاطِ وَالْوِسَادَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ بَيْتَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ كَلْبٍ وَصُورَةٍ، وَأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْجَمِيعِ، لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ الْجَرْوَ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ السَّرِيرِ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَمَعَ هَذَا امْتَنَعَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ وَعَلَّلَهُ بِالْجَرْوِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي بَيْتٍ فِيهِ صُورَةٌ كَوْنُهَا مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنَ الدُّخُولِ فِي بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ كَوْنُهُ يَأْكُلُ النَّجَاسَةَ، وَلِأَنَّ بَعْضَهُ يُسَمَّى شَيْطَانًا، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: وَالْمَلَائِكَةُ ضِدُّ الشَّيَاطِينِ، وَلِقُبْحِ رَائِحَتِهِ، وَمَنِ اقْتَنَاهُ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ بَيْتَهُ، وَصَلَاتِهِمْ عَلَيْهِ، وَاسْتِغْفَارِهِمْ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ غَيْرُ الْحَفَظَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ الْمُكَلَّفِينَ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ: تَصْوِيرُ صُورَةِ الْحَيَوَانِ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَحَادِيثِ، سَوَاءً صَنَعَهُ فِي ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَالرَّجُلِ وَالْجَبَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ. هَذَا حُكْمُ نَفْسِ التَّصْوِيرِ، وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْمُصَوَّرِ بِحَيَوَانٍ، فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ سَوَاءً كَانَ لَهُ ظِلٌّ أَمْ لَا، أَوْ ثَوْبًا مَلْبُوسًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَأَمَّا الْوِسَادَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يُمْتَهَنُ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنْ هَلْ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَقَدْ سَبَقَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَمَا وَرَدَ فِي تَصْوِيرِ الثِّيَابِ لِلُعَبِ الْبَنَاتِ فَمُرَخَّصٌ، لَكِنْ كَرِهَ مَالِكٌ شِرَاءَهَا لِلرَّجُلِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ إِبَاحَةَ اللُّعَبِ بِهِنَّ لِلْبَنَاتِ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: " «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ أَوْ صُورَةٌ» ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: وَلَا تَصَاوِيرُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَلْبٌ، وَمِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ تُكَرَّرَ " لَا " ثُمَّ فَيُقَالُ: لَا كَلْبٌ وَلَا تَصَاوِيرُ، وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ جَازَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] لِمَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاحْتُمِلَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا، وَلَوْ حُذِفَتْ لَجَازَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدَهَمَا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَإِعَادَةُ " لَا " كَإِعَادَةِ الْفِعْلِ.

4490 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا، وَقَالَ: " إِنَّ جِبْرَائِيلَ كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَلْقَنِي، أَمَ وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَنِي ". ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً، فَنَضَحَ مَكَانَهُ، فَلَمَّا أَمْسَى لَقِيَنَا جِبْرِيلَ. فَقَالَ: " لَقَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي أَنْ تَلْقَانِي الْبَارِحَةَ ". قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى إِنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ، وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4490 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ) : وَهِيَ خَالَتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْبَحَ) : أَيْ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ (يَوْمًا) : أَيْ مِنَ الْأَيَّامِ، وَهُوَ ظَرْفُ الْإِصْبَاحِ قَوْلُهُ: (وَاجِمًا) : بِكَسْرِ الْجِيمِ قَبْلَ الْمِيمِ حَالٌ أَيْ سَاكِنًا حَزِينًا مِنَ الْوُجُومِ، وَهُوَ السُّكُوتُ مِنَ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ مُهْتَمًّا وَالْوَاجِمُ الَّذِي أَسْكَنَهُ الْهَمُّ وَغَلَبَتْهُ الْكَآبَةُ، وَقَدْ وَجَمَ يَجِمُ وُجُومًا. (وَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِيَ) : بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا وَحَذْفُهَا فِي الْوَصْلِ (اللَّيْلَةَ) : ظَرْفٌ، وَعَدَّ (فَلَمْ يَلْقَنِي، أَمَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ أَيْ أَمَا لِلتَّنْبِيهِ وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ تَخْفِيفًا: أَيْ أَمَا (وَاللَّهِ، مَا أَخْلَفَنِي) : أَيْ جِبْرِيلُ فِي الْوَعْدِ قَبْلَ ذَلِكَ قَطُّ. (ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ) : أَيْ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (جِرْوُ كَلْبٍ) : بِكَسْرِ جِيمٍ وَسُكُونِ رَاءٍ فَوَاوٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجِرْوُ مُثَلَّثَةٌ وَلَدُ الْكَلْبِ، وَالْمَعْنَى خَطَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَأْتِهِ اللَّيْلَةَ لِلْجِرْوِ الَّذِي رَآهُ (تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَهُ) : بِضَمِّ الْفَاءِ نَوْعٌ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَخْبِيَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا السَّرِيرُ، (فَأَمَرَ بِهِ) : أَيْ بِإِخْرَاجِ الْجِرْوِ (فَأُخْرِجَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. أَيِ الْجِرْوُ (ثُمَّ أَخَذَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِيَدِهِ مَاءً، فَنَضَحَ) : أَيْ رَشَّ أَوْ غَسَلَ غَسْلًا خَفِيفًا (مَكَانَهُ) : أَيْ مَرْقَدَ الْجِرْوِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَنَّ مَنْ تَكَدَّرَ وَقْتُهُ وَتَنَكَّدَتْ وَظِيفَتُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي سَبَبِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُنَا حَتَّى الْكَلْبُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ التَّنْزِيلُ بُقُولِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف: 201] ، (فَلَمَّا أَمْسَى) : أَيْ دَخَلَ الْمَسَاءُ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ (لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي أَنْ تَلْقَانِيَ الْبَارِحَةَ قَالَ: أَجَلْ) : بِسُكُونِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ نَعَمْ (وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ) : أَيْ جَمِيعُهَا فِي سَائِرِ أَمَاكِنِهَا (حَتَّى إِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَوْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ) : أَيِ الْبُسْتَانِ (الصَّغِيرِ) : لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ حِرَاسَةَ الْكَلْبِ لِصِغَرِهِ (وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ) : لِعُسْرِ حِفْظِهِ بِلَا كَلْبٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: يَأْمُرُ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَقَوْلُهُ: وَيَتْرُكُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا مَرَّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ وَصْفِ الْحَائِطِ بِالْكَبِيرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ عَمِلَ بِالْمَفْهُومِ نَحْوَ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ، قُلْتُ: فَرْقٌ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالْقَيْدِ وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِالْمَفْهُومِ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ، وَإِلَّا لَكَانَ فِي الْكَلَامِ تَكْرَارٌ لِلْوَاصِلِ، وَتَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ، مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ، بَلْ يَتْرُكُهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ كَلْبَ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ، بَلْ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ فَافْهَمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4491 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلَّا نَقَضَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4491 - (وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ» ) : أَيْ تَصَاوِيرُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (إِلَّا نَقَضَهُ) : أَيْ أَزَالَ ذَلِكَ الشَّيْءَ أَوْ قَطَعَهُ وَالنَّقْضُ فِي الْأَصْلِ إِبْطَالُ أَجْزَاءِ الْبِنَاءِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا: أَخْرَجَ الرَّاوِي تَصَالِيبَ مَخْرَجَ تَمَاثِيلَ، وَقَدِ اخْتَلَفَا فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي تَصَالِيبَ أَنَّهُ جَمْعُ تَصْلِيبٍ وَهُوَ صُنْعُ الصَّلِيبِ وَتَصْوِيرُهُ، وَالصَّلِيبُ شَيْءٌ مُثَلَّتٌ يَعْبُدُهُ النَّصَارَى، فَأُطْلِقَ عَلَى نَفْسِ التَّصْلِيبِ، ثُمَّ سَمَّوْا مَا كَانَ فِيهِ صُورَةُ الصَّلِيبِ تَصْلِيبًا تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، ثُمَّ جَمَعُوهُ كَمَا فِي تَصَاوِيرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا بِالتَّصَالِيبِ الصُّوَرُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ وَلَفْظُهُ: «كَانَ لَا يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلَّا قَضَبَهُ» ، وَمَعْنَى قَضَبَهُ قَطَّعَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَالْحَدِيثُ عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ أَفْصَحُ وَأَقْيَسُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ رُوَاةَ الْبُخَارِيِّ أَوْثَقُ وَأَضْبَطُ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا رَوَوْهُ

أُولَى: وَأُخْرَى اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ الشَّيْخِ فِي كَوْنِ لَفْظِهِ مِنْ كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ أَفْصَحُ لُغَةً وَأَقْيَسُ صِنَاعَةً، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ أَصَحُّ رِوَايَةً وَأَقْوَى دِرَايَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ قَدْ يَنْفَرِدُ بِقِرَاءَةٍ هِيَ أَفْصَحُ لُغَةً مِنْ سَائِرِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْحَاصِلُ جَوَازُ الْفَصِيحِ، وَالْأَفْصَحُ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى، وَكَذَا فِي كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا كَوْنُ أَحَدِهِمَا مَرْوِيًّا مِنْ طَرِيقِ الْأَصَحِّ أَوْ بِسَنَدِ الْأَكْثَرِ، فَأَمْرٌ آخَرُ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي أَعْلَامِ السُّنَنِ، وَهُوَ شَرْحُ الْبُخَارِيِّ، وَفِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ تُؤْذِنُ أَنَّهَا فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ لِأَنَّ مَعْنَى السَّائِرِ الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ، كَذَا صَرَّحَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ; لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنَ السُّؤْرِ اهـ. وَهُوَ بَحْثٌ عَجِيبٌ وَاعْتِرَاضٌ غَرِيبٌ ; لِأَنَّ السَّائِرَ يَأْتِي بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْبَاقِي وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَظْهَرُ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُتَعَيَّنٌ فَتَدَبَّرْ، لَكِنَّ كَوْنَ مُرَادَ الْخَطَّابِيِّ بَاقِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، فَفِيهِ مَحَلُّ نَظَرٍ لِأَنَّهُ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ يَحْتَاجُ إِلَى تَتَبُّعِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، وَيُبْنَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْمَبْنَى، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا أَفْصَحُ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْيَسُ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4492 - «وَعَنْهَا، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَمَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ " قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا، وَتَوَسَّدَهَا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: " أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ ". وَقَالَ: " إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4492 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةَ) : بِضَمِّ النُّونِ وَالرَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: النُّمْرُقَةُ، وَالنُّمْرُقَةُ مُثَلَّثَةٌ الْوِسَادَةُ الصَّغِيرَةُ أَوِ الْمِيثَرَةُ أَوِ الطِّنْفِسَةُ فَوْقَ الرَّحْلِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ بِتَثْلِيثِ النُّونِ وَالرَّاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرِهَا كَسْرُ النُّونِ الْوِسَادَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: النُّمْرَقُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ هِيَ وِسَادَةٌ صَغِيرَةٌ، وَقِيلَ مُرَقَّعَةٌ. (فِيهَا تَصَاوِيرُ) : أَيْ فِيهَا صُوَرٌ، وَكَأَنَّهَا وَضَعَتْهَا فِي صَدْرِ بَيْتِهَا. (فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهَا (قَامَ عَلَى الْبَابِ) : أَيْ وَقَفَ (فَلَمْ يَدْخُلْ) : أَيْ غَضَبًا (فَعَرَفْتُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي عَنْهَا أَيْ قَرَأَتْ (فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ) : أَيْ أَثَرُهَا فَعَرَفَتْ وَجْهَ غَضَبِهِ وَعَدَمَ دُخُولِهِ. (قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُوبُ) : أَيْ أَرْجِعُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ (إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ) : أَيْ رِضَاهُمَا، وَفِي إِعَادَةِ إِلَى دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِقْلَالِ الرُّجُوعِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَدَبٌ حَسَنٌ مِنَ الصَّدِيقَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبِيهَا، حَيْثُ قَدَّمَتِ التَّوْبَةَ عَلَى إِطِّلَاعِهَا عَلَى الذَّنْبِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] قَدَّمَ الْعَفْوَ تَلَطُّفًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ إِبْدَاءِ الذَّنْبِ، كَمَا قَدَّمَتِ التَّوْبَةَ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّنْبِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتْ: (مَاذَا أَذْنَبْتُ؟) : أَيْ مَا أُطْلِعْتُ عَلَى ذَنْبٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ " قَالَتْ: قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا) : أَيْ تَارَةً (وَتَوَسَّدَهَا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ وَتَجْعَلَهَا وَسَادَةً مَرَّةً أُخْرَى، وَكَأَنَّهَا غَفَلَتْ عَنْ أَنَّ كَرَاهَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَجْلِ تَصَاوِيرِهَا، بَلْ ظَنَّتْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمُجَرَّدِ فَرْشِهَا وَإِرَادَتِهَا زِينَةَ الْبَيْتِ بِهَا، فَقَالَتْ مَا قَالَتْ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ) : وَهُوَ يَشْمَلُ مَنْ يَعْمَلُهَا وَمَنْ يَسْتَعْمِلُهَا (يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) : أَيِ انْفُخُوا الرُّوحَ فِيمَا صَوَّرْتُمْ، فَعَدَلَ إِلَيْهِ تَهَكُّمًا بِهِمْ وَبِمُضَاهَاتِهِمُ الْخَالِقَ فِي إِنْشَاءِ الصُّوَرِ، وَالْأَمْرُ بِأَحْيُوا تَعْجِيزٌ لَهُمْ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّصْوِيرَ حَرَامٌ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الصُّوَرِ مَمْنُوعٌ ; لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِذَلِكَ، وَبَاعِثٌ عَلَيْهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ زِينَةُ الدُّنْيَا. (وَقَالَ) : أَيْ أَيْضًا فِي وَجْهِ الِامْتِنَاعِ وَسَبَبُ الْمَنْعِ (إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ) : وَهِيَ بِظَاهِرِهَا تَشْتَمِلُ جَمِيعَ الصُّوَرِ فِي جَمِيعِ أَمَاكِنِ الْبَيْتِ (لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ) : أَيْ وَكَذَا لَا تَدَخُلُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ امْتِنَاعَ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ فِي بَيْتٍ فِيهِ صُورَةٌ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُبَاحَةً أَوْ حَرَامًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَكَذَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ مِنَ الْحَدِيثِ.

4493 - وَعَنْهَا «أَنَّهَا كَانَتِ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ، فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ، يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4493 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّهَا كَانَتْ قَدِ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ) : بِفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ كُوَّةٌ بَيْنَ الدَّارَيْنِ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي الْفَائِقِ هِيَ كَالصِّفَةِ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ الْبَيْتَ، وَقِيلَ: هِيَ بَيْتٌ صَغِيرٌ مُنْحَدِرٌ فِي الْأَرْضِ وَسُمْكُهُ مُرْتَفِعٌ مِنْهَا شَبِيهٌ بِالْخِزَانَةِ، يَكُونُ فِيهَا الْمَتَاعُ، وَقِيلَ: شَبِيهَةٌ بِالرَّفِّ أَوِ الطَّاقِ يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ كَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا يُسْهَى عَنْهَا لِصِغَرِهَا وَخَفَائِهَا. (لَهَا) : أَيْ كَائِنَةٌ. لِعَائِشَةَ مُخْتَصَّةٌ بِهَا (سِتْرًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (فِيهِ تَمَاثِيلُ) : جَمْعُ تِمْثَالٍ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُصَوَّرُ. قِيلَ: الْمُرَادُ صُورَةُ الْحَيَوَانِ: (فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ نَزَعَ السِّتْرَ وَخَرَقَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ قَطَعَ وَأَتْلَفَ الصُّورَةَ الَّتِي فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّطْبِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ السَّابِقِ؟ قُلْتُ: التَّمَاثِيلُ إِذَا حُمِلَتْ عَلَى غَيْرِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ تَكُونُ عِلَّةُ الْهَتْكِ مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَتْلُوهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ، وَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى التَّصَاوِيرِ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهَا النَّمَارِقَ بِقَطْعِ الرُّءُوسِ. (فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ، فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ، يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَعْلُومِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4494 - وَعَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فِي غَزَاةٍ، فَأَخَذَتْ نَمَطًا فَسَتَرَتْهُ عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ، فَرَأَى النَّمَطَ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4494 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فِي غَزَاةٍ، فَأَخَذَتْ نَمَطًا) : بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ وَيُكْسَرُ ضَرْبٌ مِنَ الْبُسُطِ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ، وَقِيلَ: هُوَ ثَوْبٌ مِنْ صُوفٍ يُطْرَحُ عَلَى الْهَوْدَجِ، وَلَعَلَّهُ مُعَرَّبٌ نَمُدُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ فَدَالٌّ مُهْمَلَةٌ فِي لِسَانِ الْعَجَمِ بِمَعْنَى اللِّبَادِ. (فَسَتَرَتْهُ عَلَى الْبَابِ) : وَكَأَنَّهُ كَانَ تَعْلِيقًا لِلزِّينَةِ لَا لِلْحِجَابِ، فَلِهَذَا وَقَعَ الْعِتَابُ (فَلَمَّا قَدِمَ) : أَيْ رَجَعَ مِنَ السَّفَرِ (فَرَأَى النَّمَطَ) : عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ هُوَ جَوَابُ لَمَّا أَيْ دَخَلَ فَرَأَى ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السِّتْرَ كَانَ مِنْ دَاخِلِ الْبَابِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ: أَرَادَ دُخُولَ الْبَابِ فَرَأَى النَّمَطَ، وَقِيلَ الْفَاءُ زَائِدَةٌ أَوْ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ غَضَبَ. (فَجَذَبَهُ) : أَيْ جَرَّهُ (حَتَّى هَتَكَهُ) : أَيْ كَشَفَهُ وَحَذَفَهُ (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ) : بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ أَنْ نَلْبَسَ (الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ) : أَيِ الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا مِنَ الْجُدْرَانِ وَغَيْرِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَانَ فِيهِ صُوَرُ الْخَيْلِ ذَوَاتُ الْأَجْنِحَةِ فَأَتْلَفَ صُوَرَهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْوَسَائِدِ، وَعَلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ سَتْرِ الْحِيطَانِ، وَهُوَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ» لَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا عَلَى الْوَاجِبِ وَالنَّدْبِ وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَالْغَضَبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا فِيمَا رُزِقْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَائِشَةَ.

4495 - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4495 - (وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَالْوَاوِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ هَمْزٍ قَبْلَ الْوَاوِ وَهُمَا لُغَتَانِ قِرَاءَتَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 30] ، وَالْأَوَّلُ هُوَ زِيَادَةُ الْأَشْهَرِ وَالْأَكْثَرِ، (بِخَلْقِ اللَّهِ) : أَيْ يُشَابِهُونَ عَمَلَهُمُ التَّصْوِيرَ بِخَلْقِ اللَّهِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَفْعَلُونَ مَا يُضَاهِي خَلْقَ اللَّهِ أَيْ مَخْلُوقَهُ، أَوْ يُشَبِّهُونَ فِعْلَهُمْ بِفِعْلِهِ، أَيْ فِي التَّصْوِيرِ وَالتَّخْلِيقِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ يَزِيدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ قُبْحِ كُفْرِهِ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " الْحَدِيثَ.

4496 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ شَعِيرَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4496 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ) : أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ (مِمَّنْ ذَهَبَ) : أَيْ أَرَادَ وَطَفَقَ وَشَرَعَ (يَخْلُقُ) : أَيْ: خَلْقًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (كَخَلْقِي) : أَيْ يُصَوِّرُ صُوَرَهً تَشْبِهُ صُورَةً خَلَقْتُهَا، فَإِنْ زَعَمُوا ذَلِكَ (فَيَخْلُقُوا) : أَمَرُ تَعْجِيزٍ (ذَرَّةً) : أَيْ نَمْلَةٌ صَغِيرَةٌ أَوْ هَبَاءٌ فِي هَوَاءٍ أَوْ مِثْلُهُمَا مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ خِلْقَتِهَا (لِيَخْلُقُوا) : الظَّاهِرُ أَنَّ " أَوْ " هَذِهِ لِلتَّنْوِيعِ وَيُحْتَمَلُ التَّرْدِيدُ (حَبَّةً) : أَيْ مِنَ الْحُبُوبِ (أَوْ شَعِيرَةً) : أَيْ حَبَّةٌ خَاصَّةٌ وَ " أَوْ " لِلتَّقْسِيمِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ يَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

4497 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ الْمُصَوِّرُونَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4497 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ الْمُصَوِّرُونَ» ) : قِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّهْدِيدِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ اللَّهِ يُلَوِّحُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ كَذَا لَكِنَّهُ مَحَلُّ الْعَفْوِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ صَوَّرَ الْأَصْنَامَ لِتُعْبَدَ فَلَهُ أَشَدُّ الْعَذَابِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَقِيلَ: هَذَا فِيمَنْ قَصَدَ الْمُضَاهَاةَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَافِرٌ، وَعَذَابُهُ أَشَدُّ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدْهَا فَهُوَ فَاسِقٌ لَا يُكَفَّرُ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ الشَّجَرُ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا رُوحَ لَهُ، فَلَا تَحْرُمُ صَنْعَتُهُ، وَلَا التَّكَسُّبُ لَهُ. هَذَا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مُجَاهِدًا، فَإِنَّهُ جَعَلَ الشَّجَرَةَ الْمُثْمِرَةَ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي» ) فَذَكَرَ الذُّرَةَ وَهِيَ ذَاتُ رُوحٍ، وَذَكَرَ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ، وَهُمَا جَمَادَانِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ وَعَدًا شَدِيدًا، حَيْثُ أَخْرَجَ الْجُمْلَةَ عَلَى سَبِيلِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، وَذَكَرَ الظُّلْمَ عَلَى صِيغَةِ التَّفْضِيلِ. قُلْتُ: اسْتِدْلَالُهُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ. قَالَ: وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ ". قُلْتُ: وَلَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَخْلُقُوا حَبَّةً " قَالَ: وَبِالْمُضَاهَاةِ بِخَلْقِ اللَّهِ. قُلْتُ: الْعِلَّةُ مُشْتَرَكَةٌ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَصَّ لَهُ. قُلْتُ: هَذَا مَعَ كَوْنِهِ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ، إِذْ يُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْيِهِ يُحْمَلُ عَلَى جَوَازِ فِعْلِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَعَلَى ارْتِكَابِ كَرَاهَةٍ دُونَ كَرَاهَةٍ، فَإِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالنِّيَّاتِ. وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: " «إِنْ كُنْتَ لَابُدَّ سَائِلًا فَسَلِ الصَّالِحِينَ» " عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الْفِرَاسِيِّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُصَوِّرُ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ أَشْكَالَ الْحَيَوَانِ فَيَحْكِيهَا بِتَخْطِيطٍ لَهَا وَتَشْكِيلٍ، فَأَمَّا الَّذِي يَنْقُشُ أَشْكَالَ الشَّجَرَةِ، وَيَعْمَلُ التَّدَاوِيرَ وَالْخَوَاتِيمَ وَنَحْوَهَا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَإِنْ كَانَ جُمْلَةُ هَذَا الْبَابِ مَكْرُوهًا وَدَاخِلًا فِيمَا يُلْهِي وَيُشْغِلُ بِمَا لَا يُغْنِي، وَإِنَّمَا عُطِفَتِ الْعُقُوبَةُ فِي الصُّورَةِ; لِأَنَّهَا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي التَّخْصِيصِ بِذَوَاتِ الرُّوحِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ خَلْقُهَا إِلَى فِعْلِ الْمَخْلُوقِ، حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، فَخِلَافُ سَائِرِ النَّبَاتَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، حَيْثُ رُبَّمَا يُنْسَبُ فِعْلُهَا إِلَى النَّاسِ مَجَازًا، وَيُقَالُ: أَنْبَتَ فُلَانٌ هَذَا الشَّجَرَ مَثَلًا، وَصَنَعَ فُلَانٌ هَذِهِ السَّفِينَةَ مَثَلًا، وَأَمَّا مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْجَمَادَاتِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَرَّمَ تَصْوِيرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الْأَشْرَفُ: الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا الْمُصَوِّرُونَ» بِالرَّفْعِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِهِ، وَاعْتَذَرَ عَنِ الرَّفْعِ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: " مِنْ " زَائِدَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُنَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مُقَدَّرٌ أَيْ أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا الْمُصَوِّرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَيْسَ فِيهَا لَفْظَةُ " إِنَّ ". نَعَمْ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا بِغَيْرِ " مِنْ ". قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: إِنَّ مِنْ غَيْرِ " مِنْ " فَلَعَلَّ الْأَشْرَفَ أَرَادَ الشُّهْرَةَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَعَلَّهُمْ وَجَدُوا فِي نُسْخَةِ كَذَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُرَاعَاةِ التَّرْكِيبِ اللَّفْظِيِّ، فَبَنَوْا عَلَيْهِ وَنَقَلُوهُ عَنْهُ، وَأَدْرَجُوهُ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالشُّهْرَةِ وَعَدَمِهَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ. أَمَا تَرَى كَيْفَ وَقَعَ التَّنَازُعُ بَيْنَ السَّيِّدِ السَّنَدِ وَالسَّعْدِ الْأَسْعَدِ فِي مَعْنَى حُبِّ الْهِرَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ؟ وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ مِنْ أَهْلِ الِاتِّفَاقِ، وَلِهَذَا صَنَّفَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا السَّخَاوِيُّ كِتَابَهُ " الْمَقَاصِدُ الْحَسَنَةُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ "، وَلَخَّصَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الرَّبِيعِ، وَجَمَعْتُ الْمَوْضُوعَاتِ مِنْهَا فِي رِسَالَةٍ مُخْتَصَرَةٍ يَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِتَحْصِيلِهَا.

4498 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا، فَيُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ» ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4498 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: كُلُّ مُصَوِّرٍ) : أَيْ فَاعِلُ صُورَةٍ (فِي النَّارِ يُجْعَلُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِبِنَاءِ الْفَاعِلِ عَلَى مَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَيْ يَجْعَلُ اللَّهُ (لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا) : وَنَصْبُهُ عَلَى صِيغَةِ الْفَاعِلِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ فَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَفْسٌ بِالرَّفْعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا، وَأَمَّا أَكْثَرُهَا بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَنَصْبِ نَفْسًا، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَأَكْثَرُ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ فَهُوَ مُشْكِلٌ، لَكِنَّ تَوْجِيهَهُ أَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. (فَتُعَذِّبُهُ) : بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ أَيْ تُعَذِّبُهُ تِلْكَ النَّفْسُ، وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَيْهَا مَجَازًا ; لِأَنَّهَا السَّبَبُ وَالْبَاعِثُ عَلَى تَعْذِيبِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْيَاءِ أَيْ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَيُعَذَّبُ بِهِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ بِسَبَبِ تَصْوِيرِ تِلْكَ النَّفْسِ. (فِي جَهَنَّمَ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: إِلَى هُنَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ) : الْخِطَابُ لِمَنْ سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَلَعَلَّ لَفْظَ الْبُخَارِيِّ مَا سَيَأْتِي عَنْهُ، فَصَارَ الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى، فَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ مِنِ اقْتِصَارِهِ عَلَى مُسْلِمٍ فَتَأَمَّلْ.

4499 - وَعَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ ". كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4499 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ) : الْحُلْمُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَيُضَمُّ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ، وَقَدْ ضَبَطَهُ الْمُظْهِرُ بِضَمَّتَيْنِ وَالنَّوَوِيُّ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَقَالَ الْقَاضِي: الْحُلُمُ بِضَمَّتَيْنِ الرُّؤْيَا وَحَلَمَ يَحْلُمُ بِالضَّمِّ حُلْمًا رَأَى الرُّؤْيَا، وَتَحَلَّمَ إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ رَأَى. وَفِي الْقَامُوسِ: الْحُلْمُ بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ الرُّؤْيَا جَمْعُهُ أَحْلَامٌ، حَلَمَ فِي نَوْمِهِ وَاحْتَلَمَ وَتَحَلَّمَ وَانْحَلَمَ، وَتَحَلَّمَ الْحُلْمَ اسْتَعْمَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَحَلَّمَ أَيْ تَكَلَّفَ الْحُلْمَ، وَحَاصِلُ الْمَجْمُوعِ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنِ ادَّعَى الرُّؤْيَا بِحُلْمٍ (لَمْ يَرَهُ) : أَيْ فِي مَنَامِهِ (كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ) : أَيْ لَنْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّكْلِيفُ مَعَ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ مُبَالَغَةٌ فِي تَعْذِيبِهِ فَيُعَذَّبُ بِهِ أَبْدًا قَالَ الْقَاضِي: أَيْ عُذِّبَ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ مَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُعْقَدَ، كَمَا عَقَدَ بَيْنَ مَا سَرَدَهُ، وَاخْتَلَقَ مِنَ الرُّؤْيَا، وَلَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ عَذَابُهُ وَجَزَاؤُهُ، بَلْ إِنَّهُ يُجْعَلُ ذَلِكَ شِعَارُهُ لِيُعْلَمَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يُزَوِّرُ الِاحْتِلَامَ. وَلَفْظَةُ كُلِّفَ تُشْعِرُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَفِي النِّهَايَةِ: إِنْ قِيلَ: إِنْ كَذَبَ الْكَاذِبُ فِي مَنَامِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى كَذِبِهِ فِي يَقَظَتِهِ، فَلِمَ زَادَتْ عُقُوبَتُهُ وَوَعِيدُهُ؟ قِيلَ: قَدْ صَحَّ الْخَبَرُ أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالنُّبُوَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا وَحْيًا، وَالْكَاذِبُ فِي رُؤْيَا يَدَّعِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ مَا لَمْ يَرَهُ، وَأَعْطَاهُ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ، وَالْكَاذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ فِرْيَةً مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى الْخَلْقِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَأُمُورِ الدِّينِ. قُلْتُ: لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنَ الرُّؤْيَا عَنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الْغَيْبِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنَّ هَذَا التَّغْلِيظَ فِي شَأْنِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَنِي نَبِيًّا وَأَخْبَرَنِي بِأَنَّ فُلَانًا مَغْفُورٌ أَوْ مَلْعُونٌ، أَوْ بِكَذَا وَكَذَا، أَوْ أَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا وَكَذَا، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ رَأَى ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: أَمَرَنِي اللَّهُ بِالطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ، أَوْ بِوَعْظِ النَّاسِ وَالْبِرِّ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي رُؤْيَاهُ إِلَّا أَنَّ عَذَابَهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ عَذَابِ الْآخَرِ. قُلْتُ: لِأَنَّ الْآخَرَ جَمْعَ بَيْنَ كَذِبَيْنِ، مَعَ أَنَّ الْكَذِبَ يَتَفَاوَتُ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا، فَالْأَحْسَنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ: وَالْعَذَابُ عَلَى وَفْقِ الْكَذِبِ، وَتَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِ. نَعَمْ تَخْصِيصُ الرُّؤْيَا إِمَّا لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ لِكَوْنِهِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَادِّعَاءً لِلْغَيْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يُرِيَ الرَّجُلُ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَهُ» ". (وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ) : أَيْ لِاسْتِمَاعِهِ. (كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ) : " أَوْ " لِلشَّكِّ، وَالْمَعْنَى وَهُمْ يَتَبَعَّدُونَ مِنْهُ وَمِنِ اسْتِمَاعِهِ كَلَامَهُمْ (صُبَّ) : بِضَمِّ صَادٍ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ سُكِبَ (فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ) : بِالْمَدِّ

وَضَمِّ النُّونِ وَمَعْنَاهُ الْأَسْرَبُ بِالْفَارِسِيَّةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ الرَّصَاصُ الْأَبْيَضُ، وَقِيلَ الْأَسْوَدُ، وَقِيلَ الْخَالِصُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : الْجُمْلَةُ دُعَاءٌ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ، وَهَذَا الْوَعِيدُ وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ مَنْ يَسْتَمِعُ لِأَجْلِ النَّمِيمَةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ بِخِلَافِ مَنِ اسْتَمَعَ حَدِيثَ قَوْمٍ، لِيَمْنَعَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ، أَوْ لِيَمْتَنِعَ مِنْ شُرُورِهِمْ. (وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً) : أَيْ ذَاتَ رُوحٍ أَوْ مُطْلَقًا (عُذِّبَ وَكُلِّفَ) : أَيْ فِي ذَاتِ الرُّوحِ تَغْلِيظًا (أَنْ يَنْفُخَ) : أَيِ الرُّوحُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فِيهَا) : أَيْ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ (وَلَيْسَ بِنَافِخٍ) : وَنَظِيرُهُ مَنْ تَحَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَى الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنَ الْحَدِيثِ: التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «مَنْ تَحَلَّمَ كَاذِبًا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَعْقِدَ بَيْنَهُمَا» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ الْجُمْلَتَيْنِ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ، وَمَنْ أَرَى عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَمْ تَرَ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ شَعِيرَةً - يَعْنِي بِأُخْرَى أَوْ بِنَفْسِهَا» - " وَرَوَى الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ: مِنَ الْحَدِيثِ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ» ".

4500 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4500 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ) : بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَفَتْحِ دَالٍّ مُهْمَلَةٍ وَيُكْسَرُ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَرَاءٍ، وَهُوَ النَّرْدُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ. وَشِيرَ: مَعْنَاهُ حُلْوٌ. كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَنَقَلَهُ الطِّيبِيُّ عَنِ النَّوَوِيِّ. (فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ) : أَيْ أَدْخَلَهَا فِيهِمَا، وَتَخْصِيصُ الصَّبْغِ هُمَا لِكَوْنِهِ نَجِسًا، فَيَكُونُ أَبْلَغَ لِلرَّغْبَةِ عَنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ فِي تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِهِ، وَمَعْنَى صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ أَنَّهُ فِي لِعْبِ ذَلِكَ كَأَنَّهُ صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ وَأَكْلِهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ تَصْوِيرُ قُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ تَنْفِيرًا عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: هُوَ النَّرْدُ الَّذِي يُلْعَبُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ مَوْضُوعَاتِ شَابُوَرَ بْنِ أَرْدِشِيرَ بْنِ تَابَكَ، أَبُوهُ أَرْدِشِيرُ، أَوَّلُ مُلُوكِ السَّاسَانِيَّةِ شَبَّهَ رُقْعَتَهُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ، وَالتَّقْسِيمَ الرُّبَاعِيَّ بِالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَالرُّقُومُ الْمَجْعُولَةُ ثَلَاثِينَ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالسَّوَادُ وَالْبَيَاضُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْبُيُوتُ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةِ بِالشُّهُورِ، وَالْكِعَابُ بِالْأَقْضِيَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَاللَّعِبُ بِهَا بِالْكَسْبِ، فَصَارَ اللَّاعِبُ بِهَا حَقِيقِيًّا بِالْوَعِيدِ الْمَفْهُومِ مِنْ تَشْبِيهِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدَشِيرِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْحُرْمَةِ لِاجْتِهَادِهِ فِي إِحْيَاءِ سُنَّةِ الْمَجُوسِ الْمُتَكَبِّرَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاقْتِنَاءِ أَبْنِيَتِهِمُ الشَّاغِلَةِ عَنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ، وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَأَمَّا الشَّطْرَنْجُ فَمَذْهَبُنَا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِهِ مُطْلَقًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُبَاحُ بِشُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَهُ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي مَحَلِّهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4501 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي عَلَى بَابِ الْبَيْتِ فَيُقْطَعْ، فَيَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ، فَلْيُجْعَلْ وِسَادَتَيْنِ مَنْبُوذَتَيْنِ تُوطَآنِ، وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ ". فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4501 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ) : كَذَا فِي النُّسَخِ (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ (أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ) : أَيِ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ (فَلَمْ يَمْنَعْنِي) : أَيْ مَانِعٌ (أَنْ أَكُونَ) : أَيْ مِنْ أَنْ أَكُونَ (دَخَلْتُ) : أَيْ فِي الْبَيْتِ (إِلَّا أَنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنُ (كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ) : أَيْ سِتْرٌ فِيهِ تَمَاثِيلُ، إِذْ كَوْنُهَا عَلَى الْبَابِ بَعِيدٌ عَنْ صَوْبِ الصَّوَابِ، وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ جَمْعُ تِمْثَالٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمُرَادُ بِهَا صُوَرُ الْحَيَوَانَاتِ. (وَكَانَ) : عُطِفَ عَلَى كَانَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ جِبْرِيلَ، أَيْ وَكَانَ أَيْضًا (فِي الْبَيْتِ قِرَامَ سِتْرٍ) : بِكَسْرِ السِّينِ (فِيهِ) : أَيْ فِي الْقِرَمِ (تَمَاثِيلُ) : وَالْقِرَامُ بِكَسْرِ الْقَافِ السِّتْرُ الْمُنَقَّشُ قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ.

وَفِي الْقَامُوسِ: الْقِرَامُ كَكِتَابِ السِّتْرِ الْأَحْمَرِ، أَوْ ثَوْبٌ مُلَوَّنٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ رَقْمٌ وَنُقُوشٌ أَوْ سِتْرٌ رَقِيقٌ، وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ النِّهَايَةِ: أَنَّهُ هُوَ السِّتْرُ الرَّقِيقُ، وَقِيلَ: الصَّفِيقُ مِنْ صُوفٍ ذِي أَلْوَانٍ وَالْإِضَافَةُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: ثَوْبُ قَمِيصٍ، وَقِيلَ: الْقِرَامُ السِّتْرُ الرَّقِيقُ وَرَاءَ السِّتْرِ الْغَلِيظِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَ (وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ) : أَيْ أَيْضًا (فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ) : أَيِ (الَّذِي عَلَى سِتْرِ بَابِ الْبَيْتِ) : أَيْ بِقَطْعِ رَأْسِهِ (فَيُقْطَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالنَّصْبِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى رَأْسِ التِّمْثَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: وَأَكْثَرُ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، فَإِنَّ أَمْرَ الشَّارِعِ سَبَبٌ لِلِامْتِثَالِ وَالْأَوَّلُ أَلْطَفُ مَعْنًى (فَيَصِيرُ) : بِالْوَجْهَيْنِ أَيْ يَرْجِعُ التِّمْثَالُ الْمُقْطَعُ رَأْسُهُ (كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ) : إِنْ قُلْتَ مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا ; قُلْتُ: الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْقَطْعَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَحْرُ مَوْضِعِ الرَّأْسِ مِنَ الْقِرَامِ، بَلْ فَصْلُهُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرِ إِلَّا إِذَا فُصِلَ مِنْهُ الرَّأْسُ، فَأَمَّا مَادَامَ الرَّأْسُ بَاقِيًا أَوْ مَمْحُوًّا فَلَا. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إِذَا مُحِيَ الرَّأْسُ وَمَا بِهِ مِنْ صُورَةِ الْوَجْهِ الْمُتَمَيِّزِ بِهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِيرُ عَلَى هَيْئَةِ الشَّجَرَةِ وَهُوَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ، وَأَمَّا الثَّانِي ; فَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، فَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانَ، يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فَوْقَهُ أَوْ عَلَيْهِ، أَوْ يَسَارَهُ أَوْ ثَوْبَهُ تَصَاوِيرُ. وَفِي الْبِسَاطِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ عَلَى الْبِسَاطِ إِذَا لَمْ يَسْجُدْ عَلَى التَّصَاوِيرِ. قَالَ: وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الصُّورَةُ تَبْدُو لِلنَّاظِرِينَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَمْحُوَّةَ الرَّأْسِ لَا بَأْسَ بِهِ، هَذَا وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصُّورَةَ إِذَا غُيِّرَتْ هَيْئَتُهَا بِأَنْ قُطِعَتْ رَأْسُهَا أَوْ حُلَّتْ أَوْصَالُهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الْأَثَرُ عَلَى شِبْهِ الصُّوَرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّصْوِيرِ إِذَا نَقَضَ حَتَّى تَنْقَطِعَ أَوْصَالُهُ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى جَوَازِ تَصْوِيرِ نَحْوَ الْأَشْجَارِ مِمَّا لَا حَيَاةَ فِيهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَصِيرُ مَآلًا وَانْتِهَاءً، وَبَيْنَ مَا يُقْصَدُ تَصْوِيرُهُ ابْتِدَاءً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ، فَلْيُجْعَلْ وِسَادَتَيْنِ مَنْبُوذَتَيْنِ) : أَيْ مَطْرُوحَتَيْنِ مَفْرُوشَتَيْنِ (تُوطَآنِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تُهَانَانِ بِالْوَطْءِ عَلَيْهِمَا، وَالْقُعُودِ فَوْقَهُمَا، وَالِاسْتِنَادِ إِلَيْهِمَا، وَأَصْلُ الْوَطْءِ الضَّرْبُ بِالرِّجْلِ، وَالْمُرَادُ بِقَطْعِ السِّتْرِ التَّوَصُّلُ إِلَى جَعْلِهِ وِسَادَتَيْنِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْحَدِيثِ، يُفِيدُ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ مَا فِيهِ الصُّورَةُ بِنَحْوِ: الْوِسَادَةُ وَالْفِرَاشُ وَالْبِسَاطُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَطْعِهِ أَنْ لَا يَبْقَى مَوْضِعَ مِنَ الصُّورَةِ بَاقِيًا، وَهُوَ مَعَ بُعْدِهِ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قِلَّةِ التَّصَاوِيرِ فِيهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسِّتْرِ جِنْسُ السِّتْرِ الشَّامِلِ لِمَا عَلَى الْبَابِ، وَلِمَا فِي الْبَيْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَطْعِ الْفَصْلُ لِلتَّسْوِيَةِ، ثُمَّ الْوَصْلُ بِالْخِيَاطَةِ، ثُمَّ جَعْلَهُمَا وِسَادَتَيْنِ. (وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَيُخْرَجْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَلْيَخْرُجْ (فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرَ أَوْ نَزَّلَ الْفِعْلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ أَيِ امْتَثَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4502 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ، وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ: " إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4502 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ عُنُقٌ) : نِجْمَتَيْنِ أَيْ شَخْصٌ قَوِيٌّ، وَقِيلَ هُوَ طَائِفَةٌ. ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْعُنُقُ بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ وَكَصَرْدِ الْجِيدِ مُؤَنَّثٌ، وَالْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ طَائِفَةٌ (مِنَ النَّارِ) : وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَخْرُجُ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : ظَرْفٌ لَهُ، ثُمَّ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (لَهَا) : رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى عُنُقٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُنُقِ الْجِيدُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ إِذْ لَا صَارِفَ عَنْ ظَاهِرِهِ فَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَخْرُجُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ عَلَى هَيْئَةِ الرَّقَبَةِ الطَّوِيلَةِ لَهَا (عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ، وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ) : كَمَا وَرَدَ مِثْلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ

الْأَسْعَدُ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ بِالْعَهْدِ الْمِيثَاقِيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (يَقُولُ) : بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ يَنْطِقُ أَوْ حَالٌ، وَالْمَعْنَى يَقُولُ لِسَانُهَا حَالًا أَوْ مَآلًا (إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ) : أَيْ وَكَّلَنِيِ اللَّهُ بِأَنْ أُدْخِلَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ النَّارَ، وَأُعَذِّبَهُمْ بِالْفَضِيحَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ (بِكُلِّ جَبَّارٍ) : أَيْ ظَالِمٍ (عَنِيدٍ) : أَيْ مُعَانِدٍ مُتَكَبِّرٍ عَنِ الْحَقِّ مُلَازِمٍ عَلَى الْبَاطِلِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْجَبَّارُ هُوَ الْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي وَالْعَنِيدُ الْجَائِرُ عَنِ الْقَصْدِ الْبَاغِي الَّذِي يَرُدُّ الْحَقَّ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ. (وَكُلُّ مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ) : وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4503 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَالْمَيْسِرَ، وَالْكُوبَةَ، وَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ". قِيلَ: الْكُوبَةُ الطَّبْلُ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4503 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَالْمَيْسِرَ) : وَتَحْرِيمُهُمَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ (وَالْكُوبَةَ) : بِضَمِّ الْكَافِ أَيْ وَحَرَّمَ الْكُوبَةَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ ضَرْبُهَا وَهِيَ الطَّبْلُ الصَّغِيرُ، وَقِيلَ النَّرْدُ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ مِيرَكُ: هِيَ طَبْلُ اللَّهْوِ لَا طَبْلَ النزاةِ وَالْحُجَّاجِ. (وَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كُلُّ مُسْكِرٍ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: (حَرَامٌ) . وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ أَمْ لَا. (قِيلَ: الْكُوبَةُ الطَّبْلُ) : تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَفِي إِشْعَارٍ بِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَعْنَاهُ النَّرْدُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْكُوبَةُ بِالضَّمِّ النَّرْدُ أَوِ الشَّطْرَنْجُ، وَالطَّبْلُ الصَّغِيرُ الْمُخَصَّرُ، وَالْبَرْبَطُ وَهُوَ كَجَعْفَرِ الْعُودِ مُعَرَّبٌ بِرَبْطٍ أَيْ صَدْرُ الْإِوَزِّ لِأَنَّهُ يُشْبِهُهُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4504 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَالْكُوبَةِ، وَالْغُبَيْرَاءِ. وَالْغُبَيْرَاءُ: شَرَابٌ يَعْمَلُهُ الْحَبَشَةُ مِنَ الذُّرَةِ، يُقَالُ لَهُ: السُّكُرْكَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4504 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَالْكُوبَةِ، وَالْغُبَيْرَاءِ) : بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ (وَالْغُبَيْرَاءُ: شَرَابٌ تَعْمَلُهُ الْحَبَشَةُ مِنَ الذُّرَةِ) : بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ. فَفِي الْقَامُوسِ: الذُّرَةُ، كُثْبَةٌ: حَبٌّ مَعْرُوفٌ، أَصْلُهَا: ذُرٌّ، وَزَادَ فِي الصِّحَاحِ وَالتَّاءُ عِوَضٌ، وَفِي الْفَائِقِ. سُمِّيَتْ بِالْغُبَيْرَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ غَبْرَةٍ. (يُقَالُ لَهَا: السُّكُرْكَةُ) : وَهِيَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ الْأُولَى وَسُكُونِ الرَّاءِ، نَوْعٌ مِنَ الْخُمُورِ يُتَّخَذُ مِنَ الذُّرَةِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّوَاةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4505 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4505 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ) : لِأَنَّهُ قِمَارٌ حَقِيقَةً أَوْ صُورَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ حَرَامٌ مُطْلَقًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ.

4506 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامَةً، فَقَالَ: " شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4506 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامَةً) : أَيْ يَقْفُو أَثَرَهَا لَاعِبًا بِهَا (فَقَالَ: شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا سَمَّاهُ شَيْطَانًا لِمُبَاعَدَتِهِ عَنِ الْحَقِّ وَاشْتِغَالِهِ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، وَسَمَّاهَا شَيْطَانَةً لِأَنَّهَا أَوْرَثَتْهُ الْغَفْلَةَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالشُّغُلَ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بِصَدَدِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتِّخَاذُ الْحَمَامِ لِلْفَرْخِ وَالْبَيْضِ، أَوِ الْأُنْسِ، أَوْ حَمْلِ الْكُتُبِ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَأَمَّا اللَّعِبُ بِهَا لِلتَّطَيُّرِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ قِمَارٌ وَنَحْوُهُ رُدَّتِ الشَّهَادَةُ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ عُثْمَانَ، وَعَنْ عَائِشَةَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4507 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! إِنِّي رَجُلٌ، إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا ". فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4507 - (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَاسْمُ أَبِي الْحَسَنِ يَسَارٌ الْبَصْرِيُّ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْهُ قَتَادَةُ وَعَوْفٌ. (قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! إِنِّي رَجُلٌ، إِنَّمَا مَعِيشَتِي) : أَيْ لَيْسَتْ مَعِيشَتِي إِلَّا (مِنْ صَنِيعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ) : أَيْ فَقَطْ (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أُحَدِّثُكَ) : " لَا " نَافِيَةٌ، أَيْ لَا أُخْبِرُكَ فِي جَوَابِكَ (إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ وَلَا أَتَكَلَّمُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي التَّأْثِيرِ (سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ صَنَعَ صُورَةً) : أَيْ عَمَلَهَا وَاشْتَغَلَهَا (فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ) : بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ يُعَذِّبُهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ (حَتَّى يَنْفُخَ) : أَيِ الرُّوحُ (فِيهِ) : أَيْ فِيمَا صَوَّرَهُ وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا أَيْ فِي الصُّورَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا) : أَيْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهُ سَرْمَدًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، أَوْ عَلَى فَرْضِ الِاسْتِحْلَالِ (فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّبْوُ النَّفَسُ الْعَالِي، يُقَالُ: رَبَا يَرْبُو رَبْوًا إِذَا أَخَذَهُ الرَّبْوُ، وَفِي الْقَامُوسِ: رَبَا الْفَرَسُ رَبْوًا انْتَفَخَ مِنْ عَدْوٍ، أَوْ فَزَعٍ. وَالْحَاصِلُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ فَزِعَ مِنْ نَقْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَدِيثَ وَصَارَ يَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ. (وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (وَيْحَكَ) : بِالنَّصْبِ وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ الْمَرْفُوعُ: " «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ". رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُوهُ إِلَى النَّارِ» " بِخِلَافِ وَيْلٍ، فَإِنَّهَا كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهَلَكَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف: 17] ، وَفِي الْقَامُوسِ: وَيْحٌ لِزَيْدٍ، وَوَيْحًا لَهُ: كَلِمَةُ رَحْمَةٍ، وَرَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَنَصْبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَوَيْحَ زَيْدٍ، وَوَيْحَهُ، نَصْبُهُمَا لَهُ أَيْضًا. (إِنْ أَبَيْتَ) : أَيْ إِنِ امْتَنَعْتَ مِنْ سَائِرِ الصُّنَّاعِ (إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ) : أَيِ التَّصَاوِيرُ (فَعَلَيْكَ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ) : أَيْ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا لَا رُوحَ فِيهِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ) : وَكُّلِّ بِالْجَرِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ الْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِلشَّجَرِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهُ عَنِ التَّصْوِيرِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى جِنْسِ الشَّجَرِ رَأَى ذَلِكَ غَيْرَ وَافٍ بِالْقَصْدِ فَأَوْضَحَهُ لَهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْبَدَلِ، وَالنَّصْبُ عَلَى التَّفْسِيرِ يَعْنِي بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِالْجَرِّ مِنْ قَبِيلِ التَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُودُ الْعَاطِفِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4508 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً يُقَالُ لَهَا: مَارِيَّةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: " أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الْقُبُورَ، أُولَئِكَ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4508 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ مَرَضَ (ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ) : أَيْ أَزْوَاجِهِ (كَنِيسَةً) : وَهِيَ مَعْبَدُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُعَرَّبُ كِنِيشِتَ (يُقَالُ لَهَا) : أَيْ لِتِلْكَ الْكَنِيسَةِ (مَارِيَّةُ) : - وَلَعَلَّهَا مُعَرَّبَةٌ - (مَا رُؤِيَ مِثْلُهَا) (وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ) : أَيْ وَرَأَتَاهَا فِيهَا وَتَعَجَّبَتَا مِنْهَا (فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا) : أَيْ حُسْنِ الْمَارِيَّةِ (وَتَصَاوِيرَ) : أَيْ وَحُسْنِ تَصَاوِيرَ (فِيهَا، فَرَفَعَ) : أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَأْسَهُ) : أَيْ مِنْ كَمَالِ الْغَيْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ (فَقَالَ: أُولَئِكَ) : بِكَسْرِ الْكَافِ خِطَابًا لِإِحْدَاهُمَا أَوْ لِإِحْدَى النِّسَاءِ أَوْ لِعَائِشَةَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى خِطَابِ الْعَامِّ، أَوْ تَنْزِيلًا لَهُنَّ مَنْزِلَةَ الرِّجَالِ، وَالْمَعْنَى أُولَئِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ جَمَاعَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى

(إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ) : أَيْ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ (بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا) : أَيْ مُتَعَبَّدًا وَسَمُّوهُ كَنِيسَةً (ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ) : أَيْ صُوَرُ الصُّلَحَاءِ تَذْكِيرًا بِهِمْ وَتَرْغِيبًا فِي الْعِبَادَةِ لِأَجْلِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلَفُكُمْ يَعْبُدُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ فَوَقَعُوا فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. (أُولَئِكَ) : أَيِ الْبَانُونَ وَالْمُصَوِّرُونَ (شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ) : لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا عِبَادَ اللَّهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4509 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ، وَالْمُصَوِّرُونَ، وَعَالِمٌ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4509 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ» ) : يَعْنِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّقْيِيدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. " «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ احْتِرَازٌ مِمَّنْ يَقْتُلُهُ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ ; لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ قَاصِدًا قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ يُشْكِلُ بِغُلَامِ الْخِضْرِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَعَلَّهُ يَخْرُجُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ لِحِكْمَةٍ ذُكِرَتْ فِي مَحَلِّهَا. (أَوْ قَتَلَ) : أَيْ أَوْ مَنْ قَتَلَ (أَحَدَ وَالِدَيْهِ) : وَ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ (وَالْمُصَوِّرُونَ) : عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ مَنْ قَتَلَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَعَالِمٌ لَمْ يَنْتَفِعْ) : أَيْ هُوَ (بِعِلْمِهِ) : أَيْ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ.

4510 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الشَّطْرَنْجُ هُوَ مَيْسِرُ الْأَعَاجِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4510 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الشِّطْرَنْجُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مُعَرَّبُ شَشْ رَنْجَ، أَيْ سِتُّ مِحَنٍ. وَقِيلَ بِفَتْحِهَا. وَهُوَ مُعَرَّبُ رَنْجَ أَيْ سَاحِلُ التَّعَبِ، وَلَا يُفْتَحُ أَوَّلُهُ لُعْبَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالسِّينُ لُغَةٌ فِيهِ. (هُوَ مَيْسِرُ الْأَعَاجِمِ) : أَيْ قِمَارُهُمْ حَقِيقَةً أَوْ صُورَةً وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْمَيْسِرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، هَذَا وَأَمَّا الشَّرْطُ بِهِ فَحَرَامٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.

4511 - وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: لَا يَلْعَبُ بِالشَّطْرَنْجِ إِلَّا خَاطِئٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4511 - (وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ) : أَيِ الزُّهْرِيُّ (أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: لَا يَلْعَبُ بِالشَّطْرَنْجِ إِلَّا خَاطِئٌ) : أَيْ عَاصٍ وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ مَا يَكُونُ بِالشَّرْطِ وَغَيْرِهِ، وَالْحَدِيثُ إِنْ كَانَ مَوْقُوفًا، لَكِنَّهُ مَرْفُوعٌ حُكْمًا، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَسَيَأْتِي عَنْهُ مَا يُعَضِّدُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ حَقِيقَةً. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي إِبَاحَةِ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُمْ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَتَبَصَّرُ بِهِ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَمَكِيدَةِ الْعَدُوِّ. قُلْتُ: مَا أَضْعَفَ هَذَا التَّعْلِيلَ وَمَا أَسْخَفَ هَذَا التَّأْوِيلَ، مَعَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّهِ وَعَدَمِ ثُبُوتِ فِعْلِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَلَكِنْ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ: أَنْ لَا يُقَامِرَ، وَلَا يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَأَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنِ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، فَإِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا فَهُوَ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ كَرِهَ الشَّافِعِيُّ اللَّعِبَ بِالشَّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَحَرَّمَهُ جَمَاعَةٌ كَالنَّرْدِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِمَارُ كُلُّهُ حَرَامٌ حَتَّى الْجَوْزُ يُلْعَبُ بِهِ اهـ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى إِبَاحَتِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَذَهَبَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى تَحْرِيمِهِ كَالنَّرْدِ، هَذَا، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ بِالشَّطْرَنْجِ، وَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا كَالْآكِلِ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ» . وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَابْنُ حَزْمٍ عَنْ حَبَّةَ بْنِ مُسْلِمٍ مُرْسَلًا، وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَعَاضَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الطُّرُقِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4512 - وَعَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَعِبِ الشَّطْرَنْجِ، فَقَالَ: هِيَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَا يُحِبُّ اللَّهُ الْبَاطِلَ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4512 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ (أَنَّهُ سُئِلَ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَبِي مُوسَى، فَيَكُونُ عَلَى طِبْقِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ سُئِلَ أَحَدُهُمَا. (عَنْ لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ) : وَهُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ مَعَ السُّكُونِ فَفِي الْقَامُوسِ: لَعِبَ كَسَمِعَ

لَعِبَ، كَسَمِعَ، لَعْبًا وَلَعِبًا وَلِعْبًا ضِدُّ جَدٍّ. (فَقَالَ: هِيَ) : أَيْ مُلَاعَبَتُهُ أَوْ هَذِهِ اللُّعْبَةُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: أَنْتَ الرَّاجِعُ إِلَى الشِّطْرَنْجِ بِاعْتِبَارِ التَّمَاثِيلِ (مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَا يُحِبُّ اللَّهُ الْبَاطِلَ) : وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ شَهَادَةِ اللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَنْ أَدْمَنَهَا فَمَا أَرَى شَهَادَتَهُمْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الضَّلَالِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ اللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ؟ فَقَالَ: أَمِنَ الْحَقِّ هِي؟ قِيلَ: لَا، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] اهـ. وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَبِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: الْكُوبَةُ هِيَ الشِّطْرَنْجُ، وَبِكَوْنِهِ دَاخِلًا فِي الْمَيْسِرِ حَقِيقَةً أَوْ صُورَةً وَبِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ الْحَدِيثِيَّةِ مِنْهَا مَا سَبَقَ، وَمِنْهَا مَا فِي الدُّرِّ أَيْضًا. أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَيْسِرُ كِعَابُ فَارِسٍ وَقِدَاحُ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْقِمَارُ كُلُّهُ أَيْ حَقِيقَةً أَوْ حَكَمًا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ كُلُّهُ حَتَّى الْجَوْزِ الَّذِي يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَسَدِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكِعَابَ الْمَوْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ» ) . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْكِعَابَ الْمَوْسُومَةَ الَّتِي تُزْجَرُ زَجْرًا، فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ» ". وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ اللُّعْبَتَيْنِ الْمَوْسُومَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تُزْجَرَانِ زَجْرًا، فَإِنَّهُمَا مَيْسِرُ الْعَجَمِ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْأَعَاجِمِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ النَّرْدُ تَكْرَهُونَهَا فَمَا بَالُ الشِّطْرَنْجِ؟ قَالَ: كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، صَحَّ الْقَوْلُ لِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ مَكْرُوهٌ لَعِبُهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ مِنْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الشِّطْرَنْجِ فِي أَحَادِيثَ لَا أَعْلَمُ لِشَيْءٍ مِنْهَا إِسْنَادًا صَحِيحًا وَلَا حَسَنًا عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْهُ ; لِأَنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ يُورِثُ الْحَدِيثَ حُسْنًا، وَلَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ مَعَ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَعْدُودٌ مِنَ الْمَيْسِرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ، فَاشْتِرَاطُ الْقِمَارِ فِي الشِّطْرَنْجِ دُونَ النَّرْدِ مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4513 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتِي دَارَ قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَدُونَهُمْ دَارٌ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَأْتِي دَارَ فُلَانٍ، وَلَا تَأْتِي دَارَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِأَنَّ فِي دَارِكُمْ كَلْبًا. قَالُوا: إِنَّ فِي دَارِهِمْ سِنَّوْرًا. فَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السِّنَّوْرُ سَبْعٌ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4513 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتِي دَارَ قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَدُونَهُمْ) : أَيْ قَرِيبُهُمْ (دَارٍ) : أَيْ أَهْلُ دَارٍ لَمْ يَأْتِهِمْ (فَشَقَّ ذَلِكَ) : أَيْ إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ (عَلَيْهِمْ) : أَيْ لِأَجْلِ تَخْصِيصِ غَيْرِهِمْ وَتَرْكِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ قَرِيبٌ مِنْهُمْ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ تَأْتِي دَارَ فُلَانٍ، وَلَا تَأْتِي دَارَنَا؟) : أَيْ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَوْ فَمَا التَّقْصِيرُ مِنَّا؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ الِاسْتِفْهَامُ التَّعَجُّبِيُّ. (قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَنَّ فِي دَارِكُمْ كَلْبٌ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ كَلْبُ صَيْدٍ أَوْ حِرَاسَةٍ (فَقَالُوا: إِنِّ فِي دَارِهِمْ) : أَيْ دَارِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَيْضًا (سِنَّوْرًا) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ أَيْ هِرًّا (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السِّنَّوْرُ سَبْعٌ) : بِفَتْحٍ فَضَمَّ وَفِي الْقَامُوسِ: بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَعَلَى الْإِخْبَارِ، وَهُوَ الْوَجْهُ أَيِ السِّنَّوْرُ سَبْعٌ، وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ كَالْكَلْبِ النَّجِسِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ كَوْنُهُ يَأْكُلُ النَّجَاسَةَ، وَلِأَنَّ بَعْضَهُ يُسَمَّى شَيْطَانًا وَالْمَلَائِكَةُ ضِدُّ الشَّيَاطِينِ اهـ. وَكَذَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَى طَبْعِ الْمَلَائِكَةِ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «السِّنَّوْرُ سَبْعٌ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا: " «السِّنَّوْرُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِنَّهُ مِنَ الطَّوَّافِينَ أَوِ الطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» ". أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْجَوَابَ يَتِمُّ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ مُنْضَمًّا إِلَى مَا سَبَقَ، وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، فَإِنَّ السَّبُعَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ هُوَ الْمُفْتَرِسُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْهِرِّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِالتَّشْبِيهِ.

[كتاب الطب والرقى]

[كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى]

كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4514 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى الطِّبُّ: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ مُثَلَّثُ الطَّاءِ عِلَاجُ الْأَمْرَاضِ، وَمَدَارُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ: حِفْظُ الصِّحَّةِ، وَالِاحْتِمَاءُ عَنِ الْمُؤْذِي، وَاسْتِفْرَاغُ الْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ اهـ. وَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: جَاءَ فُلَانٌ يَسْتَطِبُّ لِوَجَعِهِ أَيْ يَسْتَوْصِفُ الطَّبِيبَ قَالَ: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُ بِهِ ... إِلَّا الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا. وَالرُّقَى بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ جَمْعُ رُقْيَةٍ، وَهِيَ الْعُوذَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا صَاحِبُ الْآفَةِ كَالْحُمَّى وَالصَّرَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: «إِنِّي أَجِدُكِ عَالِمَةً بِالطِّبِّ، فَمِنْ أَيْنَ؟ فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثُرَتْ أَسْقَامُهُ، فَكَانَتْ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ يَنْعَتُونَ لَهُ فَتَعَلَّمْتُ ذَلِكَ» . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ فِي عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطِّبِّ لَا تُحْصَى، وَقَدْ جُمِعَ مِنْهَا دَوَاوِينُ، وَاخْتُلِفَ فِي مَبْدَأِ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ بَعْضَهُ عِلْمٌ بِالْوَحْيِ إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ، وَسَائِرَهُ بِالتَّجَارُبِ لِمَا رَوَىَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي رَأَى شَجَرَةً ثَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ ، فَتَقُولُ: كَذَا، فَيَقُولُ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ ، فَتَقُولُ: لِكَذَا، فَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَرْسٍ غُرِسَتْ» . الْحَدِيثُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُصَحَّحٍ أَوْ مُمَرَّضٍ فَبِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُهُ عِنْدَهُ أَوْ بِهِ، فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ وَالسُّبْكِيُّ الثَّانِيَ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ حَدِيثَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نَسْتَرْقِيَهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» ؟ ". الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4514 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) : أَيْ مَا أَحْدَثَ وَأَوْجَدَ (دَاءً) : أَيْ وَجَعًا وَبَلَاءً، (إِلَّا أَنْزَلَ) : أَيْ قَدَّرَ (لَهُ شِفَاءً) : أَيْ عِلَاجًا وَدَوَاءً. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا أَصَابَ اللَّهُ أَحَدًا بِدَاءٍ إِلَّا قُدِّرَ لَهُ دَوَاءٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: " إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ الدَّوَاءَ ". وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ ; فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً إِلَّا الْهَرَمَ فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ ; فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ» " اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِيبِ الْمَعَاجِينَ لِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ مِنْ حُصُولِ الِاعْتِدَالِ، وَفِي التَّنْزِيلِ أَيْضًا إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] ، هَذَا وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ خَلَقَ الدَّاءَ خَلَقَ الدَّوَاءَ فَتَدَاوَوْا» . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ عَلِمَ وَجَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَ إِلَّا السَّامَ ". قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا السَّامَ؟ قَالَ: " الْمَوْتُ» ". وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطَّبِيبِ وَحَثًّا عَلَى طَلَبِ الدَّوَاءِ وَتَخْفِيفًا لِلْمَرِيضِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا اسْتَوْشَفَتْ أَنَّ لِدَائِهَا دَوَاءً يَزِيدُ قُوَى رَجَائِهَا، وَانْبَعَثَ حَارُّهَا الْغَرِيزِيُّ، فَتَقْوَى الرُّوحُ النَّفْسَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ بِقُوَّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ تَقْوَى الْقُوَى الْحَامِلَةُ لَهَا فَتَدْفَعُ الْمَرَضَ وَتَقْهَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْزَالِ التَّقْدِيرُ، أَوْ إِنْزَالُ عِلْمِهِ عَلَى لِسَانِ تِلْكَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ إِلْهَامُ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِلْهَامِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ كَصِدْقِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْخُضُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ مَعَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَالتَّفْرِيجُ عَنِ الْكَرْبِ أَصْدَقُ فِعْلًا وَأَسْرَعُ نَفْعًا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْحِسِّيَّةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ رُبَّمَا يَتَخَلَّفُ الشِّفَاءُ عَمَّنِ اسْتَعْمَلَ طِبَّ النُّبُوَّةِ لِمَانِعٍ قَامَ بِهِ مِنْ ضَعْفِ اعْتِقَادِ الشِّفَاءِ بِهِ، وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ أَيْضًا فِي عَدَمِ نَفْعِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرِينَ، مَعَ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَقَدْ طَبَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَمَحَلُّ بَسْطِهَا الطِّبُّ النَّبَوِيُّ، وَسَائِرُ السِّيَرِ مِنْ كِتَابِ الْمَوَاهِبِ لِلْقَسْطَلَانِيِّ، وَزَادُ الْمَعَادِ لِابْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَغَيْرُهُمَا.

4515 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءٌ الدَّاءَ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4515 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءٌ) : بِالرَّفْعِ مُنَوَّنًا (الدَّاءَ) : بِالنَّصْبِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِذَا أَصَابَ دَوَاءٌ دَاءً بِالتَّنْوِينِ (بَرَأَ) : بِفَتْحَتَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: بَرَأْتُ مِنَ الْمَرَضِ بَرْأً بِالْفَتْحِ، وَأَبْرَأَنِيَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَرَضِ إِبْرَاءً وَغَيْرُ أَهْلِ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: بَرِئْتُ بِالْكَسْرِ بُرْءًا بِالضَّمِّ، وَفِي الْقَامُوسِ: بَرَأَ الْمَرِيضُ يَبْرَأُ وَيَبْرُؤُ بُرْأً، بِالضَّمِّ، وَبُرُوأً، وَبَرُؤَ، كَكَرُمَ وَفَرِحَ، بِرْأً وَبُرْأً وَبُرُوأً: نَقِهَ، (بِإِذْنِ اللَّهِ) : أَيْ بِتَيْسِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الدَّوَاءَ مُسْتَقِلٌّ فِي الشِّفَاءِ، وَفَسَّرَتْهُ رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ: «مَا مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَلَهُ دَوَاءٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مَلَكًا مَعَهُ شَرَابٌ وَمَعَهُ سِتْرٌ، فَجَعَلَهُ بَيْنَ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، فَكُلَّمَا شَرِبَ الْمَرِيضُ مِنَ الدَّوَاءِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الدَّاءِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بُرْأَهُ أَمَرَ الْمَلَكَ فَرَفَعَ السِّتْرَ، ثُمَّ يَشْرَبُ الْمَرِيضُ فَيَنْفَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ وَدَوَاءُ الذُّنُوبِ الِاسْتِغْفَارُ» "، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ الدَّوَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَعَامَّةُ الْخَلَفِ، وَإِلَى رَدِّ مَنْ أَنْكَرَ التَّدَاوِيَ فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّدَاوِي، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ، وَأَنَّ التَّدَاوِيَ أَيْضًا مَنْ قَدَرِ اللَّهَ تَعَالَى، وَهَذَا كَالْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَبِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَمُجَانَبَةِ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، مَعَ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَتَأَخَّرُ وَالْمَقَادِيرَ لَا تَتَغَيَّرُ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ رِعَايَةَ الْأَسْبَابِ بِالتَّدَاوِي لَا تُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ الْجُوعِ بِالْأَكْلِ وَقَمْعُ الْعَطَشِ بِالشُّرْبِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمُحَاسَبِيُّ: يَتَدَاوَى الْمُتَوَكِّلُ اقْتِدَاءً بِسَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَأَجَابَ عَنْ خَبَرِ: مَنِ اسْتَرْقَى أَوِ اكْتَوَى بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ، كَمَا سَيَأْتِي أَيْ: مِنْ تَوَكُّلِ الْمُتَوَكِّلِينَ - السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ - فَجَعَلَ بَعْضَ التَّوَكُّلِ أَفْضُلَ مِنْ بَعْضٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُنَافِيهِ مَا قِيلَ لَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُقْتَضَيَاتٍ بِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، فَتَعْطِيلُهَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَرْتَبَةَ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ التَّوْحِيدِ الصِّرْفِ، فَالْأَحْسَنُ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّهُ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ إِنِ اسْتَرْقَى بِمَكْرُوهٍ أَوْ عَلِمَ شِفَاءَهُ بِوُجُودِ نَحْوِ الْكَيِّ، وَغَفَلَ عَنْ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ نَاظِرَ الرَّبِّ الدَّوَاءَ مُتَوَقِّعًا مِنْ عِنْدِهِ الشِّفَاءَ قَاصِدًا صِحَّةَ بَدَنِهِ لِلْقِيَامِ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، فَتَوَكُّلُهُ بَاقٍ بِحَالِهِ اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِ سَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ إِذْ عَمَلَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، هَذَا وَإِنْ أَرَدْتَ الِاسْتِيفَاءَ، فَعَلَيْكَ بِكِتَابِ الْإِحْيَاءِ.

4516 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ. وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4516 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ) : أَيْ فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ (فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ الْآلَةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا دَمُ الْحِجَامَةِ عِنْدَ الْمَصِّ، وَيُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُشْرَطُ بِهَا مَوْضِعُ الْحِجَامَةِ وَالشَّرْطَةُ فَعْلَةٌ مِنْ شَرَطَ الْحَاجِمُ يَشْرُطُ إِذَا نَزَعَ، وَهُوَ الضَّرْبُ عَلَى مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ لِيَخْرُجَ الدَّمُ مِنْهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الشَّرْطَةُ كَضَرْبَةٍ ضَرَبَ بِالشَّرْطِ عَلَى مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ فَهُوَ فَعْلَةٌ مِنَ الشَّرْطِ وَهُوَ الشَّقُّ، وَقِيلَ: الشَّرْطَةُ مَا يُشْرَطُ بِهِ، وَالْمِحْجَمُ بِكَسْرِ الْمِيمِ قَارُورَةُ الْحَجَّامِ الَّتِي يَمُصُّ بِهَا، وَالْمَحْجَمُ بِالْفَتْحِ مَوْضِعُ الْحِجَامَةِ، وَسَيَأْتِي أَحَادِيثُ فِي فَصْلِ الْحِجَامَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا وَصِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ. (أَوْ شَرْبَهُ عَسَلٍ) : أَيْ وَحْدَهُ أَوْ مَخْلُوطَةٌ بِمَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ، فَيَكُونُ نَافِعًا لِكُلِّ مَرَضٍ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ إِطْلَاقُ الشِّفَاءِ لِعُمُومِ النَّاسِ. (أَوْ كَيَّةٌ بِنَارٍ) وَجْهُ حَصْرِ الشِّفَاءِ فِي الثَّلَاثِ أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِفْرَاغُ خَلْطِ الدَّمِ إِذَا هَاجَ، وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ ; لِأَنَّ وَجُودَهُ أَضَرُّ مِنْ سَائِرِ الْأَخْلَاطِ، وَلِكَثْرَةِ وَجُودِهِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الِاسْتِفْرَاغِ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنَ الْمُسَهَّلِ، وَأَقْرَبُ دَفْعًا وَمُبَادَرَةً قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ فِي الْمَعِدَةِ، وَالثَّانِي دَفْعُ الْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ بِالْإِسْهَالِ، وَالثَّالِثُ الْخَلْطُ الْبَاقِي الَّذِي

لَا تَنْحَسِمُ مَادَّتُهُ إِلَّا بِهِ، وَلِذَا قِيلَ: آخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ. (وَأَنَا أُنْهِي أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ) : وَلَعَلَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، فَإِنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالِاعْتِمَادَ بِظَاهِرِهِ ; وَلِذَا خُصَّ فِي الْحَدِيثِ: مَنِ اكْتَوَى وَاسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ تَدَاوٍ، بَلْ قَالَ: " «تَدَاوُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ» " عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شُرَيْكٍ. وَجَاءَ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ الْكَيِّ بِانْفِرَادِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عِمْرَانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَعْدٍ الظُّفُرِيِّ بِضَمٍّ، نَعَمْ إِذَا كَانَ الْكَيُّ مُتَعَيَّنًا فِي ذَلِكَ الدَّاءِ خَرَجَ عَنْ مَوْضِعِ الْكَرَاهَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ كَمَا سَيَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ صَرِيحًا أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُدَاوَاةِ بِدَوَاءٍ آخَرَ، وَالنَّهْيُ قَبْلَ بُلُوغِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَيْهِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَعْظُمُ خَطَرُهُ، أَوِ الْكَيُّ الْفَاحِشُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَوْ كَيَّةٌ وَاحِدَةٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ، وَقِيلَ النَّهْيُ تَنْزِيهِيٌّ اهـ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْكَيُّ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْكَيِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَهُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَحْسِمُ الدَّاءَ وَيُبْرِئُهُ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ هَلَكَ صَاحِبُهُ، وَيَقُولُونَ: آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَبَاحَ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الشِّفَاءِ وَالتَّرَجِّي لِلْبُرْءِ بِمَا يُحْدِثُ اللَّهُ مِنْ صُنْعِهِ فِيهِ، فَيَكُونُ الْكَيُّ وَالدَّوَاءُ سَبَبًا لَا عِلَّةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ تَخْصِيصُ ذِكْرِ الْأُمَّةِ أَيْ: أَنَا أَنْهَاهُمْ لِئَلَّا يَعُدُّوا الْكَيَّ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

4517 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رُمِيَ أَبِي يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ، فَكَوَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4517 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رُمِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ جِيءَ يَرْمِي سَهْمًا (أُبَيٌّ) أَيْ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقُرَّاءِ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيَ، وَهُوَ أَحَدُ السِّتَّةِ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَنَّاهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبَا الْمُنْذِرِ وَعُمَرُ أَبَا الطُّفَيْلِ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدَ الْأَنْصَارِ، وَعُمَرُ سَيِّدَ الْمُسْلِمِينَ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعَةَ عَشَرَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (يَوْمَ الْأَحْزَابِ) : أَيْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا صَوَابُهُ، وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ أَبَا جَابِرٍ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ قَبْلَ الْأَحْزَابِ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ. (عَلَى أَكْحَلِهِ) : الْأَكْحَلُ بِفَتْحِ هَمْزٍ وَسُكُونِ كَافٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ عِرْقُ الْحَيَاةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَهُوَ عِرْقٌ مَعْرُوفٌ فِي وَسَطِ الْيَدِ، وَمِنْهُ يُفْصَدُ، وَلَا يُقَالُ عِرْقُ الْأَكْحَلِ، وَقِيلَ نَهْرُ الْحَيَاةِ، وَيُقَالُ نَهْرُ الْبَدَنِ، وَفِي كُلِّ عُضْوٍ شُعْبَةٌ مِنْهُ، وَلَهُ فِيهَا اسْمٌ مُفْرَدٌ يُقَالُ لَهُ فِي الْيَدِ الْأَكْحَلُ، وَفِي الْفَخْذِ النِّسَا وَفِي الظَّهْرِ الْأَبْهَرُ، فَإِذَا قُطِعَ فِي الْيَدِ لَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ وَحَسْمُهُ يَقْطَعُ الدَّمَ. (فَكَوَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ أَمَرَهُ بِالْكَيِّ أَوْ كَوَاهُ بِيَدِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4518 - وَعَنْهُ قَالَ: «رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ، فَحَسَمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ بِمِشْقَصٍ، ثُمَّ وَرِمَتْ، فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4518 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ، فَحَسَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ كَوَاهُ (بِيَدِهِ بِمِشْقَصٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ، وَهُوَ نَصْلُ السَّهْمِ إِذَا كَانَ طَوِيلًا غَيْرَ عَرِيضٍ، فَإِذَا كَانَ عَرِيضًا فَهُوَ مِعْبَلَةٌ (ثُمَّ وَرِمَتْ) : أَيْ يَدُ سَعْدٍ (فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4519 - وَعَنْهُ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4519 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أُبَيِّ بْنُ كَعْبٍ طَبِيبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ» ) : أَيْ عَلَى عِرْقِهِ وَيَجُوزُ إِسْنَادُ الْفِعْلَيْنِ إِلَى الطَّبِيبِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا أَيْ أَمَرَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا وَفَعَلَ الْآخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4520 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، إِلَّا السَّامَ» " قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: السَّامُ: الْمَوْتُ. وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4520 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» ) : قِيلَ أَيْ مِنْ كُلِّ دَاءٍ مِنَ الرُّطُوبَةِ وَالْبَلْغَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَارٌّ يَابِسٌ فَيَنْفَعُ فِي الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُقَابِلُهُ، فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي كُلِّ دَاءٍ بِالتَّرْكِيبِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْعُمُومِ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: (إِلَّا السَّامَ) : بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ، ثُمَّ أَلَّفٍ وَمِيمٍ مُخَفَّفَةٍ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْقَامُوسِ. (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) : أَيِ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (السَّامُ: الْمَوْتُ. وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفَسَّرَهَا بِهِ لِشُهْرَتِهِ إِذْ ذَاكَ، وَتَفْسِيرُهَا بِهِ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ الْكَمُّونُ الْأَسْوَدُ أَوِ الْخَرْدَلُ أَوْ ثَمْرُ الْبُطْمِ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ الْحَبَّةُ الصَّفْرَاءُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَصْفَرَ أَسْوَدَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَيِ الشُّونِيزُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ. قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهَا الْخَرْدَلُ، وَقِيلَ وَهِيَ الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَهُوَ الْبُطْمُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَخْضَرَ أَسْوَدَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي أَعْلَامِ السُّنَنِ: وَهَذَا مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَلَيْسَ يُجْمَعُ فِي طَبْعِ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ جَمِيعُ الْقُوَى الَّتِي تُقَابِلُ الطَّبَائِعَ كُلَّهَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَدْوَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهَا مِنْ تَبَايُنِ طَبَائِعِهَا قُلْتُ: لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يَحْدُثُ مِنَ الرُّطُوبَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالْبَلْغَمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَارٌّ يَابِسٌ، فَهُوَ شِفَاءٌ بِإِذْنِ اللَّهِ لِلدَّاءِ الْمُقَابِلِ لَهُ فِي الرُّطُوبَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّوَاءَ أَبَدًا بِالْمُضَادِّ وَالْغِذَاءَ بِالْمُشَاكِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ بِلْقِيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] إِطْلَاقُ الْعُمُومِ وَإِرَادَةُ الْخُصُوصِ. قُلْتُ: لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ هَذَا، لَكِنَّ الْإِتْيَانَ يَمْنَعُ حَمْلَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى مَا هُوَ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مَعْلُومٍ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِعْيَارَ الْعُمُومِ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] ، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 3] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ قِيلَ: وَزَادَ الْأَرْبَعَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا دَاءً وَاحِدًا الْهَرَمُ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4521 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اسْقِهِ عَسَلًا ". فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: سُقِيَ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: " اسْقِهِ عَسَلًا ". فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ، فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ ". فَسَقَاهُ، فَبَرَأَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4521 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتُطْلِقَ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا أَيْ مَشَى (بَطْنُهُ) : وَهُوَ بِالرَّفْعِ لَا غَيْرِهِ وَاسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ مَشْيُهُ وَهُوَ تَوَاتُرُ الْإِسْهَالِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْقِهِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَجُوِّزَ فَتَحُهَا أَيْ أَطْعِمْ أَخَاكَ (عَسَلًا) : وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِسَقْيِهِ أَنَّهُ كَانَ صِرْفًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَمْزُوجًا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ» "، كَمَا سَيَأْتِي. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا اشْتَكَى أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَوْهِبْ مِنِ امْرَأَتِهِ مِنْ صَدَاقِهَا فَلْتَشْتَرِ لَهُ عَسَلًا، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ فَيَجْتَمِعُ هَنِيئًا مَرِيئًا شِفَاءً مُبَارَكًا. (فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ لَهُ: ثَلَاثُ مَرَّاتٍ) : أَيِ اسْقِهِ عَسَلًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِعِلْمِهِ أَنَّ السَّبَبَ اجْتِمَاعُ الْفَضَلَاتِ الْبَلْغَمِيَّةِ اللَّزِجَةِ الَّتِي تَدْفَعُهَا بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِيَسْهُلَ بَاقِيهَا. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابَ: الْحِكْمَةُ فِي تَكْرَارِ الْأَمْرِ أَنَّ سَقْيَ الْعَسَلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَمِّيَّةٍ وَكَيْفِيَّةٍ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَرِيضِ، فَإِنَّهُ إِنْ زِيدَ يَسْقُطُ فِي قُوَّتِهِ، وَإِنْ نَقَصَ لَا يُزِيلُ الْمَرَضَ وَلَا يُفِيدُهُ، وَلَمَّا لَمْ يَسْقِهِ.

الْمِقْدَارُ الْمَطْلُوبُ الْمُقَاوِمُ لِلْمَرَضِ أَمَرَهُ بِالزِّيَادَةِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ الشِّفَاءُ. (ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ) : أَيْ جَاءَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَقَالَ مَا سَبَقَ (فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ) : أَيْ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْمُتَعَارَفُ فِي تَكْرَارِ الْعِلَاجِ (فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ اللَّهُ) : أَيْ فِيمَا قَالَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ كَوْنُ شِفَاءِ ذَلِكَ الْبَطْنِ فِي شُرْبِهِ الْعَسَلَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى صَادِقٌ فِيهِ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ. قُلْتُ: ظَاهِرَهُ الْإِطْلَاقُ وَإِثْبَاتُ الْوَحْيِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ (وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ) : أَيْ أَخْطَأَ تَقُولُ الْعَرَبُ: كَذَبَ سَمْعِي إِذَا أَخْطَأَ، وَأَرَادَ بِخَطَئِهِ عَدَمَ حُصُولِ الشِّفَاءِ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نِيَّتَهُ فِي شُرْبِهِ لَمْ تَكُنْ خَالِصَةً أَوْ لِأَنَّ الدَّوَاءَ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَعْنِي صَدَقَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ بِأَنَّ الْعَسَلَ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ الشِّفَاءُ بِالْعَسَلِ اهـ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْمَجَازِ أَيْ: أَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ لِقَبُولِ الشِّفَاءِ فِي أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ الدَّوَاءُ بَعْدَ خَطَئِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] يَعُودُ إِلَى الشَّرَابِ الَّذِي هُوَ الْعَسَلُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلِصَرِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَأَصْرَحُ مِنْهُ الْحَدِيثُ: " «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ» "، قَالَ: وَالْآيَةُ عَلَى الْخُصُوصِ أَيْ شِفَاءٌ مِنْ بَعْضِ الدَّاءِ أَوْ لِبَعْضِ النَّاسِ، فِي التَّنْكِيرِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ تَنْكِيرَ شِفَاءٍ لِلتَّعْظِيمِ لَا لِلتَّقْلِيلِ، وَالْعُمُومُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِنْسِ النَّاسِ. (فَسَقَاهُ) : أَيْ مَرَّةً أُخْرَى (فَبَرَأَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِكَسْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَسَلُ مُسْهِلٌ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ فِي دَفْعِ الْإِسْهَالِ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنِ اجْتِمَاعِ الْفَضَلَاتِ الْبَلْغَمِيَّةَ الَّتِي دَفَعَتْهَا الطَّبِيعَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَانَ مِنْهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَادَّةِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى قَلْعِهَا بِمُلَيِّنٍ، فَأَمَرَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَمَّا شَرِبَ انْقَطَعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ لَعَلَّهُ. . إِلَخْ. يُنَافِيهِ مَا جَزَمَ بِهِ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ "، إِنَّمَا وَقَعَ أَمْرُهُ بِالْوَحْيِ، ثُمَّ تَوْضِيحُ هَذَا الْكَلَامِ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مِمَّا يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الطِّبِّ وَالْعِلَاجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا جَاءَ يَشْكُو إِلَيْهِ اسْتِطْلَاقَ الْبَطْنِ، فَكَيْفَ يَصِفُ لَهُ الْعَسَلَ وَهُوَ يُطْلِقُ، وَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ أُصُولِ الطِّبِّ وَمَعَانِيهِ عَلِمَ صَوَابَ هَذَا التَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِطْلَاقَ بَطْنِ هَذَا الرَّجُلِ إِنَّمَا كَانَ هَيْضَةً حَدَثَتْ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَسُوءِ الْهَضْمِ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَأْمُرُونَ صَاحِبَ الْهَيْضَةِ بِأَنْ يَتْرُكَ الطَّبِيعَةَ وَسَوْقَهَا لَا يُمْسِكُهَا، وَرُبَّمَا امْتَدَّتْ بِقُوَّةٍ مُسْهِلَةٍ حَتَّى تُسْتَفْرَغَ تِلْكَ الْفُضُولُ، فَإِذَا فَرَغَتْ تِلْكَ الْأَوْعِيَةُ مِنْ تِلْكَ الْفُضُولِ، فَرُبَّمَا أَمْسَكَتْ مِنْ دَائِهَا، وَرُبَّمَا عُولِجَتْ بِالْأَشْيَاءِ الْقَابِضَةِ وَالْمُقَوِّيَةِ إِذَا خَافُوا سُقُوطَ الْقُوَّةِ، فَخَرَجَ الْأَمْرُ فِي هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ مُسْتَقِيمًا حِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُمِدَّ الطَّبِيعَةَ بِالْعَسَلِ لِيَزْدَادَ الشِّفَاءُ، حَتَّى إِذَا انْتَزَحَتْ تِلْكَ الْفُضُولُ وَتَنَقَّتْ مِنْهَا وَقَفَتْ وَأَمْسَكَتْ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَمَا يَصِفُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدَّوَاءِ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِدُعَائِهِ وَبِبَرَكَتِهِ وَحُسْنِ أَمْرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا فِي الْأَعْيَانِ كُلِّهَا، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَجِبُ حَمْلُ مَا لَا يَخْرُجُ عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ الْقِيَاسِيِّ، وَإِلَيْهِ يَجِبُ تَوْجِيهُهُ كَذَا فِي أَعْلَامِ السُّنَنِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4522 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4522 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ) : أَيْ أَفْضَلُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَوْلَاهُ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: هَذَا أَمْثَلُ مِنْ هَذَا أَيْ أَفْضَلُ وَأَدْنَى إِلَى الْخَيْرِ، وَأَمَاثِلُ النَّاسِ خِيَارُهُمْ (الْحِجَامَةُ) :

بِكَسْرِ أَوَّلِهِ اسْتِعْمَالُهَا، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا الِاحْتِجَامُ (وَالْقُسْطُ) : بِضَمِّ الْقَافِ مِنَ الْعَقَاقِيرِ مَعْرُوفٌ فِي الْأَدْوِيَةِ طَبَبُ الرِّيحِ تَتَبَخَّرُ بِهِ النُّفَسَاءُ. (الْبَحْرِيُّ) : أَيِ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبَحْرِ، فَإِنَّ الْقُسْطَ نَوْعَانِ: بَحْرِيٌّ وَهُوَ أَبْيَضُ، وَهِنْدِيٌّ وَهُوَ أَسْوَدُ، وَمِنْهَا نَوْعٌ طَيِّبٌ يُتَبَخَّرُ بِهِ يُقَالُ: عَنْبَرٌ خَامٌ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عُودٌ هِنْدِيٌّ يُتَدَاوَى بِهِ، وَقِيلَ هُوَ خِيَارُ شَنْبُرَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْقِسْطُ بِالْكَسْرِ الْعَدْلُ وَالْحِصَّةُ وَالنَّصِيبُ، وَمِكْيَالٌ يَسَعُ نِصْفَ صَاعٍ، وَقَدْ يُتَوَضَّأُ فِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «إِنَّ النِّسَاءَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ إِلَّا صَاحِبَةَ الْقِسْطِ وَالسِّرَاجِ» ، كَأَنَّهُ أَرَادَ الَّتِي تَخْدِمُ بَعْلَهَا وَتُوَضِّئُهُ وَتَزْدَهِرُ بِمِيضَأَتِهِ، وَتَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ بِالسِّرَاجِ، وَبِالضَّمِّ عُودٌ هِنْدِيٌّ وَعَرَبِيٌّ مُدِرٌّ نَافِعٌ لِلْكَبِدِ جِدًّا وَلِلْمَغَصِ وَالدُّودِ وَحُمَّى الرِّبْعِ شُرْبًا، وَلِلزُّكَامِ وَالنَّزَلَاتِ وَالْوَبَاءِ بَخُورًا، وَلِلْبَهَقِ وَالْكَلَفَ طِلَاءً (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

4523 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنَ الْعُذْرَةِ، عَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4523 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ مِيمٍ فَزَايٍ أَيِ الْعَصْرُ، وَقِيلَ: إِدْخَالُ الْأُصْبُعِ فِي حَلْقِ الْمَعْذُورِ لِغَمْزِ دَاخِلِهِ فَيَعْصِرُ بِهَا الْعُذْرَةُ. فِي النِّهَايَةِ: هُوَ أَنْ يُسْقَطَ لِلشَّاةِ فَتُغْمَزَ بِالْيَدِ (مِنَ الْعُذْرَةِ) : أَيْ مِنْ أَجْلِهَا وَهِيَ بِضَمِّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ دَالٍّ مُعْجَمَةٍ: وَجَعٌ فِي الْحَلْقِ يَهِيجُ مِنَ الدَّمِ، وَقِيلَ: هِيَ قُرْحَةٌ تَخْرُجُ فِي الْخُرْمِ الَّذِي مَا بَيْنَ الْأَنْفِ وَالْحَلْقِ تَعْرِضُ لِلصِّبْيَانِ عِنْدَ طُلُوعِ الْعُذْرَةِ، فَتَعْمِدُ الْمَرْأَةَ إِلَى خِرْقَةٍ فَتَفْتِلُهَا فَتْلًا شَدِيدًا وَتُدْخِلُهَا فِي أَنْفِهِ فَتَطْعَنُ ذَلِكَ فَيَنْفَجِرُ مِنْهُ دَمٌ أَسْوَدٌ، وَرُبَّمَا أَقْرَحُهُ، وَذَلِكَ الطَّعْنُ يُسَمَّى الدَّغْرُ، يُقَالُ: دَغَرَتِ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ إِذَا غَمَزَتْ حَلْقَهُ مِنَ الْغُدْرَةِ أَوْ فَعَلَتْ بِهِ ذَلِكَ، وَكَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ عَلَاقًا كَالْعُوذَةِ، وَقَوْلُهُ عِنْدَ طُلُوعِ الْعُذْرَةِ وَهِيَ خَمْسَةُ كَوَاكِبَ تَحْتَ الشِّعْرَى الْعَبُورِ وَتُسَمَّى الْعَذَارَى، وَتَطْلَعُ فِي وَسَطِ الْحَرِّ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (عَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ) : بِأَنْ يُؤْخَذَ مَاؤُهُ فَيُسْعَطُ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْعُذْرَةِ فَيَقْبِضُهَا، فَإِنَّهَا حَارٌّ يَابِسٌ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

4524 - وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الْعِلَاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ؟ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4524 - (وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ بِنْتُ مِحْصَنٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ فَنُونٍ، أَسَدِيَّةٌ أُخْتُ عُكَاشَةَ، أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ قَدِيمًا، وَبَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ اهـ. وَهِيَ الَّتِي وَرَدَ بِسَبَبِهَا حَدِيثُ: (" «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا» ") فَكَانَ رَجُلٌ تَبِعَهَا فِي الْهِجْرَةِ وَكَانَ يُسَمَّى مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ. (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى مَا تَدْغَرْنَ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ مِنَ الدَّغَرِ وَبِفَتْحِ الدَّالِّ وَسُكُونِ عَيْنٍ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ الدَّفْعُ وَالْغَمْزُ، وَمَا: اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ لَهُ وَلِنَفْعِهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ الْكَثِيرُ عَلَى حَذْفِ الْأَلِفِ تَخْفِيفًا وَالْأَصْلُ قَلِيلٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَلَامَ يُحْذَفُ الْأَلِفُ، وَالْمَعْنَى عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُعَالِجْنَ أَوْلَادَكُنَّ وَتَغْمِزْنَ حُلُوقَهُمْ؟ فَبِهَذَا الْعُلَاقُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا، وَفِي بَعْضِهَا بِكَسْرِهَا وَالْكُلُّ بِمَعْنَى الْعَصْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هُوَ بِالْكَسْرِ الدَّاهِيَةُ يَعْنِي لَا تَعْصِرْنَ عُذْرَةَ الْأَوْلَادِ بِالشِّدَّةِ. وَبِالضَّمِّ مَا تُعْصَرُ بِهِ الْعُذْرَةُ مِنْ أُصْبُعٍ أَوْ غَيْرِهَا أَيْ لَا تَعْصِرْنَ (أَوْلَادَكُنَّ) : بِأُصْبُعٍ وَنَحْوِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ (بِهَذَا الْعُلَاقُ؟) : وَهُوَ الدَّغَرُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ قَوْلُهُ: بِهَذَا الْعُلَاقُ؟ كَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ أَيْضًا بِهَذَا الْإِعْلَاقِ، وَهُوَ أَوْلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَصْوَبُهُمَا، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ أُمِّ قَيْسٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ، وَفَسَّرُهُ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَعْلَقَتْ غَمَزَتْ، هَذَا لَفْظُ كِتَابِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْعَلَاقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْإِعْلَاقُ وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَإِنَّ الْعَلَاقَ لَا يَجُوزُ قَالُوا: وَالْأَعْلَاقُ مَصْدَرُ أَعْلَقَتْ عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ أَزَالَتِ الْعُلُوقَ: وَهِيَ الْآفَةُ وَالدَّاهِيَةُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُلَاقُ هُوَ الِاسْمُ مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ:

وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الْكَلَامَ مَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُعَالِجْنَ بِهَذَا الدَّاءِ الدَّاهِيَةِ وَالْمُدَاوَاةِ الشَّنِيعَةِ اهـ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْإِعْلَاقِ لِمَ تُعَالِجْنَ هَذِهِ الْمُعَالَجَةَ الْخَشِنَةَ؟ (عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ) : أَيْ بَلْ عَلَيْكُنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِاسْتِعْمَالِ الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فِي عُذْرَةِ أَوْلَادِكُنَّ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْجِنْسِ الْمُسْتَحْضَرِ فِي الذِّهْنِ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ هُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَافِعٌ (فَإِنَّ فِيهِ) : أَيْ فِي هَذَا الْعُودِ (سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ) : جَمْعُ شِفَاءٍ (مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ) : أَيْ مِنْ تِلْكَ الْأَشْفِيَةِ شِفَاءُ ذَاتِ الْجَنْبِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فِيهِ سَبْعَةُ أَشْفِيَةِ أَدْوَاءٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: سَبْعَةُ أَشْفِيَةٍ مِنْ سَبْعَةِ أَدْوَاءٍ مِنْهَا: ذَاتُ الْجَنْبِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَصْعَبُ الْأَدْوَاءِ، وَقَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْهُ مَنِ ابْتُلِيَ لَهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمُرَادُ هُنَا رِيَاحٌ غَلِيظَةٌ فِي نَوَاحِي الْجَنْبِ، فَإِنَّ الْعُودَ الْهِنْدِيَّ إِنَّمَا يُدَاوَى بِهِ الرِّيَاحُ وَقَوْلُهُ: (يُسْعَطُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا وَرُوِيَ مُشَدَّدًا وَفِي الْجَامِعِ بَسْطٌ بِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّوْطِ، وَهُوَ مَا يُصَبُّ فِي الْأَنْفِ. بَيَانُ كَيْفِيَّةِ التَّدَاوِي بِهِ أَنْ يُدَقَّ الْعُودُ نَاعِمًا، وَيُدْخَلُ فِي الْأَنْفِ، وَقِيلَ يُبَلُّ وَيُقَطَّرُ فِيهِ. (مِنَ الْعُذْرَةِ) : أَيْ مِنْ أَجْلِهَا (وَيُلَدُّ) : بِصِيَغِهِ الْمَجْهُولِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ: مِنْ لَدَّ الرَّجُلُ إِذَا صَبَّ الدَّوَاءَ فِي أَحَدِ شِقَّيِ الْفَمِ، وَمِنْهُ اللَّدُودُ، وَفِي الْجَامِعِ مَنْ يَلِدُّ لَهُ. (مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ) : أَيْ مِنْ أَجْلِهَا، وَسَكَتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَمْسَةٍ مِنْهَا لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تَفْصِيلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُهِمِّ وَالْمُنَاسِبِ لِلْمَقَامِ كَمَا هُوَ دَأْبُ أَرْبَابِ بُلَغَاءِ الْكَلَامِ، وَلَعَلَّ الْبَقِيَّةَ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَهُمْ مَعْرُوفَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْقَامُوسِ بَعْضُ خَوَاصِّهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدِ اعْتَرَضَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، فَقَالَ الْأَطِبَّاءُ: مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مُدَاوَاةَ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْحَرَارَةِ الشَّدِيدَةِ خَطَرٌ. قَالَ الْمَازَرِيُّ: فِي هَذَا الْقَوْلِ جَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] ، وَقَدْ ذَكَرَ جَالِينُوسُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْقُسْطَ يَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الصَّدْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ: وَيُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُجْذَبَ الْخَلْطُ مِنْ بَاطِنِ الْبَدَنَ إِلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذَا يُبْطِلُ مَا زَعَمَ الْمُعْتَرِضُ الْمُلْحِدُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَفِيهِ سَبْعَةُ أَشْفِيَةٍ فَقَدْ أَطْبَقَ الْأَطِبَّاءُ فِي كُتُبِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يُدِرُّ الطَّمْثَ وَالْبَوْلَ، وَيَنْفَعُ مِنَ السُّمُومِ، وَيُحَرِّكُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ، وَيَقْتُلُ الدُّودَ، وَحَبُّ الْقَرْعِ فِي الْأَمْعَاءِ إِذَا شُرِبَ بِعَسَلٍ، وَيُذْهِبُ الْكَلْفَ إِذَا طُلِيَ عَلَيْهِ، وَيَنْفَعُ مِنْ بَرْدِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ، وَمِنْ حُمَّى الْوَرْدِ وَالرِّبْعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُوَ صِنْفَانِ: بَحْرِيٌّ وَهِنْدِيُّ الْبَحْرِيِّ هُوَ الْقُسْطُ الْأَبْيَضُ، وَالْبَحْرِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْهِنْدِيِّ، وَأَقَلُّ حَرَارَةً مِنْهُ، وَإِنَّمَا عَدَدْنَا مَنَافِعَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَطِبَّاءِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ مِنْهَا عَدَدًا مُجْمَلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبْعَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ كَذَا فِي الْجَامِعِ.

4525 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4525 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، أَنْصَارِيٌّ أَصَابَهُ سَهْمٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَشْهَدُ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وَأَنْقَضَتْ جِرَاحَتُهُ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ قِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ، وَاللَّهَبُ الْحَاصِلُ فِي جِسْمِ الْمَحْمُومِ قِطْعَةٌ مِنْهَا أَظْهَرَهَا اللَّهُ بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِيهَا لِيَعْتَبِرَ الْعِبَادُ بِذَلِكَ، وَرَوَى الْبَزَّارُ حَدِيثَ: " «الْحُمَّى حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ» "، وَقِيلَ: هـ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ حَرُّ الْحُمَّى شَبِيهٌ بِحَرِّ جَهَنَّمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهَا أَوْ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَةِ الطَّبِيعَةِ، وَهِيَ تُشْبِهُ نَارَ جَهَنَّمَ فِي كَوْنِهَا مُعَذِّبَةً وَمُذِيبَةً لِلْجَسَدِ اهـ. فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَيْحُ سُطُوعُ الْحَرِّ وَفَوَرَانُهُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَشْبِيهٌ قَالَ الْمُظْهِرُ: شَبَّهَ اشْتِعَالَ حَرَارَةِ الطَّبِيعَةِ فِي كَوْنِهَا مُذْهِبَةً لِلْبُرُودَةِ، وَثَانِيهِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْحُمَّى مَأْخُوذٌ مِنْ حَرَارَةِ جَهَنَّمَ حَقِيقَةً أُرْسِلَتْ إِلَى الدُّنْيَا نَذِيرًا لِلْجَاحِدِينَ وَبَشِيرًا لِلْمُعْتَبِرِينَ ; لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِمْ وَجَابِرَةٌ عَنْ تَقْصِيرِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَنْ " لَيْسَتْ.

بَيَانِيَّةٌ حَتَّى يَكُونَ تَشْبِيهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، جَعَلَ فَهِيَ إِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ أَيِ الْحُمَّى نَشَأَتْ وَحَصَلَتْ مِنْ " فَيْحِ جَهَنَّمَ "، أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيْ: بَعْضٌ مِنْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: " «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ» ". الْحَدِيثُ، فَكَمَا أَنَّ حَرَارَةَ الصَّيْفِ أَثَرٌ مِنْ فَيْحِهَا كَذَلِكَ الْحُمَّى، (فَابْرِدُوهَا بِالْمَاءِ) : بِهَمْزِ الْوَصْلِ وَفِي نُسْخَةٍ بِقَطْعِهَا أَيْ بَرِّدُوا شِدَّةَ حَرَارَتِهَا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الشُّرْبَ وَالِاغْتِسَالَ وَالصَّبَّ عَلَى بَعْضِ الْبَدَنِ كَالْجَبِينِ وَكُفُوفِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، قِيلَ: وَهُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْحُمِّيَاتِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ، وَبِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ كَأَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحُمِّيَاتِ الَّتِي يَعْرِضُ لَهُمْ عَنْ كَثْرَةِ الْحَرَارَةِ وَشِدَّتِهَا فَيَنْفَعُهَا الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا وَغُسْلًا، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ " إِذَا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَةِ مَاءٍ فَأَهْرَقَهَا عَلَى بَدَنِهِ» " ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَهُوَ شِفَاءٌ لِكُلِّ سَقَمٍ عَلَى مَا وَرَدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيِ اسْقُوا الْمَحْمُومَ الْمَاءَ لِيَقَعَ بِهِ التَّبْرِيدُ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ الْأَدْوِيَةَ وَأَنْجَعُهَا فِي التَّبْرِيدِ عَنِ الْحُمَّيَاتِ الْحَارَّةِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْسَابُ بِسُهُولَةٍ فَيَصِلُ إِلَى أَمَاكِنِ الْعِلَّةِ، وَيَدْفَعُ حَرَارَتَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مُعَاوَنَةِ الطَّبِيعَةِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْعِلَّةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيِ أَسْكِنُوا حَرَّهَا بِهِ مَعَ هَمْزِ وَصْلٍ وَقَطْعِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْغُسْلَ، بَلِ الرَّشَّ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، كَمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ، وَهِيَ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِضَمِّ الرَّاءِ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَاطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَنَّهُ يُقَالُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ فِي لُغَةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: بَرَّدَهُ بَرْدًا جَعْلَهُ بَارِدًا، أَوْ خَلَطَهُ بِالثَّلْجِ، وَأَبْرَدَهُ جَاءَ بِهِ بَارِدًا، وَلَهُ سَقَاهُ بَارِدًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ غَلَطَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ، فَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ لَمَّا أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، فَاحْتَقَنَتِ الْحَرَارَةُ فِي بَاطِنِ بَدَنِهِ فَأَصَابَتْهُ عِلَّهٌ صَعْبَةٌ كَادَ يَهْلَكُ فِيهَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِلَّتِهِ قَالَ قَوْلًا فَاحِشًا لَا يُحْسِنُ ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ لِجَهْلِهِ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ، وَذَهَابِهِ عَنْهُ، فَتَبْرِيدُ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيَّةِ بِسَقْيِ الْمَاءِ الصَّادِقِ الْبَرْدِ، وَوَضْعُ أَطْرَافِ الْمَحْمُومِ فِيهِ مِنْ أَنْفَعِ الْعِلَاجِ وَأَسْرَعِهِ إِلَى إِطْفَاءِ نَارِهَا وَكَسْرِ لَهِيبِهَا، فَإِنَّمَا أُمِرَ بِإِطْفَاءِ الْحُمَّى وَتَبْرِيدِهَا بِالْمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دُونَ الِانْغِمَاسِ فِيهِ، وَغَطِّ الرَّأْسِ فِيهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ لَيْسَ فِيهِ مَا يُبَيِّنُ صِفَتَهُ وَحَالَتَهُ، وَالْأَطِبَّاءُ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيَّةَ يُدَبَّرُ صَاحِبُهَا بِسَقْيِ الْمَاءِ الْبَارِدِ الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ، وَيَسْقُونَهُ الثَّلْجَ، وَيَغْسِلُونَ أَطْرَافَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُمَّى وَالْغُسْلُ نَحْوَ مَا قَالُوهُ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هُنَا فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَسْمَاءَ: «أَنَّهُ يُؤْتَى بِالْمَرْأَةِ الْمَوْعُوكَةِ فَتَصُبُّ الْمَاءَ فِي جَيْبِهَا، وَتَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» " فَهَذِهِ أَسْمَاءُ رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ، وَقُرْبُهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْلُومٌ، وَتُؤَوِّلُ الْحَدِيثَ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُلْحِدِ الْمُعْتَرِضِ إِلَّا اخْتِرَاعُهُ الْكَذِبَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا مَا رَوَيْنَاهُ عَنِ التِّرْمِذِيَّ، عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا أَصَابَ أَحَدُكُمُ الْحُمَّى، فَإِنَّ الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ، فَلْيَسْتَنْقِعْ فِي نَهْرٍ جَارٍ، وَلِيَسْتَقْبِلْ جَرْيَتَهُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ وَصَدِّقْ رَسُولَكَ» " إِلَى قَوْلِهِ: " فَإِنَّهَا لَا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "، وَالْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ مَذْكُورٌ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَنَائِزِ فَشَيْءٌ خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِ الطَّبِيعَةِ دَاخِلٌ فِي قِسْمِ الْمُعْجِزَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: صَدِّقْ رَسُولَكَ، وَفِي آخِرِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَدْ شُوهِدَ وَجُرِّبَ، وَوُجِدَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُ قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي مَحَلِّهِ مَبْسُوطًا، لَكِنْ جَعْلُ الطِّيبِيِّ هُنَا قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي آخِرِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ عَجِيبٌ غَرِيبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا سَوَاءٌ الْمُعْجِزَاتُ وَالْكَرَامَاتُ وَمَوَافِقُ الْعَادَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا قَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِذْنِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَإِمَّا إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ لِلْعَبْدِ فِي فِعْلِهِ، وَرَدًّا عَلَى مَنْ يَدَّعِي فِيهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ جَهَنَّمَ فَنَحُّوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَنَسٍ: " «الْحُمَّى حَظُّ أُمَّتِي مِنْ جَهَنَّمَ» "، وَفِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ: " الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ جَهَنَّمَ وَهِيَ نَصِيبُ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ ". وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَائِشَةَ " «الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ» ". وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ لِلدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَنَسٍ " «الْحُمَّى شَهَادَةٌ» ". وَرَوَى الْقُضَاعِيُّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ " «الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ وَحُمَّى لَيْلَةٍ تُكَفِّرُ خَطَايَا سَنَةٍ مُجَرَّمَةٍ» ": بِالْجِيمِ أَيْ تَامَّةٌ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ أَسَدِ بْنِ كَرَزٍ " «الْحُمَّى تَحُتُّ الْخَطَايَا كَمَا تَحُتُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» ". وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَنَسٍ " «الْحُمَّى رَائِدَةُ الْمَوْتِ وَسِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: «الْحُمَّى زَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِ، يَحْبِسُ بِهَا عَبْدَهُ إِذَا شَاءَ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِذَا شَاءَ، فَغَيِّرُوهَا بِالْمَاءِ» ، وَكَذَا ذَكَرَهُ هُنَا وَالزُّهْدُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْمَرَضِ وَالْكَفَّارَاتِ.

4526 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ وَالنَّمْلَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4526 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرُّقْيَةِ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرُّخْصَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ النَّهْيِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنِ الرُّقَى لِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الرُّقَى، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِيهَا إِذَا عَرِيَتْ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ. قُلْتُ: وَسَيَجِيءُ هَذَا الْمَعْنَى قَرِيبًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ. (مِنَ الْعَيْنِ) : أَيْ مِنْ أَجْلِ إِصَابَةِ عَيْنِ الْجِنِّ أَوِ الْإِنْسِ، وَالْمُرَادُ بِالرُّقْيَةِ هُنَا مَا يُقْرَأُ مِنَ الدُّعَاءِ وَآيَاتِ الْقُرْآنِ لِطَلَبِ الشِّفَاءِ مِنْهَا: مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا " «بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ» " وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ: «بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يُشْفِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ عَيْنٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي فَقَالَ: " أَلَا أَرْقِيَكَ بِرُقْيَةٍ رَقَانِي بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ فَقُلْتُ: بَلَى بِأَبِي وَأُمِّي. فَقَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ وَاللَّهُ يُشْفِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ فِيكَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ: ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْعَيْنِ مِنْ أَجْلِ وَجَعِهَا وَرَمَدِهَا لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ مَرْفُوعًا " «مَنْ أُصِيبَ بِعَيْنٍ رُقِيَ بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ حَرَّهَا وَبَرْدَهَا وَوَصَبَهَا ". ثُمَّ قَالَ: " قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» ". (وَالْحُمَةُ) : أَيْ: وَمِنَ الْحُمَةِ وَهُوَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ السُّمُّ وَقَدْ يُشَدَّدُ، وَأَنْكَرَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى إِبْرَةِ الْعَقْرَبِ لِلْمُجَاوَرَةِ، لِأَنَّ السُّمَّ مِنْهَا يَخْرُجُ وَأَصْلُهَا حُمَّى أَوَحَمْوٌ بِوَزْنِ صَرْدٍ، وَالْهَاءُ فِيهِ عِوَضٌ مِنَ الْوَاوِ أَوِ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ. وَفِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: «عَرَضْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُقْيَةً مِنَ الْحُمَةِ فَأَذِنَ لَنَا. وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ مِنْ مَوَاثِيقِ الْجِنِّ بِسْمِ اللَّهِ شَجَّةٌ قَرْنِيَّةٌ مُلْحَةُ بَحْرِ قَفْطَا» ، أَمَّا أَلْفَاظُهَا فَكَمَا ضَبَطْنَاهُ بِالْقَلَمِ عَلَى مَا سَمِعْنَا مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ وَرَأَيْنَاهُ بِخُطُوطِهِمْ، وَأَمَّا مَعَانِيهَا فَلَا تُعْرَفُ صَرَّحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ، لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَعْرُوضَةً لَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ أَنْ يُرْقَى بِهَا. (وَالنَّمْلَةُ) : أَيْ: وَمِنَ النَّمْلَةِ وَهِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمِيمِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَهِيَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ بِالْجَنْبِ وَغَيْرِهِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: وَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ نَمْلَةٌ لِتَغَشِّيهَا وَانْتِشَارِهَا شَبَّهَ ذَلِكَ بِالنَّمْلَةِ وَدَبِيبِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هِيَ بُثُورٌ صِغَارٌ مَعَ وَرَمٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ تَتَقَرَّحُ فَتُشْفَى وَتَتَّسِعُ، وَيُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الذُّبَابَ، وَيُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ نَارُ فَارِسِيِّ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُدَاوِي مَنْ بِهِ قُرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ بِأَنْ يَضَعَ أُصْبُعَهُ السَّبَّابَةُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا قَائِلًا " بِاسْمِ اللَّهِ هَذِهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» "، وَالتَّقْدِيرُ أَتَبَرَّكُ بِاسْمِ اللَّهِ هَذِهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا مَعْجُونَةٌ بِرَيْقَةِ بَعْضِنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتْفِلُ عِنْدَ الرُّقْيَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى مِنْ كُلِّ الْآلَامِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا فَاشِيًّا مَعْلُومًا بَيْنَهُمْ. قَالَ: وَوَضْعُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ وَوَضْعُهَا عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّقَى اهـ.

وَالْمُرَادُ بِأَرْضِنَا جُمْلَةُ الْأَرْضِ كَذَا قَالُوا، وَقِيلَ أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِبَرَكَتِهَا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَرْضِنَا أَرْضَ الْإِسْلَامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ يَضَعَهَا عَلَى التُّرَابِ لِيَتَعَلَّقَ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الْعَلِيلِ أَوِ الْجَرِيحِ، وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَالِ الْمَسْحِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ بَدْءَ خَلْقِنَا مِنْ طِينٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِنَا سَوِيًّا فِي الِابْتِدَاءِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى صِحَّةِ أَبْدَانِنَا مِنْ خُرُوجٍ وَقُرُوحٍ فِي الِانْتِهَاءِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4527 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4527 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَرْقِيَ) : بِالنُّونِ. عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْيَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نَطْلُبَ الرُّقْيَةَ أَوْ نَسْتَعْمِلَهَا. (مِنَ الْعَيْنِ) : أَيْ: مِنْ رَمَدِهَا أَوْ إِصَابَتِهَا فَانْدَفَعَ، مَا قِيلَ هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَنْ أَصَابَتْهُ عَيْنٌ مِنَ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ يُسْتَحَبُ أَنْ يُرْقَى اهـ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِرُقِيِّ الْعَيْنِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ،» وَالْمُرَادُ بِالْمُعَوَّذَاتِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقِيلَ بِكَسْرِهَا سُورَةُ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ. وَجُمِعَ إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَقَعُ بِهَا مِنَ السُّورَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُعَوَّذَاتِ هَاتَانِ السُّورَتَانِ مَعَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، وَأَطْلَقَ ذَلِكَ تَغْلِيبًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُضَمَّ مَعَهَا قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ قِرَاءَةً وَكِتَابَةً وَتَعْلِيقًا وَشُرْبًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: كَيْفَ يَنْفُثُ؟ قَالَ: يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ؟ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَجَسَدَهُ اهـ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي دَفْعِ الْعَيْنِ قِرَاءَةَ آيَةِ {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [القلم: 51] إِلَى آخِرَ السُّورَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4528 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ - تَعْنِي صُفْرَةً - فَقَالَ: " اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4528 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً) : أَيْ: بِنْتًا أَوْ مَمْلُوكَةً (فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيَجُورُ ضَمُّهُ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: عَلَامَةٌ، مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُ، وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ السَّفْعِ، وَهُوَ الْأَخْذُ، وَقِيلَ السَّفْعَةُ الْعَيْنُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَفْسِيرُ الرَّاوِي (تَعْنِي صُفْرَةً) : أَيْ: تُرِيدُ أَمُّ سَلَمَةَ بِقَوْلِهَا سَفْعَةً صُفْرَةً بِضَمِّ أَوَّلِهِ (فَقَالَ: اسْتَرْقُوا) ؟ أَيِ: اطْلُبُوا الرُّقْيَةَ أَوْ مَنْ يَرْقِي: (لَهَا) أَيْ: لِلْجَارِيَةِ (فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ) : وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَعْنَى أَنَّ السَّفْعَةَ أَدْرَكَتْهَا مِنْ قِبَلِ النَّظْرَةِ فَاطْلُبُوا لَهَا الرُّقْيَةَ اهـ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أَصَابَتْهَا الْعَيْنُ مِنَ الْجِنِّ قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَقَدْ قِيلَ: عُيُونُ الْجِنِّ أَنْفَذُ مِنْ أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: أَنَّ الْعَيْنَ مِنَ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ فِي النِّهَايَةِ: جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَمْرِ بِالرُّقْيَةِ وَمِنَ النَّهْيِ قَوْلُهُ: " لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ ". وَالْأَحَادِيثُ فِي الْقِسْمَيْنِ كَثِيرَةٌ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرُّقَى يُكْرَهُ مِنْهَا مَا كَانَ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَبِغَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ نَافِعَةٌ لَا مَحَالَةَ فَيَتَّكِلُ عَلَيْهَا وَإِيَّاهَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مَا تَوَكَّلَ مَنِ اسْتَرْقَى، وَلَا يُكْرَهُ مِنْهَا مَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَالتَّعَوُّذِ بِالْقُرْآنِ، وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرُّقَى بِالْمَرْوِيَّةِ. لِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي رَقَى بِالْقُرْآنِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَجْرًا: " «مَنْ أَخَذَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَقَدْ أَخَذْتُ بِرُقْيَةِ حَقٍّ» ".

4529 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَأَنْتَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: " مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4529 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الرُّقَى» ) : أَيْ: جَمْعُ رُقْيَةٍ (فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) : أَيْ: أَوْلَادُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيَّ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَجْرَانَ سَنَةَ عَشْرٍ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنُ (كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ) : أَيْ: مَحْفُوظَةٌ مُجَرَّبَةٌ (نَرْقِي) : بِفَتْحِ النُّونِ.

وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: نَدْعُوا (بِهَا) : أَيْ: بِتِلْكَ الرُّقْيَةِ (مِنَ الْعَقْرَبِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِ سُمِّهَا أَوْ لَدْغِهَا (وَأَنْتَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى) : وَبِهَا مُقَدَّرٌ أَيْ: فَقَالَ: " اعْرِضُوا رُقْيَتَكُمْ عَلَيَّ وَاتْلُوهَا لَدَيَّ " (فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَى) : أَيْ مَا أَعْلَمُ (بِهَا بَأْسًا) : أَيْ: كَرَاهِيَةً (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ) : أَيْ: بِشَيْءٍ مُبَاحٍ (فَلْيَنْفَعْهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) :. كَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.

4530 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: " اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4530 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ خَيْبَرُ، وَكَانَ، مَعَ رَايَةِ أَشْجَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (قَالَ: «كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ» ) : بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ رُقْيَةٍ (لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ) : أَيْ: كُفْرٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4531 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْعَيْنُ حَقٌّ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4531 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْعَيْنُ) : أَيْ: أَثَرُهَا (حَقٌّ) : وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعَانُ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِهِ وَكُلُّ كَامِلٍ يَعْقُبُهُ النَّقْصُ وَلَمَّا كَانَ ظُهُورُ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْعَيْنِ أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَيْهَا (فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ) : أَيْ: غَالِبَهُ فِي السَّبْقِ (سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) : أَيْ: لَغَلَبَتْهُ الْعَيْنُ، وَالْمَعْنَى: لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَسْبِقَ الْقَدَرَ شَيْءٌ، فَيُؤَثِّرُ فِي إِفْنَاءِ شَيْءٍ وَزَوَالِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ سَبَقَتِ الْعَيْنُ الْقَدَرَ، وَحَاصِلُهُ: أَنْ لَا هَلَاكَ وَلَا ضَرَرَ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لِكَوْنِهَا سَبَبًا فِي شِدَّةِ ضَرَرِهَا، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْعَيِنَ يَفْسَدُ وَيَهْلَكُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ يُخْلَقَ الضَّرَرُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ هَذَا الشَّخْصِ بِشَخْصٍ آخَرَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ فَرْضَ شَيْءٍ لَهُ قُوَّةٌ وَتَأْثِيرٌ عَظِيمٌ سَبَقَ الْقَدَرَ لَكَانَ عَيْنًا. وَالْعَيِنُ لَا يُسْبَقُ فَكَيْفَ لِغَيْرِهَا؟ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ قَوْلُهُ: " الْعَيْنُ حَقٌّ " أَيِ: الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحَقَّقَ كَوْنُهُ، وَقَوْلُهُ: " وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ " كَالْمُؤَكِّدِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى سُرْعَةِ نُفُوذِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الذَّوَاتِ، (وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَاغْسِلُوا) : كَانُوا يَرَوْنَ أَنْ يُؤْمَرَ الْعَائِنُ فَيَغْسِلُ أَطْرَافَهُ وَمَا تَحْتَ الْإِزَارِ، فَتُصَبُّ غُسَالَتُهُ عَلَى الْمَعْيُونِ يَسْتَشْفُونَ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يَمْتَنِعُوا عَنِ الِاغْتِسَالِ إِذَا أُرِيدَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَأَدَّى مَا فِي ذَلِكَ دَفْعُ الْوَهْمِ الْحَاصِلِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ الْخَوَاصَّ الْمُودَعَةَ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ، وَيَسْتَبْعِدَهَا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ شَهِدَ بِهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِهَا، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْحِسَانِ مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ؟ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى صَبِيًّا مَلِيحًا فَقَالَ: دَسِّمُوا نُونَتَهُ كَيْلَا تُصِيبَهُ الْعَيْنُ، وَمَعْنَى دَسِّمُوا: سَوِّدُوا، وَالنُّونَةُ النَّقْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي ذَقَنِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى مِنْ مَالِهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ أَوْ دَخَلَ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهِ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف: 40] الْآيَةُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْمَازِرِيُّ: الْعَيْنُ حَقٌّ، لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ: أَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَا يُؤَدِّي إِلَى قَلْبِ حَقِيقَةٍ وَلَا فَسَادِ دَلِيلٍ، فَإِنَّهُ مِنْ مُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ، فَإِذَا أَخْبَرَ الشَّرْعُ بِوُقُوعِهِ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ وَلَا يَجُوزُ تَكْذِيبُهُ. قُلْتُ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ هَذَا وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْخَبَرِيَّةِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ زَعَمَ الطَّبِيعِيُّونَ الْمُتَتَبِّعُونَ الْعَيْنَ: أَنَّ الْعَائِنَ يَنْبَعِثُ عَنْ عَيْنِهِ قُوَّةٌ سُمِّيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ فَتُهْلِكُ أَوْ تُفْسِدُ. قَالُوا: وَلَا يَمْتَنِعُ هَذَا كَمَا لَا يَمْتَنِعُ انْبِعَاثُ قُوَّةٍ سُمِّيَّةٍ مِنَ الْأَفْعَى، وَالْعَقْرَبُ تَتَّصِلُ بِاللَّدِيغِ فَتَهْلِكُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْسُوسٍ لَنَا.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّا بَيَّنَا فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ أَنْ لَا فَاعِلَ إِلَّا اللَّهُ، وَبَيَّنَّا فَسَادَ الْقَوْلِ بِالطَّبَائِعِ، وَأَقْرَبُ الطُّرُقِ مَا قَالَهُ بَعْضُ مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ مِنْهُمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْبَعِثَ مِنَ الْعَائِنِ جَوَاهِرُ لَطِيفَةٌ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ مِنَ الْعَيْنِ، فَتَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ وَتَتَخَلَّلُ مَسَامَ جِسْمِهِ، فَيَخْلُقُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْهَلَاكَ عِنْدَهَا، كَمَا يَخْلُقُ الْهَلَاكَ عِنْدَ شُرْبِ السُّمُومِ عَادَةً أَجْرَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمَازِرِيُّ أَحَدُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ أَطْنَبَ فِي إِثْبَاتِهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِّيُّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] فَلْيَنْظُرْ هُنَاكَ مَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الْأُولَى وَهِيَ " الْعَيْنُ حَقٌّ " فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " الْعَيْنُ حَقٌّ تَسْتَنْزِلُ الْحَالِقَ " أَيِ: الْجَبَلُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَدِيٍّ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا: " الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ ". وَفِي رِوَايَةِ الْكَحَجِيِّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " الْعَيْنُ حَقٌّ وَيَحْضُرُ بِهَا الشَّيْطَانُ وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4532 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَنَتَدَاوَى؟ قَالَ: " نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ! تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ، الْهَرَمُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4532 - (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ) : صَحَابِيٌّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالُوا) : أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَنَتَدَاوَى؟) : أَيْ: أَنَتْرُكُ تَرْكَ الْمُعَالَجَةِ فَنَطْلُبُ الدَّوَاءَ إِذَا عُرِضَ الدَّاءُ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَى خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِرِوَايَةِ الرَّاوِي. أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (نَعَمْ) : وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: الْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ تَسْتَدْعِيهِ الْهَمْزَةُ يَعْنِي: أَنَعْتَبِرُ الطِّبَّ فَنَتَدَاوَى أَوْ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَنَتْرُكُ التَّدَاوِيَ؟ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، وَأَيْضًا جَعْلُ التَّوَكُّلِ مِنْ قِسْمِ تَرْكِ التَّدَاوِي غَيْرَ صَحِيحٍ فِي الْمَعْنَى. (يَا عِبَادَ اللَّهِ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ لَا يُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ، وَلَا يَدَعُ التَّوَكُّلَ عَلَى صَاحِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: " اعْقِلْ وَتَوَكَّلْ ". (تَدَاوُوا) : تَأْكِيدًا لِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: " نَعَمْ "، وَالْمَعْنَى تَدَاوُوا وَلَا تَعْتَمِدُوا فِي الشِّفَاءِ عَلَى التَّدَاوِي، بَلْ كُونُوا عِبَادَ اللَّهِ مُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ، وَمُفَوِّضِينَ الْأُمُورَ إِلَيْهِ، وَكَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ، الْهَرَمِ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالرَّاءِ وَهُوَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ دَاءٍ، وَقِيلَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، أَوْ مَنْصُوبٍ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَالْمُرَادُ بِهِ الْكِبَرُ، وَجَعَلَهُ دَاءً تَشْبِيهًا لَهُ، فَإِنَّ الْمَوْتَ يَعْقُبُهُ كَالْأَدْوَاءِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَنْبَعُ الْأَدْوَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَطِبَّاءِ: سَمْعِي ضَعِيفٌ، فَقَالَ: مِنَ الْكِبَرِ. قَالَ فِي بَصَرِي غَشَيَانٌ، فَقَالَ: مِنَ الْكِبَرِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي قُوَّةٌ عَلَى الْمَشْيِ وَعَلَى الْبَطْشِ، وَلِي انْكِسَارٌ فِي الظَّهْرِ، وَوَجَعٌ فِي الْجَنْبِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهَا: إِنَّهُ مِنَ الْكِبَرِ، فَسَاءَ خُلُقُهُ، فَقَالَ: مَا أَجْهَلَكَ كُلُّهُ مِنَ الْكِبَرِ، فَقَالَ: هَذَا أَيْضًا مِنَ الْكِبَرِ، وَقَدْ قَالُوا: مَنِ ابْتُلِيَ بِالْكِبَرِ فَقَدِ ابْتُلِيَ بِأَلْفِ دَاءٍ. قَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: الدَّاءُ: خُرُوجُ الْبَدَنِ وَالْعُضْوِ عَنِ اعْتِدَالِهِ بِإِحْدَى الدَّرَجِ الْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا إِلَّا وَلَهُ ضِدٌّ وَشِفَاءُ الضِّدِّ بِضِدِّهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ اسْتِعْمَالُهُ لِلْجَهْلِ بِهِ، أَوْ فَقْدِهِ، أَوْ مَوَانِعَ أُخْرَى، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَهُوَ اضْمِحْلَالٌ طَبِيعِيٌّ وَطَرِيقٌ إِلَى الْفَنَاءِ ضَرُورِيٌّ، فَلَمْ يُوضَعْ لَهُ شِفَاءٌ، وَالْمَوْتُ أَجْلٌ مَكْتُوبٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «تَدَاوُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ» " إِلَخْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ النَّقَايَةِ أَنَّهُ: رَوَى الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَهَلْ عَلَيْنَا جُنَاحٌ أَنْ نَتَدَاوَى؟ قَالَ: " تَدَاوُوا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً» ". وَفِي لَفْظَةٍ: " «إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ» "

4533 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلَى الطَّعَامِ؟ فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4533 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُكْرِهُوا) : نَهْيٌ مِنَ الْإِكْرَاهِ (مَرْضَاكُمْ) : جَمْعُ مَرِيضٍ (عَلَى الطَّعَامِ) : أَيْ: عَلَى تَنَاوُلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلْغِذَاءِ وَفِي مَعْنَاهَا مَا يُعْطِي لَهُمْ لِلدَّوَاءِ (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ أَيْ: يَمُدُّهُمْ بِمَا يَقَعُ مَوْقِعَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَيَرْزُقُهُمْ صَبْرًا عَلَى أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ وَالْقُوَّةَ مِنَ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَحْفَظُ قُوَاهُمْ وَيَمُدُّهُمْ بِمَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي حِفْظِ الرُّوحِ وَتَقْوِيمِ الْبَدَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» " وَإِنْ كَانَ مَا بَيْنَ الْإِطْعَامَيْنِ وَالطَّعَامَيْنِ بَوْنًا بَعِيدًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْحَاكِمُ، (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

4534 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنَ الشَّوْكَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4534 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوَى) : أَيْ: بِيَدِهِ أَوْ أَمَرَ بِأَنْ يُكْوَى أَحَدٌ (أَسْعَدَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْعَيْنِ بَيْنَهُمَا مُهْمَلَةٌ (ابْنَ زُرَارَةَ) : بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الرَّاءَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، وَفِي آخِرِهِ تَاءٌ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (مِنَ الشَّوْكَةِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا وَهِيَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ: حُمْرَةٌ تَعْلُو الْوَجْهَ وَالْجَسَدَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

4535 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَتَدَاوَى مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ وَالزَّيْتِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4535 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ. (قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَتَدَاوَى مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ» ) : وَقَدْ سَبَقَ (وَالزَّيْتِ) : إِمَّا يَأْكُلُهُ وَإِمَّا بِتَدْهِينِهِ أَوْ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؟ لِمَا وَرَدَ: " «كُلُوا الزَّيْتَ وَادْهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» " عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي غَيْرِهِ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " كُلُوا الزَّيْتَ وَادْهِنُوا بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ سَبْعِينَ دَاءً مِنْهَا الْجُذَامُ ". وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ عَامِرٍ: " عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ زَيْتِ الزَّيْتُونِ فَتَدَاوُوا بِهِ فَإِنَّهُ مَصَحَّةٌ مِنَ الْبَاسُورِ ". ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَنْ يُتَدَاوَى بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّدُودِ كَمَا سَبَقَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4536 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْعَتُ الزَّيْتَ وَالْوَرْسَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4536 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْعَتُ الزَّيْتَ وَالْوَرْسَ) : أَيْ: يَصِفُ حُسْنَهُمَا وَيَمْدَحُ التَّدَاوِيَ بِهِمَا (مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِ مُدَاوَاتِهَا، وَمِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يَنْعَتُ بِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْوَرْسُ نَبْتٌ أَصْفَرٌ يُصْبَغُ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْوَرْسُ: شَيْءٌ يُشْبِهُ الزَّعْفَرَانَ يَحْسُنُ فِي مُدَاوَاةِ ذَاتِ الْجَنْبِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَرْسُ نَبَاتٌ كَالسِّمْسِمِ، لَيْسَ إِلَّا بِالْيَمَنِ، يُزْرَعُ فَيَبْقَى عِشْرِينَ سَنَةً، نَافِعٌ لِلْكُلَى طِلَاءٌ، وَلِلْبَهَقِ شُرْبًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4537 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهَا: " بِمَ تَسْتَمْشِينَ؟ " قَالَتْ: بِالشُّبْرُمِ. قَالَ: " حَارٌّ جَارٌّ " قَالَتْ: ثُمَّ اسْتَمْشَيْتُ بِالسَّنَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ أَنَّ شَيْئًا كَانَ فِيهِ الشِّفَاءُ مِنَ الْمَوْتِ؟ لَكَانَ فِي السَّنَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4537 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَاجَرَتْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ هُنَاكَ مُحَمَّدًا وَعَبْدَ اللَّهِ وَعَوْنًا، ثُمَّ هَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا قُتِلَ جَعْفَرٌ تَزَوَّجَهَا.

أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا، فَلَمَّا مَاتَ الصِّدِّيقُ تَزَوَّجَهَا عَلَيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ اهـ. وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بِمَ تَسْتَمْشِينَ) أَيْ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَطْلُبِينَ الْإِسْهَالَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ شُرْبُ الْمَشْيِ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ بِمَا تُسَهِّلِينَ بَطْنَكِ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَشْيُ الَّذِي يَعْرِضُ عِنْدَ شُرْبِ الدَّوَاءِ. (قَالَتْ بِالشُّبْرُمِ) : بِضَمِّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ وَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ نَبْتٌ يُسْهِلُ الْبَطْنَ، وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الشِّيحِ يُقَالُ لَهُ بِالْعَجَمِيِّ دَرْمَنَهْ، وَقِيلَ حَبٌّ يُشْبِهُ الْحِمَّصَ يُطْبَخُ وَيُشْرَبُ مَاؤُهُ لِلتَّدَاوِي، وَقِيلَ هُوَ مِنَ الْعَقَاقِيرِ الْمُسَهِّلَةِ. (قَالَ: حَارٌّ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ (جَارٌّ) : وَكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْإِسْهَالِ، وَهُوَ عَلَى مَا ضَبَطْنَاهُ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَفِي الْكَاشِفِ: وَرُوِيَ حَارٌّ جَارٌّ بِالْجِيمِ اتِّبَاعًا لِلْحَارِّ أَوْ يَارٌّ بِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَالرَّاءُ مُشَدَّدَةٌ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: الْأَوَّلُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مِنَ الْحَرِّ، وَالثَّانِي بِجِيمٍ مِنَ الْجَرِّ وَفِي نُسْخَةٍ هُمَا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ لِلتَّأْكِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ حَارٌّ يَارٌّ عَلَى أَنَّ يَارًّا تَابِعُ حَارٍّ، وَهُوَ فِي كَلَامِهِمْ أَكْثَرُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَارٌّ بِالْجِيمِ اتْبَاعٌ لِلْحَارِّ بِالْحَاءِ، وَكَذَلِكَ يَارٌّ بِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَالرَّاءُ الْمُشَدَّدَةُ، وَحَرَّانُ يَرَّانُ. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: حَارٌّ حَارٌّ أَيْ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِيهَا اهـ. وَأَغْرَبَ مَنْ جَعَلَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى الْوَاقِعَةَ فِي الْمَصَابِيحِ أَصْلًا لِلْمِشْكَاةِ، وَقَدْ عَدَلَ عَنْهَا الْمُصَنِّفُ إِلَى مَا طَابَقَ الْأُصُولَ (قَالَتْ: ثُمَّ اسْتَمْشَيْتُ بِالسَّنَا) : بِفَتْحِ السِّينِ مَقْصُورًا وَهُوَ السَّنَا الْمَكِّيُّ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَفِي النِّهَايَةِ: السَّنَا بِالْقَصْرِ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ مِنَ الْأَدْوِيَةِ لَهُ خَمْلٌ إِذَا يَبِسَ، فَإِذَا حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ سُمِعَ لَهُ زَجَلٌ. الْوَاحِدَةُ سَنَاةٌ. وَفِي الْفَائِقِ: وَقَدْ يُرْوَى بِالْمَدِّ، وَفِي الْقَامُوسِ: بِالْمَدِّ نَبْتٌ مُسْهِلٌ لِلصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ وَالْبَلْغَمِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ بَعْدَمَا سَأَلَنِي ثَانِيًا أَوْ حِينَ ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ اسْتِعْلَامًا وَاسْتِكْشَافًا (لَوْ أَنَّ شَيْئًا كَانَ فِيهِ الشِّفَاءُ مِنَ الْمَوْتِ؟ لَكَانَ فِي السَّنَا) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ حَرَامٍ: ( «عَلَيْكُمْ بِالسَّنَا وَالسَّنُّوتِ، فَإِنَّ فِيهِمَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ» ) وَهُوَ الْمَوْتُ، وَالسَّنُّوتُ قِيلَ الْعَسَلُ، وَقِيلَ الرُّبُّ، وَقِيلَ الْكَمُّونُ. وَفِي الْقَامُوسِ: السَّنُّوتُ، كَتَنُّورٍ وَسِنَّوْرِ الزُّبْدِ، وَالْجُبْنُ، وَالْعَسَلُ، وَضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِ، وَالرُّبُّ، وَالشِّبِتُّ، وَالرَّازِيَانِجُ، وَالْكَمُّونُ.

4538 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوُوا، وَلَا تَدَاوُوا بِحَرَامٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4538 - (وَعَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ) : أَيْ: أَحْدَثَهُمَا وَأَوْجَدَهُمَا (وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً) : أَيْ: حَلَالًا (فَتَدَاوُوا) : أَيْ: بِحَلَالٍ (وَلَا تَدَاوُوا) . بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (بِحَرَامٍ) : أَيْ: نَحْوَ بَوْلٍ وَخَمْرٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: دَوَاءٌ مُطْلَقٌ لَهُ شُيُوعٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ: " وَلَا تَدَاوُوا بِحَرَامٍ " يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً حَرَامًا كَانَ أَوْ حَلَالًا فَلَا تَدَاوُوا بِالْحَرَامِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ كَلَامُهُ: أَنَّ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً حَلَالًا فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَتَدَاوُوا وَلَا تَدَاوُوا بِحَرَامٍ، نَعَمْ لَوْ قِيلَ: خُلِقَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ مِنْ حَرَامٍ وَحَلَالٍ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، لَكِنْ يُخَالِفُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، «أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوِيدٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ. فَقَالَ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهَا دَاءٌ» ". وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا» ". وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] لِأَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَلَمَّا حُرِّمَتْ سُلِبَتِ الْمَنَافِعُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4539 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4539 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ» ) : أَيْ: النَّجِسِ أَوِ الْحَرَامِ وَهُوَ أَعَمٌّ، وَفِي الْمَعْنَى أَتَمٌّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ زِيَادَةٍ: يَعْنِي السُّمَّ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقِيلَ. أَرَادَ بِهِ خُبْثَ النَّجَاسَةِ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ مُحَرَّمٌ مِنْ خَمْرٍ أَوْ لَحْمِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ إِلَّا مَا خَصَّتْهُ السُّنَّةُ مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ. قُلْتُ: عَلَى خِلَافٍ فِيهِ؟ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَحِلُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ لِلتَّدَاوِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْخَبِيثَ مِنْ جِهَةِ الْمَطْعَمِ وَالْمَذَاقِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ كُرْهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الطِّبَاعِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ طُعُومَ الْأَدْوِيَةِ كَرِيهَةٌ، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا أَيْسَرُ احْتِمَالًا وَأَقَلُّ كَرَاهَةً اهـ. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي النِّهَايَةِ. قُلْتُ. وَقَدْ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِلرَّائِحَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا هُوَ أَقَلُّ كَرَاهَةً أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ الطَّبِيعَةِ، مَعَ أَنَّ الطَّبَائِعَ مُخْتَلِفَةٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْحَاكِمُ.

4540 - وَعَنْ سَلْمَى خَادِمَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: «مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْتَكِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعًا فِي رَأْسِهِ إِلَّا قَالَ: " احْتَجِمْ " وَلَا وَجَعًا فِي رِجْلَيْهِ إِلَّا قَالَ: " اخْتَضِبْهُمَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4540 - (وَعَنْ سَلْمَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) : بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ (خَادِمَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ أُمُّ رَافِعٍ صَحَابِيَّةٌ، رَوَى عَنْهَا ابْنُهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهِيَ قَابِلَةُ إِبْرَاهِيمَ ابْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَتْ: مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْتَكِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعًا فِي رَأْسِهِ) أَيْ: نَاشِئًا مِنْ كَثْرَةِ الدَّمِ (إِلَّا قَالَ) : أَيْ: لَهُ (احْتَجِمْ وَلَا وَجَعًا فِي رِجْلَيْهِ) أَيْ نَاشِئًا مِنَ الْحَرَارَةِ (إِلَّا قَالَ؟ اخْتَضِبْهُمَا) : أَيْ: بِالْحِنَّاءِ، وَالْحَدِيثُ بِإِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِاخْتِضَابِ كُفُوفِ الرِّجْلِ، وَيَجْتَنِبَ صَبْغَ الْأَظْفَارِ احْتَرِازًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ مَا أَمْكَنَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4541 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «مَا كَانَ يَكُونُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْحَةٌ وَلَا نَكْبَةٌ إِلَّا أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا الْحِنَّاءَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4541 - (وَعَنْهَا) : أَيْ. عَنْ سَلْمَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (مَا كَانَ) : أَيِ: الشَّأْنُ (يَكُونُ) : بِالتَّذْكِيرِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّأْنِيثِ أَيْ يُوجَدُ وَيَقَعُ. (بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْحَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي زَائِدًا بِقَرِينَةِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْتَكِي، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ زَائِدٍ بِالتَّأْوِيلِ أَيْ: مَا كَانَ قُرْحَةً تَكُونُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. وَالْقُرْحَةُ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَيُضَمُّ، جِرَاحَةٌ مِنْ سَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] وَقَدْ قُرِئَ فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْفَتْحِ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الْقَرْحُ: أَلَمُ الْجِرَاحِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجِرَاحِ وَالْقُرُوحِ الْخَارِجِيَّةِ فِي الْجَسَدِ، وَمِنْهُ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ، وَمِنْهُ: قُرِحَتْ أَشْدَاقُنَا أَيْ: أَصَابَتْهَا الْقُرُوحُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ: قَرَحَ الرَّجُلُ: أَلَمْ يَقْرَحْ قَرْحًا خَرَجَتْ بِهِ قُرُوحٌ، وَالِاسْمُ الْقُرْحُ بِالضَّمِّ، وَقِيلَ الْمَضْمُومُ وَالْمَفْتُوحُ لُغَتَانِ، كَالْجَهْدِ وَالْجُهْدِ، وَالْمَفْتُوحُ لُغَةُ الْحِجَازِ (وَلَا نَكْبَةٌ) : بِفَتْحِ النُّونِ جِرَاحَةٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَوْكٍ، وَلَا: زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ نُكِبَتْ أُصْبُعُهُ أَيْ: نَالَتْهَا الْحِجَارَةُ. (إِلَّا أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا الْحِنَّاءَ) : لِأَنَّهُ بِبُرُودَتِهِ يُخَفِّفُ حَرَارَةَ الْجِرَاحَةِ وَأَلَمَ الدَّمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)

4542 - وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْتَجِمُ عَلَى هَامَتِهِ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: " مَنْ أَهْرَاقَ مِنْ هَذِهِ الدِّمَاءِ، فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَتَدَاوَى بِشَيْءٍ لِشَيْءٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4542 - (وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ (الْأَنْمَارِيُّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، نَزَلَ بِالشَّامِ، رَوَى عَنْهُ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَنَعِيمُ بْنُ زِيَادَةَ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْتَجِمُ عَلَى هَامَتِهِ) : أَيْ: رَأَسِهِ، وَقِيلَ وَسَطُ رَأْسِهِ أَيْ: لِلسُّمِّ كَمَا سَيَأْتِي، وَرَفَعَهُ مَعْمَرٌ بِغَيْرِ سُمٍّ وَقَدْ أَضَرَّهُ (وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً وَذَاكَ مَرَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَعَهُمَا (وَهُوَ يَقُولُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُؤَيِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ (مَنْ أَهْرَقَ) : أَيْ: أَرَاقَ وَصَبَّ (مِنْ هَذِهِ الدِّمَاءِ) . أَيْ: بَعْضِ هَذِهِ الدِّمَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي الْبَدَنِ الْمَحْسُوسِ آثَارُهَا عَلَى الْبَشَرَةِ، وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْفَاسِدُ الْمَعْرُوفُ بِعَلَامَةٍ يَعْلَمُهَا أَهْلُهَا، (فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَتَدَاوَى بِشَيْءٍ) : أَيْ: آخَرُ (لِشَيْءٍ) : أَيْ مِنَ الْأَمْرَاضِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا هُوَ بِزِيَادَةِ الشَّيْءِ فِي أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ اهـ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، فَعَلَى صَاحِبِهَا اعْتِرَاضٌ وَارِدٌ بَيَّنَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ بِالْفِعْلِ. وَصَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ.

4543 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ عَلَى وَرِكِهِ مِنْ وَثْءٍ كَانَ بِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4543 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ عَلَى وَرِكِهِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَرِكُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ كَكَتِفِ مَا فَوْقَ الْفَخْذِ (مِنْ وَثْءٍ) . بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ فَهَمْزٌ أَيْ: مِنْ أَجْلِ وَجَعٍ يُصِيبُ الْعُضْوَ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ، وَقِيلَ هُوَ مَا يَعْرِضُ لِلْعُضْوِ مِنْ حَدَرٍ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُصِيبَ الْعَظْمَ وَهَنٌ وَمِنَ الرُّوَاةِ مَنْ يَكْتُبُهَا بِالْيَاءِ وَيَتْرُكُ الْهَمْزَةَ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كِتَابَةِ الْيَاءِ وَالْهَمْزِ، وَلَا يُقْرَأُ إِلَّا بِالْهَمْزِ أَوْ يُكْتَفَى بِالْهَمْزِ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةِ الْيَاءِ وَهُوَ أَبْعَدُ مِنَ الِاشْتِبَاهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَذَا هُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَقَوْلُهُ: (كَانَ) أَيْ. الْوَثْءُ (بِهِ) : صِفَةٌ لِلْوَثْءِ: وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَثْءُ وَجَعٌ يُصِيبُ اللَّحْمَ لَا يَبْلُغُ الْعَظْمَ، أَوْ وَجَعٌ فِي الْعَظْمِ بِلَا كَسْرٍ أَوْ هُوَ الْفَكُّ وَبِهِ وَثْءٌ، وَلَا تَقُلْ: وَثْيٌّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4544 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ: أَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا أَمَرُوهُ: " مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4544 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لَيْلَةَ) : بِالتَّنْوِينِ فِي نُسْخَةٍ، وَالصَّحِيحُ بِفَتْحِهَا مُضَافَةً إِلَى قَوْلِهِ: (أُسْرِيَ بِهِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (أَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلَأٍ) : أَيْ: جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ تَمْلَأُ الْعَيْنَ (مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا أَمَرُوهُ) : وَهَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَوْلُهُ: (مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ) : بَيَانٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِهِ أَمْرُهُمْ جَمِيعًا، وَتَقْرِيرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَقْلُهُ عَنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ أَيْضًا، هَذَا وَقَدْ تَجِبُ الْحِجَامَةُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

4545 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ: «إِنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4545 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ تَيْمِيٌّ قُرَشِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، صَحَابِيٌّ وَقِيلَ: أَنَّهُ أَدْرَكَ وَلَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ اهـ. فَعَلَى مَا قِيلَ رِوَايَاتُهُ مُرْسَلَةٌ وَهُوَ لَا يَضُرُّ إِذْ

مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا، بِخِلَافِ مَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ، فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ إِلَّا فِيمَا يَعْتَضِدُ (أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضِفْدَعٍ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الدَّالِّ أَيْضًا. قَالَ الْقَاضِي. هُوَ بِكَسْرِ الدَّالِّ عَلَى مِثَالِ الْخِنْصَرِ وَالْعَامَّةُ بِفَتْحِهَا. وَقَالَ شَارِحٌ: فَتْحُ الدَّالِّ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الضِّفْدَعُ كَزِبْرِجٍ وَجَعْفَرٍ وَجُنْدَبٍ وَدِرْهَمٍ، وَهَذَا أَقَلُّ أَوْ مَرْدُودٌ دَابَّةٌ نَهْرِيَّةٌ، وَلَحْمُهَا مَطْبُوخًا بِزَيْتٍ وَمِلْحٍ تِرْيَاقٌ لِلْهَوَامِّ وَبَرِّيَّةٌ وَشَحْمُهَا عَجِيبٌ لِقَلْعِ الْأَسْنَانِ (يَجْعَلُهَا) : أَيْ هُوَ وَغَيْرُهُ (فِي دَوَاءٍ) : بِأَنْ يَجْعَلَهَا مُرَكَّبَةً مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى يَسْتَعْمِلُهَا لِأَجْلِ دَوَاءٍ وَشِفَاءِ دَاءٍ (فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا) أَيْ: وَجَعْلِهَا فِي الدَّوَاءِ، وَبِهِ تَحْصُلُ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ السُّؤَالَيْنِ وَالْجَوَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: «نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ لِلدَّوَاءِ» ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَوْ عَنْ قَتْلِهَا فَقَطْ قَالَ شَارِحٌ: وَلَمْ يَكُنِ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهَا إِبْقَاءً عَلَيْهَا وَتَكْرُمَةً لَهَا، بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ التَّدَاوِيَ بِهَا لِرِجْسِهَا وَقَذَارَتِهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَلَعَلَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ التَّدَاوِيَ بِهَا لِنَجَاسَتِهَا وَحُرْمَتِهَا إِذْ لَمْ يُجَوِّزِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ لِاسْتِقْذَارِ الطَّبْعِ وَتَنَفُّرِهِ عَنْهَا، أَوْ لِأَنَّهُ رَأَى فِيهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَى الطَّبِيبُ فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: " «لَا تَقْتُلُوا الضِّفَادِعَ، فَإِنَّ نَعِيقَهُنَّ تَسْبِيحٌ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُطَابِقُ النَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ بِالتَّدَاوِي؟ قُلْتُ: الْقَتْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ إِمَّا لِكَوْنِهِ مِنَ الْفَوَاسِقِ وَلَيْسَ بِهَا، وَإِمَّا لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَلَيْسَ بِذَلِكَ لِنَجَاسَتِهِ وَتَنَفُّرِ الطَّبْعِ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ الْقَتْلُ لَمْ يَجُزِ الِانْتِفَاعُ بِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَتَقَدَّمَ رِوَايَاتٌ غَيْرُهُ.

4546 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ؟ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4546 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْذَعَيْنِ» ) وَهُمَا عِرْقَانِ فِي جَانِبَيِ الْعُنُقِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ: عِرْقَانِ فِي مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ مِنَ الْعُنُقِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَخْدَعُ عِرْقٌ فِي الْمَحْجَمَتَيْنِ وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْوَرِيدِ (وَالْكَاهِلُ) : مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ الْكَاهِلُ: كَصَاحِبٍ، الْحَارِكُ وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ: يَالٌ، وَبِالْعَرَبِيَّةِ: الْغَارِبُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي مَحَلِّهِ، أَوْ مُقَدَّمُ أَعْلَى الظَّهْرِ مِمَّا يَلِي الْعُنُقَ، وَهُوَ الثُّلُثُ الْأَعْلَى وَهُوَ سِتٌّ فِقَرٍ وَمَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، أَوْ مَوْصِلُ الْعُنُقِ مِنَ الصُّلْبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ) .

4547 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَحِبُّ الْحِجَامَةَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4547 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَحِبُّ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: يُحِبُّ (الْحِجَامَةَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ) رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ)

4548 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً لَهُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4548 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ) : أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنَ الشَّهْرِ (كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ) : وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ لَهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

4549 - وَعَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكَرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ أَبَاهَا كَانَ يُنْهِي أَهْلَهُ عَنِ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَزْعُمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4549 - (وَعَنْ كَبْشَةَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَتَاءِ تَأْنِيثٍ (بِنْتِ أَبِي بَكَرَةَ) : لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْأَسْمَاءِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ كَبْشَةَ بِنْتَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَحَدِيثَهَا فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ. قَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ عَنْ كَيِّسَةَ بِتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ مُهْمَلَةٍ بِنْتِ أَبِي بَكَرَةَ الثَّقَفِيَّةِ لَهَا عَنْ أَبِيهَا حَدِيثٌ فِي الْحِجَامَةِ، لَا يُعْرَفُ حَالُهَا مِنَ الثَّالِثَةِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ قُلْتُ: وَفِي تَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ كَبْشَةُ أَيْ: بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ جَمَاعَةُ نِسْوَةٍ، وَبِيَاءٍ ثَقِيلَةٍ وَمُهْمَلَةٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ (أَنَّ أَبَاهَا كَانَ يُنْهِي أَهْلَهُ عَنِ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ، وَيَزْعُمُ) : أَيْ: يَدَّعِي وَيَقُولُ وَيَرْوِي (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : فِي النِّهَايَةِ: وَإِنَّمَا يُقَالُ: زَعَمَ فِي حَدِيثٍ لَا سَنَدَ لَهُ وَلَا ثَبْتَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُحْكَى عَنِ الْأَلْسُنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَلَاغِ، وَالزَّعْمُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ قَرِيبٌ مِنَ الظَّنِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ، وَعْدَّاهُ بِعَنْ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى الرِّوَايَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهَا: كَانَ يُنْهِي يُوهِمُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ فَأَتْبَعْتُهُ بِقَوْلِهَا: وَيَزْعُمُ لِتُشْعِرَ بِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ (أَنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ نَظَرٌ لِلَّفْظِ يَزْعُمُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الْحِكَايَةِ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَالَ: إِنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ مَمْدُودًا وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (يَوْمُ الدَّمِ) : أَيْ: يَوْمُ غَلَبَتِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَوْمٌ كَانَ فِيهِ الدَّمُ أَيْ: قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ. قُلْتُ: وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا سَبَبٌ لِلْآخَرِ. (وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ فَهَمْزٍ أَيْ: لَا يَسْكُنُ الدَّمُ فِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوِ احْتَجَمَ أَوِ اقْتَصَدَ فِيهِ لَرُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِهِ لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَلَعَلَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا عَدَا السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا: " «مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ كَانَ دَوَاءً لِدَاءِ سَنَةٍ» .

4550 - وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَصَابَهُ وَضَحٌ؟ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: وَقَدْ أُسْنِدَ وَلَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4550 - (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا) : أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مَمْدُودًا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرْبِعَاءُ مُثَلَّثَةُ الْبَاءِ مَمْدُودَةٌ (أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ (فَأَصَابَهُ وَضَحٌ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فَمُهْمَلَةٍ أَيْ: بَرَصٌّ، وَالْوَضَحُ الْبَيَاضُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ) : أَيْ: حَيْثُ جَهِلْتَ أَوْ عَمِلَ بِخِلَافِ عِلْمِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ أُسْنِدَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ اتَّصَلَ الْحَدِيثُ أَيْ: رِجَالُهُ فِي إِسْنَادٍ آخَرَ (وَقَالَ) : أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (وَلَا يَصِحُّ) : أَيْ: ذَلِكَ الْإِسْنَادُ. قُلْتُ: لَكِنْ حَصَلَ لَهُ الِاعْتِضَادُ عَلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا عِنْدَ جُمْهُورِ النُّقَّادِ.

4551 - وَعَنْهُ مُرْسَلًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنِ احْتَجَمَ أَوِ اطَّلَى يَوْمَ السَّبْتِ أَوِ الْأَرْبِعَاءِ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فِي الْوَضَحِ» ) . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4551 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ الزُّهْرِيِّ (مُرْسَلًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ احْتَجَمَ أَوِ اطَّلَى) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: لَطَّخَ عُضْوًا بِدَوَاءٍ، وَأَصْلُهُ اطْتَلَى قُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً وَأُدْغِمَ. يُقَالُ: طَلَيْتُهُ بِالنَّوْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَطَّخْتُهُ، وَأَطْلَيْتُ عَلَى افْتَعَلْتُ بِتَرْكِ الْمَفْعُولِ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ. كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: وَعَلَى هَذَا أَطْلَيْتُ شِقَاقَ رِجْلَيْهِ، خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ طَلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (يَوْمَ السَّبْتِ) : ظَرْفٌ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، فَإِنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (أَوِ الْأَرْبِعَاءِ؟ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فِي الْوَضَحِ) : أَيْ: فِي حُصُولِهِ أَوْ لِأَجْلِ وُصُولِهِ (رَوَاهُ) : أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ سَنَدَيْنِ مُعَاضِدَيْنِ لِلْمُرْسَلِ، وَقَدْ جَاءَ مُسْنَدًا فِي سَنَدٍ آخَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، وَالْحَاكِمِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ فَرَأَى فِي جَسَدِهِ وَضَحًا فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " فَبِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ صَحَّ مُرْسَلُ الزُّهْرِيِّ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى خَلْقِهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْأُسْبُوعِ خَوَاصًّا مِنْ أَسْبَابِ التَّأْثِيرِ وَيَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.

4552 - وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْتُ: خَيْطٌ رُقِيَ لِي فِيهِ قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ آلَ عَبْدَ اللَّهِ لَأَغْنِيَاءٌ عَنِ الشِّرْكِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ " فَقُلْتُ: لِمَ تَقُولُ هَكَذَا؟ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تُقْذَفُ، وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ، فَإِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا ذَلِكِ عَمَلُ الشَّيْطَانِ، كَانَ يَنْخَسُهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا رُقِيَ كُفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " اذْهِبِ الْبَأْسَ، رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءٌ لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4552 - (وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) : قَالَ الْمُصِنِّفُ: هِيَ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الثَّقَفِيَّةُ، رَوَى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ) : أَيِ: ابْنَ مَسْعُودٍ، فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ (رَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا) : أَيْ: مُعَلَّقًا (فَقَالَ: مَا هَذَا؟) : أَيِ: الْخَيْطُ أَوِ الْفِعْلُ (قَالَتْ: خَيْطٌ رُقِيَ لِي فِيهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ آلَ عَبْدِ اللَّهِ) : بِنَصْبِ آلٍ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ أَيْ: يَا آلَ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ (لْأَغْنِيَاءٌ عَنِ الشِّرْكِ) : وَيَجُوزُ دُخُولُ لَامِ الِابْتِدَاءِ لِلتَّأْكِيدِ فِي الْخَبَرِ كَمَا فِي حَدِيثِ " أَغْبَطُ أَوْلِيَائِي عِنْدِي الْمُؤْمِنُ خَفِيفُ الْحَاذِّ، وَالْجُمْلَةُ النِّدَائِيَّةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْصُوبَةٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ، قَالَ النُّحَاةُ: أَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ أَنْ تَقَعَ فِي الِابْتِدَاءِ وَوُقُوعُهَا فِي الْخَبَرِ جَائِزٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمُبْتَدَأُ أَيْ: مُبْتَدَأٌ آخَرُ، أَيْ: لَأَنْتُمْ أَغْنِيَاءٌ كَمَا قَرَّرَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] أَيْ: لَهُمَا سَاحِرَانِ اهـ. قَالَ مَنْصُوبٌ بَأَعْنِي أَوِ الِاخْتِصَاصِ أَوْ بِحَرْفِ النِّدَاءِ وَالْمُبْتَدَأِ الثَّانِي مُؤَكِّدٌ لِلْأَوَّلِ، وَقِيلَ خَبَرُهُ " آلَ عَبْدِ اللَّهِ " عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، وَلَأَغْنِيَاءٌ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمُرَادُ بِالشِّرْكِ اعْتِقَادُ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ قَوِيٌّ وَلَهُ تَأْثِيرٌ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ خَفِيٌّ، وَأَمَّا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ جَلِيٌّ. (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ الرُّقَى) : أَيْ: رُقْيَةٌ فِيهَا اسْمُ صَنَمٍ أَوْ شَيْطَانٍ أَوْ كَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَمِنْهَا مَا لَمْ يُعْرَفْ مَعْنَاهَا (وَالتَّمَائِمَ) : جَمْعُ التَّمِيمَةِ وَهِيَ التَّعْوِيذَةُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى الصَّبِيِّ أَطْلَقَهُ الطِّيبِيُّ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَآيَاتُهُ الْمَتْلُوَّةُ، وَالدَّعَوَاتُ الْمَأْثُورَةُ، وَقِيلَ: هِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتْ لِلْعَرَبِ تُعَلَّقُ عَلَى الصَّبِيِّ لِدَفْعِ الْعَيْنِ بِزَعْمِهِمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ، ثُمَّ اتْسَعُوا فِيهَا حَتَّى سَمُّوا بِهَا كُلَّ عَوَذَةٍ ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَتَحْقِيقٌ مُسْتَحْسَنٌ. (وَالتِّوَلَةَ) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُضَمِّ وَفَتْحِ الْوَاوِ نَوْعٌ مِنَ السِّحْرِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ مَا يُحَبَّبُ بِهِ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ خَيْطٌ يُقْرَأُ فِيهِ مِنَ السِّحْرِ، أَوْ قِرْطَاسٌ يُكَعَّبُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ السِّحْرِ لِلْمَحَبَّةِ أَوْ غَيْرِهَا. قِيلَ: وَأَمَّا التُّوَلَةُ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ فَهِيَ الدَّاهِيَةُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ بِإِبْطَالِ الشَّرْعِ إِيَّاهَا، وَلِذَا قَالَ: (شِرْكٌ) : أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى الشِّرْكِ إِمَّا جَلِيًّا وَإِمَّا خَفِيًّا. قَالَ الْقَاضِي: وَأُطْلِقَ الشِّرْكُ عَلَيْهَا إِمَّا لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْهَا فِي عَهْدِهِ مَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يَضْمَنُ الشِّرْكَ، أَوْ لِأَنَّ اتِّخَاذَهَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِقَادِ تَأْثِيرِهَا وَهُوَ يُفْضِي إِلَى الشِّرْكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشِّرْكِ اعْتِقَادُ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ قَوِيٌّ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ، وَكَانَ يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالِانْخِرَاطَ فِي الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَنْتُمْ آلَ عَبْدِ اللَّهِ

لَأَغْنِيَاءٌ أَيْ: أَعْنِي وَأَخُصُّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنَامِ، وَمِنْهَا قَوْلُهَا (فَقُلْتُ: لِمَ تَقُولُ هَكَذَا؟) : أَيْ: وَتَأْمُرُنِي بِالتَّوَكُّلِ وَعَدَمِ الِاسْتِرْقَاءِ، فَإِنِّي وَجَدْتُ فِي الِاسْتِرْقَاءِ فَائِدَةً، لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تُقْذَفُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُرْمَى بِمَا يُهَيِّجُ الْوَجَعَ ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهَا الْآتِي: فَإِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: تُرْمَى بِالرَّمَصِ أَوِ الدَّمْعِ، وَهُوَ مَاءُ الْعَيْنِ مِنَ الْوَجَعِ، وَالرَّمَصُ: بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ مَا جَمَدَ مِنَ الْوَسَخِ فِي مُؤَخِّرِ الْعَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ بِنَاءُ الْفَاعِلِ وَلَا أُحَقِّقُ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ أَكْثَرُ ظَنِّي. (وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ) : أَيْ: أَتَرَدَّدُ بِالرَّوَاحِ وَالْمَجِيءِ (إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ، فَإِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ) أَيِ: الْعَيْنُ يَعْنِي وَجَعَهَا (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا ذَلِكِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ (عَمَلُ الشَّيْطَانِ) : أَيْ: مِنْ فِعْلِهِ وَتَسْوِيلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَجَعَ الَّذِي كَانَ فِي عَيْنَيْكِ لَمْ يَكُنْ وَجَعًا فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ ضَرْبٌ مِنْ ضَرَبَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَزَغَاتِهِ (كَانَ) : أَيِ: الشَّيْطَانُ (يَنْخَسُهَا) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: يَطْعَنُهَا (بِيَدِهِ، فَإِذَا رُقِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا رَقَى الْيَهُودِيُّ (كُفَّ عَنْهَا) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: كَفُّ الشَّيْطَانِ عَنْ نَخْسِهَا وَتَرْكِ طَعْنِهَا (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي) : أَيْ: عِنْدَ وَجَعِ الْعَيْنِ وَنَحْوِهَا (كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اذْهِبِ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِذْهَابِ أَيْ: أَزِلْ (الْبَأْسَ) : بِالْهَمْزِ السَّاكِنِ، وَقَدْ يُبْدَلُ أَيِ: الشِّدَّةُ، وَفِي الْمَوَاهِبِ مُطَابِقًا لِشَيْخِهِ الْعَسْقَلَانِيِّ هُوَ بِغَيْرِ هَمْزٍ لِمُؤَاخَاةِ قَوْلِهِ: (رَبَّ النَّاسِ) : أَيْ: يَا خَالِقَهُمْ وَمُرَبِّيهِمْ (وَاشْفِ) : بِهَمْزِ وَصْلٍ مَعْطُوفًا عَلَى " اذْهِبِ " عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى وَهُمَا مُمَهِّدَتَانِ لِلثَّالِثَةِ (أَنْتَ الشَّافِي) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ بِتَعْرِيضِ الْخَبَرِ (لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ) : بِالرَّفْعِ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا شِفَاءَ عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ (شِفَاءَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِقَوْلِهِ: اشْفِ، وَالْجُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ (لَا يُغَادِرُ) : أَيْ: لَا يَتْرُكُ (سَقَمًا) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ وَسُكُونٍ أَيْ مَرَضًا، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ قَوْلِهِ " شِفَاءً "، فَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ رَدٌّ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ رُقْيَةَ الْيَهُودِيِّ شَافِيَةٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الشِّفَاءَ الَّذِي لَا يُغَادِرُ سُقْمًا هُوَ شِفَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ شِفَاءَ الْيَهُودِيِّ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَسْكِينٌ مَا، يَعْنِي بِمُعَاوَنَةِ فِعْلِ الشَّيْطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيِ: الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَرْفُوعَيْنِ وَعَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ وَقَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَعُودُ بَعْضَ أَهْلِهِ وَيَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ اذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءٌ لَا يُغَادِرُ سُقْمًا» ". قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ قَوْلُهُ: وَأَنْتَ الشَّافِي كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِالْوَاوِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِحَذْفِهَا، وَالضَّمِيرُ. فِي اشْفِهِ لِلتَّعْلِيلِ، أَوْ هِيَ هَاءُ السَّكْتِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بِشَرْطَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا يُوهِمُ نَقْصًا، وَالثَّانِي أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهِ: " {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] ". وَقَوْلُهُ: لَا شِفَاءَ بِالْمَدِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا شِفَاؤُكَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا شِفَاءَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ مِنَ الدَّاءِ وَالتَّدَاوِي لَا يَنْجَحُ إِنْ لَمْ يُصَادِفْ تَقْدِيرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: شِفَاءً، مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ لِقَوْلِهِ اشْفِهِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هَذَا أَوْ هُوَ، وَقَوْلُهُ: لَا يُغَادِرُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَا يَتْرُكُ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، فَيُخْلِفُهُ مَرَضٌ آخَرُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَثَلًا، فَكَانَ يَدْعُو بِالشِّفَاءِ الْمُطْلَقِ لَا بِمُطْلَقِ الشِّفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَرْقِي الْمَحْرُوقَ بِقَوْلِهِ: " اذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ» "، وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالْحَاكِمُ عَنْ فُضَيْلَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَرْقِي مَنِ احْتَبَسَ بَوْلُهُ أَوْ أَصَابَتْهُ حَصَاةٌ بِقَوْلِهِ: " رَبَّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ، فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ، وَاغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، فَأَنْزِلْ شِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ وَرَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ» " فَيَبْرَأُ.

4553 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النُّشْرَةِ فَقَالَ: " هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4553 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النُّشْرَةِ) : بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ضَرْبٌ مِنَ الرُّقْيَةِ وَالْعِلَاجِ يُعَالَجُ بِهَا مَنْ كَانَ يُظَنُّ بِهِ مَسُّ الْجِنِّ، وَسُمِّيَتْ نُشْرَةً " لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يُنْشَرُ بِهَا الْجِنُّ عَنِ الْمَمْسُوسِ مَا خَامَرَهُ مِنَ الدَّاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَلَعَلَّ طِبًّا أَصَابَهُ» ، يَعْنِي سِحْرًا، «ثُمَّ نَشَرَهُ بِقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» ، أَيْ: رَقَاهُ وَنَشَرَهُ أَيْضًا إِذَا كَتَبَ لَهُ النُّشْرَةَ، وَهِيَ كَالتَّعْوِيذِ. وَالرُّقْيَةِ، وَالْمُرَادُ بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ فِي قَوْلِهِ: (فَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) : النَّوْعُ الَّذِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَالِجُونَ بِهِ وَيَعْتَقِدُونَ فِيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَلَا بَأْسَ، بَلْ يُسْتَحَبُّ سَوَاءٌ كَانَ تَعْوِيذًا أَوْ رُقْيَةً أَوْ نَشْرَةً، وَأَمَّا عَلَى لُغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ وَنَحْوِهَا، فَيَمْتَنِعُ لِاحْتِمَالِ الشِّرْكِ فِيهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِيَ ابْنًا وَبِهِ وَجَعٌ. قَالَ: " مَا وَجَعُهُ؟ " قَالَ: بِهِ لَمَمٌ وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ الْجُنُونُ عَلَى مَا فِي الْمُهَذَّبِ قَالَ: " فَأْتِنِي بِهِ " فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَوَّذَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَى {الْمُفْلِحُونَ - وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 5 - 163] الْآيَةُ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284] إِلَى آخِرِ الْبَقَرَةِ وَ {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران: 18] الْآيَةَ وَ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 54] فِي الْأَعْرَافِ الْآيَةَ وَ {فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون: 116] إِلَى آخِرِ الْمُؤْمِنُونَ وَثَلَاثٍ مِنْ آخِرِ الْحَشْرِ {وَأَنَّهُ تَعَالَى} [الجن: 3] الْآيَةُ مِنَ الْجِنِّ وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَقَامَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْكُ شَيْئًا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ عِلَاقَةَ بْنِ صَحَارٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْقِي الْمَعْتُوهَ بِالْفَاتِحَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، كُلَّمَا خَتَمَهَا جَمَعَ بُزَاقَهُ، ثُمَّ نَقَلَهُ» ، وَفِي الْمُغْرِبِ: أَنَّ الْمَعْتُوهَ هُوَ النَّاقِصُ فِي الْعَقْلِ، وَقِيلَ: الْمَدْهُوشُ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ.

4554 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا أُبَالِي مَا أَتَيْتُ إِنْ أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا أَوْ تَعَلَّقْتُ تَمِيمَةً أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4554 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) : قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ: صَوَابُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا أُبَالِي مَا أَتَيْتُ) أَيْ: " مَا فَعَلْتُ " مَا الْأُولَى نَافِيهٌ، وَالثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ، وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ وَالْمَوْصُولُ مَعَ الصِّلَةِ مَفْعُولُ أُبَالِي وَقَوْلُهُ (إِنْ أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا) : إِلَى آخِرِهِ شَرْطٌ جَزَاؤُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَعْنَى إِنْ صَدَرَ مِنِّي أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ كُنْتُ مِمَّنْ لَا يُبَالِي بِمَا يَفْعَلُ وَلَا يَنْزَجِرُ عَمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ شَرْعًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ فَعَلْتُ هَذَا فَمَا أُبَالِي كُلَّ شَيْءٍ أَتَيْتُ بِهِ، لَكِنْ أُبَالِي مِنْ إِتْيَانِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ التِّرْيَاقُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَجُوِّزَ ضَمُّهُ وَفَتْحُهُ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، لَكِنِ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: التِّرْيَاقُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِدَفْعِ السُّمِّ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْمَعَاجِينِ وَهُوَ مُعَرَّبٌ، وَيُقَالُ بِالدَّالِ أَيْضًا وَرُوِيَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الدِّرْيَاقِ بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ: التِّرْيَاقُ وَهُوَ بِكَسْرٍ دَوَاءٌ مُرَكَّبٌ اخْتَرَعَهُ مَاغَنِيسُ وَتَمَّمَهُ أَنْدِرُ وَمَاغِسُ الْقَدِيمُ بِزِيَادَةِ لُحُومِ الْأَفَاعِي، وَبِهِ كَمُلَ الْغَرَضُ. وَهُوَ سَمَّاهُ بِهَذِهِ لِأَنَّهُ نَافِعٌ مِنْ لَدْغِ الْهَوَامِّ السَّبْعِيَّةِ وَهُوَ بِالْيُونَانِيَّةِ تِرْيَادٌ نَافِعٌ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمَشْرُوبَةِ السُّمِّيَّةِ، وَهِيَ بِالْيُونَانِيَّةِ فَاءٌ مَمْدُودَةٌ، ثُمَّ خُفِّفَ وَعُرِّبَ، وَهُوَ طِفْلٌ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مُتَرَعْرِعٌ إِلَى عَشْرَةِ سِنِينَ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَعِشْرِينَ فِي غَيْرِهَا. ثُمَّ يَقِفُ عَشْرًا فِيهَا وَعِشْرِينَ فِي غَيْرِهَا، ثُمَّ يَمُوتُ وَيَصِيرُ كَبَعْضِ الْمَعَاجِينِ.

قَالَ الْأَشْرَفُ: وَكَرِهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ لُحُومِ الْأَفَاعِي وَالْخَمْرِ، وَهِيَ حَرَامٌ نَجِسَةٌ وَالتِّرْيَاقُ أَنْوَاعٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيلَ: الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ وَالْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ كُلِّهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الِانْتِزَاعِ عَنِ التَّوَكُّلِ. (أَوْ تَعَلَّقْتُ تَمِيمَةً) : أَيْ: أَخَذْتُهَا عَلَاقَةً، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّمِيمَةِ مَا كَانَ مِنْ تَمَائِمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَرُقَاهَا، فَإِنَّ الْقِسْمَ الَّذِي اخْتَصَّ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلِمَاتِهِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي جُمْلَتِهِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مَرْجُوُّ الْبَرَكَةِ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ السُّنَّةِ، وَقِيلَ: يُمْنَعُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ نَوْعُ قَدْحٍ فِي التَّوَكُّلِ، وَيُؤَيِّدُهُ صَنِيعُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي) : أَيْ: قَصَدْتُهُ وَتَقَوَّلْتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَذَلِكَ صَدَرَ لَا عَنْ قَصْدٍ وَلَا الْتِفَاتٍ مِنْهُ إِلَيْهِ أَنْ جَاءَ مَوْزُونًا، بَلْ كَانَ كَلَامًا مِنْ جِنْسِ كَلَامِهِ الَّذِي كَانَ يَرْمِي بِهِ عَلَى السَّلِيقَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا صَنْعَةٍ، وَلَا يُسَمَّى الْكَلَامُ الْمَوْزُونُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْوَزْنِ شِعْرًا عَلَى أَنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ عِنْدَ الْخَلِيلِ أَيْضًا، وَأَمَّا الشِّعْرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، نَعَمْ تَوَجُّهُ الْبَاطِنِ إِلَيْهِ وَتَضْيِيعُ الْعُمْرِ الشَّرِيفِ وَالتَّفْكِيرُ الْكَثِيرُ الْمَانِعُ عَنِ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فِيهِ مَذْمُومٌ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا حَتَّى يُرِيَهُ أَيْ: يُفْسِدَهُ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي إِنَّ إِنْشَاءَ الشِّعْرِ حَرَامٌ عَلَيَّ، وَكَذَا شُرْبُ التِّرْيَاقِ وَتَعْلِيقُ التَّمَائِمِ حَرَامَانِ عَلَيَّ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَالتَّمَائِمُ وَإِنْشَاءُ الشِّعْرِ غَيْرُ حَرَامٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَذِبٌ، وَلَا هَجْوُ مُسْلِمٍ، أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي، وَكَذَا التِّرْيَاقُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا مِنْ لُحُومِ الْأَفَاعِي وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بِالْوَاوِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ.

4555 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4555 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنِ اكْتَوَى) : أَيْ: بَالَغَ فِي أَسْبَابِ الصِّحَّةِ إِلَى أَنِ اكْتَوَى مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُلْجِئَةٍ (أَوِ اسْتَرْقَى) : أَيْ: بَالَغَ فِي دَفْعِ الْأَمْرَاضِ بِاسْتِعْمَالِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلِمَاتِ كِتَابِهِ، وَلَا مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ) : أَيْ: سَقَطَ مِنْ دَرَجَةِ التَّوَكُّلِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] وَفِي مُبَالَغَةِ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ دَلَالَةٌ عَلَى غَفْلَتِهِ عَنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ بِقُفْلَيْنِ أَوْ بِقُفْلٍ، ثُمَّ وَصَّى الْجَارَ بِمُحَافَظَتِهِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُتَوَكِّلًا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ رَأَى الشِّفَاءَ مِنَ الْكَيَّةِ وَالرُّقْيَةِ) اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ رَأَى ذَلِكَ بَرِئَ مِنَ الدِّينِ لَا مِنَ التَّوَكُّلِ فَقَطْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ رَأَى الشِّفَاءَ مِنْهُ مُنْحَصِرًا فِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانُهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَشْفِيَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَقَدْ سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ مِنْ كَلَامِ الْمُحَاسَبِيِّ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ: قَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ النَّهْيُ عَنِ الْكَيِّ فَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَهُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَحْسِمُ الدَّاءَ، وَإِذَا لَمْ يُكْوَ الْعُضْوُ بَطَلَ وَعَطَبَ. فَنَهَاهُمْ إِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَبَاحَهُ إِذَا جُعِلَ سَبَبًا لِلشِّفَاءِ لَا عِلَّةً لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُبْرِئُهُ وَيَشْفِيهِ لَا الْكَيَّ وَالدَّوَاءَ، فَهُوَ أَمْرٌ يَكْثُرُ فِيهِ سُلُوكُ النَّاسِ يَقُولُونَ: لَوْ شَرِبَ الدَّوَاءَ لَمْ يَمُتْ، وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدِهِ لَمْ يُقْتَلْ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ. أَنْ يَكُونَ. نَهْيُهُ عَنِ الْكَيِّ إِذَا اسْتُعْمِلَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِرَازِ مِنْ حُدُوثِ الْمَرَضِ، وَقَبْلَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ التَّدَاوِي وَالْعِلَاجُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مِنْ قَبِيلِ التَّوَكُّلِ لِقَوْلِهِ: " «هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» " وَالتَّوَكُّلُ دَرَجَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْجَوَازِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ: لَا يَتَدَاوُونَ، فَلَا بُدَّ لِتَخْصِيصٍ.

ذَكَرَ الْكَيَّةَ وَالرُّقْيَةَ مِنْ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

4556 - وَعَنْ عِيسَى بْنِ حَمْزَةَ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ وَبِهِ حُمْرَةٌ، فَقُلْتُ: أَلَا تُعَلِّقُ تَمِيمَةً؟ فَقَالَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4556 - (وَعَنْ عِيسَى بْنِ حَمْزَةَ) : قِيلَ صَوَابُهُ عِيسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى إِذْ لَيْسَ فِي كُتُبِ أَسْمَاءِ السِّتَّةِ عِيسَى بْنُ حَمْزَةَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَوْ يُقَالُ: صَوَابُهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ مِنْ رِجَالِ الْمِشْكَاةُ دُونَ الْأَوَّلِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ. وَقَالَ: هُوَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ فِي الْحِفْظِ وَالْعِبَادَةِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَالْأَعْمَشِ وَخَلْقٍ سِوَاهُمَا، وَعَنْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ مَعَ جَلَالَتِهِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ يَحُجُّ سَنَةً وَيَغْزُو سَنَةً، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: جُهَنِيٌّ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُعْرَفُ لَهُ رُؤْيَةٌ وَلَا رِوَايَةَ، وَقَدْ خَرَّجَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي فِي عِدَادِ الصَّحَابَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ عُمَرَ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (وَبِهِ) : أَيْ: بِعَبْدِ اللَّهِ وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ (حُمْرَةٌ) : أَيْ: مِمَّا يَعْلُو الْوَجْهَ وَالْجَسَدَ (فَقُلْتُ: أَلَا تُعَلِّقْ تَمِيمَةً؟ فَقَالَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) : وَسَبَبُهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ كَمَا سَبَقَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا عَاذَ بِاللَّهِ مِنْ تَعْلِيقِ الْعُوذَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَإِنْ جَازَ لِغَيْرِهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا) : أَيْ: مَنْ جَعَلَ شَيْئًا مُعَلَّقًا عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: مَنْ عَلَّقَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ التَّعَاوِيذِ وَالتَّمَائِمِ وَأَشْبَاهِهِمَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا تَجْلِبُ نَفْعًا أَوْ تَدْفَعُ عَنْهُ ضُرًّا. (وُكِلَ إِلَيْهِ) : بِضَمِّ وَاوٍ تَخْفِيفُ كَافٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ: خُلِّيَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَتُرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَغَيْرُهُ أَيْ مَنْ تَمَسَّكَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُدَاوَاةِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْهُ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَشْفِهِ اللَّهُ، بَلْ وَكَّلَ شِفَاءَهُ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ شِفَاؤُهُ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ. وَقَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاعْتَقَدَ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْهُ لَا مِنَ اللَّهِ اعْتِقَادُ كُفْرٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي مِثْلِهِ لَا يُقَالُ وُكِلَ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ مَقْصُودٍ مِنَ الشِّفَاءِ وَتَرْكِ إِعَانَتِهِ تَعَالَى فِي دَفْعِ الدَّاءِ وَالْعَنَاءِ، وَنَظِيرُهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنِ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» " وَقَدْ قَالَ: إِنَّ شَيْئًا مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ مَنْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وُكِلَ إِلَيْهِ وَجُعِلَ أَمْرُهُ لَدَيْهِ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ أَمْرَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَأَغْنَاهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا سِوَاهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: مُرْسَلًا عَلَى الصَّحِيحِ لِمَا سَبَقَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا.

4557 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4557 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ) : أَيْ: مِنْ إِصَابَتِهَا أَوْ وَجَعِهَا (أَوْ حُمَةٍ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَتَخْفِيفِ مِيمٍ أَيْ سُمٌّ مِنْ لَدْغَةِ عَقْرَبٍ، وَنَحْوِهَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَمْ يُرِدْ بِهِ جَوَازَ الرُّقْيَةِ مِنْ غَيْرِهِمَا، بَلْ تَجُوزُ الرُّقْيَةُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْأَوْجَاعِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَا رُقْيَةَ أَوْلَى وَأَنْفَعُ مِنْ رُقْيَتِهِمَا، كَمَا تَقُولُ: لَا فَتًى إِلَّا عَلِيٌّ، لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ، وَقَالَ شَارِحٌ: لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَصْرَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْقِي أَصْحَابَ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ بِالْكَلِمَاتِ التَّامَّةِ وَالْآيَاتِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَا رُقْيَةَ ضَرُورَةٍ مُلْجِئَةٍ مِنْ جِهَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ إِصَابَةِ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ، فَإِنَّهَا مُهْلِكَتَانِ بِسُرْعَةٍ أَوْ مُوقِعَتَانِ فِي مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: عَنْ عِمْرَانَ.

4558 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ بُرَيْدَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4558 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ بُرَيْدَةَ) . وَكَذَا مُسْلِمٌ.

4559 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ دَمٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4559 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ دَمٍ) . أَيْ رُعَافٌ قِيلَ: إِنَّمَا خَصَّهَا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ رُقْيَتَهَا أَشْفَى وَأَفْشَى بَيْنَ النَّاسِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : كَانَ عَلَى الْمُصِنِّفِ أَنْ يُلْحِقَ هَذَا بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَيَقُولَ: وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: أَوْ دَمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَنَسٍ.

4560 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ، أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: " نَعَمْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقُ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4560 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) . بِالتَّصْغِيرِ وَمَرَّ قَرِيبًا تَرْجَمَتُهَا. (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ) : بِضَمِّ وَاوٍ فَسُكُونِ لَامٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا أَيْ: أَوْلَادُ جَعْفَرٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا (تُسْرِعُ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتُفْتَحُ أَيْ تَعْجَلُ (إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ) وَتُؤَثِّرُ فِيهِمْ سَرِيعًا لِكَمَالِ حُسْنِهِمُ الصُّورِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَالْعَيْنُ نَظَرٌ بِالِاسْتِحْسَانِ مَشُوبٌ بِحَسَدٍ مِنْ خَبِيثِ الطَّبْعِ يَحْصُلُ لِلْمَنْظُورِ فِيهِ ضَرَرٌ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ سُمٍّ يَصِلُ مِنْ عَيْنِ الْعَائِنِ فِي الْهَوَاءِ إِلَى بَدَنِ الْمَعْيُونِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَائِضَ تَضَعُ يَدَهَا فِي إِنَاءِ اللَّبَنِ فَيَفْسَدُ، وَلَوْ وَضَعَتْهَا بَعْدَ طُهْرِهَا لَمْ يَفْسَدْ. قُلْتُ: وَضِدُّ هَذَا الْعَيْنُ نَظَرُ الْعَارِفِينَ الْوَاصِلِينَ إِلَى مَرْتَبَةِ الرَّافِعِينَ مِنَ الْبَيْنِ حِجَابَ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرِ الْإِكْسِيرُ يَجْعَلُ الْكَافِرَ مُؤْمِنًا، وَالْفَاسِقَ صَالِحًا، وَالْجَاهِلَ عَالِمًا، وَالْكَلْبَ إِنْسَانًا، وَهَذَا كُلُّهُ لِأَنَّهُمْ مَنْظُرُونَ بِنَظَرِ الْجَمَالِ وَالْأَغْيَارِ تَحْتَ أَسْتَارِ نَظَرِ الْجَلَالِ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: لَوْ كَانَ لِإِبْلِيسَ سَعَادَةٌ أَزَلِيَّةٌ دُونَ الشَّقَاوَةِ الْأَبَدِيَّةِ لَمَا قَالَ: أَنْظِرْنِي، بَلْ قَالَ: أَنْظِرْ إِلَيَّ أَوْ أَرِنِي أَنْظُرُ إِلَيْكَ، لَكِنْ كُلُّهُ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، تَحَيَّرَ فِيهِ عُقُولُ أَرْبَابِ الْفُحُولِ وَتَطَمْئِنُ قُلُوبُهُمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ، وَإِنَّمَا طَارَ عَقْلِي فِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ نَقْلِي لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الطَّيَّارِ أَخِي الْكَّرَّارِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْأَسْرَارِ. (أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟) : أَيْ أَطْلُبُ الرُّقْيَةَ أَوْ مَنْ يَرْقِي لَهُمْ (قَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ) : تَعْلِيلٌ لِلْجَوَابِ، وَمَعْنَاهُ نَعَمِ اسْتَرْقِي عَنِ الْعَيْنِ، فَإِنَّهَا أَوْلَى وَأَحْرَى بِأَنْ تُسْتَرْقَى لِأَنَّهُ (لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) . وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَيَجُوزُ الِاسْتِرْقَاءُ عَنْهُ مِنْ رَبٍّ كَرِيمٍ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَقَدْ سَبَقَ الْمَرْفُوعُ مِنَ الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَزَادَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا ". وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْغُسْلِ.

4561 - وَعَنِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ، فَقَالَ: أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ؟» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4561 - (وَعَنِ الشِّفَاءِ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْفَاءِ وَالْمَدِّ (بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيَّةٌ عَدَوِيَّةٌ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمُضَرِيُّ: اسْمُهَا لَيْلَى، وَالشِّفَاءُ لَقَبٌ غَلَبَ عَلَيْهَا، أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ مِنْ عُقَلَاءِ النِّسَاءِ وَفُضَلَائِهِنَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتِيهَا وَيُقِيلُ عِنْدَهَا، وَكَانَتِ اتَّخَذَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِرَاشًا وَإِزَارًا يَنَامُ فِيهِ. (قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةٍ) أَيْ بِنْتُ الْفَارُوقِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (فَقَالَ) : أَيْ لِلشِّفَاءِ (أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ) : أَيْ حَفْصَةُ (رُقْيَةَ النَّمْلَةِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَقْرِيرَ التَّعْلِيمِ، وَيُحْتَمَلُ إِنْكَارُهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي (كَمَا عَلَّمْتِيهَا) : وَفِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْيَاءِ النَّاشِئَةِ مِنْ إِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ.

(الْكِتَابَةَ؟) : مَفْعُولٌ ثَانٍ. قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى حَفْصَةَ، وَالنَّمْلَةُ قُرُوحٌ تُرْقَى وَتَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا لِلسَّلَفِ دُونَ الْخَلَفِ لِفَسَادِ النِّسْوَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، ثُمَّ رَأَيْتُ قَالَ بَعْضُهُمْ: خُصَّتْ بِهِ حَفْصَةُ لِأَنَّ نِسَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُصِصْنَ بِأَشْيَاءٍ قَالَ تَعَالَى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] ، وَخَبَرُ: " لَا تَعَلَّمْنَّ الْكِتَابَةَ "، يُحْمَلُ عَلَى عَامَّةِ النِّسَاءِ خَوْفَ الِافْتِتَانِ عَلَيْهِنَّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَرَى أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّمْلَةِ هَا هُنَا هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْمُتَطَيِّبُونَ الزُّنَابَ، وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِيهِ الْمُلَقَّبِ بِالذَّكِيِّ الْمَغْرِبِيِّ النَّحْوِيِّ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ شَيْءٌ كَانَتْ نِسَاءُ الْعَرَبِ تَزْعُمُ أَنَّهُ رُقْيَةُ النَّمْلَةِ، وَهُوَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي كَانَ يُنْهِي عَنْهَا، فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِتَعْلِيمِهَا إِيَّاهُ؟ وَإِنَّمَا عَنَى بِرُقْيَةِ النَّمْلَةِ قَوْلًا كُنَّ يُسَمِّينَهُ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُنَّ: الْعَرُوسُ تَنْتَعِلُ وَتَخْتَضِبُ وَتَكْتَحِلُ وَكُلُّ شَيْءٍ تَفْتَعِلُ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَعْصِي الرَّجُلَ، فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْمَقَالِ تَأْنِيبَ حَفْصَةَ وَالتَّعَرُّضَ بِتَأْدِيبِهَا حَيْثُ أَشَاعَتِ السِّرَّ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى نَقْلَهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى فِي كِتَابِهِ عَنْهُ قَالَ: فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ مُتَحَقِّقًا بِهَذَا عَارِفًا بِهِ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، فَالتَّأْوِيلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: يُمْكِنُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ بِرُقْيَةِ النَّمْلَةِ آخِرَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: غَيْرَ أَنْ لَا تَعْصِيَ إِطْلَاقًا لِلْكُلِّ، وَإِرَادَةً لِلْجُزْءِ أَيْ: أَلَا تُعَلِّمِينَ حَفْصَةَ أَنَّ الْعَرُوسَ لَا تَعْصِي الرَّجُلَ، فَإِنَّهَا قَدْ عَصَتْنِي بِإِفْشَاءِ السِّرِّ، وَلَوْ كَانَتْ تَعْلَمُ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ لَمَا عَصَتْنِي. قُلْتُ: الْكِنَايَةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِرُقْيَةِ تَمَامِهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي ضِمْنِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ الْحَدِيثُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: التَّخْصِيصُ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّقْيَةِ لِإِنْكَارِ الْكِتَابَةِ أَيْ: هَلَا عَلَّمْتِهَا مَا يَنْفَعُهَا مِنَ الِاجْتِنَابِ عَنْ عِصْيَانِ الزَّوْجِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا مَا يَضُرُّهَا مِنَ الْكِتَابَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ التَّخْصِيصُ وَحُمِلَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى التَّقْرِيرِ، فَمِنْ أَيْنَ يُفْهَمُ إِنْكَارُ تَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ؟ مَعَ أَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِتَعْلِيمِ الرُّقْيَةِ. قَالَ: وَثَانِيهِمَا أَنْ يَتَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمُرَادُ بِالنَّمْلَةِ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِحَالِ الْمُتَوَكِّلِينَ. قُلْتُ: لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَقِيلَ: أَتُعَلِّمِينَ إِلَى آخِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4562 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ. قَالَ: فَلُبِطَ سَهْلٌ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ لَكَ فِي سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ؟ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ. قَالَ: " هَلْ تَتَّهِمُونَ لَهُ أَحَدًا ". فَقَالُوا: نَتَّهِمُ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامِرًا، فَتُغُلِّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: " عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلَا بَرَّكْتَ؟ اغْتَسِلْ لَهُ) . فَغَسَلَ لَهُ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ، فَرَاحَ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4562 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَوْسِيٌّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامَيْنِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَنَّاهُ بِكُنْيَتِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْءٌ لِصِغَرِهِ، وَلِذَلِكَ قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الَّذِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَأَثْبَتَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَحَدُ الْجُلَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ، سَمَعَ أَبَاهُ وَأَبَا سَعِيدٍ وَغَيْرَهُمَا. وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَلَهُ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً. (قَالَ: رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْغَزِيَّ، هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ أَسْلَمَ قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. (سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ) : وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، وَصَحِبَ عَلِيًّا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ وَلَّاهُ فَارِسَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ أَبُو أُمَامَةَ وَغَيْرُهُ، مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. (يَغْتَسِلُ) : أَيْ حَالُ كَوْنِ سَهْلٍ يَغْتَسِلُ وَبَعْضُ بَدَنِهِ مَكْشُوفٌ (فَقَالَ) : أَيْ عَامِرٌ (وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ، وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ فَهَمْزَةٍ مِنَ التَّخْبِيَةِ وَهُوَ السِّتْرُ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي فِي خِدْرِهَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدُ، لِأَنَّ صِيَانَتَهَا أَبْلَغُ مِمَّنْ قَدْ تَزَوَّجَتْ وَجِلْدُهَا أَنْعَمُ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ هُوَ مَفْعُولُ رَأَيْتُ أَيْ مَا رَأَيْتُ جِلْدًا غَيْرَ مُخَبَّأٍ كَجِلْدِ، رَأَيْتُ الْيَوْمَ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ، فَعَلَى هَذَا كَالْيَوْمِ صِفَةٌ، وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُؤَخَّرًا كَانَ حَالًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ كَلَامُ ابْنِ الْمَلَكِ أَنَّ الْكَافَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: مَا رَأَيْتُ فِي وَقْتٍ مَا جِلْدَ غَيْرَ مُخْبَّأَةٍ، أَوْ مَا رَأَيْتُ جِلْدَ رَجُلٍ فِي اللَّطَافَةِ وَلَا جِلْدَ مُخْبَّأَةٍ فِي الْبَيَاضِ وَالنُّعُومَةِ مِثْلَ رُؤْيَتَيَ الْيَوْمَ أَيْ مِثْلُ الْجِلْدِ الَّذِي رَأَيْتُهُ الْيَوْمَ، وَهُوَ جِلْدٌ سَهْلٌ لِأَنَّ جِلْدَهُ كَانَ لَطِيفًا اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَهَذَا الْيَوْمِ، وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ كَهَذَا الْجِلْدِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَأْخَذًا وَأَبْعَدُ تَكَلُّفًا.

(قَالَ) : أَيِ الرَّاوِي (فَلُبِطَ) : بِضَمِّ لَامٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ. أَيْ صُرِعَ وَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ (سَهْلٌ) مِنْ إِصَابَةِ عَيْنِ عَامِرٍ (فَأُتِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فَجِيءَ (فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ لَكَ) : أَيْ: رَغْبَةٌ (فِي سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ؟) : أَيْ فِي مُدَاوَاتِهِ أَوْ هَلْ لَكَ دَوَاءٌ فِي شَأْنِهِ أَوْ دَائِهِ (وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ. فَقَالَ: هَلْ تَتَّهِمُونَ) بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ تَظُنُّونَ (لَهُ) : أَيْ لِإِصَابَةِ عَيْنِهِ (أَحَدًا؟ فَقَالُوا: نَتَّهِمُ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامِرًا) أَيْ فَطَلَبَهُ فَجَاءَهُ (فَتُغُلِّظَ عَلَيْهِ) أَيْ كَلَّمَهُ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ (وَقَالَ: عَلَامَ) : أَيْ عَلَى مَا، يَعْنِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَوْ لِمَ (يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْعَائِنِ اخْتِيَارًا مَا فِي الْإِصَابَةِ أَوْ فِي دَفْعِهَا وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ: (أَلَّا) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ لِلتَّنْدِيمِ (بَرَّكْتَ؟) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: هَلَا قُلْتَ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، حَتَّى لَا تُؤَثِّرَ فِيهِ الْعَيْنُ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: " أَلَا بَرَّكْتَ " لِلتَّحْضِيضِ أَيْ: هَلَا دَعَوْتَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَالَ: عَلَامَ تَقْتُلُ؟ كَأَنَّهُ مَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ، وَعَمَّ الْخِطَابُ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ تَأْنِيبًا وَتَوْبِيخًا (اغْتَسِلْ لَهُ) . أَيْ لِسَهْلٍ (فَغَسَلَ لَهُ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي غَسْلِ دَاخِلَةِ الْإِزَارِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَذَاكِيرِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى الْأَفْخَاذِ وَالْوَرِكِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا أَرَادَ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ طَرَفُ إِزَارِهِ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ مِمَّا يَلِي الْجَانِبَ الْأَيْمَنِ، فَهُوَ الَّذِي يُغْسَلُ. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ هَكَذَا. (فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ) : أَيْ ذَلِكَ الْمَاءُ (عَلَيْهِ، فَرَاحَ) : أَيْ فَشُفِيَ سَهْلٌ فَذَهَبَ (مَعَ النَّاسِ) : أَيْ مَعَ سَائِرِهِمْ أَوْ مَعَ الْمُتَعَافِينَ مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ بُرْئِهِ (لَيْسَ لَهُ) : أَيْ لِسَهْلٍ. وَفِي نُسْخَةٍ: بِهِ فَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ (بَأْسٌّ) . أَيْ أَلَمٌ (رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

4563 - وَرَوَاهُ مَالِكٌ. وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ: " «إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ. تَوَضَّأْ لَهُ "، فَتَوَضَّأَ لَهُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4563 - (وَرَوَاهُ مَالِكٌ. وَفِي رُوَاتِهِ) : أَيْ رِوَايَةِ مَالِكٍ (قَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ تَوَضَّأْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَتَوَضَّأْ (لَهُ) : أَيْ لِسَهْلٍ (فَتَوَضَّأْ لَهُ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَصْفُ وُضُوءِ الْعَائِنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُؤْتَى بِقَدَحِ مَاءٍ، وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ عَلَى الْأَرْضِ فَيَأْخُذُ غَرْفَةً فَيَتَمَضْمَضُ، ثُمَّ يَمُجُّهَا فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَغْسِلُ بِهِ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِشِمَالِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ كَفَّهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ بِيَمِينِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ كَفَّهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ بِشِمَالِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ مِرْفَقَهُ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ بِيَمِينِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ مَرْفِقَهُ الْأَيْسَرَ وَلَا يَغْسِلُ مَا بَيْنَ الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْيُسْرَى، ثُمَّ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْيُسْرَى عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، وَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ صَبَّهُ مِنْ خَلْفِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهِ، إِذْ لَيْسَ فِي قُوَّةِ الْعَقْلِ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِ جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَلَا يُدْفَعُ هَذَا بِأَنْ لَا يُعْقَلَ مَعْنَاهُ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا أَمْرُّ وُجُوبٍ وَيُجْبَرُ الْعَائِنُ عَلَى الْوُضُوءِ لِلْمَعِينِ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ: وَيَبْعُدُ الْخِلَافُ فِيهِ إِذَا خُشِيَ عَلَى الْمَعِينِ الْهَلَاكُ، وَكَانَ وُضُوءُ الْعَائِنِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْبُرْءِ بِهِ، أَوْ كَانَ الشَّرْعُ أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا عَامًّا، وَلَمْ يَكُنْ زَوَالُ الْهَلَاكِ إِلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَابِ مَنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِحْيَاءُ نَفْسٍ مُشْرِفَةٍ عَلَى الْهَلَاكِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي إِذَا عُرِفَ أَحَدٌ بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ يُجْتَنِبَ عَنْهُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَكْفِيهِ، وَيَكُفُّ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ، فَضَرَرُهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ آكِلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ الَّذِي نَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي مَنَعَهُ عُمَرُ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لِلِاحْتِيَاطِ بِالنَّاسِ، وَمِنْ ضَرَرِ الْمُؤْذِيَاتِ مِنَ الْمَوَاشِي الَّتِي يُؤْمَرُ بِتَغْرِيبِهَا إِلَى حَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهَا أَحَدٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ مُتَعَيَّنٌ، وَلَا يُعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ اهـ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4564 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ، حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4564 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ) : أَيْ بِالْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ بِأَنْ يَقُولَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْجَانِّ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْجَانُّ أَبُو الْجِنِّ وَحَيَّةٌ صَغِيرَةٌ (وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ) أَيْ: وَمِنْ إِصَابَةِ عَيْنِ الْإِنْسَانِ الْحَاسِدِ (حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَيُفْتَحُ (فَلَمَّا نَزَلَتْ) : أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (أَخَذَ بِهِمَا) : أَيْ عَمَلَ بِقِرَاءَتِهِمَا وَالتَّعَوُّذِ بِهِمَا غَالِبًا (وَتَرَكَ، مَا سِوَاهُمَا) . أَيْ: مِنَ الرُّقْيَاتِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْهُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: " «مَا سَأَلَ سَائِلٌ وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهِمَا» ". وَالْمَعْنَى لَيْسَ تَعْوِيذٌ مِثْلَهُمَا، بَلْ هُمَا أَفْضَلُ التَّعَاوِيذِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: " «إِقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَكُلَّمَا قُمْتَ»

4565 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ رُئِيَ فِيكُمُ الْمُغَرِّبُونَ؟ " قُلْتُ: وَمَا الْمُغَرِّبُونَ؟ قَالَ: " الَّذِينَ يَشْتَرِكُ فِيهِمُ الْجِنُّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذُكِرَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: " خَيْرُ مَا تَدَوَايْتُمْ " فِي " بَابِ التَّرَجُّلِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4565 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رُئِيَ فِيكُمْ) : أَيْ فِي جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَغَلَّبَ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ، وَالْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَذْرَؤُكُمْ، فِيهِ غَلَّبَ الْعُقَلَاءَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْأَنْعَامِ الْغُيَّبِ، وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ تَوْقِيفٍ وَتَشْبِيهٍ، وَهَلْ بِمَعْنَى قَدْ فِي الِاسْتِفْهَامِ خَاصَّةً، قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] الْكَشَّافُ: أَقَدْ أَتَى عَلَى التَّقْرِيرِ جَمِيعًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُهُ: (الْمُغَرِّبُونَ؟) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيِ الْمُبْعِدُونَ، وَلَمَّا كَانَ لِلتَّبْعِيدِ مَعْنًى مُجْمَلٍ مُبْهَمٍ احْتَاجَتْ إِلَى بَيَانِهَا فَقَالَتْ: (قُلْتُ: وَمَا الْمُغَرِّبُونَ؟) : وَقَعَ السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَةِ أَعْنِي التَّغْرِيبَ وَلِذَلِكَ لَمْ تَقُلْ: وَمَنِ الْمُغَرِّبُونَ: فَأَجَابَ: بِأَنَّ التَّغْرِيبَ الْحَقِيقِيَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ اشْتِرَاكُ الْجِنِّ. (قَالَ: الَّذِينَ يَشْتَرِكُ فِيهِمُ الْجِنُّ) أَيْ فِي نُطَفِهِمْ أَوْ فِي أَوْلَادِهِمْ لِتَرْكِهِمْ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ الْوِقَاعِ، فَيَلْوِي الشَّيْطَانُ إِحْلِيلَهُ عَلَى إِحْلِيلِهِ فَيُجَامِعُ مَعَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} [الإسراء: 64] فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: " إِذَا خَالَطَ امْرَأَتَهُ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا "، فَإِذَا تُرِكَ هَذَا الدُّعَاءُ أَوِ التَّسْمِيَةُ شَارَكَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوِقَاعِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْوَلَدُ مُغْرِبًا لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ عِرِقٌ غَرِيبٌ، أَوْ جَاءَ مِنْ نَسَبٍ بَعِيدٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِمُشَارَكَةِ الْجِنِّ فِيهِمْ أَمْرَهُمْ إِيَّاهُمْ بِالزِّنَا وَتَحْسِينِهِ لَهُمْ، فَجَاءَ أَوْلَادُهُمْ مِنْ غَيْرِ رُشْدِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ، مَنْ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنَ الْجِنِّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ وَأَصْنَافَ الْكِهَانَةِ: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . (وَذُكِرَ) : أَيْ تَقَدَّمَ (حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ: (خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ) : أَيِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ هُنَا (فِي بَابِ التَّرَجُّلِ) : أَيْ فَأَسْقَطْنَاهُ لِتَكْرَارِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4566 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمَعِدَةُ حَوْضُ الْبَدَنِ، وَالْعُرُوقُ إِلَيْهَا وَارِدَةٌ، فَإِذَا صَحَّتِ الْمَعِدَةُ صَدَرَتِ الْعُرُوقُ بِالصِّحَّةِ، وَإِذَا فَسَدَتِ الْمَعِدَةُ صَدَرَتِ الْعُرُوقُ بِالسَّقَمِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4566 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمَعِدَةُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَتَخْفِيفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَهِيَ مَقَرُّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَعِدَةُ كَكَلِمَةٍ وَبِالْكَسْرِ مَوْضِعُ الطَّعَامِ قَبْلَ انْحِدَارِهِ إِلَى الْأَمْعَاءِ، وَهُوَ لَنَا بِمَنْزِلَةِ الْكَرِشِ لِلْأَظْلَافِ وَالْأَخْفَافِ. (حَوْضُ الْبَدَنِ) أَيْ بِمَنْزِلَةِ حَوْضٍ فِيهِ.

(وَالْعُرُوقُ إِلَيْهَا وَارِدَةٌ) أَيْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (فَإِذَا صَحَّتِ الْمَعِدَةُ صَدَرَتْ) : أَيْ رَجَعَتِ (الْعُرُوقُ بِالصِّحَّةِ) أَيْ عَنْهَا (وَإِذَا فَسَدَتِ الْمَعِدَةُ صَدَرَتِ الْعُرُوقُ بِالسَّقَمِ) . بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيِ: الْمَرَضُ وَالْأَلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا فِي كِتَابِ " لَقْطِ الْمَنَافِعِ " شَبَّهَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ الْمَعِدَةَ بِالْحَوْضِ، وَالْبَدَنَ بِالشَّجَرِ، وَالْعُرُوقَ الْوَارِدَةَ إِلَيْهَا بِعُرُوقِ الشَّجَرِ الضَّارِبَةِ إِلَى الْحَوْضِ الْجَاذِبَةِ مَاءَهُ إِلَى الْأَغْصَانِ وَالْأَوْرَاقِ، فَمَتَى كَانَ الْمَاءُ صَافِيًا وَلَمْ يَكُنْ مِلْحًا أُجَاجًا كَانَ سَبَبًا لِنَضَارَةِ الْأَشْجَارِ وَخَضَارَتِهَا، وَإِلَّا كَانَ سَبَبًا لِذُبُولِهَا وَجَفَافِهَا، فَكَذَا حُكْمُ الْبَدَنِ مَعَ الْمَعِدَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ وَبَدِيعِ فِطْرَتِهِ جَعَلَ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ مُتَسَلِّطَةً تُحَلِّلُ الرُّطُوبَاتِ تَسْلِيطَ الرَّاحِ عَلَى السَّلِيطِ، وَخَلَقَ فِيهِ أَيْضًا قُوَّةً جَاذِبَةً سَارِيَةً فِي مَجَارِي عُرُوقٍ وَارِدَةٍ إِلَى الْكَبِدِ طَالِبَةً مِنْهُ مَا صَفَا مِنَ الْأَخْلَاطِ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهِ بِسَبَبِ عُرُوقٍ وَارِدَةٍ مِنْهُ إِلَى الْمَعِدَةِ جَاذِبَةً مِنْهَا مَا انْهَضَمَ مِنَ الْمَشْرُوبِ وَالْمَطْعُومِ لِيَنْطَبِخَ فِي الْكَبِدِ مَرَّةً أُخْرَى، فَيَصِيرُ بَدَلًا لِمَا تَحَلَّلَ مِنْهُ، هَذَا مَعْنَى الصُّدُورِ بَعْدَ الْوُرُودِ، لِأَنَّ الْعُرُوقَ مَجَارٍ لِمَا يَرِدُ فِيهَا وَيَصْدُرُ مِنْهَا، كَعُرُوقِ الشَّجَرِ، فَالْأُسْلُوبُ مِنْ بَابِ سَالَ الْوَادِي وَجَرَى الْمِيزَابُ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَعِدَةِ غِذَاءٌ صَالَحٌ، وَانْحَدَرَ فِي تِلْكَ الْعُرُوقِ إِلَى الْكَبِدِ تَحَصَّلَ مِنْهُ الْغِذَاءُ الْمَحْمُودُ لِلْأَعْضَاءِ خَلَفًا لِمَا تَحَلَّلَ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ فَاسِدًا إِمَّا بِكَثْرَةِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ أَوْ إِدْخَالِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَانَ سَبَبًا لِتَوَلُّدِ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَمْرَاضِ الْمُرْدِيَةِ، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَرَّرَهُ عَلَى قَوَاعِدَ الطِّبِّ. وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى الطِّبِّ النَّبَوِيِّ بِأَنْ يُقَالَ: أَنَّ أَفْعَالَ الرَّجُلِ وَأَقْوَالَهُ وَآدَابَهُ عَلَى حَسَبِ مُرَاعَاةِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، فَإِنْ دَخَلَ الْحَرَامُ خَرَجَ الْحَلَالُ، وَإِنْ دَخَلَ الْفُضُولُ خَرَجَ الْمَفْضُولُ مِنْ كُلِّ أُصُولٍ وَفُصُولٍ وَكَانَ الطَّعَامُ بَذْرُ الْأَفْعَالِ وَالْأَفْعَالُ بِمَنْزِلَةِ نَبْتٍ يَبْدُو مِنْهُ فِي الْحَالِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا قِيلَ: كُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فِي الْإِحْيَاءِ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِهِ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ وَقَالَ: بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ اهـ. وَلَعَلَّ الْبُطْلَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُسْنَدِ الْعُقَيْلِيِّ وَإِلَّا فَمَعَ تَعَدُّدِ الطُّرُقِ وَتَقْوِيَتِهِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ يَكُونُ حَسَنًا أَوْ ضَعِيفًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ.

4567 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ، فَنَاوَلَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَعْلِهِ فَقَتَلَهَا. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ، مَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ - أَوْ نَبِيًّا وَغَيْرَهُ " - ثُمَّ دَعَا بِمِلْحٍ وَمَاءٍ، فَجَعَلَهُ فِي إِنَاءٍ، جَعَلَ يَصُبُّهُ عَلَى أُصْبُعِهِ حَيْثُ لَدَغَتْهُ وَيَمْسَحُهَا وَيُعَوِّذُهَا بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ» . رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4567 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ جَوَابُ بَيْنَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ بَيْنَا وَبَيْنَمَا ظَرْفَانِ مُتَضَمِّنَانِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ اقْتَضَيَا جَوَابًا، وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ تَقْرِيرِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ، (فَلَدَغَهُ) أَيْ: أُصْبُعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَقْرَبٌ، فَنَاوَلَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : أَيْ ضَرَبَهَا (بِنَعْلِهِ فَقَتَلَهَا) . وَفِي الْحَدِيثِ: " «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ عَقْرَبًا وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَقْتُلْهَا بِنَعْلِهِ الْيُسْرَى» ". عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِلِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. (فَلَمَّا انْصَرَفَ) : أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ (قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ مُصَلِّيًا) : أَيْ مَا تَتْرُكُ عَنْ أَذَاهَا مُصَلِّيًا مِنْ نَبِيٍّ وَوَلِيٍّ (وَلَا غَيْرَهُ) : أَيْ وَلَا غَيْرَ مُصَلٍّ، أَوِ الْمَعْنَى لَا تَدَعُ أَحَدًا لَا حَالَ صَلَاتِهِ وَلَا غَيْرِهَا بِغَيْرِ لَدْغٍ، وَالْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ (أَوْ نَبِيًّا وَغَيْرَهُ) . شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، لَكِنْ فِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ: " «لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ الْمُصَلِّيَ وَغَيْرَ الْمُصَلِّي، اقْتُلُوهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» " وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ: «لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ إِلَّا لَدَغَتْهُمْ» . (، ثُمَّ دَعَا) : أَيْ طَلَبَ (بِمَاءٍ وَمِلْحٍ، فَجَعَلَهُ) : أَيْ كُلًّا مِنْهُمَا أَوِ الْمَجْمُوعَ أَوِ الْمَذْكُورَ (فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ جَعَلَ) : أَيْ شَرَعَ (يَصُبُّهُ) : أَيْ مَا

فِي الْإِنَاءِ (عَلَى أُصْبُعِهِ حَيْثُ لَدَغَتْهَا) : أَيْ فِي مَكَانِ لَدْغِهَا (وَيَمْسَحُهَا) : أَيِ الْأُصْبُعُ أَوْ مَوْضِعَ لَدْغِهَا (وَيُعَوِّذُهَا بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ رَوَاهُمَا) : أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَالَّذِي قَبْلَهُ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ، عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَدَغَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقْرَبٌ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ ". ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَقْرَأُ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ثُمَّ ذَكَرَ الْجَزَرِيُّ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْقِي اللَّدِيغَ بِالْفَاتِحَةِ» . رَوَاهُ أَصْحَابُ الصِّحَاحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: سَبْعَ مَرَّاتٍ.

4568 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَيْءٌ بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ، فَأَخْرَجَتْ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ تُمْسِكُهُ فِي جُلْجُلٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَخَضْخَضَتْهُ لَهُ، فَشَرِبَ مِنْهُ، قَالَ: فَاطَّلَعْتُ فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حَمْرَاءَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4568 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهِبٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَاءِ صَرَّحَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي الْمُغْنِي وَالْقَامُوسِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَيْمِيٌّ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَأَبُو عِوَانَةَ. (قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، وَكَانَ) : أَيِ الشَّأْنُ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ (إِذَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ عَيْنٌ) : أَيْ إِصَابَةٌ، أَوْ رَمَدٌ (أَوْ شَيْءٌ) : أَيْ مِنْ سَائِرِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ (بَعَثَ) : أَيْ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ (إِلَيْهَا) : أَيْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ (مِخْضَبَهُ) :. بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ مُضَافًا أَيْ: مِرْكَنَهُ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَقِيلَ: هُوَ إِجَّانَةٌ يُغْسَلُ فِيهَا الثِّيَابُ (فَأَخْرَجَتْ) : أَيْ أُمُّ سَلَمَةَ (مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ بَعْضُ شَعْرِهِ (وَكَانَتْ تُمْسِكُهُ) : جُمْلَةٌ أُخْرَى مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: وَكَانَتْ تَحْفَظُ ذَلِكَ الْبَعْضَ مِنَ الشَّعْرِ (فِي جُلْجُلٍ) : بِضَمِّ جِيمَيْنٍ أَيْ فِي حَقِّهِ وَفِي الْمُقَدِّمَةِ لَمْ يُفَسِّرْهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ وَلَا صَاحِبُ النِّهَايَةِ. وَأَظُنُّهُ الْجُلْجُلَ الْمَعْرُوفَ، وَهُوَ الْجَرَسُ الصَّغِيرُ الَّذِي يُعَلَّقُ بِعُنُقِ الدَّابَّةِ اهـ. وَقَدْ يُعَلَّقُ بِرِجْلِ الْبَازِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ بِأَنَّ الْجُلْجُلَ بِالضَّمِّ الْجَرَسُ الصَّغِيرُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الصَّوْتُ فَصَارَ كَحُقَّةٍ، وَوَضَعَ فِي وَسَطِهِ الشَّعْرَ الشَّرِيفَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عَمِلَتْ حُقَّةً عَلَى شِبْهِ الْجَرَسِ فِي الصِّغَرِ، وَالْكَبْكَبَةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: (مِنْ فِضَّةٍ) . قَالَ الطِّيبِيُّ وَاسْتِعْمَالُ الْفِضَّةِ هُنَا كَاكْتِسَاءِ الْكَعْبَةِ بِالْحَرِيرِ تَعْظِيمًا وَتَبْجِيلًا (فَخَضْخَضْتُهُ) : بِالْمُعْجَمَاتِ عَلَى وَزْنِ دَحْرَجْتُهُ مِنَ الْخَضْخَضَةِ، وَهُوَ تَحْرِيكُ الْمَاءِ وَنَحْوُهُ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى فَأَخْرَجَتْ أَيْ حَرَّكَتِ الْجُلْجُلَ فِي الْمَاءِ (لَهُ) : أَيْ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ (فَشَرِبَ مِنْهُ، قَالَ) : أَيْ عُثْمَانُ (فَاطَّلَعْتُ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَشْرَفْتُ وَطَالَعْتُ (فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْتُ شُعَيْرَاتٍ حَمْرَاءَ) . أَيْ خِلْقِيَّةٌ أَوْ مُقَدِّمَةٌ لِلْبَيَاضِ أَوْ مَصْبُوغَةٌ بِالْحِنَّاءِ، أَوْ مُتَغَيِّرَةٌ مِنْ أَثَرِ الْبُخُورِ، هَذَا وَقَوْلُهُ: فَاطَّلَعَتْ عَطْفٌ عَلَى أَرْسَلَنِي وَإِعَادَةُ قَالَ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، هُوَ التَّشَرُّفُ بِرُؤْيَةِ الشَّعْرِ الْمُنِيفِ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: فَاطَّلَعَتْ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ إِلَخْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4569 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَمْأَةُ جُدَرِيُّ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَخَذْتُ ثَلَاثَةَ أَكْمُؤٍ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَعَصَرْتُهُنَّ، وَجَعَلْتُ مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَةٍ، وَكَحَّلْتُ بِهِ جَارِيَةً لِي عَمْشَاءَ، فَبَرَأَتْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4569 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَمْأَةُ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (جُدَرِيُّ الْأَرْضِ؟) : بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ دَالٍ وَكَسْرِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ يَاءٍ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْجُدَرِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا الْقُرُوحُ فِي الْبَدَنِ تُنَفَّطُ وَتُقَيَّحُ، وَفِي النِّهَايَةِ: شَبَّهَ الْكَمْأَةَ بِالْجُدَرِيِّ وَهُوَ الْحَبُّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي جَسَدِ الصَّبِيِّ لِظُهُورِهَا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ، كَمَا يَظْهَرُ الْجُدَرِيُّ مِنْ بَطْنِ الْجِلْدِ، وَأَرَادَ بِهِ ذَمَّهَا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ) أَيْ مِمَّا مَنَّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَقِيلَ: شَبَّهَهَا بِالْمَنِّ، وَهُوَ الْعَسَلُ الْحُلْوُ الَّذِي نَزَلَ مِنْ

السَّمَاءِ صَفْوًا بِلَا عِلَاجٍ، وَكَذَلِكَ الْكَمْأَةُ لَا مُؤْنَةَ فِيهَا بِبَذْرٍ وَسَقْيٍ اهـ. وَالْأَظْهَرُ هُوَ الثَّانِي لِمَا فِي رِوَايَةِ الْكَمْأَةِ مِنَ الْمَنِّ وَالْمَنُّ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُمْ لَمَّا ذَمُّوهَا وَجَعَلُوهَا مِنَ الْفَضَلَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْمَضَرَّةَ وَتَدْفَعُهَا الْأَرْضُ إِلَى ظَاهِرِهَا، كَمَا تَدْفَعُ الطَّبِيعَةُ الْفَضَلَاتِ بِالْجُدَرِيِّ قَابَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدْحِ أَيْ: لَيْسَتْ مِنَ الْفَضَلَاتِ، بَلْ هِيَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَمِنَّةٌ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا تَتَضَمَّنُ الْمَضَرَّةَ، بَلْ هِيَ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ كَالْمَنِّ النَّازِلِ. (وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْمَاءِ مُجَرَّدًا، وَقِيلَ: مَخْلُوطًا بِدَوَاءٍ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِتَبْرِيدِ مَا فِي الْعَيْنِ مِنْ حَرَارَةٍ فَمَاؤُهَا مُجَرَّدُ إِشْفَاءٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَمُرَكَّبَةٌ مَعَ غَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ مَاءَهَا مُجَرَّدُ إِشْفَاءٍ لِلْعَيْنِ مُطْلَقًا، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَا وَغَيْرِي فِي زَمَانِنَا مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَكَحَّلَ عَيْنَهُ بِمَاءِ الْكَمْأَةِ مُجَرَّدًا فَشُفِيَ وَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْعَدْلُ الْأَمِينُ الْكَمَالُ الدِّمَشْقِيُّ صَاحِبُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ الْمَاءَ الْكَمْأَةَ اعْتِقَادًا بِالْحَدِيثِ وَتَبَرُّكًا بِهِ. (وَالْعَجْوَةُ) : وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ فَفِي الْقَامُوسِ: الْعَجْوَةُ بِالْحِجَازِ التَّمْرُ الْمَحْشِيُّ وَتَمْرٌ بِالْمَدِينَةِ (مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ مِنْ ثِمَارِهَا الْمَوْجُودَةِ فِيهَا، أَوِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ مَادَّتِهَا بِغَرْزِ نَوَاهَا عَلَى أَيْدِي مَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ. (وَهِيَ شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ) بِتَثْلِيثِ السِّينِ وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ لُغَةً وَالضَّمُّ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ فَوَاقِعٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِ الْأَصْحَابِ، وَإِلَّا فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ، وَكَذَا مُلَاءَمَتُهُمَا لِلْبَابِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ. (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَخَذْتُ ثَلَاثَةَ أَكْمُؤٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمِّ مِيمٍ فَهَمْزٍ أَيْ ثَلَاثَةُ أَشْخُصٍ مِنْهَا (أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَعَصَرْتُهُنَّ) أَيْ فِي وِعَاءٍ (وَجَعَلْتُ مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَةٍ، وَكَحَّلْتُ بِهِ جَارِيَةً لِي عَمْشَاءَ) تَأْنِيثُ الْأَعْمَشِ مِنَ الْعَمَشِ مُحَرَّكَةٌ، وَهُوَ ضَعْفٌ فِي الرُّؤْيَةِ مَعَ سَيَلَانِ الْمَاءِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ. (فَبَرَأَتْ) . بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ شُفِيَتْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) . أَرَادَ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ، وَإِلَّا فَجُمْلَةُ الْكَمْأَةِ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَائِشَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَالْمَنُّ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، عَنْ بُرَيْدَةَ: «الْعَجْوَةُ مِنْ فَاكِهَةِ الْجَنَّةِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، عَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْمَدِينِيِّ وَلَفْظُهُ: «الْعَجْوَةُ وَالصَّخْرَةُ وَالشَّجَرَةُ مِنَ الْجَنَّةِ» . وَالْمُرَادُ بِالصَّخْرَةِ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالشَّجَرَةُ هِيَ الْكَرْمَةُ، وَقِيلَ: الشَّجَرَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ بِلَفْظِ: الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ، وَالْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ.

4570 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَعِقَ الْعَسَلَ ثَلَاثَ غَدَوَاتٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ لَمْ يُصِبْهُ عَظِيمٌ مِنَ الْبَلَاءِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4570 - (وَعَنْهُ) : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَعِقَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ لَحَسَ (الْعَسَلَ ثَلَاثَ غَدَوَاتٍ) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ أَوَائِلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (فِي كُلِّ شَهْرٍ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ: كُلُّ شَهْرٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (لَمْ يُصِبْهُ عَظِيمٌ مِنَ الْبَلَاءِ) .

4571 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ: الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ» ". رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَخِيرَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4571 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ) أَيْ: أَحَدُهُمَا حِسِّيٌّ وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ، أَوْ أَحَدُهُمَا لِلْأَمْرَاضِ الْحِسِّيَّةِ وَالْآخَرُ لِلْعَوَارِضِ الْمَعْنَوِيَّةِ، أَوْ لِعُمُومِ الْبَلَايَا الْبَدَنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ (الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَجُوِّزَ رَفْعُهُمَا وَنَصْبُهُمَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ.

الْعَسَلِ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى} [يونس: 57] قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: الْعَسَلُ وَالْقُرْآنُ تَقْسِيمٌ لِلْجَمْعِ، فَجُعِلَ جِنْسُ الشِّفَاءِ نَوْعَيْنِ. حَقِيقِيٌّ وَغَيْرُ حَقِيقِيٍّ، ثُمَّ قَسَّمَهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُكَ: الْقَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَالْخَالُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ. قُلْتُ: وَكَذَا الْمَرَقُ أَحَدُ اللَّحْمَيْنِ، لَكِنَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْقُرْآنُ الشَّامِلُ لِشِفَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، كَمَا أُطْلِقَ فِي آيَةٍ، وَأَمَّا التَّقْيِيدُ فِي آيَةٍ أُخْرَى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ شِفَاءَ الْبَاطِنِ هُوَ الْأَصْلُ الْأَهَمُّ، فَالِاعْتِنَاءُ بِهِ أَتَمٌّ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ أَهَمٌّ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ كَلَامِ الطِّيبِيِّ مُوهِمٌ خِلَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ يُوَافِقُ كَلَامَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ بِخِلَافِ اصْطِلَاحَاتِ الصُّوفِيَّةِ حَيْثُ يَقُولُونَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] ، حَقِيقَةً، وَ {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] مَجَازٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُمَا) : أَيِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ) : أَيِ الْبَيْهَقِيُّ (الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَخِيرَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَلَعَلَّ الْبَيْهَقِيَّ لَهُ إِسْنَادَانِ، وَالصَّحِيحُ إِسْنَادُ الْمَوْقُوفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4572 - وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ عَلَى هَامَتِهِ مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ. قَالَ مَعْمَرٌ: فَاحْتَجَمْتُ أَنَا مِنْ غَيْرِ سُمٍّ كَذَلِكَ فِي يَافُوخِي، فَذَهَبَ حُسْنُ الْحِفْظِ عَنِّي، حَتَّى كُنْتُ أُلَقَّنُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4572 - (وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ) : بِفَتْحِ كَافٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ فَمُعْجَمَةٍ الْأَنْمَارِيِّ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ قَرِيبًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ عَلَى هَامَتِهِ) : بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ وَسَطُ رَأْسِهِ (مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ) . أَيْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهَا وَتَأْثِيرِ سُمِّهَا، وَاسْتِمْرَارِ بَعْضِ أَثَرِهِ بَعْدَ الْحِجَامَةِ وَعَوْدِهِ فِيهِ كُلِّ سَنَةٍ إِلَى أَنْ قَالَ حِينَ قَرُبَ مَوْتُهُ: " الْآنَ انْقَطَعَ أَبْهَرِي " جَمْعًا لَهُ بَيْنَ السَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَالْعَجَبُ مِنْ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْجَزَرِيِّ حَيْثُ ذَكَرَ فِي الْحِصْنِ، «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الصَّحَابَةَ فِي الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ أَنِ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا فَأَكَلُوا، فَلَمْ يُصِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ شَيْءٌ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَكَذَا نَقَلَ صَاحِبُ السِّرَاجِ. قَالَ مِيرَكُ: وَلِي فِيهِ تَأْمُلٌ إِذِ الْمَشْهُورُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَرْبَابِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً وَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِحْرَاقِ تِلْكَ الشَّاةِ أَوْ دَفْنِهَا تَحْتَ التُّرَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ عَفَا عَنْهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَفَا عَنْهَا لِأَجْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِقَتْلِهَا لِأَجْلِ قِصَاصِ ابْنِ الْبَرَاءِ، وَأَظُنُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهْمًا شَدِيدًا وَنَكَارَةً ظَاهِرَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَقُولُ: إِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْحَاكِمِ صَحَّتْ فَلَعَلَّ الْقَضِيَّةَ تَعَدَّدَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ مَعْمَرٌ) : أَيِ ابْنُ رَاشِدٍ يُكْنَى أَبَا عُرْوَةَ الْأَزْدِيَّ، مَوْلَاهُمْ عَالِمُ الْيَمَنِ. رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ وَهَمَّامٍ، وَعَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَمِعْتُ مِنْهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ. (فَاحْتَجَمْتُ أَنَا) : زِيدَ الضَّمِيرُ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ (مِنْ غَيْرِ سُمٍّ كَذَلِكَ) : أَيْ مِثْلُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَالَغَةً فِي الْمُتَابَعَةِ، أَوْ ظَنًّا أَنَّ حِجَامَةَ الْهَامَةِ نَافِعَةٌ لِغَيْرِ السُّمِّ أَيْضًا فَاحْتَجَمْتُ (فِي يَافُوخِي) أَيْ وَسَطُ رَأْسِي (فَذَهَبَ حُسْنُ الْحِفْظِ عَنِّي، حَتَّى كُنْتُ) : أَيْ مُدَّةً (أُلَقَّنُ) : بِضَمِّ هَمْزٍ وَتَشْدِيدِ قَافٍ مَضْمُومَةٍ أَيْ يُفْتَحُ (فَاتِحَةَ الْكِتَابِ) : أَيْ: فِي بَعْضِ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ (فِي الصَّلَاةِ) . وَظَاهِرُ سِيَاقِ كَلَامِهِ أَنَّهُ حَدَثَ لَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ ارْتَفَعَ عَنْهُ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ كَثْرَةُ أَخْذِ الدَّمِ وَاحْتِجَامِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ أَوْ زَمَانِهِ أَوْ أَوَانِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِلَّا فَقَدَ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى مَا رَوَاهُ أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ وَأَبُو نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا " «الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ شِفَاءٌ مِنْ سَبْعٍ إِذَا مَا نَوَى صَاحِبُهَا مِنَ الْجُنُونِ وَالصُّدَاعِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالنُّعَاسِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ وَظُلْمَةٍ يَجِدُهَا فِي عَيْنَيْهِ» . وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «الْحِجَامَةُ تَنْفَعُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ أَلَا فَاحْتَجِمُوا» " وَسَيَأْتِي أَنَّ الْحِجَامَةَ عَلَى الرِّيقِ تَزِيدُ فِي الْحِفْظِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ هِيَ الْمَعْنِيَّةُ، أَمَرَنِي بِهَا جِبْرِيلُ حِينَ أَكَلْتُ طَعَامَ الْيَهُودِيَّةِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

4573 - وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَا نَافِعُ! يَنْبُعُ بِي الدَّمُ، فَأْتِنِي بِحَجَّامٍ وَاجْعَلْهُ شَابًّا، وَلَا تَجْعَلْهُ شَيْخًا وَلَا صَبِيًّا. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ أَمْثَلُ، وَهِيَ تُزِيدُ فِي الْعَقْلِ، وَتُزِيدُ فِي الْحِفْظِ، وَتُزِيدُ الْحَافِظَ حِفْظًا، فَمَنْ كَانَ مُحْتَجِمًا فَيَوْمَ الْخَمِيسِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ، فَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ؟ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ. وَمَا يَبْدُو جُذَامٌ وَلَا بَرَصٌ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4573 - (وَعَنْ نَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا نَافِعُ! يَنْبُعُ) : بِفَتْحِ يَاءٍ فَسُكُونِ نُونٍ فَضَمُّ مُوَحَّدَةٍ وَيُكْسَرُ وَيُضَمُّ أَيْ يَثُورُ وَيَغْلِي (بِيَ الدَّمُ) أَيْ لِكَثْرَتِهِ، كَمَا نَبَعَ الْمَاءُ مِنَ الْيَنْبُوعِ وَهُوَ الْعَيْنُ، فَفِي الْقَامُوسِ: نَبَعَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مُثَلَّثَةٌ خَرَجَ مِنَ الْعَيْنِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَشْبِيهٌ أَيْ يَغْلِي الدَّمُ فِي جَسَدِي بِنَوْعِ الْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ، وَقَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ تَبَيَّغَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ فَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النِّهَايَةِ تَبَيَّغَ بِهِ الْمَاءُ إِذَا تَرَدَّدَ فِيهِ، وَمِنْهُ تَبَيَّغَ الْمَاءُ إِذَا تَرَدَّدَ فِي مَجْرَاهُ، وَيُقَالُ: فِيهِ تَبَوَّغَ بِالْوَاوِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ أَيْ يَبْغِي عَلَيْهِ الدَّمُ فَيَقْتُلُهُ مِنَ الْبَغْيِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: تَبَيَّغَ فِي الدَّمِ اهـ. وَكَذَا يَنْصُرُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: الْبَيْغُ ثَوَرَانُ الدَّمِ، وَتَبَيَّغَ عَلَيْهِ الدَّمُ هَاجَ وَغَلَبَ، لَكِنِ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ صَوَابٌ وَغَيْرُهُ خَطَأٌ غَيْرُ صَوَابٍ لِاحْتِمَالِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ، مَعَ أَنَّ لَهَا وَجْهًا وَجِيهًا كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأْتِنِي بِحَجَّامٍ وَاجْعَلْهُ شَابٌّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اخْتَرْهُ، وَشَابًّا حَالٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا. (وَلَا تَجْعَلْهُ شَيْخًا) : يُفِيدُ التَّأْكِيدَ أَوْ يُرِيدُ بِهِ اخْتِيَارَ الْوَسَطِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُجُودِ الشَّبَابِ. (وَلَا صَبِيًّا) دَفَعًا لِمَا يُوهِمُهُ إِطْلَاقُ الشَّابِّ. (قَالَ) : أَيْ نَافِعٌ (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ) : أَيْ قَبْلَ أَكْلٍ وَشُرْبٍ (أَمْثَلُ) أَيْ أَنْفَعُ وَأَفْضَلُ (وَهِيَ) : أَيِ الْحِجَامَةُ الْمُطْلَقَةُ أَوِ الْمُقَيَّدَةُ (تَزِيدُ فِي الْعَقْلِ، وَتَزِيدُ فِي الْحِفْظِ) أَيْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لِقَوْلِهِ (وَتَزِيدُ الْحَافِظَ حِفْظًا) أَيْ كَمَالُ الْحِفْظِ (فَمَنْ كَانَ مُحْتَجِمًا) : أَيْ مُرِيدًا لِلْحِجَامَةِ (فَيَوْمَ الْخَمِيسِ) : أَيْ فَلْيَخْتَرْهُ أَوْ فَلْيَحْتَجِمْ فِيهِ (عَلَى اسْمِ اللَّهِ) : أَيْ عَلَى ذِكْرِهِ وَطَلَبِ بَرَكَتِهِ (وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ) : بِظَاهِرِهِ يُنَافِيهِ مَا ذَكَرَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ جَابِرٍ: «الْحِجَامَةُ يَوْمَ الْأَحَدِ شِفَاءٌ» ، لَكِنِ الْحَدِيثُ مُعْضِلٌ (فَاحْتَجِمُوا) : الْفَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوِ التَّقْدِيرُ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاحْتَجِمُوا (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا، وَلَعَلَّ الْخَمِيسَ سَقَطَ مِنَ الرَّاوِي وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: (وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ) : وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْمَفْهُومِ، لَا سِيَّمَا مَعَ الْمَنْطُوقِ (فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ) : أَوْ أُوقِعَ فِيهِ (أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ إِصَابَتِهِ الْبَلَاءَ حِجَامَتُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَسْبَابًا أُخَرَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَوْ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَقْتُ الْعِتَابِ لِبَعْضِ الْأَحِبَّاءِ، كَمَا وَقَعَ زَمَانُ الْعِقَابِ لِبَعْضِ الْأَعْدَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَمَا يَبْدُو) : أَيْ مَا يَظْهَرُ (جُذَامٌ وَلَا بَرَصٌ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ) : أَيْ لِخَاصِّيَّةٍ زَمَانِيَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا خَالِقُهَا، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: (وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ كَبْشَةَ: (إِنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ) وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ يَوْمًا مَخْصُوصًا وَهُوَ السَّابِعُ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، كَمَا يَأْتِي فِي الْحَدِيثِ اهـ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِثْلَ هَذَا الْجَمْعِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ وَابْنِ السُّنِّيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ أَمْثَلُ وَفِيهَا شِفَاءٌ وَبَرَكَةٌ وَتَزِيدُ فِي الْحِفْظِ وَفِي الْعَقْلِ، فَاحْتَجِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ، وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ، فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي عَافَى اللَّهُ فِيهِ أَيُّوبَ مِنَ الْبَلَايَا، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ابْتُلِيَ فِيهِ أَيُّوبُ، وَمَا يَبْدُو جُذَامٌ وَلَا بَرَصٌ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ» ".

4574 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحِجَامَةُ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ دَوَاءٌ لِدَاءِ السَّنَةِ» ". رَوَاهُ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكِرْمَانِيُّ صَاحِبُ أَحْمَدَ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، هَكَذَا فِي " الْمُنْتَقَى " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4574 - (وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْحِجَامَةُ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ) : اللَّامُ لِلْجِنْسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالْفَصْلِ الْمُنَاسِبِ لِلْحِجَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (دَوَاءٌ لِدَاءِ السَّنَةِ. رَوَاهُ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكِرْمَانِيُّ صَاحِبُ أَحْمَدَ) : أَيِ ابْنُ حَنْبَلٍ (وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ) أَيِ الْقَوِيِّ. (هَكَذَا فِي الْمُنْتَقِي) .

4575 - وَرَوَى رَزِينٌ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4575 - (وَرَوَى رَزِينٌ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) . قَالَ مِيرَكُ: وَلَفَظُهُ: " «إِذَا وَافَقَ سَبْعَ عَشْرَةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ كَانَ دَوَاءً لِلسَّنَةِ لِمَنِ احْتَجَمَ» " قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: هَكَذَا ذَكَرَهُ رَزِينٌ، وَلَا أَرَاهُ فِي الْأُصُولِ الَّتِي جَمَعَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِثْلُ مَا فِي الْمِشْكَاةِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ " لِدَاءِ سَنَةٍ " بِالتَّنْكِيرِ. وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ مَعْقِلٍ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ اخْتُلِفَ الرِّوَايَةُ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب الفأل والطيرة]

[بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4576 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ " قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: (الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (1) بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ الْفَأْلُ: بِالْهَمْزِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ بِالْإِبْدَالِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَأْلُ مَهْمُوزٌ فِيمَا يَسُرُّ وَيَسُوءُ، وَالطِّيَرَةُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَقَدْ تَسْكُنُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِيمَا يَسُوءُ، وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا يَسُرُّ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْفَأْلُ ضِدُّ الطِّيَرَةِ كَأَنْ يَسْمَعَ مَرِيضٌ يَا سَالِمُ، أَوْ طَالِبٌ يَا وَاجِدُ، أَوْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالطِّيَرَةُ مَا يُتَشَاءَمُ بِهِ مِنَ الْفَأْلِ الرَّدِيءِ. قُلْتُ: الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّ الْفَأْلَ مُخْتَصٌّ بِالْخَيْرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ، وَالطِّيَرَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشَّرِّ فَهُمَا ضِدَّانِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ النِّهَايَةِ أَنَّ الْفَأْلَ أَعَمٌّ مِنَ الطِّيَرَةِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَمُتَرَادِفَانِ فِي بَعْضِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الطِّيَرَةَ أَعَمٌّ مِنَ الْفَأْلِ، مِنْهَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَيَأْتِي: " «لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ» " وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَعَمُّ أَيْضًا مَأْخَذُ اشْتِقَاقِهِ مِنْ أَنَّ الطِّيَرَةَ مَصْدَرُ تَطَيَّرَ، يُقَالُ: تَطَيَّرَ طِيَرَةً وَتَخَيَّرَ خِيَرَةً، وَلَمْ يَجِئْ مِنَ الْمَصَادِرِ، هَكَذَا غَيْرُهُمَا، وَأَصْلُهُ فِيمَا يُقَالُ: التَّطَيُّرُ بِالسَّوَانِحِ وَالْبَوَارِحِ مِنَ الطَّيْرِ وَالظِّبَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ مَقَاصِدِهِمْ، فَنَفَاهُ الشَّرْعُ وَأَبْطَلَهُ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالطِّيَرَةِ وَهِيَ التَّفَاؤُلُ بِالطَّيْرِ وَالتَّشَاؤُمُ بِهَا، قَالُوا يَجْعَلُونَ الْعِبْرَةَ فِي ذَلِكَ تَارَةً بِالْأَسْمَاءِ، وَتَارَةً بِالْأَصْوَاتِ، وَتَارَةً بِالسُّفُوحِ وَالْبُرُوحُ، وَكَانُوا يُهَيِّجُونَهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا لِذَلِكَ، ثُمَّ الْبَارِحُ هُوَ الصَّيْدُ الَّذِي يَمُرُّ عَلَى مَيَامِنِكَ إِلَى مَيَاسِرِكَ، وَالسَّانِحُ عَكْسُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّحْقِيقِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ يُفْهَمُ مِمَّا رَوَى أَنَسٌ مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ: " «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ " قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: " كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» قُلْتُ: وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْمَقَالَ حَيْثُ نَفَى الطِّيَرَةَ بِعُمُومِهَا، وَاخْتَارَ فَرْدًا خَاصًّا مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْهَا وَهِيَ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4576 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (لَا طِيَرَةَ) أَيْ لَا عِبْرَةَ بِالتَّطَيُّرِ تَشَاؤُمًا وَتَفَاؤُلًا (وَخَيْرُهَا) : أَيْ خَيْرُ أَنْوَاعِ الطِّيَرَةِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَعَمِّ مِنَ الْمَأْخَذِ الْأَصْلِيِّ. (الْفَأْلُ) : أَيِ الْفَأْلُ الْحَسَنُ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ لَا الْمَأْخُوذُ مِنَ الطِّيَرَةِ، وَلَعَلَّ شَارِحًا أَرَادَ دَفْعَ هَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ: أَيِ الْفَأْلُ خَيْرٌ مِنَ الطِّيَرَةِ اهـ.

وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْفَأْلَ مَحْضُ خَيْرٍ، كَمَا أَنَّ الطِّيَرَةَ مَحْضُ شَرٍّ، فَالتَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ الْعَسَلِ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَالشِّتَاءُ أَبْرَدُ مِنَ الصَّيْفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ رَاجِعٌ إِلَى الطِّيَرَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] أَوْ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِمْ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ أَيِ الْفَأْلُ فِي بَابِهِ أَبْلَغُ مِنَ الطِّيَرَةِ فِي بَابِهَا. (قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ) ؟ وَإِنَّمَا نَشَأَ هَذَا السُّؤَالُ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ عُمُومِ الطِّيَرَةِ الشَّامِلِ لِلتَّشَاؤُمِ وَالتَّفَاؤُلِ الْمُتَعَارَفِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. (قَالَ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فَرْدٌ خَاصٌّ خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ الْعَامِّ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ خَوَاصِّ الْأَنَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ) : أَيِ الطِّيبَةُ الصَّالِحَةُ، لِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا الْفَأْلُ الْحَسَنُ (يَسْمَعُهَا) : أَيْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ (أَحَدُكُمْ) . أَيْ عَلَى قَصْدِ التَّفَاؤُلِ كَطَالِبِ ضَالَّةٍ يَا وَاجِدٌ، وَكَتَاجِرٍ يَا رَزَاقٌ، وَكَمُسَافِرٍ يَا سَالِمٌ، وَكَخَارِجٍ لِحَاجَةٍ يَا نَجِيحٌ، وَكَغَازٍ يَا مَنْصُورٌ، وَكَحَاجٍّ يَا مَبْرُورٌ، وَكَزَائِرٍ يَا مَقْبُولٌ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى التَّرَخُّصِ فِي الْفَأْلِ وَالْمَنْعِ مِنَ الطِّيَرَةِ، هُوَ أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ رَأَى شَيْئًا وَظَنَّهُ حَسَنًا وَحَرَّضَهُ عَلَى طَلَبِ حَاجَتِهِ، فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَى مَا بَعْدَهُ مَشْؤُمًا وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِلَى حَاجَتِهِ فَلَا يَجُوزُ قَبُولُهُ، بَلْ يَمْضِي لِسَبِيلِهِ، فَإِذَا قَبَلَ وَانْتَهَى عَنِ الْمُضِيِّ فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ فَهُوَ الطِّيَرَةُ لِأَنَّهَا اخْتَصَّتْ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الشُّؤْمِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] أَيْ: تَشَاءَمْنَا. وَقَالَ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19] أَيْ: سَبَبُ شُؤْمِكُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

4577 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4577 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا عَدْوَى) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ. وَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّهُ الْفَسَادُ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْعَدْوَى هُنَا مُجَاوَزَةُ الْعِلَّةِ مِنْ صَاحِبِهَا إِلَى غَيْرِهِ، يُقَالُ: أَعْدَى فُلَانٌ فُلَانًا مِنْ خَلْقِهِ، أَوْ مِنْ غُرَّتِهِ. وَذَلِكَ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْمُتَطَبِّبَةُ فِي عِلَلٍ سَبْعٍ: الْجُذَامُ، وَالْجَرَبُ، وَالْجُدَرِيُّ، وَالْحَصْبَةُ، وَالْبَخْرُ، وَالرَّمَدُ، وَالْأَمْرَاضُ الْوَبَائِيَّةُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّأْوِيلِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ ذَلِكَ وَإِبْطَالُهُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَالْقَرَائِنُ الْمَنْسُوقَةِ عَلَى الْعَدْوَى، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِبْطَالَهَا، فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ» ". وَقَالَ: " «لَا يُورِدَنَّ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ» " وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْيَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَصْحَابُ الطَّبِيعَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعِلَلَ الْمُعْدِيَةَ مُؤَثِّرَةً لَا مَحَالَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَتَوَهَّمُونَ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ إِنْ شَاءَ كَانَ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: " «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ» ". أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ الْعَدْوَى لَا غَيْرَ، فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: " «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ» " وَبِقَوْلِهِ ( «لَا يُورِدَنَّ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ» ) أَنَّ مُدَانَاةَ ذَلِكَ يُسَبِّبُ الْعِلَّةَ، فَلْيَتَّقِهِ اتِّقَاءَهُ مِنَ الْجِدَارِ الْمَائِلِ وَالسَّفِينَةِ الْمَعْيُوبَةِ. وَقَدْ رَدَّ: الْفِرْقَةُ الْأَوْلَى عَلَى الثَّانِيَةِ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثِينَ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِمَا إِنَّمَا جَاءَ شَفَقًا عَلَى مُبَاشَرَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَتُصِيبُهُ عِلَّةٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ عَاهَةٌ فِي إِبِلِهِ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَدْوَى حَقٌّ. قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَارَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ، وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ مَعَهُ فِي شَرْحِ الشَّرْحِ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ اجْتِنَابَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنِ الْمَجْذُومِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُبَايَعَةِ، مَعَ أَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ بَعِيدٌ مِنْ أَنْ يُورِدَ - لِحَسْمِ مَادَّةِ ظَنِّ الْعَدْوَى - كَلَامًا يَكُونُ مَادَّةً لِظَنِّهَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّجَنُّبِ أَظْهَرُ مِنْ فَتْحِ مَادَّةٍ فِي ظَنِّ الْعَدْوَى لَهَا تَأْثِيرٌ بِالطَّبْعِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَلَا دَلَالَةَ أَصْلًا عَلَى نَفْيِ الْعَدْوَى مُبَيَّنًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: وَأَرَى الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، ثُمَّ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ يُفْضِي إِلَى تَعَطُّلِ الْأُصُولِ الطِّبِّيَّةِ، وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَعْطِيلِهَا، بَلْ وَرَدَ بِإِثْبَاتِهَا وَالْعِبْرَةُ بِهَا عَلَى

الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقَرَائِنِ الْمَنْسُوقَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا الشَّارِعَ يَجْمَعُ فِي النَّهْيِ بَيْنَ مَا هُوَ حَرَامٌ، وَبَيْنَ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَبَيْنَ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِمَعْنًى، وَبَيْنَ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَجْذُومِ الْمُبَايِعِ: " «قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ» " فِي حَدِيثِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوِيدٍ الثَّقَفِيِّ، وَهُوَ مَذْكُورٌ بَعْدُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَجْذُومِ الَّذِي أَخَذَ بِيَدِهِ فَوَضَعَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ: " «كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ» " وَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: بَيَّنَ بِالْأَوَّلِ التَّوَقِّيَ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ، وَبِالثَّانِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ فِي مُتَارَكَةِ الْأَسْبَابِ وَهُوَ حَالُهُ اهـ. وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (وَلَا طِيَرَةَ) : نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] عَلَى وَجْهٍ (وَلَا هَامَةَ) : بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَهِيَ اسْمُ طَيْرٍ يَتَشَاءَمُ بِهِ النَّاسُ وَهِيَ الصَّدَى، وَهُوَ طَيْرٌ كَبِيرٌ يَضْعُفُ بَصَرُهُ بِالنَّهَارِ، وَيَطِيرُ بِاللَّيْلِ، وَيُصَوِّتُ وَيَسْكُنُ الْخَرَابَ، وَيُقَالُ لَهُ: بُومٌ، وَقِيلَ: كَوْفٌ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ إِذَا بَلِيَتْ وَعَدِمَتْ تَصِيرُ هَامَةً، وَتَخْرُجُ مِنَ الْقَبْرِ وَتَتَرَدَّدُ وَتَأْتِي بِأَخْبَارِ أَهْلِهِ، وَقِيلَ: كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ رُوحَ الْقَتِيلِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِثَأْرِهِ تَصِيرُ هَامَةً فَتَقُولُ: اسْقُونِي اسْقُونِي، فَإِنْ أُدْرِكَ بِثَأْرِهِ طَارَتْ، فَأَبْطَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الِاعْتِقَادَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، قَالَ بَقِيَّةُ: سَأَلْتُ ابْنَ رَاشِدٍ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا هَامَةَ " فَقَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: لَيْسَ أَحَدٌ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ إِلَّا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ هَامَةٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ هِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: بِتَشْدِيدِهَا وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَشَاءَمُ بِهَا وَهِيَ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: هِيَ الْبُومَةُ. قَالُوا: كَانَتْ إِذَا سَقَطَتْ عَلَى دَارِ أَحَدِهِمْ يَرَاهَا نَاعِيَةً لَهُ نَفْسَهُ أَوْ بَعْضَ أَهْلِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَثَانِيهُمَا: كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ رُوحُهُ تَنْقَلِبُ هَامَةً تَطِيرُ، وَهَذَا تَفْسِيرُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّوْعَيْنِ مَعًا، فَإِنَّهُمَا بَاطِلَانِ. (وَلَا صَفَرَ) قَالَ شَارِحٌ: كَانَتِ الْعَرَبُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ حَيَّةٌ فِي الْبَطْنِ، وَاللَّدْغُ الَّذِي يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ جُوعِهِ مِنْ عَضِّهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، قَالَ بَقَيَّةُ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ رَاشِدٍ عَنْهُ؟ قَالَ: كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِدُخُولِ صَفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا صَفَرَ» " قَالَ: وَسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ وَجْهٌ يَأْخُذُ فِي الْبَطْنِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُعْدِي. قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحِلُّونَ صَفَرًا عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا صَفَرَ» ". قَالَ النَّوَوِيُّ، قِيلَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ أَنَّ فِي الْبَطْنِ دَابَّةً تَهِيجُ عِنْدَ الْجُوعِ، وَرُبَّمَا قَتَلَتْ صَاحِبَهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَرَاهَا أَعْدَى مِنَ الْحَرْبِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ مُطَرِّفٌ، وَابْنُ عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعَانِي، فَإِنَّهَا كُلَّهَا بَاطِلَةٌ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ شَهْرَ صَفَرَ تَكْثُرُ فِيهِ الدَّوَاهِي وَالْفِتَنُ. (وَفِرَّ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ: اشْرُدْ وَبَالِغْ فِي الِاجْتِنَابِ وَالِاحْتِرَازِ (مِنَ الْمَجْذُومِ) : أَيِ الَّذِي بِهِ جُذَامٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ تَشَقُّقُ الْجِلْدِ، وَتَقَطُّعُ اللَّحْمِ وَتَسَاقُطُهُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ جُذِمَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، (كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا رُخْصَةٌ لِلضُّعَفَاءِ، وَتَرْكُهُ جَائِزٌ لِلْأَقْوِيَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُذَامَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ فَيُعْدِي بِإِذْنِ اللَّهِ، فَيَحْصُلُ مِنْهُ ضَرَرٌ، وَمَعْنَى لَا عَدْوَى نَفْيُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَرَضَ يُعْدِي بِطَبْعِهِ لَا بِفِعْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْمَجْذُومِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنَ الْعِلَلِ الْمُعْدِيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «إِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنَ الدَّاءِ يُعْدِي فَهُوَ هَذَا " يَعْنِي الْجُذَامَ» . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : أَيِ الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ، وَإِلَّا فَقَوْلَهُ: ( «لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ.

4578 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ " فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ لَكَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيُجَرِّبُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4578 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا بَالُ الْإِبِلِ) : أَيْ مَا شَأْنُ جَمَاعَةٍ مِنْهَا (تَكُونُ فِي الرَّمْلِ) : هُوَ خَبَرُ تَكُونُ، وَقَوْلُهُ: (لَكَأَنَّهَا) : أَيِ الْإِبِلُ (الظِّبَاءُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ الظَّبْيِ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِ فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِمَعْنَى النَّقَاوَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي التُّرَابِ رُبَّمَا يُلْصَقُ بِهِ شَيْءٌ (فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ) : أَيِ الَّذِي فِيهِ جَرَبٌ وَحَكَّةٌ (فَيُجَرِّبُهَا) ؟ مِنَ الْإِجْرَابِ أَيْ يَجْعَلُهَا جَرِبَةً بِإِعْدَائِهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ) ؟ أَيْ إِنْ كَانَ جَرَبُهَا حَصَلَ بِالْإِعْدَاءِ فَمَنْ أَعْدَى الْبَعِيرَ الْأَوَّلَ؟ وَالْمَعْنَى مَنْ أَوْصَلَ الْجَرَبَ إِلَيْهِ يَبْنِي بِنَاءَ الْإِعْدَاءِ عَلَيْهِ: بَلِ الْكُلُّ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَآخِرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَتَى بِمَنْ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: فَمَا أَعْدَى الْأَوَّلَ ; لِيُجَابَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ تَعَالَى أَيِ اللَّهُ أَعْدَى لَا غَيْرُهُ، وَذَكَرَ أَعْدَى لِلْمُشَاكَلَةِ وَالِازْدِوَاجِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: " كَمَا تَدِينُ تُدَانُ " يَعْنِي، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: فَمَنْ أَعْطَى تِلْكَ الْعِلَّةَ؟ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ أَنَّ قَوْلَهُ: (فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْهُ.

4579 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا نَوْءَ وَلَا صَفَرَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4579 - (وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا نَوْءَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: طُلُوعُ نَجْمٍ وَغُرُوبُ مَا يُقَابِلُهُ. أَحَدُهُمَا فِي الْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ عِنْدَهُ مِنْ مَطَرٍ أَوْ رِيحٍ يَنْسُبُونَهُ إِلَى الطَّالِعِ أَوِ الْغَارِبِ، فَنَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِحَّةَ ذَلِكَ. وَقَالَ شَارِحٌ: النَّوْءُ سُقُوطُ نَجْمٍ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ مَعَ طُلُوعِ الصُّبْحِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ نَجْمًا يَسْقُطُ فِي كُلِّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً نَجْمٌ مِنْهَا فِي الْمَغْرِبِ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَطْلُعُ آخَرُ مُقَابِلُهُ فِي الْمَشْرِقِ مِنْ سَاعَتِهِ. فِي النِّهَايَةِ: الْأَنْوَاءُ مَنَازِلُ الْقَمَرِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ عِنْدَ كُلِّ نَوْءٍ مَطَرًا وَيَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ فَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَوْءًا لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ السَّاقِطُ مِنْهَا بِالْمَغْرِبِ، فَالطَّالِعُ بِالْمَشْرِقِ يَنُوءُ نَوْءًا أَيْ يَنْهَضُ وَيَطْلَعُ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنَّوْءِ الْغُرُوبَ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ يُسْمَعْ فِي النَّوْءِ أَنَّهُ السُّقُوطُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا غَلَّظَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ الْأَنْوَاءِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَنْسُبُ الْمَطَرَ إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْمَطَرَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا أَيْ فِي وَقْتِ كَذَا، وَهُوَ هَذَا النَّوْءُ الْفُلَانِيُّ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَطَرُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى إِطْلَاقِهِ حَسْمًا لِمَادَّةِ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى لَا تَقُولُوا: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، بَلْ قُولُوا: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَلَا صَفَرَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4580 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا غُولَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4580 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا غُولَ) . بِالضَّمِّ قَالَ شَارِحٌ: الْغَوْلُ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ وَمَعْنَاهُ الْبُعْدُ وَالْأِهْلَاكُ، وَبِضَمِّ الْغَيْنِ الِاسْمُ مِنْهُ وَهُوَ مِنَ السَّعَالِي، وَفِي النِّهَايَةِ: أَنَّ الْغُولَ أَحَدُ الْغِيلَانِ وَهِيَ جِنْسٌ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْغُولَ فِي الْفَلَاةِ تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ أَيْ: فَتَتَغَوَّلُ تَغَوُّلًا أَيْ تَتَلَوَّنُ فِي صُوَرٍ شَتَّى، وَتَغُولُهُمْ أَيْ تُضِلُّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ وَتُهْلِكُهُمْ، فَنَفَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ قَوْلُهُ: " لَا غُولَ " لَيْسَ نَفْيًا لِعَيْنِ الْغُولِ وَوُجُودِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ إِبْطَالُ زَعْمِ الْعَرَبِ فِي تَلَوُّنِهِ بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاغْتِيَالِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: لَا غُولَ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضِلَّ أَحَدًا، وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: " لَا غُولَ وَلَكِنَّ السَّعَالِي " وَالسَّعَالِي سَحَرَةُ الْجِنِّ أَيْ: وَلَكِنْ فِي الْجِنَّةِ سَحَرَةٌ لَهُمْ تَلْبِيسٌ وَتَخَيُّلٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: " «إِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلَانُ فَبَادِرُوا بِالْأَذَانِ» " أَيِ ادْفَعُوا شَرَّهَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا لَا عَدَمِهَا، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ: كَانَ لِي ثَمَرَةٌ فِي سَهْوَةٍ، فَكَانَتِ الْغُولُ تَجِيءُ فَتَأْخُذُهُ، وَفِي شَرْحِ التُّورِبِشْتِيِّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْغُولَ قَدْ كَانَ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: هَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَظِيرُهُ مَنْعُ الشَّيَاطِينَ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ بِالشِّهَابِ الثَّاقِبِ. قُلْتُ: ثَبِّتِ الْعَرْشَ، ثُمَّ انْقُشْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِالِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ " لَا " ـ وَالَّتِي لِنَفِيِ الْجِنْسِ دَخَلَتْ عَلَى الْمَذْكُورَاتِ وَنَفَتْ ذَوَاتَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَنْفِيَّةٍ، فَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إِلَى أَوْصَافِهَا وَأَحْوَالِهَا الَّتِي هِيَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ، فَإِنَّ الْعَدْوَى وَصَفَرَ وَالْهَامَةَ وَالنَّوْءَ مَوْجُودَةٌ، وَالْمَنْفِيُّ هُوَ مَا زَعَمَتِ الْجَاهِلِيَّةُ إِثْبَاتَهَا، فَإِنَّ نَفْيَ الذَّاتِ لِإِرَادَةِ نَفْيِ الصِّفَاتِ أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] فَنَهَاهُمْ عَنِ الْمَوْتِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَقْدُرِهِمْ، فَالْمَنْهِيُّ هُوَ حَالَةُ إِذَا أَدْرَكَهُمُ الْمَوْتُ لَمْ يَجِدْهُمْ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، فَالْوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ.

4581 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4581 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ. ثَقَفِيٌّ تَابِعِيٌّ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَاهُ وَأَبَا رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ صَالِحُ بْنُ دِينَارٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ شَرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ حَضْرَمَوْتٍ، وَعِدَادُهُ فِي ثَقِيفٍ، وَقِيلَ: يُعَدُّ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ، وَحَدِيثُهُ فِي الْحِجَازِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ. (قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ (رَجُلٌ مَجْذُومٌ) أَيْ: وَأَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُبَايِعَهُ (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّا) أَيْ: بِأَنَّا أَوْ قَائِلًا إِنَّا (قَدْ بَايَعْنَاكَ) : أَيْ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ الْيَدِ فِي الْعَهْدِ (فَارْجِعْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى رُخْصَةٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَرَجَةُ التَّوَكُّلِ أَنْ يُرَاعِيَ الْأَسْبَابَ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ، مِنَ الْمَوْجُودَاتِ خَاصِّيَّةً وَأَثَرًا أَوْدَعَهَا فِيهِ الْحَكِيمُ جَلَّ وَعَلَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4582 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَفَاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ، وَكَانَ يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ» رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4582 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَفَاءَلُ) : مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ أَيْ يَطْلُبُ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَيَتَّبِعُهُ (وَلَا يَتَطَيَّرُ) أَيْ لَا يَتَشَاءَمُ بِشَيْءٍ (وَكَانَ يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ) . أَيْ وَيَتَفَاءَلُ بِهِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ وَيَتَشَاءَمُ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: " وَلَا يَتَطَيَّرُ "، نَعَمْ كَانَ يُغَيِّرُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ وَيُبَدِّلُهُ بَاسِمٍ حَسَنٍ، كَمَا وَقَعَ لَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ ضَعَفِ قَوْلِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ بَيَانٌ لِتَفَاؤُلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ وَبُرَيْدَةَ كَمَا سَيَجِيءُ، قُلْتُ: وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا سَيَجِيءُ (رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغْوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . وَكَأَنَّ الْمُؤَلِّفَ مَا بَلَغَهُ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْهُ.

4583 - وَعَنْ قَطَنِ بْنِ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعِيَافَةُ وَالطَّرْقُ وَالطِّيَرَةُ مِنَ الْجِبْتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4583 - (وَعَنْ قَطَنٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (ابْنِ قَبِيصَةَ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِلَالِيٌّ عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْهُ حِبَّانُ بْنُ عَلَاءَ، وَكَانَ قَطَنُ شَرِيفًا وَوُلِّيَ سِجِسْتَانَ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ قَبِيصَةُ بْنُ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيُّ، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ قَطَنٌ، وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْعِيَافَةُ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهِيَ زَجْرُ الطَّيْرِ وَالتَّفَاؤُلُ وَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِأَسْمَائِهَا، كَمَا يُتَفَاؤَلُ بِالْعُقَابِ عَلَى الْعِقَابِ، وَبِالْغُرَابِ عَلَى الْغُرْبَةِ، وَبِالْهُدْهُدِ عَلَى الْهُدَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الطِّيَرَةِ أَنَّ الطِّيَرَةَ هِيَ التَّشَاؤُمُ بِهَا، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّشَاؤُمِ بِغَيْرِ الطَّيْرِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْعِيَافَةُ زَجْرٌ.

التَّطَيُّرُ وَالتَّفَاؤُلُ بِأَسْمَائِهَا وَأَصْوَاتِهَا وَمَمَرِّهَا. وَهُوَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَبَنُو أَسَدٍ يُذْكَرُونَ بِالْعِيَافَةِ وَيُوصَفُونَ بِهَا. (وَالطَّرْقُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ الضَّرْبُ بِالْحَصَى الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ الْخَطُّ فِي الرَّمْلِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَاقْتَصَرَ الْفَائِقُ عَلَى الْأَوَّلِ وَأَنْشَدَ قَوْلَ لَبِيَدٍ: لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّكَهُّنِ (وَالطِّيَرَةُ) : أَيْ ثَلَاثَتُهَا (مِنَ الْجِبْتِ) . وَهُوَ السِّحْرُ وَالْكِهَانَةُ عَلَى مَا فِي الْفَائِقِ. وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهَا نَاشِئَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَقِيلَ: هُوَ السَّاحِرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْجِبْتِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4584 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ " قَالَهُ ثَلَاثًا " وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» . هَذَا عِنْدِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4584 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ) : أَيْ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الطِّيَرَةَ تَجْلِبُ لَهُمْ نَفْعًا أَوْ تَدْفَعُ عَنْهُمْ ضُرًّا، فَإِذَا عَمِلُوا بِمُوجِبِهَا فَكَأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ وَيُسَمَّى شِرْكًا خَفِيًّا. وَقَالَ شَارِحٌ: يَعْنِي مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ شَيْئًا سِوَى اللَّهِ يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ بِالِاسْتِقْلَالِ فَقَدْ أَشْرَكَ أَيْ شِرْكًا جَلِيًّا. وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا سَمَّاهَا شِرْكًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مَا يَتَشَاءَمُونَ بِهِ سَبَبًا مُؤَثِّرًا فِي حُصُولِ الْمَكْرُوهِ، وَمُلَاحَظَةُ الْأَسْبَابِ فِي الْجُمْلَةِ شِرْكٌ خَفِيٌّ، فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا جَهَالَةٌ وَسُوءُ اعْتِقَادٍ. (قَالَهُ ثَلَاثًا) مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهَا (وَمَا مِنَّا) : أَيْ أَحَدٌ (إِلَّا) . أَيْ إِلَّا مَنْ يَخْطُرُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الطِّيَرَةِ شَيْءٌ مَا لِتَعَوُّدِ النُّفُوسِ بِهَا، فَحَذَفَ الْمُسْتَثْنَى كَرَاهَةَ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ إِلَّا مَنْ يَعْرِضُ لَهُ الْوَهْمُ مِنْ قِبَلِ الطِّيَرَةِ، وَكَرِهَ أَنْ يُتِمَّ كَلَامَهُ ذَلِكَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْحَالَةِ الْمَكْرُوهَةِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَدَبِ الْكَلَامِ يَكْتَفِي دُونَ الْمَكْرُوهِ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ فَلَا يَضْرِبُ لِنَفْسِهِ مَثَلَ السَّوْءِ. (وَلَكِنَّ اللَّهَ) : الرِّوَايَةُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَنَصْبِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ وَرَفْعُهَا (يُذْهِبُهُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِذْهَابِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ أَيْ يُزِيلُ ذَلِكَ الْوَهْمَ الْمَكْرُوهَ. (بِالتَّوَكُّلِ) : أَيْ بِسَبَبِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالْإِسْنَادِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْخَطْرَةَ لَيْسَ بِهَا عِبْرَةٌ، فَإِنْ وَقَعَتْ غَفْلَةً لَا بُدَّ مِنْ رَجْعَةٍ وَأَوْبَةٍ مِنْ حَوْبَةٍ، كَمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَكَفَّارَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ. وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» ". وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مَا يَنْصُرُهُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْمَبْنَى وَغَفْلَتِهِ عَنِ الْمَعْنَى، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: " يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ " جَاءَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا، وَعَلَى الثَّانِي اجْتَمَعَ فِيهِ حَرْفَا التَّعْدِيَةِ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِذْهَابِ مَا يَخْطُرُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ لَمَّةِ الْمَلَكِ الْمُذْهِبَةِ لِلَمَّةِ الشَّيْطَانِ اهـ. وَفِيهِ أَبْحَاثٌ ثَلَاثَةٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَوْلُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِعْلًا لَازِمًا، وَقَدِ اجْتَمَعَتِ النُّسَخُ عَلَى وُجُودِ الضَّمِيرِ الْبَارِزِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ يَخْتَلُّ الْمَعْنَى، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُ. وَفَسَادُهُ لَا يَخْفَى، وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ مَعَ كَسْرِ الْهَاءِ صَحِيحٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُ اجْتَمَعَ فِيهِ حَرْفَا التَّعْدِيَةِ لِلتَّأْكِيدِ غَلَطٌ صَرِيحٌ، فَإِنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ، وَإِلَّا لَفَسَدَ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَآلُ الْكَلَامِ لَكِنَّ اللَّهَ يُزِيلُ التَّوَكُّلَ. وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ الِاسْتِدْرَاكِ، فَإِنَّهُ وَهْمٌ بَاهِرٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْإِذْهَابِ مَا يَخْطُرُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ لَمَّةِ الْمَلَكِ الْمُذْهِبَةِ لِلَمَّةِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ وَكَوْنِهِ مُنَاقِضًا لِكَلَامِهِ السَّابِقِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ أَنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ الْمُذْهَبُ بِسَبَبِ الْهَمْزَةِ، وَبَاءُ التَّعْدِيَةِ مَقْلُوبُ الْمَعْنَى هُنَا، لِأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ أَوْ بِالْمُذْهَبِ مَا يَخْطُرُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ الْمُذْهِبَةِ لِلَمَّةِ الْمَلَكِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ كَمَا تَحَقَّقَ بَحْثُهُمَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : أَيِ الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ مَرْفُوعًا، لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ لِلْمُحْدَثِينَ.

(وَقَالَ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ (سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ) : أَيِ الْبُخَارِيُّ (يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) : أَيِ الْبَصْرِيُّ قَاضِيَ مَكَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِ الْبَصْرِيِّينَ وَعُلَمَائِهِمْ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ إِمَامٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ قَدْ ظَهَرَ مِنْ حَدِيثِهِ نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ حَدِيثٍ، وَمَا رَأَيْتُ فِي يَدِهِ كِتَابًا قَطُّ، وَلَقَدْ حَضَرْتُ مَجْلِسَهُ بِبَغْدَادَ، فَحَرَزُوا مَنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ رَجُلٍ، وُلِدَ فِي صَفَرَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَطَلَبَ الْحَدِيثَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَلَزِمَ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ. (يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) : أَيْ فِي تَحْقِيقِ شَأْنِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا مَنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ. هَذَا) : أَيْ قَوْلُهُ: وَمَا مِنَّا إِلَخْ. (عِنْدِي قَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ) . أَيْ فِي ظَنِّي أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَرْفُوعُ قَوْلُهُ: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ فَقَطْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. رَوَاهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا، بِدُونِ الزِّيَادَةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4585 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ، وَقَالَ: " كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4585 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ) بِفَتْحِ الْقَافِ فَفِيهِ غَايَةُ التَّوَكُّلِ، وَنِهَايَةُ التَّجَمُّلِ مِنْ جِهَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: الْأَخْذُ بِيَدِهِ، وَثَانِيهِمَا الْأَكْلُ مَعَهُ، وَقَدْ وَرَدَ: كُلْ مَعَ صَاحِبِ الْبَلَاءِ تَوَاضُعًا لِرَبِّكَ وَإِيمَانًا. رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ. (وَقَالَ: كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ) بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْوُثُوقِ كَالْعِدَةِ وَالْوَعْدِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ كُلْ مَعِي أَثِقُ ثِقَةً بِاللَّهِ أَيِ اعْتِمَادًا بِهِ تَفْوِيضًا لِلْأَمْرِ إِلَيْهِ (وَتَوَكُّلًا) : أَيْ وَأَتَوَكَّلُ تَوَكُّلًا (عَلَيْهِ) . وَالْجُمْلَتَانِ حَالَانِ ثَانِيَتُهُمَا مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى نَاظِرَةً إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّقْدِيرِ، وَالثَّانِيَةُ إِلَى مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّغْيِيرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّأْسِيسَ بِالتَّقْيِيدِ أَوْلَى مِنْ مُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، وَحَاصِلُهُ قَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ وَمَحَطُّ الْبَصَرِ عَلَى مُشَاهَدَةِ أَفْعَالِ رَبِّ الْأَرْبَابِ، فَإِنَّ الْعِلَلَ الْمُعْدِيَةَ لَهَا تَأْثِيرٌ عِنْدَ النُّفُوسِ الرَّدِيَّةِ، مَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعْصُومُونَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُنَفِّرَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا دَرَجَةُ الْمُتَوَكِّلِ فِي مُتَارَكَةِ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا حَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاحْتِرَازُ عَنِ الْمَجْذُومِ رُخْصَةٌ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَصَاحِبُهَا مَحْذُوفٌ؛ أَيْ كُلْ مَعِي وَاثِقًا بِاللَّهِ تَعَالَى أَيْ حَالُ كَوْنِي وَاثِقًا بِاللَّهِ وَمُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي حَالٌ مِنْ فَاعِلٍ. قَالَ: وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَيْ كُلْ، مَنِ اسْتَأْنَفَ بِقَوْلِهِ: أَثِقُ بِاللَّهِ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ دِرَايَةً لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالًا خِلَافَ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ فِي خِلَافِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، فَلَوْ قَالَ نَصَبَهُمَا عَلَى الْعِلَّةِ لَكَانَ أَوْلَى، كَمَا لَا يَخْفَى، لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ رِوَايَةً لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي، فَفِيهِ انْفِكَاكُ الْكَلَامِ وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . وَفِي الْحِصْنِ: «وَإِنْ أَكَلَ مَعَ مَجْذُومٍ أَوْ ذِي عَاهَةٍ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ السُّنِّيِّ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «كُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَجْمُوعَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَرْفُوعِ خِلَافًا لِمَا جَعَلَهُ الطِّيبِيُّ مِنَ التَّرْكِيبِ الْمَرْفُوعِ، وَأَمَّا تَرْكُ الْمُؤَلِّفِ الْبَسْمَلَةَ مَعَ وُجُودِهَا فِي الْأُصُولِ، فَإِمَّا مَحْمُولَةٌ عَلَى رِوَايَةٍ مُنْفَرِدَةٍ غَرِيبَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ، أَوْ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ أَوِ الْمَصَابِيحِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

4586 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا هَامَةَ وَلَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ. وَإِنْ تَكُنِ الطِّيَرَةُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ، وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4586 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا هَامَةَ وَلَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَإِنْ تَكُنِ الطِّيَرَةُ) : أَيْ صَحِيحَةٌ أَوْ أَنْ تَقَعَ وَتُوجَدَ (فِي شَيْءٍ) : أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ (فَفِي الدَّارِ) : أَيْ فَهِيَ فِي الدَّارِ الضَّيِّقَةِ (وَالْفَرَسِ) : أَيِ الْجَمُوحُ (وَالْمَرْأَةِ) : أَيِ السَّلِيطَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ فَرْضَ وَجُودِهَا تَكُونُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ بِلَفْظِ: " «إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ» "، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ نَفْيُ صِحَّةِ الطِّيَرَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» ) فَلَا يُنَافِيهُ حِينَئِذٍ عُمُومُ نَفْيِ الطِّيَرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَيْ لَا تَكُونُ الطِّيَرَةُ إِلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ غَالِبِ وُقُوعِهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا وَقَعَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهَا، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَا يَقَعُ عَنِ الْيَمَنِ بِمَعْزِلٍ فَلَا يُبَارَكُ لِصَاحِبِهِ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «ذَرُوهَا ذَمِيمَةً» ". وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مَخْفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا بِالتَّخْمِينِ وَالظَّنِّ أَتَى فِيهِ بِصِيغَةِ التَّرَدُّدِ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ أَحَدٌ عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالطِّيَرَةِ الْكَرَاهَةَ الطَّبِيعِيَّةَ لَا التَّشَاؤُمَ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَرِهْتُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَأَبْدِلُوهَا بِالْأُخْرَى. قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ وَمَقْصِدٌ مُسْتَحْسَنٌ لَوْلَا أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: " فَإِنْ يَكُنِ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ " إِلَخْ. هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَكَثِيرُونَ: هُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الطِّيَرَةِ أَيِ الطِّيَرَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ خَارِجَةً مِنْ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَيِ الشُّؤْمُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْمَرْأَةُ وَالْفَرَسُ وَالدَّارُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «الشُّؤْمُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ» "، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: " «ذَرُوهَا ذَمِيمَةً» ". قُلْتُ: وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ مَآلًا، وَإِنَّمَا قَالُوا فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مِنَ الْأَدَاءِ شَيْءٌ، بَلْ وَقَعَتْ بَعْدَ نَفْيِ الطِّيَرَةِ وَنَهْيِهَا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ قَدْ يُسْتَفَادُ مِنْهَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] قُلْتُ: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ كَوْنِ الْحَدِيثِ مِنْ بَابِ الْآيَةِ فَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ. فَقِيلَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَعْنَى اللَّازِمِ لِلنَّهْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ بِنِكَاحِ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، أَوْ مِنْ لَفْظِ مَا نَكَحَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّعْمِيمِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ وَيَسُدُّ الطَّرِيقَ فِي إِبَاحَتِهِ كَمَا تَعَلَّقَ بِالْمُحَالِ فِي التَّأْيِيدِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} [الأعراف: 40] وَالْمَعْنَى، وَلَا تَنْكِحُوا حَلَائِلَ آبَائِكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ، فَإِنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُقَرَّرٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُلَائِمُ الْمَقَامَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ، نَعَمْ بِحَسَبِ الْمَعْنَى يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوْسَطِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الطِّيبِيِّ عَطْفًا عَلَى بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» ) وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ: وَوَجْهُ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: وَلَا طِيَرَةَ بِهَذِهِ الشَّرْطِيَّةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّؤْمَ أَيْضًا مَنْفِيٌّ عَنْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشُّؤْمَ لَوْ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي شَيْءٍ لَكَانَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهَا أَقْبَلُ الْأَشْيَاءَ لَهَا، لَكِنْ لَا وُجُودَ لَهُ فِيهَا فَلَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا اهـ. كَلَامُهُ. فَعَلَى هَذَا الشُّؤْمُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ الَّتِي سَبَبُهَا مَا فِي الْأَشْيَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ أَوِ الطَّبْعِ، كَمَا قِيلَ: شُؤْمُ الدَّارِ ضِيقُهَا وَسُوءُ جِيرَانِهَا، وَكَذَا شُبْهَةٌ فِي سُكْنَاهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْجَمَاعَةِ بِحَيْثُ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ، وَشُؤْمُ الْمَرْأَةِ عَدَمُ وِلَادَتِهَا وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا وَغَلَاءُ مَهْرِهَا، وَنَحْوُهَا مَنْ حَمَلَهَا الزَّوْجُ عَلَى مَا لَا يَلِيقُ بِأَرْبَابِ التَّقْوَى، وَشُؤْمُ الْفُرْسِ أَنْ لَا يُغْزَى عَلَيْهَا أَوْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا افْتِخَارًا وَخُيَلَاءَ، وَقِيلَ: حِرَانُهَا وَغَلَاءُ ثَمَنِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ دَارٌ يَكْرَهُ سُكْنَاهَا، أَوِ امْرَأَةٌ يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا، أَوْ فَرَسٌ لَا تُعْجِبُهُ، فَلْيُفَارِقْهَا بِأَنْ يَنْتَقِلَ عَنِ الدَّارِ، وَيُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ، وَيَبِيعَ الْفَرَسَ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ مَا عَدَّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكَرَاهَةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثُرَ فِيهِ عَدَدُنَا إِلَخْ. " ذَرُوهَا ذَمِيمَةً» فَأَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا عَلَى اسْتِثْقَالٍ لِظِلِّهَا وَاسْتِيحَاشٍ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا لِيَزُولَ عَنْهُمْ مَا يَجِدُونَ مِنَ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهَا سَبَبٌ فِي ذَلِكَ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَغْيِيرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيَّةِ، بَلْ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ تَشَبُّهٌ بِالتَّطَيُّرِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَفِي الْجَامِعِ: " «إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَالشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

4587 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَنْ يَسْمَعَ: يَا رَاشِدُ، يَا نَجِيحُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4587 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْجِبُهُ) : أَيْ يَسْتَحْسِنُهُ وَيَتَفَاءَلُ بِهِ (إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَنْ يَسْمَعَ: يَا رَاشِدُ) أَيْ وَاجِدُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ (يَا نَجِيحُ) . أَيْ مَنْ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ، وَالْمُرَادُ هَذَا وَأَمْثَالُهُ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4588 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، فَإِذَا بَعَثَ عَامِلًا سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ، فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ، وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا، فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4588 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ) أَيْ مِنْ جِهَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِذَا أَرَادَ فِعْلَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ " مِنْ " مُرَادِفَةً لِلْبَاءِ، فَالْمَعْنَى مَا كَانَ يَتَطَيَّرُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَطَيَّرُ بِهِ النَّاسُ، (فَإِذَا بَعَثَ عَامِلًا) : أَيْ أَرَادَ إِرْسَالَ عَامِلٍ (سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ، إِذَا أَعْجَبَهُ اسْمَهُ فَرِحَ بِهِ، وَرُئِيَ) : أَيْ وَظَهَرَ (بِشْرُ ذَلِكَ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أَثَرُ بَشَاشَتِهِ وَانْبِسَاطِهِ (فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ) : أَيْ ذَلِكَ الِاسْمُ الْمَكْرُوهُ (فِي وَجْهِهِ) : أَيْ: وَغَيَّرَ ذَلِكَ الِاسْمَ إِلَى اسْمٍ حَسَنٍ، فَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا بَعَثْتُمْ إِلَيَّ رَجُلًا فَابْعَثُوهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الِاسْمِ» . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْتَارَ الْإِنْسَانَ لِوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَكْرُوهَةَ قَدْ تُوَافِقُ الْقَدَرَ كَمَا لَوْ سُمِّيَ أَحَدٌ ابْنَهُ بِخَسَارٍ، فَرُبَّمَا جَرَى قَضَاءُ اللَّهِ لِأَنْ يَلْحَقَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ أَوِ ابْنِهِ خَسَارٌ، فَيَعْتَقِدُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ اسْمِهِ، فَيَتَشَاءَمُونَ وَيَحْتَرِزُونَ عَنْ مُجَالَسَتِهِ وَمُوَاصَلَتِهِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَخْتَارَ لِوَلَدِهِ وَخَدَمِهِ الْأَسْمَاءَ الْحَسَنَةَ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَكْرُوهَةَ قَدْ تُوَافِقُ الْقَدَرَ. رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِرَجُلٍ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: جَمْرَةٌ. قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ شِهَابٍ. قَالَ: مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنَ الْحِرَاقَةِ. قَالَ: أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قَالَ: بِحُرَّةِ النَّارِ. قَالَ: بِأَيِّهَا؟ قَالَ: بِذَاتِ لَظًى، فَقَالَ عُمَرُ: أَدْرِكْ أَهْلَكَ فَقَدِ احْتَرَقُوا، فَكَانَ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، اهـ. وَلَعَلَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا قِيلَ: إِنَّ الْأَسْمَاءَ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَالْحَدِيثُ فِي الْجُمْلَةِ يَرُدُّ عَلَى مَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَسْمِيَةِ أَوْلَادِهِمْ بِأَسْمَاءٍ قَبِيحَةٍ، كَكَلْبٍ، وَأَسَدٍ، وَذِئْبٍ. وَعَبِيدِهِمْ، بِرَاشِدٍ وَنَجِيحٍ وَنَحْوِهِمَا. مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ أَبْنَاءَنَا لِأَعْدَائِنَا وَخَدَمِنَا لِأَنْفُسِنَا. (وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا، فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ) : أَيْ بِهِ كَمَا فِي الْأَصْلِ الْأَصَحِّ أَيْ بِاسْمِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَا أَيْ بِتِلْكَ الْقَرْيَةِ، أَوْ بِاسْمِهَا عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَوِ اكْتَسَبَ تَأْنِيثٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. (وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ) . لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَيَّرُ بِالْأَسْمَاءِ الْقَبِيحَةِ كَمَا يُوهِمُهُ إِيرَادُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ مَحَلَّهُ بَابُ الْأَسْمَاءِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَاعَى صَدْرَ الْحَدِيثِ، فَأَوْرَدَهُ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَتِهِ؛ نَفْيُ التَّطَيُّرِ مُطْلَقًا.

(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيِ: الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ، وَلَعَلَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ حَدِيثَيْنِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْجَامِعِ، مِنْ أَنَّ الْحَكِيمَ التِّرْمِذِيَّ، وَالْبَغَوِيَّ، رَوَيَا عَنْ بُرَيْدَةَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ، وَلَكِنْ يَتَفَاءَلُ» . وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ «يَتَفَاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ، وَكَانَ يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ» .

4589 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثُرَ فِيهَا عَدَدُنَا وَأَمْوَالُنَا، فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ قَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا وَأَمْوَالُنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَرُوهَا ذَمِيمَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4589 - (وَعَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثُرَ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ - (فِيهَا عَدَدُنَا) أَيْ: أَهْلُونَا (وَأَمْوَالُنَا، فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ قَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا، وَأَمْوَالُنَا) . وَالْمَعْنَى أَنَتْرُكْهَا وَنَتَحَوَّلُ إِلَى غَيْرِهَا؟ أَوْ هَذَا مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؟ (فَقَالَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي نُسْخَةٍ: (ذَرُوهَا ذَمِيمَةً) . أَيِ: اتْرُكُوهَا مَذْمُومَةً، " فَعِيلَةٌ " بِمَعْنَى: " مَفْعُولَةٍ " كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْمَعْنَى: اتْرُكُوهَا بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا حَالَ كَوْنِهَا مَذْمُومَةً ; لِأَنَّ هَوَاءَهَا غَيْرُ مُوَافِقٍ لَكُمْ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا إِبْطَالًا لِمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ الْمَكْرُوهَ، إِنَّمَا أَصَابَهُمْ بِسَبَبِ السَّكَنِ، فَإِذَا تَحَوَّلُوا عَنْهَا انْقَطَعَتْ مَادَّةُ ذَلِكَ الْوَهْمِ، وَزَالَ عَنْهُمْ مَا خَامَرَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4590 - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ يَقُولُ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عِنْدَنَا أَرْضٌ يُقَالُ لَهَا أَبْيَنُ، وَهِيَ أَرْضُ رِيفِنَا وَمِيرَتِنَا، وَإِنَّ وَبَاءَهَا شَدِيدٌ، فَقَالَ: " دَعْهَا عَنْكَ فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4590 - (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ فَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَرَاءٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: صَنْعَانِيٌّ، رَوَى عَمَّنْ سَمِعَ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ، وَعَنْهُ مَعْمَرٌ. (قَالَ) أَيْ: يَحْيَى (أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ فَرْوَةَ) : بِفَتْحِ فَاءٍ وَسُكُونِ رَاءٍ (ابْنَ مُسَيْكٍ) : تَصْغِيرٌ مِسْكٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُرَادِيٌّ غُطَيْفِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ تِسْعٍ فَأَسْلَمَ وَانْتَقَلَ إِلَى الْكُوفَةِ زَمَنَ عُمَرَ وَسَكَنَهَا، رَوَى عَنْهُ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مِنْ وُجُوهِ قَوْمِهِ وَمُقَدَّمِيهِمْ، وَكَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا. (يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عِنْدَنَا أَرْضٌ يُقَالُ لَهَا أَبْيَنُ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ فَنُونٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ رَجُلٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَدَنٌ، وَيُقَالُ: عَدَنٌ أَبْيَنُ فِي النِّهَايَةِ، هُوَ بِوَزْنِ أَحْمَرَ قَرْيَةٌ إِلَى جَانِبِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْيَمَنِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَدِينَةِ عَدَنٍ (وَهِيَ أَرْضُ رِيفِنَا) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ فَفَاءٍ، وَهُوَ الْأَرْضُ ذَاتُ الزَّرْعِ وَالْخِصْبِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ، قَوْلُهُ: رِيفُنَا أَيْ: يَحْصُلُ لَنَا فِيهَا الثِّمَارُ، وَالنَّبَاتُ، وَالرِّيعُ الزِّيَادَةُ (وَمِيرَتِنَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى رِيفِنَا أَيْ: طَعَامُنَا الْمَجْلُوبُ، أَوِ الْمَنْقُولُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ (وَإِنَّ وَبَاءَهَا) أَيْ: وَخْمُهَا النَّاشِئُ عَنْ كَثَافَةِ هَوَائِهَا (شَدِيدٌ) أَيْ: قَوِيٌّ كَثِيرٌ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِوَبَائِهَا شُؤْمُهَا، وَلَعَلَّ هَذَا سَبَبُ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَقَالَ: دَعْهَا عَنْكَ) أَيْ: اتْرُكْهَا عَنْ دُخُولِكَ فِيهَا، وَالتَّرَدُّدِ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَلَدِ الطَّاعُونِ (فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ) بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الدُّخُولَ فِي أَرْضٍ بِهَا وَبَاءٌ مِنْ مُدَانَاةِ الْمَرَضِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَرَفُ " مُلَابَسَةُ الدَّاءِ وَمُدَانَاةُ الْمَرَضِ " وَالتَّلَفُ " الْهَلَاكُ ". قِيلَ: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَدْوَى، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الطِّبِّ، فَإِنَّ اسْتِصْلَاحَ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْأَبْدَانِ، وَفَسَادَ الْهَوَاءِ، مِنْ أَسْرَعِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْأَسْقَامِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

االْفَصْلُ الثَّالِثُ 4591 - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ، وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4591 - (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيٌّ تَابِعِيٌّ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ، رَوَى عَنْهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الطِّيَرَةِ وَهُوَ مُرْسَلٌ. (قَالَ) أَيْ: عُرْوَةُ (ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ) سَبَقَ نَظِيرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: خَيْرُهَا الْفَأْلُ، وَتَقَدَّمَ تَأْوِيلُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ. (وَلَا تَرُدُّ) أَيِ: الطِّيَرَةُ (مُسْلِمًا) وَالْجُمْلَةُ عَاطِفَةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحْسَنَ الطِّيَرَةِ مَا يُشَابِهُ الْفَأْلَ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَمْنَعُ الطِّيَرَةُ مُسْلِمًا عَنِ الْمُضِيِّ فِي حَاجَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ الْكَامِلِ، بَلْ شَأْنُهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَيَمْضِي فِي سَبِيلِهِ بِنُورِهِ عَلَى غَايَةِ حُضُورِهِ، وَنِهَايَةِ سُرُورِهِ. (فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ) أَيْ: إِذَا رَأَى مِنَ الطِّيَرَةِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ. (فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ) أَيْ: بِالْأُمُورِ الْحَسَنَةِ الشَّامِلَةِ لِلنَّعْمَةِ وَالطَّاعَةِ (إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ) أَيِ: الْأُمُورُ الْمَكْرُوهَةُ الْكَافِلَةُ لِلنِّقْمَةِ وَالْمَعْصِيَةِ (إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ) أَيْ: عَلَى دَفْعِ السَّيِّئَةِ (وَلَا قُوَّةَ) أَيْ: عَلَى تَحْصِيلِ الْحَسَنَةِ (إِلَّا بِاللَّهِ) . هُوَ فِي أَصْلِ الْحِصْنِ: إِلَّا بِكَ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْكَلَامِ، وَفِي الْحَاشِيَةِ إِلَّا بِاللَّهِ، وَعَلَيْهِ رَمْزُ (مص) إِشَارَةٌ إِلَى مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَإِنَّهُ مُشَارِكٌ لِأَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلًا) أَيْ: لِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، لَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَكَذَا فِي التَّقْرِيبِ أَيْضًا، وَعَلَى هَذَا فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب الكهانة]

[بَابُ الْكِهَانَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4592 - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ. قَالَ: " فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ ". قَالَ: قُلْتُ: كُنَّا نَتَطَيَّرُ. قَالَ: " ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَصُدَنَّكُمْ ". قَالَ، قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يُخْطِئُونَ. قَالَ: " كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (2) بَابُ الْكِهَانَةِ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَكَسْرِهَا كَذَا فِي النُّسَخِ، وَفِي الْقَامُوسِ كَهَنَ لَهُ كَمَنَعَ، وَنَصَرَ، وَكَرَمَ كَهَانَةً بِالْفَتْحِ قَضَى لَهُ بِالْغَيْبِ، وَحِرْفَتُهُ الْكِهَانَةُ بِالْكَسْرِ اهـ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْأَخْبَارُ الْمَسْتُورَةُ مِنَ النَّاسِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ كَهَنَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّ لَهُ تَابِعًا مِنَ الْجِنِّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ، وَيُرْوَى: «أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَتُلْقِيَهُ إِلَى الْكَهَنَةِ فَتَزِيدُ فِيهِ مَا تَزِيدُ فَتَقْبَلُهُ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا بَعَثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " حُرِسَتِ السَّمَاءُ وَبَطَلَتِ الْكِهَانَةُ» ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْأُمُورَ بِمُقَدِّمَاتِ، أَسْبَابٌ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى مَوَاقِعِهَا مِنْ كَلَامِ مَنْ يَسْأَلُهُ، أَوْ فِعْلِهِ، أَوْ حَالِهِ، وَهَذَا يَخُصُّونَهُ بِاسْمِ الْعَرَّافِ، كَالَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِهَا ". الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4592 - (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ) : بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: سَلَمِيٌّ، كَانَ نَزَلَ الْمَدِينَةَ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ كَثِيرٌ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُمَا مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةً. (قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُمُورًا) : مَنْصُوبٌ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ وَفَائِدَتُهُ التَّفْخِيمُ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: نَفْعَلُهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا (كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ) بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ جَمْعُ كَاهِنٍ، وَالْمَعْنَى: كُنَّا نَأْتِيهِمْ وَنَسْتَخْبِرُ مِنْهُمْ أُمُورًا (قَالَ: فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ) أَيْ: لَا تَعْتَقِدُوا صِدْقَهُمْ فِي أَخْبَارِهِمْ (قَالَ) أَيْ: مُعَاوِيَةُ (قُلْتُ: كُنَّا نَتَطَيَّرُ) أَيْ: نَتَشَاءَمُ بِالطَّيْرِ وَنَحْوِهَا (قَالَ: ذَلِكَ شَيْءٌ) أَيْ: مِنْ قِبَلِ الظُّنُونِ الْمُعْتَرِضَةِ بِحُكْمِ الْبَشَرِيَّةِ (يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ)

أَيْ وَلَا تَأْثِيرَ مِنْهُ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ نَفْيٌ لِلتَّطَيُّرِ بِالْبُرْهَانِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَطَيَّرُوا كَمَا قَالَ: فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ، يَعْنِي: لَا تَطَيُّرَ، فَإِنَّ الطِّيَرَةَ لَا وُجُودَ لَهَا، بَلْ هِيَ شَيْءٌ يُوجَدُ فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَا يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ قِبَلِ الظُّنُونِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ ضَرَرٌ (فَلَا يَصُدَنَّكُمْ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: لَا يَمْنَعُكُمُ التَّطَيُّرُ عَنِ الْمُضِيِّ فِي حَاجَتِكُمْ، وَعَنِ الْأَمْرِ الَّذِي قَصَدْتُمْ فِي خَاطِرِكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَهُنَا، فَإِنَّهُ نَهَى مَا يَجِدُ فِي النَّفْسِ عَنِ الصَّدِّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَنْهِيُّ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ. (قَالَ: قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يُخْطِئُونَ) . بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ غَيَّرَ النَّسَقَ فِي التَّفْصِيلِ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى امْتِيَازِ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الَّذِينَ خَطُّوا مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِبَقِيَّةِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مَضَى بَحْثُهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ. (قَالَ: كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) : قِيلَ: دَانْيَالُ وَقِيلَ: إِدْرِيسُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ (يَخُطُّ) أَيْ: بِأَمْرٍ إِلَهِيٍّ أَوْ عِلْمٍ لَدُنِّيٍّ (فَمَنْ وَافَقَ) أَيْ: خَطُّهُ (خَطَّهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ فَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ (فَذَاكَ) أَيْ: مُصِيبٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَرَامٌ ; لِأَنَّ الْمُوَافَقَةَ مَعْدُومَةٌ أَوْ مَوْهُومَةٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4593 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذِبَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4593 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: سَأَلَ أُنَاسٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْكُهَّانِ) أَيْ: هَلْ لَهُمْ عَلِمٌ بِشَيْءٍ؟ (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسُوا) وَفِي نُسَخَةٍ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا (بِشَيْءٍ) أَيْ: يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، فَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَى أَخْبَارِهِمْ، وَلَا تَعْتَقِدُوا فِي أَخْبَارِهِمْ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّهُمْ) تَعْلِيلٌ لِمُقَدَّرٍ، أَيْ: نَفْيُ تَصْدِيقِ إِخْبَارِهِمْ عَلَى إِطْلَاقِهِ مُشْكِلٌ، فَإِنَّهُمْ (يُحَدِّثُونَ) أَيْ: يُخْبِرُونَ (أَحْيَانًا) أَيْ: فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ (بِالشَّيْءِ يَكُونُ) : صِفَةٌ أَوْ حَالٌ، أَيْ: يَصِيرُ (حَقًّا) . أَيْ: صِدْقًا مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ) أَيْ: مِنَ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَالصِّدْقِ الثَّابِتِ الْمَسْمُوعِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَخَذُوا مِنَ الْحَقِّ بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ، أَوْ بِمُكَاشَفَةِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: مِنَ الْجِنِّ أَيْ: مَسْمُوعَةٌ مِنْهُمْ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى إِذِ الْكُهَّانُ يَسْمَعُونَ مِنَ الْجِنِّ وَهُمْ يَسْمَعُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ) أَيْ: يَسْرِقُهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِسُرْعَةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: بِالْجِيمِ وَالنُّونِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ فِي بِلَادِنَا، وَرُوِي أَيْضًا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ، وَقَوْلُهُ: (فَيَقُرُّهَا) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّجَاجَةِ بِالدَّالِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ: الْقَرُّ تَرْدِيدُكَ الْكَلَامَ فِي أُذُنِ الْمُخَاطَبِ حَتَّى يَفْهَمَهُ. تَقُولُ قَرَرْتُهُ أَقُرُّهُ قَرًّا، وَقَرُّ الدَّجَاجَةِ صَوْتُهَا إِذَا قَطَعَتْهُ، يُقَالُ: قَرَّتْ تَقِرُّ قَرًّا وَقَرِيرًا، فَإِنْ رَدَّدَتْهُ قُلْتَ: قَرَّرَتْ قَرْقَرَةً، وَيُرْوَى قَرُّ الزُّجَاجَةِ بِالزَّايِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثُبُوتُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِهِ كَمَا تَقُرُّ الْقَارُورَةُ اهـ. وَاخْتَارَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَرَدَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَوَاهُ: قَرُّ الزُّجَاجَةِ بِالزَّايِ، وَأَرَاهَا أَحْفَظَ الرِّوَايَتَيْنِ لِمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: قَرُّ الْقَارُورَةِ، يُقَالُ: قَرَرْتُ عَلَى رَأْسِهِ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ، أَيْ: صَبَبْتُ، وَقَرَّ الْحَدِيثَ فِي أُذُنِهِ يَقُرُّهُ كَأَنَّهُ صَبَّهُ فِيهَا، وَاسْتِعْمَالُ قَرِّ الْحَدِيثِ فِي الْأُذُنِ شَائِعٌ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَسَّرُوا عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، لَمْ نَجِدْ لَهُ شَاهِدًا فِي كَلَامِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّجَاجَةَ بِالدَّالِ تَصْحِيفٌ أَوْ غَلَطٌ مِنَ السَّامِعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا ارْتِيَابَ أَنَّ قَرَّ الدَّجَاجَةِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، فَكَمَا يَصِحُّ أَنْ يُشَبَّهَ تَرْدِيدُ مَا اخْتَطَفَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ بِصَبِّ الْمَاءِ فِي الْقَارُورَةِ يَصِحُّ أَنْ يُشَبَّهَ تَرْدِيدُ كَلَامِ الْجِنِّيِّ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ بِتَرْدِيدِ الدَّجَاجَةِ صَوْتَهَا فِي أُذُنِ صَوَاحِبِهَا، كَمَا تُشَاهِدُ الدِّيَكَةَ إِذَا وَجَدَتْ حَبَّةً، أَوْ شَيْئًا تَقِرُّ وَتُسْمِعُ صَوَاحِبَهَا، فَيَجْتَمِعْنَ عَلَيْهَا، وَبَابُ التَّشْبِيهِ مِمَّا فِيهِ وُسْعٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَّا إِلَى الْعَلَاقَةِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِطَافَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْكَلَامِ مِنْ خَطْفِ الطَّيْرِ. قَالَ

تَعَالَى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج: 31] ، فَتَكُونُ الدَّجَاجَةُ أَنْسَبَ مِنَ الْقَارُورَةِ لِحُصُولِ التَّرْشِيحِ فِي الِاسْتِعَارَةِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ مَا ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ قَرُّ الدَّجَاجَةِ بِالدَّالِ فَصُحِّفَ إِلَى قَرِّ الزُّجَاجَةِ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّجَاجَةَ فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ لَا غَيْرَ، وَهِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الدَّجَاجَةُ مَعْرُوفٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَأَمَّا الزُّجَاجَةُ فَهِيَ بِضَمِّ الزَّايِ كَمَا لَا يَخْفَى إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: فَيَقُرُّهَا، أَيْ: يَصُبُّ الْجِنِّيُّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ بِمَعْنَى: يُلْقِيهَا أَوْ يُصَوِّتُ بِهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، أَيْ: مِنَ الْكُهَّانِ. قَرَّ الدَّجَاجَةِ أَيْ: مِثْلُ صَوْتِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَى يَقُرُّهَا يَصُبُّهَا، وَكَقَرِّ الدَّجَاجَةِ، أَيْ: كَصَبِّهَا الْمَنِيَّ فِي صَاحِبَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ النَّاسُ، فَكَذَا الْجِنِّيُّ يَصُبُّهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ بِحَيْثُ لَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ الزُّجَاجَةَ بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهَا: يَصُبُّ فِي أُذُنِ صَاحِبِهِ كَصَبِّ الزُّجَاجَةِ، أَيْ: كَمَا يُصَبُّ مَاءُ قَارُورَةٍ فِي أُخْرَى (فَيَخْلِطُونَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ: الْكُهَّانُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيِ: الْأَوْلِيَاءُ جَمَعَ بَعْدَ الْإِفْرَادِ نَظَرًا إِلَى الْجِنْسِ (فِيهَا) أَيْ: فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ (أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْكَافِ، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْكِذْبَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَالذَّالُ سَاكِنَةٌ فِيهِمَا. قَالَ الْقَاضِي: وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْكَسْرَ إِلَّا إِذَا أَرَادُوا بِهِ الْحَالَةَ وَالْهَيْئَةَ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. قُلْتُ: هَذَا مَوْضِعُهَا ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمِائَةِ نَوْعٍ مِنَ الْكَذِبِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَيَخْلِطُونَ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ مِائَةَ مَرَّةٍ، لِأَنَّهُ صَادِقٌ عَلَى تَكْرَارِ كَذِبِ وَاحِدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ. مَعَ أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَاكْتَفَى بِمِائَةٍ، أَوْ قِيلَ: مِائَةُ كَذِبٍ، فَالْعُدُولُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالتَّاءِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِفَادَةٍ زَائِدَةٍ، هَذَا وَفِي الْقَامُوسِ: كَذَبَ يَكْذِبُ كَذِبًا وَكِذْبًا وَكِذْبَةً وَكَذْبَةً بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الذَّالِ فِيهِمَا. فَمَا ضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ فَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ مَعَ وُجُودِ التَّاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَيُخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَدْخُلَ فِي وَعِيدِ مَنْ كَذِبَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4594 - وَعَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ - وَهُوَ السَّحَابُ - فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتُسْمِعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4594 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ (تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ " وَهُوَ السَّحَابُ ". قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِلْعَنَانِ، فَالسَّحَابُ مَجَازٌ عَنِ السَّمَاءِ، كَمَا أَنَّ السَّمَاءَ مَجَازٌ عَنِ السَّحَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [المؤمنون: 18] فِي وَجْهٍ. قُلْتُ: ارْتِكَابُ الْمَجَازِ فِي الْآيَةِ لَهُ وَجْهٌ، وَأَمَّا ارْتِكَابُهُ فِي الْحَدِيثِ فَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، إِذْ لَا يُعْدَلُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، مَعَ أَنَّهُ يُؤَوَّلُ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي السَّمَاءِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ سَمَاءُ الدُّنْيَا عَلَى أَنَّ سَمَاعَ الْجِنِّيِّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّحَابِ أَقْرَبُ، فَهُوَ بِالِاعْتِبَارِ أَنْسَبُ، وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْمَعُ فِي السَّمَاءِ مَا يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي الدُّنْيَا فَيُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَسْتَرِقُهُ الشَّيْطَانُ، فَيُلْقِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ، فَإِذَا جَاءَ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ! مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُ: الْحَقَّ اهـ. (فَتَذْكُرُ) أَيِ: الْمَلَائِكَةُ (الْأَمْرَ قُضِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ عَلَى أَنَّ الْ فِي الْأَمْرِ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ أَوْ صِلَةُ الْمَوْصُولِ الْمَحْذُوفِ، أَيِ: الْأَمْرُ الَّذِي قَضَى اللَّهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: (فِي السَّمَاءِ) ظَرْفٌ لِقُضِيَ لَا لِتَذْكُرُ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَنَانِ السَّحَابُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ مِنَ

السَّمَاءِ فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ الَّذِي قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُوا مِنَ السَّمَاءِ فِي السَّحَابِ، فَيَحْكِي بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ الْأُمُورَ الَّتِي قُضِيَتْ فِي السَّمَاءِ، وَسَمِعُوا حَالَ كَوْنِهِمْ فِيهَا (فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ) أَيْ: مَسْمُوعُ الْمَلَائِكَةِ (فَتَسْمَعُهُ) أَيْ: الشَّيَاطِينُ أَوَّلًا (فَتُوحِيهِ) أَيْ: فَتُلْقِيهِ (إِلَى الْكُهَّانِ) مِنَ الْإِيحَاءِ وَهُوَ " الْإِعْلَامُ بِالْخِفْيَةِ "، وَعَنِ الزَّجَّاجِ: أَنَّ الْإِيمَاءَ يُسَمَّى وَحْيًا. (فَيَكْذِبُونَ) أَيْ: الْكُهَّانُ (مَعَهَا) أَيْ: مَعَ الْكَلِمَةِ الصَّادِقَةِ الْوَاحِدَةِ (مِائَةَ كَذْبَةٍ، مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) . وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا سَبَبُ مُوَافَقَتِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ لِلْوَاقِعِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبَ سَدَّ الشَّارِعُ بَابَ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ وَلِهَذَا مَا اعْتُبِرَ شَهَادَةُ الْكَاذِبِ مَعَ أَنَّ الْكَذُوبَ قَدْ يَصْدُقُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4595 - وَعَنْ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4595 - (وَعَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا) أَيْ: بِنْتُ عُمَرَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى عَرَّافًا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهُوَ مُبَالَغَةُ (الْعَارِفِ) ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْكَاهِنُ وَالطَّبِيبُ، وَفِي الْمُغْرِبِ: هُوَ الْمُنَجِّمُ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْعَرَّافُ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْكُهَّانِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: الْعَرَّافُ هُوَ الَّذِي يَتَعَاطَى مَعْرِفَةَ مَكَانِ الْمَسْرُوقِ وَمَكَانَ الضَّالَّةِ وَنَحْوِهِمَا. (فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ التَّصْدِيقِ بِخِلَافِ مَنْ سَأَلَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ أَوِ التَّكْذِيبِ، وَأُطْلِقَ مُبَالِغَةً فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ احْتِرَازٌ عَمَّنْ أَتَاهُ لِحَاجَةٍ أُخْرَى. (لَمْ تُقْبَلْ لَهُ) : بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ وَجُوِّزَ تَذْكِيرُهُ أَيْ: قَبُولُ كَمَالٍ حَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ أَوْ تَضَاعُفُهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْأَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ (صَلَاةٌ) : بِالتَّنْوِينِ، فَقَوْلُهُ: (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) . ظَرْفٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَوْلِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَيْ مِنَ الْأَزْمِنَةِ اللَّاحِقَةِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ وَلَفْظُهُ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ حُجِبَتْ عَنْهُ التَّوْبَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَإِنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ كَفَرَ» ، فَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَعْمَالَ التَّائِبِ لَهَا دَرَجَةُ كَمَالِ الْقَبُولِ يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا عَدَمُ قَبُولِ صَلَاتِهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى إِعَادَةٍ، وَنَظِيرُ هَذَا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ مُجْزِئَةٌ مُسْقِطَةٌ لِلْقَضَاءِ، وَلَكِنْ لَا ثَوَابَ لَهُ فِيهَا، كَذَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا. قَالُوا: فَصَلَاةُ الْفَرْضِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ إِذَا أَتَى بِهَا عَلَى وَجْهِهَا الْكَامِلِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْئَانِ: سُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْهُ، وَحُصُولُ الثَّوَابِ، فَإِذَا أَدَّاهَا فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ حَصَلَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عَلَى مَنْ أَتَى الْعَرَّافَ إِعَادَةَ صَلَاةِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ. قُلْتُ: وُجُوبُ تَأْوِيلِهِ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ تَأْوِيلُهُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْحَسَنَاتِ لَا تُبْطِلُهَا السَّيِّئَاتُ إِلَّا الرِّدَّةَ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْإِعَادَةِ حَتَّى فِي الرِّدَّةِ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَى الْحَجِّ، فَإِنَّهُ فَرْضُ الْعُمْرِ، ثُمَّ مَفْهُومُ التَّأْوِيلِ السَّابِقِ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى النَّفْلَ يَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ، وَكَذَا الْفَرْضُ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، نَعَمْ، التَّضَاعُفُ مِنْ فَضْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ مَا يُوجِبُ غَضَبَهَ تَعَالَى، فَلَهُ إِسْقَاطُ الْمُضَاعَفَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ تَخْصِيصُ الصَّلَاةِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْمَالِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهَا عِمَادَ الدِّينِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُفَوَّضَ عِلْمُهُ إِلَى الشَّارِعِ، وَذِكْرُ الْعَدَدِ يَحْتَمِلُ التَّحْدِيدَ، وَالتَّكْثِيرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.

4596 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4596 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ جُهَيْنَةَ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي أَسْمَاءِ الْمُؤَلِّفِ. (قَالَ: صَلَّى لَنَا) أَيْ: إِمَامًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ) أَيْ: عَقِبَ مَطَرٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ وَفَتْحِهِمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَالسَّمَاءُ الْمَطَرُ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: خَرَجَ فِي إِثْرِهِ، وَأَثَرِهِ: بَعْدَهُ، وَقَالَ السَّمَاءُ مَعْلُومٌ وَالسَّحَابُ الْمَطَرُ أَوِ الْمَطَرَةُ الْجَيِّدَةُ. (كَانَتْ) أَيْ: كَانَ الْمَطَرُ وَتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الرَّحْمَةِ أَوْ لَفْظِ السَّمَاءِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ سَمَاءٍ. وَقَوْلُهُ: (مِنَ اللَّيْلِ) ظَرْفٌ لَهَا أَيْ: فِي بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَأَوْقَاتِهِ (فَلَمَّا انْصَرَفَ) أَيْ: عَنِ الصَّلَاةِ (أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ (قَالَ رَبُّكُمْ؟) أَيْ: فِي هَذَا الْوَقْتِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) أَيْ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (أَصْبَحَ) أَيِ: الشَّأْنُ (مِنْ عِبَادِي) أَيْ: بَعْضُهُمْ (مُؤْمِنٌ بِي) : فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ (وَكَافِرٌ) أَيْ: بِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ يَعْنِي: وَبَعْضُهُمْ كَافِرٌ بِي، أَوِ التَّقْدِيرُ بَعْضُهُمْ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِغَيْرِي، وَبَعْضُهُمْ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِغَيْرِي، وَتُرِكَ اكْتِفَاءً بِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا) أَيْ: بِسُقُوطِ نَجْمٍ وَطُلُوعِ نَظِيرِهِ عَلَى مَا سَبَقَ (فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هَدَّا تَفْصِيلٌ لِلْمُجْمَلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ فِيهِ لِيُطَابِقَهُ الْمُفَصَّلُ، فَالتَّقْدِيرُ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَكَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ مَعَ التَّقْسِيمِ. وَفِي الْكَشَّافِ قِيلَ: نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] أَيْ: وَتَجْعَلُونَ شُكْرَ مَا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الْغَيْثِ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ كَوْنَهُ مِنَ اللَّهِ حَيْثُ تَنْسُبُونَهُ إِلَى النُّجُومِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي كُفْرِ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ سَالِبٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْ قَالَهُ مُعْتَقِدًا بِأَنَّ الْكَوْكَبَ فَاعِلٌ مُدَبِّرٌ مُنْشِئٌ لِلْمَطَرِ كَزَعْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاهِيرِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَنْ قَالَ مُعْتَقِدًا بِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِفَضْلِهِ، وَأَنَّ النَّوْءَ عَلَامَةٌ لَهُ وَمَظَنَّةٌ بِنُزُولِ الْغَيْثِ، فَهَذَا لَا يَكْفُرُ لِأَنَّهُ بِقَوْلِهِ هَذَا كَأَنَّهُ قَالَ: مُطِرْنَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ ; لِأَنَّهُ كَلِمَةٌ مُوهِمَةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، فَيُسَاءُ الظَّنُّ بِصَاحِبِهَا ; وَلِأَنَّهَا شِعَارُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: كُفْرَانٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِاقْتِصَارِهِ عَلَى إِضَافَةِ الْغَيْثِ إِلَى الْكَوْكَبِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرِّوَايَةُ " الْأُخْرَى: «أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرًا وَكَافِرًا» ، وَفِي أُخْرَى: «مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ بِهَا كَافِرِينَ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4597 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ، يُنْزِلُ اللَّهُ الْغَيْثَ، فَيَقُولُونَ: بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4597 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ) أَيْ: مَطَرٍ، أَوْ مِنْ نَعْمَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا) أَيْ: بِسَبَبِهَا (كَافِرِينَ) : مِنَ الْكُفْرِ أَوِ الْكُفْرَانِ (يُنْزِلُ اللَّهُ الْغَيْثَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ تِمْثَالُ بُرْهَانٍ (فَيَقُولُونَ) أَيْ: فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ (بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا) أَيْ: هَذَا بِسَبَبِ طُلُوعِ نَجْمِ كَذَا، وَغُرُوبِ نَجْمِ كَذَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4598 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4598 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اقْتَبَسَ) أَيْ: أَخَذَ وَحَصَلَ وَتَعَلَّمَ (عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ) أَيْ: عِلْمٌ مِنْ عُلُومِهَا أَوْ مَسْأَلَةٌ مِنْ عِلْمِهَا. (اقْتَبَسَ شُعْبَةً) أَيْ: قِطْعَةٌ (مِنَ السِّحْرِ زَادَ) أَيِ: الْمُقْتَبِسُ مِنَ السِّحْرِ (مَا زَادَ) أَيْ: مُدَّةَ زِيَادَتِهِ مِنَ النُّجُومِ، فَمَا بِمَعْنَى مَا دَامَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ أَيْ: زَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْهُ فِي حَقِّ عِلْمِ النُّجُومِ، كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: زَادَ اقْتِبَاسَ شُعْبَةِ السِّحْرِ مَا زَادَ اقْتِبَاسَ عِلْمِ النُّجُومِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: نَكَّرَ " عِلْمًا " لِلتَّقْلِيلِ، وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَ الِاقْتِبَاسَ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقِلَّةِ، وَمِنَ النُّجُومِ صِفَةُ عِلْمًا وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ. وَفَاعِلُ زَادَ الشُّعْبَةُ، ذَكَّرَهَا بِاعْتِبَارِ السِّحْرِ، وَزَادَ مَا زَادَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْنِيبِ، أَيْ: يَزِيدُ السِّحْرُ مَا يَزِيدُ الِاقْتِبَاسُ، فَوَضَعَ الْمَاضِيَ مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ لِلتَّحْقِيقِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْمَنْهِيُّ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ مَا يَدَّعِيهِ أَهْلُهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ، وَرُبَّمَا تَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مِثْلَ إِخْبَارِهِمْ بِوَقْتِ هُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَجِيءِ مَاءِ الْمَطَرِ، وَوُقُوعِ الثَّلْجِ، وَظُهُورِ الْحَرِّ وَالْبَرَدِ، وَتَغْيِيرِ الْأَسْعَارِ وَنَحْوِهَا. وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَدْرِكُونَ مَعْرِفَتَهَا بِسَيْرِ الْكَوَاكِبِ، وَاجْتِمَاعِهَا وَافْتِرَاقِهَا، وَهَذَا عِلْمٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] ، فَأَمَّا مَا يُدْرَكُ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الزَّوَالُ وِجْهَةَ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَا نَهَى عَنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النُّجُومَ طُرُقٌ لِمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ وَالْمَسَالِكِ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يَهْتَدِ النَّاسُ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: تَعْلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَعْرِفُونَ بِهِ الْقِبْلَةَ وَالطَّرِيقَ، ثُمَّ أَمْسِكُوا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

4599 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ حَائِضًا، أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4599 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَاهِنِ وَالْعَرَّافِ أَنَّ الْكَاهِنَ إِنَّمَا يَتَعَاطَى الْخَبَرَ عَنِ الْغَيْبِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، وَيَدَّعِي مَعْرِفَةَ الْأَسْرَارِ، وَالْعَرَّافُ: هُوَ الَّذِي يَتَعَاطَى مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ وَمَكَانَ الضَّالَّةِ وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْأُمُورِ. (أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ) أَيْ: بِالْوَطْءِ، وَفِي التَّفْخِيذِ خِلَافٌ (حَائِضًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مُنْتَقِلَةٌ، وَلِهَذَا جَازَ حَذْفُ التَّاءِ، وَلَوْ كَانَتْ صِفَةً كَانَتِ التَّاءُ لَازِمَةً اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِهَا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ الْآتِي، وَإِنَّمَا تَرَكَ التَّاءَ لِأَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ النِّسَاءِ خَاصَّةً كَطَالِقٍ. (أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا) أَيْ: حَائِضًا أَوْ طَاهِرَةً (فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . أَيْ كَفَرَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ أَوْ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» ".

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4600 - عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. فَسَمِعَهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا، بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ " وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَّفَهَا، وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ " فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ. فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ. فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ فَيَصْدُقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4600 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ) أَيْ: قَدَّرَهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَظْهَرَ قَضَاءً (فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا) أَيْ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ (خُضْعَانًا) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: تَوَاضُعًا وَتَخَاشُعًا (لِقَوْلِهِ) : وَانْقِيَادًا لِحُكْمِهِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْخُضْعَانُ مَصْدَرُ خَضَعَ يَخْضَعُ خُضُوعًا وَخُضْعَانًا، وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالْمُطَاوَعَةُ كَالْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، وَيُرْوَى بِالْكَسْرِ كَالْوِجْدَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ خَاضِعٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا كَانَ جَمْعًا كَانَ حَالًا، وَإِذَا كَانَ مَصْدَرًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِمَا فِي ضَرْبِ الْأَجْنِحَةِ مِنْ مَعْنَى الْخُضُوعِ، أَوْ مَفْعُولًا لَهُ. قُلْتُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّائِرَ إِذَا اسْتَشْعَرَ خَوْفًا أَرْخَى جَنَاحَيْهِ مُرْتَعِدًا. قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ ضَرْبِ جَنَاحِهِمْ وَسَبَبِيَّتِهِ مِنَ الْخَوْفِ أَوْ غَيْرِهِ. (كَأَنَّهُ) أَيْ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (سِلْسِلَةٌ) : بِكَسْرِ السِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ (عَلَى صَفْوَانٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: حَجَرٌ أَمْلَسُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ. وَنَظِيرُهُ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ. (فَإِذَا فُزِّعَ) : بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ: أُزِيلَ الْفَزَعُ وَكُشِفَ (عَنْ قُلُوبِهِمْ) . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَزَوَالُ الْفَزَعِ عَنْهُمْ هُنَا بَعْدَ سَمَاعِهِمُ الْقَوْلَ، كَالْفَصْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ سَمَاعِ الْوَحْيِ اهـ. وَلَعَلَّهُ نَظِيرُهُ، وَإِلَّا فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْصَمُ عَنْهُ وَقَدْ وَعَى مَا قَالَ، وَهُمْ يُكْشَفُ الْفَزَعُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَدْرُوا مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ السُّؤَالِ، أَوْ يُقَالُ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، فَقَوْلُهُ: (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَدْرِ إِمَّا لِغَلَبَةِ الْفَزَعِ عَلَيْهِ، أَوْ لِقِلَّةِ الْكَشْفِ لَهُ (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا) : وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ لِلسَّائِلِينَ وَهُمْ سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ (لِلَّذِي قَالَ) أَيْ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (الْحَقَّ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: قَالُوا الْحَقَّ لِأَجْلِ مَا قَالَهُ تَعَالَى، أَيْ: عَبَّرُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى، وَمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ بِلَفْظِ الْحَقِّ، فَالْحَقُّ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْقَوْلَ الْحَقَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، فَالتَّقْدِيرُ قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ إِمَّا كَلِمَةُ كُنْ أَوْ مَا يُقَابِلُ الْبَاطِلَ، فَالْمُرَادُ بِكُنْ مَا هُوَ سَبَبُهَا مِنَ الْحَوَادِثِ الْيَوْمِيَّةِ بِأَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ كَرْبًا، وَيَرْفَعَ قَوْمًا، وَيَضَعَ آخَرِينَ، وَيُولِجَ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجَ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وَيُخْرِجَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُشْفِي سَقِيمًا، وَيُسْقِمَ صَحِيحًا، وَيَبْتَلِيَ مُعَافًى، وَيُعَافِيَ مُبْتَلًى، وَيُعِزَّ ذَلِيلًا وَيُذِلَّ عَزِيزًا، وَيُفْقِرَ غَنِيًّا وَيُغْنِيَ فَقِيرًا، فَسُبْحَانَ الَّذِي إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ حَقًّا لَا بَاطِلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] ، أَيْ: عَبَثًا، بَلْ هُوَ صَوَابٌ وَحِكْمَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ الْمَسْطُورُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَالْحَقُّ بِمَعْنَى الثَّابِتِ، أَيْ: قَضَى وَقَدَّرَ وَحَكَمَ فِي الْكَائِنَاتِ بِمَا كَانَ مُقَرَّرًا فِي الْأَزَلِ ثَابِتًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. (وَهُوَ) أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ (الْعَلِيُّ) أَيِ: الرَّفِيعُ شَأْنُهُ (الْكَبِيرُ) أَيِ: الْعَظِيمُ بُرْهَانُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَأْنِيثُ الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ: (فَسَمِعَهَا) أَيِ: الْكَلِمَةُ الْحَقَّةُ (مُسْتَرِقُو السَّمْعِ) وَإِنَّمَا عَدَلُوا عَنْ صَرِيحِ الْقَوْلِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ وَالتَّصْرِيحُ بِالْمَقْضِيِّ مِنَ الشُّؤُونِ وَالْأُمُورِ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُجْمَلِ الْمُوجَزِ ; لِأَنَّ قَصْدَهُمْ فِي ذَلِكَ إِزَالَةُ الْفَزَعِ عَنْ قُلُوبِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، يَعْنِي لَا تَفْزَعُوا وَتُبْقُوا عَلَى قُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ مَا عَهِدْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ قَضَاءِ الشُّؤُونِ لَا مَا تَظُنُّونَهُ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، هَذَا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُجِيبِينَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَغَيْرِهِمَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْيِ تَسْمَعُ أَهْلُ

السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ، فَإِذَا جَاءَ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ! مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُ: الْحَقَّ، فَيَقُولُونَ: الْحَقَّ. (وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (هَكَذَا) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا صَنَعَهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّنْدِيدِ وَرُكُوبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: (بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ) . تَوْضِيحٌ أَوْ بَدَلٌ وَفِيهِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، أَيْ: مُسْتَرِقُو السَّمْعِ بَعْضُهُ رَاكِبٌ بَعْضَهُ مُرْدَفِينَ كَرُكُوبِ أَصَابِعِي هَذِهِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي بَعْضِهِ، وَالْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ جَمْعٌ لِإِرَادَةِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ جَارٍ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ. (وَوَصَفَ سُفْيَانُ) أَيِ: ابْنُ عُيَيْنَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ (بِكَفِّهِ) أَيْ: بِأَصَابِعِهِ. (فَحَرَّفَهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ فَفَرَّجَ كَفَّهُ (وَبَدَّدَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْأُولَى أَيْ وَفَرَّقَ (بَيْنَ أَصَابِعِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةِ رُكُوبِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ بِأَصَابِعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 116] ، وَقَوْلِكَ: وَجْهُهُ يَصِفُ الْجَمَالَ. (فَيَسْمَعُ) أَيْ: أَحَدُهُمْ، أَوِ الْمُسْتَرِقُ (الْكَلِمَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَكَلَامُ الرَّاوِي مُعْتَرِضٌ، بَيْنَهُمَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا إِعَادَةٌ لِقَوْلِهِ: فَسَمِعَهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ لِطُولِ الْفَصْلِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ إِلَخْ، وَبَيَانٌ لِتَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ بِقَوْلِهِ وَوَصَفَ إِلَخْ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَوِ اسْتِحْضَارًا لِلْحَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. (فَيُلْقِيهَا) أَيْ: يَرْمِيهَا وَيَقْذِفُهَا (إِلَى مَنْ تَحْتَهُ) أَيْ مِنَ الْجِنِّ (ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ) : وَإِنَّمَا عَدَلَ مِنْ " إِلَى " إِلَى " عَلَى " لِلْإِشَارَةِ إِلَى انْتِهَاءِ الْأَمْرِ وَاسْتِقْلَالِ ظُهُورِ الْمَقْصُودِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالسَّاحِرُ الْمُنَجِّمُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: الْمُنَّجِمُ سَاحِرٌ ; لِأَنَّ السَّاحِرَ لَا يُخْبِرُ عَنِ الْغَيْبِ اهـ. فَأَوْ فِي قَوْلِهِ (أَوِ الْكَاهِنِ) . لِلتَّنْوِيعِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَاهِنَ سَاحِرٌ، فَالسَّاحِرُ كَاهِنٌ فَأَوْ لِلشَّكِّ (فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَمَرْفُوعًا يَعْنِي: الْجِنِّيَّ قَدْ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهُ إِلَى وَلِيِّهِ، أَدْرَكَ الشِّهَابَ أَوْ أَدْرَكُهُ الشِّهَابُ. قُلْتُ: الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] أَيْ: لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ، وَالشِّهَابُ مَا يُرَى كَأَنَّ كَوْكَبًا انْقَضَّ، ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ. (وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ) وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِدْرَاكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْمَرْجُومَ هَلْ يَتَأَذَّى بِهِ فَيَرْجِعُ أَوْ يَحْتَرِقُ، لَكِنْ قَدْ يُصِيبُ الصَّاعِدَ مَرَّةً وَقَدْ لَا يُصِيبُ، كَالْمَوْجِ لِرَاكِبِ السَّفِينَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْهُ رَأْسًا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ مِنَ النَّارِ فَلَا يَحْتَرِقُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّارِ الصِّرْفِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ مِنَ التُّرَابِ الْخَالِصِ، مَعَ أَنَّ النَّارَ الْقَوِيَّةَ إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الضَّعِيفَةِ اسْتَهْلَكَتْهَا. (فَيَكْذِبُ) أَيِ: الْكَاهِنُ (مَعَهَا) أَيْ: مَعَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الْمَسْمُوعَةِ الصَّادِقَةِ الْوُقُوعِ (مِائَةَ كَذْبَةٍ) أَيْ: وَيُخْبِرُ النَّاسَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلِمَاتِ الْكَاذِبَةِ، فَإِذَا أَكْذَبَهُ أَحَدٌ بِبَعْضِ كِذْبَاتِهِ (فَيُقَالُ) أَيْ: فَيَقُولُ النَّاسُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ، أَيْ: مَنْ يُصَدِّقُ الْكَاهِنَ (أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا) أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ (كَذَا وَكَذَا؟) أَيْ: مِنَ الْخَبَرِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ (فَيُصَدَّقُ) : بِصِيغَةٍ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدَةِ الدَّالِ، أَيِ: الْكَاهِنُ، فِي جَمِيعِ كَلِمَاتِهِ وَكِذْبَاتِهِ (بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ: بِسَبَبِهَا، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الْغَرَائِبِ، وَأَعْجَبِ الْعَجَائِبِ أَنَّ الْكَاذِبَ فِي مِائَةِ كَلِمَةٍ يُعَدُّ صَادِقًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَاقِعَةٍ، وَمَعَ هَذَا مَا يُصَدِّقُونَ مَنْ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ إِلَّا الصِّدْقُ، فَالتَّصْدِيقُ فِي التَّحْقِيقِ مِنَ التَّوْفِيقِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4601 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَّهُمْ بَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُمِيَ بِنَجْمٍ وَاسْتَنَارَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَا قَالَ فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَيَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ، فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَيُرْمَوْنَ، فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4601 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ) أَيِ: الْأَصْحَابُ (بَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ) أَيْ: ذَوُو جُلُوسٍ أَوْ جَالِسُونَ (لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مُصَاحِبِينَ لَهُ (رُمِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: قُذِفَ (بِنَجْمٍ وَاسْتَنَارَ) أَيِ: الْجَوُّ بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ جَوَابُ بَيْنَا وَلَمْ يُؤْتَ بِإِذْ كَمَا يَسْتَفْصِحُهُ الْأَصْمَعِيُّ وَأَنْشَدَ: وَبَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُهُ أَتَانَا. (وَهُمْ جُلُوسٌ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ; لِأَنَّ بَيْنَا وَبَيْنَمَا يَسْتَدْعِيَانِ أَنْ يَلِيَهُمَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَبَيْنَا مَعَ الْجَوَابِ خَبَرُ إِنَّ (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟) : وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ لِلِاسْتِعْلَامِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، بَلْ لِأَنْ يُجِيبُوا عَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيُزِيلُهُ عَنْهُمْ وَيُقْلِعُهُ عَنْ أَصْلِهِ. (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُولَدُ (اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ) أَيْ: بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ (وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى " أَوْ "، أَوِ الْمَعْنَى: كُنَّا نَقُولُ تَارَةً كَذَا وَأُخْرَى كَذَا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّهَا) أَيِ: النُّجُومُ بِدَلَالَةِ النَّجْمِ الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ (لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ) أَيْ: وَلَا لِحَيَاةِ أَحَدٍ آخَرَ (وَلَكِنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ اسْمُهُ) أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُ اسْمِهِ فَكَيْفَ مُسَمَّاهُ (إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ) أَيْ: صَوْتُهُ أَوْ نَوْبَتُهُ (أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِذَا قُلْتَ: الدُّنْيَا صِفَةٌ لِلسَّمَاءِ وَالسَّمَاءُ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ وَصْفُ الْوَصْفِ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا لَا يَصِحُّ حَيْثُ كَانَتِ الصِّفَةُ مَفْهُومًا لَا ذَاتًا وَأَوْصَافُ اسْمِ الْإِشَارَةِ ذَوَاتٌ فَيَصِحُّ وَصْفُهَا. (ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ) : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: يَقْرُبُونَ (حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ) : وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ رَجْعُ الضَّمِيرِ لِبَعْضِ الَّذِينَ يَلُونَ (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَا قَالَ) أَيْ: بِمَا قَالَ تَعَالَى (فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ) أَيِ: التَّحْتَانِيَّةُ (بَعْضًا) أَيْ: مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ الْفَوْقَانِيَّةِ (حَتَّى يَبْلُغَ) أَيْ: يَصِلُ الْخَبَرُ (هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا) أَيْ أَهْلَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ (فَيَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ) أَيِ الْمَسْمُوعَ، وَضَبْطُ الْفِعْلِ بِالتَّذْكِيرِ وَفَتْحِ الطَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّأْنِيثِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ: خَطَفَ. كَسَمَعَ وَضَرَبَ وَهَذِهِ قَلِيلَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ اسْتَلَبَهُ وَالشَّيْطَانُ السَّمْعَ اسْتَرَقَهُ كَاخْتَطَفَهُ (فَيَقْذِفُونَ) أَيِ: الْجِنُّ يَرْمُونَ مَسْمُوعَ الْمَلَائِكَةِ (إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) مِنَ الْكَهَنَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ (وَيُرْمَوْنَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: الْجِنُّ يُقْذَفُونَ بِالشُّهُبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَقْذِفُونَ، وَهَذَا رَمْيُهُمْ بِالشِّهَابِ بَعْدَ إِلْقَائِهِمُ الْكَلِمَةَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَهُوَ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَالرَّمْيُ شَامِلٌ لِلْحَالَتَيْنِ (فَمَا جَاءُوا) أَيْ: أَوْلِيَاؤُهُمْ (بِهِ عَلَى وَجْهِهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهِ (فَهُوَ حَقٌّ) أَيْ: كَائِنٌ وَاقِعٌ (وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: يَكْذِبُونَ (فِيهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: عَدَّاهُ بِفِي عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى الْكَذِبِ اهـ. فَفِي الْقَامُوسِ: قَرَفَ عَلَيْهِمْ بَغَى، وَلِعِيَالِهِ كَسَبَ وَخَلَطَ وَكَذَبَ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ هُنَا يُوقِعُونَ الْكَذِبَ فِي الْمَسْمُوعِ الصَّادِقِ، وَيَخْلِطُونَهُ وَلَا يَتْرُكُونَهُ عَلَى وَجْهٍ غَالِبًا (وَيَزِيدُونَ) . أَيْ: دَائِمًا كِذْبَاتٍ أُخَرَ مُنْضَمَّةً إِلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4602 - وَعَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَلْقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ قَالَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخَطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا يَعْلَمُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا - وَفِي رِوَايَةِ رَزِينٍ: (وَتَكَلَّفَ مَا لَا يَعْنِيهِ وَمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَمَا عَجَزَ عَنْ عِلْمِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4602 - (وَعَنْ قَتَادَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ مَشْهُورٌ، سَبَقَ ذِكْرُهُ وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمُفَسِّرِينَ. (قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ) أَيْ: مِنَ الْحِكَمِ (جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) أَيْ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] (وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. قَالَ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] (فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ) أَيْ: مَنْ ذَكَرَ فِي النُّجُومِ فَائِدَةً أُخْرَى مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ (أَخْطَأَ) أَيْ: حَيْثُ تَكَلَّمَ رَجْمًا بِالْغَيْبِ (وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ) أَيْ: حَظَّهُ مِنْ عُمُرِهِ وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِمَا يَعْنِيهِ، وَيَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَتَكَلَّفَ مَا لَا يَعْلَمُ) أَيْ: شَيْئًا يُتَصَوَّرُ عِلْمُهُ ; لِأَنَّ أَخْبَارَ السَّمَاءِ لَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا أَزْيَدُ مِمَّا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ حِكَايَاتِ الظُّرَفَاءِ أَنَّ مُنَجِّمًا سُرِقَ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَنْتَ لَا تَعْرِفُ مَا فِي الْأَرْضِ كَيْفَ تَدَّعِي مَعْرِفَةَ مَا فِي السَّمَاءِ؟ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا) أَيْ: بِلَا إِسْنَادٍ. (وَفِي رِوَايَةِ رَزِينٍ: وَتَكَلَّفَ مَا لَا يَعْنِيهِ) أَيْ: وَمِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ. (وَمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ نَفْيًا لِمَا يَتَعَانَاهُ الْمُنَجِّمُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَإِثْبَاتًا لِغَيْرِهِ، بَلْ نَفْيُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَمَا عَجَزَ عَنْ عِلْمِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ) أَيْ: حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَإِلَّا فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنُّجُومِ أَمْ لَا.

4603 - وَعَنِ الرَّبِيعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُهُ، وَزَادَ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي نَجْمٍ حَيَاةَ أَحَدٍ، وَلَا رِزْقَهُ، وَلَا مَوْتَهُ، وَإِنَّمَا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَيَتَعَلَّلُونَ بِالنُّجُومِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4603 - (وَعَنِ الرَّبِيعِ) أَيِ: ابْنِ زِيَادٍ، يَرْوِي عَنْ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَيَرْوِي عَنْهُ قَتَادَةُ وَأَبُو نَضْرَةَ، كَذَا قِيلَ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ. (مِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ قَتَادَةَ (وَزَادَ) أَيِ: الرَّبِيعُ عَلَى مَا سَبَقَ (وَاللَّهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي نَجْمٍ حَيَاةَ أَحَدٍ) أَيْ: وِلَادَتَهُ أَوْ طُولَ بَقَائِهِ. (وَلَا رِزْقَهُ) أَيْ: مَالًا وَلَا جَاهًا (وَلَا مَوْتَهُ، وَإِنَّمَا يَفْتَرُونَ) أَيِ: الْمُنَجِّمُونَ (عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَيَتَعَلَّلُونَ بِالنُّجُومِ) أَيْ: وَيَجْعَلُونَ طُلُوعَ نَجْمٍ مَثَلًا عِلَّةً لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، أَوِ الْمَعْنَى: يَتَسَتَّرُونَ فِي كَذِبِهِمْ بِتَعَلُّقِهِمْ بِالنُّجُومِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِمَفَاتِيحِ الْحُجَجِ فِي إِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُنَجِّمِينَ، أَطْنَبَ فِيهِ وَذَكَرَ أَقْوَالَهُمْ. قَالَ: وَأَقْرَبُهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنْ أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَخْلُقُهَا عِنْدَ كَوْنِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِي الْبُرُوجِ الْمَخْصُوصَةِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَيْرِهَا وَاتِّصَالَاتِهَا وَمَطَارِحِ أَشِعَّتِهَا فِي جِهَةِ الْعَادَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِخَلْقِ الْوَلَدِ عَقِيبَ الْوَطْءِ وَخَلْقِ الشَّبَعِ عَقِيبَ الْأَكْلِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا فِي الْقُدْرَةِ جَائِزٌ، لَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَلَا الْقَطْعُ بِهِ سَبِيلٌ ; لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الْعَادَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ فِيهِ مُسْتَمِرًّا، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يَحْصُلَ التَّكْرَارُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَحْصُلُ التَّكْرَارُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَحْصُلُ وَقْتٌ فِي الْعَالَمِ مُكَرَّرٌ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي سَنَةٍ: الشَّمْسُ مَثَلًا فِي دَرَجَتِهِ مِنْ بُرْجٍ، فَإِذَا عَادَتْ إِلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى، فَالْكَوَاكِبُ لَا يَتَّفِقُ كَوْنُهَا فِي بُرُوجِهَا كَمَا كَانَتْ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَالْأَحْكَامُ تَخْتَلِفُ بِالْقَرَائِنِ وَالْمُقَابَلَاتِ، وَنَظَرُ الْكَوَاكِبِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُكَرَّرًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى الْبَتِّ لِتَعَذُّرِ الْإِحَاطَةِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الزِّيجِ، فَلِأَهْلِ هِنْدٍ وَسِنْدٍ طَرِيقٌ يُخَالِفُ طَرِيقَ أَرْبَابِ الزِّيجِ الْمُمْتَحِنِ، وَفَصَّلَ الشَّيْخُ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ تَفْصِيلًا، ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنْ مَوْلُودَيْنِ وُلِدَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَيْسَ يَجِبُ تَسَاوِيهِمَا فِي كُلِّ وَجْهٍ،

وَلَا تَمْيِيزَ بَيْنَهُمَا فِي الصُّورَةِ وَالْقَدِّ وَالْمَنْظَرِ، وَحَتَّى لَا يُصِيبَ أَحَدًا نَكْبَةٌ إِلَّا أَصَابَ الْآخَرَ، وَحَتَّى لَا يَفْعَلَ هَذَا شَيْئًا إِلَّا وَالْآخَرُ يَفْعَلُ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ اثْنَانِ هَذَا صِفَتُهُمَا. قَالُوا: مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يُوجَدَ مَوْلُودَانِ فِي الْعَالَمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيُقَالُ: أَمُحَالٌ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ وَالتَّقْدِيرِ، أَمْ فِي الْوُجُودِ؟ فَإِنْ قَالُوا: بِالْأَوَّلِ بَانَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ، وَإِنْ قَالُوا بِالثَّانِي قِيلَ: وَمَا مَثَلُكُمْ مِنْهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ أَمْرُ الْكُسُوفَيْنِ يُصَدَّقُ. قُلْنَا: لَيْسَ أَمْرُ الْكُسُوفَيْنِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُنْكَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ عَلَى مَا قَالُوهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الشَّرِيعَةِ فِي أَمْرِ الْكُسُوفَيْنِ بِأَنَّهُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَكُمْ فِي الْمُنَجِّمِينَ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي جَمِيعِ مَا يَحْكُمُونَ مُكَابِرُونَ لِلْعُقُولِ. قُلْنَا: إِنَّا نَقُولُ إِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي أُصُولِهِمْ عَنْ شُبَهٍ وَقَعَتْ لَهُمْ، فَلَا يَعْرِفُونَ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ مُكَابَرَةً لِلْعُقُولِ وَلَا بِالضَّرُورَةِ، بَلْ جَزَمُوا عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدَ بَنَوْهَا عَلَى أُصُولٍ فَاسِدَةٍ وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ لِسَلَفِهِمْ فِي أُصُولِ قَوَاعِدِهِمْ، فَرُبَّمَا يُصِيبُونَ فِي تَرْكِيبِ الْفُرُوعِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ، فَمَنْزِلَتُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ كَمَنْزِلَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالتَّخْمِينِ، وَأَصْحَابِ الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ، فَرُبَّمَا يُصِيبُونَ اتِّفَاقًا لَا عَنْ ضَرُورَةٍ، وَرُبَّمَا يُخْطِئُونَ، وَكَثِيرًا مَا نَجِدُ مِنَ الْفَلَّاحِينَ وَالْمَلَّاحِينَ يَعْتَبِرُونَ نَزْعَ مَا اعْتَادُوا مِنْ تَوَقُّعِ الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ فِي أَوْقَاتٍ رَاعَوْهَا بِدَلَالَاتٍ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ جَرَّبُوهَا فِي السَّمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَيَحْصُلُ بَعْضُ أَحْكَامِهِمُ اتِّفَاقًا لَا تَحْقِيقًا.

4604 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنِ اقْتَبَسَ بَابًا مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ لِغَيْرِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ، فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، الْمُنَجِّمُ كَاهِنٌ، وَالْكَاهِنُ سَاحِرٌ، وَالسَّاحِرُ كَافِرٌ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4604 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اقْتَبَسَ بَابًا مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ) أَيْ: تَعَلَّمَ نَوْعًا مِنْ عُلُومِهَا (لِغَيْرِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ) وَهُوَ الثَّالِثُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ (فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ) أَيْ: أَخَذَ قِطْعَةً مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْمَذْمُومُ الَّذِي بَعْضُهُ فِسْقٌ وَبَعْضُهُ كُفْرٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ سَابِقًا (الْمُنَجِّمُ كَاهِنٌ، وَالْكَاهِنُ سَاحِرٌ) ; لِأَنَّهُ يَسْحَرُ النَّاسَ بِكَلَامِهِ (وَالسَّاحِرُ كَافِرٌ) . مِنَ الْكُفْرِ أَوِ الْكُفْرَانِ، أَيْ: فَكَذَلِكَ الْكَاهِنُ، وَكَذَا الْمُنَجِّمُ كَافِرٌ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

4605 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ أَمْسَكَ اللَّهُ الْقَطْرَ عَنْ عِبَادِهِ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ، لَأَصْبَحَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ كَافِرِينَ، يَقُولُونَ: سُقِينَا بِنَوْءِ الْمِجْدَحِ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4605 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) - رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَمْسَكَ اللَّهُ الْقَطْرَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَيْ: لَوْ مَنَعَ اللَّهُ الْمَطَرَ (عَنْ عِبَادِهِ خَمْسَ سِنِينَ) أَيْ: مَثَلًا، أَوِ الْمُرَادُ مُدَّةً تُورِثُ الْإِقْنَاطَ عَنْ إِنْزَالِ الْغَيْثِ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّحْدِيدَ، بَلْ طُولَ الزَّمَانِ، فَفِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّ عَدَدَ الْخَمْسِ لَيْسَ مُتَعَارَفًا فِي التَّكْثِيرِ (ثُمَّ أَرْسَلَهُ) أَيْ: أَنْزَلَ الْقَطْرَ بَعْدَهَا (لَأَصْبَحَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ كَافِرِينَ) وَهُمُ الْمُنَجِّمُونَ وَمُصَدِّقُوهُمْ (يَقُولُونَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ (سُقِينَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: مُطِرْنَا (بِنَوْءِ الْمِجْدَحِ) . بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فَمُهْمَلَةٍ مِنَ الْأَنْوَاءِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُخْطِئُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ كَوَاكِبَ كَالْأَثَافِيِّ، كَأَنَّهَا مِجْدَحٌ، وَهُوَ خَشَبَةٌ فِي رَأْسِهَا خَشَبَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ يُجْدَحُ بِهَا السَّوِيقُ، أَيْ: يُضْرَبُ وَيُخْلَطُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ نَجْمٌ مِنَ النُّجُومِ، وَقِيلَ: هُوَ ثَلَاثَةُ كَوَاكِبَ كَالْأَثَافِيِّ تَشْبِيهًا بِالْمِجْدَحِ الَّذِي لَهُ ثَلَاثُ شُعَبٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْأَنْوَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَطَرِ اهـ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: فَأَيْنَ كَانَ هَذَا النَّوْءُ فِي مُدَّةِ خَمْسِ سِنِينَ مَثَلًا، هَلْ كَانَ يَطْلُعُ كُلَّ سَنَةٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ دَائِمًا أَوْ فِي بَعْضِ السِّنِينَ؟ هَذَا يُظْهِرُ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ بِالْيَقِينِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

[كتاب الرؤيا]

[كِتَابُ الرُّؤْيَا]

كِتَابُ الرُّؤْيَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4606 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ " قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الرُّؤْيَا قَالَ النَّوَوِيُّ: مَقْصُورَةٌ مَهْمُوزَةٌ وَيَجُوزُ تَرْكُهَا تَخْفِيفًا. قُلْتُ: الصَّوَابُ إِبْدَالُهَا أَوْ تَخْفِيفُهَا، وَأَمَّا تَرْكُهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً. وَقَالَ الْكَشَّافُ: الرُّؤْيَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْمَنَامِ دُونَ الْيَقَظَةِ، فَلَا جَرَمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ التَّأْنِيثِ فِيهَا مَكَانَ تَاءِ التَّأْنِيثِ لِلْفَرْقِ، كَمَا قِيلَ فِي الْقُرْبَى وَالْقُرْبَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الرُّؤْيَةُ النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ، رَأَيْتُهُ رُؤْيَةً وَرُؤْيَا، وَالرُّؤْيَا مَا رَأَيْتَهُ فِي مَنَامِكَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الرُّؤْيَا مَصْدَرٌ كَالْبُشْرَى وَالسُّقْيَا وَالشُّورَى، إِلَّا أَنَّهُ صَارَ اسْمًا لِهَذَا الْمُتَخَيَّلِ فِي الْمَنَامِ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، وَقَالَ الْمَازَرِيُّ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا خَلْقُ اللَّهِ فِي قَلْبِ النَّائِمِ اعْتِقَادَاتٍ كَخَلْقِهَا فِي قَلْبِ الْيَقِظَانِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَمْنَعُهُ نَوْمٌ وَلَا يَقَظَةٌ، وَخَلْقُ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ فِي النَّائِمِ عِلْمٌ عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ تَلْحَقُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ كَالْغَيْمِ عَلَى الْمَطَرِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4606 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ) أَيْ: مِنْ أَجْزَائِهَا (إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُشَدَّدَةِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيِ: الْوَحْيُ مُنْقَطِعٌ بِمَوْتِي، وَلَا يَبْقَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُ مَا سَيَكُونُ إِلَّا الرُّؤْيَا، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُبَشِّرَاتِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ، فَإِنَّ مِنَ الرُّؤْيَا مَا تَكُونُ مُنْذِرَةً وَهِيَ صَادِقَةٌ يُرِيهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ رِفْقًا بِهِ، لِيَسْتَعِدَّ لِمَا يَقَعُ قَبْلَ وُقُوعِهَا. (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) ، أَيِ: الْحَسَنَةُ أَوِ الصَّادِقَةُ، وَهِيَ مَا فِيهِ بِشَارَةٌ أَوْ تَنْبِيهٌ عَنْ غَفْلَةٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى الصَّالِحَةِ الْحَسَنَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنْ تَجْرِيَ عَلَى الصَّادِقَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا صِحَّتُهَا، وَتَفْسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُبَشِّرَاتِ عَلَى الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْبِشَارَةَ كُلُّ خَبَرِ صِدْقٍ يَتَغَيَّرُ بِهِ بَشَرَةُ الْوَجْهِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْخَيْرِ أَكْثَرُ، وَعَلَى الثَّانِي مُؤَوَّلٌ إِمَّا عَلَى التَّغْلِيبِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4607 - وَزَادَ مَالِكٌ بِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: " «يَرَاهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4607 - (وَزَادَ مَالِكٌ بِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (يَرَاهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ) ، أَيْ: لِنَفْسِهِ (أَوْ تُرَى) : عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يَرَاهَا مُسْلِمٌ آخَرُ (لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِهِ أَوْ لِأَجْلِ مُسْلِمٍ آخَرَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ الْعَبْدَ رَبُّهُ فِي الْمَنَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4608 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4608 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ) : هُوَ مَا فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: مِنْ سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَعِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ. وَعِنْدَ النَّوَوِيِّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهَذِهِ أَقَلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهَا رِوَايَةُ: سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ، وَبَقِيَتْ رِوَايَاتٌ أُخَرُ. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَفِي جَامِعِ الصَّغِيرِ: رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ، وَسَيَأْتِي رِوَايَاتٌ أُخَرُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ، وَالنُّبُوَّةُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ وَعِلْمُهَا بَاقٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ وَبَقِيَتِ الْمُبَشِّرَاتُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» ". قُلْتُ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ

كُرْزٍ قَالَ: وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (" «السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ") أَيْ: مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ النُّبُوَّةِ. قُلْتُ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ، وَفِي رِوَايَةِ الضِّيَاءِ عَنْ أَنَسٍ: «السَّمْتُ الْحَسَنُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ، قَالَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لَا أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا قَصَرَ الْأَجْزَاءَ عَلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ ; لِأَنَّ زَمَانَ الْوَحْيِ كَانَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَكَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، وَذَلِكَ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ سِنِيِّ الْوَحْيِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى سَائِرِهَا نِسْبَةُ جُزْءٍ إِلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا. قَالَ: وَأَمَّا حَصْرُ سِنِيِّ الْوَحْيِ فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِنَّهُ وَرَدَ بِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُعْتَدُّ بِهَا مَعَ اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ زَمَانِ الرُّؤْيَا فِيهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَشَيْءٌ قَدَّرَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ فِيهِ النَّقْلُ، وَأَرَى الذَّاهِبِينَ إِلَى التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَدْ هَالَهُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ قَالَ " ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ "، وَلَا حَرَجَ عَلَى أَحَدٍ فِي الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ لَا يَكُونُ نُبُوَّةً، كَمَا أَنَّ جُزْءًا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الِانْفِرَادِ لَا يَكُونُ صَلَاةً، وَكَذَلِكَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا وَجْهُ تَحْدِيدِ الْأَجْزَاءِ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ، فَأَرَى ذَلِكَ مِمَّا يُجْتَنَبُ الْقَوْلُ فِيهِ وَيُتَلَقَّى بِالتَّسْلِيمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّةِ الَّتِي لَا تُقَابَلُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ فِي: «السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ، وَقَلَّمَا يُصِيبُ مُؤَوِّلٌ فِي حَصْرِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ، وَلَئِنْ قُيِّضَ لَهُ الْإِصَابَةُ فِي بَعْضِهَا لِمَا يَشْهَدُ لَهُ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْبَقِيَّةِ اهـ. وَوَافَقَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي قَدْحِهِ فِي كَوْنِ زَمَانِ الرُّؤْيَا فِيهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ رُؤْيَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. اهـ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ، أَيْ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ خَصْلَةً، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقُ مَعَ زِيَادَةِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِ عَطَاءٍ اللَّاحِقِ، وَيَنْصُرُهُ أَيْضًا حَدِيثُ: " «السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» "، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِالْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَسْطُورَةِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ بِقَرِينَةِ حَدِيثِ: " «السَّمْتُ الْحَسَنُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» " كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَزِينٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: " «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ". وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ النَّجَّارِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ".

4609 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4609 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ رَآنِي) أَيْ: مِثَالِي (فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: فَكَأَنَّهُ قَدْ رَآنِي فِي عَالَمِ الشُّهُودِ وَالنِّظَامِ، لَكِنْ لَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ لِيَصِيرَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِيَعْمَلَ بِمَا سَمِعَ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِ، أَيْ: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِرُؤْيَتِي فِي الْيَقَظَةِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي: فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَنْزِيلًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ الْوَاقِعِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي الْمَآلِ، وَقِيلَ: يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَفْقِ مَنَامِهِ بِحَسَبِ مَقَامِهِ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، أَيْ: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَأَخْبِرُوهُ بِأَنَّ رُؤْيَتَهُ حَقِيقَةٌ وَحَقَّةٌ لَيْسَتْ بِأَضْغَاثِ أَحْلَامٍ. ( «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَثَمَّلُ فِي صُورَتِي» ) : أَرَادَ بِهِ صِفَتَهُ الْمَعْرُوفَةَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، وَقِيلَ: مَنْ رَآنِي عَلَى أَيِّ صُورَةٍ كَانَتْ فَقَدْ رَآنِي حَقِيقَةً ; لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَلَا يَتَرَاءَى بِي كَمَا فِي رِوَايَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: لَا يَتَمَثَّلُ بِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ لَا يَتَصَوَّرُ، أَوْ قَالَ: لَا يَتَشَبَّهُ بِي، وَفِي أُخْرَى لَا يَتَمَثَّلُنِي، هَذَا وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ اتَّحَدَا، فَدَلَّ عَلَى التَّنَاهِي فِي الْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ: مَنْ أَدْرَكَ الضَّمَانَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْمَرْعَى، أَيْ: أَدْرَكَ مَرْعًى مُتَنَاهِيًا فِي بَابِهِ، أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى حَقِيقَتِي عَلَى كَمَالِهِ لَا شُبْهَةَ وَلَا ارْتِيَابَ فِيمَا رَأَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، أَيْ: فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: فَقَدْ رَآنِي الْحَقَّ، وَالْحَقُّ هُنَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَةَ الْحَقِّ، وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ: فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَالتَّتْمِيمِ لِلْمَعْنَى وَالتَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ: مَعْنَاهُ أَنَّ رُؤْيَاهُ صَحِيحَةٌ لَيْسَتْ بِأَضْغَاثِ أَحْلَامٍ، وَلَا مِنْ تَشْبِيهَاتِ الشَّيْطَانِ أَوْ تَسْوِيلَاتِهِ. قَالَ: وَقَدْ يَرَاهُ الرَّائِي عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ كَمَنْ يَرَاهُ أَبْيَضَ اللِّحْيَةِ، وَقَدْ يَرَاهُ شَخْصَانِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ. أَحَدُهُمَا فِي الْمَشْرِقِ، وَالْآخَرُ فِي الْمَغْرِبِ، وَيَرَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَكَانِهِ، حَكَاهُ الْمَازَرِيُّ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ يَرَاهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ، وَلَيْسَ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُهُ حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ قَدْ يُرَى عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ، أَوْ فِي مَكَانَيْنِ مَعًا، فَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ فِي صِفَاتِهِ لَا فِي ذَاتِهِ، فَتَكُونُ ذَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْئِيَّةً وَصِفَاتُهُ مُتَخَيَّلَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، وَالْإِدْرَاكُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحْدِيقُ الْأَبْصَارِ، وَلَا قُرْبُ الْمَسَافَةِ، وَلَا كَوْنُ الْمَرْئِيِّ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ، وَلَا ظَاهِرًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا، فَلَوْ رَآهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ مَنْ يَحْرُمُ قَتْلُهُ كَانَ هَذَا مِنْ صِفَاتِهِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا الْمَرْئِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ رَآنِي، إِذَا رَآهُ عَلَى صِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ رُؤِيَ عَلَى خِلَافِهَا كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيلٍ لَا رُؤْيَا حَقِيقَةٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى صِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا، كَمَا ذَكَرَهُ الْمَازَرِيُّ اهـ. كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا، فَإِنَّ مُرَادَهُمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رُؤِيَ عَلَى صِفَتِهِ الْمَسْطُورَةِ، وَهَيْئَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، بَلْ يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ رَآهُ عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقَ، وَأَمَّا إِذَا رَآهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ كَمَا إِذَا رَآهُ مَيِّتًا فِي قِطْعَةٍ مِنْ أَرْضِ الْمَسْجِدِ، عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ رَآهُ كَذَلِكَ، فَاحْتَاجَ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَعْبِيرٍ بِمَا قِيلَ أَنَّ تِلْكَ الْقِطْعَةَ مِنْ أَرْضِ الْمَسْجِدِ مَغْصُوبَةٌ، أَوْ مَمْلُوكَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عَلَى قَوَاعِدِ شَرْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَأَنَّهُ أُمِيتَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ مَا رَآهُ إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ فِي مَنَامِهِ الْأَكْرَمِ مِنْ جَمْعِ أَعْظُمِهِ الْمُبَارَكَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَعَبَرَّ لَهُ ابْنُ سِيرِينَ بِأَنَّكَ تَصِيرُ إِمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَجَامِعًا لِمَعَانِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْمُتَفَرِّقَةِ بَيْنَ التَّابِعِينَ، وَكَثُرَ أَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي رُؤْيَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِطَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى جِسْمِي وَبَدَنِي، بَلْ رَأَى مِثَالًا صَارَ ذَلِكَ الْمِثَالُ آلَةً يَتَأَدَّى بِهَا الْمَعْنَى الَّذِي فِي نَفْسِي إِلَيْهِ، بَلِ الْبَدَنُ الْجُسْمَانِيُّ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا لَيْسَ إِلَّا آلَةَ النَّفْسِ، وَالْآلَةُ تَارَةً تَكُونُ حَقِيقِيَّةً وَتَارَةً خَيَالِيَّةً، وَالنَّفْسُ غَيْرُ الْمِثَالَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ إِذْ لَا يُتَخَيَّلُ إِلَّا ذُو لَوْنٍ أَوْ ذُو قَدْرٍ بَعِيدٍ مِنَ الْمُتَخَيَّلِ أَوْ قَرِيبٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ مَا يَرَاهُ مِثَالُ رُوحِهِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النُّبُوَّةِ، فَمَا رَآهُ مِنَ الشَّكْلِ لَيْسَ هُوَ رُوحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَخْصُهُ، بَلْ هُوَ مِثَالٌ لَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَمَعْنَى فَقَدْ رَآنِي مَا رَآهُ صَارَ وَاسِطَةً بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِّ إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ ذَاتُ اللَّهِ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ، وَلَكِنْ تَنْتَهِي تَعْرِيفَاتُهُ إِلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ مِنْ نُورٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مِثَالًا لِلْجَمَالِ الْحَقِيقِيِّ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا صُورَةَ فِيهِ وَلَا لَوْنَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمِثَالُ صَادِقًا وَحَقًّا وَوَاسِطَةً فِي التَّعْرِيفِ، فَيَقُولُ الرَّائِي: رَأَيْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ لَا بِمَعْنَى أَنِّي رَأَيْتُ ذَاتَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ قَدْ يَرَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُ النَّاسِ كَأَنَّهُ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ، وَيَرَاهُ بَعْضُهُمْ كَأَنَّهُ عَلَى صُورَةِ أَمْرَدَ، وَوَاحِدٌ كَأَنَّهُ مَرِيضٌ، وَآخَرُ كَأَنَّهُ مَيِّتٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ، ثُمَّ يَكُونُ مَعْنَى الْخَبَرِ أَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَا جَمْعٌ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ جَمِيعًا، فَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى أَحَدٌ فِي الْمَنَامِ رَبَّهُ عَلَى وَصْفٍ يَتَعَالَى عَنْهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَعْتَقِدُ فِي صِفَتِهِ تَعَالَى ذَلِكَ لَا تَضُرُّهُ تِلْكَ الرُّؤْيَا، بَلْ يَكُونُ لَهَا وَجْهٌ مِنَ التَّأْوِيلِ، قَالَ الْوَاسِطِيُّ: مَنْ رَأَى رَبَّهُ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ عَادَ تَأْوِيلُهُ إِلَى الرَّائِي، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى وَقَارِهِ وَقَدْرِ مَحِلِّهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَآهُ شَخْصٌ سَاكِنٌ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَيَكْفِي شَأْنَهُ اهـ. كَلَامُ الْقُشَيْرِيِّ. وَهُوَ لُبُّ التَّحْقِيقِ، وَقَدْ نَشَأَ مِنَ التَّوْفِيقِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ فِي الْمَنَامِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْتَى بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى بِكُفْرِهِ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي رُؤْيَةِ الْمَنَامِ اخْتِيَارٌ، وَلَمْ يَقَعْ نَصٌّ فِي النَّهْيِ عَنْ ذِكْرِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِأَنْ لَا يَعْتَقِدَ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى مَا يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا نَزَّهَهُ سُبْحَانَهُ سَوَاءٌ عَلِمَ تَأْوِيلَ رُؤْيَاهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَضُرَّهُ، فَفِي قَاضِيخَانَ لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ اللَّهَ فِي الْمَنَامِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ: هَذَا الرَّجُلُ شَرٌّ مِنْ عَابِدِ الْوَثَنِ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَكُونُ شَرًّا مِنْهُ لِكَوْنِهِ يُثْبِتُ لِلَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ فِي الْهَوِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ، وَصُدُورِ الْمَكَانِ، وَمُرُورِ الزَّمَانِ، وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ وَالصِّفَاتِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ عَابِدُ الْوَثَنِ خَالِيًا عَنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ كُفْرُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِشْرَاكِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا مَشَايِخُ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ. قَالَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ: رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ بَاطِلٌ لَا تَكُونُ ; لِأَنَّ مَا يُرَى فِي الْمَنَامِ لَا يَكُونُ عَيْنَ الْمَوْلَى، بَلْ خَيَالٌ لَهُ

وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَمَا أَظُنُّ أَنَّ قَوْلَ مَشَايِخِ بُخَارَى يَكُونُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَيَتَحَصَّلُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ رُؤْيَاهُ عَلَى وَجْهِ مَا رَآهُ بَاطِلَةٌ ; لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلِهَا لَا حَقَّةَ وَلَا حَقِيقَةَ لِشَأْنِهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِبُطْلَانِهَا مُطْلَقًا، فَإِذَا قَالَ الشَّخْصُ: رَأَيْتُ مَنَامًا وَيَكُونُ بَاطِلًا فَمَا وَجْهُ تَكْفِيرِهِ، مَعَ أَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ صَادِقٌ فِي رُؤْيَاهُ، وَلَمْ يَكْفُرْ مَنْ يَكْذِبُ وَيَفْتَرِي وَيَنْسُبُ إِلَى عَيْنِهِ مَا لَمْ تَرَهُ. هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ» "، وَذَكَرْنَا تَوْجِيهَاتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا حَالَ الْيَقَظَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ تَأْوِيلَاتِهِ أَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى رُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، فَإِنَّهُ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْغَدْوَةِ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ، فَلَمَّا صَلَّى الْغَدْوَةَ، قَالَ: " إِنِّي صَلَّيْتُ اللَّيْلَةَ مَا قُضِيَ لِي وَوَضَعْتُ جَنْبِي فِي الْمَسْجِدِ فَأَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ» ". قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا: فَعَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِشْكَالٌ إِذِ الرَّائِي قَدْ يَرَى غَيْرَ الْمُتَشَكَّلِ مُتَشَكَّلًا وَالْمُتَشَكَّلَ بِغَيْرِ شَكْلِهِ، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ خَلَلًا فِي الرُّؤْيَا، وَلَا فِي الرَّائِي، بَلْ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْأَسْبَابُ لَمَا افْتَقَرَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ إِلَى تَعْبِيرٍ اهـ. كَلَامُهُ. وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ قَالَ: وَتَرْكُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْسَنُ. قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، بَلِ التَّحْقِيقُ وَالتَّثْبِيتُ فِيهَا أَفْضَلُ، بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلِهَا وَتَبْيِينِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ الْمُفْتِي فِي تَكْفِيرِ مُسْلِمٍ، وَلَا مُسْلِمٌ فِي كُفْرٍ مِنِ اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُ الْمَازِرِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ قَوْلُ الْبَاقِلَّانِيِّ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَثْبَتَ الرِّوَايَاتِ هِيَ فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقَعَ الْجَزَاءُ مُسَبَّبًا مِنَ الشَّرْطِ، وَيَتَرَتَّبَ عَلَى الْعِلَلِ الْمُعَلَّلَةِ، فَالْمَعْنَى: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ فَلْيَسْتَبْشِرْ، وَلِيَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ رَأَى الرُّؤْيَا الْحَقَّ الَّتِي هِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ الْمُبَشِّرَاتُ لَا الْبَاطِلُ، الَّذِي هُوَ الْحُلْمُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَتَمَثَّلْ بِي، وَكَيْفَ لَا تَكُونُ مُبَشِّرَاتٍ وَهُوَ الْبَشِيرُ النَّذِيرُ وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ، وَهُوَ الرَّحْمَةُ الْمُهْدَاةُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . وَعَلَى هَذَا أَيْضًا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، فَقَدْ رَآنِي الْحَقَّ، أَيْ رُؤْيَةَ الْحَقِّ لَا الْبَاطِلِ، وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ إِذَا اتَّحَدَا دَلَّ عَلَى الْكَمَالِ وَالْغَايَةِ، أَيْ: فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَا لَيْسَ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ: " «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، فَهَجَرَتُهُ إِلَى اللَّهِ» "، وَلَا كَمَالَ أَكْمَلُ مِنَ الْحَقِّ كَمَا لَا نَقْصَ أَنْقَصُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْبَاطِلُ هُوَ الْكَذِبُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تِلْكَ التَّكَلُّفَاتِ وَالتَّمَحُّلَاتِ، وَلَا يَكْشِفُ الْأَسْتَارَ عَنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ إِلَّا مَنْ تَدَرَّبَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَاعْتَلَى شَامِخَ الْبَيَانِ، وَعَرَفَ كَيْفَ يُؤَلِّفُ الْكَلَامَ وَيُصَنِّفُ، وَيُرَتِّبُ النِّظَامَ وَيَرْصُفُ. قُلْتُ: هَذَا خُطْبَةٌ بَلِيغَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا مُبَالَغَةٌ جَسِيمَةٌ وَسِيمَةٌ، لَكِنْ لَا نَعْرِفُ مَا الْمُرَادُ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ وَالتَّمَحُّلَاتِ، وَسَائِرُ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَسْتَارِ عَنِ الْأَسْرَارِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَإِنَّهُ مَا سَبَقَ إِلَّا كَلَامُ السَّابِقِينَ فِي مَيْدَانِ الْبَلَاغَةِ، وَالْمَصْدَرَيْنِ فِي دِيوَانِ الْفَصَاحَةِ مِنَ الشَّارِحِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْعَلَمُ الْأَكْمَلُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَمِنْ شَارِحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ الْمُشْتَمِلُ كَلَامُهُ عَلَى نَقْلِ مَقُولِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْمَارِزِيِّ وَكَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ، وَهُمْ عُمْدَةُ الْمُحَقِّقِينَ، وَزُبْدَةُ الْمُدَقِّقِينَ، ثُمَّ خَتَمَ الْمَبْحَثَ بِقَوْلِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْقُشَيْرِيُّ مُقْتَدَى الْأَنَامِ، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ قَدْرَهُ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ، وَمَعَ هَذَا نَقُولُ: التَّسْلِيمُ أَسْلَمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4610 - وَعَنْ أَبَى قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4610 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» ) : الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا ضِدُّ الْبَاطِلِ فَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ خِلَافِهِ هُوَ الْبَاطِلُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ هُنَا الصِّدْقُ الَّذِي ضِدُّهُ الْكَذِبُ، أَيْ: فَقَدْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ رَآنِي لَا غَيْرِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ: فَقَدْ رَآنِي الْحَقَّ، أَيْ: رُؤْيَةَ الْحَقِّ، أَوْ مَعْنَاهُ: فَقَدْ رَأَى رُؤْيَا الْحَقِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَرَاءَانِي» ".

4611 - وَعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4611 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ» ) ، أَيْ: فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ أَهْلُ عَصْرِهِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ رَآهُ فِي النَّوْمِ وَلَمْ يَكُنْ هَاجَرَ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ لِلْهِجْرَةِ، وَرُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ عِيَانًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَرَى تَصْدِيقَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعُ أُمَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ رُؤْيَةً خَاصَّةً فِي الْقُرْبِ مِنْهُ، وَحُصُولِ شَفَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ رُؤْيَةَ النَّاسِ إِيَّاهُ صَحِيحَةٌ، وَكُلُّهَا صِدْقٌ، وَمَنَعَ الشَّيْطَانَ أَنْ يَتَصَوَّرَ فِي خِلْقَتِهِ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَى لِسَانِهِ فِي النَّوْمِ، كَمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْمُعْجِزَةِ، فَكَمَا اسْتَحَالَ أَنْ يَتَصَوَّرَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ فِي الْيَقَظَةِ، وَلَوْ وَقَعَ لَاشْتَبَهَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَلَمْ يُوثَقْ بِمَا جَاءَ بِهِ مَخَافَةً مِنْ هَذَا التَّصْوِيرِ، فَحَمَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ وَوَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ وَكَيْدِهِ. وَكَذَلِكَ حَمَى رُؤْيَاهُمْ عَنْهُ بِالنَّوْمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

4612 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثُ بِهِ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفُلْ ثَلَاثًا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4612 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَيُضَمُّ، مَا يُرَى فِي الْمَنَامِ مِنَ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ (مِنَ الشَّيْطَانِ) : أَضَافَهَا إِلَيْهِ لِكَوْنِهَا عَلَى مُرَادِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْحُلْمُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَرَاهُ النَّائِمُ فِي نَوْمِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، لَكِنْ غَلَبَتِ الرُّؤْيَا عَلَى مَا يَرَاهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّيْءِ الْحَسَنِ، وَغَلَبَ الْحُلْمُ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنَ الشَّرِّ، وَالْأَمْرِ الْقَبِيحِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} [يوسف: 44] ، وَيُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ وَتُضَمُّ لَامُ الْحُلْمِ وَتُسَكَّنُ اهـ. لَكِنْ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بِمَعْنَى: أَخْلَاطُهَا حَيْثُ خُلِطَ بَعْضُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَيْرِ بِبَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرِّ، فَحِينَئِذٍ يَعْجِزُ عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُعَبِّرِينَ الَّذِينَ هُمْ لَيْسُوا بِحَاذِقِينَ بِخِلَافِ الْحُلْمِ الْخَاصِّ بِالْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ يُدْرِكُهُ الْمُعَبِّرُ وَقَدْ يُدْرِكُهُ غَيْرُهُ أَيْضًا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَلِذَا قَالَ الْمُعَبِّرُونَ فِي زَمَنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ} [يوسف: 44] أَيْ: تِلْكَ الْأَحْلَامِ (بِعَالِمِينَ) ، أَوْ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُعَبِّرُ مِنْ غَيْرِهِ هُوَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَحْلَامِ، وَلِذَا كَادَ أَنْ يَقْرُبَ تَأْوِيلُهُ إِلَى الْمُعْجِزَةِ أَوِ الْكَرَامَةِ، وَلِذَا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى يُوسُفَ بِقَوْلِهِ: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] وَعَمَّمَ هَذِهِ الْمِنَّةِ عَلَى نَبِيِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعِهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] زَادَهُ تَبْجِيلًا وَتَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَسَيَأْتِي بَعْضُ تَأْوِيلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَعْضِ أَحْلَامِهِ، أَوْ أَحْلَامِ بَعْضِ أَعْلَامِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِلرُّؤْيَا وَالْحُلْمِ، لَكِنْ جَعَلَ الرُّؤْيَا وَالِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْلَامٌ عَلَى مَا يَسُرُّ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الشَّيْطَانِ مَحْبُوبَةً، وَجَعَلَ مَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى مَا يَضُرُّ بِحَضْرَةِ الشَّيْطَانِ مَكْرُوهَةً، فَتُنْسَبُ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازًا لِحُضُورِهِ عِنْدَهَا، لَا عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَقِيلَ: إِضَافَةُ الرُّؤْيَا الْمَحْبُوبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَإِضَافَةُ الْمَكْرُوهَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّهُ يَرْضَاهَا وَيُسَرُّ بِهَا. (فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثْ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: فَلَا يَحْكِي وَلَا يُخْبِرْ بِهِ. (إِلَّا مَنْ يُحِبُّ) أَيْ: مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْأَقْرِبَاءِ، وَيَحْمَدَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: «إِذَا رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يُحِبُّ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا مَنْ يُحِبُّ» . (وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ) أَيْ: فَلَا يَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ، وَلْيَلْتَجِئْ إِلَيْهِ وَلْيَسْتَعِذْ بِهِ (مِنْ شَرِّهَا) أَيْ: شَرِّ تِلْكَ الرُّؤْيَا الْفَاسِدَةِ (وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ) : أَيِ: الَّذِي يَفْرَحُ بِهَا وَيُلْقِي الْوَسْوَسَةَ إِلَى صَاحِبِهَا.

(وَلْيَتْفُلْ) : بِضَمِّ الْفَاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرِهَا، أَيْ: يَبْصُقُ (عَنْ يَسَارِهِ) : كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِيَنْفُثْ وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ الْجَزَرِيُّ: التَّفْلُ شَبِيهٌ بِالْبَزْقِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْهُ فَأَوَّلُهُ الْبَزْقُ، ثُمَّ التَّفْلُ، ثُمَّ النَّفْثُ، ثُمَّ النَّفْخُ اهـ. وَالْمَعْنَى لِيَبْصُقْ مَاءَ فَمِهِ كَرَاهَةَ الرُّؤْيَا وَتَحْقِيرًا لِلشَّيْطَانِ (ثَلَاثًا) : لِلْمُبَالَغَةِ (وَلَا يُحَدِّثْ) : بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى لِيَتْفُلْ، أَيْ: وَلَا يُخْبِرْ (بِهَا أَحَدًا) أَيْ: سَوَاءٌ مِمَّنْ يُحِبُّهُ أَوْ لَا يُحِبُّهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّ وَقْتَ النِّعْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] ، وَأَمَّا وَقْتَ الْبَلِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ الْعَبْدُ إِلَى مَوْلَاهُ، وَأَنْ يَنْقَطِعَ عَمَّا سِوَاهُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] ، وَقَالَ يَعْقُوبُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ. (فَإِنَّهَا) ، أَيِ: الرُّؤْيَا الْمَكْرُوهَةُ (لَنْ تَضُرَّهُ) أَيْ: حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْحَبِيبِ حَبِيبٌ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، فَيَحْصُلُ حِينَئِذٍ الرِّضَا بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَعْنَى لَنْ تَضُرَّهُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِعْلَهُ مِنَ التَّعَوُّذِ وَالتَّفْلِ وَغَيْرِهِ سَبَبًا لِسَلَامَتِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، كَمَا جَعَلَ الصَّدَقَةَ وِقَايَةً لِلْمَالِ، وَسَبَبًا لِدَفْعِ الْبَلَاءِ. وَقَوْلُهُ: لَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا، أَيْ: حَتَّى لَا يُفَسِّرَهَا أَحَدٌ تَفْسِيرًا مَكْرُوهًا عَلَى ظَاهِرِ صُورَتِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، فَوَقَعَتْ كَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَسَيَجِيءُ تَمَامُ الْبَحْثِ فِيهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَلَفْظُهُ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ وَالرُّؤْيَا السُّوءُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا يَكْرَهُ مِنْهَا شَيْئًا فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنْ رَأَى رُؤْيَةً حَسَنَةً فَلْيُبْشِرْ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا إِلَّا مَنْ يُحِبُّ» .

4613 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4613 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا) : صِفَةٌ أَوْ حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (فَلْيَبْصُقْ) بِضَمِّ الصَّادِ، أَيْ: لِيَبْزُقْ (عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَمْرُ بِالتَّفْلِ وَالْبَصْقِ طَرْدٌ لِلشَّيْطَانِ الَّذِي حَضَرَ رُؤْيَاهُ الْمَكْرُوهَةَ وَتَحْقِيرًا لَهُ وَاسْتِقْذَارًا لِفِعْلِهِ، وَخَصَّ بِهَا الْيَسَارَ ; لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْأَقْذَارِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَنَحْوِهِمَا. (وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ) أَيْ: إِلَى جَنْبِهِ الْآخَرِ فِرَارًا مِنَ الْقَضَاءِ إِلَى الْقَدَرِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

4614 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ يَكَدْ يَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: وَأَنَا أَقُولُ: الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: حَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ، وَبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلَا يَقُصَّهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ. قَالَ: وَكَانَ يُكْرَهُ الْغُلُّ فِي النَّوْمِ، وَيُعْجِبُهُمُ الْقَيْدُ. وَيُقَالُ: الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4614 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ يَكَدْ) أَيْ: لَمْ يَقْرُبْ (يَكْذِبُ) : بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّأْنِيثِ (رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ) : قَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ آخِرَ الزَّمَانِ وَاقْتِرَابَ السَّاعَةِ ; لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا قَلَّ وَتَقَاصَرَ تَقَارَبَتْ أَطْرَافُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُقْتَصِرِ مُتَقَارِبٌ، وَيَقُولُونَ: تَقَارَبَتْ إِبِلُ فُلَانٍ إِذَا قَلَّتْ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ (فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَا تَكَادُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ) . وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْتِوَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِزَعْمِ الْعَابِرِينَ أَنَّ أَصْدَقَ الْأَزْمَانِ لِوُقُوعِ الْعِبَارَةِ وَقْتُ انْفِتَاقِ الْأَنْوَارِ، وَزَمَانُ إِدْرَاكِ الْأَثْمَارِ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. ثَالِثُهَا أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ حَتَّى تَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ. قَالُوا: يُرِيدُ بِهِ زَمَنَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ، وَبَسْطِ الْعَدْلِ، وَذَلِكَ زَمَانٌ يَسْتَقْصِرُ لِاسْتِلْذَاذِهِ فَيَتَقَارَبُ أَطْرَافُهُ.

قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ زَمَنُ الدَّجَّالِ وَأَيَّامُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَإِنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ التَّعَبِ وَالْآلَامِ، وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِأَزْمِنَةِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، تَتَقَارَبُ أَطْرَافُهُ فِي الْأَعْوَامِ، وَأَيْضًا يَحْتَاجُ الْمُؤْمِنُ حِينَئِذٍ إِلَى مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَطْلُوبِهِ، وَيَسْتَأْنِسُ بِهِ فِي طَرِيقِ مَحْبُوبِهِ، فَيُعَانُ لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَشُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ أَرْبَابِ الْوِلَايَةِ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اخْتُلِفَ فِي خَبَرِ كَادَ الْمَنْفِيِّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا مَنْفِيًّا ; لِأَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ الدَّاخِلَ عَلَى كَادَ يَنْفِي قُرْبَ حُصُولِهِ، وَالنَّافِي لِقُرْبِ حُصُولِ الشَّيْءِ أَدَلُّ عَلَى نَفْيِهِ نَفْسَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] ، قُلْتُ: وَلَفْظُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا قَرُبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا» ، كَذَا فِي الْجَامِعِ. ( «وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ) أَيْ: مِنْ أَجْزَائِهَا (فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ، أَيْ: لَا يَكُونُ كَاذِبًا، بَلْ يَقَعُ صَادِقًا. وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِكْذَابِ، أَيْ: لَا يُنْسَبُ إِلَى الْكَذِبِ. (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) : وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (وَأَنَا أَقُولُ: الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ) : كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَشَرْحِهِ لِلْخَطَّابِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَنُسَخِ الْمَصَابِيحِ: ثَلَاثَةٌ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَعَلَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ كَوْنُ الْمَصْدَرِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. (حَدِيثُ النَّفْسِ) ، كَنِسْبَةِ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ، وَمِنْهُ قِيلَ: مَا تَرَى الْهِرَّةُ فِي نَوْمِهَا إِلَّا الْفَأْرَةَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: كَمَا تَعِيشُونَ تَمُوتُونَ وَكَمَا تَمُوتُونَ تُحْشَرُونَ، وَكُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ. (وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ) ، أَيْ: بِأَنْ يُكَدِّرَ عَلَيْهِ وَقْتَهُ الصَّافِيَ فَيُرِيَهُ فِي النَّوْمِ أَنَّهُ قُطِعَ رَأْسُهُ مَثَلًا (وَبُشْرَى مِنَ اللَّهِ) ، أَيْ: إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلرَّائِي، أَوِ الْمَرْئِيِّ لَهُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ بَيَانُ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَرَاهُ الْإِنْسَانُ فِي مَنَامِهِ يَكُونُ صَحِيحًا، وَيَجُوزُ تَعْبِيرُهُ، إِنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْهَا مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَأْتِيكَ بِهِ مَلَكُ الرُّؤْيَا مِنْ نُسْخَةِ أُمِّ الْكِتَابِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ لَا تَأْوِيلَ لَهَا، وَهِيَ عَلَى أَنْوَاعٍ؛ قَدْ تَكُونُ مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ يَلْعَبُ بِالْإِنْسَانِ وَيُرِيهِ مَا يُحْزِنُهُ، وَلَهُ مَكَايِدُ يُحْزِنُ بِهَا بَنِي آدَمَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] وَمِنْ لَعِبِ الشَّيْطَانِ بِهِ الِاحْتِلَامُ الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ تَأْوِيلٌ. قُلْتُ: إِذَا كَانَ رُؤْيَتُهُ عَلَى وَجْهٍ شَرْعِيٍّ قَدْ يُؤَوَّلُ لَهُ بِالزَّوَاجِ عَلَى الْمَرْئِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ كَمَنْ يَكُونُ فِي أَمْرٍ أَوْ حِرْفَةٍ يَرَى نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ وَالْعَاشِقُ يَرَى مَعْشُوقَهُ (فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْفَاءُ فِيهِ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّفْصِيلِ، وَفِي مُخْتَصَرِ الطِّيبِيِّ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَفْصِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ، وَتَقْسِيمُ ابْنِ سِيرِينَ وَاقِعٌ بَيْنَهُمَا اهـ. وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ، بَلْ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي مَحِلِّهِ وَلَا ثَمَّةَ دَلَالَةٌ عَلَى مَقُولِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ مَرْفُوعٌ، فَالتَّقْدِيرُ أَنَا أَقُولُ أَيْ: رِوَايَةُ الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ، فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ ثَلَاثَةٌ. مِنْهَا تَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ابْنُ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ، وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، أَيْ: فَهِيَ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، هَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لِابْنِ سِيرِينَ، وَلَمْ يَسْتَحْضِرْهُ مِمَّنْ رَوَاهُ أَوْ وَقَعَ لَهُ تَوَارُدًا. وَقَالَ: هَذَا الْكَلَامُ مُصَادَفَةً وَمُوَافَقَةً لِلْحَصْرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْطُورِ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثًا آخَرَ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ يَحْصُلُ بِهِ تَمَامُ الْمَرَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَلَا يَقُصَّهُ) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمَفْتُوحَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا، فَالْأَوَّلُ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ، وَالثَّانِي يَحْتَمِلُ النَّهْيَ وَالنَّفْيَ، لَكِنَّهُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ: لَا يَحْكِيهِ (عَلَى أَحَدٍ) ، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُحِبُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةَ فَلْيُفَسِّرْهَا أَوْ لِيُخْبِرْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى الرُّؤْيَا الْقَبِيحَةَ فَلَا يُفَسِّرْهَا وَلَا يُخْبِرْ بِهَا» (وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ) . يَعْنِي: لِيَدْفَعَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ عَنْهُ بِبَرَكَةِ قِيَامِهِ وَأَدَاءِ صَلَاتِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ نَشِيطًا، وَإِلَّا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا

سَبَقَ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ وَهُوَ الْأَوْلَى، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْجَزَرِيَّ ذَكَرَ فِي الْحِصْنِ قَوْلَهُ: وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَرَمَزَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ مُوهَمٌ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ فِي الْبُخَارِيِّ، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، نَعَمْ هُوَ مَرْفُوعٌ فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ. (قَالَ) أَيْ: مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ إِعَادَةِ قَالَ طُولُ الْفَصْلِ بِالْمَقَالِ. (وَكَانَ يُكْرَهُ الْغُلُّ فِي النَّوْمِ، وَيُعْجِبُهُمُ الْقَيْدُ) . قِيلَ فَاعِلُ قَالَ إِنْ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ قَالَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَيَكُونُ فَاعِلَ يُقَالُ، وَيَكْرَهُ ضَمِيرٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ضَمِيرٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَضَمِيرُهُمْ فِي تُعْجِبُهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ أَوْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمْثَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُ قَالَ ضَمِيرَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ سِيرِينَ كَانَ مَا بَعْدَهُ مَنْقُولًا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَكَانَ فَاعِلُ يَكْرَهُ ضَمِيرَهُ وَضَمِيرَهُمْ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ وَمُعَاصِرِيهِ مِنَ الْمُعَبِّرِينَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ الْأَخِيرَ إِعَادَةُ قَالَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ) ، أَيْ: ثَبَاتُ قَدَمٍ وَرُسُوخُ تَمْكِينٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: ذَكَرَ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَالْمَوْقُوفِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، لَكِنْ لَهُمَا تَرَدُّدٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ.

4615 - قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ قَتَادَةُ وَيُونُسُ وَهُشَيْمٌ وَأَبُو هِلَالٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ يُونُسُ: لَا أَحْسَبُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَيْدِ. وَقَالَ مُسْلِمٌ: لَا أَدْرِي هُوَ فِي الْحَدِيثِ أَمْ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ؟ . وَفِي رِوَايَةٍ نَحْوُهُ، وَأَدْرَجَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَهُ: " وَأَكْرَهُ الْغُلَّ. " إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4615 - (قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ مُطْلَقًا أَوْ بِالْقَيْدِ (قَتَادَةُ وَيُونُسُ وَهُشَيْمٌ وَأَبُو هِلَالٍ) أَيْ: كُلُّهُمْ (عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَيْ: مَرْفُوعًا فِي أَوَّلِهِ وَمَوْقُوفًا فِي آخِرِهِ. (وَقَالَ يُونُسُ) أَيْ: أَحَدُ الرُّوَاةِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ (لَا أَحْسَبُهُ) أَيْ: لَا أَظُنُّ الْحَدِيثَ (إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَيْدِ) ، أَيْ: فِي شَأْنِهِ. قُلْتُ: وَتَعْبِيرُهُ بِيُقَالُ مِمَّا يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا. (وَقَالَ مُسْلِمٌ: لَا أَدْرِي هُوَ) أَيِ: الْقَيْدُ (فِي الْحَدِيثِ) أَيْ: مَرْفُوعٌ أَوْ مَوْقُوفٌ (أَمْ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ؟) أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِيهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، لَا يُقَالُ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ، وَيُقَالُ: الْقَيْدُ، بَلْ فِي قَوْلِهِ: وَيُعْجِبُهُمُ الْقَيْدُ ; لِأَنَّنَا نَقُولُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَمَا خُصَّ بِالْقَيْدِ ; لِأَنَّ الْغُلَّ كَذَلِكَ، هَذَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ فَاعِلَ قَالَ رَاوِي ابْنِ سِيرِينَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ وَقَوْلُهُ: وَكَانَ يَكْرَهُ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِرَاوِي ابْنِ سِيرِينَ، فَيَكُونُ اسْمُ كَانَ ضَمِيرَ ابْنِ سِيرِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِابْنِ سِيرِينَ، فَاسْمُهُ ضَمِيرُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَوْلُ مُسْلِمٍ: لَا أَدْرِي هُوَ فِي الْحَدِيثِ أَوْ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ مَعْنَاهُ: لَا أَدْرِي أَنَّ قَالَ مَقُولٌ لِرَاوِي ابْنِ سِيرِينَ، فَيَكُونُ قَوْلًا لِابْنِ سِيرِينَ، أَوْ يَكُونُ مَقُولًا لِابْنِ سِيرِينَ، فَيَكُونُ مِنَ الْحَدِيثِ إِمَّا عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاخْتَارَ يُونُسُ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِابْنِ سِيرِينَ، وَاسْمُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِقَوْلِهِ: لَا أَحْسَبُهُ، أَيْ: قَالَ يُونُسُ فِي شَأْنِ الْقَيْدِ لَا أَحْسَبُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَوْلُهُ: وَأَنَا أَقُولُ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ، وَرَفْعِ التَّوَهُّمِ أَنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ الثَّلَاثَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ الَّذِي أُدْرِجَ فِيهِ هَذِهِ الْخِلَالُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ. (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُمَا أَوْ لِمُسْلِمٍ (نَحْوُهُ) أَيْ: نَحْوُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَعْنَى (وَأُدْرِجَ) أَيْ: أُدْخِلَ وَأُدْمِجَ (فِي الْحَدِيثِ) أَيْ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (قَوْلُهُ: " وَأَكْرَهُ الْغُلَّ " إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ) فَيَكُونُ أَكْرَهُ عَطْفًا عَلَى أَقُولُ، فَيَصِيرُ نَصًّا عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الصَّحِيحُ، وَبِهَذَا التَّبْيِينِ يَتَّضِحُ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ قَتَادَةُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَأَدْرَجَ الْكُلَّ فِي الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ: وَيُقَالُ الْقَيْدُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعَبِّرِينَ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: " «الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: فَبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا تُعْجِبُهُ فَلْيَقُصَّهَا إِنْ شَاءَ، وَإِنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلَا يَقُصَّهُ عَلَى أَحَدٍ وَلْيَقُمْ يُصَلِّي، وَأَكْرَهُ الْغُلَّ وَأُحِبُّ الْقَيْدَ، وَالْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ» " اهـ. فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَمْ يَتَّضِحْ حَدِيثٌ إِلَّا بِجَمْعِ أَلْفَاظِهِ وَرِوَايَاتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا أُحِبُّ الْقَيْدَ ; لِأَنَّهُ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ كَفٌّ مِنَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ وَأَنْوَاعِ الْبَاطِلِ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ أَيْضًا إِلَى اخْتِيَارِ الْخَلْوَةِ وَتَرْكِ الْجَلْوَةِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَرْبَابِ الْعُزْلَةِ مِنْ تَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْخُرُوجِ بِالْأَقْدَامِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِمْ: الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ. قَالَ: وَأَبْغَضُ الْغُلَّ ; لِأَنَّ مَوْضِعَهُ الْعُنُقُ، وَهُوَ صِفَةُ أَهْلِ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] ، قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الرَّقَبَةَ مُسْتَثْقَلَةٌ بِالذِّمَّةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ، فَهَذَا الِاسْتِثْقَالُ فِي الدُّنْيَا يُورِثُ الْأَغْلَالَ فِي الْأُخْرَى، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا قَالَ: وَإِنَّمَا يَكُونُ الْغُلُّ فِي النَّوْمِ ; لِأَنَّ الْغُلَّ تَقْيِيدُ الْعُنُقِ وَتَثْقِيلُهُ بِتَحَمُّلِ الدَّيْنِ أَوِ الْمَظَالِمِ، أَوْ كَوْنُهُ مَحْكُومًا وَرَقِيقًا مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ، أَوْ لِأَنَّهُ حَقُّ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا أَهْلُ التَّعْبِيرِ فَقَالُوا: إِذَا رَأَى الْقَيْدَ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ مَشْهَدِ خَيْرٍ، أَوْ عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ، فَهُوَ دَلِيلٌ لِثَبَاتِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ رَآهُ مَرِيضٌ، أَوْ مَسْجُونٌ، أَوْ مُسَافِرٌ أَوْ مَكْرُوبٌ، كَانَ دَلِيلًا عَلَى ثَبَاتِهِ فِيهِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى صَبْرِهِ وَثَبَاتِ قَدَمِهِ بِعَدَمِ الْجَزَعِ وَالْفَزَعِ وَالتَّرَدُّدِ إِلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، وَبِالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ. قَالَ: وَإِذَا انْضَمَّ مَعَهُ الْغُلُّ دَلَّ عَلَى زِيَادَةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ. قُلْتُ: بَلْ لَهُ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ تَخْلِيصِ مَا فِي رَقَبَتِهِ مِنْ قَضَاءِ الصَّلَاةِ، وَالتَّوْبَةِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَأَدَاءِ دُيُونِ الْعِبَادِ، وَاسْتِحْلَالِ مَا صَدَرَ مِنْهُ فِي الْبِلَادِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّؤْيَا مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الرَّائِي، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَالِكًا مِنْ مَسَالِكِ طَرِيقِ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَكُونُ سَائِرًا فِي مَسَائِرِ صِرَاطِ الْعُقْبَى، فَلِكُلٍّ تَأْوِيلٌ يَلِيقُ بِهِ وَيُنَاسِبُ بِحَالِهِ وَمَقَامِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَلِذَا لَمْ يَجْعَلِ السَّلَفُ فِيهِ تَأْلِيفًا مُسْتَقِلًّا جَامِعًا شَامِلًا كَافِلًا لِأَنْوَاعِ الرُّؤْيَا، وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْقَضَايَا، وَلِذَا لَمْ تَلْقَ مُعَبِّرَيْنِ يَكُونَانِ فِي تَعْبِيرِهِمَا لِشَيْءٍ مُتَّفِقَيْنِ. قَالَ: وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْيَدَانِ مَغْلُولَتَيْنِ فِي الْعُنُقِ، فَهُوَ حَسَنٌ وَدَلِيلٌ عَلَى فَكِّهِمَا مِنَ الشَّرِّ. قُلْتُ: وَمَا أَبْعَدَ هَذَا التَّأْوِيلَ. نَعَمْ قَوْلُهُ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْبُخْلِ وَهُوَ الصَّوَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِمْسَاكَ الْمَالِيَّ وَالْبُخْلَ الْفَعَّالِيَّ، فَقَوْلُهُ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ مَا نَوَاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ مُسْتَدْرَكٌ فِي الْمَآلِ، وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ أَنْ يُؤَوَّلَ لَهُ بِالْعُقُوبَةِ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّا سَيَقَعُ لَهُمْ مِنَ الْأَغْلَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ: وَكَانَ يَكْرَهُ الْغُلَّ ; لِأَنَّهُ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَتِ الْيَدَانِ مَعَهُ أَوْ بِدُونِهِ، بَلْ كَوْنُهُمَا مَعَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ كَرَاهَةً، فَكَيْفَ يَكُونُ حَسَنًا.

4616 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسِي قُطِعَ. قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: " إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4616 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسِي قُطِعَ. قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ وَهَذَا فِي نُسْخَةٍ. وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِدُونِهِ قَالَ. ( «فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ» ) أَيْ: لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَصِيرُ ضِحْكَةً فَيَحْصُلُ لَهُ الْخَجَالَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ أَنَّ مَنَامَهُ هَذَا مِنَ الْأَضْغَاثِ بِوَحْيٍ أَوْ لِدَلَالَةٍ دَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الْأَخِيرُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَفْسُ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَأَمَّا الْمُعَبِّرُونَ، فَإِنَّهُمْ يُؤَوِّلُونَ قَطْعَ الرَّأْسِ بِمُفَارَقَةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، أَيِ: الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَهُولَةِ. قَالَ: أَوْ مُفَارَقَةُ قَوْمِهِ وَزَوَالُ سُلْطَانِهِ وَتَغْيِيرُ حَالِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا زِيَادَةُ تَهْوِيلٍ لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابِيِّ الَّذِي رَأَسُهُ وَرَئِيسُهُ سَيِّدُ الْخَلْقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيَدُلُّ عَلَى عِتْقِهِ، أَوْ مَرِيضًا فَعَلَى شِفَائِهِ، أَوْ مَدْيُونًا فَعَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ. قُلْتُ: لَا يَخْفَى بَعْدَ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ فَعَلَى أَنَّهُ يَحُجُّ، أَوْ مَغْمُومًا فَعَلَى فَرَجِهِ، أَوْ خَائِفًا فَعَلَى أَمْنِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

4617 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَأُوتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقِبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4617 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ) : أَيْ فِي جُمْلَةِ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ الصَّالِحُ الرُّؤْيَا (كَأَنَّا) بِتَشْدِيدِ النُّونِ يَعْنِي: أَنَا وَأَصْحَابِي (فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَأَتَيْنَا) : أَيْ جِئْنَا (بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ) ، بِالتَّنْوِينِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّابَ بِمَعْنَى الطَّيِّبِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى عَدَمِ صَرْفِهِ، وَلَعَلَّهُ رِعَايَةٌ لِأَصْلِهِ، فَإِنَّهُ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ. قِيلَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: وَطَيْبَةُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَطَابَةَ، وَعَذْقُ بْنُ طَابٍ نَخْلٌ بِهَا، أَوِ ابْنُ طَابٍ ضَرْبٌ مِنَ الرُّطَبِ. (فَأَوَّلْتُ أَنَّ الرِّفْعَةَ) : أَيِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ رَافِعٌ (لَنَا فِي الدُّنْيَا) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة: 11] (وَالْعَاقِبَةَ) : أَيِ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ عُقْبَةَ (فِي الْآخِرَةِ) : أَيْ لَنَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] أَيِ: الْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ لِاشْتِهَارِهَا فِيهَا. (وَأَنَّ دِينَنَا) : أَيْ مَذُوقَنَا الْمَعْنَوِيَّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ الْمُشَبَّهُ بِالرُّطَبِ (قَدْ طَابَ) أَيْ: كَمُلَ إِحْكَامُهُ وَحَسُنَ زَمَانُهُ وَأَيَّامُهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: تَأْوِيلُهُ هَكَذَا قَانُونٌ فِي قِيَاسِ التَّعْبِيرِ عَلَى مَا يُرَى فِي الْمَنَامِ بِالْأَسْمَاءِ الْحَسَنَةِ، كَمَا أَخَذَ الْعَاقِبَةَ مَنْ لَفْظِ عُقْبَةَ، وَالرِّفْعَةَ مِنْ رَافِعٍ، وَطَيِّبَ الدِّينِ مِنْ طَابٍ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ، وَيَكْرَهُ التَّطَيُّرَ، وَإِلَّا فَالْأَسْمَاءُ وَالْأَلْفَاظُ ذَوَاتُ جِهَاتٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ، فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْدَاءِ يُمْكِنُ أَخْذُ الْعُقُوبَةِ مِنْ عُقْبَةَ، وَرَفْعِهِمْ مِنْ رَافِعٍ، وَطَابَ مَوْتُهُمْ مَنْ طَابٍ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مَسْلَكَ الرُّؤْيَا دَقِيقٌ يَحْتَاجُ إِلَى نَوْعِ تَوْفِيقٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْعَقِبُ وَالْعُقْبَى يَخْتَصَّانِ بِالثَّوَابِ نَحْوَ: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: 44] ، وَالْعَاقِبَةُ إِطْلَاقُهَا يَخْتَصُّ بِالثَّوَابِ نَحْوَ: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] وَبِالْإِضَافَةِ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقُوبَةِ نَحْوَهُ: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى} [الروم: 10] قُلْتُ: الْعَاقِبَةُ فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ، بَلْ بِمَعْنَى عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَنِهَايَةِ قَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُّوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ، نَعَمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51] لَهُ وَجْهٌ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4618 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهْلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ. وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ: أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا، فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4618 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا) ، أَيْ: فِي تِلْكَ الْأَرْضِ (نَخْلٌ) ، اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى نَخِيلٍ! (فَذَهَبَ وَهْلِي) : بِسُكُونِ الْهَاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ: وَهْمِي. قَالَ شَارِحٌ: هُوَ بِسُكُونِ الْهَاءِ يُقَالُ: وَهَلْتُ إِلَيْهِ بِالْفَتْحِ أَهِلُ بِالْكَسْرِ وَهْلًا إِذَا ذَهَبَ وَهْمُكَ إِلَيْهِ وَأَنْتَ تُرِيدُ غَيْرَهُ، وَالْوَهَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَزَعُ. وَفِي الْقَامُوسِ: وَهِلَ كَفَرِحَ ضَعُفَ وَفَزِعَ فَهُوَ وَهِلٌ كَكَتِفٍ وَعَنْهُ غَلِطَ فِيهِ وَنَسِيَهُ، وَوَهَلَ إِلَى الشَّيْءِ يَوْهَلُ بِفَتْحِهِمَا، وَيَهِلُ وَهْلًا إِذَا ذَهَبَ وَهْمُهُ إِلَيْهِ، وَالْوَهَلُ الْفَزَعُ، وَلَقِيتُهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ، وَيُحَرَّكُ أَوْ شَيْءٌ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَالَ ابْنُ التِّينِ: رُوِّينَاهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ سُكُونُهَا، وَضَبَطَهُ الْجَزَرِيُّ بِالتَّحْرِيكِ بِمَعْنَى الْوَهْمِ، وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَجَزَمَ بِالتَّسْكِينِ، وَالْمَعْنَى: فَمَالَ خَاطِرِي بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ. (إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ) فَفِي الْقَامُوسِ: أَنَّ الْيَمَامَةَ الْقَصْدُ كَالْيَمَامِ وَجَارِيَةٌ زَرْقَاءُ كَانَتْ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَبِلَادُ الْجَوِّ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهَا، وَسُمِّيَتْ بِاسْمِهَا، وَهِيَ أَكْثَرُ نَخِيلًا مِنْ سَائِرِ الْحِجَازِ وَبِهَا تَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَهِيَ دُونُ الْمَدِينَةِ فِي وَسَطِ الشَّرْقِ عَنْ مَكَّةَ عَلَى سِتَّ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً مِنَ الْبَصْرَةِ، وَعَنِ الْكُوفَةِ نَحْوَهَا وَالنِّسْبَةُ يَمَامِيٌّ (أَوْ هَجَرُ) ، بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالْجِيمِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَقَدْ يَنْصَرِفُ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ وَالْمَكَانِ وَالْعَلَمِيَّةِ. فَفِي الْقَامُوسِ هَجَرُ مُحَرَّكَةٌ بَلَدٌ

بِالْيَمَنِ مُذَكَّرٌ مَصْرُوفٌ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَيُمْنَعُ، وَاسْمٌ لِجَمِيعِ أَرْضِ الْبَحْرَيْنِ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ كَبِضْعِ تَمْرٍ إِلَى هَجَرَ، وَقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: عَجِبْتُ لِتَاجِرِ هَجَرَ كَأَنَّهُ أَرَادَ لِكَثْرَةِ وَبَائِهِ، أَوْ لِرُكُوبِ الْبَحْرِ قَالَ: وَقَرْيَةٌ كَانَتْ قُرْبَ الْمَدِينَةِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا الْقِلَالُ (فَإِذَا هِيَ) أَيْ: تِلْكَ الْأَرْضُ (الْمَدِينَةُ) أَيْ: طَيِّبَةُ السَّكِينَةِ (يَثْرِبُ) . بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَثْرِبُ اسْمُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى الْمَدِينَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيْبَةَ وَطَابَةَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ تَسْمِيَتِهَا بِيَثْرِبَ لِكَرَاهَةِ لَفْظِ التَّثْرِيبِ، وَسَمَّاهَا لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ النَّهْيِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ، وَقِيلَ خُوطِبَ بِهَا مَنْ يَعْرِفُهَا بِهِ، وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِهَا الشَّرْعِيِّ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ الْبَيَانِ فَتَدَبَّرْ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَاقِلًا عَنْ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِرِوَايَتِهِ، عَنِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا " «مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ هِيَ طَابَةُ هِيَ طَابَةُ» ". قُلْتُ: فِي تَكْرَارِهِ مُبَالَغَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى النَّهْيِ لِكَوْنِهِ مِنْ شِعَارِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، حَيْثُ قَالُوا فِي الْأَحْزَابِ: " {يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13] ". وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَيْضًا قَدْ تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ. (وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ: أَنِّي هَزَزْتُ) بِالزَّاءَيْنِ، أَيْ: حَرَّكْتُ (سَيْفًا، فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ) أَيْ: وَسَطُ السَّيْفِ (فَإِذَا هُوَ) أَيْ: تَأْوِيلُهُ (مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ: بَعْضُهُمْ وَهُمْ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ أَوْ لِكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ أُمَّةً وَسَطًا. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَإِذَا هُوَ أَصْلُهُ، فَإِذَا تَأْوِيلُهُ فَحُذِفَ الْمُضَافُ الَّذِي هُوَ التَّأْوِيلُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَانْقَلَبَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ مَرْفُوعًا (يَوْمَ أُحُدٍ) . ظَرْفُ أُصِيبَ (ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ) أَيِ: السَّيْفُ حَالَ كَوْنِهِ (أَحْسَنَ مَا كَانَ) ، بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِمَّا كَانَ، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، فَالتَّقْدِيرُ رَجَعَ إِلَى أَحْسَنِ أَكْوَانِهِ (فَإِذَا هُوَ) أَيْ: تَعْبِيرُهُ (مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ) أَيْ: فَتْحُ مَكَّةَ أَوْ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِأَنَّهَا مِفْتَاحُ الْفَتْحِ، وَهُوَ أَنْسَبُ لِعَطْفِ قَوْلِهِ: (وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ) . فَإِنَّهُ وَقَعَ حِينَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2] . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّيْفَ فَمُطَابِقٌ لِمَا فَسَّرُوا أَنَّ سَيْفَ الرَّجُلِ أَنْصَارُهُ الَّذِينَ يَصُولُ بِهِمْ، كَمَا يَصُولُ بِسَيْفِهِ، وَقَدْ يُفَسَّرُ فِي غَيْرِ هَذَا بِالْوَلَدِ أَوْ بِالْعَمِّ أَوِ الْأَخِ أَوِ الزَّوْجِ. قُلْتُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَاخِلٌ تَحْتَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَعَلَى لِسَانِ الرَّجُلِ وَحُجَّتِهِ. قُلْتُ: هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ النُّصْرَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. قَالَ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى سُلْطَانٍ جَائِرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحَسْبِ الْقَرَائِنِ. قُلْتُ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى سُلْطَانٍ عَادِلٍ ; لِأَنَّ السَّيْفَ ذُو جِهَتَيْنِ، وَلِذَا قَالَ الْغَزَّالِيُّ: الْعِلْمُ كَالسَّيْفِ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ عَلَى الدِّينِ وَعَلَى الدُّنْيَا، كَمَا يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4619 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَ فِي كَفَّيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا، نَفَخْتُهُمَا، فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ: " «يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُسَيْلِمَةُ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ، وَالْعَنْسِيُّ صَاحِبُ صَنْعَاءَ» " لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَذَكَرَهَا صَاحِبُ " الْجَامِعِ " عَنِ التِّرْمِذِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4619 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ» ) ، أَيْ: أَتَانِي مَلَكٌ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَيْ: عَرَضَ عَلَيَّ الْكُنُوزَ وَأَنْوَاعَ الْأَمْوَالِ، وَقِيلَ: أُتِيَ بِالْخَزَائِنِ حَقِيقَةً إِشَارَةً إِلَى تَمَلُّكِهِ عَلَيْهَا بِفَتْحِ الْبِلَادِ عَنْوَةً وَدَعْوَةً. قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْ: مَلَكَهَا وَفَتَحَ بِلَادَهَا وَأَخَذَ خَزَائِنَ أَمْوَالِهَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. (فَوُضِعَ فِي كَفَّيَّ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَالْيَاءِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ التَّثْنِيَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي يَدَايَ. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى التَّثْنِيَةِ. (سِوَارَانِ) بِكَسْرِ السِّينِ، أَيْ: قَلْبَانِ (مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: ثَقُلَا (عَلَيَّ) ، أَيْ: لِكَرَاهَةِ نَفْسِي إِلَيْهِمَا (فَأُوحِيَ إِلَيَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: فَأَلْهَمَنِي اللَّهُ فِي النَّوْمِ (أَنِ انْفُخْهُمَا) ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَأَنْ: هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ، وَجَوَّزَ الطِّيبِيُّ.

أَنْ تَكُونَ نَاصِبَةً، وَالْجَارُّ مَحْذُوفٌ، وَالنَّفْخُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، يُقَالُ: نَفَخْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ (فَنَفَخْتُهُمَا، فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا) ، يَعْنِي: بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ (صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ) بِنَصْبِهِمَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَجُوِّزَ رَفْعُهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُمَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: نَبَّهَ بِالنَّفْخِ عَلَى اسْتِحْقَارِ شَأْنِ الْكَذَّابَيْنِ، وَعَلَى أَنَّهُمَا يُمْحَقَانِ بِأَدْنَى مَا يُصِيبُهُمَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ حَتَّى يَصِيرَا كَالشَّيْءِ الَّذِي يُنْفَخُ فَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ يَجُزْ، قَالَ: أَلَمْ يُخْزِ التَّفَرُّقُ آلَ كِسْرَى ... وَنُفِخُوا فِي مَدَائِنِهِمْ فَطَارُوا أَرَادَ وَأُنْفِخُوا فَخَفَّفَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَنْ رَأَى عَلَيْهِ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ أَصَابَهُ ضِيقٌ فِي ذَاتِ يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَلَيْسَ يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فِي الْمَنَامِ مِنَ الْحُلِيِّ شَيْءٌ إِلَّا الْقِلَادَةُ وَالتَّاجُ وَالْعِقْدُ وَالْقُرْطُ وَالْخَاتَمُ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْحُلِيُّ كُلُّهُ زِينَةٌ لَهُنَّ، وَالدَّرَاهِمُ خَيْرٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنَ الدَّنَانِيرِ، أَيْ: لِأَنَّ الْفِضَّةَ بَعْضُهَا حَلَالٌ عَلَى الرِّجَالِ بِخِلَافِ الذَّهَبِ. قَالَ الْقَاضِي: وَجْهُ تَأْوِيلِ السِّوَارَيْنِ بِالْكَذَّابَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى - أَنَّ السِّوَارَ يُشْبِهُ قَيْدَ الْيَدَ، وَالْقَيْدُ فِيهَا يَمْنَعُهَا مِنَ الْبَطْشِ وَيَكُفُّهَا عَنِ الِاعْتِمَالِ وَالتَّصَرُّفِ عَلَى مَا يَنْبَنِي، فَيُشَابِهُ مَنْ يَقُومُ بِمُعَارَضَتِهِ، وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَصُدُّهُ عَنْ أَمْرِهِ، وَصَنْعَاءُ بَلْدَةٌ بِالْيَمَنِ وَصَاحِبُهَا الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ تَنَبَّأَ بِهَا فِي آخِرِ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَتَلَهُ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مَرَضِ وَفَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ: فَازَ فَيْرُوزُ، وَالْيَمَامَةُ تَقَدَّمَتْ، وَصَاحِبُهَا مُسَيْلِمَةُ قَتَلَهُ الْوَحْشِيُّ قَاتِلُ حَمْزَةَ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اهـ. وَقِيلَ لَمَّا قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ قَالَ: قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرَّ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ. (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِلتِّرْمِذِيِّ (يُقَالُ أَحَدُهُمَا مُسَيْلِمَةُ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ، وَالْعَنْسِيُّ) أَيْ: وَثَانِيهِمَا الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ (صَاحِبُ صَنْعَاءَ) وَفِي الْقَامُوسِ: عَنْسٌ لَقَبُ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ دَاوُدَ أَبُو قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ اهـ. هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ بِإِطْلَاقِ رِوَايَةٍ وَهِيَ مُوهِمَةٌ أَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا. وَالْحَالُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مُعْتَرِضًا عَلَيْهِ: (لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الْجَامِعِ) أَيْ: جَامِعُ الْأُصُولِ (عَنِ التِّرْمِذِيِّ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاعْتِذَارُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ الْتِزَامَهُ فِي الصِّحَاحِ أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ الشَّيْخَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، إِنَّمَا هُوَ فِي أُصُولِ الْبَابِ لَا فِيمَا يُعْتَضَدُ بِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

4620 - «وَعَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: رَأَيْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فِي النَّوْمِ عَيْنًا تَجْرِي، فَقَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " ذَلِكِ عَمَلُهُ يُجْرَى لَهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4620 - (وَعَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مِنَ الْمُبَايِعَاتِ رَوَى عَنْهَا خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَهِيَ أُمُّهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهَا فِي مَرَضِهَا (قَالَتْ: رَأَيْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ) الْحَدِيثَ مُخْتَصَرٌ، وَصَدْرُهُ أَنَّهَا قَالَتْ: «هَاجَرَ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَ فِي مَسْكَنٍ لَنَا، ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ، فَقُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ أَبَا السَّائِبِ شَهَادَتِي أَنْ قَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَا يُدْرِيكِ بِإِكْرَامِهِ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، ثُمَّ قَالَتْ: رَأَيْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ» ، وَهُوَ مِنْ أَوْلَادِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ الْجُمَحِيِّ الْقُرَشِيِّ، أَسْلَمَ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ وَشَهِدَ بَدْرًا، وَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَبَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجْهَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمَّا دُفِنَ قَالَ: " نِعْمَ السَّلَفُ وَهُوَ لَنَا "، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ عَابِدًا مُجْتَهِدًا مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، رَوَى ابْنُهُ السَّائِبُ وَأَخُوهُ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، (فِي النَّوْمِ) أَيْ: فِي الْمَنَامِ (عَيْنًا) أَيْ: عَيْنَ مَاءٍ (تَجْرِي) أَيْ: يَجْرِي مَاؤُهَا، وَنِسْبَةُ الْجَرْيِ إِلَى الْعَيْنِ مَجَازٌ فِيهِ مُبَالَغَةٌ. (فَقَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ (عَمَلُهُ) أَيْ: ثَوَابُ عَمَلِهِ وَجَزَاءُ أَمَلِهِ (يُجْرَى لَهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، أَيْ: يَصِلُ إِلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُرَابِطًا مُهَاجِرًا، وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا يَنْمِي لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا " «كُلَّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ مُعَبَّرًا بِالْعَمَلِ وَجَرَيَانُهُ بِجَرَيَانِهِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسَبَّبٌ عَنِ الْعِلْمِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4621 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: " مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا " قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ. فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: " هَلْ رَأَى مِنْكُمْ أَحَدٌ رُؤْيَا؟ " قُلْنَا: لَا. قَالَ: " لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدَيَّ، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ، يُدْخِلُهُ فِي شِدْقِهِ، فَيَشُقُّهُ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ. قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ، أَوْ صَخْرَةٍ يَشْدَخُ بِهَا رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلَهُ وَاسِعٌ، تَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارٌ، فَإِذَا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا، وَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ. فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسْطِ النَّهَرِ، وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرِ، بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِيَ الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلَانِي دَارًا وَسْطَ الشَّجَرَةِ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا، فَصَعِدَا بِيَ الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ مِنْهَا، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، فَقُلْتُ لَهُمَا: إِنَّكُمَا قَدْ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ. قَالَا: نَعَمْ، أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ، يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ مَا تَرَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا. وَالشَّيْخُ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ. وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ، وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ. وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ. وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ - وَفِي رِوَايَةٍ: مِثْلُ الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ قَالَا: ذَلِكَ مَنْزِلُكَ. قُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي. قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَهُ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ فِي " بَابِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4621 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى) أَيْ: صَلَاةَ الصُّبْحِ وَفَرَغَ مِنْ أَوْرَادِهِ (أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: " مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟) عَلَى وَزْنِ فُعْلَى بِلَا تَنْوِينٍ وَيَجُوزُ تَنْوِينُهُ كَمَا قُرِئَ بِهِ فِي الشَّاذَّةِ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوًى مِنَ اللَّهِ، وَكَذَا رُوِيَ مَنَّوَنَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ) أَيْ: رُؤْيَا صَالِحَةً (قَصَّهَا، فَيَقُولُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْبِيرِهَا (مَا شَاءَ اللَّهُ) أَيْ: مِمَّا يُلْهِمُهُ فِي جَنَانِهِ وَيُجْرِيهِ عَلَى لِسَانِهِ (فَسَأَلَنَا) أَيْ: هُوَ (يَوْمًا) أَيْ: صَبَاحَ يَوْمٍ (فَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟) يَعْنِي: عَلَى عَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا السُّؤَالِ (قُلْنَا: لَا) إِمَّا لَا صَرِيحًا أَوْ سُكُوتًا (قَالَ: لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ؟ قُلْتُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهِمُّهُ أَنْ يَرَى أَحَدُهُمْ رُؤْيَا يَقُصُّهَا، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ تِلْكَ قَالَ: أَنْتُمْ مَا رَأَيْتُمْ مَا يُهِمُّنِي لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ (رَجُلَيْنِ) أَيْ: شَخْصَيْنِ عَلَى صُورَةِ رَجُلَيْنِ (أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ) بِالتَّنْوِينِ (مُقَدَّسَةٍ) ، أَيْ مُطَهَّرَةٍ مُطَيَّبَةٍ، قِيلَ هِيَ أَرْضُ الشَّامِ (فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ) أَيْ: وَهُنَاكَ رَجُلٌ (قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَضْمُومَةِ، وَقَدْ يُقَالُ لَهُ الْكُلَّابُ أَيْضًا حَدِيدَةٌ مُعْوَجَّةُ الرَّأْسِ تَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ مَعَ شِدَّةٍ فَيُجْذَبُ بِهِ، فَقَوْلُهُ: (مِنْ حَدِيدٍ) ، لِلتَّجْرِيدِ وَقِيلَ لِلتَّأْكِيدِ (يُدْخِلُهُ) أَيِ: الرَّجُلُ الْقَائِمُ، ذَلِكَ الْكَلُّوبَ (فِي شِدْقِهِ) ، أَيْ: فِي جَانِبِ فَمِ الرَّجُلِ الْجَالِسِ. قَالَ شَارِحٌ: هُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ طَرَفُ شَفَتِهِ مِنْ جَانِبِ الْأُذُنِ (فَيَشُقُّهُ) أَيْ: يَقْطَعُهُ (حَتَّى يَبْلُغَ) أَيْ: يَصِلَ قَطْعُهُ (قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ) أَيْ: يَبْرَأُ (شِدْقُهُ هَذَا) أَيِ: الْمَشْقُوقُ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ ذَاكَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ هَذَا الثَّانِي، أَيْ يَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، أَوْ وَقَعَ هَذَا مَقَامَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَذْكُورُ مِنَ الشِّدْقَيْنِ (فَيَعُودُ) أَيِ: الرَّجُلُ الْقَائِمُ (فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ) أَيْ: فَيَصْنَعُ بِالرَّجُلِ الْجَالِسِ مِثْلَ صُنْعِهِ الْأَوَّلَ (قُلْتُ: مَا هَذَا؟) أَيِ الَّذِي رَأَيْنَاهُ (قَالَا: انْطَلِقْ) ، أَيِ اذْهَبْ وَلَا تَسْأَلْ (فَانْطَلَقْنَا) ، أَيْ جَمِيعًا (حَتَّى أَتَيْنَا) أَيْ: مَرَرْنَا (عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: وَهُنَاكَ رَجُلٌ (قَائِمٌ) : وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِجَرِّهِمَا، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ مَقْرُوءَةٍ عَلَى الْجَزَرِيِّ عَطْفًا عَلَى رَجُلٍ، أَيْ: وَعَلَى رَجُلٍ قَائِمٍ (عَلَى رَأْسِهِ) أَيْ: رَأَسِ الرَّجُلِ الْمُضْطَجِعِ (بِفِهْرٍ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، أَيْ: أَخَذَ بِحَجْرٍ مَلْءَ الْكَفِّ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ هُوَ الْحَجَرُ مُطْلَقًا (أَوْ صَخْرَةٍ) : وَهِيَ الْحَجَرُ الْعَظِيمُ، قِيلَ أَوْ لِلشَّكِّ، وَيُحْتَمَلُ التَّنْوِيعُ، أَيْ: تَارَةً وَتَارَةً (يَشْدَخُ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: يَكْسِرُ وَيَدُقُّ (بِهِ) أَيْ: بِذَلِكَ الْحَجَرِ وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ (رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ) أَيْ: بِالْحَجَرِ عَلَى رَأْسِهِ (تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ) ، أَيْ: تَدَحْرَجَ (فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ) أَيْ: فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ (لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا) أَيِ: الْمُضْطَجِعِ (حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ) ، أَيْ: شَدَخَهُ (وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ) ، أَيْ: رَجَعَ مِثْلَ مَا كَانَ أَوَّلًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهَا (فَعَادَ إِلَيْهِ) أَيْ: فَرَجَعَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ (فَضَرَبَهُ) ، أَيْ: فَشَدَخَهُ ثَانِيًا (فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا) أَيْ: جِئْنَا (إِلَى ثَقْبٍ) : بِفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَسُكُونِ قَافٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْمَصَابِيحِ وَمُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ، فَفِي الْقَامُوسِ الثَّقْبُ النَّقْبُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: الثَّقْبُ الْخَرْقُ النَّافِذُ

وَالثُّقْبَةُ بِالضَّمِّ مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَذَا فِيمَا يَقِلُّ وَيُصَغَّرُ، وَأَمَّا نَقْبُ الْحَائِطِ وَنَحْوُهُ بِالنُّونِ، فَذَلِكَ فِيمَا يَعْظُمُ، هَذَا وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى ثَقْبٍ، بِالْمَعْنَى: مَرَرْنَا عَلَى ثَقْبٍ (مِثْلِ التَّنُّورِ) : بِالْجَرِّ (أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلَهُ وَاسِعٌ) ، الْجُمْلَةُ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (تَتَوَقَّدُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَجُوِّزَ تَذْكِيرُهُ (تَحْتَهُ) أَيْ: تَحْتَ التَّنُّورِ (نَارٌ) ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْهَا - نُسْخَةُ السَّيِّدِ - نَارًا بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: يَتَوَقَّدُ مَا تَحْتَهُ نَارًا، فَحُذِفَ الْمَوْصُولُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَأُسْنِدَ يَتَوَقَّدُ إِلَى ضَمِيرِ الثَّقْبِ. (فَإِذَا ارْتَقَتْ) : بِقَافٍ بَيْنَ تَاءَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ اقْتَرَنَتْ، وَفِي بَعْضِهَا أُوقِدَتْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ رِوَايَةً وَدِرَايَةً اهـ. وَفِي الدِّرَايَةِ نَظَرٌ إِذِ الْمَعَانِي مُقَارِبَةٌ أَيْ فَإِذَا اشْتَعَلَتِ النَّارُ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَإِذَا ارْتَفَعَتْ مِنَ الرِّفْعَةِ (ارْتَفَعُوا) أَيِ: النَّاسُ الَّذِينَ فِي الثَّقْبِ الْمُشَبَّهِ بِالتَّنُّورِ (حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي الْحُمَيْدِيِّ وَالْجَامِعِ، أَيْ: كَادَ خُرُوجُهُمْ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: كَادَ خُرُوجُهُمْ يَتَحَقَّقُ، وَفِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ: يَكَادُوا يَخْرُجُوا وَحَقُّهُ بِثَبَاتِ النُّونِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُتَحَمَّلَ، وَيُقَدَّرَ أَنْ يَخْرُجُوا تَشْبِيهًا لِكَادَ بِعَسَى، ثُمَّ حُذِفَ أَنْ وَتُرِكَ عَلَى حَالِهِ (وَإِذَا خَمَدَتْ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ وَيُكْسَرُ، فَفِي الْقَامُوسِ خَمَدَتِ النَّارُ كَنَصَرَ وَسَمِعَ سَكَنَ لَهَبُهَا وَلَمْ يُطْفَأْ جَمْرُهَا (رَجَعُوا) أَيِ: النَّاسُ الَّذِينَ كَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا (فِيهَا) ، أَيْ: فِي قَعْرِهَا لِيَكُونَ الْعَذَابُ أَشَدَّ (وَفِيهَا) أَيْ: فِي تِلْكَ النَّارِ (رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ) الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلنَّاسِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: ارْتَفَعُوا، وَتَنْبِيهٌ عَلَى التَّغْلِيبِ فِي الضَّمِيرِ وَتَوْضِيحٌ لِكَشْفِ أَبْدَانِهِمْ، فَإِنَّهُ لِلتَّهْوِيلِ أَوْهَى وَلِلتَّنْفِيرِ أَدْعَى (فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ (مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسْطِ النَّهَرِ) بِسُكُونِ السِّينِ وَيُحَرَّكُ، وَالْجَارُّ الثَّانِي بَيَانٌ لِلْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ (وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ) أَيْ: طَرَفِهِ (رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ) ، بِكَسْرِ الْحَاءِ جَمْعُ حَجَرٍ (فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ) ، أَيْ: مُرِيدًا لِلْخُرُوجِ (فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ) أَيْ: بِالْكُلِّيَّةِ وَيَتَخَلَّصَ مِنْهُ (رَمَى الرَّجُلُ) أَيِ: الَّذِي عَلَى الشَّطِّ (بِحَجَرٍ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (فِي فِيهِ) أَيْ: فَمِهِ (فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ) ، أَيْ: إِلَى مَكَانِ كَانَ مِنْ وَسْطِ النَّهَرِ (فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ وَطَفِقَ (كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ) قِيلَ أَصْلُ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهَا كَخَبَرِ كَانَ إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْأَصْلَ وَالْتَزَمَ كَوْنَ الْخَبَرِ مُضَارِعًا، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَتْرُوكِ بِوُقُوعِهِ مُفْرَدًا، كَمَا فِي عَسَيْتُ صَائِمًا، وَجُمْلَةً مِنْ فِعْلِ مَاضٍ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ كُلَّمَا كَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ، أَيْ: كُلَّمَا جَاءَ قَرِيبًا إِلَى الشَّطِّ لِيَخْرُجَ مِنَ النَّهَرِ. (رَمَى) أَيِ: الرَّجُلُ (فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ) ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى فَجَعَلَ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ (فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ الْمَقْطَعِ، أَيْ: حَتَّى وَصَلْنَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ (إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا) أَيْ: تَحْتَهَا الْمُقَارِبِ إِلَى جِذْعِهَا (شَيْخٌ) أَيْ: عَظِيمٌ (وَصِبْيَانٌ) ، أَيْ: وِلْدَانٌ كَثِيرٌ (وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ، بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا) : مِنَ الْإِيقَادِ (فَصَعِدَا) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ (بِيَ) : بِالْمُوَحَّدَةِ لِلتَّعْدِيَةِ (الشَّجَرَةَ) ، بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْمَعْنَى: رَفَعَانِي عَلَى الشَّجَرَةِ (فَأَدْخَلَانِي دَارًا وَسْطَ الشَّجَرَةِ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ) أَيْ: كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الدَّارِ (فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ جَمْعُ شَابٍّ (وَنِسَاءٌ) عَطْفٌ عَلَى رِجَالٍ (وَصِبْيَانٌ) أَيْ: وِلْدَانٌ (ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الدَّارِ (فَصَعِدَا بِيَ الشَّجَرَةَ) ، أَيِ: الشَّجَرَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا فَأَلْ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

" {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] "، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّجَرَةَ السَّابِقَةَ كَذَلِكَ مَعَ احْتِمَالٍ بَعِيدٍ أَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهَا لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، لَكِنَّهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ خِلَافُ التَّأَدُّبِ مَعَ الشَّيْخِ الْمُفَسَّرِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّ الشَّجَرَتَيْنِ كَانَتَا بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ وَالْمِعْرَاجِ لِلصُّعُودِ فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ) أَيْ: مِنْهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ. يَعْنِي: مِنَ الدَّارِ الْأُولَى وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْجَنَّةِ دَرَجَاتٍ سُفْلِيَّةً وَعُلْوِيَّةً، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ أَعْلَى فَهُوَ أَعْلَى مِنَ الْأَدْنَى (فِيهَا) أَيْ: فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ (شُيُوخٌ وَشَبَابٌ) ، وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، إِمَّا لِقِلَّةِ كَمَالِهِمْ كَمَالَ الرِّجَالِ، أَوْ لِقِلَّةِ وُجُودِ الْكَمَالِ فِيهِنَّ بِخِلَافِ الرِّجَالِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» ". عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ عَنْ بَيَانِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ; لِأَنَّهُمْ إِنْ وُجِدُوا فِيهَا فَيَكُونُ بِالتَّبَعِيَّةِ لَا بِالْأَصَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقُلْتُ لَهُمَا: إِنَّكُمَا قَدْ طَوَّفْتُمَانِي) : بِالْمُوَحَّدَةِ وَقِيلَ بِالنُّونِ، أَيْ: دَوَّرْتُمَانِي وَفَرَّجْتُمَانِي (اللَّيْلَةَ) : وَقَدْ رَأَيْتُ أَشْيَاءَ غَرِيبَةً وَأُمُورًا عَجِيبَةً بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ (فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ) أَيْ: تَفْصِيلًا وَتَفْسِيرًا (فَقَالَا: نَعَمْ) . فِي الْمُغْنِي: نَعَمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكِنَانَةُ تَكْسِرُهَا، وَبِهَا قَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَبَعْضُهُمْ يُبْدِلُهَا هَاءً، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهِيَ حَرْفُ تَصْدِيقٍ وَوَعْدٍ وَإِعْلَامٍ، فَالْأَوَّلُ بَعْدَ الْخَبَرِ كَقَامَ زَيْدٌ، وَالثَّانِي بَعْدَ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، وَالثَّالِثُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ: (" {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] ") ، (" إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ") وَلَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ مَعْنَى الْإِعْلَامِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ قَالَ: وَأَمَّا نَعَمْ فَعِدَةٌ وَتَصْدِيقٌ (أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُقْطَعُ (شِدْقُهُ) أَيْ: طَرَفُ فَمِهِ إِلَى قَفَاهُ (فَكَذَّابٌ) ، أَيْ: فَهُوَ كَثِيرُ الْكَذِبِ (يُحَدِّثُ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِقُبْحِ فِعْلِهِ (بِالْكَذْبَةِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ لِلْمَرَّةِ وَبِكَسْرِ أَوَّلِهَا لِلنَّوْعِ (فَتُحْمَلُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: فَتُرْوَى وَتُنْقَلُ تِلْكَ الْكِذْبَةُ عَنْهُ (حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ) أَيْ: حَتَّى تُنْشَرَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ (فَيُصْنَعُ) أَيْ: لِذَلِكَ (مَا تَرَى) أَيْ: مَا رَأَيْتَ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أَيْ: صُنْعًا مُسْتَمِرًّا (وَالَّذِي) أَيْ: وَأَمَّا الَّذِي (رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ) أَيْ: وَفَّقَهُ لِتَعَلُّمِهِ (فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ) أَيْ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي اللَّيْلِ وَإِنَّمَا خُصَّ بِهِ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا - إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل: 6 - 7] ، (وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ بِالنَّهَارِ) ، أَيْ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} [العنكبوت: 45] أَيِ اقْرَأْ وَاتَّبِعْ (يُفْعَلُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ مَعَ مَا أُعْطِيَ مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ، وَهِيَ عِلْمُ الْقُرْآنِ كَانَ غَافِلًا عَنْ تَأْوِيلَاتِهِ، وَرُبَّمَا جُرَّ إِلَى نِسْيَانِهِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَمْ يَكُنْ عَامِلًا بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَلِذَا وَرَدَ مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ دَائِمًا يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ، وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ دَائِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ أَبَدًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ فَنَامَ عَنْهُ، أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهُ. وَعَنْ هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] أَيْ: سَاهُونَ سَهْوَ تَرْكٍ لَهَا، وَقِلَّةَ الْتِفَاتٍ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ فِعْلُ الْمُنَافِقِينَ وَالْفَسَقَةِ. قُلْتُ: وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَيْثُ مَا قَالَ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، قَالَ: فَمَعْنَى نَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ: أَنَّهُ لَمْ يَتْلُهُ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَيَذَرَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِثْلَ الْمُنَافِقِينَ وَالْفَسَقَةِ، فَإِذَا كَانَ حَالُهُ بِاللَّيْلِ هَذَا فَلَا يَقُومُ بِهِ فَيَعْمَلُ بِالنَّهَارِ بِمَا فِيهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا مَنْ نَامَ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَتَجَافَى عَنْهُ لِتَقْصِيرٍ أَوْ عَجْزٍ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ اهـ.

(وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ) : بِتَقْدِيرِ: أَمَّا، وَلِذَا قَالَ (فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا) . مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ (وَالشَّيْخُ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ) . جُمْلَةٌ أُخْرَى (وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ) : بِالْفَاءِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ مَا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ مُطَابِقٌ لِلْجُمَلِ السَّابِقَةِ الَّتِي تَلِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْلَادُ النَّاسِ جَازَ دُخُولُهُ عَلَى الْخَبَرِ ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَدْخُولٍ، أَمَّا فِي قَوْلِهِ: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتَهُ، وَحُذِفَ الْفَاءُ فِي بَعْضِ الْمَعْطُوفَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَمَّا لَمَّا حُذِفَتْ حُذِفَ مُقْتَضَاهَا وَكِلَاهُمَا جَائِزَانِ. (وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ. وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ) أَيْ: أَوَّلًا (دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ) ، أَيْ: عَوَامِّهِمْ أَوَ أَكْثَرِهِمْ (وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ) ، أَيْ: خَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ مِدَادَ الْعُلَمَاءِ يُرَجَّحُ عَلَى دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالشُّهَدَاءِ أَرْبَابُ الْحُضُورِ مَعَ الْمَوْلَى فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْعَامَّةِ مَنْ غَالِبُ أَحْوَالِهِمُ الْغَفْلَةُ وَالْغَيْبَةُ عَنِ الْحَضْرَةِ. (وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ) ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَفْضَلُ الْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ) أَيْ: فِي غَايَةٍ مِنَ الِارْتِفَاعِ وَنِهَايَةٍ مِنَ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، أَوْ يَطْمَعَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَدَدٌ. (وَفِي رِوَايَةٍ: مِثْلُ الرَّبَابَةِ) : وَهِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَتَيْنِ السَّحَابَةُ الَّتِي رَكِبَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ (الْبَيْضَاءِ: قَالَا ذَلِكَ) أَيْ: هَذَا (مَنْزِلُكَ) . وَلَعَلَّ الْعُدُولَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ، وَبُعْدِ الْوُصُولِ إِلَى تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ كَمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ) (قُلْتُ: دَعَانِي) أَيِ: اتْرُكَانِي (أَدْخُلْ) : بِالْجَزْمِ وَيُرْفَعُ (مَنْزِلِي) أَيِ: الْآنَ لِأَرَى تَفْصِيلَ مَا لِيَ (قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ: زَمَانٌ مِنْ جُمْلَةِ الْعُمُرِ (لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ) أَيْ: مَا اسْتَكْمَلْتَهُ إِلَى الْآنِ (فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَإِذَا اسْتَكْمَلْتَهُ (أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ اسْتِقْبَالِ الْإِمَامِ بَعْدَ سَلَامِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ السُّؤَالِ عَلَى الرُّؤْيَا، وَعَلَى مُبَادَرَةِ الْمُعَبِّرِ إِلَى تَأْوِيلِهَا أَوَّلَ النَّهَارِ قَبْلَ أَنْ يَتَشَعَّبَ ذِهْنُهُ بِاشْتِغَالِهِ فِي مَعَاشِهِ فِي الدُّنْيَا ; وَلِأَنَّ عَهْدَ الرَّائِي قَرِيبٌ وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُشَوِّشُهَا ; وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهُ، كَالْحَثِّ عَلَى خَيْرٍ، وَالتَّحْذِيرِ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَنَّ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ فِي جُلُوسِهِ لِلْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ جَائِزٌ. قُلْتُ: هُوَ لِلْعِلْمِ أَفْضَلُ إِنْ لَمْ يُتَصَوَّرِ الِاسْتِقْبَالُ مَعَ الْإِقْبَالِ، وَفِي الْخُطْبَةِ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَمَّا اسْتِقْبَالُهُ فِي غَيْرِهِمَا فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: " «أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ» ". (وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ فِي بَابِ حُرْمَةِ الْمَدِينَةِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4622 - عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا، فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا وَقَعَتْ ". وَأَحْسِبُهُ قَالَ: " لَا تُحَدِّثْ إِلَّا حَبِيبًا أَوْ لَبِيبًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: " «الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعْبَرْ، فَإِذَا عُبِرَتْ وَقَعَتْ ". وَأَحْسِبُهُ قَالَ: " وَلَا تَقُصَّهَا إِلَّا عَلَى وَادٍّ أَوْ ذِي رَأْيٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4622 - (عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ) : بِالتَّصْغِيرِ وَاسْمُهُ لَقِيطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ صَبِرَةَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ، وَهِيَ) أَيْ: رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ أَوِ الرُّؤْيَا مُطْلَقًا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ بَعْضُ الْأَثَرِ (عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ) : هَذَا مَثَلٌ فِي عَدَمِ تَقَرُّرِ الشَّيْءِ، أَيْ: لَا تَسْتَقِرُّ الرُّؤْيَا قَرَارًا كَالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا كَالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ بِرِجْلِ الطَّائِرِ لَا اسْتِقْرَارَ لَهَا (مَا لَمْ يُحَدِّثْ) أَيْ: مَا لَمْ يَتَكَلَّمِ الْمُؤْمِنُ أَوِ الرَّائِي (بِهَا) ، أَيْ: بِتِلْكَ الرُّؤْيَا أَوْ تَعْبِيرِهَا (فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا وَقَعَتْ) أَيْ: تِلْكَ الرُّؤْيَا عَلَى الرَّائِي يَعْنِي: يَلْحَقُهُ حُكْمُهَا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ كُلُّ حَرَكَةٍ مِنْ كَلِمَةٍ أَوْ جَارٍ مَجْرَاهَا، فَهُوَ طَائِرٌ مَجَازًا أَرَادَ عَلَى رِجْلِ قَدَرٍ جَارٍ وَقَضَاءٍ مَاضٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَعْنَاهُ: لَا يَسْتَقِرُّ تَأْوِيلُهَا حَتَّى تُعْبَرَ؛ يُرِيدُ أَنَّهَا سَرِيعَةُ السُّقُوطِ إِذَا عُبِرَتْ، كَمَا أَنَّ الطَّيْرَ لَا يَسْتَقِرُّ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ، فَكَيْفَ مَا يَكُونُ عَلَى رِجْلِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: التَّرْكِيبُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ، شَبَّهَ الرُّؤْيَا بِالطَّيْرِ السَّرِيعِ طَيَرَانُهُ، وَقَدْ عُلِّقَ عَلَى رِجْلِهِ شَيْءٌ يَسْقُطُ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ لِلْمُشَبِّهِ حَالَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِهَذِهِ الْحَالَاتِ، وَهِيَ أَنَّ الرُّؤْيَا مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى مَا يَسُوقُهُ التَّقْدِيرُ إِلَيْهِ مِنَ التَّعْبِيرِ، فَإِذَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْوَاقِعِ قُيِّضَ، وَأُلْهِمَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِتَأْوِيلِهَا عَلَى مَا قُدِّرَ فَيَقَعُ سَرِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِهِ لَمْ يُقَدَّرْ لَهَا مَنْ يَعْبُرُهَا. (وَأَحْسِبُهُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ: أَظُنُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: لَا تُحَدِّثْ) : بِصِيغَةِ نَهْيِ الْمُخَاطَبِ كَأَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّاوِي أَوْ لِمُطْلَقِ الرَّائِي، أَيْ: لَا تُخْبِرْ بِرُؤْيَاكَ (إِلَّا حَبِيبًا) أَيْ: مُحِبًّا لَا يَعْبُرُ لَكَ إِلَّا بِمَا يَسُرُّكَ (أَوْ لَبِيبًا) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، أَيْ: عَاقِلًا، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُعَبَّرَ بِالْمَحْبُوبِ أَوْ يُسْكَتَ عَنِ الْمَكْرُوهِ، وَلِذَا قِيلَ: عَدُوٌّ عَاقِلٌ خَيْرٌ مِنْ صَدِيقٍ جَاهِلٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِاللَّبِيبِ الْعَالِمُ فَيُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْآتِيَةَ، أَوْ ذِي رَأْيٍ وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا هُمْ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ، فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا، فَإِذَا تَحَدَّثَ بِهَا سَقَطَتْ، وَلَا تُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا لَبِيبًا أَوْ حَبِيبًا» . (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي رَزِينٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ عَنْهُ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِدُونِ قَوْلِهِ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: (قَالَ: الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعْبَرْ) ، عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَبِتَخْفِيفِ الْبَاءِ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَيْ: مَا لَمْ تُفَسَّرْ (فَإِذَا عُبِرَتْ وَقَعَتْ وَأَحْسِبُهُ) أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: وَلَا تَقُصَّهَا) : بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ وَجُوِّزَ ضَمُّهَا، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ، وَالثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النَّهْيُ أَوِ النَّفْيُ مَعْنَاهُ النَّهْيُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الصَّرْفِيِّينَ يَجِبُ الْفَتْحُ فِي نَحْوِ: رَدَّهَا ; لِأَنَّ الْهَاءَ - لِخَفَائِهَا كَالْعَدَمِ، وَكَأَنَّ الْأَلِفَ وَاقِعَةٌ بَعْدَ الدَّالِّ، فَإِنَّمَا هُوَ بِخُصُوصِ الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ صِيغَةٌ غَيْرُ مُشْتَرَكَةٍ بِخِلَافِ نَحْوِ لَا تَرُدُّهَا وَلَا تَرُدُّهُ فَتَدَبَّرْ، وَخُذْ مَا صَفَا وَدَعْ مَا تَكَدَّرَ، وَالْمَعْنَى: لَا تَعْرِضْ رُؤْيَاكَ (إِلَّا عَلَى وَادٍّ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: مُحِبٍّ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقْبِلُكَ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَّا بِمَا تُحِبُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُشْبِهُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ بِهَا مَنْ لَا يُحِبُّهُ رُبَّمَا حَمَلَهُ الْبُغْضُ وَالْحَسَدُ عَلَى تَفْسِيرِهَا بِمَكْرُوهٍ فَيَقَعُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، فَفُسِّرَتْ بِأَحَدِهِمَا

وَقَعَتْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُ الرُّؤْيَا مَكْرُوهًا، وَتَفْسِيرُهَا مَحْبُوبٌ وَعَكْسُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِهِ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِتَخْصِيصِ الرَّائِي أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ الْبَغِيضَ لَهُ أَوِ الْحَسُودَ عَلَيْهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى رِفْعَةِ شَأْنِهِ، وَعَظَمَةِ جَاهِهِ، وَكَثْرَةِ مَالِهِ، وَمَذَلَّةِ أَعْدَائِهِ، وَمَعَزَّةِ أَحِبَّائِهِ رُبَّمَا يَجْتَهِدُ فِي دَفْعِهِ أَوَّلًا، وَيَمْكُرُ فِي خَفْضِ دَفْعِهِ ثَانِيًا بِتَعْبِيرٍ يَجُرُّ إِلَى تَغْيِيرٍ أَوْ تَعْيِيرٍ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ وَصِيَّةً لِيُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ " {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] " (أَوْ ذِي رَأْيٍ) أَيْ: عَاقِلٍ أَوْ عَالِمٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ ذُو عِلْمٍ بِعِبَارَةِ الرُّؤْيَا، فَإِنَّهُ يُخْبِرُكَ بِحَقِيقَةِ تَفْسِيرِهَا، أَوْ بِأَقْرَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْهُ لَا أَنَّ تَعْبِيرَهُ يُزِيلُهَا عَمَّا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَهُ التَّخَيُّرُ فِيمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ - وَلَا يَقُصَّهَا إِلَّا عَلَى وَادٍّ، أَيْ: ذِي رَأْيٍ - وَالْأَقْضِيَةُ لَا تُرَدُّ بِالتَّوَقِّي عَنِ الْأَسْبَابِ، وَلَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلَافِ الدَّوَاعِي، قُلْنَا: هُوَ مِثْلُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالسَّلَامَةِ وَالْآفَةِ الْمَقْضِيِّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِصَاحِبِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أُمِرَ الْعَبْدُ بِالتَّعَرُّضِ لِلْمَحْمُودِ مِنْهَا، وَالْحَذِرِ عَنِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا.

4623 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَرَقَةَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ صَدَّقَكَ، وَلَكِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُرِيتُهُ فِي الْمَنَامِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَانَ عَلَيْهِ لِبَاسٌ غَيْرُ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4623 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَرَقَةَ) : بِفَتَحَاتٍ، أَيِ: ابْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيِّ ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِهِ فِيهِ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا، كَمَا أَنَّهُ ذَكَرَ أَبَا جَهْلٍ فِي التَّابِعِينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ إِجْمَاعًا، نَعَمْ وَرَقَةُ أَدْرَكَ أَوَّلَ النُّبُوَّةِ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ، وَحَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمْ لَا؟ (فَقَالَتْ) : بَيَانُ السُّؤَالِ وَالسَّائِلِ (لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِ وَرَقَةَ وَتَحْقِيقِ أَمْرِهِ (خَدِيجَةُ إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ أَوْ أَنَّ وَرَقَةَ (كَانَ) أَيْ: قَبْلَ حَيَاتِهِ (قَدْ صَدَّقَكَ) ، بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: فِي نُبُوَّتِكَ (وَلَكِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) ، أَيْ: قَبْلَ ظُهُورِكَ لِلْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ قَدْ تَمَنَّى لُحُوقَهَا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُرِيتُهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: أَرَانِيهِ اللَّهُ (فِي الْمَنَامِ) : وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ لِلْأَنْبِيَاءِ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِنِي وَحْيٌ جَلِيٌّ، وَدَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، لَكِنْ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ. (وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَكَانَ عَلَيْهِ لِبَاسٌ غَيْرُ ذَلِكَ) . وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبَّرَ ثَوْبَهُ عَلَيْهِ بِدِينِهِ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، وَقَدْ قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ؟ قُلْتُ: أَدْخَلَتْ خَدِيجَةُ كَلَامَهَا بَيْنَ سُؤَالِ السَّائِلِ وَجَوَابِهِ اسْتِشْعَارًا مِنْهَا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجِيبُ بِمَا تَكْرَهُهُ، أَوِ اسْتِذْكَارًا لِمَا عَرَفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَالِ وَرَقَةَ ; لِأَنَّ وَرَقَةَ كَانَ ابْنَ عَمِّهَا. يَعْنِي: إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ دَعْوَتِكَ لِيُصَدِّقَكَ، وَيَأْتِيَ بِالْأَعْمَالِ عَلَى مُوجِبِ شَرِيعَتِكَ، لَكِنْ صَدَّقَكَ قَبْلَ مَبْعَثِكَ اهـ. فَانْظُرْ إِلَى الْمَحَلَّيْنِ وَاخْتَرِ الْأَحْلَى مِنَ الْخِلَّيْنِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .

4624 - وَعَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، «عَنْ عَمِّهِ أَبِي خُزَيْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى جَبْهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَاضْطَجَعَ لَهُ وَقَالَ: " صَدِّقْ رُؤْيَاكَ " فَسَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ: كَأَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. فِي بَابِ: " مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4624 - (وَعَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ) : بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ زَاءٍ. (ابْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي خُزَيْمَةَ) ، أَيْ: أَخِي خُزَيْمَةَ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ يُكَنَّى أَبَا عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّ الْأَوْسِيَّ، يُعْرَفُ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، كَانَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ، فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ جَرَّدَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعُمَارَةُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا خُزَيْمَةَ فِي أَسْمَائِهِ لَكِنْ ذَكَرَ وَلَدَ أَخِيهِ عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ وَجَمَاعَةٍ، وَعُمَارَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ

وَفِي صُحْبَتِهِ تَرَدُّدٌ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خُزَيْمَةَ هُنَا هُوَ عُمَارَةُ (أَنَّهُ) أَيْ: عَمَّهُ أَبَا خُزَيْمَةَ ( «رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى جَبْهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَاضْطَجَعَ لَهُ وَقَالَ: صَدِّقْ رُؤْيَاكَ» ) : أَمْرٌ مِنَ التَّصْدِيقِ أَيِ: اعْمَلْ بِمُقْتَضَاهَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَنْ رَأَى رُؤْيَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فِي الْيَقَظَةِ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا شَيْئًا فِيهِ طَاعَةٌ مِثْلَ أَنْ يَرَى أَحَدٌ أَنْ يُصَلِّيَ، أَوْ يَصُومَ، أَوْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ يَزُورَ صَالِحًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ. (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ) ، بِالتَّاءِ (كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الرُّؤْيَا (كَأَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ) . أَيْ: إِلَى آخِرِهِ (فِي بَابِ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مُنَاسِبَةٌ بِهَذَا الْمَقَامِ بِاعْتِبَارِ رُؤْيَةِ الْمَنَامِ وَتَعْبِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ مَنْقَبَةٌ لِلشَّيْخَيْنِ رَأَى الْمُؤَلِّفُ أَنَّ الْمُنَاسِبَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الْمَنَاقِبِ فَأَخَّرَ وَاعْتَذَرَ فَتَدَبَّرْ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4625 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يَكْثُرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: " هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ " فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ لَنَا ذَاتَ غَدَاةٍ: " إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا. وَذَكَرَ مِثْلَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِطُولِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: " فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتِمَةٍ، فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْرِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ، لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ. قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا، مَا هَؤُلَاءِ؟ " قَالَ: " قَالَا لِيَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ، لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا، وَلَا أَحْسَنَ ". قَالَ: " قَالَا لِيَ: ارْقَ فِيهَا ". قَالَ: " فَارْتَقَيْنَا فِيهَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ، وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَفْتَحْنَا، فَفُتِحَ لَنَا، فَدَخَلْنَاهَا، فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ؛ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ". قَالَ: " قَالَا لَهُمُ: اذْهَبُوا، فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ ". قَالَ: " وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِي الْبَيَاضِ، فَذَهَبُوا، فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ". وَذَكَرَ فِي تَفْسِيرٍ هَذِهِ الزِّيَادَةَ: " وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ ". قَالَ: فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ قَدْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4625 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يَكْثُرُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَفَاعِلُهُ (أَنْ يَقُولَ) : وَمَا مَوْصُولَةٌ أَيْ: كَانَ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِي يَكْثُرُ قَوْلُهُ، وَفَى نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الثَّاءِ فَفِيهِ ضَمِيرُ فَاعِلٍ رَاجِعٌ إِلَى مَا، وَمَفْعُولُهُ أَنْ يَقُولَ وَاللَّامُ فِي (لِأَصْحَابِهِ) : لِلْمُشَافَهَةِ وَالْمَقُولُ (هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا) ؟ أَيْ: شَيْئًا مِنْهَا، وَاقْتَصَرَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْإِعْرَابِ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ مِمَّا يَكْثُرُ خَبَرُ كَانَ، وَمَا مِمَّا مَوْصُولَةٌ وَيَكْثُرُ صِلَتُهُ، وَالضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَى مَا فَاعِلُ يَقُولُ، وَأَنْ يَقُولَ فَاعِلُ يَكْثُرُ، وَهَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ هُوَ الْمَقُولُ، أَيْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زُمْرَةِ الَّذِينَ كَثُرَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ، فَوَضَعَ " مَا " مَوْضِعَ " مِنْ " تَعْظِيمًا وَتَفْخِيمًا لِجَانِبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] وَ (" {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ} [الزخرف: 13] ") قُلْتُ: التَّعْظِيمُ وَالتَّفْخِيمُ ظَاهِرٌ بَاهِرٌ فِي الْآيَتَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِمَا فِيهَا مَعْنَى الصِّفَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الصَّنْعَةِ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ مَا فِي الْحَدِيثِ عَلَى إِرَادَةِ التَّفْخِيمِ، فَخَارِجٌ عَنْ صُورَةِ التَّسْلِيمِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. (فَيَقُصُّ) : بِالرَّفْعِ، أَيْ: فَهُوَ يَقُصُّ (عَلَيْهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى يَقُولُ وَفَاعِلُهُ (مَنْ شَاءَ اللَّهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ مَا شَاءَ، أَيِ: الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ (أَنْ يَقُصَّ) ، أَيْ: عَلَيْهِ (وَإِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيِ: الشَّأْنُ (قَالَ لَنَا) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ذَاتَ غُدْوَةٍ) أَيْ: صُبْحَ يَوْمٍ (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ) ، تَثْنِيَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَتَى، أَيْ: شَخْصَانِ أَوْ مَلَكَانِ جَاءَيَانِي (وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي) أَيْ: أَثَارَانِي وَأَذْهَبَانِي، وَأَمَّا مَا قِيلَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَيْقَظَانِي مِنَ الْمَنَامِ فَلَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ (وَإِنَّهُمَا قَالَا لِيَ: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمَا قَالَا أَيْ: حَصَلَ مِنْهُمَا الْقَوْلُ وَمِنِّي الِانْطِلَاقُ، وَذَكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ الْمُؤَكِّدَةَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَحْقِيقًا لِمَا رَآهُ، وَتَقْرِيرًا بِقَوْلِهِ " «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ".

(وَذَكَرَ) أَيْ: سَمُرَةُ بَقِيَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ (مِثْلَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ) أَيْ: عَنْهُ (فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِطُولِهِ) ، أَيْ بِطُولِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (وَفِيهِ) : - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ هَذَا (زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَهِيَ) أَيِ: الزِّيَادَةُ (قَوْلُهُ) أَيْ: قَوْلُهُ (فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتِمَةٍ) ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، مِنَ الْعَتَمَةِ شِدَّةِ الظَّلَامِ، فَوَصَفَهَا بِشِدَّةِ الْخُضْرَةِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ؛ كَذَا حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: طَوِيلَةُ النَّبَاتِ، يُقَالُ: اعْتَمَ النَّبْتُ إِذَا طَالَ، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي النِّهَايَةِ أَعْتَمَ يَعْتِمُ دَخَلَ فِي عَتَمَةِ اللَّيْلَةِ، وَهِيَ ظُلْمَتُهُ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا يَدُورُ جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ (فِيهَا) أَيْ: فِي تِلْكَ الرَّوْضَةِ (مِنْ كُلِّ نَوْرِ الرَّبِيعِ) ، بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ: زَهْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالرَّبِيعِ الْفَصْلُ الْمَشْهُورُ الَّذِي بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ) أَيْ: فِي وَسَطِهَا وَالظَّهْرُ مُقْحَمٌ، وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحَقُّقِ الْوَسَطِ (رَجُلٌ طَوِيلٌ) ، أَيْ ذُو طُولٍ عَظِيمٍ (لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا) : نَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ (فِي السَّمَاءِ) ، أَيْ: فِي جِهَتِهَا وَهُوَ تَأْكِيدٌ وَإِلَّا فَالطُّولُ مُقَابِلٌ لِلْعَرْضِ (وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ (مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ) : الظَّاهِرُ أَنَّ " مِنْ " زَائِدَةٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ وَالْأَخْفَشُ مِنْ تَجْوِيزِ زِيَادَةِ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ (قَطُّ) . بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ، وَيُضَمُّ وَيُخَفَّفَانِ وَيَخْتَصُّ بِالنَّفْيِ مَاضِيًا، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْبُخَارِيِّ: جَاءَ بَعْدَ الْمُثْبَتِ مِنْهَا فِي الْكُسُوفِ أَطْوَلُ صَلَاةً صَلَّيْتُهَا قَطُّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: تَوَضَّأَ ثَلَاثًا قَطُّ، وَأَثْبَتَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الشَّوَاهِدِ لُغَةً قَالَ: وَهَى مِمَّا خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النُّحَاةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُ التَّرْكِيبِ وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ وِلْدَانٌ مَا رَأَيْتُ وِلْدَانًا قَطُّ أَكْثَرَ مِنْهُمْ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا، وَلَمَّا كَانَ التَّرْكِيبُ مُتَضَمِّنًا لِمَعْنَى النَّفْيِ جَازَ زِيَادَةُ مِنْ وَقَطُّ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَاضِي الْمَنْفِيِّ، وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ حَارِثَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: «صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ» ". وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ السَّفَرِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا} [البقرة: 249] عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ هَذَا مِنْ مَيْلِهِمْ مَعَ الْمَعْنَى وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّفْظِ جَانِبًا، وَهُوَ بَابٌ جَلِيلٌ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. قُلْتُ: وَهُوَ مَشْرَبُ الصُّوفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْكَلَامَ فِي إِعْرَابِ الْمَبَانِي يَشْغَلُ عَنْ إِعْرَابِ الْمَعَانِي، وَقَدْ قَالَ الْكَافِيَجِيُّ: إِنَّ أَصْلَ النَّحْوِ ثَلَاثُ قَوَاعِدَ، وَالْبَاقِي مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ عِلَلَ النَّحْوِ اعْتِبَارَاتٌ بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا مُوجِبَاتٌ، ثُمَّ قَالَ الْكَشَّافُ: فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى فَشَرِبُوا مِنْهُ فِي مَعْنَى فَلَمْ يُطِيعُوهُ حُمِلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. (قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا) ، أَيِ: الرَّجُلُ الطَّوِيلُ (مَا هَؤُلَاءِ) ؟ أَيِ: الْوِلْدَانُ وَمَا بِمَعْنَى " مَنْ " أَوْ أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ أَيْ: مَا صِفَةُ هَذَا وَصِفَةُ هَؤُلَاءِ؟ وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنَّ يُقَالَ مَنْ هَذَا؟ فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى حَالَهُ مِنَ الطُّولِ الْمُفْرِطِ كَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ هُوَ أَبَشَرٌ أَمْ مَلَكٌ أَمْ جِنِّيٌّ أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ اهـ. وَغَرَابَتُهُ لَا تَخْفَى إِذْ مَعَ إِطْلَاقِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ جَمَادًا أَوْ نَبَاتًا أَوْ بَهِيمَةً، وَكَوْنُهُ مَلَكًا أَمْ جِنِّيًّا لَا يَسْتَعْدِي " مَا "، بَلْ يَقْتَضِي " مَنْ " أَيْضًا (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَا لِيَ: انْطَلِقِ انْطَلِقْ) ، وَلَعَلَّ فِي تَكْرَارِ الْأَمْرِ إِشْعَارٌ بِقُرْبِ الْمَزَارِ (فَانْطَلَقْنَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ، لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا) ، أَيْ: فِي الْكَمِّيَّةِ (وَلَا أَحْسَنَ) أَيْ: مِنْهَا فِي الْكَيْفِيَّةِ (قَالَ: قَالَا لِيَ: ارْقَ) : بِفَتْحِ الْقَافِ، أَيِ: اصْعَدْ (فِيهَا. قَالَ: فَارْتَقَيْنَا فِيهَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ، وَلَبِنِ فِضَّةٍ)

بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مَا يَكُونُ عَلَى صُورَةِ الْآجُرِّ، وَلَعَلَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى جَنَّةِ الْمُخْلِصِينَ مِنَ التَّائِبِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ مَنْ صَرَفَ أَوْقَاتَهُ بَعْضَهَا إِلَى الطَّاعَةِ وَبَعْضَهَا إِلَى الْغَفْلَةِ، أَوْ بَعْضَهَا إِلَى الْأَفْضَلِ، وَبَعْضَهَا إِلَى الْفَاضِلِ. (فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَفْتَحْنَا، فَفُتِحَ لَنَا، فَدَخَلْنَاهَا، فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ شَطْرٌ) أَيْ: نِصْفٌ أَوْ بَعْضٌ (مِنْ خَلْقِهِمْ) أَيْ: مِنْ خِلْقَتِهِمْ، وَشَطْرٌ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (كَأَحْسَنِ مَا) أَيْ: مِثْلِ أَحْسَنِ شَيْءٍ (أَنْتَ رَاءٍ) ، أَيْ لَهُ فِي عُمْرِكَ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ " رِجَالٌ "، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ زَائِدَةٌ، وَأَظُنُّ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِالزِّيَادَةِ (وَشَطْرٌ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ خِلْقَتِهِمْ (كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مَوْصُوفِينَ بِأَنَّ خِلْقَتَهُمْ حَسَنَةٌ وَبَعْضُهُمْ قَبِيحَةٌ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْضُهُ حَسَنٌ وَبَعْضُهُ قَبِيحٌ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي التَّفْصِيلِ: فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، أَيْ: خَلَطَ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلًا صَالِحًا بِسَيِّئٍ وَسَيِّئًا بِصَالِحٍ. قُلْتُ: وَقَوْلُهُ مِنْ خَلْقِهِمْ أَيْضًا يَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، فَتَأَمَّلْ، نَعَمْ لَوْ قَالَ شَطْرٌ مِنْهُمْ لَكَانَ مَحَلَّ التَّوَهُّمِ. (قَالَ: قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا) : أَمْرٌ مِنْ وَقَعَ يَقَعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] ، فَالْمَعْنَى أَوْقِعُوا أَنْفُسَكُمْ. (فِي ذَلِكَ النَّهَرِ) . أَيِ: الْمَرْئِيِّ عِنْدَهُمْ (قَالَ: وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ) أَيْ: عَرِيضٌ (يَجْرِي) أَيْ: مَاؤُهُ (كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ) أَيِ: اللَّبَنُ الْخَالِصُ غَيْرُ مَشُوبٍ بِشَيْءٍ، وَالْمَحْضُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الْخَالِصُ مِنْهُ (فِي الْبَيَاضِ) ، كَأَنَّهُ سُمِّيَ بِالصِّفَةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الصَّفَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَاءِ عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ، أَوِ التَّوْبَةُ مِنْهُمْ كَمَا وَرَدَ: اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ مُرَادُهُ تَعْبِيرَ الْمَاءِ بِالْعَفْوِ فَهُوَ مُتَعَيَّنٌ لِمَا سَيَأْتِي فِي التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَجَاوُزُ اللَّهِ عَنْهُمْ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدِهِ بِالْإِمْكَانِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمَاءَ الْمَرْئِيَّ هُوَ الْعَفْوُ فَلَا خَفَاءَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ (فَذَهَبُوا، فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُ، أَيِ: الْقُبْحُ (عَنْهُمْ، فَصَارُوا) أَيْ: فَرَجَعُوا وَانْقَلَبُوا (فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ. وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: قَبْلُ (فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ: (وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ، فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ) أَيِ: الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ) أَيْ: فِي الصِّغَرِ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: مِنْهُمْ أَوْ هُمْ كَذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْفِطْرَةِ أَدَاخِلُونَ فِي زُمْرَةِ هَؤُلَاءِ الْوِلْدَانِ؟ فَأَجَابَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ غُيِّرَتْ فِطْرَتُهُمْ بِالتَّهَوُّدِ وَالتَّمَجُّسِ خِلَافُ هَذَا، فَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ تُوَؤَّلُ بِمَنْ غُيِّرَتْ فِطْرَتُهُمْ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَرَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ، قُلْتُ: هَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ، لَكِنْ يُشْعِرُ بِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ فِي حَالِ التَّمْيِيزِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، لَكِنَّ لَهُ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِكُفْرِهِمْ فِي صِغَرِهِمْ بِنَاءً عَلَى عَدْلِهِ، كَمَا أَنَّهُ يَقْبَلُ إِيمَانَ الصَّغِيرِ بِنَاءً عَلَى فَضْلِهِ (" {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] ") وَقَدْ تَوَقَّفَ إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَبْحَثُ بِالْإِطْنَابِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَوْلُ الْقَائِلِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ أَلْحَقَهُمْ بِأَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ لَهُمْ بِحُكْمِ آبَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَرَارِي الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَلِلنَّاسِ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ اخْتِلَافٌ، وَعَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ آثَارٌ عَنْ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَاحْتَجُّوا لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " وَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ - بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9] وَبِقَوْلِهِ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] ; لِأَنَّ اسْمَ الْوِلْدَانِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوِلَادَةِ. وَلَا وِلَادَةَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ نَالَتْهُمُ الْوِلَادَةُ فِي الدُّنْيَا، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْيًا وَخَدَمًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ خُدَّامٌ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ (وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا) أَيْ: وُجِدُوا (شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ قَدْ) : لِلتَّحْقِيقِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4626 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4626 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مِنْ أَفْرَى الْفِرَى) : بِكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ فِرْيَةٍ وَهِيَ الْكِذْبَةُ، وَأَفْرَى أَفْعَلُ مِنْهُ لِلتَّفْضِيلِ أَيْ: أَكْذَبُ الْكِذْبَاتِ (أَنْ يُرِيَ) : بِضَمِّ يَاءٍ وَكَسْرِ رَاءٍ (الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا) أَيْ: شَيْئًا لَمْ تَرَ عَيْنَاهُ فِي النِّهَايَةِ أَيْ يَقُولُ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَذَا، وَلَمْ يَكُنْ رَأَى شَيْئًا ; لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ مَلَكَ الرُّؤْيَا لِيُرِيَهُ الْمَنَامَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِإِرَاءِ الرَّجُلِ عَيْنَيْهِ وَصْفُهُمَا بِمَا لَيْسَ فِيهِمَا وَنِسْبَةُ الْكِذْبَاتِ إِلَى الْكَذِبِ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ وَجَدَّ جِدُّهُ قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْفِرْيَةُ الْكِذْبَةُ الْعَظِيمَةُ، وَجُعِلَ كَذِبُ الْمَنَامِ أَعْظَمَ مِنْ كَذِبِ الْيَقَظَةِ ; لِأَنَّهُ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَادَّعَى جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَذِبًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ: ( «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يُدْعَى الرَّجُلُ لِغَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا، أَوْ يَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَمْ تَرَيَا» ".

4627 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " «أَصْدَقُ الرُّؤْيَا بِالْأَسْحَارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4627 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَصْدَقُ الرُّؤْيَا بِالْأَسْحَارِ» ) أَيْ: مَا رُؤِيَ بِالْأَسْحَارِ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ حِينَئِذٍ أَنْ تَكُونَ الْخَوَاطِرُ مُجْتَمِعَةً وَالدَّوَاعِي سَاكِنَةً ; وَلِأَنَّ الْمَعِدَةَ خَالِيَةٌ فَلَا يَتَصَاعَدُ مِنْهَا الْأَبْخِرَةُ الْمُشَوِّشَةُ ; وَلِأَنَّهَا وَقْتُ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَشْهُودَةِ؛ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ

[كتاب الآداب]

[كِتَابُ الْآدَابِ] [بَابُ السَّلَامِ]

كِتَابُ الْآدَابِ (1) بَابُ السَّلَامِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4628 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَذَهَبَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " قَالَ: فَزَادُوهُ " وَرَحْمَةُ اللَّهِ ". قَالَ: " فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ حَتَّى الْآنَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الْآدَابِ الْأَدَبُ: اسْتِعْمَالُ مَا يُحْمَدُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَقِيلَ الْأَخْذُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَقِيلَ: الْوُقُوفُ مَعَ الْحَسَنَاتِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَقِيلَ: التَّعْظِيمُ لِمَنْ فَوْقَكَ وَالرِّفْقُ بِمَنْ دُونَكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَأْدُبَةِ وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى طَعَامٍ؛ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُدْعَى إِلَيْهِ. (1) بَابُ السَّلَامِ أَيِ: ابْتِدَاءً وَجَوَابًا، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ مَعَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الْوَاجِبَ ثَوَابُهُ أَكْمَلُ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوَاضُعِ مَعَ كَوْنِهِ سَبَبًا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَنَظِيرُهُ النَّظِرَةُ عَنِ الْمُعْسِرِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَالْإِبْرَاءُ أَفْضَلُ مِنْهَا، مَعَ أَنَّهُ سُنَّةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إِذَا مَرَّ بِقَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلُ دَرَجَةٍ بِتَذَكُّرِهِ إِيَّاهُمُ السَّلَامَ، فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ» " رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4628 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» ) أَيْ: عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ أُهْبِطَ، وَإِلَى أَنْ مَاتَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ صُورَتَهُ كَانَتْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الصِّفَةُ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتُهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْعَبْدِ الْمَحْذُوفِ مِنَ السِّيَاقِ، وَإِنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ وَجْهَ غُلَامٍ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ. كَذَا فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ لِلسُّيُوطِيِّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْهَاءُ مَرْجِعُهَا إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ ذُرِّيَّةَ آدَمَ خُلِقُوا أَطْوَارًا فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارُوا صُوَرًا أَجِنَّةً إِلَى أَنْ تَتِمَّ مُدَّةُ الْحَمْلِ، فَيُولَدُونَ أَطْفَالًا وَيُنْشَئُونَ صِغَارًا إِلَى أَنْ يَكْبَرُوا، فَيَتِمُّ طُولُ أَجْسَادِهِمْ، يَقُولُ: إِنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ خَلْقُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلَ مَا تَنَاوَلَتْهُ الْخِلْقَةُ وُجِدَ خَلْقًا تَامًّا. (طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) . وَقَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا قِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ: خُلِقَ آدَمُ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَلِمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَضْرِبُ وَجْهَ غُلَامٍ، فَقَالَ: " لَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» " فَالْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الْمُؤَوِّلُ لَا يُلَائِمُ هَذَا الْقَوْلَ. وَأَهْلُ الْحَقِّ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَلَى طَبَقَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا: الْمُنَزَّهُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَعَدَمِ الرُّكُونِ إِلَى مُسَمَّيَاتِ الْجِنْسِ وَإِحَالَةِ الْمَعْنَى فِيهِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَهَذَا أَسْلَمُ الطَّرِيقَيْنِ. وَالطَّبَقَةُ الْأُخْرَى: يَرَوْنَ الْإِضَافَةَ فِيهَا إِضَافَةَ تَكْرِيمٍ وَتَشْرِيفٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، خَلَقَ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ عَلَى صُورَةٍ لَمْ يُشَاكِلْهَا شَيْءٌ وَالصُّوَرُ فِي الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ، وَكَثْرَةِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، فَاسْتَحَقَّتِ الصُّورَةُ الْبَشَرِيَّةُ أَنْ تُكَرَّمَ وَلَا تُهَانَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا وَتَكْرِيمًا لِمَا كَرَّمَهُ اهـ. وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبَهَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي تَعْقِيبِهِ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ تَأْوِيلَ أَبِي سُلَيْمَانَ سَدِيدٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَفِي ذِكْرِ مَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ لَدَيْهِ.

(فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ) أَيِ: الْجَمَاعَةِ (وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ) : أُفْرِدَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ أَوْ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ " نَفَرٌ " أَوْ جَمْعُ جَالِسٍ، أَوْ تَقْدِيرُهُ ذَوُو جُلُوسٍ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ رَجُلٍ عَدْلٍ مُبَالَغَةً (فَاسْتَمِعْ) أَيْ: فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ فَاسْتَمِعْ (مَا يُحَيُّونَكَ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، أَيِ: الَّذِي يُحَيُّونَكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالْجِيمِ وَالتَّحْتِيَّةِ وَالْمُوَحَّدَةِ فَتَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا) أَيْ: تَحِيَّتُهُمْ إِيَّاكَ (تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ) أَيْ: لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ (فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَزَادُوهُ) أَيْ: آدَمَ فِي رَدِّ جَوَابِهِ عَلَى أَصْلِ سَلَامِهِ بِقَوْلِهِمْ (وَرَحْمَةُ اللَّهِ) : قِيلَ: يَدُلُّ هَذَا عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ. قُلْتُ: بَلِ الزِّيَادَةُ هِيَ الْأَفْضَلُ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ أَيْضًا، نَعَمْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ السَّلَامِ فِي الْجَوَابِ، بَلْ عَلَى نَدْبِهِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّعْلِيمِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ أَفْضَلُ سَوَاءٌ زَادَ أَمْ لَا. وَلَعَلَّ الْمَلَائِكَةَ أَيْضًا أَرَادُوا إِنْشَاءَ السَّلَامِ عَلَى آدَمَ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْجَوَابِ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ السَّلَامِ، لَا أَنْ يَقَعَا مَعًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَاءُ التَّعْقِيبِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْهَا غَافِلُونَ، فَلَوِ الْتَقَى رَجُلَانِ وَسَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْجَوَابُ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَكُلُّ) : كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَجَمِيعِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالْفَاءِ، وَهُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَمِيعَ (مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ: مِنْ أَوْلَادِهِ (عَلَى صُورَةِ آدَمَ) أَيْ: يَدْخُلُ عَلَى صُورَتِهِ، أَوْ فَهُوَ عَلَى صُورَتِهِ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ النَّوْعِيَّةَ وَالشَّخْصِيَّةَ (وَطُولُهُ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ طُولَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَيْضًا (سِتُّونَ ذِرَاعًا) : بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِهِ، وَفِي الْجَامِعِ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فِي طُولِهِ سِتُّونَ ذِرَاعًا (فَلَمْ يَزَلْ) : هَذِهِ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى قَوْلِهِ: طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ مُتَضَمِّنًا لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ آدَمُ طُولَهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا وَذُرِّيَّتُهُ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَيْضًا، وَطُولُهُمْ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَمَا بَالُهُمْ نَقَصَ طُولُهُمْ عَنْ طُولِ أَبِيهِمْ عَلَى مَا نُشَاهِدُ فِي الدُّنْيَا، أَهُوَ نُقْصَانٌ تَدْرِيجِيٌّ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَلَمْ يَزَلِ (الْخَلْقُ) أَيْ: غَالِبُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ بَنِي آدَمَ (يَنْقُصُ) أَيْ: طُولُهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيُّ: وَجَمَالُهُمْ فَمَا أَظُنُّهُ صَحِيحًا مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا رَمْزًا وَلَا صَرِيحًا (بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ آدَمَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا. (حَتَّى الْآنَ) : بِالنَّصْبِ ظَرْفُ يَنْقُصُ، أَيْ: حَتَّى وَصَلَ النَّقْصُ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ، الظَّاهِرُ أَنَّ النُّقْصَانَ انْتَهَى إِلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَإِلَّا فَلَمْ يُحْفَظْ تَفَاوُتٌ فِي طُولِ الْقَامَةِ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى مُدَّتِهَا الْآنَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

4629 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: " تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4629 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْإِسْلَامِ) أَيْ: أَيُّ آدَابِ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَيُّ خِصَالِ أَهْلِهِ (خَيْرٌ؟) أَيْ: أَفْضَلُ ثَوَابًا أَوْ أَكْثَرُ نَفْعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: السُّؤَالُ وَقَعَ عَمَّا يَتَّصِلُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْخِصَالِ دُونَ غَيْرِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ عَنْهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْخِصَالِ حَيْثُ (قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ) : إِلَخْ وَتَقْدِيرُهُ أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ، فَلَمَّا حُذِفَ أَنْ رَجَعَ الْفِعْلُ مَرْفُوعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24] ، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، وَيُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَتَقْرَأُ السَّلَامَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَتُقْرِي مِنَ الْإِقْرَاءِ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: أَقْرَأُ فُلَانًا السَّلَامَ وَأُقْرِئُ عَلَيْهِ السَّلَامَ، كَأَنَّهُ حِينَ يَبْلُغُهُ سَلَامُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ وَيَرُدَّهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامَ أَبْلَغَهُ كَأَقْرَاهُ، أَوْ لَا يُقَالُ: أَقْرَأَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّلَامُ مَكْتُوبًا. وَقَوْلُهُ: (عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِتَقْرَأُ، أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ بِأَنْ يَضْمَنَ تُطْعِمُ مَعْنَى الْبَذْلِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ شَامِلٌ لِلْمُخَاطَبِ وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيُّ خِصَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَآدَابِهِمْ أَفْضَلُ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِالْإِطْعَامِ وَالسَّلَامِ عَلَى مَنْ عَرَفَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ. قَالَ: وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمَا لِعِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمَا يُنَاسِبَانِ حَالَ السَّائِلِ، وَلِذَلِكَ أَسْنَدَهُمَا إِلَيْهِ فَقَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ، أَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا يُعَامِلُ الْمُسْلِمِينَ فِي إِسْلَامِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَأَى أَنْ يُجِيبَ عَنْ سُؤَالِهِ بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الْعَمَلِ، وَالْخَبَرُ قَدْ يَقَعُ مَوْقِعَ الْأَمْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ» ".

4630 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ خِصَالٍ: يَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَشْهَدُهُ إِذَا مَاتَ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ أَوْ شَهِدَ» " لَمْ أَجِدْهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَلَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْجَامِعِ " بِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4630 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ خِصَالٍ: يَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَشْهَدُهُ) أَيْ: يَحْضُرُ وَقْتَ نَزْعِهِ (إِذَا مَاتَ) أَيْ: قَرُبَ مَوْتُهُ، أَوْ يَحْضُرُ زَمَانَ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ إِذَا مَاتَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُشَمِّتُهُ) : بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: يَدْعُو لَهُ بِقَوْلِهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ (إِذَا عَطَسَ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَيُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، يَعْنِي: فَحَمِدَ اللَّهَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: التَّشْمِيتُ بِالشِّينِ وَالسِّينِ الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَالْمُعْجَمَةُ أَعْلَاهُمَا يُقَالُ: شَمِّتْ فُلَانًا. وَشَمَّتَ عَلَيْهِ تَشْمِيتًا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الشَّوَامِتِ، وَهِيَ الْقَوَائِمُ كَأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْعَاطِسِ بِالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَبْعَدَكَ اللَّهُ عَنِ الشَّمَاتَةِ وَجَنَّبَكَ مَا يُشْمَتُ بِهِ عَلَيْكَ. (وَيَنْصَحُ لَهُ) أَيْ: يُرِيدُ الْخَيْرَ لِلْمُؤْمِنِ وَيُرْشِدُهُ إِلَيْهِ (إِذَا غَابَ) أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمَا (أَوْ شَهِدَ) أَيْ: حَضَرَ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ خَيْرَهُ فِي غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ، فَلَا يَتَمَلَّقُ فِي حُضُورِهِ وَيَغْتَابُ فِي غَيْبَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (لَمْ أَجِدْهُ) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ (فِي الصَّحِيحَيْنِ) أَيْ: مَتْنَيْهِمَا (وَلَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) أَيِ: الْجَامِعُ لَهُ (لَكِنْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ) أَيْ: جَامِعِ الْأُصُولِ (بِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ) : قُلْتُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنْ قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: " «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» " فَفِي الْجُمْلَةِ صَحَّ إِسْنَادُ الْبَغَوِيِّ الْحَدِيثَ إِلَى مُسْلِمٍ، بَلْ إِلَى الشَّيْخَيْنِ وَلَوْ بِالْمَعْنَى.

4631 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4631 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا» ، وَلَا تُؤْمِنُوا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالرِّوَايَاتِ بِحَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ اهـ. وَلَعَلَّ حَذْفَ النُّونِ لِلْمُجَانَسَةِ وَالِازْدِوَاجِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَنَحْنُ اسْتَقْرَيْنَا نُسَخَ مُسْلِمٍ وَالْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَبَعْضَ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، فَوَجَدْنَاهَا مُثْبَتَةً بِالنُّونِ عَلَى الظَّاهِرِ. قُلْتُ: أَمَّا نُسَخُ الْمِشْكَاةِ الْمُصَحَّحَةُ الْمُعْتَمَدَةُ الْمَقْرُوءَةُ عَلَى الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ كَالْجَزَرِيِّ، وَالسَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ، وَجَمَالٍ الْمُحَدِّثِ، وَغَيْرُهَا مِنَ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، فَكُلُّهَا بِحَذْفِ النُّونِ، وَمَا وَجَدْنَا نُسْخَةً فِيهَا النُّونُ مُثْبَتَةٌ، وَأَمَّا مَتْنُ مُسْلِمٍ الْمُصَحَّحُ الْمَقْرُوءُ عَلَى جُمْلَةِ مَشَايِخَ مِنْهُمُ السَّيِّدُ نُورُ الدِّينِ الْإِيجِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ الْعَزِيزَ، فَهُوَ بِحَذْفِ النُّونِ، نَعَمْ فِي الْحَاشِيَةِ نُسْخَةٌ بِثَبَاتِ النُّونِ، وَأَمَّا تَيْسِيرُ الْوُصُولِ إِلَى جَامِعِ الْأُصُولِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا بِحَذْفِ النُّونِ، بَلْ قَوْلُهُ: لَا تَدْخُلُوا مَحْذُوفُ النُّونِ أَيْضًا، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ أَنَّ النَّهْيَ قَدْ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ كَعَكْسِهِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَالْمَعْنَى: لَا تُؤْمِنُونَ إِيمَانًا كَامِلًا (حَتَّى تَحَابُّوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ، أَيْ: حَتَّى يُحِبَّ كُلٌّ مِنْكُمْ صَاحِبَهُ ( «أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِفْشَاءَ السَّلَامِ سَبَبًا لِلْمَحَبَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ

سَبَبًا لِكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَفِي التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَالشَّحْنَاءِ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ سَبَبٌ لِانْثِلَامِ الدِّينِ وَالْوَهَنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَجَعْلِ كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْعُلْيَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] الْآيَةَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

4632 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4632 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي) أَيْ: تَوَاضُعًا حَيْثُ رَفَعَهُ اللَّهُ بِالرُّكُوبِ، وَلِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ بِهَذَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي (وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ) : كَذَلِكَ (وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) أَيْ: لِلتَّوَاضُعِ الْمَقْرُونِ بِالِاحْتِرَامِ وَالْإِكْرَامِ الْمُعْتَبَرِ فِي السَّلَامِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ وُجُودُ الْكَبِيرِ فِي الْكَثِيرِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الصَّغِيرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْكَبِيرِ، مَعَ أَنَّ الْكَثِيرَ قَدْ يُعْتَبَرُ فِي مَعْنَى الْكَبِيرِ، وَأَيْضًا وُضِعَ السَّلَامُ لِلتَّوَدُّدِ، وَالْمُنَاسَبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلصَّغِيرِ مَعَ الْكَبِيرِ، وَلِلْقَلِيلِ مَعَ الْكَثِيرِ بِمُقْتَضَى الْأَدَبِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا وَعُرْفًا، نَعَمْ لَوْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ تَوَاضُعًا، فَهُوَ مَقْصِدٌ حَسَنٌ أَيْضًا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا اسْتُحِبَّ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ لِلرَّاكِبِ ; لِأَنَّ وَضْعَ السَّلَامِ إِنَّمَا هُوَ لِحِكْمَةِ إِزَالَةِ الْخَوْفِ مِنَ الْمُلْتَقِيَيْنِ إِذَا الْتَقَيَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْغَالِبِ، أَوْ لِمَعْنَى التَّوَاضُعِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ الْمُؤْمِنِ، أَوْ لِمَعْنَى التَّعْظِيمِ ; لِأَنَّ السَّلَامَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا اكْتِسَابُ وُدٍّ أَوِ اسْتِدْفَاعُ مَكْرُوهٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَالرَّاكِبُ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَاشِي، وَهُوَ عَلَى الْقَاعِدِ لِلْإِيذَانِ بِالسَّلَامَةِ وَإِزَالَةِ الْخَوْفِ، وَالْكَثِيرُ عَلَى الْقَلِيلِ لِلتَّوَاضُعِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ لِلتَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ. قُلْتُ: أَمَّا التَّوَاضُعُ فَفِي الْكُلِّ مَوْجُودٌ وَلَوِ انْعَكَسَ الْوُجُودُ، وَلِذَا قَالُوا: ثَوَابُ الْمُسَلِّمِ أَكْثَرُ مِنْ أَجْرِ الْمُجِيبِ، مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْأَوَّلِ سُنَّةٌ وَفِعْلَ الْآخَرِ فَرْضٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَعْنًى آخَرَ فِي التَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ فَتَدَبَّرْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْأَدَبُ يَعْنِي: الْقَيْدُ الْأَخِيرُ، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا تَلَاقَى اثْنَانِ فِي طَرِيقٍ، أَمَّا إِذَا وَرَدَ عَلَى قُعُودٍ أَوْ قَاعِدٍ، فَإِنَّ الْوَارِدَ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، أَوْ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، قُلْتُ: وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ صَدْرِ الْحَدِيثِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الرَّاكِبِ وَالْمَاشِي لِلْجِنْسِ الشَّامِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلَكِنْ فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ. قَالَ الْمُتَوَلِّيُّ: إِذَا لَقِيَ رَجُلٌ جَمَاعَةً فَأَرَادَ أَنْ يَخُصَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ بِالسَّلَامِ كُرِهَ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ السَّلَامِ الْمُؤَانَسَةُ وَالْأُلْفَةُ، وَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ إِيحَاشُ الْبَاقِينَ، وَرُبَّمَا صَارَ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ، وَإِذَا مَشَى فِي السُّوقِ أَوِ الشَّوَارِعِ الْمَطْرُوقَةِ كَثِيرًا، فَالسَّلَامُ هُنَا إِنَّمَا يَكُونُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ ; لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى كُلٍّ لَتَشَاغَلَ بِهِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَيَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْعُرْفِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4633 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4633 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِتَوْقِيرِهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ (وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) : لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4634 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4634 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -[قَالَ] : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ) بِكَسْرِ أَوَّلَهُ جَمْعُ غُلَامٍ بِمَعْنَى: صَبِيٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) أَيْ: تَوَاضُعًا ; وَلِأَنَّهُ كَانَ مَارًّا وَلِكَثْرَتِهِمْ عَلَى احْتِمَالٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ السَّلَامِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ حَتَّى الصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ، وَبَيَانُ تَوَاضُعِهِ وَكَمَالُ شَفَقَتِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ

وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى رِجَالٍ وَصِبْيَانٍ، وَرَدَّ صَبِيٌّ مِنْهُمُ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ كَمَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِصَلَاةِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَرَدَّ غَيْرُهُمْ لَمْ يَسْقُطِ الرَّدُّ عَنْهُمْ، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى رَدِّهِ أَثِمُوا، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ أَوْ مَحْرَمًا مِنْ مَحَارِمِهِ فَهِيَ مَعَهُ كَالرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً؛ فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً يُخَافُ الِافْتِتَانُ بِهَا لَا يُسَلِّمِ الرَّجُلُ عَلَيْهَا وَلَوْ سَلَّمَ لَمْ يَجُزْ لَهَا رَدُّ الْجَوَابِ وَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَتْ لَمْ تَسْتَحِقَّ جَوَابًا، فَإِنْ أَجَابَهَا كُرِهَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا يُفْتَتَنُ بِهَا جَازَ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ الرَّدُّ. قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي قَالَ: وَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ جَمَاعَةً فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ الرَّجُلُ، أَوْ كَانَ الرِّجَالُ جَمْعًا فَسَلَّمُوا عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ جَازَ إِذَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِنَّ وَلَا عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهِمْ فِتْنَةٌ اهـ. وَسَيَأْتِي كَلَامُ بَعْضِ عُلَمَائِنَا فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4635 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4635 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى) أَيْ: وَلَوْ كَانُوا ذِمِّيِّينَ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْكُفَّارِ (بِالسَّلَامِ) : لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِهِ إِعْزَازٌ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ إِعْزَازُهُمْ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ تَوَادُدُهُمْ وَتَحَابُبُهُمْ بِالسَّلَامِ وَنَحْوِهِ، قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ. وَلِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِإِذْلَالِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ) أَيِ: أَلْجِئُوا أَحَدَهُمْ (إِلَى أَضْيَقِهِ) أَيْ: أَضْيَقِ الطَّرِيقِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ جِدَارٌ يَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ، وَإِلَّا فَيَأْمُرُهُ لِيَعْدِلَ عَنْ وَسَطِ الطَّرِيقِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا، لِمَا عَدَلُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ; وَلِأَنَّ قَتْلَهُمْ وَاجِبٌ، لَكِنِ ارْتَفَعَ بِالْجِزْيَةِ وَمَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، فَهَذَا قَتْلٌ مَعْنَوِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ وَلَا يُحَرَّمُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، فَالصَّوَابُ تَحْرِيمُ ابْتِدَائِهِمْ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جَمَاعَةٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ سَلَّمْتَ فَقَدْ سَلَّمَ الصَّالِحُونَ، وَإِنْ تَرَكْتَ فَقَدْ تَرَكَ الصَّالِحُونَ. قُلْتُ: التَّرْكُ أَصْلَحُ عَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ: وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ إِلَّا لِعُذْرٍ وَخَوْفٍ مِنْ مَفْسَدَةٍ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَبَانَ ذِمِّيًّا اسْتُحِبَّ أَنْ يَسْتَرِدَّ سَلَامَهُ بِأَنْ يَقُولَ: اسْتَرْجَعْتُ سَلَامِي تَحْقِيرًا لَهُ. قُلْتُ: وَلَا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا لِلْمُبْتَدِعِ، أَوْ لِلْمُبَاغِضِ، أَوِ الْمُتَكَبِّرِ الَّذِينَ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ السَّلَامَ. قَالَ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُتْرَكُ لِلذِّمِّيِّ صَدْرُ الطَّرِيقِ، بَلْ يُضْطَرُّ إِلَى أَضْيَقِهِ، وَلَكِنَّ التَّضْيِيقَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِي وَهْدَةٍ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ خَلَتِ الطَّرِيقُ عَنِ الزَّحْمَةِ فَلَا حَرَجَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

4636 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ، فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَقُلْ: وَعَلَيْكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4636 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ) : وَفِي مَعْنَاهُمُ النَّصَارَى، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ) أَيِ: الْيَهُودُ (السَّامُ) : بِالْأَلِفِ أَيِ: الْمَوْتُ الْعَاجِلُ (عَلَيْكَ) : بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ نَظَرًا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْكُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ يُقَالُ التَّقْدِيرُ: فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ لِأَحَدِكُمْ: السَّامُ عَلَيْكَ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ مَعَ تَحَقُّقِ الْجَمْعِ أَيْضًا تَحْقِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا أَفْضَلُ فِي حَقِّنَا مُخَالَفَةً لَهُمْ أَنَّ أَحَدَنَا يُسَلِّمُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ إِرَادَةً لِزِيَادَةِ التَّعْظِيمِ، أَوْ قَصْدًا لِمُرَاعَاةِ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْمِيمِ، (فَقُلْ: وَعَلَيْكَ) : بِالْوَاوِ وَخِطَابِ الْمُفْرَدِ جَزَاءً وِفَاقًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِخِطَابِ الْجَمْعِ، وَلَعَلَّهُ مَحَلُّهُ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُفَصَّلًا، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي عَلَى مَا سَيَأْتِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَيْكَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَأَنَّهُ رُوِيَ بِالْوَاوِ أَيْضًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4637 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4637 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» ) : بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: عَلَيْكُمْ بِدُونِ الْوَاوِ، وَخِطَابُ الْجَمْعِ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكَ، وَلِهَذَا عَبَّرَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ هَكَذَا حَيْثُ قَالَ: رَدَّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: عَلَيْكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، أَوْ وَعَلَيْكَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْكُلُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَرِوَايَةُ الْوَاوِ أَكْثَرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا سَلَّمُوا، لَكِنْ لَا يُقَالُ لَهُمْ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، يَعْنِي: وَلَا عَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَلَا عَلَيْكَ السَّلَامُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بَلْ يُقَالُ عَلَيْكُمْ فَقَطْ، أَوْ وَعَلَيْكُمْ يَعْنِي: إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَا يَأْتِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِإِيهَامِهِ التَّعْظِيمَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْكُمْ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَحَذْفِهَا، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ: وَعَلَيْكُمْ بِإِثْبَاتِهَا، وَعَلَى هَذَا فَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالُوا: عَلَيْكُمُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا، أَيْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ كُلُّنَا نَمُوتُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاوَ هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيكِ، وَتَقْدِيرُهُ وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الذَّمِّ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ حَذْفَ الْوَاوِ، لِئَلَّا تَقْتَضِيَ التَّشْرِيكَ، أَيِ: الصُّورِيَّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هِيَ فِي الرِّوَايَاتِ أَيْ: أَكْثَرِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ، يَقُولُ: وَعَلَيْكُمُ السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ، أَيِ: الْحِجَارَةُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، أَيْ: رِوَايَةً وَدِرَايَةً. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَذْفُ الْوَاوِ هُوَ الصَّوَابُ، أَيِ: الْأَصْوَبُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ. قَالَ: لِأَنَّهُ صَارَ كَلَامُهُمْ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَإِذَا أُثْبِتَتِ اقْتَضَتِ الْمُشَارَكَةَ مَعَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّوَابُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَاوِ وَحَذْفَهَا جَائِزَانِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ، وَإِثْبَاتُهَا أَجْوَدُ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ ; لِأَنَّ السَّامَ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِثْبَاتُ الْوَاوِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ مَنَاطُ السَّلَامَةِ فِي الدَّارَيْنِ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمْ تَعْرِيضٌ بِالدُّعَاءِ عَلَيْنَا، وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَأَقُولُ عَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الصِّيغَةَ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ الْإِيحَاشِ، وَأَقْرَبَ إِلَى الرِّفْقِ، فَإِنَّ رَدَّ التَّحِيَّةِ يَكُونُ إِمَّا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، أَوْ بِقَوْلِنَا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنَ مِمَّا حَيَّوْنَا بِهِ لَا يَجُوزُ لَنَا، وَلَا رَدَّ بِأَقَلِّ مِنْ قَوْلِنَا: وَعَلَيْكَ، وَأَمَّا الرَّدُّ بِغَيْرِ الْوَاوِ فَظَاهِرٌ أَيْ: عَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا عُلِمَ التَّعْرِيضُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْنَا، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَدَّرَ وَأَقُولُ عَلَيْكُمْ مَا تُرِيدُونَ بِنَا أَوْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ، وَلَا يَكُونُ وَعَلَيْكُمْ عَطْفًا عَلَى عَلَيْكُمْ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِلَّا لَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْرِيرَ دُعَائِهِمْ، وَلِذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ: فَقُلْ عَلَيْكَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ بِالْوَاوِ أَيْضًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّامُ الْمَوْتُ وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ. قُلْتُ: هَذَا الْأَصْلُ فَرْعُ إِثْبَاتِ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، نَعَمْ فِي النِّهَايَةِ السَّأْمُ عَلَيْكُمْ، رُوِيَ بِالْهَمْزِ أَيْ: تَسَآمُونَ دِينَكُمْ، وَالْمَشْهُورُ بِلَا هَمْزٍ أَيِ: الْمَوْتُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِلُغَةِ الْيَهُودِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّهِمْ: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46] ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِالسَّلَامَةِ عَنْ صِرَافَتِهِ، وَإِرَادَةَ اللَّفْظِ الْمُهْمَلِ الْمُشَابِهِ بِاللَّغْوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَوَاهُ قَتَادَةُ مَهْمُوزًا وَقَالَ مَعْنَاهُ: تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ السَّامُ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَهُوَ مِنْ سَامَ يَسُومُ إِذَا مَضَى ; لِأَنَّ الْمَوْتَ مَضَى اهـ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقَامُوسِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ سَوَمَ فُلَانًا: خَلَّاهُ، وَلَعَلَّ هَذَا أَقْرَبُ مَأْخَذًا لِلْمَعْنَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ.

4638 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ". قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا " قَالَ: " قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " عَلَيْكُمْ " وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. - وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ. قَالَتْ: «إِنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ: " وَعَلَيْكُمْ " فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَهْلًا يَا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ ". قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: " أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ» ". - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: " «لَا تَكُونِي فَاحِشَةً، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4638 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ) أَيْ: قَوْمٌ (مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ) أَيْ: وَقَالَ وَعَلَيْكُمْ لِمَا سَيَأْتِي (فَقُلْتُ:، بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ) أَيْ: مَفْهُومُ مَا تُرِيدُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَتُحَرِّفُونَهُ لِفَسَادِ الْمَعْنَى (وَاللَّعْنَةُ) أَيْ: زِيَادَةٌ عَنْ ذَلِكَ (فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ) ، أَيْ: رَحِيمٌ (يُحِبُّ الرِّفْقَ) أَيْ: لَيِّنُ الْجَانِبِ، وَأَصْلُ الرِّفْقِ ضِدُّ الْعُنْفِ (فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ) أَيْ: مَهْمَا أَمْكَنَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَإِلَّا فَقَدَ قَالَ تَعَالَى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9] ، (قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ) أَيْ: أَلَمْ يَنْكَشِفْ لَكَ وَلَمْ تَسْمَعْ (مَا قَالُوا) أَيْ: حِينَ السَّلَامِ عَلَيْكَ حَيْثُ أَبْدَلُوا السَّلَامَ بِالسَّامِ. (قَالَ: قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ) أَيْ: فِقْهًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِاسْتِئْنَافِ الْمَبْنِيِّ (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: عَنْهَا، وَإِلَّا فَفِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ أَيْضًا وَرَدَّ (عَلَيْكُمْ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ) أَيْ: بِدُونِ الْوَاوِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ أَوْ وَعَلَيْكُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وَأَمَّا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَقَدْ زَادَتْ فِي الْمَعْنَى، وَتَعَدَّتْ عَنِ الْمَبْنِيِّ، وَتَرَكَتْ طَرِيقَ اللُّطْفِ، وَاخْتَارَتْ سَبِيلَ الْعُنْفِ، وَلِذَا أَرْشَدَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرِّفْقِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ بَابُ الْمُدَارَاةِ وَتَرْكِ الْمُعَادَاةِ وَالْمُعَانَاةِ كَمَا قِيلَ: وَدَارِهِمْ مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ وَأَرْضِهِمْ مَا دُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ. لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ مِمَّا خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَسَنُبَيِّنُهُ فِي مَحَلِّهِ اللَّائِقِ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي التَّنْزِيلِ: " {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8] " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ) أَيْ: عَنْهَا ( «قَالَتْ: إِنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. قَالَ: وَعَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ» ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْقِصَّةَ مُتَّحِدَةٌ، وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ اللَّعْنَةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ إِمَّا مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَاتِ الْأُخَرِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ حَيْثُ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَهْلًا) : مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: ارْفُقِي رِفْقًا (يَا عَائِشَةُ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُتَمِّمَاتِ السَّابِقِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ اللَّاحِقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (عَلَيْكِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ (بِالرِّفْقِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: بِلِينِ الْجَانِبِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْهَلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ (وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ ضِدُّ الرِّفْقِ (وَالْفُحْشَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا التَّعَدِّي بِزِيَادَةِ الْقُبْحِ فِي الْقَوْلِ وَالْجَوَابِ (قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ) أَيْ: إِذَا أَرَادُوا بِالسَّامِ الْأَمْرَ الْمَكْرُوهَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْمَوْتُ (فِيَّ) أَيْ: فِي حَقِّي. (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ. قَالَ: «لَا تَكُونِي فَاحِشَةً» ) أَيْ: قَائِلَةً لِلْفُحْشِ وَمُتَكَلِّمَةً بِكَلَامٍ قَبِيحٍ ( «فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ» ) : وَقَدْ مَرَّ مَعْنَاهُ (وَالتَّفَحُّشَ) أَيِ: التَّكَلُّفَ فِي التَّلَفُّظِ بِالْفُحْشِ وَالتَّعَمُّدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا لِقَوْلِهَا " وَاللَّعْنَةُ " أَوْ " لَعَنَكُمُ اللَّهُ "، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، إِذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِ الْقَضِيَّةِ وَاحِدَةً مُخْتَلِفُ الْمَبْنَى.

4639 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَالْيَهُودِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4639 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) : وَهُمَا صَحَابِيَّانِ، بَلْ حِبَّانِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ أُسَامَةَ هُوَ ابْنُ مَوْلَاهُ وَقَدْ مَرَّ تَرْجَمَتُهُمَا. ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ» ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ خِلْطٍ، وَهُوَ مَا يُخْلَطُ، وَالْمُرَادُ جَمْعٌ مَخْلُوطٌ ( «مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ» ) : عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَالْيَهُودِ) : وَجَعَلَهُمْ مُشْرِكِينَ إِمَّا لِقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَإِمَّا لِلتَّغْلِيبِ أَوْ لِلتَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا. اهـ. وَالْأَوْلَى عَطْفُ الْيَهُودِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ أَوْ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ بِقَصْدِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى مُشْرِكٍ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4640 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ: " فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ " قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4640 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ» ) أَيْ: فِيهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى الطَّرَقَاتِ، وَهِيَ جَمْعُ الطُّرُقِ جَمْعِ الطَّرِيقِ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الْأَصْحَابِ ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ» ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ مَجَالِسِنَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بُدٌّ، أَيْ: مَا لَنَا فِرَاقٌ مِنْهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تُلْجِئُنَا إِلَى ذَلِكَ، فَلَا مَنْدُوحَةَ لَنَا عَنْهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (نَتَحَدَّثُ فِيهِ) أَيْ: يُحَدِّثُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ، كَالْمُشَاوَرَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ، وَالْمُعَالَجَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْمُصَالَحَةِ. (قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ) أَيِ: امْتَنَعْتُمْ عَنْ تَرْكِ الْمُجَالَسَةِ بِالْكُلِّيَّةِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ وَتَرَكْتُمْ (إِلَّا الْمَجْلِسَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْجُلُوسِ ( «فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» ) : وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمِ الْمَعْنَى هُنَا، فَإِنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِرَادَةُ الْمَصْدَرِ الْمُرَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَفِي الْقَامُوسِ: جَلَسَ يَجْلِسُ جُلُوسًا وَمَجْلَسًا كَمَقْعَدٍ وَالْمَجْلِسُ أَيْ: بِالْكَسْرِ مَوْضِعُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: الْمَجْلَسُ بِفَتْحِ اللَّامِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: إِذَا امْتَنَعْتُمْ عَنِ الْأَفْعَالِ إِلَّا عَنِ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ أَيْ: إِذَا دَعَتْ حَاجَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْجِيرَانِ وَغَيْرِهِ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ وَاقْعُدُوا فِيهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. ( «قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ» ) : وَلَعَلَّ وَضْعَ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ رُجُوعُهُ إِلَى الْحَقِّ ; لِأَنَّ حَقَّ الْحَقِّ هُوَ تَرْكُ الْقُعُودِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطْلَقِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أَيْ: بَيِّنْ لَنَا بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ (قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ) أَيْ: كَفُّهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمِ أَوْ مَنْعُ النَّظَرِ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ (وَكَفُّ الْأَذَى) أَيِ: الِامْتِنَاعُ عَنْ أَذَى الْمَارِّينَ بِالتَّضْيِيقِ وَغَيْرِهِ (وَرَدُّ السَّلَامِ) أَيْ: عَلَى الْمُسْلِمِينَ (وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ (وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) : لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْأَمْرِ الْأَنْكَرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ.

4641 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: " «وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِيبَ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ هَكَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4641 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا زِيَادَةً عَلَى مَرْوِيِّ أَبِي سَعِيدٍ ( «وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ» ) : بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِيبَ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ هَكَذَا) أَيْ: مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ.

4642 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: " «وَتُغِيثُوا الْمَلْهُوفَ، وَتَهْدُوا الضَّالَّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِيبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَكَذَا، وَلَمْ أَجِدْهُمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4642 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ) أَيْ: عُمَرُ مَرْفُوعًا زِيَادَةً عَلَى الْخُدْرِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَوْ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ أَوْ دَلِيلٍ صَحِيحٍ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الطِّيبِيِّ، قَوْلُهُ: (وَتُغِيثُوا) : عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ، وَحَذْفُ النُّونِ عَلَى تَقْدِيرِ " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ". الْكَشَّافُ: وَحْيًا أَوْ يُرْسِلَ مَصْدَرَانِ وَاقِعَانِ مَوْقِعَ الْحَالِ ; لِأَنَّ أَوْ يُرْسِلَ فِي مَعْنَى إِرْسَالًا، ثُمَّ قَوْلُهُ: تُغِيثُوا بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِغَاثَةِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بِمَعْنَى: الْإِعَانَةُ، وَقَوْلُهُ: (الْمَلْهُوفَ) أَيِ: الْمُطْلَقُ وَالْمُتَحَيِّرُ فِي أَمْرِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ أَيِ: الْمَظْلُومُ الْمُضْطَرُّ يَسْتَغِيثُ وَيَنْحَسِرُ. ( «وَتَهْدُوا الضَّالَّ» ) : بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: تُرْشِدُوهُ إِلَى الطَّرِيقِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنَ الْعَطْفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِرْشَادِ السَّبِيلِ وَهِدَايَةِ الضَّالِّ أَنَّ إِرْشَادَ السَّبِيلِ أَعَمُّ مِنْ هِدَايَةِ الضَّالِّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِيبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) : وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَأْخَذُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ فِي الْعَطْفِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى الْمَطْلُوبِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (وَلَمْ أَجِدْهُمَا) أَيْ: حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (فِي الصَّحِيحَيْنِ) : كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَنِيعُ الْبَغَوِيِّ؛ حَيْثُ أَوْرَدَ الْكُلَّ فِي الصِّحَاحِ، لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ الِاعْتِذَارُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ ذِكْرَهُمَا إِنَّمَا كَانَ لِلتَّتْمِيمِ وَالتَّكْمِيلِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا بِطْرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَمِثْلُ هَذَا يُغْتَفَرُ فَتَدَبَّرْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَفْعَلُ وَتَذَرُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4643 - عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ بِالْمَعْرُوفِ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ، وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4643 - (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ بِالْمَعْرُوفِ» ) : صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَعْنِي: لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خِصَالٌ سِتٌّ، مُلْتَبِسَةٌ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى " مِنْ " (يُسَلِّمُ عَلَيْهِ) : جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ أَوْ تَقْدِيرُهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ ( «إِذَا لَقِيَهُ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ» ) أَيْ: إِلَى دَعْوَةٍ أَوْ حَاجَةٍ ( «وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ» ) : مَرَّ تَحْقِيقُ مَبْنَاهُ وَمَعْنَاهُ ( «وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَتْبَعُ» ) : بِسُكُونِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَشْهَدُ وَيُشَيِّعُ (جِنَازَتَهُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ (إِذَا مَاتَ) : وَفِي قَوْلِهِ: " يَتْبَعُ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ، كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِنَا، وَقَدْ وَرَدَ مُصَرَّحًا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا " «الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ، لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَقَدَّمَهَا» ". (وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ) أَيْ: مِثْلَ مَا يُحِبُّ (لِنَفْسِهِ) : وَهَذَا فَذْلَكَةُ الْكُلِّ، وَلِذَا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السِّتِّ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ". (رَوَاهُ) أَيْ: حَدِيثَ عَلِيٍّ (التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ.

4644 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَشْرٌ "، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: " عِشْرُونَ ". ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ فَقَالَ: " ثَلَاثُونَ» " رَوَاهُ التِّزْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4644 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» ) : بِضَمِيرِ الْجَمْعِ إِمَّا تَعْظِيمًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِمَّا لَهُ وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِأَنْ يُقَالَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَّلَمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا (فَرَدَّ عَلَيْهِ) : إِمَّا بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ (ثُمَّ جَلَسَ) أَيِ: الرَّجُلُ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشْرٌ) أَيْ: لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، أَوْ كُتِبَ، أَوْ حَصَلَ لَهُ أَوْ ثَبَتَ عَشْرٌ أَوِ الْمَكْتُوبُ لَهُ عَشْرٌ.

( «ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ، فَقَالَ: عِشْرُونَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» ) : قِيلَ: الْبَرَكَاتُ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّبَاتِ، وَلِذَا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ لَا فِي السَّلَامِ وَلَا فِي الْجَوَابِ. ( «فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ فَقَالَ: ثَلَاثُونَ» ) أَيْ: بِكُلِّ لَفْظٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4645 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْنَاهُ، فَزَادَ، «ثُمَّ أَتَى آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، فَقَالَ: " أَرْبَعُونَ " وَقَالَ: " هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4645 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْنَاهُ، وَزَادَ، «ثُمَّ أَتَى آخَرُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» ) : قِيلَ: الْبَرَكَةُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَصْلِ ( «وَمَغْفِرَتُهُ، فَقَالَ: أَرْبَعُونَ. وَقَالَ: هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ» ) أَيْ: تَزِيدُ الْمَثُوبَاتُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَزِيدُهُ الْمُسْلِمُ، كَذَا حَرَّرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَئِمَّتِنَا: قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَيَأْتِي بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، وَيَقُولُ الْمُجِيبُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَيَأْتِي بِوَاوِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمْ. وَأَقَلُّ السَّلَامِ أَنْ تَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكَ حَصَلَ أَيْضًا، وَأَمَّا الْجَوَابُ فَأَقَلُّهُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ أَوْ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، فَإِنْ حَذَفَ الْوَاوَ أَجْزَأَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْجَوَابِ عَلَيْكُمْ لَمْ يَكُنْ جَوَابًا، فَلَوْ قَالَ: وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ فَهَلْ يَكُونُ جَوَابًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ: أَنْتَ فِي تَعْرِيفِ السَّلَامِ وَتَنْكِيرِهِ بِالْخِيَارِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَكِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ أَوْلَى، وَإِذَا تَلَاقَى رَجُلَانِ وَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي: يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَدِئًا بِالسَّلَامِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ الشَّاشِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ كَانَ جَوَابًا، وَإِنْ كَانَا دَفْعَةً لَمْ يَكُنْ جَوَابًا. قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَلَوْ قَالَ بِغَيْرِ وَاوٍ، فَقَطَعَ الْإِمَامُ الْوَاحِدِيُّ بِأَنَّهُ سَلَامٌ يَتَحَتَّمُ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِهِ الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَلَبَ اللَّفْظَ الْمُعْتَادَ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: بَيِّنْ لِيَ الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. قُلْتُ: لَا بُدَّ لِلْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ مِنْ مَعْهُودٍ إِمَّا خَارِجِيٍّ أَوْ ذِهْنِيٍّ، فَإِذَا ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ كَانَ الْمُرَادُ السَّلَامَ الَّذِي سَلَّمَهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِآدَمَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ» . وَإِلَى الثَّانِي كَانَ الْمُرَادُ جِنْسَ السَّلَامِ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مَا هُوَ، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ ضِدَّهُ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4646 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4646 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ» ) أَيْ: أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ (بِاللَّهِ) أَيْ: بِرَحْمَتِهِ وَغُفْرَانِهِ (مَنْ بَدَأَ) : وَفِي الْجَامِعِ: مَنْ بَدَأَهُمْ (بِالسَّلَامِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: أَقْرَبُ النَّاسِ مِنَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ. الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ: " «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ» "، أَيْ: إِنَّ أَخَصَّهُمْ بِهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مِمَّا يُصَفِّي لَكَ وُدَّ أَخِيكَ ثَلَاثٌ: أَنْ تَبْدَأَ بِالسَّلَامِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَأَنْ تَدْعُوَهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ تُوَسِّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4647 - وَعَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4647 - (وَعَنْ جَرِيرٍ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ» ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمْنِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَجُوزَةً بَعِيدَةً عَنْ مَظِنَّةِ الْفِتْنَةِ. قِيلَ: وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَكْرَهُوا تَسْلِيمَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ اهـ. وَمَهْمَا قِيلَ بِالْكَرَاهَةِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَلَمْ يَثْبُتِ اسْتِحْقَاقُ الْجَوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ.

4648 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مَرْفُوعًا. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: رَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4648 - (وَعَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يُجْزِئُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهُ هَمْزٌ، أَيْ: يَكْفِي (عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا) : وَكَذَا إِذَا دَخَلُوا أَوْ وَقَفُوا عَلَى جَمْعٍ أَوْ عَلَى أَحَدٍ (أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ) ، أَيْ: أَحَدُ الْمَارِّينَ وَنَحْوُهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَهِيَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً كَفَى عَنْهُمْ تَسْلِيمٌ وَاحِدٌ وَلَوْ سَلَّمُوا كُلُّهُمْ كَانَ أَفْضَلَ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَنَا سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِلَّا هَذَا. قُلْتُ: وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَذْهَبِنَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ أَيْضًا سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَكَذَا الْأُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ فِي حَقِّ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، فَإِذَا ضَحَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَصَلَ الشِّعَارُ، وَالسُّنَّةُ لِجَمِيعِهِمْ. قُلْتُ: التَّشْمِيتُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَنَا، وَالْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُوسِرِ بِشُرُوطٍ لَا عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ فِي مَذْهَبِنَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الْأَكْلِ سُنَّةُ كِفَايَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ) أَيْ: ذَوِي الْجُلُوسِ أَوِ الْجَالِسِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانُوا، وَإِنَّمَا خَصَّ الْجُلُوسَ ; لِأَنَّهُ الْغَالِبُ عَلَى جَمْعٍ مُجْتَمِعِينَ مَعَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْقَائِمَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْقَاعِدِ، ثُمَّ الْمَعْنَى وَيَكْفِي (أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ) : وَهَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ رَدُّوا كُلُّهُمْ كَانَ أَفْضَلَ كَمَا هُوَ شَأْنُ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كُلِّهَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي: " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مَرْفُوعًا) أَيْ: بِلَا تَرَدُّدٍ وَخِلَافٍ (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ: رَوَاهُ مَوْقُوفًا (وَقَالَ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ تَمَامِ سَنَدِهِ (رَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ) ، أَيْ: أَحَدُ مَشَايِخِهِ لَا حَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا يُتَوَهَّمُ (وَهُوَ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا كَلَامُ الْمُؤَلِّفِ أَرَادَ أَنَّ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا، وَرَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، الْحَدِيثَ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ أَرَادَ أَنَّ شَيْخَهُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَفَعَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَالسَّنَدُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرُهُ الْمَوْقُوفُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَرَفَعَهُ جُمْلَةً حَالِيَّةً مُبَيِّنَةً لِلْإِسْنَادِ السَّابِقِ، كَمَا يُقَالُ مَثَلًا: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِبْهَامِ عَدَمُ التَّذَكُّرِ بِكَيْفِيَّةِ الرَّفْعِ هَلْ هُوَ بِعِبَارَةِ السَّمَاعِ أَوْ بِلَفْظِ الْقَوْلِ أَوْ بِعَنْ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِيرُ مَرْفُوعًا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ الْمَشْرُوعِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمَصَابِيحِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَفَعَهُ. أَقُولُ: وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى سَنَدِ الْبَيْهَقِيِّ، فَإِنَّهُ مَرْفُوعٌ بِلَا خِلَافٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4649 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4649 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيْسَ مِنَّا) أَيْ: مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا وَمُرَاعِي مُتَابَعَتِنَا (مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا) ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِنَا (لَا تَشَبَّهُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ: لَا تَتَشَبَّهُوا (بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى) ، زِيدَ " لَا " لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ ( «فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ» ) . بِفَتْحٍ فَضَمٍّ جَمْعُ كَفٍّ، وَالْمَعْنَى: لَا تَشَبَّهُوا بِهِمْ جَمِيعًا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ خُصُوصًا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَكْتَفُونَ فِي السَّلَامِ أَوْ رَدِّهِ أَوْ فِيهِمَا بِالْإِشَارَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ بِلَفْظِ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ سُنَّةُ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُوشِفَ لَهُ أَنَّ بَعْضَ أُمَّتِهِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الِانْحِنَاءِ أَوْ مُطَأْطَأَةِ الرَّأْسِ، أَوِ الِاكْتِفَاءِ بِلَفْظِ السَّلَامِ فَقَطْ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاحِدًا مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ الدَّاخِلَةِ فِي سِلْكِ السَّالِكِينَ الْمُرْتَاضِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الْمُكْتَفِي بِإِزَارٍ وَرِدَاءٍ، صَائِمِ الدَّهْرِ لَازِمِ الِاعْتِكَافِ، لَيْسَ شَيْءٌ عِنْدَهُ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ اخْتَارَ السُّكُوتَ الْمُطْلَقَ فِي آخِرِ الْعُمْرِ بِحَيْثُ يَكْتَفِي فِي رَدِّ السَّلَامِ بِإِشَارَةِ الرَّأْسِ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ خَالِيًا عَنْ نَوْعِ مَعْرِفَةٍ وَدَوَامِ تِلَاوَةٍ وَحُسْنِ خُلُقٍ وَسَخَاوَةِ نَفْسٍ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَا يُرَى أَنَّهُ يَطُوفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ وَيَرْحَمُنَا وَإِيَّاهُ فِي الْمَآلِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ) . وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَأَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ سَنَدَهُ حَسَنٌ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَسْنَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى ابْنِ عَمْرٍو، فَارْتَفَعَ النِّزَاعُ وَزَالَ الْإِشْكَالُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَكُونُ عَلَى خِلَافِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفًا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحُكْمِ سَنَدٌ آخَرُ، نَعَمْ فِيهِ إِيهَامٌ لِذَلِكَ لَا إِشْعَارٌ بِذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ مَعْنَى أَنَّ السَّلَامَ بِاللَّفْظِ سُنَّةٌ، وَجَوَابَهُ وَاجِبٌ كَذَلِكَ، فَبِمُجَرَّدِ كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفًا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقَلِبَ الْحُكْمُ أَبَدًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِّينَا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا. قُلْتُ: عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَلَفُّظِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسَّلَامِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مَا شُرِعَ السَّلَامُ عَلَى مَنْ مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ النِّسْوَانِ، وَأَنَّ مَا مَرَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَامِ الْمُصَرَّحِ، فَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ وَلَا يُسَلِّمَ، وَأَنْ يُشِيرَ وَلَا يُشِيرَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْإِشَارَةِ مُجَرَّدُ التَّوَاضُعِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ السَّلَامِ، وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ، وَأَنَّ نَهْيَ التَّشَبُّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4650 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ، أَوْ جِدَارٌ، أَوْ حَجَرٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4650 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ) أَيِ: الْمُسْلِمَ ( «فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ، أَوْ جِدَارٌ، أَوْ حَجَرٌ» ) ، أَيْ كَبِيرٌ (ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ) أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى تَجْدِيدًا لِلْعَهْدِ وَتَأْكِيدًا لِلْوُدِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ حَثٌّ عَلَى إِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَأَنْ يُكَرَّرَ عِنْدَ كُلِّ تَغَيُّرِ حَالٍ وَلِكُلِّ جَاءٍ وَغَادٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِّينَا فِي مُوَطَّأِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا تَصْنَعُ بِالسُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ، وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ، وَلَا تَسُومُ بِهَا

وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ فَقَالَ لِي: إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ وَنُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِينَا. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ سَيَأْتِي بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَيُنَاسِبُهُ مَا كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنَ السَّادَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ يَخْتَارُ الْقُعُودَ فِي السُّوقِ قَائِلًا: إِنَّ هَذَا خَلْوَةُ الرِّجَالِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ» عَلَى مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَى عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ» " وَلَعَلَّ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْظُرُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إِلَى عِبَادِهِ نَظَرَ رَحْمَةٍ وَعِنَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ غَفَلَ فَاتَهُ، وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ وَحَضَرَ أَدْرَكَهُ، بَلْ وَأَخَذَ مِنْ نَصِيبِ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ هَذَا هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْدُبَةِ الْجَامِعَةِ لِأَنْوَاعِ الْمُشْتَهَيَاتِ، فَكُلُّ مَنْ يَكُونُ حَاضِرًا مُشْتَاقًا يَأْخُذُ مِنْهَا حَظَّهُ وَنَصِيبَهُ، وَالْغَائِبُ أَوِ الْحَاضِرُ الْغَافِلُ أَوِ الْمَرِيضُ الْمَعْدُومُ الِاشْتِهَاءِ يَقْعُدُ مَحْرُومًا، هَذَا وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَقَامَاتٌ وَمَوَاضِعُ، مِنْهَا: إِذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْبَوْلِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِهِمَا، فَيُكْرَهُ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ نَائِمًا أَوْ نَاعِسًا أَوْ مُصَلِّيًا أَوْ مُؤَذِّنًا فِي حَالِ أَذَانِهِ أَوْ كَانَ فِي حَمَّامٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ آكِلًا وَاللُّقْمَةُ فِي فَمِهِ، فَإِنَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي حَالِ الْمُبَايَعَةِ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ فَيُسَلِّمُ وَيَجِبُ الْجَوَابُ، وَأَمَّا السَّلَامُ فِي حَالِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ الِابْتِدَاءُ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْإِنْصَاتِ، فَإِنْ خَالَفَ وَسَلَّمَ فَهَلْ يَرُدُّ عَلَيْهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَرُدَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ لَا يَرُدَّ، وَإِنْ قُلْنَا سُنَّةً رَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ فَحَسْبُ. قُلْتُ: الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ، فَلَا يَجُوزُ السَّلَامُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ بِلَا كَلَامٍ. قَالَ: وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى الْقَارِئِ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَوْلَى تَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ كَفَاهُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ رَدَّ بِاللَّفْظِ اسْتَأْنَفَ الِاسْتِعَاذَةَ. قَالَ أَيِ الْوَاحِدِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ بِاللَّفْظِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ.

4651 - وَعَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهِ، وَإِذَا خَرَجْتُمْ فَأَوْدِعُوا أَهْلَهُ بِسَلَامٍ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4651 - (وَعَنْ قَتَادَةَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِنَّمَا قَيَّدْتُهُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ مَكَّةَ يَكْسِرُونَهَا، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهِ) ، قَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] ، (وَإِذَا خَرَجْتُمْ فَأَوْدِعُوا أَهْلَهُ بِسَلَامٍ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيدَاعَ هُنَا بِمَعْنَى التَّوْدِيعِ مِنَ الْوَدَاعِ، أَيْ: فَاتْرُكُوهُمْ مَصْحُوبِينَ بِسَلَامٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: وَجَوَابُ هَذَا السَّلَامِ مُسْتَحَبٌّ ; لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَوَدَاعٌ اهـ. وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَلَامِ تَحِيَّةٍ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ الْوُجُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنَ الْإِيدَاعِ أَيِ: اجْعَلُوا السَّلَامَ وَدِيعَةً عِنْدَهُمْ كَيْ تَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ وَتَسْتَرِدُّوا وَدِيعَتَكُمْ، فَإِنَّ الْوَدَائِعَ تُسْتَعَادُ تَفَاؤُلًا لِلسَّلَامَةِ وَالْمُعَاوَدَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلًا) . وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ فِي الْحِصْنِ: مَنِ انْتَهَى إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ، فَلْيُسَلِّمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا.

4652 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَا بُنَيِّ! إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4652 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) أَيْ: لَهُ (يَا بُنَيِّ) : بِالتَّصْغِيرِ مَكْسُورَةُ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُفْتَحُ (إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْعِلَّةِ أَيْ: فَإِنَّهُ يَكُونُ، أَيِ: السَّلَامُ (بَرَكَةً) أَيْ: سَبَبَ زِيَادَةِ بَرَكَةٍ وَكَثْرَةِ خَيْرٍ، وَرَحْمَةً (عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَزِيدَ فِي نُسْخَةٍ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

4653 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4653 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ» ) . لِأَنَّهُ تَحِيَّةٌ يُبْدَأُ بِهِ فَيَفُوتُ بِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهَا قَبْلَ الْجُلُوسِ، وَقَدْ رَوَى الْقُضَاعِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «السَّلَامُ تَحِيَّةٌ لِمِلَّتِنَا وَأَمَانٌ لِذِمَّتِنَا» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ) أَيْ: إِسْنَادًا، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ جِهَةِ صِحَّةِ الْمَعْنَى كَمَا قَرَّرْنَاهُ، ثُمَّ الْمُنْكَرُ مِنَ الْحَدِيثِ مَا يَكُونُ رَاوٍ مِنْ رُوَاةِ سَنَدِهِ بَعِيدًا عَنِ الضَّبْطِ جِدًّا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عَنْبَسَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ يَرْوِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَاذَانَ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُهُ الْآخَرُ: إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ كِتَابًا فَلْيُتَرِّبْهُ، وَالْمِحْنَةُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو النَّصِيبِي، فَإِنَّهُ الرَّاوِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتْلُوهُ: «ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ» ، وَمَدَارُهُ أَيْضًا عَلَى عَنْبَسَةَ بْنِ عِمْرَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ زَاذَانَ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى أُذُنَيْكَ. قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ، وَقَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، وَلَفْظُهُ: «السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ» ، وَلَا تَدْعُو أَحَدًا إِلَى الطَّعَامِ حَتَّى يُسَلِّمَ، وَرَوَى ابْنُ النَّجَّارِيِّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِلَفْظِ: السَّلَامُ قَبْلَ السُّؤَالِ، فَمَنْ بَدَأَكُمْ بِالسُّؤَالِ قَبْلَ السَّلَامِ فَلَا تُجِيبُوهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «مَنْ بَدَأَ بِالْكَلَامِ قَبْلَ السَّلَامِ فَلَا تُجِيبُوهُ» ".

4654 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَقُولُ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا، وَأَنْعَمَ صَبَاحًا. فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4654 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَقُولُ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا) ، الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ بِمَنْ تُحِبُّهُ. وَعَيْنًا: تَمْيِيزٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوْ بِمَا تُحِبُّهُ مِنَ النَّعْمَةِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ أَنْعَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي النَّعِيمِ فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِسَبَبِكَ عَيْنًا أَيْ: عَيْنَ مَنْ يُحِبُّكَ، وَأَنْعِمَ بِقَطْعِ هَمْزٍ وَكَسْرِ عَيْنٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزِ وَصْلٍ وَفَتْحِ عَيْنٍ مِنَ النُّعُومَةِ وَقَوْلُهُ: (صَبَاحًا) : تَمْيِيزٌ أَوْ ظَرْفٌ أَيْ: طَابَ عَيْشُكَ فِي الصَّبَاحِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّبَاحَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْمُتَعَارَفِ فِي زَمَانِنَا عَلَى لِسَانِ الْعَامَّةِ صَبَّحَكُمْ بِالْخَيْرِ وَمَسَّاكُمْ بِالْكَرَامَةِ، وَأَسْعَدَ اللَّهُ مَقِيلَكُمْ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. الْجَوْهَرِيُّ: النُّعْمُ بِالضَّمِّ خِلَافُ الْبُؤْسِ، وَنَعُمَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ نُعُومَةً، أَيْ: صَارَ نَاعِمًا لَيِّنًا، وَيُقَالُ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَأَنْعَمَ صَبَاحُكَ مِنَ النُّعُومَةِ، وَأَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا أَيْ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ بِمَنْ تُحِبُّهُ، وَكَذَلِكَ نَعِمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فِي حَدِيثِ مُطَرِّفٍ «لَا تَقُلْ نَعِمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْعِمُ بِأَحَدٍ عَيْنًا، بَلْ قُلْ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ مُطَرِّفٌ صَحِيحٌ فَصِيحٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَعَيْنًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنَ الْكَافِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى نَعِمَكَ اللَّهُ عَيْنًا أَيْ: نَعِمَ عَيْنَكَ وَأَقَرَّهَا، وَقَدْ يَحْذِفُونَ الْجَارَّ وَيُوصِلُونَ الْفِعْلَ

فَيَقُولُونَ: نَعِمَكَ اللَّهُ عَيْنًا، وَأَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا فَالْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ ; لِأَنَّ الْهَمْزَةَ كَافِيَةٌ فِي التَّعْدِيَةِ. تَقُولُ: نَعِمَ زَيْدٌ عَيْنًا وَأَنْعَمَهُ اللَّهُ عَيْنًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنْعَمَ إِذَا دَخَلَ فِي النَّعِيمِ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ، قَالَ: وَلَعَلَّ مُطَرِّفًا خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّ انْتِصَابَ التَّمْيِيزِ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَنِ الْفَاعِلِ فَاسْتَعْظَمَهُ، تَعَالَى اللَّهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَوَاسِّ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَمَا يَقُولُونَ: نَعِمْتَ بِهَذَا الْأَمْرِ عَيْنًا، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ فَحَسْبَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي نَعِمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا، كَذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، وَعَيْنًا مَفْعُولَ أَنْعَمَ، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّفْخِيمِ، أَيْ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِسَبَبِكَ عَيْنًا، وَأَيُّ عَيْنٍ عَيْنُ مَنْ يُحِبُّكَ؟ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ خَفْضِ عِيشَةٍ وَرَفَاهِيَةٍ لَا يَحُومُ حَوْلَهَا خُشُونَةٌ، وَقَوْلُهُ: (وَأَنْعَمَ صَبَاحًا) . مَعْنَاهُ طَابَ عَيْشُكَ فِي الصَّبَاحِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّبَاحَ بِهِ ; لِأَنَّ الْغَارَاتِ وَالْمَكَارِهَ تَقَعُ صَبَاحًا. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: قِيلَ مَعْنَاهُ: طَابَ عَيْشُكَ فِي الصَّبَاحِ، وَالصَّوَابُ أَطَابَ اللَّهُ عَيْشَكَ فِي الصَّبَاحِ، أَوْ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنَ الْفَاعِلِ. (فَلَمَّا كَانَ) أَيْ: وُجِدَ (الْإِسْلَامُ) : وَوَقَعَ أَحْكَامُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ (نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ) أَيْ: عَمَّا ذُكِرَ مِنَ الْأَقْوَالِ ابْتِدَاءً بِوَضْعِهَا مَوْضِعَ السَّلَامِ، فَلَا مَحْذُورَ أَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ، ثُمَّ ثَنَّاهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4655 - وَعَنْ غَالِبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: «إِنَّا لَجُلُوسٌ بِبَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: بَعَثَنِي أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " ائْتِهِ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ ". قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَبِي يُقْرِئُكَ السَّلَامَ. فَقَالَ: " عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4655 - (وَعَنْ غَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، أَيِ: ابْنِ أَبِي غَيْلَانَ، وَهُوَ ابْنُ خَطَّابٍ الْقَطَّانُ الْبَصْرِيُّ، رَوَى عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْهُ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ. (قَالَ: إِنَّا لَجُلُوسٌ) أَيْ: نَحْنُ جَالِسُونَ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ (بِبَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ) ، أَيْ: مُنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ أَوْ مُصْطَحَبُونَ مَعَهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ) أَيِ: الْجَدُّ (بَعَثَنِي أَيْ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: ائْتِهِ) : أَمْرٌ مَنْ أَتَى يَأْتِي (فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ فَاقْرَأْهُ السَّلَامَ (قَالَ) أَيِ: الْجَدُّ (فَأَتَيْتُهُ) ، أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقُلْتُ: أَبِي يُقْرِئُكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: يَقْرَؤُكَ (السَّلَامَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَفِي الْحِصْنِ «وَإِذَا بُلِّغَ سَلَامًا فَلْيَقُلْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَرْفُوعًا، أَوْ وَعَلَيْكَ، وَعَلَيْهِ السَّلَامُ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

4656 - وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ الْعَلَاءَ الْحَضْرَمِيَّ كَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ، بَدَأَ بِنَفْسِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4656 - (وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : قِيلَ اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْعَلَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ مُطَابِقَةٍ لِمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: وَعَنِ ابْنِ الْعَلَاءِ (الْحَضْرَمِيِّ) ، نِسْبَةً إِلَى حَضْرَمَوْتَ (أَنَّ الْعَلَاءَ الْحَضْرَمِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ (كَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ حَضْرَمَوْتَ كَانَ عَامِلًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَقَرَّهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ الْعَلَاءُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، رَوَى عَنْهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ وَغَيْرُهُ. (وَكَانَ) أَيِ: الْعَلَاءُ (إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ) ، أَيْ: إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَدَأَ بِنَفْسِهِ) . أَيْ، ثُمَّ يَكْتُبُ السَّلَامَ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابَتُهُ إِلَى مُعَاذٍ يُعَزِّيهِ فِي ابْنٍ لَهُ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَمَّا بَعْدُ» ، الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، وَلَعَلَّ هَذَا الصَّنِيعَ الْعَظِيمَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَكَانَ مِنْ سُلَيْمَانَ فِي الْعُنْوَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: كَانَ يُكْتَبُ هَكَذَا: مِنَ الْعَلَاءِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا أَمْرُ

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُبُوا مِنْ لِسَانِهِ، هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا فِي بَابِ السَّلَامِ أَنَّ هَذَا كَانَ مُقَدِّمَةً لِلسَّلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي كِتَابِهِ إِلَى هِرَقْلَ: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا: " «إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى أَحَدٍ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ» ".

4657 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ كِتَابًا فَلْيُتَرِّبْهُ، فَإِنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4657 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ كِتَابًا) : أَيْ مَكْتُوبًا لِلْإِرْسَالِ (إِلَى أَحَدٍ فَلْيُتَرِّبْهُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ (فَإِنَّهُ أَنْجَحُ) : بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ أَيْ: أَيْسَرُ وَأَقْضَى (لِلْحَاجَةِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يُسْقِطْهُ عَلَى التُّرَابِ حَتَّى يَصِيرَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصِدِ. قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: إِنَّمَا أَمْرُهُ بِالْإِسْقَاطِ عَلَى التُّرَابِ اعْتِمَادًا عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فِي إِيصَالِهِ إِلَى الْمَقْصِدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ ذَرُّ التُّرَابِ عَلَى الْمَكْتُوبِ. قُلْتُ وَيُسَاعِدُهُ مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ رُقْعَةً، وَهُوَ فِي بَيْتٍ بِالْكِرَاءِ، فَأَرَادَ أَنْ يُتَرِّبَ الْكِتَابَ مِنْ جُدْرَانِ الْبَيْتِ، وَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الْبَيْتَ بِالْكِرَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّهُ لَا خَطَرَ لِهَذَا، فَتَرَّبَ الْكِتَابَ فَسَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ: سَيَعْلَمُ الْمُسْتَخِفُّ بِالتُّرَابِ مَا يَلْقَى غَدًا مِنْ طُولِ الْحِسَابِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: قِيلَ مَعْنَاهُ فَلْيُخَاطِبِ الْكَاتِبُ خِطَابًا عَلَى غَايَةِ التَّوَاضُعِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّتْرِيبِ: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَاضُعِ فِي الْخِطَابِ. قُلْتُ: هَذَا مُوَافِقٌ لِمُتَعَارَفِ الزَّمَانِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّنْيَا وَأَصْحَابِ الْجَاهِ، لَكِنَّهُ مَعَ بُعْدِ مَأْخَذِ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْمَبْنَى مُخَالِفٌ لِمُكَاتَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُلُوكِ، وَكَذَا إِلَى الْأَصْحَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ) . وَقَدْ بَيَّنَ التُّورِبِشْتِيُّ وَجْهَهُ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ رِجَالِهِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " «إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى إِنْسَانٍ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَتَبَ فَلْيُتَرِّبْ كِتَابَهُ فَهُوَ أَنْجَحُ» ".

4658 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَاتِبٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ ; فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِلْمَآلِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. . وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4658 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ، وَأَكَابِرِ قُرَّائِهِمْ، وَأَفْضَلِهِمْ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ، وَأَعْظَمِهِمْ فِي كِتَابَةِ الْوَحْيِ وَقَدْ سَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ. (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَاتِبٌ، فَسَمِعْتُهُ) أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَقُولُ) أَيْ: لَهُ ( «ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ» ) ، بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: فَوْقَ أُذُنِكَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا. وَفِي نُسْخَةٍ مُطَابِقَةٍ لِمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَلَى أُذُنَيْكَ أَيْ: إِحْدَاهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ التُّورِبِشْتِيِّ أَنَّ مَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أُذُنَيْكَ بِالتَّثْنِيَةِ خَطَأٌ وَتَبِعَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ: وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أُذُنَيْكَ، وَبِالْإِفْرَادِ هُوَ الصَّحِيحُ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ رِوَايَةً فَمُسَلَّمٌ، وَأَمَّا دِرَايَةً فَلَهُ وَجْهٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. (فَإِنَّهُ) أَيْ: وَضْعُ الْقَلَمِ عَلَى الْأُذُنِ (أَذْكَرُ) أَيْ: أَكْثَرُ ذِكْرًا (لِلْمَآلِ) أَيْ: لِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَسْرَعُ تَذْكِيرًا فِيمَا يُرَادُ مِنْ إِنْشَاءِ الْعِبَارَةِ فِي الْمَقْصُودِ. قِيلَ: السِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ الْمُتَرْجِمَيْنِ عَمَّا فِي الْقَلْبِ مِنَ الْكَلَامِ وَفُنُونِ الْعِبَارَاتِ، فَتَارَةً يُتَرْجِمُ عَنْهُ اللِّسَانُ اللَّحْمِيُّ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْقَوْلِ، وَتَارَةً يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْقَلَمِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكِتَابَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللِّسَانَيْنِ يُسْمِعُ مَا يُرِيدُ مِنَ الْقَوْلِ. وَفُنُونُ الْكَلَامِ مِنَ الْقَلْبِ، وَمَحَلُّ الِاسْتِمَاعِ الْأُذُنُ، فَاللِّسَانُ مَوْضُوعٌ دَائِمًا عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِمَاعِ، وَدَرَجِ الْقَلْبِ، فَلَمْ يَزَلْ يُسْمِعُ مِنْهُ الْكَلَامَ وَالْقَلَمُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الِاسْتِمَاعِ، فَيُحْتَاجُ فِي الِاسْتِمَاعِ إِلَى قُرْبٍ مِنْ مَحَلِّ الِاسْتِمَاعِ، وَالدُّنُوِّ إِلَى طَرِيقِهِ لِيَسْمَعَ مِنَ الْقَلْبِ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الْعِبَارَاتِ وَفُنُونِ الْكَلَامِ، فَيَكْتُبَ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقُرْبَ الصُّورِيَّ لَهُ مَحَلُّ تَأْثِيرٍ مِنَ الْمَقْصُودِ الْمَعْنَوِيِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) ، أَيْ

مَتْنًا أَوْ إِسْنَادًا. (وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ) . أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ رِجَالِهِ، فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ سَبَقَ وَجْهُ ضَعْفِهِ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ التُّورِبِشْتِيِّ، لَكِنْ يُعَضِّدُهُ أَنَّ ابْنَ عَسَاكِرَ رَوَى عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: " «إِذَا كَتَبْتَ فَضَعْ قَلَمَكَ عَلَى أُذُنِكَ، فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لَكَ» ". وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ، فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِلْمُمْلِي» ". أَقُولُ: وَلَعَلَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَنَّ لَفْظَ لِلْمَآلِ مُصَحَّفٌ عَنْ هَذَا الْمَقَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَذْكَرُ لَكَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّ وَضْعَ الْقَلَمِ عَلَى الْأُذُنِ أَقْرَبُ تَذَكُّرًا لِمَوْضِعِهِ وَأَيْسَرُ مَحَلًّا لِتَنَاوُلِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا وَضَعَهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ حُصُولُهُ بِسُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَوَّلَ لَفْظُ الْمَآلِ إِلَى أَنْ يُؤَوَّلَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِأَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِمَآلِكَ أَوْ لِمَآلِ الْمُمْلِيِّ عِنْدَ طَلَبِ الْقَلَمِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْجَالِ فَيَنْدَفِعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَايَةِ التَّكَلُّفِ وَنِهَايَةِ التَّعَسُّفِ مِمَّا سَبَقَ فِي الْمَقَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

4659 - وَعَنْهُ، قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ، وَقَالَ: " إِنِّي مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ ". قَالَ: فَمَا مَرَّ بِيَ نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُ، فَكَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4659 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ» ) ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهِيَ لِسَانُ الْيَهُودِ (وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ» ) ، أَيْ: كِتَابَتَهُمْ، وَمَآلُ الرِّوَايَتَيْنِ وَاحِدٌ. (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْلِيلِ الْأَمْرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ الْمُبَيِّنِ (إِنِّي مَا آمَنُ) : بِمَدِّ هَمْزٍ وَفَتْحِ مِيمٍ مُضَارِعُ مُتَكَلِّمُ أَمِنَ الثُّلَاثِيِّ ضِدِّ خَافَ، أَيْ: مَا أَسْتَأْمِنُ (يَهُودَ) أَيْ: فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ (عَلَى كِتَابٍ) أَيْ: لَا فِي قِرَاءَتِهِ وَلَا فِي كِتَابَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاسْتَعْمَلَ بِعَلَى؛ فَإِنَّ نَفْيَ الْأَمْنِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَوْفِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَخَافُ عَلَى كِتَابٍ كَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ: " {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] "، اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي هَذَا الْمَبْنَى حَيْثُ دَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى الصِّيغَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِعَلَى مِنْ غَيْرِ النَّفْيِ أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64] . وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ: " «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ» "، قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: أَخَافُ إِنْ أَمَرْتُ يَهُودِيًّا بِأَنْ يَكْتُبَ مِنِّي كِتَابًا إِلَى الْيَهُودِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصَ، وَأَخَافُ إِنْ جَاءَ كِتَابٌ مِنَ الْيَهُودِ فَيَقْرَؤُهُ يَهُودِيٌّ، فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ فِيهِ. (قَالَ) أَيْ: زَيْدٌ (فَمَا مَرَّ بِيَ) أَيْ: مَضَى عَلَيَّ مِنَ الزَّمَانِ (نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُ) : فِي مَعْنَاهُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: مَا مَرَّ بِيَ نِصْفٌ مِنَ الشَّهْرِ فِي التَّعَلُّمِ، حَتَّى كَمُلَ تَعَلُّمِي، قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي شَرْعِنَا لِلتَّوَقِّي وَالْحَذَرِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الشَّرِّ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فِي ذَيْلِ كَلَامِ الْمُظْهِرِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، إِذْ لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ تَحْرِيمُ تَعَلُّمِ لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ سُرْيَانِيَّةٍ، أَوْ عِبْرَانِيَّةٍ، أَوْ هِنْدِيَّةٍ، أَوْ تُرْكِيَّةٍ، أَوْ فَارِسِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم: 22] ، أَيْ: لُغَاتِكُمْ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُبَاحَاتِ، نَعَمْ يُعَدُّ مِنَ اللَّغْوِ، وَمِمَّا لَا يَعْنِي، وَهُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، إِلَّا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ. (فَكَانَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ) أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِمْ أَوْ إِذَا أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِمْ (كَتَبْتُ) ، أَيْ بِلِسَانِهِمْ (وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْهِ أَيْ: عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كِتَابَهُمْ) . أَيْ: مَكْتُوبَهُمْ إِلَيْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4660 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ، فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ، فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4660 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا انْتَهَى) أَيْ: إِذَا جَاءَ وَوَصَلَ (أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ، فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا) : بِالْأَلِفِ أَيْ: ظَهَرَ (لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ) ، أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ (ثُمَّ إِذَا قَامَ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَجْلِسَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ وَلَوْ لَمْ يَجْلِسْ (فَلْيُسَلِّمْ) ، أَيْ: نَدْبٌ (فَلَيْسَتِ الْأُولَى) أَيِ: التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى (بِأَحَقَّ) أَيْ: بِأَوْلَى وَأَلْيَقَ (مِنَ الْآخِرَةِ) : بَلْ كِلْتَاهُمَا حَقٌّ وَسُنَّةٌ مُشْعِرَةٌ إِلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ، وَلُطْفِ الْفُتُوَّةِ وَلَطَافَةِ الْمُرُوءَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ رُبَّمَا يَتَشَوَّشُ أَهْلُ الْمَجْلِسِ مِنْ مُرَاجَعَتِهِ عَلَى طَرِيقِ السُّكُوتِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ، بَلِ الْآخِرَةُ أَوْلَى مِنَ الْأُولَى ; لِأَنَّ تَرْكَهَا رُبَّمَا يُتَسَامَحُ فِيهِ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْمُتَعَارَفِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ مَا لَا يُذَاعُ وَلَا يُشَاعُ، وَلِذَا قِيلَ: كَمَا أَنَّ التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى إِخْبَارٌ عَنْ سَلَامَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ عِنْدَ الْحُضُورِ، فَكَذَلِكَ الثَّانِيَةَ إِخْبَارٌ عَنْ سَلَامَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَلَيْسَتِ السَّلَامَةُ عِنْدَ الْحُضُورِ أَوْلَى مِنَ السَّلَامَةِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ، بَلِ الثَّانِيَةُ أَوْلَى، هَذَا وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ جَوَابِ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ أَصْلًا لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا التَّصْرِيحَ بِعَدَمِ وُجُوبِ جَوَابِ السَّلَامِ الثَّانِي وَوَجَّهْنَا تَوْجِيهَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَمَاعَةِ رَدُّ السَّلَامِ عَلَى الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَى الْجَمَاعَةِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي: جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ وَذَلِكَ دُعَاءٌ يُسْتَحَبُّ جَوَابُهُ وَلَا يَجِبُ ; لِأَنَّ التَّحِيَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اللِّقَاءِ لَا عِنْدَ الِانْصِرَافِ، وَأَنْكَرَهُ الشَّاشِيُّ، وَقَالَ: إِنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ عِنْدَ الِانْصِرَافِ، كَمَا هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَكَمَا يَجِبُ الرَّدُّ عِنْدَ اللِّقَاءِ كَذَلِكَ عِنْدَ الِانْصِرَافِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَاهُ مُبَيَّنٌ بِالْفَرْقِ الدَّقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

4661 - وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا خَيْرَ فِي جُلُوسٍ فِي الطُّرَقَاتِ، إِلَّا لِمَنْ هَدَى السَّبِيلَ، وَرَدَّ التَّحِيَّةَ، وَغَضَّ الْبَصَرَ، وَأَعَانَ عَلَى الْحُمُولَةِ» " رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جُرَيٍّ فِي " بَابِ فَضْلِ الصَّدَقَةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4661 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا خَيْرَ) أَيْ: لِأَحَدٍ (فِي جُلُوسٍ) أَيْ: قُعُودٍ وَكَذَا فِي وُقُوفٍ (فِي الطُّرُقَاتِ) ، وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْوَاعُ الطُّرُقِ جَمِيعُهَا (إِلَّا لِمَنْ هَدَى السَّبِيلَ) ، أَيْ: أَرْشَدَ الطَّرِيقَ لِلضَّالِّ وَالْأَعْمَى وَغَيْرِهِمَا (وَرَدَّ التَّحِيَّةَ) ، أَيِ: السَّلَامَ (وَغَضَّ الْبَصَرَ) ، أَيْ: عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ عَنِ الْعَوْرَاتِ (وَأَعَانَ عَلَى الْحُمُولَةِ) . بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِ، وَقَدْ قَالَ الشُّرَّاحُ: هِيَ بِالْفَتْحِ مَا يَحْمِلُ الْأَثْقَالَ مِنَ الدَّوَابِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] ، وَبِضَمِّهَا مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا جَمْعُ حِمْلٍ بِالْكَسْرِ أَيْ: أَعَانَ مَنْ يَرْفَعُ حِمْلَهُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ رَأْسِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْضَ الْأَحْمَالِ أَوْ كُلَّهَا شَفَقَةً لَهُ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ. وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَلْهُوفٍ عَلَى مَا سَبَقَ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جُرَيٍّ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (فِي بَابِ فَضْلِ الصَّدَقَةِ) : هُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ الصَّدَقَةِ أَصْلًا، وَصَدْرُ الْحَدِيثِ مِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا الْبَابَ جِدًّا، فَإِنَّ أَبَا جُرَيٍّ قَالَ: «قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ. قَالَ: لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ، عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ» ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ حَقَّقْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ فَارْجِعْ إِلَيْهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4662 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمَ! اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ، فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ لَهُ اللَّهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ: اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ. فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهَا، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ مَكْتُوبٌ عُمْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ - أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ - قَالَ: يَا رَبِّ! مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ وَقَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمْرَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ: يَا رَبِّ زِدْ فِي عُمْرِهِ. قَالَ: ذَلِكَ الَّذِي كَتَبْتُ لَهُ. قَالَ: أَيْ رَبِّ! فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. [قَالَ: ثُمَّ سَكَنَ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أُهْبِطَ مِنْهَا] ، وَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ، فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجَّلْتَ، قَدْ كَتَبَ لِي أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ " قَالَ: " فَمِنْ يَوْمَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4662 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ» ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَيُكْسَرُ (فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ (فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ) ، أَيْ: بِتَيْسِيرِهِ وَتَوْفِيقِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ أَوْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَخْصِيصُ الْحَمْدِ بِالذِّكْرِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ وَنِعْمَتِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ ; لِأَنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ مِنَ الْفَضْلِ وَالْإِفْضَالِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَبْدَعُهُ إِبْدَاعًا جَمِيلًا وَأَنْشَأَهُ خَلْقًا سَوِيًّا صَحِيحًا فَعَطَسَ، فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِصِحَّةِ الْمِزَاجِ، فَوَجَبَ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ وُقُوفَهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِفْضَالِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ. قُلْتُ: وَمِنْ جُمْلَةِ التَّوْفِيقِ وَالتَّيْسِيرِ حُكْمُهُ وَأَمْرُهُ وَالْكُلُّ بِقَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ. قَالَ: وَفِي فَاءِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ. قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ هُنَالِكَ. (فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ!) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُتَمِّمَةً وَمُقَدِّمَةً، لَكِنَّ الثَّانِي أَظْهَرُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ الْمُسْتَطَابَ بَعْدَ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] وَالْمَعْنَى: يَا آدَمُ. (اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوِ الْمُوَكَّلِينَ عَلَى الْحَسَنَاتِ مِنْ أَرْبَابِ الْيَمِينِ، وَقَوْلُهُ: (إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ إِلَى الْحَالِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْبَدَلِ، يَعْنِي: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أُولَئِكَ مُشِيرًا بِهِ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ (جُلُوسٍ) : بِالْجَرِّ صِفَةُ مَلَأٍ، أَيْ: جَالِسِينَ أَوْ ذَوِي جُلُوسٍ (فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا وَفَّقَهُ تَعَالَى لِقِيَامِ الشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ السَّابِغَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ عَلَّمَهُ كَيْفِيَّةَ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْخَلْقِ حَتَّى يَفُوزَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ بَعْدَ تَعْظِيمِ الْحَقِّ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ السَّلَامِ بِالذِّكْرِ، فَإِنَّهُ فَتْحُ بَابِ الْمَوَدَّاتِ، وَتَأْلِيفُ قُلُوبِ الْإِخْوَانِ الْمُؤَدِّي إِلَى اسْتِكْمَالِ الْإِيمَانِ. (فَقَالَ) أَيْ: فَذَهَبَ آدَمُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) . وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَحْذُوفَةٌ لِلْعِلْمِ بِهَا (فَقَالُوا: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ) ، أَيْ: إِلَى مَكَانِ كَلَّمَهُ رَبُّهُ فِيهِ تَبَرُّكًا بِهِ وَتَيَمُّنًا بِمَقَامِهِ، وَلِمَا فِي الْعَادَةِ أَنْ يَرْجِعَ الْمَأْمُورُ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ الْآمِرُ وَيَنْتَظِرَ بَيَانَ حِكْمَةِ الْآمِرِ (فَقَالَ) : أَيِ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ (هَذِهِ) أَيِ: الْكَلِمَاتُ الْمَذْكُورَةُ (تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ أَيْ

ذُرِّيَّتِكَ (بَيْنَهُمْ) ، أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِمْ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ وَمِنَّةٌ جَسِيمَةٌ (فَقَالَ لَهُ اللَّهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ وَالضَّمِيرٌ لِلَّهِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ يَعْجِزُ عَنْهُ مَا سِوَاهُ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ مِنْ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَإِثْبَاتِ التَّنْزِيهِ مَعَ التَّفْوِيضِ أَسْلَمُ، وَسَيَأْتِي كَلَامُ بَعْضِ أَهْلِ الْخَلَفِ مَعَ خُلْفٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ أَعْلَمُ، وَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ تَجَلِّيَاتٍ صُورِيَّةً مَعَ تَنَزُّهِ ذَاتِهِ عَنْ أُمُورٍ عَارِضِيَّةٍ، فَيَزُولُ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصِّفَاتِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآيَاتِ، وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّأْوِيلِ: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَدَيْنِ صِفَتَيِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَأَنَّ الْجَمَالَ هُوَ الْيَمِينُ الْمُطْلَقُ، وَإِنْ كَانَ الْيَمِينُ فِي الْجَلَالِ أَيْضًا قَدْ تَحَقَّقَ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لِآدَمَ: (اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا) ، أَيْ مِنَ الْيَدَيْنِ (شِئْتَ) أَيْ: أَرَدْتَ (فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ) : مِنْ كَلَامِ آدَمَ أَوْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَوْلُهُ: (مُبَارَكَةٌ) ، صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (ثُمَّ بَسَطَهَا) ، أَيْ: فَتَحَ الرَّبُّ تَعَالَى يَمِينَهُ (فَإِذَا فِيهَا) أَيْ: مَوْجُودٌ (آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ) أَيْ: مِثَالُهُ وَأَمْثِلَةُ أَوْلَادِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَعْنِي رَأَى آدَمُ مِثَالَهُ وَمِثَالَ بَنِيهِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ (فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! مَا هَؤُلَاءِ؟) ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ قَبْلَ الْمِيثَاقِ (قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ) ، الظَّاهِرُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الْيَمِينِ اخْتِصَاصُهُمْ بِالصَّالِحِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: (فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ) أَيْ: مِنْهُمْ ( «مَكْتُوبٌ عُمْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ» ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِكُلِّهِمْ ضِيَاءٌ، لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ فِيهِمْ بِحَسْبِ نُورِ إِيمَانِهِمْ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ كَالتَّتْمِيمِ صَوْنًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ إِنْبَاتِ الْجَارِحَةِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ. قُلْتُ: هَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ إِنَّهُ تَذْيِيلٌ وَتَكْمِيلٌ احْتِرَاسًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِ آدَمَ اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ يَسَارًا وَشَمَالًا، فَتَكُونُ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنَ الْأُخْرَى أَوْ أَبْرَكَ وَأَيْمَنَ وَأَحْرَى، ثُمَّ قَالَ: وَلِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فُورَكٍ كَلَامٌ مَتِينٌ فِيهِ قَالَ: وَالْيَدَانِ إِنْ حُمِلَتَا عَلَى مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْمِلْكِ صَحَّ، وَإِنْ حُمِلَتَا عَلَى مَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْأَثَرِ الْحَسَنِ صَحَّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ بِتَقْدِيرِهِ وَعَنْ ظُهُورِ نِعْمَتِهِ عَلَى بَعْضِهِمْ. قُلْتُ: لَا ارْتِيَابَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا إِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْمَبْنَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ فِي الْكَلَامِ لِيَظْهَرَ الْمَقْصُودُ وَيَتَّضِحَ الْمَرَامُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِيَدِ الصِّفَةِ لَا بِيَدِ الْجَارِحَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ يَدُ الْجَارِحَةِ يَمِينًا وَيَسَارًا ; لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ لِمُتَبَعَّضٍ وَمُتَجَزَّئٍ ذِي أَعْضَاءٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا وُصِفَ الرَّبُّ بِهِ يَدَ جَارِحَةٍ بَيَّنَ بِمَا قَالَ أَنْ لَيْسَتْ هِيَ يَدَ جَارِحَةٍ، قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا وُصِفَ بِالْيَدَيْنِ، وَيَدَا الْجَارِحَةِ تَكُونُ إِحْدَاهُمَا يَمِينًا وَالْأُخْرَى يَسَارًا، وَالْيُسْرَى نَاقِصَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ. عَرَّفَنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَالَ صِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ لَا نَقْصَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قِيلَ لَهُ اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ أَرَادَ بِهِ لِسَانَ الشُّكْرِ وَالنِّعْمَةِ، لَا لِسَانَ الْحُكْمِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْمُلْكِ فَذَكَرَ الْفَضْلَ وَالنِّعْمَةَ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُبْدِيهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مِنَنِهِ فَضْلٌ وَطَوْلٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ؛ فَمِنْ مَنْفُوعٍ يَنْفَعُهُ، وَمِنْ مَدْفُوعٍ عَنْهُ يَحْرُسُهُ، فَقَصَدَ قَصْدَ الشُّكْرِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْمِنَّةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَايَةِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِمَنْ هُوَ كَذَلِكَ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَإِذَا نَقَصَ حَظُّ الرَّجُلِ وَبُخِسَ نَصِيبُهُ قِيلَ جُعِلَ سَهْمُهُ فِي الشِّمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اجْتِلَابُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ قِيلَ: لَيْسَ فُلَانٌ بِالْيَمِينِ وَلَا بِالشِّمَالِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ نَحْوَهُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ مَلَكٍ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِجَمْعِ أَجْزَاءِ الطِّينِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ أَمَرَهُ بِخَلْطِهَا بِيَدَيْهِ، فَخَرَجَ كُلُّ طَيِّبٍ بِيَمِينِهِ، وَكُلُّ خَبِيثٍ بِشِمَالِهِ، فَتَكُونُ الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ لِلْمَلَكِ، فَأَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ، وَجَعَلَ كَوْنَ بَعْضِهِمْ فِي يَمِينِ الْمَلَكِ عَلَامَةً لِأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهُمْ، وَكَوْنَ بَعْضِهِمْ فِي شِمَالِهِ عَلَامَةً لِأَهْلِ الشَّرِّ مِنْهُمْ، فَلِذَلِكَ يُنَادَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَقُولُ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ - وَتَقْرِيرُهُ عَلَى طَرِيقَةِ أَصْحَابِ الْبَيَانِ، هُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْيَدِ عَلَى الْقُدْرَةِ تَارَةً، وَعَلَى النِّعْمَةِ أُخْرَى مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ ; لِأَنَّ الْقُدْرَةَ وَالنِّعْمَةَ صَادِرَتَانِ عَنْهَا، وَهِيَ مَنْشَؤُهُمَا، وَكَذَا الْقُدْرَةُ مَنْشَأُ الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ إِمَّا خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ وَهِدَايَةٌ وَإِضْلَالٌ، وَالْيَدَانِ فِي الْحَدِيثِ إِذَا حُمِلَتَا، عَلَى الْقُدْرَةِ حُمِلَتَا

عَلَى خَلْقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ، فَالْيَمِينُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ عَلَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ الَّذِي يَقْتَضِي الشَّرِكَةَ، وَالشِّمَالُ عَلَى عَكْسِهَا، وَمَعْنَى كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ أَنَّ كُلًّا مِنْ خَلْقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ ; لِأَنَّهُ عَزِيزٌ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا مَانِعَ لَهُ فِيهِ وَلَا مُنَازِعَ، حَكِيمٌ يَعْلَمُ بِلُطْفِ حِكْمَتِهِ مَا يَخْفَى عَلَى الْخَلْقِ، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَمَعْنَى الْيَمِينِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ ... لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ أَيْ: بِتَدْبِيرِهِ الْأَحْسَنِ وَتَحَرِّيهِ الْأَصْوَبِ، وَإِذَا حُمِلَتَا عَلَى النِّعْمَةِ كَانَ الْيَمِينُ الْمَبْسُوطَةُ عِبَارَةً عَنْ مَنْحِ الْأَلْطَافِ وَتَيْسِيرِ الْيُسْرَى عَلَى أَهْلِ السَّعَادَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَالشِّمَالُ الْمَقْبُوضَةُ عَلَى عَكْسِهَا. وَمَعْنَى كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ عَلَى مَا سَبَقَ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62] ، فَالْفَاصِلَتَانِ فِي الْآيَتَيْنِ أَعْنِي: " {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 42] " وَ " {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62] "، مُلَوِّحَتَانِ إِلَى مَعْنَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. كَلَامُهُ. وَحَاصِلُ مَرَامِهِ، أَنَّ الْيَدَيْنِ كِنَايَتَانِ عَنْ آثَارِ صِفَتَيِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ مِنَ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ النَّارِ وَالْجَنَّةِ، فَأَصْلُ إِيجَادِ الْخَلْقِ بَعْدَ عَدَمِهِمْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْجَلَالِ إِظْهَارًا لِلْكِبْرِيَاءِ وَالْجَبَرُوتِ النَّاشِئِ عَنْ صِفَةِ الْعَدْلِ، ثُمَّ أَظْهَرَ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ كَمَالَ الْجَمَالِ النَّاشِئِ عَنْ صِفَةِ الْفَضْلِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ ضَلَّ وَغَوَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ نُورَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِي مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَوْلُهُ: فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ، أَيْ: أَضْوَأُ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ أَهْلُ زَمَانِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (- أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ -) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْرَاكِ أَيْ: بَلْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ مِنْ بَابِ تَفْوِيضِ عِلْمِهِ إِلَى عَالِمِهِ، وَلَعَلَّهُ كَوْنُهُ مِنْ أَقَلِّ الْأَنْبِيَاءِ عُمْرًا، أَوْ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْبُكَاءِ كَآدَمَ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْهُمَا مِنَ الْخَطَأِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ شَكِّ الرَّاوِي، فَعَلَى هَذَا مِنْ أَضْوَئِهِمْ صِفَةُ رَجُلٍ وَفِيهِمْ خَبَرُهُ، وَعَلَى إِسْقَاطِ مِنْ هُوَ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ: هُوَ أَضْوَأُهُمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَضْوَأُهُمْ أَنَّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الضَّوْءِ وَالْإِشْرَاقِ دُونَهُ، بَلْ لِبَيَانِ فَضْلِهِ وَجَمْعِهِ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَإِفَاضَةِ نُورِ الْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] ، قُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا لَكَانَ سُلَيْمَانُ أَوْلَى بِذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ لِذَاتِهِ لَيْسَ لَهُ نُورٌ هُنَالِكَ، بَلْ لَهُ حِجَابٌ ظُلْمَانِيٌّ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ غَالِبًا عَنْ كَمَالٍ نُورَانِيٍّ، وَلِذَا يَدْخُلُ سُلَيْمَانُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَذَا يَدْخُلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِسَبَبِ مَالِهِ الْكَثِيرِ الْمُشَبَّهِ بِالْمُلْكِ الْكَبِيرِ بَعْدَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ. (قَالَ: يَا رَبِّ! مَنْ هَذَا؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ أَوَّلًا مَا هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّهُ مَا عَرَفَ مَا رَآهُ، ثُمَّ لَمَّا قِيلَ لَهُ هُمْ ذُرِّيَّتُكَ فَعَرَفَهُمْ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ ( «قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ وَقَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمْرَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ) . وَفِي نُسْخَةٍ: عُمْرَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: عُمْرَ أَرْبَعِينَ مَفْعُولُ كَتَبْتُ، وَمُؤَدَّى الْمَكْتُوبِ ; لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ عُمْرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَنُصِبَ أَرْبَعِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى تَأْوِيلِ كَتَبْتُ لَهُ أَنْ يُعَمِّرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. (قَالَ: يَا رَبِّ زِدْ فِي عُمْرِهِ) . أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ وَفَضْلِكَ (قَالَ: ذَلِكَ الَّذِي كَتَبْتُ لَهُ) . أَيْ: قَدَّرْتُ وَقَضَيْتُ لِأَجَلِهِ، وَلَا مَرَدَّ لِقَضَائِي، وَلَا تَبْدِيلَ لِقَدَرِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَلِكَ الَّذِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مُعَرَّفَتَانِ فَيُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ: لَا مَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا نُقْصَانَ، وَكَانَ كَذَلِكَ حَيْثُ وَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ. قُلْتُ: لَكِنْ رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَى مَا وَهَبَ لَهُ وَكَمَّلَ لِآدَمَ عُمْرَهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَفِيهِ اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ الْعُمْرُ الْمُعَلَّقُ يَزِيدُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11] ، وَكَذَا مَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ.

(قَالَ) : يَعْنِي آدَمُ (أَيْ رَبِّ) أَيْ: يَا رَبِّ (فَإِنِّي) أَيْ: إِذَا أَبَيْتَ الزِّيَادَةَ مِنْ عِنْدِكَ، فَإِنِّي (قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مُدَّةِ عُمْرِي وَسِنِّهِ (سِتِّينَ سَنَةً) . أَيْ: تَكْمِلَةً لِلْمِائَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْخَبَرِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِدْعَاءُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى هَذَا الْجَعْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ؛ إِذْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ بَابِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ مَا يُخَالِفُ هَذَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ مِنْ عُمْرِهِ أَوَّلًا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ زَادَ عِشْرِينَ فَصَارَ سِتِّينَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَكَرَّرَ مَأْتَى عِزْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلِامْتِحَانِ بِأَنْ جَاءَ وَبَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ سِتُّونَ، فَلَمَّا جَحَدَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ بَقَاءِ أَرْبَعِينَ عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا تَفَكَّرَ فَجَحَدَ ثَانِيًا، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي بَابِ النِّسْيَانِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ شَكٌّ لِلرَّاوِي، وَتَرَدُّدٌ فِي كَوْنِ الْعَدَدِ أَرْبَعِينَ أَوْ سِتِّينَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ تَارَةً بِالْأَرْبَعِينَ وَأُخْرَى بِالسِّتِّينَ، وَمِثْلُ هَذَا وَقَعَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ فِي رِوَايَةِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ سَاعَاتِ أَيَّامِ عُمْرِ آدَمَ كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ زَمَانِ دَاوُدَ، فَمَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ النَّقْلِ، وَإِلَّا فَبِظَاهِرِهِ يَأْبَاهُ الْعَقْلُ كَمَا حُقِّقَ فِي دَوَرَانِ الْفَلَكِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَضْلِ. (قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ) . يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْإِجَابَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتِهِ أَيْ: أَنْتَ مَعَ مَطْلُوبِكَ مَقْرُونَانِ (وَكَانَ) أَيْ: (آدَمُ) : كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (يَعُدُّ لِنَفْسِهِ) ، أَيْ: يُقَدِّرُ لَهُ وَيُرَاعِي أَوْقَاتَ أَجَلِهِ سَنَةً فَسَنَةً (فَأَتَاهُ) أَيِ: امْتِحَانًا (مَلَكُ الْمَوْتِ) ، أَيْ: بَعْدَ تَمَامِ تِسْعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً (فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجِلْتَ) ، بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيِ: اسْتَعْجَلْتَ وَجِئْتَ قَبْلَ أَوَانِهِ. ( «قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ» ) أَيْ: أَنْكَرَ آدَمُ (فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ) : بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ سِرِّ أَبِيهِ (وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ) : لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ طِينَةِ أَبِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ آدَمَ نَسِيَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فَجَحَدَ فَيَكُونُ اعْتِذَارًا لَهُ، إِذْ يَبْعُدُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنْكِرَ مَعَ التَّذَكُّرِ، فَقَوْلُ الطِّيبِيِّ يُشِيرُ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] ، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ إِذِ الْآيَةُ فِي قَضِيَّةِ أَكْلِ الشَّجَرَةِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (فَمِنْ يَوْمَئِذٍ أُمِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُمِرَ النَّاسُ أَوِ الْغَائِبُ، وَقَوْلُهُ (بِالْكِتَابِ) أَيْ: بِكِتَابَةِ الْحُجَّةِ (وَالشُّهُودِ) . فِي الْقَضِيَّةِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ فِي آخِرِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. فَالْحَدِيثُ السَّابِقُ أَرْجَحُ، وَكَذَا أَوْفَقُ لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

4663 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي نِسْوَةٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4663 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) أَيِ: ابْنِ السَّكَنِ (قَالَتْ: مَرَّ عَلَيْنَا) أَيْ: مَعْشَرَ النِّسَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نِسْوَةٍ) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِنَا مَعَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ فِي نِسْوَةٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْفَاعِلِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ مِنْهُ مُرُورُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زُمْرَةِ النِّسْوَةِ عَلَيْهِنَّ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَبَيَانٌ لَهُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِكَ فِي الْبَيْضَةِ عِشْرُونَ رِطْلًا مِنْ حَدِيدٍ، وَهِيَ بِنَفْسِهَا هَذَا الْمِقْدَارُ لَا أَنَّهَا ظَرْفٌ لَهُ (فَسَلَّمَ عَلَيْنَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ سَبَقَ رِوَايَتُهَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِعِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ إِلَخْ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَا سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ الْخَامِسُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

4664 - وَعَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي ابْنَ عُمَرَ فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ. قَالَ: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ، لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَّاطٍ وَلَا عَلَى صَاحِبِ بَيْعَةٍ، وَلَا مِسْكِينٍ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ. قَالَ الطُّفَيْلُ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا، فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ وَلَا تَسُومُ بِهَا، وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ فَاجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ. قَالَ: فَقَالَ لِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطْنٍ! - قَالَ: وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ - إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ، نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِينَاهُ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4664 - (وَعَنِ الطُّفَيْلِ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ تَابِعِيٌّ عَزِيزُ الْحَدِيثِ حَدِيثُهُ فِي الْحِجَازِيِّينَ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ أَبُو الطُّفَيْلِ (أَنَّهُ) أَيِ: الطُّفَيْلُ (كَانَ يَأْتِي ابْنَ عُمَرَ فَيَغْدُو مَعَهُ) : يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ فِي الْمَرْجِعَيْنِ، وَالْمَعْنَى: فَيَذْهَبَانِ فِي الْغَدْوَةِ (إِلَى السُّوقِ. قَالَ) أَيِ: الطُّفَيْلُ (فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ، لَمْ يَمُرَّ) . بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا أَيْ: لَمْ يَأْتِ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَّاطٍ) : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَبِيعُ السَّقَطَ، وَهُوَ الرَّدِيءُ مِنَ الْمَتَاعِ (وَلَا عَلَى صَاحِبِ بَيْعَةٍ) ، بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَيُكْسَرُ، فَالْأَوَّلُ لِلْمَرَّةِ، وَالثَّانِي لِلنَّوْعِ وَالْهَيْئَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرْوَى بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهِيَ الصَّفْقَةُ وَبِكَسْرِهَا الْحَالَةُ كَالرِّكْبَةِ وَالْقِعْدَةِ (وَلَا مِسْكِينٍ) ، أَيْ: وَلَا عَلَى مِسْكِينٍ (وَلَا عَلَى أَحَدٍ) : فِيهِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسَلِّمَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ وَيُحْتَمَلُ الْعَكْسُ (قَالَ الطُّفَيْلُ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا، فَاسْتَتْبَعَنِي) أَيْ: طَلَبَنِي أَنْ أَتْبَعَهُ فِي ذَهَابِهِ إِلَى السُّوقِ (فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ (وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ) أَيْ: عَنْ مَكَانِهَا وَهُوَ بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ سِلْعَةٍ. (وَلَا تَسُومُ بِهَا) ، أَيْ: لَا تَسْأَلُ عَنْ ثَمَنِهَا وَقِيمَتِهَا (وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟) أَيْ: لِلتَّنَزُّهِ وَالتَّفَرُّجِ عَلَى الصَّادِرِ وَالْوَارِدِ، وَالْمَذْكُورَاتُ غَالِبُ الْمَقَاصِدِ (فَاجْلِسْ بِنَا هَا هُنَا نَتَحَدَّثُ) . بِالرَّفْعِ أَيْ: نَحْنُ نَسْتَمِعُ الْحَدِيثَ مِنْكَ أَوْ يَتَحَدَّثُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوْ مِنْ مُهِمَّاتِ الدُّنْيَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ (قَالَ: فَقَالَ لِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطْنٍ! - قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي عَنِ الطُّفَيْلِ أَوْ هُوَ بِنَفْسِهِ (وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ -) أَيْ: بَطْنٌ كَبِيرٌ وَلِذَا لَقَّبَهُ بِذَلِكَ، لَا لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَكْلٍ كَثِيرٍ كَمَا يُتَوَهَّمُ (إِنَّمَا نَغْدُو) أَيْ: إِلَى السُّوقِ (مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ) ، أَيْ: تَحْصِيلِهِ (نُسَلِّمُ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ (عَلَى مَنْ لَقِينَا) ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ نُسْخَةُ لَقِينَاهُ بِالضَّمِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَاللُّقْيُ يَحْصُلُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّلَامِ أَعَمُّ مِنِ ابْتِدَائِهِ وَجَوَابِهِ: فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَضِيلَةً كَامِلَةً، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4665 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لِفُلَانٍ فِي حَائِطِي عَذْقٌ، وَأَنَّهُ قَدْ آذَانِي مَكَانُ عَذْقِهِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَنْ بِعْنِي عَذْقَكَ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَبْ لِي ". قَالَ: لَا. قَالَ: " فَبِعْنِيهِ بِعَذْقٍ فِي الْجَنَّةِ ". فَقَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَبْخَلُ مِنْكَ إِلَّا الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4665 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لِفُلَانٍ فِي حَائِطِي) أَيْ: بُسْتَانِي الْمُحْدَقُ بِالْحِيطَانِ، وَقَدْ يُرَادُ الْبُسْتَانُ الْمُجَرَّدُ (عَذْقٌ) ، بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ أَيْ: نَخْلَةٌ وَأَمَّا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ فَالْعُرْجُونُ بِمَا فِيهِ مِنَ الشَّمَارِيخِ (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ أَوِ الْفُلَانُ (قَدْ آذَانِي) :. بِمَدِّ أَوَّلِهِ أَيْ: جَعَلَنِي فِي الْأَذَى (مَكَانُ عَذْقِهِ) ، بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ: آذَانِي وَجُودُهُ أَوْ عَذْقُهُ وَمَكَانٌ مُقْحَمٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس: 71] ، الْكَشَّافُ مَقَامِي مَكَانِي يَعْنِي نَفْسَهُ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا لِمَكَانِ فُلَانٍ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَقَامِي بِمَعْنَى: وُقُوفِي بِالْحَيَاةِ وَقِيَامِي بِحَقِّ النُّبُوَّةِ وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ أَيْ: وَعْظِي إِيَّاكُمْ بِالْآيَاتِ الْمَنْقُولَةِ أَوِ الْمَعْقُولَةِ أَوِ الْآفَاقِيَّةِ وَالْأَنْفُسِيَّةِ أَوِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَاتِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: آذَانِي مُرُورُهُ بِسَبَبِ مَكَانِ عَذْقِهِ (فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ) : مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْإِرْسَالِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: (بِعْنِي عَذْقَكَ) أَيْ: بِأَيِّ ثَمَنٍ تُرِيدُهُ

مِنَ الدُّنْيَا (قَالَ: لَا) أَيْ: لَا أَبِيعُهُ (قَالَ: فَهَبْ لِي) : أَيْ حَتَّى أَهَبَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَهَبْهُ إِيَّاهُ لِأَجْلِي، وَعَلَى كُلٍّ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الشَّفَاعَةِ لَا الْإِلْزَامِ (قَالَ: لَا) أَيْ: لَا أَهَبُ (قَالَ: فَبِعْنِيهِ بِعَذْقٍ فِي الْجَنَّةِ) . فَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُشْعِرُ بِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مُسْلِمًا، وَكَانَ سَوْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُ شَفَاعَةً مِنْهُ لَا آمِرًا وَإِلَّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ وَالْحُكْمُ بِعِصْيَانِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ (فَقَالَ: لَا) ، أَيْ: لَا أَبِيعُهُ بِهِ أَيْضًا ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَبْخَلُ مِنْكَ إِلَّا الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ» ) أَيْ: عَلَى النَّاسِ أَوْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا وَرَدَ: «الْبَخِيلُ الَّذِي ذُكِرْتُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيَّ» ، وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الْمُصَالَحَةِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ وَبَيَانُ كَمَالِ حِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَصْحَابِهِ، وَلَعَلَّ الرَّجُلَ كَانَ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، أَوْ وَقَعَ لَهُ الْمَقَالُ فِي كَمَالِ غَضَبِهِ مِنَ الْحَالِ حَتَّى غَفَلَ عَنْ مَقَامِ الْأَدَبِ وَفَاتَهُ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي حُسْنِ الْمَآلِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4666 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " «الْبَادِئُ بِالسَّلَامِ بَرِيءٌ مِنَ الْكِبْرِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4666 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ، أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ ; لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَقْصُودٌ فِي مُصْطَلَحِ الْمُحَدِّثِينَ، فَإِنَّهُ أَجَلُّ الْعَبَادِلَةِ لِكَوْنِهِ أَفْقَهَ الصَّحَابَةِ مِمَّا عَدَا الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْبَادِئُ) : بِالْهَمْزِ أَيِ: الْمُبْتَدِئُ (بِالسَّلَامِ) : وَالْمُبَادِرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ إِذَا اتَّفَقَا فِي الْوَصْفِ كَمَاشِيَيْنِ وَرَاكِبَيْنِ (بَرِيءٌ) : فَعِيلٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ أَيْ: مُتَبَرِّئٌ وَمُتَنَزِّهٌ (مِنَ الْكِبْرِ) أَيْ: مِنْ عِلَّتِهِ، فَالسَّلَامُ عَلَامَةُ سَلَامَتِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَكَذَا الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْهُ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ بَرِيءٌ مِنَ الضُّرْمِ، وَهُوَ بِالضَّمِّ الْهَجْرِ وَالْقَطْعِ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ فَهُوَ أَوْلَى بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ".

[باب الاستئذان]

[بَابُ الِاسْتِئْذَانِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4667 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: أَتَانَا أَبُو مُوسَى، قَالَ: «إِنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ آتِيَهُ، فَأَتَيْتُ بَابَهُ، فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ. فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا؟ فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَى بَابِكَ ثَلَاثًا فَلَمْ تَرُدُّوا فَرَجَعْتُ، وَقَدْ قَالَ لِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ ". فَقَالَ عُمَرُ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَقُمْتُ مَعَهُ، فَذَهَبْتُ إِلَى عُمَرَ، فَشَهِدْتُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (2) بَابُ الِاسْتِئْذَانِ بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبْدَلُ يَاءً، وَمَعْنَاهُ: طَلَبُ الْإِذْنِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] الْآيَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ مَشْرُوعٌ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ السَّلَامِ أَوِ الِاسْتِئْذَانِ، وَالصَّحِيحُ تَقْدِيمُ السَّلَامِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمُ. أَدْخُلُ؟ وَعَنِ الْمَاوَرْدِيِّ إِنْ وَقَعَتْ عَيْنُ الْمُسْتَأْذِنِ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ قَبْلَ دُخُولِهِ قَدَّمَ السَّلَامَ، وَإِلَّا قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ. قُلْتُ: وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ السَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4667 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: أَتَانَا أَبُو مُوسَى) ، أَيِ: الْأَشْعَرِيُّ (قَالَ) أَيْ: أَبُو مُوسَى اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِعِلَّةِ الْإِتْيَانِ (إِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ آتِيَهُ) ، أَيْ بِأَنْ

أَجِيئَهُ (فَأَتَيْتُ بَابَهُ، فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا) ، أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَيْرَ مُتَوَالِيَاتٍ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْأَدَبِ الْمُتَعَارَفِ، وَالْمُرَادُ بِهِ سَلَامُ الْإِيذَانِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ مَعَ أَدْخُلُ؟ ، وَقَدْ يَتَجَرَّدُ عَنْهُ اكْتِفَاءً، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حِكْمَةِ التَّثْلِيثِ (فَلَمْ يَرُدَّ) أَيْ: عُمَرُ أَوْ أَحَدٌ (عَلَيَّ) ، أَيِ: الْجَوَابَ (فَرَجَعْتُ) ، أَيْ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] ، وَالسُّكُوتُ فِي هَذَا الْمَقَامِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِعْرَاضِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِالرُّجُوعِ فَرَجَعْتُ. (فَقَالَ) أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاتِبًا لِي (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا؟) أَيْ: مِنَ الْإِتْيَانِ إِلَيْنَا مَعَ إِرْسَالِنَا إِلَيْكَ بِالْإِتْيَانِ (فَقُلْتُ: إِنِّي) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا (أَتَيْتُ) أَيْ: إِلَيْكَ (فَسَلَّمْتُ) وَالْكَسْرُ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ مَعَ أَنَّ الْمَقُولَ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً، وَلِهَذَا تَكُونُ أَنَّ بَعْدَ الْقَوْلِ دَائِمًا مَكْسُورَةً. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ فَتْحُ إِنَّ لِيَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْمَنْعِ فَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ الْمَانِعَ، وَيُقَالَ: إِنَّ الْمَانِعَ إِتْيَانِي وَتَسْلِيمِي، وَالْكَسْرُ يَدُلُّ عَلَى الْمَانِعِ بِالْمَفْهُومِ. (عَلَى بَابِكَ) : مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ أَيْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْكَ حَالَ كَوْنِي وَاقِفًا عَلَى بَابِي (ثَلَاثًا فَلَمْ تَرُدُّوا) أَيْ: لَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُدَّامِكَ (عَلَيَّ) أَيِ: السَّلَامَ أَوِ الْجَوَابَ (فَرَجَعْتُ وَقَدْ) : الْوَاوُ حَالِيَّةٌ أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ (قَالَ) أَيْ: لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَالْمَعْنَى مُخَاطِبًا لِي (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» ) : فَإِنَّ الْأَوَّلَ لِلتَّعَرُّفِ، وَالثَّانِي لِلتَّأَمُّلِ، وَالثَّالِثَ لِلْإِذْنِ وَعَدَمِهِ (فَقَالَ عُمَرُ: أَقِمْ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَيْتَهُ هُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْبَيِّنَةَ) أَيْ: تَمَامَ الْبَيِّنَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الشَّاهِدُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَزْدَادَ فِيهِ وُثُوقًا، فَالْعِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ وَاحِدٍ لَا لِلشَّكِّ فِي صِدْقِ خَبَرِهِ عِنْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ لَا يُحْتَجُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَدَلَائِلُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا تُحْصَى، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَذَا، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ رَدُّ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ خَافَ مُسَارَعَةَ النَّاسِ إِلَى الْقَوْلِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَمْ يَقُلْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبْتَدِعُونَ وَالْكَذَّابُونَ، وَكَذَا مَنْ وَقَعَ لَهُ قَضِيَّةٌ وَضَعَ فِيهَا حَدِيثًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَرَادَ سَدَّ الْبَابِ لَا شَكًّا فِي رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى ; لِأَنَّهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنْ يُحَدِّثَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَقُلْ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَرُدَّ خَبَرَ أَبِي مُوسَى لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إِخْبَارَ رَجُلٍ آخَرَ حَتَّى يَعْمَلَ بِالْحَدِيثِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ خَبَرُ وَاحِدٍ، وَكَذَا مَا زَادَ حَتَّى يَبْلُغَ التَّوَاتُرَ ; لِأَنَّ مَا لَمْ يَبْلُغِ التَّوَاتُرَ فَهُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ. (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَقُمْتُ مَعَهُ) ، أَيْ: مَعَ أَبِي مُوسَى (فَذَهَبْتُ إِلَى عُمَرَ، فَشَهِدْتُ) ، أَيْ: عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو مُوسَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَالْقَدْرُ الْمَرْفُوعُ مِنْهُ رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَبَى سَعِيدٍ مَعًا، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ.

4668 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ تَرْفَعَ الْحِجَابَ وَأَنْ تَسْمَعَ سِوَادِي حَتَّى أَنْهَاكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4668 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ؟ قَالَ لِيَ) أَيْ: مَخْصُوصًا (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذْنُكَ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: عَلَامَةُ إِذْنِكَ (عَلَيَّ) أَيْ: بِالدُّخُولِ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: (أَنْ تَرْفَعَ الْحِجَابَ) أَيْ: رَفْعُكَ الْحِجَابَ وَهُوَ السِّتَارَةُ (وَأَنْ تَسْمَعَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَأَنْ تَسْمَعَ (سِوَادِي) : بِكَسْرِ السِّينِ، أَيْ: سِرِّي وَكَلَامِيَ الْخَفِيَّ الدَّالَّ عَلَى كَوْنِي فِي الْبَيْتِ (حَتَّى أَنْهَاكَ) ، أَيْ: عَنِ الدُّخُولِ حِينَئِذٍ لِمَانِعٍ يَكُونُ عِنْدِي، أَوْ عَنِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَيَكُونُ مَعَ النَّاسِ سَوَاءً، وَضَبَطَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ قَوْلَهُ: إِذْنُكَ بِمَدِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الذَّالِ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَا آذِنٌ لَكَ عَلَيَّ بِأَنْ تَرْفَعَ الْحِجَابَ، يَعْنِي: لَا حَاجَةَ لَكَ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ إِذَا أَرَدْتَ الدُّخُولَ عَلَيَّ، بَلْ أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيَّ وَأَنْ تَرْفَعَ الْحِجَابَ.

قُلْتُ: وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ وَمِدْحَةٌ جَسِيمَةٌ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ خِدْمَتِهِ وَمُلَازِمَةِ صُحْبَتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبَ النَّعْلَيْنِ وَالسِّوَاكِ وَالْمَطْهَرَةِ وَالسَّجَّادَةِ فَهَنِيئًا لَهُ، ثُمَّ هَنِيئًا، ثُمَّ قَالَ الشَّارِحُ، وَقَوْلُهُ: سِوَادِي بِالْكَسْرِ أَيْ: سِرَارِي يُقَالُ: سَاوَدْتُهُ مُسَاوَدَةً، أَيْ: سَارَرْتُهُ، سُمِّيَ السِّوَارُ سِوَادًا ; لِاقْتِرَابِ السِّوَادَيْنِ فِيهِ، وَهُمَا شَخْصَا الْمُتَنَاجِيَيْنِ اهـ. وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ النِّهَايَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: عَلَيَّ مُتَعَلِّقٌ بِإِذْنِكَ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَأَنْ تَرْفَعَ مَعَ الْمَعْطُوفِ خَبَرُهُ يَعْنِي: إِذْنُكَ الْجَمْعُ بَيْنَ رَفْعِكَ الْحِجَابَ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِكَ إِيَّايَ فِي الدَّارِ لَوْ كُنْتَ مُسَارًا لِغَيْرِي هَذَا شَأْنُكَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَانِ إِلَّا أَنْ أَنْهَاكَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَصَاحِبِ السِّرِّ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ وَمَحَارِمِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْعَلَامَةِ فِي الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ، فَإِذَا جَعَلَ الْأَمِيرُ وَالْقَاضِي أَوْ غَيْرُهُمَا رَفْعَ السِّتْرِ الَّذِي بَابُهُ عَلَامَةً لِلْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ لِلنَّاسِ عَامَّةً أَوْ لِطَائِفَةٍ خَاصَّةٍ، أَوْ لِشَخْصٍ، أَوْ جَارٍ، أَوْ عَلَامَةً غَيْرَ ذَلِكَ جَازَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا وَالدُّخُولُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4669 - «وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: " مَنْ ذَا؟ " فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: " أَنَا! أَنَا! " كَأَنَّهُ كَرِهَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4669 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ، قُتِلَ أَبُوهُ فِي أُحُدٍ (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي) ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ (فَدَقَقْتُ الْبَابَ) أَيْ: بِلُطْفٍ كَضَرْبِ الْأَظَافِيرِ عَلَى مَا هُوَ دَأْبُ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ. (فَقَالَ: مَنْ ذَا؟) ، أَيِ: الَّذِي يَدُقُّ (قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَقُلْتُ (أَنَا) : يُقْرَأُ بِالْأَلِفِ وَقْفًا وَبِحَذْفِهِ وَصْلًا (فَقَالَ: أَنَا! أَنَا) : مُكَرِّرٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: قَوْلُكَ أَنَا مَكْرُوهٌ فَلَا تَعْدُو الثَّانِي تَأْكِيدٌ. (كَأَنَّهُ كَرِهَهَا) . أَيْ: كَلِمَةَ أَنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْ بِالسَّلَامِ، بَلْ بِالدَّقِّ؛ ذَكَرَهُ الْبَرْمَاوِيُّ، أَوْ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَنْ ذَا اسْتِكْشَافٌ لِلْإِبْهَامِ، وَقَوْلَهُ: أَنَا لَمْ يَزَلْ بِهِ الْإِشْكَالُ وَالْإِبْهَامُ ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ لَا عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَكَانَ حَقُّ الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ: جَابِرٌ، أَوْ أَنَا جَابِرٌ، وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَ شَارِحٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا لَا يُشْعِرُ بِصَاحِبِهِ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِمَّنْ يُعْرَفُ بِصَوْتِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ عَرَفَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَوْتِهِ لَمَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمًا فَلَمْ يَرَ التَّكَلُّمَ بِلَفْظٍ لَيْسَ فِيهِ تَوَاضُعٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنَا جَابِرٌ لَمْ يَكُنْ يَكْرَهُهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَإِنَّمَا كُرِهَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِقَوْلِهِ أَنَا فَائِدَةٌ تُزِيلُ الْإِبْهَامَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فُلَانٌ بِاسْمِهِ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا فُلَانٌ فَلَا بَأْسَ، كَمَا قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ حِينَ اسْتَأْذَنَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ هَذِهِ؟ " فَقَالَتْ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِمَا يُعْرَفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ، وَإِنْ كَانَ صُورَةً لَهَا فِيهِ تَبْجِيلٌ وَتَعْظِيمٌ بِأَنْ يُكَنِّيَ نَفْسَهُ، أَوْ يَقُولَ أَنَا الْمُفْتِي فُلَانٌ أَوِ الْقَاضِي أَوِ الشَّيْخُ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْرِفَةُ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِذْنُ وَعَدَمُهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4670 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ. فَقَالَ: " أَبَا هِرٍّ! الْحَقْ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ " فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4670 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: فِي بَيْتِهِ، وَقِيلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. (فَوَجَدَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَبَنًا فِي قَدَحٍ: لَعَلَّ التَّنْوِينَ لِلتَّعْظِيمِ (فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ!) بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ لِكَمَالِ أَدَبِهِ وَالْهِرُّ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ مُكَنَّى بِأَبِي هُرَيْرَةَ (الْحَقْ) : بِهَمْزِ وَصْلٍ وَفَتْحِ حَاءٍ أَيِ: اذْهَبْ مُسْتَعْجِلًا (بِأَهْلِ الصُّفَّةِ) أَيْ: بِالْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: آتِيهِمْ (فَادْعُهُمْ إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: أَهْلُ الصُّفَّةِ جَمَاعَةٌ مِنْ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ اجْتَمَعُوا فِي صُفَّةٍ، ذَكَرَهُمُ الشَّيْخُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ لَا يَكْفِيهِ الدُّعَاءُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقْرُبَ الزَّمَانُ اهـ. فَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْآتِي إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِذْنٌ لَهُ أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ جَاءُوا بَعْدَ الدَّاعِي، فَاحْتَاجُوا إِلَى إِذْنٍ جَدِيدٍ أَوْ مِنْ غَايَةِ الْأَدَبِ وَالْحَيَاءِ جَدَّدُوا الِاسْتِئْذَانَ، أَوْ كَانَ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، أَوْ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، أَوْ هُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ؛ احْتِمَالَاتٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالَاتِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4671 - «عَنْ كَلَدَةَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ بِلَبَنٍ أَوْ جَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَعْلَى الْوَادِي، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْجِعْ، فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4671 - (عَنْ كَلَدَةَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَاللَّامِ وَبِالدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ ضَبَطَهُ الْمُؤَلِّفُ (ابْنُ حَنْبَلٍ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَهُوَ أَسْلَمِيٌّ أَخُو صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ لِأُمِّهِ، وَكَانَ عَبْدًا لِعُمَرَ بْنِ حَبِيبٍ اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ بِسُوقِ عُكَاظٍ، وَحَالَفَهُ وَأَنْكَحَهُ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا، رَوَى عَنْهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ) : بِضَمِّ هَمْزٍ وَفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ، وَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ قُرَيْشٍ لِسَانًا، وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ (بَعَثَ بِلَبَنٍ وَجَدَايَةٍ) : قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَالشُّرَّاحُ: هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا أَوْلَادُ الظِّبَاءِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِمَّا بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ سَبْعَةً بِمَنْزِلَةِ الْجَدْيِ مِنَ الْمَعْزِ (وَضَغَابِيسَ) : جَمْعُ ضَغْبُوسٍ بِفَتْحِ الضَّادِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ صَغِيرُ الْقِثَّاءِ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَعْلَى الْوَادِي) أَيْ: فَوْقَ الْمَدِينَةِ، وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ إِلَى الْوَصْفِ الظَّاهِرِ لَا يَخْفَى (قَالَ) أَيْ: صَفْوَانُ (فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ) أَيْ: قَبْلَ الدُّخُولِ (وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ) أَيْ: بِقَوْلِي أَدْخُلُ؟ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعْ) ، أَيْ: تَعْذِيبًا لَهُ وَتَأْدِيبًا لِغَيْرِهِ (فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟) : يَجُوزُ فِيهِ تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ وَإِبْدَالُهَا أَلِفًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4672 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، «قَالَ: " رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ» " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4672 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا دُعِيَ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا طُلِبَ (أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ) . أَيْ: إِجَازَةٌ بِالدُّخُولِ، فَإِنْ وَقَعَ تَقْصِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) ، أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ) أَيْ: إِذَا كَانَ مَصْحُوبًا مَعَهُ لِمَا سَبَقَ.

4673 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ فَيَقُولُ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا سُتُورٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ، «قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» " فِي " بَابِ الضِّيَافَةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4673 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ سُلَمِيٌّ مَازِنِيٌّ، لَهُ وَلِأَبِيهِ بُسْرٍ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ عَطِيَّةَ وَأُخْتِهِ الصَّمَّاءِ صُحْبَةٌ، نَزَلَ الشَّامَ وَمَاتَ بِحِمْصَ فَجْأَةً وَهُوَ يَتَوَضَّأُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ) أَيْ: وَصَلَهُ (لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ) ، أَيْ: مُقَابِلَ وَجْهِهِ وَحِذَائِهِ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ (وَلَكِنْ) أَيْ: يَسْتَقْبِلُ مَعَ الِانْحِرَافِ وَالْمَيْلِ (مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ) أَيْ: مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ الْأَنْسَبِ بِالْوُقُوفِ (فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) ، أَيْ: أَوَّلًا (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) أَيْ: ثَانِيًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ السَّمَاعُ وَالْإِذْنُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّكْرَارِ التَّعَدُّدُ لَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَرَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ التَّثْلِيثُ لِمَا سَبَقَ (وَذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ اسْتِقْبَالِ الْبَابِ وَوُجُودِ الِانْحِرَافِ (أَنَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ لِأَنَّ (الدُّورَ) : بِالضَّمِّ جَمْعُ الدَّارِ أَيْ: أَبْوَابُهَا (لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ) . جَمْعُ سِتْرٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْحِجَابُ، وَفِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ بَابٌ أَوْ سِتْرٌ يَحْصُلُ بِهِ حِجَابٌ فَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِقْبَالِ، لَكِنَّ الِانْحِرَافَ أَوْلَى مُرَاعَاةً لِأَصْلِ السُّنَّةَ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْصُلُ بَعْضُ الِانْكِشَافِ عِنْدَ فَتْحِ الْبَابِ أَوْ رَفْعِ الْحِجَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

(وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) أَيْ: لِلِاسْتِئْذَانِ عَلَى بَابِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فِي " بَابِ الضِّيَافَةِ ") . مُتَعَلِّقٌ بِذِكْرٍ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4674 - عَنْ عَطَاءٍ، «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: " نَعَمْ " فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا " فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا» ". رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4674 - (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) : مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ) أَيْ: أَطْلُبُ الْإِذْنَ عِنْدَ إِرَادَتِي الدُّخُولَ (عَلَى أُمِّي) : وَفِي مَعْنَاهَا بَقِيَّةُ الْمَحَارِمِ نَسَبًا وَرَضَاعًا وَمُصَاهَرَةً إِلَّا الزَّوْجَةَ (فَقَالَ: نَعَمْ) أَيْ: لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَنْكَشِفُ عَنْ عُضْوٍ لَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ (فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ) أَيْ: فِي بَيْتِهَا أَوْ فِي بَيْتِي، وَالْمَعْنَى: أَنَّا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهَا فِي بَيْتٍ وَحْدَهَا لِيَكُونَ دُخُولِي عَلَيْهَا نَادِرًا، أَفَأَسْتَأْذِنُ حِينَئِذٍ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي زَمَانِنَا؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) أَيْ: وَلَوْ كُنْتُمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ لِاحْتِمَالِ تَكَشُّفِهَا فِي الْغَيْبَةِ (فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَنَا (خَادِمُهَا) أَيْ: فَيَكْثُرُ تَرَدُّدِي إِلَيْهَا، فَهَلْ يَكُونُ الْإِذْنُ كُلَّ مَرَّةٍ سَاقِطًا لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهِ) أَيْ: وَلَوْ بِنَحْوِ تَنَحْنُحٍ وَضَرْبِ رِجْلٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ (أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟) أَيْ: كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا (قَالَ: لَا. قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) ، أَيْ: دَائِمًا، وَبِهَذَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَتَرْكِ إِيجَابِ الْإِحْرَامِ لِمَنْ كَثُرَ تَرَدُّدُهُ إِلَى الْحَرَمِ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) .

4675 - «وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدْخَلٌ بِاللَّيْلِ، وَمَدْخَلٌ بِالنَّهَارِ، فَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ بِاللَّيْلِ، تَنَحْنَحَ لِي» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4675 - ( «وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدْخَلٌ» ) : مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: دُخُولٌ (بِاللَّيْلِ، وَمَدْخَلٌ بِالنَّهَارِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِي: خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهُ مَدْخَلٌ، وَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَلِّقٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ: حَصَلَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُخُولٌ بِاللَّيْلِ وَدُخُولٌ بِالنَّهَارِ، وَعَلَامَةُ الْإِذْنِ بِاللَّيْلِ تَنَحْنُحُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَرَّمَ اللَّهِ وَجْهَهُ: (فَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ بِاللَّيْلِ، تَنَحْنَحَ لِي) : قِيلَ: إِنَّ التَّنَحْنُحَ لِلْمَنْعِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَرِيحٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّنَحْنُحُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَلَامَةِ الْإِذْنِ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَامَةَ الْمَنْعِ بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى عَلَامَةِ دُخُولِ عَلِيٍّ فِي النَّهَارِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ عَلَى مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ، أَيْ: وَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ بِالنَّهَارِ تَنَحْنَحْتُ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

4676 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَأْذَنُوا لِمَنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالسَّلَامِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4676 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَأْذَنُوا) أَيْ: بِالدُّخُولِ أَوْ لِلطَّعَامِ (لِمَنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالسَّلَامِ) أَيْ: بِسَلَامِ الْإِذْنِ، أَوْ بِسَلَامِ الْمُلَاقَاةِ بِأَنْ دَخَلَ سَاكِتًا أَوْ بَدَأَ بِالْكَلَامِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") : وَكَذَا الضِّيَاءُ. وَقَدْ سَبَقَ أَحَادِيثُ تُقَوِّيهِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَامِ.

[باب المصافحة والمعانقة]

[بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ]

(3) بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4677 - عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (3) بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ الْمُصَافَحَةُ: هِيَ الْإِفْضَاءُ بِصَفْحَةِ الْيَدِ إِلَى صَفْحَةِ الْيَدِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَهَا أَهْلُ الْيَمَنِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي مُخْتَصِرِ النِّهَايَةِ لَهُ: أَنَّ التَّصْفِيحَ هُوَ التَّصْفِيقُ، وَهُوَ ضَرْبُ صَفْحَةِ الْكَفِّ عَلَى صَفْحَةِ الْأُخْرَى، وَمِنْهُ الْمُصَافَحَةُ، وَهِيَ إِلْصَاقُ صَفْحَةِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمُصَافَحَةُ الْأَخْذُ بِالْيَدِ كَالتَّصَافُحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ الصَّفْحِ بِمَعْنَى الْعَفْوِ، وَيَكُونُ أَخْذُ الْيَدِ دَلَالَةً عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ تَرْكَهُ مُشْعِرٌ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَافَحَةَ سُنَّةٌ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ كُلِّ لِقَاءٍ، وَمَا اعْتَادَهُ النَّاسُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمُصَافَحَةِ سُنَّةٌ وَكَوْنَهُمْ مُحَافِظِينَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمُفَرِّطِينَ فِيهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا يُخْرِجُ ذَلِكَ الْبَعْضَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُصَافَحَةِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَصْلِهَا، وَهِيَ مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ، وَقَدْ شَرَحْنَا أَنْوَاعَ الْبِدَعِ فِي أَوَّلِ كُتُبِ الِاعْتِصَامِ مُسْتَوْفًى اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ نَوْعُ تَنَاقُضٍ ; لِأَنَّ إِتْيَانَ السُّنَّةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا يُسَمَّى بِدَعَةً مَعَ أَنَّ عَمَلَ النَّاسِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ الْمَشْرُوعِ، فَإِنَّ مَحَلَّ الْمُصَافَحَةِ الْمَشْرُوعَةِ أَوَّلُ الْمُلَاقَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ جَمَاعَةٌ يَتَلَاقَوْنَ مِنْ غَيْرِ مُصَافِحَةٍ وَيَتَصَاحَبُونَ بِالْكَلَامِ وَمُذَاكِرَةِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً، ثُمَّ إِذَا صَلَّوْا يَتَصَافَحُونَ، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلِهَذَا صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِأَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ حِينَئِذٍ، وَأَنَّهَا مِنَ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ، نَعَمْ لَوْ دَخَلَ أَحَدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى إِرَادَةِ الشُّرُوعِ فِيهَا، فَبَعْدَ الْفَرَاغِ لَوْ صَافَحَهُمْ، لَكِنْ بِشَرْطِ سَبْقِ السَّلَامِ عَلَى الْمُصَافَحَةِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُصَافَحَةِ الْمَسْنُونَةِ بِلَا شُبْهَةٍ، وَمَعَ هَذَا إِذَا مَدَّ مُسْلِمٌ يَدَهُ لِلْمُصَافَحَةِ، فَلَا يَنْبَغِي الْإِعْرَاضُ عَنْهُ بِجَذْبِ الْيَدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَذًى يَزِيدُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَدَبِ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْمُصَافَحَةِ حِينَئِذٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مَكْرُوهٌ لَا الْمُجَابَرِةَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ فِيهِ نَوْعُ مُعَاوَنَةٍ عَلَى الْبِدْعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ عَنْ مُصَافَحَةِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ الْوَجْهِ، فَإِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ حَرَامٌ كَمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ مِنْ حَرُمَ النَّظَرُ إِلَيْهِ حَرُمَ مَسُّهُ، بَلْ مَسُّهُ أَشَدُّ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَفِي حَالِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ مَسُّهَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اهـ. ثُمَّ الْمُعَانَقَةُ وَالتَّعَانُقُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالِاعْتِنَاقُ فِي الْحَرْبِ وَنَحْوِهَا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْحَسَنَ جَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَذْكُرَ التَّقْبِيلَ أَيْضًا فِي عُنْوَانِ الْبَابِ لِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4677 - (عَنْ قَتَادَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ (قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟) ، أَيْ: ثَابِتَةً وَمَوْجُودَةً فِيهِمْ حَالَ مُلَاقَاتِهِمْ بَعْدَ السَّلَامِ زِيَادَةً لِلْمَوَدَّةِ وَالْإِكْرَامِ (قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4678 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَثَمَّ لُكَعُ " فِي " بَابِ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ " إِنْ شَاءَ تَعَالَى. وَذَكَرَ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ فِي " بَابِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4678 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَبَّلَ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَمِيمِيٌّ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ مَعَ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَكَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، اسْتَعْمَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَلَى جَيْشِ الْعُدَّةِ عَلَى خُرَاسَانَ، وَأُصِيبَ هُوَ وَالْحَسَنُ الْجَوْزَجَانِيُّ، رَوَى عَنْهُ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. (فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ) : بِفَتْحَتَيْنِ

وَيَجُوزُ ضَمُّ أَوَّلِهِ وَسُكُونُ ثَانِيهِ بِمَعْنَى الْأَوْلَادِ (مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا) ، أَيْ: فِي مُدَّةِ عُمْرِي أَبَدًا (فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: نَظَرَ تَعَجُّبٍ أَوْ نَظَرَ غَضَبٍ (ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» ) . بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا فِيهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ أَوْ شَرْطِيَّةٌ، وَلَعَلَّ وَضْعَ الرَّحْمَةِ فِي الْأَوَّلِ لِلْمُشَاكَلَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى: مَنْ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى الْأَوْلَادِ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ أَتَى بِالْعَامِّ لِتَدْخُلَ الشَّفَقَةُ أَوَّلِيًّا اهـ. وَالثَّانِي أَتَمُّ وَفَائِدَتُهُ أَعَمُّ وَلِهَذَا حَذَفَ الْمَفْعُولَ لِيَذْهَبَ الْفَهْمُ كُلَّ الْمَذْهَبِ، فَهُوَ بِالِاعْتِبَارِ أَقْرَبُ وَأَنْسَبُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: تَقْبِيلُ الرَّجُلِ خَدَّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَاجِبٌ، وَكَذَا غَيْرُ خَدِّهِ مِنْ أَطْرَافِهِ وَنَحْوِهَا عَلَى وَجْهِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ، وَمَحَبَّةُ الْقَرَابَةِ سُنَّةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَكَذَا قُبْلَةُ وَلَدِ صَدِيقِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ صِغَارِ الْأَطْفَالِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا التَّقْبِيلُ بِالشَّهْوَةِ فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْوَالِدُ وَغَيْرُهُ اهـ. وَكَوْنُ تَقْبِيلِ الرَّجُلِ خَدَّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَاجِبًا يَحْتَاجُ إِلَى حَدِيثٍ صَرِيحٍ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَدِيثُ: " «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَرِيرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ جَرِيرٍ، وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: " «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ» ". وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَرِيرٍ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ لَا يَرْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ لَا يَرْحَمْهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنْ جَرِيرٍ: " «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ، وَمَنْ لَا يَغْفِرْ لَا يُغْفَرْ لَهُ» ". وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَرِيرٍ، " «وَمَنْ لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ» " اهـ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ فِي الْحَدِيثِ شَرْطِيَّةٌ جَازِمَةٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَثَمَّ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَشَدِّ الْمِيمِ، أَيْ: أَهُنَاكَ (لُكَعُ) : بِضَمِّ لَامٍ وَفَتْحِ كَافٍ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَقَدْ يَنْصَرِفُ وَهُوَ الصَّبِيُّ، وَيَعْنِي بِهِ حَسَنًا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. الْحَدِيثَ (فِي " مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: سَنَذْكُرُ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ فِي بَابِ الْإِيمَانِ) : وَفِي حَدِيثِهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: " مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ " فَفِيهِ أَنَّ التَّرْحِيبَ سُنَّةٌ لِلْقَادِمِ وَغَيْرِهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4679 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ، إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: " «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا، وَحَمِدَا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَاهُ، غُفِرَ لَهُمَا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4679 - (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) : صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ) : مِنْ مَزِيدَةٌ لِمَزِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ (يَلْتَقِيَانِ) أَيْ: يَتَلَاقَيَانِ (فَيَتَصَافَحَانِ) أَيْ: بَعْدَ سَلَامِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ (إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا) أَيْ: بِالْأَبْدَانِ وَبِالْفَرَاغِ مِنَ الْمُصَافَحَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالضِّيَاءُ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ) ، مَعْنَاهُ: فِي رِوَايَةٍ لَهُ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا، وَحَمِدَا اللَّهَ) أَيْ: أَثْنَيَا عَلَيْهِ أَوْ شَكَرَاهُ عَلَى نَعْمَائِهِ (وَاسْتَغْفَرَاهُ) أَيْ: طَلَبَا مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ مِنْ مَوْلَاهُمَا (غُفِرَ لَهُمَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، فَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَغْفِرَةِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْأَوَّلِ، أَوْ إِفَادَةً لِكَمَالِهَا بِأَنْ تَكُونَ مُسْتَوْعَبَةً لِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمَا. وَرَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا " «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، كَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَحْسَنَهُمَا بُشْرًا بِصَاحِبِهِ، فَإِذَا تَصَافَحَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ لِلْبَادِئِ تِسْعُونَ وَلِلْمُصَافَحِ عَشَرَةٌ» ".

4680 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ، أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: " نَعَمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4680 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ مِنَّا) أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنَ الْعَرَبِ (يَلْقَى أَخَاهُ) أَيِ: الْمُسْلِمَ أَوْ أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ أَخُو الْعَرَبِ (أَوْ صَدِيقَهُ) أَيْ: حَبِيبَهُ وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ (أَيَنْحَنِي لَهُ؟) : مِنَ الِانْحِنَاءِ، وَهُوَ إِمَالَةُ الرَّأْسِ وَالظَّهْرِ تَوَاضُعًا وَخِدْمَةً (قَالَ: لَا) أَيْ: فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الرُّكُوعِ، وَهُوَ كَالسُّجُودِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ (قَالَ: أَفَيَلْتَزِمُهُ) أَيْ: يَعْتَنِقُهُ وَيُقَبِّلُهُ (قَالَ: لَا) : اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كَرِهَ الْمُعَانَقَةَ وَالتَّقْبِيلَ، وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ التَّقْبِيلِ لِزُهْدٍ، وَعِلْمٍ، وَكِبَرِ سِنٍّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: تَقْبِيلُ يَدِ الْغَيْرِ إِنْ كَانَ لِعِلْمِهِ وَصِيَانَتِهِ وَزُهْدِهِ وَدِيَانَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يُكْرَهْ، بَلْ يُسْتَحَبَّ، وَإِنْ كَانَ لِغِنَاهُ أَوْ جَاهِهِ فِي دُنْيَاهُ كُرِهَ وَقِيلَ حَرَامٌ. اهـ. وَقِيلَ: الْحَرَامُ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّقِ وَالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا الْمَأْذُونُ فِيهِ فَعِنْدَ التَّوْدِيعِ وَالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ وَطُولِ الْعَهْدِ بِالصَّاحِبِ، وَشِدَّةِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ مَعَ أَمْنِ النَّفْسِ، وَقِيلَ: لَا يُقَبِّلِ الْفَمَ، بَلِ الْيَدَ وَالْجَبْهَةَ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: حَتَّى الظَّهْرُ مَكْرُوهٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا تُعْتَبَرُ كَثْرَةُ مَنْ يَفْعَلُهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى عِلْمٍ وَصَلَاحٍ. الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الْوَجْهِ لِغَيْرِ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ مَكْرُوهَانِ. صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. (قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوِ الثَّانِي أَخَصُّ وَأَتَمُّ (قَالَ: نَعَمْ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4681 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «تَمَامُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، أَوْ عَلَى يَدِهِ، فَيَسْأَلَهُ: كَيْفَ هُوَ؟ وَتَمَامُ تَحِيَّاتِكُمْ بَيْنَكُمُ الْمُصَافَحَةُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَضَعَّفَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4681 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيِ: الْبَاهِلِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (تَمَامُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ) أَيْ: كَمَالُهَا ( «أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، أَوْ عَلَى يَدِهِ» ) أَيْ: يَفْعَلُ أَحَدَهُمَا، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ (فَيَسْأَلَهُ) : بِالنَّصْبِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَيَسْأَلَهُ نَفْسَهُ، أَوْ يَسْأَلَ عَنْهُ أَهْلَهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (كَيْفَ هُوَ؟) أَيْ: كَيْفَ حَالُهُ أَوْ مَرَضُهُ (وَتَمَامُ تَحِيَّاتِكُمْ) جَمْعُ التَّحِيَّةِ وَجَمَعَ إِشْعَارًا بِأَنْوَاعِهَا فِي الْهَنَاءِ وَالْعَزَاءِ وَغَيْرِهِمَا (بَيْنَكُمْ) ، أَيِ: الْوَاقِعَةُ فِيمَا بَيْنَكُمْ (الْمُصَافَحَةُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي لَا مَزِيدَ عَلَى هَذَيْنِ، فَلَوْ زِدْتُمْ عَلَى هَذَا دَخَلَ فِي التَّكَلُّفِ وَهُوَ بَيَانٌ لِقَصْدِ الْأُمُورِ ; لِأَنَّهُ نَهَى عَنِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ كَمَالَ الْأَمْرَيْنِ يَحْصُلُ بِهَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ الزَّائِدَ يُعَدُّ مِنَ التَّكَلُّفِ فِيهِمَا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا أَدْنَى الْكَمَالِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَضَعَّفَهُ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: مِنْ تَمَامِ إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ.

4682 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي، فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4682 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ) أَيْ: مِنْ غَزْوَةٍ أَوْ سَفَرٍ (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي) : الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ (فَأَتَاهُ) أَيْ: فَجَاءَ زَيْدٌ فَقَرَعَ الْبَابَ أَيْ: قَرْعًا مُتَعَارَفًا لَهُ أَوْ مَقْرُونًا بِالسَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ (فَقَامَ إِلَيْهِ) أَيْ: مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ) أَيْ: رِدَاءَهُ مِنْ كَمَالِ فَرَحِهِ بِقُدُومِهِ وَمَأْتَاهُ. قَالَ شَارِحٌ: أَيْ كَانَ سَاتِرًا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَلَكِنْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ عَاتِقِهِ فَكَانَ مَا

فَوْقَ سُرَّتِهِ عُرْيَانًا. (وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا) أَيْ: يَسْتَقْبِلُ أَحَدًا (قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي نُسْخَةٍ لَا قَبْلَهُ (وَلَا بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ) : قَالَ شَارِحٌ، إِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَحْلِفُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ، وَكَثْرَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، قِيلَ: لَعَلَّهَا أَرَادَتْ عُرْيَانًا اسْتَقْبَلَ رَجُلًا وَاعْتَنَقَهُ، فَاخْتَصَرَتِ الْكَلَامَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ أَوْ عُرْيَانًا مِثْلَ ذَلِكَ الْعُرْيِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي الْأَوَّلَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِمَا يُشَمُّ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهَا رَائِحَةُ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِقُدُومِهِ وَتَعْجِيلِهِ لِلِقَائِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمَامِ التَّرَدِّي بِالرِّدَاءِ حَتَّى جَرَّهُ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4683 - وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ بُشَيْرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَنَزَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ؟ قَالَ: مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلَّا صَافَحَنِي، وَبَعَثَ إِلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي، فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ، فَالْتَزَمَنِي، فَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4683 - (وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ بُشَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَرَاءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَنَزَةَ) : بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَنُونٍ فَزَايٍ مَفْتُوحَاتٍ، قَبِيلَةٌ شَهِيرَةٌ (أَنَّهُ) أَيِ: الرَّجُلُ (قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ؟» ) أَيْ: يَقْبَلُ مُصَافَحَتَكُمْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ; لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُبَادِئًا لِلْمُصَافَحَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى بَابِ الْمُفَاعَلَةِ لَا غَالِبًا وَلَا دَائِمًا مُسْتَمِرًّا. (قَالَ) أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلَّا صَافَحَنِي، وَبَعَثَ إِلَيَّ) أَيْ: إِلَى طَلَبِي (ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي، فَلَمَّا جِئْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي (أُخْبِرْتُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَدْ يُعَبَّرُ بِالسَّرِيرِ عَنِ الْمُلْكِ وَالنِّعْمَةِ، فَالسَّرِيرُ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مُلْكَ النُّبُوَّةِ وَنِعْمَتَهَا، وَقِيلَ: هُوَ السَّرِيرُ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ يَتَّخِذُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مِصْرَ لِلنَّوْمِ فِيهِ وَتَوَقِّيًا مِنَ الْهَوَامِّ اهـ. وَالْمُعْتَمَدُ مَا قِيلَ كَمَا لَا يَخْفَى. (فَالْتَزَمَنِي) أَيْ: فَعَانَقَنِي، وَلَمَّا كَانَ الِالْتِزَامُ بِمَعْنَى الْمُعَانَقَةِ قَالَ: (فَكَانَتْ تِلْكَ) : أَيِ: الْمُعَانَقَةُ، وَقِيلَ الِالْتِزَامُ ; لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ (أَجْوَدَ) أَيْ: مِنَ الْمُصَافَحَةِ فِي إِفَاضَةِ الرُّوحِ وَالرَّاحَةِ، أَوْ أَحْسَنَ - مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَنْصُرُهُ عَدَمُ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ أَفْعَلَ لِيَعُمَّ، وَيُؤَيِّدُهُ تَأْكِيدُهُ مُكَرَّرًا بِقَوْلِهِ: (وَأَجْوَدَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَاوُ لِلتَّعَاقُبِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِمُ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْوَاوَ هُنَا عَاطِفَةٌ لِتَأْكِيدِ نِسْبَةِ الْإِسْنَادِ بِخِلَافِ الْفَاءِ فِي الْأَمْثَلِ، فَإِنَّهُ لِلتَّعْقِيبِ الرُّتَبِيِّ فِي الْأَمْرِ الْإِضَافِيِّ، ثُمَّ الْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ تِلْكَ أَجْوَدُ مِنَ الْمُصَافَحَةِ وَأَجْوَدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4684 - «وَعَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ جِئْتُهُ: " مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4684 - (وَعَنْ عِكْرِمَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ حَسُنَ إِسْلَامُهُ ; بِحَيْثُ كَانَ إِذَا فَتَحَ الْمُصْحَفَ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ رَبِّي وَيُغْشَى عَلَيْهِ (ابْنِ أَبِي جَهْلٍ) أَيْ: فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. كَانَ يُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ، فَكُنَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا جَهْلٍ، فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكُنْيَةُ، وَأَغْرَبَ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي التَّابِعِينَ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رَأَى عِكْرِمَةَ يَقُولُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ. (قَالَ) أَيْ: عِكْرِمَةُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ جِئْتُهُ) أَيْ: عَامَ الْفَتْحِ، وَزَادَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: «فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَبَ إِلَيْهِ فَرِحًا وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ حَتَّى بَايَعَهُ» (مَرْحَبًا) : مَقُولُ الْقَوْلِ أَيْ: جِئْتَ مَرْحَبًا، أَيْ: مَوْضِعًا وَاسِعًا، وَالْأَظْهَرُ رَحَّبَ مَرْحَبًا (بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ) أَيْ: إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» " أَيْ: مِنْ مَكَّةَ ; لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْفَتْحِ، فَإِنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً، بَلْ شَرْطًا، وَأَمَّا الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَوُجُوبُهَا بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَاسْمُ أَبِي جَهْلٍ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ الْقُرَشِيُّ، كَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَأَبُوهُ، وَكَانَ فَارِسًا مَشْهُورًا، وَهَرَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِالْيَمَنِ، فَلَحِقَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ فَأَتَتْ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ، فَأَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فِي زَمَنِ عُمَرَ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: رَأَيْتُ لَأَبِي جَهْلٍ عَذْقًا فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ قَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ! هَذَا هُوَ. قَالَتْ: «وَشَكَا عِكْرِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ قَالُوا: هَذَا ابْنُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4685 - «وَعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ - وَكَانَ فِيهِ مُزَاحٌ - بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ، فَقَالَ: أَصْبِرْنِي. قَالَ: " أَصْطَبِرُ " قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَمِيصِهِ، فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ، قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4685 - (وَعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ، كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ. رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ (رَجُلٌ) : بِالرَّفْعِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ. قَالَ الْأَشْرَفُ: فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَصَابِيحِ اضْطِرَابٌ، وَجَامِعُ الْأُصُولِ يُنْبِئُ عَنْهُ وَهُوَ فِيهِ، هَكَذَا عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ: «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ فِيهِ مُزَاحٌ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ يُضْحِكُهُمْ، إِذْ طَعَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُودٍ كَانَ فِي يَدِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصْبِرْنِي. قَالَ: اصْطَبِرْ» إِلَخْ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَلَا يَجُوزُ جَرُّ رَجُلٍ، بَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَمُخَصِّصِهُ قَوْلُهُ: (مِنَ الْأَنْصَارِ) : وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: (قَالَ) : مَعَ فَاعِلِهِ الْمُسْتَكِنِّ فِيهِ (بَيْنَمَا) : ظَرْفٌ لِقَالَ، قُلْتُ: وَضَمِيرُ (هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ) : لِلرَّجُلِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الضَّمَائِرِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَكَانَ فِيهِ مُزَاحٌ) : إِلَخْ. وَالْمُزَاحُ بِالضَّمِّ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْكَسْرِ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ اسْمُ الْمِزَاحِ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُزَاحُ بِالضَّمِّ الِاسْمُ، وَأَمَّا الْمِزَاحُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ مَصْدَرُ مَازَحَهُ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ إِلَّا أَنَّ الضَّمَّ مَصْدَرٌ لِمُجَرَّدٍ، وَالْكَسْرَ مَصْدَرٌ لِمَزِيدِ، هَذَا وَقَالَ الْأَشْرَفُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ لِلرَّجُلِ، وَكَانَ فِيهِ مُزَاحٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ يُحَدِّثُ وَقَعَتْ بَيْنَ قَوْلِهِ: يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: يُضْحِكُهُمْ. قُلْتُ: وَفِي الْمَتْنِ (بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ) : قَالَ وَقَوْلُهُ: بَيْنَا مَعَ مَا بَعْدَهُ مَقُولٌ لِقَالَ وَبَيْنَا ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: طَعَنَهُ أَوْ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ، وَالتَّقْدِيرُ بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ فَأَضْحَكَهُمْ (فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُضْحِكُهُمْ. اهـ كَلَامُ الْأَشْرَفِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ عَلَى مَا هُوَ فِي الْمَتْنِ وَالْمَصَابِيحِ مُثْبَتٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي نُسْخَةٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي طَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَاصِرَتِهِ، هَلْ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَعَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ هُوَ غَيْرُهُ، وَعَلَى مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّهُ هُوَ وَلَفْظُهُ هَكَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ يُضْحِكُهُمْ، وَكَانَ فِيهِ مُزَاحٌ فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ مِنْ نُقَبَاءِ الْأَنْصَارِ، وَتَنْزِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَسْهَلُ وَأَبْعَدُ مِنَ التَّكَلُّفِ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَمَا قِيلَ أَنَّ قَالَ خَبَرٌ، وَبَيْنَمَا ظَرْفٌ لَهُ خَارِجٌ عَنِ الْمُرَادِ، فَقَوْلُهُ رَجُلٌ مَجْرُورٌ بَدَلًا مِنْ أُسَيْدٍ، وَقَالَ قَوْلَ الرَّاوِي أَيْ: قَالَ الرَّاوِي، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، بَيْنَمَا أُسَيْدٌ يُحَدِّثُ إِلَخْ. وَلَوْ كَانَ الْقَائِلُ أُسَيْدًا لَقَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا، وَبَيْنَا الثَّانِيَةُ بَدَلٌ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ فَطَعَنَهُ هُوَ الْجَوَابُ اهـ كَلَامُهُ. وَالْمَعْنَى: فَضَرَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ الْمِزَاحِ (فِي خَاصِرَتِهِ) أَيْ: شَاكِلَتِهِ (بِعُودٍ) أَيْ: بِخَشَبٍ مِنْ عَصَا أَوْ غَيْرِهَا (فَقَالَ: أَصْبِرْنِي) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أَقْدِرْنِي وَمَكِّنِّي مِنِ اسْتِيفَاءِ الْقَصَاصِ حَتَّى أَطْعَنَ فِي خَاصِرَتِكَ، كَمَا طَعَنْتَ فِي خَاصِرَتِي (قَالَ: أَصْطَبِرُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ: أُمَكِّنُكَ مِنَ الْقِصَاصِ وَاقْتَصَّ مِنْ نَفْسِي، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ؛ بَلْ قِيلَ هِيَ الْأَصَحُّ اصْطَبِرْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيِ: اسْتَوْفِ الْقِصَاصَ، وَالِاصْطِبَارُ الِاقْتِصَاصُ ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: أَصْبِرْنِي أَيْ: أَقْدِرْنِي مِنْ نَفْسِكَ. قَالَ: اسْتَقِدْ، يُقَالُ: أَصْبَرَ فُلَانٌ مَنْ خَصْمِهِ وَاصْطَبَرَ أَيِ:

اقْتَصَّ مِنْهُ، وَأَصْبَرَهُ الْحَاكِمُ أَيْ: أَقَصَّهُ مِنْ خَصْمِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: وَأَصْلُهُ الْحَبْسُ حَتَّى يُقْتَلَ، وَأَصْبَرَهُ الْقَاضِي صَبَارًا أَقَصَّهُ أَوِ اصْطَبَرَ، أَيِ: اقْتَصَّ. (قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ) : حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ قَمِيصٌ (فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَمِيصِهِ) : عَدَّاهُ بِعَنْ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى كَشَفَ، أَيْ: كَشَفَ عَمَّا سَتَرَهُ قَمِيصُهُ فَرَفَعَهُ عَنْهُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل: 44] (فَاحْتَضَنَهُ) أَيِ: اعْتَنَقَهُ وَأَخَذَهُ فِي حِضْنِهِ، وَهُوَ مَا دُونُ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ (وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ) أَيْ: جَنْبَهُ، قَالَ الشَّارِحُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إِلَى الضِّلْعِ الْأَقْصَرِ مِنْ أَضْلَاعِ الْجَنْبِ. (قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: مَا أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَصْبِرْنِي إِلَّا هَذَا التَّقْبِيلَ، وَمَا قَصَدْتُ حَقِيقَةَ الْقَصَاصِ، أَقُولُ: وَهَذَا لَا مُمَاثَلَةَ، فَإِنَّ هَذَا أَعْلَى وَأَغْلَى مَعَ أَنَّ لَهُ بِطَعْنِهِ أَيْضًا مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مَا يَنْسَى فِي جَنْبِهِ جَمِيعَ نَعِيمِ الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِإِبَاحَةِ الْمِزَاحِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَحْذُورٌ شَرْعًا، وَبِاسْتِمَاعِهِ أَيْضًا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمِزَاحَ بِشَرْطِهِ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ ; لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ فِي شَمَائِلِهِ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ لِهَذَا الْبَابِ، قَالَ: وَبِأَنَّ الِانْبِسَاطَ مَعَ الْوَضِيعِ مِنْ شِيَمِ الشَّرِيفِ. قُلْتُ: هَذَا غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ الْمَازِحَ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ وَنُقَبَاءِ الْأَنْصَارِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4686 - وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلًا. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ ": وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنِ الْبَيَاضِيِّ مُتَّصِلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4686 - (وَعَنِ الشَّعْبِيِّ) : بِفَتْحِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَيَاءٍ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الشَّعْبُ كَالْمَنْعِ: الْقَبِيلَةُ الْعَظِيمَةُ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْكُوفِيُّ أَحَدُ الْأَعْلَامِ، وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَوَى عَنْ خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَرَوَى عَنْهُ أُمَمٌ. قَالَ: أَدْرَكْتُ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: مَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ قَطُّ، وَلَا حَدَّثْتُ بِحَدِيثٍ إِلَّا حَفِظْتُهُ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَالشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّوْرِيُّ قِي زَمَانِهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ بِالْمَدِينَةِ، وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالْبَصْرَةِ، وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) أَيِ: اسْتَقْبَلَهُ حِينَ قَدِمَ مِنَ السَّفَرِ (فَالْتَزَمَهُ) أَيِ: اعْتَنَقَهُ (وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مُرْسَلًا. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: أَيْضًا (عَنِ الْبَيَاضِيِّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ تَحْتِيَّةٍ وَإِعْجَامِ ضَادٍ (مُتَّصِلًا) : قِيلَ الْبَيَاضِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ، وَالْبَيَاضِيُّ بِلَا تَسْمِيَةٍ مُطْلَقًا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَابِرٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ: الْبَيَاضِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى بَيَاضَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَابِرٍ الْأَنْصَارِيُّ صَحَابِيٌّ.

4687 - «وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ رُجُوعِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ، فَتَلَقَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعْتَنَقَنِي، ثُمَّ قَالَ: " مَا أَدْرِي: أَنَا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَفْرَحُ، أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ؟ " وَوَافَقَ ذَلِكَ فَتْحَ خَيْبَرَ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4687 - (وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فِي قِصَّةِ رُجُوعِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ) أَيْ: جَعْفَرٌ (فَخَرَجْنَا) أَيْ: مِنَ الْحَبَشَةِ ( «حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ، فَتَلَقَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعْتَنَقَنِي، ثُمَّ قَالَ: مَا أَدْرِي: أَنَا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَفْرَحُ، أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ؟» ) : الظَّاهِرُ أَنَّ أَفْرَحُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ خَبَرُ أَنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَا تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ أَدْرِي

وَأَفْرَحُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُتَكَلِّمٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَدَّدَ سَبَبُ فَرَحِي فَمَا أَدْرِي أُلَاحِظُ هَذَا أَوْ ذَاكَ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لِاسْتِقْلَالِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْفَرَحِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَرَحِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ بَابِ الذَّهَابِ إِلَى التَّشَابُهِ مِنَ التَّشْبِيهِ مُبَالَغَةً فِي إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ اهـ. فَجَعَلَ قُدُومَ جَعْفَرٍ نَاقِصًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَتْحِ خَيْبَرَ، فَفِيهِ نَظَرٌ لِإِمْكَانِ التَّسَاوِي فَتَدَبَّرْ (وَوَافَقَ ذَلِكَ) أَيْ: قُدُومُ جَعْفَرٍ (فَتْحَ خَيْبَرَ. رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

4688 - «وَعَنْ زَارِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِجْلَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4688 - (وَعَنْ زَارِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : بِزَايٍ، ثُمَّ رَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ وَقَالَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ زَارِعُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، عِدَادُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ. (وَكَانَ) أَيْ: زَارِعٌ (فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ (قَالَ) أَيْ: زَارِعٌ (لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ) أَيْ: فِي النُّزُولِ مِنْ رَوَاحِلِنَا (فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِجْلَهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4689 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا. وَفِي رِوَايَةٍ: حَدِيثًا وَكَلَامًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَاطِمَةَ، كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، قَامَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4689 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا) أَيْ: هَيْئَةً وَطَرِيقَةً كَانَتْ عَلَيْهَا مِنَ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ. قَالَ شَارِحٌ: السَّمْتُ فِي الْأَصْلِ الْقَصْدُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَيْئَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّ الصَّالِحِينَ (وَهَدْيًا) أَيْ: سِيرَةً وَطَرِيقَةً. يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الْهَدْيِ أَيْ: حَسَنُ الْمَذْهَبِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا. (وَدَلًّا) : بِفَتْحِ دَالٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ، فَسَّرَهُ الرَّاغِبُ بِحُسْنِ الشَّمَائِلِ، وَأَصْلُهُ مِنْ دَلِّ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ شَكْلُهَا وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا، وَالْكُلُّ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَأَنَّهَا أَشَارَتْ بِالسَّمْتِ إِلَى مَا يُرَى عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ لِلَّهِ، وَبِالْهَدْيِ مَا يَتَحَلَّى بِهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، إِلَى مَا يَسْلُكُهُ مِنَ الْمَنْهَجِ الْمُرْضِيِّ، وَبِالدَّلِّ حُسْنَ الْخُلُقِ وَلُطْفَ الْحَدِيثِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: حَدِيثًا وَكَلَامًا) أَيْ: أَشْبَهَ تَحَدُّثًا وَمَنْطِقًا (بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَاطِمَةَ كَانَتْ) أَيْ: فَاطِمَةُ (إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، قَامَ إِلَيْهَا) أَيْ: مُسْتَقْبِلًا وَمُتَوَجِّهًا (فَأَخَذَ بِيَدِهَا فَقَبَّلَهَا) أَيْ: بَيْنَ عَيْنَيْهَا أَوْ رَأْسِهَا، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " «مَنْ قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْ أُمِّهِ كَانَ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» " فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ أُمِّهِ تَعْظِيمًا لَهَا. (وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ) أَيْ: تَكْرِيمًا لِمَأْتَاهَا (وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ) أَيْ: عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْيَدُ الْمُنِيفَةُ (وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا) أَيْ: مَوْضِعِهَا الْمُهَيَّأِ لِلْكَرَامَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4690 - وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ، قَدْ أَصَابَهَا حُمَّى، فَأَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ؟ وَقَبَّلَ خَدَّهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4690 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ) أَيِ: ابْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ) أَيْ: مِنْ غَزْوَةٍ (فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ، قَدْ أَصَابَهَا حُمَّى) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَقْصُورًا (فَأَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ؟) : تَصْغِيرُ بِنْتٍ لِلشَّفَقَةِ (وَقَبَّلَ خَدَّهَا) أَيْ: لِلْمَرْحَمَةِ وَالْمَوَدَّةِ، أَوْ مُرَاعَاةً لِلسُّنَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4691 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِصَبِيٍّ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُمْ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ، وَإِنَّهُمْ لَمِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " ـــــــــــــــــــــــــــــ 4691 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِصَبِيٍّ) أَيْ: جِيءَ إِلَيْهِ (فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: أَمَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُمْ) أَيِ: الْأَوْلَادُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الصَّبِيِّ (مَبْخَلَةٌ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مُسَبِّبٌ وَمُحَصِّلٌ لِلْبُخْلِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْمَبْخَلَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْبُخْلِ وَمَظِنَّةٌ لَهُ أَيْ: يَحْمِلُ أَبَوَيْهِ عَلَى الْبُخْلِ، وَيَدْعُوهُمَا إِلَيْهِ فَيَبْخَلَانِ بِالْمَالِ لِأَجْلِهِ (مَجْبَنَةٌ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ جِيمٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: بَاعِثٌ عَلَى الْجُبْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مَحَبَّتِهِمْ وَغَايَةِ مَوَدَّتِهِمْ حَتَّى يَخْتَارَ أَكْثَرُ النَّاسِ حُبَّهُمْ عَلَى مَحَامِدِ الْمَحَاسِنِ الرَّضِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الشَّرِيعَةِ الْحَنَفِيَّةِ النَّافِعَةِ لَهُمْ فِي الْقَضَايَا الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَفِي الْفَائِقِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَلَدَ مُوقِعٌ أَبَاهُ فِي الْجُبْنِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقْتَلَ فِي الْحَرْبِ، فَيَضِيعَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ، وَفِي الْبُخْلِ إِبْقَاءً عَلَى مَالِهِ لَهُ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ (وَإِنَّهُمْ) : لِلْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ مَعَ أَنَّهُمْ (لَمِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ رِزْقِ اللَّهِ يُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَرَيْحَانَهُ أَيْ: أُسَبِّحُ لَهُ وَأَسْتَرْزِقُهُ، وَهُوَ مُخَفَّفٌ عَنْ رَيْحَانٍ فَيْعَلَانٍ مِنَ الرُّوحِ ; لِأَنَّ انْتِعَاشَهُ بِالرِّزْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّيْحَانِ الْمَشْمُومِ ; لِأَنَّ الشَّمَّامَاتِ تُسَمَّى رَيْحَانًا، وَيُقَالُ حَبَاهُ بِطَاقَةَ نَرْجِسٍ وَبِطَاقَةَ رَيْحَانٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَنَّهُمْ مِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ الْأَنَاسِيَّ، وَحَبَاهُمْ بِهِ ; أَوْ لِأَنَّهُمْ يَشُمُّونَ وَيُقَبِّلُونَ، فَكَأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الرَّيَاحِينِ الَّتِي أَنْبَتَهَا اللَّهُ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أَوْ مِنَ الطِّبِّ الَّذِي طَيَّبَ اللَّهُ بِهِ قُلُوبَ الْآبَاءِ. وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ، وَأَيْضًا نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: أَمَا إِنَّهُمْ إِلَخْ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى الصَّبِيِّ لِيُعَقِّبَ الْحُكْمَ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ وَيُؤَكِّدَهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَمِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ؛ ذَمَّهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ مِنْهُ إِلَى الْمَدْحِ، قُلْتُ: بَلْ نَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى مَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ احْتِرَاسًا عَنْهَا، ثُمَّ مَدَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ رَاحَةٌ لِلرُّوحِ، وَبَيَانٌ لِلرِّزْقِ وَالْفُتُوحِ، وَبَقَاءٌ مَعْنَوِيٌّ وَنِظَامٌ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَلِذَا قِيلَ: الْوَلَدُ إِنْ عَاشَ نَفَعَ، وَإِنْ مَاتَ شَفَعَ. وَقَدْ رَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ مَرْفُوعًا " «الْوَلَدُ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ» ". وَرَوَى أَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا ( «الْوَلَدُ ثَمَرُ الْقَلْبِ وَأَنَّهُ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ» . رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4692 - عَنْ يَعْلَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اسْتَبَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: " إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4692 - (عَنْ يَعْلَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : مُضَارِعُ عَلَى، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَتَبُوكَ. رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ صَفْوَانُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ، قُتِلَ بِصِفِّينَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (قَالَ: إِنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا اسْتَبَقَا) أَيْ: تَبَادَرَا وَتَسَابَقَا (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا هُنَا كِنَايَتَانِ عَنِ الْمَحَبَّةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ فَيَكُونُ مَدْحًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ كِنَايَةً عَنِ الذَّمِّ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا هُنَا ; لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى كَمَالِ الْمَحَبَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَالْمَوَدَّةِ الْعَادِيَّةِ الْمُوَرِّثَةِ لِلْبُخْلِ وَالْجُبْنِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمَا يَقْتَضِيهَا مَنْ تَقَدُّمِ مَحَبَّةِ مَرْضَاةِ الرَّبِّ عَلَى مَا سِوَاهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحْبُوبُ الْحَقِيقِيُّ وَمَا سِوَاهُ مَطْلُوبٌ إِضَافِيٌّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ

حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ". (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ وَلَفْظُهُمَا: " «إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ مَحْزَنَةٌ» ".

4693 - وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَصَافَحُوا، يَذْهَبِ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبِ الشَّحْنَاءُ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4693 - (وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَطَاءُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَكَنَ الشَّامَ، رَوَى عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تَصَافَحُوا، يَذْهَبِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْهَاءِ بِقَوْلِهِ: (الْغِلُّ) : مَرْفُوعٌ بِالْفَاعِلِيَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ مَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِيَّةِ عَلَى الثَّانِي، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى التَّصَافُحِ الدَّالِّ عَلَيْهِ تَصَافَحُوا، وَهُوَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ. بِمَعْنَى: الْحِقْدِ (وَتَهَادَوْا) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ الْمُخَفَّفَةِ أَمْرٌ مِنَ التَّهَادِي (تَحَابُّوا) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ مِنَ الْتَحَابُبِ مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ حُذِفَ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (وَتَذْهَبِ) : بِالضَّبْطَيْنِ السَّابِقَيْنِ، لَكِنَّهُ هُنَا مَجْزُومٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلِالْتِقَاءِ، وَقَوْلُهُ: (الشَّحْنَاءُ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْعَدَاوَةُ الْمَشْحُونُ بِهَا الْقَلْبُ (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ عَنْ قُلُوبِكُمْ» ". وَرَوَى أَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» " وَزَادَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ: وَتَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ عَنْكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " «تَهَادَوْا تَزْدَادُوا حُبًّا، وَهَاجِرُوا تُورِثُوا أَبْنَاءَكُمْ مَجْدًا، وَأَقِيلُوا الْكِرَامَ عَثَرَاتِهِمْ» " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " «تَهَادَوْا إِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «تَهَادَوُا الطَّعَامَ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَوْسِعَةٌ لِأَرْزَاقِكُمْ» " وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ وَدَاعٍ: " «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُضَعِّفُ الْحُبَّ وَتُذْهِبُ بِغَوَائِلِ الصُّدُورِ» " وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ: " «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ بِالسَّخِيمَةِ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ» ".

4694 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا وَدَعَا قَبْلَ الْهَاجِرَةِ، فَكَأَنَّمَا صَلَّاهُنَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَالْمُسْلِمَانِ إِذَا تَصَافَحَا لَمْ يَبْقَ ذَنْبٌ إِلَّا سَقَطَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". 4694 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا) : أَيْ: صَلَاةَ الضُّحَى لِقَوْلِهِ: (قَبْلَ الْهَاجِرَةِ) أَيْ: قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَهُوَ وَقْتُ اشْتِدَادِ الْحَرِّ وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الظَّهِيرَةِ (فَكَأَنَّمَا صَلَّاهُنَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ; لِأَنَّهُ عَبَدَ رَبَّهُ تَطَوُّعًا مَعَ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ وَزَمَانِ الِاسْتِرَاحَةِ ( «وَالْمُسْلِمَانِ إِذَا تَصَافَحَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا ذَنْبٌ» ) أَيْ: غِلٌّ وَشَحْنَاءُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ (إِلَّا سَقَطَ) أَيْ: ذَلِكَ الذَّنْبُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَضَعَ الذَّنْبَ مَوْضِعَهُمَا ; لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُمَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب القيام]

[بَابُ الْقِيَامِ]

بَابُ الْقِيَامِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4695 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ: " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ بِطُولِهِ فِي " بَابِ حِكَمِ الْإِسَرَاءِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْقِيَامِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4695 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ (عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ) ، أَيِ: ابْنِ مُعَاذٍ لِكَوْنِهِمْ مِنْ حُلَفَاءِ قَوْمِهِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْمُرَادُ بِالسَّعْدَيْنِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ إِذَا أُطْلِقَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ (بَعَثَ) أَيْ: رَسُولًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: إِلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَكَانَ) أَيْ: سَعْدٌ (قَرِيبًا مِنْهُ) ، أَيْ نَازِلًا فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ) ، أَيْ: رَاكِبًا عَلَيْهِ لِعُذْرٍ (فَلَمَّا دَنَا) أَيْ: قَرُبَ (مِنَ الْمَسْجِدِ) ، أَيِ: الْمُصَلَّى ذَكَرَهُ الْمَلَكُ، وَقَالَ مِيرَكُ: قِيلَ إِنَّ الْمَسْجِدَ هُنَا، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ نَازِلًا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهِمْ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ) أَيْ: مُخَاطِبًا لَهُمْ كُلِّهِمْ أَوْ لِقَوْمِهِ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ كَانُوا طَائِفَتَيْنِ. (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) . قِيلَ أَيْ: لِتَعْظِيمِهِ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَتِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ وَلِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قُومُوا لِإِعَانَتِهِ فِي النُّزُولِ عَنِ الْحِمَارِ إِذْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ وَأَثَرُ جُرْحٍ أَصَابَ أَكْحَلَهُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَلَوْ أَرَادَ تَعْظِيمَهُ لَقَالَ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ تَخْصِيصُ الْأَنْصَارِ وَالتَّنْصِيصُ عَلَى السِّيَادَةِ الْمُضَافَةِ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَقُومُونَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْظِيمًا لَهُ، مَعَ أَنَّهُ سَيِّدُ الْخَلْقِ؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ عَلَى مَا كَانَ يَتَعَاهَدُهُ الْأَعَاجِمُ فِي شَيْءٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَعُرِفَ مِنْهُ إِلَى آخِرِ الْعَهْدِ، وَإِنَّمَا كَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجِعًا لِمَا رُمِيَ فِي أَكْحَلِهِ مَخُوفًا عَلَيْهِ مِنَ الْحَرَكَةِ حَذَرًا مِنْ سَيَلَانِ الْعِرْقِ بِالدَّمِ، وَقَدْ أُتِيَ بِهِ يَوْمَئِذٍ لِلْحُكْمِ الَّذِي سَلَّمَتْ إِلَيْهِ بَنُو قُرَيْظَةَ إِلَيْهِ عِنْدَ النُّزُولِ عَلَى حُكْمِهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ إِلَيْهِ لِيُعِينُوهُ عَلَى النُّزُولِ مِنْ عَلَى الْحِمَارِ، وَيَرْفُقُوا بِهِ فَلَا يُصِيبُهُ أَلَمٌ مِنَ الْمَرْكَبِ، وَلَوْ كَانَ يُرِيدُ بِهِ التَّوْقِيرَ وَالتَّعْظِيمَ لَقَالَ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي قِيَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ عِنْدَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ، وَمَا رُوِيَ «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: مَا دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا قَامَ إِلَيَّ أَوْ تَحَرَّكَ» ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِضَعْفِهِ، الْمَشْهُورُ عَنْ عَدِيٍّ إِلَّا وَسَّعَ لِي، وَلَوْ ثَبَتَ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّرْخِيصِ حَيْثُ يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَقَدْ كَانَ عِكْرِمَةُ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، وَعَدِيٌّ كَانَ سَيِّدَ بَنِي طَيِّئٍ، فَرَأَى تَأْلِيفَهُمَا بِذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ عَرَفَ مِنْ جَانِبِهِمَا تَطَلُّعًا إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيَامَهُ لِعِكْرِمَةَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ قَادِمًا مُهَاجِرًا كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ، وَقَدْ تَعَقَّبَ الطِّيبِيُّ التُّورِبِشْتِيَّ بِأَنَّ " إِلَى " فِي هَذَا الْمَقَامِ أَفْخَمُ مِنَ اللَّامِ، وَأَتَى بِمَا يُرْجِعُ عَلَيْهِ الْمَلَامَ، وَخَرَجَ عَنْ مَقَامِ الْمَرَامِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي الْحَدِيثِ إِكْرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ شَرَفٍ بِالْقِيَامِ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا، هَكَذَا احْتَجَّ بِالْحَدِيثِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْقِيَامُ الْمَنْهِيُّ تَمَثُّلُهُمْ قِيَامًا طُولَ جُلُوسِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ، وَقَدْ جَمَعْتُ كُلَّ ذَلِكَ مَعَ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ وَأَجَبْتُ فِيهِ عَمَّا يُوهِمُ النَّهْيَ عَنْهُ اهـ.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْحَاجِّ الْمَالِكِيُّ فِي مَدْخَلِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ رَدًّا بَلِيغًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الَّذِينَ عَنَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، هَلْ هُمُ الْأَنْصَارُ خَاصَّةً أَمْ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَهُمْ؟ قُلْتُ: هَذَا وَهْمٌ فَإِنَّهُ مَعَ صَرِيحِ قَوْلِهِ لِلْأَنْصَارِ: قُومُوا، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْعُمُومُ الشَّامِلُ لِلْمُهَاجِرِينَ؟ نَعَمْ يَحْتَمِلُ عُمُومَ الْأَنْصَارِ وَخُصُوصَ قَوْمِهِ مِنْهُمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: الْقِيَامُ مَكْرُوهٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْإِكْرَاهِ الْقِيَامَ لِلتَّحِيَّةِ بِمَزِيدِ الْمَحَبَّةِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُصَافَحَةُ، وَبِالْإِعْظَامِ التَّمَثُّلَ لَهُ بِالْقِيَامِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى عَادَةِ الْأُمَرَاءِ الْفِخَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ حَالٍ وَمَقَامٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ، وَمَضَى الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فِي بَابِ حِكَمِ الْإِسْرَاءِ.

4696 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4696 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ) : مِنَ الْإِقَامَةِ (مِنْ مَجْلِسِهِ) أَيْ: مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي سَبَقَهُ إِلَيْهِ مِنْ مَوْضِعٍ مُبَاحٍ (ثُمَّ يَجْلِسُ) أَيِ: الْمُقِيمُ (فِيهِ) ، قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ غَالِبِيٌّ (وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا) أَيْ: لِيَفْسَحْ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ قَوْلِهِمْ فَسِّحْ عَنِّي أَيْ: تَنَحَّ فَقَوْلُهُ: (وَتَوَسَّعُوا) . تَأْكِيدٌ وَمَعْنَاهُ: لَا تَتَضَامُّوا بَلْ يَقْرُبْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ لِيَتَّسِعَ الْمَجْلِسُ. قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مُبَاحٍ مِنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرَهُ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ إِقَامَتُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا إِذَا أَلِفَ مِنَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي بِهِ، أَوْ يُقْرِئُ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنَازِعَهُ فِيهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْلِيلِ هَلْ يَصْلُحُ لِتَخْصِيصِ الْعَامِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، مَعَ مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ أَخْذِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَسْجِدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّيَاءِ الْمُنَافِي لِلْإِخْلَاصِ؟ وَقَدْ «كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إِذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ عَنْ مَجْلِسِهِ لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4697 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4697 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ) أَيْ: مُرِيدًا لِلرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَرِيبًا (ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ) أَيْ: مِنْ قَرِيبٍ (فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) . وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقُرْبِ الرُّجُوعِ، فَإِنَّ مَنْ أَخَذَ مَكَانًا فِي عَرَفَةَ أَوْ مِنًى مَثَلًا وَرَجَعَ إِلَيْهِ سَنَةً أُخْرَى، فَلَيْسَ أَحَقَّ مِمَّنْ سَبَقَهُ خِلَافًا لِمَا يَتَوَهَّمُهُ الْعَامَّةُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: مَنْ كَانَ جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ فَقَامَ مِنْهُ لِيَتَوَضَّأَ أَوْ لِيَقْضِيَ شُغْلًا يَسِيرًا، سَوَاءٌ تَرَكَ فِيهِ خُمْرَةً وَنَحْوَهَا أَوْ لَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ مَنْ عَدَاهُ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْطُلِ اخْتِصَاصُهُ بِهِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ فِيهِ شَيْئًا بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ رُجُوعًا لِلْمُبَاحِ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَلَسَ فَقَامَ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ نَزَعَ نَعْلَهُ الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ مَا سَبَقَ مِنْ غَيْرِ تَعْمِيمٍ، وَقَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَدِيثُ فِيمَنْ جَلَسَ إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مُسْتَحَبٌّ وَلَا يَجِبُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . الْفَصْلُ الثَّانِي

4698 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4698 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ) أَيْ: إِلَى الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا) أَيْ: جَمِيعُهُمْ (إِذَا رَأَوْهُ) أَيْ: مُقْبِلًا

(لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ) . أَيْ: لِقِيَامِهِمْ تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ وَمُخَالَفَةً لِعَادَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، بَلِ اخْتَارَ الثَّبَاتَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَرْكِ التَّكَلُّفِ فِي قِيَامِهِمْ وَجُلُوسِهِمْ، وَأَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ، وَلُبْسِهِمْ وَمَشْيِهِمْ، وَسَائِرِ أَفْعَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَلِذَا رُوِيَ: " «أَنَا وَأَتْقِيَاءُ أُمَّتِي بُرَآءُ مِنَ التَّكَلُّفِ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْكَرَاهِيَةَ بِسَبَبِ الْمَحَبَّةِ الْمُقْتَضِيةِ لِلِاتِّحَادِ الْمُوجِبِ لِرَفْعِ التَّكَلُّفِ وَالْحِشْمَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ: مَهْمَا تَمَّ الِاتِّحَادُ خَفَّتِ الْحُقُوقُ بَيْنَهُمْ مِثْلُ الْقِيَامِ وَالِاعْتِذَارِ وَالثَّنَاءِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الصُّحْبَةِ، لَكِنْ فِي ضِمْنِهَا نَوْعٌ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالتَّكَلُّفِ، فَإِذَا تَمَّ الِاتِّحَادُ انْطَوَى بِسَاطُ التَّكَلُّفِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَسْلُكُ بِهِ إِلَّا مَسْلَكَ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآدَابَ الظَّاهِرَةَ عُنْوَانُ الْآدَابِ الْبَاطِنَةِ، فَإِذَا صَفَتِ الْقُلُوبُ بِالْمَحَبَّةِ اسْتَغْنَتْ عَنْ تَكَلُّفِ إِظْهَارِ مَا فِيهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِيَامَ وَتَرْكَهُ مُخْتَلِفٌ بِحَسْبِ الْأَزْمَانِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

4699 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4699 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ، أَيِ: ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ) أَيْ: أَعْجَبَهُ وَجَعَلَهُ مَسْرُورًا، وَلَفْظُ الْجَامِعِ مَنْ أَحَبَّ (أَنْ يَتَمَثَّلَ) أَيْ: يَنْتَصِبَ (لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا) أَيْ: يَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِمِينَ لِخِدْمَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُثُولًا أَيِ: انْتَصَبَ قَائِمًا، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا قَائِمِينَ لِلْخِدْمَةِ لَا لِلتَّعْظِيمِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قِيَامًا مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِمَا فِي الِانْتِصَابِ مِنْ مَعْنَى الْقِيَامِ، وَأَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِاشْتِرَاكِ الْمُثُولِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ (فَلْيَتَبَوَّأْ) أَيْ: فَلْيُهَيِّئْ (مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) . لَفْظُهُ الْأَمْرُ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَةً مِنَ النَّارِ، قِيلَ: هَذَا الْوَعِيدُ لِمَنْ سَلَكَ فِيهِ طَرِيقَ التَّكَبُّرِ بِقَرِينَةِ السُّرُورِ لِلْمُثُولِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ وَقَامُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ، أَوْ لِإِرَادَةِ التَّوَاضُعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ الْخَطَّابِيِّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، هُوَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ وَيُلْزِمَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَذْهَبِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ. قَالَ: وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْمَرْءِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّئِيسِ الْفَاضِلِ وَالْوَالِي الْعَادِلِ، وَقِيَامَ الْمُتَعَلِّمِ لِلْمُعَلِّمِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا الْقِيَامُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ، كَمَا كَانَ قِيَامُ الْأَنْصَارِ لِسَعْدٍ، وَقِيَامُ طَلْحَةَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِلَّذِي يُقَامُ لَهُ أَنْ يُرِيدَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ، حَتَّى إِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَقَدَ عَلَيْهِ أَوْ شَكَاهُ أَوْ عَاتَبَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ: وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ خَرَجَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ جَالِسَانِ، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ، وَقَعَدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ عِبَادُ اللَّهِ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ".

4700 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا عَلَى عَصًا، فَقُمْنَا لَهُ فَقَالَ: " لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4700 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا) أَيْ: مُعْتَمِدًا (عَلَى عَصًا) ، أَيْ: لِمَرَضٍ كَانَ بِهِ (فَقُمْنَا لَهُ) أَيْ: لِتَعْظِيمِهِ (فَقَالَ: «لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهَا» ) : وَيُرْوَى بَعْضُهُمْ (بَعْضًا) أَيْ: لِمَالِهِ وَمَنْصِبِهِ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي التَّعْظِيمُ لِلْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَكَذَا قَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ فَحَسَنٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَهُمَا يُلَائِمُ النَّهْيَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَامُوا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ قَامُوا مُتَمَثِّلِينَ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمُطْلَقِ الْقِيَامِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَرَامِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْوُقُوفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4701 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَهَادَةٍ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَا، وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوْبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4701 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ) : هُوَ أَخُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَاسْمُ أَبِي الْحَسَنِ يَسَارٌ الْبَصْرِيُّ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْهُ قَتَادَةُ وَعَوْفٌ، مَاتَ قَبْلَ أَخِيهِ بِسَنَةٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَةٍ. (قَالَ: جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ) أَيِ: الثَّقَفِيُّ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ (فِي شَهَادَةٍ) أَيْ: لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ (فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ) ، أَيْ: لِيَجْلِسَ هُوَ فِيهِ (فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ) ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (وَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَا) ، أَيْ: أَنْ يَقُومَ أَحَدٌ لِيَجْلِسَ غَيْرُهُ فِي مَجْلِسِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْجُلُوسِ فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنَ السِّيَاقِ، وَهُوَ أَنْ يُقَامَ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ: لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَيُوَافِقُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ. (وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ) أَيْ: إِذَا كَانَتْ مُلَوَّثَةً بِطَعَامٍ مَثَلًا (بِثَوْبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ) . بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ السِّينِ أَيْ: بِثَوْبِ شَخْصٍ لَمْ يُلْبِسْهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الثَّوْبَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ، وَالتَّحَكُّمُ عَلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: مَعْنَاهُ إِذَا كَانَتْ يَدُكَ مُلَطَّخَةً بِطَعَامٍ، فَلَا تَمْسَحْ يَدَكَ بِثَوْبِ أَجْنَبِيٍّ، وَلَكِنْ بِإِزَارِ غُلَامِكَ أَوِ ابْنِكَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ أَلْبَسْتَهُ الثَّوْبَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالثَّوْبِ الْإِزَارُ وَالْمِنْدِيلُ وَنَحْوُهَا، فَلَمَّا أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الثَّوْبِ عَقَّبَهُ بِالْكُسْوَةِ مُنَاسَبَةً لِلْمَعْنَى، أَيْ: نَهَى أَنْ يَمْسَحَ يَدَهُ بِمِنْدِيلِ الْأَجْنَبِيِّ، فَيَمْسَحُ بِمِنْدِيلِ نَفْسِهِ، أَوْ مِنْدِيلٍ وُهِبَهُ مِنْ غُلَامِهِ أَوِ ابْنِهِ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ إِذَا كَانَ رَاضِيًا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الشَّخْصَ قَامَ عَنِ الْمَجْلِسِ بِطِيبِ خَاطِرٍ، فَلَا بَأْسَ بِجُلُوسِهِ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} [المجادلة: 11] ، وَكَذَا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: " {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] "، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: «صَدْرُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَاحِبِهَا إِلَّا إِذَا أَذِنَ» ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْفُرُوعِ كَمَا فِي بَابِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ، فَامْتِنَاعُ الصَّحَابِيِّ مِنَ الْجُلُوسِ إِمَّا لِشَكِّ رِضَا الرَّجُلِ لِكَوْنِهِ قَامَ بِأَمْرِ بَعْضٍ أَوْ بِسَبَبِ حَيَاءٍ، وَإِمَّا الِاحْتِيَاطُ وَالْوَرَعُ، وَإِمَّا لِحَمْلِهِ الْحَدِيثَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ فِي النَّهْيِ الْأَخِيرِ.

4702 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَامَ، فَأَرَادَ الرُّجُوعَ، نَزَعَ نَعْلَهُ أَوْ بَعْضَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ، فَيَعْرِفُ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَيَثْبُتُونَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4702 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ) أَيْ: بَيْنَ يَدِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ وَسْطَ الْحَلْقَةِ (فَقَامَ) ، عَطْفٌ عَلَى جَلَسَ (فَأَرَادَ الرُّجُوعَ، نَزَعَ نَعْلَهُ) : جَوَابُ الشَّرْطِ أَيْ: خَلَعَ نَعْلَهُ وَتَرَكَهَا هُنَاكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ يَمْشِي حَافِيًا إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - اهـ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَمْشِيَ حَافِيًا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَمْشُوا حُفَاةً أَحْيَانًا (أَوْ بَعْضَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ) ، أَيْ: مِنْ رِدَاءٍ أَوْ عِمَامَةٍ أَوْ طَاقِيَّةٍ (فَيَعْرِفُ ذَلِكَ) أَيْ: إِرَادَةَ رُجُوعِهِ (أَصْحَابُهُ فَيَثْبُتُونَ) أَيْ: فِي مَكَانِهِمْ وَلَا يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4703 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4703 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ (بَيْنَ اثْنَيْنِ) أَيْ: بِأَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمَا (إِلَّا بِإِذْنِهِمَا) : لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَحَبَّةٌ وَمَوَدَّةٌ وَجَرَيَانُ سِرٍّ وَأَمَانَةٍ، فَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا التَّفَرُّقُ بِجُلُوسِهِ بَيْنَهُمَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا» .

4704 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَجْلِسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4704 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) أَيِ: ابْنِ عَمْرٍو عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْجَامِعُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تَجْلِسْ) أَيْ: أَنْتَ، وَالْمُرَادُ بِهِ خِطَابُ الْعَامِّ (بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4705 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ يُحَدِّثُنَا، فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4705 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا» ) أَيْ: لِانْفِضَاضِ الْمَجْلِسِ لَا لِلتَّعْظِيمِ ; لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَقُومُونَ لَهُ مُقْبِلًا، فَكَيْفَ يَقُومُونَ لَهُ مُدْبِرًا؟ (قِيَامًا) أَيْ: وُقُوفًا مُمْتَدًّا (حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ) : وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ رَجَاءَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَحَدٍ مَعَهُمْ، أَوْ يَعْرِضَ لَهُ رُجُوعٌ إِلَى الْجُلُوسِ مَعَهُمْ، فَإِذَا أَيِسُوا تَفَرَّقُوا وَلَمْ يَقْعُدُوا لِعَدَمِ حَلَاوَةِ الْجُلُوسِ بَعْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

4706 - وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دَخَلَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ قَاعِدٌ، فَتَزَحْزَحَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فِي الْمَكَانِ سَعَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِنَّ لِلْمُسْلِمِ لَحَقًّا إِذَا رَآهُ أَخُوهُ أَنْ يَتَزَحْزَحَ لَهُ» ". رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4706 - (وَعَنْ وَاثِلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ (ابْنِ الْخَطَّابِ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ فَتَزَحْزَحَ) أَيْ: تَنَحَّى عَنْ مَكَانٍ هُوَ فِيهِ (لَهُ) أَيْ: لِذَلِكَ الرَّجُلِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فِي الْمَكَانِ سَعَةً) : بِفَتْحِ السِّينِ وَسَعًا، فَلِأَيِّ شَيْءٍ تَتْعَبُ التَّزَحْزُحَ مَعَ أَنِّي مِنْ عَبِيدِكَ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لِلْمُسْلِمِ لَحَقًّا) : اللَّامُ فِي الِاسْمِ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ بِدُونِ اللَّامِ (إِذَا رَآهُ أَخُوهُ) : ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: (أَنْ يَتَزَحْزَحَ لَهُ) : وَهُوَ بَيَّنَ لَحَقًّا أَوْ بَدَلٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِكْرَامِ الدَّاخِلِ وَإِجْلَاسِهِ صَدْرَ الْمَجْلِسِ. قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْإِجْلَاسِ الْمَذْكُورِ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَجْلِسُ فِي مَقَامِهِ اللَّائِقِ بِهِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَرْفُوعًا: " «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» ". وَفِي رِوَايَةِ الْخَرَائِطِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْزِلِ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَحْسِنْ أَدَبَهُمْ عَلَى الْأَخْلَاقِ الصَّالِحَةِ. (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب الجلوس والنوم والمشي]

[بَابُ الْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَالْمَشْيِ]

(5) بَابُ الْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَالْمَشْيِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4707 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدَيْهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (5) بَابُ الْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَالْمَشْيِ وَفِيهِ ذِكْرُ الِاسْتِلْقَاءِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4707 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ) : بِكَسْرِ فَاءٍ وَنُونٍ مَمْدُودَةٍ أَيْ: جَانِبُهَا مِنْ قِبَلِ الْبَابِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ سِعَةٌ أَمَامَ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهِ وَقِيلَ: الْمَوْضِعُ الْمُتَّسِعُ الْمُحَاذِي لِبَابِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفِنَاءُ كَكِسَاءٍ: مَا اتَّسَعَ مِنْ أَمَامِهَا (بِيَدِهِ) أَيْ: جَالِسًا بِحَيْثُ يَكُونُ رُكْبَتَاهُ مَنْصُوبَتَيْنِ وَبَطْنُ قَدَمَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَدَاهُ مَوْضُوعَتَيْنِ عَلَى سَاقَيْهِ، وَالْمُرَادُ لَهُ سُنِّيَّةُ الِاحْتِبَاءِ فِي الْجُلُوسِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُنِّيَّتَهُ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْفِعْلِ، بَلْ هُوَ بَيَانُ الْجَوَازِ وَدَلِيلُ الِاسْتِحْبَابِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4708 - وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ عَمِّهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَلْقِيًا وَاضِعًا إِحْدَى قَدَمِهِ عَلَى الْأُخْرَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4708 - (وَعَنْ عَبَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : بِفَتْحِ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ (ابْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ) : لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ) أَيْ: عَمُّهُ، قَالَ مِيرَكُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَازِنِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، رَوَى صِفَةَ الْوُضُوءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيُقَالُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْحَرَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: رَأَيْتُهُ (فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَلْقِيًا) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُضْطَجِعًا عَلَى ظَهْرِهِ (وَاضِعًا إِحْدَى قَدَمَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى) : حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ أَوْ مُتَرَادِفَةٌ، وَوَضْعُ الْقَدَمِ عَلَى الْقَدَمِ لَا يَقْتَضِي كَشْفَ الْعَوْرَةِ، بِخِلَافِ وَضْعِ الرِّجْلِ عَلَى الرِّجْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ النَّهْيِ الْآتِي عَنْ وَضْعِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَحْقِيقٍ لِذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَإِنَّكُمْ إِذَا أَرَدْتُمُ الِاسْتِلْقَاءَ، فَلْيَكُنْ هَكَذَا، وَأَنَّ النَّهْيَ الَّذِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الِاجْتِنَابُ عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ لِضَرُورَةٍ مِنْ تَعَبٍ أَوْ طَلَبِ رَاحَةٍ، وَإِلَّا فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ جُلُوسَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَامِعِ عَلَى خِلَافِ هَذَا، بَلْ كَانَ يَجْلِسُ مُتَرَبِّعًا عَلَى الْوَقَارِ وَالتَّوَاضُعِ اهـ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ مَنْسُوخٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ مَعْرِفَةِ تَارِيخٍ فَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمَا أَوْلَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4709 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4709 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ» ) : فِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ وَجَابِرٍ: إِنَّ وَضْعَ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى قَدْ يَكُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ أَنْ تَكُونَ رِجْلَاهُ مَمْدُودَتَيْنِ إِحْدَاهَا فَوْقَ الْأُخْرَى، وَلَا بَأْسَ بِهَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْكَشِفُ مِنَ الْعَوْرَةِ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِبًا سَاقَ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَيَضَعُ الرِّجْلَ الْأُخْرَى عَلَى الرُّكْبَةِ الْمَنْصُوبَةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ لَمْ يَكُنِ انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ، أَوْ يَكُونَ إِزَارُهُ أَوْ ذَيْلُهُ طَوِيلَيْنِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا اهـ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَإِنَّمَا أُطْلِقَ النَّهْيُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِمُ الِاتِّزَارُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: فِي أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ إِلَخْ.

4710 - وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ ثُمَّ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4710 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ ثُمَّ يَضَعُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: ثُمَّ هُوَ يَضَعُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ أَيْ: ثُمَّ لَا يَضَعْ (إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى) : فَالنَّهْيُ عَنِ الِاسْتِلْقَاءِ الْمُقَيَّدِ لَا مُطْلَقِ الِاسْتِلْقَاءِ كَمَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4711 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْنِ وَقَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، خُسِفَ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4711 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ) : قِيلَ هُوَ قَارُونُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّنْ قَبْلَهُ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ (يَتَبَخْتَرُ) أَيْ: يَمْشِي خُيَلَاءَ (فِي بُرْدَيْنِ) : وَيَفْتَخِرُ وَيَتَكَبَّرُ فِي لَبْسِهِمَا (وَقَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ) أَيْ: مِنْ عَجَبٍ وَتَكَبُّرٍ نَشَأَ مِنْهَا (خُسِفَ بِهِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَنَائِبُهُ. قَوْلُهُ (الْأَرْضَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، ذَكَرَهُ سَعْدِي جَلَبِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] ، وَقِيلَ: مَنْصُوبَةٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: خَسَفَ اللَّهُ بِفُلَانٍ الْأَرْضَ، أَيْ: غِيبَ فِيهَا (فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ) : بِجِيمَيْنِ أَيْ: يَغُوصُ وَيَذْهَبُ (فِيهَا) أَيْ: فِي الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ خُسِفَ بِهِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : وَفِي النِّهَايَةِ: الْجَلْجَلَةُ حَرَكَةٌ مَعَ الصَّوْتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4712 - عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ عَلَى يَسَارِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4712 - (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: أَبْصَرْتُهُ (مُتَّكِئًا) : حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ رَأَيْتُ (عَلَى وِسَادَةٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِمُتَّكِئًا (عَلَى يَسَارِهِ) أَيْ: كَائِنَةٌ عَلَى جَانِبِ يَسَارِهِ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمُتَّكِئًا بَعْدَ تَقْيِيدِهِ بِالظَّرْفِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ تَظْرِيفِ الْمَظْرُوفِ، ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا مَوْضُوعَةً عَلَى يَسَارِهِ، وَهُوَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، فَيَجُوزُ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْوِسَادَةِ يَمِينًا وَيَسَارًا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ نَدْبُ الِاتِّكَاءِ وَوَضْعُ الْوِسَادَةِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِ الْيَسَارِ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا، وَإِلَّا فَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنَّ الِاضْطِجَاعَ عَلَى الْأَيْمَنِ هُوَ الْمَنْدُوبُ، وَيَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: فِي جَامِعِهِ، وَرَوَاهُ فِي شَمَائِلِهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ وَكِيعٌ عَلَى يَسَارِهِ، وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ نَحْوَ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى عَلَى يَسَارِهِ إِلَّا مَا رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ رِوَايَةَ إِسْحَاقَ عَنْ يَسَارِهِ انْفَرَدَ بِهَا إِسْحَاقُ فَهُوَ غَرِيبٌ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ

4713 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ احْتَبَى بِيَدِهِ» . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4713 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ) : وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ " فِي الْمَجْلِسِ " مَوْضِعَ " فِي الْمَسْجِدِ " (احْتَبَى بِيَدَيْهِ. رَوَاهُ رَزِينٌ) : وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ، لَكِنْ بِغَيْرِ قَيْدٍ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

4714 - وَعَنْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا «رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ. قَالَتْ: فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَخَشِّعَ أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4714 - (وَعَنْ قَيْلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) : بِفَتْحِ قَافٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ (بِنْتِ مَخْرَمَةَ) : بِسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ بَيْنَ فَتَحَاتٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَمِيمِيَّةٌ رَوَتْ عَنْهَا صَفِيَّةُ وَدُحَيْبَيَةُ ابْنَتَا عُلَيْبَةَ، وَكَانَتَا مِنْ رَبِيبَتَيْهَا وَهِيَ جَدَّةُ أَبِيهِمَا وَلَهَا صُحْبَةٌ. (أَنَّهَا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَاعِدٌ) أَيْ: جَالِسٌ (الْقُرْفُصَاءَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَهُوَ مَمْدُودٌ، وَفِي نُسْخَةٍ مَقْصُورٌ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْفَاءِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ صَادٌ مُهْمَلَةٌ، وَمَدٌّ: جَلْسَةُ الْمُحْتَبِي أَنْ يُدِيرَ ذِرَاعَيْهِ وَيَدَيْهِ عَلَى سَاقَيْهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْقُرْفُصَاءُ ضَرْبٌ مِنَ الْقُعُودِ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، فَإِذَا قُلْتَ: قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ قُعُودًا مَخْصُوصًا، وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَيُلْصِقَ فَخِذَيْهِ بِبَطْنِهِ، وَيَحْتَبِيَ بِيَدَيْهِ وَيَضَعَهُمَا عَلَى سَاقَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُتَّكِئًا وَيُلْصِقَ بَطْنَهُ لِفَخِذَيْهِ وَيَتَأَبَّطَ كَفَّيْهِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْقُرْفُصَاءُ مُثَلَّثَةُ الْقَافِ وَالْفَاءِ مَقْصُورَةٌ، وَالْقُرْفُصَاءُ بِالضَّمِّ، وَالْقُرُفُصَاءُ بِضَمِّ الْقَافِ وَالرَّاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ. (قَالَتْ: فَلَمَّا رَأَيْتُ) أَيْ: أَبْصَرْتُ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَخَشِّعَ) أَيِ: الْخَاشِعَ الْخَاضِعَ الْمُتَوَاضِعَ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ عَلَى مَا جَوَّزَهُ الْكُوفِيُّونَ فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ: وَأَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ وَلَمْ يَذُدْهَا. مَعَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْبَصْرِيِّينَ قَدْ يَأْتِي هُنَا أَيْضًا بِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ مَوْضُوعَةٌ مَوْضِعَ النَّكِرَةِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ أَوْ زَائِدَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْحَالِيَّةَ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَظْهَرُ، فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: الرَّجُلَ الْمُتَخَشِّعَ. وَقَالَ الْقَاضِي: " الْمُتَخَشِّعَ " صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ثَانِيَ مَفْعُولَيْ رَأَيْتُ؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: سَلَكَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ مَسْلَكَ التَّجْرِيدِ جَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ الزَّكِيَّةِ الرَّجُلَ الْمُتَخَشِّعَ وَجَعَلَهُ شَخْصًا آخَرَ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ لِكَمَالِ التَّخَشُّعِ فِيهِ وَإِلْقَاءِ رِدَاءِ الْهَيْبَةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتْ: (أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ) : وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] ، الْكَشَّافُ: قَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ " وَرْدَةٌ " بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى فَحَصَلَتْ سَمَاةٌ وَرْدَةٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُسَمَّى التَّجْرِيدَ كَقَوْلِهِ: فَلَئِنْ بَقِيتُ لَأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍتَحْوِي الْغَنَائِمَ أَوْ يَمُوتُ كَرِيمُ وَالتَّفْعِيلَ هُنَا لَيْسَ لِلتَّكَلُّفِ، بَلْ هُوَ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَالْمُبَالَغَةِ، كَمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوَ الْمُتَكَبِّرِ اهـ. وَقَوْلُهَا: أُرْعِدْتُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: أَخَذَتْنِي الرِّعْدَةُ وَالِاضْطِرَابُ وَالْحَرَكَةُ مِنَ الْفَرَقِ بِفُتْحَتَيْنِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ الْخَوْفِ وَالْمَعْنَى: هِبْتُهُ مَعَ خُضُوعِهِ وَخُشُوعِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4715 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنَاءَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4715 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ) أَيْ: جَلَسَ مُرَبِّعًا وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) أَيْ: تَرْتَفِعُ (حَسَنَاءَ) : بِفُتْحَتَيْنِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ أَيْ: طُلُوعًا ظَاهِرًا بَيِّنًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ: (حَسْنَاءَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مَمْدُودٌ، أَيْ: طَلْعَةٌ كَامِلَةٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ الصَّوَابُ حَسَنًا عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: طُلُوعًا حَسَنًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ مُتَرَبِّعًا فِي مَجْلِسِهِ إِلَى أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ حَسْنَاءَ، فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى مَا سَبَقَ أَوْ حَالًا، وَالْمَعْنَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ نَقِيَّةً بَيْضَاءَ زَائِلَةً عَنْهَا الصُّفْرَةُ

الَّتِي تَتَخَيَّلُ فِيهَا عِنْدَ الطُّلُوعِ؛ بِسَبَبِ مَا يَعْتَرِضُ دُونَهَا عَلَى الْأُفُقِ مِنَ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَدْخِنَةِ. وَقَالَ مِيرَكُ: هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ وَبِالتَّنْوِينِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ وَبِالْمَدِّ وَالنَّصْبِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ حِينًا بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالنُّونِ، أَيْ: زَمَانًا يُرِيدُ مُدَّةَ جُلُوسِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَلَى مَا فِي الرِّيَاضِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا صَلَّى الْغَدْوَةَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ.

4716 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا عَرَّسَ بِلَيْلٍ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَصَبَ ذِرَاعَهُ وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4716 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا عَرَّسَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، فِي النِّهَايَةِ التَّعْرِيسُ: نُزُولُ الْمُسَافِرِ آخِرَ اللَّيْلِ نُزُولُهُ لِلنَّوْمِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، فَقَوْلُهُ. (بِلَيْلٍ) : فِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ، وَالْمَعْنَى: إِذَا نَزَلَ بِلَيْلٍ لِلرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَرَادَ إِذَا نَامَ بِلَيْلٍ أَيْ: فِي سَفَرٍ ( «اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَصَبَ ذِرَاعَهُ وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ» ) أَيِ: احْتِرَاسًا لِئَلَّا يَنَامَ طَوِيلًا فَيَفُوتَهُ الصُّبْحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْقَيْدُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ تَعْرِيسَهُ بِاللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ بِلَا مِرْيَةٍ (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا عَرَّسَ وَعَلَيْهِ لَيْلٌ تَوَسَّدَ يَمِينَهُ، وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ وَضَعَ رَأَسَهُ عَلَى كَفِّهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَ سَاعِدَهُ.

4717 - وَعَنْ بَعْضِ آلِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ: «كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوًا مِمَّا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عِنْدَ رَأْسِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4717 - (وَعَنْ بَعْضِ آلِ أُمِّ سَلَمَةَ) أَيْ: مِنْ خَدَمِهَا أَوْ أَقَارِبِهَا مِمَّنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا (قَالَ: «كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوًا مِمَّا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ» ) أَيْ: كَانَ مَا يَفْتَرِشُهُ لِلنَّوْمِ قَرِيبًا مِمَّا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْمَاضِي لِلْمُضَارِعِ حِكَايَةٌ لِلْحَالِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ مِمَّا يُوضَعُ لِلْإِنْسَانِ فِي قَبْرِهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ يُوضَعُ فَرْشٌ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي قَبْرِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ شَيْئًا خَفِيفًا وَلَا طَوِيلًا وَلَا عَرِيضًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: نَحْوًا خَبَرُ كَانَ، وَمِنْ: قِيلَ بَيَانٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: مِثْلَ شَيْءٍ مِمَّا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ، قِيلَ: وَقَدْ وُضِعَ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ أَيْ: كَانَ فِرَاشُهُ لِلنَّوْمِ نَحْوَهَا (وَكَانَ الْمَسْجِدُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ (عِنْدَ رَأْسِهِ) أَيْ: إِذَا نَامَ يَكُونُ رَأْسُهُ إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ: وَكَانَ مُصَلَّاهُ أَوْ سَجَّادَتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)

4718 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مُضْطَجِعًا عَلَى بَطْنِهِ، فَقَالَ: " إِنَّ هَذِهِ ضِجْعَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4718 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مُضْطَجِعًا عَلَى بَطْنِهِ، فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ لِغَيْرِهِ إِعْرَاضًا عَنْهُ وَاعْتِرَاضًا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلنَّصِيحَةِ. (إِنَّ هَذِهِ) أَيْ: هَذَا الِاضْطِجَاعَ، وَتَأْنِيثُهُ لِتَأْنِيثِ خَبَرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (ضِجْعَةٌ) : وَهَى بِكَسْرِ أَوَّلِهِ لِلنَّوْعِ (لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ) : لِأَنَّ وَضْعَ الصَّدْرِ وَالْوَجْهِ اللَّذَيْنِ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ عَلَى الْأَرْضِ إِذْلَالٌ فِي غَيْرِ السُّجُودِ، أَوْ هَذِهِ الضِّجْعَةُ رَقْدَةُ اللَّوَّاطَةِ، فَالتَّشْبِيهُ بِهِمْ مَذْمُومٌ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا ضِجْعَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ، وَفِي حَدِيثٍ إِنَّمَا هِيَ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4719 - وَعَنْ يَعِيشَ بْنِ طِخْفَةَ بْنِ قَيْسٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ - قَالَ «بَيْنَمَا أَنَا مُضْطَجِعٌ مِنَ السَّحَرِ عَلَى بَطْنِي إِذَا رَجُلٌ يُحَرِّكُنِي بِرِجْلِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ ضِجْعَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4719 - (وَعَنْ يَعِيشَ) : بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ عَلَى وَزْنِ يَزِيدَ (ابْنِ طِخْفَةَ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْفَاءِ كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِضَبْطِ الْمُصَنِّفِ، وَقِيلَ: طِهْفَةَ بِالْهَاءِ بَدَلَ الْخَاءِ، وَفِي الْمُغْنِي بِمَفْتُوحَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ فَفَاءٍ، وَيُقَالُ: بِهَاءٍ، وَيُقَالُ: بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكَانَ خَاءٍ. (ابْنِ قَيْسٍ الْغِفَارِيِّ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: طِخْفَةَ (وَكَانَ) أَيْ: أَبُوهُ (مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، بَلْ ذَكَرَ يَعِيشَ فِي التَّابِعِينَ، وَقَالَ فِي حَرْفِ الْقَافِ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ قَيْسُ بْنُ أَبِي غَرَزَةَ الْغِفَارِيُّ عَدَادُهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، رَوَى عَنْهُ أَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي ذِكْرِ التِّجَارَةِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُوهُ (بَيْنَمَا أَنَا مُضْطَجِعٌ مِنَ السَّحَرِ) : بِفُتْحَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ الثَّانِي، وَهُوَ الرِّئَةُ. فَفِي الصِّحَاحِ: السُّحْرُ الرِّئَةُ، وَكَذَلِكَ السَّحْرُ وَيُحَرَّكُ، وَفِي الْقَامُوسِ: السَّحْرُ وَيُضَمُّ وَيُحَرَّكُ: الرِّئَةُ اهـ. وَقِيلَ: مَا لَصِقَ بِالْحُلْقُومِ مِنْ أَعْلَى الْبَطْنِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمَعْنَى: رَاقِدٌ مِنْ أَجْلِ دَاءٍ بِهِ وَبِسَبَبِ وَجَعِهِ (عَلَى بَطْنِي إِذَا رَجُلٌ) أَيْ: شَخْصٌ (يُحَرِّكُنِي بِرِجْلِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ ضِجْعَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ) : هَذَا آكِدٌ وَأَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ السَّابِقِ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ (فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ) أَيِ: الرَّجُلُ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ عُذْرُهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ يُمْكِنُ الِاضْطِجَاعُ عَلَى الْفَخِذَيْنِ لِدَفْعِ الْوَجَعِ مِنْ غَيْرِ مَدِّ الرِّجْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

4720 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ عَلَيْهِ حِجَابٌ - وَفِي رِوَايَةٍ: حِجَارٌ - فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ " لِلْخَطَّابِيِّ " حِجًى ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4720 - (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٌ قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: حَنَفِيٌّ يَمَانِيٌّ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَاتَ) أَيْ: نَامَ لَيْلًا (عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ) أَيْ: سَطْحٍ لَهُ (لَيْسَ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى أَطْرَافِهِ (حِجَابٌ) أَيْ: مَانِعٌ مِنَ السُّقُوطِ (وَفِي رِوَايَةٍ: حِجَارٌ) أَيْ: بِالرَّاءِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ جَمْعُ حِجْرٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَهُوَ مَا يُحْجَرُ بِهِ مِنْ حَائِطٍ وَنَحْوِهِ وَمِنْهُ حَجَرُ الْكَعْبَةِ (فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ) . قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ مَنْ نَامَ عَلَى سَطْحٍ لَا سَتْرَ لَهُ فَقَدْ تَصَدَّى لِلْهَلَاكِ، وَأَزَالَ الْعِصْمَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَصَارَ كَالْمُهْدَرِ الَّذِي لَا ذِمَّةَ لَهُ، فَلَعَلَّهُ يَنْقَلِبُ فِي نَوْمِهِ فَيَسْقُطُ وَيَمُوتُ مُهْدَرًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنَ النَّاسِ عَهْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِفْظِ وَالْكَلَأِ، فَإِذَا أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ انْقَطَعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ، وَهَذَا تَهْدِيدُ كَرَاهَةِ اضْطِجَاعِ الرَّجُلِ فِي مَوْضِعٍ مَخُوفٍ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ تَعْلِيمِ الْأَبِ النَّاشِئِ عَنْ مَرْحَمَةِ سَيِّدِ أُولِي الْأَلْبَابِ وَشَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ لِكَوْنِهِ كَالْأَبِ، بَلْ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَرْحَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَرْحَمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَعْلَمُ الْعَالَمِينَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ لَكِنْ بِلَفْظِ حِجَابٍ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ (وَفِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ " لِلْخَطَّابِيِّ " حِجًى) : بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَجِيمٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ، الْحِجَا كَإِلَى: الْعَقْلُ وَبِالْفَتْحِ: النَّاحِيَةُ اهـ. وَهُوَ مُنَوَّنٌ وَهُوَ مَرْفُوعٌ تَقْدِيرًا. وَفِي النِّهَايَةِ حِجًى هَكَذَا.

رَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُرْوَى بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا وَمَعْنَاهُ فِيهِمَا السَّتْرُ، فَمَنْ قَالَ بِالْكَسْرِ شَبَّهَهُ بِالْحِجْرِ: الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْفَسَادِ، وَيَحْفَظُهُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْهَلَاكِ، فَشَبَّهَ السَّتْرَ - الَّذِي يَكُونُ عَلَى السَّطْحِ الْمَانِعَ لِلْإِنْسَانِ مِنَ التَّرَدِّي وَالسُّقُوطِ - بِالْعَقْلِ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ أَفْعَالِ السُّوءِ الْمُودِيَةِ إِلَى الرَّدَى، وَمَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى النَّاحِيَةِ وَالطَّرْفِ، وَأَحْجَاءُ الشَّيْءِ نَوَاحِيهِ، وَأَحَدُهُمَا حَجًى بِالْفَتْحِ. وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ؛ الَّذِي قَرَأْتُهُ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ حِجَابٌ. وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى: حِجَارٌ، أَمَّا الْحِجَابُ بِالْبَاءِ فَهُوَ الَّذِي يَحْجُبُ الْإِنْسَانَ عَنِ الْوُقُوعِ، وَبِالرَّاءِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ حَجَرٍ وَهُوَ مَا حُجِرَ بِهِ مِنْ حَائِطٍ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَمْنَعُ النَّائِمَ عَلَى السَّطْحِ مِنَ السُّقُوطِ، وَيُعَضِّدُ رِوَايَةَ الرَّاءِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ اهـ. وَفِي الْمَصَابِيحِ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ حَيْثُ قَالَ شَارِحٌ لَهُ: لَيْسَ عَلَيْهِ حَجًى بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَكَسْرِهَا.

4721 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَطْحٍ بِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4721 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ) أَيْ: لَيْلًا أَوْ مُطْلَقًا (عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ) أَيْ: لَيْسَ حَوْلَهُ جِدَارٌ مَانِعٌ مِنَ الْوُقُوعِ عَنِ السَّطْحِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4722 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَعَدَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4722 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: مَلْعُونٌ) أَيْ: مَذْمُومٌ (عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَعَدَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ) . بِسُكُونِ السِّينِ وَاللَّامِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لُعِنَ مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ، وَهُوَ يُتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْتِيَ حَلْقَةَ قَوْمٍ فَيَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ وَيَقْعُدَ وَسْطَهَا، وَلَا يَقْعُدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ، وَالثَّانِي: أَنْ يَقْعُدَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ فَيَحُولُ بَيْنَ الْوُجُوهِ وَيَحْجُبُ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمُرَادُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْمَاجِنُ الَّذِي يُقِيمُ نَفْسَهُ مَقَامَ السُّخْرِيَةِ، لِيَكُونَ ضِحْكَةً بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنَ الْمُتَأَكِّلِينَ بِالسُّمْعَةِ وَالشَّعْوَذَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْ حُذَيْفَةَ، لَكِنْ بِلَفْظِ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَعَدَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ.

4723 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَيْرُ الْمَجَالِسِ أَوْسَعُهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4723 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَيْرُ الْمَجَالِسِ أَوْسَعُهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ عَنْهُ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ.

4724 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: " مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» ؟ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4724 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: حَضَرَ (وَأَصْحَابُهُ جُلُوسٌ) أَيْ: جَالِسُونَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ) أَيْ: أُبْصِرُكُمْ (عِزِينَ؟) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالزَّايِ أَيْ: مُتَفَرِّقِينَ جَمْعُ عِزَةٍ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ عَنِ الْيَاءِ، وَهِيَ فِرْقَةٌ مِنَ النَّاسِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَالْمَعْنَى: اجْلِسُوا فِي الْحَلْقَةِ أَوْ فِي الصَّفِّ أَمَرَهُمْ بِهِ كَيْلَا يُدْبِرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يُؤَدِّيَ إِلَى التَّفْرِقَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]

الْآيَةَ. وَلِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْكُفَّارِ عَلَى مَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ لِقَوْلِهِ: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ - عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج: 36 - 37] ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي حِلَقًا. قَالَ: وَرَوَى يَحْيَى عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ وَهُمْ حِلَقٌ فَقَالَ: " مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» "، أَيْ: مُتَفَرِّقِينَ مُخْتَلِفِينَ لَا يَجْمَعُكُمْ مَجْلِسٌ وَاحِدٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ.

4725 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْفَيْءِ فَقَلَصَ عَنْهُ الظِّلُّ، فَصَارَ بَعْضُهُ فِي الشَّمْسِ، وَبَعْضُهُ فِي الظِّلِّ، فَلْيَقُمْ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4725 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْفَيْءِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: فِي ظِلٍّ (فَقَلَصَ) أَيِ: ارْتَفَعَ (عَنْهُ الظِّلُّ) أَيْ: بَعْضُهُ وَفِيهِ تَفَنُّنٌ (فَصَارَ بَعْضُهُ فِي الشَّمْسِ، وَبَعْضُهُ فِي الظِّلِّ) بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ (فَلْيَقُمْ) أَيْ: فَلْيَتَحَوَّلْ مِنْهُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ يَكُونُ كُلُّهُ ظِلًّا أَوْ شَمْسًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَعَدَ ذَلِكَ الْمَقْعَدَ فَسَدَ مَزَاجُهُ لِاخْتِلَافِ حَالِ الْبَدَنِ مِنَ الْمُؤَثِّرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَدَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَالِ الِاعْتِدَالِ مَعَ أَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِمَجْلِسِ الْمَجَانِينِ، وَنَظِيرُهُ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ إِحْدَى النَّعْلَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُعَلَّلَ بِمَا عَلَّلَهُ الشَّارِعُ مِنْ قَوْلِهِ الْآتِي: فَإِنَّهُ مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: مَرْفُوعًا.

4726 - وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنْهُ قَالَ: " «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْفَيْءِ فَقَلَصَ عَنْهُ فَلْيَقُمْ، فَإِنَّهُ مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ» ". هَكَذَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ مَوْقُوفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4726 - (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ) . أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْفَيْءِ فَقَلَصَ) أَيِ: ارْتَفَعَ الْفَيْءُ (عَنْهُ فَلْيَقُمْ، فَإِنَّهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْمَجْلِسَ (مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ لِيُصِيبَهُ السُّوءُ، فَهُوَ عَدُوٌّ لِلْبَدَنِ كَمَا هُوَ عَدُوٌّ لِلدِّينِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَدَاوَتُهُ لِلْبَدَنِ بِنَاءً عَلَى اسْتِعَانَتِهِ بِضَعْفِ الْبَدَنِ عَلَى ضَعْفِ الدِّينِ. (هَكَذَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ مَوْقُوفًا) أَيْ: عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأَصْلُ فِيهِ الرَّفْعُ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ مَرْفُوعًا؛ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَقْدُمُ عَلَى التَّحَدُّثِ بِالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَقُّ الْأَبْلَجُ فِيهِ وَفِي مِثَالِهِ التَّسْلِيمُ لِنَبِيِّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَقَالِهِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُ غَيْرُهُ وَيَرَى مَا لَا يَرَى اهـ. فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ بَيْنَ الضِّحِّ وَالظِّلِّ، وَقَالَ: " مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ رَجُلٍ مَرْفُوعًا.

4727 - وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ لِلنِّسَاءِ: " اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تُحْقِقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ» ". فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْصَقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4727 - (وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ) بِضَمِّ هَمْزٍ وَفَتْحِ سِينٍ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ الْأَنْصَارِيُّ سَبَقَ تَرْجَمَتُهُ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَاخْتَلَطَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمَقُولُ أَيْ يَقُولُ: كَيْتَ وَكَيْتَ فَاخْتَلَطَ (الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ لِلنِّسَاءِ) : فَالْفَاءُ فِي " فَاخْتَلَطَ " مُسَبَّبٌ عَنْ مَقُولِ يَقُولُ، وَفِي " فَقَالَ " عَنِ اخْتَلَطَ اهـ. وَقَوْلُهُ: (اسْتَأْخِرْنَ) : مِنْ بَابِ الِاسْتِفْعَالِ بِمَعْنَى التَّفَعُّلِ، فَالْمَعْنَى تَأَخَّرْنَ عَنْ وَسَطِ الطَّرِيقِ. وَأَبْعِدْنَ عَنْ حَاقِّهَا إِلَى حَافَتِهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحَقُقْنَ الطَّرِيقَ) : بِضَمِّ الْقَافِ الْأُولَى أَيْ: تَذْهَبْنَ فِي حَاقِّ الطَّرِيقِ، وَالَحَاقُّ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ الْوَسَطُ. (عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ) . جَمْعُ حَافَةٍ بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ أَيْ: بِأَطْرَافِهَا وَجَوَانِبِهَا. وَفَى النِّهَايَةِ:

الْحَافَةُ النَّاحِيَةُ وَعَيْنُهَا وَاوٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهَا عَلَى حُوَيْفَةٍ (فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ) أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرِ (تَلْصَقُ) : بِفَتْحِ الصَّادِ، أَيْ: تَلْزَقُ (بِالْجِدَارِ) : وَتُبَالِغُ فِي لُصُوقِهَا (حَتَّى إِنَّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ) : أَيْ أَحْيَانًا (بِالْجِدَارِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .

4728 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَمْشِيَ - يَعْنِي الرَّجُلُ - بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4728 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَمْشِيَ - يَعْنِي الرَّجُلَ -) : تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَاعِلِ يَمْشِي: الرَّجُلَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ الرَّجُلِ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الْحَدِيثِ، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ سَابِقِهِ وَلَاحِقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَلَفَظُ الْجَامِعِ: «نَهَى أَنْ يَمْشِيَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ.

4729 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذُكِرَ حَدِيثَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي " بَابِ الْقِيَامِ ". وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي " بَابِ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتِهِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4729 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مَجْلِسَهُ الشَّرِيفَ (جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي) . أَيْ: هُوَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَجْلِسِ أَوْ حَيْثُ يَنْتَهِي الْمَجْلِسُ إِلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ حُضَّارِهِ تَأَدُّبًا وَتَرْكًا لِلتَّكَلُّفِ، وَمُخَالَفَةً لِحَظِّ النَّفْسِ مِنْ طَلَبِ الْعُلُوِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَرْبَابِ الْجَاهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَذَكَرَ حَدِيثَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي " بَابِ الْقِيَامِ) : كَذَا فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، وَفِي أَصْلِ السَّيِّدِ: حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ، أَمَّا عَلَى الْأُصُولِ فَالْحَدِيثَانِ أَوَّلُهُمَا: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ، وَالْآخَرُ بَعْدَهُ لَا تَجْلِسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَإِنَّمَا قَالَ حَدِيثَا عَبْدِ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ مَنْسُوبٌ فِيمَا سَبَقَ إِلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِجَدِّهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِيهِ، وَأَمَّا عَلَى نُسْخَةِ السَّيِّدِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي " بَابِ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتِهِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) . فَالْأَوَّلُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ» ، وَالثَّانِي: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4730 - عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرَّ بِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي. قَالَ: " أَتَقْعُدُ قِعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ؟» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4730 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ) تَابِعِيٌّ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: شَرِيدِ بْنِ السُّوَيْدِ الثَّقَفِيِّ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ وَهُوَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا) : الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمُفَسَّرُ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي) أَيِ: الْيُمْنَى، وَالْأَلْيَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ اللَّحْمَةُ الَّتِي فِي أَصْلِ الْإِبْهَامِ.

(فَقَالَ) أَيْ: مُنْكِرًا عَلَيَّ (أَتَقْعُدُ قِعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ؟) الْقِعْدَةُ بِالْكَسْرِ لِلنَّوْعِ وَالْهَيْئَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَكْسَ فِعْلِهِ أَيْضًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِنْكَارُ، وَكَذَا وَضْعُ الْيَدَيْنِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ مُتَّكِئًا عَلَيْهِمَا مِنْ قِعْدَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ، لَكِنْ فِي أَخْذِهِ مِنَ الْحَدِيثِ مَحَلُّ تَرَدُّدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَفِي التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْقِعْدَةَ مِمَّا يَبْغَضُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْأُخْرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ التَّشَبُّهَ بِمَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ اهـ. وَفِي كَوْنِ الْيَهُودِ هُمُ الْمُرَادَ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هُنَا مَحَلُّ بِحْثٍ، وَتَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا شِعَارَهُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أَعَمُّ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ الْمُتَكَبِّرِينَ الْمُتَجَبِّرِينَ مِمَّنْ تَظْهَرُ آثَارُ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ عَلَيْهِمْ مِنْ قُعُودِهِمْ وَمَشْيِهِمْ وَنَحْوِهِمَا. نَعَمْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ: أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ هُمُ الْيَهُودُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي أَوَّلِ شَرْحِ حِزْبِ الْفَتْحِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)

4731 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِي فَرَكَضَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: " يَا جُنْدُبُ! إِنَّمَا هِيَ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4731 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَرَّ بِي) أَيْ: عَلَيَّ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِي) : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مَمْدُودَ الرِّجْلِ عَلَى عَادَةِ أَجْلَافِ الْعَرَبِ (فَرَكَضَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: يَا جُنْدُبُ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَيُفْتَحُ اسْمُ أَبِي ذَرٍّ (إِنَّمَا هِيَ) أَيْ: رِقْدَتُكَ هَذِهِ (ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ) : بِكَسْرِ الضَّادِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ عَادَةُ الْكُفَّارِ أَوِ الْفُجَّارِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ هَذِهِ تَكُونُ ضِجْعَتَهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . وَسَبَقَ حَدِيثَانِ فِي مَعْنَاهُ.

[باب العطاس والتثاؤب]

[بَابُ الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4732 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ: هَا، ضَحِكَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ " ـــــــــــــــــــــــــــــ [6] بَابُ الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ الْعُطَاسُ: بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الْعَطْسَةِ، وَالتَّثَاؤُبُ تَفَاعُلٌ مِنَ الثَّوْبَاءِ، وَهَى فَتْرَةٌ مِنْ ثِقَلِ النُّعَاسِ يَفْتَحُ لَهَا فَاهُ، وَمِنْهُ إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُغَطِّ فَاهُ، وَالْهَمْزَةُ بَعْدَ الْأَلْفِ هُوَ الصَّوَابُ وَالْوَاوُ غَلَطٌ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، وَكَذَا ذَكَرَ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: تَثَاءَبَ أَصَابَهُ كَسَلٌ وَفَتْرَةٌ كَفَتْرَةِ النُّعَاسِ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ إِلَّا فِي الْمَهْمُوزِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ تَثَاءَبَ بِالْمَدِّ، وَفِي أَكْثَرِهَا تَثَاؤُبَ بِالْوَاوِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، قَالَ ثَابِتٌ: لَا يُقَالُ تَثَاءَبَ بِالْمَدِّ مُخَفَّفًا، بَلْ تَثَأَّبَ بِتَشْدِيدِ الْهَمْزِ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَصْلُهُ مِنْ تَثَأَّبَ الرَّجُلُ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا اسْتَرْخَى وَكَسِلَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ تَثَاءَبَتْ بِالْمَدِّ مُخَفَّفًا عَلَى تَفَاعَلَتْ، وَلَا تَثَاوَبَتْ، وَالِاسْمُ مِنَ الثَّوْبَاءِ مَمْدُودَةٌ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4732 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ) : لِأَنَّهُ سَبَبُ خِفَّةِ الدِّمَاغِ وَصَفَاءِ الْقُوَى الْإِدْرَاكِيَّةِ، فَيَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى الطَّاعَةِ (وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ) : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنِ النَّشَاطِ فِي الطَّاعَةِ، وَيُوجِبُ الْغَفْلَةَ؛ وَلِذَا يَفْرَحُ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي ضَحِكِهِ الْآتِي، قَالَ الْقَاضِي: التَّثَاؤُبُ بِالْهَمْزِ التَّنَفُّسُ الَّذِي يُفْتَحُ عَنْهُ الْفَمُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَثِقَلِ النَّفْسِ وَكُدُورَةِ الْحَوَاسِّ، وَيُورِثُ الْغَفْلَةَ وَالْكَسَلَ وَسُوءَ الْفَهْمِ؛ وَلِذَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ الشَّيْطَانُ وَضَحِكَ مِنْهُ، وَالْعُطَاسُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِخِفَّةِ الدِّمَاغِ، وَاسْتِفْرَاغِ الْفَضَلَاتِ عَنْهُ، وَصَفَاءِ الرُّوحِ، وَتَقْوِيَةِ الْحَوَاسِّ كَانَ أَمْرُهُ بِالْعَكْسِ. (فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ

نَصَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ، وَجَوَّزَ كَسْرَهُ الْقَامُوسُ (وَحَمِدَ اللَّهَ) : قَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ أَنَّ الْعُطَاسَ يَدْفَعُ الْأَذَى مِنَ الدِّمَاغِ الَّذِي فِيهِ قُوَّةُ الْفِكْرِ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ الْأَعْصَابُ الَّتِي هِيَ مَعْدِنُ الْحِسِّ وَبِسَلَامَتِهِ تَسْلَمُ الْأَعْصَابُ، فَهُوَ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ يُنَاسِبُ أَنْ تُقَابَلَ بِالْحَمْدِ (كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) : فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ التَّشْمِيتَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، لَكِنْ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ لِدَلِيلٍ آخَرَ أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ سُنَّةٌ وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى النَّدْبِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (سَمِعَهُ) : صِفَةٌ لِمُسْلِمٍ احْتِرَازًا مِنْ حَالِ عَدَمِ سَمَاعِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ السَّلَامِ وَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّحْمِيدِ حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ عِنْدَهُ وَيَسْتَحِقَّ التَّشْمِيتَ، وَقَوْلُهُ: (أَنْ يَقُولَ) : اسْمُ كَانَ أَيْ: يَرُدَّ كُلُّ مُسْلِمٍ سَامِعٍ (لَهُ) : أَيْ: لِلْعَاطِسِ الْحَامِدِ (يَرْحَمُكَ اللَّهُ) : فَهَذَا حُكْمُ الْعُطَاسِ (فَأَمَّا التَّثَاؤُبُ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ) أَيْ: مِمَّا يَفْرَحُ بِهِ، أَوْ يَبْعَثُ عَلَى الْبَاعِثِ الْجَاذِبِ إِلَيْهِ؛ فَلِذَا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: صَارَ الْعُطَاسُ مَحْمُودًا؛ لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَالتَّثَاؤُبُ مَذْمُومًا؛ لِأَنَّهُ يُثْنِيهِ وَيُصْرِفُهُ عَنِ الْخَيْرَاتِ، فَالْمَحَبَّةُ وَالْكَرَاهِيَةُ تَنْصَرِفُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لَهَا، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُ لِلنَّفْسِ شَهْوَتَهَا، وَقِيلَ: مَا تَثَاءَبَ نَبِيٌّ قَطُّ. ( «فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ» ) أَيْ: يَكْظِمْ فَمَهُ (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ) أَيْ: وَفَتَحَ فَاهُ (ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) أَيْ: فَرَحًا بِذَلِكَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَوَافَقَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى. (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) : الظَّاهِرُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ: هَا) : مَقْصُورًا أَيْ: إِذَا بَالَغَ فِي التَّثَاؤُبِ وَفَتْحِ الْفَمِ، وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةُ صَوْتِ الْمُتَثَائِبِ (ضَحِكَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ: هَا ضَحِكَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ، وَأَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مَعَ التَّثَاؤُبِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَلَا يَعْوِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَغَيْرِهِ: «إِذَا تَجَشَّأَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَطَسَ فَلَا يَرْفَعْ بِهِمَا الصَّوْتَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ بِهِمَا الصَّوْتُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ كَفَّيْهِ عَلَى وَجْهِهِ وَلْيُخْفِضْ صَوْتَهُ» .

4733 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4733 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» ) : عَدَّهُ الشَّارِعُ نِعْمَةً، فَيُسَنُّ عَقِيبَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ (وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ) أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ (- أَوْ صَاحِبُهُ -) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (يَرْحَمُكَ اللَّهُ) : قِيلَ: وَإِنَّمَا شُرِعَ التَّرَحُّمُ مِنْ جَانِبِ الْمُشَمِّتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الرَّحْمَةِ حَيْثُ عَظَّمَ رَبَّهُ بِالْحَمْدِ عَلَى نِعْمَتِهِ وَعَرَفَ قَدْرَهَا. (فَإِنْ قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ) أَيِ: الْعَاطِسُ فِي جَوَابِهِ (يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) أَيْ: شَأْنَكُمْ وَحَالَكُمْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا دَعَا لَهُ بِالرَّحْمَةِ شُرِعَ فِي حَقِّهِ دُعَاءٌ بِالْخَيْرِ لَهُ تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ، وَلَفْظُ الْعُمُومِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْعَاطِسَ قَلَّمَا يَخْلُو عِنْدَ عُطَاسِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ، أَوْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِهِ وَاحْتِرَامِهِ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلِّهِمْ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4734 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ الْآخَرَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! شَمَّتَّ هَذَا وَلَمْ تُشَمِّتْنِي قَالَ: " إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَلَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4734 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ أَبْعَدَكَ عَنِ الشَّمَاتَةِ، وَبِالْمُهْمَلَةِ مِنَ السَّمْتِ، وَهُوَ حُسْنُ الْقَصْدِ وَالْهَدْيِ (وَلَمْ يُشَمِّتِ الْآخَرَ. فَقَالَ الرَّجُلُ) أَيِ: الَّذِي لَمْ يُشَمَّتْ لَهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! شَمَّتَّ) : بِتَشْدِيدَتَيْنِ (هَذَا وَلَمْ تُشَمِّتْنِي) أَيْ: وَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ؟ (فَقَالَ: إِنَّ هَذَا) : وُضِعَ مَوْضِعَ ذَاكَ لِجَوَازِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ حَاضِرًا. فَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ (حَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: فَأَجَبْتُهُ (وَلَمْ تَحْمِدِ اللَّهَ) أَيْ: أَنْتَ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ التَّشْمِيتَ. قَالَ الْقَاضِي: تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَكَانَ أَصْلُهُ إِزَالَةُ الشَّمَاتَةِ فَاسْتُعْمِلَ لِلدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ لِتَضَمُّنِهِ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْعَاطِسَ إِذَا لَمْ يَحْمِدِ اللَّهَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّشْمِيتَ. قَالَ مَكْحُولٌ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ عُمَرَ فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِنْ كُنْتَ حَمِدْتَ اللَّهَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَعْطِسُ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَقِيلَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا عَطَسْتَ فَحَمِدْتَ، وَلَيْسَ عِنْدَكَ أَحَدٌ قُلْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ، فَإِنَّهُ يُشَمِّتُكَ مَنْ سَمِعَكَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4735 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4735 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

4736 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: " يَرْحَمُكَ اللَّهُ " ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى، فَقَالَ: " الرَّجُلُ مَزْكُومٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: " إِنَّهُ مَزْكُومٌ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4736 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَهُ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ سَمِعَ (فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: يَقُولُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَالٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالِي: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي} [آل عمران: 193] ، تَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْدًا يَتَكَلَّمُ، فَتُوقِعُ الْفِعْلَ عَلَيْهِ وَتَحْذِفُ الْمَسْمُوعَ وَتَجْعَلُهُ حَالًا مِنْهُ، فَأَغْنَاكَ عَنْ ذِكْرِهِ، فَإِذَا مُقْتَضَى الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَمَّتَهُ فَقَالَ: فَلَا إِشْكَالَ حِينَئِذٍ. (ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى) أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الرَّجُلُ مَزْكُومٌ) أَيْ: مَرِيضٌ، فَرُبَّمَا يَكْثُرُ تَعَطُّسُهُ وَحَمْدُهُ، وَفِي الْجَوَابِ كُلَّ مَرَّةٍ حَرَجٌ لَا سِيَّمَا مَعَ عَدَمِ تَجْوِيزِ التَّدَاخُلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْتُهُ مَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا " فَمَا زَادَ أَيْ: عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، فَإِنْ شِئْتَ فَشَمِّتْهُ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا "؛ حَيْثُ صَرَّحَ بِالتَّخْيِيرِ، فَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْعَى لَهُ، لَكِنْ غَيْرُ دُعَائِهِ لِلْعَاطِسِ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، إِذْ حَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنَّ التَّشْمِيتَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَمَا زَادَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ السُّكُوتِ وَهُوَ رُخْصَةٌ، وَبَيْنَ التَّشْمِيتِ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ) أَيْ: فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِي الثَّالِثِ، أَيْ: فِي الْعُطَاسِ الثَّالِثِ (إِنَّهُ) أَيِ: الرَّجُلُ (مَزْكُومٌ) : كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ: أَنْتَ مَزْكُومٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعْنِي أَنْتَ لَسَتْ مِمَّنْ يُشَمَّتُ بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي بِكَ مَرَضٌ، وَيُوَافِقُهُ فِي التَّثْلِيثِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيُشَمِّتْهُ جَلِيسُهُ فَإِنْ زَادَ عَلَى ثَلَاثٍ فَهُوَ مَزْكُومٌ» " وَلَا يُشَمَّتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَيْ: لَا يَجِبُ تَشْمِيتُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا سَبَقَ.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَرِيضًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالدُّعَاءِ مِنْ غَيْرِهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْعَى لَهُ، لَكِنْ غَيْرُ دُعَائِهِ لِلْعَاطِسِ، بَلْ دُعَاءُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ بِالْعَافِيَةِ وَالسَّلَامَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّشْمِيتِ. قُلْتُ: بَلْ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِيُعْرَفَ أَنَّ التَّشْمِيتَ مَتَى يَجِبُ وَمَتَى لَمْ يَجِبْ، فَلَوْ دَعَا لَهُ بِالْعَافِيَةِ وَالسَّلَامَةِ وَنَحْوِهِمَا، رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ يُدْعَى لَهُ بِالسَّلَامَةِ وَنَحْوِهَا، فَيُدْخُلُ تَحْتَ الْوُجُوبِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِالصِّحَّةِ فَمِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْمَعْلُومَةِ، مَعَ أَنَّ الزُّكَامَ مَحْمُودٌ يُخْرِجُ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْقَامِ.

4737 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فَمِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4737 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِ (بِيَدِهِ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ مَسَكَ بِهِ وَأَمْسَكَ وَتَمَسَّكَ وَتَمَاسَكَ وَاسْتَمْسَكَ: احْتَبَسَ وَاعْتَصَمَ بِهِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: أَمْسَكَ بِالشَّيْءِ وَتَمَسَّكَ بِهِ وَاسْتَمْسَكَ اعْتَصَمَ بِهِ (عَلَى فَمِهِ) أَيْ: وَاضِعًا عَلَيْهِ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الدُّخُولُ حَقِيقَةً، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الدَّمِ مِنَ الْإِنْسَانِ، لَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَا دَامَ مُنْتَبِهًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّمَكُّنُ مِنْهُ بِالْوَسْوَسَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَسَبَقَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى فِي هَذَا الْمَعْنَى.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4738 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدِهِ أَوْ ثَوْبِهِ، وَغَضَّ بِهَا صَوْتَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4738 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدِهِ أَوْ ثَوْبِهِ) : لِئَلَّا يَظْهَرَ تَشْوِيهُ صُورَةٍ أَوْ تَنْزِيلُ فَضْلَةٍ (وَغَضَّ) أَيْ: خَفَضَ أَوْ نَقَصَ بِهَا، أَيْ: بِالْعَطْسَةِ أَوْ بِالتَّغْطِيَةِ (صَوْتَهُ) : وَالْمَعْنَى لَمْ يَرْفَعْهُ بِصَيْحَةٍ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِصَوْتِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا نَوْعُ أَدَبٍ بَيْنَ الْجُلَسَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاطِسَ لَا يَأْمَنْ عِنْدَ الْعُطَاسِ مِمَّا يَكْرَهُهُ الرَّاءُونَ مِنْ فَضَلَاتِ الدِّمَاغِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: أَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا عَطَسَ حَمِدَ اللَّهَ فَيُقَالُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَيَقُولُ: يَهْدِيكُمْ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» .

4739 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلْيَقُلِ الَّذِي يَرُدُّ عَلَيْهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلْيَقُلْ هُوَ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4739 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» ) أَيْ: تَصْرِيحًا بِالْإِجْمَالِ، فَالزِّيَادَةُ مِنْ بَابِ الْإِكْمَالِ (وَلْيَقُلْ) أَيْ: وُجُوبًا عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (الَّذِي يَرُدُّ عَلَيْهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ) : خَبَرٌ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ (وَلْيَقُلْ) أَيْ: نَدْبًا (هُوَ) أَيِ: الْعَاطِسُ (يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) : الْبَالُ الْقَلْبُ، يَقُولُ: فُلَانٌ مَا يَخْطُرُ بِبَالِي، أَيْ: قَلْبِي، وَالْبَالُ رَخَاءُ الْعَيْشِ. يُقَالُ: فُلَانٌ رَخِيُّ الْبَالِ، أَيْ: وَاسِعُ الْعَيْشِ، وَالْبَالُ الْحَالُ، يَقُولُ: مَا بَالُكَ؟ أَيْ: حَالُكَ. وَالْبَالُ فِي الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ، وَالْأَوْلَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ أَنْسَبُ لِعُمُومِهِ الْمَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَيْضًا، كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّهُ إِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْحَالُ، هَذَا وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَيَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْعَاطِسِ أَنْ يَقُولَ عَقِيبَ عُطَاسِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَلَوْ زَادَ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ أَحْسَنَ، فَلَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَانَ أَفْضَلَ. قُلْتُ: وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا: «مَنْ قَالَ عِنْدَ كُلِّ عَطْسَةٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا كَانَ لَمْ يَجِدْ وَجَعَ ضِرْسٍ وَلَا أُذُنٍ أَبَدًا» . قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا مَوْقُوفٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، أَيْ: فَلَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَوْ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، أَوْ رَحِمَكَ اللَّهُ، أَوْ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، وَلِلْعَاطِسِ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ، أَوْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، قُلْتُ: أَوْ يَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ، كَمَا جَاءَ فِي أَحَادِيثَ بَيَّنَهَا الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَوْلُ السَّامِعِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَوْ قَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي التَّشْمِيتِ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ " جَعَلَهُ سُنَّةً. قُلْتُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِمَّا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةُ كِفَايَةٍ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الدِّرَايَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَأَمَّا نَقْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ " فَلَيْسَ فِيهِ لَفْظُ (حَقُّ) كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثَيْنِ مِنْ بَابِ السَّلَامِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، بَلْ لَفْظُهُ: لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا أَوْ سُنَّةً. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلْيُقَلْ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلْيَقُلْ هُوَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَشْجَعِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا قَالَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَحِمَكَ اللَّهُ.

4740 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:. «كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: " يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4740 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ) أَيْ: يَطْلُبُونَ الْعَطْسَةَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُونَ) أَيْ: يَتَمَنَّوْنَ بِهَذَا السَّبَبِ (أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ عُطَاسِهِمْ وَحَمْدِهِمْ (يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) : وَلَا يَقُولُ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَدْعُو لَهُمْ بِمَا يُصْلِحُ بِالْهَمْ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ لِلْإِيمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، لَكِنْ مَنْعَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِمَّا التَّقْلِيدُ، وَإِمَّا حُبُّ الرِّيَاسَةِ، وَعَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ، فَتَحَرَّوْا أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُزِيلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ دُعَاءَهُ بِالرَّحْمَةِ لَا بِالْهِدَايَةِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَإِلَّا فَدُعَاؤُهُ بِالْهِدَايَةِ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ قَدْ وَقَعَ فِي قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] ، فَفِي الْجُمْلَةِ دَعْوَتُهُ مُسْتَجَابَةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .

4741 - وَعَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا مَعَ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ، فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: وَعَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ. فَكَأَنَّ الرَّجُلَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَقُلْ إِلَّا مَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ، إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلْيَقُلْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4741 - (وَعَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ) : بِكَسْرِ الْيَاءِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ نُسْخَةٌ، وَجَزَمَ بِهِ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ بِالْكَسْرِ وَقَدْ يُفْتَحُ، تَابِعِيٌّ كُوفِيٌّ اهـ. أَوِ الْيَاءُ أَصْلِيَّةٌ فَيَتَعَيَّنُ الصَّرْفُ، وَفِي الْمُغْنِي بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ، أَوْ هُوَ بِفَتْحِ يَاءٍ وَكَسْرِهَا وَبِكَسْرِ هَمْزَةٍ مَكَانَ يَاءٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَوْلَى أَشْجَعَ، أَدْرَكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَرَوَى عَنْ مُسْلِمِ بْنِ قَيْسٍ، وَسَمِعَ أَبَا مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: كُنَّا مَعَ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَشْجَعِيٌّ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، رَوَى عَنْهُ هِلَالُ بْنُ يِسَافٍ وَغَيْرُهُ. (فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) : ظَنًّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بَدَلَ الْحَمْدِ لِلَّهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ،

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ سَبْقِ اللِّسَانِ، كَمَا قَدْ يُشَاهَدُ مِنْ غَيْرِهِ، لَكِنْ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ حَيْثُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ (فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: وَعَلَيْكَ) : بِالْوَاوِ (وَعَلَى أُمِّكَ) : نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى حَمَاقَتِهَا؛ حَيْثُ سَرَى فِيهِ مِنْ صِفَاتِهَا، فَافْتَقَرَ إِلَى الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِنِسْبَةِ الْحَمَاقَةِ إِلَى ذَاتِهَا الْغَائِبَةِ، وَلِسَرَيَانِ صِفَاتِهَا إِلَى وَلَدِهَا، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا، بَلْ إِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ لَهُمَا بِالسَّلَامَةِ، لَكِنْ عَلَى طِبْقِ كَلَامِهِ؛ حَيْثُ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ الْأَوْجَهُ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ الْأُمِّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْبِيَتِهَا إِيَّاهُ دُونَ أَبِيهِ، فَإِنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَلَمْ يَعْرِفْنَ تَفْصِيلَ الْآدَابِ بِخِلَافِ الْآبَاءِ، فَإِنَّهُمْ لِمُعَاشَرَةِ الْعُلَمَاءِ يَعْرِفُونَ غَالِبًا مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ (فَكَأَنَّ الرَّجُلَ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (وَجَدَ) أَيِ: الْكَرَاهَةَ أَوِ الْخَجَالَةَ أَوِ الْحُزْنَ لِمَا قَالَ سَالِمٌ (فِي نَفْسِهِ) : لَكِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ آثَارِهِ، وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: غَضِبَ أَوْ حَزِنَ مِنَ الْمَوْجِدَةِ، وَهُوَ الْغَضَبُ أَوِ الْوَجْدُ، وَهُوَ الْحُزْنُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَجَدَ عَلَيْهِ فِي الْغَضَبِ مَوْجِدَةً وَوُجْدَانًا أَيْضًا، وَوَجَدَ فِي الْحُزْنِ وَجْدًا بِالْفَتْحِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِذَا حُمِلَ عَلَى الْغَضَبِ قِيلَ: وَجَدَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَيْ: لَمْ يُظْهِرِ الْغَضَبَ وَكَظَمَ الْغَيْظَ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْحُزْنِ قِيلَ أَيْ: أَوْقَعَ الْحُزْنَ فِي نَفْسِهِ (فَقَالَ) أَيْ: سَالِمٌ (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنِّي لَمْ أَقُلْ إِلَّا مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَأَنَا مُتَّبِعٌ لَا مُبْتَدِعٌ (إِذْ «عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكَ» ) : بِلَا وَاوٍ (وَعَلَى أُمِّكَ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: نَبَّهَ بِقَوْلِهِ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ عَلَى بَلَاهَتِهِ وَبَلَاهَةِ أُمِّهِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ مُحَمَّقَةً، فَصَارَا مُفْتَقِرَيْنِ إِلَى السَّلَامِ فَيَسْلَمَانِ بِهِ مِنَ الْآفَاتِ اهـ. وَفِيهِ مَعَ مَا سَبَقَ أَنَّ تَقْدِيرَ السَّلَامِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ فِي الْمَقَامِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ الْمَلَامُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّعَلُّمِ وَالْإِعْلَامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ رَدَّ السَّلَامِ، بَلِ الْقَصْدُ زَجْرُهُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الْوَاقِعِ فِي غَيْرِ الْمَرَامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا قَالَ الْعَاطِسُ لَفْظًا آخَرَ غَيْرَ الْحَمْدِ لِلَّهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ التَّشْمِيتَ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ سَلَامُهُ فِي غَيْرِ صَوْبِ الصَّوَابِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا زَجَرَهُ وَمَزَجَ مِنْ كَلَامِهِ الْحَقِّ بِطِيبِ حَلَاوَةِ مَزْجِهِ الصِّدْقَ، نَصَحَ وَأَفَادَ وَعَمَّ الْعِبَادَ. (فَقَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ) أَيِ: اسْتِحْبَابًا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: مَثَلًا (وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ) أَيْ: وُجُوبًا (يَرْحَمُكَ اللَّهُ) أَيْ: مَثَلًا (وَلْيَقُلْ) أَيِ: الْعَاطِسُ نَدْبًا (يَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ) أَيْ: مَثَلًا، وَقَالَ: الْأَوْلَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4742 - وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «شَمِّتِ الْعَاطِسَ ثَلَاثًا فَإِنْ زَادَ فَشَمِّتْهُ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4742 - (وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ - يُكْنَى أَبَا مُعَاذٍ - الزُّرَقِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَسَائِرَ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، مَاتَ فِي أَوَّلِ وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ عُبَيْدٌ وَمُعَاذٌ وَابْنُ أَخِيهِ يَحْيَى بْنُ خَلَّادٍ اهـ. وَأَمَّا ابْنُهُ فَتَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، فَالْحَدِيثُ إِمَّا مُرْسَلٌ، وَإِمَّا سَقَطَ مِنْ صَدْرِ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: عَنْ أَبِيهِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: شَمِّتِ الْعَاطِسَ) أَيِ: الْحَامِدَ (ثَلَاثًا) أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ (فَمَا زَادَ) أَيْ: عَطْسُهُ عَنِ الثَّلَاثِ (فَإِنْ شِئْتَ فَشَمِّتْهُ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

4743 - وَعَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «شَمِّتْ أَخَاكَ ثَلَاثًا، فَإِنْ زَادَ فَهُوَ زُكَامٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُهُ. إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4743 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ: " شَمِّتْ أَخَاكَ ثَلَاثًا، فَإِنْ زَادَ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَمَا زَادَ (فَهُوَ) أَيِ: الْعَاطِسُ (زُكَامٌ) أَيْ: مِنْ أَثَرِهِ وَعَلَامَتِهِ، أَوْ صَاحِبُهُ ذُو زُكَامٍ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ أَنَّهُ مَزْكُومٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ حَاكِيًا عَمَّنْ يَرْوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ قَالَ

أَبُو دَاوُدَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ: (لَا أَعْلَمُهُ) : الضَّمِيرُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ (إِلَّا أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا هُرَيْرَةَ (رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : هَذَا الْقَوْلُ إِنْ صَدَرَ مِمَّنْ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَمَعْنَاهُ أَعْلَمُ رَفْعَهُ، لَكِنْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: لَا أَظُنُّ إِلَّا أَنَّهُ، وَلَكِنِّي مَا أَدْرِي بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ مَنْ سَمِعْتُ، أَوْ قَالَ وَنَحْوَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ مَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4744 - عَنْ نَافِعٍ: «أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَأَنَا أَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4744 - (عَنْ نَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ) أَيْ: مُنْتَهِيًا جُلُوسًا إِلَى جَنْبِهِ (فَقَالَ) أَيِ: الْعَاطِسُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَهْلِهِ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ زِيَادَةُ السَّلَامِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَذْكَارِ أَوْ جَزَاءً لِتَعْلِيمِنَا آدَابَ الْأَبْرَارِ، أَوْ قِيَاسًا عَلَى زِيَادَةِ ذِكْرِهِ بَعْدَ الْحَمْدَلَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِمَا. لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ مَعَ الْفَارِقِ (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَأَنَا أَقُولُ) أَيْ: كَمَا تَقُولُ أَيْضًا (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ) : لِأَنَّهُمَا ذِكْرَانِ شَرِيفَانِ، كُلُّ أَحَدٍ مَأْمُورٌ بِهِمَا، لَكِنْ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَلَيْسَ هَكَذَا) أَيْ: لَيْسَ الْأَدَبُ الْمَأْمُورُ الْمَنْدُوبُ هَكَذَا بِأَنْ يَضُمَّ السَّلَامَ مَعَ الْحَمْدِ عِنْدَ الْعَطْسَةِ، بَلِ الْأَدَبُ مُتَابَعَةُ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ نُقْصَانٍ مِنْ تِلْقَاءِ النَّفْسِ إِلَّا بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ (عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ) : فَالزِّيَادَةُ الْمَطْلُوبَةُ إِنَّمَا هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَمْدَلَةِ سَوَاءٌ وَرَدَ أَوْ لَا. وَأَمَّا زِيَادَةُ ذِكْرٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الضَّمِّ إِلَيْهِ، فَغَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورَاتِ، ثُمَّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: عَلَى كُلِّ حَالٍ، بِقَوْلِهِ: نَقُولُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَنَا قَوْلَ الْحَمْدِ لِلَّهِ عِنْدَ الْعَطْسَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِي الْأَفْعَالِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَلَيْسَ هَكَذَا أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعَاطِسِ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، كَمَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَأْنَفٌ دَالٌّ عَلَى الْمُقَدَّرِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ إِلَى مَا هُوَ أَحَقُّ وَأَحْرَى عَلَى طُرُقِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ وَالتَّسَاهُلِ وَالِاجْتِنَابِ عَنِ التَّخَشُّنِ، خِلَافًا لِقَوْلِ سَالِمٍ: عَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ. قُلْتُ: هَذَا جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ وَغَلْطَةٌ جَسِيمَةٌ فِي نِسْبَةِ التَّخَشُّنِ إِلَى صَاحِبِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ قَوْلَ سَالِمٍ عَيْنُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِذَارِ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ ذَنْبٌ آخَرُ أَعْظَمُ مِنْهُ؛ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ زَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ هِلَالٍ: إِذَا عَطَسَ الرَّجُلُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمُ الْعَاطِسُ وَسَمَّى أُمَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَظَاظَةِ وَهُوَ جَدِيرٌ بِالرِّفْقِ؟ قُلْتُ: لَعَلَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ مِرَارًا التَّشْمِيتَ، وَعَدَلَ مِنْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلِهَذَا زَجَرَهُ، وَمَا كَانَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ ابْتِدَاءُ تَعْلِيمٍ وَإِرْشَادٍ، فَأَقُولُ لَيْتَهُ كَانَ تَفَضَّضَ جَمِيعَ أَسْنَانِهِ وَأَقْلَامَ بَنَانِهِ، وَلَمْ يُنْسِبْ فِي تَقْرِيرِهِ وَتَحْرِيرِهِ، بَلْ لَمْ يَخْطُرْ فِي خَاطِرِهِ وَضَمِيرِهِ إِسْنَادُ الْفَظَاظَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ مَا عَنْهُ عُذْرٌ صَحِيحٌ، إِذْ أَثْبَتَ لَهُ مَا نَزَّهَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ، ثُمَّ مِنْ أَيْنَ لَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ بِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ مِرَارًا، وَمَا كَانَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ ابْتِدَاءٌ مَعَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا فِي كُتُبِ سِيَرِ الْأَصْحَابِ مَنْقُولٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِرَارًا عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ عَدَلَ مِنْهُ إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَاحْتَاجَ إِلَى زَجْرِهِ بِالْعُدُولِ عَنْ رِفْقِهِ اللَّائِقِ بِهِ، وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ بَيَّنَّا لَطَافَةَ كَلَامِهِ فِي تَعْلِيمِ سَلَامِهِ بِمَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَصَرَّحْنَا وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنْ بُلُوغِ فَهْمِ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَرُفَ وَكَرُمَ وَعَظُمَ، عَلَى أَنَّ فَرْقًا ظَاهِرًا بَيْنَ صَاحِبِ ابْنِ عُمَرَ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ حَيْثُ إِنَّ الْأَوَّلَ وَضَعَ السَّلَامَ الْمُتَعَارَفَ عِنْدَ اللِّقَاءِ مَكَانَ حَمْدِ اللَّهِ حَالَ الْعُطَاسِ، وَالثَّانِي زَادَ السَّلَامَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ) .

[باب الضحك]

[بَابُ الضَّحِكِ]

(7) بَابُ الضَّحِكِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4745 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَبْتَسِمُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [7] بَابُ الضَّحِكِ هُوَ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فِي الْأُصُولِ، وَفِي الْقَامُوسِ: ضَحِكَ ضَحِكًا بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ وَبِكَسْرَتَيْنِ كَكِتِفٍ، هَذَا وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِالضَّحِكِ الْمَعْنَى الْأَعَمَّ الشَّامِلَ لِلتَّبَسُّمِ، وَإِلَّا فَكَانَ أَكْثَرُ ضَحِكِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَسُّمًا، أَوْ أَرَادَ بِالضَّحِكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ اسْتِدْلَالًا عَلَى جَوَازِهِ بِوُقُوعِهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا مَا نَقَلَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةُ الضَّحِكُ، فَمَحْمُولٌ عَلَى سُخْرِيَةِ الْكُفَّارِ بِالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ جَهَلَةِ الْفُجَّارِ بِالْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4745 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا) أَيْ: مَا أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَجْمِعًا مِنْ جِهَةِ الضَّحِكِ، فَقَوْلُهُ: ضَاحِكًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ دَرُّهُ فَارِسًا، وَالْمَعْنَى: مَا رَأَيْتُهُ يَضْحَكُ تَامًّا مُقْبِلًا بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى الضَّحِكِ (حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْهَاءِ جَمْعُ اللَّهَاةِ، وَهِيَ اللَّحَمَاتُ فِي سَقْفِ أَقْصَى الْفَمِ مُشْرِفَةً عَلَى الْحَلْقِ (إِنَّمَا كَانَ يَبْتَسِمُ) أَيْ: غَالِبًا، وَقَدْ يَضْحَكُ، لَكِنْ لَا يَصِلُ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، وَالْإِعْرَابُ السَّابِقُ زُبْدَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ، وَمَالَ ابْنُ الْمَلَكِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ضَاحِكًا حَالٌ أَيْ: مَا رَأَيْتُهُ مُسْتَجْمِعًا لِضَحِكِهِ فِي حَالِ ضَحِكِهِ، أَيْ: لَمْ أَرَهُ يَضْحَكُ ضَحِكًا تَامًّا ضَاحِكًا بِجَمِيعِ فَمِهِ اهـ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ شَارِحٍ سَبَقَهُ، وَقَالَ: فَكَأَنَّهَا قَالَتْ مُسْتَجْمِعًا ضَحِكًا، وَفِي الْمِصْبَاحِ: اسْتَجْمَعَتْ شَرَائِطُ الْإِمَامَةِ وَاجْتَمَعَتْ بِمَعْنَى حَصَلَتْ، فَالْفِعْلَانِ عَلَى اللُّزُومِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ. وَفِي الْمُغْرِبِ: اسْتَجْمَعَ السَّيْلُ اجْتَمَعَ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَاسْتَجْمَعَتْ لِلْمَرْءِ أُمُورُهُ اجْتَمَعَ لَهُ مَا يُحِبُّهُ وَهُوَ لَازِمٌ، كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ: اسْتَجْمَعَ الْفَرَسُ جَرْيًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَ الْجُمُعَةِ فَلَيْسَ يَثْبُتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَضْحَكُ إِلَّا تَبَسُّمًا» . جَعَلَ التَّبَسُّمَ مِنَ الضَّحِكِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّ التَّبَسُّمَ مِنَ الضَّحِكِ بِمَنْزِلَةِ السِّنَةِ مِنَ النَّوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} [النمل: 19] ، أَيْ: شَارِعًا فِي الضَّحِكِ.

4746 - وَعَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4746 - (وَعَنْ جَرِيرٍ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ (قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مَا مَنَعَنِي مِنْ مُجَالَسَتِهِ الْخَاصَّةِ أَوْ مِنْ بَيْتِهِ؛ حَيْثُ يُمْكِنُ الدُّخُولُ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنِّي لَمْ أَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا مَنَعَنِي مِنْ مُلْتَمَسَاتِي عَنْهُ، بَلْ أَعْطَانِي مَا طَلَبْتُهُ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ. (مُنْذُ أَسْلَمْتُ) : وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا (وَلَا رَآنِي) أَيْ: مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِذِ الْحَذْفُ مِنَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ كَثِيرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا رَآنِي مُنْذُ أَسْلَمْتُ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِكُلٍّ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: (إِلَّا تَبَسَّمَ) : مُرْتَبِطٌ بِالْفِعْلِ الثَّانِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: إِلَّا ضَحِكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّبَسُّمُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّ مَنْشَأَ كَثْرَةِ انْبِسَاطِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مِنْ مَظَاهِرِ الْجَمَالِ؛ وَلِذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ جَرِيرًا يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4747 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ، وَيَتَبَسَّمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4747 - (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ) أَيِ: الصُّبْحَ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) أَيْ: طُلُوعًا حَسَنًا كَمَا سَبَقَ (فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ) أَيْ: لِصَلَاةِ الْإِشْرَاقِ، وَهُوَ مَبْدَأُ صَلَاةِ الضُّحَى، أَوْ مَعْنَاهُ قَامَ لِلِانْصِرَافِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَمُلَازَمَتِهِ مَجْلِسَهَا مَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَكَانَ السَّلَفُ يُوَاظِبُونَ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ، وَيَقْتَصِرُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. (وَكَانُوا) أَيْ: أَصْحَابُهُ (يَتَحَدَّثُونَ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ (فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: عَلَى سَبِيلِ الْمَذَمَّةِ، أَوْ بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ وَغَيْرِهِ، مِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ قَالَ وَاحِدٌ: مَا نَفَعَ أَحَدًا صَنَمُهُ مِثْلَ مَا نَفَعَنِي. قَالُوا: كَيْفَ هَذَا؟ قَالَ: صَنَعْتُهُ مِنَ الْحَيْسِ، فَجَاءَ الْقَحْطُ، فَكُنْتُ آكُلُهُ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَقَالَ آخَرُ: رَأَيْتُ ثَعْلَبَيْنِ جَاءَا وَصَعِدَا فَوْقَ رَأْسِ صَنَمٍ لِي وَبَالَا عَلَيْهِ فَقُلْتُ: أَرَبٌّ يَبُولُ الثَّعْلَبَانِ بِرَأْسِهِ فَجِئْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَسْلَمْتُ. (فَيَضْحَكُونَ، وَيَتَبَسَّمُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ) أَيْ: يَقْرَءُونَهُ، أَوْ يَطْلُبُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ قِرَاءَتَهُ. فِي الشَّمَائِلِ: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: جَالَسْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ، وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ، وَرُبَّمَا يَتَبَسَّمُ مَعَهُمْ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فِي مَجْلِسِهِ الشَّرِيفِ لَا يُتَنَاشَدُ إِلَّا الشِّعْرُ الْمُنِيفُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ، يَقُولُ: سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقِ: " «إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ... وَكُلُّ نُعَيْمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ » أَيْ: مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: نَعِيمُكَ فِي الدُّنْيَا غُرُورٌ وَحَسْرَةٌوَعَيْشُكَ فِي الدُّنْيَا مُحَالٌ وَبَاطِلُ هَذَا وَمِنْ لَطَائِفِ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ قَرَأَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حِزْبَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَنْشَدَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ شِعْرًا، فَحَصَلَ لَهُ بُكَاءٌ وَتَوَاجُدٌ، فَلَمَّا سَكَنَ قَالَ: أَتَلُومُونَ النَّاسَ يَقُولُ فُلَانٌ مُلْحِدٌ أَوْ زِنْدِيقٌ؟ قَرَأْتُ كَذَا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَخْرُجْ لِي دَمْعَةٌ، فَلَمَّا سَمِعْتُ هَذَا الشِّعْرَ كِدْتُ أَنْ أَتَجَنَّنَ. أَقُولُ: هَذَا فَتْحُ بَابٍ لِلسَّمَاعِ، وَيَنْجَرُّ إِلَى مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ النِّزَاعِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيِ الشَّيْخِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ فِي الْكَلَامِ، فَأَعْرَضْنَا عَنْهُ شُرُوعًا فِي الْأَهَمِّ مِنْهُ مِنَ الْمَرَامِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4748 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4748 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ) : بِفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ زَايٍ بَعْدَهُ هَمْزٌ (قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4749 - عَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: هَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْجَبَلِ. وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: أَدْرَكْتُهُمْ يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ، وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ كَانُوا رُهْبَانًا» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4749 - (عَنْ قَتَادَةَ) : مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ (قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: هَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالْإِيمَانُ) أَيْ: نَعَمْ يَضْحَكُونَ، وَالْحَالُ أَنَّ عَظْمَةَ الْإِيمَانِ وَجَلَالَتَهُ (فِي قُلُوبِهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْجَبَلِ) : فَكَانُوا فِي غَايَةٍ مِنَ الْوَقَارِ وَالثَّبَاتِ عَلَى قَوَاعِدِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفِي نِهَايَةٍ مِنْ مُرَاعَاةِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الرَّضِيَّةِ؛ حَيْثُ لَمْ يَتَجَاوَزُوا فِي حَالِ الضَّحِكِ وَغَيْرِهِ عَنْ دَائِرَةِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ: نَعَمْ كَانُوا يَضْحَكُونَ، لَكِنْ لَا يَتَجَاوَزُونَ إِلَى مَا يُمِيتُ قُلُوبَهُمْ وَيَتَزَلْزَلُ بِهِ إِيمَانُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الضَّحِكِ، كَمَا وَرَدَ: إِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقُلُوبَ. (وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ) : تَابِعِيٌّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَدْرَكْتُهُمْ) أَيْ: كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ (يَشْتَدُّونَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ الشَّدِّ، وَهُوَ الْعَدْوُ أَيْ: يَعْدُونَ وَيَجْرُونَ (بَيْنَ الْأَغْرَاضِ) : جَمْعُ الْغَرَضِ، بِفُتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْهَدَفُ زِنَةً وَمَعْنًى، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ هُنَا مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ لِيُوَافِقَ مَا فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: تَخْتَلِفُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) أَيْ: مُتَوَجِّهًا وَمُلْتَفِتًا إِلَيْهِ لَا مُعْرِضًا وَمَائِلًا عَنْهُ، أَوْ إِلَى بِمَعْنَى " مَعَ "، كَمَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، أَوْ ضَمَّنَ يَضْحَكُ مَعْنَى يَنْبَسِطُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَضَمَّنَ ضَحِكَ بِمَعْنَى السُّخْرِيَةِ وَعَدَّاهُ بِإِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ يَتَعَدَّى بِمِنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] ، نَعَمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] ، ضَمَّنَ الضَّحِكَ مَعْنَى السُّخْرِيَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا - فَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة: 76] ، لَيْسَ فِيهِ تَضْمِينُ السُّخْرِيَةِ، بَلْ وَلَا يَصِحُّ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى، بَلْ فِيهِ تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ إِلَى بِمَعْنَى: مَعَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] ، وَثَانِيهُمَا تَضْمِينُ إِلَى مَعْنَى الِانْضِمَامِ أَوِ الِانْتِهَاءِ، هَذَا وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا كَانَ حَالَهُمْ فِي النَّاسِ وَفِي مَجَالِسِ أَصْحَابِهِمُ الْأَبْرَارِ (فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ) أَيْ: وُجِدَ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ زَمَانَ اللَّيْلِ، وَمَقَامَ الْوِحْدَةِ وَمَرَتَبَةَ الْخِلْوَةِ بَعْدَ مَنْزِلَةِ الْجِلْوَةِ (كَانُوا رُهْبَانًا) : بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرُكْبَانٍ وَرَاكِبٍ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَيُجْمَعُ عَلَى رَهَّابِينَ، فَفِي النِّهَايَةِ: الرُّهْبَانُ مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا وَزَهِدَ فِيهَا وَتَخَلَّى عَنْهَا، وَعُزِلَ عَنْ أَهْلِهَا، وَتَعَمَّدَ مَشَاقَّهَا اهـ. فَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ إِخْبَارًا عَنْهُمْ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ - وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18] بَلْ أَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا حَالَ الضَّحِكِ ظَاهِرًا فِي عَيْنِ الْبُكَاءِ بَاطِنًا، فَإِنَّهُمْ فَرْشِيُّونَ بِأَشْبَاحِهِمْ، عَرْشِيُّونَ بِأَرْوَاحِهِمْ، كَائِنُونَ مَعَ الْخَلْقِ بِأَبْدَانِهِمْ، بَائِنُونَ عَنْهُمْ مَعَ الْحَقِّ بِقُلُوبِهِمْ وَجَنَانِهِمْ، قَرِيبُونَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، غَرِيبُونَ عَنِ الْخَلْقِ فِي الْبَاطِنِ عَلَى قَدَمِ التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ، مُلُوكٌ فِي سُلُوكِ لِبَاسِ الْأَطْمَارِ، وَأَغْنِيَاءٌ مَعَ كَمَالِ فَقْرِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَفَعَنَا بِبَرَكَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) .

[باب الأسامي]

[بَابُ الْأَسَامِي]

(8) بَابُ الْأَسَامِي الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4750 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السُّوقِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [8] بَابُ الْأَسَامِي بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ جَمْعُ اسْمٍ، وَكَذَا أَسَامِيُّ وَأَسَامٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، فَأَسَامِيُّ عَلَى وَزْنِ أَفَاعِيلَ وَأَسَامٍ عَلَى وَزْنِ أَفَاعِلَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4750 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السُّوقِ) أَيْ: قَاعِدًا أَوْ وَاقِفًا أَوْ مَارًّا (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا) أَيْ: وَأَشَارَ إِلَى غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا بِاسْمِي) : يَعْنِي فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الِالْتِبَاسَ؛ لِأَنَّكُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ دُعَائِي بِاسْمِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] ، وَلِلتَّعْلِيمِ الْعَقْلِيِّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ مَا خَاطَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَلَامِهِ إِلَّا بِيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ؛ حَيْثُ نَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَقَالَ: يَا آدَمُ! وَيَا إِبْرَاهِيمُ! وَيَا مُوسَى! وَيَا عِيسَى! (وَلَا تَكْتَنُوا) : مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَا تُكَنُّوا بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مِنَ التَّكْنِيَةِ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَالْكُلُّ لُغَاتٌ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَا تَكَنَّوْا. (بِكُنْيَتِي) ؛ لِأَنَّ الْكُنْيَةَ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ، بِخِلَافِ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَعَ الِالْتِبَاسُ حِينَ مُنَادَاةِ بَعْضِ النَّاسِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: الْعَلَمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْعِرًا بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ وَهُوَ اللَّقَبُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِمَّا أَنْ يُصَدَّرَ بِأَبٍ أَوِ ابْنٍ وَهُوَ الْكُنْيَةُ، أَوْ لَا وَهُوَ الِاسْمُ، فَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْقَاسِمِ، وَلَقَبُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كُنِّيَ بِأَكْبَرِ أَوْلَادِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4751 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، فَإِنِّي إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4751 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا» ) : مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ وَلَفْظُ الْجَامِعِ وَلَا تَكَنَّوْا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ (بِكُنْيَتِي) أَيِ: الْمَخْصُوصَةِ بِي، قِيلَ: مَذْهَبُ الْعَرَبِ فِي الْعُدُولِ عَنِ الِاسْمِ إِلَى الْكُنْيَةِ هُوَ التَّوْقِيرُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْكُنْيَةُ لَفْظًا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْمَدْعُوُّ بِهِ، وَلِمَا كَانَ مِنْ حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِيهِ أَحَدٌ كُرِهَ أَنْ يُكَنَّى أَحَدٌ بِكُنْيَتِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: (فَإِنِّي إِنَّمَا جُعِلْتُ) :. أَيْ: جَعَلَنِي اللَّهُ (قَاسِمًا) : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: إِنَّمَا بُعِثْتُ قَاسِمًا (لِأَقْسِمَ بَيْنَكُمْ) أَيِ: الْعِلْمَ وَالْغَنِيمَةَ وَنَحْوَهُمَا. وَقِيلَ: الْبِشَارَةُ لِلصَّالِحِ وَالنِّذَارَةُ لِلطَّالِحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ قِسْمَةُ الدَّرَجَاتِ وَالدَّرَكَاتِ مُفَوَّضَةً إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ لِتَذْهَبَ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ الْمَذْهَبِ، وَيَشْرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَشْرَبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ حَقِيقَةً فِي حَقِّكُمْ، بَلْ مُجَرَّدُ اسْمٍ لَفْظًا وَصُورَةً فِي شَأْنِكُمْ وَشَأْنِ أَوْلَادِكُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنِّي لَسْتُ أَبَا الْقَاسِمِ بِمُجَرَّدِ أَنَّ وَلَدِي كَانَ مُسَمًّى بِقَاسِمٍ، بَلْ لُوحِظَ فِي مَعْنَى الْقَاسِمِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْقِسْمَةِ الْأَزَلِيَّةِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَسْتُ كَأَحَدِكُمْ لَا فِي الذَّاتِ، وَلَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَبُو الْقَاسِمِ نَظِيرَ قَوْلِ الصُّوفِيَّةِ: الصُّوفِيُّ أَبُو الْوَقْتِ أَيْ: صَاحِبُهُ وَمُلَازِمُهُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَمَعْنَى أَبِي الْقَاسِمِ صَاحِبُ هَذَا الْوَصْفِ، كَمَا يُقَالُ: أَبُو الْفَضْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ مُسَمًّى بِالْفَضْلِ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّ هَذِهِ الْكُنْيَةَ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى اللَّقَبِ الْمَحْمُودِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: النَّهْيُ مَخْصُوصٌ بِحَيَاتِهِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ خِطَابُهُ بِخِطَابِ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَبَبِ وُرُودِ النَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ بِالصَّرِيحِ، وَقِيلَ: النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِحَيَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ أَصْلًا، سَوَاءٌ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا أَوْ أَحَمَدَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْمٌ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهُ يَقْسِمُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا بِوَحْيٍ إِلَيْهِ وَيُنْزِلُهُمْ مَنَازِلَهُمُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا فِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ وَقَسْمِ الْغَنَائِمِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَنَعَ أَنْ يُكَنَّى بِهِ غَيْرُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، أَمَّا لَوْ كُنِّيَ بِهِ أَحَدٌ لِلنِّسْبَةِ إِلَى ابْنٍ لَهُ اسْمُهُ قَاسِمٌ، أَوْ لِلْعَلَمِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ جَازَتْ وَيَدُلُّكَ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ لِلنَّهْيِ. قُلْتُ: لَكِنْ يَأْبَى عَلَيْكَ مَا سَبَقَ مِنْ سَبَبِ الْوُرُودِ الْمَسْطُورِ لِلنَّهْيِ. قَالَ: وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نُسِخَ فَيُبَاحُ التَّكَنِّي الْيَوْمَ بِأَبِي الْقَاسِمِ لِكُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ فِيهِ مِنِ اسْمِهِ مُحَمَّدٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَعِلَّتُهُ الْتِبَاسُ خِطَابِهِ بِخِطَابِ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَهْيُهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَقِيبَ مَا سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، وَمَا رُوِيَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي «عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ وُلِدَ لِي بَعْدَكَ وَلَدٌ أُسْمِيهِ مُحَمَّدًا، وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ. قَالَ: نَعَمْ» . أَقُولُ: دَعْوَى النَّسْخِ مَمْنُوعَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يَنْتَفِي الْحُكْمُ بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ الِاشْتِبَاهُ وَهُوَ مُتَغَيِّرٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَثَالِثُهَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ وَالْأَدَبِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَرِيرٍ. قُلْتُ: وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، لَا سِيَّمَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مِنْ حَيَاتِهِ، عَلَى أَنَّهُ عَلَّلَ النَّهْيَ بِعِلَّةٍ دَالَّةٍ عَلَى اخْتِصَاصِ الِاسْمِ بِهِ حَالَ وُجُودِهِ قَالَ: وَرَابِعُهَا: أَنَّ النَّهْيَ لِلْجَمْعِ وَلَا بَأْسَ بِالْكُنْيَةِ وَحْدَهَا لِمَنْ لَا يُسَمِّي وَاحِدًا مِنَ الِاسْمَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَجْمَعَ أَحَدٌ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: اشْرَبِ اللَّبَنَ، وَلَا تَأْكُلِ السَّمَكَ أَيْ: حِينَ شَرِبْتَهُ، فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. قُلْتُ: هَذَا مَعَ مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا مِنْ جَوَازِ التَّسْمِيَةِ، وَمَنْعُ التَّكْنِيَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَارَنًا بِالتَّسْمِيَةِ، أَوْ مُفَارِقًا لَهَا لَا يُلَائِمُهُ سَبَبُ وُرُودِ النَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُنَاسِبُهُ الْعِلَّةُ الْمَسْطُورَةُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، فَتَأَمَّلْ. وَالنَّظِيرُ لَفْظِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ شُرْبِ اللَّبَنِ وَأَكْلِ السَّمَكِ مُضِرٌّ عَلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ، وَأَمَّا هُنَا فَالضَّرَرُ فِي التَّكْنِيَةِ وَحْدَهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُوجَدَ مَعَهَا اشْتِرَاكُ الِاسْمِ أَمْ لَا. فَالنَّظِيرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ أَنْ يُقَالَ: خَالِطِ النَّاسَ وَلَا تُؤْذِ. قَالَ: وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ مُطْلَقًا، وَأَرَادَ الْمُقَيَّدَ وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِالْقَاسِمِ، وَقَدْ غَيَّرَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ اسْمَ ابْنِهِ حِينَ بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ، فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ، وَكَانَ اسْمُهُ الْقَاسِمَ، وَكَذَا عَنْ بَعْضِ الْأَنْصَارِ. قُلْتُ: لَوْ قِيلَ قَوْلٌ سَابِعٌ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ التَّكْنِيَةِ بِأَبِي الْقَاسِمِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ الْوُرُودِ الْمَذْكُورِ، وَعَنِ التَّسْمِيَةِ بِالْقَاسِمِ أَيْضًا نَظَرًا إِلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ مَعَ التَّقْيِيدِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ تَنْزِيهًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَمَّا جَوَازُ إِطْلَاقِ أَبِي الْقَاسِمِ وَمَنْعُ الْقَاسِمِ فَمَمْنُوعٌ وَلَا لَهُ وَجْهٌ مَشْرُوعٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَرْوَانَ غَيَّرَ اسْمَ ابْنِهِ الْقَاسِمِ لَمَّا بَلَغَهُ الْحَدِيثُ عَنِ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ، وَخَافَ أَنْ يُكَنَّى بِهِ وَيَقَعَ الْمَحْظُورُ، فَغَيَّرَهُ تَخَلُّصًا مِنْ حُصُولِ الْمَحْذُورِ. قَالَ: وَسَادِسُهَا: أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِمُحَمَّدٍ مَمْنُوعَةٌ مُطْلَقًا، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ» ". قُلْتُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى مَنْعِ التَّسْمِيَةِ بِمُحَمَّدٍ، بَلْ فِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا سُمِّيَ وَلَدٌ بِمُحَمَّدٍ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ بِسَبَبِ هَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ، فَلَا يُعَامَلُ مَعَهُ مُعَامَلَةَ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَرْفُوعًا " إِذَا سَمَّيْتُمْ مُحَمَّدًا فَلَا تَضْرِبُوهُ وَلَا تَحْرِمُوهُ ". وَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " إِذَا سَمَّيْتُمُ الْوَلَدَ مُحَمَّدًا فَأَكْرِمُوهُ وَأَوْسِعُوا لَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا تُقَبِّحُوا لَهُ وَجْهًا ". قَالَ: وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْكُوفَةِ: لَا تُسَمُّوا أَحَدًا بِاسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَسَبَبُهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِمُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْخَطَّابِ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، فَدَعَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَبُّ بِكَ، وَاللَّهِ لَا تُدْعَى مُحَمَّدًا مَا بَقِيتَ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ. قُلْتُ: فَالنَّهْيُ عَنْهُ لَيْسَ مُطْلَقًا لِذَاتِهِ، بَلْ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَحْصُلَ بِسَبَبِهِ إِهَانَةٌ لِسَمِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَرِيكُهُ فِي اسْمِهِ قَالَ: وَهَذَا أَكْثَرُهُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ: وَقَالَ أَيْضًا: أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْتُ مَا هُوَ الصَّوَابُ. قَالَ: وَكَرِهَ مَالِكٌ التَّسَمِّيَ بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ كَجِبْرِيلَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ: «سَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا تُسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4752 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4752 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ» ) : قِيلَ: أَيْ: بَعْدَ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِدَلِيلِ الْإِضَافَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَيْنِ لَيْسَا بِأَحَبَّ مِنِ اسْمِ مُحَمَّدٍ، فَهُمَا فِي مَرْتَبَةِ التَّسَاوِي مَعَهُ، أَوْ يَكُونُ اسْمُ مُحَمَّدٍ أَحَبَّ مِنَ الِاسْمَيْنِ إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي زُهَيْرٍ الثَّقَفِيِّ مَرْفُوعًا " إِذَا سَمَّيْتُمْ فَعَبِّدُوا " أَيِ: انْسِبُوا عُبُودِيَّتَهُمْ إِلَى أَسْمَاءِ اللَّهِ، فَيَشْمَلُ عَبْدَ الرَّحِيمِ، وَعَبْدَ الْمَلِكِ وَغَيْرَهُمَا. وَلَا يَجُوزُ نَحْوُ عَبْدِ الْحَارِثِ وَلَا عَبْدِ النَّبِيِّ، وَلَا عِبْرَةٌ بِمَا شَاعَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ.

4753 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُسَمِّيَنَّ غُلَامَكَ يَسَارًا، وَلَا رَبَاحًا، وَلَا نَجِيحًا، وَلَا أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَلَا يَكُونُ، فَيَقُولُ لَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، قَالَ: " «لَا تُسَمِّ غُلَامَكَ رَبَاحًا، وَلَا يَسَارًا وَلَا أَفْلَحَ وَلَا نَافِعًا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4753 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُسَمِّينَ) أَيْ: أَلْبَتَّةَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، بِالْخِطَابِ الْعَامِّ (غُلَامَكَ) أَيْ: صَبِيَّكَ أَوْ عَبْدَكَ (يَسَارًا) : مِنَ الْيُسْرِ ضِدَّ الْعُسْرِ (وَلَا رَبَاحًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنَ الرِّبْحِ ضِدِّ الْخَسَارَةِ (وَلَا نَجِيحًا) : مِنَ النُّجْحِ وَهُوَ الظَّفَرُ (وَلَا أَفْلَحَ) : مِنَ الْفَلَاحِ وَهُوَ الْفَوْزُ (فَإِنَّكَ تَقُولُ) أَيْ: أَحْيَانًا (أَثَمَّ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِتَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ أَيْ: أَهُنَاكَ (هُوَ؟) أَيِ: الْمُسَمَّى بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ (فَلَا يَكُونُ) أَيْ: فَلَا يُوجَدُ هُوَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ اتِّفَاقًا (فَيَقُولُ) أَيِ: الْمُجِيبُ (لَا) أَيْ: لَيْسَ هُنَاكَ يَسَارٌ، أَوْ لَا رَبَاحٌ عِنْدَنَا، أَوْ لَا نَجِيحٌ هُنَاكَ، أَوْ لَا أَفْلَحُ مَوْجُودٌ، فَلَا يَحْسُنُ مِثْلُ هَذَا فِي التَّفَاؤُلِ، أَوْ فَيُكْرَهُ لِشَنَاعَةِ الْجَوَابِ: فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَى هَذَا: أَنَّ النَّاسَ يَقْصِدُونَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ التَّفَاؤُلَ بِحُسْنِ أَلْفَاظِهَا أَوْ مَعَانِيهَا، وَرُبَّمَا يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ مَا قَصَدُوهُ إِلَى الضِّدِّ إِذَا سَأَلُوا فَقَالُوا: أَثَمَّ يَسَارٌ أَوْ نَجِيحٌ؟ فَقِيلَ: لَا، فَتَطَيَّرُوا بِنَفْيِهِ وَأَضْمَرُوا الْيَأْسَ مِنَ الْيُسْرِ وَغَيْرِهِ، فَنَهَاهُمْ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي يَجْلِبُ سُوءَ الظَّنِّ وَالْإِيَاسَ مِنَ الْخَيْرِ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ: فَإِذَا ابْتُلِيَ رَجُلٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَلْيُحَوِّلْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَقِيلَ: أَثَمَّ يَسَارٌ أَوْ بَرَكَةٌ؟ فَإِنَّ مِنَ الْأَدَبِ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَا هُنَا يُسْرٌ وَبَرَكَةٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَيُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي تُرِيدُهُ، وَلَا يُقَالُ لَيْسَ هُنَا وَلَا خَرَجَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) : أَيْ: لِمُسْلِمٍ (قَالَ: لَا تُسَمِّ غُلَامَكَ رَبَاحًا وَلَا يَسَارًا وَلَا نَافِعًا) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ التَّسَمِّي بِالْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ مَا نَبَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَكُرِهَ لِشَنَاعَةِ الْجَوَابِ.

4754 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى وَبِبَرَكَةَ وَبِأَفْلَحَ وَبِيَسَارٍ وَبِنَافِعٍ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ سَكَتَ بَعْدُ عَنْهَا، ثُمَّ قُبِضَ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4754 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى) : بِالْفَتْحِ مُضَارِعُ عَلِيَ فِي الشَّرَفِ بِالْكَسْرِ (وَبِبَرَكَةَ) : بِعَدَمِ الصَّرْفِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَبِأَفْلَحَ) : وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَبِيَسَارٍ) : فَالْيَاءُ أَصْلِيَّةٌ فَصُرِفَ (وَبِنَافِعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ) أَيْ: وَبِمَعْنَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَسْمَاءِ كَمَا سَبَقَ بَعْضُهَا (ثُمَّ رَأَيْتُهُ سَكْتَ بَعْدُ) : بِالضَّمِّ مَبْنِيًّا، أَيْ: بَعْدَ إِرَادَتِهِ النَّهْيَ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِمَا ذُكِرَ (عَنْهَا) أَيْ: سَكَتَ عَنِ الْأَسْمَاءِ الْمَسْطُورَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِنَهْيٍ وَلَا بِجَوَازٍ (ثُمَّ قُبِضَ) أَيْ: تُوُفِّيَ (وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ: عَمَّا ذُكِرَ مِنَ الْأَسْمَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ رَأَى أَمَارَاتٍ وَسَمِعَ مَا يُشْعِرُ بِالنَّهْيِ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى النَّهْيِ صَرِيحًا؛ فَلِذَا قَالَ ذَلِكَ، وَقَدْ نَهَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لِسَمُرَةَ، وَشَهَادَةُ الْإِثْبَاتِ أَثْبَتُ. قُلْتُ: وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَنْهَى نَهْيَ تَحْرِيمٍ، ثُمَّ سَكَتَ بَعْدَ ذَلِكَ رَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَإِيقَاعِ الْحَرَجِ، لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ النَّاسِ مَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ مِنَ الْقُبْحِ وَالْحُسْنِ، فَالنَّهْيُ الْمَنْفِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَالْمُثْبَتُ عَلَى التَّنْزِيهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَمُرَةَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُسَمَّى أَرْبَعَةَ أَسْمَاءٍ: أَفْلَحَ وَيَسَارًا وَنَافِعًا وَرَبَاحًا» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُسَمَّى الرَّجُلُ حَرْبًا أَوْ وَلِيدًا أَوْ مُرَّةَ أَوِ الْحَكَمَ أَوْ أَبَا الْحَكَمِ أَوْ أَفْلَحَ أَوْ نَجِيحًا أَوْ يَسَارًا» ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُسَمَّى كَلْبٌ أَوْ كُلَيْبٌ»

4755 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَخْنَى الْأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " «أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4755 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْنَى الْأَسْمَاءِ) : بِسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا نُونٌ أَيْ: أَقْبَحُهَا، وَرُوِيَ أَخْنَعُ أَيْ: أَذَلُّهَا وَأَوْضَعُهَا بِاعْتِبَارِ مُسَمَّاهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ: وَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ أَعْظَمَ الْأَسْمَاءِ وَأَكْرَمَهَا (رَجُلٌ) أَيِ: اسْمُ رَجُلٍ (يُسَمَّى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّسْمِيَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَاضٍ مَعْلُومٌ مِنَ التَّسَمِّي مَصْدَرٌ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّسْمِيَةِ، وَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي أَصْلٍ مُصَحَّحٍ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ مِنَ التَّسَمِّي ثُمَّ قَوْلُهُ: (مَلِكَ الْأَمْلَاكِ) : مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْأَمْلَاكُ جَمْعُ مَلِكٍ كَالْمُلُوكِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فَقَالَ: هُوَ شَهَنْشَاهْ يَعْنِي: شَاهْ شَاهَانْ بِلِسَانِ الْعَجَمِ، وَقَدَّمَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ ثُمَّ حَذَفَ الْأَلِفَ وَفَتَحَ الْهَاءَ تَخْفِيفًا وَهُوَ بِالْعَرَبِيِّ سُلْطَانُ السَّلَاطِينِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عُلَيْهِ السَّلَامُ (أَغْيَظُ رَجُلٍ) : اسْمُ تَفْضِيلٍ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: أَكْثَرُ مَنْ يُغْضَبُ عَلَيْهِ وَيُعَاقَبُ، فَإِنَّ الْغَيْظَ غَضَبُ الْعَاجِزِ عَنِ الِانْتِقَامِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ كَرَاهَةِ هَذَا الِاسْمِ أَوْ مَجَازًا عَنْ عُقُوبَتِهِ لِلتَّسَمِّي بِالِاسْمِ الْآتِي، وَأُضِيفَ إِلَى مُفْرِدٍ بِمَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ: أَشَدُّ أَصْحَابِ الْأَسْمَاءِ الْكَرِيهَةِ عُقُوبَةً (عَلَى اللَّهِ) : بِحَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بِنَاءً عَلَى حُكْمِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ) أَيْ: حَالًا وَمَقَامًا (رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ) : وَهُوَ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ؛ حَيْثُ قَالَ أَيْ: يُسَمِّي نَفْسَهُ بِذَلِكَ فَيَرْضَى أَنَّ اسْمَهُ عَلَى ذَلِكَ (لَا مَلِكَ) أَيْ: لَا سُلْطَانَ (إِلَّا اللَّهُ) : وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ التَّسْمِيَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَلِكَ الْحَقِيقِيَّ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، وَمِلْكِيَّةُ غَيْرِهِ مُسْتَعَارَةٌ، فَمَنْ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ نَازَعَ اللَّهَ بِرِدَائِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا قَصَمْتُهُ، وَلَمَّا اسْتَنْكَفَ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ جُعِلَ لَهُ الْخِزْيُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَهَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَلَفْظُهُ: " «أَخْنَعُ الْأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ» " اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَمْلَاكَ جَمْعُ الْمَلِكِ بِالْكَسْرِ، فَيَكُونُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مَذْمُومًا عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ " مَلِكَ " " مَالِكَ "، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، وَهُوَ مَرْسُومٌ بِحَذْفِ الْأَلِفِ اتِّفَاقًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَعَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ لِلْإِشْعَارِ بِتَرْتِيبِ مَا هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْهُ مِنْ إِنْزَالِ الْهَوَانِ، وَحُلُولِ الْعِقَابِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لِمُسْلِمٍ: أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: سَأَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، أَبَا عَمْرٍو عَنْ أَخْنَعُ، فَقَالَ: أَوْضَعُ، وَالْمَعْنَى: أَشَدُّ ذُلًّا وَصِغَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اهـ. وَقَوْلُهُ: رَجُلٌ يُسَمَّى خَبَرُ أَخْنَعُ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ لِيُطَابِقَ الْخَبَرُ الْمُبْتَدَأَ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ فِي الْخَبَرِ، أَيِ: اسْمُ رَجُلٍ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُرَادَ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى مَجَازًا، أَيْ: أَخْنَى الرِّجَالِ رَجُلٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُ إِذَا قَدَّسَ اسْمَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ، فَكَأَنَّ ذَاتَهُ بِالتَّقْدِيسِ أَوْلَى، وَهُنَا إِذَا كَانَ الِاسْمُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالْهَوَانِ وَالصَّغَارِ، فَكَيْفَ بِالْمُسَمَّى، فَإِذَا كَانَ حُكْمُ الِاسْمِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِالْمُسَمَّى، وَهَذَا إِذَا كَانَ رَضِيَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُبَدِّلْهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ: أَغْيَظُ رَجُلٍ. قَالَ الْقَاضِي أَيْ: أَكْبَرُ مَنْ يُغْضَبُ عَلَيْهِ غَضَبًا، اسْمُ تَفْضِيلٍ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ كَأَلْوَمَ، وَأَضَافَهُ إِلَى الْمُفْرَدِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَلَى هُنَا لَيْسَتْ بِصِلَةٍ لِأَغْيَظَ كَمَا يُقَالُ: اغْتَاظَ عَلَى صَاحِبِهِ وَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَلَكِنْ بَيَانٌ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: أَغْيَظُ رَجُلٍ قِيلَ:

عَلَى مَنْ؟ قِيلَ: عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] ، فَإِنَّ لَكَ بَيَانٌ لِاسْمِ الصَّوْتِ. قُلْتُ: التَّقْدِيرُ مَا أَفَادَ التَّغْيِيرَ لِيَكُونَ دَفْعُ الْفَسَادِ، بَلْ وَقَعَ فِي عَيْنِ مَا أَرَادَ مِنْهُ الشُّرَّاحُ، ثُمَّ لِي نَظِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْغَيْظَ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِخِلَافِ هَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ أَصْلًا، بَلْ مَعْنَاهُ أَقْبِلْ وَبَادِرْ أَوْ هَيَّأْتُ، وَالْكَلِمَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ اسْمُ فِعْلٍ بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ كَأَيْنَ، وَاللَّامُ لِلتَّبْيِينِ كَالَّتِي فِي سُقْيًا لَكَ، فَالْأَوْلَى مَا أَوَّلْنَاهُ أَوَّلًا. وَفِي النِّهَايَةِ هَذَا مَجَازُ الْكَلَامِ مَعْدُولٌ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ الْغَيْظَ صِفَةٌ تَعْتَرِي الْمَخْلُوقَ عِنْدَ احْتِدَادِهِ يَتَحَرَّكُ لَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عُقُوبَتِهِ لِلْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ أَيْ: إِنَّهُ أَشَدُّ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عُقُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ الْغَيْظَ وَالْغَضَبَ مِنَ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ لَهَا بِدَايَاتٌ وَغَايَاتٌ، فَإِذَا وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهَا عَلَى الْغَايَاتِ مِنَ الِانْتِقَامِ بِإِنْزَالِ الْهَوَانِ وَحُلُولِ الْعِقَابِ، لَا عَلَى بِدَايَاتِهَا مِنَ التَّغْيِيرِ النَّفْسَانِيِّ، فَعَلَى هَذَا فِي عَلَى مَعْنَى الْوُجُوبِ أَيْ: وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ أَنْ يُغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَيُنَكِّلَ بِهِ، وَيُعَذِّبَهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ. قُلْتُ وَهَذَا غَايَةُ كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ زَادَ فِي مَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ وَقْعُ مَا أَخْبَرَ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّحَتُّمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] "، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِنَّهُ يَجِبُ وُقُوعُ عَذَابِ الْكُفَّارِ، وَإِلَّا يَقَعُ الْخُلْفُ فِي إِخْبَارِهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، فَهَذَا وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا الشِّرْكَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَاجِبٌ عَلَيْهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ أَنْ يُعَذِّبَهُ فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ، لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْخَلَلِ وَالْخَطَلِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِسَالَتِي الْمُسَمَّاةِ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ فِي خُلْفِ الْوَعِيدِ، هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَلِكَ الْأَمْلَاكِ، زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ: «لَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ» . قَالَ سُفْيَانُ: مِثْلُ شَاهَنْشَاهْ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ شَاهْ شَاهْ. قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَصْوَبَ شَاهْ شَاهَانْ. قُلْتُ: كَذَلِكَ حَتَّى يَصِحَّ الْإِضَافَةُ أَوْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ، فَيُقَالُ: شَاهْ كُلْ شَاهْ. قَالَ الْقَاضِي: فَلَا يُنْكَرُ مَجِيءُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَجَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. قُلْتُ: هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي شَاهَنْشَاهْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَيَتَغَيَّرُ الِاعْتِبَارُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: شَاهَانْرَاشَاهْ. قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ الرَّاءِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ. ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ شَاهْ: مُلُوكٌ، وَشَاهَانِ: الْمُلُوكُ، وَكَذَا مَا يَقُولُونَ: قَاضِي الْقُضَاةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِمَّا يُلْحَقُ بِهِ مَلِكُ شَاهْ، وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ بِاسْمِ مَلِكِ الْأَمْلَاكِ. أَيْ: تَسَمَّى بَاسِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَقَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ الْجَبَّارُ الْعَزِيزُ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَالَّذِي قَالَهُ سُفْيَانُ أَشْبَهُ، وَكُلٌّ لَهُ وَجْهٌ.

4756 - وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سُمِّيتُ بَرَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ، سَمُّوهَا زَيْنَبَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4756 - (وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) : وَهِيَ رَبِيبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَتْ: سُمِّيتُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: سَمَّانِي أَهْلِي (بَرَّةَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَرَاءٍ مُشَدِّدَةٍ مُبَالَغَةُ بَارَّةٍ، إِمَّا عَلَى الْوَصْفِيَّةِ أَوِ الْمَصْدَرِيَّةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أَيْ: كَمَا قَالَ تَعَالَى ( «اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَزْكِيَةُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهَا، وَالْبِرُّ اسْمُ لِكُلِّ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ (سَمَّوْهَا زَيْنَبَ) : فِي الْقَامُوسِ زَنِبَ كَفَرِحَ سَمُنَ وَالْأَزْنَبُ السَّمِينُ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ زَيْنَبَ يَعْنِي: إِخْبَارًا أَوْ تَفَاؤُلًا أَوْ مِنْ زُبَانَى الْعَقْرَبِ لِزُبَانَاهَا، أَوْ مِنَ الزَّيْنَبِ لِشَجَرٍ حَسَنِ الْمَنْظَرِ طَيِّبِ الرَّائِحَةِ، أَوْ أَصْلُهَا زَيْنُ أَبٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَاعِبُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَيَقُولُ: يَا زُوَيْنِبُ يَا زُوَيْنِبُ مِرَارًا» . رَوَاهُ الضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ.

4757 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: " «كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ اسْمُهَا بَرَّةُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمَهَا جُوَيْرِيَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4757 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ كَانَتْ (جُوَيْرِيَةُ) بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ تَصْغِيرُ جَارِيَةٍ، وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (اسْمُهَا بَرَّةُ) أَيْ: قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ فِي عِصْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمَهَا) : يَعْنِي بَرَّةَ (جُوَيْرِيَةَ) عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: إِلَى جُوَيْرِيَةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَوَّلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَيَصِيرُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ (وَكَانَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَهُ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ، فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُ النَّوَوِيِّ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثَيْنِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْعِلَّةِ، وَهُمَا التَّزْكِيَةُ وَخَوْفُ التَّطَيُّرِ. قُلْتُ: يَعْنِي أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَوَّلِ التَّزْكِيَةُ، وَفِي الثَّانِيَةِ التَّطَيُّرُ مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4758 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ بِنْتًا كَانَتْ لِعُمَرَ يُقَالُ لَهَا: عَاصِيَةُ فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيلَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4758 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ بِنْتًا كَانَتْ لِعُمَرَ يُقَالُ لَهَا: عَاصِيَةُ) : وَلَعَلَّهَا سُمِّيَتْ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْعِصْيَانِ، بَلْ مِنَ الْعِيصِ وَهُوَ بِالْكَسْرِ الشَّجَرُ الْكَثِيفُ الْمُلْتَفُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُنْبَثِّ، وَمِنْهُ عِيصُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا أُبْدِلَتِ الْيَاءُ أَلِفًا فُتِحَتِ الْعَيْنُ، وَمِنْهُ الْعَاصُ وَأَبُو الْعَاصِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا مُؤَنَّثُ الْعَاصِ لَا تَأْنِيثُ الْعَاصِي، لَكِنْ لَمَّا كَانَ يَتَبَادَرُ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى غَيَّرَهَا (فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيلَةً) . وَلَعَلَّهُ لَمْ يُسَمِّهَا مُطِيعَةً مَعَ أَنَّهَا ضِدُّ الْعَاصِيَةِ مَخَافَةَ التَّزْكِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ التُّورِبِشْتِيَّ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْعَاصِ وَالْعَاصِيَةِ ذِهَابًا إِلَى مَعْنَى الْإِبَاءِ عَنْ قَبُولِ النَّقَائِصِ وَالرِّضَا بِالضَّيْمِ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كَرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يُسَمِّيَ بِمَا يُقَابِلُ اسْمَهَا، وَالْمُقَابِلُ بَرَّةُ وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ لِلْعِلَّتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَلِذَلِكَ عَدَلَ إِلَى جَمِيلَةٍ وَهِيَ مُقَابِلَةٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْجَمِيلَ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الْجَمِيلُ وَالْبِرُّ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّحْوِيلِ الْمُقَابَلَةُ أَلْبَتَّةَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى مُرَاعَاتِهَا، مَعَ أَنَّ الْمُقَابِلَ لِلْعَاصِيَةِ إِنَّمَا هُوَ الْمُطِيعَةُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَمِيلَةَ هُنَا بِمَعْنَى الْحَسَنَةِ، لَا بِمَعْنَى الْآتِيَةِ بِالْجَمَالِ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّزْكِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَغْيِيرِ الِاسْمِ الْقَبِيحِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ تَغْيِيرُ الْأَسَامِي الْمَكْرُوهَةِ إِلَى حَسَنٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4759 - «وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أُتِيَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ وُلِدَ، فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ فَقَالَ: " مَا اسْمُهُ؟ " قَالَ: فُلَانٌ. قَالَ: " لَا، لَكِنِ اسْمُهُ الْمُنْذِرُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4759 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيِ: السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ: وَكَانَ اسْمُهُ حَزْنًا، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْلًا، مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْعَبَّاسُ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو حَازِمٍ (قَالَ: أُتِيَ) أَيْ: جِيءَ (بِالْمُنْذِرِ) : بِالْكَسْرِ (ابْنِ أَبِي أُسَيْدٍ) :. بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ السَّاعِدِيُّ أَيْضًا (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ وُلِدَ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فِي الْقَامُوسِ: الْفَخِذُ كَكَتِفٍ مَا بَيْنَ السَّاقِ وَالْوَرِكِ مُؤَنَّثٌ، كَالْفَخْذِ وَيُكْسَرُ. (فَقَالَ) أَيْ: لِمَنْ أَتَى بِهِ (مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: فُلَانٌ) . لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ (قَالَ: لَكِنْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: لَا لَكِنْ أَيْ: لَا أَرْضَى بِذَلِكَ لَكِنْ (اسْمُهُ الْمُنْذِرُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَا أَرْضَى بِمَا سَمَّيْتُمُوهُ، وَلَكِنْ أَرْضَى لَهُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ الْمُنْذِرَ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفَاءَلَ بِهِ وَلَمَّحَ إِلَى مَعْنَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4760 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ ". وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ وَفَتَاتِي. وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ: رَبِّي، وَلَكِنْ يَقُلْ: سَيِّدِي» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «لِيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلَايَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «لَا يَقُلِ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: مَوْلَايَ، فَإِنَّ مَوْلَاكُمُ اللَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4760 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي ") أَيْ: يَا عَبْدِي أَوْ عَبْدِي فُلَانٌ؛ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ أَوْ فِي حَقِيقَةِ الْعَبْدِيَّةِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَأَمَتِي) فِي الْإِعْرَابِ، وَالْمَعْنَى: فَإِنَّ الْأَمَةَ هِيَ الْمَمْلُوكَةُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَلَا مُلْكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (كُلُّكُمْ) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ، وَالْمَعْنَى: كُلُّ رِجَالِكُمْ (عُبَيْدُ اللَّهِ) بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ) . وَيُحْتَمَلُ أَنْ

يَكُونُ الْأَوَّلُ عَامًّا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ، وَالثَّانِي تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وَيُؤَيِّدُ التَّوْجِيهَ السَّابِقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، ( «وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي» ) أَيْ: بَدَلًا عَنْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَفَتَايَ وَفَتَاتِي) . فَالْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " وَهُمَا بِمَعْنَى الشَّابِّ أَوِ الشَّابَّةِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ فِي الْخَدَمِ، أَوِ الْقَوِيِّ وَالْقَوِيَّةِ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ (وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ: رَبِّي) أَيْ: بِالنِّدَاءِ أَوِ الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَرْبُوبٌ مُتَعَبِّدٌ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ، فَكُرِهَ الْمُضَاهَاةُ بِالِاسْمِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي مَعْنَى الشِّرْكِ إِذِ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِيهِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. (وَلَكِنْ لِيَقُلْ: سَيِّدِي) ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَ السِّيَادَةِ إِلَى مَعْنَى الرِّيَاسَةِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الزَّوْجُ سَيِّدًا. (وَفِي رِوَايَةٍ: لِيَقُلْ سَيِّدِي) أَيْ: تَارَةً (وَمَوْلَايَ) أَيْ: أُخْرَى، لَكِنْ بِمَعْنًى مُتَصَرِّفٍ. (وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَقُلِ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ مَوْلَايَ» ) . أَيْ: بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَالْمُعِينِ، فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ؛ وَلِذَا يُطْلَقُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ". عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ، " «مَوْلَى الرَّجُلِ أَخُوهُ وَابْنُ عَمِّهِ» " عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَوْلَى لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: مَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى؛ وَلِذَا قَالَ: (فَإِنَّ مَوْلَاكُمُ اللَّهُ) أَيِ: الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الْمَعْنَى الْخَاصِّ؛ وَلِذَا قِيلَ فِي كَرَاهَةِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ هُوَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالتَّحْقِيرِ لِشَأْنِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، وَقَالَ: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] ، وَقَالَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ، وَقَالَ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] ، وَمَعْنَى هَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْتِزَامِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، فَلَمْ يَحْسُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: فُلَانٌ عَبْدِي، بَلْ يَقُولُ: فَتَايَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَ فَتَاهُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] ، عَلَى هَذَا امْتِحَانُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ ابْتُلِيَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرِّقِّ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: إِنَّمَا يُكْرَهُ لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَقُولَ لِمَالِكِهِ: رَبِّي؛ لِأَنَّ فِيهِ إِيهَامَ الْمُشَارَكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا حَدِيثُ: حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا فِي الضَّالَّةِ فَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ فَهِيَ كَالدَّارِ وَالْمَالِ، لَا كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ وَالدَّارِ، وَأَمَّا قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ، وَ {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] ، فَفِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَاطَبَهُ بِمَا يَعْرِفُهُ وَجَازَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ فِي شَرْعِنَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] ، أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْ: إِنَّهُ خَالِقِي. أَحْسَنَ مَنْزِلَتِي وَمَأْوَايَ بِأَنْ عَطَّفَ عَلَيَّ الْقُلُوبَ فَلَا أَعْصِيهِ، وَعَنْ قَوْلِهِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] أَيِ: اذْكُرْ حَالَتِي عِنْدَ الْمَلِكِ كَيْ يُخَلِّصَنِي {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] ، أَيْ: أَنْسَى يُوسُفَ ذِكْرَ اللَّهِ حَتَّى اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «رَحِمَ اللَّهُ أَخِي يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَقُلِ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لَمَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ سَبْعًا بَعْدَ الْخَمْسِ» " كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ: لَمَّا قَالَ لِصَاحِبِ السِّجْنِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ، نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: اللَّهُ يُقْرِئُكَ السَّلَامُ وَيَقُولُ: مَنْ حَبَّبَكَ إِلَى أَبِيكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ؟ وَمَنْ قَيَّضَ لَكَ السَّيَّارَةَ لِتَخْلِيصِكَ، وَمَنْ طَرَحَ فِي قَلْبِ مَنِ اشْتَرَاكَ مِنْ مَوَدَّتِكَ حَتَّى قَالَ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21] ، وَمَنْ صَرَفَ عَنْكَ وَبَالَ الْمَعْصِيَةِ؟ قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي حَفِظْتُكَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، أَخَشِيتَ أَنْ أَنْسَاكَ فِي السِّجْنِ حَتَّى اسْتَعَنْتَ بِغَيْرِي؟ وَقُلْتَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ، أَمَا كَانَ رَبُّكَ أَقْرَبَ مِنْكَ وَأَقْدَرَ عَلَى خَلَاصِكَ مِنْ رَبِّ صَاحِبِ السِّجْنِ؟ لَتَلْبَثَنَّ فِيهِ بِضْعَ سِنِينَ. قَالَ يُوسُفُ: وَرَبِّي عَنِّي بِرَاضٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَا أُبَالِي وَلَوْ إِلَى السَّاعَةِ، كَذَا فِي حَقَائِقِ السُّلَمِيِّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4761 - وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَقُولُوا: الْكَرْمُ، فَإِنَّ الْكَرْمَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4761 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَقُولُوا) أَيْ: لِلْعِنَبِ (الْكَرْمُ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ وَيُفْتَحُ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (فَإِنَّ الْكَرْمَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ) . قَالَ شَارِحٌ: سَمَّتِ الْعَرَبُ الْعِنَبَةَ كَرْمًا ذَهَابًا إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ تُورِثُ شَارِبَهَا كَرَمًا، وَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِ قَوْلُ الْقَائِلِ: فَيَا ابْنَةَ الْكَرْمِ لَا بَلْ يَا ابْنَةَ الْكَرَمِ فَلَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ تَحْقِيرًا لِلْخَمْرِ، وَتَأْكِيدًا لِحُرْمَتِهَا، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ هُوَ الْكَرْمُ؛ لِأَنَّهُ مَعْدِنُ التَّقْوَى لَا الْخَمْرُ الْمُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَالِ الْعَقْلِ، وَفَسَادِ الرَّأْيِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ وَصَرْفِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ. وَفِي الْفَائِقِ: أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، بِطَرِيقٍ مَنِيفٍ وَمَسْلَكٍ لَطِيفٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْكَرَمُ مُحَرَّكَةٌ ضِدُّ اللُّؤْمِ، وَأَرْضٌ كَرَمٌ مُحَرَّكَةً أَيْ: طَيِّبَةٌ، وَالْكَرْمُ: الْعِنَبُ، وَالْكَرِيمَانِ الْحَجُّ وَالْجِهَادُ، وَمِنْهُ: «خَيْرُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ بَيْنَ كَرِيمَيْنِ» . وَفِي الْحَدِيثِ: " «لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ» ". وَلَيْسَ الْغَرَضُ حَقِيقَةَ النَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا، وَلَكِنَّهُ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ غَيْرِ الْأَنَاسِيِّ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْكَرَمِ، أَنْتُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ لَا تُؤَهِّلُوهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ غَيْرَةً لِلْمُسْلِمِ التَّقِيِّ أَنْ يُشَارَكَ فِيمَا سَمَّاهُ اللَّهُ، وَخَصَّهُ بِأَنْ جَعَلَهُ صِفَتَهُ، فَضْلًا أَنْ تُسَمُّوا بِالْكَرِيمِ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَأَتَّى لَكُمْ أَنْ لَا تُسَمُّوهُ مَثَلًا بِاسْمِ الْكَرَمِ، فَلَا تُسَمُّوا بِهِ غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ الْكَرْمَ أَيْ: فَإِنَّمَا الْمُسْتَحِقُّ لِلِاسْمِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْكَرَمِ الْمُسْلِمُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: رَجُلٌ كَرَمٌ وَامْرَأَةٌ كَرَمٌ، وَرَجُلَانِ كَرَمٌ، وَرِجَالٌ كَرَمٌ، وَنِسْوَةٌ كَرَمٌ كُلُّهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا بِمَعْنَى كَرِيمٍ؛ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ كَعَدْلٍ وَضَيْفٍ.

4762 - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: " «لَا تَقُولُوا: الْكَرْمُ، وَلَكِنْ قُولُوا: الْعِنَبُ وَالْحَبَلَةُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4762 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ (عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) : بِضَمِّ حَاءٍ وَسُكُونِ جِيمٍ (لَا تَقُولُوا: الْكَرْمُ وَلَكِنْ قُولُوا: الْعِنَبُ) : وَهُوَ يُطْلَبُ عَلَى الثَّمَرِ وَالشَّجَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الشَّجَرُ (وَالْحَبْلَةُ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَيُسَكَّنُ - وَهُوَ الْأَصْلُ - مِنْ شَجَرِ الْعِنَبِ.

4763 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ، وَلَا تَقُولُوا: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ! فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4763 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ، وَلَا تَقُولُوا: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ» ) : الْخَيْبَةُ الْحِرْمَانُ وَالْخُسْرَانُ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمُصَدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ! يُرِيدُونَ سَبَّ الدَّهْرِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ( «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» ) أَيْ: هُوَ مَا يُضَافُ إِلَى الدَّهْرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، أَوْ فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ الدَّهْرِ وَمُصَرِّفُهُ وَمُقَلِّبُهُ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ وَالدَّهْرُ مُسَخَّرٌ بِحِكْمَتِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

4764 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَسُبَّ أَحَدُكُمُ الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4764 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ( «قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَسُبَّ أَحَدُكُمُ الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» ": قَدْ مَرَّ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مُفَصَّلًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4765 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: " يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ " فِي " بَابِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4765 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ) : بِفَتْحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَتَاءٍ سَاكِنَةٍ (نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي) : بِفَتْحِ لَامٍ فَكَسْرِ قَافٍ، أَيْ: غَثِيَتْ. عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ اللَّقْسَ الْغَثَيَانُ، وَإِنَّمَا كَرِهَ خَبُثَتْ هَرَبًا مِنْ لَفْظِ الْخُبْثِ وَالْخَبِيثِ يَعْنِي مِنَ الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ مَعَ التَّبَادُرِ إِلَى الْمَعْنَى الْقَبِيحِ. وَقَالَ شَارِحٌ: لَقِسَتْ بِالْكَسْرِ وَخَبُثَتْ أَيْ: غَثِيَتْ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ كُلًّا مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَضْرِبَ الْمُؤْمِنُ لِنَفْسِهِ مَثَلَ السَّوْءِ، وَيُضِيفَ الْخُبْثَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى خَبَاثَةِ النَّفْسِ وَسُوءِ الْخُلُقِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْغَثَيَانِ إِلَى نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُمْ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ كَسَلًا وَتَهَاوُنًا: الْخُبْثُ؛ حَيْثُ قَالَ: أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسِلَانَا ذَمًّا وَزَجْرًا لَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّمَا كَرِهَ لَفْظَ الْخُبْثِ لِشَنَاعَتِهِ، وَعَلَّمَهُمُ الْأَدَبَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَاسْتِعْمَالَ أَحْسَنِهَا، وَهِجْرَانَ قَبِيحِهَا، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الَّذِي يَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ: " خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ " وَالْجَوَابُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخْبِرٌ هُنَاكَ عَنْ صِفَةِ غَيْرِهِ وَعَنْ شَخْصٍ مُبْهَمٍ مَذْمُومِ الْحَالِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَكَمِثْلِ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ نَهَى عَنْ لَعْنِ الْمُسْلِمِ أَشَدَّ النَّهْيِ. ثُمَّ قَالَ: " «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ» " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الْقَصْدُ فِيهِ الْوَعِيدُ وَالزَّجْرُ لَا اللَّعْنُ لِمُسْلِمٍ بِعَيْنِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ " فِي " بَابِ الْإِيمَانِ ") .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4766 - «عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟ " قَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِحُكْمِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ " قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ. قَالَ: " فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ " قَالَ: قُلْتُ: شُرَيْحٌ. قَالَ: " فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4766 - (عَنْ شُرَيْحِ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ هَانِئٍ) : بِنُونٍ مَكْسُورَةٍ فَهَمْزَةٌ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: هَانِئِ بْنِ يَزِيدٍ (أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ) أَيْ: جَاءَ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ) أَيْ: سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يُكَنُّونَهُ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ، وَتَخْفِيفٍ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ (بِأَبِي الْحَكَمِ) : الْكُنْيَةُ قَدْ تَكُونُ بِالْأَوْصَافِ كَأَبِي الْفَضَائِلِ وَأَبَى الْمَعَالِي وَأَبِي الْحَكَمِ وَأَبِي الْخَيْرِ، وَقَدْ تَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْلَادِ كَأَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي شُرَيْحٍ، وَإِلَى مَا لَا يُلَابِسُهُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَآهُ وَمَعَهُ هِرَّةٌ فَكَنَّاهُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَكُونُ لِلْعَلَمِيَّةِ الصِّرْفَةِ كَأَبِي بَكْرٍ وَأَبِي عَمْرٍو (فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: طَلَبَ هَانِئًا (فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ) : عَرَّفَ الْخَبَرَ وَأَتَى بِضَمِيرِ الْفَصْلِ فَدَلَّ عَلَى الْحَصْرِ، وَأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُخْتَصٌّ بِهِ لَا يَتَجَاوَزُ إِلَى غَيْرِهِ (وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ) أَيْ: مِنْهُ يُبْتَدَأُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي الْحُكْمُ، {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] ، لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ، وَلَا يَخْلُو حُكْمُهُ عَنْ حِكْمَتِهِ. وَفِي إِطْلَاقِ أَبِي الْحَكَمِ عَلَى غَيْرِهِ يُوهِمُ الِاشْتِرَاكَ فِي وَصْفِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ أَبُو الْحَكَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ الْوَالِدِيَّةِ وَالْوَلَدِيَّةِ، وَقَدْ غَيَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمَ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ الْمُكَنَّى بِأَبِي الْحَكَمِ بِأَبِي جَهْلٍ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْحَكَمُ هُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي إِذَا حَكَمَ لَا يُرَدُّ حُكْمُهُ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَلِيقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحَكَمُ. (فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟) أَيْ: فَلِأَيِّ شَيْءٍ وَبِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُنْيَةِ تُكَنَّى بِأَبِي الْحَكَمِ؟ (قَالَ: إِنَّ قَوْمِي) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ) : وَصَارُوا فِرْقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَكَادَ أَنْ يَقْتَتِلَا (أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ) أَيْ: بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْحُكْمِ (فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِحُكْمِي) أَيْ: لِمُرَاعَاتِي الْجَانِبَيْنِ وَالْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَحُصُولِ الصُّلْحِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا) أَيِ: الَّذِي ذَكَرْتَهُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، أَوْ مِنْ وَجْهِ التَّكْنِيَةِ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَأَتَى بِصِيغَةِ التَّعَجُّبِ مُبَالَغَةً فِي حُسْنِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ مَا سَبَقَ فِي الْكَلَامِ أَرَادَ تَحْوِيلَ كُنْيَتِهِ إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ فِي الْمَرَامِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ

(فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟) : وَأَغْرَبَ الْمُظْهِرُ فِي قَوْلِهِ: مَا لِلتَّعَجُّبِ، يَعْنِي: الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْكُنْيَةَ غَيْرُ حَسَنَةٍ، وَتَبِعَهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: وَلَمَّا لَمْ يُطَابِقْ جَوَابَ أَبِي شُرَيْحٍ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ وَأَرْشَقِهِ رَدًّا عَلَيْهِ ذَلِكَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا، لَكِنْ أَيْنَ ذَلِكَ مِنْ هَذَا؟ فَاعْدِلْ عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ يَلِيقُ بِحَالِكَ مِنَ التَّكَنِّي بِالْأَبْنَاءِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ وَأَلْيَقُ بِحَالِهِ. (قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ) : ظَاهِرُ التَّرْتِيبِ الْمُقْتَضِي لِعَقْلِهِ أَنَّهُ قَدَّمَ الْأَكْبَرَ فَالْأَكْبَرَ، لَكِنَّ الْوَاوَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ كَانَ غَيْرَ صَرِيحٍ فِي الْمُدَّعَى (قَالَ: " وَمَنْ أَكْبَرُهُمْ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُكَنَّى الرَّجُلُ بِأَكْبَرِ بَنِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ فَبِأَكْبَرِ بَنَاتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ بِأَكْبَرِ بَنِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ابْنٌ فَبِأَكْبَرِ بَنَاتِهَا. (قَالَ) أَيْ: هَانِئٌ (قُلْتُ: شُرَيْحٌ) أَيْ: أَكْبَرُهُمْ (قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ) أَيْ: رِعَايَةً لِلْأَكْبَرِ سِنًّا، فَصَارَ بِبَرَكَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْبَرَ رُتْبَةٍ، وَأَكْثَرَ فَضْلًا، فَإِنَّهُ مِنْ أَجِلَّةِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مُفْتِيًا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَيَرُدُّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَقَدْ وَلَّاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاضِيًا، وَخَالَفَهُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْحَسَنِ لَهُ وَالْقَضِيَّةُ مَشْهُورَةٌ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَأَمَّا التَّابِعِيُّ: فَإِنْ ظَهَرَتْ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ كَشُرَيْحٍ كَانَ مِثْلَهُمْ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَلَعَلَّهُ عُدَّ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَوْ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

4767 - «وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: لَقِيتُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ. قَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْأَجْدَعُ شَيْطَانٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4767 - (وَعَنْ مَسْرُوقٍ) : هَمَذَانِيٌّ كُوفِيٌّ، أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدْرَكَ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَكَانَ أَحَدَ الْأَعْلَامِ وَالْفُقَهَاءِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَشِرِ: إِنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ عَامِلًا عَلَى الْبَصْرَةِ أَهْدَى إِلَى مَسْرُوقٍ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُحْتَاجٌ فَلَمْ يَقْبَلْهَا. يُقَالُ: إِنَّهُ سُرِقَ صَغِيرًا ثُمَّ وُجِدَ فَسُمِّيَ مَسْرُوقًا. ( «قَالَ: لَقِيتُ عُمَرَ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ، قَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْأَجْدَعُ شَيْطَانٌ» ") أَيِ: اسْمُ شَيْطَانٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ مَقْطُوعِ الْأَطْرَافِ لِمَقْطُوعِ الْحُجَّةِ اهـ. وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُطَايَبَةً مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ تَنْبِيهًا عَلَى تَغْيِيرِ هَذَا الِاسْمِ عَنْ أَبِيهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَيُقَالُ لَهُ أَبُو مَسْرُوقٍ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا وَاحْتِرَاسًا مِنْ أَنْ يُسَمَّى وَلَدُهُ بَاسِمِ أَبِيهِ، وَيُكَنَّى بِأَبِي الْأَجْدَعِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

4768 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4768 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُدْعَوْنَ) : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُنَادَوْنَ أَوْ تُسَمَّوْنَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فَأَحْسِنُوا) أَيْ: أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ (أَسْمَاءَكُمْ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

4769 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَجْمَعَ أَحَدٌ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ، وَيُسَمَّى مُحَمَّدٌ أَبَا الْقَاسِمِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4769 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَجْمَعَ أَحَدٌ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ، وَيُسَمَّى» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مُحَمَّدٌ) : بِالرَّفْعِ (أَبَا الْقَاسِمِ) : بِالنَّصْبِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ: نَهَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ اسْمِهِ، عَلَى

بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ (أَحَدٌ) . وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ يُسَمَّى بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَمُحَمَّدًا بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مُطَابِقٌ لِمَا قَبْلَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مُحَمَّدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، كَذَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَشَرْحِ السُّنَّةِ وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَالْمَعْنَى: يُسَمَّى الْمُسَمَّى بِمُحَمَّدٍ أَبَا الْقَاسِمِ. وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ (مُحَمَّدًا) مَنْصُوبٌ، فَالْفِعْلُ يَكُونُ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ يَكُونُ بِفَتْحِ الْيَاءِ بِالنَّصْبِ الظَّاهِرِيِّ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مَفْعُولًا، فَإِنَّ نَصْبَهُ مُقَدَّرٌ عَلَى الْأَلْفِ، ثُمَّ عَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَأَنْ يُسَمِّيَ أَحَدٌ مُحَمَّدًا أَبَا الْقَاسِمِ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَأَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ كُنْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ اسْمِ مُحَمَّدٍ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4770 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا سَمَّيْتُمْ بِاسْمِي فَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: " «وَمَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي لَا يَكْتَنِ بِكُنْيَتِي، وَمَنْ تَكَنَّى بِكُنْيَتِي فَلَا يَتَسَمَّ بِاسْمِي» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4770 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا سَمَّيْتُمْ بِاسْمِي) أَيْ: فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِي تَسْمِيَتِهِ (فَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي) أَيْ: فِي حَيَاتِي، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ فِي ذَاتِي، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " تَسَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي " عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ إِفْرَادَ الْكُنْيَةِ جَائِزٌ فَإِنَّهُ أَقَلُّ كَرَاهَةٍ مِنَ الْجَمْعِ، إِذْ فِي الْإِفْرَادِ يُمْكِنُ رَفْعُ اللَّبْسِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الرَّفْعُ إِلَّا بِكُلْفَةٍ لِكَثْرَةِ الِاشْتِرَاكِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ أَوْ بَعْدَهُ اهـ. وَمَا قَرَّرْنَاهُ سَابِقًا أَوْلَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: «مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلَا يَكْتَنِي بِكُنْيَتِي، وَمَنْ تُكَنَّى بِكُنْيَتِي، فَلَا يَتَسَمَّ بِاسْمِي» ) : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ الْمَلَكِ، لَكِنْ تُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ السَّابِقَ، نَعَمْ يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِأَنَّ هَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا يُورِثَ الِاشْتِبَاهَ فِي ذِكْرِهِ أَوْ نَسَبِهِ، وَأَمَّا الْكُنْيَةُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَمَنْهِيَّةٌ مُطْلَقًا لِمَا سَبَقَ مِنْ سَبَبِ وُرُودِهِ، وَأَمَّا وَجْهُ الْمَنْعِ عَلَى التَّعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّهُ مَعَ وُجُودِ الْفَرْدِ الْأَكْمَلِ لَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُ الْوَصْفِ عَلَى غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4771 - «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي وَلَدْتُ غُلَامًا فَسَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا، وَكَنَّيْتُهُ أَبَا الْقَاسِمِ، فَذُكِرَ لِي أَنَّكَ تَكْرَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: " مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي؟ أَوْ مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلَّ اسْمِي؟» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4771 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي وَلَدْتُ غُلَامًا) أَيْ: نَفْسَهُ (فَسَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا، وَكَنَّيْتُهُ أَبَا الْقَاسِمِ) أَيْ: تَبَرُّكًا بِهِمَا (فَذُكِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: فَذَكَرَ بَعْضٌ (لِي أَنَّكَ تَكْرَهُ ذَلِكَ) أَيْ: كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَجَابَ (فَقَالَ: " مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي؟ !) : بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ (أَوْ مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلَّ اسْمِي؟ !) : شَكٌّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ لِلتَّنْزِيهِ كَمَا سَبَقَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: غَرِيبٌ) أَيْ: مَتْنًا أَوْ إِسْنَادًا.

4772 - «وَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وُلِدَ لِي بَعْدَكَ وَلَدٌ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ؟ قَالَ: " نَعَمْ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4772 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ) : هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ، وَأُمُّهُ خَوْلَةُ بِنْتُ جَعْفَرٍ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُقَالُ: بَلْ كَانَتْ أُمُّهُ مِنْ سَبْيِ الْيَمَامَةِ، فَصَارَتْ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَأَيْتُ أُمَّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ سَنْدِيَّةً سَوْدَاءَ، وَكَانَتْ أَمَةَ بَنِي حَنِيفَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَلَهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. (عَنْ أَبِيهِ قَالَ) أَيْ: أَبُوهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي (إِنْ وُلِدَ لِي بَعْدَكَ) أَيْ: فَرْضًا وَتَقَدُّرًا (وَلَدٌ) أَيْ: مِنْ فَاطِمَةَ أَوْ غَيْرِهَا (أُسَمِّيهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَأُسَمِّيهِ (بِاسْمِكَ وَأُكَنِّيهِ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (بِكُنْيَتِكَ؟) أَيْ: تَبَرُّكًا وَتَذَكُّرًا (قَالَ: نَعَمْ) : فِيهِ أَنَّ النَّهْيَ مَقْصُورٌ عَلَى زَمَانِهِ، فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بَعْدَهُ لِرَفْعِ الِالْتِبَاسِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ حَقَّقْنَا الْبَحْثَ قَبْلَ ذَلِكَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4773 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَنَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَقْلَةٍ كُنْتُ أَجْتَنِيهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": صَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4773 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَنَّانِي) : بِتَشْدِيدِ - النُّونِ الْأُولَى أَيْ: جَعَلَنِي مُكَنًّى بِأَبِي حَمْزَةَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَقْلَةٍ) أَيْ: بِسَبَبِ اسْمِ بَقْلَةٍ خَرِيفِيَّةٍ فِي طَعْمِهَا حُمُوضَةٌ اسْمُهَا حَمْزَةُ بِالْحَاءِ وَالزَّايِ (كُنْتُ أَجْتَنِيهَا) أَيْ: أَقْلَعُهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) أَيِ: الْحَدِيثُ غَرِيبٌ، وَالْغَرَابَةُ تَجْتَمِعُ مَعَ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِذَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (وَفِي " الْمَصَابِيحِ " صَحَّحَهُ) .

4774 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُغَيِّرُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4774 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُغَيِّرُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ» ) أَيْ: غَيْرَ اللَّائِقِ بِضِدِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْأَمْثِلَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ اسْمُهُ أَسْوَدَ فَسَمَّاهُ - أَبْيَضَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4775 - وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَمِّهِ أُسَامَةَ بْنِ أَخْدَرِيٍّ، «أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَصْرَمُ كَانَ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ أُوتُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا اسْمُكَ؟ " قَالَ: أَصْرَمُ قَالَ: " بَلْ أَنْتَ زُرْعَةُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4775 - (وَعَنْ بِشْرِ بْنِ مَيْمُونٍ) : ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ، وَقَالَ: صَدُوقٌ، رَوَى عَنْهُ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ وَغَيْرُهُ. (عَنْ عَمِّهِ أُسَامَةَ بْنِ أَخْدَرِيٍّ) : بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ دَالٍّ مُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ رَاءٍ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَقِيلَ فِي صُحْبَتِهِ وَفِي إِسْنَادِ حَدِيثِهِ مَقَالٌ، لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي تَغْيِيرِ الْأَسْمَاءِ (أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَصْرَمُ) : أَفْعَلُ مِنَ الصَّرْمِ (كَانَ فِي النَّفَرِ الَّذِي) : أُفْرِدَ الْمَوْصُولُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ النَّفَرِ وَجُمِعَ فِي قَوْلِهِ: (أُوتُوا) : بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] ، وَفِي نُسْخَةٍ: الَّذِينَ أَتَوْا (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا اسْمُكَ؟ ، قَالَ: أَصْرَمُ قَالَ: بَلْ أَنْتَ زُرْعَةٌ» ") : بِضَمِّ زَايٍ وَسُكُونِ رَاءٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّرْعِ، وَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ بِخِلَافِ أَصْرَمَ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّرْمِ، وَهُوَ الْقَطْعُ فَبَادَلَهُ بِهِ وَغَيَّرَهُ لَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4776 - وَقَالَ: وَغَيَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمَ الْعَاصِ، وَعَزِيزٍ، وَعَتَلَةَ، وَشَيْطَانٍ، وَالْحَكَمِ، وَغُرَابٍ، وَحُبَابٍ، وَشِهَابٍ، وَقَالَ: تَرَكْتُ أَسَانِيدَهَا لِلِاخْتِصَارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4776 - (وَقَالَ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ بِطَرِيقِ التَّعْلِيقِ (وَغَيَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمَ الْعَاصِ) : قَالَ شَارِحٌ: لِأَنَّهُ مِنَ الْعِصْيَانِ. وَفِي الْفَائِقِ: كَرِهَ الْعَاصِيَ؛ لِأَنَّ شِعَارَ الْمُؤْمِنَ الطَّاعَةُ، لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّ الْعَاصَ لَيْسَ مِنْ مَادَّةِ الْعِصْيَانِ؛ حَيْثُ ذُكِرَ فِي مُعْتَلِّ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَاصَ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْلَادُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأَكْبَرِ، وَهُمْ: الْعَاصُ، وَأَبُو الْعَاصِ، وَالْعِيصُ، وَأَبُو الْعِيصِ، قَالَ: وَالْعِيصُ الْمَنْبِتُ، وَعِيصُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَلَعَلَّ التَّبْدِيلَ الِاسْمِيَّ لِأَجْلِ الِاشْتِبَاهِ اللَّفْظِيِّ. (وَعَزِيزٍ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: عَبْدُ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَوْصُوفٌ بِالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَالْعِزَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى بِحَمِيدٍ، فَإِنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، فَلَا يُقَالُ إِلَّا عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَكَذَلِكَ الْكَرِيمُ وَأَمْثَالُهُ. (وَعَتَلَةَ) : بِفُتُحَاتٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْغِلْظَةُ وَالشِّدَّةُ مِنْ عَتَلْتُهُ إِذَا جَذَبْتُهُ جَذْبًا عَنِيفًا، وَالْمُؤْمِنُ مَوْصُوفٌ بِلِينِ الْجَانِبِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَقِيلَ: الْعَتَلَةُ عَمُودُ حَدِيدٍ يُهْدَمُ بِهِ الْحِيطَانُ، وَقِيلَ: حَدِيدَةٌ كَبِيرَةٌ يُقْلَعُ بِهَا الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ. (وَشَيْطَانٍ) ؛ لِأَنَّهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُسَمَّاهُ يَتَشَاءَمُ بِهِ كُلُّ مَنْ رَآهُ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ أَيْضًا مَأْخُوذٌ مَنْ شَاطَ احْتَرَقَ أَوْ هَلَكَ. قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَمِنْهُ الشَّيْطَانُ فِي قَوْلٍ، أَوْ مِنْ شَطَنَ، فَفِي الْقَامُوسِ: الشَّاطِنُ الْخَبِيثُ وَالشَّيْطَانُ مَعْرُوفٌ، وَكُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ أَوْ دَابَّةٍ، وَشَيْطَنَ وَتَشَيْطَنَ فَعَلَ فِعْلَهُ، وَالْحَيَّةُ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لِأَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الشَّطَنِ وَهُوَ الْبُعْدُ عَنِ الْخَيْرِ. (وَالْحَكَمِ) : بِفُتْحَتَيْنِ مُبَالَغَةُ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْحَاكِمُ وَلَا حُكْمَ إِلَّا لَهُ، فَإِذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

غَيَّرَ أَبَا الْحَكَمِ عَلَى مَا سَبَقَ، فَالْحَكَمُ بِالْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (وَغُرَابٍ) : لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْبُعْدُ؛ وَلِأَنَّهُ أَخْبَثُ الطُّيُورِ لِوُقُوعِهِ عَلَى الْجِيَفِ وَبَحْثِهِ عَنِ النَّجَاسَاتِ. وَقَالَ شَارِحٌ: لِأَنَّ الْغُرَابَ طَيْرٌ مَذْمُومٌ شَرْعًا، أَوْ لِأَنَّهُ مِنَ الْغُرُوبِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ فِي التَّفَاؤُلِ، يَعْنِي: وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ وَالْفَأْلَ الْحَسَنَ عَلَى مَا وَرَدَ كَمَا سَبَقَ. (وَحُبَابٍ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ اسْمُ الشَّيْطَانِ، وَيَقَعُ عَلَى الْحَيَّةِ أَوْ نَوْعٌ مِنْهَا (وَشِهَابٍ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ؛ لِأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ سَاقِطَةٌ، وَالنَّارُ عِقَابُ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّهُ يُرْجَمُ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الدِّينِ مَثَلًا لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا. (وَقَالَ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ اعْتِذَارًا عَنْ إِيرَادِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُعَلِّقًا (تَرَكْتُ أَسَانِيدَهَا لِلِاخْتِصَارِ) : وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَرَكْتُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ وَإِعَادَةٌ. قَالَ: لِطُولِ الْفَصْلِ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَقَالَ: تَرَكْتُ أَسَانِيدَهَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ قَالَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ رَاوِي أَبِي دَاوُدَ، يَقُولُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةً بِإِسْنَادِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهَا: أَنَّهُ غَيَرَّ أَسَامِيَ رِجَالٍ، ثُمَّ عَطَفَ أَبُو دَاوُدَ قَوْلَهُ: وَغَيَّرَ إِلَخْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى الْمَذْكُورِ، ثُمَّ قَالَ: مَا ذَكَرْتُهُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةٍ مُسْنَدَةٍ، وَإِنِّي تَرَكْتُ أَسَانِيدَهَا اخْتِصَارًا، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ: وَغَيَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيَّرَ اسْمَ الْعَاصِ، وَلَعَلَّهُ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ اهـ. كَلَامُ الطِّيبِيِّ فَتَأَمَّلْ.

4777 - «وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - أَوْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِي مَسْعُودٍ -: مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي (زَعَمُوا؟) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ حُذَيْفَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4777 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ) : وَهُوَ كُنْيَةُ حُذَيْفَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ (أَوْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِي مَسْعُودٍ) : الشَّكُّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ عَنْهُمَا (مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ (يَقُولُ فِي: زَعَمُوا) أَيْ: فِي شَأْنِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، أَوْ فِي حَقِّ هَذَا اللَّفْظِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ " مَا " نَافِيَةً وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةً. أَيْ: أَمَا سَمِعْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطْعَنُ وَيَذْكُرُ الذَّمَّ فِيمَا اسْتَعْمَلَهُ النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِمْ: زَعَمُوا وَيَنْسِبُونَ الْأَخْبَارَ إِلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ ظَنًّا وَحُسْبَانًا لَا تَحْقِيقًا وَإِيقَانًا. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ) : وَهُوَ بِفَتْحِ مِيمٍ وَكَسْرِ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ أَيْ: مَرْكُوبُهُ، وَيُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ بَارْكِيرْ، يَعْنِي: إِذَا عَجَزَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ لِيُخَلِّصَ عُهْدَتَهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: مَطَا: جَدَّ فِي السَّيْرِ، وَالْمَطِيَّةُ الَّتِي تَمْطُو فِي سَيْرِهَا، وَمَا أَحْسَنَ مُنَاسَبَةِ اشْتِقَاقِهَا بِالْمَقَامِ، فَإِنَّهُ شُبِّهَ بِهَا الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يُتَوَقَّفْ فِي تَحْقِيقِهِ، وَيَتَبَادَرْ فِيهِ إِلَى نَقْلِهِ وَنَشْرِهِ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ مَفْعُولُ يَقُولُ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ أَيْ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا، وَلَوْ رُوِيَتِ الْمَطِيَّةُ مَنْصُوبَةً لَكَانَ فِي بِئْسَ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى زَعَمُوا قِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ التَّكَلُّمِ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ، أَوْ عَنِ اخْتِرَاعِ الْقَوْلِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى مَنْ لَا يُعْرَفُ، فَيَقُولُ: زَعَمُوا أَنَّهُ قَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَيَتَّخِذُ قَوْلَهُ: زَعَمُوا مَطِيَّةً يَقْطَعُ بِهَا أَوْدِيَةَ الْإِسْهَابِ. وَقِيلَ: سَمَّاهُ مَطِيَّةً؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَتَوَصَّلُ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَى مَقْصُودٍ مِنْ إِثْبَاتِ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّهُ يَتَوَصَّلُ إِلَى مَوْضِعٍ بِوَاسِطَةِ الْمَطِيَّةِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا فِي النِّهَايَةِ: مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا مِنَ الْمَسِيرِ إِلَى بَلَدٍ وَالظَّعْنِ فِي حَاجَةٍ، رَكِبَ مَطِيَّةً وَسَارَ حَتَّى يَقْضِيَ إِرْبَهُ، فَشَبَّهَ مَا يُقَدِّمُهُ الْمُتَكَلِّمُ أَمَامَ كَلَامِهِ، وَيَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى غَرَضِهِ مِنْ قَوْلِهِ: زَعَمُوا كَذَا وَكَذَا بِالْمَطِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: زَعَمُوا فِي حَدِيثٍ لَا سَنَدَ لَهُ وَلَا ثَبْتَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُحْكَى عَنِ الْأَلْسُنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَلَاغِ، فَذُمَّ مِنَ الْحَدِيثِ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ، وَالزَّعْمُ: بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الظَّنُّ اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ كَيْلَا يَقَعَ فِي الْكَذِبِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» " لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ مَذْمُومًا مَعَ

قَوْلِهِ: زَعَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا حَيْثُ أَسْنَدَ إِلَى النَّاسِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ إِنْشَاءً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَا جَزَمَ بِهِ، بَلْ عَبَّرَ بِالزَّعْمِ الَّذِي بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ وَالِافْتِرَاءِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا إِذَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، أَوْ نَسَبَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ إِلَى مَنْ سَمِعَهُ أَوْ كَذَبَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَاصِلُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي تَبْدِيلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَهَذِهِ الْإِضَافَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُحَقِّقَ الْكَلَامَ وَيَنْسُبَهُ إِلَى قَائِلِهِ، أَوْ يَسْكُتَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» " وَلَعَلَّ وَجْهَ مُنَاسَبَةِ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلْبَابِ مُجَرَّدُ التَّغْيِيرِ لِلْأَمْرِ الْمَذْمُومِ أَعَمُّ مِنْ أَنَّ يَكُونَ اسْمًا أَوْ غَيْرَهُ، وَكَذَا الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُهُ فِي زَعَمُوا أَيْ: فِي شَأْنِ زَعَمُوا وَأَمْرِهِ، أَيْ: هَلْ كَانَ يَرْضَى بِهِ قَوْلًا أَمْ لَمْ يَرْضَ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَدْخُلَ فِي بَابِ تَغْيِيرِ الْأَسْمَاءِ الشَّنِيعَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَرْضَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ» "، يَعْنِي: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْثِرَ الرَّجُلُ فِي كَلَامِهِ زَعْمَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَيَنْسُبُ الْكَذِبَ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَ وَتَيَقَّنَ كَذِبَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَحْتَرِزَ النَّاسُ عَنْهُ كَمَا وَرَدَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التغابن: 7] ، {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 48] . {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] اهـ. وَلَيْسَ مَسْلَكٌ غَيْرَ مَا شَرَحَهُ الشُّرَّاحُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: هَكَذَا عَلَى الشَّكِّ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ حُذَيْفَةَ. (وَقَالَ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْمَذْكُورَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ. (هُوَ حُذَيْفَةُ) .

4778 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: " لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4778 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ) : لَمْ يَقُلْ وَعَنْهُ لِئَلَّا يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى أَبِي مَسْعُودٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ» ) : فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَهُوَ كَائِنٌ أَوْ كَانَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَالِاشْتِرَاكِ (وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ) أَيْ: كَانَ (ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ) أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ مَشِيئَةِ اللَّهِ شَاءَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا كَانَ قَبْلَ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ، لِيَنْدَفِعَ تَوَهُّمُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ وَلَوْ بِالتَّرَاخِي أَيْضًا فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ مَسْلَكٌ دَقِيقٌ، وَبِالتَّحْقِيقِ حَقِيقٌ؛ وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ: ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَثُمَّ لِتَرَاخِي الْأَخْبَارِ، وَهَذَا مُجْمَلُ مَا ظَهَرَ لِي فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَمَّا كَانَ الْوَاوُ حَرْفَ الْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ مَنَعَ مِنْ عَطْفِ إِحْدَى الْمَشِيئَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَأَمَرَ بِتَقْدِيمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَأْخِيرِ مَشِيئَةِ مَنْ سِوَاهُ بِحَرْفِ ثُمَّ الَّذِي هُوَ لِلتَّرَاخِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ هَاهُنَا يُحْتَمَلُ التَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ، وَفِي الرُّتْبَةِ، فَإِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ، وَمَشِيئَةَ غَيْرِهِ حَادِثَةٌ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَشِيئَةُ الْعَبْدِ لَمْ يَقَعْ أَكْثَرُهَا فَأَيْنَ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى؟ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

4779 - وَفِي رِوَايَةٍ مُنْقَطِعًا قَالَ: " «لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4779 - (وَفِي رِوَايَةٍ مُنْقَطِعًا) أَيْ: إِسْنَادُهَا (قَالَ: " «لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» ") أَيْ: شَاءَ غَيْرُهُ، أَوْ لَمْ يَشَأْ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ كَمَا لَا يَخْفَى.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ رَخَّصَ أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي اسْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ. قُلْتُ: فِيهِ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: قَالَ دَفْعًا لِمَظِنَّةِ التُّهْمَةِ فِي قَوْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ تَعْظِيمًا لَهُ وَرِيَاءً لِسُمْعَتِهِ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُ رَأْسُ الْمُوَحِّدِينَ وَمَشِيئَتُهُ مَغْمُورَةٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُضْمَحِلَّةٌ فِيهَا. أَقُولُ: أَصْلُ السُّؤَالِ مَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاخِلٌ فِي عُمُومِ فُلَانٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، فَجَوَابُهُ الْأَوَّلُ خَطَأٌ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، لَكَانَ شِرْكًا جَلِيًّا لَا مَظِنَّةً لِلتُّهْمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَجَوَابُهُ الثَّانِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يُفِيدُ جَوَازَ الْإِتْيَانِ بِالْوَاوِ، مَعَ أَنَّ مَشِيئَةَ غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا مُضْمَحِلَّةٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ، وَأَيْضًا مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ لِمُجَرَّدِ الرُّخْصَةِ، وَلَوْ قَالَ هُنَا قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ، لَكَانَ أَمْرَ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْمَشِيئَةَ الْمُسْنَدَةَ إِلَى فُلَانٍ إِنَّمَا هِيَ مَشِيئَةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الْمَشِيئَةِ الْكُلِّيَّةِ، كَمَا رَمَزْنَا إِلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. (رَوَاهُ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمَقْطُوعَةِ الْإِسْنَادِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : فَقَوْلُهُ فِي الْمَصَابِيحِ: وَفِي رِوَايَةٍ، مَعْنَاهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِغَيْرِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ خِلَافًا لِمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ.

4780 - وَعَنْهُ، «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4780 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ وَفِي بَعْضِ الْحَوَاشِي عَنْ بُرَيْدَةَ، لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ صِحَّتِهِ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ» ) : مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُؤْمِنِ: سَيِّدٌ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ مَرْفُوعًا " «السَّيِّدُ اللَّهُ» "؛ لِأَنَّ فِي الْحَقِيقَةِ لَا سِيَادَةَ إِلَّا لَهُ وَمَا سِوَاهُ مَمْلُوكُهُ. (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ أَوِ الْمُنَافِقَ (إِنْ يَكُ سَيِّدًا) أَيْ: سَيِّدَ قَوْمٍ أَوْ صَاحِبَ عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ (أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ) أَيْ: أَغْضَبْتُمُوهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَعْظِيمًا لَهُ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ، فَكَيْفَ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَيِّدًا بِأَحَدٍ مِنَ الْمَعَانِي، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ كَذِبًا وَنِفَاقًا وِفَاقًا. وَفِي النِّهَايَةِ: فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ سَيِّدَكُمْ وَهُوَ مُنَافِقٌ، فَحَالُكُمْ دُونَ حَالِهِ وَاللَّهُ لَا يَرْضَى لَكُمْ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: إِنْ يَكُ سَيِّدًا لَكُمْ فَتَجِبُ عَلَيْكُمْ طَاعَتُهُ، فَإِذَا أَطَعْتُمُوهُ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ، أَوْ لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ، فَإِنَّكُمْ إِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ، فَوَضَعَ الْكَوْنَ مَوْضِعَ الْقَوْلِ تَحْقِيقًا لَهُ. قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَ النَّاسِ لِغَيْرِ الْمِلَّةِ كَالْحُكَمَاءِ وَالْأَطِبَّاءِ مَوْلَانَا دَاخِلٌ فِي هَذَا النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ، بَلْ هُوَ أَشَدُّ؛ لِوُرُودِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَوْلَانَا فِي التَّنْزِيلِ دُونَ السَّيِّدِ. قُلْتُ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ، فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُ مَعَانِي الْمَوْلَى مِمَّا سَبَقَ فَلَا يَبْعُدُ جَوَازُهُ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَالْمَخْلَصُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْرِيَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي تَجْوِيزِ إِطْلَاقِ الْمَوْلَى عَلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب: 5] ، أَيْ: فِي الْمُسْلِمِينَ وَمَوَالِيكُمْ فِي غَيْرِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَوْلَى وَالسَّيِّدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَجَوَازُ إِطْلَاقِهِ وَعَدَمِهِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الشَّارِعِ، وَلَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنْ إِطْلَاقِ الْمَوْلَى عَلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ، فَيَجُوزُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، «وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ بُرَيْدَةَ بِلَفْظِ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلْمُنَافِقِ: يَا سَيِّدًا فَقَدْ أَغْضَبَ رَبَّهُ» ، وَلَعَلَّ هَذَا مَنْشَأُ وَهَمِ الْمُحَشِّي فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4781 - «وَعَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَحَدَّثَنِي أَنَّ جَدَّهُ حَزْنًا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " مَا اسْمُكَ؟ " قَالَ: اسْمِي حَزْنٌ، قَالَ: " بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ " قَالَ: مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4781 - (عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حَجَبِيٌّ، رَوَى عَنْ عَمَّتِهِ صَفِيَّةَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ عُيَيْنَةَ (قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) : - بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ وَقَدْ تُكْسَرُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ (فَحَدَّثَنِي أَنَّ جَدَّهُ حَزْنًا) : بِفَتْحِ حَاءٍ وَسُكُونِ زَايٍ (قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " مَا اسْمُكَ؟ " فَقَالَ: اسْمِي حَزْنٌ، قَالَ: " بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ) أَيْ: فَإِنَّ الْحَزْنَ ضِدُّ السَّهْلِ، وَقَدْ وَرَدَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السَّهْلَ الطَّلِيقَ» ، عَلَى مِمَّا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ لَا سَهْلَ إِلَّا مَا جَعَلْتَهُ سَهْلًا، وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحَزْنَ سَهْلًا إِذَا شِئْتَ» "، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحَزْنُ مَا غَلُظَ مِنَ الْأَرْضِ، وَالسَّهْلُ: مِنَ الْأَرْضِ ضِدُّ الْحَزْنِ. (قَالَ: مَا أَنَا بِمُغَيَّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي) : وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ؛ لِأَنَّ السَّهْلَ يُوطَأُ وَيُمْتَهَنُ أَيْ: لَا أُغَيِّرُ اسْمِي؛ لِأَنَّ السَّهْلَ يُوطَأُ وَيُهَانُ أَيْ: يُدَاسُ بِالْأَقْدَامِ، وَفِيهِ نَوْعُ نَزْغَةٍ مِنْ نَزَغَاتِ إِبْلِيسَ وَقِيَاسَاتِهِ مِنَ التَّلْبِيسِ، حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَأَنَّ الْمَرْءَ عِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ أَوْ يُهَانُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - كَمَا قِيلَ: الْأَسْمَاءُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ - يُوَافِقُ اسْمُهُ حُزْنَهُ الْجِبِلِيَّةِ مُطَابِقًا لِلْحَزْنِ الْجِبِلِّيِّ، وَمَا أَفَادَهُ قَوْلُ الْحَكِيمِ الْإِلَهِيِّ، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ أَيْ: هَذَا الِاسْمُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لَكَ؛ لِأَنَّكَ حَلِيمٌ لَيِّنُ الْجَانِبِ يَنْبَغِي أَنْ تُسَمَّى سَهْلًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَلِيمًا لَيِّنَ الْجَانِبِ لَرَاعَى أَدَبَ جَانِبِ النُّبُوَّةِ، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى أَخْلَاقِ الْفُتُوَّةِ، وَلَوْ بَدَّلَ اسْمَهُ السَّهْلَ بِالْحَزْنِ، فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَقَدْ أَبَاهُ حَتَّى سَرَى هَذَا الطَّبْعُ فِي ذُرِّيَّتِهِ؟ (قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتْ فِينَا) أَيْ: مَعْشَرِ أَوْلَادِهِ (الْحُزُونَةُ) أَيْ: صُعُوبَةُ الْخُلُقِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ (بَعْدُ) أَيْ: بَعْدَ إِبَاءِ أَبِي اسْمَ السَّهْلِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4782 - وَعَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَسَمُّوا أَسْمَاءَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4782 - (وَعَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ وَلَهُ صُحْبَةٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ» ) أَيْ: دُونَ الْمَلَائِكَةِ لِمَا سَبَقَ، وَلَا بِأَسْمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَلْبٍ وَحِمَارٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ وَنَحْوِهَا. ( «وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ» ) أَيْ: وَنَحْوُهُمَا مِنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ وَعَبْدِ الْكَرِيمِ وَأَمْثَالِهِمَا. (وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ) : فَإِنَّ الْأَوَّلَ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ، وَالثَّانِي: فَعَّالٌ مِنْ هَمَّ يَهِمُّ، فَلَا يَخْلُو إِنْسَانٌ عَنْ كَسْبٍ، وَهَمٍّ بَلْ عَنْ هُمُومٍ. (وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ) : لِأَنَّ الْحَرْبَ يُتَطَيَّرُ بِهَا وَتُكْرَهُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَذَى، وَأَمَّا مُرَّةُ؛ فَلِأَنَّ الْمُرَّ كَرِيهٌ؛ وَلِأَنَّ كُنْيَةَ إِبْلِيسٍ أَبُو مُرَّةَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ.

[باب البيان والشعر]

[بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ]

(9) بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4783 - «عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (9) - بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ فِي النِّهَايَةِ: الْبَيَانُ إِظْهَارُ الْمَقْصُودِ بِأَبْلَغِ لَفْظٍ، وَهُوَ مِنَ الْفَهْمِ وَذَكَاءِ الْقَلْبِ، وَأَصْلُهُ الْكَشْفُ وَالظُّهُورُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الشِّعْرُ مَعْرُوفٌ، وَشَعَرْتُ أَصَبْتُ الشِّعْرَ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ شَعَرْتُ كَذَا أَيْ: عَلِمْتُ عِلْمًا فِي الدِّقَّةِ كَإِصَابَةِ الشِّعْرِ قِيلَ: وَسُمِّي الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِفِطْنَتِهِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهِ، كَالشِّعْرِ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الدَّقِيقِ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْتَ شِعْرِي، وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ أَسْمَاءً لِلْمَوْزُونِ الْمُقَفَّى مِنَ الْكَلَامِ، وَالشَّاعِرُ لِلْمُخْتَصِّ بِصِنَاعَتِهِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشِّعْرُ كَلَامٌ مُقَفًّى مَوْزُونٌ قَصْدًا لِيَخْرُجَ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ كَلَامُ النُّبُوَّةِ. قُلْتُ: لَكِنْ يَشْكُلُ مَعَ هَذَا فِي الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ نَفْيِ الْإِرَادَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ وُقُوعَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ كَمَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» ". الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4783 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ) أَيْ: مِنْ جَانِبِهِ. قَالَ الْمَيْدَانِيُّ: هُمَا الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَكَذَا عَنِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي (فَخَطَبَا) أَيْ: بِكَلِمَاتٍ مُحَسَّنَاتٍ جَامِعَةٍ لِلْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ (فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا) أَيْ: وَلِفَصَاحَةِ لِسَانِهِمَا وَغَرَابَةِ شَأْنِهِمَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» ") أَيْ: فِي اسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ كَالسِّحْرِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ قُدُومِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ فِيهِمُ الزِّبْرِقَانُ وَعَمْرٌو، «فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا سَيِّدُ تَمِيمٍ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَالْمُجَابُ، أَمْنَعُهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَآخُذُ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ، وَهَذَا يَعْلَمُ ذَلِكَ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُ لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِجَانِبِهِ مُطَاعٌ فِي إِذْنِهِ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ مِنِّي غَيْرَ مَا قَالَ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَّا الْحَسَدُ، فَقَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَحْسُدُكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَئِيمُ الْخَالِ حَدِيثُ الْمَالِ ضَيِّقُ الْعَطَنِ حَمِقُ الْوَلَدِ مُضَيِّعٌ فِي الْعِشْرَةِ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ فِيمَا قُلْتُ أَوَّلًا، وَمَا كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ آخِرًا، وَلَكِنِّي رِجْلٌ إِذَا رَضِيتُ قُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ قُلْتُ أَقْبَحَ مَا وَجَدْتُ، وَلَقَدْ صَدَقْتُ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى جَمِيعًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» قَالَ الْمَيْدَانِيُّ: يُضْرَبُ هَذَا الْمَثَلُ فِي اسْتِحْسَانِ الْمَنْطِقِ وَإِيرَادِ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ ذُو وَجْهَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ بِمَنْزِلَةِ السِّحْرِ فِي مَيَلَانِ الْقُلُوبِ لَهُ، أَوْ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مَمْدُوحٌ إِذَا صُرِفَ إِلَى الْحَقِّ كَمَذَمَّةِ الْخَمْرِ مَثَلًا وَمَذْمُومٌ إِذَا صُرِفَ إِلَى الْبَاطِلِ كَمَدْحِهَا مَثَلًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الذَّمِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَمَّ التَّصَنُّعَ فِي الْكَلَامِ وَالتَّكَلُّفَ لِتَحْسِينِهِ لِيَرُوقَ لِلسَّامِعِينَ قَوْلُهُ، وَلِيَسْتَمِيلَ بِهِ قُلُوبَهُمْ، وَأَصْلُ السِّحْرِ فِي كَلَامِهِمُ الصَّرْفُ، وَسُمِّيَ السِّحْرُ سِحْرًا؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَتِهِ، فَهَذَا الْمُتَكَلِّمُ بِبَيَانِهِ يَصْرِفُ قُلُوبَ السَّامِعِينَ إِلَى قَبُولِ قَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ صَرْفِ الْكَلَامِ فَضْلُهُ، وَمَا يَتَكَلَّفُ الْإِنْسَانُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ مِنْ وَرَاءِ الْحَاجَةِ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ وَيُخَالِطُهُ الْكَذِبُ، وَأَيْضًا قَدْ يُحِيلُ الشَّيْءَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِبَيَانِهِ وَيُزِيلُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ لِلِسَانِهِ إِرَادَةَ التَّلْبِيسِ عَلَيْهِمْ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ تَخْيِيلٌ! لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّ مِنَ الْبَيَانِ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ صَاحِبُهُ مِنَ الْإِثْمِ مَا يَكْتَسِبُ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَيُسْحِرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ، فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» . الْحَدِيثَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَدْحُ الْبَيَانِ، وَالْحَثُّ عَلَى تَحْسِينِ الْكَلَامِ وَتَحْبِيرِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ إِحْدَى الْقَرِينَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا عَلَى طَرِيقِ الْمَدْحِ، فَكَذَلِكَ الْقَرِينَةُ. الْأُخْرَى. وَقَالَ شَارِحٌ: هَذَا وَارِدٌ لِلذَّمِّ أَيْ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ نَوْعًا يَحِلُّ مِنَ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ مَحَلَّ السِّحْرِ، فَإِنَّ السَّاحِرَ بِسِحْرِهِ يُزَيِّنُ الْبَاطِلَ فِي عَيْنِ الْمَسْحُورِ، حَتَّى يَرَاهُ حَقًّا، وَكَذَا الْمُتَكَلِّمُ بِمَهَارَتِهِ فِي الْبَيَانِ، وَتَفَنُّنِهِ فِي الْبَلَاغَةِ وَتَرْصِيفِ النَّظْمِ يَسْلُبُ عَقْلَ السَّامِعِ وَيَشْغَلُهُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيهِ

وَالتَّدَبُّرِ لَهُ، حَتَّى يُخَيِّلَ إِلَيْهِ الْبَاطِلَ حَقًّا وَالْحَقَّ بَاطِلًا، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جِنْسَ الْبَيَانِ، وَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا، كَانَ فِيهِ مَا يُذَمُّ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّ جِنْسَ الشِّعْرِ وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا فَإِنَّ فِيهِ مَا يُحْمَدُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْحِكَمِ، وَهُوَ مَا فِيهِ مَوْعِظَةٌ وَثَنَاءٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَزُهْدٌ فِي الدُّنْيَا وَرَغْبَةٌ فِي الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ فِي أَصْلِهِ مَحْمُودٌ قَوْلُهُ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ - عَلَّمَ الْقُرْآنَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ - عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4] ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشِّعْرَ فِي أَصْلِهِ مَذْمُومٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ - أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ - وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224 - 226] وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّهِ، وَمِنْ ثَمَّ سَمُّوا الْأَدِلَّةَ الْكَاذِبَةَ شِعْرًا، وَقِيلَ: فِي الشِّعْرِ أَكْذَبُهُ أَحْسَنُهُ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِ الْكُفَّارِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ شَاعِرٌ يَعْنُونَ أَنَّهُ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّ مَا يَأْتِي الشَّاعِرُ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ رَجُلًا طَلَبَ إِلَيْهِ حَاجَةً كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِسْعَافُهُ بِهَا، فَاسْتَمَالَ قَلْبَهُ بِالْكَلَامِ، فَأَنْجَزَهَا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ السِّحْرُ الْحَلَالُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْكَلَامُ فِيهِ تَشْبِيهٌ، وَحَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ كَالسِّحْرِ، فَقُلْتُ وَجُعِلَ الْخَبَرُ مُبْتَدَأً مُبَالَغَةً فِي جَعْلِ الْأَصْلِ فَرْعًا وَالْفَرْعِ أَصْلًا، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ إِرَادَةِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا» ".

4784 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4784 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً» ) أَيْ: مَا فِيهِ حَقٌّ وَحِكْمَةٌ، أَوْ قَوْلًا صَادِقًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ، وَقِيلَ: أَصْلُ الْحِكْمَةِ الْمَنْعُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنَ الشِّعْرِ كَلَامًا نَافِعًا يَمْنَعُ عَنِ السَّفَهِ وَالْجَهْلِ، وَهُوَ مَا نَظَّمَهُ الشُّعَرَاءُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، فَإِنَّ الشِّعْرَ كَلَامٌ، فَحَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4785 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ " قَالَهَا ثَلَاثًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4785 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» ) أَيِ: الْمُتَكَلِّفُونَ فِي الْفَصَاحَةِ، أَوِ الْمُصَوِّتُونَ مِنْ قَعْرِ حُلُوقِهِمْ، وَالْمُرَدِّدُونَ لِكَلَامِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ رُعُونَةً فِي الْقَوْلِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِهِمُ الْمُتَعَمِّقِينَ الْغَالِينَ فِي خَوْضِهِمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمُتَنَطِّعِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِأَقْصَى حَلْقِهِ مَأْخُوذًا مِنَ النَّطْعِ وَهُوَ الْغَارُ الْأَعْلَى. (قَالَهَا) أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَوِ الْجُمْلَةَ (ثَلَاثًا) : إِنَّمَا رَدَّدَ الْقَوْلَ ثَلَاثًا تَهْوِيلًا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْغَائِلَةِ، وَتَحْرِيضًا عَلَى التَّيَقُّظِ وَالتَّبَصُّرِ دُونَهُ، وَكَمْ تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ مُصِيبَةٍ تَعُودُ عَلَى أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْمُتَكَلِّفِينَ فِي الْقَوْلِ، الَّذِينَ يَرُومُونَ بِسَبْكِ الْكَلَامِ سَبْيَ قُلُوبِ الرِّجَالِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْأَوْحَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمَذْمُومَ مِنْ هَذَا مَا يَكُونُ الْقَصْدُ فِيهِ مَقْصُورًا عَلَى مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ، فَجِيءَ الْمَعْنَى تَابِعًا لِلَّفْظِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِالْعَكْسِ، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامُ الرَّسُولِ مَصْبُوبٌ فِي هَذَا الْقَالَبِ، فَيُرْفَعُ الْكَلَامُ إِلَى الدَّرَجَةِ الْقُصْوَى. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْهُدْهُدِ: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] : هَذَا مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُحَدِّثُونَ الْبَدِيعَ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ بِشَرْطِ أَنْ يَجِيءَ مَطْبُوعًا، أَوْ بِصِيغَةِ الْعَالِمِ بِجَوْهَرِ الْكَلَامِ يَحْفَظُ مَعَهُ صِحَّةَ الْمَعْنَى وَسَدَادَهُ، وَلَقَدْ جَاءَ هَاهُنَا زَائِدًا عَلَى الصِّحَّةِ فَحَسُنَ وَبَدُعَ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ مَكَانَ بِنَبَأٍ بِخَبَرٍ لَكَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، وَهُوَ كَمَا جَاءَ أَصَحُّ لِمَا فِي النَّبَأِ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي يُطَابِقُهَا وَصْفُ الْحَالِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْهَرَوِيُّ صَاحِبُ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ التَّلَاؤُمَ يَكُونُ بِتَلَاؤُمِ الْحُرُوفِ، وَتَلَاؤُمِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَتَلَاؤُمِ الْمَعْنَى، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ خَرَجَ الْكَلَامُ غَايَةً فِي الْعُذُوبَةِ، وَفِي حُصُولِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ انْحِطَاطٌ عَنْ دَرَجَةِ الْعُذُوبَةِ، وَكُلَّمَا ظَهَرَتِ الصِّيغَةُ أَكْثَرَ كَانَ الْكَلَامُ أَقْرَبَ إِلَى التَّعَسُّفِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.

4786 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4786 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَصْدَقُ كَلِمَةٍ) أَيْ: جُمْلَةٍ مِنَ الْكَلَامِ (قَالَهَا الشَّاعِرُ) : أَرَادَ بِهِ جِنْسَ الشُّعَرَاءِ، وَفِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ أَشْعَرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ أَيْ: أَحْسَنُهَا وَأَجْوَدُهَا (كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ الْفَانِي الْمُضْمَحِلُّ، وَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِلَبِيدٍ وَهُوَ صَحَابِيٌّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ أَصْدَقَ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَصْدَقِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] ، فَإِنْ قُلْتَ: الْأَوْفَقُ أَنَّهُ أَصْدَقُ لِمَا قَالَ الْحَقُّ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، وَقَدْ بَيَّنْتُ وَجْهَهُ الْوَجِيهَ فِي شَرْحِ حِزْبِ الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، وَقَوْلِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُ دِيَارٍ، وَقَوْلِ آخَرَ سِوَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا فِي الْوُجُودِ، وَأَوْضَحْتُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ لِتَحْصِيلِ الْمُرِيدِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَزِيدِ، وَأَمَّا لَبِيدٌ: فَهُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ الشَّاعِرُ الْعَامِرِيُّ، قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ وَفَدَ قَوْمُهُ بَنُو جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، وَكَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَمِنْ جُمْلَةِ فَضَائِلِهِ: أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ لَمْ يَقُلْ شِعْرًا وَقَالَ: يَكْفِينِي الْقُرْآنُ وَتَمَامُ كَلَامِهِ: وَكُلُّ نُعَيْمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُنَعِيمُكَ فِي الدُّنْيَا غُرُورٌ وَحَسْرَةٌ وَعَيْشُكَ فِي الدُّنْيَا مُحَالٌ وَبَاطِلُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

4787 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ: " هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " هِيهِ " فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا. فَقَالَ: " هِيهِ " ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ: " هِيهِ " حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4787 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : سَبَقَ ذِكْرُهُمَا (عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: رَكِبْتُ خَلْفَهُ، وَرِوَايَةُ الشَّمَائِلِ: كُنْتُ رَدِيفَهُ يَوْمًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُرْبِهِ وَيُشْعِرُ إِلَى كَمَالِ حِفْظِهِ (قَالَ: " هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ أَبِي الصَّلْتِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (شَيْءٌ) : بَيَانُهُ مُقَدَّمٌ. قَالَ شَارِحٌ: وَإِنَّمَا اسْتَنْشَدَ شِعْرَ أُمَيَّةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَقَفِيًّا، أَدْرَكَ مَبَادِئَ الْإِسْلَامِ وَبَلَغَهُ خَبَرُ الْمَبْعَثِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ لِلْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ مِيرَكُ: كَانَ رَجُلًا مُتَرَهِّبًا غَوَّاصًا فِي الْمَعَانِي مُعْتَنِيًا بِالْحَقَائِقِ مُضَمِّنًا لَهَا فِي أَشْعَارِهِ؛ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِهِ: " كَادَ أَنْ يُسْلِمَ " وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: آمَنَ لِسَانُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ. (قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: هِيهِ) : بِكَسْرِ هَاءَيْنِ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ بَيْنَهُمَا أَيْ: هَاتِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ بِمَعْنَى إِيهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً، وَهُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ: تَكَلَّمْ وَقَدْ يُنَوَّنُ فَتْحًا وَكَسْرًا لِلتَّنْكِيرِ أَيْ: حَدِّثْ حَدِيثًا (فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا) أَيْ: قَرَأْتُ لَهُ بَيْتًا مِنْ أَشْعَارِ أُمَيَّةَ فَأَعْجَبَهُ (فَقَالَ: هِيهِ) أَيْ: زِدْ. فِي النِّهَايَةِ: تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِيهِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ إِذَا اسْتَزَدْتَهُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَعْهُودِ بَيْنَكُمَا، فَإِنْ نَوَّنْتَهُ اسْتَزَدْتَهُ مِنْ حَدِيثٍ مَا غَيْرِ مَعْهُودٍ لِلتَّنْكِيرِ. (ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا. فَقَالَ: هِيهِ، حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ) : وَالْغَرَضُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْسَنَ شَعْرَ أُمَيَّةَ وَاسْتَزَادَ مِنْ إِنْشَادِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَعْثِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: انْظُرْ إِلَى مَا قَالَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ قَالَ، وَيُوَافِقُ حَدِيثَ: «الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ» ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِنْشَادِ الشِّعْرِ الْمَحْمُودِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحِكْمَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4788 - وَعَنْ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ أُصْبُعُهُ فَقَالَ: " هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4788 - (وَعَنْ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا أَيْضًا، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيُّ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ.

(أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ) أَيِ: الْمَغَازِي، وَهُوَ غَزْوَةُ أُحُدٍ عَلَى مَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْكَرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ فَدُمِيَتْ أُصْبَعُهُ» ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: لَعَلَّهُ غَازِيًا فَتُصُحِّفَ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ فِي التَّصْحِيفِ أَنْ يُقَالَ فِي غَازٍ بِالزَّايِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي فَرِيقٍ غَازٍ أَيْ مَعَهُمْ، ثُمَّ قَالَ الْبَاجِيُّ: لِمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي بَعْضِ الْمُشَاهِدِ، وَلِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ يَعْنِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ: «بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ» . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ يُرَادُ بِالْغَارِ الْجَيْشُ وَالْجَمْعُ لَا الْغَارُ الَّذِي هُوَ الْكَهْفُ لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: مَا ظَنُّكَ بِامْرِئٍ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَارَيْنِ؟ ! . أَيِ: الْعَسْكَرَيْنِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ. قُلْتُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةٍ، وَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ فَآجَرَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَرَّتَيْنِ. (وَقَدْ دَمِيَتْ) : بِفَتْحِ الدَّالِ (إِصْبَعُهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ، وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ مُثَلَّثُ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ، فَفِيهِ تِسْعُ لُغَاتٍ. عَاشِرُهَا: أُصْبُوعٌ، وَفِي الشَّمَائِلِ أَصَابَ حَجَرٌ أُصْبُعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَمِيتِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّفَاقًا عَلَى مُقْتَضَى الطَّبْعِ السَّلِيمِ السَّلِيقِيِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى وَزْنِهِ، كَمَا يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ (هَلْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ) : الِاسْتِفْهَامُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَدَمِيتِ صِفَةُ أُصْبُعٍ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ عَامُّ الصِّفَةِ أَيْ: مَا أَنْتِ يَا أُصْبُعُ مَوْصُوفَةً بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِأَنْ دَمِيتِ كَأَنَّهَا لَمَّا تَجَرَّحَتْ وَتَوَجَّعَتْ فَخَاطَبَهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ أَوِ الْحَقِيقَةِ مُسَلِّيًا لَهَا، وَالْمَعْنَى: هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ، فَإِنَّكِ مَا ابْتُلِيتِ بِشَيْءٍ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْقَطْعِ، سِوَى أَنَّكِ دَمِيتِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هَدَرًا، بَلْ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرِضَاهُ كَمَا أَفَادَهُ بِقَوْلِهِ: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ أَيِ: الَّذِي لَقِيتِهِ هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا فِي سَبِيلِ غَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ ضَائِعًا فَافْرَحِي بِهِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " مَا " نَافِيَةً أَيْ: مَا لَقِيتِ شَيْئًا تَحْقِيرًا لِمَا لَقِيَهُ فِيهِ. قُلْتُ: هَذَا تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتُفِيدَ مِنَ الْمِصْرَاعِ الْأَوَّلِ مَعَ مَا يُوهِمُ إِطْلَاقُهُ مِنَ الْخَلَلِ فَتَأَمَّلْ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: الرِّوَايَةُ بِكَسْرِ التَّاءِ فِيهِمَا، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمَا بِالسُّكُونِ فِرَارًا مِنَ الْوَزْنِ يُعَارِضُهُ فَإِنَّهُ مَعَ السُّكُونِ أَيْضًا مَوْزُونٌ مِنَ الْكَامِلِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْشِئًا أَوْ مُتَمَثِّلًا؟ وَبِالثَّانِي جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، فَقِيلَ: هُوَ لِلْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ قَالَهُ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَقَدْ أُصِيبَتْ أُصْبُعُهُ. وَبَعْدَهُ: يَا نَفْسُ إِنْ لَا تُقْتَلِي تَمُوتِي ... هَذِي حِيَاضُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ لَقِيتِ ... إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ أَيْ: فِعْلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ اهـ. وَقَدْ جَزَمَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ بِأَنَّ الرَّجَزَ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ قَوْلُ ابْنِ رَوَاحَةَ، وَقَدْ تَلَفَّظَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ ضَمَّنَ كَلَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَرُّكًا، وَصَدَّرَ بِهِ شِعْرًا صَدَرَ مِنْ صَدْرِهِ تَيَمُّنًا؛ لِأَنَّ قَضِيَّةَ مُؤْتَةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ مَعَ احْتِمَالِ التَّوَارُدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الرَّجَزِ الَّذِي جَرَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَوْقَاتِهِ، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ، وَإِنِ اسْتَوَى عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الشِّعْرُ إِذْ لَمْ يَكُنْ صُدُورُهُ عَنْ نِيَّةٍ لَهُ وَرَوِيَّةٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّفَاقُ كَلَامٍ يَقَعُ أَحْيَانًا، فَيَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ عَلَى أَعَارِيضِ الشِّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ، الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ: بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ. وَالْبَيْتُ الْوَاحِدُ مِنَ الشِّعْرِ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا الِاسْمُ، فَلَا يُخَالِفُ مَعْنَى الْآيَةِ. هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً، وَإِنَّمَا الشَّاعِرُ هُوَ الَّذِي قَصَدَ الشِّعْرَ وَنَشِيَهُ وَيَصِفُهُ وَيَمْدَحُهُ وَيَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الشُّعَرَاءِ فِي هَذِهِ الْأَفَانِينِ، وَقَدْ بَرَّأَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ وَصَانَ قَدْرَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشِّعْرَ لَا يَنْبَغِي لَهُ، وَإِذَا كَانَ مُرَادُ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَضُرَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنْهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالَ رِوَايَةَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمَطْلَبِ بِالْخَفْضِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: دَمِيَتْ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ يُغَيِّرُ الرِّوَايَةَ لِيَسْتَغْنِيَ عَنِ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا

الرِّوَايَةُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَالْمَدِّ اهـ. وَسَبَقَ أَنَّ الْقَصْرَ مَا يَضُرُّ بِالْوَزْنِ، وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ ضَبْطِ قَوْلِهِ: دَمِيَتْ وَلَقِيَتْ عَلَى صِيغَةِ الْغَائِبَةِ، وَإِنْ كَانَ يُخْرِجُهُ عَنْ حَيِّزِ الْوَزْنِ لَكِنْ لَا أَصْلَ لَهُ أَصْلًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4789 - وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ قُرَيْظَةَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: " اهْجُ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَسَّانَ: " أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4789 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ) أَيِ: ابْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ قُرَيْظَةَ) أَيْ: يَوْمَ مُحَاصَرَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ فِي أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ (لِحَسَّانَ) : بِغَيْرِ الصَّرْفِ عَلَى الْأَصَحِّ (ابْنِ ثَابِتٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ، شَاعِرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ، أَجْمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أَشْعَرَ أَهْلِ الْمَدَرِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، رَوَى عَنْهُ عُمَرُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، عَاشَ مِنْهَا سِتِّينَ سَنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ. (اهْجُ الْمُشْرِكِينَ) : أَمْرٌ بِالْهَجْوِ ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا (فَإِنَّ جِبْرِيلَ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَفِيهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ مُتَوَاتِرَاتٍ ذَكَرْنَاهَا سَابِقًا أَيِ: الرُّوحُ الْأَمِينُ (مَعَكَ) أَيْ: مُعِينٌ لَكَ وَمُلْهِمٌ إِيَّاكَ، وَالْحَدِيثُ إِلَى هُنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَسَّانَ: أَجِبْ عَنِّي) أَيْ: مِنْ قِبَلِي وَعِوَضًا عَنْ جَانِبِي (اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ) أَيْ: قَوِّ حَسَّانَ (بِرُوحِ الْقُدُسِ) : بِضَمِّ الدَّالِ، وَيُسَكَّنُ أَيْ: بِجِبْرِيلَ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ بِمَا فِيهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، فَهُوَ كَالْمَبْدَأِ لِحَيَاةِ الْقَلْبِ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ مَبْدَأُ حَيَاةِ الْجَسَدِ، وَالْقُدُسُ صِفَةٌ لِلرُّوحِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَجْبُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَالنَّزَاهَةِ عَنِ الْعُيُوبِ، وَقِيلَ: الْقُدُسُ بِمَعْنَى الْمُقَدَّسِ، وَهُوَ اللَّهُ، وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَيْهِ لِلتَّشْرِيفِ، ثُمَّ تَأْيِيدُهُ إِمْدَادُهُ لَهُ بِالْجَوَابِ، وَإِلْهَامُهُ لِمَا هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، قِيلَ: لَمَّا دَعَاهُ أَعَانَهُ جِبْرِيلُ تِسْعِينَ بَيْتًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ حَقَّقَ مَيْرَكُ شَاهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: ظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُؤَلِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَسَّانَ: أَجِبْ إِلَخْ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يُفْهَمُ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ حَدِيثَ الْبَرَاءِ يَنْتَهِي إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ، وَقَوْلُهُ: وَكَانَ إِلَخْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ.

4790 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4790 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِشُعَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ: " اهْجُوا قُرَيْشًا) أَيْ: مُجَازَاةً لِمُهَاجَاتِهِمْ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الْهَجْوُ (أَشَدُّ) أَيْ: أَصْعَبُ (عَلَيْهِمْ) : وَأَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِيهِمْ (مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْقَافِ، وَالنَّبْلُ بِفَتْحِ النُّونِ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ فَلَامٌ أَيْ: مِنْ رَمْيِ السَّهْمِ إِلَيْهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الرَّشْقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ وَبِالْكَسْرِ النَّبْلُ الَّتِي تُرْمَى دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَفِيهِ جَوَازُ هَجْوِ الْكُفَّارِ، وَإِذَا هُمْ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمَانٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْجِهَادِ فِيهِمْ وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ فِي الْإِغْلَاظِ بَيَانًا لِنَقْصِهِمْ وَالِانْتِصَارِ مِنْهُمْ لِهِجَائِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4791 - وَعَنْهَا قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَسَّانَ: " إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ". وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ.: " «هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4791 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَسَّانَ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا وَاوًا (مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيْ: دَافَعْتَ وَخَاصَمْتَ وَاجْتَهَدْتَ فِي الذَّبِّ عَنْ حَرِيمِهِمَا. فِي النِّهَايَةِ: الْمُنَافَحَةُ: الْمُدَافَعَةُ وَالْمُضَارَبَةُ، وَالْمُرَادُ بِمُنَافَحَتِهِ هِجَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَمُحَارَبَتُهُمْ عَلَى أَشْعَارِهِمْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ شِعْرَكَ هَذَا الَّذِي تُنَافِحُ بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَعَنْ رَسُولِهِ يُلْهِمُكَ الْمَلَكُ سَبِيلَهُ، بِخِلَافِ مَا تَقُولُهُ الشُّعَرَاءُ إِذَا اتَّبَعُوا الْهَوَى وَهَامُوا فِي كُلِّ وَادٍ، فَإِنَّ مَادَّةَ قَوْلِهِمْ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَيْهِمْ. (وَقَالَتْ) أَيْ: عَائِشَةُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَيَ» ) أَيِ: الْمُسْلِمِينَ (وَاشْتَفَى) أَيْ: بِنَفْسِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْكَلِمَتَيْنِ التَّأْكِيدَ أَيْ: شَفَيَ الْغَيْظَ بِمَا أَمْكَنَهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4792 - وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى اغْبَرَّ بَطْنُهُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَافَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَاإِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ: " أَبَيْنَا أَبَيْنَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4792 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقُلُ التُّرَابَ) أَيْ: مَعَ الْأَصْحَابِ (يَوْمَ الْخَنْدَقِ) أَيْ: يَوْمَ الْأَحْزَابِ (حَتَّى اغْبَرَّ بَطْنُهُ) أَيْ: صَارَ ذَا غُبَارٍ (يَقُولُ) : اسْتِئْنَافٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ يَنْقُلُ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ (وَاللَّهِ) : قَسَمٌ (لَوْلَا اللَّهُ) أَيْ: لَوْلَا هِدَايَتُهُ أَوْ فَضْلُهُ عَلَيْنَا مَعْشَرُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ هَدَانَا (مَا اهْتَدَيْنَا) أَيْ: بِنَفْسِنَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] ، (وَلَا تَصَدَّقْنَا) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ: (وَلَا صَلَّيْنَا) أَيْ: صَلَاةَ الِاخْتِصَاصِ (فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً) أَيْ: وَقَارًا وَطُمَأْنِينَةً (عَلَيْنَا) : وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] ، " وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ " أَيْ: أَقْدَامَنَا " إِنْ لَاقَيْنَا " أَيْ: إِنْ رَأَيْنَا الْكُفَّارَ وَبَلَغْنَا إِلَيْهِمْ ثَبِّتْنَا عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] ، " إِنَّ الْأُلَى ": مَقْصُورُ أُولَاءِ وَهُوَ لُغَةٌ فِيهِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَالْأَحْزَابِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ. (قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا) أَيْ: تَكَبَّرُوا وَتَجَبَّرُوا وَتَعَدَّوْا بِالظُّلْمِ عَلَيْنَا وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَمَا قَالَ: (إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً) أَيْ: شِرْكًا أَوْ قَتْلًا وَنَهْبًا، أَوْ ضَلَالَنَا وَإِعَادَتَنَا فِي مِلْتِهِمْ (أَبَيْنَا) أَيِ: امْتَنَعْنَا عَنِ الْقَبُولِ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] ، (يَرْفَعُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِهَا) أَيْ: بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَوْ بِجُمْلَةِ أَبَيْنَا (صَوْتَهُ) : قَائِلًا (أَبَيْنَا أَبَيْنَا) أَيْ: مُكَرِّرًا لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّلَذُّذِ وَالتَّسْمِيعِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي بِهَا رَاجِعٌ إِلَى الْأَبْيَاتِ وَأَبَيْنَا أَبَيْنَا حَالٌ، أَيْ: خُصُوصًا أَبَيْنَا أَبَيْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي بِهَا مُبْهَمًا مُفَسَّرًا بِقَوْلِهِ أَبَيْنَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

4793 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ وَهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُجِيبُهُمْ: " اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4793 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ) : وَهُوَ حُفْرَةٌ كَبِيرَةٌ عَرِيضَةٌ طَوِيلَةٌ حَاجِزَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ (وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ وَهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا) : بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مَاضٍ مِنَ الْمُبَايَعَةِ (عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا) : بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: مِمَّا عِشْنَا (أَبَدًا. يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا لِمَا يُقَالُ، فَمَا كَانَ يَقُولُ وَقَوْلُهُ (وَهُوَ يُجِيبُهُمْ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ وَهُوَ: (اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةْ) : وَهِيَ بِهَاءٍ سَاكِنَةٍ لِلْوَقْفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّاءِ الْمَخْفُوضَةِ أَيِ: الْحَيَاةُ الْهَنِيئَةُ الدَّائِمَةُ هِيَ حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْأَصْحَابِ عَنْ تَحَمُّلِ مَشَاقِّهِمْ فِي مُجَاهَدَةِ الْأَحْزَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]

{وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] ، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] ، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْ: مَا يَقْرِيهِمْ وَيَكْفِيهِمْ بِحَيْثُ لَا يُشْعِرُهُمُ بِالْجَهْدِ وَلَا يُرْهِقُهُمُ الْفَاقَةُ وَلَا تُذِلُّهُمُ الْمَسْأَلَةُ وَالْحَاجَةُ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فُضُولٌ يُخْرِجُ إِلَى التَّرَفُّهِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الدُّنْيَا وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُمَا إِذَا وَفُّوا بِمَا عَاهَدُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ جَازَاهُمْ مُجَازَاةً لَيْسَ بَعْدَهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ. (فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةْ) أَيْ: فَاغْفِرْ لَهُمُ الْآنَ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمَطْلُوبِ اهـ. ضَمَّنَ اغْفِرْ مَعْنَى اسْتُرْ، وَفِي نُسْخَةٍ لِلْأَنْصَارِ فَيُقْرَأُ بِالنَّقْلِ مُرَاعَاةً لِلْوَزْنِ، وَالتَّاءُ فِي الْمُهَاجِرَةِ لِلْجَمْعِ يُرِيدُ جَمَاعَةَ الْمُهَاجِرِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

4794 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4794 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَنْ يَمْتَلِئَ) : بِهَمْزٍ فِي آخِرِهِ (جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا) : نَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: صَدِيدًا وَدَمًا وَمَا يُسَمَّى نَجَاسَةً (يَرِيهِ) : بِفَتْحِ يَاءٍ وَكَسْرِ رَاءٍ وَسُكُونِ يَاءٍ أُخْرَى صِفَةُ قَبِيحٍ أَيْ: يُفْسِدُهُ مِنَ الْوَرَى وَهُوَ دَاءٌ يُفْسِدُ الْجَوْفَ وَمَعْنَاهُ: قَيْحًا يَأْكُلُ جَوْفَهُ وَيُفْسِدُهُ، وَقِيلَ أَيْ: يَصِلُ إِلَى الرِّئَةِ وَيُفْسِدُهَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الرِّئَةِ الْهَمْزُ (خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ) أَيْ: مَا فِي جَوْفِهِ مِنَ الصَّدْرِ وَالْقَلْبِ (شِعْرًا) أَيْ: مَذْمُومًا، فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الشِّعْرُ غَالِبًا عَلَيْهِ مُسْتَوْلِيًا؛ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَذْمُومٌ مِنْ أَيِّ شِعْرٍ كَانَ، وَإِلَّا فَلَا يَضُرُّهُ حِفْظُ الْيَسِيرِ مِنَ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّ جَوْفَهُ لَيْسَ مُمْتَلِئًا شِعْرًا وَقِيلَ: هَذَا الذَّمُّ مُخْتَصٌّ بِمُعَيَّنٍ كَمَا يَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: قِيلَ: خَاصٌّ بِشِعْرٍ هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرِوَايَةِ " شِعْرًا هُجِيتُ بِهِ ". قُلْتُ: الظَّاهِرُ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ يَدْخُلُ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِهِ أَوْ إِشْعَارًا بِأَنَّ الشِّعْرَ مَذْمُومٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى قَيْدِ الِامْتِلَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْإِمْلَاءِ، فَإِنَّ هَذَا الشِّعْرَ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ هَجْوِ مُسْلِمٍ أَوِ افْتِرَاءٍ مَذْمُومٌ، سَوَاءٌ امْتَلَأَ الْجَوْفُ أَمْ لَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعُ الصَّغِيرُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4795 - «عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا أَنْزَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحَ النَّبْلِ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. وَفِي " الِاسْتِيعَابِ " لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، «أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَاذَا تَرَى فِي الشِّعْرِ فَقَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4795 - (عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) : أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ، وَكَانَ أَحَدَ شُعَرَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ وَسَبْعِينَ سَنَةً بَعْدَ أَنْ عَمِيَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ شُعَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَكَانَ كَعْبُ يُخَوِّفُهُمُ الْحَرْبَ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: بَلَغَنَا أَنَّ دَوْسًا إِنَّمَا أَسْلَمَتْ فَرَقًا مِنْ قَوْلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ. (أَنَّهُ قَالَ) أَيْ: كَعْبٌ (لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ (مَا أَنْزَلَ) أَيْ: مِنَ الذَّمِّ فَكَأَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] ، أَنْكَرَ عَلَى نَفْسِهِ الشِّعْرَ. (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا تَرْمُونَهُمْ» ) : اللَّامُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّمَا تَرْمُونَهُمْ (بِهِ) أَيْ: بِالشِّعْرِ أَوْ بِاللِّسَانِ (نَضْحَ النَّبْلِ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: نَضْحًا مِثْلَ نَضْحِ النَّبْلِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: كَنَضْحِ النَّبْلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ كَأَنَّ زَيْدًا الْأَسَدُ إِنَّ زِيدًا كَالْأَسَدِ، فَقُدِّمَ حَرْفُ التَّشْبِيهِ اهْتِمَامًا بِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْفَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ أَنَّكَ هَاهُنَا بَانَ كَلَامُكَ عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَثَمَّ بَعْدَ مُضِيِّ صَدْرِهِ عَلَى الْإِثْبَاتِ. وَقَالَ الْقَاضِي: نَضْحُ النَّبْلِ رَمْيُهُ مُسْتَعَارٌ مِنْ نَضْحِ الْمَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هِجَاءَهُمْ يُؤَثِّرُ فِيهِمْ تَأْثِيرَ النَّبْلِ، وَقَامَ قِيَامَ الرَّمْيِ فِي النِّكَايَةِ بِهِمْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: خُلَاصَةُ جَوَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذَمُّ الشِّعْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْهَائِمِينَ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ إِحْدَى عُدَّتَيْهِ فِي ذَبِّ الْكُفَّارِ مِنَ اللِّسَانِ وَالسِّنَانِ، بَلْ هُوَ أَعْدَى وَأَبْلَى، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ» " وَإِلَيْهِ يُنْظَرُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامُ وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادِ الصَّحِيحَيْنِ: إِلَّا أَحْمَدَ بْنَ مَنْصُورٍ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ ثَبْتٌ. (وَفِي الِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، «أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَاذَا تَرَى فِي الشِّعْرِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ» ) : قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا " «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ» ".

4796 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4796 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أَيِ: الْبَاهِلِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيِ: الْعَجْزُ فِي الْكَلَامِ وَالتَّحَيُّرِ فِي الْمَرَامِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ السُّكُوتُ عَمَّا فِيهِ إِثْمٌ مِنَ النَّثْرِ وَالشِّعْرِ لَا مَا يَكُونُ لِلْخَلَلِ فِي اللِّسَانِ (شُعْبَتَانِ مِنَ الْإِيمَانِ) : فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَحْمِلُهُ الْإِيمَانُ عَلَى الْحَيَاءِ، فَيَتْرُكُ الْقَبَائِحَ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَمْنَعُهُ عَنِ الِاجْتِرَاءِ عَلَى الْكَلَامِ شَفَقَةً عَنْ عَثْرَةِ اللِّسَانِ، فَهُمَا شُعْبَتَانِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِيمَانَ مَنْشَؤُهُمَا وَمَنْشَأُ كُلِّ مَعْرُوفٍ وَإِحْسَانٍ (وَالْبَذَاءُ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ فَذَالٍ مُعْجَمَةٍ فُحْشُ الْكَلَامِ أَوْ خِلَافُ الْحَيَاءِ (وَالْبَيَانُ) أَيِ: الْفَصَاحَةُ الزَّائِدَةُ عَنْ مِقْدَارِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ التَّعَمُّقِ فِي النُّطْقِ وَإِظْهَارِ التَّفَاصُحِ لِلتَّقَدُّمِ عَلَى الْأَعْيَانِ (شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] ، قَالَ الْقَاضِيَ: لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بَاعِثًا عَلَى الْحَيَاءِ وَالتَّحَفُّظِ فِي الْكَلَامِ وَالِاحْتِيَاطِ فِيهِ عُدَّا مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يُخَالِفُهُمَا مِنَ النِّفَاقِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعِيِّ مَا يَكُونُ بِسَبَبِ التَّأَمُّلِ فِي الْمَقَالِ وَالتَّحَرُّرِ عَنِ الْوَبَالِ لَا لِلْخَلَلِ فِي اللِّسَانِ، وَبِالْبَيَانِ مَا يَكُونُ سَبَبُهُ الِاجْتِرَاءَ وَعَدَمَ الْمُبَالَاةِ بِالطُّغْيَانِ، وَالتَّحَرُّزَ عَنِ الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَدْ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ اهـ. وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

4797 - وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مُسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا، الثَّرْثَارُونَ، الْمُتَشَدِّقُونَ، الْمُتَفَيْهِقُونَ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4797 - (وَعَنْ أَبِي شُعْبَةَ الْخُشَنِيِّ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ ذِكْرُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا (وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: مَنْزِلَةً (أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا) : نَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ وَجَمَعَهُ لِإِرَادَةِ الْأَنْوَاعِ أَوْ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ (وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا (وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي) أَيْ: فِي الْعُقْبَى (مُسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْوَاوِ جَمْعُ مَسْوَأٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْوَاوِ، كَمَحَاسِنَ فِي جَمْعِ مَحْسَنٍ، وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَإِمَّا اسْمُ مَكَانٍ أَيْ: مَحَالُّ سُوءِ الْأَخْلَاقِ. وَيُرْوَى أَسَاوِيكُمْ وَهُوَ جَمْعُ أَسْوَأَ كَأَحَاسِنَ جَمْعُ أَحْسَنَ،

وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي أَصْلِ الْمَصَابِيحِ. هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ، وَقَالَ الْقَاضِي: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ زَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِمْ فِي الْخَصْلَةِ الَّتِي هُوَ وَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِيهَا جَازَ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ فِي الْحَالَاتِ كُلِّهَا وَتَطَبُّقُهَا، لِمَا هُوَ وَصْفٌ لَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَقَدْ جُمِعَ الْوَجْهَانِ فِي الْحَدِيثِ، فَأُفْرِدَ (أَحَبَّ) وَ (أَبْغَضَ) وَجُمِعَ (أَحَاسِنُ) وَ (أَسَاوِي) فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَسَاوِيكُمْ بَدَلَ مَسَاوِيكُمْ، وَهُوَ جَمْعُ مَسْوَأٍ كَمَحَاسِنَ فِي جَمْعِ مَحْسَنٍ، وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ نُعِتَ بِهِ ثُمَّ جُمِعَ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ السُّوءُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْمَنْعُوتِ بِهِ مَجَازًا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَرَادَ بِأَبْغَضِكُمْ بِغِيضَكُمْ وَبِأَحَبِّكُمُ التَّفْضِيلَ، فَلَا يَكُونُ الْمُخَاطَبُونَ بِأَجْمَعِهِمْ مُشْتَرِكِينَ فِي الْبُغْضِ وَالْمَحَبَّةِ. وَقَالَ الْحَاجِبِيُّ: تَقْدِيرُهُ أَحَبُّ الْمَحْبُوبِينَ مِنْكُمْ وَأَبْغَضُ الْمَبْغُوضِينَ مِنْكُمْ، وَيَجُوزُ إِطْلَاقُ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ لِلْقَرِينَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَبْغَضُكُمْ لَا يَجُوزُ بِغِيضُكُمْ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ، فَالْقَوْلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُوَفَّقُ وَالْمُنَافِقُ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُنَافِقُ الْحَقِيقِيُّ، فَالْكَلَامُ ظَاهِرٌ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ الْحَقِيقِيِّ كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ فَمُسْتَقِيمٌ أَيْضًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (الثِّرْثَارُونَ) إِلَخْ. وَهُوَ إِمَّا بَدَلٌ مِنْ مُسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَوْصَافُ أَسْوَأَ الْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ كَالتَّمْهِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ، وَإِمَّا رُفِعَ عَلَى الذَّمِّ، فَإِنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ أَشْنَعَ وَأَبْلَغَ. وَفِي النِّهَايَةِ: الثِّرْثَارُونَ هُمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ تَحَلُّفًا وَخُرُوجًا عَنِ الْحَقِّ مِنَ الثَّرْثَرَةِ، وَهِيَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَتَرْدِيدُهُ (الْمُتَشَدِّقُونَ) أَيِ: الْمُتَوَسِّعُونَ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاطٍ وَاحْتِرَازٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمُتَشَدِّقِ الْمُسْتَهْزِئَ بِالنَّاسِ يَلْوِي شِدْقَهُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُتَكَلِّفُونَ فِي الْكَلَامِ فَيَلْوِي بِهِ شِدْقَيْهِ، وَالشِّدْقُ جَانِبُ الْفَمِ (الْمُتَفَيْهِقُونَ) أَيِ: الَّذِينَ يَمْلَئُونَ أَفْوَاهَهُمْ بِالْكَلَامِ وَيَفْتَحُونَهَا مِنَ الْفَهْقِ وَهُوَ الِامْتِلَاءُ وَالِاتِّسَاعُ، قِيلَ: وَهَذَا مِنَ التَّكَبُّرِ وَالرُّعُونَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى التَّرْدِيدِ فِي الْكَلَامِ لِيَمِيلَ بِقُلُوبِ النَّاسِ وَأَسْمَاعِهِمْ إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَزَادَ فِي الْفَائِقِ وَالنِّهَايَةِ عَلَى هَذَا أَيْ: عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ الْمَعْهُودِ الْمَحْمُودِ، الْمُوطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ. قَالَ: وَهَذَا مَثَلٌ وَحَقِيقَتُهُ مِنَ التَّوْطِئَةِ وَهِيَ التَّمْهِيدُ وَالتَّذْلِيلُ، وَفِرَاشٌ وَطِيءٌ لَا يُؤْذِي جَنْبَ النَّائِمِ، وَالْأَكْنَافُ الْجَوَانِبُ أَرَادَ الَّذِينَ جَوَانِبُهُمْ وَطِيئَةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مَنْ يُصَاحِبُهُمْ وَلَا يَتَأَذَّى. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4798 - وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي رِوَايَتِهِ «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: " الْمُتَكَبِّرُونَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4798 - (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) أَيْ: مِثْلَهُ مَعْنًى لَا لَفْظًا (عَنْ جَابِرٍ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مُسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا، بَلْ قَالَ: وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثِّرْثَارُونَ إِلَخْ. (وَفِي رِوَايَتِهِ) أَيْ: رِوَايَةِ جَابِرٍ وَالتِّرْمِذِيِّ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثِّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ) أَيِ: الْمُظْهِرُونَ لِلْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: يُكْرَهُ التَّفَخُّرُ فِي الْكَلَامِ بِالتَّشَدُّقِ، وَتَكَلُّفِ السَّجْعِ وَالْفَصَاحَةِ، وَالتَّصَنُّعِ بِالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يَعْتَادُهَا الْمُتَفَاصِحُونَ مِنْ زَخَارِفِ الْقَوْلِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ الْمَذْمُومِ، وَكَذَلِكَ التَّحَرِّي فِي دَقَائِقِ الْإِعْرَابِ وَوَحْشِيِّ اللُّغَةِ فِي حَالِ مُخَاطَبَةِ الْعَوَامِّ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ فِي مُخَاطَبَتِهِ إِيَّاهُمْ لَفْظًا يَفْهَمُونَهُ فَهْمًا جَلِيًّا، وَلَا يَدْخُلُ فِي الذَّمِّ تَحْسِينُ الْقَادِرِ لِلْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِفْرَاطٌ وَإِغْرَابٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَهْيِيجُ الْقُلُوبِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِحُسْنِ اللَّفْظِ فِي هَذَا أَثَرٌ ظَاهِرٌ.

4799 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِي: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ قَوْمٌ - يَأْكُلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَمَا تَأْكُلُ الْبَقَرَةُ بِأَلْسِنَتِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4799 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَمَا تَأْكُلُ الْبَقَرَةُ» ) : بِفُتْحَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ الْبَاقِرَةُ وَهِيَ جَمَاعَةُ الْبَقَرَةِ (بِأَلْسِنَتِهَا) أَيْ: يَجْعَلُونَ أَلْسِنَتَهُمْ وَسَائِلَ أَكْلِهِمْ كَالْبَقَرَةِ تَأْخُذُ الْعَلَفَ بِلِسَانِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ضُرِبَ لِلْمَعْنَى مَثَلٌ يُشَاهِدُهُ الرَّاءُونَ مِنْ حَالِ الْبَقَرِ، لِيَكُونَ أَثْبَتَ فِي الضَّمَائِرِ، ذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ الدَّوَابِّ تَأْخُذُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ بِأَسْنَانِهَا، فَضُرِبَ بِهَا الْمَثَلُ لِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ مِنَ الْمَآكِلِ إِلَّا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، كَمَا أَنَّ الْبَقَرَةَ لَا تَتَمَكَّنُ مِنَ الِاحْتِشَاشِ إِلَّا بِلِسَانِهَا، وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ فِي مَغْزَاهُمْ ذَلِكَ كَالْبَقَرَةِ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُمَيِّزَ فِي رَعْيِهَا بَيْنَ الرَّطْبِ وَالشَّوْكَةِ، وَبَيْنَ الْحُلْوِ وَالْمُرِّ، بَلْ تَلِفُّ الْكُلَّ بِلِسَانِهَا لَفًّا، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ أَلْسِنَتَهُمْ ذَرِيعَةً إِلَى مَآكِلِهِمْ، لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَرَوَاهُ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادِهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لَا تُقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ الزُّهْدُ رِوَايَةً وَالْوَرَعُ تَصَنُّعًا» .

4800 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا يَتَخَلَّلُ الْبَاقِرَةُ بِلِسَانِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4800 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ) أَيِ: الْمُبَالِغَ فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ وَبَلَاغَتِهِ (مِنَ الرِّجَالِ) أَيْ: مِمَّا بَيْنَهُمْ وَخُصُّوا لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِيهِمْ (الَّذِي) : صِفَةُ الْبَلِيغِ (يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ) أَيْ: يَأْكُلُ بِلِسَانِهِ، أَوْ يُدِيرُ لِسَانَهُ حَوْلَ أَسْنَانِهِ مُبَالَغَةً فِي إِظْهَارِ بَلَاغَتِهِ وَبَيَانِهِ. (كَمَا يَتَخَلَّلُ الْبَاقِرَةُ بِلِسَانِهَا) أَيِ: الْبَقَرَةُ كَأَنَّهُ أَدْخَلَ التَّاءَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجِنْسِ كَالْبَقَرَةِ مِنَ الْبَقَرِ، وَاسْتِعْمَالُهَا مَعَ التَّاءِ قَلِيلٌ. قَالَ الْقَاضِي: شَبَّهَ إِدَارَةَ لِسَانِهِ حَوْلَ الْأَسْنَانِ وَالْفَمِ حَالَ التَّكَلُّمِ تَفَاصُحًا بِمَا تَفْعَلُ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا، وَالْبَاقِرَةُ جَمَاعَةُ الْبَقَرَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ الَّذِي يَتَشَدَّقُ فِي الْكَلَامِ، وَيُفَخِّمُ بِهِ لِسَانَهُ، وَيَلِفُّهُ كَمَا تَلِفُّ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا لَفًّا اهـ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ قَدَرَ الْحَاجَةِ يُوَافِقُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ عَلَى مِنْوَالِ الشَّرِيعَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ كُلَّ عَالِمٍ بِالدُّنْيَا جَاهِلٍ بِالْآخِرَةِ ".»

4801 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِقَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنَ النَّارِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4801 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي) : بَنَى اللَّيْلَةَ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى الْجُمْلَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ، فَالتَّقْدِيرُ لَيْلَةً أُسْرِيَ بِي فِيهَا، وَقَوْلُهُ: (بِقَوْمٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِمَرَرْتُ (تُقْرَضُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُقَطَّعُ (شِفَاهُهُمْ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ الشَّفَةِ بِالْفَتْحِ (بِمَقَارِيضَ) : جَمْعُ مِقْرَاضٍ (مِنَ النَّارِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ) : إِشَارَةُ تَحْقِيرٍ؛ وَلِذَا أُعِيدَ (خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ) أَيْ: عُلَمَاؤُهُمْ وَوُعَّاظُهُمْ أَوْ شُعَرَاؤُهُمْ (الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) : قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الفاتحة: 44 - 18474] ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

4802 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلَامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوِ النَّاسِ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4802 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلَامِ) أَيْ: إِيرَادَهُ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقِيلَ أَيِ: الزِّيَادَةَ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، وَالصَّرْفُ الْفَصْلُ (لِيَسْبِيَ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لِيَسْلُبَ وَيَسْتَمِيلَ بِهِ أَيْ: بِصَرْفِ الْكَلَامِ (قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوِ النَّاسِ) أَيْ: عَامَّتِهِمْ وَأَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي (لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) : فِي النِّهَايَةِ: الصَّرْفُ التَّوْبَةُ أَوِ النَّافِلَةُ، وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ أَوِ الْفَرِيضَةُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ".

4803 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا وَقَامَ رَجُلٌ فَأَكْثَرَ الْقَوْلَ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَوْ قَصَدَ فِي قَوْلِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَقَدْ رَأَيْتُ - أَوْ أُمِرْتُ - أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4803 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ) أَيْ: عَمْرٌو (يَوْمًا) أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ (وَقَامَ) أَيْ: وَقَدْ قَامَ (رَجُلٌ) أَيْ: خَطِيبًا وَوَاعِظًا (فَأَكْثَرَ الْقَوْلَ) أَيْ: أَطَالَ الْكَلَامَ إِظْهَارًا لِلْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ حَتَّى حَصَلَ لِلسَّامِعِينَ الْمَلَالَةُ. (فَقَالَ عَمْرٌو) : كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ تَكْرَارٌ لِطُولِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (لَوْ قَصَدَ فِي قَوْلِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ) : هُوَ الْمَقُولُ لِقَوْلِهِ قَالَ يَوْمًا، وَقَوْلُهُ وَقَامَ رَجُلٌ حَالٌ، فَلَمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمَا طَالَ الْكَلَامُ فَأَعَادَ. قَالَ عَمْرٌو: وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْحَمَاسِيِّ: وَإِنَّ امْرَأً دَامَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ ... عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّهُ لَكَرِيمُ فَقَوْلُهُ: لَكَرِيمُ خَبَرُ إِنَّ الْأُولَى، وَأَعَادَ إِنَّهُ لِطُولِ الْكَلَامِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ قَوْلُهُ: قَصَدَ أَيْ: لَوْ أَخَذَ فِي كَلَامِهِ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، وَالْقَصْدُ مَا بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ) أَيْ: عَلِمْتُ (أَوْ أُمِرْتُ) . شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ) أَيْ: أُسْرِعَ فِيهِ، وَأُخَفِّفَ الْمُؤْنَةَ عَنِ السَّامِعِ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ أَيْ: خَفَّفَ، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ. (فَإِنَّ الْجَوَازَ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ (هُوَ خَيْرٌ) : قَالَ شَارِحٌ: التَّجَوُّزُ فِي الْقَوْلِ وَالْجَوَازُ فِيهِ الِاقْتِصَارُ؛ لِأَنَّهُ إِسْرَاعٌ وَانْتِقَالٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى السُّكُوتِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِيهِ وَفِيهِمَا مَقَالٌ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «لَقَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْجَوَازَ فِي الْقَوْلِ هُوَ خَيْرٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.

4804 - وَعَنْ صَخْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا، وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4804 - (وَعَنْ صَخْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ) : تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَعَنْهُ حَجَّاجُ بْنُ حَسَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ. (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَهُوَ قَاضِي مَرْوَ تَابِعِيٌّ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَثِقَاتِهِمْ، سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَهْلٌ وَغَيْرُهُ، مَاتَ بِمَرْوَ، وَلَهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ، أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْهَا، وَبَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ غَازِيًا، فَمَاتَ بِمَرْوَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. وَالْحُصَيْبُ تَصْغِيرُ الْحَصَبِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ) أَيْ: بُرَيْدَةُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» ) : مَرَّ بَيَانُهُ ( «وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا» ) أَيْ: لِكَوْنِهِ عِلْمًا مَذْمُومًا وَالْجَهْلُ بِهِ خَيْرٌ مِنْهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ عِلْمًا بِمَا لَا يَعْنِيهِ فَيَصِيرُ جَهْلًا بِمَا يَعْنِيهِ. فِي النِّهَايَةِ، قِيلَ: هُوَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَالنُّجُومِ

وَعِلْمِ الْأَوَائِلِ، وَيَدَعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ يَمْنَعُهُ عَنْ تَعَلُّمٍ فِي مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ جَهْلًا لَهُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَقِيلَ: هُوَ أَنْ لَا يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ فَيَكُونَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ جَهْلًا، وَمُصَدِّقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] ، قَلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] ، فَفِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ قَالَ قَتَادَةُ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ بِهِ اللَّهُ فَهُوَ جَهَالَةٌ عَمْدًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ. ( «وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا» ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: حِكْمَةً كَمَا سَبَقَ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] ، أَيِ: الْحِكْمَةَ (وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ) أَيِ: الْكَلَامِ (عِيَالًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ أَبِي دَاوُدَ: عَيْلًا بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: ثِقَلًا وَوَبَالًا عَلَيْكَ، أَوْ ثِقَلًا عَلَى سَامِعِكَ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ أَوْ جَاهِلٌ لَا يَفْهَمُهُ، فَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ عَرْضُكَ حَدِيثَكَ وَكَلَامَكَ عَلَى مَنْ لَا يُرِيدُهُ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ. قَالَ: وَأَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: تَحَوَّلَ مِنْ هُنَاكَ اهـ. وَوَهِمَ أَبُو حَاتِمٍ فِيهِ، بَلِ الْبُخَارِيُّ احْتَجَّ بِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4805 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَضَعُ لِحَسَّانَ مِنْبَرًا فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ عَلَيْهِ قَائِمًا، يُفَاخِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ يُنَافِحُ. وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ حَسَّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا نَافَحَ أَوْ فَاخَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4805 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ لِحَسَّانَ مِنْبَرًا فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ عَلَيْهِ قَائِمًا» ) أَيْ: قِيَامًا فَفِي الْمُفَصَّلِ قَدْ يَرِدُ الْمَصْدَرُ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ نَحْوَ: قُمْتُ قَائِمًا (يُفَاخِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِأَجْلِهِ وَعَنْ قِبَلِهِ (أَوْ يُنَافِحُ) : بِنُونٍ ثُمَّ فَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ: - يُدَافِعُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُخَاصِمُ الْمُشْرِكِينَ وَيَهْجُوهُمْ مُجَازَاةً لَهُمْ، وَ " أَوْ " تَحْتَمِلُ الشَّكَّ وَالتَّنْوِيعَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي الشَّمَائِلِ، أَوْ قَالَ أَيِ: الرَّاوِي وَفِي نُسْخَةٍ أَوْ قَالَتْ: (وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ حَسَّانَ) : وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ حَسَّانًا (بِرُوحِ الْقُدُسِ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَيُسَكَّنُ الْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ «إِنَّ جِبْرِيلَ مَعَ حَسَّانَ مَا نَافَحَ عَنِّي» ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْقُدُسِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُدُسُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْإِضَافَةُ فِيهِ لِلتَّشْرِيفِ كَبَيْتِ اللَّهِ، وَتَسْمِيَتُهُ بِالرُّوحِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ بِمَا فِيهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالطَّهَارَةُ السَّرْمَدِيَّةُ. (مَا نَافَحَ أَوْ فَاخَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَفِي الشَّمَائِلِ: مَا يُنَافِحُ أَوْ يُفَاخِرُ أَيْ: مَا دَامَ مُشْتَغِلًا بِتَأْيِيدِ دِينِ اللَّهِ وَتَقْوِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4806 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ لِلنَّبِيِّ حَادٍ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ لَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ» " قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي ضَعْفَةَ النِّسَاءِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4806 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَادٍ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَدَا الْإِبِلَ وَبِهَا حَدْوًا وَحُدَاءً وَحِدَاءً: زَجَرَهَا وَسَاقَهَا. ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ. وَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: حَدَاهَا إِذَا عَنَى بِهَا. قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَأَصْلُ الْحِدَاءِ فِي دِي دِي، وَقَالَ فِيهِ مَا كَانَ لِلنَّاسِ حِدَاءٌ، فَضَرَبَ أَعْرَابِيٌّ غُلَامَهُ وَعَضَّ أَصَابِعَهُ فَمَشَى وَهُوَ يَقُولُ: دِي دِي دِي أَرَادَ بِأَيْدِي، فَسَارَتِ الْإِبِلُ عَلَى صَوْتِهِ فَقَالَ لَهُ: الْزَمْهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَهَذَا أَصْلُ الْحِدَاءِ اهـ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ فِي سُرْعَةِ مَشْيِ الْإِبِلِ وَتَأْثِيرِ الْغِنَاءِ فِيهِنَّ، وَمِمَّا حُكِيَ فِيهِ أَنَّ شَخْصًا صَارَ ضَيْفًا لِأَعْرَابِيٍّ، فَرَأَى عَبْدًا أَسْوَدَ مُسَلْسَلًا مُقَيَّدًا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَعِيرٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ لَهُ: اشْفَعْ لِي عِنْدَ سَيِّدِي، فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَفَاعَةَ الضَّيْفِ فَتَكَلَّمَ فِي حَقِّهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا عَمِلَ ذَنَبًا كَبِيرًا، فَإِنَّهُ كَانَ لِي عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ فَحَدَا بِهِنَّ لَيْلَةً حَتَّى.

سِرْنَ فِيهَا مَسَافَةً لَيَالِيَ، فَلَمَّا وَصَلْنَ إِلَى الْمَنْزِلِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا هَذَا الْإِبِلُ، لَكِنْ قَبِلْتُ شَفَاعَتَكَ فَقَالَ: إِذًا تَأْمُرُهُ أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ حُدَيَّاتِهِ وَهُنَيَّاتِهِ، فَأَمَرَ بِهِ، فَلَمَّا أَبْدَى بَعْضَ الْكَلِمَاتِ قَامَتِ الْإِبِلُ وَنَفَرَتْ وَحْشِيَّةً إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَقَامَ الرَّجُلُ مَجْنُونًا أَوْ مَجْذُوبًا لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ فِي الْبَيْدَاءِ. (يُقَالُ لَهُ) أَيْ: لِلْحَادِي (أَنْجَشَةُ) : بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَسُكُونِ نُونٍ وَجِيمٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ غُلَامٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَشِيٌّ يُكَنَّى أَبَا مَارِيَةَ (وَكَانَ) أَيْ: أَنْجَشَةُ (حَسَنَ الصَّوْتِ) أَيْ: وَكَانَ يَحْدُو إِبِلَ بَعْضِ النِّسَاءِ (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُوَيْدَكَ) أَيْ: أَمْهِلْ إِمْهَالَكَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17] ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلِهِ الْمُقَدَّرِ، وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وَقِيلَ اسْمُ فِعْلٍ وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ. ( «يَا أَنْجَشَةُ لَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ» ) : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَالْقَوَارِيرُ جَمْعُ قَارُورَةٍ سُمِّيَتْ بِهَا لِاسْتِقْرَارِ الشَّرَابِ فِيهَا، وَهِيَ الزُّجَاجَةُ كُنِّيَ بِهَا عَنِ النِّسَاءِ لِمَا فِيهِنَّ مِنَ الرِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ وَضَعْفِ الْبِنْيَةِ، أَمْرَهُ أَنْ يَغُضَّ مِنْ صَوْتِهِ الْحَسَنِ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ مِنْ قُلُوبِهِنَّ مَوْقِعًا لِضَعْفِ عَزَائِمِهِنَّ وَسُرْعَةِ ثَائِرِهِنَّ كَسُرْعَةِ الْكَسْرِ إِلَى الْقَوَارِيرِ. وَفِي النِّهَايَةِ: شُبِّهْنَ بِالْقَوَارِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَسْرُعُ إِلَيْهَا الْكَسْرُ، وَكَانَ أَنْجَشَةُ يَحْدُو وَيُنْشِدُ الْقَرِيضَ وَالرَّجْزَ، فَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُصِيبَهُنَّ أَوْ يَقَعَ فِي قُلُوبِهِنَّ حِدَاؤُهُ، فَأَمَرَهُ بِالْكَفِّ عَنْ ذَلِكَ. وَفِي الْمَثَلِ: الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ الْإِبِلَ إِذَا سَمِعَتِ الْحِدَاءَ أَسْرَعَتْ فِي الْمَشْيِ وَاشْتَدَّتْ، فَأَزْعَجَتِ الرَّاكِبَ وَأَتْعَبَتْهُ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَضْعُفْنَ عَنْ شِدَّةِ الْحَرَكَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْمَعْنَى أَظْهَرُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ نَاشِئٌ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَذَاكَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ. (قَالَ قَتَادَةُ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ يَرْوِي عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ. (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِالْقَوَارِيرِ ضَعْفَةَ النِّسَاءِ) : وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4807 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشِّعْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ كَلَامٌ، فَحَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4807 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: ذُكِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشِّعْرُ) : فَكَأَنَّهُ ذَمَّهُ بَعْضٌ وَمَدَحَهُ بَعْضٌ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَوْ ذُكِرَ بِالذَّمِّ فَقَطْ، وَفِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ كَلَامٌ) أَيْ: كَسَائِرِ الْكَلَامِ أَوْ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ مَوْزُونٌ (فَحَسَنَهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ) : وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَا إِنَّمَا يَدُورَانِ مَعَ الْمَعْنَى، وَلَا عِبْرَةَ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْزُونًا أَوْ غَيْرَهُ عَرَبِيًّا أَوْ غَيْرَهُ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) : وَكَذَا أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ، فَحَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

4808 - وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4808 - (وَرَوَى) : فِي نُسْخَةٍ وَرَوَاهُ (الشَّافِعِيُّ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا) : وَهُوَ لَا يَضُرُّ لِكَوْنِ الْمُرْسَلِ حُجَّةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِذَا اعْتَضَدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ أُسْنِدَ.

4809 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَرْجِ. إِذَا عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا الشَّيْطَانَ، أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ، لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4809 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ) أَيْ: مَعْشَرُ الصَّحَابَةِ (نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَرْجِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. فِي الْقَامُوسِ: الْعَرَجُ بِالْفَتْحِ بَلَدٌ بِالْيَمَنِ وَوَادٍ بِالْحِجَازِ ذُو نَخِيلٍ وَمَوْضِعٌ.

بِبِلَادٍ هُذَيْلٍ وَمَنْزِلٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِالْجِيمِ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ مِنْ عَمَلِ الْفُرْعِ عَلَى نَحْوِ ثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ (إِذْ عَرَضَ) أَيْ: ظَهَرَ (شَاعِرٌ يُنْشِدُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يَقْرَأُ شِعْرَهُ أَوْ شِعْرَ غَيْرِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا الشَّيْطَانَ، أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَيِ: امْنَعُوهُ مِنْ إِنْشَادِهِ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَآهُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ مُتَعَرِّضًا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِمْ وَمَيَّالٍ بِهِمْ مُسْتَهْتِرًا بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ عَرَفَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ هُوَ قَرْضُ الشِّعْرِ، وَأَنَّهُ مَسْلُوبُ الْحَيَاءِ مَعْزُولٌ عَنِ الْأَدَبِ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الشَّيْطَانِ وَأَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ( «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ) : وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4810 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4810 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْغِنَاءُ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ مَمْدُودًا أَيِ: التَّغَنِّي (يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ) : يَعْنِي الْغِنَاءُ سَبَبُ النِّفَاقِ وَمُؤَدٍّ إِلَيْهِ، فَأَصْلُهُ وَشُعْبَتُهُ كَمَا قَالَ: " «الْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ» ". وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قِيلَ: الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانَ يُدِيمُ الْغِنَاءَ وَيَغْشَاهُ الْمُغَنُّونَ مُعْلَنًا، فَهَذَا سَفَهٌ يَرُدُّ شَهَادَتَهُ وَإِنْ كَانَ يُقِلُّ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: غِنَاءُ الْإِنْسَانِ بِمُجَرَّدِ صَوْتِهِ مَكْرُوهٌ وَسَمَاعُهُ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ كَانَ أَشَدَّ كَرَاهَةٍ، وَالْغِنَاءُ بِآلَاتٍ مُطْرِبَةٍ هُوَ مِنْ شِعَارِ شَارِبِي الْخَمْرِ كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ وَالصَّنْجِ وَالْمَعَازِفِ وَسَائِرِ الْأَوْتَارِ حَرَامٌ، وَكَذَا سَمَاعُهُ حَرَامٌ، وَفِي الْيَرَاعِ الْوَجْهَانِ صَحَّحَ الْبَغَوِيُّ الْحُرْمَةَ وَالْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ، وَهُوَ أَقْرَبُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْيَرَاعِ كُلَّ قَصَبٍ، بَلِ الْمِزْمَارُ الْعِرَاقِيُّ وَمَا يُضْرَبُ بِهِ مِنَ الْأَوْتَارِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ قَالَ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ حُرْمَةُ الْيَرَاعِ، وَهِيَ هَذِهِ الْمِزْمَارَةُ الَّتِي تُسَمَّى الشَّبَّابَةَ، وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّوْلَقِيُّ كِتَابًا فِي تَحْرِيمِ الْيَرَاعِ مُشْتَمِلًا عَلَى نَفَائِسِ وَأَطْنَبَ فِي دَلَائِلِ تَحْرِيمِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لَكِنَّ لَفْظَهُ: الْبَقْلُ بَدَلَ الزَّرْعِ.

4811 - «وَعَنْ نَافِعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي طَرِيقٍ، فَسَمِعَ مِزْمَارًا، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَنَاءَ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ لِي بَعْدَ أَنْ بَعُدَ: يَا نَافِعُ! هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَا، فَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَسَمِعَ صَوْتَ يَرَاعٍ، فَصَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ. قَالَ نَافِعٌ: فَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4811 - (وَعَنْ نَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي طَرِيقٍ، فَسَمِعَ مِزْمَارًا، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنِهِ وَنَاءَ) : بِهَمْزٍ بَعْدَ الْأَلِفِ أَيْ: بَعُدَ (عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ) أَيْ: مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ (ثُمَّ قَالَ لِي: بَعْدَ أَنْ بَعُدَ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ أَيْ: صَارَ بَعِيدًا بَعْضَ الْبُعْدِ عَنْ مَكَانِ صَاحِبِ الْمِزْمَارِ (يَا نَافِعُ! هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا؟) أَيْ: مِنْ صَوْتِ الْمِزْمَارِ (قُلْتُ: لَا، فَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ وَتَعْلِيلٌ بِالدَّلِيلِ (كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعَ صَوْتَ يَرَاعٍ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: قَصَبٍ (فَصَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ) أَيْ: مِنْ وَضْعِ الْأُصْبُعَيْنِ فِي الْأُذُنَيْنِ فَقَطْ، أَوْ جَمِيعَ مَا سَبَقَ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الطَّرِيقِ وَمُرَاجَعَةِ السُّؤَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ نَافِعٌ: وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا) : وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ أَيْضًا كَانَ صَغِيرًا فَيَتِمُّ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ إِنَّهُ أَيْضًا كَانَ وَاضِعًا أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، فَلِمَا سَأَلَهُ رَفَعَ أُصْبُعَيْهِ فَأَجَابَ وَلَيْسَ حِينَئِذٍ مَحْذُورٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدِ السَّمَاعَ، وَمِثْلُهُ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَفْعَلَ أَيْضًا بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ نَفْسَ الْوَضْعِ مِنْ بَابِ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى وَمُرَاعَاةِ الْأَوْلَى، وَإِلَّا فَلَا يُكَلَّفُ الْمَرْءُ إِلَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَقْصُدِ السَّمَاعَ لَا بِأَنَّهُ يُفْقِدُ السَّمَاعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ يَعْنِي: لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ سَمَاعُ الْيَرَاعِ مُبَاحٌ، وَالْمَنْعُ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ لِلتَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَنَعَ أَيْضًا نَافِعًا عَنِ الِاسْتِمَاعِ، وَالْجَوَابُ: إِنَّ نَافِعًا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ التَّكْلِيفِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا وَلَوْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى هَذِهِ الْفَائِدَةِ لَكَانَ وَصْفُهُ لِنَفْسِهِ بِالصِّغَرِ ضِحْكَةً لِلسَّاخِرِينَ كَمَا فِي قَوْلِكَ: الْمَيِّتُ الْيَهُودِيُّ لَا يُبْصِرُ هَذَا، وَذِكْرُ الْحَدِيثِ بُعَيْدَ السَّابِقِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ اسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ وَالْمِزْمَارِ وَالْيَرَاعِ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، أَيْ: فِي الْجُمْلَةِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَزَامِيرِ وَالْمَلَاهِي وَالْمَعَازِفِ، وَكَانَ الَّذِي سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ صَفَّارَةَ الرُّعَاةِ، وَقَدْ جَاءَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى سَدِّ الْمَسَامِعِ دُونَ الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّدِّ وَالزَّجْرِ، وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُهُمْ فِي صَفَّارَةِ الرُّعَاةِ اهـ. وَلَعَلَّهُ كَانَ صَاحِبُ الْيَرَاعِ يَهُودِيًّا، مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ بَعِيدًا عَنِ الْمُوَاجَهَةِ، هَذَا وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: أَمَّا اسْتِمَاعُ صَوْتِ الْمَلَاهِي كَالضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي مَعْصِيَةٌ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ، وَالتَّلَذُّذُ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ» " إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ وَإِنْ سَمِعَ بَغْتَةً فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ كُلَّ الْجَهْدِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنَيْهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَشْعَارِ الْعَرَبِ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْفِسْقِ وَالْخَمْرِ وَالْغُلَامِ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرُ الْفَوَاحِشِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

[باب حفظ اللسان والغيبة والشتم]

[بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4812 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (10) بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ حِفْظُ اللِّسَانِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ حَفِظُهُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، فَعَطْفُ الْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ عَلَى الْحِفْظِ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، وَالْغِيبَةُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ فِي الْغَيْبَةِ بِالْفَتْحِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهِ، وَإِلَّا فَهُوَ بُهْتَانٌ، وَالشَّتْمُ السَّبُّ وَاللَّعْنُ وَهُوَ يَشْمَلُ الْحَاضِرَ وَالْغَائِبَ وَالْحَيَّ وَالْمَيِّتَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4812 - (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ: السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَضْمَنْ) : بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ شُرْطِيَّةٌ (لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ) : بِفَتْحِ اللَّامِ مَنْبَتُ الْأَسْنَانِ، أَيْ: مَنْ يَكْفُلُ لِي مُحَافَظَةَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ اللِّسَانِ وَالْفَمِ عَنْ تَقْبِيحِ الْكَلَامِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ (وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ) أَيْ: مِنَ الْفَرْجِ عَنِ الزِّنَا وَنَحْوِهِ (أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولَهَا أَوْ دَرَجَاتَهَا الْعَالِيَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَنْ بَعْضِهِمْ مَنْ يَضْمَنْ لِي لِسَانَهُ أَيْ: شَرَّ لِسَانِهِ وَبَوَادِرَهُ وَحَفِظَهُ عَنِ التَّكَلُّمِ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَيَضُرُّهُ مِمَّا يُوجِبُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ، وَفَرَجَهُ بِأَنْ يَصُونَهُ أَضْمَن لَهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَلَحْيَيْهِ بِفَتْحِ اللَّامِ تَثْنِيَةُ لَحْيٍ، هُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ يَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الْأَسْنَانُ عُلُوًّا وَسُفْلًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي مُوسَى بِلَفْظِ: " «مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ فُقْمَيْهِ وَرِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ، وَالْفُقْمُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ اللَّحْيُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي الْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: " «مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَنَسٍ: «مَنْ وُقِيَ شَرَّ لَقْلَقِهِ وَقَبْقَبِهِ وَذَبْذَبِهِ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» "، وَاللَّقْلَقُ اللِّسَانُ وَالْقَبْقَبُ الْبَطْنُ وَالذَّبْذَبُ الذَّكَرُ، كَذَا فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ لِلسُّيُوطِيِّ.

4813 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " «يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4813 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَيُضَمُّ، وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ حَالٌ مِنَ الْكَلِمَةِ أَيْ مِنْ كَلَامٍ فِيهِ رِضَاهُ (لَا يُلْقِي) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ لَا يُرِي (لَهَا) أَيْ: لِتِلْكَ الْكَلِمَةِ (بَالًا) أَيْ شَأْنًا أَوْ بَأْسًا (يَرْفَعُ اللَّهُ) أَيْ: لَهُ (بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ (دَرَجَاتٍ) وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا وَيَظُنُّهَا هَيِّنَةً قَلِيلَةَ الِاعْتِبَارِ، وَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمَةُ الِاقْتِدَارِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِلْمُوجَبِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: مَاذَا يَسْتَحِقُّ بَعْدُ؟ قِيلَ لَهُ: يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ

بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَجِدُ لَهَا عَظَمَةً عِنْدَهُ وَلَا يَلْتَفِتُ عَاقِبَتَهَا عَنْ رَبِّهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَتَكَلَّمُ، وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَا يَسْتَمِعُ إِلَيْهَا وَلَا يَجْعَلُ قَلْبَهُ نَحْوَهَا اهـ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ، وَفِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: أَنَّهُ بِفَتْحِهِمَا وَرَفْعِ الْبَالِ، فَالْبَالُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الْمَصَابِيحِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ شَارِحُهُ زَيْنُ الْعَرَبِ: أَيْ لَا يَلْحَقُهُ بَأْسٌ وَتَعَبٌ فِي قَوْلِهَا أَوَّلًا، وَلَا يَحْضُرُ بَالُهُ أَيْ: قَلْبُهُ لِمَا يَقُولُهُ مِنْهَا، أَوْ هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَالِي أَوْ مِمَّا أُبَالِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ يَظُنُّهَا قَلِيلَةً وَهَى عِنْدَ اللَّهِ جَلِيلَةٌ، فَيَحْصُلُ لَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَقَدْ يَتَكَلَّمُ بِسُوءٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، فَيَحْصُلُ لَهُ السَّخَطُ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَإِنَّ الْعَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ) أَيْ: مِمَّا يُوجِبُ غَضَبَهُ (لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي) : بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: يَخُوضُ وَيَقَعُ وَيَسْقُطُ (بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ (فِي جَهَنَّمَ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) أَيِ: الشَّيْخَيْنِ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) . أَيْ هَوِيًّا أَبْعَدَ مِنَ الْبُعْدِ الَّذِي بَيْنَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَوِيًّا بَلِيغًا بَعِيدَ الْمُبْتَدَأِ وَالْمُنْتَهَى. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِنَّ الْعَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْهُ.

4814 - وَعَنْ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4814 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: شَتْمُهُ وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ (فُسُوقٌ) ؛ لِأَنَّ شَتْمَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ حَرَامٌ. قَالَ الْأَكْمَلُ: الْفُسُوقُ لُغَةً الْخُرُوجُ زِنَةً وَمَعْنًى، وَشَرْعًا هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ (وَقِتَالُهُ) أَيْ: مُحَارَبَتُهُ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ (كُفْرٌ) . كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، لَكِنْ بُعْدُهُ لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَعْلُومِ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ، بَلِ الْمَعْنَى: مُجَادَلَتُهُ وَمُحَارَبَتُهُ بِالْبَاطِلِ كُفْرٌ بِمَعْنَى: كُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا يَئُولُ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ أَنَّهُ فِعْلُ الْكَفَرَةِ، أَوْ أَرَادَ بِهِ التَّغْلِيظَ وَالتَّهْدِيدَ وَالتَّشْدِيدَ فِي الْوَعِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» " نَعَمْ قِتَالُهُ مَعَ اسْتِحْلَالِ قَتْلِهِ كُفْرٌ صَرِيحٌ، فَفِي النِّهَايَةِ السَّبُّ الشَّتْمُ، يُقَالُ: سَبَّهُ يَسُبُّهُ سَبًّا وَسِبَابًا. قِيلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ سَبَّ أَوْ قَاتَلَ مُسْلِمًا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ، لَا أَنَّهُ يُخْرِجُهُ إِلَى الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ إِذَا اسْتَبَاحَ دَمَهُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَمْ يَرَ الْإِسْلَامَ عَاصِمًا لَهُ فَهُوَ رِدَّةٌ وَكُفْرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» " وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْلِمِ هُنَا الْكَامِلُ فِي الْإِيمَانِ الْمُؤَدِّي حُقُوقَهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ، فَالنِّسْبَةُ إِلَى الْكُفْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى نُقْصَانِ إِيمَانِهِ تَغْلِيظًا اهـ. وَهُوَ مِنْهُ وَهَمٌ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الْإِضَافَةَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ؛ لِأَنَّ سَبَّ الْمُسْلِمِ وَقِتَالَهُ فِسْقٌ وَكُفْرَانٌ سَوَاءٌ يَكُونُ كَامِلَ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا. هَذَا وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الطَّاعَةَ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَلَا يَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ بِقَوْلِهِ: قِتَالُهُ كُفْرٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ فِعْلَهُ يَنْقُصُ الْإِيمَانَ. قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّوَابَ، هُوَ أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ، بَلْ مِنْ كَمَالِهِ، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، نَعَمْ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ قُوَّةٌ بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ وَضَعْفِ فَقْدِهِ، وَقَدْ يُثْمِرُ ثَمَرَتَهُ مِنْ ظُهُورِ الطَّاعَاتِ، وَقَدْ لَا يُثْمِرُ فَيَقَعُ صَاحِبُهُ فِي السَّيِّئَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ عَنْ جَابِرٍ، وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ.

4815 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4815 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ: كَافِرُ) بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ، فَإِنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ حَرْفُ نِدَائِهِ كَمَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ بِالنِّدَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَنْوِينِهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَنْتَ أَوْ هُوَ (فَقَدْ بَاءَ بِهَا) أَيْ: رَجَعَ بِإِثْمِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ (أَحَدُهُمَا) : وَفِي النِّهَايَةِ الْتَزَمَهَا وَرَجَعَ بِهَا اهـ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِهِ أَيْ: بِالْكُفْرِ، وَهُوَ أَوْلَى ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَفِيهِ بَحْثٌ، بَلِ الْأَوْلَى أَنَّ مَعْنَاهُ رَجَعَ بِإِثْمِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا، أَمَّا الْقَائِلُ إِنِ اعْتَقَدَ كُفْرَ الْمُسْلِمِ بِذَنْبٍ صَدَرَ مِنْهُ، أَوِ الْآخَرُ إِنْ صَدَّقَ الْقَائِلَ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِصَاحِبِهِ: يَا كَافِرُ مَثَلًا فَإِنْ صَدَقَ رَجَعَ إِلَيْهِ كَلِمَةُ الْكُفْرِ الصَّادِرُ مِنْهُ مُقْتَضَاهَا، وَإِنْ كَذَبَ وَاعْتَقَدَ بُطْلَانَ دِينِ الْإِسْلَامِ رَجَعَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا عَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُشْكَلَاتِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ الْمُسْلِمُ بِالْمَعَاصِي كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَقَوْلِهِ لِأَخِيهِ: كَافِرُ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ بُطْلَانِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى بَاءِ بِهَا أَيْ: بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْ: رَجَعَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ رَجَعَتْ عَلَيْهِ نَقِيضَتُهُ وَمَعْصِيَةُ تَكْفِيرِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْخَوَارِجَ كَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا تُكَفَّرُ. قُلْتُ: وَهَذَا فِي غَيْرِ حَقِّ الرَّافِضَةِ الْخَارِجَةِ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ كُفْرَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، فَضْلًا عَنْ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَهُمْ كَفَرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ بِلَا نِزَاعٍ. قَالَ: وَخَامِسُهَا: فَقَدْ رَجَعَ إِلَيْهِ تَكْفِيرُهُ وَلَيْسَ الرَّاجِعُ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ، بَلْ كُفْرَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ، قَالَ: لِأَنَّ كُفْرَ مَنْ لَا يُكَفِّرُهُ إِلَّا كَافِرٌ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي أَكْثَرِ الْوُجُوهِ أَحَدُهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى الْقَائِلِ: (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو.

4816 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ، وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4816 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ، وَلَا يَرْمِيهِ) أَيْ: رَجُلٌ رَجُلًا (بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ) أَيْ: رَجَعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ نِسْبَةِ الْفِسْقِ أَوِ الْكُفْرِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْقَائِلِ أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: (إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ) أَيِ: الْمَقُولُ لَهُ (كَذَلِكَ) أَيْ: مِثْلَ مَا قِيلَ لَهُ مِنَ الْفُسُوقِ أَوِ الْكُفْرِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

4817 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4817 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ) أَيْ: بِأَنْ قَالَ لَهُ يَا كَافِرُ (أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَدُوُّ اللَّهِ أَيْ: هُوَ أَوْ أَنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ (وَلَيْسَ كَذَلِكَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ مَا مِنْ كَوْنِهِ كَافِرًا أَوْ عَدُوًّا لِلَّهِ، بَلْ هُوَ مُسْلِمٌ مُحِبٌّ لِلَّهِ (إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ) : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ أَيْ: رَجَعَ عَلَيْهِ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ دَالٌّ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، أَيْ: مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ بَاطِلًا، فَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةً، وَفِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ: مَا يَفْعَلُ أَحَدٌ هَذِهِ الْفِعْلَةَ فِي حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4818 - 4819 - وَعَنْ أَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4818 - 4819 - (وَعَنْ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْمُسْتَبَّانِ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ تَثْنِيَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ أَيِ: الْمُتَشَاتِمَانِ، وَهُمَا اللَّذَانِ سَبَّ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ، لَكِنَّ الْآخَرَ أَرَادَ رَدَّ

الْآخَرَ، أَوْ قَالَ شَيْئًا مِنْ مَعَايِبِهِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ (مَا قَالَا) أَيْ إِثْمُ قَوْلِهِمَا (فَعَلَى الْبَادِئِ) أَيْ: عَلَى الْمُبْتَدِئِ فَقَطْ وَالْفَاءُ إِمَّا لِكَوْنِ مَا شَرْطِيَّةً، أَوْ لِأَنَّهَا مَوْصُولَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِلشَّرْطِ ثُمَّ " الْبَادِئِ " بِالْهَمْزِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِثْمُ كُلُّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِتِلْكَ الْمُخَاصَمَةِ، وَقِيلَ: إِثْمُ مَا قَالَا لِلْبَادِئِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمَظْلُومِ. (مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ) . فَإِنْ جَاوَزَ الْحَدَّ بِأَنْ أَكْثَرَ الْمَظْلُومُ شَتْمَ الْبَادِئِ وَإِيذَاءَهُ صَارَ إِثْمُ الْمَظْلُومِ أَكْثَرَ مِنْ إِثْمِ الْبَادِئِ، وَقِيلَ: إِذَا تَجَاوَزَ فَلَا يَكُونُ الْإِثْمُ عَلَى الْبَادِئِ فَقَطْ، بَلْ يَكُونُ الْآخَرُ آثِمًا أَيْضًا بِاعْتِدَائِهِ، وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إِلَى خِلَافِ الِاعْتِدَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مَا " شَرْطِيَّةً، وَقَوْلُهُ: " فَعَلَى الْبَادِئِ " جَزَاؤُهُ، أَوْ مَوْصُولَةً " فَعَلَى الْبَادِئِ " خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ مُسَبَّبَةٌ، وَمَعْنَاهُ إِثْمُ مَا قَالَاهُ عَلَى الْبَادِئِ إِذَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ، فَإِذَا تَعَدَّى يَكُونُ عَلَيْهِمَا، نَعَمْ إِلَّا إِذَا تَجَاوَزَ غَايَةَ الْحَدِّ فَيَكُونُ إِثْمُ الْقَوْلَيْنِ عَلَيْهِ اهـ، وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: «مِنْ أَرْبَى الرِّبَا؟ مَنْ يَسُبُّ سَبَّتَيْنِ بِسَبَّةٍ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا حَتَّى يَعْتَدِيَ الْمَظْلُومُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: " «الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ وَيَتَكَاذَبَانِ» ) وَالتَّهَاتُرُ التَّعَالُجُ فِي الْقَوْلِ.

4820 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4820 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَنْبَغِي) أَيْ: لَا يَجُوزُ (لِصِدِّيقٍ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: مُبَالِغٍ فِي الصِّدْقِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] ، وَلِرِوَايَةِ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ (أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا) أَيْ: كَثِيرَ اللَّعْنِ وَهُوَ الطَّرْدُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّعَاءُ بِالْبُعْدِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالِي، وَإِنَّمَا أَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ قَلِيلِهِ نَادِرُ الْوُقُوعِ فِي الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّ هَذَا الذَّمَّ لَا يَكُونُ لِمَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ اللَّعْنُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَالِيَةُ صِفَةِ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] ، إِنَّمَا بُعِثُوا رَحْمَةً لِلْخَلْقِ وَمُقَرِّبِينَ لِلْبَعِيدِ وَالطَّرِيدِ إِلَى اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَاللَّاعِنُ طَارِدٌ لَهُمْ وَطَالِبٌ لِبُعْدِهِمْ مِنْهَا، فَاللَّعْنَةُ مُنَافِيَةٌ لَهُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالِفِ الْمُخْتَلِفُ جَوَازُهُ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ يُخَالِفُهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4821 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4821 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ» ) : أَيْ عَلَى النَّاسِ وَهُمُ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ بِأَنَّ رُسُلَهُمْ بَلَّغُوا الرِّسَالَةَ إِلَيْهِمْ، فَيُحْرَمُونَ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الشَّرِيفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْوَسَطِ الْعَدْلُ وَاللَّعْنَةُ سَالِبَةٌ لِلْعَدَالَةِ، وَقَالَ شَارِحٌ: لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ لِصَيْرُورَتِهِمْ فَاسِقِينَ بِاللَّعْنِ عَلَى النَّاسِ. (وَلَا شُفَعَاءَ) أَيْ: وَلَا تَكُونُ لَهُمْ مَرْتَبَةُ الشَّفَاعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ بِاللَّعْنَةِ أَسْقَطُوا مَرْتَبَتَهُمْ تِلْكَ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : ظَرْفٌ لَهُمَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4822 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4822 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ) أَيِ: اسْتَوْجَبُوا النَّارَ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ (فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَيَفْتَحُ، فَفِي النِّهَايَةِ: يُرْوَى بِفَتْحِ الْكَافِ.

وَضَمِّهَا، فَمَنْ فَتَحَهَا كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْغَالِينَ الَّذِينَ يُؤْيِسُونَ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ يَقُولُونَ: هَلَكَ النَّاسُ. فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ ذَلِكَ، فَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ لَهُمْ لَا اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي، وَلَا عِبْرَةَ بِإِيجَابِهِ لَهُمْ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ وَرَحْمَتَهُ تَعُمُّهُمْ، ثُمَّ قَالَ أَوْ هُوَ الَّذِي لَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَآيَسَهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي الْهَلَاكِ، وَأَمَّا الضَّمُّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُمْ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ أَيْ: أَكْثَرُهُمْ هَلَاكًا، وَهُوَ الرَّجُلُ يُولَعُ بِعَيْبِ النَّاسِ، وَيَذْهَبُ بِنَفْسِهِ عَجَبًا، وَيَرَى لَهُ فَضْلًا عَلَيْهِمْ، وَزَادَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِنَّهُ رَوَى مَعْنَى هَذَا عَنْ مَالِكٍ؛ حَيْثُ قَالَ: إِذَا قَالَ ذَلِكَ عَجَبًا بِنَفْسِهِ وَتَصَاغُرًا لِلنَّاسِ فَهُوَ الْمَكْرُوهُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّنًا أَوْ تَحْذِيرًا لِمَا يَرَى فِي النَّاسِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا اهـ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُؤْيِسُونَ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَيُوجِبُونَ الْخُلُودَ بِذُنُوبِهِمْ إِذَا قَالُوا ذَلِكَ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَهُمْ أَهْلَكُهُمْ أَيْ: هُمْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ أَنْجَسُ مِنَ الْمُؤْمِنَ الْفَاسِقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4823 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: - " تَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4823 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَا الْوَجْهَيْنِ» ) أَيْ: بِقَصْدِ الْفَسَادِ (الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ) أَيْ: طَائِفَةً (بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ) أَيْ: بِوَجْهٍ آخَرَ كَالْمُنَافِقِينَ وَالنَّمَّامِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143] ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . هَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: " «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ» " الْحَدِيثَ.

4824 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " نَمَّامٌ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4824 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ: مَعَ الْفَائِزِينَ (قَتَّاتٌ) . بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ أَيْ: نَمَّامٌ، وَالنَّمِيمَةُ نَقْلُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ مِنْ أَنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِصْلَاحِ فَلَوْ كَانَ لَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُصْلِحًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَتَّاتُ هُوَ النَّمَّامُ، يُقَالُ: قَتَّ الْحَدِيثَ إِذَا زَوَّرَهُ وَهَيَّأَهُ وَسَوَّاهُ، وَقِيلَ: النَّمَّامُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ يَتَحَدَّثُ فِيهِمْ وَعَلَيْهِمْ، وَالْقَتَّاتُ هُوَ الَّذِي يَتَسَمَّعُ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ يَنِمُّ. قَالَ الشِّيخُ أَبُو حَامِدٍ: قِيلَ: النَّمِيمَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَذِبِ وَالْحَسَدِ وَالنِّفَاقِ، وَهِيَ أَثَافِي الذُّلِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبْغَضَ النَّمَّامُ، وَلَا يُوْثَقُ بِهِ وَبِصَدَاقَتِهِ، حُكِيَ أَنَّ حَكِيمًا زَارَهُ أَحَدٌ وَأَخْبَرَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِخَبَرٍ فَقَالَ: أَبْطَلْتَ زِيَارَتِي ثُمَّ أَتَيْتَنِي بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ: بَغَّضْتَ إِلَيَّ أَخِي، وَشَغَلْتَ قَلْبِي الْفَارِغَ، وَاتَّهَمْتَ نَفْسَكَ الْأَمِينَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ) : الْأُولَى، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (نَمَّامٌ) .

4825 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: " «إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4825 - ( «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ» ) أَيِ: الْزَمُوا الصِّدْقَ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْوَاقِعِ (فَإِنَّ الصِّدْقَ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ مُلَازَمَتِهِ وَمُدَاوَمَتِهِ (يَهْدِي) أَيْ: صَاحِبَهُ (إِلَى الْبِرِّ) بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ جَامِعُ الْخَيْرَاتِ مِنِ اكْتِسَابِ الْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابِ السَّيِّئَاتِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ الْخَالِصِ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ مَعَهُ إِلَى الْمَوْتِ (وَإِنَّ الْبَرَّ يَهْدِي) أَيْ: يُوصِلُ صَاحِبَهُ (إِلَى الْجَنَّةِ) أَيْ: مَرَاتِبِهَا الْعَالِيَةِ وَدَرَجَاتِهَا.

الْغَالِيَةِ (وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ) أَيِ: الشَّخْصُ (يَصْدُقُ) أَيْ: فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ (وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ) أَيْ: يُبَالِغُ وَيَجْتَهِدُ فِيهِ (حَتَّى يُكْتَبَ) أَيْ: يُثْبَتَ (عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا) بِكَسْرِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: مُبَالِغًا فِي الصِّدْقِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الصِّدِّيقُ مَا يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الصِّدْقُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّدْقِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِحُسْنِ خَاتِمَتِهِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصِّدِّيقَ يَكُونُ مَأْمُونَ الْعَاقِبَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَإِظْهَارُهُ لِلْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِلْقَاءُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ ( «وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ» ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَفْصَحُ ( «فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ» ) : بِضَمِّ الْفَاءِ أَيِ: الْمَيْلِ عَنِ الصِّدْقِ وَالْحَقِّ وَالِانْبِعَاثِ فِي الْمَعَاصِي، وَهُوَ أَظْهَرُ لِلْمُقَابَلَةِ بِالْبَرِّ. وَفِي الْقَامُوسِ: فَجَرَ: فَسَقَ، وَكَذَبَ وَكَذَّبَ وَعَصَى وَخَالَفَ. ( «وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ، عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَعْنَى " يُكْتَبَ " هُنَا يُحْكَمُ لَهُ لِذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِمَنْزِلَةِ الصِّدِّيقِينَ وَثَوَابِهِمْ أَوْ صِفَةَ الْكَذَّابِ وَعِقَابِهِمْ، وَالْمُرَادُ إِظْهَارُ ذَلِكَ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَإِمَّا بِأَنْ يُكْتَبَ اسْمُهُ بِخَطِّ الْمُصَنِّفِينَ حَتَّى يُوضَعَ لَهُ الْقَبُولُ، أَوِ الْبَغْضَاءُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ» ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

4826 - وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4826 - (وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُغْنِي وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: أُمُّ كُلْثُومٌ - كَزُنْبُورٍ - بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَالْمُرَادُ بِهَا هَنَا بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَتْ مَاشِيَةً وَبَايَعَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا بِمَكَّةَ زَوْجٌ، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقُتِلَ عَنْهَا فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، فَتَزَوَّجَهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ إِبْرَاهِيمَ وَحُمَيْدًا، وَمَاتَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ شَهْرًا وَمَاتَتْ، وَهِيَ أُخْتُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِأُمِّهِ، رَوَى عَنْهَا ابْنُهَا حُمَيْدٌ. (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الْكَذَّابُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَيْسَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُهَا مُقَدَّمٌ عَلَى اسْمِهَا، وَهُوَ أَظْهَرُ دِرَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ الْمَحْكُومُ بِهِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ: (الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ) : ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَعَّالَ هُنَا لِلنِّسْبَةِ كَلَبَّانٍ وَتَمَّارٍ، أَيْ: ذِي كَذِبٍ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} [فصلت: 46] ، أَيْ: بِذِي ظُلْمٍ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ انْتِفَاءُ أَصْلِ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ كَذِبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَكُونُ كَاذِبًا مَذْمُومًا (وَيَقُولُ خَيْرًا) أَيْ: قَوْلًا مُتَضَمِّنًا لِلْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ، بِأَنْ يَقُولَ لِلْإِصْلَاحِ مَثَلًا بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو: يَا عَمْرُو يُسَلِّمُ عَلَيْكَ زَيْدٌ وَيَمْدَحُكَ وَيَقُولُ: أَنَا أُحِبُّهُ وَكَذَلِكَ يَجِيءُ إِلَى زَيْدٍ وَيُبَلِّغُهُ مِنْ عَمْرٍو مِثْلَ مَا سَبَقَ. (وَيَنْمِي خَيْرًا) أَيْ يُبَلِّغُهُ وَيَرْفَعُهُ إِلَيْهِ، هَذَا وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ قَوْلَهُ: اللَّامُ فِي الْكَذَّابِ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَذَّابِ الْمَعْهُودِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَنَحْوِهِ يَعْنِي الْكَذَّابَ الْمَذْمُومَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَمْقُوتَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ مَنْ يُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ، فَإِنَّهُ مَحْمُودٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَهُمْ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَذَّابُ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَيْسَ، وَقَوْلُهُ: " الَّذِي يُصْلِحُ " خَبَرُهُ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَذَّابَ خَبَرُ لَيْسَ وَالَّذِي اسْمُهُ اهـ.

وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْقِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي الْكِتَابِ صُدُورُهُ مِنْ صَدْرٍ صَدَّرَ الْأَنْبِيَاءُ أَوَّلًا فِي هَذَا الْبَابِ، أَوْ وُقُوعُهُ عِنْدَ هَذَا الْخِطَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، ثُمَّ فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: نَمَيْتُ الْحَدِيثَ وَأَنْمَيْتُهُ إِذَا بَلَّغْتَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ وَطَلَبِ الْخَيْرِ، فَإِذَا بَلَّغْتَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ وَالنَّمِيمَةِ. قُلْتَ: نَمَّيْتُهُ بِالتَّشْدِيدِ هَكَذَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، قُلْتُ فَقَوْلُهُ: خَيْرًا أَيْ: حَدِيثَ خَيْرٍ لِلتَّأْكِيدِ وَعَلَى إِرَادَةِ التَّجْرِيدِ، وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: نَمَّى مُشَدَّدَةٌ وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُهَا مُخَفَّفَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، وَمَنْ خَفَّفَ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ خَيْرٌ بِالرَّفْعِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَنْتَصِبُ بِنَمَى كَمَا انْتَصَبَ بِقَالَ، وَكِلَاهُمَا عَلَى زَعْمِهِ لَازِمَانِ، وَإِنَّمَا نَمَى مُتَعَدٍّ يُقَالُ: نَمَيْتُ الْحَدِيثَ أَيْ: رَفَعْتُهُ وَأَبْلَغْتُهُ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: نَمَا يَنْمُو زَادَ كَنَمَى يَنْمِي نَمْيًا. وَأَنْمَى وَنَمَّى الْحَدِيثُ: ارْتَفَعَ. وَنَمَيْتُهُ وَنَمَّيْتُهُ: رَفَعْتُهُ وَعَزَوْتُهُ، وَأَنْمَاهُ أَذَاعَهُ عَلَى وَجْهِ النَّمِيمَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَلَفَظُ الْجَامِعِ: " «لَيْسَ الْكَذَّابُ بِالَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا وَيَقُولُ خَيْرًا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ.

4827 - وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4827 - (وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ خَالَفَ كِنْدَةَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ابْنَ الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيفَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَبْدًا فَتَبَنَّاهُ. وَكَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ، رَوَى عَنْهُ عَلِيٌّ وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ بِالْجُرْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ) أَيِ: الْمُبَالِغِينَ فِي الْمَدْحِ مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَيْكُمْ طَمَعًا سَوَاءٌ يَكُونُ نَثْرًا أَوْ نَظْمًا (فَاحْثُوا) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ مُثَلَّثَةٍ أَيِ: ارْمُوا (فِي وُجُوهِهِمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ فِي أَفْوَاهِهِمْ (التُّرَابَ) : قِيلَ: يُؤْخَذُ التُّرَابُ وَيُرْمَى بِهِ فِي وَجْهِ الْمَدَّاحِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِدَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِمْ، إِذِ الْمَالُ حَقِيرٌ كَالتُّرَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْضِ فِي كُلِّ بَابٍ أَيْ: أَعْطُوهُمْ إِيَّاهُ وَاقْطَعُوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ لِئَلَّا يُهْجُوكُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَعْطُوهُمْ عَطَاءً قَلِيلًا فَشَبَّهَهُ لِقِلَّتِهِ بِالتُّرَابِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَخَيِّبَ الْمَادِحَ وَلَا يُعْطِيَهُ شَيْئًا لِمَدْحِهِ، وَالْمُرَادُ زَجْرُ الْمَادِحِ وَالْحَثُّ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الْمَدْحِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الشَّخْصَ مَغْرُورًا وَمُتَكَبِّرًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَدَّاحُونَ هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَدْحَ النَّاسِ عَادَةً، وَجَعَلُوهُ بِضَاعَةً يَسْتَأْكِلُونَ بِهِ الْمَمْدُوحَ، فَأَمَّا مَنْ مَدَحَ الرَّجُلَ عَلَى الْفِعْلِ الْحَسَنِ وَالْأَمْرِ الْمَحْمُودِ، يَكُونُ مِنْهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي أَمْثَالِهِ، وَتَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ فِي أَشْبَاهِهِ فَلَيْسَ بِمَدَّاحٍ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَدِ اسْتَعْمَلَ الْمِقْدَادُ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي تَنَاوُلِ عَيْنِ التُّرَابِ وَحَثْيِهِ فِي وَجْهِ الْمَادِحِ، وَقَدْ يُتَأَوَّلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْخَيْبَةَ وَالْحِرْمَانَ أَيْ: مَنْ تَعَرَّضَ لَكُمْ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ فَلَا تُعْطُوهُ وَاحْرِمُوهُ، كَنَّى بِالتُّرَابِ عَنِ الْحِرْمَانِ كَقَوْلِهِمْ: مَا فِي يَدِهِ غَيْرُ التُّرَابِ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا جَاءَكَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا» "، وَفِي الْجُمْلَةِ الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ عَلَى الرَّجُلِ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَسْلَمُ الْمَادِحُ عَنْ كَذِبٍ يَقُولُهُ فِي مَدْحِهِ، وَقَلَّمَا يَسْلَمُ الْمَمْدُوحُ مِنْ عُجْبٍ يَدْخُلُهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ الْمِقْدَادِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «احْثُوا التُّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ الْمِقْدَادِ " «احْثُوَا فِي أَفْوَاهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ» "، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَا ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.

4828 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ " ثَلَاثًا " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ فُلَانًا، وَاللَّهُ حَسْبُهُ، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4828 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) أَيِ: الثَّقَفِيِّ (قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بَالَغَ فِي مَدْحِهِ (فَقَالَ: وَيْلَكَ) : الْوَيْلُ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ أَيْ: هَلَكْتَ هَلَاكًا وَأَهْلَكْتَ إِهْلَاكًا، وَفِي نُسْخَةٍ. وَيْحَكَ وَهُوَ لِلشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لِلزَّجْرِ فِي الْمَوْعِظَةِ (قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ) : بِضَمِّ عَيْنٍ وَنُونٍ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْعُنْقُ بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ، وَكَأَمِيرٍ وَصُرَدٍ: الْجِيدُ وَيُؤَنَّثُ، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ.

لِئَلَّا يَغْتَرَّ الْمَقُولُ لَهُ فَيَسْتَشْعِرَ الْكِبْرَ وَالْعُجْبَ، وَذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَيْهِ فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ قَطَعَ عُنُقَهُ فَأَهْلَكَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ مِنْ قَطْعِ الْعُنُقِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْهَلَاكِ، لَكِنْ هَذَا الْهَلَاكُ فِي الدِّينِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الدُّنْيَا (ثَلَاثًا) أَيْ: قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ) : اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْمَدْحِ الْمَمْدُوحِ (مَادِحًا) أَيْ: لِأَحَدٍ (لَا مَحَالَةَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: أَلْبَتَّةَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا فَفِي الْقَامُوسِ: لَا مَحَالَةَ مِنْهُ بِالْفَتْحِ أَيْ: لَا بُدَّ وَالْمُحَالُ بِالضَّمِّ مِنَ الْكَلَامِ مَا عُدِلَ عَنْ وَجْهِهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: لَا مَحَالَةَ بِالضَّمِّ بِمَعْنَى لَا بُدَّ أَيْ: لَا فِرَاقَ وَبِالْفَتْحِ بِمَعْنَى لَا احْتِيَالَ (فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ فُلَانًا) بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ: أَظُنُّهُ كَذَا وَكَذَا، يَعْنِي رَجُلًا صَالِحًا مَثَلًا (وَاللَّهُ حَسِيبُهُ) أَيْ: مُحَاسِبُهُ وَمُجَازِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ وَمُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ وَبَقِيَّةُ الْمَقُولِ (إِنْ كَانَ) : شَرْطٌ لِلْإِبَاحَةِ فِي الْقَوْلِ الْمَسْطُورِ أَيْ: فَلْيَقُلْ مَا ذُكِرَ إِنْ كَانَ الْقَائِلُ الْمَادِحُ (يُرَى) : بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: يُظَنُّ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا أَيْ: يَعْلَمُ (أَنَّهُ) أَيِ: الْمَمْدُوحَ (كَذَلِكَ) أَيْ: مِثْلَ مَا مَدَحَهُ (وَلَا يُزَكِّي) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الْمَادِحَ لَا يُزَكِّي (عَلَى اللَّهِ) أَيْ: عَلَى حُكْمٍ مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (أَحَدًا) : وَالْمَعْنَى: لَا يَقْطَعُ بِتَقْوَى أَحَدٍ وَلَا بِتَزْكِيَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ، وَقِيلَ عَدَّاهُ بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ عَلَى تَزْكِيَةِ أَحَدٍ عِنْدَ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: وَاللَّهُ حَسِيبُهُ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: إِنْ كَانَ يُرَى مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ أَحْسَبُ فُلَانًا، وَقَوْلُهُ وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا مُنِعَ عَنِ الْجَزْمِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَلْيَقُلِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ " لَا يُزَكِّي " جَاءَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، فَيَحْتَاجُ عَلَى هَذَا بِأَنْ يُقَالَ إِخْبَارٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ: وَلَا يَكُنْ مِنْكُمُ التَّزْكِيَةُ عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ أَبْعَدَ بَعْضُهُمْ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُزَكِّي عُطِفَ عَلَى يُرَى وَهُوَ الصَّوَابُ، وَأَنْتَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهُ هُوَ الْخَطَأُ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو كَلَامُ الطِّيبِيِّ مِنَ الْإِغْرَابِ أَيْضًا فِي الْإِعْرَابِ؛ حَيْثُ قَالَ: " إِنْ كَانَ يُرَى " الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَقَعَتْ حَالًا مِنْ فَاعِلٍ فَلْيَقُلْ: وَ " عَلَى " فِي " عَلَى اللَّهِ " فِيهِ مَعْنَى الْوُجُوبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4829 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَتُدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ". قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: " إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: " «إِذَا قُلْتَ لِأَخِيكَ مَا فِيهِ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِذَا قُلْتَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4829 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَتُدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ قِيلَ: أَيْ: أَتَعْلَمُونَ مَا جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ؟ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: أَتُدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، يَعْنِي: وَلَوْ عَلِمْنَا بَعْضَ الْعِلْمِ، لَكِنْ يُسْتَفَادُ مِنْكَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَضْلًا عَنِ الْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا (قَالَ: ذِكْرُكَ) أَيْ: أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًّا (أَخَاكَ) أَيِ: الْمُسْلِمَ (بِمَا يَكْرَهُهُ) أَيْ: بِمَا لَوْ سَمِعَهُ لَكَرِهَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ، وَأَكْثَرِهَا انْتِشَارًا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يَسْلَمَ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، وَذِكْرُكَ فِيهِ بِمَا يَكْرَهُهُ عَامٌّ، سَوَاءٌ كَانَ فِي بَدَنِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ خُلُقِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ أَوْ زَوْجِهِ أَوْ خَادِمِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ مَشْيِهِ وَحَرَكَتِهِ وَبَشَاشَتِهِ وَعَبُوسَتِهِ وَطَلَاقَتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ، سَوَاءٌ ذَكَرْتَهُ بِلَفْظِكَ أَوْ كِتَابِكَ، أَوْ رَمَزْتَ أَوْ أَشَرْتَ إِلَيْهِ بِعَيْنِكَ أَوْ يَدِكَ أَوْ رَأْسِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ مَا أَفْهَمْتَ بِهِ غَيْرَكَ نُقْصَانَ مُسْلِمٍ فَهُوَ غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُحَاكَاةُ بِأَنْ يَمْشِيَ مُتَعَارِجًا أَوْ مُطَأْطِئًا، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْهَيْئَاتِ مُرِيدًا حِكَايَةَ هَيْئَةِ مَنْ يَنْقُصُهُ بِذَلِكَ. (قِيلَ) أَيْ: قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ (أَفَرَأَيْتَ) أَيْ: فَأَخْبِرْنِي (إِنْ كَانَ فِي أَخِي) أَيْ: مَوْجُودًا (مَا أَقُولُ؟) أَيْ مِنَ الْمَنْقَصَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ ذِكْرُهُ بِهَا أَيْضًا غِيبَةً كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عُمُومِ ذِكْرِهِ بِمَا يَكْرَهُ. (قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ) أَيْ: مِنَ الْعَيْبِ (فَقَدِ اغْتَبْتَهُ) أَيْ: لَا مَعْنَى لِلْغِيبَةِ إِلَّا هَذَا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَنْقَصَةُ فِيهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ الْمُخَفِّفَةِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ أَيْ: قُلْتَ عَلَيْهِ الْبُهْتَانَ وَهُوَ كَذِبٌ عَظِيمٌ يُبْهَتُ فِيهِ مَنْ يُقَالُ فِي حَقِّهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الثَّلَاثَةُ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُمَا: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: " ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» " وَذَكَرَاهُ بِتَمَامِهِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ مِيرَكُ.

(وَفِي رِوَايَةٍ) : الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهَا رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ رِوَايَةٌ لِلْبَغَوِيِّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ السَّيِّدُ ( «إِذَا قُلْتَ لِأَخِيكَ مَا فِيهِ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِذَا قُلْتَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» ) . قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَإِنَّمَا رَوَاهَا صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ اهـ. وَفِيهِ تَلْوِيحٌ إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ؛ حَيْثُ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي الصِّحَاحِ، وَمَرَّ مِرَارًا الِاعْتِذَارُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ الِالْتِزَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأُصُولِ لَا فِي مُعْتَضِدَاتِ الْفُصُولِ.

4830 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ " فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قُلْتَ لَهُ: كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ، وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَتَى عَاهَدْتِنِي فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4830 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ رَجُلًا) : قِيلَ: هُوَ عُيَيْنَةُ الْفَزَارِيُّ، وَقِيلَ: مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِتَعْدَادِ الْوَاقِعَةِ (اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ (فَقَالَ: " ائْذَنُوا) : بِهَمْزٍ سَاكِنَةٍ وَصْلًا وَيَجُورُ إِبْدَالُهَا يَاءً لَكِنْ إِذَا ابْتُدِئَ بِهِ يُقْرَأُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَالدَّالُ مَفْتُوحَةٌ مُطْلَقًا أَيْ: أَعْطُوا الْإِذْنَ (لَهُ) أَوْ أَعْلِمُوهُ بِالْإِذْنِ (فَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ) أَيْ: بِئْسَ هُوَ مِنْ قَوْمِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَفِي الشَّمَائِلِ: بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ أَخُو الْعَشِيرَةِ عَلَى الشَّكِّ، فَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ سُفْيَانَ، فَإِنَّ جَمِيعَ أَصْحَابِ الْمُنْكَدِرِ رَوَوْهُ عَنْهُ بِدُونِ الشَّكِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَشِيرَةُ الْقَبِيلَةُ أَيْ: بِئْسَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ هَذِهِ الْعَشِيرَةِ، كَمَا يُقَالُ: يَا أَخَا الْعَرَبِ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ حَالَهُ لِيَعْرِفَهُ النَّاسُ وَلَا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِحَالِهِ، وَكَانَ مَنُّهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ مَا دَلَّ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ، وَوَصْفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَمَا وَصَفَ. (فَلَمَّا جَلَسَ) أَيْ: بَعْدَ دُخُولِهِ (تَطَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِهِ) أَيْ: أَظْهَرَ لَهُ طَلَاقَةَ الْوَجْهِ وَبَشَاشَةَ الْبَشَرَةِ (وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ) أَيْ: تَبَسَّمَ لَهُ وَأَلَانَ الْقَوْلَ لَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: جَعَلَهُ قَرِيبًا مِنْ نَفْسِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ تَأَلُّفًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ مُدَارَاةُ مَنْ يُتَّقَى فُحْشُهُ وَجَوَازُ غِيبَةِ الْفَاسِقِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْفَاسِقِ بِمَا فِيهِ لِيُعْرَفَ أَمْرُهُ فَيُتَّقَى لَا يَكُونُ مِنَ الْغِيبَةِ، وَلَعَلَّ الرَّجُلَ كَانَ مُجَاهِرًا بِسُوءِ أَفْعَالِهِ وَلَا غِيبَةَ لِمُجَاهِرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنَ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْغِيبَةُ الْمُجَاهِرُ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يَجْهَرُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِهِ (فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ) أَيْ: ذَهَبَ (قَالَتْ عَائِشَةُ) : لَعَلَّ هَذَا نُقِلَ بِالْمَعْنَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الشَّمَائِلِ عَنْ عُرْوَةَ «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عِنْدَهُ فَقَالَ: " بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ أَخُو الْعَشِيرَةِ» " ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فَأَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! قُلْتَ لَهُ: كَذَا وَكَذَا) وَفِي الشَّمَائِلِ قُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ (ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ) . أَيْ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى عَاهَدْتِنِي) أَيْ: وَجَدْتِنِي وَرَأَيْتِنِي (فَحَّاشًا؟) أَيْ: ذَا فُحْشٍ يَعْنِي: قَائِلًا لِلْفُحْشِ، وَأَصْلُ الْفُحْشِ زِيَادَةُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَى قَوْلِهَا: إِنَّكَ خَالَفْتَ بَيْنَ الْغَيْبِ وَالْحُضُورِ، فَلِمَ لَمْ تُذَمِّمْهُ فِي الْحُضُورِ كَمَا ذَمَّمْتَهُ فِي الْغَيْبِ؟ (إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : اسْتِئْنَافٌ كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: مَتَى عَاهَدْتِنِي فَحَّاشًا (مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: وَدَعَهُ النَّاسُ كَقِرَاءَةِ: " مَا وَدَعَكَ " فِي الشَّوَاذِّ بِالتَّخْفِيفِ، وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ الصَّرْفِيِّينَ: أَمَاتُوا مَاضِي يَدَعُ إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا بِإِمَاتَتِهِ نُدْرَتَهُ، فَهُوَ شَاذٌّ اسْتِعْمَالًا صَحِيحٌ قِيَاسًا، وَالْمَعْنَى: مَنْ تَرَكَ النَّاسُ التَّعَرُّضَ لَهُ (اتِّقَاءَ شَرِّهِ) . كَيْلَا يُؤْذِيَهُمْ بِلِسَانِهِ، وَفِيهِ رُخْصَةُ الْمُدَارَاةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ.

(وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا (اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) . وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّمَا أَلَنْتُ لَهُ الْقَوْلَ؛ لِأَنِّي لَوْ قُلْتُ لَهُ فِي حُضُورِهِ مَا قُلْتُهُ فِي غَيْبَتِهِ لَتَرَكَنِي اتِّقَاءَ فُحْشِي، فَأَكُونُ أَشَرَّ النَّاسِ. قِيلَ: ذَلِكَ الرَّجُلُ كَمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ، وَجِيءَ بِهِ أَسِيرًا إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: إِنَّ عُيَيْنَةَ ارْتَدَّ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ وَحَارَبَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَسْلَمَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ، كَذَا فَسَّرَهُ بِهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالنَّوَوِيُّ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْغَنِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْخُزَاعِيِّ «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَسْتَأْذِنُ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَوْتَهُ قَالَ: " بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» . الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَانِيُّ فِي الْمَوَاهِبِ، وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ عِلْمًا وَأَدَبًا، وَلَيْسَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أُمَّتِهِ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَسِمُهُمْ بِهَا، وَيُضِيفُهَا إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَكْرُوهِ غِيبَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَيُفْصِحَ بِهِ وَيُعَرِّفَ النَّاسَ أُمُورَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَلَكِنَّهُ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَمِ وَأُعْطِيهِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ أَظْهَرَ لَهُ الْبَشَاشَةَ، وَلَمْ يُجِبْهُ بِالْمَكْرُوهِ وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ فِي اتِّقَاءِ شَرِّ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ، وَفِي مُدَارَاتِهِ لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِ وَغَائِلَتِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ جَوَازُ غِيبَةِ الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ أَوِ الْفُحْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ جَوَازِ مُدَارَاتِهِمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِمْ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ، ثُمَّ قَالَ تِبْعًا لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ أَنَّ الْمُدَارَاةَ بَذْلُ الدُّنْيَا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا أَوِ الدِّينِ أَوْ هُمَا مَعًا، وَهِيَ مُبَاحَةٌ، وَرُبَّمَا اسْتُحْسِنَتْ، وَالْمُدَاهَنَةُ بَذْلُ الدِّينِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا اهـ. وَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ يَنْبَغِي حِفْظُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عَنْهَا غَافِلُونَ وَبِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا جَاهِلُونَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «إِنْ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تُرِكَ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ. " «مَنْ يَخَافُ النَّاسُ شَرَّهُ» "

4831 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ عَمَلًا بِاللَّيْلِ ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ " فِي بَابِ الضِّيَافَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4831 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى) : هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ عَافَاهُ اللَّهُ أَيْ: أَعْطَاهُ اللَّهُ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مُعَافَاةٌ بِالْهَاءِ فِي آخِرِهِ، هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمِدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مُعَافًى بِلَا هَاءٍ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ أَلِفُهُ بِالْيَاءِ فَيَكُونَ مُطَابِقًا لِلَفْظِ " كُلُّ "، كَمَا وَرَدَ: " «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ". (إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ) بِالرَّفْعِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كُتِبَ مَرْفُوعًا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَحَقُّهُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: مُعَافًى، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: كُلُّ أُمَّتِي لَا ذَنْبَ عَلَيْهِمْ إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ، وَأَوْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى فِي مَجْمُوعِهِ الْمُغِيثِ إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي النِّهَايَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ أُمَّتِي يُتْرَكُونَ عَنِ الْغِيبَةِ إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ، كَمَا وَرَدَ: مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ وَالْعَفْوُ: التَّرْكُ، وَفِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] ، وَالْمُجَاهِرُونَ هُمُ الَّذِينَ جَاهَرُوا بِمَعَاصِيهِمْ وَأَظْهَرُوهَا، وَكَشَفُوا مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا فَيَتَحَدَّثُونَ، يُقَالُ: جَهَرَ وَجَاهَرَ وَأَجْهَرَ. أَقُولُ: قَوْلُ الْأَشْرَفِ: كُلُّ أُمَّتِي لَا ذَنْبَ عَلَيْهِمْ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلِ الْمَعْنَى: كُلُّ أُمَّتِي لَا يُؤَاخَذُونَ أَوْ لَا يُعَاقَبُونَ عِقَابًا شَدِيدًا إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْغِيبَةِ، فَلَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِعُنْوَانِ الْبَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، بَلْ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ: (وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَخِفَّةِ الْجِيمِ مَصْدَرُ مَجَنَ يَمْجُنُ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَهِيَ أَنْ لَا يُبَالِيَ الْإِنْسَانُ بِمَا صَنَعَ وَلَا بِمَا قِيلَ لَهُ مِنْ غِيبَةٍ وَمَذَمَّةٍ وَنِسْبَةٍ إِلَى فَاحِشَةٍ (أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ) أَيْ: مَثَلًا (عَمَلًا) أَيْ:

مِنْ أَعْمَالِ الْمَعْصِيَةِ (ثُمَّ يُصْبِحَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: ثُمَّ هُوَ يَدْخُلُ فِي الصَّبَاحِ (وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ) أَيْ: عَمَلَهُ عَنِ النَّاسِ أَوْ سَتَرَهُ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ فِي لَيْلِهِ حَتَّى عَاشَ إِلَى النَّهَارِ (فَيَقُولَ) بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ أَيْ فَيُنَادِي صَاحِبًا لَهُ (يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ) أَيْ: فِي اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ (كَذَا وَكَذَا) أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ (وَقَدْ بَاتَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الرَّجُلَ الْعَاصِيَ دَامَ فِي لَيْلِهِ (يَسْتُرُهُ رَبُّهُ) أَيْ: عَنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكْشِفْ حَالَهُ بِالْعُقُوبَةِ (وَيُصْبِحُ) أَيِ: الرَّجُلُ مَعَ ذَلِكَ (يَكْشِفُ) : خَبَرُ يُصْبِحُ أَيْ: يَرْفَعُ وَيُزِيلُ (سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ) . هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ بِمَعْنَى السُّتْرَةِ وَالْحِجَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَالْمَقْصُودُ غَايَةُ الِاسْتِغْرَابِ؛ وَلِذَا وَقَعَ فِي الْكَلَامِ نَوْعٌ مِنَ الْإِطْنَابِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ وَإِنَّ مِنَ الْجِهَارِ، أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ " الْحَدِيثَ، لَكِنْ بِدُونِ يَا فُلَانُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْهُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَلَفْظُهُ: " «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُ الَّذِي يَعْمَلُ الْعَمَلَ بِاللَّيْلِ فَيَسْتُرُهُ رَبُّهُ ثُمَّ يُصْبِحُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ! إِنِّي عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا فَيَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " قَالَ الْمُؤَلِّفُ ". (وَذُكِرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) أَيْ: وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ (فِي بَابِ الضِّيَافَةِ) . أَيْ: فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذُكِرَ فِيهِ وَسَبَبُهُ أَنَّ صَدْرَهُ مُنَاسِبٌ لِذَلِكَ الْبَابِ، فَيَكُونُ إِسْقَاطُهُ هُنَا لِلتَّكْرِيرِ فَكَلَامُهُ لِلِاعْتِذَارِ، لَكِنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِنَوْعٍ مِنَ الِاعْتِرَاضِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 4832 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَكَذَا فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". وَفِي " الْمَصَابِيحِ ". قَالَ: غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4832 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ) أَيْ: وَقْتَ مِرَائِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ الْآتِيَةُ وَيَحْتَمِلُ الْإِطْلَاقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَهُوَ بَاطِلٌ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِلتَّنْفِيرِ عَنِ الْكَذِبِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ أَوْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ مِنْ مُرَخِّصَاتِ الْكَذِبِ كَمَا فِي الْحَرْبِ، أَوْ إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالْمَعَارِيضِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ: وَهُوَ ذُو بَاطِلٍ بِمَعْنَى صَاحِبِ بُطْلَانٍ. (بُنِيَ لَهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَلَهُ نَائِبُهُ أَيْ: بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا (فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ: نَوَاحِيهَا وَجَوَانِبِهَا مِنْ دَاخِلِهَا لَا مِنْ خَارِجِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ شَارِحٍ: هُوَ مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي حَوْلَ الْمُدُنِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ، فَهُوَ صَرِيحُ اللُّغَةِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحِ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَنْقُولِ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ حِسًّا كَمَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مَعْنًى، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَدْنَاهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ: الْجِدَالَ (وَهُوَ مُحِقٌّ) أَيْ: صَادِقٌ وَمُتَكَلِّمٌ بِالْحَقِّ (بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: فِي أَوْسَطِهَا لِتَرْكِهِ كَسْرَ قَلْبِ مَنْ يُجَادِلُهُ وَدَفْعِهِ رِفْعَةَ نَفْسِهِ، وَإِظْهَارَ نَفَاسَةِ فَضْلِهِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ مَعْنَى صَدْرِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ، فَوُضِعَ الْكَذِبُ مَوْضِعَ الْمِرَاءِ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِيهِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَلَوْ لَمْ يَتْرُكِ الْمِرَاءَ بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَفِظَ نَفْسَهُ عَنِ الْكَذِبِ، لَكِنْ مَا صَانَهَا عَنْ مُطْلَقِ الْمِرَاءِ، فَلِهَذَا يَكُونُ أَحَطَّ مَرْتَبَةٍ مِنْهُ. (وَمِنْ حَسَّنَ) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ أَيْ: أَحْسَنَ بِالرِّيَاضَةِ (خُلُقَهُ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ أَيْ: جَمِيعَ أَخْلَاقِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْمِرَاءُ وَتَرْكُ الْكَذِبِ (بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا) أَيْ: حِسًّا وَمَعْنًى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلُقَ مُكْتَسَبٌ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ غَرِيزِيًّا، وَمِنْهُ خَبَرٌ صَحِيحٌ: «اللَّهُمَّ حَسِّنْ خُلُقِي كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي» ، وَكَذَا خَبْرُ مُسْلِمٍ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ» . قَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: حَدُّ

الْمِرَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى كَلَامِ الْغَيْرِ بِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ، إِمَّا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، أَوْ فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَتَرْكِ الْمِرَاءِ بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ وَالِاعْتِرَاضِ، فَكُلُّ كَلَامٍ سَمِعْتَهُ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَصَدِّقْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِأُمُورِ الدِّينِ فَاسْكُتْ عَنْهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) . وَتَمَامُهُ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ. قَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَسَلَمَةُ تُكِلَّمَ فِيهِ، لَكِنْ حَسَّنَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلِلْحَدِيثِ شَوَاهِدُ اهـ. فَالْحَدِيثُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: حَسَنٌ (وَفِي الْمَصَابِيحِ قَالَ: غَرِيبٌ) أَيْ: إِسْنَادًا لِمَا سَبَقَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَسَنًا كَمَا قَرَّرْنَاهُ.

4833 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ. أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4833 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟) أَيْ: مَا أَكْثَرُ أَسْبَابِ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ مَعَ الْفَائِزِينَ (تَقْوَى اللَّهِ) : وَأَقَلُّهَا التَّقْوَى عَنِ الشِّرْكِ، وَأَعْلَاهَا عَنْ خُطُورِ مَا سِوَى اللَّهِ (وَحُسْنُ الْخُلُقِ) . أَيْ: مَعَ الْخَلْقِ، وَأَدْنَاهُ تَرْكُ أَذَاهُمْ، وَأَعْلَاهُ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَفِيهِ مُبَادَرَةٌ إِلَى الْجَوَابِ حَيْثُ يَعْلَمُ جَهْلَ أَهْلِ الْخِطَابِ، وَفَائِدَةُ إِيرَادِ السُّؤَالِ أَوَّلًا إِبْهَامٌ وَتَفْصِيلٌ وَهُمَا يُوجِبَانِ إِيقَاعَ الْكَلَامِ وَتَأْثِيرَهُ فِي النُّفُوسِ أَكْثَرَ. ( «أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ الْأَجْوَفَانِ» ) أَيِ: الْمُجَوَّفَانِ أَوِ الْمُعْتَلَّانِ الْوَسَطِ عِلَّةً مَعْنَوِيَّةً (الْفَمُ وَالْفَرْجُ) ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ غَالِبًا بِسَبَبِهِمَا يَقَعُ فِي مُخَالَفَةِ الْخَالِقِ وَتَرْكِ الْمُخَالَفَةِ مَعَ الْمَخْلُوقِ، وَبِهِ يَظْهَرُ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: تَقْوَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ بِأَنْ يَأْتِيَ جَمِيعَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَيَنْتَهِيَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ إِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ، وَهَاتَانِ الْخَصْلَتَانِ مُوجِبَتَانِ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَنَقِيضُهُمَا النَّارُ، فَأَوْقَعَ الْفَمَ وَالْفَرْجَ مُقَابِلًا لَهُمَا، أَمَّا الْفَمُ فَمُشْتَمِلٌ عَلَى اللِّسَانِ وَحِفْظِ مَلَاكِ أَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَكْلُ الْحَلَالِ رَأْسُ التَّقْوَى كُلِّهِ، وَأَمَّا الْفَرْجُ فَصَوْنُهُ مِنْ أَعْظَمِ مَرَاتِبِ الدِّينِ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ أَغْلَبُ الشَّهَوَاتِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَأَعْصَاهُ عَلَى الْعَقْلِ عِنْدَ الْهَيَجَانِ، وَمَنْ تَرَكَ الزِّنَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْقُدْرَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، وَتَيَسُّرِ الْأَسْبَابِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ صِدْقِ الشَّهْوَةِ وَصَلَ إِلَى دَرَجَةِ الصِّدِّيقِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41] وَقِصَّةُ الرَّشِيدِ فِي تَعْلِيقِ طَلَاقِ زُبَيْدَةَ مَعَ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ مَشْهُورَةٌ، وَمَعْنَى الْأَكْثَرِيَّةِ فِي الْقَرِينَتَيْنِ أَنَّ أَكْثَرَ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْخَلَّتَيْنِ، وَأَنَّ أَكْثَرَ أَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ السَّرْمَدِيَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

4834 - وَعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الشَّرِّ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» ". رَوَاهُ " فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ". وَرَوَى مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4834 - (وَعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُزَنِيُّ سَكَنَ بِالِاسْتِعْرَاءِ وَرَاءَ الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ وَعَلْقَمَةُ بْنُ الْوَقَّاصِ، مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الْخَيْرِ) : مِنْ بَيَانِيَّةٌ (مَا يَعْلَمُ) أَيِ: الرَّجُلُ (مَبْلَغَهَا) أَيْ: قَدْرَ تِلْكَ

الْكَلِمَةِ وَمَرْتَبَتَهَا عِنْدَ اللَّهِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهَا يَسِيرَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهَى عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمَةٌ جَلِيلَةٌ (يَكْتُبُ اللَّهُ) أَيْ: يُثْبِتُ وَيُدِيمُ (لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُضَمُّ أَيْ: رِضَاهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ أَوْ مَفْعُولِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمُقَابَلَةِ الْقَرِينَةِ الْآتِيَةِ (إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) . بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَبِفَتْحِهَا فِي بَعْضِهَا وَبِالتَّنْوِينِ فِي بَعْضِهَا، وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي يَلْقَاهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى الْيَوْمِ، وَالْمُسْتَتِرُ إِلَى الرَّجُلِ، وَيُمْكِنُ عَكْسُهُ تَجَوُّزًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الضَّمِيرَيْنِ إِلَى اللَّهِ، وَالْآخَرُ إِلَى الرَّجُلِ فَتَأَمَّلْ. ( «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الشَّرِّ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ» ) أَيْ: غَضَبَهُ (إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) . قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هِيَ الْكَلِمَةُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَالْأُولَى لِيَرُدَّهُ بِهَا عَنْ ظُلْمٍ، وَالثَّانِيَةُ لِيَجُرَّهُ بِهَا إِلَى ظُلْمٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي تَفْسِيرِهَا بِذَلِكَ نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ، وَمَا فَائِدَةُ التَّوْقِيتِ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ؟ قُلْتُ: مَعْنَى كَتْبِهِ رِضْوَانَ اللَّهِ تَوْفِيقُهُ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا حَمِيدًا، وَفِي الْبَرْزَخِ يُصَانُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيُفْسَحُ لَهُ قَبْرُهُ، وَيُقَالُ لَهُ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، وَيُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَعِيدًا، وَيُظِلُّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ، ثُمَّ يَلْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَفُوزُ بِلِقَاءِ اللَّهِ مَا كُلُّ ذَلِكَ دُونَهُ، وَفِي عَكْسِهِ قَوْلُهُ: يَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 78] ، (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ (وَرَوَى مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " وَفِي الْإِحْيَاءِ: وَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: وَكَمْ مِنْ كَلَامٍ مَنَعْنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ.

4835 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَيْلٌ لِمَنْ يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4835 - (وَعَنْ بَهْزِ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ فَزَايٍ (بْنِ حَكِيمٍ) تَابِعِيٌّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يُخْرِجِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا شَيْئًا مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَلَمْ أَرَ حَدِيثَهُ مُنْكَرًا (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ الْبَصْرِيِّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي صُحْبَتِهِ نَظَرٌ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَكِيمٍ وَقَتَادَةُ. (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ بِفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلٌ) أَيْ: هَلَاكٌ عَظِيمٌ أَوْ وَادٍ عَمِيقٌ فِي جَهَنَّمَ (لِمَنْ يُحَدِّثُ) أَيْ: لِمَنْ يُخْبِرُ النَّاسَ (فَيَكْذِبُ) أَيْ: لَا يَصْدُقُ فِي تَحْدِيثِهِ وَإِخْبَارِهِ (لِيُضْحِكَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ حَائِهِ (بِهِ) أَيْ: بِسَبَبِ تَحْدِيثِهِ أَوِ الْكَذِبِ (الْقَوْمَ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ. هَكَذَا فِي النُّسَخِ وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ وَالْحَاءِ وَرَفْعُ الْقَوْمِ، ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ بِحَدِيثِ صِدْقٍ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَمَا صَدَرَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَضِبَ عَلَى بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ مُزَاحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا وَلَا يُؤْذِي قَلْبًا وَلَا يُفَرِّطُ فِيهِ، فَإِنْ كُنْتَ أَيُّهَا السَّامِعُ تَقْتَصِرُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا وَعَلَى النُّدُورِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ، وَلَكِنْ مِنَ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ أَنْ يَتَّخِذَ الْإِنْسَانُ الْمُزَاحَ حِرْفَةً، وَيُوَاظِبَ عَلَيْهِ، وَيُفَرِّطَ فِيهِ، ثُمَّ يَتَمَسَّكَ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ كَمَنْ يَدُورُ مَعَ الزُّنُوجِ أَبَدًا لِيَنْظُرَ إِلَى رَقْصِهِمْ، وَيَتَمَسَّكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَذِنَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي النَّظَرِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ) إِنَّمَا أَعَادَهُ مَرَّتَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ أَوَّلُهَا لِلْبَرْزَخِ، وَثَانِيهَا لِلْمَوْقِفِ، وَثَالِثُهَا لِلنَّارِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . أَيْ وَقَالَ: حَسَنٌ اهـ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي بَهْزٍ وَوَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ.

4836 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقُولُ الْكَلِمَةَ لَا يَقُولُهَا إِلَّا لِيُضْحِكَ بِهِ النَّاسَ، يَهْوِي بِهَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَإِنَّهُ لَيَزِلُّ عَنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَزِلُّ عَنْ قَدَمِهِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4836 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْعَبْدَ) أَيِ: الشَّخْصَ (لَيَقُولُ الْكَلِمَةَ) أَيِ: الْكَاذِبَةَ (لَا يَقُولُهَا إِلَّا لِيُضْحِكَ بِهِ النَّاسَ) أَيْ: بِتَلَفُّظِهَا أَوِ الْمُرَادُ بِهَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهَا كَلِمَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ أَعَمَّ عَامُّ الْغَرَضِ (يَهْوِي) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: يَسْقُطُ فِي جَهَنَّمَ (بِهَا) أَيْ: بِسَبَبِهَا (أَبْعَدَ) أَيْ: هَوْيًا وَسُقُوطًا أَبْعَدَ (مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) وَفِي نُسْخَةٍ: أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَبْعُدُ بِهِمَا عَنِ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ بُعْدًا أَبْعَدَ مَا بَيْنَهُمَا (وَإِنَّهُ) أَيِ: الْعَبْدُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَلَا يُرَدُّ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ تَكُونُ عَيْنَ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ. (لَيَزِلُّ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: لَيَعْثُرُ وَيَزْلِقُ وَيَخْطَأُ (عَنْ لِسَانِهِ) أَيْ: عَنْ جِهَتِهِ وَمِنْ قِبَلِهِ وَبِسَبَبِهِ (أَشَدَّ) أَيْ: زَلَلًا أَقْوَى وَأَكْثَرَ (مِمَّا يَزِلُّ عَنْ قَدَمِهِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ صُدُورَ الْكَذِبِ وَنَحْوِهِ عَنْ لِسَانِهِ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ سُقُوطِهِ عَنْ رِجْلِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِنَّ الضَّرَرَ الْبَدَنِيَّ أَهْوَنُ مِنَ الضَّرَرِ الدِّينِيِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَيَزِلُّ عَنْ لِسَانِهِ تَمْثِيلٌ بَعْدَ تَمْثِيلٍ مَثَّلَ أَوَّلًا مَضَرَّتَهُ مِنْهَا فِي جَاهِهِ، وَسُقُوطَهُ مِنْ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْ سَقَطَ مِنْ أَعْلَى مَكَانٍ إِلَى أَدْنَاهُ، ثُمَّ مَثَّلَ ثَانِيًا مَضَرَّتَهُ بِهَا فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ بِمَنْ يَتَرَدَّدُ فِي وَحْلٍ عَظِيمٍ فَيَدْحَضُ قَدَمَاهُ فِي تِلْكَ الْمَزَالِقِ قَلَّمَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . قَالَ مِيرَكُ نَاقِلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا تَبَيَّنَ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» ". وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يُرِيدُ بِهَا بَأْسًا لِيُضْحِكَ بِهَا الْقَوْمَ وَإِنَّهُ لَيَقَعُ بِهَا أَبْعَدَ مِنَ السَّمَاءِ» ".

4837 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَمَتَ نَجَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4837 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَمَتَ) أَيْ: سَكَتَ عَنِ الشَّرِّ (نَجَا) أَيْ: فَازَ وَظَفَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ، أَوْ نَجَا مِنْ آفَاتِ الدَّارَيْنِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الصَّمْتُ أَبْلَغُ مِنَ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا قُوَّةَ لَهُ لِلنُّطْقِ وَفِيمَا لَهُ قُوَّةُ النُّطْقِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِمَا لَا نُطْقَ لَهُ الصَّامِتُ وَالْمُصْمَتُ، وَالسُّكُوتُ يُقَالُ لِمَا لَهُ نُطْقٌ فَيَتْرُكُ اسْتِعْمَالَهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ وَجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَجَوَاهِرِ الْحِكَمِ، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَا تَحْتَ كَلِمَاتِهِ مِنْ بِحَارِ الْمَعَانِي إِلَّا خَوَاصُّ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ خَطَرَ اللِّسَانِ عَظِيمٌ وَآفَاتُهُ كَثِيرَةٌ مِنَ الْخَطَأِ وَالْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالنِّفَاقِ وَالْفُحْشِ وَالْمِرَاءِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ وَغَيْرِهَا. وَمَعَ ذَلِكَ النَّفْسُ مَائِلَةٌ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَّاقَةٌ إِلَى اللِّسَانِ لَا تَثْقُلُ عَلَيْهِ وَلَهَا حَلَاوَةٌ فِي النَّفْسِ وَعَلَيْهَا بَوَاعِثُ مِنَ

الطَّبْعِ وَالشَّيْطَانِ، فَالْخَائِضُ فِيهَا قَلَّمَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَزُمَّ اللِّسَانَ فَيُطْلِقَهُ بِمَا يَجِبُ، وَيَكُفَّهُ عَمَّا لَا يَجِبُ، فَفِي الْخَوْضِ خَطَرٌ، وَفِي الصَّمْتِ سَلَامَةٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْهَمِّ وَدَوَامِ الْوَقَارِ وَالْفَرَاغَةِ لِلْفِكْرِ وَالْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ تَبِعَاتِ الْقَوْلِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْ حِسَابِهِ فِي الْعُقْبَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَيَدُلُّكَ عَلَى لُزُومِ الصَّمْتِ أَمْرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامِ قِسْمٌ هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، وَقِسْمٌ هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ، وَقِسْمٌ فِيهِ ضَرَرٌ وَمَنْفَعَةٌ، وَقِسْمٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ، أَمَّا الَّذِي هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا فِيهِ ضَرَرٌ وَمَنْفَعَةٌ لَا تَفِي بِالضَّرَرِ، وَأَمَّا مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ فَهُوَ فُضُولٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ تَضْيِيعُ زَمَانٍ، وَهُوَ عَيْنُ الْخُسْرَانِ ظَاهِرًا، فَلَا يَبْقَى إِلَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ، وَفِيهِ خَطَرٌ إِذَا قَدْ يَمْتَزِجُ بِهِ مَا فِيهِ إِثْمٌ مِنْ دَقَائِقِ الرِّيَاءِ وَالتَّصَنُّعِ وَالْغِيبَةِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَفُضُولِ الْكَلَامِ امْتِزَاجًا يَخْفَى مَدْرَكُهُ، فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ بِهِ مُخَاطِرًا اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ آفَاتَ اللِّسَانِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَفِي الصَّمْتِ خَلَاصٌ مِنْهَا، وَقَدْ قِيلَ: اللِّسَانُ جُرْمُهُ صَغِيرٌ وَجُرْمُهُ كَبِيرٌ وَكَثِيرٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4838 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ فَقَالَ: " أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4838 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) أَيِ: الْجُهَنِيِّ (قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟) أَيْ: مَا نَجَاةُ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى نَتَعَلَّقَ بِهِ، أَوْ مَا الْخَلَاصُ عَنِ الْآفَاتِ حَتَّى أَحْتَرِسَ بِهِ؟ (فَقَالَ: أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيِ: احْفَظْ لِسَانَكَ عَمَّا لَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ كَمَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَمْسِكْ لِسَانَكَ حَافِظًا عَلَيْكَ أُمُورَكَ، مُرَاعِيًا لِأَحْوَالِكَ، فَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّضْمِينِ، وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَا تُجْرِهِ إِلَّا بِمَا يَكُونُ لَكَ لَا عَلَيْكَ اهـ. وَهُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَيِ: اجْعَلْ لِسَانَكَ مَمْلُوكًا لَكَ فِيمَا عَلَيْكَ وَبَالُهُ وَتَبِعَتُهُ، فَأَمْسِكْهُ عَمَّا يَضُرُّكَ وَأَطْلِقْهُ فِيمَا يَنْفَعُكَ اهـ. وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى أَنَّ الصِّيغَةَ مِنَ الثُّلَاثِي الْمُجَرَّدِ، فَفِي الْقَامُوسِ مَلَكَهُ يَمْلِكُهُ مِلْكًا مُثَلَّثَةً: احْتَوَاهُ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِبْدَادِيَّةِ، وَأَمْلَكَهُ الشَّيْءَ إِيَّاهُ تَمْلِيكًا بِمَعْنَى، لَكِنَّ النُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ وَالْأُصُولَ الْمُعْتَمَدَةَ بِصِيغَةِ الْمَزِيدِ مَضْبُوطَةٌ، نَعَمْ كَتَبَ مِيرَكْشَاهْ عَلَى هَامِشِ كِتَابِهِ: الظَّاهِرُ امْلِكْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ مُتَعَدٍّ، لَكِنْ فِي الْأَصْلِ صُحِّحَ مِنَ الثُّلَاثِي الْمَزِيدِ فِيهِ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، تَأَمَّلْ. قُلْتُ: لَعَلَّ الزِّيَادَةَ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْدِيَةِ فَتَدَبَّرْ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، سُئِلَ عَنْ حَقِيقَةِ النَّجَاةِ؟ فَأَجَابَ عَنْ سَبَبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ بِحَالِهِ، وَأَوْلَى. وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: حِفْظُ اللِّسَانِ، فَأَخْرَجَهُ عَلَى سَبِيلِ الْأَمْرِ الَّذِي يَقْتَضِي الْوُجُوبَ مَزِيدًا لِلتَّقْرِيرِ وَالِاهْتِمَامِ اهـ. وَمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ لَا يَخْفَى، بَلْ مِنَ التَّعَسُّفِ فِي حَقِّ الصَّحَابِيِّ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْعُدُولَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةَ النَّجَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَوْلَى، فَالصَّوَابُ أَنَّ تَقْدِيرَ السُّؤَالِ مَا سَبَبُ النَّجَاةِ بِقَرِينَةِ الْجَوَابِ، وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى تَقْرِيرِ تَقْدِيرٍ آخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَلْيَسَعْكَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ (بَيْتُكَ) بِأَنْ تَسْكُنَ فِيهِ وَلَا تَخْرُجَ مِنْهُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا تَضْجَرْ مِنَ الْجُلُوسِ فِيهِ، بَلْ تَجْعَلْهُ مِنْ بَابِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْخَلَاصِ مِنَ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ؛ وَلِذَا قِيلَ: هَذَا زَمَانُ السُّكُوتِ وَمُلَازَمَةُ الْبُيُوتِ وَالْقَنَاعَةُ بِالْقُوتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَمْرُ فِي الظَّاهِرِ وَارِدٌ عَلَى الْبَيْتِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الْمُخَاطَبِ أَيْ: تَعَرَّضَ لِمَا هُوَ سَبَبٌ لِلُزُومِ الْبَيْتِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِاللَّهِ، وَالْمُؤَانَسَةِ بِطَاعَتِهِ، وَالْخَلْوَةِ عَنِ الْأَغْيَارِ (وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) . أَيِ: ابْكِ إِنْ تَقْدِرْ، وَإِلَّا فَتَبَاكَ نَادِمًا عَلَى مَعْصِيَتِكَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمَّنَ بَكَى مَعْنَى النَّدَامَةِ، وَعَدَّاهُ بِعَلَى أَيِ: انْدَمْ عَلَى خَطِيئَتِكَ بَاكِيًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) رَوَى ابْنُ نَافِعٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ صَدْرَ الْحَدِيثِ فَقَطْ، وَهُوَ: أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ.

4839 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَفَعَهُ قَالَ: " «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4839 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيِّ (رَفَعَهُ) ، أَيْ: أَسْنَدَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا أَبْهَمَهُ الرَّاوِي ; لِأَنَّهُ شَكَّ فِي كَيْفِيَّةِ رَفْعِهِ، أَنَّهُ هَلْ هُوَ بِصِيغَةِ السَّمْعِ أَوِ الْقَوْلِ وَنَحْوِهِمَا؟ (قَالَ: إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ) أَيْ: دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ وَهُوَ مِفْتَاحُ بَابِ النَّجَاحِ ; لِأَنَّ آفَاتِ اللِّسَانِ إِنَّمَا هِيَ بِمُعَاشَرَةِ الْإِخْوَانِ، وَهِيَ فِي النَّهَارِ أَكْثَرُ بِاعْتِبَارِ أَغْلَبِ الْأَزْمَانِ (فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ) أَيِ: الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْعِصْيَانُ أَوْ مُطْلَقُهَا، فَإِنَّ لَهَا تَعَلُّقًا مَا فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ لِلْإِنْسَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَأْكِيدُهَا بِقَوْلِهِ: (كُلَّهَا تُكَفِّرُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: تَتَذَلَّلُ وَتَتَوَاضَعُ (اللِّسَانَ) : مِنْ قَوْلِهِمْ: كَفَرَ الْيَهُودِيُّ: إِذَا خَضَعَ مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ وَانْحَنَى لِتَعْظِيمِ صَاحِبِهِ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ: التَّكْفِيرُ هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْإِنْسَانُ وَيُطَأْطِئَ رَأْسَهُ قَرِيبًا مِنَ الرُّكُوعِ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُرِيدُ تَعْظِيمَ صَاحِبِهِ (فَتَقُولُ) أَيِ: الْأَعْضَاءُ لَهُ (اتَّقِ اللَّهَ فِينَا) ، أَيْ: فِي حِفْظِ حُقُوقِنَا (فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ) ، أَيْ: نَتَعَلَّقُ وَنَسْتَقِيمُ وَنَعْوَجُّ بِكَ (فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَسَدِ لَمُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» ". قُلْتُ: اللِّسَانُ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ وَخَلِيفَتُهُ فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ، فَإِذَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فِي الْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِكَ: شَفَى الطَّبِيبُ الْمَرِيضَ. قَالَ الْمَيْدَانِيُّ قَوْلُهُ: الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ، يَعْنِي بِهِمَا الْقَلْبَ وَاللِّسَانَ أَيْ: يَقُومُ وَيُكْمِلُ مَعَانِيَهُ بِهِمَا، وَأَنْشَدَ لِزُهَيْرٍ: وَكَائِنٌ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجَبٍ ... زِيَادَتَهُ أَوْ نَقْصَهُ فِي التَّكَلُّمِ لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ اهـ. وَلَا يَخْفَى ظُهُورُ تَوَقُّفِ صَلَاحِ الْأَعْضَاءِ وَفَسَادِهَا عَلَى الْقَلْبِ بِحَسْبِ صَلَاحِهِ وَفَسَادِهِ، فَإِنَّهُ مَعْدِنُ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا أَنَّهُ مَنْبَعُ الْأَحْوَالِ الذَّمِيمَةِ، وَنَظِيرُهُ الْمَلِكُ الْمُطَاعُ وَالرَّئِيسُ الْمُتَّبَعُ، فَإِنَّهُ إِذَا صَلَحَ الْمَتْبُوعُ صَلَحَ التَّبَعُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَكَابِرِ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ الْبَطْنَ عُضْوٌ إِنْ جَاعَ هُوَ شَبِعَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ، يَعْنِي: سَكَنَ، فَلَا يُطَالِبُكَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ شَبِعَ هُوَ جَاعَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ، وَبَيَانُهُ عَلَى مَا فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: أَنَّ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ فِتْنَةَ الْأَعْضَاءِ وَانْبِعَاثَهَا لِلْفُضُولِ وَالْفَسَادِ، فَالرَّجُلُ إِذَا كَانَ شَبْعَانَ بَطِرًا اشْتَهَتْ عَيْنُهُ النَّظَرَ إِلَى مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ حَرَامٍ أَوْ فُضُولٍ، وَالْأُذُنُ الِاسْتِمَاعَ إِلَيْهِ، وَاللِّسَانُ التَّكَلُّمَ بِهِ، وَالْفَرْجُ الشَّهْوَةَ، وَالرِّجْلُ الْمَشْيَ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ جَائِعًا فَتَكُونُ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا سَاكِنَةً هَادِئَةً لَا تَطْمَحُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَلَا تَنْشَطُ لَهُ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ أَفْعَالَ الرَّجُلِ وَأَقْوَالَهُ عَلَى حَسَبِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ إِنْ دَخَلَ الْحَرَامُ خَرَجَ الْحَرَامُ، وَإِنْ دَخَلَ الْفُضُولُ خَرَجَ الْفُضُولُ كَانَ الطَّعَامُ بَذْرَ الْأَفْعَالِ وَالْأَفْعَالُ نَبْتًا يَبْدُو مِنْهُ، فَهَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَمْرِ الْقَلْبِ وَالْبَطْنِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْأَعْضَاءِ جَمِيعِهَا بِاللِّسَانِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لِي مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى أَلْهَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَنَّ اللِّسَانَ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ آلَةُ الْبَيَانِ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، فَمَعَ اسْتِقَامَتِهِ تَنْفَعُهُ اسْتِقَامَةُ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَمَعَ اعْوِجَاجِهِ تَبْطُلُ أَحْوَالُهَا، سَوَاءٌ تَكُونُ مُسْتَقِيمَةً أَوْ مُعْوَجَّةً فِي أَفْعَالِهَا، وَاللَّهُ الْمُلْهِمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ.

4840 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4840 - (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ) ، أَيِ: ابْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ الْإِمَامُ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ مَنَاقِبِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِ مَرَاتِبِهِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِ إِسْلَامِ الشَّخْصِ وَكَمَالِ إِيمَانِهِ (تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ) ، أَيْ: مَا لَا يُهِمُّهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَنَظَرًا

وَفِكْرًا، فَحُسْنُ الْإِسْلَامِ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِهِ، وَهُوَ أَنْ تَسْتَقِيمَ نَفْسُهُ فِي الْإِذْعَانِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَحْكَامِهِ عَلَى وَفْقِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فِيهِ، وَهُوَ عَلَامَةُ شَرْحِ الصَّدْرِ بِنُورِ الرَّبِّ، وَنُزُولِ السِّكِّينَةِ عَلَى الْقَلْبِ، وَحَقِيقَةُ مَا لَا يَعْنِيهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ضَرُورَةِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي مَرْضَاةِ مَوْلَاهُ بِأَنْ يَكُونَ عَيْشُهُ بِدُونِهِ مُمْكِنًا، وَهُوَ فِي اسْتِقَامَةِ حَالِهِ بِغَيْرِهِ مُتَمَكِّنًا، وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْأَفْعَالَ الزَّائِدَةَ وَالْأَقْوَالَ الْفَاضِلَةَ، فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا صَلَاحُهُ فِي نَفْسِهِ فِي أَمْرِ زَادِهِ بِإِصْلَاحِ طَرَفَيْ مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَبِالسَّعْيِ فِي الْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَضَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةٌ إِلَى نَيْلِ السَّعَادَاتِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالْفَوْزِ بِالنِّعَمِ السَّرْمَدِيَّةِ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَحَدُّ مَا لَا يَعْنِيكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِكُلِّ مَا لَوْ سَكَتَّ عَنْهُ لَمْ تَأْثَمْ وَلَمْ تَتَضَرَّرْ فِي حَالٍ وَلَا مَآلٍ، وَمِثَالُهُ: أَنْ تَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ فَتَحْكِيَ مَعَهُمْ أَسْفَارَكَ وَمَا رَأَيْتَ فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَنْهَارٍ، وَمَا وَقَعَ لَكَ مِنَ الْوَقَائِعِ، وَمَا اسْتَحْسَنْتَهُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ، وَمَا تَعَجَّبْتَ مِنْهُ مِنْ مَشَايِخِ الْبِلَادِ وَوَقَائِعِهِمْ، فَهَذِهِ أُمُورٌ لَوْ سَكَتَّ عَنْهَا لَمْ تَأْثَمْ وَلَمْ تَتَضَرَّرْ، وَإِذَا بَالَغْتَ فِي الِاجْتِهَادِ حَتَّى لَمْ يَمْتَزِجْ بِحِكَايَتِكَ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانُ، وَلَا تَزْكِيَةُ نَفْسٍ مِنْ حَيْثُ التَّفَاخُرِ بِمُشَاهَدَةِ الْأَحْوَالِ الْعَظِيمَةِ، وَلَا اغْتِيَابٌ لِشَخْصٍ، وَلَا مَذَمَّةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضَيِّعُ زَمَانِكَ، وَمُحَاسَبٌ عَلَى عَمَلِ لِسَانِكَ إِذْ تَسْتَبْدِلُ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ; لِأَنَّكَ لَوْ صَرَفْتَ زَمَانَ الْكَلَامِ فِي الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ رُبَّمَا يَنْفَتِحُ لَكَ مِنْ نَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْظُمُ جَدْوَاهُ، وَلَوْ سَبَّحْتَ اللَّهَ بُنِيَ لَكَ بِهِمَا قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كَنْزًا مِنَ الْكُنُوزِ فَأَخَذَ بَدَلَهُ بَدْرَةً لَا يَنْتَفِعُ بِهَا كَانَ خَاسِرًا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَهَذَا عَلَى فَرْضِ السَّلَامَةِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي كَلَامِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَنَّى تَسْلَمُ مِنَ الْآفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؟ وَذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْعَارِفِينَ مَرَّ عَلَى غُرْفَةٍ بُنِيَتْ فَقَالَ: مُذْ كَمْ بُنِيَتْ هَذِهِ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: يَا نَفْسِيَ الْمَغْرُورَةُ تَسْأَلِينَ عَمَّا لَا يَعْنِيكِ وَعَاقَبَهَا بِصَوْمِ سَنَةٍ. اهـ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» ، عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا. «فَطُوبَى لِمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ» . قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18 - 19] قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَقِيلَ: مَا تَكَلَّمَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ بِكَلَامِ الدُّنْيَا عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ إِذَا أَصْبَحَ وَضَعَ قِرْطَاسًا نَقِيًّا وَقَلَمًا، فَكُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ كَتَبَهُ ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْمَسَاءِ، هَذَا وَعَنْ بَعْضِهِمْ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً. اهـ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ تَرْكَهُ مَا لَا يَعْنِيهِ هُوَ حُسْنُ إِسْلَامِ الْمَرْءِ وَكَمَالُهُ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ الْخَبَرُ لِكَوْنِ التَّرْكِيبِ مِنْ بَابِ: عَلَى التَّمْرَةِ مِثْلُهَا زُبْدًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَلَى أَنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» ". الْحَدِيثَ، بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْلِيَةَ مَسْبُوقَةٌ بِالتَّخْلِيَةِ، فَالتَّرْكُ بَعْضٌ مِنَ الْإِحْسَانِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الِانْسِلَاخِ عَمَّا يَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ، فَإِذَا أَخَذَ السَّالِكُ فِي السُّلُوكِ تَجَرَّدَ بِحَسْبِ أَحْوَالِهِ وَمَقَامَاتِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، مِمَّا لَا يَعْنِيهِ إِلَى أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ جَمِيعِ أَوْصَافِهِ، وَيَتَوَجَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَيْهِ يُلْمِحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112] ، وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، الْأَوَّلُ حَدِيثُ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ: " «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ» "، الثَّانِي: " «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ".

الثَّالِثُ: " «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ". الرَّابِعُ: " «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» " وَقِيلَ بَدَلَ الثَّالِثِ: " «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» ". وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَعْنَاهُ: عُمْدَةُ الْخَيْرِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ أَرْبَعُ ... قَالَهُنَّ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ اتَّقِ الشُّبُهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ ... مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلْنَ بِنِيَّةِ قُلْتُ: مَدَارُ الْأَرْبَعَةِ السُّنِّيَّةِ عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَمِلَ بِالنِّيَّةِ الْمُرْتَبِطَةِ بِحُسْنِ الطَّوِيَّةِ يُورِثُ لَهُ اتِّقَاءَ الشُّبُهَاتِ أَكْلًا، وَتَرْكَ مَا لَا يَعْنِيهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَالزُّهْدُ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ بِالْأَوْلَى، فَيُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحِبُّونَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، «فَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ جَعَلْتُ فِي شَرْحِهِ رِسَالَةً تُعَيِّنُ مَبَانِيَهُ وَتُبَيِّنُ مَعَانِيَهُ. (رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ) أَيْ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ.

4841 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " عَنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4841 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْهُمَا) . أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَعًا، إِمَّا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي حَدِيثَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَالشِّيرَازِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَالْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يُكْنَى أَبَا الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ، مِنْ أَكَابِرِ سَادَاتِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَمِنْ أَجِلَّةِ التَّابِعِينَ وَأَعْيَانِهِمْ. اهـ. فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ أَوْ أَوَّلِهِ: مُرْسَلًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ (عَنْ أَبِيهِ) سَاقِطًا أَوْ وَقَعَ تَغْيِيرٌ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الرُّوَاةِ أَوِ الْمُصَنِّفِينَ، وَأَصْلُهُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْجَامِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ كَلَامَ مَيْرَكَ حَيْثُ قَالَ: حَدِيثُ " «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ» " إِلَخْ. قَالَ. وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدَنَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. اهـ. كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ، وَطَرِيقُهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جَيِّدَةٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ: الصَّوَابُ أَنَّهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلٌ، كَذَا قَالَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4842 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَلَا تَدْرِي، فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يُنْقِصُهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4842 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَا تَدْرِي) . بِفَتْحِ الْوَاوِ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: تُبَشِّرُ وَلَا تَدْرِي، أَوْ أَتَقُولُ هَذَا وَلَا تَدْرِي مَا تَقُولُ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَالِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكَ لَا تَدْرِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِهَا وَهِيَ رِوَايَةٌ فَـ (أَوْ) عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْضًا أَيْ: أَتَدْرِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ لَا تَدْرِي، وَالْمَعْنَى: بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْتَ ذَلِكَ، أَوْ كَيْفَ دَرَيْتَ مَا لَمْ يَدْرِ غَيْرُكَ؟ (فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ) ، أَيْ: فِيمَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ (أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يُنْقِصُهُ) . أَيْ: مِمَّا لَا يُغْنِيهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ أَوِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، أَوْ إِعْطَاءِ الْمَاعُونِ بِالْعَارِيَةِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِلرَّجُلِ.

وَالْمَرْفُوعُ لِمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدَ كَعْبًا فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَرِيضٌ، فَخَرَجَ يَمْشِي حَتَّى أَتَاهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: " أَبْشِرْ يَا كَعْبُ " فَقَالَتْ أُمُّهُ: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ يَا كَعْبُ. فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ الْمُتَأَلِّيَةُ عَلَى اللَّهِ؟ " قَالَ: هِيَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " وَمَا يُدْرِيكِ يَا أُمَّ كَعْبٍ، لَعَلَّ كَعْبًا قَالَ مَا لَا يَعْنِيهِ، أَوْ مَنَعَ مَا لَا يُغْنِيهِ» ". وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِنَّمَا تَتَهَنَّأُ الْجَنَّةُ لِمَنْ لَا يُحَاسَبُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ حُوسِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَلَا تَتَهَنَّأُ لَهُ الْجَنَّةُ مَعَ الْمُنَاقَشَةِ فِي الْحِسَابِ، فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْبَغْدَادِيَّ شَيْخَ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، كَذَا فِي التَّصْحِيحِ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ. اهـ. وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو يَعْلَى «عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا قَالَ: اسْتُشْهِدَ مِنَّا رَجُلٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَوُجِدَ عَلَى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنَ الْجُوعِ، فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَتْ: هَنِيئًا لَكَ يَا بُنَيَّ الْجَنَّةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يُدْرِيكِ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ» ". وَرَوَى أَبُو يَعْلَى أَيْضًا، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قُتِلَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهِيدًا، فَبَكَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَقَالَتْ: وَاشَهِيدَاهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يُدْرِيكِ أَنَّهُ شَهِيدٌ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ يَبْخَلُ بِمَا لَا يُنْقِصُهُ» ". وَفَّقَنَا اللَّهُ لِمَا يَعْنِينَا وَعَنْ سِوَى مَرْضَاتِهِ يُغْنِينَا.

4843 - «وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ: " هَذَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4843 - (وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ: ابْنُ رَبِيعَةَ (الثَّقَفِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا عَمْرٍو، يُعَدُّ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى الطَّائِفِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، وَالصَّوَابُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟) : " مَا " الْأُولَى اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أَخْوَفُ، وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ نَحْوَ: أَشْهَدُ وَأَلْوَمُ وَأَشْعَلُ، وَ " مَا " الثَّانِيَةُ مُضَافٌ إِلَيْهِ لِـ (أَخْوَفُ) وَهِيَ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَخْوَفُ أَشْيَاءَ تَخَافُ مِنْهَا عَلَيَّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ. " مَا " فِي (مَا تَخَافُ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً أَوْ مَوْصُوفَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً عَلَى طَرِيقَةِ جَدَّ جَدُّهُ وَجَنَّ جُنُونُهُ وَخَشِيتُ خَشْيَتَهُ. (قَالَ) أَيْ: سُفْيَانُ (فَأَخَذَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِلِسَانِ نَفْسِهِ) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِمَزِيدِ التَّعْدِيَةِ (وَقَالَ: هَذَا) : هُوَ مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى هَذَا أَكْثَرُ خَوْفِي عَلَيْكَ مِنْهُ. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: وَإِنَّمَا أَسْنَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِدَّةَ خَوْفِهِ عَلَى أُمَّتِهِ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ إِلَى اللِّسَانِ ; لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْأَعْضَاءِ عَمَلًا، إِذْ مَا مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ إِلَّا وَلَهُ فِيهَا مَجَالٌ، فَمَنْ أَطْلَقَ عَذَبَةَ اللِّسَانِ وَأَهْمَلَهُ مُرَخَّى الْعِنَانَ سَلَكَ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي كُلِّ مَيْدَانٍ، وَسَاقَهُ إِلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ إِلَى أَنْ يَضْطَرَّهُ إِلَى الْبَوَارِ، وَلَا يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلَا يُنَجِّي مِنْ شَرِّهِ إِلَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِلِجَامِ الشَّرْعِ، وَعِلْمُ مَا يُحْمَدُ إِطْلَاقُ اللِّسَانِ فِيهِ أَوْ يُذَمُّ غَامِضٌ عَزِيزٌ، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ ثَقِيلٌ عَسِيرٌ، لَكِنْ عَلَى مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ يَسِيرٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) . قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

4844 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4844 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ) أَيِ: الْحَفَظَةُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَفْظُ عَنْهُ مُؤَخَّرٌ (مِيلًا) : وَهُوَ ثُلُثُ الْفَرْسَخِ أَوْ قِطْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ مَدُّ الْبَصَرِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ) . أَيْ: عُفُونَتُهُ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ التَّاءِ. فِي الْقَامُوسِ: هُوَ ضِدُّ الْفَرَحِ، وَالْمَعْنَى مِنْ نَتْنِ شَيْءٍ جَاءَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِالنَّتْنِ أَيْ: مِنْ نَتْنِ الْكَذِبِ، أَوْ جَاءَ الْعَبْدُ بِهِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ كَذِبَةً ". إِلَخْ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ.

4845 - وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَسَدٍ الْحَضْرَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ كَاذِبٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4845 - (وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَسَدٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، بَلْ هِيَ الْأَصَحُّ أَسِيدٌ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ (الْحَضْرَمِيِّ) : زَادَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ: الشَّامِيُّ، رَوَى عَنْهُ جُبَيْرُ بْنُ نَفِيرٍ حَدِيثَهُ فِي الْحِمْصِيِّينَ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ وَقَالَ: أَسِيدٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَالثَّانِيَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالثَّالِثَةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالسِّينِ وَحَذْفِ الْيَاءِ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: كَبُرَتْ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: عَظُمَتْ (خِيَانَةً) : تَمْيِيزٌ (أَنْ تُحْدِّثَ أَخَاكَ) : فَاعِلُ كَبُرَتْ. قَالَ شَارِحٌ: أَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ التَّمْيِيزِ إِذْ هُوَ فَاعِلٌ مَعْنًى، وَقِيلَ بِتَأْوِيلِ الْخَصْلَةِ أَوِ الْفَعْلَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أُنِّثَ الْفِعْلُ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ التَّحْدِيثَ نَفْسُ الْخِيَانَةِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} [غافر: 35] ، الْكَشَّافُ: هَذَا مِنْ أَفْصَحِ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ قَصَدَ فِي (كَبُرَ) التَّعَجُّبَ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَمَعْنَى التَّعَجُّبِ تَعَظُّمُ الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ ; لِأَنَّ التَّعَجُّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ نَظَائِرِهِ وَأَشْكَالِهِ. اهـ. كَلَامُهُ. وَالْمَعْنَى: جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْكَ إِذَا حَدَّثْتَ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ. (حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (كَاذِبٌ) . أَيْ: بِحَدِيثٍ كَذِبٍ، وَهُوَ يَعْتَمِدُ عَلَيْكَ وَيَثِقُ بِقَوْلِكَ، وَظَنَّ بِكَ أَنَّكَ مُسْلِمٌ لَا تَكْذِبُ فَيُصَدِّقُكَ، وَالْحَالُ أَنَّكَ كَاذِبٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ النَّوَّاسِ.

4846 - وَعَنْ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي الدُّنْيَا، كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4846 - (وَعَنْ عَمَّارٍ) أَيِ: ابْنِ يَاسِرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي الدُّنْيَا) ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُرِي نَفْسَهُ عِنْدَ شَخْصٍ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مُحِبِّيهِ وَنَاصِحِيهِ، وَهُوَ يُحَدِّثُ فِي غَيْبَتِهِ بِمَسَاوِئِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عَدُوَّيْنِ كَأَنَّهُ صَدِيقُهُ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ نَاصِرٌ لَهُ وَيَذُمُّ هَذَا عِنْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ عِنْدَ هَذَا. (كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، لَكِنْ بِلَفْظِ: " «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ» " إِلَخْ. وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: حَدِيثُ عَمَّارٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: حَدِيثُ عَمَّارٍ: " «وَمَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ» " الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

4847 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا بِاللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". وَفِي أُخْرَى لَهُ: " «وَلَا الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ» "، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4847 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الْمُؤْمِنُ) أَيِ: الْكَامِلُ (بِالطَّعَّانِ) أَيْ: عَيَّابًا لِلنَّاسِ (وَلَا بِاللَّعَّانِ) ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِيهِمَا ; لِأَنَّ الْكَامِلَ قَلَّ أَنْ يَخْلُوَ عَنِ الْمَنْقَصَةِ لَا بِالْكُلِّيَّةِ (وَلَا الْفَاحِشِ) ، أَيْ: فَاعِلُ الْفُحْشِ أَوْ قَائِلُهُ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: مَنْ لَهُ الْفُحْشُ فِي كَلَامِهِ وَفِعَالِهِ قِيلَ أَيِ: الشَّاتِمُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّتْمُ الْقَبِيحُ الَّذِي يَقْبُحُ ذِكْرُهُ. (وَلَا الْبَذِيءِ) . بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَكَسْرِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِهَا وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي لَا حَيَاءَ لَهُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْبَذَاءُ بِالْمَدِّ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ وَهُوَ بَذِيءُ اللِّسَانِ، وَقَدْ يُقَالُ بِالْهَمْزِ وَلَيْسَ بِكَثِيرٍ. اهـ. فَعَلَى هَذَا يُخَصُّ الْفَاحِشُ بِالْفِعْلِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التِّكْرَارُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالثَّانِي يَكُونُ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ بِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَقَدْ يُقَالُ: عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَ (لَا) زَائِدَةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ: فِي جَامِعِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَفِي أُخْرَى لَهُ) أَيْ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ: (وَلَا الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ، سِوَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى شَيْخِ التِّرْمِذِيِّ، وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

4848 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانًا ". وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4848 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ) أَيِ: الْكَامِلُ (لَعَّانًا) ، أَيْ: كَثِيرَ اللَّعْنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَحْيَانًا (وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ) أَيْ: مُطْلَقًا (أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4849 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « (لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ، وَلَا بِغَضَبِ اللَّهِ، وَلَا بِجَهَنَّمَ ". وَفِي رِوَايَةٍ " وَلَا بِالنَّارِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4849 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَلَاعَنُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (بِلَعْنَةِ اللَّهِ) ، أَيْ: لَا يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَلَا يَقُلْ أَحَدٌ لِمُسْلِمٍ مُعَيَّنٍ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ مَثَلًا (وَلَا بِغَضَبِ اللَّهِ) ، بِأَنْ يَقُولَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْكَ (وَلَا بِجَهَنَّمَ) : بِأَنْ يَقُولَ: لَكَ جَهَنَّمُ أَوْ مَأْوَاكَ. (وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا بِالنَّارِ) . بِأَنْ يَقُولَ أَدْخَلَكَ اللَّهُ النَّارَ أَوِ النَّارُ مَثْوَاكَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَا تَدْعُوَا النَّاسَ بِمَا يُبْعِدُهُمُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ إِمَّا صَرِيحًا كَمَا تَقُولُونَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْ كِنَايَةٌ كَمَا تَقُولُونَ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ، فَقَوْلُهُ: لَا تَلَاعَنُوا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ ; لِأَنَّهُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ حَقِيقَةٌ، وَفِي بَعْضِهِ مَجَازٌ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِمُعَيَّنٍ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ اللَّعْنُ بِالْوَصْفِ الْأَعَمِّ كَقَوْلِهِ: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] ، وَبِالْأَخَصِّ قَوْلِهِ: " «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ» " أَوْ عَلَى كَافِرٍ مُعَيَّنٍ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ كَفِرْعَوْنَ وَأَبِي جَهْلٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ وَلَفْظُهُمْ: وَلَا بِالنَّارِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ.

4850 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4850 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتْ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعَتْ (اللَّعْنَةُ) : وَكَأَنَّهَا تَتَجَسَّدُ (إِلَى السَّمَاءِ) أَيْ: جِهَةَ الْعُلُوِّ (فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِغْلَاقِ ; لِأَنَّ (غَلَقَ الْبَابِ) لُغَةٌ رَدِيئَةٌ فِي (أَغْلَقَهُ) عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، نَعَمْ يَجُوزُ تَشْدِيدُ لَامِهِ، مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف: 23] ، (دُونَهَا) ، أَيْ: قُدَّامَ اللَّعْنَةِ (ثُمَّ تَهْبِطُ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: تَنْزِلُ (إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ: جِهَةَ السُّفْلِ (فَتُغْلِقُ أَبْوَابَهَا) أَيْ: أَبْوَابَ طَبَقَاتِهَا (دُونَهَا) ، أَيْ عِنْدِ ظُهُورِ اللَّعْنَةِ (ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا) ، أَيْ: تَمِيلُ إِلَى جِهَتَيِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَيُمْنَعَانِ دُونَهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: صُعُودُ اللَّعْنَةِ وَهُبُوطُهَا وَأَخْذُهَا يَمِينًا وَشِمَالًا تَصْوِيرُ أَنَّ فِعْلَهُ هَهُنَا كَالْمُتَمَرِّدِ الَّذِي لَا يَجِدُ سَبِيلًا (فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: مَدْخَلًا وَطَرِيقًا مِنْ سَاغَ الشَّرَابُ فِي الْحَلْقِ: دَخَلَ فِيهِ بِسُهُولَةٍ (رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَإِذَا كَانَ) أَيْ: لِمَا ذُكِرَ مِنَ اللَّعْنَةِ (أَهْلًا) ، جَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَحِقَتْهُ وَنَفَذَتْ فِيهِ (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا بِأَنْ كَانَ مَظْلُومًا (رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا) . فَإِنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا وَأَهْلُهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . أَيْ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

4851 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءَهُ فَلَعَنَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4851 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا نَازَعَتْهُ الرِّيحُ) أَيْ: جَاذَبَتْهُ (رِدَاءَهُ فَلَعَنَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ) ، أَيْ: بِأَمْرٍ مَا، أَوِ الْمُنَازَعَةُ مِنْ خَاصِّيَّتِهَا وَلَوَازِمِ وُجُودِهَا عَادَةً، أَوْ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ حَتَّى هَذِهِ الْمُنَازَعَةُ أَيْضًا ابْتِلَاءٌ لِعِبَادِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ) أَيْ: ذَلِكَ الشَّيْءُ (لَهُ) أَيِ: اللَّعْنِ (بِأَهْلٍ) أَيْ: بِمُسْتَحِقٍّ (رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى اللَّاعِنِ ; لِأَنَّ اللَّعْنَةَ وَكَذَا الرَّحْمَةَ تَعْرِفُ طَرِيقَ صَاحِبِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

4852 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4852 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُبَلِّغُنِي) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَيُخَفَّفُ وَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ أَيْ: لَا يُوصِلُنِي (أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي) : بَيَانٌ لِأَحَدٍ (عَنْ أَحَدٍ) أَيْ: عَنْ قِبَلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (شَيْئًا) ، أَيْ: مِمَّا أَكْرَهُهُ وَأَغْضَبُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَامٌّ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ بِأَنْ شَتَمَ أَحَدًا وَآذَاهُ، وَقَالَ فِيهِ خَصْلَةَ سُوءٍ. (فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ) أَيْ: مِنَ الْبَيْتِ وَأُلَاقِيكُمْ (وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ) أَيْ: مِنْ مَسَاوِيكُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَمَنَّى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا وَقَلْبُهُ رَاضٍ عَنْ أَصْحَابِهِ مِنْ غَيْرِ سُخْطٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ أَوْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْبَشَرِيَّةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4853 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا - تَعْنِي قَصِيرَةً - فَقَالَ: " لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَ بِهَا الْبَحْرُ لَمَزَجَتْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4853 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ) أَيْ: مِنْ عُيُوبِهَا الْبَدَنِيَّةِ (كَذَا وَكَذَا) : كِنَايَةٌ عَنْ ذِكْرِ بَعْضِهَا، وَهُوَ كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَقِيلَ: هَذَا تَحْرِيفٌ فِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ، وَالصَّوَابُ حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ أَنَّهَا كَذَا كَذَا. (تَعْنِي) أَيْ: تُرِيدُ عَائِشَةُ بِقَوْلِهَا كَذَا وَكَذَا (قَصِيرَةً) أَيْ: كَوْنُهَا قَصِيرَةً قَالَ شَارِحٌ لَهَا: كَذَا إِشَارَةٌ إِلَى شِبْرِهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ مِنْ تَكْرَارِ كَذَا تَعَدُّدُ نَعْتِهَا، فَلَعَلَّهَا قَالَتْ بِلِسَانِهَا قَصِيرَةً، وَأَشَارَتْ بِشِبْرِهَا أَنَّهَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْقِصَرِ، فَأَرَادَتِ التَّأْكِيدَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَالَ: لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً) أَيْ: طَوِيلَةً عَرِيضَةً وَمُرَّةً نَتْنَةً عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَوَاسِّ الْكَامِلَةِ (لَوْ مُزِجَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَوْ خُلِطَ (بِهَا) أَيْ: عَلَى فَرْضِ تَجْسِيدِهَا وَتَقْدِيرِ كَوْنِهَا مَائِعًا (الْبَحْرُ) أَيْ: مَاؤُهُ (لَمَزَجَتْهُ) . أَيْ: غَلَبَتْهُ وَغَيَّرَتْهُ قَالَ الْقَاضِي: الْمَزْجُ الْخَلْطُ وَالتَّغْيِيرُ بِضَمِّ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْغَيْبَةَ لَوْ كَانَتْ مِمَّا يُمْزَجُ بِالْبَحْرِ لِغَيَّرَتْهُ عَنْ حَالِهِ مَعَ كَثْرَتِهِ وَغَزَارَتِهِ، فَكَيْفَ بِأَعْمَالٍ قَذِرَةٍ خُلِطَتْ بِهَا؟ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ حُرِّفَتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَصَابِيحِ، وَالصَّوَابُ لَوْ مُزِجَتْ بِالْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ وَالْمَتْنِ فِي نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَلَعَلَّ التَّخْطِئَةَ مِنْ أَجْلِ الدِّرَايَةِ لَا الرِّوَايَةِ، إِذْ لَا يُقَالُ مُزِجَ بِهَا الْبَحْرُ، بَلْ مُزِجَتْ بِالْبَحْرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَزْجَ وَالْخَلْطَ يَسْتَدْعِيَانِ الِامْتِزَاجَ وَالِاخْتِلَاطَ، وَكُلُّ الْمُمْتَزِجَيْنِ يَمْتَزِجُ بِالْآخَرِ، يَعْنِي: مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ وَالْمَائِعِيَّةِ وَالْجَامِدِيَّةِ، كَأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَصْلُ عَنْ أَرْبَابِ الْفَضْلِ ثَمَّ. قَالَ تَعَالَى: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [يونس: 24] ، الْكَشَّافُ: وَكَانَ حَقُّ اللَّفْظِ فَاخْتَلَطَ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ، وَوَجْهُ صِحَّتِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ،

عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ أَبْلَغُ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ، أَقُولُ: فِيهِ أَبْحَاثٌ، أَمَّا أَوَّلًا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الدِّرَايَةُ تَابِعَةً لِلرِّوَايَةِ، فَتَخْطِئَةُ الْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَرْبَابِ الْعِنَايَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهٍ نَبِيهٍ وَتَوْجِيهٍ وَجِيهٍ بَعْدَ ثُبُوتِ هَذَا اللَّفْظِ مِمَّنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَبَدَائِعَ الْحِكَمِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَقَوْلُهُ: يُقَالُ مُزِجَتْ بِالْبَحْرِ لَا مُزِجَ بِهَا ; سَبَبُهُ أَنَّهُ يَنْسَبُ الْقَلِيلَ إِلَى الْكَثِيرِ لَا عَكْسُهُ عُرْفًا وَعَادَةً، وَإِنْ جَازَ لُغَةً فَإِنَّهُ يُقَالُ: اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَعَكْسُهُ تَفَاضُلًا وَتَسَاوِيًا، فَنَقُولُ: فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْكِ وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَقَلِيلَةً عِنْدَكَ، فَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ كَبِيرَةٌ وَكَثِيرَةٌ ; بِحَيْثُ لَوْ مُزِجَ بِهَا الْبَحْرُ بِأَجْنَاسِهَا وَأَصْنَافِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَوُسْعِهَا مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا وَعُمْقِهَا لَغَلَبَتْهُ، وَهَذَا مِنَ الْبَلَاغَةِ غَايَةُ مَبْلَغِهَا، وَفِي الْبَلِيغِ مِنَ الزَّجْرِ نِهَايَةُ حَدِّهَا وَمُنْتَهَاهَا، وَأَمَا ثَالِثًا: فَقَوْلُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [يونس: 24] ، حَقُّ اللَّفْظِ فَاخْتَلَطَ نَبَاتُ الْأَرْضِ، خَطَأٌ فَاحِشٌ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ نَبَاتُ الْأَرْضِ، إِذْ لَيْسَ تَحْتَهُ طَائِلٌ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَأَنَّ الْمُخْتَلِطَ هُوَ بَعْضُ نَبَاتِ الْأَرْضِ بِبَعْضِهِ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَطَرَ سَابَقٌ وُجُودَهُ عَلَى تَحَقُّقِ النَّبَاتِ عَلَى مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ فَاءُ التَّعْقِيبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [يونس: 24] الْآيَةُ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اخْتِلَاطُهُمَا؟ ، وَأَمَّا رَابِعًا فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ، مَمْنُوعٌ وَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْعَرْضَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَرْبَابِ التَّمْيِيزِ، فَبِهَذِهِ الْقَرِينَةِ يُعْرَفُ أَنَّ الْكَلَامَ مَقْلُوبٌ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ بِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَابِلِيَّةَ الْخَلْطِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. فَإِنْ قُلْتَ: لَعَلَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ أَرَادَ اخْتِلَاطَ أَثَرِ مَاءِ الْمَطَرِ بِمَا يُنْبِتُ بِهِ الْأَرْضَ مِنَ الْحَبَّةِ مَثَلًا، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَطْمَحُ نَظَرِهِ وَمَطْلَعُ فِكْرِهِ، لَكِنَّهُ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] ، إِذْ تَعْقِيبِيَّةُ الْإِصْبَاحِ الْمَذْكُورِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ حُصُولِ اخْتِلَاطِ النَّبَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ لَا حِينَ اخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْحَبِّ وَالنَّوَى، كَمَا لَا يَخْفَى، وَمِمَّا يَدُلُّ صَرِيحًا عَلَى كَوْنِ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْكَشَّافَ اخْتَارَ مَا اخْتَرْنَاهُ وَحَرَّرَ مَا حَرَّرْنَاهُ ; حَيْثُ قَالَ: فَالْتَفَّتْ بِسَبَبِهِ وَتَكَاثَفَ حَتَّى خَالَطَ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: تَجَمَّعَ فِي النَّبَاتِ الْمَاءُ فَاخْتَلَطَ بِهِ حَتَّى رُوِيَ وَرَفَّ رَفِيفًا، وَكَانَ حَقُّ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَاخْتَلَطَ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ، وَوَجْهُ صِحَّتِهِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُخْتَلِطَيْنِ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ. اهـ كَلَامُهُ. فَالِاعْتِرَاضُ يُحَوَّلُ إِلَى مَا قِيلَ، وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ تَحْرِيرِهِ وَتَوْجِيهِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ نَقْلَ الطِّيبِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْصِيرِهِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الدَّسِيسَةِ الِاعْتِزَالِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَحَقُّ اللَّفْظِ مَعَ سُوءِ الْأَدَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .

4854 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4854 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ الْفُحْشُ) أَيِ: الْقَبِيحُ مِنَ الْكَلَامِ (فِي شَيْءٍ) أَيْ: فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ (إِلَّا شَانَهُ) ، أَيْ: عَيَّبَهُ الْفُحْشُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُحْشِ الْعُنْفُ لِمَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَالضِّيَاءِ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ. ( «وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ» ) . أَيْ زَيَّنَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ فِيهِ مُبَالَغَةٌ أَيْ: لَوْ قُدِّرَ أَنْ يَكُونَ الْفُحْشُ أَوِ الْحَيَاءُ فِي جَمَادٍ لَزَانَهُ أَوْ شَانَهُ، فَكَيْفَ بِالْإِنْسَانِ. اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِشَيْءٍ شَيْئًا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْفُحْشُ وَالْحَيَاءُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ فِي أَحَدٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ لَكِنْ بِزِيَادَةِ: " قَطُّ " بَعْدَ كُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ: (فِي شَيْءٍ) .

4855 - وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» ". يَعْنِي: مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ ; لِأَنَّ خَالِدًا لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4855 - (وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ عَيْنٍ فَدَالٍ مُهْمَلَتَيْنِ، يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيَّ الْكُلَاعِيَّ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ. قَالَ: لَقِيتُ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ، مَاتَ بِالطَّرَطُوسِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (عَنْ مُعَاذٍ) ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ ابْنُ جَبَلٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عَيَّرَ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: وَبَّخَ وَلَامَ (أَخَاهُ) أَيِ: الْمُسْلِمَ (بِذَنْبٍ) أَيْ: صَدَرَ مِنْهُ سَابِقًا أَوْ عَلَى طَرِيقِ الشَّمَاتَةِ (لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ) أَيْ: مِثْلَ ذَنْبِهِ (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّعْيِيرَ (مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ) . قَالَ مِيرَكُ: هَذَا التَّفْسِيرُ مَنْقُولٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ ; لِأَنَّ خَالِدًا لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) . قُلْتُ: وَكَانَ مُعَاذًا لَيْسَ مِنَ السَّبْعِينَ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ، وَلَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَإِلَّا فَالْمُعَاصَرَةُ تَكْفِي فِي صِحَّةِ الِاتِّصَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاعْتِبَارُ اللُّقِيِّ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَفِي الْإِحْيَاءِ «قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: " عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِنِ امْرُؤٌ عَيَّرَكَ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ فِيكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِشَيْءٍ تَعْلَمُهُ فِيهِ يَكُنْ وَبَالُهُ عَلَيْهِ وَأَجْرُهُ لَكَ» ". قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُرَيٍّ الْهَجِيمِيِّ، قِيلَ: اسْمُهُ جَابِرُ بْنُ سَلِيمٍ، قِيلَ: سَلِيمُ بْنُ جَابِرٍ.

4856 - وَعَنْ وَاثِلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4856 - (وَعَنْ وَثِلَةَ) : بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ ابْنُ الْأَسْقَعِ اللَّيْثِيُّ، أَسْلَمَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَجِّهٌ إِلَى تَبُوكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ خَدَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَمَاتَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ) أَيِ: الْفَرَحَ بِبَلِيَّةِ عَدُوِّكَ (لِأَخِيكِ) أَيْ: لِأَجْلِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ الَّذِي وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ مَالِيَّةٍ (فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِمُرَاعَاةِ السَّجْعِ فِي عَطْفِ قَوْلِهِ: وَيَبْتَلِيكَ، وَالْمَعْنَى يَرْحَمُهُ رَغْمًا لِأَنْفِكَ (وَيَبْتَلِيَكَ) . حَيْثُ زَكَّيْتَ نَفْسَكَ وَرَفَعْتَ مَنْزِلَتَكَ عَلَيْهِ، وَنَحْوَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِ مَنْ «قَالَ لِصَاحِبِهِ، وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَدًا: " فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُذْنِبِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْظُرَ عَنْ عَبْدِي رَحْمَتِي» " الْحَدِيثَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَفِي الْإِحْيَاءِ بِلَفْظِ: " فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ " قَالَ الْعِرَاقِيُّ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا: " فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ ".

4857 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ أَحَدًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4857 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أُحِبُّ) أَيْ: مَا أَوَدُّ (أَنِّي حَكَيْتُ أَحَدًا) أَيْ: فِعْلَ أَحَدٍ، وَالْمَعْنَى: مَا أُحِبُّ أَنْ أَتَحَدَّثَ بِعَيْبِ أَحَدٍ قَوْلِيًّا أَوْ فِعْلِيًّا (وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) أَيْ: وَلَوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْأَشْيَاءِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، أَوْ حَكَيْتُ بِمَعْنَى حَاكَيْتُ فَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: فَعَلْتُ مِثْلَ فِعْلِهِ، يُقَالُ: حَكَاهُ وَحَاكَاهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَبِيحِ الْمُحَاكَاةُ. قُلْتُ: فَيُحْمَلُ حَكَيْتُ عَلَى الْحَسَنِ فَيُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَارِدَةٌ عَلَى التَّتْمِيمِ وَالْمُبَالَغَةِ أَيْ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُحَاكِيَ أَحَدًا وَلَوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الدُّنْيَا. اهـ، وَفِيهِ أَنَّ الْأُصُولَ الْمُعْتَمِدَةَ عَلَى فَتْحِ إِنَّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي وَالْمَعْنَى: إِنِّي مَا أُحِبُّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُحَاكَاةِ وَحُصُولِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِسَبَبِ الْمُحَاكَاةِ فَإِنَّهَا أَمْرٌ مَذْمُومٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنَ الْغَيْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الْمُحَاكَاةُ بِأَنْ يَمْشِيَ مُتَعَارِجًا أَوْ مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْهَيْئَاتِ كَمَا مَرَّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْهَا بِلَفْظِ: " «مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا» " إِلَخْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

4858 - وَعَنْ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ عَقَلَهَا، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا سَلَّمَ أَتَى رَاحِلَتَهُ فَأَطْلَقَهَا، ثُمَّ رَكِبَ، ثُمَّ نَادَى: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تُشْرِكْ فِي رَحْمَتِنَا أَحَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَقُولُونَ هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى مَا قَالَ؟ " قَالُوا: بَلَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَكَفَى الْمَرْءَ كَذِبًا " فِي " بَابِ الِاعْتِصَامِ " فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4858 - (وَعَنْ جُنْدُبٍ) : مَرُّ ذِكْرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) ، أَيْ: وَاحِدٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَهُمْ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ (فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ عَقَلَهَا) ، أَيْ: قَيَّدَهَا (ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا سَلَّمَ) أَيْ: مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ عَلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (أَتَى رَاحِلَتَهُ فَأَطْلَقَهَا، ثُمَّ رَكِبَ، ثُمَّ نَادَى) أَيْ: رَفَعَ صَوْتَهُ بِقَوْلِهِ (اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تُشْرِكْ فِي رَحْمَتِنَا أَحَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَقُولُونَ) : فِي النِّهَايَةِ أَيْ: أَتَظُنُّونَ (هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ) أَيْ: أَجْهَلُ (أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى مَا قَالَ؟) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ مَا قَالَ (قَالُوا: بَلَى) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيَدُورُ هَذَا التَّرْدِيدُ فِي ظَنِّكُمْ وَلَا يَقُولُ مَا قَالَ إِلَّا جَاهِلٌ بِاللَّهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ ; حَيْثُ يُحَجِّرُ الْوَاسِعَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجُشَمِيَّ الرَّاوِيَ عَنْ جُنْدُبٍ، لَمْ يَرْوِ لَهُ غَيْرُ أَبِي دَاوُدَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَفِي الْحِصْنِ لِلْجَزَرِيِّ: وَمِنْ جُمْلَةِ آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ لَا يَتَحَجَّرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ مِيرَكُ: كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ دَعَا فَقَالَ: " «اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا» ". قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَيْ: ضَيَّقْتَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ، فَخَصَصْتَ بِهِ نَفْسَكَ دُونَ غَيْرِكَ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ " كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا) : تَمَامُهُ: " أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ". (فِي بَابِ الِاعْتِصَامِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ الِاعْتِصَامِ، ثُمَّ فِي تَحْوِيلِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْمُنَاسِبِ لَهُ أَيْضًا بَلِ الْأَنْسَبُ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمَعْنَى الْأَعَمَّ مِنْ كَوْنِ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ بِكُلِّ مَا سُمِعَ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ خِلَافَ الصَّوَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، فَالِاعْتِذَارُ الْمُتَضَمِّنُ لِلِاعْتِرَاضِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4859 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ غَضِبَ الرَّبُّ تَعَالَى، وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4859 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ) : بِأَنْ قَالَ لَهُ يَا سَيِّدُ مَثَلًا (غَضِبَ الرَّبُّ تَعَالَى) أَيْ: عَلَى الْمَادِحِ (وَاهْتَزَّ لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِ مَدْحِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِذَلِكَ (الْعَرْشُ) أَيْ: وَكَادَ أَنْ يَتَحَرَّكَ وَيَنْدَكَّ مِنْ هَيْبَةِ أَثَرِ عَظَمَةِ سُخْطِهِ سُبْحَانَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا - أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 90 - 91] ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اهْتِزَازُ الْعَرْشِ عِبَارَةٌ عَنْ وُقُوعِ أَمْرٍ عَظِيمٍ وَدَاهِيَةٍ دَهْيَاءَ ; لِأَنَّ فِيهِ رِضًا بِمَا فِيهِ سُخْطُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ، بَلْ يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا ; لِأَنَّهُ يَكَادُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْقُرَّاءِ الْمُرَائِينَ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ مَنْ مَدَحَ الْفَاسِقَ، فَكَيْفَ بِمَنْ مَدَحَ الظَّالِمَ وَرَكَنَ إِلَيْهِ رُكُونًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] ، الْكَشَّافُ: النَّهْيُ مُتَنَاوِلٌ لِلِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِمْ وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ وَزِيَارَتِهِمْ وَمُدَاهَنَتِهِمْ، وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ، وَمَدِّ الْعَيْنِ إِلَى زُمْرَتِهِمْ، وَذِكْرِهِمْ بِمَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ.

وَلَمَّا خَالَطَ الزُّهْرِيُّ السَّلَاطِينَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَخٌ لَهُ فِي الدِّينِ: عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَبَا بَكْرٍ مِنَ الْفِتَنِ، فَقَدْ أَصْبَحْتَ بِحَالٍ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَكَ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ وَيَرْحَمَكَ، أَصْبَحْتَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَقَدْ أَثْقَلَتْكَ نِعَمُ اللَّهِ بِمَا فَهَّمَكَ مِنْ كِتَابِهِ وَعَلَّمَكَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى الْعُلَمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَيَسْرَ مَا ارْتَكَبْتَ وَأَخَفَّ مَا احْتَمَلْتَ أَنَّكَ آنَسْتَ وَحْشَةَ الظَّالِمِ، وَسَهَّلْتَ سَبِيلَ الْغَيِّ بِدُنُوِّكَ مِمَّنْ لَمْ يَوَدَّ حَقًّا، وَلَمْ يَتْرُكْ بَاطِلًا حِينَ أَدْنَاكَ، اتَّخَذُوكَ قُطْبًا يَدُورُ عَلَيْكَ رَحَى بَاطِلِهِمْ، وَجِسْرًا يَعْبُرُونَ عَلَيْكَ إِلَى بَلَائِهِمْ وَسُلَّمًا يَصْعَدُونَ فِيكَ إِلَى ضَلَالِهِمْ، يُدْخِلُونَ الشَّكَّ بِكَ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَيَقْتَادُونَ بِكَ قُلُوبَ الْجُهَلَاءِ، فَمَا أَيْسَرَ مَا عَمَّرُوا لَكَ فِي جَنْبِ مَا أَخْرَبُوا عَلَيْكَ. وَمَا أَكْثَرَ مَا أَخَذُوا مِنْكَ فِيمَا أَفْسَدُوا عَلَيْكَ مِنْ دِينِكَ، فَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، فَإِنَّكَ تُعَامِلُ مَنْ لَا يَجْهَلُ، وَيَحْفَظُ عَلَيْكَ مَنْ لَا يَغْفُلُ، فَدَاوِ دِينَكَ فَقَدْ دَخَلَهُ السَّقَمُ، وَهَيِّئْ زَادَكَ فَقَدْ حَضَرَ السَّفَرُ الْبَعِيدُ، وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَالسَّلَامُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُدَيٍّ عَنْ بُرَيْدَةَ.

4860 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4860 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أَيِ: الْبَاهِلِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُخْلَقُ وَيُجْبَلُ (عَلَى الْخِلَالِ) أَيِ: الْخِصَالُ زِنَةً وَمَعْنًى (كُلِّهَا) أَيْ: جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا أَوِ الْأَعَمُّ مِنْهَا (إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ) : بِنَصْبِهِمَا أَيْ: غَيْرَهُمَا، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُخْلَقُ وَيُجْبَلُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْأَمَانَةِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بِصِيغَةِ الْحَصْرِ: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] ، أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ أَوِ الْمَجْبُولُونَ عَلَيْهِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» ". عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ، فَمَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لِطَبِيعَتِهِ لَا مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ وَجِبِلَّتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْمُؤْمِنِ عَنْهُمَا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: يُطْبَعُ عَلَيْهَا أَيْ: يُخْلَقُ، وَالطَّبَاعُ مَا رُكِّبَ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي لَا يَكَادُ يُزَايِلُهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَتِ الْخِيَانَةُ وَالْكَذِبُ مُنَافِيَيْنِ بِحَالِهِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ أَفْعَالٌ مِنَ الْأَمْنِ، وَحَقِيقَتُهُ أَمْنُهُ التَّكْذِيبَ وَالْمُخَالَفَةَ ; وَلِأَنَّهُ حَامِلُ أَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَمِينًا لَا خَائِنًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ.

4861 - وَالْبَيْهَقِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4861 - (وَالْبَيْهَقِيُّ) : وَالْأَظْهَرُ مَا فِي نُسْخَةٍ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

4862 - وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سَلِيمٍ، أَنَّهُ «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَقِيلَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ قَالَ: " لَا» . رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4862 - (وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) ، بِالتَّصْغِيرِ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَنَفَرٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَضَعْ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيَقُولُونَ: إِنَّ جَبْهَتَهُ ثُقِبَتْ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ جَوَائِزَ السَّلَاطِينِ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، كَذَا

ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟) ، أَيْ: بِالطَّبْعِ أَوْ مُطْلَقًا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ ضِدُّ الشُّجَاعِ (قَالَ: نَعَمْ) أَيْ: يَكُونُ وَلَا يُنَافِي الْإِيمَانَ (فَقِيلَ لَهُ) أَيْ: لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟) أَيْ: بِالطَّبْعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] أَوْ بِإِخْرَاجِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ لِمَيْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. (قَالَ: نَعَمْ) أَيْ: يَكُونُ وَلَا يُنَافِيهِ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ أَوْ كَمَالُهُ (فَقِيلَ) أَيْ: لَهُ (أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟) أَيْ: كَثِيرَ الْكَذِبِ مُبَالِغًا فِيهِ، أَوْ ذَا كَذِبٍ بِحَسَبِ الطَّبْعِ وَالْخُلُقِ (قَالَ: " لَا ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مُرْسَلًا) : قُيِّدَ لَهُمَا.

4863 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، فَيَأْتِي الْقَوْمَ فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنَ الْكَذِبِ فَيَتَفَرَّقُونَ ; فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: سَمِعْتُ رَجُلًا أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ يُحَدِّثُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4863 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ) ، أَيْ: أَحْيَانًا (فَيَلْقَى الْقَوْمَ) أَيْ: جَمَاعَةً (فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنَ الْكَذِبِ فَيَتَفَرَّقُونَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: سَمِعْتُ رَجُلًا أَعْرِفُ وَجْهَهُ) أَيْ: رَسْمَهُ (وَلَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ) أَيْ: وَصْفَهُ (يُحَدِّثُ) أَيْ: كَذَا وَكَذَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ حَتَّى عُدَّ كُفْرًا، فَلِهَذَا يَعْتَنِي بِهِ رَئِيسُهُمْ وَيَتَصَوَّرُهُ بِصُورَةٍ حِسِّيَّةٍ تَقْوِيَةً لِلْوَسْوَسَةِ الدَّاخِلِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَكَانَ الْأَنْسَبُ إِيرَادَهُ فِي بَابِ الِاعْتِصَامِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ خَبَرِ الْكَذِبِ، أَوْ مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ نَحْوِ الْبُهْتَانِ وَالْقَذْفِ وَأَمْثَالِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ وَاحِدٌ مِنَ الْجِنْسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّحَرِّي فِيمَا يُسْمَعُ مِنَ الْكَلَامِ، وَأَنْ يُتَعَرَّفَ مِنَ الْقَائِلِ أَهْوَ صَادِقٌ يَجُوزُ النَّقْلُ عَنْهُ أَوْ كَاذِبٌ يَجِبُ الِاجْتِنَابُ عَنْ نَقْلِ كَلَامِهِ؟ عَلَى مَا وَرَدَ: كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4864 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ قَالَ: «أَتَيْتُ أَبَا ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَجَدْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُحْتَبِيًا بِكِسَاءٍ أَسْوَدَ وَحْدَهُ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ مَا هَذِهِ الْوَحْدَةُ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ، وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ وَإِمْلَاءُ الْخَيْرُ خَيْرٌ مِنَ السُّكُوتِ، وَالسُّكُوتُ خَيْرٌ مِنْ إِمْلَاءِ الشَّرِّ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4864 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالنُّونِ، أَوْسِيٌّ خَزْرَجِيٌّ، سَمِعَ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا ذَرٍّ، وَرَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا. (قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ذَرٍّ فَوَجَدْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُحْتَبِيًا بِكِسَاءٍ أَسْوَدَ وَحْدَهُ) أَيْ: مُنْفَرِدًا لَيْسَ أَحَدٌ عِنْدَهُ (فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ مَا هَذِهِ الْوَحْدَةُ؟) أَيِ: الَّتِي تُورِثُ الْوَحْشَةَ، وَالْمَعْنَى: مَا سَبَبُهَا وَبَاعِثُهَا. (فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَتُضَمُّ أَيِ: السَّيِّئُ الطَّالِحُ (وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ) يَعْنِي: وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ قَلِيلٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ (وَإِمْلَاءُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنَ السُّكُوتِ، وَالسُّكُوتُ خَيْرٌ مِنْ إِمْلَاءِ الشَّرِّ) : يَعْنِي: وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى السُّكُونِ الْعُزْلَةُ وَالْوَحْدَةُ. فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ.

4865 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَقَامُ الرَّجُلِ بِالصَّمْتِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4865 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَقَامُ الرَّجُلِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِضَمٍّ أَيْ: ثَبَاتُهُ (بِالصَّمْتِ) ، أَيْ: بِمُدَاوَمَةِ سُكُوتِهِ عَنِ الشَّرِّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ (أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً) أَيْ: مَعَ كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَعَدَمِ التَّثَبُّتِ فِي الْمَقَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ فِي الْعِبَادَةِ آفَاتٍ يَسْلَمُ عَنْهَا بِالصَّمْتِ كَمَا وَرَدَ: مَنْ صَمَتَ نَجَا. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عِمْرَانَ، لَكِنَّ لَفْظَهُ مَقَامُ الرَّجُلِ فِي الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. اهـ. وَلَعَلَّ الصَّمْتَ وَقَعَ فِيهِ تَصْحِيفٌ فَرَاجِعْ فِي الْأُصُولِ.

4866 - «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي. قَالَ: " أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ أَزْيَنُ لِأَمْرِكَ كُلِّهِ " قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: " عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ، وَنُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ ". قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: " عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ، فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ " قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ، فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ " قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: " قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا ". قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: " لَا تَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ". قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: " لِيَحْجُزْكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِكَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4866 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ) أَيْ: أَبُو ذَرٍّ أَوْ رَاوِيَةٌ (الْحَدِيثَ بِطُولِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِثْلَ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ التَّالِي لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى هَذَا، مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ لَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِيهِ طُولٌ، لَكِنَّ فِي أَثْنَائِهِ وَأَوَاخِرِهِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ. (إِلَى أَنْ قَالَ) أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ) : وَهُوَ وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] ، (فَإِنَّهُ) أَيْ: الِاتِّقَاءُ أَوْ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْوَى (أَزْيَنُ) أَيْ: غَايَةٌ مِنَ الزَّيْنِ وَنِهَايَةٌ مِنَ الْحُسْنِ (لِأَمْرِكَ) أَيْ: لِأُمُورِ دِينِكَ الِاعْتِقَادِيِّ وَالْقَوْلِيِّ وَالْعَمَلِيِّ، بَلْ وَلِأُمُورِ دُنْيَاكَ الَّتِي هِيَ مَعَاشُكَ الْمُقْتَضِيَةُ لِحُسْنِ مَعَادِكَ (كُلِّهِ) ; لِأَنَّ التَّقْوَى بِجَمِيعِ مَرَاتِبِهَا مِنْ تَرْكِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالتَّوَرُّعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَالتَّخَلِّي عَنْ خُطُورِ مَا سِوَى اللَّهِ بِالْبَالِ مِنْ شِيَمِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ فِي الْأَحْوَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: نَسَبَ الزِّينَةَ إِلَى التَّقْوَى، كَمَا نَسَبَ إِلَيْهِ تَعَالَى اللِّبَاسَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، فَكَمَا أَنَّ السَّمَاءَ مُزَيَّنَةٌ بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ، كَذَلِكَ قُلُوبُ الْعَارِفِينَ مُزَيَّنَةٌ بِالْمَعَارِفِ وَالتَّقْوَى. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] . اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] ، بَلْ قَبْلَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلَنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26] . (قُلْتُ: زِدْنِي) أَيْ: فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ (قَالَ: عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ) أَيْ: فَإِنَّهَا مَجْلَبَةٌ لِلتَّقْوَى وَمُوَرِّثَةٌ لِلدَّرَجَاتِ الْعُلَا (وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) ، تَعْمِيمٌ وَتَتْمِيمٌ (فَإِنَّهُ) أَيْ: مَا ذُكِرَ لَكَ مِنَ التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ (ذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ، وَنُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ) ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ، فَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " «فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» ". وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا، فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الذِّكْرُ فَتُعْرِفُ مَرْتَبَةُ التِّلَاوَةِ بِالْأَوْلَى، عَلَى أَنَّ التِّلَاوَةَ مُنَاجَاةٌ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (قُلْتُ: زِدْنِي) أَيْ: فِي الْوَصِيَّةِ بِمَا يُعِينُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ (عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ) أَيْ: بِدَوَامِهِ فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ) أَيْ: لِرَئِيسِهِمْ أَوْ لِجِنْسِهِمْ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ: لِلشَّيَاطِينِ (وَعَوْنٌ) أَيْ: مُعِينٌ (لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ) أَيِ: اسْتِقَامَتِهِ

قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: " إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ، فَإِنَّهُ (أَيْ: إِكْثَارُهُ وَقِيلَ مَا ذُكِرَ مِنْ كَثْرَةِ الضَّحِكِ أَوِ الضَّحِكُ الْكَثِيرُ (يُمِيتُ الْقَلْبَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: الْقُلُوبَ، أَيْ: يُورِثُ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُفْضِيَةٌ إِلَى الْغَفْلَةِ، وَلَيْسَ مَوْتُ الْقَلْبِ إِلَّا الْغَفْلَةَ عَنِ الذِّكْرِ (وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ) أَيْ: بَهَائِهِ وَحُسْنِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] . (قُلْتُ: زِدْنِي قَالَ: قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ) أَيْ: وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْحَقِّ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عِنْدَ أَهْلِ الْبَاطِلِ الْمُتَلَهِّينَ بِالْحَلَوِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ (مُرًّا) أَيْ: صَعْبَ الْمَذَاقِ وَشَدِيدَ الْمَشَاقِّ وَأَنْشَدَ: لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَا قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي مَنْ يَأْبَاهُمَا بِالصَّبْرِ، فَإِنَّهُ مُرُّ الْمَذَاقِ لَكِنَّ عَاقِبَتَهُ مَحْمُودَةٌ. (قُلْتُ: زِدْنِي قَالَ: لَا تَخَفْ فِي اللَّهِ) : أَيْ فِي حَقِّهِ وَطَرِيقِ عِبَادَتِهِ (لَوْمَةَ لَائِمٍ) أَيْ: مَلَامَةَ أَحَدٍ، وَفِيهِ قَطْعُ تَعَلُّقِهِ عَنِ الْخَلْقِ بِالْكُلِّيَّةِ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، وَثَبَاتُهُ عَلَى الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَذَمَّةِ النَّاسِ وَمَدْحِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: كُنْ صُلْبًا فِي دِينِكَ إِذَا شَرَعْتَ فِي إِنْكَارِ مُنْكَرٍ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، امْضِ فِيهِ كَالْمَسَامِيرِ الْمُحْمَاةِ لَا يَرُعْكَ قَوْلُ قَائِلٍ وَلَا اعْتِرَاضُ مُعْتَرِضٍ. اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلِ الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ مُرًّا، وَالْحَمْلُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ. (قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: لِيَحْجُزْكَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ، أَيْ: لِيَمْنَعْكَ (عَنِ النَّاسِ) أَيْ: عُيُوبُهُمْ (مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِكَ) أَيْ: مِنْ عُيُوبِهَا، كَمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ: «طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ» . قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ الْمَتْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، «عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: " أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ، عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ وَنُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ، عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَنْكَ وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ، إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ، فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ، عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي، أَحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ، انْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَكَ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرِيَ نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَكَ، صِلْ قَرَابَتَكَ وَإِنْ قَطَعُوكَ، قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، لَا تَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، لِيَحْجُزْكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَا تَجِدْ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي، وَكَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: أَنْ يَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا يَجْهَلُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَسْتَحْيِي لَهُمْ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَيُؤْذِي جَلِيسَهُ. يَا أَبَا ذَرٍّ لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» ".

4867 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَصْلَتَيْنِ هُمَا أَخَفُّ عَلَى الظَّهْرِ وَأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ؟ " قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: " طُولُ الصَّمْتِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَمِلَ الْخَلَائِقُ بِمِثْلِهِمَا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4867 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَصْلَتَيْنِ هُمَا أَخَفُّ عَلَى الظَّهْرِ) أَيْ: ظَهْرِ الْمُكَلَّفِ وَبَدَنِهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ اللِّسَانِ (وَأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَشْبِيهٌ لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ فِي تَأْتِّيهِ بِالسُّهُولَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ ". (قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: طُولُ الصَّمْتِ) أَيِ: الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّفَكُّرِ،

(وَحُسْنُ الْخُلُقِ) أَيِ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْحَقِّ أَوِ الْخَلْقِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَمِلَ الْخَلَائِقُ بِمِثْلِهِمَا) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: مَا عَمِلَ الْخَلَائِقُ عَمَلَيْنِ مِثْلَ عَمَلِهِمَا، أَوْ عَمِلَ بِمَعْنَى أَتَى أَيْ: مَا أَتَوْا بِمِثْلِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيُّ: أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا أُنْبِئُكَ بِأَمْرَيْنِ خَفِيفٌ أَمْرُهُمَا عَظِيمٌ أَجْرُهُمَا لَمْ تَلْقَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِمِثْلِهِمَا: طُولُ الصَّمْتِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» ". وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَيْضًا عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ مُرْسَلًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَيْسَرِ الْعِبَادَةِ وَأَهْوَنِهَا عَلَى الْبَدَنِ؟ الصَّمْتُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» ".

4868 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَلْعَنُ بَعْضَ رَقِيقِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَالَ: " لَعَّانِينَ وَصِدِّيقِينَ؟ كَلَّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ " فَأَعْتَقَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ بَعْضَ رَقِيقِهِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا أَعُودُ» . رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4868 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَلْعَنُ بَعْضَ رَقِيقِهِ، فَالْتَفَتَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي نُسْخَةٍ (إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى أَبِي بَكْرٍ، أَوْ فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَعَّانِينَ وَصِدِّيقِينَ) بِتَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ، أَيْ: هَلْ رَأَيْتَ لَعَّانِينَ وَصِدِّيقِينَ؟ أَيْ جَامِعِينَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وَالْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الصِّفَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ لِإِرَادَةِ تَعْظِيمِ الصِّدِّيقِ (كَلَّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: هَلْ رَأَيْتَ صِدِّيقًا يَكُونُ لَعَّانًا؟ كَلَّا وَاللَّهِ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا. فَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ، أَيْ: لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَفِي الْكَلَامِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ. (فَأَعْتَقَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ بَعْضَ رَقِيقِهِ) أَيْ: كَفَّارَةً لِمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ شُعُورِهِ (ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: لِلِاعْتِذَارِ (فَقَالَ لَا أَعُودُ) أَيْ: فِي لَعْنِ أَحَدٍ، الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ، وَشَيْخُهُ بَشَّارُ بْنُ مُوسَى الْخِفَافِ، وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَكَانَ أَحْمَدُ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيهِ، ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّ. (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4869 - وَعَنْ أَسْلَمَ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ عُمَرُ: مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ. رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4869 - (وَعَنْ أَسْلَمَ) : هُوَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كُنْيَتُهُ أَبُو خَالِدٍ، كَانَ حَبَشِيًّا، اشْتَرَاهُ عُمَرُ بِمَكَّةَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَرَوَى عَنْهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ، مَاتَ فِي وِلَايَةِ مَرْوَانَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ. (قَالَ: إِنَّ عُمَرَ دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ يَجْبِذُ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَجْذِبُ (لِسَانَهُ) ، وَيَمُدُّهُ وَيَجُرُّهُ، فَفِي الْمُغْرِبِ: الْجَبْذُ بِمَعْنَى الْجَذْبِ وَكِلَاهُمَا مِنْ بَابِ ضَرَبَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي النِّهَايَةِ: الْجَبْذُ لُغَةٌ فِي الْجَذْبِ، وَقِيلَ هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْهُ. اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْجَبْذُ: الْجَذْبُ وَلَيْسَ مَقْلُوبَهُ، بَلْ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. (فَقَالَ عُمَرُ: مَهْ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ هَاءٍ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى اكْفُفْ وَامْتَنِعْ عَنْ ذَلِكَ. (غَفَرَ اللَّهُ لَكَ) : دُعَاءٌ أَوْ إِخْبَارٌ عَمَّا سُمِعَ فِي حَقِّهِ (فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ هَذَا) أَيِ: اللِّسَانَ، وَالْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ أَوِ التَّحْقِيرِ (أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ) أَيْ: أَدْخَلَنِي الْمَهَالِكَ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَكَذَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ، وَفِي لَفْظِ الْبَيْهَقِيِّ قَالَ: إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي شَرَّ الْمَوَارِدِ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ إِلَّا يَشْكُو إِلَى اللَّهِ ذَرْبَ اللِّسَانِ عَلَى حِدَّتِهِ» ". كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ اطَّلَعَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَمُدُّ لِسَانَهُ، فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ إِلَّا يَشْكُو إِلَى اللَّهِ اللِّسَانَ عَلَيْهِ حِدَّتِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ، وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ رِوَايَةِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ الْمَرْفُوعَ وَهْمٌ عَلَى الدَّرَاوَرْدِيِّ. قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا عِلَّةَ لَهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَفِي الْآثَارِ، رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ حَصَاةً فِي فِيهِ يَمْنَعُ بِهَا نَفْسَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَانَ يُشِيرُ إِلَى لِسَانِهِ وَيَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ.

4870 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4870 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اضْمَنُوا لِي) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: تَكَفَّلُوا لِأَجْلِي (سِتًّا) أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أَيْ: مِنْ خِصَالِهَا أَوْ مِنْ أَجْلِ مَنْفَعَتِهَا (أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولَهَا مَعَ الْفَائِزِينَ، أَوْ وُصُولَهَا إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمُقَرَّبِينَ (اصْدُقُوا) ، بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ: تَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ (إِذَا حَدَّثْتُمْ) ، أَيْ: أَخْبَرْتُمْ (وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ) ، أَيْ: وَعَهِدْتُمْ (وَأَدُّوا) أَيْ: أَدُّوا الْأَمَانَةَ وَأَعْطُوا الشَّهَادَةَ (إِذَا ائْتُمِنْتُمْ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ) ، أَيْ: عَنِ الزِّنَا وَنَحْوِهِ (وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ) ، بِضَمِّ الْغَيْنِ أَيْ: غَمِّضُوهَا عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ (وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَمْسِكُوا أَنْفُسَكُمْ عَنِ الظُّلْمِ. قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ عُبَادَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْهُ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. اهـ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الْمُطَّلِبُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُبَادَةَ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " اضْمَنُوا لِي سِتَّ خِصَالٍ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: لَا تَظَالَمُوا عِنْدَ قِسْمَةِ مَوَارِيثِكُمْ، وَانْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَجْبُنُوا عِنْدَ قِتَالِ عَدُوِّكُمْ، وَلَا تَغُلُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَامْنَعُوا ظَالِمَكُمْ مِنْ مَظْلُومِكُمْ ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. اهـ.

4871 -، 4872 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، وَالْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ» ". رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4871 -، 4872 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ عَلَى مَا ضَبَطَهُ الْمُغْنِي وَنَصَّ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ وَقَالَ: هُوَ أَشْعَرِيٌّ شَامِيٌّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَأَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرَهُ، وَلَازَمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ مُنْذُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ إِلَى أَنْ مَاتَ مُعَاذٌ، وَكَانَ أَفْقَهَ أَهْلِ الشَّامِ، رَوَى عَنْ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. اهـ. فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مُرْسَلًا تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ. (وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَيِ: ابْنِ السَّكَنِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَسْمَاءِ ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ» ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا أَيْ: يُتَذَكَّرُ بِرُؤْيَتِهِمْ ذِكْرُ اللَّهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى حَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ» عَلَى أَحَدِ مَعَانِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدَهُمَا أَنَّهُمْ فِي الِاخْتِصَاصِ بِاللَّهِ ; بِحَيْثُ إِذَا رُؤُوا خَطَرَ بِبَالِ مَنْ رَآهُمْ مَوْلَاهُمْ لِمَا فِيهِمْ مِنْ سِيمَا الْعِبَادَةِ، وَثَانِيَهُمَا: أَنَّ مَنْ رَآهُمْ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، كَمَا رَوَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ» ". قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، بِلَفْظِ: " «النَّظَرُ إِلَى عَلِيٍّ عِبَادَةٌ» ". وَنَظِيرُهُ مَا رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ» "، ثُمَّ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ كَانَ إِذَا بَرَزَ قَالَ النَّاسُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا أَكْرَمَ هَذَا الْفَتَى، مَا أَشْجَعَ هَذَا الْفَتَى، مَا أَعْلَمَ هَذَا الْفَتَى، مَا أَحْلَمَ هَذَا الْفَتَى، فَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ تَحْمِلُهُمْ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. (وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاؤُونَ) : بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلنِّسْبَةِ أَيِ: الَّذِينَ يَمْشُونَ (بِالنَّمِيمَةِ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ) أَيِ: الطَّالِبُونَ الْبَرَاءَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ بِمَعْنَى الْبَرِيءِ، مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ أَنْتَ بَرِيءٌ، وَالْجَمْعُ بَرِيئُونَ وَكَفُقَهَاءَ وَكِرَامٍ وَأَشْرَافٍ وَأَنْصِبَاءَ وَرِجَالٍ، وَأَنَا بَرَاءٌ مِنْهُ - لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ - بَرِيءٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ: (الْعَنَتَ) مَنْصُوبَانِ مَفْعُولَانِ لِلْبَاغِينَ، يُقَالُ: بَغَيْتُ فُلَانًا خَيْرًا، وَبَغَيْتُكَ الشَّيْءَ: طَلَبْتُهُ لَكَ، وَبَغَيْتُ لِلشَّيْءِ طَلَبْتُهُ. اهـ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَنَتَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلْبَاغُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ (لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، الْمَشَقَّةُ وَالْفَسَادُ وَالْهَلَاكُ وَالْإِثْمُ وَالْخَطَأُ وَالْغَلَطُ وَالزِّنَا، كُلُّ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ وَأُطْلِقَ الْعَنَتُ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ كُلَّهَا، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ فِي (الْبُرَاءِ) وَهُوَ جَمْعُ بَرِيءٍ كَمَا سَبَقَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَفَتْحِ رَاءٍ وَهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هُوَ عَلَى وَزْنِ فُضَلَاءَ جَمْعُ بَرِيءٍ. اهـ. وَالْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ بِهِمْ وَشِرَارُكُمُ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبَرَاءَ الْعَنَتَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى السَّابِقِ مِنْهُمَا. (أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بِلَفْظِ: " «خِيَارُ أُمَّتِي الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ، وَشَرَارُ أُمَّتِي الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ الْبَرَاءَ الْعَنَتَ» ".

4873 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلَيْنِ صَلَّيَا صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ، وَكَانَا صَائِمَيْنِ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَالَ: " أَعِيدَا وُضُوءَكُمَا وَصَلَاتَكُمَا، وَامْضِيَا فِي صَوْمِكُمَا، وَاقْضِيَاهُ يَوْمًا آخَرَ ". قَالَا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " اغْتَبْتُمْ فُلَانًا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4873 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلَيْنِ صَلَّيَا صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ) أَيْ: مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَكَانَا صَائِمَيْنِ) ، عَطْفٌ أَوْ حَالٌ (فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ) أَيْ: فَرَغَ عَنْ أَدَائِهَا (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلَيْنِ (أَعِيدُوا) : بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقَلُّهُ بِقَرِينَةِ مَا بَعْدَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ أَعِيدَا (وُضُوءَكُمَا وَصَلَاتَكُمَا، وَامْضِيَا) : بِهَمْزِ وَصْلٍ وَكَسْرِ ضَادٍ أَيِ: انْفُذَا (فِي صَوْمِكُمَا) : يَعْنِي لَا تَقْطَعَاهُ بِالْإِفْطَارِ مِنْ مَضَى فِي أَمْرِهِ: إِذَا نَفَذَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ (وَاقْضِيَاهُ) أَيْ: صَوْمَكُمَا (يَوْمًا آخَرَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا فِي الصَّوْمِ ظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] ، وَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ ; فَلِأَنَّهُ شَرِبَ دَمَ أَخِيهِ وَلَحْمَهُ فَحَمَلَ النَّجَاسَةَ. اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَعْصِيَةِ قَبْلَ الطَّاعَةِ يُنْقِصُ كَمَالَهَا، كَمَا أَنَّ الْحَسَنَةَ بَعْدَ السَّيِّئَةِ تُوجِبُ زَوَالَهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، وَرَدَ فِيمَنْ قَبَّلَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُنَا أَظْهَرَ الزَّجْرَ الشَّدِيدَ وَالتَّغْلِيظَ وَالْوَعِيدَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْغِيبَةِ مِنْ حَقِّ الْعِبَادِ، وَرُبَّمَا تَذْهَبُ الْعِبَادَةُ بِالْكُلِّيَّةِ ; حَيْثُ يُعْطَى لِصَاحِبِ الْغَيْبَةِ النَّافِلَةُ الطَّوِيَّةُ فَيَبْقَى الْمُذْنِبُ بِلَا صَوْمٍ وَصَلَاةٍ، فَلِهَذَا أَمَرَهُمَا بِإِعَادَتِهِمَا وَقَضَائِهِ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ فَتْوَى الْخَاصَّةِ لَا مِنْ قَبِيلِ أَحْكَامِ الْعَامَّةِ، وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ لِلدَّيْلَمِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «الْغِيبَةُ تُنْقِضُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» " (قَالَا) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَا: (لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أَيْ: لِأَيِّ سَبَبٍ (قَالَ: اغْتَبْتُمْ فُلَانًا) أَيْ: قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَ الطَّهَارَةِ وَمُبَاشَرَةِ الصَّوْمِ.

4874 - 4875 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا؟ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَزْنِي فَيَتُوبُ، فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ " - وَفِي رِوَايَةٍ: " فَيَتُوبُ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَهَا لَهُ صَاحِبُهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4874 - 4875 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا) أَيْ: أَصْعَبُ مِنْهُ لِتَعَلُّقِهَا بِحَقِّ الْعِبَادِ الْبَتَّةَ بِخِلَافِهِ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُمَا الْمُرَادَ بِهِمْ (وَكَيْفَ الْغَيْبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا؟) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الزِّنَا ذَنَبٌ كَبِيرٌ، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ وَعِيدٌ كَثِيرٌ، وَتَعَلَّقَ بِهِ الْحَدُّ وَالرَّجْمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا مُبْتَدَأٌ عَلَى سَبِيلِ حِكَايَةِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَيْفَ خَبَرُهُ، أَيْ: كَيْفَ قَوْلُكَ هَذَا؟ (قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَزْنِي فَيَتُوبُ) أَيْ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ (فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ: فَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ وَيُوَفِّقُهُ عَلَى ثَبَاتِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَتُوبُ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ) : عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ (لَا يُغْفَرُ لَهُ) أَيْ: وَلَوْ تَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ (حَتَّى يَغْفِرَهَا لَهُ صَاحِبُهُ) أَيْ: لِصَاحِبِ الْغَيْبَةِ.

4876 - وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " «صَاحِبُ الزِّنَا يَتُوبُ، وَصَاحِبُ الْغِيبَةِ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4876 - (وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ قَالَ: " صَاحِبُ الزِّنَا يَتُوبُ) أَيْ: يُتَصَوَّرُ مِنْهُ التَّوْبَةُ أَوْ يَتُوبُ غَالِبًا ; لِأَنَّهُ ذَنْبٌ عَظِيمٌ عِنْدَهُ (وَصَاحِبُ الْغِيبَةِ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ) ، أَيْ: غَالِبًا، لِأَنَّهُ يَحْسَبُهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، لَكِنَّ الْبَلِيَّةَ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ، أَوْ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِتَوَقُّفِ صِحَّتِهَا عَلَى رِضَا صَاحِبِهَا. (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ) أَيْ: حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَنَسٍ (فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . قَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْغِيبَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ أَنَسٍ، عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ عَنْهُ، وَرَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ غَيْرَ مَرْفُوعٍ وَهُوَ الْأَشْبَهُ.

4877 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنِ اغْتَبْتَهُ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ". وَقَالَ: فِي هَذَا الْإِسْنَادِ ضَعْفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4877 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ) أَيْ: بَعْدَ تَحَقُّقِ التَّوْبَةِ (أَنْ تَسْتَغْفِرَ) أَيْ: أَنْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًّا (لِمَنِ اغْتَبْتَهُ، تَقُولُ) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ أَوْ حَالٌ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا) أَيْ: إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً، أَوْ لَنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا (وَلَهُ) أَيْ: لِمَنِ اغْتَبْتَهُ خُصُوصًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِذَا لَمْ تَصِلِ الْغَيْبَةُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِحْلَالِ بِأَنْ يُخْبِرَ صَاحِبَهَا بِمَا قَالَ فِيهِ وَيَتَحَلَّلَهَا مِنْهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَلْيَعْزِمْ عَلَى أَنَّهُ مَتَى وَجَدَهُ تَحَلَّلَ مِنْهُ، فَإِذَا حَلَّلَهُ سَقَطَ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَهُ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ تَعَالَى، وَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يُرْضِيَ خَصْمَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ، فَإِنَّهُ جَوَّادٌ كَرِيمٌ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. وَفِي رَوْضَةِ الْعُلَمَاءِ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا تَابَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى الْمُغْتَابِ عَنْهُ هَلْ تَنْفَعُهُ تَوْبَتُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ تَنْفَعُهُ تَوْبَتُهُ، فَإِنَّهُ تَابَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الذَّنْبُ ذَنْبًا، يَعْنِي ذَنْبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ. قَالَ: لِأَنَّهَا تَصِيرُ ذَنْبًا إِذَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ. قُلْتُ: فَإِنْ بَلَغَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ؟ قَالَ: لَا تَبْطُلُ تَوْبَتُهُ، بَلْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمَا جَمِيعًا الْمُغْتَابِ بِالتَّوْبَةِ وَالْمُغْتَابِ عَنْهُ بِمَا لَحِقَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ. قُلْتُ: أَوْ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ كَرِيمٌ وَلَا يَحْمِلُ كَرَمُهُ رَدَّ تَوْبَتِهِ بَعْدَ قَبُولِهَا، بَلْ يَعْفُو عَنْهُمَا جَمِيعًا. قُلْتُ: فِيهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ تَحَقُّقِ وُصُولِهَا إِلَيْهِ وَحُصُولِ مَشَقَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَوْبَةِ الْمُغْتَابِينَ: هَلْ تَجُوزُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِلَّ مِنْ صَاحِبِهِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَجُوزُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجُوزُ، وَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدِهِمَا: إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ قَدْ بَلَغَ إِلَى الَّذِي اغْتَابَهُ، فَتَوْبَتُهُ أَنْ يَسْتَحِلَّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيُضْمِرُ أَنْ لَا يَعُودَ لِمِثْلِهِ. اهـ. وَهَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: اغْتَبْتُكَ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ أَمْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا اغْتَابَ؟ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي الْغِيبَةِ: لَا يُعْلِمُهُ بِهَا، بَلْ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ يُثِيرُ فِتْنَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنِ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الْغِيبَةِ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْهَا لِيُخَلِّصَ أَخَاهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَيَفُوزَ هُوَ بِعَظِيمِ ثَوَابِ اللَّهِ فِي الْعَفْوِ، وَفِي الْقِنْيَةِ: تَصَافُحُ الْخَصْمَيْنِ لِأَجْلِ الْعُذْرِ اسْتِحْلَالٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: رَأَيْتُ فِي فَتَاوَى الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَكْفِي النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ فِي الْغِيبَةِ وَإِنْ بَلَغَتْ، فَالطَّرِيقُ أَنْ يَأْتِيَ الْمُغْتَابَ وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ لِمَوْتِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ الْبَعِيدَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا اعْتِبَارَ بِتَحْلِيلِ الْوَرَثَةِ، وَإِذَا اغْتَابَ أَحَدًا فَهَلْ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: قَدِ اغْتَبْتُكَ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، أَمْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا اغْتَابَهُ بِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ; أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ مَالٍ مَجْهُولٍ، وَثَانِيهِمَا: لَا يُشْتَرَطُ ; لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَحُ بِالْعَفْوِ عَنْ غِيبَةٍ دُونَ غِيبَةٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: سَبِيلُ الْمُعْتَذِرِ أَنْ يُبَالِغَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالْمَوَدَّةِ إِلَيْهِ، وَيُلَازِمَ ذَلِكَ حَتَّى يَطِيبَ قَلْبُهُ، فَإِنْ لَمْ يَطِبْ قَلْبُهُ كَانَ اعْتِذَارُهُ وَتَرَدُّدُهُ حَسَنَةً مَحْسُوبَةً لَهُ، فَتُقَابَلُ بِهَا سَيِّئَةُ الْغِيبَةِ فِي الْقِيَامَةِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) اسْمُ كِتَابٍ لَهُ (وَقَالَ: فِي هَذَا الْإِسْنَادِ ضَعْفٌ) . قُلْتُ: وَمَا يَضُرُّ، فَإِنَّ فَضَائِلَ الْأَعْمَالِ يَكْفِيهَا الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ لِلْعَمَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا يُعَضِّدُهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ، عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: " «كَفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْتَ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ» ".

[باب الوعد]

[بَابُ الْوَعْدِ]

(11) بَابُ الْوَعْدِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4878 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا. قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: وَعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْطِيَنِي هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا. فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ جَابِرٌ: فَحَثَا لِي حَثْيَةً، فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، وَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (11) بَابُ الْوَعْدِ الْوَعْدُ: يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، يُقَالُ: وَعَدْتُهُ خَيْرًا وَوَعَدْتُهُ شَرًّا، فَإِذَا أَسْقَطُوا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ قَالُوا فِي الْخَيْرِ: الْوَعْدُ وَالْعِدَةُ، وَفِي الشَّرِّ: الْإِيعَادُ وَالْوَعِيدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لِمُخْلِفٌ مِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4878 - (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ) . بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَكَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَقَرَّهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ الْعَلَاءُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، رَوَى عَنْهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدِ وَغَيْرُهُ. (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ) ، بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ، أَيْ: عِنْدَهُ (عِدَةٌ) : بِكَسْرٍ فَتَخْفِيفِ دَالٍ أَيْ: وَعْدٌ (فَلْيَأْتِنَا) . قَالَ الْأَشْرَفُ، وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا: فِيهِ اسْتِحْبَابُ قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَإِنْجَازِ وَعْدِهِ لِمَنْ يَخْلُفُهُ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ. اهـ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْوَعْدَ مُلْحَقٌ بِالدَّيْنِ، كَمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْعِدَةُ دَيْنٌ» " عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. (قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: وَعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْطِيَنِي هَكَذَا، وَهَكَذَا) أَيْ: ثَلَاثًا، وَفِي نُسْخَةٍ مَرَّتَيْنِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: (فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : بَيَانًا لِهَكَذَا. (قَالَ جَابِرٌ: فَحَثَا لِي حَثْيَةً) أَيْ: فَمَلَأَ أَبُو بَكْرٍ كَفَّيْهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَصَبَّهَا فِي ذَيْلِي (فَعَدَدْتُهَا) أَيْ: مَا فِيهَا (فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، وَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا) أَيْ: مِثْلَ مَا فِي الْحَثْيَةِ مِنَ الْعَدَدِ لِئَلَّا يَزِيدَ وَلَا يَنْقُصَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4879 - «عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْيَضَ قَدْ شَابَ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ، وَأَمَرَ لَنَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ قَلُوصًا، فَذَهَبْنَا نَقْبِضُهَا، فَأَتَانَا مَوْتُهُ، فَلَمْ يُعْطُونَا شَيْئًا، فَلَمَّا قَامَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَةٌ فَلْيَجِئْ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَمَرَ لَنَا بِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4879 - (عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) : بِضَمِّ جِيمٍ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ: ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَلَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، لَكِنَّهُ سَمِعَ وَرَوَى عَنْهُ، مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَوْفٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْيَضَ) أَيْ: أَبْيَضَ اللَّوْنِ مَائِلًا إِلَى الْحُمْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا حُمَيْرَاءُ " (قَدْ شَابَ) أَيْ: بَعْضُ لِحْيَتِهِ أَوْ ظَهَرَ فِيهِ شَيْبٌ. (وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ) وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي النِّصْفِ الْأَعْلَى، وَالْحُسَيْنُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ. (وَأَمَرَ لَنَا) أَيْ: لِأَجْلِنَا، أَوْ لِإِعْطَائِنَا، وَهُوَ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي سَائِرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أَمَرَ لَهُ، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِاتِّفَاقِ الضَّمَائِرِ التَّالِيَةِ. (بِثَلَاثَةَ عَشَرَ قَلُوصًا) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ، أَيْ نَاقَةٌ شَابَّةٌ (فَذَهَبْنَا نَقْبِضُهَا) أَيْ: فَشَرَعْنَا فِي الذَّهَابِ إِلَى الْمَأْمُورِ لِنَقْبِضَ الْعَطَاءَ الْمَذْكُورَ (فَأَتَانَا مَوْتُهُ) أَيْ: خَبَرُ مَوْتِهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِالْقَدَرِ الْمَقْدُورِ (فَلَمْ يُعْطُونَا شَيْئًا) ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ وَالْعَطِيَّةَ وَالصَّدَقَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْقَبْضِ (فَلَمَّا قَامَ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: خَطِيبًا، أَوْ قَامَ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ (قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

عِدَةٌ فَلْيَجِئْ) أَيْ: فَلْيَأْتِ إِلَيْنَا، فَإِنَّ وَفَاءَهُ عَلَيْنَا، وَلَعَلَّ الِاكْتِفَاءَ بِهَا وَعَدَمَ ذِكْرِ الدَّيْنِ هُنَا ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهَا بِالْأَوْلَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اقْتِصَارًا مِنَ الرَّاوِي لَا سِيَّمَا وَكَلَامُهُ فِي الْعِدَةِ (فَقُمْتُ إِلَيْهِ) أَيْ: مُتَوَجِّهًا (فَأَخْبَرْتُهُ) أَيْ: بِمَا سَبَقَ (فَأَمَرَ لَنَا بِهَا) أَيْ: بِالْقَلُوصِ الْمَوْعُودَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَاتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى الْفَصْلِ الثَّانِي، وَانْفَرَدَ التِّرْمِذِيُّ بِذِكْرِ أَبِي بَكْرٍ وَإِعْطَائِهِ إِيَّاهُمْ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ. قَالَ مِيرَكُ: وَلِذَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي آخِرِ مَجْمُوعِ الْحَدِيثِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

4880 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ، فَنَسِيتُ، فَذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: " لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هَهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4880 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَمْسَاءِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمِلَةِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي التَّصْحِيحِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْقَامُوسِ، وَزَادَ الْمُغْنِي: وَهُوَ بِالْمَدِّ. (قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بِعْتُ مِنْهُ بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُ، فَهُوَ مِنَ الْبَيْعِ لَا مِنَ الْمُبَايَعَةِ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ بِحَسَبِ الْقَاعِدَةِ الصَّرْفِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ، فَتَكُونُ الصِّيغَةُ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ عَلَى بَابِهِ. (قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ) أَيْ: لِلرِّسَالَةِ (وَبَقِيَتْ لَهُ) أَيْ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَقِيَّةٌ) أَيْ: شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ الْمَبِيعِ (فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا) أَيْ: أَجِيئُهُ بِتِلْكَ الْبَقِيَّةِ (فِي مَكَانِهِ) أَيِ: الْمُعَيَّنِ أَوِ النِّسْبِيِّ (فَنَسِيتُ) أَيْ: ذَلِكَ الْوَعْدَ (فَذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ) أَيْ: ثَلَاثَ لَيَالٍ (فَجِئْتُ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَإِذَا هُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُنِي (فِي مَكَانِهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَوْ فِي مَكَانِهِ الْمَوْعُودِ وَفَاءً بِمَا وَعَدَ مِنْ لُزُومِ الْمَكَانِ حَتَّى أَجِيئَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى نَدْبِ تَصْدِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. (فَقَالَ: لَقَدْ شَقَقْتَ) : بِقَافَيْنِ، أَيْ: حَمَلْتَ الْمَشَقَّةَ (عَلَيَّ) وَأَوْصَلْتَهَا إِلَيَّ (أَنَا هَهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ) : وَكَانَ انْتِظَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصِدْقِ وَعْدِهِ لَا لِقَبْضِ ثَمَنِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَعْدَ أَمْرٌ مَأْمُورٌ الْوَفَاءُ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، حَافَظَ عَلَيْهِ الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمُونَ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] ، وَمَدَحَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، يَعْنِي: جَدَّ نَبِيِّنَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] ، يُقَالُ: إِنَّهُ وَعَدَ إِنْسَانًا فِي مَوْضِعٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ. قُلْتُ: وَذَلِكَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4881 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ لَهُ، فَلَمْ يَفِ وَلِمَ يَجِئْ لِلْمِيعَادِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4881 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) : يُكْنَى أَبَا عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ. ( «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ» ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَأَصْلُهُ أَنْ يُوَفِّيَ (لَهُ) أَيْ: لِلرَّجُلِ (فَلَمْ يَفِ) أَيْ: بِعُذْرٍ (وَلَمْ يَجِئْ لِلْمِيعَادِ) أَيْ: لِمَانِعٍ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) . قَالَ الْأَشْرَفُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ يُثَابُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ مَعَهَا الْمَنَوِيُّ وَتَخَلَّفَ عَنْهَا. اهـ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ وَعَدَ وَلَيْسَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ، فَعَلَيْهِ الْإِثْمُ سَوَاءٌ وَفَّى بِهِ أَوْ لَمَ يَفِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِمَنْ وَعَدَ وَنِيَّتُهُ أَنْ يَفِيَ وَلَمْ يَفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلَا دَلِيلَ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، إِذْ هُوَ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عَلَى مَا حَرَّرْتُهُ، وَسَيَجِيءُ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمُرَامِ فِي آخِرِ بَابِ الْمِزَاحِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

4882 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟ " قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أُعْطِيَهُ تَمْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذِبَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4882 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيٌّ، خَالُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُتِيَ بِهِ فَتَفَلَ عَلَيْهِ وَعَوَّذَهُ، وَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا وَلَا حَفِظَ عَنْهُ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَلَّاهُ عُثْمَانُ الْبَصْرَةَ وَخُرَاسَانَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ رَدَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَكَانَ سَخِيًّا كَرِيمًا كَثِيرَ الْمَنَاقِبِ، وَهُوَ افْتَتَحَ خُرَاسَانَ، وَقُتِلَ كِسْرَى فِي وِلَايَتِهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ افْتَتَحَ أَطْرَافَ فَارِسَ، وَعَامَّةَ خُرَاسَانَ وَأَصْفَهَانَ وَكِرْمَانَ وَحُلْوَانَ، وَهُوَ الَّذِي شَقَّ نَهْرَ الْبَصْرَةِ. (قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا) أَيْ: نَادَتْنِي وَطَلَبَتْنِي وَأَنَا صَغِيرٌ ( «وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا» ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَقَالَتْ: هَا) : لِلتَّنْبِيهِ أَوِ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذْ، فَقَوْلُهَا: (تَعَالَ) : بِفَتْحِ اللَّامِ بِلَا أَلِفٍ تَأْكِيدٌ (أُعْطِيكَ) أَيْ: أَنَا، فَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ (أُعْطِكَ) بِغَيْرِ يَاءٍ، عَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ بِالْجَزْمِ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَفِي بَعْضِهَا بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَشُعَبِ الْإِيمَانِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} [مريم: 5] بِالرَّفْعِ. اهـ. وَفِي الْآيَةِ الْوَجْهَانِ مُتَوَاتِرَانِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ الْيَاءَ حَصَلَ مِنَ الْإِشْبَاعِ، فَلَا يُنَافِي الْجَزْمَ عَلَى أَنَّ إِثْبَاتَ الْيَاءِ فِي الْمَجْزُومِ لُغَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] ، وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ. ( «فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَدْتِ» ) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ نَوَيْتِ (أَنْ تُعْطِيهِ؟) : بِسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ ; لِأَنَّ الصِّيغَةَ لِلْمُخَاطَبَةِ وَعَلَامَةُ نَصْبِهَا حَذَفُ النُّونِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَبَعْضِ النُّسَخِ هَيَا بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ زَلَّةِ الْقَلَمِ أَوْ زَلِقَةِ الْقَدَمِ. ( «قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أُعْطِيَهُ» ) أَيْ: وَاحِدًا أَوْ شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ، فَإِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: فَقَالَ لَهَا: " «مَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟ " قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أُعْطِيَهُ تَمْرًا» . لَيْسَ فِي الْمَصَابِيحِ، فَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنَ النُّسَّاخِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ ( «إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ» ) : بِالْيَاءِ، فَإِنَّهَا ضَمِيرُ الْكَلِمَةِ لَا لَامُهَا، أَيْ: لَوْ لَمْ تَنْوِي بِإِعْطَائِهِ ( «شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ» ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ أَيْ: مَرَّةً مِنَ الْكَذِبِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، أَيْ: نَوْعٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ عَلَى زَعْمِ صَاحِبِهِ مِنْ ضَبْطِهِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ مِنْ نَقْلِ اللُّغَةِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ كَلَامِ ابْنِ الْمَلَكِ ; حَيْثُ قَالَ بِفَتْحِ الْكَافِ ثُمَّ السُّكُونُ، وَبِفَتْحِهَا مَعَ كَسْرِ الذَّالِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْفَتْحَ مَعَ كَسْرِ الذَّالِ لَمْ يُوجَدْ مَعَ التَّاءِ لُغَةً، وَقَدْ نَصَّ النَّوَوِيُّ أَنَّ الذَّالَ سَاكِنَةٌ فِيهِمَا، فَكَلَامُ ابْنِ الْمَلَكِ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4883 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ وَعَدَ رَجُلًا فَلَمْ يَأْتِ أَحَدُهُمَا إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَذَهَبَ الَّذِي جَاءَ لِيُصَلِّيَ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4883 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ وَعَدَ رَجُلًا» ) أَيْ: مَثَلًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّجُلَ وَعَدَهُ أَيْضًا فِي مَكَانٍ وَزَمَانٍ مُعَيَّنَيْنِ ( «فَلَمْ يَأْتِ أَحَدُهُمَا إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ» ) أَيْ: قِيَامِهَا، وَقَدْ أَتَى الْآخَرُ ( «وَذَهَبَ الَّذِي جَاءَ لِيُصَلِّيَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» ) أَيْ: عَلَى الْجَائِي لِوَعْدِهِ، وَالذَّاهِبِ لِصَلَاتِهِ فِي غَيْبَتِهِ لِحُضُورِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدِّينِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِذَا ذَهَبَ لِضَرُورَاتِ أَمْرِ الْبَدَنِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ وَنَحْوِهَا (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

[باب المزاح]

[بَابُ الْمُزَاحِ]

(12) بَابُ الْمُزَاحِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4884 - «عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: " يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ " كَانَ لَهُ نُغَيْرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (12) بَابُ الْمُزَاحِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ. قَالَ شَارِحٌ: الْمُزَاحُ بِالضَّمِّ اسْمُ الْمِزَاحِ بِالْكَسْرِ، وَقِيلَ بِالضَّمِّ اسْمٌ مِنْ مَزَحَ يَمْزَحُ، وَبِالْكَسْرِ مَصْدَرُ مَازَحَ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَزَحَ كَمَنَعَ مَزْحًا وَمُزَاحَةً وَمُزَاحًا: دَعَبَ، وَمَازَحَهُ مُمَازَحَةً وَمِزَاحًا - بِالْكَسْرِ - وَتَمَازُحًا. ثُمَّ الْمِزَاحُ انْبِسَاطٌ مَعَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ، فَإِنْ بَلَغَ الْإِيذَاءَ يَكُونُ سُخْرِيَّةً، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ» ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، فَقَدْ رَوَاهُ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبُخَارِيِّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا إِسْنَادٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ - فَقَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا، وَكَانَ عَالِمًا ذَا صَلَاةٍ وَصِيَامٍ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَالْحَدِيثُ لَهُ تَتِمَّةٌ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهَى: لَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفْهُ، وَالْحَدِيثُ سَيَأْتِي فِي أَصْلِ الْكِتَابِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَاحَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ إِفْرَاطٌ وَيُدَاوَمُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الضَّحِكَ وَقَسْوَةَ الْقَلْبِ، وَيَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْفِكْرِ فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ، وَيَؤُولُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَى الْإِيذَاءِ، وَيُورِثُ الْأَحْقَادَ، وَيُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَالْوَقَارَ، فَأَمَّا مَا سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَهُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ عَلَى النُّدْرَةِ لِمَصْلَحَةِ تَطْيِيبِ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَمُؤَانَسَتِهِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، فَاعْلَمْ هَذَا، فَإِنَّهُ مِمَّا يَعْظُمُ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ. اهـ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مُزَاحًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. قُلْتُ: يُلَائِمُهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ غَيْرَهُ مَا كَانَ يَتَمَالَكُ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ تَرْكُ الْمُزَاحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ: " إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» . وَالْمَعْنَى لَا يُقَالُ الْمُلُوكُ بِالْحَدَّادِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ غَيْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاخِلٌ تَحْتَ نَهْيِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي الِاسْتِقَامَةِ عَلَى حَدِّهِ وَعَدَمِ الْعُدُولِ عَنْ جَادَّتِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4884 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنْ) : مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَيْ: أَنَّهُ ( «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيُخَالِطُنَا» ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَتُسَمَّى لَامَ الْفَارِقَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ لِلشَّمَائِلِ لَيُخَاطِبُنَا، وَالْمَعْنَى: لَيُخَالِطُنَا غَايَةَ الْمُخَالَطَةِ، وَيُعَاشِرُنَا غَايَةَ الْمُعَاشَرَةِ، وَيُجَالِسُنَا وَيُمَازِحُنَا. (حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي) أَيْ: مِنْ أُمِّي وَأَبُوهُ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ (صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ وَاسْمُهُ كَبْشَةُ (مَا فَعَلَ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، أَيْ: مَا صَنَعَ (النُّغَيْرُ؟) : بِضَمٍّ فَفَتَحٍ، تَصْغِيرُ نُغَرٍ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، طَائِرٌ يُشْبِهُ الْعُصْفُورَ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ، وَقِيلَ: هُوَ الْعُصْفُورُ، وَقِيلَ: هُوَ الصَّعْوُ صَغِيرُ الْمِنْقَارِ أَحْمَرُ الرَّأْسِ، وَقِيلَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَهُ الْبُلْبُلَ، وَالْمَعْنَى: مَا جَرَى لَهُ حَيْثُ لَمْ أَرَهُ مَعَكَ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لَهُ عَلَى فَقْدِهِ بِمَوْتِهِ، بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ ( «كَانَ لَهُ نُغَيْرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ» ) أَيِ: النُّغَيْرُ، وَحَزَنَ الْوَلَدُ لِفَقْدِهِ عَلَى عَادَةِ الصِّغَارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: (حَتَّى) غَايَةُ قَوْلِهِ: (يُخَالِطُنَا) وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِأَنَسٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، أَيْ: انْتَهَتْ مُخَالَطَتُهُ لِأَهْلِنَا كُلِّهِمْ حَتَّى الصَّبِيُّ، وَحَتَّى الْمُلَاعَبَةُ مَعَهُ، وَحَتَّى السُّؤَالُ عَنْ فِعْلِ النُّغَيْرِ. وَفِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَدْخُلُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِ إِلَّا أُمَّ سُلَيْمٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَأُمُّ سُلَيْمٍ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِعْلُ التَّأْثِيرُ مِنْ جِهَةٍ مُؤَثِّرَةٍ، وَالْعَمَلُ كُلُّ فِعْلٍ يَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانِ بِقَصْدٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَقَعُ مِنْهَا بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْجَمَادَاتِ. اهـ كَلَامُهُ. فَالْمَعْنَى: مَا حَالُهُ وَشَأْنُهُ؟ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَوْ رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ، وَصَارَ الْمَعْنَى: مَا فُعِلَ بِهِ؟ .

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ فَوَائِدُ، مِنْهَا: أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ مُبَاحٌ بِخِلَافِ صَيْدِ مَكَّةَ. قُلْتُ: لَوْ ثَبَتَ هَذَا لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمَدِينَةَ لَهَا حَرَمٌ أَمْ لَا. لَكِنْ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ نَصٌّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْمَدِينَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ خَارِجِهَا وَأُدْخِلَ فِيهَا. وَحِينَئِذٍ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ الصَّيْدَ لَوْ أُخِذَ خَارِجَ مَكَّةَ، ثُمَّ أُدْخِلَ فِي الْحَرَمِ وَذُبِحَ كَانَ حَلَالًا عِنْدَهُمْ، فَكَذَا هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَإِنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى الصَّبِيُّ الطَّيْرَ لِيَلْعَبَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَذِّبَهُ. قُلْتُ: هَذَا فَرْعٌ آخَرُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، إِذْ لَوْ ثَبَتَ حَرَمِيَّةُ الْمَدِينَةِ لَوَجَبَ إِرْسَالُ الصَّيْدِ إِنْ أُخِذَ مِنْهَا، وَكَذَا عِنْدَنَا بَعْدَ دُخُولِهِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ. قَالَ: وَإِبَاحَةُ تَصْغِيرِ الْأَسْمَاءِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اللُّطْفِ وَالشَّفَقَةِ، لَا سِيَّمَا وَفِيهِ مُرَاعَاةُ السَّجْعِ، وَهُوَ مُبَاحُ الْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِالتَّكَلُّفِ. قَالَ: وَإِبَاحَةُ الدُّعَابَةِ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا؟ قُلْتُ: بَلِ اسْتِحْبَابُهُ إِذَا كَانَ تَطْيِيبًا وَمُطَايَبَةً. قَالَ: وَجَوَازُ تَكَنِّي الصَّبِيِّ وَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْكَذِبِ. قُلْتُ: لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ التَّفَاؤُلُ. قَالَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ الْكَبِيرِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَهِيَ أَنْ يَجُوزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَيْتٍ فِيهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ. قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ جَوَازَ الْخَلْوَةِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَهُوَ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَيْهَا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا، فَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ فِي جَوَازِهِ، حَتَّى مَعَ عَدَمِ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ أَيْضًا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِهَا. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْخَلْوَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ جَوَازُهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ كَوْنِهِ مَعْصُومًا مَعَ أَنَّهُ أَبٌ لِلْأُمَّةٍ وَلَيْسَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ وَلِيًّا، فَإِنَّ الْحِفْظَ مَرْتَبَةٌ دُونَ الْعِصْمَةِ، وَلِذَا لَمَّا سُئِلَ الْجُنَيْدُ: أَيَزْنِي الْعَارِفُ؟ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. وَإِنَّمَا أَطَلْتُ هَذَا الْمَبْحَثَ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالْمُبَاحِيَّةِ، مَعَ أَنَّا لَا نَشُكُّ فِي جَلَالَةِ الشَّيْخِ قُدِّسَ سِرُّهُ ; حَيْثُ أَثَّرَ نَظَرُهُ فِي الْكَلْبِ. قَالَ: وَأَنْ يَجُوزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْأَلَ عَمَّا هُوَ عَالِمٌ بِهِ تَعْجُّبًا مِنْهُ. قُلْتُ: هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَقَدُّمِ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَوْتِ النُّغَيْرِ، لِاحْتِمَالِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ بِمُجَرَّدِ فَقْدِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ حُصُولِ مَوْتِهِ. قَالَ: وَفِيهِ كَمَالُ خُلُقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ رِعَايَةَ الضُّعَفَاءِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اسْتِمَالَةُ قُلُوبِ الصِّغَارِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قُلُوبِهِمْ. قُلْتُ كَيْفَ لَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهِ الْكَرِيمِ فِي كَلَامِهِ الْقَدِيمِ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] . . . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4885 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ: " إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4885 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا) مِنَ الدُّعَابَةِ أَيْ: تُمَازِحُنَا، وَكَأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوهُ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ أَكَّدُوا الْكَلَامَ بِأَنْ وَبِاللَّامِ أَيْضًا عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ قَوْلِهِ: لَتُدَاعِبُنَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَنْشَأَ سُؤَالِهِمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُمْ عَنِ الْمُزَاحِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. (قَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا) أَيْ: عَدْلًا وَصِدْقًا، وَلَا كُلَّ أَحَدٍ مِنْكُمْ قَادِرٌ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِيكُمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4886 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ، فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلُ إِلَّا النُّوقُ؟» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4886 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا) : قِيلَ: وَكَانَ بِهِ بَلَهٌ ( «اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) أَيْ: سَأَلَهُ الْحِمْلَانَ، وَالْمَعْنَى: طَلَبَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى دَابَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَمُولَةً يَرْكَبُهَا ( «فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ» ) : قَالَهُ مُبَاسِطًا لَهُ بِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ شِفَاءً لِبَلَهِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. (فَقَالَ) أَيْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمَا فِي الشَّمَائِلِ ( «مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟» ) : حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الصَّغِيرِ، وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلرُّكُوبِ.

( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَلِدُ الْإِبِلُ» ) أَيْ: جِنْسُهَا مِنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ (إِلَّا النُّوقُ؟) : بِضَمِّ النُّونِ جَمْعُ النَّاقَةِ، وَهِيَ أُنْثَى الْإِبِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَوْ تَدَبَّرْتَ لَمْ تَقُلْ ذَلِكَ، فَفِيهِ مَعَ الْمُبَاسَطَةِ لَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى إِرْشَادِهِ وَإِرْشَادِ غَيْرِهِ، بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَ قَوْلًا أَنْ يَتَأَمَّلَهُ، وَلَا يُبَادِرَ إِلَى رَدِّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُدْرِكَ غَوْرَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .

4887 - وَعَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: " يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4887 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ» ) : مَعْنَاهُ الْحَضُّ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى حُسْنِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا يُقَالُ لَهُ ; لِأَنَّ السَّمْعَ بِحَاسَّةِ الْأُذُنِ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْأُذُنَيْنِ وَغَفَلَ وَلَمْ يُحْسِنِ الْوَعْيَ لَمْ يُعْذَرْ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ جُمْلَةِ مُدَاعَبَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَطِيفِ أَخْلَاقِهِ. قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَقَالَ شَارِحٌ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَمِدَهُ عَلَى ذَكَائِهِ وَفِطْنَتِهِ وَحُسْنِ اسْتِمَاعِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِانْبِسَاطِ إِلَيْهِ وَالْمُزَاحِ مَعَهُ. قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُجْعَلَ قَوْلَانِ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ مَزْحَهُ الصُّورِيَّ اللَّفْظِيَّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَزْحِ حَقِّهِ الْمَعْنَوِيِّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي أُذُنِهِ نَوْعُ طُولٍ أَوْ قِصَرٌ أَوْ قُصُورٌ، فَأَشَارَ بِذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

4888 - وَعَنْهُ، «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِامْرَأَةٍ عَجُوزٍ: " إِنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ ". فَقَالَتْ: وَمَا لَهُنَّ؟ وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهَا: " أَمَا تَقْرَئِينَ الْقُرْآنَ؟ {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35 - 36] » ، رَوَاهُ رَزِينٌ. وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4888 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ( «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِامْرَأَةٍ عَجُوزٍ» ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَأَمَّا الْعُجُوزُ بِالضَّمِّ فَهُوَ الضَّعْفُ، وَفِي الْقَامُوسِ: وَلَا تَقُلْ عَجُوزَةً، أَوْ هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، ثُمَّ قِيلَ: هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَمَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَيَأْتِي أَنَّهَا غَيْرُهَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ ( «لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ قَالَتْ: وَمَا لَهُنَّ؟» ) أَيْ: وَأَيُّ مَانِعٍ لِلْعَجَائِزِ مِنْ دُخُولِهَا وَهُنَّ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ أَيِ: الدَّاخِلَاتُ فِي عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. ( «وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ» ) أَيْ: وَلِذَا سَأَلَتْهُ مُسْتَغْرِبَةً لِمَعْنَى كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «فَقَالَ لَهَا: أَمَا تَقْرَئِينَ الْقُرْآنَ؟» ) أَيْ: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة: 35] ، الضَّمِيرُ لِمَا عَلَيْهِ سِيَاقُ السِّبَاقِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ: فُرُشٌ مَرْفُوعَةٌ، وَالْمُرَادُ النِّسَاءُ، أَيْ: أَعَدْنَا إِنْشَاءَهُنَّ إِنْشَاءً خَاصًّا، وَخَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ. {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 36] ، أَيْ: عَذَارَى، كُلَّمَا أَتَاهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَجَدُوهُنَّ أَبْكَارًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «هُنَّ اللَّوَاتِي قُبِضْنَ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَجَائِزَ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَجَعَلَهُنَّ عَذَارَى مُتَعَشِّقَاتِ عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ أَفْضَلَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ، وَمَنْ يَكُونُ لَهَا أَزْوَاجٌ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا» . الْحَدِيثُ فِي الطَّبَرَانِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ مُطَوَّلًا (رَوَاهُ رَزِينٌ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْمِشْكَاةِ. (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: لِلْبَغَوِيِّ بِإِسْنَادِهِ (بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ) : وَهُوَ: رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَجُوزٍ: " «إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعُجُزُ» " بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ عَجُوزٍ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، فَوَلَّتْ تَبْكِي. قَالَ: " «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35 - 36] » ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا قَالَ: «أَتَتْ عَجُوزٌ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ. فَقَالَ: " يَا أُمَّ فُلَانٍ إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ ". قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي. فَقَالَ: " أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35 - 36] » . وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] ، وَالْعُرُبُ: بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي جَمْعُ عَرُوبٍ، كَرُسُلٍ وَرَسُولٍ، أَيْ: عَوَاشِقُ وَمُتَحَبِّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيلَ: الْعَرُوبُ الْمَلِقَةُ ; وَالْمَلَقُ الزِّيَادَةُ فِي التَّوَدُّدِ، وَمِنْهُ التَّمَلُّقُ. وَقِيلَ: الْغَنِجَةُ، وَالْغَنَجُ فِي الْجَارِيَةِ تَكَسُّرٌ وَتَدَلُّلٌ، وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ الْكَلَامِ. وَالْأَتْرَابُ: الْمُسْتَوِيَاتُ فِي السِّنِّ، وَالْمُرَادُ هُنَا بَنَاتُ ثَلَاثِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ كَأَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا فِي الْمَدَارِكِ، وَهَذَا أَكْمَلُ أَسْنَانِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَسَنٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا عَجُوزٌ فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ؟ " قَالَتْ: هِيَ عَجُوزٌ مِنْ أَخْوَالِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْعُجُزَ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ "، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُهُنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ عَجُوزًا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَتْهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهَا، وَمَازَحَهَا: " إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ "، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الصَّلَاةِ، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، حَتَّى رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ تَبْكِي لِمَا قُلْتَ لَهَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَضَحِكَ وَقَالَ: " أَجَلْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا - عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35 - 37] ، وَهُنَّ الْعَجَائِزُ الرُّمْصُ» . قَالَ مِيرَكُ: هُوَ جَمْعُ الرَّمْصَاءَ، وَالرَّمَصُ وَسَخُ الْعَيْنِ يَجْتَمِعُ فِي الْمُوقِ، هَذَا وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ضَمِيرَ {أَنْشَأْنَاهُنَّ} [الواقعة: 35] لِلْحُورِ الْعِينِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ أَيْضًا، فَالْمَعْنَى: خَلَقْنَاهُنَّ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ وِلَادَةٍ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ ثُمَّ رَبَّيْنَاهُنَّ حَتَّى وَصَلْنَ لِحَدِّ التَّمَتُّعِ، وَيُحْتَمَلُ - وَهُوَ الظَّاهِرُ - أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ ابْتِدَاءً كَامِلَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ فِي التَّرْبِيَةِ وَالسِّنِّ، لَكِنَّ وَجْهَ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى هَذَا، فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْمَلَ الضَّمِيرُ إِلَى نِسَاءِ الْجَنَّةِ بِأَجْمَعِهِنَّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّهُمْ أَنْشَأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا آخَرَ يُنَاسِبُ الْكَمَالَ وَالْبَقَاءَ وَالدَّوَامَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ الْخُلُقِ وَتَوَفُّرَ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ وَانْتِفَاءَ صِفَاتِ النَّقْصِ عَنْهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

4889 - وَعَنْهُ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرَ بْنَ حَرَامٍ، وَكَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ ". وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُ، وَكَانَ دَمِيمًا، فَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ. قَالَ: أَرْسِلْنِي، مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْزَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ» رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4889 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ) : فِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّهُ كَانَ حِجَازِيًّا يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَشْجَعِيٌّ شَهِدَ بَدْرًا. (كَانَ اسْمُهُ زَاهِرَ بْنَ حَرَامٍ) أَيْ: ضِدُّ حَلَالٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (وَكَانَ يُهْدِي) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِأَجْلِهِ أَوْ إِلَيْهِ وَفِي الشَّمَائِلِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدِيَّةً (مِنَ الْبَادِيَةِ) أَيْ: حَاصِلَةٌ مِمَّا يُوجَدُ فِي الْبَادِيَةِ مِنَ الثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ وَالرَّيَاحِينِ وَالْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا. (فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ، أَيْ: يُعِدُّ لَهُ وَيُهَيِّئُ لَهُ أَسْبَابَهُ، وَيُعَوِّضُهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْبَادِيَةِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبُلْدَانِ (إِذَا أَرَادَ) أَيْ: زَاهِرٌ (أَنْ يَخْرُجَ) أَيْ: مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْبَادِيَةِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا) أَيْ: سَاكِنُ بَادِيَتِنَا أَوْ صَاحِبُهَا أَوْ أَهْلُهَا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: بَادِينَا مِنْ غَيْرِ تَاءٍ، وَالْبَادِي الْمُقِيمُ بِالْبَادِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي} [الحج: 25] ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى أَظْهَرُ مِنَ الْأَوَّلِ (وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ) : مِنَ الْحُضُورِ، وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّا نَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَا يَسْتَفِيدُ الرَّجُلُ مِنْ بَادِيَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، وَنَحْنُ نُعِدُّ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَلَدِ. اهـ. وَصَارَ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ بَادِيَتُهُ، وَقِيلَ: تَاؤُهُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحِلِّ عَلَى الْحَالِ. (وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُ) أَيْ: حُبًّا شَدِيدًا (وَكَانَ) : مَعَ حُسْنِ سِيرَتِهِ (رَجُلًا دَمِيمًا) ، بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: قَبِيحَ الْمَنْظَرِ كَرِيهَ الصُّورَةِ (فَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِالرَّفْعِ، أَيْ: فَجَاءَهُ أَوْ مَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَوْمًا وَهُوَ) أَيْ: زَاهِرٌ (يَبِيعُ مَتَاعَهُ) أَيْ: فِي سُوقٍ أَوْ فَضَاءٍ (فَاحْتَضَنَهُ) : وَفِي الشَّمَائِلِ بِالْوَاوِ، أَيْ: أَخَذَهُ مِنْ حِضْنِهِ وَهُوَ مَا دُونَ الْإِبْطِ إِلَى الْكَشْحِ (مِنْ خَلْفِهِ) أَيْ: مِنْ جِهَةِ وَرَائِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ عَانَقَهُ مِنْ خَلْفِهِ بِأَنْ أَدْخَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ إِبْطَيْ زَاهِرٍ، وَأَخَذَ عَيْنَيْهِ بِيَدَيْهِ لِئَلَّا يَعْرِفَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ عَقِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ عَيْنَيْهِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. (وَهُوَ لَا يُبْصِرُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَفِي الشَّمَائِلِ وَلَا يُبْصِرُ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَا يُبْصِرُهُ (فَقَالَ: أَرْسِلْنِي) أَيْ: أَطْلِقْنِي (مَنْ هَذَا؟) أَيِ: الْمُعَانِقُ، وَفِي الشَّمَائِلِ مَنْ هَذَا أَرْسِلْنِي

(فَالْتَفَتَ) أَيْ: زَاهِرٌ، فَرَآهُ بِطَرَفِ عَيْنِهِ (فَعَرَفَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ وَطَفِقَ (لَا يَأْلُو) : بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَضَمِّ اللَّامِ، أَيْ: لَا يَقْصُرُ (مَا أَلْزَقَ ظَهْرَهُ) : وَفِي الشَّمَائِلِ مَا أَلْصَقَ بِالصَّادِ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ مَنْصُوبَةُ الْمَحَلِّ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: فِي إِلْزَاقِ ظَهْرِهِ (بِصَدْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: تَبْرُّكًا (حِينَ عَرَفَهُ) : قِيلَ: ذَكَرَهُ ثَانِيًا اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْشَأَ هَذَا الْإِلْزَاقِ لَيْسَ إِلَّا مَعْرِفَتَهُ (وَجَعَلَ) ، بِالْوَاوِ، وَفِي الشَّمَائِلِ فَجَعَلَ ( «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟» ) : وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: هَذَا الْعَبْدُ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ عَبْدًا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الِاشْتِرَاءِ الَّذِي يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ تَارَةً، وَعَلَى الِاسْتِبْدَالِ أُخْرَى، أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ يُقَابِلُ هَذَا الْعَبْدَ بِالْإِكْرَامِ، أَوْ مَنْ يَسْتَبْدِلُهُ مِنِّي بِأَنْ يَأْتِيَنِي بِمِثْلِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَأْخُذُ هَذَا الْعَبْدَ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ، أَيْ: إِنْ بِعْتَنِي أَوْ عَرَضْتَنِي لِلْبَيْعِ أَوِ الْأَخْذِ إِذًا ( «وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا» ) أَيْ: رَخِيصًا أَوْ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: إِذًا تَجِدُنِي وَاللَّهِ كَاسِدًا، بِتَأْخِيرِ كَلِمَةِ الْقَسَمِ عَنِ الْفِعْلِ، أَيْ: مَتَاعًا كَاسِدًا لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمَامَةِ، وَتَجِدُّ بِالرَّفْعِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ نَحْوَ: إِذًا وَاللَّهِ نَرْمِيهِمْ بِحَرْبِ وَلَعَلَّ وَجْهَ الرَّفْعِ هُوَ أَنْ يُرَادَ بِالْفِعْلِ مَعْنَى الْحَالِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ تَجِدُونِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ. قُلْتُ: صِيغَةُ الْجَمْعِ قَدْ تَأْتِي لِلتَّعْظِيمِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ لَهُ أَوْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ ( «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ» ) : تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَعَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَفِي الشَّمَائِلِ: أَوْ قَالَ: أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ، وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ " أَوْ " بِمَعْنَى " بَلْ "، وَفِي نُسْخَةٍ: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ، وَفِيهِ زِيَادَةُ مَنْقَبَةٍ لَا تَخْفَى. (رَوَاهُ) أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ. هَذَا وَنَظِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَى أَبُو يَعْلَى «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَكَّةَ مِنَ السَّمْنِ أَوِ الْعَسَلِ، فَإِذَا طُولِبَ بِالثَّمَنِ جَاءَ بِصَاحِبِهِ فَيَقُولُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطِهِ مَتَاعَهُ، أَيْ: ثَمَنَهُ، فَمَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَتَبَسَّمَ وَيَأْمُرَ بِهِ فَيُعْطَى» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ طَرْفَةً إِلَّا اشْتَرَى، ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا هَدِيَّةٌ لَكَ، فَإِذَا طَالَبَهُ صَاحِبُهُ بِثَمَنِهِ جَاءَ بِهِ فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا الثَّمَنَ، فَيَقُولُ: أَلَمْ تُهْدِهِ لِي؟ فَيَقُولُ: لَيْسَ عِنْدِي، فَيَضْحَكُ وَيَأْمُرُ لِصَاحِبِهِ بِثَمَنِهِ» . قُلْتُ: فَكَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلَّمَا رَأَى طُرْفَةً أَعْجَبَتْ نَفْسَهُ اشْتَرَاهَا وَآثَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا وَأَهْدَاهَا إِلَيْهِ عَلَى نِيَّةِ أَدَاءِ ثَمَنِهَا إِذَا حَصَلَ لَدَيْهِ، فَلَمَّا عَجَزَ وَصَارَ كَالْمُكَاتِبِ، رَجَعَ إِلَى مَوْلَاهُ وَأَبْدَى لَهُ صَنِيعَ مَا أَوْلَاهُ، فَإِنَّ الْمُكَاتِبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، فَتَرْجِعُ الْمُطَالَبَةُ إِلَى سَيِّدِهِ، فَلَعَلَّهُ هَذَا حَقٌّ مَمْزُوجٌ بِمِزَاجِ صِدْقٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4890 - «وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ: " ادْخُلْ " فَقُلْتُ: أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " كُلُّكَ "، فَدَخَلْتُ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ: إِنَّمَا قَالَ: أَدْخُلُ كُلِّي مِنْ صِغَرِ الْقُبَّةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4890 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ خَيْبَرُ، وَكَانَ مَعَ رَايَةِ أَشْجَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ. (قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي قُبَّةٍ» ) أَيْ: خَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ (مِنْ أَدَمٍ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: جِلْدٌ (فَسَلَّمْتُ) أَيْ: سَلَامُ الِاسْتِئْذَانِ أَوْ سَلَامُ الْمُلْقَاةِ (فَرَدَّ عَلَيَّ) أَيِ: السَّلَامَ ( «وَقَالَ: " ادْخُلْ " فَقُلْتُ: أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلُّكَ» ) : بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَالتَّقْدِيرُ أَيَدْخُلُ كُلِّي؟

فَقَالَ: " كُلُّكَ يَدْخُلُ "، أَوْ أَدْخُلُ كُلِّي؟ فَقَالَ: " ادْخُلْ كُلَّكَ ". (فَدَخَلْتُ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ) : أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (إِنَّمَا قَالَ: أَدْخُلُ كُلِّي) : بِمُتَكَلِّمٍ ثُلَاثِيٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْمَزِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَضْمُومُ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى الْفَتْحِ فَوَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ كُلِّي عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ وَهُوَ بَعِيدٌ. (مِنْ صِغَرِ الْقُبَّةِ) : وَيُمْكِنُ مِنْ كِبَرِ عَوْفِ لَا سِيَّمَا مَعَ صِغَرِهَا، أَوْ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ مُزَاحِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطْءٌ لِبِسَاطِ الْأَدَبِ عِنْدَ انْبِسَاطِ الْحُبِّ وَتَرْكُ التَّكَلُّفِ فِي مَقَامِ الْقُرْبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4891 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا وَقَالَ: لَا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْجُزُهُ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: " كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟ ". قَالَتْ: فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلَانِي فِي سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ فَعَلْنَا، قَدْ فَعَلْنَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4891 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (ابْنِ بَشِيرٍ) : قِيلَ: مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ ثَمَانِي سِنِينَ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَلِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ. ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ سَبَقَ زِيَادَةٌ فِي تَرْجَمَتِهِ. (قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعَ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ) أَيْ: بَعْدَ الْإِذْنِ (تَنَاوَلَهَا) أَيْ: أَخَذَهَا (لِيَلْطِمَهَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا مِنَ اللَّطْمِ وَهُوَ ضَرْبُ الْخَدِّ وَصَفْحَةِ الْجَسَدِ بِالْكَفِّ مَفْتُوحَةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. (وَقَالَ: لَا أَرَاكِ) أَيْ: بَعْدَ هَذَا، وَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ مِنْ قَبِيلِ: لَا أَرَيْنَكِ هَهُنَا، أَوْ عَلَى لُغَةِ إِثْبَاتِ حَرْفِ الْعِلَّةِ مَعَ الْجَازِمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْجَزَرِيِّ: أَلَا قُولُوا لِشَخْصٍ قَدْ تَقْوَّى ... عَلَى ضَعْفِي وَلَمْ يَخْشَ رَقِيبَهُ وَقَوْلِ غَيْرِهِ: أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي وَعَلَيْهِ وَرَدَتْ رِوَايَةُ قُنْبُلٍ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] ، ( «تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) : الْجُمْلَةُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَرَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَا أَرَاكِ دُعَاءً، وَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ مُقَدَّرَةٌ عَلَى قَوْلِهِ تَرْفَعِينَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَا تَتَعَرَّضِي لِمَا يُؤَدِّي إِلَى رَفْعِ صَوْتِكِ، فَالنَّهْيُ وَارِدٌ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَلِفُ فِي لَا أَرَاكِ لِلْإِشْبَاعِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى النَّفْيِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ النَّهْيِ، أَيْ: لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَرَاكِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ( «فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْجُزُهُ» ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالزَّايِ، أَيْ: يَمْنَعُ أَبَا بَكْرٍ مِنْ لَطْمِهَا وَضَرْبِهَا. (وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا) : بِفَتْحِ الضَّادِ، أَيْ: غَضْبَانَ عَلَيْهَا ( «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي» ) أَيْ: أَبْصَرْتِنِي أَوْ عَرَفْتِنِي (أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ) أَيْ: خَلَّصْتُكِ مِنْ ضَرْبِهِ وَلَطْمِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ مِنْ أَبِيكِ، فَعَدَلَ إِلَى الرَّجُلِ أَيْ: مِنَ الرَّجُلِ الْكَامِلِ فِي الرُّجُولِيَّةِ حِينَ غَضِبَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. (قُلْتُ: فَمَكُثَ) : قِيلَ: هَكَذَا وُجِدَ فِي أَصْلِ أَبِي دَاوُدَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّعْمَانَ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عَائِشَةَ. قُلْتُ: فَيَكُونُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ إِجْمَاعًا، ثُمَّ هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَيُفْتَحُ، أَيْ: فَلَبِثَ (أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا) أَيْ: لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا عِنْدَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْهِجْرَانِ فَوْقَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهَا فَمَكُثَ أَبُو بَكْرٍ بَدَلُ أَبِي لِمَا حَدَثَ فِي سَجِيَّتِهَا مِنْ غَضَبِهِ عَلَيْهَا، فَجَعَلَتْهُ كَأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ، إِذْ فِي الْأُبُوَّةِ اسْتِعْطَافٌ. قُلْتُ: هَذَا يَبْعُدُ مِنْهَا كُلَّ الْبُعْدِ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهَا وَفَهْمِهَا وَأَدَبِهَا وَعِلْمِهَا بِمَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَالْوِلَايَةِ، وَأَنْ يَكُونَ غَضَبُ أَبِيهَا فِي بَاطِنِهَا بَعْدَ مُدَّةٍ بِمُجَرَّدِ قَصْدِهِ أَنْ يَلْطِمَهَا، أَوْ مَعَ تَحَقُّقِ لَطْمِهَا رِعَايَةً لِأَجْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأْدِيبًا لَهَا، وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُهُ كَثِيرًا فِي الصَّحَابَةِ أَنْ يَذْكُرُوا آبَاءَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَهَذَا مِنْ عَدَمِ تَكَلُّفَاتِهِمْ.

الَّتِي اسْتُحْدِثَتْ بَعْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُهُ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ أَوْلَى وَأَنْسَبُ، نَعَمْ نِدَاؤُهُ بِاسْمِهِ خِلَافُ الْأَدَبِ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ تَصَرُّفًا مِنَ الرَّاوِي ; حَيْثُ أَنَّهُ بِالْمَعْنَى، وَلِذَا قَالَ: ( «ثُمَّ اسْتَأْذَنَ فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا، فَقَالَ لَهُمَا» ) : فَإِنَّ حَقَّ الْكَلَامِ مِنْ عَائِشَةَ فَوَجَدَنَا قَدِ اصْطَلَحْنَا فَقَالَ لَنَا: ( «أَدْخِلَانِي فِي سِلْمِكُمَا» ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَيُفْتَحُ أَيْ: فِي صُلْحِكُمَا ( «كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا» ) أَيْ: فِي شِقَاقِكُمَا وَخِنَاقِكُمَا، وَإِسْنَادُ الْإِدْخَالِ إِلَيْهِمَا فِي الثَّانِي مِنَ الْمَجَازِ السَّبَبِيِّ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ، وَإِلَّا فَالْمَعْنَى كَمَا دَخَلْتُ فِي حَرْبِكُمَا. ( «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ فَعَلْنَا» ) : مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَعَلْنَا إِدْخَالَكَ فِي السِّلْمِ، أَوْ نَزَلَ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ: أَوْقَعْنَا هَذَا الْفِعْلَ، وَقَدْ لِلتَّحْقِيقِ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا: (قَدْ فَعَلْنَا) : لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ ثَانِيهُمَا عِوَضٌ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ عَلَى لِسَانِهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4892 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4892 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تُمَارِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنَ الْمُمَارَاةِ أَيْ: لَا تُجَادِلْ وَلَا تُخَاصِمْ (أَخَاكَ) أَيِ: الْمُسْلِمَ (وَلَا تُمَازِحْهُ) أَيْ: بِمَا يَتَأَذَّى مِنْهُ (وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا) أَيْ: وَعْدًا أَوْ زَمَانَ وَعْدٍ أَوْ مَكَانَهُ (فَتُخْلِفَهُ) : مِنَ الْإِخْلَافِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ رُوِيَ مَنْصُوبًا كَانَ جَوَابًا لِلنَّهْيِ عَلَى تَقْدِيرِ: فَيَكُونُ مُسَبَّبًا عَمَّا قَبْلَهُ، فَعَلَى هَذَا التَّنْكِيرِ فِي مَوْعِدِ النَّوْعِ مِنَ الْمَوْعِدِ، وَهُوَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَلَا يُسْتَثْنَى فَيَجْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِخْلَافِ، أَوْ يَنْوِي فِي الْوَعْدِ كَالْمُنَافِقِ، فَإِنَّ آيَةَ النِّفَاقِ الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ، كَمَا وَرَدَ: إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ مُطْلَقِ الْوَعْدِ ; لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُفْضِي إِلَى الْخُلْفِ، وَلَوْ رُوِيَ مَرْفُوعًا كَانَ الْمَنْهِيُّ الْوَعْدَ الْمُسْتَعْقِبَ لِلْإِخْلَافِ، أَيْ: لَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَأَنْتَ تُخْلِفُهُ، عَلَى أَنَّهُ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى إِنْشَائِيَّةٍ، وَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَعَدَ إِنْسَانًا شَيْئًا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ، وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ خِلَافٌ ; ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ تَرَكَهُ فَاتَهُ الْفَضْلُ وَارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَلَا يَأْثَمُ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ هُوَ خَلَفَ، وَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ إِنْ قَصَدَ بِهِ الْأَذَى قَالَ: وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ ; مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّفْضِيلِ. وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مَا أَوْرَدَهُ فِي الْإِحْيَاءِ ; حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَوْعَدَ وَعْدًا قَالَ: عَسَى، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَعِدُ وَعْدًا إِلَّا وَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَوْلَى. ثُمَّ إِذَا فُهِمَ مَعَ ذَلِكَ الْجَزْمُ فِي الْوَعْدِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ إِلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْوَعْدِ عَازِمًا عَلَى أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ. اهـ. وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَيِّدُ الْوُجُوبَ إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِعَسَى أَوْ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَازِمٌ فِي وَعْدِهِ، فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْأَوْلَى مَحَلُّ بَحْثٍ كَمَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَقَدْ سَبَقَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ. وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ

[باب المفاخرة والعصبية]

[بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ]

(13) بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4893 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: " أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: " فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ: " فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (13) بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ الْفَخْرُ: وَيُحَرَّكُ التَّمَدُّحُ بِالْخِصَالِ كَالِافْتِخَارِ، وَفَاخَرَهُ مُفَاخَرَةً: عَارَضَهُ بِالْفَخْرِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَصَبِيُّ هُوَ الَّذِي يَغْضَبُ لِعُصْبَتِهِ وَيُحَامِي عَنْهُمْ، وَالْعَصَبَةُ الْأَقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْصِبُونَهُ وَيَعْتَصِبُ بِهِمْ أَيْ: يُحِيطُونَ بِهِ وَيَشْتَدُّ بِهِمْ، وَمِنْهُ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، أَوْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً. قُلْتُ: لِأَنَّهَا مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَنَّ بَيْنَهُمَا تَلَازُمًا غَالِبِيًّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2] ، أَيْ: شَغَلَكُمُ التَّبَاهِي وَالتَّفَاخُرُ بِالْكَثْرَةِ، حَتَّى وَصَلْتُمْ إِلَى ذِكْرِ أَهَّلِ الْمَقَابِرِ. رُوِيَ أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِيِ أَسْهَمَ تَفَاخَرُوا بِالْكَثْرَةِ، فَكَثُرَ سَهْمُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَ بَنُو سَهْمٍ: إِنَّ الْبَغْيَ أَهْلَكَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَعَادُّونَا بِالْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَكَثُرَ بَنُو سَهْمٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4893 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ» ) أَيْ: مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِهِمْ أَوْ أَوْصَافِهِمْ (أَكْرَمُ؟) أَيْ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى النَّسَبِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَسَبُ مَعَ النَّسَبِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَسَبُ فَحَسْبُ، وَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْ هَذَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ» " أَيْ: عَنْ أُصُولِهِمُ الَّتِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهَا، وَكَانَ جَوَابُهُمْ، فَسَلَكَ عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ ; حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَسَبِ وَالنَّسَبِ، وَقَالَ: " إِذَا فَقُهُوا ". قُلْتُ: لَمَّا أَطْلَقُوا السُّؤَالَ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ صَرْفَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْفَرْدِ الْأَكْمَلِ وَالْوَصْفِ الْأَفْضَلِ ( «قَالَ: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ» ) : وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] ، وَقَدْ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَنْسَابِ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّعَارُفِ بِالْوُصْلَةِ، وَأَنَّ الْكَرَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّقْوَى ; لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالْعِبْرَةَ بِمَا فِي الْعُقْبَى، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلِمَ غَرَضَهُمْ وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. (قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ) : تَنْزِيلٌ لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَقْدِيرُهُ لَيْسَ سُؤَالُنَا عَنْ هَذَا، عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ: فَقَالُوا مَا تَشَاءُ فَقُلْتُ الْهَوَى. اهـ. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنِ الْكَرَمِ الْمُطْلَقِ، وَظَنَّ أَنَّ مُرَادَهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ (قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ) أَيْ: مِنْ حَيْثِيَّةِ جَمْعِيَّةِ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ النَّبَوِيَّةِ (يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ) أَيْ: يَعْقُوبُ (ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ) أَيْ: إِسْحَاقَ (ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ) : بِإِثْبَاتِ أَلِفِ ابْنٍ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَلِيلِ: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدِ اجْتَمَعَ شَرَفُ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَكَرَمُ الْآبَاءِ وَالْعَدْلُ وَالرِّيَاسَةُ فِي الدُّنْيَا فِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَدْ يُهْمَزُ وَيُثَلَّثُ سِينُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالضَّمُّ هُوَ الْمَشْهُورُ. ( «قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ» ) أَيْ: قَبَائِلِهِمْ (تَسْأَلُونِّي؟) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهِ ( «قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ» ) أَيْ: هُمْ خِيَارُكُمْ (فِي الْإِسْلَامِ) أَيْ: فِي زَمَنِهِ (إِذَا فَقُهُوا) : بِضَمِّ الْقَافِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: إِذَا عَلِمُوا آدَابَ الشَّرِيعَةِ وَأَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْفِقْهُ بِالْكَسْرِ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَالْفِطْنَةُ لَهُ، وَغَلَبَ عَلَى عِلْمِ الدِّينِ لِشَرَفِهِ، وَفَقُهُ كَكَرُمَ

وَفَرِحَ فَهُوَ فَقِيهٌ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ كَذَا إِخْرَاجَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ اسْتِوَاءَ النَّسَبِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْحَسَبِ بِأَنْ يَكُونُوا مُسْتَوِينَ فِي الْفِقْهِ، وَأَمَّا مَنْ زَادَ فِي الْفِقْهِ فَهُوَ أَعْلَى، وَمَنْ لَمْ يَفْقَهْ فَهُوَ فِي مَرْتَبَةِ الْأَدْنَى، وَالْمُرَادُ بِالْفِقْهِ: هُوَ الْعِلْمُ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ حَاصِلُ التَّقْوَى، فَرَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، لَكِنْ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «التَّقْوَى هَهُنَا» " وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ الشَّرِيفِ مُومِيًا إِلَى انْحِصَارِهَا فِيهِ بِحَسْبَ كَمَالِهَا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يُرِيدُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَأْثُرَةٌ وَشَرَفٌ إِذَا أَسْلَمَ وَفَقُهَ، فَقَدْ حَازَ إِلَى ذَلِكَ مَا اسْتَفَادَهُ بِحَقِّ الدِّينِ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَقَدْ هَدَمَ شَرَفَهُ وَضَيَّعَ نَسَبَهُ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: لَمَّا سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ أَجَابَ بِأَكْمَلِهِمْ وَأَعَمِّهِمْ، وَقَالَ: " أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ " ; لِأَنَّ أَصْلَ الْكَرَمِ كَثْرَةُ الْخَيْرِ، وَمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا كَانَ كَثِيرَ الْخَيْرِ وَكَثِيرَ الْفَائِدَةِ فِي الدُّنْيَا، وَصَاحِبَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْأُخْرَى، وَلَمَّا قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالُوا: يُوسُفُ جَمَعَ النُّبُوَّةَ وَالنَّسَبَ، وَضَمَّ مَعَ ذَلِكَ شَرَفَ عِلْمِ الرُّؤْيَا وَالرِّيَاسَةَ وَتَمَكُّنَهُ فِيهَا، وَسِيَاسَةَ الرَّعِيَّةِ بِالسِّيرَةِ الْحَمِيدَةِ وَالصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4894 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ، يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4894 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْكَرِيمُ بْنُ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: كُتِبَ ابْنُ فِي الثَّلَاثَةِ بِدُونِ الْأَلْفِ، وَصَوَابُهُ أَنْ يُكْتَبَ بِهَا لِوُقُوعِهَا بَيْنَ الصِّفَاتِ ( «يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا.

4895 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ - يَعْنِي بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ، نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ: " أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " قَالَ: فَمَا رُئِيَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4895 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) : صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ) : ظَرْفٌ مُقَدَّمٌ، وَالْجُمْلَةُ هِيَ الْمَقُولُ (كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ) أَيِ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْهُمَا حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ، وَكَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَطْبُوعِينَ، وَكَانَ سَبَقَ لَهُ هِجَاءٌ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيَاءً مِنْهُ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ عَامَ الْفَتْحِ، «وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقُلْ لَهُ مَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] ، فَفَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] ، وَقَبِلَ مِنْهُ وَأَسْلَمَ» ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ حَجَّ، فَلَمَّا حَلَقَ الْحَلَّاقُ رَأْسَهُ قَطْعَ أُثْلُوثًا فِي رَأْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا مِنْهُ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ مَقْدِمِهِ مِنَ الْحَجِّ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَدُفِنَ فِي دَارِ عُقَيْلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ ( «كَانَ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ» ، يَعْنِي) : هُوَ كَلَامُ بَعْضِ الرُّوَاةِ، أَيْ: يُرِيدُ الْبَرَاءُ بِقَوْلِهِ: بَغْلَتُهُ (بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) احْتِرَازًا مِنْ رَجْعِ الضَّمِيرِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ (فَلَمَّا غَشِيَهُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الْمُشْرِكُونَ) أَيْ: أَتَوْهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ (نَزَلَ) أَيْ: عَنْ بَغْلَتِهِ (فَجَعَلَ يَقُولُ) : " «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» ". بِسُكُونِ الْبَاءِ فِيهِمَا عَلَى الصَّوَابِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِهَا فِي الْأَوَّلِ وَكَسْرِهَا فِي الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ شِعْرٌ أَمْ لَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا عَلَى الْمُفَاخَرَةِ، وَالشَّيْخُ - يَعْنِي صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ - لَمْ يَرِدْ فِي إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَبِعَ بَعْضَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ وَلَمْ يُصِيبُوا

أُولَئِكَ أَيْضًا، وَقَدْ نَفَى نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَذْكُرَ الْفَضَائِلَ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا فَخْرًا، بَلْ شُكْرًا لِأَنْعُمِهِ فَقَالَ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» " الْحَدِيثَ. وَذَمَّ الْعَصَبِيَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَأَنَّى لِأَحَدٍ أَنْ يَعُدَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ؟ وَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَفْتَخِرَ بِمُشْرِكٍ، وَكَانَ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يَفْتَخِرُوا بِآبَائِهِمْ؟ وَإِنَّمَا وَجْهُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: تَكَلَّمَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرَى قَوْمًا قَبْلَ مِيلَادِهِ مَا قَدْ كَانَ، عَلَمًا لِنُبُوَّتِهِ وَدَلِيلًا عَلَى ظُهُورِ أَمْرِهِ، وَأَظْهَرَ عِلْمَ ذَلِكَ عَلَى الْكَهَنَةِ حَتَّى شَهِدَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَّرَهُمْ بِذَلِكَ، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ مَا رُوِيَ، وَذُكِرَ فِيهِ مَا ذُكِرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ الِافْتِخَارُ وَالِاعْتِزَازُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَا كَانَ فِي غَيْرِ جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ رَخَّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُيَلَاءَ فِي الْحَرْبِ مَعَ نَهْيِهِ عَنْهَا فِي غَيْرِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَارَزَ مُرَحِّبًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَةَ . قُلْتُ: حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى تَأْوِيلِ التُّورِبِشْتِيِّ أَنَّهُ لِلتَّعْرِيفِ لَا لِلِافْتِخَارِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيَ الْكُفَّارَ شِدَّةَ جَأْشِهِ وَشَجَاعَتَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَيَّدًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ قَلَّ شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ السَّكِينَةُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَلْخِيصُ الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُفَاخِرَةَ نَوْعَانِ: مَذْمُومَةٌ وَمَحْمُودَةٌ، فَالْمَذْمُومُ مِنْهَا: مَا كَانَ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْفَخْرِ بِالْآبَاءِ وَالْأَنْسَابِ لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَالْمَحْمُودُ مِنْهَا: مَا ضَمَّ مَعَ النَّسَبِ الْحَسَبَ فِي الدِّينِ لَا رِيَاءً، بَلْ إِظْهَارًا لِأَنْعُمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: " لَا فَخْرًا " احْتِرَازًا عَنِ الْمَذْمُومِ مِنْهَا، وَكَفَى بِهِ شَاهِدًا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» ". «وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ جَاءَهُ عَبَّاسٌ وَكَأَنَّهُ سَمِعَ شَيْئًا، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: " مَنْ أَنَا؟ " فَقَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: " أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فَرِقَّةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فِرْقَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا» ". قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ تَعْرِيفٌ لِنَسَبِهِ الشَّرِيفِ الْمُنْضَمِّ بِحَسَبِهِ الْمُنِيفِ، وَلَيْسَ فِيهِ الِافْتِخَارُ بِآبَائِهِ الْكُفَّارِ لِمَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّانِي، مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الِافْتِخَارَ لَافْتَخَرَ بِأَجْدَادِهِ الْأَبْرَارِ، وَقَالَ: أَنَا ابْنُ إِسْمَاعِيلَ أَوْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: كَانَ افْتِخَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِقُرْبِهِ لَا بِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَى وَلَدِ آدَمَ، كَمَا أَنَّ الْمَقْبُولَ عِنْدَ الْمَلِكِ قَبُولًا عَظِيمًا إِنَّمَا يَفْتَخِرُ بِقَبُولِهِ إِيَّاهُ، وَبِهِ يَفْرَحُ لَا بِتَقَدُّمِهِ عَلَى بَعْضِ رَعَايَاهُ. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (فَمَا رُئِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: مَا عُرِفَ (مِنَ النَّاسِ) أَيْ: أَحَدٌ مِنْهُمْ (يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ) أَيْ: أَقْوَى وَأَشْجَعُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُ الْبَغْلَةَ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلْعِزَّةِ بِالْمَرَّةِ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نَزَلَ مِنْهَا، وَعَرَّفَ النَّاسَ بِهِ بِإِظْهَارِ نَسَبِهِ وَحَسَبِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِكَمَالِ التَّعْرِيفِ، الْمُنَافِي عَادَةً لِمَقَامِ التَّخْوِيفِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقُوَّةِ قَلْبِهِ، وَتَوَكُّلِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَاعْتِمَادِهِ عَلَى عِصْمَتِهِ بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ ; حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وَبِمُوجَبِ حُكْمِهِ ; حَيْثُ قَالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] . . . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4896 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4896 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ» ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ تَسْكِينُهَا وَهَمْزٍ بَعْدَهَا، وَمَعْنَاهَا الْخَلِيقَةُ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: بَرَأَهُ اللَّهُ يَبْرَأُ بَرَاءً، أَيْ: خَلَقَهُ، وَيُجْمَعُ عَلَى الْبَرَايَا، وَالْبَرِيَّاتِ مِنَ الْبَرْيِ، وَهُوَ التُّرَابُ إِذَا لَمْ يُهْمَزْ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْهَمْزَةُ أَخَذَهُ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَبْرَأُهُمْ أَيْ: خَلَقَهُمْ، ثُمَّ تُرِكَ فِيهَا الْهَمْزُ تَخْفِيفًا، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ مَهْمُوزَةً. قُلْتُ: بَلِ الْمَهْمُوزَةُ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، قَرَأَ بِهَا الْأَحْنَافُ وَابْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ ابْنِ عَامِلٍ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْبَاقُونَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي الْيَاءِ تَخْفِيفًا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ وَأَدَبًا مَعَ جَدِّهِ (ذَاكَ) أَيِ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمَوْصُوفُ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ هُوَ (إِبْرَاهِيمُ) .

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ هَذَا تَوَاضُعًا وَاحْتِرَامًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَخِلَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ، وَإِلَّا فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» "، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، فَإِنَّ الْفَضَائِلَ يَمْنَحُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ، فَأَخْبَرَ بِفَضِيلَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ عَلِمَ تَفْضِيلَ نَفْسِهِ فَأَخْبَرَ بِهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَارِيخِهِ لِيَدْفَعَ التَّعَارُضَ بِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ بَرِّيَّةِ عَصْرِهِ، فَأَطْلَقَ الْعِبَارَةَ الْمُوهِمَةَ لِلْعُمُومِ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّوَاضُعِ. قُلْتُ: وَمَآلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَفْضَلُ بَرِّيَّةِ عَصْرِهِ لَيْسَ فِيهِ مَزِيدُ مَزِيَّةٍ قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، نَعَمْ أَفْضَلِيَّةُ نَبِيِّنَا ثَابِتَةٌ بِأَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ كَادَ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةً، بَلْ إِجْمَاعِيَّةً. مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» ". وَمِنْهَا حَدِيثُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» ". وَمِنْهَا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَأُكْسَى حُلَّةً مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِي» . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ شَهِيرَةٌ. مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سِيَادَتِهِ وَزِيَادَتِهِ فِي سَعَادَتِهِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْمَسْطُورَةِ إِشْعَارٌ بِتَأْخِيرِ قَوْلِهِ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» " عَنْ قَوْلِهِ: " «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» " ; لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَفْضُولِ، مَعَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يُوجَدُ فِي الْأَخْبَارِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ تَوَاضُعًا، لِيُوَافِقَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ، أَوْ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَأَنَّهُ يُدْعَى بِهَذَا النَّعْتِ حَتَّى صَارَ عَلَمًا لَهُ الْخَلِيلُ، فَقَالَ: " «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» "، أَيِ: الْمَدْعُوُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ إِبْرَاهِيمُ إِجْلَالًا لَهُ يَعْنِي مِنَ التَّشْرِيكِ، فَيَكُونُ مَعْنَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ رَاجِعًا إِلَى مَنْ خُلِقَ دُونَ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْبَرِّيَّةِ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَمْ يَدْخُلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غِمَارِهِمُ. اهـ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْتَثْنَى مِنْهُمْ إِمَّا بِطْرِيقِ النَّقْلِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4897 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4897 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُطْرُونِي» ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَأَصْلُهُ لَا تُطْرِيُونَ مِنَ الْإِطْرَاءِ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدْحِ وَالْغُلُوُّ فِي الثَّنَاءِ ( «كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» ) أَيْ: مِثْلَ إِطْرَائِهِمْ إِيَّاهُ، مَفْهُومُهُ أَنَّ إِطْرَاءَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ إِطْرَائِهِمْ جَائِزٌ، وَلِلَّهِ دَرُّ صَاحِبِ الْبُرْدَةِ ; حَيْثُ قَالَ: دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي نَبِيِّهِمْ وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى أَفْرَطُوا فِي مَدْحِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِطْرَائِهِ بِالْبَاطِلِ، وَجَعَلُوهُ وَلَدًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَنَعَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُطْرُوهُ بِالْبَاطِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْعُدُولِ عَنْ عِيسَى وَالْمَسِيحِ إِلَى ابْنِ مَرْيَمَ تَبْعِيدًا لَهُ عَنِ الْأُلُوهِيَّةِ، يَعْنِي: بَالَغُوا فِي الْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ وَالْكَذِبِ بِأَنْ جَعَلُوا مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ الطَّوَامِثِ إِلَهًا أَوِ ابْنًا لَهُ. اهـ. وَلِكَوْنِ الْيَهُودِ بَالَغُوا فِي قَدْحِ الْمَسِيحِ وَالنَّصَارَى فِي مَدْحِهِ قَالَ تَعَالَى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] ، فَالْحَقُّ هُوَ الْوَسَطُ الْعَدْلُ، كَمَا بَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} [النساء: 171] ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ; لِأَنَّ كَوْنَهُ ابْنَ مَرْيَمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] ، أَيْ: يَبُولَانِ وَيَغُوطَانِ، وَيَحْتَاجَانِ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَلَا يَصْلُحَانِ لِلْأُلُوهِيَّةِ وَلَا مُنَاسِبَةَ لَهُمَا بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمَا الْعُبُودِيَّةُ (فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ) أَيِ: الْخَاصُّ فِي مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَفْضَلُ مَدْحٍ عِنْدَ الْفَاضِلِ الْكَامِلِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ : لَا تَدْعُنِي إِلَّا بَيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَفْضَلُ أَسْمَائِيَا

وَلِذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِهَذَا الْوَصْفِ الْمَنِيعِ وَالْفَضْلِ الْبَدِيعِ، مِنْهَا فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، وَمِنْهَا فِي مَقَامِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ وَبِشَارَةٌ شَرِيفَةٌ أَنَّ الْعِنَايَةَ الرُّبُوبِيَّةُ بِاعْتِبَارِ غَايَةِ الْعُبُودِيَّةِ. ( «فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ) أَيْ: لِتَمَيُّزِهِ بِهِ عَنْ بَقِيَّةِ عَبِيدِهِ، وَفِي ذِكْرِهِمَا أَيْضًا إِيمَاءٌ إِلَى مَبْدَأِ حَالَتِهِ وَمُنْتَهَى غَايَتِهِ، وَكَانَ إِيَاسُ الْخَاصِّ أَخْذَ حَظٍّ مِنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَشَرْحُهُ يَطُولُ وَلَا يَرْضَى بِهِ الْمَلُولُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، فَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

4898 - وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4898 - (وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا (الْمُجَاشِعِيِّ) : بِضَمِّ الْمِيمِ يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا» ) : (أَنْ) هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْإِيحَاءِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَتَوَاضَعُوا أَمْرٌ مِنَ التَّوَاضُعِ تَفَاعُلٌ مِنَ الضِّعَةِ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ وَالدَّنَاءَةُ. ( «حَتَّى لَا يَفْخَرَ» ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَوْحَى وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ مِنَ الْفَخْرِ، وَهُوَ ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالشَّرَفِ أَيْ: كَيْ لَا يَتَعَاظَمَ. ( «أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ» ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ أَيْ: وَلَا يَظْلِمُ ( «أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» ) : وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْفَخْرَ وَالْبَغْيَ نَتِيجَتَا الْكِبْرِ ; لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ نَفْسَهُ فَوْقَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يَنْقَادُ لِأَحَدٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي آخِرِ صَحِيحِهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» ".

الْفَصْلُ الثَّانِي 4899 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4899 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيَنْتَهِيَنَّ) : بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: وَاللَّهِ لَيَمْتَنِعَنَّ عَنِ الِافْتِخَارِ ( «أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا» ) أَيْ: عَلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا الْوَصْفُ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي تَوْضِيحِ التَّقْبِيحِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ مَرْفُوعًا " «مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَكَرَمًا كَانَ عَاشِرَهُمْ فِي النَّارِ» ". (وَإِنَّمَا هُمْ) أَيْ: آبَاؤُهُمْ (فَحْمٌ مِنْ جَهَنَّمَ) : حَالًا وَمَآلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَصَرَ آبَاءَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ فَحْمًا مِنْ جَهَنَّمَ لَا يَتَعَدُّونَ ذَلِكَ إِلَى فَضِيلَةٍ يُفْتَخَرُ بِهَا. (أَوْ لَيَكُونُنَّ) : بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى عَطْفًا عَلَى لَيَنْتَهِيَنَّ، وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ الْعَائِدُ إِلَى أَقْوَامٍ وَهُوَ وَاوُ الْجَمْعِ مَحْذُوفٌ مِنْ لَيَكُونُنَّ، وَالْمَعْنَى أَوْ لَيَصِيرُنَّ. (أَهْوَنَ) أَيْ: أَذَلَّ (عَلَى اللَّهِ) أَيْ: عِنْدَهُ، وَفِي حُكْمِهِ (مِنَ الْجُعَلِ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ عَيْنٍ، وَهُوَ دُوَيْبَةٌ سَوْدَاءُ تُرِيدُ الْغَائِطَ، يُقَالُ لَهَا الْخُنْفُسَاءُ فَقَوْلُهُ: (الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخَرَاءَ) أَيْ: يُدَحْرِجُهُ (بِأَنْفِهِ) : صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لَهُ، وَالْخَرَاءُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالرَّاءِ مَقْصُورًا. وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَدِّ، وَفِي نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ مَمْدُودًا وَهُوَ الْعَذِرَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرَ وَبِالْكَسْرِ الِاسْمَ، فَفِي بَابِ الْغَرِيبَيْنِ أَنَّ الْخَرْءَ الْعَذِرَةُ وَجَمْعُهُ خُرُوءٌ، كَجُنْدٍ وَجُنُودٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: خَرَى كَفَرَحَ خِرَاءً أَوْ خِرَاءَةً وَيُكْسَرُ وَالِاسْمُ مِنْهُ الْخِرَاءُ بِالْكَسْرِ، وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: أَنَّ الْخَرْءَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا وَاحِدُ الْخُرُوءِ، مِثْلَ قُرْءٍ وَقُرُوءٍ وَالْقُرْءُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا الْحَيْضُ، وَكُتِبَ الْخَرْءُ فِي الْحَدِيثِ بِالْأَلِفِ إِمَّا لِأَنَّهَا مَفْتُوحَةٌ، فَكُتِبَتْ بِحَرْفِ حَرَكَتِهَا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ

نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الرَّاءِ وَقُلِبَتْ أَلِفًا عَلَى لَفْظِ الْعَصَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَ الْمُفْتَخِرِينَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْجُعَلِ، وَآبَاءَهُمُ الْمُفْتَخَرَ بِهِمْ بِالْعَذِرَةِ، وَنَفْسُ افْتِخَارِهِمْ بِهِمْ بِالدَّهْدَهَةِ بِالْأَنْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ الْبَتَّةَ، إِمَّا الِانْتِهَاءُ عَنِ الِافْتِخَارِ أَوْ كَوْنُهُمْ أَذَلَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْجُعْلِ الْمَوْصُوفِ، وَأَغْرَبَ الْقَاضِي ; حَيْثُ قَالَ: (أَوْ) هُنَا لِلتَّخْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمْرَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَنْ يَكُونَ حَالُ آبَائِهِمُ الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِهِمْ وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي تَوْصِيفِهِمْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ. اهـ. وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَقَدْ رَاعَى الْأَدَبَ مَعَهُ الطِّيبِيُّ ; حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَيَنْتَهِيَنَّ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ ضَمِيرُ الْقَوْمِ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَامُ الِابْتِدَاءِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] ، كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ أَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي سُؤَالِهِ ; حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَبْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُهُمْ بِسَبَبِ الْمُفَاخَرَةِ بِآبَائِهِمْ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ فَبِمَ عَرَفَ انْتِهَاءَهُمْ عَنْهَا؟ قُلْتُ: لَمَّا نَظَمَهُمَا بِأَوْ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْحَلِفُ آلَ كَرَمُهُ إِلَى قَوْلِكَ، لَيَكُونَنَّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ يَعْنِي: إِنْ كَانَ الِانْتِهَاءُ لَمْ تَكُنِ الْمَذَلَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَانَتْ، كَذَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي النَّمْلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا بُدَّ مِنْهُ إِمَّا الِانْتِهَاءُ عَمَّا هُمْ فِيهِ، أَوْ إِنْزَالُ الصَّغَارِ وَالْهَوَانِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَرَامِ، لَكِنْ وَقَعَ بَسْطٌ فِي الْكَلَامِ. ثُمَّ إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْنَفَ لِبَيَانِ عِلَّةِ الِانْتِهَاءِ عَنِ الِافْتِخَارِ بَعْدَ زَوَالِ زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَمَالِ الْقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ) أَيْ: أَزَالَ وَرَفَعَ (عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَتَيْنِ أَيْ: نَخْوَتَهَا وَكِبْرَهَا. (وَفَخْرَهَا) أَيْ: وَافْتِخَارَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي زَمَانِهِمْ (بِالْآبَاءِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُقَالُ: رَجُلٌ فِيهِ عُبِّيَّةٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ: كِبْرٌ وَتَجَبُّرٌ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَشْدِيدُ الْيَاءِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبِيدٍ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُ مِنَ الْعِبْءِ بِمَعْنَى الْحِمْلِ الثَّقِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: بَلْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَبْءِ وَهُوَ النُّورُ وَالضِّيَاءُ يُقَالُ: هَذَا عَبُّ الشَّمْسِ وَأَصْلُهُ عَبْؤُ الشَّمْسِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّشْدِيدُ فِيهِ كَمَا فِي الذُّرِّيَّةِ مِنَ الذَّرْءِ بِالْهَمْزَةِ، وَالْجَوْهَرِيُّ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الْمُضَاعَفِ. قُلْتُ: وَكَذَا فَعَلَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ ; حَيْثُ قَالَ: الْعُبِّيَّةُ بِالْكَسْرِ الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالنَّخْوَةُ. وَقَالَ أَيْضًا: عَبُّ الشَّمْسِ وَيُخَفَّفُ ضَوْءُهَا، وَذَكَرُهُ فِي الْمَهْمُوزِ أَيْضًا وَقَالَ: الْعَبْءُ بِالْفَتْحِ ضِيَاءُ الشَّمْسِ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ: الْمُفْتَخِرُ الْمُتَكَبِّرُ بِالْآبَاءِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، فَإِمَّا هُوَ (مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ) : فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ ; لِأَنَّ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَى الْخَاتِمَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (أَوْ فَاجِرٌ) أَيْ: مُنَافِقٌ أَوْ كَافِرٌ (شَقِيٌّ) أَيْ: غَيْرُ سَعِيدٍ، فَهُوَ ذَلِيلٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَالذَّلِيلُ لَا يُنَاسِبُهُ التَّكَبُّرُ، وَلَا يُلَائِمُهُ التَّجَبُّرُ، فَالتَّكَبُّرُ لَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لِلْخَالِقِ، وَلِذَا قَالَ: " «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا قَصَمْتُهُ» "، ثُمَّ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ يَنْتَفِي بِهِ التَّكَبُّرُ عَنِ الْإِنْسَانِ بِقَوْلِهِ: ( «النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» ) أَيْ: فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ أَصْلُهُ التُّرَابُ النَّخْوَةُ وَالتَّجَبُّرُ، أَوْ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ وَاحِدًا، فَالْكُلُّ إِخْوَةٌ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّكَبُّرِ ; لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأُمُورِ عَارِضَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا حَقِيقَةً، نَعَمِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهِيَ مُبْهَمَةٌ، فَالْخَوْفُ أَوْلَى لِلسَّالِكِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْمَسَالِكِ، هَذَا مَا اخْتَرْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ خُلَاصَةِ الْمُرَامِ، وَتَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: فِي ضَمِيرِ (هُوَ) وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا فَقَوْلُهُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ مُقَدَّمٌ ; لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَذَلِكَ تَفْصِيلُهُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التِّمْثَالِ أَكْفَاءُ أَبُوهُمْ آدَمُ وَالْأُمُّ حَوَّاءُ فَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ فِي أَصْلِهِمْ شَرَفٌ ... يُفَاخِرُونَ بِهِ فَالطِّينُ وَالْمَاءُ مَا الْفَخْرُ إِلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ ... عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ.

وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إِلَى الْجِنْسِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِنْسَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ، كَذَا قَرَّرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] ، وَقَوْلُهُمْ: هِيَ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا شَاءَتْ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا، وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَقْوَامٌ) مِنْ بَابِ سَوْقِ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ غَيْرِهِ، وَهُمْ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ نَكَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ غَائِبِينَ، ثُمَّ الْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِغَضَبٍ شَدِيدٍ وَسُخْطٍ مُتَتَابِعٍ. كَانَ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَفَاخَرُوا بِأَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، كَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَأَضْرَابِهِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ فَوَبَّخَهُمْ وَزَجَرَهُمْ وَسَفَّهَ رَأْيَهُمْ، وَالْمَعْنَى: لِيَنْتَهِ مَنْ شَرَّفَهُ اللَّهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ حُلَلَ الْإِسْلَامِ، وَرَفَعَهُ مِنْ حَضِيضِ الْكُفْرِ إِلَى يَفَاعِ الْإِيمَانِ عَنْ هَذِهِ الشَّنْعَاءِ، وَإِلَّا فَيَحُطُّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَيَرُدُّهُ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ مِنَ الْكُفْرِ وَالذُّلِّ، فَإِنَّ تَشْبِيهَهُمْ بِأَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: مَا ذَاكَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ تَقِيٌّ، وَمَا ذَاكَ الذَّلِيلُ الدَّنِيءُ عِنْدَهُ إِلَّا فَاجِرٌ شَقِيٌّ، ثُمَّ رَجَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَاكَ الْعُنْفِ إِلَى اللُّطْفِ، وَمِنَ التَّوْبِيخِ إِلَى إِسْمَاعِ الْحَقِّ قَائِلًا: وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] ، إِلَى قَوْلُهُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وَفِي ذِكْرِ التُّرَابِ إِشَارَةٌ إِلَى نُقْصَانِهِمْ، وَأَنَّهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ طُفُّ الصَّاعِ بِالصَّاعِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَى الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَلَانِ» ".

4900 - «وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ أَبِي: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ: " السَّيِّدُ اللَّهُ " فَقُلْنَا وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا. فَقَالَ: " قُولُوا قَوْلَكُمْ، أَوْ بَعْضَ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4900 - (وَعَنْ مُطَرِّفِ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّعْرِيفِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: مُطَرِّفٌ عَامِرِيٌّ بَصْرِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَفَدَ أَبُوهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَنِي عَامِرٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ مُطَرِّفٌ وَيَزِيدُ. (قَالَ) أَيْ: قَالَ أَبِي: (انْطَلَقْتُ) : كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ (فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: قَاصِدِينَ وَمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا) أَيْ: بَعْدَمَا وَصَلْنَا (أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ: " السَّيِّدُ اللَّهُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ السَّيِّدُ هُوَ اللَّهُ. بِزِيَادَةِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِمَزِيدِ تَأْكِيدِ إِفَادَةِ الْحَصْرِ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِ رَبِّهِ وَتَوَاضُعِ نَفْسِهِ، فَحُوِّلَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى الْحَقِيقَةِ مُرَاعَاةً لِآدَابِ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ، أَيِ: الَّذِي يَمْلِكُ نَوَاصِيَ الْخَلْقِ وَيَتَوَلَّاهُمْ وَيَسُوسُهُمْ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي سِيَادَتَهُ الْمَجَازِيَّةَ الْإِضَافِيَّةَ الْمَخْصُوصَةَ بِالْأَفْرَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ ; حَيْثُ قَالَ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» " أَيْ: لَا أَقُولُ افْتِخَارًا، بَلْ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَإِخْبَارًا بِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ، وَإِلَّا فَقَدَ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلَالًا. اهـ. وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بِلَالٍ تَوَاضُعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا) أَيْ: مَزِيَّةً وَمَرْتَبَةً وَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ (وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا) أَيْ: عَطَاءً لِلْأَحِبَّاءِ وَعُلُوًّا عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالْوَاوُ الْأُولَى اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِرَبْطِ الْكَلَامِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْعَطْفِ عَلَى التَّوَهُّمِ. (فَقَالَ: قُولُوا قَوْلَكُمْ) أَيْ: مَجْمُوعَ مَا قُلْتُمْ، أَوْ هَذَا الْقَوْلُ وَنَحْوُهُ (أَوْ بَعْضَ قَوْلِكُمْ) أَيِ: اقْتَصِرُوا عَلَى إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْمُبَالَغَةِ بِهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ " أَوْ " بِمَعْنَى " بَلْ " أَيْ: بَلْ قُولُوا بَعْضَ مَا قُلْتُمْ مُبَالَغَةً فِي التَّوَاضُعِ، وَقِيلَ: قُولُوا قَوْلَكُمُ الَّذِي جِئْتُمْ لِأَجْلِهِ وَقَصَدْتُمُوهُ وَدَعُوا غَيْرَكُمْ مِمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَنَظِيرُهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجُوَيْرِيَّاتٍ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ: " دَعِي هَذِهِ وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ» ، أَوْ قُولُوا قَوْلَكُمُ الْمُعْتَادَ الْمُسْتَرْسَلَ فِيهِ عَلَى السَّجِيَّةِ دُونَ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْإِطْرَاءِ وَالتَّكَلُّفِ لِمَزِيدِ الثَّنَاءِ "، وَحَاصِلُهُ لَا تُبَالِغُوا

فِي مَدْحِي فَضْلًا عَنْ غَيْرِي ( «وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» ) أَيْ: لَا يَتَّخِذْنَّكُمْ جَرِيًّا بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: كَثِيرَ الْجَرْيِ فِي طَرِيقِهِ وَمُتَابَعَةِ خَطَرَاتِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَرَاءَةِ بِالْهَمْزَةِ أَيْ: لَا يَجْعَلَنَّكُمْ ذَوِي شَجَاعَةٍ عَلَى التَّكَلُّمِ بِمَا لَا يَجُوزُ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَا يَغْلِبَنَّكُمْ فَيَتَّخِذَكُمْ جَرِيًّا أَيْ: رَسُولًا وَوَكِيلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَدَحُوهُ، فَكَرِهَ لَهُمُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَدْحِ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُمْ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا تَتَكَلَّفُوهُ، كَأَنَّكُمْ وُكَلَاءُ الشَّيْطَانِ وَرُسُلُهُ تَنْطِقُونَ عَلَى لِسَانِهِ. هَذَا زُبْدَةُ الْكَلَامِ فِي مَقَامِ الْمُرَامِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ ; حَيْثُ قَالَ: وَأَفْضَلُنَا عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ سَيِّدُنَا كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكُلَّ وَخَصَّ الرَّدَّ بِالسَّيِّدِ، فَأَدْخَلَ الرَّاوِي كَلَامَهُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْكُلِّ قَوْلُهُ: قُولُوا قَوْلَكُمْ، أَيْ: بِقَوْلِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَسُولُ اللَّهِ وَنَبِيُّ اللَّهِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: قَوْلُهُ: " قُولُوا قَوْلَكُمْ " يَعْنِي: قُولُوا هَذَا الْقَوْلَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَلَا تُبَالِغُوا فِي مَدْحِي بِحَيْثُ تَمْدَحُونَنِي بِشَيْءٍ يَلِيقُ بِالْخَالِقِ وَلَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " قُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ دِينِكُمْ أَوْ مِلَّتِكُمْ، وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولًا كَمَا سَمَّانِيَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ ; لِأَنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْهُمْ، إِذْ كَانُوا يَسُودُونَكُمْ فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَأَنَا أَسُودُكُمْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَسَمُّونِي رَسُولًا وَنَبِيًّا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: سَلَكَ الْقَوْمُ فِي الْخِطَابِ مَعَهُ مَسْلَكَهُمْ مَعَ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّهُمْ يُخَاطِبُونَهُمْ بِنَحْوِ هَذَا الْخِطَابِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُخَاطِبُوهُ بِالنَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، فَإِنَّهَا الْمَنْزِلَةُ الَّتِي لَا مَنْزِلَةَ وَرَاءَهَا لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

4901 - وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحَسَبُ: الْمَالُ، وَالْكَرَمُ: التَّقْوَى» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4901 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) أَيِ: الْبَصْرِيِّ، فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ ذِكْرِهِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى الْعَادَةِ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِذِكْرِ الصَّحَابَةِ إِلَّا لِسَبَبٍ عَارِضٍ فِي الْإِسْنَادِ مُحْوِجٍ إِلَى ذِكْرِ التَّابِعِيِّ (عَنْ سَمُرَةَ) : بِفَتْحٍ وَضَمٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَسَبُ) : بِفَتْحَتَيْنِ (الْمَالُ) أَيْ: مَالُ الدُّنْيَا الْحَاصِلُ بِهِ الْجَاهُ غَالِبًا (وَالْكَرَمُ) أَيِ: الْكَرَمُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعُقْبَى الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ الْإِكْرَامُ بِالْفَرِجَاتِ الْعُلَى (التَّقْوَى) : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَالْأُخْرَى بَاقِيَةٌ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِعُقْبَاهُ، فَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَمِثَالُهُمَا كِفَّتَا الْمِيزَانِ، وَنِعْمَ مَا قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَالِ: زِيَادَةُ الْمَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانٌ وَرِبْحُهُ غَيْرُ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ قَالَ شَارِحٌ: الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ، وَالْكَرَمُ ضِدُّ اللُّؤْمِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الرَّجُلُ عَظِيمَ الْقَدْرِ عِنْدَ النَّاسِ وَهُوَ الْمَالُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ عَظِيمَ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ التَّقْوَى، وَالِافْتِخَارُ بِالْآبَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَظْهَرُ مُنَاسِبَةُ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِعُنْوَانِ الْبَابِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْغَنِيَّ يُعَظَّمُ كَمَا يُعَظَّمُ الْحَسِيبُ، وَأَنَّ الْكَرِيمَ هُوَ الْمُتَّقِي لَا مَنْ يَجُودُ بِمَالِهِ وَيَخْطُرُ بِنَفْسِهِ لِيُعَدَّ جَوَادًا شُجَاعًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَسَبُ مَا يُعَدُّ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَآثِرِ آبَائِهِ، وَالْكَرَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرَفِ وَالْفَضَائِلِ، وَهَذَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ. فَرَدَّهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَعِنْدَ اللَّهِ أَيْ: لَيْسَ ذِكْرُ الْحَسَبِ عِنْدَ النَّاسِ لِلْفَقِيرِ ; حَيْثُ لَا يُوَقَّرُ وَلَا يُحْتَفَلُ بِهِ، بَلْ كُلُّ الْحَسَبِ عِنْدَهُمْ مَنْ رُزِقَ الثَّرْوَةَ وَوُقِّرَ فِي الْعُيُونِ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنْ حَسَبِ الرَّجُلِ إِنْقَاءُ ثَوْبَيْهِ، أَيْ أَنَّهُ يُوَقَّرُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَلِيلُ الثَّرْوَةِ، وَذُو الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَا يُعَدُّ كَرِيمًا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْكَرِيمُ عِنْدَهُ مَنِ ارْتَدَى بِرِدَاءِ التَّقْوَى وَأَنْشَدَ: كَانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمَانَ لَهُ نَسَبًا ... وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ رَحِمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

4902 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوا» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4902 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ تَعَزَّى) أَيِ: انْتَسَبَ (بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: نَسَبِ أَهْلِهَا وَافْتَخَرَ بِآبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ (فَأَعِضُّوهُ) : بِتَشْدِيدِ الضَّادِ وَالْمُعْجَمَةِ مِنْ أَعْضَضْتُ الشَّيْءَ: جَعَلْتَهُ يَعَضُّهُ، وَالْعَضُّ أَخْذُ الشَّيْءِ بِالْأَسْنَانِ أَوْ بِاللِّسَانِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (بِهَنِ أَبِيهِ) ، بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْهَنُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ كِنَايَةٌ عَنِ الْفَرْجِ، أَيْ: قُولُوا لَهُ: اعْضُضْ بِذَكَرِ أَبِيكَ أَوْ أَيْرِهِ أَوْ فَرْجِهِ. (وَلَا تُكَنُّوا) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ النُّونِ، أَيْ: لَا تُكَنُّوا بِذِكْرِ الْهَنِ عَنِ الْأَيْرِ، بَلْ صَرِّحُوا بِآلَةِ أَبِيهِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا فِيهِ تَأْدِيبًا وَتَنْكِيلًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنِ انْتَسَبَ وَانْتَمَى إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ بِإِحْيَاءِ سُنَّةِ أَهْلِهَا، وَابْتِدَاعِ سُنَّتِهِمْ فِي الشَّتْمِ وَاللَّعْنِ وَالتَّعْيِيرِ، وَمُوَاجَهَتِكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَالتَّكَبُّرِ، فَاذْكُرُوا لَهُ قَبَائِحَ أَبِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يُعَيَّرُ بِهِ مِنْ لُؤْمٍ وَرَذَالَةٍ صَرِيحًا لَا كِنَايَةً ; كَيْ يَرْتَدِعَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَعْرَاضِ النَّاسِ. (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

4903 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي عُقْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مَوْلًى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحُدًا، فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُلْتُ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ. فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: " هَلَّا قُلْتَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيُّ؟» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4903 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ هُوَ مَوْلَى جُبَيْرِ بْنِ عُتَيْقٍ (عَنْ أَبِي عُقْبَةَ) : قَالَ مِيرَكُ: اسْمُهُ رُشَدٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مَوْلَى الْأَنْصَارِ، وَيُقَالُ: مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ صَحَابِيٌّ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ (وَكَانَ) أَيْ: أَبُو عُقْبَةَ (مَوْلًى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحُدًا» ) : بِضَمَّتَيْنِ أَيْ: حَضَرْتُهُ ( «فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ) أَيْ: بِرَمْيٍ أَوْ بِرُمْحٍ أَوْ بِسَيْفٍ (فَقُلْتُ: خُذْهَا) أَيِ: الضَّرْبَةَ أَوِ الطَّعْنَةَ مِنِّي ( «وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ» ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْمُحَارَبَةِ أَنْ يُخْبِرَ الضَّارِبُ الْمَضْرُوبَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ إِظْهَارًا لِشَجَاعَتِهِ (فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلَّا قُلْتَ) أَيْ: لِمَ لَا قُلْتَ ( «خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيُّ» ) أَيْ: إِذَا افْتَخَرْتَ عِنْدَ الضَّرْبِ، فَانْتَسِبْ إِلَى الْأَنْصَارِ الَّذِينَ هَاجَرْتُ إِلَيْهِمْ وَنَصَرُونِي، وَكَانَ فَارِسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كُفَّارًا فَكَرِهَ الِانْتِسَابَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْأَنْصَارِ لِيَكُونَ مُنْتَسِبًا إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ مِمَّا عَدَا الْمُهَاجِرِينَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ الْأَنْصَارُ، وَلَيْسُوا بِمَخْصُوصِينَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا يُتَوَهَّمُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ لِلصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4904 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي رَدَى، فَهُوَ يُنْزَعُ بِذَنَبِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4904 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ» ) أَيْ: عَلَى بَاطِلٍ أَوْ مَشْكُوكٍ ( «فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي رَدَى» ) : بِفَتْحِ الدَّالِ مُخَفَّفَةً، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً وَفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ: تَرَدَّى وَسَقَطَ فِي الْبِئْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ هَلَكَ (فَهُوَ) أَيِ: الْبَعِيرُ إِذَا وَقَعَ فِيهَا (يُنْزَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُعَالَجُ وَيُخْرَجُ عَنْهَا (بِذَنَبِهِ) أَيْ: يُجَرُّ مِنْ وَرَائِهِ، قِيلَ: الْمَعْنَى أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الْهَلَكَةِ بِتِلْكَ النُّصْرَةِ الْبَاطِلَةِ ; حَيْثُ أَرَادَ الرِّفْعَةَ بِنُصْرَةِ قَوْمِهِ، فَوَقَعَ فِي حَضِيضِ بِئْرِ الْإِثْمِ وَهَلَكَ كَالْبَعِيرِ، فَلَا يَنْفَعُهُ كَمَا لَا يَنْفَعُ الْبَعِيرَ نَزْعُهُ عَنِ الْبِئْرِ بِذَنَبِهِ، وَقِيلَ: شَبَّهَ الْقَوْمَ بِبَعِيرٍ هَالِكٍ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ هَالِكٌ، وَشَبَّهَ نَاصِرَهُمْ بِذَنَبِ هَذَا الْبَعِيرِ، فَكَمَا أَنَّ نَزْعَهُ بِذَنَبِهِ لَا يُخَلِّصُهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، كَذَلِكَ هَذَا النَّاصِرُ لَا يُخَلِّصُهُمْ عَنْ بِئْرِ الْهَلَاكِ الَّتِي وَقَعُوا فِيهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " «مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» " فَمَحْمُولٌ عَلَى نُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا.

4905 - «وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْعَصَبِيَّةُ؟ قَالَ: " أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4905 - ( «وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَصَبِيَّةُ» ؟) أَيِ: الْجَاهِلِيَّةُ ( «قَالَ: أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ» ) ، يَعْنِي: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْكَ مُتَابَعَةُ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ يَكُ ظَالِمًا فَارْدُدْهُ عَنْ ظُلْمِهِ، وَإِنْ يَكُ مَظْلُومًا، فَانْصُرْهُ» ". (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

4906 - وَعَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «خَيْرُكُمُ الْمُدَافِعُ عَنْ عَشِيرَتِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4906 - (وَعَنْ سُرَاقَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَسُكُونِ عَيْنٍ مُهْمِلَةٍ وَضَمِّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُدْلِجِيٌّ كِنَانِيٌّ، كَانَ يَنْزِلُ قَدِيدًا، وَيُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. (قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: خَيْرُكُمُ الْمُدَافِعُ عَنِ الْعَشِيرَةِ» ) أَيْ: أَقَارِبُهُ الْمُعَاشِرُ مَعَهُمْ (مَا لَمْ يَأْثَمْ) أَيْ: مَا لَمْ يَظْلِمْ عَلَى الْمَدْفُوعِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَوَصْلَةِ الْأَقَارِبِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ قَوْمِهِ بِكَلَامٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الضَّرْبُ، وَلَوْ قَدَرَ بِالضَّرْبِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَتْلُ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ. قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، الْآيَةُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4907 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4907 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : مَرَّ ذِكْرُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيْسَ مِنَّا) أَيْ: مِنْ أَهْلِ مَلَّتِنَا أَوْ مِنْ أَصْحَابِ طَرِيقَتِنَا (مَنْ دَعَا) أَيِ: النَّاسَ (إِلَى عَصَبِيَّةٍ) أَيْ: إِلَى اجْتِمَاعِ عَصَبِيَّةٍ فِي مُعَاوَنَةِ ظَالِمٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هُوَ قَوْلُهُمْ يَا آلَ فُلَانٍ! كَانُوا يَدْعُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا عِنْدَ الْأَمْرِ الْحَادِثِ (وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً) أَيْ: بِالْبَاطِلِ ( «وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» ) أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4908 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4908 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حُبُّكَ) : مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ (الشَّيْءَ) : وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ( «يُعْمِي وَيُصِمُّ» ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا وَكَسْرِ عَيْنِهِمَا أَيْ: يَجْعَلُكَ أَعْمَى عَنْ رُؤْيَةِ مَعَايِبِ الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ بِحَيْثُ لَا تُبْصِرُ فِيهِ عَيْبًا، وَيَجْعَلُكَ أَصَمَّ عَنْ سَمَاعِ قَبَائِحِهِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ فِيهِ كَلَامًا قَبِيحًا لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَحَبَّةِ عَلَى فُؤَادِكَ، كَمَا قَالَ: وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا وَحَاصِلُهُ، أَنَّكَ تَرَى الْقَبِيحَ مِنْهُ حَسَنًا، وَتَسْمَعُ مِنْهُ الْخَنَا قَوْلًا جَمِيلًا كَمَا قِيلَ: وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدِي ... فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي عَنِ الْغَيْرِ غَيْرَةً وَعَنِ الْمَحْبُوبِ هَيْبَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَوْرِدُ الْحَدِيثِ فِي الذَّمِّ، وَذِكْرُ الْعَصَبِيَّةِ يَسْتَدْعِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيمَنْ يَتَعَصَّبُ لِغَيْرِهِ وَيُحَامِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَحُبُّهُ إِيَّاهُ يُعْمِيهِ عَنْ أَنْ يُبْصِرَ الْحَقَّ فِي قَضِيَّتِهِ، وَيُصِمُّهُ عَنْ أَنْ يَسْمَعَ الْحَقَّ فِي قِصَّتِهِ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ ذُو وَجْهَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ، وَالْخَرَائِطِيُّ فِي اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4909 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ كَثِيرٍ الشَّامِيِّ، مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، فِي امْرَأَةٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا فَسِيلَةُ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4909 - (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ كَثِيرٍ الشَّامِيِّ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَنُونٍ مَفْتُوحَةٍ، وَفِي الْمُغْنِي فِلَسْطُونَ وَفِلَسْطِينَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا، وَفِي الْقَامُوسِ: وَقَدْ يُفْتَحُ فَاؤُهُمَا كُورَةٌ بِالشَّامِ، تَقُولُ فِي حَالِ الرَّفْعِ بِالْوَاوِ وَبِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ بِالْيَاءِ، أَوْ تَلْزَمُهَا الْيَاءُ فِي كُلِّ حَالٍ (عَنِ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ (يُقَالُ لَهَا فَسِيلَةُ) : بِفَتْحِ فَاءٍ فَكَسْرِ سِينٍ مُهْمِلَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّصْغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِيَّاتِ (أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبِي) : لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي أَسْمَاءِ الْمُؤَلِّفِ (يَقُولُ) أَيْ: أَبُو فَسِيلَةَ ( «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ؟» ) أَيْ: حُبًّا بَلِيغًا ( «قَالَ: لَا، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ» ) أَيْ: عَلَى ظُلْمِهِمْ أَوْ مَعَ ظُلْمِهِمْ أَوْ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) .

4910 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنْسَابُكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَسَبَّةٍ عَلَى أَحَدٍ، كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ بِالصَّاعِ لَمْ تَمْلَأْهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِدِينٍ وَتَقْوًى، كَفَى بِالرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ بَذِيًّا فَاحِشًا بَخِيلًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4910 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْسَابُكُمْ هَذِهِ» ) أَيِ: الْمَعْرُوفَةُ الْمَشْهُورَةُ كَأَمْرٍ مَحْسُوسٍ يُشَارُ إِلَيْهِ ( «لَيْسَتْ بِمَسَبَّةٍ» ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: مَحَلُّ سَبٍّ وَسَبَبُ عَارٍ (عَلَى أَحَدٍ) أَيْ: مِنْكُمْ ( «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ» ) أَيْ: جَمِيعُكُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ ( «طَفُّ الصَّاعِ بِالصَّاعِ» ) : بِفَتْحِ طَاءٍ وَتَشْدِيدِ فَاءٍ وَهُوَ مَرْفُوعٌ وَمَنْصُوبٌ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ عَلَى أَنَّهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَرَفْعُهُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَبَنُو آدَمَ بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، فَيَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ: كُلُّكُمْ مُتَسَاوُونَ فِي النِّسْبَةِ إِلَى أَبٍ وَاحِدٍ، مُتَقَارِبُونَ كَتَقَارُبِ مَا فِي الصَّاعِ أَوْ تَسَاوِيهِ لِلصَّاعِ إِذَا لَمْ يُمْلَأْ مَلْأً تَامًّا، حَتَّى يَزْدَادَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (لَمْ تَمْلَأْهُ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ لَمْ تَمْلَؤُوهُ وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: قَرِيبٌ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، يُقَالُ: هَذَا طَفُّ الْمِكْيَالِ أَيْ: مَا قَرُبَ مِنْ مِلْئِهِ، وَالْمَعْنَى: كُلُّكُمْ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى أَبٍ وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي النَّقْصِ وَالتَّقَاصُرِ عَنْ غَايَةِ التَّمَامِ، شَبَّهَهُمْ فِي نُقْصَانِهِمْ بِالْمَكِيلِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْمِكْيَالَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّفَاضُلَ لَيْسَ بِالنَّسَبِ، وَلَكِنْ بِالتَّقْوَى ; حَيْثُ قَالَ: (لَيْسَ لِأَحَدٍ) أَيْ: " عَلَى أَحَدٍ ": كَمَا فِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ (فَضْلٌ) أَيْ: زِيَادَةٌ مُرَتَّبَةٌ (إِلَّا بِدِينٍ) أَيْ: مِنَ الْأَدْيَانِ الْحَقَّةِ (وَتَقْوَى) : بِالْقَصْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ أَيْ: بِاجْتِنَابِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَاحْتِرَازٍ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَفْرَادَ الْإِنْسَانِ كُلَّهُمْ فِي مَرْتَبَةِ النُّقْصَانِ وَالْخُسْرَانِ إِلَّا ذَوِي التَّقْوَى وَالْكَمَالِ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: طَفُّ الصَّاعِ يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ نَحْوَ: زَيْدٌ أَبُوكَ عَطُوفًا، فَإِنَّ ذِكْرَ بَنِي آدَمَ يَدُلُّ عَلَى النُّقْصَانِ، لِكَوْنِهِمْ مِنَ التُّرَابِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَالْبَاءُ فِي بِالصَّاعِ لِلْحَالِ أَيْ: طَفُّ الصَّاعِ مُقَابَلًا بِمِثْلِهِ مِنَ النُّقْصَانِ، وَالْمُرَادُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي النُّقْصَانِ. (كَفَى بِالرَّجُلِ) : الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فَاعِلُ كَفَى، وَالتَّمْيِيزُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَسَبَّةً وَعَارًا أَوْ نُقْصَانًا (أَنْ يَكُونَ بَذِيًّا) : بَيَانٌ لِلتَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» "، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْبَذَاءِ بِمَعْنَى: الْكَلَامِ الْقَبِيحِ فَقَوْلُهُ: (فَاحِشًا) : عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْبَذِيُّ كَرَضِيٍّ الرَّجُلُ الْفَاحِشُ (بَخِيلًا) أَيْ: جَامِعًا بَيْنَ إِطَالَةِ اللِّسَانِ وَتَقْصِيرِ الْإِحْسَانِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب البر والصلة]

[بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ]

(14) بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4911 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: " أُمُّكَ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أُمُّكَ ". قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أُمُّكَ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أَبُوكَ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " «أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [14] بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فِي النِّهَايَةِ: الْبِرُّ بِالْكَسْرِ الْإِحْسَانُ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ضِدُّ الْعُقُوقِ، وَهُوَ الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، وَالتَّضْيِيعُ لِحَقِّهِمْ، يُقَالُ: بَرَّ يَبِرُّ فَهُوَ بَارٌّ وَجَمْعُهُ بَرَرَةٌ، وَجَمْعُ الْبَرِّ أَبْرَارٌ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقْرَبِينَ مِنْ ذَوِي النَّسَبِ وَالْأَصْهَارِ، وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ، وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَالرِّعَايَةِ لِأَحْوَالِهِمْ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ ضِدُّ ذَلِكَ، يُقَالُ: وَصَلَ رَحِمَهُ يَصِلُهَا وَصْلًا وَصِلَةً، وَالْهَاءُ فِيهَا عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ، فَكَأَنَّهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ قَدْ وَصَلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَلَاقَةِ الْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4911 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ) أَيْ: أَوْلَى وَأَلْيَقُ (بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ أَيْ: بِإِحْسَانِ مُصَاحَبَتِي فِي مُعَاشَرَتِي. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: صَحِبَهُ يَصْحَبُهُ صُحْبَةً بِالضَّمِّ وَصَحَابَةً بِالْفَتْحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: صَحِبَهُ كَسَمِعَهُ صَحَابَةً وَيُكْسَرُ وَصَحِبَهُ عَاشَرَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ هُنَا بِمَعْنَى: الصُّحْبَةِ (قَالَ: أُمُّكَ) : بِالرَّفْعِ كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ هُنَا وَفِيمَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ الرِّوَايَةِ الْأَوْلَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ خَطَأٌ كَمَا سَنَذْكُرُ وَجْهَهُ ( «قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أُمُّكَ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أُمُّكَ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أَبُوكَ» وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ) : قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ فَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِهِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: أَرَادَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مَعْنًى. (أُمَّكَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: الْزَمْ أُمَّكَ، أَيْ: أَحْسِنْ صُحْبَتَهَا أَوْ رِعَايَةَ مُعَاشَرَتِهَا، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: أَحْسِنْ إِلَيْهَا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: بِرَّ أُمَّكَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. ( «ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ» ) أَيْ: أَقْرَبُكَ (أَدْنَاكَ) : بِحَذْفِ الْعَاطِفِ أَوْ أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: " أُمُّكَ " إِلَخْ، جَاءَ مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى مَنْصُوبًا، أَمَّا الرَّفْعُ فَظَاهِرٌ وَالنَّصْبُ عَلَى مَعْنَى أَحَقُّ مَنْ أَبَرَّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ مَنْ أَبَرَّ. اهـ. وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّ أُمَّكَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَاءَ مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الرَّفْعُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ: أَبُوكَ هُنَاكَ، وَالنَّصْبُ مُتَعَيِّنٌ هُنَا لِقَوْلِهِ أَبَاكَ، فَإِيَّاكَ وَإِيَّاكَ أَنْ تَخْلِطَ الرِّوَايَةَ فَتُحْرَمَ الدِّرَايَةَ. وَفَى شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: فِيهِ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ الْأَقَارِبِ وَأَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَهَا الْأَبُ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ. قَالُوا: وَسَبَبُ تَقَدُّمِ الْأُمِّ تَعَبُهَا عَلَيْهِ وَشَفَقَتُهَا وَخِدْمَتُهَا، قُلْتُ: وَفِي التَّنْزِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، فَالتَّثْلِيثُ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مُخْتَصَّةٍ بِالْأُمِّ، وَهَى تَعَبُ الْحَمْلِ وَمَشَقَّةُ الْوَضْعِ وَمِحْنَةُ الرَّضَاعِ " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4912 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ ". قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4912 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَغِمَ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: لَصِقَ بِالرُّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ الْمُخْتَلِطَةُ بِالرَّمْلِ (أَنْفُهُ) : وَالْمُرَادُ بِهِ الذُّلُّ، وَهُوَ إِخْبَارٌ أَوْ دُعَاءُ، وَالضَّمِيرُ مُبْهَمٌ سَنُبَيِّنُهُ، وَالْقَصْدُ مِنَ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ التَّبْيِينُ كَوْنُهُ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَكَذَا تَأْكِيدُهُ بِإِعَادَتِهِ مَرَّتَيْنِ. (رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ قِيلَ: مَنْ) أَيْ: مَنْ هُوَ أَوْ هُوَ مَنْ أَوْ تَعْنِي مَنْ أَوْ أَنْفُ مَنْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ (عِنْدَ الْكِبَرِ) : خُصَّ بِهِ ; لِأَنَّهُ أَحْوَجُ الْأَوْقَاتِ إِلَى حُقُوقِهِمَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: هُوَ ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالظَّرْفُ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ يَرْفَعُ مَا بَعْدَهُ، فَقَوْلُهُ: (أَحَدُهُمَا) : مَرْفُوعٌ بِالظَّرْفِ وَقَوْلُهُ:

(أَوْ كِلَاهُمَا) : مَعْطُوفٌ عَلَى أَحَدِهِمَا. اهـ. فَهُمَا فَاعِلَانِ فِي الْمَعْنَى، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مُدْرِكُهُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، فَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا فَقَدْ أَدْرَكَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ. وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ قَوْلُهُ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ الْكِبَرُ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا. الْكِبَرُ: فَاعِلُ أَدْرَكَ، وَأَحَدُهُمَا مَفْعُولُهُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَفْعُولِهِ وَهُوَ وَالِدَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: عِنْدَ الْكِبَرِ بِالْإِضَافَةِ، وَأَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا مَرْفُوعَانِ، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ، وَفِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَغَيْرُهُ فِي بَعْضِهَا إِلَى قَوْلِهِ عِنْدَهُ بِالْهَاءِ وَالْكِبَرُ بِالرَّفْعِ، وَأَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا بِالنَّصْبِ، نَعَمْ هُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ، كَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ» ". اهـ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَى (أَدْرَكَ) أَيْ: (ثُمَّ) : بَعْدَ إِدْرَاكِهِ مَا ذُكِرَ وَإِمْهَالِهِ مُدَّةً يَسَعُ فِيهَا قَضَاءَ حُقُوقِهِمَا وَأَدَاءَ بَرِّهِمَا (لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدُّخُولِ أَيْ: لَمْ يَدْخُلْهَا بِسَبَبِ عُقُوقِهِمَا وَالتَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِهِمَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ بِرَّهُمَا عِنْدَ كِبَرِهِمَا وَضَعْفِهِمَا بِالْخِدْمَةِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ فَاتَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ اسْتِبْعَادِيَّةٌ يَعْنِي: ذَلَّ وَخَابَ وَخَسِرَ مَنْ أَدْرَكَ تِلْكَ الْفُرْصَةَ الَّتِي هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، ثُمَّ لَمْ يَنْتَهِزْهَا، وَانْتِهَازُهَا هُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} [الإسراء: 23] إِلَى قَوْلِهِ: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] ، فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ كَرَائِمِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالْخِدْمَةِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ الدُّعَاءُ لَهُمَا فِي الْعَاقِبَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَهُ الْكِبَرُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ، ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ» ".

4913 - «وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ صِلِيهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4913 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ: الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ ( «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي» ) أَيْ: مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ (وَهِيَ مُشْرِكَةٌ) أَيْ: مَا أَسْلَمَتْ بَعْدُ (فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِقَدِمَتْ أَيْ: كَانَ ذَلِكَ الْقُدُومُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ عَهْدُ الْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَلَى تَرْكِ قِتَالِهِمْ فِيهَا (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ) أَيْ: نَزَلَتْ عِنْدِي (وَهِيَ رَاغِبَةٌ) : بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مُعْرِضَةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوْ مَائِلَةٌ فِيهِ، أَوْ رَاغِبَةٌ فِي صِلَتِي أَوْ رَاغِبَةٌ فِي الْإِشْرَاكِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَاغِمَةٌ بِالْمِيمِ أَيْ: كَارِهَةٌ إِسْلَامِي وَهِجْرَتِي، أَوْ ذَلِيلَةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلَى عَطَائِي، وَقِيلَ: أَيْ هَارِبَةٌ مِنْ قَوْمِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ رُوِيَ بِالْبَاءِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ. وَالصَّوَابُ: رَاغِمَةٌ بِالْمِيمِ بَدَلُ الْبَاءِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَوْ رَاهِبَةٌ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: رَاغِبَةٌ بِلَا شَكٍّ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الصَّحِيحُ رَاغِبَةٌ بِلَا شَكٍّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: رَاغِبَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، وَهِيَ رَاغِبَةٌ مُشْرِكَةٌ. قِيلَ: مَعْنَاهُ رَاغِبَةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوْ كَارِهَةٌ لَهُ، وَقِيلَ: طَامِعَةٌ فِيمَا أُعْطِيهَا حَرِيصَةٌ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى رَاغِمَةٍ بِالْمِيمِ: كَارِهَةٌ لِلْإِسْلَامِ سَاخِطَةٌ لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَحْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: رَاغِبَةٌ إِذَا أُطْلِقَتْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ يُقَدَّرُ رَاغِبَةً عَنِ الْإِسْلَامِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا قُرِنَتْ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَوْ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ يُقَدَّرُ رَاغِبَةً فِي صِلَتِي لِيُطَابِقَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَهِيَ رَاغِمَةٌ. (أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِيهَا) أَيْ: وَأَعْطِيهَا مَا يُرْضِيهَا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4914 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4914 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ آلَ أَبِي) أَيْ: " أَبِي فُلَانٍ " كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، فَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَالْمُكَنَّى عَنْهُ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَكَمُ بْنُ الْعَاصِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ طَوَائِفِ قُرَيْشٍ أَوْ بَنِي هَاشِمٍ أَوْ أَعْمَامِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، أَيْ: أَهْلُ أَبِي (لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ) ; لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} [الأعراف: 196] وَفِي نُسْخَةٍ: بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَرُوِيَ مَكْسُورَةً (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ: صُلَحَاؤُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالصَّالِحِ الْجِنْسُ وَلِذَلِكَ عَمَّ بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] ، إِيمَاءٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ» "، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَقِيلَ: عَلِيٌّ، وَالصَّحِيحُ الْعُمُومُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى أَنِّي لَا أُوَالِي أَحَدًا بِالْقَرَابَةِ، وَإِنَّمَا أُحِبُّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَأُوَالِي مَنْ وَالَى بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، وَأُرَاعِي لِذَوِي الرَّحِمِ حَقَّهُمْ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَلَكِنْ لَهُمْ) أَيْ: لِآلِ أَبِي (رَحِمٌ) أَيْ: قَرَابَةٌ أَعَمُّ مِنْ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ غَيْرِهِ (أَبُلُّهَا) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: أَصِلُهَا (بِبَلَالِهَا) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُفْتَحُ، أَيْ: بِصِلَتِهَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَاهُ أَنْ يُقَالَ: أُنَدِّيهَا بِمَا يَجِبُ أَنْ تُنَدَّى لِئَلَّا تَنْقَطِعَ، وَأَصِلُهَا بِمَا يَنْبَغِي أَنْ تُوصَلَ بِهِ، يُقَالُ: الْوَصْلُ بَلٌّ يُوجِبُ الِالْتِصَاقَ وَالِاتِّصَالَ، وَالْهَجْرُ يُبْسٌ يُفْضِي إِلَى التَّعَنُّتِ وَالِانْفِصَالِ، فَالْبِلَالُ بِالْكَسْرِ مَا يُبَلُّ بِهِ الْحَلْقُ مِنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَهُنَا مَا يُوصَلُ بِهِ الرَّحِمُ مِنَ الْإِحْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: يُرْوَى بِفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَبِكَسْرِهَا جَمْعُ بَلَلٍ مِثْلُ جَمَلٍ وَجِمَالٍ، وَقِيلَ الْكَسْرُ أَوْجَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَسُوَيْدِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «بُلُّوَا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» " أَيْ: صِلُوهَا وَنَدُّوهَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْقَطِيعَةِ الْيُبْسُ شَبَّهَ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ بِالْحَرَارَةِ تُطْفَأُ بِالْمَاءِ وَتُنَدَّى بِالصِّلَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4915 - وَعَنِ الْمُغِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ. وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4915 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةَ) أَيِ: ابْنِ شُعْبَةَ الثَّقَفِيِّ، أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَقِ وَقَدِمَ مُهَاجِرًا مَاتَ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ أَمِيرُهَا لِمُعَاوِيَةَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ» ) أَيْ: مُخَالَفَتَهُمْ مَنِ الْعَقِّ، وَهُوَ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ الْمُرَادُ صُدُورُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ وَلَدِهِ عُرْفًا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَخَصَّ الْأُمَّهَاتِ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِنَّ وَضَعْفِهِنَّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنَ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ: وَالْبَرْدَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَخُصَّ الْأُمَّهَاتِ بِالْعُقُوقِ، فَإِنَّ عُقُوقَ الْآبَاءِ مُحَرَّمٌ أَيْضًا، وَلَكِنْ نَبَّهَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنَّ بِرَّ الْأُمِّ مُقَدَّمٌ عَلَى بِرِّ الْأَبِ إِلَّا أَنَّ لِعُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ مَزِيَّةً فِي الْقُبْحِ، وَحَقُّ الْأَبِ مُقَدَّمٌ فِي الطَّاعَةِ وَحُسْنِ الْمُتَابَعَةِ لِرَأْيِهِ وَالنُّفُوذِ لِأَمْرِهِ، وَقَبُولِ الْأَدَبِ مِنْهُ. (وَوَأْدَ الْبَنَاتِ) : بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبْدَلُ، أَيْ: دَفْنَهُنَّ حَيَّاتٍ قِيلَ: قَدَّمَ حُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ ; لِأَنَّهُنَّ الْأُصُولُ وَعَقَّبَهُ بِوَأْدِ الْبَنَاتِ ; لِأَنَّهُنَّ الْفُرُوعُ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ قَطْعُ النَّسْلِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِخَرَابِ الْعَالَمِ. (وَمَنَعَ) : بِسُكُونِ النُّونِ وَيُفْتَحُ وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَوْ مَاضٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَمَنْعًا) بِالتَّنْوِينِ (وَهَاتِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ هُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَعْطِ، وَعَبَّرَ بِهِمَا عَنِ الْبُخْلِ وَالسُّؤَالِ أَيْ: كَرِهَ أَنْ يَمْنَعَ الرَّجُلُ مَا عِنْدَهُ وَيَسْأَلَ مَا عِنْدَ غَيْرِهِ، قِيلَ: وَلَمْ يُنَوَّنْ عَلَى رِوَايَةٍ

الْمَصْدَرِ ; لِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ مِنْهُ مُرَادًا، أَيْ: كَرِهَ مَنْعَ مَا عِنْدَهُ وَقَوْلَ هَاتِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: حَرُمَ عَلَيْكُمْ مَنْعُ مَا عَلَيْكُمْ عَطَاؤُهُ وَطَلَبُ مَا لَيْسَ لَكُمْ أَخْذُهُ. اهـ. وَقِيلَ: نَهَى عَنْ مَنْعِ الْوَاجِبِ مِنْ أَمْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ مِنَ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ فِيهَا، وَنَهَى عَنِ اسْتِدْعَاءِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَتَكْلِيفُهُ إِيَّاهُمْ بِالْقِيَامِ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ يُنْصِفُ وَلَا يَنْتَصِفُ، وَهَذَا مِنْ أَسْمَجِ الْخِلَالِ (وَكَرِهَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِهَا مَعَ فَتْحِهَا، فِي الْقَامُوسِ: كَرِهَهُ كَسَمِعَهُ وَكَرَّهَهُ إِلَيْهِ تَكْرِيهًا صَيَّرَهُ كَرِيهًا (لَكُمْ) أَيْ: لِأَجَلِكُمْ (قِيلَ وَقَالَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْمَعْلُومِ لِلْمَاضِي. فِي الْفَائِقِ: نَهَى عَنْ فُضُولِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ الْمُجَالِسُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ قِيلَ كَذَا وَقَالَ كَذَا، وَبِنَاؤُهُمَا عَلَى كَوْنِهِمَا فِعْلَيْنِ مَحْكِيَّيْنِ مُتَضَمِّنَيْنِ لِلضَّمِيرِ، وَالْإِعْرَابُ عَلَى إِجْرَائِهِمَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ خَالِيَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا قَالَ وَقِيلَ، وَإِدْخَالُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِمَا لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: يَعْرِفُ الْقَالَ مِنَ الْقِيلِ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَهَذَا النَّهْيُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي قَوْلٍ لَا يَصِحُّ وَلَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ، فَأَمَّا مَنْ حَكَى مَا يَصِحُّ وَيُعْرَفُ حَقِيقَتُهُ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى ثِقَةِ صَادِقٍ، فَلَا وَجْهَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا ذَمَّ ; وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فِيهِ تَجُوُّزُ عَرَبِيَّةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجْعَلُ كُلًّا مِنَ الْقِيلِ وَالْقَالِ مَصْدَرًا كَأَنَّهُ نَهَى عَنْ قِيلٍ وَقَوْلٍ. يُقَالُ: قُلْتُ قَوْلًا وَقَالًا وَقِيلًا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا اسْمَانِ، وَقِيلَ: أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ مُبْتَدِئًا وَمُجِيبًا. وَقِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ بِعُمُومِهِ حُرْمَةَ النَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ، فَإِنَّ تَبْلِيغَ الْكَلَامِ مِنْ أَقْبَحِ الْخِصَالِ، وَالْإِصْغَاءَ إِلَيْهَا مِنْ أَفْحَشِ الْفِعَالِ. وَقَالَ شَارِحٌ: قَوْلُهُ: " قِيلَ وَقَالَ " إِمَّا مَصْدَرَانِ أُتِيَ بِهِمَا لِلتَّأْكِيدِ وَحَذْفِ التَّنْوِينِ لِإِرَادَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، أَوْ مَاضِيَانِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَرْكِ الْخَوْضِ فِي أَخْبَارِ النَّاسِ وَتَتَبُّعِ أَحْوَالِهِمْ وَحِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: الْمُرَادُ بِهَا كَثْرَةُ الْكَلَامِ ; لِأَنَّهَا تَؤُولُ إِلَى الْخَطَأِ فِي الْمُرَامِ، وَقِيلَ حِكَايَةُ أَقَاوِيلِ النَّاسِ، وَالْبَحْثُ عَنْهَا لِيُخْبِرَ بِهَا وَيَقُولَ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَقِيلَ لَهُ كَذَا، وَالنَّهْيُ إِمَّا لِلزَّجْرِ عَنِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، أَوْ لِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يَكْرَهَهُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ، ثُمَّ هُمَا فِعْلَانِ ذُكِرَا عَلَى الْحِكَايَةِ، وَقِيلَ: اسْمَانِ مَصْدَرَانِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ (قِيلٌ وَقَالٌ) بِالتَّنْوِينِ. (وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: مَا فِي الْفَائِقِ: السُّؤَالُ عَنْ أُمُورِ النَّاسِ وَكَثْرَةُ الْبَحْثِ عَنْهَا. وَثَانِيهَا: مَسْأَلَةُ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَلَا أَرَى حَمْلَهُ عَلَى هَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْكَثْرَةِ. وَثَالِثُهَا: كَثْرَةُ السُّؤَالِ فِي الْعِلْمِ لِلِامْتِحَانِ وَإِظْهَارِ الْمِرَاءِ، وَقِيلَ بِلَا حَاجَةٍ أَوْ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ قَدْ يُفْضِي بِهِ إِلَى مَا لَا يَعْنِيهِ. وَرَابِعُهَا: كَثْرَةُ سُؤَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] ، (وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) فِي الْفَائِقِ: هُوَ إِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالسَّرَفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قِيلَ: وَالتَّقْسِيمُ الْحَاصِرُ فِيهِ الْحَاوِي بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ الَّذِي يُصْرَفُ إِلَيْهِ الْمَالُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالنَّفَقَةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا، فَهَذَا لَا ضَيَاعَ فِيهِ، وَهَكَذَا إِنْ كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا وَلَا إِشْكَالَ إِلَّا فِي هَذَا الْقِسْمِ، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمُورِ يَعُدُّهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ لَيْسَ كَذَلِكَ كَتَشْيِيدِ الْأَبْنِيَةِ وَتَزْيِينِهَا وَالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ، وَالتَّوَسُّعِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ النَّاعِمَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّةِ اللَّذِيذَةِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ وَغِلَظَ الطَّبْعِ يَتَوَلَّدُ مِنْ لُبْسِ الرِّقَاقِ، وَأَكْلِ الرُّقَاقِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الِارْتِفَاقِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَمْوِيهُ الْأَوَانِي وَالسُّقُوفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَسُوءُ الْقِيَامِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ، حَتَّى تَضِيعَ وَتَهْلَكَ، وَقِسْمَةُ مَا لَا يَنْتَفِعُ الشَّرِيكُ بِهِ كَاللُّؤْلُؤَةِ وَالسَّيْفِ يُكْسَرَانِ، وَكَذَا احْتِمَالُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي الْبِيَاعَاتِ، وَإِيتَاءُ الْمَالِ صَاحَبَهُ وَهُوَ سَفِيهٌ حَقِيقٌ بِالْحَجْرِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ الَّذِي هُوَ مَنْبَعُ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْخِلَالِ الْجَمِيلَةِ. قُلْتُ: وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السَّجْعِ حَيْثُ لَا تَكَلُّفَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4916 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4916 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ: ابْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنَ الْكَبَائِرِ) أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهَا أَوْ بَعْضِهَا ( «شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ» ) أَيْ: سَبُّهُ إِيَّاهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَلَوْ تَسَبُّبًا ( «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يَشْتِمُ» ) : بِكَسْرِ عَيْنِهِ وَيُضَمُّ يَسُبُّ (الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ) أَيْ: هَلْ يَقَعُ ذَلِكَ (قَالَ: نَعَمْ) أَيْ: يَقَعُ حَقِيقَةً تَارَةً وَهُوَ نَادِرٌ وَمَجَازًا أُخْرَى، وَهُوَ كَثِيرٌ لَكِنْ مَا تَعْرِفُونَهُ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ( «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ» ) أَيِ: الرَّجُلُ (أَبَاهُ) أَيْ: أَبَا مَنْ سَبَّهُ (وَيَسُبُّ) أَيْ: تَارَةً أُخْرَى، وَقَدْ يَجْمَعُ وَيَسُبُّ أَيْضًا (أُمَّهُ) أَيْ: أُمَّ الرَّجُلِ (فَيَسُبُّ) أَيِ: الرَّجُلُ (أُمَّهُ) أَيْ: أُمَّ سَابِّهِ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الشَّتْمِ وَالسَّبِّ تَفَنُّنٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: شَتَمَهُ يَشْتِمُهُ وَيَشْتُمُهُ: سَبَّهُ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَيُقَالُ: السَّبُّ أَعَمُّ، فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِلَّعْنِ أَيْضًا بِخِلَافِ الشَّتْمِ، وَأَصْلُ السَّبِّ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ قَطْعُهُ وَطَعْنُهُ فِي السُّبَّةِ أَيِ: الْأَسْتِ وَشَتْمُهُ، وَالسُّبَّةُ بِالضَّمِّ الْعَارُ. قِيلَ: وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ إِذَا كَانَ الشَّتْمُ مِمَّا يُوجِبُ حَدًّا كَمَا إِذَا شَتَمَهُ بِالزِّنَا وَالْكُفْرِ، وَقَالَ لَهُ: أَبُوكَ زَانٍ أَوْ كَافِرٌ أَوْ نَحْوُهُمَا، فَقَالَ فِي جَوَابِهِ: بَلْ أَبُوكَ كَافِرٌ أَوْ زَانٍ، أَمَّا إِذَا شَتَمَهُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ لَهُ أَبُوكَ أَحْمَقُ أَوْ جَاهِلٌ أَوْ نَحْوُهُمَا، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْكَبَائِرِ. قُلْتُ: إِذَا كَانَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ كَبِيرَةً فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ سَبَبَ السَّبِّ سَبٌّ، فَكَأَنَّهُ وَاجَهَ أَبَاهُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ أَحْمَقُ أَوْ جَاهِلٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وَنَحْوَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ، قُلْتُ: السَّبُّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً، لَا سِيَّمَا إِذَا وُجِدَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَنْ سَبَّ رَافِضِيًّا أَوْ خَارِجِيًّا، فَسَبَّ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَا يُعَدُّ الْأَوَّلُ سَابًّا، وَكَذَا إِذَا كَانَ أَحَدُ بَعْضِ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ كَافِرًا، نَعَمْ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، لَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِهِ وَعِلْمِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ قَطْعٌ بِتَحْرِيمِ الْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُ الْخَمْرَ وَالسِّلَاحَ مِمَّنْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغَضَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «مِنَ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَمِنَ الْكَبَائِرِ الْبُهْتَانُ بِالسُّبَّةِ» ".

4917 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4917 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ» ) أَيْ: أَفْضَلُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَالِدِهِ، وَكَذَا الْوَالِدَةُ أَوْ هِيَ بِالْأُولَى ( «صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» ) : بِضَمِّ الْوَاوِ أَيْ: أَصْحَابُ مَوَدَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْوُدُّ: الْحُبُّ وَالْمُحِبُّ وَيُثَلَّثُ. اهـ. وَإِرَادَةُ الْمَعْنَى الثَّانِي أَبْلَغُ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى. ( «بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ» ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: يُدْبِرُ وَيَغِيبُ بِسَفَرٍ أَوْ مَوْتٍ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَيَكُونُ أَخْلَصَ فَأَجْرُهُ أَكْثَرُ، وَلِمَا رَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِمَّا يَتَخَبَّطُ النَّاسُ فِيهَا، وَالَّذِي أَعْرِفُهُ هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى أَبِيهِ أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ أَبُوهُ أَوْ يَمُوتَ مِنْ وَلَّى يُوَلِّي، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ يَعْنِي: الْآتِي إِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَكَذَا صُحِّحَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَمَشَارِقِ الْأَنْوَارِ أَنْ يُوَلَّى بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْخَبْطَ جَاءَ مِنْ قَبِيلِ

الضَّبْطِ بِأَنَّ ضَبْطَ (يُوَلِّيَ) مَجْهُولًا أَوْ مَعْلُومًا مِنَ التَّوَلِّي، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْإِسْنَادِ ; حَيْثُ أُسْنِدَ إِلَى أَهْلِ وُدِّ أَبِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبَرَّاتِ الْفُضْلَى مَبَرَّةَ الرَّجُلِ مِنْ أَحِبَّاءِ أَبِيهِ، فَإِنَّ مَوَدَّةَ الْآبَاءِ قَرَابَةُ الْأَبْنَاءِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ إِذَا غَابَ الْأَبُ أَوْ مَاتَ يَحْفَظُ أَهْلَ وُدِّهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْأَبِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَبَرَّ ; لِأَنَّهُ إِذَا حَفِظَ غَيْبَتَهُ فَهُوَ يَحْفَظُ حُضُورَهُ أَوْلَى، وَإِذَا رَاعَى أَهْلَ وُدِّهِ فَكَانَ مُرَاعَاةُ أَهْلِ رَحِمِهِ أَحْرَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4918 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؟ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4918 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ» ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُوَسَّعُ (لَهُ فِي رِزْقِهِ) أَيْ: فِي دُنْيَاهُ أَوْ آخِرَتِهِ (وَيُنْسَأُ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ فَنَصْبٍ فَهَمْزَةٍ أَيْ: يُؤَخَّرُ (لَهُ فِي أَثَرِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: أَجَلِهِ (فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) : فِي النِّهَايَةِ: النَّسَأُ التَّأْخِيرُ يُقَالُ: نَسَأْتُ الشَّيْءَ أَنْسَأُ وَأَنْسَأْتُهُ إِنْسَاءً: إِذَا أَخَّرْتَهُ، وَالنَّسَاءُ الِاسْمُ، وَيَكُونُ فِي الْعُمُرِ وَالدِّينِ وَالْأَثَرِ وَالْأَجَلِ، وَيُسَمَّى بِهِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْعُمُرَ. قَالَ زُهَيْرٌ: يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ ... لَا يَنْتَهِي الْعُمُرُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَثَرُ وَأَصْلُهُ مِنْ أَثَرِ مَشْيِهِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ، فَلَا يُرَى لِأَقْدَامِهِ فِي الْأَرْضِ أَثَرٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي تَأْخِيرِ الْأَجَلِ سُؤَالٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّ الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ مُقَدَّرَةٌ وَلَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ، وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِوُجُوهٍ، أَحَدِهَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ بِالْبَرَكَةِ فِي الْعُمُرِ بِسَبَبِ التَّوْفِيقِ فِي الطَّاعَاتِ وَعِمَارَةِ أَوْقَاتِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَصِيَانَتِهَا عَنِ الضَّيَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَظْهَرُ لَهُمْ فِي اللَّوْحِ أَنَّ عُمْرَهُ سِتُّونَ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ، فَإِنْ وَصَلَهَا زِيدَ لَهُ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] ، فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا سَبَقَ قَدَرُهُ لَا زِيَادَةَ، بَلْ هِيَ مُسْتَحِيلَةٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ظَهَرَ لِلْمَخْلُوقِينَ يُتَصَوَّرُ الزِّيَادَةُ وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ، وَثَالِثِهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بَقَاءُ ذِكْرِهِ الْجَمِيلِ بَعْدَهُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَهُوَ ضَعِيفٌ. اهـ. وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْقَوْلِ الْأَوْسَطِ: إِنَّهُ مُرَادُ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ بَرَكَةَ الْعُمُرِ وَتَوْفِيقَ الْعَمَلِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَكَذَا الْأَخِيرُ، وَإِنَّمَا ضَعْفُهُ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الصِّيتِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ غَالِبًا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُزِيدُ فِي الْعُمُرِ، فَإِرَادَةُ غَيْرِ الْأَجَلِ الْمُتَعَارَفِ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، وَالْعُدُولُ مِنْهَا إِلَى الْمَجَازِ غَيْرُ جَائِزٍ بِلَا ضَرُورَةٍ. وَقَدْ غَفَلَ الطِّيبِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَتَعَقَّبَ النَّوَوِيَّ عَلَى غَيْرِ الْمَبْنَى، فَقَالَ: وَكَانَ هَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرَ، فَإِنَّ أَثَرَ الشَّيْءِ حُصُولُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ، فَمَعْنَى يُؤَخَّرُ فِي أَثَرِهِ أَيْ: يُؤَخَّرُ ذِكْرُهُ الْجَمِيلُ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ يُجْرَى لَهُ ثَوَابُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] ، قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ عَامٌّ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِوَاصِلِ الرَّحِمِ. بَقِيَ الْأَوَّلُ قَالَ: وَعَلَيْهِ كَلَامُ صَاحِبِ الْفَائِقِ ; حَيْثُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُبْقِي أَثَرَ وَاصِلِ الرَّحِمِ فِي الدُّنْيَا طَوِيلًا، فَلَا يَضْمَحِلُّ سَرِيعًا كَمَا يَضْمَحِلُّ أَثَرُ قَاطِعِ الرَّحِمِ. قُلْتُ: كَيْفَ يَجُوزُ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْفَائِقُ بِيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَظْهَرَ فِي مُرَادِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

4919 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوَيِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطْعِيَّةِ. قَالَ: " أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ! قَالَ: فَذَاكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4919 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ» ) أَيْ: قَدَّرَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْعِلْمِ السَّابِقِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَقْتَ وُجُودِهِمْ، (فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ) أَيْ: لَمَّا صَحَّ ذَلِكَ وَوَقَعَ مَا هُنَالِكَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: قَضَاهُ وَأَتَمَّهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ بِأَنَّهُ مَجَازُ الْقَوْلِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ الْفَرَاغُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الشَّغْلِ. (قَامَتِ الرَّحِمُ) أَيْ: قِيَامُ صُورَةٍ مُصَوَّرَةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ مُقَدَّرَةٍ (فَأَخَذَتْ بِحَقْوَيِ الرَّحْمَنِ) أَيْ: بِكَتِفَيْ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَالْحَقْوُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ الْإِزَارُ وَالْخَصْرُ، وَمَعْقِدُ الْإِزَارِ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ الِاسْتِعَارَةُ عَنِ الِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، كَمَا يُقَالُ: أَخَذْتُ بِذَيْلِ الْمَلِكِ حَتَّى أَنْصَفَنِي، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْتَجِيرِ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِحَقْوَيِ الْمُسْتَجَارِ بِهِ، وَهُمَا جَنْبَاهُ الْأَيْمَنُ وَالْأَيْسَرُ اسْتَعَارَ الْأَخْذَ بِالْحَقْوَيْنِ فِي اللِّيَاذِ بِالشَّيْءِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: عُذْتُ بِحَقْوِ فُلَانٍ أَيِ: اسْتَجَرْتُ وَاعْتَصَمْتُ بِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّحِمَ اسْتَعَاذَتْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ، أَوْ بَيَانِ الْحَالِ، وَالْتَجَأَتْ وَعَاذَتْ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ مِنْ أَنْ يَقْطَعَهَا أَحَدٌ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الرَّحْمَنِ لَا يَخْفَى مِنْ مُنَاسَبَةِ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ بِحَقْوَيْ عَرْشِ الرَّحْمَنِ أَيْ: بِطَرَفَيْهِ، أَوْ أَطْرَافِ ذَيْلِهِ مُتَرَدِّدَةً مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي: الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ. (فَقَالَ: مَهْ) بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ هَاءٍ اسْمُ فِعْلٍ أَيِ: اكْفُفِي وَامْتَنِعِي عَنْ هَذَا الِالْتِجَاءِ، فَإِنَّ حَاجَتَكِ مَقْضِيَّةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا وَقُلِبَتِ الْأَلِفُ هَاءً، وَيُمْكِنُ حَذْفُ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ إِتْيَانُ هَاءِ السَّكْتِ، وَالْمَعْنَى مَا يَقُولُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِإِظْهَارِ الْحَاجَةِ لِيُعْلَمَ الِاعْتِنَاءُ بِهَا لَا الِاسْتِعْلَامُ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. (قَالَتْ: هَذَا) أَيْ: مَقَامِي هَذَا (مَقَامُ الْعَائِذِ) أَيِ: الْمُسْتَعِيذُ بِكَ (مِنَ الْقَطِيعَةِ) أَيْ: قَطِيعَتِي، وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَبَبَ عِيَاذِي وَبَاعِثَ لِيَاذِي بِذَيْلِ رَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَنْ يَقْطَعَنِي أَحَدٌ، فَيَقَعُ فِي غَضَبِكَ وَسُخْطِكَ (قَالَ أَلَا تَرْضَيْنَ) بِفَتْحِ الضَّادِ أَيْ: أَلَا تُحِبِّينَ ( «أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ» ) أَيْ: أَرْضَى بِذَلِكَ، فَإِنَّكَ الرَّبُّ تُرْبِي مَنْ تَشَاءُ بِمَا تَشَاءُ وَتُعْطِي مَنْ تَشَاءُ مَا تَشَاءُ. (قَالَ: فَذَاكِ) . بِكَسْرِ الْكَافِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَكِ، وَالْمَعْنَى: أَفْعَلُ مَا قُلْتِ مِنَ الْوَصْلِ وَالْقَطْعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الرَّحِمُ الَّتِي تُوصَلُ وَتُقْطَعُ إِنَّمَا هِيَ مَعْنَى مِنَ الْمَعَانِي، وَالْمَعَانِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا الْقِيَامُ وَلَا الْكَلَامُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ تَعْظِيمَ شَأْنِهَا وَفَضِيلَةَ وَاصِلِهَا وَعِظَمَ إِثْمِ قَاطِعِهَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَطِيعَتَهَا مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ، وَلِلصِّلَةِ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَدْنَاهَا تَرْكُ الْمُهَاجَرَةِ، وَصِلَتُهَا بِالْكَلَامِ وَلَوْ بِالسَّلَامِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَةِ وَالْحَاجَةِ، فَمِنْهَا وَاجِبٌ، وَمِنْهَا مُسْتَحَبٌّ، وَلَوْ وَصَلَ بَعْضَ الصِّلَةِ وَلَمْ يَصِلْ غَايَتَهَا وَلَا يُسَمَّى قَاطِعًا، وَلَوْ قَصَّرَ عَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يُسَمَّى وَاصِلًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4920 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الرَّحِمُ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ. فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4920 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّحِمُ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ أَيْ: رَحِمُ الْأَقَارِبِ كَيْفَ كَانُوا (شِجْنَةٌ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِضَمِّ وَسُكُونِ الْجِيمِ فَنُونٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّهَا مُثَلَّثَةٌ وَضُبِطَ فِي النِّهَايَةِ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ، وَبَعْضُ الشُّرَّاحِ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ عُرُوقُ الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ (مِنَ الرَّحْمَنِ) أَيْ مِنَ الْحَرَمِ الْمُشْتَقِّ مِنِ اسْمِ الرَّحْمَنِ، فَكَأَنَّهَا مُشْتَبِكَةٌ بِهِ اشْتِبَاكَ الْعُرُوقِ، وَقِيلَ فِي وَجْهِ الشَّجْنَةِ أَنَّ حُرُوفَ الرَّحِمِ مَوْجُودَةٌ فِي اسْمِ الرَّحْمَنِ، وَمُتَدَاخِلَةٌ فِيهِ كَتَدَاخُلِ الْعُرُوقِ لِكَوْنِهَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ مُشْتَبِكَةٌ بِهَا، فَالْقَاطِعُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْوَاصِلُ فِيهَا وَاصِلٌ إِلَى رَحْمَتِهِ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ( «فَقَالَ اللَّهُ: مَنْ وَصَلَكِ» ) أَيْ: أَيُّهَا الرَّحِمُ بِالصِّلَةِ (وَصَلْتُهُ) أَيْ: بِالرَّحْمَةِ ( «وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ» ) أَيْ: عَنْهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَلَكِنْ عَنْ عَائِشَةَ.

4921 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4921 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ» ) : أَيُّ مُسْتَمْسِكَةٌ بِعَرْشِ الرَّحْمَنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِذَيْلِهِ مُسْتَجِيرَةٌ مِنَ الْقَطِيعَةِ مُخْبِرَةٌ عَنْ حُكْمِ الصِّلَةِ (تَقُولُ) أَيْ: بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ بِدَايَةً وَرِوَايَةً وَحِكَايَةً وَتَلَذُّذًا بِمَا سَمِعَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ ( «مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ» ) ، أَيْ: بِحُسْنِ رِعَايَتِهِ وَبِجَمِيلِ حِمَايَتِهِ ( «وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» ) أَيْ: عَنْ عَيْنِ عِنَايَتِهِ، وَمِنْ كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ، فَالْوَصْلُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِقْبَالِ إِلَيْهِ وَالْقَبُولِ مِنْهُ، وَالْقَطْعُ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الرَّحِمِ الَّتِي يَجُبُّ صِلَتُهَا فَقِيلَ: فِي كُلِّ رَحِمٍ مُحَرَّمٍ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ أَحَدُهَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى حَرُمَتْ مُنَاكَحَتُهَمَا، فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ، وَأَوْلَادُ الْأَخْوَالِ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا فِي النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ، وَجَوَازُ ذَلِكَ فِي بَنَاتِ الْأَعْمَامِ، وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ رَحِمٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي الْمِيرَاثِ يَسْتَوِي الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثُمَّ أَدْنَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ» " قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْقَائِلُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّمَا هُوَ تَعْرِيفُ ذِي رَحِمِ مُحَرَّمٍ لَا مُطْلَقُ الرَّحِمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ أُسْنِدَ إِلَى مُسْلِمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4922 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» " مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4922 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» ) أَيْ: لِلرَّحِمِ أَوْ لِلطَّرِيقِ، وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ إِيرَادُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ " قَدْ سَبَقَ نَظَائِرُهُ مِمَّا حُمِلَ تَارَةً عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْقَطْعَةَ بِلَا سَبَبٍ، وَلَا شُبْهَةَ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهَا، وَأُخْرَى لَا يَدْخُلُهَا مَعَ السَّابِقَيْنِ. قُلْتُ: وَأُخْرَى لَا يَدْخُلُهَا مَعَ النَّاجِينَ مِنَ الْعَذَابِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

4923 - وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4923 - (وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ بِلَا وَاوٍ. قَالَ مِيرَكُ: الصَّحِيحُ أَنَّ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَا ابْنُ عُمَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَكَذَا أَسْنَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى ابْنِ عَمْرٍو (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْوَاصِلُ» ) أَيْ: وَاصِلُ الرَّحِمِ (بِالْمُكَافِئِ) : بِكَسْرِ فَاءٍ فَهَمْزٍ أَيِ: الْمُجَازِي لِأَقَارِبِهِ إِنْ صِلَةً فَصِلَةٌ، وَإِنْ قَطْعًا فَقَطْعٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ ( «وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ» ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَكَسْرِهَا لِلِالْتِقَاءِ وَرَفْعِ اللَّامِ أَيْ: وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الْعَمَلَ ( «الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (رَحِمُهُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ وَنَصْبِ رَحِمِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (وَصَلَهَا) أَيْ: قَرَابَتَهُ الَّتِي تُقْطَعُ عَنْهُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96] ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 - 35] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: " صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَقُلِ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ ". هَذَا وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعْرِيفُ فِي الْوَاصِلِ لِلْجِنْسِ أَيْ: لَيْسَ حَقِيقَةُ الْوَاصِلِ وَمَنْ يُعْتَدُّ بِوَصْلِهِ مَنْ يُكَافِئُ صَاحِبَهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: هُوَ لَيْسَ بِالرَّجُلِ، بَلِ الرَّجُلُ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْمَكَارِمُ وَالْفَضَائِلُ، وَالرِّوَايَةُ فِي لَكِنْ بِالتَّشْدِيدِ، وَإِنْ جَازَ التَّخْفِيفُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.

4924 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. فَقَالَ: " لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4924 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً» ) أَيْ: ذَوِي قَرَابَةٍ ( «أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِّي» ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَصْلِ الْمَأْتِيَّ إِلَيْهِمْ وَبِالْقَطْعِ ضِدَّهُ، إِذْ قَالَ: (وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ) أَيْ: بِالْبِرِّ وَالْوَفَاءِ (وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ) ، أَيْ: بِالْجَوْرِ وَالْجَفَاءِ (وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ) أَيْ: بِالْعَفْوِ وَالتَّحَمُّلِ (وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ) أَيْ: بِالسَّبِّ وَالْغَضَبِ، وَكَانَ لَفْظَةُ (عَلَيَّ) سَاقِطَةً فِي أَصْلِ الطِّيبِيِّ، فَقَالَ: قَوْلُهُ: (وَيَجْهَلُونَ) مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: عَلَيَّ يَعْنِي يَغْضَبُونَ، ثُمَّ هَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي ... وَبَيْنَ بَنِي عَمِّي لِمُخْتَلِفٌ جِدًّا إِذَا أَكَلُوا لَحْمِي وَفَّرْتُ لُحُومَهُمْ ... وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدًا وَإِنْ ضَيَّعُوا غَيْبِي حَفِظْتُ غُيُوبَهُمْ ... وَإِنْ هُمْ هَوُوا غَيِّي هَوِيتُ لَهُمْ رُشْدَا (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ) أَيْ: إِنْ كَانَ مَقُولُكَ كَمَا قُلْتَ، أَوْ إِنْ كُنْتَ مِثْلَ مَا قُلْتَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَزِيلَةِ (فَكَأَنَّمَا) : بِالْفَاءِ تُسِفُّهُمْ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَتَشْدِيدِ فَاءٍ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّفُوفِ وَبِالْفَتْحِ، يُقَالُ: سَفِفْتُهُ بِالْكَسْرِ أَسُفُّهُ وَأَسْفَفْتُهُ غَيْرِي أَيْ: تُلْقِي فِي وُجُوهِهِمُ (الْمَلَّ) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيِ: الرَّمَادُ الْحَارُّ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ الْخُبْزُ لِيَنْضَجَ، أَيْ: تَجْعَلُ الْمِلَّةَ لَهُمْ سَفُوفًا يَسُفُّونَهُ، وَالْمَعْنَى إِذَا لَمْ يَشْكُرُوا، فَإِنَّ عَطَاءَكَ إِيَّاهُمْ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ وَنَارٌ فِي بُطُونِهِمْ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ إِحْسَانُكَ إِلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا يُقَابِلُونَهُ بِالْإِسَاءَةِ يَعُودُ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، حَتَّى كَأَنَّكَ فِي إِحْسَانِكَ إِلَيْهِمْ مَعَ إِسَاءَتِهِمْ إِيَّاكَ أَطْعَمْتَهُمُ النَّارَ. اهـ. وَقِيلَ: إِنَّكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ تُخْزِيهِمْ وَتُحَقِّرُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصَارُوا كَمَنْ سَفَّ الْمَلَّ، وَقِيلَ: إِحْسَانُكَ إِلَيْهِمْ كَالْمَلِّ يَحْرِقُ أَحْشَاءَهُمْ، وَقِيلَ: يَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ كَلَوْنِ الرَّمَادِ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: (فَكَأَنَّمَا) فِي الْمَصَابِيحِ وَمُسْلِمٍ وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ بِالْفَاءِ، وَالظَّاهِرُ بِاللَّامِ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ كُنْتَ مُوطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَهَذِهِ جَوَابُهُ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُعْكَسَ وَيُجْعَلَ جَزَاءَ الشَّرْطِ سَادًّا مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَكَأَنَّمَا ( «وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ» ) أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ (ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ) أَيْ: مُعِينٌ لَكَ عَلَيْهِمْ وَدَافِعٌ عَنْكَ أَذَاهُمْ (مَادُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذَكَرْتَ مِنْ إِحْسَانِكَ وَإِسَاءَتِهِمْ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَئِنْ كُنْتَ، وَإِنْ عُطِفَتْ عَلَى (فَكَأَنَّمَا) فَقَوْلُهُ: (مَادُمْتَ) وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّأْكِيدِ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَسْلَكُ السَّدِيدُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى النَّفْسِ لَشَدِيدًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4925 - عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4925 - (عَنْ ثَوْبَانَ) أَيْ: مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ» ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَقَدْ يُسَكَّنُ أَيِ: الْقَضَاءَ الْمُعَلَّقَ (إِلَّا الدُّعَاءُ) ، أَيِ: الْمُسْتَجَابُ الْمُحَقَّقُ ( «وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ» ) بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: أَيَّامُ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ الَّتِي خُلِقَتْ لِعِمَارَةِ الْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ (إِلَّا الْبِرُّ) ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، فَالدُّنْيَا مَعْمَرٌ وَالْآخِرَةُ مَعْبَرٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَدَرِ أَمْرًا لَوْلَا الدُّعَاءُ لَكَانَ مُقَدَّرًا وَبِالْعُمُرِ مَا لَوْلَا الْبِرُّ لَكَانَ قَصِيرًا، وَهُوَ الْقَضَاءُ الْمُعَلَّقُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الْمَكْشُوفِ لِمَلَائِكَتِهِ، وَبَعْضِ خُلَّصِ عِبَادِهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، لَا مِنَ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأُمِّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] ، فَيَكُونُ الدُّعَاءُ وَالْبِرُّ سَبَبَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَهُمَا

مُقَدَّرَانِ أَيْضًا كَتَقْدِيرِ حَسَنِ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئِهَا اللَّذَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، مَعَ أَنَّهُمَا مُقَدَّرَانِ أَيْضًا، أَوِ الْمُرَادُ بِرَدِّ الْقَدَرِ تَسْهِيلٌ لِلْأَمْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ قَدْ رُدَّ، وَالْمُرَادُ بِزِيَادَةِ الْعُمُرِ الْبَرَكَةُ فِيهِ، فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ ذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ دَوَامَ الْمَرْءِ عَلَى الدُّعَاءِ يُطَيِّبُ لَهُ وُرُودَ الْقَضَاءِ، فَكَأَنَّمَا رَدَّهُ وَالْبِرُّ يُطَيِّبُ لَهُ عَيْشَهُ، فَكَأَنَّمَا زِيدَ فِي عُمُرِهِ، وَالذَّنْبُ يُكَدِّرُ عَلَيْهِ صَفَاءَ رِزْقِهِ إِذَا فَكَّرَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ فَكَأَنَّمَا حُرِمَهُ. (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَقَوْلُهُ: (الرِّزْقَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَالْمَعْنَى: لِيَصِيرَ مَحْرُومًا مِنَ الرِّزْقِ (بِالذَّنْبِ) أَيْ: بِسَبَبِ ارْتِكَابِهِ (يُصِيبُهُ) أَيْ: حَالُ كَوْنِهِ يُصِيبُ الذَّنْبَ وَيَكْتَسِبُهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِالرِّزْقِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَثَانِيهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ الرِّزْقُ الدُّنْيَوِيُّ مِنَ الْمَالِ وَالصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ، وَعَلَى هَذَا إِشْكَالٌ فَإِنَّا نَرَى الْكُفَّارَ وَالْفُسَّاقَ أَكْثَرَ مَالًا وَصِحَّةً مِنَ الصُّلَحَاءِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَخْصُوصٌ بِالْمُسْلِمِ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ أَنْ يَرْفَعَ دَرَجَتَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَيُعَذِّبُهُ بِسَبَبِ ذَنْبِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا. قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْقَضَاءِ الْمُعَلَّقِ ; لِأَنَّ الْآجَالَ وَالْآمَالَ وَالْأَخْلَاقَ وَالْأَرْزَاقَ كُلَّهَا بِتَقْدِيرِهِ وَتَيْسِيرِهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَلْمَانَ، وَفِي الْحِصْنِ: " «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ. قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَلْمَانَ، وَالْبَاقِيَانِ عَنْ ثَوْبَانَ، لَكِنَّ فِي رِوَايَتِهِمَا: لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ، كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ السِّلَاحِ عَنْهُمَا. وَفِي التَّرْغِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ كَمَا فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ، وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4926 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، كَذَلِكُمُ الْبِرُّ، كَذَلِكُمُ الْبِرُّ ". وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ "، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". وَفِي رِوَايَتِهِمَا: قَالَ: " «نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ» " بَدَلَ: " دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4926 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ» ) أَيْ: فِي عَالَمِ الْمَنَامِ لِمَا سَيَأْتِي ( «فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً» ) ، أَيْ: صَوْتَ قِرَاءَةٍ يَقْرَؤُهَا أَحَدٌ، أَوْ قِرَاءَةَ قَارِئٍ عَلَى أَنَّ التَّنْوِينَ عِوَضٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ( «فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟» ) أَيِ: الْقَارِئُ لَهَا ( «قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ» ) ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ جَالِسٌ بِالْمَقَاعِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَجُزْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِي: هَلْ رَأَيْتَ الَّذِي كَانَ مَعِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ» ، وَكَانَ قَدْ كُفَّ بَصَرُهُ، هَذَا وَلَمَّا قَصَّ عَلَيْهِمُ الرُّؤْيَا كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ» إِلَخْ، خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: كَذَلِكُمُ الْبِرُّ، جَزَاؤُهُ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ ; حَيْثُ جُعِلَ جَزَاءُ الْبِرِّ بِرًّا (كَذَلِكُمُ الْبِرُّ) . كَرَّرَهُ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا سَبَقَ، وَالْمُخَاطِبُونَ الصَّحَابَةُ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَقَصَّ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ نَبَّهَهُمْ عَلَى سَبَبِ نَيْلِ تِلْكَ الدَّرَجَةِ، فَقَالَ: (كَذَلِكُمُ الْبِرُّ) أَيْ: مِثْلُ تِلْكَ الدَّرَجَةِ تُنَالُ بِسَبَبِ الْبِرِّ. اهـ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ( «كَذَلِكُمُ الْبِرُّ» ) مِنْ جُمْلَةِ مَقُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْخِطَابُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُمِعَ تَعْظِيمًا أَوْ أُرِيدَ هُوَ وَأَصْحَابِهِ تَغْلِيبًا. ( «وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ» ) هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَفِي رِوَايَتِهِ) : أَنَّ رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيِّ (قَالَ: " «نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ» " بَدَلُ " «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ» ") : وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي التَّصْحِيحِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى: رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ، وَرَوَاهُ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقَيْنِ.

4927 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسُخْطُ الرَّبِّ فِي سُخْطِ الْوَالِدِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4927 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) ، أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ» ) وَكَذَا حُكْمُ الْوَالِدَةِ، بَلْ هِيَ أَوْلَى ( «وَسُخْطُ الرَّبِّ فِي سُخْطِ الْوَالِدِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَ: وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: " «رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ وَسُخْطُ اللَّهِ فِي سُخْطِ الْوَالِدِ» " كَذَا فِي التَّصْحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَلَفْظُهُ: " «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسُخْطُهُ فِي سُخْطِهِمَا» "، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ، فِي حَدِيثِ الْأَصْلِ: رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: " «طَاعَةُ اللَّهِ طَاعَةُ الْوَالِدِ وَمَعْصِيَةُ اللَّهِ مَعْصِيَةُ الْوَالِدِ» ". رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوِ ابْنِ عَمْرٍو، وَلَا يَحْضُرُنِي الْآنَ أَيُّهُمَا وَلَفْظُهُ قَالَ: " «رِضَا الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسُخْطُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ» ".

4928 - «وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَحَافِظْ عَلَى الْبَابِ أَوْ ضَيِّعْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4928 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) ، كَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنَّهُ يَذْكُرُ التَّابِعِيَّ لِتَسْتَقِيمَ رِوَايَتُهُ (أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ) أَيْ: أَبَا الدَّرْدَاءِ (فَقَالَ: «إِنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ» ) قَالَ الْقَاضِي أَيْ: خَيْرُ الْأَبْوَابِ وَأَعْلَاهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحْسَنَ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى وُصُولِ دَرَجَتِهَا الْعَالِيَةِ مُطَاوَعَةُ الْوَالِدِ وَمُرَاعَاةُ جَانِبِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ لِلْجَنَّةِ أَبْوَابًا وَأَحْسَنُهَا دُخُولًا أَوْسَطُهَا، وَإِنَّ سَبَبَ دُخُولِ ذَلِكَ الْبَابِ الْأَوْسَطِ هُوَ مُحَافَظَةُ حُقُوقِ الْوَالِدِ. اهـ. فَالْمُرَادُ بِالْوَالِدِ الْجِنْسُ، أَوْ إِذَا كَانَ حُكْمُ الْوَالِدِ هَذَا فَحُكْمُ الْوَالِدَةِ أَقْوَى وَبِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى. ( «فَإِنْ شِئْتَ فَحَافِظْ عَلَى الْبَابِ» ) أَيْ: دَاوِمْ عَلَى تَحْصِيلِهِ (أَوْ ضَيِّعْ) : حُصُولَ الْبَابِ بِتَرْكِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَلَامُ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالْمَعْنَى: فَاخْتَرْ خَيْرَهُمَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ: رُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ أَنَّ أُمِّي، أَوْ رُبَّمَا قَالَ أَبِي قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَلَفْظُهُ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ حَتَّى زَوَّجَنِي وَإِنَّهُ الْآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا. قَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تَعُقَّ وَالِدَكَ، وَلَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَكَ، غَيْرَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أَوْ دَعْ» . قَالَ فَأَحْسُبُ عَطَاءَ قَالَ فَطَلَّقَهَا. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: " طَلِّقْهَا " ; لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُهَا» . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.

4929 - «وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: " أُمَّكَ " قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أُمَّكَ "، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أُمَّكَ ". قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ قَالَ: " أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4929 - (وَعَنْ بَهْزِ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ فَزَايٍ (بْنِ حَكِيمٍ) ، أَيْ: ابْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ الْبَصْرِيِّ، قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَلَمْ يُخْرِجِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا شَيْئًا لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عُدَيٍّ: لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا. ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ. (عَنْ أَبِيهِ) ، أَيْ: حَكِيمٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَعْرَابِيٌّ حَسَنُ الْحَدِيثِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَسَمِعَ مِنْهُ ابْنُهُ بِهْزٌ وَالْجَزَرِيُّ. (عَنْ جَدِّهِ) ، أَيْ: جَدُ بَهْزٍ وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ لَا فِي الصَّحَابَةِ وَلَا فِي التَّابِعِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ

( «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبَرُّ؟» ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ: مَنْ أُحْسِنُ إِلَيْهِ وَمَنْ أَصِلُهُ (قَالَ: أَمَّكَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: بَرَّ أُمَّكَ وَصِلْهَا أَوَّلًا ( «قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟» ) أَيْ: أَبَرُّ ( «قَالَ: أُمَّكَ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ» ) : وَتَقَدَّمَتْ حِكْمَةُ هَذَا الْحُكْمِ ( «قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» ) أَيْ: إِلَى آخِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) ، وَفِي التَّصْحِيحِ أَنَّ اللَّفْظَ لِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: " «أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَوَّلَ الْبَابِ.

4930 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا اللَّهُ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4930 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَحَدِ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا اللَّهُ) أَيِ: الْمَعْبُودُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ، وَكَانَ هَذَا تَوْطِئَةً لِلْكَلَامِ ; حَيْثُ ذَكَرَ الْعِلْمَ الْخَاصَّ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَصْفَ الْمُشْتَقَّ مِنْ مَادَّةِ الرَّحِمِ فَقَالَ: (وَأَنَا الرَّحْمَنُ) ، أَيِ: الْمُتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ (خَلَقْتُ الرَّحِمَ) أَيْ: قَدَّرْتُهَا أَوْ صَوَّرْتُهَا مُجَسَّدَةً (وَشَقَقْتُ) أَيْ: أَخْرَجْتُ وَأَخَذْتُ اسْمَهَا (لَهَا) أَيْ: لِلرَّحِمِ (مِنِ اسْمِي) ، أَيِ: الرَّحْمَنُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الِاسْمِيَّةَ وَاجِبَةُ الرِّعَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنَ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعَلُّقُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلِذَا قَالَ: (فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ) ، أَيْ: إِلَى رَحْمَتِي أَوْ مَحَلِّ كَرَامَتِي (وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ) بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ الثَّانِيَةِ أَيْ: قَطَعْتُهُ مِنْ رَحْمَتِي الْخَاصَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَكِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ: قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: فِي تَصْحِيحِهِ لَهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ، أَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ، وَمَنْ بَتَّهَا بَتَتُّهُ» "، فَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَتِّ الْقَطْعُ الْكُلِّيُّ، وَمِنْهُ طَلَاقُ الْبَتِّ، وَكَذَا قَوْلُهُمُ الْبَتَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

4931 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ الرَّحِمِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4931 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) : جَهْنِيٌّ أَنْصَارِيٌّ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ) ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهِ وَأَفْرَدَهُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْقَوْمِ (قَاطِعُ رَحِمٍ) قَالَ التُّوورِبِشْتِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَهُ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّحْمَةِ الْمَطَرُ أَيْ: يُحْبَسُ عَنْهُمُ الْمَطَرُ بِشُؤْمِ الْقَاطِعِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

4932 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4932 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) أَيِ: الثَّقَفِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ ذَنْبٍ) " مَا " نَافِيَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ (أَحْرَى) أَيْ: أَحَقُّ وَأَوْلَى (أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ) صِلَةُ أَحْرَى عَلَى تَقْدِيرِ الْبَاءِ أَيْ: بِتَعْجِيلِهِ سُبْحَانَهُ (لِصَاحِبِهِ) أَيْ: لِمُرْتَكِبِ الذَّنْبِ (الْعُقُوبَةَ) مَفْعُولُ يُعَجِّلُ وَظَرْفُهُ قَوْلُهُ: (فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: مَعَ مَا يُؤَجِّلُ مِنَ الْعُقُوبَةِ (لَهُ) أَيْ: لِصَاحِبِ الذَّنْبِ (فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ) أَيْ: مِنْ بَغْيِ الْبَاغِي، وَهُوَ الظُّلْمُ أَوِ الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ أَوِ الْكِبْرُ، وَ (مِنْ) تَفْصِيلِيَّةٌ (وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) أَيْ: وَمِنْ قَطْعِ صِلَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: " «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ، وَإِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لَيَكُونُوا فَجَرَةً فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ، وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا» ".

4933 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، وَلَا عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4933 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ» ) ، قِيلَ: هُوَ مِنَ الْمِنَّةِ أَيْ: مَنْ يَمُنُّ عَلَى النَّاسِ بِمَا يُعْطِيهِمْ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَنِّ بِمَعْنَى الْقَطْعِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] ، وَمِنْهُ الْمَنِيَّةُ أَيْ: قَاطِعُ الرَّحِمِ، وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصِّيغَةَ لِلنِّسْبَةِ أَيْ: صَاحِبُ الْمَنِّ (وَلَا عَاقٌّ) ، أَيْ: عَاصٍ بِأَحَدِ وَالِدَيْهِ (وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ) أَيْ: شَارِبُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ يُدَاوِمُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَلَهُ مَفْهُومٌ غَيْرُ صَحِيحٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَحْمَلُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَعَ الْفَائِزِينَ، أَوْ لَا يَدْخُلُ حَتَّى يُعَاقَبَ بِمَا اجْتَرَحَهُ مِنَ الْإِثْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الثَّلَاثَةِ، قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْمَشِيئَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، أَيْ: بِشَفَاعَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) .

4934 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4934 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ) أَيْ: مِنْ أَسْمَاءِ آبَائِكُمْ وَأَجْدَادِكُمْ وَأَعْمَامِكُمْ وَأَخْوَالِكُمْ وَسَائِرِ أَقَارِبِكُمْ (مَا) أَيْ: قَدْرُ مَا (تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ) ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ تَتَعَلَّقُ بِذَوِي الْأَرْحَامِ كُلِّهَا لَا بِالْوَالِدَيْنِ فَقَطْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَعْضُ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالْمَعْنَى: تَعَرَّفُوا أَقَارِبَكُمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِيُمْكِنَكُمْ صِلَةَ الرَّحِمِ، وَهِيَ التَّقَرُّبُ لَدَيْهِمْ وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ (فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ) : بِفَتَحَاتٍ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْحُبِّ مَصْدَرِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: مَظِنَّةٌ لِلْحُبِّ وَسَبَبٌ لِلْوُدِّ (فِي الْأَهْلِ) أَيْ: فِي أَهْلِ الرَّحِمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، فَفِي الْقَامُوسِ: أَحَبَّهُ، وَهُوَ مَحْبُوبٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَمُحِبُّ قَلِيلٌ، وَحَبَبْتُهُ أَحِبُّهُ بِالْكَسْرِ شَاذٌّ، وَحَبُبْتُ إِلَيْهِ كَكَرُمَ: صِرْتَ حَبِيبًا

(مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ) ، أَيْ: سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْمَالِ وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ مَفْعَلَةٌ مِنَ الثَّرَى وَهُوَ الْكَثْرَةُ (مَنْسَأَةٌ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعَلَةٌ مِنَ النُّسَأِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ (فِي الْأَثَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الْأَجَلُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ سَبَبٍ لِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ وَمُوجِبٍ لِزِيَادَةِ الْعُمُرِ، وَقِيلَ: بَاعِثُ دَوَامٍ وَاسْتِمْرَارٍ فِي النَّسْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ يُمْنَ الصِّلَةِ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) أَيْ: مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

4935 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: " هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ " قَالَ: لَا قَالَ: " وَهَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: " فَبِرَّهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4935 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ) أَيْ: فَعَلْتُ (ذَنْبًا عَظِيمًا) أَيْ: قَوْلِيًّا أَوْ فِعْلِيًّا (فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟) أَيْ: رَجْعَةٍ بِطَاعَةٍ فِعْلِيَّةٍ بَعْدَ النَّدَامَةِ الْقَلْبِيَّةِ تَدَارُكًا لِلْمَعْصِيَةِ الْعَظِيمَةِ (قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟) أَيْ: أَلَكَ أُمٌّ فَـ (مِنْ) زَائِدَةٌ (قَالَ: لَا قَالَ: وَهَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " مِنْ " زَائِدَةً أَوْ تَبْعِيضِيَّةً (قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَبَرَّهَا) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَمْرٌ مِنْ بَرِرْتُ فُلَانًا بِالْكَسْرِ أَبَرُّهُ بِالْفَتْحِ، أَيْ: أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، فَأَنَا بَارٌّ بِهِ وَبَرٌّ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُذْهِبِ السَّيِّئَاتِ، أَوْ تَقُومُ مَقَامَهَا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعانِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] قَالَ الْمُظْهِرُ: يَجُوزُ أَنَّهُ أَرَادَ عَظِيمًا عِنْدِي ; لِأَنَّ عِصْيَانَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمٌ وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ صَغِيرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَنْبُهُ كَانَ عَظِيمًا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْبِرِّ يَكُونُ مُكَفِّرًا لَهُ، وَكَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الرَّجُلِ عَلِمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ. اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ مُصِرٌّ غَيْرُ تَائِبٍ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ لِيَكُونَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

4936 - وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: " نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4936 - (وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (السَّاعِدِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ. (قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ) بِكَسْرِ اللَّامِ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ سَلِمَةُ غَيْرَهُمْ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوِيَّ) أَيْ: وَالِدَيَّ وَفِيهِ تَغْلِيبٌ (شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْبِرِّ (أَبَرُّهُمَا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أَصِلُهُمَا وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمَا (بِهِ) أَيْ: بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْبِرِّ الْبَاقِي (بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا) ، أَيِ: الدُّعَاءُ وَمِنْهُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ (وَالِاسْتِغْفَارُ) أَيْ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ (لَهُمَا) وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا) أَيْ: إِمْضَاءُ وَصِيَّتِهِمَا (مِنْ بَعْدِهِمَا) ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا وَلَوْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمَا (وَصِلَةُ الرَّحِمِ) أَيْ: وَإِحْسَانُ الْأَقَارِبِ (الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا) أَيْ: تَتَعَلَّقُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، فَالْمَوْصُولُ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِلرَّحِمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَوْصُولُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ، بَلْ لِلْمُضَافِ أَيِ: الصِّلَةُ الْمَوْصُوفَةُ، فَإِنَّهَا خَالِصَةٌ بِحَقِّهِمَا وَأَضَافَهُمَا لَا لِأَمْرٍ آخَرَ وَنَحْوِهِ. قُلْتُ: يَرْجِعُ الْمَعْنَى إِلَى الْأَوَّلِ فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ خُلُوصِ النِّيَّةِ وَتَصْحِيحِ الطَّوِيَّةِ فَمُعْتَبَرٌ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي جُزْئِيَّةٍ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُضَافٌ لِمَا نَقَلَهُ عَنِ الْإِمَامِ فِي الْإِحْيَاءِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ أُمِرُوا بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يُرِيدُوا بِطَاعَتِهِمْ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَخْدِمُ أَبَوَيْهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْدِمَ لِطَلَبِ مَنْزِلَةٍ عِنْدَهُمَا إِلَّا مِنْ حَيْثُ أَنَّ رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرَائِيَ بِطَاعَتِهِ لِيَنَالَ بِهَا مَنْزِلَةً عِنْدَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ فِي الْحَالِ، وَسَيَكْشِفُ اللَّهُ عَنْ رِيَائِهِ فَتَسْقُطُ مَنْزِلَتُهُ مِنْ قَلْبِهِمَا أَيْضًا. اهـ. فَنَقْلُهُ كَلَامَ الْحُجَّةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَيْنَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

4937 - وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَتَّى دَنَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ. فَقُلْتُ مَنْ هِيَ؟ ، فَقَالُوا: هِيَ أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4937 - (وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) : بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ) : بِكَسْرِ جِيمٍ فَسُكُونِ عَيْنٍ وَتَخْفِيفِ رَاءٍ، وَقَدْ يُكْسَرُ وَيُشَدَّدُ الرَّاءُ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ) وَهِيَ حَلِيمَةٌ (حَتَّى دَنَتْ) أَيْ: قَرُبَتْ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ) إِمَّا لِعَدَمِ التَّكَلُّفِ عَلَى مَا هُوَ دَأْبُ الْعَرَبِ أَوْ لِوُجُودِ أَمْرٍ هُنَاكَ. قِيلَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْحُقُوقِ الْقَدِيمَةِ، وَلُزُومِ إِكْرَامِ مَنْ لَهُ صُحْبَةٌ سَابِقَةٌ (فَقُلْتُ) أَيْ: لِبَعْضِهِمْ (مَنْ هِيَ؟ فَقَالُوا: هَذِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: هِيَ (أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ) فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ، أَمَّا أُمُّهُ فِي الرَّضَاعَةِ، فَحَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ مِنْ هَوَازِنَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ حَتَّى أَكْمَلَتْ رِضَاعَهُ، وَجَاءَتْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَامَ إِلَيْهَا وَبَسَطَ رِدَاءَهُ لَهَا، فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، وَكَذَا ثُوَيْبَةُ جَارِيَةُ أَبِي لَهَبٍ أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِهَا، كَمَا اخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِ حَلِيمَةَ وَزَوْجِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ تَدْخُلُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ، فَكَانَتْ تُكْرِمُهَا، وَأَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَبْعَثُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَدِينَةِ بِكِسْوَةٍ وَصِلَةٍ حَتَّى مَاتَتْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ. ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرٍو. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4938 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ قَدْ نَأَى بِي الشَّجَرُ، فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ حَتَّى يَرَوْنَ السَّمَاءَ. قَالَ الثَّانِي: إِنَّهُ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَلَقِيتُهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ، فَقُمْتُ عَنْهَا. اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا، فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً. وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرْقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقْرِ وَرَاعِيهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ فَخُذْ ذَلِكَ الْبَقْرَ وَرَاعِيَهَا. فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4938 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بَيْنَمَا) بِالْمِيمِ (ثَلَاثَةُ نَفَرٍ) ، بِالْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ (يَتَمَاشَوْنَ) بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ: يَسِيرُونَ فِي طَرِيقٍ (أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ) ، أَيْ: جَاءَهُمْ بِكَثْرَةٍ (فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ) أَيْ: نَزَلَتْ وَوَقَعَتْ (عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ) أَيْ: حَجَرٌ كَبِيرٌ مِنَ الْجَبَلِ (فَأَطْبَقَتْ) أَيِ: الصَّخْرَةُ (عَلَيْهِمْ) وَأَغْلَقَتْ عَلَيْهِمْ بَابَ الْغَارِ وَغَطَّتْهُمْ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا) أَيْ: تَفَكَّرُوا وَتَذَكَّرُوا (أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً) ، صِفَةٌ أُخْرَى لِأَعْمَالٍ أَيْ: خَالِصَةً لِوَجْهِهِ لَا رِيَاءَ وَلَا سُمْعَةَ فِيهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ابْتِغَاءُ وَجْهِكَ فِيمَا بَعْدُ. كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: صَالِحَةٌ صِفَةٌ لِأَعْمَالٍ، وَفِي الْعِبَارَةِ تَقُدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيِ: انْظُرُوا أَعْمَالًا صَالِحَةً لِلَّهِ، فَأَخْرَجَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ الْأَعْمَالَ الْغَيْرَ الصَّالِحَةِ، وَبِالثَّانِي الْغَيْرَ الصَّالِحَةِ لِلَّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ. قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ صَالِحَةٍ وَلِلَّهِ صِفَةٌ لِأَعْمَالًا، سَوَاءٌ أُخِّرَتْ إِحْدَاهُمَا أَوْ قُدِّمَتْ، وَإِنَّمَا حَمَلَ الطِّيبِيُّ الثَّانِيَةَ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي عُمِلَتْ لَا تَكُونُ إِلَّا صَالِحَةً، لَكِنَّ قَوْلَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ابْتِغَاءُ وَجْهِكَ فِيمَا بَعْدُ مُسْتَدْرَكٌ ; لِأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: لِلَّهِ، نَعَمْ كَلَامُ السَّيِّدِ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ، لَكِنْ عَلَى رِوَايَتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ، وَلِذَا قِيلَ: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلَّا الْعَالِمُونَ، وَالْعَالِمُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلَّا الْعَامِلُونَ، وَالْعَامِلُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلَّا الْمُخْلِصُونَ، وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ. (فَادْعُوَا اللَّهَ بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَبِجَعْلِهَا شَفِيعَةً وَوَسِيلَةً إِلَى إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ (لَعَلَّهُ) أَيْ: عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْ لِكَيْ (يُفَرِّجُهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ: يُزِيلُ الصَّخْرَةَ، أَوْ يَكْشِفُ الْكُرْبَةَ، فَفِي الْقَامُوسِ: فَرَّجَ اللَّهُ الْغَمَّ يُفَرِّجُهُ: كَشَفَهُ كَفَرَجَهُ (فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ جَمْعُ صَبِيٍّ أَيْ: وَلِي أَيْضًا أَطْفَالٌ (صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: أَرْعَى مَاشِيَتَهُمْ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ فُلَانٌ يَرْعَى عَلَى أَبِيهِ أَيْ: يَرْعَى غَنَمَهُ. اهـ.

وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّ الرَّعْيَ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِنْفَاقِ، فَعُدِّيَ بِعَلَى أَيْ: أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ رَاعِيًا الْغُنَيْمَاتِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ) ضُمِّنَ مَعْنَى رَدَدْتُ أَيْ: إِذَا رَدَدْتُ الْمَاشِيَةَ مِنَ الْمَرْعَى إِلَى مَوْضِعِ مَبِيتِهِمْ (فَحَلَبْتُ) : عَطْفٌ عَلَى رُحْتُ وَقَوْلُهُ: (بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ) جَوَابُ إِذَا وَقَوْلُهُ: (أَسْقِيهِمَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُضَمُّ (قَبْلَ وَلَدِي) ، بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمِّ الْوَاوِ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ أَيْ: أَوْلَادِي، إِمَّا حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْعِلَّةِ (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (قَدْ نَأَى بِي الشَّجَرُ) ، أَيْ: بَعُدَ بِي طَلَبُ الْمَرْعَى يَوْمًا، وَفِي نُسْخَةٍ نَاءَ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهُوَ كَرِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء: 83] قَالَ النَّوَوِيُّ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ: نَأَى بِجَعْلِ الْهَمْزَةِ قَبْلَ الْأَلِفِ، وَبِهِ قَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْ صَحِيحَتَانِ (فَمَا أَتَيْتُ) أَيْ: إِلَيْهِمْ لِبُعْدِ الْمَرْعَى عَنْهُمْ (حَتَّى أَمْسَيْتُ) أَيْ: دَخَلْتُ فِي الْمَسَاءِ جِدًّا (فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا) ، أَيْ: مِنَ الضَّعْفِ أَوْ مِنْ غَلَبَةِ الِانْتِظَارِ وَكَثْرَةِ الْإِبْطَاءِ (فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ) ، بِضَمِّ اللَّامِ وَيَجُوزُ كَسْرُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (فَجِئْتُ) أَيْ: إِلَيْهِمَا (بِالْحِلَابِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الْإِنَاءُ الَّذِي يُحْلَبُ فِيهِ، قِيلَ: وَقَدْ يُرَادُ بِالْحِلَابِ هُنَا اللَّبَنُ الْمَحْلُوبُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، فَيَكُونُ مَجَازًا بِذِكْرِ الْمَحَلِّ لِإِرَادَةِ الْحَالِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَتَى بِالْحِلَابِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْلُوبُ اسْتِعْجَالًا (فَقُمْتُ) أَيْ: وَقَفْتُ (عَلَى رُؤُوسِهِمَا) أَيْ: عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا) ، اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ (وَأَكْرَهُ) يَعْنِي: أَيْضًا (أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا) أَيْ: مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ نَائِمِينَ لِأَجْلِ الْجُوعِ (وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: يَضِجُّونَ وَيَصِيحُونَ مِنَ الْجُوعِ (عِنْدَ قَدَمَيَّ) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ (دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ) بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ عَادَتِي وَعَادَتُهُمْ، وَالضَّمِيرُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالصِّبْيَةِ (حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ) ، انْشَقَّ الصُّبْحُ وَظَهَرَ نُورُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حِينَئِذٍ سَقَيْتُهُمَا أَوَّلًا، ثُمَّ سَقَيْتُهُمْ ثَانِيًا تَقْدِيمًا لِإِحْسَانِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْمَوْلُودِينَ لِتَعَارُضِ صِغَرِهِمْ بِكِبَرِهِمَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْكَبِيرَ يَبْقَى كَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِذَلِكَ أَبْلَاهُ اللَّهُ بِمَا هُنَالِكَ (فَإِنْ كُنْتَ) أَيْ: يَا أَللَّهُ (تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ) ، وَالتَّرْدِيدُ فِي أَنَّ عَمَلَهُ ذَلِكَ هَلِ اعْتُبِرَ عِنْدَ اللَّهِ لِإِخْلَاصٍ فِيهِ أَوْ لَا لِعَدَمِهِ (فَافْرُجْ) بِهَمْزِ وَصْلٍ وَضَمِّ رَاءٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزِ قَطْعٍ وَكَسْرِ رَاءٍ. قَالَ مِيرَكُ: بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّ الرَّاءِ مِنَ الْفَرَجِ، وَيَجُوزُ بِهَمْزِ الْقَطْعِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْإِفْرَاجِ أَيِ: اكْشِفْ (لَنَا فُرْجَةً) بِضَمِّ الْفَاءِ وَيُفْتَحُ (نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ) بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ: كَشَفَ (اللَّهُ لَهُمْ حَتَّى يَرَوْنَ السَّمَاءَ) بِإِثْبَاتِ النُّونِ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ شَرْحِ السُّنَّةِ، فَيَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ كَقَوْلِكَ: شَرِبَتِ الْإِبِلُ حَتَّى يَخْرُجَ بَطْنُهُ، وَفِي بَعْضِهَا بِإِسْقَاطِهِ، وَحِينَئِذٍ يُضَمُّ الْوَاوُ وَصَلًا لِلِالْتِقَاءِ. (قَالَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أُحِبُّهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْمَذْكُورُ فِي التَّفْسِيرِ مُؤَنَّثٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. اهـ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ فِي كَلَامِ الْأَوَّلِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ وَالثَّانِي اللَّهُمَّ إِنَّهَا، وَالثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّي، وَهُوَ مِنَ التَّفَنُّنِ، وَإِنَّهُ فِي الْأَوَّلِ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَفِي الثَّانِي لِلْقِصَّةِ وَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَّةَ فِي امْرَأَةٍ. اهـ. فَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ وَقَعَتْ أَنَّهَا فِي كَلَامِ الثَّانِي خِلَافَ الْمِشْكَاةِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِبَارَةَ الْمِشْكَاةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُسْلِمٍ لَفْظًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مَعْنًى (كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ) ، أَيْ: حُبًّا شَدِيدًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]

قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: أُحِبُّهَا حُبًّا مِثْلَ أَشَدِّ حُبِّ الرِّجَالِ النِّسَاءَ، أَوْ حَالًا أَيْ: أُحِبُّهَا مُشَابِهًا حُبِّي أَشَدَّ حُبِّ الرِّجَالِ النِّسَاءَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77] ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَشَدَّ خَشْيَةً) حَالٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُشْبِهِينَ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ (فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا) ، فِيهِ تَضْمِينُ مَعْنَى الْإِرْسَالِ أَيْ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهَا طَالِبًا نَفْسَهَا (فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ أَيْ: أَجِيئُهَا (بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَلَقِيتُهَا) أَيْ: أَتَيْتُهَا (بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ) يَحْتَمِلُ الِاسْمِيَّةَ وَالْوَصْفِيَّةَ (اتَّقِ اللَّهَ) أَيْ: عَذَابَهُ أَوْ مُخَالَفَتَهُ (وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ) بِفَتْحِ التَّاءِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَكَارَةِ (فَقُمْتُ عَنْهَا) أَيْ: مُعْرِضًا عَنْ تَعَرُّضِهَا (اللَّهُمَّ) : فِيهِ زِيَادَةُ تَضَرُّعٍ (فَإِنْ كُنْتَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيِ: اللَّهُمَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ (تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (اللَّهُمَّ) مُقْحَمَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، لِتَأْكِيدِ الِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُقَدَّرُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ (اللَّهُمَّ) فِي هَذِهِ الْقَرِينَةِ دُونَ أُخْتَيْهَا ; لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ أَصْعَبُ الْمَقَامَاتِ وَأَشَقُّهَا، فَإِنَّهُ رَدْعٌ لِهَوَى النَّفْسِ فَرْقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقَامِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41] قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: شَهْوَةُ الْفَرْجِ أَغْلَبُ الشَّهَوَاتِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَأَصْعَبُهَا عِنْدَ الْهَيَجَانِ عَلَى الْعَقْلِ، فَمَنْ تَرَكَ الزِّنَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْقُدْرَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، وَتَيَسُّرِ الْأَسْبَابِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ صِدْقِ الشَّهْوَةِ حَازَ دَرَجَةَ الصِّدِّيقِينَ، قَوْلُهُ (ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذَكَرَ (ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا) أَيْ: زِيَادَةً (فُرْجَةً مِنْهَا) ، أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْكُرَيَّةِ أَوِ الصَّخْرَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ أَيْ: بَعْضُ الْفُرْجَةِ (فَفَرَجَ) أَيِ: اللَّهُ (لَهُمْ فُرْجَةً) أَيْ: أُخْرَى (وَقَالَ الْآخَرُ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ، وَالثَّانِي أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ (اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرْقِ أَرُزٍّ) ، بِفَتْحِ هَمْزٍ وَضَمِّ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ زَايٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرُزِّ كَأَشُدٍّ وَعُتُلٍّ وَقُفْلٍ وَطُنُبٍ، وَرُزٌّ وَرُنْزٌ وَإِرِزٌ كَإِبِلٍ وَأَرُزٌ كَعَضُدٍ. اهـ. فَفِيهِ لُغَاتٌ بِعَدَدِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَالْفَرِقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَرَقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْفَرَقُ مِكْيَالٌ بِالْمَدِينَةِ يَسَعُ ثَلَاثَةَ آصَعٍ وَيُحَرَّكُ، أَوْ هُوَ أَفْصَحُ وَيَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَرَقُ بِالتَّحْرِيكِ مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وَبِالسُّكُونِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا، ثُمَّ قِيلَ: وَفِي رِوَايَةٍ بِفَرَقِ ذُرَةٍ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْفَرَقَ كَانَ مِنْ صِنْفَيْنِ (فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ) أَيْ: عَمِلَ عَمَلَهُ وَانْتَهَى أَجَلُهُ (قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي. فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ، تَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ) أَيْ: أَعْرَضَ عَنْ أَخْذِهِ لِمَانِعٍ أَوْ بَاعِثٍ (فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ) أَيِ: الْأَرُزُّ (حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْأَرُزِّ أَوْ مِنْ زَرْعِهِ (بَقَرًا وَرَاعِيَهَا) ، أَيْ: قِيمَتَهُمَا فَاشْتَرَيْتُهُمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ فِي مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ، وَطَرِيقِ الْأَمَانَةِ، وَإِرَادَةِ الشَّفَقَةِ حَيْثُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّقْرِيرِ لَا يُقَالُ لَعَلَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ نَظِيرُهُ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ دَفَعَ قِيمَةَ كَبْشٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فَاشْتَرَاهُ بِهَا فَبَاعَهُ بِضِعْفِ ثَمَنِهِ، وَاشْتَرَى كَبْشًا آخَرَ، وَأَتَى بِهِ مَعَ قِيمَتِهِ فَدَعَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَرَكَةِ (فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي) : ظَاهِرُ كَلَامِهِ عُنْفٌ، لَكِنَّ بَاطِنَهُ حَقٌّ وَلُطْفٌ (فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقْرِ وَرَاعِيهَا) .

قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَقَرِ بِاعْتِبَارِ السَّوَادِ الْمَرْئِيِّ، كَمَا يُقَالُ: ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَوِ الشَّخْصُ فَعَلَ كَذَا، وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَى الْبَقَرِ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ (فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي) بِالْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنُّونِ، وَلَعَلَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ كَلَامِهِ لَا تَظْلِمْنِي جَزَعٌ مَعَ إِبْهَامِ قَوْلِهِ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ (فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ فَخُذْ ذَلِكَ الْبَقْرَ وَرَاعِيَهَا فَأَخَذَهُ) أَيْ: مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ، وَفِي نُسْخَةٍ فَأَخَذَهَا أَيْ: كُلَّهَا (فَانْطَلَقَ بِهَا) قَالَ مِيرَكُ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى جَمَعْتُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ، فَثَمَرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَفِيهَا: فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ مِنْ أَجْرِكَ، وَفِيهَا: فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا، فَدَلَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمِشْكَاةِ: (جَمَعْتُ بَقَرًا) أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ جَمْعَ الْبَقَرِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَكْثَرَ الْأَغْلَبَ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قِيمَةَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ. قُلْتُ: وَلَا بِدَعَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مِنْ زَوَائِدِ الْفَوَائِدِ مُنْضَمَّةٌ إِلَيْهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تُوَافِي (فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ) أَيْ: مِنْ إِطْبَاقِ الْبَابِ (فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ) . فَإِنْ قُلْتَ: رُؤْيَةُ الْأَعْمَالِ نُقْصَانٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكَمَالِ، فَمَا بَالُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ؟ قُلْتُ: فَكَأَنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِمَا وَقَعَ لَهُ تَعَالَى مَعَهُمْ مِنْ تَوْفِيقِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمَقْرُونِ بِالْإِخْلَاصِ، عَلَى أَنَّهُ يُنْجِيهِمْ مِنْ مَضِيقِ الْهَلَاكِ إِلَى قَضَاءِ الْخَلَاصِ، فَكَأَنَّمَا قَالُوا: كَمَا أَنْعَمْتَ عَلَيْنَا بِمَعْرُوفِكَ أَوَّلًا فَأَتِمَّ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ ثَانِيًا، فَإِنَّا لَا نَسْتَغْنِي عَنْ كَرَمِكَ أَبَدًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ فِي حَالِ كَرْبِهِ، وَفِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ، وَيَتَوَسَّلَ بِصَالِحِ عَمَلِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فَعَلُوهُ، وَاسْتُجِيبَ لَهُمْ، وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَجَمِيلِ فَضَائِلِهِمْ، وَفِيهِ فَضْلُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَإِيثَارُهَا عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا مِنَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَفِيهِ فَضْلُ الْعَفَافِ وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، لَا سِيَّمَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ. قُلْتُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ لِلْوَلِيِّ وَغَيْرِهِ، مَا عَدَا الْكَافِرَ، فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لِاسْتِجَابَةِ دُعَاءِ إِبْلِيسَ. وَالِاسْتِدْلَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي دُعَاءِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، بِخِلَافِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهُ حِجَابٌ» " عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ ; لِأَنَّ الْكَرَامَةَ مِنْ أَنْوَاعِ خَوَارِقِ الْعَادَةِ قَالَ: وَتَمَسَّكَ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْإِنْسَانِ مَالَ غَيْرِهِ، وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَفِي كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا خِلَافٌ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّا مُتَعَبِّدُونَ بِهِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ، بَلْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْبِضْهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَمْ يَصِرْ مِلْكَهُ، فَالْمُسْتَأْجِرُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، ثُمَّ تَبَرَّعَ بِمَا اجْتَمَعَ مِنْهُ مِنَ الْبَقْرِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهِمَا. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ اسْتَأْجَرَهُ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ ; حَيْثُ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ، وَإِلَّا فَالْإِجَارَةُ الْمَجْهُولَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لَا يُسَمَّى حَقَّهُ، فَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَلَا يُوصَلَ تَقْلِيدٌ وَيَفْرَغَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4939 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِهَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ ". وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4939 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ) : بِجِيمٍ ثُمَّ هَاءٍ مَكْسُورَةٍ سُلَمِيٌّ، عِدَادُهُ فِي الْحِجَازِيِّينَ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَاهُ (أَنَّ جَاهِمَةَ) قِيلَ: هُوَ ابْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ ( «جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَالْزَمْهَا» ) أَيِ: الْتَزِمْ خِدْمَتَهَا وَمُرَاعَاةَ أَمْرِهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ) أَيْ: وَإِنَّ

وَرَدَ: أَنَّهَا تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى، فَهِيَ حَاصِلَةٌ (عِنْدَ رِجْلِهَا) لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِحُصُولِهَا عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ الْخَطِيبِ فِي الْبَدِيعِ، عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: " «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: عِنْدَ رِجْلِهَا كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الْخُضُوعِ، وَنِهَايَةِ التَّذَلُّلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ مِنْ حَالِهِ وَحَالِ أُمِّهِ ; حَيْثُ أَلْزَمَهُ خِدْمَتَهَا، وَلُزُومُهَا أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ. وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلَفْظُهُ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْتَشِيرُهُ فِي الْجِهَادِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَكَ وَالِدَانِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: " الْزَمْهُمَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ أَرْجُلِهِمَا» ". اهـ. وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ خِدْمَةَ الْوَالِدَةِ هِيَ الْأَوْلَى، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَلَى الْأُمِّ ; حَيْثُ قَالَ: «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ» " مَعَ أَنَّ خِدْمَةَ الْوَالِدِ أَيْضًا سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا مِرْيَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ " «هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ» ".

4940 - «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا، فَقَالَ لِي: طَلِّقْهَا، فَأَبَيْتُ، فَأَتَى عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلِّقْهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4940 - ( «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا، فَقَالَ لِي: طَلِّقْهَا، فَأَبَيْتُ) ، أَيِ: امْتَنَعْتُ لِأَجْلِ مَحَبَّتِي فِيهَا (فَأَتَى عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلِّقْهَا» ) أَمْرُ نَدْبٍ أَوْ وُجُوبٍ إِنْ كَانَ هُنَاكَ بَاعِثٌ آخَرُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ.

4941 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا؟ قَالَ: " هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4941 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أَيِ: الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ( «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا؟ قَالَ: هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ» ) أَيْ: أَسْبَابُهُمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَقَّهُمَا رِضَاهُمَا الْمُوجِبُ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَتَرْكُ عُقُوقِهِمَا الْمُقْتَضِي لِدُخُولِ النَّارِ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِي حَقٍّ دُونَ حَقٍّ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ السُّؤَالِ، فَالْجَوَابُ لَهُ مُطَابَقَةٌ مَعَ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَوَابُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: حَقُّهُمَا الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا، وَتَرْكُ الْعُقُوقِ الْمُوجِبَانِ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَعْدًا، وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ وَالْعُقُوقِ الْمُوجِبَانِ لِدُخُولِ النَّارِ وَعِيدًا فَأَوْجَزَ كَمَا تَرَى، وَقَوْلُهُ: جَنَّتُكَ وَنَارُكَ عَلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ ; لِأَنَّ سُؤَالَهُ عَامٌّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ السَّائِلُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

4942 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَمُوتُ وَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا وَإِنَّهُ لَهُمَا لَعَاقٌّ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو لَهُمَا وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمَا حَتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُ بَارًّا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4942 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ الْعَبْدَ لَيَمُوتُ وَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا وَإِنَّهُ لَهُمَا) أَيْ: لِأَجَلِهِمَا الصَّادِقِ لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا (لَعَاقٌّ) ، اللَّامُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ وَلَهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِعَاقٍّ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاخْتِصَاصِ (فَلَا يَزَالُ) أَيِ: الْعَاقُّ فِي حَيَاتِهِمَا التَّائِبُ بَعْدَ مَوْتِهَا (يَدْعُو لَهُمَا) أَيْ: بِالرَّحْمَةِ وَنَحْوِهَا (وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمَا) أَيْ: لِذُنُوبِهِمَا (حَتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُ) أَيْ: فِي دِيوَانِ عَمَلِهِ بِأَمْرِ الْحَفَظَةِ (بَارًّا) ، فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالتَّوْبَةِ، فَإِنَّ الْعُقُوقَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَيْضًا، فَلَا بُدَّ مِنْهَا حَتَّى يَصِيرَ بَارًّا.

4943 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ أَصْبَحَ مُطِيعًا لِلَّهِ فِي وَالِدَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَوَاحِدًا، وَمَنْ أَمْسَى عَاصِيًا لِلَّهِ فِي وَالِدَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ مِنَ النَّارِ، إِنْ كَانَ وَاحِدًا فَوَاحِدًا " قَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ ظَلَمَاهُ؟ قَالَ: " وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4943 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَصْبَحَ مُطِيعًا لِلَّهِ فِي وَالِدَيْهِ) أَيْ: فِي حَقِّهِمَا. وَفِيهِ: أَنَّ طَاعَةَ الْوَالِدَيْنِ لَمْ تَكُنْ طَاعَةً مُسْتَقِلَّةً، بَلْ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ الَّتِي بَلَغَتْ تَوْصِيَتُهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسْبِ طَاعَتِهِمَا لِطَاعَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْعِصْيَانُ وَالْأَذَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَرَدَ: " «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» "، بَلْ مَنْ أَطَاعَهُمَا وَلَمْ يَنْوِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ بَارًّا، وَفِي نُسْخَةٍ (وَالِدُهُ) وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْجِنْسَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ صِيَغِ النَّسَبِ كَتَامِرٍ وَلَابِنٍ، فَيَشْمَلُ الْأَبَ وَالْأُمَّ ; قُلْتُ: وَمَعَ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ لِيَسْتَقِيمَ قَوْلُهُ: (أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ مِنَ الْجَنَّةِ) ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لِقَوْلِهِ: بَابَانِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي (مَفْتُوحَانِ) ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (وَإِنْ كَانَ) وَفِي نُسَخَةٍ: فَإِنْ كَانَ أَيِ: الْوَالِدُ الْمُطَاعُ (وَاحِدًا فَوَاحِدًا) ، أَيْ: فَكَانَ الْبَابُ الْمَفْتُوحُ وَاحِدًا، إِلَى هُنَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( «وَمَنْ أَمْسَى عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي وَالِدَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ مِنَ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَوَاحِدًا ". قَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ ظَلَمَاهُ؟» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرَادُ بِالظُّلْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ لَا الْأُخْرَوِيَّةِ (قَالَ: وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ) : ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ.

4944 - وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ وَلَدٍ بَارٍّ يَنْظُرُ إِلَى وَالِدَيْهِ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ حَجَّةً مَبْرُورَةً ". قَالُوا: وَإِنْ نَظَرَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَطْيَبُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4944 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا مِنْ وَلَدٍ بَارٍّ يَنْظُرُ إِلَى وَالِدَيْهِ) أَيْ: أَوْ أَحَدِهِمَا (نَظْرَةَ رَحْمَةٍ) أَيْ: مَحَبَّةٍ وَشَفَقَةٍ (إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ حَجَّةً مَبْرُورَةً) أَيْ: ثَوَابُ حُجَّةٍ نَافِلَةٍ مَقْبُولَةٍ (قَالُوا: وَإِنْ نَظَرَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؟) أَيْ: أَيَكُونُ كَذَلِكَ؟ (قَالَ: نَعَمْ، اللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: أَعْظَمُ مِمَّا يُتَصَوَّرُ، وَخَيْرُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يُحْصَى وَيُحْصَرُ (وَأَطْيَبُ) أَيْ: أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى قُصُورٍ فِي قُدْرَتِهِ وَنُقْصَانٍ فِي مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَبِالِاسْتِبْعَادِ مِنْ أَنْ يُعْطَى الرَّجُلُ بِسَبَبِ النَّظْرَةِ حَجَّةً، وَإِنْ نَظَرَ مِائَةَ مَرَّةٍ يَعْنِي: اللَّهُ أَكْبَرُ مِمَّا فِي اعْتِقَادِكَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُكْتَبُ لَهُ تِلْكَ الْأَعْدَادُ الْكَثِيرَةُ، وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَطْيَبُ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَطْيَبُ) صِفَةٌ لِلَّهِ لَا لِلثَّوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

4945 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَهْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «كُلُّ الذُّنُوبِ يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يُعَجَّلُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4945 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَهْ) : بِالْهَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ الذُّنُوبِ) أَيْ: جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي مَا عَدَا الشِّرْكَ (يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهَا (مَا شَاءَ) فَـ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ مُقَدَّمَةٌ (إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّهُ) أَيْ: إِلَيْهِ (يُعَجِّلُ) أَيِ: اللَّهُ (لِصَاحِبِهِ) أَيْ: لِمُرْتَكِبِ الْعُقُوقِ جَزَاءَ ذَنْبِهِ (فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ) أَيْ: فَلَا يُؤَخِّرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ: فِي حَيَاةِ الْعَاقِّ قَبْلَ مَمَاتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِي حَيَاةِ الْوَالِدَيْنِ قَبْلَ مَمَاتِهِمَا، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَاهُمَا سَائِرُ حُقُوقِ الْعِبَادِ ; وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْوَعِيدِ أَيْضًا وَرَدَ فِي حَقِّ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ مَنْصُوبَةُ الْمَحَلِّ مَفْعُولُ (يَغْفِرُ) مَجَازًا وَ (مَا شَاءَ) بَدَلٌ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِيَغْفِرُ وَتَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً، وَ (مَا شَاءَ) مَفْعُولٌ، وَمَعْنَى الشُّمُولِ فِي الْكُلِّ الِاسْتِغْرَاقُ، يَعْنِي كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ مَغْفُورًا إِذَا تَعَلَّقَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَهَذَا وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَمَفْعُولُ يُعَجِّلُ مَحْذُوفٌ أَيِ: الْعُقُوبَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. اهـ.

وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، لَكِنَّ فِي عِبَارَتِهِمَا خَطَأً فَاحِشًا إِذْ مَفْهُومُهُ أَنَّ مَغْفِرَةَ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ مُسْتَثْنًى، وَلَوْ تَعَلَّقَتْ بِهَا مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِيرَادُ مَا شَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِإِخْرَاجِ الشِّرْكِ فَقَطْ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ: كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ الَّتِي قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَغْفُورٌ إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ مَشِيئَةُ الْمَغْفِرَةِ. وَفِي هَذَا أَوْفَى زَجْرٍ وَتَهْدِيدٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ إِلَّا عُقُوقَهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ مُطْلَقًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ وَالتَّشْدِيدِ ; لِأَنَّ كَلَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ مُنَاقِضًا لِكَلَامِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ مَشِيئَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِمَا عَدَا الشِّرْكَ.

4946 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حُقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ حَقُّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4946 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ) : هُوَ أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وُلِدَ عَامَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَحَدَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ لِعُثْمَانَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَغَزَا بِالنَّاسِ طَبَرِسْتَانَ، فَافْتَتَحَهَا وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «حَقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ حَقُّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» ) أَيْ: كَحَقِّهِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ مُبَالَغَةٌ (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَلَفْظُ الْجَامِعِ: كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب الشفقة والرحمة على الخلق]

[بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4947 - عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [15] بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ الشَّفَقَةُ: الِاسْمُ مِنَ الْإِشْفَاقِ، وَهُوَ الْخَوْفُ، وَالشَّفَقَةُ عِنَايَةٌ مُخْتَلِطَةٌ بِخَوْفٍ ; لِأَنَّ الْمُشْفِقَ يُحِبُّ الْمُشْفَقَ عَلَيْهِ، وَيَخَافُ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَشْفَقَ أَيْ حَاذَرَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 4947 - (عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْبَجَلِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» ) أَيْ: مَنْ لَا يَتَعَطَّفُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرْأَفُ بِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْفَائِزِينَ بِالرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ، وَالسَّابِقِينَ إِلَى دَارِ الرَّحْمَةِ، وَإِلَّا فَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّحْمَةُ الثَّانِيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَوْلَى عَلَى الْمَجَازِ ; لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الْخَلْقِ التَّعَطُّفُ وَالرِّقَّةُ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ، وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ الرِّضَا عَمَّنْ رَحِمَهُ ; لِأَنَّ مَنْ رَقَّ لَهُ الْقَلْبُ فَقَدْ رَضِيَ عَنْهُ، أَوِ الْإِنْعَامُ وَإِرَادَةُ الْخَيْرِ ; لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَطَفَ عَلَى رَعِيَّتِهِ رَقَّ لَهُمْ وَأَصَابَهُمْ بِمَعْرُوفِهِ وَإِنْعَامِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالشَّيْخَانِ عَنْ جَرِيرٍ أَيْضًا بِلَفْظِ: " «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ جَرِيرٍ، وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: " «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ: " «مَنْ لَا يَرْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ لَا يَرْحَمْهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» "، وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْهُ أَيْضًا: " «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ، وَمَنْ لَا يَغْفِرُ لَا يُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ» " كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ لَفْظُ الْمِشْكَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4948 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4948 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟) أَيِ: الصِّغَارُ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ (فَمَا نُقَبِّلُهُمْ) أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تُقَبِّلُونَهُمْ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، وَهُوَ إِمَّا لِلِاسْتِكْبَارِ أَوْ لِلِاسْتِحْقَارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ اسْتِبْعَادِيَّةٌ أَيْ: أَتَفْعُلُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُسْتَبْعَدٌ عِنْدَنَا؟ قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِبْعَادَ مَفْهُومٌ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ لَا مِنَ الْفَاءِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي مَعَانِيهَا. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَأَمْلِكُ لَكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْإِنْكَارِيَّةِ وَوَاوِ الْعَاطِفَةِ أَوِ الرَّابِطَةِ (أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنْ) فَأَنْ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الظَّرْفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، فَإِنْ شَرْطِيَّةٌ دَلَّ عَلَى جَزَائِهَا مَا قَبْلَهَا. قَالَ الْأَشْرَفُ: يُرْوَى (أَنْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَيُقَدَّرُ مُضَافٌ أَيْ: لَا أَمْلِكُ لَكَ دَفْعَ نَزْعِ اللَّهِ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ، أَوْ لَا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أَضَعَ فِي قَلْبِكَ مَا نَزَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِهَا، فَتَكُونُ شَرْطِيَّةً وَالْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ أَيْ: إِنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ لَا أَمْلِكُ لَكَ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4949 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: " مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4949 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُنِي) ، أَيْ: عَطِيَّةً (فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا) ، أَيِ: التَّمْرَةَ وَلَمْ تَسْتَحْقِرْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» " (فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا) ، أَيْ: مَعَ جُوعِهَا إِذْ يُسْتَبْعَدُ أَنْ تَكُونَ شَبْعَانَةً مَعَ جُوعِ ابْنَتَيْهَا (ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَدَّثْتُهُ) ، أَيْ: بِمَا جَرَى (فَقَالَ: مَنِ ابْتُلِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: امْتُحِنَ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَهُنَّ غَالِبًا (مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ) ، مُتَعَلِّقٌ بِـ (ابْتُلِيَ) وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ مَعَ مَجْرُورِهَا حَالٌ مِنْ (شَيْءٍ) ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجِنْسِ. وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ قَوْلُهُ: مَنْ بَلِيَ مِنَ الْإِبْلَاءِ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا، أَيْ: بِشَيْءٍ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَرَوَى لَفْظَ الْمَصَابِيحِ: يَلِيَ مِنَ الْوَلَايَةِ لِمَكَانٍ شَيْئًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ قَوْلُهُ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، هَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّوَابُ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ يَتَخَبَّطُ النَّاسُ فِيهَا ; لِمَكَانِ قَوْلِهِ شَيْئًا، وَرَوَى يَلِي بِالْيَاءِ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالصَّوَابُ فِيهِ مَنْ بَلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ. اهـ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ إِمَّا ابْتُلِيَ كَمَا فِي الْمِشْكَاةِ، وَإِمَّا بَلِيَ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَإِنَّ الصَّوَابَ فِيهِمَا بِشَيْءٍ، وَإِنَّ (شَيْئًا) بِالنَّصْبِ خَطَأٌ، وَكَذَا يَلِي مِنَ الْوِلَايَةِ، بَلْ هُوَ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّوَايَةُ فِي الْبُخَارِيِّ وَالْحُمَيْدِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَشَرْحِ السُّنَّةِ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ: مَنْ يَلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فِي الْأُصُولِ. اهـ. (فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ) قِيلَ: بِتَزْوِيجِهِنَّ الْأَكْفَاءَ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَعُمَّ الْإِحْسَانُ (كُنَّ لَهُ) أَيْ: لِلْمُبْتَلَى (سِتَرًا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: حِجَابًا دَافِعًا (مِنَ النَّارِ) أَيْ: دُخُولُهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِنَّ أَنَّ احْتِيَاجَهُنَّ إِلَى الْإِحْسَانِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الصِّبْيَانِ، فَمَنْ سَتَرَهُنَّ بِالْإِحْسَانِ عَنْ لُحُوقِ الْعَارِ يُجَازَى بِالسَّتْرِ عَنِ النَّارِ جَزَاءً وِفَاقًا، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالِابْتِلَاءِ هَلْ هُوَ نَفْسُ وُجُودِهِنَّ، أَوِ الِابْتِلَاءُ بِمَا صَدَرَ مِنْهِنَّ، أَوِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِنَّ؟ وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْسَانِ هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ، أَوْ مَا زَادَ عَلَيْهِ؟ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، ثُمَّ شَرْطُ الْإِحْسَانِ أَنْ يُوَافِقَ الشَّرْعَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِفَاعِلِهِ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ اسْتِغْنَاؤُهُنَّ عَنْهُ بِزَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ الْمِشْكَاةِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

4950 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ هَكَذَا، وَضَمَّ أَصَابِعَهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4950 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ) أَيْ: أَنْفَقَ عَلَيْهِمَا وَقَامَ بِمُؤْنَتِهِمَا (حَتَّى تَبْلُغَا) أَيْ: تُدْرِكَا الْبُلُوغَ أَوْ تَصِلَا إِلَى زَوْجِهِمَا (جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ كَذَلِكَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ بِغَيْرِ وَاوٍ أَيْ: جَاءَ مُصَاحِبًا لِي (وَضَمَّ أَصَابِعَهُ) أَيْ: أُصْبُعَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تُدْرِكَا دَخَلْتُ أَنَا وَهُوَ الْجَنَّةَ كَهَاتَيْنِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ» ".

4951 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالسَّاعِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". وَأَحْسَبُهُ قَالَ: " كَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4951 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا. قِيلَ: سَوَاءٌ كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ يَعُمُّهُمَا (وَالْمِسْكِينِ) وَفِي مَعْنَاهُ: الْفَقِيرُ، بَلْ بِالْأَوْلَى عِنْدَ بَعْضِهِمْ (كَالسَّاعِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: ثَوَابُ الْقَائِمِ بِأَمْرِهِمَا وَإِصْلَاحِ شَأْنِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا، كَثَوَابِ الْغَازِي فِي جِهَادِهِ، فَإِنَّ الْمَالَ شَقِيقُ الرُّوحِ، وَفِي بَذْلِهِ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ وَمُطَالَبَةُ رِضَا الرَّبِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالسَّاعِي الْكَاسِبُ لَهُمَا الْعَامِلُ لِمُؤْنَتِهِمَا، وَالْأَرْمَلَةُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَقِيلَ: الَّتِي فَارَقَهَا زَوْجُهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَتْ أَرْمَلَةً لِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ الْإِرْمَالِ، وَهُوَ الْفَقْرُ وَذَهَابُ الزَّادِ بِفَقْدِ الزَّوْجِ. يُقَالُ: أَرْمَلَ الرَّجُلُ: إِذَا فَنِيَ زَادُهُ، قُلْتُ: وَهَذَا مَأْخَذٌ لَطِيفٌ فِي إِخْرَاجِ الْغَنِيَّةِ مِنْ عُمُومِ الْأَرْمَلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ مَعْنَى السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَّاهُ بِـ (عَلَى) مُضَمِّنًا فِيهِ مَعْنَى الْإِنْفَاقِ. (وَأَحْسِبُهُ) بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ: أَظُنُّهُ (قَالَ: كَالْقَائِمِ) قِيلَ: قَائِلُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ الرَّاوِي عَنْ مَالِكٍ، كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْبُخَارِيِّ، وَمَعْنَاهُ أَظُنُّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: كَالْقَائِمِ، وَظَاهِرُ الْمِشْكَاةِ أَنَّ قَائِلَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَالتَّقْدِيرُ أَحْسَبُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَيْضًا: كَالْقَائِمِ، أَوْ وَقَعَ لَهُ الشَّكُّ فِي التَّشْبِيهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ الْقَائِمِ اللَّيْلِ الصَّائِمِ النَّهَارِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ» " أَوْ " بِمَعْنَى " بَلْ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَوْلُهُ: كَالْقَائِمِ أَيْ بِاللَّيْلِ لِلْعِبَادَةِ (لَا يَفْتُرُ) ، مِنَ الْفُتُورِ وَهُوَ الْمَلَلُ وَالْكَسَلُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ نَصَرَ كَمَا فِي الْمَفَاتِيحِ، وَمِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيْضًا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَأَكْثَرُ النُّسَخِ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَضْعُفُ عَنِ الْعِبَادَةِ (وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ) أَيْ: فِي نَهَارِهِ، بَلْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ قَالَ الْأَشْرَفُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي كَالْقَائِمِ وَالصَّائِمِ غَيْرُ مُعَرِّفَيْنِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ كُلُّ وَاحِدٍ بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ بَعْدَهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا عِبَارَتَانِ عَنِ الصَّوْمِ بِالنَّهَارِ وَالْقِيَامِ بِاللَّيْلِ، كَقَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ وَلَيْلُهُ قَائِمٌ، يُرِيدُونَ الدَّيْمُومَةَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَتَقَدَّمَ رِوَايَةُ غَيْرِهِمَا.

4952 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا " وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4952 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ: السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ) أَيِ: الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ أَيْ: مُرَبِّيهِ (لَهُ) ، أَيْ: كَائِنًا لِذَلِكَ الْكَافِلِ كَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَإِنْ أَسْفَلَ، أَوِ ابْنِ أَخِيهِ وَنَحْوِهِ (وَلِغَيْرِهِ) ، الْوَاوُ بِمَعْنَى: " أَوْ " أَيْ أَوْ كَائِنًا لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ (فِي الْجَنَّةِ) خَبَرُ أَنَا وَمَعْطُوفَةٌ (هَكَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُرْبِ (وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ) أَيِ: الْمُسَبِّحَةُ (وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: فَرَّقَ (بَيْنَهُمَا شَيْئًا) أَيْ: قَلِيلًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْكَثِيرِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى عُلُوِّ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَإِنْ تَلَاهَا رُتْبَةُ الْفُتُوَّةِ وَالْمُرُوَّةِ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الْكَافِلُ هُوَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ الْيَتِيمِ الْمُرَبِّي لَهُ، وَهُوَ مِنَ الْكَفِيلِ بِمَعْنَى: الضَّمِينِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ وَلِغَيْرِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْكَافِلِ أَيْ: أَنَّ الْيَتِيمَ سَوَاءٌ كَانَ لِلْكَافِلِ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ وَأَنْسَابِهِ، أَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا لِغَيْرِهِ وَتَكَفَّلَ بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: (فِي الْجَنَّةِ) خَبَرُ (أَنَا) وَهَكَذَا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْخَبَرِ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى أَيْ: أَشَارَ بِهِمَا إِلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَعْنَى الِانْضِمَامِ وَهُوَ بَيَانُ (هَكَذَا) . اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَمَّ أُصْبُعَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: هَكَذَا، فَعَبَّرَ الرَّاوِي عَنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: وَأَشَارَ إِذِ الْإِشَارَةُ عَمَّا فِي ضَمِيرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِلرَّاوِي، قِيلَ: الْيَتِيمُ مِنَ النَّاسِ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ، وَمِنَ الدَّوَابِّ مَنْ مَاتَ أُمُّهُ، وَكَافِلُ الْيَتِيمِ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِ وَيَعُولُهُ وَيُرَبِّيهِ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَلَوْ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمِشْكَاةِ: (لَهُ وَلِغَيْرِهِ) مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ، أَوْ مَنْ بَعْدَهُ أُدْرِجَ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ هُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَفِيهَا زِيَادَةٌ مَقْبُولَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَأَشَارَ) فَهُوَ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ اخْتِصَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

4953 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكِي عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4953 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُمَا (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَى الْمُؤْمِنِينَ) أَيِ: الْكَامِلِينَ (فِي تَرَاحُمِهِمْ) أَيْ: فِي رَحْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِأُخُوَّةِ الْإِيمَانِ لَا بِسَبَبِ رَحِمٍ وَنَحْوِهِ (وَتَوَادِّهِمْ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: تَوَاصُلِهِمُ الْجَالِبِ لِلْمَحَبَّةِ كَالتَّزَاوُرِ وَالتَّهَادِي (وَتَعَاطُفِهِمْ) أَيْ: بِإِعَانَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا (كَمَثَلِ الْجَسَدِ) أَيْ: جِنْسِهِ (الْوَاحِدِ) : الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَنْوَاعِ الْأَعْضَاءِ (إِذَا اشْتَكَى) أَيِ: الْجَسَدُ (عُضْوًا) لِعَدَمِ اعْتِدَالِ حَالِ مِزَاجِهِ، وَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا تَأَلَّمَ الْجَسَدُ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، وَفِي نُسْخَةٍ إِذَا اشْتَكِي عُضْوٌ بِالرَّفْعِ أَيْ: إِذَا تَأَلَّمَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ جَسَدِهِ (تَدَاعَى لَهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْعُضْوُ (سَائِرُ الْجَسَدِ) أَيْ: بَاقِي أَعْضَائِهِ (بِالسَّهَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: عَدَمِ الرُّقَادِ (وَالْحُمَّى) أَيْ: بِالْحَرَارَةِ وَالتَّكَسُّرِ وَالضَّعْفِ، لِيَتَوَافَقَ الْكُلُّ فِي الْعُسْرِ كَمَا كَانُوا فِي حَالِ الصِّحَّةَ مُتَوَافِقِينَ فِي الْيُسْرِ، ثُمَّ أَصْلُ التَّدَاعِي أَنْ يَدْعُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَتَّفِقُوا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَمَا أَنَّ عِنْدَ تَأَلُّمِ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ يَسْرِي ذَلِكَ إِلَى كُلِّهِ، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِذَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ مُصِيبَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَمَّ جَمِيعُهُمْ وَيَهْتَمُّوا بِإِزَالَتِهَا عَنْهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: كَانَ بَعْضُهُ دَعَا بَعْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَدَاعَتِ الْحِيطَانُ أَيْ: تَسَاقَطَتْ أَوْ كَادَتْ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ التَّوَافُقُ فِي الْمَشَقَّةِ وَالرَّاحَةِ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4954 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4954 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ النُّعْمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ) أَيْ: كَأَعْضَاءِ رَجُلٍ (وَاحِدٍ) لِأَنَّهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ (إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ) بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهُ (اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

4955 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» "، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4955 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيُّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ) التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِ لِلْبَعْضِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ فِي الْأَوَّلِ، وَلِلْجِنْسِ فِي الثَّانِي أَيِ: الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ لِمُطْلَقِ الْمُؤْمِنِ (كَالْبُنْيَانِ) أَيِ: الْبَيْتِ الْمَبْنِيِّ (يَشُدُّ بَعْضُهُ) أَيْ: بَعْضُ الْبُنْيَانِ (بَعْضًا) وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِوَجْهِ الشَّبَهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْقَوِيَّ هُوَ الَّذِي يَشُدُّ الضَّعِيفَ وَيُقَوِّيهِ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَقَوَّى فِي أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ إِلَّا بِمَعُونَةِ أَخِيهِ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْبِنَاءِ يُقَوِّي بَعْضَهُ (ثُمَّ شَبَّكَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو مُوسَى (بَيْنَ أَصَابِعِهِ) أَيْ: أَدْخَلَ إِحْدَى يَدِهِ بَيْنَ أَصَابِعِ الْيَدِ الْأُخْرَى قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (ثُمَّ شَبَّكَ) كَالْبَيَانِ لِوَجْهِ الشَّبَهِ أَيْ: شَدًّا مِثْلَ هَذَا الشَّدِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: اخْتُصَّ الْبُخَارِيُّ بِذِكْرِ التَّشْبِيكِ وَبِدُونِهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِدُونِ التَّشْبِيكِ أَسْنَدَهُ إِلَى الشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ ضَمِيرَ (شَبَّكَ) إِلَى أَبِي مُوسَى، فَمَنْ رَوَاهُ إِنَّمَا رَوَاهُ مُدْرَجًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَعْظِيمُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَحَثُّهُمْ عَلَى التَّرَاحُمِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّعَاضُدِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّشْبِيهِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِتَقْرِيبِ الْمَعَانِي إِلَى الْأَفْهَامِ.

4956 - وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ: " اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4956 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ) أَيْ: لِلْعَطِيَّةِ (أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ) أَيْ: إِلَيْهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ السُّؤَالِ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ (قَالَ: اشْفَعُوا) أَيْ: لَهُ (فَلْتُؤْجَرُوا) بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ، وَهُوَ أَمْرُ الْمُخَاطَبِ بِاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] ، بِالْخِطَابِ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ مِنَ الْعَشَرَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَرْفُوضِ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ قُرِئَ (فَافْرَحُوا) وَالْفَاءُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ شَفَعْتُمْ فَتُؤْجَرُوا، وَفِي الْمُغْنِي أَنَّ اللَّامَ الطَّلَبِيَّةَ قَدْ تَخْرُجُ عَنِ الطَّلَبِيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ كَالَّتِي يُرَادُ بِهَا أَوْ بِمَصْحُوبِهَا الْخَيْرُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] ، {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] ، أَيْ: فَيَمُدُّ وَنَحْمِلُ. اهـ. وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَكَذَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ قَالَ: الْفَاءُ فِي (فَلْتُؤْجَرُوا) أَوِ اللَّامُ مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، بَلْ كِلَاهُمَا مُؤَكِّدَانِ ; لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: تُؤْجَرُوا جَوَابًا لِلْأَمْرِ تَمَّ كَلَامُهُ، وَلَا يَخْفَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّحْقِيقِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَالْمَعْنَى إِذَا عَرَضَ صَاحِبُ حَاجَةٍ حَاجَتَهُ عَلَيَّ اشْفَعُوا لَهُ إِلَيَّ، فَإِنَّكُمْ إِنْ شَفَعْتُمْ لَهُ حَصَلَ لَكُمْ بِتِلْكَ الشَّفَاعَةِ أَجْرٌ، سَوَاءٌ قُبِلَتْ شَفَاعَتُكُمْ أَوْ لَمْ تُقْبَلْ، وَقَوْلُهُ: وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، أَيْ: يُجْرِي عَلَى لِسَانِي (مَا شَاءَ) أَيْ: إِنْ قَضَيْتُ حَاجَتَهُ مِنْ شَفَاعَتِكُمْ لَهُ فَهُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ أَقْضِ فَهُوَ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ. اهـ. وَقَوْلُهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَقْلًا بِالْمَعْنَى، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ نَوْعُ الْتِفَاتٍ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُظْهِرِ، وَفِي زِيَادَةِ الْمُضَافِ إِفَادَةُ أَنَّ غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمِلَفِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ إِذِ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ عَلَى لِسَانِي، كَأَنَّهُ قَالَ: اشْفَعُوا لِي وَلَا تَقُولُوا مَا نَدْرِي، أَيَقْبَلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَفَاعَتَنَا أَمْ لَا؟ فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَنَبِيَّهُ وَصَفِيَّهُ لَا أَدْرِي أَيْضًا أَقْبَلُ شَفَاعَتَكُمْ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْقَاضِي، فَإِنْ قَضَى فِي أَنْ أَقْبَلَ أَقْبَلُ وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» " قُلْتُ: وَفِيهِ تَلْمِيحٌ وَتَلْوِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] . قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ بُلُوغِهَا إِلَى الْإِمَامِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ أَجَازَ الشَّفَاعَةَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ شَرٍّ وَأَذًى لِلنَّاسِ، وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَالْوَاجِبُ التَّعْزِيرُ، فَيَجُوزُ الشَّفَاعَةُ وَالتَّشَفُّعُ فِيهَا سَوَاءٌ بَلَغَتِ الْإِمَامَ أَمْ لَا، ثُمَّ الشَّفَاعَةُ فِيهَا مُسْتَحَبَّةٌ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ مُؤْذِيًا وَشِرِّيرًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالثَّلَاثَةُ.

4957 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا "، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: " تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4957 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «انْصُرْ أَخَاكَ» ) أَيِ: الْمُسْلِمُ (ظَالِمًا) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (أَوْ مَظْلُومًا) تَنْوِيعٌ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ) أَيْ: أَنَا (مَظْلُومًا) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مَظْلُومًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَبْنَى (فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟) ، فَإِنَّهُ خَفِيُّ الْمَعْنَى (قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ) ، أَيِ: الَّذِي يُرِيدُ فِعْلَهُ (فَذَلِكَ) أَيْ: مَنَعُكَ إِيَّاهُ مِنْهُ (نَصْرُكَ إِيَّاهُ) أَيْ: عَلَى شَيْطَانِهِ الَّذِي يُغْوِيهِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ الَّتِي تُطْغِيهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ بِهَذَا السِّيَاقِ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ أَيْضًا، نَعَمْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ بِلَفْظِ: «وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ» . قُلْتُ: وَيَنْصُرُهُ صَنِيعُ صَاحِبِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ; حَيْثُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ". قِيلَ كَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: " تَحْجِزْهُ عَنِ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ وَابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ: " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ يَكُ ظَالِمًا فَارْدُدْهُ عَنْ ظُلْمِهِ وَإِنْ يَكُ مَظْلُومًا فَانْصُرْهُ» ".

4958 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4958 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» ) ، فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْمُؤْمِنَ وَاحِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، وَهُوَ مُجْمَلٌ تَفْصِيلُهُ مَا بَعْدَهُ، وَلِهَذَا وَرَدَ مُنْقَطِعًا عَمَّا بَعْدَهُ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سُوِيدَ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ وَاثِلَةَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْأَخُ لَا يَضُرُّ أَخَاهُ، بَلْ يَنْفَعُهُ فِي كُلِّ مَا يَرَاهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ مُبَالَغَةً، كَمَا وَرَدَ: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» " (لَا يَظْلِمُهُ) ، نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَظْلِمَهُ، وَفِي حُكْمِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْمُوجَبِ أَوْ لِوَجْهِ الشَّبَهِ، فَإِنَّ الظَّالِمَ يَنْحَطُّ أَوَّلًا عَنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] ، وَثَانِيًا عَنْ دَرَجَةِ الْوَلَايَةِ: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] ، وَثَالِثًا عَنْ مَزِيدِ السَّلْطَنَةِ: لَبَيْتُ الظَّالِمِ خَرَابٌ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَرَابِعًا: عَنْ نَظَرِ الْخَلَائِقِ: جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا، وَخَامِسًا: عَنْ حِفْظِ نَفْسِهِ: " وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ". لَا تَظْلِمْنَ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا ... فَالظُّلْمُ آخِرُهُ يَأْتِيكَ بِالنَّدَمِ نَامَتْ عُيُونُكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ ... يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ (وَلَا يُسْلِمُهُ) ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ: لَا يَخْذُلُهُ، بَلْ يَنْصُرُهُ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: أَسْلَمَ فُلَانٌ فُلَانًا: إِذَا أَلْقَاهُ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَلَمْ يَحْمِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ أَسْلَمْتَهُ إِلَى شَيْءٍ، لَكِنْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْإِلْقَاءُ فِي التَّهْلُكَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ أَيْ: لَا يُزِيلُ سِلْمَهُ، وَهُوَ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا الصُّلْحُ (وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ) أَيْ: سَاعِيًا فِي قَضَائِهَا (كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ) هُنَا مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: " «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» "، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى فَضِيلَةِ عَوْنِ الْأَخِ عَلَى أُمُورِهِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا بِجِنْسِهَا مِنَ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَلْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ بِهِمَا لِدَفْعِ الْمَضَارِّ، أَوْ جَذْبِ الْمَنَافِعِ إِذِ الْكُلُّ عَوْنٌ (وَمَنْ فَرَّجَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَيُخَفَّفُ، وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ نَفَّسَ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ أَيْ: أَزَالَ وَكَشَفَ (عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً) أَيْ: مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْكُرْبَةُ بِضَمِّ الْكَافِ فُعْلَةٌ مِنَ الْكَرْبِ، وَهِيَ الْخَصْلَةُ الَّتِي يَحْزَنُ بِهَا وَجَمْعُهَا كُرَبٌ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، وَالتَّنْوِينُ فِيهَا لِلْإِفْرَادِ وَالتَّحْقِيرِ أَيْ: هَمًّا وَاحِدًا مِنْ هُمُومِهَا أَيُّ هَمٍّ كَانَ صَغِيرَهُ أَوْ كَبِيرَهُ عَرْضَهُ وَعِرْضَهُ عَدَدَهُ وَعُدَدَهُ، وَقَوْلُهُ مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا أَيْ: بَعْضِ كُرَبِهَا أَوْ كُرْبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ كُرَبِهَا (فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) بِضَمِّ الْكَافِ وَالرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيِ الَّتِي لَا تُحْصَى ; لِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَتَنْفِيسُ الْكُرَبِ إِحْسَانٌ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] ، وَلَيْسَ هَذَا مُنَافِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا تُجَازَى بِمَثَلِهَا وَضِعْفِهَا إِلَى عَشْرَةٍ إِلَى مِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى غَيْرِ حِسَابٍ، عَلَى أَنَّ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تُسَاوِي عَشْرًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْوِينُ التَّعْظِيمِ وَتَخْصِيصُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ دُونَ يَوْمٍ آخَرَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ إِمَّا فِي الْكَمِّيَّةِ أَوْ فِي الْكَيْفِيَّةِ (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا) أَيْ: بَدَنَهُ أَوْ عَيْبَهُ بِعَدَمِ الْغِيبَةِ لَهُ وَالذَّبِّ عَنْ مَعَايِبِهِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ، وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُرْفَعَ قَصْعَتُهُ إِلَى الْوَالِي، فَإِذَا رَآهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَيُنْكِرُهَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ عَجَزَ يَرْفَعُهَا إِلَى الْحَاكِمِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ ; كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ (سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ: سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ صُوفِيَّةٌ صَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ وَكَرَامَاتِ ذَوِي الْإِيقَانِ أَنْ يَحْفَظَ سِرَّهُ وَيَكْتُمَ أَمْرَهُ، فَإِنَّ كَشْفَ الْأَسْرَارِ عَلَى الْأَغْيَارِ يَسُدُّ بَابَ الْعِنَايَةِ وَيُوجِبُ الْحِرْمَانَ وَالْغِوَايَةَ. مَنْ أَطْلَعُوهُ عَلَى سِرٍّ فَبَاحَ بِهِ ... لَمْ يَأْمَنُوهُ عَلَى الْأَسْرَارِ مَا عَاشَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ مُسْنَدًا إِلَى مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ.

4959 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا ". وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4959 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ» ) ، بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْخِذْلَانِ، وَهُوَ تَرْكُ النُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ (وَلَا يَحْقِرُهُ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ: لَا يَحْتَقِرُهُ بِذِكْرِ الْمَعَايِبِ وَتَنَابُزِ الْأَلْقَابِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ إِذَا رَآهُ رَثَّ الْحَالِ، أَوْ ذَا عَاهَةٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ غَيْرَ لَائِقٍ فِي مُحَادَثَتِهِ، فَلَعَلَّهُ أَخْلَصُ ضَمِيرًا وَأَتْقَى قَلْبًا مِمَّنْ هُوَ عَلَى ضِدِّ صِفَتِهِ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ بِتَحْقِيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللَّهُ (التَّقْوَى هَهُنَا) وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي لَا يَجُوزُ تَحْقِيرُ الْمُتَّقِي مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَالتَّقْوَى مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَمَا كَانَ مَحَلُّهُ الْقَلْبَ يَكُونُ مَخْفِيًّا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ مَخْفِيًّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِعَدَمِ تَقْوَى مُسْلِمٍ حَتَّى يُحَقِّرَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَحَلُّ التَّقْوَى هُوَ الْقَلْبُ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ التَّقْوَى فَلَا يُحَقِّرُ مُسْلِمًا ; لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ لَا يُحَقِّرُ الْمُسْلِمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَوْجَهُ وَالنَّظْمُ لَهُ أَدْعَى ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا شَبَّهَ الْمُسْلِمَ بِالْأَخِ لِيُنَبِّهَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَأَنْ لَا يَرَى أَحَدٌ لِنَفْسِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا وَمَزِيَّةً، وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَتَحْقِيرُهُ إِيَّاهُ مِمَّا يُنَافِي هَذِهِ الْحَالَةَ وَيَنْشَأُ مِنْهُ قَطْعُ وُصْلَةِ الْأُخُوَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا أَنْ تُوصَلَ، وَمُرَاعَاةُ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ أَمْرٌ صَعْبٌ ; لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ السُّلْطَانِ وَأَدْنَى الْعَوَامِّ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَبَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ إِلَّا مَنِ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلتَّقْوَى وَأَخْلَصَهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ، وَنَحْوِهَا إِخْلَاصَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ مِنْ خُبْثِهِ وَنَقَّاهُ مِنْهَا، فَيُؤْثِرُ لِذَلِكَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى، كَذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «التَّقْوَى هَهُنَا " (وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» ) مُعْتَرِضًا بَيْنَ قَوْلِهِ: وَيَحْقِرُهُ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ( «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» ) ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَضَمِّنٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاحْتِقَارِ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ أَنَّ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْكَلَامِ مَوْقِعُ التَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ: ( «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» ) هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وَالْمَقْصُودُ الْأَوْلَى، وَالسَّابِقُ كَالتَّمْهِيدِ وَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمَ وَعِرْضَهُ جُزْءًا مِنْهُ تَلْوِيحًا إِلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» ، وَالْمَالُ يُبْذَلُ لِلْعِرْضِ. قَالَ: أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لَا أُدَنِّسُهُ ... لَا بَارَكَ اللَّهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ وَلِمَا أَنَّ التَّقْوَى تَشُدُّ مِنْ عَقْدِ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ وَتَسْتَوْثِقُ مِنْ عُرَاهَا ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات: 10] يَعْنِي: إِنَّكُمْ إِنِ اتَّقَيْتُمْ لَمْ تَحْمِلْكُمُ التَّقْوَى إِلَّا عَلَى التَّوَاصُلِ وَالِائْتِلَافِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى إِمَاطَةِ مَا يَفْرُطُ مِنْهُ، وَأَنَّ مُسْتَقَرَّ التَّقْوَى وَمَكَانَهَا الْمُضْغَةُ الَّتِي إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ الرَّاوِي عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ، وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَفَصْلِ الْخِطَابِ الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هُنَا كَلَامُ الطِّيبِيِّ قَدْ تَمَّ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ مِنْ زَوَائِدِ فَوَائِدِ شَرْحِهِ الْمُنِيفِ. مِنْهَا، قَوْلُهُ: " التَّقْوَى هَهُنَا ". قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْوَى فِي صَدْرِي، وَفُرُوعَهَا فِي قُلُوبِ جَمِيعِ الْخَلْقِ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ عَيْنِ الْجَمْعِ، وَمِرْآةُ كُشُوفِ الْغَيْبِ، كَمَا قَالَ: " «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَخْوَفُكُمْ مِنْهُ» " بَيَّنَ أَنَّ مَنْ زَادَ مَعْرِفَتُهُ زَادَ خَشْيَتُهُ وَتَقْوَاهُ، وَلَيْسَ فِي الْكَوْنَيْنِ أَعْرَفُ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَالَ: " «لِكُلِّ شَيْءٍ مَعْدِنٌ وَمَعْدِنُ التَّقْوَى قُلُوبُ الْعَارِفِينَ» " ; لِأَنَّ الْعَارِفَ غَائِبٌ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، تَائِقٌ إِلَى لِقَائِهِ، هَائِمٌ فِي مَحَبَّتِهِ تَجْرِي عَيْنُ التَّقْوَى مِنْ بِحَارِ مَعْرِفَتِهِ مِنْ رُوحِهِ إِلَى قَلْبِهِ، وَمِنْ قَلْبِهِ إِلَى قَالَبِهِ، وَسِرُّهُ مَعْدِنُ التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ تَجَلَّى فِيهِ بِنَعْتِ الْقِدَمِ، وَرُوحُهُ مَعْدِنُ الْمَعْرِفَةِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ تَجَلَّى بِوَصْفِ الْبَقَاءِ فِيهَا، وَقَلْبُهُ مَعْدِنُ الْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى ; لِأَنَّهُ تَجَلَّى بِوَصْفِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، فَالتَّوْحِيدُ مِنْ عَيْنِ الْقِدَمِ، وَالْمَعْرِفَةُ مِنْ عَيْنِ الْبَقَاءِ، وَالتَّقْوَى مِنْ عَيْنِ الْكِبْرِيَاءِ، وَقَوْلُهُ: (ثَلَاثُ مِرَارٍ) بِرَاءٍ فِي آخِرِهِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (بِحَسْبِ امْرِئٍ) مُبْتَدَأٌ وَالْبَاءُ فِيهِ

زَائِدَةٌ ; وَقَوْلُهُ: " أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ " خَبَرُهُ أَيْ: حَسْبُهُ وَكَافِيهِ مِنْ خِلَالِ الشَّرِّ وَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ تَحْقِيرُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّ قَوْلَهُ: (يَحْقِرُ) مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ فِي الْأُصُولِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَحَسْبُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالتَّثْنِيَةُ، وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. قَالَ النُّحَاةُ: إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهُ مَعْرِفَةً فَرَفْعُهُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَالْإِضَافَةُ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَرَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَقَطْ، وَالْإِضَافَةُ مَعْنَوِيَّةٌ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْعِرْضِ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ شَرْعًا حِمَايَتُهُ لَا الْعَصَبِيَّةُ وَالْحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ الَّتِي اعْتَادَهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَيَصْرِفُونَ النَّاسَ لِطَلَبِ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، إِذْ هُوَ مِنَ الْهَوَى الْمُتَّبَعِ الْمُهْلِكِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَمَا أَهْلَكَ النَّاسَ إِلَّا النَّاسُ، وَلَوْ أَنْصَفَ الْعُلَمَاءُ لَعَلِمُوا أَنَّ أَكْثَرَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْعِبَادَاتِ فَضْلًا عَنِ الْعِبَادَاتِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهَا إِلَّا مُرَاعَاةُ الْخَلْقِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الرِّيَاسَةُ مَيَادِينُ إِبْلِيسَ يَنْزِلُ هُوَ وَجُنُودُهُ، وَقِيلَ: آخِرُ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الصِّدِّيقِينَ مَحَبَّةُ الْجَاهِ، هَذَا وَزُبْدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ لَا يَقَعَ فِي عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ وَالطَّعْنِ وَالْقَذْفِ وَالشَّتْمِ وَالْغَمْزِ وَاللَّمْزِ وَالتَّجَسُّسِ عَنْ عَوْرَاتِهِ وَإِفْشَاءِ أَسْرَارِهِ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ فَيَفْضَحُهُ، وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ، وَلَا يُمَارِيهِ، وَيَرَى الْفَضْلَ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ، أَمَّا الصَّغِيرُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ وَهُوَ قَدْ عَصَى، وَالْكَبِيرُ فَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ عِبَادَةً، وَالْعَالِمُ لِعِلْمِهِ، وَالْجَاهِلُ لِأَنَّهُ قَدْ عَصَى اللَّهَ بِجَهْلِهِ، فَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعَالِمِ أَوْكَدُ، وَلِذَا وَرَدَ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً، وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِأَنَّ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَالْمَدَارُ عَلَى خَاتِمَتِهَا. خَتَمَ اللَّهُ لَنَا بِالْحُسْنَى وَبَلَّغَنَا الْمَقَامَ الْأَسْنَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَهُوَ أَيْضًا بَعْضٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمٍ» " الْحَدِيثُ.

4960 - وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبٍ وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ. وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ فِيكُمْ تَبَعٌ لَا يَبْغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ. وَالشِّنْظِيرُ: الْفَحَّاشُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4960 - (وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ) وَهُوَ اسْمُ الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ، وَالْعَرَبُ مَا كَانُوا يَتَحَاشَوْنَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ حَتَّى كَانُوا يُسَمُّونَ أَوْلَادَهُمْ كَلْبًا وَكِلَابًا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ التَّمِيمِيُّ الْمُجَاشِعِيُّ، يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْلَمَ قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ) أَيْ: ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ (ذُو سُلْطَانٍ) أَيْ: حُكْمٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: سُلْطَانٌ ; لِأَنَّهُ ذُو قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ مِنَ السَّلَاطَةِ، وَهِيَ التَّمَكُّنُ مِنَ الْقَهْرِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ} [النساء: 90] ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السُّلْطَانُ، وَقِيلَ: ذُو حُجَّةٍ لِأَنَّهُ يُقَامُ الْحُجَجُ بِهِ (مُقْسِطٌ) بِالرَّفْعِ صِفَةُ الْمُضَافِ أَيْ: عَادِلٌ، يُقَالُ: أَقْسَطَ فَهُوَ مُقْسِطٌ: إِذَا عَدَلَ، وَقَسَطَ فَهُوَ قَاسِطٌ: إِذَا جَارَ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ كَمَا يُقَالُ: شَكَا إِلَيْهِ فَأَشْكَاهُ (مُتَصَدِّقٌ) أَيْ: مُحْسِنٌ إِلَى النَّاسِ (مُوَفَّقٌ) أَيِ الَّذِي هُيِّئَ لَهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ، وَفُتِحَ لَهُ أَبْوَابُ الْبِرِّ (وَرَجُلٌ رَحِيمٌ) أَيْ: عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ (رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى) خُصُوصًا (وَمُسْلِمٍ) أَيْ: لِكُلِّ مُسْلِمٍ عُمُومًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ (رَحِيمٌ) أَيْ: يَرِقُّ قَلْبُهُ، وَيَرْحَمُ لِكُلِّ مَنْ بَيْنِهِ وَبَيْنَهُ لُحْمَةُ الْقَرَابَةِ أَوْ صِلَةُ الْإِسْلَامِ. اهـ وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّحِيمِ صِيغَةٌ فِعْلِيَّةٌ يَظْهَرُ وَجُودُهَا فِي الْخَارِجِ، وَبِالرَّقِيقِ صِفَةٌ قَلْبِيَّةٌ سَوَاءٌ ظَهَرَ أَثَرُهَا أَمْ لَا. وَالثَّانِي أَظْهَرُ، فَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ رَحْمَةُ الرَّحِيمِ إِلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الشَّامِلِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالدَّوَابِّ، فَيَكُونُ الثَّانِي أَخَصَّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ. (وَعَفِيفٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الثَّالِثُ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَيْ: مُجْتَنِبٌ عَمَّا لَا يَحِلُّ (مُتَعَفِّفٌ) أَيْ: عَنِ السُّؤَالِ مُتَوَكِّلٌ عَلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ عِيَالِهِ مَعَ فَرْضِ وَجُودِهِمْ، فَإِنَّهُ أَصْعَبُ، وَلِهَذَا قَالَ: (ذُو عِيَالٍ) أَيْ: لَا يَحْمِلُهُ حُبُّ الْعِيَالِ وَلَا خَوْفُ رِزْقِهِمْ عَلَى تَرْكِ التَّوَكُّلِ بِارْتِكَابِ سُؤَالِ الْخَلْقِ، وَتَحْصِيلِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِمْ عَنْ

الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَشَارَ بِالْعَفِيفِ إِلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَانِعَةِ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَبِالْمُتَعَفِّفِ إِلَى إِبْرَازِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ وَاسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لِإِظْهَارِ الْعِفَّةِ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِذِ اسْتَقْرَيْتَ أَحْوَالَ الْعِبَادِ عَلَى اخْتِلَافِهَا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَيَحِقَّ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا وَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهَا (وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ) إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَتِهِمْ (الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لَا رَأْيَ وَلَا عَقْلَ كَامِلًا يَعْقِلُهُ، وَيَمْنَعُهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ وَرَدَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» ، وَفِي الْقَامُوسِ: الزَّبْرُ الْعَقْلُ وَالْكَمَالُ وَالصَّبْرُ وَالِانْتِهَارُ وَالْمَنْعُ وَالنَّهْيُ. اهـ. وَلِكُلٍّ وَجْهٌ فِي الْمَعْنَى. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْ: لَا عَقْلَ لَهُ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ يُقَالُ: مَا لَهُ زَبْرٌ أَيْ عَقْلٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى لَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَرَى الْوَجْهَ فِيهِ أَنْ يُفَسَّرَ بِالتَّمَاسُكِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ لَا زَبْرَ لَهُ أَيْ: لَا تَمَاسُكَ لَهُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَمَاسُكَ لَهُ عِنْدَ مَجِيءِ الشَّهَوَاتِ، فَلَا يَرْتَدِعُ عَنْ فَاحِشَةٍ وَلَا يَتَوَرَّعُ عَنْ حَرَامٍ. قُلْتُ: التَّمَاسُكُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ وَحَاصِلٌ بِالصَّبْرِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّ الشَّيْخَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ) قِسْمٌ آخَرُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ يَعْنِي بِهِ الْخُدَّامَ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي ; حَيْثُ قَالَ: الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ يُرِيدُ بِهِ الْخُدَّامَ الَّذِينَ لَا مَطْمَحَ لَهُمْ وَلَا مَطْمَعَ إِلَّا مَا يَمْلَأُونَ بِهِ بُطُونَهُمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَلَا تَتَخَطَّى هِمَمُهُمْ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّعِيفَ وَصْفٌ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ تَارَةً بِالْمُفْرَدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ أُخْرَى بِالْجَمْعِ، أَوِ الْمَوْصُولُ الثَّانِي بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ لِعَدَمِ الْعَاطِفِ كَمَا فِي الْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْأَشْرَفِ ; حَيْثُ قَالَ: الَّذِي فِي قَوْلِ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ الَّذِي جَوَّزَ جَعْلَ قَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ. اهـ كَلَامُهُ. وَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَجَّهُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَيَتَعَيَّنُ تَقْسِيمُ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ. أَحَدُهَا: الضَّعِيفُ، وَثَانِيهَا: الْخَائِنُ، وَثَالِثُهَا: رَجُلٌ، وَرَابِعُهَا: الْبَخِيلُ، وَخَامِسُهَا: الشِّنْظِيرُ. تَمَّ كَلَامُ الطِّيبِيِّ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي مَا يَدُلُّ عَلَى جَعْلِهِ قِسْمًا آخَرَ، وَهُمَا أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يُخَالِفَا النَّصَّ عَلَى الْخَمْسِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الْعَاطِفِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِتَفْسِيرَيْهِمَا عَلَى مَا تَوَهَّمَ الْفَاضِلُ، إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَصْفِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، بَلِ الثَّانِي مُمَيِّزٌ لِلْأَوَّلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ هُوَ جِنْسُ الضَّعِيفِ فِي أَمْرِ دِينِهِ النَّاقِصُونَ فِي عُقُولِهِمُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ (لَا يَبْغُونَ أَهْلًا) أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ زَوْجَةً وَلَا سُرِّيَّةً، فَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَلَالِ وَارْتَكَبُوا الْحَرَامَ (وَلَا مَالًا) أَيْ: وَلَا يَطْلُبُونَ مَالًا حَلَالًا مِنْ طَرِيقِ الْكَدِّ وَالْكَسْبِ الطَّيِّبِ، فَقِيلَ: هُمُ الْخَدَمُ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ بِالشُّبَهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي سَهُلَ عَلَيْهِمْ مَأْخَذُهَا عَمَّا أُبِيحَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَاعِيَةٌ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَدُورُونَ حَوْلَ الْأُمَرَاءِ وَيَخْدِمُونَهُمْ، وَلَا يُبَالُونَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَأْكُلُونَ وَيَلْبَسُونَ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ، لَيْسَ لَهُمْ مَيْلٌ إِلَى أَهْلٍ وَلَا إِلَى مَالٍ، بَلْ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، ثُمَّ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عَلَى مَعْنَى لَا زَبْرَ لَهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ قِسْمًا آخَرَ أَوْ لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَوْلُهُ: تَبَعٌ هُوَ الْأَصْلُ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ تَابِعٍ كَخَدَمٍ جَمْعُ خَادِمٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَبَعٌ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مَرْفُوعٌ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الظَّرْفِ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الظَّرْفُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهُمْ، وَفِي بَعْضِهَا مَنْصُوبٌ كَمَا فِي الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ. اهـ. وَقَوْلُهُ: لَا يَبْغُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَسْكِينِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يُتْبِعُونَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ يُخَفَّفُ وَيُشَدَّدُ مِنَ الِاتِّبَاعِ

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَبْغُونَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ) مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ قَالَ الْقَاضِي أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُطْمَعَ فِيهِ (وَإِنْ دَقَّ) بِحَيْثُ لَا يَكَادُ أَنْ يُدْرَكَ (إِلَّا خَانَهُ) أَيْ: إِلَّا وَهُوَ يَسْعَى فِي التَّفَحُّصِ عَنْهُ، وَالتَّطَلُّعِ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَهُ فَيَخُونُهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِغْرَاقُ فِي الْوَصْفِ بِالْخِيَانَةِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ إِغْرَاقٌ فِي وَصْفِ الطَّمَعِ، وَالْخِيَانَةُ تَابِعَةٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى عَنِ الطَّمَعِ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى الْخِيَانَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الطَّمَعُ فَسَادُ الدِّينِ وَالْوَرَعُ صَلَاحُهُ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ (خَفِيًّا) مِنَ الْأَضْدَادِ وَالْمَعْنَى لَا يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ يَطْمَعُ فِيهِ إِلَّا خَانَهُ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا. قُلْتُ: لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمَعْنَى الْأَسْبَقَ أَبْلَغُ وَأَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ دَقَّ، فَهُوَ بِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى وَأَحَقُّ، وَإِنْ كَانَ تَعْدِيَةُ (خَفِيَ) بِاللَّامِ فِي مَعْنَى الْإِظْهَارِ أَظْهَرُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ خَفِيَ لَهُ أَيْ: ظَهَرَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَيِ: اسْتَتَرَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، لَكِنْ فِي الْقَامُوسِ خَفَاهُ يَخْفِيهِ: أَظْهَرَهُ وَخَفِيَ كَرَضِيَ لَمْ يَظْهَرْ، اهـ فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ فِي فَتْحِ الْفَاءِ فِي لَا يَخْفَى إِلَّا إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِكَسْرِهَا كَمَا لَا يَخْفَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ) أَيْ: بِسَبَبِهِمَا فَعَنْ بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] ، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36] ، أَيْ: حَمَلَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِهَا (وَذَكَرَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ كَانَ الشَّكُّ الْآتِي مِنَ الصَّحَابِيِّ، أَوْ ذِكْرُ عِيَاضٍ إِنْ كَانَ مِنَ التَّابِعِيِّ وَهَلُمَّ جَرًّا (الْبُخْلَ) أَيْ: فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ (أَوِ الْكَذِبَ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيِ: الْبَخِيلُ وَالْكَذَّابُ أَقَامَ الْمَصْدَرَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ نَسِيَ أَلْفَاظًا ذَكَرَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ الْبَخِيلِ أَوِ الْكَذَّابِ، فَعَبَّرَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَإِلَّا كَانَ يَقُولُ: وَالْبَخِيلُ أَوِ الْكَذَّابُ. قُلْتُ: الْمَعْنَى كَمَا قَالَ الشَّيْخُ، سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ صِفَةٌ أُخْرَى لَهُمَا أَمْ لَا. هَذَا وَرُوِيَ بِالْوَاوِ وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ اثْنَيْنِ مِنَ الْخَمْسَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (وَالشِّنْظِيرَ) مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى الْكَذِبِ تَتِمَّةً لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَا وَاحِدًا فَيَكُونُ الشِّنْظِيرُ مَرْفُوعًا. كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، لَكِنْ قَوْلُهُ: تَتِمَّةً لَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ التَّعَدُّدَ الْمَفْهُومَ مِنَ الْوَاوِ، وَهُوَ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ وَاقِعٌ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشِّنْظِيرُ عَطْفَ تَفْسِيرٍ لِلْكَذِبِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَايُنِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى " أَوْ " كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ وَالنُّسَخُ الصَّحِيحَةُ، ثُمَّ الشِّنْظِيرُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ السَّيِّئُ الْخُلُقِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى التَّصْحِيحِ كَمَا سَبَقَ. قَوْلُهُ: (الْفَاحِشُ) نَعْتٌ لَهُ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى لَهُ أَيِ: الْمُكْثِرُ لِلْفُحْشِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَعَ سُوءِ خُلُقِهِ فَحَّاشٌ فِي كَلَامِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّلَازُمِ الْغَالِبِيِّ، هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ: أَوِ الْكَذِبَ بِأَوْ وَفِي بَعْضِهَا بِالْوَاوِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رِوَايَتُنَا عَنْ جَمِيعِ شُيُوخِنَا بِالْوَاوِ إِلَّا ابْنَ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الطَّبَرِيِّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ، وَبِهِ تَكُونُ الْمَذْكُورَاتُ خَمْسَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَالشِّنْظِيرُ مَرْفُوعٌ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى رَجُلٍ كَمَا سَبَقَ، وَعَلَى تَأْوِيلِ الْوَاوِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مِنْ تَتِمَّةِ الْكَذِبِ أَوِ الْبُخْلِ أَوِ الْبَخِيلُ السَّيِّئُ الْخُلُقِ الْفَحَّاشُ أَوِ الْكَذَّابُ السَّيِّئُ الْخُلُقِ الْفَحَّاشُ. اهـ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ التَّحْقِيقُ وَإِنْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ أَرْبَابِ التَّدْقِيقَ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4961 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4961 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ) أَيْ: إِيمَانًا كَامِلًا (حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ) أَيِ: الْمُسْلِمِ (مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) أَيْ: مِثْلَ جَمِيعِ مَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: لَا يُؤْمِنُ الْإِيمَانَ التَّامَّ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الْإِيمَانِ يَحْصُلُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْمُرَادُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا قَدْ يُعَدُّ مِنَ الصَّعْبِ الْمُمْتَنِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ مَعْنَاهُ لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَالْقِيَامُ بِذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُحِبَّ لَهُ حُصُولَ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهَا، وَذَلِكَ سَهْلٌ عَلَى الْقَلْبِ السَّلِيمِ. اهـ.

وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُتَّحِدُونَ بِحَسَبِ الْأَرْوَاحِ مُتَعَدِّدُونَ مِنْ حَيْثُ الْأَجْسَامِ وَالْأَشْبَاحِ كَنُورٍ وَاحِدٍ فِي مَظَاهِرَ مُخْتَلِفَةٍ، أَوْ كَنَفْسِ وَاحِدَةٍ فِي أَبْدَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، بِحَيْثُ لَوْ تَأَلَّمَ الْوَاحِدُ تَأَثَّرَ الْجَمِيعُ، كَمَا لَوَّحَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» "، وَكَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ أَنَّهُ أَحَسَّ بِالْبُرُودَةِ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَغَطَّوْهُ فَجَاءَهُ مُرِيدٌ لَهُ وَقَعَ فِي مَاءٍ بَارِدٍ فِي شِتَاءٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ الشَّيْخُ: أَدْفِئُوهُ، فَلَمَّا دَفِئَ الْمُرِيدُ قَامَ الشَّيْخُ مُسْتَدْفِئًا، وَنَظِيرُهُ أَنَّ لَيْلَى افْتُصِدَتْ فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ يَدِ الْعَامِرِيِّ، فَأَنْشَدَ: أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا ... نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ رُوحٌ وَاحِدٌ تَعَلَّقَ بِهَا بَدَنَانِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْأَبْدَانِ الْمُكْتَسَبَةِ الْوَاقِعَةِ لِلسَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُوهِمٌ لِلْحُلُولِ، ثُمَّ بَلْ لَوْ تَمَكَّنُوا فِيهِ صَحَّ ذَلِكَ لَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ ضَرَبَ عَبْدُهُ حِمَارًا، فَتَأَلَّمَ الشَّيْخُ بِحَيْثُ رُؤِيَ أَلَمُ الضَّرْبِ فِي عُضْوِهِ الَّذِي بِإِزَاءِ الْعُضْوِ الْمَضْرُوبِ لِلْحِمَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ مِنْ أَثَرِ نُورِ الْهِدَايَةِ شَرْعًا وَطَرِيقَةً، وَمِنْ أَثَرِ نُورِ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ نُورُ التَّوْحِيدِ مِنْ عَكْسِ نُورِ الْفَرْدَانِيَّةِ مِنْ نُورِ الذَّاتِ فَأَرْوَاحُهُمُ اتَّحَدَتْ بِذَلِكَ النُّورِ الْمُقْتَضِي لِلْأُلْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَإِنْ حَزِنَ وَاحِدٌ حَزِنُوا، وَإِنْ فَرِحَ وَاحِدٌ فَرِحُوا، وَهَذَا مَقَامُ الْجَمْعِ بِالرُّوحِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عِنْدَ تَجَلِّي الرُّوحِ الْأَعْظَمِ عَنْ تَفْرِقَةِ الطَّبِيعَةِ وَتَتَّحِدُ الْأَرْوَاحُ، وَهُنَاكَ مَقَامٌ أَعْلَى يُقَالُ لَهُ: جَمْعُ الْجَمْعِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عِنْدَ تَجَلِّي الْحَقِّ لَهُ عَنْ تَفْرِقَةِ الْغَيْرِ رُوحَانِيًّا وَنَفْسَانِيًّا مَلَكِيًّا وَمَلَكُوتِيًّا، فَلَا يُرَى غَيْرُ اللَّهِ لِاخْتِفَاءِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فِي نُورِ التَّوْحِيدِ، كَاخْتِفَاءِ النُّجُومِ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ، وَهَذَا رَشْحُهُ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: مَعْنًى، فَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ وَفِي نُسْخَةٍ عَبْدٌ، وَفِي أُخْرَى أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ قَسَمٍ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ، أَوْ قَالَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، فَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ لَفْظَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَفْظًا هُوَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، كَمَا رَوَاهُ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ. وَقَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَكَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالثَّلَاثَةُ.

4962 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ". قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4962 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ) قَسَمٌ خَبَرُهُ (لَا يُؤْمِنُ) أَيْ: إِيمَانًا كَامِلًا أَوْ إِيمَانًا مُطَابِقًا لِمَبْنَاهُ وَمَعْنَاهُ (وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ) كَرَّرَهُ ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ وَهُوَ بِلَا عَاطِفَةٍ لِلتَّأْكِيدِ (قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) جَمْعُ بَائِقَةٍ بِالْهَمْزِ وَهِيَ الدَّاهِيَةُ أَيْ: غَوَائِلَهُ وَشُرُورَهُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ هُوَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

4963 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4963 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ: مَعَ النَّاجِينَ (مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ ; حَيْثُ جَعَلَ عَدَمَ الْأَمْنِ مِنْ وُقُوعِ الضَّرَرِ سَبَبًا لِنَفْيِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَكَيْفَ إِذَا تَحَقَّقَ لُحُوقُ الضَّرَرِ وَالشَّرِّ؟ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

4964 - وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَازَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4964 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ) تَقَدَّمَ فِيهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ (يُوصِينِي بِالْجَارِ) أَيْ: يَأْمُرُنِي بِحِفْظِ حَقِّهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُ (حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ) أَيْ: جِبْرِيلُ (سَيُوَرِّثُهُ) أَيِ: الْجَارَ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَرِثَ أَبَاهُ وَمِنْهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ يَرِثُهُ كَيَعِدُهُ وَأَوْرَثَهُ جَعَلَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ أَيْ: سَيُشْرِكُهُ جِبْرِيلُ فِي الْمِيرَاثِ، كَمَا قَالَ شَارِحٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْكُمُ بِمِيرَاثِ أَحَدِ الْجَارَيْنِ مِنَ الْآخَرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِمَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحْدَهَا، وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَرِّثُهُ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالْمَمْلُوكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلًا أَوْ وَقْتًا إِذَا بَلَغَهُ عَتَقَ» ".

4965 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْزُنَهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4965 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً) أَيْ: فِي الْمُصَاحَبَةِ سَفَرًا أَوْ حَضَرًا (فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ) أَيْ: لَا يَتَكَلَّمَا بِالسِّرِّ (دُونَ الْآخَرِ) أَيْ: مُجَازَيْنِ عَنْهُ غَيْرَ مُشَارِكَيْنِ لَهُ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ نَجْوَاهُمَا لِشَرٍّ مُتَعَلِّقٍ بِهِ (حَتَّى تَخْتَلِطُوا) أَيْ: جَمِيعُكُمْ (بِالنَّاسِ) وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ النَّهْيَ مَحَلُّهُ أَنْ يَكُونُوا فِي مَوْضِعٍ لَا يَأْمَنُ الْوَاحِدُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ (مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْزُنَهُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَالْأُولَى أَشْهَرُ وَعَلَيْهَا الْأَكْثَرُ، وَأَمَّا مَا ضُبِطَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالزَّايِ فَخَطَأٌ ; لِأَنَّهُ لَازِمٌ وَهُنَا الْفِعْلُ مُتَعَدٍّ وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ لِلتَّنَاجِي وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ لِلْآخَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلنَّهْيِ أَيْ: لَا تَنَاجَوْا لِئَلَّا يَحْزَنَ صَاحِبُكَ، وَأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ مِنْكُمْ تَنَاجٍ هُوَ سَبَبٌ لِلْحُزْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ هُنَاكَ تَنَاجِيًا غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ لِرِوَايَةِ: فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ. قَالَ الْخَطَابِيُّ: وَإِنَّمَا يُحْزِنُهُ ذَلِكَ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ نَجْوَاهُمَا لِتَبْيِيتِ رَأَيٍ فِيهِ أَوْ دَسِيسِ غَائِلَةٍ لَهُ، أَوِ الْأَحْزَانُ لِأَجْلِ الِاخْتِصَاصِ بِالْكَرَامَةِ وَهُوَ يُحْزِنُ صَاحِبَهُ. قُلْتُ: وَيَرُدُّ الْقَوْلَ الْآخَرَ قَوْلُهُ حَتَّى يَخْتَلِطُوا، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَذَا فِي السَّفَرِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ فِيهِ صَاحِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَّا فِي الْحَضَرِ وَبَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْعِمَارَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيلَ قُيِّدَ بِالثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً فَتَنَاجَى اثْنَانِ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ شَارِحٌ: إِنْ تَنَاجَى اثْنَانِ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ فَلَا بَأْسَ ; لِأَنَّهُ لَا يَظُنُّ الثَّالِثُ أَنَّهُمَا يَذْكُرَانِ مِنْهُ قَبِيحًا. قُلْتُ: وَلَوْ ظَنَّهُ أَيْضًا لَا يُبَالِي ; حَيْثُ إِنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالنَّاسِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَدْ صَحَّ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهُ يَوْمًا فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ، ثُمَّ سَارَّهَا» ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَارَّةَ فِي الْجَمْعِ حَيْثُ لَا رِيبَةَ جَائِزَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا النَّهْيُ عَنْ تَنَاجِي اثْنَيْنِ بِحَضْرَةِ ثَالِثٍ، وَكَذَا ثَلَاثَةٍ وَأَكْثَرَ بِحَضْرَةِ وَاحِدٍ هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمُنَاجَاةُ دُونَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِنَا وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ حَضَرًا وَسَفَرًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى رَجُلَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْزُنُهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

4966 - وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الدِّينُ النَّصِيحَةُ " ثَلَاثًا. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: " لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4966 - (وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى جَدٍّ لَهُ اسْمُهُ دَارٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَرْوِيَّاتُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا هَذَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيُّ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَرُبَّمَا رَدَّدَ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ كُلَّهَا إِلَى الصَّبَاحِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ نَامَ لَيْلَةً وَلَمْ يَقُمْ لِلتَّهَجُّدِ فِيهَا حَتَّى أَصْبَحَ، فَقَامَ سَنَةً لَمْ يَنَمْ فِيهَا عُقُوبَةً لِلَّذِي صَنَعَ، سَكَنَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْرَجَ السِّرَاجَ فِي الْمَسْجِدِ، رَوَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِصَّةَ

الدَّجَّالِ وَالْجَسَّاسَةِ وَعَنْهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الدِّينُ) أَيْ: أَعْمَالُهُ وَأَفْضَلُ أَعْمَالِهِ أَوِ الْأَمْرُ الْمُهِمُّ فِي الدِّينِ (النَّصِيحَةُ) : وَهِيَ تَحَرِّي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فِيهِ صَلَاحٌ لِصَاحِبِهِ، أَوْ تَحَرِّي إِخْلَاصِ الْوُدِّ لَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَهُوَ لَفْظٌ جَامِعٌ لِمَعَانٍ شَتَّى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِكَلِمَةٍ وَجِيزَةٍ يُحْصِيهَا وَيَجْمَعُ مَعْنَاهَا غَيْرُهَا، كَمَا قَالُوا فِي الْفَلَاحِ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ كُلِّهِ أَجْمَعُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» " يُرِيدُ عِمَادَ الدِّينِ وَقِوَامَهُ، إِنَّمَا هُوَ النَّصِيحَةُ وَبِهَا ثَبَاتُهُ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» " وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» " فَالْحَصْرُ ادِّعَائِيٌّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَحَدُ أَرْبَاعِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عَلَى مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ مَدَارُ الْإِسْلَامِ كَمَا سَيَأْتِي، فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصَحْتُ الْعَسَلَ: إِذَا صَفَّيْتَهُ مِنَ الشَّمْعِ، شَبَّهُوا تَخْلِيصَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مِنَ الْغِشِّ بِتَخْلِيصِ الْعَسَلِ مِنَ الشَّمْعِ (ثَلَاثًا) أَيْ: ذَكَرَهَا ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ بِهَا وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا، وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْأَرْبَعِينَ لِلنَّوَوِيِّ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ النَّصِيحَةُ مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ اسْتُفْصِلَتْ، فَقَالَ الرَّاوِي: (قُلْنَا) أَيْ: مَعْشَرُ الصَّحَابَةِ وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ (لِمَنْ؟) أَيِ: النَّصِيحَةُ لِمَنْ؟ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (لِلَّهِ) أَيْ: بِالْإِيمَانِ وَصِحَّةِ الِاعْتِقَادِ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ وَتَرْكِ الْإِلْحَادِ فِي صِفَاتِهِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ، وَبَذْلِ الطَّاقَةِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَالِاعْتِرَافِ بِنِعْمَتِهِ وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَيْهَا، وَمُوَالَاةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَبْدِ فِي نَصِيحَةِ نَفْسِهِ لِلَّهِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ كُلِّ نَاصِحٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ النَّصِيحَةَ لِلَّهِ هِيَ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ الْإِيمَانُ بِوُجُودِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ وَرَاءَ التَّحَيُّزَاتِ مَوْجُودًا خَالِقًا وَبِصِفَاتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ، وَبِأَفْعَالِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ الْمُسَمَّى بِالْعَالَمِ، فَإِنَّمَا حَدَثَ بِقُدْرَتِهِ، وَهُوَ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الثَّرَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَقَلُّ مِنْ خَرْدَلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَبِأَحْكَامِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِغَرَضٍ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِهَا مَنَافِعُ عَائِدَةٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَأَنَّ لَهُ الْحُكْمَ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِنْ أَثَابَ فَبِفَضْلِهِ وَإِنَّ عَذَّبَ فَبِعَدْلِهِ. وَأَسْمَائِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، ثُمَّ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَالْحُبِّ لَهُ وَالْبُغْضِ فِيهِ (وَلِكِتَابِهِ) أَيْ: وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَإِقَامَةُ حُرُوفِهِ فِي التِّلَاوَةِ، وَالتَّصْدِيقُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِمَوَاعِظِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي عَجَائِبِهِ، وَالْعَمَلُ بِمُحْكَمِهِ، وَالتَّسْلِيمُ بِمُتَشَابِهِهِ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُكْرِمَهُ وَيَبْذُلَ مَجْهُودَهُ فِي الذَّبِّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَابْتِهَالِ الْمُبْطِلِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ، أَوْ جِنْسِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، إِذِ الْجِنْسُ الْمُضَافُ يُفِيدُ الْعُمُومَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْمِفْتَاحِ صَرَّحَ بِأَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ لِتَنَاوُلِهِ وُحْدَانَ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْكُتُبِ، لَكِنْ حَقَّقَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ يَشْمَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِثْلُ الْمُفْرَدِ. قُلْتُ: وَلَوْ سَلِمَ، فَلَيْسَ شُمُولُ الْجَمْعِ مِثْلَ شُمُولِ الْمُفْرَدِ، ثُمَّ وُقُوعُ الْكِتَابِ فِي جَوَابِ (مَنْ) عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ (وَلِرَسُولِهِ) بِالتَّصْدِيقِ لِنُبُوَّتِهِ وَقَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ وَدَعَا إِلَيْهِ، وَبَذْلِ الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ وَإِيثَارِهِ بِالْمَحَبَّةِ فَوْقَ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَالْمُرَادُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْجِنْسُ لِيَشْمَلَ الْمَلَكَ أَيْضًا إِذْ هُمْ رُسُلٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1] ، وَقَالَ: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] ، (وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ) بِأَنْ يَنْقَادَ لِطَاعَتِهِمْ فِي الْحَقِّ، وَلَا يَخْرُجَ عَلَيْهِمْ إِذَا جَارُوا، وَيُذَكِّرَهُمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَيُعْلِمَهُمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَلِّفَ قُلُوبَ النَّاسِ لِطَاعَتِهِمْ، وَمِنَ النَّصِيحَةِ لَهُمْ: الصَّلَاةُ خَلْفَهُمْ وَالْجِهَادُ مَعَهُمْ وَأَدَاءُ الصَّدَقَاتِ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ لَا يُغْرِيَهُمْ بِالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ، هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَئِمَّةِ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُومُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلَايَةِ، وَمُجْمَلُ مَعْنَى الْإِمَامِ مَنْ لَهُ خِلَافَةُ الرَّسُولِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ

بِحَيْثُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى الْكُلِّ، وَقَدْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ، وَأَنَّ مِنْ نَصِيحَتِهِمْ قَبُولَ مَا رَوَوْهُ، وَتَقْلِيدَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِحْسَانَ الظَّنِّ بِهِمْ (وَعَامَّتِهِمْ) أَيْ: وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ تَرْكِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى حَطِّ مَرْتَبَتِهِمْ بِسَبَبِ تَبَعِيَّتِهِمْ لِلْخَوَاصِّ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْمُولَاتِ مُسْتَقِلٌّ فِي قَصْدِ النَّصِيحَةِ، ثُمَّ نَصِيحَةُ الْعَامَّةِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَإِعَانَتِهِمْ عَلَيْهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَسَدِّ خَلَّاتِهِمْ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ لَهُمْ، وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ بِرِفْقٍ، وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ وَرَحْمِ صَغِيرِهِمْ، وَتَخَوُّلِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَتَرْكِ غِيبَتِهِمْ وَحَسَدِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَمُجْمَلُهُ أَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الشَّرِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجُمَّاعُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ النَّصِيحَةَ هِيَ خُلُوصُ الْمَحَبَّةِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَالتَّحَرِّي فِيمَا يَسْتَدْعِيهِ حَقُّهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ نَفْسَهُ بِأَنْ يَنْصَحَهَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى طَرِيقَتِهَا مُتَدَارِكَةً لِلْفُرُطَاتِ مَاحِيَةً لِلسَّيِّئَاتِ، وَيَجْعَلَ قَلْبَهُ مَحَلًّا لِلنَّظَرِ وَالْفِكْرِ، وَرُوحَهُ مُسْتَقَرًّا لِلْمَحَبَّةِ، وَسِرَّهُ مَنَصًّا لِلْمُشَاهَدَةِ، وَعَلَى هَذَا أَعْمَالُ كُلِّ عُضْوٍ مِنَ الْعَيْنِ بِأَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْآيَاتِ النَّازِلَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، وَاللِّسَانِ عَلَى النُّطْقِ بِالْحَقِّ وَتَحَرِّي الصِّدْقِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ صَدْرَ الْحَدِيثِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُهُ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» ، عَنْ ثَوْبَانَ وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ أَحَدُ أَرْبَاعِ الْإِسْلَامِ أَيِ: الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَجْمَعُ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلِ الْمَدَارُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ أَنَّ النَّصِيحَةَ تُسَمَّى دِينًا وَإِسْلَامًا وَأَنَّ الدِّينَ يَقَعُ عَلَى الْعَمَلِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْقَوْلِ، وَقَالُوا: النَّصِيحَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَالنَّصِيحَةُ لَازِمَةٌ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ إِذَا عَلِمَ النَّاصِحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ نَصِيحَتُهُ وَيُطَاعُ أَمْرُهُ، وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَكْرُوهَ، وَإِنْ خَشِيَ أَذًى فَهُوَ فِي سِعَةٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

4967 - وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4967 - (وَعَنْ جَرِيرٍ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَهُوَ الْبَجَلِيُّ (قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ) أَيْ: إِقَامَتِهَا وَإِدَامَتِهَا وَحَذْفُ تَاءِ الْإِقَامَةِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ لِلْإِطَالَةِ (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أَيْ: إِعْطَائِهَا وَتَمْلِيكِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِكَوْنِهِمَا أُمَّيِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَهُمَا أَهَمُّ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَإِظْهَارِهَا. اهـ. لَا يُقَالُ لَعَلَّ غَيْرَهُمَا مِنَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَبَقَ فِي تَرْجَمَتِهِ ; وَلِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَمَنْ أَقَامَ عَلَى مُحَافَظَةِ الصَّلَوَاتِ وَمُدَاوَمَتِهَا، فَبِالْأَوْلَى أَنْ يُقِيمَ بِالصَّوْمِ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَهْلِ الزَّمَانِ، وَالْحَجِّ مُرَكَّبٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، فَمَنْ قَامَ بِهِمَا قَامَ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَمَحَلُّهُ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ لَهَا أَوْقَاتًا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ (وَالنُّصْحِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: وَبِالنَّصِيحَةِ (لِكُلِّ مُسْلِمٍ) أَيْ: مِنْ خَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ «أَنَّ جَرِيرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشْتُرِيَ لَهُ فَرَسٌ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ جَرِيرٌ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ: فَرَسُكَ خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَتَبِيعُهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ؟ قَالَ: ذَلِكَ إِلَيْكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَرَسُكَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ أَتَبِيعُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ؟ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَزِيدُهُ مِائَةً مِائَةً حَتَّى بَلَغَ ثَمَانِمِائَةٍ، فَاشْتَرَاهُ بِهَا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 4968 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 4968 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الصَّادِقَ) : أَيْ: فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ (الْمَصْدُوقَ) : أَيِ: الْمَشْهُودَ بِصِدْقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ الْمُظْهِرُ: الصَّادِقُ مَنْ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ، وَتَحَرَّاهُ بِفِعْلِهِ، وَالْمَصْدُوقُ مَنْ صَدَقَهُ غَيْرُهُ. اهـ. وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: صَدَقْتَ، وَأَمَّا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ فَالْمَفْعُولُ مِنْهُ مُصَدَّقٌ لَا مَصْدُوقٌ فَافْهَمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (يَقُولُ: لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَا تُسْلَبُ الشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ نَفْسُهُ الَّتِي هِيَ أَوْلَى بِالشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا، بَلْ فَائِدَةُ شَفَقَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ رَاجِعَةٌ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] ، وَلِأَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ سَبَبٌ لِرَحْمَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لِمَا سَيَأْتِي: أَنَّ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ. (إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ) : أَيْ: كَافِرٍ، أَوْ فَاجِرٍ يَتْعَبُ فِي الدُّنْيَا وَيُعَاقَبُ فِي الْعُقْبَى (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. قُلْتُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

4969 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4969 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ» ) : لِأَنَّهُمْ مَظَاهِرُهُ، وَمُتَخَلِّقُونَ بِأَخْلَاقِهِ (ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَتَى بِصِيغَةِ الْعُمُومِ ; لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ فَيَرْحَمَ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ وَالنَّاطِقَ وَالْبُهْمَ وَالْوُحُوشَ وَالطَّيْرَ اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِيرَادَ (مَنْ) لِتَغْلِيبِ ذَوِي الْعُقُولِ لِشَرَفِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ أَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ الْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ: (يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) : وَهُوَ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: مِنْ مُلْكِهِ الْوَاسِعِ وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ فِي السَّمَاءِ، أَوْ مَنْ أَمْرُهُ نَافِذٌ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَخَصَّ السَّمَاءَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُفْهَمُ بِالْأَوْلَى، أَوْ لِأَنَّ السَّمَاءَ مُحِيطَةٌ بِهَا وَهِيَ كَحَلَقَةٍ بِجَنْبِهَا فِي وَسَطِهَا فَلَا تُذْكَرُ مَعَهَا ; لِحَقَارَتِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ سَكَنَ فِيهَا وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا} [غافر: 7] الْآيَةَ. قَالَ الْمُظْهِرُ: اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: مَنْ فِي السَّمَاءِ، فَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَيِ: ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ شَفَقَةً يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ تَفَضُّلًا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ مُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَى السَّمَاءِ ; لِأَنَّهَا أَوْسَعُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ لِعُلُوِّهَا وَارْتِفَاعِهَا، أَوْ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ وَمَكَانُ الْأَرْوَاحِ الْقُدْسِيَّةِ الطَّاهِرَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ أَيْ: يَحْفَظْكُمُ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَالْمُؤْذِيَاتِ، بِأَمْرِ اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُوا لَكُمُ الرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ. قُلْتُ: الْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمُدَارُ عَلَيْهِ كَمَا أَشَارَ صَدْرُ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ رَحْمَةَ الْمَلَائِكَةِ فَرْعُ رَحْمَتِهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَزَادَ فِيهِ: " «الرَّحِمُ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ مَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ» " وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ اهـ. كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ. وَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الْمُسَلْسَلُ بِالْأَوَّلِيَّةِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَبَيَّنَّا طَرِيقَهُ فِي بَحْثِ الْمُسَلْسَلِ مِنْ شَرْحِنَا عَلَى شَرْحِ النُّخْبَةِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَادَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ: وَالرَّحِمُ إِلَخْ.

4970 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4970 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَّا) أَيْ: مِنْ خَوَاصِّنَا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّبْرِئَةِ: (مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ) : بِالْجَزْمِ وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَمْ يُوَقِّرْ أَيْ: لَمْ يُعَظِّمْ (كَبِيرَنَا) : وَهُوَ شَامِلٌ لِلشَّابِّ، وَالشَّيْخِ (وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ) : بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى الْمَجْزُومِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : وَهُوَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَأَمَّا إِثْبَاتُهُ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ رِوَايَةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهُ دِرَايَةٍ فَتَأَمَّلْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، لَكِنْ بِلَفْظٍ: " «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا» ".

4971 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا مِنْ أَجْلِ سِنِّهِ، إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ مَنْ يُكْرِمُهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4971 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَكْرَمَ) أَيْ: مَا أَعْظَمَ وَوَقَّرَ (شَابٌّ شَيْخًا مِنْ أَجْلِ سِنِّهِ) أَيْ: كِبَرِ عُمُرِهِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ وَعَمَلٍ مَعَ سَبْقِ إِيمَانِهِ، (إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] أَيْ قَدَرٌ (لَهُ) أَيْ: لِلشَّابِّ (عِنْدَ سِنِّهِ) أَيْ: حَالِ كِبَرِهِ (مَنْ يُكْرِمُهُ) أَيْ: قَرِينًا يُعَظِّمُهُ وَيَخْدِمُهُ ; لِأَنَّ مَنْ خَدَمَ خُدِمَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى طُولِ عُمُرِ الشَّابِّ الْمُعَظِّمِ لِلشَّيْخِ الْمُكَرَّمِ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُرِيدِينَ خَرَجَ مِنْ خُرَاسَانَ ; لِمُلَازِمَةِ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَاجْتَمَعَ لَهُ وَكَانَ مَعَهُ مُدَّةً، فَجَاءَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ ; لِزِيَارَةِ الشَّيْخِ، فَأَشَارَ الْمُرِيدُ أَنْ يُمْسِكَ دَوَابَّهُمْ، فَخَرَجَ الْمُرِيدُ إِلَى الْخِدْمَةِ، لَكِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّهُ مَعَ طُولِ مُدَّةِ السَّفَرِ وَاجْتِمَاعِهِ سِنِينَ مَعَ الشَّيْخِ فِي الْحَضَرِ هَذَا نَتِيجَتُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ الْأَكَابِرُ، وَدَخَلَ الْمُرِيدُ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ، فَقَالَ: يَا وَلَدِي! سَيَأْتِيكَ الْأَكَابِرُ وَيُقَدِّرُ اللَّهُ لَكَ مَنْ يَخْدِمُهُمْ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَنَدِيمٌ الْبَارِيُّ عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، نَفَعَنَا اللَّهُ مِنْ بَرَكَاتِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَكَانَ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ زَمَانٌ إِلَّا عَلَى بَابِهِ بَغْلٌ أَوْ فَرَسٌ ; لِكَثْرَةِ زِيَارَةِ الْأَكَابِرِ، هَذَا وَرَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِهَذَا الْمَنْصِبِ الْجَلِيلِ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِخِدْمَةِ الْحَبِيبِ وَعُمُرُهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَقَدْ أَطَالَ اللَّهُ عُمُرَهُ، وَأَكْثَرَ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، فَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ، وَوُلِدَ لَهُ مِائَةُ وَلَدٍ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

4972 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ، وَحَامِلُ الْقُرْآنِ غَيْرَ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامُ السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4972 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ) أَيْ: تَعْظِيمِهِ وَتَكْرِيمِهِ وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي، كَمَا هُوَ مُتَعَيَّنٌ فِي قَوْلِهِ: (إِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلُ الْقُرْآنِ) أَيْ: وَإِكْرَامُ قَارِئِهِ وَحَافِظِهِ وَمُفَسِّرِهِ (غَيْرَ الْغَالِي فِيهِ) : بِالْجَرِّ، أَيْ: غَيْرَ الْمُجَاوِرِ عَنِ الْحَدِّ لَفْظًا وَمَعْنًى كَالْمُوَسْوَسِينَ وَالشَّكَّاكِينَ أَوِ الْمُرَائِينَ أَوِ الْخَائِنِ فِي لَفْظِهِ بِتَحْرِيفِهِ كَأَكْثَرِ الْعَوَامِّ، بَلْ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوْ فِي مَعْنَاهُ بِتَأْوِيلِهِ الْبَاطِلَ كَسَائِرِ الْمُبْتَدِعَةِ. (وَلَا الْجَافِي عَنْهُ) ، أَيْ: وَغَيْرَ الْمُتَبَاعِدِ عَنْهُ الْمُعْرِضِ عَنْ تِلَاوَتِهِ، وَأَحْكَامِ قِرَاءَتِهِ، وَإِتْقَانِ مَعَانِيهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَقِيلَ: الْغُلُوُّ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّجْوِيدِ أَوِ الْإِسْرَاعُ فِي الْقِرَاءَةِ، بِحَيْثُ يَمْنَعُهُ عَنْ تَدَبُّرِ الْمَعْنَى، وَالْجَفَاءُ أَنْ يَتْرُكَهُ بَعْدَمَا عَلِمَهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ نَسِيَهُ، فَإِنَّهُ عُدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ. فِي النِّهَايَةِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ» ، أَيْ: تَعَاهَدُوهُ، وَلَا تَبْعُدُوا عَنْ تِلَاوَتِهِ بِأَنْ تَتْرُكُوا قِرَاءَتَهُ وَتَشْتَغِلُوا

بِتَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيلِهِ، وَلِذَا قِيلَ: اشْتَغِلْ بِالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُكَ عَنِ الْعَمَلِ، وَاشْتَغِلْ بِالْعَمَلِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُكَ عَنِ الْعِلْمِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مَذْمُومٌ وَالْمَحْمُودُ هُوَ الْوَسَطُ الْعَادِلُ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يَغْلِبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ خِلَافًا لِمَنْ كَانَ عَكْسُهُ، فَإِنَّ الْبُعْدَ عَنْهُ أَفْضَلُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَنْ قَالَ فِي هَذَا الزَّمَانِ سُلْطَانُنَا عَادِلٌ، فَهُوَ كَافِرٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ سُلْطَانٍ عَنْ نَوْعِ عَدْلٍ، وَتَحْقِيقُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يَعْدِلُ وَبَيْنَ الْعَادِلِ، فَإِنَّ الثَّانِيَ يُطْلَقُ عُرْفًا عَلَى مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْعَدْلِ عَلَى طَرِيقِ الدَّوَامِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ الْمُصَلِّي وَفُلَانٌ الَّذِي يُصَلِّي، هَذَا وُفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ طَاوُسٌ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُوَقِّرَ أَرْبَعَةً: الْعَالِمَ وَذَا الشَّيْبَةِ وَالسُّلْطَانَ وَالْوَالِدَ. قُلْتُ: وَفِي مَعْنَاهُ الْوَالِدَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَالِمِ: هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، كَمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: (حَامِلُ الْقُرْآنِ) . وَلَعَلَّ عَدَمَ ذِكْرِ الْوَالِدِ فِي الْحَدِيثِ لِظُهُورِهِ وَعُمُومِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَجَانِبِ، فَإِذَا كَانَ الْأَبُ شَيْخًا وَحَامِلًا لِلْقُرْآنِ وَسُلْطَانًا ظَاهِرِيًّا فَيَزْدَادُ إِجْلَالُهُ ; لِأَنَّهُ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ «مِنَ الْإِجْلَالِ تَوْقِيرُ الشَّيْخِ مِنْ أُمَّتِي» ، وَلَعَلَّهُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ يُطْلَقُ عَلَى ذِي الشَّيْبَةِ وَالْعَالِمِ وَالرَّئِيسِ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ: الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ.

4973 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4973 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَ بُيُوتِهِمْ (بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ) ، بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ) أَيْ: يُؤْذَى بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ ضَرْبَهُ لِلتَّأْدِيبِ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ جَائِزٌ، فَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْإِحْسَانِ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ إِسَاءَةٌ وَالْعَكْسُ عَكْسٌ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : زَادَ فِي الْجَامِعِ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا» ، وَقَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

4974 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلَّا لِلَّهِ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ، وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ " وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4974 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أَيِ: الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ) : وَكَذَا حُكْمُ الْيَتِيمَةِ، بَلْ هِيَ الْأَوْلَى بِالْحِنِّيَّةِ ; لِضَعْفِهَا، ثُمَّ التَّنْكِيرُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيَشْمَلُ الْقَرِيبَ، وَالْأَجْنَبِيَّ يَكُونُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ. (لَمْ يَمْسَحْهُ) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ مَسَحَ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ (إِلَّا لِلَّهِ) أَيْ: لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ (كَانَ لَهُ) أَيْ: لِلْمَاسِحِ (بِكُلِّ شَعْرَةٍ) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَيُفْتَحُ أَيْ: بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ (يَمُرُّ) : بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ مِنَ الْمُرُورِ أَيْ: يَأْتِي (عَلَيْهَا) : وَكَذَا حُكْمُ مُحَاذِيهَا (يَدُهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنَ الْإِمْرَارِ فَفَاعِلُهُ ضَمِيرُ الْمَاسِحِ وَيَدُهُ مَفْعُولُهُ (حَسَنَاتٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى اسْمِ كَانَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَسَنَاتِ مُخْتَلِفَةٌ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً بِاعْتِبَارِ تَحْسِينِ النِّيَّاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَسْحُ رَأْسِ الْيَتِيمِ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّفَقَةِ وَالتَّلَطُّفِ إِلَيْهِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْكِنَايَةُ مُنَافِيَةً لِإِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ وَتُرِيدُ طُولَ قَامَتِهِ، مَعَ طُولِ عَلَاقَةِ سَيْفِهِ رُتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ يَمُرُّ عَلَيْهِ يَدُهُ. (وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ) : قِيلَ: " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ وَقَدَّمَ الْيَتِيمَةَ ; لِأَنَّهَا أَحْوَجُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْيَتِيمِ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ، فَفِي هَذِهِ الْفِقْرَةِ جَبْرُ الْيَتِيمَةِ بِاللُّطْفِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُخَصَّ الْإِحْسَانُ بِالْإِنْعَامِ وَالْإِنْفَاقِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُغَايِرُ مَعْنَى مُطْلَقِ الْإِحْسَانِ الشَّامِلِ لِلْمَسْحِ، فَـ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ حِينَئِذٍ مَعَ احْتِمَالِ الشَّكِّ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ غَالِبًا يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَصْلٍ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى حِدَةٍ سَمِعَهُ الرَّاوِي، فَجَمَعَهُمَا فِي الْأَدَاءِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (عِنْدَهُ) : أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْيَتِيمُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ

(كُنْتُ أَنَا وَهُوَ) أَيِ: الْمُحْسِنُ وَأَتَى بِضَمِيرِ الْفَصْلِ، لِيَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ (فِي الْجَنَّةِ) : خَبَرُ كَانَ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ مُتَعَلِّقُهُ خَاصًّا يُوَافِقُ قَوْلَهُ: (كَهَاتَيْنِ) أَيْ: مُتَقَارِنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ اقْتِرَانًا مِثْلَ هَاتَيْنِ الْأُصْبُعَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَهَاتَيْنِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْخَبَرِ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرَ، وَفِي الْجَنَّةِ ظَرْفٌ لَكُنْتُ كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ (وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ) أَيِ: الْمِسْبَحَةُ وَالْوُسْطَى. وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «مَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمٍ أَوْ يَتِيمَةٍ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ» " رَوَاهُ الْحَكِيمُ عَنْ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " «مَنْ آوَى يَتِيمًا أَوْ يَتِيمَيْنِ، ثُمَّ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ» ".

4975 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ آوَى يَتِيمًا إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ أَلْبَتَّةَ، إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ. وَمَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ أَوْ مِثْلَهُنَّ مِنَ الْأَخَوَاتِ فَأَدَّبَهُنَّ وَرَحِمَهُنَّ حَتَّى يُغْنِيَهُنَّ اللَّهُ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاثْنَتَيْنِ؟ قَالَ: " أَوِ اثْنَتَيْنِ " حَتَّى لَوْ قَالُوا: أَوْ وَاحِدَةً؟ لَقَالَ: وَاحِدَةً " وَمَنْ أَذْهَبَ اللَّهُ بِكَرِيمَتَيْهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا كَرِيمَتَاهُ؟ قَالَ: " عَيْنَاهُ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4975 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ آوَى) : بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَيُقْصَرُ فَفِي النِّهَايَةِ: آوَى وَأَوَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمَقْصُورُ مِنْهُمَا لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ أَيْ ضَمَّ. (يَتِيمًا) : وَالْيَتِيمَةُ بِالْأُولَى أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ (إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ) أَيْ: سَوَاءٌ أَكَلَ مَعَهُ، أَمْ لَا وَالضَّمِيرَانِ لِمَنْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا لِلْيَتِيمِ، وَإِلَى بِمَعْنَى " مَعَ " فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّرْغِيبِ وَيُفْهَمُ الْأَوَّلُ بِالْأَوْلَى (أَوْجَبَ) : أَيْ أَثْبَتَ (اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ) ، أَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ (أَلْبَتَّةَ) ، أَيْ: إِيجَابًا قَاطِعًا بِلَا شَكٍّ وَشُبْهَةٍ (إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ) الْمُرَادُ مِنْهُ الشِّرْكُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَالَ شَارِحٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ أَيِ: الشِّرْكُ، وَقِيلَ مَظَالِمُ الْخَلْقِ. قُلْتُ: وَالْجَمْعُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْعِبَادِ لَا يُغْفَرُ بِمُجَرَّدِ ضَمِّ الْيَتِيمِ أَلْبَتَّةَ، مَعَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، نَعَمْ يَكُونُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، فَالتَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ أَوْ بِالِاسْتِحْلَالِ وَنَحْوِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ سَائِرَ الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تُغْفَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَمَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ) أَيْ: تَعَهَّدَهُنَّ وَقَامَ بِمُؤْنَتِهِنَّ (أَوْ مِثْلَهُنَّ) أَيْ: فِي الْعَدَدِ (مِنَ الْأَخَوَاتِ فَأَدَّبَهُنَّ) أَيِ: الْبَنَاتِ أَوِ الْأَخَوَاتِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَرَحَمَهُنَّ) أَيْ: أَشْفَقَ عَلَيْهِنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ (حَتَّى يُغْنِيَهُنَّ اللَّهُ) : إِمَّا بِمَالٍ، أَوْ بِزَوْجٍ أَوْ بِمَوْتٍ (أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوِ اثْنَتَيْنِ) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفُ تَلْقِينٍ أَيْ قُلْ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَلِذَلِكَ (قَالَ: أَوِ اثْنَتَيْنِ) : قُلْتُ: وَ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ أَوْ بِمَعْنَى " بَلْ " أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِلتَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ، وَكَأَنَّ الْحُكْمَ الْإِلَهِيَّ كَانَ عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا مُفَوَّضًا إِلَيْهِ فَاخْتَارَ الْأَكْثَرَ بِالذِّكْرِ تَرْغِيبًا، فَلَمَّا قِيلَ تَهْوِينًا لِلْأَمْرِ أَوِ اثْنَتَيْنِ قَالَ: أَوِ اثْنَتَيْنِ. (حَتَّى لَوْ قَالُوا) : أَيْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ (أَوْ وَاحِدَةً) ؟ بِالنَّصْبِ (فَقَالَ: وَاحِدَةً) أَيْ (أَوْ وَاحِدَةً) قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى غَايَةِ الْمُرَافَقَةِ أَيْ: لَمْ يَزَلْ يُوَافِقُهُ فِي التَّنَزُّلِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَوْ وَاحِدَةً لَوَافَقَهُ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ عَنْ حُكْمِ الثَّلَاثِ. وَقَالَ رَجُلٌ: أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ بِوَحْيٍ جَدِيدٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ حَتَّى لَوْ قَالُوا أَوْ وَاحِدَةً لَوَافَقَهُمْ بِنَاءً عَلَى عَادَةِ اللَّهِ الْجَارِيَةِ لِلْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ مِنْ كَمَالِ لُطْفِهِ وَكَرَمِهِ إِلَيْهِمْ بِبَرَكَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَظِيرُهُ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟» الْحَدِيثَ. اسْتَدْعَى أَنْ يَشْمَلَ الرَّحْمَةَ لِلْمُقَصِّرِينَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِالْتِمَاسُ التَّلْقِينِيُّ هُنَا ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا تُوجَدُ عِنْدَ شَخْصٍ ثَلَاثَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ فَيَصِيرُ مَحْرُومًا مِنَ الثَّوَابِ وَهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى تَحْصِيلِهِ مِنْ كُلِّ بَابٍ، كَمَا وَرَدَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ

وَلَدِهَا ثَلَاثَةً إِلَّا كُنَّ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ ". فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوِ اثْنَيْنِ فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ؟ ثُمَّ قَالَ: " وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنْ مُعَاذٍ: " «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يُتَوَفَّى لَهُمَا ثَلَاثَةٌ إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمَا " فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوِ اثْنَانِ؟ قَالَ: " أَوِ اثْنَانِ ". قَالُوا: " أَوْ وَاحِدٌ ". قَالَ: " أَوْ وَاحِدٌ» ". وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ، فَإِنَّا فَرَطُهُ ; فَإِنَّهُمْ لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي، وَحَاصِلُهُ أَنَّ حُكْمَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ كَذَلِكَ، لَكِنَّهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَدْنَى، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنْتٌ أَوْ أُخْتٌ فَلْيَتَعَهَّدْ يَتِيمَةً مِنَ الْأَقَارِبِ أَوِ الْأَجَانِبِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ. (وَمَنْ أَذْهَبَ اللَّهُ كَرِيمَتَيْهِ) أَيْ عَيْنَيْهِ، وَالْمُرَادُ نُورُهُمَا وَهُوَ بِأَنْ خُلِقَ أَكْمَهَ أَوْ حَدَثَ لَهُ فِي الصِّغَرِ أَوِ الْكِبَرِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: جَارِحَتَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ عَلَيْهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُكْرَمُ عَلَيْكَ فَهُوَ كَرِيمُكَ وَكَرِيمَتُكَ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْكَرِيمَانِ: الْحَجُّ وَالْجِهَادُ، وَمِنْهُ «خَيْرُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ بَيْنَ كَرِيمَيْنِ» ، أَوْ مَعْنَاهُ بَيْنَ فَرَسَيْنِ يَغْزُو عَلَيْهِمَا، أَوْ بَعِيرَانِ يَسْتَقِي عَلَيْهِمَا، وَأَبَوَانِ كَرِيمَانِ مُؤْمِنَانِ، وَكَرِيمَتُكَ ابْنَتُكَ، وَكُلُّ جَارِحَةٍ شَرِيفَةٍ كَالْأُذُنِ، وَالْكَرِيمَتَانِ: الْعَيْنَانِ اهـ. فَتَأَمَّلْ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: بِكَرِيمَتَيْهِ، فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِيهَا، لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى فَصَبَرَ عَلَى فَقْدِهِمَا وَشَكَرَ رَبَّهُ عَلَى سَائِرِ نِعَمِهِ. (وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) . وَفِي نُسْخَةٍ إِلَّا أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا كَرِيمَتَاهُ؟ قَالَ: عَيْنَاهُ) : وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ التَّثْنِيَةُ ; لِإِزَالَةِ كَمَالِ الثَّوَابِ وَإِلَّا فَقْدُ وَاحِدَةٍ أَيْضًا لَا يَخْلُو عَنِ الْمَثُوبَةِ (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوَيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ أَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِجُمْلَتِهِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ. وَرَوَاهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِتَمَامِهِ أَيْضًا إِلَّا قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ اهـ. فَالصَّوَابُ أَنْ يُنْسَبَ الْحَدِيثُ إِلَى الطَّبَرَانِيِّ فَيَتَوَجَّهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ فِي قُصُورِ تَتَبُّعِهِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «مَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِيهِ أَيْضًا: " «مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ كَانَ صَالِحًا» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

4976 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَنَاصِحٌ الرَّاوِي لَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِالْقَوِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4976 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ) أَيْ: وَاللَّهِ لَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ (وَلَدَهُ) أَيْ: تَأْدِيبًا وَاحِدًا لَيُلَائِمُ قَوْلَهُ: (خَيْرٌ لَهُ) أَيْ: لِلرَّجُلِ (مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ) . وَإِنَّمَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَاقِعٌ فِي مَحَلِّهِ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الثَّانِي ; فَإِنَّهُ تَحْتَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِفَادَةٌ عِلْمِيَّةٌ حَالِيَّةٌ، وَالثَّانِي عَمَلِيَّةٌ مَالِيَّةٌ، أَوْ لِأَنَّ أَثَرَ الثَّانِي سَرِيعُ الْفَنَاءِ، وَنَتِيجَةَ الْأَوَّلِ طَوِيلَةُ الْبَقَاءِ، أَوْ لِأَنَّ الرَّجُلَ بِتَرْكِ الْأَوَّلِ قَدْ يُعَاقَبُ، وَبِتَرْكِ الثَّانِي لَمْ يُعَاقَبْ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَنَاصِحٌ الرَّاوِي لَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِالْقَوِيِّ) . أَيْ: وَلَمْ يَعْرِفْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اهـ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ ضَعْفِهِ يَعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ إِجْمَاعًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْدِيبِ هُنَا تَعْلِيمُ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَرْفُوعًا " «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ» " وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي مِمَّا يَلِيهِ.

4977 - وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ مِنْ نُحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا عِنْدِي حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4977 - (وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى) أُمَوِيٌّ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ عَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ وَطَبَقَتِهِمَا، وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ وَكَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: مُوسَى بْنِ عَمْرٍو، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وُلِدَ عَامَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَحَدَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ لِعُثْمَانَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَغَزَا بِالنَّاسِ طَبَرِسْتَانَ فَافْتَتَحَهَا وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا نَحَلَ) أَيْ: مَا أَعْطَى (وَالِدٌ وَلَدَهُ مِنْ نُحْلٍ) : بِضَمِّ النُّونِ وَيُفْتَحُ أَيْ عَطِيَّةً أَوْ إِعْطَاءً، فَفِي النِّهَايَةِ: النَّحْلُ الْعَطِيَّةُ وَالْهِبَةُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا اسْتِحْقَاقٍ، يُقَالُ: نَحَلَهُ يَنْحَلُهُ نُحْلًا بِالضَّمِّ، وَالنِّحْلَةُ بِالْكَسْرِ الْعَطِيَّةُ. وَفِي الْقَامُوسِ: النِّحْلُ الشَّيْءُ الْمُعْطَى وَبِالضَّمِّ مَصْدَرُ نَحَلَهُ أَعْطَاهُ، وَالِاسْمُ النِّحْلَةُ بِالْكَسْرِ وَيُضَمُّ (أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ) . وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلْعُرْفِ الْمُوَافِقُ لِلشَّرْعِ قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ الْأَدَبَ الْحَسَنَ مَنْ جِنْسِ الْمَالِ وَالْعَطَيَاتِ مُبَالَغَةً، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْقَلْبَ السَّلِيمَ مَنْ جِنْسِ الْبَنِينَ وَالْمَالِ. فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] قُلْتُ وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ أَيْ: وَلَكِنَّ سَلَامَةَ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ تَنْفَعُهُ، أَوْ مُتَّصِلٌ وَالْمَعْنَى: الْآمَالُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ وَبَنُوهُ حَيْثُ أَنْفَقَ مَالَهُ مِنَ الْبِرِّ، وَأَرْشَدَ بَنِيهِ إِلَى الْحَقِّ، وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَالُ وَالْبَنُونَ أَيْ: لَا يَنْفَعُ غِنَى الْأَغْنِيَاءِ، هَذَا وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ الْمُبَالَغَةِ لَا فِي الْحَدِيثِ، وَلَا فِي الْآيَةِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّكَلُّفِ، فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ: الْأَدَبُ خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ، أَوِ الْبَشَرِ خَيْرٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ أَحْسَنٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى جَعْلِ أَحَدِهِمَا مِنْ جِنْسِ الْآخَرِ، إِذْ مَعْنَى الْكَلَامِ تَامٌّ بِدُونِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ عِنْدِي مُرْسَلٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: عِنْدِي يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ عَنْ جَدِّهِ يُوهِمُ الِاتِّصَالَ وَالْإِرْسَالَ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَدُّ أَيُّوبَ وَهُوَ عَمْرٌو، فَيَكُونُ مُرْسَلًا، وَأَنْ يَكُونَ جَدُّ أَبِيهِ وَهُوَ سَعِيدٌ صَحَابِيًّا، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَوَى الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ فِي تَارِيخِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُ جَدِّ أَيُّوبَ، فَوَافَقَ التِّرْمِذِيُّ الْبُخَارِيَّ وَقَالَ: هَذَا عِنْدِي مُرْسَلٌ. وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ حَيْثُ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ حَيْثُ قَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، هَذَا وَكَلَامُ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَمَاعُ جَدِّ أَيُّوبَ إِنْ أَرَادَ بِهِ جَدَّهُ الْكَبِيرَ، فَلَا يَضُرُّ الْحَدِيثَ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ جَدَّهُ بِلَا وَاسِطَةٍ فَهُوَ الْمُرْسَلُ الْمُتَعَارَفُ، لَكِنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

4978 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وَأَوْمَأَ يَزِيدُ بْنُ ذُرَيْعٍ إِلَى الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ " امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا، ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ، حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4978 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَيُفْتَحُ بِتَقْدِيرِ هِيَ أَوْ أَعْنِي أَيْ: مُتَغَيِّرَةُ لَوْنِ الْخَدَّيْنِ، لِمَا يُكَابِدُهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالضَّنْكِ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِاعْتِبَارِ غَالِبِ حَالِهَا لِيَصِحَّ الْإِطْلَاقُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: " «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ هَكَذَا» ". (كَهَاتَيْنِ) أَيْ: مِنَ الْأُصْبُعَيْنِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَوْمَأَ) : بِهَمْزٍ فِي آخِرِهِ مِنْ وَمَأَ إِلَيْهِ أَشَارَ كَأَوْمَأَ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مَادَّةُ وَمِ يَ فَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أُومِيَ بِالْيَاءِ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِالْإِبْدَالِ وَإِبْدَالُ الْقَامُوسِ الْهَمْزَ الْمُتَحَرِّكَ ضَعِيفٌ عِنْدَ قَوْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَشَارَ (يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) : بِضَمِّ زَايٍ وَفَتْحِ رَاءٍ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (إِلَى الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ) أَيْ: بَيَانًا لِهَاتَيْنِ (امْرَأَةٌ) أَيْ: هِيَ فَهِيَ خَبَرُهَا

مَحْذُوفُ (آمَتْ) : بِمَدِّ هَمْزَةٍ وَتَخْفِيفِ مِيمٍ أَيْ: صَارَتْ أَيِّمًا بِأَنْ فَارَقَتْ (مِنْ زَوْجِهَا) بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ (ذَاتُ مَنْصِبٍ) : بِكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: صَاحِبَةُ نِسَبٍ أَوْ حَسَبٍ (وَجَمَالٍ) أَيْ: كَمَالِ صُورَةٍ وَسِيرَةٍ فَهِيَ صِفَةٌ لِامْرَأَةٍ، وَأُرِيدَ بِهَا كَمَالُ الثَّوَابِ وَلَيْسَتْ لِلِاحْتِرَازِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا هَذِهِ مَعَ الصِّفَةِ الْمَرْغُوبَةِ الْمَطْلُوبَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ (حَبَسَتْ نَفْسَهَا) : فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ أَوْ صِفَةٌ أُخْرَى أَوْ حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ أَوْ بِدُونِهِ أَيْ: مَنَعَتْهَا عَنِ الزَّوَاجِ صَابِرَةً أَوْ شَفَقَةً (عَلَى يَتَامَاهَا) . وَقَالَ شَارِحٌ: أَيِ اشْتَغَلَتْ بِخِدْمَةِ الْأَوْلَادِ، وَعَمِلَتْ لَهُمْ، فَكَأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا أَيْ: وَقَفَتْ عَلَيْهِمْ وَفِي نُسْخَةٍ: عَلَى أَيْتَامِهَا (حَتَّى بَانُوا) أَيْ: إِلَى أَنْ كَبِرُوا وَحَصَلَتْ لَهُمُ الْإِبَانَةُ، أَوْ وَصَلُوا إِلَى مَرْتَبَةِ كَمَالِهِمْ، فَإِنَّ الْبَيْنَ مِنَ الْأَضْدَادِ بِمَعْنَى الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ حَتَّى فَضَلُوا، وَزَادُوا قُوَّةً وَعَقْلًا وَاسْتَقَلُّوا بِأَمْرِهِمْ مِنَ الْبَوْنِ وَهُوَ الْفَضْلُ وَالْمَزِيَّةُ (أَوْ مَاتُوا) أَيْ: أَوْ مَاتَتْ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: (امْرَأَةٌ آمَتْ) إِلَخْ بَدَلٌ مُجْرَى مَجْرَى الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ، وَآمَتِ الْمَرْأَةُ أَيْمَةً وَأُيُومًا إِذَا صَارَتْ بِلَا زَوْجٍ وَقَوْلُهُ: (حَتَّى بَانُوا) أَيِ اسْتَقَلُّوا بِأَمْرِهِمْ وَانْفَصَلُوا عَنْهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ فِي (امْرَأَةٌ) لِلتَّعْظِيمِ وَقَوْلُهُ (سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ) نُصِبَ أَوْ رُفِعَ عَلَى الْمَدْحِ وَهُوَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4979 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا، وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا - يَعْنِي الذُّكُورَ - أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4979 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى) أَيْ: بِنْتٌ أَوْ أُخْتٌ (فَلَمْ يَئِدْهَا) : عَلَى وَزْنِ يَعِدْهَا أَيْ: لَمْ يَدْفِنْهَا حَيَّةً كَمَا هُوَ عَادَةُ الْجَاهِلِيَّةِ ; لِلْفِرَارِ عَنِ الْفَقْرِ أَوِ الْعَارِ (وَلَمْ يُهِنْهَا) : مِنَ الْإِهَانَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ - يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 58 - 59] فَالْمَعْنَى: وَلَمْ يُمْسِكْهَا عَلَى هَوَانٍ وَمَذَلَّةٍ وَحَقَارَةٍ وَمَشَقَّةٍ (وَلَمْ يُؤْثِرْ) : مِنَ الْإِيثَارِ أَيْ: لَمْ يَخْتَرْ (وَلَدَهُ) أَيْ: صَبِيَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ (عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الْأُنْثَى، وَلَمَّا كَانَ الْوَلَدُ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الِابْنِ وَالْبِنْتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْوَلَدِ (الذُّكُورَ) . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ لِغَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ تَفْسِيرُ الْوَلَدِ بِالذُّكُورِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمُ جِنْسٍ، أَوِ الْجِنْسِيَّةُ هُنَا مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ الذَّكَرِ إِلَى الذُّكُورِ تَحَاشِيًا عَنْ ذِكْرِ الذَّكَرِ فَتَدَبَّرْ. (أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: مَعَ السَّابِقِينَ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي وَضْعِ الْأُنْثَى مَوْضِعَ الْبِنْتِ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهَا، كَمَا وُضِعَ الْوَلَدُ مَوْضِعَ مَكَانِ الِابْنِ تَعْظِيمًا لَهُ إِيذَانًا بِمُخَالِفَةٍ عَظِيمَةٍ لِهَوَى النَّفْسِ، وَإِيثَارِ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَاهُ، وَلِذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ دُخُولُ الْجَنَّةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

4980 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ فَنَصَرَهُ، نَصْرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ ; أَدْرَكَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4980 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنِ اغْتِيبَ) : يَجُوزُ كَسْرُ النُّونِ وَضَمِّهَا وَصَلًا أَيْ مِنْ تَكَلَّمٍ بِالْغِيبَةِ (عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ مَنْ (فَنَصَرَهُ) ، عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِ أَيْ: فَمَنَعَهُ وَدَفَعَهُ وَجَزَاؤُهُ (نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ، أَدْرَكَهُ اللَّهُ) أَيْ: عَاقَبَهُ (بِهِ) أَيْ: بِسَبَبِ عَدَمِ نَصْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ قُدْرَتِهِ (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : وَفَى سَنَدِهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدٌ يُقَوِّي بِهَا نَقْلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

4981 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْمَغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4981 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَيِ: ابْنُ السَّكَنِ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ذَبَّ) أَيْ: دَفَعَ (عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ) : كِنَايَةٌ عَنْ غَيْبَتِهِ عَلَى طِبْقِ الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى مَنْ دَفَعَ أَوْ مَنْ مَنَعَ مُغْتَابًا عَنْ غِيبَةِ أَخِيهِ (بِالْمَغِيبَةِ) أَيْ: فِي زَمَانِ كَوْنِ أَخِيهِ غَائِبًا وَهُوَ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ ذَبَّ عَنْ غَيْبَةِ أَخِيهِ فِي غَيْبَتِهِ، وَعَلَى هَذَا بِالْمَغِيبَةِ ظَرْفٌ، وَيَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ حَالًا، وَفِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْغَيْبَةَ كَأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ، بَلْ جَعَلَهَا كَلَحْمِ أَخِيهِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ نِفَارًا مِنْ لَحْمِ الْأَجَانِبِ، وَزَادَ فِي الْمُبَالَغَةِ حَيْثُ جَعَلَ الْأَخَ مَيْتًا. (كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ) أَيْ: ثَابِتًا عِنْدَهُ أَوْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ (أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ) . وَهُوَ إِمَّا فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ قَبْلَ دُخُولِهَا أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَةِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَفِي التَّصْحِيحِ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَمُحْيِي السُّنَّةِ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ. وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ نَقْلَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْمَغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقِيَهُ مِنَ النَّارِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ.

4982 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4982 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ» ) أَيْ: يَمْنَعُ عَنْ غَيْبَةِ أَخِيهِ مَثَلًا (إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ) أَيْ: يَصْرِفُ (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الرَّادِّ (نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِشْهَادًا، أَوْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ اعْتِضَادًا {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا إِلَخْ اسْتِشْهَادٌ لِقَوْلِهِ: إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ، وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسْلِمِ الذَّابِّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ أَتَى بِالْعَامِّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مِنْ سَبَقَ لَهُ الْكَلَامُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ لَوْ قِيلَ عَلَيْهِمْ لِمَوْقِعِ الْكِنَايَةِ اهـ. وَلَا خَفَاءَ أَنْ " مَا " فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ نَافِيَةٌ وَ " مِنْ " مَزِيدَةٌ ; لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ، فَالْحُكْمُ عَامٌّ شَامِلٌ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مِنْ سَبَقَ لَهُ الْكَلَامُ لِيَدْخُلَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَأَمَّا الْآيَةُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ حِكْمَةَ الْعُدُولِ عَنْ عَلَيْهِمْ إِلَى عَلَى الْكَافِرِينَ ; لِيَخْرُجَ مَنْ سَيُؤْمِنُ مِنْهُمْ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ غَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَنْبِيهِ نَبِيِّهِ عَلَى أَنَّ لَعْنَ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ غَيْرُ جَائِزٍ إِذَا كَانُوا قَوْمًا مَحْصُورِينَ ; لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْخَاتِمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُسْلِمِ وَالْمُؤْمِنِ وَاحِدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35] فَفِيهِ أَنَّ الصَّوَابَ كَوَّنَ مَفْهُومُهُمَا لُغَةً وَشَرِيعَةً مُتَغَايِرَيْنِ عَلَى مَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ تَغَايُرِ تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، نَعَمْ مَاصَدَقُهُمَا وَاحِدٌ فِي اعْتِبَارِ عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِحَيْثُ يُطْلِقُ كُلُّ مَوْضِعٍ الْآخَرَ ; لِأَنَّ انْقِيَادَ الظَّاهِرِ بِدُونِ انْقِيَادِ الْبَاطِنِ غَيْرٌ صَحِيحٍ، وَكَذَا الْعَكْسُ. فَلَا بُدَّ مِنْ تُحَقُّقِهِمَا، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ عَدَمُ انْقِيَادِ الظَّاهِرِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ تَرْكِهِ كَسَلًا وَإِعْرَاضًا، فَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا أَوْ قَتَلَ نَفْسًا غَيْرُ مُعْتَقِدٍ وُجُوبَ الْأَوَّلِ وَحُرْمَةَ الْآخَرِ كَانَ كَافِرًا، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْفَارِقُ بَيْنَ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَبَيْنَ مَشْرَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَالْبِدْعَةِ. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ التَّوْبِيخِ وَلَفْظُهُ قَالَ: «مَنْ ذَبَّ عَنْ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] » نَقْلَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَيْضًا بِلَفْظِ: " «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ» ".

4983 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4983 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَخْذُلُ» ) : بِضَمِّ الذَّالِ ( «امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَهَكُ» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُتَنَاوَلُ بِمَا لَا يَحِلُّ (فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (حُرْمَتُهُ) أَيِ: احْتِرَامُهُ وَبَعْضُ إِكْرَامِهِ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ حُرْمَتِهِ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الصَّوَابُ فِي الرِّوَايَةِ كَمَا تَقْتَضِي الدِّرَايَةُ مِنْ حُسِنِ الْمُقَابَلَةِ إِلَّا أَنَّ فِي الْجَامِعِ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مَنْ حُرْمَتِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ أَيْضًا هُوَ الْأَنْسَبُ ; لِيَكُونَ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْفِقْرَةِ الثَّانِيَةِ فَعَكَسَ فِي تَرْتِيبِ الْمِشْكَاةِ هُنَا بِقَوْلِهِ: (وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عَرْضِهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الِانْتِقَاصِ وَهُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ أَحَدٌ يَتْرُكُ نُصْرَةَ مُسْلِمٍ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ عِنْدَ حُضُورِ غَيْبَتِهِ أَوْ إِهَانَتِهِ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ قَتْلِهِ وَنَحْوِهَا. (إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ) أَيْ: ذَلِكَ الْخَاذِلُ (فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ (نُصْرَتَهُ) أَيْ: إِعَانَتَهُ سُبْحَانَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِمَوَاطِنِ الدُّنْيَا، وَمَوَاقِفِ الْآخِرَةِ. ( «وَمَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ مِنْ عَرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ» ) أَيْ: " فِيهِ " كَمَا فِي نُسْخَةٍ مُطَابِقَةٍ لِرِوَايَةِ الْجَامِعِ. (مِنْ حُرْمَتِهِ) أَيْ: مِنْ بَعْضِ احْتِرَامِهِ مِنْ لَوَازِمَ إِكْرَامِهِ (إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ) : فِيهِ تَفَنَّنَ بِالْعِبَارَةِ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِلَفْظِ: مَوْطِنٍ. (يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ) : وَلَعَلَّ هَذَا مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالضِّيَاءُ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَعْدٍ.

4984 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4984 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى عَوْرَةً» ) : وَهِيَ مَا يَكْرَهُ الْإِنْسَانُ ظُهُورَهُ، فَالْمَعْنَى مَنْ عَلِمَ عَيْبًا أَوْ أَمْرًا قَبِيحًا فِي مُسْلِمٍ (فَسَتَرَهَا) : أَوْ رَأَى عَوْرَةَ مُسْلِمٍ مَكْشُوفَةً فَسَتَرَهَا بِثَوْبِهِ أَوْ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: مَنْ رَأَى خَلَلًا مِنْ هَتْكِ سِتْرٍ أَوْ وَقْعٍ فِي عِرْضٍ وَنَحْوِهِمَا ; لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلُّ حَالُهُمْ عِنْدَهَا. (كَانَ كَمَنْ أَحْيَا) أَيْ: كَانَ ثَوَابُهُ كَثَوَابِ مَنْ أَحْيَا (مَوْءُودَةً) : بِأَنْ رَأَى أَحَدٌ أَحَدًا يُرِيدُ وَأْدَ بِنْتٍ فَمَنَعَ أَوْ سَعَى فِي خَلَاصِهَا وَلَوْ بِحِيلَةٍ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: بِأَنْ رَأَى حَيًّا مَدْفُونًا فِي قَبْرٍ فَأَخْرَجَ ذَلِكَ الْمَدْفُونَ مِنَ الْقَبْرِ كَيْلَا يَمُوتَ، وَوَجْهُ تَشْبِيهِ السَّتْرِ عَلَى عُيُوبِ النَّاسِ بِإِحْيَاءِ الْمَوْءُودَةِ أَنَّ مَنِ انْتَهَكَ سِتْرَةً يَكُونُ مِنَ الْخَجَالَةِ كَمَيِّتٍ إِذْ يُحِبُّ الْمَوْتَ مِنْهَا، فَإِذَا سَتَرَ أَحَدٌ عَلَى عَيْبِهِ، فَقَدْ دَفَعَ عَنْهُ الْخَجَالَةَ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ اهـ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَجْهُ الْمُشَابَهَةِ هُوَ الْمُنَاسَبَةُ الضِّدِّيَّةُ، فَإِنَّ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ ضِدُّهُ، وَالْمَعْنَى مَنْ سَتَرَ مَا شَرَعَ اللَّهُ سَتْرَهُ كَانَ كَمَنْ رَفَعَ السِّتْرَ عَمَّا لَمْ يُشْرَعْ سِتْرُهُ، أَوْ وَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ إِصْلَاحُ الْفَسَادِ فِي الْقَرِينَتَيْنِ فَلَا إِشْكَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ يَعْنِي مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فَقَدِ ارْتَكَبَ أَمْرًا عَظِيمًا كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً، فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَيَدُلُّ عَلَى فَخَامَةِ تِلْكَ الشَّنْعَاءِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] الْكَشَّافُ: فِيهِ تَعْظِيمُ قَتْلِ النَّفْسِ وَإِحْيَائِهَا فِي الْقُلُوبِ ; لِيَسْتَمِرَّ النَّاسُ عَلَى الْجَسَارَةِ عَلَيْهَا، وَيَتَرَاغَبُوا فِي الْمُحَامَاةِ عَلَى حُرْمَتِهَا ; لِأَنَّ الْمُتَعَرِّضَ لِقَتْلِ النَّفْسِ إِذَا تَصَوَّرَ قَتْلَهَا بِصُورَةِ قَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَثَبَّطَهُ، وَكَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ إِحْيَاءَهَا اهـ كَلَامُهُ. فَكَذَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتُرَ عَيْبَ مُؤْمِنٍ وَعِرْضَهُ إِذَا تَصَوَّرَ أَنَّهُ إِحْيَاءُ الْمَوْءُودَةِ عَظُمَ عِنْدَهُ سَتْرُ عَوْرَةِ الْمُؤْمِنِ، فَيَتَحَرَّى فِيهِ وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ. قُلْتُ: وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِيهِ اعْتِبَارُ وَجْهِ الشَّبَهِ فِيمَا سَبَقَ، نَعَمْ فِي الْآيَةِ لَمَّا عَظُمَ عَلَى صَاحِبِ الْكَشَّافِ وَجْهُ شَبَهِ قَتْلِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِقَتْلِ الْأَنْفُسِ جَمِيعِهَا، وَكَذَا إِحْيَاؤُهَا بِإِحْيَائِهَا اعْتُبِرَ مَعْنَى الْعَظَمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ لِلْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، مَعَ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَعَانِيَ أُخَرَ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الْكَشَّافِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ: مَنِ اسْتَحَلَّ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحَلَّ دِمَاءَ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ نَفْسٍ وَنَفْسٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا كَمَا لَوْ قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ وَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْجَمِيعَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، أَوْ كَمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وِزْرًا وَإِثْمًا، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَهُوَ تَعْظِيمٌ لِلْقَتْلِ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا مِنْ حَيْثُ أَنَّ قَتْلَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ سَوَاءٌ فِي اسْتِجْلَابِ غَصْبِ اللَّهِ وَالْعَذَابِ الْعَظِيمِ أَيْ: فِي أَصْلِ الِاسْتِجْلَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) . وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ أَنَّهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِيهِ قِصَّةٌ وَقَدْ جَاءَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ.

4985 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ، فَإِنْ رَأَى بِهِ أَذًى فَلْيُمِطْ عَنْهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِأَبِي دَاوُدَ: " «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4985 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ» ) ، بِكَسْرِ مِيمٍ وَمَدِّ هَمْزٍ أَيْ: آلَةٌ لِإِرَاءَةِ مَحَاسِنِ أَخِيهِ وَمَعَايِبِهِ، لَكِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّ النَّصِيحَةَ فِي الْمَلَأِ فَضِيحَةٌ، وَأَيْضًا هُوَ يَرَى مِنْ أَخِيهِ مَا لَا يَرَاهُ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا يُرْسَمُ فِي الْمِرْآةِ مَا هُوَ مُخْتَفٍ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَرَاهُ فِيهَا أَيْ: إِنَّمَا يَعْلَمُ الشَّخْصُ عَيْبَ نَفْسِهِ بِإِعْلَامِ أَخِيهِ كَمَا يَعْلَمُ خَلَلَ وَجْهِهِ بِالنَّظَرِ فِي الْمِرْآةِ (فَإِنْ رَأَى) أَيْ: أَحَدُكُمْ (بِهِ) أَيْ: بِأَخِيهِ (أَذًى) أَيْ: عَيْبًا مِمَّا يُؤْذِيهِ أَوْ يُؤْذِي غَيْرَهُ (فَلْيُمِطْ) أَيْ: فَلْيُمِطْهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنَ الْإِمَاطَةِ، وَالْمَعْنَى فَلْيُزِلْ ذَلِكَ الْأَذَى (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَخِيهِ إِمَّا بِإِعْلَامِهِ حَتَّى يَتْرُكَهُ أَوْ بِالدُّعَاءِ لَهُ حَتَّى يُرْفَعَ عَنْهُ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلٍ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ بِعُيُوبِ نَفْسِي، وَفِي إِتْيَانِهِ - بِصِيغَةِ الْجَمْعِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّفْسَ مَعْدِنُ الْعُيُوبِ وَمَنْبَعُهَا وَلِذَا قِيلَ: وُجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قِيلَ أَيِ: الْمُؤْمِنُ فِي إِرَاءَةِ عَيْبِ أَخِيهِ كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ الَّتِي تَحْكِي كُلَّ مَا يُرْسَمُ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، وَلَوْ كَانَ أَدْنَى شَيْءٍ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا نَظَرَ إِلَى أَخِيهِ يَسْتَشِفُّ مِنْ وَرَاءِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ تَعْرِيفَاتٍ وَتَلْوِيحَاتٍ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ، فَأَيُّ وَقْتٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجْتَمِعِينَ فِي عَقْدِ الْأُخُوَّةِ عَيْبٌ فَادِحٌ فِي أُخُوَّتِهِ نَافِرُوهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِظُهُورِ النَّفْسِ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الْوَقْتِ، فَعَلِمُوا مِنْهُ خُرُوجَهُ بِذَلِكَ عَنْ دَائِرَةِ الْجَمْعِيَّةِ فَنَافَرُوهُ ; لِيَعُودَ إِلَى دَائِرَةِ الْجَمْعِيَّةِ، قَالَ رُوَيْمٌ: لَا يَزَالُ الصُّوفِيَّةُ بِخَيْرٍ مَا تَنَافَرُوا، فَإِذَا اصْطَلَحُوا هَلَكُوا، وَهَذَا إِشَارَةٌ

إِلَى حُسْنٍ تَفَقُّدِ بَعْضِهِمْ أَحْوَالَ الْبَعْضِ إِشْفَاقًا مِنْ ظُهُورِ النَّفْسِ، يَقُولُ: إِذَا اصْطَلَحُوا وَرُفِعَ التَّنَافُرُ بَيْنَهُمْ يُخَافُ أَنْ يُخَامِرَ الْبَوَاطِنَ الْمُسَاهَلَةُ وَالْمِرْآةُ، وَمُسَامَحَةُ الْبَعْضِ الْبَعْضِ فِي إِهْمَالِ دَقِيقِ آدَابِهِمْ، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ النُّفُوسُ وَتَتَوَلَّى، وَتَصْدَأُ مِرْآةُ الْقَلْبِ، فَلَا يُرَى فِيهَا الْخَلَلُ وَالْعَيْبُ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَجْلِسٍ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ تَرَخَّصْتُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَاذَا كُنْتُمْ فَاعِلِينَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟ فَلَمْ يُجِيبُوا. قَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَوَّمْنَاكَ تَقْوِيمَ الْقَدَحِ. قَالَ عُمَرُ: أَنْتُمْ إِذًا أَنْتُمْ كَذَا فِي كِتَابِ الْعَوَارِفِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِأَبِي دَاوُدَ) : وَكَذَا لِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ ( «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ» ) ، أَيْ: يَمْنَعُ عَنْ أَخِيهِ تَلَفَهُ وَخُسْرَانَهُ، فَهُوَ مَرَّةٌ مِنَ الضَّيَاعِ، وَقِيلَ ضَيْعَةُ الرَّجُلِ مَا يَكُونُ مِنْهُ مَعَاشُهُ أَيْ: يَجْمَعُ عَلَيْهِ مَعِيشَتَهُ. (وَيَحُوطُهُ) أَيْ: يَحْفَظُهُ وَيُخَصِّرُهُ وَيَضُمُّهُ إِلَيْهِ (مِنْ وَرَائِهِ) أَيْ: فِي غَيْبَتِهِ نَفْسًا وَمَالًا وَعِرْضًا بِأَنْ لَا يَسْكُتَ إِذَا اغْتِيبَ عِنْدَهُ وَقَدَرَ عَلَى دَفْعِهِ، هَذَا وَصَدْرُ الْحَدِيثِ هُوَ قَوْلُهُ: (الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ) حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ أَيْضًا. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ. وَلِلطَّائِفَةِ الصُّوفِيَّةِ الصَّفِيَّةِ تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ حَيْثُ تَصْوِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْكَثْرَةِ وَالْوَحْدَةِ تَارَةً بِوُجُودِ مِرْآةٍ وَاحِدَةٍ وَمِرَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَتَارَةً بِالْعَكْسِ فِي الِانْعِكَاسِ، وَجَعَلُوا أَحَدَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَارَةً عَنِ الْمُؤْمِنِ الْمُهَيْمِنِ الْمُتَعَالِ، وَهُوَ تِمْثَالٌ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَالصِّفَةُ الْأَعْلَى مِنْ حُجَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى تَنْزِيهِ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ مِنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ، وَالطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ. وَمِنْ حَيْثِيَّةِ كَوْنِ الْمِرْآةِ مَظْهَرًا وَمَظْهَرَ الْمُتَعَالِي عَنِ الْمَحْلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَالِانْفِصَالِ وَالِاتِّصَالِ خِلَافُ مَا تَصَوَّرَهُ أَهْلُ الضَّلَالِ، وَأَيْضًا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَجَلِّيَّاتِ الظُّهُورِ الرَّبَّانِيِّ، وَتَجَلِّيَّاتِ الْعَوَارِفِ الصَّمَدَانِيِّ إِنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ صَفَاءِ الْمِرْآةِ عَنْ صَدَاءِ الذُّنُوبِ، وَتَجَلِّيَّاتِ الشَّهَوَاتِ وَسَائِرِ الْعُيُوبِ مِمَّا يَحْجِبُ الْقُلُوبَ عَنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ الرَّائِي مُتَوَجِّهًا إِلَى مِرْآةِ الْقَلْبِ لَا مُعْرِضًا عَنْهَا، وَإِلَّا فَيَكُونُ وَجْهُ الْمِرْآةِ وَقَفَاؤُهَا مُسْتَوِيَيْنِ عِنْدَهُ، وَكَذَا إِذَا تَرَاكَمَ الصَّدَأُ وَالرَّيْنُ وَارْتَفَعَ الْعَيْنُ بِسَبَبِ الْغَيْنِ، فَيَكُونُ مَحْجُوبًا فِي الْبَيْنِ، فَانْظُرِ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَإِنَّهُ بَوْنٌ بَيِّنٌ، وَلِذَا قَالَ نَدِيمُ الْبَارِيِّ خَوَاجَهْ عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَمَقَامَاتِ الطَّائِرِينَ: آهْ آهْ مِنْ تَفَاوُتِ سَالِكِي طَرِيقِ الْإِلَهِ، مَعَ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ حَدِيدٍ وَاحِدٍ فِي كَيْرٍ وَارِدٍ، فَيُصَاغُ مِنْ قِطْعَةِ مِرْآةٍ يَرَى بِهَا وَجْهَهُ الْمَحْبُوبَ، وَيُصْنَعُ مِنْ أُخْرَى نَعْلٌ يُوضَعُ تَحْتَ رِجْلِ الْمَرْكُوبِ مُشِيرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] أَيِ: الْكَافِرُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْغَفْلَةِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ فِي مَرْتَبَةِ الْحُضُورِ دَائِمًا كَالْأَنْبِيَاءِ، أَوْ غَالِبًا كَالْأَوْلِيَاءِ، وَتَارَةً كَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، فَإِنَّ الْغَفْلَةَ كُفْرٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي شَرْحِ حِزْبِ الْفَتْحِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّرِيَّ، هَذَا وَكَانَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ أَرَادَ بِأَحَدِهِمَا مِثْلَ آدَمَ وَمُوسَى وَالْخَاتَمَ، وَبِالْآخَرِ: إِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَأَبَا جَهْلٍ، لَكِنْ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ نَبِيُّنَا الرَّئِيسُ بِمُقَابَلَةِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا أَعْظَمُ مَظَاهِرِ الْجَمَالِ وَإِبْلِيسَ أَقْوَى مَظَاهِرِ الْجَلَالِ، وَكَذَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُتَابَعَتِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ وَالنَّارِ وَالْعِقَابِ، وَأَبُو جَهْلٍ يُقَابَلُ بِآدَمَ الَّذِي هُوَ أَبُو الْعِلْمِ، وَلِكُلِّ فِرْعَوْنَ مُوسَى، وَهُنَا يُفْتَحُ أَبْوَابُ بَحْثِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَيَدْخُلُ أَسْبَابُ التَّحَيُّرِ فِي أَمْرِ الْقُوَى وَالْقَدْرِ، وَالْجَوَابُ الْمُحَمَّدِيُّ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، ثُمَّ هَذَانِ الْأَمْرَانِ لِاقْتِضَاءِ صِفَتَيِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ مِنْ صَاحِبِ الْكَمَالِ، وَبَسْطِهِمَا يُوجِبُ كَلَالَ أَرْبَابِ الْمِلَالِ، مَعَ أَنَّهُ غَايَةُ ذَوْقِ أَصْحَابِ الْحَالِ، فَقَدْ مَزَجْتُ لَكَ الْإِشَارَةَ الصُّوفِيَّةَ الْبَاطِنِيَّةَ بِالْعِبَارَةِ الْعِلْمِيَّةِ الظَّاهِرِيَّةِ، لَعَلَّكَ تَعْتَرِفُ بِالْجَهْلِ مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَتَغْتَرِفُ بِالْعِلْمِ مِنْ هَذَا الْمَشْرَبِ، وَلَوْ كَانَ مَمْزُوجًا لِعَدَمِ حُصُولِهِ صَرْفًا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ وَبُرْهَانُهُ حَيْثُ قَالَ: " {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين: 22] " إِلَى أَنْ قَالَ: " {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ - خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ - وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ - عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 25 - 28] " وَقَدْ قَالَ الْعَارِفُ ابْنِ الْفَارِضِ: عَلَيْكَ بِهَا صَرْفًا وَإِنْ شِئْتَ مَزْجَهَا ... فَعَدْلُكَ عَنْ ظُلْمِ الْحَبِيبِ هُوَ الظُّلْمُ أَذَاقَنَا اللَّهُ مِنْ كَأْسِ مَشْرَبِهِمْ، وَرَزَقَنَا سُلُوكَ مَذْهَبِهِمْ وَحُسْنَ مَطْلَبِهِمْ.

4986 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ بِهِ شَيْنَهُ حَبْسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4986 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَيِ: الْجُهَنِيِّ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ سَهْلٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَمَى) أَيْ: حَرَسَ (مُؤْمِنًا) أَيْ: عِرْضَهُ (مِنْ مُنَافِقٍ) أَيْ: مُغْتَابٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُنَافِقًا ; لِأَنَّهُ لَا يُظْهِرُ عَيْبَ أَخِيهِ عِنْدَهُ لِيَتَدَارَكَ، بَلْ يُظْهِرُ عِنْدَ خِلَافِ ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ النَّصِيحَةَ وَيُبْطِنُ الْفَضِيحَةَ. (بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ) أَيْ: لَحْمَ حَامِي الْمُؤْمِنِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَمَنْ رَمَى) أَيْ: قَذَفَ (مُسْلِمًا) : فِيهِ تَفَنُّنٌ لِإِشْعَارٍ بِصِحَّةِ إِطْلَاقِ كُلِّ مَوْضِعٍ الْآخَرَ (بِشَيْءٍ) أَيْ: مِنَ الْعُيُوبِ (يُرِيدُ بِهِ شَيْنَهُ) أَيْ: غَيْبَهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّنْ يُرِيدُ بِهِ زَجْرَهُ، أَوِ احْتِرَاسِ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمُجَوَّزَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. (حَبَسَهُ اللَّهُ) أَيْ: وَقَّفَهُ (عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ) : وَهُوَ صِرَاطٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهَا أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ (حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ) أَيْ: مِنْ عُهْدَتِهِ، وَالْمَعْنَى حَتَّى يُنَقَّى مِنْ ذَنْبِهِ ذَلِكَ بِإِرْضَاءِ خَصْمِهِ أَوْ بِشَفَاعَةٍ أَوْ بِتَعْذِيبِهِ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . أَيْ: مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

4987 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4987 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الْأَصْحَابِ» ) أَيْ: أَكْثَرُهُمْ ثَوَابًا (عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ: فِي حُكْمِهِ الَّذِي هُوَ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْكُلِّ (خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ) أَيْ: أَكْثَرُهُمْ إِحْسَانًا وَلَوْ بِالنَّصِيحَةِ ( «وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» ) أَيْ: وَلَوْ بِرَفْعِ الْأَذَى عَنْهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارُقُطْنِيُّ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ( «خَيْرُ الْأَصْحَابِ صَاحِبٌ إِذَا ذَكَرْتَ اللَّهَ أَعَانَكَ، وَإِنْ نَسِيتَ ذَكَّرَكَ» ) . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْإِخْوَانِ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا.

4988 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إِذَا أَحْسَنْتُ أَوْ إِذَا أَسَأْتُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا سَمِعْتَ جِيرَانَكَ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنْتَ؟ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4988 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ لِي أَنْ أَعْرِفَ إِذَا أَحْسَنْتُ أَوْ إِذَا أَسَأْتُ» ) ؟ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ بِمَعْنَى أَوْ، وَالْمَعْنَى كَيْفَ يَحْصُلُ لِي الْعِلْمُ بِإِحْسَانِي أَوْ إِسَاءَتِي إِذَا صَدَرَ مِنْ عَمَلٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ شَرْعًا (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَمِعْتَ جِيرَانَكَ) أَيْ: جَمِيعَهُمْ لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الضَّلَالَةِ غَالِبًا (يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَلْسِنَةَ الْخَلْقِ أَقْلَامُ الْحَقِّ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُ ابْنِ مَاجَهْ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا شَيْخَهُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى قَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ، كَذَا فِي التَّصْحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ كُلْثُومَ الْخُزَاعِيِّ.

4989 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4989 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَنْزِلُوا النَّاسَ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِنْزَالِ وَقَوْلُهُ: (مَنَازِلَهُمْ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ قِيلَ: أَيْ: مَقَامَاتِهِمُ الْمُعَيَّنَةِ الْمَعْلُومَةِ لَهُمْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ: " {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] " وَلِكُلِّ أَحَدٍ مَرْتَبَةٌ وَمَنْزِلَةٌ لَا يَتَخَطَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَالْوَضِيعُ لَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الشَّرِيفِ، وَلَا الشَّرِيفُ فِي مَنْزِلِ الْوَضِيعِ، فَاحْفَظُوا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَنْزِلَتَهُ، وَلَا تُسَوُّوا بَيْنَ الْخَادِمِ وَالْمَخْدُومِ، وَالسَّائِدِ وَالْمُسَوَّدِ، وَأَكْرِمُوا كُلًّا عَلَى حَسَبِ فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: " {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] " وَهَذَا الْحَدِيثُ مَبْدَأُ فَهْمِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفَاضُلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَكِ وَتَفْضِيلِ الْخُلَفَاءِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْمَبَاحِثِ كَمَا أَنَّهُ مَنْشَأُهُمُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْأَغْبِيَاءَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي مَجَالِسِ الْحَوَادِثِ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، وَفَهِمَ كُلُّ فَرِيقٍ مَذْهَبَهُمْ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ شُعَيْبَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ: مَيْمُونُ بْنُ شُعَيْبَ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ اهـ. وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: مَيْمُونٌ عَنْ عَائِشَةَ مُتَّصِلٌ؟ قَالَ: لَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ، فَالِاعْتِرَاضُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، وَكَذَا عَلَى صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ فِي غَفْلَةِ الْأَوَّلِ بِإِيرَادِهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، وَفِي تَقْصِيرِ الثَّانِي بِقُصُورِ التَّتَبُّعِ، بَلْ وَعَلَى صَاحِبِ التَّصْحِيحِ إِنْ كَانَ نَقْلُ الْجَامِعِ هُوَ الصَّحِيحَ، هَذَا وَرَوَاهُ الْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بِلَفْظِ: «أَنْزِلِ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَحْسِنْ أَدَبَهُمْ عَلَى الْأَخْلَاقِ الصَّالِحَةِ» .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4990 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي قُرَادٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ يَوْمًا، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟ " قَالُوا: حَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَوْ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلْيُصَدِّقْ حَدِيثَهُ إِذَا حَدَّثَ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا أُؤْتُمِنَ، وَلِيُحْسِنَ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 4990 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي قُرَادٍ) بِضَمِّ الْقَافِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: صَحَابِيٌّ أَسْلَمِيٌّ، يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، رَوَى عَنْهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَطْمِيُّ وَغَيْرُهُ. ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ يَوْمًا، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمْسَحُونَ بِوَضُوئِهِ» ) ، بِفَتْحِ الْوَاوِ وَأَبْعَدَ مَنْ ضَمَّهَا وَقَدَرِ الْمَاءِ (فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟) أَيِ: التَّمَسُّحِ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ الْوَاضِحِ عِنْدَهُ أَنَّهُ لِلتَّبَرُّكِ النَّاشِئِ عَنْ حُسْنِ الِاعْتِقَادِ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالسُّؤَالُ لِإِظْهَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجَوَابِ. (قَالُوا: حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيِ: الْحَامِلُ أَوْ حَمَلَنَا، (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ (أَوْ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَيُحْتَمَلُ شَكُّ الرَّاوِي (فَلْيُصَدِّقْ) : بِضَمِّ الدَّالِ (حَدِيثَهُ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: فِي حَدِيثِهِ فَفِي الْقَامُوسِ: الصِّدْقُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ ضِدُّ الْكَذِبِ، أَوْ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ، وَصَدَقَ فِي الْحَدِيثِ وَصَدَّقَ فُلَانًا الْحَدِيثَ أَوِ الْقِتَالَ، وَصَدَّقَهُ تَصْدِيقًا ضِدُّ كَذَّبَهُ. (إِذَا حَدَّثَ) ، أَيْ: مَتَى تَكَلَّمَ وَتَحَدَّثَ ( «وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا أُؤْتُمِنَ» ) بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبَدَّلُ أَلِفًا حَالَ الْوَصْلِ، وَهُوَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَيُكْتَبُ بِالْوَاوِ ; لِأَنَّ حَالَةَ الِابْتِدَاءِ بِهِ بَعْدَ الْوَقْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ يَجِبْ قَلْبُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَاوًا، وَلَا يَغُرَّكَ كِتَابَتُهُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ إِذَا ائْتَمَنَ بِالْيَاءِ، فَإِنَّهُ نَشَأَ مِنْ قِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الرَّسْمِ وَآدَابِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ، وَهُوَ عِلْمٌ مُسْتَقِلٌّ، بَلْ عِلْمَانِ غَيْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الصَّرْفِيَّةِ وَالنَّحْوِيَّةِ، وَسَائِرِ عُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي أُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] (وَلِيُحْسِنْ) : مِنَ الْإِحْسَانِ أَيْ: لِيُكْرِمْ (جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ) . بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: مُجَاوَرَةَ جِيرَانِهِ، وَمُعَاشَرَةَ أَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَضْدَادَهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِينَ، فَالْمَدَارُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْبَاطِنَةِ دُونَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ هِمَّتِهِمْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالْمُخَالِفُ وَالْمُوَافِقُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: يُرِيدُ أَنَّ ادِّعَاءَكُمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ، وَمَحَبَّةَ رَسُولِهِ لَا يَتِمُّ، وَلَا يَسْتَتِبُّ بِمَسْحِ الْوَضُوءِ فَقَطْ، بَلْ بِالصِّدْقِ فِي الْمَقَالِ، وَبِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ.

4991 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ» ". رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4991 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَيْسَ الْمُؤْمِنُ) أَيِ: الْكَامِلُ (بِالَّذِي) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ قَدْ تَدْخُلُ فِي خَبَرِ لَيْسَ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ الَّذِي (يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ) الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَشْبَعُ أَيْ: وَهُوَ عَالِمٌ بِحَالِ اضْطِرَارِهِ، وَقِلَّةِ اقْتِدَارِهِ، وَفِي ذِكْرِ الْجَنْبِ إِشْعَارٌ بِكَمَالِ غَفْلَتِهِ عَنْ تَعَهُّدِ جَارِهِ (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَالْأَوَّلُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالثَّانِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

4992 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلَانَةً تُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: " هِيَ فِي النَّارِ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّ فُلَانَةً تُذْكَرُ قِلَّةَ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي بِلِسَانِهَا جِيرَانَهَا قَالَ: " هِيَ فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4992 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلَانَةً) : بِفَتْحِ آخِرِهَا وَهَى كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِ امْرَأَةٍ (تُذْكَرُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُسْنَدٍ إِلَى ضَمِيرِ " فُلَانَةً "، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تُذْكَرُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِطَرِيقِ الشُّهْرَةِ (مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا) أَيْ: مِنْ أَجْلِ هَذِهِ النَّوَافِلِ، وَ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (تُذْكَرُ) (غَيْرَ أَنَّهَا) أَيْ: إِلَّا أَنَّهَا (تُؤْذِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ يَعْنِي لَكِنْ تُؤْذِي (جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا) . وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّقْيِيدِ بِاللِّسَانِ أَنَّهُ أَغْلَبُ مَا يُؤْذَى بِهِ وَأَقْوَى مَا يَتَأَذَّى لَهُ الْإِنْسَانُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: جِرَاحَاتُ السِّنَّانِ لَهَا الْتِئَامُ ... وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ (قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ) . أَيْ: لِارْتِكَابِ النَّفْلِ الْمُبَاحِ تَرْكُهُ وَاكْتِسَابِ الْأَذَى الْمُحَرَّمِ فِي الشَّرْعِ، وَفِي نَظِيرِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَاقِعُونَ حَتَّى عِنْدَ دُخُولِ الْبَيْتِ الشَّرِيفِ، وَاسْتِلَامِ الرُّكْنِ الْمُنِيفِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عَمَلُ الظَّلَمَةِ مِنْ جَمْعِ مَالِ الْحَرَامِ وَصَرْفِهِ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ. (قَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلَانَةً) أَيْ: غَيْرَهَا (تُذْكَرُ) أَيْ: عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ (قِلَّةَ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصِلَاتِهَا) ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ لَيْسَتْ فِيهَا مِنْ " وَقِلَّةَ " نُصِبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ اهـ. وَكَأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ رِوَايَةُ النَّصْبِ كَمَا تَقْتَضِي مُرَاعَاةُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ، وَإِلَّا فَلَوْ رُوِيَ أَوْ قُرِئَ بِالرَّفْعِ فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَإِنَّهَا) : بِالْكَسْرِ (تُصَدَّقُ) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَضَمِّ الْقَافِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ وَإِنْ رُوِيَ بِفَتْحِ أَنَّ عَطْفًا عَلَى (أَنَّهَا) مَعْمُولُ (تُذْكَرُ) ، فَلَهُ وَجْهٌ فَتُذْكَرُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَتَصَدَّقُ. (بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ) ، أَيْ: بِقِطَعٍ مِنْهُ جَمْعُ ثَوْرٍ بِالْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْأَقِطِ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، فَفِي الْكَلَامِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَوْكِيدٌ، وَفِي ذِكْرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَدَقَتَهَا بِالنِّسْبَةِ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ قَلِيلَةٌ جِدًّا، ثُمَّ فِي الْقَرِينَةِ الثَّانِيَةِ تَوَسَّطَتِ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ بَيْنَ عِبَادَتَيِ الْبَدَنِيَّةِ لَعَلَّهَا بِسَبَبِ طَرَفَيْهَا تَنْجَبِرُ قِلَّتُهَا. (وَلَا تُؤْذِي بِلِسَانِهَا جِيرَانَهَا) : عَطْفٌ عَلَى تَصَدَّقُ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ

(قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ) ؛ لِأَنَّ مَدَارَ أَمْرِ الدِّينِ عَلَى اكْتِسَابِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَحْصِيلِ الْفُضُولِ وَتَضْيِيعِ الْأُصُولِ، وَكَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَكَثِيرٌ مِنَ الصُّلَحَاءِ، حَيْثُ لَمْ يَقُمِ الْأَوَّلُونَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَمَلِ، وَلَمْ يُحَصِّلِ الْآخَرُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَأَمَّا الصُّوفِيَّةُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمَقْرُونَيْنِ بِالْإِخْلَاصِ، فَهُمْ يَأْدِمُونَ رِعَايَةَ الِاحْتِمَاءِ عَلَى إِعْطَاءِ الدَّوَاءِ سَالِكِينَ سَبِيلَ الْحُكَمَاءِ فَيَقُولُونَ: التَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، وَلِذَا جَعَلُوا التَّوْبَةَ أَوَّلَ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَمَقَامَاتِ الطَّائِرِينَ. وَفِي كَلِمَهِ التَّوْحِيدُ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَلَفِّ بِطَرِيقِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ دَائِمًا إِلَى أَنَّ الصِّفَافَ السَّلْبِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النُّعُوتِيَّةِ الثُّبُوتِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْأَوْلَى حُصُولُ الثَّانِيَةِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَكَذَا الْبَزَّارُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

4993 - وَعَنْهُ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى نَاسٍ جُلُوسٍ فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ؟ " قَالَ: فَسَكَتُوا فَقَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ رَجُلٌ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِّنَا فَقَالَ: " خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ، وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4993 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُ - (قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى نَاسٍ جُلُوسٍ» ) أَيْ: جَالِسِينَ أَوْ ذَوِي جُلُوسٍ ( «فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ» ) ؟ أَيْ: مُمَيِّزًا مِنْهُ حَالٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (فَسَكَتُوا) أَيْ: مُتَوَقِّفِينَ فِي أَنَّ السُّؤَالَ أَوْلَى أَوِ السُّكُوتَ أَحْرَى خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ: " {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] " وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» ". (فَقَالَ ذَلِكَ) أَيِ: الْكَلَامَ السَّابِقَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : فَلَمَّا أَفَادَ التَّكْرَارُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاخْتِيَارِ أَجَابَ بَعْضُهُمْ (فَقَالَ رَجُلٌ) أَيْ: كُلُّ الرَّجُلِ شَدِيدُ الْقَلْبِ فَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ ( «بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِّنَا» ) . وَفِيهِ بَسْطُ الْكَلَامِ بِمُقْتَضَى انْبِسَاطِ الْمَقَامِ (فَقَالَ) أَيْ: بِطَرِيقِ الْإِبْهَامِ احْتِرَازًا مِنْ فَضِيحَةِ الْأَنَامِ ( «خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ» ) : فَخَيْرُ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الْأَخْيَرِ، وَالثَّانِي مُفْرَدُ الْخُيُورِ أَيْ: مَنْ يَرْجُو النَّاسُ مِنْهُ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ (وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ) ، أَيْ: مَنْ يَأْمَنُونَ عَنْهُ عَنْ إِسَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ ( «وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ» ) . وَتَرَكَ ذِكْرَ مَنْ يَأْتِي مِنْهُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَنَقِيضُهُ، فَإِنَّهُمَا سَاقِطَا الِاعْتِبَارِ حَيْثُ تَعَارَضَا تَسَاقُطًا، وَنَظِيرُهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ سَرِيعُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْءِ، فَهَذَا بِذَاكَ، وَمِنْهُمْ بَطِيءُ الْغَضَبِ بَطِيءُ الْفَيْءِ، فَكَذَلِكَ وَخَيْرُهُمْ مَنْ يَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرُّجُوعِ، وَشَرُّهُمْ عَكْسُ ذَلِكَ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَمَّا تَوَهَّمُوا مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَتَخَوَّفُوا مِنَ الْفَضِيحَةِ سَكَتُوا حَتَّى كَرَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَبْرَزَ الْبَيَانَ فِي مَعْرِضِ الْعُمُومِ، لِئَلَّا يُفْضَحُوا فَقَالَ: (خَيْرُكُمْ) . وَالتَّقْسِيمُ الْعَقْلِيُّ يَقْتَضِي أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ ذَكَرَ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ تَرْغِيبًا، وَتَرْهِيبًا، وَتَرْكَ قِسْمَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ» " الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ؟ خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ» " إِلَخْ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاذٍ بِلَفْظِ: " «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ وَمَنَعَ رِفْدَهُ، وَسَافَرَ وَحْدَهُ وَضَرَبَ عَبْدَهُ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ يَبْغَضُ النَّاسَ وَيَبْغَضُونَهُ. أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ يُخْشَى شَرُّهُ: لَا يُرْجَى خَيْرُهُ. أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ. إِلَّا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ» ".

4994 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ، وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4994 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهُ فَفِي الْقَامُوسِ قَسَمَهُ وَقَسَّمَهُ جَزَّأَهُ، وَالْمَعْنَى قَدَّرَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ (بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ) أَيْ: أَعْمَالَكُمْ، وَأَحْوَالَكُمْ ( «كَمَا قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ» ) أَيْ: أَمْوَالَكُمْ سَوَاءٌ حَرَامَكُمْ وَحَلَالَكُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] إِلَى أَنْ قَالَ: " {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] " اللَّهُمَّ فَحَسِّنْ أَخْلَاقَنَا، وَطَيِّبْ أَرْزَاقَنَا. ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا» ) أَيِ: الْأَرْزَاقَ الدُّنْيَوِيَّةَ الدَّنِيَّةَ (مَنْ يُحِبُّ) أَيْ: مَنْ يُحِبُّهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ كَسُلَيْمَانَ وَعُثْمَانَ (وَمَنْ لَا يُحِبُّ) ، أَيْ: وَيُعْطِيهَا أَيْضًا مَنْ لَا يُحِبُّهُ كَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، قَالَ تَعَالَى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 20] ، (وَلَا يُعْطِي الدِّينَ) أَيِ: الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ، وَالْآدَابَ الْمُسْتَحْسَنَةَ (إِلَّا مَنْ أَحَبَّ) : قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: التَّصَوُّفُ هُوَ الْخُلُقُ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ، فَقَدْ زَادَ عَلَيْكَ فِي التَّصَوُّفِ ( «فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ» ) أَيْ: سَوَاءٌ أَعْطَاهُ الدُّنْيَا أَمْ لَا، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ مَنْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ الْأَرْزَاقِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ الدِّينِيَّةِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّنِ اقْتَصَرَ لَهُ عَلَى الدِّينِ مَعَ قَدْرِ كِفَايَتِهِ مِنَ الدُّنْيَا، كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ أَرْبَابِ الْعُقُولِ النَّاقِصَةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " «أَجْوَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْبَعُكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ". وَوَرَدَ أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسِمَائَةِ عَامٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا، وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ أَمِ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ؟ وَإِجْمَاعُ الصُّوفِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَقِيرُ الشَّاكِرُ أَفْضَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ أَكْمَلُ وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ دَخْلٌ فِي الْبَحْثِ، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30] ، وَقَدْ بَسَطْتُ فِي الْجُمْلَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي شَرْحِ حِزْبِ الْفَتْحِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ، وَالْعَاقِلُ يَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَطْوِيلِ الْعِبَارَةِ، وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الْإِحْيَاءِ. (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ) أَيْ: إِسْلَامًا كَامِلًا مُطَابِقًا لِمُسَمَّاهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَمُوَافِقًا وَصْفُهُ لِمَأْخَذِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالسَّلَامَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَدَارَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ عَلَى تَرْكِ الْإِسَاءَةِ وَإِحْسَانِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، إِذْ هُمَا مَنْبَعُ الْأَخْلَاقِ، وَأَحَدُهُمَا تُرْجُمَانُ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْإِنَاءَ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ. (حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ يَسْلَمُ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى يَنْقَادُ (وَلَا يُؤْمِنُ) أَيْ: عَبَدٌ إِيمَانًا تَامًّا (حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ) أَيْ: خُصُوصًا أَوْ مَثَلًا (بَوَائِقَهُ) . أَيْ: شُرُورَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا كَالنَّشْرِ لِمَا لَفَّ قَبْلَهُ، وَأَشَارَ بِالدُّنْيَا إِلَى الْأَرْزَاقِ، وَبِالدِّينِ إِلَى الْأَخْلَاقِ لِيُشْعِرَ بِأَنَّ الرِّزْقَ الَّذِي يُقَابِلُ الْخُلُقَ هُوَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّ الْأَخْلَاقَ الْحَمِيدَةَ لَيْسَتْ غَيْرَ الدِّينِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] . ثُمَّ أَتَى بِمَا يُفَضِّلُ الدِّينَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْخَارِجَةِ وَالدَّاخِلَةِ مِنَ الِانْقِيَادِ وَالتَّصْدِيقِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ» بَعْدَ ذِكْرِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَفَسَّرَهُمَا بِمَا يُنْبِئُ عَنِ الْأَخْلَاقِ، وَخَصَّ الْقَلْبَ وَاللِّسَانَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ مَدَارَ الْإِنْسَانِ عَلَيْهِمَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْمَثَلِ: الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ، فَإِسْلَامُ اللِّسَانِ كَفُّهُ عَمَّا فِيهِ آفَاتُهُ وَهِيَ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ، وَإِسْلَامُ الْقَلْبِ تَطْهِيرُهُ عَنِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَالْآرَاءِ الزَّائِفَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، ثُمَّ تَحْلِيَتُهُمَا بِمَا يُخَالِفُهُمَا.

4995 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ» " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4995 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ» ) : بِفَتْحِ اللَّامِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، أَيْ: يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَيُؤَيِّدُهُ آخِرُ الْحَدِيثِ أَيْضًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ يَعْنِي إِذَا لَمْ يَأْلَفْ صَاحِبَهُ أَلِفَ مَعَهُ، وَإِذَا ائْتُلِفَ ائْتَلَفَ، أَوِ اسْمَ مَكَانٍ أَيْ: يَكُونُ مَكَانَ الْأُلْفَةِ وَمَنْشَأَهَا وَمِنْهُ إِنْشَاؤُهُ، إِلَيْهِ مَرْجِعُهَا ( «وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ» ) : لِأَنَّ التَّآلُفَ سَبَبُ الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ وَبِحَبْلِهِ وَبِهِ يَحْصُلُ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبِضِدِّهِ يَحْصُلُ التَّفْرِقَةُ بِهِمْ وَهُوَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَتَأْلِيفِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] . (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَى الْحَدِيثَ الثَّانِيَ أَحْمَدُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَوَاهُ الدَّارُقُطْنِيُّ فِي الْإِفْرَادِ وَالضِّيَاءِ عَنْ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ: " «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» ".

4996 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَضَى لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِي حَاجَةً يُرِيدُ أَنْ يَسُرَّهُ بِهَا فَقَدْ سَرَّنِي، وَمَنْ سَرَّنِي فَقَدْ سَرَّ اللَّهَ، وَمَنْ سَرَّ اللَّهَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4996 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَضَى لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِي» ) أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ (حَاجَةً) أَيْ: دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً (يُرِيدُ أَنْ يُسِرَّهُ) أَيْ: أَحَدَ أُمَّتِي (بِهَا) أَيْ: بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ (فَقَدْ سَرَّنِي) أَيْ: فَإِنِّي أُسَرُّ بِسُرُورِ جَمِيعِ أُمَّتِي ( «وَمَنْ سَرَّنِي فَقَدْ سَرَّ اللَّهَ» ) أَيْ: أَرْضَاهُ ( «وَمَنْ سَرَّ اللَّهَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» ) أَيْ: وَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «مَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَاجَةً كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ كَمَنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ» ". رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ. «وَمَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَاجَةً كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ كَمَنْ خَدَمَ اللَّهَ عُمُرَهُ» " رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا.

4997 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَغَاثَ مَلْهُوفًا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ مَغْفِرَةً، وَاحِدَةٌ فِيهَا صَلَاحُ أَمْرِهِ كُلِّهِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ لَهُ دَرَجَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4997 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَغَاثَ مَلْهُوفًا» ) أَيْ: ضَعِيفًا مُتَحَيِّرًا. وَفِي النِّهَايَةِ مَكْرُوبًا ( «كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ مَغْفِرَةً» ) : حِكْمَةُ الْعَدَدِ مُفَوَّضٌ إِلَى صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَلَعَلَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَثُوبَتَهُ مَزِيدَةٌ بِوَصْفِ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْهُورِ فِي الْكَثْرَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْحِسَابِ عَدَدُ الثَّلَاثِ مَأْخُوذٌ مِنْ ثَلَاثَةِ الْحُرُوفِ فِي آخِرِ الْمَلْهُوفِ، وَعَدَدُ السَّبْعِينَ مِنْ مَجْمُوعِ الْمِيمِ وَاللَّامِ، وَهَذَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْمِيَةِ وَالْإِبْهَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. (وَاحِدَةٌ فِيهَا صَلَاحُ أَمْرِهِ كُلِّهِ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا (وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ لَهُ دَرَجَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : فِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى بِشَارَةِ حِلْيَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ الْوَاحِدَةَ تَعُمُّ جَمِيعَ ذُنُوبِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيُعَوَّضُ عَنْ سَائِرِ أَعْدَادِ الْمَغْفِرَةِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْعُقْبَى، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَأْخَذُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْمُكَفِّرَاتِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فَتَتَوَجَّهُ أَوَّلًا إِلَى مَحْوِ الصَّغَائِرِ، ثُمَّ إِلَى تَخْفِيفِ الْكَبَائِرِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ تَكُونُ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فَتْحِ بَابِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى، وَمِنْ ثَمَّ قَدَّمَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] عَلَى قَوْلِهِ: " {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2] " {وَيَهْدِيَكَ} [الفتح: 2] ; لِأَنَّ التَّحْلِيَةَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ اهـ. فَتَأَمَّلْ يَظْهَرُ لَكَ مَا لَا يَخْفَى.

4998 - و 4999 - وَعَنْهُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى عِيَالِهِ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 4998 -، 4999 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَعَنْ) : بِالْعَاطِفِ مَعَ إِعَادَةِ الْعَامِلِ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ (عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ» ) : عِيَالُ الْمَرْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَنْ يَعُولُهُ، وَيَقُومُ بِرِزْقِهِ وَإِنْفَاقِهِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مَجَازُ صُورَةٍ، وَإِلَّا فَهُوَ الرَّزَّاقُ كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْخَلَّاقُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] ( «فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى عِيَالِهِ» ) أَيْ: مَنْ هُيِّئَ، وَوُفِّقَ إِلَى الْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ تَعَالَى، كَمَا وَرَدَ: خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» . وَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَلَعَلَّهُ عَدَلَ عَنِ الضَّمِيرِ بِأَنْ يَقُولَ رَوَاهَا إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعَدَدِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِالتَّثْنِيَةِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، ثُمَّ الْحَدِيثُ الثَّانِي مِنْهَا أَسْنَدَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ أَيْضًا ".

5000 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5000 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ خَصْمَيْنِ» ) أَيْ: مُتَخَاصِمَيْنِ بَعْدَ خِصَامِ أَهْلِ الدَّارِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ) أَيْ: فِيمَا حَصَلَ مِنَ الْأَذَى، أَوْ وَقَعَ تَقْصِيرٌ مِنْ حُقُوقِ وَاجِبِ الْأَدَاءِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَدَ «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صِلَاتُهُ» ، وَوَرَدَ: أَوَّلُ مَا بَيْنَ النَّاسِ الدَّمُ، وَلَا تَنَافِي ; لِأَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَظَالِمِ كَذَا فِي الزُّجَاجَةِ حَاشِيَةٌ عَلَى ابْنِ مَاجَهْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ هُوَ الصَّلَاةُ ; لِفَضْلِهَا عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ قَتْلُ النَّفْسِ ; فَإِنَّهُ أَكْبَرُ الْخَطِيئَاتِ وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَمُقَيَّدٌ بِاخْتِصَامِ خَصْمَيْنِ وَقَعَ الذَّنْبُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعُ تَقْصِيرٍ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَإِطْلَاقُ الْخَصْمَيْنِ عَلَى التَّغْلِيبِ أَوِ الْمُشَاكَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَالْأَوَّلُ إِضَافِيَّةٌ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصَّغَائِرُ دُونَ الْكَبَائِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ.

5001 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ: " امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ، وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5001 - (وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَجُلًا شَكَا) : يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ بِالْأَلْفِ كَدَعَا وَعَفَا، وَيَجُوزُ كِتَابَتُهَا بِالْيَاءِ أَيْضًا ; لِأَنَّ (شَكَيْتُ) لُغَةٌ فِي شَكَوْتُ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسْوَةَ قَلْبِهِ) أَيْ: قَسَاوَتَهُ وَشِدَّتَهُ وَقِلَّةَ رِقَّتِهِ وَعَدَمَ أُلْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ( «قَالَ: امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ» ) : لِتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ فَيَغْتَنِمَ الْحَيَاةَ، فَإِنَّ الْقَسْوَةَ مَنْشَؤُهَا الْغَفْلَةُ. ( «وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ» ) : لِتَرَى آثَارَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ حَيْثُ أَغْنَاكَ، وَأَحْوَجَ إِلَيْكَ سِوَاكَ فَيَرِقَّ قَلْبُكَ وَيَزُولَ قَسْوَتُهُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِمَا بِالذِّكْرِ أَنَّ الرَّحْمَةَ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مُوجِبَةٌ لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ الْمُتَخَلِّقِ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ، فَيُنْزِلُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةَ، وَيَرْفَعُ عَنْهُ الْقَسْوَةَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ الْأَخْلَاقِ بِالْمُعَالَجَةِ الْعِلْمِيَّةِ أَوْ بِالْعَمَلِيَّةِ، أَوْ بِالْمَعْجُونِ الْمُرَكَّزِ مِنْهُمَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي الْإِحْيَاءِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ تَلْمِيحًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14] ، وَمُرَاعَاتُهُمَا مِنِ اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ الشَّاقَّةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُعَانَاةِ الْمَشَقَّةِ وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، فَمَنِ اقْتَحَمَ تِلْكَ الْعَقَبَةَ يَرِقُّ قَلْبُهُ وَتَسْمَحُ نَفْسُهُ فِي تَعَاطِي كُلِّ خَيْرٍ، وَفِيهِ أَنَّ مَنِ ابْتُلِيَ بِدَاءٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ يَكُونُ تَدَارُكُهُ بِمَا يُضَادُّهُ مِنَ الدَّوَاءِ فَالتَّكَبُّرُ يُدَاوَى بِالتَّوَاضُعِ، وَالْبُخْلُ بِالسَّمَاحَةِ، وَقَاسِي الْقَلْبِ بِالتَّعَطُّفِ وَالرِّقَّةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

5002 - وَعَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ؟ ابْنَتُكَ مَرْدُودَةً إِلَيْكَ لَيْسَ لَهَا كَاسِبٌ غَيْرُكَ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5002 - (وَعَنْ سُرَاقَةَ) : بِضَمِّ السِّينِ (ابْنُ مَالِكٍ) أَيِ: ابْنُ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ؟ ابْنَتُكَ» ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: هُوَ صَدَقَتُهَا (مَرْدُودَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَيْ: مُطَلَّقَةً رَاجِعَةً (إِلَيْكَ لَيْسَ لَهَا كَاسِبٌ) أَيْ: مُنْفِقٌ عَلَيْهَا (غَيْرُكَ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الصَّحِيحَ فِي ذِي الْحَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةَ هَذَا. وَفِي النِّهَايَةِ الْمَرْدُودَةُ هِيَ الَّتِي تُطَلَّقُ وَتُرَدُّ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا، وَأَرَادَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَفْضَلِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ تُقَدَّرَ: صَدَقَةً تَسْتَحِقُّهَا ابْنَتُكَ فِي حَالِ رَدِّهَا إِلَيْكَ، وَلَيْسَ لَهَا كَاسِبٌ غَيْرُكَ وَهُمَا حَالَانِ إِمَّا مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَدَاخِلَتَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب الحب في الله ومن الله]

[بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5003 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [16] بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ أَيْ: فِي ذَاتِ اللَّهِ وَجِهَتِهِ لَا يَشُوبُهُ الرِّيَاءُ وَالْهَوَى، وَمِنَ اللَّهِ أَيْ: مِنْ جِهَةِ اللَّهِ أَيْ: إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَحَبَّهُ لِأَجْلِ اللَّهِ وَسَبَبِهِ، وَمِنْ هَاهُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83] وَفِي كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت: 69] وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ حَيْثُ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ مَظْرُوفًا، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ مَآلَهُمَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ عُنْوَانُ الْبَابِ فَضِيلَةُ الْحُبِّ لِلَّهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُبِّ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، كَمَا سَيُصَرِّحُ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ (فِي) تَعْلِيلِيَّةٌ وَ (مِنَ) ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى حُبُّ الْعَبْدِ الْعَبْدَ لِأَجْلِ رِضَا الرَّبِّ، وَالْحُبُّ الْكَائِنُ مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، وَالثَّانِي نَتِيجَةُ الْأَوَّلِ، كَمَا فِي الشَّرِيعَةِ، أَوْ مُقَدِّمَةٌ لَهُ كَمَا فِي الطَّرِيقَةِ، أَوْ هُوَ مَحْفُوفٌ بِهِمَا، كَمَا فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5003 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَرْوَاحُ» ) أَيْ: أَرْوَاحُ الْإِنْسَانِ (جُنُودٌ) : جَمْعُ جُنْدٍ أَيْ: جُمُوعٌ (مُجَنَّدَةٌ) : بِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: مُجْتَمِعَةٌ مُتَقَابِلَةٌ، أَوْ مُخْتَلِطَةٌ مِنْهَا: حِزْبُ اللَّهِ " {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] " وَمِنْهَا حِزْبُ الشَّيْطَانِ " {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] " وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح: 4] إِشَارَةٌ إِلَى الْجُنْدَيْنِ حَيْثُ أَحَدُهُمَا عُلْوِيُّ الْهِمَّةِ، وَالْآخَرُ سُفْلِيُّ الْهِمَّةِ. (فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا) : التَّعَارُفُ جَرَيَانُ الْمَعْرِفَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالتَّنَاكُرُ ضِدُّهُ أَيْ: فَمَا تَعْرِفُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ قَبْلَ حُلُولِهَا فِي الْأَبْدَانِ (ائْتَلَفَ) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، ثُمَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ تُبْدَلُ أَلِفًا فِي الْوَصْلِ جَوَازًا، وَتُبَدَلُ يَاءً حَالَ الِابْتِدَاءِ وُجُوبًا أَيْ: حَصَلَ بَيْنَهُمَا الْأُلْفَةُ وَالرَّأْفَةُ حَالَ اجْتِمَاعِهِمَا بِالْأَجْسَادِ فِي الدُّنْيَا (وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا) أَيْ: فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ (اخْتَلَفَ) أَيْ: فِي عَالَمِ الْأَشْبَاحِ، وَالْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ فِي الْفِعْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ مَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ الَّتِي هِيَ النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ وَشَوَاكِلَ مُتَبَايِنَةٍ، وَكُلُّ مَا شَاكَلَ مِنْهَا فِي عَالَمِ الْأَمْرِ

فِي شَاكِلَتِهِ تَعَارَفَتْ فِي عَالَمِ الْخَلْقِ وَائْتَلَفَتْ وَاجْتَمَعَتْ، وَكُلُّ مَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فِي عَالَمِ الْأَمْرِ تَنَاكَرَتْ فِي عَالَمِ الْخَلْقِ فَاخْتَلَفَتْ وَافْتَرَقَتْ، فَالْمُرَادُ بِالتَّعَارُفِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَاسُبِ وَالتَّشَابُهِ، وَبِالتَّنَاكُرِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَافُرِ وَالتَّبَايُنِ، فَتَارَةً عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَتَارَةً عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ، إِذْ قَدْ يُوجَدُ كُلٌّ مِنَ التَّعَارُفِ وَالتَّنَاكُرِ بِأَدْنَى مُشَاكَلَةٍ بَيْنَهُمَا إِمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا، وَبِحَقِيقَةٍ يَطُولُ وَتَخَافُ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُلُولِ وَاعْتِرَاضِ الْفُضُولِ، هَذَا وَقِيلَ: هَذَا الِاجْتِمَاعُ كَانَ يَوْمِ الْمِيثَاقِ فَمَنْ تَقَابَلَ مِنْهُمُ اثْنَانِ يَوْمَئِذٍ يَأْتَلِفَانِ فِي الدُّنْيَا غَايَةَ الْمُؤَالَفَةِ، وَمَنْ تَدَابَرَ مِنْهُمْ شَخْصَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي نِهَايَةِ الْمُخَالَفَةِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الِاجْتِنَابِ لَهُ مُشَارَكَةٌ مِنْ مُشَاكَلَةِ كُلِّ بَابٍ كَالْمُنَافِقِينَ، وَأَشْبَاهِهِمْ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّعَارُفِ وَالتَّنَاكُرِ وَصْلَةُ الْأَجَانِبِ وَشَجْنَةُ الْأَقَارِبِ. كَانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمَانَ لَهُ نَسَبًا ... وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ رَحِمٌ وَلَا يَدْفَعُهُ بُعْدُ الدَّارِ وَلَا يَجْمَعُهُ قُرْبُ الْمَزَارِ. مُنَاسَبَةُ الْأَرْوَاحِ بَيْنَ وَبَيْنَهَا ... وَإِلَّا فَأَيْنَ التُّرْكُ مِنْ سَاكِنِي نَجْدٍ قَالَ حَكِيمٌ: أَقْرَبُ الْقُرْبِ مَوَدَّةُ الْقَلْبِ وَإِنْ تَبَاعَدَ جِسْمُ أَحَدِهَا مِنَ الثَّانِي، وَأَبْعَدُ الْبُعْدِ تَنَافُرُ التَّدَانِي. وَفِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ أَيْ: مَجْمُوعَةٌ كَمَا يُقَالُ: أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ وَقَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ، وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ مَبْدَأِ كَوْنِ الْأَرْوَاحِ وَتَقْدُمُهَا الْأَجْسَادُ أَيْ: إِنَّهَا خُلِقَتْ أَوَّلَ خِلْقَتِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ مِنِ ائْتِلَافٍ وَاخْتِلَافٍ، كَالْجُنُودِ الْمُجَنَّدَةِ الْمَجْمُوعَةِ إِذَا تَقَابَلَتْ وَتَوَاجَهَتْ، وَمَعْنَى تَقَابُلِ الْأَرْوَاحِ مَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْأَخْلَاقِ فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ يَقُولُ: إِنَّ الْأَجْسَادَ الَّتِي فِيهَا الْأَرْوَاحُ تَلْتَقِي فِي الدُّنْيَا فَتَأْتَلِفُ وَتَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ مَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا تَرَى الْخَيِّرَ يُحِبُّ الْأَخْيَارَ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِمْ، وَالشِّرِّيرُ يُحِبُّ الْأَشْرَارَ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِمُ اهـ. وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَعُنْوَانِ الْبَابِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ صَدْرُ الْخِطَابِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ وَعَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْأَجْسَادِ فِي الْخِلْقَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ.

5004 - وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5004 - (وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَزَادَ فِيهِ: «تَلْتَقِي فَتُشَامُ كَمَا تُشَامُ الْخَيْلُ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: سَأَلْتُ الْحَاكِمَ عَنْ مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ لَا يَسْكُنُ قَلْبُهُ إِلَّا إِلَى شَكْلِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ: " «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا فِي اللَّهِ ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا فِي اللَّهِ اخْتَلَفَ» ".

5005 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ. فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فَلَانَا فَأَبْغِضُوهُ. قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5005 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا» ) أَيْ: إِذَا أَرَادَ إِظْهَارَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ وَهِيَ إِمَّا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَمَعْنَاهَا إِرَادَةُ الْخَيْرِ، أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَهِيَ بِمَعْنَى إِكْرَامِهِ لَهُ وَإِحْسَانِهِ لَهُ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ (دَعَا جِبْرِيلَ) : يَدُلُّ عَلَى جَلَالَتِهِ مِنْ حَيْثُ خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِ الْمَلَائِكَةِ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ إِسْرَافِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَسَائِرِ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ تَخْصِيصِهِ لِكَوْنِهِ سَفِيرًا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ الْمَبْعُوثِينَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ (فَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ (إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا) : وَفِي عَدَمِ ذِكْرِ سَبَبٍ لِمَحَبَّتِهِ مِنْ أَوْصَافِ عَبْدِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى مُبَرَّأَةٌ عَنِ الْأَغْرَاضِ وَالْعِلَلِ، بَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ تَعَالَى مَحَبَّةُ الْعَبْدِ إِيَّاهُ بِسُلُوكِ سَبِيلِهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَدَوَامِ اشْتِغَالِهِ بِذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَثَنَائِهِ وَالشَّوْقِ إِلَى رِضَائِهِ وَلِقَائِهِ. (فَأَحِبَّهُ) أَيْ: أَنْتَ أَيْضًا زِيَادَةً لِإِكْرَامِ الْعَبْدِ، وَإِلَّا فَكَفَى بِاللَّهِ مُحِبًّا وَمَحْبُوبًا وَطَالِبًا وَمَطْلُوبًا وَحَامِدًا وَمَحْمُودًا. (قَالَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ) أَيْ: ضَرُورَةُ عَدَمِ عِصْيَانِهِ أَمْرَ رَبِّهِ فَيُحِبُّهُ لِحُبِّهِ، وَهَذَا مِنَ الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ أَيْ: لَا يُحِبُّهُ لِغَرَضٍ سِوَى مَرْضَاةِ مَوْلَاهُ، وَمَحَبَّةُ جِبْرِيلَ دُعَاؤُهُ وَاسْتِغْفَارُهُ لَهُ، وَالْمَيْلُ إِلَى الِاجْتِمَاعِ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. (ثُمَّ يُنَادِي) أَيْ: جِبْرِيلُ بِأَمْرِ الْمَلِكِ الْجَلِيلِ (فِي السَّمَاءِ) أَيْ: فِي أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا فِي قَرِينَتِهِ الْآتِيَةِ،

وَالْمَعْنَى بِحَيْثُ يَصِلُ بِسَمَاعِ كَلَامِهِ إِلَى أَهْلِهَا كُلِّهَا ( «فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ» ) أَيْ: جَمِيعُهُمْ (ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ) : وَهُوَ مِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ، ثُمَّ هَذَا الْوَضْعُ ابْتِدَاءً مِنْ جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرِهِ. (فِي الْأَرْضِ) أَيْ: فِي قُلُوبِ أَهْلِهَا مِنْ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ، فَلَا يُرَدُّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَيْسَ لَهُمْ قَبُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِخَوَاصِّ الْأَنَامِ لَا بِالْعَوَامِّ كَالْأَنْعَامِ. ( «وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ. فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ» ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَبَّةُ اللَّهِ الْعَبْدَ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لَهُ وَهِدَايَتُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَيْهِ وَرَحْمَتُهُ، وَبُغْضُهُ إِرَادَةُ عُقُوبَتِهِ وَشَقَاوَتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَحُبُّ جِبْرِيلَ وَالْمَلَائِكَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحُدُهَا: اسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ وَثَنَاؤُهُمْ عَلَيْهِ وَدُعَاؤُهُمْ لَهُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ عَلَى ظَاهِرِهَا الْمَعْرُوفَةُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَاشْتِيَاقُهُ إِلَى لِقَائِهِ، قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ مَتَى صَحَّ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الْمَجَازِ، مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الثَّانِي. قَالَ: وَسَبَبُ حُبِّهِمْ إِيَّاهُ كَوْنُهُ مُطِيعًا لِلَّهِ مَحْبُوبًا لَهُ. قُلْتُ: مُطِيعًا إِمَّا سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا، كَمَا حُقِّقَ فِي مَرْتَبَتَيِ السَّالِكِ وَالْمَجْذُوبِ وَالْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ. قَالَ: وَمَعْنَى يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ الْحُبُّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَرِضَاهُمْ عَنْهُ، فَتَمِيلُ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ وَتَرْضَى عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ فَتُوضَعُ لَهُ الْمَحَبَّةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي الْمَحَبَّةِ وَبَيَانِ اشْتِقَاقِهَا مَضَى مُسْتَوْفًى فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، قُلْتُ: وَبَقِيَ كَثِيرٌ مَحَلُّهُ كِتَابُ الْإِحْيَاءِ. (ثُمَّ يُنَادِي) أَيْ: جِبْرِيلُ (فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ) : بِالْكَسْرِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، عَلَى أَنَّ فِي النِّدَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْفَتْحِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى إِضْمَارِ الْبَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ} [آل عمران: 39] فَإِنَّ جُمْهُورَ الْقُرَّاءِ فِيهِ عَلَى الْفَتْحِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ (إِنْ) إِذَا كَانَتْ مَكْسُورَةً تَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَادَى، بِخِلَافِ (مَا) إِذَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً وَأَصْلُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ (يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ) : وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى لَيْسَ لَهُمْ شُعُورٌ بِمَحْبُوبِهِ تَعَالَى وَمَبْغُوضِهِ إِلَّا بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ مِثْلَ هَذَا الْمَحْبُوبِ وَالْمَبْغُوضِ لَا يَنْقَلِبُ حُكْمُهُ، لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلْفٌ فِي إِخْبَارِهِ تَعَالَى (قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبُغْضُ فِي الْأَرْضِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] ، أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِهِ: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] مَا هُوَ؟ قَالَ: " الْمَحَبَّةَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ يَا عَلِيٌّ! إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى الْمَقْتَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْحَلَاوَةَ وَالْمَهَابَةَ فِي صُدُورِ الصَّالِحِينَ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَهَنَّادٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] قَالَ: يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبَدًا نَادَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَبْغَضْتُ فُلَانًا فَيُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُنْزِلُ لَهُ الْبَغْضَاءَ فِي الْأَرْضِ» اهـ. فَحَدِيثُ الْمِشْكَاةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى.

5006 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5006 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ تَعْظِيمًا لِبَعْضِ الْعِبَادِ مِنَ الْعِبَادِ ( «أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟» ) أَيْ: بِسَبَبِ عَظَمَتِي وَلِأَجْلِ تَعْظِيمِي، أَوِ الَّذِينَ يَكُونُ التَّحَابُبُ بَيْنَهُمْ ; لِأَجْلِ رِضَا جَنَابِي وَجَزَاءِ ثَوَابِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ فِيهِ. بِمَعْنَى " فِي " وَفِيهِ مَا فِيهِ. قَالَ: وَخُصَّ الْجَلَالُ بِالذِّكْرِ ; لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْهَيْبَةِ وَالسَّطْوَةِ أَيِ: الْمُنَزَّهُونَ عَنْ شَائِبَةِ الْهَوَى وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فِي

الْمَحَبَّةِ، فَلَا يَتَحَابُّونَ إِلَّا لِأَجْلِي وَلِوَجْهِي. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَالتَّقْدِيرِ بِجَلَالِي وَجَمَالِي أَيِ: الْمُتَحَابُّونَ لِي أَيْ: فِي حَالَتَيِ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالْمِحْنَةِ وَالْمِنْحَةِ، فَيُفِيدُ دَوَامَ تَحَابِيهِمْ (الْيَوْمَ) : قَالَ شَارِحٌ: ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَيْنَ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: (أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي) أَيْ: أُدْخِلُهُمْ فِي ظِلِّ حِمَايَتِي، أَوْ أُرِيحُهُمْ مِنْ حَرَارَةِ الْمَوْقِفِ رَاحَةَ مَنِ اسْتَظَلَّ أَوْ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: " «الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى كَرَاسِيٍّ مِنْ يَاقُوتٍ تَحْتَ الْعَرْشِ» " وَقَوْلُهُ: (يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) : بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي ظِلِّ اللَّهِ عَنِ الْحَرِّ وَوَهَجِ الْمَوْقِفِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي كَنَفِهِ وَسِتْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الرَّاحَةِ وَالتَّنْعِيمِ يُقَالُ: هُوَ فِي عَيْشٍ ظَلِيلٍ أَيْ: طَيِّبٍ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَوْسَطُ الْأَقْوَالِ هُوَ الْأَوْسَطُ، إِذْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُ الظِّلِّ حَقِيقَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ بِارْتِكَابِ الْمَجَازِ أَوْ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَمَا أَبْعَدَ الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ أُنْعِمُهُمْ فِي نِعْمَتِي، وَلَكِنَّ التَّقْلِيدَ مُتَغَلِّبٌ عَلَى الْأُمِّيِّ وَحُبُّ الشَّيْءِ يُصِمُّ وَيُعْمِي. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ.

5007 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُّبُّهَا؟ قَالَ: لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5007 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ) أَيْ: أَرَادَ زِيَارَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَوْ مُتَوَاخِيهِ فِي اللَّهِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَخَاهُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا (فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى) أَيْ: غَيْرِ مَكَانِ الزَّائِرِ (فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ) أَيْ: أَعَدَّ وَهَيَّأَ أَوْ أَقْعَدَ فِي طَرِيقِهِ (مَلَكًا) : وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: وَكَّلَهُ بِحِفْظِ مَدْرَجَتِهِ يُقَالُ: رَصَدْتُهُ إِذْ قَعَدْتَ لَهُ عَلَى طَرِيقِهِ تَتَرَقَّبُهُ اهـ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] فِيهِ تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُرَاقِبٌ لِلْعِبَادِ، قَالَ: الْمَدْرَجَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ هِيَ الطَّرِيقُ سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّاسَ يُدْرَجُونَ عَلَيْهَا أَيْ: يَمْضُونَ وَيَمْشُونَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَدْرَجَةَ مِنَ الطَّرِيقِ مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ يَمْشِي فِيهِ دَرَجَةً دَرَجَةً فِي الطُّلُوعِ وَالنُّزُولِ، وَمِنْهُ مَدْرَجَةُ مِنًى الَّتِي هِيَ وَصْلَةٌ إِلَى مِنًى يَعْرِفُهَا مَنْ ذَهَبَ فِي طَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى عَرَفَاتِ الْهَنَا مِنْ هُنَا. (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ لِمَنْ قَالَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ أَيِ: الْمَلَكُ لِلزَّائِرِ. (أَيْنَ تُرِيدُ؟) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَجَاهُلِ الْعَارِفِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ النُّورِيَّةِ حَيْثُ إِنَّ مَقْصُودَهُ الْأَصْلِيَّ مَنْ تُرِيدُ، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ ذِكْرَهُ وَالْإِنَاءُ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ. (قَالَ) : أَيِ: الزَّائِرُ (أُرِيدَ أَخًا) أَيْ: زِيَارَةَ أَخٍ (لِي) أَيْ: مُخْتَصًّا لِي (فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ) : وَلَعَلَّ تَعْيِينَهَا عُلِمَ بِالْإِشَارَةِ. وَأَطْنَبَ فِي الْكَلَامِ ; لِيَتَضَمَّنَ الْمَرَامَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَا تَسْأَلْ عَنِ الْمَحَلِّ وَاكْتَفِ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْحَالِ، فَإِنَّ هَذَا طَرِيقُ أَرْبَابِ الْحَالِ بِلَا مُحَالٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ هَذَا سُؤَالَهُ بِقَوْلِهِ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ السُّؤَالَ مُتَضَمِّنٌ لِقَوْلِهِ أَيْنَ تَتَوَجَّهُ وَمَنْ تَقْصِدُ، وَلَمَّا كَانَ قَصْدُهُ الْأَوْلَى الزِّيَارَةَ ذَكَرَهُ وَتَرَكَ مَا لَا يُهِمُّهُ. قُلْتُ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: " {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 83] " لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ السُّؤَالِ فِي اسْتِعْجَالِهِ إِنْكَارَ تَرْكِهِ الْقَوْمَ وَرَاءَهُ وَتَقَدُّمَهُ عَلَيْهِمْ قَدَّمَهُ فِي الْجَوَابِ، وَأَخَّرَ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ. قُلْتُ: فِي كَوْنِهِ نَظِيرًا لَهُ نَظَرٌ، بَلْ مِثَالٌ لَهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَتَوْضِيحُهُ مَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى} [طه: 83] سُؤَالٌ عَنْ سَبَبِ الْعَجَلَةِ يَتَضَمَّنُ إِنْكَارَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نَقِيصَةٌ فِي نَفْسِهَا انْضَمَّ إِلَيْهَا إِغْفَالُ الْقَوْمِ وَإِبْهَامُ التَّعْظِيمِ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عَنِ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدَّمَ جَوَابَ الْإِنْكَارِ ; لِأَنَّهُ أَهَمُّ {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه: 84] أَيْ: مَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ إِلَّا بِخُطًا يَسِيرَةٍ لَا يُعْتَدُّ بِهَا عَادَةً، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ إِلَّا مَسَافَةٌ قَرِيبَةٌ يَتَقَدَّمُ بِهَا الرُّفْقَةُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] ، فَإِنَّ الْمُسَارَعَةَ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِكَ وَالْوَفَاءِ بِوَعْدِكَ يُوجِبُ مَرْضَاتَكَ اهـ.

(قَالَ) أَيِ: الْمَلَكُ لِلزَّائِرِ (هَلْ لَكَ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْمَزُورِ (مِنْ نِعْمَةٍ تَرُّبُّهَا؟) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدِّدَةِ أَيْ: تَقُومُ بِإِصْلَاحِهَا وَإِتْمَامِهَا أَيْ: هَلْ هُوَ مَمْلُوكُكَ أَوْ وَلَدُكَ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّنْ هُوَ فِي نَفَقَتِكَ وَشَفَقَتِكَ ; لِتُحْسِنَ إِلَيْهِ مِنْ رَبَّ فُلَانٌ الضَّيْعَةَ أَيْ: أَصْلَحَهَا وَأَتَمَّهَا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: هَلْ لَهُ عَلَيْكَ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا أَيْ: تَقُومُ لِشُكْرِهَا؟ ثُمَّ قِيلَ: نِعْمَةٌ: مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ، وَلَكَ خَبَرُهُ، وَعَلَيْهِ، مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَلْ لَكَ نِعْمَةٌ دَاعِيَةٌ عَلَى زِيَارَتِهِ تَرُبُّهَا أَيْ: تَحْفَظُهَا وَتَتَزَيَّدُهَا بِالْقِيَامِ عَلَى شُكْرِهَا؟ وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: هَلْ أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ تَذْهَبُ إِلَيْهَا فَتَرُبُّهَا أَيْ: تَمْلِكُهَا مِنْهُ وَتَسْتَوْفِيَهَا؟ (قَالَ: لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ) أَيْ: لَيْسَ لِي دَاعِيَةٌ إِلَى زِيَارَتِهِ إِلَّا مَحَبَّتِي إِيَّاهُ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ (قَالَ) أَيِ: الْمَلَكُ (فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ) : وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ كَمَا أَحَبَّهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ دُنْيَوِيٍّ، كَذَلِكَ الْحَقُّ أَحَبَّهُ مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ آخَرَ مِنْ عَمَلٍ أُخْرَوِيٍّ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضْلُ الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ، وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِحُبِّ اللَّهِ وَفَضِيلَةِ زِيَارَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى الْمَلَائِكَةَ. قُلْتُ: رُؤْيَةُ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى صُوَرِ الْبَشَرِ أَمْرٌ وَاضِحٌ ثَبَتَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هُنَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِرْسَالِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَمُخَاطَبَتِهِ إِيَّاهُمْ بِتَبْلِيغِ الْمَرَامِ زِيَادَةً عَلَى مَرْتَبَةِ الْإِلْهَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ تَحْقِيقًا لَخَتْمِ النُّبُوَّةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5008 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ: " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5008 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا» ) أَيْ: مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوِ الصُّلَحَاءِ (وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟) أَيْ: بِالصُّحْبَةِ أَوِ الْعِلْمِ أَوِ الْعَمَلِ أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا أَيْ: لَمْ يُصَاحِبْهُمْ، وَلَمْ يُعَامَلْ مُعَامَلَتَهُمْ وَقِيلَ أَيْ: لَمْ يَرَهُمْ (فَقَالَ: " «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ) أَيْ: يُحْشَرُ مَعَ مَحْبُوبِهِ، وَيَكُونُ رَفِيقًا لِمَطْلُوبِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] الْآيَةَ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْعُمُومُ الشَّامِلُ لِلصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» " كَمَا سَيَأْتِي، فَفِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَالشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ: " «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ» ".

5009 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: " وَيْلَكَ! وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ ". قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: " أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ " قَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5009 - (وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَتَى السَّاعَةُ؟» ) أَيْ: وَقْتُ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ مُحْتَمِلًا لِأَنَّ يَكُونَ تَعَنُّتًا وَإِنْكَارًا لَهَا، وَأَنْ يَكُونَ تَصْدِيقًا بِهَا وَإِشْفَاقًا مِنْهَا وَاشْتِيَاقًا لِلِقَاءِ رَبِّهَا. (قَالَ) : امْتِحَانًا لَهُ (وَيْلَكَ! وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) : وَإِلَّا لَوْ تَحَقَّقَ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانُهُ بِهَا وَإِيقَانُهُ إِلَّا لَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ بَدَلَ وَيْلَكَ. (قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا إِلَّا أَنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) : وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ ; لِأَنَّهَا كُلُّهَا فُرُوعٌ لِلْمَحَبَّةِ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ أَعْلَمُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَأَعْلَى مَقَامَاتِ الطَّائِرِينَ، فَإِنَّهَا بَاعِثَةٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ أَوْ نَتِيجَةٌ لَهَا. قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَقَالَ: " {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] " فَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ الْوَاضِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ الْمُجَرَّدَةَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَابَعَةِ لَيْسَ لَهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ وَلَا كَبِيرُ عَائِدَةٍ، (قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) أَيْ: مُلْحَقٌ بِمَنْ غَلَبَ مَحَبَّتُهُ عَلَى مَحَبَّةِ غَيْرِهِ مِنَ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَمُدْخَلٌ فِي زُمْرَتِهِ، وَمِنْ عَلَامَةِ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ أَنْ يَخْتَارَ أَمْرَ الْمَحْبُوبِ وَفِيهِ عَلَى مُرَادِ غَيْرِهِ، وَلِذَا قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ: تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرُكَ فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: سَلَكَ مَعَ السَّائِلِ طَرِيقَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ ; لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، فَقِيلَ لَهُ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا؟ وَإِنَّمَا يَهُمُّكَ أَنْ تَهْتَمَّ بِأُهُبَّتِهَا، وَتَعْتَنِي بِمَا يَنْفَعُكَ عِنْدَ إِرْسَالِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اهـ. وَبَعْدَهُ مِنَ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى لَا يَخْفَى. (قَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: بَعْدَ فَرَحِهِمْ بِهِ أَوْ دُخُولِهِمْ فِيهِ (فَرَحَهُمْ) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: كَفَرَحِهِمْ (بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ وَهِيَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَلْحَقَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحُسْنِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ عَمَلٍ بِأَصْحَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اهـ. وَلَا يَخْلُو عَنْ إِيهَامٍ وَإِبْهَامٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنْ لَا تَحْصُلَ الْمَعِيَّةُ بِمُجَرَّدِ الْمَحَبَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمُتَابَعَةِ، بَلْ تَتَوَقَّفُ عَلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ، وَزِيَادَةِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ لِأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ، فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِيَ وَمَوْتَكَ عَرَفْتَ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلَتْ: " {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] » " فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ أَنْ تَحْصُلَ فِيهَا الْمُلَاقَاةُ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ، لَا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَرَاءَوْنَ أَوْ تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَارِبَ فِي الْأُفُقِ الطَّالِعِ فِي تُفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُولَئِكَ النَّبِيُّونُ. قَالَ: " بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَقْوَامٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» " يَعْنِي وَأَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيقَانِهِمْ وَتَحْقِيقِهِمْ. ثُمَّ جَاءَ فِي حَدِيثِ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْمُلَاقَاةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، «عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13] الْآيَةَ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ فَضْلٌ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّاتِ، وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، وَكَيْفَ لَهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْجَنَّةِ أَنْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْأَعَلِّينَ يَنْحَدِرُونَ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ فَيَجْتَمِعُونَ فِي رِيَاضِهَا فَيَذْكُرُونَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ لَهُمْ أَهْلُ الدَّرَجَاتِ فَيَسْعَوْنَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ وَمَا يَدْعُونَ بِهِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ» ". ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ وَالْمُوَاجَهَةَ وَالْمُجَامَلَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5010 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مَهْ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5010 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ الْجَلِيسِ) أَيِ: الْمُجَالِسِ (الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَبِضَمٍّ أَيِ: وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ (كَحَامِلِ الْمِسْكِ) : نَاظِرًا إِلَى الْأَوَّلِ (وَنَافِخِ الْكِيرِ) بِكَسْرِ الْكَافِ زِقٌّ يَنْفُخُ فِيهِ الْحِدَادُّ، وَأَمَّا الْمَبْنِيُّ مِنَ الطِّينِ فَكُوَرُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ) : مِنَ الْإِحْذَاءِ أَيْ يُعْطِيَكَ مَجَّانًا (وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ) ، أَيْ: تَشْتَرِيَ (وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً) وَهَذَا بَيَانُ أَقَلِّ الْمَنْفَعَةِ ( «وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ» ) : مِنَ الْإِحْرَاقِ أَيْ: يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِحْرَاقِ، أَوِ التَّقْدِيرِ يُحْرِقَ بِنَارِهِ ثِيَابَكَ، وَلَعَلَّهُ وَقَعَ اخْتِصَارًا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ أَعْضَاءَكَ أَوْ ثِيَابَكَ ( «وَإِمَّا أَنْ تَجِدَّ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» ) . أَيْ: دُخَّانُهُ، وَهَذَا أَقَلُّ الْمَضَرَّةِ، وَالْمَعْنَى فَعَلَيْكَ بِمَحَبَّةِ الْأَوَّلِ وَمُصَاحَبَتِهِ، وَإِيَّاكَ وَمَوَدَّةَ الثَّانِي وَمُرَافَقَتَهُ. قِيلَ: فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى الرَّغْبَةِ فِي صُحْبَةِ الصُّلَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَمُجَالَسَتِهِمْ ; فَإِنَّهَا تَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ وَالْفُسَّاقِ ; فَإِنَّهَا تَضُرُّ دِينًا وَدُنْيَا. قِيلَ: مُصَاحَبَةُ الْأَخْيَارِ تُورِثُ الْخَيْرَ وَمُصَاحَبَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ الشَّرَّ كَالرِّيحِ إِذَا هَبَّتْ عَلَى الطِّيبِ عَبِقَتْ طِيبًا، وَإِنْ مَرَّتْ عَلَى النَّتْنِ حَمَلَتْ نَتْنًا. وَقِيلَ: إِذَا جَالَسْتَ الْحَمْقَى عُلِّقَ بِكَ مِنْ حَمَاقَتِهِمْ مَا لَا يَعَلَقُ لَكَ مِنَ الْعَقْلِ إِذَا جَالَسْتَ الْعُقَلَاءَ ; لِأَنَّ الْفَسَادَ أَسْرَعُ إِلَى النَّاسِ

وَأَشَدُّ اقْتِحَامَ مَا فِي الطَّبَائِعِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّحْبَةَ تُؤَثِّرُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: كُونُوا مَعَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا أَنَّ تَكُونُوا مَعَ اللَّهِ، فَكُونُوا مَعَ مَنْ يَكُونُ مَعَ اللَّهِ، وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلُ الْخُلْطَةِ وَالْعُزْلَةِ فِي الْأَحْيَاءِ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْصَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ لَا يُعْدِيكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقَ بَيْتَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى: " «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ مَثَلُ الْعَطَّارِ إِنْ لَمْ يُعْطِكَ مِنْ عِطْرِهِ أَصَابَكَ مِنْ رِيحِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ: " مَثَلُ «الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْعَطَّارِ إِنْ جَالَسْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ مَاشَيْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ شَارَكْتَهُ نَفَعَكَ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5011 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيَّ، قَالَ: " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5011 - (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَبَتْ) أَيْ: ثَبَتَتْ أَوْ تَقَدَّمَتْ (مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ) ، بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: لِأَجْلِيَ (وَالْمُتَجَالِسِينَ فِي) أَيْ: فِي حُبِّيَ أَوْ سَبِيلِي (وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ) : بِأَنْ يَزُورَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ; لِعِيَادَةٍ وَنَحْوِهَا (وَالْمُتَبَاذِلِينَ) أَيْ: بِأَنْ يَبْذُلَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِهِمُ الْمَالَ (فِي) . أَيْ: فِي رِضَائِي. (رَوَاهُ مَالِكٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاذٍ. (فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ) ، بِالْإِضَافَةِ (قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي) أَيْ: لِأَجْلِ إِجْلَالِي وَتَعْظِيمِي أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ كَمَا سَبَقَ ( «لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ» ) . بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْغِبْطَةِ بِالْكَسْرِ وَهِيَ تَمَنِّي نِعْمَةً عَلَى أَنْ لَا تَتَحَوَّلَ عَنْ صَاحِبِهَا بِخِلَافِ الْحَسَدِ، فَإِنَّهُ تَمَنَّى زَوَالَهَا عَنْ صَاحِبِهَا، فَالْغِبْطَةُ فِي الْحَقِيقَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حُسْنِ الْحَالِ كَذَا قِيلَ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْغِبْطَةُ حُسْنُ الْحَالِ وَالْمَسَرَّةُ، فَمَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ مُطَابِقٌ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ يَسْتَحْسِنُ أَحْوَالَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ، وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي تَحَيَّرَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى كَرَاسِيٍّ مِنْ يَاقُوتٍ حَوْلَ الْعَرْشِ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. وَقَالَ الْقَاضِي: كُلُّ مَا يَتَحَلَّى بِهِ الْإِنْسَانُ أَوْ يَتَعَاطَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مَا هُوَ أَرْفَعُ قَدْرًا وَأَعَزُّ ذُخْرًا، فَيَغْبِطُهُ بِأَنْ يَتَمَنَّى، وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ مَضْمُومًا إِلَى مَا لَهُ مِنَ الْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ وَالْمَنَازِلِ الشَّرِيفَةِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَدِ اسْتَغْرَقُوا فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَةِ الْخَلْقِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ الدِّينِ وَإِرْشَادِ الْعَامَّةِ، وَالْخَاصَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّيَّاتٍ أَشَغَلَتْهُمْ عَنِ الْعُكُوفِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا، وَالشُّهَدَاءُ وَإِنْ نَالُوا رُتْبَةَ الشُّهَدَاءِ وَفَازُوا بِالْفَوْزِ الْأَكْبَرِ، فَعَلَّهُمْ لَمْ يُعَامَلُوا مَعَ اللَّهِ مُعَامَلَةَ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا رَأَوْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَشَاهَدُوا قُرْبَهُمْ وَكَرَامَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَدُّوا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ فِي ذَلِكَ إِلَى إِثْبَاتِ الْغِبْطَةِ لَهُمْ عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ، بَلْ بَيَانِ فَضْلِهِمْ، وَعُلُوِّ شَأْنِهِمْ، وَارْتِفَاعِ مَكَانِهِمْ وَتَقْرِيرِهَا عَلَى آكَدِ وَجْهٍ وَأَبْلَغِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَثَابَةِ لَوْ غَبَطَ النَّبِيُّونُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَئِذٍ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِمْ وَنَبَاهَةِ أَمْرِهِمْ حَالَ غَيْرِهِمْ لِغُبُوطِهِمْ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْغِبْطَةُ هُنَا عَلَى اسْتِحْسَانِ الْأَمْرِ الْمَرَضِيِّ الْمَحْمُودِ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُغْبَطُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ الْمَرَضِيِّ، كَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَحْمَدُونَ إِلَيْهِمُ، الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّهُ «غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبُوكَ قَالَ: فَتَبَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لِلْوُضُوءِ، وَحُمِلَتْ مَعَ إِدَاوَةٍ، ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى نَجِدَ النَّاسَ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَصَلَّى بِهِمْ، فَأَدْرَكَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُتِمُّ صَلَاتَهُ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ. فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: (أَحْسَنْتُمْ) أَوْ قَالَ: (أَصَبْتُمْ) يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا» ، فَقَوْلُهُ: يَغْبِطُهُمُ إِلَخْ. كَلَامُ الرَّاوِي تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ» " قَالَ: وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ فِي الْمَحْشَرِ قَبْلَ دُخُولِ النَّاسِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، لِقَوْلِهِ يَعْنِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَالتَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ الْأَمْنُ وَالْفَرَاغُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِحَالِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ حَالِ أُمَّتِهِمْ، فَيَغْبِطُونَهُمْ لِذَلِكَ اهـ. وَقَوْلُهُ: فَيَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَمْنِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام: 82] . وَأَيْضًا تَصَوُّرُ أَمْنِ الْمُتَحَابِّينَ وَخَوْفِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَالْعُلَمَاءُ عَامِلُونَ فِي تَأْوِيلِهِ بِوَجْهٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَكَذَا قَوْلُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ: يَغْبِطُهُمْ وَقْتَ الْحِسَابِ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ يَعْنِي هُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ اهـ. وَهُوَ بِظَاهِرِهِ عُدُولٌ عَنْ صَوْبِ الصَّوَابِ.

5012 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءٍ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟ قَالَ: " هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ، عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزَنَ النَّاسُ " وَقَرَأَ الْآيَةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5012 - (وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ) أَيِ: الْكَامِلِينَ فِي الْإِيمَانِ الْعَامِلِينَ بِالْإِحْسَانِ (لَأُنَاسًا) أَيْ: جَمَاعَةً عَظِيمَةً مِنَ الْأَوْلِيَاءِ (مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءٍ وَلَا شُهَدَاءٍ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ) أَيْ: مِمَّنْ فَاتَهُمُ التَّزَاوُرُ، وَإِلَّا فَالتَّحَابُبُ وَالتَّجَالُسُ لِلَّهِ بَيْنَ كُلِّ نَبِيٍّ وَأُمَّتِهِ حَاصِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّحَابُبِ وَنَحْوِهِ وُجُودُ الْفِعْلِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنَ (وَالشُّهَدَاءُ) أَيْ: مِمَّنْ فَاتَهُمُ الْمُجَالَسَةُ وَنَحْوُهَا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ) أَيْ: بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَحَابِّينَ وَمَكَانَتِهِمْ وَمَرْتَبَتِهِمُ الزَّائِدَةِ عَلَى غَيْرِ (مِنَ اللَّهِ) . أَيْ: مِنْ قُرْبِهِ سُبْحَانَهُ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تُخْبِرُنَا) : بِهَمْزَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْأَدَبِ أَوْ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الِالْتِمَاسِ، أَيْ: أَخْبِرْنَا (مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا) : اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنَ التَّجَالُسِ وَالتَّزَاوُرِ وَالتَّبَادُلِ فَرْعُ التَّحَابُبِ، وَالْمَعْنَى تَحَابَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (بِرُوحِ اللَّهِ) ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ مَا يَحْيَا بِهِ الْخَلْقُ، وَيَكُونُ حَيَاةً لَهُمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا، فَفِي النِّهَايَةِ: الرَّوْحُ بِفَتْحِ الرَّاءِ نَسِيمُ الرِّيحِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ أَوْ بِنَفْخَةٍ مِنْ نَفَخَاتِهِ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَيْ: لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ، وَإِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ لَمْ تَحْصُلْ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا تُوجَدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ; لِأَنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى جَذْبَةٍ مِنْ جَذَبَاتِ الْحَقِّ تُوَازِي عَمَلَ الثَّقَلَيْنِ، وَالتَّحَابُبُ سَبَبُ التَّجَاذُبِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الضَّمِّ فَقَالَ الْقَاضِي: الرُّوحُ بِضَمِّ الرَّاءِ، قِيلَ أَرَادَ بِهِ هُنَا الْقُرْآنَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْيَا بِهِ الْقَلْبُ، كَمَا يَحْيَا بِالرُّوحِ الْبَدَنُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَحَابُّونَ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ وَمُتَابِعَةِ الْقُرْآنِ، وَمَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُصَادَقَتِهِمُ اهـ. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ النَّسَبَ الدَّاعِيَ إِلَى تَحَابُبِهِمْ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ لَا شَيْءَ آخَرَ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّوحِ الْمَحَبَّةُ ; فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَنْتَ رُوحِي أَيْ: مَحْبُوبِي كَالرُّوحِ أَيْ: تَحَابُّوا بِمَا أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] فَبَعِيدٌ جِدًّا إِذِ الْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلُ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، وَسُمِّي رُوحًا ; لِأَنَّ الدِّينَ يَحْيَا بِهِ وَوَحْيُهُ.

(عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ) أَيْ: حَالِ كَوْنِ تَحَابُبِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ (بَيْنَهُمْ) أَيْ: بِغَيْرِ نَسَبٍ صُورِيٍّ، بَلْ لِأَجْلِ قُرْبٍ مَعْنَوِيٍّ (وَلَا أَمْوَالٍ) أَيْ: وَلَا اشْتِرَاكِ أَمْوَالٍ (يَتَعَاطَوْنَهَا) ، أَيْ: بِالْمُعَامَلَةِ أَوِ الْمُجَامَلَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَغْرَاضُ الْفَاسِدَةُ فِي الْمَحَبَّةِ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْقُرَابَةِ عَلَى مَا هُوَ مَرْكُوزٌ فِي الطَّبَائِعِ، أَوْ لِلْمَالِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَطْمَحُ الْأَطْمَاعِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا، وَالْمَقْصُودُ تَحْسِينُ النِّيَّةِ تَزْيِينُ الطَّوِيَّةِ (فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ) أَيْ: مُنَوَّرَةٌ أَوْ ذَاتُ نُورٍ، أَوْ هِيَ نَفْسُ النُّورِ مُبَالَغَةً كَرَجُلٍ عَدْلٍ (وَإِنَّهُمْ لَعَلَى نُورٍ) أَيْ: عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِمَنْزِلَتِهِمْ، وَمَحَلُّهُمْ مِثْلُهَا بِمَا هُوَ أَعْلَى مَا يُجْلَسُ عَلَيْهِ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَحَافِلِ عَلَى أَعَزِّ الْأَوْضَاعِ وَأَشْرَفِهَا، مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ أَبْهَى وَأَحْسَنِ مَا يُشَاهَدُ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ رُتْبَتَهُمْ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْعَلَاءِ وَالشَّرَفِ وَالْبَهَاءِ اهـ. وَعُبِّرَ عَنْهَا بِالنُّورِ مُبَالَغَةً، فَهُمْ نُورٌ عَلَى نُورٍ فِي غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ، وَلَهُمْ سُرُورٌ عَلَى سُرُورٍ. (لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ) بِكَسْرِ الزَّايِ (وَقَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِشْهَادًا لِلْفِقْرَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْحَدِيثِ، أَوْ قَرَأَ الصَّحَابِيُّ اعْتِضَادًا (هَذِهِ الْآيَةَ: أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ) أَيِ: الْمُتَّقُونَ الْأَعَمُّ مِنَ الْمُتَحَابِّينَ (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ لُحُوقِ عِقَابٍ (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) : مِنْ فَوْتِ ثَوَابٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: عَنْ عُمَرَ بِلَفْظِ الْمِشْكَاةِ.

5013 - وَرَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنْ أَبِي مَالِكٍ بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ " مَعَ زَوَائِدَ وَكَذَا فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5013 - (وَرَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ (عَنْ أَبِي مَالِكٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيُّ كَذَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ (بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ مَعَ زَوَائِدَ) أَيْ: مَعَ كَلِمَاتٍ زَائِدَةٍ أَوْ مَعَ زَوَائِدَ فَوَائِدَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ (وَكَذَا) أَيْ: مِثْلُ حَدِيثِ الْمَصَابِيحِ (فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) أَيْ: لِلْبَيْهَقِيِّ، وَلَفْظُ الْمَصَابِيحِ هَكَذَا عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ قَالَ: " إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: حَدِّثْنَا مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ: " هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى وَقَبَائِلَ شَتَّى لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ، وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ قُدَّامَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ» " قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِهِ: هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ قُرْبِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ شَارِحٌ آخَرُ، قَوْلُهُ: قُدَّامَ الرَّحْمَنُ أَيْ: قُدَّامَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ أَنَّ الْفَزَعَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ، وَقِيلَ: الْفَزَعُ خَوْفٌ مَعَ جُبْنٍ وَالْخَوْفُ غَمٌّ يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ بِسَبَبِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ سَيَقَعُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَزَعِ هُنَا الِاسْتِغَاثَةُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَهِيَ تَنْشَأُ مِنْ خَوْفِ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ طَمَعِ تَعْلِيَةِ الدَّرَجَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا وَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يُصَدِّرَ الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ، وَيَأْتِي بِالْحَدِيثِ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ بِمُقْتَضَى أَصْلِهِ فَيَقُولُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَكَذَا رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، ثُمَّ يَقُولُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَنَحْوَهُ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ، لَكِنَّ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ ; لِأَنَّ التَّصْنِيفَ مَهْمَا أَمْكَنَ حَقُّهُ أَنْ لَا يُغَيَّرَ.

5014 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي ذَرٍّ: يَا أَبَا ذَرٍّ! أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ " قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5014 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي ذَرٍّ: يَا أَبَا ذَرٍّ! أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ» ) : بِضَمِّ عَيْنٍ وَفَتْحِ رَاءٍ جَمْعُ عُرْوَةٍ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ طَرَفِ الدَّلْوِ وَالْكُوزِ وَنَحْوِهِمَا فَاسْتُعِيرَ لِمَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ: (أَوْثَقُ؟) أَيْ: أَحْكَمُ (قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) : وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي السُّؤَالِ بِأَنْ يَقَعَ الْجَوَابُ فِي حَالِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَإِقْبَالِ الْفِكْرِ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ لَدَيْهِ (قَالَ: الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ) أَيِ: الْمُعَاوَنَةُ وَالْمُحَابَبَةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ (وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ) أَيْ: لِأَجْلِهِ وَلَوْ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ كَحُبِّنَا لِبَعْضِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَرَنَا وَلَا نَرَاهُ، (وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ) : أَيْ: فِي سَبِيلِهِ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» " وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ» .

5015 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا عَادَ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ أَوْ زَارَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5015 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا عَادَ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ» ) أَيْ: مَرِيضًا (أَوْ زَارَهُ) أَيْ: صَحِيحًا فَـ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلشَّكِّ بِنَاءً عَلَى تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا أَوْ نَظَرًا لِأَصْلِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ الْعِيَادَةَ وَالزِّيَارَةَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، إِلَّا أَنَّ الْعِيَادَةَ تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الْمَرَضِ، وَالزِّيَارَةَ فِي الصِّحَّةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الزِّيَارَةَ أَعَمُّ مِنَ الْعِيَادَةِ، كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَخَصُّ مِنَ الْعِبَادَةِ. (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ (طِبْتَ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ: صِرْتَ طَيِّبَ الْعَيْشِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ حَصَلَ لَكَ طِيبُ عَيْشٍ فِيهَا وَهُوَ إِخْبَارٌ، وَيُحْتَمَلُ الدُّعَاءُ (وَطَابَ مَمْشَاكَ) أَيْ: صَارَ مَشْيُكَ سَبَبَ طِيبِ عَيْشِكَ فِيهَا، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَلَا يُعَدُّ فِي تَعْمِيمِ طِيبِ الْعَيْشِ لِيَشْمَلَ طِيبَ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَاءِ وَبَرَكَةِ الرِّزْقِ وَسَعَةِ الْقَلْبِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَتَوْفِيقِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كِنَايَةً عَنْ قَبُولِ نِيَّتِهِ وَشُكْرِ سَعْيِهِ. (وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا) أَيْ: هُيِّأْتَ مِنْهَا بِهَذِهِ الْعِيَادَةِ مَنْزِلَةً عَظِيمَةً وَمَرْتَبَةً جَسِيمَةً، فَإِنَّ إِدْخَالَ السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ، لَاسِيَّمَا وَالْعِيَادَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفِيهَا مَوْعِظَةٌ وَعِبْرَةٌ وَتَذْكِرَةٌ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِغْنَامِ الصِّحَّةِ وَالْحَيَاةِ وَرَفْعِ الْهُمُومِ الزَّائِدَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5016 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5016 - (وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ) : مَرَّ ذِكْرُهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ» ) أَيْ: لِيُحِبَّهُ أَيْضًا، أَوْ لِيَدْعُوهُ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي، فَيَكُونَا مِنَ الْمُتَحَابِّينَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ الْحَثُّ عَلَى التَّوَدُّدِ وَالتَّأَلُّفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ اسْتَمَالَ قَلْبَهُ وَاجْتَلَبَ بِهِ وُدَّهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُحِبٌّ لَهُ قَبْلَ نُصْحِهِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فِي عَيْبٍ إِنْ أَخْبَرَهُ بِهِ نَفْسَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ اهـ.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ الْمِقْدَامِ، وَابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالضِّيَاءِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ: " «إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ صَاحِبَهُ فَلْيَأْتِهِ فِي مَنْزِلِهِ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ» ". وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ " «إِذَا أَحْبَبْتَ رَجُلًا فَلَا تُمَارِهِ وَلَا تُشَارِهِ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا فَعَسَى أَنْ تُوَافِيَ لَهُ عَدُوًّا فَيُخْبِرُكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَيُفَرِّقَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ» ".

5017 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ نَاسٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ عِنْدَهُ: إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا لِلَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْلَمْتَهُ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: " قُمْ إِلَيْهِ فَأَعْلِمْهُ ". فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ. فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَكَ مَا احْتَسَبْتَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: " «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5017 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ نَاسٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ ( «فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ عِنْدَهُ: إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا لِلَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلَمْتَهُ» ؟) : بِهَمْزَةٍ مُقَدَّرَةٍ مُحَقَّقَةٍ أَوْ مُسَهَّلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ مُنْقَلِبَةٌ (قَالَ: لَا. قَالَ: قُمْ إِلَيْهِ) أَيْ: مُبَادَرَةً (فَأَعْلِمْهُ فَقَامَ إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ الْأَوَّلُ (أَحَبَّكَ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (ثُمَّ رَجَعَ) : أَيِ: الرَّجُلُ الثَّانِي (فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: عَمَّا جَرَى بَيْنَهُمَا أَوْ عَمَّا أَجَابَ لَهُ (فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) أَيْ: دُنْيَا وَأُخْرَى (وَلَكَ مَا احْتَسَبْتَ) : أَيْ: أَجْرُ مَا احْتَسَبْتَ، وَالِاحْتِسَابُ طَلَبُ الثَّوَابِ، وَأَصْلُ الِاحْتِسَابِ بِالشَّيْءِ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِسَابِ أَوِ الْحَسَبِ، وَاحْتَسَبَ بِالْعَمَلِ إِذَا قَصَدَ بِهِ مَرْضَاةَ رَبِّهِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ. «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ» ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ قَرِيبٌ مِنَ الْآخَرِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى مَا اكْتَسَبَ كَسَبَ كَسْبًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ سَبَبُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الِاحْتِسَابِ، لِأَنَّ الِافْتِعَالَ لِلِاعْتِمَالِ. فِي النِّهَايَةِ: الِاحْتِسَابُ مِنَ الْحَسَبِ كَالِاعْتِدَادِ مِنَ الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ يَنْوِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ احْتَسَبَهُ، لِأَنَّ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَعْتَدَّ عَمَلَهُ، فَجُعِلَ فِي مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ مُعْتَدٌّ بِهِ، وَالْحِسْبَةُ اسْمٌ مِنَ الِاحْتِسَابِ كَالْعِدَّةِ مِنَ الِاعْتِدَادِ، هَذَا وَفِي حِصْنِ الْجَزَرِيِّ، وَإِذَا قَالَ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فِي اللَّهِ. قَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.

5018 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5018 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيِّ (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تُصَاحِبْ) أَيْ: لَا تَقْصِدْ فِي الْمُصَاحَبَةِ (إِلَّا مُؤْمِنًا) أَيْ: كَامِلًا بَلْ مُكَمَّلًا، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ مُصَاحَبَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ مُصَاحَبَتَهُمْ مُضِرَّةٌ فِي الدِّينِ، فَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ جِنْسُ الْمُؤْمِنِينَ. (وَلَا يَأْكُلُ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) أَيْ: مُؤْمِنٌ أَوْ مُتَوَرِّعٌ يَصْرِفُ قُوَّةَ الطَّعَامِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ وَالنَّهْيُ وَإِنْ نُسِبَ إِلَى التَّقِيِّ، فَفِي الْحَقِيقَةِ مُسْنَدٌ إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ لَا أَرَيَنَّكَ هَهُنَا، فَالْمَعْنَى لَا تُطْعِمْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيًّا. وَفِي رِوَايَةٍ بِزِيَادَةِ: وَلَا تَأْكُلْ إِلَّا طَعَامَ تَقِيٍّ، فَإِنَّ طَعَامَهُ غَالِبًا يَكُونُ حَلَالًا مُؤَثِّرًا فِي تَحْصِيلِ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا إِنَّمَا جَاءَ فِي طَعَامِ الدَّعْوَةِ دُونَ طَعَامِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: " {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] " وَمَعْلُومٌ أَنْ أُسَرَاءَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا حُذِّرَ مِنْ صُحْبَةِ مَنْ لَيْسَ يَتَّقِي وَزُجِرَ عَنْ مُخَالَطَتِهِ وَمُؤَاكَلَتِهِ، لِأَنَّ الْمَطَاعِمَ تُوقِعُ الْأُلْفَةَ وَالْمَوَدَّةَ فِي الْقُلُوبِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ فَإِنْ قُلْتُ: الْمُؤْمِنُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَامَّ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْخَاصَّ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْفَاسِقُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا تُصَاحِبْ إِلَّا صَالِحًا. قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالْفَاسِقِ الْكَافِرِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 18] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ خُلُودِهِمْ. وَفِي تَفْسِيرِ السَّيِّدِ مَعِينِ الدِّينِ الصَّفَوِيِّ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ، فَقَالَ لَعَلِيٍّ: إِنَّكَ صَبِيٌّ وَأَنَا وَاللَّهِ أَبْسَطُ لِسَانًا، وَأَحَدُّ سِنَانًا، وَأَشْجَعُ مِنْكَ جَنَانًا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: اسْكُتْ، فَإِنَّكَ فَاسِقٌ، هَكَذَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَالْفَاسِقُ هَهُنَا مَعْنَاهُ الْخَارِجُ عَنِ الْإِيمَانِ، الثَّابِتُ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَا يُشْكَلُ بِأَنَّ الْوَلِيدَ أَسْلَمَ آخِرَ عُمُرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: (وَلَا يَأْكُلُ) نَهْيٌ لِغَيْرِ التَّقِيِّ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَهُ، وَالْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَا لَا يَأْكُلُ التَّقِيُّ طَعَامَهُ مِنْ كَسْبِ الْحَرَامِ، وَتَعَاطِي مَا يَنْفِرُ عَنْهُ التَّقِيُّ، فَالْمَعْنَى لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُطِيعًا، وَلَا تُخَالِلْ إِلَّا تَقِيًّا اهـ. وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبَهَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ بِهِ وَجْهُ الْحَصْرِ، فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ.

5019 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5019 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» ) أَيْ: غَالِبًا، وَالْخُلَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ لَا تُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي الْمُوَافَقَةِ الدِّينِيَّةِ، أَوِ الْخُلَّةُ الظَّاهِرَةُ قَدْ تُفْضِي إِلَى حُصُولِ مَا غَلَبَ عَلَى خَلِيلِهِ مِنَ الْخَصْلَةِ الدِّينِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ) : قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: مُجَالَسَةُ الْحَرِيصِ وَمُخَالَطَتُهُ تُحَرِّكُ الْحِرْصَ، وَمُجَالَسَةُ الزَّاهِدِ وَمُخَالَلَتُهُ تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالِاقْتِدَاءِ، بَلِ الطَّبْعُ يُسْرَقُ مِنَ الطَّبْعِ مِنْ حَيْثُ لَا يُدْرَى، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الْخَلِيلُ الصَّدِيقُ فَعِيلَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْخُلَّةَ بِالضَّمِّ الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتِ الْقَلْبَ فَصَارَتْ خِلَالَهُ أَيْ فِي بَاطِنِهِ اهـ. وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَوْلَى أَوِ الْخُلَّةَ أَعْلَى، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ وَبَسْطُهُ يَطُولُ فَيَتَعَيَّنُ الْعُدُولُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ (إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَهُ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ، وَغَرَضُ الْمُؤَلِّفِ مِنْ إِيرَادِهِ وَالْإِطْنَابِ فِيهِ دَفْعُ الطَّعْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي انْتَقَدَهَا الْحَافِظُ سِرَاجُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ عَلَى الْمَصَابِيحِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِ قَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

5020 - وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نَعَامَةَ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَلْيَسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، وَمِمَّنْ هُوَ؟ فَإِنَّهُ أَوْصَلُ لِلْمَوَدَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5020 - (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نَعَامَةَ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ضَبِّيٌّ، رَوَى عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ حُنَيْنًا مُشْرِكًا، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْحَدِيثِ أَنَّ صُحْبَتَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ) : بِمَدِّ الْهَمْزَةِ مِنَ الْمُؤَاخَاةِ أَيْ: إِذَا اتَّخَذَهُ أَخًا فِي اللَّهِ (فَلْيُسَائِلْهُ) : مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. وَفِي نَسْحَةٍ فَصِيحَةٍ فَلْيَسْأَلْهُ (عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، وَمِمَّنْ هُوَ؟) أَيْ: وَيَسْأَلُهُ مِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ وَقَوْمٍ وَهُوَ (فَإِنَّهُ) أَيِ: السُّؤَالُ عَمَّا ذُكِرَ

(أَوْصَلَ) أَيْ: أَكْثَرُ وَصْلَةً (لِلْمَوَدَّةِ) أَيْ: لِلْمَحَبَّةِ فِي الْأُخُوَّةِ. وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: أَوْصَلُ أَيْ: لِلْمَوَدَّةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا ابْنُ سَعْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُ لِيَزِيدَ سَمَاعًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ مُوَثَّقُونَ وَيَزِيدُ بْنُ نَعَامَةَ بِفَتْحِ النُّونِ أَبُو مَرْدُودٍ الضَّبِّيُّ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ، وَحُكِيَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: شَهِدَ حُنَيْنًا مُشْرِكًا، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ اهـ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَسُئِلَ أَبِي عَنْهُ فَقَالَ: صَالِحُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ الصَّوَابُ أَنَّهُ يُرْسِلُ وَهُوَ صَدُوقٌ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو خَلْدَةَ وَسَلَامُ بْنُ مِسْكِينٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَخُلَاصَةُ الْخِلَافِ أَنَّ الصُّحْبَةَ السَّابِقَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ هَلْ هِيَ مُعْتَدَّةٌ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ الثَّانِي مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَتَأْدِيَتِهِ حَالَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ صَحَّتْ لَهُ الصُّحْبَةُ وَالسَّمَاعُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ ثَبَتَتِ الصُّحْبَةُ وَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ فَالْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ التَّابِعِيِّ وَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ مَذْهَبُنَا الْمَنْصُورُ، هَذَا وَقَدِ اعْتَضَدَ الْحَدِيثُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَلَفْظُهُ: إِذَا أَحْبَبْتَ رَجُلًا فَاسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا حَفِظْتَهُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عُدْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ شَهِدْتَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ كَالتَّفْسِيرِ لِلسَّابِقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقَائِقِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5021 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَتَدْرُونَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ " قَالَ قَائِلٌ؟ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ. وَقَالَ قَائِلٌ الْجِهَادُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5021 - (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ (أَتَدْرُونَ أَيُّ الْأَعْمَالِ) أَيْ: أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا (أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ) أَيْ: أَفْضَلُ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْأَحَبِّيَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَفْضَلِيَّةَ، فَفِي هَذَا الْمَقَامِ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ، نَعَمْ يُتَصَوَّرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِ، لِأَنَّ وَلَدَهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَفْضَلُ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُ - أَحَبُّ إِلَى السَّيِّدِ السُّنِّيِّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنَ الشَّيْخَيْنِ، وَكَذَا قَدْ تَكُونُ مُطَالَعَةُ عِلْمٍ أَوْ مُبَاشَرَةُ عَمَلٍ أَحَبُّ عِنْدَ أَحَدٍ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ عِنْدَهُ أَيْضًا. (قَالَ قَائِلٌ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى " أَوْ " وَالتَّقْدِيرُ وَقَالَ قَائِلٌ الزَّكَاةُ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَقَالَ (قَائِلٌ: الْجِهَادُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ) وَيُؤَيِّدُهُ غِبْطَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَعَمُودِهِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ زَائِدٌ بَعْدَ حُصُولِ الْفَرَائِضِ، نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ كَذَلِكَ. وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ بَعْدَ ارْتِكَابِ الْمَأْمُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ الْمَنْهِيَّةِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ لِلَّهِ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ وَأَكْمَلُ الطَّاعَاتِ، فَعَلَيْكُمْ بِهِمَا. وَمِنَ الْوَاضِحِ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا يُخْتَارَانِ عَلَيْهِمَا. أَوْ ثَوَابُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِهِمَا مُطْلَقًا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ إِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ الْحَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ بِلَفْظِ: أَحُبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا مَنْ جُوعٍ أَوْ دَفَعَ عَنْهُ مَغْرَمًا أَوْ كَشَفَ عَنْهُ كَرْبًا اهـ. وَالْكُلُّ مِنْ بَابِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ أَفْضَلُ مِنَ النَّوَافِلِ الْقَاصِرَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ الْحُبُّ فِي اللَّهِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ؟ قُلْتُ: مَنْ أَحَبَّ فِي اللَّهِ يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَمِنْ شَرْطِ مَحَبَّتِهِمْ أَنْ يَقْفُوَ أَثَرَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ فِي اللَّهِ أَبْغَضَ أَعْدَاءَهُ، وَبَذَلَ جُهْدَهُ فِي الْمُجَاهَدَةِ مَعَهُمْ بِالسِّنَانِ وَاللِّسَانِ اهـ. وَهُوَ جَوَابٌ غَيْرُ شَافٍ، كَمَا لَا يَخْفَى وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى. (رَوَاهُ) أَيْ: مَجْمُوعَ الْحَدِيثِ (أَحْمَدُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ) أَيْ: قَوْلَهُ: إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَخْ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ: " «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» ".

5022 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا أَحَبَّ عَبْدٌ عَبْدًا لِلَّهِ إِلَّا أَكْرَمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5022 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) : أَيِ: الْبَاهِلِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحَبَّ عَبْدٌ عَبْدًا لِلَّهِ) أَيْ: لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ (إِلَّا أَكْرَمَ رَبَّهُ) أَيْ: عَظَّمَهُ (عَزَّ) أَيْ: بَهَاؤُهُ (وَجَلَّ) أَيْ: ثَنَاؤُهُ أَوْ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ أَوْ عَزِيزٌ وَجَلِيلٌ بِغَيْرِ إِعْزَازٍ وَإِجْلَالٍ وَإِكْرَامٍ مِنْ مَخْلُوقٍ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْعِزِّ: " {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] " (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

5023 - وَعَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5023 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَيِ: ابْنِ السَّكَنِ (أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ) : جَمْعُ خَيْرٍ بِمَعْنَى أَخْيَرَ أَيْ أَفَاضِلِكُمْ (قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (ذُكِرَ اللَّهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ) : سَبَقَ الْحَدِيثُ مُسْتَوْفًى بِطَرِيقِ مَبَانِيهِ وَبَيَانِ مَعَانِيهِ فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ بَابِ حِفْظِ اللِّسَانِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟ خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهَا.

5024 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاحِدٌ فِي الْمَشْرِقِ وَآخَرُ فِي الْمَغْرِبِ ; لَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَقُولُ: هَذَا الَّذِي كُنْتَ تُحِبُّهُ فِيَّ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5024 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ» ) أَيْ: تَحَابَبَا لِلَّهِ (عَزَّ) أَيْ: عَدْلُهُ (وَجَلَّ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَفِي نُسْخَةٍ (وَاحِدُهُمَا فِي الْمَشْرِقِ وَآخَرُ فِي الْمَغْرِبِ) أَيْ: مَثَلًا (لَجَمْعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: لِشَفَاعَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، أَوْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُزَاوَرَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ. (يَقُولُ) أَيْ: سَيَقُولُ، أَوْ يُقَالُ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ صَبَاحٌ وَلَا مَسَاءٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ أَوْ وَاسِطَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. (هَذَا الَّذِي كُنْتَ تُحِبُّهُ فِيَّ) أَيْ: لِأَجْلِيَ.

5025 - وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مِلَاكِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تُصِيبُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ عَلَيْكَ بِمَجَالِسِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَإِذَا خَلَوْتَ فَحَرِّكْ لِسَانَكَ مَا اسْتَطَعْتَ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَحِبَّ فِي اللَّهِ وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ، يَا أَبَا رَزِينٍ! هَلْ شَعَرْتَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ زَائِرًا أَخَاهُ، شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، كُلُّهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا إِنَّهُ وَصَلَ فِيكَ، فَصِلْهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُعْمِلَ جَسَدَكَ فِي ذَلِكَ فَافْعَلْ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5025 - (وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ لَقِيطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ صَبْرَةَ الْعَقِيلِيُّ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَاصِمٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا. (أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ أَوِ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَلَا لِلنَّفْيِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مَا أَتَى بِبَلَى فِي جَوَابِهِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ وَعَلَى كُلٍّ فَفِي الْكَلَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّنْبِيهِ فَالْمَعْنَى تَنَبَّهْ لِقَوْلِي: أَلَا (أَدُلُّكَ عَلَى مِلَاكِ هَذَا الْأَمْرِ) : الْمِلَاكُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَا يَتَقَوَّمُ بِهِ الشَّيْءُ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا فِي الذِّهْنِ وَهُوَ مُبْهَمٌ بَيَّنَهُ وَصْفُهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي تُصِيبُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ عَلَيْكَ بِمَجَالِسِ أَهْلِ الذِّكْرِ) أَيِ: الْزَمْهَا جَمِيعَهَا لِأَنَّهَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " الذِّكْرُ» " وَالْمَعْنَى إِذَا مَرَرْتُمْ بِجَمَاعَةٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَنْتُمْ أَيْضًا مُوَافَقَةً لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا " قُلْتُ: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " الْمَسَاجِدُ " قُلْتُ: وَمَا الرَّتْعُ يَا

رَسُولَ اللَّهِ: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ". قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ: الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فِي الْمَكَانِ وَالذِّكْرِ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ وَالْأَذْكَارَ الْمَذْكُورَةَ ذَكَرَهَا عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، نَعَمِ الْمَسَاجِدُ خَيْرُ الْمَجَالِسِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ خَصَّهَا لِكَوْنِهَا أَفْضَلَ وَالْأَذْكَارُ هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِذَا نَصَّ عَلَيْهَا، وَإِلَّا فَمَجَالِسُ الذِّكْرِ تَشْمَلُ مَجَالِسَ الْعُلَمَاءِ وَمَحَافِلَ الْوُعَّاظِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِمَّنْ تَكُونُ مَجَالِسُهُمْ مَشْحُونَةً بِذِكْرِ اللَّهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَقَائِدِ الْحَقِّيَّةِ وَالشَّرَائِعِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَإِذَا خَلَوْتَ فَحَرِّكْ لِسَانَكَ مَا اسْتَطَعْتَ بِذِكْرِ اللَّهِ) : وَمُجْمَلُهُ أَنَّهُ لَا تَغْفُلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لَا فِي الْمَلَأِ وَلَا فِي الْخَلَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: " «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا ذَكَرْتَنِي خَالِيًا ذَكَرْتُكَ خَالِيًا، وَإِذَا ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنَ الَّذِي ذَكَرْتَنِي فِيهِمْ» " وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ: " «يَقُولُ اللَّهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ» " فَقَوْلُهُ (فِي نَفْسِهِ) ظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ لِمُقَابَلَتِهِ بِالذِّكَرِ النَّفْسِيِّ، الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْ نَوْعَيِ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ، وَقَوْلُهُ: فَحَرِّكْ لِسَانَكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبْتَدِئِ حَيْثُ احْتَاجَ إِلَى أَنَّهُ يَذْكُرُ اللَّهَ بِجَنَانِهِ بِاسْتِعَانَةِ لِسَانِهِ، كَمَا حَقَّقَ فِي بَحْثِ النِّيَّةِ، أَوْ إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَكْمَلُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ لِمَا رَوَى أَبُو يَعْلَى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِفَضْلِ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ الْحَفَظَةُ سَبْعُونَ ضِعْفًا إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَمَعَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ لِحِسَابِهِمْ وَجَاءَتِ الْحَفَظَةُ بِمَا حَفِظُوا وَكَتَبُوا قَالَ لَهُمْ: أَنْظِرُوا هَلْ بَقِيَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ؟ فَيَقُولُونَ: مَا تَرَكْنَا شَيْئًا مِمَّا عَلِمْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَيْنَاهُ وَكَتَبْنَاهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لَكَ عِنْدِي حُسْنًا لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنَا أَجْزِيكَ بِهِ وَهُوَ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ» " اهـ. وَفِي قَوْلِهِ: لَا تَعْلَمُهُ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى مَا قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ مِنْ فَنَاءِ الذَّاكِرِ فِي الذِّكْرِ، وَبَقَائِهِ بِالْمَذْكُورِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] أَيْ: نَسِيَتْ نَفْسُكُ أَوْ ذَكِّرْهَا أَيْضًا، بَلِ الشُّعُورُ عَنْهَا، وَالشُّعُورُ عَنْ عَدَمِ الشُّعُورِ هُوَ الْمَقَامُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِفَنَاءٍ وَالْفَنَاءُ رَزَقَنَا اللَّهُ الْبَقَاءُ وَاللِّقَاءُ. (وَأَحِبَّ فِي اللَّهِ) أَيْ: مَنْ يُعِينُكَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ (وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ) أَيْ: مَنْ يُشْغِلُكَ عَنِ اللَّهِ (يَا أَبَا رَزِينٍ) : تَكْرَارُ النِّدَاءِ الْمُسْتَطَابِ لِزِيَادَةِ الِاقْتِرَابِ وَرَفْعِ الْحِجَابِ (هَلْ شَعَرْتَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ. فَفِي الْقَامُوسِ: شَعَرَ بِهِ كَنَصَرَ وَكَرُمَ. عِلْمُهُ بِهِ وَفَطِنَ، وَالْمَعْنَى هَلْ عَلِمْتَ (أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ زَائِرًا أَخَاهُ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُرِيدًا زِيَارَةَ أَخِيهِ فِي اللَّهِ (شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، كُلُّهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ) أَيْ: يَدْعُونَ لَهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ أَوْ يُثْنُونَ عَلَيْهِ (وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا إِنَّهُ وَصَلَ) : أَيْ: أَخَاهُ (فِيكَ) أَيْ: لِأَجْلِكَ (فَصِلْهُ) أَيْ: بِوَصْلِكَ الْمُعَبِّرِ عَنْ قُرْبِكَ جَزَاءً وِفَاقًا، أَوْ صِلْهُ بِصِلَةٍ مِنْ عِنْدِكَ (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) أَيْ: دَائِمًا (أَنْ تُعْمِلَ جَسَدَكَ) : مِنَ الْأَعْمَالِ أَيْ: إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تَبْذُلَ جُهْدَكَ وَتَسْتَفْرِغَ طَاقَتَكَ (فِي ذَلِكَ) أَيْ: فِي مَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ أَوْ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ، أَوْ فِي زِيَارَةِ الْأَخِ لِلَّهِ. (فَافْعَلْ) : أَيْ: وَلَا تَمَلَّ فِي حُصُولِ الْعَمَلِ رَجَاءً لِوُصُولِ الْأَمَلِ.

5026 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَعُمُدًا مِنْ يَاقُوتٍ عَلَيْهَا غُرَفٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ، لَهَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ تُضِيءُ كَمَا يُضِيءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ يَسْكُنُهَا؟ قَالَ: " الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَجَالِسُونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَلَاقُونَ فِي اللَّهِ» " رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5026 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: وَحْدِي لِيَتَرَتَّبَ فَائِدَةً عَلَى ذِكْرِ الْجُمْلَةِ الْكَوْنِيَّةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَعُمُدًا) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ عَمُودٍ بِمَعْنَى الِأُسْطُوَانَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ

بِفَتْحِهِمَا وَقُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ: " فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ " وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَمُودُ مَعْرُوفٌ وَالْجَمْعُ أَعْمِدَةٍ وَعُمُدٌ وَعُمْدٌ. (مِنْ يَاقُوتٍ عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الْعُمُدِ (غُرَفٌ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ جَمْعُ غُرْفَةٍ (مِنْ زَبَرْجَدٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (لَهَا) أَيْ: لِلْغُرَفِ (أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ) : إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْأَمْنِ أَوْ إِيمَانٌ إِلَى انْتِظَارِ مَقْدِمِ صَاحِبِهَا (تُضِيءُ) أَيِ: الْأَبْوَابُ أَوِ الْغُرَفُ بِمَا فِيهَا وَأَضَاءَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ. (كَمَا يُضِيءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَبِكَسْرٍ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالتَّحْتِيَّةِ، وَفِي الْقَامُوسِ يُثَلَّثُ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] أَيْ: مُضِيءٌ مُتَلَأْلِئٌ كَالزَّهْرَةِ فِي صَفَائِهِ، وَزَهْرَتُهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ أَوْ فَعِيلٍ كَمَرِيقٍ أَيِ الْمُعَصْفَرِ مِنَ الدَّرْءِ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ أَوْ بَعْضِ ضَوْئِهِ بَعْضًا مِنْ لَمَعَانِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَلَبَ هَمْزَتَهُ يَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَأَبِي بَكْرٍ عَلَى الْأَصْلِ، وَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ دَرِّيٌّ كَشَرِّيبٍ أَيْ كَثِيرِ الشُّرْبِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِ مَقْلُوبًا أَيْ: بِكَسْرِ الدَّالِّ، وَقَلْبِ هَمْزَتِهِ يَاءً لَكِنَّهُ شَاذٌّ قَرَأَ بِهِ الزُّهْرِيُّ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ يَسْكُنُهَا؟) أَيْ: هَذِهِ الْغُرَفَ (قَالَ: الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَجَالِسُونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَلَاقُونَ) أَيِ: الْمُتَزَاوِرُونَ أَوِ الْمُتَصَافِحُونَ (فِي اللَّهِ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَرَوَى الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْإِخْوَانِ.

[باب ما ينهى عنه من التهاجر والتقاطع واتباع العورات]

[بَابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَاتِّبَاعِ الْعَوْرَاتِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5027 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.» ـــــــــــــــــــــــــــــ [17]- بَابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ فِي التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَاتِّبَاعِ الْعَوْرَاتِ الْهَجْرُ: ضِدُّ الْوَصْلِ، وَالتَّهَاجُرُ أَخَصُّ مِنَ التَّقَاطُعِ، وَالِاتِّبَاعُ بِمَعْنَى التَّتَبُّعِ وَالتَّجَسُّسِ، وَالْعَوْرَةُ مَا فِي الْمَرْءِ مِنْ عَيْبٍ وَخَلَلٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5027 - (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ» ) بِضَمِّ الْجِيمِ (أَخَاهُ) أَيِ: الْمُسْلِمَ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أُخُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَالصَّحَابَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ إِشْعَارٌ بِالْعِلْيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ خَالَفَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ وَقَطَعَ هَذِهِ الرَّابِطَةَ جَازَ هِجْرَانُهُ فَوْقَ ثَلَاثَةٍ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُحِبُّ هِجْرَانَهُ وَقَوْلُهُ: (فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) أَيْ: بِأَيَّامِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ الْهَجْرُ فِي ثَلَاثٍ وَمَا دُونَهُ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْآدَمِيُّ مِنَ الْغَضَبِ، فَسُومِحَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لِيَرْجِعَ فِيهَا، وَيَزُولَ ذَلِكَ الْغَرَضُ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. وَقَالَ أَكْمَلُ الدِّينِ مِنْ أَئِمَّتِنَا: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى حُرْمَةِ هِجْرَانِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَّا جَوَازُ هِجْرَانِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَمَفْهُومٌ مِنْهُ لَا مَنْطُوقٌ، فَمَنْ قَالَ بِحُجِّيَّةِ الْمَفْهُومِ كَالشَّافِعِيَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِإِبَاحَتِهِ وَمَنْ لَا فَلَا اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَالشَّارِعُ إِنَّمَا حَرَّمَ الْمُهَاجَرَةَ الْمُقَيَّدَةَ لَا الْمُطْلَقَةَ مَعَ أَنَّ فِي إِطْلَاقِهَا حَرَجًا عَظِيمًا حَيْثُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مُطْلَقَ الْغَضَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى مُطْلَقِ الْهِجْرَانِ يَكُونُ حَرَامًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: رُخِّصَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَغْضَبَ عَلَى أَخِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ لِقِلَّتِهِ، وَلَا يَجُوزُ فَوْقَهَا إِلَّا إِذَا كَانَ الْهِجْرَانُ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجُوزُ فَوْقَ ذَلِكَ. وَفِي حَاشِيَةِ السُّيُوطِيِّ عَلَى الْمُوَطَّأِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَرَفِيقَيْهِ، حَيْثُ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهَجْرِهِمْ، يَعْنِي زِيَادَةً عَلَى ثَلَاثٍ إِلَى أَنْ بَلَغَ

خَمْسِينَ يَوْمًا. قَالَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ مِنْ مُكَالَمَةِ أَحَدٍ وَصِلَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ أَوْ يُدْخِلَ مَضَرَّةً فِي دُنْيَاهُ يَجُوزُ لَهُ مُجَانَبَتُهُ وَبُعْدُهُ، وَرَبَّ صَرْمٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ تُؤْذِيهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: يُرِيدُ بِهِ الْهَجْرَ ضِدَّ الْوَصْلِ، يَعْنِي فِيمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَتْبٍ وَمَوْجَدَةٍ، أَوْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ فِي حُقُوقِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ دُونَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الدِّينِ، فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَافَ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ النِّفَاقَ حِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ بِهِجْرَانِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا، وَقَدْ هَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا وَهَجَرَتْ عَائِشَةُ ابْنَ الزُّبَيْرِ مُدَّةً، وَهَجَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَمَاتُوا مُتَهَاجِرِينَ، وَلَعَلَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مَنْسُوخٌ بِالْآخَرِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ نَحْوُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمُتَوَاخِيَيْنِ أَوِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، بِخِلَافِ الْوَالِدِ مَعَ الْوَلَدِ، وَالْأُسْتَاذِ مَعَ تِلْمِيذِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا وُقِّرَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخُلُقِ لِبَعْضِ الْخَلَفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْهِجْرَةُ الْمُحَرَّمَةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّحْنَاءِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ، فَغَيْرُهَا إِمَّا مُبَاحٌ أَوْ خِلَافُ الْأُولَى (يَلْتَقِيَانِ) أَيْ: يَتَلَاقَيَانِ وَهُوَ مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ. (فَيُعْرِضُ هَذَا) أَيْ: وَجْهَهُ عَنْهُ (وَيُعْرِضُ هَذَا) : اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْهِجْرَانِ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَهْجُرُ وَمَفْعُولِهِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّلَاقِي وَالْإِعْرَاضُ فَلَا بَأْسَ بِالْهِجْرَانِ الْمُطْلَقِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ التَّثْلِيثُ أَمْ لَا؟ مَحَلُّ بَحْثٍ أَوْ تَوَقُّفٍ (وَخَيْرُهُمَا) : عَطْفٌ عَلَى لَا يَحِلُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى يَلْتَقِيَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَا يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَيْسَ بِخَيْرٍ اهـ. وَتَكَلُّفُهُ، بَلْ تَعَسُّفُهُ لَا يَخْفَى، وَالْمَعْنَى أَفْضَلُهُمَا فِي طَرِيقِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ (الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) أَيْ: ثُمَّ الَّذِي يَرُدُّهُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَرُدَّهُ لَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ أَصْلًا، فَيَجُوزُ هِجْرَانُهُ، بَلْ يَجِبُ لِأَنَّهُ بِتَرْكِ رَدِّ السَّلَامِ صَارَ فَاسِقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْبَادِئُ خَيْرَهُمَا لِدَلَالَةِ فِعْلِهِ، عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ وَأَنْسَبُ إِلَى الصَّفَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى حُسْنِ الْعَهْدِ وَحِفْظِ الْمَوَدَّةِ الْقَدِيمَةِ، أَوْ كَأَنَّهُ بَادِئٌ فِي الْمَحَبَّةِ وَالصُّحْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْأَكْمَلُ: وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى إِزَالَةِ الْهِجْرَانِ، وَأَنَّهُ يَزُولُ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبْدَأَ بِالْكَلَامِ قَبْلَ السَّلَامِ، كَمَا وَرَدَ: فِيمَا سَبَقَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5028 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ; فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " وَلَا تَنَافَسُوا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5028 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ) أَيِ: احْذَرُوا اتِّبَاعَ الظَّنِّ فِي أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى الْيَقِينِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] قَالَ الْقَاضِيَ: التَّحْذِيرُ عَنِ الظَّنِّ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ أَوِ التَّحَدُّثُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ أَوْ عَمَّا يُظَنُّ كَذِبُهُ اهـ. أَوِ اجْتَنِبُوا الظَّنَّ فِي التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الظَّنَّ) : فِي مَوْضِعِ الظَّاهِرِ زِيَادَةُ تَمْكِينٍ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ حَثًّا عَلَى الِاجْتِنَابِ (أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) : وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ: " «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» " وَقِيلَ أَيْ أَكْذَبُ حَدِيثِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ أَوِ اتَّقُوا سُوءَ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] وَهُوَ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ دُونَ مَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ أَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ - وَهُوَ أَنْ يَظُنَّ وَيَتَكَلَّمَ - إِثْمٌ، فَلَا تَجَسَّسُوا، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ: (وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا) : بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ فِي الْأَوَّلِ وَبِالْجِيمِ فِي الثَّانِي فَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَا تَطْلُبُوا التَّطَلُّعَ عَلَى خَيْرِ أَحَدٍ وَلَا عَلَى شَرِّهِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَى خَيْرِ أَحَدٍ رُبَّمَا يَحْصُلُ لَكَ حَسَدٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ فِيكَ، وَلَوِ اطَّلَعْتَ عَلَى شَرِّهِ تَعِيبُهُ وَتَفْضَحُهُ، وَقَدْ وَرَدَ: طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: التَّحَسُّسُ بِالْحَاءِ الِاسْتِمَاعُ لِحَدِيثِ الْقَوْمِ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ. وَقِيلَ بِالْجِيمِ التَّفْتِيشُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ. وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَهُوَ طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْأَخْبَارِ الْغَائِبَةِ وَالْأَحْوَالِ.

قُلْتُ: هَذَا أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ، لَكِنَّ الْأَنْسَبَ أَنْ يُقَيَّدَ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي تَقْضِي إِلَى سُوءِ الظَّنِّ، كَمَا يُفِيدُهُ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ، وَقَدْ قُرِئَ فِيهَا بِالْحَرْفَيْنِ، لَكِنَّ الْحَاءَ شَاذٌّ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ لَا تَبْحَثُوا عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ. تَفَعُّلٌ مِنَ الْجَسِّ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ كَالتَّلَمُّسِ، وَقُرِئَ بِالْحَاءِ مِنَ الْحِسِّ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْجَسِّ وَغَايَتُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْحَوَاسِّ الْجَوَاسُّ اهـ. وَقِيلَ بِالْجِيمِ التَّفْتِيشُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ بِتَلَطُّفٍ وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، وَبِالْحَاءِ تَطْلُبُ الشَّيْءَ بِالْحَاسَّةِ كَاسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَإِبْصَارِ الشَّيْءِ خُفْيَةً. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ التَّفَحُّصُ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ وَبَوَاطِنِ أُمُورِهِمْ بِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي بِنَفْسِهِ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ مَخْصُوصٌ بِالشَّرِّ وَالثَّانِي أَعَمُّ. (وَلَا تَنَاجَشُوا) : مِنَ النَّجْشِ بِالْجِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ. قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ طَلَبُ التَّرَفُّعِ وَالْعُلُوِّ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسَابِقِهِ وَلَاحِقِهِ. وَقِيلَ: أَنْ يُغْرِيَ بَعْضٌ بَعْضًا عَلَى الشَّرِّ وَالْخُصُومَةِ، وَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ التَّجَسُّسِ. وَقِيلَ: هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ بِغَيْرِ رَغْبَةٍ فِي السِّلْعَةِ، بَلْ لِيَخْدَعَ الْمُشْتَرِي بِالتَّرْغِيبِ مِنَ النَّجْشِ رَفْعِ الثَّمَنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَقِيلَ: مِنَ النَّجْشِ مَعْنَى التَّنْفِيرِ أَيْ لَا يُنَفِّرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِأَنْ يُسْمِعَهُ كَلَامًا أَوْ يَعْمَلَ شَيْئًا يَكُونُ سَبَبَ نُفْرَتِهِ (وَلَا تَحَاسَدُوا) أَيْ: لَا يَتَمَنَّى بَعْضُكُمْ زَوَالَ نِعْمَةِ بَعْضٍ سَوَاءٌ أَرَادَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لَا. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] إِلَى أَنْ قَالَ: " {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] " أَيْ مِثْلَ تِلْكَ النِّعْمَةِ أَوْ أَمْثَلَ مِنْهَا، وَهَذَا الْحَسَدُ الْمَحْمُودُ الْمُسَمَّى بِالْغِبْطَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ " «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ» " الْحَدِيثَ. (وَلَا تَبَاغَضُوا) أَيْ: لَا تَخْتَلِفُوا فِي الْأَهْوَاءِ وَالْمَذَاهِبِ ; لِأَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الدِّينِ وَالضَّلَالُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ يُوجِبُ الْبُغْضَ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّبَاغُضِ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّحَابُبِ مُطْلَقًا إِلَّا مَا يَخْتَلُّ بِهِ الدِّينُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ التَّحَابُبُ، وَيَجُوزُ التَّبَاغُضُ لِأَنَّ غَرَضَ الشَّارِعِ اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّحَابُبَ سَبَبُ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّبَاغُضُ مُوجِبُ الِافْتِرَاقِ، فَالْمَعْنَى لَا يُبْغِضْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: أَيْ لَا تَشْتَغِلُوا بِأَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ إِذِ الْعَدَاوَةُ وَالْمَحَبَّةُ مِمَّا لَا اخْتِيَارَ فِيهِ، فَإِنَّ الْبُغْضَ مِنْ نِفَارِ النَّفْسِ عَمَّا مَا يُرْغَبُ عَنْهُ، وَأَوَّلُهُ الْكَرَاهَةُ، وَأَوْسَطُهُ النُّفْرَةُ، وَآخِرُهُ الْعَدَاوَةُ، كَمَا أَنَّ الْحُبَّ مِنِ انْجِذَابِ النَّفْسِ إِلَى مَا يَرْغَبُ فِيهِ، وَمَبْدَؤُهُ الْمَيْلُ، ثُمَّ الْإِرَادَةُ، ثُمَّ الْمَوَدَّةُ وَهُمَا مِنْ غَرَائِزِ الطَّبْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: لَا تُوقِعُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ نَهْيًا عَنِ النَّمِيمَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْسِيسِ الْفَسَادِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِمَصْلَحَةٍ، فَإِذَا دَعَتْ كَمَا لَوْ أُخْبِرَ أَنَّ إِنْسَانًا يُرِيدُ الْفَتْكَ بِهِ، أَوْ بِأَهْلِهِ أَوْ بِمَالِهِ، فَلَا مَنْعَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا. (وَلَا تَدَابَرُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِيهِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ، وَيَجُوزُ تَشْدِيدُ التَّاءِ وَصْلًا كَمَا قَرَأَ بِهِ الْبَزِّيُّ رَاوِي ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ نَحْوِ: لَا تَيَمَّمُوا أَيْ: لَا تُقَاطِعُوا، وَلَا تُوَلُّوا ظُهُورَكُمْ عَنْ إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تُعْرِضُوا عَنْهُمْ مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّبُرِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَقَاطِعَيْنِ يُوَلِّي دُبُرَهُ صَاحِبَهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَغْتَابُوا. (وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) : خَبَرٌ آخَرُ أَوْ بَدَلٌ، أَوْ هُوَ الْخَبَرُ وَعِبَادُ اللَّهِ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالنِّدَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْقَعُ. قُلْتُ: بَلْ وُقُوعُهُ خَبَرًا وَاقِعًا تَحْتَ الْأَمْرِ أَوْجَهُ، لِكَوْنِ هَذَا الْوَجْهِ مُشْعِرًا بِالْعِلْيَةِ مِنْ حَيْثُ الْعُبُودِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ ضُبِطَ عِبَادٌ بِالنَّصْبِ وَلِلَّهِ بِاللَّامِ الْأَجَلِّيِّةِ، وَالْمَعْنَى أَنْتُمْ مُسْتَوُونَ فِي كَوْنِكُمْ عُبَيْدَ اللَّهِ وَمِلَّتُكُمْ وَاحِدَةٌ، وَالتَّحَاسُدُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّقَاطُعُ مُنَافِيَةٌ لِحَالِكُمْ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمُعَاشَرَةِ فِي الْمَوَدَّةِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبَرِّ وَالنَّصِيحَةِ بِكُلِّ حَسَنَةٍ. قِيلَ: الْأَخُ النَّسَبِيُّ يُجْمَعُ عَلَى الْإِخْوَةِ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] وَالْمَجَازِيُّ عَلَى الْأَخَوَانِ قَالَ تَعَالَى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] لِلْمُبَالَغَةِ وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا تَنَافَسُوا) : ظَاهِرُهُ أَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْكُلِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ إِحْدَى صِيَغِ النَّهْيِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ لَا تَحَاسَدُوا وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَلِذَا قَالَ الشُّرَّاحُ: التَّنَافُسُ وَالتَّحَاسُدُ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأَصْلِ. قُلْتُ: لَكِنَّ التَّنَافُسَ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ الَّتِي قَدْ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَالْمَعْنَى لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَازَعُوا فِي الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَنَافُسُكُمْ فِي الْأَشْيَاءِ النَّفْسِيَّةِ الْمَرَضِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] وَمَا أَنْفَسَ نَفْسُ الشَّاطِبِيِّ حَيْثُ يَذْكُرُ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافِسًا ... وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلُهُ: وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ. وَقَالَ: رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ.

5029 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلٌ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ. فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5029 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُفْتَحُ) بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ مُخَفَّفًا مَجْهُولًا (أَبْوَابُ الْجَنَّةِ) : أَيْ: أَبْوَابُ طَبَقَاتِهَا أَوْ غُرَفِهَا وَدَرَجَاتِهَا. (يَوْمَ الْاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ) أَيْ: لِكَثْرَةِ الرَّحْمَةِ النَّازِلَةِ فِيهِمَا الْبَاعِثَةِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَعْنَى فَتْحِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَثْرَةُ الصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ، وَرَفْعُ الْمَنَازِلِ وَإِعْطَاءُ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّ فَتَحَ أَبْوَابَهَا عَلَامَةٌ لِذَلِكَ (فَيُغْفَرُ) أَيْ: فِيهِمَا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. (لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ) : صِفَةُ عَبْدٍ (شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْإِشْرَاكِ أَوْ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوْ شَيْئًا مِنْ شِرْكٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ: لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ مُؤْمِنٌ كَامِلٌ. (إِلَّا رَجُلٌ) : بِالرَّفْعِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ أَيْ: إِلَّا ذَنْبَ رَجُلٍ فَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ النَّصْبُ، كَذَا قَالَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَفِيهِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ رَفْعًا نَعَمْ لَوْ رُوِيَ بِالْجَرِّ لَكَانَ وَجْهٌ بِأَنْ حَذَفَ الْمُضَافَ الْمَنْصُوبَ وَأَبْقَى الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَجْرُورًا عَلَى حَالِ أَصْلِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ فِيهِ النَّصْبُ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كَلَامٍ مُوجَبٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ: لَا يَبْقَى ذَنْبُ أَحَدٍ إِلَّا ذَنْبُ رَجُلٍ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] أَيْ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمُ اهـ. وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ شَاذَّةٌ وَالْمُتَوَاتِرَةُ بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ: وَجْهُ رَفْعِهِ أَنَّهُ صِفَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ، فَإِنَّ مَحَلَّهُ الرَّفْعُ وَإِلَّا بِمَعْنَى غَيْرِ أَيْ غَيْرُ رَجُلٍ، (كَانَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ كَانَ (بَيْنَهُ) أَيْ: بَيْنَ الرَّجُلِ (وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ شَحْنَاءُ) : فَعْلَاءُ مِنَ الشَّحْنِ أَيْ عَدَاوَةٍ تَمْلَأُ الْقَلْبَ (فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ أَيْ: أَمْهِلُوا (هَذَيْنِ) أَيِ: الرَّجُلَيْنِ وَأَخِّرُوا مَغْفِرَتَهُمَا مِنْ ذُنُوبِهِمَا مُطْلَقًا زَجْرًا لَهُمَا، أَوْ مِنْ ذَنْبِ الْهِجْرَانِ فَقَطْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (حَتَّى يَصْطَلِحَا) أَيْ: يَتَصَالَحَا، وَيَزُولَ عَنْهُمَا الشَّحْنَاءُ فَلَا يُفِيدُ التَّصَالُحَ لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَغْفِرَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صَفَائِهِ، وَزَوَالِ عَدَاوَتِهِ سَوَاءٌ صَفَا صَاحِبُهُ أَمْ لَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَدَلَ الضَّمِيرِ لِمَزِيدِ التَّمْيِيزِ وَالتَّعْيِينِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ.

5030 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5030 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُعْرَضُ) بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ (أَعْمَالُ النَّاسِ) : يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمُ النَّاسُ (فِي كُلِّ جُمُعَةٍ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ: أُسْبُوعٍ

(مَرَّتَيْنِ) : أَيْ: عُرْضَتَيْنِ (يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ) : نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا بَدَلٌ مِنْ مَرَّتَيْنِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْعَرْضَ مَرَّتَيْنِ فِي كُلٍّ مِنَ الْيَوْمَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِالْجُمُعَةِ الْأُسْبُوعَ، وَعَبَّرَ عَنِ الشَّيْءِ بِآخِرِهِ وَمَا يَتِمُّ لَهُ وَيُوجَدُ عِنْدَهُ، وَالْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ مَلَكٌ وَكَّلَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ صُحُفِ الْأَعْمَالِ وَضَبْطِهَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا سَيَأْتِي لَهُ التَّصْرِيحُ (فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا عَبْدًا) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ إِلَّا عَبْدٌ عَلَى الرَّفْعِ، وَهُوَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كَلَامٍ مُوجَبٍ، وَبِهِ وَرَدَتِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ (بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ) : أَوْ أَوْقِفُوا أَمْرَ مَغْفِرَتِهِمَا (حَتَّى يَفِيئَا) : مُضَارِعٌ مُثَنَّى مِنْ فَاءَ إِذَا رَجَعَ أَيْ حَتَّى يَرْجِعَا مِنَ الْعَدَاوَةِ إِلَى الْمَحَبَّةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدَ بِلَفْظِ: " «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مُتَشَاحِنَيْنِ أَوْ قَاطِعِ رَحِمٍ» " وَفِي رِوَايَةِ الْحَكِيمِ، عَنْ وَالِدِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَفْظُهُ: " «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتُعْرَضُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَفْرَحُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ وَتَزْدَادُ وُجُوهُهُمْ بَيَاضًا وَإِشْرَاقًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُؤْذُوا مَوْتَاكُمْ» ". وَبِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ يَظْهَرُ وَجْهُ حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنِ الْمُهَاجَرَةِ فَوْقَ ثَلَاثٍ، كَيْلَا يَقَعَ مَحْرُومًا عَنِ الْمَغْفِرَةِ فِي يَوْمَيْ عَرْضِ الْأَعْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ.

5031 - وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومَ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ قَالَتْ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ - تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا» . وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ " فِي " بَابِ الْوَسْوَسَةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5031 - (وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومَ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَيُفْتَحُ فَفِي الْمُغْنِي بِضَمِّ كَافٍ وَسُكُونِ لَامٍ وَضَمِّ مُثَلَّثَةٍ. وَفِي الْقَامُوسِ الْكُلْثُومُ كَزُنْبُورِ الْكَثِيرُ لَحْمِ الْخَدَّيْنِ وَأَطْلَقَ الزُّنْبُورَ فِي بَابِهِ فَمُقْتَضَاهُ الْفَتْحُ قَالَ وَأُمُّ كُلْثُومَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَا مَيَّزَهَا الْمُؤَلِّفُ بِقَوْلِهِ مُبْدَلًا (بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) : بِالتَّصْغِيرِ أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَتْ مَاشِيَةً وَبَايَعَتْ وَسَبَقَ بَقِيَّةُ تَرْجَمَتِهَا (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيْسَ الْكَذَّابُ) أَيْ: ذُو الْكَذِبِ (الَّذِي) : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ بِالَّذِي (يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ) أَيْ: بِكَذِبِهِ (وَيَقُولُ خَيْرًا) أَيْ: لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مَا يُفِيدُ النَّصِيحَةَ الْمُقْتَضِيَةَ إِلَى الْخَيْرِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَلَامَ خَيْرٍ أَوْ قَوْلَ خَيْرٍ أَيْ حَسَنًا، أَوْ يَقُولُ كَلَامَ خَيْرٍ الَّذِي رُبَّمَا سَمِعَهُ مِنْهُ وَيَدَعُ شَرَّهُ عَنْهُ. (وَيَنْمِي خَيْرًا) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: وَيُبْلِغُهُ لَهُمَا مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُمَا مِنَ الْخَيْرِ بِأَنْ يَقُولَ: فُلَانٌ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ وَيُحِبُّكَ وَمَا يَقُولُ فِيكَ إِلَّا خَيْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ يُبَلِّغُ خَيْرَ مَا سَمِعَهُ وَيَدَعُ شَرَّهُ قُلْتُ: فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ نَفْيِ الْكَذِبِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَعْنَى اسْتِثْنَاءِ الْكَذِبِ، وَسَيَأْتِي صَرِيحُ الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ، يُقَالُ: نَمَيْتُ الْحَدِيثَ مُخَفَّفًا فِي الْإِصْلَاحِ، وَنَمَّيْتُهُ مُثْقَلًا فِي الْإِفْسَادِ، وَكَانَ الْأَوَّلُ مِنَ النَّمَاءِ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِمَا يَبْلُغُهُ، وَالثَّانِي مِنَ النَّمِيمَةِ. قُلْتُ: مُرَادُهُ أَنَّ أَصْلَ الثَّانِي نَمَمْتُهُ بِالْمِيمَيْنِ وَإِبْدَالِ الثَّانِيَةِ، كَمَا فِي: تَقْضِي الْبَازِيَّ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَفِي الْقَامُوسِ ذَكَرَهُمَا فِي مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ: نَمَا يَنْمُو زَادَ كَنَمَى يُنَمِّي وَأَنْمَى وَنَمَّى، وَالْحَدِيثُ ارْتَفَعَ وَنَمَيْتُهُ رَفَعْتُهُ، وَأَنْمَاهُ أَذَاعَهُ عَلَى وَجْهِ النَّمِيمَةِ اهـ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُخَفَّفَ وَالْمُثَقَّلَ مِنْهُمَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا الْإِنْمَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِفْسَادِ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالنَّمِيمَةِ لَا مُشْتَقَّ مِنْهَا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَنْمِي الْمُخَفَّفُ فِي الْحَدِيثِ مُتَعَيِّنٌ لِمَعْنَى الْإِصْلَاحَ فَقَوْلُهُ خَيْرًا لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ، أَوْ عَلَى قَاعِدَةِ التَّجْرِيدِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّقْيِيدِ، وَهُوَ الْأَصْهَرُ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا نُفِيَ عَنِ الْمُصْلِحِ كَوْنُهُ كَذَّابًا بِاعْتِبَارِ قَصْدِهِ دُونَ قَوْلِهِ قُلْتُ الْقَصْدُ صَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ دُونَ قَوْلِهِ فَمُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْمَرَامِ نَقْلًا عَنِ الْعُلَمَاءِ الْكِرَامِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: فَيَنْمِي خَيْرًا. رَوَاهُ

أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهَا وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْهَا بِلَفْظِ: «لَمْ يَكْذِبْ مَنْ يَنِمُّ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِيُصْلِحَ» . (وَزَادَ مُسْلِمٌ) : أَيْ عَلَى الْبُخَارِيِّ فِي الْمُرَخَّصِ لِلْكَذِبِ حَيْثُ (قَالَتْ) : أَيِ الرَّاوِيَةُ (وَلَمْ أَسْمَعْهُ) : لَعَلَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ عَلَى كَلَامٍ سَبَقَ لَهَا غَيْرَ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَا قَالَ الرَّاوِي عَنْهَا (تَعْنِي) أَيْ: تُرِيدُ بِضَمِيرِ اسْمِهِ. (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ) : قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا لَكِنْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ (مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، وَفِي أُخْرَى بِالْجَرِّ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ وَيَجُوزُ الْكَسْرُ وَالسُّكُونُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذِبٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مَقُولٌ لِلْقَوْلِ، وَمِمَّا يَقُولُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي شَيْءٍ أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ هُوَ كَذِبٌ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَمِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى لَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي أَيْ فِي حَقِّهِ كَذِبٌ (إِلَّا فِي ثَلَاثٍ) : أَيْ كِذْبَاتٍ اسْتِثْنَاءٍ مِنْ شَيْءٍ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ. قَالَ: وَإِنْ رُوِيَ مَنْصُوبًا كَانَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَيْ قَوْلًا كَذِبًا أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مَفْعُولِ يَقُولُ الْمُقَدَّرِ الْعَائِدِ إِلَى الْمَوْصُولِ. قَالَ: وَإِنْ رُوِيَ مَجْرُورًا كَانَ صِفَةً أُخْرَى لِشَيْءٍ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ شَيْءٍ أَوْ مِنَ الْمَوْصُولِ. (الْحَرْبِ) ، بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنْ ثَلَاثٍ وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَحَدِهَا أَوْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْهَا، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ بِأَعْنِي وَالرِّوَايَةُ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ هِيَ الْأُولَى فَهِيَ الْأَوْلَى، قِيلَ: الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ كَأَنَّ يَقُولَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ وَجَاءَهُمْ مَدَدٌ كَثِيرٌ، أَوْ يَقُولُ: انْظُرْ إِلَى خَلْفِكَ، فَإِنَّ فُلَانًا قَدْ أَتَاكَ مِنْ وَرَائِكَ فَيَضْرِبُكَ ذَكَرُهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ) ، أَيْ ثَانِيَتُهَا وَثَالِثُهَا مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: (وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا) . أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْمُعَاشَرَةِ وَحُصُولِ الْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا قَالُوا: وَالْأَخِيرَةُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَمَا قَبْلَهَا مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفٌ عَلَى السَّابِقِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَهُمَا فِي قُوَّةِ حَدِيثِ الزَّوْجَيْنِ لِيَكُونَ الثَّالِثَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ أُمُورٌ قَدْ يَضْطَرُّ الْإِنْسَانُ فِيهَا إِلَى زِيَادَةِ الْقَوْلِ وَمُجَاوَزَةِ الصِّدْقِ طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَقَدْ رَخَّصَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فِي الْيَسِيرِ مِنَ الْإِفْسَادِ لِمَا يُؤْمَلُ فِيهِ الْكَثِيرُ مِنَ الْإِصْلَاحِ، فَالْكَذِبُ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ هُوَ أَنْ يَنْمِيَ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى صَاحِبِهِ خَيْرًا وَيُبْلِغُهُ جَمِيلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ مِنْهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِصْلَاحَ، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ أَنْ يُظْهِرَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً وَيَتَحَدَّثَ بِمَا يُقَوِّي بِهِ أَصْحَابَهُ وَيَكِيدَ بِهِ عَدُوَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» "، وَأَمَّا كَذِبُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ هُوَ أَنْ يَعِدَهَا وَيُمَنِّيَهَا وَيُظْهِرَ لَهَا مِنَ الْمَحَبَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي نَفْسِهِ يَسْتَدِيمَ بِذَلِكَ صُحْبَتَهَا وَيَصْلُحَ بِهِ خُلُقُهَا. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا اعْتَذَرَ إِلَى رَجُلٍ بِحَرْفِ الْكَلَامِ وَلَحْنِهِ لِيُرْضِيَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا، وَقَوْلُهُ: وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ لِيَسْتَقِيمَ مَعًا إِلَّا فِي ثَلَاثٍ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ: أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ) أَيْ: مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ (فِي بَابِ الْوَسْوَسَةِ) . أَيْ لِكَوْنِهِ أَنْسَبَ بِهِ فِي حَاصِلِ الْمَعْنَى، لَاسِيَّمَا صَدْرُ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيشُ مُفَسَّرًا بِالْمَعَاصِي الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا عُنْوِنَ بِهَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5032 - عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: كَذِبُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5032 - (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ» ) أَيْ: ثَلَاثِ كَذِبَاتٍ (كَذِبِ الرَّجُلِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَجُوزُ وَجْهَانِ آخَرَانِ بِاعْتِبَارِ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ (امْرَأَتَهُ) أَيْ: لَهَا (لِيُرْضِيَهَا) أَيْ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ أَوِ الْمُعَاشَرَةِ وَحَذْفُ قَرِينَتِهِ لِلِاكْتِفَاءِ أَوْ لِلْمُقَايَسَةِ أَوْ وَقَعَ اخْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي (وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ) أَيْ: مَعَ الْكَفَرَةِ (وَالْكَذِبِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

5033 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَكُونُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلَاثٍ ; فَإِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5033 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَكُونُ) أَيْ: لَا يَنْبَغِي وَلَا يَصِحُّ أَوْ لَا يُوجَدُ مُبَالَغَةٌ فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ أَوْ لَا يَكُونُ حَلَالًا (لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلَاثَةٍ) أَيْ: ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (فَإِذَا لَقِيَهُ) أَيِ: الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ (سَلَّمَ عَلَيْهِ) : حَالٌ مِنْ فَاعِلٍ لَقِيَهُ أَوْ بَدَلٌ مِنْ لَقِيَهُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي خِرَاشٍ فَلَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أَيْ: إِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، أَوْ ثَلَاثِ دُفْعَاتٍ مِنَ الْمُلَاقَاةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (كُلُّ ذَلِكَ) : بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ) : وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا يَرُدُّ فِيهَا أَيْ فِي الْمَرَّاتِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لَا يَرُدُّ (فَقَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ جَوَابُ إِذَا أَيْ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَيْرَ مَرْدُودٍ فِيهَا جَوَابُهُ فَقَدْ رَجَعَ بِإِثْمِهِ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلثَّانِي أَيْ لِمَنْ لَمْ يَرُدَّ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْلِمَ خَرَجَ مِنْ إِثْمِ الْهِجْرَانِ وَبَقِيَ الْإِثْمُ عَلَى الَّذِي لَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ، أَيْ فَهُوَ قَدْ بَاءَ بِإِثْمِ هِجْرَانِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ضَمَّ إِثْمَ هِجْرَانِ الْمُسْلِمِ إِلَى إِثْمِ هِجْرَانِهِ، وَبَاءَ بِهِمَا لِأَنَّ التَّهَاجُرَ يُعَدُّ مِنْهُ وَبِسَبَبِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5034 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمِنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5034 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ» ) أَيْ: ثَلَاثِ لَيَالٍ فَفِيهِ تَفَنُّنٌ، وَيَتَحَصَّلُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَةُ أَيَّامِ وَلَيَالِيهَا، كَمَا فِي قَضِيَّةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، (فَمِنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ) : ظَاهِرُهُ وَلَوْ سَاعَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا فَوْقَ الثَّلَاثِ الْأَرْبَعَ، لِأَنَّهُ بِهِ يَتِمُّ زِيَادَةُ عَدَدِ الْمَعْدُودِ فَتَأَمَّلْ. (فَمَاتَ) أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ (دَخَلَ النَّارَ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيِ اسْتَوْجَبَ دُخُولَ النَّارِ، فَالْوَاقِعُ فِي الْإِثْمِ كَالْوَاقِعِ فِي الْعُقُوبَةِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

5035 - وَعَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5035 - (وَعَنْ أَبِي خِرَاشٍ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَاسْمُهُ حَدْرَدَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفَتَحِ الرَّاءِ صَحَابِيٌّ أَسْلَمِيٌّ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فَقَوْلُهُ: (السُّلَمِيُّ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مِنْ خَطَأِ

الْكُتَّابِ، وَقَدْ قَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ الْأَسْلَمِيُّ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: أَبُو خِرَاشٍ حَدْرَدُ بْنُ أَبِي حَدْرَدَ الْأَسْلَمِيُّ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي الْكُنَى: أَبُو خِرَاشٍ الْأَسْلَمِيُّ اسْمُهُ حَدْرَدُ بْنُ أَبِي حَدْرَدَ. وَقَالَ فِي الْأَسْمَاءِ: حَدْرَدُ بْنُ حَدْرَدَ الْأَسْلَمِيُّ، صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ. (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ) أَيْ: هَجَرَهُ سَنَةً (كَسَفْكِ دَمِهِ) السَّفْكُ الْإِرَاقَةُ وَالصَّبُّ يَعْنِي مُهَاجَرَةُ الْأَخِ الْمُسْلِمِ سَنَةً تُوجِبُ الْعُقُوبَةَ، كَمَا أَنَّ سَفْكَ دَمِهِ يُوجِبُهَا فَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالسَّفْكِ مِنْ حَيْثُ حُصُولُ الْعُقُوبَةِ بِسَبَبِهَا لِأَنَّهَا مِثْلُهُ فِي الْعُقُوبَةِ لِأَنَّ الْقَتْلَ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَكُونُ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَشُبِّهَ الْهِجْرَانُ بِهِ تَأْكِيدًا فِي الْمَنْعِ عَنْهُ وَفِي الْمُشَابَهَةِ تَكْفِي الْمُسَاوَاةُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّشْبِيهُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ: زِيدٌ كَالْأَسَدِ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْأَسَدِ فِي الْجَرَاءَةِ وَأَنَّهُ نَظِيرُهُ فِيهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ أَنَّهُ دُونَهُ كَذَلِكَ هَهُنَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ» " دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّهَاجُرَ فَوْقَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ، وَرَاكِبُهُ رَاكِبُ الْإِثْمِ، فَإِذَا امْتَدَّ إِلَى مُدَّةٍ يَهْجُرُ فِيهَا الْغَائِبُ وَالْمُسَافِرُ عَنْ أَهْلِهِ غَالِبًا بَلَغَ التَّهَاجُرُ وَالتَّقَاطُعُ إِلى الْغَايَةِ، فَيَبْلُغُ إِثْمُهُ أَيْضًا إِلَى الْغَايَةِ، وَهَذَا مَعْنَى تَخْصِيصِ ذِكْرِهِ السَّنَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ السَّنَةِ بِالْكَرِّ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْتَدِلْ مِزَاجُهُ بِمُرُورِ السَّنَةِ عَلَيْهِ فَلَا يُرْجَى رُجُوعُهُ، وَنَظِيرُهُ مَسْأَلَةُ الْعِنِّينِ الْمَنْقُولَةُ فِي الْفُرُوعِ الْمَعْلُومَةِ بِمَا قُلْنَا فِي الْأُصُولِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَنْهُ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ.

5036 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ فَلْيَلْقَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْهِجْرَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5036 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ فَلْيُلْقِهِ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ» ) أَيْ: فِي أَجْرِ السَّلَامِ، أَوْ فِي أَجْرِ تَرْكِ الْهَجْرِ أَوْ فِيهِمَا (وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ) أَيِ: السَّلَامَ (فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ) أَيْ: رَجَعَ بِإِثْمِ الْهِجْرَانِ، وَكَذَا قَالَهُ الشَّارِحُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِإِثْمِ الْهَجْرِ وَبِإِثْمِ تَرْكِ السَّلَامِ، فَاللَّامُ لِلْجِنْسِ أَوْ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: بِإِثْمِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: بَاءَ بِإِثْمِ تَرْكِ السَّلَامِ زِيَادَةً عَلَى إِثْمِ الْهِجْرَانِ الْمُسْتَمِرِّ الَّذِي يُقَارِبُ سَفْكَ الدَّمِ، (وَخَرَجَ الْمُسَلِّمُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ (مِنَ الْهِجْرَةِ) أَيْ مِنْ إِثْمِ الْهِجْرَانِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ مَوْلَى بَنِي كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَحْمَدُ فِي هِلَالٍ: لَا أَعْرِفُهُ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

5037 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: " إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5037 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ) أَيْ: بِعَمَلٍ أَفْضَلَ دَرَجَةٍ وَأَكْثَرَ مَثُوبَةٍ. (مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ) أَيْ: نَفْلًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (وَالصَّدَقَةِ) : فَإِنَّهَا لِلْمَنْدُوبَةِ غَالِبًا (وَالصَّلَاةِ) . لَعَلَّ تَأْخِيرَهَا لِلتَّرَقِّي، وَظَاهِرُ الْوَاوِ أَنَّهُ لِلْجَمْعِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ مَجْمُوعِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى " أَوْ " فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي مَقَامِ التَّرْغِيبِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْأَشْرَافُ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ النَّوَافِلَ دُونَ الْفَرَائِضِ. قُلْتُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ إِذْ قَدْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْإِصْلَاحُ فِي فَسَادٍ يُتَضَرَّعُ عَلَيْهِ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَنَهْبُ الْأَمْوَالِ، وَهَتْكُ الْحُرُمِ أَفْضَلُ مِنْ فَرَائِضَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْقَاصِرَةِ مَعَ إِمْكَانِ قَضَائِهَا عَلَى فَرْضِ تَرْكِهَا فَهِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ أَهْوَنُ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْعَمَلِ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، لِكَوْنِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَفْضَلَ كَالْبَشَرِ خَيْرٌ مِنَ الْمَلَكِ وَالرَّجُلِ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو الدَّرْدَاءِ (قُلْنَا: بَلَى) أَيْ أَخْبِرْنَا وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ) ،

أَيْ: هُوَ هَذَا قِيلَ يُرِيدُ بِذَاتِ الْخَصْلَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْقَوْمِ مِنْ قَرَابَةٍ وَمَوَدَّةٍ وَنَحْوِهِمَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَاتِ الْبَيْنِ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُهَاجَرَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا بَيْنٌ أَيْ: فِرْقَةٌ، وَالْبَيْنُ: مِنَ الْأَضْدَادِ الْوَصْلُ وَالْفَرْقُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَيْ أَحْوَالِ بَيْنِكُمْ، يَعْنِي مَا بَيْنَكُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَاتِّفَاقٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] وَهِيَ مُضْمَرَاتِهَا. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَحْوَالُ مُلَابَسَةً لِلْبَيْنِ قِيلَ لَهَا: ذَاتُ الْبَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: اسْقِنِي ذَا إِنَائِكَ يُرِيدُونَ مَا فِي الْإِنَاءِ مِنَ الشَّرَابِ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] اهـ. وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ فِي قُوَّةِ صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْخَصْلَةُ الصَّادِقَةُ قَالَ: (وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ) أَيِ: الْمَاحِيَةُ وَالْمُزِيلَةُ لِلْمَثُوبَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْمَعْنَى يَمْنَعُهُ شُؤْمُ هَذَا الْفِعْلِ عَنْ تَحْصِيلِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَقِيلَ: الْمُهْلِكَةُ مِنْ حَلَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَيْ: قَتْلٌ مَأْخُوذٌ مِنْ حَلْقِ الشَّعْرِ، وَفِي النِّهَايَةِ هِيَ الْخَصْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْلِقَ أَيْ: تَهْلِكَ، وَتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ كَمَا يَسْتَأْصِلُ الْمُوسُ الشَّعْرَ، وَقِيلَ: هِيَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَالتَّظَالُمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ حَثٌّ وَتَرْغِيبٌ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَاجْتِنَابٍ عَنِ الْإِفْسَادِ فِيهَا ; لِأَنَّ الْإِصْلَاحَ سَبَبٌ لِلِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ، وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ ثَلْمَةٌ فِي الدِّينِ، فَمَنْ تَعَاطَى إِصْلَاحَهَا وَرَفَعَ فَسَادَهَا نَالَ دَرَجَةً فَوْقَ مَا يَنَالُهُ الصَّائِمُ الْقَائِمُ الْمُشْتَغِلُ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْحَالِقَةُ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَمْرُ الدِّينِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. (وَقَالَ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) . قَالَ وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» " اهـ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا، مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا عُمِلَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ» ". رَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ، وَحَدِيثُهُ هَذَا حَسَنٌ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَا أَبَا أَيُّوبَ! أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ يُحِبُّ اللَّهُ مَوْضِعَهَا؟ " قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: " تُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ ; فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ يُحِبُّ اللَّهُ مَوْضِعَهَا» ". رَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا: " «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ تُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَغَاضَبُوا وَتَفَاسَدُوا» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَزَّارِ: " «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى عَمَلٍ يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ " قَالَ: " مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ أَصْلَحَ اللَّهُ أَمْرَهُ، وَأَعْطَاهُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَرَجَعَ مَغْفُورًا لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ". رَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ. وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.

5038 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5038 - (وَعَنِ الزُّبَيْرِ) أَيِ: ابْنِ الْعَوَّامِ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَبَّ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: نَقَلَ وَسَرَى وَمَشِيَ بِخِفْيَةٍ (إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ) أَيْ: فِي الْبَاطِنِ (وَالْبَغْضَاءُ) أَيِ: الْعَدَاوَةُ فِي الظَّاهِرِ، وَرَفَعَهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا بَيَانٌ لِلدَّاءِ أَوْ بَدَلٌ، وَسُمِّيَا دَاءً لِأَنَّهُمَا دَاءُ الْقَلْبِ (هِيَ) أَيِ: الْبَغْضَاءُ وَهُوَ أَقْرَبُ مَبْنًى وَمَعْنًى، أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (الْحَالِقَةُ) أَيِ: الْقَاطِعَةُ لِلْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ وَالصِّلَةِ وَالدَّمْعِيَّةِ وَالْخَصْلَةُ الْأُولَى هِيَ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَلِذَا قُدِّمَتْ (لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ) أَيْ: تَقْطَعُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ سَهْلٌ (وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ) . وَضَرَرُهُ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ الْبَغْضَاءُ تَذْهَبُ بِالدِّينِ كَالْمُوسى تَذْهَبُ بِالشَّعْرِ وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ رَاجِعٌ إِلَى الْبَغْضَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] أَيْ: فِي بَعْضِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. قَالَ: وَلِأَنَّ الْبَغْضَاءَ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي ثُلْمَةِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَتْ نَتِيجَةَ الْحَسَدِ أَيْ: فِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ جَيِّدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا نَقَلَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَلَفْظُهُ: " «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» ".

5039 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ ; فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5039 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ) أَيْ: فِي مَالٍ أَوْ جَاهٍ دُنْيَوِيٍّ، فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ بِخِلَافِ الْغِبْطَةِ فِي الْأَمْرِ الْأُخْرَوِيِّ (فَإِنَّ الْحَسَدَ) أَيْ: بِاعْتِبَارِ مَا يَنْتِجُ فِي حَقِّ الْمَحْسُودِ مِنِ ارْتِكَابِ السَّيِّئَاتِ (يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ) : أَيْ يُفْنِي وَيُذْهِبُ طَاعَاتِ الْحَاسِدِ (كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ) . لِأَنَّ الْحَسَدَ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى اغْتِيَابِ الْمَحْسُودِ وَنَحْوِهِ، فَيُذْهِبُ حَسَنَاتِهِ فِي عِرْضِ ذَلِكَ الْمَحْسُودِ، فَيَزِيدُ الْمَحْسُودُ نِعْمَةً عَلَى نِعْمَةٍ، وَالْحَاسِدُ حَسْرَةً عَلَى حَسْرَةٍ، فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11] . قَالَ الْقَاضِي: تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ يَرَى إِحْبَاطَ الطَّاعَاتِ بِالْمَعَاصِي كَالْمُعْتَزِلَةِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَسَدَ يُذْهِبُ حَسَنَاتِ الْحَاسِدِ وَيُتْلِفُهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِالْمَحْسُودِ مِنْ إِتْلَافِ مَالٍ وَهَتْكِ عِرْضٍ وَقَصْدِ نَفْسِ مَا يَقْتَضِي صَرْفَ تِلْكَ الْحَسَنَاتِ بِأَسْرِهَا فِي عِرْضِهِ، كَمَا رُوِيَ فِي صِحَاحِ بَابِ الظُّلْمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ، وَصِيَامٍ وَقِيَامٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» ". لِإِحْبَاطِ الطَّاعَاتِ بِالْمَعَاصِي، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ يَبْقَى لِهَذَا الْآتِي الْمُتَعَاطِي لِتِلْكَ الْكَبَائِرِ حَسَنَةٌ يَقْضِي بِهَا حَقَّ خَصْمِهِ اهـ. كَلَامَهُ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مِمَّا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنِ التَّضْعِيفَ فِي الْحَسَنَاتِ يُوجَدُ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِ الْعَبْدِ وَصَلَاحِهِ فِي دِينِهِ، فَمَهْمَا كَانَ مُرْتَكِبًا لِلْخَطَايَا نَقَصَ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّضْعِيفِ مَا يُوَازِي انْحِطَاطِهِ فِي الْمَرْتَبَةِ بِمَا اجْتَرَحَهُ مِنَ الْخَطَايَا، مِثْلَ أَنْ يُقَدِّرَ أَنَّ ذَا رَهَقٍ عَمِلَ حَسَنَةً، فَأُثِيبَ عَلَيْهَا عَشْرًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَهَقُهُ لَأُثِيبَ أَضْعَافَ ذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي نَقَصَ مِنَ التَّضْعِيفِ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الذَّنْبِ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِحْبَاطِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ مَا خُلَاصَتُهُ: إِنَّ الْحَسَنَاتِ لَا تُقْبَلُ بِوَاسِطَةِ الْحَسَدِ، لِأَنَّهَا تُحْبَطُ بِهِ، قُلْتُ: الْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي نَفْيِ الْقَبُولِ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَوْلُهُ: إِنَّ تِلْكَ الْحَسَنَاتِ الصَّادِرَةَ عِنْدَهُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ فِي دِيوَانِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ حَتَّى تُحْبَطَ، كَمَنْ صَلَّى فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً فِي دِيوَانِ الْأَعْمَالِ، بَلْ أَظُنُّ أَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، هَذَا وَظَاهِرُ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ يَذْهَبُ بِالشَّيْءِ الْمَوْجُودِ لَا الْمَعْدُومِ وَلَا الْمَفْقُودِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ مَرْفُوعًا عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ: " «الْحَسَدُ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبِرُ الْعَسَلَ» ". فَهَذَا الْحَدِيثُ صَرَّحَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ يُفْسِدُ وَيُبْطِلُ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَسَائِرَ الْحَسَنَاتِ، لَا أَنَّهُ يُذْهِبُهَا بِالْمَرَّةِ وَيُفْنِيهَا، فَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ يَتِمُّ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَكَذَا يُوَافِقُهُ التَّشْبِيهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّارَ تَأْخُذُ نُورَ الْحَطَبِ وَتُخَلِّي أَصْلَهُ الَّذِي هُوَ الرَّمَادُ، فَلَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَدْ سَنَحَ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ حَسَنَاتِ الْمَحْسُودِ إِلَى صَاحِبِ الْحَسَدِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ وَلَا تُغَيِّرُهُ وَلَا يُوجَدُ لَهَا قَدْرٌ عِنْدَهُ، كَمَا تَأْكُلُ

النَّارُ الْحَطَبَ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْحَاسِدِ غَيْرُ نَافِعٍ، وَأَنَّ التَّقَرُّبَ بِالتَّرَدُّدِ إِلَيْهِ ضَائِعٌ، وَأَنَّ الْحَاسِدَ أَقْوَى مِنْ كُلِّ عَدَاوَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] وَأَنْشَدَ: كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ يُرْجَى إِزَالَتُهَا ... إِلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَدَاكَ مِنْ حَسَدِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . أَيْ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أُسَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَدُّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُسَمَّ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ إِبْرَاهِيمَ هَذَا فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ. كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ: لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ.

5040 - وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ ; فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

5041 - وَعَنْ أَبِي صِرْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5041 - (وَعَنْ أَبِي صِرْمَةَ) : بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ الْمَازِنِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ ضَارَّ) أَيْ مُؤْمِنًا كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بِأَنْ أَوْصَلَ إِلَيْهِ الضَّرَرَ ابْتِدَاءً (ضَارَّ اللَّهُ بِهِ) أَيْ: جَازَاهُ بِعَمَلِهِ وَعَامَلَهُ مُعَامَلَتَهُ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ. (وَمَنْ شَاقَّ) أَيْ: خَالَفَهُ وَعَادَاهُ (شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ عَاقَبَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 13] وَفِي وَضْعِ الْمُؤْمِنِ مَوْضِعَ ذَاتِهِ اعْتِنَاءً بِعُلُوِّ دَرَجَاتِهِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةٍ أُخْرَى: " {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] " وَفِي أُخْرَى: " {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] " وَالْمُشَاقَّةُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَأْخُذُ بِشِقٍّ دُونَ شِقِّ الْآخَرِ، أَوْ يَبْعُدُ عَنْهُ فِي شِقٍّ، أَوْ يُرِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَشَقَّةَ الْآخَرِ، فَهُوَ إِمَّا مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّقِّ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7] أَوْ مِنَ الشِّقِّ بِمَعْنَى نِصْفِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ: " «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» " فَكَأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ صَارَا نِصْفَيْنِ، أَوْ مِنَ الشَّقِّ بِالْفَتْحِ الْفَصْلُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ الْفَرْقُ قِيلَ: إِنَّ الضَّرَرَ وَالْمَشَقَّةَ مُتَقَارِبَانِ لَكِنَّ الضَّرَرَ يُسْتَعْمَلُ فِي إِتْلَافِ الْمَالِ وَالْمَشَقَّةَ فِي إِيصَالِ الْأَذِيَّةِ إِلَى الْبَدَنِ كَتَكْلِيفِ عَمَلٍ شَاقٍّ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّرَرَ يَشْمَلُ الْبَدَنِيَّ وَالْمَالِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ وَالْأُخْرَوِيَّ، وَأَمَّا الْمَشَقَّةُ فَهِيَ الْمُخَالَفَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ هَذَا، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: الْمُضَارَّةُ الْمَضَرَّةُ وَالْمَشَقَّةُ النِّزَاعُ، فَمَنْ أَضَرَّ غَيْرَهُ تَعَدِّيًا أَوْ شَاقَّهُ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ بِمِثْلِهِ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَالثَّانِي تَأْكِيدٌ وَمَا قُدْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يُفِيدُ التَّأْسِيسَ وَالتَّقْيِيدَ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَشَقَّةِ أَيْضًا بِأَنْ كَلَّفَ صَاحِبَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ فَيَقَعُ فِي التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، فَدَاخِلٌ أَيْضًا فِي الْمَضَرَّةِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَفِي الصَّحِيحِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «مَنْ ضَارَّ ضَرَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي صِرْمَةَ.

5042 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5042 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَلْعُونٌ) أَيْ: مَبْعُودٌ عَنِ الْخَيْرِ (مِنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا) أَيْ: ضَرَرًا ظَاهِرًا (أَوْ مَكَرَ بِهِ) أَيْ: بِإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِ خُفْيَةً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ صَاحِبُ التَّصْحِيحِ وَفِي سَنَدِهِ أَبُو سَلَمَةَ الْكَنَدِيُّ لَا يُعْرَفُ عَنْ فَرْقَدِ السِّنْجِيِّ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

5043 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِنْبَرَ، فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ; فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5043 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ طَلَعَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِنْبَرَ، فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ) أَيْ: عَالٍ (فَقَالَ) : بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فَنَادَى (يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ) : يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ (وَلَمْ يُفْضِ) : مِنَ الْإِفْضَاءِ أَيْ لَمْ يَصِلِ (الْإِيمَانُ) أَيْ: أَصْلُهُ وَكَمَالُهُ (إِلَى قَلْبِهِ) فَيَشْمَلُ الْفَاسِقَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَلَا أُخُوَّةَ بَيْنَ الْمُنَافِقِ وَالْمُسْلِمِ، فَمَا اخْتَارَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ حَصْرِ حُكْمِ الْحَدِيثِ عَلَى الْمُنَافِقِ خِلَافَ الظَّاهِرِ الْمُوَافِقِ، وَالْحُكْمُ بِالْأَعَمِّ هُوَ الْوَجْهُ الْأَتَمُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ) أَيِ: الْكَامِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بِلِسَانِهِمْ وَآمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ (وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ) مِنَ التَّعْيِيرِ وَهُوَ التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيبُ عَلَى ذَنْبٍ سَبَقَ لَهُمْ مِنْ قَدِيمِ الْعَهْدِ، سَوَاءٌ عَلَى تَوْبَتِهِمْ مِنْهُ أَمْ لَا. وَأَمَّا التَّعْيِيرُ فِي حَالِ الْمُبَاشَرَةِ أَوْ بُعَيْدَهُ قَبْلَ ظُهُورِ التَّوْبَةِ، فَوَاجِبٌ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. (وَلَا تَتَّبِعُوا) : مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ أَيْ لَا تَجَسَّسُوا (عَوْرَاتِهِمْ) فِيمَا تَجْهَلُونَهَا وَلَا تَكْشِفُوهَا فَمَا تَعْرِفُونَهَا (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (مَنْ يَتَّبِعْ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ مَجْزُومًا، وَقِيلَ مَرْفُوعًا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ ضُبِطَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَعْلُومِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ هُنَا، وَفِيمَا بَعْدُ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَيْ مَنْ يَطْلُبُ (عَوْرَةَ أَخِيهِ) أَيْ: ظُهُورَ عَيْبِ أَخِيهِ (الْمُسْلِمِ) أَيِ: الْكَامِلِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْحَذَرُ وَالتَّحْذِيرُ عَنْهُ (يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ) ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ أَيْ: يَكْشِفُ عُيُوبَهُ، وَمِنْ أَقْبَحِهَا مَنْ تَتَّبَعَ عَوْرَةَ الْأَخِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا فِي الْآخِرَةِ (وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ) : مِنْ فَضَحَ كَمَنَعَ أَيْ يَكْشِفُ مَسَاوِيَهُ (وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ) أَيْ لَوْ كَانَ فِي وَسَطِ مَنْزِلِهِ مَخْفِيًّا مِنَ النَّاسِ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] قَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّجَسُّسُ وَالتَّتَبُّعُ ثَمَرَةُ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْقَلْبُ لَا يَقْنَعُ بِالظَّنِّ وَيَطْلُبُ التَّحْقِيقَ فَيُؤَدِّي إِلَى هَتْكِ السِّتْرِ وَحَدُّ الِاسْتِتَارِ أَنْ يُغْلَقَ بَابُ دَارِهِ وَيَسْتَتِرَ بِحِيطَانِهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ عَلَى دَارِهِ لِيَسْمَعَ صَوْتَ الْأَوْتَارِ، وَلَا الدُّخُولُ عَلَيْهِ لِرُؤْيَةِ الْمَعْصِيَةِ إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ بِحَيْثُ يَعْرِفُهُ مَنْ هُوَ خَارِجُ الدَّارِ كَأَصْوَاتِ الْمَزَامِيرِ وَالسَّكَارَى بِالْكَلِمَاتِ الْمَأْلُوفَةِ بَيْنَهُمْ، وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَوْا أَوَانِيَ الْخَمْرِ وَظُرُوفَهَا وَآلَاتِ الْمَلَاهِي فِي الْكَمِّ وَتَحْتَ الذَّيْلِ فَإِذَا رَأَى لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْشِقَ لِيُدْرِكَ رَائِحَةَ الْخَمْرِ، وَلَا أَنْ يَسْتَخْبِرَ مِنْ جِيرَانِهِ لِيُخْبِرُوهُ بِمَا جَرَى فِي دَارِهِ، وَأُنْشِدَ فِي مَعْنَاهُ شِعْرٌ: لَا تَلْتَمِسُ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا ... فَيَهْتِكَ اللَّهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إِذَا ذُكِرُوا ... وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا وَفِي قَوْلِهِ: (وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلِ الْإِيمَانُ إِلَى الْقَلْبِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حُقُوقَهُ، فَإِذًا عِلَاجُ جَمِيعِ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَتُؤَدِّيَ إِلَى أَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُؤْذِي وَلَا يَضُرُّ وَلَا يُعَيِّرُ وَلَا يَتَجَسَّسُ أَحْوَالَهُمُ اهـ. كَلَامُ الْإِمَامِ وَحَصَلَ تَمَامُ الْمَرَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ.

5044 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5044 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: عَدَوِّيٌّ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ أُخْتُ عُمَرَ تَحْتَهُ، وَبِسَبَبِهَا كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ، مَاتَ بِالْعَقِيقِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ.

(عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا) أَيْ: مِنْ أَكْثَرِ أَنْوَاعِهَا وَبَالًا وَأَزْيَدِ آثَامِ أَفْرَادِهَا مَآلًا (الِاسْتِطَالَةُ) أَيْ: إِطَالَةُ اللِّسَانِ (فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ) : وَأَصْلُ التَّطَاوُلِ اسْتِحْقَارُ النَّاسِ وَالتَّرَفُّعُ عَلَيْهِمْ، وَأَصْلُ الرِّبَا الزِّيَادَةُ وَالْكَثْرَةُ لُغَةً، وَأَمَّا شَرْعًا فَهُوَ مَعْرُوفٌ بِأَنْوَاعِهِ الْمُحَرَّمَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا أَشَدَّهَا تَحْرِيمًا، لِأَنَّ الْعِرْضَ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ أَعَزُّ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْمَالِ وَأَنْشَدَ: أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لَا أُدَنِّسُهُ ... لَا بَارَكَ اللَّهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الرِّبَا لِأَنَّ الْمُتَعَدِّيَ يَضَعُ عِرْضَهُ، ثُمَّ يَسْتَزِيدُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَزْيَدُ الزِّيَادَاتِ الَّتِي تَتَجَاوَزُ عَنِ الْحَدِّ الِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ مَالِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَدْخَلَ الْعِرْضَ فِي جِنْسِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَجَعَلَ الرِّبَا نَوْعَيْنِ مُتَعَارَفٌ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَالِهِ مِنَ الْمَدْيُونِ، وَغَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَهُوَ اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ اللِّسَانَ فِي عِرْضِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ فَضَّلَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَقَالَ الْقَاضِي: الِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى مَا قِيلَ لَهُ، أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا رَخَّصُوا لَهُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَهُ بِالرِّبَا وَعَدَّهُ مِنْ عِدَادِهِ، ثُمَّ فَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ أَفْرَادِهِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَضَرَّةً وَأَشَدُّ فَسَادًا، فَإِنَّ الْعِرْضَ شَرْعًا وَعَقْلًا أَعَزُّ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْمَالِ، وَأَعْظَمُ مِنْهُ خَطَرًا، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الشَّارِعُ بِالْمُجَاهَرَةِ بِهَتْكِ الْأَعْرَاضِ مَا لَمْ يُوجِبْ بِنَهْبِ الْأَمْوَالِ اهـ. وَيَعْنِي بِهِ أَنَّ هَتْكَ بَعْضِ الْأَعْرَاضِ يُوجِبُ الرَّجْمَ، وَنَهْبَ الْمَالِ فَقَطْ لَمْ يُوجِبِ الْقَتْلَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَقَوْلُهُ: (بِغَيْرِ حَقٍّ) . فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِرْضَ رُبَّمَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ» " فَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَقُولَ فِيهِ أَنَّهُ ظَالِمٌ، وَأَنَّهُ مُتَعَدٍّ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ الْكَلَامُ فِي جَرْحِ الشَّاهِدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَيْ: مَنْ ذَكَرَ مَسَاوِئَ الْخَاطِبِ وَالْمُبْتَدِعَةِ وَالْفَسَقَةِ عَلَى قَصْدِ التَّحْذِيرِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

5045 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرَئِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5045 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا عُرِجَ بِي) أَيْ: أُسْرِيَ بِي (مَرَرْتُ بِأَقْوَامٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ يَخْدِشُونَ (وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ) فَفِي الْمِصْبَاحِ: خَمَشَتِ الْمَرْأَةُ كَضَرْبِ وَجْهِهَا بِظُفْرٍ جَرَحَتْ ظَاهِرَ الْبَشْرَةِ. (فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ) أَيْ: يَغْتَابُونَ الْمُسْلِمِينَ (وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ خَمْشُ الْوَجْهِ وَالصَّدْرِ مِنْ صِفَاتِ النِّسَاءِ النَّائِحَاتِ جَعَلَهُمَا جَزَاءَ مَنْ يَغْتَابُ وَيَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ، بَلْ هُمَا مِنْ صِفَاتِ النِّسَاءِ فِي أَقْبَحِ حَالَةٍ وَأَشْوَهِ صُوَرِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ سَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ.

5046 - وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أُكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ، وَمِنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ; فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ ; فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ لَهُ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5046 - (وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ) أَيِ: ابْنِ شَدَّادٍ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ غُلَامًا يَوْمَ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ) أَيْ: بِسَبَبِ غَيْبَتِهِ أَوْ قَذْفِهِ أَوْ وُقُوعِهِ فِي عِرْضِهِ أَوْ بِتَعَرُّضِهِ لَهُ بِالْأَذِيَّةِ عِنْدَ مَنْ يُعَادِيهِ (أُكْلَةً) بِضَمٍّ أَيْ لُقْمَةٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ أَيْ مَرَّةً مِنَ الْأَكْلِ.

(فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا) أَيْ: قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا (مِنْ جَهَنَّمَ) أَيْ: مِنْ نَارِهَا أَوْ مِنْ عَذَابِهَا (وَمَنْ كَسَا) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ أَلْبَسَ شَخْصًا (ثَوْبًا بِرَجُلِ مُسْلِمٍ) أَيْ: بِسَبَبِ إِهَانَتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَوَّلِ كَسَا نَفْسَهُ ثَوْبًا. وَمَعْنَى الثَّانِي اكْتَسَى ثَوْبًا فَصَارَ مَآلُهُمَا وَاحِدًا. وَفِي النِّهَايَةِ: مَعْنَاهُ الرَّجُلُ يَكُونُ صَدِيقًا ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى عَدُوِّهِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ بِغَيْرِ الْجَمِيلِ لِيُجِيزَهُ عَلَيْهِ بِجَائِزَةٍ فَلَا يُبَارِكُ اللَّهُ لَهُ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا فَالْبَاءُ فِي بَرْجُلٍ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْجَائِزَةُ عَامَّةٌ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ أَكْثَرِ الشَّارِحِينَ. (فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْمُرَادُ بِالرَّجُلِ نَفْسُهُ أَوْ غَيْرُهُ (مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ) أَيْ: مُنْتَصِرًا وَمُنْتَقِمًا (لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِ إِفْضَاحِ الْقَائِمِ بِهِ (مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِفْضَاحِهِ إِيَّاهُ النَّاشِئِ عَنْ مَقْتِ اللَّهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيِّ مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، فَإِنَّهُ فِي مَقْتِ اللَّهِ حَتَّى يَجْلِسَ» ". قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: مَنْ قَامَ يَنْسُبُهُ إِلَى ذَلِكَ وَيُشْهِرُهُ بِهِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَضَحَهُ اللَّهُ وَشَهَّرَهُ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَذَّبَهُ عَذَابَ الْمُرَائِينَ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: الْبَاءُ فِي (بِرَجُلٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْدِيَةِ وَلِلسَّبَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ لِلتَّعْدِيَةِ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَنْ أَقَامَ رَجُلًا مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَعْنِي مَنْ أَظْهَرَ رَجُلًا بِالصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى لِيَعْتَقِدَ النَّاسُ فِيهِ اعْتِقَادًا حَسَنًا، وَيَعْزُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ، وَيَجْعَلَهُ حِبَالًا وَمَصْيَدَةً، كَمَا يُرَى فِي زَمَانِنَا لِيَنَالَ بِسَبَبِهِ الْمَالَ وَالْجَاهَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ لَهُ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ بِأَنْ يَأْمُرَ مَلَائِكَتَهُ بِأَنْ يَفْعَلُوا مَعَهُ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَيُظْهِرُوا أَنَّهُ كَذَّابٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ قَامَ وَأَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّلَاحَ وَالتَّقْوَى لِأَجْلِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ رَجُلٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ كَثِيرُ الْمَالِ لِيَحْصُلَ لَهُ مَالٌ وَجَاهٌ، كَمَا يَقُولُ النَّاسُ فِي الْعُرْفِ: هَذَا زَاهِدُ الْأَمِيرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى الْكِنَايَةِ عَنِ التَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31] الْكَشَّافُ: سَنَفْرُغُ مُسْتَعَارٌ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ يُهَدِّدُهُ سَأَفْرَغُ لَكَ أَيْ سَأَتَجَرَّدُ لِلْإِيقَاعِ بِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُنِي عَنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لِي شُغْلٌ سِوَاهُ، وَالْمُرَادُ التَّوَفُّرُ عَلَى النِّكَايَةِ فِيهِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَسَا ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَالْبَاءُ فِيهِ صِلَةٌ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ وَمَنْ كَسَا ثَوْبًا رَجُلًا مُسْلِمًا وَهُوَ فَاسِدُ الْمَعْنَى، فَالْوَجْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ رَأَى الطَّيِّبِيُّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ (كَسَا) مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلَيْسَ هُنَا إِلَّا مَفْعُولٌ وَاحِدٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِرَجُلٍ ثَانِي مَفْعُولَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ مِنْ كَسَا نَفْسَهُ ثَوْبًا بِرَجُلٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5047 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5047 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُسْنُ الظَّنِّ) أَيْ: بِاللَّهِ (مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ) أَيْ لِلَّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْحَسَنَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَظُنَّ مَا يَظُنُّهُ الْعَامَّةُ مِنْ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ هُوَ أَنْ تَتْرُكَ الْعَمَلَ وَتَعْتَمِدَ عَلَى اللَّهِ وَتَقُولَ: إِنَّهُ كَرِيمٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: بَعْضُ حُسْنِ الْعِبَادَةِ حُسْنُ الظَّنِّ، وَقُدِّمَ الْخَبَرُ اهْتِمَامًا، فَإِنَّ السَّالِكَ إِذَا حَسَّنَ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الرَّجَاءِ حَسَّنَ الْعِبَادَةَ فِي الْخَلَا وَالْمَلَا، فَيُسْتَحْسَنُ مَأْمُولُهُ وَيُرْجَى مَقْبُولُهُ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] وَأَمَّا مَنْ يَتْرُكُ الْعِبَادَةَ وَيَدَّعِي حُسْنَ الظَّنِّ بِالْمَعْبُودِ، فَهُوَ مَغْرُورٌ وَمَخْدُوعٌ وَمَرْدُودٌ، وَمَثَّلَهُمَا الْغَزَالِيُّ بِمَنْ زَرَعَ وَمَنْ لَمْ يَزْرَعْ رَاجِينَ الْحَصَادَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّانِيَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي اعْتِقَادُ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عِبَادَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ أَيْ مِنْ جُمْلَةِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ عِبَادِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ أَيْ حُسْنُ الظَّنِّ بِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى نَاشِئٌ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَيَنْصُرُهُ قَوْلُهُ: " «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ". اهـ.

فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ وَرَدَ احْتَرِسُوا مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. قُلْتُ: التَّقْدِيرُ مِنْ بَعْضِهِمْ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] أَوْ يُقَالُ: يُحْتَرَسُ مِنْهُمْ بِسُوءِ الظَّنِّ فِي الْبَاطِنِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: اخْبِرْهُ نَقَلَهُ عَلَى مَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ، مِنْ أَنَّ النَّاسَ كَإِبِلِ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً، أَوْ يُعَامِلُهُمْ فِي الظَّاهِرِ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِنَاءً عَلَى الْأَمْرِ الْمُبْهَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5048 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبَ: " أَعْطِيهَا بَعِيرًا " فَقَالَتْ: أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ؟ ! فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَجَرَهَا ذَا الْحُجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذُكِرَ حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ: " مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا " فِي " بَابِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5048 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اعْتَلَّ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ مَرِضَ (بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ) : الْمُرَادُ بِهَا هَنَا بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سِبْطِ هَارُونَ، كَانَتْ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَوَقَعَتْ فِي السَّبْيِ، فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَتْ وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَمَاتَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَرَوَى عَنْهَا أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا. (وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ) أَيْ: مَرْكَبٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهَا وَهِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّهَا أُمَيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ خَمْسٍ مَنَاقِبُهَا جَمَّةٌ، رَوَتْ عَنْهَا عَائِشَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَغَيْرُهُمَا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ لِزَيْنَبَ: أَعْطِيهَا) أَيْ: صَفِيَّةَ (بَعِيرًا. فَقَالَتْ: أَنَا أُعْطِي) : بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَلَعَلَّ حَذْفَ الْمَفْعُولِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّفْيِ أَيْ أَنَا مَا أُعْطِي شَيْئًا (تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ؟) أَيْ: بِاعْتِبَارِ مَا كَانَتْ ; وَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْغَيْرَةُ الْمُنْضَمَّةُ إِلَى كَوْنِهَا مِنْ أَكَابِرِ قُرَيْشٍ، لَكِنَّهَا خَالَفَتْ مِنْ حَيْثُ الْمُخَالَفَةُ وَسُوءُ الْمُخَالَفَةِ. (فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ) : بِالنَّصْبِ (وَبَعْضَ صَفَرٍ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ جَوَازُ الْهِجْرَانِ فَوْقَ ثَلَاثٍ لِفِعْلِ الْقَبِيحِ، يَعْنِي عَلَى قَصْدِ الزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ لَا عَلَى إِرَادَةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كَمَا سَبَقَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ صَاحِبُ التَّصْحِيحِ: رِجَالُهُ رِجَالُ مُسْلِمٍ إِلَّا سُمَيَّةَ الْبَصْرِيَّةَ الرَّاوِيَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَلَمْ يُخَرِّجْ لَهَا مُسْلِمٌ اهـ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: سُمَيَّةُ لَمْ تَثْبُتْ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: مَقْبُولَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَذُكِرَ حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ: مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا) أَيْ: مِنْ مُنَافِقٍ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ (فِي بَابِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5049 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ عِيسَى: سَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلَّا، وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ نَفْسِي» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5049 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ عِيسَى: سَرَقْتَ؟) أَيْ: أَسَرَقْتَ، وَالظَّاهِرُ أَتَسْرِقُ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْهُ إِيمَاءٌ إِلَى تَحَقُّقِهِ (قَالَ: كَلَّا) أَيْ: حَاشَا (وَالَّذِي لَا الْهُ إِلَّا هُوَ) . وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَوْرِيَةٌ أَيِ: ارْتَدِعْ عَنْ هَذَا الظَّنِّ أَوْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. (فَقَالَ عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّهِ) أَيْ: بِوَحْدَانِيَّتِهِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْقَسَمِيَّةِ أَوِ التَّقْدِيرُ صَدَّقْتُ قَسَمَكَ بِاللَّهِ. (وَكَذَّبْتُ نَفْسِي) . أَيْ فِيمَا قُلْتَ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ الْأَخْذَ بِخُفْيَةٍ لَا يَكُونُ سَرِقَةً لِفُقْدَانِ أَحَدِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حَدِّهَا الشَّرْعِيَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ صَدَّقْتُكَ فِي حَلِفِكَ بِقَوْلِكَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَبَرَّأْتُكَ وَرَجَعْتُ عَمَّا ظَنَنْتُ بِكَ وَكَذَّبْتُ نَفْسِي. قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] اهـ. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5050 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5050 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا) أَيْ: كَادَ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ الْقَلْبِيُّ سَبَبًا لِلْكُفْرِ، إِمَّا بِالِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا بِعَدَمِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ، أَوْ بِالشَّكْوَى إِلَى مَا سِوَاهُ، أَوْ بِالْمَيْلِ إِلَى الْكُفْرِ لِمَا رَأَى أَنَّ غَالِبَ الْكُفَّارِ أَغْنِيَاءُ مُتَنَعِّمُونَ، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فُقَرَاءُ مُمْتَحِنُونَ بِمُقْتَضَى مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» ". وَقَدْ قَالَ تَعَالَى تَسْلِيَةً لِلْعِبَادِ: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ - مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ - لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 196 - 198] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي رَخَاءٍ وَلِينِ عَيْشٍ، فَيَقُولُونَ: إِنْ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ، وَقَدْ هَلَكْنَا مِنَ الْجُوعِ وَالْجُهْدِ، وَفِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَّصِلِ إِلَى الْبُخَارِيِّ وَالْمُنْتَهَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَشْرَبَةٍ أَيْ غُرْفَةٍ وَأَنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَأَنَّ عِنْدَ رَحْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وَهُوَ مَا يُدْبَغُ بِهِ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ: " مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ أَيِ: الْفَقْرُ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى رُكُوبِ كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ فِيمَا لَا يَنْبَغِي طَالِبًا إِزَالَتَهُ عَنْهُ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ فِي السَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ فِي قَوْلِهِ: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَكَمْ جَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقَا هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقًا (وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدْرَ) . سَبَقَ مَعْنَاهُ اهـ. وَمُجْمَلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَدَرَ وَيَغْلِبُهُ لَكَانَ الْحَسَدَ. فِي زَعْمِ الْحَاسِدِ أَنْ يَقْلِبَ الْقَدَرَ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَكُونَ سَبْقَ الْقَدَرِ، عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ أَنَّ الْحَسَدَ غَالِبًا يَنْشَأُ مِنَ الْفَقْرِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ زَوَالَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِهِ، فَهُوَ مُعَارَضَةٌ بِالْقَضَاءِ أَوْ مُنَازَعَةٌ بِالْقَدْرِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالْحَسَدُ أَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ مِنَ الْفَقْرِ الْمُجَرَّدِ، فَالتَّرْتِيبُ الَّذِي ذُكِرَ لِلتَّرَقِّيَ، أَوْ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ سَبَبًا لِحُصُولِ الثَّانِي مَعَ أَنَّ الْحَسَدَ مَرَضٌ مُزْمِنٌ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالْفَقْرُ يُبَدَّلُ بِالْغِنَى أَوْ بِالصَّبْرِ وَالرِّضَا، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ غَالِبُ الْأَوْلِيَاءِ، حَتَّى اجْتَمَعَتِ الصُّوفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حَدِيثُ: ( «الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ» ) فَبَاطِلٌ مَوْضُوعٌ، كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

5051 - وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى أَخِيهِ فَلَمْ يَعْذِرْهُ، أَوْ لَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ ; كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِيئَةِ صَاحِبِ مَكْسٍ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَقَالَ: الْمَكَّاسُ: الْعَشَّارُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5051 - (وَعَنْ جَابِرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى أَخِيهِ) أَيِ: الْمُسْلِمِ (فَلَمْ يَعْذِرْهُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُضَمُّ وَكَسْرِ الذَّالِ (أَوْ لَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ تَفْسِيرُ مَا قَبْلَهُ (كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِيئَةِ صَاحِبِ مَكْسٍ) . بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ صَاحِبِ عُشْرٍ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الظُّلْمَ وَعَدَمَ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ أَطْلَقَ ذَمَّهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَكْسِ أَخْذُ مَالِ النَّاسِ بِالظُّلْمِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْقَامُوسَ فَقَالَ: الْمَكْسُ النَّقْصُ وَالظُّلْمُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالضِّيَاءُ عَنْ جَوْدَانَ وَلَفْظُهُ: «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ أَخُوهُ بِمَعْذِرَةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ مِثْلُ صَاحِبِ مَكْسٍ» . (قَالَ) أَيِ: الْبَيْهَقِيُّ فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِهِ (الْمَكَّاسُ: الْعَشَّارُ) . وَفِي بَعْضِ

الْأُصُولِ الْمَاكِسُ: الْعِشَارُ، وَلَعَلَّ الْمُنَاسَبَةَ التَّشْبِيهِيَّةَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَكْسِ أَيْضًا لَمْ يَقْبَلِ اعْتِذَارَ التَّاجِرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَالَهُ مَالُ أَمَانَةٍ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ فِي بَنْدَرٍ آخَرَ، أَوْ أَنَّهُ مَدْيُونٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَكَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَقْوَى هُوَ أَنَّهُ مَعَ هَذَا يَظْلِمُ عَلَيْهِ بِأَخْذِ مَالِهِ مَعَ التَّعَدِّي إِلَى الزَّائِدِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْحَوْضِ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: إِنَّ شِرَارَكُمُ الَّذِي يَنْزِلُ وَحْدَهُ وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَهُمْ يُبْغِضُونَهُ قَالَ: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: الَّذِينَ لَا يُقِيلُونَ عَثْرَةً وَلَا يَقْبَلُونَ مَعْذِرَةً وَلَا يَغْفِرُونَ ذَنْبًا قَالَ: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ، وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ يَبِرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَمَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلًا فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْحَوْضِ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَالتَّنَصُّلُ: الِاعْتِذَارُ.

[باب الحذر والتأني في الأمور]

[بَابُ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5052 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (18) بَابُ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ الْحَذَرُ: الِاحْتِرَاسُ مِنَ الضَّرَرِ، وَالتَّأَنِّي ضِدُّ الْعَجَلَةِ، مِنْ تَأَنَّى فِي الْأَمْرِ إِذَا تَوَقَّفَ فِيهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5052 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ) : بِرَفْعِ الْغَيْنِ عَلَى النَّفْيِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الْغَيْنِ عَلَى النَّهْيِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ فِي عَقْلِهِ (مِنْ جُحْرٍ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَسُكُونِ حَاءٍ أَيْ ثُقْبٍ وَخَرْقٍ (وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ) أَيْ: كَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهَا: عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمَمْدُوحَ هُوَ الْمُتَيَقِّظُ الْحَازِمُ الَّذِي لَا يُؤْتَى مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ، فَيُخْدَعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَا يُفْطَنُ هُوَ بِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْخِدَاعُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ دُونَ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَثَانِيهُمَا: عَلَى النَّهْيِ أَيْ: لَا يُخْدَعَنَّ الْمُؤْمِنُ وَلَا يُؤْتَيَنَّ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ، فَيَقَعُ فِي مَكْرُوهٍ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَأَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغِ الْخَطَّابِيَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ السَّيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُوَ أَبُو غُرَّةَ الشَّاعِرُ الْجُمَحِيُّ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْرِصَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ مَا مِنْهُ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَأُسِرَ تَارَةً أُخْرَى، فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ فَكَلَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِ فَقَالَ: " لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ " الْحَدِيثَ. وَرَوَى النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَالَ: سَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسَرَ أَبَا غُرَّةَ الشَّاعِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَنَّ عَلَيْهِ وَعَاهَدَهُ أَنْ لَا يُحَرِّضَ عَلَيْهِ وَلَا يَهْجُوَهُ، فَأَطْلَقَهُ فَلَحِقَ بِقَوْمِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى التَّحْرِيضِ وَالْهِجَاءِ، ثُمَّ أُسِرَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَأَلَهُ الْمَنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ " الْحَدِيثَ. وَهَذَا السَّبَبُ يُضَعِّفُ الْوَجْهَ الثَّانِي ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ ضَعْفِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُؤْمِنُ مُخْتَصًّا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِكَوْنِهِ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَطْنَبَ الطِّيبِيُّ فِي نُصْرَةِ الْخَطَّابِيِّ إِلَى أَنْ قَالَ: فَظَهَرَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنَّهْيِ أَوْلَى وَالْمَقَامَ لَهُ أَدْعَى اهـ. وَبُعْدَهُ لَا يَخْفَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ وَأَحْمَدُ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

5053 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5053 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ) : بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ كَانَ رَئِيسَ عَبَدِ الْقَيْسِ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ، عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَأَنَّ عَبْدَ

" الْقَيْسِ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ رَئِيسَ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَائِذٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ. (إِنْ فِيكَ لِخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ) أَيْ: فِيكَ وَفِي غَيْرِكَ (الْحِلْمَ) : وَهُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ تَأْخِيرُ مُكَافَأَةِ الظَّالِمِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الذَّنْبِ قِيلَ: وَالْمُرَادُ لَهُ هُنَا عَدَمُ اسْتِعْجَالِهِ وَتَرَاخِيهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِي مَصَالِحِهِ. قُلْتُ: فَيَبْقَى مُكَرَّرًا مَعَ قَوْلِهِ: (وَالْأَنَاةُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ وَهِيَ اسْمٌ مِنَ التَّأَنِّي، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْوَقَارُ وَالتَّثَبُّتُ، وَقِيلَ: الثَّبَاتُ فِي الطَّاعَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَوْدَةُ نَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ. وَضُبِطَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا وَجَوَّزَ نَصْبُهُمَا، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ النَّصْبُ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَفِي حَدِيثِ " «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» " هَذَا وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ رُوِيَ عَنِ الْمُنْذِرِ، الْأَشَجِّ أَنَّهُ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: " بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا " قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» اهـ. وَإِنَّمَا عَطَفُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَابِعَةٌ لِمَحَبَّتِهِ تَعَالَى لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5054 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ بْنِ عَبَّاسٍ الرَّاوِي مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5054 - (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ) : صَحَابِيَّانِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ» ) أَيْ: مِنْ إِلْهَامِهِ (وَالْعَجَلَةُ) أَيْ: فِي أُمُورِ الدُّنْيَا (مِنَ الشَّيْطَانِ) أَيْ وَسْوَسَتِهِ. قِيلَ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شُبْهَةَ فِي خَيْرِيَّتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90] قُلْتُ: بَوْنٌ بَيْنَ الْمُسَارَعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَبَيْنَ الْعَجَلَةِ فِي نَفْسِ الْعِبَادَاتِ، فَالْأَوَّلُ مَحْمُودٌ وَالثَّانِي مَذْمُومٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَسَنٌ غَرِيبٌ. (وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ) أَيْ: مِنَ الْعَارِفِينَ بِأَحْوَالِ رِجَالِ الْإِسْنَادِ (فِي عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ بْنِ عَبَّاسٍ الرَّاوِي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ أَحَدِ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ) أَيْ وَقَعَ طَعْنُ الْبَعْضِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ حِفْظِهِ، فَإِنَّهُ عَدْلٌ ثِقَةٌ، فَأَمْرُهُ سَهْلٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: " «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» ".

5055 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ، وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرُبَةٍ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5055 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ» ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ صَاحِبَ زَلَّةِ قَدَمٍ أَوْ لَغْزَةِ قَلَمٍ فِي تَقْرِيرِهِ أَوْ تَحْرِيرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ لَا حَلِيمَ كَامِلًا إِلَّا مَنْ وَقَعَ فِي زَلَّةٍ وَحَصَلَ مِنْهُ الْخَطَأُ وَالتَّخَجُّلُ، فَعُفِيَ عَنْهُ فَعَرَفَ بِهِ رُتْبَةَ الْعَفْوِ فَيَحْلُمُ عِنْدَ عَثْرَةِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ ثَابِتَ الْقَدَمِ. (وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ) . أَيْ صَاحِبَ امْتِحَانٍ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ أَيْ: لَا حَكِيمَ كَامِلًا إِلَّا مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ وَعَلِمَ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ، فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ فِعْلًا إِلَّا عَنْ حُكْمِهِ إِذِ الْحِكْمَةُ إِحْكَامُ الشَّيْءِ لِإِصْلَاحِهِ مِنَ الْخَلَلِ اهـ. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي النِّهَايَةِ وَشَرْحِ الْمُظْهِرِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَا حَلِيمَ وَلَا حَكِيمَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ إِلَّا كَذَا لِيَصِحَّ الْحَصْرُ، وَقَدْ عَرَفْتَ وَصْفَهُ تَعَالَى بِهِمَا فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى لَا حَلِيمَ إِلَّا وَقَدْ يَعْثُرُ كَمَا قِيلَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ الْحَلِيمِ، وَلَا حَكِيمَ مِنَ الْحُكَمَاءِ الطِّبِّيَّةِ إِلَّا صَاحِبَ التَّجْرِبَةِ فِي الْأُمُورِ الدَّائِبَةِ وَالذَّاتِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) . وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5056 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: " خُذِ الْأَمْرَ بِالتَّدْبِيرِ، فَإِنْ رَأَيْتَ فِي عَاقِبَتِهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، وَإِنْ خِفْتَ غَيًّا فَأَمْسِكْ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5056 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي) أَيْ: بِشَيْءٍ يُزِيلُ تَحَيُّرِي فِي أَمْرِي (فَقَالَ: خُذِ الْأَمْرَ) أَيِ: الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ (بِالتَّدَبُّرِ) مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ أَيْ بِالتَّفَكُّرِ فِي دُبُرِهِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَصَالِحِهِ وَمَفَاسِدِهِ وَالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ. (فَإِنْ رَأَيْتَ فِي عَاقِبَتِهِ خَيْرًا) أَيْ: نَفْعًا دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا (فَأَمْضِهِ) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَيْ فَافْعَلْهُ (وَإِنْ خِفْتَ) أَيْ: رَأَيْتَ بِقَرِينَةِ الْقَرِيبَةِ فَفِيهِ تَفَنُّنٌ، وَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَهَ فِيِ الشَّرِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (غَيًّا) أَيْ: ضَلَالَةً، وَإِنَّمَا تَرَكَ مُرَاعَاةَ الْمُقَابَلَةِ لِيُفِيدَ زِيَادَةَ إِفَادَةِ الْمُشَاكَلَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ خَيْرٌ وَهِدَايَةٌ، وَفِي الثَّانِي شَرٌّ وَضَلَالَةٌ، وَهَذَا بَعْضُ الصَّنِيعِ مِنْ صَنَائِعِ الْبَدِيعِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (رَأَيْتَ) ، بِمَعْنَى عَلِمْتَ أَوْ ظَنَنْتَ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِأَنَّهُ مَبْنَى الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ غَالِبِهَا، وَالْمَطَالِبِ الْعُرْفِيَّةِ كُلِّهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الظَّنِّ لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْيَقِينِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَكُمَّلِ الْعَارِفِينَ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الْعِلْمِ يُعْلَمُ بِالْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْخَوْفُ هُنَا بِمَعْنَى الظَّنِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ لِأَنَّ مَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ احْتَرَزَ عَنْهُ وَتَحَرَّى حَقِيقَتَهُ اهـ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِيُحَقِّقَ حَقِيقَتَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَنْسَبُ لِلْمَقَامِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ (رَأَيْتَ) ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَهُمَا نَتِيجَةُ التَّفَكُّرِ وَالتَّدْبِيرِ. قُلْتُ: بَلْ هُمَا الْمُتَفَرِّعَانِ عَلَيْهِمَا الْمُنْتِجَانِ لِلْفِعْلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِمْضَاءِ وَالتَّرْكِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (فَأَمْسِكْ) أَيْ: كُفَّ عَنْهُ وَاتْرُكْهُ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ الْمَرْفُوعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّازِقِ فِي الْجَامِعِ، وَابْنُ عُدَيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

5057 - وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْأَعْمَشُ. لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5057 - (وَعَنْ مُصْعَبٍ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَبُو زُرَارَةَ (بْنُ سَعْدٍ) أَيِ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: سَعْدٍ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، وَأَمَّا مُصْعَبُ فَسَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ، وَرَوَى عَنْهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَغَيْرُهُ. (قَالَ الْأَعْمَشُ) : أَيْ أَحَدُ الرُّوَاةِ وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ الْكَاهِلِيُّ الْأَسَدِيُّ مَوْلَى بَنِي كَاهِلٍ، بَطْنٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ خُزَيْمَةَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ بِأَرْضِ الرَّيِّ فَجِيءَ بِهِ حَمِيلًا إِلَى الْكُوفَةِ، فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ، فَأَعْتَقَهُ وَهُوَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ الْمَشْهُورِينَ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْقِرَاءَةِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ أَكْثَرِ الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. (لَا أَعْلَمُهُ) أَيْ: قَوْلَ سَعْدٍ هَذَا (إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ نَقْلًا وَرِوَايَةً عَنْهُ، أَوْ لَا أَعْلَمُ الْحَدِيثَ إِلَّا مَرْفُوعًا إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. (قَالَ: التُّؤَدَةُ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيِ التَّأَنِّي (فِي كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ (خَيْرٌ) أَيْ: مُسْتَحْسَنٌ (إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ) أَيْ: لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْخَيِّرَاتِ آفَاتٌ. وَرُوِيَ أَنَّ أَكْثَرَ صِيَاحِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ تَسْوِيفِ الْعَمَلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَا يُعْلَمُ عَوَاقِبُهَا فِي ابْتِدَائِهَا أَنَّهَا مَحْمُودَةُ الْعَوَاقِبِ حَتَّى يَتَعَجَّلَ فِيهَا أَوْ مَذْمُومَةٌ فَيَتَأَخَّرُ عَنْهَا، بِخِلَافِ الْأُمُورِ الْأُخْرِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ - وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 148 - 133] قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268] يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ إِذَا تَحَرَّكَتْ لَهُ دَاعِيَةُ الْبَذْلِ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُهُ الْفَقْرَ وَيُخَوِّفُهُ وَيَصُدُّهُ عَنْهُ. كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَرْشَخِيُّ فِي الْخَلَاءِ، فَدَعَا تِلْمِيذًا لَهُ فَقَالَ: انْزِعْ عَنِّي الْقَمِيصَ وَادْفَعْهُ إِلَى فُلَانٍ. فَقَالَ: هَلَّا صَبَرْتَ حَتَّى تَخْرُجَ. قَالَ: خَطَرَ لِي بَذْلَهُ وَلَا آمَنُ عَلَى نَفْسِي أَنْ تَتَغَيَّرَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا.

5058 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5058 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ) : كَنَرْجِسٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " السَّمْتُ الْحَسَنُ) أَيِ: السِّيرَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَالطَّرِيقَةُ الْمُسْتَحْسَنَةُ. قَالَ شَارِحٌ: السَّمْتُ الطَّرِيقُ، وَيُسْتَعَارُ لِهَيْئَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَفِي الْفَائِقِ: السَّمْتُ أَخْذُ الْمَنْهَجِ وَلُزُومُ الْمَحَجَّةِ. (وَالتُّؤَدَةُ) أَيِ: التَّأَنِّي فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ (وَالِاقْتِصَادُ) أَيِ: التَّوَسُّطُ فِي الْأَحْوَالِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الِاقْتِصَادُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْجَوْرِ وَالْعَدْلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُودِ، وَهَذَا الضَّرْبُ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر: 32] وَالثَّانِي مَحْمُودٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَهُ طَرَفَانِ إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ كَالْجُودِ، فَإِنَّهُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْبُخْلِ وَالشَّجَاعَةِ، فَإِنَّهَا بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَهَذَا الَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ الِاقْتِصَادُ الْمَحْمُودُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الِاقْتِصَادُ فِي الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدْرِ وَالِاقْتِصَادُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وَمِنْهُ حَدِيثٌ: الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَحَدِيثُ: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» ، وَكَذَا حُكْمُ الِاقْتِصَادِ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اطْلُبِ الْعِلْمَ بِحَيْثُ لَمْ يَمْنَعْكَ عَنِ الْعَمَلِ، وَاعْمَلْ بِحَيْثُ لَا يَشْغَلُكَ عَنِ الْعِلْمِ. (جُزْءٌ) أَيْ: كُلُّهَا أَوْ كُلٌّ مِنْهَا (مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا) : وَيُؤَيِّدُ الْأَخِيرَ مَا رَوَاهُ الضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «السَّمْتُ الْحَسَنُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» " مَعَ زِيَادَةِ إِفَادَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ، وَيَنْصُرُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي حَيْثُ قَالَ: جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبَ اخْتِلَافِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْمُتَّصِفِ بِهِ، وَأَمَّا مَا قَالَ الشَّارِحُ مِنْ أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَلَطِ الرُّوَاةِ، فَهُوَ احْتِمَالُ غَلَطٍ مِنْهُ، وَسَبَبُهُ الْغَفْلَةُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ نَقْلًا وَعَقْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي: كَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ أَرْبَعَةً عَلَى التَّذْكِيرِ، فَلَعَلَّهُ أَنَّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْخَصْلَةِ أَوِ الْقِطْعَةِ أَوْ لِإِجْرَاءِ الْجُزْءِ مَجْرَى الْكُلِّ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. قُلْتُ: التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَانَ الصَّوَابُ، فَظَاهِرٌ لَا يَخْفَى (مِنَ النُّبُوَّةِ) أَيْ: مِنْ أَجْزَائِهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْهَدْيُ وَالسَّمْتُ حَالَةُ الرَّجُلِ وَمَذْهَبُهُ وَالِاقْتِصَادُ سُلُوكُ الْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ وَالدُّخُولِ فِيهَا لِرِفْقٍ عَلَى سَبِيلِ تَمْكِينِ الدَّوَامِ عَلَيْهَا، يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ مِنْ شَمَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ فَضَائِلِهِمْ، فَاقْتَدُوا بِهِمْ فِيهَا وَتَابِعُوهُمْ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ النُّبُوَّةَ تَتَجَزَّأُ، وَلَا أَنْ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ كَانَ نَبِيًّا، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ كَرَامَةٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ وَدَعَا إِلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ لَقِيَهُ النَّاسُ بِالتَّوْقِيرِ وَالتَّعَظُّمِ، وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ لِبَاسَ التَّقْوَى الَّذِي أَلْبَسَهُ أَنْبِيَاءَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ وَوَجْهِهِ بِالِاخْتِصَاصِ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مَسْدُودٌ، فَإِنَّهُ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الرُّؤْيَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5059 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5059 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْهَدْيَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (الصَّالِحَ) أَيِ: السِّيرَةَ الْحَسَنَةَ (وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ) أَيِ: الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ مِنْ زِيِّ الصَّالِحِينَ، وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهَدْيَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَالسَّمْتَ بِالْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ، فَهُمَا فِي الطَّرِيقَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَبِهِ تَتِمُّ الْحَقِيقَةُ. (وَالِاقْتِصَادَ) أَيِ: التَّوَسُّطَ فِي أَمْرِ الْمَعِيشَةِ وَالْمَعَادِ (جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ) : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: خَمْسَةٌ بِالتَّاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ (وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ.

5060 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ ; فَهِيَ أَمَانَةٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5060 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ) أَيْ: عِنْدَكَ أَوْ عِنْدَ أَحَدٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (الْحَدِيثَ) أَيِ: الَّذِي يُرِيدُ إِخْفَاءَهُ (ثُمَّ الْتَفَتَ) أَيْ: غَابَ عَنْكَ أَوْ عَنْهُ بِمُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ (فَهِيَ) أَيْ: ذَلِكَ الْحَدِيثُ وَأَنْتَ بِاعْتِبَارِ خَبَرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ (أَمَانَةٌ) . وَقِيلَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى الْحِكَايَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَمَانَةِ، فَلَا يَحُوزُ إِضَاعَتُهَا بِإِشَاعَتِهَا، وَقَدْ فَسَّرَ الْمُظْهِرُ قَوْلَهُ: الْتَفَتَ بِغَابَ، وَحِينَئِذٍ، ثُمَّ عَلَى بَابِهِ مِنَ التَّرَاخِي الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ حُكْمُ التَّعْقِيبِ بِالْأَوْلَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْتَفَتَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْتِفَاتِ خَاطِرِهِ إِلَى مَا تَكَلَّمَ، فَالْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا احْتِيَاطًا، فَثُمَّ هُنَا لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا تَرَتُّبُ الْفَاءِ، وَأَنَّ الثَّانِي مُسَبَّبٌ عَنِ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: هَذَا تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ غَيْرُ مُخَصَّصٍ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَالْفَاءُ لَازِمَةٌ لِلْجَزَاءِ، فَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ أَصْلًا، وَحَاصِلُهُ إِجْمَالًا مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآتِي الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مَا سَيَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالضِّيَاءُ عَنْ جَابِرٍ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ.

5061 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التِّيِّهَانِ: " هَلْ لَكَ خَادِمٌ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: " فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَأْتِنَا. فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْسَيْنِ، فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْ مِنْهُمَا. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! اخْتَرْ لِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ. خُذْ هَذَا فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي، وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5061 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِالنُّونِ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرْجَمَتُهُ فِي بَابِ الضِّيَافَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَيْلٌ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ هُنَاكَ (هَلْ لَكَ خَادِمٌ) ؟ أَيْ عَبْدٌ (قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ) أَيْ: أُسَارَى (فَأْتِنَا فَأُتِيَ) أَيْ: جِيءَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْسَيْنِ) أَيْ مِنَ الْعَبِيدِ (فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْ مِنْهُمَا) أَيْ: وَاحِدًا مِنْهُمَا أَوْ بَعْضَهُمَا (فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! اخْتَرْ لِي) أَيْ: أَنْتَ أَوْلَى بِالِاخْتِيَارِ، فَإِنَّكَ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارَ وَعَلَى اخْتِيَارِكَ الْمَدَارُ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ (إِنَّ الْمُسْتَشَارَ) : مَنِ اسْتَشَارَهُ طَلَبَ رَأْيَهُ فِيمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ (مُؤْتَمَنٌ) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْأَمَانَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْتَشَارَ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَلُ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ (خُذْ هَذَا) أَيْ: مُشَارًا إِلَى أَحَدِهِمَا (فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي) . فِيهِ أَنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى خَيْرِيَّةِ الرَّجُلِ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ آثَارِ الصَّلَاحِ لَا سِيَّمَا الصَّلَاةِ ; فَإِنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ (وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا) أَيِ اسْتِيصَاءَ مَعْرُوفٍ. قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَأْمُرْهُ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ وَالنُّصْحِ لَهُ، وَقِيلَ: وَصِّ فِي حَقِّهِ بِمَعْرُوفِ كَذَا ذَكَرَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيِ: اقْبَلْ وَصِيَّتِي فِي حَقِّهِ وَأَحْسِنْ مِلْكَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ، وَكَذَا فِي الشَّمَائِلِ مُطَوَّلًا كَمَا أَوْرَدْنَاهُ فِي بَابِ الضِّيَافَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْعَبْدَ لِأَجْلِ وَصِيَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا حَدِيثُ: " «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» ". فَقَدْ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ سَمُرَةَ وَلَفْظُ: " «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، إِنْ شَاءَ أَشَارَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشِرْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَلِيٍّ، بِلَفْظِ: " «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ إِنْ شَاءَ أَشَارَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشِرْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَلِيٍّ لِلَفْظِ: " «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، فَإِذَا اسْتُشِيرَ فَلْيُشِرْ بِمَا هُوَ صَانِعٌ لِنَفْسِهِ» ".

5062 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إِلَّا ثَلَاثَةُ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٌ حَرَامٌ، أَوِ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: " إِنَّ أَعْظَمَ الْأَمَانَةِ فِي " بَابِ الْمُبَاشَرَةِ " فِي " الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5062 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ) أَيْ: إِحْدَى الثَّلَاثَةِ مِنَ الْمَجَالِسِ، وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ إِذَا رَأَى أَهْلَ مَجْلِسٍ عَلَى مُنْكَرٍ أَنْ لَا يَشِيعَ مَا رَأَى مِنْهُمْ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ

(سَفْكُ دَمٍ) : بِالرَّفْعِ بِتَقْدِيرِ هِيَ مَجْلِسُ إِرَاقَةِ دَمٍ (حَرَامٍ) ، بِالْجَرِّ صِفَةُ دَمٍ أَيْ دَمٌ حَرَامٌ سَفْكُهُ أَوْ دَمٌ مُحْتَرَمٌ فِي الشَّرْعِ (أَوْ فَرَجٌ حَرَامٌ، أَوِ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ) . قَيْدٌ لِلْأَخِيرِ فَقَطْ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ حَرَامٍ هُنَا لِأَجْلِ مَفْهُومِهِ مِنَ الْحَلَالِ، فَإِنَّ اقْتِطَاعَ مَالِ النَّاسِ ظُلْمًا حَرَامٌ، سَوَاءٌ يَكُونُ الْمَالُ حَلَالًا أَمْ حَرَامًا، فَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالِاقْتِطَاعِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْمُظْهِرُ: كَمَا إِذَا سَمِعَ مَنْ قَالَ فِي مَجْلِسٍ: أُرِيدُ قَتْلَ فُلَانٍ أَوِ الزِّنَا بِفُلَانَةٍ أَوْ أَخْذَ مَالِ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ سَتْرُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى حَذَرِ مِنْهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَأَمَّا صَدْرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: " الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ " فَقَدْ رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: إِنَّ أَعْظَمَ الْأَمَانَةِ) أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ (فِي بَابِ الْمُبَاشَرَةِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ جَاءَ مُكَرَّرًا فِي الْمَصَابِيحِ، وَعَلَى أَنَّ إِيرَادَهُ فِي الصِّحَاحِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْحِسَانِ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ حَوَّلَ الْحَدِيثَ مِنْ هُنَا إِلَى ذَلِكَ الْبَابِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِهِ فَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَاعْتِذَارٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ إِسْقَاطُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5063 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ: قُمْ فَقَامَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْعُدْ فَقَعَدَ، ثُمَّ قَالَ: مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَلَا أَفْضَلُ مِنْكَ وَلَا أَحْسَنُ مِنْكَ، بِكَ آخُذُ، وَبِكَ أُعْطِي، وَبِكَ أُعْرَفُ، وَبِكَ أُعَاتِبُ، وَبِكَ الثَّوَابُ، وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ» ". وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5063 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ: قُمْ فَقَامَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْعُدْ فَقَعَدَ» ) : ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ خُلِقَ مُجَسَّدًا مُجَسَّمًا كَمَا يُخْلَقُ الْمَوْتُ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ يُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ أُمُورٌ مَعْنَوِيَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْهُ نَاشِئَةٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَرْبَابِ الْعُقُولِ، وَلَعَلَّ الْقِيَامَ كِنَايَةٌ عَنِ الظُّهُورِ وَالْقُعُودِ عَنْ خَفَائِهِ، وَالْإِقْبَالُ عَنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى شَيْءٍ، وَالْإِدْبَارُ عَنْ إِعْرَاضِهِ عَنْهُ بِحَسَبِ مَا تُعَلَّقَ بِهِ الْمَشِيئَةُ وَالْإِرَادَةُ الْأَزَلِيَّةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَجْمُوعُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ الْعَقْلَ هُوَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، وَبِهِ يَتِمُّ غَرَضُ خَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْعِبَادَةِ الَّتِي مَا خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا لِأَجْلِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ وَضْعُ الْحِكْمَةِ مَوْضِعَ الْعَرْضِ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ بِالْأَغْرَاضِ. (ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ) أَيْ: فِي حَدِّ ذَاتِهِ، فَإِنَّهُ جَوْهَرٌ شَرِيفٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَضِيعُ وَالشَّرِيفُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِهِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُغْضَبُ مِنْ نِسْبَةِ فَقْدِهِ أَوْ نُقْصَانِهِ إِلَيْهِ (وَلَا أَفْضَلُ مِنْكَ) : لِحُصُولِ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ وَزِيَادَةِ الْعِبَادَاتِ وَالدَّرَجَاتِ بِهِ (وَلَا أَحْسَنُ مِنْكَ) أَيْ: حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ وَتَحْسِينُ الْمُعَامَلَةِ (بِكَ) أَيْ: بِسَبَبِكَ أَوْ بِقَدْرِكَ (آخُذُ) أَيِ: الْعِبَادَاتِ مِنْ عِبَادِي (وَبِكَ أُعْطِي) أَيِ: الثَّوَابَ وَالدَّرَجَاتِ (وَبِكَ أُعْرَفُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ ذَاتًا وَصِفَةً وَحُكْمًا (وَبِكَ أُعَاتِبُ) أَيْ: عَلَى مَنْ أُعَاتِبُ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَنَحْوَهُ لَا عُتْبَ عَلَيْهِ. (وَبِكَ الثَّوَابُ) أَيْ: وُصُولُهُ حَالَ الْإِقْبَالِ (وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ) أَيْ: حُصُولُهُ وَقْتَ الْإِدْبَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْعَقْلِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْعِلْمِ الْمُنْتِجِ لِلْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَسُمِّيَ عَقْلًا لِأَنَّهُ يَعْقِلُ صَاحِبَهُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، كَمَا يُسَمَّى نُهْيَةً لِأَنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَقْلُ يُقَالُ لِلْقُوَّةِ الْمُتَهَيِّئَةِ لِقَبُولِ الْعِلْمِ، وَيُقَالُ لِلْعِلْمِ الَّذِي يَسْتَفِيدُهُ الْإِنْسَانُ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ عَقْلٌ، وَلِهَذَا قِيلَ: فَإِنَّ الْعَقْلَ عَقْلَانِ ... فَمَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعٌ وَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ ... إِذْ لَمْ يَكُ مَطْبُوعٌ

كَمَا لَا تَنْفَعُ الشَّمْسُ وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوعٌ وَإِلَى الْأَوَّلِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقْلِ» " وَإِلَى الثَّانِي أَشَارَ بِقَوْلِهِ: " «مَا كَسَبَ أَحَدٌ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ عَقْلٍ يَهْدِيهِ إِلَى هُدَى أَوْ يَرُدَّهُ عَنْ رَدَى» " وَهَذَا الْعَقْلُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ بِلَا مَطْبُوعٍ، كَذَلِكَ لَا يَنْفَعُ مَطْبُوعٌ بِلَا مَسْمُوعٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكَمَاءَ مَعَ أَنَّهُمْ أَكْبَرُ الْعُقَلَاءِ مَا نَفَعَهُمْ مُجَرَّدُ عُقُولِهِمُ الْمُطَوَّعَةِ مِنْ غَيْرِ مُتَابَعَتِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَأَقْوَالِهِمُ الْمَسْمُوعَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] وَنَظِيرُهُ الْمُشَاهَدُ لِكُلِّ أَحَدٍ: الْأَصَمُّ الْخَلْقِيُّ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ الْمَطْبُوعِ وَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْعَقْلِ الْمَسْمُوعِ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، كَمَا أَجْمَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ وَقَالَ هُنَا: (وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ) أَيْ: فِي ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ وَقَدْ طَعَنَ فِي ثُبُوتِهِ (بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) . فَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي حَقِّهِ، لَكِنْ قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي الْمَقَاصِدِ: إِنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ اتِّفَاقًا، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي مُخْتَصَرِ الشِّيحِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْفَيْرُوزِآبَادِي أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ إِلَخْ. ضَعِيفٌ. «وَمَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ مِنَ الْعَقْلِ لِلْحَكِيمِ» . ضَعِيفٌ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيُّ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرُوهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعَقِيلِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ السَّبْتِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الدَّارُقُطْنِيُّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمُ اهـ. وَوَجْهُ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ ظَاهِرٌ مِنْ نَتَائِجِ الْعَقْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5064 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ «الرَّجُلَ لِيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ". حَتَّى ذَكَرَ سِهَامَ الْخَيْرِ كُلَّهَا: " وَمَا يُجْزَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِقَدْرِ عَقْلِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5064 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ " حَتَّى ذَكَرَ سِهَامَ الْخَيْرِ) أَيْ: أَبْوَابَهُ وَأَنْوَاعَهُ (كُلَّهَا) أَيْ: جَمِيعَهَا (وَمَا يُجْزَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ مَا يُثَابُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِقَدْرِ عَقْلِهِ) أَيْ: بِمِقْدَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ هُنَا الْمُسْتَفَادُ بِالْعَقْلِ، فَيُفِيدُ أَنَّ زِيَادَةَ الْمُثَوَّبَاتِ وَالدَّرَجَاتِ فِي الْعِبَادَاتِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ عُلُومِ أَصْحَابِهَا وَعُقُولِ أَرْبَابِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ الْمَسْمُوعَ لَا يَنْفَعُ كُلَّ النَّفْعِ إِلَّا بِالْعَقْلِ الْمَطْبُوعِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَيِّزُ الَّذِي يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ وَبِهِ تَتَفَاوَتُ صَلَاةٌ عَنْ صَلَاةٍ وَصَدَقَةٌ عَنْ صَدَقَةٍ وَصَوْمٌ عَنْ صَوْمٍ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَرْكَعُ رَكْعَةً فِي مَقَامٍ تَفَضُلُ أَلْفَ رَكْعَةٍ فِي غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَرُبَّمَا يَعْمَلُ وَيَظُنُّ بِهِ خَيْرًا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ وَبَالًا. قُلْتُ: لَا خَفَاءَ أَنَّ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ لَيْسَ لَهُ التَّمْيِيزُ فِي الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعَقْلِيَّانِ، فَالْمَدَارُ هُنَا عَلَى الْعَقْلِ الْمَسْمُوعِ، لَكِنْ بِمُسَاعَدَةِ الْعَقْلِ الْمَطْبُوعِ بِأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنَ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَفِي مَقَامٍ يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ فِي الطَّرِيقَةِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعِبَادَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالنِّيَّاتِ، فَمَدَارُ كَمَالِ الصَّلَاةِ مَثَلًا بَعْدَ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ وَوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا وَآدَابِهَا الْمَسْمُوعَةِ الْمَعْرُوفَةِ عَلَى حُضُورِ الْقَلْبِ مَعَ اللَّهِ، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَمَّا سِوَاهُ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صِلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدُسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا» ".

5065 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَا أَبَا ذَرٍّ! لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5065 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِيَ) أَيْ: مُخَاطِبًا (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا ذَرٍّ! لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ بِالتَّدْبِيرِ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ الْمَسْمُوعَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يُحْتَسَبُ لِصَاحِبِهِ إِلَّا بِالْعَقْلِ الْمَطْبُوعِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ لَا نَفْعَ لَهُ بِدُونِ الْعَقْلِ الْمَسْمُوعِ، بَلْ رُبَّمَا يَنْفَعُ الْمَسْمُوعُ بِدُونِ

الْمَطْبُوعِ كَمَنْ آمَنَ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ، فَالْمَعْنَى لَا عَقْلَ كَعَقْلِ التَّدْبِيرِ أَيْ كَالْعَقْلِ الَّذِي يَصْحَبُهُ التَّدْبِيرُ، وَهُوَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي دُبُرِ الْأَمْرِ وَعَاقِبَتِهِ وَيُمَيِّزُ مَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ فِي الْآخِرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَدَارَهُ عَلَى الْعَقْلِ الْمَسْمُوعِ (وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ) أَيْ وَلَا تَوَرُّعَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبَهَاتِ مِثْلَ الْكَفِّ عَنِ الْمُعَامَلَاتِ وَتَرْكِ الْمُبَاحَاتِ لَا الضَّرُورِيَّاتِ (وَلَا حَسَبَ) أَيْ: لَا مَكْرَمَةَ وَشَرَفَ (كَحُسْنِ الْخُلُقِ) أَيْ كَمُدَارَاةِ الْخَلْقِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْحَقِّ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ الْوَرَعُ فِي الْأَصْلِ الْكَفُّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالتَّحَرُّجُ فِيهِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْكَفِّ عَنِ الْمُبَاحِ وَالْحَلَالِ " قُلْتُ: فَالْمُرَادُ بِالْوَرَعِ فِي الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ، وَبِالْكَفِّ مَعْنَاهُ الْعُرْفِيُّ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَلَمَّا غَفَلَ الطِّيبِيُّ عَمَّا حَرَّرْنَاهُ، قَالَ بَعْدَ كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى هَذَا الْوَرَعُ وَهُوَ الْكَفُّ، فَكَيْفَ قِيلَ وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ؟ قُلْتُ: الْكَفُّ إِذَا أُطْلِقَ فُهِمَ مِنْهُ كَفُّ الْأَذَى، أَوْ كَفُّ اللِّسَانِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كُفَّ هَذَا " وَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا وَرَعَ كَالصَّمْتِ أَوِ الْكَفِّ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ أَيْ: لَا مَكَارِمَ مُكْتَسَبَةً كَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ، فَالْأَوَّلُ عَامٌّ، وَالثَّانِي خَاصٌّ. قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ، وَالثَّانِيَ عَامٌّ لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، وَلِذَا وَرَدَ: الْخُلُقُ الْحَسَنُ أَحْسَنُ الْحُسْنِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فَكُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5066 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ» " رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5066 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ) أَيْ: فِي صَرْفِهَا أَوْ فِي الْإِنْفَاقِ (نِصْفُ الْمَعِيشَةِ) وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] (وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ) أَيِ: التَّحَبُّبُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ (نِصْفُ الْعَقْلِ) أَيِ: اسْتِعْمَالُ نِصْفِهِ أَوْ سَبَبُ تَحْصِيلِ نِصْفِهِ، فَإِنَّهُ بِالِاسْتِصْحَابِ يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ الِاكْتِسَابُ، فَكَانَ عَقْلُ الْمُنْفَرِدِ نِصْفَ الْعَقْلِ، فَيَكْمُلُ بِعَقْلِ صَاحِبِهِ، وَلِذَا قِيلَ: عِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُ لِبَعْضِ تَلَامِيذِهِ: أَنَا وَأَنْتَ إِنْسَانٌ كَامِلٌ ; لِأَنَّكَ حَافِظٌ الْقُرْآنَ وَأَنَا مُفَسِّرُهُ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْإِخْوَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا: «الْمَرْءُ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ» وَلَا شَكَّ أَنَّ مُصَاحَبَةَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ تُوَرِثُ كَمَالَ الْعَقْلِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. (وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ) فَإِنَّ السَّائِلَ الْفَطِنَ يَسْأَلُ عَمَّا يُهِمُّهُ وَمَا هُوَ بِشَأْنِهِ. أَعْنِي: وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ تَمَيُّزٍ بَيْنَ مَسْئُولٍ وَمَسْئُولٍ، فَإِذَا ظَفِرَ بِمُبْتَغَاهُ وَفَازَ بِهِ كَمُلَ عِلْمُهُ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: يُفْهَمُ مِنْ حُسْنِ سُؤَالِ الطَّالِبِ أَنَّ لَهُ مُشَارَكَةً فِي الْعِلْمِ وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهِ بَقِيَّةَ الْعِلْمِ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ بِخِلَافِ مَنْ يَسْأَلُ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَحُسْنِ مَقَالٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَصًّا عَلَى نُقْصَانِ عَقْلِهِ وَكَمَالِ جَهْلِهِ، حُكِيَ أَنَّ تِلْمِيذًا كَانَ لِأَبِي يُوسُفَ سَاكِتًا فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ لَهُ: إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ فَسَلْ وَلَا تَسْتَحِ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ يَمْنَعُ الْعِلْمَ، وَكَانَ الْإِمَامُ يَتَكَلَّمُ فِي تَعْرِيفِ الصَّوْمِ أَنَّهُ مِنَ الصُّبْحِ إِلَى الْغُرُوبِ فَقَالَ: فَإِذَا لَمْ تَغْرُبْ فَإِلَى مَتَى؟ فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ، فَإِنَّ سُكُوتَكَ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِكَ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَالِ: إِنَّ الْجَاهِلَ إِذَا تَكَلَّمَ فَهُوَ كَالْحِمَارِ، وَإِذَا سَكَتَ فَهُوَ كَالْجِدَارِ. هَذَا وَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ بَيَانُ أَنَّ الْعَالِمَ وَلَوْ بَلَغَ مَبْلَغَ الْكَمَالِ فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْجَهْلِ بِبَعْضِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابُهُ لَا أَدْرِي. وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا أَدْرِي أَعُزَيْرٌ نَبِيٌّ أَمْ لَا» ، وَفِي الْقُرْآنِ " {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] "، وَ " {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] " وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقِيلَ لَهُ: فَإِذَا كُنْتَ لَا تَدْرِي فَلِمَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ؟ قَالَ: إِنَّمَا طَلَعْتُ بِقَدْرِ عِلْمِي وَلَوْ صَعِدْتُ بِقَدْرِ جَهْلِي لَوَصَلْتُ السَّمَاءَ، وَفِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] تَنْبِيهٌ عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ الْأَخِيرُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْعَيْشِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» ".

[باب الرفق والحياء وحسن الخلق]

[بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ]

(19) بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5067 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قَالَ لِعَائِشَةَ: " عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ، إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» ". [19] بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ الرِّفْقُ: بِالْكَسْرِ ضِدُّ الْعُنْفِ وَهُوَ الْمُدَارَاةُ مَعَ الرُّفَقَاءِ وَلِينُ الْجَانِبِ وَاللُّطْفُ فِي أَخْذِ الْأَمْرِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَيْسَرِهَا، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَقَالَ الْحُكَمَاءُ: هُوَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُلَامُ بِهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: حَالَةٌ تَتَوَلَّدُ مِنْ رُؤْيَةِ الْآلَاءِ وَالتَّقْصِيرِ فِي شُكْرِ النَّعْمَاءِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: الْحَيَاءُ وُجُودُ الْهَيْبَةِ فِي الْقَلْبِ مَعَ وَحْشَةِ مَا سَبَقَ مِنْكَ إِلَى رَبِّكَ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ: هُوَ تَرْكُ الدَّعْوَى بَيْنَ يَدَيِ الْمَوْلَى، وَأَمَّا حُسْنُ الْخُلُقِ فَقَالُوا: هُوَ الْإِنْصَافُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَبَذْلُ الْإِحْسَانِ وَالْعَدْلُ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ هُوَ الِاتِّبَاعُ بِمَا أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِ الطَّرِيقَةِ، وَأَحْوَالِ الْحَقِيقَةِ، وَلِذَا «لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ خُلُقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَارِدِ فِي حَقِّهِ " {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] " فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ» تَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنْ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ كَانَ يَتَّصِفُ بِهَا وَكُلُّ فِعْلَةٍ مَذْمُومَةٍ فِيهِ يَجْتَنِبُ عَنْهَا، ثُمَّ الِاتِّبَاعُ بِقَدْرِ الْمَحَبَّةِ وَتَوْفِيقُ الْمُتَابَعَةِ بِأَخْذِ كُلِّ سَهْمِهِ وَنَصِيبِهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي وَصْفِهِ لِلْقُرَّاءِ: أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى ... حُلَاهُمْ بِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ مُفَصَّلًا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5067 - (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ) أَيْ: لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، يُرِيدُ بِهِمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ، فَيُسَامِحُهُمْ وَلَا يُكَلِّفُ فَوْقَ وُسْعِهِمْ، أَوْ يُحِبُّ أَنْ يَرْفُقَ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (يُحِبُّ الرِّفْقَ) أَيْ: يَرْضَى بِهِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ (وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ) أَيِ: الْمَثُوبَاتِ وَالْمَآرِبَ أَوْ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَطَالِبِ (مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ) : بِالضَّمِّ فِي الْقَامُوسِ هِيَ مُثَلَّثَةُ الْعَيْنِ ضِدُّ الرِّفْقِ (وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) أَيْ: سُوءِ الرِّفْقِ، وَهُوَ الْعُنْفُ، فَفِي الْكَلَامِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَأْكِيدٌ لِلْحُكْمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مَا سِوَى الرِّفْقِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَسَنَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الرَّفِيقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ أَيْضًا عَلَى قَصْدِ الِاسْمِيَّةِ، وَإِنَّمَا أُخْبِرَ عَنْهُ تَمْهِيدًا لِلْحُكْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَرْفُقُ عِبَادَهَ فِي أُمُورِهِمْ فَيُعْطِيهِمْ بِالرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِيهِمْ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الرِّفْقَ أَنْجَحُ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا وَأَنْفَعُهَا بِأَسْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا طَالِبَ الرِّزْقِ الْهَنِيِّ بِقُوَّةٍ ... هَيْهَاتَ أَنْتَ بِبَاطِلٍ مَشْغُوفُ أَكَلَ الْعُقَابُ بِقُوَّةٍ جِيفَ الْفَلَا ... وَرَعَى الذُّبَابُ الشَّهْدَ وَهُوَ ضَعِيفُ وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَحْرِصَ فِي رِزْقِهِ، بَلْ يَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي تَوَلَّى الْقِسْمَةَ فِي خَلْقِهِ، فَالنِّسْرُ يَأْكُلُ الْجِيفَةَ بِعُنْفِهِ، وَالنَّحْلُ يَرْعَى الْعَسَلَ بِرِفْقِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنْتَ رَفِيقٌ وَاللَّهُ الطَّبِيبُ؟ قُلْنَا: الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ بِالشَّيْءِ الْمَوْصُوفُ، وَلَمْ يَرِدْ بِهَذَا الْقَوْلِ نَفْيَ هَذَا الِاسْمَ عَمَّنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَوَّلَ الْمَعْنَى مِنَ الطَّبِيعَةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الَّذِي يَرْجُونَ مِنَ الطَّبِيبِ فَاللَّهُ فَاعِلُهُ، وَالْمَنَّانُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ: وَلَيْسَ الطَّبِيبُ بِمَوْجُودٍ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا الرَّفِيقُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الدُّعَاءِ يَا طَبِيبُ وَلَا يَا رَفِيقُ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ الطَّبِيبُ وَهُوَ رَفِيقٌ عَلَى مِنْوَالِ مَا وَرَدَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ كَلَامِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ اللَّهُ، وَأَنْ يُرَادَ لَهُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، فَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا يُوصَفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَّا بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ سَمَّاهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ إِذْنٌ فِي

إِطْلَاقِهِ، وَلَا وَرَدَ مَنْعٌ فَفِيهِ خِلَافٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلُ، وَوُرُودُ الشَّرْعِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، وَبَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافٌ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. بِمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْآحَادِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ عَنْهُ يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِلْمِيَّاتِ فَلَا يَثْبُتُ بِالْأَقْيِسَةِ، وَإِنْ كَانَتْ يُعْمَلُ بِهَا فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَفِيقًا وَغَيْرُهُ بِمَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَلِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَالْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ، فَكَادَ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ. (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ (قَالَ لِعَائِشَةَ: «عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ» ) أَيِ: الْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ (إِنَّ الرِّفْقَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (لَا يَكُونُ) أَيْ: لَا يُوجَدُ (فِي شَيْءٍ) أَيْ: مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْرَاضِ (إِلَّا زَانَهُ) أَيْ: زَيَّنَهُ وَكَمَّلَهُ (وَلَا يُنْزَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَا يُفْقَدُ وَلَا يُعْدَمُ (مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ) أَيْ: عَيَّبَهُ وَنَقَّصَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: (يَكُونُ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً، وَ (فِي شَيْءٍ) مُتَعَلِّقٌ بِهَا، وَأَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً وَ (فِي شَيْءٍ) خَبَرُ كَانَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. مِنْ أَعَمِّ عَامِّ وَصْفِ الشَّيْءِ، أَيْ: لَا يَكُونُ الرِّفْقُ مُسْتَقِرًّا فِي شَيْءٍ يُتَّصَفُ بِوَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ إِلَّا بِصِفَةِ الزِّينَةِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ: عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ الْحَدِيثَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5068 - وَعَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5068 - (وَعَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ يُحْرَمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَجْزُومًا. وَقِيلَ مَرْفُوعًا (الرِّفْقَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ: مَنْ يَصِرْ مَحْرُومًا مِنْهُ (يُحْرَمِ الْخَيْرَ) أَيْ: كُلَّهُ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَفِيهِ فَصْلُ الرِّفْقِ وَالْحَثِّ عَلَى التَّخَلُّقِ بِهِ وَذَمِّ الْعُنْفِ، وَأَنَّ الرِّفْقَ سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

5069 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5069 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ) أَيْ: يَنْصَحُهُ (فِي الْحَيَاءِ) : بِأَنْ لَا يُكْثِرَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ يَمْنَعُ الرِّزْقَ وَيَمْنَعُ الْعِلْمَ عَلَى مَا رُوِيَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يُنْذِرُهُ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَعْظُ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفِهِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ اهـ كَلَامُهُ. وَالْوَعْظُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِتَابِ لِمَا جَاءَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَيَسْتَحْيِي يَعْنِي كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ) أَيِ: اتْرُكْهُ عَلَى حَالِهِ مِنْ كَثْرَةِ الْحَيَاءِ (فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ) أَيْ: بَعْضِهِ أَوْ مِنْ شُعَبِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعِظُهُ فِي الْحَيَاءِ أَيْ: يَنْهَاهُ عَنْهُ وَيُقَبِّحُ لَهُ فِعْلَهُ وَيَزْجُرُهُ عَنْ كَثْرَتِهِ، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. أَيْ: دَعْهُ عَلَى فِعْلِ الْحَيَاءِ، وَكُفَّ عَنْ نَهْيِهِ، وَوَقَعَتْ لَفْظَةُ (دَعْهُ) فِي الْبُخَارِيِّ وَلَمْ تَقَعْ فِي مُسْلِمٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ (الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ) فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

5070 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5070 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» ) أَيْ: لَا يُغْرِي الْإِنْسَانَ إِلَّا بِخَيْرٍ. وَالْحَيَاءُ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ وَيُذَمُّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَاحِبَ الْحَيَاءِ قَدْ يَسْتَحِي أَنْ يُوَاجِهَ بِالْحَقِّ مَنْ يُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ، فَيَتْرُكُ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ الْحَيَاءُ عَلَى الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْحُقُوقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعَادَةِ، وَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ: الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ أَنَّ هَذَا الْمَانِعَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ حَيَاءً حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ عَجْزٌ وَخَوْرٌ، وَتَسْمِيَتُهُ حَيَاءً، بِحَسَبِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْحَيَاءِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ السَّيِّدِ الْجَلِيلِ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ. قَالَ: الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ، وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا جُعِلَ الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَخَلُّقًا وَاكْتِسَابًا كَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَقَدْ يَكُونُ غَرِيزَةً، وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى قَانُونِ الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إِلَى اكْتِسَابٍ وَنِيَّةٍ وَعِلْمٍ، وَهَذَا الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ» ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ التَّعْرِيفُ فِيهِ عَلَى الْعَهْدِ، وَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى» " الْحَدِيثَ اهـ. وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ وَقَيْدٌ مُسْتَحْسَنٌ يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ السَّابِقُ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي خَيْرٌ كُلُّهُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ مِنَ الْخُلُقِ فَالْغَالِبُ فِيهِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا، فَالْحَصْرُ ادِّعَائِيٌّ أَوْ كُلُّهُ مَحْمُودٌ إِلَّا إِذَا عَارَضَهُ تَرْكُ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ، فَيَتْرُكُ جَانِبَهُ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَيُرَاعِي جَانِبَ الْمَخْلُوقِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْحَيَاءُ أَنْ لَا يُسَمَّى حَيَاءً فَالْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لَهُمَا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ أَسْنَدَهَا إِلَى مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ (الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ) : قِيلَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ أَيِ: الْحَيَاءُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ قُرَّةَ: الْحَيَاءُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ.

5071 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5071 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) : هُوَ عُقْبَةُ بْنُ عُمَرَ الْأَنْصَارِيُّ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ بَشِيرٌ وَخَلْقٌ سِوَاهُ قَالَ مِيرَكُ: وَفِي نُسْخَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ غَلَطٌ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ) : بِالرَّفْعِ نَصَّ الْكَازْرُونِيُّ عَلَى أَنَّهُ الرِّوَايَةُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ أَيْ: مِمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَظَفِرُوا بِهِ وَلَحِقُوهُ (مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ) : (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَخْبَارِ أَصْحَابِ النُّبُوَّةِ (الْأُولَى) أَيِ: السَّابِقَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ مِنْ نَتَائِجِ الْوَحْيِ (إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ) : بِسُكُونِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَحَذْفِ الثَّانِيَةِ لِلْجَزْمِ (فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) أَيِ: الرَّادِعُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي هُوَ الْحَيَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَدَرَ كُلُّ مَا لَا يَنْبَغِي فَالْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَوِ الْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ وَأَنْشَدَ: إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي ... وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ فَلَا وَاللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ ... وَفِي الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ قَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْ فِي مِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهُوَ خَبَرُ إِنَّ وَاسْمُهُ قَوْلُهُ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَاصِلٌ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ، وَالرَّاجِعُ إِلَى مَا مَحْذُوفٌ وَالنَّاسُ فَاعِلُ أَدْرَكَ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ حَيْثُ قَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ مِمَّا بَقِيَ بَيْنَ النَّاسِ وَأَدْرَكُوهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ أَدْرَكَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَى " مَا " وَالنَّاسُ مَفْعُولُهُ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي أَيْ مِمَّا بَلَغَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ الْحَيَاءَ هُوَ الْمَانِعُ مِنِ اقْتِرَافِ الْقَبَائِحِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَنْهِيَّاتِ الشَّرْعِ وَمُسْتَحَبَّاتِ الْعَقْلِ، وَقَوْلُهُ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ اسْمُ إِنَّ عَلَى الْحِكَايَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ، قَوْلُهُ: مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى مَعْنَاهُ اتِّفَاقُ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْحَيَاءِ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ نَدَبَ إِلَيْهِ، وَبَعَثَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُنْسَخْ فِيمَا نُسِخَ مِنْ شَرَائِعِهِمْ، وَلَمْ يُبَدَّلْ فِيمَا بُدِّلَ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ عُلِمَ صَوَابُهُ وَبَانَ فَضْلُهُ، وَاتَّفَقَتِ الْعُقُولُ عَلَى حُسْنِهِ، وَمَا كَانَ هَذَا صِفَةً لَهُ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ، وَقَيَّدَ النُّبُوَّةَ بِالْأُولَى لِلْإِرْشَادِ إِلَى اتِّفَاقِ كَلِمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ.

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ: فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ فِيهِ أَقَاوِيلُ. أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَمْنَعْكَ الْحَيَاءُ فَعَلْتَ مَا شِئْتَ بِمَا تَدْعُوكَ إِلَيْهِ نَفْسُكَ مِنَ الْقَبِيحِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] أَيِ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُجَازِيكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ. وَثَالِثُهَا: مَعْنَاهُ يَنْبَغِي أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُسْتَحَى مِنْهُ فَافْعَلْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْتَحْيَ مِنْهُ فَدَعْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِهِ، ثُمَّ قَالَ جَرِيرٌ: مَعْنَاهُ أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يَعْمَلَ الْخَيْرَ فَيَدَعَهُ حَيَاءً مِنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ يَخَافُ مَذْهَبَ الرِّيَاءِ يَقُولُ: فَلَا يَمْنَعْكَ الْحَيَاءُ مِنْ مُضِيِّ مَا أَرَدْتَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ إِذَا جَاءَكَ الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَقَالَ: إِنَّكَ مُرَاءٍ فَزِدْهَا طُولًا قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ كَلَامُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِهِمْ شِرْكٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُخَلِّصَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا. وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لِلْإِبَاحَةِ أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ النَّاسِ فِي فِعْلِهِ فَافْعَلْهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَزُبْدَةُ كَلَامِهِ أَنَّكَ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ مِنْ صُنْعِ أَمْرٍ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ارْتِكَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى هَذَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ أَفْعَالَ الْإِنْسَانِ إِمَّا أَنْ يُسْتَحَى مِنْهَا أَمْ لَا. فَالْأَوَّلُ يَشْمَلُ الْحَرَامَ وَالْمَكْرُوهَ، وَتَرْكُهُمَا هُوَ الْمَشْرُوعُ. وَالثَّانِي: يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ، وَفِعْلُهَا مَشْرُوعٌ فِي الْأَوَّلَيْنِ جَائِزٌ فِي الثَّالِثِ، فَعَلَى هَذَا يَتَضَمَّنُ الْحَدِيثُ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَيَاءَ يَنْشَأُ عَنْ عِلْمِ الْقَلْبِ بِأَنَّ اللَّهَ رَقِيبٌ عَلَيْهِ فَيُحَافِظُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَحْكَامِهِ، وَيَسْتَقْبِحُ مَا صَدَرَ مِنْ هَفَوَاتِهِ، وَيَتَحَمَّلُ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ فِي نَظَرِهِ نَشِيطًا وَلَا يَشْتَكِي إِلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا تَرَقَّى عَنْ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ، اسْتَحْيَا مِنْ قُرْبِهِ فَوْقَ مَا يَسْتَحْيِي مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّتِهِ وَالْخَلْوَةِ مَعَهُ مُسْتَوْحِشًا مِنَ الْأَغْيَارِ مُسْتَلِذًّا بِرُوحِ أُنْسِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ، حَتَّى تَطْلُعَ عَلَيْهِ طَوَالِعُ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ، وَتَلْمَعَ فِي سَرْدِ بِوَارِقِ أَسْرَارِ التَّفْرِيدِ، فَيَسْتَحْيِي مِنْ شُهُودِ مَشْهُودِهِ، فَانِيًا عَنِ الْخَلْقِ بَاقِيًا مَعَ الْحَقِّ. قَالَ الْعَارِفُ السُّهْرَوَرْدِيُّ: الْحَيَاءُ إِطْرَاقُ الرُّوحِ إِجْلَالًا لِعِظَمِ الْجَلَالِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حَيَاءُ إِسْرَافِيلَ، كَمَا وَرَدَ: إِنَّهُ يَسْتَتِرُ بِجَنَاحِهِ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَيَاءُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ: إِنِّي لَأَغْتَسِلُ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ. فَأَنْطَوِي حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قُلْتُ: رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ وَأَحْيَا أُمَّتِي عُثْمَانُ» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَأَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ.

5072 - وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: " الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5072 - (وَعَنِ النَّوَّاسِ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (ابْنِ سَمْعَانَ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَيُفْتَحُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ (قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبِرِّ) أَيِ: الطَّاعَةِ (وَالْإِثْمِ) أَيِ: الْمَعْصِيَةِ (فَقَالَ: الْبِرُّ) أَيْ: أَعْظَمُ خِصَالِهِ أَوِ الْبِرُّ كُلُّهُ مُجْمَلًا (حُسْنُ الْخُلُقِ) أَيْ: مَعَ الْخَلْقِ بِأَمْرِ الْحَقِّ أَوْ مُدَارَاةُ الْخَلْقِ، وَمُرَاعَاةُ الْحَقِّ. قِيلَ: فُسِّرَ الْبِرُّ فِي الْحَدِيثِ بِمَعَانٍ شَتَّى فَفَسَّرَهُ فِي مَوْضِعٍ بِمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَفَسَّرَهُ فِي مَوْضِعٍ بِالْإِيمَانِ، وَفِي مَوْضِعٍ بِمَا يُقَرِّبُكَ إِلَى اللَّهِ، وَهُنَا بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَفُسِّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَقِلَّةِ الْغَضَبِ وَبَسْطِ الْوَجْهِ وَطِيبِ الْكَلَامِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْبِرُّ هُنَا الصِّلَةُ وَالتَّصَدُّقُ وَالطَّاعَةُ، وَيَجْمَعُهَا حُسْنُ الْخُلُقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: تَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: الْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَاتِ، وَمِنْهُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَهُوَ اسْتِرْضَاؤُهُمَا بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبِرَّ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَيْ: كَمَالُ الْبِرِّ إِذْ لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُوجَدَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُوصَفُ بِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِمَا مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: حُسْنُ الْخُلُقِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَالصُّحْبَةِ مَعَ الْخَلْقِ بِأَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُمْ أُسَرَاءُ الْأَقْدَارِ، وَإِنْ كَانَ مَا لَهُمْ مِنَ الْخُلُقِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ بِمِقْدَارٍ، فَيُحْسِنَ إِلَيْهِمْ حَسَبَ الِاقْتِدَارِ، فَيَأْمَنُونَ مِنْهُ وَيُحِبُّونَهُ بِالِاخْتِيَارِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَشَارَ الشَّاطِبِيُّ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: يُعَدُّ جَمِيعُ النَّاسِ مَوْلًى لِأَنَّهُمْ ... عَلَى مَا قَضَاهُ اللَّهُ يَجْرُونَ أَفْعُلَا

هَذَا مَعَ الْخَلْقِ، وَأَمَّا مَعَ الْخَالِقِ فَبِأَنْ يَشْتَغِلَ بِجَمِيعِ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَيَأْتِيَ لِأَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ عَالِمًا بِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَى مِنْهُ نَاقِصٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْعُذْرِ، وَكُلَّ مَا صَدَرَ مِنَ الْحَقِّ كَامِلٌ يُوجِبُ الشُّكْرَ، قُلْتُ: وَإِلَيْهِ إِيمَاءٌ فِي قَوْلِ الشَّاطِبِيِّ: يَرَى نَفْسَهُ بِالذَّمِّ أَوْلَى لِأَنَّهَا ... عَلَى الْمَجْدِ لَمْ تَلْعَقْ مِنَ الصَّبْرِ وَإِلَّا لَا ثُمَّ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ بِدَوَامِ الْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَدَوَامِ ذِكْرِهِ، حَتَّى يَكْتَحِلَ الْقَلْبُ بِنُورِ ذِكْرِ الذَّاتِ فَصَارَ بَحْرًا مَوَّاجًا مِنْ نَسَمَاتِ الْقُرْبِ، وَجَرَى فِي جَدَاوِلِ أَخْلَاقِ النَّفْسِ صَفَاءُ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ بِعِنَايَةِ التَّوْفِيقِ. (وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ) أَيْ: تَرَدَّدَ وَتَحَرَّكَ وَأَثَّرَ (فِي صَدْرِكَ) : وَرِوَايَةُ الْأَرْبَعِينَ: فِي نَفْسِكَ بِأَنْ لَمْ تَنْشَرِحْ لَهُ وَحَلَّ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ الشَّكُّ وَالْخَوْفُ مِنْ كَوْنِهِ ذَنْبًا وَأَقْلَقَهُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْإِثْمَ مَا كَانَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَتَهَيَّأُ لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ دُونَ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ شَارِحٌ: يَعْنِي الْإِثْمَ مَا أَثَّرَ قُبْحُهُ فِي نَفْسِكَ أَيْ تَرَدَّدَ فِي قَلْبِكَ وَلَمْ تُرِدْ أَنْ تُظْهِرَهُ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: (وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) أَيْ: أَعْيَانُهُمْ وَأَمْثَالُهُمْ إِذِ الْجِنْسُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ بِطَبْعِهَا تُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى خَيْرِهَا، فَإِذَا كَرِهْتَ الِاطِّلَاعَ عَلَى بَعْضِ أَفْعَالِهَا فَهُوَ غَيْرُ مَا تُقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، أَوْ غَيْرُ مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا بِرَّ، فَهُوَ إِذًا إِثْمٌ وَشَرٌّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ» . . . الْحَدِيثَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّوَّاسِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَلَفْظُهُ: «الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ لَهُ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» ، هَذَا وُفِي الْأَرْبَعِينَ لِلْإِمَامِ النَّوَوِيِّ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» " حَدِيثٌ حَسَنٌ رُوِّينَاهُ فِي مُسْنَدَيِ الْإِمَامَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالدَّارِمِيِّ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْمِشْكَاةِ: مُرَاعَاةُ الْمُطَابَقَةِ تَقْتَضِي أَنَّ نَفْسَ حُسْنِ الْخُلُقِ بِمَا يُقَابِلُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ، وَهُوَ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْقَلْبُ، كَمَا فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ، فَوُضِعَ مَوْضِعَهُ حُسْنُ الْخُلُقِ لِيُؤْذِنَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ هُوَ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ الشَّرِيفَةُ الطَّاهِرَةُ مِنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَتَبْدِيلِ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْمَقَالِ وَاللُّطْفِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، أَحْسَنَ مُعَامَلَتَهُ مَعَ الرَّحْمَنِ، وَمُعَاشَرَتَهُ مَعَ الْإِخْوَانِ وَصِلَةَ الرَّحِمِ وَالسَّخَاءَ وَالشَّجَاعَةَ أَقُولُ: الْأَحْسَنُ فِي تَحْصِينِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ الْحُسْنَتَيْنِ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ مُسْتَحْسَنُ الطَّبْعِ الْجِبِلِّيِّ الْفِطْرِيِّ الْعَارِي عَنِ التَّعَلُّقَاتِ التَّقْلِيدِيَّةِ وَالتَّقْيِيدَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا خَلَى وَطَبْعُهُ الْأَصْلِيُّ اخْتَارَ الْوَجْهَ الْأَحْسَنَ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ، وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ، كَمَا حُقِّقَ فِي حَدِيثِ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " وَحَاصِلُ الْجَوَابِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِيعَابِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَجْزِمَ الْعَقْلُ بِاسْتِحْسَانِهِ، أَوْ بِاسْتِقْبَاحِهِ، أَوْ يَتَرَدَّدَ فِيمَا بَيْنَهُمَا. فَالْأَوَّلُ هُوَ الْبِرُّ وَمَا عَدَاهُ هُوَ الْإِثْمُ، وَهَذَا تَمْهِيدُ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ تَحْتَهَا مَسَائِلُ جُزْئِيَّةٌ فِيمَا لَمْ يُعْرَفْ مِنَ الشَّرْعِ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ عَلَى طَرِيقِ الْيَقِينِ فِي الْعِلْمِيَّاتِ، وَعَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ أَيْضًا فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5073 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5073 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ) أَيْ: أَكْثَرِكُمْ مَحَبَّةً لِيَّ أَوْ أَعْظَمِكُمْ مَحْبُوبِيَّةً عِنْدِي (أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا) أَيْ: شَمَائِلَ مَرْضِيَّةً مُرَاعًى فِيهَا حُدُودُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَكِيمُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنَ كَثِيرٍ مُرْسَلًا «إِنَّ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ مَخْزُونَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا مَنَحَهُ خُلُقًا حَسَنًا» . وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا مَنَحَهُ خُلُقًا حَسَنًا، وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ سُوءًا مَنَحَهُ سَيِّئًا» ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ " مِنْ " زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ زِيَادَتَهَا فِي الْكَلَامِ الْمُثْبَتِ، أَوِ الْمُرَادُ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا مَعَ الْخَلْقِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ: «إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ» ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا» " (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5574 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5074 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَمْرٍو (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ» ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5075 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عِهَا - قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ أُعْطِي حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5075 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أُعْطِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (حَظَّهُ) أَيْ: نَصِيبَهُ (مِنَ الرِّفْقِ) أَيِ: اللُّطْفِ (أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ حُرِمَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (حَظَّهُ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: نَصِيبَهُ (مِنَ الرِّفْقِ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) : وَهَدَّا تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي الْحُكْمِ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، لَكِنْ لَفْظَهُ: (مِنَ الْخَيْرِ) ، بَدَلٌ: مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْحَدِيثَانِ مُتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ جِنْسُهُ الشَّامِلُ لِنَوْعَيْهِ.

5076 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ. وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5076 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ) أَيْ: أَهْلُهُ (فِي الْجَنَّةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَ أَهْلُ الْإِيمَانِ عَيْنَ الْإِيمَانِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ تَمَحَّضُوا مِنْهُ وَتَمَكَّنُوا مِنْ بَعْضِ شُعَبِهِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى فَرْعٍ مِنْهُ، كَمَا جُعِلَ الْإِيمَانُ مَقَرًّا وَمُبَوَّءًا لِأَهْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَيْهِ (وَالْبَذَاءُ) : بِفَتْحِ الْبَاءِ خِلَافُ الْحَيَاءِ وَالنَّاشِئُ مِنْهُ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ وَالسُّوءُ فِي الْخُلُقِ (مِنَ الْجَفَاءِ) : وَهُوَ خِلَافُ الْبِرِّ الصَّادِرِ مِنْهُ الْوَفَاءُ (وَالْجَفَاءُ) أَيْ: أَهْلُهُ التَّارِكُونَ لِلْوَفَاءِ الثَّابِتُونَ عَلَى غِلَاظَةِ الطَّبْعِ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ (فِي النَّارِ) : إِمَّا مُدَّةً أَوْ أَبَدًا لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ أَوْ مُطْلَقِهِ، فَصَاحِبُهُ إِمَّا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرَانِ أَوِ الْكُفْرِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: " «الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ» ".

5077 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ؟ قَالَ: " الْخُلُقُ الْحَسَنُ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5077 - (وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَجَهَالَةُ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عُدُولٌ وَمُرْسَلُهُمْ عِنْدَ الْكُلِّ مَقْبُولٌ (قَالَ: قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الْأَصْحَابِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ؟) : بِالرَّفْعِ أَيْ: أُعْطِيهِ الْإِنْسَانُ، فَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ مِنَ الصِّلَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ فَنَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى مَا (قَالَ: الْخُلُقُ الْحَسَنُ) أَيْ: هُوَ هَذَا (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

5078 - وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5078 - (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ) : قَالَ مِيرَكُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ لَمْ يَرْوِ الْحَدِيثَ عَنْ أُسَامَةَ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ «خَيْرُ مَا أُعْطِيَ النَّاسُ خُلُقٌ حَسَنٌ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ وَلَفْظُهُ: «خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَشَرُّ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ قَلْبُ سُوءٍ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ» ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: ثَلَاثُ خِلَالٍ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ الْكَلْبُ خَيْرًا مِنْهُ: وَرَعٌ يَحْجِزُهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ حِلْمٌ يَرُدُّ لَهُ جَهْلَ جَاهِلٍ، أَوْ حُسْنُ خُلُقٍ يَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ جَدِّ الْحَسَنِ، «أَنَّ أَحْسَنَ الْحَسَنِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ» .

5079 - وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ وَلَا الْجَعْظَرِيُّ» قَالَ: وَالْجَوَّاظُ: الْغَلِيظُ الْفَظُّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَصَاحِبُ " جَامِعِ الْأُصُولِ " فِيهِ عَنْ حَارِثَةَ. وَكَذَا فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: قَالَ: " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ الْجَعْظَرِيُّ» ". يُقَالُ: الْجَعْظَرِيُّ: الْفَظُّ الْغَلِيظُ 5080 - وَفِي نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ " عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ وَهْبٍ وَلَفْظُهُ قَالَ: وَالْجَوَّاظُ: الَّذِي جَمَعَ وَمَنَعَ. وَالْجَعْظَرِيُّ: الْغَلِيظُ الْفَظُّ. . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5079 - (وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ، فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: خُزَاعِيٌّ أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِأُمِّهِ، رَوَى عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ) : بِفَتْحِ جِيمٍ وَتَشْدِيدِ وَاوٍ وَظَاءٍ مُعْجَمَةٍ (وَلَا الْجَعْظَرِيُّ) : بِفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ عَيْنٍ مُهْمِلَةٍ وَفَتْحِ ظَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (الْجَوَّاظُ: الْغَلِيظُ الْفَظُّ) : بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ أَيْ: سِيِّءُ الْخُلُقِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] فَاللَّائِقُ أَنْ يُفَسَّرَ الْجَعْظَرِيُّ بِغَلِيظِ الْقَلْبِ، وَكَانَ غِلَظُ الْقَلْبِ إِيمَاءً إِلَى سُوءِ بَاطِنِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَالْفَظُّ إِشَارَةٌ إِلَى قُبْحِ ظَاهَرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَقَدَّمَ الْجَوَّاظَ إِمَّا لِظُهُورِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ مَدَارَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَتَى بـ (لَا) الْمَزِيدَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِكُلٍّ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُطْلَقًا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ لَا يَدْخُلُهَا مَعَ الْفَائِزِينَ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُهُ: الْجَوَّاظُ الْغَلِيظُ الْفَظُّ كَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَفِي النِّهَايَةِ، وَشَرْحِ التُّورِبِشْتِيِّ، وَكَلَامِ الْقَاضِي: الْجَوَّاظُ الْمُخْتَالُ، وَقِيلَ: الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ وَقِيلَ هُوَ السَّمِينُ، وَقِيلَ الصَّيَّاحُ الْمِهْذَارُ، وَالْجَعْظَرِيُّ الْفَظُّ الْغَلِيظُ، وَقِيلَ الْقَصِيرُ الْمُنْتَفِخُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَقِيلَ الْعَظِيمُ الْجِسْمُ الْأَكُولُ، وَالْمَانِعُ لِمَنْ شَأْنُهُ هَذَا أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ حَيْثُ يَدْخُلُهَا الْآخَرُونَ عَجَبُهُمْ وَسُوءُ خُلُقِهِمْ وَشَرَهُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ وَإِفْرَاطُهُمْ فِي الْكَلَامِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ غَلِيظُ الْقَلْبِ سَيِّئُ الْخُلُقِ، وَسَبَبُهُ مَا رَوَى الْخَطِيبُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا " «إِنْ لِكُلِّ شَيْءٍ تَوْبَةً إِلَّا صَاحِبَ سُوءِ الْخُلُقِ، فَإِنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا وَقَعَ فِي شَرٍّ مِنْهُ» ". (وَصَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ) أَيْ: وَرَوَاهُ أَيْضًا (فِيهِ) أَيْ: فِي الْجَامِعِ (عَنْ حَارِثَةَ. وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْهُ) أَيْ: رُوِيَ عَنْ حَارِثَةَ (وَلَفْظُهُ) أَيْ: وَلَفْظُ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَوْ لَفْظُ صَاحِبِ شَرْحٍ أَوْ لَفْظُ حَارِثَةَ فِي الشَّرْحِ (قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ الْجَعْظَرِيُّ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ عَاطِفَةٍ وَزِيَادَةٍ لَا وَلَعَلَّهُ عُدَّ الْمَوْصُوفَانِ وَاحِدًا لِكَمَالِ الِاتِّحَادِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، أَوِ الْمُرَادُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فِي الْقُبْحِ. 5080 - (وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ وَهْبٍ) أَيْ: فِي بَعْضِهَا وَإِلَّا فَفِي أَكْثَرِهَا عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ (وَلَفْظُهُ) أَيْ: لَفْظُ الْمَصَابِيحِ، وَفِيهِ تَجَوُّزٌ (وَالْجَوَّاظُ: الَّذِي جَمَعَ) أَيْ: مَالًا بِمَا لَا يَجُوزُ (وَمَنَعَ) أَيْ: مَنَعَهُ مِنَ الصَّرْفِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ (وَالْجَعْظَرِيُّ: الْغَلِيظُ الْفَظُّ) .

قَالَ الطِّيبِيُّ: أَشَارَ الْمُؤَلِّفُ بِهَذَا أَنَّ رَاوِي الْحَدِيثِ فِي الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ، هُوَ حَارِثَةُ بْنُ وَهْبٍ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ. وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ وَهْبٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ فِي الصَّحَابَةِ، فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ حِينَئِذٍ أَيْ: إِنْ صَحَّ كَوْنُهُ تَابِعِيًّا، وَكَذَا قَوْلُ الَّذِي جَمَعَ وَمَنَعَ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ أُثْبِتَ فِي حَوَاشِي الْمَصَابِيحِ، فَأُلْحِقَ بِالْمَتْنِ وَكَذَا قَوْلُهُ: الْغَلِيظُ الْفَظُّ فِي الْمَصَابِيحِ تَفْسِيرٌ لِلْجَعْظَرِيِّ، وَفِي الْأُصُولِ تَفْسِيرٌ لِلْجَوَّاظِ. تَمَّ كَلَامُهُ. وَفِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: " «أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنُوعٍ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ مِسْكِينٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ".

5081 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ أَثْقَلَ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5081 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ أَثْقَلَ شَيْءٍ يُوضَعُ) أَيْ: ثَوَابُهُ وَصَحِيفَتُهُ أَوْ عَيْنُهُ الْمُجَسِّدُ (فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلُقٌ حَسَنٌ) : فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّهُ وَيَرْضَى عَنْ صَاحِبِهِ (وَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفَاحْشَ) أَيْ: لِفُحْشِهِ أَيْ: وَالْفُحْشُ أَيْضًا (الْبَذِيءُ) : فَعِيلٌ مِنَ الْبِذَاءِ، وَهُوَ ضِدُّ الْحَيِيِّ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ رَجُلٌ بَذِيءٌ أَيْ فَاحِشٌ سَيِّئُ الْخُلُقِ اهـ. وَفِي الْمُقَرَّرِ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مَبْغُوضًا لِلَّهِ لَيْسَ لَهُ وَزْنٌ وَقَدْرٌ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مَحْبُوبًا لَهُ يَكُونُ عِنْدَهُ عَظِيمًا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: " «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» " وَبِهَذَا تَمَّتِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أُوقِعَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: إِنَّ أَثْقَلَ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَخَفَّ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ هُوَ سُوءُ الْخُلُقِ، وَأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ وَالْخُلُقُ السَّيِّئُ أَبْغَضُهَا لِأَنَّ الْفُحْشَ وَالْبَذَاءَةَ أَسْوَأُ شَيْءٍ فِي مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ (رَوَاهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) أَيِ: الْقَرِينَةُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ» ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْمُعْبِسَ فِي وُجُوهِ إِخْوَانِهِ» .

5082 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5082 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ) أَيِ: الْكَامِلَ وَهُوَ الْعَالِمُ الْعَامِلُ (يُدْرِكَ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ) أَيْ: فِي الطَّاعَةِ (وَصَائِمِ النَّهَارِ) : قَالَ الْحَسَنُ: حُسْنُ الْخُلُقِ بَسْطُ الْوَجْهِ وَبَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: هُوَ أَنْ لَا يُخَاصِمَ وَلَا يُخَاصَمَ مِنْ شِدَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ إِرْضَاءُ الْخَلْقِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَقَالَ سَهْلٌ: أَدْنَى حُسْنِ الْخُلُقِ الِاحْتِمَالُ وَتَرْكُ الْمُكَافَأَةِ وَالرَّحْمَةُ لِلظَّالِمِ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " دَرَجَةَ الْقَائِمِ الصَّائِمِ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهَا.

5083 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5083 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ) أَيِ: الْغِفَارِيُّ رَابِعُ الْإِسْلَامِ أَوْ خَامِسُهُ، زَادَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ: وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مُخْتَصًّا لِي بِخِطَابِهِ وَهُوَ لَا يُنَافِي التَّعَدُّدَ لِاحْتِمَالِ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْأَرْبَعِينَ. (اتَّقِ اللَّهَ) أَيْ: بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ سَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِنَّ التَّقْوَى أَسَاسُ الدِّينِ، وَبِهِ يَرْتَقِي إِلَى مَرَاتِبِ الْيَقِينِ، ثُمَّ التَّحْقِيقُ أَنَّ التَّقْوَى أَدْنَاهَا التَّبَرُؤُ عَنِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وَأَعْلَاهَا

الْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ تَرْكِ الْمَحْظُورِ، ثُمَّ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ الْمُبَاحِ مِمَّا لَا يَعْنِي، لِلَّهِ دَرُّ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْحَالِ: مَنْ عَرَفَ اللَّهُ فَلَمْ تُغْنِهِ ... مَعْرِفَةُ اللَّهِ فَذَاكَ الشَّقِي مَا يَصْنَعُ الْعَبْدُ بِعِزِّ الْغِنَى ... فَالْعِزُّ كُلُّ الْعِزِّ لِلْمُتَّقِي (حَيْثُمَا كُنْتَ) أَيْ: فِي الْخَلَاءِ وَفِي النَّعْمَاءِ وَالْبَلَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِسِرِّ أَمْرِكَ كَمَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ظَوَاهِرِكَ، فَعَلَيْكَ بِرِعَايَةِ دَقَائِقِ الْأَدَبِ فِي حِفْظِ أَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنْ مَسَاخِطِهِ وَمَسَاوِيهِ، وَعَنْ دَاوُدَ الطَّائِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتًا مِنْ قَبْرٍ: أَلَمْ أُزَكِّ أَلَمْ أُصَلِّ أَلَمْ أَصُمْ أَلَمْ أَفْعَلْ كَذَا؟ أُجِيبَ: بَلَى يَا عَبْدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ إِذَا خَلَوْتَ بَارَزْتَهُ بِالْمَعَاصِي وَلَمْ تُرَاقِبْهُ. (وَأَتْبِعِ) : أَمْرٌ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ: هُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ (السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ) أَيِ: التَّوْبَةَ وَالطَّاعَةَ مُطْلَقًا، أَوْ بِأَنْ تُبَاشِرَ حَسَنَاتٍ تُضَادُّ آثَارُهَا تِلْكَ السَّيِّئَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَسَمَاعُ الْمَلَاهِي يُكَفَّرُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَبِمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْوَعْظِ عَنِ الْمَنَاهِي، وَشُرْبُ الْخَمْرِ يُكَفَّرُ بِالصِّدْقِ بِكُلِّ شَرَابٍ حَلَالٍ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْ لِأَنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ، وَالْمُتَضَادَّاتُ هِيَ الْمُنَاسَبَاتُ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْحُوَ كُلَّ سَيِّئَةٍ بِحَسَنَةٍ مِنْ جِنْسِهَا لَنْ تُضَادَّهَا، فَالْبَيَاضُ يُزَالُ بِالسَّوَادِ لَا بِغَيْرِهِ، وَحُبُّ الدُّنْيَا لِأَنَّ أَثَرَ السُّرُورِ بِهَا فِي الْقَلْبِ، فَلَا جَرَمَ كَفَّارَتُهُ كُلُّ أَذًى يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ اهـ. وَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ حُسْنُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ حُبِّ الدُّنْيَا، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ لِأَنَّ الْهَمَّ وَالْغَمَّ لَيْسَا مِنَ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُرَادُ بِهَا فِي الْحَدِيثِ، عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَتْبِعِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ مُقَابَلَةَ حُبِّ الدُّنْيَا بِضِدِّهَا، وَهُوَ بُغْضُهَا بِأَنْ يَتَصَدَّقَ وَلَوْ بِبَعْضِهَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي مَحْوِ السَّيِّئَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَدْ وَرَدَتِ الْآيَةُ فِيمَنْ قَبَّلَ امْرَأَةً، ثُمَّ صَلَّى مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (تَمْحُهَا) أَيْ: تَدْفَعُ الْحَسَنَةُ السَّيِّئَةَ وَتَرْفَعُهَا وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، وَالْمُرَادُ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا آثَارَهَا مِنَ الْقَلْبِ أَوْ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ، هَذَا إِذَا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَبْدِ فَتُدْفَعُ الْحَسَنَةُ إِلَى خَصْمِهِ عِوَضًا عَنِ الْمَظْلِمَةِ أَوْ يُرْضِيهِ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي وَأَحْسَنَ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّهُ حَاسَبَنِي حَتَّى طَالَبَنِي بِيَوْمٍ كُنْتُ صَائِمًا، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْإِفْطَارِ أَخَذْتُ حِنْطَةً مِنْ حَانُوتِ صَدِيقٍ لِي فَكَسَرْتُهَا فَذَكَرْتُ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِي، فَأَلْقَيْتُهَا عَلَى حِنْطَتِهِ، فَأَخَذَ مِنْ حَسَنَاتِي بِمِقْدَارِ أَرْشِ كَسْرِهَا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: صَغَائِرُ الذُّنُوبِ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِالْحَسَنَاتِ، وَكَذَا مَا خُفِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] وَالْحَدِيثِ، أَمَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَتَحَقَّقَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَلَا يَسْقُطُ حَدُّهَا وَلَا بِالتَّوْبَةِ، وَلَمَّا وَصَّاهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِصْلَاحِ نَفْسِهِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَقَالَ: (وَخَالِقِ النَّاسَ) : أَمْرٌ مِنَ الْمُخَالَقَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ أَيْ: خَالِطْهُمْ وَعَامِلْهُمْ (بِخُلُقٍ حَسَنٍ) : وَهُوَ بَسْطُ الْمُحَيَّا وَبَذْلُ النَّدَى وَتَحَمُّلُ الْأَذَى (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي الْأَرْبَعِينَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَسَنٌ صَحِيحٌ اهـ. كَلَامُهُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاذٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ.

5084 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ وَبِمَنْ تَحْرُمُ النَّارُ عَلَيْهِ؟ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5084 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ) : بِضَمِّ الرَّاءِ (عَلَى النَّارِ) أَيْ: يُمْنَعُ عَنْهَا (وَبِمَنْ تَحْرُمُ النَّارُ عَلَيْهِ؟) : زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ، وَإِلَّا فَالْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَانِ، وَلَمَّا كَانَ مَآلُهُمَا

وَاحِدًا اكْتَفَى بِالْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الْمُعَوِّلُ وَالثَّانِي مُؤَكِّدٌ مُحْمَلٌ مُجْمَلٌ فَقَالَ قَبْلَ قَوْلِهِمْ: بَلَى (عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا أَيْ: تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ سَهْلٍ طَلْقٍ حَلِيمٍ لَيِّنِ الْجَانِبِ، قِيلَ: هُمَا يُطْلَقَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، وَعَلَى غَيْرِهِ بِالتَّشْدِيدِ، وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ بِالتَّخْصِيصِ لِلْمَدْحِ وَبِالتَّشْدِيدِ لِلذَّمِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: هَيِّنٌ فَعِيلٌ مِنَ الْهَوْنِ وَهُوَ السُّكُونُ وَالْوَقَارُ وَالسُّهُولَةُ فَعَيْنُهُ وَاوٌ، فَأُبْدِلَتْ وَأُدْغِمَتْ، وَأَمَّا اللَّيِّنُ فَيَأْتِي (قَرِيبٌ) أَيْ: مِنَ النَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِمْ فِي مَحَافِلِ الطَّاعَةِ وَمُلَاطَفَتِهِمْ قَدْرَ الطَّاعَةِ (سَهْلٌ) أَيْ: فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَمْحُ الْقَضَاءِ سَمْحُ الِاقْتِضَاءِ سَمْحُ الْبَيْعِ سَمْحُ الشِّرَاءِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلِ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ هَذَا جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالَيْنِ وَالْجَوَابُ الظَّاهِرُ عَنْهُمَا كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ، ثُمَّ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يُقَالَ عَنِ الْأَوَّلِ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ، وَعَلَى الثَّانِي تَحْرُمُ النَّارُ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ، فَأَتَى بِجَوَابٍ مُوجَزٍ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا بِالتَّفْصِيلِ وَلَوْ أَتَى بِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: كُلِّ هَيِّنٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى التَّفْصِيلِ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ، فَإِنَّ دَلَالَةَ مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ عَلَى التَّفْصِيلِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْجَوَابِ الْمُوجَزِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ، كَمَا يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ حِينَئِذٍ هُوَ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ، وَيَكُونُ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ مَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، وَمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ، بَلْ لَوْ حَقَّقْتَ النَّظَرَ وَدَقَّقْتَ التَّأَمُّلَ لَوَجَدْتَ أَنَّ جَوَابَهُ الْمُوجِزَ عَلَى زَعْمِهِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى التَّفْصِيلِ أَصْلًا، بَلْ دَلَالَتُهُ إِجْمَالِيَّةٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ: وَالْبَرْدَ، فَكَذَلِكَ هُنَا يُقَدَّرُ: وَعَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الْقَرِينَةَ الثَّانِيَةَ زَائِدَةٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ غَدًا عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ» ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

5085 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، وَالْفَاجِرُ خَبٌّ لَئِيمٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5085 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُؤْمِنُ) أَيْ: الْبَارُّ (غِرٌّ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (كَرِيمٌ) أَيْ: مَوْصُوفٌ بِالْوَصْفَيْنِ أَيْ: لَهُ الِاغْتِرَارُ لِكَرَمِهِ، وَلَهُ الْمُسَامَحَةُ فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا لَا لِجَهْلِهِ (وَالْفَاجِرُ خَبٌّ) : بِفَتْحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَتُكْسَرُ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: خَدَّاعٌ (لَئِيمٌ) أَيْ: بَخِيلٌ لَجُوجٌ سَيِّئُ الْخُلُقِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْوَصْفُ الثَّانِي سَبَبٌ لِلْأَوَّلِ؟ وَهُوَ نَتِيجَةُ الثَّانِي فَتَأَمَّلْ، فَكِلَاهُمَا مِنْ بَابِ التَّذْيِيلِ وَالتَّكْمِيلِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَيْسَ بِذِي مَكْرٍ فَهُوَ يَنْخَدِعُ لِانْقِيَادِهِ وَلِينِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْخَبِّ، يُرِيدُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمَحْمُودَ مِنْ طَبْعِهِ الْغِرَارَةُ وَقِلَّةُ الْفِطْنَةِ لِلشَّرِّ وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَنْهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِ جَهْلًا، وَلَكِنَّهُ كَرَمٌ وَحُسْنُ خُلُقٍ، وَالْفَاجِرُ مِنْ عَادَتِهِ الْبَحْثُ لَا عَلَى أَنَّهُ عَقْلٌ مِنْهُ، بَلْ خُبْثٌ وَلُؤْمٌ اهـ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا خَادَعْتَهُ انْخَدَعَا وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُجَرِّبُوا الْأُمُورَ، فَهُمْ قَلِيلُو الشَّرِّ مُنْقَادُونَ، فَإِنَّ مَنْ آثَرَ الْخُمُولَ وَإِصْلَاحَ نَفْسِهِ الْمُتَزَوِّدَ لِمِعَادِهِ وَنَبَذَ أُمُورَ الدُّنْيَا، فَلَيْسَ غِرَّا فِيمَا قَصَدَهُ وَلَا مَذْمُومًا بِنَوْعٍ مِنَ الذَّمِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ لِمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» " وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَنْخَدِعُ فِي مَقَامِ اللِّينِ وَالتَّعَطُّفِ مَعَ الْأَغْيَارِ، رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كُلَّمَا صَلَّى عَبْدٌ لَهُ أَعْتَقَهُ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: مَنْ خَادَعَنَا بِاللَّهِ نَنْخَدِعْ. قُلْتُ: وَمِنْ ذَلِكَ انْخِدَاعُ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِكَلَامِ إِبْلِيسَ حَيْثُ قَاسَمَهَا إِنِّي لَكُمَا لِمَنِ النَّاصِحِينَ. قَالَ: وَلَفْظُ الْحَدِيثِ أَيْضًا يُسَاعِدُهُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَصَفَهُ بِالْغُرُورِ أَيْ: بِوَصْفٍ غَيْرِ كَامِلٍ كَمَّلَهُ بِقَوْلِهِ (كَرِيمٌ) ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ فِيهِ ذَلِكَ نَقْصًا، وَالْخَبُّ بِالْفَتْحِ الْخَدَّاعُ وَهُوَ الْحَرِيزُ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَ النَّاسِ بِالْفَسَادِ، يُقَالُ: رَجُلٌ خَبٌّ، وَقَدْ تُكْسَرُ خَاؤُهُ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَبِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ اهـ. فَالْكَسْرُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «الْمُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ حَيِيٌّ تَخَالُهُ مِنَ اللِّينِ أَحْمَقَ» .

5086 - وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ كَالْجَمَلِ الْآنِفِ إِنْ قِيدَ انْقَادَ، وَإِنْ أُنِيخَ عَلَى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5086 - (وَعَنْ مَكْحُولٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفَانِ، فَفِي النِّهَايَةِ هُمَا تَخْفِيفُ الْهَيِّنِ وَاللَّيِّنِ اهـ. وَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى كَلَامِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ ضَعِيفُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِثَبْتٍ، فَالْجَزْمُ بِهِ غَيْرُ تَثَبُّتٍ، وَفِي الْفَائِقِ: وَالْمَحْذُوفُ مِنْ يَاءَيْ هَيِّنٍ وَلَيِّنٍ الْأُولَى، وَقِيلَ! الثَّانِيَةُ. قُلْتُ: الثَّانِيَةُ أَوْلَى مِنَ الْأُولَى لِلِاحْتِيَاجِ عِنْدَهَا لِلتَّخْفِيفِ وَلِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى تَخْفِيفٍ آخَرَ، فَتَدَبَّرْ. (كَالْجَمَلِ الْآنِفِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُمَدُّ وَكَسْرِ النُّونِ فَفِي الْقَامُوسِ: أَنِفَ الْبَعِيرُ كَفَرِحَ اشْتَكَى أَنْفَهُ مِنَ الْبَرِّةِ، فَهُوَ أَنِفٌ كَكَتِفٍ وَصَاحِبٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَفْصَحُ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْمَدُّ فِيهِ خَطَأٌ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ رِوَايَةً أَوْ دِرَايَةً. وَفِي النِّهَايَةِ: الْأَنْفُ بِمَعْنَى الْمَأْنُوفِ وَهُوَ الَّذِي عَقَرَ الْخِشَاشُ أَنْفَهُ فَهُوَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى قَائِدِهِ لِلْوَجَعِ الَّذِي بِهِ، وَقِيلَ الْأَنِفُ الذَّلُولُ يُقَالُ: أَنِفَ الْبَعِيرُ فَهُوَ أَنِفٌ إِذَا اشْتَكَى أَنْفَهُ مِنَ الْحِشَاشِ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: مَأْنُوفٌ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ كَمَا يَقُولُ مَصْدُورٌ وَمَبْطُونٌ لِلَّذِي يَشْتَكِي صَدْرَهُ وَبَطْنَهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا شَاذًّا وَيُرْوَى كَالْجُمَلِ الْآنِفِ بِالْمَدِّ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. الْجَوْهَرِيُّ: الْخِشَاشُ بِالْكَسْرِ خَشَبٌ يَدْخُلُ فِي أَنْفِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ الْكَافُ مَرْفُوعَةُ الْمَحَلِّ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ ثَالِثٌ، وَالْمَوْتُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ مَحَلُّهَا عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لَيِّنُونَ لِينًا مِثْلَ الْجَمَلِ الْأَنِفِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالثَّانِي أَظْهَرُ وَالْأَوَّلُ أَدَقُّ وَبِالِاعْتِمَادِ أَحَقُّ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ مِنْ كَمَالِ انْقِيَادِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ فِي سَبِيلِ رِضَاءِ مَوْلَاهُمْ، مِثْلَ الْجَمَلِ الْوَاحِدِ الْمَأْنُوفِ. فَالْجُمَلُ صَحِيحٌ مَعَ إِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ كَمَا وَرَدَ: " «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَأْسَهُ اشْتَكَى كُلَّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى عَيْنَهُ اشْتَكَى كُلَّهُ» " عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْجَمَلِ الْجِنْسُ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ (إِنْ قِيدَ) : مَجْهُولٌ قَادَهُ وَجَرَّهُ وَقَوْلُهُ (انْقَادَ) : وَمُطَاوِعٌ لَهُ أَيْ: طَاوَعَهُ وَانْسَحَبَ مَعَهُ (وَإِنْ أُنِيخَ) : مَجْهُولٌ أَنَاخَ الْبَعِيرَ إِذَا بَرَّكَهُ وَمِنْهُ حَدِيثُ: مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ (عَلَى صَخْرَةٍ) أَيْ: فَرْضًا أَوْ مَثَلًا (اسْتَنَاخَ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ شَدِيدُ الِانْقِيَادِ لِلشَّارِعِ فِي أَوَامِرِهِ، وَنَوَاهِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ أُنِيخَ عَلَى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ إِيذَانٌ بِكَثْرَةِ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ؛ لِأَنَّ الْإِنَاخَةَ عَلَى الصَّخْرِ شَاقَّةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْ: مُتَّصِلًا مَرْفُوعًا.

5087 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5087 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» ) : فِيهِ فَضِيلَةُ الْخِلْطَةِ عَلَى الْعُزْلَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَأَهْلِهِمَا مَعَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي آدَابِ الصُّحْبَةِ، فَفِي الْأَحْيَاءِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَالَطَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَتَفْضِيلِ أَحَدِهَا عَلَى الْآخَرِ فَقَالَ أَكْثَرُ التَّابِعِينَ: بِاسْتِحْبَابِ الْمُخَالَطَةِ وَاسْتِكْثَارِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ لِلتَّأَلُّفِ وَالتَّحَبُّبِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا تَعَاوُنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْإِخْوَانِ، فَإِنَّهُمْ عُدَّةٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ النَّارِ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ - وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَدَّلُ شَيْءٍ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُخَالَطَةِ، وَمَالَ أَكْثَرُ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ إِلَى اخْتِيَارِ الْعُزْلَةِ وَتَفْضِيلِهَا عَلَى الْمُخَالَطَةِ، وَعَلَيْهِ الْفُضَيْلُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خُذُوا بِحَظِّكُمْ مِنَ الْعُزْلَةِ، وَقَالَ فُضَيْلٌ: كَفَى بِاللَّهِ مُحِبًّا وَبِالْقُرْآنِ مُؤْنِسًا وَبِالْمَوْتِ وَاعِظًا، اتَّخِذِ اللَّهَ صَاحَبًا وَدَعِ النَّاسَ جَانِبًا، وَأَوْصَى دَاوُدُ الطَّائِيُّ أَبَا الرَّبِيعِ فَقَالَ: صُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَاجْعَلْ فِطْرَكَ الْآخِرَةَ، وَفِرَّ مِنَ النَّاسِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ: بَلَغَنَا أَنَّ الْحِكْمَةَ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي الصَّمْتِ، وَالْعَاشِرُ فِي عُزْلَةِ النَّاسِ، وَدَخَلَ عَلَى حَاتِمٍ الْأَصَمِّ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: أَنْ لَا تَرَانِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفْضَلُ الْمَجَالِسِ مَجْلِسٌ فِي قَعْرِ بَيْتِكَ أَنْ لَا تَرَى وَلَا تُرَى، وَقِيلَ: آدَابُ الْعُزْلَةِ أَرْبَعَةٌ: أَنْ يَنْوِيَ بِهَا كَفَّ شَرِّهِ أَوَّلًا. ثُمَّ السَّلَامَةُ مِنَ الشَّرِّ ثَانِيًا، ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنَ الْإِخْلَاصِ بِالْحُقُوقِ ثَالِثًا، ثُمَّ التَّجَرُّدُ بِكُنْهِ الْهِمَّةِ لِلْعِبَادَةِ رَابِعًا اهـ.

وَالْمُخْتَارُ هُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْعُزْلَةِ عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ وَعَوَامِّهِمْ، وَالْخِلْطَةُ بِالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ وَخَوَاصِّهِمْ، وَالِاجْتِمَاعُ مَعَ عَامَّتِهِمْ فِي نَحْوِ جُمْعَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْعَمَلِ، وَوُصُولِ الزُّهْدِ الْمُوجِبِ لِقَطْعِ الطَّمَعِ عَنِ الْخُلُقِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْعُزْلَةُ بِغَيْرِ عَيْنِ الْعِلْمِ زَلَّةٌ وَبِغَيْرِ زَايِ الزُّهْدِ عِلَّةٌ، وَهَذَا طَرِيقُ الْكُمَّلِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الصَّفِيَّةِ كَالنَّقْشَبَنْدِيَّةِ وَالشَّاذِلِيَّةِ وَالْبَكْرِيَّةِ فَهُمْ كَائِنُونَ بَائِنُونَ قَرِيبُونَ غَرِيبُونَ فَرْشِيُّونَ عَرْشِيُّونَ، كَمَا قِيلَ: كُنْ وَسَطًا وَامْشِ جَانِبًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُهُ النَّاسُ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

5088 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5088 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ) أَيِ: ابْنِ أَنَسٍ كَمَا فِي الْمَعَالِمِ (عَنْ أَبِيهِ) : الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَعْنَاهُ هُوَ ابْنُ جَبَلٍ لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ أِلَّا أَنَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُعَاذُ بْنُ أَنَسٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ سَهْلُ بْنُ مُعَاذٍ، فَإِنَّهُ وَلَدُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ فَقَدْ قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: هُوَ مُعَاذُ بْنُ أَنَسٍ الْجُهَنِيُّ، مَعْدُودٌ فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَهُمْ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَهْلٌ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا) أَيِ: اجْتَرَعَ غَضَبًا كَامِنًا فِيهِ (وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: يُمْضِيَهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى إِنْفَاذِهِ، فَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْفَاءِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ (دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: شَهَرَهُ بَيْنَ النَّاسِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَتَبَاهَى بِهِ، وَيُقَالُ فِي حَقِّهِ: هَذَا الَّذِي صَدَرَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْخَصْلَةُ الْعَظِيمَةُ (حَتَّى يُخَيِّرَهُ) أَيْ: يَجْعَلُهُ مُخَيَّرًا (فِي أَيِّ الْحَوَرِ شَاءَ) أَيْ: فِي أَخْذِ أَيِّهِنَّ شَاءَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ الْمَنِيعَةَ وَإِيصَالِهِ الدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ. وَفِي النِّهَايَةِ: كَظْمُ الْغَيْظِ تَجَرُّعُهُ وَاحْتِمَالُ سَبَبِهِ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا حُمِدُ الْكَظْمُ لِأَنَّهُ قَهْرٌ لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] ، وَمَنْ نَهَى النَّفْسَ عَنْ هَوَاهُ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ، وَالْحُورَ الْعَيْنَ جَزَاهُ. قُلْتُ: وَهَذَا الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ وَالْجَزَاءُ الْجَزِيلُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى مُجَرَّدِ كَظْمِ الْغَيْظِ، فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ الْعَفْوُ إِلَيْهِ أَوْ زَادَ بِالْإِحْسَانِ عَلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى الْمُسِيءِ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْمُحْسِنِ مُتَاجَرَةٌ، وَفِي الْبَيْضَاوِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ هَؤُلَاءِ فِي أُمَّتِي قَلِيلٌ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانُوا كَثِيرًا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتِ اهـ. وَهُوَ قَدْ ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ. قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِلَخْ. وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ - فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ - ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ - وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 10 - 14] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

5089 - وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " «مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَأَمَانًا» ". وَذُكِرَ حَدِيثُ سُوْيَدٍ: " «مَنْ تَرَكَ لِبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ» " فِي " كِتَابِ اللِّبَاسِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5089 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ وَهْبٍ) : ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ، وَقَالَ: هُوَ شَيْخٌ لِابْنِ عَجْلَانَ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَبِيهِ) أَيِ: الصَّحَابِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ أَيْضًا صَحَابِيًّا، وَأَنْ يَكُونَ تَابِعِيًّا (قَالَ) أَيْ: بَدَلَ الْجَزَاءِ السَّابِقِ مَعَ مُحَافَظَةِ الْإِبْقَاءِ عَلَى شَرْطِهِ إِلَّا قَوْلَ أَنْ يُنَفِّذَهُ، فَإِنَّ أُصُولَ هَذَا الْحَدِيثِ اتَّفَقَتْ عَلَى تَبْدِيلِهِ عَلَى إِنْفَاذِهِ (مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغَضَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ سُوَيْدٍ) أَيِ: ابْنِ وَهْبٍ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ (وَمَنْ تَرَكَ لِبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ) أَيْ: وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ (فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ) : وَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ عَنْ تَكْرِيرٍ أَسْقَطَهُ، وَأَنْ يَكُونَ حَوَّلَهُ مِنْ هُنَا إِلَى ذَلِكَ الْبَابِ لِمُنَاسَبَتِهِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5090 - عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5090 - (عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ) : تَابِعِيٌّ رَوَى عَنْهُ سَلَمَةُ بْنُ صَوَّانٍ الزُّرَّقِيُّ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مَالِكٌ فِي الْحَيَاءِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا) أَيْ: مُخْتَصًّا بِهِ أَوْ غَالِبًا فِيهِ (وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ) أَيْ: فِيمَا شُرِعَ فِيهِ الْحَيَاءُ بِخِلَافِ مَا لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ كَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ، وَالْقِيَامِ بِهِ، وَأَدَاءِ الشَّهَادَاتِ عَلَى وَجْهِهَا، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَذْكُورَاتِ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَيَاءِ عَنِ الْحَقِّ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْخَلْقِ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ وَحُقِّقَ طَرِيقَهُ، فَالْحُكْمُ عَلَى عُمُومِهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ بِأَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ فِعْلِ الْآثَامِ، وَمِنْ تَرْكِ شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ الْإِسْلَامِ، بَلْ وَلَا عِبْرَةَ بِالْحَيَاءِ مِنَ الْأَنَامِ لَا فِعْلًا وَلَا تَرْكًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْخُلُقُ الدَّيْنُ وَالطَّبْعُ وَالسَّجِيَّةُ. قُلْتُ: الْمُرَادُ هُنَا السَّجِيَّةُ أَيْ: بِمَعْنَى الْخَصْلَةِ أَيْ: لِكُلِّ دِينٍ سَجِيَّةٌ شُرِعَتْ فِيهِ، وَحَضَّ أَهْلُ ذَلِكَ الدِّينِ عَلَيْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ دِينٍ سَجِيَّةٌ سِوَى الْحَيَاءِ، وَالْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ دِينِنَا الْحَيَاءُ لِأَنَّهُ مُتَمِّمٌ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِتْمَامِهَا، وَقَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: " «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ» ". الْحَدِيثَ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ دِينٍ سَجِيَّةٌ سِوَى الْحَيَاءِ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْغَلَبَةِ لَنَا مَعَ اشْتِرَاكِنَا بِجَمِيعِ الْمَلَلِ فِي سَائِرِ السَّجِيَّاتِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» ، بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَخْلَاقَ كُلَّهَا كَانَتْ نَاقِصَةً فِيمَنْ قَبْلَنَا، وَإِنَّمَا كَمُلَتْ فِي دِينِنَا بِبَرَكَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) أَيْ: عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ (مُرْسَلًا) : لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ.

5091 - 5092 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، عَنْ أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5091 - 5092 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ: مَرْفُوعًا لَا مَوْقُوفًا كَمَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرْوَى عَنْ كِلَيْهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَسْنَدَ الْحَدِيثَ إِلَى ابْنِ مَاجَهْ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ كَذَلِكَ.

5093 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْإِيمَانَ قُرَنَاءُ جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5093 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْإِيمَانَ) أَيِ: الْكَامِلَ (قُرَنَاءُ) : جَمْعُ قَرِينٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ قُرِنَا بِالْمَاضِي الْمُثَنَّى الْمَجْهُولِ أَيْ: جُعِلَا مَقْرُونَيْنِ (جَمِيعًا) أَيْ: مُجْتَمِعَيْنِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ فِي الْمَعْنَى (فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ) .

5094 - وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «فَإِذَا سُلِبَ أَحَدُهُمَا تَبِعَهُ الْآخَرُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5094 - (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " فَإِذَا سُلِبَ أَحَدُهُمَا تَبِعَهُ الْآخَرُ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَوَافَقَهُ الْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَوَافَقَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ لَفْظُهُ: الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ فِي قَرَنٍ، فَإِذَا سُلِبَ أَحَدُهُمَا تَبِعَهُ الْآخَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى بِلَفْظِ: «الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ مَقْرُونَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ إِلَّا جَمِيعًا» .

5095 - وَعَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ آخِرُ مَا وَصَّانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ أَنْ قَالَ: " يَا مُعَاذُ! أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5095 - (وَعَنْ مُعَاذٍ) أَيِ: ابْنِ جَبَلٍ (قَالَ: كَانَ آخِرَ مَا وَصَّانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: حَالَةَ تَوَجُّهِي إِلَى الْيَمَنِ بِأَمْرِهِ (حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ) : بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَسُكُونِ رَاءٍ فَزَايٍ، أَيْ: فِي مَوْضِعِ رِكَابٍ مِنْ رَحْلِ الْبَعِيرِ، كَالرِّكَابِ لِلسَّرْجِ قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ الْغَرْزُ رِكَابُ كُورِ الْجَمَلِ إِذَا كَانَ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خَشَبٍ، وَقِيلَ هُوَ الْكُورُ مُطْلَقًا كَالرِّكَابِ لِلسَّرْجِ. (أَنْ قَالَ: يَا مُعَاذُ! أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ قَالَ خَبَرُ كَانَ وَحِينَ وَضَعْتُ ظَرْفٌ قَالَهُ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ لِلْقَضَاءِ أَوْصَاهُ لِيُجَامِلَ النَّاسَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: تَحْسِينُ خُلُقِهِ أَنْ يُظْهِرَ لِمَنْ يُجَالِسُهُ أَوْ وَرَدَ عَلَيْهِ الْبِشْرَ وَالْحِلْمَ وَالْإِشْفَاقَ، وَالصَّبْرَ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَالتَّوَدُّدَ إِلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، فَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالتَّمَادِي عَلَى الظُّلْمِ، فَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَحْسِينِ الْخُلُقِ لَهُمْ، بَلْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُغْلِظَ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الرِّفْقَ مِنْ جُمْلَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَعُمَّ جَمْعَ الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] الْآيَةَ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

5096 - وَعَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ» ". رَوَاهُ فِي " الْمُوَطَّأِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5096 - (وَعَنْ مَالِكٍ، بَلَغَهُ) : بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَضَمِيرِ الْمَفْعُولِ إِلَيْهِ، وَالْفَاعِلُ قَوْلُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عِنْدَ مَالِكٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ التَّابِعِيَّ وَلَا الصَّحَابِيَّ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا بِأَنْ تَرَكَ فِيهِ رَاوِيَانِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِلَّا لَذَكَرَ الصَّحَابِيَّ، فَكَانَ مَرْفُوعًا، أَوْ ذَكَرَ التَّابِعِيَّ فَكَانَ مُرْسَلًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَرَاوِي مَالِكٍ لَمْ يَذْكُرِ الِاتِّصَالَ وَأَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ التَّابِعِيَّ، وَلَا الصَّحَابِيَّ، وَقِيلَ إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ. قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ احْتِمَالَاتٌ عَقْلِيَّةٌ وَكَوْنُهُ مُنْقَطِعًا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقَوَاعِدِ الْحَدِيثِيَّةِ، إِذْ لَا يُقَالُ فِي غَيْرِهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَلَّقِ، وَفِيهِ بَحْثٌ طَوِيلٌ بَيَّنْتُهُ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ. (قَالَ: بُعِثْتُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: أُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ (لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ) : بِضَمِّ حَاءٍ وَسُكُونِ سِينٍ، أَيِ: الْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ وَالْأَفْعَالُ الْمُسْتَحْسَنَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ لِأَنْ أَجْعَلَ حُسْنَهَا أَحْسَنَهَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ أَحْسَنَ أَخْلَاقًا بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا ضَلُّوا بِالْكُفْرِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا: فَبُعِثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُتَمِّمَ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَالتَّحْقِيقُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: لِأُتَمِّمَ إِلَخْ. يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَمَّلَهَا بَعْدَ النُّقْصَانِ وَأَنَّهُ جَمَعَهَا بَعْدَ التَّفْرِقَةِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] قَالَ الْإِمَامُ فَخَرُ الدِّينِ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَضْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنِ امْتِثَالِهِ لِذَلِكَ الْأَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ جَمِيعُ خَصَائِلِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمُ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَإِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: " «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بُنْيَانُهُ وَتُرِكَ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ مِنْهُ " إِلَى أَنْ قَالَ: " لَكُنْتُ أَنَا سَدَدْتُ مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ حَتَّى تَمَّ بِيَ الْبُنْيَانُ» اهـ. وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَرْتَبَةِ جَمْعِ الْجَمْعِ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا فِي الْمَسِيرِ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. (رَوَاهُ) أَيْ: مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) : وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاقَشَةِ أَوْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ مَالِكٍ، فَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: كَذَا فِي الْمُوَطَّأِ.

5097 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5097 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَيْ: مَرْفُوعًا وَفِي الْجَامِعِ " «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» " رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

5098 - وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَسَّنَ خُلُقِي وَخَلْقِي، وَزَانَ مِنِّي مَا شَانَ مِنْ غَيْرِي» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5098 - (وَعَنْ جَعْفَرٍ) أَيِ: الصَّادِقِ (ابْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ: الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ) : تَابِعِيٌّ أَدْرَكَ جَابِرًا وَبَلَّغَهُ السَّلَامَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَظَرَ) أَيْ: إِلَى وَجْهِهِ الشَّرِيفِ (فِي الْمِرْآةِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَسَّنَ) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ أَيْ: حَسَّنَ (خَلْقِي وَخُلُقِي) : بِفَتْحٍ الْأَوَّلِ وَضَمِّ الثَّانِي وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِظُهُورِهِ أَوَّلًا وَنَظَرَ التَّرَقِّيَ (وَزَانَ) أَيْ: زَيَّنَ (مِنِّي) أَيْ: مِنْ خُلُقِي وَخَلْقِي (مَا شَانَ) أَيْ: عَابَهُ وَقَبَّحَهُ (مِنْ غَيْرِي) : سَوَاءٌ فِي خَلْقِهِ أَوْ خُلُقِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى أَنَّ صُورَتَهُ وَسِيرَتَهُ عَلَى أَتَمِّ الْحُسْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ " «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ» " فَجُعِلَ النُّقْصَانُ شَيْنًا كَمَا قَالَ أَبُو الطِّيبِ: وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا ... كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ وَعَلَى نَحْوِ هَذَا الْحَمْدِ حَمْدُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15] وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ النَّظَرِ فِي الْمِرْآةِ، وَالْحَمْدُ عَلَى حُسْنِ الْخِلْقَةِ وَالْخُلُقِ، لَأَنَّهُمَا نِعْمَتَانِ) مَوْهُوبَتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهِمَا اهـ. بَقِيَ أَنَّ مَعْرِفَةَ حُسْنِ الظَّاهِرِ مِنَ الْمِرْآةِ ظَاهِرَةٌ بِاعْتِبَارِ الْمَظَاهِرِ، فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ الْخُلُقِ وَالسِّيرَةِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ وَيَقُولَ: هَذَا الْحَمْدُ أَوْ هَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَدْعُوَ بِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ؟ قُلْتُ: وَيَجُوزُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ خُلِقَ عَلَى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَصَاحِبُ الْإِيمَانِ لَا شَكَ أَنَّهُ عَلَى خُلُقٍ مُسْتَقِيمٍ وَدِينٍ قَوِيمٍ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مُرْسَلًا) : وَكَذَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: " «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَوَّى خَلْقِي وَأَحْسَنَ صُورَتِي، وَزَانَ مِنِّي مَا شَانَ مِنْ غَيْرِي» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ السُّنِّيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: " «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَوَّى خَلْقِي فَعَدَلَهُ، وَصُوَّرَ صُورَةَ وَجْهِي فَأَحْسَنَهَا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ".

5099 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5099 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ) أَيْ: مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَ نَظَرِهِ إِلَى الْمِرْآةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ، وَهُوَ اللَّائِقُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ. (اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ طَلَبَ الْكَمَالِ وَإِتْمَامَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ بِإِكْمَالِ دِينِهِ. قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَأَنْ يَكُونَ قَدْ طَلَبَ الْمَزِيدَ وَالثَّبَاتَ عَلَى مَا كَانَ. قُلْتُ: طَلَبُ الثَّبَاتِ عَلَى مَا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ الَّذِي لَا يَرْضَى بِهِ الْكَامِلُ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لِطَلَبِ الْمَزِيدِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ بِأَنَّ التَّرْقِيَاتِ الْبَاطِنِيَّةَ لَا تَتَنَاهَى حَتَّى فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ مِنَ التَّجَلِّيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ لَا تُحْصَى، وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] إِيمَاءً إِلَى هَذِهِ الْإِفَادَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُمَا: " «اللَّهُمَّ أَنْتَ حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي» ". وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ: " «اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي وَحَرِّمْ وَجْهِي عَلَى النَّارِ» ".

5100 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى قَالَ: " خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا، وَأَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5100 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: خِيَارُكُمْ أَطُولُكُمْ أَعْمَارًا) أَيْ: فِي الْكَمِّيَّةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ (وَأَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا) أَيْ: إِلَهِيَّةً وَإِنْسَانِيَّةً أَوْ عَبَّرَ عَنِ الْأَعْمَالِ بِالْأَخْلَاقِ لِأَنَّهَا مَنْبَعُهَا وَمَعْدِنُهَا وَلِأَنَّ مَدَارَهَا فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ مَرْفُوعًا: " «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابٍ مَنْ سَأَلَهُ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: " مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» " فَقَوْلُهُ: وَأَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا كَقَوْلِهِ: وَحَسُنَ عَمَلُهُ فِي إِرَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ طُولِ الْعُمُرِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

5101 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5101 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَةٍ: وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ.

5102 - وَعَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ يَتَعَجَّبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ. قَالَ: كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ ". ثُمَّ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ! ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلِمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلَّا زَادَ اللَّهُ بِهَا قِلَّةً» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5102 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (يَتَعَجَّبُ) أَيْ: مِنْ شَتْمِ الرَّجُلِ وَقِلَّةِ حَيَائِهِ، أَوْ مِنْ صَبْرِ أَبِي بَكْرٍ وَكَثْرَةِ وَفَائِهِ (وَيَتَبَسَّمُ) : لِمَا يَرَى مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهِمَا مِنَ الْعُقُوبَةِ الْكَامِلَةِ وَالرَّحْمَةِ النَّازِلَةِ وَلِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَظَاهِرِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ عَلَى مَا هُوَ مَشْهُودُ أَهْلِ الْكَمَالِ (فَلَمَّا أَكْثَرَ) أَيِ: الرَّجُلُ فِي مَقَالِهِ (رَدَّ) أَيْ: أَجَابَ أَبُو بَكْرٍ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ (بَعْضَ قَوْلِهِ) : عَمَلًا بِالرُّخْصَةِ الْمُجَوِّزَةِ لِلْعَوَامِّ وَتَرْكًا لِلْعَزِيمَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَرْتَبَةِ الْخَوَاصِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] ، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] وَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ جَمَعَ بَيْنَ الِانْتِقَامِ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ وَبَيْنَ الصَّبْرِ عَنْ بَعْضِهِ، لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْكَمَالَ الْمُنَاسِبَ لِمَرْتَبَتِهِ مِنَ الصِّدِّيقِيَّةِ مَا اسْتَحْسَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: تَغَيَّرَ مِنْهُ تَغَيُّرَ الْغَضْبَانِ (وَقَامَ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَخَلَّاهُمَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] (فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: مُعْتَذِرًا وَمُسْتَفْهِمًا (وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَانَ) أَيِ: الرَّجُلُ (يَشْتُمُنِي) : بِضَمِّ التَّاءِ وَالْكَسْرِ (وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ) أَيْ: مِنَ الشَّتْمِ بِعَيْنِهِ أَوْ بِمَا يُنَاسِبُهُ (غَضِبْتَ وَقُمْتَ) : يَعْنِي فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ؟ (قَالَ: كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَلَيْهِ) أَيْ: وَيَدُلُّكَ عَلَى الصَّبْرِ (فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ) أَيْ: بِذَاتِكَ وَدَخَلَ فِيهِ حَظُّ النَّفْسِ (وَقَعَ الشَّيْطَانُ) أَيْ: وَطَلَعَ الْمَلَكُ، وَالشَّيْطَانُ إِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَخِفْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَعَدَّى عَلَى خَصْمِكَ وَتَرْجِعَ ظَالِمًا بَعْدَ أَنْ كُنْتَ مَظْلُومًا، وَقَدْ رُوِيَ: كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَظْلُومَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الظَّالِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ: كُنْ خَيْرَ ابْنَيْ آدَمَ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هَابِيلَ جَوَابًا لِقَابِيلَ: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28] مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، وَكَانَ أَقْوَى مِنْهُ لَكِنِ اخْتَارَ الطَّرِيقَ الْأَكْمَلَ لِيَكُونَ مِنْ

الْفَرِيقِ الْكَمَلِ. (ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ! ثَلَاثٌ) أَيْ: خِصَالٌ (كُلُّهُنَّ حَقٌّ) أَيْ: ثَابِتٌ وَصِدْقٌ (مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِمَظْلِمَةٍ) : بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيْضًا، وَأَنْكَرَهُ بَعْضٌ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ بِالضَّمِّ أَيْضًا. وَفِي الْمُغْرِبِ: الْمَظْلِمَةُ الظُّلْمُ وَاسْمُ الْمَأْخُوذُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْمَظْلِمَةِ بِكَسْرِ اللَّامِ مَا يَظْلِمُهُ الرَّجُلُ. (فَيُغْضِي) : مِنَ الْإِغْضَاءِ بِالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَهُوَ إِدْنَاءُ الْجُفُونِ بِمَعْنَى الْإِغْمَاضِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْإِعْرَاضُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَيُعْفَى بِالْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ مِنَ الْإِعْفَاءِ وَهُوَ لُغَةٌ فِي الْعَفْوِ وَالْمَعْنَى فَيُسَامِحُ (عَنْهَا) أَيْ: عَنْ تِلْكَ الْمَظْلِمَةِ وَيَتْرُكُ جَوَاهَا أَوِ الْمُطَالَبَةَ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ مُطْلَقًا (لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) أَيْ: لَا لِفَخْرٍ وَلَا سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ (إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا) أَيْ: بِمُقَابَلَةِ تِلْكَ الْمَظْلِمَةِ وَالْإِهَانَةِ أَوْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْخَصْلَةِ الْمُعَانَةِ (نُصْرَةً) أَيْ: إِعَانَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ) أَيْ: صَدَقَةٍ (يُرِيدُ بِهَا صِلَةً) أَيْ: صِلَةً لِلرَّحِمِ وَالْقَرَابَةِ أَوْ وَصْلَةً لِلْقُرْبَةِ وَفِي رِوَايَةٍ (بَابَ عَطِيَّةٍ) بِصَدَقَةٍ أَوْ صِلَةٍ (إِلَّا زَادَ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً) أَيْ: بَرَكَةً صُورِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً (وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ) أَيْ: سُؤَالٍ مِنْ مَخْلُوقٍ (يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً) أَيْ: لَا دَفْعَ حَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ تُلْجِئُهُ (إِلَّا زَادَ اللَّهُ بِهَا قِلَّةً) أَيْ: حِسِّيَّةً أَوْ حَقِيقِيَّةً، وَفِي رِوَايَةٍ (إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى) فِي الْمَوْضِعَيْنِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغَضَبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَلَفْظُهُ: ( «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ مَا نَقَصَ مَالٌ قَطُّ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا، وَلَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ ظُلِمَهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عَزًّا فَاعْفُوا يَزِدْكُمُ اللَّهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ وَلَفْظُهُ: «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِزًّا، وَلَا فَتْحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهَ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا. فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ» .

5103 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يُرِيدُ اللَّهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ رِفْقًا إِلَّا نَفَعَهُمْ، وَلَا يَحْرِمُهُمْ إِيَّاهُ إِلَّا ضَرَّهُمْ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5103 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يُرِيدُ اللَّهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ رِفْقًا إِلَّا نَفَعَهُمْ) أَيِ: اللَّهُ بِهِ (وَلَا يَحْرِمُهُمْ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَقِيلَ بِضَمِّهِ أَيْ: وَلَا يَمْنَعُ أَهْلَ بَيْتٍ (إِيَّاهُ) أَيِ: الرِّفْقَ (إِلَّا ضَرَّهُمْ) أَيْ: أَضَرَّهُمُ اللَّهُ بِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب الغضب والكبر]

[بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ]

[20] بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5104 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي. قَالَ: " لَا تَغْضَبْ ". فَرَدَّدَ ذَلِكَ مِرَارًا قَالَ: " لَا تَغْضَبْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [20] بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْغَضَبُ فَوَرَانُ دَمِ الْقَلْبِ أَوْ عَرَضٌ يَتْبَعُهُ ذَلِكَ لِدَفْعِ الْمُؤْذِيَاتِ، وَلِلِانْتِقَامِ بَعْدَ وُقُوعِهَا. فَإِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: " «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» " مَجَازٌ أَيْ: يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ الْمَلِكُ إِذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الِانْتِقَامِ لِإِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ، وَأَمَّا الْكِبْرُ فَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ الْحَالَةُ الَّتِي يَتَخَصَّصُ بِهَا الْإِنْسَانُ مِنْ إِعْجَابِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَعْظَمُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِذْعَانِ لِلْعِبَادَةِ، وَالِاسْتِكْبَارُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَحَرَّى الْإِنْسَانُ أَنْ يَصِيرَ كَبِيرًا، وَذَلِكَ مَتَى كَانَ عَلَى مَا يُحَبُّ فَهُوَ الْمَحْمُودُ، وَالثَّانِي: أَنْ يَتَشَبَّعَ فَيُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ مَا لَيْسَ لَهُ فَهُوَ الْمَذْمُومُ كَقَوْلِهِ: أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَالْمُتَكَبِّرُ أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ، إِمَّا مَحْمُودٌ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ الْحَسَنَةُ كَثِيرَةً زَائِدَةً فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَحَاسِنِ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُتَكَبِّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] أَوْ مَذْمُومٌ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُتَكَلِّفًا مُتَشَبِّعًا لِذَلِكَ، وَهَذَا وَصْفُ عَامَّةِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72] وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْكِبْرُ يَنْقَسِمُ إِلَى ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى الْجَوَارِحِ يُقَالُ تَكَبُّرٌ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرُ يُقَالُ فِي نَفْسِهِ كِبْرٌ، فَالْأَصْلُ هُوَ الْخُلُقُ فِي النَّفْسِ وَهُوَ الِاسْتِرْوَاحُ وَالرُّكُونُ إِلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبِّرِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْكِبْرَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبِّرًا عَلَيْهِ لِيَرَى نَفْسَهُ فَوْقَهُ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمُتَكَبِّرًا بِهِ، وَبِهِ يُفْصَلُ الْكِبْرُ عَنِ الْعُجْبِ، فَإِنَّ الْعُجْبَ لَا يَسْتَدْعِي غَيْرَ الْمُعْجَبِ بِهِ، بَلْ لَوْ لَمْ يُخْلُقْ إِلَّا وَحْدَهُ تُصُوِّرَ أَنْ يَكُونَ مُعْجَبًا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرًا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5104 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا) : هُوَ ابْنُ عُمَرَ أَوْ حَارِثَةُ بْنُ قُدَامَةَ أَوْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي) أَيْ: أَرْشِدْنِي بِخُصُوصِي إِلَى عُمُومِ مَا يَنْفَعُنِي دِينًا وَدُنْيَا وَيُقَرِّبُنِي إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (قَالَ: " لَا تَغْضَبْ " فَرَدَّدَ) أَيِ: الرَّجُلُ السُّؤَالَ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ لِذَلِكَ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (مِرَارًا) أَيْ: ثَلَاثًا أَوْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى رَجَاءَ أَنْ يَضُمَّ مَعَهُ إِيصَاءً آخَرَ (قَالَ: لَا تَغْضَبْ) : قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْغَضَبُ مِنْ نَزَعَاتِ الشَّيْطَانِ يَخْرُجُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ صُورَةً وَسُرَّةً حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْبَاطِلِ وَيَفْعَلَ الْمَذْمُومَ شَرْعًا وَعُرْفًا، وَيَنْوِيَ الْحِقْدَ وَالْبُغْضَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ الَّتِي كُلُّهَا مِنْ أَثَرِ سُوءِ الْخُلُقِ، بَلْ قَدْ يَكْفُرُ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تَغْضَبْ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ مَعَ إِلْحَاحِ السَّائِلِ مُرِيدًا لِلزِّيَادَةِ أَوِ التَّبْدِيلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: حَسِّنْ خُلُقَكَ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَالْحَدِيثُ مِنْ بَدَائِعِ الْكَلِمِ، ثُمَّ عِلَاجُهُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِأَنْ يَرَى الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ، وَيُذَكِّرَ نَفْسَهُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ أَعْظَمُ وَفَضْلَهُ أَكْثَرُ، وَكَمْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَلَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهِ، وَيَتَعَوَّذَ وَيَتَوَضَّأَ وَيَشْغَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُكَاشِفًا بِأَوْضَاعِ الْخَلْقِ عَارِفًا بِأَدْوَائِهِمْ يَضَعُ الْهَنَا مَوْضِعَ النَّقْبِ يَأْمُرُهُمْ بِمَا هُوَ أَوْلَى بِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَوْصَاهُ الرَّجُلُ وَقَدْ رَآهُ مَمْلُوءًا بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ لَمْ يَرَ لَهُ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَتَجَنَّبَ عَنْ دَوَاعِي الْغَضَبِ وَيُزَحْزِحَ نَفْسَهُ عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَتَعْتَرِيهِ إِنَّمَا تَعْرُضُ لَهُ مِنْ فَرْطِ شَهْوَتِهِ وَاسْتِيلَاءِ غَضَبِهِ، وَالشَّهْوَةُ مَكْثُورَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقْتَضِيهُ الْغَضَبُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهَا، فَلَمَّا سَأَلَهُ الرَّجُلُ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى التَّجَنُّبِ عَنِ الْقَبَائِحِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ مَظَانِّهَا نَهَاهُ عَنِ الْغَضَبِ الدَّاعِي إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا وَأَكْثَرَ وِزْرًا، فَإِنَّ ارْتِفَاعَ السَّبَبِ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ مُسَبِّبَاتِهِ لَا مَحَالَةَ. قُلْتُ: هُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ وَبَيَانٌ مُسْتَحْسَنٌ إِلَّا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَدَارَ الْغَضَبِ عَلَى شَهْوَةِ النَّفْسِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَغْضَبُ غَضَبًا مَذْمُومًا إِلَّا بِتَوَهُّمِ فَوْتِ شَهْوَةٍ لَهُ أَوْ بَعْدَ تَحَقُّقِ فَرْقًا، وَلِهَذَا تَرَى كُلَّ مَا كَانَ شَهْوَتُهُ أَكْثَرَ كَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ يَكُونُ غَضَبُهُ أَكْبَرَ، وَيَجُبُّ عَنْهُ الْحَذَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ قُدَامَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغَضَبِ عَنْ رَجُلٍ وَلَفْظُهُ: لَا تَغْضَبْ، فَإِنَّ الْغَضَبَ مَفْسَدَةٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «لَا تَغْضَبْ وَلَكَ الْجَنَّةُ» .

5105 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5105 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ) أَيِ: الْقَوِيُّ كَامِلُ الْقُوَّةِ (بِالصُّرَعَةِ) : بِضَمٍّ فَفَتَحِ هَمْزَةٍ مِنْ يُكْثِرُ الصَّرْعَ وَهُوَ إِسْقَاطُ الْمُصَارِعِ لَهُ، لِأَنَّهُ قُوَّةٌ صُورِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، فَنِّيَّةُ (إِنَّمَا الشَّدِيدُ) أَيِ: الْكَامِلُ (الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنْدَ الْغَضَبِ) : فَإِنَّهُ قُوَّةٌ دِينِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ بَاقِيَةٌ، فَحَوَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ مِنَ الْقُوَّةِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْبَاطِنَةِ، وَمِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَى الدِّينِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الصُّرَعَةُ بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُبَالِغُ فِي الصَّرْعِ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، فَنَقَلَهُ إِلَى الَّذِي يَمْلِكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَلَكَهَا كَانَ قَدْ قَهَرَ أَقْوَى أَعْدَائِهِ وَشَرَّ خُصُومِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ، وَهَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ وَضْعِهَا اللُّغَوِيِّ بِضَرْبٍ مِنَ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازِ، وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَضْبَانُ بِحَالَةٍ شَدِيدَةٍ مِنَ الْغَيْظِ، وَقَدْ ثَارَتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ الْغَضَبِ، فَقَهَرَ بِحِلْمِهِ وَصَرَعَهَا بِثَبَاتِهِ كَانَ كَالصُّرَعَةِ الَّذِي يَصْرَعُ الرِّجَالَ وَلَا يَصْرَعُونَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

5106 - وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5106 - (وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ) : ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ) : بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرٍ هُوَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ. قَالَ شَارِحٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ النَّاسُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَتُهُ الْآتِيَةُ، فَالْحُكْمُ كُلِّيٌّ لَا غَالِبِيٌّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ وَقَوْلُهُ: (مُتَضَعِّفٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُكْسَرُ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ كَجُنُودٍ مُجَنَّدَةٍ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ وَظِلٍّ ظَلِيلٍ، وَفَائِدَةُ التَّاءِ الْمَوْضُوعِ لِلطَّلَبِ أَنَّ الضَّعْفَ الْحَاصِلَ فِيهِ كَأَنَّ مَطْلُوبٌ مِنْهُ التَّذَلُّلَ وَالتَّوَاضُعَ، مَعَ إِخْوَانِهِ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا مُتَرَجِّلًا مَعَ أَعْدَائِهِ. قَالَ تَعَالَى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَثُرَ تَوَاضُعُهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُقَرَّبِينَ، كَمَا أَنَّ مَنْ يَكُونُ أَكْثَرَ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا يَكُونُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا، وَالْمَشْهُورُ الْفَتْحُ، وَمَعْنَاهُ يَسْتَضْعِفُهُ النَّاسُ وَيَحْتَقِرُونَهُ وَيَتَجَرَّأُونَ عَلَيْهِ لِضَعْفِ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا، يُقَالُ: تَضَعَّفَهُ وَاسْتَضْعَفَهُ، وَأَمَّا عَلَى الْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ مُتَوَاضِعٌ مُتَذَلِّلٌ خَامِلٌ وَاضِعٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَغْلَبَ أَهْلِ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ، كَمَا أَنَّ مُعْظَمَ أَهْلِ النَّارِ الْقِسْمُ الْأَخِيرُ (لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ) أَيْ: فِي فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ (لَأَبَرَّهُ) أَيْ: لَأَمْضَاهُ عَلَى الصِّدْقِ وَجَعَلَهُ بَارًّا غَيْرَ حَانِثٍ فِي طَلَبِهِ مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَوْ حَلَفَ يَمِينًا طَمَعًا فِي كَرَمِ اللَّهِ بِإِبْرَارِهِ لَأَبَرَّهُ (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ) : بِضَمَّتَيْنِ فَتَشْدِيدٌ أَيْ: جَافٍ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ، وَقِيلَ: الْجَافِي الْفَظُّ الْغَلِيظُ (جَوَّاظٍ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: جَمُوعٍ مَنُوعٍ أَوْ مُخْتَالٍ، وَقِيلَ: السَّمِينُ مِنَ التَّنْعِيمِ، وَقِيلَ: الْفَاجِرُ بِالْجِيمِ، وَقِيلَ: بِالْخَاءِ (مُسْتَكْبِرٍ) أَيْ: مُتَكَبِّرٍ عَنِ الْحَقِّ أَوْ عَلَى أَهْلِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُعَاذٍ وَلَفْظُهُ: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ رَجُلٌ ضَعِيفٌ مُسْتَضْعَفٌ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يَؤُبَّهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظِ: " «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ، كُلُّ جَعْظَرِيِّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنُوعٍ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، كُلُّ مِسْكِينٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ) : وَالزَّنِيمُ: الدَّعِيُّ فِي النَّسَبِ الْمُلْصَقِ بِالْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ تَشْبِيهًا لَهُ بِالزَّنَمَةِ وَهِيَ شَيْءٌ يُقْطَعُ مِنْ أُذُنِ الشَّاهِ وَيُتْرَكُ مُعَلَّقًا بِهَا ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْآيَةِ الْوَارِدَةِ فِي حَقِّ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ وَأَضْرَابِهِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَهُوَ اللَّئِيمُ الْمَعْرُوفُ بِلُؤْمِهِ أَوْ شَرِّهِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الزَّنِيمُ كِنَايَةً عَنْ هَذَا الْوَصْفِ، فَإِنَّهُ لَازَمَهُ غَالِبًا، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا عَمِلَ بِعَمَلِ أَبَوَيْهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ( «وَلَدُ الزِّنَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» ) فَلَا أَصْلَ لَهُ أَصْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5107 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5107 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَدْخُلُ النَّارَ) أَيْ: دُخُولَ خُلُودٍ (أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ) أَيْ: مِقْدَارُ وَزْنِ حَبَّةٍ (مِنْ خَرْدَلٍ) : قِيلَ: إِنَّهُ الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْقِلَّةِ كَمَا جَاءَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ (مِنْ إِيمَانٍ) أَيْ: مِنْ ثَمَرَتِهِ وَهِيَ أَخْلَاقُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَاطِنِ أَوِ الظَّاهِرِ الصَّادِرِ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ، وَظُهُورِ الْإِيقَانِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ لَيْسَ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَقَوْلُ الطِّيبِيِّ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ صَدَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِحَقِيقَةِ الْإِيقَانِ وَالْإِتْقَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَجَزَّأُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمُؤْمِنِ بِهِ، وَلَا شَكَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِبَعْضِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ كَلَا إِيمَانَ. نَعَمْ لَهُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، وَكَالتَّوَاضُعِ وَالتَّرَحُّمِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ الْبَاهِرَةِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: " «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» " وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ: «وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَفْهُومِ الْإِيمَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ: مَعَ السَّابِقِينَ (أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ) : فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ " الْكِبْرَ الْمُجَرَّدَ لَيْسَ بِكُفْرٍ، كَمَا أَنَّ الْكِبْرَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ كُفْرٌ إِجْمَاعًا، نَعَمِ الْكُفْرُ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] أَيْ: مِنْ أَنْوَاعِ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْكُفْرَانِ إِلَى النُّورِ أَيْ: نُورِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ الْكِبْرِ، بَلْ يُصَفَّى مِنْهُ وَمِنْ كُلِّ خَصْلَةٍ مَذْمُومَةٍ إِمَّا بِالتَّعْذِيبِ أَوْ بِعَفْوِ اللَّهِ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لِلْحَدِيثِ تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِالْكِبْرِ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ قَابَلَهُ فِي نَقِيضِهِ بِالْإِيمَانِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ نَزَعَ مِنْ قَلْبِهِ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْكِبْرِ، حَتَّى يَدْخُلَهَا بِلَا كِبْرٍ وَغِلٍّ فِي قَلْبِهِ، وَقَوْلُهُ: (لَا يَدْخُلُ النَّارَ) يَعْنِي دُخُولَ تَأْيِيدٍ وَتَخْلِيدٍ اهـ. وَأَرَادَ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي بِالْكِبْرِ التَّكَبُّرَ عَلَى النَّاسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَنْفَسِهَا فَإِنَّهُ أَشَارَ بِالْإِيمَانِ، إِلَى أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ، فَيَجِبُ أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْهُ، وَبِالْكِبْرِ تَلْمِيحٌ إِلَى أَنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ سِمَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْغَبَ فِيهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْأَوْلَى فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَإِيرَادَهُ إِلَى مَعْنَى الْوَصْفَيْنِ لِلتَّرْغِيبِ فِي أَحَدِهِمَا، وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْآخَرِ لَا إِلَى حُكْمِ الْمَوْصُوفِينَ وَإِنْ لَزِمَهُ تَبَعًا اهـ. وَهُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةُ التَّدْقِيقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5108 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ". فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا. قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبَرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5108 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ " فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَوْ رَبِيعَةُ بْنُ عَامِرٍ أَقْوَالٍ. (إِنَّ الرَّجُلَ) أَيْ: جِنْسُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّخْصُ (يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا) أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعِيَ نَظَرَ الْخَلْقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَعَلَامَةُ صِدْقِهِ أَنْ يُحِبَّ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْخَلَاءِ، ثُمَّ النَّعْلُ مَا وُقِيَتْ بِهِ الْقَدَمُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ جَمَاعِيَّةٌ. ذَكَرَهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي رِسَالَتِهِ فِيمَا يَجِبُ تَأْنِيثُهُ، وَفِي الْمَشَارِقِ: وَنَعْلُهُ حَسَنَةٌ فَالتَّذْكِيرُ هُنَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، هُوَ مَا وُقِيَتْ بِهِ الْقَدَمُ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: وَنَعْلُهُ ذَاتُ حُسْنٍ، أَوْ عَدَلَ عَنْ فَعْلَاءَ أَيْ فَعَلَ لِلْمُشَاكَلَةِ مَعَ قَابِلِيَّةِ اللَّفْظِ أَنْ يُقْرَأَ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّ سَبَبَ السُّؤَالِ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الرَّجُلُ الْعَادَةَ فِي الْمُتَكَبِّرِينَ لِبْسَ الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ سَأَلَ مَا سَأَلَ.

(قَالَ) أَيْ: مُجِيبًا لَهُ (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ) أَيْ: فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَفِعَالِهِ وَكُلِّ جَمَالٍ صُورِيٍّ أَوْ جَمِيلٍ مَعْنَوِيٍّ، فَهُوَ أَثَرُ جِمَالِهِ، فَلَا جَمَالَ وَلَا جَلَالَ وَلَا كَمَالَ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ (يُحِبُّ الْجَمَالَ) أَيْ: ظُهُورَهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَلِذَلِكَ أَظْهَرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ مَظَاهِرَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» " (الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ أَيِ: الْكِبْرُ الْمَذْمُومُ بُطْلَانُ جَمَالِ الْحَقِّ (وَغَمْصِ النَّاسِ) أَيِ: اسْتِحْقَارِ الْخَلْقِ، وَأَصْلُ الْبَطَرِ شِدَّةُ الْفَرَحِ وَالنَّشَاطِ، وَالْمُرَادُ هُنَا قِيلَ سَوَاءٌ احْتِمَالُ الْغِنَى، وَقِيلَ الطُّغْيَانُ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ. وَفِي النِّهَايَةِ: بَطَرُ الْحَقِّ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ حَقًّا مِنْ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ بَاطِلًا، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَتَجَبَّرَ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَرَاهُ حَقًّا. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَقْبَلُهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَتَفْسِيرُهُ عَلَى الْبَاطِلِ أَشْبَهُ لِمَا وَرَدَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ سَفَهِ الْحَقِّ، وَغَمْصِ النَّاسِ أَيْ: رَأَى الْحَقَّ سَفَهًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ، وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِزِيَادَةِ: " «وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَيُبْغِضُ الْبُؤْسَ وَالتَّبَاؤُسَ» ". وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِزِيَادَةِ: " سَخِيٌّ يُحِبُّ السَّخَاءَ نَطِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ ".

5109 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5109 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: أَشْخَاصٌ (لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) أَيْ: كَلَامَ رِضًا أَوْ مُطْلَقًا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: وَقْتَ ظُهُورِ عَدْلِهِ وَفَضْلِهِ وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) أَيْ: لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ (وَفِي رِوَايَةٍ) : بَدَلًا عَمَّا قَبْلَهُ أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أَيْ: نَظَرَ لُطْفٍ وَعِنَايَةٍ وَرَحْمَةٍ وَرِعَايَةٍ (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الرِّوَايَةِ، وَأَنْ يَكُونَ عَوْدًا إِلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَقَوْلِهِ: (شَيْخٌ زَانٍ) : لِأَنَّ الزِّنَا إِذَا كَانَ قَبِيحًا مِنَ الشَّابِّ مَعَ كَوْنِهِ مَعْذُورًا طَبْعًا، فَمِنَ الشَّيْخِ الْمُنْطَفِئِ شَهْوَتُهُ الْمُنْتَفِي غُلْمَتُهُ يَكُونُ أَقْبَحَ، وَفِي نَظَرِ الْعَقْلِ أَسْمَجَ (وَمَلِكٌ كَذَّابٌ) أَيْ: كَثِيرُ كَذِبٍ أَوْ ذُو كَذِبٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوِ النِّسْبَةِ، وَالثَّانِي أَبْلَغُ (وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ) أَيْ: فَقِيرٌ مُتَكَبِّرٌ، لِأَنَّ كِبْرًا مَعَ انْعِدَامِ سَبَبِهِ فِيهِ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بِالطَّبْعِ ذَمِيمًا فِي الشَّرْعِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَائِلِ ذُو الْعِيَالِ، فَتَكَبُّرُهُ عَنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ قَدْرَ مَا يَسُدُّ خَلَّتَهُ وَخَلَّةَ عِيَالِهِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِاسْتِيلَاءِ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ وَعِيَالَهُ الضَّرَرُ الشَّدِيدُ مِنْ تَكَبُّرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي الزِّنَا قَبِيحٌ وَمِنَ الشَّيْخِ أَقْبَحُ وَالْكَذِبُ سَمِجٌ، وَمِنَ الْمَلِكِ أَسْمَجُ، وَالتَّكَبُّرُ مَذْمُومٌ وَمِنَ الْفَقِيرِ أَذَمُّ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالشَّيْخِ الْمُحْصَنُ سَوَاءٌ يَكُونُ شَابًّا أَوْ لَا. وَلِكَوْنِ الزِّنَا أَقْبَحَ مِنْهُ شَرْعًا وَعُرْفًا وَجَبَ فِيهِ الرَّجْمُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهِ عَزِيزُ حَكِيمُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَلِكِ الْغَنِيُّ، فَإِنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَكْذِبُ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ مِنْ مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَالْغَنِيُّ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مُطْلَقًا. فَالْكَذِبُ مِنْهُ أَقْبَحُ، وَالْمُرَادُ بِالْفَقِيرِ الَّذِي يَتَكَبَّرُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ; لِأَنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى الْمُتَكَبِّرِينَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ صَدَقَةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْفَقِيرُ الْمُتَكَبِّرُ عَنِ الْكَسْبِ وَالْكَدِّ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَهْلِ زَمَانِنَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّكَبُّرَ الْمُتَضَمِّنَ لِلرُّعُونَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ مَعَ إِضْرَارِ النَّفْسِ، وَارْتِكَابِ السُّؤَالِ، وَأَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ حَلَالٍ أَقْبَحُ مِنْ تَكَبُّرِ الْأَغْنِيَاءِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ يَتَكَلَّفُ وَيَتَزَيَّا بِزِيِّ الْأَكَابِرِ، كَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ، بِأَنَّ الْحَلَالَ مَا حَلَّ بِنَا وَأَنَّ الْحَرَامَ مَا حَرَّمْنَا، فَإِنَّ الْعِلَلَ الْمُرَكَّبَةَ دَاءٌ عُضَالٌ يَعْجِزُ عَنْهُ الْحُكَمَاءُ وَإِنْ بَلَغُوا مَبْلَغَ الْكَمَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» ".

5110 - وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْكِبْرَيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَدْخَلْتُهُ النَّارَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» ؟ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 5110 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (الْكِبْرِيَاءُ) أَيِ: الذَّاتِيُّ (رِدَائِي) أَيْ: بِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَكُمْ (وَالْعَظْمَةُ) أَيِ: الصِّفَاتِيُّ (إِزَارِي) أَيْ: فِي مَرْتَبَتِهِ لَدَيْكُمْ، فَإِنَّ رُتْبَةَ الصِّفَةِ دُونَ رُتْبَةِ الذَّاتِ، وَلِذَا خُصَّ التَّكْبِيرُ بِكَوْنِهِ تَحْرِيمَةً لِلصَّلَاةِ فِي الْقِيَامِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعْظِيمُ بِالرُّكُوعِ الْمَنْدُوبِ فِيهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَمِنْهُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَحَقِيقَتُهُ تَرْكُ الِاشْتِغَالِ بِمَا سِوَاهُ، فَالتَّرْكِيبُ نَوْعٌ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا مُخْتَصَّانِ بِيَ اخْتِصَاصًا ظَاهِرًا كَنِسْبَةِ الثَّوْبَيْنِ إِلَيْكُمْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا عَرَفْتُمْ ذَلِكَ وَعَلِمْتُمْ مَا هُنَالِكَ. (فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا) أَيْ: مِنَ الْوَصْفَيْنِ بِأَنْ تَكَبَّرَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، أَوْ تَعْظِيمٍ مِنْ حَيْثِيَّةِ صِفَاتِهِ وَأَرَادَ نَوْعًا مِنَ الْمُشَارَكَةِ مَعِي فِي نُعُوتِ ذَاتِي وَصِفَاتِي (أَدْخَلْتُهُ النَّارَ) أَيْ: نَارَ الْعَذَابِ وَعِقَابَ الْحِجَابِ، فَإِنَّهُ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ وَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ: (قَذَفْتُهُ) أَيْ: رَمَيْتُهُ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ بِهِ (فِي النَّارِ) : هَذَا مُجْمَلُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ فَفِي النِّهَايَةِ: الْكِبْرِيَاءُ وَالْعَظَمَةُ وَالْمُلْكُ وَقِيلَ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الذَّاتِ وَكَمَالِ الْوُجُودِ، وَلَا يُوصَفُ بِهِمَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ مِنَ الْكِبْرِ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْعَظَمَةُ وَيُقَالُ: كَبُرَ بِالضَّمِّ يَكْبُرُ أَيْ: عَظُمَ فَهُوَ كَبِيرٌ اهـ. وَقِيلَ: إِنَّ الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ مُتَّحِدَةُ الْمَعْنَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ مُعْظَمُهُمْ لِلْفَرْقِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّرَادُفِ، وَلِمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنَ الْفَرْقِ فِي مَرْتَبَةِ الْجَمْعِ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ: جُعِلَ الْكِبْرِيَاءُ قَائِمًا مَقَامَ الرِّدَاءِ، وَالْعَظْمَةُ قَائِمَةً مَقَامَ الْإِزَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّدَاءَ أَرْفَعُ دَرَجَةً مِنَ الْإِزَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِفَةُ الْكِبْرِيَاءِ أَرْفَعَ حَالًا مِنْ صِفَةِ الْعَظَمَةِ، ثُمَّ قَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرًا فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ اسْتَكْبَرَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا. وَسَوَاءٌ عَرَفَ هَذِهِ الصِّفَةَ أَحَدٌ أَمْ لَا. وَأَمَّا الْعَظَمَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَسْتَعْظِمُهُ غَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الصِّفَةُ الْأَوْلَى ذَاتِيَّةً، وَالثَّانِيَةُ إِضَافِيَّةً، وَالذَّاتِيُّ أَعْلَى مِنَ الْإِضَافِيِّ اهـ. وَأَطْنَبَ الطِّيبِيُّ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ الْفَخْرِ وَتَوْضِيحِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ عَرَفْتُ مَا قِيلَ أَنَّ الْكِبْرَ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ وَتَحْقِيرِ النَّاسِ، فَالتَّوَاضُعُ هُوَ الْإِذْعَانُ لِلْحَقِّ وَتَوْقِيرُ النَّاسِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى الْخَلْقِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِقَذْفِهِ فِي أَقْصَى دَرَكَاتِ النِّيرَانِ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ مَعَ الْخَلْقِ رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ: ( «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي رِدَائِي قَصَمْتُهُ» ) : وَرَوَاهُ سَمُّوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ ( «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعِزُّ إِزَارِي مَنْ نَازَعَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ» ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5111 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارِينَ، فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5111 - (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) : صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ وَغَيْرُهُ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: يُعْلِي نَفْسَهُ وَيَرْفَعُهَا وَيُبْعِدُهَا عَنِ النَّاسِ فِي الْمَرْتَبَةِ، وَيَعْتَقِدُهَا عَظِيمَةَ الْقَدْرِ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ: يُرَافِقُ نَفْسَهُ فِي ذَهَابِهَا إِلَى الْكِبْرِ وَيُعَزِّزُهَا وَيُكْرِمُهَا، كَمَا يُكْرِمُ الْخَلِيلُ الْخَلِيلَ، حَتَّى تَصِيرَ مُتَكَبِّرَةً، وَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ يُقَالُ: ذَهَبَ بِهِ مَرَّ بِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قُلْتُ: وَمِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] أَيْ: أَذْهَبُ نُورَهُمْ، وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُذْهِبُهَا عَنْ دَرَجَتِهَا وَمَرْتَبَتِهَا إِلَى مَرْتَبَةٍ أَعْلَى وَهَكَذَا. (حَتَّى يُكْتَبَ) أَيِ: اسْمَهُ أَوْ يُثْبَتَ رَسْمُهُ (فِي الْجَبَّارِينَ) أَيْ: فِي دِيوَانِ الظَّالِمِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ أَوْ مَعَهُمْ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ (فَيُصِيبَهُ) : بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ أَيْ: فَيَنَالُ الرَّجُلُ مِنْ بَلِيَّاتِ الدُّنْيَا وَعُقُوبَاتِ الْعُقْبَى (مَا أَصَابَهُمْ) أَيِ: الْجَبَّارِينَ كَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5112 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُحْشُرُ الْمُتَكَبِّرُونَ أَمْثَالَ الذَّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى: بُولَسُ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5112 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يُحْشُرُ الْمُتَكَبِّرُونَ أَمْثَالَ الذَّرِّ) أَيْ: فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ) أَيْ: مِنْ جِهَةِ وُجُوهِهِمْ أَوْ مِنْ حَيْثِيَّةِ هَيْئَتِهِمْ مِنِ انْتِصَابِ الْقَامَةِ (يَغْشَاهُمْ) أَيْ: يَأْتِيهِمْ (الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) أَيْ: مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمَذَلَّةِ وَالنَّقِيصَةِ يَطَؤُهُمْ أَهْلُ الْمَحْشَرِ بِأَرْجُلِهِمْ مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الذَّرُّ النَّمْلُ الْأَحْمَرُ الصَّغِيرُ وَاحِدُهَا ذَرَّةٌ، وَقِيلَ: الذَّرَّةُ يُرَادُ بِهَا مَا يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ الدَّاخِلَ فِي النَّافِذَةِ. قُلْتُ: نَعَمْ قَدْ يُرَادُ بِهَا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 8] كَمَا أَنَّهُ الْمُرَادُ جَزْمًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] ، وَأَمَّا إِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَقَالِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ أَيْ: أَذِلَّاءَ مُهَانِينَ يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ، وَإِنَّمَا مَنَعَنَا عَنِ الْقَوْلِ بِظَاهِرِهِ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْأَجْسَادَ تُعَادُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ حَتَّى إِنَّهُمْ يُحْشُرُونَ غُرْلًا يُعَادُ مِنْهُمْ مَا انْفَصَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْقُلْفَةِ» " وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ بِقَوْلِهِ: يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ. قَالَ الْأَشْرَفُ: إِنَّمَا قَالَ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَمْثَالَ الذَّرِّ قَطْعًا مِنْهُ حَمْلَ قَوْلِهِ أَمْثَالَ الذَّرِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَدَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ لَا يُحْشُرُ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ وَتَحْقِيقًا لِإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ الْمَعْدُومَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي صُوَرُهُمْ صُوَرُ الْإِنْسَانِ، وَجُثَّتُهُمْ كَجُثَّةِ الذَّرِّ فِي الصِّغَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَفْظُ الْحَدِيثِ يُسَاعِدُ هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْثَالَ الذَّرِّ تَشْبِيهٌ لَهُمْ بِالذَّرِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ الشَّبَهِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ الصِّغَرَ فِي الْجُثَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَقَارَةَ وَالصَّغَارَ، فَقَوْلُهُ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ بَيَانٌ لِلْوَجْهِ وَدَفُعُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ خِلَافَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْأَجْسَادَ تُعَادُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ، فَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لَا تُعَادَ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ فِي مِثْلِ الذَّرِّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا الْحَقَارَةُ مَلْزُومُ هَذَا التَّرْكِيبِ، فَلَا يُنَافِي إِرَادَةَ الْجُثَّةِ مَعَ الْحَقَارَةِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا كَلَامَ فِي قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ تُعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا صَحَّ فِي الْخَبَرِ: أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يُحْشُرُونَ غُرْلًا، فَلَا شَكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ إِعَادَةِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ مِنَ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، كَالْأَظْفَارِ الْمَقْلُوعَةِ، وَالشُّعُورِ الْمَحْلُوقَةِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ تَصْمِيمًا لِكَلَامِ الشَّارِعِ، وَتَحْقِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ، وَحُصُولُ هَذَا كُلِّهِ فِي ذَرَّةٍ مِنَ الْمُحَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَنَفْيُهُ يُعْتَبَرُ فِي الْقَوَاعِدِ النَّقْلِيَّةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ دُخُولَ الْكُفَّارِ الْجَنَّةَ مِنَ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَقَعُ أَبَدًا كَوُجُودِ الْجَمَلِ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ الشَّيْخَ التُّورِبِشْتِيَّ عَدَلَ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لِلضَّرُورَةِ الْمُلْجِئَةِ لَهُ إِلَيْهِ، لَكِنْ يَأْبَاهُ مَا فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ بَقِيَّةُ الشُّرَّاحِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُهُمْ عِنْدَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ عَلَى أَكْمَلِ صُوَرِهِمْ، وَجَمْعُ أَجْزَائِهِمُ الْمَعْدُومَةِ تَحْقِيقًا لِوَصْفِ الْإِعَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، ثُمَّ فِي يَجْعَلُهُمْ فِي مَوْقِفِ الْجَزَاءِ عَلَى الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إِهَانَةً وَتَذْلِيلًا لَهُمْ جَزَاءً وِفَاقًا، أَوْ يَتَصَاغَرُونَ مِنَ الْهَيْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ الْحِسَابِ، وَظُهُورِ أَثَرِ الْعُقُوبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي لَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْجِبَالِ لَصَارَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَقَدْ ثَبَتَ تَبْدِيلُ صُوَرِ أَهْلِ جَهَنَّمَ عَلَى أَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَصُوَرٍ مُتَبَايِنَةٍ كَصُوَرِ الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْحَمِيرِ، بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِصِفَاتِهِمْ وَحَالَاتِهِمْ، وَقَدْ تَكْبُرُ جُثَّتُهُمْ حَتَّى يَكُونَ ضِرْسُ الْكَافِرِ كَجَبَلِ أُحُدٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَكَذَا تَغْيِيرُ صُوَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ السَّوَادِ إِلَى الْبَيَاضِ، وَمِنَ الْقِصَرِ إِلَى الطُّولِ الْمُعْتَدِلِ، وَمِنَ الْكِبَرِ إِلَى السَّنِّ الْمُتَوَسِّطِ، وَجَعْلِهِمْ جُرْدًا مُكَحَّلَيْنِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرْنَا أَنَّ تَبْدِيلَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ قَوْلَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ أَوْ عَلَى الْحَالِ الْبَيَانِيِّ (يُسَاقُونَ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ: يُسْحَبُونَ وَيُجَرُّونَ (إِلَى سِجْنٍ) أَيْ: مَكَانِ حَبْسٍ مُظْلِمٍ مُضَيَّقٍ مُنْقَطِعٍ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ (يُسَمَّى) أَيْ: ذَلِكَ السِّجْنُ (بَوْلَسُ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَفَتْحِ لَامٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: بَوْلَسُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ سِجْنُ جَهَنَّمَ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحِّدَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ شَارِحٌ: بِفَتْحِ الْمُوَحِّدَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا فَوْعَلُ مِنَ الْإِبْلَاسِ بِمَعْنَى الْيَأْسِ سُمِّيَ بِهِ لِيَأْسِ دَاخِلِهِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَفِي النِّهَايَةِ: فَكَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مُسَمًّى، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَبْطِهِ، فَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَصَاحِبُ الْقَامُوسِ أَوْلَى مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِمَا لِجَلَالَتِهِمَا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (تَعْلُوهُمْ) أَيْ: تُحِيطُ بِهِمْ وَتَغْشَاهُمْ كَالْمَاءِ يَعْلُو الْغَرِيقَ (نَارُ الْأَنْيَارِ) أَيْ: نَارُ النِّيرَانِ. قَالَ شَارِحٌ: أَنْيَارٌ جَمْعُ نَارٍ كَأَنْيَابٍ جَمْعٌ نَابٍ، وَفِيهِ أَنَّ النَّابَ يَائِيٌّ وَالنَّارَ وَاوِيٌّ، وَلِذَا لَمْ يُذْكَرْ أَنْيَارٌ فِي الْقَامُوسِ لِكَوْنِهِ شَاذًّا، وَالْقِيَاسُ الْأَنْوَارُ إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ الْأَنْيَارُ لِئَلَّا يُشْتَبَهُ بِجَمْعِ النُّورِ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِضَافَةُ النَّارِ إِلَيْهَا لِلْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ هَذِهِ النَّارَ لِفَرْطِ إِحْرَاقِهَا وَشِدَّةِ حَرِّهَا تَفْعَلُ بِسَائِرِ النِّيرَانِ مَا تَفْعَلُ النَّارُ بِغَيْرِهَا. أَقُولُ: أَوْ لِأَنَّهَا أَصْلُ نِيرَانِ الْعَالَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 12] وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَارُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ " عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: نَارُ الْأَنْيَارِ لَمْ أَجِدْهُ مَشْرُوحًا وَلَكِنْ هَكَذَا يُرْوَى، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ نَارَ النِّيرَانِ، فَجَمَعَ النَّارَ عَلَى أَنْيَارٍ، وَأَصْلُهَا أَنْوَارٌ، لِأَنَّهَا مِنَ الْوَاوِ، وَكَمَا جَاءَ فِي رِيحٍ وَعِيدٍ أَرْيَاحٌ وَأَعْيَادٌ وَهُمَا مِنَ الْوَاوِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُمَا وَتَوْجِيهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَخَافَةِ الِالْتِبَاسِ، فَإِنَّ الْأَعْوَادَ بِمَعْنَى الْأَخْشَابِ، وَالْأَرْوَاحَ جَمْعُ الرُّوحِ. (يُسْقَوْنَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِكْرَاهِ وَإِيمَاءٌ إِلَى زِيَادَةِ الْإِحْرَاقِ الْمُؤْثَرِ إِلَى بِطُونِهِمْ أَيْضًا (مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ) أَيْ: صَدِيدِهِمُ الْمُنْتِنِ الْمُحْمَى غَايَةِ الْحَرَارَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِحَمِيمٍ (طِينَةِ الْخَبَالِ) : تَفْسِيرٌ لِمَا قَبِلَهُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ بِمَعْنَى الْفَسَادِ. قَالَ شَارِحٌ: هُوَ اسْمُ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْهُمْ مَنِ الصَّدِيدِ وَالْقَيْحِ وَالدَّمِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُجَاءُ بِالْجَبَّارِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ رِجَالٌ فِي صُوَرِ الذَّرِ يَطَؤُهُمُ النَّاسُ مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى نَارِ الْأَنْيَارِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا نَارُ الْأَنْيَارِ؟ قَالَ: " عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْبُدُورِ السَّافِرَةِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ.

5113 - وَعَنْ عَطِيَّةَ بْنِ عُرْوَةَ السَّعْدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا يُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5113 - (وَعَنْ عَطِيَّةَ بْنِ عُرْوَةَ السَّعْدِيِّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى سَعْدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ» ) أَيْ: مِنْ أَثَرِ وَسْوَسَتِهِ (وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ) : قَالَ تَعَالَى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] ، وَقَالَ: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف: 12] ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ، وَمَعْنَى خَلْقِهِ مِنْهَا أَنَّ عُنْصُرَهُ النَّارِيَّ غَالِبٌ عَلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ، بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ (وَإِنَّمَا يُطْفَأُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَهْمُوزٌ أَيْ: يَدْفَعُ (النَّارُ) ، أَيْ: الْحِسِّيَّةَ (بِالْمَاءِ) أَيِ: الْحَقِيقِيِّ (فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ) أَيْ: وَاشْتَعَلَتْ نَارُ غَضَبِهِ مِنْ جَوْفِهِ، وَيُرِيدُ إِحْرَاقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ بِنَوْعٍ مِنْ عَذَابِهِ. (فَلْيَتَوَضَّأْ) : فَإِنَّ الْوُضُوءَ مُرَكَّبٌ

مَعْجُونٌ مِنَ الْمَاءِ الْحِسِّيِّ وَالْمُطَهِّرِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُؤَثِّرِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَهَذَا مِنْ طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي غَفَلُوا عَنْهُ الْحُكَمَاءُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَنْ حَقِيقَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ مِنَ الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ; فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَصَوَّرَ حَالَةَ الْغَضَبِ وَمَنْشَأَهُ، ثُمَّ الْإِرْشَادَ إِلَى تَسْكِينِهِ، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ هَذَا الْمَخْرَجَ لِيَكُونَ أَجْمَعَ وَأَنْفَعَ، وَلِلْمَوَانِعِ أَزْجَرَ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ عِلَاجٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجُرْزِيُّ فِي الْحِصْنِ، حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ غَضِبَ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُّ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنِّسَائِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " «إِذَا غَضِبَ الرَّجُلُ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ سَكَنَ غَضَبُهُ» " وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا عِلَاجٌ قَوْلِيٌّ سَهْلُ التَّنَازُلِ وَالْحُصُولِ، وَالْوُضُوءَ مُعَالَجَةٌ فِعْلِيَّةٌ صَعْبُ الْوُصُولِ، لَا سِيَّمَا وَالْوُضُوءُ مُقَدِّمَةٌ لِلصَّلَاةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْجُونِ الْمُسَهِّلِ الْمُخْرِجِ لِلْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَصْلِهَا، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الِاسْتِعَاذَةِ فَهَمٌّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِفْرَاغِ لِتَخْلِيَةِ الْمَعِدَةِ مِنْ آثَارِ التُّخَمَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنِ الْحَكِيمَ الْكَامِلَ يُدْرِجُ فِي الْمُعَالَجَةِ، وَيَعْلَمُ مِزَاجَ كُلِّ صَاحِبِ عِلَّةٍ بِمَا يُوَافِقُهُ، وَيُنَاسِبُهُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ الْمُفْرَدَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ وَأَنْوَاعِ الْغَضَبِ كَالْأَمْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ فَعَلَى الْعَلِيلِ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمًا وَيَجْعَلَ حِسَّهُ بَيْنَ يَدَيِ الطَّيِّبِ الْحَبِيبِ الْكَامِلِ كَالْمَيْتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ، وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ إِذَا أَحَسَّ بِالْغَضَبِ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِذَا رَأَى أَنَّهُ مَا يَزُولُ لَهُ يَقُومُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ دَوَاءُ صَبْرٍ كَرِيهٌ عَلَى الطَّبْعِ الشَّيْطَانِيِّ وَالْمِزَاجِ النَّفْسَانِيِّ، بَلْ هُوَ كَعُرُوقِ السُّوسِ يُخْرِجُ كُلَّ مَرَضٍ مَدْسُوسٍ. قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ.

5114 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5114 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ) أَيْ: ظَهَرَ أَثَرُ غَضَبِهِ عَلَى أَحَدٍ (وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ) : لِأَنَّ الْمُعَالَجَةَ بِالْأَضْدَادِ وَالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ تَقْتَضِي الْخِفَّةَ وَالتَّعْلِيَةَ الَّتِي مِنْ خَوَاصِّ النَّارِ وَالْقِيَامِ لِأَجْلِ الِانْتِقَامِ، فَمُخَالَفَتُهُ بِالْجُلُوسِ الْمُشِيرِ إِلَى الْقُعُودِ عَنِ الْفِتْنَةِ نَافِعَةٌ جِدًّا (فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ) أَيْ: أَثَرُ حَرَارَتِهِ وَقُوَّةُ مَرَارَتِهِ بِالْجُلُوسِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ بِهِ (فَلْيَضْطَجِعْ) : مُبَالَغَةٌ فِي الْمُعَالَجَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى رُجُوعِ الْإِسْنَادِ إِلَى مَأْخَذِهِ مِنَ التَّوْبَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلتَّوَاضُعِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ الشَّيْطَانِ بِمُقْتَضَى جِبِلَّيَّتِهِ مِنَ الشُّعْلَةِ النَّارِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكَبُّرِ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِهِ، هَذَا وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ مَا يَنْدَمُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُضْطَجِعَ أَبْعَدُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالْبَطْشِ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدَ مِنَ الْقَائِمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّوَاضُعَ وَالْخَفْضَ، لِأَنَّ الْغَصْبَ مَنْشَؤُهُ التَّكَبُّرُ وَالتَّرَفُّعُ. قُلْتُ: لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْبَعُ الْحِكَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الصَّنِيعُ مِنْهُ قَبْلَ الْوُضُوءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَذْهَبِ الْغَضَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

5115 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ، وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى، وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَى وَلَهَى، وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ - عَبْدٌ عَتَى وَطَغَى، وَنَسِيَ الْمُبْتَدَأَ وَالْمُنْتَهَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبَهَاتِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". وَقَالَا: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5115 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ) : بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهَا (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: بِئْسَ الْعَبْدُ) : لَمْ يُقِلْ بِئْسَ الرَّجُلُ أَوِ الْمَرْءُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَوْصَافَ الْآتِيَةَ لَيْسَتْ مِنْ

مُقْتَضَيَاتِ الْعَبْدِيَّةِ، وَلَا مِنْ نُعُوتِ الْعُبُودِيَّةِ (عَبْدٌ تَخَيَّلَ) أَيْ: تَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ (وَاخْتَالَ) أَيْ: تَمَايَلَ وَتَبَخْتَرَ مِنَ الْخُيَلَاءِ وَهُوَ الْكِبَرُ وَالْعُجْبُ بِالْجَاهِ وَالْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ. وَتَوَهَّمَ الْكَمَالَ، حَيْثُ يُخَيَّلُ لَهُ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى الْكَمَالِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: تَخَيَّلَ لَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ وَاحْتَالَ أَيْ: تَكَبَّرَ (وَنَسْيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ) : بِحَذْفِ الْيَاءِ مُرَاعَاةً لِلْفَاصِلَةِ وَهُوَ لُغَةٌ فِي الْمَنْقُوصِ الْمُعَرَّفِ، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] وَأَثْبَتَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْحَالَيْنِ، وَمَعْنَى الْكَبِيرِ عَلِيُّ الشَّأْنِ جَلِيُّ الْبُرْهَانِ، وَالْمُتَعَالِي أَيْ: عَنِ الْأَشْبَاهِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ أَيْ: نَسِيَ أَنَّ الْكِبْرِيَاءَ وَالتَّعَالِي لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ نَسِيَ مُحَاسَبَتَهُ وَمُعَاتَبَتَهُ وَمُعَاقَبَتَهُ فِي الْعُقْبَى، حَيْثُ لَمْ يُرَاعِ مُرَاقَبَتَهُ فِي الدُّنْيَا بِالتَّقْوَى (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ) أَيْ: قَهَرَ عَلَى الْمَظْلُومِينَ (وَاعْتَدَى) أَيْ: تَجَاوَزَ قَدْرَهُ وَمَا رَاعَى حُكْمَ رَبِّهِ وَأَمْرَهُ. (وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى) أَيِ: الْقَهَّارَ الَّذِي فَوْقَ عِبَادِهِ الْغَالِبَ عَلَى أَمْرِهِ (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَى وَلَهَى) : حَقُّهُمَا أَنْ يُكْتَبَا بِالْأَلْفِ لِأَنَّهُمَا وَاوِيَّانِ مَأْخُوذَانِ مِنَ السَّهْوِ وَاللَّهْوِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ بِالْيَاءِ، فَلَعَلَّهُ لِلْمُشَاكَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْفَوَاصِلِ السَّجْعِيَّةِ، وَمَعْنَى سَهَا أَيْ: صَارَ غَافِلًا عَنِ الْحَقِّ وَالطَّاعَةِ وَإِلَّا فَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَعَامَّةُ الصُّلَحَاءِ قَدْ سَهَوْا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُقِلْ فِي صَلَاتِهِمْ وَإِلَّا كَانَ لَهُمُ الْوَيْلُ كُلَّ الْوَيْلِ عَلَى الْكُلِّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ، وَلَهَا أَيِ: اشْتَغَلَ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] وَخُلَاصَتُهُمَا أَنَّهُ سَهَا عَنْ أُمُورِ الدِّينِ الرَّضِيَّةِ وَلَهَا بِأَمْرِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ (وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ) أَيْ: أَهْلَهَا بِالتَّذَكُّرِ وَالْعِبْرَةِ بِهِمْ أَوْ بِذِكْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الرَّحْمَةِ وَزِيَارَتِهِمْ، وَذِكْرُ الْمَقَابِرِ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَعْنَى أَيْ: نَسِيَ الْمَوْتَ بِعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَكَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، أَوْ نَسِيَ مَرْجِعَ الْأَحْيَاءِ مِنْ أَمَاكِنِ الْأَمْوَاتِ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْوَحْشَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالْغُرْبَةِ وَالضِّيقِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَعْسُرُ ضَبْطُهَا وَحَصْرُهَا. (وَالْبِلَى) : بِكَسْرِ الْمُوَحِّدَةِ وَهُوَ تَفَتُّتُ الْأَعْضَاءِ وَتَشَتُّتُ الْأَجْزَاءِ إِلَى أَنْ تَصِيرَ رَمِيمًا وَرُفَاتًا (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا) : مِنَ الْعُتُوِّ أَيْ: أَفْسَدَ (وَطَغَى) : مِنَ الطُّغْيَانِ أَيْ: تَجَاوَزَ عَنِ الْحَدِّ، وَقِيَامُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَأَتَى بِهِمَا تَأْكِيدًا أَوِ الثَّانِي تَفْسِيرًا وَأَتَى بِهِ لِلْفَاصِلَةِ (وَنَسِيَ الْمُبْتَدَأَ وَالْمُنْتَهَى) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ. قَالَ الْأَشْرَفُ أَيْ: نَسِيَ ابْتِدَاءَ خَلَقِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ نُطْفَةً وَانْتِهَاءَ حَالِهِ الَّذِي يَؤُولُ إِلَيْهِ وَهُوَ صَيْرُورَتُهُ تُرَابًا أَيْ: مَنْ كَانَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَهُ، وَيَكُونُ انْتِهَاؤُهُ، هَذَا جَدِيرٌ بِأَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمَا اللَّهُ أَيْ نَسِيَ الْذِي صَدَرَ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مِنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَاءِ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ فَتَرَكَ مُرَاعَاةَ أَمْرِهِ أَوَّلًا وَمُحَافَظَةَ نَهْيِهِ آخِرًا (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ) : بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ: يَطْلُبُ (الدُّنْيَا بِالدِّينِ) أَيْ: بِعَمَلِ الْآخِرَةِ مِنْ خَتَلَهُ إِذَا خَدَعَهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَخْدَعْ أَهْلَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الصُّلَحَاءِ لِيَعْتَقِدُوا فِيهِ، وَيَنَالَ مِنْهُمْ مَالًا أَوْ جَاهًا مِنْ خَتَلَ الذِّئْبُ لِصَيْدٍ خَدَعَهُ وَخَفَى لَهُ. قَالَ الْقَاضِي: خَتَلَ الصَّائِدُ إِذَا مَشَى الصَّيْدُ قَلِيلًا قَلِيلًا، لِئَلَّا يُحِسَّ بِهِ، شَبَّهَ فِعْلَ مَنْ يُرَى وَرِعًا وَدَيِّنًا لِيَتَوَسَّلَ إِلَى الْمَطَالِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِخَتْلِ الذِّئْبِ الصَّائِدَ. (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدَّيْنَ) أَيْ: يُفْسِدُهُ (بِالشُّبَهَاتِ) : بِضَمَّتَيْنِ وَبِفَتْحِ الثَّانِيَةِ (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ) أَيْ: لَهُ طَمَعٌ أَوْ ذُو طَمَعٍ، أَوْ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً، وَلَوْ قُرِئَ بِإِضَافَةِ الْعَبْدِ لَاسْتَقَامَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَقَوْلُهُ: (يَقُودُهُ) أَيْ: يَسْحَبُهُ الطَّمَعُ عَنْ وُجْهَةِ الْمَوْلَى إِلَى جِهَةِ السَّوِيِّ، وَمِنَ الْغَرَائِبِ مَا حُكِيَ عَنِ السَّيِّدِ الشَّاذِلِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ؟ فَقَالَ: هُوَ كَلِمَتَانِ: اطْرَحِ الْخَلْقَ عَنْ نَظَرِكَ، وَاقْطَعْ طَمَعَكَ عَنِ الْحَقِّ أَنْ يُعْطِيَكَ غَيْرَ مَا قَسَمَ لَكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حَدِيثُ الْقَنَاعَةِ مَالٌ لَا يَمُدُّ عَلَى مَا رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ عَنْ أَنَسٍ (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: كَأَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ الطَّمَعِ وَالْهَوَى اللَّازِمَيْنِ لِلْعَبْدِ وَشِدَّةِ اتْصَالِهِمَا بِهِ أَطْلَقَ نَفْسَ الطَّمَعِ وَالْهَوَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا قَائِمَيْنِ بِهِ، وَتَقْدِيرُهُ ذُو طَمَعٍ يَقُودُهُ وَذُو هَوًى يُضِلُّهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ (طَمَعٌ) فَاعِلُ (يَقُودُهُ) (وَهَوًى) فَاعِلُ (يُضِلُّهُ) مُقَدَّمَيْنِ عَلَى فِعْلِهِمَا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

صَدَدْتَ فَأَطْوَلْتَ الصُّدُودَ وَقَلَّمَا ... وِصَالٌ عَلَى طُولِ الصُّدُودِ يَدُومُ أَيْ: قَلَّمَا يَدُومُ وِصَالٌ عَلَى الصُّدُودِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَجْهُ الثَّانِي أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ وَصْفُ الْوَصْفِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَقُودُهُ عَلَى هَذَا صِفَةُ طَمَعٍ وَهُوَ صِفَةُ عَبْدٍ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ (طَمَعٌ) مُبْتَدَأً (وَيَقُودُهُ) خَبَرَهُ أَيْ: طَمَعٌ عَظِيمٌ يَقُودُهُ، نَحْوَ: شَرٌّ أَهِرٌّ ذَا نَابٍ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ عَبْدٍ. قُلْتُ: هَذَا مُرَاعَاةٌ لِلْمَبْنَى وَغَفْلَةٌ عَنِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الذَّمَّ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مُطْلَقِ الطَّمَعِ الَّذِي يَقُودُهُ إِلَى الْهَوَى، وَكَذَا حُكْمُ الْهَوَى عَلَى مَا لَا يَخْفَى. (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَبِفَتَحَاتٍ فَفِي الْقَامُوسِ: رَغِبَ فِيهِ كَسَمِعَ رَغَبًا وَيُضَمُّ وَرَغْبَةً أَرَادَهُ، وَإِلَيْهِ رَغْبَةٌ مُحَرِّكَةٌ. وَفِي الْمَشَارِقِ الرَّغْبِ بِسُكُونِ الْغَيْنِ وَفَتْحِهَا وَبِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْقَاضِي كَمَا سَيَأْتِي، وَهُوَ يُؤَيِّدُ جَوَازَ كَوْنِهَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الْوَصْفَيْنِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الشَّرَهُ وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الرُّغْبُ سِعَةُ الْأَمَلِ وَطَلَبُ الْكَثِيرِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِ الرَّاءِ بِمَعْنَى الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ: (يُذِلُّهُ) أَيْ: يَجْعَلُهُ ذَلِيلًا. قَالَ الْإِمَامُ التُّورِبِشْتِيُّ: الرِّوَايَةُ عِنْدِي بِفَتْحِ الْغَيْنِ أَيْ: مَذَلَّةَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الرُّغْبُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ الشَّرَهُ، يُقَالُ: الرُّغْبُ شُؤْمٌ، وَلَعَلَّ الْأَصْلَ فِيهِ السِّعَةُ يُقَالُ: جَوْفٌ رَغِيبٌ أَيْ: وَاسِعٌ، فَكُنِّيَ بِهِ عَنِ الْحِرْصِ وَالشَّرَهِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وُفِي الْقَامُوسُ: الرُّغُبُ بِضَمٍّ وَبِضَمَّتَيْنِ كَثْرَةُ الْأَكْلِ وَشِدَّةُ النَّهَمِ، وَفِعْلُهُ كَكَرُمَ فَهُوَ رَغِيبٌ كَكَرِيمٍ. قَالَ الْقَاضِي: لِإِضَافَةِ الْعَبْدِ لِلْإِهَانَةِ كَقَوْلِهِمْ: عَبُدُ الْبَطْنِ لِأَنَّ مَجَامِعَ هَمَّتِهُ وَاجْتِهَادِهِ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ عَائِدَةٌ إِلَيْهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَكْرَارَ جُمْلَةِ الذَّمِّ فِي صَدْرِ الْجَمَلِ الْمَذْكُورَةِ وَالنُّعُوتِ الْمَسْطُورَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ مُسْتَقِلَّةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَمِّ فَاعِلِهَا، وَأَنَّ مُرَاعَاةَ السَّجْعِ. مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ الطَّبْعِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ فِي الشَّرْعِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ هَاشِمِ بْنِ سَعِيدٍ الْكُوفِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ وَقَالَ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَدْ وُجِدَ لِهَذَا الْحَدِيثِ مُتَابِعٌ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّازٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَلَا شَكَ أَنَّ كَثْرَةَ الطُّرُقِ تُقَوِّي الضَّعِيفَ وَتَجْعَلُهُ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، وَبِهِ يُتْمُ الْمَقْصُودُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا) أَيْ: مَعَ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ الْغَرَابَةَ لَا تُنَافِي الصِّحَّةَ، وَالْحُسْنُ غَايَتُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَهُوَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ اتِّفَاقًا، فَفِي الْمَوَاعِظِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِالْأَوْلَى.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5116 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5116 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ أَفْضَلَ) أَيْ: تَجَرُّعًا أَفْضَلَ (عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُ) : بِكَسْرِ الظَّاءِ أَيْ: يَبْلَعُهَا وَيَمْنَعُهَا مِنْ إِظْهَارِهَا مَعَ كَثْرَتِهَا وَمَلْءِ بَاطِنِهِ مِنْهَا مِنْ كَظَمَ الْقِرْبَةَ مَلَأَهَا وَشَدَّ فَمَهَا عَلَى مَا فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ الْجَامِعِ: (كَظَمَهَا) بِصِيغَةِ الْمَاضِي (ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ: طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ وَلَا لِعَجْزٍ عَنْ إِمْضَائِهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ.

5117 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] قَالَ: الصَّبْرُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا عَصَمَهُمُ اللَّهُ وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ قَرِيبٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5117 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْفَعْ) أَيِ: السَّيِّئَةَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ} [فصلت: 34] (بِالَّتِي) أَيْ: بِالْخَصْلَةِ الَّتِي (هِيَ أَحْسَنُ) فِيهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ حَيْثُ عَدَلَ عَنِ الْحَسَنَةِ إِلَى الْأَحْسَنِ مَعَ الرُّخْصَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] أَمِ الْمُرَادُ أَنَّهَا أَحْسَنُ مِنْ مُجَازَاةِ السَّيِّئَةِ بِالسَّيِّئَةِ، فَإِنَّهَا أَحْسَنُ، لِأَنَّهَا سُمِّيَتْ سَيِّئَةً فِي الْآيَةِ لِلْمُشَاكَلَةِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَحْسَنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا بَعْدَهَا: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36] فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا أَكْمَلُ الْأَخْلَاقِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْأَفْرَادِ الْبَشَرِيَّةِ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ بَيَانًا لِلْخَصْلَةِ (الصَّبْرُ عِنْدَ الْغَضَبِ) : قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ غَضَبُ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ سَيِّئَةٌ مِنْهُ فَيُقَابِلُهُ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ مِنْ مُجَازَاتِهِ بِالْغَضَبِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: اللَّهُ يَصْبِرُ عِنْدَ أَثَرِ ظُهُورِ الْغَضَبِ، فَإِنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ أَحْسَنُ مِنْ إِمْضَائِهِ (وَالْعَفْوُ) أَيْ: عَنِ الْمُسِيءِ (عِنْدَ الْإِسَاءَةِ) أَيْ: وَقْتَ تَحَقُّقِهَا وَالْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ أَفْرَادِ الْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَكَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَثَّلَ بِأَقَلِّ الْمَطْلُوبِ مِنَ السَّالِكِ وَإِلَّا فَالسَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ عَلَى الْمُجَازَاةِ بِأَحْسَنِ مَا يُتَصَوَّرُ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَتَقْبِيلِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَبِإِعْطَاءِ الْبِرِّ الْمَالِيِّ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَأَقَلُّ الْمَرَاتِبِ أَنْ يُحَلِّلَهُ وَيَدْعُوَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الْوَعْدُ لَهُ بِالشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا خَوَارِقُ عَادَاتٍ تَطْوِي بِسَاطَ كَرَامَاتٍ رُبَّمَا يَكُونُ تَحْتَهَا غُرُورٌ فِي بِدَايَاتٍ أَوْ نِهَايَاتٍ، وَلِذَا قَالُوا: الِاسْتِقَامَةُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ كَرَامَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ " «شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ» " فَقِيلَ لِمَا فِيهَا مِنْ آيَةِ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وَقِيلَ لِمَا فِيهَا مِنْ وَقَائِعِ الْأُمَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَإِذَا فَعَلُوا) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْمِثَالَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا (عَصَمَهُمُ اللَّهُ) أَيْ: حَفِظَهُمْ مِنَ الزَّيْغِ وَالتَّعَدِّي عَلَى أَحْبَابِهِمْ (وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ) أَيْ: حَيَاءً مِنْهُمْ وَرَجَعُوا عَنْ إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْهِمْ وَالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ (كَأَنَّهُ) أَيِ: الْعَدُوَّ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ (وَلِيٌّ) أَيْ: نَاصِرُهُمْ (حَمِيمٌ) : صَدِيقٌ يَهْتَمُّ لِأَمْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَيُحَمَّمُ بِحَرَّارَتِهِمْ وَحُرْقَتِهِمْ (قَرِيبٌ) أَيْ: ذُو قُرَابَةٍ مِنْهُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ تَقْلِبُ الْعَدَاوَةَ مَحَبَّةً، وَتَرَفَعُ الْأَخْلَاقَ الذَّمِيمَةَ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى أَنْ تَكُونَ (لَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا السَّيِّئَةُ) مَزِيدَةٌ وَالْمَعْنَى لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ، فَعَلَى هَذَا يُرَادُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الَّتِي هِيَ حَسَنَةٌ، فَوَضَعَ الْأَحْسَنَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الدَّفْعِ بِالْحَسَنَةِ، وَإِذَا لَمْ تَجْعَلْ لَا مَزِيدَةً يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ مُتَقَارِنَتَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا فَخُذْ بِالْحَسَنَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ أُخْتِهَا، فَإِذَا اعْتَرَضَتْكَ حَسَنَاتٌ، فَادْفَعْ بِهَا السَّيِّئَةَ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ بَعْضِ أَعْدَائِكَ، وَمِثَالُهُ رَجُلٌ أَسَاءَ إِلَيْكَ إِسَاءَةً، فَالْحَسَنَةُ أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُ، وَالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَيْهِ مَكَانَ إِسَاءَتِهِ إِلَيْكَ مِثْلَ أَنْ يَذُمَّكَ فَتَمْدَحَهُ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ انْقَلَبَ عَدُوُّكَ الْمَشَاقُّ مِثْلَ الْوَلِيِّ الْحَمِيمِ مُصَافَاةً لَكَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا) أَيْ: بِلَا إِسْنَادٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَا عَلَّقَهُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ضَعِيفٌ، وَمَا رَوَاهُ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ صَحِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5118 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْغَضَبَ لَيُفْسِدُ الْإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبِرُ الْعَسَلَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5118 - (وَعَنْ بَهْزٍ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ فَزَايٍ تَابِعِيٌّ (ابْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ) : تَابِعِيٌّ حَسَنُ الْحَدِيثِ (عَنْ جَدِّهِ) أَيْ: مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقَشِيرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْغَضَبَ لَيُفْسِدُ الْإِيمَانَ) أَيْ: كَمَالَهُ أَوْ نُورَهُ وَبَهَاءَهُ، وَقَدْ يَجُرُّ إِلَى بُطْلَانِهِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ كَذَلِكَ صَحَّ التَّشْبِيهُ بِقَوْلِهِ: (كَمَا يُفْسِدُ الصَّبِرُ الْعَسَلَ) : وَهُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَيُسَكَّنُ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الصَّبِرُ كَكَتِفٍ وَلَا يُسَكَّنُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ عُصَارَةُ شَجَرٍ مُرٍّ اهـ. وَأَمَّا كَسْرُ الصَّادِ وَسُكُونُ الْبَاءِ عَلَى مَا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، فَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: كَكَتِفٍ، فَإِنَّ الْكَتِفَ فِيهِ لُغَتَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5119 - «وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تَوَاضَعُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ، وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيمٌ، وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ، فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ، وَفِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ، حَتَّى لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5119 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ وَهُوَ) أَيْ: عُمَرُ (عَلَى الْمِنْبَرِ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حِفْظِ الْقَضِيَّةِ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَالْمَسْأَلَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِكَوْنِهِ فِي مَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) : وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ وَنَفْيِ تَوَهُّمِ الْخُصُوصِ (تَوَاضَعُوا) أَيْ: لِيَتَوَاضَعَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ وَيَتْرُكَ التَّكَبُّرَ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] وَالتَّعْبِيرُ بِالْأَذِلَّةِ لِلْإِشْعَارِ بِكَمَالِ التَّوَاضُعِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ» ) : هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَقَطْ رَوَاهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (فَهُوَ) : الْفَاءُ تَفْرِيعِيَّةٌ أَيْ: فَالْمُتَوَاضِعُ الْمَرْفُوعُ نَتِيجَتُهُ أَوْ عَلَامَتُهُ أَنَّهُ (فِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ) : أَوْ جَزَائِيَّةٌ وَتَقْدِيرِيَّةٌ، وَإِذَا رَفَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ حَقِيرٌ خَالٍ عَنِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ. (وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيمٌ) أَيْ: عَظِيمُ الْقَدْرِ جَلِيلُ الشَّأْنِ لِرَفْعِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي فِي نَفْسِي صَغِيرًا. وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَبِيرًا. (وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ، فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ، وَفِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ، حَتَّى) : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ صَغِيرٌ أَوْ بِحَاصِلِ الْمَجْمُوعِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ حَتَّى هَذِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ فَفِي الْمُغْنِي أَنَّ حَتَّى قَدْ تَكُونُ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ أَيْ: حَرْفًا يُبْتَدَأُ بَعْدَهُ الْجُمَلُ أَيْ: تُسْتَأْنَفُ فَيَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ كَقَوْلِ جَرِيرٍ: فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى دُخُولُ لَامِ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ: (لَهُوَ) أَيِ: الْمُتَكَبِّرُ الْمَوْضُوعُ، (أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ) أَيْ: أَذَلُّ وَأَحْقَرُ عَلَى النَّاسِ (مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ) : وَالتَّنْوِيعُ إِمَّا بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُتَكَبِّرِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ النَّاسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ جَزَائِيَّةٌ لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ يَعْنِي مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ هَضَمَ حَقَّهُ مِنْ نَفْسِهِ لِيَجْعَلَ نَفْسَهُ دُونَ مَنْزِلَتِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (فِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ) ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، الَّتِي هِيَ حَقُّهُ إِلَى مَا هِيَ أَرْفَعُ مِنْهَا وَيُعَظِّمُهُ عِنْدَ النَّاسِ وَبِعَكْسِهِ فِي الْقَرِينَةِ الْأُخْرَى، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَوَاضَعَ رَفَعَ اللَّهَ حِكْمَتَهُ، وَقَالَ: انْتَفِشْ نَفْسَكَ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ، وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَبِيرٌ، وَإِذَا بَطَرَ وَعَدَا طَوَرَهُ وَهَضَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ: اخْسَأْ أَخْسَأَكَ اللَّهُ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ، وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ، حَتَّى يَكُونَ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْخِنْزِيرِ.

5120 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ! مَنْ أَعَزُّ عِبَادِكَ عِنْدَكَ؟ قَالَ: مَنْ إِذَا قَدَرَ غَفَرَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5120 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ) : عَلَيْهِ السَّلَامُ: (يَا رَبِّ مَنْ أَعَزُّ عِبَادِكَ عِنْدَكَ؟ قَالَ: مَنْ إِذَا قَدَرَ غَفَرَ) : وَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَعَزَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الْجَمْعِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ الْعِنْدِيَّةِ هُوَ الَّذِي اخْتَارَ كَوْنَهُ أَذَلَّ فِي طَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الْعَبْدِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ وَالْعِبَادَةَ مَأْخُوذَانِ مِنْ طَرِيقٍ مُعَبَّدٍ أَيْ: مُذَلَّلٍ، وَقَدْ قَالُوا: الْعِبَادَةُ هِيَ أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَلِذَلِكَ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ الْغُفْرَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْعَفْوِ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْحِدَّةَ الْجَلَالِيَّةَ، لِيَحْصُلَ لَهُ الِاعْتِدَالُ كَمَا يَقْتَضِيهِ الْكَمَالُ، بَلْ يَنْبَغِي غَلَبَةُ نَعْتِ الْجَمَالِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ: ( «غَلَبَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» ) وَلِكَوْنِ الرَّحْمَةِ غَالِبَةً عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُصِفَ بِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَأُمَّتُهُ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، فَإِنَّ الرَّاحِمِينَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ عَلَى مَا سَبَقَ فِيهِ الْبَيَانَ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «مَنْ عَفَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْعُسْرَةِ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ.

5121 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5121 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ خَزَنَ) : بِفَتْحِ زَايٍ أَيْ: حَفِظَ (لِسَانَهُ) : قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَخْزُنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ ... فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: مَنْ سَتَرَ عُيُوبَ النَّاسِ وَكَتَمَهَا (سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ) أَيْ: عَيْبَهُ عَنِ النَّاسِ، أَوْ عَنِ الْحَفَظَةِ وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ (وَمَنْ كَفَّ) أَيْ: مَنَعَ (غَضَبَهُ) أَيْ: عَنِ النَّاسِ (كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ) أَيِ: الَّذِي أَثَّرَ غَضَبَهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : جَزَاءً وِفَاقًا. وَفِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ أَيْ: بِأَنْ لَمْ يُعَذِّبْهُ» فَتَوَافَقَ الْحَدِيثَانِ (وَمَنِ اعْتَذَرَ) : فِيمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ (إِلَى اللَّهِ) أَيْ: بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْعَجْزِ لَدَيْهِ (قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ) : ظَاهِرُ نَظَائِرِهِ أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ قَبِلَ عُذْرَ أَخِيهِ قَبَلَ اللَّهُ عُذْرَهُ، وَلَعَلَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الرُّوَاةِ أَوِ الْحِكْمَةُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا هُنَالِكَ.

5122 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ؟ فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِضَا وَالسُّخْطِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ. وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ: فَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5122 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثَلَاثٌ) أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (مُنْجِيَاتٌ) أَيْ: أَسْبَابُ نَجَاةٍ وَخَلَاصٍ (وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللَّهِ) أَيْ: خَوْفُهُ (فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالسُّخْطِ) أَيْ: لَا يُبَدِّلُ الْقَوْلَ الْحَقَّ لِأَجْلِ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ عَنْ أَحَدٍ أَوْ سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ عَلَى أَحَدٍ، (وَالْقَصْدُ) أَيِ: التَّوَسُّطُ فِي النَّفَقَةِ (فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ) أَيْ: فِي الْحَالَيْنِ بِالِاجْتِنَابِ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ: فَهَوًى) . أَيْ: لِلنَّفْسِ (مُتَّبَعٌ) : احْتِرَازٌ عَنْ مَتْرُوكٍ، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ مِنْ أَكْبُرِ الْمُنْجِيَاتِ كَمَا أَنَّ مُتَابَعَتَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْمُهْلِكَاتِ (وَشَحٌّ) أَيْ: بُخْلٌ (مُطَاعٌ) أَيْ: مُطَاوِعٌ لَهُ مَعْمُولٌ بِمُقْتَضَاهُ، فَقِيلَ: الشُّحُّ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَقِيلَ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ، وَقِيلَ الْعَمَلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ، وَقِيلَ الشُّحُّ مِمَّا فِي يَدِ غَيْرِكَ. وَالْبُخْلُ مِمَّا فِي يَدِكَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الشُّحَّ هُوَ الْبُخْلُ الْمَقْرُونُ بِالْحِرْصِ (وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) أَيْ: بِاسْتِحْسَانِ أَعْمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا أَوْ مَالِهَا وَجِمَالِهَا وَسَائِرِ مَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ كَمَالِهَا (وَهِيَ) أَيِ: الْخَصْلَةُ الْأَخِيرَةُ (أَشَدُّهُنَّ) أَيْ: أَعْظَمُهُنَّ وِزْرًا وَأَكْثَرُهُنَّ ضَرَرًا لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتُوبَ مِنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَمِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ، وَالْمُعْجَبُ مَغْرُورٌ وَمُزَيَّنٌ فَهُوَ مَحْبُوبٌ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمُبْتَدَعِ، فَإِنَّهُ قَلَّ أَنْ يَتُوبَ مِنْ بِدْعَتِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ الْمُعْجَبَ بِنَفْسِهِ مُتَّبِعٌ هَوَاهُ وَمِنْ هَوَى النَّفْسِ الشُّحُّ الْمُطَاعُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] حَيْثُ أَضَافَ الشُّحَّ إِلَى النَّفْسِ (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب الظلم]

[بَابُ الظُّلْمِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5123 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الظُّلْمُ ظُلْمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [21] بَابُ الظُّلْمِ قَالَ الرَّاغِبُ: الظُّلْمُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُخْتَصُّ لَهُ إِمَّا بِنُقْصَانٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ، وَإِمَّا بِعُدُولٍ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ مَكَانِهِ. وَقَالَ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْكَبِيرِ الْيَمَانِيُّ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ قَلْبَ عَبْدِهِ لِذَكَرِهِ وَفِكْرِهِ، فَمَنْ وَضَعَ فِيهِ غَيْرَهُ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ الْعَارِفُ ابْنُ الْفَارِضِ مُومِيًا إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْوَحْدَةِ وَالنُّبُوَّةِ أَوِ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ أَوِ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ: عَلَيْكَ بِهَا صَرْفًا وَإِنْ شِئْتَ مَزْجَهَا ... فَعَدْلُكَ عَنْ ظُلْمِ الْحَبِيبِ هُوَ الظُّلْمُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5123 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الظُّلْمُ) أَيْ: جِنْسُهُ الشَّامِلُ لِلْمُتَعَدِّي وَالْقَاصِرُ الصَّادِرُ مِنَ الْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ (ظُلُمَاتٌ) أَيْ: أَسْبَابُ ظُلْمَةٍ لِمُرْتَكِبِهِ أَوْ مُوجِبَاتُ شِدَّةٍ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَفْهُومُهِ أَنَّ

الْعَدْلَ بِأَنْوَاعِهِ أَنْوَارٌ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : لِأَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَكُونُ ظُلُمَاتٍ عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَهْتَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْعَى بِنُورٍ هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ إِيمَانِهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ تَعَالَى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالظُّلُمَاتِ هُنَا الشَّدَائِدُ، وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] أَيْ: شَدَائِدِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْأَنْكَالِ وَالْعُقُوبَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: عَلَى ظَاهِرِهِ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ ظُلُمَاتٌ هُنَا لَيْسَ مَجَازًا، بَلْ حَقِيقَةً، لَكِنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ حَمَلَ الْمُسَبِّبَ عَلَى السَّبَبِ، فَالْمُرَادُ ظُلُمَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ مُسَبَّبَةٌ عَنِ الظُّلْمِ. قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ الْقَاضِي بِالْحَقِيقَةِ الْمُقَابَلَةِ لِلْمَجَازِ الْمُفَسَّرِ بِالشِّدَّةِ نَظَرًا إِلَى جَوْهَرِ الْمَعْنَى مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ بِالْإِعْرَابِ وَالْمَبْنِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّدَائِدِ وَالْأَنْكَالِ أَنَّ الشَّدَائِدَ كَائِنَةٌ فِي الْعَرَصَاتِ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، وَالْأَنْكَالَ بَعْدَ الدُّخُولِ: قُلْتُ: فَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الدَّارُ الْآخِرَةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5124 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ " ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] » الْآيَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5124 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ) : مِنَ الْإِمْلَاءِ أَيْ: يُمْهِلُهُ وَيُؤَخِّرُهُ وَيُطَوِّلُ عُمْرَهُ حَتَّى يَكْثُرَ مِنْهُ الظُّلْمُ (حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) : مِنَ الْإِفْلَاتِ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ ضِيقٍ مَعَ فِرَارٍ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالْمَعْنَى ثُمَّ يَتْرُكُهُ، بَلْ أَخَذَهُ أَخْذًا شَدِيدًا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ قِيلَ: أَفْلَتَ الشَّيْءُ وَتَفَلَّتْ وَانْفَلَتَ بِمَعْنَى وَأَفْلَتَهُ غَيْرُهُ، فَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَمْ يَنْفَلِتْ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَمْ يُفْلِتْهُ مِنْهُ أَحَدٌ أَيْ: لَمْ يُخَلِّصْهُ. قُلْتُ: هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ، أَمَّا حَاصِلُ الْمَعْنَى أَوْ يُقَالُ بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ فِي الْحَالِ وَوَعِيدٌ لِلظَّالِمِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِالْإِمْهَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِضَادًا أَوْ أَبُو مُوسَى اسْتِشْهَادًا {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود: 102] أَيْ: أَهْلَهَا {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] الْآيَةَ أَيْ: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ كَمَا فِي نُسْخَةٍ بَدَلَ الْآيَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَرَأَ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

5125 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ: " لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ " ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى اجْتَازَ الْوَادِيَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5125 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مَرَّ) أَيْ: أَرَادَ الْمُرُورَ (بِالْحِجْرِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: دِيَارِ ثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ (قَالَ: لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أَيْ: بِالْكُفْرِ (إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ) أَيْ: لِئَلَّا يُصِيبَكُمْ أَوْ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ (مَا أَصَابَهُمْ) أَيْ: نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ أَيْ: مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ إِذَا شَدَّدَ عَلَيْهِ الْحِسَابَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يُصِيبَ مُنَافِقِيكُمْ عَيْنَ مَا أَصَابَهُمْ فَعَمَّمَ الْحُكْمَ بِالتَّخْوِيفِ تَسَتُّرًا عَلَيْهِمْ، (ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ مُبَالَغَةً مِنَ الْإِقْنَاعِ أَيْ: أَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ يَمِينًا وَشِمَالًا كَالْخَائِفِ لِئَلَّا يَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى مَسَاكِنِهِمْ، أَوْ جَعَلَ قِنَاعَهُ عَلَى رَأْسِهِ شِبْهَ الطَّيْلَسَانِ. (وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى اجْتَازَ الْوَادِي) أَيْ: تَجَاوَزَهُ أَيْ: قَطَعَ عَرْضَهُ وَخَرَجَ عَنْ حَدِّهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ لِيَقْتَدُوا بِهِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ تَأْكِيدًا فِي الْقَضِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْخَشْيَةِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَقَدْ قَالَ: " «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» " هَذَا مُجْمَلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ، فَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْحِجْرُ مَنَازِلُ ثَمُودَ، وَذَلِكَ فِي سَيْرِهِ إِلَى تَبُوكَ خَشِيَ عَلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يَجْتَازُوا عَلَى تِلْكَ الدِّيَارِ سَاهِينَ غَيْرَ مُتَّعِظِينَ بِمَا أَصَابَ أَهْلَ تِلْكَ الدِّيَارِ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِانْتِبَاهِ وَالِاعْتِبَارِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى عَنِ النَّهْيِ وَأَنْ يُصِيبَكُمْ نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ: مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَعْنَى لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالِ كَوْنِكُمْ بَاكِينَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ الدَّاخِلُ فِي دَارِ قَوْمٍ أُهْلِكُوا بِخَسْفٍ أَوْ عَذَابٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَاكِيًا إِمَّا شَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَإِمَّا خَوْفًا مِنْ حُلُولِ مِثْلِهَا بِهِ كَانَ قَاسِيَ الْقَلْبِ قَلِيلَ الْخُشُوعِ فَلَا يَأْمَنُ إِذَا كَانَ هَكَذَا أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمُ اهـ.

وَمَا أَصَابَ فِي قَوْلِهِ إِمَّا شَفَقَةً عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مَاءَهَا وَكَانُوا قَدْ خَمَّرُوا بِهِ عَجِينَهُمْ، فَأَمْرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهَا دَوَابَّهُمْ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنَازِلَ هَؤُلَاءِ لَا تُتَّخَذُ سَكَنًا وَوَطَنًا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ دُخُولِهَا إِلَّا مَعَ الْبُكَاءِ، فَالْمُتَوَطِّنُ يَكُونُ دَهْرُهُ بَاكِيًا. قُلْتُ: وَيُلَائِمُهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَاكِنَ لَهَا تَأْثِيرٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُكَّانِهَا مِحْنَةً وَمِنْحَةً كَمَا فِي الْأَزْمِنَةِ مِنْ مَوْسِمِ الطَّاعَاتِ وَسَاعَاتِ الْإِجَابَةِ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «أَنَّ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَبْغَضَهَا الْأَسْوَاقُ» ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ تَأْثِيرُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَخْبَارُ وَأَثَارُ الْأَبْرَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5126 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5126 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِفَتْحِ اسْمِ مَا أَخَذَهُ الظَّالِمُ أَوْ تَعَرَّضَ لَهُ (لِأَخِيهِ) أَيْ: فِي الدِّينِ (مِنْ عِرْضِهِ) : بَيَانٌ لِلْمَظْلِمَةِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ جَانِبِهِ الذِّي يَصُونُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَنَسَبِهِ وَحَسَبِهِ وَيَتَحَامَى أَنْ يَنْتَقِصَ (أَوْ شَيْءٍ) أَيْ: أَمْرٌ آخَرُ كَأَخْذِ مَالِهِ أَوِ الْمَنْعِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَوْ هُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (فَيَتَحَلَّلَهُ) أَيْ: فَلْيَطِبِ الظَّالِمُ حِلَّ مَا ذُكِرَ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْمَظْلُومِ فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ تَحَلَّلْتُهُ وَاسْتَحْلَلْتُهُ إِذَا سَأَلْتَهُ أَنْ يَجْعَلَكَ فِي حِلٍّ (الْيَوْمَ) أَيْ: فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: (قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ) أَيْ: لَا يُوجَدُ (دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ) : وَهُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِي التَّعْبِيرِ بِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ، وَلَوْ بَذَلَ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ فِي بَذْلِ مَظْلِمَتِهِ، لِأَنَّ أَخْذَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ الْيَوْمَ عَلَى التَّحَلُّلِ أَهْوَنُ مِنْ أَخْذِ الْحَسَنَاتِ أَوْ وَضْعِ السَّيِّئَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّحَلُّلِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ) أَيْ: بِأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا ظَالِمًا غَيْرَ مَعْفُوٍّ مِنْ مَظْلُومِهِ (أُخِذَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: عَمَلُهُ الصَّالِحُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ صَاحِبِهِ الظَّالِمِ عَلَى غَيْرِهِ (بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ) : وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ كَمِّيَّةٌ وَكَيْفِيَّةٌ مُفَوَّضٌ عِلْمُهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: إِنْ كَانَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ بَدَلَ مَظْلِمَتِهِ تَوَجَّهَ لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بَدَلَ مَظْلِمَتِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ إِلَخِ اهـ. (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ: لَمْ تُوجَدْ (لَهُ حَسَنَاتٌ) أَيْ: بَاقِيَةٌ أَوْ مُطْلَقًا (أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ) أَيِ: الْمَظْلُومِ (فَحُمِلَ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا أَيْ: فَوَضَعَ عَلَى الظَّالِمِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ نَفْسَ الْأَعْمَالِ بِأَنْ تَتَجَسَّمَ فَتَصِيرَ كَالْجَوَاهِرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا أَعَدَّ لَهُمَا مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ إِطْلَاقًا لِلسَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] لِأَنَّ الظَّالِمَ فِي الْحَقِيقَةِ مَجْزِيٌّ بِوِزْرِ ظُلْمِهِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ تَخْفِيفًا لَهُ وَتَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5127 - وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ ". قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: " إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5127 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَتَدْرُونَ) أَيْ: (أَتَعْلَمُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟) كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، فَعَلَى هَذَا السُّؤَالُ عَنْ وَصْفِ الْمُفْلِسِ لَا عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَجَابَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِهِ فِي قَوْلِهِ: شَتْمٌ وَأَكْلٌ وَقَذْفٌ، وَفِي مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ فِي الْمُفْلِسِ، وَهَذَا سُؤَالُ إِرْشَادٍ لَا اسْتِعْلَامٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ كَذَا وَكَذَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا الْمُفْلِسُ مَنِ الْمُفْلِسُ، بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ فِي جَوَابِ الصَّحَابَةِ، وَفِي كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا مِنَ التَّعْبِيرِ بِمَنْ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ أَصْحَابِهِ (الْمُفْلِسُ فِينَا) أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا (مَنْ لَا دِرْهَمَ) أَيْ: مِنْ نَقْدٍ (لَهُ) :

أَيْ: مِلْكًا (وَلَا مَتَاعَ) أَيْ: مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ النَّقْدُ وَيَتَمَتَّعُ بِهِ مِنَ الْأَقْمِشَةِ وَالْعِقَادِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْمَوَاشِي وَالْعَبِيدِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ أَجَابُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِ الدُّنْيَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ فِينَا وَغَفَلُوا عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ كَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ كَانَ وَاضِحًا عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَجَابُوهُ بِمَا أَجَابُوهُ. (فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ) أَيِ: الْحَقِيقِيُّ أَوِ الْمُفْلِسُ فِي الْآخِرَةِ (مِنْ أُمَّتِي) أَيْ: كُلِّ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي الدُّنْيَا بِالدِّرْهَمِ وَالْمَتَاعِ (مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ) أَيْ: مَقْبُولَاتٍ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: مَصْحُوبًا بِهَا (وَيَأْتِي) أَيْ: وَيَحْضُرُ أَيْضًا حَالَ كَوْنِهِ (قَدْ شَتَمَ هَذَا) أَيْ: وَقَعَ لَهُ شَتْمٌ لِأَحَدٍ (وَقَذَفَ هَذَا) أَيْ: بِالزِّنَا وَنَحْوَهُ (وَأَكَلَ مَالَ هَذَا) أَيْ: بِالْبَاطِلِ (وَسَفَكَ) أَيْ: أَرَاقَ (دَمَ هَذَا) أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ (وَضَرَبَ هَذَا) أَيْ: مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ أَوْ زِيَادَةٍ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَالْمَعْنَى مَنْ جَمَعَ بَيْنَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَهَذِهِ السَّيِّئَاتِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " وَلَكِنْ لَفْظُ الْمُفْلِسِ يُلَائِمُ كَثْرَةَ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِإِفْلَاسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَيُعْطَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (هَذَا) أَيِ: الْمَظْلُومُ (مِنْ حَسَنَاتِهِ) أَيْ: بَعْضِ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ (وَهَذَا) أَيْ: وَيُعْطِي الْمَظْلُومَ الْآخَرَ (مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُؤَدِّي (مَا عَلَيْهِ) أَيْ: مِنَ الْحُقُوقِ (أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ) أَيْ: مِنْ سَيِّئَاتِ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ (فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ) : أَوْ وُضِعَتْ عَلَى الظَّالِمِ (ثُمَّ طُرِحَ) أَيْ: أُلْقِيَ وَرُمِيَ (فِي النَّارِ) : وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا عَفْوَ وَلَا شَفَاعَةَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ يَرْضَى خَصْمُهُ بِمَا أَرَادَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعْنِي حَقِيقَةَ الْمُفْلِسِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ وَمَنْ قَلَّ مَالُهُ، فَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ مُفْلِسًا، وَلَيْسَ هَذَا حَقِيقَةَ الْمُفْلِسِ، لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَزُولُ وَيَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ وَرُبَّمَا انْقَطَعَ بِيَسَارٍ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْمُفْلِسِ، فَإِنَّهُ يَهْلَكَ مِنَ الْهَلَاكِ التَّامِّ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ الْمُبْتَدَعَةِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَهُوَ بَاطِلٌ وَجَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عُوقِبَ بِفِعْلِهِ وَوِزْرِهِ، فَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لِغُرَمَائِهِ، فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ خُصُومِهِ، فَوُضِعَتْ عَلَيْهِ، فَحَقِيقَةُ الْعُقُوبَةِ مُسَبَّبَةٌ عَنْ ظُلْمِهِ وَلَمْ يُعَاقَبْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُ. قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ ضَرُورَةِ قَضِيَّةِ الْعَدْلِ الثَّابِتِ لَهُ تَعَالَى بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ، فَإِنَّ الظَّالِمَ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ مِنْهَا وَغَلَبَتْ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَإِنْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ يَبْقَى حَقُّ الْمَظْلُومِ ضَائِعًا، وَإِنْ أُدْخِلَ النَّارَ يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] وَسَيَأْتِي أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مِمَّا لَا يُتْرَكُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا أَخْذَ الْحَسَنَاتِ وَإِمَّا وَضْعَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ خِفَّةُ مِيزَانِ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ فَيُعَذَّبُ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِسَبَبِ الْحَسَنَاتِ الْبَاقِيَةِ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ، وَإِلَّا بِبَرَكَةِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَهَذَا مِنَ الْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ الْمُؤَيِّدَةِ بِالشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ اللَّائِحَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5128 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ: " «اتَّقَوُا الظُّلْمَ» ". فِي " بَابِ الْإِنْفَاقِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5128 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُؤَدَّنَّ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّهَا فَقَوْلُهُ: (الْحُقُوقُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْأَوَّلِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الثَّانِي (إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَجَزَمَ شَارِحٌ وَقَالَ: هُوَ بِفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَالْحُقُوقُ أُقِيمَ مَقَامَ فَاعِلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اللَّامُ فِيهِ جَوَابٌ قَسَمُهُ مُقَدَّرٌ وَالدَّالُ فِيهِ مَضْمُومَةٌ، وَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ وَالْحُقُوقُ مَفْعُولُهُ، وَقِيلَ: الدَّالُ فِيهِ مَفْتُوحَةٌ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَالْحُقُوقُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، لَكِنْ هَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَظَهَرَ الْيَاءُ وَقَالَ: لَتُؤَدِّينَ اهـ. وَأَرَادَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ صِيغَةُ الْوَاحِدَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ اخْشَيْنَ وَاغْزُونَ وَارْمِينَ بِتَسْكِينِ اللَّامَاتِ وَفَتْحِهَا عَلَى طَبْقِ التَّثْنِيَةِ، كَمَا تَقُولُ: اخْشَيَا وَارْمِيَا وَاغْزُوَا عَلَى مَا حُقِّقَ فِي مَحَلِّهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. وَالْحُقُوقُ: مَرْفُوعٌ هَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَدُّ بِهَا، وَيَزْعُمُ بَعْضُهُمْ ضَمَّ الدَّالِّ وَنَصْبَ الْحُقُوقِ، الْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ صِحَّةَ الرِّوَايَةِ وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ صِحَّةُ الدِّرَايَةِ بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُ كَلَامَ الشَّيْخِ ضَبْطُ الْكَلِمَةِ بِفَتْحِ الدَّالِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَسَائِرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ حَيْثُ يُقَالُ فِي الْمُفْرَدِ الْمَجْهُولِ: لِيَضْرِبَنَّ بِفَتْحِ الْمُوَحِّدَةِ، وَقَدْ غَفَلَ الطِّيبِيُّ عَنْ هَذَا الْمَبْنَى، وَذَهَبَ إِلَى رِعَايَةِ الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ: إِنْ كَانَ الرَدُّ لِأَجْلِ الرِّوَايَةِ فَلَا مَقَالَ، وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ الدِّرَايَةَ، فَإِنَّ بَابَ التَّغْلِيبِ وَاسِعٌ، فَيَكُونُ قَدْ غَلَبَ الْعُقَلَاءُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: (حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ) : غَايَةً بِحَسَبِ التَّغْلِيبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] فَالضَّمِيرُ فِي يَذْرَؤُكُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأَنَاسِيِّ وَالْأَنْعَامِ عَلَى التَّغْلِيبِ اهـ. وَالْمَعْنَى يُكَثِّرُكُمْ مِنَ الذَّرْءِ وَهُوَ الْبَثُّ، وَقَوْلُهُ: (فِيهِ) أَيْ: فِي هَذَا التَّدْبِيرِ وَهُوَ جَعْلُ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَوَالُدٌ، فَإِنَّهُ كَانَ كَالْمَنْبَعِ لِلْبَثِّ وَالتَّكْثِيرِ ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَجَعَلَ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَشَبَّهَ التَّدْبِيرَ بِالْمَنْبَعِ، وَفِي الْإِتْقَانِ أَنَّ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِسَبَبِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا، وَهَذَا إِذَا أُرِيدَ بِالْجَلْحَاءِ وَالْقَرْنَاءِ الشَّاتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْجَلْحَاءِ الْفَقِيرُ أَوِ الْمَظْلُومُ وَبِالْقَرْنَاءِ الْغَنِيُّ أَوِ الظَّالِمُ عَلَى مَا قِيلَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِكَابِ التَّغْلِيبِ وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، ثُمَّ الْجَلْحَاءُ بِجِيمٍ فَلَامٍ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجَلْحَاءُ بِالْمَدِّ هِيَ الْجَمَّاءُ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا، وَالْقَرْنَاءُ ضِدُّهَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِحَشْرِ الْبَهَائِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِعَادَتِهَا كَمَا يُعَادُ أَهْلُ التَّكْلِيفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَطَالِلِ وَالْمَجَانِينِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ، وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وَإِذَا وَرَدَ لَفْظُ الشَّرْعِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ قَالُوا: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ فِي الْقِيَامَةِ الْمُجَازَاةُ وَالْعِقَابُ وَالثَّوَابُ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ مِنَ الْقَرْنَاءِ لِلْجَلْحَاءِ، فَلَيْسَ مِنْ قَصَاصِ التَّكْلِيفِ، بَلْ هُوَ قَصَاصُ مُقَابَلَةٍ اهـ. وَفِي كَوْنِهِ قَصَاصَ مُقَابَلَةٍ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، مَعَ أَنَّ قَصَاصَ الْمُقَابَلَةِ نَحْنُ مُكَلَّفُونَ بِهِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: لَوْ نَطَحَ شَاةٌ قَرْنَاءُ شَاةً جَلْحَاءَ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُؤْخَذُ الْقَرْنُ مِنَ الْقَرْنَاءِ وَيُعْطَى الْجَلْحَاءَ حَتَّى تَقْتَصَّ لِنَفْسِهَا مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: الشَّاةُ غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ، فَكَيْفَ يُقْتَصُّ مِنْهَا؟ قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَالٌ لِمَا يُرِيدُ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِعْلَامُ الْعِبَادِ بِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَضِيعُ، بَلْ يُقْتَصُّ حَقُّ الْمَظْلُومِ مِنَ الْمَظَالِمِ اهـ. وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ وَتَوْجِيهٌ مُسْتَحْسَنٌ إِلَّا أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْحِكْمَةِ بِالْغَرَضِ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ دَالَّةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ عَلَى كَمَالِ الْعَدَالَةِ بَيْنَ كَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الْحَيَوَانَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ التَّكْلِيفِ، فَكَيْفَ بِذَوِي الْعُقُولِ مِنَ الْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ؟ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ بِزِيَادَةِ تَنْطَحُهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَالتِّرْمِذِيُّ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ اتَّقَوُا الظُّلْمَ) : تَمَامُهُ: «فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقَوُا الشُّحَّ ; فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» (فِي بَابِ الْإِنْفَاقِ) أَيْ: مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا مِنَ الْمُؤَلِّفِ إِنْ كَانَ عَنْ تَكْرَارٍ أَسْقَطَهُ فَهُوَ اعْتِذَارٌ حَسَنٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ تَحْوِيلِ الْحَدِيثِ إِلَى بَابٍ أَنْسَبَ مِنْهُ فَهُوَ اعْتِرَاضٌ لَكِنْ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ شَامِلٌ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5129 - عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ. وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5129 - (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالْهَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ وَهَمْزَتُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ فَلَا يُقَالُ امْرَأَةٌ إِمَّعَةٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: هُوَ الَّذِي يُتَابِعُ كُلَّ نَاعِقٍ وَيَقُولُ لِكُلِّ أَحَدٍ: أَنَا مَعَكَ لِأَنَّهُ لَا رَأْيَ لَهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَوَزْنُهُ فِعَّلَةٌ كَدِيَّمَةٍ، وَلَا يَجُوزُ

الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّفَاتِ إِفْعَلَةٌ، وَهِيَ فِي الْأَسْمَاءِ أَيْضًا قَلِيلَةٌ، وَمَعْنَاهُ الْمُقَلِّدُ الَّذِي يَجْعَلُ دِينَهُ تَابِعًا لِدِينِ غَيْرِهِ بِلَا رِوَايَةٍ وَلَا تَحْصِيلِ بُرْهَانٍ اهـ. كَلَامُهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ الْمُجَرَّدِ حَتَّى فِي الْأَخْلَاقِ فَضْلًا عَنِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْكَلِمَةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِصِفَةٍ أَوِ اسْمٍ، بَلْ مَوْضُوعَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا بِأَنَّا مَعَكَ وَنَظِيرُهَا الْبَسْمَلَةُ وَالْحَيْعَلَةُ وَنَحْوَهُمَا. وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِمَّعُ كَهِلَّعٍ وَهِلَّعَةٍ وَيُفْتَحَانِ الرَّجُلُ يُتَابِعُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى رَأْيِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ، وَمُتَّبِعُ النَّاسِ إِلَى الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْعَى، وَالْمُحْقِبُ النَّاسَ دِينَهُ وَالْمُتَرَدِّدُ فِي غَيْرِ صَنْعَةٍ، وَمَنْ يَقُولُ: أَنَا مَعَ النَّاسِ، لَا يُقَالُ امْرَأَةٌ إِمَّعَةٌ أَوْ قَدْ يُقَالُ وَتَأَمَّعَ وَاسْتَأْمَعَ صَارَ إِمَّعَةً. وَقَالَ شَارِحٌ: الْإِمَّعُ وَالْإِمَّعَةُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الرَّجُلُ الَّذِي يَكُونُ لِضَعْفِ رَأْيِهِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ يَكُونُ مَعَ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، وَيُلَائِمُ أَرْبَ نَفْسِهِ وَمَا يَتَمَنَّاهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا الَّذِي يَقُولُ: أَنَا أَكُونُ مَعَ النَّاسِ كَمَا يَكُونُونَ مَعِي إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. قُلْتُ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُتَعَيَّنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (يَقُولُونَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمَّعَةَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَغَيْرُهُ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ هَذَا الْوَصْفَ يَقُولُونَ: (إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ) أَيْ: إِلَيْنَا أَوْ إِلَى غَيْرِنَا (أَحْسَنَّا) أَيْ: جَزَاءً أَوْ تَبَعًا لَهُمْ (وَإِنْ ظَلَمُوا) أَيْ: ظَلَمُونَا أَوْ ظَلَمُوا غَيْرَنَا فَكَذَلِكَ نَحْنُ (ظَلَمْنَا) : عَلَى وَفْقِ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: يَقُولُونَ إِلَخْ. بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِلْأَمَّعَةِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ وَإِنْ ظَلَمُوا أَنَا مُقَلِّدُ النَّاسِ فِي إِحْسَانِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَمُقْتَفِي أَثَرِهِمْ، (وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ) : أَمْرٌ مِنَ التَّوْطِينِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْجَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ أَيْ: عَزِّمُوا أَنْفُسِكُمْ عَلَى (إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا) أَيْ: فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا (وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا) : قَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: أَوْطَنَ الْأَرْضَ وَوَطَّنَهَا وَاسْتَوْطَنَهَا، وَمِنَ الْمَجَازِ وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى كَذَا فَتَوَطَّنَتْ قَالَ: وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُوَطِّنُ نَفْسَهُ ... عَلَى نَائِبَاتِ الدَّهْرِ حِينَ تَنُوبُ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَوْجِبُوا عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْإِحْسَانَ بِأَنْ تَجْعَلُوهَا وَطَنًا لِلْإِحْسَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا أَنْ تُحْسِنُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَطِّنُوا وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْ تُحْسِنُوا، وَالتَّقْدِيرُ: وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا لِأَنَّ عَدَمَ الظُّلْمِ إِحْسَانٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5130 - «وَعَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنِ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي. فَكَتَبَتْ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مَئُونَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ " وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5130 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ) أَيِ: ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ صَحَابِيَّانِ مَشْهُورَانِ (أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ) أَيْ: أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (أَنِ اكْتُبِي) : أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْكِتَابَةِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ (إِلَيَّ) أَيْ: مُرْسَلًا أَوْ مَوْصُولًا حَالٌ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ بَابٍ (وَلَا تُكْثِرِي) أَيْ: بِالْإِطْنَابِ، بَلْ أَوْجِزِي بِكَلَامٍ جَامِعٍ يَكُونُ فَصْلَ الْخِطَابِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلِ بَيْتِ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْحِكَمِ وَبَدَائِعَ الْكَلِمِ. (فَكَتَبَتْ: سَلَامٌ عَلَيْكَ) : وَاقْتَصَرَتْ عَلَى غَنِيمَةِ السَّلَامَةِ خَوْفَ السَّآمَةِ (أَمَّا بَعْدُ) أَيْ: بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ مَا بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ) أَيْ: مَنْ طَلَبَ رِضَاهُ فِي شَيْءٍ يَسْخَطُ النَّاسُ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ (كَفَاهُ اللَّهُ مَئُونَةَ النَّاسِ) أَيْ: وَمَئُونَةَ شَرِّهِمْ مِنَ الظُّلْمِ عَلَيْهِ وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ (وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ) : بِتَخْفِيفِ الْكَافِ أَيْ: خَلَّاهُ وَتَرَكَ نَصْرَهُ وَدَفَعَهُ (إِلَى النَّاسِ) : وَهَذَا وَصِيَّةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ. قَالَ الْمُظْهِرُ يَعْنِي إِذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ فِي فِعْلِهِ رِضَا اللَّهِ وَغَضَبَ النَّاسِ أَوْ عَكْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ الْأَوَّلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَدَفَعَ عَنْهُ شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ فَعَلَ الثَّانِي وَكَلَهَ إِلَى النَّاسِ يَعْنِي سَلَّطَ النَّاسَ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤْذُوهُ وَيَظْلِمُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ شَرَّهُمْ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَكَلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلَانٍ أَيْ: أَلْجَأْتُهُ إِلَيْهِ وَاعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْهِ. (وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ) : فَالْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ سَلَامِ الْمُلَاقَاةِ، وَالثَّانِي فِي مَرْتَبَةِ الْمُوَادَعَةِ أَوْ كَأَنَّهَا قَالَتْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوَّلًا وَآخِرًا أَوْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي تَكْرَارِ السَّلَامِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى تَأْكِيدِ طَلَبِ السَّلَامَةِ وَتَرْكِ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَلَامَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5131 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] . شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ ذَاكَ؟ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . وَفِي رِوَايَةٍ: " لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5131 - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ) : بِالتَّأْنِيثِ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهُ مِنْ فَاعِلِهِ آيَةً وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لَمْ يَخْلِطُوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] تَمَامُهُ: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام: 82] أَيْ: فِي الْآخِرَةِ {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] أَيْ: فِي الدُّنْيَا (شَقَّ ذَلِكَ) أَيْ: صَعُبَ ذَلِكَ الْكَلَامُ أَوِ الْحُكْمُ (عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ مُطْلَقُ الْمَعَاصِي كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ، لَا سِيَّمَا مِنَ التَّنْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ الْعُمُومَ (وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) أَيْ: ظُلْمًا قَاصِرًا أَوْ مُتَعَدِّيًا مَعَ أَنَّ الثَّانِي أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى ظُلْمِ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ ذَاكَ) أَيْ: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَا فَهِمْتُمْ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ: الظُّلْمُ (الشِّرْكُ) : فَفِي التَّنْكِيرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ أَيْ بِظُلْمٍ عَظِيمٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ) أَيْ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ (يَا بُنَيَّ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13] أَيْ: لَا تَخْلِطِ الْإِشْرَاكَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ: فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الْإِيمَانَ وَيَسْتَأْصِلُهُ وَلَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْإِيمَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَةِ، فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَهِمُوا خَلْطَ الْمَعْصِيَةِ بِالْإِيمَانِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُتَصَوَّرُ خَلْطُهُ بِهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ خَلْطَهُ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَيُشْرِكَ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، فَيَكُونُ إِيمَانًا لُغَوِيًّا لَا شَرْعِيًّا، وَإِلَّا فَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ نُعُوتِ النَّقْصِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ أَنَّهُ يَكُونُ جَمِيعُ الْكُفَّارِ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ حَقِيقَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِالْإِشْرَاكِ الصُّورِيِّ أَيْضًا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: ( «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكَ» ) . فَإِذَا تَأَمَّلْتَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الشِّرْكِ الْحَقِيقِيِّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذِ الْمُمْكِنُ بِجَنْبِ وَاجِبِ الْوُجُودِ كَالْمَعْدُومِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ هُوَ) أَيِ: الْأَمْرُ أَوِ الظُّلْمُ أَوِ الْحُكْمُ (كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ) أَيْ: إِلَخْ. قَالَ الطِّيبِيُّ فُهِمَ مِنْ مَعْنَى اللَّبْسِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظُّلْمِ الْمَعْصِيَةُ لِأَنَّ لَفْظَ اللَّبْسِ يَأْبَى أَنْ يُرَادَ بِهِ الشِّرْكُ، فَالْمَعْنَى لَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِمَعْصِيَةٍ تُفَسِّقُهُمْ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ ذَاكَ مَعْنَاهُ لَيْسَ كَمَا تَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّبْسَ يَقْتَضِي الْخَلْطَ وَلَا يُتَصَوَّرُ خَلْطُ الشِّرْكَ بِالْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُشْرِكُ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] قَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ شِرْكٌ وَإِيمَانٌ بِهِ، وَقِيلَ النِّفَاقُ لِبْسُ الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ بِالْكُفْرِ الْبَاطِنِ وَفِي الْآيَةِ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ فِيهَا الشِّرْكُ، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ اطِّلَاعٍ عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ فِي فُتُوحِ الْغَيْبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5132 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5132 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أَيِ: الْبَاهِلِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مِنْ شَرِّ النَّاسِ) : وَفِي الْجَامِعِ بِزِيَادَةٍ إِنَّ لِلتَّأْكِيدِ (مَنْزِلَةً) أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : قُيِّدَ بِهِ لِظُهُورِ الْأَمْرِ فِيهِ (عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ) أَيْ: ضَيَّعَهَا (بِدُنْيَا غَيْرِهِ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ.

5133 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الدَّوَاوِينُ ثَلَاثَةٌ: دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُهُ اللَّهُ: ظُلْمُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقْتَصَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ ظُلْمُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَذَاكَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ تَجَاوَزَ عَنْهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5133 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدَّوَاوِينُ) أَيْ: صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّوَاوِينِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الدِّيوَانُ الْجَرِيدَةُ مِنْ دُونِ الْكُتُبِ إِذَا جَمَعَهَا لِأَنَّهَا قِطَعٌ مِنَ الْقَرَاطِيسِ مَجْمُوعَةٌ. (دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ) أَيْ: لَا يَغْفِرُهُ وَلَا يَعْفُو عَنْهُ أَلْبَتَّةَ (الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) : وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكُفْرُ بِأَنْوَاعِهِ يَقُولُ اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] أَيْ: بِلَا تَوْبَةٍ أَوْ لَا يَغْفِرُ الْإِشْرَاكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُهُ اللَّهُ) أَيْ: بِلَا مُحَاسَبَةٍ وَلَا مُطَالَبَةٍ لَا مَحَالَةَ (ظُلْمُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقْتَصَّ) : مُتَعَلِّقٌ بِلَا يَتْرُكُهُ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ حَتَّى يَقْتَصَّ (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) : أَوْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى بَعْضِهِمْ بِإِرْضَاءِ خُصُومِهِمْ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاقْتِصَاصِ قَائِمٌ مَقَامَ الدِّيَةِ فِي الدُّنْيَا (وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: لَا يُبَالِي (بِهِ) : وَلَا يَرَى لَهُ وَزْنًا مِنَ الْعِبْءِ وَهُوَ الثِّقْلُ (ظُلْمُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ) : وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُوجِدُ حَقُّ عَبْدٍ إِلَّا وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ أَيْضًا، فَحُقُوقُ الْعِبَادِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْجِهَتَيْنِ وَالْجِهَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَدَدِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُخْرَى لِفَقْرِ الْعَبْدِ وَاسْتِغْنَائِهِ سُبْحَانَهُ (فَذَاكَ) : بِالْأَلْفِ دُونِ اللَّامِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقَرِيبِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ (إِلَى اللَّهِ) أَيْ: مُفَوَّضٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ (إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) أَيْ: بِقَدْرِ ذَنْبِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ (وَإِنْ شَاءَ تَجَاوَزَ عَنْهُ) أَيْ: غَفَرَهُ مَجَّانًا وَبِتَقْدِيرِنَا هَذَا يَنْدَفِعُ مَا يَرِدُ فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ حَيْثُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنَ التَّقْسِيمِ قَدْ يُنَافِيهِ آيَةُ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى لَا يَغْفِرُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ أَصْلًا، وَفِي الثَّانِيَةِ لَا يُتْرَكُ فَيُؤْذِنُ بِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ لَا يُهْمَلُ قَطْعًا إِمَّا بِأَنْ يَقْتَصَّ مِنْ خَصْمِهِ أَوْ يُرْضِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الثَّالِثَةِ لَا يَعْبَأُ لِيَشْعُرَ بِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَيَتْرُكَ حَقَّهُ كَرَمًا وَلُطْفًا.

5134 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حَقَّهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَعُ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5134 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ) أَيْ: وَلَوْ ذِمِّيًّا (فَإِنَّمَا يَسْأَلُ اللَّهَ حَقَّهُ) أَيْ: سُؤَالَ مُحَاسَبَةٍ وَمُطَالَبَةٍ (وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَعُ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ) أَيْ: بَلْ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ وَوَعْدُ صِدْقٍ وَفِعْلَهُ عَدْلٌ، ثُمَّ بَعْدَهُ فَضْلٌ.

5135 - وَعَنْ أَوْسِ بْنِ شُرَحْبِيلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيُقَوِّيَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5135 - (وَعَنْ أَوْسِ بْنِ شُرَحْبِيلَ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ رَاءٍ وَسُكُونِ مُهْمِلَةٌ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَتَرْكِ صَرْفٍ كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَلَمْ يُذَكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيُقَوِّيَهُ) : وَفِي الْجَامِعِ لِيُعِينَهُ (وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ) أَيْ: فِيهِ (فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَوْ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ الْمُقْتَضِي أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.

5136 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَلَى وَاللَّهِ، حَتَّى الْحُبَارَى لَتَمُوتُ فِي وَكْرِهَا هُزْلًا لِظُلْمِ الظَّالِمِ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5136 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ) : وَهَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] وَقَوْلُهُ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] وَكَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ فَهِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَسْرِي أَثَرُ ظُلْمِهِ إِلَّا إِلَى نَفْسِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ (فَقَالَ: بَلَى) أَيْ: بَلَى قَدْ يَضُرُّ غَيْرَهُ أَيْضًا، وَلَيْسَ يَنْحَصِرُ أَثَرُ ضَرَرِهِ عَلَى نَفْسِهِ (وَاللَّهِ حَتَّى) أَيْ: حَتَّى يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْمُسْتَأْنَسِ وَغَيْرِهِ حَتَّى (الْحُبَارَى) : بِضَمِّ الْحَاءِ طَيْرٌ مَشْهُورٌ (لَتَمُوتُ فِي وَكْرِهَا) أَيْ: بَيْتِهَا وَعُشِّهَا (هُزْلًا) : بِضَمِّ هَاءٍ وَسُكُونِ زَايٍ نَقِيضَ السِّمَنِ (لِظُلْمِ الظَّالِمِ) أَيْ: لِأَجْلِ ظُلْمِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وَيُمْهِلُ عَنْ بَعْضٍ وَلَا يُهْمِلُ حَقَّ الْمَظْلُومِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61] الْآيَةَ. وَفِي النِّهَايَةِ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْبِسُ الْقَطْرَ عَنِ الْحُبَارَى بِشُؤْمِ ذُنُوبِ الظَّالِمِ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ الطَّيْرِ نُجْعَةً أَيْ: طَبْعًا لِلْكَلَأِ النَّاشِئِ مِنَ الْغَيْثِ، فَرُبَّمَا تُذْبَحُ بِالْبَصْرَةِ، وَيُوجَدُ فِي حَوْصَلَتِهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ وَمَبِيتِهَا مَسِيرَةَ أَيَّامٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: بَلَى إِيجَابٌ لِمَا نُفِيَ قَبْلَهُ وَهَهُنَا وَقَعَتْ جَوَابًا لِلْمَنْبَتِ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ لَا يَضُرُّ غَيْرَهُ. فَقَالَ: بَلَى يَضُرُّ غَيْرَهُ حَتَّى يَضُرَّ الْحُبَارَى (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَيْضًا عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ وَلَفْظُهُ: " «الدَّوَاوِينُ ثَلَاثَةٌ فَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكَ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، أَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أَوْ صَلَاةٍ تَرَكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ وَيَتَجَاوَزُ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَمَظَالِمُ لِلْعِبَادِ بَيْنَهُمُ، الْقَصَاصُ لَا مَحَالَةَ» . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: فَقَدْ أَخْرَجَهُ سَمُّوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ: " «إِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا حِجَابٌ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو لَيْلَى فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ: " «اتَّقَوْا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ; فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا رَادٌّ وَلَا حِجَابٌ» " رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ: " «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ; فَإِنَّهَا تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ كَأَنَّهَا شَرَارَةٌ» " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَفْظُهُ: " «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ; فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» ". وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَوْسِ بْنِ شُرَحْبِيلَ أَيْضًا.

[باب الأمر بالمعروف]

[بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ]

(22) بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5137 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 22 - بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَعْرُوفُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَكُلِّ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ أَيْ: أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهُ لَا يُنْكِرُونَهُ، وَالْمَعْرُوفُ النَّصَفَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّ ذَلِكَ جَمِيعِهِ اهـ. وَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَعُمُّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ: وَالْبَرْدَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5137 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ رَأَى) أَيْ: عَلِمَ (مِنْكُمْ مُنْكَرًا) أَيْ: فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ أَصَالَةً وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ تَبَعًا، وَفِي الْإِتْيَانِ بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ مَرَاتِبَ الْإِحْسَانِ وَتَفَاوُتِ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ: مَنْ أَبْصَرَ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ (فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) أَيْ: بِأَنْ يَمْنَعَهُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يَكْسِرَ الْآلَاتِ وَيُرِيقَ الْخَمْرَ وَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ إِلَى مَالِكِهِ، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أَيِ: التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ وَإِزَالَتَهُ بِالْفِعْلِ، لِكَوْنِ فَاعِلِهِ أَقْوَى مِنْهُ (فَبِلِسَانِهِ) أَيْ: فَلْيُغَيِّرْهُ بِالْقَوْلِ وَتِلَاوَةِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ الْوَعْظِ وَالتَّخْوِيفِ وَالنَّصِيحَةِ (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أَيِ: التَّغْيِيرَ بِاللِّسَانِ أَيْضًا (فَبِقَلْبِهِ) : بِأَنْ لَا يَرْضَى بِهِ وَيُنْكِرَ فِي بَاطِنِهِ عَلَى مُتَعَاطِيهِ، فَيَكُونُ تَغْيِيرًا مَعْنَوِيًّا إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ لَا يُتَصَوَّرُ بِالْقَلْبِ، فَيَكُونُ التَّرْكِيبُ مِنْ بَابِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] (وَذَلِكَ) أَيِ: الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ (أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) أَيْ: شُعَبِهِ أَوْ خِصَالِ أَهْلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَقَلُّهَا ثَمَرَةً، فَمَنْ غَيَّرَ الْمَرَاتِبَ مَعَ الْقُدْرَةِ كَانَ عَاصِيًا، وَمَنْ تَرَكَهَا بِلَا قُدْرَةٍ أَوْ يَرَى الْمَفْسَدَةَ أَكْثَرَ وَيُكَرِّرُ مُنْكِرًا لِقَلْبِهِ، فَهُوَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَضْعَفُ زَمَنِ الْإِيمَانِ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيمَانُ أَهْلِ زَمَانِهِ قَوِيًّا لَقَدَرَ عَلَى الْإِنْكَارِ الْقَوْلِيِّ أَوِ الْفِعْلِيِّ، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِنْكَارِ الْقَلْبِيِّ، أَوْ ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُنْكِرُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ أَضْعَفُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَوِيًّا صُلْبًا فِي الدِّينِ لَمَا اكْتَفَى بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: " «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: الْأَمْرُ الْأَوَّلُ لِلْأُمَرَاءِ، وَالثَّانِي لِلْعُلَمَاءِ، وَالثَّالِثُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنْكَارُ الْمَعْصِيَةِ بِالْقَلْبِ أَضْعَفُ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ وَلَمْ يَكْرَهْهُ، وَرَضِيَ بِهِ وَاسْتَحْسَنَهُ كَانَ كَافِرًا، وَلَعَلَّ الْإِطْلَاقَ الدَّالَّ عَلَى الْعُمُومِ لِإِفَادَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَمَا تَأْوِيلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَضْعَفُ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِنْكَارِ بِالْقَلْبِ مِنْهَا. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْإِيمَانِ لِانْتِفَائِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ

ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ. قُلْتُ: أَرَادَ بِهِ أَنَّ الثَّمَرَاتِ الْقَوِيَّةَ وَالضَّعِيفَةَ إِذَا انْتَفَتْ كَانَ الْإِيمَانُ كَالْمَعْدُومِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْحَدِيثُ دَلِيلًا لِلْخَصْمِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَوْ مِنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ، لَا يُقَالُ هَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَإِنَّا نَقُولُ: الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ، هَلْ هُوَ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ أَمْ لَا؟ بَلِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ وَجَوْهَرَهُ لَا يَتَجَزَّأُ، أَوْ إِنَّمَا كَمَالُهُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ وُجُودُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ عَطَفَ الْأَعْمَالَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ، وَأَمَّا كَوْنُ الْأَعْمَالِ جُزْءَ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً، فَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِمَّا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى تَعَدُّدِ الْمُؤْمِنِ بِهِ، وَهَذَا بَحْثٌ طَوِيلُ الذَّيْلِ مَحَلُّهُ كُتُبُ الْعَقَائِدِ وَمَبَاحِثُ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُنْكَرُ حَرَامًا وَجَبَ الزَّجْرُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ مَكْرُوهًا نُدِبَ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ أَيْضًا تَبَعٌ لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَإِنْ وَجَبَ فَوَاجِبٌ، وَإِنْ نُدِبَ فَمَنْدُوبٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ شَامِلٌ لَهُ، إِذِ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَضِدُّ الْمَنْهِيِّ إِمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ وَالْكُلُّ مَعْرُوفٌ، وَشَرْطُهُمَا أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى الْفِتْنَةِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَأَنْ يُظَنَّ قَبُولُهُ، فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ فَيُسْتَحْسَنُ إِظْهَارُ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَفْظُ مَنْ لِعُمُومِهِ شَمِلَ كُلَّ أَحَدٍ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، عَبْدًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا إِذَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَقْبَحُ ذَلِكَ فِي الْفَاسِقِ قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وَأَنْشَدَ: وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهْوَ مَرِيضُ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلَهُ: " فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ " هُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ، وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَهِيَ أَيْضًا مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدَّيْنُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ الرَّوَافِضِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي: لَا نَكْتَرِثُ بِخِلَافِهِمْ، وَوُجُوبُهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَفَعَلَهُ وَلَمْ يَمْتَثِلِ الْمُخَاطَبُ، فَلَا عَتْبَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَتَرَكَهُ بِلَا عُذْرٍ أَثِمَ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ كَمَا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ إِلَّا هُوَ، أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَتِهِ إِلَّا هُوَ، وَكَمَنَ يَرَى زَوْجَتَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ غُلَامَهُ عَلَى مُنْكَرٍ. قَالُوا: وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ لِظَنِّهِ أَنْ لَا يُفِيدَ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْحَالِ مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ شَيْئَانِ أَنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ وَيَنْهَاهَا وَيَأْمُرَ غَيْرَهُ وَيَنْهَاهُ، فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا كَيْفَ يُبَاحُ لَهُ الْإِخْلَالُ بِالْآخَرِ؟ قَالُوا: وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ عَلَى آحَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا يَأْمُرُونَ الْوُلَاةَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ تَقْرِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ وَتَرْكِ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى التَّشَاغُلِ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّيْءِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالزِّنَا وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَالِمٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مُدْخَلٌ فِيهِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ عَلَى ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ، لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ كُلَّ مُجْتَهِدٍ نَصِيبٌ، وَيَنْبَغِي لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَرْفُقَ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ هَذَا الْبَابَ بَابٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ بِهِ قِوَامُ الْأَمْرِ وَمِلَاكُهُ، فَإِذَا فَسَدَ عَمَّ الْعِقَابُ الصَّالِحَ وَالظَّالِمَ. قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

5138 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَثَلُ الْمُدَاهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُّوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا، وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا، فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِهِ وَلَا بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ. فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5138 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ الْمُدَاهِنِ) أَيِ: الْمُدَاهِنُ الْمُتَسَاهِلُ (فِي حُدُودِ اللَّهِ) أَيْ: تَرَكَ الْقِيَامَ لِإِقَامَتِهَا، أَوْ بِالنَّهْيِ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوجِبُ الْحُدُودَ، وَلَعَلَّ التَّخْصِيصَ لِلِاعْتِنَاءِ أَوْ لِأَنَّ ضَرَرَهَا قَدْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحُدُودِ مُطْلَقُ الْمَعَاصِي، فَذَكَرَ الْحُدُودَ لِتَغْلِيبِ الْأَقْوَى، أَوْ لِأَنَّ حَدَّ كُلِّ مَعْصِيَةٍ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ، (وَالْوَاقِعِ فِيهَا) أَيْ: وَمَثَلُ الْفَاعِلِ لِلْمَنَاهِي وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْوَاقِعِ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ كَأَنَّهُ طَارِحٌ مِنْ عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي هَوَى بِئْرٍ عَمِيقٍ وَمَكَانٍ سَحِيقٍ. (مَثَلُ قَوْمٍ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: كَمَثَلِ جَمْعٍ مُجْتَمِعٍ مِنَ الصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ (اسْتَهَمُوا سَفِينَةً) أَيِ: اقْتَسَمُوا مَحَالَّهَا وَمَنَازِلَهَا بِالْقُرْعَةِ، وَهَذَا قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي جَمْعٍ خَاصٍّ مَلَكُوهَا بِالشَّرِكَةِ الْمُتَسَاوِيَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ الِاقْتِسَامُ بِحَسَبِ أَمْرِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ نَدْبُ الْقُرْعَةِ إِذَا تَشَاجَرُوا أَيْ: تَنَازَعُوا عَلَى الْجُلُوسِ فِي الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَذَلِكَ إِذَا نَزَلُوا فِيهَا جُمْلَةً أَمَّا إِذَا نَزَلُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَمَنْ سَبَقَ مِنْهُمْ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَصِحُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ السَّفِينَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ عَلَى الْحُجَّاجِ وَالْغُزَاةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، (فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا) أَيْ: مِنَ الْمَنَازِلِ (وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا) أَيْ: فِي الْمَجْلِسِ (فَكَانَ الَّذِي) أَيْ: وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا (فِي أَسْفَلِهَا) أَيْ: فِي الْبَعْضِ الَّذِي مُسْتَقِرٌّ فِي أَسْفَلِهَا، فَأَفْرَدَ الْمَوْصُولَ نَظَرًا إِلَى لَفْظَةِ الْبَعْضِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ الصُّلَحَاءَ فِي الْأُمَّةِ كَثِيرُونَ، وَأَنَّ الطُّلَحَاءَ قَلِيلُونَ مَغْلُوبُونَ مَقْهُورُونَ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الصَّالِحَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَهُوَ كَثِيرٌ كَبِيرٌ عَالٍ بِعُلُوِّ الدِّينِ، وَالْفَسَقَةَ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْقِلَّةِ وَمَنْزِلَةِ الذِّلَّةِ وَمَقَامِ أَسْفَلِ السَّافِلِينَ. (يَمُرُّ بِالْمَاءِ) أَيْ: بِسَبَبِهِ (عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ) أَيْ: فَتَأَذَّى مَنْ بِالْأَعْلَى بِمُرُورِهِ عَلَيْهِمْ، وَحَاصِلُهُ، أَنَّهُ يَجِيءُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا لِيَأْخُذَ الْمَاءَ وَيَذْهَبَ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَفِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ وَإِمْرَارِهِ بِالْمَاءِ عَلَيْهِمْ تَأَذَّوْا بِهِ بِحَيْثُ ظَهَرَ لَهُ، أَوْ أَظْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ أَوِ الْفِعْلِ الشَّنِيعِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ كِنَايَةً عَنِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَإِمْرَارِهِ لِطَرْحِهِ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُوجَدُ التَّأَذِّي أَكْثَرَ، وَوَجْهُ الْمُضَايَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ أَظْهَرُ خُصُوصًا إِذَا كَانَ أَهْلُ السُّفْلِ فُقَرَاءَ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى مُقْتَضَى طَالِعِهِمْ وَنَازِلِهِمْ فِي الْحَظِّ عَنْ مَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ صَوَّرَ مَحَلَّ الْأَوَّلِينَ أَعْلَى لَخُلُّوِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَجَعَلَ مُقَابِلَهُمْ أَسْفَلَ لِارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ، (فَأَخَذَ فَأْسًا بِإِبِطِهِ) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبَدِّلُ أَلِفًا (فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ (يَنْقُرُ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ: يَدُقُّ وَيَخْرُقُ وَيَقْطَعُ (أَسْفَلَ السَّفِينَةِ) أَيْ: مِنْ أَلْوَاحِهَا (فَأَتَوْهُ) أَيْ: فَجَاءَهُ أَهْلُ الْعَوَالِي (فَقَالُوا: مَا لَكَ؟) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ بَاعِثٍ لَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ (قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلَا بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ) أَيْ: مِنَ اسْتِعْمَالِهِ أَوْ طَرْحِهِ (فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ) أَيْ: مَنَعُوهُ. يُقَالُ: أَخَذْتُ عَلَى يَدِ فُلَانٍ إِذَا مَنَعْتَهُ عَمَّا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ، كَأَنَّكَ أَمْسَكْتَ يَدَهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (أَنْجَوْهُ) أَيْ: خَلَّصُوهُ (وَنَجَّوْا) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: وَخَلَّصُوا (أَنْفُسَهُمْ) أَيْضًا فَخَلَصُوا مِنَ الْهَلَاكَ جَمِيعًا، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَتَيْنِ (وَإِنْ تَرَكُوهُ) أَيْ: عَلَى فِعْلِهِ (أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَذَلِكَ إِنْ مَنَعَ النَّاسُ الْفَاسِقَ عَنِ الْفِسْقِ نَجَا وَنَجَوْا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ تَرَكُوهُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ وَهَلَكُوا بِشُؤْمِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] أَيْ: بَلْ تُصِيبُكُمْ عَامَّةً بِسَبَبِ مُدَاهَنَتِكُمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهِنَةِ الْمَنْهِيَّةِ وَالْمُدَارَاةِ الْمَأْمُورَةِ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يَرَى مُنْكَرًا وَيَقْدِرَ عَلَى دَفْعِهِ، وَلَمْ يَدْفَعْهُ حِفْظًا لِجَانِبِ مُرْتَكِبِهِ، أَوْ جَانِبِ غَيْرِهِ لِخَوْفٍ أَوْ طَمَعٍ، أَوْ لِاسْتِحْيَاءٍ مِنْهُ أَوْ قِلَّةِ مُبَالَاةٍ فِي الدِّينِ، وَالْمُدَارَاةُ مُوَافَقَتُهُ بِتَرْكِ حَظِّ نَفْسِهِ وَحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَعِرْضِهِ، فَيَسْكُتُ عَنْهُ دَفْعًا لِلشَّرِّ وَوُقُوعِ الضَّرَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَدَارِهِمْ مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ

وَحَاصِلُ الْمَعْنَى تَحْمُّلُ الْأَذَى مِنَ الْخَلْقِ رِضًا بِمَا قَضَى لَهُ الْحَقُّ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْبَاطِلِ مَعَ الْأَعْدَاءِ، وَالْمُدَارَاةُ فِي أَمْرِ حَقٍّ مَعَ الْأَحِبَّاءِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: شَبَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُدَاهِنَ فِي حُدُودِ اللَّهِ بِالَّذِي فِي أَعْلَى السَّفِينَةِ، وَشَبَّهَ الْوَاقِعَ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ بِالَّذِي فِي أَسْفَلِهَا، وَشَبَّهَ انْهِمَاكَهُمْ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ وَعَدَمَ تَرْكِهِ إِيَّاهَا بِنَقْرِهِ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، وَعَبَّرَ عَنْ نَهْيِ النَّاهِي الْوَاقِعِ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ بِالْأَخْذِ عَلَى يَدَيْهِ، وَبِمَنْعِهِ إِيَّاهُ عَنِ النَّقْرِ، وَعَبَّرَ عَنْ فَائِدَةِ ذَلِكَ الْمَنْعِ بِنَجَاةِ النَّاهِي وَالْمَنْهِيِّ، وَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ نَهْيِ النُّهَاةِ بِالتَّرْكَ، وَعَبَّرَ عَنِ الذَّنْبِ الْخَاصِّ لِلْمُدَاهِنِينَ الَّذِينَ مَا نَهَوُا الْوَاقِعَ فِي حُدُودِ اللَّهِ بِإِهْلَاكِهِمْ إِيَّاهُ وَأَنْفُسَهُمْ، وَكَأَنَّ السَّفِينَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ الْمُحِيطِ بِالْفَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا جَمَعَ فِرْقَةَ النُّهَاةِ إِرْشَادًا إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا بُدَّ وَأَنَّ يَتَعَاوَنُوا عَلَى أَمْثَالِ هَذَا النَّهْيِ، أَوْ إِلَى أَنَّ مَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ هَذَا النَّهْيُ فَهُوَ كَالْجَمْعِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وَأَفْرَدَ الْوَاقِعَ فِي حُدُودِ اللَّهِ لِأَدَائِهِ إِلَى ضِدِّ الْكَمَالِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5139 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ! مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5139 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) : صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُجَاءُ) أَيْ: يُؤْتَى (بِالرَّجُلِ) أَيِ: الْمُقَصِّرُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ) أَيْ: تَخْرُجُ سَرِيعًا (أَقْتَابُهُ) أَيْ: أَمْعَاؤُهُ (فَيَطْحَنُ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْ: يَدُورُ (فِيهَا) أَيْ: فِي أَقْتَابِهِ وَأَقْصَابِهِ (كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ) أَيْ: كَدَوَرَانِهِ حَوْلَ رَحَاهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: فَيَطْحَنُ فِيهَا هُوَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ. وَفِي فِيهَا لِلْأَمْعَاءِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ هُوَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: يَدُورُ وَيَتَرَدَّدُ فِي أَقْتَابِهِ، يَعْنِي يَدُورُ حَوْلَ أَقْتَابِهِ وَيَضْرِبُهَا بِرِجْلِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَيَدُورُ فِي النَّارِ وَمَا حَوْلَهَا، كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ أَيْ: فِي رَحَاهُ. (فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ) أَيْ: مِنَ الْفَسَقَةِ (فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ) : كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِهِ وَوَصْفِهِ بِالْعِلْمِ أَوِ الْمَشْيَخَةِ (مَا شَأْنُكَ؟) أَيْ: حَالُكَ الْغَرِيبُ وَمَآلُكَ الْعَجِيبُ (أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ (بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ) أَيْ: لَا أَفْعَلُهُ (وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5140 - عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ وَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5140 - (عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ» ) أَيْ: لِيُسْرِعَنَّ (اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ) أَيْ: لَتَسْأَلُنَّهُ (وَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ) : وَالْمَعْنَى: وَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ إِمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْكُمْ، وَإِمَّا إِنْزَالُ الْعَذَابِ مِنْ رَبِّكُمْ، ثُمَّ عَدَمُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْكُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: " «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ» ".

5141 - وَعَنِ الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5141 - (وَعَنِ الْعُرْسِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ (ابْنِ عَمِيرَةَ) : بِفَتْحِ عَيْنٍ وَكَسْرِ مِيمٍ وَبَرَاءٍ وَلَا يُعْرَفُ فِي الرِّجَالِ عُمَيْرَةَ بِالضَّمِّ، بَلْ كُلُّهُ بِالْفَتْحِ، كَذَا فِي الْمُغْنِي. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ كِنْدِيٌّ، رَوَى عَنْهُ عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ ابْنُ أَخِيهِ وَغَيْرُهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا فُعِلَتِ السَّيِّئَةُ (فِي الْأَرْضِ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَمِيعًا (مَنْ شَهِدَهَا) : جَوَابُ الشَّرْطِ وَالْفَاءُ مَحْذُوفَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُ الْفَاءِ فِيهِ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ بِلَفْظِ الْمَاضِي. ذَكَرَهُ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمَعْنَى مَنْ حَضَرَهَا، (فَكَرِهَهَا) أَيْ: فَأَنْكَرَهَا وَلَوْ بِقَلْبِهِ (كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا) أَيْ: وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا (وَمَنْ غَابَ عَنْهَا) أَيْ: وَعَلِمَ بِهَا (فَرَضِيَهَا) أَيْ: فَرَضِيَ بِهَا وَاسْتَحْسَنَهَا (كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا) أَيْ: وَلَمْ يُنْكِرْهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ: إِذَا عَمَلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا. الْحَدِيثَ.

5142 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: " «إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» ". وَفِي أُخْرَى لَهُ: " «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» ". وَفِي أُخْرَى لَهُ: " «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي أَكْثَرَ مِمَنْ يَعْمَلُهُ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5142 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] أَيِ: الْزَمُوا حِفْظَ أَنْفُسِكُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، فَإِذَا حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ لَمْ يَضُرَّكُمْ إِذَا عَجَزْتُمْ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ بِارْتِكَابِ الْمَنَاهِي إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اجْتِنَابِهَا (فَإِنِّي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فَصِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَجْرُونَ عَلَى عُمُومِهَا، وَتَمْتَنِعُونَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنِّي (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ) أَيْ: مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَارِهِ (يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا قُلْتُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ أُمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنُهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَبَوُا الْقَبُولَ كُلَّ الْإِبَاءِ، فَذَهَبَتْ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وَمَا كُلِّفْتُمْ مِنْ إِصْلَاحِهَا، وَالْمَشْيَ بِهَا فِي طُرُقِ الْهُدَى، لَا يَضُرُّكُمُ الضَّلَالُ فِي دِينِكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مُهْتَدِينَ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء: 61] وَهَذَا تَخْصِيصٌ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الزَّمَانِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي لِأَبِي ثَعْلَبَةَ، فَإِنَّ الْعَامَّ قَدْ يَخُصُّ مَرَّةً أُخْرَى اهـ. لَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحِ الْمَبْنَى وَصَرِيحُ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهَيْنِ. أَمَّا أَوَّلًا فَقَوْلُهُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ أُمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ فَأَبَوْا كُلَّ الْإِبَاءِ، فَلَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ أَصْلًا، بَلْ وَلَا يُتَصَوَّرُ لَهُ وُجُودٌ أَبَدًا، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَلَا يُمَكِنُ أَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ قَوْمًا ارْتَدُّوا بِسَبَبِ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ: فَذَهَبَتْ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ حَسْرَةً عَلَيْهِمُ إِلَخْ. وَأَمَا ثَانِيًا فَقَوْلُهُ: وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِبَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مُطْلَقًا، بَلِ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى الرَّسُولِ، وَيَتْرُكُوا تَقْلِيدَ آبَائِهِمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ وَإِبَائِهِمْ، فَأَصَرُّوا عَلَى بُطْلَانِهِمْ، وَقَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] نَعَمْ وَرَدَ مَا يُنَاسِبُ بَيْنَ اقْتِرَانِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنَّهُ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُسْلِمُ وَيَكْفُرُ أَبُوهُ، وَيُسْلِمُ الرَّجُلُ وَيَكْفُرُ أَخُوهُ، فَلَمَّا دَخَلَ قُلُوبَهُمْ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ دَعَوْا آبَاءَهُمْ وَإِخْوَانَهُمْ فَقَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] الْآيَةَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْبَيْضَاوِيِّ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ لَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَتَحَسَّرُونَ عَلَى الْكَفَرَةِ

وَيَتَمَنَّوْنَ إِيمَانَهُمْ، وَفِي تَفْسِيرِ الْمُعِينِ الصَّفْوِيِّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الْحِسْبَةِ إِذَا عُلِمَ عَدَمُ قَبُولِهَا، أَوْ فِيهَا مَفْسَدَةٌ، أَوْ إِضْرَارٌ لَهُ مِنْهَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ السِّلْفِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ مَعْنَى إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِذَا ائْتَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنْهُ، كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، فَإِنَّ الِاهْتِدَاءَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِتْيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوِ الْمُرَادُ الْمَنْعُ عَنْ إِهْلَاكِ النَّفْسِ أَسَفًا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْكَفَرَةُ وَالْفَسَقَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] وَقَالَ النَّوَوِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 105] الْآيَةَ. فَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِوُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ فَلَا يَضُرُّكُمْ تَقْصِيرُ غَيْرِكُمْ مِثْلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِمَّا كُلِّفَ بِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا فَعَلَهُ، وَلَمْ يَمْتَثِلِ الْمُخَاطَبُ فَلَا عَتْبَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَدَّى مَا عَلَيْهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: إِذَا رَأَوْا) أَيِ: النَّاسُ (الظَّالِمَ) أَيِ: الْفَاسِقَ (فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ) أَيْ: لَمْ يَمْنَعُوهُ عَنْ ظُلْمِهِ (أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ) أَيْ: بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ أَشَدَّ الْحِجَابِ (وَفِي أُخْرَى لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ (مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ النَّائِبُ، أَوِ التَّقْدِيرُ يَعْمَلُ أَحَدٌ فَمَا بَيْنَهُمْ (بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ ". وَفِي أُخْرَى لَهُ: " مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ مِمَنْ يَعْمَلُهُ) : هُمْ صِفَةُ قَوْمٍ أَيْ: إِذَا كَانَ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ الْمَعَاصِيَ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَهَا، فَلَمْ يَمْنَعُوهُمْ عَنْهَا عَمَّهُمُ الْعَذَابُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُزَادُ بَعْدَهُ، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ وَهُمْ صِفَةُ قَوْمٍ. قُلْتُ: هَذِهِ التَّقَادِيرُ مُسْتَفَادَةٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، فَلَيَسُومُنَّكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَّ لَيَدْعُنَّ اللَّهَ خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: خَافَ الصِّدِّيقُ أَنْ يَتَأَوَّلَ النَّاسُ الْآيَةَ غَيْرَ تَأَوُّلِهَا، فَيَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَأَنِ الَّذِي أُذِنَ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ تَغْيِيرِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ الْمُعَاهَدُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِهِ وَقَدْ صُولِحُوا عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَالرَّيْبُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يَعْنِي عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَخُذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَاتْرُكُوهُمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مِنْهُ أَيْ: قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ، وَمِنْهُ أَيْ: وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُ أَيْ: وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ، وَمِنْهُ أَيْ: وَيَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَمِنْهُ أَيْ: يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً، وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا، وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأْمُرُوا وَانْهَوْا، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤٌ وَنَفْسَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ اهـ. وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْآتِي.

5143 - وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِمْ وَلَا يُغَيِّرُونَ، إِلَّا أَصَابَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5143 - (وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ: الْبَجَلِيِّ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يَعْمَلُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِرَجُلٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ وَسَوَّغَهُ وَصْفُهُ أَيْ: يَفْعَلُ (فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي) أَيْ: بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْعَمَلِ (يَقْدِرُونَ) أَيِ: الْقَوْمُ (عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ بِالْيَدِ أَوِ اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِنْكَارِ الْجَنَانِ (وَلَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا أَصَابَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى (بِعِقَابٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ إِمَّا عَائِدٌ إِلَى الرَّجُلِ أَوْ إِلَى عَدَمِ التَّغْيِيرِ، وَتَكُونُ " مِنِ " ابْتِدَائِيَّةً أَيْ: بِسَبَبِ شُؤْمِهِ، وَأَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا مِنْ قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَجُلٌ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَمْنَعُ مِنْهُ وَأَعَزُّ، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ عَلَيْهِ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمَصَابِيحِ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَكَانَ مَوْضِعُهُ الْفَصْلُ الثَّالِثُ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُؤَلِّفَ مَا وَجَدَ فِي الْأُصُولِ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ. قُلْتُ: هَذَا التَّنْبِيهُ مُوَجَّهٌ نَبِيَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلِاعْتِرَاضِ الْفِعْلِيِّ، وَأَمَّا كَوْنُ مَوْضِعِهِ الْفَصْلَ الثَّالِثَ فَلَيْسَ فِي مَوْضِعِهِ.

5144 - وَعَنْهُ أَبِي ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] . فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " بَلِ ائْتَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، فَمَنْ صَبَرَ فِيهِنَّ قَبَضَ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5144 - (وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ) أَيِ: ابْنِ جُرْهُمِ بْنِ ثَابِتٍ الْخُشَنِيِّ، بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ فَأَسْلَمُوا، وَنَزَلَ بِالشَّامِ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيِ: احْفَظُوهَا وَالْزَمُوا إِصْلَاحَهَا، وَالْجَارُّ مَعَ الْمَجْرُورِ جُعِلَ اسْمًا لِلَزِمُوا، وَلِذَلِكَ نُصِبَ (أَنْفُسَكُمْ) ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] أَيْ: لَا يَضُرُّكُمُ الضَّلَالُ إِذَا كُنْتُمْ مُهْتَدِينَ، وَمِنَ الِاهْتِدَاءِ أَنْ يُنْكِرَ الْمُنْكَرَ حَسَبَ طَاقَتِهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ. وَلَا يَضُرُّكُمْ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنْ قُرِئَ لَا يَضُرَّكُمْ بِالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ أَيْ: لِلْأَمْرِ أَوْ عَلَى النَّهْيِ، لَكِنَّهُ ضُمَّتِ الرَّاءُ اتِّبَاعًا لِضَمَّةِ الضَّادِ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْهَا مِنَ الرَّاءِ الْمُدْغَمَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ لَا يَضُرَّكُمْ بِالْفَتْحِ وَلَا يَضِرْكُمْ بِكَسْرِ الضَّادِ وَضَمِّهَا أَيْ: مَعَ سُكُونِ الرَّاءِ مِنْ ضَارَّهُ يَضِيرُهُ وَيَضُورُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَقُولُ الرَّاوِي: سُئِلَ أَبُو ثَعْلَبَةَ فِي شَأْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] (فَقَالَ) أَيْ: أَبُو ثَعْلَبَةَ (أَمَا) : بِتَخْفِيضِ الْمِيمِ لِلتَّنْبِيهِ (وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا) أَيْ: عَنِ الْآيَةِ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا) أَيِ: امْتَثِلُوا (بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِهِ (وَتَنَاهَوْا) أَيِ: انْتَهُوا وَاجْتَنِبُوا (الْمُنْكَرَ) : وَمِنْهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ نَهْيِهِ أَوِ الِائْتِمَارُ بِمَعْنَى التَّأَمُّرِ كَالِاخْتِصَامِ بِمَعْنَى التَّخَاصُمِ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّنَاهِي، وَالْمَعْنَى لِيَأْمُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ طَائِفَةً عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: بَلِ ائْتَمِرُوا إِضْرَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ أَيْ: سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْتُ: أَمَا نَتْرُكُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَا تَتْرُكُوا، بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ» إِلَخْ. اهـ. وَالْمَعْنَى كُونُوا قَائِمِينَ بِهِمَا عَلَى وَجْهِ كَمَالِهِمَا، (حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ) أَيْ: أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًا وَنُكْتَةُ الْإِفْرَادِ انْفِرَادُ الْمُسْتَقِيمِ، وَاجْتِمَاعُ الْعَامَّةِ عَلَى الْعُدُولِ عَنِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، وَالْمَعْنَى إِذَا عَلِمْتَ الْغَالِبَ عَلَى

النَّاسِ (شُحًّا مُطَاعًا) : أَوْ إِذَا عَرَفْتَ شُحًّا أَيْ: بُخْلًا مُطَاعًا بِأَنْ أَطَاعَتْهُ نَفْسُكَ وَطَاوَعَهُ غَيْرُكَ (وَهَوًى مُتَّبَعًا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: وَهَوًى لِلنَّفْسِ مَتْبُوعًا، وَطَرِيقَ الْهُدَى مَدْفُوعًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلًّا يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَمَا تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ وَمَا تَتَمَنَّاهُ (وَدُنْيَا) : بِالْقَصْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ فِي الدَّارِ الدَّنِيَّةِ (مُؤْثَرَةً) أَيْ: مُخْتَارَةً عَلَى أُمُورِ الدِّينِ وَدَرَجَاتِ الْآخِرَةِ ( «وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ» ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَالْقِيَاسِ عَلَى أَقْوَى الْأَدِلَّةِ وَتَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِنَحْوِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْإِعْجَابُ بِكَسْرِ الْهَمْزِ هُوَ وِجْدَانُ الشَّيْءِ حَسَنًا، وَرُؤْيَتُهُ مُسْتَحْسَنًا بِحَيْثُ يَصِيرُ صَاحِبُهُ بِهِ مُعْجَبًا، وَعَنْ قَبُولِ كَلَامِ الْغَيْرِ مُجَنَّبًا وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، (وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ) : بِضَمِّ الْمُوَحِّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمِلَةِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْبَاءُ الْمُوَحَّدَةُ بِمَعْنَى لَا فِرَاقَ لَكَ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى رَأَيْتَ أَمْرًا يَمِيلُ إِلَيْهِ هَوَاكَ وَنَفْسُكَ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، حَتَّى إِذَا قُمْتَ بَيْنَ النَّاسِ لَا مَحَالَةَ أَنْ تَقَعَ فِيهَا (فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ) : وَاعْتَزِلْ عَنِ النَّاسِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ، وَأَنْ يَكُونَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَالْمَعْنَى، فَإِنْ رَأَيْتَ أَمْرًا لَا طَاقَةَ لَكَ مِنْ دَفْعِهِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ اهـ. وَنَفْسَكَ مَنْصُوبٌ، وَقِيلَ مَرْفُوعٌ أَيْ: فَالْوَاجِبُ أَوْ فَيَجِبُ عَلَيْكَ حِفْظُهَا مِنَ الْمَعَاصِي، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى الْزَمْ خَاصَّةَ نَفْسِكَ. قَوْلُهُ: (وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ) أَيْ: وَاتْرُكْ أَمْرَ عَامَّةِ النَّاسِ الْخَارِجِينَ عَنْ طَرِيقِ الْخَوَاصِّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا رَأَيْتَ بَعْضَ النَّاسِ يَعْمَلُونَ الْمَعَاصِي، وَلَا بُدَّ لَكَ مِنَ السُّكُوتِ لِعَجْزِكَ فَاحْفَظْ نَفْسَكَ عَنِ الْمَعَاصِي، وَاتْرُكِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاشْتَغِلْ بِنَفْسِكَ، وَدَعْ أَمْرَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ) أَيْ: قُدَّامَكُمْ مِنَ الْأَزْمَانِ الْآتِيَةِ، أَوْ خَلْفَكُمْ مِنَ الْأُمُورِ الْهَاوِيَةِ (أَيَّامَ الصَّبْرِ) أَيْ: أَيَّامًا لَا طَرِيقَ لَكُمْ فِيهَا إِلَّا الصَّبْرُ، أَوْ أَيَّامًا يُحْمَدُ فِيهَا الصَّبْرُ وَهُوَ الْحَبْسُ عَلَى خِلَافِ النَّفْسِ مِنِ اخْتِيَارِ الْعُزْلَةِ وَتَرْكِ الْخِلْطَةِ وَالْخَلْوَةِ، (فَمَنْ صَبَرَ فِيهِنَّ) أَيْ: فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ (قَبَضَ عَلَى الْجَمْرِ) : يَرَى يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِالصَّبْرِ كَمَشَقَّةِ الصَّابِرِ عَلَى قَبْضِ الْجَمْرِ بِيَدِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاطِبِيُّ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي ... كَقَبْصٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبَلَا (لِلْعَامِلِ) أَيِ: الْكَامِلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ. (أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ) أَيْ: فِي غَيْرِ زَمَانِهِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَجْرُ خَمْسِينَ) : بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ (مِنْهُمْ) : فِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَجْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ غَيْرُ مُبْتَلًى وَلَمْ يُضَاعَفْ أَجْرُهُ، وَثَانِيهُمَا: أَنْ يُرَادَ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ لَمْ يُبْتَلَوْا بِبَلَائِهِ (قَالَ: " أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: " «فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّابِرُ فِيهِنَّ مِثْلَ الْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» ". وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، كَمَا فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ إِلَى قَوْلِهِ: مِثْلَ عَمَلِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَزَادَ فِي غَيْرِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) .

5145 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ: " «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ " وَذَكَرَ: " إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا غَدْرَ أَكْبَرُ مِنْ غَدْرِ أَمِيرِ الْعَامَّةِ، يُغْرَزُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ ". قَالَ: " وَلَا يَمْنَعْنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ " وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنْ رَأَى مُنْكَرًا أَنْ يُغَيِّرَهُ " فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ، وَقَالَ: قَدْ رَأَيْنَاهُ فَمَنَعَتْنَا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَلَا إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وَيَحْيَا مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا، وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وَيَحْيَا مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا، وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا " قَالَ: وَذَكَرَ الْغَضَبَ " فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَخِيَارُكُمْ مَنْ يَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ، وَشِرَارُكُمْ مَنْ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ ". قَالَ: " اتَّقُوا الْغَضَبَ ; فَإِنَّهُ جَمْرَةٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَلَا تَرَوْنَ إِلَى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟ وَحُمْرَةِ عَيْنَيْهِ؟ فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَضْطَجِعْ وَلْيَتَلَبَّدْ بِالْأَرْضِ " قَالَ: وَذَكَرَ الدَّيْنَ فَقَالَ: " مِنْكُمْ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْقَضَاءِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَفْحَشَ فِي الطَّلَبِ، فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سَيِّئَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَجْمَلَ فِي الطَّلَبِ، فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. وَخِيَارُكُمْ مَنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَحْسَنَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَجْمَلَ فِي الطَّلَبِ، وَشِرَارُكُمْ مَنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَسَاءَ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَفْحَشَ فِي الطَّلَبِ ". حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَأَطْرَافِ الْحِيطَانِ فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5145 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَامَ فِينَا) أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا، أَوْ فِي حَقِّنَا أَوْ لِأَجْلِنَا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا) أَيْ: وَاعِظًا لِقَوْلِهِ: (بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَمْ يَدَعْ) أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ (شَيْئًا) أَيْ: مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ (يَكُونُ) أَيْ: يَقَعُ ذَلِكَ الشَّيْءُ (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) أَيْ: سَاعَةِ الْقِيَامَةِ (إِلَّا ذَكَرَهُ) أَيْ: عَيَّنَهُ وَبَيَّنَهُ (حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ) أَيْ: مِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَحَفِظَهُ (وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ) أَيْ: مِمَنْ أَنْسَاهُ اللَّهُ وَتَرَكَ نَصْرَهُ (وَكَانَ فِيمَا قَالَ) أَيْ: مِنْ خُطْبَتِهِ وَمَوْعِظَتِهِ (إِنَّ الدُّنْيَا) : وَفِي الْجَامِعِ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الدُّنْيَا (حُلْوَةٌ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: لَذِيذَةٌ حَسَنَةٌ (خَضِرَةٌ) : بِفَتْحٍ فَكَسَرٍ أَيْ: نَاعِمَةٌ طَرِيَّةٌ. وَفِي الْجَامِعِ: تَقَدَّمَ خَضِرَةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِالْخَضِرَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الشَّيْءَ النَّاعِمَ خَضِرًا، أَوْ لِشَبَهِهَا بِالْخَضْرَاوَاتِ فِي ظُهُورِ كَمَالِهَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا، وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّهَا غَدَّارَةٌ مَكَّارَةٌ سَحَّارَةٌ تَفْتِنُ النَّاسَ بِلَوْنِهَا وَطَعْمِهَا، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الدُّنْيَا طَيِّبَةٌ مَلِيحَةٌ فِي عُيُونِ أَرْبَابِهَا وَقُلُوبِ أَصْحَابِهَا لَا يَشْبَعُونَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ، وَلَا مِنْ سَعَةِ الْجَاهِ، وَكَثْرَةِ الْإِقْبَالِ وَطُولِ الْآمَالِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِشِدَّةِ انْجِذَابِ النُّفُوسِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ تَمِيلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ النَّاقِصَةُ، فَإِنِ اجْتَمَعَا كَانَتْ إِلَيْهَا أَمْيَلَ وَعَلَيْهَا أَقْبَلَ. (وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا) أَيْ: جَاعِلُكُمْ خُلَفَاءَ فِي الدُّنْيَا، مَعْنَاهُ أَنَّ أَمْوَالَكُمْ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ لَكُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ جَعَلَكُمْ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ، أَوْ جَاعِلُكُمْ خُلَفَاءَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَأَعْطَى مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ إِيَّاكُمْ (فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أَيْ: تَعْتَبِرُونَ بِحَالِهِمْ، وَتَتَفَكَّرُونَ فِي مَآلِهِمْ، وَتَتَصَرَّفُونَ فِي دُنْيَاكُمْ، وَتُرَاعُونَ فِي دُنْيَاكُمْ لِعُقْبَاكُمْ، وَحَاصِلٌ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ لَهُ الْعِلْمُ التَّنْجِيزِيُّ عَلَى طِبْقِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ التَّقْدِيرِيِّ (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (فَاتَّقُوا الدُّنْيَا) أَيِ: احْذَرُوا زِيَادَتَهَا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلدِّينِ النَّافِعَةِ فِي الْأُخْرَى (وَاتَّقَوُا النِّسَاءَ) أَيْ: مَكْرَهُنَّ وَغَدْرَهُنَّ وَحُبَّهُنَّ الْبَالِغَ الْبَاعِثَ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ الْمَانِعِ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مِنْ أَسْبَابِ الْكَمَالِ، وَفِي الْجَامِعِ زِيَادَةٌ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ، (وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جُمْلَةِ مَا ذَكَرَ (أَنَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتُكْسَرُ (لِكُلِّ غَادِرٍ) : مِنَ الْغَدْرِ وَهُوَ تَرْكُ الْوَفَاءِ (لِوَاءً) : بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ: عَلَمَا إِعْلَامًا بِسُوءِ حَالِهِ وَقُبْحِ مَآلِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: يَوْمَ الْفَضِيحَةِ (بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْغَدْرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ أَنْ يُجَازَى بِغَدْرِهِ فِي الْعُقْبَى وَلَوْ كَانَ مَرَّةً (فِي الدُّنْيَا) : وَلَا شَكَ أَنَّ الْغَدْرَ فِيهَا لَهُ مَرَاتِبُ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِهَذَا قَالَ: (وَلَا غَدْرَ أَكْبَرُ مِنْ غَدْرِ أَمِيرِ الْعَامَّةِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ بِهِ الْمُتَغَلِّبَ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَى أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادِهِمْ بِتَأْمِيرِ الْعَامَّةِ وَمُعَاضِدَتِهِمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ مِنَ الْخَاصَّةِ، وَأَهْلِ الْعَقْدِ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ، وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَوِي السَّابِقَةِ وَوُجُوهِ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ: (يُغْرَزُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ) : مِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَكُونَ لِوَاؤُهُمْ خَلْفَهُمْ لِيُعْرَفُوا بِهِ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ لِكُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ لِوَاءٌ يُعَرَفُ بِهِ وَذَكَرَ عِنْدَ اسْتِهِ اسْتِهَانَةً وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُلْصَقُ بِهِ، وَيُدْنَى مِنْهُ دُنُوًّا لَا يَكُونُ مَعَهُ اشْتِبَاهٌ اهـ. فَقَوْلُهُ: يُغْرَزُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُنْصَبُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ تَحْقِيرًا لَهُ، وَهُوَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ مَكْسُورَةِ الْعَجُزِ أَوْ حَلْقَةِ الدُّبُرِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَا يَمْنَعَنَّ) : بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ (أَحَدًا مِنْكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ) أَيْ: عَظْمَتُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ وَمُخَالَفَتُهُمْ وَمَهَابَتُهُمْ (أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ) أَيْ: مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ يَأْمُرَ لَهُ (إِذَا عَلِمَهُ) : وَفِي النِّهَايَةِ: يَجْعَلُ الْعَرْضَ الْقَوْلَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَيُطْلِقُهُ عَلَى غَيْرِ الْكَلَامِ، فَيَقُولُ قَالَ بِيَدِهِ أَيْ: أَخَذَ، وَقَالَ بِرِجْلِهِ أَيْ: مَشَى (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ (إِنْ رَأَى مُنْكَرًا) : بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ (أَنْ يُغَيِّرَهُ) : مَفْعُولُ لَا يَمْنَعَنَّ أَيْ: مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكِرِ، (فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ: قَدْ رَأَيْنَاهُ) أَيِ: الْمُنْكَرَ (فَمَنَعَتْنَا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهِ) أَيْ: عَمَلًا بِمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ رُخْصَةِ السُّكُوتِ عِنْدَ الْمَخَافَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ

وَضَعْفِ زَمَنِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْعَزِيمَةُ، فَأَنْ لَا يُبَالِيَ بِشَيْءٍ، مِمَّا ذُكِرَ، وَلِذَا وَرَدَ: " «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» " عَلَى مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَجَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] أَيْ: يَبِيعُهَا بِبَذْلِهَا فِي الْجِهَادِ، أَوْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى يُقْتَلَ ظُلْمًا لِرِضَاهُ لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ عَجَزُوا مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِمْ فِي الدِّينِ وَالْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ لِأَهْلِ الْبُطْلَانِ كَيَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ، وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الظَّلَمَةِ وَالْفَسَقَةِ، فَكَيْفَ حَالُنَا وَالْحَالُ أَنَّ بَعْدَ الْأَلْفِ أَيَّامَ تَقَهْقُرِ الْإِسْلَامِ، وَتَسَلُّطِ السَّلَاطِينِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِهِمْ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ وَالْخِلَافَةِ، وَقِلَّةِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَكَثْرَةِ الْعُضَلَاءِ الْجَاهِلِينَ وَالْقُضَاةِ الظَّالِمِينَ وَالْمَشَايِخِ الْمُرَائِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَهَذَا لَا شَكَ أَنَّهُ زَمَانُ الصَّبْرِ الْمَقْرُونُ بِالشُّكْرِ الْمُنْضَمِّ إِلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْمُتَعَيِّنُ فِيهِ السُّكُوتُ، وَمُلَازَمَةُ الْبُيُوتِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْقُوتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ بَنِي آدَمَ) : خُصُّوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا لِلْخَيْرِ فَقَطْ، وَالشَّيَاطِينَ خُلِقُوا لِلشَّرِّ فَقَطْ، فَالْأَوَّلُونَ مَظَاهِرُ الْجَمَالِ، وَالْآخَرُونَ مَظَاهِرُ الْجَلَالِ، وَبَنُو آدَمَ خُلِقُوا عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " أَيْ: عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ الْجَامِعَةِ لِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَلَمَّا خَلَقَ فِيهِمْ هَذِهِ الْقَابِلِيَّةَ الْكَامِلَةَ قَدَرُوا عَلَى حَمْلِ الْأَمَانَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ أَيْ: عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْعُلْوِيَّاتِ، وَالسُّفْلِيَّاتِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا أَيِ: امْتَنَعْنَ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِنَّ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِنَّ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ فَالْإِنْسَانُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ مِنَ النُّعُوتِ الْمِلْكِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِعِنَايَةِ الْجَمَالِ الرَّبَّانِيِّ وَالصِّفَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِغَضَبِ الْجَلَالِ الصَّمَدَانِيِّ، فَإِنْ مَالَ السَّالِكُ إِلَى الْمَلَكِ صَارَ خَيْرًا مِنْهُ، وَإِنْ مَالَ إِلَى الشَّيْطَانِ صَارَ شَرًّا مِنْهُ، وَهُمْ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ الْإِجْمَالِيِّ وَالنَّعْتِ الْإِكْمَالِيِّ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خُلِقُوا) أَيْ: جُبِلُوا عَلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنِ اخْتِيَارِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ (عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى) أَيْ: مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَأَوْقَاتِهِمَا (فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا) أَيْ: مِنْ أَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ، أَوْ فِي بِلَادِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ حِينَ يُولَدُ قَبْلَ التَّمْيِيزِ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَزَلِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ (وَيَحْيَا) أَيْ: يَعِيشُ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ مِنْ حِينِ تَمْيِيزِهِ إِلَى انْتِهَاءِ عُمْرِهِ (مُؤْمِنًا) أَيْ: كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا (وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا) أَيْ: كَذَلِكَ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ ( «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا» ) أَيْ: بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا وَرَدَ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا قَابِلِيَّةُ قَبُولِ الْهِدَايَةِ، لَوْلَا مَانِعٌ مِنْ بَوَاعِثِ الضَّلَالَةِ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: " «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ» " الْحَدِيثَ. ( «وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا» ) : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ( «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وَيَحْيَا مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا» ) : نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ خَاتِمَةِ الْهَاوِيَةِ، ( «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا» ) : فَالْعِبْرَةُ بِالْخَوَاتِيمِ اللَّاحِقَةِ الْمُطَابَقَةِ لِلْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ مِنَ السَّعَادَةِ الْكَامِلَةِ وَالشَّقَاوَةِ الشَّامِلَةِ، وَكَانَ التَّقْسِيمُ غَالِبِيٌّ، وَإِلَّا فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَلَعَلَّ عَدَمَ ذِكْرِهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ، وَقَدْ عُلِمَتْ مِمَّا ذُكِرَ إِجْمَالًا. (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْغَضَبَ) : وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَخْلَاقِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا أَيْضًا كَالْإِيمَانِ مَجْبُولَةٌ مَجْعُولَةٌ فِي أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الشَّمَائِلِ الْمَرْضِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ (فَمِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ بَنِي آدَمَ، مَعَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ نَسْلِ نَبِيِّ اللَّهِ وَصِفِيِّهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ طِينَتُهُ مَعْجُونَةً بِوَصْفِ خِلْقَتِهِ بِيَدَيِ الْلَّهِ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ أَوَّلًا مِنَ الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ، وَالِاجْتِبَاءِ آخِرًا أَنْ يَكُونَ عَلَى طِبْقِهَا طَبَقَاتُ أَوْلَادِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ النَّاشِئَةِ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ (مَنْ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ) أَيْ: بِمُقْتَضَى الْخُلُقِ النَّفْسَانِيِّ (سَرِيعَ الْفَيْءِ) :

أَيِ: الرُّجُوعَ مِنَ الْغَضَبِ (فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى) أَيْ: إِحْدَى الْخَصْلَتَيْنِ مُقَابَلَةٌ بِالْأُخْرَى، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ فَاعِلُهُمَا لِاسْتِوَاءِ الْحَالَتَيْنِ فِيهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ، فَلَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ وَلَا شَرُّهُمْ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ) : فَعِيلَ مِنَ الْبُطْءِ مَهْمُوزٌ وَقَدْ يُبَدَّلُ وَيُدْغَمُ، وَهُوَ ضِدُّ السَّرِيعِ (بَطِيءَ الْفَيْءِ، فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى) : كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْأُولَى ( «وَخِيَارُكُمْ مَنْ يَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ، وَشِرَارُكُمْ مَنْ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ» ) : وَالتَّقْسِيمُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ رُبَاعِيٌّ لَا خَامِسَ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ وَالدَّنِيَّةِ، وَأَنَّ كَمَالَهُ أَنْ تَغْلِبَ لَهُ الصِّفَاتُ الْحَمِيدَةُ عَلَى الذَّمِيمَةِ لَا أَنَّهَا تَكُونُ مَعْدُومَةً فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَالْعَادِمَيْنِ، إِذْ أَصْلُ الْخُلُقِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَلِذَا وَرَدَ: وَلَوْ سَمِعْتُمْ أَنَّ جَبَلًا زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوهُ، وَإِنْ سَمِعْتُمْ أَنَّ رَجُلًا تَغَيَّرَ عَنْ خُلُقِهِ أَيْ: الْأَصْلِيِّ فَلَا تُصَدِّقُوهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ دُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئِهَا إِلَّا أَنْتَ» ". (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إِعَادَةِ قَالَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ لِكَمَالِهِ لِطُولِهِ. (اتَّقُوا الْغَضَبَ) أَيْ: مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ السَّبَبِ، أَوْ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ إِلَى الرَّبِّ (فَإِنَّهُ جَمْرَةٌ) أَيْ: حَرَارَةٌ غَرِيزِيَّةٌ وَحِدَّةٌ جِبِلِّيَّةٌ مُشْعِلَةٌ جَمْرَةَ نَارٍ مَكْمُونَةٌ فِي كَانُونِ النَّفْسِ (عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ) أَيْ: مُتَعَالِيَةٌ عَلَيْهِ عِنْدَ غَلَبَتِهِ بِحَيْثُ لَا تُخَلِّي لِلْقَلْبِ وَالْعَقْلِ مَعَهَا مَجَالُ تَصَرُّفٍ وَتَعَقُّلٍ. (أَلَا تَرَوْنَ) أَيْ: أَلَا تَنْظُرُونَ (إِلَى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ) أَيْ: عُرُوقِ حَلْقِ الْغَضْبَانِ (وَحُمْرَةِ عَيْنَيْهِ) : كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا عِنْدَ حَرَارَةِ الطَّبِيعَةِ فِي أَثَرِ الْحُمَّى، فَإِنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، وَكُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ. (فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: أَدْرَكَ ظُهُورَ أَثَرٍ مِنْهُ أَوْ مَنْ عَلِمَ فِي بَاطِنِهِ شَيْئًا مِنْهُ (فَلْيَضْطَجِعْ) أَيْ: تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَإِظْهَارًا لِعَجْزِهِ عَنْهُ (وَلِيَتَلَبَّدْ بِالْأَرْضِ) أَيْ: لِيَلْتَصِقْ وَيَلْتَزِقْ بِهَا حَالَ اضْطِجَاعِهِ، أَوْ يَزِدْ عَلَيْهِ بِالتَّمَرُّغِ فِي تُرَابِهَا حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّعَةِ عَنِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَتِذْكَارِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُهُ مِنَ التُّرَابِ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَتَكَبَّرَ وَيَتَجَبَّرَ عَلَى الْأَصْحَابِ، وَأَنَّ الْأَنَانِيَّةَ النَّاشِئَةَ عَنْ غَلَبَةِ الْعُنْصُرِ النَّارِيَّةِ مِنْ صِلَةِ الشَّيْطَانِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِفْسَادِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ يَقْتَضِي التَّوَاضُعَ وَالتَّحَمُّلَ، وَسَائِرَ مَا يَقْتَضِي صَلَاحَ الْعِبَادِ وَالْمَعَادِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الدَّيْنَ) أَيْ: أَنْوَاعُ قَضَائِهِ (فَقَالَ: مِنْكُمْ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْقَضَاءِ) أَيْ: مُسْتَحْسَنُ الْأَدَاءِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ (وَإِذَا كَانَ) أَيِ: الدَّيْنُ (لَهُ) أَيْ: عَلَى أَحَدٍ (أَفْحَشَ فِي الطَّلَبِ لَمًّا) : بِأَنَّ لَمْ يُرَاعِ الْأَدَبَ وَآذَى فِي تَقَاضِيهِ وَعَسَّرَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الطَّلَبِ (فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى) أَيْ: فَالْخَصْلَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ مُتَسَاقِطَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سَيِّئَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ) أَيِ: الدَّيْنُ (أَجْمَلَ) أَيْ: أَسْهَلَ وَأَيْسَرَ (فِي الطَّلَبِ) أَيْ: فِي طَلَبِ دَيْنِهِ (فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى) : إِذْ لَا خَيْرَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا ( «وَخِيَارُكُمْ مَنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَحْسَنَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ» ) أَيِ: الدَّيْنُ (أَجْمَلَ فِي الطَّلَبِ، وَشِرَارُكُمْ مَنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَسَاءَ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ لَهُ) أَيِ: الدَّيْنُ (أَفْحَشَ فِي الطَّلَبِ) : فَالتَّقْسِيمُ عَقْلِيٌّ رُبَاعِيٌّ (حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ) : قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: غَايَةَ قَوْلِهِ قَامَ فِينَا خَطِيبًا أَيْ: قَامَ فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا إِلَّا ذَكَرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ أَيْ: وَقَعَتْ (عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ وَأَطْرَافِ الْحِيطَانِ) : جَمْعُ حَائِطٍ بِمَعْنَى

الْجِدَارِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: " إِذَا " لِلْمُسْتَقْبَلِ وَكَانَتْ مَاضٍ، وَفَائِدَتُهُ اسْتِحْضَارُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 156] الْكَشَّافُ هُوَ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ كَقَوْلِهِ: حِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ (فَقَالَ: أَمَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا) أَيْ: فِي جُمْلَةِ مِمَّا مَضَى مِنْهَا، وَفِي حَدِيثٍ مَا سَبَقَ مِنْهَا (إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ) : يَعْنِي نِسْبَةُ مَا بَقِيَ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِلَى جُمْلَةِ مَا مَضَى كَنِسْبَةِ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا إِلَى مَا مَضَى مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا كَمَا بَقِيَ مُسْتَثْنًى مِنْ فَاعِلِ لَمْ يَبْقَ أَيْ: لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، لَكِنْ مِنْ نَوْعِ تَغْيِيرٍ وَزِيَادَةِ يَسِيرٍ.

5146 - وَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5146 - (وَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) : بِفَتْحِ مُوَحِّدَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِرَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ وَقَالَ: حَدِيثُهُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ فَلَا تَضُرُّ جَهَالَتُهُ وَلَا تُوهِمُ إِرْسَالَهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يَهْلِكَ) : بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ أَيْ لَنْ يَفْسُدَ وَلَنْ يَتْلِفَ (النَّاسُ) أَيْ: دِينُهُمْ وَكَمَالُهُمْ، أَوْ مَعْنَاهُ لَنْ يُعَذَّبُوا فِي الدُّنْيَا (حَتَّى يُعْذَرُوا) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ وَيُفْتَحُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ إِنَّهُ مِنْ أَعْذَرَ فُلَانٌ إِذَا كَثُرَ ذَنْبُهُ، فَكَأَنَّهُ سُلِبَ عُذْرُهُ بِكَثْرَةِ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ، أَوْ مِنْ أَعْذَرَ غَيْرَهُ إِذَا جَعَلَهُ مَعْذُورًا، فَكَأَنَّهُمْ أَعْذَرُوا مَنْ يُعَاقِبُهُمْ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ، أَوْ مِنْ أَعْذَرَ أَيْ: صَارَ ذَا عُذْرٍ، وَالْمَعْنَى حَتَّى يُذْنِبُونَ فَيَعْذِرُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتَأْوِيلَاتٍ زَائِغَةٍ وَأَعْذَارٍ فَاسِدَةٍ مِنْ قَبْلِهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْسَبُ بِبَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَأَنَّ النَّاهِيَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَنْبَهُ وَهُوَ يَتَبَرَّأُ مِنَ الذَّنْبِ، وَيُعَذِّبُ لِنَفْسِهِ وَلِإِقْدَامِهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِنْ أَعْذَرَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ ذَا ذَنْبٍ كَثِيرٍ أَيْ: حَتَّى تَكْثُرَ ذُنُوبُهُمْ وَعُيُوبُهُمْ، فَيَسْتَوْجِبُوا الْعُقُوبَةَ وَيُقِيمُوا لِمَنْ عَاقَبَهُمُ الْعُذْرَ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ لِلتَّبْيِينِ أَيْ: تَكْثُرُ ذُنُوبُ أَنْفُسِهِمْ لَا ذُنُوبَ غَيْرِهِمْ، وَيُرْوَى بِبِنَاءِ الْمَجْهُولِ مِنْ أَعْذَرَهُ إِذَا سَلَبَ عُذْرَهُ أَيْ: حَتَّى يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعُذْرِ بِأَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ حَتَّى يُبَيِّنُوا لَهُمُ الرَّشَادَ مِنَ الضَّلَالِ، وَالْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ: حَتَّى يَعْذُرُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَأْوِيلَاتٍ زَائِغَةٍ وَأَعْذَارٍ بَاطِلَةٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

5147 - وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَوْلًى لَنَا أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5147 - (وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ) : بِكَسْرِ الْكَافِ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ حَيْوَةَ، وَعَنْهُ عِيسَى بْنُ عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَاهُ. (قَالَ: حَدَّثَنَا مَوْلًى) أَيْ: مَعْتُوقٌ (لَنَا أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي) : وَهُوَ عَمِيرَةُ الْكِنْدِيُّ الْحَضْرَمِيُّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَسَكَنَهَا، وَمَاتَ بِهَا، رَوَى عَنْهُ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ) أَيِ: الْأَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ (بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ) أَيْ: بِعِصْيَانِ الْأَقَلِّ مِنْهُمْ (حَتَّى يَرَوْا) أَيِ: الْأَكْثَرُونَ (الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ ظَاهِرًا فَاشِيًا (وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ احْتِرَازًا عَنْ حَالِ عَجْزِ الْأَكْثَرِ أَيْضًا كَمَا فِي زَمَانِنَا، (فَلَا يُنْكِرُوا) : عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: يَرَوُا الْمُنْكَرَ (فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ سُكُوتِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ قُدْرَةِ الْأَكْثَرِ (عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ) : كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

5148 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ أَطْرًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ: " «كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5148 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي) أَيْ: مِنَ الزِّنَا، وَصَيْدِ يَوْمِ السَّبْتِ وَغَيْرِهِمَا (نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ) أَيْ: أَوَّلًا (فَلَمْ يَنْتَهُوا) أَيْ: فَلَمْ يَقْبَلُوا النَّهْيَ، وَلَمْ يَتْرُكُوا الْمَنْهِيَّ (فَجَالَسُوهُمْ) أَيِ: الْعُلَمَاءُ (فِي مَجَالِسِهِمْ) أَيْ: مَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعُصَاةِ وَمَسَاكِنِهِمْ (وَآكَلُوهُمْ) : بِمَدِّ الْهَمْزَةِ مِنَ الْمُؤَاكَلَةِ مُفَاعَلَةٌ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْأَكْلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ) أَيْ: خَلَطَ (قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ) : يُقَالُ: ضَرَبَ اللَّبَنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَيْ: خَلَطَهُ، ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ: سَوَّدَ اللَّهُ قَلَبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ بِشُؤْمِ مَنْ عَصَى، فَصَارَتْ قُلُوبُ جَمِيعِهِمْ قَاسِيَةً بَعِيدَةً عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ أَوِ الرَّحْمَةِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي وَمُخَالَطَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا اهـ. وَقَوْلُهُ: قَلْبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِأَنَّ مُؤَاكَلَتَهُمْ وَمُشَارَبَتَهُمْ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَإِلْجَاءٍ بَعْدَ عَدَمِ انْتِهَائِهِمْ عَنْ مَعَاصِيهِمْ مَعْصِيَةٌ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْبُغْضِ فِي اللَّهِ أَنْ يَبْعُدُوا عَنْهُمْ وَيُهَاجِرُوهِمْ وَيُقَاطِعُوهُمْ وَلَمْ يُوَاصِلُوهُمْ، وَلِذَا قَالَ: (فَلَعَنَهُمْ) أَيِ: الْعَاصِينَ وَالسَّاكِتِينَ الْمُصَاحِبِينَ فَفِيهِ تَغْلِيبٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78] ذَلِكَ أَيْ: لَعَنَهُمْ (بِمَا عَصَوْا) أَيْ: بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ مُبَاشَرَةً وَمُعَاشَرَةً {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] أَيْ: يَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَدِّ بِأَنَّ جَرَّ الْمَعَاصِي إِلَى الْكُفْرِ بِالِاسْتِحْلَالِ وَنَحْوَهُ، وَبِالرِّضَا لِلْمَعَاصِي وَاسْتِحْسَانِهَا مِنْ أَهْلِهَا. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: مِنْ كَمَالِ إِعْرَاضِهِ وَقُوَّةِ اعْتِرَاضِهِ (وَكَانَ مُتَّكِئًا) أَيْ: عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ أَوْ مُسْتَنِدًا إِلَى ظَهْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَلَسَ مُسْتَوِيًا لِلِاهْتِمَامِ بِإِتْمَامِ الْكَلَامِ (فَقَالَ: لَا) أَيْ: لَا تُعْذَرُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ خَلْفَ أَهْلِ تِلْكَ الْأُمَّةِ. (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ) : بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُبَدَّلُ وَبِكَسْرِ الطَّاءِ (أْطِرًا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ: حَتَّى تَمْنَعُوا أَمْثَالَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ أَمْثَالِهِمْ، فَتَمْتَنِعُوا أَنْتُمْ عَنْ مُوَاصَلَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ وَمُؤَاكَلَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْأَطْرُ: الْإِمَالَةُ وَالتَّحْرِيفُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، أَيْ: حَتَّى تَمْنَعُوا الظَّلَمَةَ وَالْفَسَقَةَ عَنِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَتُمِيلُوهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَفِي الْفَائِقِ: حَتَّى مُتَعَلِّقَةٌ بِلَا كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ مَظَالِمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ يُعْذَرُ فِي تَخْلِيَةِ الظَّالِمِينَ وَشَأْنَهُمْ؟ فَقَالَ: لَا حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ وَتَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَالْمَعْنَى لَا تُعْذَرُونَ حَتَّى تَجْبُرُوا الظَّالِمَ عَلَى الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ وَإِعْطَاءِ النَّصَفَةِ الْمَظْلُومَ، وَالْيَمِينُ مُعْتَرَضَةٌ بَيْنَ لَا وَحَتَّى، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِتِلْكَ الَّتِي يَجِيءُ بِهَا الْمُقْسِمُ تَأْكِيدًا لِقَسَمِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَفِي رِوَايَتِهِ) : الضَّمِيرُ لِأَبِي دَاوُدَ، وَفِي نُسْخَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ لِلتِّرْمِذِيِّ أَوْ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَلَّا) أَيْ: حَقًّا أَوِ ارْتَدَعُوا عَنْ حُسْبَانِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ جَوَازِ السُّكُوتِ عَنِ الْمُنْكَرِ ( «وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ» ) أَيْ: بِطَرِيقِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَمَرَاتِبِ الِاحْتِسَابِ عَلَى الْغَايَةِ، ( «وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ» ) : بِالتَّثْنِيَةِ مُبَالَغَةً، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ إِمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ أَوْ عَلَى قَصْدِ الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدَةِ. (وَلَتَأْطُرُنَّهُ) أَيْ: لَتَمْنَعُنَّ الظَّالِمَ بِاللِّسَانِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَخْذِ الْيَدِ بِالْيَدِ (عَلَى الْحَقِّ) أَيْ: عَلَى إِجْبَارِهِ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْكَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ (أَطْرًا) أَيْ: مَنْعًا ظَاهِرًا لَيْسَ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ (وَلَتَقْصُرُنَّهُ) : بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ: وَلَتَحْبِسُنَّهُ (عَلَى الْحَقِّ) أَيْ: عَلَى قَبُولِهِ (قَصْرًا) أَيْ: بِالْهِجْرَةِ عَنْهُ إِذَا عَجَزْتُمْ عَمَّا سَبَقَ، حَتَّى تَضِيقَ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، فَإِنَّهُ حَبْسٌ مَعْنَوِيٌّ أَقْوَى مِنْ سِجْنٍ صُورِيٍّ (أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ) أَيْ: لَيَخْلِطَنَّ (بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ (، ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ) أَيِ: اللَّهُ (كَمَا لَعَنَهُمْ) أَيْ: بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ قَطْعًا.

5149 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرَئِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ: " «خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5149 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي) : بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ: أَبْصَرْتُ لَيْلَةً أُسْرِيَ بِي فِيهَا (رِجَالًا تُقْرَضُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: تُقْطَعُ (شِفَاهُهُمْ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ شَفَةٍ بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ، وَلَامُهَا هَاءٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَمْعُهَا (بِمَقَارِيضَ) : جَمَعَ مِقْرَاضٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ آلَةُ الْقَطْعِ الْمَعْرُوفَةُ (مِنْ نَارٍ) أَيْ: مَخْلُوقَةٌ مِنْهَا (قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ) أَيْ: هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ كَذَا الْحَالُ (يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ) : مِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ أَيْ: عُلَمَاؤُهُمْ وَوُعَّاظُهُمْ وَمَشَايِخُهُمْ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ: مَحَطُّ الْإِنْكَارِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْجُمْلَةَ الْأَوْلَى تَقْبِيحًا لِسُوءِ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَتَوْبِيخًا عَلَى عُلُومِهِمُ الْمَقْرُونَةِ بِتَرْكَ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] أَيْ: سُوءَ صَنِيعِكُمْ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً، وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ". وَكَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: " «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» ". (رَوَاهُ) أَيْ: الْبَغَوِيُّ (فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَالْبَيْهَقِيُّ) : عَطْفٌ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُقَدَّرِ (فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ (قَالَ: خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ) : بِمِنِ الْبَيَانِيَّةِ (الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) : بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ خُطَبَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهُ لِأَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ فِيهِ عَلَى عَكْسِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ يَتَفَطَّنُ لِذَلِكَ مِنْ رُزِقَ الذِّهْنَ السَّلِيمَ وَالطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ أَطْبَقُوا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ أَوْجَهُ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ، كَمَا حُقِّقَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 2 - 3] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ - الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} [البقرة: 26 - 27] وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ". ( «وَيَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ» ) : وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنَ الْآيَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهَمَا أَوَّلًا.

5150 - وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5150 - (وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ) : قَالَ الرَّاغِبُ: الْمَائِدَةُ الطَّبَقُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ، وَيُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَائِدَةٌ أَيْ: عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمُشْتَرِكَةِ، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ أَوْ بِذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: (خُبْزًا وَلَحْمًا) : تَمْيِيزٌ، بخورا فرد خلا (وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا) أَيْ: بِقَصْدِ أَكْلِ الْأَحْسَنِ أَوِ الْأَكْثَرِ مِنْ غَيْرِهِمْ (وَلَا يَدَّخِرُوا) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ مِنَ الذَّخِيرَةِ وَهُوَ التَّخْبِيَةُ (لِغَدٍ) أَيْ: لِيَوْمٍ عَقِبَ يَوْمِ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، أَوْ لِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ بَعْدَهُ، (فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ) : تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (فَمُسِخُوا) أَيْ: فَغَيَّرَ اللَّهُ صُوَرَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةَ بَعْدَ تَغْيِيرِ

سِيرَتِهِمُ الْإِنْسِيَّةِ (قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ) : مَنْصُوبَانِ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: مَسَخَهُ كَمَنَعَهُ حَوَّلَ صُورَتَهُ إِلَى أُخْرَى وَمَسَخَهُ اللَّهُ قِرْدًا فَهُوَ مَسْخٌ وَمَسِيخٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَالَتَانِ مُقَدَّرَتَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء: 149] اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَبَابَهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَشُيُوخَهُمْ خَنَازِيرَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5151 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّهُ تُصِيبُ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ سُلْطَانِهِمْ شَدَائِدُ، لَا يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا رَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ، فَجَاهَدَ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَقَلْبِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي سَبَقَتْ لَهُ السَّوَابِقُ، وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ، فَصَدَّقَ بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ فَسَكَتَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ أَحَبَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ بِبَاطِلٍ أَبْغَضَهُ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ يَنْجُو عَلَى إِبْطَانِهِ كُلِّهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5151 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ ( «تُصِيبُ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ سُلْطَانِهِمْ» ) : يَحْتَمِلُ الْجِنْسَ وَالشَّخْصَ كَيَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ وَأَمْثَالِهِمَا (شَدَائِدُ) أَيْ: مِحَنٌ دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ دِينِيَّةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا (لَا يَنْجُو) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ أَيْ: لَا يُخَلَّصُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ السُّلْطَانِ وَشَدَائِدِهِ النَّاشِئَةِ مِنْ ظُلْمِهِ فَهُمَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِضَمِيرٍ مُفْرَدٍ (إِلَّا رَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى السُّلْطَانِ، أَوْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ يَعُودُ إِلَى شَدَائِدَ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ أَوِ الْمُنْكَرِ وَهُوَ الشَّدَائِدُ، وَقَوْلُهُ: لَا يَنْجُو عَلَى الْأَوَّلِ اسْتِئْنَافٌ وَعَلَى الثَّانِي صِفَةُ قَوْلِهِ شَدَائِدُ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّصُ فِي زَمَانِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْمُشَابِهِ بِالشَّيْطَانِ إِلَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْكَمَالِ وَالتَّكْمِيلِ، فَعَرَفَ دِينَ اللَّهِ أَوَّلًا بِتَفْصِيلِهِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَعَمَلَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ الْمَشْرُوعُ (فَجَاهَدَ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى تَحْصِيلِ إِعْلَاءِ دِينِ اللَّهِ (بِلِسَانِهِ) أَيْ: بِطَرِيقِ النَّصِيحَةِ وَالْبَيَانِ (وَيَدِهِ) أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ وَقُوَّةٌ (وَقَلْبِهِ) أَيْ: بِإِنْكَارِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقِيَامًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَذَلِكَ الَّذِي سَبَقَتْ لَهُ السَّوَابِقُ) أَيِ: السِّعَادَاتُ السَّابِقَةُ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِةِ اللَّاحِقَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] أَيِ: الْجَامِعُونَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ وَالتَّكْمِيلِ، وَدَرَجَاتِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالتَّعْلِيمِ {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] فَفِي كَلَامِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ: مَنْ عَمِلَ وَعَلِمَ وَعَلَّمَ يُدْعَى فِي الْمَلَكُوتِ عَظِيمًا. ( «وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ فَصَدَّقَ لَهُ» ) أَيْ: فَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا يَجِبُ تَصْدِيقُهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْحَقِّ وَالنَّهْيِ عَنِ الْبَاطِلِ، وَاكْتَفَى بِهِ عَنِ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ لِعَجْزِهِ أَوْ ضَعْفِ قَلْبِهِ وَقُوَّةِ خَصْمِهِ. (وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ فَسَكَتَ عَلَيْهِ) أَيْ: تَارِكًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِغَيْرِهِ مُكْتَفِيًا بِإِنْكَارِ قَلْبِهِ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ أَوْ ضَعْفِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ إِنْكَارِ قَلْبِهِ قَوْلُهُ: (فَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ) أَيْ: بِعَمَلِ حَقٍّ (أَحَبَّهُ) أَيْ: بِقَلْبِهِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ أَوْ لِأَجْلِهِ (وَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ بِبَاطِلٍ) أَيْ: مَنْ يَعْمَلُ الشَّرَّ (أَبْغَضَهُ عَلَيْهِ) أَيْ: وَتَرَكَ مُصَاحَبَتَهُ وَمُجَالَسَتَهُ وَلَوْ كَانَ مَنْ كَانَ (فَذَلِكَ يَنْجُو عَلَى إِبْطَانِهِ) أَيْ: إِبِطَانِ مَا ذُكِرَ فِي قَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الْبَاطِلِ (كُلِّهِ) : تَأْكِيدٌ مُفِيدٌ

لِأَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِلْأَمْرَيْنِ لَا مُقْتَصِرًا عَلَى أَحَدِهِمَا فَتَأَمَّلْ هَذَا. وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: السَّوَابِقُ جَمْعُ سَابِقَةٍ وَهِيَ الْخَصْلَةُ الْمُفَضَّلَةُ إِمَّا السَّعَادَةُ وَإِمَّا الْبُشْرَى بِالثَّوَابِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِمَّا التَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] وَقَوْلُهُ: " «عَرَفَ دِينَ اللَّهِ فَجَاهَدَ عَلَيْهِ» " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. هُوَ مِنْ بَابِ التَّقْسِيمِ الْحَاصِرِ، لِأَنَّ النَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِمَّا سَابِقٌ أَوْ مُقْتَصِدٌ أَوْ دُونَهُمَا، فَالْفَاءَاتُ فِي قَوْلِهِ: فَجَاهَدَ فَصَدَّقَ فَسَكَتَ، مُسَبَّبَاتٌ عَنِ الْعِرْفَانِ، فَمَعْنَى الْأَوَّلِ مَنْ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَتَصَلَّبَ فِي دِينِهِ، فَبَدَّلَ جُهْدَهُ فِي الْمُجَاهَدَةِ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَقَلْبِهِ، وَمَعْنَى الثَّالِثِ مَنْ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ وَسَكَتَ فَلَمْ يُجْهُدْ فِيهِ إِلَّا عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ، وَذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " فَيَبْقَى قَوْلُهُ: فَصَدَّقَ بِهِ فِي دَرَجَةِ الْمُقْتَصِدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا هُوَ دُونَ الْأَوْلَى، وَفَوْقَ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ أَنْ يُجَاهِدَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، وَالتَّصْدِيقُ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي اللِّسَانِ مَجَازًا فِي الْعَمَلِ، فَتَصْدِيقُهُ هُنَا مُعَبَّرٌ بِهِ عَنْ دَفْعِ الْمُنْكِرِ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ.

5152 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جِبْرَئِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِ اقْلِبْ مَدِينَةَ كَذَا وَكَذَا بِأَهْلِهَا، قَالَ: يَا رَبِّ! إِنَّ فِيهِمْ عَبْدَكَ فُلَانٌ: لَمْ يَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ ". قَالَ: " فَقَالَ: اقْلِبْهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، فَإِنَّ وَجْهَهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ فِيَّ سَاعَةً قَطُّ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5152 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنِ اقْلِبْ) : هَمْزَةُ وَصْلٍ وَلَامٌ مَكْسُورَةٌ (مَدِينَةَ كَذَا وَكَذَا بِأَهْلِهَا) أَيْ: مَصْحُوبَةٌ مَعَهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي أَوْحَى مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَالْبَاءَ مُقَدَّرَةٌ (فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِنَّ فِيهِمْ عَبْدَكَ فُلَانًا لَمْ يَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حِفْظِ الْأَوْلِيَاءِ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (فَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى: (اقْلِبْهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ) : فِي تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا إِيذَانٌ بِوَعِيدٍ شَدِيدٍ (فَإِنَّ وَجْهَهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ) أَيْ: لَمْ يَتَغَيَّرْ (فِيَّ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: فِي حَقِّي وَلَأَجْلِي، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ غَضَبِ إِنْكَارِ الْقَلْبِ عَلَى مُرْتَكِبِ الْمُنْكَرِ (سَاعَةً) أَيْ: وَاحِدَةً (قَطُّ) أَيْ: أَبَدًا، وَفِيهِ تَوْسِعَةٌ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَوْ غَضِبَ عَلَيْهِ مَرَّةً لِلَّهِ لَسُومِحَ فِي بَقِيَّةِ أَوْقَاتِ عُمْرِهِ.

5153 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَا لَكَ إِذَا رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ فَلَمْ تُنْكِرْهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَيُلَقَّى حُجَّتَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! خِفْتُ النَّاسَ وَرَجَوْتُكَ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5153 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَا لَكَ إِذَا رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ فَلَمْ تُنْكِرْهُ» ) أَيْ: بِلِسَانِكَ أَوْ يَدِكَ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَيُلَقَّى) : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ (حُجَّتَهُ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: بَيِّنَتَهُ عَلَيْهَا وَيُلَقَّنُ بِهَا إِذَا كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ إِنْجَاءَهُ. (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! خِفْتُ النَّاسَ وَرَجَوْتُكَ) : فِيهِ اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ، وَإِظْهَارٌ لِلْعَجْزِ، وَاعْتِمَادٌ عَلَى كَرَمِ الرَّبِّ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِيمَنْ يَخَافُ سَطْوَتَهُمْ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهَا عَنْ نَفْسِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا مَعْذُورٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا يُعَاتَبُ عَلَيْهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَلَقِّي الْحُجَّةِ، بَلْ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَصَّرَ فِي الْجُمْلَةِ فَيُلْهِمُهُ اللَّهُ الْمَعْذِرَةَ. (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

5154 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ خَلِيقَتَانِ، تُنْصَبَانِ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ فَيُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ وَيُوعِدُهُمُ الْخَيْرَ، وَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَيَقُولُ: إِلَيْكُمْ إِلَيْكُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ إِلَّا لُزُومًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5154 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ خَلِيقَتَانِ) أَيْ: مَخْلُوقَتَانِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى سَيَخْلُقَانِ خَلْقًا آخَرَ كَسَائِرِ الْمَعَانِي مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيُجَسَّدَانِ وَيُجَسَّمَانِ لِقَوْلِهِ: (تُنْصَبَانِ) : بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ التَّاءَ فِي الْخَلِيقَةِ لَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، بَلْ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَظْهَرَانِ ( «لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ فَيُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ» ) أَيْ: أَهْلُ الْمَعْرُوفِ بِالْفِعْلِ أَوِ الْأَمْرِ (وَيُوعِدُهُمُ الْخَيْرَ) أَيْ: وَيُوعِدُهُمُ ابْتِغَاءَ الْجَمِيلِ وَالْجَزَاءِ الْجَزِيلِ، وَبِالْمُوَاصَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ (وَأَمَّا الْمُنْكَرُ، فَيَقُولُ) أَيْ: لِأَصْحَابِ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ (إِلَيْكُمْ إِلَيْكُمْ) أَيِ: ابْعُدُوا عَنِّي، وَتَنَحَّوْا مِنْ قُرْبِي (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ إِلَّا لُزُومًا) أَيْ: لُصُوقًا وَقُرْبًا مِنْ نَتِيجَةِ الْمُنْكَرِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عِتَابِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَظْهَرُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَأَطْيَبِ رِيحٍ فِي الْقَبْرِ، وَكَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَمَلَ الطَّالِحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ: ( «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهَ» ) : وَتَحْقِيقُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِذَوَاتِهَا، أِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِرَبْطِهِمَا رَبْطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ: أَخَافُ وَأَرْجُو عَفْوَهُ وَعِقَابَهُ وَأَعْلَمُ حَقًّا أَنَّهُ حُكَمٌ عَدْلُ فَإِنْ يَكَ عَفْوًا فَهُوَ مِنْهُ تَفَضُّلٌ وَإِنْ يَكَ تَعْذِيبًا فَإِنِّي لَهُ أَهْلُ وَالتَّدْقِيقُ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ أَنَّ السَّبَبَ الْفَاعِلِيَّ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ بِمُقْتَضَى فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ وَبِمُوجِبِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْقَابِلِيُّ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَيْضًا مِنْهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّ قَابِلِيَّةَ الْخَيْرِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي مِنَ الْفَيْضِ الْأَقْدَسِ الَّذِي لَا دَخْلَ لِلِاخْتِيَارِ فِيهِ، وَقَابِلِيَّةَ الشَّرِّ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْحَادِثِ بِسَبَبِ ظُهُورِ النَّفْسِ بِالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْحَاجِيَّةِ لِلْقَلْبِ الْمُكَدِّرَةِ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ، حَتَّى احْتَاجَ إِلَى الصَّقْلِ بِالرَّزَايَا وَالْبَلَايَا وَنَحْوَهَا، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وَهَهُنَا يَتَمَوَّجُ أَمْوَاجُ بَحْرِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لِتُقَسِّمَ الْعِبَادَ فِيمَا يَفْعَلُونَ، وَسَفِينَةُ النَّجَاةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[كتاب الرقاق]

[كِتَابُ الرِّقَاقِ]

[25] كِتَابُ الرِّقَاقِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5155 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [25] كِتَابُ الرِّقَاقِ الرِّقَاقُ: بِالْكَسْرِ جَمْعُ رَقِيقٍ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ رِقَّةٌ أَيْ: لَطَافَةٌ قَالَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ السُّيُوطِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَرِقُّ بِهَا الْقُلُوبُ إِذَا سُمِعَتْ، وَتَرْغَبُ عَنِ الدُّنْيَا بِسَبَبِهَا، وَتَزْهَدُ فِيهَا. سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُحْدِثُ رِقَّةً وَرَحْمَةً. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5155 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَتَانِ) : مُبْتَدَأٌ (مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) : صِفَةٌ لَهُ أَوْ خَبَرُهُ (الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) أَيْ: صِحَّةُ الْبَدَنِ وَالْقُوَّةُ الْكَسْبِيَّةُ وَفَرَاغُ الْخَاطِرِ بِحُصُولِ الْأَمْنِ، وَوُصُولُ كِفَايَةِ الْأَمْنِيَّةِ، وَالْمَعْنَى لَا يَعْرِفُ قَدْرَ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ حَيْثُ لَا يَكْسِبُونَ فِيهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ كِفَايَةَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مَعَادِهِمْ فَيَنْدَمُونَ عَلَى تَضْيِيعِ أَعْمَارِهِمْ عِنْدَ زَوَالِهَا وَلَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ. قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» ". وَفِي حَاشِيَةِ السُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ الْعُلَمَاءُ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَفَرَّغُ لِلطَّاعَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُكَفِّيًا صَحِيحَ الْبَدَنِ، فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا، وَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا، فَلَا يَكُونُ مُتَفَرِّغًا لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِشُغْلِهِ بِالْكَسْبِ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْأَمْرَانِ وَكَسَلَ عَنِ الطَّاعَةِ، فَهُوَ الْمَغْبُونُ أَيِ: الْخَاسِرُ فِي التِّجَارَةِ. مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَبْنِ فِي الْبَيْعِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْغَبْنُ كِنَايَةً عَنْ فَسَادِ حَالِهِ وَضَيَاعِ مَالِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَهْ ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ وَقَالَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ ابْنُ الْفَارِضِ: عَلَى نَفْسِهِ فَلْيَبْكِ مَنْ ضَاعَ عُمْرُهُ ... وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ وَلَا سَهْمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ.

5156 - وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ» ؟ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5156 - (وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " وَاللَّهِ) : قَسَمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ الْحُكْمِ (مَا الدُّنْيَا) : " مَا " نَافِيَةٌ أَيْ: مَا مَثَلُ الدُّنْيَا مِنْ نَعِيمِهَا وَزَمَانِهَا (فِي الْآخِرَةِ) أَيْ: فِي جَنْبِهَا وَمُقَابَلَةِ نَعِيمِهَا وَأَيَّامِهَا (إِلَّا مِثْلُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَرَفْعِ اللَّامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِهَا، وَمَا فِي قَوْلِهِ: (مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ) : مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: مِثْلَ جَعْلِ أَحَدِكُمْ (أُصْبُعَهُ) : وَفِي الْجَامِعِ: بِزِيَادَةِ هَذِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَصْغَرُ الْأَصَابِعِ (فِي الْيَمِّ) أَيْ: مَغْمُوسًا فِي الْبَحْرِ الْمُفَسَّرِ بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ (فَلْيَنْظُرْ) أَيْ: فَلْيَتَأَمَّلْ أَحَدُكُمْ (بِمَ يَرْجِعُ) أَيْ: بِأَيِّ: شَيْءٍ يَرْجِعُ أُصْبُعُ أَحَدِكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ يَرْجِعُ ضُبِطَ بِالتَّذْكِيرِ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّأْنِيثِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ ضَمِيرَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْأُصْبُعِ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَقَدْ يُذَكَّرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمَعْنَى

فَلْيَتَفَكَّرْ بِأَيِّ مِقْدَارٍ مِنَ الْبَلَّةِ الْمُلْتَصِقَةِ مِنَ الْيَمِّ يَرْجِعُ أُصْبُعُهُ إِلَى صَاحِبِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى بِمَ يَرْجِعُ الْحَالُ وَيَنْتَقِلُ الْمَآلُ؟ وَحَاصِلُهُ أَنَّ مِنَحَ الدُّنْيَا وَمِحَنَهَا فِي كَسْبِ الْجَاهِ وَالْمَالُ مِنَ الْأُمُورِ الْفَانِيَةِ السَّرِيعَةِ الزَّوَالِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْرَحَ وَيَغْتَرَّ بِسَعَتِهَا، وَلَا يَجْزَعَ وَيَشْكُوَ مِنْ ضِيقِهَا، بَلْ يَقُولُ فِي الْحَالَتَيْنِ: «لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ» ! فَإِنَّهُ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، وَأُخْرَى فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَجَمْعِيَّةُ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَيَصْرِفُهَا فِي الطَّاعَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وُضِعَ مَوْضِعُ قَوْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَحْضِرُ تِلْكَ الْحَالَةَ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ هَلْ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ أَمْ لَا؟ وَهَذَا تَمْثِيلٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ وَإِلَّا فَأَيْنَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمُتَنَاهِي وَغَيْرِ الْمُتَنَاهِي؟ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

5157 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ قَالَ: " أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ! قَالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5157 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِجَدْيٍ) أَيْ: وَلَدِ مَعِزٍ (أَسَكَّ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ: صَغِيرِ الْأُذُنِ أَوْ عَدِيمِهَا أَوْ مَقْطُوعِهَا (مَيِّتٍ قَالَ: " أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟) أَيْ: مَثَلًا (فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ) أَيْ: بِشَيْءٍ مَا مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ مِنْ تُرَابٍ وَغَيْرِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّا لَا نُحِبُّهُ بِلَا شَيْءٍ أَيْضًا (قَالَ: " فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا) أَيْ: لَجَمِيعُ أَنْوَاعِ لَذَّاتِهَا (أَهْوَنُ) أَيْ: أَسْهَلُ وَأَحْقَرُ وَأَذَلُّ " عَلَى اللَّهِ " أَيْ: عِنْدَهُ تَعَالَى " مِنْ هَذَا " أَيْ: مِنْ هَوَانِ هَذَا الْجَدْيِ " عَلَيْكُمْ ": وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي أَنَّ الدُّنْيَا إِنْ كَانَتْ تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى فِيهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاءٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّزْهِيدُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْعُقْبَى ; فَإِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، مَا أَنَّ تَرْكَ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ عِبَادَةٍ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مُحِبَّ الدُّنْيَا وَلَوِ اشْتَغَلَ بِأُمُورِ الدِّينِ تَكُونُ أَعْمَالُهُ مَدْخُولَةً بِأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ، وَتَارِكَ الدُّنْيَا وَلَوِ اشْتَغَلَ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ يَكُونُ لَهُ مَطْمَعٌ أُخْرَوِيٌّ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَرْبَابِ الْيَقِينِ: مَنْ أَحَبِّ الدُّنْيَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى هِدَايَتِهِ جَمِيعُ الْمُرْشِدِينَ، وَمَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَلَالَتِهِ جَمِيعُ الْمُفْسِدِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5158 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5158 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» ) أَيْ: كَالسَّجْنِ لِلْمُؤْمِنِ فِي جَنْبِ مَا أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَكَالْجَنَّةِ لِلْكَافِرِ فِي جَنْبِ مَا أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ عَرَضَ نَفْسَهُ عَنِ الْمَلَاذِ وَأَخَذَهَا بِالشَّدَائِدِ، فَكَأَنَّهُ فِي السِّجْنِ، وَالْكَافِرَ فَرَّجَهَا بِالشَّهَوَاتِ فَهِيَ لَهُ كَالْجَنَّةِ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْفَائِقِ. وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ مَا قَالَهُ فُضَيْلُ بْنِ عِيَاضٍ: مَنْ تَرَكَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَهُوَ فِي سِجْنٍ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَتْرُكَ لَذَّاتِهَا وَتَمَتُّعَاتِهَا فَأَيُّ سَجْنٍ عَلَيْهِ؟ وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَرَاتِبَ السِّجْنِ وَمَنَازِلَهُ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهِ، مَعَ أَنَّ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ ضِيقِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنِ ارْتِكَابِ الْوَاجِبَاتِ الْفِعْلِيَّةِ، وَاجْتِنَابِ الْأُمُورِ الْمَنْهِيَّةِ، وَكَذَا مِنْ مَشَقَّاتِ الْأَحْوَالِ الْكَوْنِيَّةِ مِنَ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَالْبَلَاءِ وَالْغَلَاءِ وَمَوْتِ الْأَحِبَّاءِ وَغَلَبَةِ الْأَعْدَاءِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ النُّطْفَةِ وَأَطْوَارِهَا فِي مَشِيمَةِ الْبَطْنِ إِلَى الظُّهُورِ فِي الْمَهْدِ وَالْبُطُونِ فِي اللَّحْدِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْكَدِّ وَالْكَبَدِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] أَيْ: لَا يَزَالُ فِي تَعَبٍ عَظِيمٍ مَبْدَؤُهُ ظُلْمَةُ الرَّحِمِ وَمَضِيقُهُ، وَمُنْتَهَاهُ الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ هَذَا السِّجْنَ، إِمَّا إِلْبَاسُ الْخُلَعِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْقَرَارُ فِي الْمَنَاصِبِ الْعَلِيَّةِ، وَإِمَّا تَسْلِيطُ الزَّبَانِيَةِ بِمُوجِبِ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ عَلَيْهِ، وَنَقْلُهُ مِنَ السَّجْنِ السَّهْلِ الْفَانِي إِلَى الْحَبْسِ الصَّعْبِ الْبَاقِي، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا مَاتَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ سُمِعَ هَاتِفٌ يَهْتِفُ: أُطْلِقَ دَاوُدُ مِنَ السِّجْنِ. قَالَ أَبُو حَفْصٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ: إِنَّ السَّجْنَ وَالْخُرُوجَ مِنْهُ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَلَى السَّاعَاتِ وَمُرُورِ الْأَوْقَاتِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ كُلَّمَا ظَهَرَتْ بِصِفَاتِهَا أَظْلَمَ الْوَقْتُ عَلَى

الْقَلْبِ حَتَّى ضَاقَ، وَانْكَمَدَ، وَهَلِ السِّجْنُ إِلَّا تَضْيِيقٌ وَحَجْزٌ مِنَ الْخُرُوجِ وَالْوُلُوجِ، فَكُلَّمَا هَمَّ الْقَلْبُ بِالتَّبَرُّؤِ عَنْ مَشَائِمِ الْأَهْوَاءِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالتَّخَلُّصِ عَنْ قُيُودِ الشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةِ تَسَبُّبًا إِلَى الْآجِلَةِ، وَتَنَزُّهًا فِي فَضَاءِ الْمَلَكُوتِ، وَمَشَاهَدَةً لِلْجَمَالِ الْأَزَلِيِّ حَجَزَهُ الشَّيْطَانُ الْمَرْدُودُ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْمَطْرُودِ بِالِاحْتِجَابِ، فَيُدْلَى بِحَسَبِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ إِلَيْهِ، فَكَدَّرَ صَفْوَ الْعَيْشِ عَلَيْهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِ طَبْعِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ السُّجُونِ وَأَضْيَقِهَا، فَإِنَّ مَنْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِهِ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ حَيْثُ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] الْآيَةَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَلْمَانَ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلَفْظُهُ: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ» ". وَالسَّنَةُ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْقَحْطُ وَالْجَدَبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: ( «إِنَّ الدُّنْيَا جَنَّةُ الْكَافِرِ وَسِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ حِينَ تَخْرُجُ نَفْسُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي سِجْنٍ فَأُخْرِجَ مِنْهُ فَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ فِي الْأَرْضِ وَيَتَفَسَّحُ فِيهَا» ) . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: ( «يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَالْقَبْرَ أَمْنُهُ، وَالْجَنَّةَ مَصِيرُهُ. يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّ الدُّنْيَا جَنَّةُ الْكَافِرِ، وَالْقَبْرَ عَذَابُهُ، وَالنَّارَ مَصِيرُهُ» ) . وَرَوَى ابْنُ لَالَ عَنْ عَائِشَةَ: الدُّنْيَا لَا تَصْفُو لِمُؤْمِنٍ، كَيْفَ وَهِيَ سِجْنُهُ وَبَلَاؤُهُ.

5159 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5159 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً» ) : قَالَ شَارِحٌ: أَيْ لَا يُضِيعُ أَجْرَ حَسَنَةِ الْمُؤْمِنِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ حَاصِلُ الْمَعْنَى، وَأَمَّا بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ وَالْمَعْنَى، فَالظَّالِمُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44] وَفِي الْقَامُوسِ: ظَلَمَهُ حَقَّهُ أَيْ: مَنَعَهُ إِيَّاهُ، فَالْحَدِيثُ تَفْسِيرٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَتَبْيِينٌ لِمَا فِيهِ مِنْ نَوْعَيْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَبَيَانُ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْعُقْبَى، كَمَا قَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وَلِذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ كَانَ لِي حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ لَكَفَتْنِي، بِنَاءً عَلَى الْمُضَاعَفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمَثُوبَةِ الْعَظِيمَةِ الْمَسْطُورَةِ. (يُعْطَى) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُعْطَى الْمُؤْمِنُ كُلَّ خَيْرٍ (بِهَا) أَيْ: بِسَبَبِ تِلْكَ الْحَسَنَةِ (فِي الدُّنْيَا) : مِنْ رَفْعِ الْبَلَاءِ وَتَوْسِعَةِ الرِّزْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّعْمَاءِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: يُعْطِي اللَّهُ إِيَّاهُ بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ أَجْرًا فِي الدُّنْيَا (وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَوِ الْفَاعِلِ طِبْقَ مَا قَبْلَهُ (وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ لَا غَيْرَ أَيْ: يُعْطَى، وَفِي الْعُدُولِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَطْمَحَ نَظَرِ الْكَافِرِ فِي الْعَطَاءِ إِنَّمَا هُوَ بَطْنُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُجْزَى (بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ) أَيْ: مِنْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ وَإِحْسَانٍ لِيَتِيمٍ وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَنَحْوِهَا مِنْ طَاعَاتٍ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا الْإِسْلَامُ (فِي الدُّنْيَا) : ظَرْفٌ لِيُطْعَمُ (حَتَّى إِذَا أَفْضَى) أَيْ: وَصَلَ (إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ) : بِالتَّأْنِيثِ وَتُذَكَّرُ أَيْ: لَمْ يَبْقَ وَلَمْ يُوجَدْ (لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا) : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ: لَا يَظْلِمُ لَا يُنْقِصُ، وَهُوَ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا (مُؤْمِنًا) وَالْآخَرُ (حَسَنَةً) ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اكْتَسَبَ حَسَنَةً يُكَافِئُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَيَرْغُدَ عَيْشَهُ فِي

الدُّنْيَا، وَبِأَنْ يُجْزَى وَيُثَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَالْكَافِرُ إِذَا اكْتَسَبَ حَسَنَةً فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يَفُكَّ أَسِيرًا أَوْ يُنْقِذَ غَرِيقًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَلَا يُجْزَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ يُقَابِلُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْفَضْلِ، وَالْكَافِرَ بِالْعَدْلِ، وَلَا يُسْئِلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطَى عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا» " اهـ. وَمُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجْزَى بِسَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمِحْنَةِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَيِّئَةٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا» ". وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَمَنْ يَنْجُو مِنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَحَرُّرُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ " قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " هُوَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ» ". وَقَدْ صَحَّ عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ: الْمَصَائِبُ وَالْأَمْرَاضُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: " «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا» ". وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَرِيمًا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

5160 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ: (حُفَّتْ) بَدَلَ (حُجِبَتْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5160 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حُجِبَتِ النَّارُ) أَيْ: أُحِيطَتْ (بِالشَّهَوَاتِ) : كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا (وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ) : كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ: (حُفَّتْ) بَدَلَ (حُجِبَتْ) : يَعْنِي لَفْظُ حُجِبَتْ لِلْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ حُفَّتْ لِمُسْلِمٍ فَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعْنًى، وَقَدْ وَافَقَ مُسْلِمًا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، لَكِنَّ حَدِيثَهُمْ فِيهِ تَقَدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مُخَالِفٌ لِلْبُخَارِيِّ فِي تَرْتِيبِهِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: ( «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» ) وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ لَا يُوصَلُ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا بِارْتِكَابِ الْمَكَارِهِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى النَّارِ إِلَّا بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ، وَكَذَلِكَ بِهَا مَحْجُوبَتَانِ بِهِمَا، فَمَنْ هَتَكَ الْحِجَابَ وَصَلَ إِلَى الْمَحْجُوبِ، فَهَتْكُ حِجَابِ الْجَنَّةِ بِاقْتِحَامِ الْمَكَارِهِ، وَهَتْكُ حُجُبِ النَّارِ بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَّا الْمَكَارِهُ فَيَدْخُلُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ وَالْعَادَاتُ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَالصَّبْرُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ الَّتِي النَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَةُ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ الْمُبَاحَةُ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا اهـ. وَيُنَاسِبُ هَذَا الْحَدِيثَ مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ بَنَى مَكَّةَ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ وَالدَّرَجَاتِ» " أَيْ: لَا تَحْصُلُ دَرَجَاتُهَا إِلَّا بِالتَّحَمُّلِ عَلَى مَكْرُوهَاتِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5161 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتُقِشَ. طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثُ رَأْسُهُ، مُغَبَّرَةٌ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5161 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعِسَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَيُفْتَحُ أَيْ: خَابَ وَخَسِرَ (عَبْدُ الدِّينَارِ) أَيِ: الَّذِي اخْتَارَهُ عَلَى رِضَا مَعْبُودِهِ الْجَبَّارِ بِأَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَأَنْ لَا يَصْرِفَهُ فِي مَحَلِّهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ) : وَهَذَانَ مِثَالَانِ وَخُصَّا بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُمَا النَّقْدَانِ الْحَاصِلُ بِهِمَا جَمِيعُ مَقَاصِدِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ. (وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ) : وَهِيَ ثَوْبُ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ مُعْلَمٍ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي لِبْسِهَا الْخُيَلَاءُ وَالرُّعُونَةُ وَالرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، وَمِنْ كَمَالِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا وَعَدَمِ الطَّاقَةِ عَلَى مُفَارَقَتِهَا، فَكَأَنَّهُ عَبْدٌ لَهَا،

وَقِيلَ: هِيَ كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ لَهُ عَلَمَانِ أَرَادَ بِهِ مُحِبَّ كَثْرَةِ الثِّيَابِ النَّفِيسَةِ وَالْحَرِيصَ عَلَى التَّحَمُّلِ فَوْقَ الطَّاقَةِ، تَعِسَ ذَمُّ التَّقَيُّدِ بِالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَوْ مَكْرُوهَةً، وَعَدَمُ التَّعَلُّقِ بِتَخْلِيَةِ الْبَاطِنِ عَنِ الْأَوْصَافِ الدَّنِيَّةِ وَتَحْلِيَتُهَا بِالنُّعُوتِ الرَّضِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ، ثُمَّ تَطْوِيلُ الْأَكْمَامِ وَجَرُّ الْأَذْيَالِ حَرَامٌ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ وَمَكْرُوهٌ إِذَا كَانَ بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ اللِّبْسُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ فِي اخْتِيَارِ التَّكَلُّفِ وَالتَّقَشُّفِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] الْآيَةَ. وَاخْتَلَفَ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ، وَمُخْتَارُ الشَّاذِلِيَّةِ، وَالنَّقْشَبَنْدِيَّةِ وَالْبِكْرِيَّةِ التَّلَبُّسُ بِلِبَاسِ الْأَغْنِيَاءِ كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ فَرْقَدًا السَّبَخِيَّ دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ وَعَلَى الْحَسَنِ حُلَّةٌ فَجَعَلَ يَلْمِسُهَا فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَى ثِيَابِي؟ ثِيَابِي ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَثِيَابُكَ ثِيَابُ أَهْلِ النَّارِ. بَلَغَنِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ أَصْحَابُ الْأَكْسِيَةِ، ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلُوا الزُّهْدَ فِي ثِيَابِهِمْ وَالْكِبْرَ فِي صُدُورِهِمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَأَحَدُهُمْ بِكِسَائِهِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ لَهَا خَبَرٌ أَوْ دُعَاءٌ عَلَى مَنِ اسْتَعْبَدَهُ حُبُّ الدُّنْيَا، وَاسْتَرَقَّهُ الْهَوَى، وَأَعْرَضَ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْمَوْلَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَتَمَنَّى عَلَى الزَّمَانِ مُحَالًا ... أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرٍّ وَلَمْ يَقُلْ صَاحِبُهَا إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْ يَكُونُ أَسِيرًا لِجَمْعِ الْمَالِ بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي حَقَّ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ. (إِنْ أُعْطِيَ) أَيْ: هَذَا التَّعِيسُ (رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ: غَضِبَ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ وَانْقِلَابِ حَالِهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَانْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] الْآيَةَ. وَكَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَئَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] (تَعِسَ) : كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ لِلتَّشْدِيدِ قَوْلَهُ: (وَانْتَكَسَ) أَيْ: صَارَ ذَلِيلًا (وَإِذَا شِيكَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: دَخَلَ شَوْكٌ فِي عُضْوِهِ (فَلَا انْتُقِشَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ أَيْ: فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِ، أَوْ لَا يَجِدُ مَنْ يُخْرِجُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ لَا يُرْحَمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ بِنَفْسِهِ أَيْضًا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: تَعِسَ إِذَا عَثَرَ وَانْكَبَّ لِوَجْهِهِ، وَقَدْ تُفْتَحُ الْعَيْنُ وَهُوَ دُعَاءُ عَلَيْهِ بِالْخَيْبَةِ لِأَنَّ مَنِ انْتَكَسَ فِي أَمْرِهِ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، وَإِذَا شِيكَ أَيْ: إِذَا شَاكَتْهُ شَوْكَةٌ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِقَاشِهَا، وَهُوَ إِخْرَاجُهَا بِالْمِنْقَاشِ، وَالْخَمِيصَةُ: ثَوْبُ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ مُعْلَمٍ، وَقِيلَ: لَا تُسَمَّى خَمِيصَةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَوْدَاءَ مُعْلَمَةً وَكَانَتْ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ قَدِيمًا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ خُصَّ الْعَبْدُ بِالذِّكْرِ لِيُؤْذَنَ بِانْغِمَاسِهِ فِي مَحَبَّةِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا كَالْأَسِيرِ الَّذِي لَا خَلَاصَ لَهُ عَنْ أَسْرِهِ، وَلَمْ يُقِلْ: مَالِكُ الدِّينَارِ وَلَا جَامِعُ الدِّينَارِ ; لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ الدُّنْيَا الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَا قَدْرَ الْحَاجَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، يُؤْذِنُ إِلَى شِدَّةِ حِرْصِهِ فِي جَمْعِ الدُّنْيَا وَطَمَعِهِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَفِي قَوْلِهِ: " تَعِسَ وَانْتَكَسَ " صَنْعَةٌ لِتَرْدِيدٍ مَعَ التَّرَقِّي أَعَادَ تَعِسَ الَّذِي هُوَ الِانْكِبَابُ عَلَى الْوَجْهِ لِيَضُمَّ مَعَهُ الِانْتِكَاسَ الَّذِي هُوَ الِانْقِلَابُ عَلَى الرَّأْسِ، لِيَتَرَقَّى فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ، ثُمَّ تَرَقَّى مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: " إِذَا شِيكَ فَلَا انْتُقِشَ " عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ فَلَا يُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ إِذَا تَرَحَّمَ لَهُ النَّاسُ رُبَّمَا هَانَ الْخَطْبُ عَلَيْهِ، وَتَسَلَّى بَعْضَ التَّسَلِّي، وَهَؤُلَاءِ بِخِلَافِهِ، بَلْ يُرِيدُ غَيْظَهُمْ بِفَرَحِ الْأَعْدَاءِ وَشَمَاتَتِهِمْ، وَإِنَّمَا خُصَّ انْتِقَاشُ الشَّوْكِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الِانْتِقَاشَ أَسْهَلُ مَا يُتَصَوَّرُ مِنَ الْمُعَاوَنَةِ لَمَّا أَصَابَهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ نَفَى ذَلِكَ الْأَهْوَنَ فَيَكُونُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مَنْفِيًّا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. (طُوبَى) أَيْ: حَالَةٌ طَيِّبَةٌ أَوْ شَجَرَةٌ وَالْجَنَّةُ (لِعَبْدٍ) أَيْ:

خَالِصٍ لِلَّهِ تَعَالَى (آخِذٍ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: مَاسِكٍ (بِعِنَانِ فَرَسِهِ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: بِلِجَامِهِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: طَرِيقِ الْجِهَادِ (أَشْعَثَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ عَبْدٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ (رَأْسُهُ) مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ الْأَشْعَثَ وَهُوَ مُغْبَرُّ الرَّأْسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ عَبْدٍ، وَقَوْلُهُ: (مُغْبَرَّةٍ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، وَفِي أُخْرَى بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ عَبْدٍ، وَقَوْلُهُ: (قَدَمَاهُ) : فَاعِلُهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَشْعَثَ وَمُغْبَرَّةً حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي آخِذٍ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ مِنَ الْعَبْدِ ; لِأَنَّ مَوْصُوفَ (إِنْ كَانَ) أَيْ: ذَاكَ الْعَبْدُ (فِي الْحِرَاسَةِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: حِمَايَةِ الْجَيْشِ وَمُحَافَظَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَتَهَجَّمَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ (كَانَ) أَيْ: كَامِلًا (فِي الْحِرَاسَةِ) : غَيْرَ مُقَصِّرٍ فِيهَا بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْحِرَاسَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي اللُّغَةِ أَعَمَّ لَكِنَّهَا فِي الْعُرْفِ مُخْتَصَّةٌ بِمُقَدِّمَةِ الْعَسْكَرِ، وَلِذَا قَالَ: (وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ) أَيْ: فِي مُؤَخَّرَةِ الْجَيْشِ (كَانَ فِي السَّاقَةِ) أَيْ: كَامِلًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَيْضًا بِأَنْ لَا يَخَافَ مِنَ الِانْقِطَاعِ، وَلَا يَهْتَمَّ إِلَى السَّبْقِ بَلْ يُلَازِمُ مَا هُوَ لِأَجْلِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ إِذَا اتَّحَدَا يُرَادُ بِالْجَزَاءِ الْكَمَالُ، فَالْمَعْنَى إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ أَوِ السَّاقَةِ يَبْذُلُ جُهْدَهُ فِيهَا، وَلَا يَغْفُلُ عَنْهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ بِالْحِرَاسَةِ حِرَاسَتَهُ مِنَ الْعَدُوِّ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، وَالسَّاقَةُ مُؤَخَّرَةُ الْجَيْشِ، فَالْمَعْنَى ائْتِمَارُهُ لِمَا أُمِرَ، وَإِقَامَتُهُ حَيْثُ أُقِيمَ، لَا يُفْقَدُ مِنْ مَكَانِهِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحِرَاسَةَ وَالسَّاقَةَ لِأَنَّهُمَا أَشَدُّ مَشَقَّةً، وَأَكْثَرُ آفَةً، الْأَوَّلُ عِنْدَ دُخُولِهِمْ دَارَ الْحَرْبِ، وَالْآخِرُ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ. (إِنِ اسْتَأْذَنَ) أَيْ: طَلَبَ الْإِذْنَ فِي دُخُولِ مَحْفِلٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: إِذَا اسْتَأْذَنَ (لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ) أَيْ: لِعَدَمِ مَالِهِ وَجَاهِهِ (وَإِنْ شَفَعَ) أَيْ: لِأَحَدٍ (لَمْ يُشْفَّعْ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُ، وَتَوْضِيحَهُ مَا قِيلَ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ الْتِفَاتِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَأَرْبَابِهَا بِحَيْثُ يَفْنَى بِكُلِّيَّتِهِ فِي نَفْسِهِ، لَا يَبْتَغِي مَالًا وَلَا جَاهًا عِنْدَ النَّاسِ، بَلْ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا، وَلَمْ يَقْبَلِ النَّاسُ شَفَاعَتَهُ، وَعِنْدَ اللَّهِ يَكُونُ شَفِيعًا مُشَفَّعًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ صَدْرَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ: " «لُعِنَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ» " مُخْتَصَرًا.

5162 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا " فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ، قَالَ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ وَقَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ؟ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ. وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5162 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ أَوْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ (مِنْ بَعْدِي) أَيْ: بَعْدَ وَفَاتِي وَفَقْدِ حَيَاتِي (مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا) : بِفَتْحِ الزَّايِ: وَسُكُونُ الْهَاءِ وَبِفَتْحٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: الزَّهْرَةُ وَيُحَرَّكُ النَّبَاتُ أَوْ نَوْرُهُ أَوِ الْأَصْفَرُ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ حُسْنُهَا وَبَهْجَتُهَا، فَقَوْلُهُ: (وَزِينَتُهَا) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالزَّهْرَةِ إِشَارَةً إِلَى حُدُوثِهَا حُلْوَةً خَضِرَةً وَسُرْعَةِ فِنَائِهَا، وَالْمَعْنَى أَنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنَّ كَثْرَةَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ فَتْحِ بِلَادِكُمْ تَمْنَعُكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتَشْغَلُكُمْ عَنِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَتُحَدِثُ فِيكُمُ الْأَخْلَاقَ الدَّنِيَّةَ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَمَحَبَّةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ لَوَازِمِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ، وَمَا بَعْدَهُ حَتَّى الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ ( «فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ» ؟) : بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِرْشَادِ، وَالْمَعْنَى أَيُفْتَحُ عَلَيْنَا وَيَأْتِي الْخَيْرُ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالْمَالِ وَالْحَلَالِ، وَتَوْسِيعِ الرِّزْقِ مَصْحُوبًا بِالشَّرِّ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَرْكُ الْخَيْرِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: الْبَاءُ صِلَةُ يَأْتِي وَهِيَ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: هَلْ يَسْتَجْلِبُ الْخَيْرُ الشَّرَّ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ حُصُولَ الْغَنِيمَةِ لَنَا خَيْرٌ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْخَيْرُ سَبَبًا لِلشَّرِّ؟ (فَسَكَتَ) أَيْ: مُتَأَمِّلًا أَوْ مُسْتَغْرِقًا أَوْ مُنْتَظِرًا لِلْوَحْيِ سُكُوتًا مُمْتَدًّا، (حَتَّى ظَنَّنَا أَنَّهُ يُنَزَّلُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نَزَلَ الْوَحْيُ (عَلَيْهِ) أَيْ: بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ وَإِلَّا فَهُوَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى إِمَّا وَحْيًا جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (فَمَسَحَ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ وَجْهِهِ الشَّرِيفِ (الرُّحَضَاءَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ، عَرَقُ الْحُمَّى عَلَيْهِ مَا فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا عَرَقٌ يَظْهَرُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ

الْوَحْيِ عَلَيْهِ، فَالتَّرْكِيبُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَسَحَ عَنْهُ عَرَقًا كَعَرَقِ أَثَرِ الْحُمَّى تَرْحَضُ الْجَسَدَ أَيْ: تَغْسِلُهُ مِنْ كَثْرَتِهِ. (وَقَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ؟ " وَكَأَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَمِدَهُ) أَيْ: حَمِدَ السَّائِلَ وَاسْتَحْسَنَهُ فِي سُؤَالِهِ لِكَوْنِهِ سُؤَالَ اسْتِرْشَادٍ لِنَفْعِ الْعِبَادِ وَالْعُبَّادِ (فَقَالَ: " إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ) أَيْ: حَقِيقَةً لِتَنَافِيهِمَا، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْخَيْرُ سَبَبًا لِلشَّرِّ، فَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِقَوْلِهِ المُنَاسِبِ لِتَعْبِيرِ الْخَيْرِ بِالزَّهْرَةِ حَيْثُ قَالَ: (وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ) أَيْ: بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَخَلْقِ أَسْبَابِهِ وَآلَتِهِ (مَا يَقْتُلُ) أَيْ: نَبَاتًا أَوْ شَيْئًا يُهْلِكُ الدَّوَابَّ (حَبَطًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: انْتِفَاخَ بَطْنٍ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَهُوَ تَمْيِيزٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَدْ يَقْتُلُ حَقِيقَةً (أَوْ يُلِمُّ) : بِضَمِّ يَاءٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ، أَيْ: يَكَادُ أَنْ يَقْتُلَ وَيَقْرُبُ أَنْ يُهْلِكَ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ خِيَارَ الْعُشْبِ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهُ الْمَاشِيَةُ لَاسْتَطَابَتِهَا إِيَّاهُ حَتَّى تُنْفَخَ بُطُونُهَا عِنْدَ مُجَاوَزَتِهَا حَدَّ الِاعْتِدَالِ، فَتَنْفَتِقَ أَمْعَاؤُهَا مِنْ ذَلِكَ فَتَمُوتَ أَوْ تَقْرُبَ الْمَوْتَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَضْرَابَ الْعُشْبِ فَهِيَ كُلُّهَا خَيْرٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَأْتِي الشَّرُّ مِنْ قِبَلِ إِفْرَاطِ الْأَكْلِ، فَكَذَلِكَ الْمُفْرِطُ فِي جَمْعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، أَوْ مِنَ الْحَلَالِ الْمُشْغِلِ عَنْ حَالِهِ يُكْثِرُ فِي التَّنَعُّمِ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي مَآلِهِ، فَيَقْسُو قَلْبُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، فَيُورِثُ الْأَخْلَاقَ الدَّنِيَّةَ فَيَتَكَبَّرُ وَيَتَجَبَّرُ وَيُقِرُّ النَّاسَ، وَيَمْنَعُ ذَا الْحَقِّ مِنْهَا، فَحَيْثُ آلَ مَآلُ الْمَالِ لِهَلَاكِهِ فِي الدُّنْيَا وَلِعَذَابِهِ فِي الْعُقْبَى يَصِيرُ سَبَبَ الْوَبَالِ وَشَدَّةَ النَّكَالِ وَسُوءَ الْحَالِ. (إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ الطَّرِيُّ الْغَضُّ مِنَ النَّبَاتِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ خُضْرَةٍ، وَرُوِيَ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ، وَالْمَعْنَى يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ كُلَّ آكِلِهِ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَالْبَيَانِ الْمَسْطُورِ لِقَوْلِهِ: (أَكَلَتْ) أَيِ: الْمَاشِيَةُ الْآكِلَةُ الْمُفْرِطَةُ أَكْلَهَا (حَتَّى امْتَدَّتْ) أَيِ: امْتَلَأَتْ وَشَبِعَتْ (خَاصِرَتَاهَا) أَيْ: جَنْبَاهَا، وَعَبَّرَ عَنِ الشِّبَعِ بِامْتِدَادِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَمْتَدَّانِ عِنْدَ امْتِلَاءِ الْبَطْنِ (اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ) أَيْ: ذَاتَهَا وَقُرْصَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا بَرَكَتْ مُسْتَقْبِلَةً إِلَيْهَا تَسْتَمْرِئُ بِذَلِكَ مَا أَكَلَتْ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: تَرَكَتِ الْأَكْلَ وَلَمْ تَأْكُلْ مَا فَوْقَ طَاقَةِ كِرْشِهَا حَتَّى تَقْتُلَهَا كَثْرَةُ الْأَكْلِ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَى مَسْقَطِ ضَوْئِهَا وَاسْتَرَاحَتْ فِيهِ. (فَثَلَطَتْ) أَيْ: أَلْقَتْ رَوْثَهَا رَقِيقًا سَهْلًا (وَبَالَتْ) أَيْ: فَزَالَ عَنْهَا الْحَبَطُ (ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ) أَيْ: ثُمَّ إِذَا حَصَلَ لَهَا خِفَّةٌ وَاحْتَاجَتْ إِلَى الْأَكْلِ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، كَذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ مَا فِي الْمَالِ حَتَّى الْحُقُوقِ، وَعَالَجَ نَفْسَهُ بِالِاحْتِمَاءِ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَغْنِيَاءِ، وَعَرَفَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ كَلَامَ الْحُكَمَاءِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، فَيَكُونُ الْمَالُ حِينَئِذٍ خَيْرًا لَهُ، لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْخَطَرُ فِيهِ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَضُرُّ السَّالِكِينَ بِحَسَبِ الْأَغْلَبِ اخْتَارَ اللَّهُ لِأَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ طَرِيقَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَذَهَبَ الصُّوفِيَّةُ أَجْمَعُهُمْ، وَالْعُلَمَاءُ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ وَمَرَامُ الْمَقَامِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ لُغَةً وَحَلًّا مِنْ جِهَةِ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى، فَفِي النِّهَايَةِ: الْحَبَطُ بِالتَّحْرِيكَ الْهَلَاكُ، يُقَالُ: حَبِطَتِ الدَّابَّةُ تُحْبِطُ حَبَطًا بِالتَّحْرِيكَ إِذَا أَصَابَتْ مَرْعًى طَيِّبًا، فَأَفْرَطَتْ فِي الْأَكْلِ حَتَّى تَنْتَفِخَ فَتَمُوتَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَحْرَارَ الْعُشْبِ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهُ الْمَاشِيَةُ، وَيُلِمُّ أَيْ: يَقَرُبُ وَيَدْنُو مِنَ الْهَلَاكِ، وَالْخَضِرُ بِكَسْرِ الضَّادِ نَوْعٌ مِنَ الْبُقُولِ لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِهَا وَجَيِّدِهَا وَإِنَّمَا تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي إِذَا لَمْ تَجِدْ غَيْرَهَا فَلَا تُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهَا وَلَا تَسْتَمْرِئُهَا. قَالَ الْقَاضِي: آكِلَةَ نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَقْتُلُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ آكِلَهُ إِلَّا آكِلَ الْخَضِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ مِنَ الْمُثْبَتِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَرَأْتُ إِلَّا يَوْمَ كَذَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُظْهِرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ لِوُقُوعِهِ فِي الْكَلَامِ الْمُثْبَتِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْكَشَّافِ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ فِيهِ لِأَنَّ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا بَعْضُ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لِدَلَالَةِ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ وَالتَّقْسِيمِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا آكِلَ الْخَضِرِ غَيْرَ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا، يَشْهَدُ لَهُ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَفِيهِ مَثَلَانِ، ضُرِبَ أَحَدُهُمَا لِلْمُفْرِطِ فِي جَمْعِ الدُّنْيَا وَمَنْعِهَا مِنْ حَقِّهَا، وَضُرِبَ الْآخَرُ لِلْمُقْتَصِدِ فِي أَخْذِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا فَهُوَ مَثَلٌ لِلْمُفْرِطِ الَّذِي يَأْخُذُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَحْرَارَ الْعُشْبِ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهَا الْمَاشِيَةُ، حَتَّى يَنْتَفِخَ بُطُونُهَا لِمَا قَدْ جَاوَزَتْ حَدَّ

الِاحْتِمَالِ فَتَنْفَتِقُ أَمْعَاؤُهَا فَتَهْلِكُ، كَذَلِكَ الَّذِي يَجْمَعُ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا، وَيَمْنَعُ ذَا الْحَقِّ حَقَّهُ يَهْلِكُ فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ النَّارِ، وَأَمَّا مَثَلُ الْمُقْتَصِدِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ " وَذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَتْ مِنْ أَحْرَارِ الْبُقُولِ الَّتِي يُنْبِتُهَا الرَّبِيعُ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهَا الْمَاشِيَةُ، وَلَكِنَّهَا مِنْ كَلَأِ الصَّيْفِيِّ الَّتِي تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي بَعْدَ هَشِيمِ الْبُقُولِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ غَيْرِ اسْتِكْثَارٍ، فَضَرَبَ مَثَلًا لِمَنْ يَقْتَصِدُ فِي أَخْذِ الدُّنْيَا، وَلَا يَحْمِلُهُ الْحِرْصُ عَلَى أَخْذِهَا فَهُوَ يَنْجُو مِنْ وَبَالِهَا. قَالَ الْأَشْرَفُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، إِنَّ الْمُقْتَصِدَ الْمَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ وَإِنْ جَاوَزَ حَدَّ الِاقْتِصَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَقَرُبَ مِنَ السَّرَفِ الْمَذْمُومِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: أَكَلَتْ حَتَّى امْتَدَّتْ خَاصِرَتُهَا، لَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَنْ قَرِيبٍ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ الْمَذْمُومِ، وَلَا يَلْبَثُ عَلَيْهِ، بَلْ يَلْتَجِئُ إِلَى الدَّلَائِلِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ الدَّافِعَةِ لِلْحِرْصِ الْمُهْلِكِ الْقَامِعَةِ لَهُ، وَهُوَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ، فَحَذَفَ مَا حَذَفَ مِنَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهَا عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْمَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الِاقْتِصَادِ وَالْقُرْبِ مِنْ حَدِّ الْإِسْرَافِ مَرَّةً بَعْدَ أُولَى، وَثَانِيَةً بَعْدَ أُخْرَى لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ وَقُوَّتِهَا فِيهِ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَبْعُدَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْحَدِّ الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ الْإِسْرَافُ، وَيَقْرُبُ مِنَ الِاقْتِصَادِ الَّذِي هُوَ الْحَدُّ الْمَحْمُودُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَعَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ لَكِنْ يَجِبُ التَّأْوِيلُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ شَيْئًا يَقْتُلُ آكِلَهُ إِلَّا الْخَضِرَ مِنْهُ إِذَا اقْتَصَدَ فِيهِ آكِلُهُ وَتَحَرَّى دَفْعَ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْهَلَاكِ. (وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ) أَيِ: الْمَحْسُوسَ فِي الْبَالِ (خَضِرَةٌ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (حُلْوَةٌ) : بِضَمِّ الْحَاءِ أَيْ: حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ لِزِيَادَةِ الْمَذَاقِ وَالتَّأْنِيثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، إِذِ التَّقْدِيرُ أَنَّ زَهْرَةَ هَذَا الْمَالِ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَذَلِكَ نَرْوِيهِ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا خَضِرٌ حُلْوٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى تَأْنِيثِ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَيْ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ شَيْءٌ كَالْخَضِرِةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَالْبَقْلَةِ الْخَضِرَةِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَى فَائِدَةِ الْمَالِ أَيْ: أَنَّ الْحَيَاةَ بِهِ أَوِ الْمَعِيشَةَ خَضِرَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْمَالِ بِالدُّنْيَا، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ زِينَتَيِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] فَيُوَافِقُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: " «الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ» . . " عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبَابِ السَّابِقِ اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمَالَ مُشَبَّهٌ بِالْمَرْعَى الْمُشْتَهَاةِ لِلْأَنْهَامِ (فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ) أَيْ: بِقَدْرِ احْتِيَاجِهِ مِنْ طَرِيقِ حِلِّهِ (وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ) أَيْ: فِي مَحَلِّهِ الْوَاجِبِ أَوْ نَدَبَهُ (فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ) أَيْ: مَا يُعَانُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُدْفَعُ بِهِ ضَرُورَاتُ الْمُؤْنَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالْمَعُونَةِ الْوَصْفُ مُبَالَغَةً أَيْ: فَنِعْمَ الْمُعِينُ عَلَى الدِّينِ. (هُوَ) أَيِ: الْمَالُ، وَنَظِيرُ مَا وَرَدَ: نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ، (وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ وَجَمَعَهُ مِنْ حَرَامٍ وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ (كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ) : فَيَقَعُ فِي الدَّاءِ الْعُضَالِ وَالْوَرْطَةِ الْمُهْلِكَةِ لِغَلَبَةِ الْحِرْصِ كَالَّذِي بِهِ جُوعُ الْبَقَرِ، وَكَالْمَرِيضِ الَّذِي لَهُ الِاسْتِسْقَاءُ حَيْثُ مَا يُرْوَى، وَكُلَّمَا يَشْرَبُ يَزِيدُ عَطَشًا وَانْتِفَاخًا (وَيَكُونُ) أَيِ: الْمَالُ (شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: حُجَّةً عَلَيْهِ يَوْمَ يَشْهَدُ عَلَى حِرْصِهِ وَإِسْرَافِهِ، وَأَنَّهُ أَنْفَقَهُ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ لِعِبَادِ اللَّهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِثَالُ الْمَالِ مِثَالُ الْحَيَّةِ الَّتِي فِيهَا تِرْيَاقٌ نَاقِعٌ وَسُمٌّ نَافِعٌ، فَإِنْ أَصَابَهَا الْمُعَزِّمُ الَّذِي يَعُودُ وَجْهُ الِاحْتِرَازِ عَنْ شَرِّهَا وَطَرِيقِ اسْتِخْرَاجِ تِرْيَاقِهَا كَانَتْ نِعْمَةً، وَإِنْ أَصَابَهَا السَّوَادِيُّ الْغَبِيُّ فَهِيَ عَلَيْهِ بَلَاءٌ مُهْلِكٌ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَهُ الْخَوَاجَةُ عُبَيْدُ اللَّهِ النَّقْشَبَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الدُّنْيَا كَالْحَيَّةِ، فَكُلُّ مَنْ يَعْرِفُ رُقْيَتَهَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا، وَإِلَّا فَلَا. فَقِيلَ وَمَا رُقْيَتُهَا؟ فَقَالَ: أَنْ يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ يَأْخُذُهَا وَفِي أَيْنَ يَصْرِفُهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5163 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكُكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5163 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ) : بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِلِاهْتِمَامِ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَأَخْشَى عَلَيْكُمْ) وَالْمَعْنَى: مَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ السَّلَامَةُ وَأَنَّهُ أَنْفَعُ لَكُمْ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَقْدِرَ وَإِنْ كَانَ كَادَ الْفَقْرَ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا (وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ) أَيْ: تُوَسَّعَ (عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا) أَيْ: فَتَعْمَلُوا مُعَامَلَةَ الْأَغْنِيَاءِ الْأَغْنِيَاءَ فَتَهْلَكُوا بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ. (كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أَيْ: فَهَلَكُوا بِسَبَبِ عَدَمِ تَرَحُّمِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ لِأَجْلِ كَمَالِ الْمَيْلِ إِلَى الْمَالِ (فَتَنَافَسُوهَا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَطْفٌ عَلَى تُبْسَطَ، مِنْ نَافَسْتُ فِي الشَّيْءِ أَيْ: رَغِبْتُ فِيهِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُنَافَسَةَ وَالتَّنَافُسَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ النَّفِيسِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] وَالْمَعْنَى فَتَخْتَارُوهَا أَنْتُمْ وَتَرْغَبُوا فِيهَا غَايَةَ الرَّغْبَةِ (كَمَا تَنَافَسُوهَا) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَيْ: كَمَا رَغِبَ فِيهَا مَنْ قَبْلَكُمْ (وَتُهْلِكُكُمْ) أَيِ: الدُّنْيَا (كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ؟ قُلْتُ: فَائِدَتُهُ الِاهْتِمَامُ بِشَأْنِ الْفَقْرِ لِأَنَّ الْأَبَ الْمُشْفِقَ إِذَا احْتَضَرَ إِنَّمَا يَكُونُ اهْتِمَامُهُ بِشَأْنِ الْوَلَدِ وَضَيَاعِهِ وَإِعْدَامِهِ الْمَالَ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " حَالِي مَعَكُمْ خِلَافَ حَالِ الْوَالِدِ فَإِنِّي لَا أَخْشَى الْفَقْرَ كَمَا يَخْشَاهُ الْوَالِدُ وَلَكِنْ خَوْفِي مِنَ الْغِنَى الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ " ثُمَّ التَّعْرِيفُ فِي الْفَقْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ، فَهُوَ الْفَقْرُ الَّذِي كَانَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْدَامِ وَالْقِلَّةِ، وَالْبَسْطُ هُوَ مَا بَسَطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ وَهُوَ الْفَقْرَ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مَا هُوَ، وَالْبَسْطُ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَنَظِيرُهُ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَقْرِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَالْبَدَنِ، وَبِالْغِنَى الزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلطُّغْيَانِ، وَشَغْلِ الْإِنْسَانِ عَنْ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ، فَالْمَعْنَى كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَرْغَبُونَ فِيهَا فَتَشْتَغِلُونَ بِجَمْعِهَا، وَتَحْرِصُونَ عَلَى إِمْسَاكِهَا، فَتَطْغَوْنَ بِهَا فَتَهْلَكُونَ بِهَا. قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى - أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَالَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَطْمَعُ النَّاسُ وَيَتَوَقَّعُونَ مِنْهُ فَمَنَعَهُ مِنْهُمْ فَتَقَعُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ " فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ اهـ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْحَدِيثَ بَلْ مُحَالٌ بِلَا مَجَالٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: " «مَنْ أَصْبَحَ حَزِينًا عَلَى الدُّنْيَا أَصْبَحَ سَاخِطًا عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى، وَمَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ فَإِنَّمَا يَشْكُو اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ تَضَعْضَعَ لِغَنِيٍّ لِيَنَالَ مِمَّا فِي يَدَيْهِ أَسْخَطَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى» ". وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: " «وَمَنْ قَعَدَ أَوْ جَلَسَ إِلَى غَنِيٍّ فَتَضَعْضَعَ لَهُ لِدُنْيَا تُصِيبُهُ ذَهَبَ ثُلْثَا دِينِهِ وَدَخَلَ النَّارَ» ".

5164 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ: (كَفَافًا) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5164 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ) أَيْ: ذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ وَأَحْبَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ (قُوتًا) أَيْ: مَا يُكْسِبُ قُوَّةً عَلَى الطَّاعَةِ وَيَسُدُّ رَمَقًا فِي الْمَعِيشَةِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " كَفَافًا) : بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهُوَ مِنَ الْقُوتِ مَا يَكُفُّ الرَّجُلَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ عَنِ السُّؤَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى، وَبَيَانُ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَدْنَى الْمَعِيشَةِ هُوَ الطَّرِيقُ الْأَوْلَى، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي حَقِّ مَنْ شَاءَ مِمَنْ أَرَادَ اصْطِفَاءَهُ وَاجْتِبَاءَهُ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ

بِالْآلِ خَوَاصُّ أُمَّتِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْكَمَالِ مَا وَرَدَ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: " «اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَعَلِمَ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَقْلِلْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَحَبِّبَ إِلَيْهِ لِقَاءَكَ وَعَجِّلْ لَهُ الْقَضَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي وَلَمْ يُصَدِّقْنِي وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ عُمُرَهُ» " وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قَلِيلٌ يَكْفِيكَ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُطْغِيكَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: «قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» ، وَنِعْمَ مَا قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَالَ: زِيَادَةُ الْمَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانُ ... وَرِبْحُهُ غَيْرَ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الْكَفَافُ هُوَ الَّذِي لَا يَفَضِلُ عَنِ الشَّيْءِ وَيَكُونُ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْقُوتَ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ قُوتًا لِحُصُولِ الْقُوَّةِ مِنْهُ سَلَكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرِيقَ الِاقْتِصَادِ الْمَحْمُودِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ تُلْهِي وَقِلَّتَهُ تُنْسِي، فَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى. وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِرْشَادٌ لِأُمَّتِهِ كُلَّ الْإِرْشَادِ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَفَافِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْعَبَ الرَّجُلُ فِي طَلَبِهِ ; لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَحُكْمُ الْكَفَافِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ قِلَّةَ الْأَكْلِ حَتَّى إِنَّهُ يَأْكُلُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً فَكَفَافُهُ وَقُوتُهُ تِلْكَ الْمَرَّةُ فِي أُسْبُوعٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ الْأَكْلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَكَفَافُهُ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِنْ تَرَكَهُ أَضَرَّهُ ذَلِكَ، وَلِمَ يَقْوَ عَلَى الطَّاعَةِ. وَمِنْهَا مَنْ يَكُونُ كَثِيرَ الْعِيَالِ فَكَفَافُهُ مَا يَسُدُّ رَمَقَ عِيَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ عِيَالُهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ وَكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ، فَإِذًا قَدْرُ الْكِفَايَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَمِقْدَارُهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ إِلَّا أَنَّ الْمَحْمُودَ مَا بِهِ الْقُوَّةُ، عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ: " «اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ فِي الدُّنْيَا قُوتًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

5165 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5165 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ أَفْلَحَ) أَيْ: فَازَ وَظَفِرَ بِالْمَقْصُودِ (مَنْ أَسْلَمَ) أَيِ: إِنْقَادَ لِرَبِّهِ الْمَعْبُودِ (وَرُزِقَ) أَيْ: مِنَ الْحَلَالِ (كَفَافًا) أَيْ: مَا كَفَاهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَكَفَّهُ عَمَّا سِوَاهُ (وَقَنَّعَهُ اللَّهُ) أَيْ: جَعَلَهُ قَانِعًا (بِمَا آتَاهُ) أَيْ: بِمَا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، بَلْ جَعَلَهُ شَاكِرًا لِمَا أَعْطَاهُ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: " «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا، وَلِسَانَهُ صَادِقًا، وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً، وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً، وَأُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً، وَعَيْنَيْهِ نَاظِرَةً» " وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ مُخْتَصَرًا: " «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] الْآيَاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ النِّيَّاتِ.

5166 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي، مَالِي. وَإِنَّ مَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لَكَ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5166 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ الْعَبْدُ) أَيْ: مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْسِبَ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا، كَمَا قَالَتْهُ الصُّوفِيَّةُ الصَّفِيَّةُ (مَالِي، مَالِي) أَيْ: مَالِي كَذَا، مَالِي كَذَا، وَالْمَعْنَى يَعُدُّهُ افْتِخَارًا أَوْ يَذْكُرُهُ احْتِقَارًا، أَوْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَالِ، وَلَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَآلِ مِنَ الْوَبَالِ. (وَإِنَّ مَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ) : " مَا " الْأَوْلَى مَوْصُولَةٌ وَلَهُ صِلَتُهُ، وَمِنْ مَالِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالصِّلَةِ، وَثَلَاثٌ خَبَرٌ، وَإِنَّمَا أَنَّثَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَنَافِعِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثُ مَنَافِعَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ مَنْفَعَةً وَاحِدَةً مِنْهَا حَقِيقَةٌ بَاقِيَةٌ، وَالْبَاقِي مِنْهَا صُورِيَّةٌ فَانِيَةٌ. (مَا أَكَلَ) أَيْ: مَا اسْتَعْمَلَ مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ أَوِ اكْتِفَاءٌ (فَأَفْنَى) أَيْ: فَأَعْدَمَهُمَا (أَوْ لَبِسَ) أَيْ: مِنَ الثِّيَابِ (فَأَبْلَى) أَيْ: فَأَخْلَقَهَا (أَوْ أَعْطَى) أَيْ: لِلَّهِ تَعَالَى (فَاقْتَنَى) أَيْ: جَعَلَهُ قِنْيَةً وَذَخِيرَةً لِلْعُقْبَى (وَمَا سِوَى ذَلِكَ) أَيْ: وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَالِ مِنَ الْمَوَاشِي وَالْعَقَارِ وَالْخَدَمِ وَالنُّقُودِ وَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (فَهُوَ) أَيِ: الْعَبْدُ (ذَاهِبٌ) أَيْ: عَنْهُ (وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ) أَيْ: مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ بِلَا فَائِدَةٍ رَاجِعَةٍ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ مُطَالَبَةَ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5167 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ: فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5167 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَتْبَعُ الْمَيِّتَ) أَيْ: إِلَى قَبْرِهِ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْيَاءِ (فَيَرْجِعُ اثْنَانِ) أَيْ: إِلَى مَكَانِهِمَا وَيَتْرُكَانِهِ وَحْدَهُ (وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ) أَيْ: لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ (يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ) أَيْ: أَوْلَادُهُ وَأَقَارِبُهُ وَأَهْلُ صُحْبَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ (وَمَالُهُ) : كَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالدَّابَّةِ وَالْخَيْمَةِ وَنَحْوِهَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بَعْضَ مَالِهِ وَهُوَ مَمَالِيكُهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اتِّبَاعُ الْأَهْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاتِّبَاعُ الْمَالِ عَلَى الِاتِّسَاعِ، فَإِنَّ الْمَالَ حِينَئِذٍ لَهُ نَوْعٌ تَعَلَّقَ بِالْمَيِّتِ مِنَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ وَمُؤْنَةِ الْغُسْلِ وَالْحَمْلِ وَالدَّفْنِ، فَإِذَا دُفِنَ انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ بِالْكُلِّيَّةِ (وَعَمَلُهُ) أَيْ: مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهِ. (فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ) أَيْ: كَمَا تُشَاهِدُ حَالَهُ وَمَآلَهُ (وَيَبْقَى) أَيْ: مَعَهُ (عَمَلُهُ) أَيْ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَلِذَا قِيلَ: الْقَبْرُ صُنْدُوقُ الْعَمَلِ، وَفِي الْحَدِيثِ: " «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5168 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مَنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ. قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5168 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ» ؟) أَيْ: مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ( «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مَنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ. قَالَ: " فَإِنَّ مَالَهُ» ) أَيْ: حَقِيقَةً (مَا قَدَّمَ) أَيْ: مَا قَدَّمَهُ عَلَى مَوْتِهِ بِإِرْسَالِهِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ النَّافِعُ الْبَاقِي لَهُ فِيهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110] (وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ) أَيْ: مَا خَلَّفَهُ لَهُمْ حَيْثُ يَفْعَلُونَ فِيهِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5169 - وَعَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْرَأُ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قَالَ: (يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي. قَالَ: (وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ! إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» ؟) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5169 - (وَعَنْ مُطَرِّفٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ، وَمَرَّ ذِكْرُهُ. (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْرَأُ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] أَيْ: أَشْغَلَكُمْ طَلَبُ كَثْرَةِ الْمَالِ (قَالَ: " يَقُولُ ابْنُ آدَمَ) أَيْ: لِكَوْنِهِ ظَلُومًا جَهُولًا فِي حَمْلِ الْأَمَانَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ (مَالِي، مَالِي) أَيْ: يَغْتَرُّ بِنِسْبَةِ الْمَالِ تَارَةً وَيَفْتَخِرُ بِهِ أُخْرَى (قَالَ) : أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ وَدَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي (وَهَلْ لَكَ) أَيْ: وَهَلْ يَحْصُلُ لَكَ مِنَ الْمَالِ وَيَنْفَعُكَ مِنَ الْمَآلِ (يَا ابْنَ آدَمَ! إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟) أَيْ: فَأَمْضَيْتَهُ مِنَ الْإِفْنَاءِ وَالْإِبْلَاءِ، وَأَبْقَيْتَهُ بِنَفْسِكَ يَوْمَ الْجَزَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5170 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5170 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ تَعَالَى وَسَلَّمَ: " لَيْسَ الْغِنَى) أَيِ: الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَقِيقَةِ غِنًى صَادِرًا (عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ) : وَهُوَ غِنَى الْيَدِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ، وَالْأَحْوَالِ الْحَادِثَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ مَتَاعُ الدُّنْيَا وَحُطَامُهَا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْعَرَضُ بِالتَّحْرِيكَ يَتَنَاوَلُ النُّقُودَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَبِالسُّكُونِ لَا يَتَنَاوَلُ النُّقُودَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَنْ هَذِهِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36] الْكَشَّافُ أَيْ: فَحَمَلَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِهَا، وَتَحْقِيقُهُ: فَأَصْدَرَ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُمَا عَنْهُ. (وَلَكِنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ (الْغِنَى) أَيِ: الْغِنَى الْحَقِيقِيُّ (غِنَى النَّفْسِ) أَيْ: عَنِ الْمَخْلُوقِ لِاسْتِغْنَاءِ الْقَلْبِ بِإِغْنَاءِ الرَّبِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْغِنَى الْحَقِيقِيَّ هُوَ قَنَاعَةُ النَّفْسِ بِمَا أَعْطَاهُ الْمَوْلَى، وَالتَّجَنُّبُ عَنِ الْحِرْصِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ حَرِيصًا عَلَى جَمْعِ الْمَالِ، فَهُوَ فَقِيرٌ فِي حَقِيقَةِ الْحَالِ وَنَتِيجَةِ الْمَآلِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ بِمُوجِبِ طُولِ الْآمَالِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ قَانِعٌ بِالْقُوتِ وَرَاضٍ بِعَطِيَّةِ مَالِكِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِقَلْبِهِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْغَيْرِ بِرَبِّهِ، سَوَاءٌ يَكُونُ فِي يَدِهِ مَالٌ أَوْ لَا. إِذْ لَا يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْقُوتِ وَلَا يُتْعِبُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَمُوتَ، بَلْ يَسْتَعِينُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا لِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ الْجَمِيلِ فِي الْعُقْبَى وَالثَّنَاءِ الْجَزِيلِ مِنَ الْمَوْلَى، رَزَقَنَا الْمَقَامَ الْأَعْلَى. وَفِي الْحَدِيثِ: " «الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى» ". وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَنْفَدُ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: عَزِيزُ النَّفْسِ مَنْ لَزِمَ الْقَنَاعَةَ ... وَلَمْ يَكْشِفْ لِمَخْلُوقٍ قِنَاعَهُ قَالَ الْأَشْرَفُ: الْمُرَادُ بِغِنَى النَّفْسِ الْقَنَاعَةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يَسُدُّ الْحَاجَةَ. قَالَ الشَّاعِرُ: غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ ... فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرًا قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِغِنَى النَّفْسِ حُصُولُ الْكِمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَأَنْشَدَ أَبُو الطَّيِّبِ مَعْنَاهُ: وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ ... مَالِهِ مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ يَعْنِي: يَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَ سَاعَاتِهِ وَأَوْقَاتَهُ فِي الْغِنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ طَلَبُ الْكَمَالَاتِ لِيَزِيدَ غِنًى بَعْدَ غِنًى، لَا فِي الْمَالِ لِأَنَّهُ فَقْرٌ بَعْدَ فَقْرٍ اهـ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ: رَضِينَا قِسْمَةَ الْجَبَّارِ ... فِينَا لَنَا عِلْمٌ وَلِلْأَعْدَاءِ مَالُ فَإِنَّ الْمَالَ يَفْنَى عَنْ قَرِيبٍ ... وَإِنَّ الْعِلْمَ يَبْقَى لَا يُزَالُ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَالَ إِرْثُ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ إِرْثُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَبْرَارِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5171 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟) قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَخَذَ يَدِي فَعَدَّ خَمْسًا، فَقَالَ: (اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ ; فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكَ تُمِيتُ الْقَلْبَ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5171 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ يَأْخُذْ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) أَيِ: الْأَحْكَامَ الْآتِيَةَ لِلسَّامِعِ الْمُصَوَّرَةَ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَيْ لِلِاسْتِفْهَامِ (فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يَعْلَمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟) : أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ " أَوْ " فِي الْآيَةِ لِلتَّنْوِيعِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ بِقَوْلِهِ: عُذْرًا لِلْمُحِقِّينَ، وَنُذْرًا لِلْمُبْطِلِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ " أَوْ " فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى " بَلْ " إِشَارَةً إِلَى

التَّرَقِّي مِنْ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ إِلَى مِنَصَّةِ التَّكْمِيلِ، عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا لِلتَّنْوِيعِ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ، عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ فِعْلِهِ قَدْ يَكُونُ بَاعِثًا لِغَيْرِهِ عَلَى مِثْلِهِ كَقَوْلِهِ: فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، (قُلْتُ: أَنَا) أَيْ: آخُذُهَا عَنْكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) : وَهَذِهِ مُبَايَعَةٌ خَاصَّةٌ وَمُعَاهَدَةٌ خَالِصَةٌ، وَنَظِيرُهُ مَا عَاهَدَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُ مَخْلُوقًا، وَكَانَ إِذَا وَقَعَ سَوْطَهُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ رَاكِبٌ نَزَلَ وَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. (فَأَخَذَ بِيَدِي) أَيْ: تَحْقِيقًا لِلْقَضِيَّةِ وَتَقْرِيبًا لِلْخُصُوصِيَّةِ (فَعَدَّ خَمْسًا) أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ، أَوْ مِنَ الْأَصَابِعِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، (فَقَالَ: " اتَّقِ الْمَحَارِمَ) : وَهِيَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ وَتَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ (تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ) : إِذْ لَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرَائِضِ، وَعَوَامُّ النَّاسِ يَتْرُكُونَهَا وَيَعْتَنُونَ بِكَثْرَةِ النَّوَافِلِ، فَيُضَيِّعُونَ الْأُصُولَ وَيَقُومُونَ بِالْفَضَائِلِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ عَلَى شَخْصٍ قَضَاءُ صَلَوَاتٍ وَيَغْفُلُ عَنْ أَدَائِهَا، وَيَطْلُبُ عِلْمًا أَوْ يَجْتَهِدُ عَمَلًا فِي صَلَوَاتٍ وَعِبَادَاتِ نَفْلٍ، أَوْ يَكُونُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الزَّكَاةِ أَوْ حُقُوقِ النَّاسِ، فَيُطْعِمُ الْفُقَرَاءَ أَوْ يَبْنِي الْمَسَاجِدَ وَالْمَدَارِسَ وَنَحْوَهَا، وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِالِاتِّقَاءِ اعْتِنَاءٌ لِجَانِبٍ الِاحْتِمَاءِ عَلَى قَاعِدَةِ الْحُكَمَاءِ فِي مُعَالَجَةِ الدَّاءِ بِالدَّوَاءِ. ( «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ» ) أَيْ: سَوَاءٌ يَقَعُ لَكَ بِوَاسِطَةِ مَخْلُوقٍ أَوْ بِغَيْرِهَا (تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) : سَأَلَ شَخْصٌ السَّيِّدَ أَبَا الْحَسَنِ الشَّاذِلِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنِ الْكِيمْيَاءِ؟ فَقَالَ: هِيَ كَلِمَتَانِ: اطْرَحِ الْخَلْقَ عَنْ نَظَرِكَ وَاقْطَعْ طَمَعَكَ عَنِ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكَ غَيْرَ مَا قَسَمَ لَكَ. وَقَالَ السَّيِّدُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ عَلَيْهِ رَحْمَةُ الْبَارِي: اعْلَمْ أَنَّ الْقَسْمَ لَا يَفُوتُكَ بِتَرْكَ الطَّلَبِ، وَمَا لَيْسَ بِقَسْمٍ لَا تَنَالُهُ بِحِرْصِكَ فِي الطَّلَبِ، وَالْجَدِّ وَالِاجْتِهَادِ، فَاصْبِرْ وَالْزَمِ الْحَالَ وَارْضَ بِهِ لِيَرْضَى عَنْكَ ذُو الْجَلَالِ. (وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ) أَيْ: وَلَوْ أَسَاءَ إِلَيْكَ (تَكُنْ مُؤْمِنًا) أَيْ: كَامِلًا أَوْ مُعْطِيًا لَهُ الْأَمْنَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» " أَيْ: شُرُورَهُ وَغَوَائِلَهُ. (وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ) أَيْ: عُمُومًا (مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ) أَيْ: مِثْلَ مَا تُحِبُّهُ لَكَ خَاصَّةً حَتَّى تُحِبَّ الْإِيمَانَ لِلْكَافِرِ وَالتَّوْبَةَ لِلْفَاجِرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (تَكُنْ مُسْلِمًا) أَيْ: كَامِلًا. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَعَمُّ مِنْ حَدِيثِ: " «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» " وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهِ، فَالْأَظْهَرُ فِيمَا اعْتَضَدَهُ حَدِيثُ: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ» ". (وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ) أَيْ: تَكُنْ طَيِّبَ الْقَلْبِ وَحَيًّا بِذِكْرِ الرَّبِّ (فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكَ) أَيِ: الْمُوَرِّثَةَ لِلْغَفْلَةِ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الزَّادِ لِلْمَعَادِ (تُمِيتُ الْقَلْبَ) أَيْ: إِنْ كَانَ حَيًّا وَيَزِيدُ اسْوِدَادًا إِنْ كَانَ مَيِّتًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَفِي التَّصْحِيحِ لِلْجَزَرِيِّ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ الْبَاجِيُّ عَنِ الْحَسَنِ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْلَهُ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ: الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِنَحْوِهِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لَهُ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ وَاثِلَةَ، لَكِنَّ بَقِيَّةَ إِسْنَادِهِ فِيهِ ضَعْفٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِيهِ أَنَّ حَدِيثَ الْحَسَنِ اعْتَضَدَ بِحَدِيثِ مَكْحُولٍ فَتَرَقَّى عَنْ دَرَجَةِ الضَّعْفِ، مَعَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ إِجْمَاعًا.

5172 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ! تَفْرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسِدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَكَ شُغُلًا وَلَمْ أَسِدَّ فَقْرَكَ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5172 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ) : خُصَّ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّهُ عُمْدَةُ الْعَابِدِينَ، وَأُضِيفَ إِلَى آدَمَ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي مَرْتَبَةِ التَّائِبِينَ (تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي) أَيْ: بَالِغْ فِي فَرَاغِ قَلْبِكَ لِعِبَادَةِ رَبِّكَ (أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى) أَيْ: أَحْسِنْ قَلْبَكَ عُلُومًا وَمَعَارِفَ تُورِثُ الْغِنَى عَنْ غَيْرِ الْمَوْلَى (وَأَسِدَّ فَقْرَكَ) أَيْ: وَأَسِدَّ بَابَ حَاجَتِكَ إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ لِعَطْفِهِ عَلَى الْمَجْزُومِ مِنْ جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا لِمُتَابَعَةِ عَيْنِهَا، وَقَدْ جُوِّزَ فِي لَمْ يَمُدَّ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثَ مَعَ الْإِدْغَامِ (وَإِنْ لَا تَفْعَلُ) أَيْ: مَا أَمَرْتُكَ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ الْمَوْلَى النَّافِعَةِ فِي الدِّينِ وَالْأُخْرَى. (مَلَأْتُ يَدَكَ) أَيْ: جَوَارِحَكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ يَدَيْكَ، وَفِي الْجَامِعِ: يَدَيْكَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْيَدُ لِمُزَاوَلَةِ أَكْثَرِ الْأَفْعَالِ بِهَا. (شُغْلًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيَجُوزُ ضَمُّهُمَا وَفَتْحُهُمَا وَفَتْحٌ فَسُكُونٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، أَيِ: اشْتِغَالًا مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ. (وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ) أَيْ: لَا مِنْ شُغْلِكَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّكَ تُتْعِبُ نَفْسَكَ بِكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ فِي طَلَبِ الْمَالِ، وَلَا تَنَالُ إِلَّا مَا قَدَّرْتُ لَكَ مِنَ الْمَالِ فِي الْآزَالِ وَتُحْرَمُ عَنْ غِنَى الْقَلْبِ لِتَرْكِ عِبَادَةِ الرَّبِّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ، وَفِي التَّصْحِيحِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، وَاسْمُهُ هُرَيْرَةُ، وَيُقَالُ هَرَمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: فِي حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ لِينٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِاخْتِصَارٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَدَيْكَ شُغْلًا، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَقُولُ رَبُّكُمْ: يَا ابْنَ آدَمَ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ رِزْقًا. يَا ابْنَ آدَمَ! لَا تُبَاعِدْ عَنِّي أَمْلَأْ قَلْبَكَ فَقْرًا وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ شُغْلًا» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " «خُيِّرَ سُلَيْمَانُ بَيْنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ وَالْعِلْمِ، فَاخْتَارَ الْعِلْمَ، فَأُعْطِيَ الْمُلْكَ وَالْمَالَ لِاخْتِيَارِهِ الْعِلْمَ» ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا: " «مَنِ انْقَطَعَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَفَاهُ كُلَّ مُؤْنَةٍ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنِ انْقَطَعَ إِلَى الدُّنْيَا وَكَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا» ". وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «آلَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» ".

5173 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ، وَذُكِرَ آخَرُ بِرِعَّةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَعْدِلْ بِالرِّعَّةِ) . (يَعْنِي الْوَرَعَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5173 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ» ) أَيْ: فِي طَاعَةٍ مَعَ قِلَّةِ وَرَعٍ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَالتَّنْوِينُ فِيهِمَا لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلتَّنْكِيرِ (وَذُكِرَ أَيْ: عِنْدَهُ (آخَرُ بِرِعَّةٍ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى وَزْنِ عِدَّةٍ أَيْ: بِوَرَعٍ عَنْ حَرَامٍ مَعَ قِلَّةِ عِبَادَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا. (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَعْدِلْ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مَجْزُومًا وَقِيلَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مَرْفُوعًا أَيْ: لَا تَزْنِ وَلَا تُقَابِلِ الْعِبَادَةَ (بِالرِّعَّةِ " يَعْنِي الْوَرَعَ) : تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمُرَادُ بِالْوَرَعِ التَّقْوَى عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى امْتِثَالِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: لَا تَعْدِلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهْيُ الْمُخَاطَبِ الْمُذَكَّرِ مَجْزُومَ اللَّامِ، يَعْنِي لَا تُقَابِلْ شَيْئًا بِالرِّعَّةِ، وَهِيَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ الْوَرَعُ، فَإِنَّ الْوَرَعَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ خَصْلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَنْفِيًّا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: لَا تُقَابِلْ خَصْلَةً بِالْوَرَعِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْخِصَالِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَرَعُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّسَرُّعِ إِلَى تَنَاوُلِ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: وَاجِبٌ وَهُوَ الْإِحْجَامُ عَنِ الْمَحَارِمِ وَذَلِكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَنَدْبٌ وَهُوَ الْوُقُوفُ عَنِ الشُّبَهَاتِ وَذَلِكَ لِلْأَوْسَاطِ، وَفَضِيلَةٌ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلِّ الضَّرُورَاتِ، وَذَلِكَ لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أُلْحِقَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا تَعْدِلْ بِالرِّعَّةِ قَوْلُهُ شَيْئًا، وَلَيْسَ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مِنْهُ أَثَرٌ. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ ضُبِطَ لَا يُعْدَلُ بِصِيغَةِ الْمُذَكَّرِ الْمَجْهُولِ، عَلَى أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ نَائِبُ الْفَاعِلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا، حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ شَيْءٍ مُطْلَقًا.

5174 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: " «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5174 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَمُهْمَلَةٍ نِسْبَةً إِلَى أَوْدِ بْنِ صَعْبٍ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلْقَهُ، هُوَ مَعْدُودٌ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ) : حَالٌ، (" اغْتَنِمْ ") : مِنَ الِاغْتِنَامِ، هُوَ أَخْذُ الْغَنِيمَةِ (" خَمْسًا ") أَيْ: مِنَ الْأَحْوَالِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْحَالِ (" قَبْلَ خَمْسٍ ") أَيْ: مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُتَوَقَّعَةِ فِي الِاسْتِقْبَالِ (" شَبَابَكَ ") أَيْ: زَمَانَ قُوَّتِكَ عَلَى الْعِبَادَةِ (قَبْلَ هَرَمِكَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: قَبْلَ كِبَرِكَ وَضَعْفِكَ عَنِ الطَّاعَةِ (وَصِحَّتَكَ) أَيْ: وَلَوْ فِي هَرَمِكَ (قَبْلَ سَقَمِكَ) بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: مَرَضِكَ وَ (" غِنَاكَ ") أَيْ: قُدْرَتَكَ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْخَيْرَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ فِي مُطْلَقِ الْأَحْوَالِ، وَمِنْ أَعَمِّ الْأَمْوَالِ (" قَبْلَ فَقْرِكَ ") أَيْ: فَقَدِكَ إِيَّاهُ بِالْحَيَاةِ أَوِ الْمَمَاتِ، فَإِنَّ الْمَالَ فِي ضِدِّهِ الزَّوَالُ (" وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ") : سَبَقَ بَيَانُ مَبْنَاهُ وَمَعْنَاهُ (" وَحَيَاتَكَ ") : وَلَوْ فِي الْكِبَرِ الْمَقْرُونِ بِالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ الْمُمْكِنِ فِيهِ الْإِتْيَانُ بِذِكْرِ اللَّهِ (" قَبْلَ مَوْتِكَ ") أَيْ: وَقْتِ إِتْيَانِ أَجَلِكَ وَانْقِطَاعِ عَمَلِكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا) : قَالَ الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّصْحِيحِ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ هَكَذَا مُرْسَلًا، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلْقَهُ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَهُ شَاهِدٌ مَرْفُوعٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا اللَّفْظِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مُرْسَلًا.

5175 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا يَنْتَظِرُ أَحَدُكُمْ إِلَّا غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفْسِدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ، فَالدَّجَّالُ شَرٌّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5175 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (" مَا يَنْتَظِرُ أَحَدُكُمْ ") : خَرَجَ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ عَلَى تَقْصِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، أَيْ: مَتَى تَعْبُدُونَ رَبَّكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَعْبُدُوهُ مَعَ قِلَّةِ الشَّوَاغِلِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ، كَيْفَ تَعْبُدُونَهُ مَعَ كَثْرَةِ الشَّوَاغِلِ وَضَعْفِ الْقُوَى؟ لَعَلَّ أَحَدَكُمْ مَا يَنْتَظِرُ (" إِلَّا غِنًى مُطْغِيًا ") أَيْ: جَاعِلُكَ طَاغِيًا عَاصِيًا مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ (" أَوْ فَقْرًا مُنْسِيًا ") : مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِمُشَاكَلَةِ الْأُولَى أَيْ: جَاعِلًا صَاحَبَهُ مَدْهُوشًا يُنْسِيهِ الطَّاعَةَ مِنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ وَالتَّرَدُّدِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ. (" أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ") أَيْ: لِلْبَدَنِ لِشِدَّتِهِ، أَوْ لِلدِّينِ لِأَجْلِ الْكَسَلِ الْحَاصِلِ مِنْهُ (" أَوْ هَرَمًا مُفْنِدًا ") : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: مُبْلِغًا صَاحَبَهُ إِلَى الْفَنَدِ وَهُوَ ضَعْفُ الرَّأْيِ: يُقَالُ: أَفْنَدَهُ إِذَا جَعَلَ رَأْيَهُ ضَعِيفًا وَقَالَ شَارِحٌ: يُقَالُ فَنِدَ الرَّجُلُ إِذَا كَثُرَ كَلَامُهُ مِنَ الْخَرَفِ، وَأَفْنَدَهُ الْكِبْرُ يَقِفُ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنْ غَايَةِ كِبَرِهِ اه. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّفْنِيدَ لِلنِّسْبَةِ إِلَى الْخَرَفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: تَنَسُبُونِي إِلَى الْفَنَدِ، وَهُوَ نُقْصَانُ عَقْلٍ يَحْدُثُ مِنْ هَرَمٍ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفَنَدُ: بِالتَّحْرِيكِ الْخَرَفُ وَإِنْكَارُ الْعَقْلِ لِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ، وَالْخَطَأُ فِي الْقَوْلِ وَالرَّأْيِ وَالْكَذِبُ كَالْإِفْنَادِ، وَفَنَّدَهُ تَفْنِيدًا كَذَّبَهُ وَعَجَّزَهُ وَخَطَّأَ رَأْيَهُ كَأَفْنَدَهُ، وَلَا تَقُلْ عَجُوزٌ مُفْنِدَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ رَأْيٍ أَبَدًا اه. وَكَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُعَلِّلًا يَكُونُ نُقْصَانُ عَقْلِهَا ذَاتِيًّا. أَقُولُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهَا إِضَافِيٌّ. وَمَعَ هَذَا لَا يُنَافِي صِحَّةَ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهَا لِنُقْصَانٍ عَرَضِيٍّ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَنَدُ فِي الْأَصْلِ الْكَذِبُ، وَأَفْنَدَ تَكَلَّمَ بِالْفَنَدِ، وَفِي الْفَائِقِ قَالُوا لِلشَّيْخِ إِذَا هَرِمَ: قَدْ أَفْنَدَ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالْمُحَرَّفِ مِنَ الْكَلَامِ عَنْ سُنَنِ الصِّحَّةِ، فَشُبِّهَ بِالْكَاذِبِ فِي تَحْرِيفِهِ، وَالْهَرِمُ الْمُفْنِدُ مِنْ أَخَوَاتِ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ جُعِلَ الْفَنَدُ لِلْهَرِمِ وَهُوَ لِلْهَرَمِ، وَيُقَالُ أَيْضًا أَفْنَدَهُ الْهَرَمُ،

وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ: شَيْخٌ مُفْنِدٌ يَعْنِي مَنْسُوبٌ إِلَى الْفَنَدِ، وَلَا يُقَالُ امْرَأَةٌ مُفْنِدَةٌ ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي شَبِيبَتِهَا ذَاتَ رَأْيٍ فَتُفَنَّدَ فِي كِبَرِيِّتِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلُهُ: مُفْنِدٌ الرِّوَايَةُ فِيهِ بِالتَّخْفِيفِ، وَمَنْ شَدَّدَهُ فَلَيْسَ بِمُصِيبٍ. (" أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ") بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: قَاتِلًا بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى تَوْبَةٍ وَوَصِيَّةٍ فَفِي النِّهَايَةِ الْمُجْهِزُ هُوَ السَّرِيعُ، يُقَالُ: أَجْهَزَ عَلَى الْجَرِيحِ إِذَا أَسْرَعَ قَتْلَهُ. قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَوْتُ الْمُجْهِزُ الْمُسْرِعُ يُرِيدُ بِهِ الْفُجَاءَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ مَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ كَقَتْلٍ وَغَرَقٍ وَهَدْمٍ. (أَوِ الدَّجَّالَ، فَالدَّجَّالُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: وَالدَّجَّالُ (" شَرٌّ غَالِبٌ يُنْتَظَرُ ") أَيْ: أَسْوَأُهُ (" أَوِ السَّاعَةَ ") أَيِ: الْقِيَامَةُ (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى ") أَيْ: أَشَدُّ الدَّوَاهِي وَأَفْظَعُهَا وَأَصْعَبُهَا (" وَأَمَرُّ ") أَيْ: أَكْثَرُ مَرَارَةً مِنْ جَمِيعِ مَا يُكَابِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشَّدَائِدِ لِمَنْ غَفَلَ عَنْ أَمْرِهَا، وَلَمْ يُعِدَّ لَهَا قَبْلَ حُلُولِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالدَّجَّالُ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُ فَسَّرَ مَا أُبْهِمَ مِمَّا سَبَقَ، وَالْوَاوُ فِي السَّاعَةِ نَائِبَةٌ مَنَابَ الْفَاءِ الْمُلَابِسَةِ لِلْعَطْفِ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَحَاصِلُ مُجْمَلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ اسْتِبْطَاءٌ لِمَنْ تَفَرَّغَ الْأَمْرَ وَهُوَ لَا يَغْتَنِمُ الْفُرْصَةَ فِيهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ فِي الدُّنْيَا يَنْتَظِرُ إِحْدَى الْحَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ. فَالسَّعِيدُ مَنِ انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ وَاغْتَنَمَ الْمُكْنَةَ وَاشْتَغَلَ بِأَدَاءِ مُفْتَرَضِهِ وَمَسْنُونِهِ قَبْلَ حُلُولِ رَمْسِهِ، وَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ وَتَذْكِرَةٌ بَالِغَةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .

5176 - وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5176 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ") أَيْ: مَبْعُودَةٌ مِنَ اللَّهِ لِكَوْنِهَا مُبْعَدَةً عَنِ اللَّهِ (" مَلْعُونٌ مَا فِيهَا ") أَيْ: مِمَّا يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ (" إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ ") بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. (" وَمَا وَالَاهُ ") أَيْ: أَحَبَّهُ اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَأَفْعَالِ الْقُرْبِ، أَوْ مَعْنَاهُ مَا وَالَى ذِكْرَ اللَّهِ أَيْ: قَارَبَهُ مَنْ ذَكَرَ خَيْرًا وَتَابَعَهُ مِنِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، لِأَنَّ ذِكْرَهُ يُوجِبُ ذَلِكَ. قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْمُوَالَاةُ الْمَحَبَّةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا يَعْنِي مَلْعُونٌ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مِمَّا يَجْرِي وَالدُّنْيَا وَمَا سِوَاهُ مَلْعُونٌ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: هُوَ مِنَ الْمُوَالَاةِ وَهِيَ الْمُتَابَعَةُ، وَيَجُورُ أَنْ يُرَادَ بِمَا يُوَالِي ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَتَهُ وَاتِّبَاعَ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ. (" وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ ") : أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، فَيَكُونُ الْوَاوَانِ بِمَعْنَى " أَوْ " قَالَ الْأَشْرَفُ قَوْلُهُ: وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ مَرْفُوعٌ، وَاللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْصُوبٌ مُسْتَثْنًى مِنَ الْمُوجَبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ هَكَذَا وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ وَبِالرَّفْعِ، وَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ إِلَّا أَنَّ بَدَلَ أَوْ فِيهِ الْوَاوُ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: أَوْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا بِالنَّصْبِ مَعَ أَوْ مُكَرَّرًا، وَالنَّصْبُ فِي الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالرَّفْعُ فِيهَا عَلَى التَّأْوِيلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الدُّنْيَا مَذْمُومَةٌ لَا يُحْمَدُ فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَعَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ. قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْإِحْيَاءِ: الدُّنْيَا أَدْنَى الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ دُنْيَا وَهِيَ مَعْبَرَةٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَالْمَهْدُ هُوَ الْمِيلُ الْأَوَّلُ، وَاللَّحْدُ هُوَ الْمِيلُ الثَّانِي وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ هِيَ الْقَنْطَرَةُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْيَانٍ مَوْجُودَةٍ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا حَظٌّ، وَلَهُ فِي إِصْلَاحِهَا شُغْلٌ، وَيَعْنِي بِالْأَعْيَانِ الْأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَعَادِنِ، وَيَعْنِي بِالْحَظِّ حُبَّهَا فَيَنْدَرِجُ فِيهَا جَمِيعُ الْمُهْلِكَاتِ الْبَاطِنَةِ كَالرِّيَاءِ وَالْحِقْدِ وَغَيْرِهِمَا. وَنَعْنِي بِقَوْلِنَا فِي إِصْلَاحِهَا شُغْلٌ أَنَّهُ يُصْلِحُهَا بِحَظٍّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ دُنْيَوِيٌّ أَوْ أُخْرَوِيٌّ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْحِرَفُ الصِّنَاعَاتُ، وَإِذَا عَرَفْتَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا فَدُنْيَاكَ مَا لَكَ فِيهِ لَذَّةٌ فِي الْعَاجِلِ، وَهِيَ مَذْمُومَةٌ، فَلَيْسَتْ وَسَائِلُ الْعِبَادَاتِ مِنَ الدُّنْيَا كَأَكْلِ الْخُبْزِ مَثَلًا لِلتَّقَوِّي عَلَيْهَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ لِقَوْلِهِ: الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ وَمَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ مِنْهَا» " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الدُّنْيَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَجُزْءٌ لِلْمُنَافِقِ، وَجُزْءٌ لِلْكَافِرِ، فَالْمُؤْمِنُ يَتَزَوَّدُ، وَالْمُنَافِقُ يَتَزَيَّنُ، وَالْكَافِرُ يَتَمَتَّعُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ: وَمَا وَالَاهُ لِاحْتِوَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ وَالْفَاضِلَاتِ وَمُسْتَحْسَنَاتِ الشَّرْعِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْعِلْمَ تَخْصِيصًا بَعْدَ التَّعْمِيمِ دَلَالَةً عَلَى فَضْلِهِ، فَعَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِمَا صَرِيحًا بِخِلَافِ ذَلِكَ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ، وَلِيُؤْذِنَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ سِوَى الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ هَمَجٌ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى بِالْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَيُخْرِجُ مِنْهُ الْجُهَلَاءَ وَالْعَالِمَ الَّذِي لَمْ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، وَمَنْ تَعَلَّمَ عِلْمَ الْفُضُولِ وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ رَأْسُ كُلِّ عِبَادَةٍ وَرَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ، بَلْ هُوَ كَالْحَيَاةِ لِلْأَبْدَانِ وَالرُّوحِ لِلْإِنْسَانِ، وَهَلْ لِلْإِنْسَانِ عَنِ الْحَيَاةِ غِنًى، وَهَلْ لَهُ عَنِ الرُّوحِ مَعْدَلٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بِهِ بَقَاءُ الدُّنْيَا وَقِيَامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. رَوَيْنَا عَنْ مُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ» " فَالْحَدِيثُ إِذًا مِنْ بَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَجَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي خُصَّ بِهَا هَذَا النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ دَلَّ بِالْمَنْطُوقِ عَلَى جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَبِالْمَفْهُومِ عَلَى رَذَائِلِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: وَقَالَ: حَسَنٌ. (وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ وَفِي الْجَامِعِ نُسِبَ إِلَيْهِمَا بِدُونِ لَفْظِ إِلَّا وَبِالنَّصْبِ وَلَفْظِ " أَوْ " فِي قَوْلِهِ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَهَذَا فِي بَابِ الْهَمْزَةِ، وَأَمَّا فِي بَابِ الدَّالِ فَقَالَ: " «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ جَابِرٍ، وَأَيْضًا: " «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَأَيْضًا " «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ» " رَوَاهُ الْبَزَّارُ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ. وَأَيْضًا " «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.

5177 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5177 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ: السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ ") : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: تَزِنُ وَتُسَاوِي (" عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ") أَيْ: رِيشَةَ نَامُوسَةٍ وَهُوَ مَثَلٌ لِلْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهَا أَدْنَى قَدْرٍ (" مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا ") أَيْ: مِنْ مِيَاهِ الدُّنْيَا (" شَرْبَةَ مَاءٍ ") أَيْ: يَمْنَعُ الْكَافِرَ مِنْهَا أَدْنَى تَمَتُّعٍ، فَإِنَّ الْكَافِرَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَالْعَدُوُّ لَا يُعْطِي شَيْئًا مِمَّا لَهُ قَدْرٌ عِنْدَ الْمُعْطِي فَمِنْ حَقَارَتِهَا عِنْدَهُ لَا يُعْطِيهَا لِأَوْلِيَائِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ حَدِيثُ: " «إِنَّ اللَّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ عَنِ الدُّنْيَا، كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمُ الْمَرِيضَ عَنِ الْمَاءِ» "، وَحَدِيثُ: " مَا زُوِيَتِ الدُّنْيَا عَنْ أَحَدٍ إِلَّا كَانَتْ خِيَرَةً لَهُ "، وَمِنْ كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا يَقْدِرَ. وَفِي دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَامِعُ الْمَانِعُ الْقَائِمُ فِي مَقَامِ الرِّضَا الْقَانِعُ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَاءِ، «اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ» ، وَمِنْ دَنَاءَتِهَا لَدَيْهِ أَنْ يُكَثِّرَهَا عَلَى الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، بَلْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف: 33] الْآيَةَ. «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ» ". قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] ، {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ ": وَكَذَا الضِّيَاءُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

5178 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5178 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ» ") : وَهِيَ الْبُسْتَانُ وَالْقَرْيَةُ وَالْمَزْرَعَةُ. وَفِي النِّهَايَةِ: الضَّيْعَةُ فِي الْأَصْلِ الْمَرَّةُ مِنَ الضَّيَاعِ، وَضَيْعَةُ الرَّجُلِ مَا يَكُونُ مِنْهُ مَعَاشُهُ كَالضَّيْعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (" فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا ") أَيْ: فَتَمِيلُوا إِلَيْهَا عَنِ الْأُخْرَى، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا مِمَّا يَكُونُ مَانِعًا عَنِ الْقِيَامِ بِعِبَادَةِ الْمَوْلَى، وَعَنِ التَّوَجُّهِ كَمَا يَنْبَغِي إِلَى أَمْرِ الْعُقْبَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَعْنَى لَا تَتَوَغَّلُوا فِي اتِّخَاذِ الضَّيْعَةِ فَتُلْهُوَا بِهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] الْآيَةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

5179 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5179 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ ") أَيْ: حُبًّا يَغْلِبُ عَلَى حُبِّ مَوْلَاهُ (" أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ ") : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَكَذَا فِي الْقَرِينَةِ الْآتِيَةِ أَيْ: نَقْصُ دَرَجَتِهِ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ يَشْغَلُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ بِالدُّنْيَا، فَلَا يَكُونُ لَهُ فَرَاغٌ لِأَمْرِ الْأُخْرَى وَلِطَاعَةِ الْمَوْلَى (" «وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ» ") أَيْ: لِعَدَمِ تَوَجُّهِ فِكْرِهِ وَخَاطِرِهِ لِأَمْرِهَا لِاشْتِغَالِهِ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَمُهِمِّهَا، (" فَآثِرُوا ") : تَفْرِيعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا عَرَفْتُمْ أَنَّهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَجْوَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْبَعُكُمْ فِي الْعُقْبَى، وَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْأُخْرَى» ". وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ السَّاعَةِ {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة: 3] فَآثِرُوا بِالْمَدِّ أَيْ: فَاخْتَارُوا. (" مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى ") : فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَخْتَارُ الْخَزَفَ الْبَاقِيَ عَلَى الذَّهَبِ الْفَانِي، فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؟ وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَقَلُّ الْعِلْمِ، بَلْ أَقَلُّ الْإِيمَانِ، بَلْ أَقَلُّ الْعَقْلِ أَنْ يَعْرِفَ صَاحِبُهُ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ بَاقِيَةٌ، وَنَتِيجَةُ هَذَا الْعِلْمِ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ الْفَانِي، وَيُقْبِلَ عَلَى الْبَاقِي، وَعَلَامَةُ الْإِقْبَالِ عَلَى الْعُقْبَى وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ قَبْلَ وُقُوعِ الْمِيعَادِ وَظُهُورِ الْمَعَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: هُمَا كَكِفَّتَيْ مِيزَانٍ، فَإِذَا رَجَحَتْ إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ خَفَّتِ الْأُخْرَى، وَبِالْعَكْسِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَحَبَّةَ الدُّنْيَا سَبَبٌ لِاشْتِغَالِهِ بِهَا، وَالِانْهِمَاكِ فِيهَا، وَذَلِكَ لِلِاشْتِعَالِ عَنِ الْآخِرَةِ، فَيَخْلُو عَنِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالطَّاعَةِ، فَيَفُوتُ الْفَوْزُ بِدَرَجَاتِهَا وَثَوَابِهَا. وَهُوَ عَيْنُ الْمَضَرَّةِ سِوَى مَا يُقَاسِيهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَالْهَمِّ وَالتَّعَبِ فِي دَفْعِ الْحُسَّادِ، وَتَجَشُّمِ الْمَصَاعِبِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَكَسْبِهَا فِي الْبِلَادِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «خَيْرُكُمْ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ آخِرَتَهُ لِدُنْيَاهُ وَلَا دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» ".

5180 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لُعِنَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَلُعِنَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5180 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لُعِنَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَلُعِنَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ» ") : كَذَا بِالْعَطْفِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَوَقَعَ فِي الْجَامِعِ بِغَيْرِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَنَظِيرُهُ مِنْ حَدِيثِ: " «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ» " قَدْ تَقَدَّمَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5181 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5181 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) : أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ (عَنْ أَبِيهِ) : هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ جَمِيعِهَا وَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ وَخَطَأُ قَدَمٍ، وَلِذَا قَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ، أَوْ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ بِدُونِ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَاهُ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ نُسْخِ الْمَصَابِيحِ وَهُوَ سَهْوٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا مِنْ كِتَابِ الْمَصَابِيحِ، وَوَقَعَ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ تَقْلِيدًا، وَصَوَابُهُ: عَنِ ابْنِ كَعْبِ ابْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ، كَمَا فِي أَصْلِ التِّرْمِذِيِّ، وَالِابْنُ الْمَذْكُورُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا ") : نَافِيَةٌ (" ذِئْبَانِ ") : بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُبْدَلُ (" جَائِعَانِ ") : أَتَى بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ (" أُرْسِلَا ") أَيْ: خُلِّيَا وَتُرِكَا (" فِي غَنَمٍ ") أَيْ: فِي قِطْعَةِ غَنَمٍ (" بِأَفْسَدَ ") : الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ: أَكْثَرُ إِفْسَادًا (" لَهَا ") أَيْ: لِتِلْكَ الْغَنَمِ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ أَوِ الْقِطْعَةِ (" مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ ") : الْمُشَبَّهُ بِالذِّئْبَيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالشَّيْئَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهُمَا قَوْلُهُ: (" عَلَى الْمَالِ ") أَيِ: الْكَثِيرِ (" وَالشَّرَفِ ") أَيِ: الْجَاهِ الْوَسِيعِ، وَقَوْلُهُ: (" لِدِينِهِ ") مُتَعَلِّقٌ بِأَفْسَدَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حِرْصَ الْمَرْءِ عَلَيْهِمَا أَكْثَرُ فَسَادًا لِدِينِهِ الْمُشَبَّهِ بِالْغَنَمِ لِضَعْفِهِ بِجَنْبِ حِرْصِهِ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ لِلْغَنَمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " مَا " بِمَعْنَى لَيْسَ، وَذِئْبَانِ اسْمُهَا، وَجَائِعَانِ صِفَةٌ لَهُ، وَأُرْسِلَا فِي غَنَمِ الْجُمْلَةِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ، وَقَوْلُهُ: بِأَفْسَدَ خَبَرٌ لِمَا وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ وَهُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ: بِأَشَدَّ إِفْسَادًا، وَالضَّمِيرُ فِي لَهَا لِلْغَنَمِ وَاعْتُبِرَ فِيهَا الْجِنْسِيَّةُ، فَلِذَا أُنِّثَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِاسْمِ التَّفْضِيلِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ يَتَعَلَّقُ بِالْحِرْصِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَاهُ. وَقَوْلُهُ (لِدِينِهِ) اللَّامُ فِيهِ بَيَانٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] كَأَنَّهُ قِيلَ: بِأَفْسَدَ لِأَيِّ شَيْءٍ؟ قِيلَ: لِدِينِهِ، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ جِنْسِ الْغَنَمِ بِأَشَدَّ إِفْسَادًا لِتِلْكَ الْغَنَمِ مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِنَّ إِفْسَادَهُ لِدِينِ الْمَرْءِ أَشَدُّ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ إِذَا أُرْسِلَا فِيهَا، أَمَّا الْمَالُ فَإِفْسَادُهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْقُدْرَةِ يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ الشَّهَوَاتِ، وَيَجُرُّ إِلَى التَّنْعِيمِ فِي الْمُبَاحَاتِ، فَيَصِيرُ التَّنَعُّمُ مَأْلُوفًا، وَرُبَّمَا يَشْتَدُّ أُنْسُهُ بِالْمَالِ، وَيَعْجِزُ عَنْ كَسْبِ الْحَلَالِ، فَيَقْتَحِمَ فِي الشُّبَهَاتِ مَعَ أَنَّهَا مُلْهِيَةٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا أَحَدٌ، وَأَمَّا الْجَاهُ فَكَفَى بِهِ إِفْسَادًا أَنَّ الْمَالَ يُبْذَلُ لِلْجَاهِ، وَلَا يُبْذَلُ الْجَاهُ لِلْمَالِ وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، فَيَخُوضُ فِي الْمُرَاءَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ وَالنِّفَاقِ، وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَفْسَدُ اه. وَقَدْ قَالَتِ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إِنَّ آخِرَ مَا خَرَجَ مِنْ رَأْسِ الصِّدِّيقِينَ مُحِبَّةُ الْجَاهِ، فَإِنَّ الْجَاهَ وَلَوْ كَانَ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَالْمَشْيَخَةِ وَالْحَالَاتِ الْكَشْفِيَّةِ، فَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَى الْمَخْلُوقِ وَالْغَفْلَةُ وَالْغَيْرَةُ الرُّبُوبِيَّةُ أَوِ الرُّؤْيَةُ الِاثْنَيْنِيَّةُ بَعْدَ ظُهُورِ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ يَحْجُبُ السَّالِكَ عَنِ الْخَلْوَةِ فِي الْجَلْوَةِ بِوَصْفِ الْبَقَاءِ بِاللَّهِ، وَالْفِنَاءِ عَمَّا سِوَاهُ، هَذَا وَقَدْ رَوَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَكُونُ الرَّجُلُ مُرَائِيًا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ. قِيلَ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: يُحِبُّ أَنْ يَكْثُرَ النَّاسُ فِي جِنَازَتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : لَعَلَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَإِلَّا فَحَقُّ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّارِمِيُّ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، هَذَا وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ، عَنْ أَبِيهِ.

5182 - وَعَنْ خَبَّابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا أَنْفَقَ مُؤْمِنٌ مِنْ نَفَقَةٍ إِلَّا أُجِرَ فِيهَا، إِلَّا نَفَقَتَهُ فِي هَذَا التُّرَابِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5182 - (وَعَنْ خَبَّابٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى، وَهُوَ ابْنُ الْأَرَتِّ بِفَتْحَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ، لَحِقَهُ سَبْيٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَاشْتَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَعْتَقَتْهُ، أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ الْأَرْقَمِ، وَهُوَ مِمَّنْ عُذِّبَ فِي اللَّهِ عَلَى إِسْلَامِهِ فَصَبَرَ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا أَنْفَقَ مُؤْمِنٌ مِنْ نَفَقَةٍ إِلَّا أُجِرَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُثِيبَ: (" فِيهَا ") أَيْ: فِي تِلْكَ النَّفَقَةِ أَوْ إِنْفَاقِهَا (" إِلَّا نَفَقَتَهُ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُوجَبِ ; لِأَنَّ النَّفْيَ عَادَ إِلَى الْإِيجَابِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. (" فِي هَذَا التُّرَابِ ") أَيِ: الْبِنَاءِ فَوْقَ الْحَاجَةِ وَهَذَا لِلتَّحْقِيرِ، وَقِيلَ: التُّرَابُ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَدَنِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (نَفَقَتَهُ) مَنْصُوبَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوجَبِ، إِذِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ فَيَكُونُ مُوجَبًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

5183 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «النَّفَقَةُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا الْبِنَاءَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5183 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النَّفَقَةُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") أَيْ: ثَابِتٌ فِي طَرِيقِ رِضَاهُ (" إِلَّا الْبِنَاءَ ") : اللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَيْ: إِلَّا الْبِنَاءَ الزَّائِدَ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ (فَلَا خَيْرَ فِيهِ) : لِوُقُوعِ الْإِسْرَافِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا السَّرَفُ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِطْعَامِ وَالْإِنْعَامِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَيْرٌ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْمُسْتَحِقُّ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنَامِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا خَيْرَ فِيهِ تَفْرِيعِيَّةٌ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْوَاوِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ قَوْلَهُ: وَلَا خَيْرَ فِيهِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنَ الْجُمْلَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5184 - وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَرَجَ يَوْمًا وَنَحْنُ مَعَهُ، فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً، فَقَالَ " مَا هَذِهِ؟ " قَالَ أَصْحَابُهُ: هَذِهِ لِفُلَانٍ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَسَكَتَ وَحَمَلَهَا فِي نَفْسِهِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، صَنَعَ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى عَرَفَ الرَّجُلُ الْغَضَبَ فِيهِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُنْكِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: خَرَجَ فَرَأَى قُبَّتَكَ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا حَتَّى سَوَّاهَا بِالْأَرْضِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمْ يَرَهَا، قَالَ: " مَا فَعَلَتِ الْقُبَّةُ؟ " قَالُوا: شَكَا إِلَيْنَا صَاحِبُهَا إِعْرَاضَكَ، فَأَخْبَرْنَاهُ، فَهَدَمَهَا. فَقَالَ: " أَمَا إِنَّ كَلَّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا مَا لَا، إِلَّا مَا لَا " يَعْنِي إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5184 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا) أَيْ: وَقْتًا (وَنَحْنُ مَعَهُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً) أَيْ: بِنَاءً عَالِيًا (فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ ") : اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: مَا هَذِهِ الْعِمَارَةُ الْمُنْكَرَةُ وَمَنْ بَانِيهَا؟ (قَالَ أَصْحَابُهُ: هَذِهِ لِفُلَانٍ، رَجُلٍ) : بِالْجَرِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (مِنَ الْأَنْصَارِ، فَسَكَتَ وَحَمَلَهَا) أَيْ: أَضْمَرَ تِلْكَ الْفَعْلَةَ (فِي نَفْسِهِ) : غَضَبًا عَلَى فَاعِلِهَا فِي فِعْلِهَا، فَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ حَمَلْتَ الْحِقْدَ عَلَيْهِ إِذَا أَضْمَرْتَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمُ ... وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا (حَتَّى لَمَّا جَاءَ صَاحِبُهَا، فَسَلَّمَ) أَيْ: صَاحِبُهَا (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فِي النَّاسِ) أَيْ: فِي مَحْضَرٍ مِنْهُمْ، أَوْ فِيمَا بَيْنَهُمْ (فَأَعْرَضَ عَنْهُ) أَيْ: فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، أَوْ رَدَّ وَأَعْرَضَ عَنِ الِالْتِفَاتِ، كَمَا هُوَ دَأْبُهُ مِنَ الْمُلَاطَفَةِ لَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْدِيبًا لَهُ وَتَنْبِيهًا لِغَيْرِهِ (صَنَعَ ذَلِكَ مِرَارًا) : لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَدْخُولَ حَتَّى، وَلَمَّا الْحِينِيَّةُ ظَرْفٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ مُسَامَحَةً، وَكَانَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ صَنَعَ اسْتِئْنَافَ بَيَانٍ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ: فَأَعْرَضَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا مَعَ الْفَاءِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ جَوَابَ لَمَّا أَيْ كَرِهَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَوْلُهُ: (حَتَّى عَرَفَ الرَّجُلُ الْغَضَبَ فِيهِ) أَيْ: عَرَفَ أَنَّ الْغَضَبَ كَانَ لِأَجْلِهِ (وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ)

أَيْ: بِسَبَبِهِ (فَشَكَا ذَلِكَ) أَيْ: مَا رَآهُ مِنْ أَثَرِ الْغَضَبِ وَالْإِعْرَاضِ (إِلَى أَصْحَابِهِ) أَيْ: أَصْحَابِهِ الْخُلَّصِ، أَوْ إِلَى أَصْحَابِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَالَ) : تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (وَاللَّهِ إِنِّي لَأُنْكِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أَرَى مِنْهُ مَا لَمْ أَعْهَدْهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْكَرَاهَةِ، وَلَا أَعْرِفْ لَهُ سَبَبًا، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَظْهَرُ لَهَا وَجْهٌ، (قَالُوا: خَرَجَ فَرَأَى قُبَّتَكَ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا حَتَّى سَوَّاهَا بِالْأَرْضِ) : اخْتِيَارًا لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَمَا تَهْوَاهُ، (فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَرَهَا) أَيِ: الْقُبَّةَ (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (" مَا فَعَلَتِ الْقُبَّةُ؟ ") : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (قَالُوا: شَكَا إِلَيْنَا صَاحِبُهَا إِعْرَاضَكَ) أَيْ: سَبَبَهُ (فَأَخْبَرْنَاهُ) أَيْ: بِأَنَّهُ لِأَجْلِ بِنَائِكَ الْقُبَّةَ (فَهَدَمَهَا. قَالَ: " أَمَا ") : بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ كُلَّ بِنَاءٍ ") : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَبْنِيُّ (" وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا مَا لَا، إِلَّا مَا لَا) : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ (يَعْنِي: إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ) أَيْ: لَا فِرَاقَ عَنْهُ، قِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ بِنَاءٍ بَنَاهُ صَاحِبُهُ فَهُوَ وَبَالٌ أَيْ: عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْوَبَالُ فِي الْأَصْلِ الثِّقَلُ، وَالْمَكْرُوهُ أَرَادَ مَا بَنَاهُ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّنَعُّمِ فَوْقَ الْحَاجَةِ لَا أَبْنِيَةَ الْخَيْرِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطَاتِ، فَإِنَّهَا مِنَ الْآخِرَةِ، وَكَذَا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلرَّجُلِ مِنَ الْقُوتِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «كُلُّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَسْجِدًا» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا: " «كُلُّ بُنْيَانٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا مَا كَانَ هَكَذَا» ". وَأَشَارَ بِكَفِّهِ " وَكُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَا عَمِلَ بِهِ ".

5185 - وَعَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ خَادِمٌ وَمَرْكَبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ (الْمَصَابِيحِ) عَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عَتْبَدَ، بِالدَّالِ بَدَلَ التَّاءِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5185 - (وَعَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ) : بِضَمِّ عَيْنٍ فَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا هَاءٌ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ شَيْبَةُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ، وَهُوَ خَالُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَسَكَنَ الشَّامَ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ فَاضِلًا صَالِحًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، رَوَى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ. (قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أَوْصَانِي (قَالَ) : بَدَلٌ مِنْ عَهِدَ أَوْ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِلْعَهْدِ، وَاخْتَارَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلَ حَيْثُ قَالَ: بَدَلٌ مِنْهُ بَدَلَ الْفِعْلِ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا أَبْدَلَ تُلْمِمْ بِنَا مِنْ قَوْلِهِ تَأْتِنَا. (" إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ ") أَيْ: لِلْوَسِيلَةِ بِحَسَبِ الْمَآلِ (" خَادِمٌ ") أَيْ: فِي السَّفَرِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ (" وَمَرْكَبٌ ") أَيْ: مَرْكُوبٌ يُسَارُ عَلَيْهِ (" فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") أَيْ: فِي الْجِهَادِ أَوِ الْحَجِّ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقَنَاعَةُ وَالِاكْتِفَاءُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا لِلْآخِرَةِ، كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، «عَنْ خَبَّابٍ: " إِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ زَادِ الرَّاكِبِ» ". (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي الْجَامِعِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَكْفِيهِ إِلَخْ. نِسْبَةٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ، عَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَلِلْحَدِيثِ تَتِمَّةُ قِصَّةٍ تَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ (وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عَتْبَدَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ فَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ (بِالدَّالِ) أَيِ: الْمُهْمَلَةِ (بَدَلَ التَّاءِ) أَيِ: الْفَوْقِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي آخِرِ لَفْظِ: عُتْبَةَ (وَهُوَ تَصْحِيفٌ) : إِذْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَسْمَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا سَبَقَ مِنَ الضَّبْطِ الْوَاقِعِ فِي الْأُصُولِ، وَهُنَا تَحْرِيفٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَبَعْضِ الْحَوَاشِي أَيْضًا، فَاحْذَرْ فَإِنَّ الصَّوَابَ مَا تَحَرَّرَ.

5186 - وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيْسَ لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي بِهِ عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5186 - (وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَيْسَ لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ ") أَيْ: حَاجَةٌ (" فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَوْصُوفٌ سِوَى مَحْذُوفٍ أَيْ: شَيْءٌ سِوَى هَذِهِ اه. وَفِي نُسْخَةٍ مُوَافِقَةٍ لِمَا فِي الْجَامِعِ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ، وَالْمُرَادُ بِهَا ضَرُورِيَّاتُ بَدَنِهِ الْمُعِينِ عَلَى دِينِهِ (" بَيْتِ ") : بِالْجَرِّ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْخِصَالِ الْمُبَيَّنَةِ (" يَسْكُنُهُ ") أَيْ: دَفْعًا لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ (" وَثَوْبٌ يُوَارِي ") أَيْ: يَسْتُرُ (" بِهِ عَوْرَتَهُ ") أَيْ: عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ حَالَ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِيهَا (" وَجِلْفُ الْخُبْزِ ") : بِكَسْرِ جِيمٍ وَسُكُونِ لَامٍ وَيُفْتَحُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْجِلْفُ بِالْكَسْرِ الْغَلِيظُ الْيَابِسُ مِنَ الْخُبْزِ غَيْرِ الْمَأْدُومِ، أَوْ حَرْفُ الْخُبْزِ، وَالظَّرْفُ، وَالْوِعَاءُ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْجِلْفُ ظَرْفُهُمَا مِنْ جِرَابٍ وَرَكْوَةٍ، وَأَرَادَ الْمَظْرُوفَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ الظَّرْفَ وَالْمَظْرُوفَ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي الْحَاجَةِ. (" وَالْمَاءِ ") : بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْجِلْفِ أَوِ الْخُبْزِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الشُّرَّاحِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِحْدَى الْخِصَالِ. قَالَ شَارِحٌ: أَرَادَ بِالْحَقِّ مَا وَجَبَ لَهُ مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَبِعَةٍ فِي الْآخِرَةِ وَسُؤَالٍ عَنْهُ، وَإِذَا اكْتَفَى بِذَلِكَ مِنَ الْحَلَالِ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلنَّفْسِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الْحُظُوظِ يُسْأَلُ عَنْهُ وَيُطَالَبُ بِشُكْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ بِالْحَقِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ لِافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَتَوَقَّفَ تَعَيُّشُهُ عَلَيْهِ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْحَقِيقِيُّ مِنَ الْمَالِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَبِعَةُ حِسَابٍ إِذَا كَانَ مُكْتَسَبًا مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْجِلْفُ وَالْخُبْزُ وَحْدَهُ لَا أُدْمَ مَعَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْخَبْزُ الْغَلِيظُ الْيَابِسُ. قَالَ: وَيُرْوَى بِفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ جِلْفَةٍ وَهِيَ الْكِسْرَةُ مِنَ الْخُبْزِ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ، قَالَ شِمْرٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: الْجِلْفُ الظَّرْفُ مِثْلُ الْخُرْجِ وَالْجُوَالِقِ، قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَكَرَ الظَّرْفَ، وَأَرَادَ بِهِ الْمَظْرُوفَ أَيْ: كِسْرَةَ خُبْزٍ وَشَرْبَةَ مَاءٍ اه. وَالْمَقْصُودُ غَايَةُ الْقَنَاعَةِ، وَنِهَايَةُ الْكِفَايَةِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ أَدْهَمَ: وَمَا هِيَ إِلَّا جَوْعَةٌ قَدْ سَدَدْتُهَا ... وَكُلُّ طَعَامٍ بَيْنَ جَنْبَيَّ وَاحِدُ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَيَا نَفْسُ يَكْفِيكِ طُولُ الْحَيَاةِ ... إِذَا مَا قَنَعْتِ وَرَبِّ الْفَلَقْ رَغِيفٌ بِفَوْذَنْجٍ يَابِسٌ ... وَمَا رَوَى وَلُبْسٌ خَلِقْ وَخُفْشٌ تَكُفُّكَ جُدْرَانُهُ ... فَمَاذَا الْعَنَا وَمَاذَا الْقَلَقْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5187 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ. قَالَ: " ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5187 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ) أَيْ: جَامِعٍ نَافِعٍ فِي بَابِ الْمَحَبَّةِ (إِذَا أَنَا) : لِلتَّأْكِيدِ (عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللَّهُ وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ) : بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَيُسْكَنُ (قَالَ: " ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا ") أَيْ: بِتَرْكِ حُبِّهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ زَوَائِدِهَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ وَعَوَائِدِهَا، (" يُحِبَّكَ اللَّهُ ") أَيْ: لِعَدَمِ مَحَبَّتِكَ عَدُوَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدِّدَةِ لِلْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ (" وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ ") أَيْ: مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ (" يُحِبَّكَ النَّاسُ ") : لِتَرْكِكَ مَحْبُوبِهِمْ، وَعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: وَمَا الزُّهْدُ إِلَّا فِي انْقِطَاعِ الْخَلَائِقِ ... وَمَا الْحَقُّ إِلَّا فِي وُجُودِ الْحَقَائِقِ وَمَا الْحُبُّ إِلَّا حُبُّ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ ... عَنِ الْخَلْقِ مَشْغُولًا بِرَبِّ الْخَلَائِقِ

وَقِيلَ: الزُّهْدُ عِبَارَةٌ عَنْ عُزُوبِ النَّفْسِ عَنِ الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ الْآخِرَةِ خَوْفًا مِنَ النَّارِ، أَوْ طَمَعًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ تَرَفُّعًا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى الْحَقِّ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ شَرْحِ الصَّدْرِ بِنُورِ الْيَقِينِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الزُّهْدُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ وَلَا جَاهٌ، وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَا زَاهِدُ! قَالَ: الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ جَاءَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً فَتَرَكَهَا، وَأَمَّا أَنَا فَفِيمَ زَهَدْتُ؟ قُلْتُ: هَذَا بَيَانُ كَمَالِ الزُّهْدِ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الزُّهْدِ هُوَ عَدَمُ الْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِجَذْبَةٍ إِلَهِيَّةٍ تَصْرِفُ السَّالِكَ عَنِ الْأُمُورِ الْفَانِيَةِ، وَتَشْغَلُ بِالْأَحْوَالِ الْفَانِيَةِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ النَّفْسَ مُدَّعِيَةٌ لِلزُّهْدِ، وَلَا يَظْهَرُ صِدْقُهَا مِنْ كَذِبِهَا إِلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدُّنْيَا وُجُودِهَا، وَأَمَّا عِنْدَ فَقْدِهَا فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَثَمَرَتُهُ الْقَنَاعَةُ مِنَ الدُّنْيَا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنْ زَادِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ مَطْعَمٌ يَدْفَعُ الْجُوعَ، وَمَلْبَسٌ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَمَسْكَنٌ يَصُونُهُ عَنِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَأَثَاثٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَفِي الْمَنَازِلِ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الزُّهْدَ إِسْقَاطُ الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ عَنْهُ بِالْكُلْفَةِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ بِالْحَذَرِ عَنْ مَعْتَبَةِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، ثُمَّ الزُّهْدُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْبَلَاغِ مِنَ الْقُوتِ بِاغْتِنَامِ التَّفَرُّعِ إِلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْمُرَاقَبَةِ، ثُمَّ الزُّهْدُ وَالزُّهْدُ بِاسْتِحْقَارِ مَا زَهَدْتَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ الرَّبِّ، وَاسْتِوَاءِ الزُّهْدِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُ، وَالذَّهَابِ عِنْدَ اكْتِسَابِ أُجَرٍ بِتَرْكِهَا نَاظِرًا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الْفَاعِلِ الْحَقِّ، فَيُشَاهِدُ تَصَرُّفَ اللَّهِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالْأَخْذِ وَالتَّرْكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزُّهْدَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَفْضَلُهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُحِبَّ الدُّنْيَا مُتَعَرِّضٌ لِبُغْضِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ مِيرَكُ: أَظُنُّ أَنَّ ذِكْرَ التِّرْمِذِيِّ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ نُسَّاخِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ، وَالْإِمَامَ النَّوَوِيَّ، وَالشَّيْخَ الْجَزَرِيَّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا كُلُّهُمْ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فَقَطْ فَتَأَمَّلْ. قُلْتُ: ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. اه. لَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْأُصُولِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ مِنْ قَوْلِهِ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا إِلَخْ. وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. نَعَمْ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: " «الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ مِنْكَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ» ". وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ طَاوُسٍ مُرْسَلًا: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ، وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا تُطِيلُ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ. رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: يُكْثِرُ بَدَلَ يُطِيلُ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا: تُشَعِّبُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ مُرْسَلًا: أَزْهَدُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى، وَتَرَكَ أَفْضَلَ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، وَلَمْ يَعُدَّ غَدًا مِنْ أَيَّامِهِ، وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنَ الْمَوْتَى. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزَّهَادَةِ وَالْيَقِينِ، وَهَلَاكُ آخِرِهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.

5188 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَامَ عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَسَدِهِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَبْسُطَ لَكَ وَنَعْمَلَ فَقَالَ: " مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5188 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ) أَيْ: عَنِ النَّوْمِ (وَقَدْ أَثَّرَ) أَيْ: أَثَّرَ الْحَصِيرُ (فِي جَسَدِهِ) أَيْ: غَايَةَ التَّأْثِيرِ (فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَبْسُطَ) : بِضَمِّ السِّينِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " لَوْ " لِلتَّمَنِّي، وَأَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ أَذِنْتَ لَنَا أَنْ نَبْسُطَ لَكَ) : فِرَاشًا لَيِّنًا (وَنَعْمَلَ) أَيْ: لَكَ ثَوْبًا حَسَنًا. أَيْ: لَكَانَ أَحْسَنَ مِنِ اضْطِجَاعِكَ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ الْخَشِنِ، (فَقَالَ: " مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا ") : " مَا " نَافِيَةٌ أَيْ: لَيْسَ لِي أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعَ الدُّنْيَا وَلَا لِلدُّنْيَا أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعِي حَتَّى أَرْغَبَ إِلَيْهَا، وَأَنْبَسِطَ عَلَيْهَا، وَأَجْمَعَ مَا فِيهَا وَلَذَّتَهَا أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ لِي مَعَ الدُّنْيَا أَوْ أَيُّ شَيْءٍ لِي مَعَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ مَيْلِهَا إِلَيَّ، فَإِنِّي طَالِبُ الْآخِرَةِ وَهِيَ ضَرَّتُهَا الْمُضَادَّةُ لَهَا. هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلُهُ: وَنَعْمَلَ مُتَعَلِّقَةٌ مَحْذُوفٍ، فَيُقَدَّرُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ وُجُودُ التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِسَاطًا، وَمِنْ ثَمَّ طَابَقَهُ قَوْلُهُ: " مَا لِي وَلِلدُّنْيَا " أَيْ: لَيْسَ حَالِي مَعَ الدُّنْيَا. (" إِلَّا كَرَاكِبٍ ") أَيْ: إِلَّا

كَحَالِ رَاكِبٍ (" اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ") : وَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ، وَهُوَ التَّشْبِيهُ بِسُرْعَةِ الرَّحِيلِ: وَقِلَّةِ الْمُكْثِ، وَمِنْ ثَمَّ خَصَّ الرَّاكِبَ وَاللَّامُ فِي لَلدُّنْيَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِنْ كَانَ الْوَاوُ بِمَعْنَى " مَعَ " وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ، فَالتَّقْدِيرُ مَا لِي مَعَ الدُّنْيَا وَمَا الدُّنْيَا مَعِي. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالضِّيَاءُ.

5189 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَغْبَطُ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ، ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ، لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ " ثُمَّ نَقَدَ بِيَدِهِ فَقَالَ: (عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، قَلَّتْ بَوَاكِيهِ، قَلَّ تُرَاثُهُ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5189 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَغْبَطُ أَوْلِيَائِي ") : أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ ; لِأَنَّ الْمَغْبُوطَ بِهِ حَالُهُ أَيْ: أَحْسَنُهُمْ حَالًا وَأَفْضَلُهُمْ مَآلًا (" عِنْدِي ") أَيْ: فِي دِينِي وَمَذْهَبِي (" لَمُؤْمِنٌ ") : اللَّامُ زَائِدَةٌ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ هِيَ لِلِابْتِدَاءِ، أَوِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَهُوَ مُؤْمِنٌ (" خَفِيفُ الْحَاذِ ") : بِتَخْفِيفِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: خَفِيفُ الْحَالِ الَّذِي يَكُونُ قَلِيلَ الْمَالِ، وَخَفِيفُ الظَّهْرِ مِنَ الْعِيَالِ، فَيَتَمَكَّنُ مِنَ السَّيْرِ فِي طَرِيقِ الْخَالِقِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَلَا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَلَائِقِ وَالْعَوَائِقِ، وَمُجْمَلُ الْمَعْنَى أَحَقُّ أَحِبَّائِي وَأَنْصَارِي عِنْدِي بِأَنْ يُغْبَطَ وَيُتَمَنَّى حَالُهُ مُؤْمِنٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ (" ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ ") أَيْ: وَمَعَ هَذَا هُوَ صَاحِبُ لَذَّةٍ وَرَاحَةٍ مِنَ الْمُنَاجَاةِ مَعَ اللَّهِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَاسْتِغْرَاقٍ فِي الْمُشَاهَدَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» " وَأَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ " أَيْ: بِوُجُودِهَا وَحُصُولِهَا، وَمَا أَقْرَبَ الرَّاحَةَ مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ، وَمَا أَبْعَدَهَا مِمَّا قِيلَ مَعْنَاهُ: أَذِّنْ بِالصَّلَاةِ لِنَسْتَرِيحَ بِأَدَائِهَا مِنْ شُغْلِ الْقَلْبِ بِهَا وَقَوْلُهُ: (" أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ ") : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوِ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَمِّيَّةِ، وَالثَّانِي عِبَارَةٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ (" وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ ") أَيْ: كَمَا أَطَاعَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَالتَّخْصِيصِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاعْتِنَاءِ، وَجَعَلَهُ الطِّيبِيُّ عَطْفَ تَفْسِيرٍ عَلَى أَحْسَنَ وَتَفْسِيرُنَا أَحْسَنُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَطَاعَهُ فِي عِبَادَتِهِ بِالْإِخْفَاءِ، وَلَا يُظْهِرُ طَاعَتَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى عَادَةِ الْمَلَامَتِيَّةِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَيُنَاسِبُ قَوْلَهُ: (" وَكَانَ غَامِضًا ") أَيْ: خَامِلًا خَافِيًا غَيْرَ مَشْهُورٍ (" فِي النَّاسِ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْخُرُوجَ عَنْهُمْ يُوجِبُ الشُّهْرَةَ بَيْنَهُمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ عُمُومُهُمْ، فَلَا يَضُرُّهُ مَعْرِفَةُ خُصُوصِهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ مِمَّنْ يُصَاحِبُهُمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (" لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ ") أَيْ: عِلْمًا وَعَمَلًا، وَهُوَ بَيَانٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَعْنَى الْغُمُوضِ (" وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا ") أَيْ: قَدْرَ كِفَايَتَهُ بِحَيْثُ يَكُفُّهُ وَيَمْنَعُهُ عَنِ الْإِجْنَاحِ إِلَى الْكَافَّةِ، (" فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ ") أَيْ: عَلَى الرِّزْقِ الْكَفَافِ، أَوْ عَلَى الْخُمُولِ وَالْغُمُوضِ، أَوْ عَلَى مَا ذُكِرَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مِلَاكُ الْأَمْرِ الصَّبْرُ، وَبِهِ يُتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] وَقَالَ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24] (ثُمَّ نَقَدَ) : بِالنُّونِ وَالْقَافِ وَالدَّالِ الْمُهْمِلَةِ الْمَفْتُوحَةِ (بِيَدِهِ) أَيْ: نَقَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ بِأَنْ ضَرَبَ إِحْدَى أُنْمُلَتَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، حَتَّى سُمِعَ مِنْهُ صَوْتٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ مِنْ نَقَدْتُ الشَّيْءَ بِأُصْبُعِي أَنْقُدُهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ نَقْدَ الدَّرَاهِمِ، وَنَقْدَ الطَّائِرِ الْحَبَّ إِذَا لَقَطَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَهُوَ مِثْلُ النَّقْرِ وَيُرْوَى بِالرَّاءِ اه. وَهُوَ كَذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ أَيْ: صَوَّتَ بِأُصْبُعِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهِيَ الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى

جِدًّا ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ. (فَقَالَ: " عُجِّلَتْ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ (" مَنِيَّتُهُ ") أَيْ: مَوْتُهُ (" قَلَّتْ بَوَاكِيهِ ") : جَمْعُ بَاكِيَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَبْكِي عَلَى الْمَيِّتِ (" قَلَّ تُرَاثُهُ ") أَيْ: مِيرَاثُهُ وَمَالُهُ الْمُؤَخَّرُ عَنْهُ مِمَّا يُورَثُ حُمِلَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أُرِيدَ بِالنَّقْدِ هَهُنَا ضَرَبُ الْأُنْمُلَةِ عَلَى الْأُنْمُلَةِ، وَضَرَبَهَا كَالْمُتَقَلِّلِ لِلشَّيْءِ أَيْ: لَمْ يَلْبَثْ قَلِيلًا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَلِّلُ مُدَّةَ عُمُرِهِ وَعَدَدَ بَوَاكِيهِ وَمَبْلَغَ تُرَاثِهِ، وَقِيلَ: الضَّرْبُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَفْعَلُهُ الْمُتَعَجِّبُ مِنَ الشَّيْءِ، أَوْ مَنْ رَأَى مَا يُعْجِبُهُ حُسْنُهُ، وَرُبَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يُظْهِرُ قِلَّةَ الْمُبَالَاةِ بِشَيْءٍ أَوْ يَفْعَلُ طَرَبًا وَفَرَحًا بِالشَّيْءِ اه. وَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَهُوَ يَتَعَجَّبُ مِنْ حُسْنِ حَالِهِ وَجِمَالِ مَآلِهِ، وَقِيلَ، قَوْلُهُ: عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ أَنَّهُ يُسْلِمُ رُوحَهُ سَرِيعًا لِقِلَّةِ تَعَلُّقِهِ بِالدُّنْيَا، وَغَلَبَهُ شَوْقُهُ إِلَى الْمَوْلَى لِحَدِيثِ " «الْمَوْتُ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ» ". قَالَ الْأَشْرَفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ قَلِيلُ مُؤَنِ الْمَمَاتِ، كَمَا كَانَ قَلِيلَ مُؤَنِ الْحَيَاةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَفْظُهُ: " «أَغْبَطُ النَّاسِ عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاةٍ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا فَصَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ، عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُرَاثُهُ، وَقَلَّ بَوَاكِيهِ» ". وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ: " «خَيْرُكُمْ فِي الْمِائَتَيْنِ كُلُّ خَفِيفِ الْحَاذِ الَّذِي لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ» " قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا السَّخَاوِيُّ فِي الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ: عِلَّتُهُ دَاوُدُ، وَلِذَا قَالَ الْخَلِيلُ: ضَعَّفَهُ الْحُفَّاظُ فِيهِ وَخَطَّئُوهُ اه. فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ التَّرَهُّبِ أَيَّامَ الْفِتَنِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَاهِيَةٌ: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تُحَلُّ فِيهِ الْعُزْبَةُ وَلَا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ دِينُهُ إِلَّا مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ، وَمِنْ حَجَرٍ إِلَى حَجَرٍ كَالطَّائِرِ بِفِرَاخِهِ، وَكَالثَّعْلَبِ بِأَشْبَالِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَاعْتَزَلَ النَّاسَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ» " الْحَدِيثَ. وَمِنْهَا: مَا رَوَى الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الصُّوفِيِّ، عَنِ ابْنِ حُذَيْفَةَ ابْنِ الْيَمَانِ، عَنْ أَبِيهِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " «خَيْرُ نِسَائِكُمْ بَعْدَ سِتِّينَ مِائَةٍ الْعَوَاقِرُ، وَخَيْرُ أَوْلَادِكُمْ بَعْدَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ الْبَنَاتُ» ". وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي " إِلَى أَنْ قَالَ: " فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ " ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ فَقَالَ: " عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ " الْحَدِيثَ. وَقَالَ عُقْبَةُ: عَلِيٌّ ضَعِيفٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ لِلشَّامِيِّينَ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ اه. وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي الزُّهْدِ مِنْ سُنَنِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ مِنْ حَدِيثِ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَفْظُهُ: " «أَغْبَطُ النَّاسِ عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ» " وَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ مَا لِلْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: " «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ اقْتَنَاهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِزَوْجَةٍ وَلَا وَلَدٍ» ". وَلِلدَّيْلَمِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْخَوَارِزْمِيِّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ غَفَّالٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: " «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَأَنْ يُرَبِّيَ أَحَدُكُمْ جَرْوَ كَلْبٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَ وَلَدًا مِنْ صُلْبِهِ» ".

5190 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا، يَا رَبِّ! وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعَتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5190 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي ") أَيْ: إِلَيَّ عَرْضًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى شَاوَرَنِي وَخَيَّرَنِي بَيْنَ الْوُسْعِ فِي الدُّنْيَا، وَاخْتِيَارِ الْبُلْغَةِ لِزَامَ الْعُقْبَى مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عِتَابٍ. (" لِيَجْعَلَ لِي ") أَيْ: مِلْكًا لِي أَوْ مَخْصُوصًا لِأُمَّتِي عَلَى تَقْدِيرِ إِقْبَالِي عَلَيْهَا، وَالْتِفَاتِي إِلَيْهَا، وَيَصِيرُ لِأَجْلِي (" بَطْحَاءَ مَكَّةَ ") أَيْ: أَرْضَهَا وَرِمَالَهَا (" ذَهَبًا ") أَيْ: بَدَلَ حَجَرِهَا وَمَدَرِهَا، وَأَصْلُ الْبَطْحَاءِ مَسِيلُ الْمَاءِ، وَأَرَادَ هُنَا عَرْصَةَ مَكَّةَ وَصَحَارِيهَا فَإِفَاضَتُهُ بَيَانِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: بَطْحَاءُ مَكَّةَ تَنَازُعٌ فِيهِ عَرَضَ وَلِيَجْعَلَ أَيْ: عَرَضَ عَلَيَّ بَطْحَاءَ لِيَجْعَلَهَا لِي ذَهَبًا (" فَقُلْتُ: لَا ") أَيْ: لَا أُرِيدُ وَلَا أَخْتَارُ. (" يَا رَبِّ! وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا ") أَيْ: أَخْتَارُ أَوْ أُرِيدُ أَنْ أَشْبَعَ وَقْتًا أَيْ: فَأَشْكُرُ (" وَأَجُوعُ يَوْمًا ") أَيْ: فَأَصْبِرُ كَمَا فَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ

بِقَوْلِهِ: (" فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ ") أَيْ: بِعَرْضِ الِافْتِقَارِ عَلَيْكَ (" وَذَكَرْتُكَ ") أَيْ: بِسَبَبِهِ فَإِنَّ الْفَقْرَ يُورِثُ الذِّكْرَ، كَمَا فِي الْغِنَى يُوجِبُ الْكُفْرَ (" وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ ") أَيْ: بِمَا أَلْهَمَتْنِي مِنْ ثَنَائِكَ (" وَشَكَرْتُكَ ") : عَلَى إِشْبَاعِكَ وَسَائِرِ نَعْمَائِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَمَعَ فِي الْقَرِينَتَيْنِ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَهُمَا صِفَتَا الْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] الْكَشَّافُ: صَبَّارٌ عَلَى بَلَائِهِ شَكُورٌ لِنَعْمَائِهِ وَهُمَا صِفَتَا الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ، فَجَعَلَهُمَا كِنَايَةً عَنْهُ، أَقُولُ: وَتَحْقِيقُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ السَّادَةِ الصَّفِيَّةِ أَنَّ الصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَالْخَصْلَتَيْنِ الْمَسْطُورَتَيْنِ نَاشِئَتَانِ مِنْ تَرْبِيَةِ اللَّهِ لِلسَّالِكِ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، إِذْ بِهِمَا تَتِمُّ مَرْتَبَةُ الْكَمَالِ، وَهُوَ الرِّضَا عَنِ الْمَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ بِخِلَافِ حَالِ الْمُتَحَرِّفِينَ، وَأَفْعَالِ الْمُتَحَيِّرِينَ الْمُذْنِبِينَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] . (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .

5191 - وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5191 - (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: أَنْصَارِيُّ خَطْمِيٌّ، يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ، رَوَى عَنِ ابْنِهِ سَلَمَةَ. قَالَ ابْنُ عَبْدُ الْبَرِّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُرْسِلُ حَدِيثَهُ اه. وَهُوَ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَحَدِيثُهُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ تَابِعِيًّا فَمُرْسَلُهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِإِطْلَاقِهِمْ حَدِيثَهُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ ") أَيْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ (" آمِنًا ") أَيْ: غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مِنْ أَسْبَابِ عَذَابِهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْعِصْمَةِ عَنِ الْمَنَاهِي، وَلِذَا قِيلَ: لَيْسَ الْعِيدُ لِمَنْ لَبِسَ الْجَدِيدَ إِنَّمَا الْعِيدُ لِمَنْ أَمِنَ الْوَعِيدَ. (" فِي سِرْبِهِ ") : الْمَشْهُورُ كَسْرُ السِّينِ أَيْ: فِي نَفْسِهِ، وَقِيلَ: السِّرْبُ الْجَمَاعَةُ، فَالْمَعْنَى فِي أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَقِيلَ بِفَتْحِ السِّينِ أَيْ: فِي مَسْلَكِهِ وَطَرِيقِهِ، وَقِيلَ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: فِي بَيْتِهِ كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. أَبَى بَعْضُهُمْ إِلَّا السَّرْبَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ أَنَّ: فِي بَيْتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ رِوَايَةً، وَلَوْ سَلِمَ لَهُ قَوْلُهُ أَنْ يُطْلَقَ السِّرْبُ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ، كَانَ قَوْلُهُ هَذَا حَرِيًّا بِأَنْ يَكُونَ أَقْوَى الْأَقَاوِيلِ، إِلَّا أَنَّ السِّرْبَ يُقَالُ لِلْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَرْضِ. وَفِي الْقَامُوسِ: السِّرْبُ الطَّرِيقُ وَبِالْكَسْرِ الطَّرِيقُ وَالْبَالُ وَالْقَلْبُ وَالنَّفْسُ وَبِالتَّحْرِيكِ جُحْرُ الْوَحْشِ وَالْحَقِيرُ تَحْتَ الْأَرْضِ اه. فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُبَالَغَةَ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ وَلَوْ فِي بَيْتٍ تَحْتَ الْأَرْضِ ضَيِّقٍ كَجُحْرِ الْوَحْشِ، أَوِ التَّشْبِيهَ بِهِ فِي خَفَائِهِ وَعَدَمِ ضِيَائِهِ. (" مُعَافًى ") : اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ أَيْ: صَحِيحًا سَالِمًا مِنَ الْعُيُوبِ (" فِي جَسَدِهِ ") أَيْ: بَدَنِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (" عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ") أَيْ: كِفَايَةُ قُوتِهِ مِنْ وَجْهِ الْحَلَالِ (" فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْحِيَازَةِ، وَهِيَ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ (" لَهُ ") : وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِمَنْ رَابِطٌ لِلْجُمْلَةِ أَيْ: جُمِعَتْ لَهُ (" الدُّنْيَا ") أَيْ: (" بِحَذَافِيرِهَا ") : كَمَا فِي نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ، أَيْ: بِتَمَامِهَا، وَالْحَذَافِيرُ: الْجَوَانِبُ، وَقِيلَ: الْأَعَالِي، وَاحِدُهَا حِذْفَارٌ أَوْ حُذْفُورٌ، وَالْمَعْنَى، فَكَأَنَّمَا أُعْطِيَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ: حَذَافِيرِهَا.

5192 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5192 - (وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً) أَيْ: ظَرْفًا (" شَرًّا مِنْ بَطْنٍ ") : صِفَةُ وِعَاءٍ (" بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ ") : مُبْتَدَأٌ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَقَوْلُهُ: (" أُكُلَاتٌ ") : بِضَمَّتَيْنِ خَبَرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ: بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ، وَالْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ اللُّقْمَةُ. وَفِي رِوَايَةٍ: لُقَيْمَاتٌ بِالتَّصْغِيرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّحْقِيرِ، مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْلِيلِ بِالتَّنْكِيرِ. (" يُقِمْنَ صُلْبَهُ ") أَيْ: ظَهْرَهُ لِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَقِيَامِ الْمَعِيشَةِ، وَإِسْنَادُ الْإِقَامَةِ إِلَى الْأُكُلَاتِ مَجَازِيَّةٌ سَبَبِيَّةٌ، (" فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَيُضَمُّ أَيْ: لَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ (" فَثُلُثٌ ") : بِضَمِّهِمَا وَيُسْكَنُ اللَّامُ (" طَعَامٌ ") : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ: ثُلُثٌ مِنْهُ لِلطَّعَامِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" وَثُلُثٌ شَرَابٌ ") : وَاللَّامُ مُقَدَّرَةٌ فِيهِمَا لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (" وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ") : بِحَرَكَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى قُوتٍ أَلْبَتَّةَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ، فَلْيَجْعَلْ ثُلُثَ بَطْنِهِ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثَهُ لِلشَّرَابِ، وَلْيَتْرُكْ ثُلُثًا خَالِيًا بِخُرُوجِ النَّفَسِ، وَلَا يَنْبَغِيَ أَنْ يَكُونَ كَطَائِفَةِ الْقَلَنْدَرِيَّةِ حَيْثُ يَقُولُونَ بِمَلْءِ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ وَالْمَاءُ يُحَصَّلُ مَكَانُهُ وَلَوْ فِي الْمَسَامِّ وَالنَّفَسُ إِنِ اشْتَهَى خَرَجَ وَإِلَّا فَلَا بَعْدَ تَمَامِ الْمَرَامِ، فَأُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ قَالَ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3] وَسَبَقَ: " «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءَ» ". وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيِ: الْحَقُّ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ عَمَّا يُقَامُ بِهِ صُلْبُهُ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَلْبَتَّةَ لِتَجَاوُزٍ فَلَا يَتَجَاوَزْ عَنِ الْقِسْمِ الْمَذْكُورِ، جَعَلَ الْبَطْنَ أَوَّلًا وِعَاءً كَالْأَوْعِيَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ ظُرُوفًا لِحَوَائِجِ الْبَيْتِ تَوْهِينًا لِشَأْنِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُ شَرَّ الْأَوْعِيَةِ لِأَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا هِيَ لَهُ، وَالْبَطْنُ خَلْقٌ لِأَنَّهُ يُتَقَوَّمُ بِهِ الصُّلْبُ بِالطَّعَامِ وَامْتِلَاؤُهُ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَكُونَ شَرًّا مِنْهَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فِي الْجُوعِ عَشْرُ فَوَائِدَ. الْأُولَى: صَفَاءُ الْقَلْبِ وَإِيقَادُ الْقَرِيحَةِ وَنَفَاذُ الْبَصِيرَةِ، فَإِنَّ الشِّبَعَ يُورِثُ الْبَلَادَةَ، وَيُعْمِي الْقَلْبَ، وَيُكْثِرُ الْبُخَارَ فِي الدِّمَاغِ، كَشِبْهِ الشَّبَكَةِ حَتَّى يَحْتَوِيَ عَلَى مَعَادِنِ الْفِكْرِ، فَيَثْقُلُ الْقَلْبُ بِسَبَبِهِ عَنِ الْجَوَلَانِ. وَثَانِيهَا: رِقَّةُ الْقَلْبِ وَصَفَاؤُهُ الَّذِي بِهِ هُيِّئَ لِإِدْرَاكِ لَذَّةِ الْمُنَاجَاةِ وَالتَّأَثُّرِ بِالذِّكْرِ. وَثَالِثُهَا: الِانْكِسَارُ وَالذُّلُّ وَزَوَالُ الْمَطَرِ وَالْأَشَرِ وَالْفَرَحِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الطُّغْيَانِ، وَلَا تَنْكَسِرُ النَّفْسُ لِشَيْءٍ وَلَا تُذَلُّ، كَمَا تُذَلُّ بِالْجُوعِ، فَعِنْدَهُ تَسْتَكِنُّ لِرَبِّهَا وَتُفِيقُ عَلَى عَجْزِهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَا يَنْسَى بَلَاءَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَأَهْلَ الْبَلَاءِ، فَإِنَّ الشَّبْعَانَ يَنْسَى الْجَائِعِينَ وَالْجُوعَ. وَخَامِسُهَا: وَهِيَ مِنْ كِبَارِ الْفَوَائِدِ كَسْرُ شَهَوَاتِ الْمَعَاصِي كُلِّهَا، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَتَقْلِيلُهَا يُضْعِفُ كُلَّ شَهْوَةٍ وَقُوَّةٍ وَالسَّعَادَةُ كُلُّهَا فِي أَنْ يَمْلِكَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَالشَّقَاوَةُ فِي أَنْ تَمْلِكَهُ نَفْسُهُ. وَسَادِسَتُهَا: دَفْعُ النَّوْمِ وَدَوَامُ السَّهَرِ، فَإِنَّ مَنْ شَبِعَ شَرِبَ كَثِيرًا، وَمَنْ كَثُرَ شُرْبُهُ كَثُرَ نَوْمُهُ، وَفِي كَثْرَةِ النَّوْمِ ضَيَاعُ الْعُمُرِ، فَوَاتُ التَّهَجُّدِ، وَبَلَادَةُ الطَّبْعِ، وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وَالْعُمُرُ أَنْفَسُ الْجَوَاهِرِ، وَهُوَ رَأْسُ مَالِ الْعَبْدِ، فِيهِ يَتَّجِرُ، وَالنَّوْمُ مَوْتٌ فَتَكْثِيرُهُ تَنْقِيصٌ مِنَ الْعُمُرِ. وَسَابِعَتُهَا: تَيْسِيرُ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ يَمْنَعُ مِنْ كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ يَشْتَغِلُ بِالْأَكْلِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ أَوْ طَبْخِهِ ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْخَلَاءِ ثُمَّ يَكْثُرُ تَرَدُّدُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَاءِ، وَلَوْ صَرَفَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فِي الذِّكْرِ وَالْمُنَاجَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَكَثُرَ رِبْحُهُ. قَالَ السَّرِيُّ: رَأَيْتُ مَعَ عَلِيٍّ الْجُرْجَانِيِّ سَوِيقًا يَسْتَفُّ مِنْهُ فَقُلْتُ: مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي حَسَبْتُ مَا بَيْنَ الْمَضْغِ إِلَى الِاسْتِفَافِ سَبْعِينَ تَسْبِيحَةً فَمَا مَضَغْتُ الْخُبْزَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَثَامِنَتُهَا: مِنْ قِلَّةِ الْأَكْلِ صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَدَفْعُ الْأَمْرَاضِ، فَإِنَّ سَبَبَهَا كَثْرَةُ الْأَكْلِ، وَحُصُولُ فَضْلَةِ الْأَخْلَاطِ فِي الْمَعِدَةِ وَالْعُرُوقِ، ثُمَّ الْمَرَضُ يَمْنَعُ عَنِ الْعِبَادَاتِ، وَيُشَوِّشُ الْقَلْبَ، وَيُحْوِجُ إِلَى الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالدَّوَاءِ وَالطَّبِيبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى مُؤَنٍ، وَفِي الْجُوعِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ كُلَّ ذَلِكَ. وَتَاسِعَتُهَا: خِفَّةُ الْمُؤْنَةِ فَإِنَّ مَنْ تَعَوَّدَ قِلَّةَ الْأَكْلِ كَفَاهُ مِنَ الْمَالِ قَدْرٌ يَسِيرٌ. وَعَاشِرَتُهَا: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيثَارِ وَالتَّصَدُّقِ بِمَا فَضَلَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ، فَمَا يَأْكُلُهُ فَخِزَانَتُهُ الْكَنِيفُ، وَمَا يُتَصَدَّقُ بِهِ فَجَزَاؤُهُ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ: " فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثُ لِشَرَابِهِ ".

5193 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَتَجَشَّأُ فَقَالَ: " أَقْصِرْ مِنْ جُشَائِكَ، فَإِنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5193 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَتَجَشَّأُ) : بِتَشْدِيدِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ: يُخْرِجُ الْجُشَاءَ مِنْ صَدْرِهِ، وَهُوَ صَوْتٌ مَعَ رِيحٍ يَخْرُجُ مِنْهُ عِنْدَ الشِّبَعِ، وَقِيلَ: عِنْدَ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ، وَقِيلَ: الرَّجُلُ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، رَوَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلَأْ بَطْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرَّجُلُ هُوَ وَهْبُ أَبُو جُحَيْفَةَ السُّوَائِيُّ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَكَلْتُ ثَرِيدَةَ بُرٍّ بِلَحْمٍ، وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَتَجَشَّأُ (فَقَالَ: أَقْصِرْ» ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيِ: امْتَنِعْ (" مِنْ جُشَائِكَ ") بِضَمِّ الْجِيمِ مَمْدُودًا، وَكَانَ أَصْلُ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْصِرْ عَنَّا. فَقَالَ مَعْنَاهُ اكْفُفْ عَنَّا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْجُشَاءِ هُوَ النَّهْيُ عَنِ الشِّبَعِ ; لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْجَالِبُ لَهُ اه. وَقِيلَ: التَّجَشُّؤُ التَّكَلُّفُ. (" فَإِنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ ") أَيْ: أَكْثَرَهُمْ فِي الزَّمَانِ (جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُهُمْ شِبَعًا ") : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ (" فِي الدُّنْيَا ". رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ: هُوَ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو جُحَيْفَةَ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " «أَكَلْتُ ثَرِيدَةً بِلَحْمٍ، وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَتَجَشَّأُ. فَقَالَ: " يَا هَذَا كَفَّ مِنْ جُشَائِكَ ; فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: بَلْ هُوَ وَاهٍ جِدًّا فِيهِ وَهُوَ ابْنُ عَوْفٍ، وَعَمْرُو بْنُ مُوسَى، لَكِنْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادَيْنِ. رُوَاةُ أَحَدِهِمَا ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ قَالَ الرَّاوِي: فَمَا أَكَلَ أَبُو جُحَيْفَةَ مِلْءَ بَطْنِهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، كَانَ إِذَا تَعَشَّى لَا يَتَغَدَّى، وَإِذَا تَغَدَّى لَا يَتَعَشَّى. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: فَمَا مَلَأْتُ بَطْنِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً اه. (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: " كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ، كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْبَكَّاءِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، كَذَا فِي التَّرْغِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ وَهُمَا ضَعِيفَانِ، لَكِنْ لِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيِّ.

5194 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5194 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ) أَيِ: الْأَشْعَرِيِّ مَعْدُودٌ فِي الشَّامِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً ") : وَهِيَ مَا تُوقِعُ أَحَدًا فِي الضَّلَالَةِ وَالْمَعْصِيَةِ (" وَفِتْنَةُ أُمَّتِي ") : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (" الْمَالُ ") : لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِحُصُولِ الْمَنَالِ وَمَانِعٌ عَنْ كَمَالِ الْمَآلِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5195 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُجَاءُ بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ بَذَجٌ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَعْطَيْتُكَ وَخَوَّلْتُكَ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْكَ، فَمَا صَنَعْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ وَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ، فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ كُلِّهِ. فَيَقُولُ لَهُ: أَرِنِي مَا قَدَّمْتَ. فَيَقُولُ: رَبِّ! جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ وَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ، فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ كُلِّهِ. فَإِذَا عَبْدٌ لَمْ يُقَدِّمْ خَيْرًا فَيُمْضَى بِهِ إِلَى النَّارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5195 - (وَعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُجَاءُ ") أَيْ: يُؤْتَى (" بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ ") أَيْ: مِنْ كَمَالِ ضَعْفِهِ (" بَذَجٌ ") : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ فَجِيمٍ وَلَدُ الضَّأْنِ مُعَرَّبُ بره أَرَادَ بِذَلِكَ هَوَانَهُ وَعَجْزَهُ، وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ كَأَنَّهُ بَذَجٌ مِنَ الذُّلِّ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: شَبَّهَ ابْنَ آدَمَ بِالْبَذَجِ لِصَغَارِهِ

وَصِغَرُهُ أَيْ: يَكُونُ حَقِيرًا ذَلِيلًا (" فَيُوقَفُ ") أَيْ: فَيُحْبَسُ قَائِمًا (" بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى ") أَيْ: عِنْدَ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ (" فَيَقُولُ لَهُ ") أَيْ: بِلِسَانِ مَلَكٍ أَوْ بِلَا وَاسِطَةٍ بِبَيَانِ الْقَالِ أَوِ الْحَالِ (" أَعْطَيْتُكَ ") أَيِ: الْحَيَاةَ وَالْحَوَاسَّ وَالصِّحَّةَ وَالْعَافِيَةَ وَنَحْوَهَا، (" وَخَوَّلْتُكَ ") أَيْ: جَعَلْتُكَ ذَا خَوَلٍ مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ وَأَمْثَالِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلْتُكَ مَالِكًا لِبَعْضٍ وَمِلْكًا لِبَعْضٍ (" وَأَنْعَمْتُ عَلَيْكَ ") أَيْ: بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ وَبِإِرْسَالِ الرَّسُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (" فَمَا صَنَعْتَ ") أَيْ: فِيمَا ذُكِرَ (" فَيَقُولُ: رَبِّ! جَمَعْتُهُ ") أَيِ: الْمَالَ (" وَثَمَّرْتُهُ ") : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: أَنْمَيْتُهُ وَكَثَّرْتُهُ (" وَتَرَكْتُهُ ") أَيْ: فِي الدُّنْيَا عِنْدَ مَوْتِي (" أَكْثَرَ مَا كَانَ ") أَيْ: فِي أَيَّامِ حَيَاتِي (" فَارْجِعْنِي ") : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ أَيْ: رُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا (" آتِكَ بِهِ كُلِّهِ ") أَيْ: بِإِنْفَاقِهِ فِي سَبِيلِكَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْآخِرَةِ {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99] (" فَيَقُولُ لَهُ ") أَيِ: الرَّبُّ (" أَرِنِي مَا قَدَّمْتَ ") أَيْ: لِأَجْلِ الْآخِرَةِ مِنَ الْخَيْرِ (" فَيَقُولُ ") أَيْ: ثَانِيًا كَمَا قَالَ أَوَّلًا (" رَبِّ! جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ وَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ، فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ كُلِّهِ. فَإِذَا عَبْدٌ ") : الْفَاءُ فَصِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُقَدَّرِ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَئَةِ، وَعَبْدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ (" لَمْ يُقَدِّمْ خَيْرًا ") أَيْ: فِيمَا أَعْطَى، وَلَمْ يَمْتَثِلْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَمْ يَتَّعِظْ مَا وُعِظَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ - وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [المزمل: 18 - 20] (" فَيُمْضَى ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: فَيُذْهَبُ (" بِهِ إِلَى النَّارِ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَظَهَرَ مِمَّا حُكِيَ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ كَانَ كَعَبْدٍ أَعْطَاهُ سَيِّدُهُ رَأْسَ مَالٍ لِيَتَّجِرَ بِهِ وَيَرْبَحَ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ سَيِّدِهِ، فَأَتْلَفَ رَأْسَ مَالِهِ بِأَنْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَاتَّجَرَ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالتِّجَارَةِ فِيهِ، فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ خَائِفٌ خَاسِرٌ. قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] فَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَ الْعَبْدِ وَذِكْرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ وَلَذَّةٍ وَسَعَادَةٍ، بَلْ كُلَّ مَطْلُوبٍ وَمُؤْثَرٍ يُسَمَّى نِعْمَةً، وَلَكِنَّ النِّعْمَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ السَّعَادَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ وَتَسْمِيَةُ مَا عَدَاهَا غَلَطٌ أَوْ مَجَازٌ كَتَسْمِيَةِ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا يُعْبَرُ عَلَيْهَا إِلَى الْآخِرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ مَحْضٌ، وَكُلُّ سَبَبٍ يُوصِلُ إِلَى السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَيُعِينُ عَلَيْهَا إِمَّا بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِوَسَائِطَ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ نِعْمَةٌ صَحِيحٌ وَصِدْقٌ، لِأَجْلِ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى النِّعْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ) : بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ أَيْ: نَسَبَ إِسْنَادَهُ إِلَى الضَّعْفِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا.

5196 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ جِسْمَكَ وَنَرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5196 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ ") أَيْ: عَنْهُ (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ أَيْ: أَوَّلُ شَيْءٍ يُحَاسَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ (" مِنَ النَّعِيمِ ") : بَيَانٌ لِمَا (" أَنْ يُقَالَ لَهُ ") : خَبَرُ إِنَّ، وَكَانَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ مِنَ النَّعِيمِ مُتَعَلِّقًا بِيُسْأَلُ حَيْثُ قَالَ " مَا " فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَنْ يُقَالَ خَبَرُ إِنَّ أَيْ: أَوَّلُ سُؤَالِ الْعَبْدِ هُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: (" أَلَمْ نُصِحَّ ") أَيْ: بِعَظَمَتِنَا (" جِسْمَكَ ") : مِنَ الْإِصْحَاحِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الصِّحَّةِ (" وَنُرَوِّكَ ") : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْإِرْوَاءِ (" مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَلَفْظُهُمَا: " «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَأُرَوِّكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟» ". وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

5197 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5197 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ» ") أَيْ: خَمْسَةِ أَحْوَالٍ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّثَهُ لِتَأْوِيلِ الْخِصَالِ (" عَنْ عُمُرِهِ ") : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الْمِيمُ أَيْ: عَنْ مُدَّةِ أَجَلِهِ (" فِيمَا أَفْنَاهُ ") أَيْ: صَرَفَهُ (" وَعَنْ شَبَابِهِ ") أَيْ: قُوَّتِهِ فِي وَسَطِ عُمْرِهِ (" فِيمَا أَبْلَاهُ ") أَيْ: ضَيَّعَهُ، وَفِيهِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ وَإِشَارَةٌ إِلَى الْمُسَامَحَةِ فِي طَرَفَيْهِ مِنْ حَالِ صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْخَصْلَةِ الْأُولَى فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ سُؤَالُهُ عَنْ قُوَّتِهِ وَزَمَانِهِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ عَلَى أَقْوَى الْعِبَادَةِ. (" وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ") أَيْ: مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ؟ (" وَفِيمَا أَنْفَقَهُ ") أَيْ: فِي طَاعَةٍ أَمْ مَعْصِيَةٍ (" وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟ ") : وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْأُسْلُوبِ لِلتَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْمَطْلُوبِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا غَيَّرَ السُّؤَالَ فِي الْخَصْلَةِ الْخَامِسَةِ، حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ ; لِأَنَّهَا أَهَمُّ شَيْءٍ وَأَوْلَاهُ، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُكْتَةً لَخَتْمِ الْخِصَالِ بِهَا تَرَقِّيًا، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْعِلْمَ مُقَدِّمَةُ الْعَمَلِ وَهُوَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَوْلَا الْعَمَلُ اه. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ بِإِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا فِي الْعِلْمِ بِالْفُرُوعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ كِتَابِهِ وَآيَاتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ، فَأَشْرَفُ الْعُلُومِ، وَأَفْضَلُهَا، وَأَلْطَفُهَا، وَأَكْمَلُهَا، وَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْخَيْرِ قُدِّسَ سِرُّهُ، لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ سِينَا سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا تَعْلَمُ عِلْمًا يَنْتَقِلُ مَعَكَ لِانْتِقَالِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِيهَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْعُلَمَاءِ أَيْضًا، هَذَا وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " «كَيْفَ أَنْتَ يَا عُوَيْمِرُ إِذَا قِيلَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعَلِمْتَ أَمْ جَهِلْتَ؟ فَإِنْ قُلْتَ: عَلِمْتُ. قِيلَ لَكَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ وَإِنْ قُلْتَ: جَهِلْتُ قِيلَ لَكَ فَمَا كَانَ عُذْرُكَ فِيمَا جَهِلْتَ أَلَا تَعَلَّمْتَ» ". وَمَعَ هَذَا رَوَى: " وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ". وَفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ: " «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَتَمَامُهُ: لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5198 - (عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: " «إِنَّكَ لَسْتَ بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ إِلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5198 - (عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " إِنَّكَ لَسْتَ بِخَيْرٍ ") أَيْ: بِأَفْضَلَ (" مِنْ أَحْمَرَ ") أَيْ: جِسْمًا (" وَلَا أَسْوَدَ ") أَيْ: لَوْنًا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْفَضِيلَةَ لَيْسَتْ بِلَوْنٍ دُونَ لَوْنٍ، وَإِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ مَثَلًا لِكَوْنِهِمَا أَكْثَرَ وُجُودًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا لَوْنُ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ جَزَمَ وَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْأَحْمَرِ الْعَجَمُ، وَبِالْأَسْوَدِ الْعَرَبُ، (" إِلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ ") : بِضَمِّ الضَّادِ أَيْ: تُرِيدُ أَنْتَ أَحَدَهُمَا (" بِتَقْوَى ") : بِالْقَصْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 109] فَفِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْفَضِيلَةَ لَيْسَتْ بِالصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا بِالنِّسْبَةِ الْبَاهِرَةِ، بَلْ بِالتَّقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالضَّمِيرُ فِي تَفْضِيلِهِ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوَّلُهُمَا بِتَأْوِيلِ الْإِنْسَانِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُضِرٌّ، وَالتَّقْدِيرُ لَسْتَ بِأَفْضَلَ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَقَوْلُهُ: أَنْ تَفْضُلَهُ تَكْرِيرُ تَأْكِيدٍ اه. فَتَأَمَّلْ فِيهِ، فَإِنَّ جَعْلَ الضَّمِيرِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ دَلَالَتِهِمَا عَلَى الْعُمُومِ مِنَ الْجِنْسُ الَّذِي وَقَعَ الْمُخَاطَبُ فَرْدًا مِنْهُ عَنْ صَحِيحٍ، وَكَذَا تَأْوِيلُهُمَا بِالْإِنْسَانِ الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: لَسْتَ بِأَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ زِيَادَتِكَ عَلَيْهِ بِتَقْوَى مُعْتَبَرَةٍ فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ لَهَا مَرَاتِبُ: أَدْنَاهَا: التَّقْوَى عَنِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ، وَأَوْسَطُهَا: عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي وَالْمَلَاهِي، وَعَنِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَهُوَ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ فِي الطَّاعَةِ، وَأَعْلَاهَا: أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الْحُضُورِ مِنَ اللَّهِ غَائِبًا عَنْ حُضُورِ مَا سِوَاهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا فَضَلَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» " ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ مَرْفُوعًا وَهُوَ عِنْدَ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّوَادِرِ مِنْ قَوْلِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ.

5199 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا زَهِدَ عَبْدُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْبَتَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عَيْبَ الدُّنْيَا وَدَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا سَالِمًا إِلَى دَارِ السَّلَامِ» ". (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5199 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا زَهِدَ ") : بِكَسْرِ الْهَاءِ (" عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا ") أَيْ: زِيَادَتُهَا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ (" إِلَّا أَنْبَتَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ ") أَيْ: أَنْبَتَ الْمَعْرِفَةَ الْمُتْقَنَةَ (" فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ ") : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ مِنَ الْبَصِيرَةِ أَيْ: جَعَلَهُ مُعَايِنًا (" عَيْبَ الدُّنْيَا ") أَيْ: مَعَايِبَهَا مِنْ كَثْرَةِ عَنَائِهَا وَقِلَّةِ غَنَائِهَا وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَتْعَابِ الْبَدَنِ وَإِكْثَارِ الْحُزْنِ وَإِشْعَالِ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الرَّبِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ يَعْنِي: لَمَّا زَهِدَ الدُّنْيَا لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ بِعُيُوبِ الدُّنْيَا أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِهِ بَصِيرَةً، حَتَّى حَصَلَ لَهُ بِهَا حَقُّ الْيَقِينِ. (" وَدَاءَهَا ") أَيْ: عِلَّةَ مِحْنَتِهَا وَسَبَبَ طِلْبَتِهَا (" وَدَوَاءَهَا ") أَيْ: مُعَالَجَتَهَا بِمَعْجُونِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالِاحْتِمَاءَ عَنْهَا بِالصَّبْرِ وَالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا بِمَا قُسِمَ لَهُ مِنْهَا. (" وَأَخْرَجَهُ ") أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى (" مِنْهَا ") أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا وَبَلِيَّاتِهَا (" سَالِمًا ") أَيْ: بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْعُقْبَى (" إِلَى دَارِ السَّلَامِ ") : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَزْهَدْ فِيهَا وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عَيْبِهَا وَدَائِهَا وَدَوَائِهَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ أَصْلًا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِسَلَامٍ، بَلْ بَعْدَ سَابِقَةِ عَذَابٍ أَوْ لَاحِقَةِ حِجَابٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: " «مَا زَانَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِزِينَةٍ أَفْضَلَ مِنْ زَهَادَةٍ فِي الدُّنْيَا وَعَفَافٍ فِي بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ» ".

5200 - وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ اللَّهُ قَلَبَهُ لِلْإِيمَانِ وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا، وَلِسَانَهُ صَادِقًا، وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً، وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً، وَجَعَلَ أُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً، وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً، فَأَمَّا الْأُذُنُ فَقَمِعٌ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَمُقِرَّةٌ لِمَا يُوعَى الْقَلْبُ وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِيًا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5200 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ ") أَيْ: جَعَلَ قَلْبَهُ خَالِصًا لِلْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُهُ غَيْرُهُ وَمَا يَتْبَعُهُ، (" وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا ") أَيْ: عَنِ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْبُغْضِ، وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَالْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْمَوْلَى وَالذُّهُولِ عَنِ الْعُقْبَى. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88] (" وَلِسَانَهُ صَادِقًا ") أَيْ: فِي قَوْلِهِ وَوَعْدِهِ وَعَهْدِهِ (" وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً ") أَيْ: بِذِكْرِ رَبِّهِ وَحُبِّهِ (" وَخَلِيقَتَهُ ") أَيْ: جِبِلَّتَهُ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا مِنْ أَصْلِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عَوَارِضِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْفِطْرَةِ (" مُسْتَقِيمَةً ") أَيْ: غَيْرَ مَائِلَةٍ إِلَى طَرِيقِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (" وَجَعَلَ أُذُنَهُ ") : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسْكَنُ الثَّانِيَةُ (" مُسْتَمِعَةً ") أَيْ: لِلْحَقِّ وَاعِيَةً لِلْعِلْمِ (" وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً ") أَيْ: إِلَى دَلَائِلِ الصُّنْعِ مِنَ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ (" فَأَمَّا ") : بِالْفَاءِ الْعَاطِفَةِ، وَلَعَلَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ، وَالْمَعْنَى أَمَّا مَا سَبَقَ مِنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَغَيْرِهِمَا، فَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ شَرْطًا لِلْإِفْلَاحِ، وَأَمَّا (" الْأُذُنُ فَقَمْعٌ ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَبِكَسْرِ الْقَافِ مَعَ سُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ الْقَمْعُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَعِنَبٍ مَا يُوضَعُ فِي فَمِ الْإِنَاءِ فَيُصَبُّ فِيهِ الدُّهْنُ وَغَيْرُهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَمْعُ كَضِلَعٍ إِنَاءٌ يُتْرَكُ فِي رُءُوسِ الظُّرُوفِ لِتُمْلَأَ بِالْمَائِعَاتِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ وَالدِّهَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: شَبَّهَ إِجْمَاعِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وَيَعُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ بِالْأَقْمَاعِ، (" وَأَمَّا الْعَيْنُ فَمُقِرَّةٌ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ كَذَا فِي أَصْلِ الْأَصِيلِ، وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِفَتَحَاتٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ: مَحَلُّ قَرَارٍ (" لِمَا يُوعَى ") أَيْ: يُحْفَظُ (" الْقَلْبُ ") : بِالرَّفْعِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا فِي الْأَصِيلِ وَيُنَاسِبُ الْإِيعَاءَ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَمُقِرَّةٌ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ ; لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الْقَلْبِ وَتُقِرُّ فِيهِ مَا أَدْرَكَتْهُ بِحَاسَّتِهَا، فَكَأَنَّ الْقَلْبَ لَهَا وِعَاءٌ وَهِيَ تُقِرُّ فِيهِ مَا رَأَتْهُ. قَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: وَمِنَ الْمَجَازِ قَرَّ الْكَلَامَ فِي أُذُنِهِ وَضَعَ فَاهُ عَلَى أُذُنِهِ فَأَسْمَعَهُ، وَهُوَ مِنْ قَرَّ الْمَاءُ فِي الْإِنَاءِ إِذَا صَبَّهُ فِيهِ، وَالْقَلْبُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ يُوعَى، وَيُحْتَمَلُ النَّصْبُ أَيْ: يَقَرُّ فِي الْقَلْبِ أَيْ: يَحْفَظُهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لِأَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ إِمَّا سَمْعِيَّةٌ فَالْأُذُنُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْقَلْبَ وِعَاءً لَهَا، أَوْ نَظَرِيَّةٌ فَالْعَيْنُ هِيَ الَّتِي تُقِرُّهَا فِي الْقَلْبِ وَتَجْعَلُهُ وِعَاءً لَهُمَا، وَمِنْ ثَمَّ جُعِلَ قَوْلُهُ: (" وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِيًا ") أَيْ: حَافِظًا، فَالْفَذْلَكَةُ لِلْقَرِينَتَيْنِ قُلْتُ: وَبِهِ يَتِمُّ آلَاتُ الْعِلْمِ وَأَسْبَابُهُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] وَفِي تَقَدُّمِ السَّمْعِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْعُمْدَةَ هِيَ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تُعْرَفُ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُوَرِّثَةِ لِعِلْمِ الْيَقِينِ ثُمَّ يَرْتَقِي إِلَى مَرْتَبَةِ النَّظَرِ وَرُتْبَةِ الْفِكْرِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ عِلْمُهُ عَيْنَ الْيَقِينِ، وَيَنْتَهِي إِلَى الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ عَرْشُ الرَّبِّ، وَبِهِ يَصِلُ إِلَى كَمَالِ حَقِّ الْيَقِينِ، رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ مَرَاتِبِ الْيَقِينِ فِي دَرَجَاتِ الدِّينِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وَوَجْهُ الْغَايَةِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْيَقِينِ تَرْكُ الْعِبَادَةِ فِي الدِّينِ، بَلْ يَحْصُلُ بِهِ مَرْتَبَةُ وَضْعِ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ، كَمَا قِيلَ: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَلِذَا أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَوْتُ، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْمَوْتَ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْحَيَاةِ، أَذَاقَنَا اللَّهُ مِنْهُ بَعْضَ الذَّوْقِ الْمَمْزُوجِ بِحَلَاوَةِ الشَّوْقِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

5201 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] » رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5201 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ ") أَيْ: مَعَ وُجُودِ فِعْلِهِ إِيَّاهَا (" مَا يُحِبُّ ") أَيْ: مِنْ أَسْبَابِهَا (" فَإِنَّمَا هُوَ ") أَيْ: ذَلِكَ الْإِعْطَاءُ (" اسْتِدْرَاجٌ ") أَيْ: مَكْرٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ. قَالَ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِدْرَاجُ هُوَ الْأَخْذُ فِي الشَّيْءِ، وَالذَّهَابُ فِيهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً، كَالْمَرَاقِي وَالْمَنَازِلِ فِي ارْتِقَائِهِ وَنُزُولِهِ، وَمَعْنَى اسْتِدْرَاجِ اللَّهِ اسْتِدْرَاجُهُمْ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى مَا يُهْلِكُهُمْ، وَيُضَاعِفُ عُقْبَاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُرَادُ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ تَوَاتُرَ اللَّهِ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ انْهِمَاكِهِمْ فِي الْغَيِّ، فَكُلَّمَا جَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ازْدَادُوا بَطَرًا وَجَدَّدُوا مَعْصِيَةً، فَيَتَدَرَّجُونَ فِي الْمَعَاصِي بِسَبَبِ تَرَادُفِ النِّعَمِ، ظَانِّينَ أَنَّ مُتَوَاتِرَةَ النِّعَمِ أَثَرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَتَقْرِيبٌ، وَإِنَّمَا هِيَ خِذْلَانٌ مِنْهُ وَتَبْعِيدٌ، (ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيِ: اسْتِشْهَادًا أَوِ اعْتِضَادًا {فَلَمَّا نَسُوا} [الأعراف: 165] أَيْ: عَهْدَهُ سُبْحَانَهُ، أَوْ تَرَكُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: {مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] أَيْ: وُعِظُوا فَتَحْنَا بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ {عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] أَيْ: مِنْ أَسْبَابِ النِّعَمِ الَّتِي فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مُوجِبَاتِ النِّقَمِ {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} [الأنعام: 44] أَيْ: أُعْطُوا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ وَطُولِ الْعُمُرِ {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] أَيْ: فَجْأَةً بِالْمَوْتِ أَوِ الْعَذَابِ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] أَيْ: وَاجِمُونَ سَاكِتُونَ مُتَحَسِّرُونَ مُتَحَيِّرُونَ آيِسُونَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَفِي الْجَامِعِ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ.

5202 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ دِينَارًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيَّةٌ " قَالَ: ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ فَتَرَكَ دِينَارَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيَّتَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5202 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ) : فِي النِّهَايَةِ: هُمُ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْزِلٌ يَسْكُنُهُ، وَكَانُوا يَأْوُونَ إِلَى مَوْضِعٍ مُظَلَّلٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ يَسْكُنُونَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي وَصْفِ الرَّجُلِ بِهَذَا النَّعْتِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَلِيهِ مُعَلِّلٌ بِهِ يَعْنِي انْتِمَاءَهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا مَعَ وُجُودِ الدِّينَارَيْنِ أَوِ الدِّينَارِ، دَعْوَى كَاذِبَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ، وَإِلَّا فَقَدَ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، يَقْتَنُونَ الْأَمْوَالَ وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَمَا عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ أَعْرَضَ عَنِ الْفِتْنَةِ ; لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ اخْتِيَارٌ لِلْأَفْضَلِ وَإِلَّا دَخَلَ فِي الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِقْنَاعُ فِيهَا مُبَاحٌ مُرَخَّصٌ لَا يُذَمُّ صَاحِبُهُ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ حَدٌّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ (تُوُفِّيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَجُوِّزَ الْمَعْلُومُ أَيْ: قُبِضَ وَمَاتَ (وَتَرَكَ دِينَارًا) أَيْ: وُجِدَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيَّةٌ ") أَيْ: هُوَ كَيَّةٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ سَبَبُ كَيَّةٍ أَوْ آلَةٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} [التوبة: 35] الْآيَةَ. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (ثُمَّ تُوِفِّيَ آخَرُ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ (فَتَرَكَ دِينَارَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيَّتَانِ ") : وَتَوْضِيحُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مَعَ

الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ كَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِمْ بِنَاءً عَلَى نِهَايَةِ حَاجَتِهِمْ، وَغَايَةِ فَاقَتِهِمْ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّائِلِينَ إِمَّا قَالًا وَإِمَّا حَالًا، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ قُوتُ يَوْمٍ، فَوَقَعَ أَيِ: السُّؤَالُ لِكُلِّهِمَا مَعَ وُجُودِ الدِّينَارِ لَهُمَا حَرَامًا، وَكَذَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ نَفْسَهُ بِصُورَةِ الْفُقَرَاءِ مِنْ لُبْسِ الْخَلَقِ أَوْ زِيِّ الشَّحَّاذِينَ، وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ النُّقُودِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، وَأَخَذَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَأَكَلَ، فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَكَذَا مَنْ أَظْهَرَ نَفْسَهُ عَالِمًا أَوْ صَالِحًا أَوْ شَرِيفًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُطَابِقًا، وَأُعْطِيَ لِأَجْلِ عِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ أَوْ شَرَفِهِ، فَيَكُونُ حَرَامًا عَلَيْهِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الْكَازَرُونِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَأَى جَمْعًا مِنَ الْفُقَرَاءِ يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ تَكِيَّةٍ فَقَالَ: يَا أَكَلَةَ الْحَرَامِ! فَامْتَنَعُوا عَنِ الْأَكْلِ، فَقَالَ: كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا يَأْكُلُ وَإِلَّا فَلَا. فَأَكَلَ بَعْضُهُمْ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ! طَعَامٌ وَاحِدٌ حَرَامٌ لِقَوْمٍ وَحَلَالٌ لِآخَرِينَ، فَلْيَحْذَرْ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ أَعَزَّهُمَا اللَّهُ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالْحَالُ أَنَّهُ غِنًى شَرْعِيٌّ مِنَ الْأَوْقَافِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ سَكَنَ الْخَلَاوِيَ الْمَوْقُوفَةَ لِلْمَسَاكِينِ، فَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ الْغَنِيَّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْكُنَ فِي خَلَاوِي إِلَّا رَابِطَةً، وَلَا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِمَا اشْتُهِرَ مِنْ أَوْقَافِ الْحَرَمَيْنِ عَامٌّ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عِنْدَنَا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ إِذَا كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ، وَبَدَأَ يَظْهَرُ أَنَّ إِمَامَنَا الْأَعْظَمَ، وَمُقْتَدَانَا الْأَقْوَمَ لَوْ كَانَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَشَاهَدَ سُكَّانَ هَذَا الْمَكَانِ لَقَالَ بِحُرْمَةِ الْمُجَاوَرَةِ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ كَرَاهَتِهَا، لِعَدَمِ مَنْ يَقُولُ بِحَقِّ عَظَمَتِهَا وَحُرْمَتِهَا إِلَّا نَادِرًا، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

5203 - «وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى خَالِهِ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ يَعُودُ، فَبَكَى أَبُو هَاشِمٍ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا خَالِ؟ أَوَجَعٌ يُشْئِزُكَ أَمْ حِرْصٌ عَلَى الدُّنْيَا؟ قَالَ: كَلَّا وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا لَمْ آخُذْ بِهِ قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ خَادِمٌ وَمَرْكَبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَإِنِّي أَرَانِي قَدْ جَمَعْتُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5203 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ) أَيِ: ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ خَالُ الْمُؤْمِنِينَ (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى خَالِهِ) أَيِ: النَّسَبِيُّ (أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ) : وَمَرَّ تَرْجَمَتُهُ (يَعُودُهُ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ: يَزُورُهُ لِمَرَضِهِ (فَبَكَى أَبُو هَاشِمٍ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ بَاكِيًا (يَا خَالِ؟) : بِكَسْرِ اللَّامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا عَلَى حَدِّ: يَا غُلَامُ! (" أَوَجَعٌ يُشْئِزُكَ ") : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ: يُقْلِقُكَ وَيُتْعِبُكَ فَيُبْكِيكَ، فَفِي الْقَامُوسِ: شَئِزَ شَأْزًا غَلُظَ وَاشْتَدَّ، وَيُقَالُ قَلِقَ وَأَشْأَزَهُ أَقْلَقَهُ. (" أَمْ حِرْصٌ عَلَى الدُّنْيَا؟ ") أَيْ: يَقْلَعُكَ فَيُبْكِيكَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إِمَّا مِنِ اشْتِدَادِ مَرَضٍ صُورِيٍّ، أَوْ عَرَضٍ مَعْنَوِيٍّ، يَكُونُ كَانَ مِنْهُمَا بَاعِثًا عَلَى نَكَدٍ ظَاهِرِيٍّ وَبَاطِنِيٍّ. (قَالَ: كَلَّا) أَيِ: ارْتَدِعْ عَنْ حُسْبَانِكَ كَلَّا، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ الْبَاعِثُ أَحَدَهُمَا، (وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيْنَا عَهْدًا لَمْ آخُذْ بِهِ) : وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ إِمَّا وَصِيَّةٌ عَامَّةٌ، أَوْ مُبَايَعَةٌ خَاصَّةٌ (قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟) أَيِ: الْعَهْدُ وَفِي نُسْخَةٍ وَمَا ذَاكَ (قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ ") أَيِ: الَّذِي يُحَصِّلُ الْمَنَالَ فِي الْمَالِ (" خَادِمٌ وَمَرْكَبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنِّي أُرَانِي) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَظُنُّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا أَيْ: أُبْصِرُ أَوْ أَعْلَمُ (قَدْ جَمَعْتُ) أَيْ: زِيَادَةً عَلَى مَا عَهِدْتُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ: حَذَفَ مُتَعَلِّقَهُ لِيَدُلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

5204 - «وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قُلْتُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا لَكَ لَا تَطْلُبُ كَمَا يَطْلُبُ فُلَانٌ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَؤُودًا لَا يَجُوزُهَا الْمُثْقَلُونَ ". فَأُحِبُّ أَنْ أَتَخَفَّفَ لِتِلْكَ الْعَقَبَةِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5204 - (وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: قُلْتُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا لَكَ لَا تَطْلُبُ) أَيْ: مَالًا أَوْ مَنْصِبًا (كَمَا يَطْلُبُ فُلَانٌ) أَيْ: وَهُوَ مِنْ نُظَرَائِكَ (فَقَالَ: إِنِّي) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا بِتَقْدِيرِ لِأَنِّي (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ أَمَامَكُمْ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: قُدَّامَكُمْ، وَهُوَ ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرًا مُقَدَّمًا وَالِاسْمُ قَوْلُهُ: (" عَقَبَةً ") : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: مَرْقًى صَعْبًا مِنَ الْجِبَالِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. (" كَؤُودًا ") : بِفَتْحٍ فَضَمِّ هَمْزَةٍ فَوَاوٍ فَدَالٍ أَيْ: شَاقَّةً فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَوْتُ وَالْقَبْرُ وَالْحَشْرُ، وَأَهْوَالُهَا وَشَدَائِدُهَا شَبَّهَهَا بِصُعُودِ الْعَقَبَةِ وَمُكَابَدَةٍ مَا يَلْحَقُ الرَّجُلَ مِنْ قَطْعِهَا، (" لَا يَجُوزُهَا ") أَيْ: لَا يَتَجَاوَزُ تِلْكَ الْعَقَبَةَ عَلَى طَرِيقِ السُّهُولَةِ (" الْمُثْقَلُونَ ") : مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ أَيِ: الْحَامِلُونَ ثِقَلَ الْمَالِ وَمُؤْنَةَ الْجَاهِ وَسَعَةَ الْحَالِ، وَلِذَا قِيلَ: فَازَ الْمُخِفُّونَ وَهَلَكَ الْمُثْقَلُونَ. (فَأُحِبُّ أَنْ أَتَخَفَّفَ) أَيْ: بِتَرْكِ الطَّلَبِ وَالصَّبْرِ عَلَى قِلَّةِ الْمُؤْنَةِ (لِتِلْكَ الْعَقَبَةِ) : لِئَلَّا يَحْصُلَ لِي التَّعَبُ فِيهَا.

5205 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ إِلَّا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ؟ ". قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ مِنَ الذُّنُوبِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5205 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ إِلَّا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ» ") أَيْ: هَلْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الِابْتِلَالِ؟ وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ، هَلْ يَتَحَقَّقُ الْمَشْيُ عَلَى الْمَاءِ بِلَا ابْتِلَالٍ؟ (قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ مِنَ الذُّنُوبِ ") أَيْ: مِنَ الْمَعَاصِي اللَّازِمَةِ لِصَاحِبِ حُبِّ الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ تَخْوِيفٌ شَدِيدٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَحَثٌّ أَكِيدٌ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَإِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، وَكَفَى بِهَا تَبِعَةً أَنْ يُدْخَلَ الْفُقَرَاءُ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْهَا بِكَرَمِهِ وَفَضْلِهِ. (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ، رَوَى الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ. وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: حَدِيثُ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: " «إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عَقَبَةً كَؤُودًا لَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا كُلُّ مُخِفٍّ» " وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

5206 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ مُرْسَلًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] » رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5206 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَابِعِيٌّ خَضْرَمِيٌّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَهُوَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ، وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ، رَوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ. (مُرْسَلًا) أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَوْحَى إِلَيَّ ") أَيْ: لَمْ يُوحَ إِلَيَّ (" أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ ") : أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْبَاءُ مُقَدَّرَةٌ، وَقَوْلُهُ: (" وَأَكُونَ ") : عَطَفٌ عَلَيْهِ (" مِنَ التَّاجِرِينَ ") أَيِ: الْمُتَوَغِّلِينَ فِي التِّجَارَةِ (" وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ ") أَيْ: قِيلَ لِي بِالْوَحْيِ (" أَنْ: سَبِّحْ) : أَنْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أَيْ: مَقْرُونًا بِهِ، وَالْمَعْنَى نَزِّهِ اللَّهَ تَعَالَى عَمًّا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مُنْتَهِيًا إِلَى ثَنَاءِ رَبِّكَ بِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ لَهُ، {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] أَيِ: الْمُصَلِّينَ بِذِكْرِ أَحَدِ الْأَرْكَانِ وَإِرَادَةِ تَمَامِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَجَازِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ السَّجْدَةِ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: " «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ". {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} [الحجر: 99] : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ أَوْ بِالْعُبُودِيَّةِ {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ

قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 97] إِلَخَ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ (وَأَبُو نُعَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ الزَّاهِدُ، لَقِيَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، رَوَى عَنْهُ جُبَيْرُ بْنُ نَفِيرٍ وَعُرْوَةُ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ. مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ انْتَهَى. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5207 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا اسْتِعْفَافًا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَسَعْيًا عَلَى أَهْلِهِ، وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ، لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا، مُكَاثِرًا، مُفَاخِرًا مُرَائِيًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5207 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا ") أَيْ: مِنْ طَرِيقٍ حَلَالٍ (" اسْتِعْفَافًا ") أَيْ: لِأَجْلِ طَلَبِ الْعِفَّةِ (" عَنِ الْمَسْأَلَةِ ") : فَفِي النِّهَايَةِ الِاسْتِعْفَافُ طَلَبُ الْعَفَافِ وَالتَّعَفُّفِ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنِ الْحَرَامِ وَالسُّؤَالِ مِنَ النَّاسِ. (" وَسَعْيًا عَلَى أَهْلِهِ ") أَيْ: لِأَجْلِ عِيَالِهِ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ حَالِهِ (" وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ ") : إِحْسَانًا عَلَيْهِ بِمَا يَكُونُ زَائِدًا لَدَيْهِ (" لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ وَجْهَهُ مِنْ جِهَةِ كَمَالِ النُّورِ وَغَايَةِ السُّرُورِ (" مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ") : قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ وَقْتُ كَمَالِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا النُّورَ لَهُ بِبَرَكَةِ الْمُصْطَفَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] فَإِنَّ طه أَرْبَعَةَ عَشَرَ بِحِسَابِ أَبْجَدِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ الْأَبُ وَالْجَدُّ، وَهَذَا يَوْمُ لَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ. (" وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا ") أَيْ: فَضْلًا عَنْ أَنْ يَطْلُبَ حَرَامًا (" مُكَاثِرًا ") أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ طَالِبًا كَثْرَةَ الْمَالِ لِأَحْسَنِ الْحَالِ وَلَا صَرَفَهُ فِي تَحْسِينِ الْمَآلِ. (" مُفَاخِرًا ") أَيْ: عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْأَغْبِيَاءِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ (" مُرَائِيًا ") أَيْ: أَنْ فُرِضَ عَنْهُ صُدُورُ خَيْرٍ أَوْ عَطَاءٍ (" لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ") : وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ مَنْ طَلَبَ الْحَرَامَ، إِمَّا اكْتِفَاءً بِمَا يُفْهَمُ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ، وَإِمَّا إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْحَرَامَ أَكْلَهُ وَقُرْبَهُ حَرَامٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَلَبٌ وَمَرَامٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي حَدِيثٍ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] وَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنْ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَسَخَطِهِ، فَقَوْلُهُ: وَوَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ مُبَالَغَةٌ فِي حُصُولِ الرِّضَا بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ) .

5208 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، لِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لَعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ، مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5208 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ ") أَيْ: هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْخَيْرِ الْمَدْسُوسِ الْمَعْلُومِ كَالْمَحْسُوسِ (" خَزَائِنُ ") أَيْ: أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مَخْزُونَةٌ مَكْنُونَةٌ مَرْكُوزَةٌ مَوْضُوعَةٌ فِيمَا بَيْنَ عِبَادِهِ (" لِتِلْكَ الْخَزَائِنِ ") : خَبَرٌ مُقَدَّمٌ عَلَى مُبْتَدَئِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (" مَفَاتِيحُ ") أَيْ: عَلَى أَيْدِي عَبِيدِهِ الَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ وُكَلَائِهِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ تَأْخِيرٍ بِدُونِ ذِكْرِ الشَّرِّ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّرَّ مَا خُلِقَ

لِذَاتِهِ، وَلِذَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26] مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " «الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» " أَدَبًا. فَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَيْكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الشَّرَّ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَرْكِ الْخَيْرِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِسْبَةُ التَّضَادِّ كَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ خَزَائِنَ لِلشَّرِّ أَيْضًا قَوْلُهُ: (" «فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ» ") أَيْ: عِلْمًا أَوْ عَمَلًا أَوْ حَالًا أَوْ مَالًا (" وَمِغْلَاقًا لِلشَّرِّ وَوَيْلٌ لَعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ ") أَيْ: لِلْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَالْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ وَالْبُخْلِ، وَسُوءِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ (" مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ ") . قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَيْرُ مَا يَرْغَبُ فِيهِ الْكُلُّ كَالْعَقْلِ مَثَلًا وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالشَّيْءِ النَّافِعِ، وَالشَّرُّ ضِدُّهُ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ قَدْ يَتَّحِدَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ الْوَاحِدِ شَرَّ الْآخَرِ، كَالْمَالِ الَّذِي يَكُونُ رِيَاءً كَانَ خَيْرًا لِزَيْدٍ وَشَرًّا لِعَمْرٍو، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَمْرَيْنِ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أَيْ: مَالًا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 55] انْتَهَى. وَكَذَا الْعِلْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ حِجَابٌ وَسَبَبُ الْعَذَابِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضٍ آخَرَ اقْتِرَابٌ إِلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَقِيسَ عَلَى هَذَا الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يُورِثُ الْعُجْبَ وَالْغُرُورَ، وَمِنْهَا مَا يُورِثُ النُّورَ وَالسُّرُورَ وَالْحُبُورَ كَالسَّيْفِ وَالْخَيْلِ وَنَحْوِهَا. قَدْ يُجْعَلُ آلَةً لِلْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْقَرَارِ فِي دَارِ الْأَبْرَارِ، وَقَدْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَيُنْتَهَى بِهَا إِلَى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا وَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ أَلَا وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي النَّارِ» ". يَعْنِي بِحَسَبِ مَا قُسِمَ لِأَهْلِهِ قِسْمَةً أَزَلِيَّةً أَبَدِيَّةً مَبْنِيَّةً عَلَى جَعْلِ بَعْضِهِمْ مَرَائِي الْجَمَالِ وَبَعْضِهِمْ مَظَاهِرَ الْجَلَالِ، كَمَا قَالَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] وَقَدْ قَالَ: ( «خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَخَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي» ) مُشِيرًا إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] فَبَحْرُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَرِيضٌ عَمِيقٌ، لَا يَغُوصُ فِيهِ إِلَّا مَنْ لَهُ تَحْقِيقٌ بِتَوْفِيقٍ يَتَحَيَّرُ فِيهِ أَرْبَابُ السَّوَاحِلِ، وَيَمْضِي مِنْهُ أَصْحَابُ سُفُنِ الشَّرَائِعِ الْكَوَامِلِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «إِنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ خَيْرًا مَنَحَهُ خُلُقًا حَسَنًا وَمَنْ أَرَادَ لَهُ سُوءًا مَنَحَهُ سَيِّئًا» ".

5209 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا «لَمْ يُبَارَكْ لِلْعَبْدِ فِي مَالِهِ جَعَلَهُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5209 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا لَمْ يُبَارَكْ لِلْعَبْدِ فِي مَالِهِ» ") أَيْ: بِأَنْ لَا يَصْرِفَهُ فِي رِضَا مَوْلَاهُ وَعِمَارَةِ عُقْبَاهُ وَحُسْنِ مَآلِهِ، (" جَعَلَهُ ") أَيْ: أَنْفَقَ مَالَهُ وَضَيَّعَهُ (" فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ ") أَيِ: الْمُعَبَّرِ بِهِمَا عَنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِ عَنْ أَعْرَاضِ الدِّينِ.

5210 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اتَّقُوا الْحَرَامَ فِي الْبُنْيَانِ ; فَإِنَّهُ أَسَاسُ الْخَرَابِ» " رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5210 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اتَّقُوا الْحَرَامَ ") أَيِ: احْذَرُوا إِنْفَاقَهُ وَفِي الْجَامِعِ: اتَّقُوا الْحَجَرَ الْحَرَامَ (" فِي الْبُنْيَانِ ") أَيْ: فِي صَرْفِ عِمَارَةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ (" فَإِنَّهُ أَسَاسُ الْخَرَابِ ") أَيْ: فِي الْأَيَّامِ الْآتِيَةِ، كَمَا وَرَدَ: " لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ " وَالتَّقْيِيدُ بِالْحَرَامِ لَيْسَ لَهُ مَفْهُومٌ مُعْتَبَرٌ، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الْحَلَالَ لَمْ يُنْفَقْ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ حُسْنِ الْمَآلِ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: لَوْ أَكَلَ النَّاسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنَ الْحَلَالِ لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا نِظَامٌ فِي الْحَالِ، وَلِذَا قِيلَ: لَوْلَا الْحَمْقَى لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْغَفْلَةُ رَحْمَةٌ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] قِيلَ: التَّقْدِيرُ أَسْبَابُ خَرَابِ الدِّينِ، أَوْ أَسَاسُ خَرَابِ الْبُنْيَانِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِنْفَاقِ الْحَلَالِ فِي الْبُنْيَانِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا وَهَذَا أَنْسَبُ بِالْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: " لِلرَّجُلِ " بَدَلَ " لِلْعَبْدِ ".

5211 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5211 - (وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ» ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ الْأَوْلَى مِنَ الدَّارِ الْإِقَامَةُ مَعَ عَيْشٍ هَنِيءٍ، وَدَارُ الدُّنْيَا خَالِيَةٌ عَنْهَا لَا يُسْتَحَقُّ لِذَلِكَ أَنْ تُسَمَّى دَارًا، فَمَنْ دَارُهُ الدُّنْيَا فَلَا دَارَ لَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " « اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ » ". (" وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ ") : فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَالِ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي الْمَبَرَّاتِ وَالصَّرْفُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ، فَمَنْ أَتْلَفَهُ فِي تَحْصِيلِ الشَّهَوَاتِ وَاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ، فَحَقِيقٌ بِأَنْ يُقَالَ: لَا مَالَ لَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] وَلِذَا قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: (" وَلَهَا ") أَيْ: لِلدُّنْيَا (" يَجْمَعُ ") أَيِ: الْمَالَ (" مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ ") أَيْ: عَقْلًا كَامِلًا، أَوْ عَقْلَ الدِّينِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الدَّارِ الْآخِرَةِ لِلتَّزَوُّدِ وَهُوَ الْمَحْمُودُ. قَالَ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] قُلْتُ: وَمُجْمَلُ الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُعَدَّ دَارًا إِلَّا لِمَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَلَا مَالًا إِلَّا لِمَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ اسْتِحْقَارُهَا وَانْحِطَامُهَا عَنْ أَنْ تُعَدَّ دَارًا أَوْ مَالًا لِمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ لَهُ قَرَارًا وَمَاتَ. قَالَ الرَّاغِبُ: كُلُّ اسْمٍ نَوْعٌ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: دَلَالَةٌ عَلَى الْمُسَمَّى وَفَصْلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُمْدَحُ بِهِ، فَكُلُّ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ كَامِلًا لِمَا خُلِقَ لَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَهُ مُطْلَقًا، بَلْ قَدْ يُنْفَى عَنْهُ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ لَيْسَ بِإِسْنَادٍ أَيْ: لَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَعْنَى الَّذِي خُلِقَ لِأَجْلِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا.

5212 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ " الْخَمْرُ جِمَاعُ الْإِثْمِ وَالنِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ " قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَخِّرُوا النِّسَاءَ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5212 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ) أَيْ: مَوْعِظَتِهِ (" الْخَمْرُ جِمَاعُ الْإِثْمِ ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: مَجْمَعُهُ وَمَظِنَّتُهُ وَقِيلَ: أَصْلُ الْجِمَاعِ مَا يَجْمَعُ عَدَدًا، وَيُرَادِفُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا " «الْخَمْرُ أَمُّ الْفَوَاحِشِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ» ". وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْفَوَاحِشِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَوَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ» " قِيلَ: دُعِيَ رَجُلٌ إِلَى سَجْدَةٍ لِصَنَمٍ فَأَبَى، ثُمَّ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ فَأَبَى، ثُمَّ إِلَى الزِّنَا فَأَبَى، ثُمَّ إِلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا شَرِبَ فَعَلَ جَمِيعَ مَا طُلِبَ مِنْهُ. (" وَالنِّسَاءُ ") أَيْ: جِنْسُهُنَّ (" حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ ") : وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَوْ رَئِيسُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ الْأَوَّلُ مَا فِي نُسْخَةٍ بِلَفْظِ: الشَّيَاطِينِ أَيْ: مَصَائِدُهُمْ وَاحِدُهَا حِبَالَةٌ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ مَا يُصَادُ بِهَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، قِيلَ: مَا أَيِسَ الشَّيْطَانُ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا أَتَى مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ. (" «وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» ") أَيْ: مِلَاكُهَا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ تَرْكَ الدُّنْيَا رَأَسُ كُلِّ عِبَادَةٍ، وَقَدْ قِيلَ: مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا لَا يَهْدِيهِ جَمِيعُ الْمُرْشِدِينَ، وَمَنْ تَرَكَهَا لَا يُغْوِيهِ جَمِيعُ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ كُلُّهَا مِنَ الْجَوَامِعِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ أَصْلٌ فِي الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. (قَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (وَسَمِعْتُهُ) أَيِ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقُولُ: " «أَخِّرُوا النِّسَاءَ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَيْثُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ: أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الذِّكْرِ، وَفِي الْحُكْمِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ، فَلَا تُقَدِّمُوهُنَّ ذِكْرًا وَحُكْمًا وَمَرْتَبَةً. قُلْتُ: وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى بُطْلَانِ مُحَاذَاةِ الْمُرَادِ بِشُرُوطِهَا الْمُغْتَرَّةِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ، وَمُحَقَّقٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ (رَزِينٌ) : وَفِي التَّمْيِيزِ لِابْنِ الرَّبِيعِ حَدِيثٌ: أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ يَعْنِي النِّسَاءَ. قَالَ شَيْخُنَا فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَ أَحَادِيثَ بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الطَّبَرَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا نُطِيلُ بِهَا، وَأَشَارَ شَيْخُنَا لِبَعْضِهَا فِي مُخْتَصَرِ تَخْرِيجِ الْهِدَايَةِ انْتَهَى، فَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، لَكِنْ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لَا بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَرِيبِ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ الْقَطْعِيِّ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ، فَضْلًا عَنْ شُهْرَتِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.

5213 - وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْهُ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: " «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5213 - (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ) أَيْ: مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمُتَشَعِّبِ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْكَلَامِ (فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) أَيْ: بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: " «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» ") : قُلْتُ: وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِنْ قَوْلِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ لَهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ مِنْ كَلَامِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ عُدَّ الْحَدِيثُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، بِأَنَّ ابْنَ الْمَدِينِيَّ أَثْنَى عَلَى مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ، وَالْإِسْنَادُ حَسَنٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ إِسْنَادًا وَهُوَ فِي فِي تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ الصَّدَفِيِّ التَّابِعِيِّ بِلَفْظِ: " «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ الْخَطَايَا» ".

5214 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِئُ الْآخِرَةَ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا مُرْتَحِلَةٌ ذَاهِبَةٌ، وَهَذِهِ الْآخِرَةُ مُرْتَحِلَةٌ قَادِمَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تَكُونُوا مِنْ بَنِي الدُّنْيَا فَافْعَلُوا، فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الْعَمَلِ وَلَا حِسَابَ، وَأَنْتُمْ غَدًا فِي دَارِ الْآخِرَةِ وَلَا عَمَلَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5214 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْهَوَى ") أَيْ: هَوَى النَّفْسِ وَمُشْتَهَيَاتُهَا (" وَطُولُ الْأَمَلِ ") أَيْ: بِتَسْوِيفِ الْعَمَلِ وَتَأْخِيرِهِ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ (" فَأَمَّا الْهَوَى ") أَيِ: الْمُخَالِفُ لِلْهُدَى الْمُوَافِقُ لِلْبَاطِلِ (" فَيَصُدُّ ") أَيْ: يَمْنَعُ صَاحِبَهُ (" عَنِ الْحَقِّ ") أَيْ: عَنْ قَبُولِهِ وَانْقِيَادِهِ (" وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِئُ ") : مِنَ الْإِنْسَاءِ، وَيَجُوزُ بِالتَّشْدِيدِ (" الْآخِرَةَ ") : لِأَنَّ ذِكْرَهَا يَقْطَعُ الْأَمَلَ، وَيُوجِبُ الْعَمَلَ " وَهَذِهِ الدُّنْيَا " أَيِ: الْمَعْلُومَةُ ذِهْنًا، وَالْمَفْهُومَةُ حِسًّا (" مُرْتَحِلَةٌ ") أَيْ: سَاعَةً فَسَاعَةً (" ذَاهِبَةٌ ") أَيْ: رَائِحَةٌ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي صَاحِبُهَا، كَمَا لَا يَشْعُرُ بِسَيْرِ السَّفِينَةِ رَاكِبُهَا وَلِذَا قِيلَ: كُلُّ نَفَسٍ خُطْوَةٌ إِلَى أَجَلٍ رَاعَهَا " وَهَذِهِ الْآخِرَةُ مُرْتَحِلَةٌ قَادِمَةٌ " أَيْ: آتِيَةٌ شَبَّهَهُمَا بِالْمَطِيَّتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ فِي طَرِيقِهِمَا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ سَاعَةٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَكُونُ النَّفَسَ الْأَخِيرَ الْمُقْتَضِيَ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي طَاعَةٍ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ " أَيْ: مُلَازِمُونَ، وَمُحِبُّونَ، وَرَاكِبُونَ، وَرَاغِبُونَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَضْدَادِ الْمَعْلُومَةِ، كَمَا حَقَّقَهُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ، (" فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تَكُونُوا مِنْ بَنِي الدُّنْيَا فَافْعَلُوا ") : وَفِيهِ اهْتِمَامٌ تَامٌّ بِتَرْكِ الدُّنْيَا وَمُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ فِي مُلَازَمَةِ أَمْرِ الْأُخْرَى حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ فَافْعَلُوا، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ حُبِّ الدُّنْيَا حُصُولُ الْآخِرَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْلِ الْآخِرَةِ تَرْكُ حَظِّ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا - وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا - كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا - انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 18 - 21] (فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الْعَمَلِ أَيْ: فِي دَارٍ يُطْلَبُ مِنْكُمْ عَمَلُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ تَكْلِيفٍ، فَاغْتَنِمُوا الْعَمَلَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ بِتَرْكِ الْأَمَلِ ; لِأَنَّ الدُّنْيَا سَاعَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ فِي طَاعَةٍ (" وَلَا حِسَابَ ") أَيِ: الْيَوْمَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاجِرِ وَإِلَّا فَرُوِيَ خِطَابًا لِلْأَبْرَارِ: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا» ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] (وَأَنْتُمْ غَدًا فِي دَارِ الْآخِرَةِ) أَيْ: وَفِي الْحِسَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ (" وَلَا عَمَلَ ") أَيْ: يَوْمَئِذٍ لِانْقِطَاعِهِ بِالْأَجَلِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: وَلَا حِسَابَ بِالْفَتْحِ بِغَيْرِ التَّنْوِينِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِالتَّنْوِينِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَلَا عَمَلَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَشَارَ بِهَذِهِ الدُّنْيَا إِلَى تَحْقِيرِ شَأْنِهَا وَوَشْكِ زَوَالِهَا، فِي قَوْلِهِ: الْآخِرَةُ أَشَارَ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِهَا وَقُرْبِ نُزُولِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ يَعْنِي بَيَّنْتُ لَكُمْ حَالَ الدُّنْيَا مِنْ غُرُورِهَا وَفَنَائِهَا، وَحَالَ الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِهَا وَبَقَائِهَا، وَجَعَلْتُ زِمَامَ الِاخْتِيَارِ فِي أَيْدِيكُمْ فَاخْتَارُوا أَيًّا مَا شِئْتُمْ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَلَا حِسَابَ، فَوَضَعَ دَارَ الْعَمَلِ مَوْضِعَهَا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الدُّنْيَا مَا خُلِقَتْ إِلَّا لِلْعَمَلِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهَا لِلدَّارِ الْآخِرَةِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ جَابِرٌ مَرْفُوعًا، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي مَوْقُوفًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعٌ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْمَوْقُوفِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْرُوفَ لَيْسَ ذَلِكَ الْقَبِيلَ الْمَعْرُوفَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَمَسْمُوعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَوَارُدًا مُطَابِقًا مَطْبُوعًا.

5215 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ; فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5215 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً) أَيْ: ظَهَرَ إِدْبَارُ الدُّنْيَا وَفَنَاؤُهَا، وَإِقْبَالُ الْآخِرَةِ وَبَقَاؤُهَا (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَنُونَ) أَيْ: بِهَا مُتَعَلِّقُونَ (فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ) أَيْ: بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا (وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا) أَيْ: بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَعَدَمِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا (فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ) أَيْ: وَقْتُ عَمَلٍ (وَلَا حِسَابَ) أَيْ: زَمَانٌ لَا مُحَاسَبَةَ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَقَدْ يُقَالُ: جُعِلَ الْيَوْمُ نَفْسَ الْعَمَلِ، وَالْمُحَاسَبَةُ مُبَالَغَةٌ، كَذَا قَوْلُهُ (وَغَدًا) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ (حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ) : وَتَقَدَّمَ مَا فِي الْعَمَلِ وَالْحِسَابِ مِنِ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ إِسْنَادٍ فِي كِتَابٍ.

5216 - وَعَنْ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْكُلُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ أَجَلٌ صَادِقٌ، وَيَقْضِي فِيهَا مَلِكٌ قَادِرٌ، أَلَا وَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي النَّارِ، أَلَا فَاعْمَلُوا وَأَنْتُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى حَذَرٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] » " رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5216 - (وَعَنْ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مَالٌ حَادِثٌ وَحَالٌ عَارِضٌ (" حَاضِرٌ ") أَيْ: عَاجَلٌ مَحْسُوسٌ (" يَأْكُلُ مِنْهُ ") أَيْ: مِنَ الْعَرَضِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْهَا أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا (" الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ") أَيِ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَقَالَ: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] أَيْ: مَمْنُوعًا، هَذَا وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَرَضُ مَا لَا يَكُونُ لَهُ ثَبَاتٌ، وَمِنْهُ اسْتَعَارَ الْمُتَكَلِّمُونَ قَوْلَهُمُ: الْعَرَضُ لِمَا لَا ثَبَاتَ لَهُ إِلَّا بِالْجَوْهَرِ كَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ، وَقِيلَ لِلدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا ثَبَاتَ لَهَا، (" أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَرْفُ التَّنْبِيهِ هُنَا مُقْحَمٌ وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدُّنْيَا قُوبِلَتِ الْقَرِينَةُ السَّابِقَةُ بِقَوْلِهِ أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ (" أَجَلٌ ") أَيْ: مُؤَجَّلٌ (" صَادِقٌ ") أَيْ: وُقُوعُهَا (وَيَقْضِي) أَيْ: يَحْكُمُ (فِيهَا مَلِكٌ قَادِرٌ) أَيْ: مُمَيِّزٌ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَجَلُ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ الْمَوْعُودُ، وَصَفَهُ بِالصِّدْقِ دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِهِ وَثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: يُسْتَعْمَلُ التَّصْدِيقُ فِي كُلِّ مَا فِيهِ تَحْقِيقٌ يُقَالُ: صَدَقَنِي فِعْلُهُ وَكِتَابُهُ وَفِي الْمَثَلِ: صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ وَصَدَقَ فِي الْقِتَالِ إِذَا وَفَى حَقَّهُ، وَفَعَلَ عَلَى مَا يُحِبُّ وَكَمَا يُحِبُّ (أَلَا وَإِنَّ الْخَيْرَ) أَيْ: أَصْحَابَهُ (كُلَّهُ) أَيْ: جَمِيعَ أَصْنَافِهِ (بِحَذَافِيرِهِ) أَيْ: بِجَوَانِبِهِ وَأَطْرَافِهِ (فِي الْجَنَّةِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي النَّارِ) الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَتَى بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ عَنِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَدَبَّرْ (أَلَا فَاعْمَلُوا) أَيِ: الْخَيْرَ (وَأَنْتُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى حَذَرٍ) أَيْ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ وُقُوعِ شَرٍّ (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيِ الْأَعْمَالُ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ كَقَوْلِهِمْ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ انْتَهَى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ مُقَابَلُونَ بِأَفْعَالِكُمْ مَجْزِيُّونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ كَعَرْضِ الْعَسْكَرِ عَلَى الْأَمِيرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] عَلَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى لِلْعِلَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] أَوِ التَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ عَلَفْتُ مَاءً وَتِبْنًا، وَالتَّقْدِيرُ مَعْرُوضُونَ عَلَيَّ مُجَازَوْنَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ أَوْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] أَيْ: جَزَاءَهُ فِي إِحْدَى الدَّارَيْنِ {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] قَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الذَّرَّةُ النَّمْلُ الْأَحْمَرُ الصَّغِيرُ، وَسُئِلَ ثَعْلَبٌ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّ مِائَةَ نَمْلَةٍ وَزْنُ حَبَّةٍ، وَقِيلَ: الذَّرَّةُ لَيْسَ لَهَا وَزْنٌ، وَيُرَادُ بِهَا مَا يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ فِي الْكُوَّةِ النَّافِذَةِ.

5217 - وَعَنْ شَدَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ وَعْدٌ صَادِقٌ، يَحْكُمُ فِيهَا مَلِكٌ عَادِلٌ قَادِرٌ، يُحِقُّ فِيهَا الْحَقَّ، وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ، كُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ كُلَّ أُمٍّ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5217 - (وَعَنْ شَدَّادٍ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْأُولَى أَيِ: ابْنِ أَوْسٍ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا وَيَتَمَتَّعُ بِهَا (الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ) أَيِ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ (وَإِنَّ الْآخِرَةَ وَعْدٌ) أَيْ: مَوْعُودٌ (صَادِقٌ) أَيْ: وَاقِعٌ غَيْرُ كَاذِبٍ فِي مُخْتَصَرِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَفَ الْوَعْدَ بِالصِّدْقِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ أَيْ: صَادِقٌ وَعْدُهُ أَيْ فِي وَعْدِهِ (يَحْكُمُ فِيهَا) أَيْ: يَقْضِي فِي الْآخِرَةِ (مَلِكٌ) أَيْ: سُلْطَانٌ (عَادِلٌ) أَيْ: غَيْرُ ظَالِمٍ (قَادِرٌ) أَيْ: غَيْرُ عَاجِزٍ (يُحِقُّ فِيهَا الْحَقَّ) أَيْ: يُثْبِتُ وَيُعَيِّنُ (وَيُبْطِلُ) أَيْ: يُزْهِقُ (الْبَاطِلَ) وَالْمَعْنَى يُمَيِّزُ بَيْنَ أَهْلَيْهِمَا وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ (كُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ كُلَّ أُمٍّ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا) فَكَأَنَّ الدُّنْيَا الْبَاطِلَةَ مَقَرُّهَا النَّارُ وَبِئْسَ الْقَرَارُ، وَالْآخِرَةُ الْحَقَّةُ مَحَلُّهَا الْجَنَّةُ فَنِعْمَ الدَّارُ.

5218 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ الْخَلَائِقَ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى» " رَوَاهُمَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5218 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا ") بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالنُّونِ وَيُسَكَّنُ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ تَثْنِيَةُ الْجَنَبَةِ، وَهِيَ النَّاحِيَةُ، فَفِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّهَا بِالتَّحْرِيكِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجَنْبُ وَالْجَانِبُ وَالْجَنَبَةُ مُحَرَّكَةً شِقُّ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَجَانِبَتَا الْأَنْفِ، وَجَنْبَتَاهُ وَيُحَرَّكُ جَنَبَاهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْأَحْوَالِ وَقَوْلُهُ: (مَلَكَانِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى رَأْيٍ أَوْ مُبْتَدَأً وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ انْتَهَى، وَقَوْلُهُ: (يُنَادِيَانِ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ صِلَةٌ لِقَوْلِهِ مَلَكَانِ، وَقَوْلُهُ: (يُسْمِعَانِ الْخَلَائِقَ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ) بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ أَوْ بَيَانٌ بَعْدَ بَيَانٍ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الْأَسْمَاعِ لِلْخَلِيقَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ لَعَلَّ السِّرَّ لِعَدَمِ إِسْمَاعِ الثَّقَلَيْنِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ التَّكْلِيفُ بِمُعَايَنَةِ الْغَيْبِ، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَوْلَا أَنْ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» " فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا فَائِدَةُ النِّدَاءِ لِغَيْرِهِمَا مَعَ أَنَّهُمَا هُمَا الْمُحْتَاجَانِ لِلتَّنْبِيهِ عَنْ غَفْلَةِ الْأَنْبَاءِ؟ قُلْتُ: فَائِدَتُهُ أَنْ يُخْبِرَ الصَّادِقُ الْمُصَدَّقُ بِقَوْلِهِ نَاقِلًا عَمَّا سَمِعَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَا أُخْبِرَ بِهِ الْحَقَّ الْمُطْلَقَ. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا) أَيْ: تَعَالَوْا (إِلَى رَبِّكُمْ) أَيْ: أَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، أَوِ انْقَطِعُوا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] ، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] (مَا قَلَّ) أَيْ: مِنَ الْمَالِ " وَمَا " مَوْصُولَةٌ (وَكَفَى) أَيْ: فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَزَادِ الْعُقْبَى (خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ) أَيْ: مِنَ الْمَالِ (وَأَلْهَى) أَيْ: شَغَلَ عَنِ الْمَوْلَى وَحُسْنِ الْحَالِ وَتَحْسِينِ الْمَالِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُورُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْمَاعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى التَّنْبِيهِ عَنِ الْغَفْلَةِ مَجَازًا، فَمَعْنَى يُسْمِعَانِ الْخَلَائِقَ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ أَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ بِالْإِسْمَاعِ الثَّقَلَيْنِ، فَيُسْمِعَانِ غَيْرَهُمَا، ثُمَّ خَصَّ مِنَ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسَانَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَنْبِيهًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ، وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الْحِرْصِ، وَجَمْعِ حُطَامِ الدُّنْيَا حَتَّى أَلْهَاهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْإِقْبَالِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِلَى كَمْ هَذِهِ الْغَفْلَةُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ؟ هَلُمُّوا إِلَى طَاعَةِ رَبِّكُمْ مَا قَلَّ مِنَ الْمَالِ، وَيَكْفِيكُمْ وَلَا يُلْهِيكُمْ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، سَمِعَ هَذَا النِّدَاءَ مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ أَشَارَ اللَّهُ بِذِكْرِهِمْ وَرَفَعَ مِنْ مَنْزِلَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] الْآيَةَ. وَمَعْنَى إِسْمَاعِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ كَوْنُهَا مُسَبِّحَةً لِلَّهِ مُنْقَادَةً لِمَا يُرَادُ مِنْهَا، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ صِحَّةَ كَلَامِهِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ غَيْرُ عَامَّةِ الثَّقَلَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ) : وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ الْأَوَّلَ فِي صَحِيحِهِ.

5219 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَبْلُغُ بِهِ، قَالَ: (إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: مَا قَدَّمَ؟ وَقَالَ بَنُو آدَمَ: مَا خَلَّفَ؟ ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5219 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ (بِهِ) : وَالْيَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْمَعْنَى يَرْفَعُ مَرْوِيَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ: " إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمُوتُ بَلِ الْحَيُّ هُوَ الَّذِي يَمُوتُ. قُلْتُ: إِلَّا الْحَيَّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَفِي الْكَشَّافِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ، فَإِنَّهُ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، فَسَمَّى الْمُشَارِفَ لِلْمَرَضِ وَالضَّلَالِ مَرِيضًا وَضَالَّةً، وَعَلَى هَذَا يُسَمَّى الْمُشَارِفُ لِلْمَوْتِ مَيِّتًا: قُلْتُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَمَآلُ الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ أَوْ آخِرِ حَالِهِ، كَنَظَرِ الصُّوفِيَّةِ فِي أَمْرِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، وَالْأُولَى هِيَ الْأُولَى. (" قَالَتْ ") وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ تَقُولُ: (" الْمَلَائِكَةُ: مَا قَدَّمَ ") بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ: (" وَقَالَ بَنُو آدَمَ ") وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: وَيَقُولُ النَّاسُ (مَا خَلَّفَ؟) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: أَخَّرَ مِنَ الْأَمْوَالِ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفَائِدَتُهُ اهْتِمَامُ شَأْنِ الْمَلَائِكَةِ بِالْأَعْمَالِ، أَيْ: مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ حَتَّى يُثَابَ بِهِ، أَوْ يُعَاقَبَ عَلَيْهِ، وَاهْتِمَامُ الْوُرَّاثِ بِمَالِهِ لِيَرِثُوهُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

5220 - وَعَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ! إِنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ، وَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، سِرَاعًا يَذْهَبُونَ، وَإِنَّكَ قَدِ اسْتَدْبَرْتَ الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْتَ، وَاسْتَقْبَلْتَ الْآخِرَةَ، وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إِلَيْهَا أَقْرَبُ مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ مِنْهَا) . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5220 - (وَعَنْ مَالِكٍ) أَيِ: ابْنِ أَنَسٍ (أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: " يَا بُنَيَّ ") : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَتُكْسَرُ عَلَى صِيغَةِ التَّصْغِيرِ لِلشَّفَقَةِ (" إِنَّ النَّاسَ ") أَيْ: مِنْ عَهْدِ آدَمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا (" قَدْ تَطَاوَلَ ") أَيْ: بَعُدَ (" عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ ") أَيْ: مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: طَالَ عَلَيْهِمْ مُدَّةُ مَا وُعِدُوا بِهِ (وَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، سِرَاعًا) أَيْ: مُسْرِعِينَ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (يَذْهَبُونَ) قُدِّمَ اهْتِمَامًا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ مَا يُوعَدُونَ، وَالْمَعْنَى تَطَاوَلَ عَلَى النَّاسِ بُعْدُ الْوَعْدِ وَقُرْبُ الْعَهْدِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ كُلَّ سَاعَةٍ، بَلْ كُلَّ نَفَسٍ يَذْهَبُونَ إِلَى مَا يُوعَدُونَ كَالْقَافِلَةِ السَّيَّارَةِ، لَكِنَّهُمْ لَا يُحِسُّونَ كَالسُّكَّانِ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّكَ) أَيْ: أَيُّهَا الْوَلَدُ وَأُرِيدَ بِهِ خِطَابُ الْعَامَّةِ الشَّامِلُ لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ (قَدِ اسْتَدْبَرْتَ) أَيْ: أَنْتَ (الدُّنْيَا) أَيْ: سَاعَةً فَسَاعَةً (" مُنْذُ كُنْتَ ") أَيْ: وُجِدْتَ وَوُلِدْتَ (" وَاسْتَقْبَلْتَ الْآخِرَةَ ") أَيْ: نَفَسَا فَنَفَسًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَكَ فِي هَذَا الْمَسِيرِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْمَصِيرِ، ثُمَّ أَوْضَحَ لَهُ الْقِصَّةَ بِطَرِيقِ الْحِكْمَةِ، حَيْثُ بَيَّنَ الدَّارَيْنِ الْمَعْنَوِيَّتَيْنِ بِالدَّارَيْنِ الْمَحْسُوسَتَيْنِ، فَقَالَ (" وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إِلَيْهَا أَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ مِنْهَا ") : وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ دَفْعُ الْغَفْلَةِ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

5221 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ ". قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: " هُوَ النَّقِيُّ، التَّقِيُّ، لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5221 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ ") : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: سَلِيمُ الْقَلْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] مِنْ خَمَمْتَ الْبَيْتَ إِذَا كَنَسْتَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ، فَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مَكْنُوسًا مِنْ غُبَارِ

الْأَغْيَارِ، وَمُنَظَّفًا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَقْذَارِ، (" صَدُوقِ اللِّسَانِ ") : بِالْجَرِّ أَيْ: كُلُّ مُبَالِغٍ لِلصِّدْقِ فِي لِسَانِهِ، فَيَحْصُلُ بِهِ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ تَحْسِينِ لِسَانِهِ وَبَيَانِهِ، فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُنَافِيًا أَوْ مُرَائِيًا مُخَالِفًا، (قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَيَجُورُ رَفْعُهُ عَلَى إِعْرَابِ الِابْتِدَائِيَّةِ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: (نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: " هُوَ النَّقِيُّ ") أَيْ: نَقِيُّ الْقَلْبِ، وَطَاهِرُ الْبَاطِنِ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ الْمَوْلَى (" التَّقِيُّ ") أَيِ: الْمُجْتَنِبُ عَنْ خُطُورِ السِّوَى (" لَا إِثْمَ عَلَيْهِ ") : فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ، وَبِالْغُفْرَانِ مَحْظُوظٌ، وَبِعَيْنِ الْعِنَايَةِ مَلْحُوظٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ " لَا " لِنَفْيِ الْجِنْسِ " فَقَوْلُهُ: (" وَلَا بَغْيَ ") أَيْ: لَا ظُلْمَ لَهُ (" وَلَا غِلَّ ") أَيْ: لَا حِقْدَ (" وَلَا حَسَدَ ") أَيْ: لَا تَمَنِّيَ زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ وَالتَّعْمِيمِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْمِيلِ وَالتَّعْمِيمِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُ الْإِثْمِ بِحَقِّ اللَّهِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ لَا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْخَالِقِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَقَائِقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْجَوَابُ يَلِي إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] أَيْ: أَخْلَصَهَا لِلتَّقْوَى مِنْ قَوْلِهِمُ: امْتَحَنَ الذَّهَبَ وَفَتَنَهُ إِذَا أَذَابَهُ، فَخَلَّصَ إِبْرِيزَهُ مِنْ خَبَثِهِ وَنَقَّاهُ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَذْهَبَ الشَّهَوَاتِ عَنْهَا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

5222 - وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5222 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَمْرٍو (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَرْبَعٌ ") أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (" إِذَا كُنَّ فِيكَ ") أَيْ: وُجِدْنَ فِي وُجُودِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (" فَلَا عَلَيْكَ ") أَيْ: لَا بَأْسَ (" مَا فَاتَكَ الدُّنْيَا ") : وَفِي الْجَامِعِ: مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " مَا " مَصْدَرِيَّةً، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ أَيْ: لَا بَأْسَ عَلَيْهِ وَقْتَ فَوْتِ الدُّنْيَا إِنْ حَصَلَتْ لَكَ هَذِهِ الْخِلَالُ، وَأَنْ تَكُونَ نَافِيَةً أَيْ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ لِأَنَّهُ لَمْ تَفُتْكَ الدُّنْيَا إِنْ حَصَلَتْ لَكَ هَذِهِ الْخِصَالُ انْتَهَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا لَا يَخْفَى. (" حِفْظُ أَمَانَةٍ ") : يَشْمَلُ أَمَانَةَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْمَالِ (" وَصِدْقُ حَدِيثٍ ") : يَعُمُّ الْأَقْوَالَ (وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ) أَيْ: خُلُقٍ وَالتَّعْبِيرُ بِهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحُسْنِ الْجِبِلِّيِّ لَا التَّكَلُّفِيِّ وَالتَّصَنُّعِيِّ فِي الْأَحْوَالِ (" وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ ") : بِضَمِّ الطَّاءِ مَعَ تَنْوِينِ التَّاءِ أَيِ: احْتِرَازٌ مِنَ الْحَرَامِ، وَاحْتِفَاظٌ عَلَى الْحَلَالِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَحِفْظُ الْأَمَانَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَعِفَّةُ مَطْعَمٍ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَا وَاوٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بِالْوَاوِ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

5223 - وَعَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ الْحَكِيمِ: مَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى؟ يَعْنِي الْفَضْلَ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي. رَوَاهُ فِي (الْمُوَطَّأِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5223 - (وَعَنْ مَالِكٍ) أَيِ: الْإِمَامِ (قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ الْحَكِيمِ: مَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى؟ يَعْنِي الْفَضْلَ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ أَوْ غَيْرِهِ تَفْسِيرًا، وَالْمَعْنَى يُرِيدُ لُقْمَانَ بِمَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ مَا نَرَى الْفَضْلَ وَأَمَّا مَا الْأُولَى فَهِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَوْصَلَكَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي نَرَاهَا فِيكَ مِنَ الْفَضِيلَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى غَيْرِكَ (قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ) أَيْ: مُلَازَمَةُ صِدْقِ الْحَدِيثِ قَوْلًا وَنَقْلًا (وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ) أَيْ: مَالًا وَفِعْلًا (وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي) أَيْ: مَا لَا يَنْفَعُنِي حَالًا وَمَآلًا (رَوَاهُ) أَيْ مَالِكٌ (فِي " الْمُوَطَّأِ ") أَيْ عَنْ مَالِكٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَحْثُ ذَلِكَ.

5224 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَجِيءُ الْأَعْمَالُ، فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّلَاةُ. فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ، فَتَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَا الصَّدَقَةُ. فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَا الصِّيَامُ. فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ، وَبِكَ أُعْطِي. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] » . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5224 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَجِيءُ ") : بِالتَّأْنِيثِ وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ أَيْ: تَأْتِي (" الْأَعْمَالُ ") أَيْ: مُجَسَّمَةً لِتَحْتَجَّ لِصَاحِبِهَا وَتَشْفَعَ لِمَرَاعِيهَا أَوْ تُخَاصِمَ لِمُخَالِفِيهَا وَتَارِكِيهَا (" فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ ") أَيْ: بِلِسَانِ الْقَالِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَجِيءِ ظُهُورُ أَثَرِ الْأَعْمَالِ وَنَتِيجَةِ الْأَفْعَالِ فِي الْمَآلِ (يَا رَبِّ! أَنَا الصَّلَاةُ) أَيِ الْمَبْدُوءَةُ فِي كِتَابِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ حَيْثُ قُلْتَ: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 22] وَالْمَخْتُومَةُ مِنْهَا بِقَوْلِكَ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج: 34] وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَنَا الْمَعْرُوفَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْفَضْلِ وَالْمَزِيَّةِ كَمَا يُقَالُ: أَنَا الْعَالِمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ أَنَّ لِي فِي مَرْتَبَةِ الشَّفَاعَةِ لِأَنِّي عِمَادُ الدِّينِ (" فَيَقُولُ ") أَيِ الرَّبُّ (" إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ ") : وَهَذَا رَدٌّ لَهَا عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ أَيْ أَنْتِ ثَابِتَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى خَيْرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} [البقرة: 5] وَلَكِنْ لَسْتِ بِمُسْتَقِلَّةٍ فِيهَا وَلَا كَافِيَةٍ فِي الِاحْتِجَاجِ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَبَقِيَّةِ الْأَفْعَالِ. (" فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ، فَتَقُولُ يَا رَبِّ! أَنَا الصَّدَقَةُ فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ ") : وَلَعَلَّ وَجْهَ تَأْخِيرِهِ عَنِ الصَّدَقَةِ فِي الْعُقْبَى تَأْخِيرُ وُجُوبِهِ عَنْهَا فِي الدُّنْيَا ( «فَيَقُولُ يَا رَبِّ! أَنَا الصِّيَامُ. فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ» ") أَيْ: سَائِرُهَا مِنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهَا. (" عَلَى ذَلِكَ ") أَيْ: عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى هَذَا الْمَقَالِ (" يَقُولُ ") : اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَيَقُولُ (" اللَّهُ تَعَالَى ") : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: عَزَّ وَجَلَّ (" إِنَّكَ ") أَيْ: أَيُّهَا الْعَمَلُ (" عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ ") أَيِ الِانْقِيَادُ الْبَاطِنُ الْمُوجِبُ لِلِانْقِيَادِ الظَّاهِرِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِيمَانِ، وَعَلَى تَرَادُفِهِمَا أَصْحَابُ الْإِيقَانِ وَأَرْبَابُ الْإِتْقَانِ (" فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ ") أَيْ: وَبَيْنَنَا مُنَاسَبَةُ الِاشْتِقَاقِ الِاسْمِيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّسْمِيَّةُ وَالْوَسْمِيَّةُ، كَمَا حَقَّقَ فِي حَدِيثِ " «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ» " فَإِنَّ الْمُقْتَضَى بِذَلِكَ أَنَّ الْقَائِمَ بِي يَدْخُلُ دَارَكَ دَارَ السَّلَامِ (" فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ") أَيْ: خَيْرٌ عَظِيمٌ لِاشْتِمَالِكَ عَلَى دِينٍ وَسِيمٍ (" بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ ") : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ: آخُذُ بِكَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعُقُوبَةِ (" وَبِكَ أُعْطِي ") أَيْ مَنْ أُسَامِحُهُ بِالْمَثُوبَةِ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْأَصْلُ الْمُدَارُ عَلَيْكَ أَمْرُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ (" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِبِشَارَةٍ شَرِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَيْسَ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَبَدًا، بَلْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ النَّاجِينَ مَآلًا وَمَنَالًا، وَأَنَّ أَمْرَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ مَعَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ يُرْجَى فِيهَا الْمُسَامَحَةُ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ دَرْكِ الْهَاوِيَةِ.

5225 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تَمَاثِيلُ طَيْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَائِشَةُ! حَوِّلِيهِ ; فَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5225 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْرٌ) : بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: شَيْءٌ يُسْتَرُ بِهِ الْجِدَارُ أَوْ بَابُ الدَّارِ (فِيهِ تَمَاثِيلُ طَيْرٍ) أَيْ: تَصَاوِيرُ طُيُورٍ أَوْ طَيْرٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَائِشَةُ! حَوِّلِيهِ ") أَيْ: غَيِّرِيهِ بِتَبْدِيلِهِ أَوْ تَنْقِيلِهِ (" فَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا ") : وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصُّوَرَ كَانَتْ صَغِيرَةً جِدًّا، أَوْ قَبْلَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَامْتِنَاعِ دُخُولِ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ فِي مَكَانِهِ مَعَ الْإِيمَانِ إِلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ أَسْبَابٌ يَتَنَعَّمُ بِهَا الْأَغْنِيَاءُ مِمَّا تَذْهَبُ بِحَلَاوَةِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] .

5226 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ. فَقَالَ: " إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَأَجْمِعِ الْإِيَاسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5226 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ» ) أَيِ اخْتَصِرْ وَعَلَى الْمُهِمِّ اقْتَصِرْ (فَقَالَ: " إِذَا قُمْتَ ") أَيْ: شَرَعْتَ (" فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: مُوَدِّعٍ لِمَا سِوَى اللَّهِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي مُنَاجَاةِ مَوْلَاكَ، أَوِ الْمَعْنَى صَلِّ صَلَاةَ مَنْ يُوَدِّعُ الصَّلَاةَ، وَمِنْهُ حَجَّةُ الْوَدَاعِ أَيِ: اجْعَلْ صَلَاتَكَ آخِرَ الصَّلَاةِ فَرْضًا فَحَسِّنْ خَاتِمَةَ عَمَلِكَ، وَأَقْصِرْ طُولَ أَمَلِكَ لِاحْتِمَالِ قُرْبِ أَجَلِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: فَأَقْبِلْ عَلَى اللَّهِ بِشَرَاشِرِكَ، وَوَدِّعْ غَيْرَكَ لِمُنَاجَاةِ رَبِّكَ (" وَلَا تَكَلَّمْ ") : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِإِثْبَاتِهِمَا أَيْ: " لَا تَتَحَدَّثْ (" بِكَلَامٍ تَعْذِرُ ") : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ أَيْ: تَحْتَاجُ أَنْ تَعْتَذِرَ (" مِنْهُ ") أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ (" غَدًا ") أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: " «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ". (" وَأَجْمِعِ الْإِيَاسَ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَيَجُورُ عَكْسُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} [طه: 64] فَقَدْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ جَمَعَ يَجْمَعُ، وَالْبَاقُونَ بِقَطْعِهَا وَالْكَسْرُ مِنْ أَجْمَعَ. بِمَعْنَى عَزَمَ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ فَالْمَعْنَى اعْزِمْ عَلَى قِطَعِ الْيَأْسِ أَوْ أَجْمِعْ خَاطِرَكَ عَلَى قَصْدِ الْيَأْسِ وَتَرْكِ الطَّمَعِ (" مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ") أَيْ قَنَاعَةً بِالْكِفَايَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْقِسْمَةِ الْمُحَرَّرَةِ الْمُقَرَّرَةِ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] إِلَى أَنْ قَالَ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ بِالنَّاسِ مِنْ عَلَامَةِ الْإِفْلَاسِ، وَأَنَّ الْغِنَى الْقَلْبِيَّ هُوَ الْإِيَاسُ مِمَّا أَبْدَى النَّاسُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: أَجْمِعْ رَأْيَكَ عَلَى الْيَأْسِ مِنَ النَّاسِ، وَصَمِّمْ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} [طه: 64] قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيَاسَ وَقَعَ مَوْقِعَ الْيَأْسِ سَهْوًا مِنَ الْكَاتِبِ ; لِأَنَّ الْإِيَاسَ مَصْدَرُ أَسِهَ إِذَا أَعْطَاهُ، وَلَيْسَ مَصْدَرَ أَيِسَ مَقْلُوبِ يَئِسَ، لِأَنَّ مَصْدَرَ الْقُلُوبِ يُوَافِقُ الْفِعْلَ الْأَصْلِيَّ لَا الْمَقْلُوبَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَنْ آيَسَ نَفْسَهُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِيئَاسًا فَخَفَّفَ الْهَمْزَةَ أَيْ بِالنَّقْلِ وَالْحَذْفِ انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ أَيِسَ مِنْهُ كَسَمِعَ إِيَاسًا قَنِطَ، فَبَطَّلَ تَخْطِئَةُ الرِّوَايَةِ الْحُفَّاظَ الْمُعْتَمَدِينَ عَلَى ذَوَاتِ الصُّدُورِ لَا عَلَى مَا فِي السُّطُورِ، خُصُوصًا وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُصَحَّحَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ بَعْدَ قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ: (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوْصِنِي. قَالَ: " عَلَيْكَ بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ، وَصَلِّ صَلَاتَكَ وَأَنْتَ مُوَدِّعٌ وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: وَاللَّفْظُ لَهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ اه. وَمِنَ الْمُحَالِ اتِّفَاقُ الْحُفَّاظِ وَالْأَصْحَابِ عَلَى سَهْوٍ وَقَعَ مِنْ أَحَدِ الْكُتَّابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

5227 - «وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ، خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " يَا مُعَاذُ! إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَقَبْرِي " فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِيَ الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا» " رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5227 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: لَمَّا أَرَادَ إِرْسَالَهُ قَاضِيًا أَوْ عَامِلًا (إِلَى الْيَمَنِ، خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِيهِ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ) أَيْ: بِأَمْرِهِ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ) أَيْ: تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَتَلَطُّفًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ اسْتِحْبَابُ مُشَايَعَةِ الْأَصْحَابِ، (فَلَمَّا فَرَغَ) أَيْ: مِنَ الْوَصِيَّةِ (قَالَ: " «يَا مُعَاذُ إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَقَبْرِي» ") أَيْ: مَعَ قَبْرِي عَلَى أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى " مَعَ " ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى مَسْجِدِي، وَالتَّقْدِيرُ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَبِقَبْرِي أَيْضًا، وَأَبْهَمَهُ لِعَدَمِ ظُهُورِهِ حِينَئِذٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَسَى مَعْنَاهُ التَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] وَأَمَّا لَعَلَّ فَمَعْنَاهُ التَّوَقُّعُ وَهُوَ تَرَجِّي الْمَحْبُوبِ وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ نَحْوَ: لَعَلَّ الْحَبِيبَ وَاصِلٌ، وَلَعَلَّ الرَّقِيبَ حَاصِلٌ، وَيَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ بِخِلَافِ لَيْتَ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحَالِ نَحْوَ: لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ، فَاسْتِعْمَالُ عَسَى وَلَعَلَّ فِي الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، ثُمَّ فِي الْمُغْنِي يَقْتَرِنُ خَبَرُ لَعَلَّ بِأَنْ كَثِيرًا حَمْلًا عَلَى عَسَى كَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ عَلَيْكَ ... مِنَ اللَّائِي يَدَعْنَكَ أَجْدَعَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتِعْمَالُ لَعَلَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاغِبًا لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَدْخَلَ أَنْ فِي الْخَبَرِ تَشْبِيهًا لِلَعَلَّ بِعَسَى تَلْوِيحًا إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] (فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: جَزَعًا وَفَزَعًا، فَفِي النِّهَايَةِ الْجَشَعُ أَجْزَعُ لِفِرَاقِ الْإِلْفِ فَقَوْلُهُ: (لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : لِلتَّأْكِيدِ أَوْ لِلتَّجْرِيدِ (ثُمَّ الْتَفَتَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُعَاذٍ (فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ) : تَفْسِيرٌ لِلِالْتِفَاتِ، وَلَعَلَّ وَجْهُ الِالْتِفَاتِ بِإِدَارَةِ وَجْهِهِ الشَّرِيفِ عَنْ مُعَاذٍ لِئَلَّا يَرَى بُكَاءَهُ وَيُصَيِّرَهُ سَبَبًا لِبُكَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَشْتَدُّ الْحُزْنُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مَعَ الْإِيمَاءِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُفَارَقَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْمُوَاجَهَةِ فِي الْعُقْبَى، فَسَلَّاهُ فِعْلًا وَوَصَّاهُ قَوْلًا، حَيْثُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّكَ تُفَارِقُنِي وَتُفَارِقُ الْمَدِينَةَ وَتَتْرُكُ الْمَدِينَةَ وَلَا تَرَانِي، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مَجْمَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ فِي دَارِ الْبَقَاءِ. (فَقَالَ: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي ") أَيْ: بِشَفَاعَتِي أَوْ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَنْزِلَتِي (" الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا ") : جَمَعَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ، وَالْمَعْنَى كَائِنًا مَنْ كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا (" وَحَيْثُ كَانُوا ") أَيْ: سَوَاءٌ كَانُوا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَوْ بِالْيَمَنِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَسَّرَهُ، فَانْظُرْ إِلَى رُتْبَةِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ بِالْيَمَنِ عَلَى كَمَالِ التَّقْوَى، وَحَالَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَكَابِرِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِنْ حِرْمَانِ الْمَنْزِلَةِ الزُّلْفَى، بَلْ مِنْ إِيصَالِ ضَرَرِهِمْ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مِنْ بَعْضِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّكَ بُعْدُكَ الصُّورِيُّ عَنِّي مَعَ وُجُودِ قَوْلِكَ الْمَعْنَوِيِّ بِي، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّقْوَى كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعِ إِنْسَانٍ فَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى الْمُنَاسِبَةِ لِلْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّسْلِيَةِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُدْرِكُوا زَمَنَ الْحَضْرَةِ وَمَكَانَ الْخِدْمَةِ هَذَا الَّذِي سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ حِلِّ الْكَلَامِ عَلَى ظُهُورِ الْمَرَامِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ الِالْتِفَاتَ كَانَ تَسَلِّيًا لِمُعَاذٍ بَعْدَمَا نَعَى نَفْسَهُ إِلَيْهِ يَعْنِي إِذَا رَجَعْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدِي فَاقْتَدِ بِأَوْلَى النَّاسِ بِي وَهُمُ الْمُتَّقُونَ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَنَحْوُهُ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ» كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ. قُلْتُ: وَالَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ خِلَافُ الْأَدَبِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا تُرِيدُ عَدَمَ وُجُودِهِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ الْبَيْتِ. قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ وَقَائِمٌ مَقَامَهُ. قُلْتُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْمُدَّعَى لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ لَا عَلَى الصِّدِّيقِ وَلَا عَلَى الْمُرْتَضَى. (رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ أَحْمَدُ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ أَسَانِيدِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ.

5228 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ النُّورَ إِذَا دَخَلَ الصَّدْرَ انْفَسَحَ ". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ لِتِلْكَ مِنْ عِلْمٍ يُعْرَفُ بِهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ، التَّجَافِي مِنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5228 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: تَلَا) أَيْ: قَرَأَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} [الأنعام: 125] أَيْ: هَدْيَهُ الْخَاصَّ الْمُوَصِّلَ إِلَى مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ {يَشْرَحْ صَدْرَهُ} [الأنعام: 125] أَيْ: يُوَسِّعْ قَلْبَهُ لِلْإِسْلَامِ أَيْ: لِشَرَائِعِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ يَلْطُفُ بِهِ وَيَقْذِفُ النُّورَ فِيهِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَسْكُنَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَيُحِبَّ الدُّخُولَ فِيهِ. قُلْتُ: هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَا سَيَجِيءُ فِي تَفْسِيرِ شَرْحِ الصَّدْرِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ النُّورَ ") أَيْ نُورُ الْهِدَايَةِ (" إِذَا دَخَلَ الصَّدْرَ انْفَسَحَ ") أَيِ: انْشَرَحَ وَتَوَسَّعَ بِحَيْثُ يَسَعُهُ قَبُولُ جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَيَحْلُو فِي مَذَاقِهِ مَرَارَةُ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا الْقَلْبُ فِي الْحَقِيقَةِ عَرْشُ الرَّبِّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «لَا يَسَعُنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي، وَلَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» ، لِأَنَّ السُّفْلِيَّاتِ وَالْعُلْوِيَّاتِ لَيْسَ لَهُنَّ قَابِلِيَّةُ إِدْرَاكِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] الْآيَاتِ. وَهَذَا فِيمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ وَأَرَادَ هِدَايَتَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِمَّا يَرِدِ اللَّهُ غِوَايَتَهُ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ لِتِلْكَ) أَيِ الْخَصْلَةِ كَذَا قِيلَ، وَالصَّوَابُ هَلْ لِتِلْكَ الْحَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالِانْفِسَاخِ (مِنْ عِلْمٍ) أَيْ: عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ (تُعْرَفُ) أَيْ تِلْكَ الْحَالَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَاهَا وَهُوَ الِانْفِسَاخُ (بِهِ؟) أَيْ: بِذَلِكَ الْعِلْمِ حَتَّى نَقِيسَ حَالَنَا عَلَيْهِ، وَنَرْجِعَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ إِلَيْهِ. (قَالَ: " نَعَمْ ") أَيْ: فِيهِ عِلْمٌ بَلْ عَلَامَاتٌ وَهِيَ (" التَّجَافِي ") أَيِ الْمُبَالَغَةُ وَالتَّكَلُّفُ فِي الْبُعْدِ عَلَى طَرِيقِ الزُّهْدِ لِتَحْصِيلِ السَّعْدِ (" مِنْ دَارِ الْغُرُورِ ") أَيِ الدُّنْيَا الْغَرَّارَةِ السَّحَّارَةِ الْغَدَّارَةِ الْمَكَّارَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان: 33] فَإِنَّهَا دَارُ الْعَنَاءِ وَالشَّقَاءِ، وَإِنْ كَانَ صُورَتُهَا أَنَّهَا النَّعْمَاءُ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ أَنَّهُ الْمَاءُ، حَتَّى أَتْبَعَهُمْ فِيهَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ (وَالْإِنَابَةُ) أَيِ الرُّجُوعُ وَالْمَيْلُ التَّامُّ (إِلَى دَارِ الْخُلُودِ) أَيْ دَارِ الْبَقَاءِ وَاللِّقَاءِ (" وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ ") أَيْ بِالتَّوْبَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَصَرْفِ الطَّاقَةِ فِي الطَّاعَةِ (" قَبْلَ نُزُولِهِ ") أَيْ قَبْلَ حُلُولِ الْمَوْتِ أَوْ ظُهُورِ مُقَدِّمَاتِهِ مِنَ الْمَرَضِ وَالْهَرَمِ، حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ حِينَئِذٍ عَلَى تَحْصِيلِ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ وَلَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ، وَكَانَ هَذَا فَذْلَكَةً لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ الْعُمْدَةُ لِكَوْنِهِ عِلْمًا لَهُ وَمَا قَبْلُهُ إِنَّمَا هُوَ بَاعِثٌ بِطَرَفَيْهِ هُنَالِكَ عَلَى إِقْدَامِ السَّالِكِ عَلَى ذَلِكَ.

5229 - 5230 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي خَلَّادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَبْدَ يُعْطِي زُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ ; فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5229 - 5230 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي خَلَّادٍ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَبُو خَلَّادٍ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ أَقِفْ لَهُ عَلَى اسْمٍ وَلَا نِسْبَةٍ، حَدِيثُهُ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ أَبِي خَلَّادٍ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْمُؤْمِنَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ» . وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلُهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَبِي فَرْوَةَ وَأَبِي خَلَّادٍ أَبُو مَرْيَمَ، وَهَذَا أَصَحُّ انْتَهَى. فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِرِوَايَةِ مِثْلِهِ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَبْدَ يُعْطِي زُهْدًا ") أَيْ: قِلَّةَ رَغْبَةٍ (" فِي الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ ") أَيِ اللَّغْوِ وَالْهَوَى (" فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ ") أَيِ: اطْلُبُوا الْقُرْبَ مِنْهُ، وَالْتَمِسُوا فِي مُجَالَسَتِهِ الْقُرْبَى إِلَى الْمَوْلَى (" فَإِنَّهُ يُلَقَّى ") : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِهَا أَيْ: يُلَقَّنُ وَيُؤْتَى (" الْحِكْمَةَ ") أَيِ: الْمَوْعِظَةَ الْمُطَابِقَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى. {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] وَالْحِكْمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ إِتْقَانُ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ وَصَاحِبُهَا بِحُكْمِ حَدِيثِ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا أَظْهَرَ اللَّهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ، هُوَ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْمُخْلِصُ الْكَامِلُ يَكُونُ مُرْشِدًا مُكَمِّلًا، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَطْلُبَ مُجَالَسَتَهُ وَيَخُصَّ مُحَادَثَتَهُ قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] أَيْ: قَالًا وَحَالًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اصْحَبُوا مَعَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تُطِيقُوا فَاصْحَبُوا مَعَ مَنْ يَصْحَبُ مَعَ اللَّهِ، وَعَلَامَةُ صِحَّةِ أَحْوَالِهِ بَعْدَ تَصْحِيحِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ عَلَامَةِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِحَيْثُ تُؤْثَرُ صُحْبَتُهُ فِي جَمِيعِ الْأَمْرِ، وَيَزْهَدُ أَصْحَابُهُ فِي الدُّنْيَا وَتَوَابِعِهَا مِنْ تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى دَارِ الْعُقْبَى، بَلْ يَجْعَلُهُمْ فَارِغِينَ عَنْ أُمُورِ الْكَوْنَيْنِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ خُلْعَ النَّعْلَيْنِ، غَائِبِينَ عَنِ السِّوَى، حَاضِرِينَ فِي حَضْرَةِ الْمَوْلَى، ذَاهِلِينَ عَنْ مُرَاقَبَةِ الْفَنَاءِ، وَاصِلِينَ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْبَقَاءِ، حَاصِلِينَ فِي الْجَنَّةِ الْعَاجِلَةِ عَلَى لَذَّةِ الْبَقَاءِ، فَهَذَا الْعَارِفُ حِينَئِذٍ خَلِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَائِمٌ مَقَامَ الْأَوْلِيَاءِ الْأَصْفِيَاءِ رَزَقَنَا اللَّهُ رُؤْيَتَهُ وَخِدْمَتَهُ وَصُحْبَتَهُ. (رَوَاهُمَا) أَيِ الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي: " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") . وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَايِنِيِّ رَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَيْسَ هُوَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ فَقَالَ: " أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا " قَالَ: وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] قَالُوا: كَيْفَ يُشْرَحُ صَدْرُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ " نُورٌ يُقْذَفُ فِيهِ فَيَنْشَرِحَ لَهُ وَيَنْفَسِحَ لَهُ " قَالُوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: " الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَوْتِ» " وَفِي رِوَايَةٍ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] يَقُولُ: يُوَسِّعُ قَلْبَهُ لِلتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِهِ {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] يَقُولُ: شَاكًّا {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] يَقُولُ كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ ابْنُ آدَمَ أَنْ يَبْلُغَ السَّمَاءَ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ قَلْبَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَلِلْحَدِيثِ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[باب فضل الفقراء وما كان من عيش النبي صلى الله عليه وسلم]

[بَابُ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَيْشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]

بَابُ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَيْشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5231 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [1] بَابُ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَيْشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُرَادُ بِالْفَضْلِ هُنَا زِيَادَةُ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ لَا فَضِيلَةُ الْمَالِ وَزِيَادَةُ تَحْسِينِ الثِّيَابِ وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانَ مِنْ عَيْشِ النَّبِيِّ أَيْ: مَعِيشَتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَضْلِ الْفُقَرَاءِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَنُكْتَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَيْشُهُ عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، كَأَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَكَفَى بِهِ فَضْلًا لِلْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَإِنْ خَفِيَ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى بَعْضِ الْأَغْنِيَاءِ مِمَّنِ ادَّعَى أَنَّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5231 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رُبَّ أَشْعَثَ ") أَيْ: رُبَّ رَجُلٍ أَشْعَثَ أَيْ: مُتَفَرِّقِ شَعْرِ رَأْسِهِ (" مَدْفُوعٍ ") بِالْجَرِّ (" بِالْأَبْوَابِ ") أَيْ: مَمْنُوعٌ مِنْهَا بِالْيَدِ أَوِ اللِّسَانِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُدْخِلُهُ أَحَدٌ فِي بَيْتِهِ لَوْ فُرِضَ وُقُوفُهُ عَلَى بَابِهِ مِنْ غَايَةِ حَقَارَتِهِ فِي نَظَرِ النَّاسِ، وَذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ سَتْرَ حَالِهِ عَنِ الْخَلْقِ لِئَلَّا يَحْصُلَ لَهُ بِالْغَيْرِ شَيْءٌ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ، فَيَحْفَظُهُ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ الظُّلْمَةِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ، كَمَا يَحْمِي أَحَدُنَا الْمَرِيضَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الطَّعَامِ، فَلَا يَحْضُرُ إِلَّا بَابَ مَوْلَاهُ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ كَمَالِ غِنَاهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي أَبْوَابَ أَرْبَابِ الدُّنْيَا فَيَطْرُدُونَهُ عَنْهَا، وَيَدْفَعُونَهُ عَنْ دُخُولِهِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ مَحْفُوظُونَ، عَنْ هَذِهِ الْمَذَلَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ مِنِ اخْتِيَارِ أَرْبَابِ الْمَلَامَةِ أَوْ مِمَّنْ صَدَرَ عَنْهُ الذِّلَّةُ، وَلَعَلَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَرْفُوعٌ بِالرَّاءِ حَتَّى قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَشْعَثُ هُوَ الْمُغَبَّرُ الرَّأْسِ الْمُتَفَرِّقُ الشِّعْرِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ هُوَ التَّفَوُّقُ وَالِانْتِشَارُ وَالصَّوَابُ مَدْفُوعٌ بِالدَّالِ أَيْ يُدْفَعُ عَنِ الدُّخُولِ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْحُضُورِ فِي الْمَحَافِلِ، فَلَا يُتْرَكُ أَنْ يَلِجَ الْبَابَ فَضْلًا أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُمْ وَيَجْلِسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. (" لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ ") أَيْ: عَلَى فِعْلِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنْ حَلَفَ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ كَذَا أَوْ لَا يَفْعَلُهُ (" لَأَبَرَّهُ ") أَيْ: لَصَدَّقَهُ وَصَدَّقَ يَمِينَهُ، وَأَبَرَّهُ فِيهَا بِأَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُوَافِقُهُ كَمَا وَقَعَ لِأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا بَعْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ سَلَّمَ: " كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ " فَرَضُوا أَهْلُهَا بِالدِّيَةِ بَعْدَمَا أَبَوْا عَلَيْهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَيْ لَوْ سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ لَمْ يُخَيِّبْ دَعْوَتَهُ، فَشَبَّهَ إِجَابَةَ الْمُنْشِدِ وَالْمُقْسِمِ عَلَى غَيْرِهِ بِوَفَاءِ الْحَالِفِ عَلَى يَمِينِهِ وَبِرِّهِ فِيهَا. وَقَالَ شَارِحٌ: قِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِحَلَالِكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَأَبَرَّهُ، أَيْ: صَدَّقَهُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَمِينِ فَيَدْخُلُهَا الْأَبْرَارُ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى صَدَّقَ رَجَاءَهُ وَوَافَقَ دُعَاءَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: وَكَذَا أَحْمَدُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ تَنْبُو عَنْهُ أَعْيُنُ النَّاسِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ".

5232 - وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَى سَعْدٌ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟ !» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3232 - (وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْقُرَشِيِّ، سَمِعَ أَبَاهُ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ عُمَرَ، رَوَى عَنْهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَغَيْرُهُ (قَالَ: رَأَى سَعْدٌ) أَيْ: ظَنَّ أَوْ تَوَهَّمَ (أَنَّ لَهُ فَضْلًا) أَيْ زِيَادَةَ فَضِيلَةٍ أَوْ مَثُوبَةً مِنْ جِهَةِ الشَّجَاعَةِ أَوِ السَّخَاوَةِ أَوْ نَحْوِهُمَا (عَلَى مَنْ دُونَهُ) أَيْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ جَوَابًا لَهُ وَإِسْمَاعًا لِغَيْرِهِ (" هَلْ تُنْصَرُونَ ") أَيْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ (" وَتُرْزَقُونَ ") أَيِ الْأَمْوَالَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَغَيْرِهَا (إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟ ") أَيْ: إِلَّا بِبَرَكَةِ وُجُودِ ضُعَفَائِكُمْ وَوُجُودِ فُقَرَائِكُمْ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَقْطَابِ وَالْأَوْتَادِ لِثَبَاتِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ النَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَقَدَّرَ تَوْسِيعَ الرِّزْقِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ بِبَرَكَةِ الْفُقَرَاءِ، فَأَكْرِمُوهُمْ وَلَا تَتَكَبَّرُوا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ سُلُوكِ الْمَحَبَّةِ عَلَى أَضْيَقِ الْمَحَجَّةِ، وَمُلُوكُ الْجَنَّةِ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمَعَزَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ إِنَّ لَهُ فَضْلًا أَيْ شَجَاعَةً وَكَرَمًا وَسَخَاوَةً، فَأَجَابَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ تِلْكَ الشَّجَاعَةَ بِبَرَكَةِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَتِلْكَ السَّخَاوَةُ أَيْضًا بِبَرَكَتِهِمْ، وَأَبْرَزَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِيَدُلَّ عَلَى مَزِيدِ التَّعْزِيرِ وَالتَّوْبِيخِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْهُ بِلَفْظِ: «هَلْ تُنْصَرُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ» .

5233 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5233 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ") أَيْ: لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، أَوْ فِي الْمَنَامِ، أَوْ حَالَةَ كَشْفِ الْمَقَامِ، أَوْ بِطْرِيقِ دَلَالَةِ الْمَرَامِ، (" فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا ") أَيْ: أَكْثَرُهَا وَهِيَ مَرْفُوعَةٌ، وَقِيلَ مَنْصُوبَةٌ فَيُعْكَسُ (" الْمَسَاكِينَ ") أَيِ الْفُقَرَاءَ وَالضُّعَفَاءَ (" وَأَصْحَابُ الْجَدِّ ") وَفِي الْجَامِعِ: وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: أَرْبَابُ الْغِنَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ (" مَحْبُوسُونَ ") أَيْ: مَوْقُوفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ أَصْحَابَ الْحَظِّ الْفَانِي مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَالْمَنَاصِبِ مَحْبُوسُونَ فِي الْعَرَصَاتِ لِطُولِ حِسَابِهِمْ فِي الْمَتَاعِبِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَوْسِيعِ جَاهِهِمْ، وَتَلَذُّذِهِمْ بِهِمَا فِي الدُّنْيَا، وَتَمَتُّعِهِمْ عَلَى وَفْقِ شَهَوَاتِ النَّفْسِ وَالْهَوَى، فَإِنَّ حَلَالَ الدُّنْيَا لَهُ حِسَابٌ وَلِحَرَامِهَا عِقَابٌ وَالْفُقَرَاءُ مِنْ هَذَا بَرَاءٌ، فَلَا يُحَاسَبُونَ وَلَا يُحْبَسُونَ، بَلْ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا فِي الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَ مُكَافَأَةً لَهُمْ فِي الْعُقْبَى لِمَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا (" غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ ") أَيِ: الْكُفَّارَ (قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ) قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ يُسَاقُ الْكُفَّارُ إِلَى النَّارِ وَيُوقَفُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْعَرَصَاتِ لِلْحِسَابِ، وَالْفُقَرَاءُ هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ لِفَقْرِهِمْ أَيْ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ فِي الْعَرَصَاتِ. وَفِي الْجَامِعِ: إِلَّا أَصْحَابُ النَّارِ فَقَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ غَيْرَ بِمَعْنَى لَكِنْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ جُعِلُوا قِسْمَيْنِ مَحْبُوسِينَ وَمُدْخَلِينَ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ النَّارِ جُعِلُوا قِسْمًا وَاحِدًا أُمِرَ بِإِدْخَالِهِمُ النَّارَ. (" وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا ") أَيْ أَكْثَرُ مَنْ دَخَلَهَا مَعَ الْكُفَّارِ (" النِّسَاءُ ") لِكَثْرَةِ مَيْلِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا وَلِمَنْعِهِنَّ الرِّجَالَ عَنْ طَرِيقِ الْعُقْبَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ.

5234 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ. وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5234 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ ") أَيْ أَشْرَفْتُ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} [الكهف: 18] فَفِي بِمَعْنَى " عَلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وَحَاصِلُهُ نَظَرْتُ إِلَيْهَا أَوْ أَوْقَعْتُ الِاطِّلَاعَ فِيهَا (" فَرَأَيْتُ ") أَيْ: عَلِمْتُ (" أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ ") وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ضُمِّنَ اطَّلَعْتُ بِمَعْنَى تَأَمَّلْتُ، وَرَأَيْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ، وَلِذَا عَدَّاهُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الِاطِّلَاعُ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، لَكَفَاهُ مَفْعُولٌ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ هُنَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى (" «وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو عَنْ تَأَمُّلٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ أَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ حَيْثُ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَرْوِيِّ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، نَعَمْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ كَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ بَعْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.

5235 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5235 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ ") أَيْ: مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَغَيْرُهُمْ بِالْأَوْلَى وَلِذَا أَطْلَقَ الْأَغْنِيَاءَ، وَعَلَى هَذَا يُقَاسُ فُقَرَاءُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِ وَمَكَانِ أَغْنِيَائِهِمْ (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") أَيْ: لِمُحَاسَبَةِ الْأَغْنِيَاءِ وَلِخَلَاصِ الْفُقَرَاءِ عَنِ الْعَنَاءِ، فَإِنَّ الْمُفْلِسَ فِي أَمَانِ اللَّهِ دُنْيَا وَأُخْرَى (" إِلَى الْجَنَّةِ ") مُتَعَلِّقٌ بِيَسْبِقُونَ أَيْ: يُسَابِقُونَ وَيُبَادِرُونَ إِلَيْهَا (" بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا ") قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَقْلًا عَنِ النِّهَايَةِ: الْخَرِيفُ الزَّمَانُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَيُرِيدُ بِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لِأَنَّ الْخَرِيفَ لَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً انْتَهَى فَالْمَعْنَى بِمِقْدَارِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ أَعْوَامِ الدُّنْيَا أَوِ الْأُخْرَى، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْكَثْرَةُ وَيَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَهُمْ حُسْنُ الْعَيْشِ فِي الْعُقْبَى مُجَازَاةً لِمَا فَاتَهُمْ مِنَ التَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] أَيِ: الْمَاضِيَةِ أَوِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ صِيَامًا أَوْ وَقْتَ الْمَجَاعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا،: يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفَاوُتِ الْمَرَاتِبِ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: «إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِمِقْدَارِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5236 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: " مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5236 - (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ فَيَكُونُ فِي سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ لَهُ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى فَضْلِ الْفُقَرَاءِ (جَالِسٍ) بِالْجَرِّ صِفَةٌ وَجَاءَ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الظَّرْفِ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ (" مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ ") أَيْ: مَا ظَنُّكَ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ الْمَارِّ تَظُنُّهُ خَيْرًا أَمْ شَرًّا؟ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (فَقَالَ) أَيِ الَّذِي عِنْدَهُ (رَجُلٌ) أَيْ هُوَ أَوْ هَذَا يَعْنِي الْمَارَّ (مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ) أَيْ: كُبَرَائِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ (هَذَا) أَيْ: هَذَا الرَّجُلُ بِعَيْنِهِ أَوْ هَذَا الشَّخْصُ بِجَنْبِهِ أَيْ مِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ (وَاللَّهِ حَرِيٌّ) : عَلَى وَزْنٍ فَعِيلٍ وَهُوَ خَبَرُ هَذَا وَالْقَسَمُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُمَا أَيْ جَدِيرٌ وَحَقِيقٌ (إِنْ خَطَبَ) أَيْ: طَلَبَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً (أَنْ يُنْكَحَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: بِأَنْ يُزَوِّجَهُ إِيَّاهَا أَهْلُهَا (وَإِنْ شَفَعَ) أَيْ: لِأَحَدٍ عِنْدَ الْحُكَّامِ أَوِ الرُّؤَسَاءِ فِي جَلْبِ الْعَطَاءِ أَوْ دَفْعِ الْبَلَاءِ (أَنْ يُشَفَّعَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا أَيْ: تُقْبَلَ شَفَاعَتُهُ. (قَالَ) أَيِ الرَّاوِي (فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ عَنِ الْجَوَابِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُحَاوَرَةُ مِنَ الْخِطَابِ (ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ) أَيْ: آخَرُ (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ لِلرَّجُلِ الَّذِي عِنْدَهُ (" مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ " فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ) تَرَكَ الْقَسَمَ لِاحْتِمَالِ التَّخَلُّفِ وَأَمَّا تَأْكِيدُ الْحُكْمِ لَهُ سَابِقًا فَلِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ الظَّنِّ فِيهِ، وَالْمَعْنَى هَذَا لَائِقٌ (إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحُ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ) أَيْ: لِكَلَامٍ وَلَوْ كَانَ صِدْقًا أَوْ حَقًّا (أَنْ لَا يُسْمَعَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ قَوْلُهُ (لِقَوْلِهِ) وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْمَعُ لِكَلَامِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ مِنْ غَايَةِ فَقْرِهِ وَقِلَّةِ نِظَامِ أَمْرِهِ. فَفِي غَرَائِبِ مَا يُحْكَى أَنَّ رَجُلًا غَرِيبًا فَقِيرًا رَافَقَ شَخْصًا مَلَكَ بَعِيرًا وَحَمَّلَهُ حِمْلًا ثَقِيلًا فَقَالَ: مَا حِمْلُكَ هَذَا وَمَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: عَدْلٌ مِنْهُ حَبُّ الطَّعَامِ وَعَدْلٌ آخَرُ مَلِيءٌ مِنَ الْبَطْحَاءِ لِيَعْتَدِلَ النِّظَامُ قَالَ الْفَقِيرُ لَهُ: لَوْ

تَرَكْتَ الْبَطْحَاءَ وَقَسَّمْتَ الْحَبَّ فِي الْعَدْلَيْنِ مُتَنَاصِفِينَ لَخَفَّ حِمْلُكَ وَرَكِبْتَ جَمَلَكَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ لِمَا صَدَرَ مِنْ فِيكَ فَأَطَاعَهُ فِيمَا بَيَّنَهُ، وَرَكِبَ عَلَى وَجْهِ عَيْنِهِ، فَسَأَلَهُ هَلْ أَنْتَ بِهَذَا الْعَقْلِ كُنْتَ فِي بِلَادِكَ سُلْطَانًا؟ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: فَوَزِيرًا فَأَمِيرًا فَتَاجَرَا فَرَئِيسًا فَصَاحِبَ إِبِلٍ وَصَاحِبَ خَيْلٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ زِرَاعَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لَا. فَقَالَ: أَكُنْتَ فِي بَلَدِكَ فَقِيرًا عَلَى هَذَا الْحَالِ، وَحَقِيرًا عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَنْتَ شُؤْمٌ وَوَجْهُكَ شُؤْمٌ، وَمَنْ يَسْمَعُكَ أَيْضًا شُؤْمٌ، وَنَزَلَ عَنْ بَعِيرِهِ وَأَمَرَ عَلَى تَغْيِيرِهِ مِنْ سُوءِ تَدْبِيرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا مُشَاهَدٌ فِي الْعَالِمِ كَثِيرًا. مَثَلًا إِذَا كَانَ الْعَالِمُ فَقِيرًا وَالشَّيْخُ إِذَا كَانَ حَقِيرًا حَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ إِلَى كَلَامِهِ، وَلَا يَعْظُمُ عَلَى قَدْرِ مَقَامِهِ بِخِلَافِ الْعَالِمِ، وَالشَّيْخُ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا وَعُلِمَ جَاهُهُ بَيْنَ الْعَوَامِّ مَنْشُورًا، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيُتَّبَعُ فِعْلُهُ وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَاقِصًا فِي عِلْمِهِ أَوْ عَمَلِهِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ تَارِكًا لِلْمَالِ وَالْجَاهِ عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وَأَرَادُوا بِالْقَرْيَتَيْنِ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ كَأَنَّ كُلَّ أَهْلِ قَرْيَةٍ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَلَفَّ الشَّرَّ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ، فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] . (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا ") أَيْ: هَذَا الرَّجُلُ: وَحْدَهُ وَكَذَا أَمْثَالُهُ (" خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ") أَيْ: مِثْلَ الرَّجُلِ الْأَوَّلِ، وَوَجْهُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْفَقِيرَ لِصَفَاءِ قَلْبِهِ أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ أَمْرِ رَبِّهِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مَرْتَبَةِ حُبِّهِ بِخِلَافِ الْأَغْنِيَاءِ الْأَغْبِيَاءِ، فَإِنَّ لَهُمُ الطُّغْيَانَ وَالِاسْتِغْنَاءَ وَالتَّكَبُّرَ وَالْخُيَلَاءَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ وَمَرْئِيٌّ فِي تَلَامِذَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُرِيدِي الصُّلَحَاءِ وَالتَّابِعِينَ أَوَّلًا لِلْأَنْبِيَاءِ، بَلِ السَّابِقِينَ إِلَى الْعِبَادَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا حَتَّى الْحَجِّ الَّذِي لَمْ يَجِبْ إِلَّا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَالْفَائِزُونَ بِهِ لَا سِيَّمَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ الْمُبَرَّأِ عَنِ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَكَاسِبِ الْكَاسِدَةِ إِنَّمَا هُمُ الْفُقَرَاءُ، هَذَا وَقَالَ شَارِحٌ: مِثْلَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ فِي مِلْءِ الْأَرْضِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَعَ مِلْءُ الْأَرْضِ فَضْلًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مُمَيِّزِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِثْلَ هَذَا لِأَنَّ الْبَيَانَ وَالْمُبَيَّنَ شَيْءٌ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْجَرِّ أَيْ: مِنْ مِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ الْأَوَّلِ، لَكِنَّ النُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ مِنْ نُسْخَةِ السَّيِّدِ وَغَيْرِهَا عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ، وَلَا يَغُرُّكَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مِثْلِ هَذَا بِكَسْرِ اللَّامِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنَ الرَّجُلِ الْأَوَّلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ وَاحِدٌ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْخَاصِّ بِلَفْظِ الْعَامِّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَرَامِ، فَإِنَّ الْغِنَى يُغَيِّرُ الْخَوَاصَّ وَالْعَوَامَّ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجُلِ الْأَوَّلِ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ لِعَدَمِ انْتِظَامِ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " هَذَا خَيْرٌ " بِمَعْنَى أَفْضَلُ مِنْهُ إِذْ لَا مُفَاضَلَةَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي كُفَّارِ الْأَنَامِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ: إِنَّ مَنْ قَالَ النَّصْرَانِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْيَهُودِيِّ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ إِذَ أَثْبَتَ الْخَيْرَ فِيمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِالْخَيْرِ أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُقْصَدُ بِالْخَيْرِ مُجَرَّدُ زِيَادَةِ الْحُسْنِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] لَكِنَّ إِيرَادَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ الْفَقِيرِ الدَّنِيِّ أَخَفُّ مِنَ الْكَافِرِ الْغَنِيِّ، فَإِذَا كَانَ الْفَقِيرُ يَنْفَعُ الْكَافِرَ فِي النَّارِ فَمَا ظَنُّكَ بِنَفْعِهِ لِلْأَبْرَارِ فِي دَارِ الْقَرَارِ؟ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5237 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5237 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ) أَيْ: أَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ حَرَمِهِ وَخَدَمِهِ (مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ) فَمِنَ الْبُرِّ بِالْأَوْلَى (يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) أَيْ: بَلْ إِنْ حَصَلَ الشِّبَعُ يَوْمًا وَقَعَ الْجُوعُ يَوْمًا بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ خَزَائِنُ الْأَرْضِ وَأَنْ يُجْعَلَ جِبَالُ مَكَّةَ ذَهَبًا فَاخْتَارَ الْفَقْرَ قَائِلًا: أَجُوعُ يَوْمًا فَأَصْبِرُ وَأَشْبَعُ يَوْمًا فَأَشْكُرُ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ نِصْفُهُ شُكْرٌ وَنِصْفُهُ صَبْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] أَيْ: لِكُلِّ مُؤْمِنٍ كَامِلٍ بِالْوَصْفَيْنِ عَالَمٍ وَعَامِلٍ، (حَتَّى) أَيِ اسْتَمَرَّ عَدَمُ الشِّبَعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ حَتَّى (قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فِي جُمْلَةِ صَاعٍ مِنَ الشَّعِيرِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: صَارَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ غَنِيًّا، نَعَمْ وَقَعَ مَالٌ كَثِيرٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّهُ مَا أَمْسَكَهُ بَلْ صَرَفَهُ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ، وَكَانَ دَائِمًا غَنِيَّ الْقَلْبِ بِغِنَى الرَّبِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي شَمَائِلِهِ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا» أَيْ: جَائِعًا هُوَ وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يُتَبَيَّنُ أَنَّ أَحَدًا فِي زَمَانِنَا مِنَ الْفُقَرَاءِ مَا يَعِيشُ عَيْشَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ فَفِي فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْلِيَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْفُقَرَاءِ كَمَا أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَوْصِيَةً جَسِيمَةً لِلْأَغْنِيَاءِ، فَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَإِمَامٌ لِلْعَالَمِينَ الْعَامِلِينَ.

5238 - وَعَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ، فَدَعَوْهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5238 - (وَعَنْ سَعِيدٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ: هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ كَيْسَانُ، وَكَانَ يَسْكُنُ عِنْدَ مَقْبُرَةٍ فَنُسِبَ إِلَيْهَا انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ ثُمَّ قَوْلُهُ: (الْمَقْبُرِيُّ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ قَافٍ وَضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَبِفَتْحٍ وَبِكَسْرٍ نِسْبَةً إِلَى مَوْضِعِ الْقُبُورِ، وَالْمُرَادُ أَبُو سَعِيدٍ وَابْنُهُ سَعِيدٌ كَذَا فِي أَنْسَابِ الْمُغْنِي (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ صَلَى عَلَى وَزْنِ مَرْمِيَّةٍ أَيْ: مَشْوِيَّةٌ (فَدَعَوْهُ) أَيْ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى أَكْلِهَا (فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ) أَيْ: فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ (وَقَالَ) أَيْ: مُعْتَذِرًا (خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5239 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِرْعًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعُ بُرٍّ وَلَا صَاعُ حَبٍّ، وَإِنَّ عِنْدَهُ لَتِسْعُ نِسْوَةٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5239 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُبْزِ شَعِيرٍ) أَيْ: مَصْحُوبًا بِهِ (وَإِهَالَةٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ كُلُّ دُهْنٍ يُؤْتَدَمُ بِهِ (سَنِخَةٍ) ، بِفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ نُونٍ وَفَتَحِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ بَعْدَهَا هَاءٌ أَيْ: مُتَغَيِّرَةُ الرِّيحِ لِطُولِ الْمُكْثِ. فِي النِّهَايَةِ قِيلَ الْإِهَالَةُ مَا أُذِيبَ مِنَ الْأَلْيَةِ وَالشَّحْمِ، وَقِيلَ الدَّسَمُ الْجَامِدُ، وَالسَّنِخَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ الرِّيحِ. (وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِرْعًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا) أَيْ: مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنَ الشَّعِيرِ (لِأَهْلِهِ) أَيْ: لِأَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْأَخْذِ مِنْهُ لِتَكُونَ الْحُجَّةُ بَالِغَةً عَلَيْهِ، أَوْ سَتْرًا لِحَالِهِ عَنِ الْمَسَاكِينِ، أَوْ لِئَلَّا يَثْقُلَ عَلَيْهِمْ فَيُعْطُوهُ اسْتِحْيَاءً، أَوْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهُ وَقْتَ الْعَطَاءِ رِيَاءً وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي تَنَزُّهِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَلَبِ الْأَجْرِ مِنَ الْأُمَّةِ وَلَوْ صُورَةً حَيْثُ قَالَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ لِإِمَامِنَا الْأَعْظَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ لَمْ يَقِفُ فِي ظِلِّ جِدَارِ مَنْ كَانَ يُطَالِبُهُ بِدَيْنٍ مُعَلِّلًا بِحَدِيثِ كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِمَامَ حَمْزَةَ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ الَّذِي قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَقِّهِ مِنَ الْمَنْقَبَةِ: وَحَمْزَةُ مَا أَزْكَاهُ مِنْ مُتَوَرِّعٍ ... إِمَامًا صَبُورًا لِلْقُرْآنِ مُرَتِّلًا كَانَ لَا يَأْخُذُ أَجْرًا عَلَى الْإِقْرَاءِ لِأَنَّهُ تَمَذْهَبَ بِحَدِيثِ التَّغْلِيظِ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ كَمَالِ تَوَرُّعِهِ حَتَّى عَرَضَ تِلْمِيذُهُ عَلَيْهِ مَاءً فِي يَوْمِ حَرٍّ فَأَبَى وَقِيلَ: إِنَّهُ وَقَعَ فِي بِئْرٍ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ لِيَسْتَخْرِجَهُ مِنْهَا سَأَلَهُ هَلْ قَرَأْتَ عَلَيَّ؟

فَيَقُولُ: بَلَى فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلَا إِلَى الْمَلَا، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ كُلُّهُمْ كَانُوا تَلَامِيذَهُ، فَعَجَزُوا حَتَّى رَأَوْا أَعْرَابِيًّا فَأَتَاهُ فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَطُّ مَا قَرَأَ عَلَيْهِ وَلَا سَمِعَ مِمَّنْ يَقْرَأُ لَدَيْهِ. (وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي سَمِعْتُهُ عَائِدٌ إِلَى أَنَسٍ، وَالْفَاعِلُ هُوَ رَاوِي أَنَسٍ انْتَهَى وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ، أَيْ قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ: سَمِعْتُ أَنَسًا. (يَقُولُ: " مَا أَمْسَى ") أَيْ: لِلذَّخِيرَةِ (" عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعُ بُرٍّ ") أَيْ: لِلْقُوتِ (" وَلَا صَاعُ حَبٍّ ") تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَدَّخِرْ فِي اللَّيْلِ لِلْغَدِ (" وَإِنَّ عِنْدَهُ لَتِسْعُ نِسْوَةٍ ") بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَإِنَّ عِنْدَهُ يَوْمَئِذَ لَتِسْعُ نِسْوَةٍ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي قَطْعًا لِقَوْلِهِ عِنْدَهُ، وَالتَّأْوِيلُ بِالِالْتِفَاتِ مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَ بَعْضُهُمُ: الْحَقُّ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَفْعُولَ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَاعِلُ هُوَ أَنَسٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَحْمَدَ قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي نَاسَبَ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5240 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ، مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ ; فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ! فَقَالَ: " أَوَ فِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " وَفِي رِوَايَةٍ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5240 - (وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ» ) بِالْإِضَافَةِ أَيْ: عَلَى رِمَالٍ مِنْ حَصِيرٍ. قَالَ شَارِحٌ: الرِّمَالُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا جَمْعُ رَمِيلٍ بِمَعْنَى مَرْمُولٍ أَيْ مَنْسُوجٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاحِدِ، وَهَذَا مِنْ إِضَافَةِ الْجِنْسِ إِلَى النَّوْعِ كَخَاتَمِ فِضَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَصِيرِ هُنَا الْمَنْسُوجُ مِنْ وَرَقِ النَّخْلِ انْتَهَى. وَقِيلَ: الرِّمَالُ مَا يُنْسَجُ عُودًا عُودًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمَّ الرَّاءِ أَشْهَرُ وَلِذَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ عَلَيْهِ اقْتَصَرَ وَقَالَ: رِمَالُ الْحَصِيرِ كَغُرَابٍ مَرْمُولَةٍ وَفِي النِّهَايَةِ: الرُّمَالُ مَا رُمِلَ أَيْ: نُسِجَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَظِيرُهُ الْحُطَامُ وَالزُّكَامُ لِمَا يُحْطَمُ وَيُزْكَمُ وَقَالَ غَيْرُهُ: الرُّمَالُ جَمْعُ رَمْلٍ بِمَعْنَى مَرْمُولٍ كَخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى مَخْلُوقَةٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ السَّرِيرُ قَدْ نُسِجَ وَجْهُهُ بِالسَّعَفِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى السَّرِيرِ وِطَاءٌ سِوَى الْحَصِيرِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَكِنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ بِرِمَالِ الْحَصِيرِ شَرِيطَ السَّرِيرِ بَعِيدٌ عِنْدَ الْفَقِيرِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُضْطَجِعٌ عَلَى مَنْسُوجٍ مِنْ حَصِيرٍ (لَيْسَ بَيْنَهُ) أَيْ: بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَبَيْنَهُ) أَيْ: بَيْنَ الْحَصِيرِ (فِرَاشٌ) أَيْ: لَا مِنَ الْقُطْنِ وَلَا مِنَ الْحَرِيرِ (قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ) أَيْ: مِنْ بَدَنِهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَشْفِهِ مِنْ ثَوْبِهِ (مِنْهُ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُعْتَمِدًا (عَلَى وِسَادَةٍ) أَيْ: مِخَدَّةٍ (مِنْ أَدَمٍ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: جِلْدٍ (حَشْوُهَا) أَيْ: مَحْشُوُّ الْوِسَادَةِ (لِيفٌ) فِي الْقَامُوسِ: لِيفُ النَّخْلِ بِالْكَسْرِ مَعْلُومٌ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ) : بِكَسْرِ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ (عَلَى أُمَّتِكَ) أَيْ: فَإِنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ مُتَابَعَتَكَ فِي تَحَمُّلِ مِحْنَتِكَ فَرُبَّمَا يَتَنَفَّرُونَ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى مِلَّتِكَ (فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ) وَكَانَ ابْنُ الْخَطَّابِ النَّاطِقُ بِالصَّوَابِ الْمُوَافِقُ رَأْيُهُ لِلْكِتَابِ آخِذًا هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف: 33] الْآيَةَ وَمَفْهُومُهَا أَنَّهُ مَا وُسِّعَ عَلَيْهِمْ تَوْسِيعًا كُلِّيًّا وَلَا ضُيِّقَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَضْيِيقًا كُلِّيًّا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْعَدْلِ مِنْ تَفْسِيرِ الدَّارَيْنِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» " فَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ مَيْلِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى طَرِيقِ الْكَافِرِينَ وَهِيَ الْحَالَةُ الْوُسْطَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُومِ الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخَوَاصِّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ كَمَالَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْقَنَاعَةَ بِأَقَلِّ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ مَتَاعِهَا لِيَكُونَ تَمَتُّعُهُمْ تَامًّا فِي الْعُقْبَى.

(فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوَ فِي هَذَا أَنْتَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ بَعْدَ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَتَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ وَأَنْتَ إِلَى الْآنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَكَ التَّرَقِّي إِلَى فَهْمِ الْمِرَاءِ؟ وَقِيلَ قُدِّمَ الِاسْتِفْهَامُ لِصَدَارَتِهِ، وَالْوَاوُ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ (" يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ") ؟ قِيلَ فِي خِطَابِهِ بِابْنَ الْخَطَّابِ دُونَ عُمَرَ إِيذَانًا بِأَنَّ الِالْتِذَاذَ بِطَيِّبَاتِ الدُّنْيَا مِنْ خِصَالِ ذَوِي الْجَهْلِ وَالْعَمَى، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا ابْنَ ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ بِطَيِّبَاتِ الدُّنْيَا الْغَافِلِ عَنْ نَعِيمِ دَارِ الْعُقْبَى (" أُولَئِكَ ") : أَيْ فَارِسُ وَالرُّومُ وَسَائِرُ الْكُفَّارِ (" عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ") أَيْ: كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِخِطَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20] هَذَا، وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلُهُ: (فَلْيُوَسِّعْ) الظَّاهِرُ نَصْبُهُ لِيَكُونَ جَوَابَ الْأَمْرِ، أَيِ ادْعُ اللَّهَ فَيُوَسِّعَ، وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ، وَالرِّوَايَةُ الْجَزْمُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْغَائِبِ كَأَنَّهُ الْتَمَسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ لِأُمَّتِهِ بِالتَّوْسِعَةِ، وَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ الْإِجَابَةَ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِيُوَسِّعَ عَلَيْكَ، فَعَدَلَ إِلَى الدُّعَاءِ لِلْأُمَّةِ إِجْلَالًا لِمَحَلِّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِبْعَادُ الْمَنْزِلَةِ مَنْ رُسِّخَ لِلنُّبُوَّةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الدَّنِيءَ الْخَسِيسَ لِنَفَسِهِ النَّفِيسِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ هَذَا الْإِنْكَارَ الْبَلِيغَ، وَقَوْلُهُ: أَوْ فِي هَذَا؟ مَدْخُولُ الْهَمْزَةِ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَطَلَبَ هَذَا وَفِي هَذَا أَنْتَ، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِكَ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ التَّوْسِعَةَ فِي الدُّنْيَا؟ (وَفِي رِوَايَةٍ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا ") أَيْ: مُوَسَّعَةً خَاصَّةً (" وَلَنَا الْآخِرَةُ ") أَيْ: مُرْضِعَةٌ خَالِصَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الرِّوَايَةَ الْأَخِيرَةَ.

5241 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رُبِطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5241 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَهُمْ كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ تَهَيَّأُوا لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْخُرُوجِ فِي السَّرَايَا لِقِتَالِ أَهْلِ الطُّغْيَانِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَاظِرَهُمْ وَنَقِيبَهُمْ وَمُتَفَقِّدَ حَالِهِمْ وَرَقِيبَهُمْ، وَكَانُوا يَأْوُونَ فِي صُفَّةٍ آخِرَ مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ نَزَلَ فِي حَقِّهِمْ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] أَيْ: أَصْلًا بَلْ كَانُوا مُتَوَكِّلِينَ وَمُتَقَنِّعِينَ بِالْتِقَاطِ النَّوَاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ جِهَةِ الزَّادِ لِلْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْكُسْوَةِ فَكَمَا بَيَّنَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِقَوْلِهِ: (مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ) ، فَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ الثَّوْبُ أَوِ الْبُرْدُ الَّذِي يَضَعُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى عَاتِقِهِ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ فَوْقَ ثِيَابِهِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: فَوْقَ ثِيَابِهِ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا الرِّدَاءُ هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ أَعَالِيَ الْبَدَنِ فَقَطْ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ) أَيْ: إِزَارٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَإِمَّا كِسَاءٌ وَاحِدٌ يَشْتَمِلُ بِهِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (قَدْ رَبَطُوا) أَيْ: طَرَفَهُ (فِي أَعْنَاقِهِمْ) ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبٌ يَتَرَدَّى بِهِ، بَلْ كَانَ لَهُ إِمَّا إِزَارٌ فَحَسْبُ وَفِي الْعُدُولِ عَنْ ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ إِلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ قَدْ رَبَطَهُ فِي عُنُقِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ حَالَ جَمِيعِهِمْ كَانَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَنْكِيرُ رَجُلٍ وَاسْتِغْرَاقُ النَّفْيِ مَعَ زِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ بِزِيَادَةِ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: (فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ) : مَعَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِسَاءِ وَالْإِزَارِ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِيَّةِ فِي الْأَكْسِيَةِ وَالْأُزُرِ، أَوِ الْأَكْسِيَةِ وَحْدِهَا لِقُرْبِهَا وَلِمُقَايَسَةِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، وَلَهَا نَظَائِرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] .

وَمِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] فَإِنَّ الْمُفْرَدَ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، لَا سِيَّمَا وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ الَّذِي قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّأْنِيثِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى جَمْعِيَّةِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَدْ يُفْرَدُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: (فَيَجْمَعُهُ) أَيْ: يَجْمَعُ الرَّجُلُ ذَلِكَ الثَّوْبَ مِنَ الْكِسَاءِ أَوِ الْإِزَارِ (بِيَدِهِ) : لِئَلَّا يَفْتَرِقَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ مِنَ الْآخَرِ (كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ) أَيْ فِي نَظَرِ غَيْرِهِ أَوْ حَالَ صِلَاتِهِ. هَذَا وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِيَّةِ فِي الْأَكْسِيَةِ وَالْأُزُرِ وَتَعَدُّدِ الْمُكْتَسِبِينَ، وَالْإِفْرَادُ فِي بِيَدِهِ بِاعْتِبَارِ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5242 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5242 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّفْضِيلِ أَيْ: زِيدَ عَلَيْهِ (" فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ ") أَيْ: فِي الصُّورَةِ أَوْ فِي الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ حِشْمَةً وَمَالًا وَلِبَاسًا وَجَمَالًا، وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَبَالًا، (" فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ ") بِفَتْحِ اللَّامِ وَيُضَمُّ أَيْ: مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَقَلُّ رُتْبَةً مِنْهُ مَالًا وَمَنَالًا، وَلَهُ فِي الْآخِرَةِ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا مَآلًا، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حَالَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ هُوَ الِاعْتِدَالُ وَلَوْ بِحَسَبِ الْإِضَافَةِ وَالِانْتِقَالِ، فَالسَّالِكُ بِالنَّظَرِ إِلَى حَالِ طَرَفَيْهِ مُحَصَّلٌ لَهُ حُسْنُ الْحَالِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ مَثَلًا أَوْ فَرْضًا لَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ تَحْتِهِ لِئَلَّا يَحْصُلَ لَهُ الْعَجَبُ وَالْغُرُورُ وَالِافْتِخَارُ وَالتَّكَبُّرُ وَالْخُيَلَاءُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّ شُكْرِهِ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ أَحَدٌ فِي الْفَقْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشُكَّ رَبُّهُ حَيْثُ لَمْ يَبْتَلِهِ بِالدُّنْيَا لِقِلَّةِ غَنَائِهَا وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا، وَلِذَا كَانَ الشِّبْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا رَأَى أَحَدًا مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفُوَّ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى، وَيُنَاسِبُهُ مَا حُكِيَ أَنَّ شَخْصَا مِنَ الْفُقَرَاءِ قَامَ فِي مَجْلِسِ وَاعِظٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَشَكَا أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ كَذَا مُدَّةً فِي الْخَلَا وَالْمَلَا، فَقَالَ الشَّيْخُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْطِي الْجُوعَ الشَّدِيدَ إِلَّا لِأَصْفِيَائِهِ وَخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَخُلَاصَةِ أَوْلِيَائِهِ، وَلَوْ كُنْتَ مِنْهُمْ لَمَا أَظْهَرْتَ هَذِهِ الشِّكَايَةَ، وَلَسَتَرْتَ عَنِ الْخَلْقِ هَذِهِ الْغَايَةَ، وَمُجْمَلُ الْحَالِ وَخُلَاصَةُ الْمَقَالِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَلِمَ دِينُهُ مِنَ الْخَلَلِ وَالزَّوَالِ، فَلَا يُبَالِي بِنُقْصَانِ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَسَائِرِ الْمَشَقَّاتِ الْكَائِنَةِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ صَاحِبًا لِلْغَزَالِيِّ ضُرِبَ وَحُبِسَ فَشَكَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: اشْكُرْ فَإِنَّ الْبَلَاءَ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، ثُمَّ طُرِحَ فِي بِئْرٍ مِنَ السِّجْنِ فَشَكَا إِلَيْهِ وَرُدَّ بِمَا سَبَقَ، ثُمَّ أَتَى بِيَهُودِيٌّ يُسْهِلُ كُلَّ سَاعَةٍ، وَوُضِعَ مَعَهُ مُسَلْسَلًا بِسِلْسِلَتِهِ يَحْتَاجُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَى مُرَافَقَتِهِ وَمُصَاحَبَتِهِ مَعَ ضِيقِ الْمَكَانِ وَظُلْمَةِ الزَّمَانِ وَالْعُفُونَةِ فِي كُلِّ آنٍ، فَشَكَا إِلَى الْإِمَامِ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ، فَأَمَرَهُ بِالشُّكْرِ وَالصَّبْرِ فَأَجَابَ جَزِعًا أَيُّ بَلَاءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ؟ فَقَالَ الْإِمَامُ فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنْ يُوضَعَ فِي رَقَبَتِكَ طَوْقُ الْكُفْرِ وَالْحِجَابِ، وَيُسْلَكَ بِكَ عَنْ صَوْبِ الصَّوَابِ. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) ، وَقَدْ خَرَّجَهَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا. (قَالَ: " «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكُمْ» ") أَيْ: دُونَكُمْ رُتْبَةً (" وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ") أَيْ: مَرْتَبَةً (" فَهُوَ ") أَيِ: النَّظَرُ الْمَذْكُورُ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا (" أَجْدَرُ ") أَيْ: أَحَقُّ وَأَوْلَى (" أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ") . أَيْ: بِعَدَمِ الِازْدِرَاءِ وَالِاحْتِقَارِ لِمَا قَسَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لَكُمْ بِذَلِكَ النَّظَرِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ نِعَمًا كَثِيرَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ دُونَكُمْ، أَوْ نِعَمًا كَثِيرَةً حَيْثُ اخْتَارَ لَكُمُ الْفَقْرَ وَالْبَلَاءَ، وَجَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، وَشَبَّهَكُمْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَخَلَّصَكُمْ عَنْ ظُلْمَةِ الْأُمَرَاءِ وَظُلْمَةِ الْأَغْنِيَاءِ الْأَغْبِيَاءِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5243 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ نِصْفِ يَوْمٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5243 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ ") أَيِ: الصَّابِرُونَ وَقِيلَ وَلَوْ كَانُوا شَاكِينَ (" الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ ") أَيِ: الشَّاكِرِينَ (" بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ ") أَيْ: سَنَةٍ (" نِصْفِ يَوْمٍ ") : بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ فَارِقَةٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ عَنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الْأُخْرَوِيَّ مِقْدَارُ طُولِهِ أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ سِنِينِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] فَنِصْفُهُ خَمْسُمِائَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فَمَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ مَا سَبَقَ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى تَطْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْكُفَّارِ كَمَا يُطْوَى حَتَّى يَصِيرَ كَسَاعَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبْرَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ - فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10] قَالَ الْأَشْرَفُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا؟ قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَغْنِيَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَيْ: يَسْبِقُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَمِنَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: الْأَغْنِيَاءُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا أُرِيدَ بِالْفُقَرَاءِ الْخَاصُّ وَبِالْأَغْنِيَاءِ الْعَامُّ، فَلَا يُفْهَمُ حُكْمُ الْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَالْأَوْلَى حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنًى يُفْهِمُ الْحُكْمَ عُمُومًا وَهُوَ بِأَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِكُلٍّ مِنَ الْعَدَدَيْنِ إِنَّمَا هُوَ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ، فَتَارَةً عَبَّرَ بِهِ وَأُخْرَى بِغَيْرِهِ تَفَنُّنًا وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ أَوْ أَخْبَرَ أَوَّلًا بِأَرْبَعِينَ كَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ زِيَادَةً عَلَى فَضْلِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ التَّقْدِيرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا إِشَارَةً إِلَى أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ وَبِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ إِلَى أَكْثَرِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الطَّبَرَانِيِّ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ وَلَفْظُهُ: سَبَقَ الْمُهَاجِرُونَ النَّاسَ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ الزُّمْرَةُ الثَّانِيَةُ مِائَةَ خَرِيفٍ انْتَهَى. فَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الزُّمْرَةُ الثَّالِثَةُ مِائَتَيْنِ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَكَأَنَّهُمْ مُحْصَرُونَ فِي خَمْسِ زُمَرٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَوِ الِاخْتِلَافُ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ أَشْخَاصِ الْفُقَرَاءِ فِي حَالِ صَبْرِهِمْ وَرِضَاهُمْ وَشُكْرِهِمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ حَيْثُ قَالَ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْبَعِينَ أَرَادَ بِهَا تَقَدُّمَ الْفَقِيرِ الْحَرِيصِ عَلَى الْغَنِيِّ، وَأَرَادَ بِالْخَمْسِمِائَةِ تَقَدُّمَ الْفَقِيرِ الزَّاهِدِ عَلَى الْغَنِيِّ الرَّاغِبِ، فَكَانَ الْفَقِيرُ الْحَرِيصُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً مِنَ الْفَقِيرِ الزَّاهِدِ، وَهَذِهِ نِسْبَةُ الْأَرْبَعِينَ إِلَى الْخَمْسِمِائَةِ، وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ وَأَمْثَالَهُ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِرَافًا وَلَا بِاتِّفَاقٍ، بَلْ لِسِرٍّ أَدْرَكَهُ وَنِسْبَةٍ أَحَاطَ بِهَا عِلْمُهُ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَرِجَالُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِزِيَادَةٍ، مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

5244 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَةُ! لَا تَرُدِّي الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5244 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ") : وَلَمْ يَقُلْ فَقِيرًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ كَوْنُهُ مُحْتَاجًا حَقِيرًا، فَيُنَافِيهِ دُعَاؤُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي فِي نَفْسِي صَغِيرًا وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَبِيرًا، وَأَمَّا الْمِسْكِينُ فَهُوَ مِنْ مَادَّةِ الْمَسْكَنَةِ وَهُوَ التَّوَاضُعُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ وَلَوْ أَفْضَى إِلَى الْمَذَلَّةِ، أَوْ مِنَ السُّكُونِ وَالسَّكِينَةِ وَهُوَ الْوَقَارُ وَالِاطْمِئْنَانُ وَالْقَرَارُ تَحْتَ أَحْكَامِ الْأَقْدَارِ رِضًا بِقَضَاءِ الْجَبَّارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيِ اجْعَلْنِي مُتَوَاضِعًا لَا جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا، وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ لِيَعْرِفُوا فَضْلَ الْفُقَرَاءِ، فَيُحِبُّوهُمْ وَيُجَالِسُوهُمْ لِيَنَالَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى عُلُوِّ دَرَجَاتِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ

يُرَادُ بِهَذَا أَنْ يَجْعَلَ قُوَّتَهُ كَفَافًا وَلَا يَشْغَلَهُ بِالْمَالِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ فِي حَقِّ الْمُقَرَّبِينَ مُؤْنَةٌ مِنَ الْمَآلِ وَخُشُونَةِ الْحَالِ. (" وَأَمِتْنِي ") : وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ: وَتَوَفَّنِي (" مِسْكِينًا ") : دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى وَصْفِ الْمَسْكَنَةِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ، (" وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ ") . أَيْ فَرِيقِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاحْشُرْهُمْ فِي زُمْرَتِي لَكَانَ لَهُمْ فَضْلٌ كَثِيرٌ وَعُلُوٌّ كَبِيرٌ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» " حَيْثُ لَمْ يَقُلْ كَفَضْلِي عَلَى أَعْلَاكُمْ، هَذَا وَقَدْ مَرَّ بَعْضُ سَلَاطِينِ الْإِسْلَامِ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الْكِرَامِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يُقْبِلُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ مَحَبَّتُنَا تَرْكُ الدُّنْيَا وَعَدَاوَتُنَا تَرْكُ الْعُقْبَى، فَجَاوَزَهُمْ وَتَجَاوَزَهُمْ وَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ، وَقَالَ: نَحْنُ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى مَحَبَّتِكُمْ وَلَا طَاقَةَ لَنَا عَلَى عَدَاوَتِكُمْ. (فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أَيْ: لِأَيِّ شَيْءٍ دَعَوْتَ هَذَا الدُّعَاءَ وَاخْتَرْتَ الْحَيَاةَ وَالْمَمَاتَ وَالْبَعْثَةَ مَعَ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ دُونَ أَكَابِرِ الْأَغْنِيَاءِ؟ (" قَالَ: " إِنَّهُمْ) : اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيْ: لِأَنَّهُمْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ بَقِيَّةِ فَضَائِلِهِمْ وَحُسْنِ أَخْلَاقِهِمْ وَشَمَائِلِهِمْ (" يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ ") أَيْ: زَمَانًا وَمَكَانًا وَمَكَانَةً (" بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا ") ، وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَوْعُودٍ فِي مُدَّةٍ لِمُسَابَقَةٍ كَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَةِ بِالْعَشَرَةِ فِي الطَّاعَةِ (" يَا عَائِشَةُ! لَا تَرُدِّي الْمِسْكِينَ ") أَيْ: لَا تَرُدِّيهِ خَائِبًا بَلْ سَامِحِيهِ جَائِيًا وَآيِبًا وَأَحْسِنِي إِلَيْهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا (" وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ") أَيْ: بِنِصْفِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا أَوْ رُدِّيهِ رَدًّا جَمِيلًا تَسْتَحِقِّي بِهِ جَزَاءً جَزِيلًا، وَلِذَا لَمَّا وَقَفَ مِسْكِينٌ عِنْدَهَا وَأَعْطَتْهُ حَبَّةَ عِنَبٍ بَقِيَتْ فِي يَدِهَا وَعَاتَبَ الْمِسْكِينُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَدْرِ مَا أَلْقَى مِنَ الْفَهْمِ إِلَيْهَا قَالَتْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] . وَالْحَبَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مِقْدَارِ كَذَا مِنَ الذَّرَّةِ. (يَا عَائِشَةُ! أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ) أَيْ: بِقَلْبِكِ (" وَقَرِّبِيهِمْ ") ، أَيْ: إِلَى مَجْلِسِكِ حَالَ تَحْدِيثِكِ (" فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") . أَيْ: بِتَقْرِيبِهِمْ، تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (رَوَاهُ) أَيِ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") أَيْ: عَنْ أَنَسٍ.

5245 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ إِلَى قَوْلِهِ (فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5245 - (وَرَوَى) : وَفِي نُسْخَةٍ وَرَوَاهُ (ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ إِلَى قَوْلِهِ: " زُمْرَةِ الْمَسَاكِينَ ") : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَزَادَ: " «وَإِنَّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ» ". وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَحْمِلَنَّكُمُ الْعُسْرُ عَلَى طَلَبِ الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ تَوَفَّنِي فَقِيرًا وَلَا تَوَفَّنِي غَنِيًّا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ» " قَالَ أَبُو الشَّيْخِ: زَادَ عَلَيْهِ غَيْرُ أَبِي زُرْعَةٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَلَا تَحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْأَغْنِيَاءِ. قُلْتُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ لَكَفَى حُجَّةً وَاضِحَةً وَبَيِّنَةً لَائِحَةً عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ خَيْرٌ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ: الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحُفَّاظُ مِثْلَ الْعَسْقَلَانِيِّ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَقْرِ الْقَلْبِيِّ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَزَعِ وَالْفَزَعِ بِحَيْثُ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى تَقْسِيمِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» " وَقَدْ رُوِيَ: «الْفَقْرُ أَزْيَنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنَ الْعِذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ الْعَرُوسِ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ. وَرُوِيَ: «الْفَقْرُ شَيْنٌ عِنْدَ النَّاسِ وَزَيْنٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَنَسٍ. وَرُوِيَ: «الْفَقْرُ أَمَانَةٌ فَمَنْ كَتَمَهُ كَانَ عِبَادَةً، وَمَنْ بَاحَ بِهِ فَقَدْ قَلَّدَ إِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُمَرَ.

5246 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ - أَوْ تُنْصَرُونَ - بِضُعَفَائِكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5246 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ابْغُونِي ") : بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ أَيِ: اطْلُبُوا رِضَائِي (" فِي ضُعَفَائِكُمْ ") أَيْ: فُقَرَائِكُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ بِالْمُسَاعَدَةِ لَدَيْهِمْ (" فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ ") أَيْ: رِزْقًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا (" - أَوْ تُنْصَرُونَ - ") أَيْ: عَلَى الْأَعْدَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْوَاوِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي (" بِضُعَفَائِكُمْ ") . أَيْ: بِبَرَكَةِ وَجُودِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ، إِذْ مِنْهُمُ الْأَقْطَابُ وَالْأَوْتَادُ، وَبِهِمْ نِظَامُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ ". قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي اطْلُبُوا إِلَى حِفْظِ حُقُوقِهِمْ وَجَبْرِ قُلُوبِهِمْ، فَإِنِّي مَعَهُمْ بِالصُّورَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَبِالْقَلْبِ فِي جَمِيعِهَا لَا أَعْلَمُ مِنْ شَرَفِهِمْ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَمَنْ أَكْرَمَهُمْ فَقَدْ أَكْرَمَنِي، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ: " «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: ابْغُونِي بِهَمْزَةِ الْقَطْعِ وَالْوَصْلِ يُقَالُ: بَغَى يَبْغِي بِغَاءً إِذَا طَلَبَ، وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ مُخَالَطَةِ الْأَغْنِيَاءِ وَتَعْلِيمٌ مِنْهُ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «اتَّقُوا مُجَالَسَةَ الْمَوْتَى " قِيلَ: وَمَنِ الْمَوْتَى؟ قَالَ: " الْأَغْنِيَاءُ» ". وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: ابْغِنِي كَذَا بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ أَيِ: اطْلُبْهُ لِي وَبِهَمْزَةِ الْقَطْعِ أَعِنِّي عَلَى الطَّلَبِ، وَفِي الْقَامُوسِ: بَغَيْتُهُ طَلَبْتُهُ، وَأَبْغَاهُ الشَّيْءَ طَلَبَهُ لَهُ كَبَغَاهُ إِيَّاهُ كَرَمَاهُ أَوْ أَعَانَهُ عَلَى طَلَبِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ نَقْلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " «ابْغُونِي الضُّعَفَاءَ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ.

5247 - وَعَنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5247 - (وَعَنْ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَنُقِلَ مِنْ مِيرَكَ عَنِ التَّصْحِيحِ أَنَّهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ: وَلَا يَصِحُّ عِنْدِي صُحْبَتُهُ، وَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ. قَالَ: مُرْسَلُ التَّابِعِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَكَيْفَ مُرْسَلُ مَنِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ صُحْبَتِهِ؟ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَفْتِحُ) أَيْ: يَطْلُبُ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ عَلَى الْكُفَّارِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى (بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ) أَيْ: بِفُقَرَائِهِمْ وَبِبَرَكَةِ دُعَائِهِمْ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى الْأَعْدَاءِ بِحَقِّ عِبَادِكَ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ الْفُقَرَاءِ وَالرَّغْبَةُ إِلَى دُعَائِهِمْ وَالتَّبَرُّكِ بِوُجُوهِهِمْ أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّقْيِيدِ بِالْمُهَاجِرِينَ لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ غُرَبَاءُ مَظْلُومُونَ مُجْتَهِدُونَ مُجَاهِدُونَ، فَيُرْجَى تَأْثِيرُ دُعَائِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَغْنِيَائِهِمْ، وَالصَّعَالِيكُ جَمْعُ صُعْلُوكٍ كَعُصْفُورٍ الْفَقِيرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (" فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ") . بِإِسْنَادِهِ، وَحَيْثُ أَطْلَقَهُ وَمَا بَيَّنَ إِرْسَالَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ بِصُحْبَةِ الرَّاوِي وَاتِّصَالِ سَنَدِهِ، مَعَ أَنَّهُ مُعْتَضِدٌ فِي الْمَعْنَى بِمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ: «إِنَّمَا تُنْصَرُونَ بِضُعَفَاكِمْ» ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَفْظُهُ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَنْصِرُ بِصَعَالِيكِ الْمُسْلِمِينَ» .

5248 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَغْبِطَنَّ فَاجِرًا بِنِعْمَةٍ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا هُوَ لَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَاتِلًا لَا يَمُوتُ ". يَعْنِي النَّارَ» . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5248 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَغْبِطَنَّ ") بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمُؤَكَّدَةِ (" فَاجِرًا ") أَيْ: كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا (" بِنِعْمَةٍ ") أَيْ: بِنِعْمَةٍ هُوَ فِيهَا مِنْ طُولِ عُمُرٍ أَوْ كَثْرَةِ أَوْلَادٍ أَوْ سَعَةٍ مَالٍ وَجَاهٍ بِأَنْ تَطْلُبَ زَوَالَهَا عَنْهُ أَوْ تُرِيدَ مِثْلَهَا لِنَفْسِكَ، (" فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا هُوَ لَاقٍ ") أَيْ: مُلَاقٍ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ مِنَ النِّقْمَةِ وَالْمِحْنَةِ (" بَعْدَ مَوْتِهِ ") أَيْ: فِي الْقَبْرِ أَوِ الْحَشْرِ (" إِنَّ لَهُ ") أَيْ: لِلْفَاجِرِ (" عِنْدَ اللَّهِ قَاتِلًا ") أَيْ: مُهْلِكًا لَهُ أَوْ مُعَذِّبًا عَذَابًا شَدِيدًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْتَلَ (" لَا يَمُوتُ ") . أَيْ: لَا يَفْنَى وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الْقَاتِلُ، بَلْ مَوْجُودٌ دَائِمًا وَلَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا (يَعْنِي النَّارَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا تَفْسِيرُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَرْيَمَ، رَاوِي أَبِي هُرَيْرَةَ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ انْتَهَى. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: قِيلَ قَوْلُهُ قَائِلًا بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مِنَ الْقَيْلُولَةِ أَيْ: مَقِيلًا بَاقِيًا يَعْنِي تَحْشُو مَعَهُ النَّارُ، وَتُقِيلُ حَيْثُ قَالَ وَتَبِيتُ حَيْثُ بَاتَ، وَقِيلَ: هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقِ أَيْ: مَنْ تَقْتُلُهُ أَيِ النَّارُ (رَوَاهُ) أَيِ الْبَغَوِيُّ (" فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ") . أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: «لَا تَغْبِطَنَّ فَاجِرًا " بِنِعْمَةٍ إِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَاتِلًا لَا يَمُوتُ» .

5249 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ، وَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5249 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ» ") أَيْ: حَبْسُهُ وَعَذَابُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِهِ وَثَوَابِهِ (" وَسَنَتُهُ ") ، بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: قَحْطُهُ وَشِدَّةُ مَعِيشَتِهِ، وَلِذَا رُوِيَ: «لَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ قِلَّةٍ أَوْ عِلَّةٍ أَوْ ذِلَّةٍ» ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ جَمِيعُ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: السَّنَةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ لِلْقَحْطِ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الْأَكْدَارِ أَيْ: بَلِ اسْتَغْرِبْ خِلَافَ ذَلِكَ إِنْ وَقَعَ شَيْءٌ هُنَالِكَ. (" وَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا ") أَيِ: الْمُؤْمِنُ (فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ) وَلَعَلَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لِدَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ السِّجْنَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ السَّعَةَ، كَمَا قَدْ يَقَعُ نَادِرًا فَدَفَعَ هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ، وَالسَّنَةُ فَيَكُونُ زِيَادَتُهُ مِنْ بَابِ التَّذْيِيلِ وَالتَّكْمِيلِ، وَأَطْلَقَ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ اعْتِمَادًا عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ضِيقِ مَكَانٍ وَبُطْءِ رِزْقٍ وَتَشَتُّتِ الْبَالِ، وَلَوْ قَامَ بِخِدْمَتِهِ الرِّجَالُ. (رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ") : وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ. قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، لَكِنَّ فِي سَنَدِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَيُّوبَ الْمُغَافِرِيَّ انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ طَرَفُ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَعْضُ مَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الْوَرَّاقُ إِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَقَدْ نَرَى مُؤْمِنًا فِي عِيشَةِ رَغْدٍ وَكَافِرًا فِي ضَنْكٍ وَقِصَرِ يَدٍ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الدُّنْيَا كَالْجَنَّةِ لِلْكَافِرِ فِي جَنْبِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا كَالسَّجْنِ لِلْمُؤْمِنِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا وَعَدَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَنَعِيمِهَا، فَالْكَافِرُ يُحِبُّ الْمُقَامَ فِيهَا وَيَكْرَهُ مُفَارَقَتَهَا، وَالْمُؤْمِنُ يَتَشَوَّفُ الْخُرُوجَ مِنْهَا وَيَطْلُبُ الْخَلَاصَ مِنْ آفَاتِهَا كَالْمَسْجُونِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُخْلَى سَبِيلُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا صِفَةَ الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ الَّذِي قَدْ غَرَّقَ نَفْسَهُ عَنْ مَلَاذِّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَصَارَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ السِّجْنِ فِي الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ، فَقَدْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ وَأَمْرَحَهَا فِي طَلَبِ اللَّذَّاتِ وَتَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ، فَصَارَتِ الدُّنْيَا كَالْجَنَّةِ لَهُ فِي السَّعَةِ وَالنِّعْمَةِ.

5250 - وَعَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا، كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5250 - (وَعَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَرَوَى عَنْهُ أَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعُمَرُ وَابْنُهُ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَلَهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا» ") أَيْ: حَفِظَهُ مِنْ مَالِ الدُّنْيَا وَمَنْصِبِهِ وَمَا يَضُرُّ بِدِينِهِ وَنَقَصَهُ فِي الْعُقْبَى. قَالَ الْأَشْرَفُ أَيْ مَنَعَهُ عَنْهَا وَوَقَاهُ مِنْ أَنْ يَتَلَوَّثَ بِزِينَتِهَا كَيْلَا يَمْرَضَ قَلْبُهُ بَدَاءِ مَحَبَّتِهَا، (" كَمَا يَظَلُّ ") : بِفَتْحِ الظَّاءِ مِنْ ظَلَّ زَيْدٌ صَائِمًا أَيْ: صَارَ، وَالْمَعْنَى كَمَا يَكُونُ (" أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ ") أَيْ: مَرِيضَهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَعَهُ مَرَضُ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ ضَعْفُ الْمَعِدَةِ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَضُرُّهُ الْمَاءُ فَيَمْنَعُهُ (" الْمَاءَ ") . أَيْ: لِئَلَّا يَزِيدَ مَرَضُهُ بِشُرْبِهِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى رَأْيِ الْعَلِيلِ مِنْ طَلَبِ الْمَاءِ وَحُبِّهِ، مَعَ أَنَّ الْمَاءَ أَرْخَصُ شَيْءٍ غَالِبًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْبُخْلُ خُصُوصًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرِيضِ الَّذِي يَحِنُّ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَحْبُوبَ عِنْدَ أَهْلِهِ وَآلِهِ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَضُرُّهُ فِي حَالِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَلَفْظُ الْجَامِعِ: " «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ سَقِيمَهُ الْمَاءَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ اللَّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ كَمَا يَحْمِي الرَّاعِي الشَّفِيقُ غَنَمَهُ عَنْ مَرَاتِعِ الْهَلَكَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُقْتَبَسٌ مِنَ التَّنْزِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151] .

5251 - وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5251 - (وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ) ، بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ أَشْهَلِيٌّ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحَادِيثَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُعْرَفُ لَهُ صُحْبَةٌ، وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَالتَّابِعِينَ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ فَأَثْبَتَ لَهُ صُحْبَةً، وَكَانَ مَحْمُودٌ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ، رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ. (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اثْنَتَانِ ") أَيْ: خَصْلَتَانِ (" يَكْرَهُهُمَا ") أَيْ: بِالطَّبْعِ (" ابْنُ آدَمَ ") أَيْ: وَهُمَا خَيْرٌ لَهُ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (" يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ ") ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْفِتْنَةُ الَّتِي الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْهَا هِيَ الْوُقُوعُ فِي الشَّرَكِ أَوْ فِتْنَةٌ يَسْخَطُهَا الْإِنْسَانُ وَيَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مَا لَا يَلِيقُ، وَفِي اعْتِقَادِهِ مَا لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِتْنَةُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنَ الْعَبْدِ كَالْبَلِيَّةِ وَالْمُصِيبَةِ وَالْقَتْلِ وَالْعَذَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْكَرِيهَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ تَكُونُ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ مِثْلَ الِارْتِدَادِ وَإِكْرَاهِ الْغَيْرِ عَلَى الْمَعَاصِي وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ» ". قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: «الدُّنْيَا تَدْعُو إِلَى فِتْنَةٍ وَالشَّيْطَانُ يَدْعُو إِلَى خَطِيئَةٍ وَلِقَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الْإِقَامَةِ مَعَهُمَا» . (" وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ ") . أَيْ: وَأَبْعَدُ مِنَ الْعَذَابِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مُرْسَلًا ": أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُحِبُّ الْإِنْسَانُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِنَفْسِهِ، وَيُحِبُّ الْإِنْسَانُ كَثْرَةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِحِسَابِهِ» ". هَذَا وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ» ". وَأَخْرَجَ الْمَرْوَزِيُّ فِي الْجَنَائِزِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ذَهَبَ صَفْوُ الدُّنْيَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الْكَدَرُ، فَالْمَوْتُ تُحْفَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ

الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَبَّذَا الْمَكْرُوهَانِ الْفَقْرُ وَالْمَوْتُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ رَاحَةٌ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ جَعْفَرٍ الْأَحْمَرِ قَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمَوْتِ خَيْرٌ فَلَا خَيْرَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ. قُلْتُ: وَكَذَا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَيْرٌ فِي الْحَيَاةِ فَلَا خَيْرَ لَهُ فِي الْمَمَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْمَرْوَزِيُّ فِي الْجَنَائِزِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا مِنَ الْحَيَاةِ، فَإِنْ كَانَ بَارًّا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] .

5252 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ: " انْظُرْ مَا تَقُولُ ". فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: " إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا، لَلْفَقْرُ أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنَ السَّبِيلِ إِلَى مُنْتَهَاهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5252 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ) أَيْ: حُبًّا بَلِيغًا وَإِلَّا فَكَلُّ مُؤْمِنٍ يُحِبُّهُ (قَالَ: " انْظُرْ مَا تَقُولُ ") أَيْ: تَفَكَّرْ فِيمَا تَقُولُ، فَإِنَّكَ تَدَّعِي أَمْرًا عَظِيمًا جَسِيمًا (فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لِأُحِبُّكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : ظَرْفٌ لِقَالَ (قَالَ: " إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ") أَيْ: فِي دَعْوَى مَحَبَّتِي وَعَلَى تَحَمُّلِ مِحْنَتِي، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي (" فَأَعِدَّ ") أَيْ: فَهَيِّئْ (" لِلْفَقْرِ) أَيْ: بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، بَلْ بِالشُّكْرِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ (" تِجْفَافًا ") ، بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ أَيْ: دِرْعًا وَجُنَّةً، فَفِي الْمُغْرِبِ، هُوَ شَيْءٌ يُلْبَسُ عَلَى الْخَيْلِ عِنْدَ الْحَرْبِ، كَأَنَّهُ دِرْعٌ تِفْعَالُ مِنْ جَفَّ لِمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَابَةِ وَالْيُبُوسَةِ انْتَهَى. فَتَاؤُهُ زَائِدَةٌ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: التِّجْفَافُ بِالْكَسْرِ آلَةُ الْحَرْبِ يَلْبَسُهُ الْفَرَسُ وَالْإِنْسَانُ لِيَقِيَهُ فِي الْحَرْبِ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي الدَّعْوَى وَمُحِقًّا فِي الْمَعْنَى فَهَيِّئْ آلَةً تَسْمَعُكَ حَالَ الْبَلْوَى، فَإِنَّ الْبَلَاءَ وَالْوَلَاءَ مُتَلَازِمَانِ فِي الْخَلَا وَالْمَلَا، وَمُجْمَلُهُ أَنَّهُ تَهَيَّأَ لِلصَّبْرِ خُصُوصًا عَلَى الْمَقَرِّ لِتَدْفَعَ بِهِ عَنْ دِينِكَ بِقُوَّةِ يَقِينِكَ مَا يُنَافِيهِ مِنَ الْجَزَعِ وَالْفَزَعِ وَقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْقِسْمَةِ، وَكَنَّى بِالتِّجْفَافِ عَنِ الصَّبْرِ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْفَقْرَ، كَمَا يَسْتُرُ التِّجْفَافُ الْبَدَنَ عَنِ الضُّرِّ (" لَلْفَقْرُ ") : بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ وَهِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ (" أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنَ السَّيْلِ ") أَيِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ (" إِلَى مُنْتَهَاهُ ") : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِ الْفَقْرِ بِسُرْعَةٍ إِلَيْهِ، وَمِنْ نُزُولِ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا بِكَثْرَةٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ خُصُوصًا سَيِّدَ الْأَنْبِيَاءِ، فَيَكُونُ بَلَاؤُهُ أَشَدَّ مِنْ بَلَائِهِمْ، وَيَكُونُ لِأَتْبَاعِهِ نَصِيبٌ عَلَى قَدْرِ وَلَائِهِمْ، وَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ فِيمَا يَكْرَهُ وَيُحِبُّ، وَفِيهِ أَنَّ الْفَقْرَ أَشَدُّ الْبَلَايَا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمِحَنِ وَالرَّزَايَا، لَكِنَّهُ مَعَ مَرَارَتِهِ فِي الدُّنْيَا يُورِثُ حَلَاوَةً فِي الْعُقْبَى بِمَزِيدِ الْعَطَايَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ (وَقَالَ) أَيِ التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

5253 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَارِبًا مِنْ مَكَّةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، إِنَّمَا كَانَ مَعَ بِلَالٍ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَحْمِلُ تَحْتَ إِبْطِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5253 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ أُخِفْتُ ") : مَجْهُولٌ مَاضٍ مِنَ الْإِخَافَةِ أَيْ: خُوِّفْتُ (" فِي اللَّهِ ") أَيْ: فِي إِظْهَارِ دِينِهِ (" وَمَا يُخَافُ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: مِثْلَ مَا أُخِفْتُ (" أَحَدٌ ") أَيْ: غَيْرِي (" وَلَقَدْ أُوذِيتُ ") أَيْ: بِالْفِعْلِ بَعْدَ التَّخْوِيفِ بِالْقَوْلِ (" فِي اللَّهِ ") أَيْ: فِي سَبِيلِهِ وَطَرِيقِ رِضَاهُ (" وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ ") ، أَيْ: خُوِّفْتُ وَحْدِي وَأُوذِيتُ بِانْفِرَادِي، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ أَمْرَهَا صَعْبٌ فِي تَبَيُّنِكَ الْحَالَتَيْنِ، فَإِنَّ الْبَلِيَّةَ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ، وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى أَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ لَا شِكَايَةُ بَالٍ بَلْ تَحَدُّثٌ بِالنِّعْمَةِ وَتَوْفِيقٍ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمِحْنَةِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْمِنْحَةِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْمَحَبَّةُ وَتَسْلِيَةٌ لِلْأَمَةِ لِإِزَالَةِ مَا قَدْ يُصِيبُهُمْ مِنَ الْغُمَّةِ أَيْ: كُنْتُ وَحِيدًا فِي ابْتِدَاءِ إِظْهَارِي لِلدِّينِ فَخَوَّفَنِي فِي ذَلِكَ وَآذَانِي الْكُفَّارُ الْمَلَاعِينُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ حِينَئِذٍ يُوَافِقُنِي فِي تَحَمُّلِ الْأَذَى إِلَّا مُسَاعَدَةُ الْمَوْلَى وَمُعَاوَنَةُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي قِلَّةِ الزَّادِ وَعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ بِقَوْلِهِ: (" وَلَقَدْ أَتَتْ ") أَيْ: مَضَتْ (" عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ ") ، أَيْ: مِنْ بَيْنِ أَوْقَاتٍ وَهِيَ اللَّيْلَةُ وَالْيَوْمُ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْكِيدٌ لِلشُّمُولِ أَيْ: ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُتَوَاتِرَاتٍ لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الزَّمَانِ (" وَمَا لِي ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ لِي (" وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَفِي الْقَامُوسِ: بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ مَعْلُومٌ أَيْ: حَيَوَانٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: مَا مَعَنَا طَعَامٌ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَأْكُلُ الدَّوَابُّ أَوِ الْإِنْسَانُ (" إِلَّا شَيْءٌ ") أَيْ: قَلِيلٌ (" يُوَارِيهِ ") أَيْ: يَسْتُرُهُ وَيُغَطِّيهِ (" إِبْطُ بِلَالٍ ") . بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتُكْسَرُ فَفِي الصِّحَاحِ: الْإِبْطُ بِسُكُونِ الْبَاءِ مَا تَحْتَ الْجَنَاحِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِبْطُ مَا تَحْتَ الْمَنْكِبِ وَتُكْسَرُ الْبَاءُ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بِلَالًا كَانَ رَفِيقِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَا كَانَ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ بِقَدْرِ مَا يَأْخُذُهُ بِلَالٌ تَحْتَ إِبْطِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ظَرْفٌ نَضَعُ الطَّعَامَ فِيهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ بِتَقْدِيمٍ لَقَدْ أُوذِيتُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ. (وَقَالَ) أَيِ التِّرْمِذِيُّ وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: (وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَارِبًا مِنْ مَكَّةَ) أَيْ: فَارًّا مِنَ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ هَارِبًا إِلَى عَبْدِ يَالِيلَ بِالطَّائِفِ لِيَحْمِيَهُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ رِسَالَةَ رَبِّهِ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِ صِبْيَانَهُ فَرَمَوْهُ بِالْأَحْجَارِ حَتَّى أَدْمَوْا كَعْبَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ. وَفِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ أَنَّ خُرُوجَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الطَّائِفِ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ عَشَرَةَ مِنَ النُّبُوَّةِ لِمَا نَالَهُ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ مَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَأَقَامَ بِهِ شَهْرًا يَدْعُو أَشْرَافَ ثَقِيفٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ يَسُبُّونَهُ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَرَجَمُوا عَرَاقِيبَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى اخْتَضَبَتْ نَعْلَاهُ بِالدِّمَاءِ. زَادَ غَيْرُهُ: وَكَانَ إِذَا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ قَعَدَ إِلَى الْأَرْضِ فَيَأْخُذُونَهُ بِعَضُدَيْهِ فَيُقِيمُونَهُ، فَإِذَا مَشَى رَجَمُوهُ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَقَدْ شُجَّ فِي رَأْسِهِ شِجَاجًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرَائِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَإِنِّي مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ» ". وَفِي الْقَامُوسِ: هُمَا جَبَلَا مَكَّةَ أَبُو قُبَيْسٍ وَالْأَحْمَرُ أَوْ جَبَلَا مِنًى. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» " وَعَبْدُ يَالِيلَ بِتَحْتَانِيَّةٍ بَعْدَ أَلْفٍ فَلَامٍ مَكْسُورَةٍ فَتَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ ابْنُ عَبْدِ كُلَالٍ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَكَانَتْ عَبْدُ يَالِيلَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الطَّائِفِ مِنْ ثَقِيفٍ، وَقَرْنُ الثَّعَالِبِ هُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيُقَالُ لَهُ قَرْنُ الْمَنَازِلِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا إِلَى الطَّائِفِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَأَتَى تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي إِلَى عَدُوٍّ بِعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي ". أَيْ: يَلْقَانِي بِغِلْظَةٍ وَوَجْهٍ كَرِيهٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ: " أَمْ إِلَى صَدِيقٍ قَرِيبٍ كَلَّفْتَهُ أَمْرِي إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانًا عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكُ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ» " ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَمَعَهُ بِلَالٌ) ، لَا يُنَافِي كَوْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَعَهُ أَيْضًا مَعَ احْتِمَالِ تَعَدُّدِ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَكِنْ أَفَادَ بِقَوْلِهِ مَعَهُ بِلَالٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْخُرُوجُ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بِلَالٌ حِينَئِذٍ (إِنَّمَا كَانَ مَعَ بِلَالٍ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَحْمِلُ تَحْتَ إِبْطِهِ) . وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ قِلَّتِهِ وَخِفَّةِ مُؤْنَتِهِ.

5254 - وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُوعَ، فَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَطْنِهِ عَنْ حَجَرَيْنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5254 - (وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى النَّبِيِّ (الْجُوعَ، فَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا) أَيْ: فَكَشَفْنَا ثِيَابَنَا عَنْهَا كَشْفًا صَادِرًا (عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ) ، أَيْ: لِكُلٍّ مِنَّا حَجَرٌ وَاحِدٌ وَرُفِعَ عَنْهُ، فَالتَّكْرِيرُ بِاعْتِبَارِ تَعْدَادِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ (فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَطْنِهِ عَنْ حَجَرَيْنِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " عَنِ " الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِرَفَعْنَا عَلَى تَضْمِينِ الْكَشْفِ، وَالثَّانِيَةُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: كَشَفْنَا عَنْ بُطُونِنَا كَشْفًا صَادِرًا عَنْ حَجَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْتَمَلَ التَّنْكِيرُ فِي حَجَرٍ عَلَى النَّوْعِ أَيْ: عَنْ حَجَرٍ مَشْدُودٍ عَلَى بُطُونِنَا، فَيَكُونُ بَدَلًا، وَعَادَةُ مَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ وَخَمُصَ بَطْنُهُ أَنْ يَشُدَّ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا لِيُقَوِّمَ بِهِ صُلْبَهُ انْتَهَى. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ تَعَلُّقَ حَرْفَيْ جَرٍّ بِمَعْنَى الْعَامِلِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا تَعَلُّقُ الثَّانِي بَعْدَ تَقْيِيدِ الْأَوَّلِ فَجَائِزٌ كَمَا تَتَقَرَّرُ فِي مَحَلِّهِ، فَكَوْنُهُ صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ الْبَدَلِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ مَعَ أَنَّ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَمِيرِ الْبَدَلِ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِالْحَجَرِ النَّوْعُ، وَالتَّقْدِيرُ عَنْ حَجَرٍ مَشْدُودٍ عَلَيْهَا، وَكَلَامُ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبَدَلِ كَلَامُهُ، وَقَدْ نَقَلَ مِيرَكُ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قَالَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ عَنْ حُسْنٍ خَارِقٍ، وَقِيلَ: فَائِدَةُ شَدِّ الْحَجَرِ عَلَى الْبَطْنِ أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّفْخُ فِي الْأَمْعَاءِ الْخَالِيَةِ، وَأَنَّ نَفْسَ شَدِّ الْأَمْعَاءِ إِعَانَةٌ عَلَى شَدِّ الصُّلْبِ، وَقَالَ: إِنَّمَا رُبِطَ الْحَجَرُ عَلَى الْبَطْنِ لِئَلَّا يَسْتَرْخِيَ الْبَطْنُ وَيَنْزِلُ الْمِعَى فَيُشَكُّ التَّحَرُّكُ، فَإِذَا رَبَطَ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ يَشْتَدُّ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْجُوعُ يَرْبِطُ حَجَرَيْنِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَهُمْ جُوعًا أَكْثَرَهُمْ رِيَاضَةً فَرَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُظْهِرِ: وَهَذَا عَادَةُ أَصْحَابِ الرِّيَاضَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا عَادَةُ الْعَرَبِ أَوْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: فِي رَبْطِ الْحَجَرِ عَلَى الْبَطْنِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ أَحْجَارٌ بِالْمَدِينَةِ تُسَمَّى الْمُشْبِعَةَ كَانُوا إِذَا جَاعَ أَحَدُهُمْ يَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ بُرُودَةً تُسَكِّنُ الْجُوعَ وَالْحَرَارَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَالُ لِمَنْ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ ارْبِطْ عَلَى قَلْبِكَ حَجَرًا، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَأَمَرَ أُمَّتَهُ بِالصَّبْرِ قَالًا وَحَالًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: فِي جَامِعِهِ (وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَهُوَ مَا يَتَفَرَّدُ بِرِوَايَتِهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ مِنْ رِجَالِ النَّقْلِ، فَإِنْ كَانَ الْمُنْفَرِدَ بِرِوَايَةِ مَتْنِهِ فَهُوَ غَرِيبٌ مَتْنًا أَوْ بِرِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَعْرِفُ الْحَدِيثَ عَنْ صَحَابِيٍّ فَيَرْوِيَهُ عَدْلٌ وَحْدَهُ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ فَهُوَ غَرِيبٌ إِسْنَادًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الشَّمَائِلِ بِقَوْلِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ وَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ انْتَهَى. فَغَرَابَتُهُ نَاشِئَةٌ عَنْ طَرِيقِ أَبِي طَلْحَةَ لَا مِنْ سَائِرِ الطُّرُقِ مَعَ أَنَّهُ قَالَ مِيرَكُ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.

5255 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَصَابَهُمْ جُوعٌ فَأَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْرَةً تَمْرَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5255 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَصَابَهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ (جُوعٌ) أَيْ: شَدِيدٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي سَفَرٍ بِعِيدٍ (فَأَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْرَةً تَمْرَةً) . أَيْ: مِقْدَارًا قَلِيلًا مِنَ التَّمْرِ بِحَيْثُ عِنْدَ تَوْزِيعِهِ عَلَيْهِمْ وَتَقْسِيمِهِ إِلَيْهِمْ وَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَمْرَةٌ وَاحِدَةٌ إِذْ كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ بَلْ أَكْثَرَ، وَرُبَّمَا وَقَعَتِ الْبَرَكَةُ فِي تِلْكَ التَّمْرَةِ حَتَّى كَانَتْ ثَمَرَتُهَا رَفْعَ الْمِحْنَةِ وَحَبَّتُهَا أَنْتَجَتِ الْمَحَبَّةَ الَّتِي فَوْقَ كُلِّ مِنْحَةٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5256 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا: مَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، فَاقْتَدَى بِهِ، وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ; كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا. وَمَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْهُ، لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: " «أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ» " فِي بَابٍ بَعْدَ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5256 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) أَيِ: ابْنِ عَمْرٍو عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْجَامِعِ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ صَابِرًا شَاكِرًا» ") أَيْ: مُؤْمِنًا كَامِلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] وَفِي الْحَدِيثِ: الْإِيمَانُ نِصْفَانِ نِصْفُهُ صَبْرٌ وَنِصْفُهُ شُكْرٌ فَالصَّبْرُ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَالشُّكْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ: وَمَنْ لَمْ تَكُونَا فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا (" مَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ ") أَيْ: خَصْلَةُ مَنْ نَظَرَ فِي أَمْرَ دِينِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ (" إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ ") أَيْ: إِلَى مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ عِلْمًا وَعِبَادَةً وَقَنَاعَةً وَرِيَاضَةً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (" فَاقْتَدَى بِهِ ") أَيْ: فِي الصَّبْرِ عَلَى مِيثَاقِ الطَّاعَاتِ، وَعَنِ ارْتِكَابِ السَّيِّئَاتِ أَوْ تَأَسَّفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَنْ نَظَرَ اسْتِئْنَافًا مُبَيِّنًا لِلصَّابِرِ وَالشَّاكِرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْخَصْلَتَيْنِ الْمُبْهَمَتَيْنِ إِحْدَاهَا هَذِهِ، وَالثَّانِيَةُ مُبَيَّنَةٌ بِقَوْلِهِ: (" وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ ") أَيْ: إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَرُ مِنْهُ وَأَقَلُّ مِنْهُ مَالًا وَجَاهًا، (" فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ") أَيْ: فَشَكَرَهُ عَلَى مَا زَادَهُ عَلَيْهِ مِنْ فَضْلِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ. (" كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا ") أَيْ: لِلْخَصْلَةِ الثَّانِيَةِ (" صَابِرًا ") . أَيْ: لِلْخَصْلَةِ السَّابِقَةِ فَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوَّشٌ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ ذَوِي الْعُقُولِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَذْلَكَةِ وَإِنْ كَانَ مُرَتَّبًا بِاعْتِبَارِ الْمُقَدِّمَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ قَدْ يُعْتَبَرُ وَقَدْ لَا يُعْتَبَرُ، وَمَعَ اعْتِبَارِهِ الْمَنْطُوقُ أَقْوَى أَيْضًا صَرَّحَ بِمَا عَلِمَ ضِمْنًا حَيْثُ قَالَ: (" وَمَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ ") أَيْ: فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَأَنْتَجَهُ الْغُرُورُ وَالْعُجْبُ وَالْخُيَلَاءُ (" وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ ") أَيْ: مِنْ أَصْحَابِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَأَوْرَثَهُ الْحِرْصَ وَالْأَمَلَ وَالرِّيَاءَ (" فَأَسِفَ ") : بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: حَزِنَ (" عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْهُ ") أَيْ: مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ بِعَدَمِ وُجُودِهِ أَوْ بِحُصُولِ فَقْدِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَسِفَ عَلَى دُنْيَا فَاتَتْهُ اقْتَرَبَ مِنَ النَّارِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَمَنْ أَسِفَ عَلَى آخِرَةٍ فَاتَتْهُ اقْتَرَبَ مِنَ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ» (لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا) ، لِعَدَمِ صُدُورِ وَاحِدٍ مِنْهُ، بَلْ قَامَ بِضِدَّيْهِمَا مِنَ الْكُفْرَانِ وَالْجَزَعِ وَالْفَزَعِ بِاللِّسَانِ وَالْجَنَانِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ) أَيْ: فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ صَدْرُهُ يُنَاسِبُ بَابَ الْقِرَاءَةِ (" «أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ» ") . أَيْ: بِالْفَوْزِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (فِي بَابٍ) أَيْ: بِغَيْرِ عُنْوَانٍ (بَعْدَ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ) . أَيْ: بَعْدَ كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5257 - وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَا عِنْدَهُ فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. لَا نَفَقَةَ وَلَا دَابَّةَ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ إِنْ شِئْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا، فَأَعْطَيْنَاكُمْ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ، وَإِنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا ". قَالُوا: فَإِنَّا نَصْبِرُ لَا نَسْأَلُ شَيْئًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5257 - (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ) : بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَضَمِّهَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمِصْرِيُّ تَابِعِيٌّ (قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ أَيْ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَوْلًا يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ، وَيُقَالَ: سَمِعْتُ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (وَسَأَلَهُ) أَيْ: وَقَدْ

سَأَلَهُ (رَجُلٌ قَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ (أَلَسْنَا) أَيْ: نَحْنُ وَأَمْثَالُنَا (مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) ، أَيْ: مِنْ خَوَاصِّهِمُ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ أَغْنِيَاءَهُمْ (فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟) أَيْ: تَضُمُّهَا وَتَسْكُنُ إِلَيْهَا وَتُقْبِلُ عَلَيْهَا (قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَتُكْسَرُ أَيْ: مَكَانٌ (تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ) أَيْ: أَغْنِيَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فَإِنَّ فُقَرَاءَهُمْ مَا كَانَ لَهُمُ امْرَأَةٌ وَلَا مَسْكَنٌ، أَوْ إِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَحَدُهُمَا مَا كَانَ لَهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا. (قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا) أَيْ: عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ أَجِيرًا زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ (قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ) أَيْ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ الصُّعْلُوكُ فَلَسْتَ مِنْ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَعَلَّهُ اقْتَبَسَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] عَلَى مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] قَالَ: الزَّوْجَةُ وَالْخَادِمُ، وَزَادَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَتْ لَهُ الزَّوْجَةُ وَالْخَادِمُ وَالدَّارُ يُسَمَّى مَلِكًا. (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) : هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَصَوَابُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِمَا سَبَقَ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ " الْمُحَدِّثُ ": هَكَذَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَالصَّوَابُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ (وَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ) : بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ أَتَى ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فُقَرَاءَ. (إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَا عِنْدَهُ فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. لَا نَفَقَةَ) : تَعْمِيمٌ مُبَيِّنٌ (وَلَا دَابَّةَ) أَيْ: لِنُجَاهِدَ عَلَيْهَا أَوْ نَحُجَّ بِهَا (وَلَا مَتَاعَ) . أَيْ: زَائِدَ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي النَّفَقَةِ وَالدَّابَّةِ. (فَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ شِئْتُمْ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا أَرَدْتُمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْرُوضَةِ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَاهُ. (إِنْ شِئْتُمْ) أَيْ أَنْ نُعْطِيَكُمْ شَيْئًا مِنْ عِنْدِنَا (رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا) ، فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُنَا الْآنَ شَيْءٌ (فَأَعْطَيْنَاكُمْ) أَيْ: بَعْدَ هَذَا (مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَكُمْ) ، أَيْ: مَا سَهَّلَهُ عَلَى أَيْدِينَا (وَإِنْ شِئْتُمْ) أَيْ أَنْ نَرْفَعَ أَمْرَكُمْ إِلَى الْخَلِيفَةِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ) أَيْ: لِلْمُتَسَلِّطِ عَلَى خِزَانَةِ بَيْتِ الْمَالِ فَيُعْطِيَكُمْ مَا يُوَسِّعُ لَكُمُ الْبَالَ، (وَإِنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ) أَيْ: عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنَّهُ مَقَامُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ أَصْحَابِ حُسْنِ الْمَآلِ وَطِيبِ الْمَنَالِ (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ الْفُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ» ") أَيْ: أَغْنِيَاءَهُمْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا ") . أَيْ: سَنَةً (قَالُوا: فَإِنَّا نَصْبِرُ لَا نَسْأَلُ شَيْئًا) . أَيْ: حَالَ كَوْنِنَا لَا نَطْلُبُ شَيْئًا مِنْ أَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5258 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَلْقَةٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ قُعُودٌ إِذْ دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَعَدَ إِلَيْهِمْ، فَقُمْتُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِيُبْشِرْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِمَا يَسُرُّ وُجُوهَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا " قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَلْوَانَهُمْ أَسْفَرَتْ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ أَوْ مِنْهُمْ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5258 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: بَيْنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ بَيْنَمَا (أَنَا قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (وَحَلْقَةٌ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَيُفْتَحُ أَيْ: وَجَمَاعَةٌ مُتَحَلِّقَةٌ وَقُلُوبُهُمْ بِهَا مُتَعَلِّقَةٌ (مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ قُعُودٌ) أَيْ: قَاعِدُونَ أَوْ ذَوُو قُعُودٍ، فَفِي الْقَامُوسِ حَلْقَةُ الْبَابِ وَالْقَوْمِ، وَقَدْ يُفْتَحُ لَامُهَا وَيُكْسَرُ أَوْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَلْقَةٌ مُحَرَّكَةٌ إِلَّا جَمْعُ حَالِقٍ أَوْ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَالْجُمَعُ حَلَقٌ مُحَرَّكَةٌ أَوْ كَبَدْرٍ. (إِذْ دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَعَدَ إِلَيْهِمْ) أَيْ: فَجَلَسَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْفُقَرَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] الْآيَةَ. (فَقُمْتُ إِلَيْهِمْ) أَيْ: مَائِلًا إِلَيْهِمْ مَيْلًا لِلْمُتَابَعَةِ وَنَيْلًا لِلْقُرْبَةِ لَدَيْهِمْ وَلِأَطَّلِعَ عَلَى كَلَامِ مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ، (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِيُبْشِرْ ") : أَمْرٌ مَجْهُولٌ مِنَ التَّبْشِيرِ، وَيَجُوزُ مِنَ الْبِشَارَةِ أُرِيدَ بِهِ الْخَيْرُ أَوِ الدُّعَاءُ (" فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِمَا يَسُرُّ وُجُوهَهُمْ ") ، بِالنَّصْبِ أَيْ: بِشَيْءٍ يُفْرِحُ قُلُوبَهُمْ وَيُظْهِرُ أَثَرَ السُّرُورِ عَلَى ظَاهِرِ أَشْرَفِ بَشَرَتِهِمْ وَأَلْطَفِ جِلْدَتِهِمْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ وُجُوهِهِمْ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بِمَا يُسَرُّ بِهِ وُجُوهُهُمْ، (" فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَمْرٍو (فَلَقَدِ) : اللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ أَيْ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ (رَأَيْتُ أَلْوَانَهُمْ أَسْفَرَتْ) . أَيْ: أَضَاءَتْ مِنَ الْإِسْفَارِ وَهُوَ إِشْرَاقُ اللَّوْنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس: 38] ، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34] وَفِي الْحَدِيثِ: " «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» ". (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: حَتَّى تَمَنَّيْتُ) : مُتَعَلِّقَةٌ بِأَسْفَرَتْ أَيْ: أَشْرَقَتْ إِشْرَاقًا كَامِلًا تَامًّا حَتَّى وَدِدْتُ (أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا دَائِمًا مَوْصُوفًا بِحَالِهِمْ (أَوْ مِنْهُمْ) أَيْ: فِي الْعُقْبَى مَحْشُورًا فِي زُمْرَتِهِمْ وَحُسْنِ مَآلِهِمْ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلشَّكِّ، وَالْمَعْنَى أَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: لِيُبْشِرْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِالْفَوْزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِمِقْدَارِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ يَنْعَمُونَ وَهَؤُلَاءِ يُحَاسَبُونَ.

5259 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنِي خَلِيلِي بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوَقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5259 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَمَرَنِي خَلِيلِي) أَيْ: حَبِيبِي وَرَسُولِي (بِسَبْعٍ) أَيْ: بِسَبْعِ خِلَالٍ (أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ) ، أَيْ: وَالْقُرْبِ مِنْ حَالِهِمْ، أَوِ التَّقَرُّبِ مِنْ مَآلِهِمْ (وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي) أَيْ: فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ (وَلَا أَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي) ، أَيْ: فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْمَنَاصِبِ الدَّنِيَّةِ (وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ) ، أَيْ: وَلَّتْ بِأَنْ غَابَتْ أَوْ بَعُدَتْ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» ". وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: وَإِنْ قُطِعَتْ عَلَى مَا وَرَدَ: «صِلْ مَنْ قَطَعَكَ» ، وَأَسْنَدَ الْإِدْبَارَ إِلَى الرَّحِمِ مَجَازًا لِأَنَّهُ لِصَاحِبِهَا (وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ) أَيْ: لَا أَطْلُبَ (أَحَدًا شَيْئًا) ، وَمِنْ دُعَاءِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ سُجُودِ غَيْرِكَ فَصُنْ وَجْهِي عَنْ مَسْأَلَةِ غَيْرِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدًا عَلَى عُمُومِهِ شَاءَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ إِلَهِي كَفَى عِلْمُكَ بِالْحَالِ عَنِ الْمَقَالِ وَكَرَمُكَ عَنِ السُّؤَالِ وَهُوَ الْمَقَامُ الْجَلِيلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ حَالِ الْخَلِيلِ حَيْثُ

قَالَ لَهُ جِبْرَائِيلُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. قَالَ فَسَلْ رَبَّكَ. قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْجَمِيلِ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وَفِي الْحِكَمِ لِابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ: رُبَّمَا اسْتَحْيَى الْعَارِفُ أَنْ يَرْفَعَ حَاجَتَهُ إِلَى مَوْلَاهُ اكْتِفَاءً بِمَشِيئَتِهِ فَكَيْفَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَرْفَعَهَا إِلَى خَلِيقَتِهِ؟ (وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ) أَيْ: أَتَكَلَّمَ بِهِ (وَإِنْ كَانَ مُرًّا) ، أَيْ: عَلَى السَّامِعِ أَوْ صَعْبًا عَلَيَّ (وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ) أَيْ: ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا (فِي اللَّهِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ أَوْ فِي سَبِيلِهِ وَلِأَجْلِهِ (لَوْمَةَ لَائِمٍ) ، مَلَامَةَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ (وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) ، أَيْ: لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَإِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى دَفْعِ الْمُصِيبَةِ خُصُوصًا الْعُجْبُ وَالْغُرُورُ وَالْمَخِيلَةُ (فَإِنَّهُنَّ) أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ (مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ) . أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ كَنْزٍ مَعْنَوِيٍّ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، أَوْ كَنْزٌ مَنْ كَنُوزِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ الْعَرْشَ سَقْفُهَا، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ فَإِنَّهُنَّ أَيِ: الْخِصَالُ السَّبْعُ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ إِذْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، بَلْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ أَيْضًا مَرْفُوعًا: " «قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ; فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» ". وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ: سَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَنْزًا ; لِأَنَّهَا كَالْكَنْزِ فِي نَفَاسَتِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ أَنَّهَا مِنْ ذَخَائِرِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ مُحَصِّلَاتِ نَفَائِسِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهَا يَحْصُلُ ثَوَابًا نَفِيسًا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْجَنَّةِ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ الْعَاجِلَةِ: فَمَنْ قَامَ بِهَا وَأَدْرَكَ مَعْنَاهَا وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَبْنَاهَا، فَإِنَّهُ ظَفِرَ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى كُنُوزٍ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهَا وَمُنْتَهَاهَا، فَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: " تَدْرِي مَا تَفْسِيرُهَا؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ» ". قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ كَلِمَةُ اسْتِسْلَامٍ وَتَفْوِيضٍ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا قُوَّةٌ فِي جَلْبِ خَيْرٍ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى، فَيَكُونُ صَاحِبُهَا فِي مُلْكٍ جَسِيمٍ وَكَنْزٍ عَظِيمٍ حَالَ كَوْنِهِ حَاضِرًا بِقَلْبِهِ مُشَاهِدًا فِعْلَ رَبِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَصَحَّ مَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَجَنَّةٌ فِي الْعُقْبَى، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ: اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ كَثِيرٍ أَرَادَتْ أَنَّ الِاعْتِذَارَ مِنَ الذَّنْبِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ تَسْتَحِقُّ أَنْ تَكُونَ كَبِيرَةً مِنْ دَعْوَى الْوُجُودِ الْأَصْلِيِّ، وَدَعْوَى الْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ، وَدَعْوَى الِاقْتِدَارِ الِاسْتِقْلَالِيِّ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءً إِلَى نَفْيِ مَا سِوَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

5260 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ مِنَ الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ: الطَّعَامُ وَالنِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، فَأَصَابَ اثْنَيْنِ وَلَمْ يُصِبْ وَاحِدًا، أَصَابَ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، وَلَمْ يُصِبِ الطَّعَامَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5260 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ مِنَ الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ) أَيْ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (الطَّعَامُ) أَيْ: حِفْظًا لِبَدَنِهِ وَتَقْوِيَةً عَلَى دِينِهِ (وَالنِّسَاءُ) أَيْ: صَوْنًا لِنَفْسِهِ النَّفِيسَةِ عَنِ الْخَوَاطِرِ الْخَسِيسَةِ (وَالطِّيبُ) ، أَيْ: لِتَقْوِيَةِ الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَقْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ (فَأَصَابَ اثْنَيْنِ) أَيْ: شَيْئَيْنِ بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ

(وَلَمْ يُصِبْ وَاحِدًا، أَصَابَ النِّسَاءَ) أَيْ: حَتَّى بَلَغَ مَسْعَاهُ (وَالطِّيبَ) أَيْ: مِنَ الْخَارِجِ مَعَ أَنَّ عَرَقَهُ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الطِّيبِ، (وَلَمْ يُصِبِ الطَّعَامَ) ، أَيْ: إِلَّا بِوَصْفِ الْقِلَّةِ. فَإِطْلَاقُ النَّفْيِ لِلْمُبَالَغَةِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ أَيْ: لَمْ يُكْثِرْ مِنْ إِصَابَتِهِ إِكْثَارَهُمَا، حَيْثُ أَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ إِكْثَارٌ مِنَ الطَّعَامِ أَقَلُّ مِنْ إِكْثَارِ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . قَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الشِّفَاءِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ رَجُلًا لَمْ يُسَمَّ.

5261 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حُبِّبَ إِلَيَّ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ. وَزَادَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ (حُبِّبَ إِلَيَّ) : " مِنَ الدُّنْيَا ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5261 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حُبِّبَ إِلَيَّ " أَيْ: مِنْ دُنْيَاكُمْ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (" الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ") . كَذَا فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِلَفْظِ: جُعِلَتْ وَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَصْلِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَوْ غَفَلَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ: " قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ " جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ فِي الثَّانِيَةِ، وَالتَّجَدُّدِ فِي الْأُولَى. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ إِذِ الْقَوْلُ بِالتَّجَدُّدِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَهُوَ لِلثَّبَاتِ، حَتَّى إِذَا عُبِّرَ عَنِ الْمُضَارِعِ بِالْمَاضِي يُعَلَّلُ بِأَنَّهُ لِتَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمَجْهُولِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِبِلَّتِهِ وَطَبْعِهِ، وَأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى الْحُبِّ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرِحْنَا يَا بِلَالُ " أَيِ: اشْغَلْنَا عَمَّا سِوَاهَا، فَإِنْ تَعِبَ وَكَدَحَ، وَإِنَّمَا الِاسْتِرْوَاحُ فِي الصَّلَاةِ، فَأَرِحْنَا بِنِدَائِكَ بِهَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ، وَذَكَرَ ابْنُ الرَّبِيعِ فِي مُخْتَصَرِ الْمَقَاصِدِ لِلسَّخَاوِيِّ أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِدُونِ لَفْظِ: " جُعِلَتْ " وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ زِيَادَةِ: ثَلَاثٌ، فَقَالَ السَّخَاوِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَفِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْكَشَّافِ، وَمَا رَأَيْتُهَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ مَزِيدِ التَّفْتِيشِ، وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ لِفَظُ ثَلَاثٍ. قَالَ: وَزِيَادَتُهُ مُحِيلَةٌ لِلْمَعْنَى فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنَ الدُّنْيَا. (وَزَادَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ: " حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا ") أَيْ: قَوْلُهُ مِنَ الدُّنْيَا مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ زَادَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي الْفَتَاوَى الْحَدِيثِيَّةِ مَسْأَلَةَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ". لِمَ بَدَأَ بِالنِّسَاءِ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ؟ الْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ مَا أَصَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا بَدَأَ بِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: " «مَا أَصَابَنَا مِنْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ إِلَّا النِّسَاءُ» " وَلَمَّا كَانَ الَّذِي حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا هُوَ أَفْضَلُهَا وَهُوَ النِّسَاءُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» " نَاسَبَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ بَيَانُ أَفْضَلِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَذَلِكَ الصَّلَاةُ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ عَلَى أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ مِنْ جَمْعِهِ بَيْنَ أَفْضَلِ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَأَفْضَلِ أُمُورِ الدِّينِ، وَفِي ذَلِكَ ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى نَظِيرِهِ، وَعَبَّرَ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِعِبَارَةٍ أَبْلَغَ مِمَّا عَبَّرَ بِهِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا عَلَى مُجَرَّدِ التَّحْبِيبِ. وَقَالَ فِي أَمْرِ الدِّينِ: " «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي» " فَإِنَّ قُرَّةَ الْعَيْنِ مِنَ التَّعْظِيمِ فِي الْمَحَبَّةِ مَا لَا يَخْفَى انْتَهَى. وَلَعَلَّ السُّكُوتَ عَنِ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلنِّسَاءِ وُجُودًا وَعَدَمًا عَلَى مَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَشَرَفُهُ لَدَيْهِ.

5262 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: " إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ ; فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5262 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ) أَيْ: أَرْسَلَهُ (إِلَى الْيَمَنِ) أَيْ: قَاضِيًا أَوْ وَالِيًا (قَالَ: " إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ ") : وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْصِيلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ عَلَى وَجْهِ التَّكَلُّفِ فِي الْبُغْيَةِ بِتَكْثِيرِ النِّعْمَةِ، وَالْحِرْصِ عَلَى النَّهْمَةِ، (" فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ ") أَيِ الْمُخْلَصِينَ (" لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ ") . بَلِ التَّنَعُّمُ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِينَ وَالْفَاجِرِينَ وَالْغَافِلِينَ وَالْجَاهِلِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3] وَقَالَ: {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12] وَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45] . (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

5263 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ رَضِيَ مِنَ اللَّهِ بِالْيَسِيرِ مِنَ الرِّزْقِ رَضِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَمَلِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5263 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ رَضِيَ مِنَ اللَّهِ بِالْيَسِيرِ مِنَ الرِّزْقِ ") أَيْ: مَنْ قَنَعَ، مِنْهُ بِقَلِيلٍ مِنَ الطَّعَامِ (" رَضِيَ اللَّهُ مِنْهُ ") وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْهُ (" بِالْقَلِيلِ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْيَسِيرِ (" مِنَ الْعَمَلِ ") . أَيْ: مِنَ الطَّاعَةِ، وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ: مَنْ رَضِيَ عَنِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِضَا الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ، وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ رِضَا الْعَبْدِ مُتَأَخِّرٌ. قُلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ رِضَا الْعَبْدِ مَحْفُوفٌ بِرِضَاءَيْنِ. مِنَ اللَّهِ رِضًا أَزَلِيٌّ تَعَلَّقَ بِهِ الْعِلْمُ الْأَوَّلِيُّ، وَرِضًا أَبَدِيٌّ تَعَلَّقَ بِعَمَلِ الْعَبْدِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْأُخْرَوِيُّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ رِضَا الْعَبْدِ إِنَّمَا هُوَ أَثَرُ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ أَوَّلًا. وَأَمَّا رِضَا اللَّهِ آخِرًا فَإِنَّمَا هُوَ غَايَةُ الرِّضَا الذَّاتِيِّ مِنَ النَّعْتِ الصِّفَاتِيِّ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالْإِنْعَامُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .

5264 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ جَاعَ أَوِ احْتَاجَ، فَكَتَمَهُ النَّاسُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ رِزْقَ سَنَةٍ مِنْ حَلَالٍ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5264 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ جَاعَ ") أَيْ: فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ (" أَوِ احْتَاجَ ") ، أَيْ: إِلَى مَا يَدْفَعُ الْجُوعَ أَوْ غَيْرَهُ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ (" فَكَتَمَهُ النَّاسُ ") . قِيلَ أَيْ: مِنَ النَّاسِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ، وَأَنَّهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ، فَنَصَبَ النَّاسَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ بِتَشْدِيدِهَا، وَأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ كَتَمَهُ كَتْمًا وَكِتْمَانًا وَكَتَمَهُ إِيَّاهُ. (" كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ") أَيْ: وَعْدًا ثَابِتًا عَلَيْهِ أَوْ أَمْرًا لَازِمًا لَدَيْهِ (" أَنْ يَرْزُقَهُ رِزْقَ سَنَةٍ مِنْ حَلَالٍ ") . وَالْمُرَادُ بِالْجُوعِ جُوعٌ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الصَّبْرُ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْكِتْمَانُ، وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ الشَّخْصَ إِذَا مَاتَ جُوعًا وَلَمْ يَسْأَلْ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَوْ مِنَ الْمَيْتَةِ يَمُوتُ عَاصِيًا. (رَوَاهُ) أَيَ: الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .

5265 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ الْمُتَعَفِّفَ أَبَا الْعِيَالِ» ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5265 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ الْمُتَعَفِّفَ أَبَا الْعِيَالِ» ") . الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ الْعِيَالِ وَفَقِيرَ الْحَالِ وَكَسِيرَ الْبَالِ تَعَفَّفَ عَنِ السُّؤَالِ، فَهُوَ الْمُؤْمِنُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلِذَا أَحَبَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

5266 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: اسْتَسْقَى يَوْمًا عُمَرُ، فَجِيءَ بِمَاءٍ قَدْ شِيبَ بِعَسَلٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ لِطَيِّبٌ، أَسْمَعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَعَى عَلَى قَوْمٍ شَهَوَاتِهِمْ فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] فَأَخَافُ أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، فَلَمْ يَشْرَبْهُ. رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5266 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا أُسَامَةَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، مَدَنِيٌّ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. (قَالَ: اسْتَسْقَى) أَيْ: طَلَبَ الْمَاءَ (يَوْمًا عُمَرُ، فَجِيءَ بِمَاءٍ قَدْ شِيبَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: خُلِطَ (بِعَسَلٍ، قَالَ: إِنَّهُ) أَيْ: مَاءُ الْعَسَلِ (لَطَيِّبٌ) ، أَيْ: طَعْمًا وَشَرْعًا وَرَفْعًا وَنَفْعًا (لَكِنَّنِي أَسْمَعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مُسْتَدْرَكٌ عَنْ مُقَدَّرٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَطَيِّبٌ أَشْتَهِيهِ لَكِنِّي أُعْرِضُ عَنْهُ، لِأَنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ (نَعَى) أَيْ: عَابَ (عَلَى قَوْمٍ شَهَوَاتِهِمْ) أَيِ: اسْتِيفَاءَهَا (فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ: بِهَمْزَةِ إِنْكَارٍ مُقَدَّرَةٍ وَهِيَ فِي قِرَاءَةٍ مَوْجُودَةٌ طَيِّبَاتِكُمْ أَيْ: أَخَذْتُمْ لَذَّاتِكُمْ {فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] أَيْ: فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الدَّنِيَّةِ {وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] أَيْ: مُتَابَعَةً لِلشَّهَوَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَمَا تَرَكْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَخِيرَةٍ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، (فَأَخَافُ أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا) أَيْ: مَثُوبَاتُهَا (عُجِّلَتْ بِنَا) ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ ثَوَابُ حَسَنَاتِنَا الَّتِي نَعْمَلُهَا نَسْتَوْفِيهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] قُلْتُ: الْآيَتَانِ وَإِنْ كَانَتَا أُنْزِلَتَا فِي الْكُفَّارِ، لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، (فَلَمْ يَشْرَبْهُ) . أَيْ: لَمْ يَشْرَبْ عُمَرُ ذَلِكَ الْمَاءَ تَوَرُّعًا وَمُخَالَفَةً لِلنَّفْسِ وَالْهَوَى. (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

5267 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَا شَبِعْنَا مِنْ تَمْرٍ حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5267 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا شَبِعْنَا) أَيْ: أَهْلُ بَيْتِ عُمَرَ، أَوْ نَحْنُ مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

[باب الأمل والحرص]

[بَابُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5268 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَطَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، فَقَالَ: " هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجُ أَمَلِهِ، وَهَذِهِ الْخُطُوطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَسَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَسَهُ هَذَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [2] بَابُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصِ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَمَلُ الرَّجَاءُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْحِرْصُ فَرْطُ الشَّرَهِ فِي الْإِرَادَةِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل: 37] أَيْ: إِنْ تُفْرِطْ إِرَادَتُكَ فِي هِدَايَتِهِمْ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَسْوَأُ الْحِرْصِ أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبَكَ وَتَطْمَعَ فِي نَصِيبِ غَيْرِكَ انْتَهَى. وَالْمُرَادُ بِالْأَمَلِ هُنَا طُولُ الْأَمَلِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا غَافِلًا عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ، وَزَادَ الْعُقْبَى كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر: 3] وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَمَحْمُودٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَقَالَ: لَوْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» " وَكَذَلِكَ الْحِرْصُ فِي أَمْرِ جَمْعِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْجَاهِ وَالْإِقْبَالُ مَذْمُومٌ، وَإِلَّا فَالْحِرْصُ عَلَى الْقِتَالِ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الْعُلُومِ، وَتَكْثِيرِ الْأَعْمَالِ، فَمُسْتَحْسَنٌ بِلَا نِزَاعٍ، ثُمَّ تَحْقِيقُ الْأَمَلِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ أَكْثَرُ عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ إِرَادَةُ الْحَيَاةِ لِلْوَقْتِ الْمُتَرَاخِي بِالْحُكْمِ، وَقَصْرُ الْأَمَلِ تَرْكُ الْحُكْمِ

فِيهِ بِأَنْ يُقَيِّدَهُ بِالْإِسْنَادِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَعِلْمِهِ فِي الذِّكْرِ، أَوْ بِشَرْطِ الصَّلَاحِ فِي الْإِرَادَةِ فَإِذَنْ إِنْ ذَكَرْتَ حَيَاتَكَ بِأَنْ أَعِيشَ بَعْدَ نَفَسٍ ثَانٍ، أَوْ سَاعَةٍ ثَانِيَةٍ أَوْ يَوْمٍ ثَانٍ بِالْحُكْمِ وَالْقَطْعِ فَأَنْتَ آمِلٌ، وَذَلِكَ مِنْكَ مَعْصِيَةٌ إِذْ هُوَ حُكْمٌ عَلَى الْغَيْبِ، وَإِنْ قَيَّدْتَهُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْعِلْمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ خَرَجْتَ عَنْ حُكْمِ الْأَمَلِ فَتَأَمَّلْ، وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعُنْوَانِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي الْإِمْكَانِ، وَقُدِّمَ الْأَمَلُ لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ عَلَى تَأْخِيرِ الْعَمَلِ وَالْحِرْصِ عَلَى الزَّلَلِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5268 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ (قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًّا مُرَبَّعًا) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ بِيَدِهِ الْمُبَارَكَةِ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِالْخَطِّ الرَّسْمُ وَالشَّكْلُ (وَخَطَّ) أَيْ: خَطًّا كَمَا فِي نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ، وَالْمَعْنَى وَخَطَّ (خَطًّا) : آخَرَ (فِي الْوَسَطِ) أَيْ: وَسَطِ التَّرْبِيعِ (خَارِجًا مِنْهُ) أَيْ: حَالَ كَوْنِ الْخَطِّ خَارِجًا مِنْ أَحَدْ طَرَفَيِ الْمُرَبَّعِ (وَخَطَّ خُطُطًا) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْأُولَى لِلْأَكْثَرِ وَجُوِّزَ فَتْحُ الطَّاءِ أَيْ: خُطُوطًا (صِغَارًا) : جَمْعُ صَغِيرَةٍ (إِلَى هَذَا) أَيْ: مُتَوَجِّهَةً وَمَائِلَةً وَمُنْتَهِيَةً إِلَى هَذَا الْخَطِّ (الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ) أَيْ: مِنْ جَانِبَيْهِ اللَّذَيْنِ فِي الْوَسَطِ، فَالْمُرَادُ بِالْمُفْرَدِ الْجِنْسُ (فَقَالَ: " هَذَا الْإِنْسَانُ ") أَيِ: الْخَطُّ الْوَسَطُ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا مَرْكَزُ الدَّائِرَةِ الْمُرَبَّعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ لَهُ صُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي الْخَطِّ الظَّاهِرِيِّ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَذَا مَجْمُوعُ التَّصْوِيرِ. الْمَعْلُومُ خَطًّا الْمَفْهُومُ ذِهْنًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمَلِ الْعَوَارِضِ الْمُنْتَهِيَةِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهَذَا، فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ هَذَا الْخَطَّ الْمُصَوَّرَ مَجْمُوعَةً هُوَ الْإِنْسَانُ، (" وَهَذَا ") أَيِ: الْخَطُّ الْمُرَبَّعُ (" أَجَلُهُ ") أَيْ: مُدَّةُ أَجَلِهِ وَمُدَّةُ عُمُرِهِ (" مُحِيطٌ بِهِ ") ، أَيْ: مِنْ كُلِّ جَوَانِبِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ وَالْفِرَارُ مِنْهُ، (" وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ ") أَيْ: مِنَ الْمُرَبَّعِ (" أَمَلُهُ ") أَيْ: مَرْجُوُّهُ وَمَأْمُورٌ لَهُ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ يُدْرِكُهُ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ لِأَنَّ أَمَلَهُ طَوِيلٌ لَا يَفْرَغُ مِنْهُ وَأَجَلُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُ، (" وَهَذِهِ الْخُطُطُ ") أَيِ: الْخُطُوطُ (" الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ ") ، أَيِ الْآفَاتُ وَالْعَاهَاتُ وَالْبَلِيَّاتُ مِنَ الْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ جَمْعُ عَرَضٍ بِالتَّحْرِيكِ (فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا) أَيْ: أَحَدُ الْأَعْرَاضِ (" نَهَسَهُ ") : بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَقِيلَ: بِمُعْجَمَةٍ أَيْ: أَصَابَهُ وَعَضَّهُ (" هَذَا ") أَيْ: عَرَضٌ آخَرُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْإِصَابَةِ بِالْفَقْرِ وَهُوَ لَدْغُ ذَاتِ السُّمِّ مُبَالَغَةً فِي الْمَضَرَّةِ (" وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا ") أَيْ: عَرَضٌ آخَرُ (" نَهَسَهُ هَذَا ") أَيْ: عَرَضٌ آخَرُ وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَعَدَمِ انْتِهَاءِ الْأَمَلِ، وَصُورَةُ الْخَطِّ هَذِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْمُعْتَدَّةُ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا الْإِنْسَانُ إِلَى النُّقْطَةِ الدَّاخِلَةِ، وَبِقَوْلِهِ: وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ إِلَى الْمُرَبَّعِ، وَبِقَوْلِهِ: وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجُ أَمَلِهِ إِلَى الْخَطِّ الْمُسْتَطِيلِ الْمُنْفَرِدِ، وَبِقَوْلِهِ: وَهَذِهِ إِلَى الْخُطُوطِ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ انْحِصَارُهَا فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ أَنَسٍ بَعْدَهُ إِذْ جَاءَهُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْخَطِّ الْمُحِيطِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَارِجِ عَنْهُ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ عَدَدُ الْخُطُوطِ سَبْعًا لِإِتْيَانِ هَذَا الْعَدَدِ كَثِيرًا عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَلِأَنَّهُ عُشْرُ الْعَدَدِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْكَثْرَةِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْأَطْوَارِ السَّبْعَةِ فِي مَرَاتِبِ الْإِيقَانِ، وَمُرُورِ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ عَلَى دَوَرَانِ الْأَفْلَاكِ السَّبْعَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَرَاضِي السَّبْعَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا أَشَارَ الشَّيْخُ بِهِ إِلَى النُّقْطَةِ الدَّاخِلَةِ فَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ التَّصْوِيرِ النَّبَوِيِّ، وَلِذَا مَا صَوَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَّاحِ كَالطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ رَأَيْتَ صُورَةً أُخْرَى غَيْرَ الصُّورَةِ الْمَسْطُورَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ هَذِهِ: فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ هِيَ الْمُطَابِقَةُ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَالْأَظْهَرُ فِي التَّصْوِيرِ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5269 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَطَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطُوطًا فَقَالَ: " هَذَا الْأَمَلُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5269 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطُوطًا) أَيْ: مُخْتَلِفَةٌ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُصَوَّرَةِ السَّابِقَةِ (فَقَالَ: " هَذَا ") أَيْ: أَحَدُ الْخُطُوطِ، وَهُوَ الْخَطُّ الْخَارِجُ مِنْ دَائِرَةِ التَّرْبِيعِ (الْأَمَلُ) أَيْ: أَمَلُ الْإِنْسَانِ (وَهَذَا) أَيِ: الْخَطُّ الْمُرَبَّعُ الْمُحِيطُ بِهِ (" أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ ") أَيْ: بَيْنَ أَوْقَاتٍ هُوَ أَيْ: أَمْرُهُ دَائِرٌ كَمَا صَوَّرَ فِي الدَّائِرَةِ بَيْنَ طَلَبِهِ الْأَمَلَ وَطَلَبِ الْأَجَلِ إِيَّاهُ (" إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ ") . وَهُوَ الْأَجَلُ الْمُحِيطُ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَخْطَأَهُ الْخَطُّ الْأَبْعَدُ الْخَارِجُ مِنْ دَائِرَةِ الْإِحَاطَةِ وَهُوَ خَطُّهُ مِنْ قُصُورِ الْأَمَلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ أَيْ: هُوَ طَالِبٌ لِأَمَلِهِ الْبَعِيدِ فَتُدْرِكُهُ الْآفَاتُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، فَتُؤَدِّيهِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُحِيطِ بِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَرَزَ عَمُودًا بَيْنَ يَدَيْهِ. . . الْحَدِيثَ. قُلْتُ: حُمِلَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ: خَطَّ خُطُوطًا عَلَى الْغَرْزِ خَطًّا ظَاهِرًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ أَنْ يَكُونَ الْخَطُّ خَطًّا ظَاهِرًا. (الْبُخَارِيُّ) .

5270 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مِنْهُ اثْنَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5270 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَهْرَمُ ") : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: يَشِيبُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْنَى يَضْعُفُ (" ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ ") : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَنْمُو وَيَقْوَى (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَخْلَاقِهِ (" اثْنَانِ ") : فَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ: أَنَّ الْهَرَمَ كِبَرُ السِّنِّ مِنْ بَابِ عَلِمَ، وَشَبَّ شَبَابًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ (" الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ ") أَيْ: عَلَى جَمْعِهِ وَمَنْعِهِ (" وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ ") . أَيْ: بِتَطْوِيلِ أَمَلِهِ وَتَسْوِيفِ عِلْمِهِ وَتَبْعِيدِ أَجَلِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلُهُ: يَشِبُّ اسْتِعَارَةٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَلْبَ الشَّيْخِ كَامِلُ الْحُبِّ يَحْتَكِمُ احْتِكَامًا مِثْلَ احْتِكَامِ قُوَّةِ الشَّابِّ فِي شَبَابِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُطَابَقَةِ لِقَوْلِهِ: يَهْرَمُ أَيْ: بِمَعْنَى يَشِيبُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ: هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: يَكْبُرُ ابْنُ آدَمَ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى رِوَايَتِهِمَا فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ الْمَبْنَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَإِلَّا فَلَفْظُ الْجَامِعِ أَيْضًا: " «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مِنْهُ اثْنَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ " يَكْبُرُ " رِوَايَةٌ لِلْبُخَارِيِّ، وَأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ رِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةً كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّخَاوِيِّ فِي الْمَقَاصِدِ حَدِيثُ: " «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى فِيهِ اثْنَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظِ: يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِيبُ فِيهِ.

5271 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5271 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا ") أَيْ: قَوِيًّا نَشْطَانًا (" فِي اثْنَيْنِ ") أَيْ: فِي أَمْرَيْنِ (" فِي حُبِّ الدُّنْيَا ") : وَيَلْزَمُ مِنْهُ كَرَاهَةُ الْأَجَلِ (" وَطُولِ الْأَمَلِ ") . وَهُوَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْعَمَلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5272 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5272 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْذَرَ اللَّهُ ") : قِيلَ: الْهَمْزَةُ لِلسَّلْبِ أَيْ: أَزَالَ اللَّهُ الْعُذْرَ مَنْهِيًّا (" إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ ") أَيْ: مُنْتَهَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: عُمُرَهُ (" حَتَّى بَلَّغَهُ ") : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: أَوْصَلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى بَلَغَ (" سِتِّينَ سَنَةٍ ") أَيْ: وَلَمْ يَتُبْ عَنْ ذُنُوبِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِإِصْلَاحِ عُيُوبِهِ وَلَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ شَرَّهُ، فَيَكُونُ مِمَّنْ لَمْ يُبْقِ اللَّهُ لَهُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ، وَفِيمَا ضَيَّعَ عُمْرَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ وَلَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ شَرَّهُ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ أَفْضَى بِعُذْرِهِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ، يُقَالُ: أَعْذَرَ الرَّجُلُ إِلَى فُلَانٍ أَيْ: بَلَغَ بِهِ أَقْصَى الْعُذْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ أَيْ: أَتَى بِالْعُذْرِ أَوْ أَظْهَرَهُ، وَهَذَا مَجَازٌ مِنَ الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْعُذْرَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى اللَّهِ، وَبِمَا يَتَوَجَّهُ لَهُ عَلَى الْعَبِيدِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ لَهُ سَبَبًا فِي الِاعْتِذَارِ يَتَمَسَّكُ بِهِ انْتَهَى. فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَزَالَ أَعْذَارَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَأَنَّهُ أَقَامَ عُذْرَهُ فِيمَا يَفْعَلُ بِهِ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْكُلِّيَّةِ. وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ أَيْ: لَمْ يُبْقِ فِيهِ مَوْضِعًا لِلِاعْتِذَارِ حَيْثُ أَمْهَلَهُ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَالرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي الْأَمْثَالِ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا بَلَغَ الْعَبْدُ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمْرِ» " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ

فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ: سِتِّينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ سِتُّونَ سَنَةً، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الشَّيْبُ.

5273 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5273 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ ") أَيْ: فَرْضًا وَتَقْدِيرًا (" وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ ذَهَبٍ (" لَابْتَغَى ") أَيْ: لَطَلَبَ (ثَالِثًا) ، أَيْ: وَادِيًا آخَرَ أَعْظَمَ مِنْهُمَا ذُخْرًا وَهَلُمَّ جَرًّا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (" وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ ") أَيْ: بَطْنَهُ أَوْ وَسَطَ عَيْنِهِ (" إِلَّا التُّرَابُ ") ، أَيْ: تُرَابُ الْفَقْرِ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْبُخْلَ الْمُوَرِّثَ لِلْحِرْصِ مَرْكُوزٌ فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْمَقَالِ: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حِرْصَ ابْنِ آدَمَ وَخَوْفَهُ مِنَ الْفَقْرِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى الْبُخْلِ حَتَّى عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنَ الطَّيْرِ الَّذِي يَمُوتُ عَطَشًا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ خَوْفًا مِنْ نَفَادِهِ، وَمِنَ الدُّودَةِ الَّتِي قُوتُهَا التُّرَابُ وَتَمُوتُ جُوعًا خَشْيَةً مِنْ فَرَاغِهِ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي جَنْبِ خَزَائِنِ رَحْمَةِ رَبِّ الْأَرْبَابِ كَقَطْرَةٍ مِنَ السَّحَابِ. (" وَيَتُوبُ اللَّهُ ") أَيْ: يَرْجِعُ بِالرَّحْمَةِ (" عَلَى مَنْ تَابَ ") . أَيْ: رَجَعَ إِلَيْهِ بِطَلَبِ الْعِصْمَةِ أَوْ يَتَفَضَّلُ اللَّهُ بِتَوْفِيقِ التَّوْبَةِ وَتَحْقِيقِ اسْتِعَاذَةِ الْعُقْبَى عَلَى مَنْ تَابَ أَيْ: مِنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا وَالْغَفْلَةِ عَنْ حَضْرَةِ الْمَوْلَى. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا حَتَّى يَمُوتَ وَيَمْتَلِئَ جَوْفُهُ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ خَرَجَ عَلَى حُكْمِ غَالِبِ بَنِي آدَمَ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ الْحِرْصِ الْمَذْمُومِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَذْمُومَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ إِنَّ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى حُبِّ الْمَالِ وَالسَّعْيِ فِي طَلَبِهِ، وَأَنْ لَا يَشْبَعَ مِنْهُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَفَّقَهُ لِإِزَالَةِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَوُضِعَ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ مَوْضِعَهُ إِشْعَارًا بِأَنَّ هَذِهِ الْجِبِلَّةَ الْمَرْكُوزَةَ فِيهِ مَذْمُومَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى الذَّنْبِ، وَأَنَّ إِزَالَتَهَا مُمْكِنَةٌ، وَلَكِنْ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَتَسْدِيدِهِ وَنَحْوَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] أَضَافَ الشُّحَّ إِلَى النَّفْسِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا غَزِيرَةٌ فِيهَا وَبَيَّنَ إِزَالَتَهُ لِقَوْلِهِ: يُوقَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، وَهَهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ ابْنَ آدَمَ تَلْوِيحًا إِلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، وَمِنْ طَبِيعَتِهِ الْقَبْضُ وَالْيُبْسُ، فَيُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِأَنْ يُمْطِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ السَّحَائِبَ مِنْ عَمَائِمِ تَوْفِيقِهِ، فَيُثْمِرَ حِينَئِذٍ الْخِصَالَ الذَّكِيَّةَ وَالشَّمَائِلَ الرَّضِيَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58] فَمَنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ التَّوْفِيقُ وَتَرْكُهُ وَحِرْصُهُ لَمْ يَزْدَدْ إِلَّا حِرْصًا وَتَهَالُكًا عَلَى جَمْعِ الْمَالِ، وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ مَوْقِعُ رُكُوزِ الْجِبِلَّةِ وَنِيطَ لَهُ حُكْمٌ أَشْمَلُ وَأَعَمُّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يَشْبَعُ مَنْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ إِلَّا بِالتُّرَابِ، وَمَوْقِعُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ مَوْقِعُ الرُّجُوعِ يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ الْعَسِيرَ صَعْبٌ، وَلَكِنْ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَحَقِيقٌ أَنْ لَا يَكُونُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ خَالِقِ الْقُوَى وَالْقَدَرِ. رَوَيْنَا عَنِ التِّرْمِذِيَّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] وَقَرَأَ فِيهَا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ الْمُسْلِمِيَّةُ لَا الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْمَجُوسِيَّةُ، وَمَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أَنَّ لَهُ ثَانِيًا لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . انْتَهَى (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)

قَالَ مِيرَكُ نَاقِلًا عَنِ التَّصْحِيحِ حَدِيثَ: " لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ " إِلَى آخِرِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَبِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا كَانَ قُرْآنًا فَنُسِخَ خَطُّهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ: فَلَا نَدْرِي أَشَيْءٌ أُنْزِلَ أَمْ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ؟ وَلْأَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ انْتَهَى. فِي الْجَامِعِ " «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أَنَّ لَهُ وَادِيَانِ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْبَزَّارُ عَنْ بُرَيْدَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ: " «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ نَخْلٍ لَتَمَنَّى مِثْلَهُ ثُمَّ تَمَنَّى مِثْلَهُ حَتَّى يَتَمَنَّى أَوْدِيَةً، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ» ".

5274 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ: " كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5274 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِ جَسَدِي) أَيْ: بِمَنْكِبِي كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَنُكْتَةُ الْأَخْذِ تَقْرِيبُهُ إِلَيْهِ وَتَوَجُّهُهُ عَلَيْهِ، لِيَتَمَكَّنَ فِي ذِهْنِهِ مَا يُلْقَى لَدَيْهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الرَّضِيَّةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بِالْجَدْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ (قَالَ: " كُنْ ") أَيْ: عِشْ وَحِيدًا وَعَنِ الْخَلْقِ بَعِيدًا (" فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ مُؤَانَسَتِكَ بِهِمْ وَقِلَّةِ مُجَالَسَتِكَ مَعَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: لَا تَرْكَنْ إِلَيْهَا وَلَا تَتَّخِذْهَا وَطَنًا وَلَا تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إِلَّا بِمَا يَتَعَلَّقُ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ انْتَهَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ مُرُورٍ وَجِسْرُ عُبُورٍ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَنْ يَنْتَظِرَ الْمُسَافَرَةَ عَنْهَا سَاعَةً فَسَاعَةً مُتَهَيِّئًا لِأَسْبَابِ الِارْتِحَالِ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالِاسْتِحْلَالِ، مُشْتَاقًا إِلَى الْوَطَنِ الْحَقِيقِيِّ، قَانِعًا فِي سَفَرِهِ بِبُلْغَةٍ وَسُتْرَةٍ، مُسْتَقْبِلًا لِلْبَلِيَّاتِ الْكَثِيرَةِ فِي سَفَرِهِ، غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِمَا لَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأَمَلِ الطَّوِيلِ وَالْحِرْصِ الْكَثِيرِ (" أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ") أَيْ: مُسَافِرٌ لِطَرِيقِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ لِلتَّرَقِّي، وَالْمَعْنَى بَلْ كُنْ كَأَنَّكَ مَارٌّ عَلَى طَرِيقٍ قَاطِعٌ لَهَا بِالسَّيْرِ وَلَوْ بِلَا رَفِيقٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْغُرْبَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْكُنُ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ، وَيُقِيمُ فِي مَنْزِلٍ مُدَّةَ زَمَنِهِ، فَلِلَّهِ دُرُّ طَائِفَةٍ رَفَضُوا الدُّنْيَا وَتَوَجَّهُوا إِلَى الْعُقْبَى شَوْقًا إِلَى لِقَاءِ الْمَوْلَى، وَاعْتَزَلُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّ الِاسْتِئْنَاسَ بِالنَّاسِ عَلَامَةُ الْإِفْلَاسِ، وَتَجَرَّدُوا عَمَّا عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَثْقَالِ وَالْإِلْبَاسِ، بَلْ صَارُوا حُفَاةً عُرَاةً حَاسِرِي الرَّأْسِ وَهُمُ الْعُقَلَاءُ الْأَكْيَاسُ الْخَارِجُ فَضْلُهُمْ عَنْ حَدِّ الْحُدُودِ وَمِقْيَاسِ الْقِيَاسِ: إِنْ لِلَّهِ عِبَادًا فُطُنَا ... طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَرَفُوا ... أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا ... صَالِحَ الْأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا (" وَعُدَّ نَفْسَكَ ") : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: اجْعَلْهَا مَعْدُودَةً (" فِي أَهْلِ الْقُبُورِ ") أَوْ عُدَّهَا كَائِنَةً أَوْ سَاكِنَةً فِيهِمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ: " مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ " أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَوَاحِدَةٌ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قِيلَ: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ هُوَ لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَلَفَظُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِمَنْكِبَيَّ فَقَالَ " كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» " وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ: " «وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ» " بَلْ هُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. أَقُولُ: وَفِي الْجَامِعِ: " «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. زَادَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: " «وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» " وَزَادَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. وَزَادَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ قَوْلَهُ: «فَإِنَّكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَدًا» ، وَجَعَلَ صَدْرَ الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا بِأَنْ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: " إِذَا أَصْبَحْتَ " إِلَى آخِرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5275 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «مَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا وَأُمِّي نُطَيِّنُ شَيْئًا، فَقَالَ: " مَا هَذَا يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ " قُلْتُ: شَيْءٌ نُصْلِحُهُ. قَالَ: " الْأَمْرُ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5275 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: مَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا وَأُمِّي نُطَيِّنُ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: نُصْلِحُ (شَيْئًا) أَيْ: مَكَانًا أَوْ جُزْءًا (مِنَ الْبَيْتِ فَقَالَ: " مَا هَذَا ") أَيِ: اسْتِعْمَالُ الطِّينِ (" يَا عَبْدَ اللَّهِ ") أَيْ: لَا عَبْدَ الْهَوَى (قُلْتُ: شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْبَيْتِ (نُصْلِحُهُ) أَيْ: خَوْفًا مِنْ فَسَادِهِ، أَوْ زِيَادَةً عَلَى اسْتِحْكَامِهِ وَاسْتِبْدَادِهِ (قَالَ: " الْأَمْرُ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ ") أَيِ: الْأَمْرُ الَّذِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعَمِّرَهُ، وَعَلَى تَعْمِيرِ بِنَاءِ الْقُدَمَاءِ نَعْتَبِرُهُ أَعْجَلَ مِمَّا ذَكَرْتَهُ مِنْ أَنْ تُصْلِحَهُ وَتُعَمِّرَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِمَارَتَهُ لَمْ تَكُنْ ضَرُورِيَّةً، بَلْ كَانَتْ نَاشِئَةً عَنْ أَمَلٍ فِي تَقْوِيمِهِ، أَوْ صَادِرَةً عَنْ مَيْلٍ إِلَى زِينَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: كَوْنُنَا فِي الدُّنْيَا كَعَابِرِ سَبِيلٍ، أَوْ رَاكِبٍ مُسْتَظِلٍّ تَحْتَ شَجَرَةٍ أَسْرِعُ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنِ اشْتِغَالِكَ بِالْبِنَاءِ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيِ: الْأَجَلُ أَقْرَبُ مِنْ تَخَرُّبِ هَذَا الْبَيْتِ أَيْ: تُصْلِحُ بَيْتَكَ خَشْيَةَ أَنْ يُهْدَمَ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ، وَرُبَّمَا تَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يُهْدَمَ فَإِصْلَاحُ عَمَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِصْلَاحِ بَيْتِكَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ أَجِدْهُ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَلَكِنْ أَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُعَالِجُ خِصَالَنَا قَالَ: " مَا هَذَا "؟ فَقُلْنَا: قَدْ وَهِيَ فَنَحْنُ نُصْلِحُ، فَقَالَ: " مَا أَرَى الْأَمْرَ إِلَّا أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ " وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ.

5276 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُهَرِيقُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ بِالتُّرَابِ، فَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْمَاءَ مِنْكَ قَرِيبٌ، يَقُولُ: " مَا يُدْرِينِي لَعَلِّي لَا أَبْلُغُهُ» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ (الْوَفَاءِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5276 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُهَرِيقُ الْمَاءَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسْكَنُ أَيْ: يَصُبُّ، وَالْمَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَوْلِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَبُولُ أَحْيَانًا (فَيَتَيَمَّمُ بِالتُّرَابِ) أَيْ: أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَى الْجِدَارِ حَالَ التَّيَمُّمِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ الْغُبَارِ، (فَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْمَاءَ مِنْكَ قَرِيبٌ) ، أَيْ: فَالتَّيَمُّمُ حِينَئِذٍ غَرِيبٌ (يَقُولُ) : اسْتِئْنَافٌ (" مَا يُدْرِينِي ") : مَا لِلِاسْتِفْهَامِ (" لَعَلِّي ") : لِلْإِشْفَاقِ أَيْ: أَخَافُ (" لَا أَبْلُغُهُ ") أَيْ: لَا أَصِلُ الْمَاءَ لِمُسَارَعَةِ أَجَلِي مُبَادِرًا فَأُحِبُّ أَنْ أَكُونَ حِينَئِذٍ طَاهِرًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ الْأَشْرَفِ، وَمَا أَقْرَبَهُ إِلَى الْوَجْهِ الْأَضْعَفِ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُنَاسِبٍ بَابًا وَمَبْنًى حَيْثُ قَالَ أَيْ: يُسْتَعْمَلُ الْمَاءُ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ تَيَمَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) أَيِ الْبَغَوِيُّ (" فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " كِتَابِ الْوَفَاءِ ") : اسْمُ كِتَابٍ لَهُ أَظُنُّهُ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

5277 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ " وَوَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ قَفَاهُ، ثُمَّ بَسَطَ، فَقَالَ: " وَثَمَّ أَمَلُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5277 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هَذَا ابْنُ آدَمَ ") : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ حِسِّيَّةٌ إِلَى صُورَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" وَهَذَا أَجَلُهُ ") : وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى قُدَّامِهِ فِي مِسَاحَةِ الْأَرْضِ أَوْ فِي مِسَاحَةِ الْهَوَاءِ بِالطُّولِ أَوِ الْعَرْضِ، وَقَالَ: هَذَا ابْنُ آدَمَ، ثُمَّ أَخَّرَهَا وَأَوْقَفَهَا قَرِيبًا مِمَّا قَبْلَهُ وَقَالَ: هَذَا أَجَلُهُ. (وَوَضَعَ يَدَهُ) أَيْ: عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِقَوْلِ: هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ (عِنْدَ قَفَاهُ) أَيْ: فِي عَقِبِ الْمَكَانِ الَّذِي أَشَارَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ (ثُمَّ بَسَطَ) ، أَيْ: نَشَرَ يَدَهُ عَلَى هَيْئَةِ فَتْحٍ لِيُشِيرَ بِكَفِّهِ وَأَصَابِعِهِ، أَوْ مَعْنَى بَسَطَ وَسَّعَ فِي الْمَسَافَةِ مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي أَشَارَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ (فَقَالَ: " وَثَمَّ ") : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: هُنَالِكَ وَأَشَارَ إِلَى بُعْدِ مَكَانِ ذَلِكَ (" أَمَلُهُ ") . أَيْ: مَأْمُولُهُ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ظَرْفٌ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاخْتِصَاصِ وَالِاهْتِمَامِ، وَخُلَاصَةُ الْعِبَارَاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ الْمُؤَيَّدَةَ بِالْبِشَارَاتِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، الْمُطَابِقَةِ لِمَا سَبَقَ مِنَ التَّصَوُّرَاتِ الصُّورِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْإِشَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْمُنَبِّهَةِ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّ أَجَلَ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ أَمَلِهِ، وَأَنَّ أَمَلَهُ أَطْوَلُ مِنْ أَجَلِهِ كَمَا قَالَ لِلَّهِ دَرُّ قَوْلِهِ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ تَوْضِيحِ الْمَرَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، مُمْتَازًا عَنْ سَائِرِ الشُّرَّاحِ الْفِخَامِ: قَوْلُهُ: وَوَضَعَ يَدَهُ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهَذَا أَجَلُهُ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ أَيْضًا مُرَكَّبٌ، فَوَضْعُ الْيَدِ عَلَى قَفَاهُ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ الَّذِي يَتْبَعُهُ أَجَلُهُ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَبَسْطُ الْيَدِ عِبَارَةٌ عَنْ مَدِّهَا إِلَى قُدَّامَ انْتَهَى الْكَلَامُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5278 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَرَزَ عُودًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَآخَرَ إِلَى جَنْبِهِ، وَآخَرَ أَبْعَدَ مِنْهُ. فَقَالَ: " أَتُدْرُونَ مَا هَذَا؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْأَجَلُ " أُرَاهُ قَالَ: " وَهَذَا الْأَمَلُ، فَيَتَعَاطَى الْأَمَلَ فَلَحِقَهُ الْأَجَلُ دُونَ الْأَمَلِ» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5278 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَزَ) أَيْ: أَدْخَلَ فِي الْأَرْضِ (عُودًا) أَيْ: خَشِنًا طَوِيلًا (بَيْنَ يَدَيْهِ، وَآخَرَ إِلَى جَنْبِهِ) أَيْ: وَغَرَزَ عُودًا آخَرَ إِلَى جَنْبِ الْعُودِ الْأَوَّلِ (وَآخَرَ أَبْعَدَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الثَّانِي أَوْ مِنْهُمَا (فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ") ؟ أَيْ مَجْمُوعُ مَا فَعَلْتُ، وَالْمَعْنَى أَتَعْلَمُونَ مَا الْمُرَادُ بِهَذَا الْغَرْزِ وَالتَّقْرِيرِ، وَمَا الْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّصْوِيرِ؟ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) أَيْ: بِمَا فِي الضَّمِيرِ (قَالَ: " هَذَا الْإِنْسَانُ ") أَيِ: الْعُودُ الْأَوَّلُ مِثَالُهُ (" وَهَذَا الْأَجَلُ ") أَيْ: وَهَذَا الْعُودُ الثَّانِي الْمُتَّصِلُ إِلَى جَنْبِهِ أَجَلُهُ أَيِ: انْتِهَاءُ عُمُرِهِ وَانْقِطَاعُ عَمَلِهِ (أُرَاهُ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ أَيْ: قَالَ الرَّاوِي: أَظُنُّ (قَالَ: " وَهَذَا الْأَمَلُ ") أَيْ: هَذَا الْعُودُ الْأَبْعَدُ هُوَ طُولُ أَمَلِهِ وَمَآلُ آمَالِهِ، (" فَيَتَعَاطَى ") أَيْ: يَتَنَاوَلُ الْإِنْسَانُ (" الْأَمَلَ ") : بِأَنْ يُبَاشِرَهُ وَيَسْتَعْمِلَهُ، وَيَشْتَغِلَ بِمَا يَأْمُلُهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يُحَصِّلَهُ (" فَلَحِقَهُ الْأَجَلُ ") أَيْ: فَيَلْحَقُهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَهُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُضَارِعِ بِالْمَاضِي مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِ حَالِ وُقُوعِهِ (" دُونَ الْأَمَلِ ") أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ أَمَلُهُ وَيَكْمُلَ عَمَلُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: دُونَ الْأَمَلِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ أَيْ: لَحِقَهُ وَهُوَ مُتَجَاوِزٌ عَمَّا قَصَدَهُ مِنَ الْأَمَلِ قَالَ أُمَيَّةُ: يَا نَفْسُ مَا لَكِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَاقِي (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ ") .

5279 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " عُمُرُ أُمَّتِي مِنْ سِتِّينَ سَنَةً إِلَى سَبْعِينَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5279 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " عُمُرُ أُمَّتِي ") أَيْ: غَالِبًا (" مِنْ سِتِّينَ سَنَةً إِلَى سَبْعِينَ ") . قِيلَ: مَعْنَاهُ آخِرُ عُمُرِ أُمَّتِي ابْتِدَاؤُهُ إِذَا بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَانْتِهَاؤُهُ سَبْعُونَ سَنَةً. وَقَلَّ مَنْ يَجُوزُ سَبْعِينَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ بِدَلِيلِ شَهَادَةِ الْحَالِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ سِتِّينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُ سَبْعِينَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِيهِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْغَلَبَةِ فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ عَلَى سَبْعِينَ وَاضِحٌ جِدًّا، وَأَمَّا كَوْنُ الْغَالِبِ فِي آخِرِ عُمُرِ الْأُمَّةِ بُلُوغَ سِتِّينَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْغَرَابَةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُشَاهَدَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ عُمُرَ الْأُمَّةِ مِنْ سِنِّ الْمَحْمُودِ الْوَسَطِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ غَالِبُ الْأُمَّةِ مَا بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مِنْهُمْ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَكَابِرُ الْخُلَفَاءِ كَالصَّدِيقِ وَالْفَارُوقِ وَالْمُرْتَضَى، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِمَّا يَصْعُبُ فِيهِ الِاسْتِقْصَاءُ وَيَعْسُرُ الِاسْتِحْصَاءُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5280 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِتِّينَ إِلَى السَبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَذُكِرَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ فِي (بَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5280 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِتِّينَ إِلَى السَبْعِينَ» ") ، أَيْ: نِهَايَةُ إِكْثَارِ أَعْمَارِ أُمَّتِي غَالِبًا مَا بَيْنَهُمَا (" وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ ") . أَيِ: السَبْعِينَ، فَيَصِلُ إِلَى الْمِائَةِ وَمَا فَوْقَهَا، وَأَكْثَرُ مَا اطَّلَعْنَاهُ عَلَى طُولِ الْعُمُرِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ فِي الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ سِنُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ مَاتَ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ مَاتَتْ وَلَهَا مِائَةُ سَنَةٍ، وَلَمْ يَقَعْ لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يُنْكَرْ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، وَأَزْيَدُ مِنْهُمَا عُمُرًا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، مَاتَ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، عَاشَ مِنْهَا سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَكْثَرُ مِنْهُ عُمُرًا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَقِيلَ: عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ مِنْ تَارِيخِ مَوْتِهِ يُفْهَمُ أَنَّهُ عَاشَ فِي الْإِسْلَامِ قَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدَائِنِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَقَدْ أَدْرَكْنَا سَيِّدَنَا السَّيِّدَ زَكَرِيَّا وَسَمِعْنَا مِنْهُ أَنَّ عُمُرَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَكَذَا أَبُو يَعْلَى فِي مَسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا: " «مُعْتَرَكُ الْمَنَايَا مَا بَيْنَ السِتِّينَ إِلَى السَبْعِينَ» " انْتَهَى. لَكِنْ فِي الْجَامِعِ أَسْنَدَهُ إِلَى الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَذُكِرَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) : بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْخَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَضُبِطَ فِيمَا سَبَقَ بِدُونِ لَامِ التَّعْرِيفِ. (فِي بَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ) أَيْ: فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّانِي، وَهُوَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ ابْنِ آدَمَ " أَيْ: صُوِّرَ وَإِلَى جَنْبِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مَنِّيَةً أَيْ: مُهْلِكَةً إِنْ أَخْطَأَتْهُ الْمَنَايَا وَقَعَ فِي الْهَرَمِ حَتَّى يَمُوتَ» انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مُنَاسَبَتَهُ هُنَا أَظْهَرُ مِنْ هُنَاكَ فَإِنْ حَمَلُوهُ إِلَيْهِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُسْقِطَ عَنْ تَكْرَارٍ فَقَدْ يَسْلَمُ لَدَيْهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5281 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَوَّلُ صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْيَقِينُ وَالزُّهْدُ، وَأَوَّلُ فَسَادِهَا الْبُخْلُ وَالْأَمَلُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5281 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَوَّلُ صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْيَقِينُ» ") أَيْ: فِي أَمْرِ الْعُقْبَى (" وَالزُّهْدِ ") أَيْ: فِي شَأْنِ الدُّنْيَا (" وَأَوَّلُ فَسَادِهَا الْبُخْلُ ") : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ هُنَا لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ: (" وَالْأَمَلُ ") . فَالْأَمَلُ إِنَّمَا هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ سُرْعَةِ الْقِيَامَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، وَالْبُخْلُ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: صَلَاحُ الدِّينِ الْوَرَعُ وَفَسَادُهُ الطَّمَعُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ أَنَّ الْيَقِينَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْمُتَكَفِّلُ لِلْأَرْزَاقِ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فَمَنْ تَيَقَّنَ هَذَا زَهِدَ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَأْمُلْ وَلَمْ يَبْخَلْ ; لِأَنَّ الْبَخِيلَ إِنَّمَا يُمْسِكُ الْمَالَ لِطُولِ الْأَمَلِ وَعَدَمِ الْيَقِينِ. رُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَلَوْتُ عَلَى أَعْرَابِيٍّ وَالذَّارِيَاتِ فَلَمَّا بَلَغْتُ قَوْلَهُ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] قَالَ: حَسْبُكَ، وَقَامَ إِلَى نَاقَتِهِ فَنَحَرَهَا وَوَزَّعَهَا عَلَى مَنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَعَمَدَ إِلَى سَيْفِهِ وَقَوْسِهِ فَكَسَرَهُمَا وَوَلَّى، فَلَقِيتُهُ فِي الطَّوَافِ قَدْ نَحَلَ جِسْمُهُ وَاصْفَرَّ لَوْنُهُ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَاسْتَقْرَأَ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ الْآيَةَ صَاحَ وَقَالَ: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، قَالَ: وَهَلْ غَيْرُ هَذَا؟ فَقَرَأْتُ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] فَصَاحَ وَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ! مَنْ ذَا الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى حَلَفَ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْيَمِينِ، قَالَهَا ثَلَاثًا وَخَرَجَتْ مَعَهَا نَفْسُهُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .

5282 - وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِلُبْسِ الْغَلِيظِ وَالْخَشِنِ، وَأَكْلِ الْجَشِبِ، إِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ. رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5282 - (وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ) أَيِ: الْكُوفِيِّ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَحُجَّةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ، جَمَعَ زَمَنَهُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ وَالْحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْعِفَّةِ، وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى دِينِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، وَثِقَتِهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَحَدُ أَقْطَابِ الْإِسْلَامِ وَأَرْكَانِ الدِّينِ، وُلِدَ فِي أَيَّامِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، سَمِعَ خَلْقًا كَثِيرًا. وَرَوَى عَنْ مَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمَالِكٍ وَشُعْبَةَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَخَلْقٍ كَثِيرٍ سِوَاهُمْ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِلُبْسِ الْغَلِيظِ) أَيْ: فِي الْغَزْلِ (وَالْخَشِنِ) ، بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: فِي النَّسْجِ (وَأَكْلِ الْجَشِبِ) ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: وَلَا بِأَكْلِ الْغَلِيظِ الْجَشِبِ مِنَ الطَّعَامِ، وَقِيلَ: غَيْرُ الْمَأْدُومِ (إِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ) . بِكَسْرِ قَافٍ فَفَتْحِ صَادٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيِ: اقْتِصَارُ الْأَمَلِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْأَجَلِ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الزُّهْدَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ مَا يَكُونُ فِي الْحَالِ الْقَلْبِيِّ مِنْ عُزُوفِ النَّفْسِ عَنِ الدُّنْيَا وَمَيْلِهَا إِلَى الْعُقْبَى، وَلَيْسَ الْمَدَارُ عَلَى الِانْتِفَاعِ الْقَالَبِيِّ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّقَشُّفُ فِي اللُّبْسِ وَالتَّقَلُّلِ فِي كَمِّيَّةِ الْأَكْلِ وَكَيْفِيَّتِهِ لَهُ تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ فِي اسْتِقَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ هُوَ الْمُهْلِكُ لِلْهَالِكِ لَا وُجُودَهَا عَلَى قَالَبِ السَّالِكِ، وَشَبَّهَ الْقَلْبَ بِالسَّفِينَةِ حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ الْمُشَبَّهَ بِالدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24] إِنْ دَخَلَ دَاخِلَ السَّفِينَةِ أَغْرَقَهَا مَعَ

أَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَ خَارِجَهَا وَحَوْلَهَا سَيَّرَهَا وَأَوْصَلَهَا إِلَى مَحَلِّهَا، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» " وَقَدِ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَأَكَابِرِ الْمَلَامِيَّةِ لُبْسَ الْعَوَامِّ، وَبَعْضُهُمْ لُبْسَ أَكَابِرِ الْفِخَامِ تَسَتُّرًا لِأَحْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمُ الْكِرَامِ، وَيَتَعَدَّى عَمَّا يُنَادَى: لُبْسُ الْمُرَقَّعِ مِنَ الشِّكَايَةِ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ، وَإِلَى السُّؤَالِ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَمِنَ الطَّمَعِ فِي غَيْرِ الْمَطْمَعِ، وَمِنَ الْمَظِنَّةِ فِي مَوْقِعِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: " «لَيْسَ الْبِرُّ فِي حُسْنِ اللِّبَاسِ وَالزِّيِّ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ» " هَذَا وَالطُّرُقُ إِلَى اللَّهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِ الْخَلَائِقِ، وَالْمَدَارُ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالْخَلَاصِ عَنِ الْعَلَائِقِ وَالْعَوَائِقِ. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

5283 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا وَسُئِلَ أَيُّ شَيْءٍ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: طِيبُ الْكَسْبِ وَقِصَرُ الْأَمَلِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5283 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُسَيْنِ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ رُوَاةِ مَالِكٍ، وَهُوَ وَشَيْخُهُ لَيْسَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا وَسُئِلَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ سُئِلَ (أَيُّ شَيْءٍ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: طِيبُ الْكَسْبِ) أَيِ: الْمَكْسُوبِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ بِأَنْ يَكُونَ حَلَالًا طَيِّبًا يُوَرِّثُ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى لِلرَّسُولِ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] (وَقِصَرُ الْأَمَلِ) أَيْ: بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ مَخَافَةَ إِتْيَانِ الْأَجَلِ الْمُزَهِّدِ فِي الدُّنْيَا الْمُرَغِّبِ فِي الْعُقْبَى. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ مَدْخَلٍ لِطِيبِ الْكَسْبِ فِي الزُّهْدِ؟ قُلْتُ: هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الزُّهْدَ فِي مُجَرَّدِ تَرْكِ الدُّنْيَا وَلُبْسِ الْخَشِنِ وَأَكْلِ الْجَشِبِ، أَيْ: لَيْسَ حَقِيقَةُ الزُّهْدِ مَا زَعَمْتَهُ، بَلْ حَقِيقَتُهُ أَنْ تَأْكُلَ الْحَلَالَ، وَتَلْبَسَ الْحَلَالَ، وَتَقْنَعَ بِالْكَفَافِ، وَتُقْصِرَ الْأَمَلَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا بِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ بِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ» " انْتَهَى. وَتَمَامُهُ، عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: «وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ مِنْكَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا أُلْقِيَتْ لَكَ» ". وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَوَاخِرِ الْبَابِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ قِيلَ لِلْإِمَامِ مُحَمَّدٍ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: لِمَا لَمْ تُصَنِّفْ فِي التَّصَوُّفِ؟ فَقَالَ: صَنَّفْتُهُ وَأَلَّفْتُهُ. فَقِيلَ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: كِتَابُ الْبَيْعِ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ صِحَّتَهُ وَفَسَادَهُ يَأْكُلْ حَرَامًا، وَمَنْ أَكَلَ حَرَامًا لَا يَصْلُحُ حَالُهُ أَبَدًا (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .

[باب استحباب المال والعمر للطاعة]

[بَابُ اسْتِحْبَابِ الْمَالِ وَالْعُمُرِ لِلطَّاعَةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5284 - عَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذُكِرَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَيْنِ " فِي (بَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ [3] اسْتِحْبَابُ الْمَالِ وَالْعُمُرِ لِلطَّاعَةِ أَيْ: جَوَازُ طَلَبِ حُبِّ الْمَالِ وَطُولِ الْعُمُرِ لِصَرْفِهَا فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5284 - (عَنْ سَعْدٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ» ") أَيْ: مَنْ يَتَّقِي الْمَنَاهِي أَوْ مَنْ لَا يَصْرِفُ مَالَهُ فِي الْمَلَاهِي، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَتَّقِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ وَيَتَوَرَّعُ عَنِ الْمُشْتَهَيَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ (" الْغَنِيَّ ") : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُرَادُ بِالْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَهَذَا هُوَ الْغِنَى الْمَحْبُوبُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» " وَأَشَارَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غِنَى الْمَالِ. قُلْتُ: وَهَذَا

هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعُنْوَانِ الْبَابِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي غِنَى النَّفْسِ، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْغِنَى وَالْفَرْدُ الْأَكْمَلُ فِي الْمَعْنَى، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غِنَى الْيَدِ الْمُوجِبُ لِتَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ فِي الدُّنْيَا، وَوُصُولِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ فِي الْعُقْبَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ خِلَافُهُ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَتَحَقَّقَ بُرْهَانُهُ. (" الْخَفِيَّ ") . بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ: الْخَامِلَ الْمُنْقَطِعَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ الْمُشْتَغِلَ بِأُمُورِ نَفْسِهِ، أَوِ الْخَفِيَّ الْخَيْرِ بِأَنْ يَعْمَلَهُ وَيَصْرِفَ مَالَهُ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ حَيْثُ لَا يُطْلِعَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، الشَّامِلَ لِلْفَقِيرِ أَيْضًا، كَمَا وَرَدَ: «حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَرُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ أَيِ: الْمُشْفِقَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ الْوَاصِلُ لِلرَّحِمِ اللَّطِيفُ بِهِمْ وَبِغَيْرِهِمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ: الِاعْتِزَالُ أَفْضَلُ مِنَ الِاخْتِلَاطِ، وَمَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الِاخْتِلَاطِ تَأَوَّلَ هَذَا بِالِاعْتِزَالِ فِي وَقْتِ الْفِتْنَةِ. أَقُولُ: أَوْ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَاطِ أَرْبَابِ الْبَطَالَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: أَرَادَ بِهِ الْخَفِيَّ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فِي نَوَافِلِهِ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ الرِّيَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَا يَتَكَبَّرُ عَلَى النَّاسِ وَلَا يَفْتَخِرُ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ، بَلْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مُنْكَسِرَةً مِنَ التَّوَاضُعِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ قَلِيلَ التَّرَدُّدِ وَالْخُرُوجِ إِلَى نَحْوِ الْأَسْوَاقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ. وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أَلْحَقَ بَعْدَ قَوْلِهِ: التَّقِيَّ، النَّقِيَّ بِالنُّونِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِهِ، وَلَا فِي الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ. (وَذُكِرَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَيْنِ ") أَيْ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا» (فِي " بَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ ") : صَوَابُهُ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْحَدِيثُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمُنَاسِبَيْنِ لِلْبَابَيْنِ بِاعْتِبَارِ الرَّجُلَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِفَضْلِ الْقُرْآنِ خُصَّ بِهِ أَوَّلًا مُقَرَّرًا وَصَارَ الثَّانِي مُسْتَدْرَكًا مُكَرَّرًا.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5285 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: " مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ ". قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: " مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5285 - (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : بِالتَّاءِ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ) أَيْ: أَيُّ أَصْنَافِهِمْ (خَيْرٌ) أَيْ: أَخْيَرُ (قَالَ: " مَنْ طَالَ عُمُرُهُ ") بِضَمَّتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْصَحُ الْوَارِدُ فِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ، وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ تَخْفِيفًا، وَفَتْحُ الْعَيْنِ وَسُكُونُ الْمِيمِ لُغَةٌ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] وَفِي الْقَامُوسِ: الْعُمُرُ بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ الْحَيَاةُ. (" وَحَسُنَ عَمَلُهُ " قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ) ؟ أَيْ: أَشَرُّ (قَالَ: " مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَوْقَاتِ وَالسَّاعَاتِ كَرَأْسِ الْمَالِ لِلتَّاجِرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْجُرَ فِيمَا يَرْبَحُ فِيهِ، وَكُلَّمَا كَانَ رَأْسُ مَالِهِ كَثِيرًا كَانَ الرِّبْحُ أَكْثَرَ، فَمَنْ مَضَى لِطَيِّبِهِ فَازَ وَأَفْلَحَ، وَمَنْ أَضَاعَ رَأْسَ مَالِهِ لَمْ يَرْبَحْ وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، انْتَهَى. وَبَقِيَ صِنْفَانِ مُسْتَوِيَانِ لَيْسَ فِيهِمَا زِيَادَةٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُمَا: مَنْ قَصُرَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ أَوْ سَاءَ عَمَلُهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ مَرْفُوعًا " طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ " وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالًا ".

5286 - وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ بَعْدَهُ بِجُمُعَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا قُلْتُمْ؟ " قَالُوا: دَعَوْنَا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيَرْحَمَهُ وَيُلْحِقَهُ بِصَاحِبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَأَيْنَ صَلَاتُهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ، وَعَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ؟ " أَوْ قَالَ: " صِيَامُهُ بَعْدَ صِيَامِهِ ; لِمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

5286 - (وَعَنْ عُبَيْدِ) : بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ خَالِدٍ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ: سَلَمِيٌّ بَهْزِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَى) أَيْ: عَقَدَ الْأُخُوَّةَ وَبَيْعَةَ الصُّحْبَةِ وَالْمَحَبَّةِ (بَيْنَ رَجُلَيْنِ) أَيْ: مِنْ أَصْحَابِهِ (فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا) أَيِ: اسْتُشْهِدَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: فِي الْجِهَادِ (ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ) أَيْ: عَلَى فِرَاشِهِ (بَعْدَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بَعْدُ بِضَمِّ الدَّالِ مَبْنِيًّا وَالْمَعْنَى بَعْدَ قَتْلِ أَخِيهِ (بِجُمُعَةٍ) أَيْ: بِأُسْبُوعٍ (أَوْ نَحْوِهَا) أَيْ: قَرِيبًا مِنْهَا تَخْمِينًا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا أَتَى بِهِ احْتِيَاطًا (فَصَلَّوْا) أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْآخَرِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا قُلْتُمْ؟ ") أَيْ: فِي حَقِّهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَمَا لِلِاسْتِفْهَامِ (قَالُوا: دَعَوْنَا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ) أَيْ: ذُنُوبَهُ (وَيَرْحَمَهُ) أَيْ: يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ وَيُثِيبَهُ (وَيُلْحِقَهُ) : مِنَ الْإِلْحَاقِ، أَيْ: يُوصِلَهُ (بِصَاحِبِهِ) أَيْ: فِي عُلُوِّ دَرَجَتِهِ لِكَيْ يَكُونَا فِي مَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى، كَمَا كَانَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ فِي الدُّنْيَا، (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَأَيْنَ ") : جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ اللَّهَ بِأَنْ يُلْحِقَهُ بِصَاحِبِهِ، زَعْمًا مِنْكُمْ أَنَّ مَرْتَبَتَهُ دُونَ مَرْتَبَةِ أَخِيهِ، فَأَيْنَ (" صَلَاتُهُ ") أَيِ: الزَّائِدَةُ لِلْمَيِّتِ (" بَعْدَ صِلَاتِهِ ") أَيِ: الْوَاقِعَةِ لِلشَّهِيدِ (" وَعَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ؟ ") : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، أَوِ التَّقْدِيرُ وَسَائِرُ عَمَلِهِ أَيْ: عَمَلُ الْمَيِّتِ بَعْدَ انْقِطَاعِ عَمَلِ الشَّهِيدِ. (أَوْ قَالَ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (" صِيَامُهُ بَعْدَ صِيَامِهِ ") وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ أَوِ الْمُتَخَلِّفُ كَانَ مِمَّنْ يَصُومُ النَّافِلَةَ كَثِيرًا (" لِمَا بَيْنَهُمَا ") : قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: اللَّامُ فِيهِ تَوْطِئَةٌ لِلْقَسَمِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ. قُلْتُ: الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ شَرْطَ الْمُوطِّئَةِ أَنْ تَكُونَ مَقْرُونَةً بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} [الزمر: 65] الْآيَةَ. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ أَيْ: وَاللَّهِ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ فِي الْقُرْبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. (" أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ") يَعْنِي مَرْتَبَةُ الْمَيِّتِ أَعْلَى فَإِلْحَاقُ الشَّهِيدِ بِهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَيْضًا كَانَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُ الْمُشَارَكَةُ فِي الشَّهَادَةِ حُكْمًا وَطَرِيقَةً، وَلَهُ الزِّيَادَةُ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ شَرِيعَةً وَحَقِيقَةً، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ لَا عَمَلَ أَزْيَدُ ثَوَابًا عَلَى الشَّهَادَةِ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِظْهَارًا لِدِينِهِ، لَا سِيَّمَا فِي مَبَادِئِ الدَّعْوَةِ مَعَ قِلَّةِ أَعْوَانِهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَفْضُلُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ بِلَا شَهَادَةٍ عَلَى عَمَلِهِ مَعَهَا؟ قُلْتُ: قَدْ عَرَفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَمَلَ هَذَا بِلَا شَهَادَةٍ سَاوَى عَمَلَهُ مَعَ شَهَادَتِهِ بِسَبَبِ مَزِيدِ إِخْلَاصِهِ وَخُشُوعِهِ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ بِمَا عَمِلَ بَعْدَهُ، وَكَمْ مِنْ شَهِيدٍ لَا يُدْرِكُ شَيْئًا، وَالصِّدِّيقُ فِي الْعَمَلِ انْتَهَى، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِقِلَّةِ الْإِخْلَاصِ لِلشَّهِيدِ، فَهَذَا الظَّنُّ بِالصَّحَابَةِ لَيْسَ بِالسَّدِيدِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا عِلَّةَ التَّفْضِيلِ لَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِ التَّعْلِيلِ، وَلَا كَلَامَ فِي الصِّدِّيقِ أَنَّهُ مِمَّنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِزِيَادَةِ التَّوْفِيقِ، مَعَ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهِيدٌ حُكْمًا، وَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَرْتَبَةَ الصَّدِّيقِينَ عَلَى الشُّهَدَاءِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . رِجَالُ هَذَا الْحَدِيثِ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَبِيعَةَ السُّلَمِيَّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ. قَالَ النَّسَائِيُّ: إِنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ صَحَابِيًّا فَهُوَ تَابِعِيٌّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ بِضَعْفٍ، وَأَمَّا عُبَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ الْبَهْزِيُّ فَلَهُ صُحْبَةٌ وَنَزِيلُ الْكُوفَةِ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ، وَتَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ عُبَيْدَةَ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. وَفِي التَّقْرِيبِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ فَرْقَدٍ السُّلَمِيُّ ذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ، وَنَفَاهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، انْتَهَى. وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ كَلَامٍ فِي هَذَا الْمَرَامِ.

5287 - وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، فَأَمَّا الَّذِي أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ فَإِنَّهُ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ. وَأَمَّا الَّذِي أُحَدِّثُكُمْ فَاحْفَظُوهُ " فَقَالَ: " إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ رَحِمَهُ، وَيَعْمَلُ لِلَّهِ فِيهِ بِحَقِّهِ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَتَخَبَّطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ بِحَقٍّ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبُدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ نِيَّتُهُ وَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5287 - (وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ نَزَلَ الشَّامَ، رَوَى عَنْهُ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَنُعَيْمُ بْنُ زِيَادٍ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " ثَلَاثٌ ") أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (" أُقْسِمُ ") أَيْ: أَحْلِفُ (" عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ ") : عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ " ثَلَاثٌ " بِحَسَبِ الْمَعْنَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أُخْبِرُكُمْ بِثَلَاثٍ أُؤَكِّدُهُنَّ بِالْقَسَمِ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ (" حَدِيثًا ") أَيْ: تَحْدِيثًا عَظِيمًا أَوْ بِحَدِيثٍ آخَرَ (" فَاحْفَظُوهُ ") أَيِ: الْأَخِيرَ أَوِ الْمُجَمَّعَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ وَالتَّحْرِيرِ الْمَسْطُورِ قَوْلُهُ: (" فَأَمَّا الَّذِي أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ ") أَيِ: الَّذِي أُخْبِرُكُمْ بِثَلَاثٍ وَأَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ، هُوَ هَذَا الَّذِي أُبَيِّنُهُ (" فَإِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنَ (" مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ ") أَيْ: بَرَكَتُهُ (" مِنْ صَدَقَةٍ ") أَيْ: مِنْ أَجْلِ إِعْطَاءِ صَدَقَةٍ لِأَنَّهَا مَخْلُوفَةٌ مُعَوَّضَةٌ كَمِّيَّةً أَوْ كَيْفِيَّةً فِي الدَّارِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] (" وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" مَظْلِمَةً ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ مَا أَخَذَهُ الظَّالِمُ ظُلْمًا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلِكِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَظْلِمَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ مَا يَظْلِمُهُ الرَّجُلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ صِفَتُهُ قَوْلُهُ: (" صَبَرَ ") أَيِ: الْعَبْدُ (" عَلَيْهَا ") أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْمَظْلِمَةِ وَلَوْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِنَوْعٍ عَنِ الْمَذَلَّةِ (" إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا ") أَيْ: عِنْدَهُ تَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ يَزِيدُ لِلظَّالِمِ عِنْدَهُ ذُلًّا بِهَا أَوْ يَزِيدُهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا لَهُ فِي الدُّنْيَا مُعَاقَبَةً، كَمَا يَحْصُلُ لِلظَّالِمِ ذُلٌّ بِهَا وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ مَنَّ الْمُدَّةِ، بَلْ رُبَّمَا يَنْقَلِبُ الْأَمْرُ وَيَجْعَلُ الظَّالِمَ تَحْتَ ذُلِّ الْمَظْلُومِ جَزَاءً وِفَاقًا، (" وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ ") أَيْ: عَلَى نَفْسِهِ (" بَابَ مَسْأَلَةٍ ") أَيْ: بَابَ سُؤَالٍ وَطَلَبٍ مِنَ النَّاسِ لَا لِحَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ، بَلْ لِقَصْدِ غِنًى وَزِيَادَةٍ (" إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ ") أَيْ: بَابَ احْتِيَاجٍ آخَرَ وَهَلُمَّ جَرَّا، أَوْ بِأَنْ سَلَبَ عَنْهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ النِّعْمَةِ فَيَقَعُ فِي نِهَايَةٍ مِنَ النِّقْمَةِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَصْحَابِ التُّهْمَةِ، وَمُثِّلَ حَالُهُ بِالْحِمَارِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ الذَّنَبُ، وَهُوَ دَائِرٌ فِي الطَّلَبِ، فَدَخَلَ فِي بُسْتَانٍ حَرِيصًا عَلَيْهِ فَقَطَعَ الْحَارِثُ أُذُنَيْهِ، وَشُبِّهَ أَيْضًا بِكَلْبٍ فِي فَمِهِ عَظْمٌ، وَمَرَّ عَلَى نَهْرٍ لِطَيْفٍ يَظْهَرُ مِنْ تَحْتِهِ عَظْمٌ نَظِيفٌ، فَفَتَحَ الْكَلْبُ فَمَهُ حِرْصًا عَلَى أَخْذِ مَا فِي قَعْرِ الْمَاءِ فَوَقَعَ مَا فِي فَمِهِ مِنَ الْعَظْمِ فِي الْمَاءِ، فَالْحِرْصُ شُؤْمٌ وَالْحَرِيصٌ مَحْرُومٌ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِي أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ أَفْرَدَهُ وَذَكَرَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ مَوْعُودًا، وَجَمَعَ الْمَرْجِعَ إِلَى الْمَوْصُولِ بِاعْتِبَارِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَاتِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [البقرة: 17] فِي وَجْهٍ أَيِ: الْجَمْعُ أَوِ الْفَوْجُ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: أَمَّا اللَّاتِي أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَحْقِيقَ الْحَلِفِ، بَلْ تَأْكِيدَهُ تَنْوِيهًا فَإِنَّ الْمُدَّعِي يُثْبِتُ بِذِكْرِ الْقَسَمِ تَارَةً وَأُخْرَى بِلَفْظِ الْقَسَمِ، انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ فَأَمَّا قَوْلِي الَّذِي أُقْسِمُ فِيهِ عَلَى الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَأُؤَكِّدُهُ فَإِنَّهُ إِلَى آخِرِهِ. (" وَأَمَّا الَّذِي أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ " فَقَالَ: " إِنَّمَا الدُّنْيَا ") : هُوَ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ، بَلْ قَالَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّمَا الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَامِعِ لَفْظُ فَقَالَ: بَلْ فِيهِ: إِنَّمَا الدُّنْيَا (لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ) أَيْ: كُلٌّ وَاحِدٍ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعٍ وَصِنْفٍ (" عَبْدٍ ") : بِالْجَرِّ وَيُرْفَعُ (" رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا ") فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ رِزْقٌ أَيْضًا، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَرْزُقُ الْعِلْمَ وَالْمَالَ، وَبِتَوْفِيقِهِ وَفَتْحِهِ يُفْتَحُ بَابُ الْكَمَالِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ: «إِنَّ عِلْمًا لَا يُقَالُ بِهِ كَكَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ» ، فَيَدْخُلُ الْعُلَمَاءُ وَلَوْ كَانُوا فَقُرَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] ثُمَّ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَالِ هُنَا مَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ ضَرُورَةِ الْحَالِ (" فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ ") أَيْ: فِي الْمَالِ (" رَبَّهُ ") بِأَنْ لَا يَصْرِفَ مَالَهُ فِي مَعْصِيَةِ خَالِقِهِ (" وَيَصِلُ رَحِمَهُ ") أَيْ: بِالْمُوَاسَاةِ إِلَى أَقَارِبِهِ (وَيَعْمَلُ لِلَّهِ فِيهِ) أَيْ: فِي الْعِلْمِ (" بِحَقِّهِ ")

أَيْ: قِيَامًا بِحَقِّ الْعِلْمِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْعَمَلِ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ، فَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظُ الْجَامِعِ: وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، وَيُمْكِنُ رُجُوعُ كُلٍّ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْمَالِ وَالْعِلْمِ، وَأَفْرَدَهُ بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ أَيْ: بِحَقِّ الْمَالِ، وَالْمَعْنَى يُؤَدِّي مَا فِي الْمَالِ مِنَ الْحُقُوقِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَالنَّفَقَةِ وَإِطْعَامِ الضَّيْفِ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِلَّهِ أَيْ: بِحَقِّ اللَّهِ الْوَاجِبِ فِي الْمَالِ (" فَهَذَا ") أَيِ: الْعَبْدُ الْمَوْصُوفُ بِمَا ذُكِرَ (" بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ") أَيْ: فِي أَكْمَلِ مَرَاتِبِ الشَّمَائِلِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْعُقْبَى (" وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ ") أَيْ: ظَاهِرُهُ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الطَّوِيَّةِ (" يَقُولُ ") أَيْ: بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ (" لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ") أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ (" فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ") . وَهُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٍ (" وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَتَخِبَّطُ ") : بِكَسْرِ الْخَاءِ بِدُونِ فَهُوَ، فَهُوَ حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَالْمَعْنَى يَقُومُ وَيَقْعُدُ بِالْجَمْعِ وَالْمَنْعِ (" فِي مَالِهِ ") : أَوْ يَخْتَلِفُ فِي حَالِهِ بِاعْتِبَارِ الْإِنْفَاقِ وَالْإِمْسَاكِ فِي مَالِهِ (" بِغَيْرِ عِلْمٍ ") أَيْ: بِغَيْرِ اسْتِعْمَالِ عِلْمٍ بِأَنْ يُمْسِكَ تَارَةً حِرْصًا وَحُبًّا لِلدُّنْيَا، وَيُنْفِقَ أُخْرَى لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، (" لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ") أَيْ: لِعَدَمِ عِلْمِهِ فِي أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ (" وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ") ، أَيْ: لِقِلَّةِ رَحْمَتِهِ وَعَدَمِ حِلْمِهِ وَكَثْرَةِ حِرْصِهِ وَبُخْلِهِ (" وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ بِحَقٍّ ") أَيْ: بِنَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ وَبِعِبَادِهِ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا (" فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ ") أَيْ: مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ (" فَهُوَ نِيَّتُهُ ") أَيْ: فَهُوَ مَغْلُوبُ نِيَّتِهِ، وَمَحْكُومُ طَوِيَّتِهِ، أَوِ الْحَمْلُ بِطَرِيقِ الْمُبَالِغَةِ، فَكَأَنَّهُ عَيَّنَ نِيَّتَهُ كَرَجُلٍ عَدْلٍ. وَفِي نُسْخَةٍ: فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَا فِي الْجَامِعِ أَيْ: مُجْزًى بِهَا وَمُعَاقَبٌ عَلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ إِثْمَهُ بِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ دُونَ إِثْمِ الْعَامِلِ الْمُشْتَمِلِ عَمَلُهُ عَلَى النِّيَّةِ وَالْمُبَاشَرَةِ أَكَّدَ الْوَعِيدَ وَشَدَّدَ التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ: (" وَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ") : وَلَفْظُ الْجَامِعِ: فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهُوَ نِيَّتُهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيْ: يُسِيءُ النِّيَّةَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وُقُوعُهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا إِلَى آخِرِهِ، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: صَادِقُ النِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا إِلَى آخِرِهِ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُ: وَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ مُتَقَابِلَانِ. قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَافِي خَبَرَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ» " لِأَنَّهُ عَمِلَ هُنَا بِالْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ، وَالْمُتَجَاوَزُ عَنْهُ هُوَ الْقَوْلُ النَّفْسَانِيُّ، انْتَهَى. وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يُوَطِّنُ نَفْسَهُ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ بِفِعْلِهَا، فَإِنْ عَزَمَ وَاسْتَقَرَّ يُكْتَبْ مَعْصِيَةً، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: حَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ: وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغَضَبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ صَدْرَ الْحَدِيثِ فَقَطْ وَلَفْظُهُ: " «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ قَطُّ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا، وَلَا عَفَا رَجُلٌ مَظْلِمَةً ظُلِمَهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ بِهَا عِزًّا، فَاعْفُوا يَزِدْكُمُ اللَّهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مُرَكَّبٌ مِنْ حَدِيثَيْنِ جَمَعَهُمَا الرَّاوِي وَجَعَلَهُمَا حَدِيثًا وَاحِدًا، وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَ الْجَامِعِ عَنِ الْأَنْمَارِيِّ: ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ: بَابَ فَقْرٍ. ثُمَّ قَالَ: وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ وَإِنَّمَا الدُّنْيَا إِلَخْ. فَالتَّفْسِيرَاتُ الْمُحْتَاجَةُ إِلَى التَّأْوِيلَاتِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5288 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ ". فَقِيلَ: وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5288 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا ") أَيْ: فِي عَاقِبَتِهِ (" اسْتَعْمَلَهُ ") أَيْ: جَعَلَهُ عَامِلًا (" فِي الطَّاعَةِ ") : فَإِنَّهُ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْعَمَلِ (" فَقِيلَ: وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ دَائِمُ الِاسْتِعْمَالِ (قَالَ: " يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ ") . أَيْ: حَتَّى يَمُوتَ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَيَكُونَ لَهُ حُسْنُ الْخَاتِمَةِ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ: ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا. ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَفْظُهُ: " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا طَهَّرَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ ". قَالُوا: وَمَا طُهْرُ الْعَبْدِ؟ قَالَ: عَمَلٌ صَالِحٌ يُلْهِمُهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ عَلَيْهِ ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ والطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي عَنْبَسَةَ وَلَفْظُهُ: " «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ " بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ قَالُوا: وَمَا عَسَلَهُ؟ بِالضَّبْطِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْحِكَايَةِ. قَالَ: " يَفْتَحُ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ» ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَلَفْظُهُ: " «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ ". قِيلَ: وَمَا اسْتَعْمَلَهُ؟ قَالَ: يَفْتَحُ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ.» هَذَا وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ اللَّهَ إِذَا رَضِيَ عَنِ الْعَبْدِ أَثْنَى عَلَيْهِ بِسَبْعَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْخَيْرِ لَمْ يَعْمَلْهُ، وَإِذَا سَخِطَ عَلَى الْعَبْدِ أَثْنَى عَلَيْهِ بِسَبْعَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الشَّرِّ لَمْ يَعْمَلْهُ» " انْتَهَى، وَكَأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى نِيَّتِهِ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى أَخْذِ عِبَادَةِ ظَالِمٍ لِمَظْلُومٍ وَوَضْعِ مَظْلِمَةٍ عَنْ مَظْلُومٍ عَلَى ظَالِمٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5289 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5289 - (وَعَنْ شَدَّادٍ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْأُولَى (ابْنِ أَوْسٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا يَعْلَى الْأَنْصَارِيَّ. قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ: كَانَ شَدَّادُ مِمَّنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْكَيِّسُ ") : بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيِ: الْعَاقِلُ الْحَازِمُ الْمُحْتَاطُ فِي الْأُمُورِ (" مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ") ، أَيْ: جَعَلَهَا دَنِيَّةً مُطِيعَةً لِأَمْرِهِ تَعَالَى، مُنْقَادَةً لِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: أَذَلَّهَا وَاسْتَعْبَدَهَا. وَقِيلَ: حَاسَبَهَا. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى دَانَ نَفْسَهُ حَاسَبَهَا، انْتَهَى. أَيْ: حَاسَبَ أَعْمَالَهَا وَأَحْوَالَهَا وَأَقْوَالَهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ كَانَتْ خَيْرًا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا تَابَ مِنْهَا، وَاسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ فِي الْعُقْبَى، كَمَا رُوِيَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] (" وَعَمِلَ ") أَيْ: عَمَلًا نَافِعًا (" لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْعَاجِزُ ") أَيْ: عَنِ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي الْأَمْرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَيِّسَ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، وَالْعَاجِزُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الضَّعِيفُ، وَهُوَ (" مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ") ، مِنَ الْإِتْبَاعِ أَيْ: جَعَلَهَا تَابِعَةً لِهَوَاهَا مِنْ تَحْصِيلِ الْمُشْتَهَيَاتِ وَاسْتِعْمَالِ اللَّذَّاتِ وَالشُّبُهَاتِ، بَلْ مِنِ ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ (" وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ") قَالَ: رَبِّي كَرِيمٌ رَحِيمٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] وَقَالَ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50] . وَقَالَ: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة: 218] وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الرَّجَاءِ مَعَ غَيْرِ الطَّاعَةِ بِلَفْظِ التَّمَنِّي إِشَارَةً إِلَى أَنَّ وُقُوعَهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحَالِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنَ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ عَلَى طَرِيقِ الْإِفْضَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْعَاجِزُ الَّذِي غَلَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَمِلَ مَا أَمَرَتْهُ بِهِ نَفْسُهُ، فَصَارَ عَاجِزًا لِنَفْسِهِ فَأَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَأَعْطَاهَا مَا اشْتَهَتْهُ، وَالْمُقَابِلُ الْحَقِيقِيُّ بِالْعَاجِزِ، وَالْمُقَابِلُ الْحَقِيقِيُّ لِلْكَيِّسِ السَّفِيهِ الرَّأْيِ، وَلِلْعَاجِزِ الْقَادِرِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الْكَيِّسَ هُوَ الْقَادِرُ، وَالْعَاجِزُ هُوَ السَّفِيهُ، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ أَيْ: يُذْنِبُ، وَيَتَمَنَّى الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5290 - عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُنَّا فِي مَجْلِسٍ، فَطَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَرَاكَ طَيِّبَ النَّفْسِ. قَالَ: " أَجَلْ ". قَالَ: ثُمَّ خَاضَ الْقَوْمُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5290 - (عَنْ رَجُلٍ) : سَيَأْتِي اسْمُهُ (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ فَطَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَظَهَرَ كَطَلْعَةِ الشَّمْسِ (" وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ ") أَيْ: مِنَ الْغُسْلِ (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَاكَ طَيِّبَ النَّفْسِ) . أَيْ: ظَاهِرَ الْبِشْرِ وَالسُّرُورِ وَمُنْشَرِحَ الْخَاطِرِ عَلَى مَا يَتَلَأْلَأُ مِنْكَ مِنَ النُّورِ. (قَالَ: " أَجَلْ ") . بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ: نَعَمْ (قَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ الرَّاوِي (ثُمَّ خَاضَ الْقَوْمُ) أَيْ: شَرَعُوا وَبَالَغُوا (فِي ذِكْرِ الْغِنَى) أَيْ: فِي سُؤَالِهِ أَوْ ذَمِّ حَالِهِ وَسُوءِ مَآلِهِ. ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» ") . أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لَا بَأْسَ أَنَّ الْفَقْرَ أَفْضَلُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ (" وَالصِّحَّةُ ") أَيْ: صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَلَوْ مَعَ الْفَقْرِ لِمَنِ اتَّقَى (" خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى ") ، أَيْ: مُطْلَقًا، أَوِ الْمَعْنَى وَصِحَّةُ الْحَالِ لِمَنِ اتَّقَى الْمَالَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى الْمُوجِبِ لِلْحِسَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْمَآلِ، (" وَطِيبُ النَّفْسِ ") أَيِ: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ الْمُقْتَضِي لِلشُّكْرِ، وَالصَّبْرُ الْمُسْتَوِي عِنْدَهُ الْغِنَى وَالْفَقْرُ (مِنَ النَّعِيمِ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ النَّعِيمِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِجَنَّةِ نَعِيمٍ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَجَنَّةٌ فِي الْعُقْبَى. وَقِيلَ: مِنَ النَّعِيمِ الْمَسْئُولِ عِنْدَ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّهُ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ مِنْ جِنْسِ النَّعِيمِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لِغَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَنَّهُ النَّعِيمُ، فَإِنَّ مَا عَدَاهُ قَدْ يُعَدُّ كَوْنُهُ مِنَ الْمَاءِ الْحَمِيمِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، عَنْ يَسَارِ بْنِ عَبْدٍ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ، فَتَبَيَّنَ إِبْهَامُ الرَّجُلِ مَعَ أَنَّ جَهَالَةَ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ.

5291 - وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ الْمَالُ فِيمَا مَضَى يُكْرَهُ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَهُوَ تُرْسُ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ: لَوْلَا هَذِهِ الدَّنَانِيرُ لَتَمَنْدَلَ بِنَا هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ. وَقَالَ: مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَلْيُصْلِحْهُ، فَإِنَّهُ زَمَانٌ إِنِ احْتَاجَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ يَبْذُلُ دِينَهُ. وَقَالَ: الْحَلَالُ لَا يَحْتَمِلُ السَّرَفَ. رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5291 - (وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: كَانَ الْمَالُ فِيمَا مَضَى يُكْرَهُ) أَيْ: عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ (فَأَمَّا الْيَوْمَ) أَيْ: فِي هَذَا الزَّمَانِ (فَهُوَ تُرْسُ الْمُؤْمِنِ) . أَيْ: جَنَّتُهُ مِنْ جَنَّتِهِ، وَجَنَّتُهُ بَلَاءٌ مِنْهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَالَ الْحَلَالَ يَقِي صَاحِبَ الْحَالِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبْهَةِ وَالْحَرَامِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ مُلَازَمَةِ الظَّلَمَةِ وَمُصَاحَبَتِهِمْ فِي الظَّلَامِ، أَوْ يَتَسَتَّرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالشُّهْرَةِ عِنْدَ الْعَوَامِّ (وَقَالَ: لَوْلَا هَذِهِ الدَّنَانِيرُ) أَيْ: وَجُودُهَا عِنْدَنَا وَظُهُورُ اسْتِغْنَائِنَا بِهَا عِنْدَ الْخَلْقِ (لَتَمَنْدَلَ بِنَا هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ) . أَيْ: لَجَعَلُونَا مَنَادِيلَ أَوْسَاخِهِمْ، وَهَى كِنَايَةٌ عَنْ الِابْتِذَالِ وَالْمَذَلَّةِ لِلظَّلَمَةِ، أَوْ عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ فِي تَصْوِيرَاتِ حِيَلِ الْمَسْأَلَةِ قِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَذْلِ، وَهُوَ الْوَسَخُ. قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمَالَ يُدْنِيكَ مِنَ الدُّنْيَا. فَقَالَ: لَئِنْ أَدْنَانِي مِنَ الدُّنْيَا لَقَدْ صَانَنِي عَنْهَا، وَقِيلَ: لِأَنْ أَتْرُكَ مَالًا يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى النَّاسِ، يَعْنِي احْتِيَاجِي إِلَى اللَّهِ خَيْرٌ مِنِ احْتِيَاجِي إِلَى مَا سِوَاهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ مَرْفُوعًا بِهِ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَصْفَرُ وَلَا أَبْيَضُ لَمْ يَتَهَنَّ بِالْعَيْشِ» ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ» ، هَذَا وَقَدْ قِيلَ: الدَّرَاهِمُ لِلْجِرَاحَاتِ مَرَاهِمُ.

(وَقَالَ) أَيِ: الثَّوْرِيُّ (مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ هَذِهِ) أَيِ: الدَّنَانِيرِ وَالْأَمْوَالِ (شَيْءٌ) أَيْ: قَلِيلٌ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ (فَلْيُصْلِحْهُ) أَيْ: لِيَصْرِفْهُ عَلَى وَجْهِ الْقَنَاعَةِ، أَوْ لَا يُتْلِفْهُ بَلْ يَسْتَرِدُّهُ بِنَوْعٍ مِنَ التِّجَارَةِ، (فَإِنَّهُ) أَيْ: زَمَانَنَا (زَمَانٌ) أَيْ: عَجِيبٌ مِنْ وَصْفِهِ (إِنِ احْتَاجَ) أَيِ: الشَّخْصُ فِيهِ (كَانَ أَوَّلَ مَنْ يَبْذُلُ دِينَهُ) . أَيْ: لِتَحْصِيلِ دُنْيَاهُ، " وَأَوَّلَ " مَنْصُوبٌ، وَقِيلَ مَرْفُوعٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَوَّلَ شَخْصٍ يَبْذُلُ دِينَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ، وَلَوْ حَمَلَ " مَنْ " عَلَى " مَا " كَمَا نَقَلَ الْمَالِكِيُّ عَنْ قُطْرُبٍ لَكَانَ أَبْيَنَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْكَشَّافِ: كَانَ أَوَّلَ مَا يَأْكُلُ دِينَهُ، فَمَا مَوْصُوفَةٌ، وَأَوَّلُ اسْمُ كَانَ وَدِينُهُ خَبَرُهُ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ عَكْسُهُ، بَلْ هُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ. (وَقَالَ) أَيِ: الثَّوْرِيُّ (الْحَلَالُ) أَيْ: لِأَنَّهُ قَلِيلُ الْوُجُودِ فِي الْمَالِ (لَا يَحْتَمِلُ السَّرَفَ) . أَيْ: صَرْفَهُ بِالْإِكْثَارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَلَالَ لَا يَكُونُ كَثِيرًا فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِسْرَافَ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحَلَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْرَفَ فِيهِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَى الْغَيْرِ، انْتَهَى. وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ إِذْ مَعْنَى الْإِسْرَافِ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنِ الْحَدِّ بِأَنْ يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِهِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَيَشْمَلُ الْمَالَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْحَلَالَ مِنْ خَاصِّيَّتِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْإِسْرَافِ كَصَرْفِهِ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَكَزِيَادَةِ إِعْطَاءِ الْأَطْعِمَةِ عَلَى طَرِيقِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلِذَا قِيلَ: لَا سَرَفَ فِي خَيْرٍ وَلَا خَيْرَ فِي سَرَفٍ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ الْحَلَالِ وَلَوْ كَانَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَالِ، وَأَنْ يَقْنَعَ بِهِ وَلَا يَصْرِفَهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِسْرَافِ ; لِئَلَّا يُحْوِجَ نَفْسَهُ إِلَى الْأَكَابِرِ وَالْأَشْرَافِ. (رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ") .

5292 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ أَبْنَاءُ السِتِّينَ؟ وَهُوَ الْعُمُرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] » . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5292 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ أَبْنَاءُ السِتِّينَ؟» ) . أَيْ: أَصْحَابُهَا مِمَّنْ وَصَلَ عُمُرُهُ إِلَيْهَا (" وَهُوَ الْعُمُرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ") أَيْ: فِي حَقِّهِ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " مَا " مَوْصُوفَةٌ، أَيْ: عَمَّرْنَاكُمْ عُمُرًا يَتَّعِظُ فِيهِ الْعَاقِلُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَّعِظَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ أَيِ: الْمُنْذِرُ أَوِ الْإِنْذَارُ، وَهُوَ الشَّيْبُ أَوِ الْقُرْآنُ أَوِ الرَّسُولُ أَوِ الْمَوْتُ أَوْ جِنْسُ الْمُنْذِرِ، فَيَشْمَلُ الْكُلَّ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") . وَقَدْ سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً.

5293 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ ثَلَاثَةً أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ يَكْفِينِيهِمْ؟ " قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا. فَكَانُوا عِنْدَهُ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْثًا، فَخَرَجَ فِيهِ أَحَدُهُمْ، فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا فَخَرَجَ فِيهِ الْآخَرُ، فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ وَالَّذِي اسْتُشْهِدَ آخِرًا يَلِيهِ، وَأَوَّلَهُمْ يَلِيهِ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، فَقَالَ: " وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟ ! لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلَامِ ; لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5293 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ (ثَلَاثَةً) : بِالنَّصْبِ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا مَنْ " نَفَرًا " (أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَوْ جَاؤُوهُ (فَأَسْلَمُوا) أَيْ: وَأَرَادُوا الْإِقَامَةَ بِنِيَّةِ الْمُجَاهَدَةِ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ.

(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (" مَنْ يَكْفِينِيهِمْ؟ ") أَيْ: مُؤْنَتَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " هُمْ " ثَانِي مَفْعُولَيْ يَكْفِي عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ (قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا) . أَيْ: أَكْفِيكَهُمْ (فَكَانُوا) أَيِ: الثَّلَاثَةُ أَوِ النَّفَرُ (عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ، (فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْثًا) أَيْ: أَرْسَلَ سَرِيَّةً، فَالْبَعْثُ بِمَعْنَى الْمَبْعُوثِ (فَخَرَجَ فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ (أَحَدُهُمْ، فَاسْتُشْهِدَ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: صَارَ شَهِيدًا (ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا فَخَرَجَ فِيهِ الْآخَرُ، فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ) ، أَيْ: مُرَابِطًا نَاوِيًا لِلْجِهَادِ (قَالَ) أَيِ: ابْنُ شَدَّادٍ (قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ) أَيْ: فِي الْمَنَامِ أَوْ فِي كَشْفِ الْمَقَامِ (هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ) أَيِ: الْكَائِنِ عَلَيْهِ (أَمَامَهُمْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: قُدَّامَهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ أَمَامَهُمَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ الْمُقَدَّمُ مِنْ بَيْنِهِمْ، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ. (وَالَّذِي) عَطْفٌ عَلَى الْمَيِّتِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَالَّذِي (اسْتُشْهِدَ آخِرًا يَلِيهِ) أَيْ: يَقْرُبُ الْمَيِّتَ (وَأَوَّلَهَمْ) : بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِرَفْعِهِ (يَلِيهِ) ، أَيْ: يَلِي الْمُسْتَشْهِدَ آخِرًا (فَدَخَلَنِي) أَيْ: شَيْءٌ أَوْ إِشْكَالٌ (مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِمَّا رَأَيْتُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ يَخْطِرُ فِي الضَّمِيرِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ مَالِكِ (فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ) ، الْفَاءُ فَصِيحَةٌ أَيْ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ مُسْتَغْرِبًا وَمُسْتَنْكِرًا (فَقَالَ: وَمَا أَنْكَرْتَ) أَيْ: وَأَيَّ شَيْءٍ أَنْكَرْتَهُ (" مِنْ ذَلِكَ؟ ") : وَالْمَعْنَى لَا تُنْكِرْ شَيْئًا مِنْهُ فَإِنَّهُ (" لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ ") : فَالِاسْتِئْنَافُ مُبَيِّنٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْعِلَّةِ أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ أَكْثَرَ ثَوَابًا عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ (" مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ ") : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: يَطُولُ عُمُرُهُ (" فِي الْإِسْلَامِ ; لِتَسْبِيحِهِ ") أَيْ: لِأَجْلِ تَسْبِيحِهِ (" وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ ") . أَيْ: وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ عِبَادَاتِهِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ. وَلَفْظُ الْجَامِعِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ: لِتَكْبِيرِهِ وَتَحْمِيدِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَهْلِيلِهِ. قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى، وَرُوَاتُهُمَا رُوَاةُ الصَّحِيحِ، وَفِي أَوَّلِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ إِرْسَالٌ، لَكِنْ وَصَلَهُ أَبُو يَعْلَى بِذِكْرِ طَلْحَةَ فِيهِ، كَذَا قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَإِنْ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرَهُ الْعِجْلِيُّ إِنَّهُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ الثِّقَاتِ، وَكَانَ مَعْدُودًا فِي الْفُقَهَاءِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ أَحْمَدَ بِالسَّمَاعِ، بَلْ قَالَ: إِنَّ نَفَرًا، إِلَخْ. وَصَرَّحَ أَبُو يَعْلَى بِأَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ طَلْحَةَ، وَمِمَّا نَاسَبَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ هَذَا، وَحَدِيثَ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدِ الَّذِي سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً. قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ وَكَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ سَنَةٍ» " وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالُبَيْهَقِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ طَلْحَةَ بِنَحْوِهِ أَطْوَلَ مِنْهُ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ فِي آخِرِهِ: فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

5294 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ عَبْدًا لَوْ خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمَ وُلِدَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ هَرَمًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَحَقَّرَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَوَدَّ أَنَّهُ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5294 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُزَنِيٌّ يُعَدُّ فِي الشَّامِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ (- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ عَبْدًا لَوْ خَرَّ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: لَسَقَطَ (عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمَ وُلِدَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ، وَقِيلَ: بِجَرِّهَا مُنَوَّنَا (إِلَى أَنْ يَمُوتَ هَرَمًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: ذَا هَرَمٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: شَيْخًا كَبِيرًا (فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَحَقَّرَهُ) : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ: لَعَدَّهُ قَلِيلًا لِمَا يَرَى مِنْ ثَوَابِ الْعَمَلِ (فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَوَدَّ) أَيْ: لَأَحَبَّ وَتَمَنَّى (أَنَّهُ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادَ) أَيْ: لِيَزِيدَ (مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ) أَيْ: مِنْ أَجْرِ الْعُمَّالِ بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ وَالْعُذْرِ، وَزِيَادَةِ الْمَثُوبَةِ عَلَى طَرِيقِ الْفَضْلِ (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (أَحْمَدُ) . أَيْ: فِي مَسْنَدِهِ، لَكِنِ الثَّانِي رَوَاهُ مَوْقُوفًا، وَالْأَوَّلُ رَوَاهُ مُرْسَلًا كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، والطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: " «لَوْ أَنَّ رَجُلًا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمَ وُلِدَ إِلَى يَوْمَ يَمُوتُ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ لَحَقَّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ".

[باب التوكل والصبر]

[بَابُ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ]

[4] بَابُ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5295 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [4] بَابُ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 3 - 159] وَقَالَ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا وَعَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا، وَقَدَّمَ التَّوَكُّلَ لِأَنَّهُ مُنْتِجُ الصَّبْرِ، وَبِهِ يَحْلُو الْمُرُّ وَيَنْكَشِفُ الضُّرُّ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّوَكُّلُ عَلَى أَحَدٍ هُوَ أَنْ يَتَّخِذَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الْقَائِمِ بِأَمْرِهِ الْمُتَكَفِّلِ بِإِصْلَاحِ حَالِهِ عَلَى قَدْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: الْمُرَادُ بِالتَّوَكُّلِ هُوَ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، انْتَهَى. وَالصَّبْرُ عَلَى مَرَاتِبَ مِنْ حَبْسِ النَّفْسِ عَنِ الْمَنَاهِي وَعَنِ الْمُشْتَهَيَاتِ وَالْمَلَاهِي، وَعَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّاتِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَعَلَى تَجَرُّعِ الْمَرَارَاتِ عِنْدَ حُصُولِ الْمُصيِبَاتِ وَوُصُولِ الْبَلِيَّاتِ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: تَوَكَّلَ بِالْأَمْرِ إِذَا ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهِ، وَوَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلَانٍ أَيْ: أَلْجَأْتُهُ إِلَيْهِ وَاعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْهِ، وَوَكَّلَ فُلَانٌ فَلَانًا إِذَا اسْتَكْفَاهُ أَمْرَهُ ثِقَةً بِكِفَايَتِهِ أَوْ عَجْزًا عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الْقَيِّمُ الْكَفِيلُ بِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِأَمْرِ الْمَوْكُولِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الصَّبْرُ الْإِمْسَاكُ فِي ضِيقٍ. يُقَالُ: صَبَرْتُ الدَّابَّةَ حَبَسْتُهَا بِلَا عَلَفٍ، وَالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، أَوْ عَمَّا يَقْتَضِيَانِ حَبْسَهَا عَنْهُ، فَالصَّبْرُ لَفْظٌ عَامٌّ، وَرُبَّمَا خُولِفَ بَيْنَ أَسْمَائِهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَوَاقِعِهِ، فَإِنْ كَانَ حَبْسُ النَّفْسِ لِمُصِيبَةٍ سُمِّيَ صَبْرًا لَا غَيْرُ، وَيُضَادُّهُ الْجَزَعُ، وَإِنْ كَانَ فِي مُحَارَبَةٍ سُمِّيَ شَجَاعَةً وَيُضَادُّهُ الْجُبْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَائِبَةٍ مُضْجِرَةٍ سُمِّيَ رَحْبَ الصَّدْرِ وَيُضَادُّهُ الضَّجَرُ، وَإِنْ كَانَ فِي إِمْسَاكِ الْكَلَامِ سُمِّيَ كِتْمَانًا وَضِدُّهُ الْإِفْشَاءُ، وَزَادَ فِي عَيْنِ الْعِلْمِ: وَفِي فُضُولِ الْعَيْشِ زُهْدٌ وَضِدُّهُ الْحِرْصُ، وَفِي الْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا قَنَاعَةٌ وَضِدُّهُ الشَّرَهُ انْتَهَى. وَالتَّوَكُّلُ بِلِسَانِ الْعَارِفِينَ عَلَى مَا قَالَ السُّرِّيُّ السَّقْطِيُّ: هُوَ الِانْخِلَاعُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ بِلَا نِزَاعٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْرُوقٍ: التَّوَكُّلُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِجَرَيَانِ الْقَضَاءِ فِي الْأَحْكَامِ. وَقَالَ الْجُنَيْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّوَكُّلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فَيَكُونَ اللَّهُ لَهُ كَمَا لَمْ يَزَلْ، ثُمَّ قِيلَ الصَّبْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: صَبْرُ الْعَوَامِّ وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا يُكْرَهُ، وَصَبْرُ الْخَوَاصِّ وَهُوَ تَجَرُّعُ الْمَرَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّسٍ، وَصَبْرُ أَخَصِّ الْخَوَاصِّ وَهُوَ التَّلَذُّذُ بِالْبَلَاءِ، وَبِهِ يَصِلُ إِلَى مَرْتَبَةِ الشُّكْرِ وَغَايَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ: «اعْبُدِ اللَّهَ عَلَى الرِّضَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَالصَّبْرُ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ» . وَقَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5295 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» ) أَيْ: مُسْتَقِلًّا عَنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ اتِّبَاعِهِمْ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا (" هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ ") أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ الرُّقْيَةَ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِ الْكَلِمَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ الصَّمَدَانِيَّةِ (" وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ") أَيْ: وَلَا يَتَشَاءَمُونَ بِنَحْوِ الطَّيْرِ، وَلَا يَأْخُذُونَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْمَسْمُوعَاتِ عَلَامَةَ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ، بَلْ يَقُولُونَ كَمَا وَرَدَ: «اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ» . (" وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ") أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُونَ وَيَتْرُكُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجَمْعُ بَيْنَ جُمْلَتَيْ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ مِنَ الثُّنَائِي الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِيعَابُ لِقَوْلِهِمْ: لَا يَنْفَعُ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، عَلَى مَعْنَى لَا يَنْفَعُ إِنْسَانٌ مَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا مِنْ صِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَعَوَائِقِهَا الَّذِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَلَائِقِهَا، وَتِلْكَ دَرَجَةُ الْخَوَاصِّ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، وَأَمَّا الْعَوَامُّ فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي التَّدَاوِي وَالْمُعَالَجَاتِ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَانْتَظَرَ الْفَرَجَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالدُّعَاءِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَوَاصِّ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ رَخَّصَ لَهُ فِي الرُّقْيَةِ وَالْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمَّا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمًا مِنْهُ بِيَقِينِهِ وَصَبْرِهِ، وَلَمَّا أَتَاهُ الرَّجُلُ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الْحَمَامِ مِنَ الذَّهَبِ وَقَالَ: لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ، فَضَرَبَهُ بِحَيْثُ لَوْ أَصَابَهُ عَقَرَهُ وَقَالَ فِيهِ مَا قَالَ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ غَضَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ إِتْيَانَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، بَلْ إِفْشَاءَ سِرِّهِ وَإِظْهَارَ حَالِهِ بِقَوْلِهِ: لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَوَهُّمِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ الْمَازِرِيُّ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ مَكْرُوهٌ، وَمُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي مَنَافِعِ الْأَدْوِيَةِ، وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدَاوَى، وَبِأَخْبَارِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ كَثْرَةِ تَدَاوِيهِ، وَبِمَا عُلِمَ مِنَ الِاسْتِشْفَاءِ بَرُقْيَاهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَدْوِيَةَ نَافِعَةٌ بِطَبْعِهَا، وَلَا يَفَوِّضُونَ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَسْطُورِ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ مَنْ كُمَّلِ الْأَوْلِيَاءِ، وَخُلَّصِ الْأَصْفِيَاءِ، فَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ الْأَوْلَى فِي حَقِّ أَهْلِ الْهِدَايَةِ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ غَيْرِ الْعَادِيَّة، وَإِنْ كَانَ جَازَ هَذَا لِلْعَوَامِّ وَبَابِ الْبِدَايَةِ، وَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمُعَالَجَةِ بِالْأَدْوِيَةِ عَلَى اخْتِيَارِ الرُّخْصَةِ رِعَايَةً لِعَامَّةِ الْأُمَّةِ، أَوْ عَلَى مَرْتَبَةِ جَمْعِ الْجَمْعِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ مِنْ أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْأَسْبَابِ، وَمُلَاحَظَةَ صَنَائِعِ رَبِّ الْأَرْبَابِ هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ الْكُمَّلِ، فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ. وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5296 - وَعَنْهُ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ: " عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ أُمَّتِي. فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ. فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ) . ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: " سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5296 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ: " عُرِضَتْ عَلَيَّ ") أَيْ: أُظْهِرَتْ لَدَيَّ (" الْأُمَمُ ") أَيْ: مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ (" فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ ") : التَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ مَا هُوَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَاتِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَمُرُّ نَبِيٌّ مِنْهُمْ عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَيَّ (" وَمَعَهُ الرَّجُلُ ") أَيِ: الْوَاحِدُ مِنْ أَتْبَاعِهِ لَيْسَ لَهُ تَابِعٌ غَيْرَهُ، (وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ) أَيِ: الْجَمَاعَةُ، وَالْمُرَادُ الرِّجَالُ (" وَالنَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ") أَيْ: لَا مِنَ الرِّجَالِ وَلَا مِنَ النِّسَاءِ، وَالْمُرَادُ

مِنَ النَّبِيِّ هُنَا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمَأْمُورُ بِالتَّبْلِيغِ، وَقَيْدُ الرُّجُولِيَّةِ وَاقِعِيَّةٌ غَالِبِيَّةٌ أَوْ قَضِيَّةٌ مِثَالِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ الْوَحْدَةُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعِيَّةُ (" فَرَأَيْتُ ") أَيْ: مِنْ أَمَامِي (" سَوَادًا كَثِيرًا ") أَيْ: جَمْعًا عَظِيمًا وَفَوْجًا جَسِيمًا (" سَدَّ الْأُفُقَ ") أَيْ: سَتَرَ طَرْفَ السَّمَاءِ بِكَثْرَتِهِ (" فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ ") أَيِ: السَّوَادُ الْكَثِيرُ (" أُمَّتِي فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ ") أَيْ: مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ دِينِهِ (" ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ ") : فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْرَقَ حِينَئِذٍ وَأَعْرَضَ عَنْ مَوْضِعِ الْعَرْضِ حَيَاءً، فَقِيلَ لَهُ: انْظُرْ تَرَى رِجَالًا (" فَرَأَيْتُ ") أَيْ: مِنْ قُدَّامِي (" سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ ") أَيْ: فَقَنِعْتُ بِذَلِكَ وَشَكَرْتُ لِمَا هُنَالِكَ (" فَقِيلَ لِي ") أَيْ: بَلْ لَكَ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ الِاسْتِفَادَةِ (" انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا ") أَيِ: الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ (" فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ. فَقِيلَ ") أَيْ: لِي (" هَؤُلَاءِ ") أَيْ: مَجْمُوعُ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَطَرَفَيْكَ (" أُمَّتُكَ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ ") أَيْ: مَنْ جُمْلَتِهِمْ أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِمْ (" سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ ") : وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (" يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ") : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَحْتَمِلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِكَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّ يَكُونَ مَعْنَاهُ فِي جُمْلَتِهِمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ: «هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا» (" هُمْ ") : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيِ: السَبْعُونَ هُمُ (" الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ ") أَيْ: إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمَا وَقَعَ الْكَيُّ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، أَوْ مُطْلَقًا اسْتِسْلَامًا لِلْقَضَاءِ وَتَلَذُّذًا بِالْبَلَاءِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا تَأْثِيرَ بِحَسَبَ الْحَقِيقَةِ لِمَا سِوَاهُ، فَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ خَارِجُونَ عَنْ دَائِرَةِ الْوُجُودِ فَانُونَ عَنْ حُظُوظِ أَنْفُسِهِمْ بَاقُونَ بِحَقِّ اللَّهِ فِي حِرَاسَةِ أَنْفَاسِهِمْ كَمَا قَالَ: (" وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " فَقَامَ عُكَّاشَةُ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ وَتُخَفَّفُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُغْنِي (ابْنُ مِحْصَنٍ) : بِكَسْرِ مِيمٍ وَفَتْحِ صَادٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسَدِيٌّ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَانْكَسَرَ سَيْفُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرْجُونًا أَيْ: عُودًا فَصَارَ فِي يَدِهِ سَيْفًا، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَلَهُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُخْتِهِ أُمِّ قَيْسٍ. (" فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ) : مَا أَحْسَنَ هَذَا السُّؤَالَ الْمُشِيرَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكَمَالِ، بَلْ مِنْ أَرْبَابِ الْوِصَالِ، حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذَا الْمَقَالِ وَالْحَالِ إِلَّا بِوَسِيلَةِ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ. (قَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ " ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ نَاوِيًا قَاصِدًا لِلْقِيَامِ بِأَفْعَالِهِمْ، بَلْ مُتَّصِفًا بِأَحْوَالِهِمْ، وَأَنَّ الثَّانِيَ طَلَبَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَنِّي مِنْ غَيْرِ التَّعَنِّي، وَطَرِيقِ التَّقْلِيدِ فِي التَّحَلِّي مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّجَلِّي. (قَالَ: " سَبَقَكَ بِهَا ") أَيْ: بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ أَوْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (" عُكَّاشَةُ ") : وَقَدِ اسْتُجِيبَ لَهُ، وَالْمَعْبَرُ فِيهَا هِيَ الْأَوَّلِيَّةُ كَمَا وَرَدَ: «إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الِامْتِنَاعِ مِنَ الدُّعَاءِ أَنْ لَا يَنْفَتِحَ هَذَا الْبَابُ الْمُتَفَرِّعُ عَلَيْهِ الِاكْتِفَاءُ. قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بِالدُّعَاءِ إِلَّا لِوَاحِدٍ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَطَلَبِ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٌ. وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ مُنَافِقًا فَأَجَابَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَلَامٍ مُحْتَمَلٍ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ لِحُسْنِ خُلُقِهِ، انْتَهَى. وَقِيلَ: قَدْ يَكُونُ سَبْقُ عُكَّاشَةَ بِوَحْيٍ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِلْآخَرِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ، وَلَا كَانَ بِصِفَةِ أَهْلِهَا بِخِلَافِ عُكَّاشَةَ. وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ الشَّيْخُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ: أَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا بَطَلَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5297 - وَعَنْ صُهَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5297 - (وَعَنْ صُهَيْبٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ابْنُ سِنَانٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ التَّيَمِيِّ، يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى، كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ فِيمَا بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، فَأَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَسَبَتْهُ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ فَنَشَأَ بِالرُّومِ فَابْتَاعَهُ مِنْهُمْ كَلْبٌ، ثُمَّ قَدِمَتْ بِهِ مَكَّةَ فَاشْتَرَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ فَأَعْتَقَهُ، فَأَقَامَ مَعَهُ إِلَى أَنْ هَلَكَ، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ نَزَلَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عَجَبًا ") أَيْ: عَجِبْتُ عَجَبًا (" لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ") أَيْ: لِشَأْنِهِ وَمَا لَهُ فِي كُلِّ حَالِهِ (" إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ ") : بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ رَفْعُهُ كَمَا قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] أَيْ: جَمِيعَ أُمُورِهِ. (لَهُ خَيْرٌ) أَيْ: خَيْرٌ لَهُ فِي الْمَآلِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ شَرًّا صُورِيًّا فِي الْحَالِ، وَقَدَّمَ الظَّرْفَ اهْتِمَامًا (" وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مُظْهَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ لِيُشْعِرَ بِالْعَلِيَّةِ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ الْإِظْهَارَ وَالْإِضْمَارَ مُسْتَوِيَانِ فِي الْإِشْعَارِ بِالْعَلِيَّةِ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ هِيَ إِظْهَارُ الْإِشْعَارِ عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِ، فَإِنَّهُ آكَدُ مِنْ طَرِيقِ التَّلْوِيحِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْضِيحِ بِقَوْلِهِ: (" إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ ") أَيْ: نَعْمَاءُ وَسَعَةُ عَيْشٍ وَرَخَاءٌ وَتَوْفِيقُ طَاعَةٍ مِنْ أَدَاءٍ وَقَضَاءٍ (" شَكَرَ فَكَانَ ") أَيْ: شُكْرُهُ (خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ) : أَيْ: فَقْرٌ وَمَرَضٌ وَمِحْنَةٌ وَبَلِيَّةٌ (صَبَرَ فَكَانَ) أَيْ: صَبْرُهُ (" خَيْرًا لَهُ ") : وَبِهَذَا تَبَيَّنَ قَوْلُ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ عَلَى الْإِطْلَاقِ: أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، بَلْ حَالَةُ التَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ أَوْلَى، وَالْقِيَامُ بِمُقْتَضَى الْوَقْتِ أَعْلَى بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَفَاوُتِ الرِّجَالِ. قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30] . وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ( «إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ فَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى فَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَضَاعَ حَالُهُ» ) : لِذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الْفَقْرُ وَالْغِنَى مَطِيَّتَانِ لَا أُبَالِي أَيَّتُهُمَا أَرْكَبُ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي طَلَبِ طُولِ الْعُمُرِ لِطَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ طَلَبِ الْمَوْتِ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، أَوْ لِلِاشْتِيَاقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ الْمُعْتَمَدُ التَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ: " «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» " ثُمَّ وَجَّهَ حَصْرَ الْخَيْرِ فِي كُلِّ حَالٍ لِلْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَبِعَ وَبَطِرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ جَزَعَ وَكَفَرَ، بِخِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ: إِذَا كَانَ شُكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ نِعْمَةً عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ وَاتَّسَعَ الْعُمُرُ إِذَا مَسَّ بِالنَّعْمَاءِ عَمَّ سُرُورَهَا وَإِنْ مَسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهُ الْأَجْرَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْضِ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ» " وَرَوَى الطَّيَالِسِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا: " «عَجِبْتُ لِلْمُسْلِمِ إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ احْتَسَبَ وَصَبَرَ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ اللَّهَ وَشَكَرَ، إِنَّ الْمُسْلِمَ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِيهِ» ".

5298 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5298 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ ") أَيِ: الْقَادِرُ عَلَى تَكْثِيرِ الطَّاعَةِ (" خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ") : عَطْفُ تَفْسِيرٍ (" مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ") أَيِ: الْعَاجِزِ عَنْهُ، (" وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ") أَيْ: أَصْلُ الْخَيْرِ مَوْجُودٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ الْقَوِيُّ الصَّابِرُ عَلَى مُخَالَطَةِ النَّاسِ وَتَحَمُّلِ أَذِيَّتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمُ الْخَيْرَ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْهُدَى، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» ". وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمُؤْمِنِ الْقَوِيُّ الَّذِي قَوِيَ فِي إِيمَانِهِ وَصَلُبَ فِي إِيقَانِهِ بِحَيْثُ لَا يَرَى الْأَسْبَابَ، وَوَثِقَ بِمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَالْمُؤْمِنُ الضَّعِيفُ بِخِلَافِهِ وَهُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقُوَّةُ هُنَا يُرَادُ بِهَا عَزِيمَةُ النَّفْسِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ هَذَا أَكْثَرَ إِقْدَامًا عَلَى الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، وَأَسْرَعَ خُرُوجًا وَذَهَابًا فِي طَلَبِهِ وَأَشَدَّ عَزِيمَةً فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: فِي كُلٍّ خَيْرٌ، مَعْنَاهُ فِي كُلٍّ مِنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ خَيْرٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِيمَانِ، مَعَ مَا يَأْتِي بِهِ الضَّعِيفُ مِنَ الْعِبَادَاتِ (" احْرِصْ ") : بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل: 37] وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: حَرَصَ كَضَرَبَ وَسَمِعَ، وَالْمَعْنَى كُنْ حَرِيصًا (" عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ") أَيْ: مِنْ أُمُورِ الدِّينِ (" وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ") أَيْ: عَلَى فِعْلِكَ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (" وَلَا تَعْجِزْ ") بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: أَعَجَزْتُ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ فَفِي الْقَامُوسِ: عَجَزَ كَضَرَبَ وَسَمِعَ أَيْ: وَلَا تَعْجَزْ عَنِ الْحِرْصِ وَالِاسْتِعَانَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعْطِيكَ قُوَّةً عَلَى طَاعَتِهِ إِذَا اسْتَقَمْتَ عَلَى اسْتِعَانَتِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَعْجِزْ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا أُمِرْتَ، وَلَا تَتْرُكْهُ مُقْتَصِرًا عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِ، فَإِنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ " احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَلَا تَتْرُكِ الْجُهْدَ " بَيَانًا لِلْقَوِيِّ " وَلَا تَعْجِزْ " بَيَانًا لِلضَّعِيفِ (" وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ ") أَيْ: مِنْ أَمْرِ دِينِكَ أَوْ دُنْيَاكَ (" فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ ") أَيْ: كَذَا وَكَذَا (" كَانَ ") أَيْ: لَصَارَ (" كَذَا وَكَذَا ") : فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ سَدِيدٍ، وَمَعَ هَذَا غَيْرُ مُفِيدٍ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ» " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران: 153] (" وَلَكِنْ قُلْ ") أَيْ: بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ لِسَانِ الْحَالِ. (" قَدَّرَ اللَّهُ ") : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا. أَيْ: قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا. أَيْ: وَقَعَ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى قَضَائِهِ وَعَلَى وَفْقِ قَدَرِهِ. (" وَمَا شَاءَ ") أَيِ: اللَّهُ فِعْلَهُ (" فَعَلَ ") : فَإِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، (" فَإِنَّ لَوْ ") أَيْ: كَلِمَةَ الشَّرْطِ أَوْ إِنَّ (" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ") .

قَالَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَمْ وَلَوْ وَلَيْتَ تُوَرِّثُ الْقَلْبَ انْفِلَاقًا. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ، أَيْ: أَنَّ قَوْلَ لَوْ وَاعْتِقَادَ مَعْنَاهَا يُفْضِي بِالْعَبْدِ إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ، أَوْ عَدَمِ الرِّضَا بِصُنْعِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْقَدَرَ إِذَا ظَهَرَ بِمَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ قَالَ: لَوْ فَعَلْتُ كَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا، وَقَدْ قُدِّرَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ إِلَّا الَّذِي فُعِلَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا الَّذِي كَانَ، وَقَدْ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَلَمْ يُرِدْ كَرَاهَةَ اللَّفْظِ بِلَوْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَسَائِرِ الصُّوَرِ، وَإِنَّمَا عَنَى الْإِتْيَانَ بِهَا فِي صِيغَةٍ تَكُونُ فِيهَا مُنَازَعَةُ الْقَدَرِ وَالتَّأَسُّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَإِلَّا فَقَدَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} [آل عمران: 154] . وَفِي الْحَدِيثِ: " «لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ» " لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مُنَازَعَةَ الْقَدَرِ. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ أَيْ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ لِي وَكُنْتُ مُسْتَبِدًّا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فِيهِ تَأَسُّفٌ عَلَى الْفَائِتِ، وَمُنَازَعَةٌ لِلْقَدَرِ وَإِيهَامٌ بِأَنَّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِاسْتِبْدَادِهِ، وَمُقْتَضَى رَأْيِهِ خَيْرٌ مِمَّا سَاقَهُ الْقَدَرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَوْ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فِيمَا مَضَى، وَلِذَلِكَ اسْتَكْرَهَهُ وَجَعَلَهُ مِمَّا يَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ " وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ " لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ قُصِدَ بِهِ تَطْيِيبُ قُلُوبِهِمْ وَتَحْرِيضِهِمْ عَلَى التَّحَلُّلِ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ قَالَهُ مُعْتَقَدًا ذَلِكَ حَتْمًا، وَأَمَّا «قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ رَأْسَهُ لَرَآنَا» ، فَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذَا» " وَشِبْهُ ذَلِكَ لَا اعْتِرَاضَ فِيهِ عَلَى قَدَرٍ، فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ اعْتِقَادِهِ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ لَوْلَا الْمَانِعُ وَعَمَّا هُوَ فِي قُدْرَتِهِ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَلَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ، وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ، أَنَّهُ يُلْقِي فِي الْقَلْبِ مُعَارَضَةَ الْقَدَرِ وَيُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُ " لَوْ " فِي الْمَاضِي كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ» " فَالظَّاهِرُ إِنَّمَا وَرَدَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَيَكُونُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ، وَأَمَّا مَنْ قَالَهُ مُتَأَسِّفًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ هُوَ مُعْتَذِرٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ " لَوْ " الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَحَادِيثِ. أَقُولُ: بَلِ التَّأَسُّفُ عَلَى فَوْتِ طَاعَةِ اللَّهِ مِمَّا يُشَابُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ، فَقَدْ رَوَى الرَّازِيُّ فِي مَشْيَخَتِهِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: مَنْ أَسِفَ عَلَى دُنْيَا فَاتَتْهُ اقْتَرَبَ مِنَ النَّارِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَمَنْ أَسِفَ عَلَى آخِرَةٍ فَاتَتْهُ اقْتَرَبَ مِنَ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَلَفْظُ الْجَزَرِيِّ فِي الْحِصْنِ: وَمَنْ وَقَعَ لَهُ مَا لَا يَخْتَارُهُ فَلَا يَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا أَيْ: لَكَانَ كَذَا وَكَذَا - وَلَوْ لِلتَّمَنِّي - وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بِقَدِرِ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ السُّنِّيِّ، لَكِنَّ لَفْظَ النَّسَائِيِّ وَابْنِ السُّنِّيِّ: قَدَّرَ اللَّهُ مَوْضِعُ بِقِدَرِ اللَّهِ، وَقَدْ ضُبِطَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، وَبِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ بِالرَّفْعِ مُضَافًا، وَأَيْضًا لَفْظُهُمَا صَنَعَ بَدَلُ فَعَلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ الْأَشْجَعِيِّ مَرْفُوعًا: " «مَنْ غَلَبَهُ أَمْرٌ فَلْيَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ".

الْفَصْلُ الثَّانِي 5299 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5299 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ ") وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ أَيْ: تَعْتَمِدُونَ (" عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ") أَيْ: بِأَنْ تَعْلَمُوا يَقِينًا أَنْ لَا فَاعِلَ فِي الْوُجُودِ مَوْجُودٌ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ خَلْقٍ وَرِزْقٍ، وَعَطَاءٍ وَمَنْعٍ، وَضُرٍّ وَنَفْعٍ، وَفَقْرٍ وَغِنًى، وَمَرَضٍ وَصِحَّةٍ، وَمَوْتٍ وَحَيَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَوْجُودِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَبِ عَلَى الْوَجْهِ الْجَمِيلِ، وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ تَشْبِيهُهُ بِالطَّيْرِ، فَإِنَّهَا تَغْدُو خِمَاصًا، ثُمَّ تَسْرَحُ فِي طَلَبِ الْقُوتِ فَتَرُوحُ بِطَانًا (" لَرَزَقَكُمْ ") وَلَوْ تَرَكْتُمُ الْأَسْبَابَ فَإِنَّهُ يَرْزُقُ الْبُطَّالَ وَالْعُمَّالَ، وَقَدْ يَرْزُقُ الضَّعِيفَ بِحَيْثُ يَتَعَجَّبُ الْقَوِيُّ (" كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ") : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (" تَغْدُو ") أَيْ: تَذْهَبُ أَوَّلَ النَّهَارِ (" خِمَاصًا ") : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، جَمْعُ خَمِيصٍ أَيْ: جِيَاعًا (" وَتَرُوحُ ") أَيْ: تَرْجِعُ آخِرَ النَّهَارِ (بِطَانًا) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، جَمْعُ بَطِينٍ وَهُوَ عَظِيمُ الْبَطْنِ، وَالْمُرَادُ شِبَاعًا، وَفِي قَوْلِهِ: تَغْدُو إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ بِالْإِجْمَالِ لَا يُنَافِي الِاعْتِمَادَ عَلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60] فَالْحَدِيثُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ لَيْسَ بِرَازِقٍ، بَلِ الرَّازِقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لَا لِلْمَنْعِ عَنِ الْكَسْبِ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ فَلَا يُنَافِيهِ حَرَكَةُ الْجَوَارِحِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَرْزُقُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ، بَلْ بِتَحْرِيكِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ يَصِلُ رِزْقُ اللَّهِ بِبَرَكَتِهِ كَمَا يُسْتَفَادُ الْعُمُومُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] . قَدْ حُكِيَ أَنَّ فَرْخَ الْغُرَابِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْضَتِهِ يَكُونُ أَبْيَضَ، فَيَكْرَهُهُ الْغُرَابُ فَيَتْرُكُهُ وَيَذْهَبُ وَيَبْقَى الْفَرْخُ ضَائِعًا، فَيُرْسِلُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ الذُّبَابَ وَالنَّمْلَ، فَيَلْتَقِطُهُمَا إِلَى أَنْ يَكْبَرَ قَلِيلًا يَسْوَدَّ فَيَرْجِعَ إِلَيْهِ الْغُرَابُ، فَيَرَاهُ أَسْوَدَ فَيَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَتَعَهَّدَهُ، فَهَذَا يَصِلُ إِلَيْهِ رِزْقُهُ بِلَا سَعْيٍ، وَالْحِكَايَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَالرِّوَايَاتُ بِهِ شَهِيرَةٌ. وَمِنْ غَرَائِبِ مَا حُكِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ لِعِزْرَائِيلَ: هَلْ رَحِمْتَ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَ نَزْعِ الْأَرْوَاحِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَبِّ! حِينَ غَرِقَ أَهْلُ سَفِينَةٍ وَبَقِيَ بَعْضُ أَهْلِهِ عَلَى الْأَلْوَاحِ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بِوَلَدِهَا تُرْضِعُهُ فَوْقَ لَوْحٍ، فَأُمِرْتُ بِقَبْضِ رُوحِهَا فَرَحِمْتُ حِينَئِذٍ عَلَى وَلَدِهَا. قَالَ تَعَالَى: فَأَلْقَيْتُهُ عَلَى جَزِيرَةٍ وَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَسَدًا تُرْضِعُهُ إِلَى أَنْ كَبِرَ قَلِيلًا، ثُمَّ قَيَّضْتُ لَهُ بَعْضًا مِنَ الْجِنِّ لِيَعْلِّمَهُ لِسَانَ الْإِنْسِ إِلَى أَنْ نَشَأَ نَشْأَةً كَامِلَةً، وَدَخَلَ فِي الْعِمَارَةِ، وَحَصَلَ لَهُ الْإِمَارَةُ، وَوَصَلَ إِلَى مَرْتَبَةِ السَّلْطَنَةِ، وَأَحَاطَ بِجَمِيعِ الْمَمْلَكَةِ فَادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ، وَنَسِيَ الْعُبُودِيَّةَ وَحُقُوقَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَاسْمُهُ شَدَّادٌ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، فَالرَّحِيمُ الَّذِي يَرْزُقُ أَعْدَاءَهُ كَيْفَ يَنْسَى أَحِبَّاءَهُ؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قَدْ يُظَنُّ أَنَّ مَعْنَى التَّوَكُّلِ تَرْكُ الْكَسْبِ بِالْبَدَنِ، وَتَرْكُ التَّدْبِيرِ بِالْقَلْبِ، وَالسُّقُوطُ عَلَى الْأَرْضِ كَالْخِرْقَةِ الْمُلْقَاةِ أَوْ كَلَحْمٍ عَلَى وَضَمٍ، وَهَذَا ظَنُّ الْجُهَّالِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فِي الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ قَدْ أَثْنَى عَلَى الْمُتَوَكِّلِ، فَكَيْفَ يُنَالُ مَقَامٌ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ بِمَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الدِّينِ؟ بَلْ نَكْشِفُ عَنِ الْحَقِّ فِيهِ، فَنَقُولُ: إِنَّمَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُ التَّوَكُّلِ فِي حَرَكَةِ الْعَبْدِ وَسَعْيِهِ بِعَمَلِهِ إِلَى مَقَاصِدِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ التَّوَكُّلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَأَمَّا الْحَرَكَةُ بِالظَّاهِرِ فَلَا تُنَافِي التَّوَكُّلَ بِالْقَلْبِ بَعْدَ مَا يَحِقُّ الْعَبْدُ أَنَّ الرِّزْقَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ تَعَسَّرَ شَيْءٌ فَبِتَقْدِيرِهِ، وَإِنْ تَيَسَّرَ شَيْءٌ فَبِتَيْسِيرِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

5300 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّهَا النَّاسُ! لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَإِنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ - نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) والْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ (وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5300 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيُّهَا النَّاسُ! لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ ") : مِنْ زَائِدَةٌ مُبَالَغَةً أَيْ: لَيْسَ شَيْءٌ مَا مِنَ الْأَشْيَاءِ (" يُقَرِّبُكُمْ ") : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: يَجْعَلُكُمْ قَرِيبًا (" إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ ") أَيْ: وَمِنْ شَيْءٍ يُبَاعِدُكُمْ (" مِنَ النَّارِ ") أَيْ: عَلَى وَجْهِ السَّبَبِيَّةِ، فَالنِّسْبِيَّةُ فِي الْفِعْلَيْنِ مَجَازِيَّةٌ (" إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ ") أَيْ: بِمَا ذُكِرَ أَوْ بِكُلٍّ مِنْهُمَا (" وَلَيْسَ شَيْءٌ ") : لَيْسَ مِنْ هُنَا فِي الْأُصُولِ (" يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ") : وَفِيهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْعُلُومِ مِنَ الْأُمُورِ النَّافِعَةِ وَالْأُمُورِ الدَّافِعَةِ يُسْتَفَادُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِغَيْرِهَا تَضْيِيعُ الْعُمُرِ مِنْ غَيْرِ الْمَنْفَعَةِ (" وَإِنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: وَإِنَّ رُوحَ الْأَمِينِ أَيْ: جِبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] (وَفِي رِوَايَةٍ: " وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ ") : بِضَمَّتَيْنِ وَتُسَكَّنُ الدَّالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87] أَيِ: الرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمُدَنَّسَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ كَمَا يُقَالُ: حَاتِمُ الْجُودِ وَرَجُلُ صِدْقٍ، فَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاخْتِصَاصِ، فَفِي الصِّفَةِ الْقُدُسُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا، وَفِي الْإِضَافَةِ بِالْعَكْسِ نَحْوَ مَالِ زَيْدٍ (" نَفَثَ فِي رُوعِي ") : بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَأَلْقَى مِنَ النَّفْثِ بِالْفَمِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالنَّفْخِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التَّفْلِ ; لِأَنَّ التَّفْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيقِ، وَالرُّوعُ الْجِلْدُ وَالنَّفْسُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ وَحْيًا خَفِيفًا (" أَنَّ نَفْسًا ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَيَجُورُ الْكَسْرُ لِأَنَّ الْإِيحَاءَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ نَفْسًا ذَاتَ نَفَسٍ وَهِيَ حَيٌّ مَخْلُوقٌ (" لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ") أَيِ: الْمُقَدَّرَ لَهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الروم: 40] (" أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ أَيْ: تَنَبَّهُوا (" فَاتَّقُوا اللَّهَ ") : فَإِنَّكُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّقْوَى وَبِالسَّعْيِ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى (" وَأَجْمِلُوا ") أَيْ: مِنَ الْإِجْمَالِ أَيْ: وَأَحْسِنُوا (" فِي الطَّلَبِ ") أَيْ: فِي تَحْصِيلِ الرِّزْقِ وَلَا تُبَالِغُوا فِي طَلَبِهِ، فَإِنَّكُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] فَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ، أَوِ الْمَعْنَى اطْلُبُوا مِنَ الْحَلَالِ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (" وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: لَا يَبْعَثُكُمُ (" اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ ") أَيْ: تَأْخِيرُهُ وَمُكْثُهُ عَلَيْكُمْ (" أَنْ تَطْلُبُوهُ ") أَيْ: عَلَى أَنْ تَبْتَغُوهُ (بِمَعَاصِي اللَّهِ) أَيْ: بِسَبَبِ ارْتِكَابِهَا بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَرَامِ كَسَرِقَةٍ وَغَصْبِ وَخِيَانَةٍ وَإِظْهَارِ سِيَادَةٍ وَعِبَادَةٍ وَدِيَانَةٍ، وَأَخْذٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ زِيَادَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (" فَإِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنَ (" لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ ") أَيْ: مِنَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ وَحُسْنِ الْمَآلِ (" إِلَّا بِطَاعَتِهِ ") أَيْ: لَا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ طَرِيقِ الْوَبَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: فَأَجْمِلُوا أَيِ: اكْتَسِبُوا الْمَالَ بِوَجْهٍ جَمِيلٍ، وَهُوَ أَنْ لَا تَطْلُبَهُ إِلَّا بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، وَالِاسْتِبْطَاءُ بِمَعْنَى الْإِبْطَاءِ وَالسِّينُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا أَنَّ اسْتَعَفَّ بِمَعْنَى عَفَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] وَفِيهِ أَنَّ الرِّزْقَ مُقَدَّرٌ مَقْسُومٌ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى الْعَبْدِ، لَكِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَعَى وَطَلَبَ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ وُصِفَ بِأَنَّهُ حَلَالٌ، وَإِذَا طَلَبَ بِوَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فَهُوَ حَرَامٌ، فَقَوْلُهُ: مَا عِنْدَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِذَا طُلِبَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ذُمَّ وَسُمِّيَ حَرَامًا، وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِطَاعَتِهِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِذَا طُلِبَ بِطَاعَتِهِ مُدِحَ وَسُمِّيَ حَلَالًا. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ يُسَمَّى رِزْقًا وَكُلَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " والْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ: الْبَيْهَقِيُّ (لَمْ يَذْكُرْ: " وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ ") : فَرِوَايَةُ رُوحِ الْقُدُسِ مِنْ رِوَايَاتِ الْبَغَوِيِّ أَوْ غَيْرِهِ.

قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْقَنَاعَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ، وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. قُلْتُ: وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ» ".

5301 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ بِمَا فِي يَدَيِ اللَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ الرَّاوِي مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5301 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الزَّهَادَةُ ") : بِفَتْحِ الزَّايِ أَيْ: تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا (" لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ ") : كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْكَمَالِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ أَوِ الْحَلْوَاءِ وَالْفَوَاكِهِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ وَمِنَ التَّزَوُّجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَلَا أَكْمَلَ مِنْ حَالِهِ الْكَمَالُ. (" وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ ") أَيْ: بِتَضْيِيعِهِ وَصَرْفِهِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ بِأَنْ يَرْمِيَهُ فِي بَحْرٍ أَوْ يُعْطِيَهُ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالزَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ، وَخُلُوِّ الْيَدِ عَنِ الْأَمْوَالِ الطَّاهِرَةِ، ثُمَّ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ إِلَى الْخَلْقِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْمَعِيشَةِ الْحَاضِرَةِ، بَلِ الْمَدَارُ عَلَى الزُّهْدِ الْقَلْبِيِّ بِالِانْجِذَابِ الرَّبِّيِّ، وَلِذَا اسْتَدْرَكَ مَا سَبَقَهُ مِنَ الْمَقَالِ حَيْثُ قَالَ: (" وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ ") : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ الْمُعْتَبَرَةَ الْكَامِلَةَ (" فِي الدُّنْيَا ") أَيْ: فِي شَأْنِهَا (أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ) أَيْ: مِنَ الْأَمْوَالِ أَوْ مِنَ الصَّنَائِعِ وَالْأَعْمَالِ (أَوْثَقَ) أَيْ: أَرْجَى مِنْكَ (" بِمَا فِي يَدَيِ اللَّهِ ") : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ أَيْ: بِخَزَائِنِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ، وَالْمَعْنَى لِيَكُنِ اعْتِمَادُكَ بِوَعْدِ اللَّهِ لَكَ مِنْ إِيصَالِ الرِّزْقِ إِلَيْكَ، وَمِنْ إِنْعَامِهِ عَلَيْكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ، وَمِنْ وَجْهٍ لَا تَكْتَسِبُ أَقْوَى وَأَشَدَّ مِمَّا فِي يَدَيْكَ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَالْعَقَارِ وَأَنْوَاعِ الصَّنَائِعِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ، وَلَوْ عَلِمَ الْكِيمْيَا وَعَلِمَ السِّيمْيَا، فَإِنَّ مَا فِي يَدَيْكَ يُمْكِنُ تَلَفُهُ وَفَنَاؤُهُ بِخِلَافِ مَا فِي خَزَائِنِهِ، فَإِنَّهُ مُحَقَّقٌ بَقَاؤُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] (" وَأَنْ تَكُونَ ") : عَطْفٌ عَلَى " أَنْ لَا تَكُونَ "، وَالزَّهَادَةُ فِيهَا أَيْضًا أَنْ لَا تَلْتَفِتَ إِلَى التَّنَعُّمِ فِيهَا، وَالتَّلَذُّذِ بِوُجُودِ نِعَمِهَا، بَلْ وَأَنْ تَغْتَنِمَ حُصُولَ الْمِحْنَةِ وَوُصُولَ الْبَلِيَّةِ فِيهَا لِئَلَّا يَمِيلَ قَلْبُكَ إِلَيْهَا، وَلَا تَسْتَأْنِسَ نَفْسُكَ بِمَا عَلَيْهَا، فَتَكُونَ حِينَئِذٍ (فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" أَرْغَبَ فِيهَا ") أَيْ: فِي حُصُولِ الْمُصِيبَةِ (" لَوْ أَنَّهَا ") أَيْ: لَوْ فُرِضَ أَنَّ تِلْكَ الْمُصِيبَةَ (" أُبْقِيَتْ لَكَ ") أَيْ: مُنِعَتْ لِأَجْلِكَ وَأُخِّرَتْ عَنْكَ، فَوَضَعَ أُبْقِيَتْ مَوْضِعَ لَمْ تُصَبْ، وَجَوَابُ لَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهَا، وَخُلَاصَتُهُ أَنْ تَكُونَ رَغْبَتُكَ فِي وُجُودِ الْمُصِيبَةِ لِأَجْلِ ثَوَابِهَا أَكْثَرَ مِنْ رَغْبَتِكَ فِي عَدَمِهَا، فَهَذَانَ الْأَمْرَانِ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ عَلَى زُهْدِكَ فِي الدُّنْيَا وَمَيْلِكَ فِي الْعُقْبَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَرْغَبَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَإِذَا ظَرْفٌ، وَالْمَعْنَى أَنْ تَكُونَ فِي حَالِ الْمُصِيبَةِ وَقْتَ إِصَابَتِهَا أَرْغَبَ مِنْ نَفْسِكَ فِي الْمُصِيبَةِ حَالَ كَوْنِكَ غَيْرَ مُصَابٍ بِهَا ; لِأَنَّكَ تُثَابُ بِوُصُولِهَا إِلَيْكَ، وَيَفُوتُكَ الثَّوَابُ إِذَا لَمْ تَصِلْ إِلَيْكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ الرَّاوِي مُنْكَرُ الْحَدِيثِ) قُلْتُ: وَغَايَتُهُ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ مَبْنًى، وَلَكِنَّهُ حَدِيثٌ شَرِيفٌ مَعْنًى، وَمِثْلُهُ يُعْتَبَرُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةُ فِي الْعُقْبَى.

5302 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ: " يَا غُلَامُ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5302 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا) أَيْ: رَدِيفَهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِكَمَالِ حِفْظِهِ وَإِحْسَانِهِ وَاسْتِحْضَارِ لَفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ أَحَادِيثِهِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَّا فَأَكْثَرُ مَرْوِيَّاتِهِ بِالْوَاسِطَةِ، لَكِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ لِكَوْنِهَا مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَجْلِ صِغَرِهِ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ عَشْرٍ، لَكِنْ صَارَ حَبْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَالِمَهَا ; لِأَنَّهُ قَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحِكْمَةِ وَالْفِقْهِ وَالتَّأْوِيلِ، وَرَأَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّتَيْنِ، وَكُفَّ بَصَرُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَمَاتَ بِالطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. قِيلَ: الْمَعْنَى أَمْشِي خَلْفَهُ، لَا أَنَّهُ رَاكِبٌ رَدِيفَهُ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِمَا فِي وَسِيطِ الْوَاحِدِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَهْدَى كِسْرَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَغْلَةً، فَرَكِبَهَا بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ، ثُمَّ أَرْدَفَنِي خَلْفَهُ وَسَارَ بِي مِيلًا ثُمَّ الْتَفَتَ (فَقَالَ: " يَا غُلَامُ ") : بِالرَّفْعِ، كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَالظَّاهِرُ كَسْرُ الْمِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ يَا غُلَامِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا بَعْدَ حَذْفِهَا تَخْفِيفًا اكْتَفَى بِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، لَكِنْ قَدْ يُضَمُّ، وَذَلِكَ فِي الِاسْمِ الْغَالِبِ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ إِلَى الْيَاءِ لِلْعِلْمِ بِالْمُرَادِ، وَمِنْهُ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ: رَبُّ احْكُمْ بِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وُقُوعَ ضَمِّهَا لِمُشَاكَلَةِ ضَمِّ الْكَافِ كَمَا حُقِّقَ فِي " وَأَنِ احْكُمْ " حَيْثُ قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ مِنَ السَّبْعَةِ، ثُمَّ فِي يَا غُلَامُ لُغَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ قَلْبُ الْيَاءِ أَلِفًا، وَقَدْ جَاءَ شَاذًّا يَا غُلَامَ بِالْفَتْحِ اكْتِفَاءً بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفِ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَيْهِ بِالسُّكُونِ، وَلَمْ يُظْهِرْ عَلَيْهِ إِعْرَابًا عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي مِثْلِهِ، هَذَا وَالْمُرَادُ بِالْغُلَامِ هُنَا الْوَلَدُ الصَّغِيرُ لَا الْمَمْلُوكُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْغُلَامُ الطَّارُّ الشَّارِبِ، وَالْكَهْلُ ضِدُّهُ، أَوْ مِنْ حِينِ يُولَدُ إِلَى حِينِ يَشِبُّ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ النِّدَاءِ اسْتِحْضَارُهُ لَدَيْهِ وَتَوَجُّهُهُ إِلَى مَا يُلْقَى إِلَيْهِ، وَزَادَ فِي الْأَرْبَعِينَ: إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ أَيْ: فُصُولًا مُفِيدَةً فِي دَفْعِ اللَّأْوَاءِ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَالْآلَاءِ، (" احْفَظِ اللَّهَ ") أَيْ: أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ (" يَحْفَظْكَ ") أَيْ: يَحْفَظْكَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْآفَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَفِي الْعُقْبَى مِنْ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ وَالدَّرَكَاتِ جَزَاءً وِفَاقًا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ لَهُ (" احْفَظِ اللَّهَ ") أَيْ: حَقَّهُ مِنْ دَوَامِ ذِكْرِهِ وَتَمَامِ فِكْرِهِ وَقِيَامِ شُكْرِهِ. (" تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ") : بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ: أَمَامَكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَجِدْهُ حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ تِلْقَاءَكَ وَقُدَّامَكَ وَتُشَاهِدُهُ فِي مَقَامِ إِحْسَانِكَ وَإِيقَانِكَ وَكَمَالِ إِيمَانِكَ، كَأَنَّكَ تَرَاهُ بِحَيْثُ تُغْنَى بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ نَظَرِكَ مَا سِوَاهُ، فَالْأَوَّلُ حَالُ الْمُرَاقَبَةِ، وَالثَّانِي مَقَامُ الْمُشَاهَدَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِذَا حَفِظْتَ طَاعَةَ اللَّهِ وَجَدْتَهُ يَحْفَظُكَ وَيَنْصُرُكَ فِي مُهِمَّاتِكَ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتَ، وَيُسَهِّلُ لَكَ الْأُمُورَ الَّتِي قَصَدْتَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَجِدُ عِنَايَتَهُ وَرَأْفَتَهُ قَرِيبًا مِنْكَ يُرَاعِيكَ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، وَيُنْقِذُكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَضَرَّاتِ، وَيُسْعِدُكَ بِأَنْوَاعِ التُّحَفِ وَالْكَرَامَاتِ، فَهُوَ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا ذَرَّةَ مِنْ ذَرَّاتِ الْعَالَمِ إِلَّا وَنُورُ الْأَنْوَارِ مُحِيطٌ بِهَا قَاهِرٌ عَلَيْهَا قَرِيبٌ مِنْ وُجُودِهِ إِلَيْهَا لَا بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ فَقَطْ، وَلَا بِمَعْنَى الْإِيجَادِ فَقَطْ، بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ لَا يَجُوزُ كَشْفُهُ رَمَزَتْ إِلَيْهِ حَذَارَ الرَّقِيبِ وَكِتْمَانَ سِرِّ الْحَبِيبِ. إِذَا مَا تَلَاشَتْ فِي نُورِهِ ... يَقُولُ لِيَ ادْعُ فَإِنِّي قَرِيبُ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ رَاعِ حَقَّ اللَّهِ وَتَحَرَّ رِضَاهُ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ أَيْ: مُقَابِلَكَ وَحِذَاءَكَ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ كَمَا فِي تُقَاةٍ وَتُخَمَةٍ أَيِ: احْفَظْ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَحْفَظَكَ اللَّهُ مِنْ مَكَارِهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (" وَإِذَا سَأَلْتَ ") أَيْ: أَرَدْتَ السُّؤَالَ (" فَاسْأَلِ اللَّهَ ") : بِإِثْبَاتِ الْهَمْزِ وَيَجُورُ نَقْلُهُ أَيْ: فَاسْأَلِ اللَّهَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ خَزَائِنَ الْعَطَايَا عِنْدَهُ وَمَفَاتِيحَ الْمَوَاهِبِ وَالْمَزَايَا بِيَدِهِ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ أَوْ نِقْمَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ، فَإِنَّهَا تَصِلُ إِلَى الْعَبْدِ أَوْ تَنْدَفِعُ عَنْهُ بِرَحْمَتِهِ مِنْ غَيْرِ شَائِبَةِ عَرَضٍ وَلَا ضَمِيمَةِ عِلَّةٍ ; لِأَنَّهُ الْجَوَّادُ الْمُطْلَقُ وَالْغَنِيُّ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُرْجَى إِلَّا رَحْمَتُهُ، وَلَا يُخْشَى إِلَّا نِقْمَتُهُ، وَيُلْتَجَأَ فِي عَظَائِمِ الْمَهَامِّ إِلَيْهِ، وَيُعْتَمَدَ فِي جُمْهُورِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ، وَلَا يُسْأَلَ غَيْرُهُ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ،

فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، وَلَا يُتْرَكُ السُّؤَالُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْمَقَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» ، إِذِ السُّؤَالُ إِظْهَارُ شَعَائِرِ الِانْكِسَارِ، وَالْإِقْرَارُ بِسَمْتِ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ وَالْإِفْلَاسِ عَنْ ذُرْوَةِ الْقُوَّةِ وَالطَّاقَةِ إِلَى حَضِيضِ الِاسْتِكَانَةِ وَالْفَاقَةِ، وَنِعْمَ مَا قِيلَ: اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ (" وَإِذَا اسْتَعَنْتَ ") أَيْ: أَرَدْتَ الِاسْتِعَانَةَ فِي الطَّاعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (" فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ") : فَإِنَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. (" وَاعْلَمْ ") : زِيَادَةُ حَثٍّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالتَّقَرُّبِ بِالِاسْتِفَادَةِ لَدَيْهِ (" أَنَّ الْأُمَّةَ ") أَيْ: جَمِيعَ الْخَلْقِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ (" لَوِ اجْتَمَعَتْ ") أَيِ: اتَّفَقَتْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا (" عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ ") أَيْ: فِي أَمْرِ دِينِكَ أَوْ (لَمْ يَنْفَعُوكَ) أَيْ: لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ (إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ) أَيْ: قَدَّرَهُ، وَأَثْبَتَهُ فِي الذِكْرِ وَفَرَغَ مِنْهُ، وَقَدْ أَذِنَهُمْ فِي ذَلِكَ (" وَلَوِ اجْتَمَعُوا ") : وَقَعَ فِي الْأَرْبَعِينَ هُنَا بِلَفْظِ: وَإِنِ اجْتَمَعُوا، فَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ لَفْظَةَ لَوْ فِيمَا سَبَقَ بِمَعْنَى إِنْ إِذِ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} [النساء: 9] فَنُكْتَةُ الْعُدُولِ هُوَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى الْإِمْدَادِ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ بِخِلَافِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْإِيذَاءِ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ، وَلِذَا قِيلَ: الظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْهُ عَنِ الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ فِي الِاعْتِقَادِ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى إِيصَالِ النَّفْعِ وَالضَّرِّ بِدُونِ الْمَشِيئَةِ مِنَ الْمُحَالِ، فَإِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِالِاخْتِلَافِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّفَنُّنِ، وَاخْتِيَارُ لَوْ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى أَوْلَى ; لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْمُحَالِيَةِ، وَوُقُوعُ أَنْ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا مَعَ اسْتِفَادَةِ الْحُكْمِ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا (" عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ ") أَيْ: مِنْ سَلْبِ نَفْعٍ أَوْ جَلْبِ ضُرٍّ (" لَمْ يَضُرُّوكَ ") أَيْ: لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَضُرُّوكَ (" إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ") وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى أَنَّكَ وَحَدُّ اللَّهِ فِي الْمَطْلَبِ وَالْمَهْرَبِ، فَهُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ وَالْمُعْطِي الْمَانِعُ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَقْطَعَنَّ مَنْ يُؤَمِّلُ غَيْرِي، وَأُلْبِسَنَّهُ ثَوْبَ الْمَذَلَّةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَأُجَنِّبَنَّهُ مِنْ قُرْبِي، وَلَأُبْعِدَنَّهُ مِنْ وَصْلِي، وَلَأَجْعَلَنَّهُ مُتَفَكِّرًا حَيْرَانَ يُؤَمِّلُ غَيْرِي فِي الشَّدَائِدِ، وَالشَّدَائِدُ بِيَدِي وَأَنَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَيَطْرِقُ بِالْفِكْرِ أَبْوَابَ غَيْرِي، وَبِيَدِي مَفَاتِيحُ الْأَبْوَابِ، وَهِيَ مُغْلَقَةٌ وَبَابِي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دَعَانِي» ، هَذَا وَأَوْرَدَ اللَّامَ فِي جَانِبِ النَّفْعِ ; لِأَنَّهُ لِلْمِلْكِ، وَحَقِيقَتُهُ الِاخْتِصَاصُ النَّافِعُ. وَقَوْلُهُ: " {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] " مَجَازٌ فِي صُورَةِ الضَّرِّ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (" رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ ") أَيْ: مِنْ كِتَابَةِ الْأَحْكَامِ (" وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ") أَيْ: نَشَفَتْ مَا دُوِّنَ فِيهَا مِنْ أَقْضِيَةِ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يُوضَعُ عَلَيْهَا قَلَمٌ بَعْدُ بِتَدْوِينِ شَيْءٍ وَتَغْيِيرِ أَمْرٍ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا كُتِبَ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ، وَلَا يُكْتَبُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، فَعَبَّرَ عَنْ سَبْقِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ بِرَفْعِ الْقَلَمِ، وَجَفَافِ الصَّحِيفَةِ تَشْبِيهًا بِفَرَاغِ الْكَاتِبِ فِي الشَّاهِدِ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ حَدِيثُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ، وَحَدِيثُ جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ أَيْ: مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ فِي الْأَزَلِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ» ، وَجَفَافُ الْقَلَمِ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، لَا يُقَالُ: هَذَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ أَيْضًا مِمَّا جَفَّتِ الصُّحُفُ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ قِسْمَانِ: مُبْرَمٌ وَمُعَلَّقٌ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَمَّا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ فَلَا تَبْدِيلَ وَلَا تَغْيِيرَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَقِيلَ: عِنْدَ اللَّهِ كِتَابَانِ اللَّوْحُ، وَهُوَ

الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ، وَالَّذِي يَكْتُبُهُ الْمَلَكُ عَلَى الْخَلْقِ وَهُوَ مَحَلُّ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيَّ: احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ - بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: تَحَبَّبَ إِلَيْهِ بِحِفْظِ أَحْكَامِهِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ; لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ سَبَبُ الْمَحَبَّةِ - يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ - بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ: يُجَازِكَ فِيهَا - وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ - أَيْ: جَاوَزَ عَنْكَ النِّعْمَةَ وَالرَّخَاءَ وَالشِّدَّةَ وَالْبَلَاءَ، وَأَصْلُ الْخَطَأِ الْعُدُولُ عَنِ الْجِهَةِ - لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ - أَيْ: مُحَالٌ أَنْ يُصِيبَكَ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ مِنْ وُجُوهٍ مِنْ حَيْثُ دُخُولِ اللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ عَلَى الْخَبَرِ وَتَسْلِيطِ النَّفْيِ عَلَى الْكَيْنُونَةِ وَسِرَايَتِهِ فِي الْخَبَرِ - وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ - فِيهِ الْحَثُّ عَلَى التَّوَكُّلِ وَالرِّضَا وَنَفْيِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ عَنْهُ، إِذْ مَا مِنْ حَادِثَةٍ مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ وَعُسْرٍ وَيُسْرٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضَرٍّ، وَأَجَلٍ وَرِزْقٍ إِلَّا وَيَتَعَلَّقُ بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ عَامٍ جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ، فَسِيَّانِ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ، فَيَجِبُ الشُّكْرُ فِي حَالِ السَّرَّاءِ، وَالصَّبْرُ فِي حَالِ الضَّرَّاءِ قَائِلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]- وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ - أَيْ: عَلَى الْأَعْدَاءِ - مَعَ الصَّبْرِ - أَيْ: عَلَى الْمِحَنِ وَالْبَلَاءِ -، وَأَنَّ الْفَرَجَ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنَ الْغَمِّ مَعَ الْكَرْبِ، أَيِ الْغَمِّ الَّذِي يَأْخُذُ بِنَفَسِ النَّفْسِ، وَلِذَا وَرَدَ: اشْتَدِّي أَزْمَةُ تَنْفَرِجِي {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] قَالَ شَارِحٌ: وَقَدْ وَقَعَتِ الْآيَةُ فِي الْقُرْآنِ مُكَرَّرَةً لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ عُسْرٌ إِلَّا مَعَهُ يُسْرَانِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ الْمُعَادَةَ غَيْرُ الْأُولَى، وَالْمَعْرِفَةَ الْمُعَادَةَ عَيْنُ الْأُولَى، لَكِنَّهَا غَالِبِيَّةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ} [آل عمران: 26] لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالثَّانِيَةَ لِلْجِنْسِ الَّذِي يَحْصُلُ بِوُجُودِهِ فَرْدٌ مِنْهُ، ثُمَّ قِيلَ مَعَ بِمَعْنَى بَعْدَ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْمَعْنَى، وَإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَبْنَى حَيْثُ قَصَدَ مُعَاقَبَةَ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَاتِّصَالَهُ بِهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَالْمُقَارِنِ لِزِيَادَةٍ فِي التَّسْلِيَةِ وَالتَّنْفِيسِ، عَلَى أَنَّ الْمِحَنَ لَا تَخْلُو عَنِ الْمِنَحِ، بَلْ إِنَّهَا عَيْنُهَا {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] ، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] هَذَا وَقَدْ قَالَ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ وَالْغَوْثُ الصَّمَدَانِيُّ السَّيِّدُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - فِي فُتُوحَاتِ الْغَيْبِ: يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنَّ يَجْعَلَ هَذَا الْحَدِيثَ مِرْآةَ قَلْبِهِ وَشِعَارَهُ وَدِثَارَهُ وَحَدِيثَهُ، فَيَعْمَلَ بِهِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ حَتَّى يَسْلَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَجِدَ الْعِزَّةَ فِيهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ تُجَاهَكَ فِي رِوَايَةِ رَزِينٍ: «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» ، وَفِي آخِرِهِ: «فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا فِي الْيَقِينِ فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَالْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَالْحَدِيثُ بِطُولِهِ قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فِي النِّهَايَةِ: مَعْنَى تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ أَيِ: اجْعَلْ تَعَرُّفَكَ بِطَاعَتِكَ وَالْعَمَلِ فِيمَا أَوْلَاكَ مِنْ نِعْمَتِهِ، فَإِنَّهُ يُجَازِيكَ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْعُسْرِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْعَهْدِ، وَالتَّنْكِيرَ فِي " يُسْرًا " لِلنَّوْعِ، فَيَكُونُ الْعُسْرُ وَاحِدًا وَالْيُسْرُ اثْنَيْنِ، فَالْعُسْرُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعِبِ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا، وَالْيُسْرُ فِي الدُّنْيَا الْفَتْحُ وَالنُّصْرَةُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَفِي الْعُقْبَى الْفَوْزُ بِالْحُسْنَى وَلِقَاءُ الْأَحِبَّاءِ.

5303 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سُخْطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5303 - (وَعَنْ سَعْدٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ» ") أَيْ: وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ ثُمَّ رِضَاهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: (" وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ ") أَيْ: طَلَبَ الْخِيَرَةِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اتْرُكِ الِاخْتِيَارَ وَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ أَنْ تَخْتَارَ أَنْ لَا تَخْتَارَ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] . (" وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سُخْطُهُ ") أَيْ: غَضَبُهُ وَعَدَمُ رِضَاهُ (" بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ ") : فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَهُوَ مِنْ بَيْنِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ مَوْسُومٌ بِالْمَقَامِ الْأَفْخَمِ، ثُمَّ تَقَدِيمُ الِاسْتِخَارَةِ ; لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلرِّضَا، وَلِأَنَّهَا تُوجَدُ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْقَضَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَهُوَ تَرْكُ السُّخْطِ عَلَامَةُ سَعَادَتِهِ، وَبِهَا جَعَلَهُ عَلَامَةَ سَعَادَةِ الْعَبْدِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِالْقَضَاءِ يَكُونُ مَهْمُومًا أَبَدًا مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ وَيَقُولُ: لِمَ كَانَ كَذَا وَلَمْ يَكُنْ كَذَا، وَالثَّانِي لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى بِسُخْطِهِ، وَسَخَطُ الْعَبْدِ أَنْ يَذْكُرَ غَيْرَ مَا قَضَى اللَّهُ لَهُ، قَالَ: إِنَّهُ أَصْلَحُ وَأَوْلَى فِيمَا لَا يَسْتَيْقِنُ فَسَادَهُ وَصَلَاحَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ " «وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ» " بَيْنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ؟ قُلْتُ: مَوْقِعُهُ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ مَنْ يَتْرُكُ الِاسْتِخَارَةَ، وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ وَالتَّفْوِيضَ مَآلُهُمَا وَاحِدٌ، وَكَذَا اكْتَفَى بِالِاسْتِخَارَةِ فِي الْقَرِينَتَيْنِ فِي رِوَايَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي، ثُمَّ شَكَّ أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِخَارَةِ ; لِأَنَّهَا نَوْعُ طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَضِيقُ مُنَازَعَةٍ فِي أَمْرٍ قَدْ تَحَقَّقَ، هَذَا وَحَقِيقَةُ الِاسْتِخَارَةِ هِيَ أَنْ يَطْلُبَ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَمْرِهِ، بَلْ وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ خَيْرَهُ مِنْ شَرِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ثُمَّ يَتَرَقَّى بِأَنْ يَرَى أَنْ لَا يَقَعَ فِي الْكَوْنِ غَيْرُ الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ: «الْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» ، ثُمَّ الْمُسْتَحَبُّ دُعَاءُ الِاسْتِخَارَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمُشَاوَرَةِ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَأَقَلُّهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ خِرْ لِي وَاخْتَرْ لِي وَلَا تَكِلْنِي إِلَى اخْتِيَارِي، وَالْأَكْمَلُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَدْعُو بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَّةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . تَمَامُهُ، وَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَزَادَ فِيهِ: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ وَمِنْ شَقَاوَتِهِ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ مِيرَكُ: " كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ وَلَفْظُهُ: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ كَثْرَةُ اسْتِخَارَتِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَرِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُخْطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ» . وَفِي الْجَامِعِ: أُسْنِدَ الْحَدِيثُ إِلَى التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنْ سَعْدٍ، لَكِنْ لَفْظُهُ: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ تَعَالَى، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سُخْطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ» . فَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمِشْكَاةِ وَقَعَ فِيهِ اخْتِصَارٌ مُخِلٌّ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ، وَلَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» ". وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أُعْطِيَ أَرْبَعًا لَمْ يُمْنَعْ أَرْبَعًا: مَنْ أُعْطِيَ الشُّكْرَ لَمْ يُمْنَعِ الْمَزِيدَ، وَمَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ لَمْ يُمْنَعِ الْقَبُولَ، وَمَنْ أُعْطِيَ الِاسْتِخَارَةَ لَمْ يُمْنَعِ الْخَيْرَ، وَمَنْ أُعْطِيَ الْمَشُورَةَ لَمْ يُمْنَعِ الصَّوَابَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5304 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ سَمُرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا. قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ، ثَلَاثًا " وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وَجَلَسَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5304 - (عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَلَ نَجْدٍ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: جِهَتَهُ وَجَانِبَهُ. وَفِي النِّهَايَةِ: النَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا دُونَ الْحِجَازِ، (فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: رَجَعَ، وَسَمَّى الْقَافِلَةَ قَافِلَةً، وَلَوْ كَانَتْ ذَاهِبَةً تَفَاؤُلًا بِمَآلِهَا (قَفَلَ مَعَهُ) أَيْ: قَفَلَ جَابِرٌ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَأَدْرَكَتْهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةَ أَوِ الْغُزَاةَ (الْقَائِلَةُ) أَيِ: الظَّهِيرَةُ أَوْ وَقْتُ الْقَيْلُولَةِ (فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ) ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ الشَّجَرُ الَّذِي لَهُ شَوْكٌ (فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: فَأَرَادَ النُّزُولَ، أَوْ أَمَرَ بِالنُّزُولِ (وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ) أَيْ: بِجِنْسِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْجَارِ (فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ سَمُرَةٍ) : بِفَتْحِ سِينٍ فَضَمِّ مِيمٍ شَجَرَةٌ مِنَ الطَّلْحِ وَهِيَ الْعِظَامُ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ (فَعَلَّقَ بِهَا) أَيْ: بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا (سَيْفَهُ وَنِمْنَا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (نَوْمَةً) أَيْ: خَفِيفَةً (فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُونَا) أَيْ: يُنَادِينَا وَيَطْلُبُنَا (وَإِذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَإِذَا (عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ) أَيْ: بَدَوِيٌّ كَافِرٌ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" إِنَّ هَذَا ") أَيِ: الْأَعْرَابِيَّ (" اخْتَرَطَ ") أَيْ: سَلَّ (" عَلَيَّ سَيْفِي ") أَيِ: الْمُعَلَّقَ (" وَأَنَا نَائِمٌ ") : حَالٌ (" فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ سَيْفِيَ (" فِي يَدِهِ صَلْتًا ") : بِفَتْحِ الصَّادِ وَيُضَمُّ أَيْ: مَسْلُولًا مُجَرَّدًا عَنِ الْغِمْدِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّهَا. وَفِي الْقَامُوسِ: الصَّلْتُ السَّيْفُ الصَّقِيلُ الْمَاضِي وَيُضَمُّ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَسَيْفٌ مُجَرَّدٌ (قَالَ) أَيِ: الْأَعْرَابِيُّ (مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي) ؟ أَيْ: مِنْ أَذِيَّتِي، فَالْفِعْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ مَنْ يَحْمِيكَ مِنِّي. قَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَّاغَةِ: وَمِنَ الْمَجَازِ فُلَانٌ يَمْنَعُ الْجَارَ أَيْ: يَحْمِيهِ مِنْ أَنْ يُضَامَ (فَقُلْتُ: اللَّهُ) أَيِ: اللَّهُ يَمْنَعُنِي عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ نَظَرًا إِلَى الْعِصْمَةِ الْمَوْعُودَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] (ثَلَاثًا) . أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَثْلِيثُ لَفْظِ الْجَلَالَةِ حَالَةَ الِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ (وَلَمْ يُعَاقِبْهُ) أَيِ: الْأَعْرَابِيَّ (وَجَلَسَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا كَانَ قَائِمًا أَوْ مُضْطَجِعًا، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ وَقَعَتْ قَبْلَ الْمُنَادَاةِ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا وَقَعَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَهَا فَنَادَاهُمْ لِيُرِيَهُمُ الْمُعْجِزَةَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5305 - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي (صَحِيحِهِ) «فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: (اللَّهُ) فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّيْفَ فَقَالَ: " مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ " فَقَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ. فَقَالَ: " تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَى أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ» . هَكَذَا فِي (كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) وَفِي (الرِّيَاضِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5305 - (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي صَحِيحِهِ «فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: " اللَّهُ تَعَالَى ". فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّيْفَ فَقَالَ: " مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ " فَقَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ» " أَيْ: مُتَنَاوِلٍ لِلسَّيْفِ وَهُوَ كِنَايَةٌ لِلْعَفْوِ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْ: بِالْجِنَايَاتِ يُرِيدُ الْعَفْوَ، انْتَهَى. فَالْأَخْدُ بِمَعْنَى الْمُؤَاخَذَةِ (فَقَالَ: " تَشْهَدُ ") أَيْ: أَتَشْهَدُ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: لَا) أَيْ: لَا أَشْهَدُ (وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ) أَيْ: بِانْفِرَادِي (وَلَا أَكُونَ) أَيْ: وَلَا أَنْ أَكُونَ رَفِيقًا (مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ فَخَلَّى سَبِيلَهُ) أَيْ: فَتَرَكَهُ حَتَّى مَضَى إِلَى طَرِيقِهِ (فَأَتَى) أَيِ: الْأَعْرَابِيُّ (أَصْحَابَهُ) أَيْ: قَوْمَهُ (فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ) أَيْ: كَرَمًا وَحِلْمًا (هَكَذَا) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مَعَ الزِّيَادَةِ (فِي " كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ " وَفِي " الرِّيَاضِ ") أَيْ: وَكَذَا فِي كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ.

5306 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آيَةً لَوْ أَخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتْهُمْ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الفاتحة: 2 - 19867] » رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5306 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ آيَةً لَوْ أَخَذَ النَّاسُ ") أَيْ: عَمِلُوا (" بِهَا ") أَيْ: بِانْفِرَادِهَا (" لَكَفَتْهُمْ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الفاتحة: 2 - 19863] أَيْ: مِنَ الْبَلَايَا {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] أَيْ: مِنَ الْعَطَايَا وَمَا بَعْدَهُ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُرِيدُ الْآيَةَ بِتَمَامِهَا فَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ إِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَكْفِيهِ جَمِيعَ مَا يَخْشَى وَيَكْرَهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ إِلَخْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَكْفِيهِ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُهُ وَيَبْتَغِيهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَالِغُ أَمْرِهِ أَيْ: نَافِذُ أَمْرِهِ، وَفِيهِ بَيَانٌ لِوُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الرِّزْقِ وَنَحْوِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ وَتَوْفِيقِهِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّسْلِيمُ لِلْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ وَالتَّوَكُّلِ، وَأَنْشَدَ: إِذَا الْمَرْءُ أَمْسَى حَلِيفَ الْتُّقَى فَلَمْ يَخْشَ مِنْ طَارِقٍ حِلَّهُ أَلَمْ تَسْمَعِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

5307 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5307 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَالْمَشْهُورَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمَشْهُورَةُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ انْتَهَى. وَالْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ قِرَاءَةً قَطْعِيَّةً مُتَوَاتِرَةً مَعْنَوِيَّةً، وَكَانَ عَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ مَسْعُودٍ، لَكِنَّهَا نُسِخَتْ أَوْ شَذَّتْ طُرُقُهَا بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ أَيِ: الشَّدِيدُ الْقُوَّةِ، وَالْمَعْنَى فِي وَصْفِهِ بِالْقُوَّةِ وَالْمَتَانَةِ أَنَّهُ الْقَادِرُ الْبَلِيغُ الِاقْتِدَارِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ " ذُو الْقُوَّةِ " خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَاتِ تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِأَنَّ وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الْمُفِيدِ لِلِاخْتِصَاصِ وَتَعْرِيفِ الْخَبَرِ بِلَامِ الْجِنْسِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: ذُو الْقُوَّةِ وَتَتْمِيمِهِ بِالْمَتَانَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُفَوِّضَ الْأُمُورَ إِلَّا إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

5308 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ، فَشَكَا الْمُحْتَرِفُ أَخَاهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: " لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5308 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَخَوَانِ) أَيِ: اثْنَانِ مِنَ الْأَخَوَانِ (عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي زَمَنِهِ (فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ (وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ) أَيْ: يَكْتَسِبُ أَسْبَابَ الْمَعِيشَةِ، فَكَأَنَّهُمَا كَانَا يَأْكُلَانِ مَعًا (فَشَكَا الْمُحْتَرِفُ) أَيْ: فِي عَدَمِ مُسَاعَدَةِ أَخِيهِ إِيَّاهُ فِي حِرْفَتِهِ أَوْ فِي كَسْبٍ آخَرَ لِمَعِيشَةٍ (أَخَاهُ النَّبِيَّ) : بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: إِلَى النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أَرْجُو أَوْ أَخَافُ أَنَّكَ مَرْزُوقٌ بِبَرَكَتِهِ لَا أَنَّهُ مَرْزُوقٌ بِحِرْفَتِكَ فَلَا تَمْنُنْ عَلَيْهِ بِصَنْعَتِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ شُغُلَ الدُّنْيَا، وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالتَّجَرُّدِ لِزَادِ الْعُقْبَى. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَعْنَى لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ لَعَلَّكَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُفِيدَ الْقَطْعَ وَالتَّوْبِيخَ، كَمَا وَرَدَ: «فَهَلْ تُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ» ، وَأَنْ يَرْجِعَ لِلْمُخَاطَبِ لِيَبْعَثَهُ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فَيَتَّصِفَ مِنْ نَفْسِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا.

5309 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ بِكُلِّ وَادٍ شُعْبَةٌ، فَمَنْ أَتْبَعَ قَلْبَهُ الشُّعَبَ كُلَّهَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ بِأَيِّ وَادٍ أَهْلَكَهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ الشُّعَبَ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5309 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ بِكُلِّ وَادٍ شُعْبَةٌ» ") أَيْ: لِقَلْبِهِ قِطْعَةٌ، وَالْمَعْنَى بَعْضُ تَوَجُّهٍ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْقَلْبَ وَاحِدٌ وَأَوْدِيَةَ الْهُمُومِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الشُّعْبَةُ الطَّائِفَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ أَيْ: فِي كُلِّ وَادٍ لَهُ شُعْبَةٌ (" فَمَنْ أَتْبَعَ قَلْبَهُ الشُّعَبَ كُلَّهَا ") : مِنَ الْإِتْبَاعِ أَيْ: مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ تَابِعًا لِشُعَبِ الْهُمُومِ فِي أَوْدِيَةِ الْغُمُومِ (" لَمْ يُبَالِ اللَّهُ بِأَيِّ وَادٍ أَهْلَكَهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ الشُّعَبَ ") . أَيْ: كَفَاهُ اللَّهُ مُؤَنَ حَاجَاتِهِ الْمُتَشَعِّبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ الدِّينِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

5310 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ أَنَّ عَبِيدِي أَطَاعُونِي لَأَسْقَيْتُهُمُ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ، وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ، وَلَمْ أُسْمِعْهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5310 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ أَنَّ عَبِيدِي أَطَاعُونِي ") أَيْ: فِي أَمْرِي وَنَهْيِي (" لَأَسْقَيْتُهُمْ ") أَيْ: لَأَنْزَلْتُ عَلَيْهِمُ (" الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ ") أَيْ: وَهُمْ نَائِمُونَ مُسْتَرِيحُونَ (" وَأَطْلَعْتُ ") : مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ أَيْ: أَظْهَرْتُ وَأَبْرَزْتُ (" عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ ") أَيْ: وَهُمْ بِمَكَاسِبِهِمْ وَأُمُورِهِمْ مُشْتَغِلُونَ، (" وَلَمْ أُسْمِعْهُمْ ") : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: وَلَمَا أَسْمَعْتُهُمْ (" صَوْتَ الرَّعْدِ ") أَيْ: لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا كَيْلَا يَخَافُوا وَلَا يَنْفَجِعُوا فَلَا يَتَضَرَّرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ، فَإِنَّ السَّحَابَ مَعَ وُجُودِ الرَّعْدِ فِيهِ شَائِبَةُ الْخَوْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12] فَنَفَاهُ لِيَكُونَ رَحْمَةً مَحْضَةً (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ.

5311 - وَعَنْهُ، قَالَ: «دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْحَاجَةِ خَرَجَ إِلَى الْبَرِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ قَامَتْ إِلَى الرَّحَى فَوَضَعَتْهَا، وَإِلَى التَّنُّورِ، فَسَجَرَتْهُ ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا، فَنَظَرَتْ فَإِذَا الْجَفْنَةُ قَدِ امْتَلَأَتْ. قَالَ: وَذَهَبَتْ إِلَى التَّنُّورِ، فَوَجَدَتْهُ مُمْتَلِئًا. قَالَ: فَرَجَعَ الزَّوْجُ، قَالَ: أَصَبْتُمْ بَعْدِي شَيْئًا؟ قَالَتِ امْرَأَتُهُ: نَعَمْ، مِنْ رَبِّنَا، وَقَامَ إِلَى الرَّحَى، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفَعْهَا لَمْ تَزَلْ تَدُورُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5311 - (وَعَنْهُ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهِ) أَيْ: أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِ نَفَقَتِهِ (فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْحَاجَةِ) أَيْ: مِنَ الْجُوعِ وَالْفَاقَةِ (خَرَجَ إِلَى الْبَرِيَّةِ) أَيْ: إِلَى قِطْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْبَرِّ لِلتَّضَرُّعِ إِلَى خَالِقِ الْبَرِيَّةِ، (فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ) أَيْ: خُلُوَّ يَدِ الرَّجُلِ وَإِدْبَارَهُ عَنِ الْأَهْلِ مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَجَلِ (قَامَتْ إِلَى الرَّحَى فَوَضَعَتْهَا) ، أَيِ: الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا عَلَى السُّفْلَى، وَالْمَعْنَى فَهَيَّأَتْهَا وَنَظَّفَتْهَا، (وَإِلَى التَّنُّورِ فَسَجَرَتْهُ) ، بِتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَتُشَدَّدُ أَيْ: أَوْقَدَتْهُ (ثُمَّ قَالَتْ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي طَلَبِ الْحَلَالِ مَا أَمْكَنَهُ الْوَقْتُ، وَيَقْتَضِيهِ الْحَالُ، ثُمَّ يَسْتَعِينُ فِي تَحْصِيلِ أَمْرِهِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ بِالدُّعَاءِ بِنَحْوِ: (اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا) أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ فَإِنَّكَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. وَقَدِ انْقَطَعَ طَمَعُنَا عَنْ غَيْرِكَ وَلَا نَطْمَعُ إِلَّا فِي خَيْرِكَ (فَنَظَرَتْ) أَيْ: إِلَى الرَّحَى (فَإِذَا الْجَفْنَةُ) : وَهِيَ الْقَصْعَةُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَوِ الْقَصْعَةُ الْكَبِيرَةُ عَلَى مَا فِي خُلَاصَةِ اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُوضَعُ تَحْتَ الرَّحَى لِيَجْتَمِعَ فِيهَا الدَّقِيقُ (قَدِ امْتَلَأَتْ) أَيْ: مِنَ الدَّقِيقِ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (وَذَهَبَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَذَهَبَتْ (إِلَى التَّنُّورِ) أَيْ: لِتَخْبِزَ فِيهِ مِنَ الدَّقِيقِ بَعْدَ عَجْنِهِ (فَوَجَدَتْهُ مُمْتَلِئًا) أَيْ: مِنَ الْخُبْزِ الْمُلْتَصِقِ بِهِ (قَالَ) . أَيِ: الرَّاوِي (فَرَجَعَ الزَّوْجُ) أَيْ:

رَاجِيًا لِمَا قَامَ بِأَمْرِ اللَّهِ دَاعِيًا (قَالَ) أَيِ: الزَّوْجُ وَهُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (أَصَبْتُمْ) أَيْ: أَكَلْتُمْ أَوْ حَصَّلْتُمْ (بَعْدِي شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوْ مِنَ الْإِصَابَةِ (قَالَتِ امْرَأَتُهُ: نَعَمْ) أَيْ: أَصَبْنَا (مِنْ رَبِّنَا) أَيْ: مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أَوْ مِنْ رِزْقِهِ وَمَا أَخْطَأَنَا، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حَيْثُ قَالَ: دَعَتْ أَنْ تُصِيبَ زَوْجَهَا بِمَا تَطْحَنُهُ وَتَعْجِنُهُ وَتَخْبِزُهُ، فَهَيَّأَتِ الْأَسْبَابَ لِذَلِكَ، انْتَهَى. (وَقَامَ) أَيْ: فَتَعَجَّبَ الزَّوْجُ وَقَامَ (إِلَى الرَّحَى) أَيْ: وَرَفَعَهَا لِيَرَى أَثَرَهَا (فَذُكِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَذَكَرَ أَيْ: هُوَ بِنَفْسِهِ (ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْقَضِيَّةِ بِتَمَامِهَا (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: " أَمَا ") : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنَ (" لَوْ لَمْ يَرْفَعْهَا لَمْ تَزَلْ تَدُورُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

5312 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ» " رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5312 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ ") أَقُولُ: بَلْ حُصُولُ الرِّزْقِ أَسْبَقُ وَأَسْرَعُ مِنْ وُصُولِ أَجَلِهِ ; لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَأْتِي إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الرِّزْقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم: 40] (رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَةِ ") : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَزَّارُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ أَكْثَرَ مِمَّا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ» . قُلْتُ: وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْتُهُ وَفِيمَا سَبَقَ مِنَ الْمَعْنَى حَرَّرْتُهُ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ» .

5313 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5313 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي اسْتِحْضَارِ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِحْفَاظِ الْقِصَّةِ (يَحْكِي نَبِيًّا) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ يَحْكِي حَالَ نَبِيٍّ (مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ) أَيْ: قَدْ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، فَهُوَ حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ، وَجُوِّزَ بِدُونِهِ أَيْضًا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ نَبِيًّا مَنْصُوبٌ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ حِكَايَةُ لَفْظِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَجُوزُ أَنْ تُقَدِّرَ مُضَافًا أَيْ: يَحْكِي حَالَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَعْنَى مَا تَلَفَّظَ بِهِ، وَحِينَئِذٍ ضَرَبَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلنَّبِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ مَا حَكَاهُ فَقِيلَ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ. (فَأَدْمَوْهُ) أَيْ: جَعَلُوهُ صَاحِبَ دَمٍ خَارِجٍ مِنْ رَأْسِهِ، (وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ) أَيْ: خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي فَمِهِ أَوْ عَيْنِهِ (وَيَقُولُ) أَيْ: مِنْ كَمَالِ صَبْرِهِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي) أَيْ: فِعْلَهُمْ هَذَا بِمَعْنَى لَا تُعَذِّبْهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا تَسْتَأْصِلْهُمْ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَغْفِرَةَ الْكُفَّارِ بِمَعْنَى الْعَفْوِ عَنْ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمَغْفِرَةُ كِنَايَةً عَنِ التَّوْبَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَغْفِرَةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (" فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ") : وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِلْمِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ حَيْثُ أَذْنَبَ الْقَوْمُ، وَهُوَ يَعْتَذِرُ عَنْهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا إِلَّا لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الذَّنْبَ مَعَ الْجَهْلِ أَهْوَنُ فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّنْبِ مَعَ الْعِلْمِ، وَلِذَا وَرَدَ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

[باب الرياء والسمعة]

[بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ]

[5] بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5314 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [5] بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِي الْمُغْرِبِ، يُقَالُ: فَعَلَ ذَلِكَ سُمْعَةً، أَيْ: لِيُرِيَهُ النَّاسَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِهِ التَّحْقِيقَ، وَسَمَّعَ بِكَذَا شُهْرَةً تَسْمِيعًا انْتَهَى. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الرِّيَاءَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَهُوَ مَا يُفْعَلُ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالسُّمْعَةُ بِالضَّمِّ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السَّمْعِ، فَهُوَ مَا يُفْعَلُ أَوْ يُقَالُ لِيَسْمَعَهُ النَّاسُ، وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِسَمْعِهِ تَعَالَى، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا، أَوْ لِإِرَادَةِ أَصْلِ الْمَعْنَيَيْنِ تَفْصِيلًا، وَضِدُّهَا الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ عَلَى قَصْدِ الْخَلَاصِ، ثُمَّ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي الرِّيَاءِ الْهَمْزُ وَعَلَيْهِ السَّبْعَةُ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ يَاءً، وَبِهِ قَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5314 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ ") أَيْ: نَظَرَ اعْتِبَارٍ (" إِلَى صُوَرِكُمْ ") : إِذْ لَا اعْتِبَارَ بِحُسْنِهَا وَقُبْحِهَا (" وَأَمْوَالِكُمْ ") : إِذْ لَا اعْتِبَارَ بِكَثْرَتِهَا وَقِلَّتِهَا (" وَلَكِنْ ") : وَزَادَ فِي الْجَامِعِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا (" يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ ") أَيْ: إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْيَقِينِ، وَالصِّدْقِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَقَصْدِ الرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الرَّضِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ الرَّدِيَّةِ (" وَأَعْمَالِكُمْ ") أَيْ: مِنْ صَلَاحِهَا وَفَسَادِهَا، فَيُجَازِيكُمْ عَلَى وَفْقِهَا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: مَعْنَى النَّظَرِ هَا هُنَا: الِاجْتِبَاءُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالْعَطْفُ ; لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الشَّاهِدِ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ، وَتَرْكَ النَّظَرِ دَلِيلُ الْبُغْضِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَمَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الصُّوَرِ الْمُعْجَمَةِ وَالْأُمُورِ الْفَانِيَةِ، وَاللَّهُ يَتَقَدَّسُ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ، فَجَعَلَ نَظَرَهُ إِلَى مَا هُوَ الْبِرُّ وَاللُّبُّ وَهُوَ الْقَلْبُ وَالْعَمَلُ، وَالنَّظَرُ يَقَعُ عَلَى الْأَجْسَامِ وَالْمَعَانِي، فَمَا كَانَ بِالْأَبْصَارِ فَهُوَ لِلْأَجْسَامِ، وَمَا كَانَ بِالْبَصَائِرِ كَانَ لِلْمَعَانِي، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلَا يَخْفَى بُعْدُ الْمُرَادِ مِنَ النَّظَرِ هُنَا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ، لَا سِيَّمَا فِي جَانِبِ النَّفْيِ، فَتَدَبَّرْ خُصُوصًا فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَنْصِيلِ النَّظَرِ، فَإِنَّ نَفْيَهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لَا يُتَصَوَّرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

5315 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، هُوَ لِلَّذِي عَمِلَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5315 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ ") أَيْ: أَنَا أَغْنَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ عَلَى فَرْضِ أَنَّ لَهُمْ غِنًى (" عَنِ الشِّرْكِ ") ، أَيْ عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِمَّا بَيْنِي وَبَيْنَ غَيْرِي فِي قَصْدِ الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى: مَا أَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِي، وَابْتِغَاءً لِمَرْضَاتِي، فَاسْمُ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ مَا أَوْضَحَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ بِقَوْلِهِ: (" مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ) أَيْ: فِي قَصْدِ ذَلِكَ الْعَمَلِ (" مَعِي ") أَيْ: مَعَ ابْتِغَاءِ وَجْهِي (" غَيْرِي ") أَيْ: مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، فَلَا يَضُرُّهُ قَصْدُ الْجَنَّةِ وَتَوَابِعِهَا مَثَلًا، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَرْضَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ الْأَكْمَلُ أَنْ لَا يَعْبُدَهُ لِطَمَعِ جَنَّةٍ أَوْ خَوْفِ نَارٍ، فَإِنَّهُ عُدَّ كُفْرًا عِنْدَ بَعْضِ الْعَارِفِينَ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ فِيهِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ تُخْلُقْ جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ لَمَا عَبَدَهُ - سُبْحَانَهُ - لَكَانَ كَافِرًا، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ ; وَلِذَا مُدِحَ صُهَيْبٌ بِمَا رُوِيَ فِي حَقِّهِ: «نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ مَا عَصَاهُ» ، قَوْلُهُ: (" تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ") : خَبَرُ مَنْ، وَالْوَاوُ بِمَعْنَى " مَعَ "، أَوِ الْمَعْنَى: تَرَكْتُهُ عَنْ نَظَرِ الرَّحْمَةِ وَتَرَكْتُ عَمَلَهُ الْمُشْتَرَكَ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: " فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ ") ، قِيلَ: مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَالْأَظْهَرُ: مِنْ عَامِلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ ; لِئَلَّا يَكُونَ تَكْرَارًا فِي قَوْلِهِ: (" هُوَ ") أَيْ: ذَلِكَ الْعَمَلُ (" لِلَّذِي عَمِلَهُ ") أَيْ: لِأَجْلِهِ، مِمَّنْ قَصَدَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ هُوَ لِفَاعِلِهِ، يَعْنِي: تَرَكْتُ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَفَاعِلُهُ لَا أَقْبَلُهُ، وَلَا أُجَازِي فَاعِلَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ لِي، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ حِينَئِذٍ مُبَاحًا، مَعَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى وَجْهِ الْإِشْرَاكِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا، فَيُعَاقَبُ فَاعِلُهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، فَتَأَمَّلْ. وَلْنَذْكُرْ بَقِيَّةَ كَلَامِ الشُّرَّاحِ، فَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَعْنِي أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مِنْ غَنِيَ بِهِ عَنْهُ غُنْيَةً، أَيِ: اسْتَغْنَى بِهِ عَنْهُ، وَإِضَافَتُهُ إِمَّا لِلزِّيَادَةِ الْمُطْلَقَةِ، أَيْ: أَنَا غَنِيٌّ مِنْ بَيْنِ الشُّرَكَاءِ، وَإِمَّا لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، أَيْ: أَنَا أَكْثَرُ الشُّرَكَاءِ اسْتِغْنَاءً عَنِ الشِّرْكِ ; لِكَوْن اسْتِغْنَائِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي مَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا لِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ، وَالْإِضَافَةُ فِيهِ لِلْبَيَانِ، أَوْ عَلَى زَعْمِ الْقَوْمِ، وَفِيهِ أَنَّ وَجْهَ الْإِضَافَةِ لِلْبَيَانِ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ الْبَيَانِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَا غَنِيٌّ مِمَّا بَيْنَهُمْ دُونَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تَرَكْتُهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْعَمَلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشِّرْكِ الشَّرِيكُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَعْنَاهُ أَنَا غَنِيٌّ عَنِ الْمُشَارَكَةِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا لِي وَلِغَيْرِي لَمْ أَقْبَلْهُ، بَلْ أَتْرُكُهُ مَعَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْعَامِلِ، وَالْمُرَادُ بِالشِّرْكِ: الشَّرِكَةُ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَعُودُ إِلَى الْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَإِلَى الْعَامِلِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، أَيِ: الْعَامِلِ لِمَا عَمِلَ بِهِ مِنَ الشِّرْكِ، يَعْنِي: يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يَتَجَاوَزُ عَنْهُ، وَكَذَا الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ: أَنَا أَغْنَى مِنْ كُلِّ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرِيكِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ إِذَا وَقَعَ لَهُمْ سَهْمٌ مَعَ الْفُقَرَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُسَامِحُونَهُمْ بِهِ، وَيُعْطُونَهُمْ إِيَّاهُ، أَوْ يَهَبُونَهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَفْقَرِهِمْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا وَصْفَ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ مِنَ الضُّعَفَاءِ، فَكَيْفَ بِالَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَهُ وَصْفُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، هَذَا وَقَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: دَرَجَاتُ الرِّيَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْأُولَى: وَهِيَ أَغْلَطُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُهُ الثَّوَابَ أَصْلًا، كَالَّذِي يُصَلِّي بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ، وَلَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ لَا يُصَلَّى، بَلْ رُبَّمَا يُصَلِّي مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ النَّاسِ، فَهَذَا جَرَّدَ قَصْدَهُ لِلرِّيَاءِ فَهُوَ الْمَمْقُوتُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ قَصْدُ الثَّوَابِ أَيْضًا، وَلَكِنْ قَصْدًا ضَعِيفًا، بِحَيْثُ لَوْ كَانَ فِي الْخَلْوَةِ لَكَانَ لَا يَفْعَلُهُ، وَلَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ الْقَصْدُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّوَابُ لَكَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ، فَقَصْدُ الثَّوَابِ فِيهِ لَا يَنْفِي عَنْهُ الْمَقْتَ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الثَّوَابِ وَالرِّيَاءِ مُتَسَاوِيَيْنِ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَ وَاحِدٌ خَالِيًا عَنِ الْآخَرِ لَمْ يَبْعَثْهُ عَلَى الْعَمَلِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا انْبَعَثَتِ الرَّغْبَةُ، وَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ رَأْسًا بِرَأْسٍ. وَالرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ اطِّلَاعُ النَّاسِ مُرَجِّحًا مُقَوِّيًا لِنَشَاطِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَتْرُكِ الْعِبَادَةَ، وَلَوْ كَانَ قَصَدَ الرِّيَاءَ وَحْدَهُ لَمَا أَقْدَمَ، فَالَّذِي نَظُنُّهُ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - أَنَّهُ لَا يُحْبِطُ أَصْلَ الثَّوَابِ، وَلَكِنَّهُ يُنْقِصُ مِنْهُ، أَوْ يُعَاقَبُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الرِّيَاءِ، وَيُثَابُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الثَّوَابِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ " فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا تَسَاوَى الْقَصْدَانِ، أَوْ كَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ أَرْجَحَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ الرِّوَايَةَ الْأُولَى.

5316 - وَعَنْ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5316 - (وَعَنْ جُنْدَبٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَمَّعَ ") بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِلسُّمْعَةِ بِأَنْ نَوَّهَ بِعَمَلِهِ وَشَهَرَهُ لِيَسْمَعَ النَّاسُ بِهِ وَيَمْتَدِحُوهُ (" سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ ") بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْضًا، أَيْ: شَهَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَرَصَاتِ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنِ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ مَعْنَاهُ: مَنْ أَظْهَرَ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ رِيَاءً فَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَقَامِ التَّفْضِيلِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنَ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، حَيْثُ قَالَ: (" وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ ") بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْفِعْلَيْنِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْمَعْنَى: مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا لِيَرَاهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا يُجَازِيهِ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِأَنْ يُظْهِرَ رِيَاءَهُ عَلَى الْخَلْقِ، وَخُلَاصَةُ الْقَرِينَتَيْنِ، وَزُبْدَةُ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ الْمَعْنَى: يُسْمِعُ اللَّهُ الْخَلْقَ بِكَوْنِهِ مُسَمِّعًا، وَيَظْهَرُ لَهُمْ بِكَوْنِهِ مُرَائِيًا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَى مَنْ يُرَائِي: مَنْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لِيَعْظُمَ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، يُرَائِي اللَّهَ بِهِ، أَيْ: يُظْهِرُ سَرِيرَتَهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، وَفِيهِ أَنَّ قَيْدَهُ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، سَوَاءٌ يَكُونُ كَذَلِكَ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ سَمَّعَ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَأَذَاعَهَا أَظْهَرَ اللَّهُ عُيُوبَهُ، وَقِيلَ: أَسْمَعَهُ الْمَكْرُوهَ، وَقِيلَ: أَرَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهِ إِيَّاهُ لِيَكُونَ حَسْرَةً عَلَيْهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ أَسْمَعَهُ اللَّهُ النَّاسَ، وَكَانَ ذَلِكَ حَظُّهُ مِنْهُ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الرِّيَاءُ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَالسُّمْعَةِ مِنَ السَّمَاعِ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ أَصْلُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بِإِرَائِهِمُ الْخِصَالَ الْمَحْمُودَةَ، فَحَدُّ الرِّيَاءِ هُوَ إِرَاءَةُ الْعِبَادَةِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْمُرَائِي هُوَ الْعَابِدُ، وَالْمُرَاءَى لَهُ هُوَ النَّاسُ، وَالْمُرَاءَى بِهِ هُوَ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ، وَالرِّيَاءُ هُوَ قَصْدُ إِظْهَارِ ذَلِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَفْظُهُ: " «مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ» ".

5317 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُحِبُّهُ النَّاسُ عَلَيْهِ. قَالَ: " تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5317 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي كَمَا قَالَهُ شَارِحٌ، فَقَوْلُهُ: (الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ: أَخْبِرْنَا بِحَالِهِ، فَالرَّجُلُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ جِنْسُهُ، وَقَوْلُهُ: (مِنَ الْخَيْرِ) بَيَانٌ لَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا خَيْرَ فِي الْعَمَلِ لِلرِّيَاءِ فَيَكُونُ عَمَلُهُ خَالِصًا (وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ) أَيْ: يُثْنُونَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، أَوْ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ (وَفِي رِوَايَةٍ: وَيُحِبُّهُ النَّاسُ) أَيْ: يُعَظِّمُونَهُ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ أَوْ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ (قَالَ: " تِلْكَ ") أَيِ: الْمَحْمَدَةُ، أَوِ الْمَحَبَّةُ، أَوِ الْخَصْلَةُ، أَوِ الْمَثُوبَةُ (" عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ ") أَيْ: مُعَجَّلُ بِشَارَتِهِ، وَأَمَّا مُؤْجَّلُهَا فَبَاقٍ إِلَى يَوْمِ آخِرَتِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ أَنَّهُ يُعْجِبُهُ حَمْدُهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ أَوَّلًا، وَالثَّانِي أَوْلَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَسَيَجِيءُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الْفَصْلِ الْآتِي. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ أَخْبِرْنَا بِحَالِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِلنَّاسِ وَيَمْدَحُونَهُ، هَلْ يَبْطُلُ ثَوَابُهُ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ " يَعْنِي: هُوَ فِي عَمَلِهِ ذَلِكَ لَيْسَ مُرَائِيًا فَيُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى ثَوَابَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ حَمْدُ النَّاسِ لَهُ، وَفِي الْآخِرَةِ مَا أَعَدَّ لَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5318 - عَنْ أَبِي سَعْدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشَرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا، فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5318 - (عَنْ أَبِي سَعْدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَبُو سَعْدٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ كَذَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَفِي الِاسْتِيعَابِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أَبُو سَعِيدٍ بِيَاءٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، انْتَهَى. قَالَ الْجَزَرِيُّ: هُوَ تَصْحِيفٌ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَهُوَ حَارِثِيٌّ أَنْصَارِيٌّ يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ. (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ ") أَيْ: لِحِسَابِهِ وَجَزَائِهِ (" لَا رَيْبَ فِيهِ ") أَيْ: فِي وُقُوعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْجَمْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمَعَ وَمَعْنَاهُ جَمَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ لِيَوْمٍ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ، وَلَا يُشَكُّ فِي وُقُوعِهِ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وَقَوْلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَوْطِئَةٌ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِجَمَعَ، كَمَا جَاءَ فِي الِاسْتِيعَابِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، الْحَدِيثَ. فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ لِيَوْمٍ مُظْهَرٌ وَقَعَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، أَيْ: جَمَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَجْزِيَهُمْ فِيهِ. (" نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا ") مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ أَشْرَكَ، أَيْ: أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ ; وَلِذَا قَالَ: (" فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ ") وَلَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ مِنْ عِنْدِ ذَلِكَ الْأَحَدِ، مَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ إِبْهَامِ الْإِيهَامِ، وَيَخِلُّ بِهِ مَقَامُ الْمَرَامِ. (" فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ") ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ آخِرًا فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ مُسْلِمٍ إِلَّا زِيَادَ بْنَ مِينَا، وَقَدْ وَثَّقُوهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، والْبَيْهَقِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

5319 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ أَسَامِعَ خَلْقِهِ وَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5319 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ ") بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: رَاءَاهُمْ بِعَمَلِهِ، أَيِ: الْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَنْ يُخْفِيَهِ عَنْ نَظَرِ الْخَلْقِ فَأَظْهَرَهُ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ نَادَاهُمْ، (" سَمَّعَ اللَّهُ ") بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا، أَيْ: أَسْمَعَ (" بِهِ ") أَيْ: بِعَمَلِهِ الرِّيَائِيِّ وَالسَّمْعِيِّ (" أَسَامِعَ خَلْقِهِ ") أَيْ: آذَانَهُمْ وَمَحَالَّ سَمَاعِهِمْ، وَالْمَعْنَى جَعَلَهُ مَسْمُوعًا لَهُمْ وَمَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْعُقْبَى، أَوْ أَظْهَرَ لَهُمْ سَرِيرَتَهُ، وَمَلَأَ أَسْمَاعَهُمْ مِمَّا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ خُبْثِ سَرَائِرِهِ جَزَاءً لِفِعْلِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهِ رَاجِعًا إِلَى الْمَوْصُولِ، فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ يُقَالُ: سَمَّعْتُ بِالرَّجُلِ تَسْمِيعًا إِذَا أَشْهَرْتُهُ. وَقَوْلُهُ: أَسَامِعَ خَلْقِهِ هِيَ جَمْعُ أَسْمُعٍ، يُقَالُ: سَمْعٌ وَأَسْمُعٌ وَأَسَامِعُ جَمْعُ الْجَمْعِ، يُرِيدُ: أَنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ أَسْمَاعَ خَلْقِهِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَسَامِعَ بِالنَّصْبِ مَفْعُولُ سَمَّعَ، أَيْ: بَلَّغَ اللَّهُ مَسَامِعَ خَلْقِهِ أَنَّهُ مُرَاءٍ مُزَوِّرٌ، وَأَشْهَرَهُ بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، فَأَسَامِعُ جَمْعُ أَسْمُعٍ، وَهُوَ جَمْعُ سَمْعٍ بِمَعْنَى الْأُذُنِ، وَرُوِيَ: سَامِعُ خَلْقِهِ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ، فَالْمَعْنَى: سَمَّعُ اللَّهُ الَّذِي هُوَ سَامِعُ خَلْقِهِ، يَعْنِي فَضَحَهُ اللَّهُ. قَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَلَوْ رُوِيَ بِالنَّصْبِ لَكَانَ الْمَعْنَى سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ مَنْ كَانَ لَهُ سَمْعٌ مِنْ خَلْقِهِ، (" وَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ ") بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا، أَيْ: جَعَلَهُ حَقِيرًا ذَلِيلًا مِنَ الصَّغَارِ، وَهُوَ الذُّلُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجْعَلَهُ كَالذَّرِّ صَغِيرًا، كَمَا وَرَدَ فِي جَنَّةِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ) ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَوَاهُ أَحْمَدُ والْبَيْهَقِيُّ (" فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ ") قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِأَسَانِيدَ أَحَدُهَا صَحِيحٌ، والْبَيْهَقِيُّ كَذَا قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ.

5320 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ طَلَبَ الْآخِرَةِ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَّا مَا كَتَبَ لَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5320 - (وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ ") أَيْ: قَصْدُهُ الْأَصْلِيُّ فِي الْأَمْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ (" طَلَبَ الْآخِرَةِ ") أَيْ: مَرْضَاةَ مَوْلَاهُ (" جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ") أَيْ: جَعَلَهُ قَانِعًا بِالْكَافِ وَالْكَفَالَةِ كَيْلَا يَتْعَبَ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ (" وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ") أَيْ: أُمُورَهُ الْمُتَفَرِّقَةَ بِأَنْ جَعَلَهُ مَجْمُوعَ الْخَاطِرِ بِتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ (" وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا ") أَيْ: مَا قُدِّرَ وَقُسِمَ لَهُ مِنْهَا (" وَهِيَ رَاغِمَةٌ ") أَيْ: ذَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ تَابِعَةٌ لَهُ، لَا يَحْتَاجُ فِي طَلَبِهَا إِلَى سَعْيٍ كَثِيرٍ، بَلْ تَأْتِيهِ هَيِّنَةً لَيِّنَةً، عَلَى رَغْمِ أَنْفِهَا وَأَنْفِ أَرْبَابِهَا ; وَلِذَا قِيلَ: الْعِلْمُ يُعْطِي وَلَوْ يُبْطِي، (" وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ الْفَقْرَ ") أَيْ: جِنْسَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْخَلْقِ، كَالْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ مَنْصُوبًا (" بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَشَتَّتَ ") بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْأُولَى، أَيْ: فَرَّقَ (" عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَلَا يَأْتِيهِ مِنْهَا ") أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا (" إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ ") أَيْ: وَهُوَ رَاغِمٌ فَلَا يَأْتِيهِ مَا يَطْلُبُ مِنَ الزِّيَادَةِ، عَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ وَأَنْفِ أَصْحَابِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُقَالُ جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ أَيْ: مَا تَشَتَّتَ مِنْ أَمْرِهِ، وَفَرَّقَ اللَّهُ شَمْلَهُ أَيْ: مَا اجْتَمَعَ مِنْ أَمْرِهِ، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالْحَدِيثُ مِنْ بَابِ التَّقَابُلِ وَالْمُطَابَقَةِ، فَقَوْلُهُ: جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: جَعَلَ اللَّهُ الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَوْلُهُ: جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ، مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَقَوْلُهُ: وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، لِقَوْلِهِ: وَلَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَّا مَا كَتَبَ لَهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْأَوَّلِ: وَأَتَاهُ مَا كُتِبَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَعْنَى الثَّانِي: وَأَتَاهُ مَا كُتِبَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ رَاغِمٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ.

5321 - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ عَنْ أَبَانٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5321 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ أَبَانٍ) ، بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَتَخْفِيفِ مُوَحَّدَةٍ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، وَهُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، تَابِعِيٌّ، سَمِعَ أَبَاهُ وَكَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، والطَّبَرَانِيُّ مَعْنَاهُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

5322 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَيْنَا أَنَا فِي بَيْتِي فِي مُصَلَّايَ، إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ، فَأَعْجَبَنِي الْحَالُ الَّتِي رَآنِي عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! لَكَ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5322 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَا أَنَا فِي بَيْتِي فِي مُصَلَّايَ إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَأَعْجَبَنِي الْحَالُ الَّتِي رَآنِي عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ") قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صَدْرُ الْحَدِيثِ إِخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِخْبَارِ، يَعْنِي: هَلْ تَحْكُمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ رِيَاءٌ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ طَابَقَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ "، (" لَكَ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ ") أَيْ: لِإِخْلَاصِكَ (" وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ ") أَيْ: لِلِاقْتِدَاءِ بِكَ، أَوْ لِفَرَحِكَ بِالطَّاعَةِ وَظُهُورِهَا مِنْكَ. قِيلَ: مَعْنَاهُ: فَأَعْجَبَهُ رَجَاءَ أَنْ يَعْمَلَ مَنْ رَآهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ فَيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» " ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِعْجَابَهُ بِحَسَبِ أَصْلِ الطَّبْعِ الْمُطَابِقِ لِلشَّرْعِ مِنْ أَنَّهُ يُعْجِبُهُ أَنَّهُ رَآهُ أَحَدٌ عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ عَلَى حَالَةٍ قَبِيحَةٍ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَمَلُ مَطْمَحًا لِلرِّيَاءِ وَمَطْمَعًا لِلسُّمْعَةِ ; فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى: " «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» "، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] فَالْمُؤْمِنُ يَفْرَحُ بِتَوْفِيقِ الْأَعْمَالِ، كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ يَفْرَحُ بِتَكْثِيرِ الْأَمْوَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) ، أَيْ: إِسْنَادًا. وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْجَزَرِيِّ: رَوَاهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِهَذَا السِّيَاقِ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَاهُ هَكَذَا، وَالَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو سِنَانِ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَسُرُّهُ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» ". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلَا، انْتَهَى كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5323 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللَّهُ: أَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ؟ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ فِيهِمْ حَيْرَانَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5323 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ ") أَيْ: يَظْهَرُ (" رِجَالٌ يَخْتِلُونَ ") بِسُكُونِ الْخَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ، أَيْ: يَطْلُبُونَ (" الدُّنْيَا بِالدِّينِ ") ، أَيْ بِعَمَلِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، أَوْ يَسْتَبْدِلُونَهَا بِهِ وَيَخْتَارُونَهَا عَنْهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: يَخْدَعُونَ أَهْلَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الدِّينِ، مِنْ خَتَلَهُ إِذَا خَدَعَهُ، وَالْمَعْنَى: يَخْتِلُونَ فِي طَلَبِهَا بِمُلَابَسَةِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّدَرُّعِ بِلِبَاسِهَا عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ الدَّنِيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (" يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ ") أَيْ: لِلَّهِ (" جُلُودَ الضَّأْنِ ") : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبَدَّلُ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَيْنُهُ أَوْ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصُّوفِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَلْبَسُونَ الْأَصْوَافَ لِيَظُنَّهُمُ النَّاسُ زُهَّادًا وَعُبَّادًا، تَارِكِينَ الدُّنْيَا، رَاغِبِينَ فِي الْعُقْبَى (" مِنَ اللِّينِ ") ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ إِظْهَارِ التَّلَيُّنِ، وَالتَّلَطُّفِ، وَالْتَّمَسْكُنِ، وَالتَّقَشُّفِ مَعَ النَّاسِ، وَأَرَادُوا بِهِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ التَّمَلُّقَ وَالتَّوَاضُعَ فِي وُجُوهِ النَّاسِ، لِيَصِيرُوا مُرِيدِينَ لَهُمْ وَمُعْتَقِدِينَ لِأَحْوَالِهِمْ (" أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ ") ، بِهَمْزٍ وَيُبَدَّلُ، أَيْ: أَمَرُّ مِنْ مَرَارَتِهَا مِنْ شِدَّةِ حُبِّ الدُّنْيَا وَالْجَاهِ، وَكَثْرَةِ الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ لِأَهْلِ التَّقْوَى، وَغَلَبَةِ الصِّفَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَالشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَالْإِرَادَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] أَيْ: عَلَى الطَّعَامِ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الْمَالِ الْحَرَامِ. (" يَقُولُ اللَّهُ: أَبِي ") أَيْ: بِإِمْهَالِي (" يَغْتَرُّونَ ") أَيْ: لَمْ يَدْرُوا أَنِّي أُمْهِلُ وَلَا أُهْمِلُ، وَالْمُرَادُ بِالِاغْتِرَارِ هُنَا عَدَمُ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكُ التَّوْبَةِ مِنْ فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ، أَيْ: أَفَلَا يَخَافُونَ مِنْ سُخْطِي وَعِقَابِي؟ (" أَمْ عَلَيَّ ") أَيْ: عَلَى مُخَالَفَتِي (" يَجْتَرِئُونَ ") ؟ أَيْ بِمَكْرِهِمُ النَّاسَ فِي إِظْهَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ افْتِعَالٌ مِنَ الْجَرَاءَةِ ; وَلِذَا قِيلَ: الِاجْتِرَاءُ الِانْبِسَاطُ وَالتَّشْجِيعُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمْ مُنْقَطِعَةٌ أَنْكَرَ أَوَّلًا اِغْتِرَارَهُمْ بِاللَّهِ وَبِإِهْمَالِهِ إِيَّاهُمْ حَتَّى اغْتَرُّوا، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَطَمُّ مِنْهُمْ، وَهُوَ اجْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ. (" فَبِي ") أَيْ: فَبِذَاتِي وَصِفَاتِي (" حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ ") مِنَ الْبَعْثِ، أَيْ: لَأُسَلِّطَنَّ، أَوْ لَأَقْضِيَنَّ (" عَلَى أُولَئِكَ ") أَيِ: الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ (" مِنْهُمْ ") أَيْ: مِمَّا بَيْنَهُمْ بِتَسْلِيطِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ (" فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ ") أَيْ: تَتْرُكُ الْعَالِمَ الْحَازِمَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: الْحَكِيمَ بِالْكَافِ بَدَلُ الْحَلِيمَ بِاللَّامِ، وَالْمُؤَدَّى وَاحِدٌ (" فِيهِمْ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ (" حَيْرَانَ ") ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُتَحَيِّرًا فِي الْفِتْنَةِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا وَلَا عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا، لَا بِالْإِقَامَةِ فِيهَا وَلَا بِالْفِرَارِ مِنْهَا. قَالَ الْأَشْرَفُ: مِنْ فِي " مِنْهُمْ " يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الرِّجَالِ، وَتَقْدِيرُهُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَأَنْ يُجْعَلَ مُتَعَلِّقًا بِالْفِتْنَةِ، أَيْ: لَأَبْعَثَنَّ عَلَى الرِّجَالِ الَّذِينَ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ فِتْنَةً نَاشِئَةً مِنْهُمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5324 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: لَقَدْ خَلَقْتُ خَلْقًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، فَبِي حَلَفْتُ لَأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ فِيهِمْ حَيْرَانَ، فَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ» ؟ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5324 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ ") ، أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُهُ وَبِرُّهُ (" وَتَعَالَى ") ، أَيْ: تَعَظَّمَ أَنْ يُدْرَكَ كُنْهُهُ (" قَالَ: لَقَدْ خَلَقْتُ خَلْقًا ") أَيْ: جَمْعًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ (" أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ ") ، أَيْ: لِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَثَرِ الْوَعْظِ وَالذِكْرِ، وَأَثَرِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ (" وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ ") ، ضُبِطَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَفِي بَعْضِهَا بِسُكُونِهَا، وَفِي الْقَامُوسِ: الصَّبِرُ كَكَتِفٍ وَلَا يُسَكَّنُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، عُصَارَةُ شَجَرٍ مُرٍّ، وَالْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لُغَاتِ الْكَتِفِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ النَّقْلِ تَخْفِيفًا، (" فَبِي حَلَفْتُ لَأُتِيحَنَّهُمْ ") مِنَ الْإِتَاحَةِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، يُقَالُ: أَتَاحَ اللَّهُ لِفُلَانٍ كَذَا، أَيْ: قَدَّرَهُ لَهُ وَأَنْزَلَهُ بِهِ، فَالْفِعْلُ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، فَالْمَعْنَى لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ (" فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ فِيهِمْ حَيْرَانَ، فَبِي يَغْتَرُّونَ ") بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ (" أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ؟ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5325 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَإِنْ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تُعِدُّوهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5325 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً " بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ: الْحِرْصُ عَلَى الشَّيْءِ وَالنَّشَاطُ فِيهِ وَالرَّغْبَةُ، (" وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً ") ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ أَيْ: وَهْنًا وَضَعْفًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَابِدَ يُبَالِغُ فِي الْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، وَكُلُّ مُبَالِغٍ يَفْتُرُ وَيَسْكُنُ حِدَّتُهُ وَمُبَالَغَتُهُ فِي أَمْرِهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ (" فَإِنْ صَاحِبُهَا ") فَاعِلٌ لِجَعَلَ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (" سَدَّدَ ") أَيْ: قَصَدَ السَّدَادَ وَالِاسْتِقَامَةَ، أَوِ اقْتَصَدَ فِي أَمْرٍ عَلَى مُدَاوَمَتِهِ، لَكِنْ لَا تَقْطَعُهُ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ، (وَقَارَبَ) أَيْ: دَنَا مِنَ التَّوْسِيطِ وَاحْتَرَزَ مِنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (" فَارْجُوهُ ") ، أَيْ: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَائِزِينَ، فَإِنَّ مَنْ سَلَكِ الطَّرِيقَ الْمُتَوَسِّطَ يَقْدِرُ عَلَى مُدَاوَمَتِهِ، لَكِنْ لَا تَقْطَعُوا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ (" وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ ") أَيْ: وَإِنِ اجْتَهَدُوا وَبَالَغَ فِي الْعَمَلِ لِيَصِيرَ مَشْهُورًا بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَصَارَ مَشْهُورًا وَمُشَارًا إِلَيْهِ فِيهَا (فَلَا تُعِدُّوهُ) أَيْ: شَيْئًا وَلَا تَعْتَقِدُوهُ صَالِحًا ; لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُرَائِينَ ; حَيْثُ جَعَلَ أَوْقَاتَ فَتْرَتِهِ عِبَادَةً، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ، وَأَيْضًا إِذَا أَقْبَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ بِوُجُوهِهِمْ رُبَّمَا زَادَ فِي الْعِبَادَةِ وَحَصَلَ لَهُ عُجْبٌ وَغُرُورٌ، فَصَارَ مِنَ الْهَالِكِينَ، إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ بِفَضْلِهِ، وَجَعْلِهِ مِنَ الْمُخْلِصِينَ، وَتَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْتَغِلُ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى حِرْصٍ شَدِيدٍ وَمُبَالَغَةٍ

عَظِيمَةٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الشِّرَّةَ يَتْبَعُهَا فَتْرَةٌ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَصِدًا مُحْتَرِزًا عَنْ جَانِبَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ وَسَالِكًا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، فَأَرْجُو كَوْنَهُ مِنَ الْفَائِزِينَ الْكَامِلِينَ، وَإِنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْإِفْرَاطِ حَتَّى يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَا تُعَوِّلُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، لَكِنْ لَا تَجْزِمُوا بِأَنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَا تَعُدُّوهُ مِنْهُمْ، لَكِنْ لَا تَرْجُوهُ كَمَا رَجَوْتُمُ الْمُقْتَصِدَ إِذْ قَدْ يَعْصِمُ اللَّهُ فِي صُورَةِ الْإِفْرَاطِ وَالشُّهْرَةِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَعْفُو عَنْ صَاحِبِ التَّفْرِيطِ وَرَاعَى التَّقْصِيرَ فِي الْعِبَادَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ فَتَرَكَ مَا لِلْقِسْمِ الثَّالِثِ لِظُهُورِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» ".

5326 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) [5326] . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5326 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " بِحَسْبِ امْرِئٍ ") : الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ يَكْفِيهِ (" مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا ") : فَإِنَّ مَنِ اشْتَهَرَ بِخَصْلَةٍ قَلَّمَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ الْخَفِيَّةِ كَالْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ، (" إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ ") ، أَيْ: حَفِظَهُ اللَّهُ فِي مَقَامِ تَقْوَاهُ، وَلِذَا اخْتَارَ طَائِفَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ طَرِيقَ الْمَلَامِيَّةِ فِي كِتْمَانِ الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِظْهَارًا لِلشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الدَّنِيَّةِ. قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَشَارُوا إِلَيْكَ بِالْأَصَابِعِ، فَقَالَ: لَا يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ الْمُبْتَدِعَ فِي دِينِهِ الْفَاسِقَ فِي دُنْيَاهُ، انْتَهَى. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْبِدْعَةِ وَالْغَرَابَةِ، لَكِنْ قَدْ تُوجَدُ فِي الْكَثْرَةِ الْمُجَاوِزَةِ عَنْ حَدِّ الْعَادَةِ، فَيَحْصُلُ بِهِ الْإِشَارَةُ، وَالشِّرَّةُ، فَتَارَةً تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى الرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، وَالطَّمَعِ مِنَ النَّاسِ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَتَارَةً يَعْصِمُهُ اللَّهُ مِنْ نَظَرِ مَا سِوَاهُ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَعْرِفُ أَنَّ الْغَيْرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الشَّرِّ، وَلَا جَلْبِ الْخَيْرِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْخَلْقِ مَدْحًا وَذَمًّا، لَا فِي الْعِبَارَةِ وَلَا فِي الْإِشَارَةِ، فَإِنَّهُ مَا أَيْسَرَ الدَّعْوَى، وَمَا أَعْسَرَ الْمَعْنَى، فَهَذِهِ حَالَةٌ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْبِشَارَةِ، لَكِنَّهُ مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ لِلرِّجَالِ، وَمَزْلَقَةُ أَفْهَامِ الْجِبَالِ، كَمَا وَرَدَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ الْخَلْقُ عِنْدَهُ كَالْأَبَاعِرِ. وَتَوْضِيحُهُ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَحْسَنِ عِبَارَةٍ وَأَزْيَنِ إِشَارَةٍ، حَيْثُ قَالَ: وَبَيْنَ الْحَالِ يَعْنِي حُبَّ الرِّيَاسَةِ وَالْجَاهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، هُوَ مِنْ أَحَرِّ غَوَائِلِ النَّفْسِ وَمُوَاطِنِ مَكَائِدِهَا، يُبْتَلَى بِهِ الْعُلَمَاءُ، وَالْعُبَّادُ، وَالْمُشَمِّرُونَ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ لِسُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ مِنَ الزُّهَّادِ، فَإِنَّهُمْ مَهْمَا قَهَرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَفَطَمُوهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَصَانُوهَا عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَحَمَلُوهَا بِالْقَهْرِ عَلَى أَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ، عَجَزَتْ نُفُوسُهُمْ عَنِ الطَّمَعِ فِي الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْجَوَارِحِ، فَطَلَبَتِ الِاسْتِرَاحَةَ إِلَى التَّظَاهُرِ بِالْخَيْرِ، وَإِظْهَارِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَوَجَدَتْ مَخْلَصًا مِنْ مَشَقَّةِ الْمُجَاهَدَةِ إِلَى لَذَّةِ الْقَبُولِ عِنْدَ الْخَلَائِقِ، وَلَمْ تَقْنَعْ بِاطِّلَاعِ الْخَالِقِ، وَفَرِحَتْ بِحَمْدِ النَّاسِ، وَلَمْ تَقْنَعْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَأَحَبَّ مَدْحَهُمْ وَتَبَرُّكَهُمْ بِمُشَاهَدَتِهِ، وَخِدْمَتِهِ، وَإِكْرَامِهِ، وَتَقْدِيمِهِ فِي الْمَحَافِلِ، فَأَصَابَتِ النَّفْسَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ وَأَلَذُّ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ حَيَاتَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَاتِهِ، وَإِنَّمَا حَيَاتُهُ بِهَذِهِ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ، الَّتِي تَعْمَى عَنْ دَرَكِهَا إِلَّا الْعُقُولَ النَّاقِدَةَ، قَدْ أَثْبَتَ اسْمَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ، فَهَذِهِ مَكِيدَةٌ لِلنَّفْسِ لَا يَسْلَمُ عَنْهَا إِلَّا الصِّدِّيقُونَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: آخِرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ رُءُوسِ الصَّدِّيقِينَ حُبُّ الرِّيَاسَةِ، وَهُوَ أَعْظَمُ شَبَكَةٍ لِلشَّيَاطِينِ، فَإِذَا الْمَحْمُودُ هُوَ الْمَخْمُولُ إِلَّا مَنْ شَهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَشْرِ دِينِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ مِنْهُ كَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ، وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") أَيْ: عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5327 - وَعَنْ أَبِي تَمِيمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَأَصْحَابَهُ، وَجُنْدَبٌ يُوصِيهِمْ، فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّه عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا طَيَّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ أَهَرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5327 - (عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ طَرِيفُ بْنُ مُجَالِدٍ الْجَهْمِيُّ الْبَصْرِيُّ، كَانَ أَصْلُهُ مَنْ عَرَبِ الْيَمَنِ، فَبَاعَهُ عَمُّهُ وَهُوَ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ. (قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَأَصْحَابَهُ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ الزُّهْرِيُّ، مَوْلَى حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، تَابِعِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَنَفَرٍ مِنَ التَّابِعِينَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَضَعْ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيُقَالُ: أَنَّ جَبْهَتَهُ ثُقِبَتْ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَصْحَابِهِ أَتْبَاعُهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. (وَجُنْدَبٌ) أَيْ: حَضْرَتُهُمْ وَالْحَالُ أَنَّ جُنْدَبُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ (يُوصِيهِمْ) ، بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ، وَالْمَعْنَى يَعِظُهُمْ فِي الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْمُجَاهَدَةِ، أَوْ بِزِيَادَةِ الْعِبَادَةِ، أَوْ بِالِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ، أَوْ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَعَنِ الْإِشَارَةِ وَالشُّهْرَةِ، وَالْأَظْهَرُ الْأَخِيرَانِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ. (فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا) ؟ أَيْ: مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَحَدِّثْنَا بِهِ وَأَفِدْنَا مِنْ كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ أَقْوَى تَأْثِيرًا وَأَلْطَفُ تَعْبِيرًا (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : سَبَقَ مَبْنَاهُ (" وَمَنْ شَاقَّ ") : صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُبَغَالَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يُكَلِّفَهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ شَقَّ عَلَى غَيْرِهِ بِأَنْ حَمَّلَهُ فَوْقَ اسْتِطَاعَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ") ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَطْلَقَ لِيَشْمَلَ، فَتَأَمَّلْ (" شَقَّ اللَّهُ ") ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ شَاقَّ اللَّهُ (" عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالُوا) أَيِ: الصَّحَابَةُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَى ذِكْرِهِمْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ صَفْوَانُ وَأَصْحَابُهُ لِجُنْدَبٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَاعِدَةِ رُجُوعِ الضَّمِيرِ (أَوْصِنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَيْ: مَا يَفْسُدُ (مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَحَلُّ النَّتَنِ، أَوْ فِي الْقَبْرِ بِالتَّفَقُّعِ (فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا) أَيْ: حَلَالًا (فَلْيَفْعَلْ) أَيْ: مَا اسْتَطَاعَ، أَوْ مَعْنَاهُ فَلْيَأْكُلْ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ مَالَ الْمَأْكُولِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي لَذَّاتِ النَّفْسِ مِنْ طُرُقِ الْوَبَالِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْحَلَالِ وَلَوْ بِقَلِيلٍ مِنَ الْمَالِ، وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ أَدْهَمَ: وَمَا هِيَ إِلَّا جَوْعَةٌ قَدْ سَدَّدْتُهَا ... وَكُلُّ طَعَامٍ بَيْنَ جَنْبَيَّ وَاحِدُ وَتَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: نَتَنُ الْبَطْنِ كِنَايَةٌ عَنْ مَسِّهِ النَّارَ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ: فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا طَيَّبًا أَيْ: حَلَالًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] وَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يَمَسُّ النَّارَ مِنْهُ هُوَ الْبَطْنُ. (وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَحُولَ) أَيْ: مَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ (بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: دُخُولِهَا أَوَّلًا مَعَ الْفَائِزِينَ (مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ أَهَرَاقَهُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: صَبَّهُ (فَلْيَفْعَلْ) أَيْ: مَا اسْتَطَاعَ مِمَّا ذُكِرَ، وَقَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ " مِلْءُ كَفٍّ " إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْقَلِيلَ يَحُولُ فَكَيْفَ بِالْكَثِيرِ، وَقِيلَ: إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّ تَسْفِيهَ الْقَائِلِ بِأَنْ فَوَّتَ الْجَنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الشَّيْءِ الْحَقِيرِ الْمُسْتَرْذَلِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي بَابِ نَتَنِ الْمَيِّتِ وَبَلَاءِ جَسَدِهِ، إِلَّا الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ مِنْ كِتَابِ شَرْحِ الصُّدُورِ فِي أَحْوَالِ الْقُبُورِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبِ الْبَجَلِيِّ: أَوَّلُ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَتِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ مَرْفُوعٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5328 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَمَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُتَفَقَّدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُقَرَّبُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5328 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْكِي، فَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مَا يُبْكِيكَ؟) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ بَاكِيًا أَشَوْقًا إِلَى اللِّقَاءِ، أَمْ وُقُوعًا مِنَ اللَّهِ بَعْضُ الْبَلَاءِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْبُكَاءِ؟ (قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ (يَقُولُ: " إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ ") أَيْ: قَلِيلَهُ (" شِرْكٌ ") ، أَيْ: عَظِيمٌ، أَوْ نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ، يَعْنِي وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْخَفَاءِ، لِأَنَّهُ أَدَقُّ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَقَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْأَقْوِيَاءُ، فَكَيْفَ الضُّعَفَاءُ؟ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْبُكَاءِ، وَسَبَبٌ آخَرُ أَذَى الْأَوْلِيَاءِ وَغَالِبُهُمْ أَخْفِيَاءُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: ( «أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَائِي لَا يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي» ) وَالْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو عَنْ بَذَاذَةِ اللِّسَانِ مَعَ الْإِخْوَانِ مِمَّا يَجُرُّ إِلَى الْعِصْيَانِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: (" وَمَنْ عَادَى ") أَيْ: آذَى وَأَغْضَبَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ (" لِلَّهِ وَلِيًّا ") أَيْ: وَاحِدًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ تَعَالَى (" فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ ") أَيْ: أَظْهَرَ لَهُ نَفْسَهُ (" بِالْمُحَارَبَةِ ") ، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ بِالْمُحَارَبَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ وَجِنَايَةٌ جَسِيمَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: (لِلَّهِ) لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا (بِعَادَى) ، فَهُوَ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلِيًّا، أَوْ صِفَةٌ لَهُ قُدِّمَ فَصَارَ حَالًا مِنْهُ. (" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ ") أَيِ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ عَمَلَ الْبِرِّ وَهُوَ الطَّاعَةُ لِلْحَقِّ، وَالْإِحْسَانُ لِلْخَلْقِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَدَارُ الدِّينِ عَلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ (" الْأَتْقِيَاءَ ") أَيْ: عَنِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَعَنِ الْمَنَاهِي، وَالْمَلَاهِي (" الْأَخْفِيَاءَ ") أَيْ: عَنْ نَظَرِ الْخَلْقِ مِنْ عَامَّتِهِمْ، وَعَنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ (" الَّذِينَ إِذَا غَابُوا ") أَيْ: مِنْ غَايَةِ الْخُمُولِ (" لَمْ يُتَفَقَّدُوا ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، فَفِي الْقَامُوسِ: تَفَقَّدَهُ طَلَبَهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} [النمل: 20] (" وَإِنْ حَضَرُوا ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ (" لَمْ يُدْعَوْا ") : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: لَمْ يُطْلَبُوا إِلَى الدَّعْوَةِ وَغَيْرِهَا (" وَلَمْ يُقَرَّبُوا ") بِالْمَجْهُولِ أَيْضًا، أَيْ: وَلَمْ يُقَرِّبْهُمُ الْعَامَّةُ، وَلَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَ قُرْبِهِمْ، وَمِقْدَارَ مَنْزِلَتِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ، اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِحَقِيقَةِ الْوَلِيِّ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً: إِذَا كَانُوا سَفَرًا لَمْ يُتَفَقَّدُوا، وَإِذَا كَانُوا حَاضِرِينَ لَمْ يُدْعَوْا إِلَى مَأْدُبَةٍ، وَإِنْ حَضَرُوهَا لَمْ يُقَرَّبُوا وَتُرِكُوا فِي صَفِّ النِّعَالِ، وَهَذَا تَفْصِيلُ مَا وَرَدَ: " «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ لَا يُؤْبَهُ بِهِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ". (" قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى ") أَيْ: هُمْ أَدِلَّةُ الْهِدَايَةِ، وَهُدَاةُ الْعِنَايَةِ فَيَسْتَحِقُّونَ الرِّعَايَةَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلُبَ مِنْهُمُ الْحِمَايَةُ (" يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ ") أَيْ: مِنْ عُهْدَةِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ مُشْكِلَةٍ، أَوْ بَلِيَّةٍ مُعْضِلَةٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كِنَايَةٌ عَنْ حَقَارَةِ مَسَاكِنِهِمْ وَأَنَّهَا مُظْلِمَةٌ مُغْبَرَّةٌ لِفُقْدَانِ أَدَاةِ مَا يُتَنَوَّرُ وَيُتَنَظَّفُ بِهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، أَيْ: فِي سُنَنِهِ (والْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") . وَقَدْ جَاءَ فِي صَدْرِ حَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَرْبَعِينَ مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» ". قَالَ شَارِحٌ لَهُ: أَيْ أَعْلَمْتُهُ بِمُحَارَبَتِهِ وَمُعَادَاتِهِ مَعِي، أَوْ بِأَنِّي سَأُحَارِبُهُ، وَأَقْهَرُهُ، وَأَنْتَصِرُ مِنْهُ، وَأَنْتَقِمُ لَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنِّي لَأَغْضَبُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَغْضَبُ اللَّيْثُ لِلْجَرْوِ، أَيْ: لِوَلَدِهِ، وَفِي أُخْرَى: أَنَّهُ يَنْتَقِمُ بِعَدُّوِهِ، ثُمَّ الْوَلِيُّ بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، فَكَأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي نُورِ مَعْرِفَتِهِ، وَجَمَالِهِ، وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ مُشَاهَدَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ، فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْوَلِيُّ مَنْ كَانَ آتِيًا بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الدَّلِيلِ، وَبِالْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ أَيْ كَذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْكُبَرَاءِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ لَيْسُوا بِأَوْلِيَاءَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ وَلِيٌّ.

وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْوَلِيُّ مَنْ كُوشِفَ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِإِصْلَاحِ النَّاسِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ، إِذْ أَكْثَرُ الْأَوْلِيَاءِ لَا سِيَّمَا مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ كَرَامَةٌ وَكَشْفُ حَالَةٍ، بِخِلَافِ بَعْضِ الْخَلَفِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَقِيلَ: لِقُوَّةِ قُلُوبِ الْأَوَّلِينَ وَضَعْفِ دِينِ الْآخِرِينَ؛ وَلِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ، لَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَامِلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، مُكَمِّلُونَ لِغَيْرِهِمْ، فَهُمُ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاعِظُونَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِهَا سِوَاهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: مَصَابِيحُ الْهُدَى، فَطُوبَى لِمَنْ بِهِمُ اقْتَدَى وَبِنُورِهِمُ اسْتَضَاءَ وَاهْتَدَى، فَالْأَقْرَبُ فِي مَعْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مِنْ أَنَّ الْوَلِيَّ إِمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَنْ يَتَوَلَّى اللَّهُ حِفْظَهُ وَحِرَاسَتَهُ عَلَى التَّوَالِي، أَوْ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ: مَنْ يَتَوَلَّى عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ، وَيَتَوَالَى عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ مَعْصِيَةٍ، وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ شَرْطٌ فِي الْوِلَايَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَإِيمَاءٌ فِي الْأَوَّلِ إِلَى الْمَجْذُوبِ السَّالِكِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمُرَادِ، وَفِي الثَّانِي إِلَى السَّالِكِ الْمَجْذُوبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمُرِيدِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِمَا سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13] وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: الْوَلِيُّ هُوَ مَنْ يَتَوَلَّى اللَّهُ بِذَاتِهِ أَمْرَهُ، فَلَا تَصَرُّفَ لَهُ أَصْلًا إِذْ لَا وُجُودَ لَهُ، وَلَا ذَاتَ، وَلَا فِعْلَ، وَلَا وَصْفَ، فَهُوَ الْفَانِي بِيَدِ الْبَاقِي، كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ، يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ حَتَّى يَمْحُو رَسْمَهُ وَاسْمَهُ، وَيَمْحُو عَيْنَهُ وَأَثَرَهُ، وَيُحْيِيهِ بِحَيَاتِهِ، وَيُبْقِيهِ بِبَقَائِهِ، وَيُوصِلَهُ إِلَى لِقَائِهِ.

5329 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَلَّى فِي الْعَلَانِيَةِ فَأَحْسَنَ، وَصَلَّى فِي السِّرِّ فَأَحْسَنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا عَبْدِي حَقًّا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5329 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَلَّى فِي الْعَلَانِيَةِ فَأَحْسَنَ) ، أَيْ: فِي أَدَاءِ صَلَاتِهِ بِالْقِيَامِ بِشَرَائِطِهِ، وَوَاجِبَاتِهِ، وَسُنَنِهِ، وَمُسْتَحَبَّاتِهِ، وَكَذَا فِي سَائِرِ طَاعَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ (" وَصَلَّى فِي السِّرِّ ") أَيْ: فِي الْخَلْوَةِ عَنِ الْخَلْقِ (" فَأَحْسَنَ ") أَيْ: عَمَلَهُ اكْتِفَاءً بِنَظَرِ الْحَقِّ (" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا ") أَيِ: الْعَبْدُ (" عَبْدِي ") أَيِ: الْمُخْلِصُ لِي (" حَقًّا ") أَيْ: صِدْقًا، خَالِيًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي الْعَلَانِيَةِ نِفَاقًا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّرَفُ فِي حَثِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ السُّنَنَ وَالنَّوَافِلَ فِي الْبَيْتِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

5330 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ، إِخْوَانُ الْعَلَانِيَةِ، أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ ". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5330 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَكُونُ ") أَيْ: يُوجَدُ وَيَحْدُثُ (" فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ ") أَيْ: جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ أَوْ مُخْتَلِفَةٌ مُؤْتَلِفَةٌ (" إِخْوَانُ الْعَلَانِيَةِ، أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ ") . أَيْ: أَحِبَّاءٌ فِي الظَّوَاهِرِ وَأَعْدَاءٌ فِي السَّرَائِرِ، ذَكَرَهُمَا مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْخَبَرِ بَعْدَ الْخَبَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فِي) مُقَدَّرَةٌ فِيهَا، وَفِي قَرِينَتِهَا. الْجَوْهَرِيُّ: السِّرُّ مَا يُكْتَمُ، وَالسَّرِيرَةُ مِثْلُهُ (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟) أَيْ: مَا ذُكِرَ وَمَا يَكُونُ سَبَبُهُ؟ (قَالَ: " ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ ") أَيْ: بِسَبَبِ طَمَعِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ إِلَى أُخْرَى (" وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ ") أَيْ: خَوْفِهِمْ (" مِنْ بَعْضٍ ") ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ، بَلْ أُمُورُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ، وَالْمَقَاصِدِ الْكَاسِدَةِ، فَتَارَةً يَرْغَبُونَ فِي قَوْمٍ لِأَغْرَاضٍ فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ الصَّدَاقَةَ، وَتَارَةً يَكْرَهُونَ قَوْمًا لِعِلَلٍ فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمَحَبَّةِ الْخَلْقِ وَعَدَاوَتِهِمْ، فَإِنَّهُمَا مَبْنِيَّتَانِ عَلَى غَرَضِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ.

5331 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ» ". رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5331 - (وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنْ صَلَّى يُرَائِي ") أَيْ: مُرَائِيًا (" فَقَدْ أَشْرَكَ ") ، أَيْ: شِرْكًا خَفِيًّا كَمَا سَيَجِيءُ مُصَرَّحًا فِيمَا يَلِيهِ مِنْ حَدِيثِهِ، (" وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ ") فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الرِّيَاءَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الصِّيَامِ أَيْضًا، خِلَافًا لِمَنْ نَفَاهُ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ مَدَارَ الصَّوْمِ عَلَى النِّيَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الرِّيَاءُ، وَلَا عِبْرَةَ بِعَدَمِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ الطَّوِيَّةِ، فَإِنَّا نَقُولُ: الرِّيَاءُ الْمَحْضُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الصَّوْمِ، لَكِنَّ الرِّيَاءَ قَدْ يُوجَدُ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ، بِأَنْ يُرِيدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، يُرِيدُ بِهِ أَيْضًا التَّشْهِيرَ أَوْ غَرَضًا سِوَاهُ، سَوَاءٌ يَكُونُ الْمَقْصِدَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُتَقَابِلَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْمَرَامِ فِي كَلَامِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ. (" وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ ". رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (أَحْمَدُ) .

5332 - وَعَنْهُ، «أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ، فَذَكَرْتُهُ، فَأَبْكَانِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: " نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا، وَلَا قَمَرًا، وَلَا حَجَرًا، وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ يُرَاؤُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا، فَتَعْرِضَ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكَ صَوْمَهُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5332 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ شَدَّادٍ (أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ) أَيْ: يُبْكِينِي شَيْءٌ (سَمِعْتُ) أَيْ: سَمِعْتُهُ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِيهِ اسْتِعْمَالُ مِنْ عَلَى أَصْلِهِ (يَقُولُ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ قَائِلًا، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ (فَذَكَرْتُهُ) أَيِ: الْمَسْمُوعَ أَوِ الْمَقُولَ (فَأَبْكَانِي) أَيْ: فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُزْنِي وَبُكَائِي، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْإِجْمَالِ ; وَلِذَا اسْتَأْنَفَ بَيَانَهُ فَقَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَتَخَوَّفُ " قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَوْفُ تَوَقُّعُ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ عَنْ أَمَارَةٍ مَظْنُونَةٍ أَوْ مَعْلُومَةٍ، وَالتَّخَوُّفُ ظُهُورُ الْخَوْفِ مِنَ الْإِنْسَانِ، انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّاءَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى أَخَافُ خَوْفًا كَثِيرًا (عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ) أَيِ: الْخَفِيَّ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَقْدِيرِنَا مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ» . (" وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ") . أَيِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا أَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ الرَّضِيَّةِ، وَالْمُجَاهَدَاتِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْمُخَالَفَاتِ النَّفْسِيَّةِ. (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتُشْرِكُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَتُؤَنَّثُ (أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: " نَعَمْ. أَمَا ") : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ الشِّرْكَ الْجَلِيَّ (" إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا ") أَيْ: وَلَا صَنَمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (" وَلَكِنْ يُرَاؤُونَ بِأَعْمَالِهِمْ ") : وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . (" وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا ") ، أَيْ: نَاوِيًا لِلصَّوْمِ (" فَتَعْرِضَ ") : بِكَسْرِ الرَّاءِ مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا أَيْ: فَتَظْهَرُ (" لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ ") أَيْ: كَالْأَكْلِ، وَالْجِمَاعِ، وَغَيْرِهِمَا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ شَهْوَةٌ خَاصَّةٌ عَزِيزَةُ الْوُجُودِ مِنْ بَيْنِ مُشَبَّهَاتِهِ بِحَيْثُ لَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ فَيَمِيلُ إِلَيْهَا بِالطَّبْعِ، وَلَا يُلَاحِظُ مُخَالَفَتَهُ لِلشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَالنَّقْلُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ (" فَيَتْرُكَ صَوْمَهُ ") أَيْ: وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَعْنِي إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي طَاعَةٍ مِنْ طَاعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، يُرَجِّحُ جَانِبَ النَّفْسِ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَتْبَعُ هَوَى نَفْسِهِ فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ وَالرَّدَى. قَالَ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37] اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَوَى فِي الْآيَةِ الشَّهْوَةُ الْجَلِيَّةُ، وَهِيَ الْمُحَرَّمَاتُ وَالْأُمُورُ الْمَنْهِيَّةُ، ثُمَّ قَالَ: وَسُمِّيَ خَفِيًّا لِخَفَاءِ هَلَاكِهِ أَوْ مَشَاكِلِهِ لِقَوْلِهِ: الشِّرْكَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُشَاكَلَةِ، لَا فِي الْإِطْلَاقِ، وَلَا فِي التَّقْيِيدِ بِحَسَبِ الْمُقَابَلَةِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") . قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَفِي الْجَامِعِ: الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ وَالرِّيَاءُ شِرْكٌ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَدَّادٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ: يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً خَفِيَّةً» ".

5333 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ " فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ، فَيَزِيدَ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5333 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيِّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَقَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أَلَا) لَيْسَتْ لِلتَّنْبِيهِ، بَلْ هِيَ لَا النَّافِيَةُ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، يَعْنِي بِقَرِينَةِ بَلَى فِي جَوَابِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَلَا أُعَلِّمُكُمْ (" بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ ") أَيْ: لِعُمُومِهِ وَخَفَائِهِ (" عِنْدِي ") أَيْ: فِي شَرِيعَتِي وَطَرِيقَتِي (" مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ") ، أَيْ لِخُصُوصِ وَقْتِهِ، وَلِظُهُورِ مَقْتِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ رِعَايَةُ مُحَافَظَتِهِ (فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: " الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ ") بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، أَوِ التَّقْدِيرُ هُوَ أَنْ يَقُومَ (" الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ ") بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" فَيَزِيدَ ") أَيْ: فِي الْكَمِّيَّةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ (" صَلَاتَهُ ") أَيْ: فِي جَمِيعِ أَرْكَانِهَا أَوْ بَعْضِهَا (" لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ ") أَيْ: مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ (" إِلَيْهِ ") ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِاطِّلَاعِهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

5334 - وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: " الرِّيَاءُ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) : " «يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ يُجَازِي الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً وَخَيْرًا؟» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5334 - (وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ) ، أَنْصَارِيٌّ أَشْهَلِيٌّ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحَادِيثَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُعْرَفُ لَهُ صُحْبَةٌ، وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي التَّابِعِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الصَّحِيحُ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالشِّرْكِ الْأَصْغَرِ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوَّلًا، (قَالَ: " الرِّيَاءُ ") ، أَيْ جِنْسُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، مِنَ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: " يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ ") أَيْ: لِلْمُرَائِينَ (" يَوْمَ يُجَازِي الْعِبَادَ ") : عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْعِبَادِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَرَفْعِ الْعِبَادِ (" بِأَعْمَالِهِمْ ") أَيْ: إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ (" اذْهَبُوا ") أَيْ: أَيُّهَا الْمُرَاؤُونَ (" إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ ") ، أَيْ: فِي حُسْنِ الْعِبَادَةِ أَوْ أَصْلُهَا نَظَرَهُمْ تُرَاعُونَ (" فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً وَخَيْرًا؟) : الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " كَمَا فِي نُسْخَةٍ، أَوْ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ هَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، والْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ وَغَيْرِهِ.

5335 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ عَمَلًا فِي صَخْرَةٍ لَا بَابَ لَهَا وَلَا كَوَّةَ، خَرَجَ عَمَلُهُ إِلَى النَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5335 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ عَمَلًا فِي صَخْرَةٍ ") أَيْ: فِي دَاخِلِ حَجَرٍ صُلْبٍ - فَرْضًا - أَوْ جَوْفِ كَهْفِ جَبَلٍ (" لَا بَابَ لَهَا وَلَا كَوَّةَ ") بِفَتْحِ الْكَافِ وَتُضَمُّ، وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ طَاقَةَ، وَقِيلَ: هِيَ بِالْفَتْحِ إِذَا كَانَتْ غَيْرُ نَافِذَةٍ، وَبِالضَّمِّ إِذَا كَانَتْ نَافِذَةً، فَالْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا فِي بَابِ الْمُبَالَغَةِ أَعْلَى. (" خَرَجَ عَمَلُهُ إِلَى النَّاسِ ") أَيْ: ظَهَرَ عَلَيْهِمْ (" كَائِنًا ") أَيْ: ذَلِكَ الْعَمَلُ (" مَا كَانَ ") . أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَنَصَبَ كَائِنًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْعَمَلِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَفِي نُسْخَةٍ: مَنْ كَانَ، فَالتَّقْدِيرُ: كَائِنًا ذَلِكَ الْعَامِلُ أَوْ صَاحِبُ الْعَمَلِ مَنْ كَانَ، أَيْ: سَوَاءٌ أَرَادَ ظُهُورَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] .

5336 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ سَرِيرَةٌ صَالِحَةً أَوْ سَيِّئَةً، أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْهَا رِدَاءً يُعْرَفُ بِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5336 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) : بِلَا صَرْفٍ وَيُصْرَفُ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ كَانَتْ ") بِالتَّأْنِيثِ، وَفِي نُسْخَةٍ: مَنْ كَانَ (" لَهُ سَرِيرَةٌ ") أَيْ: طَوِيَّةٌ (" صَالِحَةً أَوْ سَيِّئَةً أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْهَا ") أَيْ: مِنْ تِلْكَ السَّرِيرَةِ (" رِدَاءً ") أَيْ عَلَامَةً مِنْ هَيْئَةٍ وَصُورَةٍ (" يُعْرَفُ بِهِ ") . أَيْ يَمْتَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، كَمَا يُعْرَفُ بِالرِّدَاءِ كَوْنَ الرَّجُلِ مِنَ الْأَعْيَانِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْوَانِ.

5337 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلَّ مُنَافِقٍ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ وَيَعْمَلُ بِالْجَوْرِ» " رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5337 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ ") أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ (" كُلَّ مُنَافِقٍ ") : بِالنَّصْبِ، وَالْمَعْنَى: مَا أَخَافُ عَلَيْهِمْ إِلَّا شَرَّ كُلِّ مُنَافِقٍ، أَيْ: مُرَاءٍ أَوْ فَاسِقٍ (" يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ ") أَيْ: بِالشَّرِيعَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (" وَيَعْمَلُ بِالْجَوْرِ ") أَيْ بِالظُّلْمِ، وَالسَّيِّئَةِ، وَيَعْدِلُ عَنْ جَادَّةِ الِاسْتِقَامَةِ، وَقَدْ أَبْعَدَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُنَافِقٍ بَحْرُورًا بَدَلًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا أَخَافُ إِلَّا عَلَى كُلِّ مُنَافِقٍ، وَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ اللَّاحِقُ، سَوَاءٌ جُعِلَ بَدَلَ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ، فَإِنَّ الْبَدَلَ حِينَئِذٍ يَكُونُ فِي قُوَّةِ الْمَطْرُوحِ، وَيَقَعُ الِاهْتِمَامُ بِشَأْنِ الْبَدَلِ، فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ لَا يُفِيدُهُ اسْتِدْرَاكُهُ بِقَوْلِهِ أَيْ: أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّفَاقِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِالْوِفَاقِ. (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .

5338 - وَعَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ حَبِيبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلَامِ الْحَكِيمِ أَتَقَبَّلُ، وَلَكِنْ أَتَقَبَّلُ هَمَّهُ وَهَوَاهُ، فَإِنْ كَانَ هَمُّهُ وَهَوَاهُ فِي طَاعَتِي جَعَلْتُ صَمْتَهُ حَمْدًا لِي وَوَقَارًا وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5338 - (وَعَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ حَبِيبٍ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلَامِ الْحَكِيمِ ") أَيْ: جَمِيعَ قَوْلِ الْعَالِمِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِخَبَرِ لَيْسَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (" أَتَقَبَّلُ ") : لِأَنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى الْأَقْوَالِ وَحَرَكَةِ اللِّسَانِ، بَلْ أَنْظُرُ إِلَى الْأَحْوَالِ وَبَرَكَةِ الْجِنَانِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" وَلَكِنِّي أَتَقَبَّلُ هَمَّهُ ") أَيْ: نِيَّتَهُ، وَلَوْ كَانَتْ فِي أَوَائِلِ مَرَاتِبِ الْخَوَاطِرِ (" وَهَوَاهُ ") أَيْ: قَصْدَهُ الْمُقَرَّرَ فِي الْأَوَاخِرِ ; لِأَنَّ نِيَّةَ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، حَتَّى لَهُ الْأَجْرُ عَلَى طُولِ أَمَلِهِ وَلَوْ بَعْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ، (" فَإِنَّ هَمَّهُ وَهَوَاهُ فِي طَاعَتِي ") أَيْ: فِي مُوَافَقَتِي (" جَعَلْتُ صَمْتَهُ ") أَيْ: سُكُونَهُ (" حَمْدًا لِي ") أَيْ: بِمَنْزِلَةِ الثَّنَاءِ اللِّسَانِيِّ عَلَيَّ (وَوَقَارًا) أَيْ: سَكِينَةً وَطُمَأْنِينَةً وَرَزَانَةً فِي الْحِلْمِ، وَمَتَانَةً فِي الْعِلْمِ، (" وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ ") أَيْ: بِالْحَمْدِ وَنَحْوِهِ وَمَفْهُومِهِ، فَإِنْ كَانَ هَمُّهُ وَهَوَاهُ فِي مَعْصِيَتِي أَيْ مُخَالَفَتِي جَعَلْتُ كَلَامَهُ وِزْرًا، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِالْحَمْدِ وَأَظْهَرَ عِلْمًا وَذِكْرًا. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) فِي مُسْنَدِهِ.

[باب البكاء والخوف]

[بَابُ الْبُكَاءِ وَالْخَوْفِ]

[6] بَابُ الْبُكَاءِ وَالْخَوْفِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5339 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا» "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [6] بَابُ الْبُكَاءِ وَالْخَوْفِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَنْبِيهًا لِتَلَازُمِهِمَا غَالِبًا، وَقَدَّمَ الْبُكَاءَ وَلَوْ سَبَبُهُ الْخَوْفُ لِظُهُورِهِ أَوَّلًا، أَوْ أُرِيدَ بِالْخَوْفِ التَّعْمِيمُ، فَذَكَرَهُ بَعْدَ الْبُكَاءِ كَالتَّتْمِيمِ، ثُمَّ الْبُكَاءُ بِالْقَصْرِ: خُرُوجُ الدَّمْعِ مَعَ الْحُزْنِ، وَبِالْمَدِّ: خُرُوجُهُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ، كَذَا قِيلَ، وَالْمَدُّ أَشْهَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ لَهُ هَاهُنَا الْمَعْنَى الْأَعَمَّ، فَحَمْلُهُ عَلَى التَّجْرِيدِ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ هُوَ الْأَتَمُّ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5339 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ ") أَيْ: مِنْ عِقَابِ اللَّهِ لِلْعُصَاةِ، وَشِدَّةِ الْمُنَاقَشَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ لِلْعُتَاةِ، وَكَشْفِ السَّرَائِرِ وَخُبْثِ النِّيَّاتِ (" لَبَكَيْتُمْ ") : جَوَابُ الْقَسَمِ السَّادِّ مَسَدَّ جَوَابِ لَوْ (" كَثِيرًا ") أَيْ: بُكَاءً كَثِيرًا، أَوْ زَمَانًا كَثِيرًا، أَيْ: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، تَرْجِيحًا لِلْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ وَخَوْفًا مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ (" وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ") ، وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي أُودِعَهَا قَلْبَ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الصَّادِقِ، وَيَجُوزُ إِفْشَاءُ السِّرِّ، فَإِنَّ صُدُورَ الْأَحْرَارِ قُبُورُ الْأَسْرَارِ، بَلْ كَانَ يَذْكُرُ ذَلِكَ لَهُمْ حَتَّى يَبْكُوا وَلَا يَضْحَكُوا، فَإِنَّ الْبُكَاءَ ثَمَرَةُ شَجَرَةِ حَيَاةِ الْقَلْبِ الْحَيِّ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَاسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَهَيْبَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَالضَّحِكُ نَتِيجَةُ الْقَلْبِ الْغَافِلِ عَنْ ذَلِكَ، فَبِأَنَّ الْحَقِيقَةَ حَثَّ الْخَلْقِ عَلَى طَلَبِ الْقَلْبِ الْحَيِّ وَالتَّعَوُّذِ مِنَ الْقَلْبِ الْغَافِلِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) أَيْ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ الضِّيَاءُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَزَادَ: " وَلَمَا سَاغَ لَكُمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ "، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَلَفْظُهُ: " «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا تَدْرُونَ تَنْجُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ» "، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مُطَوَّلًا. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُنَادِي يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ: لَيْتَ هَذَا الْخَلْقَ لَمْ يُخْلَقُوا، وَلَيْتَهُمْ إِذَا خُلِقُوا عَلِمُوا لِمَاذَا خُلِقُوا. وَعَنِ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أَنَّهُ قَالَ: وَدِدْتُ أَنْ أَكُونَ خُضَرًا تَأْكُلُنِي الدَّوَابُّ مَخَافَةَ الْعَذَابِ. وَعَنْ عُمَرَ الْفَارُوقِ: أَنَّهُ سَمِعَ إِنْسَانًا يَقْرَأُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] فَقَالَ: لَيْتَهَا تَمَّتْ، بَلْ «وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يَخْلُقْ مُحَمَّدًا» ، وَعَنِ الْفُضَيْلِ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَا أَغْبِطُ مَلَكًا مُقَرَّبًا، وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَلَا عَبْدًا صَالِحًا، أَلَيْسَ هَؤُلَاءِ يُعَانُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ إِنَّمَا أَغْبِطُ مَنْ لَا يُخْلَقُ.

5340 - وَعَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «وَاللَّهِ لَا أَدْرِي، وَاللَّهِ لَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ» "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5340 - (وَعَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ) ، هِيَ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ، رَوَى عَنْهَا خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَهِيَ أُمُّهُ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهَا فِي مَرَضِهَا، (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَاللَّهِ لَا أَدْرِي ") ، وَفِي نُسْخَةٍ (" وَاللَّهِ لَا أَدْرِي ") مُكَرَّرًا، (" وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ ") - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (" مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ") : مَفْعُولُ لَا أَدْرِي، وَدُخُولُ " لَا " لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ ; لِيُفِيدَ اشْتِمَالَ النَّفْيِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَبِيلَيْنِ عَلَى حِدَهْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ حِينَ قَالَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ لَمَّا تُوُفِّيَ: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ، زَجْرًا لَهَا عَلَى سُوءِ الْأَدَبِ بِالْحُكْمِ عَلَى الْغَيْبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،

وَعَنْ أَبِيهَا - حِينَ سَمِعَهَا تَقُولُ: طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا سَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ، وَزَمَانُ صُدُورِهِ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ إِزَالَةَ إِشْكَالِ مَعْنَاهُ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] ، قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ النَّسْخَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ تَأْخِيرُ النَّاسِخِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْأَخْبَارِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الِاعْتِبَارِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِلدِّرَايَةِ الْمُفَصَّلَةِ دُونَ الْمُجْمَلَةِ، قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى سَبَبِ وُرُودِ الْحَدِيثِ، قُلْتُ: وَهَذَا مُنْدَرِجٌ فِيمَا قَبْلَهُ وَالْحُكْمُ بِطَرِيقِ الْأَعَمِّ هُوَ الْوَجْهُ الْأَتَمُّ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَالشِّبَعُ وَالرَّيُّ، وَالْمَرَضُ وَالصِّحَّةُ، وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى، وَكَذَا حَالُ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَأُخْرَجُ مِنْ بَلَدِي أَمْ أُقْتَلُ، كَمَا فُعِلَ بِالْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَأَتُرْمَوْنَ بِالْحِجَارَةِ أَمْ يُخْسَفُ بِكُمْ كَالْكَذَّابِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ؟ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُرِيدُ نَفْيَ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَّلِعٍ عَلَى الْمَكْنُونِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، غَيْرَ مُتَيَقِّنٍ بِمَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْحُسْنَى، لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي يَنْقَطِعُ الْعُذْرُ دُونَهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّى يُحْمَلُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ، وَأَنَّهُ أَكْرَمُ الْخَلَائِقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5341 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا، رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، وَرَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5341 - (وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ ") ، أَيْ: أُظْهِرَتْ لِي وَأَهْلُهَا (" فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ") أَيْ: مِنْ مُؤْمِنِيهِمْ (" تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ ") ، أَيْ: فِي شَأْنِ هِرَّةٍ وَلِأَجْلِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فِي هِرَّةٍ لَهَا (" رَبَطَتْهَا ") : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (" فَلَمْ تُطْعِمْهَا ") أَيْ: كِفَايَتَهَا (" وَلَمْ تَدَعْهَا ") أَيْ: وَلَمْ تَتْرُكْهَا (" تَأْكُلُ ") : بِالرَّفْعِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْ: تَصِيدُ وَتَأْكُلُ (" مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ") بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتُكْسَرُ وَتُضَمُّ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْخَشَاشُ مُثَلَّثٌ: حَشَرَاتُ الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا، وَالْفَتْحُ أَظْهَرُ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَرُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ يَابِسُ النَّبَاتِ وَهُوَ وَهْمٌ. (" حَتَّى مَاتَتْ ") أَيِ: الْهِرَّةُ (" جُوعًا، وَرَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ ") بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي خُزَاعَةَ قَبِيلَةٍ مَشْهُورَةٍ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ بِمَكَّةَ، وَحَمَلَ أَهْلَهَا بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهَا بِتَسْيِيبِ السَّوَائِبِ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ الدَّابَّةَ فَتَسِيرَ حَيْثُ شَاءَتْ، فَلَا تُرَدُّ عَنْ حَوْضٍ وَعَلَفٍ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهَا بِرُكُوبٍ وَلَا حَمْلٍ، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَ الْعَبِيدَ أَيْضًا بِأَنْ يُعْتِقُوهُمْ، وَلَا يَكُونَ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَلَا عَلَى الْمُعْتَقِ حَجْرٌ فِي مَالِهِ، فَيَضَعَهُ حَيْثُ شَاءَ، وَقَدْ قَالَ لَهُ: إِنَّهُ سَائِبَةٌ. (" يَجُرُّ ") أَيْ: يَجْذِبُ (" قُصْبَهُ ") بِضَمِّ قَافٍ فَسُكُونِ صَادٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ: أَمْعَاءَهُ (" فِي النَّارِ ") ، وَقِيلَ: لَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُوشِفَ مِنْ سَائِرِ مَا كَانَ يُعَاقَبُ بِهِ فِي النَّارِ بِجَرِّ قُصْبِهِ فِي النَّارِ ; لِأَنَّهُ اسْتَخْرَجَ مِنْ بَاطِنِهِ بِدْعَةً جَرَّ بِهَا الْجَرِيرَةَ إِلَى قَوْمِهِ الْجَرِيمَةَ، (" وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ ") ، أَيْ: وَضَعَ تَحْرِيمَ السَّوَائِبِ، جَمْعُ سَائِبَةٍ، وَهِيَ نَاقَةٌ يُسَيِّبُهَا الرَّجُلُ عِنْدَ بُرْئِهِ مِنَ الْمَرَضِ، أَوْ قُدُومِهِ مِنَ السَّفَرِ، فَيَقُولُ: نَاقَتِي سَائِبَةٌ فَلَا تُمْنَعُ مِنَ الْمَرَاعِي، وَلَا تُرَدُّ عَنْ حَوْضٍ، وَلَا عَنْ عَلَفٍ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَلَا يُرْكَبُ عَلَيْهَا، وَلَا تُحْلَبُ، وَكَانَ ذَلِكَ تَقَرُّبًا مِنْهُمْ إِلَى أَصْنَامِهِمْ، وَقِيلَ: نَاقَةٌ وَلَدَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ عَلَى التَّوَالِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلِكِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، أَيْ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَتَضَمَّنُ ذِكْرُهُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ عَنْ جَابِرٍ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَالْبُخَارِيُّ عَلَى إِخْرَاجِ حَدِيثِ الْهِرَّةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، لَكِنَّ رُؤْيَا حَدِيثِ عَمْرٍو مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ وَبَحَرَ الْبَحَائِرَ، يَعْنِي: إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ بَحَرُوا أُذُنَهَا أَيْ شَقُّوهَا، وَخَلَّوْا سَبِيلَهَا فَلَا تُرْكَبُ وَلَا تُحْلَبُ.

5342 - وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ " وَحَلَّقَ بِأُصْبَعَيْهِ: الْإِبْهَامَ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَنُهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: " نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5342 - (وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) مَرَّ ذِكْرُهَا، وَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، أَيْ: خَائِفًا (يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ ") فَفِي الْقَامُوسِ: الْوَيْلُ: حُلُولُ الشَّرِّ، وَهُوَ تَفْجِيعٌ، انْتَهَى. وَخَصَّ بِذَلِكَ الْعَرَبَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْظَمَ مَنْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ (" مِنْ شَرٍّ ") أَيْ: خُرُوجِ جَيْشٍ يُقَاتِلُ الْعَرَبَ (" قَدِ اقْتَرَبَ ") ، أَيْ: قَرُبَ ذَلِكَ الشَّرُّ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ: (" فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ") بِالْأَلِفِ وَيُهْمَزُ فِيهِمَا بِلَا انْصِرَافٍ، وَالْمُرَادُ بِالرَّدْمِ: السَّدُّ، وَالِاسْمُ وَالْمَصْدَرُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ السَّدُّ الَّذِي بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ (" مِثْلُ هَذِهِ ") بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ لِقَوْلِهِ: فُتِحُ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْحَلْقَةِ الْمُبَيَّنَةِ بِقَوْلِهِ: (وَحَلَّقَ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: جَعَلَ حَلْقَةً (بِأُصْبَعَيْهِ ") أَيْ: بِضَمِّهَا (الْإِبْهَامَ وَالَّتِي تَلِيهَا) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ حَلَّقَ، أَوْ عَلَى تَفْسِيرِ الْأُصْبُعَيْنِ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي، وَيَجُوزُ جَرُّهُمَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الرَّدْمِ ثُقْبَةٌ إِلَى الْيَوْمِ، وَقَدِ انْفَتَحَتْ فِيهِ إِذِ انْفِتَاحُهَا مِنْ عَلَامَاتِ قُرْبِ السَّاعَةِ، فَإِذَا اتَّسَعَتْ خَرَجُوا، وَذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ جِنْسَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَطَائِفَتَانِ كَافِرَتَانِ مِنَ التُّرْكِ، (قَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَنُهْلَكُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ (وَفِينَا الصَّالِحُونَ) أَيْ: أَنُعَذَّبُ فَنُهْلَكُ نَحْنُ مَعْشَرَ الْأُمَّةِ، وَالْحَالُ أَنَّ بَعْضَنَا مُؤْمِنُونَ، وَفِينَا الطَّيِّبُونَ الطَّاهِرُونَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِغْنَاءِ، أَيْ: وَفِينَا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ، (قَالَ: " نَعَمْ ") ، أَيْ: يُهْلَكُ الطَّيِّبُ أَيْضًا (" إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ") بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الْفِسْقُ، وَالْفُجُورُ، وَالشِّرْكُ، وَالْكُفُورُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الزِّنَا، وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ النَّارَ إِذَا وَقَعَتْ فِي مَوْضِعٍ وَاشْتَدَّتْ أَكَلَتِ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ، وَغَلَبَتْ عَلَى الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ، وَلَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ، وَالْمُخَالِفِ وَالْمُوَافِقِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْزَلَ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: الْخُبْثُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، أَيِ: الْفَوَاحِشُ وَالْفُسُوقُ، أَوْ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ» .

5343 - وَعَنْ أَبِي عَامِرٍ، أَوْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ الْعَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفَى بَعْضِ نُسَخِ (الْمَصَابِيحِ) : (الْحَرَّ) بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحُمَيْدِيُّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَفَى كِتَابِ (الْحُمَيْدِيِّ) عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي (شَرْحِهِ) لِلْخَطَّابِيِّ: (تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5343 - (وَعَنْ أَبِي عَامِرٍ) هُوَ عَمُّ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَاسْمُهُ عَبِيدُ بْنُ وَهْبٍ (وَأَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ) وَيُقَالُ لَهُ الْأَشْجَعِيُّ، وَاسْمُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ بِالشَّكِّ، فَقَالَ: عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَوْ أَبِي عَامِرٍ، (قَالَ) أَيْ: أَحَدُهُمَا (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي ") كَذَا هُوَ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَوَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ فِي أُمَّتِي (" أَقْوَامٌ ") أَيْ: جَمَاعَاتٌ (" يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ ") بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ: نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ رَدِيهٌ (" وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ ") : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْخَزِّ هُوَ الرُّكُوبُ عَلَيْهِ وَفَرْشُهُ لِلْوَطْءِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْإِسْرَافِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَنَهْيُهُ عَنْ لُبْسِهِ فَإِنَّهُ ثَوْبٌ يُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ، نَعَمْ إِذْ كَانَ لِحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسِدَاهُ غَيْرَهُ فَمَمْنُوعٌ لُبْسُهُ إِلَّا فِي الْحَرْبِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّهُ قُطْنِيٌّ مَشْرُوعٌ لُبْسُهُ (" وَالْمَعَازِفَ ") ، بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: آلَاتِ اللَّهْوِ يُضْرَبُ بِهَا، كَالطُّبُولِ، وَالْعُودِ، وَالْمِزْمَارِ، وَنَحْوِهَا، وَالْمَعْنَى: يَعُدُّونَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ حَلَالَاتٍ بِإِرَادَاتِ شُبُهَاتٍ وَأَدِلَّةٍ وَاهِيَاتٍ، مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَنَّ الْحَرِيرَ إِنَّمَا يَحْرُمُ إِذَا كَانَ مُلْتَصِقًا بِالْجَسَدِ، وَأَمَّا إِذَا لُبِسَ فَوْقَ الثِّيَابِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَهَذَا تَقْيِيدٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ نَقْلِيٍّ وَلَا عَقْلِيٍّ، وَلِإِطْلَاقِ كَلَامِ الشَّارِعِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» " وَكَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْعَوَامِّ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: لُبْسُ الْحَرِيرِ حَرَامٌ، يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا لَبِسَهُ الْقُضَاةُ

وَالْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ، فَيَقَعُونَ فِي اسْتِحْلَالِ الْحَرَامِ، وَكَذَلِكَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ تَعَلُّقَاتٌ بِالْمَعَازِفِ يَطُولُ بَيَانُهَا، فَأَعْرَضْتُ عَنْ تَفْصِيلِ شَأْنِهَا، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ فِي تِبْيَانِهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6] وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «لَيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ وَذَلِكَ إِذَا شَرِبُوا الْخُمُورَ وَاتَّخَذُوا الْقَيْنَاتِ وَضَرَبُوا بِالْمَعَازِفِ» " أَيْ: إِذَا فَعَلُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسْتَحِلِّينَ لَهَا. (" وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ ") أَيْ: مِنْهُمْ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ (" إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ ") أَيْ: جَبَلٍ (" يَرُوحُ ") أَيْ: يَسِيرُ (" عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ ") أَيْ: مَاشِيَةٍ لَهُمْ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْفَاعِلِ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ بِسَارِحَةٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِعْلَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقَعُ السَّيْرُ عَلَيْهَا بِسَيْرِ مَاشِيَةٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ فِي سَيْرِهِمْ تَابِعُونَ لِحَيَوَانَاتِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَتَارِكُونَ مُتَابَعَةَ الْعُلَمَاءِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النُّورَانِيَّةِ، وَلِذَا وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا أَوَّلًا، وَجَوَّزُوا عَلَى مَا فَعَلُوا آخِرًا، وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيُرٌ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ: يَأْتِيهِمْ رَاعِيهِمْ كُلَّ حِينٍ بِسَارِحَةٍ أَيْ مَاشِيَةٍ لَهُمْ تَسْرَحُ بِالْغُدْوَةِ يَنْتَفِعُونَ بِأَلْبَانِهَا وَأَوْبَارِهَا، (" يَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ ") أَيْ: ضَرُورِيَّةٍ، وَإِلَّا فَهُمْ مُبْعَدُونَ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُمُ النَّاسُ، أَوْ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ بِأَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ شَيْءٌ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ (" فَيَقُولُونَ ") أَيْ: تَعَلُّلًا أَوْ بُخْلًا وَتَذَلُّلًا (" ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا ") أَيْ: لِنَقْضِيَ حَاجَتَكَ، أَوْ لِنُؤَدِّيَ طَلَبَكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (" فَيُبَيِّتُهُمْ ") بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: يُعَذِّبُهُمْ (" اللَّهُ ") بِاللَّيْلِ فَإِنَّهُ أَدْهَى بِالْوَيْلِ (" وَيَضَعُ ") أَيْ: يُوقِعُ اللَّهُ وَيُسْقِطُ (" الْعَلَمَ ") ، أَيِ: الْجَبَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (" وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ") أَيْ: وَيُحَوِّلُ صُوَرَ بَعْضِهِمْ إِلَى صُوَرِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، فَيَكُونُ نَصْبُهَا بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ إِلَيْهِمَا، فَفِي الْقَامُوسِ: مَسَخَهُ كَمَنَعَهُ حَوَّلَ صُورَتَهُ إِلَى أُخْرَى، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ شَبَابَهُمْ صَارُوا قِرَدَةً، وَشُيُوخَهُمْ خَنَازِيرَ ; لِكَثْرَةِ ذُنُوبِ الْكِبَارِ وَتَخْفِيفِ أَمْرِ الصِّغَارِ، فَإِنَّ الْقِرْدَ يَبْقَى فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَصِنْفٌ مِنَ الْمُشَابَهَةِ بِالْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ، وَقَوْلُهُ: (" إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ") إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَسْخَهُمُ امْتَدَّ إِلَى الْمَوْتِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَشْرُهُمْ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «لَيَبِيتَنَّ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَكْلٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ ثُمَّ لَيُصْبِحُنَّ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» . (وَفِي بَعْضِ نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ ": " الْحِرَّ " بِالْحَاءِ) أَيِ: الْمَكْسُورَةِ (وَالرَّاءِ) أَيِ: الْمُخَفَّفَةِ (الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْخَاءِ) أَيِ: الْمَفْتُوحَةِ (وَالزَّايِ) أَيِ: الْمُشَدَّدَةِ (الْمُعْجَمَتَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحُمَيْدِيُّ) أَيِ: الْجَامِعُ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ (وَابْنُ الْأَثِيرِ) أَيْ: صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي كِتَابِ " الْحُمَيْدِيِّ " عَنِ الْبُخَارِيِّ) ، أَيْ: رِوَايَةٌ عَنْهُ أَيْضًا (وَكَذَا فِي " شَرْحِهِ ") أَيْ: شَرْحِ الْبُخَارِيِّ (لِلْخَطَّابِيِّ: " تَرُوحُ ") قِيلَ: بِالتَّأْنِيثِ، وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ، بَلْ هُوَ الْأَظْهَرُ، فَتَدَبَّرْ، (" عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ ") أَيْ: بِغَيْرِ الْبَاءِ الْجَارَّةِ (" يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ ") أَيْ: بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَأْتِيهَا الْآتِي، أَوِ الْمُحْتَاجُ، أَوِ الرَّجُلُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: يَأْتِيهِمْ طَالِبُ حَاجَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ لِلشُّرَّاحِ هُنَا مَبَاحِثُ شَرِيفَةٌ وَأَجْوِبَةٌ لَطِيفَةٌ، مِنْهَا قَوْلُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَرُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْفَرْجُ، وَقَدْ صُحِّفَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ، وَكَذَلِكَ صَحَّفَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَحَسِبُوهُ الْخَزَّ بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمَنْقُوطَيْنِ، وَالْخَزُّ لَمْ يُحَرَّمْ حَتَّى يُسْتَحَلَّ، وَلَقَدْ وَجَدْتُ مِنَ النَّاسِ مَنِ اعْتَنَى بِخَطِّ مَنْ كَانَ يَعْرِفُ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ وَحِفْظِهِ، فَقَدْ كَانَ قَيْدُهُ بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمَنْقُوطَيْنِ، حَتَّى ثَبَتَ لَهُ أَنَّهُ صُحِّفَ، أَوِ اتَّبَعَ رِوَايَةَ بَعْضِ مَنْ

لَمْ يَعْلَمْ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: تَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَتِهِ، سَقَطَ مِنْهُ فَاعِلُ تَرُوحُ، فَالْتَبَسَ الْمَعْنَى عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ: يَرُوحُ عَلَيْهِمْ رِجَالٌ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا السَّهْوُ مِنَ الْمُؤَلِّفِ ; لِأَنَّا وَجَدْنَا النُّسَخَ سَائِرَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَيَضَعُ الْعِلْمَ سَقَطَ كَلِمَةٌ وَهِيَ (عَلَيْهِمْ) ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَفَاتِيحِ مِنْ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ، مِنْ أَنَّ الْحِرَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَأَصْلُهُ الْحِرْحُ، فَحُذِفَتِ الْحَاءُ الْأَخِيرَةُ، وَجَمْعُهُ أَحْرَاحٌ، وَالْحِرُ: الْفَرْجُ، يَعْنِي: قَدْ يَكُونُ جَمَاعَةٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَزْنُونَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ حَلَّ مِنْهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ، وَيَقُولُونَ: الْمَرْأَةُ مِثْلُ الْبُسْتَانِ، فَكَمَا أَنَّ لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ أَنْ يُبِيحَ ثَمَرَةَ بُسْتَانِهِ لِمَنْ شَاءَ، فَكَذَلِكَ لِلزَّوْجِ أَنَّ يُبِيحَ زَوْجَتَهُ لِمَنْ شَاءَ، وَالَّذِينَ لَهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ هُمُ الْحِرَفِيُّونَ وَالْمَلَاحِدَةُ، وَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اخْتَلَفَ نُسَخُ الْمَصَابِيحِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِأَحَدِهِمَا فِي الْحِرِ فَإِنَّهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَا فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي قَوْلُهُ: يَرُوحُ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ بِسَارِحَتِهِ لَهُمْ، فَفِي بَعْضِ النُّسَخِ هَكَذَا، وَفِي بَعْضِهَا يَرُوحُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ رَجُلٍ، وَالرَّجُلُ مَذْكُورٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَأَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نُزُولُ الْفِتَنِ، وَمَسْخُ الصُّوَرِ، فَلْيَجْتَنِبِ الْمُؤْمِنُ الْمَعَاصِيَ ; كَيْلَا يَقَعَ فِي الْعَذَابِ وَمَسْخِ الصُّوَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ الشَّارِحِ الْأَوَّلِ: أَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا فَقَدْ صُحِّفَ إِلَى آخِرِهِ، فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بَعْدَ مَا رَوَى: يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ، بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، قُلْتُ: مُعَارَضَةُ الْخَصْمِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا، قَالَ: وَالَّذِي ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ الْحَرْبِيُّ فِي بَابِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ لَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ وَخَيْرَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ غَضٌّ يُسْتَحَلُّ فِيهِ الْحَرُ وَالْحَرِيرُ» "، يُرِيدُ اسْتِحْلَالَ الْحَرَامِ مِنَ الْفُرُوجِ، وَهَذَا لَا يَتَّفِقُ مَعَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ فِي بَابِ الْخَزِّ وَلِبَاسِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَبَيَّنَاهُ، وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ كَلَامُهُ أَيْ: كَلَامُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي بَابِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، قُلْتُ: كَوْنُهُ حَدِيثًا آخَرَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ مُؤَيِّدٌ لِلْمُنَازَعِ فِيهِ، بَلْ نَصٌّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ إِذَا ثَبَتَ صِحَّتُهُ، وَالْأَصْلُ تَوَافُقِ الْأَحَادِيثِ لِأَنَّ بَعْضَهَا يُفَسِّرُ بَعْضًا، لَا سِيَّمَا وَالْخَزُّ بِالزَّايِ لَيْسَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِحْلَالُهُ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ ابْنَ عَسَاكِرَ رَوَى عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «أَوْشَكَ أُمَّتِي أَنْ تَسْتَحِلَّ فُرُوجَ النِّسَاءِ وَالْحَرِيرَ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: وَالْخَزُّ لَمْ يُحَرَّمْ حَتَّى يُسْتَحَلَّ، فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، أَنَّهُ نَهَى عَنْ رُكُوبِ الْخَزِّ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهِ، وَالْخَزُّ الْمَعْرُوفُ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ ثِيَابٌ تُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ، وَهِيَ مُبَاحَةٌ، وَقَدْ لَبِسَهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهَا لِأَجْلِ التَّشَبُّهِ بِالْعَجَمِ وَزِيِّ الْمُتْرَفِينَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْخَزِّ النَّوْعُ الْآخَرُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْآنَ، فَهُوَ حَرَامٌ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ مَعْمُولٌ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ، تَمَّ كَلَامُهُ، أَيْ: كَلَامُ ابْنِ الْأَثِيرِ، وَفِيهِ أَنَّ كَوْنَ الرُّكُوبِ عَلَى الْخَزِّ وَفِرَاشِهِ مَكْرُوهًا، مَعَ أَنَّ الْحَرِيرَ كَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ اسْتِبَاحَتَهُ كُفْرٌ يُوجِبُ الْعَذَابَ، لَا سِيَّمَا وَالْخَزُّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُبَاحَاتِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ؟ وَأَمَّا عَلَى مَا تُعُورِفَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ حَمْلِ الْخَزِّ عَلَى الْإِبْرَيْسَمِ، فَيُعَدُّ كَلَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ، لَا سِيَّمَا مَعَ وُقُوعِ تَكْرَارِهِ مَعَ صَرِيحِ لَفْظِ الْحَرِيرِ، وَالْأَصْلُ التَّغَايُرُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُعْطَفُ الْحَرِيرُ عَلَى الْخَزِّ، وَالْأَوَّلُ مَكْرُوهٌ، وَالثَّانِي حَرَامٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ كَيْفَ يُحَرَّمُ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُصْطَلَحًا حِينَئِذٍ؟ وَالْجَوَابُ

عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَ إِلَى التَّغْلِيبِ لِإِرَادَةِ التَّغْلِيظِ، قُلْتُ: التَّغْلِيبُ تَغَلُّبٌ وَعَنْ ظَاهِرِهِ تَقَلُّبٌ، قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ مُعْجِزَةً، قُلْتُ: عَطْفُ الْبَيَانِ مُسَلَّمٌ لَوْ كَانَ الْخَزُّ فِي زَمَنِهِ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرِيرِ، وَأَمَّا جَعْلُهُ مُعْجِزَةً بِأَنَّهُ يُطْلَقُ بَعْدَهُ عَلَى الْحَرِيرِ فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا: سَقَطَ مِنْهُ فَاعِلُ يَرُوحُ فَالْتَبَسَ الْمَعْنَى، فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ مَا الْتَبَسَ مِنْهُ، بَلْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَلَكِنَّ الْحُمَيْدِيَّ، وَالْخَطَّابِيَّ، وَصَاحِبَ جَامِعِ الْأُصُولِ ذَكَرُوا (تَرُوحُ عَلَيْهُمْ سَارِحَةٌ) بِالتَّاءِ الْمُقَيَّدَةِ بِنُقْطَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ، وَيَرْفَعُ " سَارِحَةٌ " عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ، عَلَى أَنَّ الْبَاءَ تُزَادُ فِي الْفَاعِلِ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَلَا هَلْ أَتَاهَا وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... بِأَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ نَمْلِكَ بَيْقَرَا قُلْتُ: لَا شَكَّ فِي وُقُوعِ الِالْتِبَاسِ عَلَى تِلْكَ النُّسْخَةِ، وَزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي الْفَاعِلِ مِنْ مُخْتَصَّاتِ كَفَى، وَالْبَيْتُ لَيْسَ نَصًّا فِي الْمَعْنَى، بَلِ الْأَظْهَرُ فِيهِ حَذْفُ الْفَاعِلِ عَلَى مَا جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ: وَأَمَّا نِسْبَتُهُ إِلَى مُسْلِمٍ وَأَنَّهُ رَوَاهُ فِي كِتَابِهِ كَذَا، فَهُوَ سَهْوٌ مِنْهُ ; لِأَنِّي مَا وَجَدْتُ الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ فَحَسْبُ، وَصَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ رَوَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ؟ قُلْتُ: مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَالشَّيْخُ ثِقَةٌ مُحَقِّقٌ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ فِي صَدَدِ الِاحْتِجَاجِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ رَابِعًا: وَقَدْ سَقَطَ مِنْهُ كَلِمَةُ (عَلَيْهِمْ) ، فَإِنِّي مَا وَجَدْتُ فِي الْأُصُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ثَابِتَةً، قُلْتُ: فَثَبَتَ الْمُدَّعَى بِالْأَقْوَى، مَعَ أَنَّهُ أَثْبَتَ وُجُودَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى مُسْلِمٍ وَإِسْنَادُهُ مُسَلَّمٌ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ نُزُولُ بَعْضِهِمْ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ وَرَوَاحُ سَارِحَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَدَفْعُهُمْ ذَا الْحَاجَةِ بِالْمَطْلِ وَالتَّسْوِيفِ، سَبَبًا لِهَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالنَّكَالِ الْهَائِلِ الْعَظِيمِ؟ قُلْتُ: إِنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي الشُّحِّ وَالْمَنْعِ، بُولِغَ فِي الْعَذَابِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِي إِيثَارِ ذِكْرِ الْعَلَمِ عَلَى الْجَبَلِ، إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَكَانَ مُخْصِبٌ مُمْرِعٌ، وَمَقْصَدٌ لِذَوِي الْحَاجَاتِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونُوا ذَوِي ثَرْوَةٍ، وَمَوْئِلًا لِلْمَلْهُوفِينَ، فَلَمَّا دَلَّ خُصُوصِيَّةُ الْمَكَانِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، دَلَّ خُصُوصِيَّةُ الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ: تَرُوحُ عَلَيْهُمْ سَارِحَتَهُمْ، وَتَعْدِيَتُهُ (بِعَلَى) الْمُنَبِّهَةِ لِلِاسْتِعْلَاءِ عَلَى أَنَّ ثَرْوَتَهُمْ حِينَئِذٍ أَوْفَرُ وَأَظْهَرُ، وَأَنَّ احْتِيَاجَ الْوَارِدِينَ إِلَيْهِمْ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ ; لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ حِينَئِذٍ، وَفِي قَوْلِهِمْ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، إِدْمَاجٌ لِمَعْنَى الْكَذِبِ وَخَلْفِ الْمَوْعِدِ، وَاسْتِهْزَاءٌ بِالطَّالِبِ، فَإِذَا يَسْتَأْهِلُونَ، قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ لَمْ يُفِدِ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنَ الْمَسْخِ الْمُقَرَّرِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَالصَّوَابُ مَا قَرَّرْنَا، وَفِيمَا سَبَقَ قَدَّرْنَاهُ وَحَرَّرْنَاهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: أَنَّ الْعَلَمَ يَدُلُّ عَلَى الشُّهْرَةِ وَالْمَقْصِدِ لِقَوْلِ الْخَنْسَاءِ فِي مَدْحِ أَخِيهَا: كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ نَبَّهَتْ بِهِ عَلَى أَنَّ أَخَاهَا مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وَمَلْجَأٌ لِلْمَلْهُوفِينَ، وَمَأْمَنٌ لِلْمُضْطَرِّينَ، فَإِنَّ رَوَاحَ السَّارِحَةِ دَلَّ عَلَى وُفُورِ الثَّرْوَةِ وَظُهُورِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّمَتِ الْإِرَاحَةُ عَلَى التَّسْرِيحِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الْجَمَالَ فِي الْإِرَاحَةِ أَظْهَرُ إِذَا أَقْبَلَتْ مَلْأَى الْبُطُونِ حَافِلَةَ الضُّرُوعِ، ثُمَّ أَدْبَرَتْ إِلَى الْحَظَائِرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمَسْخَ قَدْ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْخَسْفُ، كَمَا كَانَا فِي سَائِرِ الْأُمَمِ، خِلَافَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، إِنَّمَا مَسْخُهَا بِقُلُوبِهَا، أَقُولُ: فَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ نَفْيِهَا، فَهُوَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَوَّلِ زَمَانِ الْأُمَّةِ فَهُوَ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ آخِرُ الزَّمَانِ كَذَا الْحَدِيثُ، وَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى مَسْخِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَخَسْفِهِمْ، وَالْمُثْبَتُ مِنْهَا مَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5344 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5344 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ) أَيْ: جَمِيعَهُمُ الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ (" ثُمَّ بُعِثُوا ") أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ (" عَلَى أَعْمَالِهِمْ ") أَيْ: بُعِثَ الصَّالِحُ عَلَى عَمَلِهِ وَكَذَا الطَّالِحُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِذَا أَذْنَبَ بَعْضُ الْقَوْمِ نَزَلَ الْعَذَابُ بِجَمِيعِ مَنْ كَانَ فِي الْقَوْمِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْمُذْنِبُ وَغَيْرُهُ بَشَرِّهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مَجْزِيُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، فَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يُسْنِدَ الْحَدِيثَ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.

5345 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5345 - (وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُبْعَثُ ") أَيْ: يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (" كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ") أَيْ: مِنَ الْعَمَلِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا فَيُجَازَى بِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» ".

الْفَصْلُ الثَّانِي 5346 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، وَلَا مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5346 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا رَأَيْتُ ") : فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، أَيْ: مَا عَلِمْتُ (" مِثْلَ النَّارِ ") ، أَيْ: شِدَّةً وَهَوْلًا (" نَامَ هَارِبُهَا ") مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَأَيْتُ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ فَتَكُونَ الْجُمْلَةُ صِفَةً أَوْ حَالًا، أَيْ: صَارَ غَافِلًا عَنْهَا، وَيَنْبَغِي لِلْهَارِبِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ أَنْ يَفِرَّ مِنْ كُلِّ الْفُجَّارِ (" وَلَا مِثْلَ الْجَنَّةِ ") أَيْ: نِعْمَةً وَنُزُلًا (" نَامَ طَالِبُهَا ") وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجِدَّ كُلَّ الْجِدِّ فِي امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ لِيُدْرِكَ الْحَدَّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ.

5347 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ» "، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5347 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ") أَيْ: أُبْصِرُ مَا لَا تُبْصِرُونَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (" وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ ") ، ثُمَّ بَيَّنَ سَمَاعَهُ لِقُرْبِهِ، وَلِكَوْنِهِ نَتِيجَةً لِكَثْرَةِ مَا رَآهُ بِقَوْلِهِ: (" أَطَّتِ السَّمَاءُ ") بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مِنَ الْأَطِيطِ: وَهُوَ صَوْتُ الْأَقْتَابِ، وَأَطِيطُ الْإِبِلِ أَصْوَاتُهَا وَحَنِينُهَا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، أَيْ: صَوَّتَتْ (" حُقَّ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: وَيُسْتَحَقُّ وَيَنْبَغِي (" لَهَا أَنْ تَئِطَّ ") أَيْ: تُصَوِّتَ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَهُ وَهُوَ مَا رَآهُ مِنَ الْكَثْرَةِ بِقَوْلِهِ: (" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا ") أَيْ: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ جِنْسِهَا (" مَوْضِعُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ ") بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِلظَّرْفِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ وَالْمَذْكُورُ بَعْدَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: (" إِلَّا وَمَلَكٌ ") حَالٌ مِنْهُ، أَيْ: وَفِيهِ مَلَكٌ (" وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ لِلَّهِ سَاجِدًا ") أَيْ: مُنْقَادًا لِيَشْمَلَ مَا قِيلَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ قِيَامٌ، وَبَعْضَهُمْ رُكُوعٌ، وَبَعْضَهُمْ سُجُودٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] أَوْ خَصَّهُ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ مِنْهُمْ، أَوْ هَذَا مُخْتَصٌّ بِإِحْدَى السَّمَاوَاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ " أَرْبَعَةِ " بِغَيْرِ هَاءٍ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَمَعَ الْهَاءِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْأُصْبَعَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ: أَنَّ كَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَدْ أَثْقَلَهَا حَتَّى أَطَّتْ، وَهَذَا مَثَلُ إِيذَانٍ بِكَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ أَطِيطٌ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ تَقْرِيبٍ، أُرِيدَ بِهِ تَقْرِيرُ عَظْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، قُلْتُ: مَا الْمُحْوِجُ عَنْ عُدُولِ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ مَعَ إِمْكَانِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا حَيْثُ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطِيطُ السَّمَاءِ صَوْتَهَا بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَالتَّمْجِيدِ ; لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] لَا سِيَّمَا وَهِيَ مَعْبَدُ الْمُسَبِّحِينَ وَالْعَابِدِينَ، وَمَنْزِلُ الرَّاكِعِينَ وَالسَّاجِدِينَ، (" وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ ") بِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ: جَمْعُ فُرُشٍ، فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ لِلْمُبَالَغَةِ (" وَلَخَرَجْتُمْ ") أَيْ: مِنْ مَنَازِلِكُمُ الْعَالِيَاتِ (" إِلَى الصُّعُدَاتِ ") بِضَمَّتَيْنِ، أَيْ: إِلَى الصَّحَارِي، وَاخْتِيَارُ الْجَمْعِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالصُّعُدِ: جَمْعُ صَعِيدٍ كَطُرُقٍ جَمْعُ طَرِيقٍ وَطُرُقَاتٍ، وَالصَّعِيدُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَفِي الْأَصْلِ التُّرَابُ، أَيْ: لَخَرَجْتُمْ إِلَى الطُّرُقَاتِ الْبَرَارِي وَالصَّحَارِي وَمَمَرِّ النَّاسِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمَحْزُونُ لِبَثِّ الشَّكْوَى وَالْهَمِّ الْمَكْنُونِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الصَّعِيدَ هُوَ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَقِيلَ التُّرَابُ، وَلَا مَعْنَى لَهُ هَاهُنَا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى: لَخَرَجْتُمْ مِنْ مَنَازِلِكُمْ إِلَى الْجَبَّانَةِ، مُتَضَرِّعِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ حَالِ الْمَحْزُونِ أَنْ يَضِيقَ بِهِ الْمَنْزِلُ فَيَطْلُبُ الْفَضَاءَ الْخَالِيَ لِشَكْوَى بَثِّهِ، (" تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ ") أَيْ: تَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لِيَرْفَعَ عَنْكُمُ الْبَلَاءَ. (قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: تُقْطَعُ وَتُسْتَأْصَلُ، وَهَذَا نَشَأَ مِنْ كَمَالِ خَوْفِهِ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَا لَيْتَنِي هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي كِتَابِ أَحْمَدَ مِمَّنْ نَقَلَ هُوَ عَنْ كِتَابِهِ، (قَالَ أَبُو ذَرٍّ) بَلْ أُدْرِجَ فِي الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ بِكَلَامِ أَبِي ذَرٍّ أَشْبَهُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَتَمَنَّى عَلَيْهِ حَالًا هُوَ أَوْضَعُ مِمَّا هُوَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهَا مِمَّا لَا تَكُونُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ: هَكَذَا تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَوْقُوفًا، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ كَمَا فِي الْمَتْنِ وَنُسَخِ الْمَصَابِيحِ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا لَيْتَنِي إِلَى آخِرِهِ، وَلِلْبَحْثِ فِيهِ مَجَالٌ.

5348 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5348 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ خَافَ ") أَيِ: الْبَيَانَ وَالْإِغَارَةَ مِنَ الْعَدُوِّ وَقْتَ السَّحَرِ (" أَدْلَجَ ") أَيْ: سَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَمَنْ خَافَ فَوْتَ الْمَطْلُوبِ سَهَرَ فِي طَلَبِ الْمَحْبُوبِ (" وَمَنْ أَدْلَجَ ") أَيْ: بِالسَّهَرِ (" بَلَغَ الْمَنْزِلَ ") أَيْ: وَصَلَ إِلَى الْمَطْلَبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَالِكِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى طَرِيقِهِ، وَالنَّفْسُ وَأَمَانِيهِ الْكَاذِبَةُ أَعْوَانُهُ، فَإِنْ تَيَقَّظَ فِي مَسِيرِهِ، وَأَخْلَصَ النِّيَّةَ فِي عَمَلِهِ أَمِنَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَجُنْدِهِ، وَمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ بِأَعْوَانِهِ ثُمَّ أُرْشِدَ إِلَى أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ صَعْبٌ، وَتَحْصِيلَ الْآخِرَةِ مُتَعَسِّرٌ، لَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى سَعْيٍ فَقَالَ: (" أَلَا ") بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ ") أَيْ: مَتَاعَهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْحُسْنَى وَزِيَادَةٍ (" غَالِيَةٌ ") بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: رَفِيعَةُ الْقَدْرِ (" أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ ") أَيِ: الْغَالِيَةَ (" الْجَنَّةُ ") أَيِ: الْعَالِيَةُ، وَالْمَعْنَى: ثَمَنُهَا الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] وَالْمُومَأُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَعَلَا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ.

5349 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: " «يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكَرَنِي يَوْمًا أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ والْبَيْهَقِيُّ فِي " كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5349 - (وَعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ") أَيْ: عَظُمَ ذِكْرُهُ وَفَخُمَ ذَاكِرُهُ، وَمَا أَحْسَنَ رَفْعَ ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ تَوْطِئَةٌ لِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّامِ وَخَوْفِهِ فِي كُلِّ مَقَامٍ، (" أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكَرَنِي ") أَيْ: بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا مُخْلِصًا (" يَوْمًا ") أَيْ: وَقْتًا وَزَمَانًا (" أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامٍ ") أَيْ: مَكَانٍ فِي ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ بِالذِكْرِ الْإِخْلَاصَ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ عَنْ إِخْلَاصِ الْقَلْبِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْكُفَّارِ يَذْكُرُونَهُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» "، وَالْمُرَادُ بِالْخَوْفِ كَفُّ الْجَوَارِحِ عَنِ الْمَعَاصِي وَتَقْيِيدُهَا بِالطَّاعَاتِ، وَإِلَّا فَهُوَ حَدِيثُ نَفْسٍ وَحَرَكَةٌ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى خَوْفًا، وَذَلِكَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ سَبَبٍ هَائِلٍ، وَإِذَا غَابَ ذَلِكَ السَّبَبُ عَنِ الْحِسِّ رَجَعَ الْقَلْبُ إِلَى الْفَضْلَةِ، قَالَ الْفُضَيْلُ: إِذَا قِيلَ لَكَ هَلْ تَخَافُ اللَّهَ فَاسْكُتْ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ لَا كَفَرْتَ، وَإِذَا قُلْتَ نَعَمْ كَذَبْتَ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ كَفُّ الْجَوَارِحِ عَنِ الْمَعَاصِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ (والْبَيْهَقِيُّ فِي " كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ") .

5350 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: " لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ، وَيُصَلُّونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5350 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} [المؤمنون: 60] أَيْ: يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ، وَقُرِئَ (يُأْتُونَ مَا أَتَوْا) بِالْقَصْرِ، أَيْ: يَفْعَلُونَ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَيْ: خَائِفَةٌ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَأَنْ لَا يَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ فَيُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَتَمَامُهُ: أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أَيْ: لِأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَيْهِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، أَيْ: يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ أَشَدَّ الرَّغْبَةِ فَيُبَادِرُونَهَا، وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ أَيْ: لِأَجْلِهَا فَاعِلُونَ السَّبْقَ أَوْ سَابَقُوا النَّاسَ إِلَى الطَّاعَاتِ أَوِ الثَّوَابِ أَوِ الْجَنَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ كَذَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَمَعْنَاهُ يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا، وَسُؤَالُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: (أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ) لَا يُطَابِقُهَا، وَقِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَأْتُونَ مَا أَتَوْا) بِغَيْرِ مَدٍّ أَيْ: يَفْعَلُونَ مَا فَعَلُوا، وَسُؤَالُهَا مُطَابِقٌ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ الزَّجَّاجِ وَالْكَشَّافِ، قُلْتُ: مُؤَدَّى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، لَا الْمُرَادُ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ قَطْعِ طُرُقِ التَّوَاتُرِ يَفْعَلُونَ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ مَا ظَنَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا الْمَعْنَى الْأَعَمُّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 61] (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (" لَا ") أَيْ: لَيْسُوا هُمْ، أَوْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَمْثَالَهُمْ (" يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ") وَفَى نُسْخَةٍ يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَفَى هَذَا النِّدَاءِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا وَلِأَبِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنْتِ الصَّادِقَةُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ مِنْ حُسْنِ الْآدَابِ بَيْنَ الْأَحْبَابِ، (" وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ") فَهَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} [المؤمنون: 60] عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ غَايَتُهُ أَنَّ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُمَا تَغْلِيبٌ، فَالْمَشْهُورَةُ ظَاهِرُهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالطَّاعَةِ الْبَدَنِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْمَشْهُورَةَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَفْسِيرِهَا: يُعْطُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا أَعْطَوْا مِنَ الطَّاعَاتِ فَيَشْمَلُ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْعِبَادَةِ، (" وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ ") أَيْ: إِلَّا أَنَّهُمْ يَخَافُونَ مِمَّا فَعَلُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى شَرْبَةِ الْخَمْرِ وَسَرِقَةِ الْمَالِ وَسَائِرِ السَّيِّئَاتِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

5351 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ! اذْكُرُوا اللَّهَ، اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5351 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ") : أَرَادَ بِهِ النَّائِمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، يُنَبِّهُهُمْ عَنِ النَّوْمِ لِيَشْتَغِلُوا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّهَجُّدِ، وَفِي هَذَا مَأْخَذٌ لِلْمُذَكِّرِينَ مِنَ الْمُؤَذِّنِينَ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ لَا يَقُومُوا قَبْلَ مُضِيِّ الثُّلُثَيْنِ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا (" اذْكُرُوا اللَّهَ ") أَيْ: بِوَحْدَانِيَّةِ ذَاتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ (" اذْكُرُوا اللَّهَ ") أَيْ: عِقَابَهُ وَثَوَابَهُ لِتَكُونُوا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَمِمَّنْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وَفَى نُسْخَةٍ: اذْكُرُوا اللَّهَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَيْ: آلَاءَهُ، وَنَعْمَاءَهُ، وَسَرَّاءَهُ، وَضَرَّاءَهُ، (" جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ ") : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6] وَعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا، فَكَأَنَّهَا جَاءَتْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَارَبَ وُقُوعُهَا، فَاسْتَعِدُّوا لِتَهْوِيلِ أَمْرِهَا، وَالرَّاجِفَةُ هِيَ الْأَجْرَامُ السَّاكِنَةُ الَّتِي تَشْتَدُّ حَرَكَتُهَا حِينَئِذٍ مِنَ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل: 14] ، أَوْ مَجَازٌ عَنِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَرْجُفُ الْأَجْرَامُ عِنْدَهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَنْسَبُ بِالْحَدِيثِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أَيِ: التَّابِعَةُ وَهِيَ السَّمَاءُ وَالْكَوَاكِبُ تَنْشَقُّ وَتُنْشَرُ، أَوِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَحْيَى فِيهَا الْخَلْقُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ، أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِمَا يَقَعُ بَعْدَ الرَّجْفَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ بِالرَّاجِفَةِ النَّفْخَةَ الْأُولَى الَّتِي يَمُوتُ مِنْهَا جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَالرَّاجِفَةُ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا تَرَدُّدٌ وَاضْطِرَابٌ، كَالرَّعْدِ إِذَا تَمَحَّصَ، وَأَرَادَ بِالرَّادِفَةِ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ رَدِفَتِ النَّفْحَةَ الْأُولَى، أَنْذَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاقْتِرَابِ السَّاعَةِ لِئَلَّا يَغْفَلُوا عَنِ اسْتِعْدَادِهَا، (" جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ ") أَيْ: مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ الْكَائِنَةِ فِي حَالَةِ النَّزْعِ وَالْقَبْرِ وَمَا بَعْدَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ قَامَتْ قِيَامَتُهُ، فَهِيَ الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى الدَّالَّةُ عَلَى الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى، (" جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ ") لَعَلَّ الْأَوَّلَ بَيَانُ مَا وَقَعَ وَتَحَقَّقَ لِمَنْ قَبْلَنَا مَوْعِظَةً لَنَا، فَقَدْ وَرَدَ: كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَالثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى قُرْبِ مَجِيئِهِ بِالْمَوْجُودِينَ، وَهَذَا التَّأْسِيسُ السَّدِيدُ الْمُؤَسَّسُ عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ التَّكْرَارِ عَلَى التَّأْكِيدِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

5352 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَلَاةٍ فَرَأَى النَّاسَ كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ، قَالَ: " أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى الْمَوْتُ، فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ إِلَّا تَكَلَّمَ، فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ، وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ، وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ، وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَحَبُّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ "، قَالَ: " فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ أَوِ الْكَافِرُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا، أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ، فَإِذَا وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ " قَالَ: " فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ "، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصَابِعِهِ، فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ، قَالَ: " وَيُقَيَّضُ لَهُ سَبْعُونَ تِنِّينًا لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الْأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، فَيَنْهَسْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضِي بِهِ إِلَى الْحِسَابِ "، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5352 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَلَاةٍ) أَيْ: لِأَدَاءِ صَلَاةٍ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مُقْتَضَى الْمَقَامِ أَنَّهَا صَلَاةُ جَنَازَةٍ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا رَأَى جِنَازَةً رُئِيَتْ عَلَيْهِ كَآبَةٌ أَيْ: حُزْنٌ شَدِيدٌ، وَأَقَلَّ الْكَلَامَ، (فَرَأَى النَّاسَ كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ) أَيْ: يَضْحَكُونَ، مِنَ الْكَشْرِ: وَهُوَ ظُهُورُ الْأَسْنَانِ لِلضَّحِكِ، وَلَعَلَّ التَّاءَ لِلْمُبَالَغَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ: كَشَّرَ عَنْ أَسْنَانِهِ: أَبْدَى، يَكُونُ وَالضَّحِكُ وَغَيْرُهُ، انْتَهَى. فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الضَّحِكِ الْبَالِغِ وَالْكَلَامِ الْكَثِيرِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ يَضْحَكُونَ، وَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ الْكَسْرُ، (قَالَ: " أَمَا ") بِالتَّخْفِيفِ لِيُنَبِّهَ عَلَى نَوْمِ الْغَفْلَةِ الْبَاعِثِ عَلَى الضَّحِكِ وَالْمُكَالَمَةِ (" إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ ") بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَأَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَاشِيَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي الْقَامُوسِ: هَذَمَ بِالْمُعْجَمَةِ: قَطَعَ وَأَكَلَ بِسُرْعَةٍ، وَبِالْمُهْمَلَةِ: نَقَضَ الْبِنَاءَ،

وَالْمَعْنَى: لَوْ أَكْثَرْتُمْ مِنْ ذِكْرِ قَاطِعِ اللَّذَّاتِ (" لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى ") أَيْ: مِنَ الضَّحِكِ وَكَلَامِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ (" الْمَوْتِ ") بِالْجَرِّ: تَفْسِيرٌ لِهَادِمِ اللَّذَّاتِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، كَمَا يَأْتِي فِيمَا بَعْدَهُ، وَبِالنَّصْبِ: بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَبِالرَّفْعِ بِتَقْدِيرِ هُوَ الْمَوْتُ، (" فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ ") أَيِ: الْمَوْجُودَةِ الْمَعْمُولَةِ لِلْأَغْنِيَاءِ، وَالْمَفْقُودَةِ الْمَسْؤُولَةِ لِلْفُقَرَاءِ، فَهُوَ مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ لِلطَّائِفَتَيْنِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ يُحْيِي الْقَلْبَ النَّائِمَ، وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْعَارِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَلِيُّ مَوْلَانَا نُورُ الدِّينِ عَلِيٌّ الْمُتَّقِي يَعْمَلُ كِيسًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَوْتِ، يُعَلَّقُ فِي رَقَبَةِ الْمُرِيدِ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ أَنَّهُ قَرِيبٌ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَيَقْصُرُ أَمَلُهُ وَيَكْثُرُ عَمَلُهُ، وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّلَاطِينِ أَمَرَ وَاحِدًا مِنْ أُمَرَائِهِ أَنْ يَقِفَ دَائِمًا مِنْ وَرَائِهِ يَقُولُ: الْمَوْتَ الْمَوْتَ لِيَكُونَ دَوَاءً لِدَائِهِ، ثُمَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لِلصَّحَابَةِ وَجْهَ حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِإِكْثَارِ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَأَسْبَابِهِ بِقَوْلِهِ: (" فَإِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنَ (" لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ ") أَيْ: وَقْتُ زَمَانٍ (" إِلَّا تَكَلَّمَ ") أَيْ: بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بَيَانِ الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ فِيهِ أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (" فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ ") أَيْ: فَكُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ (" وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ ") أَيْ: فَلَا يَنْفَعُ إِلَّا التَّوْحِيدُ وَشُهُودُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (" وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ ") أَيْ: أَصْلُ كُلِّ حَيٍّ مَخْلُوقٍ، فَمَنْ مَرْجِعُهُ لِلتُّرَابِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ لِئَلَّا تَفُوتَهُ جِنْسِيَّةُ الْمُنَاسَبَةِ، (" وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ ") أَيْ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هِمَّتُكُمْ وَنَهْمَتُكُمْ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّذَّاتِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ; لِأَنَّ مَآلَ أَمْرِهَا إِلَى الْفَنَاءِ، وَلَا يَنْفَعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ إِلَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَالْقَبْرُ صُنْدُوقُ الْعَمَلِ، قِيلَ: يَتَوَلَّدُ الدُّودُ مِنَ الْعُفُونَةِ وَتَآكُلِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، إِلَى أَنْ تَبْقَى دُودَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَمُوتُ جُوعًا، وَاسْتَثْنَى الْأَنْبِيَاءَ، وَالشُّهَدَاءَ، وَالْأَوْلِيَاءَ، وَالْعُلَمَاءَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» "، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الشُّهَدَاءِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِالْأَوْلِيَاءِ مِدَادُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ، (" وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ ") أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ (" مَرْحَبًا ") أَيْ: أَتَيْتَ مَكَانًا وَاسِعًا لِرَقْدَتِكَ (" وَأَهْلًا ") أَيْ: وَحَضَرْتَ أَهْلًا لِمَحَبَّتِكَ (" أَمَا ") بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنْ كُنْتَ ") أَيْ: إِنَّهُ كُنْتَ فَإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ، وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنِ النَّافِيَةِ فِي قَوْلِهِ: (" لَأَحَبُّ ") وَهُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: لَأَفْضَلُ (" مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ ") : مُتَعَلِّقٌ بِأَحَبَّ (" فَإِذْ ") بِسُكُونِ الذَّالِ، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَفِي إِذْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ إِذِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ هُنَا ظَرْفٌ مَحْضٌ، وَالْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ كَوْنُهُ مُؤْمِنًا أَيْ: فَحِينَ (" وُلِّيتُكَ ") : مِنَ التَّوْلِيَةِ مَجْهُولًا، أَوْ مِنَ الْوَلَايَةِ مَعْلُومًا أَيْ: صِرْتُ قَادِرًا حَاكِمًا عَلَيْكَ (" الْيَوْمَ ") أَيْ: هَذَا الْوَقْتَ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ (" وَصِرْتَ إِلَيَّ ") أَيْ: مَقْهُورًا وَمَجْبُورًا (" فَسَتَرَى ") أَيْ: سَتُبْصِرُ أَوْ تَعْلَمُ (" صَنِيعِي بِكَ ") : مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْكَ بِالتَّوْسِيعِ عَلَيْكَ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِطُولِ الْكَلَامِ ; وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي تَفْسِيرٌ لِلْمَرَامِ (" فَيَتَّسِعُ ") أَيْ: فَيَصِيرُ الْقَبْرُ وَسِيعًا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَيُوَسَّعُ (" لَهُ ") أَيْ: لِلْمُؤْمِنِ (" مَدَّ بَصَرِهِ ") أَيْ: مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَقِيقَةً، أَوْ كَشْفًا، أَوْ مَجَازًا عَنْ عَدَمِ التَّضْيِيقِ حِسًّا وَمَعْنًى، وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْوِيرِهِ أَيْضًا، (" وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ ") أَيْ: وَيُعْرَضُ لَهُ مَقْعَدُهُ مِنْهَا، يَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَنَسِيمِهَا، وَيَشُمُّ مِنْ طِيبِهَا، وَتَقَرُّ عَيْنُهُ بِمَا يَرَى فِيهَا مَنْ حُورِهَا وَقُصُورِهَا وَأَنْهَارِهَا وَأَشْجَارِهَا وَأَثْمَارِهَا، (" وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ ") أَيِ: الْفَاسِقُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ، وَهُوَ الْفَاسِقُ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ لِقَوْلِهِ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ سَابِقًا، وَلِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِ الْقَبْرِ لَهُ بِكَوْنِهِ أَبْغَضَ مَنْ

يَمْشِي عَلَى ظَهْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] الْآيَةَ، (" أَوِ الْكَافِرُ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي لَا لِلتَّنْوِيعِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ عَلَى بَيَانِ حُكْمِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الدَّارَيْنِ، وَالسُّكُونِ عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِ الْفَاسِقِ سَتْرًا عَلَيْهِ، أَوْ لِيَكُونَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، لَا لِإِثْبَاتِ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ كَمَا تَوَهَّمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، (" قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا، أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ، فَإِذَا وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ ". قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (" فَيَلْتَئِمُ ") أَيْ: يَنْضَمُّ الْقَبْرُ (" عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ ") أَيْ: يَدْخُلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى تَلْتَقِي وَتَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (وَقَالَ) أَيْ: أَشَارَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصَابِعِهِ) أَيْ: مِنَ الْيَدَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ (فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا) وَهُوَ أَصَابِعُ الْيَدِ الْيُمْنَى (فِي جَوْفِ بَعْضٍ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَضْيِيقَ الْقَبْرِ وَاخْتِلَافَ الْأَضْلَاعِ حَقِيقِيٌّ، لَا أَنَّهُ مُجَازٌ عَنْ ضِيقِ الْحَالِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُبَالَغَةٌ فِي أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَرْبَابِ النُّقْصَانِ، حَتَّى جَعَلُوا عَذَابَ الْقَبْرِ رُوحَانِيًّا لَا جُسْمَانِيًّا، وَالصَّوَابُ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ وَنَعِيمَهَا مُتَعَلِّقَانِ بِهِمَا. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" وَيُقَيَّضُ ") بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: يُسَلَّطُ وَيُوَكَّلُ (" لَهُ ") أَيْ: بِخُصُوصِهِ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَيْهِ (" سَبْعُونَ تِنِّينًا ") بِكَسْرِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْأَوَّلِ مَكْسُورَةً أَيْ: حَيَّةً عَظِيمَةً، يُقَالُ لَهُ: أَزْرَدُ بِالْفَارِسِيِّ وَبِالْعَرَبِيِّ أَفْعَى، وَعَدَدُ السَبْعِينَ يَحْتَمِلُ التَّحْدِيدَ وَالتَّكْثِيرَ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " هَلْ تَدْرُونَ فِيمَا إِذَا أُنْزِلَتْ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، يُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، هَلْ تَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ " قَالَ: " تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً لِكُلِّ وَاحِدَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ رَأْسًا يَخْدِشْنَهُ، وَيَلْحَسْنَهُ، وَيَنْفُخْنَ فِي جِسْمِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " انْتَهَى. (" لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ ") الْخَاءُ الْمُعْجَمَةُ أَيْ: تَنَفَّسَ (" فِي الْأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ ") أَيِ: الْأَرْضُ (" شَيْئًا ") أَيْ: مِنَ الْإِنْبَاتِ أَوِ النَّبَاتَاتِ (" مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا ") أَيْ: مُدَّةَ بَقَائِهَا (" فَيَنْهَسْنَهُ ") : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: يَلْدَغْنَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: نَهَسَ اللَّحْمَ، كَمَنَعَ وَفَرِحَ، أَخَذَهُ بِمَقْدِمِ أَسْنَانِهِ وَنَتَفَهُ (" وَيَخْدِشْنَهُ ") بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: يُخْرِجْنَهُ (" حَتَّى يُفْضِي ") بِفَتْحٍ فَسُكُونِ فَاءٍ فَفَتْحِ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ: يُوصِلُ (" بِهِ ") أَيْ: بِالْكَافِرِ (" إِلَى الْحِسَابِ ") أَيْ: وَثُمَّ إِلَى الْعِقَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُحَاسَبُ، خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَافِرَ يَدْخُلُ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ الْجَزَاءُ، وَأَنَّ ظَوَاهِرَ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 8] فَصَرِيحٌ فِي حِسَابِهِمْ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْعُصَاةِ الْعُتَاةِ يَدْخُلُونَ النَّارَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ وَلَا كِتَابٍ، كَمَا يَدْخُلُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُبَالِغِينَ فِي الصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى مَا سَبَقَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي هَذَا الْمَحَلِّ أَوْ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَتَأَمَّلْ، (" إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ ") بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ الْمُنَاسِبَةِ لِلَفْظَةِ الْجَنَّةِ، وَفِي نُسْخَةِ: النِّيرَانِ لِمُنَاسَبَةِ جَمْعِ الْحُفَرِ وَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَنَّةِ الْجِنَانُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: مِنْ حُفَرِ النَّارِ كَذَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا: النِّيرَانِ بِالْجَمْعِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَحَسَّنَهُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةٍ، فَجَلَسَ إِلَى قَبْرٍ فَقَالَ: " مَا يَأْتِي عَلَى هَذَا الْقَبْرِ مِنْ يَوْمٍ وَهُوَ يُنَادِي بِصَوْتٍ طَلْقٍ ذَلْقٍ: يَا ابْنَ آدَمَ! كَيْفَ نَسِيتَنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنِّي بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَبَيْتُ الْغُرْبَةِ، وَبَيْتُ الْوَحْشَةِ، وَبَيْتُ الدُّودِ، وَبَيْتُ الضِّيقِ إِلَّا مَنْ وَسَّعَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ» " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْقَبْرُ رَوْضَةٌ "، وَفِي نُسْخَةٍ: " إِمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ "، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الْقَبْرِ وَجَدَهُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ وَجَدَهُ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ.

5353 - وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ شِبْتَ، قَالَ: " شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ وَأَخَوَاتُهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5353 - (وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ، ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَلَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، وَلَكِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ، وَرَوَى عَنْهُ، مَاتَ بِالْكُوفَةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَوْنٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، (قَالَ: قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ شِبْتَ) أَيْ: ظَهَرَ عَلَيْكَ آثَارُ الضَّعْفِ، قِيلَ: أَوَانُ الْكِبَرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ ظُهُورَ كَثْرَةِ الشَّعْرِ الْأَبْيَضِ عَلَيْهِ ; لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَا عَدَدْتُ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِحْيَتِهِ إِلَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَعْرَةً بِيضًا» ، (قَالَ: " شَيَّبَتْنِي هُودُ ") بِغَيْرِ انْصِرَافٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالصَّرْفِ، قِيلَ: إِنْ جَعَلَ هُودَ اسْمَ السُّورَةِ لَمْ يُصْرَفْ، وَإِلَّا صُرِفَ، فَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ حِينَئِذٍ، أَقُولُ: لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصْرَفُ كَانَ كَجُورِ، وَإِذَا صُرِفَ كَانَ التَّقْدِيرُ سُورَةُ هُودٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ سُورَةُ هُودٍ، (" وَأَخَوَاتُهَا ") أَيْ: وَأَشْبَاهُهَا مِنَ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقِيَامَةِ وَالْعَذَابِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُرِيدُ أَنَّ اهْتِمَامِي بِمَا فِيهَا مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْحَوَادِثِ النَّازِلَةِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، آخُذُ مِنْ مَأْخَذِهِ حَتَّى شِبْتُ قَبْلَ أَوَانِ الْمَشِيبِ خَوْفًا عَلَى أُمَّتِي، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ لَهُ: رُوِيَ عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ " فَقَالَ: " نَعَمْ "، فَقُلْتُ: بِأَيَّةِ آيَةٍ؟ قَالَ: قَوْلُهُ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَلِكُ الْمُعِينُ وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَسِرٌ جِدًّا، قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ كَرَامَةٍ لِكَوْنِهَا أَصْعَبَ مِنْ جِسْرِ الْقِيَامَةِ، مَعَ أَنَّهَا أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، وَأَحَرُّ مِنَ الصَّيْفِ، لَكِنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى الْآيَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِقَوْلِهِ: وَأَخَوَاتُهَا، الْمُفَسَّرَةُ بِالسُّوَرِ الْآتِيَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الِاسْتِقَامَةِ لِلتَّخْلِيصِ عَنِ النَّدَامَةِ وَالْمَلَامَةِ، فَكَأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي جَمِيعِهَا، أَوْ يُقَالُ: الْجَوَابُ لِلنَّائِمِ كَانَ عَلَى طِبْقِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَالتَّحْرِيضِ عَلَى مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَزَادَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: قَبْلَ الْمَشِيبِ.

5354 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ شِبْتَ، قَالَ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَذُكِرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: " لَا يَلِجُ فِي النَّارِ " فِي (كِتَابِ الْجِهَادِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5354 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ شِبْتَ، قَالَ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ) بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى الْحِكَايَةِ (وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) يَعْنِي: وَأَمْثَالُهَا مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالُهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدٍ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِمْرَانَ بِلَفْظِ: " «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ» " وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ " «شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ وَأَخَوَاتُهَا الْوَاقِعَةُ وَالْقَارِعَةُ وَالْحَاقَّةُ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَسَأَلَ سَائِلٌ» " (وَذُكِرَ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " لَا يَلِجُ النَّارَ ") أَيْ: لَا يُدْخُلُهَا، مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، الْحَدِيثُ بِطُولِهِ، (فِي " كِتَابِ الْجِهَادِ ") أَيْ: فَأُسْقِطَ لِلتَّكْرَارِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5355 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُوبِقَاتِ، يَعْنِي الْمُهْلِكَاتِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5355 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا) أَيْ: عَظِيمَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَتَسْتَصْغِرُونَهَا وَتَعُدُّونَهَا مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عِبَارَةٌ عَنْ تَدْقِيقِ النَّظَر فِي الْعَمَلِ وَإِمْعَانِهِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالًا وَتَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ. (كُنَّا نَعُدُّهَا) أَيْ: تِلْكَ الْأَعْمَالَ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي زَمَانِهِ (مِنَ الْمُوبِقَاتِ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، يَعْنِي الْمُهْلِكَاتِ تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ أَيْ: يُرِيدُ أَنَسٌ بِالْمُوبِقَاتِ الْمُهْلِكَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52] بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: مَهْلِكًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5356 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَا عَائِشَةَ! إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، والْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5356 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَا عَائِشَةَ! إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ") أَيْ: صَغَائِرَهَا وَخَصَّ بِهَا فَإِنَّهُ رُبَّمَا يُسَامَحُ صَاحِبُهَا فِيهَا بِعَدَمِ تَدَارُكِهَا بِالتَّوْبَةِ، وَبِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ بِهَا فِي الْخَشْيَةِ غَفْلَةً عَنْهُ أَنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَأَنَّ كُلَّ صَغِيرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ كَبِيرَةٌ، وَالْقَلِيلَةَ مِنْهَا كَثِيرَةٌ ; وَلِذَا قَدْ يَعْفُو اللَّهُ عَنِ الْكَبِيرَةِ وَيُعَاقِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] الصَّغِيرَةَ بِسَبَبِ الْعِبَادَاتِ الْمُكَفِّرَةِ، قُلْنَا: بِشَرْطِ اجْتِنَابِكُمُ الْكَبَائِرَ لَا بِمُجَرَّدِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" فَإِنَّ لَهَا ") أَيْ: لِلْمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ (" مِنَ اللَّهِ ") أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ سُبْحَانَهُ (" طَالِبًا ") أَيْ: نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ يَعْقُبُهُ، فَكَأَنَّهُ يَطْلُبُهُ طَلَبًا لَا مُرَادَ لَهُ، فَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: طَالِبًا عَظِيمًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفَلَ عَنْهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَخْشَى مِنْهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: (مِنَ اللَّهِ طَالِبًا) هُوَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ: كَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافٍ وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَفِي رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كِفَايَةٌ، فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَقَامِهِ الْمُقَرَّرِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ، (وَالدَّارِمِيُّ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ، (والْبَيْهَقِيُّ، فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ ") ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، والطَّبَرَانِيُّ، والْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُ: " «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى حَمَلُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَنْ يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ» "، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ والطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ.

5357 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هَلْ تَدْرِي مَا قَالَهُ أَبِي لِأَبِيكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّ أَبِي قَالَ لِأَبِيكَ: يَا أَبَا مُوسَى! هَلْ يَسُرُّكَ أَنَّ إِسْلَامَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِجْرَتَنَا مَعَهُ وَجِهَادَنَا مَعَهُ وَعَمَلَنَا كُلَّهُ مَعَهُ بَرَدَ لَنَا؟ وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا، رَأْسًا بِرَأْسٍ؟ فَقَالَ أَبُوكَ لِأَبِي: لَا وَاللَّهِ، قَدْ جَاهَدْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّيْنَا وَصُمْنَا وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَلِكَ، قَالَ أَبِي: وَلَكِنِّي أَنَا، وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ بَرَدَ لَنَا، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَبِي. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5357 - (وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيُّ، أَحَدُ التَّابِعِينَ الْمَشْهُورِينَ الْمُكْثِرِينَ التَّابِعِينَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمَا، كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ شُرَيْحٍ فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ. (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هَلْ تَدْرِي مَا قَالَ أَبِي لِأَبِيكَ؟) أَيْ: فِي أَمْرِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ الْمُعَنْوَنِ بِهِ الْبَابُ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو بُرْدَةَ، أَوِ التَّقْدِيرُ: قَالَ الرَّاوِي نَاقِلًا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، (قُلْتُ: لَا) أَيْ: لَا أَدْرَى (قَالَ: فَإِنَّ أَبِي قَالَ لِأَبِيكَ: يَا أَبَا مُوسَى) نَادَاهُ بِكُنْيَتِهِ إِشْعَارًا بِعَظَمَتِهِ وَتَقْرِيرًا لِحَضْرَتِهِ، (هَلْ يَسُرُّكَ) أَيْ: يُوقِعُكَ فِي السُّرُورِ (أَنَّ إِسْلَامَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مِنْهُمَا مَعَ بِعْثَتِهِ (وَهِجْرَتَنَا مَعَهُ وَجِهَادَنَا مَعَهُ وَعَمَلَنَا) : كَالصَّلَاةِ

وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَأَمْثَالِهَا (كُلَّهُ) أَيْ: جَمِيعَهُ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ وَأَصْنَافِهِ (مَعَهُ) أَيْ: فِي زَمَنِهِ (بَرَدَ) أَيْ: ثَبَتَ وَدَامَ (لَنَا؟) فَفِي النِّهَايَةِ: فِي الْحَدِيثِ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ، أَيْ: لَا تَعَبَ فِيهِ وَلَا مَشَقَّةَ، وَكُلُّ مَحْبُوبٍ عِنْدَهُمْ بَارِدٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْغَنِيمَةُ الثَّابِتَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَدَ لَنَا عَلَى فُلَانٍ حَقٌّ، أَيْ: ثَبَتَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ خَبَرُ قَوْلِهِ: أَنَّ إِسْلَامَنَا، وَالْجُمْلَةُ فَاعِلُ هَلْ يَسُرُّكَ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ) : عَطْفٌ عَلَى (أَنَّ إِسْلَامَنَا) ، (عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نَجَوْنَا مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ (كَفَافًا) : بِفَتْحِ الْكَافِ، أَيْ: سَوَاءً (رَأْسًا بِرَأْسٍ) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ نَجَوْنَا، أَيْ: مُتَسَاوِينَ لَا يَكُونُ لَنَا وَلَا عَلَيْنَا، بِأَنْ لَا يُوجِبَ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: كَفَافًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، أَيْ: نَجَوْنَا مِنْهُ فِي حَالَةِ كَوْنِهِ لَا يَفْضُلُ عَلَيْنَا شَيْءٌ مِنْهُ، أَوْ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ: مَكْفُوفًا عَنَّا شَرُّهُ. (فَقَالَ أَبُوكَ لِأَبِي! لَا وَاللَّهِ) أَيْ: لَا يَسُرُّنَا، وَبَيَّنَ سَبَبَهُ بِقَوْلِهِ: (قَدْ جَاهَدْنَا) أَيِ: الْكُفَّارَ (بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّيْنَا) أَيْ: صَلَوَاتٍ (وَصُمْنَا) أَيْ: سَنَوَاتٍ (وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا) أَيْ: مِنَ الصَّدَقَاتِ وَنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ (وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا) أَيْ: بِسَبَبِنَا (بَشَرٌ كَثِيرٌ) أَيْ: مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ (وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَاكَ) وَفِي نُسْخَةٍ ذَلِكَ، أَيْ: ثَوَابَ مَا ذُكِرَ زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ لَنَا مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ. (قَالَ أَبِي) : يَعْنِي عُمَرَ (وَلَكِنِّي أَنَا) : زِيدَ لِلتَّأْكِيدِ (وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ) أَيْ: مَا سَبَقَ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (بَرَدَ لَنَا) أَيْ: تَمَّ وَلَمْ يَبْطُلْ وَلَمْ يَنْقَضِي بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ وَفَضْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ) بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ هُنَا (بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ مَمَاتِهِ وَفَقْدِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ بَرَكَاتِهِ (نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ) : وَذَلِكَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ التَّابِعَ أَسِيرُ الْمَتْبُوعِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، اعْتِقَادًا وَإِخْلَاصًا وَعِلْمًا وَعَمَلًا، أَمَا تَرَى صِحَّةَ بِنَاءِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ الْمُقْتَدَى، وَكَذَا فَسَادُهَا، وَلَا شَكَّ فِي وُصُولِ الْكَمَالِ وَحُصُولِ صِحَّةِ الْأَعْمَالِ، فَيُحَالُ مُلَازَمَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا بَعْدَهُ فَمَا وَقَعَ مِنَ الطَّاعَاتِ لَا يَخْلُو مِنْ تَغْيِيرِ النِّيَّاتِ، وَفَسَادِ الْحَالَاتِ، وَمُرَاعَاةِ الْمُرَايَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عِنْدَ الْوَفَاةِ بِقَوْلِهِ: فَمَا نَقَضْنَا أَيْدِيَنَا عَنِ التُّرَابِ، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَنْكَرَ قُلُوبَنَا، يَعْنِي بِالْمُظْلِمَةِ النَّاشِئَةَ عَنْ غَيْبَةِ نُورِ شَمْسِ وُجُودِهِ، وَقَمَرِ جُودِهِ، فَالْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ أَنْ يَكُونَ فِي مَرْتَبَةِ السَّرِيَّاتِ بَيْنَ الطَّاعَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ وَعُظَمَاءِ الْخِلَافَةِ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَطَاعَاتُهُمُ الْمَشْحُونَةُ بِالْغُرُورِ، وَالْعَجَبِ، وَالرِّيَاءِ أَسْبَابٌ لِلْمَعَاصِي، وَوَسَائِلُ لِعُقُوبَاتِ الْعَاصِي غَالِبًا، إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَعَيْنِ عِنَايَتِهِ بِأَنْ يُلْحِقَ الْمُسِيئِينَ بِالْمُحْسِنِينَ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْصِيَةٌ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَاسْتِصْغَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عُجْبًا وَاسْتِكْبَارًا. (فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَاكَ) أَيْ: عُمَرَ (وَاللَّهِ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَبِي) أَيْ: أَبِي مُوسَى فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَهَذَا كَذَلِكَ ; لِأَنَّ كَلَامَ السَّادَاتِ سَادَاتُ الْكَلَامِ، وَكَيْفَ وَهُوَ النَّاطِقُ الصَّوَابَ، وَالْفَارُوقُ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ كُلِّ بَابٍ، وَالْمُوَافِقُ رَأْيُهُ نُزُولَ الْكِتَابِ، وَقَدْ طَابَقَ قَوْلُهُ حَدِيثَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: لَوَدِدْتُ خَبَرُ لَكِنِّي مَعَ اللَّامِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَوَدِدْتُ جَوَابَ الْقِسْمِ، وَالْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ خَبَرُ لَكِنِّي عَلَى التَّأْوِيلِ، قُلْتُ: بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْكُوفِيِّينَ، فَفِي الْمَعْنَى: وَلَا يَدْخُلُ اللَّامُ فِي خَبَرِ لَكِنَّ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: وَلَكِنَّنِي مِنْ حُبِّهَا لَعَمِيدُ وَخُرِّجَ عَلَى زِيَادَةِ اللَّامِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ: لَكِنَّ أَنَّنِي، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا وَنُونُ لَكِنْ لِلسَّاكِنَيْنِ، قُلْتُ هَذِهِ كُلُّهَا تَكَلُّفَاتٌ بَعِيدَةٌ، وَتَعَسُّفَاتٌ مَزِيدَةٌ، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، فَالصَّوَابُ أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا جُوِّزَ فِي بَعْضِ أَخَوَاتِ لَكِنَّ عَلَى الْقِيَاسِ السَّدِيدِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ عَلَى لِسَانِ الْأَوْحَدِيِّ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ بِإِسْنَادٍ هُوَ أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، ثُمَّ مِنْ أَعْجَبِ الْغَرَائِبِ وَأَغْرَبِ الْعَجَائِبِ أَنَّهُ لَوْ حُكِيَ مِنْ طَرِيقِ الْأَصْمَعِيِّ وَنَحْوِهُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا مِمَّنْ يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ تَكَلَّمَ بِمِثْلِهِ نَثْرًا أَوْ نَظْمًا، أَخَذَ النُّحَاةُ بِهِ، وَجَعَلُوهُ أَصْلًا مُمَهِّدًا وَأَسَاسًا مُؤَيِّدًا، فَصَدَقَ مَنْ قَالَ: أَنَّ أَدِلَّةَ الصَّرْفِيِّينَ وَالنَّحْوِيِّينَ كَنَارَاتِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَتَارَةً تَطَّرِدُ وَتَارَةً تَفُوتُ.

5358 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْعٍ: خَشْيَةِ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَكَلِمَةِ الْعَدْلِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَالْقَصْدِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وَأُعْطِي مَنْ حَرَمَنِي، وَأَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وَأَنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْرًا، وَنُطْقِي ذِكْرًا، وَنَظَرِي عِبْرَةً، وَآمُرُ بِالْعُرْفِ» " وَقِيلَ: (بِالْمَعْرُوفِ) . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5358 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْعٍ ") أَيْ: خِصَالٍ (" خَشْيَةِ اللَّهِ ") بِالْجَرِّ وَيَجُوزُ أُخْتَاهُ، أَيْ: خَوْفِهِ الْمَقْرُونِ بِالْعَظَمَةِ (" فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ") أَيْ: فِي الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ، أَوْ فِي الْخَلَا وَالْمَلَا (" وَكَلِمَةِ الْعَدْلِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ") بِالْقَصْرِ أَيْ: فِي الْحَالَيْنِ (" وَالْقَصْدِ ") أَيِ: الِاقْتِصَادِ فِي الْمَعِيشَةِ، أَوِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، غَيْرِ خَارِجٍ عَنْهُمَا بِالْجَزَعِ وَالطُّغْيَانِ (" فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي ") أَيْ: مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا غَايَةُ الْحِلْمِ وَنِهَايَةُ التَّوَاضُعِ، (" وَأُعْطِي مَنْ حَرَمَنِي ") وَهَذَا كَمَالُ الْكَرَمِ وَالْجُودِ (وَأَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَنِي) أَيْ: مَعَ قُدْرَتِي عَلَى الِانْتِقَامِ، هَذَا نَتِيجَةُ الصَّبْرِ، وَقَضِيَّةُ الشُّكْرِ، وَرِعَايَةُ الْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، (" وَأَنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْرًا ") أَيْ: فِي أَسْمَائِكَ، وَصِفَاتِكَ، وَمَصْنُوعَاتِكَ، وَمَعَانِي آيَاتِكَ (" وَنُطْقِي ذِكْرًا ") أَيْ: بِتَسْبِيحِكَ وَتَحْمِيدِكَ، وَتَقْدِيسِكَ وَتَمْجِيدِكَ، وَتَكْبِيرِكَ وَتَوْحِيدِكَ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِكَ، وَمَوْعِظَةِ عِبَادِكَ (" وَنَظَرِي عِبْرَةً ") أَيْ: فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ وَمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، (وَآمُرُ بِالْعُرْفِ، وَقِيلَ بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: بَدَلًا مِنْ عَنِ الْعُرْفِ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ اكْتِفَاءً، أَوِ الْعُرْفُ يَشْمَلُ الْمَعْرُوفَ فِي الشَّرْعِ ارْتِكَابًا وَاجْتِنَابًا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذَكَرَ تِسْعًا وَأَتَى بِعَشْرٍ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَاشِرُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ عَقِبَ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَكُلِّ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُحْسَّنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمَرَنِي رَبِّي بِأَنْ أَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَآمُرَ غَيْرِي بِالِاتِّصَافِ بِهَا، فَالْوَاوَاتُ كُلُّهَا عَطَفَتِ الْمُفْرَدَ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَآمُرُ بِالْمَعْرُوفِ عَطَفَتِ الْمَجْمُوعَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى الْمَجْمُوعِ بِحَسْبَ اللَّفْظِ، وَنَحْوُهُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَاوَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ - وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ - وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: 19 - 21] . (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

5359 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنَيْهِ دُمُوعٌ وَإِنْ كَانَ مِثْلَ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يُصِيبُ شَيْئًا مِنْ حَرِّ وَجْهِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5359 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنَيْهِ ") أَيْ: أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا (" دُمُوعٌ ") أَيْ: دَمَعَاتٌ أَقَلُّهَا ثَلَاثٌ (" وَإِنْ كَانَ ") أَيِ: الْخَارِجُ أَوْ كُلُّ دَمْعٍ (" مِثْلَ رَأْسِ الذُّبَابِ ") أَيْ: كَمِّيَّةً أَوْ كَيْفِيَّةً (" مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ثُمَّ يُصِيبُ ") بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، أَيْ: يَصِلُ الدَّمْعُ (" شَيْئًا مِنْ حُرِّ وَجْهِهِ ") بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، أَيْ: خَالِصَةً، فَفِي الْقَامُوسِ: حُرُّ الْوَجْهِ مَا أَقْبَلَ عَلَيْكَ وَبَدَا لَكَ مِنْهُ (" إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ ") وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ رَاجِعٌ إِلَى الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمَوْصُوفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى حُرِّ وَجْهِهِ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تَحْرِيمِ ذَاتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنَيْهِ مِنَ الدُّمُوعِ مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَيُصِيبُ حُرَّ وَجْهِهِ فَتَمَسُّهُ النَّارُ أَبَدًا» " وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

[باب تغير الناس]

[بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ]

[7] بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5360 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [7] بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ أَيْ: بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ الْمُوَافِقُ لِمَضْمُونِ أَكْثَرِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّغَيُّرِ اخْتِلَافُ حَالَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ فِي مُنَازَلَاتِهِمُ الشَّامِلَةِ لِتَغَيُّرِ أَزْمِنَتِهِمْ، وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5360 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا النَّاسُ ") أَيْ: فِي اخْتِلَافِ حَالَاتِهِمْ وَتَغَيُّرِ صِفَاتِهِمْ (" كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ ") قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ: اللَّامُ فِيهِمَا لِلْجِنْسِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الرِّوَايَةُ فِيهِ عَلَى الثَّبْتِ كَإِبِلٍ مِائَةٍ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ فِيهِمَا (" لَا تَكَادُ ") أَيْ: لَا تَقْرُبُ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًّا (" تَجِدُ فِيهَا ") أَيْ: فِي مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ (" رَاحِلَةً ") أَيْ: نَاقَةً شَابَّةً، قَوِيَّةً، مُرْتَاضَةً، تَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ، فَكَذَلِكَ لَا تَجِدُ فِي مِائَةٍ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ، وَحَمْلِ الْمَوَدَّةِ وَرُكُوبِ الْمَحَبَّةِ، فَيُعَاوِنُ صَاحِبَهُ وَيَلِينُ لَهُ جَانِبُهُ، وَهَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ الشَّارِحِ الْأَوَّلِ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ سَوَاءٌ لَا فَضْلَ فِيهَا لِشَرِيفٍ عَلَى مَشْرُوفٍ، وَلَا لِرَفِيعٍ مِنْهُمْ عَلَى وَضِيعٍ، كَإِبِلِ الْمِائَةِ لَا يَكُونُ فِيهَا رَاحِلَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً صِفَةُ الْإِبِلِ، وَالتَّشْبِيهُ مُرَكَّبٌ تَمْثِيلِيٌّ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ، وَبَيَانٌ لِمُنَاسَبَةِ النَّاسِ لِلْإِبِلِ، قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى ظُهُورُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمَرْضِيَّ الْمُنْتَخَبَ مِنَ النَّاسِ الصَّالِحَ لِلصُّحْبَةِ سَهْلُ الِانْقِيَادِ عَسِرٌ وَجُودُهُ، كَالنَّجِيبَةِ الصَّالِحَةِ لِلرُّكُوبِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْأَحْمَالِ وَالْأَسْفَارِ، فَذَكَرَ الْمِائَةَ لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلتَّحْدِيدِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْمُخْلِصِ مِنْ قَبِيلِ الْكِيمْيَاءِ، أَوْ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْعَنْقَاءِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُرَفَاءِ: أَتَمَنَّى عَلَى الزَّمَانِ مُحَالًا ... أَنْ تَرَى مُلْتَقَايَ طَلْعَةَ حُرٍّ وَقَالَ الْآخَرُ: وَإِذَا صَفَا لَكَ مِنْ زَمَانِكَ وَاحِدٌ ... فَهُوَ الْمُرَادُ وَأَيْنَ ذَاكَ الْوَاحِدُ وَكَانَ يَقُولُ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَالِ: هَذَا زَمَانُ قَحْطِ الرِّجَالِ، وَرُوِيَ أَنَّ سَهْلًا التُّسْتَرِيَّ خَرَجَ مِنْ مَسْجِدٍ وَرَأَى خَلْقًا كَثِيرًا فِي دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ، فَقَالَ: أَهْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَثِيرٌ، وَالْمُخْلِصُونَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ، وَقَدْ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، وَمِنْهَا: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ - وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13 - 14] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: إِنَّمَا النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ بِالتَّنْكِيرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

5361 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ "، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: " فَمَنْ؟» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5361 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَتَتَّبِعُنَّ ") بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، أَيْ: لَتُوَافِقُنَّ بِالتَّبَعِيَّةِ (" سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ ") بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ سُنَّةٍ، وَهِيَ لُغَةً الطَّرِيقَةُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ سَيِّئَةً، وَالْمُرَادُ هُنَا طَرِيقَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ، مِنْ تَغَيُّرِ دِينِهِمْ وَتَحْرِيفِ كِتَابِهِمْ، كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ السِّينِ، فَفِي الْمُقَدِّمَةِ أَيْ: طَرِيقَهُمْ (" شِبْرًا بِشِبْرٍ ") : حَالٌ

مِثْلَ يَدًا بِيَدٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ") أَيْ: سَتَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، (" حَتَّى لَوْ دَخَلُوا ") أَيْ: مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (" جُحْرَ ضَبٍّ ") وَهُوَ مِنْ أَضَيْقِ أَنْوَاعِ الْجُحْرِ وَأَخْبَثِهَا (" تَبِعْتُمُوهُمْ ") وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بُعِثَ لِإِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِيُ آخِرِ الْأُمَمِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْكَمَالِ مِنهُمْ مَوْصُوفِينَ بِجَمِيعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فِي الْأَدْيَانِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ النُّقْصَانِ مِنْهُمْ فِي كَمَالِ الْمَرْتَبَةِ الْقُصْوَى مَنْعُوتِينَ بِجَمِيعِ الْخِلَالِ الذَّمِيمَةِ الْكَائِنَةِ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ ذَكَرَ أَنَّهُ ارْتَاضَ بِجَمِيعِ مَا سَمِعَ رِيَاضَاتِ أَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ، فَأُعْطِيَ لَهُ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَيُنَاسِبُهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ التَّوَقُّفَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ فَهُوَ فِي النُّقْصَانِ، وَأَيْضًا نَوْعُ بَنِي آدَمَ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الطَّبْعِ الْمَلَكِيِّ الرُّوحَانِيِّ الْعُلْوَانِيِّ، وَمِنَ الْطَبْعِ الْحَيَوَانِيِّ النَّفْسَانِيِّ السُّفْلَانِيِّ، فَإِنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَى الْعُلُوِّ فَيَصِيرُ إِلَى الرُّتْبَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَى أَسْفَلَ فَيَسِيرُ فِي طَرِيقَتِهِ مِنْ مَرَاتِبِ الْبَهَائِمِ أَدْنَى، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وَهُنَا يَنْفَتِحُ بَابُ الْقَضَاءِ، وَلَا خَلَاصَ إِلَى الْقَضَاءِ إِلَّا بِقَوْلِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] ، فَتَأَمَّلْ، (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) بِالنَّصْبِ أَيْ: أَتَعْنِي بِمَنْ نَتْبَعُهُمْ، أَوْ بِمَنْ قَبْلَنَا سُنَّةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (" فَمَنْ ") ؟ أَيْ إِنْ لَمْ أُرِدْهُمْ فَمَنْ (" سِوَاهُمْ ") ؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ الْغَالِبُونَ الْمَشْهُورُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مُنْدَرِسُونَ، فَإِذَا أُطْلِقَ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَهُمُ الْمُرَادُ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ غَيْرَ مَوْجُودِينَ فِي الِاعْتِبَارِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَقَالَ شَارِحٌ: (فَمَنْ) اسْتِفْهَامٌ أَيْ: فَمَنْ يَكُونُ غَيْرُهُمْ يَعْنِي الْمَتْبُوعِينَ لَكُمْ هُمْ لَا غَيْرُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: رُوِيَ (الْيَهُودِ) بِالْجَرِّ أَيْ: هَلْ نَتَّبِعُ سُنَنَ الْيَهُودِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ يَعْنِي: قَبْلَنَا هُمُ الْيَهُودُ، انْتَهَى. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَيِ: الْمَتْبُوعُونَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَمْ غَيْرُهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: " «لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» ".

5362 - وَعَنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَتَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ، لَا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5362 - (وَعَنْ مِرْدَاسٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (الْأَسْلَمِيِّ) : كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ حَدِيثًا وَاحِدًا لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَذْهَبُ ") أَيْ: يَمُوتُ (" الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ ") بِالرَّفْعِ بَدَلٌ مِنَ " الصَّالِحُونَ "، وَبِالنَّصْبِ حَالٌ أَيْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، أَوْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، (" وَتَبْقَى حُفَالَةٌ ") بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ حُثَالَةٌ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْفَاءِ، وَمَعْنَاهُمَا: الرَّدِيءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي حُفَالَةٍ لِلتَّحْقِيرِ (" كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ ") أَيْ: نُخَالَتِهِ (" أَوِ التَّمْرِ ") أَيْ: دَقْلِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ، أَيِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمْ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ، وَهَكَذَا يَنْتَهِي إِلَى الْحُفَالَةِ مِثْلَ الْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ، قَالَ الْقَاضِي: الْحُفَالَةُ رَذَالَةُ الشَّيْءِ وَكَذَا الْحُثَالَةُ، وَالْفَاءُ وَالثَّاءُ يَتَعَاقَبَانِ كَثِيرًا، (" لَا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ ") أَيْ: لَا يَرْفَعُ لَهُمْ قَدْرًا، وَلَا يُقِيمُ لَهُمْ وَزْنًا (" بَالَةً ") أَيْ: مُبَالَاةً، فَيَكُونُ مَحْذُوفَ الْمِيمِ وَالْأَلِفِ لِكَوْنِهِمَا مِنَ الزَّوَائِدِ، كَمَا قِيلَ فِي لَبَّيْكَ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مَنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ: أَقَامَ بِهِ، وَأَصَابَ بَالَةً بَالِيَةً، مِثْلَ عَافَاهُ اللَّهُ عَافِيَةً، فَحَذَفُوا الْيَاءَ مِنْهَا تَخْفِيفًا، يُقَالُ: مَا بَالَيْتُهُ وَمَا بَالَيْتُ بِهِ وَمِنْهُ، أَيْ: لَمْ أَكْثَرِتْ بِهِ، وَقِيلَ: بَالَةٌ بِمَعْنَى حَالَةٍ، أَيْ: لَا يُبَالِي اللَّهُ حَالَةً مِنْ أَحْوَالِهِ، وَمِنْهُ الْبَالُ بِمَعْنَى الْحَالِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5363 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطِيَاءَ وَخَدَمَتْهُمْ أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّومِ، سَلَّطَ اللَّهُ شِرَارَهَا عَلَى خِيَارِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5363 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطِيَاءَ ") بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الْأَوْلَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ مَمْدُودَةً وَتُقْصَرُ، بِمَعْنَى: التَّمَطِّي، وَهُوَ الْمَشْيُ فِيهِ التَّبَخْتُرُ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ، وَيُرْوَى بِغَيْرِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ لَفْظُ الْجَامِعِ، وَنَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: مَشْيَ تَبَخْتُرٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ حَالٌ، أَيْ: إِذَا صَارُوا فِي نُفُوسِهِمْ مُتَكَبِّرِينَ وَعَلَى غَيْرِهِمْ مُتَجَبِّرِينَ، (وَخَدَمَتْهُمْ) وَفِي الْجَامِعِ: خَدَمَهَا، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالسَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، وَالْمَعْنَى قَامَ بِخِدْمَتِهِمْ وَانْقَادَ فِي حَضْرَتِهِمْ (" أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّومِ ") بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ وَبَيَانٌ لَهُ، (" سَلَّطَ اللَّهُ شِرَارَهَا ") وَلَفْظُ الْجَامِعِ: سَلَّطَ شِرَارَهَا، أَيْ: ظَلَمَةَ الْأُمَّةِ (" عَلَى خِيَارِهَا ") أَيْ: مَظْلُومِهِمْ. قَالَ الشُّرَّاحُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْمَغِيبِ، وَوَافَقَ الْوَاقِعُ خَبَرَهُ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَتَجَمُّلَاتِهِمْ وَسَبَوْا أَوْلَادَهُمْ فَاسْتَخْدَمُوهُمْ، سَلَّطَ اللَّهُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، ثُمَّ سَلَّطَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، فَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا هَكَذَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَقَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5364 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتُلُوا إِمَامَكُمْ، وَتَجْتَلِدُوا بِأَسْيَافِكُمْ، وَيَرِثُ دُنْيَاكُمْ شِرَارُكُمْ» " - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5364 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتُلُوا إِمَامَكُمْ» ") أَيِ: الْخَلِيفَةَ أَوِ السُّلْطَانَ (" وَتَجْتَلِدُوا ") أَيْ: تَتَضَارَبُوا (" بِأَسْيَافِكُمْ وَيَرِثُ دُنْيَاكُمْ شِرَارُكُمْ ") بِأَنْ يَصِيرَ الْمُلْكُ وَالْمَالُ وَالْمَنَاصِبُ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ، وَغَيْرِ أَرْبَابِ الِاسْتِحْقَاقِ (" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ") .

5365 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ بْنُ لُكَعَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، والْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5365 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ ") بِنَصْبِ أَسْعَدَ وَيُرْفَعُ، أَيْ: أَكْثَرَهُمْ مَالًا، وَأَطْيَبَهُمْ عَيْشًا، وَأَرْفَعَهُمْ مَنْصِبًا، وَأَنْفَذَهُمْ حُكْمًا (" بِالدُّنْيَا ") أَيْ: بِأُمُورِهَا أَوْ فِيهَا (" لُكَعُ بْنُ لَكْعَ ") بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْكَافِ غَيْرُ مَصْرُوفٍ، أَيْ: لَئِيمُ بْنُ لَئِيمٍ، أَيْ: رَدِيءُ النِّسَبِ دَنِيءُ الْحَسَبِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ وَلَا يُحْمَدُ لَهُ خُلُقٌ، وَحُذِفَ أَلِفُ ابْنٍ لِإِجْرَاءِ اللَّفْظَيْنِ مَجْرَى عَلَمَيْنِ لِشَخْصَيْنِ خَسِيسَيْنِ لَئِيمَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِنَصْبِ أَسْعَدَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ يَكُونُ، وَفِي بَعْضِهَا بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يَكُونُ لِلشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرِ الْمَذْكُورِ، انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْعَدُ اسْمًا، وَلُكَعُ يُنْصَبُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَا يَغُرُّكَ مَا فِي بَعْضِ النَّسْخِ مِنْ نَصْبِ لُكَعَ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَقَدِ اقْتَصَرَ شَارِحٌ عَلَى نَصْبِ أَسْعَدَ، وَقَالَ: لُكَعُ بِالرَّفْعِ اسْمُ يَكُونُ، وَهُوَ الْأَحْمَقُ، وَقِيلَ: الْعَبْدُ وَهُوَ مَعْدُولٌ عَنِ اللُّكَعِ، يُقَالُ: لَكِعَ الْوَسَخُ عَلَيْهِ لَكَعًا فَهُوَ لُكَعٌ إِذَا الْتَصَقَ بِهِ، وَلِلرَّجُلِ اللَّئِيمِ كَمَا عَدَلَتْ لُكَاعُ الْمَرْأَةُ اللَّئِيمَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلْأَحْمَقِ وَالْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنَ الذِّلَّةِ، وَلِلْجَحْشِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِفَّةِ، وَلِلصَّبِيِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ، وَيُقَالُ لِلذَّلِيلِ الَّذِي تَكُونُ نَفْسُهُ كَالْعَبِيدِ، وَأُرِيدَ بِهِ هَاهُنَا الَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ، وَلَا يُحْمَدُ لَهُ خُلُقٌ، انْتَهَى. وَبِهَذَا ظَهَرَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: " أَثِمَ لُكَعُ "، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّغِيرِ قَدْرًا وَجُثَّةً، بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنَ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ لِلْمَرَامِ، وَلِذَا قِيلَ: يُقَالُ لِلصَّبِيِّ

الصَّغِيرِ لُكَعٌ مَصْرُوفًا، ذَهَابًا إِلَى صِغَرِ جُثَّتِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ وَاللَّئِيمِ وَالْأَحْمَقِ لِصِغَرِ قَدْرِهِمْ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَيَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ بِلُكَعَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ: الصَّغِيرِ، وَالْحَقِيرِ، وَالْعَبْدِ، وَالْأَحْمَقِ، وَاللَّئِيمِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لَيْسَ بِمَعْدُولٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ صَرِدٍ وَنَغِرٍ، فَحَقُّهُ أَنْ يُنَوَّنَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُول، وَفِي الْقَامُوسِ: اللُّكَعُ كَصَرِدِ اللَّئِيمِ وَالْعَبْدِ الْأَحْمَقِ، وَمَنْ لَا يَتَّجِهُ لِمَنْطِقٍ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَالْمُهْرِ، وَالصَّغِيرِ، وَالْوَسِخِ، وَيَقُولُ فِي النِّدَاءِ: يَا لُكَعُ، وَلَا يُصْرَفُ فِي الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنِ اللُّكَعِ، انْتَهَى، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنْ يَكُونَ لُكَعُ هُنَا مَصْرُوفًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَدْلِ وَالصِّفَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ (والْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالضِّيَاءُ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» "، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ الزُّهْدُ رِوَايَةً وَالدِّرْعُ تَصَنُّعًا، وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ» ، وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ» ، وَرَوَى السِّجْزِيُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ سَبْعُونَ كَذَّابًا، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ» . وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْمَلَاحِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ عَلَامَةً لِقِيَامِ السَّاعَةِ، مُسْتَوْفًى الْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

5366 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ الْقُرَظِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنِي «مَنْ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّا لَجُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، فَاطَّلَعَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، مَا عَلَيْهِ إِلَّا بُرْدَةٌ لَهُ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكَى لِلَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ، وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ؟ وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى، وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ، نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ، وَنُكْفَى الْمُؤْنَةَ. قَالَ: " لَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5366 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ) بِضَمِّ قَافٍ وَفَتْحِ رَاءٍ فَظَاءٍ مُعْجَمَةٍ نِسْبَةً إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، طَائِفَةٍ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ وَقَالَ: سَمِعَ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَتُرِكَ. (قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَمْ يُسَمَّ هَذَا السَّامِعُ، لَكِنْ تَابِعِيٌّ تُغْفَرُ جَهَالَتُهُ، مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ صَحَابِيًّا آخَرَ، فَتَدَبَّرْ، (قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (إِنَّا لَجُلُوسٌ) أَيْ: جَالِسُونَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَسْجِدِ قِبَاءٍ (فَاطَّلَعَ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ: فَظَهَرَ (عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، وَعُمَيْرٌ مُصَغَّرٌ (مَا عَلَيْهِ) أَيْ: لَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ (إِلَّا بُرْدَةٌ لَهُ) أَيْ: كِسَاءٌ مَخْلُوطُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ (مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ) ، أَيْ: مُرَقَّعَةٌ بِجِلْدٍ، قَالَ مِيرَكُ: هُوَ قُرَشِيٌّ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرَكَ النِّعْمَةَ وَالْأَمْوَالَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ السَّاكِنِينَ فِي مَسْجِدِ قِبَاءٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: عَبْدَرِيٌّ كَانَ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ، هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي أَوَّلِ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُصْعَبًا بَعْدَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنْعَمِ النَّاسِ عَيْشًا وَأَلْيَنِهِمْ لِبَاسًا، فَلَمَّا أَسْلَمَ زَهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ بَايَعَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، فَكَانَ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فِي دُورِهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيُسْلِمُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ فِيهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يَجْمَعَ بِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ السَبْعِينَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِيهِ نَزَلَ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ. (فَلَمَّا رَآهُ) أَيْ: أَبْصَرَ مُصْعَبًا بِتِلْكَ الْحَالِ الصَّعْبَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكَى لِلَّذِي) أَيْ: لِلْأَمْرِ الَّذِي (كَانَ فِيهِ) أَيْ: قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (مِنَ النِّعْمَةِ

وَالَّذِي هُوَ فِيهِ) أَيْ: وَلِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنَ الْمِحْنَةِ وَالْمَشَقَّةِ (الْيَوْمَ) أَيْ: فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ بُكَاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لَهُ وَشَفَقَةً عَلَيْهِ لِمَا رَآهُ مِنْ فَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَ عَزِيزًا فِي قَوْمِهِ، وَمُنْغَمِسًا فِي نِعْمَتِهِ، لَكِنْ يُنَافِيهِ بَعْضَ الْمُنَافَاةِ مَا وَقَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عُمَرَ، حَيْثُ بَكَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضْطَجِعًا عَلَى حَصِيرِ سَرِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَقَدْ أَثَّرَ الْحَصِيرُ عَلَى بَدَنِهِ الشَّرِيفِ، وَتَذَكَّرَ عُمَرُ تَنَعُّمَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فَقَالَ لَهُ: " أَنْتَ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَا عُمَرُ؟ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْبُكَاءُ عَلَى الْفَرَحِ فِي أَنَّهُ وَجَدَ فِي أُمَّتِهِ مَنِ اخْتَارَ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْعُقْبَى، أَوْ عَلَى الْحُزْنِ فِي فَقْدِ مَا عِنْدَهُ مِنْ بَعْضِ الْمُسَاعَدَةِ لِبَعْضِ الْكِسْوَةِ، أَوْ لِمُعَاوَنَةٍ فِي بَعْضِ الْمَعِيشَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَنَا نَقْلُ الرَّاوِي. (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَيْفَ ") أَيِ: الْحَالُ (" بِكُمْ إِذَا غَدَا ") أَيْ: ذَهَبَ أَوَّلَ النَّهَارِ (" أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ ") بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ، أَيْ: فِي ثَوْبٍ، أَوْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ (" وَرَاحَ ") أَيْ: ذَهَبَ آخِرَ النَّهَارِ (فِي حُلَّةٍ ") ؟ أَيْ أُخْرَى مِنَ الْأُولَى. قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ إِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُكُمْ بِحَيْثُ يَلْبَسُ كُلٌّ مِنْكُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ حُلَّةً وَآخِرَهُ أُخْرَى مِنْ غَايَةِ التَّنَعُّمِ؟ (" وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ ") أَيْ: قَصْعَةٌ مِنْ مَطْعُومٍ (" وَرُفِعَتْ أُخْرَى ") أَيْ: مِنْ نَوْعٍ آخَرَ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُتْرَفِينَ مِنْ طَائِفَةِ الْأَرْوَامِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ أَصْنَافِ الْأَطْعِمَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْأَطْبَاقِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُتَنَعِّمِينَ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْجَامِ (" وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ ") بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ: جُدْرَانَهَا، وَالْمَعْنَى: زَيَّنْتُمُوهَا بِالثِّيَابِ النَّفِيسَةِ مِنْ فَرْطِ التَّنْعِيمِ، (" كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ ") وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَتْرَهَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهَا لِامْتِيَازِهَا. (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ ") وَبَيَّنُوا سَبَبَ الْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِمْ مُسْتَأْنَفًا فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ (نَتَفَرَّغُ) أَيْ: عَنِ الْعَلَائِقِ وَالْعَوَائِقِ (لِلْعِبَادَةِ) ، أَيْ بِأَنْفُسِنَا (وَنُكْفَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ (الْمُؤْنَةَ) أَيْ: بِخَدَمِنَا، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَالْمَعْنَى: نَدْفَعُ عَنَّا تَحْصِيلَ الْقُوتِ لِحُصُولِهِ بِأَسْبَابٍ مُهَيَّأَةٍ لَنَا، فَنَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ مِنْ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعَمَلِ بِالْخَيْرَاتِ الْمَدَنِيَّةِ، وَالْمَبَرَّاتِ الْمَالِيَّةِ (قَالَ) وَفَى نُسْخَةٍ فَقَالَ: (" لَا ") أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَنْتُمْ (" أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ ") ; لِأَنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي لَهُ كَفَافُ خَيْرٍ مِنَ الْغَنِيِّ لِأَنَّ الْغَنِيَّ يَشْتَغِلُ بِدُنْيَاهُ وَلَا يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ مِثْلَ مَنْ لَهُ كَفَافٌ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ، فَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ عَلَى الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، فَإِنَّ الْغَنِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَةِ وَهُمْ أَقْوِيَاءُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمَا بَالُ غَيْرِهِمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَا زُوِيَتِ الدُّنْيَا عَنْ أَحَدٍ إِلَّا كَانَتْ خَيْرَةً لَهُ» ، أَقُولُ: قَوْلُهُ: عَنْ أَحَدٍ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ الْفَقِيرَ عَذَابُهُ أَخَفُّ مِنَ الْكَافِرِ الْغَنِيِّ فِي النَّارِ، فَإِذَا نَفَعَ الْفَقْرُ الْكَافِرَ فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَكَيْفَ لَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنَ الصَّابِرَ فِي دَارِ الْقَرَارِ؟ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5367 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ، الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5367 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ ") أَيْ: فِي أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ (" عَلَى دِينِهِ ") أَيْ: عَلَى حِفْظِ أَمْرِ دِينِهِ بِتَرْكِ دُنْيَاهُ (" كَالْقَابِضِ ") أَيْ: كَصَبْرِ الْقَابِضِ فِي الشِّدَّةِ وَنِهَايَةِ الْمِحْنَةِ (" عَلَى الْجَمْرِ ") : جَمْعُ الْجَمْرَةِ هِيَ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجُمْلَةُ صِفَةُ " زَمَانٌ "، وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ أَيِ: الصَّابِرُ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّ الرَّابِطَ مَذْكُورٌ فِيهِ بِقَوْلِهِ (فِيهِمْ) كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا، قَالَ: وَالْمَعْنَى كَمَا لَا يَقْدِرُ الْقَابِضُ عَلَى الْجَمْرِ أَنْ يَصْبِرَ بِإِحْرَاقِ يَدِهِ، كَذَلِكَ

الْمُتَدَيِّنُ يَوْمَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى ثَبَاتِهِ عَلَى دِينِهِ لِغَلَبَةِ الْعُصَاةِ وَالْمَعَاصِي، وَانْتِشَارِ الْفِسْقِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: كَمَا لَا يُمْكِنُ الْقَبْضُ عَلَى الْجَمْرَةِ إِلَّا بِصَبْرٍ شَدِيدٍ، وَتَحَمُّلِ غَلَبَةِ الْمَشَقَّةِ، كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يُتَصَوَّرُ حِفْظُ دِينِهِ وَنُورُ إِيمَانِهِ إِلَّا لِصَبْرٍ عَظِيمٍ وَتَعَبٍ جَسِيمٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ يَكُونُ أَقْوَى، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ مَا أَحَدٌ يَصْبِرُ عَلَى قَبْضِ الْجَمْرِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقْبَضُ عَلَى الْجَمْرِ أَيْضًا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَمْرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ، أَوْ إِحْرَاقٍ، أَوْ إِغْرَاقٍ وَنَحْوِهَا ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81] وَقَدْ أَشَارَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي زَمَانِهِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي ... كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبَلَا قَالَ الْجَعْبَرِيُّ: أَيْ: هَذَا الزَّمَانُ زَمَانُ الصَّبْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُنْكِرَ الْمَعْرُوفُ وَعُرِفَ الْمُنْكَرُ وَفَسَدَتِ النِّيَّاتُ، وَظَهَرَتِ الْخِيَانَاتُ، وَأُوذِيَ الْمُحِقُّ، وَأُكْرِمَ الْمُبْطِلُ، فَمَنْ يَسْمَعُ لَك بِالْحَالَةِ الَّتِي لُزُومُهَا فِي الشِّدَّةِ كَالْقَابِضِ عَلَى جَمْرِ النَّارِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: " «ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلٍّ بِرَأْيهِ، فَعَلَيْكَ خَاصَّةُ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» "، انْتَهَى. (" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) . قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: هَذَا الْحَدِيثُ وَقَعَ لَهُ ثُلَاثِيًّا، وَفِي سَنَدِهِ عُمَرُ بْنُ شَاكِرٍ شَيْخُ التِّرْمِذِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، انْتَهَى، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ فِيهِ أَذَلَّ مِنْ شَاتِهِ.

5368 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنِكُمْ، فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ، فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5368 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا كَانَ ") وَلَفْظُ الْجَامِعِ: إِذَا كَانَتْ (أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ) أَيْ: أَتْقِيَاءَكُمْ (وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ) أَيْ: أَسْخِيَاءَكُمْ، وَاحِدَةُ سَمْحٍ، فَكَأَنَّهُ جَمْعُ سَمِيحٍ بِمَعْنَى سَمْحٍ (" وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ ") مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّشَاوُرِ أَيْ: ذَوَاتُ شُورَى عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مُتَشَاوَرٍ فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، وَالْمَعْنَى: مَا دُمْتُمْ مُتَشَاوِرِينَ فِي أُمُورِكُمْ، (فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا) أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّهُمْ عَامِلُونَ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، وَطُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ (وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ) أَيْ: بِالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ (وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ) أَيْ: بِقِلَّةِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ (وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ) أَيْ: مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِهِنَّ، وَالْحَالُ أَنَّهُنَّ مِنْ نَاقِصَاتِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَقَدْ وَرَدَ: شَاوِرُوهُنَّ وَخَالِفُوهُنَّ، وَفِي مَعْنَاهُنَّ كُلُّ مَنْ يَكُونُ فِي مَرْتَبَةِ حَالِهِنَّ مِنَ الرِّجَالِ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ حُبُّ الْجَاهِ وَالْمَالِ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِضَرَرِ الدِّينِ وَوَبَالِ الْمَالِ، (فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا) أَيْ: فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ شَرَّهُ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5369 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا "، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ "، قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: " حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، والْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5369 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ) : وَهُوَ مَوْلَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُوشِكُ الْأُمَمُ) أَيْ: يَقْرُبُ فِرَقُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ (" أَنْ تَدَاعَى ") : حَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ: تَتَدَاعَى (عَلَيْكُمْ) :

بِأَنْ يَدْعُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِمُقَاتَلَتِكُمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِكُمْ وَسَلْبِ مَا مَلَكْتُمُوهُ مِنَ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ (كَمَا تَدَاعَى) أَيْ: تَتَدَاعَى (الْأَكَلَةُ) بِالْمَدِّ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ عَلَى نَعْتِ الْفِئَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، كَذَا رَوَى لَنَا عَنْ كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلَوْ رُوِيَ الْأَكَلَةُ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ آكِلٍ اسْمِ فَاعِلٍ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَالْمَعْنَى: كَمَا يَدْعُو أَكَلَةُ الطَّعَامِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (إِلَى قَصْعَتِهَا) أَيِ: الَّتِي يَتَنَاوَلُونَ مِنْهَا بِلَا مَانِعٍ وَلَا مُنَازِعٍ، فَيَأْكُلُونَهَا عَفْوًا صَفْوًا، كَذَلِكَ يَأْخُذُونَ مَا فِي أَيْدِيكُمْ بِلَا تَعَبٍ يَنَالُهُمْ، أَوْ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُمْ، أَوْ بَأْسٍ يَمْنَعُهُمْ. (فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَقَوْلُهُ: (نَحْنُ يَوْمَئِذٍ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ صِفَةٌ لَهَا، أَيْ: أَذَلِكَ التَّدَاعِي لِأَجْلِ قِلَّةٍ نَحْنُ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ (قَالَ: " بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثْرَةٌ ") أَيْ: عَدَدًا وَقَلِيلٌ مَدَدًا، وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: (" وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ ") بِالضَّمِّ مَمْدُودًا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (" كَغُثَاءِ السَّيْلِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنْ زَبَدٍ وَوَسَخٍ، شَبَّهَهُمْ بِهِ لِقِلَّةِ شَجَاعَتِهِمْ، وَدَنَاءَةِ قَدْرِهِمْ، وَخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ، وَخُلَاصَتُهُ: وَلَكِنَّكُمْ تَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ، ضَعِيفِي الْحَالِ، خَفِيفِي الْبَالِ، مُشَتَّتِي الْآمَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَهُ بِعَطْفِ الْبَيَانِ فَقَالَ: (وَلَيَنْزِعَنَّ) أَيْ: لَيُخْرِجَنَّ (اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ) أَيِ: الْخَوْفَ وَالرُّعْبَ (مِنْكُمْ) أَيْ: مِنْ جِهَتِكُمْ (" وَلَيَقْذِفَنَّ ") بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: وَلَيَرْمِيَنَّ أَيِ: اللَّهُ (" فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ ") أَيِ: الضَّعْفَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَهْنِ مَا يُوجِبُهُ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَكَرَاهَةِ الْمَوْتِ حَيْثُ قَالَ: (قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا الْوَهْنُ) ؟ أَيْ مَا سَبَبُهُ وَمَا مُوجِبُهُ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سُؤَالٌ عَنْ نَوْعِ الْوَهْنِ، أَوْ كَأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْوَهْنُ (قَالَ: " حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ ") وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَكَأَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، يَدْعُوهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ فِي الدِّينِ مِنَ الْعَدُوِّ الْمُبِينِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَقَدِ ابْتُلِينَا بِذَلِكَ، فَكَأَنَّمَا نَحْنُ الْمَيِّتُونَ بِمَا ذُكِرَ هُنَالِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ") .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5370 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: " مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَلَا فَشَا الزِّنَا فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلَا نَقَصَ قَوْمُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا قَطَعَ عَنْهُمُ الرِّزْقَ، وَلَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الدَّمُ، وَلَا خَتَرَ قَوْمٌ بِالْعَهْدِ إِلَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ ". رَوَاهُ مَالِكٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5370 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ: " مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ ") بِالضَّمِّ أَيْ: خِيَانَةُ الْمَغْنَمِ (" فِي قَوْمٍ إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ") بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا أَيْ: خَوْفَ الْعَدُوِّ (" وَلَا فَشَا الزِّنَا ") أَيِ: انْتَشَرَ (" فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ ") أَيْ: بِالْوَبَاءِ أَوِ الطَّاعُونِ أَوْ مَوْتِ الْقَلْبِ أَوْ مَوْتِ الْعُلَمَاءِ (" وَلَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ") أَيْ: وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا كَالذِّرَاعِ وَالْعَدَدِ مِنْ طَرِيقِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ (" إِلَّا قَطَعَ عَنْهُمُ الرِّزْقَ ") أَيِ: الْحَلَالَ أَوْ بَرَكَةَ الرِّزْقِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ (" وَلَا حَكَمَ قَوْمٌ ") أَيْ: مِنَ الْحُكَّامِ (" بِغَيْرِ حَقٍّ ") أَيْ: بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي أَحْكَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ، بَلْ آرَائِهِمُ الْكَاسِدَةِ (" إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الدَّمُ ") أَيِ: الْقَتْلُ، وَالْمُرَادُ مَا يَنْجَرُّ إِلَيْهِ (" وَلَا خَتَرَ ") بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32] أَيْ: غَدَرَ (" قَوْمٌ بِالْعَهْدِ ") أَيْ: يَنْقُضُهُ خَدِيعَةً رَجَاءَ الْغَلَبَةِ (" إِلَّا سُلِّطَ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: بِتَسْلِيطِ اللَّهِ (" عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ ". رَوَاهُ مَالِكٌ) أَيْ: فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الْغُلُولِ مِنَ الْمُوَطَّأِ.

[باب التحذير من الفتن]

[بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ]

[8] بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5371 - عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقَتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلَتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ: رَبِّ! إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا أَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [8] بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوِ الْبَاءُ سَاكِنٌ عَلَى الْوَقْفِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بَابٌ فِي ذِكْرِ الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ، أَيْ: التَّخْوِيفُ وَالتَّذْكِيرُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5371 - (عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ) بِضَمِّ الْمِيمِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَكَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَهُوَ تَمِيمِيٌّ يُعَدُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ) أَيِ: الْمَعْرُوفَةُ أَوْ فِي مَوْعِظَتِهِ (" أَلَا ") بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي ") : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيَانِ " مَا " أَوْ تَبْعِيضِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ خَبَرٌ لِمَا بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَّمَنِي (" يَوْمِي هَذَا ") أَيْ: بِمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِخُصُوصِهِ (كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ) أَيْ: أَعْطَيْتُهُ (عَبْدًا) أَيْ: مِنْ عِبَادِي وَمَلَّكْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَا يَدْخُلُ الْحَرَامُ (حَلَالٌ) أَيْ: فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُحَرِّمَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَهَذَا مِنْ مَقُولِ اللَّهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ) أَيْ: مُسْتَعِدِّينَ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَمَائِلِينَ إِلَيْهِ عَنِ الْبَاطِلِ (كُلَّهُمْ) أَيْ: جَمِيعُهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " وَهِيَ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ، وَمَا بِهِ يَتَعَلَّقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] أَيْ: لَا تُبَدِّلُوا مَخْلُوقَاتِهِ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَنَحْوِهَا: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] أَيِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَا تَعْدِلُوا عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى الطَّرِيقِ الزَّائِغَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] أَيْ: عَنْ طَرِيقِهِ الْحَقِيقِيِّ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ، الْمَقْبُولِ لَدَيْهِ لِمَنْ أَرَادَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ ضَلَالَةِ الْخَلَقِ وَغَوَايَتِهِمْ عَنِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّهُمْ) أَيْ: عِبَادِي الْحُنَفَاءُ (أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ) ، أَيْ جَاءُوهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ (فَاجْتَالَتْهُمْ) أَيْ: صَرَفَتْهُمْ وَسَاقَتْهُمْ مَائِلِينَ (عَنْ دِينِهِمْ) مِنِ اجْتَالَهُ أَيْ سَاقَهُ وَذَهَبَ بِهِ، وَقِيلَ: الِافْتِعَالُ بِهَا لِلْحَمْلِ عَلَى الْفِعْلِ، كَاخْتَطَبَ زَيْدٌ عُمَرَ أَيْ حَمَلَهُ عَلَى الْخُطْبَةِ، فَالْمَعْنَى: حَمَلَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَلَى جَوَلَانِهِمْ وَمَيَلَانِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ (وَحَرَّمَتْ) أَيْ: الشَّيَاطِينُ (عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ) أَيْ: مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَوْضِيحُهُ مَا حَقَّقَهُ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ حِكَايَةُ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْحَى إِلَيْهِ فِي يَوْمِهِ هَذَا، وَالْمَعْنَى: مَا أَعْطَيْتُ عَبْدًا مِنْ مَالٍ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْحَرَامُ رِزْقًا، لِأَنَّ كُلَّ رِزْقٍ سَاقَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عَبْدِهِ نَحَلَهُ وَأَعْطَاهُ، وَكُلُّ مَا نَحَلَهُ وَأَعْطَاهُ فَهُوَ حَلَالٌ، فَيَكُونُ كُلُّ رِزْقٍ رَزَقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ هُوَ حَلَالٌ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِحَلَالٍ لَيْسَ بِرِزْقٍ ; لِأَنَّا نَقُولُ: الرِّزْقُ أَعَمُّ مِنَ الْإِعْطَاءِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ، وَلِذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ أَلْفًا بَانَتْ وَدَخَلَ الْأَلْفُ فِي مِلْكِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الرِّزْقُ، (وَأَمَرَتْهُمْ) أَيِ: الشَّيَاطِينُ لَهُمْ (أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا) أَيْ: إِشْرَاكًا أَوْ شَيْئًا (لَمْ أُنْزِلْ بِهِ) أَيْ: بِوُجُودِهِ (سُلْطَانًا) أَيْ: حُجَّةً وَبُرْهَانًا سُمِّيَتْ بِهِ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى الْقُلُوبِ عِنْدَ هُجُومِ الْخَوَاطِرِ عَلَيْهَا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْمَعْنَى: مَا لَيْسَ عَلَى إِشْرَاكِهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَلَا نَقْلِيٌّ ; إِذْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَبَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،

بَلِ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ حَيْثُ قَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وَالْقُرْآنُ مَشْحُونٌ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مَفْعُولُ يُشْرِكُوا يُرِيدُ بِهِ الْأَصْنَامَ، وَسَائِرَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ: أَمَرَتْهُمْ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ بِعِبَادَةِ مَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِعِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَنْصَبْ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا أَيْ: لَا إِنْزَالَ سُلْطَانٍ وَلَا شَرِيكَ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: عَلَى لَا حُبَّ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ: لَا مَنَارَ وَلَا اهْتِدَاءَ بِهِ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ أَيْ: لَا ضَبَّ وَلَا انْحِجَارَ، نَفْيًا لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَيِ: الْقَيْدُ وَالْمُقَيَّدُ، وَقِيلَ: هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَ بُرْهَانًا أَنْ يُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ، (" وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ") أَيْ: رَآهُمْ وَوَجَدَهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الشِّرْكِ مُنْهَمِكِينَ فِي الضَّلَالَةِ (" فَمَقَتَهُمْ ") أَيْ: أَبْغَضَهُمْ (" عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ") : بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَجَمِ غَيْرُ الْعَرَبِ، وَالْمَعْنَى أَبْغَضُهُمْ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ وَخُبْثِ عَقِيدَتِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ قَبْلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الشِّرْكِ، وَانْغِمَاسِهِمْ فِي الْكُفْرِ، قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَرُوا بِعِيسَى، وَعَبَدُوا عُزَيْرًا، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْمُ عِيسَى ذَهَبُوا إِلَى التَّثْلِيثِ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، (" إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ") أَيْ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَبَرَّأُوا عَنِ الشِّرْكِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِ عِيسَى بَقُوا مُتَابَعَتَهُ إِلَى أَنْ آمَنُوا بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (" وَقَالَ ") أَيِ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ) أَيْ: أَرْسَلْتُكَ يَا مُحَمَّدُ (لِأَبْتَلِيَكَ) أَيْ: لِأَمْتَحِنَكَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى إِيذَاءِ قَوْمِكَ إِيَّاكَ (وَأَبْتَلِيَ بِكَ) أَيْ: قَوْمُكَ هَلْ يُؤْمِنُونَ بِكَ أَمْ يَكْفُرُونَ (وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا) أَيْ: عَظِيمًا، وَهُوَ الْقُرْآنُ (لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ) ، أَيْ: لَمْ نَكْتَفِ بِإِيدَاعِهِ الْكُتُبَ فَيَغْسِلُهُ الْمَاءُ، بَلْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا مَحْفُوظًا فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أَوِ الْمُرَادُ بِالْغَسْلِ النَّسَخُ، وَالْمَاءُ مَثَلٌ، أَيْ: لَا يَنْزِلُ بَعْدَهُ كِتَابٌ يَنْسَخُهُ، وَلَا نَزَلَ قَبْلَهُ كِتَابٌ يُبْطِلُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} [فصلت: 42] . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: كِتَابًا مَحْفُوظًا فِي الْقُلُوبِ لَا يَضْمَحِلُّ بِغَسْلِ الْقَرَاطِيسِ، أَوْ كِتَابًا مُسْتَمِرًّا مُتَدَاوَلًا بَيْنَ النَّاسِ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَبَّرَ عَنْ إِبْطَالِ حُكْمِهِ، وَتَرْكِ قِرَاءَتِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ بِغَسْلِ أَوْرَاقِهِ بِالْمَاءِ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، أَوْ كِتَابًا وَاضِحًا آيَاتُهُ، بَيِّنًا مُعْجِزَاتُهُ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ، وَلَا يَدْحَضُهُ شُبْهَةُ مُنَاظِرٍ، فَمِثْلُ الْإِبْطَالِ مَعْنَى بِالْإِبْطَالِ صُورَةً، وَقِيلَ: كُنِيَ بِهِ عَنْ غَزَارَةِ مَعْنَاهِ وَكَثْرَةِ جَدْوَاهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَالُ فُلَانٍ لَا يُفْنِيهِ الْمَاءُ أَوِ النَّارُ، وَقَوْلُهُ: (" تَقْرَؤُهُ ") أَيْ: أَنْتَ (نَائِمًا وَيَقْظَانَ) بِسُكُونِ الْقَافِ، وَالْمَعْنَى: يَصِيرُ لَكَ مِلْكَةً بِحَيْثُ يَحْضُرُ فِي ذِهْنِكَ وَتَلْتَفِتُ إِلَيْهِ نَفْسُكَ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، فَلَا تَغْفُلُ عَنْهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَادِرِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَاهِرِ بِهِ هُوَ يَفْعَلُهُ بِالْمَاءِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّهُ فِي قَلْبِكَ وَأَنْتَ نَائِمٌ، وَأَقُولُ: لَا احْتِيَاجَ إِلَى التَّأْوِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَلْبِهِ الْجَلِيلِ، لِأَنَّهُ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَقَدْ شُوهِدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ وَهُمْ نَائِمُونَ. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَا حَكَى بَعْضُ الْمُرِيدِينَ أَنَّهُ وَشَيْخَهُ كَانَا يَتَدَارَسَانِ وَقْتَ السَّحَرِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عُشْرًا عُشْرًا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَتَاهُ الْمُرِيدُ وَقْتَ السَّحَرِ عَلَى عَادَتِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ وِرْدَهُ، فَلَمَّا تَمَّ

الْعُشْرَ سَمَعَ مِنَ الْقَبْرِ صَوْتَ شَيْخِهِ أَنَّهُ قَرَأَ عُشْرًا وَسَكَتَ، وَهَكَذَا كَانَ الْأَمْرُ مُسْتَمِرًّا، إِلَى أَنَّهُ حَكَى الْمُرِيدُ الْقَضِيَّةَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَوَقَعَ تَحْتَ حِجَابِهِ وَنَظِيرِهِ سَمَاعُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ صَوْتَ الْأَذَانِ مِنَ الضَّرِيحِ الْأَنْوَرِ أَيَّامَ فِتْنَةِ يَزِيدَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُعَظَّمَةِ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ إِلَّا سَعِيدًا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ شَيْخٌ مَجْنُونٌ، (" وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ ") أَيْ: أَهْلِكَ (" قُرَيْشًا ") أَيْ: كُفَّارَهُمْ (" فَقُلْتُ: رَبِّ ") ! أَيْ: يَا رَبِّ (" إِذًا ") : بِالتَّنْوِينِ (يَثْلَغُوا) بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيْ: يَشْدَخُوا وَيَكْسِرُوا (" رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ ") بِفَتْحِ الدَّالِ، أَيْ: رَأْسِي (" خُبْزَةً ") أَيْ: فَيَتْرُكُوهُ بِالشَّدْخِ بَعْدَ الشَّكْلِ الْكُرَوِيِّ مُصَحَّفًا مِثْلَ خُبْزَةٍ (" قَالَ ") أَيْ: اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْتَخْرِجْهُمْ) أَيْ: قُرَيْشًا، وَالْمُرَادُ كُفَّارُهُمْ (كَمَا أَخْرَجُوكَ) أَيْ: كَإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاكَ جَزَاءً وِفَاقًا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِخْرَاجِينِ بَوْنٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّ إِخْرَاجَهُمْ إِيَّاهُ بِالْبَاطِلِ، وَإِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ بِالْحَقِّ (وَاغْزُهُمْ) أَيْ: وَجَاهِدْهُمْ، فَالْوَاوُ بِمُطْلِقِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ الْقِتَالَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِخْرَاجِ (نُغْزِكَ) بِضَمِّ النُّونِ مِنْ أَغْزَيْتَهُ إِذَا جَهَّزْتَهُ لِلْغَزْوِ وَهَيَّأْتَ لَهُ أَسْبَابَهُ (وَأَنْفِقْ) أَيْ: مَا فِي جُهْدِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ) أَيْ: نُخْلِفُ عَلَيْكَ بَدَلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأَخَرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] وَفِيهِ وَعْدٌ وَتَسْلِيَةٌ (وَابْعَثْ) أَيْ: أَرْسِلْ أَنْتَ (جَيْشًا) أَيْ: كَبِيرًا وَصَغِيرًا (نَبْعَثْ خَمْسَةً) أَيْ: مِقْدَارَ خَمْسَةٍ (مِثْلَهُ) بِالنَّصْبِ، وَالْمَعْنَى: نَبْعَثُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خَمْسَةَ أَمْثَالٍ تُعِينُهُمْ كَمَا فَعَلَ بِبَدْرٍ، قَالَ تَعَالَى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ أَلْفًا وَالْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ (وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ) أَيْ: بِمَعُونَتِهِ أَوْ مَعَهُ (مَنْ عَصَاكَ) أَيْ: بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5372 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: " يَا بَنِي فِهْرٍ! يَا بَنِي عَدِيٍّ! " لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَقَالَ: " أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قَالُوا: نَعَمْ؟ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: " فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ "، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ ! فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] .» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: نَادَى: " «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ: يَا صَبَاحَاهُ!» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5372 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صَعِدَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ جَوَابُ لَمَّا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَعِدَ بِالْفَاءِ فَلَا وَجْهَ لَهُ، أَيْ: طَلَعَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفَا) وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (فَجَعَلَ) أَيْ: فَشَرَعَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي) أَيْ: قَبَائِلَ الْعَرَبِ (يَا بَنِي فِهْرٍ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ: قَبِيلَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (يَا بَنِي عَدِيٍّ) وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَيْضًا، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، فَقَوْلُهُ: (لِبُطُونِ قُرَيْشٍ) فِيهِ إِشْكَالٌ ; إِذِ الْبَطْنُ دُونَ الْقَبِيلَةِ أَوْ دُونَ الْفَخِذِ وَفَوْقَ الْعِمَارَةِ، وَالْقَبِيلَةُ وَاحِدُ قَبَائِلِ الرَّأْسِ لِقَطَعِ الشُّعُوبِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَبَائِلُ الْعَرَبِ وَاحِدُهُمْ قَبِيلَةٌ، وَهُمْ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَبِيلَةَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ، وَالْبَطْنَ بِمَنْزِلَةِ النَّوْعِ، وَالْفَخِذَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اللَّامُ فِيهِ بَيَانٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ قِيلَ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ (حَتَّى اجْتَمَعُوا) أَيْ: مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَبَطْنٍ جُمِعَ (فَقَالَ: " أَرَأَيْتَكُمْ ") بِفَتْحِ التَّاءِ، وَيَجُوزُ تَحْقِيقُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَتَسْهِيلُهَا وَإِبْدَالُهَا وَحَذْفُهَا، وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي، وَتَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلَ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي لَا مَحَلَّ لَهُ وَهُوَ كَالْبَيَانِ لِلْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ الشَّائِعِ فِي الْمُخَاطَبِينَ، فَيَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَالْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ، فَإِذَا أُرِيدَ بَيَانُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بُيِّنَ بِهِ، فَأَتَى فِي الْحَدِيثِ بِعَلَامَةِ الْجَمْعِ بَيَانًا لِلْمُرَادِ، انْتَهَى. فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ فَإِنْ رَأَيْتُمْ فَأَعْلِمُونِي (لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا) أَيْ: جَيْشًا (بِالْوَادِي) أَيْ: نَزَلَ بِهِ، قَالَ شَارِحٌ: وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِقُرْبِ مَكَّةَ، وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْوَادِي الْمَشْهُورُ

بِوَادِي فَاطِمَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ (تُرِيدُ) أَيِ: الْخَيْلُ (أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ) : مِنَ الْإِغَارَةِ، وَهِيَ النَّهْبُ وَالْبَيُّوتَةُ بِالْغَفْلَةِ يَعْنِي أَصْحَابَهَا عَلَى أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، (أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ) ؟ أَيْ مُصَدِّقِينَ لِي فِي قَوْلِي (قَالُوا: نَعَمْ) أَيْ: كُنَّا نُصَدِّقُكَ ; وَسَبَبُهُ أَنَّا فِي جَمِيعِ عُمْرِنَا (مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: ضُمِّنَ جَرَّبَ مَعْنَى الْإِلْقَاءِ وَعَدَّاهُ بِعَلَى أَيْ: مَا أَلْقَيْنَا عَلَيْكَ قَوْلًا مُجَرِّبِينَ لَكَ فِيهِ هَلْ تَكْذِبُ فِيهِ أَمْ لَا، مَا سَمِعْنَاهُ مِنْكَ إِلَّا صِدْقًا (قَالَ: " فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ") أَيْ: قَبْلَ نُزُولِ عَذَابٍ عَظِيمٍ وَعِقَابٍ أَلِيمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي يَنْزِلْ عَلَيْكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ ظَرْفٌ لِغَدٍ نَذِيرٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى قُدَّامَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَكُونُ قُدَّامَ أَحَدٍ يَكُونُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ الْمُسَامَتَتَيْنِ لِيَمِينِهِ وَشَمَالِهِ، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ، مِثْلَ إِنْذَارِهِ الْقَوْمَ بِعَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى النَّازِلِ عَلَى الْقَوْمِ بِنَذِيرِ قَوْمٍ يَتَقَدَّمُ جَيْشَ الْعَدُوِّ فَيُنْذِرُهُمْ، (فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ) : مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (تَبًّا لَكَ) أَيْ: خُسْرَانًا وَهَلَاكًا، وَنَصْبُهُ بِعَامِلٍ مُضْمِرٍ، قَالَهُ الْقَاضِي، فَهُوَ إِمَّا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى: تَبَّ تَبًّا، أَوْ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: أَلْزَمَكَ اللَّهُ هَلَاكًا وَخُسْرَانًا وَأَلْزَمَ تَبًّا لَكَ (سَائِرَ الْيَوْمَ) أَيْ: وَبَاقِي الْأَوْقَاتِ أَوْ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ ذَهَبَ فِي " سَائِرِ " إِلَى الْبَقِيَّةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ ; لِأَنَّ الْحَرْفَ مِنَ السَّيْرِ لَا مِنَ السُّورِ، وَفِي أَمْثَالِهِمْ فِي الْيَأْسِ مِنَ الْحَاجَةِ: أَسَائِرٌ الْيَوْمَ وَقَدْ زَالَ الظَّهْرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: السَّائِرُ مَهْمُوزٌ: الْبَاقِي، وَالنَّاسُ يَسْتَعْمِلُونَ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنَى بَاقِي الشَّيْءِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَصْحِيحِ مَا فِي النِّهَايَةِ مَا فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي بَابِ السِّينِ مَعَ الْهَمْزَةِ قَائِلًا: سَارَ الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ سُورًا وَسُورَةً أَيْ: بَقِيَّةً، وَفَى الْمَثَلِ: أَسَائِرٌ الْيَوْمَ، وَقَدْ زَالَ الظَّهْرُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، فَعَلَى هَذَا: الْمُرَادُ بِسَائِرِ الْيَوْمِ بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فِي الْقَامُوسِ: السُّؤْرُ الْبَقِيَّةُ وَالْفَضْلَةُ، وَأَسْأَرَ أَبْقَاهُ كَسَأْرٍ كَمَنْعٍ وَالْفَاعِلُ فِيهَا سَائِرٌ وَالْقِيَاسُ مُسْئِرٌ، وَيَجُوزُ وَالسَّائِرُ الْبَاقِي لَا الْجَمِيعُ كَمَا تَوَهَّمَ جَمَاعَاتٌ، أَوْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَحْوَصِ: فَجَلَّتْهَا لَنَا لُبَابَةُ لَمَّا وَفَدَ الْقَوْمُ سَائِرَ وَضَافَ أَعْرَابِيُّ قَوْمًا فَأَمَرُوا الْجَارِيَةَ بِتَطْيِيبِهِ، فَقَالَ: بَطْنِي عَطِّرِي وَسَائِرِي ذَرِي. وَأُغِيرَ عَلَى قَوْمٍ فَاسْتَصْرَخُوا بَنِي عَمِّهِمْ فَأَبْطَأُوا عَنْهُمْ حَتَّى أُسِرُوا، وَذُهِبَ بِهِمْ، ثُمَّ جَاءُوا يَسْأَلُونَ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُمُ الْمَسْئُولُ: أَسَائِرٌ الْيَوْمَ وَقَدْ زَالَ الظَّهْرُ، أَيْ: تَطْمَعُونَ فِيمَا بَعْدَ وَقَدْ تَبَيِّنَ لَكُمُ الْيَأْسُ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ الْيَوْمَ بِأَسْرِهِ وَزَالَ الظَّهْرُ وَجَبَ أَنْ يَيْأَسَ مِنْهَا بِالْغُرُوبِ، (أَلِهَذَا) أَيْ: هَذَا الِاسْتِخْبَارُ وَالْإِخْبَارُ (جَمَعْتَنَا) ؟ أَيْ بِالْمُنَادَاةِ (فَنَزَلَتْ: تَبَتْ أَيْ هَلَكَتْ وَخَسِرَتْ {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: نَفْسُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] أَيْ: بِأَنْفُسِكُمْ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمَا دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا خُصَّتَا لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا؟ أَخَذَ حَجَرًا لِيَرْمِيَهُ بِهِ فَنَزَلَتْ، إِنَّمَا كَنَّاهُ وَالْكُنْيَةُ تَكْرِمَةٌ لِاشْتِهَارِهِ بِكُنْيَتِهِ ; أَوْ لِأَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْعُزَّى فَاسْتَكْرَهَ ذِكْرَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَانَتِ الْكُنْيَةُ أَوْفَقَ بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَ كُنِّيَ لِكَمَالِ جَمَالِهِ، وَقُرِئَ أَبُو لَهَبٍ كَمَا قِيلَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَصَرَ عَلَى الْوَاوِ فِي الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ، كَمَا قَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْأَلْفِ فِيهَا كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا، وَتَبَّ: إِخْبَارٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّعْبِيرِ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، أَوِ الْأَوَّلُ دُعَاءٌ وَالثَّانِي إِخْبَارٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(وَفَّى رِوَايَةٍ) قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ (نَادَى: " يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ") هُوَ أَخُو هَاشِمٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ وَالْمُطَّلِبِ، وَمَنَافٌ صَنَمٌ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، (إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ) أَيْ: بِعَيْنِهِ (فَانْطَلَقَ) أَيْ: ذَهَبَ مُسْرِعًا (" يَرْبَأُ ") بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْهَمْزَةِ أَيْ: يَحْفَظُ مِنَ الْعَدْوِ (" أَهْلَهُ ") أَيْ: قَوْمَهُ، وَيَرْقُبُهُمْ بِقِتَالِهِمْ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ. (" فَخَشِيَ ") أَيْ: الرَّجُلُ (" أَنْ يَسْبِقُوهُ ") أَيْ: يَسْبِقُ الْعَدُوُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَصِلُوا إِلَى الْقَوْمِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ (" فَجَعَلَ ") أَيْ: فَشَرَعَ (يَهْتِفُ) بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ: يَصِيحُ وَيُنَادِي مِنْ أَعْلَى جَبَلٍ، وَرُبَّمَا يَجْعَلُ ثَوْبَهُ عَلَى يَدِهِ، أَوْ عَلَى خَشَبٍ يَرْفَعُهُ لِزِيَادَةِ الْإِعْلَامِ، وَمِنْهُ النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ خُلُوِّهِ مِنَ الْعَرْضِ، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أُخِذَ وَسُلِبَ عَنْهُ ثَوْبُهُ وَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ كُلُّ أَحَدٍ يُصَدِّقُهُ فِي قَوْلِهِ: (" يَا صَبَاحَاهْ ") بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْغَارَةُ غَالِبًا تَكُونُ فِي الصَّبَاحِ خُصَّتْ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَسَاءِ أَيْضًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، فَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِإِنْذَارِ أَمْرٍ مَخُوفٍ، وَالْمَعْنَى: يَا قَوْمِ احْذَرُوا الْإِغَارَةَ بِالذَّهَابِ قَبْلَ مَجِيءِ الْعَدُوِّ، فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: احْذَرُوا عِقَابَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ نُزُولِهِ.

5373 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: " يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ! أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ! لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ". الْفَصْلُ الثَّانِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 5373 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا) أَيْ قَبَائِلَهُ (فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّدَاءِ بِمَا ذَكَرَهُ (وَخَصَّ) ، ثُمَّ بَيَّنَ الرَّاوِي كَيْفِيَّةَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ بِقَوْلِهِ: (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ!) بِضَمِّ لَامٍ وَفَتْحِ هَمْزَةٍ، وَقَدْ يُبَدَّلُ وَاوًا فَتَحْتِيَّةً مُشَدَّدَةً، وَهُوَ ابْنُ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ (أَنْقِذُوا) بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَكَسْرِ قَافٍ أَيْ: خَلِّصُوا (" أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ ") بِضَمِّ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ أَيْ: أَبُو قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (" «أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلَبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ! أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ» ") خَتَمَ بِهَا ; لِأَنَّهَا خُلَاصَةُ قَوْمِهَا، ثُمَّ عَمَّ فِي تَبْرِيءِ إِنْقَاذِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ النَّارِ بِغَيْرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ) أَيْ: لِجَمِيعِكُمْ عَامِّكُمْ وَخَاصِّكُمْ (" مِنَ اللَّهِ ") أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ (" شَيْئًا ") أَيْ: مِنَ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ وَالدَّفْعِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمَعْنَى أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أَدْفَعَ عَنْكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَكُمْ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11] بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] وَهَذَا التَّوْحِيدُ عَلَى وِفْقِ التَّفْرِيدِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ بِالشَّفَاعَةِ حَيْثُ يَشْفَعُ وَيُشَفَّعُ، لَكِنْ أَطْلَقَهُ تَرْهِيبًا لَهُمْ عَلَى الِاتِّكَالِ عَلَيْهِ وَتَرْغِيبًا لَهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ زَادَ الْمَعَادَ، وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا ") أَيْ: قَرَابَةً (" سَأَبُلُّهَا ") بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ، أَيْ: سَأَصِلُهَا (" بِبِلَالِهَا ") بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُفْتَحُ، أَيْ: بِصِلَتِهَا وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا،

وَمُجْمَلُهُ أَنْ سَأَصِلُ تِلْكَ الْقَرَابَةَ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْأَقَارِبِ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَدَفْعِ الظُّلْمِ وَالضُّرِّ عَنْهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْبِلَالُ جَمْعُ بَلَلٍ، وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ النَّدَاوَةَ عَلَى الصِّلَةِ، كَمَا يُطْلَقُ الْيُبْسُ عَلَى الْقِطْعَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يَتَّصِلُ بِالنَّدَاوَةِ، وَيَحْصُلُ بَيْنَهَا التَّجَافِي وَالتَّفَرُّقُ بِالْيُبْسِ اسْتَعَارُوا الْبَلَلَ لِمَعْنَى الْوَصْلِ، وَالْيُبْسَ لِمَعْنَى الْقِطْعَةِ، وَالْمَعْنَى: أَصِلُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَفَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ) : هَذَا مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ) ، أَيِ اعْتِقُوهَا وَخَلِّصُوهَا مِنَ النَّارِ بِالْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْكُفْرَانِ وَبِالطَّاعَةِ لِمَا جِئْتُ بِهِ وَالِانْقِيَادِ لِمَا مَنَعْتُ مِنْهُ (لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أَيْ: لَا أُبْعِدُ مِنْكُمْ وَلَا أَدْفَعُ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ: لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ") بِالنَّصْبِ فِيهِمَا، وَفَى نُسْخَةٍ بِرَفْعِ عَبَّاسٍ (" لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ ") بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلُهُ مِنْ أَلْفَاظِ النِّدَاءِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ، وَصْفِيَّةُ مَرْفُوعَةٌ، وَقَوْلُهُ: (" عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ") مَنْصُوبَةٌ (" لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ") وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي) كَذَا فِي نُسَخٍ مِنْ مَوْصُولَةٌ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَرَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَالِ الْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِهِ عَمَّا يَمْلِكُهُ مِنَ الْأَمْرِ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ لَا سِيَّمَا بِمَكَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْكَلِمَتَيْنِ أَعْنِي (مِنْ وَمَا) وَقَعَ الْفَصْلُ فِيهِمَا مِنْ بَعْضِ مَنْ لَمْ يُحَقِّقْهُ مِنَ الرُّوَاةِ فَكَتَبَهُمَا مُنْفَصِلَتَيْنِ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أَيْ بِمَالِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَأَيْضًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ الْمَالِ الْحَاضِرِ لِلْجَوَادِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَيُحْمَلُ الْوَعْدُ الْمَذْكُورُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ لِتَصْحِيحِ الدِّرَايَةِ تَعَيَّنَ عَدَمُ التَّخْطِئَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، (" لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ") .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5374 - عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5374 - (عَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمَّتِي هَذِهِ ") أَيْ: أُمَّةُ الْإِجَابَةِ الْمَوْجُودَةُ ذِهْنًا الْمَعْهُودَةُ مَعْنًى، كَأَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ حِسًّا (أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ) أَيْ: رَحْمَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ ; لِكَوْنِ نَبِيِّهِمْ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بَلْ مُسَمًّى بِنَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ (لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ) أَيْ: شَدِيدٌ (فِي الْآخِرَةِ) بَلْ غَالِبُ عَذَابِهِمْ أَنَّهُمْ مَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالْمِحَنِ، وَالْأَمْرَاضِ، وَأَنْوَاعِ الْبَلَايَا، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ: (عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ) أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقِيلَ: الْحَدِيثُ خَاصٌّ بِجَمَاعَةٍ لَمْ تَأْتِ كَبِيرَةً، وَيُمْكِنْ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى جَمَاعَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ الْأُمَّةِ، وَهُمُ الْمُشَاهَدُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوِ الْمَشِيئَةُ مُقَدَّرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا حَدِيثٌ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنْ لَا يُعَذَّبَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ فِيهِ مَنِ ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ وَغَيْرُهُ، فَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَعْذِيبِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا مَنِ اقْتَدَى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَنْبَغِي، وَيَمْتَثِلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَاهُ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي مَدْحِ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتِصَاصِهِمْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحِمَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أُصِيبُوا بِمُصِيبَةٍ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى الشَّوْكَةُ يَشَاكُهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يُكَفِّرُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ ذَنْبًا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ ذِكْرُ هَذِهِ وَتَعْقِيبُهَا بِقَوْلِهِ (مَرْحُومَةٌ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةِ تَمْيِيزِهِمْ بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحِمَتِهِ، وَالذَّهَابُ إِلَى الْمَفْهُومِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] ، إِلَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنْ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ أَنَّ رَحْمَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا هِيَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي أَنَّ جَمَاعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ إِمَّا بِالشَّفَاعَةِ، وَإِمَّا بِعَفْوِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ، وَهَذَا مَنْطُوقُ الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَمَبْنَاهِ، وَلَيْسَ بِمَفْهُومِهِ الْمُتَعَارَفِ الْمُخْتَلِفِ فِي اعْتِبَارِهِ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ: أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ مَهْجُورٌ، بَلِ الْمُرَادُ بِمَفْهُومِهِ فِي كَلَامِ الْمُظْهِرِ الْمَعْلُومِ فِي الْعِبَارَةِ، ثُمَّ قَوْلِ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ وَهِيَ كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ بِالْبَلِيَّةِ لِسَائِرِ الْأُمَمِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُثْبِتٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا فُهِمَ مِنَ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ، إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّقْيِيدِ بِكَوْنِ وُقُوعِ عَذَابِهَا بِهَا غَالِبًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ. وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ، إِنَّمَا عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ، وَالزَّلَازِلُ، وَالْقَتْلُ، وَالْبَلَايَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبِيهَقِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ أَنَسٍ: «أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ مَغْفُورٌ لَهَا مُتَابٌ عَلَيْهَا» ، أَيْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَلَا يَتْرُكُهَا مُصِرَّةً عَلَى الذُّنُوبِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خَوَاصُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5375 - 5376 - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بَدَأَ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ مُلْكًا عَضُوضًا، ثُمَّ كَائِنٌ جَبْرِيَّةً وَعُتُوًّا وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ، يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْفُرُوجَ وَالْخُمُورَ، يُرْزَقُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُنْصَرُونَ، حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5375 - 5376 - (وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ ") أَيْ: مَا بُعِثَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّاسِ دِينًا وَدُنْيَا وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ (" بَدَأَ ") بِالْأَلْفِ أَيْ: ظَهَرَ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْهَمْزَةِ أَيْ: ابْتَدَأَ أَوَّلُ أَمْرِ الدِّينِ إِلَى آخِرِ زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَانِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَالرَّحْمَةِ (نُبُوَّةً وَرَحْمَةً) نَصْبُهَا عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْحَالِ أَيْ: ذَا نُبُوَّةٍ وَرَحْمَةٍ كَامِلَةٍ، مِنْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ عَلَى الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ (ثُمَّ يَكُونُ) أَيْ: أَمْرُ الدِّينِ (" خِلَافَةً ") أَيْ: نِيَابَةً عَنْ حَضْرَةِ النُّبُوَّةِ (وَرَحْمَةً) أَيْ: شَفَقَةً عَلَى الْأُمَّةِ بِطَرِيقِ كَمَالِ الْوِلَايَةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَانْقَضَتْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَيَّامَ الْحَسَنِ، فَلَيْسَ لِمُعَاوِيَةَ نَصِيبٌ فِي الْخِلَافَةِ خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَهُ، (" ثُمَّ مُلْكًا عَضُوضًا ") بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَعُولٌ لِلْمُبَالِغَةِ، مِنَ الْعَضِّ بِالسِّنِّ أَيْ: يُصِيبُ الرَّعِيَّةَ فِيهِ ظُلْمٌ يُعَضُّونَ فِيهِ عَضَّا، وَرَوَى بِضَمِّ الْعَيْنِ جَمْعِ عَضٍّ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْخَبِيثُ الشِّرِّيرُ أَيْ: يَكُونُ مُلُوكًا يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَيُؤْذُونَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ إِذِ النَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، فَلَا يُشَكُّ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ عَادِلًا حَتَّى سُمِّيَ عُمَرَ الثَّانِي، وَقَضَايَاهُ مَشْهُورَةٌ وَمَنَاقِبُهُ مَسْطُورَةٌ، (" ثُمَّ كَائِنَ ") أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ أَوْ ثُمَّ هَذَا الْأَمْرُ كَائِنٌ (" جَبْرِيَّةً ") بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ عَلَى النَّصْبِ أَيْ: قَهْرًا وَغَلَبَةً (وَعُتُوًّا) بِضَمَّتَيْنِ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: تَكَبُّرًا (" وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ ") ، أَيْ فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْعِظَامِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ فِي الْكَلَامِ هُوَ الِاسْتِمْرَارُ وَالدَّوَامُ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، حَيْثُ اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ بِطَرِيقِ التَّسَلُّطِ وَالْغَلَبَةِ، مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ الْإِمَامَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي زِيَادَةِ الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي عَلَى الرَّعَايَا، وَالتَّحَكُّمِ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبَلَايَا وَأَصْنَافِ الرَّزَايَا ثَانِيًا، ثُمَّ فِي إِعْطَاءِ الْمَنَاصِبِ لِغَيْرِ أَرْبَابِهَا الْمُسْتَحِقِّ لَهَا، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْعُلَمَاءِ

الْعَامِلِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِينَ ثَالِثًا، ثُمَّ غَالِبُ سَلَاطِينِ زَمَانِنَا تَرَكُوا الْقِتَالَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى مُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَخْذِ الْبِلَادِ وَإِعْطَاءِ الْفَسَادِ ; وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَنْ قَالَ سُلْطَانُ زَمَانِنَا عَادَلٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَا أَقْبَحَ مَا صَدَرَ مِنْ بَعْضِ خَوَانِينِ الْأَزْبَكِ فِي زَمَانِنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَتْلِ الْعَامِّ فِي بَلَدٍ عَظِيمٍ مِنْ بُلْدَانِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَشَايِخِ الْكِرَامِ، وَالسَّادَاتِ الْعِظَامِ، وَعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالنِّسَاءِ، وَالضُّعَفَاءِ، وَالْأَطْفَالِ، وَسَائِرِ الْمَرْضَى وَالْعُمْيَانِ، وَالْأَهْلِ وَالْعِيَالِ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً، وَصُنُوفًا مُؤْتَلِفَةً، وَالْحَالُ أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ وَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَمُدَّعِي السَّلْطَنَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلَى تَعْظِيمِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ فَتَحُوا قَلْعَةً مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَيُوجَدُ فِيهِمْ أُلُوفٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، لَكِنْ فِيهِمْ ذِمِّيٌّ وَاحِدٌ مَجْهُولُ الْعَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْعَامِّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، أَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، هَذَا وَقَدْ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِمَّا لَمْ يُمْكِنْ ذِكْرُهُ، وَمِمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِكْرُهُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ، وَكُلُّ عَامٍ بَلْ كُلُّ يَوْمٍ بَلْ كُلُّ سَاعَةٍ شَرٌّ مِمَّا قَبْلَهُ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْفُرُوجَ وَالْخُمُورَ) أَيْ بِأَنْوَاعِهَا كَمَا سَبَقَ، (يُرْزَقُونَ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَيُرْزَقُونَ، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ، (عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِحْلَالِ وَسَائِرِ قَبَائِحِ الْأَفْعَالِ، (وَيُنْصَرُونَ) أَيْ: عَلَى مَقَاصِدِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ لِحِكْمَةٍ عَجَزَتْ عَنْ إِدْرَاكِهَا أَرْبَابُ الْكَمَالِ (" حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ ") . إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] . (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") . قُلْتُ: وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَهُ فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.

5377 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُكْفَأُ " - قَالَ زَيْدُ بْنُ يَحْيَى الرَّاوِيُّ: يَعْنِي الْإِسْلَامَ - " كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ " يَعْنِي الْخَمْرَ، قِيلَ: فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا مَا بَيَّنَ؟ قَالَ: " يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا فَيَسْتَحِلُّونَهَا» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5377 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُكْفَأُ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَهْمُوزًا مِنْ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ أَيْ: قَلَبَتُهُ وَأَمَلْتُهُ وَكَبَيْتُهُ ; لِإِفْرَاغِ مَا فِيهِ، قِيلَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَحَدَّثُ فِي الْخَمْرِ ; فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِهِ: إِنَّ أَوَّلَ إِلَى آخِرِهِ، فَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيِ: الْخَمْرُ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ نَقْلِ الْمُؤَلِّفِ (- قَالَ زَيْدُ بْنُ يَحْيَى الرَّاوِيُّ) أَيْ: أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (يَعْنِي الْإِسْلَامَ -) : فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ تَقْدِيرُ الْخَبَرِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: أَوَّلُ مَا يَتَغَيَّرُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ الْمُتَعَلِّقُ بِارْتِكَابِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَمَّاتِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ) أَيْ: مَا فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّاوِيُّ: (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: الْإِنَاءُ (الْخَمْرُ)

إِمَّا عَلَى مَجَازِ الْحَذْفِ أَيْ مَظْرُوفِ الْإِنَاءِ، وَإِمَّا عَلَى ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، لَكِنْ يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ: (قِيلَ: فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ!) أَيْ: يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى: فَكَيْفَ الْحَالُ فِي انْقِلَابِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتِبْيَانِ الْحَلَالِ فِي الْحَرَامِ (وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا) أَيْ: فِي الْخَمْرِ مَثَلًا (مَا بَيَّنَ؟) أَيْ: مِنْ تَحْرِيمِهَا، (قَالَ: " يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا ") أَيْ: يُسَمُّونَهَا بَاسِمِ النَّبِيذِ وَالْمُثَلَّثِ (فَيَسْتَحِلُّونَهَا) أَيْ: حَقِيقَةً ; فَيَصِيرُونَ كَفَرَةً، أَوْ فَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ شَيْئًا حَلَالًا ; فَيَكُونُونَ فَسَقَةً مَكَرَةً، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: يَعْنِي أَنَّهُمْ يَسْتَتِرُونَ بِمَا أُبِيحَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْبِذَةِ ; فَيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى اسْتِحْلَالِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ حَلِّ الْمَرَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: خَبَرُ أَنَّ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْخَمْرُ، وَالْكَافُ فِي كَمَا يُكْفَأُ: صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، يَعْنَى: أَوَّلُ مَا يُكْفَأُ مِنَ الْإِسْلَامِ إِكْفَاءٌ مِثْلُ إِكْفَاءِ مَا فِي الْإِنَاءِ، انْتَهَى. وَأَفَادَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: مِنَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ مِنْ تَبْعِيضِيةٌ سَاقِطَةٌ مِنَ الْكَلَامِ أَيْ: مِنْ أَحْكَامِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُكْفَأُ: يُقْلَبُ وَيُمَالُ، وَيُقَالُ كَفَأْتُ الْقِدْرَ إِذَا قَلَبْتُهَا لِيَنْصَبَّ عَنْهَا مَا فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الشُّرْبُ هَاهُنَا، فَإِنَّ الشَّارِبَ يَكْفَأُ الْقَدَحَ عِنْدَ الشُّرْبِ، وَقَوْلُ الرَّاوِي: يَعْنِي الْإِسْلَامَ يُرِيدُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَسَقَطَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَوَّلَ مَا يُشْرَبُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَيُجْتَرَأُ عَلَى شُرْبِهِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يُشْرَبُ الْمَاءُ وَيُجْتَرَأُ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، وَيُؤَوِّلُونَ فِي تَحْلِيلِهَا بِأَنْ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا: كَالنَّبِيذِ وَالْمُثَلَّثِ، انْتَهَى ; فَيُفِيدُ أَنَّ النَّبِيذَ وَالْمُثَلَّثَ حَلَالَانِ، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ اسْمِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، كَمَا يُسَمَّى الزِّنْجِيُّ بِالْكَافُورِ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُ مَنْ تَوَهَّمَ حُرْمَةَ الْقَهْوَةِ الْمُحْدَثَةِ بِأَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، وَلَا بِأَنَّهَا تُشْرَبُ عَلَى هَيْئَةِ أَهْلِ الشُّرْبِ ; لِأَنَّا نَقُولُ: لَا خُصُوصِيَّةَ حِينَئِذٍ بِالْقَهْوَةِ، فَإِنَّ اللَّبَنَ وَالْمَاءَ وَمَاءَ الْوَرْدِ كَذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ الْمُتَعَارَفَ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَغَيْرِهَا لَيْسَ عَلَى مِنْوَالِ شُرْبِ الْفَسَقَةِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الزَّبَادِيَّ الْمُتَعَدِّدَةَ وَشُرْبَ جَمَاعَةٍ فِي حَالَةٍ مُتَّحِدَةٍ ; وَبِهَذَا تَزُولُ الْمُشَابَهَةُ وَتَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهَا مَا نَصَّ اللَّهُ فِي كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهَا دَلِيلٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَوِ الْقِيَاسِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ الضِّيَاءِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا: " «لَتَسْتَحِلَّنَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إِيَّاهُ» ".

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5378 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ "، ثُمَّ سَكَتَ» ، قَالَ حَبِيبٌ: فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ، وَقُلْتُ: أَرْجُو أَنْ تَكُونَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ، فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ، يَعْنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5378 - (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) : لَهُ وَلِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ، (عَنْ حُذَيْفَةَ) أَيْ: صَاحِبُ أَسْرَارِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَكُونُ النُّبُوَّةُ ") : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ " تَكُونُ " تَامَّةٌ أَيْ

تُوجَدُ وَتَقَعُ (" فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ ") بِالرَّفْعِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ " تَكُونُ " نَاقِصَةٌ وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَنْقَلِبُ النُّبُوَّةُ خِلَافَةً، أَوْ تَكُونُ الْحُكُومَةُ أَوِ الْإِمَارَةُ خِلَافَةً، أَيْ: بِنِيَابَةٍ حَقِيقِيَّةٍ (" عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ") أَيْ: طَرِيقَتُهَا الصُّورِيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ) أَيِ: الْخِلَافَةُ وَهِيَ ثَلَاثُونَ سَنَةً عَلَى مَا وَرَدَ. (ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا) أَيْ: يَعَضُّ بَعْضُ أَهْلِهِ بَعْضًا، كَعَضِّ الْكِلَابِ (" فَيَكُونُ ") أَيِ: الْمُلْكُ، أَيِ: الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ: تِلْكَ الْحَالَةَ (ثُمَّ تَكُونُ) أَيِ: الْحُكُومَةُ (مُلْكًا جَبْرِيَّةً) أَيْ: جَبْرُوتِيةٌ وَسُلْطَةٌ عَظَمُوتِيةٌ (فَيَكُونُ) أَيِ: الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ (" مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى) أَيِ: الْجَبْرِيَّةَ، (" ثُمَّ تَكُونُ ") أَيْ: تَنْقَلِبُ وَتَصِيرُ (" خِلَافَةً ") وَفَى نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، أَيْ: تَقَعُ وَتَحْدُثُ خِلَافَةٌ كَامِلَةٌ (" عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ") أَيْ: مِنْ كَمَالِ عَدَالَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا: زَمَنُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمَهْدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (ثُمَّ سَكَتَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (قَالَ حَبِيبٌ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ، مَوْلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَكَاتِبُهُ، رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ وَغَيْرِهِ، (فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَيْ: بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ، (كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَعْنَى: الْمَوْعِظَةُ (وَقُلْتُ: أَرْجُو أَنْ تَكُونَ) أَيْ: أَنْتَ أَوِ الْخَلِيفَةُ (أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْغَيْبَةِ، أَيْ: يَكُونُ الْمَوْعُودُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ " خَبَرُ يَكُونُ، وَقَوْلُهُ: (بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ) : ظَرْفٌ لِلْخَبَرِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَاكِمِ الْعَادِلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: 3] أَيْ: مَعْبُودٌ فِيهَا. قُلْتُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّذْكِيرِ فِي يَكُونُ، وَبِالرَّفْعِ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْدَ الْمُلْكِ ظَرْفًا وَاقِعًا خَبَرًا لِيَكُونَ، (فَسُرَّ) بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: فَرِحَ (بِهِ) أَيْ: بِهَذَا الْحَدِيثِ ; رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّهِ، (وَأَعْجَبَهُ) : عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ الْقَائِلُ بِالضَّمِيرَيْنِ (عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ") . وَفِي الْجَامِعِ: يَكُونُ أُمَرَاءُ يَقُولُونَ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، يَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ، يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا: ( «يَكُونُ لِأَصْحَابِي زَلَّةٌ يَغْفِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِسَابِقَتِهِمْ مَعِي» ) .

[كتاب الفتن]

[كِتَابُ الْفِتَنِ]

[26] كِتَابُ الْفِتَنِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5379 - عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامًا، مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ، قَدْ نَسِيتُهُ، فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [26] كِتَابُ الْفِتَنِ الْفِتَنُ: جَمْعُ الْفِتْنَةِ، وَهِيَ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ بِالْبَلِيَّةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5379 - (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَامَ) أَيْ: خَطِيبًا أَوْ وَاعِظًا (فِينَا) أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا، أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَعِظَنَا وَيُخْبِرَنَا بِمَا سَيَظْهَرُ مِنَ الْفِتَنِ ; لِنَكُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا فِي كُلِّ الزَّمَنِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامًا) : إِمَّا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ، وَقِيلَ: اسْمُ زَمَانٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: (مَا تَرَكَ شَيْئًا) إِلَخْ: صِفَةٌ، وَقَوْلُهُ (يَكُونُ) بِمَعْنَى: يُوجَدُ صِفَةُ " شَيْئًا "، وَقَوْلُهُ: (فِي مَقَامِهِ) : مُتَعَلِّقٌ بِتَرَكَ، وَوُضِعَ " مَقَامِهِ " مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمَوْصُوفِ، وَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ) : صِفَةُ " مَقَامِهِ "، إِشَارَةٌ إِلَى زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ: (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) : غَايَةٌ لِيَكُونَ، وَالْمَعْنَى: قَامَ مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَحْدُثُ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْفِتَنِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ (إِلَّا حَدَّثَ بِهِ) أَيْ: بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْكَائِنِ (حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ) ، أَيِ: الْمُحَدَّثُ بِهِ (وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ) أَيْ: هَذَا الْقِيَامَ، أَوْ هَذَا الْكَلَامَ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ (أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ) ، أَيِ: الْمَوْجُودُونَ فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ مُفَصَّلًا لَمَّا وَقَعَ لَهُمْ بَعْضُ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ، وَأَنَا الْآخَرُ مِمَّنْ نَسِيَ بَعْضَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِقَوْلِهِ شَيْئًا (لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ) صِفَةُ الشَّيْءِ، وَاللَّامُ فِيهِ زَائِدَةٌ، وَاللَّامُ فِي " لَيَكُونُ " مَفْتُوحَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ، وَالْمَعْنَى: لَيَقَعُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَسِيتُهُ، (فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ) أَيْ: فَإِذَا عَايَنْتُهُ تَذَكَّرْتُ مَا نَسِيتُهُ، وَالْعُدُولُ مِنَ الْمُضِيِّ إِلَى الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حِكَايَةِ الْحَالِ، ثُمَّ شَبَّهَ الْمَوْصُوفَ بِالْمُعَايَنِ، فَقَالَ: (كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ) ، أَيْ: ثُمَّ يَنْسَاهُ (ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5380 - وَعَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نَكَتَتْ فِيهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ لَهُ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى يَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مِرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجْخِيًّا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5380 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " تُعْرَضُ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُوضَعُ وَتُبْسَطُ (" الْفِتَنُ ") أَيِ: الْبَلَايَا وَالْمِحَنُ، وَقِيلَ: الْعَقَائِدُ الْفَاسِدَةُ وَالْأَهْوَاءُ الْكَاسِدَةُ (" عَلَى الْقُلُوبِ ") ، وَقِيلَ: تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَيْ يَظْهَرُ لَهَا وَيَعْرِفُ مَا يَقْبَلُ مِنْهَا وَمَا يَأْبَاهُ وَيَنْفِرُ مِنْهَا، مِنْ عَرْضِ الْعُودِ عَلَى الْإِنَاءِ إِذَا وَضَعَهُ عَلَيْهِ بِعَرْضِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ عَرْضِ الْجُنْدِ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ لِإِظْهَارِهِمْ وَاخْتِبَارِ أَحْوَالِهِمْ (" كَالْحَصِيرِ ") أَيْ: كَمَا يُبْسَطُ الْحَصِيرُ (عُودًا عُودًا) بِضَمِّ عَيْنٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْحَالِ أَيْ: يُنْسَجُ الْحَصِيرُ حَالَ كَوْنِهِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ رُوِيَ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا نَرْوِيهِ عَنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ عُودٌ عُودٌ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ بِالنَّصْبِ، انْتَهَى. فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، أَوِ التَّقْدِيرُ يُنْسَجُ عُودٌ عُودٌ، فَهُوَ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَوْذًا عَوْذًا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ عَوْذًا بَعْدَ عَوْذٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا: ضَمُّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالثَّانِي: فَتْحُ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا، وَالثَّالِثُ: فَتْحُ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَى تُعْرَضُ، أَيْ: تُلْصَقُ بِعَرْضِ الْقُلُوبِ، أَيْ: جَانِبِهَا، كَمَا تُلْصَقُ الْحَصِيرُ بِجَنْبِ النَّائِمِ وَتُؤَثِّرُ فِيهِ بِشِدَّةِ الْتِصَاقِهَا، وَمَعْنَى عُودًا عُودًا،

أَيْ: يُعَادُ وَيُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: غُفْرًا غُفْرًا أَيْ: نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ بِهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى، كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَطِّيَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَعَلَى هَذَا تَتَوَجَّهُ رِوَايَةُ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ، فَشُبِّهَ عَرْضُ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، يُقَالُ: أُشْرِبَ فِي قَلْبِهِ حُبَّهُ أَيْ: خَالَطَهُ، فَالْمَعْنَى: خَالَطَ الْفِتَنَ وَاخْتَلَطَ بِهَا، وَدَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا، وَلَزِمَهَا لُزُومًا كَامِلًا، وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ فِي نُفُوذِ الْمَسَامِّ وَتَنْفِيذِ الْمَرَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] أَيْ: حُبُّ الْعِجْلِ، وَالْإِشْرَابُ: خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ كَأَنَّ أَحَدَ اللَّوْنَيْنِ شَرِبَ الْآخَرَ، وَكُسِيَ لَوْنًا آخَرَ، فَالْمَعْنَى: جُعِلَ مُتَأَثِّرًا بِالْفِتَنِ بِحَيْثُ يَتَدَاخَلُ فِيهِ حُبُّهَا كَمَا يَتَدَاخَلُ الصَّبْغُ الثَّوْبَ، (" نُكِتَتْ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نُقِطَتْ وَأَثَّرَتْ، (" فِيهِ ") أَيْ: فِي قَلْبِهِ (" نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ") ، وَأَصْلُ النَّكْتِ ضَرْبُ الْأَرْضِ بِقَضِيبٍ فَيُؤَثِّرُ فِيهَا، (" وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا ") أَيْ: رَدَّ الْفِتَنَ وَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا (" نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ") أَيْ: إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ ابْتِدَاءً وَإِلَّا فَمَعْنَى نُكِتَتْ أُثْبِتَتْ فِيهِ وَدَامَتْ وَاسْتَمَرَّتْ (" حَتَّى ") : غَايَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ (" تَصِيرَ ") بِالْفَوْقِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّحْتِيَّةِ، أَيْ: تَصِيرُ قُلُوبُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَوْ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِاعْتِبَارِ قَلْبِهِ أَوْ يَصِيرُ قَلْبُهُ (" عَلَى قَلْبَيْنِ ") أَيْ: نَوْعَيْنِ أَوْ صِنْفَيْنِ (" أَبْيَضُ ") بِالرَّفْعِ، أَيْ: أَحَدُهُمَا أَبْيَضُ (" مِثْلُ الصَّفَا ") بِالْقَصْرِ أَيْ: مِثْلُ الْحَجَرِ الْمَرْمَرِ الْأَمْلَسِ مِنْ غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالصَّفَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ بَدَلُ الْبَعْضِ مِنْ قَلْبَيْنِ، وَالثَّانِي عَلَى الْحَالِ مِنْهُ، أَيْ: مُمَاثِلًا وَمُشَابِهًا لِلصَّفَا فِي النُّورِ وَالْبَهَاءِ، (" فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ") وَظُلْمَةٌ وَبَلِيَّةٌ (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) ; لِأَنَّهَا قُلُوبٌ صَافِيَةٌ قَدْ أَنْكَرَتْ تِلْكَ الْفِتَنَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، فَحَفِظَهَا عَنْهَا بَعْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، (وَالْآخَرُ) بِالرَّفْعِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" أَسْوَدَ مِرْبَادًّا ") بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ: مِنِ ارْبَادَّ كَاحْمَارَّ، أَيْ صَارَ كَلَوْنِ الرَّ مَادِ، مِنَ الرُّبْدَةِ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ، وَهُوَ حَالٌ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ، (كَالْكُوزِ) ، أَيْ: يُشْبِهُ الْآخَرُ الْكُوزَ حَالَ كُوخٍ (" مُجْخِيًّا ") بِضَمِّ مِيمٍ وَسُكُونِ جِيمٍ وَخَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ آخِرَ الْحُرُوفِ مُشَدَّدَةٍ وَقَدْ تُخَفَّفُ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَرُوِيَ بِتَقْدِيمِ الْخَاءِ عَلَى الْجِيمِ أَيْ مَائِلًا مَنْكُوسًا، مُشَبِّهًا مَنْ هُوَ خَالٍ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ بِكُوزٍ مَائِلٍ لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَسْتَقِرُّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" لَا يَعْرِفُ ") أَيْ: هَذَا الْقَلْبُ (" مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا) ، وَالْمَعْنَى: لَا يَبْقَى فِيهِ عِرْفَانُ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَا إِنْكَارُ مَا هُوَ مُنْكَرٌ (" إِلَّا مَا أُشْرِبَ ") أَيِ: الْقَلْبُ (" مِنْ هَوَاهِ ") ، أَيْ: فَيَتْبَعُهُ طَبْعًا مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ مَعْرُوفًا أَوْ مُنْكَرًا شَرْعًا. هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ، وَتَفْصِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ شُرَّاحُ الْكَنْزِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ حَتَّى يَصِيرَ جِنْسُ الْإِنْسِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ ذُو قَلْبٍ أَبِيٍّ كَالصَّفَا، وَذُو قَلْبٍ أَسْوَدَ مُرْبَدًّا. قَالَ الْمُظْهِرُ: الضَّمِيرُ فِي يَصِيرُ لِلْقُلُوبِ أَيْ: تَصِيرُ الْقُلُوبُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَبْيَضُ، وَثَانِيهُمَا: أَسْوَدُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّفَا: الْحِجَارَةُ الصَّافِيَةُ الْمَلْسَاءُ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا النَّوْعُ الَّذِي صَفَا بَيَاضُهُ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ لِقَوْلِهِ أَبْيَضُ، وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ بِهِ ; لِأَنَّ الْأَحْجَارَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعْدِنِيَّةً لَمْ تَتَغَيَّرْ بِطُولِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا لَوْنٌ آخَرُ، لَا سِيَّمَا النَّوْعَ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فَإِنَّهُ أَبَدًا عَلَى الْبَيَاضِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرَةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَ الْقَلْبَ بِالرُّبْدَةِ ; لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَا يُوجَدُ مِنَ السَّوَادِ، بِخِلَافِ مَا يَشُوبُهُ صَفَاءٌ وَتَعْلُوهُ طَرَاوَةٌ مِنَ النَّوْعِ الْخَالِصِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ، لَكِنَّهُ صِفَةٌ أُخْرَى ; لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ، وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْتَصِقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا، وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يُعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا، وَأُصُولِ بِلَادِنَا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ ; فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى (مِرْبَئِدٍّ) بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ، وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ، وَيَكُونُ مُرْبَدًّا مِثْلَ مُسْوَدًّا وَمُحْمَرًّا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَرْبَدَ، إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَيُقَالُ: ارْبَأَدَّ فَهُوَ مُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: قَوْلُهُ: إِلَّا مَا أُشْرِبَ يَعْنِي: لَا يَعْرِفُ الْقَلْبُ إِلَّا مَا قِيلَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ الذَّمِّ بِمَا يُشْبِهُ الْمَدْحَ، أَيْ: لَيْسَ فِي خَيْرٍ الْبَتَّةِ إِلَّا هَذَا، وَهَذَا لَيْسَ بِخَبَرٍ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خَيْرٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5381 - وَعَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا: " «إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ» ". وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: " «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ; فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلُ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ ; فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدُهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5381 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَيْنِ) ، أَيْ: فِي أَمْرِ الْأَمَانَةِ الْحَادِثَةِ فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ ; وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِهَا فِي الْبَابِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَوَّلُ: حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ، إِلَى آخِرِهِ، وَالثَّانِي: حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا (رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا) : وَهُوَ نُزُولُ الْأَمَانَةِ (وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ) : وَهُوَ رَفْعُ الْأَمَانَةِ (حَدَّثَنَا) : وَهُوَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ (" إِنَّ الْأَمَانَةَ ") : وَهِيَ الْإِيمَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَا لِأَنَّهَا مَدَارُ أَمْرِ الدِّيَانَةِ (" نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ") بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ: أَصْلِ قُلُوبِهِمْ، قَالَ شَارِحٌ: جَذْرُ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ، أَيْ: إِنَّ الْأَمَانَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَتْ فِي قُلُوبِ رِجَالِ اللَّهِ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى. قَوْلُهُ: (" ثُمَّ عَلِمُوا ") أَيْ: بِنُورِ الْإِيمَانِ (" مِنَ الْقُرْآنِ ") أَيْ: مِمَّا يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبًا كَانَ أَوْ نَفْلًا، حَرَامًا أَوْ مُبَاحًا، مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ أَوِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ: (" ثُمَّ مِنَ السُّنَّةِ ") ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْخِيرِ رُتْبَةِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَصِّ كَلَامِ الْقَدِيمِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمَانَةِ التَّكْلِيفُ الَّذِي كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ، وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيرِ: الْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْأَمَانَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] وَهِيَ عَيْنُ الْإِيمَانِ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَهْدِ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ: الْعَهْدُ الْمِيثَاقِيُّ، هُوَ الْإِيمَانُ الْفِطْرِيُّ، فَذَكَرَ قَوْلَ صَاحِبِ التَّقْرِيرِ لِبَيَانِ مَزِيدِ تَحْرِيرِ التَّقْرِيرِ، لَا لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِصَدْرِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَكَذَا مَا يَأْتِيهِ مِنْ خَتْمِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ اللَّاحِقِ، حَيْثُ قَالَ: وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَنْعُ الْأَمَانَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» " فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (وَحَدَّثَنَا) : وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّانِي (عَنْ رَفْعِهَا) أَيِ: ارْتِفَاعُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ وَانْتِقَاضُهُ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَ عَصْرِهِ فِي عَصْرِ أَصَحَابِهِ (قَالَ: " يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ ") : وَهِيَ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهَا فَمَا بَعْدَهُ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ، وَأَمَّا النَّوْمَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَفْلَةِ الْمُوجِبَةِ لِارْتِكَابِ السَّيِّئَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى نَقْصِ الْأَمَانَةِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ (" فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ ") أَيْ: بَعْضُهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى: يُقْبَضُ بَعْضُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ (مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ) بِفَتَحَاتٍ فَتَشْدِيدُ لَامٍ، أَيْ: فَيَصِيرُ (" أَثَرُهَا ") أَيْ: أَثَرُ الْأَمَانَةِ وَهُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ (" مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ") بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَبِالْفَوْقِيَّةِ: وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ كَالنُّقْطَةِ فِي الشَّيْءِ (" ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ ") أَيِ: الْأُخْرَى (" فَتُقْبَضُ ") أَيِ: الْأَمَانَةُ أَيْ بَعْضُ مَا بَقِيَ مِنْهَا (" فَيَبْقَى ") : مَعْرُوفًا، وَقِيلَ مَجْهُولًا (" أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ ") بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ، وَهُوَ أَثَرُ الْعَمَلِ فِي الْيَدِ (كَجَمْرٍ) أَيْ: تَأْثِيرًا كَتَأْثِيرِ جَمْرٍ، وَقَالَ شَارِحٌ: أُبْدِلَ مِنْ مِثْلِ أَثَرِ الْمَجْلِ، أَيْ: يَكُونُ أَثَرُهَا فِي الْقَلْبِ كَأَثَرِ جَمْرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ يَعْنِي أَثَرَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ (" دَحْرَجْتَهُ ") أَيْ: قَلَّبْتَهُ وَدَوَّرْتَهُ (" عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ ") بِكَسْرِ الْفَاءِ، ذُكِرَ الضَّمِيرُ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا ") بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مُنْتَفِخًا، مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ عَلَى إِرَادَةِ الْمَوْضِعِ الْمُدَحْرَجِ عَلَيْهِ الْجَمْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَالتَّخَلُّلَ بِالْقَصَبِ، فَإِنَّهُ الْفَمُ يَنْتَبِرُ مِنْهُ، أَيْ: يَرِمُ وَيَنْتَفِطُ، قِيلَ: الْمَعْنَى: يُخَيَّلُ إِلَيْكَ أَنَّ الرَّجُلَ ذُو أَمَانَةٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَثَابَةِ نُقْطَةٍ تَرَاهَا مُنْتَفِطَةً مُرْتَفِعَةً كَبِيرَةً لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَفِي الْفَائِقِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَكْتِ وَالْمَجْلِ: أَنَّ الْوَكْتَ النُّقْطَةُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ، وَالْمَجْلَ غِلَظُ الْجِلْدِ مِنَ الْعَمَلِ لَا غَيْرَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا (" وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ") أَيْ: صَالِحٌ، بَلْ مَاءٌ فَاسِدٌ.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمَانَةَ تَزُولُ عَنِ الْقُلُوبِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا زَالَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْهَا زَالَ نُورُهَا وَخَلِفَتْهُ ظُلْمَةٌ كَالْوَكْتِ، وَهُوَ اعْتِرَاضُ لَوْنٍ مُخَالِفٍ لِلَوْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا زَالَ شَيْءٌ آخَرُ صَارَ كَالْمَجْلِ، وَهُوَ أَثَرٌ مُحْكَمٌ لَا يَكَادُ يَزُولُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، وَهَذِهِ الثُّلْمَةُ فَوْقَ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ شَبَّهَ زَوَالَ ذَلِكَ النُّورِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي الْقَلْبِ وَخُرُوجِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ، وَاعْتِقَابِ الظُّلْمَةِ إِيَّاهُ بِجَمْرٍ يُدَحْرِجُهُ عَلَى رِجْلِهِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا، ثُمَّ يَزُولُ الْجَمْرُ وَيَبْقَى النَّفْطُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ نَفَطَ وَلَمْ يَقُلْ نَفَطَتِ اعْتِبَارًا بِالْعُضْوِ، انْتَهَى. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: يُرِيدُ أَنَّ الْأَمَانَةَ تُرْفَعُ عَنِ الْقُلُوبِ ; عُقُوبَةً لِأَصْحَابِهَا عَلَى مَا اجْتَرَحُوا مِنَ الذُّنُوبِ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظُوا مِنْ مَنَامِهِمْ لَمْ يَجِدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى فِيهِ أَثَرٌ، تَارَةً مِثْلَ الْوَكْتِ وَتَارَةً مِثْلَ الْمَجْلِ، وَهُوَ انْتِفَاطُ الْيَدِ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْمَجْلُ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا نَفْسُ النَّفَطَةِ، وَهَذَا أَقَلُّ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى ; لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْمُجَوَّفِ بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأُولَى، أَرَادَ بِهِ خُلُوَّ الْقَلْبِ عَنِ الْأَمَانَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهَا مِنْ طَرِيقِ الْحِسَابِ. (" وَيُصْبِحُ النَّاسُ ") أَيْ: يَدْخُلُونَ فِي الصَّبَاحِ أَوْ يَصِيرُونَ (" يَتَبَايَعُونَ ") أَيْ: يَجْرِي بَيْنَهُمُ التَّبَايُعُ، وَيَقَعُ عِنْدَهُمُ التَّعَاهُدُ (" وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ") ، بَلْ يَظْهَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمُ الْخِيَانَةُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُوَاعَدَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِفْظَ الْأَمَانَةِ أَثَرُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا نَقَصَ الْأَمَانَةُ نَقَصَ الْإِيمَانُ وَبَطَلَ الْإِيقَانُ، وَزَالَ الْإِحْسَانُ، (" فَيُقَالُ ") أَيْ: مِنْ غَايَةِ قِلَّةِ الْأَمَانَةِ فِي النَّاسِ (" إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا ") أَيْ: كَامِلُ الْإِيمَانِ وَكَامِلُ الْأَمَانَةِ (وَيُقَالُ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (" لِلرَّجُلِ ") أَيْ: مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا مِمَّنْ لَهُ عَقْلٌ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَطُبِعَ فِي الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ، وَفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ، وَصَبَاحَةٍ وَقُوَّةٍ بَدَنِيَّةٍ، وَشَجَاعَةٍ وَشَوْكَةٍ، (مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ ") ; تَعَجُّبًا مِنْ كَمَالِهِ، وَاسْتِغْرَابًا مِنْ مَقَالِهِ، وَاسْتِبْعَادًا مِنْ جَمَالِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَمْدَحُونَهُ بِكَثْرَةِ الْعَقْلِ وَالظَّرَافَةِ وَالْجَلَادَةِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَلَا يَمْدَحُونَ أَحَدًا بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. (" وَمَا فِي قَلْبِهِ ") : حَالٌ مِنَ الرَّجُلِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ (مِثْقَالُ حَبَّةٍ) أَيْ: مِقْدَارُ شَيْءٍ قَلِيلٍ (" مِنْ خَرْدَلٍ ") : مِنْ بَيَانِيَّةٌ لِحَبَّةٍ، أَيْ: هِيَ خَرْدَلٌ (" مِنْ إِيمَانٍ ") أَيْ: كَائِنًا مِنْهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيَ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَكَمَالِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَلَى حَمْلِهِمْ عَلَى تَفْسِيرِ الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ بِالْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ آخِرًا: وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنَ الْإِيمَانِ، فَهَلَّا حَمَلُوهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لِقَوْلِهِ: وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيَكُونُ وَضْعُ الْإِيمَانِ آخِرًا مَوْضُوعَهَا ; تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَحَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» "، قُلْتُ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ آخِرًا وَمَا صَدَرَ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ: نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، فَإِنَّ نُزُولَ الْأَمَانَةِ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَصْلِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَعْلَمُونَ إِيقَانَهُ وَإِيقَانَهُمْ بِتَتَبُّعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ مِنْ كُلِّيَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5382 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ; مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ "، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ "، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: " قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ "، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا "، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: " هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا "، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ "، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ: " «يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ "، قَالَ حُذَيْفَةُ: قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: " تَسْمَعُ وَتُطِيعُ الْأَمِيرَ، وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5382 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: (قَالَ: كَانَ النَّاسُ) أَيْ: أَكْثَرُهُمْ (يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْخَيْرِ) ، أَيْ: عَنِ الطَّاعَةِ لِيَمْتَثِلُوهَا، أَوْ عَنِ السَّعَةِ وَالرَّخَاءِ ; لِيَفْرَحُوا بِهِ وَيَسْتَعِينُوا بِالدُّنْيَا عَلَى الْأُخْرَى (وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ) أَيْ: عَنِ الْمَعْصِيَةِ أَوِ الْفِتْنَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى التَّوْسِعَةِ (مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي) ، أَيْ: خَشْيَةَ أَنْ يَلْحَقَنِي الشَّرُّ نَفْسُهُ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ مُخْتَارُ الْحُكَمَاءِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ

أَنَّ رِعَايَةَ الِاحْتِمَاءِ أَوْلَى فِي دَفْعِ الدَّاءِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ، وَأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، وَفِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ نَفَى السِّوَى ثُمَّ أَثْبَتَ الْمَوْلَى، بَلْ مَدَارُ جُلِّ مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى النُّعُوتِ التَّنْزِيهِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] دُونَ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ لِظُهُورِ وُجُودِهَا فِي خَالِقِ الْأَشْيَاءِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ بِالشَّرِّ الْفِتْنَةُ، وَوَهَنُ عُرَى الْإِسْلَامِ، وَاسْتِيلَاءُ الضَّلَالَةِ، وَفُشُوُّ الْبِدْعَةِ، وَالْخَيْرُ عَكْسُهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نَقَلَهُ الرَّاوِي عَنْهُ. (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ) أَيْ أَيَّامٍ غَلَبَ فِيهَا الْجَهْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَقَوْلُهُ: (وَشَرٍّ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، أَوِ الْمَعْنِيُّ بِهِ الْكُفْرُ، فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، (فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ) ، أَيِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ بِبَرَكَةِ بِعْثَتِكَ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ بِالشَّرِّ عَنَّا بِهَدْمِ قَوَاعِدِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ; وَلَعَلَّهُ حَذَفَ وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، لَا سِيَّمَا وَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، (فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ) أَيِ: الثَّابِتُ (مِنْ شَرٍّ؟) أَيْ مِنْ حُدُوثِ بَعْضِ شَرٍّ (قَالَ: " نَعَمْ ". قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ ") بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ: كُدُورَةٌ إِلَى سَوَادٍ، وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَكُونَ خَيْرًا صَفْوًا بَحْتًا، بَلْ يَكُونُ مَشُوبًا بِكُدُورَةٍ وَظُلْمَةٍ، (قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: " قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ ") بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْأُولَى أَيْ: يَعْتَقِدُونَ (" بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ ") أَيْ: يَدُلُّونَ النَّاسَ (بِغَيْرِ هَدْيِي) أَيْ: بِغَيْرِ طَرِيقَتِي، وَيَتَّخِذُونَ سِيرَةً غَيْرَ سِيرَتِي (" تَعْرِفُ مِنْهُ وَتُنْكِرُ ") قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: تَرَى فِيهِمْ مَا تَعْرِفُهُ أَنَّهُ مِنْ دِينِي، وَتَرَى أَيْضًا مَا تُنْكِرُ أَنَّهُ دِينِي، قَالَ الْأَشْرَفُ: يُعْرَفُ مِنْهُمُ الْمُنْكَرُ بِأَنْ يَصْدُرَ الْمُنْكَرُ عَنْهُمْ، وَتُنْكِرُ هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ: أَنْكِرْ عَلَيْهِمْ صُدُورَ الْمُنْكَرِ عَنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: " نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ " أَيْ: تَعْرِفُ فِيهِمُ الْخَيْرَ فَتَقْبَلُ وَالشَّرَّ فَتُنْكِرُ، فَهُوَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: " يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي " فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ: اعْرِفْ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَأَنْكِرْ، وَالْخِطَابُ فِي - تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ - مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ. أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى ; إِذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ قَابِلِيَّةُ مَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، فَالْخِطَابُ خَاصٌّ لِحُذَيْفَةَ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّيَانَةِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّرِّ الْأَوَّلِ الْفِتَنُ الَّتِي وَقَعَتْ عِنْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمَا بَعْدَهُ، وَبِالْخَيْرِ الثَّانِي مَا وَقَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِالَّذِينَ تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ الْأُمَرَاءُ بَعْدَهُ، فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو إِلَى الْبِدْعَةِ وَيَعْمَلُ بِالْجَوْرِ، أَوْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ بِالْمَعْرُوفِ تَارَةً وَيَعْمَلُ بِالْمُنْكَرِ أُخْرَى، بِحَسَبِ مَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ تَتَبُّعِ الْهَوَى، وَتَحْصِيلِ غَرَضِهِمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، لَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَحَرِّي الْأَحْرَى وَرِعَايَةَ الدَّارِ الْأُخْرَى، كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَاءِ زَمَانِنَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الشَّرِّ الْأَوَّلِ فِتْنَةُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا بَعْدَهُ، وَبِالْخَيْرِ الثَّانِي مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ الْحَسَنِ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَبِالدَّخَنِ مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ مِنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ كَزِيَادٍ بِالْعِرَاقِ، وَخِلَافُ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِجِ. (قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ، دُعَاةٌ ") : جَمْعُ دَاعٍ (عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ) قَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ جَمَاعَةٌ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الضَّلَالَةِ وَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْهُدَى بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّلْبِيسِ، وَمِنَ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الزُّهْدِ إِلَى الرَّغْبَةِ. جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْوَةَ الدُّعَاةِ وَإِجَابَةَ الْمَدْعُوِّينَ سَبَبًا لِإِدْخَالِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي جَهَنَّمَ،

وَدُخُولِهِمْ فِيهَا، وَجَعَلَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّلْبِيسِ مَنْزِلَةَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ (مَنْ أَجَابَهُمْ) أَيِ الدُّعَاةِ (" إِلَيْهِ ") أَيْ: إِلَى جَهَنَّمَ، يَعْنِي: إِلَى الضَّلَالَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا (" قَذَفُوهُ فِيهِ ") ، أَيْ: رَمَوْهُ وَصَارُوا سَبَبًا لِقَذْفِهِ فِي جَهَنَّمَ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاةِ مَنْ قَامَ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمْ شُرُوطُ الْإِمَارَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَجُعِلُوا دُعَاةً عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] ، وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14] ، فَكَأَنَّهُمْ كَائِنُونَ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، دَاعِينَ النَّاسَ إِلَى الدُّخُولِ فِي ضِيَافَتِهِمْ ; أَوْ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ بِسَبَبِ شَيْءٍ، فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِ دَاخِلٌ فِيهِ. (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا) ، أَيْ: إِنَّهُمْ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا؟ (قَالَ: " هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ") ، أَيْ: مِنْ أَنْفُسِنَا وَعَشِيرَتِنَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا، ذَكَرَهُ الْأَشْرَفُ، وَهُوَ الْأَلْطَفُ، وَقِيلَ: مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِنَا، وَفِيهِ أَنَّ الْجِلْدَةَ أَخَصُّ مِنَ الْجِلْدِ، وَجِلْدُ الشَّيْءِ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ غِشَاءُ الْبَدَنِ. (" وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا ") أَيْ: بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ بِالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ، أَوْ بِمَا قَالَ اللَّهُ وَقَالَ رَسُولُهُ، وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، (قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي) أَيْ: أَنْ أَفْعَلَ بِهِ فِيهِمْ (إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟) أَيْ ذَلِكَ الزَّمَانُ (قَالَ: " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ ") أَيْ: طَرِيقَتَهُمْ وَحُضُورَ جُمْعَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ (" وَإِمَامَهُمْ ") أَيْ: وَرِعَايَةَ إِمَامِهِمْ وَمُتَابَعَتَهُمْ وَمُسَاعَدَتَهُمْ، (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ) أَيْ: مُتَّفِقَةٌ (وَلَا إِمَامٌ؟) أَيْ: أَمِيرٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ فَقْدَهُمَا أَوْ فَقْدَ أَحَدِهِمَا (قَالَ: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ") ، أَيِ: الْفِرَقُ الضَّالَّةُ الْوَاقِعَةُ عَلَى خِلَافِ الْجَادَّةِ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، (" وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ ") أَيْ: وَلَوْ كَانَ الِاعْتِزَالُ بِالْعَضِّ، وَأَنْ: مَصْدَرِيَّةٌ، وَتَعَضَّ: مَنْصُوبٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَقِيلَ: إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: تَمَسَّكْ بِمَا يُصَبِّرُكَ وَتَقْوَى بِهِ عَلَى اعْتِزَالِكَ، وَلَوْ بِمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَمَسَّكًا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا شَرْطٌ يُعَقَّبُ بِهِ الْكَلَامُ تَتْمِيمًا وَمُبَالَغَةً، أَيِ: اعْتَزِلِ النَّاسَ اعْتِزَالًا لَا غَايَةَ بَعْدَهُ، وَلَوْ قَنَعْتَ فِيهِ بِعَضِّ أَصْلِ الشَّجَرِ افْعَلْ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ، (" حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ") أَيْ: عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنَ الِاعْتِزَالِ أَوِ الْعَضِّ أَوِ الْخَيْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) ، قَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَقِبَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَّامٍ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ حُذَيْفَةَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ قَالَ حُذَيْفَةُ ; فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا، وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ لِأَبِي سَلَّامٍ شَيْئًا فِي صَحِيحِهِ لِأَنَّ رِوَايَاتِهِ مُرْسَلَةٌ، اهـ. وَأَبُو سَلَّامٍ: اسْمُهُ مُمْطِرٌ الْأَسْوَدُ الْحَبَشِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْمَتْنَ صَحِيحٌ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا أَتَى مُسْلِمٌ بِهَا مُتَابَعَةً ; فَإِنَّ الْمُرْسَلَ إِذَا أَتَى مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ تَبَيَّنَ بِهِ صِحَّةُ الْمُرْسَلِ، وَجَازَ بِهِ الِاحْتِجَاجُ، وَيَصِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَقُولُ: هَذَا الْإِشْكَالُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّ الْمُرْسَلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ وَمَعَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ ") بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَتَسْهِيلِهَا وَإِبْدَالِهَا: جَمْعُ إِمَامٍ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أَئِمَّةٌ عَلَى وَزْنِ أَفِعْلَةٍ أَيْ: جَمَاعَةٌ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ الْأَئِمَّةُ (" لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ") ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ (" وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي ") ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، (" وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ ") أَيْ: كَقُلُوبِهِمْ فِي الظُّلْمَةِ، وَالْقَسَاوَةِ، وَالْوَسْوَسَةِ، وَالتَّلْبِيسِ

وَالْآرَاءِ الْكَاسِدَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْفَاسِدَةِ (" فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ ") بِضَمِّ الْجِيمِ، أَيْ: فِي جَسَدِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْإِنْسِ فَيُطَابِقُ الْجَمْعَ السَّابِقَ، (قَالَ حُذَيْفَةُ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟) أَيْ: ذَلِكَ الْوَقْتُ، أَوْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ (قَالَ: " تَسْمَعُ ") أَيْ: مَا يَأْمُرُكَ الْأَمِيرُ، خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ (" وَتُطِيعُ ") فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ (" الْأَمِيرُ ") : مَفْعُولٌ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ (" وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: لَوْ ضُرِبْتَ (" وَأَخَذَ مَالَكَ ") وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ فِيهِمَا، فَفِيهِمَا ضَمِيرٌ لِلْأَمِيرِ، وَالْإِسْنَادُ حَقِيقِيٌّ أَوْ مَجَازِيٌّ، وَتَخْصِيصُ الظَّهْرِ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ غَالِبًا، وَقَوْلُهُ: (" فَاسْمَعْ وَأَطِعْ ") جَزَاءُ الشَّرْطِ أَتَى لِمَزِيدِ تَقْرِيرٍ وَاهْتِمَامِ تَحْرِيرٍ بِشَأْنِهِ، وَإِلَّا فَمَا قَبْلَ الشَّرْطِ أَغْنَى عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِلَّا إِذَا أَمَرَكَ بِإِثْمٍ فَلَا تُطِعْهُ، لَكِنْ لَا تُقَاتِلْ، بَلْ فِرَّ مِنْهُ.

5383 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَتًا، كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5383 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَادِرُوا ") أَيْ: سَابِقُوا وَسَارِعُوا (" بِالْأَعْمَالِ ") أَيْ: بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ (" فِتَنًا ") أَيْ: وُقُوعَ فِتَنٍ (" كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ") بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الطَّاءِ جَمْعُ قِطْعَةٍ، وَالْمَعْنَى: كَقِطَعٍ مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ; لِفَرْطِ سَوَادِهَا وَظُلْمَتِهَا، وَعَدَمِ تَبَيُّنِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فِيهَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْفِتَنِ مَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ فِي الْآيَةِ بِسُكُونِ الطَّاءِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: جُزْءٌ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ سَوَادِهِ وَيُرَادِفُهُ قِطْعَةٌ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: تَعَجَّلُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ مَجِيءِ الْفِتَنِ الْمُظْلِمَةِ مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَإِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ الْأَعْمَالَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّشْبِيهِ بَيَانُ حَالِ الْفِتَنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَشِيعٌ فَظِيعٌ، وَلَا يُعْرَفُ سَبَبُهَا وَلَا طَرِيقُ الْخَلَاصِ مِنْهَا، فَالْمُبَادَرَةُ الْمُسَارَعَةُ بِإِدْرَاكِ الشَّيْءِ قَبْلَ فَوَاتِهِ، أَوْ بِدَفْعِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ (" يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ") أَيْ: مَوْصُوفًا بِأَصْلِ الْإِيمَانِ أَوْ بِكَمَالِهِ، (" وَيُمْسِي كَافِرًا ") ، أَيْ: حَقِيقَةً، أَوْ كَافِرًا لِلنِّعْمَةِ، أَوْ مُشَابِهًا لِلْكَفَرَةِ، أَوْ عَامِلًا عَمَلَ الْكَافِرِ، (" وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ") ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُصْبِحُ مُحَرِّمًا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا إِيَّاهُ وَبِالْعَكْسِ، وَحَاصِلُهُ التَّذَبْذُبُ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالتَّتَبُّعُ لِأَمْرِ الدُّنْيَا، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (" يَبِيعُ ") أَيِ: الرَّجُلُ أَوْ أَحَدُهُمْ كَمَا فِي الْجَامِعِ (" دِينَهُ ") أَيْ: يَتْرُكُهُ (" بِعَرَضٍ ") بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ: يَأْخُذُ مَتَاعًا دَنِيئًا وَثَمَنًا رَدِيئًا (" مِنَ الدُّنْيَا ") ، زَادَ فِي الْجَامِعِ: " قَلِيلٍ " بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ عَرَضٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «سَتَكُونُ فِتَنٌ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ» "، فَقَوْلُهُ: يُصْبِحُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ بَعْضِ الْفِتَنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِحَالِ الْمُشَبَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " فِتَنًا "، وَقَوْلُهُ: " يَبِيعُ " إِلَخْ، بَيَانٌ لِلْبَيَانِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالٌ لِمُجَرَّدِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْغَضَبِ فَيَسْتَحِلُّونَ الدَّمَ وَالْمَالَ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ وُلَاةُ الْمُسْلِمِينَ ظَلَمَةً فَيُرِيقُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَزْنُونَ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَيَعْتَقِدُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَيُفْتِيهِمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّوءِ عَلَى جَوَازِ مَا يَفْعَلُونَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا، وَثَالِثُهَا: مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالْمُبَايَعَاتِ وَغَيْرِهَا فَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ هَرَمًا فَاغِضًا وَمَوْتًا خَالِسًا وَمَرَضًا حَابِسًا وَتَسْوِيفًا مُسِيئًا» ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: مَا تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ فَإِنَّهُ شَرُّ مُنْتَظَرٍ، أَوِ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبَّاسٍ الْغِفَارِيِّ مَرْفُوعًا: " «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: إِمَارَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ، وَقَطْعَةَ الرَّحِمِ، وَنَشْوًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لِيُغَنِّيَهُمْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُمْ فِقْهًا» ".

5384 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَيَعُذْ بِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ: " «تَكُونُ فِتْنَةٌ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقْظَانُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَسْتَعِذْ بِهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5384 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَتَكُونُ فِتَنٌ ") أَيْ: عَظِيمَةٌ أَوْ كَثِيرَةٌ، مُتَعَاقِبَةٌ مُتَوَالِيَةٌ أَوْ مُتَرَاخِيَةٌ (الْقَاعِدُ فِيهَا) أَيْ: فِي تِلْكَ الْفِتَنِ (خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ) ; لِأَنَّهُ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ الْقَاعِدُ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ مِنْ عَذَابِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ بِمُشَاهَدَتِهِ مَا لَا يُشَاهِدُهُ الْقَاعِدُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَاعِدِ هُوَ الثَّابِتَ فِي مَكَانِهِ غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ لِمَا يَقَعُ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي زَمَانِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِ مَا يَكُونُ فِيهِ نَوْعٌ بَاعِثٌ وَدَاعِيَةٌ، لَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ فِي إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ، (" وَالْقَائِمُ فِيهَا ") أَيْ: مِنْ بَعِيدٍ مُتَشَرِّفٍ عَلَيْهَا، أَوِ الْقَائِمُ بِمَكَانِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (" خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ") أَيْ: مِنَ الذَّاهِبِ عَلَى رِجْلِهِ إِلَيْهَا (" وَالْمَاشِي فِيهَا ") أَيْ: إِلَيْهَا أَوْ فِيمَا بَيْنَهَا (" خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ") أَيْ: مِنَ الْمُسْرِعِ إِلَيْهَا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا (" مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا ") بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا (" تَسْتَشْرِفْ ") بِالْجَزْمِ وَيُرْفَعُ أَيْ: تَطْلُبُهُ وَتَجْذِبُهُ إِلَيْهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: مَنْ تَطَلَّعْ لَهَا دَعَتْهُ إِلَى الْوُقُوعِ فِيهَا، وَالتَّشَرُّفُ التَّطَلُّعُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْإِصَابَةِ بَشَرِّهَا، أَوْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا تَدْعُوهُ إِلَى زِيَادَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنِ اسْتَشْرَفْتُ الشَّيْءَ أَيْ عَلَوْتُهُ، يُرِيدُ مَنِ انْتَصَبَ لَهَا انْتَصَبَتْ لَهُ وَصَرَعَتْهُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ وَالْإِشْفَاءِ عَلَى الْهَلَاكِ، أَيْ: مَنْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ فِيهَا أَهْلَكَتْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّ الْوَجْهَ الثَّالِثَ أَوْلَى ; لِمَا يَظْهَرُ مِنْهُ مَعْنَى اللَّامِ فِي " لَهَا "، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْفَائِقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَيْ: مَنْ غَالَبَهَا غَلَبَتْهُ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَوْلَى ; لِمَا فِيهِ مِنْ رِعَايَةِ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ الْمُفِيدَةُ لِلِاحْتِرَاسِ، وَاخْتِيَارُ الْأُخْرَى النَّافِعُ فِي الدُّنْيَا وَالْأَخِرَى. قَالَ شَارِحٌ: تَشَرَّفَ وَاسْتَشْرَفَ أَيْ: صَعِدَ شَرَفًا، أَيْ: مُرْتَفِعًا لِيَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَا فِي النَّظَرِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ، كَانَ يَعْنِي مَنْ قَرُبَ مِنْ تِلْكَ الْفِتَنِ وَنَظَرَ إِلَيْهَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْفِتَنُ، وَتَجُرُّهُ إِلَى نَفْسِهَا، فَالْخَلَاصُ فِي التَّبَاعُدِ مِنْهَا وَالْهَلَاكُ فِي مُقَارَبَتِهَا، (" فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً ") أَيْ: مَنَاصًا وَمَفَرًّا وَمَهْرَبًا (أَوْ مَعَاذًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: مَوْضِعًا أَوْ شَخْصًا مَلَاذًا يَتَخَلَّصُ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَبِالْعِيَاذِ بِهِ مِنَ الْفِتَنِ (" فَلْيَعُذْ ") بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: فَلْيَسْتَعِذْ (بِهِ) أَيْ: بِالْمَعَاذِ، أَوْ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْمَلْجَأِ وَالْمَعَاذِ، أَيْ: فَلْيَعُذْ إِلَيْهِمَا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: " تَكُونُ فِتْنَةٌ ") أَيْ: عَظِيمَةٌ (" النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ ") بِسُكُونِ الْقَافِ أَيِ: الْمُنْتَبِهُ ; لِعَدَمِ شُعُورِ النَّائِمِ عَنْهَا، وَفِي مَعْنَاهِ الْغَافِلُ وَلَوْ كَانَ يَقْظَانَ، فَالْمُرَادُ بِالْيَقْظَانِ هُوَ الْعَالِمُ بِالْفِتْنَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا (" وَالْيَقْظَانُ ") أَيْ: مُضْطَجِعًا أَوْ جَالِسًا (" خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ") أَيْ: لِتَطَلُّعِهِ وَإِشْرَافِهِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ حَرَكَةٍ (" وَالْقَائِمُ فِيهَا ") أَيْ: لِتَوَقُّفِهِ فِي مَكَانِهِ (" خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ") أَيْ: مَشْيًا أَوْ رُكُوبًا إِلَيْهَا (مَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَسْتَعِذْ بِهِ) ، وَفِي الْجَامِعِ: رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ: سَتَكُونُ أَحْدَاثُ وَفِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ وَاخْتِلَافٌ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ الْمَقْتُولَ لَا الْقَاتِلَ فَافْعَلْ.

5385 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلَا فَإِذَا وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ غَنَمٌ فَيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ "، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: " يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ " ثَلَاثًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يَنْطَلِقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ، فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ قَالَ " يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5385 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) أَيِ: الثَّقَفِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهَا ") أَيِ: الْقِصَّةُ (سَتَكُونُ) أَيْ: سَتُوجَدُ وَتَحْدُثُ وَتَقَعُ (فِتَنٌ، أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (" ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ ") أَيْ: عَظِيمَةٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ: أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ثُمَّ بَعْدَهُ: أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ بِصِيغَةِ الْوَحْدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ ثَلَاثُ مُبَالَغَاتٍ، أَقْحَمَ حَرْفَ التَّنْبِيهِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ; لِمَزِيدِ التَّنْبِيهِ لَهَا، وَعَطَفَ بِثُمَّ ; لِتَرَاخِي مَرْتَبَةِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ الْخَاصَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِهَا، وَهُوَ لَهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ; لِاخْتِصَاصِهَا بِمَا يُفَارِقُهَا مِنْ سَائِرِ أَشْكَالِهَا، وَأَنَّهَا كَالدَّاهِيَةِ الدَّهْبَاءِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْهَا بِفَضْلِهِ وَعَمِيمِ طُولِهِ. (" الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا ") أَيْ: يَجْعَلُهَا غَايَةَ سَعْيِهِ وَمُنْتَهَى غَرَضِهِ لَا يَرَى مَطْلَبًا غَيْرَهَا وَ (لَامُ) الْغَرَضِ وَ (إِلَى) الْغَايَةِ مُتَقَارِبَانِ مَعْنًى، فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ التَّدَرُّجُ وَالتَّرَقِّي مِنَ الْمَاشِي فِيهَا إِلَى السَّاعِي إِلَيْهَا.

(" أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ زِيَادَةً لِلتَّأْكِيدِ (" فَإِذَا وَقَعَتْ ") أَيِ: الْفِتَنُ أَوْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ (" فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ ") أَيْ: فِي الْبَرِّيَّةِ (" فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ ") أَيْ: عَقَارٌ أَوْ مَزْرَعَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الْخَلْقِ (" فَيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ ") فَإِنَّ الِاعْتِزَالَ وَالِاشْتِغَالَ بِخُوَيِّصَةِ الْحَالِ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ ; لِوُقُوعِ عُمُومِ الْفِتْنَةِ الْعَمْيَاءِ بَيْنَ الرِّجَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنِ السَّلَامَةَ مِنْ لَيْلَى لَا وَجَارَتِهَا ... أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَى حَالٍ بِوَادِيهَا (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي (مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟) أَيْ: فَأَيْنَ يَذْهَبُ أَوْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ (قَالَ: " يَعْمِدُ ") بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: يَقْصِدُ (" إِلَى سَيْفِهِ ") أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُ (" فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ ") أَيْ: فَيَضْرِبُ عَلَى جَانِبِ سَيْفِهِ الْحَادِّ (" بِحَجَرِ ") ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَكْسِرْ سِلَاحَهُ كَيْلَا يَذْهَبَ بِهِ إِلَى الْحَرْبِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْحُرُوبَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُهَا، (" ثُمَّ لِيَنْجُ ") بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْجِيمِ، أَيْ: لِيَفِرَّ وَيُسْرِعْ هَرَبًا حَتَّى لَا تُصِيبَهُ الْفِتْنَةُ، (" إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ ") بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمَدِّ، أَيِ: الْإِسْرَاعُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: يَعْمِدُ إِلَخْ عِبَارَةٌ عَنْ تَجَرُّدِهِ تَجَرُّدًا تَامًّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ مَهَامِّهِ فَلْيَنْجُ بِرَأْسِهِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ: فَلْيَنْجُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ النَّجَاةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطَاعَ النِّجَاءَ، حَيْثُ لَمْ يَقُلْ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ حَاصِلُ الْمَعْنَى مِنْ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَادَّةِ وَالْمَبْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (" اللَّهُمَّ ") أَيْ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْفِتَنِ وَالتَّحْذِيرِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مِحَنِ ذَلِكَ الزَّمَنِ، اللَّهُمَّ أَيْ: يَا اللَّهُ (" هَلْ بَلَّغْتُ؟ ") أَيْ: قَدْ بَلَّغْتُ إِلَى عِبَادِكَ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ أُبَلِّغَهُ إِيَّاهُمْ (ثَلَاثًا) : مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ أَيْ: قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي (إِنْ أُكْرِهْتُ) أَيْ: أُخِذْتُ بِالْكُرْهِ وَأُجْبِرْتُ (حَتَّى يَنْطَلِقَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُذْهَبُ (بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ) أَيْ: صَفَّيِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ (فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ (يَجِيءُ سَهْمٌ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عَطْفًا عَلَى الْمَاضِي (فَيَقْتُلُنِي؟) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَخِيرِ وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَشْتَمِلَ أَيْضًا عَلَى الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ، وَالْمَعْنَى: فَمَا حُكْمُ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ؟ (قَالَ: يَبُوءُ) أَيْ: يَرْجِعُ الْقَاتِلُ، وَقِيلَ: الْمُكْرَهُ (بِإِثْمِهِ) أَيْ: بِعُقُوبَةِ مَا فَعَلَهُ مِنْ قَبْلُ عُمُومًا (وَإِثْمِكَ) أَيْ: وَبِعُقُوبَةِ قَتْلِهِ إِيَّاكَ خُصُوصًا، أَوِ الْمُرَادُ بِإِثْمِهِ قَصْدُهُ الْقَتْلَ وَبِإِثْمِكَ لَوْ مَدَدْتَ يَدَكَ إِلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِإِثْمِكَ سَيِّئَاتِكَ الَّتِي فَعَلْتَهَا بِأَنْ تُوضَعَ فِي رَقَبَةِ الْقَاتِلِ بَعْدَ فَقْدِ حَسَنَاتِهِ عَلَى مَا وَرَدَ (وَيَكُونُ) أَيْ: هُوَ (" مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ") ، قَالَ تَعَالَى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَأَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْهُ، وَتُرِكَ لِلِاكْتِفَاءَ احْتِيَاطًا لِتَبَادُرِ الْفَهْمِ إِلَى الْخِطَابِ الْمُعَيَّنِ، لَا الْمَفْرُوضُ الْمُقَدَّرُ الْمُرَادُ بِهِ الْخِطَابُ الْعَامُّ عَلَى طَرِيقِ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ الْحُكْمُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 27] إِلَخْ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُنْ خَيْرَ ابْنَيْ آدَمَ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ ". قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ يَبُوءُ إِلَخْ، فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَرَادَ بِمِثْلِ إِثْمِكَ عَلَى الِاتِّسَاعِ، أَيْ: يَرْجِعُ بِإِثْمِهِ وَمِثْلَ إِثْمِكَ الْمُقَدَّرِ لَوْ قَتَلْتَهُ، وَثَانِيهُمَا: أَرَادَ بِمِثْلِ قَتْلِكَ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِثْمِهِ السَّابِقِ عَلَى الْقَتْلِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5386 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5386 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُوشِكُ ") أَيْ: يَقْرُبُ (" أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ) بِالنَّصْبِ (" غَنَمٌ ") أَيْ: قِطْعَةٌ مِنَ الْغَنَمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: غَنَمٌ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَهُوَ اسْمٌ يَكُونُ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: " خَيْرَ مَالِ " مُعَرَّفٌ، فَلَا يَجُوزُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْمُسْلِمِ الْجِنْسُ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حِينَئِذٍ، وَفَائِدَةُ التَّقْدِيمِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ حِينَئِذٍ الِاعْتِزَالُ وَتَحَرِّي الْخَبَرِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ اهـ. وَقِيلَ: (يَجُوزُ رَفْعُ " خَيْرُ، وَغَنَمٌ " عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي " يَكُونَ " ضَمِيرُ الشَّأْنِ، كَذَا الْمَفَاتِيحُ (" يَتَّبِعُ ") بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِسُكُونِهَا وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَتَتَبَّعُ (" بِهَا ") أَيْ: مَعَ الْغَنَمِ أَوْ بِسَبَبِهَا (" شَعَفَ الْجِبَالِ ") بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْعَيْنِ أَيْ: رُؤُوسِ الْجِبَالِ أَوْ أَعَالِيهَا، وَأَحَدُهَا شَعَفَةٌ (" وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ") بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: مَوَاضِعَ الْمَطَرِ وَآثَارَهُ مِنَ النَّبَاتِ وَأَوْرَاقَ الشَّجَرِ، يُرِيدُ بِهَا الْمَرْعَى مِنَ الصَّحْرَاءِ وَالْجِبَالِ، فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَفِي تَقْدِيمِ شَعَفِ الْجِبَالِ إِشْعَارٌ بِالْمُبَالَغَةِ فِي فَضِيلَةِ الِاعْتِزَالِ عَنِ الْخَلْقِ فِي تِلْكَ الْحَالِ. (" يَفِرُّ بِدِينِهِ ") أَيْ: بِسَبَبِ حِفْظِهِ مِنَ الْفِتَنِ أَيِ الْمِحَنِ الدِّينِيَّةِ، أَوْ يَهْرُبُ (" مِنَ الْفِتَنِ ") الدُّنْيَوِيَّةِ مَصْحُوبًا بِدِينِهِ لِيَتَخَلَّصَ بِإِقَامَتِهِ هُنَاكَ عَنْهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5387 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَشْرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ " قَالُوا: لَا. قَالَ: " فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْمَطَرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5387 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) : صَحَابِيَّانِ (قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيِ: اطَّلَعَ (عَلَى أُطُمٍ) بِضَمَّتَيْنِ، أَيْ: شَاهِقِ جَبَلٍ أَوْ حِصْنٍ أَوْ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ، (مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ) بِمَدِّ أَوَّلِهِ: جَمْعُ الْأُطْمِ (فَقَالَ: " هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ ") أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ الْمُرْتَفِعَةِ عَنْهُ (قَالُوا: لَا. قَالَ: " فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ ") أَيْ: مِنْهُ (" خِلَالَ بُيُوتِكُمْ ") أَيْ: وَسَطَهَا (" كَوَقْعِ الْمَطَرِ ") وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى ذَلِكَ الْأُطْمَ، أَوْ حِينَ صَعِدَهُ اقْتِرَابَ الْفِتَنِ لِيُخْبِرَ بِهَا أُمَّتَهُ، فَيَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ، وَيَعْرِفُوا أَنَّهَا مَنْ قَدَرٍ، وَيَعُدُّوا مَعْرِفَتَهَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: (تَقَعُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَالْأَقْرَبُ إِلَى الذَّوْقِ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى النَّظَرِ، أَيْ: كُشِفَ لِي فَأُبْصِرُهَا عِيَانًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَفِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بِلَفْظِ: هَلْ تَرَى مَا أَرَى، إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْمَطَرِ.

5388 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5388 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلَكَةُ أُمَّتِي ") بِفَتْحِ الْهَاءِ وَاللَّامِ أَيْ: هَلَاكُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا الصَّحَابَةُ ; لِأَنَّهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ وَأَكَابِرُ الْأَئِمَّةِ (" عَلَى يَدَيْ ") تَثْنِيَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى (" غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ ") بِكَسْرِ الْغَيْنِ جَمْعُ غُلَامٍ، أَيْ: عَلَى أَيْدِي الشُّبَّانِ الَّذِينَ مَا وَصَلُوا إِلَى مَرْتَبَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، وَالْأَحْدَاثِ السَّنِّ، الَّذِينَ لَا مُبَالَاةَ لَهُمْ بِأَصْحَابِ الْوَقَارِ وَأَرْبَابِ النُّهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا وَقَعَ بَيْنَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَتَلَتِهِ، وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَمَنْ قَاتَلَهُمْ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: لَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِثْلَ يَزِيدَ وَعَبْدِ الْمَلَكِ بْنِ مَرْوَانَ وَغَيْرِهِمَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: " «هَلَاكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

5389 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلَمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ " قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: " الْقَتْلُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5389 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ") أَيْ: زَمَانُ الدُّنْيَا وَزَمَانُ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ اقْتِرَابَ السَّاعَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ بِهِ اقْتِرَابَ السَّاعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَهْلِ الزَّمَانِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الشَّرِّ، أَوْ تَقَارُبَ الزَّمَانِ نَفْسِهِ فِي الشَّرِّ حَتَّى يُشْبِهَ أَوَّلُهُ آخِرَهُ، وَقِيلَ: بِقِصَرِ أَعْمَارِ أَهْلِهِ، اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ بَرَكَةِ الزِّمَانِ مِنْ كَثْرَةِ الْعِصْيَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَهُ أَنْ يَتَسَارَعَ الدِّوَلُ إِلَى الِانْقِضَاءِ وَالْقُرُونُ إِلَى الِانْقِرَاضِ ; فَيَتَقَارَبُ زَمَانُهُمْ وَيَتَدَانَى إِبَّانُهُمْ. (وَيُقْبَضُ الْعِلَمُ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْيَانِ (وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ) أَيْ: وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْمِحَنُ (" وَيُلْقَى الشُّحُّ ") فِي قُلُوبِ أَهْلِهِ أَيْ: عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى يَبْخَلَ الْعَالِمُ بِعَلَمِهِ، وَالصَّانِعُ بِصَنْعَتِهِ، وَالْغَنِيُّ بِمَالِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وُجُودَ أَصْلِ الشُّحِّ، لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ، إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . (وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَبِالْجِيمِ. (قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: " الْقَتْلُ ") فِي الْقَامُوسِ: هَرَجَ النَّاسُ وَقَعُوا فِي فِتْنَةٍ وَاخْتِلَاطٍ وَقَتْلٍ، اهـ. فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَرْجِ قَتْلٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْمَمْزُوجُ بِالْفِتْنَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، فَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5390 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ؟ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ؟ " فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: " الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5390 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا ") أَيْ: جَمِيعُهَا (" حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ ") أَيْ: يَوْمٌ عَظِيمٌ فِيهِ شَرٌّ جَسِيمٌ (" لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ؟ ") أَيِ: الْمَقْتُولُ هَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ أَمْ لَا؟ (" وَلَا الْمَقْتُولُ ") أَيْ: نَفْسُهُ أَوْ أَهْلُهُ (" فِيمَ قُتِلَ؟ ") هَلْ بِسَبَبِ شَرْعِيٍّ أَوْ بِغَيْرِهِ، كَمَا كَثُرَ النَّوْعَانِ فِي زَمَانِنَا، (فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟) أَيْ: مَا سَبَبُ وُقُوعِ الْقَتْلِ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ الْقَاتِلُ وَلَا الْمَقْتُولُ سَبَبَهُ (قَالَ: الْهَرْجُ ") أَيِ: الْفِتْنَةُ وَالِاخْتِلَاطُ الْكَثِيرَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَتْلِ الْمَجْهُولِ، وَالْمَعْنَى: سَبَبُهُ ثَوَرَانُ الْهَرْجِ بِالْكَثْرَةِ وَهَيَجَانُهُ بِالشِّدَّةِ. (" «الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» ") : أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِقَتْلِهِ مُسْلِمًا، وَأَمَّا الْمَقْتُولُ فَلِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ أَيْضًا وَلَمْ يَجِدِ الْفُرْصَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا الْقَاتِلُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَقْتُولُ فَإِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّ مَنْ نَوَى الْمَعْصِيَةَ وَأَصَرَّ عَلَى النِّيَّةِ يَكُونُ آثِمًا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5391 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5391 - (وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ) : هُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، مُزَنِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ، مَاتَ زَمَنَ ابْنِ زِيَادٍ، وَقِيلَ: زَمَنَ مُعَاوِيَةَ، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْعِبَادَةُ ") أَيْ: ثَوَابُهَا مَعَ الِاسْتِقَامَةِ وَالِاسْتِدَامَةِ عَلَيْهَا (" فِي الْهَرْجِ ") أَيْ: زَمَنَ الْفِتْنَةِ وَوَقْتَ الْمُحَارَبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (" كَهَجْرَةٍ إِلَيَّ ") أَيْ: قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ: " ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْعَامِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

5392 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: «أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: " اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ أَشَرُّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ "، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5392 - (وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَمْدَانِيٌّ بِسُكُونِ الْمِيمِ كُوفِيٌّ، كَانَ قَاضِي الرَّيِّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، (قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ: مِنْ ظُلْمِهِ، وَهُوَ حَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، رُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا سِوَى مَا قَتَلَ فِي حُرُوبِهِ، (فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ أَشَرُّ مِنْهُ ") أَيْ: غَالِبًا وَمِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ (" حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ ") ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْيَرُ وَأَشَرُّ أَصْلَانِ مَتْرُوكَانِ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلَانِ إِلَّا نَادِرًا، وَإِنَّمَا الْمُتَعَارَفُ فِي التَّفْضِيلِ خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَفِي الْقَامُوسِ: هُوَ شَرُّ مِنْهُ وَأَشَرُّ مِنْهُ قَلِيلَةٌ أَوْ وَرْدِيَّةٌ، وَفِيهِ أَيْضًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْكَ كَخَيْرٍ اهـ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَ أَخْيَرَ خَيْرٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ أَشَرَّ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ خَيْرَ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّفْضِيلِ وَغَيْرِهِ، فَيَكُونُ أَخْيَرُ نَصًّا فِي الْمَقْصُودِ بِخِلَافٍ شَرٍّ، وَإِنَّمَا يُبَالَغُ فِيهِ بِإِتْيَانِ الْهَمْزِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (سَمِعْتُهُ) أَيْ: قَوْلُهُ: اصْبِرُوا، الْخَ، وَالْأَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ، الْخَ. (مِنْ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، قِيلَ: هَذَا الْإِطْلَاقُ يُشْكِلُ بِزَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْحَجَّاجِ بِيَسِيرٍ، وَبِزَمَنِ الْمَهْدِيِّ وَعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ فِي السُّوءِ مِنْ زَمَنِ الْحَجَّاجِ إِلَى زَمَنِ الدَّجَّالِ، وَأَمَّا زَمَانُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَهُ حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَأَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ زَمَنَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُسْتَثْنًى شَرْعًا مِنَ الْكَلَامِ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَزْمِنَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْأَشْرِبَةُ فِيهَا مَوْجُودَةً مِنْ حَيْثِيَّةٍ دُونَ حَيْثِيَّةٍ، وَبِاعْتِبَارٍ دُونَ آخَرَ، وَفِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ، وَفِي أَمْرٍ دُونَ أَمْرٍ، مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ، وَحَالٍ وَاسْتِقَامَةٍ، وَغَيْرِهَا مِمَّا يَطُولُ تَفْصِيلُهَا، وَهَذَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْبُعْدِ الْبُعْدِيَّةِ عَنْ زَمَانِ الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْعِلِ الْمُنَوِّرِ لِلْعَالَمِ، فَكُلَّمَا أَبْعَدَ عَنْ قُرْبِهِ وَقَعَ فِي زِيَادَةِ ظَلَامٍ وَحَجَبَةٍ، وَقَدْ أَدْرَكَتِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - مَعَ كَمَالِ صَفَاءِ بَاطِنِهِمُ التَّغَيُّرَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ دَفْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ: إِنِّي كُنْتُ فِي جَامِعِ شِيرَازَ مَشْغُولًا بِوِرْدِي فِي لَيْلٍ، إِذْ هَجَمَ عَلَيَّ الْخَاطِرُ، وَأَرَادَ بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ دَاعٍ وَبَاعِثٍ لَهُ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مُلْتَصِقَةٌ بِجِدَارٍ، فَخَطَرَ لِي أَنَّهَا تُرِيدُ بَيْتَهَا وَتَخَافُ فِي طَرِيقِهَا مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، فَذَكَرْتُ لَهَا ذَلِكَ، فَأَشَارَتْ إِلَيَّ بِأَنَّ نَعَمْ، فَتَقَدَّمْتُ عَلَيْهَا وَقُلْتُ لَهَا مَا قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِابْنَةِ شُعَيْبٍ: إِنْ أَخْطَأْتُ الطَّرِيقَ الْقَوِيمَ ارْمِي حَجَرًا يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَأَوْصَلْتُهَا إِلَى بَيْتِهَا وَرَجَعْتُ إِلَى حِزْبِي، وَلَمْ يَخْطُرْ لِي حِينَئِذٍ شَيْءٌ مِنَ الْخَطِرَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الرُّوحَانِيَّةِ، هَجَسَ فِي النَّفْسِ وَتَوَسْوَسَ فِي الْخَاطِرِ مِنَ الْأُمُورِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَتَأَمَّلْتُ أَنَّهُ هَلْ بَاعِثُ هَذَا تَغَيُّرٌ فِي مَأْكَلِي أَوْ مَشْرَبِي أَوْ مَلْبَسِي أَوْ فِي مَقْصِدِي لِعِبَادَتِي وَطَاعَتِي، أَوْ حُدُوثِ حَادِثٍ فِي صُحْبَةِ أَحِبَّتِي، أَوْ خِلْطَةِ ظَالِمٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَمَا رَأَيْتُ سَبَبًا لِظُهُورِ هَذِهِ الظُّلْمَةِ إِلَّا الْبُعْدَ عَنْ نُورِ زَمَانِ الْحَضْرَةِ الْمُوجِبِ لِحُصُولِ مِثْلِ هَذِهِ الْخَطَرَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ وَلَا يَوْمٌ إِلَّا وَالَّذِي بِعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالنِّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» " وَفِي الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا يَنْقُصُ الْخَيْرُ فِيهِ وَيَزِيدُ الشَّرُّ» ". قَالَ الزَّرْكَشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَيُحِدِثُ النَّاسُ بِدْعَةً وَيُمِيتُونَ سُنَّةً، حَتَّى تُمَاتُ السُّنَنُ وَتَحْيَا الْبِدَعُ، فَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرِّ مَوْتُ السُّنَنِ وَإِحْيَاءُ الْبِدَعِ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنَ الْمَلَوَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرُّ مِنْهُ» "، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ مِنْ حَدِيثِ: كُلُّ عَامٍ تَرْذُلُونَ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5393 - «عَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَصْحَابِي أَمْ تَنَاسَوْا؟ وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَائِدِ فِتْنَةٍ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ " ثَلَاثَمِائَةٍ فَصَاعِدًا " إِلَّا قَدْ سَمَّاهُ لَنَا بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ قَبِيلَتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5393 - (عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَصْحَابِي) أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ (أَمْ تَنَاسَوْا) أَيْ: أَظْهَرُوا النِّسْيَانَ (وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَائِدِ فِتْنَةٍ) أَيْ: دَاعِي ضَجَّةٍ وَبَاعِثِ بِدْعَةٍ، وَ (مِنْ) : زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ (إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا) أَيْ: إِلَى انْقِضَائِهَا وَانْتِهَائِهَا (يَبْلُغُ) صِفَةٌ لِلْقَائِدِ أَيْ: يَصِلُ (مَنْ مَعَهُ) أَيْ: مِقْدَارُ أَتْبَاعِهِ (" ثَلَاثَمِائَةٍ فَصَاعِدًا ") أَيْ: فَزَائِدًا عَلَيْهِ (إِلَّا قَدْ سَمَّاهُ) أَيْ: ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَائِدَ (لَنَا بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ قَبِيلَتِهِ) ، وَالْمَعْنَى: مَا جَعَلَهُ مُتَّصِفًا بِوَصْفٍ إِلَّا بِوَصْفِ تَسْمِيَتِهِ، الْخَ. يَعْنِي وَصْفًا وَاضِحًا مُفَصَّلًا لَا مُبْهَمًا مُجْمَلًا، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: (إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ) مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذِكْرَ قَائِدِ فِتْنَةٍ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا مُهْمَلًا، لَكِنْ قَدْ سَمَّاهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بِقَائِدِ الْفِتْنَةِ مَنْ يَحْدُثُ بِسَبَبِهِ بِدْعَةً، أَوْ ضَلَالَةً، أَوْ مُحَارَبَةً، كَعَالِمٍ مُبْتَدِعٍ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبِدْعَةِ، أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ يُحَارِبُ الْمُسْلِمِينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5394 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5394 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ) : هُوَ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ» ") الْأَئِمَّةُ: جَمْعُ إِمَامٍ وَهُوَ مُقْتَدَى الْقَوْمِ وَرَئِيسُهُمْ، وَمَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ، (" «وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ") أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ آخَرَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .

5395 - وَعَنْ سَفِينَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا» ". ثُمَّ يَقُولُ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ، خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَةً، وَعُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَعَلِيٍّ سِتَّةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5395 - (وَعَنْ سَفِينَةَ) : هُوَ أَيْضًا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَالُ: إِنَّ سَفِينَةَ لَقَبٌ لَهُ وَاسْمُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ مَعَهُ فَأُعْيَا رَجُلٌ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَرُمْحَهُ، فَحَمَلَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ سَفِينَةٌ ". رَوَى عَنْهُ بَنُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدٌ، وَزِيَادٌ، وَكَثِيرٌ. (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْخِلَافَةُ ") أَيِ: الْحَقَّةُ أَوِ الْمَرْضِيَّةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوِ الْكَامِلَةُ أَوِ الْمُتَّصِلَةُ (ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ ") أَيْ: تَنْقَلِبُ الْخِلَافَةُ وَتَرْجِعُ (" مُلْكًا ") بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: سَلْطَنَةً وَغَلَبَةً عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: وَهَذَا مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَرْوَانِيَّةِ، كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْخِلَافَةَ الْكَامِلَةَ الَّتِي لَا يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَمَيْلٌ عَنِ الْمُتَابَعَةِ تَكُونُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَبَعْدَهَا قَدْ تَكُونُ وَقَدْ لَا تَكُونُ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْوَانِيَّةَ أَوَّلُهُمْ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ، ثُمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ، ثُمَّ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْوَلِيدُ، ثُمَّ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ، ثُمَّ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، ثُمَّ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْهُمُ الْخِلَافَةُ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ. هَذَا وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ يَعْنِي أَنَّ الْخِلَافَةَ حَقُّ الْخِلَافَةِ إِنَّمَا هِيَ لِلَّذِينِ صَدَّقُوا هَذَا الِاسْمَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِسُّنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَعْدِهِ، فَإِذَا خَالَفُوا السُّنَّةَ وَبَدَّلُوا السِّيرَةَ فَهُمْ حِينَئِذٍ مُلُوكٌ، وَإِنْ كَانَ أَسَامِيهُمْ خُلَفَاءَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَمَّى الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِبَعْضِ سِيَرِ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ لِقِيَامِهِ بِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُسَمَّى خَلِيفَةً ; لِأَنَّهُ خَلَفَ الْمَاضِي قَبْلَهُ وَقَامَ مَقَامَهُ، وَلَا يُسَمَّى أَحَدٌ خَلِيفَةَ اللَّهِ بَعْدَ آدَمَ وَدَاوُدَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

قُلْتُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلِيفَتُهُ فِي خَلِيقَتِهِ، بَلْ وَيَدُلُّ إِطْلَاقُهَا عَلَى غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ " الْحَدِيثَ. قَالَ: وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ! فَقَالَ: وَيْحَكَ لَقَدْ تَنَاوَلْتَ مُتَنَاوَلًا، إِنَّ أُمَّتِي سَمَّتْنِي عُمَرَ، فَلَوْ دَعَوْتَنِي بِهَذَا الِاسْمِ قَبِلْتُ، ثُمَّ وَلَّيْتُمُونِي أُمُورَكُمْ فَسَمَّيْتُمُونِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ دَعَوْتَنِي بِذَلِكَ كَفَاكَ، أَيْ: فِي رِعَايَةِ الْأَدَبِ وَقَصْدِ التَّعْظِيمِ، فَهَذَا مِنْهُ تَوَاضُعٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَتَمَسْكُنٌ مَعَ الْخَالِقِ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ لَهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (ثُمَّ يَقُولُ سَفِينَةُ) أَيْ: لِرَاوِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ خِطَابُ الْعَامِّ (أَمْسِكْ) أَيْ: عُدَّ مُدَّةَ الْخِلَافَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ يُقَالَ: امْسِكْ أَنِ اضْبُطِ الْحِسَابَ عَاقِدًا أَصَابِعَكَ حَتَّى يَكُونَ أَمْسِكْ مَحْمُولًا عَلَى أَصْلِهِ، اهـ. وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى احْسِبْ وَاحْفَظْ. (خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَةً) أَيْ: أَعْوَامٍ (وَعُثْمَانَ) أَيْ: خِلَافَتُهُ (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً) وَفِي نُسْخَةٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَيْ: عَامًا (وَعَلِيٍّ) أَيْ: وَخِلَافَةُ عَلِيٍّ (سِتَّةً) أَيْ: سِتَّةُ أَعْوَامٍ، فِعْلِيٌّ خَاتَمُ الْخُلَفَاءِ، كَالنَّبِيِّ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَهْدِيُّ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَفِي الْجَامِعِ: " «الْخِلَافَةُ بَعْدِي فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَفِينَةَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ» ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مَا تُوجَدُ فِي مَكَانِ صَاحِبِ النُّبُوَّةِ عَلَى اتِّفَاقِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ فِي الْحَقِيقَةِ بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَمِنْ أَمْثَالِ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِطَرِيقِ التَّسَلُّطِ الَّتِي تُسَمَّى مُلْكًا ; لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى نِظَامِ حَالِ الْعَامَّةِ ; وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى الْفِتْنَةِ الطَّامَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5396 - «وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ، كَمَا كَانَ قَبْلَهُ شَرٌّ؟ قَالَ: " نَعَمْ "، قُلْتُ: فَمَا الْعِصْمَةُ؟ قَالَ: " السَّيْفُ "، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ السَّيْفِ بَقِيَّةٌ؟ قَالَ " نَعَمْ " تَكُونُ إِمَارَةُ أَقْذَاءٍ، وَهُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ ". قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " ثُمَّ يَنْشَأُ دُعَاةُ الضَّلَالِ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ جَلَدَ ظَهْرَكَ، وَأَخَذَ مَالَكَ، فَأَطِعْهُ، وَإِلَّا فَمُتْ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جَذْلِ شَجَرَةٍ "، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَهُ نَهْرٌ وَنَارٌ، فَمَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ، وَجَبَ أَجْرُهُ، وَحُطَّ وِزْرُهُ، وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهْرِهِ، وَجَبَ وِزْرُهُ، وَحُطَّ أَجْرُهُ ". قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ يُنْتَجُ الْمُهْرُ فَلَا يُرْكَبُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ "، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: " هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ، وَجَمَاعَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْهُدْنَةُ عَلَى الدَّخَنِ مَا هِيَ؟ قَالَ: " لَا تَرْجِعُ قُلُوبُ أَقْوَامٍ عَلَى الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ "، قُلْتُ: بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: " فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ، عَلَيْهَا دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ النَّارِ، فَإِنْ مُتَّ يَا حُذَيْفَةُ! وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جَذْلٍ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتْبَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5396 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ) أَيِ: الْإِسْلَامُ وَالنِّظَامُ التَّامُّ، الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، وَالْمَعْنَى: أَيُوجَدُ وَيَحْدُثُ بَعْدَ وُجُودِ هَذَا الْخَيْرِ (شَرٌّ، كَمَا كَانَ قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ الْخَيْرِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ زَمَنُ الْجَاهِلِيَّةِ (شَرٌّ؟ قَالَ: " نَعَمْ ") أَيْ: لِأَنَّ مَا وَرَاءَ كُلِّ كَمَالٍ زَوَالٌ، إِلَّا كَمَالَ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، (قُلْتُ: فَمَا الْعِصْمَةُ؟) أَيْ: فَمَا طَرِيقُ النَّجَاةِ، مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الشَّرِّ؟ (قَالَ: " السَّيْفُ ") أَيْ: تَحْصُلُ الْعِصْمَةُ بِاسْتِعْمَالِ السَّيْفِ، أَوْ طَرِيقُهَا أَنْ تَضْرِبَهُمْ بِالسَّيْفِ. قَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ هُمُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَمَنِ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَذَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَشْمَلَ مَا وَقَعَ مِنْ مُعَاوِيَةَ مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّ الْحَقَّ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ، وَأَنَّ الْعِصْمَةَ كَانَتْ بِالْمُقَاتَلَةِ مَعَ مُعَاوِيَةَ ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمَّارٍ: " «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» "، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، (قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ السَّيْفِ فِتْنَةٌ؟) أَيْ: مِنَ الشَّرِّ أَوْ مِنَ الْخَيْرِ. قَالَ شَارِحٌ: أَيْ: هَلْ يَبْقَى الْإِسْلَامُ بَعْدَ مُحَارَبَتِنَا إِيَّاهِمْ؟ (قَالَ: " نَعَمْ، تَكُونُ إِمَارَةٌ ") بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ: وِلَايَةٌ وَسُلْطَةٌ، (" عَلَى أَقْذَاءِ ") فِي النِّهَايَةِ: الْأَقْذَاءُ جَمْعُ قَذًى، وَالْقَذَى جَمْعُ قَذَاةٍ، وَهِيَ مَا يَقَعُ

فِي الْعَيْنِ وَالْمَاءِ وَالشَّرَابِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ تِبْنٍ أَوْ وَسَخٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَرَادَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ يَكُونُ عَلَى فَسَادٍ فِي قُلُوبِكُمْ، فَشَبَّهَهُ بِقَذَى الْعَيْنِ وَنَحْوَهَا، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: إِمَارَةٌ مَشُوبَةٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْبِدَعِ وَارْتِكَابِ الْمَنَاهِي، (" وَهُدْنَةٌ ") بِضَمِّ الْهَاءِ أَيْ: صُلْحٌ (" عَلَى دَخَنٍ ") بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مَعَ خِدَاعٍ وَنِفَاقٍ وَخِيَانَةٍ. وَفِي الْفَائِقِ: هَدَنَ أَيْ: سَكَنَ، ضَرَبَهُ مَثَلًا لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَسَادِ الْبَاطِنِ تَحْتَ الصَّلَاحِ الظَّاهِرِ، اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ثُمَّ يَكُونُ اجْتِمَاعُ النَّاسِ عَلَى مَنْ جُعِلَ أَمِيرًا بِكَرَاهِيَةِ نَفْسٍ لَا بِطِيبِ قَلْبٍ، يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا وَفَى الْعَيْنِ قَذًى، أَيْ: فَعَلْتُهُ عَلَى كَرَاهَةٍ وَإِغْمَاضِ عَيْنٍ، كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْقَذَى ظَاهِرُهَا صَحِيحٌ وَبَاطِنُهَا صَرِيخٌ، وَأَصْلُ الدَّخَنِ هُوَ الْكُدُورَةُ وَاللَّوْنُ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَاحٌ مَشُوبٌ بِالْفَسَادِ ; فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى صُلْحِ الْحَسَنِ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَتَفْوِيضِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ وَاسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْإِمَارَةِ عَلَيْهِ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بِصُلْحِ الْحَسَنِ لَمْ يَصِرْ خَلِيفَةً، خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟) أَيْ: مَاذَا يَكُونُ (قَالَ: " ثُمَّ تَنْشَأُ ") أَيْ: تَظْهَرُ (" دُعَاةُ الضَّلَالِ ") أَيْ: جَمَاعَةٌ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْبِدَعِ أَوِ الْمَعَاصِي، (" فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ ") أَيْ: مَوْجُودًا فِيهَا، وَلَوْ مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ (" جَلَدَ ظَهْرَكَ ") أَيْ: ضَرَبَكَ بِالْبَاطِلِ (" وَأَخَذَ مَالَكَ ") أَيْ: بِالْغَصْبِ، أَوْ مَا لَكَ مِنَ الْمَنْصِبِ، وَالنَّصِيبِ بِالتَّعَدِّي (" فَأَطِعْهُ ") أَيْ: وَلَا تُخَالِفْهُ ; لِئَلَّا تَثُورَ فِتْنَةٌ (" وَإِلَّا ") أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ (" فَمُتْ ") : أَمْرٌ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا قِيلَ: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَكَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْخُمُولِ وَالْعُزْلَةِ بِالْمَوْتِ، فَإِنَّ غَالِبَ لَذَّةِ الْحَيَاةِ تَكُونُ بِالشُّهْرَةِ وَالْخِلْطَةِ وَالْخَلْوَةِ، (" وَأَنْتَ عَاضٌّ ") : بِتَشْدِيدِ الضَّادِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ آخِذًا بِقُوَّةٍ وَمَاسِكًا بِشِدَّةٍ (" عَلَى جَذْلِ شَجَرَةٍ ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ أَيْ: أَصْلُهَا، قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: فَعَلَيْكَ بِالْعُزْلَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى غُصَصِ الزَّمَانِ وَالتَّحَمُّلِ لِمَشَاقِّهِ وَشَدَائِدِهِ، وَعَضُّ جَذْلِ الشَّجَرَةِ وَهُوَ أَصْلُهَا كِنَايَةً عَنْ مُكَابَدَةِ الشِّدَادِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَعُضُّ بِالْحِجَارَةِ لِشِدَّةِ الْأَلَمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنِ النَّاسِ، وَيَتَبَوَّأَ أَجِمَةً وَيَلْزَمُهَا إِلَى أَنْ يَمُوتَ أَوْ يَنْقَلِبَ الْأَمْرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَضَّ الرَّجُلُ بِصَاحِبِهِ إِذَا لَزِمَهُ وَلَصِقَ بِهِ، وَمِنْهُ: عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَسِيمَةُ قَوْلِهِ: فَأَطِعْهُ، وَمَعْنَاهُ: إِنْ لَمْ تُطِعْهُ أَدَّتْكَ الْمُخَالَفَةُ إِلَى مَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَيْهِ، وَيَدُلَّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ عَلَيْهَا دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ النَّارِ، فَإِنْ مُتَّ يَا حُذَيْفَةُ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جَذْلٍ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَدًا مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَهُوَ قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ، عَلَى الثَّانِي هُوَ مُسَبَّبٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَطِعْهُ، هَذَا وَفِي نُسْخَةٍ: قُمْتَ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ مِنَ الْقِيَامِ بَدَلَ فَمُتْ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قُمْ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ. (قُلْتُ ثُمَّ مَاذَا؟) أَيْ: مِنَ الْفِتَنِ (قَالَ: " ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ ") أَيْ: زَمَنَ الْمَهْدِيِّ (" بَعْدَ ذَلِكَ ") أَيْ: بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ وُقُوعِ أَنْوَاعِ الشُّرُورِ وَالْفِتَنِ (" وَمَعَهُ نَهْرٌ ") : بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْ: نَهْرُ مَاءٍ (" وَنَارٌ ") أَيْ: خَنْدَقُ نَارٍ، قِيلَ: إِنَّهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخَيُّلِ مِنْ طَرِيقِ السِّحْرِ وَالسِّيمِيَاءِ، وَقِيلَ: مَاؤُهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَارٌ وَنَارُهُ مَاءٌ. (" فَمَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ ") أَيْ: مَنْ خَالَفَهُ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي نَارِهِ، وَأَضَافَ النَّارَ إِلَيْهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَارٍ حَقِيقَةً بَلْ سِحْرًا (" وَجَبَ أَجْرُهُ ") أَيْ: ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ أَجْرُ الْوَاقِعِ (" وَحُطَّ ") أَيْ: وَرُفِعَ وَسُومِحَ (" وِزْرُهُ ") أَيْ: إِثْمُهُ السَّابِقُ، (" وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهْرِهِ ") أَيْ: حَيْثُ وَافَقَهُ فِي أَمْرِهِ (" وَجَبَ وَزِرُهُ ") أَيِ: اللَّاحِقُ (" وَحُطَّ أَجْرُهُ ") أَيْ: بَطَلَ عَمَلُهُ السَّابِقُ، (" قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " ثُمَّ يُنْتَجُ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ ثُمَّ يُولَدُ (" الْمُهْرُ ") : بِضَمٍّ وَسُكُونِ هَاءٍ أَيْ: وَلَدُ الْفَرَسِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُنْتَجُ مِنَ النَّتْجِ لَا مِنَ النِّتَاجِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَلَا مِنَ الْإِنْتَاجِ، يُقَالُ: نَتَجَتِ الْفَرَسُ أَوِ النَّاقَةُ عَلَى بِنَاءِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ نِتَاجًا، وَنَتَجَهَا أَهْلُهَا نَتَجًا،

وَالْإِنْتَاجُ اقْتِرَابُ وِلَادَتِهَا، وَقِيلَ: اسْتِبَانَةُ حَمْلِهَا، (" فَلَا يُرْكِبُ ") : بِكَسْرِ الْكَافِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْكَبَ الْمُهْرُ إِذَا حَانَ وَقْتُ رُكُوبِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَتْحُ الْكَافِ أَيْ: " فَلَا يَرْكَبُ الْمُهْرَ لِأَجْلِ الْفِتَنِ أَوْ لِقُرْبِ الزَّمَنِ، (" حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ") قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ زَمَنُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا يُرْكَبُ الْمُهْرُ لِعَدَمِ احْتِيَاجِ النَّاسِ فِيهِ إِلَى مُحَارَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ لَا يَكُونُ زَمَانٌ طَوِيلٌ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَيْ: يَكُونُ حِينَئِذٍ قِيَامُ السَّاعَةِ قَرِيبًا قَدْرَ زَمَانِ إِنْتَاجِ الْمُهْرِ وَإِرْكَابِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ. (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: بَدَلٌ: تَكُونُ إِمَارَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ إِلَخْ، (قَالَ: " هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ ") أَيْ: صُلْحٌ مَعَ كُدُورَةٍ، وَصَفَاءٌ مَعَ ظُلْمَةٍ، (" وَجَمَاعَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ ") أَيْ: وَاجْتِمَاعٌ عَلَى أَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ عُيُوبٍ مُؤْتَلِفَةٍ، (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْهُدْنَةُ عَلَى الدَّخَنِ مَا هِيَ؟ قَالَ؟ " لَا تَرْجِعُ قُلُوبُ أَقْوَامٍ ") : بِرَفْعِ قُلُوبٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِنَصْبِهِ بِنَاءً عَلَى أَنْ رَجَعَ لَازِمٌ أَوْ مُتَعَدٍّ، أَيْ: لَا تَصِيرُ قُلُوبَ جَمَاعَاتٍ أَوْ لَا تَرِدُ الْهُدْنَةُ قُلُوبَهُمْ (" عَلَى الَّذِي ") أَيْ: عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْ عَلَى الصَّفَاءِ الَّذِي (" كَانَتْ ") أَيْ: تِلْكَ الْقُلُوبُ (" عَلَيْهِ ") أَيْ: لَا تَكُونُ قُلُوبُهُمْ صَافِيَةً عَنِ الْحِقْدِ وَالْبُغْضِ كَمَا كَانَتْ صَافِيَةً قَبْلَ ذَلِكَ، (قُلْتُ: بَعْدَ هَذَا) أَيْ: يَقَعُ بَعْدَ هَذَا (الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: " فِتْنَةٌ ") أَيْ: نِعْمَةٍ يَقَعُ شَرٌّ هُوَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ وَبَلِيَّةٌ جَسِيمَةٌ (" عَمْيَاءُ ") أَيْ: يَعْمَى فِيهَا الْإِنْسَانُ عَنْ أَنْ يَرَى الْحَقَّ (" صَمَّاءُ ") أَيْ: يَصُمُّ أَهْلُهَا عَنْ أَنْ يَسْمَعَ فِيهَا كَلِمَةَ الْحَقِّ أَوِ النَّصِيحَةِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا عَمْيَاءَ صَمَّاءَ أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَرَى مِنْهَا مَخْرَجًا، وَلَا يُوجِدُ دُونَهَا مُسْتَغَاثًا، أَوْ أَنْ يَقَعَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى غِرَّةٍ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ، فَيُعْمُونَ فِيهَا وَيُصَمُّونَ عَنْ تَأَمُّلِ قَوْلِ الْحَقِّ وَاسْتِمَاعِ النُّصْحِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْفِتْنَةِ بِهِمَا كِنَايَةً عَنْ ظُلْمَتِهَا، وَعَدَمِ ظُهُورِ الْحَقِّ فِيهَا، وَعَنْ شِدَّةِ أَمْرِهَا وَصَلَابَةِ أَهْلِهَا، وَعَدَمِ الْتِفَاتِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فِي الْمُشَاهَدَةِ وَالْمَكَانَةِ وَأَمْثَالِهَا، (" عَلَيْهَا ") أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ (" دُعَاةٌ ") أَيْ: جَمَاعَةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِهَا وَدَاعِيَةٌ لِلنَّاسِ إِلَى قَبُولِهَا (" عَلَى أَبْوَابِ النَّارِ ") حَالٌ أَيْ: فَكَأَنَّهُمْ كَائِنُونَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنَ النَّارِ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْهَا حَتَّى يَتَّفِقُوا عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا، (" فَإِنْ مُتَّ ") بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا (" يَا حُذَيْفَةُ! وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جَذْلٍ ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مِنِ اخْتِيَارِ الِاعْتِزَالِ وَالْقَنَاعَةِ بِأَكْلِ قِشْرِ الْأَشْجَارِ وَالْمَنَامِ فَوْقَ الْأَحْجَارِ (" خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ ") : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا وَفَتْحُ الْبَاءِ، (" أَحَدًا مِنْهُ ") أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ، أَوْ مِنْ دُعَاتِهِمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَالنِّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

5397 - «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ رَدِيفًا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا، عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا جَاوَزْنَا بُيُوتَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: " كَيْفَ بِكَ يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ جُوعٌ تَقُومُ عَنْ فِرَاشِكَ وَلَا تَبْلُغُ مَسْجِدَكَ حَتَّى يُجْهِدَكَ الْجُوعُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " تَعَفَّفْ يَا أَبَا ذَرٍّ! "، قَالَ: " كَيْفَ بِكَ يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ مَوْتٌ يَبْلُغُ الْبَيْتَ الْعَبْدُ حَتَّى إِنَّهُ يُبَاعُ الْقَبْرُ بِالْعَبْدِ؟ " قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " تَصْبِرُ يَا أَبَا ذَرٍّ! "، قَالَ: " كَيْفَ بِكَ يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَتْلٌ تَغْمُرُ الدِّمَاءُ أَحْجَارَ الزَّيْتِ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " تَأْتِي مَنْ أَنْتَ مِنْهُ "، قَالَ: قُلْتُ: وَأَلْبَسُ السِّلَاحَ؟ قَالَ: " شَارَكْتَ الْقَوْمَ إِذًا " قُلْتُ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ نَاحِيَةَ ثَوْبِكَ عَلَى وَجْهِكَ لِيَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5397 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ رَدِيفًا) أَيْ: رَاكِبًا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: ظَرْفٌ وَقَعَ صِفَةً مُؤَكِّدَةً لَرَدِيفًا، (يَوْمًا عَلَى حِمَارٍ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ تَوَاضُعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَسُنِ مُعَاشَرَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَكَمَالِ قُرْبِ أَبِي ذَرٍّ لَهُ حِينَئِذٍ، وَلِذَا ذَكَرَهُ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى كَمَالِ حِفْظِهِ الْقَضِيَّةَ وَاسْتِحْضَارِهِ إِيَّاهَا، (فَلَمَّا جَاوَزْنَا بُيُوتَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: " كَيْفَ بِكَ ") ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: كَيْفَ أَنْتَ أَيْ حَالُكَ (يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا كَانَ) أَيْ: وَقَعَ (" بِالْمَدِينَةِ جُوعٌ ") أَيْ:

خَاصٌّ لَكَ أَوْ قَحْطٌ عَامٌّ (" تَقُومُ عَنْ فِرَاشِكَ وَلَا تَبْلُغُ مَسْجِدَكَ ") أَيِ: الَّذِي قَصَدْتَهُ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ (" حَتَّى يُجْهِدَكَ الْجُوعُ ") : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا أَيْ يُوصِلُ إِلَيْهِ الْمَشَقَّةَ وَيُعْجِزُكَ عَنِ الْمَشْيِ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْمَسْجِدِ (قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) أَيْ: بِحَالِي وَحَالِ غَيْرِي فِي تِلْكَ الْحَالِ وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ، (قَالَ: " تَعَفَّفْ ") بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيِ: الْتَزِمِ الْعِفَّةَ (" يَا أَبَا ذَرٍّ) : وَهِيَ الصَّلَاحُ وَالْوَرَعُ وَالتَّصَبُّرُ عَلَى أَذَى الْجُوعِ وَالتَّقْوَى، وَالْكَفُّ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ، وَعَنِ السُّؤَالِ مِنَ الْمَخْلُوقِ وَالطَّمَعِ فِيهِ وَالْمَذَلَّةِ عِنْدَهُ، (قَالَ: " كَيْفَ بِكَ يَا أَبَا ذَرٍّ! ") ، فِي نِدَائِهِ مُكَرِّرًا تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى أَخْذِ الْحَدِيثِ مُقَرَّرًا (" إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ مَوْتٌ ") أَيْ: بِسَبَبِ الْقَحْطِ أَوْ وَبَاءٍ مِنْ عُفُونَةِ هَوَاءٍ أَوْ غَيْرِهَا (" يَبْلُغُ الْبَيْتَ ") أَيْ: يَصِلُ مَوْضِعَ قَبْرِ الْمَيِّتِ (" الْعَبْدُ ") أَيْ: قَيِمَتُهُ أَوْ نَفْسُهُ (" حَتَّى إِنَّهُ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيُفْتَحُ أَيِ الشَّأْنُ (" يُبَاعُ الْقَبْرُ بِالْعَبْدِ ") : هَذَا تَوْضِيحٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ إِيهَامِ الْبَيْتِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ هَاهُنَا الْقَبْرُ، وَأَرَادَ أَنَّ مَوْضِعَ الْقُبُورِ يَضِيقُ ; فَيَبْتَاعُونَ كُلَّ قَبْرٍ بِعَبْدٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ وَإِنِ اسْتَمَرَّ بِالْأَحْيَاءِ وَفَشَا فِيهِمْ كُلَّ الْفُشُوِّ لَمْ يَنْتَهِ بِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَمْكِنَةَ، اهـ كَلَامَهُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْضِعِ الْقُبُورِ الْجَبَّانَةُ الْمَعْهُودَةُ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ عَنْهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ عَنْ دَفْنِ الْمَوْتَى بِمَا هُمْ فِيهِ ; حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَحْفِرُ قَبْرَ الْمَيِّتِ فَيَدْفِنُهُ إِلَّا أَنْ يُعْطَى عَبْدًا أَوْ قِيمَةَ عَبْدٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي كُلِّ بَيْتٍ كَانَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسُ إِلَّا عَبْدٌ يَقُومُ بِمَصَالِحِ ضَعَفَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي يَكُونُ الْبَيْتُ رَخِيصًا فَيُبَاعُ بَيْتٌ بِعَبْدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ لَا يَحْسُنُ مَوْقِعُ حَتَّى، حُسْنُهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. قُلْتُ: بَلْ لَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ وُقُوعُ حَتَّى، وَلَعَلَّهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْمَصَابِيحِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى وُجُوبِ قَطْعِ النَّبَّاشِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الْقَبْرَ بَيْتًا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حِرْزٌ كَالْبُيُوتِ. قُلْتُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطَعَ النَّبَّاشَ» ، لَكِنْ حَمَلَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لِلسِّيَاسَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) كَمَا تَقَدَّمَ، (قَالَ: " تَصَبَّرْ يَا أَبَا ذَرٍّ ") : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَمْرٌ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَفِي نُسْخَةٍ: تَصْبِرُ مُضَارِعُ صَبَرَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ: اصْبِرْ بِالْبَلَاءِ، وَلَا تَجْزَعْ فِي الضَّرَّاءِ، وَلَا تَنْسَ بَقِيَّةَ النَّعْمَاءِ وَالسَّرَّاءِ، وَارْضَ بِمَا يَجْرِي مِنَ الْقَضَاءِ تُصِبِ الْأَجْرَ مِنْ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. (قَالَ: " كَيْفَ بِكَ يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَتْلٌ ") أَيْ: سَرِيعٌ عَظِيمٌ (" تَغْمُرُ ") : بِسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ تَسْتُرُ وَتَعْلُو (" الدِّمَاءُ ") أَيْ: كَثْرَةُ دِمَاءِ الْقَتْلَى (أَحْجَارَ الزَّيْتِ) ؟ قِيلَ: هِيَ مَحَلَّةٌ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: مَوْضِعٌ بِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ مِنَ الْحَرَّةِ الَّتِي كَانَتْ بِهَا الْوَقْعَةُ زَمَنَ يَزِيدَ، وَالْأَمِيرُ عَلَى تِلْكَ الْجُيُوشِ الْعَاتِيَةِ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمُرِّيُّ الْمُسْتَبِيحُ بِحَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ نُزُولُهُ بِعَسْكَرِهِ فِي الْحَرَّةِ الْغَرْبِيَّةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَبَاحَ حُرْمَتَهَا وَقَتَلَ رِجَالَهَا وَعَاثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ خَمْسَةً، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمَلْحُ فِي الْمَاءِ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ. (قَالَ: " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " تَأْتِي مَنْ أَنْتَ مِنْهُ ") : خَبَرٌ مَعْنَاهُ أَمْرٌ أَيِ ائْتِ مَنْ يُوَافِقُكَ فِي دِينِكَ وَسِيرَتِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: أَيِ ارْجِعْ إِلَى مَنْ أَنْتَ جِئْتَ مِنْهُ وَخَرَجْتَ مِنْ عِنْدِهِ يَعْنِي أَهْلَكَ وَعَشِيرَتَكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُطَابِقُ عَلَى هَذَا سُؤَالُهُ (قَالَ: قُلْتُ: وَأَلْبَسُ السِّلَاحَ) ؟ . وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ ارْجِعْ إِلَى إِمَامِكَ وَمَنْ بَايَعْتَهُ ; فَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ أَنْ يَقُولَ: وَأَلْبَسُ السِّلَاحَ وَأُقَاتِلُ مَعَهُ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" شَارَكْتَ الْقَوْمَ ") أَيْ: فِي الْإِثْمِ (" إِذًا ") أَيْ: إِذَا لَبِسْتَ السِّلَاحَ، الْمَعْنَى: لَا تَلْبَسِ السِّلَاحَ وَكُنْ مَعَ الْإِمَامِ وَأَرْبَابِ الصَّلَاحِ، وَلَا تُقَاتِلْ حَتَّى يَحْصُلَ لَكَ الْفَلَاحُ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ

اللَّهُ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّ إِمَامَهُ إِذَا قَاتَلَ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ مَعَهُ؟ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: (شَارَكْتَ) لِتَأْكِيدِ الزَّجْرِ عَنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَإِلَّا فَالدَّفْعُ وَاجِبٌ، اهـ. وَذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَرَّرَهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الدَّفْعَ جَائِزٌ إِذَا كَانَ الْخَصْمُ مُسْلِمًا إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ فَسَادٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ كَافِرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ. (قُلْتُ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ ") بِفَتْحِ الْهَاءِ أَيْ: يَغْلِبُكَ (" شُعَاعُ السَّيْفِ ") بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: بَرِيقُهُ وَلَمَعَانُهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْمَالِ السَّيْفِ (" فَأَلْقِ ") أَمْرٌ مِنَ الْإِلْقَاءِ أَيِ: اطْرَحْ (" نَاحِيَةَ ثَوْبِكَ ") أَيْ: طَرَفَهُ (" عَلَى وَجْهِكَ ") أَيْ: لِئَلَّا تَرَى وَلَا تَفْزَعْ وَلَا تَجْزَعْ، وَالْمَعْنَى: لَا تُحَارِبْهُمْ وَإِنْ حَارَبُوكَ، بَلِ اسْتَسْلِمْ نَفْسَكَ لِلْقَتْلِ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ مَعَهُمْ عَدَمُ الْمُحَارَبَةِ وَالِاسْتِسْلَامِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (" لِيَبُوءَ ") أَيْ: لِيَرْجِعَ الْقَاتِلُ (" بِإِثْمِكَ ") أَيْ: بِإِثْمِ قَتْلِكَ (" وَإِثْمِهِ ") أَيْ: وَبِسَائِرِ إِثْمِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

5398 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَيْفَ بِكَ إِذَا أُبْقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ؟ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا؟ " وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. قَالَ: فَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: " عَلَيْكَ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامِّهِمْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «الْزَمْ بَيْتَكَ، وَأَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5398 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (ابْنِ الْعَاصِ) بِغَيْرِ يَاءٍ هُوَ الصَّحِيحُ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " كَيْفَ بِكَ ") سَبَقَ إِعْرَابُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَيْفَ أَنْتَ، أَيْ كَيْفَ حَالُكَ (" إِذَا أُبْقِيتَ ") : مَجْهُولٌ مِنَ الْإِبْقَاءِ أَيْ: إِذَا أَبْقَاكَ اللَّهُ بِمَعْنَى عَمَّرَكَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْبَقَاءِ أَيْ: إِذَا بَقِيتَ (" فِي حُثَالَةٍ ") : بِضَمِّ الْحَاءِ وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَهِيَ مَا سَقَطَ مِنْ قِشْرِ الشَّعِيرِ وَالْأَرُزِّ وَالتَّمْرِ وَالرَّدِيءِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ: فِي قَوْمٍ رُدَأًى (" مِنَ النَّاسِ مَرِجَتْ ") : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: فَسَدَتْ (" عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ ") ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَمَانَتُهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ، وَالْجَمْعُ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُقَابَلَةِ وَالتَّوْزِيعِ مَعَ إِمْكَانِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ فِيهِمَا، فَتَأَمَّلْ، وَالْمَعْنَى: لَا يَكُونُ أَمْرُهُمْ مُسْتَقِيمًا، بَلْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ عَلَى طَبْعٍ وَعَلَى عَهْدٍ، يَنْقُضُونَ الْعُهُودَ وَيَخُونُونَ الْأَمَانَاتِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيِ اخْتَلَطَتْ وَفَسَدَتْ ; فَقَلِقَتْ فِيهِمْ أَسْبَابُ الدِّيَانَاتِ. (" وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا "! وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) أَيْ: يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَيَلْتَبِسُ أَمْرُ دِينِهِمْ، فَلَا يُعْرَفُ الْأَمِينُ مِنَ الْخَائِنِ، وَلَا الْبَرُّ مِنَ الْفَاجِرِ. هَذَا وَفِي نُسْخَةٍ: مَرَجَتْ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان: 53] فَفِيهِ ضَمِيرٌ إِلَى الْحُثَالَةِ، فَالْمَعْنَى: أَفْسَدَتْ تِلْكَ الْجَمَاعَةُ الْقُمَامَةُ عُهُودَهُمْ وَأَمَانَاتِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي أُمُورِ دِيَانَاتِهِمْ، فَكَانُوا كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ فِي الِاشْتِبَاكِ مُشَبَّهِينَ بِالْأَصَابِعِ الْمُشَبَّكَةِ، فَمَا كَتَبَهُ مِيرَكُ عَلَى هَامِشِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: مُرِجَتْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَرَمْزٌ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَرَجَ مُتَعَدٍّ، وَالْمَعْنَى عَلَى اللُّزُومِ فَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْمَرَجُ الْخَلْطُ، وَالْمَرَجُ بِحَرَكَةٍ الْفَسَادُ وَالْقَلَقُ، وَالِاخْتِلَاطُ وَالِاضْطِرَابُ، وَإِنَّمَا يُسَكَّنُ مَعَ الْهَرْجِ يَعْنِي لِلِازْدِوَاجِ، مَرَجٌ كَفَرَحٍ، وَأَمْرٌ مَرِيجٌ مُخْتَلِطٌ، وَأَمْرَجَ الْعَهْدَ لَمْ يَفِ بِهِ، اهـ. وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: مَرَجَ الدِّينُ فَسَدَ وَقَلِقَتْ أَسْبَابُهُ، وَمَرَجَتْ عُهُودُهُمْ أَيِ اخْتَلَطَتْ. (قَالَ: فَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: " عَلَيْكَ بِمَا تَعْرِفُ ") أَيِ الْزَمْ: وَافْعَلْ مَا تَعْرِفُ كَوْنَهُ حَقًّا (" وَدَعْ مَا تُنْكِرُ ") أَيْ: وَاتْرُكْ مَا تُنْكِرُ أَنَّهُ حَقٌّ (وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ) أَيْ: عَامَّتُهُمْ، وَالْمَعْنَى: الْزَمْ أَمْرَ نَفْسِكَ،

وَاحْفَظْ دِينَكَ، وَاتْرُكِ النَّاسَ وَلَا تُتْبِعْهُمْ، وَهَذَا رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا كَثُرَ الْأَشْرَارُ وَضَعُفَ الْأَخْيَارُ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " الْزَمْ بَيْتَكَ، وَأَمْلِكْ ") : أَمْرٌ مِنَ الْإِمْلَاكِ بِمَعْنَى الشَّدِّ وَالْإِحْكَامِ أَيْ: أَمْسِكْ (" عَلَيْكَ لِسَانَكَ ") وَلَا تَتَكَلَّمْ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ ; كَيْلَا يُؤْذُوكَ (" وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ) . قَالَ مِيرَكُ: وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ أَيْضًا.

5399 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَكَسِّرُوا فِيهَا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا فِيهَا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: ذَكَرَ إِلَى قَوْلِهِ: " خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي "، ثُمَّ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: " كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ ". وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْفِتْنَةِ: " كَسِّرُوا فِيهَا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا فِيهَا أَوْتَارَكُمْ، وَالْزَمُوا فِيهَا أَجْوَافَ بُيُوتِكُمْ، وَكُونُوا كَابْنِ آدَمَ» ". وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5399 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيُّ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ") أَيْ: قُدَّامَهَا مِنْ أَشْرَاطِهَا (" فِتَنًا ") أَيْ: فِتَنًا عِظَامًا وَمِحَنًا جِسَامًا (" كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ") بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: كُلُّ فِتْنَةٍ كَقِطْعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فِي شِدَّتِهَا وَظُلْمَتِهَا وَعَدَمِ تَبَيُّنِ أَمْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ بِذَلِكَ الْتِبَاسَهَا وَفَظَاعَتَهَا، وَشُيُوعَهَا وَاسْتِمْرَارَهَا. (يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا) أَيْ: فِي تِلْكَ الْفِتَنِ (مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ") ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِصْبَاحِ وَالْإِمْسَاءِ تَقَلُّبُ النَّاسِ فِيهَا وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، لَا بِخُصُوصِ الزَّمَانَيْنِ، فَكَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ تَرَدُّدِ أَحْوَالِهِمْ، وَتَذَبْذُبِ أَقْوَالِهِمْ، وَتَنَوُّعِ أَفْعَالِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَنَقْضٍ، وَأَمَانَةٍ وَخِيَانَةٍ، وَمَعْرُوفٍ وَمُنْكَرٍ، وَسُّنَّةٍ وَبِدْعَةٍ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، (" الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ") أَيْ: كُلَّمَا بَعُدَ الشَّخْصُ عَنْهَا وَعَنْ أَهْلِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ قُرْبِهَا وَاخْتِلَاطِ أَهْلِهَا ; لِمَا سَيَئُولُ أَمْرُهَا إِلَى مُحَارَبَةِ أَهْلِهَا، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْأَمْرَ كَذَلِكَ (" فَكَسِّرُوا فِيهِ قِسِيَّكُمْ ") : بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ جَمْعِ الْقَوْسِ، وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْكَسْرِ إِلَى التَّكْسِيرِ مُبَالَغَةٌ ; لِأَنَّ بَابَ التَّفْعِيلِ لِلتَّكْثِيرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" وَقَطِّعُوا ") أَمْرُهُ مِنَ التَّقَطُّعِ (" فِيهَا أَوْتَارَكُمْ ") وَفِيهِ زِيَادَةٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ ; إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لِوُجُودِ الْأَوْتَارِ مَعَ كَسْرِ الْقِسِيِّ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْغَيْرُ، وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا فِي الشَّرِّ دُونَ الْخَيْرِ، (" وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ ") أَيْ: حَتَّى تَنْكَسِرَ أَوْ حَتَّى تَذْهَبَ حِدَّتُهَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ الْأَرْمَاحُ وَسَائِرُ السِّلَاحِ، (" فَإِنْ دُخِلَ ") : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَنَائِبِ الْفَاعِلِ قَوْلُهُ: (" عَلَى أَحَدٍ ") ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: (" مِنْكُمْ ") بَيَانِيَّةٌ، (" فَلْيَكُنْ ") أَيْ: ذَلِكَ الْأَحَدُ (" كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ ") أَيْ: فَلْيَسْتَسْلِمْ حَتَّى يَكُونَ قَتِيلًا كَهَابِيلَ، وَلَا يَكُونُ قَاتِلًا كَقَابِيلَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ (ذُكِرَ) أَيِ: الْحَدِيثُ (إِلَى قَوْلِهِ: " خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي " ثُمَّ قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (فَمَا تَأْمُرُنَا) ؟ أَيْ أَنْ نَفْعَلَ حِينَئِذٍ (قَالَ: " كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ ") : أَحْلَاسُ الْبُيُوتِ مَا يُبْسَطُ تَحْتَ حُرِّ الثِّيَابِ، فَلَا تَزَالُ مُلْقَاةً تَحْتَهَا، وَقِيلَ: الْحِلْسُ هُوَ الْكِسَاءُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ تَحْتَ الْقَتَبِ وَالْبَرْذَعَةِ، شَبَّهَهَا بِهِ لِلُزُومِهَا وَدَوَامِهَا، وَالْمَعْنَى: الْزَمُوا بُيُوتَكُمْ وَالْتَزِمُوا سُكُوتَكُمْ ; كَيْلَا تَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي بِهَا دِينُكُمْ يَفُوتُكُمْ، (وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْفِتْنَةِ) أَيْ: فِي أَيَّامِهَا وَزَمَنِهَا، وَهُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: (كَسِّرُوا فِيهَا قِسِيَّكُمْ،

وَقَطِّعُوا فِيهَا أَوْتَارَكُمْ، وَالْزَمُوا فِيهَا أَجْوَافَ بُيُوتِكُمْ) أَيْ: كُونُوا مُلَازِمِيهَا ; لِئَلَّا تَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ وَالْمُحَارِبِينَ فِيهَا، (" وَكُونُوا كَابْنِ آدَمَ ") الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ تَحْتَ عِبَارَةٍ ظَرِيفَةٍ، وَهُوَ أَنَّ هَابِيلَ الْمَقْتُولَ الْمَظْلُومَ هُوَ ابْنُ آدَمَ لَا قَابِيلَ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ وَلَدِ نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] (وَقَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) .

5400 - وَعَنْ أُمِّ مَالِكٍ الْبَهْزِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِتْنَةً فَقَرَّبَهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ خَيْرُ النَّاسِ فِيهَا؟ قَالَ: " رَجُلٌ فِي مَاشِيَتِهِ يُؤَدِّي حَقَّهَا، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ، وَرَجُلٌ أَخَذَ بِرَأْسِ فَرَسِهِ يُخِيفُ الْعَدُوَّ وَيُخَوِّفُونَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5400 - (وَعَنْ أُمِّ مَالِكٍ الْبَهْزِيَّةِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبِالزَّايِ وَيَاءِ النِّسْبَةِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَهَا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ وَهِيَ حِجَازِيَّةٌ، رَوَى عَنْهَا طَاوُسٌ وَمَكْحُولٌ، (قَالَتْ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِتْنَةً فَقَرَّبَهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: فَعَدَّهَا قَرِيبَةَ الْوُقُوعِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: مَعْنَاهُ وَصَفَهَا لِلصَّحَابَةِ وَصْفًا بَلِيغًا فَإِنَّ مَنْ وَصَفَ عِنْدَ أَحَدٍ وَصْفًا بَلِيغًا، فَكَأَنَّهُ قَرَّبَ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِلَيْهِ، (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ خَيْرُ النَّاسِ فِيهَا؟ قَالَ: " رَجُلٌ فِي مَاشِيَتِهِ ") أَيْ: مِنَ الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا، (" يُؤَدِّي حَقَّهَا ") أَيْ: مِنَ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا (" وَيَعْبُدُ رَبَّهُ ") ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] ، وَقَوْلِهِ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] ; وَقَوْلِهِ: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] ، (وَرَجُلٌ آخِذٌ ") بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ: مَاسِكٌ (" بِرَأْسِ فَرَسِهِ يُخِيفُ الْعَدُوَّ ") : مِنَ الْإِخَافَةِ بِمَعْنَى التَّخْوِيفِ، أَيْ: يُخَوِّفُ الْكُفَّارَ (" وَيُخَوِّفُونَهُ ") . قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي رَجُلٌ هَرَبَ مِنَ الْفِتَنِ وَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَصَدَ الْكُفَّارَ يُحَارِبُهُمْ وَيُحَارِبُونَهُ، يَعْنِي فَيَبْقَى سَالِمًا مِنَ الْفِتْنَةِ وَغَانِمًا لِلْأَجْرِ وَالْمَثُوبَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5401 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ تَسْتَنْظِفُ الْعَرَبَ، قَتْلَاهَا فِي النَّارِ، اللِّسَانُ فِيهَا أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السَّيْفِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5401 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَتَكُونُ فِتْنَةٌ ") أَيْ: عَظِيمَةٌ وَبَلِيَّةٌ جَسِيمَةٌ (تَسْتَنْظِفُ الْعَرَبَ) أَيْ: تَسْتَوْعِبُهُمْ هَلَاكًا، مِنِ اسْتَنْظَفْتُ الشَّيْءَ أَخَذْتُهُ كُلَّهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَبَعْضِ الشُّرَّاحِ، وَقِيلَ: أَيْ تُطَهِّرُهُمْ فِي الْأَرْذَالِ وَأَهْلِ الْفِتَنِ، (قَتْلَاهَا) : جَمْعُ قَتِيلٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: (إِلَى النَّارِ) أَيْ: سَيَكُونُ فِي النَّارِ أَوْ هُمْ حِينَئِذٍ فِي النَّارِ ; لِأَنَّهُمْ يُبَاشِرُونَ مَا يُوجِبُ دُخُولَهُمْ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14] قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِقَتْلَاهَا مَنْ قُتِلَ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ; لِأَنَّهُمْ مَا قَصَدُوا بِتِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَيْهَا إِعْلَاءَ دِينٍ أَوْ دَفْعِ ظَالِمٍ أَوْ إِعَانَةِ مُحِقٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمُ التَّبَاغِي وَالتَّشَاجُرُ طَمَعًا فِي الْمَالِ وَالْمُلْكِ، (" اللِّسَانُ ") أَيْ: وَقْعُهُ وَطَعْنُهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ: وَإِشْرَافُ اللِّسَانِ، أَيْ: إِطْلَاقُهُ وَإِطَالَتُهُ (فِيهَا أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السَّيْفِ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقَوْلُ وَالتَّكَلُّمُ فِيهَا إِطْلَاقًا لِلْمَحَلِّ وَإِرَادَةَ الْحَالِ، اهـ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] قَالَ الْمُظْهِرُ: يَحْتَمِلُ هَذَا احْتِمَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ ذَكَرَ أَهْلَ تِلْكَ الْحَرْبِ بِسُوءٍ يَكُونُ كَمَنْ حَارَبَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَغَيْبَةُ الْمُسْلِمِينَ إِثْمٌ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ وَرَدَ: «اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ، وَلَا غِيبَةَ لِفَاسِقٍ» ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ ; وَلِذَا اسْتَدْرَكَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ الْحَرْبُ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ أَحَدًا مِنْ هَذَيْنِ الصَّدْرَيْنِ وَأَصْحَابِهِمَا يَكُونُ مُبْتَدِعًا ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» " أَيْ: عَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، فَإِنَّ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ تَعَلَّقَ بِهِمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُمْ إِلَى التَّقْوَى وَرِضَا الْمَوْلَى وَجَنَّةِ الْمَأْوَى، وَأَيْضًا لَهُمْ حُقُوقٌ ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّةِ الْأُمَّةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَذْكُرُوهُمْ إِلَّا بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالدُّعَاءِ الْجَزِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَافِي أَنْ يُذَكَرَ أَحَدٌ مُجْمَلًا أَوْ مُعَيَّنًا بِأَنَّ الْمُحَارِبِينَ مَعَ عَلِيٍّ مَا كَانُوا مِنَ الْمُخَالِفِينَ، أَوْ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ وَحِزْبَهُ كَانُوا بَاغِينَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمَّارٍ: " «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» " ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ الْحُكْمِ الْمُمَيَّزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْفَاصِلِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُصِيبِ، وَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ، مَعَ تَوْقِيرِ الصَّحَابَةِ وَتَعْظِيمِهِمْ جَمِيعًا فِي الْقَلْبِ لِرِضَا الرَّبِّ ; وَلِذَا لَمَّا سُئِلَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَفْضَلُ أَمْ مُعَاوِيَةُ؟ قَالَ: لَغُبَارُ أَنْفِ فَرَسِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَا فِي رِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ كَذَا وَكَذَا مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. إِذْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَبْلَغَ الصَّحَابَةِ الْكُبَرَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] ، وَقَوْلُهُ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11] . قَالَ الْمُظْهِرُ: وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ مَدَّ لِسَانَهُ فِيهِ بِشَتْمٍ أَوْ غِيبَةٍ يَقْصِدُونَهُ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَيَفْعَلُونَ بِهِ مَا يَفْعَلُونَ بِمَنْ حَارَبَهُمْ، اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الطَّعْنَ فِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَمَدْحَ الْأُخْرَى حِينَئِذٍ مِمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، فَالْوَاجِبُ كَفُّ اللِّسَانِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ، فَتَأَمَّلْ، لَكِنَّ الطِّيبِيَّ رَجَّحَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ ; حَيْثُ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ إِلَخْ. مَا رَوَيْنَا «عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: خَرَجْتُ وَإِنَّمَا أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَحْنَفُ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَقَالَ: يَا أَحْنَفُ! ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ "، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ ، قَالَ: " إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: مُجْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جِهَةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلٍ حَارَةٍ وَحَارَةٍ، وَقَرْيَةٍ وَقَرْيَةٍ، وَطَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَاعِثٌ شَرْعِيٌّ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى إِطْلَاقِهِ الشَّامِلِ لِقَضِيَّةِ صِفِّينَ وَنَحْوِهَا ; لِئَلَّا يُنَافِيَ قَوْلَهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ قَتْلَى طَائِفَةِ عَلِيٍّ لَيْسُوا فِي النَّارِ، فَكَلَامُ أَبِي بَكْرَةَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَرَدِّدًا مُتَحَيِّرًا فِي أَمْرِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَمْ يُمَيِّزْ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَإِمَّا فَهِمَ مِنْ كَلَامِ الْأَحْنَفِ أَنَّهُ يُرِيدُ حِمَايَةَ الْعَصَبِيَّةِ لَا إِعْلَاءَ الْكَلِمَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقُلْ أُرِيدُ مُعَاوَنَةَ الْإِمَامِ الْحَقِّ وَالْخَلِيفَةِ الْمُطْلَقِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ عَلَى قَضِيَّةِ عَلِيٍّ لَا يَجُوزُ، وَيُؤَوَّلُ بِمَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: قَتْلَاهَا فِي النَّارِ لِلزَّجْرِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّغْلِيطِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا كَفُّ الْأَلْسِنَةِ عَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُجْتَهِدٌ، وَإِنْ كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُصِيبًا، فَلَا يَجُوزُ الطَّعْنُ فِيهِمَا، وَالْأَسْلَمُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَخُوضُوا فِي أَمْرِهِمَا. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ أَيْدِينَا مِنْهَا فَلَا نُلَوِّثُ أَلْسِنَتَنَا بِهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ بَعْضُهُمْ مُصِيبًا وَبَعْضُهُمْ مُخْطِئًا مَعْذُورًا فِي الْخَطَأِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْمُجْتَهِدُ إِذَا أَخْطَأَ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الْمُحِقُّ الْمُصِيبُ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَانَتِ الْقَضَايَا مُشْتَبِهَةً، حَتَّى إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ تَحَيَّرُوا فِيهَا، فَاعْتَزَلُوا الطَّائِفَتَيْنِ وَلَمْ يُقَاتِلُوا، وَلَوْ تَيَقَّنُوا الصَّوَابَ لَمْ يَتَأَخَّرُوا عَنْ مُسَاعَدَتِهِ. قُلْتُ: وَسَبَبُ هَذَا التَّحَيُّرِ لَمْ يَكُنْ فِي أَنَّ عَلِيًّا أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ أَمْ مُعَاوِيَةَ؟ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى وِلَايَةِ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَعَلِيٍّ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ ; حَيْثُ تَعَلَّلَ مُعَاوِيَةُ بِأَنِّي لَمْ أُسَلِّمْ لَكَ الْأَمْرَ حَتَّى تَقْتُلَ أَهْلَ الْفَسَادِ وَالشُّرُورِ مِمَّنْ حَاصَرَ الْخَلِيفَةَ وَأَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنَّ هَذَا ثَلْمَةٌ فِي الدِّينِ وَخَلَلٌ فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْتَضَى رَأْيُ عَلِىٍّ، وَهُوَ الصَّوَابُ، أَنَّ قَتْلَ فِئَةِ الْفِتْنَةِ يَجُرُّ إِلَى إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ الَّتِي هِيَ تَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْأُولَى، مَعَ أَنَّ هُجُومَ الْعَوَامِّ وَعَدَمَ تَعْيِينِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمُبَاشَرَةِ قَتْلِ الْإِمَامِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِإِمَامٍ آخَرَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ قَتْلًا عَامًا، وَلَا مَنْ يُتَّهَمُ بِقَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ أَوْ بَيِّنَةٍ شَرْعِيَّةٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَدَخَلُوا فِي بَيْعَةِ الْخَلِيفَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إِذَا رَجَعُوا عَنْ بَغْيِهِمْ، أَوْ شَرَدُوا عَنْ قِتَالِهِمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ، هَذَا وَلَمَّا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْفِتَنَ وَحَذَّرَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهَا، وَرَغَّبَ الْبُعْدَ عَنْهَا، وَرَهَّبَ عَنِ الْقُرْبِ إِلَيْهَا، وَأَطْلَقَهَا نَظَرًا إِلَى فَسَادِ غَالِبِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذِهِ الْفِتْنَةَ بِخُصُوصِهَا مُفَصَّلَةً وَإِنْ وَقَعَتْ مُجْمَلَةً تَحَيَّرَ فِيهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْأَسْلَمَ فِيهَا بِالْخُصُوصِ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا بِالْعُمُومِ، لَكِنْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ فِي الْآخِرِ حَقِّيَةُ عَلِىٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجَّهَهُ - وَخَطَأُ مُعَاوِيَةَ، نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْعُزْلَةِ، وَتَحَسَّرُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ مَثُوبَةِ الْجِلْوَةِ، وَلِلَّهِ حِكْمَةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، فَلَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا كُلُّهُمْ مَرْفُوعًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: الْأَصَحُّ وَقْفُهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. أَقُولُ: لَكِنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: " قَتْلَاهَا فِي النَّارِ " لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ رَأْيِ أَحَدٍ.

5402 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ صَمَّاءُ عَمْيَاءُ بَكْمَاءُ، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا اسْتَشْرَفَتْ لَهُ، وَإِشْرَافُ اللِّسَانِ فِيهَا كَوُقُوعِ السَّيْفِ» ") . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5402 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " سَتَكُونُ فِتْنَةٌ صَمَّاءُ عَمْيَاءُ بَكْمَاءُ) أَيْ: بِاعْتِبَارِ أَصْحَابِهَا ; حَيْثُ لَا يَجِدُونَ لَهَا مُسْتَغَاثًا، وَلَا يَرَوْنَ مِنْهَا مَخْرَجًا وَخَلَاصًا، وَالْمَعْنَى: لَا يُمَيِّزُونَ فِيهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا يَسْمَعُونَ النَّصِيحَةَ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا بِحَقٍّ أُوذِيَ، وَوَقَعَ فِي الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ (" مَنْ أَشْرَفَ لَهَا ") أَيْ: مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا وَقَرُبَ مِنْهَا (" اسْتَشْرَفَتْ لَهُ ") أَيِ: اطَّلَعَتْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ عَلَيْهِ وَجَذَبَتْهُ إِلَيْهَا، (" وَإِشْرَافُ اللِّسَانِ ") أَيْ: إِطْلَاقُهُ وَإِطَالَتُهُ (" فِيهَا كَوُقُوعِ السَّيْفِ ") أَيْ: فِي تَأْثِيرِهِ أَبْلَغُ ; لِمَا قِيلَ: جِرَاحَاتُ السِّنَّانِ لَهَا الْتِئَامٌ ... وَلَا يُلْتَأَمُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ: أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السَّيْفِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5403 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الْفِتَنَ، فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرِهَا، حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ؟ قَالَ: " هِيَ هَرَبٌ، وَحَرَبٌ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي وَلَيْسَ مِنِّي، إِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ، ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلْعٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ لَا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطْمَتْهُ لَطْمَةً، فَإِذَا قِيلَ: انْقَضَتْ تَمَادَتْ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5403 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا) أَيْ: قَاعِدِينَ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الْفِتَنَ) أَيِ: الْوَاقِعَةَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (فَأَكْثَرَ) أَيِ: الْبَيَانَ (فِي ذِكْرِهِمَا، حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ) سَبَقَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، (فَقَالَ قَائِلٌ: وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ؟ قَالَ: " هِيَ هَرَبٌ ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، (" وَحَرَبٌ ") بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: أَخْذُ مَالٍ وَأَهْلٍ لِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ (" ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ ") بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى هَرَبٍ بِحَسْبَ الْمَعْنَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَفِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ حَرَبٌ وَهَرَبٌ وَفِتْنَةُ السَّرَّاءِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى فِتْنَةِ الْأَحْلَاسِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّرَّاءِ النَّعْمَاءُ الَّتِي تَسُرُّ النَّاسَ مِنَ الصِّحَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْعَافِيَةِ

مِنَ الْبَلَاءِ وَالْوَبَاءِ، وَأُضِيفَتْ إِلَى السَّرَّاءِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي وُقُوعِهَا ارْتِكَابُ الْمَعَاصِي ; بِسَبَبِ كَثْرَةِ التَّنَعُّمِ، أَوْ لِأَنَّهَا تَسُرُّ الْعَدُوَّ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وُقُوعِ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَابْتِلَائِهِمْ بِهَا أَثَرَ النِّعْمَةِ، فَأُضِيفَتْ إِلَى السَّرَّاءِ، يَعْنِي يَكُونُ التَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْفِتْنَةِ فَأُضِيفَتْ إِلَيْهَا إِضَافَةَ مَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَيُرَادُ مِنْهَا سِعَتُهَا لِكَثْرَةِ الشُّرُورِ وَالْمَفَاسِدِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ قَفَاهُ سَرَّاءُ إِذَا كَانَتْ وَسِيعَةً، يَعْنِي يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فِتْنَةُ الْحَادِثَةِ السَّرَّاءِ، أَيِ: الْوَاسِعَةُ الَّتِي تَعُمُّ الْكَافَّةَ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَقَوْلُهُ: (" دَخَنُهَا ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ إِثَارَتُهَا وَهَيَجَانُهَا، وَشَبَّهَهَا بِالدُّخَانِ الَّذِي يَرْتَفِعُ، كَمَا شَبَّهَ الْحَرْبَ بِالنَّارِ، وَإِنَّمَا قَالَ: (" مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ") تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي إِثَارَتِهَا، أَوْ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ أَمْرَهَا، (يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي) أَيْ: فِي الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ مِنِّي فِي النَّسَبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَةَ بِسَبَبِهِ، وَأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى إِقَامَتِهَا (" وَلَيْسَ مِنِّي ") أَيْ: مِنْ أَخِلَّائِي أَوْ مِنْ أَهْلِي فِي الْفِعْلِ ; لِأَنَّ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِي لَمْ يُهَيِّجِ الْفِتْنَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] ، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (" إِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ ") ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ حَدِيثِ " «آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ» "، (ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ) أَيْ: يَجْتَمِعُونَ عَلَى بَيْعَةِ رَجُلٍ (كَوَرِكٍ) : بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ (عَلَى ضِلْعٍ) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ وَيُسَكَّنُ وَاحِدُ الضُّلُوعِ أَوِ الْأَضْلَاعِ، وَتَسْكِينُ اللَّامِ فِيهِ جَائِزٌ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَهَذَا مَثَلٌ، وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى ثَبَاتٍ ; لِأَنَّ الْوَرِكَ لِثِقَلِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى الضِّلْعِ لِدِقَّتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَخِفَّةِ رَأْيِهِ وَحِلْمِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ يَصْطَلِحُونَ عَلَى رَجُلٍ لَا نِظَامَ لَهُ وَلَا اسْتِقَامَةَ لِأَمْرِهِ ; لِأَنَّ الْوَرِكَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الضِّلْعِ، وَلَا يَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ ; لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَهُمَا وَبُعْدِهِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الضِّلْعَ لَا يَقُومُ بِالْوَرِكِ وَلَا يَحْمِلُهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَسْتَبِدُّ ; لِذَلِكَ فَلَا يَقَعُ عَنْهُ الْأَمْرُ مَوْقِعَهُ، كَمَا أَنَّ الْوَرِكَ عَلَى ضِلْعٍ يَقَعُ غَيْرَ مَوْقِعِهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي بَابِ الْمُلَاءَمَةِ وَالْمُوَافَقَةِ إِذَا وَصَفُوا بِهِ هُوَ كَكَفٍّ فِي سَاعِدٍ وَسَاعِدٍ فِي ذِرَاعٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ غَيْرُ لَائِقٍ لِلْمُلْكِ وَلَا مُسْتَقِلَّ بِهِ. (ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ) : بِالرَّفْعِ وَيَنْصَبُّ عَلَى مَا سَبَقَ، وَهِيَ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، وَالدَّهْمَاءُ السَّوْدَاءُ، وَالتَّصْغِيرُ لِلذَّمِّ، أَيِ: الْفِتْنَةُ الْعَظْمَاءُ وَالطَّامَّةُ الْعَمْيَاءُ، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ تَصْغِيرُ الدَّهْمَاءِ يُرِيدُ الْفِتْنَةَ الْمُظْلِمَةَ وَالتَّصْغِيرُ فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّهَيْمَاءِ الدَّاهِيَةُ، وَمِنْ أَسْمَاءِ الدَّاهِيَةِ الدُّهَيْمُ، زَعَمُوا أَنَّ الدُّهَيْمَ اسْمُ نَاقَةٍ غَزَا عَلَيْهَا سَبْعَةُ إِخْوَةٍ مُتَعَاقِبِينَ، فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَحُمِلُوا عَلَيْهَا حَتَّى رَجَعَتْ بِهِمْ، فَصَارَتْ مَثَلًا فِي كُلِّ دَاهِيَةٍ، (لَا تَدَعُ) أَيْ: لَا تَتْرُكُ تِلْكَ الْفِتْنَةَ (أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً) أَيْ: أَصَابَتْهُ بِمِحْنَةٍ وَمَسَّتْهُ بِبَلِيَّةٍ، وَأَصْلُ اللَّطْمِ هُوَ الضَّرْبُ عَلَى الْوَجْهِ بِبَطْنِ الْكَفِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَثَرَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ يَعُمُّ النَّاسَ وَيَصِلُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ ضَرَرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شَبَّهَ الْفِتْنَةَ بِإِنْسَانٍ، ثُمَّ خُيِّلَ لِإِصَابَتِهَا النَّاسَ، اللَّطْمُ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَجَعَلَهَا قَرِينَةً لَهَا، (" فَإِذَا قِيلَ: انْقَضَتْ ") أَيْ: فَمَهْمَا تَوَهَّمُوا أَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَةَ انْتَهَتْ (" تَمَادَتْ ") بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: بَلَغَتِ الْمَدَى، أَيِ: الْغَايَةَ مِنَ التَّمَادِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ التَّمِادُدِ تَفَاعُلٌ مِنَ الْمَدِّ، أَيِ: اسْتَطَالَتْ وَاسْتَمَرَّتْ وَاسْتَقَرَّتْ، (" يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا ") أَيْ: لِتَحْرِيمِهِ دَمَ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ (وَيُمْسِي كَافِرًا) أَيْ: لِتَحْلِيلِهِ مَا ذُكِرَ، وَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ (" حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ ") : بِضَمِّ الْفَاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ فِرْقَتَيْنِ، وَقِيلَ: مَدِينَتَيْنِ، وَأَصْلُ الْفُسْطَاطِ

الْخَيْمَةُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ (فُسْطَاطِ إِيمَانٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، وَإِعْرَابُهُ مَشْهُورٌ، أَيْ: إِيمَانٌ خَالِصٌ (" لَا نِفَاقَ فِيهِ ") أَيْ: لَا فِي أَصْلِهِ وَلَا فِي فَصْلِهِ مِنِ اعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ، (" وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ ") أَيْ: أَصْلًا أَوْ كَمَالًا ; لِمَا فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، (" فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ ") أَيْ: ظُهُورُهُ (" مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ ") وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُسْطَاطَيْنِ الْمَدِينَتَانِ، فَإِنَّ الْمَهْدِيَّ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيُحَاصِرُهُ الدَّجَّالُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيَذُوبُ الْمَلْعُونُ كَالْمِلْحِ يَنْمَاعُ فِي الْمَاءِ، فَيَطْعَنُهُ بِحَرْبَةٍ لَهُ فَيَقْتُلُهُ، فَيَحْصُلُ الْفَرَجُ الْعَامُّ وَالْفَرَحُ التَّامُّ، كَمَا قَالَ سَيِّدُ الْأَنَامِ: اشْتَدِّي أَزْمَةُ تَنْفَرِجِي وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] ، وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَهُمَا هُنَا الِاقْتِرَانُ بَيْنَ الْقَمَرَيْنِ وَضِيَاءِ أَنْوَارِهِمَا فِي أَمْرِ الْكَوْنَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفُسْطَاطُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ الْمَدِينَةُ الَّتِي فِيهَا يَجْتَمِعُ النَّاسُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ فُسْطَاطٌ، وَإِضَافَةُ الْفُسْطَاطِ إِلَى الْإِيمَانِ إِمَّا بِجَعْلِ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسَ الْإِيمَانِ مُبَالَغَةً، وَإِمَّا بِجَعْلِ الْفُسْطَاطِ مُسْتَعَارًا لِلْكَتِفِ وَالْوِقَايَةِ عَلَى الْمُصَرِّحَةِ، أَيْ: هُمْ فِي كَتِفِ الْإِيمَانِ وَوِقَايَتِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْ تَصْحِيحِ الْجَزَرِيِّ.

5404 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5404 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " وَيْلٌ لِلْعَرَبِ ") الْوَيْلُ: حُلُولُ الشَّرِّ، وَهُوَ تَفْجِيعٌ، أَوْ وَيْلٌ كَلِمَةُ عَذَابٍ، أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَخَصَّ الْعَرَبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ مُعْظَمَ مَنْ أَسْلَمَ، (" مِنْ شَرٍّ ") أَيْ: عَظِيمٍ (" قَدِ اقْتَرَبَ ") أَيْ: ظُهُورُهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: " فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ " الْحَدِيثَ. كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ بِهِ الِاخْتِلَافَ الَّذِي ظَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَقْعَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ مَا وَقَعَ بَيْنَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَقُولُ: أَوْ أَرَادَ بِهِ قَضِيَّةَ يَزِيدَ مَعَ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ فِي الْمَعْنَى أَقْرَبُ ; لِأَنَّ شَرَّهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ مِنْ شَرٍّ أَيْ مِنْ خُرُوجِ جَيْشٍ يُقَاتِلُ الْعَرَبَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْفِتَنَ الْوَاقِعَةَ فِي الْعَرَبِ، أَوَّلُهَا: قَتْلُ عُثْمَانَ وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى الْآنِ، أَقُولُ: وَلَمْ يُعْرَفْ مَا يَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. (" أَفْلَحَ ") أَيْ: نَجَا وَظَفِرَ عَلَى الْمُدَّعِي وَانْتَصَرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ (" مَنْ كَفَّ يَدَهُ ") أَيْ عَنِ الْأَذَى، أَوْ تَرَكَ الْقِتَالَ إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ عُدُولِ الشُّرَّاحِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْتُهُ إِلَى مَا ذَكَرُوهُ ; أَنَّ قَوْلَهُ: (أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ) يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّ وَقْتَ خُرُوجِهِمْ لَيْسَ لِأَحَدٍ طَاقَةُ الْمُقَاتَلَةِ مَعَهُمْ، فَمَوْرِدُ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ حَكَمَ بِهِ وَقَضَاهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ خِلَالَ قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ الْمِشْكَاةِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ: «وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِيهِ أَيْضًا: «وَيْلٌ لِأُمَّتِي مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ.

5405 - وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5405 - (وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ حَالَفَ كِنْدَةَ، فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ابْنَ الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيفَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَبْدًا فَتَبَنَّاهُ وَكَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ ") بِاللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ لِلتَّأْكِيدِ فِي خَبَرٍ إِنَّ، أَيْ لَلَّذِي (" جُنِّبَ ") بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: بَعُدَ (" الْفِتَنَ ") مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ مِنَ الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ» ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بَعُدَ عَنْهَا، (" إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ ") كَرَّرَهَا ثَلَاثًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ الْفِتَنِ وَآخِرِهَا، (" وَلَمَنِ ابْتُلِيَ ") : اللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ: لَمَنِ امْتُحِنَ بِتِلْكَ الْفِتَنِ (" فَصَبَرَ ") أَيْ: عَلَى أَذَاهِمْ، وَلَمْ يُحَارِبْهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، (" فَوَاهًا ") : بِالتَّنْوِينِ اسْمُ صَوْتٍ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، سَدَّ مَسَدَّ فِعْلِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: مَعْنَاهُ التَّلَهُّفُ، وَقَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْإِعْجَابِ بِالشَّيْءِ وَالْإَسْتِطَابَةِ لَهُ، أَيْ: مَا أَحْسَنَ وَمَا أَطْيَبَ صَبْرَ مَنْ صَبَرَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَطُوبَى لَهُ، وَفِي النِّهَايَةِ قِيلَ: مَعْنَى هَذَا التَّلَهُّفِ، وَقَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْإِعْجَابِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: وَاهًا لَهُ، وَقَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى التَّوَجُّعِ، وَقِيلَ، يُقَالُ: فِي التَّوَجُّعِ: آهًا لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (فَوَاهًا) خَبَرًا لِمَنْ، وَالْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، أَيْ: مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَطُوبَى لَهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ خَبَرًا عَلَى أَنَّ اللَّامَ مَفْتُوحَةٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلِمَنِ ابْتُلِيَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، فَعَلَى هَذَا (وَاهًا) لِلتَّحَسُّرِ، أَيْ: فَوَاهًا عَلَى مَنْ بَاشَرَهَا وَسَعَى فِيهَا، اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَقِيلَ اللَّامُ مَكْسُورَةٌ ; وَيَكُونُ فَوَاهًا بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، أَيْ: وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ يَجِبُ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْ حَالِهِ هَذَا. وَفِي الْقَامُوسِ: وَاهًا وَيُتْرَكُ تَنْوِينُهُ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ مِنْ طِيبِ شَيْءٍ وَكَلِمَةُ تَلَهُّفٍ، أَيْ: مِنْ تَلَفِ شَيْءٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5406 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَلَا نَبِيَّ بِعْدِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5406 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي ") أَيْ: مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ (" لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ") ، وَقَدِ ابْتُدِئَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَهَلُمَّ جَرَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ ; فَصَدَقَ فِي إِخْبَارِهِ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ، ثُمَّ الْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] ، وَتَحْقِيقُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَنْثُورَةِ فِي تَفْسِيرِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. (وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ) مِنْهَا مَا وَقَعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ) أَيِ: الْأَصْنَامُ حَقِيقَةً، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ فِيمَا سَيَأْتِي، أَوْ مَعْنَى وَمِنْهُ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ» ، (" وَإِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنُ (" سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ") أَيْ: فِي دَعْوَتِهِمُ النُّبُوَّةَ (" ثَلَاثُونَ ") ، أَيْ: هُمْ أَوْ عَدَدُهُمْ ثَلَاثُونَ (" كُلُّهُمْ يَزْعُمُ ") أُفْرِدَ لِلَفْظِ كُلٍّ (" أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ") بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: (" لَا نَبِيَّ بِعْدِي ") تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ، (" وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ") خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: لَا تَزَالُ أَيْ ثَابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا (" ظَاهِرِينَ ") أَيْ: غَالِبِينَ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ وَلَوْ حُجَّةً. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ

أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي ثَابِتِينَ، أَيْ: ثَابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ فِي حَالَةِ كَوْنِهِمْ غَالِبِينَ عَلَى الْعَدِوِّ (" لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ ") أَيْ: لِثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ (" حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ ") مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَزَالُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْجَامِعِ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» " رُوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْمُغِيرَةِ.

5407 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلِكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا ". قُلْتُ: أَمِمَّا بَقِيَ أَوْ مِمَّا مَضَى؟ قَالَ: " مِمَّا مَضَى» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5407 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ ") أَيْ: تَسْتَقِرُّ وَتَسْتَمِرُّ دَائِرَةً رَحَى الْإِسْلَامِ، وَيَسْتَقِيمُ دَوَرَانُهَا عَلَى وَجْهِ النِّظَامِ، أَوْ يَبْتَدِئُ دَوَرَانُ دَائِرَةِ الْحَرْبِ وَتَزَلْزُلِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فِي الْإِسْلَامِ (" لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ") أَيْ: لِوَقْتِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنِ ابْتِدَاءِ ظُهُورِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ زَمَنُ هِجْرَةِ خَيْرِ الْأَنَامِ، وَبِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ تَنْقَضِي خِلَافَةُ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ ; إِذْ بَعْدَهَا مَقْتَلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (" أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ") وَفِيهِ قَضِيَّةُ الْجَمَلِ، (" أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ ") وَفِيهِ وَقْعَةُ صِفِّينَ، وَ (أَوْ) فِيهَا لِلتَّنْوِيعِ، أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِمَا أَهْوَنُ مِمَّا بَعْدَهُمَا، لَا سِيَّمَا أَمْرُ الْإِسْلَامِ، وَنِظَامُ الْأَحْكَامِ، وَظُهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ ; وَلِهَذَا قَالَ: (" فَإِنْ يَهْلِكُوا ") أَيْ: إِنِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَاسْتَهَانُوا فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَاقْتَرَفُوا الْمَعَاصِي (" فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ ") أَيْ: فَسَبِيلُهُمْ سَبِيلُ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ زَاغُوا عَنِ الْحَقِّ فِي اخْتِلَاقِهِمْ وَزَيْغِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَوَهَنِهِمْ فِي الدِّينِ، وَسَمَّى أَسْبَابَ الْهَلَاكِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ هَلَاكًا، هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْمَرَامِ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: دَوَرَانُ الرَّحَى كِنَايَةٌ عَنِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، شَبَّهَهَا بِالرَّحَى الدَّوَّارَةِ الَّتِي تَطْحَنُ الْحَبَّ ; لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ تَلَفِ الْأَرْوَاحِ وَهَلَاكِ الْأَنْفُسِ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ قُلْتُ: هُوَ مَعْنَى مَا قَالَ غَيْرُهُ: فَيَوْمًا عَلَيْنَا وَيَوْمًا لَنَا ... فَيَوْمًا نُسَاءُ وَيَوْمًا نُسَرُّ وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ، ثُمَّ الرَّحَى وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا ذُكِرَ مِنْ تَلَفِ الْأَرْوَاحِ وَهَلَاكِ الْأَنْفُسِ، لَكِنْ فِيهَا أَيْضًا قُوتُ الْأَشْبَاحِ وَقُوَّةُ الْأَرْوَاحِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُمْ يُكَنُّونَ عَنِ اشْتِدَادِ الْحَرْبِ بِدَوَرَانِ الرَّحَى، وَيَقُولُونَ: دَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ أَيِ اسْتَتَبَّ أَمْرُهَا، وَلَمْ تَجِدْهُمُ اسْتَعْمَلُوا دَوَرَانَ الرَّحَى فِي أَمْرِ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ جَرَيَانِ ذِكْرِهَا، أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَذْكُرِ الْحَرْبَ، وَإِنَّمَا قَالَ: رَحَى الْإِسْلَامِ، فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَسْتَتِبُّ أَمْرُهُ، وَيَدُومُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُسْتَعَارَ دَوَرَانُ الرَّحَى فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَقُومُ لِصَاحِبِهِ وَيَسْتَمِرُّ لَهُ، فَإِنَّ الرَّحَى تُوجَدُ عَلَى نَعْتِ الْكَمَالِ مَا دَامَتْ دَائِرَةً مُسْتَمِرَّةً، وَيُقَالُ: فُلَانٌ صَاحِبُ دَارَتِهِمْ إِذَا كَانَ أَمْرُهُمْ يَدُورُ عَلَيْهِ، وَرَحَى الْغَيْثِ مُعْظَمُهُ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْحَرْبِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: تَزُولُ رَحَى الْإِسْلَامِ مَكَانَ تَدُورُ، ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّ تَزُولَ أَقْرَبُ ; لِأَنَّهَا تَزُولُ عَنْ ثُبُوتِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَشَارَ بِالسِّنِينَ الثَّلَاثِ إِلَى الْفِتَنِ الثَّلَاثِ: مَقْتَلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ سَنَةَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَحَرْبِ الْجَمَلِ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَحَرْبِ صِفِّينَ، وَكَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مُتَتَابِعَةً فِي تِلْكَ الْأَعْوَامِ الثَّلَاثَةِ، (" وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ ") أَيْ: وَإِنْ صَفَتْ تِلْكَ الْمُدَدُ وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُمُ اخْتِلَافٌ وَخَوَرٌ فِي الدِّينِ وَضَعْفٌ فِي التَّقْوَى (" يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا ") تَتَمَادَى بِهِمْ قُوَّةُ الدِّينِ وَاسْتِقَامَةُ أَمْرِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ وَقَعَ الْمَحْذُورُ فِي الْمَوْعِدِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى الْآنِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ بِالدِّينِ الْمُلْكَ، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهَذَا مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَانْتِقَالَهُ عَنْهُمْ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ مِنْ بَيْنِ اسْتِقْرَارِ الْمُلْكِ لِبَنِي أُمَيَّةَ إِلَى أَنْ ظَهَرَتِ الدُّعَاةُ بِخُرَاسَانَ، وَضَعُفَ أَمْرُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَدَخَلَ الْوَهْنُ فِيهِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً. قَالَ التُّوبِشْتِيُّ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، فَإِنَّهُ لَوْ تَأَمَّلَ الْحَدِيثَ كُلَّ التَّأَمُّلِ، وَبَنَى التَّأْوِيلَ عَلَى سِيَاقِهِ لَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ، بَلْ أَرَادَ بِهِ اسْتِقَامَةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي طَاعَةِ الْوُلَاةِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، وَجَعَلَ الْمَبْدَأَ فِيهِ أَوَّلَ زَمَانِ الْهِجْرَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ يَشُقُّونَ عَصَا الْخِلَافِ ; فَتُفَرَّقُ كَلِمَتُهُمْ، فَإِنْ هَلَكُوا فَسَبِيلُهُمْ سَبِيلُ مَنْ قَدْ هَلَكَ قَبْلَهُمْ، وَإِنْ عَادَ أَمْرُهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إِيثَارِ الطَّاعَةِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَمَامِ السَبْعِينَ، هَذَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَلَوِ اقْتَضَى اللَّفْظُ أَيْضًا غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ، فَإِنَّ الْمُلْكَ فِي أَيَّامِ بَعْضِ الْعَبَّاسِيَّةِ لَمْ يَكُنِ أَقَلَّ اسْتِقَامَةً مِنْهُ فِي أَيَّامِ الْمَرْوَانِيَّةِ، وَمُدَّةِ إِمَارَةِ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ مُعَاوِيَةَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ كَانَتْ نَحْوًا مِنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَالتَّوَارِيخُ تَشْهَدُ لَهُ، مَعَ أَنَّ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ يَنْقُضُ كُلَّ تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ تَأْوِيلَنَا هَذَا، وَهِيَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: (قُلْتُ) أَيْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (أَوْ مِمَّا بَقِيَ أَوْ مِمَّا مَضَى؟) يُرِيدُ أَنَّ السَبْعِينَ تَتِمُّ لَهُمْ مُسْتَأْنَفَةً بَعْدَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، أَمْ تَدْخُلُ الْأَعْوَامُ الْمَذْكُورَةُ فِي جُمْلَتِهَا؟ (قَالَ: " مِمَّا مَضَى ") . يَعْنِي يَقُومُ لَهُمْ أَمْرُ دِينِهِمْ إِلَى تَمَامِ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، لَا مِنِ انْقِضَاءِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ إِلَى انْقِضَاءِ سَبْعِينَ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ قِيلَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ عِنْدَ قِيَامِ أَمْرِهِ عَلَى سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالْبُعْدِ عَنْ إِحْدَاثَاتِ الظَّلَمَةِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ مُدَّةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَوَجْهَهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَهُ، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْ عُمُرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسُ سِنِينَ أَوْ سِتٌّ، فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَى مُدَّةِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ سَنَةً، كَانَتْ بَالِغَةً ذَلِكَ الْمَبْلَغَ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَفِيهَا خَرَجَ أَهْلُ مِصْرَ وَحَصَرُوا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ صِفِّينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5408 - عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5408 - (عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ سَنَةً، وَمَاتَ بِهَا وَدُفِنَ بِفَجٍّ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ) أَيْ: بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَعَهُ بَعْضُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا، وَلَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ آيَةً وَلَا حَدِيثًا (مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ) أَيْ: وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا، يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ جَمْعُ نَوْطٍ، وَهُوَ مَصْدَرُ نَاطَهُ أَيْ عَلَّقَهُ، (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَكْمُلْ لَهُ مَرْتَبَةُ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَقِيقَةِ التَّفْرِيدِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ،

اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ) أَيْ: شَجَرَةٌ نَحْنُ أَيْضًا نُعَلِّقُ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَنَا، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الضِّدِّيَّةَ وَالْمُخَالَفَةَ الْعُرْفِيَّةَ، وَغَفَلُوا عَنِ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ! ") تَنْزِيهًا وَتَعَجُّبًا (" هَذَا ") أَيْ: هَذَا الْقَوْلُ مِنْكُمْ (" كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ، لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّشْبِيهِ ; حَيْثُ يَكُونُ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى، (" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ ") بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لَتَذْهَبُنَّ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ (" سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ") بِضَمِّ السِّينِ أَيْ: طُرُقُهُمْ وَمَنَاهِجُهُمْ وَسُبُلُ أَفْعَالِهِمْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا أَيْ: عَلَى مِنْوَالِهِمْ وَطِبْقِ حَالِهِمْ وَشِبْهِ قَالِهِمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا: " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» ".

5409 - وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الْأُولَى - يَعْنِي مَقْتَلَ عُثْمَانَ - فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابٍ بَدْرٍ أَحَدٌ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الثَّانِيَةُ - يَعْنِي الْحَرَّةَ - فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ أَحَدٌ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الثَّالِثَةُ فَلَمْ تَرْتَفِعْ وَبِالنَّاسِ طَبَاخٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5409 - (وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَدْ تُكْسَرُ: تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الْأُولَى - يَعْنِي) هَذَا كَلَامُ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَتَفْسِيرٌ لِكَلَامِهِ، أَيْ: يُرِيدُ بِالْفِتْنَةِ الْأُولَى (مَقْتَلَ عُثْمَانَ - فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَحَدٌ) هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، أَيْ: إِنَّهُمْ مَاتُوا مُنْذُ قَامَتِ الْفِتْنَةُ بِمَقْتَلِ عُثْمَانَ إِلَى أَنْ قَامَتِ الْفِتْنَةُ الْأُخْرَى بِوَقْعَةِ الْحَرَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ مَا ابْتُلُوا بِالْفِتْنَةِ مَرَّتَيْنِ ; لِمَا صَانَهُمُ اللَّهُ بِبَرَكَةِ غَزْوَةِ بَدْرٍ، (ثُمَّ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الثَّانِيَةُ - يَعْنِي الْحَرَّةَ -) ، فِي النِّهَايَةِ: هَذِهِ أَرْضٌ بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ بِهَا حِجَارَةٌ سُودٌ كَثِيرَةٌ، كَانَتِ الْوَقْعَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْإِسْلَامِ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، لَمَّا انْتَهَبَ الْمَدِينَةَ عَسْكَرُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الَّذِينَ نَدَبَهُمْ لِقِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ، (فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ، أَيْ: مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، (أَحَدٌ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الثَّالِثَةُ) لَعَلَّهَا فِتْنَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَا حَصَلَ لَهُ وَلِأَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الْحَجَّاجِ، (فَلَمْ تَرْتَفِعْ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَمْ تَرْتَفِعْ (وَبِالنَّاسِ طَبَاخٌ) أَيْ: أَحَدٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتَخْفِيضِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ النِّهَايَةِ، فَلَا وَجْهَ لِمَا ضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كَسْرِ الطَّاءِ، نَعَمْ فِي الْقَامُوسِ الطَّبَاخُ كَسَحَابٍ وَبِضَمٍّ: الْقُوَّةُ وَالْإِحْكَامُ وَالسُّمْنُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْلُ الطَّبَاخِ الْقُوَّةُ وَالسُّمْنُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ فَقِيلَ: فُلَانٌ لَا طَبَاخَ لَهُ، أَيْ: لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا خَيْرَ عِنْدَهُ، أَرَادَ أَنَّهَا لَمْ تُبْقِ فِي النَّاسِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدًا، فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الصَّحَابَةُ، فَأَلْ لِلْعَهْدِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِمُ الْكَامِلُونَ فِي مَرْتَبَةِ الْأُنْسِ وَرُتْبَةِ الْإِنْسِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

[باب الملاحم]

[بَابُ الْمَلَاحِمِ]

[1] بَابُ الْمَلَاحِمِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5410 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، تَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعَوَاهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ، حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولُ الَّذِي يُعْرَضُ عَلَيْهِ: لَا أَرَبَ لِي بِهِ، وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ، وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ، وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [1] بَابُ الْمَلَاحِمِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ جَمْعُ الْمَلْحَمَةِ، وَهِيَ الْمَقْتَلَةُ، أَوْ هِيَ الْوَاقِعَةُ الْعَظِيمَةُ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْحَرْبُ وَمَوْضِعُ الْقِتَالِ مَأْخُوذٌ مِنِ اشْتِبَاكِ النَّاسِ وَاخْتِلَاطِهِمْ فِيهَا، كَاشْتِبَاكِ لُحْمَةِ الثَّوْبِ بِالثَّدْيِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ اللَّحْمِ لِكَثْرَةِ لُحُومِ الْقَتْلَى فِيهَا اهـ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَعْدِنُ الْجَلَالِ، كَمَا أَنَّهُ مَنْبَعُ الْجَمَالِ ; لِكَوْنِهِ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْكَمَالُ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ فِي حَقِّهِ قَوْلَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ رَحْمَتِهِ، تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ وَصِفَتِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: ( «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» ) ; وَلِذَا يُنَادَى بَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، بَلِ الْمَلْحَمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ عَيْنُ الْمَرْحَمَةِ، كَمَا أَنَّ الْمِحَنَ مِنْ عِنْدِهِ سُبْحَانَهُ هِيَ الْمِنَحُ وَالْمِنَنُ، وَالْبَلَاءُ عَيْنُ الْوَلَاءِ، وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5410 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ ") بِتَأْنِيثِ الْفِعْلِ وَيُذَكَّرُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ ") أَيْ: كَثِيرَتَانِ أَوْ كَمِّيَّةٌ وَكَيْفِيَّةٌ ; لِمَا كَانَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّغْلِيبِ، إِذِ الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا كَانَتْ جَمَاعَةَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَالَ الْأَكْمَلُ: وَهَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَهُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، (" تَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ ") أَيْ: حَرْبٌ عَظِيمَةٌ وَقِتَالٌ قَوِيٌّ، (" دَعَوَاهُمَا وَاحِدَةٌ ") أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِئَتَيْنِ تَدَّعِي الْإِسْلَامَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ الرَّدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ فِي تَكْفِيرِهِمْ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ، اهـ. وَفِي كَوْنِ الْحَدِيثِ رَدًّا عَلَيْهِمْ مُجَرَّدُ دَعْوًى لَا يَخْفَى ; فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِ الدَّعْوَى وُصُولُ الْمُدَّعَى، وَحُصُولُ الْمَعْنَى، مَعَ أَنَّ الدَّعْوَى قَدْ تُصْرَفُ إِلَى دَعْوَى الْخِلَافَةِ وَنَحْوَهَا، (" وَحَتَّى يُبْعَثَ ") أَيْ: يُرْسَلُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَى صَحْنِ الْوُجُودِ، وَيَظْهَرُ (" دَجَّالُونَ ") أَيْ: مُبَالِغُونَ فِي فَسَادِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ (" كَذَّابُونَ ") أَيْ: عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كُلُّ كَذَّابٍ دَجَّالٌ، يُقَالُ: دَجَلَ فُلَانٌ الْحَقَّ بِبَاطِلِهِ غَطَّاهُ، وَمِنْهُ أُخِذَ الدَّجَّالُ، وَدَجَلَهُ سَحَرَهُ وَكَذَبَهُ، وَقِيلَ: عَنِ الدَّجَّالِ دَجَّالًا لِتَمْوِيهِهِ عَلَى النَّاسِ وَتَلْبِيسِهِ، يُقَالُ: دَجَلَ إِذَا مَوَّهَ وَلَبَّسَ، (" قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ ") ، وَهَذَا لَا يُنَافَى جَزْمُهُ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثُونَ، فَإِنَّهُ إِمَّا مُتَأَخِّرٌ، وَإِمَّا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّقْرِيبُ، وَكَذَا لَا يُنَافِي مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «وَلَا تُقَوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ سَبْعُونَ كَذَّابًا» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّكْثِيرُ، أَوِ الثَلَاثُونَ مُقَيَّدُونَ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِهَا عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ السَبْعِينَ غَيْرُ الثَلَاثِينَ، فَتَكْمُلُ الْمِائَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (" كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ") ، وَفِي نُسْخَةٍ نَبِيُّ اللَّهِ (" وَحَتَّى يُقْبَضَ ") أَيْ: يُؤْخَذُ وَيُرْفَعُ (" الْعِلْمُ ") أَيِ: النَّافِعُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَيَكْثُرُ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْبِدْعَةِ، (" وَتَكْثُرُ الزَّلَازِلُ ") ، أَيِ الْحِسِّيَّةُ وَهِيَ تَحْرِيكُ الْأَرْضِ، أَوِ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ أَنْوَاعُ الْبَلِيَّةِ، فَإِنَّ مَوْتَ الْعُلَمَاءِ فَوْتُ الْعَالَمِ (" وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ") ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ بِهِ زَمَانَ الْمَهْدِيِّ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ فِي الْأَرْضِ ; فَيَسْتَلِذُّ الْعَيْشَ عِنْدَ ذَلِكَ ; لِانْبِسَاطِ عَدْلِهِ، فَتُسْتَقْصَرُ مُدَّتُهُ ; لِأَنَّهُمْ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ أَيَّامِ الرَّخَاءِ وَإِنْ طَالَتْ، وَيَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ الشِّدَّةِ وَإِنْ قَصُرَتْ، (" وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ ") أَيْ: وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْمِحَنُ، (" وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ ") قِيلَ: الْمُرَادُ بِكَثْرَتِهِ شُمُولُهُ وَدَوَامُهُ (" وَهُوَ ") :

أَيِ: الْهَرْجُ (" الْقَتْلُ ") ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ، فَهُوَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، (" وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ ") بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ، مِنْ فَاضَ الْمَاءُ إِذَا انْصَبَّ عِنْدَ امْتِلَائِهِ، وَالضَّمِيرُ إِلَى الْمَالِ، فَهُوَ مُبَالَغَةٌ لِحُصُولِ الْمَنَالِ فِي الْمَآلِ، (حَتَّى يُهِمَّ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، مِنْ أَهَمَّهُ أَحْزَنَهُ وَأَقْلَقَهُ، وَقَوْلُهُ: (" رَبَّ الْمَالِ ") مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَالْفَاعِلُ قَوْلُهُ: (" مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ ") عَلَى تَقْدِيرٍ مُضَافٍ، أَيْ: حَتَّى يُوقِعَ فِي الْحُزْنِ فُقْدَانُ مَنْ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ ; حَيْثُ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَقْبَلُهُ، وَالتَّمْلِيكُ شَرْطٌ لِحُصُولِ الزَّكَاةِ، كَمَا أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِحُصُولِ الصَّدَقَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، عَلَى أَنَّهُ هَمُّهُ لُغَةٌ بِمَعْنَى أَحْزَنَهُ، فَرَبَّ الْمَالِ مَنْصُوبٌ عَلَى حَالِهِ، وَفِي بَعْضِهَا يَرْفَعُهُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ، وَمِنْ مَفْعُولِهِ، أَيْ: يَقْصِدُهُ رَبُّ الْمَالِ، عَكْسُ الْمُتَعَارَفِ فِي بَقِيَّةِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ مِنْ هَمَّ بِهِ إِذَا قَصَدَهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ، فَتَأَمَّلْ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ، وَأَشْهُرُهَا ضَمُّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ مُقَيَّدٌ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَرَبُّ الْمَالِ مَفْعُولُهُ، وَالْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ فَاعِلُهُ، وَقَوْلُهُ: (" وَحَتَّى يَعْرِضَهُ ") بِكَسْرِ الرَّاءِ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى يُهِمَّ طَلَبُ مَنْ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ صَاحِبَ الْمَالِ ; فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يَجِدَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ، اهـ. أَيْ: حَتَّى يَعْرِضَ الْمَالَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَقْبَلُهُ (" فَيَقُولُ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ! لَا أَرَبَ لِي بِهِ ") بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ أَيْ: لَا حَاجَةَ لِي إِلَيْهِ "، إِمَّا لِغِنَى قَلْبِهِ أَوْ لِغِنَى يَدِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَهُمَا جَمِيعًا، فَكَأَنَّ الْخَيْرَ وَسِعَ الْجَمِيعَ بِمَا فِيهِ، وَقَنِعَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا يَكْفِيهِ، فَلَا يُرِيدُ مَا يُطْغِيهِ أَوْ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَنْ يَمْلَأَ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، بَلْ فِي الْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ، فَكَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ كُلُّهُمْ مِمَّنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى رَجَعُوا إِلَى مَقَامِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالْقَنَاعَةِ بِالْكِفَايَةِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ بِمَا قَسَمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ الِاسْتِئْنَاسَ بِالنَّاسِ مِنْ عَلَامَةِ الْإِفْلَاسِ. (" وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ ") أَيْ: حَتَّى يَتَزَايَدُوا فِي طُولِهِ وَعَرْضِهِ، أَوْ يَفْتَخِرُوا فِي تَزْيِينِهِ وَتَحْسِينِهِ، وَهَذَا غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِزَمَانِ الْمَهْدِيِّ، بَلِ الْمُرَادُ لَهُ إِمَّا بَعْدَهُ وَإِمَّا قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْآنَ قَدْ كَثُرَ الْبُنْيَانُ وَافْتَخَرَ بِهِ أَهْلُ الزَّمَانِ، وَتَطَاوَلَ بِهِ اللِّسَانُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهَدَمُوا الْعِمَارَةَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْخَيِّرَاتِ، وَجَعَلُوهَا دُورًا وَبَسَاتِينَ وَمَوَاضِعَ التَّنَزُّهَاتِ وَمَحَالَّ التَّلَهِياتِ، (" وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ ") أَيْ: مِنْ كَثْرَةِ هُمُومِهِ وَغُمُومِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهِ، أَوْ كَثْرَةِ بَلَائِهِ وَقِلَّةِ دَوَائِهِ (" بِقَبْرِ الرَّجُلِ ") أَيْ: مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ أَجَانِبِهِ (" فَيَقُولُ ") بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ (" يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ ") ، نَقْلٌ بِالْمَعْنَى ; إِذْ لَفْظُهُ: مَكَانَكَ، أَيْ: لَيْتَنِي كُنْتُ مَيِّتًا حَتَّى لَا أَرَى الْفِتْنَةَ وَلَا أُشَاهِدَ الْمِحْنَةَ، (" وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ ") تَأْكِيدٌ لِلنَّاسِ أَوْ لِضَمِيرِهِ، أَيْ: كُلُّهُمْ لِمَا رَأَوْهُ مِنَ الْآيَةِ الْمُلْجِئَةِ وَالْعَلَّامَةِ الْعِيَانِيَّةِ، وَكَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ فِي الْحَالَةِ الْغَيْبِيَّةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ; وَلِذَا قَالَ: (فَذَلِكَ) أَيِ: الْوَقْتُ (حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] ، وَكَذَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِيمَانِهِمْ مِنْ عَمَلِ خَيْرِهَا أَيِ الْحَادِثَيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] ، (فَأَوْ) لِلتَّنْوِيعِ ; إِذَا قَدْ يُوجَدُ إِيمَانٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ الْعَمَلُ بِالْإِيمَانِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ وُقُوعُهُمَا فِي حَالِ الْبَأْسِ، وَوَقْتِ الْيَأْسِ لَا يَكُونَانِ نَافِعَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: لَا يَنْفَعُ إِيمَانُهَا وَلَا كَسْبُهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ، فَالْكَلَامُ مِنَ اللَّفِّ التَّقْدِيرِيِّ وَالنَّشْرِ الظَّاهِرِيِّ، هَذَا وَقِيلَ: جُمْلَةُ (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ) صِفَةُ نَفْسٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْاسْتِنَافِ ; لِئَلَّا يَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ

وَالْمَوْصُوفِ، وَقَوْلُهُ: (مِنْ قَبْلُ) أَيْ: قَبْلَ إِتْيَانِ بَعْضِ آيَاتِ الرَّبِّ، عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مُبْهَمًا وَمُجْمَلًا، وَمِنْ قَبْلِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ مُفَسِّرًا وَمُبِينًا، ثُمَّ قِيلَ: (أَوْ كَسَبَتْ) عَطْفٌ عَلَى آمَنَتْ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ التَّوْبَةُ أَوِ الْإِخْلَاصُ، فَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ: لَا يَنْفَعُ تِلْكَ النَّفْسَ إِيمَانُهَا وَقَبُولُ تَوْبَتِهَا ; فَيُفِيدُ أَنْ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْفَعُهَا تَوْبَةٌ عَنِ الشِّرْكِ، وَلَا تَوْبَةٌ عَنِ الْمَعَاصِي، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْخَيْرِ جَزَاءً لِلْإِيمَانِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] يَدْفَعُ ذَلِكَ، ثُمَّ قِيلَ: عَدَمُ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ شَاهَدَ طُلُوعَهَا، حَتَّى إِنَّ مَنْ وُلِدَ بَعْدَهُ أَوْ لَمْ يُشَاهِدْهُ يَقْبَلُ كِلَاهُمَا مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْصُوصٍ ; لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ التَّوْبَةَ لَا تَزَالُ مَقْبُولَةً حَتَّى يُغْلَقَ بَابُهَا، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أُغْلِقَ» . (" وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ ") أَيِ: النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَهِيَ مُقَدِّمَةُ السَّاعَةِ فَأُطْلِقَتْ عَلَيْهَا (" وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ") الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمَا فَتَحَا وَفَرَقَا (" ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا ") ، الْإِضَافَةُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى أَنَّهُ صَاحِبُهُ، وَلِلْآخَرِ عَلَى أَنَّهُ طَالِبُهُ (" فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ ") أَيْ: لَا يُكْمِلَانِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، (وَلَا يَطْوِيَانِهِ) أَيْ: وَلَا يَجْمَعَانِ الثَّوْبَ فَيَفْتَرِقَانِ، بَلْ تَقَعُ السَّاعَةُ عَلَيْهِمَا وَهُمَا مَشْغُولَانِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 49 - 50] ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ يَكُونُ بَغْتَةً لِقَوْمٍ وَهُمْ فِي انْشِغَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187] ، (وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْقَافِ أَيْ: نَاقَةٌ ذَاتُ لَبَنٍ (" فَلَا يَطْعَمُهُ ") أَيْ: فَلَا يُمْكِنُ الرَّجُلُ أَنْ يَشْرَبَ اللَّبَنَ الَّذِي حَلَبَهُ وَهُوَ فِي يَدِهِ، (" وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ ") : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: يُطَيِّنُ وَيَصْلُحُ (" حَوْضَهُ ") أَيْ: لِيَسْقِيَ إِبِلَهُ أَوْ غَنَمَهُ مِنْهُ (" فَلَا يَسْقِي ") أَيْ: إِبِلُهُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا (" فِيهِ ") أَيْ فِي ذَلِكَ الْحَوْضِ أَوْ مِنْ مَائِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّاعَةَ تَأْخُذُ النَّاسَ بَغْتَةً، تَأْتِيهِمْ وَهُمْ فِي أَشْغَالِهِمْ فَلَا تُمْهِلُهُمْ أَنْ يُتِمُّوهَا، (" وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: لُقْمَتُهُ (" إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا) أَيْ: فَلَا يَبْلَعُهَا وَلَا يَأْكُلُهَا، وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا قَبْلَهُ مِنَ الصُّوَرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5411 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعْرُ، وَحَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الْأَعْيُنِ، حُمْرَ الْوُجُوهِ، ذُلْفَ الْأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَّانُّ الْمُطْرَقَةُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5411 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعْرُ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، أَيْ: مِنْ جُلُودٍ مُشْعِرَةٍ غَيْرِ مَدْبُوغَةٍ، (" وَحَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ ") ، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنَ التُّرْكِ شِرْذِمَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ قَبِيلَةً، بَنَى ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ عَلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ التُّرْكُ ; سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تُرِكُوا خَارِجِينَ، (" صِغَارَ الْأَعْيُنِ ") : بِالنَّصْبِ وَهُوَ مِنْ أَمَارَاتِ الْحِرْصِ عَلَى أَمْتِعَةِ الدُّنْيَا صَغِيرِهَا وَحَقِيرِهَا، وَالْبُخْلِ عَلَى نَقِيرِهَا وَقِطْمِيرِهَا، (حُمْرَ الْوُجُوهِ) أَيْ: مِنْ شِدَّةِ حَرَارَةِ بَاطِنِهِمْ، وَغَلَيَانِ الْغَضَبِ فِي أَجْوَافِهِمْ، (ذُلْفَ الْأُنُوفِ) بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: صَغِيرُهَا، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ شُمُومِهِمُ الْحَقَّ، أَوْ عَرِيضِهَا فَيَدْخُلُ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لَهُمْ بَيْنَهُمَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ فُطُسُ الْأُنُوفِ، كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ جَمْعُ أَفْطَسٍ مِنَ الْفَطَسِ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ تَطَامُنُ قَصَبَةِ الْأَنْفِ وَانْخِفَاضُهَا وَانْتِشَارُهَا، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى عَرِيضِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: ذُلُفُ جَمْعُ أَذْلَفٍ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ أَنْفُهُ صَغِيرًا، وَيَكُونُ فِي طَرَفِهِ غِلَظٌ. (" كَأَنَّ ") : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (" وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعُ الْمِجَنِّ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ التُّرْسُ، (" الْمُطْرَقَةُ ") بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ

الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ الْمُجَلَّدَةُ طَبْقًا فَوْقَ طَبَقٍ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي أَلْبَسَتْ طِرَاقًا أَيْ جِلْدًا يَغْشَاهَا، وَقِيلَ: هِيَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْإِطْرَاقِ، وَهُوَ جَعْلُ الطِّرَاقِ بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيِ: الْجِلْدُ عَلَى وَجْهِ التُّرْسِ، اهـ. شَبَّهَ وُجُوهَهُمْ بِالتُّرْسِ لِتَبَسُّطِهَا وَتَدْوِيرِهَا، وَبِالْمُطْرَقَةِ لِغِلَظِهَا وَكَثْرَةِ لَحْمِهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لِكِبَرِ وُجُوهِهِمْ وَإِدَارَتِهَا وَكَثْرَةِ لَحْمِهَا وَيُبُوسَتِهَا أَبَوُا الْوُجُوهَ الطَّامِعَةَ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ، لَيْسَ فِيهَا لِينَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَا مُلَاءَمَةُ الْإِحْسَانِيَّةِ، بَلْ كَأَنَّهُمْ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِ النَّاسِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ نِسْنَاسٌ، وَيَكْفِي فِي ذَمِّهِمْ أَنَّهُمْ فَضْلَةُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْ إِخْوَانِهِمْ، وَأُنْمُوذَجٌ وَعَيِّنَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَسَادِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ الضَّرَرِ لِلْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، وَلَا أَرَانَا اللَّهُ وُجُوهَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْمِيعَادِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ صِفَةً لِخُوزٍ وَكِرْمَانَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمَا صِفَتَانِ مِنَ التُّرْكِ كَأَنَّ أَحَدَ أُصُولِ أَحَدِهِمَا مِنْ خُوزٍ، وَأَحَدَ أُصُولِ الْآخَرِ مِنْ كِرْمَانَ، فَسَمَّاهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ عِنْدَنَا، كَمَا نَسَبَهُمْ إِلَى قَنْطُورَاءَ، وَهِيَ أَمَةٌ كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْعُودِ فِي الْحَدِيثِ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتُّرْكِ، اهـ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَضِيَّةِ جِنْكِينَ، وَمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْفَسَادِ وَخُصُوصًا فِي بَغْدَادَ، وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيِهِ) .

5412 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزًا وَكِرْمَانَ مِنَ الْأَعَاجِمِ، حُمْرَ الْوُجُوهِ، فُطْسَ الْأُنُوفِ، صِغَارَ الْأَعْيُنِ، وُجُوهُهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، نِعَالُهُمُ الشَّعْرُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 5413 - وَفِي رِوَايَةِ لَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ " عِرَاضَ الْوُجُوهِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5412 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزًا ") : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بِالزَّاى، فِي الْقَامُوسِ: الْخُوزُ بِالضَّمِّ جِيلٌ مِنَ النَّاسِ، وَاسْمٌ لِجَمِيعِ بِلَادِ خُوزِسْتَانَ، (" وَكِرْمَانَ ") : بِكَسْرِ الْكَافِ وَتُفَتَحُ كَذَا ضُبِطَ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، لَكِنْ فِي الْقَامُوسِ: كَرْمَانَ - وَقَدْ يُكْسَرُ أَوْ لَحْنٌ - إِقْلِيمٍ بَيْنَ فَارِسَ وَسِجِسْتَانَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخُوزُ جِيلٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مُنَوَّنًا بِسُكُونِ وَسَطِهِ هَكَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَضْمُومَةِ وَبِالزَّايِ مَعَ الْإِضَافَةِ، يُقَالُ: خُوزٌ كِرْمَانَ مِنْ غَيْرِ وَاوِ الْعَطْفِ، قَالَ: وَرُوِيَ خُوزُ وَكِرْمَانُ. قَالَ: وَالْخُوزُ جِيلٌ مَعْرُوفٌ، وَكِرْمَانُ صُقْعٌ مَعْرُوفٌ فِي الْعَجَمِ، وَيُرْوَى بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مِنْ أَرْضِ فَارِسَ، وَصَوَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: إِنَّهُ إِذَا أُضِيفَ بِهِ فَبِالرَّاءِ، وَإِذَا عُطِفَ فَبِالزَّايِ، نَقَلَهُ الْجَزَرِيُّ. (وَمِنَ الْأَعَاجِمِ ") : بَيَانٌ لَهُمَا. قَالَ شَارِحٌ: الْمُرَادُ صِنْفَانِ مِنَ التُّرْكِ سَمَّاهُمَا بِاسْمِ أَبَوَيْهِمَا، وَلَا نَحْمِلُهُ عَلَى أَهْلِ خُوزِسْتَانَ وَكِرْمَانَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدُوا عَلَى النَّعْتِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، بَلْ وُجِدَ عَلَيْهِ التُّرْكُ، (" حُمْرَ الْوُجُوهِ، فُطْسَ الْأُنُوفِ، صِغَارَ الْأَعْيُنِ، وُجُوهُهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، نِعَالُهُمُ الشَّعْرُ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . 5413 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِلْبُخَارِيِّ (عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ) : بِالتَّاءِ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ الْعَبْدِيُّ ابْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ، رَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ. (" عِرَاضَ الْوُجُوهِ ") بِالنَّصْبِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الْإِعْرَابِ ; لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً لِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ.

5414 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودُ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ! يَا عَبْدَ اللَّهِ! هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مَنْ شَجِرِ الْيَهُودِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5414 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَضْمُونِ السَّابِقِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْإِظْهَارِ ; لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ عَوْدُ الْإِضْمَارِ إِلَى الصَّحَابِيِّ اللَّاحِقِ، فَإِنَّهُ لِقُرْبِهِ رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّهُ الْأَحَقُّ بِمَرْجِعِ اللَّاحِقِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ ") أَيْ: غَالِبُهُمْ، أَوْ فَيَغْلِبُهُمْ (" الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ ") ، أَيْ: يَخْتَفِي (" الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ

وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ ") أَيْ كِلَاهُمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا (" يَا مُسْلِمُ! يَا عَبْدَ اللَّهِ ") : جَمْعًا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ لِزِيَادَةِ التَّعْظِيمِ (" هَذَا ") أَيْ: تَنَبَّهْ ذَا (يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ) : اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الشَّجَرِ، وَهُوَ نَوْعُ شَجَرٍ ذُو شَوْكٍ يُقَالُ لَهُ: الْعَوْسَجُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ ضَرْبٌ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ وَشَجَرِ الشَّوْكِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِبَقِيعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَقِيعُ الْغَرْقَدِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ غَرْقَدٌ وَقُطِعَ، (" فَإِنَّهُ مَنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ") أُضِيفَ إِلَيْهِمْ بِأَدْيَنِ مُلَابَسَةٍ. قِيلَ: هَذَا يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ حِينَ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمُونَ مَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْيَهُودِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5415 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5415 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ ") بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، وَهُوَ أَبُو الْيَمَنِ، وَقِيلَ: قَبِيلَةٌ مِنْهُمْ، (" يَسُوقُ النَّاسَ ") أَيْ: لِأَجْلِ حُكْمِهِ (" بِعَصَاهُ ") : هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ تَسْخِيرِ النَّاسِ وَاسْتِرْعَائِهِمْ، كَسَوْقِ الرَّاعِي غَنَمَهُ بِعَصَاهُ، قِيلَ: لَعَلَّ الرَّجُلَ الْقَحْطَانِيَّ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5416 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْجَهْجَاهُ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي يُقَالُ لَهُ الْجَهْجَاهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5416 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي ") أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ الزَّمَانُ وَلَا تَأْتِي الْقِيَامَةُ (" حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْجَهْجَاهُ ") ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْجَهْجَهَا بِهَاءَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا الْجَهْجَا بِحَذْفِ الْهَاءِ الَّتِي بَعْدَ الْأَلْفِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي ") بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ الْمَوْلَى، أَيِ: الْمَمَالِيكُ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى يَصِيرَ حَاكِمًا عَلَى النَّاسِ (" يُقَالُ لَهُ: الْجَهْجَاهُ ") ، قَالَ الْجَزَرِيُّ: لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ لِلِاسْتِشْهَادِ وَالِاعْتِضَادِ، فَلَا يُرَدُّ عَلَى الْمُؤَلِّفِ إِيرَادُهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأُصُولِ.

5417 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَنْزَ آلِ كِسْرَى الَّذِي فِي الْأَبْيَضِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5417 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَتَفْتَحَنَّ ") بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: لَتَفْتَتِحَنَّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجَدْنَاهُ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِتَاءَيْنِ بَعْدَ الْفَاءِ، وَنَحْنُ نَرْوِيهِ عَنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَمْثَلُ مَعْنًى ; لِأَنَّ الِافْتِتَاحَ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاسْتِفْتَاحِ، فَلَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْفَتْحِ فِي تَحْقِيقِ الْأَمْرِ وَوُقُوعِهِ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْكَوَائِنِ، وَالْمَعْنَى: لَتَأْخُذَنَّ (عِصَابَةٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: جَمَاعَةٌ (" مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَنْزَ آلِ كِسْرَى ") بِكَسْرِ الْكَافِ وَتُفْتَحُ، وَالْآلُ مُقْحَمٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُهُ وَأَتْبَاعُهُ (" الَّذِي فِي الْأَبْيَضِ ") ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَبْيَضُ قَصْرٌ حَصِينٌ كَانَ بِالْمَدَائِنِ، وَكَانَتِ الْفُرْسُ تُسَمِّيهِ سَفِيدْ كَرْشَكْ، وَالْآنَ بُنِيَ مَكَانَهُ مَسْجِدُ الْمَدَائِنِ، وَقَدْ أُخْرِجَ كَنْزُهُ فِي أَيَّامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقِيلَ: الْحِصْنُ الَّذِي بِهَمْدَانَ بِنَاهُ دَارِينْ دَارَا يُقَالُ لَهُ شِهْرِسْتَانَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5418 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «هَلَكَ كِسْرَى فَلَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرُ لِيَهْلِكَنَّ ثُمَّ لَا يَكُونُ قَيْصَرُ بَعْدَهُ، وَلَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ "، وَسَمَّى " الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5418 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلَكَ كِسْرَى ") : جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ أَيْ: سَيَهْلِكُ مُلْكُهُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ وَقُرْبِهِ، أَوْ دُعَاءٌ وَتَفَاؤُلٌ، (" فَلَا يَكُونُ كِسْرَى ") وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ، حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ التَّنْكِيرُ (" بَعْدَهُ ") أَيْ: بَعْدَ كِسْرَى الْمَوْجُودِ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَعْنَى: لَا يَمْلِكُ كِسْرَى كَافِرٌ، بَلْ يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، (" وَقَيْصَرُ ") : وَهُوَ مَلِكُ الرُّومِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: لَيَهْلِكَنَّ، وَالتَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا لِلتَّفَنُّنِ، أَوْ عَطْفٍ عَلَى كِسْرَى، وَأَتَى بِقَوْلِهِ: (" لَيَهْلِكَنَّ ") لِلتَّأْكِيدِ مَعَ زِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ لَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّأْكِيدِ، (" ثُمَّ لَا يَكُونُ قَيْصَرُ ") بِالْوَجْهَيْنِ أَيْ: قَيْصَرُ آخَرُ (" بَعْدَهُ ") أَيْ: بَعْدَ الْأَوَّلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَلَاكُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ كَانَا مُتَوَقَّعَيْنِ، فَأَخْبَرَ عَنْ هَلَاكِ كِسْرَى بِالْمَاضِي دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَالْوَاقِعِ بِنَاءً عَلَى إِخْبَارِ الصَّادِقِ، وَأَتَى فِي الْإِخْبَارِ عَنْ قَيْصَرَ بِلَامِ الْقَسَمِ فِي الْمُضَارِعِ، وَبُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ إِشْعَارًا لِاهْتِمَامِهِ بِالِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ أَطْلَبُ مِنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الرُّومَ كَانُوا سُكَّانَ الشَّامِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَتْحِهِ أَشَدَّ رَغْبَةً ; وَمِنْ ثَمَّ غَزَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبُوكَ وَهُوَ مِنَ الشَّامِ. أَقُولُ: لَمَّا كَانَ هَلَاكُ كِسْرَى قَبْلَ قَيْصَرَ بِحَسْبِ وَقَائِعِ الْحَالِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالْمَاضِي، وَعَنِ الثَّانِي بِالِاسْتِقْبَالِ، (وَلَتُقْسَمَنَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا (كُنُوزُهُمَا) أَيْ: كَنْزُ كُلٍّ مِنْهُمَا (" فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَسَمَّى) : عَطْفٌ عَلَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، أَيْ: قَالَ الرَّاوِي: وَسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ") بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا مَعَ سُكُونِ الدَّالِ وَبِضَمِّ الْخَاءِ، مَعَ فَتْحِ الدَّالِ عَلَى مَا سَبَقَ مَبْنَاهُ وَتَحَقَّقَ مَعْنَاهُ، وَمُجْمَلُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ مُثَلَّثَةٌ وَكَهَمْزَةٍ، وَرُوِيَ بِهِنَّ جَمِيعًا، أَيْ: يَنْقَضِي بِخُدْعَةٍ، هَذَا وَالرَّاوِي جَمَعَ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا وَقَعَا فِي وَقْتَيْنِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ إِيرَادِهِمَا مَعًا، عَلَى أَنَّ فِي ذِكْرِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَلَاكَهُمَا، وَأَخْذَ كُنُوزِهِمَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْحَرْبِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى خُدْعَةٍ، فَنَبَّهَ أَصْحَابَهُ إِلَى جَوَازِهِمَا، حَتَّى لَا يَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْخُدْعَةَ مِنْ بَابِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَسَمَّى الْحَرْبَ خُدْعَةً، وَبَيْنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ؟ قُلْتُ: هُوَ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ ; لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ كَانَ فِي ذِكْرِ الْفَتْحِ، وَكَانَ حَدِيثًا مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَرْبِ، فَأَوْرَدَهُ فِي الذِّكَرِ، كَمَا أَوْرَدَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [فاطر: 12] إِذِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. قُلْتُ: فَقَوْلُهُ: مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ التَّشْبِيهِ وَتَتْمِيمٌ وَتَذْيِيلٌ، وَهُوَ إِفَادَةُ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِمَا، وَنِظَامُ الْعَالَمِ بِوُجُودِهِمَا، بَلْ هُمَا الدَّالَّانِ عَلَى مَظْهَرِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَهُمَا صِفَتَا الْكَمَالِ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارُ الْكَوْنَيْنِ، وَمَآلُ الْفَرِيقَيْنِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِمَا مِثَالُ الْبَحْرَيْنِ ; حَيْثُ قَالَ: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53] ، فَكُلٌّ فِي بَابِهِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْكَمَالِ {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] وَ {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40] . (مُتَّفَقٌ عَلِيهِ) .

5419 - وَعَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5419 - (وَعَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ) أَيِ: ابْنُ أَبِي وَقَّاصِ الزُّهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ يُعْرَفُ بِالْمِرْقِ، قَالَ: بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَبِالْقَافِ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصِ، صَحَابِيٌّ، مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَغْزُونَ ") أَيْ: بَعْدِي (" جَزِيرَةَ الْعَرَبِ ") وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا وَتَحْرِيرُهَا وَتَقْرِيرُهَا، وَمُجْمَلُهُ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ، وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ، فَالْمَعْنَى: بَقِيَّةُ الْجَزِيرَةِ أَوْ جَمِيعُهَا، بِحَيْثُ لَا يُتْرَكُ كَافِرٌ فِيهَا (" فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ") أَيْ:

عَلَيْكُمْ، (" ثُمَّ فَارِسَ ") أَيْ: ثُمَّ تَغْزُونَهَا (" فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ ") الْخِطَابُ فِيهِ لِلصَّحَابَةِ، وَالْمُرَادُ الْأُمَّةُ (" فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ ") أَيْ: يَجْعَلُهُ مَقْهُورًا مَغْلُوبًا، وَيَقَعُ هَلَاكُهُ عَلَى أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُعَاوَنَةِ الْأُمَّةِ، وَأُنْزِلَ لِمُسَاعَدَةِ الْمِلَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: فِي الْفِتَنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ، وَلَفْظُهُ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ عَدَّهُنَّ إِلَى يَدِي قَالَ: " تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ " إِلَخْ، وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ رِجَالُهُ رِجَالُ مُسْلِمٍ، فَيَكُونُ مُسْتَدْرَكًا وَلَا يَكُونُ مُسْتَدْرِكًا.

5420 - «وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهْوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ " اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» ". ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5420 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ) أَيِ: الْأَشْجَعِيِّ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ) أَيْ: خَيْمَةٌ (مِنْ أَدَمٍ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مِنْ جِلْدٍ (فَقَالَ: " اعْدُدْ ") أَيِ: احْسِبْ وَعُدَّ (" سِتًّا ") أَيْ: مِنَ الْعَلَامَاتِ الْوَاقِعَةِ (" بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ") أَيْ: قُدَّامَهَا، (" مَوْتِي ") أَيْ: فَوْتِي بِانْتِقَالِي مِنْ دَارِ الدُّنْيَا إِلَى الْأُخْرَى ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ زَوَالِ الْكَمَالِ بِحِجَابِ الْجَمَالِ، (" ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ") بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ قَافٍ وَكَسْرٍ دَالٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٌ فَتَشْدِيدٌ، (" ثُمَّ مُوتَانٌ ") بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: وَبَاءٌ (" يَأْخُذُ فِيكُمْ ") أَيْ: يَتَصَرَّفُ فِي أَبْدَانِكُمْ، (" كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ") : بِضَمِّ الْقَافِ دَاءٌ يَأْخُذُ الْغَنَمَ، فَلَا يَلْبَثُهَا أَنْ تَمُوتَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ بِالْمُوَتَانِ الْوَبَاءَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَوْتٌ يَقَعُ فِي الْمَاشِيَةِ، وَالْمِيمُ مِنْهُ مَضْمُومَةٌ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْإِنْسَانِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُقُوعِهِ فِيهِمْ وُقُوعَهُ فِي الْمَاشِيَةِ، فَإِنَّهَا تُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ أَوَّلُ طَاعُونٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ، مَاتَ مِنْهُ سَبْعُونَ أَلْفًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَعَمَوَاسُ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ كَانَ بِهَا مُعَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ. (" ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ ") أَيْ: كَثْرَتُهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَصْلُهُ التَّفَرُّقُ وَالِانْتِشَارُ، يُقَالُ: اسْتَفَاضَ الْحَدِيثُ إِذَا انْتَشَرَ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ مِنْ فَاضَ الْمَالُ وَالدَّمْعُ وَغَيْرُهُمَا إِذَا كَثُرَ، (" حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ ") بِالرَّفْعِ وَجُوِّزَ النَّصْبُ أَيْ: فَيَصِيرُ (" سَاخِطًا ") أَيْ: غَضْبَانُ ; لِعَدِّهِ الْمِائَةَ قَلِيلًا، وَهَذِهِ الْكَثْرَةُ ظَهَرَتْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عِنْدَ الْفُتُوحِ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَبَعْضُ أَهْلِ زَمَانِنَا يَعُدُّونَ الْأَلْفَ قَلِيلًا وَيُحَقِّرُونَهُ، (" ثُمَّ فِتْنَةٌ ") أَيْ: بَلِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، قِيلَ: هِيَ مَقْتَلُ عُثْمَانَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْفِتَنِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا، (" لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ ") قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ بُيُوتِ أُمَّتِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَرَبَ لِشَرَفِهَا وَقُرْبِهَا مِنْهُ، فَفِيهِ نَوْعُ تَغْلِيبٍ، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى مَا قِيلَ: إِنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ عَرَبِيٌّ، (" ثُمَّ هُدْنَةٌ ") أَيْ: مُصَالَحَةٌ (" تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ ") أَيِ: الْأَرْوَامُ ; سُمَّوْا بِذَلِكَ لِأَنَّ أَبَاهُمُ الْأَوَّلَ وَهُوَ الرُّومُ بْنُ عِيصُو بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، كَانَ أَصْفَرَ فِي بَيَاضٍ، وَقِيلَ: سُمَّوْا بِاسْمِ رَجُلٍ أَسْوَدَ مَلَكَ الرُّومَ، فَنَكَحَ مِنْ نِسَائِهَا فَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ ; فَنُسِبَ الرُّومُ إِلَيْهِ، (" فَيَغْدِرُونَ ") أَيْ: يَنْقُضُونَ عَهْدَ الْهُدْنَةِ (" فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً ") أَيْ: رَايَةً وَهِيَ الْعَلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ رَوَاهُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَرَادَ بِهَا الْأَجَمَةَ، فَشَبَّهَ كَثْرَةَ رِمَاحِ الْعَسْكَرِ بِهَا. (" تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا ") أَيْ: أَلْفُ فَارِسٍ. قَالَ الْأَكْمَلُ: جُمْلَتُهُ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ وَسِتُّونَ أَلْفًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْوَهْمِ ; فَإِنَّ الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي بَابِ: مَا يَجُوزُ مِنَ الْغَدْرِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَقَدَّمْتُ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّحِيحِ.

5421 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقَ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتِ الرُّومُ خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ. فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا. فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطُنْطِينِيَّةَ ". فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ. فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّامَ خَرَجَ فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّهُمْ فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5421 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ ") بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعُمْقُ مَا بَعُدَ مِنْ أَطْرَافِ الْمَفَاوِزِ، وَلَيْسَ الْأَعْمَاقُ هَاهُنَا بِجَمْعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ (أَوْ بِدَابِقَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تُكْسَرُ وَلَا يُصْرَفُ وَقَدْ يُصْرَفُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ دَارُ نَخْلَةٍ مَوْضِعُ سُوقٍ بِالْمَدِينَةِ. وَفِي الْمَفَاتِيحِ هُمَا مَوْضِعَانِ أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: دَابِقٌ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ ذَكَرَ فِيهِ الْفَتْحَ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ مِنْ عَمَلِ حَلَبَ، وَمَرْجُ دَابِقٍ مَشْهُورٌ. قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: الْأَغْلَبُ التَّذْكِيرُ وَالصَّرْفُ ; لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ، قَالَ وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَلَا يُصْرَفُ اهـ. وَالَّذِي يُؤَنِّثُهُ وَلَا يَصْرِفُهُ يُرِيدُ بِهِ الْبُقْعَةَ. قُلْتُ: وَفِي الْقَامُوسِ دَابِقٌ كَصَاحِبٍ مَوْضِعٌ بِحَلَبَ، لَكِنَّ الْمَضْبُوطَ فِي النُّسَخِ بِغَيْرِ صَرْفٍ، (" فَيَخْرُجَ ") بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ (" إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ ") ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا حَلَبَ، وَالْأَعْمَاقُ وَدَابِقُ مَوْضِعَانِ بِقُرْبِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا دِمَشْقُ، وَقَالَ فِي الْأَزْهَارِ: وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَدِينَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَيْشِ الْخَارِجِ إِلَى الرُّومِ جَيْشُ الْمَهْدِيِّ بِدَلِيلِ آخِرِ الْحَدِيثِ ; وَلِأَنَّ الْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ تَكُونُ خَرَابًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. (مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ) : بَيَانٌ لِلْجَيْشِ (يَوْمَئِذٍ) احْتِرَازٌ مِنْ زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (" فَإِذَا تَصَافُّوا ") بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَضْمُومَةِ (قَالَتِ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا) : عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ (" نَقْتُلْهُمْ ") : يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مُخَاتَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَمُخَادَعَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَيَبْغُونَ بِهِ تَفْرِيقَ كَلِمَتِهِمْ، وَالْمُرَادُونَ بِذَلِكَ هُمُ الَّذِينَ غَزَوْا بِلَادَهُمْ، فَسَبُوا ذُرِّيَّتَهُمْ، كَذَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلنُّسَخِ وَالْأُصُولِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَرُوِيَ سُبُوا بِبِنَاءِ الْمَجْهُولِ. قَالَ الْقَاضِي: بِبِنَاءِ الْمَعْلُومِ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كِلَاهُمَا صَوَابٌ ; لِأَنَّ عَسَاكِرَ الْإِسْلَامِ فِي بِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ كَانُوا مَسْبِيِّينَ، ثُمَّ هُمُ الْيَوْمَ بِحَمْدِ اللَّهِ يَسْبُونَ الْكُفَّارَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأَظْهَرُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ يَكُونُ بَعْدَ الْمَلْحَمَةِ الْكُبْرَى الَّتِي تَدُورُ رَحَاهَا بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ، بَعْدَ الْمُصَالَحَةِ وَالْمُفَاجَرَةِ لِقِتَالٍ عَدُوٍّ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ غَزْوِ الرُّومِ لَهُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَيَطَأُ الرُّومُ أَرْضَ الْعَرَبِ حَتَّى يَنْزِلَ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقَ، فَيَسْأَلُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ سَبَى ذُرِّيَّتَهُمْ، فَيَرُدُّونَ الْجَوَابَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ. (" فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ ") أَيِ: الْمُسْلِمُونَ الْكَفَرَةَ (" فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ ") أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ (" لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا ") كِنَايَةٌ عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَعْذِيبِهِمْ عَلَى التَّأْبِيدِ، (" وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ " عِنْدَ اللَّهِ) بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ هُوَ هُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، (" وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ ") أَيِ: الْبَاقِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (" لَا يَفْتِنُونَ ") أَيْ: لَا يُبْتَلُونَ بِبَلِيَّةٍ، أَوْ لَا يَمْتَحِنُونَ بِمُقَاتَلَةٍ، أَوْ لَا يُعَذَّبُونَ (" أَبَدًا ") فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ خَاتِمَتِهِمْ، (" فَيَفْتَتِحُونَ ") : الْفَاءُ تَعْقِيبِيَّةٌ أَوْ تَفْرِيعِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي نُسْخَةٍ: فَيَفْتَحُونَ بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْأَصْوَبُ ; لِأَنَّ الِافْتِتَاحَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الِاسْتِفْتَاحِ، فَلَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْفَتْحِ. قُلْتُ: سَبَقَ مِثْلَ هَذَا فِي كَلَامِ التُّورِبِشْتِيِّ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ بِمُعَالَجَةٍ تَامَّةٍ. وَفِي الْقَامُوسِ: فَتْحٌ كَمَنْعٍ ضِدَّ أَغْلَقَ كَفَتْحٍ وَافْتَتَحَ وَالْفَتْحُ النَّصْرُ، وَافْتِتَاحُ دَارِ الْحَرْبِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ الِاسْتِنْصَارُ وَالِافْتِتَاحُ، وَالْمَعْنَى: فَيَأْخُذُونَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ (" قُسْطَنْطِينِيَّةَ ") : وَهِيَ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ وَضَمِّ الطَّاءِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ، وَبَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ نُونٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ هَاهُنَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَنَقَلَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَشَارِقِ عَنِ الْمُتْقِنِينَ زِيَادَةَ يَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَ النُّونِ. قُلْتُ: وَنُسَخُ الْمِشْكَاةِ مُتَّفَقَةٌ عَلَى مَا قَالَهُ عِيَاضٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةُ يَاءٍ مُخَفَّفَةٍ بَدَلُ يَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، فَقَدْ قَالَ الْجَزَرِيُّ: ثُمَّ نُونٌ ثُمَّ يَاءٌ مُخَفَّفَةٌ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ تَشْدِيدَهَا، وَقَالَ آخَرُونَ بِحَذْفِهَا، وَنَقَلَهُ

عِيَاضٌ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، ثُمَّ هِيَ مَدِينَةٌ مَشْهُورَةٌ أَعْظَمُ مَدَائِنِ الرُّومِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةُ قَدْ فُتِحَتْ فِي زَمَنِ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُفْتَحُ عِنْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ. قَالَ الْحِجَازِيُّ فِي حَاشِيَةِ الشِّفَاءَ: قُسْطَنْطِينَةُ وَقُسْطَنْطِينِيَّةُ وَيُرْوَى بِلَامِ التَّعْرِيفِ دَارُ مَلِكِ الرُّومِ، وَفِيهَا سِتُّ لُغَاتٍ: فَتْحُ الطَّاءَ الْأُولَى، وَضَمُّهَا مَعَ تَخْفِيفِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ وَتَشْدِيدِهَا، وَمَعَ حَذْفِهَا وَفَتْحِ النُّونِ، وَهَذِهِ بِضَمِّ الطَّاءِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَالْقَافُ مَضْمُومٌ بِكُلِّ حَالٍ. (" فَبَيْنَمَا هُمْ ") أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (" يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ ") : أَرَادَ الشَّجَرَ الْمَعْرُوفَ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ دَالٌّ عَلَى كَمَالِ الْأَمْنِ (" إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ ") أَيْ: نَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ (" إِنَّ الْمَسِيحَ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِمَا فِي النِّدَاءِ مِنْ مَعْنَى أَقُولُ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا أَيْ: أَعْلَمَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِيحِ هَاهُنَا الدَّجَّالُ (" قَدْ خَلَفَكُمْ ") : بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، أَيْ: قَامَ مَقَامَكُمْ (" فِي أَهْلِيكُمْ ") أَيْ: فِي ذَرَارِيِّكُمْ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (" فَيَخْرُجُونَ ") أَيْ: جَيْشُ الْمَدِينَةِ مِنْ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، (" وَذَلِكَ ") أَيِ: الْقَوْلُ مِنَ الشَّيْطَانِ (" بَاطِلٌ ") أَيْ: كَذِبٌ وَزُورٌ، (فَإِذَا جَاءُوا) أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (الشَّامَ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقُدْسُ مِنْهُ لِمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ (خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ) : بِضَمٍّ فَكَسْرٍ أَيْ: يَسْتَعِدُّونَ وَيَتَهَيَّأُونَ (" لِلْقِتَالِ ") ، فَقَوْلُهُ: (" يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ ") بَدَلٌ مِنْهُ، (" إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ ") ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (إِذَا) بِالْأَلْفِ، أَيْ: وَقْتَ إِقَامَةِ الْمُؤَذِّنِ لِلصَّلَاةِ (فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أَيْ: مِنَ السَّمَاءِ عَلَى مَنَارَةِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَيَأْتِي الْقُدْسَ، (فَأَمَّهُمْ) : عَدَلَ إِلَى الْمَاضِي تَحْقِيقًا لِلْوُقُوعِ، وَإِشْعَارًا بِجَوَازِ عَطْفِ الْمَاضِي عَلَى الْمُضَارِعِ وَعَكْسِهِ، أَيْ: أَمَّ عِيسَى الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ وَمِنْ جُمْلَتِهِمُ الْمَهْدِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ قَدَّمَ الْمَهْدِيَّ مُعَلِّلًا بِأَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا أُقِيمَتْ لَكَ وَإِشْعَارًا بِالْمُتَابَعَةِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَتْبُوعٍ اسْتِقْلَالًا، بَلْ هُوَ مُقَرِّرٌ وَمُؤَيِّدٌ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَؤُمُّ بِهِمْ عَلَى الدَّوَامِ، فَقَوْلُهُ: فَأَمَّهُمْ فِيهِ تَغْلِيبٌ أَوْ تَرَكَّبَ مَجَازًا أَيْ: أَمَرَ إِمَامَهُمْ بِالْإِمَامَةِ، وَيَكُونُ الدَّجَّالُ حِينَئِذٍ مُحَاصِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، (" فَإِذَا رَآهُ ") أَيْ: رَأَى عِيسَى (" عَدُوُّ اللَّهِ ") : بِالرَّفْعِ أَيِ: الدَّجَّالُ (" ذَابَ ") أَيْ: شَرَعَ فِي الذَّوَبَانِ (" كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَلَوْ تَرَكَهُ ") أَيْ: لَوْ تَرَكَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الدَّجَّالَ وَلَمْ يَقْتُلْهُ (لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلَكَ) أَيْ: بِنَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، (وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ) أَيْ: بِيَدِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَيُرِيهِمْ) أَيْ: عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوِ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ، أَوِ الْكَافِرِينَ، أَوْ جَمِيعَهُمْ (دَمَهُ) أَيْ: دَمُ الدَّجَّالِ (" فِي حَرْبَتِهِ ") أَيْ: فِي حَرْبَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهِيَ رُمْحٌ صَغِيرٌ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ مَرْفُوعًا: ( «يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ» ) ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِنْ أَبْوَابِ مَسْجِدِ الْقُدْسِ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ بِفِلَسْطِينَ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَلَعَلَّ الدَّجَّالَ يَهْرُبُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَمَا كَانَ مُحَاصَرًا، فَيَلْحَقُهُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَحَدِ الْأَمَاكِنِ فَيَقْتُلُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: بِهَذَا السِّيَاقِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ، وَنُزُولَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

5422 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى لَا يُقَسَّمُ مِيرَاثٌ وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، ثُمَّ قَالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لِأَهْلِ الشَّامِ وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، يَعْنِي الرُّومَ، فَيَشْرُطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ، حَتَّى يَحْجِزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُرْطَةُ، ثُمَّ يَتَشَرَّطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ، حَتَّى يَحْجِزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَتَشَرَّطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتُلُونَ حَتَّى يُمْسُوا فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَيَقْتَتِلُونَ مَقْتَلَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنْبَاتِهِمْ فَلَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيِّتًا، فَيَتَعَادَّ بَنُو الْأَبِ كَانُوا مِائَةً فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَسَّمُ؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ: أَنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ، فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَيُقْبِلُونَ فَيَبْعَثُونَ عَشْرَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ، هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ، أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ، عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5422 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى لَا يُقَسَّمَ مِيرَاثٌ) أَيْ: مِنْ كَثْرَةِ الْمَقْتُولِينَ، وَقِيلَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَالِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، وَقِيلَ: حَتَّى يُوجَدَ وَقْتٌ لَا يُقَسَّمُ فِيهِ مِيرَاثٌ ; لِعَدَمِ مَنْ يَعْلَمُ الْفَرَائِضَ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الشَّرْعَ، فَلَا يُقَسَّمُ مِيرَاثٌ أَصْلًا، أَوْ لَا يُقَسَّمُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي زَمَانِنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْفُقَرَاءِ لَا يُقَسَّمُ مِيرَاثٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ ; إِمَّا لِعَدَمِ وُجُودِ شَيْءٍ، أَوْ لِكَثْرَةِ الدُّيُونِ الْمُسْتَغْرِقَةِ، أَوْ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ تَكُونُ ظَلَمَةً، فَيَرْجِعُ مَالُهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَلَا يَبْقَى لِأَوْلَادِهِمْ نَصِيبٌ فِي الْمَالِ، وَلَا لَهُمْ خَلَاقٌ فِي الْمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَيُرِيدُهُ قَوْلُهُ: (وَلَا يُفْرَحُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: وَلَا يَفْرَحُ أَحَدٌ (بِغَنِيمَةٍ) : إِمَّا لِعَدَمِ الْعَطَاءِ أَوْ ظُلْمِ الظَّلَمَةِ، وَإِمَّا لِلْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ، فَلَا يَتَهَنَّأُ بِهَا أَهْلُ الدِّيَانَةِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَلَا يَضُرُّهُ مَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (عَدُوٌّ) أَيْ: مِنَ الرُّومِ أَوْ عَدُوٌّ كَثِيرٌ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (يَجْمَعُونَ) أَيِ: الْجَيْشَ وَالسِّلَاحَ (لِأَهْلِ الشَّامِ) أَيْ: لِمُقَاتَلَةِ أَهْلِ الشَّامِ (وَيَجْمَعُ لَهُمْ) أَيْ: لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ (أَهْلُ الْإِسْلَامِ، يَعْنِي) أَيْ: قَالَ الرَّاوِي: يُرِيدُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالْعَدُوِّ (الرُّومَ، فَيَتَشَرَّطُ الْمُسْلِمُونَ) : مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ اسْتَعْمَلَ تَشَرَّطَ مَكَانَ اشْتَرَطَ، يُقَالُ: اشْتَرَطَ فُلَانٌ بِنَفْسِهِ لِأَمْرِ كَذَا، أَيْ: قَدَّمَهَا وَأَعْلَمَهَا وَأَعَدَّهَا، وَأَشْرَطَ نَفْسَهُ لِلشَّيْءِ أَعْلَمُهُ، وَيُرْوَى: فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ، أَيْ: يُهَيِّئُونَ وَيُعِدُّونَ (شُرْطَةً) : بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تَتَقَدَّمُ لِلْقِتَالِ، وَتَشْهَدُ الْوَاقِعَةَ ; سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَالْعَلَامَةِ لِلْجَيْشِ، وَقَوْلُهُ: (لِلْمَوْتِ) أَيْ: لِلْحَرْبِ، وَفِيهِ نَوْعٌ تَجَرِّي، فَفِي الْقَامُوسِ: الشُّرْطَةُ وَاحِدُ الشُّرَطِ كَصُرَدَ، وَهُمْ كَتِيبَةٌ تَشْهَدُ الْحَرْبَ وَتَتَهَيَّأُ لِلْمَوْتِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَعْوَانِ الْوُلَاةِ اهـ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَقِيلَ: سُمُّوا بِهَا لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا وَيَعُدُّوا أَنْفُسَهُمْ لِلْهَلَكَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (لَا تَرْجِعُ) أَيْ: تِلْكَ الشُّرْطَةُ (إِلَّا غَالِبَةً) : فَالْجُمْلَةُ صِفَةُ (شُرْطَةً) كَاشِفَةٌ مُبَيِّنَةٌ مُوَضِّحَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَبْعَثُونَ مُقَدِّمَتَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَنْهَزِمُوا، بَلْ يَتَوَقَّفُوا وَيَتَثَبَّتُوا إِلَى أَنْ يُقْتَلُوا أَوْ يَغْلِبُوا، (فَيَقْتَتِلُونَ) أَيِ: الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ (حَتَّى يَحْجِزَ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَتُكْسَرُ أَيْ: يَمْنَعُ (بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ) أَيْ: دُخُولُهُ وَظَلَامُهُ فَيَتْرُكُونَ الْقِتَالَ (فَيَفِيءُ) : مُضَارِعٌ مِنَ الْفَيْءِ بِمَعْنَى الزَّوَالِ أَيْ: يَرْجِعُ (هَؤُلَاءِ) أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (وَهَؤُلَاءِ) أَيِ: الْكَافِرُونَ (كُلٌّ) أَيْ: مِنَ الْفَرِيقَيْنِ (غَيْرُ غَالِبٍ) أَيْ: وَغَيْرُ مَغْلُوبٍ (وَتَفْنَى) أَيْ: تَهْلَكُ وَتُقْتَلُ (الشُّرْطَةُ) أَيْ: جِنْسُهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَرْجِعُ مُعْظَمُ الْجَيْشِ، وَصَاحِبُ الرَّايَاتِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهَا غَلَبَةٌ عَلَى الْآخَرِ، وَتَفْنَى شُرْطَةُ الطَّرَفَيْنِ، وَإِلَّا لَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِمَنْ تَفْنَى شُرَطُهُمْ، وَقَدْ قَالَ: كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، هَذَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (شَرْطَةً) بِفَتْحِ الشِّينِ، فَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الشُّرْطَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: إِنْ كَانَ الشِّينُ فِيهَا مَفْتُوحَةً، فَمَعْنَاهُ يَشْتَرِطُونَ مَعَهُمْ شُرْطَةً وَاحِدَةً، وَمَعْنَى فَيْئِهِمَا زَوَالَهَا بِسَبَبِ دُخُولِ اللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مَضْمُومَةً، فَالْمُرَادُ مِنْهَا طَائِفَةٌ هِيَ خِيَارُ الْجَيْشِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ ; مِنْ حَيْثُ أَنَّ الشُّرْطَةَ إِذَا فَاءَتْ غَيْرَ غَالِبَةٍ لَمْ تَفْنَ، إِذْ لَوْ فَنِيَتْ غَيْرَ غَالِبَةٍ، فَكَيْفَ قَالَ: فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مَعَ الشُّرْطَةِ جَمْعًا آخَرَ مِنَ الْجَيْشِ، وَهُمُ الرَّاجِعُونَ غَيْرُ غَالِبِينَ لَا الشُّرْطَةُ، أَوْ كَانَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَعَ الشُّرْطَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَالرَّاجِعُ سَائِرُهُمْ دُونَهَا اهـ. وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَدَّمْنَاهُ، ثُمَّ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ فِي الْفَائِقِ: يُقَالُ: شَرَطَ نَفْسَهُ لِكَذَا إِذَا أَعْلَمَهَا لَهُ وَأَعَدَّهَا، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ، وَالشُّرَطُ نُخْبَةُ الْجَيْشِ وَصَاحِبُ رَايَتِهِمْ لَا النَّفَرُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَهُمُ الشُّرْطَةُ، وَقَوْلُهُ: فَيَتَشَرَّطُ فَإِنَّهُ فِي الْحَدِيثِ كَذَلِكَ اسْتَعْمَلَ تَشَرَّطَ مَكَانَ اشْتَرَطَ فُلَانٌ بِنَفْسِهِ لِأَمْرِ كَذَا أَيْ: قَدَّمَهَا

وَأَعَدَّهَا وَأَعْلَمَهَا، وَلَوْ وُجِدَتِ الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الشِّينِ مِنَ الشَّرْطِ لَكَانَ مَعْنَاهَا أَوْضَحَ وَأَقْوَمَ مَعَ قَوْلِهِ: وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، أَيْ: يَشْتَرِطُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ شَرْطًا أَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَّا غَالِبَةً يَعْنِي يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ ارْتَفَعَ الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطُوهُ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ فِيهِ التَّاءَ لِتَدُلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ، أَيْ: يَشْتَرِطُونَ شُرْطَةً وَاحِدَةً لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا، وَلَا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ، فَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا وُجِدَتِ الرِّوَايَةُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ وَجَبَ الذَّهَابُ إِلَيْهَا، وَالِانْحِرَافُ عَنِ التَّحْرِيفِ مِنْ ضَمِّ الشِّينِ إِلَى فَتْحِهَا، وَالْتِزَامِ التَّكَلُّفِ فِي تَأْوِيلِ التَّاءِ، وَالْعُدُولِ عَنِ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْيِ الشُّرْطَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمَجَازِ الْبَعِيدِ، وَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ أَنْ يُفْرَضَ أَنَّ الْفِئَةَ الْعَظِيمَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَفْرَزُوا مِنْ بَيْنِهِمْ طَائِفَةً تَتَقَدَّمُ الْجَيْشَ لِلْمُقَاتَلَةِ، وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا أَنْ لَا تَرْجِعَ إِلَّا غَالِبَةً ; فَلِذَلِكَ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ، وَصَدَقُوا فِيمَا عَاهَدُوا وَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ كَذَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ وَشَرَطَ، وَقَوْلُهُ: فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ، الْمُرَادُ مِنْهُ الْفِئَتَانِ الْعَظِيمَتَانِ لَا الشُّرْطَةُ. (ثُمَّ يَتَشَرَّطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً) أَيْ: أُخْرَى (لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ، حَتَّى يَحْجِزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ثُمَّ يَتَشَرَّطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً) أَيْ: ثَالِثَةٌ (لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا) أَيْ: يَدْخُلُوا فِي الْمَسَاءِ بِأَنْ يَدْخُلَ اللَّيْلُ، فَفِي الْعِبَارَةِ تَفَنُّنٌ، (فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ إِلَيْهِمْ) أَيْ: نَهَضَ وَقَامَ وَقَصَدَ إِلَى قِتَالِهِمْ (بَقِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ اسْمٌ مِنَ الْإِدْبَارِ، وَرُوِيَ الدَّابِرُ وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَيِ: الْهَزِيمَةُ (عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى الْكُفَّارِ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ: عَلَى الرُّومِ، (فَيَقْتَتِلُونَ) : مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَوْجُودُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَيُقْتَلُونَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ لِمَا تُوُهِّمَ مِنْ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَيَجْعَلُ اللَّهُ، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَمْرَ خِلَافُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: (مَقْتَلَةً) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ أَوْ بِحَذْفِ زَوَائِدِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17] ، وَالْمَعْنَى مُقَاتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، (لَمْ يُرَ) أَيْ: لَمْ يُبْصَرْ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ (مِثْلُهَا، حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتُفَتَحُ (لَيَمُرُّ) أَيْ: لَيُرِيدُ الْمُرُورَ (بِجَنْبَاتِهِمْ) : بِجِيمٍ فَنُونٍ مَفْتُوحَتَيْنِ فَمُوَحَّدَةٍ، أَيْ: بِنَوَاحِيهِمْ (فَلَا) ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَمَا (يُخَلِّفُهُمْ) : بِكَسْرِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ خَلَّفْتُ فُلَانًا وَرَائِي إِذَا جَعَلْتَهُ مُتَأَخِّرًا عَنْكَ، وَالْمَعْنَى: فَلَا يُجَاوِزُهُمْ (حَتَّى يَخِرَّ) : بِكَسْرِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ أَيْ: حَتَّى يَسْقُطَ الطَّائِرُ (مَيِّتًا) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ وَيُخَفَّفُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي يَطِيرُ الطَّائِرُ عَلَى أُولَئِكَ الْمَوْتَى، فَمَا وَصَلَ إِلَى آخِرِهِمْ حَتَّى يَخِرَّ وَيَسْقُطَ مَيِّتًا مِنْ نَتْنِهِمْ، أَوْ مِنْ طُولِ مَسَافَةِ مَسْقَطِ الْمَوْتَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمَعْنَى الثَّانِي يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِ الْبُحْتُرِيَّ فِي وَصْفِ بِرْكَةٍ: لَا يَبْلُغُ السَّمَكُ الْمَحْصُورُ غَايَتَهَا لِبُعْدِ مَا بَيْنَ قَاصِيهَا وَدَانِيهَا (فَيَتَعَادَّ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ، وَقِيلَ بِالْمَجْهُولِ مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ، وَالْمَعْنَى: يَعُدُّ (بَنُو الْأَبِ) أَيْ: جَمَاعَةٌ حَضَرُوا تِلْكَ الْحَرْبَ كُلُّهُمْ أَقَارِبُ (كَانُوا مِائَةً فَلَا يَجِدُونَهُ) : الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِمِائَةٍ بِتَأْوِيلِ الْمَعْدُودِ أَوِ الْعَدَدِ، أَيْ: فَلَا يَجِدُونَ عَدَدَهُمْ، أَوْ لِبَنِي الْأَبِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَمْعٍ حَقِيقَةً لَفْظًا، بَلْ مَعْنًى، كَذَا قِيلَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَنِي الْأَبِ بِمَعْنَى الْقَوْمِ، وَالْقَوْمُ مُفْرَدًا لِلَّفْظِ جَمْعَ الْمَعْنَى، فَرُوعِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَيْثُ قَالَ: فَلَا يَجِدُونَهُ (بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ) :

وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَشْرَعُونَ فِي عَدِّ أَنْفُسِهِمْ، فَيَشْرَعُ كُلُّ جَمَاعَةٍ فِي عَدِّ أَقَارِبِهِمْ، فَلَا يَجِدُونَ مِنْ مِائَةٍ إِلَّا وَاحِدًا، وَزِيدَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مِائَةٍ إِلَّا وَاحِدًا، (فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ) : الْفَاءُ تَفْرِيعِيَّةٌ أَوْ فَصِيحَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أُبْهِمَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى لَا يُقَسَّمَ مِيرَاثٌ وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ» ; حَيْثُ أَطْلَقُهُ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: عَدُوٌّ إِلَخْ، بِأَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ (أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِالرَّفْعِ أَيْ فَأَيُّ مِيرَاثٍ (يُقَسَّمُ؟) : وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَفِي النُّسَخِ بِالْجَرِّ، فَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ مِيرَاثٍ تَقَعُ الْقِسْمَةُ؟ وَتَأْخِيرُ الْمِيرَاثِ مَعَ تَقَدُّمِهِ سَابِقًا نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ. (فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا) أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (بِبَأْسٍ) : بِمُوَحَّدَةٍ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُبَدَّلُ، أَيْ: بِحَرْبٍ شَدِيدٍ، (هُوَ أَكْبَرُ) أَيْ: أَعْظَمُ (مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِمَّا سَبَقَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَأْسِ أَهْلُهُ بِارْتِكَابِ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ (فَجَاءَهُمْ) أَيِ: الْمُسْلِمِينَ (الصَّرِيخُ) : فَعِيلٌ مِنَ الصُّرَاخِ، وَهُوَ الصَّوْتُ، أَيْ: صَوْتُ الْمُسْتَصْرِخِ وَهُوَ الْمُسْتَغِيثُ (أَنَّ الدَّجَّالَ) : بِفَتْحِ أَنَّ وَيُكْسَرُ (قَدْ خَلَفَهُمْ) : بِتَخْفِيفِ اللَّامِ أَيْ: قَعَدَ مَكَانَهُمْ (فِي ذَرَارِيِّهِمْ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: أَوْلَادِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي أَهْلِيهِمْ (فَيَرْفُضُونَ) : بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ: فَيَتْرُكُونَ وَيُلْقُونَ (مَا فِي أَيْدِيهِمْ) أَيْ: مِنَ الْغَنِيمَةِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ فَزَعًا عَلَى الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ (وَيُقْبِلُونَ) : مِنَ الْإِقْبَالِ أَيْ: وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى الدَّجَّالِ (فَيَبْعَثُونَ) أَيْ: يُرْسِلُونَ (عَشْرَ فَوَارِسَ) : جَمْعُ فَارِسٍ أَيْ: رَاكِبُ فَرَسٍ (طَلِيعَةً) : وَهُوَ مَنْ يُبْعَثُ لِيَطَّلِعَ عَلَى حَالِ الْعَدُوِّ، كَالْجَاسُوسِ، فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَإِنَّمَا قَالَ: عَشْرٌ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْفَوَارِسَ طَلَائِعُ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ ") أَيِ: الْعِشْرَةُ (" وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ ") : فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ لِلْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ مِنَ الْكَائِنَاتِ وَغَيْرِهَا (" هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ، أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (" عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ ": احْتِرَازٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ (" يَوْمَئِذٍ ") أَيْ: حِينَئِذٍ، وَهُوَ احْتِرَازٌ مِنَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ وَأَمْثَالِهِمْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5423 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «هَلْ سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ، جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ، وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟ " قَالُوا: " نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ، وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا "، قَالَ ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الرَّاوِي: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: الَّذِي فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَقُولُونَ الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ، ثُمَّ يَقُولُونَ الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ لَهُمْ فَيَدْخُلُونَهَا فَيَغْنَمُونَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُونَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5423 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " هَلْ سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ، جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ، قَالَ شَارِحٌ: هَذِهِ الْمَدِينَةُ فِي الرُّومِ، وَقِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا قُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَفِي الْقَامُوسِ: هِيَ دَارُ مَلِكِ الرُّومِ، وَفَتْحُهَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَتُسَمَّى بِالرُّومِيَّةِ بُورِنْطِيَا، وَارْتِفَاعُ سُورِهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَكَنِيسَتُهَا مُسْتَطِيلَةٌ، وَبِجَانِبِهَا عَمُودٌ عَالٍ فِي دَوْرِ أَرْبَعَةِ أَبْوَاعَ تَقْرِيبًا، وَفِي رَأْسِهِ فَرَسٌ مِنْ نُحَاسٍ وَعَلَيْهِ فَارِسٌ، وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ كُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَدْ فَتَحَ أَصَابِعَ يَدِهِ الْأُخْرَى مُشِيرًا بِهَا، وَهُوَ صُورَةُ قُسْطَنْطِينَ بَانِيهَا اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَدِينَةٌ غَيْرُهَا، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ قُسْطَنْطِينِيَّةَ تُفْتَحُ بِالْقِتَالِ الْكَثِيرِ، وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ تُفْتَحُ بِمُجَرَّدِ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ، (قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ ") : قَالَ الْمُظْهِرُ: مِنْ أَكْرَادِ الشَّامِ، هُمْ مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُمْ مُسْلِمُونَ اهـ. وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ بَنِي

إِسْمَاعِيلَ، وَهُمُ الْعَرَبُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمْ تَغْلِيبًا لَهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُخْتَصًّا بِهِمْ، (" فَإِذَا جَاءُوهَا ") أَيِ: الْمَدِينَةَ (" نَزَلُوا ") أَيْ: حَوَالَيْهَا مُحَاصِرِينَ أَهْلَهَا (" فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ، وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ ") : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِتَأْكِيدِ إِفَادَةِ عُمُومِ النَّفْيِ، (" قَالُوا ") : اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ (" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ ") بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ (أَحَدُ جَانِبَيْهَا أَيْ: أَحَدُ طَرَفَيْ سُورِ الْمَدِينَةِ (قَالَ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ الرَّاوِي) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ كَلَاعِيٌّ شَامِيٌّ حِمْصِيٌّ، سَمِعَ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ، رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، لَهُ ذِكْرٌ فِي بَابِ الْمَلَاحِمَ. (لَا أَعْلَمْهُ) أَيْ: لَا أَظُنُّ أَبَا هُرَيْرَةَ (إِلَّا قَالَ: " الَّذِي فِي الْبَحْرِ ") : أَحَدُ جَانِبَيْهَا الَّذِي فِي الْبَحْرِ، وَالْمَعْنَى: لَكِنِّي لَا أَجْزِمُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهُ رَدًّا عَلَى مَنْ نَازَعَهُ مِمَّنْ سَمِعَ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَيْدِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي فِي الْبَحْرِ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي. (" ثُمَّ يَقُولُونَ ") أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (" الثَّانِيَةَ ") أَيِ: الْكَرَّةَ الثَّانِيَةَ (" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَسَقَطَ ") : بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَفَنُّنًا وَتَحَقُّقًا (" جَانِبُهَا الْآخَرُ ") أَيِ: الَّذِي فِي الْبَرِّ (" ثُمَّ يَقُولُونَ الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ ") : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: فَيُفْتَحُ (" لَهُمْ ") ، وَالظَّرْفُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، (" فَيَدْخُلُونَهَا فَيَغْنَمُونَ ") أَيْ: مَا فِيهَا (" فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ ") أَيْ: يُرِيدُونَ الِاقْتِسَامَ وَيَشْرَعُونَ فِيهِ (" إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ ") أَيْ: مِنَ الْمَغَانِمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَنْفَالِ (وَيَرْجِعُونَ) أَيْ: سَرِيعًا لِمُقَابَلَةِ الدَّجَّالِ، وَمُسَاعَدَةِ الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5424 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَفَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ خُرُوجُ الدَّجَّالِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5424 - (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ") : بِالتَّخْفِيفِ وَتُشَدَّدُ، وَعُمْرَانُهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ أَيْ: عِمَارَتُهُ بِكَثْرَةِ الرِّجَالِ وَالْعَقَارِ وَالْمَالِ (" خَرَابُ يَثْرِبَ ") أَيْ: وَقْتَ خَرَابِ الْمَدِينَةِ ; قِيلَ: لِأَنَّ عُمْرَانَهُ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ، وَفِي الْأَزْهَارِ، قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: الْمُرَادُ بِعُمْرَانَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عُمْرَانُهُ بَعْدَ خَرَابِهِ، فَإِنَّهُ يُخَرَّبُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، ثُمَّ يُعَمِّرُهُ الْكُفَّارُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمْرَانِ الْكَمَالُ فِي الْعِمَارَةِ، أَيْ: عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَامِلًا مُجَاوِزًا عَنِ الْحَدِّ وَقْتَ خَرَابِ يَثْرِبَ، فَإِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَا يُخَرَّبُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ عَمَّرَهُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ، وَاسْتَخْرَجَ فِيهِ الْعُيُونَ، وَأَجْرَى فِيهِ الْمِيَاهَ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. قُلْتُ: وَزَادَ بَنُو عُثْمَانَ - حَفِظَهُمُ اللَّهُ مِنْ آفَاتِ الدَّوَرَانِ - فِي عِمَارَتِهِ وَأَرْزَاقِهِ وَتَكِيَّاتِهِ، لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَبْلُغْ عِمَارَةَ الْمَدِينَةِ الْمُعَطَّرَةِ، (" وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ ") أَيْ: ظُهُورُ الْحَرْبِ الْعَظِيمِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ: بَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ وَالرُّومِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ تَاتَارَ وَالشَّامِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ ; لِمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ; وَلِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ اللَّاحِقِ ; وَلِقَوْلِهِ: (" وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَفَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ ") : وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّعْرِيفِ (" خُرُوجُ الدَّجَّالِ ") .

قَالَ الْأَشْرَفُ: لَمَّا كَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةِ عِمَارَتِهِمْ فِيهِ أَمَارَةٌ مُسْتَعْقِبَةٌ بِخَرَابِ يَثْرِبَ، وَهُوَ أَمَارَةٌ مُسْتَعْقِبَةٌ بِخُرُوجِ الْمَلْحَمَةِ، وَهُوَ أَمَارَةٌ مُسْتَعْقِبَةٌ بِفَتْحِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَهُوَ أَمَارَةٌ مُسْتَعْقِبَةٌ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ، جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ وَاحِدٍ عَيْنَ مَا بَعْدَهُ وَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ اهـ. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَمَارَةٌ لِوُقُوعٍ مَا بَعْدَهُ، وَإِنْ وَقَعَ هُنَاكَ مُهْلَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: قَالَ هَنَا فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ، وَفِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ فَيَخْرُجُونَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْفَتْحَ عَلَامَةً لِخُرُوجِ الدَّجَّالِ، لَا أَنَّهَا مُسْتَعْقِبَةٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَصُرَاخُ الشَّيْطَانِ كَانَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ وَاقِعٌ لِيَشْتَغِلُوا عَنِ الْقَسْمِ، وَكَانَ بَاطِلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي: الْمَلْحَمَةُ الْعُظْمَى وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الصَّارِخِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلْعَهْدِ وَالْمَعْهُودُ الشَّيْطَانُ. أَقُولُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ غَيْرُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، إِذْ قِصَّةُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ كَانَتْ بِالْمُقَاتَلَةِ، وَفَتْحُ الْمَدِينَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبَةِ، فَحِينَئِذٍ يُحْمَلُ صَرِيخُ الشَّيْطَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غُزَاةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَصَرِيخُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَصْحَابِ فَتْحِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ تَرَكُوا الْغَنَائِمَ وَتَوَجَّهُوا إِلَى قِتَالِ الدَّجَّالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذٍ أَيْضًا.

5425 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمَلْحَمَةُ الْعُظْمَى وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5425 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ مُعَاذٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمَلْحَمَةُ الْعُظْمَى ") ، وَفِي الْجَامِعِ: الْمَلْحَمَةُ الْكُبْرَى، قِيلَ: هِيَ الَّتِي يَتَعَادَّ فِيهَا بَنُو الْأَبِ، وَلَا يَجِدُونَ مِنْ مِائَةٍ إِلَّا وَاحِدًا كَمَا مَرَّ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فَتْحُ الْمَدِينَةِ ; حَيْثُ فُتِحَتْ بِعَظَمَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى ; وَلِذَا صَحَّ عَطْفُ قَوْلِهِ: (" وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ ") وَهِيَ بِلَامِ التَّعْرِيفِ هُنَا، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ مَعَ انْضِمَامِهِ إِلَى التَّبَادُرِ، (" وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ ") أَيْ: بِاعْتِبَارِ تَوَجُّهِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْبَلْدَتَيْنِ، وَظُهُورِ الدَّجَّالِ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ فَتَحِهِمَا فَهُوَ مُتَعَاقِبٌ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ بَيْنَهُمَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ. ذِكْرُهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ.

5426 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «بَيْنَ الْمَلْحَمَةِ وَفَتْحِ الْمَدِينَةِ سِتُّ سِنِينَ، وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي السَّابِعَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5426 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " بَيْنَ الْمَلْحَمَةِ وَفَتْحِ الْمَدِينَةِ ") : أَرَادَ بِأَحَدِهِمَا الْمَدِينَةَ السَّابِقَةَ، وَبِالْأُخْرَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ: (" سِتُّ سِنِينَ ") مُشْكِلٌ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ اللَّامُ فِي الْمَلْحَمَةِ غَيْرُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِنْ سَائِرِ الْمَلَاحِمِ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَلْحَمَةٍ سَابِقِةٍ ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا مَا وُصِفَتْ بِالْعُظْمَى وَنَحْوَهُ. (" وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي السَّابِعَةِ ") أَيْ: فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ فِي آخِرِ السَّادِسَةِ الَّتِي فِيهَا فَتْحُ الْمَدِينَةِ، وَأَوَّلِ السَّابِعَةِ الَّتِي رَجَعَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا إِلَى الدَّجَّالِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مِنْ أَنْ يُشْتَبَهَ سَبْعُ سِنِينَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، (وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ) أَيْ: مِنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّعَارُضَ ثَابِتٌ وَالْجَمْعُ مُمْتَنِعٌ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْمَرْجِعُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ بَيْنَ الْمَلْحَمَةِ الْعُظْمَى، وَبَيْنَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ سَبْعُ سِنِينَ أَصَحُّ مِنْ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ.

5427 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «يُوشِكُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُحَاصَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى يَكُونَ أَبْعَدَ مَسَالِحِهِمْ سَلَاحٌ وَسَلَاحٌ: قَرِيبٌ مِنْ خَيْبَرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5427 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يُوشِكُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُحَاصَرُوا) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُحْبَسُوا وَيُضْطَرُّوا وَيَلْتَجِئُوا (إِلَى الْمَدِينَةِ) أَيْ: مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُحَاصَرَةِ الْعَدُوِّ إِيَّاهُمْ، أَوْ يَفِرُّ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَجْتَمِعُونَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَسَلَاحٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ خَيْبَرَ، أَوْ بَعْضُهُمْ دَخَلُوا فِي حِصْنِ الْمَدِينَةِ، وَبَعْضُهُمْ ثَبَتُوا حَوَالَيْهَا احْتِرَاسًا عَلَيْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَظْهَرُ بِقَوْلِهِ: (حَتَّى يَكُونَ أَبْعَدَ مَسَالِحِهِمْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (سَلَاحٌ) بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَدْ ضُبِطَ بِرَفْعِهِ مَضْمُومًا عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ مُؤَخَّرٌ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: أَبْعَدُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ مُنُوَّنًا، وَفِي أُخْرَى بِكَسْرِ الْحَاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ: سَلَاحٌ كَسَحَابٍ وَقَطَامَ مَوْضِعٌ أَسْفَلَ خَيْبَرَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: سَلَاحٌ هُوَ مُنَوَّنٌ فِي نُسْخَةٍ، وَبُنِيَ عَلَى الْكَسْرِ فِي أُخْرَى، وَقِيلَ: مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ فِي الْحِجَازِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ فِي بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ فِي النِّهَايَةِ الْمَسَالِحُ: جَمْعُ الْمُسَلَّحِ، وَالْمُسَلَّحَةُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ الثُّغُورَ مِنَ الْعَدُوِّ، وَسُمُّوا مُسَلَّحَةً لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ ذَوِي سِلَاحٍ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَسْكُنُونَ الْمَسْلَحَةَ، وَهِيَ كَالثَّغْرِ، وَالْمَرْقَبُ يَكُونُ فِيهِ أَقْوَامٌ يَرْقُبُونَ الْعَدُوَّ ; لِئَلَّا يَطْرُقَهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ، فَإِذَا رَأَوْا أَعْلَمُوا أَصْحَابَهُمْ ; لِيَتَأَهَّبُوا لَهُ. (وَسَلَاحٌ: قَرِيبٌ) أَيْ: مَوْضِعٌ قَرِيبٌ (مِنْ خَيْبَرَ) : وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَعْنَى: أَبْعَدُ ثُغُورِهِمْ هَذَا الْمَوْضِعُ الْقَرِيبُ مِنْ خَيْبَرَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ وَإِحَاطَةِ الْكُفَّارِ حَوَالَيْهِمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5428 - وَعَنْ ذِي مِخْبَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ثُمَّ تَرْجِعُونَ حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ فَيَقُولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقُّهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ ". "، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: (" فَيَثُورُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَسْلِحَتِهِمْ، فَيَقْتَتِلُونَ فَيُكْرِمُ اللَّهُ تِلْكَ الْفِئَةَ بِالشَّهَادَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5428 - (وَعَنْ ذِي مِخْبَرٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ: ابْنُ أَخِي النَّجَاشِيِّ، خَادِمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ خَيْبَرُ بْنُ نُفَيْرٍ وَغَيْرُهُ، يُعَدُّ فِي الشَّامِيِّينَ ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ، (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ ") الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ (" صُلْحًا ") : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ أَوْ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ (" آمِنًا ") : بِالْمَدِّ صِفَةُ صُلْحًا أَيْ: صُلْحًا ذَا أَمْنٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْإِسْنَادَ مَجَازِيٌّ، (" فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ ") أَيْ: فَتُقَاتِلُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ (" وَهُمْ ") أَيِ: الرُّومُ الْمُصَالِحُونَ مَعَكُمْ (" عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ") أَيْ: مِنْ خَلْفِكُمْ (" فَتُنْصَرُونَ ") بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: فَيَنْصُرُكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (" وَتَغْنَمُونَ ") أَيِ: الْأَمْوَالُ (" وَتَسْلَمُونَ ") أَيْ: مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ فِي الْقِتَالِ (" ثُمَّ تَرْجِعُونَ ") أَيْ: عَنْ عَدُوِّكُمْ (" حَتَّى تَنْزِلُوا ") أَيْ: أَنْتُمْ وَأَهْلُ الرُّومِ (" بِمَرْجٍ ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ رَوْضَةٌ، وَفِي النِّهَايَةِ أَرْضٌ وَاسِعَةٌ ذَاتُ نَبَاتٍ كَثِيرٍ (" ذِي تُلُولٍ ") : بِضَمِّ التَّاءِ جَمْعُ تَلٍّ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ مَوْضِعٌ مُرْتَفِعٌ (" فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ ") : وَهُمُ الْأَرْوَامُ حِينَئِذٍ (" الصَّلِيبَ ") : وَهُوَ خَشَبَةٌ مُرَبَّعَةٌ، يَدَّعُونَ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صُلِبَ عَلَى خَشَبَةٍ كَانَتْ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، (" فَيَقُولُ ") أَيِ: الرَّجُلُ مِنْهُمْ (" غَلَبَ الصَّلِيبُ ") أَيْ: غَلَبْنَا بِبَرَكَةِ الصَّلِيبِ، (" فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ") ; حَيْثُ نَسَبَ الْغَلَبَةَ لِغَيْرِ الْحَبِيبِ (" فَيَدُقُّهُ ") أَيْ: فَيَكْسِرُ الْمُسْلِمُ الصَّلِيبَ، (" فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: تَنْقُضُ الْعَهْدَ (" وَتَجْمَعُ ") أَيْ: رِجَالَهُمْ وَيَجْتَمِعُونَ (" لِلْمَلْحَمَةِ ") أَيْ: لِلْقِتَالِ أَوْ لِلْمَقْتَلَةِ (" وَزَادَ بَعْضُهُمْ ") أَيِ: الرُّوَاةُ (" فَيَثُورُ ") أَيْ: يَعْدُو وَيَقُومُ (" الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَسْلِحَتِهِمْ ") أَيْ: مُسْرِعِينَ وَنَاهِضِينَ إِلَيْهَا (" فَيَقْتَتِلُونَ ") أَيْ: مَعَهُمْ (" فَيُكْرِمُ اللَّهُ تِلْكَ الْعِصَابَةَ ") أَيِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (" بِالشَّهَادَةِ ") ، وَجَعَلَهُمُ اللَّهُ شُهَدَاءَ {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ} [آل عمران: 169 - 170] الْآيَةَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

5429 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ» ". ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5429 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ ") ، فِي الْقَامُوسِ: الْحَبَشُ وَالْحَبَشَةُ مُحَرَّكَتَيْنِ جِنْسٌ مِنَ السُّودَانِ (" مَا تَرَكُوكُمْ ") أَيْ: مَا دَامَ أَنَّهُمْ تَرَكُوكُمْ (" فَإِنَّهُ لَا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ ") أَيْ: كَنْزًا مَدْفُونًا تَحْتَ الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ: مَخْلُوقًا، فِيهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَا يَجْمَعُهُ أَهْلُ السَّدَانَةِ مِنْ هَدَايَا الْكَعْبَةِ، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، (" إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ ") أَيْ: صَاحِبُ دَقِيقِ السَّاقَيْنِ (" مِنَ الْحَبَشَةِ ") أَيْ: هُوَ مِنْهُمْ، وَيَكُونُ أَمِيرَهُمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْحَبَشِ ; لِكَوْنِ هَذَا الْوَصْفِ غَالِبًا فِيهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُمَا تَصْغِيرُ سَاقَيِ الْإِنْسَانِ لِدِقَّتِهَا، وَهِيَ صِفَةُ سُوقِ السُّودَانِ غَالِبًا، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: حَرَمًا آمِنًا ; وَلِأَنَّ مَعْنَاهُ آمِنًا إِلَى قُرْبِ الْقِيَامَةِ وَخَرَابِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: يُخَصُّ مِنْهُ قِصَّةُ ذِي السُّوَيْقَتَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا بِاعْتِبَارِ غَالِبِ الْأَحْوَالِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَضِيَّةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقِصَّةُ الْقَرَامِطَةِ وَنَحْوَهَا، الْمُرَادُ يَجْعَلُهُ حَرَمًا آمِنًا أَنَّهُ حُكْمٌ أَنَّهُمْ يُؤَمِّنُونَ النَّاسَ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِأَحَدٍ فِيهِ، كَمَا أَجَابَ بِهَذَا بَعْضُ أَهْلِ التَّوْفِيقِ، لَمَّا قَالَ رَئِيسُ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ بَعْدَمَا فَعَلُوا مِنَ الْفَسَادِ مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ، فَأَيْنَ كَلَامُ اللَّهِ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] ، فَقَالَ: إِنَّمَا مَعْنَاهُ فَأَمِّنُوا مَنْ دَخَلَهُ، وَلَا تَتَعَرَّضُوا فِي مَدْخَلِهِ بِنَهْبِهِ أَوْ قَتْلِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5430 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنِّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5430 - (وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ ") أَيِ: اتْرُكُوهُمْ (" مَا وَدَعُوكُمْ ") : بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: مَا تَرَكُوكُمْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَلَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْمَاضِي مِنْهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَشْعَارِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: غَالَهُ فِي الْحُبِّ حَتَّى وَدَعَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَا وَادَعُوكُمْ أَيْ: مَا سَالَمُوكُمْ، فَسَقَطَ الْأَلْفُ مِنْ قَلَمِ بَعْضِ الرُّوَاةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا افْتِقَارَ إِلَى هَذَا الطَّعْنِ مَعَ وُرُودِهِ فِي التَّنْزِيلِ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ يَعْنِي مَا تَرَكَكَ، قَالَ: وَثَمَّ وَدَعْنَا إِلَى عُمَرَ وَعَامِرٍ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الِازْدِوَاجِ وَرَدَ الْعَجُزُ عَلَى الصَّدْرِ يَجُوزُ لِذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ: إِنِّي لَآتِيهِ بِالْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، وَقَوْلُهُ: " «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» ". قَالَ الْمُظْهِرُ: كَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَتْبُوعٌ لَا تَابِعٌ، بَلْ فُصَحَاءُ الْعَرَبِ عَنْ آخِرِهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ بِأَقَلَّ، وَأَيْضًا فَلُغَاتُ الْعَرَبِ مُخْتَلِفَةٌ مِنْهُمْ مَنِ انْقَرَضَتْ لُغَتُهُ فَأَتَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا. قَالَ شَمَرُ: زَعَمَتِ النَّحْوِيَّةُ أَنَّ الْعَرَبَ أَمَاتُوا مَصْدَرَهُ وَمَاضِيهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْصَحُ. أَقُولُ: فَأَحْيَاهُمَا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَبِالْمَصْدَرِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدَعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» "، هَذَا وَهُوَ مِنْ بَابِ الشَّاذِّ الْمُوَافِقِ لِلْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلِاسْتِعْمَالِ كَالْمَسْجِدِ وَنَظَائِرِهِ. (" وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ ") ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عُلِمَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَالْحَدِيثُ مُقَيَّدٌ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيِّدِ، وَيُجْعَلُ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْآيَةِ، كَمَا خُصَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَجُوسِ، فَإِنَّهُمْ كَفَرَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ أُخِذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «سُنُّوا بِهِمْ سُّنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» ".

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلْحَدِيثِ ; لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْحَبَشَةِ وَالتُّرْكِ بِالتَّرْكِ وَالْوَدْعِ ; فَلِأَنَّ بِلَادَ الْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ مَهَامِهُ وَقِفَارٌ، فَلَمْ يُكَلِّفِ الْمُسْلِمِينَ دُخُولَ دِيَارِهِمْ ; لِكَثْرَةِ التَّعَبِ وَعَظَمَةِ الْمَشَقَّةِ، وَأَمَّا التُّرْكُ فَبَأْسُهُمْ شَدِيدٌ وَبِلَادُهُمْ بَارِدَةٌ، وَالْعَرَبُ وَهُمْ جُنْدُ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِنَ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ دُخُولَ الْبِلَادِ، فَلِهَذَيْنِ السِّرَّيْنِ خَصَّصَهُمْ، وَأَمَّا إِذَا دَخَلُوا بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ قَهْرًا - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ تَرْكُ الْقِتَالِ ; لِأَنَّ الْجِهَادَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى فَرْضُ كِفَايَةٍ. قُلْتُ: وَقَدْ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هَذَا الْمَعْنَى ; حَيْثُ قَالَ: " مَا تَرَكُوكُمْ "، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْحَدِيثِ لِلرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ لَا لِلْوُجُوبِ ابْتِدَاءً أَيْضًا، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ حَارَبُوا التُّرْكَ وَالْحَبَشَةَ بَادِينَ، وَإِلَى الْآنَ لَا يَخْلُو زَمَانٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ فِيمَا هُنَالِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنِّسَائِيُّ) ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُ: " «اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ ; فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَسْلُبُ أُمَّتِي مُلْكَهُمْ وَمَا خَوَّلَهُمُ اللَّهُ بَنُو قَنْطُورَاءَ» "، فَفِي النِّهَايَةِ هِيَ جَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا مِنْهُمُ التُّرْكُ وَالصِّينُ اهـ. وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ.

5431 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ: " «يُقَاتِلُكُمْ قَوْمٌ صِغَارُ الْأَعْيُنِ ". يَعْنِي التُّرْكَ قَالَ " تَسُوقُونَهُمْ ثَلَاثَ مِرَارٍ حَتَّى تُلْحِقُوهُمْ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَمَّا فِي السِّيَاقَةِ الْأُولَى فَيَنْجُو مَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَيَنْجُو بَعْضٌ وَيَهْلِكُ بَعْضٌ، وَأَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَيُصْطَلَمُونَ» ". أَوْ كَمَا قَالَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5431 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ: " يُقَاتِلُكُمْ ") ، ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْإِضَافَةِ، لَكِنَّهُ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالتَّنْوِينِ وَفَكِّ الْإِضَافَةِ، فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: يُقَاتِلُكُمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ يُقَاتِلُكُمُ إِلَخْ. وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ حَدِيثٍ، وَالْمَعْنَى فِي حَدِيثٍ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ يُقَاتِلُكُمْ (" قَوْمٌ صِغَارُ الْأَعْيُنِ " يَعْنِي التُّرْكَ) : تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ الصَّحَابِيُّ أَوِ التَّابِعِيُّ، (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: (" تَسُوقُونَهُمْ ") مِنَ السَّوْقِ أَيْ: يَصِيرُونَ مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ مُنْهَزِمِينَ ; بِحَيْثُ أَنَّكُمْ تَسُوقُونَهُمْ (" ثَلَاثَ مِرَارٍ ") أَيْ: مِنَ السَّوْقِ (" حَتَّى تُلْحِقُوهُمْ ") أَيْ: تُوصِلُوهُمْ آخِرًا (بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ ") ، قِيلَ: هِيَ اسْمٌ لِبِلَادِ الْعَرَبِ ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِحَاطَةِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ، بَحْرِ الْحَبَشَةِ، وَبَحْرِ فَارِسَ، وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ الْحِجَازُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ مُلْكُ فَارِسَ وَالرُّومِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (" فَأَمَّا فِي السِّيَاقَةِ الْأُولَى فَيَنْجُو ") أَيْ: يَخْلُصُ (" مَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ ") أَيْ: مِنَ التُّرْكِ، (" وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَيَنْجُو بَعْضٌ وَيَهْلِكُ بَعْضٌ ") : إِمَّا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِأَخْذِهِ وَإِهْلَاكِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ (" وَأَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَيُصْطَلَمُونَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يُحْصَدُونَ بِالسَّيْفِ وَيُسْتَأْصَلُونَ، مِنَ الصَّلْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُسْتَأْصِلُ، (أَوْ كَمَا قَالَ) أَيْ: قَالَ غَيْرَ هَذَا اللَّفْظِ مِمَّا يَكُونُ بِمَعْنَاهُ، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ وَرَعِ الرَّاوِي، حَيْثُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5432 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَنْزِلُ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي بِغَائِطٍ، يُسَمُّونَهُ الْبَصْرَةَ، عِنْدَ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: دِجْلَةُ، يَكُونُ عَلَيْهِ جِسْرٌ، يَكْثُرُ أَهْلُهَا، وَيَكُونُ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ جَاءَ بَنُو قَنْطُورَاءَ عِرَاضُ الْوُجُوهِ، صِغَارُ الْأَعْيُنِ، حَتَّى يَنْزِلُوا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، فَيَتَفَرَّقُ أَهْلُهَا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ يَأْخُذُونَ فِي أَذْنَابِ الْبَقَرِ وَالْبَرِّيَّةِ وَهَلَكُوا، وَفِرْقَةٌ يَأْخُذُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَهَلَكُوا، وَفِرْقَةٌ يَجْعَلُونَ ذَرَارِيَّهُمْ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5432 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : بِالتَّاءِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " يَنْزِلُ أُنَاسٌ ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ لُغَةٌ فِي نَاسٍ (" مِنْ أُمَّتِي بِغَائِطٍ ") أَيْ: بِغَائِرٍ مِنَ الْأَرْضِ، ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي الْفَائِقِ: أَيْ بَوَادٍ مُطَمْئِنٍ (" يُسَمُّونَهُ الْبَصْرَةَ ") : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْبَصْرَةُ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَيُحَرَّكُ وَبِكَسْرِ الصَّادِ، أَوْ هُوَ مُعَرَّبُ بِسْ رَاهْ أَيْ: كَثِيرُ الطُّرُقِ، (" عِنْدَ نَهَرٍ ") : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ (" يُقَالُ لَهُ: دِجْلَةُ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ وَيُفْتَحُ نَهْرُ بَغْدَادَ، (" يَكُونُ عَلَيْهِ جِسْرٌ ") أَيْ: قَنْطَرَةٌ وَمَعْبَرٌ (" يَكْثُرُ أَهْلُهَا ") أَيْ: أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَفِي حَاشِيَةِ الشِّفَاءِ لِلْحَلَبِيِّ: الْبَصْرَةُ مُثَلَّثُ الْبَاءِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ، بَنَاهَا عُتْبَةُ بْنُ غَزَوَانَ فِي خِلَافَةَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَمْ يُعْبَدِ الصَّنَمُ قَطُّ فِي ظَهْرِهَا، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ.

قَالَ الْمُغْنِي: وَالْكَسْرُ فِي النِّسْبَةِ أَفْصَحُ مِنَ الْفَتْحِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ لِمُجَاوِرَةِ كَسْرِ الرَّاءِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْأَشْرَفُ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْمَدِينَةِ مَدِينَةَ السَّلَامِ بَغْدَادُ، فَإِنَّ دِجْلَةَ هِيَ الشَّطُّ، وَجِسْرُهَا فِي وَسَطِهَا لَا فِي وَسَطِ الْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا عَرَّفَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَصْرَةَ ; لِأَنَّ فِي بَغْدَادَ مَوْضِعًا خَارِجِيًّا مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ بَابِهِ يُدْعَى بَابُ الْبَصْرَةِ، فَسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَغْدَادَ بِاسْمِ بَعْضِهَا، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وَبَغْدَادُ مَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَلَا كَانَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" وَيَكُونُ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ") بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ، بَلْ كَانَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرًى مُتَفَرِّقَةٌ بَعْدَمَا خُرِّبَتْ مَدَائِنُ كِسْرَى مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْبَصْرَةِ مَحْسُوبَةٌ مِنْ أَعْمَالِهَا، هَذَا وَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَسْمَعْ فِي زَمَانِنَا بِدُخُولِ التُّرْكِ بَصْرَةَ قَطُّ عَلَى سَبِيلِ الْقِتَالِ وَالْحَرْبِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ بَعْضًا مِنْ أُمَّتِي يَنْزِلُونَ عِنْدَ دِجْلَةَ، وَيَتَوَطَّنُونَ ثَمَّةَ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ بَغْدَادُ، (" وَإِذَا كَانَ ") : اسْمُهُ مُضْمَرٌ (" فِي آخِرِ الزَّمَانِ جَاءَ بَنُو قَنْطُورَاءَ ") : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ النُّونِ مَقْصُورًا، وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ: يَجِيئُونَ لِيُقَاتِلُوا أَهْلَ بَغْدَادَ، وَقَالَ بِلَفْظٍ: جَاءَ دُونَ يَجِيءُ ; إِيذَانًا بِوُقُوعِهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَبَنُو قَنْطُورَاءَ اسْمُ أَبِي التُّرْكِ، وَقِيلَ اسْمُ جَارِيَةٍ كَانَتْ لِلْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا جَاءَ مِنْ نَسْلِهِمُ التُّرْكُ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ التُّرْكَ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَهُوَ قَبْلَ الْخَلِيلِ بِكَثِيرٍ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْجَارِيَةِ بِنْتٌ مَنْسُوبَةٌ لِلْخَلِيلِ ; لِكَوْنِهَا مِنْ بَنَاتِ أَوْلَادِهِ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ فَأَتَتْ بِأَبِي هَذَا الْجِيلِ، فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ بِهَذَا الْقَالِ وَالْقِيلِ، وَيَصِحُّ انْتِسَابُهُمْ إِلَى يَافِثَ وَالْخَلِيلِ. (" عِرَاضُ الْوُجُوهِ ") : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" صِغَارُ الْأَعْيُنِ، حَتَّى يَنْزِلُوا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، فَيَتَفَرَّقُ أَهْلُهَا ثَلَاثَ فِرَقٍ ") : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ فِرْقَةٍ، (" فِرْقَةٌ ") : بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهَا (" يَأْخُذُونَ فِي أَذْنَابِ الْبَقَرِ ") : مِنْ أَخَذَ فِي الشَّيْءِ شَرَعَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: (" فِي الْبَرِّيَّةِ ") تَتْمِيمٌ وَتَذْيِيلٌ ; لِأَنَّ أَخْذَ أَذْنَابِ الْبَقَرِ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا فِي الْبَرِّيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَدِينَةِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْبَحْرِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِي الْبَرِّيَّةِ اخْتِيَارُ الْعُزْلَةِ، وَإِيثَارُ الصَّحْرَاءِ وَالْخَلَاءِ عَلَى الْبَلَدِ، وَاجْتِمَاعُ الْمَلَأِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ، وَعَلَى الثَّانِي بَدَلُ كُلٍّ أَوْ بَعْضٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (فِي) تَعْلِيلِيَّةً وَقَوْلُهُ: (" وَهَلَكُوا ") فَذْلَكَةً وَنَتِيجَةً لِأَفْعَالِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِرْقَةً يُعْرِضُونَ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ ; هَرَبًا مِنْهَا ; وَطَلَبًا لِخَلَاصِ أَنْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، وَيُحْمَلُونَ عَلَى الْبَقَرِ فَيَهِيمُونَ فِي الْبَوَادِي، وَيَهْلِكُونَ فِيهَا، أَوْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ، وَيَشْتَغِلُونَ بِالزِّرَاعَةِ، وَيَتْبَعُونَ الْبَقَرَ لِلْحِرَاثَةِ إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ فَيَهْلِكُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: يَأْخُذُونَ فِي أَذْنَابِ الْبَقَرِ عَلَى مَعْنَى يُوقِعُونَ الْأَخْذَ فِي الْأَذْنَابِ، كَقَوْلِهِ: يُجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهِا نَصْلِي وَكَأَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي الِاشْتِغَالِ وَلَا يَعْبَأُونَ بِأَمْرٍ آخَرَ، أَوْ يُوغِلُونَ فِي السَّيْرِ خَلْفَهَا إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ فَيَهْلِكُونَ فِيهَا. (" وَفِرْقَةٌ يَأْخُذُونَ ") أَيْ: يَطْلُبُونَ أَوْ يَقْبَلُونَ الْأَمَانَ مِنْ بَنِي قَنْطُورَاءَ (" لِأَنْفُسِهِمْ وَهَلَكُوا ") أَيْ: بِأَيْدِيهِمْ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفِرْقَةِ الْمُسْتَعْصِمُ بِاللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، طَلَبُوا الْأَمَانَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ بَغْدَادَ، وَهَلَكُوا بِأَيْدِيهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ. وَقَالَ شَارِحٌ: أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَصْرَةِ بَغْدَادَ ; لِأَنَّ بَغْدَادَ كَانَتْ قَرْيَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قُرَى الْبَصْرَةِ، إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، فَالْوَاقِعَةُ وَقَعَتْ كَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ أَرَادَ الْبَصْرَةَ الْمَعْهُودَةَ، فَلَعَلَّهُ يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ ; إِذْ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ الْكُفَّارَ نَزَلُوا بِهَا قَطُّ لِلْقِتَالِ. (" وَفِرْقَةٌ يَجْعَلُونَ ذَرَارِيَّهُمْ ") أَيْ: أَوْلَادَهُمُ الصِغَارَ وَنِسَاءَهُمْ (" خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ ") أَيِ: الْكَامِلُونَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِرْقَةً ثَالِثَةً هُمُ الْغَازِيَةُ الْمُجَاهِدَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتَلُوا التُّرْكَ قَبْلَ ظُهُورِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَاسْتُشْهِدَ مُعْظَمُهُمْ، وَنَجَتْ مِنْهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَشْرَفُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي صَفَرَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5433 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَا أَنَسُ! إِنَّ النَّاسَ يُمَصِّرُونَ أَمْصَارًا، وَإِنَّ مِصْرًا مِنْهَا يُقَالُ لَهُ: الْبَصْرَةُ؛ فَإِنْ أَنْتَ مَرَرْتَ بِهَا أَوْ دَخَلْتَهَا، فَإِيَّاكَ وَسِبَاخَهَا وَكَلَأَهَا وَسُوقَهَا وَبَابَ أُمَرَائِهَا، وَعَلَيْكَ بِضَوَاحِيهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِهَا خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَرَجْفٌ وَقَوْمٌ يَبِيتُونَ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ طَرِيقٍ لَمْ يَجْزِمْ بِهَا الرَّاوِي بَلْ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا ذَكَرَهُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5433 - (وَعَنْ أَنَسِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَا أَنَسُ إِنَّ النَّاسَ يُمَصِّرُونَ ") بِتَشْدِيدِ الصَّادِ (" أَمْصَارًا ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ مِصْرٍ، أَيْ: يَتَّخِذُونَ بِلَادًا، وَالتَّمَصُّرُ اتِّخَاذُ الْمِصْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالتَّقْدِيرُ يَتَّخِذُونَ أَمْصَارًا فَفِيهِ تَجْرِيدٌ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ: يَضَعُونَ أَسَاسَ مِصْرٍ وَبِنَاءَهُ (" وَإِنَّ مِصْرًا مِنْهَا ") أَيْ: مِنَ الْأَمْصَارِ (وَيُقَالُ لَهُ: الْبَصْرَةُ، فَإِنْ أَنْتَ مَرَرْتَ بِهَا أَوْ دَخَلْتَهَا ") (أَوْ) : لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ، (" إِيَّاكَ وَسِبَاخَهَا ") أَيْ: فَاحْذَرْ سِبَاخَهَا وَهُوَ بِكَسْرِ السِّينِ جَمْعُ سَبْخَةٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، أَيْ: أَرْضٌ ذَاتُ مِلْحٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي تَعْلُوهَا الْمِلُوحَةُ وَلَا تَكَادُ تُنْبِتُ إِلَّا بَعْضَ الشَّجَرِ، (" وَكَلَّاءَهَا ") : بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَمْدُودًا مَوْضِعٌ بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ شَطُّ النَّهْرِ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَبْسِ السَّفِينَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعُ الرَّعْيِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّخْفِيفِ وَالْقَصْرِ، وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ نُسْخَةُ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا وَقَوْمٌ يَجْعَلُونَ كَلَاءَ الْبَصْرَةِ اسْمًا مِنْ كُلٍّ عَلَى فَعَلَاءِ وَلَا يَصْرِفُونَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَوْضِعٌ تَكِلُّ فِيهِ الرِّيحُ عَنْ عَمَلِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَكَانَ الْحَذَرُ عَنْهَا لِعُفُونَةِ هَوَاهُ، (" وَنَخِيلَهَا ") : إِمَّا لِشُبْهَةٍ فِيهَا، أَوْ لِخَوْفِ غُرَّةٍ بِهَا (" وَسُوقَهَا ") : إِمَّا لِحُصُولِ الْغَفْلَةِ فِيهَا، أَوْ لِكَثْرَةِ اللَّغْوِ بِهَا، أَوْ فَسَادِ الْعُقُودِ وَنَحْوَهَا، (" وَبَابَ أُمَرَائِهَا ") أَيْ: لِكَثْرَةِ الظُّلْمِ الْوَاقِعِ بِهَا، (" وَعَلَيْكَ بِضَوَاحِيهَا ") : جَمْعُ الضَّاحِيَةِ وَهِيَ النَّاحِيَةُ الْبَارِزَةُ لِلشَّمْسِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا جِبَالُهَا، وَهَذَا أَمْرٌ بِالْعُزْلَةِ، فَالْمَعْنَى: الْزَمْ نَوَاحِيَهَا، (" فَإِنَّهُ يَكُونُ بِهَا ") ، قِيلَ: الضَّمِيرُ لِلسِّبَاخِ، وَالصَّوَابُ لِلْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ (خَسْفٌ) أَيْ: ذَهَابٌ فِي الْأَرْضِ وَغَيْبُوبَةٌ فِيهَا، (" وَقَذْفٌ ") أَيْ: رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَارِدَةٌ، أَوْ قَذْفُ الْأَرْضِ الْمَوْتَى بَعْدَ دَفْنِهَا، أَوْ رَمْيُ أَهْلِهَا بِالْحِجَارَةِ بِأَنْ تُمْطِرَ عَلَيْهِمْ، (" وَرَجْفٌ ") أَيْ: زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ (" وَقَوْمٌ يَبِيتُونَ ") أَيْ: أَهْلُ ذَلِكَ الْمِصْرِ قَوْمٌ يَبِيتُونَ بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ، أَوْ فِيهَا قَوْمٌ بِحَذْفِ الْخَبَرِ، كَذَا قَالَهُ الشَّارِحُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ (قَوْمٌ) عَطْفٌ عَلَى خَسْفٍ، أَيْ: يَكُونُ بِهَا قَوْمٌ يُمْسُونَ طَيِّبِينَ (" وَيُصْبِحُونَ قِرَدَةً ") أَيْ: شَبَابُهُمْ (" وَخَنَازِيرَ ") أَيْ: شُيُوخُهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَسْخُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَشْنَعُ اهـ. وَقِيلَ: فِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بِهَا قَدَرِيَّةً ; لِأَنَّ الْخَسْفَ وَالْمَسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، هُنَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ لَمْ يَجْزِمْ بِهَا الرَّاوِي، بَلْ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ عِيسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

5434 - وَعَنْ صَالِحِ بْنِ دِرْهَمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: انْطَلَقْنَا حَاجِّينَ فَإِذَا رَجُلٌ فَقَالَ لَنَا: إِلَى جَنْبِكُمْ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْأُبُلَّةُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ يَضْمَنُ لِي مِنْكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ لِي فِي مَسْجِدِ الْعَشَّارِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا، وَيَقُولُ: هَذِهِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ؟ سَمِعْتُ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَثُ مِنْ مَسْجِدِ الْعَشَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ لَا يَقُومُ مَعَ شُهَدَاءِ بَدْرٍ غَيْرُهُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: هَذَا الْمَسْجِدُ مِمَّا يَلِي النَّهْرَ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ " إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ "، فِي بَابِ: ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ "، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5434 - (وَعَنْ صَالِحِ بْنِ دِرْهَمٍ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: دِرْهَمٌ كَمِنْبَرٍ وَزِبْرَجٍ مَعْلُومٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: بَاهِلِيٌّ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَمُرَةَ، وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَالْقَطَّانُ ثِقَةٌ. (يَقُولُ: انْطَلَقْنَا حَاجِّينَ) أَيْ: ذَهَبْنَا مُرِيدِينَ الْحَجَّ (فَإِذَا رَجُلٌ) : الْمُرَادُ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَقَوْلُهُ: (فَقَالَ) : عَطْفٌ عَلَيْهِ

أَيْ: فَإِذَا رَجُلٌ وَاقِفٌ فَقَالَ (لَنَا: إِلَى جَنْبِكُمْ قَرْيَةٌ) : بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ (يُقَالُ لَهَا: الْأُبُلَّةُ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، الْبَلَدُ الْمَعْرُوفُ قُرْبَ الْبَصْرَةِ مِنْ جَانِبِهَا الْبَحْرِيِّ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَهِيَ أَحَدُ الْمُنْتَزَهَاتِ الْأَرْبَعِ، وَهِيَ أَقْدَمُ مِنَ الْبَصْرَةِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ اسْمٌ نَبَطِيٌّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَقَالَ شَارِحٌ: هِيَ مِنْ جَنَّاتِ الدُّنْيَا، وَهِيَ أَرْبَعٌ: أُبُلَّةُ الْبَصْرَةِ، وَغُوطَةُ دِمَشْقَ، وَسَفْدُ سَمَرْ قَنْدَ، وَشِعْبُ بَوَانَ، ثُمَّ قِيلَ: بَوَانُ هُوَ كِرْمَانُ، وَقِيلَ نُوبِنْدِجَانُ فِي الْفَارِسِ. (قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: مَنْ يَضْمَنُ) : اسْتِفْهَامٌ لِلِالْتِبَاسِ وَالسُّؤَالِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ يَتَقَبَّلُ وَيَتَكَفَّلُ (لِي) أَيْ: لَأَجْلِي (مِنْكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ لِي) أَيْ: بِنِيَّتِي (فِي مَسْجِدِ الْعَشَّارِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، مَسْجِدٌ مَشْهُورٌ يُتَبَرَّكُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، (رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا) أَيْ: أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، أَوْ بِمَعْنَى " بَلْ "، (وَيَقُولُ) أَيْ: عِنْدَ النِّيَّةِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ (هَذِهِ) أَيِ: الصَّلَاةُ أَوْ ثَوَابُهَا (لِأَبِي هُرَيْرَةَ؟) : قِيلَ، فَإِنْ قِيلَ: الصَّلَاةُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَلَا تَقَبَلُ النِّيَابَةَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَاسَ الصَّلَاةَ عَلَى الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَجِّ شَائِبَةٌ مَالِيَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: ثَوَابٌ هَذِهِ الصَّلَاةِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، كَذَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْأَصْلُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ، حَجًّا أَوْ صَلَاةً، أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً، أَوْ غَيْرَهَا كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ، فَإِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَجَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ جَازَ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. (سَمِعْتُ خَلِيلِي) ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ سَبَقَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَكَأَنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ رُؤْيَةٍ، بَلْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ مَا عَرَفَ مِنْ قَلْبِهِ مِنْ صِدْقِ الْمَحَبَّةِ، وَلَوْ تَدَبَّرَ الْقَوْلَ لَمْ يَلْتَبِسْ عَلَيْهِ كَوْنُ ذَلِكَ زَائِغًا عَنْ نَهْجِ الْأَدَبِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» "، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ» " ; فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ خُلَّتَهُ مَعَ بَرَاءَتِهِ عَنْ خُلَّةِ كُلِّ خَلِيلٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ مَا ذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمُحِبَّ مِنْ فَرْطِ الْمَحَبَّةِ وَصِدْقِ الْوِدَادِ بِرَفْعِ الِاحْتِشَامِ مِنَ الْبَيْنِ، لَا سِيَّمَا إِذَا امْتَدَّ زَمَانُ الْمُفَارَقَةِ عَلَى أَنَّهُ نَسَبَ الْخُلَّةَ إِلَى جَانِبِهِ لَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُذْ أَسْلَمَ مَا فَارَقَ حَضْرَةَ الرِّسَالَةِ مَعَ شَدَّةِ احْتِيَاجِهِ وَفَاقَتِهِ، وَالنَّاسُ مُشْتَغِلُونَ بِتِجَارَتِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ. أَقُولُ: قَوْلُهُ: لِأَنَّ صِدْقَ الْوِدَادِ يَرْفَعُ الِاحْتِشَامَ مِنَ الْبَيْنِ إِلَخْ، كَلَامٌ مَدْخُولٌ وَتَعْلِيلٌ مَعْلُولٌ، إِذْ مِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ إِلَّا فِي الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنَ الْمُتَصَاحِبَيْنِ، وَلَا يُقَاسُ الْمُلُوكُ بِالْحَدَّادِينَ، فَأَيْنَ مَنْصِبُ صَاحِبِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عَنْ مَرْتَبَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحَضْرَةِ أَوِ الْغَيْبَةِ، حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ خَلِيلُهُ، بِأَيِّ مَعْنًى يَكُونُ سَوَاءً مِنْ إِضَافَةِ الْوَصْفِ إِلَى فَاعِلِهِ أَوْ مَفْعُولِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَوْ صَدَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَأُنْكِرَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ بِظَاهِرِهِ مُصَادِمٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا " الْحَدِيثَ. هَذَا وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ إِبْرَاهِيمَ بِالْخَلِيلِ، أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى خَلِيلٍ لَهُ بِمِصْرَ فِي أَزْمَةٍ أَصَابَتِ النَّاسَ، يَمْتَارُ مِنْهُ، فَقَالَ خَلِيلُهُ: لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَطْلُبُ الْمِيرَةَ لِنَفْسِهِ لَفَعَلْتُ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُهَا لِلْأَضْيَافِ، فَاجْتَازَ غِلْمَانُهُ بِبَطْحَاءَ لَيِّنَةٍ فَمَلَأُوا مِنْهَا الْغَرَائِرَ حَيَاءً مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا أَخْبَرُوا إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَاءَهُ الْخَبَرُ، فَحَمَلَتْهُ عَيْنَاهُ وَعَمَدَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى غِرَارَةٍ مِنْهَا، فَأَخْرَجَتْ أَحْسَنَ حُوَّارَى وَاخْتَبَزَتْ، وَاسْتَنْبَهَ فَاشْتَمَّ رَائِحَةَ الْخُبْزِ، فَقَالَ: مَنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مِنْ خَلِيلِكَ الْمِصْرِيِّ، فَقَالَ: بَلْ مِنْ عِنْدِ خَلِيلِيَ اللَّهِ ; فَسَمَّاهُ اللَّهُ خَلِيلًا. هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْكَشَّافِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْلُ الْخُلَّةِ الِاخْتِصَاصُ وَالِاسْتِقْصَاءُ، وَقِيلَ: أَصْلُهَا الِانْقِطَاعُ إِلَى مَنْ خَالَلْتَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلَّةِ، وَهِيَ الْحَاجَةُ، فَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَصَرَ حَاجَتَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْخُلَّةُ صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ الَّتِي تُوجِبُ تَخَلُّلَ الْأَسْرَارِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الْمَحَبَّةُ وَالْأَلْطَافُ، هَذَا كَلَامُ

الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْخَلِيلُ مَعْنَاهُ الْمُحِبُّ الْكَامِلُ الْمَحَبَّةِ، وَالْمَحْبُوبُ الْمُوفِي بِحَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ، الَّتِي لَيْسَ فِي حُبِّهِ نَقْصٌ وَلَا خَلَلٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الِاخْتِيَارُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلِيلُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى خَلِيلُ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْخَلَّةِ الَّتِي هِيَ الْحَاجَةُ اهـ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخُلَّةَ بِالْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرُوهَا لَا تَصْدُقُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ مِنْ بَيْنِ الْأَصْحَابِ، وَيَقُولُ: سَمِعْتُ خَلِيلِي. (أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (يَقُولُ) : فَاعِلٌ سَمِعْتُ (" إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَثُ ") أَيْ: يَحْشُرُ (" مِنْ مَسْجِدِ الْعَشَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ لَا يَقُومُ ") أَيِ: الْقُبُورِ أَوْ فِي الْمَرْتَبَةِ (" مَعَ شُهَدَاءِ بَدْرٍ غَيْرُهُمْ ") ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ مِنْ شُهَدَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَوْ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (هَذَا الْمَسْجِدُ مِمَّا يَلِي النَّهْرَ) أَيْ: نَهْرَ الْفُرَاتِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ " إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ ") تَمَامُهُ: " يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ الْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ هِيَ خَيْرُ مَدَائِنِ الشَّامِ ". (فِي بَابِ: ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : جَلَّ شَأْنُهُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5435 - عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفِتْنَةِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ، قَالَ: هَاتِ، إِنَّكَ لِجَرِيءٌ، وَكَيْفَ قَالَ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ ; يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» "، قَالَ عُمَرُ لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ. قَالَ: قُلْتُ: مَا لَكَ وَلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قَالَ: فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَوْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا ; بَلْ يُكْسَرُ. قَالَ: ذَاكَ أَحْرَى أَنْ لَا يُغْلَقَ أَبَدًا. قَالَ: فَقُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: هَلْ كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مِنَ الْبَابِ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةٌ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ، قَالَ: فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ مَنِ الْبَابُ؟ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ. فَسَأَلَهُ فَقَالَ: عُمَرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5435 - (عَنْ شَقِيقٍ) : وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَرَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَ خِصِّيصًا بِهِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ، ثِقَةٌ حُجَّةٌ، مَاتَ زَمَنَ الْحَجَّاجِ (عَنْ حُذَيْفَةَ) أَيِ: ابْنُ الْيَمَانِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَوَى عَنْهُ عُمَرُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مَاتَ بِالْمَدَائِنِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقَبْرُهُ بِهَا (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفِتْنَةِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ) : صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَنَا أَحْفَظُ مَقُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِفْظًا مُمَاثِلًا لِمَا قَالَ، ذَكَرَ الطِّيِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَحْفَظُ: مُتَكَلِّمٌ لَا تَفْضِيلَ كَمَا يُتَوَهَّمُ، (قَالَ: هَاتِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ، أَيْ: أَعْطِنِي، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، (إِنَّكَ لِجَرِيءٌ) : فَعِيلٌ مِنَ الْجَرَاءَةِ وَهِيَ الْإِقْدَامُ عَلَى الشَّيْءِ، وَمَعْنَاهُ: إِنَّكَ غَيْرُ هَائِبٍ، قَدْ تَجَاسَرْتَ عَلَى مَا لَا أَعْرِفُهُ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُكَ، وَاعَيْتُ أَنَّكَ عَرَفْتَ صَرِيحَ الْقَوْلِ ; وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: هَاتِ (وَكَيْفَ: قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ عَطْفٌ عَلَى هَاتِ، أَيْ: هَاتِ مَا قَالَ، وَبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الظَّاهِرَ بِالنَّظَرِ إِلَى حَالِ حُذَيْفَةَ، وَمَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَقَعُ مِنَ الْفِتَنِ أَنْ

يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّكَ لِجَرَاءَتِكَ وَكَثْرَةِ مُسَاءَلَتِكَ أَخَذْتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ نَأْخُذْ مِنْهُ، فَهَاتِ وَبَيِّنْ. (قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ» ") أَيْ: عِيَالُهُ، مِنِ امْرَأَتِهِ وَجَارِيَتِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ، (" وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ ") أَيْ: وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ يُبْتَلَى وَيُمْتَحَنُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَيُسْأَلُ عَنْ حُقُوقِهَا، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ ذُنُوبٌ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِيهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَفِّرَهَا بِالْحَسَنَاتِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (" يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ "، فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا سَأَلَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفِتْنَةِ؟ وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا وَقْعَةُ الْقِتَالِ، وَكَانَ سُؤَالُهُ عَنِ الثَّانِي قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ (إِنَّمَا أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ) أَيْ: تَضْطَرِبُ اضْطِرَابَ الْبَحْرِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ شِدَّةِ الْمُخَاصَمَةِ، وَكَثْرَةِ الْمُنَازَعَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُشَاتَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمُشَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا ذَكَرَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ دَلَالَةً عَلَى فَظَاعَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَإِنَّهَا الدَّاهِيَةُ الدَّهْيَاءُ. (قَالَ: قُلْتُ: مَا لَكَ وَلَهَا) : اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَإِلَى سُؤَالِهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمِحْنَةِ، وَأَيُّ شَيْءٍ لَهَا مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْكَ وَالْحُصُولِ لَدَيْكَ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ وَلَهَا اقْتِرَانٌ وَاجْتِمَاعٌ فِي زَمَانٍ، (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟) : يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، (إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ، (قَالَ: فَيُكْسَرُ الْبَابُ) أَيْ: مِنْ شِدَّتِهِ وَصُعُوبَتِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ ; وَلِذَا قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: (أَوْ يُفْتَحُ) أَيْ: مِنْ خِفَّتِهِ وَسُهُولَتِهِ (قَالَ: قُلْتُ: لَا) أَيْ: لَا يُفْتَحُ ; فَانْصَبَّ النَّفْيُ عَلَى الْفِعْلِ الْقَرِيبِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُوَهَّمًا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا اسْتَدْرَكَهُ وَقَالَ: (بَلْ يُكْسَرُ) وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ وَالتَّأْيِيدُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ يَكْفِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ: يُكْسَرُ، فَلِمَ أَتَى بِلَا وَبَلْ؟ قُلْتُ: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقَامِ التَّرْدِيدِ فِي الْكَسْرِ لِظُهُورِهِ، فَلَا يُسْأَلُ بِأَمِ الْمُعَادَلَةِ كَمَا سَبَقَ مِرَارًا اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ الْبَارِدِ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ زُبْدَةِ الْفُصَحَاءِ وَعُمْدَةِ الْبُلَغَاءِ، وَكَذَا مِنْ دَعْوَى الظُّهُورِ الَّذِي لَا يَتَوَهَّمُهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَغْبِيَاءِ، مَعَ أَنَّ (أَمْ) لَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْعِبَارَةِ، بَلِ التَّرْدِيدُ إِنَّمَا وَقَعَ بِلَفْظٍ أَوْ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْإِشَارَةِ، بَلِ الظَّاهِرُ إِنَّمَا هُوَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُذَيْفَةَ فِي جَوَابِهِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ مِنْ أَنَّ جَوَابَ (أَمْ) الْمُتَّصِلَةِ بِالتَّعْيِينِ دُونَ نَعَمْ أَوْ لَا ; لِأَنَّهُمَا لَا يُفِيدَانِ التَّعْيِينَ بِخِلَافِ (أَوْ) مَعَ الْهَمْزَةِ كَمَا إِذَا قُلْنَا: جَاءَكَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، فَإِنَّهُ يُصْبِحُ جَوَابُهُ بِلَا وَنَعَمْ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسُّؤَالِ أَحَدُهُمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ جَاءَكَ أَوْ لَا، وَلَا شَكَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا فِي جَوَابِهِ، بَلِ الْمُرَادُ التَّعْيِينُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْحُكْمِ بِالْكَسْرِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ نَفَى مُقَابِلَهُ وَهُوَ الْفَتْحُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَثْبَتَ الْكَسْرَ لِزِيَادَةِ إِفَادَةِ الْحَصْرِ كَمَا حَقَّقَ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: اللَّهُ مَوْجُودٌ أَوْ ثَابِتٌ أَوْ مُحَقَّقٌ، لَمْ يُفِدْ نَفْيَ مَا سِوَاهُ، فَلِذَا عَدَلَ عَنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (ذَاكَ) : كَذَا بِلَا لَامٍ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، أَيْ: ذَاكَ الْبَابُ الَّذِي مِنْ وَصْفِهِ أَنْ يُكْسَرَ وَلَا يُفْتَحَ (أَحْرَى) أَيْ: حَرِيٌّ وَحَقِيقٌ (أَنْ لَا يُغْلَقَ أَبَدًا) ; لِأَنَّ الْفَتْحَ قَدْ يُرْجَى إِغْلَاقُهُ بِخِلَافِ

الْكَسْرِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ الرَّجَاءِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ: " «إِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي وَهُوَ شَقِيقٌ (فَقُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: هَلْ كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ؟) ، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: مَا الْبَابُ؟ فَكَأَنَّهُمْ تَفَرَّسُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَابِ الشَّخْصُ لَا الْبَابُ الْحَقِيقِيُّ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْكَسْرِ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَأَنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ كَانَ بَابَ الصَّوَابِ، وَمِفْتَاحًا لِعِزِّ الْإِسْلَامِ، وَمَأْمَنًا مِنَ الْفِتَنِ بَيْنَ الْأَنَامِ، فَرَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَأَدْخَلَهُ دَارَ السَّلَامِ. (قَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (نَعَمْ) أَيْ: كَانَ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ، (كَمَا يَعْلَمُ) أَيْ: كَعِلْمِهِ (أَنَّ دُونَ غَدٍ) أَيْ: قُدَّامَهُ (لَيْلَةٌ) ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْغَدَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مُتَأَخِّرًا عَنْ حُصُولِ اللَّيْلَةِ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ زَمَنَ الْأَمْنِ فِي قُوَّةِ الْيَوْمِ الْحَاضِرِ، وَوَقْتَ الْفِتَنِ بِمَنْزِلَةِ الْغَدِ الْحَاضِرِ، وَالْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا فِي مَرْتَبَةِ لَيْلٍ سَاتِرٍ، وَمَا أَحْسَنَ تَعْبِيرَ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ظُهُورِ يَوْمِ الْفِتْنَةِ بِالْغَدِ الْوَاقِعِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الظُّلْمَةِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا بِاللَّيْلَةِ ; لِخَفَاءِ أَمْرِ الْفِتْنَةِ وَشِدَّةِ بَلَائِهَا، فَإِنَّ اللَّيْلَ أَدْهَى لِلْوَيْلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ عِلْمَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْبَابُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ، (إِنِّي حَدَّثْتُهُ) : اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيْ: ذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثًا) أَيْ: ظَاهَرًا (لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ) : وَهِيَ جَمْعُ الْأُغْلُوطَةِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي يُغْلَطُ بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُ لَهُ لَمْ يَكُنْ مُبْهَمًا مُحْتَمَلًا كَالْأَغَالِيطِ، بَلْ صَرَّحْتُهُ تَصْرِيحًا، وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ آثَرَ حُذَيْفَةُ الْحِرْصَ عَلَى حِفْظِ السِّرِّ، وَلَمْ يُصَرِّحْ لِعُمَرَ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَنَّى عَنْهُ كِنَايَةً، أَيْ: لَا يَخْرُجُ مِنَ الْفِتَنِ شَيْءٌ فِي حَيَاتِكَ، وَكَأَنَّهُ مَثَّلَ الْفِتَنَ بِدَارٍ مُقَابِلٍ لِدَارِ الْأَمْنِ، وَحَيَاتُهُ بَابٌ مُغْلَقٌ، وَمَوْتُهُ بِفَتْحِ ذَلِكَ الْبَابِ، ثُمَّ أَنَّهُ كَنَّى بِالْكَسْرِ عَنِ الْقَتْلِ، وَبِالْفَتْحِ عَنِ الْمَوْتِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مِنْ بَابِ الصَّرِيحِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الرَّمْزِ وَالتَّلْوِيحِ، لَكِنَّ عُمَرَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ فَضْلًا عَنِ الْعِبَارَةِ، بَلْ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ الْأَسْرَارِ وَأَرْبَابِ الْأَنْوَارِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالسُّؤَالِ تَحْقِيقَ الْحَالِ، وَأَنَّهُ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ يَكُونُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْهُ عَلَى الْبَابِ ; وَلِذَا جَزَمَ حُذَيْفَةُ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ قَوْلُ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّهُ لِهَذَا السِّرِّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّكَ لِجَرِيءٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ إِظْهَارَ الْحَقِّ الْمَسْمُوعِ مِنْ سَيِّدِ الْخَلْقِ لَا يُسْتَبْعَدُ حَتَّى يُسَمَّى جَرَاءَةً عَلَى الرَّدِّ، فَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ) أَيْ: شَقِيقٌ (فَهِبْنَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ مِنَ الْهَيْبَةِ أَيْ: فَخَشِينَا (أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ مَنِ الْبَابُ؟) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ) : وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (سَلْهُ) أَيْ: سَلْ حُذَيْفَةَ (فَسَأَلَهُ فَقَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (عُمَرُ) أَيْ: هُوَ الْبَابُ بِمَعْنَى السَّدِّ لِلْفِتْنَةِ عَنِ الْأَصْحَابِ وَالْأَحْبَابِ، أَوْ لِأَنَّهُ بَابُ النُّطْقِ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَفِي الْجَامِعِ: " «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ حُذَيْفَةَ.

5436 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5436 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ) أَيْ: مَعَ قُرْبِ قِيَامِهَا، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ الْمَبَانِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) أَيْ: إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

[باب أشراط الساعة]

[بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ]

[2] بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5437 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ. وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ ". ". وَفِي رِوَايَةٍ: " يَقِلُّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [2] بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَيْ: عَلَامَاتُ الْقِيَامَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْأَشْرَاطُ الْعَلَامَاتُ، وَاحِدَتُهَا شَرْطٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَبِهِ سُمِّيِتِ شُرَطُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، هَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَقَالَ: أَشْرَاطُ السَّاعَةِ مَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مِنْ صِغَارِ أُمُورِهَا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: أَنَّ الشُّرَطَ مُحَرَّكَةً الْعَلَّامَةُ، وَأَوَّلُ الشَّيْءِ، وَرَذَائِلُ الْمَالِ وَصِغَارُهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الشُّرَطُ لَهُ مَعْنَيَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ، فَلَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; إِذْ قَدْ يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا يُنْكِرُ صِغَارَ أُمُورِ السَّاعَةِ ; لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ مِنْ صَاحِبِ السِّيَادَةِ وَالسَّعَادَةِ أَوَّلًا، وَزِيَادَةِ عَيْنِ الْيَقِينِ فِي مَقَامِ الْمُشَاهِدَةِ آخِرًا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5437 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ» ") أَيْ: يَرْتَفِعُ إِمَّا بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، وَإِمَّا بِخَفْضِهِمْ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ (" وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ ") أَيْ: بِغَلَبَةِ السُّفَهَاءِ (" وَيَكْثُرَ الزِّنَا ") أَيْ: لِأَجْلِ قِلَّةِ الْحَيَاءِ (وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ ") : بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِهَا، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: شَرِبَ كَسَمِعَ شُرْبًا، وَيُثَلَّثُ، ثُمَّ كَثْرَةُ شُرْبِ الْخَمْرِ مُوَرِّثَةٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، فَيَحْصُلُ الِاعْتِدَاءُ. (" وَيَقِلَّ الرِّجَالُ ") أَيْ: وُجُودُهُمُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ نِظَامُ الْعَالَمِ، (" وَيَكْثُرَ النِّسَاءَ ") أَيْ: مِمَّنْ لَا يَتَعَلَّقُ بِظُهُورِهِنَّ الْأَمْرُ الْأَهَمُّ، بَلْ وَجُودُهُنَّ مِمَّا يُكْثِرُ الْغَمَّ وَالْهَمَّ، وَيَقْتَضِي تَحْصِيلَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، (" حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ ") : بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: الْقَائِمُ (" الْوَاحِدُ ") أَيِ: الْمُنْفَرِدُ لِمَصَالِحِهِنَّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ لَهُ، بَلْ أَعَمُّ مِنْهَا وَمِنَ الْأُمَّهَاتِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ ") : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا بَدَلَانِ مِنْ (يُرْفَعَ وَيَكْثُرَ) ، فَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ مَآلَ آخِرِهِ إِلَى رَفْعِ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ السَّجَزِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُرْفَعَ الرُّكْنُ وَالْقُرْآنُ» ". وَفِي حَدِيثِ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنِّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: " «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَفْشُوَ الزِّنَا، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَذْهَبَ الرِّجَالُ، وَيَبْقَى النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبَى مُوسَى مَرْفُوعًا: " «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْمَرَجُ وَهُوَ الْقَتْلُ» ".

5438 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَذَّابِينَ، فَاحْذَرُوهُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5438 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَذَّابِينَ» ") ، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ مِنْهُ كَثْرَةَ الْجَهْلِ، وَقِلَّةَ الْعِلْمِ، وَالْإِتْيَانَ بِالْمَوْضُوعَاتِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ادِّعَاءُ النُّبُوَّةِ كَمَا كَانَ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَ زَمَانِهِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِمْ جَمَاعَةٌ يَدَّعُونَ أَهْوَاءً فَاسِدَةً، وَيُسْنِدُونَ اعْتِقَادَهُمُ الْبَاطِلَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَهْلِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ، (" فَاحْذَرُوهُمْ "؟ رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: قَوْلُهُ: " فَاحْذَرُوهُمْ " غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ جَابِرٍ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ كَلَفْظِ الْمِشْكَاةِ بِكَمَالِهِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.

5439 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَيْنَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: " إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ". قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5439 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ) أَيْ: يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرٍ مَعَ أَصْحَابِهِ (إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: " إِذَا ضُيِّعَتِ ") : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ التَّضْيِيعِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْإِضَاعَةِ (" الْأَمَانَةُ ") أَيْ: حِينَ جُعِلَتِ الْأَمَانَةُ ضَائِعَةً بِالْخِيَانَةِ، أَوْ وُضِعَتْ عِنْدَ غَيْرِ أَرْبَابِ الدِّيَانَةِ (" فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ") أَيْ: فَإِنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِ الْقِيَامَةِ. (قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا) ؟ هَذَا يُؤَيِّدُ النُّسْخَةَ أَيْ: كَيْفَ تَضْيِيعُ الْأَمَانَةِ، وَالْأُمَّةُ قَائِمُونَ بِأَمْرِهَا، وَالْعَامَّةُ مُعْتَنُونَ بِقَدْرِهَا (قَالَ: " إِذَا وُسِّدَ ") : بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ عَلَى مَا فِي الْمُقَدِّمَةِ أَيْ: أُسْنِدَ وَفُوِّضَ (" الْأَمْرُ ") أَيْ: أَمْرُ السُّلْطَةِ أَوِ الْإِمَارَةِ أَوِ الْقَضَاءِ أَوِ الْحُكُومَةِ (" إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ") أَيْ: مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَرَائِطُ الِاسْتِحْقَاقِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالْجَهَلَةِ وَالْفَسَقَةِ، وَالْبَخِيلِ وَالْجَبَانِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قُرَشِيًّا وَلَوْ كَانَ مِنْ نَسْلِ سَلَاطِينِ الزَّمَانِ، هَذَا فِي الْخَلِيفَةِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ أُولِي الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ وَأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ مِنَ التَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَالْإِمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَخِرُ بِهِ الْأَقْرَانُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ أَنْ يَلِيَ الْأَمْرَ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، فَيُلْقَى لَهُ وِسَادَةُ الْمُلْكِ وَأَرَادَ بِالْأَمْرِ الْخِلَافَةَ، وَمَا يَنْضَمُّ إِلَيْهَا مِنْ قَضَاءٍ وَإِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا، وَالتَّوْسِيدُ: أُخِذَ مِنَ الْوِسَادِ، يُقَالُ: وَسَدْتُهُ الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ فَتَوَسَّدَهُ، إِذَا جَعَلَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، وَلَفْظَةُ " إِلَى " فِيهَا إِشْكَالٌ، إِذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُقَالَ: وُسِّدَ الْأَمْرُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ، فَلَعَلَّهُ أَتَى بِهَا لِيَدُلَّ عَلَى إِسْنَادِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّ إِلَى تَأْتِي مُرَادِفَةً لِلَّامِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل: 33] اهـ. وَيُرِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَالْأَمْرُ لَكِ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ رَاجِعٌ إِلَيْكِ، وَالْأَحْسَنُ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يُضَمَّنَ مَعْنَى التَّفْوِيضِ وَالْإِسْنَادِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَوَّلًا. (" فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ") : لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُرْبِ قِيَامِهَا، وَإِنَّمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى دُنُوِّ السَّاعَةِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى اخْتِلَالِ الْأَمْرِ، وَعَدَمِ تَمَامِ النِّظَامِ، وَوَهَنِ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَضَعْفِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْوُلَاةِ وَفَسَادَهُمْ مُسْتَلْزِمٌ لِتَغَيُّرِ الرَّعِيَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْرَجَ الْجَوَابَيْنِ مُخْرَجَ الِاسْتِئْنَافِ لِلتَّأْكِيدِ ; وَلِأَنَّ السُّؤَالَ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابٍ حَقِيقِيٍّ يُطَابِقُهُ، فَإِنَّ تَأْقِيتَ السَّاعَةِ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، عَدَلَ عَنِ الْجَوَابِ إِلَى ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَسْئُولِ عَنْهُ دَلَالَةً مِنْ أَمَارَاتِهَا، وَسَلَكَ فِي الْجَوَابِ الثَّانِي مَسْلَكَ الْأَوَّلِ ; لِيَنْتَسِقَ الْكَلَامُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُكْتَفَى عَنْ جَوَابِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، وَأَنْ يُؤْتَى فِي السُّؤَالِ الثَّانِي بِمَتَى ; لِيُطَابِقَ الْجَوَابَ، فَزَادَ فِي الْأَوَّلِ: " فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " ; لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: " إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ " لَيْسَ إِبَّانَ السَّاعَةِ، بَلْ مِنْ أَمَارَاتِهَا، فَلَا تَكُونُ إِذَا شَرْطِيَّةً، وَتَأْوِيلُ السُّؤَالِ الثَّانِي: مَتَى تَضِيعُ الْأَمَانَةُ؟ وَكَيْفَ حُصُولُ التَّضْيِيعِ؟ فَقَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ، فَأَطْنَبَ فِي الْأَوَّلِ لِإِفَادَةِ مَعْنًى زَائِدٍ، وَاخْتَصَرَ فِي الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تَفَنُّنًا اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْجَوَابِ الثَّانِي، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ، بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْجَوَابَيْنِ، وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْ أَصْلِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: وَإِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

5440 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ، حَتَّى يُخْرِجَ الرَّجُلُ زَكَاةَ مَالِهِ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قَالَ: " تَبْلُغُ الْمَسَاكِنُ إِهَابَ أَوْ يِهَابَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5440 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَى يَكْثُرَ الْمَالُ ") أَيِ ابْتِلَاءٌ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ (" وَيَفِيضَ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ فِيهِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، أَيْ: يَسِيلَ مِنْ كَثْرَتِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَالسَّيْلِ ; لِيَمِيلَ الْخَلْقُ إِلَيْهِ كُلَّ الْمَيْلِ، (" حَتَّى يُخْرِجَ ") : بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: يُفْرِزَ (" الرَّجُلُ زَكَاةَ مَالِهِ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ ") ، أَيْ: لِكَثْرَةِ الْمَالِ وَلِقِلَّةِ الْمَيْلِ إِلَيْهِ بِتَشَوُّشِ الْحَالِ، (" وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ ") أَيْ: تَصِيرَ أَوْ تَرْجِعَ (" مُرُوجًا ") : بِالضَّمِّ أَيْ: رِيَاضًا كَمَا كَانَتْ بِنَبَاتَاتِهَا وَأَشْجَارِهَا وَأَثْمَارِهَا، (" وَأَنْهَارًا ") أَيْ: مِيَاهًا كَثِيرَةً جَارِيَةً فِي أَنْهَارِهَا. وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَرْجُ: الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ ذَاتُ نَبَاتٍ كَثِيرٍ تَمْرُجُ فِيهِ الدَّوَابُّ، أَيْ: تُخَلَّى تَسْرَحُ مُخْتَلِطَةً كَيْفَ شَاءَتْ اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الدُّنْيَا جَنَّةُ الْحَمْقَى فِي أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ غَافِلِينَ عَنِ الْعُقْبَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) : أَيْ لِمُسْلِمٍ (قَالَ: " تَبْلُغُ الْمَسَاكِنُ ") أَيْ: تَصِلُ نِهَايَةَ مَسَاكِنِ الْمَدِينَةِ (" إِهَابَ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، (" أَوْ يِهَابَ ") بِكَسْرِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ لِلِازْدِوَاجِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا مَوْضِعَانِ قُرْبَ الْمَدِينَةِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَعَدَمُ صَرْفِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ، وَالْمُرَادُ كَثْرَةُ عِمَارَةِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا. وَقَالَ شَارِحٌ: أَوْ نِهَابَ. بِالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ، وَرُوِيَ بِالْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا إِهَابُ فَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَأَمَّا يَهَابُ فَبِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمَكْسُورَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي فِي الشَّرْحِ وَالْمَشَارِقِ إِلَّا الْكَسْرَ، وَحَكَى الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِهِمْ نِهَابَ بِالنُّونِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَمْيَالٍ مِنْهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ أَنَّ الْمَدِينَةَ يَكْثُرُ سَوَادُهَا حَتَّى يَتَّصِلَ مَسَاكِنُ أَهْلِهَا بِإِهَابَ أَوْ يِهَابَ، شَكَّ الرَّاوِي فِي اسْمِ الْمَوْضِعِ، أَوْ كَانَ يُدْعَى بِكِلَا الِاسْمَيْنِ، فَذَكَرَ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا، وَفِي التَّصْحِيحِ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ أَنَّ قَوْلَهُ: " إِهَابَ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَلَمْ يَصْرِفْهُ عَلَى قَصْدِ الْبُقْعَةِ، وَ " يِهَابَ " بِيَاءٍ ـ آخِرَ الْحُرُوفِ - مَكْسُورَةٍ، كَذَا قَيَّدَهُ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ، وَقَيَّدَهُ غَيْرُهُ بِالْفَتْحِ. وَقِيلَ: فِيهِ نِهَابُ بِالنُّونِ، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنَ الرَّاوِي. وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِهَابُ كَكِتَابِ الْجِلْدِ، وَكَسَحَابٍ: مَوْضِعٌ قُرْبَ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ يِهَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

5441 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ يُقَسِّمُ الْمَالَ وَلَا يَعُدُّهُ ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا، وَلَا يَعُدُّهُ عَدًّا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5441 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَكُونُ ") أَيْ: يُوجَدُ (" فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ ") أَيْ: سُلْطَانٌ بِحَقٍّ (" يُقَسِّمُ الْمَالَ ") أَيْ: عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْعَدْلِ، وَلَا يُخَزِّنُهُ كَسَلَاطِينِ زَمَانِنَا (" وَلَا يَعُدُّهُ ") بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: وَيُعْطِي كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ عَدٍّ وَإِحْصَاءٍ، بَلْ يَكُونُ إِحْسَانُهُ جُزَافًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مِنَ الْإِعْدَادِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ عُدَّةً وَذَخِيرَةً، أَيْ: لَا يَدَّخِرُ لِعَدُوٍّ لَا يَكُونُ لَهُ خِزَانَةً، كَفِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ سَبَقَهُ شَارِحٌ ; حَيْثُ قَالَ: إِمَّا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: لَا يُحْصِيهِ، أَوْ يُعِدُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: لَا يَدَّخِرُهُ، وَهُوَ كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، لَكِنْ يُضْعِفُ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَبْنًى وَمَعْنًى قَوْلُهُ: (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: يُعْطِيهِ بِالْكَفَّيْنِ (" حَثْيًا ") : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَتَى بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: حَثْيًا بَلِيغًا، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (" وَلَا يَعُدُّهُ عَدًّا ") : مَصْدَرٌ بَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ ثُلَاثِيٌّ لَا رُبَاعِيٌّ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَثْوُ الَّذِي يَفْعَلُهُ هَذَا الْخَلِيفَةُ يَكُونُ لِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْغَنَائِمِ وَالْفُتُوحَاتِ مَعَ سَخَاءِ نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: السِّرُّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ يُظْهَرُ لَهُ كُنُوزُ الْأَرْضِ، أَوْ يُعَلَّمُ الْكِيمْيَاءُ، أَوْ يَكُونُ مِنْ كَرَامَتِهِ أَنْ يَنْقَلِبَ الْحَجَرُ ذَهَبًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5442 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5442 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ» ") : بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا أَيْ يَكْشِفَ (" عَنْ كَنْزٍ ") : فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: حَسَرْتُ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِي، وَحَسَرْتُ الثَّوْبَ عَنْ بَدَنِي أَيْ: كَشَفْتُهُمَا. وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ يَظْهَرَ وَيَكْشِفَ نَفْسَهُ عَنْ كَنْزٍ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَسَرَ مُتَعَدٍّ. وَقَالَ الْخَلْخَالِيُّ أَحَدُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ، أَيْ: سَيُظْهِرُ فُرَاتٌ عَنْ نَفْسِهِ كَنْزًا، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ الْقَلْبُ فِي الْكَلَامِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ عَرَضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ. وَفِي الْقَامُوسِ: حَسَرَهُ يَحْسُرُهُ وَيَحْسِرُهُ كَشَفَهُ، وَالشَّيْءُ حُسُورًا انْكَشَفَ، فَالْفِعْلُ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ اللُّزُومِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: يَقْرُبُ الْفُرَاتُ أَنْ يَنْكَشِفَ عَنْ كَنْزٍ، أَيِ: انْكِشَافًا صَادِرًا عَنْ كَنْزٍ عَظِيمٍ. (" مِنْ ذَهَبٍ ") أَيْ: كَثِيرٍ (" فَمَنْ حَضَرَ ") أَيْ: فَالْغَائِبُ بِالْأَوْلَى (" فَلَا يَأْخُذْ ") : بِصِيغَةِ النَّهْيِ (" مِنْهُ شَيْئًا ") أَيْ: لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْمُقَاتَلَةِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ الْكَبِيرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَلَا يَأْخُذُ نَفْيًا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

5443 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مَنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5443 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ» ") ، الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ مُتَّحِدَةٌ وَالرِّوَايَةَ مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْمَعْنَى عَنْ كَنْزٍ عَظِيمٍ مِقْدَارِ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَيَكُونَ الْجَبَلُ مَعْدِنًا مِنْ ذَهَبٍ، (" يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ ") أَيْ: عَلَى تَحْصِيلِهِ وَأَخْذِهِ، (" فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ") أَيْ: مِنَ النَّاسِ الْمُتَقَاتِلِينَ، (" وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ") أَيْ: مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ (" لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو ") . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ أَيْ: أَنَا الَّذِي يَنْجُو، فَنُظِرَ إِلَى الْمُبْتَدَأِ فَحُمِلَ الْخَبَرُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَوْصُولِ اهـ. أَيْ: يَرْجُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّاجِيَ فَيَقْتُلَ الْبَاقِيَ فِي الْحَالِ رَجَاءَ أَنْ يَنْجُوَ فِي الْمَآلِ فَيَأْخُذَ الْمَالَ، وَهَذَا مِنْ سُوءِ الْآمَالِ وَتَضْيِيعِ الْأَعْمَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ كِنَايَةٌ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَالَ: أَنَا الَّذِي أَفُوزُ بِهِ، فَعُدِلَ إِلَى أَنْجُو ; لِأَنَّهُ إِذَا نَجَا مِنَ الْقَتْلِ تَفَرَّدَ بِالْمَالِ وَمَلَكَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5444 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ، فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ، فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5444 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَقِيءُ الْأَرْضُ ") : مُضَارِعٌ مِنَ الْقَيْءِ، أَيْ: تُلْقِي الْأَرْضُ (" أَفْلَاذَ كَبِدِهَا ") : بِفَتْحِ الْهَمْزِ جَمْعَ الْفِلْذَةِ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ الْمَقْطُوعَةُ طُولًا، وَسَمَّى مَا فِي الْأَرْضِ كَبِدًا تَشْبِيهًا بِالْكَبِدِ الَّتِي فِي بَطْنِ الْبَعِيرِ ; لِأَنَّهَا أَحَبُّ مَا هُوَ مُخَبَّأٌ فِيهَا، كَمَا أَنَّ الْكَبِدَ أَطْيَبُ مَا فِي بَطْنِ الْجَزُورِ، وَأَحَبُّهُ إِلَى الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي بَطْنِ الْبَعِيرِ ; لِأَنَّ ابْنَ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: الْفِلْذُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْبَعِيرِ، فَالْمَعْنَى: تُظْهِرُ كُنُوزَهَا وَتُخْرِجُهَا مِنْ بُطُونِهَا إِلَى ظُهُورِهَا، (" أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالطَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " الْأُسْطُوَانَةِ " فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَالْأَوَّلُ جِنْسٌ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِجَمْعِ الْأَمْثَالِ، وَقَوْلُهُ: (" مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ") لِبَيَانِ مُجْمَلِ الْحَالِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْضَ تُلْقِي مِنْ بَطْنِهَا مَا فِيهِ مِنَ الْكُنُوزِ، وَقِيلَ: مَا رَسَخَ فِيهَا مِنَ الْعُرُوقِ الْمَعْدِنِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانَةِ، وَشَبَّهَهَا بِأَفْلَاذِ الْكِبَادِ هَيْئَةً

وَشَكْلًا، فَإِنَّهَا قِطَعُ الْكَبِدِ الْمَقْطُوعَةِ طُولًا. أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا - وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 1 - 2] ، (" فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ ") أَيْ: قَاتِلُ النَّفْسِ (" فَيَقُولُ: فِي هَذَا ") أَيْ: فِي طَلَبِ هَذَا الْغَرَضِ، وَلِأَجْلِ تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ (" قَتَلْتُ ") أَيْ: مَنْ قَتَلْتُ مِنَ الْأَنْفُسِ، (" وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ ") أَيْ: قَاطِعُ الرَّحِمِ (" فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَلَوْ رُوِيَ مَعْلُومًا لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، أَيْ: تَسَبَّبَ لِقَطْعِ يَدِي (" ثُمَّ يَدَعُونَهُ ") : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: يَتْرُكُونَ مَا قَاءَتْهُ مِنَ الْكَنْزِ أَوِ الْمَعْدِنِ (" فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا ") . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

5445 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5445 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا» ") أَيْ: لَا تَفْرَغُ وَلَا تَنْقَضِي (" حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ ") : الْمُرَادُ بِهِمَا الْجِنْسُ، فَهُمَا فِي قُوَّةِ النَّكِرَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الِاسْتِغْرَاقُ، فَكُلُّ فَرْدٍ فِي هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ (" فَيَتَمَرَّغُ ") أَيْ: يَتَقَلَّبُ الرَّجُلُ (" عَلَيْهِ ") أَيْ: فَوْقَ الْقَبْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يَتَمَسَّكُ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ وَيَتَقَلَّبُ فِي التُّرَابِ، (" وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ ") أَيْ: مَيِّتًا (" وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ، (" إِلَّا الْبَلَاءُ ") أَيِ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى التَّمَنِّي لَيْسَ الدِّينُ بَلِ الْبَلَاءُ وَكَثْرَةُ الْمِحَنِ وَالْفِتَنِ وَسَائِرُ الضَّرَّاءِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: الدِّينُ هُنَا الْعَادَةُ وَلَيْسَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَتَمَرَّغُ، يَعْنِي: يَتَمَرَّغُ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ، وَيَتَمَنَّى الْمَوْتَ فِي حَالٍ لَيْسَ التَّمَرُّغُ مِنْ عَادَتِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الدِّينُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ التَّمَرُّغُ وَالتَّمَنِّي لِأَمْرٍ أَصَابَهُ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الدُّنْيَا، فَيُفِيدُ الْبَلَاءَ الْمُطْلَقَ بِالدُّنْيَا بِوَاسِطَةِ الْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ، وَاتَّفَقَا عَلَى: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. قُلْتُ: وَهَذَا اللَّفْظُ فِي الْجَامِعِ أُسْنِدَ إِلَى أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ، وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ خُرُوجِ نَفْسِهِ» ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْعَسَلُ فَيَشْرَبُهُ» ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبَى ذَرٍّ قَالَ: " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَمُرُّ الْجَنَازَةُ فِيهِمْ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: يَا لَيْتَ أَنِّي مَكَانَهُ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبَى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: مَرِضَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَتَيْتُ أَعُودُهُ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُرْجِعْهَا، وَقَالَ: يُوشِكُ يَا أَبَا سَلَمَةَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، وَيُوشِكُ يَا أَبَا سَلَمَةَ إِنْ بَقِيتَ إِلَى قَرِيبٍ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ الْقَبْرَ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَكَ.

5446 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5446 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ» ") أَيْ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهُمَا (" تُضِيءُ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: تُنَوِّرُ (" أَعْنَاقَ الْإِبِلِ ") : جَمْعُ الْعُنُقِ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ الْعُضْوُ الْمَعْرُوفُ، وَقِيلَ: بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْجَمَاعَةُ، (" بِبُصْرَى ") : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ، وَهِيَ مَدِينَةُ حَوْرَانَ بِالشَّامِ، وَقِيلَ: مَدِينَةُ قَيْسَارِيَةِ الْبَصْرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا الرِّوَايَةُ بِنَصْبِ " أَعْنَاقَ " وَهُوَ مَفْعُولُ تُضِيءُ، يُقَالُ: أَضَاءَتِ النَّارُ

وَأَضَاءَتْ غَيْرَهَا، وَبُصَرَى بِضَمِّ الْبَاءِ مَدِينَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالشَّامِ، وَهِيَ مَدِينَةُ حَوْرَانَ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ نَحْوُ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ، وَقَدْ خَرَجَتْ فِي زَمَانِنَا نَارٌ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَتْ نَارًا عَظِيمَةً خَرَجَتْ مِنْ جَنْبِ الْمَدِينَةِ - شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى - الشَّرْقِيِّ وَرَاءَ الْحَرَّةِ، وَتَوَاتَرَ الْعِلْمُ بِهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الشَّامِ، وَسَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رَأَى هَذِهِ النَّارَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ رُؤْيَةً لَا مِرْيَةَ فِيهَا وَلَا خَفَاءَ، فَإِنَّهَا لَبِثَتْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ يَوْمًا تَتَّقِدُ وَتَرْمِي بِالْأَحْجَارِ الْمُجْمَرَةِ بِالنَّارِ مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى مَا حَوْلَهَا، مُشَاكِلَةً لِلْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ نَارِ جَهَنَّمَ: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ - كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33] ، وَقَدْ سَالَ مِنْ يَنْبُوعِ النَّارِ فِي تِلْكَ الصَّحَارَى مَدٌّ عَظِيمٌ شَبِيهٌ بِالصُّفْرِ الْمُذَابِ، فَيَجْمُدُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، فَيُوجَدُ شَبِيهًا بِخَبَثِ الْحَدِيدِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَيْهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ وَهِيَ لَمْ تَحْدُثْ بَعْدُ» ". قُلْتُ: لَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَوَّلَ الْأَشْرَاطِ مُطْلَقًا بَلِ الْأَشْرَاطَ الْمُتَّصِلَةَ بِالسَّاعَةِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهَا تَقُومُ عَمَّا قَرِيبٍ، فَإِنَّ مِنَ الْأَشْرَاطِ بَعْثَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَتَقَدَّمْهَا تِلْكَ النَّارُ، أَوْ أَرَادَ بِالنَّارِ نَارَ الْحَرْبِ وَالْفِتَنِ كَفِتْنَةِ التَّتَرِ، فَإِنَّهَا سَارَتْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَالْعَجَبُ مِنَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَأَسْنَدَهُ مِنْ طَرِيقِ رُشْدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِهِ: فَاسْتَدْرَكَهُ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ فِيهِمَا، وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا رِوَايَتُهُ لَهُ مِنْ طَرِيقِ رُشْدِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ اهـ. وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ بِأَنَّهُ أَتَى بِإِسْنَادٍ غَيْرِ إِسْنَادِ الصَّحِيحَيْنِ، فَيَكُونُ مُسْتَدْرِكًا لَا مُسْتَدْرَكًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ رُشْدٍ، وَلَعَلَّهُ قَوِيَ عِنْدَهُ أَوْ لَهُ مُتَابِعٌ أَوْ مُشَاهِدٌ يَنْجَبِرُ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَقَلُّ رَاوٍ أَجْمَعُوا عَلَى ضَعْفِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5447 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5447 - (وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ") : سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (" نَارٌ ") أَيْ: شُعْلَةٌ سَاطِعَةٌ أَوْ فِتْنَةٌ طَالِعَةٌ (" تَحْشُرُ النَّاسَ ") أَيْ: تَجْمَعُهُمْ (" مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَرَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «أَوَّلُ شَيْءٍ يَحْشُرُ النَّاسَ نَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ» "، كَذَا فِي الْجَامِعِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ السَّابِقُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5448 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرْمَةِ بِالنَّارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5448 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ» ") أَيْ: زَمَانُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ يَتَقَارَبَ أَهْلُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الشَّرِّ، أَوْ يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ نَفْسُهُ فِي الشَّرِّ حَتَّى يُشْبِهَ أَوَّلُهُ آخِرَهُ، أَوْ تَقْصُرَ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا لِقَوْلِهِ: (" فَتَكُونُ ") بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ وَهُوَ بِالتَّأْنِيثِ، وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ لَيْلًا، ثُمَّ عَطَفَ الشَّهْرَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى فَتَصِيرُ (" السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ") . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةِ بَرَكَةِ الزَّمَانِ وَذَهَابِ فَائِدَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لِكَثْرَةِ اهْتِمَامِهِمْ بِمَا دَهَمَهُمْ مِنَ النَّوَازِلِ وَالشَّدَائِدِ وَشُغْلِ قَلْبِهِمْ بِالْفِتَنِ الْعِظَامِ، لَا يَدْرُونَ كَيْفَ تَنْقَضِي أَيَّامُهُمْ وَلَيَالِيهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ قِصَرَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي فِي الْمَسَرَّاتِ وَطُولَهَا فِي الْمَكَارِهِ، قُلْنَا: الْمَعْنَى الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ فِي الْقِصَرِ وَالطُّولِ مُفَارِقٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى تَمَنِّي الْإِطَالَةِ لِلرَّخَاءِ، أَوْ إِلَى تَمَنِّي الْقِصَرِ

لِلشِّدَّةِ، وَالَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى زَوَالِ الْإِحْسَاسِ بِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا صَحِيحٌ، (" وَالشَّهْرُ ") أَيْ: وَيَكُونُ الشَّهْرُ (" كَالْجُمُعَةِ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأُسْبُوعُ، (" وَتَكُونُ ") : بِالتَّأْنِيثِ رَفْعًا وَيُنْصَبُ أَيْ وَتَصِيرُ (" الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ ") أَيْ: كَالنَّهَارِ، (" وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ ") أَيِ: الْعُرْفِيَّةِ النُّجُومِيَّةِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْقِسْمَةِ الِاثْنَتَيْ عَشْرِيَّةَ فِي اعْتِدَالِ الْأَزْمِنَةِ الصَّيْفِيَّةِ وَالشِّتَائِيَّةِ، (" وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرْمَةِ بِالنَّارِ ") : بِفَتْحِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ: مِثْلَهَا فِي سُرْعَةِ ابْتِدَائِهَا وَانْقِضَائِهَا. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ كَزَمَانِ إِيقَادِ الضَّرْمَةِ وَهِيَ مَا يُوقَدُ بِهِ النَّارُ أَوَّلًا كَالْقَصَبِ وَالْكِبْرِيتِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الضَّرَمَةُ مُحَرَّكَةً السَّعَفَةُ أَوِ الشِّيحَةُ فِي طَرَفِهَا نَارٌ. وَفِي الْأَزْهَارِ: الضَّرْمَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ غُصْنُ النَّخْلِ، وَالشِّيحَةُ نَبْتٌ فِي طَرَفِهَا نَارٌ فَإِنَّهَا إِذَا اشْتَعَلَتْ تُحْرَقُ سَرِيعًا اهـ. فَالْمُرَادُ بِهَا السَّاعَةُ اللُّغَوِيَّةُ، وَهِيَ أَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّمَانِ مِنَ اللَّمْحَةِ وَاللَّحْظَةِ وَالطَّرْفَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ أَوْ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ كِلَيْهِمَا. قُلْتُ: وَالْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِظُهُورِ هَذَا الْأَمْرِ فِي خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَهُوَ فِي زَمَانِهِمَا. قَالَ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَالسَّاعَةُ كَالضَّرْمَةِ، فَمَا وَجْهُ التَّقَارُبِ وَمَعْنَاهُ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ السَّنَةَ ذَاتُ شُهُورٍ وَجُمَعٍ وَأَيَّامٍ وَسَاعَاتٍ، فَإِنَّ كُلَّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا وَثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ جُمُعَةً، وَثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَاعَةً، وَإِذَا عَادَتِ السَّنَةُ إِلَى الشَّهْرِ عَادَتْ جُمُعَتُهَا إِلَى جُمُعَةِ شَهْرِ تِلْكَ السَّنَةِ، وَهِيَ أَرْبَعٌ، وَأَيَّامُهَا إِلَى أَيَّامِ شَهْرٍ بِتِلْكَ السَّنَةِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَسَاعَاتُهَا إِلَى سَاعَاتِ شَهْرٍ بِتِلْكَ السَّنَةِ، وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَاعَةً، وَنِسْبَةُ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى السَّنَةِ كَجُزْءٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا بِلَا زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ، نَعَمْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ مِنْ أَمَدِ الضَّرْمَةِ بِالنَّارِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، وَلَا يَتَبَيَّنُ لِلنَّاظِرِ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ ; فَلِذَا قَالَ: " يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ "، وَلَمْ يَقُلْ يَتَسَاوَى الزَّمَانُ اهـ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ وَبَيَانٍ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ مِنَ الْبَابِ الْآتِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5449 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَغْنَمَ عَلَى أَقْدَامِنَا، فَرَجَعْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا، وَعَرَفَ الْجَهْدَ فِي وُجُوهِنَا، فَقَامَ إِلَيْنَا فَقَالَ: " «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ قَالَ: " يَا ابْنَ حَوَالَةَ! إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَقَدْ دَنَتِ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ إِلَى رَأْسِكَ» ". رَوَاهُ. . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5449 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: أَزْدِيٌّ نَزَلَ الشَّامَ، رَوَى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَغَيْرِهِ، (قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ") أَيْ: أَرْسَلَنَا (لِنَغْنَمَ) أَيْ: لِنَأْخُذَ الْغَنِيمَةَ (عَلَى أَقْدَامِنَا) أَيْ: مَاشِينَ عَلَيْهَا، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بَعَثَنَا أَيْ بَعَثَنَا رِجَالًا غَيْرَ رُكَّابٍ، (فَرَجَعْنَا) أَيْ: سَالِمِينَ مَأْمُونِينَ (فَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا) أَيْ: فَصِرْنَا مَغْمُومِينَ مَحْزُونِينَ، (وَعَرَفَ الْجَهْدَ) : بِالْفَتْحِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالضَّمِّ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْجَهْدُ الطَّاقَةُ وَيُضَمُّ وَالْمَشَقَّةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجُهْدُ بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَشَقَّةُ، وَقَدْ صَرَّحَ شَارِحٌ بِالْفَتْحِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ فِي أَصْلِهِ، أَيْ: وَعَرَفَ مَشَقَّةَ أَلَمِ فَقْدِ الْغَنِيمَةِ (فِي وُجُوهِنَا) أَيْ: فِيمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنْ آثَارِ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ وَالْخَجَالَةِ وَالْحَيَاءِ، (فَقَامَ) أَيْ: خَطِيبًا (فِينَا) أَيْ: لِأَجْلِنَا أَوْ فِيمَا بَيْنَنَا (فَقَالَ: " اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ ") : مِنَ الْوُكُولِ أَيْ: لَا تَتْرُكْ أُمُورَهُمْ (" إِلَيَّ ") أَيْ: إِلَى أَمْرِي (" فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ ") : بِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلنَّهْيِ ; وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ عَنْ غَيْرِهِ ; وَلِذَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس: 49] وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ أَنَّ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ عَامٍ بِالْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ وَيَفْتَرِقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ لَهُ الْقُرْبُ الْإِلَهِيُّ قَدَّمَ دَفْعَ وُكُولِهِمْ إِلَيْهِ أَوَّلًا ثُمَّ قَالَ: (" وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفُتِحَ، فَفِي الْقَامُوسِ: عَجَزَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَسَمِعَ، ثُمَّ فِي تَأْخِيرِ أَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ الْأَنْفَسَ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] ، (" وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ ") أَيْ: إِلَى الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا خَصَّ النَّاسَ لِقُرْبِ الِاسْتِئْنَاسِ ; (" فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ ") عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ فَيَعْجِزُوا لِظُهُورِهِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَيَسْتَأْثِرُوا ; إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ مَا يَكْتَفُونَ بِإِظْهَارِ الْعَجْزِ، بَلْ يَتَبَادَرُونَ إِلَى أَنْ يَخْتَارُوا الْجَيِّدَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالرَّدِيءَ لِغَيْرِهِمْ، فَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ فِي شُهُودِ صُنْعِ اللَّهِ وَالْغَيْبَةِ عَمَّا سِوَاهُ، حَتَّى يَكِلُوا أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَعْتَمِدُوا فِي جَمِيعِ حَوَائِجِهِمْ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ أُمُورَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، كَمَا قَالَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَعْنَى: لَا تُفَوِّضْ أُمُورَهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْ كِفَايَةِ مُؤْنَتِهِمْ وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ، وَلَا تُفَوِّضْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَعْجِزُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ; لِكَثْرَةِ شَهَوَاتِهَا وَشُرُورِهَا، وَلَا تُفَوِّضْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَخْتَارُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ ; فَيَضِيعُوا، بَلْ هُمْ عِبَادُكَ فَافْعَلْ بِهِمْ مَا يَفْعَلُ السَّادَةُ بِالْعَبِيدِ. (ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي) ، أَيْ: لِحِكْمَةٍ سَتَأْتِي، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى ذَلِكَ الْمَرَامِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَضَعَهَا ثُمَّ رَفَعَهَا، (ثُمَّ قَالَ: " يَا ابْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ ") أَيْ: خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ (" قَدْ نَزَلَتِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ") أَيْ: مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، كَمَا وَقَعَتْ فِي إِمَارَةِ بَنِي أُمَيَّةَ (" فَقَدْ دَنَتِ ") أَيْ: قَرُبَتِ (" الزَّلَازِلُ ") أَيْ: وُقُوعُهَا وَهِيَ مُقَدِّمَاتُ زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] ، وَالزَّلْزَلَةُ هِيَ الْحَرَكَةُ وَالزِّلْزَالُ مَصْدَرٌ، (" وَالْبَلَابِلُ ") : جَمْعُ بَلْبَلَةٍ، فَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ الْهُمُومُ وَالْأَحْزَانُ، وَبَلْبَلَةُ الصَّدْرِ وَسْوَاسُهُ، (" وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ ") أَيْ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، (" وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ ") أَيِ: الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَأْسِكَ (" إِلَى رَأْسِكَ " رَوَاهُ) : كَذَا هُنَا بَيَاضٌ بِالْأَصْلِ، وَأُلْحِقَ فِي الْحَاشِيَةِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ. جَزَرِيٌّ وَأُلْحِقَ فِي نُسْخَةٍ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ.

5450 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا اتُّخِذَ الْفَيْءُ دِوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَتُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَأَدْنَى صَدِيقَهُ، وَأَقْصَى أَبَاهُ، وَظَهَرَتِ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الْخَمْرُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا ; فَارْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا وَمَسْخًا وَقَذْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5450 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا اتُّخِذَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا أُخِذَ (" الْفَيْءُ ") أَيِ: الْغَنِيمَةُ (" دِوَلًا ") : بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَيُضَمُّ أَوَّلُهُ جَمْعُ دُولَةٍ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، أَيْ: غَلَبَةً فِي الْمُدَاوَلَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الدَّوْلَةُ انْقِلَابُ الزَّمَانِ، وَالْعُقْبَةُ فِي الْمَآلِ وَيُضَمُّ، أَوِ الضَّمُّ فِيهِ وَالْفَتْحُ فِي الْحَرْبِ، أَوْ هُمَا سَوَاءٌ، أَوِ الضَّمُّ فِي الْآخِرَةِ وَالْفَتْحُ فِي الدُّنْيَا، الْجَمْعُ: دُوَلٌ مُثَلَّثَةً. وَفِي شَرْحِ ابْنِ الْمَلَكِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الدُّولَةُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِمَا يُتَنَاوَلُ مِنَ الْمَالِ يَعْنِي الْفَيْءَ، وَبِالْفَتْحِ الِانْتِقَالُ مِنْ حَالِ الْبُؤْسِ وَالضُّرِّ إِلَى حَالِ السُّرُورِ.

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ إِذَا كَانَ الْأَغْنِيَاءُ وَأَصْحَابُ الْمَنَاصِبِ يَسْتَأْثِرُونَ بِحُقُوقِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ أَمْوَالَ الْفَيْءِ تُؤْخَذُ غَلَبَةً وَأَثَرَةً صَنِيعَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَذَوِي الْعُدْوَانِ، (" وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا ") ، أَيْ: بِأَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِوَدَائِعِ بَعْضِهِمْ وَأَمَانَاتِهِمْ، فَيَتَّخِذُونَهَا كَالْمَغَانِمِ يَغْنَمُونَهَا، (" وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا ") أَيْ: بِأَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا حَتَّى تُعَدَّ غَرَامَةً، (" وَتُعُلِّمَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ (" لِغَيْرِ الدِّينِ ") ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، كَذَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ بِغَيْرِ اللَّامِ، وَالْأُولَى أَوْلَى، أَيْ: رِوَايَةً وَدِرَايَةً، أَيْ: يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ لِطَلَبِ الْجَاهِ وَالْمَالِ لَا لِلدِّينِ وَنَشْرِ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ، (" وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ") أَيْ: فِيمَا تَأْمُرُهُ وَتَهْوَاهُ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَهُدَاهُ، (" وَعَقَّ أُمَّهُ ") أَيْ: خَالَفَهَا فِيمَا تَأْمُرُهُ وَتَنْهَاهُ، وَفِي الْقَرِينَتَيْنِ إِشْعَارٌ بِانْقِلَابِ الدَّهْرِ ; لِانْعِكَاسِ الْأَمْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: (" وَأَدْنَى صَدِيقَهُ، وَأَقْصَى أَبَاهُ ") ; حَيْثُ قَرَّبَ صَدِيقَهُ الْأَجْنَبِيَّ إِلَيْهِ، وَبَعَّدَ أَقْرَبَ الْأَقْرَبِينَ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ أَشْفَقُ الْأَشْفَقِينَ عَلَيْهِ، هَذَا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: خَصَّ عُقُوقَ الْأُمِّ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ عُقُوقُ كُلٍّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَعْدُودًا مِنَ الْكَبَائِرِ ; لِتَأَكُّدِ حَقِّهَا، أَوْ لِكَوْنِ قَوْلِهِ: وَأَقْصَى أَبَاهُ بِمَنْزِلَةِ وَعَقَّ أَبَاهُ، فَيَكُونُ عُقُوقُهُمَا مَذْكُورًا. أَقُولُ: فَفِيهِ تَفَنُّنٌ وَتَسْجِيعٌ، مَعَ زِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِ: أَقْصَى، عَلَى قَوْلِهِ: عَقَّ، عَلَى أَنَّهُ يُفْهَمُ عُقُوقُ الْأَبِ مِنْ عُقُوقِ الْأُمِّ بِالْأَوْلَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: وَأَدْنَى صَدِيقَهُ وَأَقْصَى أَبَاهُ، كِلَاهُمَا قَرِينَةٌ لِقَوْلِهِ: وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَعَقَّ أُمَّهُ، لَكِنَّ الْمَذْمُومَ فِي الْأُولَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ إِدْنَاءَ الصَّدِيقِ مَحْمُودٌ، بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ الْإِفْرَادَ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَذْمُومَانِ. وَأَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ إِطَاعَةَ الْمَرْأَةِ وَالْأُمِّ فِي الْمُبَاحِ مَنْدُوبَتَانِ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ مَنْهِيَّتَانِ، فَالْغَرَابَةُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هِيَ فِي انْعِكَاسِ الْقَضِيَّةِ وَانْقِلَابِ الْبَلِيَّةِ، وَكَذَا فِي الْقَرِينَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ; إِذْ يُتَصَوَّرُ إِدْنَاءُ الصَّدِيقِ الصَّالِحِ وَإِبْعَادُ الْأَبِ الصَّالِحِ، وَيُؤَيِّدُ مَا حَرَّرْنَا قَوْلُهُ: فَرَجَّحَ جَانِبَ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الشَّهْوَةِ عَلَى جَانِبِ الْأُمِّ، فَإِنَّهَا مَرْضَاةُ الرَّبِّ، وَخَصَّ الْأُمَّ بِالذِّكْرِ لِزِيَادَةِ حَقِّهَا، وَتَأَكُّدِ مَشَقَّتِهَا فِي تَرْبِيَتِهِ، فَعُقُوقُهَا أَقْبَحُ مِنْ عُقُوقِ الْأَبِ، وَأَدْنَى صَدِيقَهُ أَيْ: قَرَّبَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِلْمُؤَانَسَةِ وَالْمُجَالَسَةِ، وَأَقْصَى أَبَاهُ أَبْعَدَهُ وَلَمْ يَسْتَصْحِبْهُ وَلَمْ يَسْتَأْنِسْ بِهِ. (وَظَهَرَتِ الْأَصْوَاتُ) أَيْ: رَفْعُهَا (فِي الْمَسَاجِدِ) ، وَهَذَا مِمَّا كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَقَدْ نَصَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ لِلذِّكْرِ حَرَامٌ، (وَسَادَ الْقَبِيلَةَ) : وَفِي مَعْنَاهُ الْبَلَدُ وَالْمَحَلَّةُ (فَاسِقُهُمْ) ، وَظَالِمُهُمْ بِالْأَوْلَى، وَقَدْ كَثُرَ هَذَا أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَثْرَةَ هِيَ الْعَلَامَةُ، وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ يَخْلُو زَمَانٌ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام: 123] (وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ) أَيِ: الْمُتَكَفِّلُ بِأَمْرِهِمْ (أَرْذَلَهُمْ) أَيْ: أَبْخَلَهُمْ، أَوْ أَكْثَرَهُمْ رَذَالَةً فِي النَّسَبِ وَالْحَسَبِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: زَعِيمُ الْقَوْمِ رَأْسُهُمْ. وَفِي الْقَامُوسِ: الزَّعِيمُ الْكَفِيلُ، وَسَيِّدُ الْقَوْمِ رَأْسُهُمْ وَالْمُتَكَلِّمُ عَنْهُمْ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ النُّسَخَ جَمِيعَهَا عَلَى رَفْعِ " زَعِيمُ " وَنَصْبِ " أَرْذَلَهُمْ "، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُعْكَسَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالزَّعِيمِ الْكَرِيمُ، وَبِالْأَرْذَلِ الْأَحْمَقُ وَالْأَخْمَلُ، وَفِي الْمَالِ وَالْجَاهِ أَقَلُّ، (" وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ ") أَيْ: عُظِّمَ (" مَخَافَةَ شَرِّهِ ") أَيْ: لَا لِسَبَبٍ غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ رَجَاءِ خَيْرِهِ، (" وَظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ ") : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ أَيِ: الْإِمَاءُ الْمُغَنِّيَاتُ، (" وَالْمَعَازِفُ ") ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: وَظَهَرَتْ آلَاتُ اللَّهْوِ، (" وَشُرِبَتِ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" الْخُمُورُ ") أَيْ: أَنْوَاعُ الْخَمْرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تُشْرَبُ شُرْبًا ظَاهِرًا، (" وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا ") : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَةَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ الْمُنَاسِبَةُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا: أَصْحَابُ مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ طَعَنَ الْخَلَفُ فِي السَّلَفِ، وَذَكَرُوهُمْ بِالسُّوءِ، وَلَمْ يَقْتَدُوا بِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَأَنَّهُ لَعَنَهُمْ. أَقُولُ: إِذَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مُتَحَقِّقَةً فَمَا الْمُحْوِجُ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهَا إِلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَقَدْ كَثُرَتْ كَثْرَةً لَا تَخْفَى فِي الْعَالَمِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْأَوَّلِينَ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] ، وَقَالَ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَشْحُونَانِ بِمَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ فِي اجْتِهَادِهِ، وَجَاهَدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، فَتَحُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَحَفِظُوا الْأَحْكَامَ وَسَائِرَ الْعُلُومِ مِنْ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَانْتَفَعُوا بِهِمْ عُلَمَاءُ الْأَعْلَامِ وَمَشَايِخُ الْكِرَامِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ نَقُولَ فِي حَقِّهِمْ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] ، وَقَدْ ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ لَاعِنَةٌ مَلْعُونَةٌ، إِمَّا كَافِرَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ، حَيْثُ لَمْ يَكْتَفُوا بِاللَّعْنِ وَالطَّعْنِ فِي حَقِّهِمْ، بَلْ نَسَبُوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بِمُجَرَّدِ أَوْهَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَفْهَامِهِمُ الْكَاسِدَةِ مِنْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَخَذُوا الْخِلَافَةَ وَهِيَ حَقُّ عَلِيٍّ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْحَالُ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِإِنْكَارِ الْمُنْكِرِينَ، وَأَيُّ دَلِيلٍ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ نَصًّا عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ، ثُمَّ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ اجْتِهَادٍ، فَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ، غَايَتُهُ أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ كَانَ مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ مَاتَ تَائِبًا، أَوْ بَاقِيًا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ مَعَ غَالِبِ رَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ وَالشَّفَاعَةِ بِبَرَكَةِ الْخِدْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ - مَرْفُوعًا: يَكُونُ لِأَصْحَابِي زَلَّةٌ، يَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ ; لِسَابِقَتِهِمْ مَعِي. فَنَحْنُ مَعَ كَثْرَةِ ذُنُوبِنَا مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، إِذَا كُنَّا رَاجِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا وَشَفَاعَةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ بِأَكَابِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَبِأَنْصَارِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ طَائِفَةَ الرَّافِضَةِ الْمَرْفُوضَةِ، الْبَاغِضَةِ الْمَبْغُوضَةِ، أَفْسَقُ الْخَلْقِ وَأَظْلَمُهُمْ، وَأَحْمَقُ الْعَالَمِينَ وَأَجْهَلُهُمْ، فَطُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ» ". وَقَالَ: " «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» ". وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " «حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمَا كُفْرٌ، وَحُبُّ الْأَنْصَارِ مِنَ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَحُبُّ الْعَرَبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَمَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَمَنْ حَفِظَنِي فِيهِمْ فَأَنَا أَحْفَظُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". (" فَارْتَقِبُوا ") : جَوَابُ إِذَا، وَالْمَعْنَى: فَانْتَظِرُوا (" عِنْدَ ذَلِكَ ") أَيْ: عِنْدَ وُجُودِ مَا ذُكِرَ (" رِيحًا حَمْرَاءَ ") أَيْ: شَدِيدَةً فِي الْهَوَاءِ (" وَزَلْزَلَةً ") أَيْ: حَرَكَةً عَظِيمَةً لِلْأَرْضِ (" وَخَسْفًا ") أَيْ: ذَهَابًا فِي الْأَرْضِ وَغَيْبُوبَةً فِيهَا (" وَمَسْخًا ") : بِتَغْيِيرِ الصُّوَرِ عَلَى طِبْقِ اخْتِلَافِ تَغَيُّرِ السِّيَرِ (" وَقَذْفًا ") أَيْ: رَمْيَ حِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ (" وَآيَاتٍ ") أَيْ: عَلَامَاتٍ أُخَرَ لِدُنُوِّ الْقِيَامَةِ وَقُرْبِ السَّاعَةِ، (" تَتَابَعُ ") : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا (" كَنِظَامٍ ") : بِكَسْرِ النُّونِ أَيْ: عِقْدٍ مِنْ نَحْوِ جَوْهَرٍ وَخَرَزٍ (" قُطِعَ سِلْكُهُ ") : بِكَسْرِ السِّينِ أَيِ: انْقَطَعَ خَيْطُهُ (" فَتَتَابَعَ ") أَيْ: مَا فِيهِ مِنَ الْخَرَزِ، وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ بِخِلَافِ الْمَاضِي، فَإِنَّهُ حَالٌ أَوِ اسْتِقْبَالٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: وَقَالَ: غَرِيبٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «الْآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِي سِلْكٍ، فَانْقَطَعَ السِّلْكُ فَيَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا» ".

5451 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ، وَعَدَّ هَذِهِ الْخِصَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ: " تُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ "، قَالَ: " وَبَرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ "، وَقَالَ: " وَشُرِبَ الْخَمْرُ، وَلُبِسَ الْحَرِيرُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5451 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ ") بِسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ (" خَصْلَةً ") أَيْ: فِعْلَةً ذَمِيمَةً (" حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ ") أَيْ: نَزَلَ

(وَعَدَّ) أَيْ: وَأَحْصَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (هَذِهِ الْخِصَالَ) أَيِ: الْخَمْسَ عَشْرَةَ، (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ: عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (" تُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ ") ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ، وَعَدَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَعْدَادَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ. (قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (" وَبَرَّ صَدِيقَهُ ") أَيْ: بَدَلَ أَدْنَى (" وَجَفَا أَبَاهُ ") : بَدَلَ أَقْصَى، فَهُوَ اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَقَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (" وَشُرِبَ الْخَمْرُ ") أَيْ: بَدَلَ شُرِبَتِ الْخُمُورُ بِتَغْيِيرِ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، (" وَلُبِسَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" الْحَرِيرُ ") ، قَالَ صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ: هَذَا بَدَلٌ مِنَ اللَّعْنِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ اللَّعْنَ مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالصَّوَابُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ تُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ، فَتَطَابَقَ الْعَدَدَانِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، فَصَحَّ قَوْلُ الطِّيبِيِّ: أَنَّهُ عَدَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَعْدَادَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَبَطَلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْمُخْتَصَرِ: إِنَّ الْمَجْمُوعَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فَسِتَّةَ عَشَرَ اهـ. وَهُنَا أَنَا أَذْكُرُ لَكَ مُفَصِّلًا مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مُجْمِلًا بَلْ مُخْتَصِرًا مُخِلًّا مُهْمِلًا بِقَوْلِهِ: (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، فَفِي الْجَامِعِ: إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ إِذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ، وَلُبِسَ الْحَرِيرُ، وَاتُّخِذَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَأَوْ) هُنَا لِلتَّنْوِينِ، وَالْوَاوُ هُنَاكَ لِلْجَمْعِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ.

5452 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِيَ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قَالَ: " لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلًا مِنِّي - أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِيَ وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5452 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا ") أَيْ: لَا تَفْنَى وَلَا تَنْقَضِي (" حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ ") أَيْ: وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ عَرَبِيٌّ، (" رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ ") أَيْ: يُوَافِقُ (" اسْمُهُ اسْمِيَ ") أَيْ: وَيُطَابِقُ رَسْمُهُ رَسْمِيَ، فَإِنَّهُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، وَبِهَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ يَهْدِي. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَذْكُرِ الْعَجَمَ، وَهُمْ مُرَادُونَ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الْعَرَبَ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَكَانُوا يَدًا وَاحِدَةً قَهَرُوا سَائِرَ الْأُمَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ بُعَيْدَ هَذَا اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ذَكَرَ الْعَرَبَ لِغَلَبَتِهِمْ فِي زَمَنِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ أَشْرَفَ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَمُرَادُهُ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ: وَالْبَرْدَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُطِيعُونَهُ، بِخِلَافِ الْعَجَمِ بِمَعْنَى ضِدِّ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُمْ خِلَافٌ فِي إِطَاعَتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ (قَالَ: " لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ ") أَيْ: يُظْهِرَ (" فِيهِ ") أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (" رَجُلًا ") أَيْ: كَامِلًا (" مِنِّي ") أَيْ: مِنْ نَسَبِي (" - أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي - ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ مِنْ بَنِي الْحَسَنِ، أَوْ مِنْ بَنِي الْحُسَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ النِّسْبَتَيْنِ الْحُسْنَيَيْنِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ حَسَنِيٌّ، وَمِنْ جَانِبِ الْأُمِّ حُسَيْنِيٌّ، قِيَاسًا عَلَى مَا وَقَّعَهُ فِي وَلَدَيْ إِبْرَاهِيمَ: إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ - عَلَيْهِمُ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَيْثُ كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، وَإِنَّمَا نُبِّئَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَامَ مَقَامَ الْكُلِّ، وَنِعْمَ الْعِوَضُ وَصَارَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَتْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ وَأَكَابِرُ الْأُمَّةِ مِنْ أَوْلَادِ الْحُسَيْنِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْجَبِرَ الْحَسَنُ بِأَنْ أُعْطِيَ لَهُ وَلَدٌ يَكُونُ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَقُومُ مَقَامَ سَائِرِ الْأَصْفِيَاءِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: لَمَّا نَزَلَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ الْخِلَافَةِ الصُّورِيَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي مَنْقَبَتِهِ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ: أُعْطِيَ لَهُ لِوَاءُ وَلَايَةِ الْمَرْتَبَةِ الْقُطْبِيَّةِ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَتِهَا النِّسْبَةُ الْمَهْدَوِيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِلنُّبُوَّةِ الْعِيسَوِيَّةِ، وَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْمِلَّةِ النَّبَوِيَّةِ - عَلَى صَاحِبِهَا أُلُوفُ السَّلَامِ وَآلَافُ التَّحِيَّةِ - وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبَى إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ - مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (" وَيُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِيَ، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي ") : فَيَكُونُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فِيهِ رَدٌّ عَلَى الشِّيعَةِ ; حَيْثُ يَقُولُونَ: الْمَهْدِيُّ الْمَوْعُودُ هُوَ الْقَائِمُ الْمُنْتَظَرُ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ، (" يَمْلَأُ الْأَرْضَ ") : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِحَسَبِهِ، كَمَا أَنَّ مَا قَبْلَهُ مُعَيِّنٌ لِنَسَبِهِ، أَيْ: يَمْلَأُ وَجْهَ الْأَرْضِ جَمِيعًا أَوْ أَرْضَ الْعَرَبِ وَمَا يَتْبَعُهَا، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، (" قِسْطًا ") : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ (" وَعَدْلًا ") : أَتَى بِهِمَا تَأْكِيدًا، وَكَذَا الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: (" كَمَا مُلِئَتْ ") أَيِ: الْأَرْضُ قَبْلَ ظُهُورِهِ (" ظُلْمًا وَجَوْرًا ") ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُغَايَرَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُجْعَلَ الظُّلْمُ هُنَا قَاصِرًا لَازِمًا وَالْجَوْرُ تَعَدِّيًا مُتَعَدِّيًا، وَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقِسْطِ إِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَبِالْعَدْلِ النَّصَفَةُ وَالْحُكْمُ بِمِيزَانِ الشَّرِيعَةِ وَانْتِصَارُ الْمَظْلُومِ وَانْتِقَامُهُ مِنَ الظَّالِمِ، فَيَكُونُ جَامِعًا لِمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] ، وَقَائِمًا بِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الدِّينَ هُوَ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَمَوْصُوفًا بِوَصْفِ الْكَمَالِ، وَهُوَ إِجْرَاءُ كُلٍّ مِنْ تَجَلِّي الْجَمَالِ وَتَجَلِّي الْجَلَالِ فِي مَحَلِّهِ اللَّائِقِ بِكُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، هَذَا وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا: " «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدَّهْرِ إِلَّا يَوْمٌ لَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَؤُهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا» ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ، لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَمْلِكُ جِبَالَ الدَّيْلَمِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةَ» . وَفِي الْقَامُوسِ: الدَّيْلَمُ: جَبَلٌ مَعْرُوفٌ. وَرَوَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " «الْمَهْدِيُّ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِي، وَجْهُهُ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ» ".

5453 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5453 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي» ") : قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْعِتْرَةُ وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ صُلْبِهِ، وَقَدْ تَكُونُ الْعِتْرَةُ الْأَقْرِبَاءَ أَيْضًا وَهِيَ الْعُمُومَةُ. قُلْتُ: الْمَعْنَيَانِ لَا يُلَائِمَانِ بَيَانَهُ بِقَوْلِهِ: (" مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ ") رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا. وَفِي النِّهَايَةِ: عِتْرَةُ الرَّجُلِ أَخَصُّ أَقَارِبِهِ، وَعِتْرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: قُرَيْشٌ كُلُّهُمْ، وَالْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُمُ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ. أَقُولُ: الْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَرَامِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَقِيلَ عِتْرَتُهُ أَهْلُ بَيْتِهِ لِخَبَرٍ وَرَدَ، وَقِيلَ أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَقِيلَ أَهْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ، وَقِيلَ نَسْلُهُ وَرَهْطُهُ الْأَدْنَوْنَ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْجَوْهَرِيُّ. قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي هُنَا أَنْ عَلَيْهِ يُقْتَصَرُ وَيُخْتَصَرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْمَهْدِيُّ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ عَمِّي، فَمَعَ ضَعْفِ إِسْنَادِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَهْدِيِّ الَّذِي وُجِدَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ لِلْمَهْدِيِّ الْمَوْعُودِ أَيْضًا نِسْبَةٌ نِسْبِيَّةٌ إِلَى الْعَبَّاسِيَّةِ، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «الْمَهْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ» " أَيْ: يُصْلِحُ أَمْرَهُ " وَيَرْفَعُ قَدْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ اللَّيْلِ ; حَيْثُ يَتَّفِقُ عَلَى خِلَافَتِهِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِيهَا ".

5454 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمَهْدِيُّ مِنِّي، أَجْلَى الْجَبْهَةِ، أَقْنَى الْأَنْفِ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5454 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمَهْدِيُّ مِنِّي ") أَيْ: مِنْ نَسْلِي وَذُرِّيَّتِي، أَوْ مِنْ عَشِيرَتِي وَأَهْلِ بَيْتِي، (" أَجْلَى الْجَبْهَةِ ") : قَالَ شَارِحٌ أَيْ: وَاسِعُهَا. وَفِي النِّهَايَةِ: خَفِيفُ الشَّعَرِ مَا بَيْنَ التُّرْعَتَيْنِ مِنَ الصُّدْغَيْنِ، وَالَّذِي انْحَسَرَ الشَّعَرُ عَنْ جَبْهَتِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُخْتَصَرًا. وَفِي النِّهَايَةِ: التُّرْعَتَانِ مِنْ جَانِبَيِ الرَّأْسِ مِمَّا لَا شَعَرَ عَلَيْهِ، وَالْجَلَا مَقْصُورًا انْحِسَارُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ مِنَ الشَّعَرِ أَوْ نِصْفِ الرَّأْسِ، أَوْ هُوَ دُونَ الصَّلَعِ، وَالنَّعْتُ أَجْلَى وَجَلْوَاءُ، وَجَبْهَةٌ جَلْوَاءُ وَاسِعَةٌ، فَهَذَا يُؤَيِّدُ الشَّارِحَ السَّابِقَ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْمَقَامِ وَالْمُطَابِقُ. (" أَقْنَى الْأَنْفِ ") أَيْ: مُرْتَفِعُهُ كَذَا قَالَ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَنَا فِي الْأَنْفِ طُولُهُ وَدِقَّةُ أَرْنَبَتِهِ مَعَ حَدَبٍ فِي وَسَطِهِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَقْنَى وَامْرَأَةٌ قَنْوَاءُ انْتَهَى. فَفِي الْكَلَامِ تَجْرِيدٌ، وَالْأَرْنَبَةُ طَرَفُ الْأَنْفِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْحَدَبُ الِارْتِفَاعُ وَهُوَ ضِدُّ الِانْخِفَاضِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَفْطَسَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهُ الْهَيْئَةِ. (" «يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ» ") ، وَأَمَّا مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِ رَاوٍ: أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ، فَهُوَ شَكٌّ مِنْهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَجْزُومَةٌ بِالسَّبْعِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَشْكُوكَةً، وَطَرَحَ الشَّكَّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ وَاكْتَفَى بِالْيَقِينِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5455 - وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ الْمَهْدِيِّ قَالَ: " «فَيَجِيءُ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيُّ! أَعْطِنِي أَعْطِنِي ". قَالَ: " فَيَحْثِي لَهُ فِي ثَوْبِهِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5455 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ الْمَهْدِيِّ قَالَ: " «فَيَجِيءُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيُّ! أَعْطِنِي أَعْطِنِي» ") : التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: أَعْطِنِي مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ; لِمَا تَعَوَّدَ مِنْ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" «فَيَحْثِي لَهُ فِي ثَوْبِهِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَهُ» ") ; لِمَا رَأَى مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْمَالِ وَمُطَالَبَتِهِ مِنْهُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، فَأَغْنَاهُ عَنِ السُّؤَالِ، وَخَلَّصَ نَفْسَهُ عَنِ الْمَلَالِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5456 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَكُونُ اخْتِلَافٌ عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ، فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُخْرِجُونَهُ وَهُوَ كَارِهٌ، فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ مِنَ الشَّامِ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ أَتَاهُ أَبْدَالُ الشَّامِ، وَعَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَيُبَايِعُونَهُ، ثُمَّ يَنْشَأُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْوَالُهُ كَلْبٌ، فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ بَعْثًا فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بَعَثُ كَلْبٍ، وَيَعْمَلُ فِي النَّاسِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ، وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ فِي الْأَرْضِ، فَيَلْبَثُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُتَوَفَّى، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5456 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَكُونُ ") أَيْ: يَقَعُ (" اخْتِلَافٌ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ (" عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ ") أَيْ: حُكْمِيَّةٍ، وَهِيَ الْحُكُومَةُ السُّلْطَانِيَّةُ بِالْغَلَبَةِ التَّسْلِيطِيَّةِ، (" فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ") أَيْ: كَرَاهِيَةً لِأَخْذِ مَنْصِبِ الْإِمَارَةِ، أَوْ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْمُعَطَّرَةُ أَوِ الْمَدِينَةُ الَّتِي فِيهَا الْخَلِيفَةُ، (" هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ ") ; لِأَنَّهَا مَأْمَنُ كُلِّ مَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهَا، وَمَعْبَدُ كُلِّ مَنْ سَكَنَ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ الْمَهْدِيُّ بِدَلِيلِ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو دَاوُدَ فِي بَابِ الْمَهْدِيِّ، (" فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ") أَيْ: بَعْدَ ظُهُورِ أَمْرِهِ وَمَعْرِفَةِ نُورِ قَدْرِهِ (" فَيُخْرِجُونَهُ ") أَيْ: مِنْ بَيْتِهِ (" وَهُوَ كَارِهٌ ") : إِمَّا بَلِيَّةَ الْإِمَارَةِ وَإِمَّا خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ، (" فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ ") أَيِ: الرُّكْنِ الْأَسْعَدِ وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ (" وَالْمَقَامِ ") أَيْ: مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَقَعُ مَا بَيْنَ زَمْزَمَ أَيْضًا - شَرَّفَهَا اللَّهُ - وَهَذَا الْمُثَلَّثُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْحَطِيمِ مِنَ الزَّمَنِ الْقَدِيمِ ; وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ فِيهِ وَحَنِثَ أَوْ خَالَفَ الْعَهْدَ وَنَقَضَ

حَطَمَ، أَيْ: كَسَرَ رَقَبَتَهُ، وَقَطَعَ حُجَّتَهُ، وَهَلَكَ دَوْلَتَهُ، (" وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُرْسَلُ إِلَى حَرْبِهِ وَقِتَالِهِ، مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَأَقَامَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، (" بَعْثٌ مِنَ الشَّامِ ") أَيْ: جَيْشٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْمَلَامِ، (" فَيُخْسَفُ بِهِمْ ") أَيْ: كَرَامَةً لِلْإِمَامِ (" بِالْبَيْدَاءِ ") : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ (" بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ") : وَلَعَلَّ تَقْدِيمَ مَكَّةَ لِتَفْضِيلِهَا وَتَقَدُّمِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ أَرْضٌ مَلْسَاءُ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَفِي الْحَدِيثِ: يُخْسَفُ بِالْبَيْدَاءِ، بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ، وَلَيْسَ بِالْبَيْدَاءِ الَّتِي أَمَامَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَهِيَ شُرَفٌ مِنَ الْأَرْضِ. قُلْتُ: وَلَا بِدْعَ أَنْ تَكُونَ هِيَ إِيَّاهَا مَعَ أَنَّهَا الْمُتَبَادَرُ مِنْهَا، وَلَعَلَّ الشَّيْخَ ظَفِرَ بِنَقْلٍ صَرِيحٍ، أَوْ بَنَى عَلَى أَنَّ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ قَدِيمِ الْأَيَّامِ لَيْسَ عَلَى الْمَدِينَةِ ; وَلِهَذَا جُعِلَ مِيقَاتُهُمُ الْجُحْفَةَ، لَكِنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ طَرِيقِهِمُ الْمَشْهُورَةِ، وَمَالُوا إِلَى دُخُولِ الْمَدِينَةِ الْمُطَهَّرَةِ لِمَصَالِحَ دِينِيَّةٍ وَمَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ غَرَضُهُمْ مُحَارَبَةَ الْمَهْدِيِّ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مَا يُطَوِّلُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمَسَافَةَ، بَلْ يُرِيدُونَ الْمُسَابَقَةَ وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى الْمُحَارَبَةِ وَالْمُسَايَفَةِ، (" وَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ ") أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ وَمَا جُعِلَ لِلْمَهْدِيِّ مِنَ الْعَلَامَةِ (" أَتَاهُ أَبْدَالُ الشَّامِ ") ، وَنِعْمَ الْبَدَلُ مِنَ الْكِرَامِ عَنِ اللِّئَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَبْدَالُ الشَّامِ هُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْعُبَّادُ، الْوَاحِدُ بَدَلٌ كَجَمَلٍ أَوْ بَدْلٌ كَحَمْلٍ ; سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ بُدِلَ بِآخَرَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَبْدَالُ قَوْمٌ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا مِنْهُمْ، إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ بِآخَرَ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَاحِدُهُ بَدِيلٌ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ بُدَلَاءُ أَيْضًا، فَيَكُونُ نَظِيرَ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ وَشُرَفَاءَ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُمْ سُمُّوا أَبْدَالًا ; لِأَنَّهُمْ قَدْ يَرْتَحِلُونَ إِلَى مَكَانٍ وَيُقِيمُونَ فِي مَكَانِهِمُ الْأَوَّلِ شَبَحًا آخَرَ شَبِيهًا بِشَبَحِهِمُ الْأَصْلِيِّ بَدَلًا عَنْهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَبْدَالُ قَوْمٌ بِهِمْ يُقِيمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَرْضَ، وَهُمْ سَبْعُونَ، أَرْبَعُونَ بِالشَّامِ وَثَلَاثُونَ فِي غَيْرِهَا انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّامِ جِهَتُهُ وَمَا يَلِيهِ مِنْ وَرَائِهِ لَا بِخُصُوصِ دِمَشْقِ الشَّامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سُمُّوا أَبْدَالًا ; لِأَنَّهُمْ أُبْدِلُوا الْأَخْلَاقَ الدَّنِيَّةَ بِالشَّمَائِلِ الرَّضِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. وَقَالَ الْقُطْبُ الْحَقَّانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ: إِنَّمَا سُمُّوا أَبْدَالًا لِأَنَّهُمْ فَنُوا عَنْ إِرَادَتِهِمْ فَبُدِّلَتْ بِإِرَادَةِ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُرِيدُونَ بِإِرَادَةِ الْحَقِّ أَبَدًا إِلَى الْوَفَاةِ، فَذُنُوبُ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ أَنْ يُشْرِكُوا إِرَادَةَ الْحَقِّ بِإِرَادَتِهِمْ، عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَغَلَبَةِ الْحَالِ وَالدَّهْشَةِ، فَيُدْرِكُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ بِالْيَقَظَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، فَيَرْجِعُونَ عَنْ ذَلِكَ وَيَسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْعَارِفَ ابْنَ الْفَارِضِ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ مِنْ مَاءٍ مَعِينٍ، وَاللَّهُ الْمُعِينُ. (" وَعَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ") أَيْ: خِيَارُهُمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عُصْبَةُ الْقَوْمِ خِيَارُهُمْ، وَلَعَلَّهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] ، أَوْ طَوَائِفُهُمْ، فَإِنَّ الْعِصَابَةَ تَأْتِي بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ ; بِتَعَصُّبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَشَدِّ بَعْضِهِمْ ظَهْرَ بَعْضٍ وَتَعَضُّدِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَصَائِبُ جَمْعُ عِصَابَةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْهُ: الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ، وَالنُّجَبَاءُ بِمِصْرَ، وَالْعَصَائِبُ بِالْعِرَاقِ. أَرَادَ أَنَّ التَّجَمُّعَ لِلْحُرُوبِ يَكُونُ بِالْعِرَاقِ، وَقِيلَ: أَرَادَ جَمَاعَةً مِنَ الزُّهَّادِ سَمَّاهُمْ بِالْعَصَائِبِ ; لِأَنَّهُ قَرَنَهُمْ بِالْأَبْدَالِ وَالنُّجَبَاءِ. ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خِيَارُ أُمَّتِي فِي كُلِّ قَرْنٍ خَمْسُمِائَةٍ، وَالْأَبْدَالُ أَرْبَعُونَ، فَلَا الْخَمْسُمِائَةُ يَنْقُصُونَ، وَلَا الْأَرْبَعُونَ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ مَكَانَهُ، وَأَدْخَلَ فِي الْأَرْبَعِينَ» ". وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنَا عَلَى أَعْمَالِهِمْ. قَالَ: " «يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، وَيَتَوَاسَوْنَ فِيمَا آتَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» ". وَبِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْخَلْقِ سَبْعَةً» "، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: " «فَبِهِمْ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُمْطِرُ وَيُنْبِتُ وَيَدْفَعُ الْبَلَاءَ» ".

قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: كَيْفَ بِهِمْ يُحْيِي وَيُمِيتُ؟ قَالَ: " لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِكْثَارَ الْأُمَمِ فَيَكْثُرُونَ، وَيَدْعُونَ عَلَى الْجَبَابِرَةِ فَيُقْصَمُونَ، وَيَسْتَسْقُونَ فَيُسْقَوْنَ، وَيَسْأَلُونَ فَتُنْبِتُ لَهُمُ الْأَرْضُ، وَيَدْعُونَ فَيُدْفَعُ بِهِمْ أَنْوَاعُ الْبَلَاءِ " انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَبْدَالَ وَالْعَصَائِبَ يَأْتُونَ الْمَهْدِيَّ (" فَيُبَايِعُونَهُ، ثُمَّ يَنْشَأُ ") أَيْ: يَظْهَرُ (" رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ ") : هَذَا هُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي يُخَالِفُ الْمَهْدِيَّ (" أَخْوَالُهُ كَلْبٌ ") : وَهُمْ قَبِيلَةٌ فَتَكُونُ أُمُّهُ كَلْبِيَّةٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ حَقِّيَّةٌ، وَبِشَارَةٌ جَلِيَّةٌ، وَتَفَاؤُلٌ بِغَلَبَةِ ذُرِّيَّةِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ أَنَّ أُمَّ الْقُرَشِيِّ تَكُونُ كَلْبِيَّةً فَيُنَازِعُ الْمَهْدِيَّ فِي أَمْرِهِ، وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِأَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي كَلْبٍ، (فَيَبْعَثُ) أَيِ: الْكَلْبِيُّ (" إِلَيْهِمْ ") أَيْ: إِلَى الْمُبَايِعِينَ لِلْمَهْدِيِّ (" بَعْثًا ") أَيْ: جَيْشًا، (" فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ ") أَيْ: فَيَغْلِبُ الْمُبَايِعُونَ عَلَى الْبَعْثِ الَّذِي بَعَثَهُ الْكَلْبِيُّ، (" وَذَلِكَ ") أَيِ: الْبَعْثُ (" بَعْثُ كَلْبٍ ") أَيْ: جَيْشُ كَلْبٍ بَاعِثُهُ هُوَ نَفْسُ الْكَلْبِيِّ (" وَيَعْمَلُ ") أَيِ: الْمَهْدِيُّ فِي النَّاسِ (" بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ") أَيْ: شَرِيعَتِهِ (" وَيُلْقِي ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يَرْمِي وَيُرْخِي (" الْإِسْلَامُ ") أَيِ: الْمُشَبَّهُ بِالْبَعِيرِ الْمُنْقَادِ لِلْأَنَامِ (" بِجِرَانِهِ ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ فَرَاءٍ وَنُونٍ، وَهُوَ مُقَدَّمُ عُنُقِهِ أَيْ: بِكَمَالِهِ، فَفِيهِ مَجَازُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ، كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ عَلَى الْمَمْلُوكِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْجِرَانُ بَاطِنُ الْعُنُقِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: أَنَّ نَاقَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَتْ جِرَانَهَا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: حَتَّى ضَرَبَ الْحَقُّ بِجِرَانِهِ، أَيْ: قَرَّ الْإِسْلَامُ وَاسْتَقَرَّ قَرَارُهُ وَاسْتَقَامَ، كَمَا أَنَّ الْبَعِيرَ إِذَا بَرَكَ وَاسْتَرَاحَ مَدَّ عُنُقَهُ عَلَى الْأَرْضِ. قِيلَ: ضُرِبَ الْجِرَانُ مَثَلًا لِلْإِسْلَامِ إِذَا اسْتَقَرَّ قَرَارُهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِتْنَةً، وَجَرَتْ أَحْكَامُهُ عَلَى السُّنَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالْعَدْلِ، (" فَيَلْبَثُ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيِ: الْمَهْدِيُّ بَعْدَ ظُهُورِهِ (" سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُتَوَفَّى، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ: لَمْ يَرِدْ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ ذِكْرُ الْأَبْدَالِ، إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَتِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَعْرِيفِ غَالِبِ أَلْفَاظِ الصُّوفِيَّةِ: الْقُطْبُ، وَيُقَالُ لَهُ الْغَوْثُ هُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَالَمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، أَيْ: نَظَرًا خَاصًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفَاضَةُ الْفَيْضِ وَاسْتِفَاضَتُهُ، فَهُوَ الْوَاسِطَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ، فَيُقَسَّمُ الْفَيْضُ الْمَعْنَوِيُّ عَلَى أَهْلِ بِلَادِهِ بِحَسَبِ تَقْدِيرِهِ وَمُرَادِهِ، ثُمَّ قَالَ: الْأَوْتَادُ أَرْبَعَةٌ: مَنَازِلُهُمْ عَلَى مَنَازِلِ الْأَرْكَانِ مِنَ الْعَالَمِ، شَرْقٌ وَغَرْبٌ وَشَمَالٌ وَجَنُوبٌ، مَقَامُ كُلٍّ مِنْهُمْ مَقَامُ تِلْكَ الْجِهَةِ. قُلْتُ: فَهُمُ الْأَقْطَابُ فِي الْأَقْطَارِ، يَأْخُذُونَ الْفَيْضَ مِنْ قُطْبِ الْأَقْطَابِ الْمُسَمَّى بِالْغَوْثِ الْأَعْظَمِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوُزَرَاءِ تَحْتَ حُكْمِ الْوَزِيرِ الْأَعْظَمِ، فَإِذَا مَاتَ الْقُطْبُ الْأَفْخَمُ، أُبْدِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَحَدٌ بَدَلَهُ غَالِبًا، ثُمَّ قَالَ: الْأَبْدَالُ قَوْمٌ صَالِحُونَ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا مِنْهُمْ، إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ آخَرَ، وَهُمْ سَبْعَةٌ. قُلْتُ: الْأَبْدَالُ اللُّغَوِيُّ صَادِقٌ عَلَى رِجَالِ الْغَيْبِ جَمِيعًا، وَقَدْ سَبَقَ لِلْبَدَلِ مَعْنًى آخَرَ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَيْهِ ; وَلَعَلَّهُمْ خُصُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ، وَلِحُصُولِ كَثْرَةِ الْبَدَلِ فِيهِمْ لِغَلَبَتِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ أَرْبَعُونَ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، أَوْ سَبْعُونَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ، فَقَوْلُهُ: وَهُمْ سَبْعَةٌ وَهْمٌ، ثُمَّ قَالَ: النُّقَبَاءُ هُمُ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا خَبَايَا النُّفُوسِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ. أَقُولُ: لَعَلَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ النَّقْبِ بِمَعْنَى الثَّقْبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النُّقَبَاءَ جَمْعُ نَقِيبٍ، وَهُوَ شَاهِدُ الْقَوْمِ وَضَمِينُهُمْ وَعَرِيفُهُمْ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] ، أَيْ: شَاهِدًا مِنْ كُلِّ سِبْطٍ يُنَقِّبُ عَنْ أَحْوَالِ قَوْمِهِ وَيُفَتِّشُ عَنْهَا، أَوْ كَفِيلًا يَكْفُلُ عَلَيْهِمْ بِالْوَفَاءِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ وَعَاهَدُوا عَلَيْهِ عَلَى مَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ خَمْسُمِائَةٍ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: النُّجَبَاءُ هُمُ الْمُشْتَغِلُونَ بِحَمْلِ أَثْقَالِ الْخَلْقِ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ. أَقُولُ: كَأَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ اللُّغَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ: نَاقَةٌ نَجِيبٌ وَنَجِيبَةٌ وَجَمْعُهُ نَجَائِبُ، وَأَنْسَبُ مَا ذُكِرَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ أَنَّ النَّجِيبَ الْكَرِيمُ وَالْجَمْعَ نُجَبَاءُ، وَالْمُنْتَجَبُ الْمُخْتَارُ، وَنَجَائِبُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُهُ. هَذَا وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا " «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَمِائَةِ نَفْسٍ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَهُ أَرْبَعُونَ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَهُ سَبْعَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَهُ خَمْسَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَهُ ثَلَاثَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مِيكَائِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَهُ وَاحِدٌ قَلْبُهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُلَّمَا مَاتَ الْوَاحِدُ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْخَمْسَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ مِنَ الْخَمْسَةِ وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ السَّبْعَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ مِنَ السَّبْعَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَرْبَعِينَ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْعَامَّةِ، بِهِمْ يَدْفَعُ اللَّهُ الْهَمَّ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» ، انْتَهَى. وَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَعُمُومِ جُودِهِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مَحْلُولًا مِنْ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ الْعَلِيَّةِ أَنْ يَجْعَلَنِي مَنْصُوبًا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَوْ مِنْ مَرْتَبَةِ الْعَامَّةِ إِلَى أَدْنَى مَرْتَبَةِ الْخَاصَّةِ، وَيُتِمَّ عَلَيَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ مَعَ الزِّيَادَةِ إِلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأَبْدَالَ لَا تَكُونُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَبْدَالِ، بَلْ تَعُمُّ الرِّجَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَحَدًا يَكُونُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِي عَالَمَيِ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ أَشْرَفَ وَأَلْطَفَ مِنْ قَلْبِهِ الْأَكْرَمِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ أَيْضًا مَا يُشْعِرُ بِظَاهِرِهِ بِتَفْضِيلِ خَوَاصِّ الْمَلَكِ عَلَى خَوَاصِّ الْبَشَرِ، وَكَذَا تَفْضِيلُ إِسْرَافِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى جِبْرَائِيلَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَهَذَا وَقَالَ الْعَارِفُ الصَّمَدَانِيُّ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ السِّمْنَانِيُّ فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى: إِنَّ الْأَبْدَالَ مِنْ بُدَلَاءِ السَّبْعَةِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «هُوَ مِنَ السَّبْعَةِ وَسَيِّدُهُمْ» ". أَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا مِنْ ثِقَاتٍ وَسَنَدِهِمْ، قَالَ: وَكَانَ الْقُطْبُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ عِصَامًا، فَحَرِيٌّ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، وَهُوَ مَظْهَرٌ خَاصٌّ لِلتَّجَلِّي الرَّحْمَانِيِّ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَظْهَرًا خَاصًّا لِلتَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ الْمَخْصُوصِ بِاسْمِ الذَّاتِ وَهُوَ اللَّهُ. قُلْتُ: هَذَا يُفِيدُ مُؤَيِّدًا لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُشَارِكْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَقَامِهِ الْأَعْظَمِ، لَكِنَّ فِي كَوْنِ الْقُطْبِيَّةِ لِعِصَامٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي أَنَّهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ، بِخِلَافِ أُوَيْسٍ فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ سَيِّدُ التَّابِعِينَ إِشْكَالًا عَظِيمًا، فَإِنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ الْقُطْبِيَّةُ الْكُبْرَى مَعَ وُجُودِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ الْيَافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ سَتَرَ أَحْوَالَ الْقُطْبِ وَهُوَ الْغَوْثُ عَنِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ، لَكِنِّي أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا غَالِبِيٌّ ; لِثُبُوتِ الْقُطْبِيَّةِ لِلسَّيِّدِ عَبْدِ الْقَادِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِلَا نِزَاعٍ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ادَّعَوْا أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرَادَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ فَلَا إِشْكَالَ، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى بَاطِلًا وَزُورًا، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمِيعٌ مِنَ الْأَوْبَاشِ، وَأَرَادَ الْفَسَادَ فِي الْبِلَادِ ; فَقُتِلَ وَاسْتَرَاحَ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى وَاقِعَةَ الْحَالِ فَحَمَلَهَا شَيْخُهُ عَلَى الْآفَاقِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى الْأَنْفُسِ ; لِئَلَّا يَحْصُلَ الِاخْتِلَافُ، وَهُوَ رَئِيسُ النُّورِ بِخَشْيَةِ أَحَدِ مَشَايِخِ الْكُبْرَوِيَّةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي الْبِلَادِ الْهِنْدِيَّةِ جَمَاعَةٌ تُسَمَّى الْمَهْدَوِيَّةَ، وَلَهُمْ رِيَاضَاتٌ عَمَلِيَّةٌ، وَكُشُوفَاتٌ سُفْلِيَّةٌ، وَجَهَالَاتٌ ظَاهِرِيَّةٌ، مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ الْمَوْعُودَ هُوَ شَيْخُهُمُ الَّذِي ظَهَرَ، وَمَاتَ وَدُفِنَ فِي بَعْضِ بِلَادِ خُرَاسَانَ، وَلَيْسَ يَظْهَرُ غَيْرُهُ مَهْدِيٌّ فِي الْوُجُودِ، وَمِنْ ضَلَالَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَدْ جَمَعَ شَيْخُنَا الْعَارِفُ بِاللَّهِ الْوَلِيُّ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمُتَّقِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِسَالَةً جَامِعَةً فِي عَلَامَاتِ الْمَهْدِيِّ، مُنْتَخَبَةً مِنْ رَسَائِلِ السُّيُوطِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاسْتَفْتَى مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي مَكَّةَ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ أَفْتَوْا

بِوُجُوبِ قَتْلِهِمْ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ مِنْ وُلَاةِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا مُعْتَقَدُ الطَّائِفَةِ الشِّيعَةِ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ أَنَّ الْمَهْدِيَّ الْمَوْعُودَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ حَسَنٍ الْعَسْكَرِيُّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، بَلْ هُوَ مُخْتَفٍ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ مِنَ الْعَوَامِّ وَالْأَعْيَانِ، وَأَنَّهُ إِمَامُ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ سَيَظْهَرُ فِي وَقْتِهِ وَيَحْكُمُ فِي دَوْلَتِهِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالْأَدِلَّةُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيَّ إِذَا اخْتَفَى دَخَلَ فِي دَائِرَةِ الْأَبْدَالِ أَوَّلًا، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ; فَصَارَ سَيِّدَ الْأَبْدَالِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي دَائِرَةِ الْأَبْطَالِ، يَعْنِي دَائِرَةَ الْأَرْبَعِينَ، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ; فَصَارَ سَيِّدَ الْأَبْطَالِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي دَائِرَةِ السُّيَّاحِ وَهُمُ السَّبْعَةُ، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ; فَصَارَ سَيِّدَ السُّيَّاحِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي دَائِرَةِ الْأَوْتَادِ وَهُمُ الْخَمْسَةُ، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَصَارَ سَيِّدَ الْأَوْتَادِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي دَائِرَةِ الْأَفْذَاذِ، وَهُمُ الثَّلَاثَةُ، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَصَارَ سَيِّدَ الْأَفْذَاذِ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْأَرِيكَةِ الْقُطْبِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ تَوَفَّى اللَّهُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ الْبَغْدَادِيَّ الْقُطْبَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ فِي بَغْدَادَ فِي الشُّونِيزِ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَبَقِيَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْقُطْبِيَّةِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ تَوَفَّاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، انْتَهَى. وَقَدْ نَقَلَ مَوْلَانَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجَامِيُّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّامِيَ - هَذَا عَنْهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي اعْتِقَادِهِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الشَّيْخَ عَلَاءَ الدَّوْلَةِ ظَهَرَ بَعْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ بِزَمَانٍ كَثِيرٍ، وَلَمْ يُسْنِدْ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدَّعِي هَذَا مِنْ طُرُقِ الْكَشْفِ، وَكَذَا لَا يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا إِلَّا كَذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَبْنَى الِاعْتِقَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَسَاسُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَبْنَى لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ ; وَلِذَا لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْعَمَلِ فِي الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ لِلصُّوفِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ الْكَشْفِيَّةِ، أَوْ مِنَ الْحَالَاتِ الْمَنَامِيَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ مَنْسُوبَةً إِلَى الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ - عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، وَأَكْمَلُ التَّحِيَّةِ - لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي أَحْوَالِ الْمَهْدِيِّ مِمَّا جَمَعَهُ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ تَرُدُّ عَلَى الشِّيعَةِ فِي اعْتِقَادَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمُ الْكَاسِدَةِ، بَلْ جَعَلُوا تَمَامَ إِيمَانِهِمْ وَبِنَاءَ إِسْلَامِهِمْ وَأَرْكَانَ أَحْكَامِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَائِمُ الْمُنْتَظَرُ، وَهُوَ الْمَهْدِيُّ الْمَوْعُودُ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ.

5457 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَلَاءً يُصِيبُ هَذِهِ الْأُمَّةَ، حَتَّى لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَلْجَأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ رَجُلًا مِنْ عِتْرَتِي وَأَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلَأُ بِهِ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ، لَا تَدَعُ السَّمَاءُ مِنْ قَطْرِهَا شَيْئًا إِلَّا صَبَّتْهُ مِدْرَارًا، وَلَا تَدَعُ الْأَرْضُ مِنْ نَبَاتِهَا شَيْئًا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ حَتَّى يَتَمَنَّى الْأَحْيَاءُ الْأَمْوَاتَ، يَعِيشُ فِي ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5457 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَلَاءً ") أَيْ: عَظِيمًا (" يُصِيبُ هَذِهِ الْأُمَّةَ حَتَّى لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَلْجَأً ") أَيْ: مَلَاذًا (" يَلْجَأُ إِلَيْهِ ") أَيْ: يَعُوذُ وَيَلُوذُ بِهِ (" مِنَ الظُّلْمِ ") أَيْ: بَلَاءً نَاشِئًا مِنَ الظُّلْمِ الْعَامِّ، (" فَيَبْعَثُ اللَّهُ رَجُلًا ") أَيْ: كَامِلًا عَادِلًا عَالِمًا عَامِلًا وَهُوَ الْمَهْدِيُّ (مِنْ عِتْرَتِي ") أَيْ: أَقَارِبِي (" وَأَهْلِ بَيْتِي ") أَيْ: مِنْ أَخَصِّهِمْ، (" فَيَمْلَأُ ") أَيِ: اللَّهُ (" بِهِ ") أَيْ: بِسَبَبِ وُجُودِ ذَلِكَ الرَّجُلِ (" الْأَرْضَ ") أَيْ: جَمِيعَهَا، وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ تُمْلَأُ بِالتَّأْنِيثِ مَجْهُولًا، فَالْأَرْضُ مَرْفُوعٌ، (" قِسْطًا وَعَدْلًا ") : تَمْيِيزٌ مِنَ النِّسْبَةِ (" كَمَا مُلِئَتْ ") أَيْ: بِغَيْرِهِ (" ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ ") أَيْ: جِنْسُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (" وَسَاكِنُ الْأَرْضِ ") أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ حَتَّى الدَّوَابِّ فِي الْبَرِّ وَالْحِيتَانِ فِي الْبَحْرِ، كَمَا سَبَقَ فِي فَضْلِ الْعُلَمَاءِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ: (" لَا تَدَعُ السَّمَاءُ ") أَيْ: لَا تَتْرُكُ فِي زَمَانِهِ (" مِنْ قَطْرِهَا شَيْئًا ") أَيْ: مِنْ أَقْطَارِ أَمْطَارِهَا (" إِلَّا صَبَّتْهُ ") أَيْ: كَبَّتْهُ (" مِدْرَارًا ") : فِي الْفَائِقِ: الْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدَّرِّ، وَمِفْعَالُ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ مِعْطَارٌ مِطْفَالٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ: مِنْ فَاعِلِ صَبَّتْهُ، (" وَلَا تَدَعُ الْأَرْضُ مِنْ نَبَاتِهَا ") أَيْ: مِنْ أَنْوَاعِ نَبَاتِهَا وَأَصْنَافِهَا (" شَيْئًا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ ") أَيْ: أَنْبَتَتْهُ وَأَظْهَرَتْهُ (" حَتَّى يَتَمَنَّى الْأَحْيَاءُ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ

الْحَيِّ مَرْفُوعٌ، وَأَخْطَأَ مَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ وَنَصَبَهُ، (" الْأَمْوَاتَ ") : بِالنَّصْبِ وَمَنْ عَكَسَ التَّرْتِيبَ لَمْ يُصِبْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَحْيَاءُ رُفِعَ بِالْفَاعِلِيَّةِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: يَتَمَنَّوْنَ حَيَاةَ الْأَمْوَاتِ أَوْ كَوْنَهُمْ أَحْيَاءً ; وَإِنَّمَا يَتَمَنَّوْنَ لِيَرَوْا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَمْنِ، وَيُشَارِكُوهُمْ فِيهِ، وَمَنْ زَعَمَ فِيهِ الْأَحْيَاءَ بِالنَّصْبِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَفَاعِلُ التَّمَنِّي الْأَمْوَاتُ فَقَدْ أَحَالَ، (" يَعِيشُ ") أَيِ: الْمَهْدِيُّ (" فِي ذَلِكَ ") أَيْ: فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْعَدْلِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ (" سَبْعَ سِنِينَ ") : وَهُوَ مَجْزُومٌ بِهِ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، (" أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" أَوْ تِسْعَ سِنِينَ ". رَوَاهُ) تَرَكَ هُنَا بَيَاضًا فِي الْأَصْلِ وَأَلْحَقَ بِهِ: رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ، لَكِنْ نَقَلَ الْجَزَرِيُّ أَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ: إِسْنَادُهُ مُظْلِمٌ.

5458 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ، حَرَّاثٌ، عَلَى مُقَدِّمَتِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَنْصُورٌ، يُوَطِّنُ أَوْ يُمَكِّنُ لِآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا مَكَّنَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ نَصْرُهُ - أَوْ قَالَ: إِجَابَتُهُ» - ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5458 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَخْرُجُ رَجُلٌ ") أَيْ: صَالِحٌ (" مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ ") أَيْ: مِمَّا وَرَاءَهُ مِنَ الْبُلْدَانِ، كَبُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ وَنَحْوِهِمَا، (" يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ ") : اسْمٌ لَهُ، وَقَوْلُهُ: (" حَرَّاثٌ ") بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، صِفَةٌ لَهُ أَيْ: زَرَّاعٌ (" عَلَى مُقَدِّمَتِهِ ") أَيْ: مُقَدِّمَةِ جَيْشِهِ (" رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَنْصُورٌ ") : اسْمٌ لَهُ أَوْ صِفَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَهُوَ إِمَامٌ جَلِيلٌ مَشْهُورٌ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعَقَائِدِ الْحَنِيفِيَّةِ، لَكِنَّ إِيرَادَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ مُلَائِمٍ لَهُ، وَمَعَ هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ، مَعَ أَنَّ عُنْوَانَ الْبَابِ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَهْدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَنُقِلَ عَنْ خَوَاجَهْ عُبَيْدِ اللَّهِ السَّمَرْقَنْدِيِّ النَّقْشَبَنْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمَنْصُورُ هُوَ الْخَضِرُ، وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا بِنَقْلٍ قَالَ: أَوْ كَشْفِ حَالٍ. (" يُوَطِّنُ ") أَيْ: يُقَرِّرُ وَيُثَبِّتُ الْأَمْرَ، وَأَصْلُ التَّوْطِينِ جَعْلُ الْوَطَنِ لِأَحَدٍ، (" أَوْ يُمَكِّنُ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 41] ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: يُهَيِّئُ الْأَسْبَابَ بِأَمْوَالِهِ وَخَزَائِنِهِ وَسِلَاحِهِ، وَيُمَكِّنُ أَمْرَ الْخِلَافَةِ وَيُقَوِّيهَا وَيُسَاعِدُهَا بِعَسْكَرِهِ (" لِآلِ مُحَمَّدٍ ") أَيْ: لِذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عُمُومًا وَلِلْمَهْدِيِّ خُصُوصًا، أَوِ الْآلُ مُقْحَمٌ وَالْمَعْنَى لِمُحَمَّدٍ وَالْمَهْدِيِّ، (" كَمَا مَكَّنَتْ قُرَيْشٌ ") أَيْ: كَتَمْكِينِهِمْ (" لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ") : وَالْمُرَادُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ فِي التَّمْكِينِ أَبُو طَالِبٍ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: يُمَكِّنُ لِآلِ مُحَمَّدٍ أَيْ فِي الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] أَيْ: جَعَلَ لَهُ فِي الْأَرْضِ مَكَانًا، وَأَمَّا مَكَّنْتُهُ فِي الْأَرْضِ فَأُثَبِّتُهُ فِيهَا، وَمَعْنَاهُ جَعَلَهُمْ فِي الْأَرْضِ ذَوِي بَسْطَةٍ فِي الْأَمْوَالِ وَنُصْرَةٍ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: كَمَا مَكَّنَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشٌ آخِرَ أَمْرِهَا، فَإِنَّ قُرَيْشًا وَإِنْ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلًا مِنْ مَكَّةَ، لَكِنَّ بَقَايَاهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ أَسْلَمُوا، وَمَكَّنُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ

بِالتَّمْكِينِ فِي الْآيَةِ غَيْرُ التَّمْكِينِ فِي الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَمْكِينِ الْمُشَبَّهِ تَمْكِينُهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، فَلَا يَحْسُنُ حَمْلُ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَلَى آخِرِ أَمْرِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: أَخْرَجُوا. لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ الْمُوهِمِ لِإِهَانَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا قِيلَ بِكُفْرِ مَنْ أَطْلَقَ هَذَا الْقَوْلَ، وَتَأْوِيلُهُ تَسَبَّبُوا لِخُرُوجِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَكَانِ أَنْصَارِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُعَطَّرَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِهِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْإِخْرَاجُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ. (" وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ نَصْرُهُ ") أَيْ: نَصْرُ الْحَارِثِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ نَصْرُ الْمَنْصُورِ وَهُوَ الْأَبْلَغُ، أَوْ نَصْرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمَا، أَوْ نَصْرُ الْمَهْدِيِّ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ ; إِذْ وُجُودُ نَصْرِهِمَا عَلَى أَهْلِ بِلَادِهِمَا وَمَنْ يَمُرَّانِ بِهِ ; لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَنْصَارِ الْمَهْدِيِّ، (" - أَوْ قَالَ إِجَابَتُهُ - ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَعْنَى قَبُولُ دَعْوَتِهِ وَالْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: فِي بَابِ الْمَهْدِيِّ بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ، أَوْ لِمَا قَامَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ. قَالَ السَّيِّدُ: وَفِيهِ انْقِطَاعٌ.

5459 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ، وَحَتَّى تُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5459 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ» ") أَيْ: سِبَاعُ الْوَحْشِ كَالْأَسَدِ، أَوْ سِبَاعُ الطَّيْرِ كَالْبَازِي، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، (" الْإِنْسَ ") أَيْ: جِنْسَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، (" وَحَتَّى تُكَلِّمَ الرَّجُلَ ") : فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ هُنَا تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَبَيَانُ جَوَازٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ، مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْفَاعِلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ، (" عَذَبَةُ سَوْطِهِ ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: طَرَفُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ رَأْسُ سَوْطِهِ وَهِيَ قَدْ تَكُونُ فِي طَرَفِهِ، يُسَاقُ بِهِ الْفَرَسُ مِنْ عَذَبَ الْمَاءُ إِذَا طَابَ وَسَاغَ فِي الْحَلْقِ ; إِذْ بِهَا يَطِيبُ سَيْرُ الْفَرَسِ وَيَسْتَرِيحُ رَاكِبُهُ، وَقِيلَ: مِنَ الْعَذَابِ إِذْ بِهَا يُجْلَدُ الْفَرَسُ وَيُعَذَّبُ فَيَرْتَاضُ، وَيُهَذِّبُ بِهِ أَهْلَهُ بَعْدَهُ، (" وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5460 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْآيَاتُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5460 - (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْآيَاتُ ") أَيْ: آيَاتُ السَّاعَةِ وَعَلَامَاتُ الْقِيَامَةِ، تَظْهَرُ بِاعْتِبَارِ ابْتِدَائِهَا ظُهُورًا كَامِلًا (" بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ") أَيْ: مِنَ الْهِجْرَةِ، أَوْ مِنْ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنْ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ فِي الْمِائَتَيْنِ لِلْعَهْدِ، أَيْ: بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْأَلْفِ، وَهُوَ وَقْتُ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَتَابُعِ الْآيَاتِ، مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الْأَرْضِ، وَظُهُورِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَأَمْثَالِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْآيَاتُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيْ: تَتَابُعُ الْآيَاتِ، وَظُهُورُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ عَلَى التَّتَابُعِ وَالتَّوَالِي بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ قُطِعَ

سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ، وَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُ الْمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ عَلَى ذَوِي النُّهَى. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5461 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّايَاتِ السُّودَ قَدْ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ فَأْتُوهَا ; فَإِنَّ فِيهَا خَلِيفَةَ اللَّهِ الْمَهْدِيَّ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5461 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَأَيْتُمُ ") : الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْخِطَابُ الْعَامُّ أَيْ: إِذَا أَبْصَرْتُمْ (" الرَّايَاتِ ") أَيِ: الْأَعْلَامَ (" السُّودَ ") : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ، الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ عَسْكَرُ الْحَارِثِ وَالْمَنْصُورِ، (" فَأْتُوهَا ") أَيْ: فَأْتُوا الرَّايَاتِ، وَاسْتَقْبِلُوا أَهْلَهَا، وَاقْبَلُوا أَمْرَ أَمِيرِهَا، (" فَإِنَّ فِيهَا خَلِيفَةَ اللَّهِ الْمَهْدِيَّ ") أَيْ: نُصْرَتَهُ وَإِجَابَتَهُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ ابْتِدَاءَ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، ثُمَّ دَلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ خَلِيفَةُ اللَّهِ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَسَبِيلِ الْعَدْلِ، وَقَدْ سَبَقَ مَنْعُهُ، لَكِنْ قَدْ يُئَوَّلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ مِنَ اللَّهِ خَلِيفَةً لِأَنْبِيَائِهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوبُ هُوَ الْمَنْسُوبَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5462 - وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ عَلِيٌّ، وَنَظَرَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ، يُشْبِهُهُ فِي الْخُلُقِ، وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الْخَلْقِ، - ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ - يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5462 - (وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: رَأَى عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَرَوَى عَنْهُ الْأَعْمَشُ وَشُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الرِّوَايَةِ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. (قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) أَيْ: مَوْقُوفًا (وَنَظَرَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنَ قَالَ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ، وَأَتَى بِقَوْلِهِ: قَالَ، إِمَّا تَأْكِيدًا لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ لِتَوَهُّمِ الْإِطَالَةِ، (إِنَّ ابْنِي هَذَا) : إِشَارَةٌ إِلَى تَخْصِيصِ الْحَسَنِ ; لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْحُسَيْنُ أَوِ الْجِنْسُ، (سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بِقَوْلِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ "، (وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ) أَيْ: مِنْ ذُرِّيَّتِهِ (رَجُلٌ يُسَمَّى بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ، يُشْبِهُهُ فِي الْخُلُقِ) : بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ وَتُسَكَّنُ (وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الْخَلْقِ) أَيْ: فِي جَمِيعِهِ، إِذْ سَبَقَ بَعْضُ نَعْتِهِ الْمُوَافِقِ لِخَلْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (- ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا) : بِالْإِضَافَةِ وَدُونِهَا، فَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ أَوْلَادِ الْحَسَنِ، وَيَكُونُ لَهُ انْتِسَابٌ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ فِي الْحُسَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ الشِّيعَةِ: إِنَّ الْمَهْدِيَّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ الْقَائِمُ الْمُنْتَظَرُ، فَإِنَّهُ حُسَيْنِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ، لَا يُقَالُ لَعَلَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الْمَهْدِيِّ، فَإِنَّا نَقُولُ: يُبْطِلُهُ قِصَّةُ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، إِذْ لَا يُعْرَفُ فِي السَّادَاتِ الْحُسَيْنِيَّةِ وَلَا الْحَسَنِيَّةِ مَنْ مَلَأَ الْأَرْضَ عَدْلًا إِلَّا مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَهْدِيِّ الْمَوْعُودِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ) : هَذَا أَعْنِي وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ كَلَامُ جَامِعِ الْأُصُولِ، نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: لَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ التَّعْرِيفُ فِيهِ

لِلْعَهْدِ، وَهَذَا كَلَامُ جَامِعِ الْأُصُولِ، وَلَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ: لَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْجَزَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ: لَا فَتًى إِلَّا عَلِيٌّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَحَادِيثُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّنْصِيصِ عَلَى خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ مِنْ عِتْرَتِهِ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ، ثَابِتَةٌ أَصَحُّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَالْحُكْمُ لَهَا دُونَهُ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ مَعْنَاهُ لَا مَهْدِيَّ كَامِلًا مَعْصُومًا إِلَّا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - انْتَهَى. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّ لِمَهْدِيِّنَا آيَتَيْنِ، لَمْ تَكُونَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ: يَنْكَسِفُ الْقَمَرُ لِأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَتَنْكَسِفُ الشَّمْسُ فِي النِّصْفِ مِنْهُ، كَذَا فِي الْعُرْفِ الْوَرْدِيِّ فِي أَخْبَارِ الْمَهْدِيِّ لِلْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

5463 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: فُقِدَ الْجَرَادُ فِي سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا فَاهْتَمَّ بِذَلِكَ هَمًّا شَدِيدًا، فَبَعَثَ إِلَى الْيَمَنِ رَاكِبًا، وَرَاكِبًا إِلَى الْعِرَاقِ، وَرَاكِبًا إِلَى الشَّامِ، يَسْأَلُ عَنِ الْجَرَادِ، هَلْ أُرِيَ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَتَاهُ الرَّاكِبُ الَّذِي مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ بِقَبْضَةٍ فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهَا عُمَرُ كَبَّرَ، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ أَلْفَ أُمَّةٍ، سِتُّمِائَةٍ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ، فَإِنَّ أَوَّلَ هَلَاكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجَرَادُ، فَإِذَا هَلَكَ الْجَرَادُ تَتَابَعَتِ الْأُمَمُ كَنِظَامِ السِّلْكِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5463 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فُقِدَ الْجَرَادُ) أَيْ: عُدِمَ (فِي سَنَةٍ) أَيْ: عَامٍ (مِنْ سِنِي عُمَرَ) أَيْ: مِنْ أَيَّامِ خِلَافَتِهِ (الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا) : صِفَةٌ لِسَنَةٍ (فَاهْتَمَّ) أَيِ: اغْتَمَّ عُمَرُ (بِذَلِكَ) أَيْ: بِفَقْدِهِ (" هَمًّا شَدِيدًا ") أَيْ: خَوْفًا مِنْ هَلَاكِ سَائِرِ الْأُمَمِ لِمَا سَيَأْتِي، (فَبَعَثَ إِلَى الْيَمَنِ رَاكِبًا، وَرَاكِبًا إِلَى الْعِرَاقِ) : وَهُوَ الْمَشْرِقُ فَفَنَّنَ فِي الْعِبَارَةِ، (وَرَاكِبًا إِلَى الشَّامِ) : وَلَعَلَّ عَدَمَ بَعْثِهِ إِلَى الْغَرْبِ لِبُعْدِهِ، أَوْ لِفَصْلِهِ بِالْبَحْرِ، أَوْ لِقِلَّةِ وُجُودِهِ غَالِبًا فِي ذَلِكَ الْقُطْرِ، (يَسْأَلُ) أَيْ: عُمَرُ، أَوْ كُلٌّ مِنَ الرُّكْبَانِ يَتَفَحَّصُ (عَنِ الْجَرَادِ) ، وَقَوْلُهُ: (هَلْ أُرِيَ) : رُوِيَ مَجْهُولًا وَمَعْلُومًا، أَيْ: بَعَثَ قَائِلًا هَلْ أَرَى (" مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْجَرَادِ (شَيْئًا) أَيْ: مِنْ أَثَرِهِ أَوْ خَبَرِهِ، وَهُوَ تَمَنٍّ، (فَأَتَاهُ الرَّاكِبُ الَّذِي مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ بِقَبْضَةٍ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: بِمَقْبُوضَةٍ مِنَ الْجَرَادِ (فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهَا عُمَرُ كَبَّرَ) أَيْ: فَرَحًا لِمَا سَيَأْتِي، (وَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ أَلْفَ أُمَّةٍ» ") : الْمُرَادُ كُلُّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الدَّوَابِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] ، (سِتُّمِائَةٍ ") : بِالرَّفْعِ (" مِنْهَا ") أَيْ: مِنَ الْأَلْفِ (" فِي الْبَحْرِ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ فِي سِتِّمِائَةٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ أَلْفِ أُمَّةٍ، (" فَإِنَّ أَوَّلَ هَلَاكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ") : إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ أَلْفَ أُمَّةٍ، فَالْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ (" الْجَرَادُ ") ، وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِدُونِ لَفْظِ " هَلَاكِ " فَيُقَدَّرُ هَلَاكًا، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَلْقًا الْجَرَادُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَإِذَا هَلَكَ الْجَرَادُ تَتَابَعَتِ الْأُمَمُ ") أَيْ: فِي الْهَلَاكِ، (كَنِظَامِ السِّلْكِ) أَيْ: كَتَتَابُعِ خَرَزٍ مَنْظُومِ الْخَيْطِ فِي النَّثْرِ إِذَا انْقَطَعَ السِّلْكُ، أَوْ كَتَتَابُعِ وُجُودِ الْخَرَزِ فِي حَالِ نِظَامِ السِّلْكِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّشْبِيهِ هُوَ التَّوَالِي، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَبْلَغُ وَأَكْمَلُ فِي مُلَاحَظَةِ وَجْهِ الشَّبَهِ فِي الْهِلَالِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب العلامات بين يدي الساعة وذكر الدجال]

[بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ]

بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5464 - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اطَّلَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ. فَقَالَ: " مَا تَذْكُرُونَ؟ ". قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: " إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ، فَذَكَرَ الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: " نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْعَاشِرَةِ: " «وَرِيحٌ تُلْقِي النَّاسَ فِي الْبَحْرِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [3] بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ وَفِي نُسْخَةٍ: بَابُ عَلَامَاتِ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيْ: قُدَّامَهَا، وَأَصْلُهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي مَكَانٍ يُقَابِلُ صَدْرَ الشَّخْصِ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الزَّمَانِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَذِكْرِ الدَّجَّالِ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، وَهُوَ مِنْ دَجَلَ إِذَا سَاحَ فِي الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: دَجَلَ فُلَانٌ الْحَقَّ إِذَا أَعْطَاهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَصْلُ الدَّجَّالِ الْخَلْطُ، يُقَالُ: دَجَلَ إِذَا لَبَّسَ وَمَوَّهَ، وَالدَّجَّالُ فَعَّالٌ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ: يَكْثُرُ مِنْهُ الْكَذِبُ وَالتَّلْبِيسُ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5464 - (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، (الْغِفَارِيِّ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ، (قَالَ: اطَّلَعَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَشْرَفَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا) أَيْ: وَشَرَّفَنَا بِطَلْعَةِ وَجْهِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْخَدَّيْنِ الْغَالِبِ نُورُهُمَا عَلَى طُلُوعِ الْقَمَرَيْنِ ; حَيْثُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ ضِيَاءُ الدَّارَيْنِ، (وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا، (فَقَالَ: " مَا تَذْكُرُونَ؟ ") أَيْ: بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ، (قَالُوا) ، وَفِي نُسْخَةٍ قُلْنَا (نَذْكُرُ السَّاعَةَ) أَيْ: أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَاحْتِمَالَ قِيَامِهَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ، (قَالَ: " إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ ") أَيْ: عَلَامَاتٍ (" فَذَكَرَ ") أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا لِلْعَشْرِ (" الدُّخَانَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] ، وَذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الْقَحْطِ، حَتَّى يُرَى الْهَوَاءُ لَهُمْ كَالدُّخَانِ، لَكِنْ قَالَ حُذَيْفَةُ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: " «يَمْلَأُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُؤْمِنُ يَصِيرُ كَالزُّكَامِ، وَالْكَافِرُ كَالسَّكْرَانِ» "، فَقَوْلُهُ: يَصِيرُ كَالزُّكَامِ أَيْ: كَصَاحِبِ، أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ: كَالْمَزْكُومِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ، (" وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ ") : وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} [النمل: 82] ، (" وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ") ، قِيلَ: لِلدَّابَّةِ ثَلَاثُ خَرْجَاتٍ، أَيَّامَ الْمَهْدِيِّ، ثُمَّ أَيَّامَ عِيسَى، ثُمَّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (" «وَنُزُولَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» ") أَيِ: الْمُنْضَمِّ إِلَى ظُهُورِهِ الْمَهْدِيُّ الْأَعْظَمُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَوْسٍ مَرْفُوعًا " «يَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ» ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ مَرْفُوعًا: " «يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ» ": فِي النِّهَايَةِ: هُوَ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ بِفَلَسْطِينَ، كَذَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ لِلسُّيُوطِيِّ، وَفِي الْقَامُوسِ: لُدٌّ بِالضَّمِّ قَرْيَةٌ بِفَلَسْطِينَ، يَقْتُلُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الدَّجَّالَ عِنْدَ بَابِهَا، هَذَا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ الدُّخَانُ، ثُمَّ خُرُوجُ الدَّجَّالِ، ثُمَّ نُزُولُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ خُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ثُمَّ خُرُوجُ الدَّابَّةِ، ثُمَّ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِنَّ الْكُفَّارَ يُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى تَكُونَ الدَّعْوَةُ وَاحِدَةً، وَلَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِهِ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ مَقْبُولًا مِنَ الْكُفَّارِ، قَالُوا وَلِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا يُرَدُّ أَنَّ نُزُولَهُ قَبْلَ طُلُوعِهَا، وَلَا مَا سَيَأْتِي أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ أَوَّلُ الْآيَاتِ. (" وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ") : بِأَلِفٍ فِيهِمَا وَيُهْمَزُ أَيْ: خُرُوجَهُمَا، (" وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ ") :

قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَدْ وُجِدَ الْخَسْفُ فِي مَوَاضِعَ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخُسُوفِ الثَّلَاثَةِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَا وُجِدَ، كَأَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مَكَانًا وَقَدْرًا (" خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ ") : بِالرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَحَدِهَا أَوْ مِنْهَا، وَلَوْ رُوِيَ بِالْجَرِّ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ الْبِدَايَةِ، (" وَآخِرُ ذَلِكَ ") أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ (نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَعَلَّهَا نَارَانِ تَجْتَمِعَانِ تَحْشُرَانِ النَّاسَ، أَوْ يَكُونُ ابْتِدَاءُ خُرُوجِهَا مِنَ الْيَمَنِ، وَظُهُورُهَا مِنَ الْحِجَازِ، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، بِأَنَّ آخِرِيَّتَهَا بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَوَّلِيَّتَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَوَّلُ الْآيَاتِ الَّتِي لَا شَيْءَ بَعْدَهَا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَصْلًا، بَلْ يَقَعُ بِانْتِهَائِهَا النَّفْخُ فِي الصُّورِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مَعَهَا، فَإِنَّهُ يَبْقَى مَعَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا أَشْيَاءُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُوَفَّقِينَ. (" تَطْرُدُ ") أَيْ: تَسُوقُ تِلْكَ النَّارُ (النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ) : بِفَتْحِ الشِّينِ وَيُكْسَرُ أَيْ: إِلَى مَجْمَعِهِمْ، وَمَوْقِفِهِمْ، قِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَحْشَرِ أَرْضُ الشَّامِ، إِذْ صَحَّ فِي الْخَبَرِ: إِنَّ الْحَشْرَ يَكُونُ فِي أَرْضِ الشَّامِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَؤُهُ مِنْهَا، أَوْ تُجْعَلَ وَاسِعَةً تَسَعُ خَلْقَ الْعَالَمِ فِيهَا. (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ (" نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ ") أَيْ: أَقْصَى أَرْضِهَا، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَقِيلَ مُنْصَرِفٌ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ وَالْمَوْضِعِ، فَفِي الْمَشَارِقِ عَدَنُ مَدِينَةٌ مَشْهُورَةٌ بِالْيَمَنِ، وَفِي الْقَامُوسِ عَدَنُ مُحَرَّكَةً جَزِيرَةٌ بِالْيَمَنِ، (" تَسُوقُ ") أَيْ: تَطْرُدُ النَّارُ (" النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ ". وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْعَاشِرَةِ) أَيْ: فِي بَيَانِهَا وَبَدَلًا عَمَّا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ النَّارِ (" وَرِيحٌ تُلْقِي النَّاسَ فِي الْبَحْرِ ") ، وَلَعَلَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْكُفَّارُ، وَأَنَّ نَارَهُمْ تَكُونُ مُنْضَمَّةً إِلَى رِيحٍ شَدِيدَةِ الْجَرْيِ، سَرِيعَةِ التَّأْثِيرِ فِي إِلْقَائِهَا إِيَّاهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَشْرِ الْكُفَّارِ، أَوْ مُسْتَقَرُّ الْفُجَّارِ، كَمَا وَرَدَ: إِنَّ الْبَحْرَ يَصِيرُ نَارًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] ، بِخِلَافِ نَارِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لِمُجَرَّدِ التَّخْوِيفِ بِمَنْزِلَةِ السَّوْطِ مَهَابَةً ; لِتَحْصِيلِ السَّوْقِ إِلَى الْمَحْشَرِ وَالْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

5465 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5465 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَادِرُوا ") أَيْ: أَسْرِعُوا وَسَابِقُوا (" بِالْأَعْمَالِ ") أَيِ: الصَّالِحَةِ النَّافِعَةِ فِي الْآخِرَةِ (" سِتًّا ") أَيْ: سِتَّةَ آيَاتٍ، أَيْ: عَلَامَاتٍ لِوُجُودِ السَّاعَةِ ; إِذْ يَعْسُرُ الْعَمَلُ وَيَصْعُبُ فِيمَا بَعْدَهَا، أَوْ لَمْ يُقْبَلْ وَلَمْ يُعْتَبَرْ بَعْدَ تَحَقُّقِهَا، (" الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ ") أَيِ: الْفِتْنَةَ الَّتِي تَعُمُّ النَّاسَ، أَوِ الْأَمْرَ الَّذِي يَسْتَبِدُّ بِهِ الْعَوَامُّ، وَيَكُونُ مِنْ قِبَلِهِمْ دُونَ الْخَوَاصِّ مِنْ تَأْمِيرِ الْأُمَّةِ، (" وَخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ ") : بِضَمٍّ وَفَتْحٍ وَسُكُونٍ وَتَشْدِيدٍ، وَهُوَ تَصْغِيرُ خَاصَّةٍ أَيِ: الْوَقْعَةَ الَّتِي تَخُصُّ أَحَدَكُمْ، قِيلَ: يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقِيلَ: هِيَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الشَّوَاغِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَمَا يَهْتَمُّ بِهِ، وَصُغِّرَتْ لِاسْتِصْغَارِهَا فِي جَنْبِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَرَّرْنَاهُ بِحَسَبِ مَا حَرَّرْنَاهُ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ بِعَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَيْ: قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَاتِ السِّتِّ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ ظُهُورَهَا يُوجِبُ عَدَمَ قَبُولِ إِيمَانِ الْيَأْسِ ; لِكَوْنِهَا مُلْجِئَةً إِلَى الْإِيمَانِ، فَلَا ثَوَابَ لِلْمُكَلَّفِ عِنْدَ الْإِلْجَاءِ عَلَى عَمَلِهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الثَّوَابُ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ. وَقَالَ الْقَاضِي: أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَإِنَّهَا إِذَا نَزَلَتْ دَهَشَتْهُمْ وَشَغَلَتْهُمْ عَنِ الْأَعْمَالِ، أَوْ سُدَّ عَلَيْهِمْ بَابُ التَّوْبَةِ وَقَبُولِ الْأَعْمَالِ. وَفِي الْفَائِقِ: مَعْنَى مُبَادَرَةِ السِّتِّ بِالْأَعْمَالِ: الِانْكِمَاشُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالِاهْتِمَامُ بِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَتَأْنِيثُ السِّتِّ لِأَنَّهَا دَوَاءٌ وَمَصَائِبُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

5466 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا ; فَالْأُخْرَى عَلَى أَثَرِهَا قَرِيبًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5466 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ") ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا لَيْسَ أَوَّلَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ قَبْلَهُ، قُلْنَا الْآيَاتُ إِمَّا أَمَارَاتٌ لِقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَإِمَّا أَمَارَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَحُصُولِهَا، وَمِنَ الْأَوَّلِ الدُّخَانُ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ وَنَحْوُهُمَا، وَمِنَ الثَّانِي مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالرَّجْفَةِ، وَخُرُوجِ النَّارِ وَطَرْدِهَا النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ مُبْتَدَأُ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. (" وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ ") : هُوَ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ خَبَرُ أَوَّلَ ; فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُتَعَدِّدًا ; وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَعَلَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ: أَوْ خُرُوجُ الدَّابَّةِ، (" عَلَى النَّاسِ ضُحًى ") بِالتَّنْوِينِ أَيْ: وَقْتَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ نِسْبَةَ الْأَوَّلِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ إِلَيْهِمَا مُبْهَمَةٌ، وَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِهِمَا مَجَازِيَّةٌ ; وَلِذَا قَالَ: (" وَأَيُّهُمَا ") ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: فَأَيَّتُهُمَا بِالْفَاءِ وَالتَّأْنِيثِ، (" مَا كَانَتْ ") : " مَا " زَائِدَةٌ، أَيْ: وَأَيُّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَقَعَتْ (" قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى أَثَرِهَا ") : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، أَيْ: تَحْصُلُ عَقِبَهَا (" قَرِيبًا ") أَيْ: حُصُولًا أَوْ وُقُوعًا قَرِيبًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قِيلَ كُلٌّ مِنْهُمَا لَيْسَ بِأَوَّلِ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ وَقَعَ قَبْلَهُمَا، قُلْنَا: الْآيَاتُ إِمَّا أَمَارَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى قُرْبِهَا، فَأَوَّلُهَا بَعْثَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَمَارَاتٌ مُتَوَالِيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى وُقُوعِهَا قَرِيبًا، وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا، وَأَمَّا حَدِيثُ: إِنَّ أَوَّلَهَا خُرُوجُ الدَّجَّالِ فَلَا صِحَّةَ لَهُ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

5467 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] : طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5467 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثٌ ") أَيْ: آيَاتٌ (" إِذَا خَرَجْنَ ") : فِيهِ تَغْلِيبٌ أَوْ مَعْنَاهُ ظَهَرَتْ، وَالْمُرَادُ هَذِهِ الثَّلَاثُ بِأَسْرِهَا {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ ") ، وَقَدَّمَ الطُّلُوعَ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُقُوعِ ; لِأَنَّ مَدَارَ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ ضُمَّ خُرُوجُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

5468 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: " أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟ ". قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، وَيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] ، قَالَ: " مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5468 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: " أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ ") ؟ أَيِ الشَّمْسُ وَالْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ، (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ ") ، قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: لَا يُخَالِفُ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا نِهَايَةُ مُدْرَكِ الْبَصَرِ، وَسُجُودُهَا تَحْتَ الْعَرْشِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُسْتَقَرِّهَا غَايَةُ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي الِارْتِفَاعِ، وَذَلِكَ يَوْمٌ فِي السَّنَةِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهَا عِنْدَ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَسْتَقِرُّ تَحْتَهُ اسْتِقْرَارًا عِلْمُنَا لَا يُحِيطُ بِهِ، (" فَتَسْتَأْذِنُ ") : بِالرَّفْعِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَبَعْضِ

النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، وَلَا يُقْبَلُ ") : بِالتَّذْكِيرِ أَيِ السُّجُودُ، وَالظَّرْفُ هُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ وَيُؤَنَّثُ، أَيِ: السَّجْدَةُ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الشَّمْسِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، وَيُقَالُ: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] ، قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ ") ، وَقَوْلُهُ: لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي لِأَجَدِّ قَدْرٍ لَهَا، يَعْنِي إِلَى انْقِطَاعِ مُدَّةِ بَقَاءِ الْعَالَمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُسْتَقَرُّهَا غَايَةُ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي صُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا لِأَطْوَلِ يَوْمٍ مِنَ الصَّيْفِ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِي النُّزُولِ فِي أَقْصَى مَشَارِقِ الشِّتَاءِ لِأَقْصَرِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لَهَا اسْتِقْرَارٌ تَحْتَ الْعَرْشِ مِنْ حَيْثُ لَا نُدْرِكُهُ، وَلَا نُشَاهِدُهُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْبٍ فَلَا نُكَذِّبُهُ وَلَا نُكَيِّفُهُ ; لِأَنَّ عِلْمَنَا لَا يُحِيطُ بِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

5469 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5469 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ ") : مَا: نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِتْنَةٌ (" أَكْبَرُ ") أَيْ: أَعْظَمُ (" مِنَ الدَّجَّالِ ") ; لِعِظَمِ فِتْنَتِهِ وَبَلِيَّتِهِ ; وَلِشِدَّةِ تَلْبِيسِهِ وَمِحْنَتِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ. فَلْيُنْظَرْ فِي الْأُصُولِ لِيَتَحَقَّقَ النُّقُولَ.

5470 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِئَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5470 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ ") أَيْ: بِالنَّظَرِ إِلَى نُعُوتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ، وَصِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ، وَتَنَزُّهِهِ عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، وَسَائِرِ الْحُدُوثَاتِ الزَّمَانِيَّةِ وَالْمَكَانِيَّةِ، فَالْجُمْلَةُ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: (" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ ") ، وَمَفْهُومُهُ لَا يُعْتَبَرُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ لَا إِثْبَاتُ الْجَارِحَةِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ لِلتَّنْزِيهِ كَمَا وَسَّطَ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] ، (" وَإِنَّ الْمَسِيحَ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ جَمِيعَهَا بِسُرْعَةٍ، أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ; فَإِنَّهُ مَمْسُوحُ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَقْلًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ مَنْ شَدَّدَ سِينَهُ أَوْ أَعْجَمَ حَاءَهُ فَقَدْ حَرَّفَ، انْتَهَى. وَهُوَ لَقَبٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَكِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى الْمَاسِحِ ; لِحُصُولِ الْبُرْءِ بِبَرَكَةِ مَسْحِهِ، وَبِمَعْنَى الْمَمْسُوحِ ; لِنُزُولِهِ نَظِيفًا مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَسِيحُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَرَكَتِهِ، وَذَكَرْتُ فِي اشْتِقَاقِهِ خَمْسِينَ قَوْلًا فِي شَرْحِي لِمَشَارِقِ الْأَنْوَارِ وَغَيْرِهِ، وَالدَّجَّالُ لِشُؤْمِهِ، أَوْ هُوَ كَسِكِّينٍ، وَالْمَمْسُوحُ بِالشُّؤْمِ وَالْكَثِيرُ السِّيَاحَةِ كَالْمِسِّيحِ كَسِكِّينٍ، وَالْمَمْسُوحُ الْوَجْهِ وَالْكَذَّابُ، (" الدَّجَّالُ ") : تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، (" أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى ") : مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ " إِلَى الصِّفَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ كَالطِّيبِيِّ قَالَ أَيْ: عَيْنِ الْجُثَّةِ أَوِ الْجِهَةِ الْيُمْنَى (" كَأَنَّ ") : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (" عَيْنَهُ) أَيِ: الْعَوْرَاءَ أَوِ الْأُخْرَى (" عِنَبَةٌ ") أَيْ: شَبِيهَةٌ بِهَا، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ (" طَافِيَةٌ ") : بِالْيَاءِ وَيُهْمَزُ أَيْ مُرْتَفِعَةٌ. قَالَ مِيرَكُ: رُوِيَتْ بِهَمْزٍ وَتَرْكِهِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهِيَ النَّائِبَةُ عَنْ أَحَدِ أَخَوَاتِهَا مِنَ الطَّفْوِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلُوَ الشَّيْءُ عَلَى الْمَاءِ، انْتَهَى. وَمِنْهُ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَبَيْنَ مَا رُوِيَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ، أَيْ: لَا طَافِئَةٍ مُرْتَفِعَةٍ وَلَا غَائِرَةٍ مُتَحَجِّرَةٍ ; لِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: طَافِئَةٌ بِالْهَمْزَةِ ذَهَبَ ضَوْءُهَا، وَرُوِيَ بِغَيْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ نَاتِئَةٌ بَارِزَةٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي وَصْفِ الدَّجَّالِ، وَمَا يَكُونُ مِنْهُ كَلِمَاتٌ مُتَنَافِرَةٌ يُشْكِلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهَا، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهَا، وَسَنُبَيِّنُ كُلًّا مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا طَافِيَةٌ، وَفِي آخَرَ أَنَّهُ جَاحِظُ الْعَيْنِ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ، وَفِي آخَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ، وَالسَّبِيلُ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّمَا اخْتَلَفَ الْوَصْفَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، هَذَا: أَنَّهُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ، وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا: أَنَّهُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُسْرَى، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمُتَنَافِرَةِ أَنْ يُقَدَّرَ فِيهَا أَنَّ إِحْدَى عَيْنَيْهِ ذَاهِبَةٌ، وَالْأُخْرَى مَعِيبَةٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَوْرَاءُ ; إِذِ الْأَصْلُ فِي الْعَوَرِ الْعَيْبُ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ، كَذَا فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5471 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: ك ف ر» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5471 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ ") أَيْ: خَوَّفَهُمْ بِهِ، وَلَا يُشْكِلُ هَذَا بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ بَعْدَ أَنْ يَنْزِلَ، وَيَحْكُمُ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ; لِأَنَّ تَعْيِينَ وَقْتِ خُرُوجِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُمْ حِينَ أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ، وَأَيْضًا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا مَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ، عَلَى مَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وَقْتُ خُرُوجِهِ وَعَلَامَاتُهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ وَقْتُ خُرُوجِهِ، فَأَخْبَرَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْإِبْهَامَ إِنَّمَا وَقَعَ بِسَبَبِ أَنَّ الْعَلَامَاتِ قَدْ يَكُونُ وُجُودُهَا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، فَإِذَا فُقِدَ يُتَصَوَّرُ خُرُوجُهُ بِعَدَمِ ظُهُورِهَا، وَنَظِيرُهُ خَوْفُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مَعَ تَحَقُّقِ عِصْمَتِهِمْ، وَثُبُوتِ أَمْنِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَكَذَلِكَ خَشْيَةُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ عَلَى لِسَانِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ; أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ، وَأَفْعَالُهُ لَا تُعَلَّلُ وَالْأَسْبَابُ لَا يَتَعَيَّنُ وُجُودُهَا، وَلَا تَأْثِيرَ لَهَا أَيْضًا بَعْدَ حُصُولِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي السِّرِّ إِلَيْهِمْ، حَتَّى ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الدِّينِ الْأَقْوَمِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. أَوْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدَّجَّالِ كُلُّ مَنْ يَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ مِنَ الرِّجَالِ، كَفِرْعَوْنَ، وَشَدَّادٍ، وَنُمْرُوذَ، وَسَائِرِ الْأَبْطَالِ، وَلَا يَخْلُو كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ نُقْصَانِ الْعَوَرِ، سَوَاءٌ مِمَّا بَطَنَ فِيهِ أَوْ ظَهَرَ، عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ، لَكِنْ إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ، وَبَطَلَ الْحَذَرُ، وَيَكُونُ الدَّجَّالُ الْمَوْعُودُ أَشَرَّ وَفِتْنَةً وَبَلِيَّةً عَلَى الْعَامَّةِ أَظْهَرَ، وَكِبْرِيَاءُ رَبِّنَا وَعَظَمَتُهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُهُ أَوْ يُقَدَّرَ، وَمَظَاهِرُ تَجَلِّيَاتِهِ الْجَمَالِيَّةِ وَالْجَلَالِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَتُحْصَرَ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَدْيَنَ الْمَغْرِبِيُّ: لَا تُنْكِرِ الْبَاطِلَ فِي طَوْرِهِ فَإِنَّهُ بَعْضُ ظُهُورَاتِهِ فَيَنْبَغِي لِلسَّالِكِ أَنْ يَقُولَ دَائِمًا بَعْدَ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي: إِلَهِي أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَأَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ وَارْتِكَابَهُ. (" أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّهُ ") أَيِ: الدَّجَّالَ (" أَعْوَرُ ") أَيْ: وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِلشَّرِّ، (" وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ") ، أَيْ: تَنَزَّهَ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا وَمَعِيبًا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ بَابِ التَّنَزُّلِ إِلَى عَقْلِ الْعَوَامِّ وَفُهُومِهِمْ، كَمَا وَرَدَ: كَلِّمِ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَنَظِيرُهُ مَا فِي التَّنْزِيلِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 194 - 195] ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَصْنَامَ مَعَ كَمَالِ عَجْزِهِنَّ وَنُقْصَانِ آلَاتِهِنَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَابِدِينَ، كَيْفَ يَصْلُحْنَ أَنْ يَكُنَّ فِي مَرْتَبَةِ الْمَعْبُودِينَ؟ وَلَيْسَ الْقَصْدُ أَنَّهُنَّ لَوْ فُرِضَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ ثَابِتَةً لَهُنَّ، لَكَانَ يَجُوزُ أَنْ

يُعْبَدْنَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِأُمِّهِ: مَنْ رَبِّي؟ فَقَالَتْ: أَنَا، فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: أَبُوكَ، قَالَ: مَنْ رَبُّهُ؟ قَالَتْ: نُمْرُوذُ، قَالَ: مَنْ رَبُّهُ؟ قَالَتْ هُوَ الرَّبُّ الْأَكْبَرُ ; لِأَنَّ جُنْدَهُ أَكْثَرُ، فَقَالَ لِأُمِّهِ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِأَيِّ شَيْءٍ صُورَتُهُ قَبِيحَةٌ وَصُورَةُ غِلْمَانِهِ مَلِيحَةٌ؟ وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ ذَلِكَ الْعَيْبَ الْأَكْبَرَ، وَالنُّقْصَانَ الْأَظْهَرَ عَلَامَةَ كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ ; لِئَلَّا يَبْقَى لِلنَّاسِ عُذْرٌ فِي قَبُولِ تَلْبِيسِهِ وَمَكْرِهِ، مَعَ أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ وَالْبَرَاهِينَ النَّقْلِيَّةَ تَشْهَدُ عَلَى أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَأَنَّ الْحَادِثَ الْمَعْيُوبَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا. (" مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر ") ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ دَاعٍ إِلَى الْكُفْرِ، لَا إِلَى الرُّشْدِ، فَيَجِبُ اجْتِنَابُهُ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ ظَهَرَ رَقْمُ الْكُفْرِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالتَّنْصِيصِ أَنْ لَا يُتَوَهَّمَ فِيهِ السَّمَاحَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بَيَانُ عَلَامَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الدَّجَّالِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً بَدِيهِيَّةً يُدْرِكُهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى لُحُوقِهَا جِسْمًا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ ; لِكَوْنِ بَعْضِ الْعُقُولِ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5472 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنِ الدَّجَّالِ مَا حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ؟ : إِنَّهُ أَعْوَرُ يَجِيءُ مَعَهُ بِمِثْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَالَّتِي يَقُولُ: إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5472 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنِ الدَّجَّالِ، مَا حَدَّثَ) أَيْ: حَدِيثًا لَمْ يُحَدِّثْ (" بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ ") ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَ (لَا) لِلنَّفْيِ، بِلَا مَقْدِرَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَوْ بَادَرَ جَوَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: (" إِنَّهُ أَعْوَرُ ") ، أَيْ مُصَوَّرٌ بِصُورَةٍ كَرِيهَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَمُزَوَّرٍ بِسِيرَةٍ مُمَوَّهَةٍ بَاهِرَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الطَّائِفَةِ السَّاحِرَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" وَإِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنَ (" يَجِيءُ مَعَهُ بِمِثْلِ الْجَنَّةِ ") ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِثَالِ الْجَنَّةِ (" وَالنَّارِ ") ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْتِي بِصُورَتِهِمَا مَعَهُ فِي نَظَرِ النَّاسِ مِمَّا يَقْلِبُ اللَّهُ تَعَالَى حَقِيقَتَهُمَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ يَسِيرُ مَعَهُ مِثْلُهُمَا، وَيَصْحَبُ لَهُ شَكْلُهُمَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ: يَجِيءُ مَعَهُ تِمْثَالٌ، بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ بَدَلَ الْجَارِّ أَيْ: صُورَتُهُمَا، (" فَالَّتِي ") أَيْ: فَالصُّورَةُ الَّتِي (" يَقُولُ: إِنَّهَا الْجَنَّةُ ") أَيْ: وَيُظْهِرُ بَادِئَ الرَّأْيِ أَنَّهَا النِّعْمَةُ (" هِيَ النَّارُ ") أَيْ: ذَاتُ النِّقْمَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَالَّتِي يَقُولُ إِنَّهَا النَّارُ هِيَ الْجَنَّةُ، وَنَظِيرُهُ: الدُّنْيَا فِي نَظَرِ الْعَارِفِينَ مِنْ أَنَّ نِقْمَتَهَا نِعْمَةٌ وَنِعْمَتَهَا نِقْمَةٌ، وَمِحْنَتَهَا مِنْحَةٌ وَمِنْحَتَهَا مِحْنَةٌ، وَحُسْنَهَا وَقُبْحَهَا مُخْتَلِفَةٌ، كَالنِّيلِ مَاءً لِلْمَحْبُوبِينَ وَدَمًا لِلْمَحْجُوبِينَ {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . قَالَ شَارِحٌ: يَعْنِي مَنْ دَخَلَ جَنَّتَهُ اسْتَحَقَّ النَّارَ ; لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ، فَأَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ. أَقُولُ: وَكَذَا مَنْ لَمْ يُطِعْهُ وَرَمَاهُ فِي النَّارِ اسْتَحَقَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمَا يَنْقَلِبَانِ وَيَنْعَكِسَانِ بِالْفِعْلِ عَلَيْهِمَا، كَمَا وَرَدَ فِي: «أَنَّ الْقَبْرَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» ، وَمِنْهُ: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] ، وَكَذَا الدُّنْيَا الْمُكَدَّرَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالسِّجْنِ، تَصِيرُ جَنَّةً لِلْعَارِفِينَ الْوَاقِفِينَ فِي مَقَامِ الرِّضَا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَجَنَّةٌ فِي الْعُقْبَى، وَكَذَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْبَابِهَا ; لِعَدَمِ حُضُورِهِمْ مَعَ رَبِّهَا، كَالسُّمِّ فِي الدَّسَمِ، وَالْهَمِّ فِي الدِّرْهَمِ، وَالنَّارِ فِي الدِّينَارِ، وَرُبَّمَا لَا يُحِسُّونَ بِهَا كَالْمَجْنُونِ وَالْمَجْرُوحِ فِي حَالِ ابْتِدَاءِ الْجِرَاحَةِ، وَكَالْمَصْرُوعِ ; وَلِذَا قِيلَ: سَوْفَ تَرَى إِذَا انْجَلَى الْغُبَارُ أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أَمْ حِمَارُ وَقَضِيَّةُ وَلَدِ السُّلْطَانِ حَالَ كَوْنِهِ سَكْرَانَ وَعِنَاقِهِ لِلْمَيِّتَةِ الْعَجُوزِ الْمُعَطَّرَةِ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ حُجَّةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ فِي صِحَّةِ وَجُودِهِ، وَأَنَّهُ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ

وَأَقْدَرَهُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ الَّذِي يَقْتُلُهُ وَظُهُورِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَالْخِصْبِ مَعَهُ، وَاتِّبَاعِ كُنُوزِ الْأَرْضِ لَهُ، وَأَمْرِ السَّمَاءِ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ وَالْأَرْضِ أَنْ تُنْبِتَ، فَيَقَعُ كُلُّ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، ثُمَّ يُعْجِزُهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَا غَيْرِهِ، وَيَقْتُلُهُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقِصَّتُهُ عَظِيمَةٌ جِدًّا تُدْهِشُ الْعُقُولَ وَتُحَيِّرُ الْأَلْبَابَ، مَعَ سُرْعَةِ مُرُورِهِ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَمْكُثُ بِحَيْثُ يَتَأَمَّلُ الضُّعَفَاءُ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ، فَيُصَدِّقُهُ مَنْ يُصَدِّقُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ; وَلِهَذَا حَذَّرَتِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ فِتْنَتِهِ، وَنَبَّهُوا عَلَى نَقْصِهِ وَدَلَائِلِ إِبْطَالِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّوْفِيقِ، فَلَا يَغْتَرُّونَ وَلَا يَنْخَدِعُونَ بِمَا فِيهِ ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُكَذِّبَةِ لَهُ، مَعَ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ. (" وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ ") . فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خَصَّ نُوحًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالذِّكْرِ؟ قُلْتُ: فَإِنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَقَدَّمَ الْمَشَاهِيرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا خَصَّهُ بِالتَّقَدُّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُتِمُّ هَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْذَرَ قَوْمَهُ، وَإِلَّا فَيُتْرَكُ عَلَى حَقِيقَةِ أَوَّلِيَّتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ بَعْدَ نُوحٍ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَ الدَّجَّالَ قَوْمَهُ، وَأَمَّا تَقْدِيمُهُ فِي الْآيَةِ ; فَلِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ بِحَسَبِ الْوُجُودِ ; وَلِذَا قُدِّمَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى أُولِي الْعَزْمِ ; لِكَوْنِ تَقَدُّمِهِ وُجُودًا وَرُتْبَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ جَلَّ جَلَالُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَمْسَةَ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَاجْتَمَعَ ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5473 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ، وَإِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا، فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً فَنَارٌ تَحْرِقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَاهُ نَارًا ; فَإِنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: " «وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، عَلَيْهِ ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، يَقْرَأُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5473 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وَإِنَّ مَعَهُ مَاءً) أَيْ: وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنْ أَسْبَابِ النِّعَمِ، بِحَسَبِ الظَّاهِرِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْجَنَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، يُرَغِّبُ إِلَيْهِ مَنْ أَطَاعَهُ، (وَنَارًا) أَيْ: مَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ سَبَبًا لِلْعَذَابِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ ; يُخَوِّفُ بِهِ مَنْ عَصَاهُ، (" فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً فَنَارٌ تَحْرِقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ ") أَيْ: حُلْوٌ يَكْسِرُ الْعَطَشَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ نَارَهُ مَاءً بَارِدًا عَذْبًا عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ وَأَلْقَاهُ فِيهَا غَيْظًا، كَمَا جَعَلَ نَارَ نُمْرُوذَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَجْعَلُ مَاءَهُ الَّذِي أَعْطَاهُ مَنْ صَدَّقَهُ نَارًا مُحْرِقَةً دَائِمَةً، وَمُجْمَلُهُ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ فِتْنَتِهِ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، بَلْ تَخَيُّلٌ مِنْهُ وَشَعْبَذَةٌ، كَمَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ وَالْمُشَعْبِذُونَ، مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْلِبُ نَارَهُ وَمَاءَهُ الْحَقِيقِيَّانِ ; فَإِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ. (فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ ") أَيِ: الدَّجَّالَ أَوْ مَا ذُكِرَ مِنْ تَلْبِيسِهِ (مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَاهُ نَارًا ") أَيْ: فَلْيَخْتَرْ تَكْذِيبَهُ، وَلَا يُبَالِي بِإِيقَاعِهِ فِيمَا يَرَاهُ نَارًا ; (فَإِنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ ") أَيْ: فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ بِالْقَلْبِ، أَوْ بِحَسَبِ الْمَآلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَالْكَلَامُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يُصَدِّقْهُ مُغْتَرًّا بِمَا يَرَاهُ مَعَهُ مَاءً ; فَإِنَّهُ نَارٌ وَعَذَابٌ وَحِجَابٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: " وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ ") ، أَيْ: إِحْدَى مَوْضِعِ عَيْنَيْهِ مَمْسُوحٌ مِثْلَ جَبْهَتِهِ لَيْسَ لَهُ أَثَرُ الْعَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مَمْسُوحُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَنَظَائِرِهِ، (عَلَيْهَا ") أَيْ: عَلَى الْعَيْنِ الْأُخْرَى ; بِحَيْثُ لَا تُوَارِي الْحَدَقَةَ بِأَسْرِهَا لِتَعْمِيهَا (ظَفَرَةٌ ") : بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ: لَحْمَةٌ غَلِيظَةٌ أَوْ جِلْدَةٌ عَلَى الْعَيْنِ الْمَمْسُوحَةِ ظَفَرَةٌ، (مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ) كَمَا سَبَقَ، (" يَقْرَأُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ ") : بِالْجَرِّ بَدَلًا مِنْ مُؤْمِنٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، (وَغَيْرِ كَاتِبٍ ") ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، يَقْرَأُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ» ".

5474 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ، مَعَهُ جَنَّتُهُ وَنَارُهُ، فَنَارُهُ جِنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5474 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى ") ، قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، وَأَنَّهُ مَمْسُوحُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَالْجَمْعُ أَنْ يُقَالَ: إِحْدَى عَيْنَيْهِ ذَاهِبَةٌ، وَالْأُخْرَى مَعِيبَةٌ ; فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَوْرَاءُ، إِذِ الْعَوَرُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْعَيْبُ، وَقِيلَ إِنَّ الْأَعْوَرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَشْخَاصٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَقَوْمٌ يَرَوْنَهُ أَعْوَرَ الْيُسْرَى، وَقَوْمٌ يَرَوْنَهُ أَعْوَرَ الْيُمْنَى ; لِيَدُلَّ عَلَى بُطْلَانِ أَمْرِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُرَى خِلْقَتُهُ كَمَا هِيَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. قَالَ شَارِحٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ سَهْوِ الرَّاوِي، وَفِي الْجَامِعِ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " الدَّجَّالُ عَيْنُهُ خَضْرَاءُ " انْتَهَى. فَهُوَ كَالْحِرْبَاءِ وَالْغُولِ، مُتَلَوِّنٌ بِأَلْوَانٍ شَتَّى. (" جُفَالُ الشَّعَرِ ") : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: كَثِيرُ الشَّعَرِ الْمُجْتَمِعَةِ، كَذَا فِي الْفَائِقِ مُكَسَّرٌ، (" مَعَهُ جَنَّتُهُ وَنَارُهُ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

5475 - «وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِيَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ بِفَوَاتِحِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فَإِنَّهَا جِوَارُكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا، وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: " أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ. وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًى، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ ; فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ، شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ مِثْلُ جُمَانٍ كَاللُّؤْلُؤِ ; فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ أَنْ يَجِدَ مِنْ رِيحِ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلَهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى أَنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِيَ إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، ثُمَّ يَسِيرُونَ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى جَبَلِ الْخَمَرِ، وَهُوَ جَبَلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَقُولُونَ لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ، هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ مَخْضُوبَةً دَمًا، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ ; فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ، فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «تَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ، وَيَسْتَوْقِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ قِسِيِّهِمْ وَنُشَّابِهِمْ وَجِعَابِهِمْ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ ; فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى إِنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخْذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ إِلَّا الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: " تَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ " إِلَى قَوْلِهِ: " سَبْعَ سِنِينَ ". رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5475 - (وَعَنِ النَّوَّاسِ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (بْنِ سَمْعَانَ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَتُفْتَحُ، (قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّجَّالَ) أَيْ: خُرُوجَهُ وَسَائِرَ أُمُورِهِ وَابْتِلَاءَ النَّاسِ بِهِ، (فَقَالَ: " إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ ") أَيْ: مَوْجُودٌ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا (فَأَنَا حَجِيجُهُ) : فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، مِنَ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبُرْهَانُ أَيْ: غَالِبٌ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ، (دُونَكُمْ ") أَيْ: قُدَّامَكُمْ، وَدَافِعُهُ عَنْكُمْ وَأَنَا إِمَامُكُمْ وَأَمَامَكُمْ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي الْمُحَاجَّةِ مَعَهُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى مُعَاوَنَةِ مُعَاوِنٍ مِنْ أُمَّتِهِ فِي غَلَبَتِهِ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْفَعُهُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ، وَيَدْفَعُ خَارِقَ عَادَتِهِ الْبَاطِلَ بِمُعْجِزَاتِهِ الْمَقْرُونَةِ بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ ; لِأَنَّ بُطْلَانَهُ أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعِرْفَانِ، وَأَيْضًا هُوَ مِنَ الْمُصَمِّمِينَ عَلَى الْبَاطِلِ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْمُجَادَلَةِ وَإِثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ، وَإِلَّا فَيَحْمَدُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنْ يُوجَدُ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُحَقِّقُ الْمِلَّةَ بِالْحُجَّةِ، لَا سِيَّمَا خَاتِمَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ الْمَهْدِيُّ وَزُبْدَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْكَلَامُ، فَدَفْعُهُ إِمَّا بِإِعْدَامِهِ مَعَ وُجُودِ سَيِّدِ الْأَنَامِ، أَوْ بِذَوَبَانِهِ، وَقَتْلِهِ عَلَى يَدِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنْ قِيلَ: أَوَ لَيْسَ قَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الدَّجَّالِ أَنَّهُ يَخْرُجُ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقْتُلُهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ وَنَبِيُّ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، بَلْ لَا تَرَاهُ الْقُرُونُ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مِنَ التَّوْرِيَةِ ; لِإِبْقَاءِ الْخَوْفِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنْ فِتَنِهِ وَاللَّجَأِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ شَرِّهِ ; لِيَنَالُوا بِذَلِكَ مِنَ اللَّهِ ; وَيَتَحَقَّقُوا بِالشُّحِّ عَلَى دِينِهِمْ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ تَحَقُّقَ خُرُوجِهِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَشُكُّوا فِي خُرُوجِهِ، فَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ لَا مَحَالَةَ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ عَدَمَ عِلْمِهِ بِوَقْتِ خُرُوجِهِ، كَمَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْرِي مَتَى السَّاعَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَذَا قَبْلَ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ. أَقُولُ: كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ الظَّاهِرُ ; لِيُطَابِقَ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ يُمْكِنُ، إِذْ مَعَ الْإِمْكَانِ لَا يُقَالُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا هُوَ الصَّوَابُ ; لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى: أَنِّي إِنْ كُنْتُ فِيكُمْ فَأَكْفِيكُمْ شَرَّهُ وَقْتَ خُرُوجِهِ، (وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ ") : بِالرَّفْعِ أَيْ: فَكَلُّ امْرِئٍ يُحَاجُّهُ وَيُحَاوِرُهُ وَيُغَالِبُهُ لِنَفْسِهِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: لِيَدْفَعْ شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْحُجَّةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ يَسْمَعُ الْحُجَّةَ، وَإِلَّا فَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَدْفَعُ عَنْ

نَفْسِهِ شَرَّهُ بِتَكْذِيبِهِ وَاخْتِيَارِ صُورَةِ تَعْذِيبِهِ، (وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) ، يَعْنِي: وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلِيُّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَحَافِظُهُ، فَيُعِينُهُ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ شَرَّهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ لَا يَزَالُ مَنْصُورًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نَبِيٌّ، وَلَا إِمَامٌ ; فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ، (" إِنَّهُ ") أَيِ: الدَّجَّالَ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِبَعْضِ أَحْوَالِهِ، وَتِبْيَانٌ لِبَعْضِ مَا يُفِيدُ فِي دَفْعِ شَرِّ أَفْعَالِهِ، (" شَابٌّ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ ابْنِ الصَّيَّادِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَحْرُومٌ مِنْ بَيَاضِ الْوَقَارِ، وَثَابِتٌ عَلَى اشْتِدَادِ السَّوَادِ فِي الظَّاهِرِ، الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ مِنْ سَوَادِ الْفُؤَادِ، (" قَطَطٌ ") : بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ، أَيْ: شَدِيدُ جُعُودَةِ الشَّعَرِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَسْرِيحِ الشَّعَرِ دَفْعًا لِلْمُشَابَهَةِ بِالْهَيْئَةِ الْبَشِيعَةِ، (" عَيْنُهُ طَافِيَةٌ ") بِالْيَاءِ وَيُهْمَزُ أَيْ: مُرْتَفِعَةٌ، (كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: أُمَثِّلُهُ (" بِعَبْدِ الْعُزَّى ") : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ، (بْنِ قَطَنٍ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ يَهُودِيٌّ، قَالَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُشْرِكٌ ; لِأَنَّ الْعُزَّى اسْمُ صَنَمٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي: هُوَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ عَبْدُ الْعُزَّى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازِمًا فِي تَشْبِيهِهِ بِهِ، قُلْتُ: لَا شَكَّ فِي تَشْبِيهِهِ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْرِفَةُ الْمُشَبَّهِ فِي عَالَمِ الْكَشْفِ أَوِ الْمَنَامِ عَبَّرَ عَنْهُ بِكَأَنِي كَمَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي تَعْبِيرِ حِكَايَةِ الرُّؤْيَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَوْنِ أَقْبَحُ صُورَةً مِنْهُ، فَلَا يَتِمُّ التَّشْبِيهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ وَلَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ; عَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الْجَزْمِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا عَبَّرَ عَنْهُ، ثُمَّ فِي صِيغَةِ الْحَالِ إِشْعَارٌ بِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْمَآلِ. (فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ) أَيْ: أَوَائِلَهَا إِلَى (كَذِبًا) ; لِدَلَالَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، لَكِنَّ لَفْظَهُ: «مَنْ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ خَوَاتِمَهَا ; فَإِنَّهَا جِوَارٌ لَهُ مِنْ فِتْنَتِهِ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَأَنَّ تَابِعَهُ يَدْعُو هَلَاكًا وَثُبُورًا» . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَعْنَى أَنَّ قِرَاءَتَهُ أَمَانٌ لَهُ مِنْ فِتْنَتِهِ، كَمَا أَمِنَ تِلْكَ الْفِتْيَةُ مِنْ فِتْنَةِ دِقْيَانُوسَ الْجَبَّارِ. (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ أَيْضًا (" فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ بِفَوَاتِحِ سُورَةِ الْكَهْفِ ; فَإِنَّهَا جِوَارُكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ ") أَيْ: بَلِيَّةِ (الدَّجَّالِ) : وَالْجِوَارُ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَفِي آخِرِهِ رَاءٌ عَلَى مَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ وَالشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ الْجِيمِ وَزَايٍ فِي آخِرِهِ، وَهُوَ الصَّكُّ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُسَافِرُ مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ نُوَّابِهِ ; لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُمُ الْمُتَرَصِّدَةُ فِي الطَّرِيقِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ ثُمَّ قَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالرَّاءِ، فَمَعْنَاهُ حَافِظُكُمْ، انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْبُرْدَةِ: الْجِوَارُ: بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ هُوَ الْأَمَانُ، هَذَا وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ أَنَّهَا رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ، لَكِنْ صَرَّحَ الْجَزَرِيُّ فِي حِصْنِهِ بِأَنَّهَا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ عَنِ النَّوَّاسِ، لَكِنَّ لَفْظَهُ: «مَنْ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَهَا، فَإِنَّهَا جِوَارٌ لَهُ مِنْ فِتْنَتِهِ» ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحِصْنِ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى ; حَيْثُ قَالَ: مَنْ قَرَأَهَا، أَيِ الْكَهْفَ، كَمَا أُنْزِلَتْ كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ بِعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا فَخَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَاللَّفْظُ لِلنَّسَائِيِّ وَقَالَ: رَفْعُهُ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ بِعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يَضُرُّهُ» ، وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» "، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ: " مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ "، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ

وَأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ: " مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ "، وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ: " «مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنَ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ: مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ". وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالْأَرْبَعَةِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ: " مَنْ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَهَا " الْحَدِيثَ. قِيلَ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ " ; أَنَّ حَدِيثَ الْعَشْرِ مُتَأَخِّرٌ، وَمَنْ عَمِلَ بِالْعَشْرِ فَقَدْ عَمِلَ بِالثَّلَاثِ، وَقِيلَ: حَدِيثُ الثَّلَاثِ مُتَأَخِّرٌ وَمَنْ عُصِمَ بِثَلَاثٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعَشْرِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى أَحْكَامِ النَّسْخِ. أَقُولُ ". بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ لَا يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ، مَعَ أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْإِنْشَاءِ لَا فِي الْإِخْبَارِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَقَلَّ مَا يُحْفَظُ بِهِ مِنْ شَرِّهِ قِرَاءَةُ الثَّلَاثِ، وَحِفْظُهَا أَوْلَى، وَهُوَ لَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقِيلَ: حَدِيثُ الْعَشْرِ فِي الْحِفْظِ، وَحَدِيثُ الثَّلَاثِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَمَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ وَقَرَأَ الثَّلَاثَ كُفِيَ وَعُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَقِيلَ: مَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ عُصِمَ مِنْ أَنْ لَقِيَهُ، وَمَنْ قَرَأَ الثَّلَاثَ عُصِمَ مِنْ فِتْنَتِهِ إِنْ لَمْ يَلْقَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْحِفْظِ الْقِرَاءَةُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ، وَمِنَ الْعِصْمَةِ الْحِفْظُ مِنْ آفَاتِ الدَّجَّالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ. (" إِنَّهُ ") أَيِ: الدَّجَّالَ (خَارِجٌ خَلَّةً ") : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ أَيْ: طَرِيقًا وَاقِعًا، (" بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ) ، وَأَصْلُهُ الطَّرِيقُ فِي الرَّمْلِ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ مِنْ سَبِيلٍ بَيْنَهُمَا، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النِّهَايَةِ، أَيْ: فِي طَرِيقٍ بَيْنَهُمَا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا، خَلَّةً بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَنْوِينِ التَّاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَشْهُورُ فِيهِ حَلَّةَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَنَصْبِ التَّاءِ يَعْنِي غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ، وَمَعْنَاهُ: سَمْتُ ذَلِكَ وَقُبَالَتُهُ. قُلْتُ: الْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ هِيَ الْحَلَّةَ قَرْيَةً بِنَاحِيَةِ دِجْلَةَ مِنْ بَغْدَادَ، أَهْلُهَا شَرُّ مَنْ فِي الْبِلَادِ مِنَ الْعِمَادِ. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ حُلَّهُ بِضَمِّ اللَّامِ وَبِهَاءِ الضَّمِيرِ، أَيْ: نُزُولُهُ وَحُلُولُهُ. قَالَ: وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا بِبِلَادِنَا، وَقَوْلُهُ: (" فَعَاثَ) : هُوَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَاضٍ مِنَ الْعَيْثِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْفَسَادِ وَالْإِسْرَاعِ فِيهِ. وَحَكَى الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَعَاثَ، عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: قِيلَ الصَّوَابُ فِيهِ فَعَاثَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ ; لِكَوْنِهِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ فَاعِلٍ قَبْلَهُ، وَهُوَ خَارِجٌ. قُلْتُ: أَكْثَرُ النُّسَخِ، وَمِنْهَا أَصْلُ السَّيِّدِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْعَيْثِ، وَفِي بَعْضِهَا عَاثٍ كَقَاضٍ مِنَ الْعَثْيِ بِمَعْنَى الْعَيْثِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي التَّنْزِيلِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ خَطَأٌ ; إِذْ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى الْإِفْسَادِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّجَّالَ فَسَدَ أَوْ مُفْسِدٌ. (يَمِينًا، وَعَاثَ شِمَالًا ") ، وَهُمَا ظَرْفَا عَاثَ، وَالْمَعْنَى: يَبْعَثُ سَرَايَاهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَكْتَفِي بِالْإِفْسَادِ فِيمَا يَطَؤُهُ مِنَ الْبِلَادِ وَيَتَوَجَّهُ لَهُ مِنَ الْأَغْوَارِ وَالْأَنْجَادِ، فَلَا يَأْمَنُ مِنْ شَرِّهِ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَخْلُو مِنْ فِتْنَتِهِ مَوْطِنٌ وَلَا مَأْمَنٌ، (" يَا عِبَادَ اللَّهِ ") أَيْ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْجُودُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَوْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ عَلَى فَرْضِ أَنَّكُمْ تُدْرِكُونَ ذَلِكَ الْأَوَانَ، (" فَاثْبُتُوا) أَيْ: عَلَى دِينِكُمْ وَإِنْ عَاقَبَكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ أَرَادَ بِهِ مَنْ يُدْرِكُ الدَّجَّالَ مِنْ أُمَّتِهِ، ثُمَّ قِيلَ: هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ اسْتِمَالَةٌ لِقُلُوبِ أُمَّتِهِ وَتَثْبِيتُهُمْ عَلَى مَا يُعَايِنُونَهُ مِنْ شَرِّ الدَّجَّالِ، وَتَوْطِينُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَاعْتِقَادِهِ وَتَصْدِيقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا لَبْثُهُ) : بِفَتْحِ لَامٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: مَا قَدْرُ مُكْثِهِ وَتَوَقُّفِهِ (فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا ") ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ: يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، السَّنَةُ كَالشَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ. لَكِنَّهُ

نَقَلَ الْبَغَوَيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ هَذِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِأَحَدِ الْمُكْثَيْنِ مُكْثٌ خَاصٌّ عَلَى وَصْفٍ مُعَيَّنٍ مُبَيَّنٍ عِنْدَ الْعَالِمِ بِهِ، (" يَوْمٌ) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ (كَسَنَةٍ) أَيْ: مِقْدَارَ عَامٍ فِي طُولِ الزَّمَانِ، أَوْ فِي كَثْرَةِ الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، (وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ") . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ لِكَثْرَةِ غُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَشِدَّةِ بَلَاءِ اللَّعِينِ يُرَى لَهُمْ كَسَنَةٍ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَهُونُ كَيْدُهُ وَيَضْعُفُ أَمْرُهُ ; فَيُرَى كَشَهْرٍ، وَالثَّالِثُ يُرَى كَجُمُعَةٍ ; لِأَنَّ الْحَقَّ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَزِيدُ قَدْرًا، وَالْبَاطِلَ يَنْقُصُ حَتَّى يَنْمَحِقَ أَثَرًا، أَوْ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّمَا اعْتَادُوا بِالْفِتْنَةِ وَالْمِحْنَةِ يَهُونُ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ تَضْمَحِلَّ شِدَّتُهَا، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا ذَكَرَ الرَّاوِي. (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ) أَيْ: مَثَلًا (أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ ") ، بَلْ هَذَا جَارٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَزِيدَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، حَتَّى يَصِيرَ مِقْدَارَ سَنَةٍ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، كَمَا يَزِيدُ فِي أَجْزَاءِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْيَوْمِ. انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَرَّرَهُ عَلَى الْمِنْوَالِ الَّذِي حَرَّرَهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا بَسْطَ الزَّمَانِ، كَمَا وَقَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ مَعَ زِيَادَةٍ عَلَى الْمَكَانِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كُلِّ صَلَاةٍ إِنَّمَا هُوَ وَقْتُهُ الْمُقَدَّرُ مِنْ طُلُوعِ صُبْحٍ وَزَوَالِ شَمْسٍ وَغُرُوبِهَا وَغَيْبُوبَةِ شَفَقِهَا، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ تَعَدُّدِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ، فَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ أَنَّهُ يُشْكِلُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ "، مَعَ قَوْلِهِ: وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَأْوِيلِ امْتِدَادِ تِلْكَ الْأَيَّامِ عَلَى أَنَّهَا وُصِفَتْ بِالطُّولِ وَالِامْتِدَادِ ; لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ وَتَفَاقُمِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: " لَا ". الْحَدِيثَ. فَنَقُولُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَمِنْهُ الْمَعُونَةُ فِي التَّحْقِيقِ: قَدْ تَبَيَّنَ لَنَا بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أَنَّ الدَّجَّالَ يُبْعَثُ مَعَهُ مِنَ الْمُشَبَّهَاتِ، وَيَفِيضُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ التَّمْوِيهَاتِ مَا يَسْلِبُ عَنْ ذَوِي الْعُقُولِ عُقُولَهُمْ، وَيَخْطِفُ مِنْ ذَوِي الْأَبْصَارِ أَبْصَارَهُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ تَسْخِيرُ الشَّيَاطِينِ لَهُ، وَمَجِيئُهُ بِجَنَّةٍ وَنَارٍ، وَإِحْيَاءُ الْمَيِّتِ عَلَى حَسَبِ مَا يَدَّعِيهِ، وَتَقْوِيَتُهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ إِضْلَالَهُ، تَارَةً بِالْمَطَرِ وَالْعُشْبِ، وَتَارَةً بِالْأَزْمَةِ وَالْجَدْبِ، ثُمَّ لَا خَفَاءَ بِأَنَّهُ أَسْحَرُ النَّاسِ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ لَنَا تَأْوِيلُ هَذَا الْقَوْلِ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ يَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ النَّاسِ وَأَبْصَارِهِمْ، حَتَّى يُخَيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إِسْفَارٍ بِلَا ظَلَامٍ، وَصَبَاحٍ بِلَا مَسَاءٍ، يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّيْلَ لَا يَمُدُّ عَلَيْهِمْ رِوَاقَهُ، وَأَنَّ الشَّمْسَ لَا تَطْوِي عَنْهُمْ ضِيَاءَهَا، فَيَبْقُونَ فِي حَيْرَةٍ وَالْتِبَاسٍ مِنِ امْتِدَادِ الزَّمَانِ، وَيُدْخِلَ عَلَيْهِمْ دَوَاخِلَ بِاخْتِفَاءِ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا عِنْدَ مُصَادَمَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، وَيُقَدِّرُوا لِكُلِّ صَلَاةٍ قَدْرَهَا إِلَى أَنْ يَكْشِفَ اللَّهُ عَنْهُمْ تِلْكَ الْغُمَّةَ، هَذَا الَّذِي اهْتَدَيْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالُوا: هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ طَوِيلَةٌ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ " فَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ: هَذَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ، شَرَعَهُ لَنَا صَاحِبُ الشَّرْعِ، قَالُوا: وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ، لَوُكِّلْنَا إِلَى اجْتِهَادِنَا اقْتَصَرْنَا عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الْأَوْقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَمَعْنَاهُ: إِذَا بَعُدَ طُلُوعُ الْفَجْرِ قَدْرَ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظُّهْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ; فَصَلُّوا الظُّهْرَ، ثُمَّ إِذَا مَضَى بَعْدَهُ قَدْرُ مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ ; فَصَلُّوا الْعَصْرَ، فَإِذَا مَضَى بَعْدَهَا قَدْرُ مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ ; فَصَلُّوا الْمَغْرِبَ، وَكَذَا الْعِشَاءُ وَالصُّبْحُ، ثُمَّ الظَّهْرُ ثُمَّ الْعَصْرُ ثُمَّ الْمَغْرِبُ، وَكَذَا حَتَّى يَنْقَضِيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ صَلَاةُ السَّنَةِ فَرَائِضَ مُؤَدَّاةً فِي وَقْتِهَا، وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي كَشَهْرٍ، وَالثَّالِثُ الَّذِي كَجُمُعَةٍ، فَيُقَاسُ عَلَى

الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ يُقَدَّرُ لَهُ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْأَوْقَاتَ لِلصَّلَاةِ أَسْبَابٌ، وَتَقَدُّمُ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا بِشَرْعٍ مَخْصُوصٍ، كَمَا يُقَدَّمُ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ بِعَرَفَاتَ، فَمَعْنَى اقْدُرُوا أَيْ: قَدِّرُوا وَخَمِّنُوا لَهُ، أَيْ: لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ، قَدْرَهُ أَيْ: قَدْرَ يَوْمِ كَذَا. قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ شَارِحٌ أَيْ: قَدِّرُوا لِوَقْتِ الصَّلَاةِ يَوْمًا فِي يَوْمٍ كَسَنَةٍ مَثَلًا قَدْرَهُ، أَيْ: قَدْرَهُ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ كَمَحْبُوسٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ. (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا إِسْرَاعُهُ) أَيْ: مَا قَدْرُ إِسْرَاعِهِ أَوْ كَيْفِيَّةُ إِعْجَالِهِ (فِي الْأَرْضِ) ؟ أَيْ: فِي سَيْرِهَا وَطَيِّ سَاحَتِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ لَهُ إِسْرَاعًا فِي الْأَرْضِ ; فَسَأَلُوا عَنْ كَيْفِيَّتِهِ، كَمَا كَانُوا عَالِمِينَ بِلَبْثِهِ ; فَسَأَلُوا عَنْ كَمِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِمْ: مَا لَبْثُهُ؟ أَيْ مَا مُدَّةُ لَبْثِهِ؟ (قَالَ: كَالْغَيْثِ) : الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْغَيْمُ إِطْلَاقًا لِلسَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، أَيْ: يُسْرِعُ فِي الْأَرْضِ إِسْرَاعَ الْغَيْمِ (اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ ") . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجُمْلَةُ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ لِلْغَيْثِ، وَأَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا مِثَالٌ لَا يُدْرَكُ كَيْفِيَّتُهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ كَمِّيَّتِهِ، (فَيَأْتِي) أَيْ: فَيَمُرُّ الدَّجَّالُ (" عَلَى الْقَوْمِ ") أَيْ: عَلَى جِنْسٍ مِنَ النَّاسِ (" فَيَدْعُوهُمْ ") أَيْ: إِلَى بَاطِلِهِ (" فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ ") أَيِ: السَّحَابَ (" فَتُمْطِرُ ") : مِنَ الْإِمْطَارِ حَتَّى تَجْرِيَ الْأَنْهَارُ، (" وَالْأَرْضَ ") أَيْ: وَيَأْمُرُهَا (" فَتُنْبِتُ ") : مِنَ الْإِنْبَاتِ حَتَّى تَظْهَرَ الْأَزْهَارُ اسْتِدْرَاجًا مِنَ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، (" فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ ") أَيْ: فَتَرْجِعُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَيْهِمْ مَاشِيَتُهُمُ الَّتِي تَذْهَبُ بِالْغَدْوَةِ إِلَى مَرَاعِيهَا (" أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ") أَيِ: السَّارِحَةُ مِنَ الْإِبِلِ، وَنَصْبُ أَطْوَلَ عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: (" ذُرًى ") : بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَفَتْحِ الرَّاءِ مُنَوَّنًا جَمْعُ ذِرْوَةٍ مُثَلَّثَةٍ، وَهِيَ أَعْلَى السَّنَامِ، وَذِرْوَةُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ السِّمَنِ، (وَأَسْبَغَهُ) أَيْ: وَأَتَمَّ مَا كَانَتْ (ضُرُوعًا ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ ضَرْعٍ، وَهُوَ الثَّدْيُ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ، (وَأَمَدَّهُ) أَيْ: وَأَمَدَّ مَا كَانَتْ وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْمَدِّ (" خَوَاصِرَ ") : جَمْعُ خَاصِرَةٍ، وَهِيَ مَا تَحْتَ الْجَنْبِ وَمَدُّهَا كِنَايَةً عَنِ الِامْتِلَاكِ وَكَثْرَةِ الْأَكْلِ، (" ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ) أَيْ: قَوْمًا آخَرِينَ، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ: عَلَى، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، إِشْعَارٌ بِأَنَّ إِتْيَانَهُ عَلَى الْأَوَّلِينَ ضَرَرٌ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ الْآخَرِينَ (" فَيَدْعُوهُمْ ") أَيْ: بِدَعْوَى أُلُوهِيَّتِهِ (" فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ) أَيْ: لَا يَقْبَلُونَهُ أَوْ يُبْطِلُونَهُ بِالْحُجَّةِ، (" فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ ") ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةُ الْإِجْبَارِ. قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] ، وَالْمَعْنَى فَيَصْرِفُهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، (" فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِالْحَاءِ أَيْ: دَاخِلِينَ الْمَحْلَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمْحَلَ الْقَوْمُ أَصَابَهُمُ الْمَحْلُ، وَهُوَ انْقِطَاعُ الْمَطَرِ وَيُبْسُ الْأَرْضِ مِنَ الْكَلَأِ، (" لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ") ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ صَارُوا بِهِ مُبْتَلِينَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ وَالضَّرَّاءِ، وَلَكِنَّهُمْ صَابِرُونَ وَرَاضُونَ وَشَاكِرُونَ ; لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْأَوْلِيَاءِ ; بِبَرَكَةِ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدِ الْأَصْفِيَاءِ، (" وَيَمُرُّ عَلَى الْخَرِبَةِ ") : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: يَمُرُّ الدَّجَّالُ بِالْأَرْضِ الْخَرِبَةِ وَبِالْبِقَاعِ الْخَرِبَةِ، (" فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ) أَيْ: مَدْفُونَكِ أَوْ مَعَادِنَكِ، (فَتَتْبَعُهُ ") : الْفَاءُ فَصِيحَةٌ أَيْ: فَتَخْرُجُ فَتَعْقُبُ الدَّجَّالَ (" كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ) أَيْ: كَمَا يَتْبَعُ النَّحْلُ الْيَعْسُوبَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْيَعَاسِيبُ ذُكُورُ النَّحْلِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَآخَرُونَ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ جَمَاعَةُ النَّحْلِ لَا ذُكُورُهَا خَاصَّةً، لَكِنَّهُ كَنَّى عَنِ الْجَمَاعَةِ بِالْيَعْسُوبِ، وَهُوَ أَمِيرُهَا ; لِأَنَّهُ مَتَى طَارَ تَبِعَتْهُ جَمَاعَتُهُ،

وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّيِّدِ يَعْسُوبٌ. وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا: «عَلِيٌّ يَعْسُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَالُ يَعْسُوبُ الْمُنَافِقِينَ» ، فَفِي الْكَلَامِ نَوْعُ قَلْبٍ ; إِذْ حَقُّ الْكَلَامِ كَنَحْلِ الْيَعَاسِيبِ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي جَمْعِ الْيَعَاسِيبِ هُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى كَثْرَةِ الْكُنُوزِ التَّابِعَةِ، وَأَنَّهُ قُدِّرَ كَأَنَّهُ جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ جَوَانِبِهِ وَأَطْرَافِهِ، وَالْمُرَادُ جَمْعٌ مِنْ أُمَرَائِهِ وَوُكَلَائِهِ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ، وَقَوْلُهُ: كَالْيَعَاسِيبِ كِنَايَةً عَنْ سُرْعَةِ اتِّبَاعِهِ، أَيْ: تَتْبَعُهُ الْكُنُوزُ بِالسُّرْعَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا كَانَ قَوْلُهُ: كَالْيَعَاسِيبِ حَالًا مِنَ الدَّجَّالِ، فَالْخَرِبَةُ صِفَةُ الْبِقَاعِ، وَإِذَا كَانَ حَالًا مِنَ الْكُنُوزِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ جَمْعًا أَوْ مُفْرَدًا. (" ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا) أَيْ: يَطْلُبُهُ حَالَ كَوْنِهِ (" مُمْتَلِئًا ") أَيْ: تَامًّا كَامِلًا قَوِيًّا (" شَابًّا) ، تَمْيِيزٌ عَنِ النِّسْبَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمُمْتَلِئُ شَبَابًا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي غَايَةِ الشَّبَابِ، (" فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ) أَيْ: غَضَبًا عَلَيْهِ ; لِإِبَائِهِ قَبُولَ دَعْوَتِهِ الْأُلُوهِيَّةَ، أَوْ إِظْهَارًا لِلْقُدْرَةِ وَتَوْطِئَةً لِخَرْقِ الْعَادَةِ، (فَقَطَعَهُ جَزْلَتَيْنِ ") : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتُكْسَرُ أَيْ: قِطْعَتَيْنِ تَتَبَاعَدَانِ، (رَمْيَةَ الْغَرَضِ) أَيْ: قَدْرَ حَذْفِ الْهَدَفِ فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِمُقَدَّرٍ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِهِ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ هَلَاكٌ بِلَا شُبْهَةٍ، كَمَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ وَالْمُشَعْبِذَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ كَسْرَهَا، وَمَعْنَى رَمْيَةَ الْغَرَضِ أَنَّهُ يَجْعَلُ بَيْنَ الْجَزْلَتَيْنِ مِقْدَارَ رَمْيَةِ الْغَرَضِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمَشْهُورُ، وَحَكَى الْقَاضِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْدِيرُهُ: فَيُصِيبُهُ إِصَابَةَ رَمْيَةِ الْغَرَضِ، فَيَقْطَعُهُنَّ جَزْلَتَيْنِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ بِرَمْيَةِ الْغَرَضِ إِمَّا سُرْعَةَ نُفُوذِ السَّيْفِ، وَإِمَّا إِصَابَةَ الْمَحَزِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ النَّوَوِيِّ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ. (ثُمَّ يَدْعُوهُ، فَيُقْبِلُ) أَيِ: الرَّجُلُ الشَّابُّ عَلَى الدَّجَّالِ، (" وَيَتَهَلَّلُ ") أَيْ: يَتَلَأْلَأُ وَيُضِيءُ، (" وَجْهُهُ يَضْحَكُ ") : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُقْبِلُ، أَيْ: يُقْبِلُ ضَاحِكًا بَشَّاشًا ; فَيَقُولُ: هَذَا كَيْفَ يَصْلُحُ إِلَهًا؟ (" فَبَيْنَمَا ") : بِالْمِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ (" هُوَ) أَيِ: الرَّجُلُ (كَذَلِكَ ") أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَذَلِكَ الْمِنْوَالِ (" إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ ") ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَدْفَعُ الْمَسِيحُ بِالْمَسِيحِ! قَالَ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] ، (" فَيَنْزِلُ) أَيْ: عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (" عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مُضَافًا إِلَى قَوْلِهِ: (" دِمَشْقَ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتُكْسَرُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْآنَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهُ تَحْتَ مُلْكِهِ. وَفِي الْجَامِعِ: رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ: يَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى ابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَنْزِلُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِالْأُرْدُنِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِمُعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: حَدِيثُ نُزُولِهِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَهُوَ عِنْدِي أَرْجَحُ، وَلَا يُنَافِي سَائِرَ الرِّوَايَاتِ ; لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، وَهُوَ مُعَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ إِذْ ذَاكَ، وَالْأُرْدُنَّ اسْمُ الْكُورَةِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ دَاخِلٌ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْآنَ مَنَارَةٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَحْدُثَ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: (" بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ ") : بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَيُعْجَمُ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ عِيسَى بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى لَابِسِ حُلَّتَيْنِ مَصْبُوغَتَيْنِ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالذَّالُ الْمُعْجَمَةُ أَكْثَرُ، وَالْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ فِي النُّسَخِ بِالْمُهْمَلَةِ، وَمَعْنَاهُ لَابِسُ ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِالْوَرْسِ ثُمَّ

الزَّعْفَرَانِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُرْوَى بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَمُعْجَمَةٍ، أَيْ: بَيْنَ مُخَصَّرَتَيْنِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا نَسْمَعُهُ إِلَّا فِيهِ، وَكَذَلِكَ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ تُسْمَعْ إِلَّا فِي الْحَدِيثِ، وَالْمُخَصَّرَةُ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا صُفْرَةٌ خَفِيفَةٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، (" وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ ") : حَالٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ، كَمَا أَنَّ مَا قَبْلَهُ حَالٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ لُبْسِهِ وَجَمَالِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ حَالَةً أُخْرَى بِقَوْلِهِ: (" إِذَا طَأْطَأَ ") بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ: خَفَضَ، (" رَأَسَهُ قَطَرَ ") أَيْ: عَرِقَ (" وَإِذَا رَفَعَهُ ") أَيْ: رَأَسَهُ (" تَحَدَّرَ ") : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: نَزَلَ (" مِنْهُ ") أَيْ: مِنْ شَعَرِهِ قَطَرَاتٌ نُورَانِيَّةٌ (" مِثْلُ الْجُمَانِ ") : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَتُشَدَّدُ، حَبٌّ يُتَّخَذُ مِنَ الْفِضَّةِ، (" كَاللُّؤْلُؤِ ") أَيْ: فِي الصَّفَاءِ وَالْبَيَاضِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْجُمَانُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ يُتَّخَذُ مِنَ الْفِضَّةِ عَلَى هَيْئَةِ اللَّآلِئِ الْكِبَارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: شَبَّهَهُ بِالْجُمَانِ فِي الْكِبَرِ، ثُمَّ شَبَّهَ الْجُمَانَ بِاللُّؤْلُؤِ فِي الصَّفَاءِ وَالْحُسْنِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهُ الْكِبَرَ مَعَ الصَّفَاءِ وَالْحُسْنِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجُمَانُ كَغُرَابٍ اللُّؤْلُؤُ أَوْ هَنَوَاتٌ أَشْكَالُ اللُّؤْلُؤِ، وَقَالَ شَارِحٌ: الْجُمَّانُ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِالتَّشْدِيدِ اللُّؤْلُؤُ الصِّغَارُ، وَبِتَخْفِيفِهَا حَبٌّ يُتَّخَذُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجُمَانِ فِي صِفَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ الْحَبُّ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْفِضَّةِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ بِقَوْلِهِ كَاللُّؤْلُؤِ، (" فَلَا يَحِلُّ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: لَا يُمْكِنُ وَلَا يَقَعُ (لِكَافِرٍ أَنْ يَجِدَ مِنْ رِيحِ نَفَسِهِ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ (إِلَّا مَاتَ ") ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ عِنْدِي حَقٌّ وَاجِبٌ. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْحَاءِ وَهُوَ وَهْمٌ وَغَلَطٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ لَا يَحْصُلُ وَلَا يَحِقُّ أَنْ يَجِدَ مِنْ رِيحِ نَفَسِهِ وَلَهُ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ الْمَوْتِ، فَقَوْلُهُ: يَجِدُ مَعَ مَا فِي سِيَاقِهِ فَاعِلُ يَحِلُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ (وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ لَحْظُهُ وَلَمْحُهُ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الدَّجَّالِ مُسْتَثْنًى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ لِحِكْمَةِ إِرَاءَةِ دَمِهِ فِي الْحَرْبَةِ ; لِيَزْدَادَ كَوْنُهُ سَاحِرًا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ كَوْنُ هَذِهِ الْكَرَامَةِ لِعِيسَى أَوَّلًا حِينَ نُزُولِهِ، ثُمَّ تَكُونُ زَائِلَةً حِينَ يَرَى الدَّجَّالَ ; إِذْ دَوَامُ الْكَرَامَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَقِيلَ: نَفَسُ الَّذِي يُمَوِّتُ الْكَافِرَ هُوَ النَّفَسُ الْمَقْصُودُ بِهِ إِهْلَاكُ كَافِرٍ، لَا النَّفَسُ الْمُعْتَادُ، فَعَدَمُ مَوْتِ الدَّجَّالِ لِعَدَمِ النَّفَسِ الْمُرَادِ، وَقِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ وَجَدَ مِنْ نَفَسِ عِيسَى مِنَ الْكُفَّارِ يَمُوتُ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَوْ وَصُولُ نَفَسِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُرِيَهُمْ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَمَ الدَّجَّالِ فِي حَرْبَتِهِ لِلْحِكْمَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَذَا بِخَطِّ شَيْخِنَا الْمَرْحُومِ مَوْلَانَا عَبْدِ اللَّهِ السِّنْدِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ نَفَسَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَعَلَّقَ بِهِ الْإِحْيَاءُ لِبَعْضٍ، وَالْإِمَاتَةُ لِبَعْضٍ، (فَيَطْلُبُهُ) أَيْ: يَطْلُبُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الدَّجَّالَ (" حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ) : بِضَمِّ لَامٍ وَتَشْدِيدِ دَالٍ مَصْرُوفٌ اسْمُ جَبَلٍ بِالشَّامِ، وَقِيلَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ، وَزَادَ غَيْرُهُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ شَجَرِهِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: هُوَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ بِفَلَسْطِينَ، (فَيَقْتُلُهُ ") ، فِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَعَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ: يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ، (ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ ") ، أَيْ: حَفِظَهُمْ مِنْ شَرِّ الدَّجَّالِ (" فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ ") أَيْ: يُزِيلُ عَنْهَا مَا أَصَابَهَا مِنْ غُبَارِ سَفَرِ الْغَزْوِ مُبَالَغَةً فِي إِكْرَامِهِمْ، أَوِ الْمَعْنَى يَكْشِفُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ آثَارِ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ عَلَى وُجُوهِهِمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ مِنْ خَبَرِهِ بِقَتْلِ الدَّجَّالِ، (وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْمَسْحُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَمْسَحُ وُجُوهَهُمْ تَبَرُّكًا، أَوْ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَشْفِ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْخَوْفِ، (" فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى: أَنِّي ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُكْسَرُ (قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي) أَيْ: أَظْهَرْتُ جَمَاعَةً مُنْقَادَةً لِقَضَائِي وَقَدَرِي (" لَا يَدَانِ ") أَيْ: لَا قُدْرَةَ وَلَا طَاقَةَ (لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ ") ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الطَّاقَةِ

بِالْيَدِ ; لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ وَالْمُدَافَعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْيَدِ، وَثَنَّى مُبَالَغَةً، كَأَنَّ يَدَيْهِ مَعْدُومَتَانِ لِعَجْزِهِ عَنْ دَفْعِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي التَّثْنِيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى الْعَجْزِ عَنْهُمَا جَمِيعًا، (فَحَرِّزْ عِبَادِي ") أَيْ: مِنَ التَّحْرِيزِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِرْزِ، أَيِ: احْفَظْهُمْ وَضُمَّهُمْ (" إِلَى الطُّورِ ") ، وَاجْعَلْهُ لَهُمْ حِرْزًا، (وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : بِالْأَلِفِ وَيُبْدَلُ فِيهِمَا (وَهُمْ) أَيْ: جَمِيعُ الْقَبِيلَتَيْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الحج: 19] ، {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} [الأنبياء: 96] : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، {يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ أَيْ: يُسْرِعُونَ. (" فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ ") بِالْإِضَافَةِ، وَبُحَيْرَةٌ تَصْغِيرُ بَحْرَةٍ، وَهِيَ مَاءٌ مُجْتَمِعٌ بِالشَّامِ طُولُهُ عَشْرَةُ أَمْيَالٍ، وَطَبَرِيَّةُ بِفَتْحَتَيْنِ اسْمُ مَوْضِعٍ. وَقَالَ شَارِحٌ: هِيَ قَصَبَةُ الْأُرْدُنِّ بِالشَّامِ، (" فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا ") أَيْ: مِنَ الْمَاءِ، (" وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُ ") أَيْ: آخِرُهُمْ أَوْ قَائِلٌ مِنْهُمْ (" لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ ") أَيِ: الْبُحَيْرَةِ أَوِ الْبُقْعَةِ (" مَرَّةً ") أَيْ: وَقْتًا (" مَاءٌ ") ، أَيْ: مَاءٌ كَثِيرٌ، (" ثُمَّ يَسِيرُونَ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى جَبَلِ الْخَمَرِ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ وَبِالرَّاءِ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَفَسَّرَ الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ جَبَلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ") ; لِكَثْرَةِ شَجَرِهِ، أَوْ هُوَ كُلُّ مَا سَتَرَكَ مِنْ شَجَرٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (" فَيَقُولُونَ لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ ") ، أَيْ: مَنْ ظَهَرَ عَلَى وَجْهِهَا ; لِمَا سَيَأْتِي مِنِ اسْتِثْنَاءِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابِهِ ; حَيْثُ كَانُوا مَحْصُورِينَ مَحْصُونِينَ (" هَلُمَّ ") أَيْ: تَعَالَ، الْخِطَابُ لِأَمِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، أَوْ عَامٌّ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِأَحَدِهِمْ، وَفِي النِّهَايَةِ: فِيهِ لُغَتَانِ، فَأَهْلُ الْحِجَازِ يُطْلِقُونَهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الْفَتْحِ، وَبَنُو تَمِيمٍ تُثَنِّي وَتَجْمَعُ وَتُؤَنِّثُ تَقُولُ: هَلُمَّ وَهَلُمِّي وَهَلُمَّا وَهَلُمُّوا. (" فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ ") : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ مُفْرَدُهُ نُشَّابَةٌ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ: سِهَامَهُمْ (إِلَى السَّمَاءِ ") أَيْ: إِلَى جِهَتِهَا، (" فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ مَخْضُوبَةً ") أَيْ: مَصْبُوغَةً (" دَمًا ") : تَمْيِيزٌ، وَهَذَا مَكْرٌ وَاسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، مَعَ احْتِمَالِ إِصَابَةِ سِهَامِهِمْ لِبَعْضِ الطُّيُورِ فِي السَّمَاءِ ; فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِحَاطَةِ فَسَادِهِمْ بِالسُّفْلِيَّاتِ وَالْعُلْوِيَّاتِ، (" وَيُحْصَرُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُحْبَسُ فِي جَبَلِ الطُّورِ (نَبِيُّ اللَّهِ ") أَيْ: عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (" وَأَصْحَابُهُ) أَيْ: مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، (" حَتَّى يَكُونَ) أَيْ: يَصِيرَ مِنْ شِدَّةِ الْمُحَاصَرَةِ وَالْمُضَايَقَةِ (" رَأْسُ الثَّوْرِ ") أَيِ: الْبَقَرِ مَعَ كَمَالِ رُخْصِهِ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ (" لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ ") ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ تَبْلُغُ بِهِمُ الْفَاقَةُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ رَأْسَ الثَّوْرِ لِيُقَاسَ الْبَقِيَّةُ عَلَيْهِ فِي الْقِيمَةِ، (" فَيَرْغَبُ ") أَيْ: إِلَى اللَّهِ أَوْ يَدْعُو (" نَبِيُّ اللَّهِ ") : فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ مَعَ مُتَابَعَتِهِ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاقٍ عَلَى نُبُوَّتِهِ (" عِيسَى وَأَصْحَابُهُ ") ، قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَرْغَبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إِهْلَاكِهِمْ وَإِنْجَائِهِمْ عَنْ مُكَابَدَةِ بَلَائِهِمْ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ ; فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ فَيُهْلِكُهُمْ بِالنَّغَفِ كَمَا قَالَ: (" فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ") أَيْ: عَلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ (النَّغَفَ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ دُودٌ يَكُونُ فِي أُنُوفِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، (" فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى) : كَهَلْكَى وَزْنًا وَمَعْنًى، وَهُوَ جَمْعُ فَرِيسٍ كَقَتِيلٍ وَقَتْلَى، مِنْ فَرَسَ الذِّئْبُ الشَّاةَ إِذَا كَسَرَهَا وَقَتَلَهَا، وَمِنْهُ فَرِيسَةُ الْأَسَدِ، (" كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ") ; لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَتَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ. قَالَ تَعَالَى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ أَنَّ الْقَهْرَ الْإِلَهِيَّ الْغَالِبَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَفْرِسُهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَيُصْبِحُونَ قَتْلَى، وَقَدْ نَبَّهَ بِالْكَلِمَتَيْنِ أَعَنِي النَّغَفَ وَفَرْسَى عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُهْلِكُهُمْ فِي أَدْنَى سَاعَةٍ بِأَهْوَنِ شَيْءٍ، وَهُوَ النَّغَفُ فَيَفْرِسُهُمْ فَرْسَ السَّبُعِ فَرِيسَتَهُ بَعْدَ أَنْ طَارَتْ نَفْرَةُ الْبَغْيِ فِي رُءُوسِهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا مَنْ فِي السَّمَاءِ.

(" ثُمَّ يَهْبِطُ ") أَيْ: يَنْزِلُ مِنَ الطُّورِ (" نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ ") أَيْ: فِي وَجْهِهَا جَمِيعًا، وَهَذَا هُوَ رَجْعُ الْعُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الظَّاهِرِ، فَاللَّامُ فِي الْأُولَى لِلْعَهْدِ، وَفِي الثَّانِيَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ ; بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمَعْرُوفَةَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ تَكُونُ عَيْنًا لِلْأُولَى مَبْنِيَّةً عَلَى غَالِبِ الْعَادَةِ، أَوْ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ صَارِفَةٌ، (" مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ ") : بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْهَاءِ وَقَدْ تُضَمُّ الزَّايُ، وَقَالَ شَارِحٌ هُوَ بِالضَّمِّ، وَرُوِيَ بِالتَّحْرِيكِ وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ: (" وَنَتْنُهُمْ ") : بِسُكُونِ التَّاءِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الزَّهَمُ بِالتَّحْرِيكِ مَصْدَرُ قَوْلِكَ زَهِمَتْ يَدِي بِالْكَسْرِ مِنَ الزُّهُومَةِ، فَهِيَ زَهِمَةٌ أَيْ دَسِمَةٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ فِيمَا أَعْلَمُ، وَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَهَنٌ، وَضَمُّ الزَّايِ مَعَ فَتْحِ الْهَاءِ أَصَحُّ مَعْنًى، وَهُوَ جَمْعُ زُهْمَةٍ يَعْنِي بِضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَهِيَ الرِّيحُ الْمُنْتِنَةُ. وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ أَصَحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَيُوَافِقُهُمَا مَا فِي الْقَامُوسِ ; حَيْثُ قَالَ: الزُّهُومَةُ وَالزُّهْمَةُ بِضَمِّهَا رِيحُ لَحْمٍ سَمِينٍ مُنْتِنٍ، وَالزُّهْمُ بِالضَّمِّ الرِّيحُ الْمُنْتِنَةُ، وَبِالتَّحْرِيكِ مَصْدَرُ زَهِمَتْ يَدِي كَفَرِحَ، فَهِيَ زَهِمَةٌ أَيْ دَسِمَةٌ انْتَهَى، وَقَدْ يُقَالُ: أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ وَأُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ مُبَالَغَةً كَرَجُلٍ عَدْلٍ، (" فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ ") ، فِي ضَمِّ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ فِي الْهِمَّةِ الْإِطْمَاعِيَّةِ لَهَا تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ فِي الْإِجَابَةِ الدُّعَائِيَّةِ، أَوْ فِي ذِكْرِهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْبَاعِثُ عَلَى الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى رَبِّ السَّمَاءِ، (" فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ ") : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ نَوْعٌ مِنَ الْإِبِلِ أَيْ: طَيْرًا أَعْنَاقُهَا فِي الطُّولِ وَالْكِبَرِ كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ، وَالطَّيْرُ جَمْعُ طَائِرٍ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ ; وَلِذَا قَالَ: (" فَتَحْمِلُهُمْ ") أَيْ: تِلْكَ الطَّيْرُ (" فَتَطْرَحُهُمْ) أَيْ: فَتَرْمِيهِمْ (" حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ) أَيْ: مِنَ الْبِحَارِ، أَوْ مِمَّا وَرَاءَ مَعْمُورَةِ الدِّيَارِ، أَوْ خَلْفَ جِبَالِ قَافٍ وَنَحْوِهِا، أَوْ إِلَى عَالَمِ الْإِعْدَامِ وَالْإِفْنَاءِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " تَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ ") : بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مَوْضِعٌ، وَقِيلَ: مَكَانٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَيْفَ يَسَعُهُمْ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ مَوْضِعُ بَعْضِهِمْ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ يَسَعُهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، وَفِي الْقَامُوسِ: نَهْبَلَ: أَسِنَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: فَتَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَالصَّوَابُ بِالْمِيمِ. انْتَهَى. وَلَمْ يُذْكَرِ الْمَهْبَلُ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. (" وَيَسْتَوْقِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ قِسِيِّهِمْ ") : بِكَسْرَتَيْنِ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ جَمْعُ قَوْسٍ، وَالضَّمِيرُ لِيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ (" وَنُشَّابِهِمْ ") أَيْ: سِهَامِهِمْ (" وَجِعَابِهِمْ ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ جَعْبَةٍ بِالْفَتْحِ وَهِيَ طَرَفُ النُّشَّابِ (" سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا ") أَيْ: عَظِيمًا (" لَا يَكُنُّ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، مِنْ كَنَنْتُ الشَّيْءَ أَيْ سَتَرْتُهُ وَصُنْتُهُ عَنِ الشَّمْسِ، وَهِيَ مِنْ أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ مَطَرًا، أَيْ: لَا يَسْتُرُ وَلَا يَصُونُ شَيْئًا (" مِنْهُ ") أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْمَطَرِ (" بَيْتُ مَدَرٍ ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ تُرَابٍ وَحَجَرٍ (" وَلَا وَبَرٍ ") ، أَيْ: صُوفٍ أَوْ شَعَرٍ، وَالْمُرَادُ تَعْمِيمُ بُيُوتِ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا يَمْنَعُ مِنْ نُزُولِ الْمَاءِ بَيْتُ الْمَدَرِ وَهُوَ الطِّينُ الصُّلْبُ. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَانِ مَاءٍ حَائِلٌ، بَلْ يَعُمُّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا، (" فَيَغْسِلُ) أَيِ: الْمَطَرُ (الْأَرْضَ ") أَيْ: وَجْهَهَا كُلَّهَا (" حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ") : بِفَتْحِ الزَّايِ وَاللَّامِ وَيُسَكَّنُ وَبِالْفَاءِ، وَقِيلَ: بِالْقَافِ وَهِيَ الْمِرْآةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقِيلَ: مَا يُتَّخَذُ لِجَمْعِ الْمَاءِ مِنَ الْمَصْنَعِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَاءَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَرْضِ ; بِحَيْثُ يَرَى الرَّائِي وَجْهَهُ فِيهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَاللَّامِ وَبِالْفَاءِ وَبِالْقَافِ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الزَّايِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَبِالْفَاءِ، وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ بِالْفَاءِ وَالْقَافِ وَبِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِهَا وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْفَاءِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْقَامُوسُ فِي الْمَعَانِي الْآتِيَةِ كُلِّهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ ثَعْلَبٌ وَأَبُو زَيْدٍ وَآخَرُ وَفِي مَعْنَاهُ كَالْمِرْآةِ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمَشَارِقِ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: شَبَّهَهَا بِالْمِرْآةِ فِي صَفَائِهَا وَنَظَافَتِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَصَانِعِ الْمَاءِ أَيِ الْمَاءُ يَسْتَنْقِعُ فِيهَا حَتَّى تَصِيرَ الْأَرْضُ كَالْمَصْنَعِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ الْإِجَّانَةُ الْخَضْرَاءُ، وَقِيلَ: كَالصَّحْفَةِ، وَقِيلَ: كَالرَّوْضَةِ. (ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي) أَيْ: إِلَى أَهْلِكِ (بَرَكَتَكِ) أَيْ: سَائِرَ نِعَمِكِ (" فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيِ الْجَمَاعَةُ (مِنَ الرُّمَّانَةِ ") أَيْ: وَيَشْبَعُونَ مِنْهَا (وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا ") : بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ بِقِشْرِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مُقَعَّرُ قِشْرِهَا شَبَّهَهَا بِقِحْفِ الْآدَمِيِّ، وَهُوَ الَّذِي فَوْقَ الدِّمَاغِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا انْفَلَقَ مِنْ جُمْجُمَتِهِ وَانْفَصَلَ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَرَادَ نِصْفَ قِشْرِهَا الْأَعْلَى، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْعَظْمُ الْمُسْتَدِيرُ فَوْقَ الدِّمَاغِ، وَهُوَ أَيْضًا إِنَاءٌ مِنْ خَشَبٍ عَلَى مِثَالِهِ، كَأَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمَا يَلِي رَأْسَهَا مِنَ الْقِشْرِ (" وَيُبَارَكُ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُوضَعُ الْبَرَكَةُ وَالْكَثْرَةُ (" فِي الرِّسْلِ ") : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ السِّينِ أَيِ اللَّبَنِ، (حَتَّى إِنَّ اللِّقْحَةَ ") : بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُفْتَحُ أَيِ: النَّاقَةُ الْحَلُوبَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اللِّقْحَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ، وَهِيَ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ. وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: مِنَ النُّوقِ وَغَيْرِهَا فَقَوْلُهُ: (مِنَ الْإِبِلِ ") بَيَانِيَّةٌ، (" لَتَكْفِي ") أَيِ: اللِّقْحَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا (" الْفِئَامَ) : بِهَمْزٍ عَلَى زِنَةِ رِجَالٍ وَالْعَامَّةُ تُبْدِلُ الْهَمْزَةَ يَاءً أَيِ: الْجَمَاعَةَ (" مِنَ النَّاسِ) ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَهُنَا أَكْثَرُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، كَمَا أَنَّ الْقَبِيلَةَ أَكْثَرُ مِنَ الْفَخْذِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقِئَامَ. بِكَسْرِ الْقَافِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ هِيَ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَرِوَايَةُ الْحَدِيثِ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَبِالْهَمْزِ. قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُجِيزُ الْهَمْزَ بَلْ يَقُولُهُ بِالْيَاءِ. وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ: وَحَكَاهُ الْخَلِيلُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ: وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَأَدْخَلَهُ فِي حَرْفِ الْيَاءِ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ. (" وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخْذَ مِنَ النَّاسِ ") ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَخْذُ هُنَا بِسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ لَا غَيْرُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَقَارِبِ، وَهُمْ دُونَ الْبَطْنِ، وَالْبَطْنُ دُونَ الْقَبِيلَةِ، وَأَمَّا الْفَخِذُ بِمَعْنَى الْعُضْوِ فَبِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِهَا. (" فَبَيْنَا ") : بِلَا مِيمٍ (" هُمْ ") : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (" كَذَلِكَ ") ، وَنَا: عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ: (" إِذْ بَعَثَ اللَّهُ ") : وَإِذْ لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ: بَيْنَ أَوْقَاتٍ يَتَنَعَّمُونَ فِي طِيبِ عَيْشٍ وَسَعَةٍ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ فَجْأَةً (" رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ ") : بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ جَمْعُ إِبِطٍ، (فَتَقْبِضُ ") أَيْ: تِلْكَ الرِّيحُ (" رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ ") : أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الرِّيحِ مَجَازًا (" أَوْ كُلِّ مُسْلِمٍ ") . قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالْوَاوِ يَعْنِي كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ بِـ أَوْ بِالشَّكِّ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُسْلِمِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَالْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعْمِيمِ وَالتَّغَايُرُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْوَصْفَيْنِ، كَمَا فِي التَّنْزِيلِ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1] ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] ، أَوْ بِنَاءً عَلَى الْفَرْقِ اللُّغَوِيِّ بَيْنَهُمَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِ الْمُصَدِّقُ، وَبِالْمُسْلِمِ الْمُنْقَادُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَحَدُهَا لَا يَنْفَعُ بِدُونِ الْآخَرِ، جُعِلَ الْمَوْصُوفُ بِهِمَا وَاحِدًا، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ بِطَرِيقِ التَّسَاوِي، أَوْ لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا غَالِبًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِالتَّكْرَارِ هُنَا الِاسْتِيعَابُ أَيْ: تُقْبَضُ رُوحُ خِيَارِ النَّاسِ كُلِّهِمْ (وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ شَرٍّ (" يَتَهَارَجُونَ ") أَيْ: يَخْتَلِطُونَ (" فِيهَا) أَيْ: فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ أَوْ فِي الْأَرْضِ (" تَهَارُجَ الْحُمُرِ ") أَيْ: كَاخْتِلَاطِهَا، وَيَتَسَافَدُونَ، وَقِيلَ: يَتَخَاصَمُونَ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْهَرَجِ الْقَتْلُ وَسُرْعَةُ عَدْوِ الْفَرَسِ، وَهَرَجَ فِي حَدِيثِهِ أَيْ خَلَطَ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ يُجَامِعُ الرِّجَالُ النِّسَاءَ عَلَانِيَةً بِحَضْرَةِ النَّاسِ كَمَا يَفْعَلُ الْحَمِيرُ وَلَا يَكْتَرِثُونَ لِذَلِكَ، وَالْهَرْجُ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ الْجِمَاعُ، وَيُقَالُ: هَرَجَ زَوْجَتَهُ أَيْ جَامَعَهَا يَهْرِجُهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا. (" فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ ") أَيْ: لَا عَلَى غَيْرِهِمْ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ ". (رَوَاهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (مُسْلِمٌ إِلَّا الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ) أَيِ: الرِّوَايَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ وَهُوَ تَذْكِيرُهُ لِتَذْكِيرِ خَبَرِهِ وَهُوَ (قَوْلُهُ: " تَطْرَحُهُمْ بِالنَّهْبَلِ "، إِلَى قَوْلِهِ: " سَبْعَ سِنِينَ " رَوَاهَا) أَيْ: تِلْكَ الرِّوَايَةَ (التِّرْمِذِيُّ) .

5476 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَخْرُجُ الدَّجَّالُ، فَيَتَوَّجُهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَلْقَاهُ الْمَسَالِحُ مَسَالِحُ الدَّجَّالِ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ؟ فَيَقُولُ: أَعْمِدُ إِلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ، قَالَ: فَيَقُولُونَ لَهُ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا؟ فَيَقُولُ: مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ. فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ. فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَحَدًا دُونَهُ ". قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّالِ، فَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَذَا الدَّجَّالُ الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ فَيُشَجُّ فَيَقُولُ: خُذُوهُ وَشُجُّوهُ، فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْبًا " قَالَ: فَيَقُولُ: " أَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ " قَالَ: " فَيَقُولُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ ". قَالَ: " فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُؤْشَرُ بِالْمِئْشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حَتَى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ". قَالَ: ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ ; ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِمًا، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ يَقُولُ: مَا ازْدَدْتُ إِلَّا بَصِيرَةً ") . قَالَ: " ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ". قَالَ: فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيُجْعَلُ مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ نُحَاسًا، فَلَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا ". قَالَ: " فَيَأْخُذُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ، فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّمَا قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَ فِي الْجَنَّةِ ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5476 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ، فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ ") : بِكَسْرِ قَافٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ إِلَى جَانِبِهِ (" رَجُلٌ ") أَيْ: عَظِيمٌ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ") ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ رَاوِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَذَا قَالَ مَعْمَرٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ حَيًّا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ وَبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الصُّوفِيَّةِ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ حَيٌّ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ. (فَيَلْقَاهُ الْمَسَالِحُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ جَمْعُ الْمَسْلَحَةِ، وَهُمُ الْقَوْمُ ذَوُو السِّلَاحِ يَحْفَظُونَ الثُّغُورَ (" مَسَالِحُ الدَّجَّالِ ") : مَرْفُوعٌ عَلَى الْإِبْدَالِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّامَ عِوَضُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَوِ اللَّامَ لِلْعَهْدِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ هَهُنَا مُقَدِّمَةُ جَيْشِهِ، وَأَصْلُهَا مَوْضِعُ السِّلَاحِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلثَّغْرِ ; فَإِنَّهُ يُعَدُّ فِيهِ الْأَسْلِحَةُ، ثُمَّ لِلْجُنْدِ الْمُتَرَصِّدِينَ، ثُمَّ لِمُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، فَإِنَّهُمْ مِنَ الْجَيْشِ كَأَصْحَابِ الثُّغُورِ مِمَّنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، (فَيَقُولُونَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ؟) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: تَقْصِدُ (" وَيَقُولُ: أَعْمِدُ إِلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ) أَيْ: خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ أَوْ عَلَى الْخَلْقِ، أَوْ ظَهَرَ بِالْبَاطِلِ وَالْإِشَارَةُ لِلتَّحْقِيرِ. (فَيَقُولُونَ لَهُ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا) ؟ يَعْنُونَ بِهِ الدَّجَّالَ حَيْثُ وَجَدُوا عِنْدَهُ الْجَاهَ وَالْمَالَ، (فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّجُلُ (" مَا بِرَبِّنَا) أَيْ: بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ، أَوْ مَا بِرَبِّنَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ (" خَفَاءٌ ") وَمَا: نَافِيَةٌ أَيْ: لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْنَا صِفَاتُ رَبِّنَا عَنْ غَيْرِهِ لِنَعْدِلَ عَنْهُ إِلَيْهِ، أَوْ لِنَتْرُكَ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ. فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَاهِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَآثَارُ الْحُدُوثِ عَلَيْهِ لَائِحَةٌ، وَأَنْوَاعُ النُّقْصَانِ فِيهِ وَاضِحَةٌ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّ الْمَخْلُوقِيَّةَ تُنَافِي الرُّبُوبِيَّةَ، وَالْعُبُودِيَّةَ تُنَاقِضُ الْأُلُوهِيَّةَ مَا لِلتُّرَابِ وَرَبِّ الْأَرْبَابِ، كَيْفَ وَالْعُيُوبُ الظَّاهِرَةُ فِيهِ تَشْهَدُ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ". قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا تَكْذِيبٌ لَهُمْ، وَبَيَانٌ لِتَمْوِيهِهِمْ وَتَلْبِيسِهِمْ إِذْ مَا يُؤْمِنُ بِرَبِّنَا، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ". (فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ. فَيَقُولُ

بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا ") أَيْ: مِنْ قَتَلَكُمْ (" أَحَدًا دُونَهُ ") أَيْ: دُونَ عِلْمِهِ وَأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ (" فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّالِ فَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ ") أَيْ: أَبْصَرَ الدَّجَّالَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ وَقَدْ عَرَفَ عَلَامَاتِهِ (قَالَ) : تَذْكِيرًا لِلْأُمَّةِ تَوْهِينًا لِلْغُمَّةِ (" يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الدَّجَّالُ الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي أَحَادِيثِهِ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ ") أَيْ: بِضَرْبِهِ (" فَيُشَبَّحُ ") : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: يُمَدُّ لِلضَّرْبِ (" فَيَقُولُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ، تَأْكِيدًا وَتَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا (" خُذُوهُ ") أَيْ: امْسِكُوهُ أَخْذًا شَدِيدًا (" وَشُجُّوهُ ") : بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيِ: اكْسِرُوا رَأْسَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَشَبِّحُوهُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ: مُدُّوهُ عَلَى بَطْنِهِ أَوْ عَلَى قَفَاهُ، يُقَالُ: تَشَبَّحَ الْحِرْبَاءُ عَلَى الْعُودِ، أَيِ: امْتَدَّ، وَتَشْبِيحُ الشَّيْءِ جَعْلُهُ عَرِيضًا (" فَيُوسَعُ ") : بِسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ السِّينِ (ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْبًا) أَيْ: يَكْثُرُ الضَّرْبُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَبَطْنِهِ، (قَالَ: " فَيَقُولُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ (" أَمَا تُؤْمِنُ بِي ") ؟ وَفِي نُسْخَةٍ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ أَيْ أَتُنْكِرُنِي وَأُلُوهِيَّتِي وَمَا تُؤْمِنُ بِي وَبِرُبُوبِيَّتِي؟ (قَالَ: " فَيَقُولُ ") أَيِ: الْمُؤْمِنُ (" أَنْتَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ ") أَيِ: الَّذِي يَقْتُلُكَ الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ. (قَالَ: " فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُؤْشَرُ) : بِضَمٍّ فَسُكُونِ هَمْزٍ وَيُبْدَلُ وَاوًا فَفَتْحِ شِينٍ، أَيْ: فَيُقْطَعُ (" بِالْمِئْشَارِ ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبْدَلُ يَاءً وَبِالنُّونِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ آلَةُ النَّشْرِ وَالْقَطْعِ (" مِنْ مَفْرِقِهِ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ مُبْتَدِأً مِنْ فَرْقِ رَأْسِهِ (" حَتَّى يُفَرَّقَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا وَيُشَدَّدُ أَيْ: حَتَّى يُفْصَلَ بَدَنُهُ قِطْعَتَيْنِ وَاقِعَتَيْنِ (" بَيْنَ رِجْلَيْهِ) أَيْ: فِي طَرَفَيْ قَدَمَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ يُشَبَّحُ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَكَذَا شُجُّوهُ أَيْ مُدُّوهُ عَلَى بَطْنِهِ، وَجَاءَ أَيْضًا شَجُّوهُ بِجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ مِنَ الشَّجِّ وَهُوَ الْجَرْحُ فِي الرَّأْسِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ عِنْدَنَا، وَقَوْلُهُ: فَيُؤْشَرُ، الرِّوَايَةُ فِيهِ بِالْهَمْزَةِ وَالْمِئْشَارُ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْهَمْزِ فِيهِمَا، فَيُجْعَلُ فِي الْأَوَّلِ وَاوًا، وَفِي الثَّانِي يَاءً، وَيَجُوزُ الْمِنْشَارُ بِالنُّونِ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: نَشَرْتُ الْخَشَبَةَ، " وَمَفْرِقِهِ " بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسَطُهُ يَعْنِي وَسَطَ فَرْقِهِ أَوْ وَسَطَ رَأْسِهِ انْتَهَى. قَالَ الْجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ يُشَبَّحُ بِمُعْجَمَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَمُهْمَلَةٍ، وَشُجُّوهُ بِالْجِيمِ مِنَ الشَّجِّ وَهُوَ الْجَرْحُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَثَانِيهِمَا يُشَبَّحُ كَالْأَوَّلِ وَشَبِّحُوهُ بِالْبَاءِ وَالْحَاءِ، وَثَالِثُهَا فَيُشَجُّ وَشُجُّوهُ كِلَاهُمَا بِالْجِيمِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ شَارِحٌ: يُقَالُ: وَشَرْتَ الْخَشَبَةَ بِالْمِيشَارِ إِذَا نَشَرْتَهُ بِالْمِنْشَارِ، وَفِي الْحَدِيثِ بِالْيَاءِ لَا غَيْرُ ; يَدُلُّ عَلَيْهِ فَيُؤْشَرُ. قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ ; إِذْ قَوْلُهُ: فَيُؤْشَرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْهَمْزِ، وَأَنْ يَكُونَ بِوَاوٍ مُبْدَلَةٍ أَوْ أَصْلِيَّةٍ، وَكَذَا فِي الْمِيشَارِ يَصِحُّ هَمْزُهُ وَإِبْدَالُهُ مِنْ هَمْزٍ أَوْ مِنْ وَاوٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ بِالْهَمْزِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمِنْشَارُ بِالنُّونِ، بِنَاءً عَلَى التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمَشْهُورُ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ عَلَى لِسَانِ الْعَامَّةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: أَشَرَ الْخَشَبَ بِالْمِيشَارِ شَقَّهُ، وَنَشَرَ الْخَشَبَ نَحَتَهُ، وَوَشَرَ الْخَشَبَ بِالْمِيشَارِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ لُغَةٌ فِي أَشَرَهَا بِالْمِنْشَارِ إِذَا نَشَرَهَا. انْتَهَى. وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْهَمْزُ وَالْوَاوَ لُغَةٌ فِي الشَّقِّ وَالنُّونَ خَاصٌّ بِمَعْنَى النَّحْتِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ ") أَيِ: الشُّقَّتَيْنِ مِنَ الرَّجُلِ

تَخْيِيلًا لِتَحْقِيقِ الْقَتْلِ (" ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِمًا، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: مَا ازْدَدْتُ ") : بِفَتْحِ الدَّالِ، وَقَالَ شَارِحٌ: بِكَسْرِ الدَّالِ الْأَوَّلِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. أَقُولُ: صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِتْيَانِهِ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ لَازِمٌ ; حَيْثُ قَالَ: زَادَهُ اللَّهُ خَيْرًا فَزَادَ وَازْدَادَ، حَيْثُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ زَادَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَأَنَّ ازْدَادَ قَاصِرٌ فَقَطْ حَيْثُ جَعَلَهُ مُطَاوِعًا، نَعَمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا زَادَ فَيَجِيءُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] ، وَقِيلَ: نَصَبَ إِيمَانًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى مَا زِدْتُ (" فِيكَ ") أَيْ: فِي مَعْرِفَتِكَ بِفِعْلِكَ هَذَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْإِحْيَاءِ (" إِلَّا بَصِيرَةً ") أَيْ: زِيَادَةَ عِلْمٍ وَيَقِينٍ بِأَنَّكَ كَاذِبٌ مُمَوِّهٌ، (" قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ ") : الْمُؤْمِنُ (" يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنَ أَوِ الدَّجَّالَ (" لَا يَفْعَلُ ") : مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَا يَفْعَلُ مَا فَعَلَ بِي مِنَ الْقَتْلِ وَالْإِحْيَاءِ - فِي الظَّاهِرِ (" بَعْدِي ") أَيْ: بَعْدَ فِعْلِهِ بِي (" بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ") ، وَفِي هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ سَلْبِ الْقُدْرَةِ الِاسْتِدْرَاجِيَّةِ عَنْهُ، وَتَسْلِيَةِ النَّاسِ فِي الْخَوْفِ مِنْهُ، (قَالَ: " فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيُجْعَلُ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِ أَيْ: فَيَجْعَلُ اللَّهُ (" مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ ") : بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْوَاوِ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ ثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ (" نُحَاسًا) أَيْ: كَالنُّحَاسِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ السَّيْفُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ مَعْمَرٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُجْعَلُ عَلَى حَلْقِهِ صَفْحَةُ نُحَاسٍ (" فَلَا يَسْتَطِيعُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ (" إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى وُصُولِ قَتْلِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى حُصُولِ مَضَرَّتِهِ (" سَبِيلًا ") : تَمْيِيزٌ أَيْ: طَرِيقًا مِنَ التَّعَرُّضِ، (قَالَ: " فَيَأْخُذُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ (" بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ ") أَيْ: يَرْمِي بِالْمُؤْمِنِ وَيَطْرَحُهُ (" فِي الْهَوَاءِ فَيَحْسِبُ النَّاسُ ") : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ فَيَظُنُّونَ (" أَنَّمَا قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ ") : فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ أَيْ: قَذَفَهُ إِلَيْهَا، وَالْأَظْهَرُ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ أَنَّمَا بِالْفَتْحِ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْضًا، كَمَا اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (" وَإِنَّمَا أُلْقِيَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُوقِعَ (" فِي الْجَنَّةِ ") ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ أَيْ: فِي بُسْتَانٍ مِنْ بَسَاتِينِ الدُّنْيَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْمِيَهُ فِي النَّارِ الَّتِي مَعَهُ، وَيَجْعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ جَنَّةً، كَمَا سَبَقَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَصِيرُ تِلْكَ النَّارُ رَوْضَةً وَجَنَّةً، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَوْتٌ عَلَى يَدِهِ سِوَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُ الرَّاوِي (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ") : فَالْمُرَادُ بِهَا قَتْلُهُ الْأَوَّلُ، فَتَأَمَّلْ ; فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الزَّلَلِ وَالْخَطَلِ وَالْوَحَلِ، كَمَا وَقَعَ فِيهِ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّ الدَّجَّالَ قَذَفَهُ فِيمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ نَارُهُ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ دَارُ الْبَقَاءِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ} [آل عمران: 169 - 170] أَيْ يَسْرَحُونَ فِي ثِمَارِ الْجَنَّةِ. أَقُولُ: فَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بِعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي أَيْ بَعْدَ قَتْلِي ثَانِيًا بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، أَيْ: غَيْرِي، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا يُفِيدُ تَأْيِيدَ مَا اخْتَرْنَاهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5477 - وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ حَتَّى يَلْحَقُوا بِالْجِبَالِ ". قَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ) ؟ قَالَ: " هُمْ قَلِيلٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5477 - (وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيِ: الْأَنْصَارِيَّةِ أَوِ الْقُرَشِيَّةِ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيَفِرَّنَّ ") أَيْ: لَيَهْرُبَنَّ (" النَّاسُ ") أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ (" مِنَ الدَّجَّالِ حَتَّى يَلْحَقُوا بِالْجِبَالِ " قَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ النَّاسِ فَأَيْنَ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الذَّابُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ، الْمَانِعُونَ عَنْ أَهْلِهِ صَوْلَةَ أَعْدَاءِ اللَّهِ؟ فَكَنَّى عَنْهُمْ بِهَا يَوْمَئِذٍ (قَالَ: " هُمْ) أَيِ: الْعَرَبُ (" قَلِيلٌ ") أَيْ: حِينَئِذٍ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: " لَيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ فِي الْجِبَالِ ". (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .

5478 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْفَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا، عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5478 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَتْبَعُ ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ، وَقَالَ شَارِحٌ: مِنَ الِاتِّبَاعِ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ أَيْ: يُطِيعُ (" الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْفَهَانَ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُكْسَرُ وَفَتْحِ الْفَاءِ، بَلَدٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادِ الْأَرْفَاضِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ فِيهِ كَسْرُ الْهَمْزَةِ وَفَتْحُهَا وَبِالْبَاءِ وَالْفَاءِ انْتَهَى. وَنُسَخُ الْمِشْكَاةِ كُلُّهَا بِالْفَاءِ، وَفِي الْمَشَارِقِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَيَّدَهَا أَبُو عُبَيْدٍ الْعُكْبُرِيُّ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَأَهْلُ خُرَاسَانَ يَقُولُونَهَا بِالْفَاءِ مَكَانَ الْبَاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الصَّوَابُ أَنَّهَا أَعْجَمِيَّةٌ، وَقَدْ يُكْسَرُ هَمْزُهَا، وَقَدْ يُبْدَلُ بَاؤُهَا فَاءً، وَفِي الْمُغْنِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، وَبِفَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَهْلِ الشَّرْقِ، وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ فِي الْغَرْبِ انْتَهَى. وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ أَصْفَهَانَ اثْنَانِ ; فَيُطَابِقُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَصْفَهَانُ خُرَاسَانَ لَا أَصْفَهَانُ الْغَرْبِ، لَكِنْ فِي قَوْلِهِ: أَصْفَهَانُ خُرَاسَانَ مُسَامَحَةٌ ; لِأَنَّ أَصْفَهَانَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِرَاقِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ خُرَاسَانُ فِي جِهَةِ الشَّرْقِ أَيْضًا، وَكَانَ أَشْهَرُ مِنَ الْعِرَاقِ أُضِيفَ إِلَيْهِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، (" سَبْعُونَ أَلْفًا ") ، وَفِي رِوَايَةٍ: تِسْعُونَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (" عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ) : بِفَتْحِ طَاءٍ وَكَسْرِ لَامٍ، جَمْعُ طَيْلَسَانٍ، وَهُوَ ثَوْبٌ مَعْرُوفٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الطَّيْلَسُ وَالطَّيْلَسَانُ مُثَلَّثَةُ اللَّامِ، عَنْ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ مُعَرَّبٌ، أَصْلُهُ تَالِسَانُ جَمْعُهُ الطَّيَالِسَةُ، وَالْهَاءُ فِي الْجَمْعِ لِلْعُجْمَةِ، وَاسْتُدِلَّ بَهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَمِّ لُبْسِهِ. وَرَوَاهُ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَةٍ سَمَّاهَا: (طَيُّ اللِّسَانِ عَنِ الطَّيْلَسَانِ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5479 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ رَجُلٌ وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ، فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5479 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَأْتِي الدَّجَّالُ ") أَيْ: يَظْهَرُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ يَتَوَجَّهُ إِلَى صَوْبِ الْمَدِينَةِ الْمُعَطَّرَةِ الْمَصُونَةِ (" وَهُوَ مُحَرَّمٌ ") : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: مَمْنُوعٌ (عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ ") : بِكَسْرِ النُّونِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ جَمْعُ نَقْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَالْأَنْقَابُ: جَمْعُ قِلَّةٍ كَذَا فِي النِّهَايَةِ: (" فَيَنْزِلُ ") أَيِ الدَّجَّالُ (" بَعْضَ السِّبَاخِ ") : بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: فِي بَعْضِ الْأَرَاضِي السَّبِخَةِ، وَهِيَ ذَاتُ مِلْحٍ لَا تُنْبِتُ (" الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ ") أَيْ: تَقْرُبُهَا، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَنْزِلُ دُبُرَ أُحُدٍ، (" فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ رَجُلٌ) أَيْ: عَظِيمٌ (وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ ") أَيْ: حِينَئِذٍ (" أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ ") ، عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّرْدِيدُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّاوِي، فَأَوْ: لِلشَّكِّ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ، (" فَيَقُولُ ") أَيْ: بَعْدَ رُؤْيَتِهِ (" أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَهُ ") أَيْ: وَصْفَهُ وَحَالَهُ، وَلَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: حَدِيثَكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ جَارٍ عَلَى قَوْلِهِ: الدَّجَّالُ ; لِأَنَّ الْمُظْهَرَ غَائِبٌ لَا عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ

(" فَيَقُولُ الدَّجَّالُ ") أَيْ: لِمَنْ حَوْلَهُ (" أَرَأَيْتُمْ ") أَيْ: أَخْبِرُونِي (" إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ ") ؟ أَيْ أَمْرِي، وَقِيلَ أَيْ: فِي أَنَّهُ لَهُ (فَيَقُولُونَ: لَا ") ، أَيْ: لَا نَشُكُّ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إِلَى إِثْبَاتِ الْأَمْرِ أَوْ نَفْيِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا قَوْلُ الدَّجَّالِ: إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ أَتَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، فَقَدْ يُشْكِلُ ; لِأَنَّ مَا أَظْهَرَهُ الدَّجَّالُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ ; لِظُهُورِ النَّقْصِ عَلَيْهِ وَدَلَائِلِ الْحُدُوثِ وَتَشْوِيهِ الذَّاتِ وَشَهَادَةِ كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ الْمَكْتُوبَةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُمْ لَعَلَّهُمْ قَالُوهُ خَوْفًا مِنْهُ لَا تَصْدِيقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا لَا نَشُكُّ فِي كَذِبِكَ وَكُفْرِكَ، فَإِنَّ مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَكَذِبِهِ كَفَرَ، وَخَادَعُوهُ بِهَذِهِ التَّوْرِيَةِ خَوْفًا مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: لَا نَشُكُّ هُمْ مُصَدِّقُوهُ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَقَاوَتَهُ، (" فَيَقْتُلُهُ ") أَيِ: الرَّجُلَ عَلَى مَا سَبَقَ (" ثُمَّ يُحْيِيهِ) أَيْ: وَيَسْأَلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ (" فَيَقُولُ ") أَيِ: الْمَقْتُولُ (" وَاللَّهِ مَا كُنْتُ ") أَيْ: فِي سَابِقِ الْأَيَّامِ (" فِيكَ ") أَيْ: فِي بُطْلَانِكَ (" أَشَدَّ بَصِيرَةً ") أَيْ: يَقِينًا (" مِنِّي ") : مُتَعَلِّقٌ بِأَشَدَّ (" الْيَوْمَ ") : بِالنَّصْبِ ظَرْفٌ لِأَشَدَّ (" فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَا يُسَلَّطُ ") : بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: فَلَا يَقْدِرُ (" عَلَيْهِ ") أَيْ: عَلَى قَتْلِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ فِي عَجْزِ الدَّجَّالِ آخِرًا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قُدْرَتَهُ أَوَّلًا كَانَتْ حَادِثَةً عَارِضَةً مُسْتَعَارَةً لِلِاسْتِدْرَاجِ بِهِ وَالِابْتِلَاءِ لِغَيْرِهِ، فَسُلِبَتْ عَنْهُ كَمَا سَتُنْزَعُ عَنْهُ رُوحُهُ، فَيَبْقَى جِيفَةً مُلْقَاةً بِالْأَرْضِ يَأْكُلُ مِنْهَا الْكِلَابُ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ: مَا لِلتُّرَابِ وَرَبِّ الْأَرْبَابِ. قَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّجَّالَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ عِنْدَ حَرَكَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَحَلِّ قُدْرَتِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ اخْتِبَارًا لِلْخَلْقِ ; لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5480 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَأْتِي الْمَسِيحُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ هِمَّتُهُ الْمَدِينَةُ، حَتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وَهُنَالِكَ يَهْلِكُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5480 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَأْتِي الْمَسِيحُ) أَيِ: الدَّجَّالُ (" مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ") : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِ (" وَهِمَّتُهُ ") أَيْ: قَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ (" الْمَدِينَةُ ") أَيِ: السَّكِينَةُ (" حَتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ ") : بِضَمِّ الدَّالِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ: خَلْفَ أُحُدٍ، وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ قُرْبَ الْمَدِينَةِ، (" ثُمَّ ") أَيْ: بَعْدَ مَا تَقَعُ قِصَّةُ الرَّجُلِ السَّابِقِ (" تَصْرِفُ الْمَلَائِكَةُ ") أَيْ: تَرُدُّ (" وَجْهَهُ ") أَيْ: تَوَجُّهَهُ وَقَصْدَهُ (" قِبَلَ الشَّامِ ") ، أَيْ: إِلَى حَيْثُ جَاءَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلُ بُطْلَانِهِ، وَأَمَارَةُ عَجْزِهِ وَنُقْصَانِهِ ; حَيْثُ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَدْخُلَ دَارًا فِيهِ مَدْفَنُ سَيِّدِ الْوَرَى، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ حَرَمَ مَكَّةَ بِالْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، (" وَهُنَالِكَ ") أَيْ: فِي الشَّامِ (" يَهْلِكُ ") أَيْ: يَقْتُلُهُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5481 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5481 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : بِالتَّاءِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ ") أَيْ: وَمَنْ بِهَا (" رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ") : بِضَمِّ رَاءٍ فَسُكُونِ عَيْنٍ وَبِضَمَّتَيْنِ أَيْ: خَوْفُهُ (" لَهَا ") أَيْ: لِلْمَدِينَةِ (" يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ") ، أَيْ طُرُقٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا أَبْوَابُ الْقَلْعَةِ حِينَئِذٍ (" عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ ") أَيْ: يَدْفَعَانِهِ عَنِ الدُّخُولِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنَّ جِبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ شَيْءٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِهِ، مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ: أَنَّ جِبْرَائِيلَ يَحْضُرُ مَوْتَ كُلِّ مُؤْمِنٍ يَكُونُ عَلَى طَهَارَةٍ، وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْفِتَنِ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَمُرُّ الدَّجَّالُ بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا هُوَ بِخَلْقٍ عَظِيمٍ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا جِبْرَائِيلُ بَعَثَنِي لِأَمْنَعَ حَرَمَ رَسُولِهِ» " انْتَهَى، وَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، أَوْ فُوِّضَ إِلَى جِبْرَائِيلَ مَنْعُ حَرَمِ رَسُولِهِ، وَأَمَّا حَرَمُهُ فَهُوَ لَهُ وَلِيٌّ وَكَفِيلٌ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ سُورَةُ الْفِيلِ، وَسَيَأْتِي فِيمَا «رُوِيَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَنِ الدَّجَّالِ أَنَّهُ قَالَ: فَلَا أَدَعُ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ هُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا» ، وَقَدْ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " «الدَّجَّالُ لَا يُولَدُ وَلَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ» .

5482 - «وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: " لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ. ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ، فَأَرْفَئُوا إِلَى جَزِيرَةٍ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، قَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ، قَالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً قَالَ فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ. قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي ; فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، فَلَعِبَ بِنَا الْبَحْرُ شَهْرًا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ، فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ اعْمِدُوا إِلَى هَذَا فِي الدَّيْرِ، فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا وَفَزِعْنَا مِنْهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ تُثْمِرُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّهَا تُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ. قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قُلْنَا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ. قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ. قَالُوا: وَعَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قُلْنَا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ. قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ، قَالَ أَمَا إِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي: إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ وَإِنِّي يُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ، فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ، فَلَا أَدَعُ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، هُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلِكٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ صَلْتًا يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ: " وَهَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ " يَعْنِي الْمَدِينَةَ، " أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ؟ " فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوِ الْيَمَنِ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ " وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5482 - (وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ) أَيِ الْقُرَشِيَّةِ، أُخْتِ الضَّحَّاكِ، كَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، رَوَى عَنْهَا نَفَرٌ، كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَعَقْلٍ وَكَمَالٍ، وَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَوْلَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَتْ: سَمِعْتُ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي) : تَحْقِيقُ إِعْرَابِهِ كَمَا فِي الْقُرْآنِ: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193] ، (الصَّلَاةَ) : بِنَصْبِهَا وَيُرْفَعُ، وَكَذَا قَوْلُهُ (جَامِعَةً) ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بِنَصْبِ " الصَّلَاةَ " وَ " جَامِعَةً " الْأَوَّلِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَالثَّانِي عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجْهُ الرِّوَايَةِ بِالرَّفْعِ أَنْ يُقَدَّرَ هَذِهِ أَيْ هَذِهِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَيَجُوزَ أَنْ يُنْصَبَ جَامِعَةً عَلَى الْحَالِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لِلدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا كَانَ النَّصْبُ أَجْوَدَ وَأَشْبَهَ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ انْتَهَى. فَالتَّرْكِيبُ ثُلَاثِيٌّ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ شَارِحٌ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَفْعُولُ يُنَادِي ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَهِيَ فِي إِعْرَابِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ كَمَا مَرَّ، أَيْ: فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ هُنَا ; حَيْثُ قَالَ بِرَفْعِهِمَا، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَنَصْبِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ: احْضُرُوا الصَّلَاةَ حَالَ كَوْنِهَا جَامِعَةً، وَبِرَفْعِ الْأَوَّلِ عَلَى تَقْدِيرِ: هَذِهِ الصَّلَاةُ، وَنَصْبِ الثَّانِي عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَبِالْعَكْسِ عَلَى تَقْدِيرِ: احْضُرُوا الصَّلَاةَ وَهِيَ جَامِعَةٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِإِضْمَارِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ مَحَلُّ الْجُمْلَةِ نَصْبٌ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولُ يُنَادِي حِكَايَةً ; لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ. (فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ) : وَلَعَلَّ خُرُوجَهَا قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ كَانَ فِي اللَّيْلِ، أَوْ لَهُنَّ رُخْصَةٌ فِي حُضُورِ الصَّلَاةِ الْجَامِعَةِ ; قِيَاسًا عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ، (فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: صَلَاةَ نَافِلَةٍ أَوْ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ) أَيْ: أَدَّاهَا وَفَرَغَ عَنْهَا (جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ) أَيْ: يَتَبَسَّمُ ضَاحِكًا عَلَى عَادَتِهِ الشَّرِيفَةِ، (" فَقَالَ: " لِيَلْزَمْ ") : بِفَتْحِ الزَّايِ أَوْ لِيَلْتَزِمْ (" كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ ") أَيْ: مَوْضِعَ صَلَاتِهِ، فَلَا يَتَغَيَّرْ وَلَا يَتَقَدَّمْ وَلَا يَتَأَخَّرْ، (" ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ ") ؟ أَيْ بِنِدَاءِ " الصَّلَاةَ جَامِعَةً " (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ " إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ ") أَيْ: لِأَمْرٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ مِنْ عَطَاءٍ كَغَنِيمَةٍ (وَلَا رَهْبَةٍ) أَيْ: وَلَا لِخَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ (" وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ) : وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدٍّ لَهُ اسْمُهُ الدَّارُ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ تَمِيمَ الدَّارِيَّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَذَا هُوَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَتَمِيمَ الدَّارِيَّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي مُسْلِمٍ: لِأَنَّ تَمِيمَ الدَّارِيَّ (" كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ وَأَسْلَمَ وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي ") أَيْ: طَابَقَ الْحَدِيثَ الَّذِي (" كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ") ، فَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ: رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ". وَفِيهِ إِشْعَارٌ أَنَّ كَثْرَةَ الرُّوَاةِ لَهَا دَخْلٌ فِي قُوَّةِ الْإِسْنَادِ ; وَلِهَذَا قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِشْهَادِ وَطَرِيقِ الِاعْتِضَادِ (" حَدَّثَنِي ") : فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْجَاهِلِ الْمُكَابِرِ، حَتَّى يَتَكَبَّرَ عَنْ أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْخُمُولِ وَالْأَصَاغِرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كَلِمَةُ الْحِكْمَةِ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» " وَمِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا قَالَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ قَالَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَمِيمًا حَكَى لِي (" أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ ") أَيْ: لَا بَرِّيَّةٍ

احْتِرَازًا عَنِ الْإِبِلِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَفِينَةَ الْبَرِّ، وَقِيلَ: أَيْ مَرْكَبًا كَبِيرًا بَحْرِيًّا لَا زَوْرَقًا صَغِيرًا نَهْرِيًّا (" مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ ") : بِفَتْحِ لَامٍ وَسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَصْرُوفٌ، وَقَدْ لَا يُصْرَفُ، قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" وَجُذَامَ ") : بِضَمِّ الْجِيمِ (" فَلَعِبَ ") أَيْ دَارَ (" بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا ") أَيْ: مِقْدَارَ شَهْرٍ (" فِي الْبَحْرِ ") ، وَاللَّعِبُ فِي الْأَصْلِ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، فَاسْتُعِيرَ لِصَدِّ الْأَمْوَاجِ السُّفُنَ عَنْ صَوْبِ الْمَقْصِدِ وَتَحْوِيلِهَا يَمِينًا وَشِمَالًا (" فَأَرْفَئُوا) : بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ قَرَّبُوا السَّفِينَةَ (" إِلَى جَزِيرَةٍ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ ") ، فِي شَرْحِ التُّورِبِشْتِيِّ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَرْفَأْتُ السَّفِينَةَ أُرْفِئُهَا إِرْفَاءً، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أُرْفِيهَا بِالْيَاءِ عَلَى الْإِبْدَالِ، وَهَذَا مَرْفَأُ السُّفُنِ أَيِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُشَدُّ إِلَيْهِ وَتُوقَفُ عِنْدَهُ. (" فَجَلَسُوا ") أَيْ: بَعْدَ مَا تَحَوَّلُوا مِنَ الْمَرْكَبِ الْكَبِيرِ (" فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ ") ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ قَارِبٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَفَتْحُهُ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْقِيَاسُ قَوَارِبُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَقْرُبِ السَّفِينَةِ هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ، جَمْعُ قَارِبٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَهِيَ سَفِينَةٌ صَغِيرَةٌ تَكُونُ مَعَ الْكَبِيرَةِ كَالْجَنِيبَةِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا رُكَّابُ السَّفِينَةِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَمَّا أَقْرُبُ فَلَعَلَّهُ جَمْعُ قَارِبٍ، فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ أَفْعُلُ، وَقَدْ أَشَارَ الْحُمَيْدِيُّ فِي غَرِيبِهِ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهُ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. (" فَدَخَلُوا فِي الْجَزِيرَةِ ") : اللَّامُ لِلْعَهْدِ أَيْ: فِي الْجَزِيرَةِ الَّتِي هُنَاكَ (" فَلَقِيَتْهُمْ ") أَيْ: فَرَأَتْهُمْ (" دَابَّةٌ أَهْلَبُ ") : الْهَلْبُ الشَّعَرُ، وَقِيلَ: مَا غَلُظَ مِنَ الشَّعَرِ، وَقِيلَ: مَا كَثُرَ مِنْ شَعَرِ الذَّنَبِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِأَنَّ الدَّابَّةَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38] ، كَذَا قَالُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِتَأْوِيلِ الْحَيَوَانِ ; وَلِذَا قَالَ: (" كَثِيرُ الشَّعَرِ ") : وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَعَطْفُ بَيَانٍ، ثُمَّ بَيَّنَهُ زِيَادَةَ تِبْيَانٍ ; حَيْثُ قَالَ اسْتِئْنَافًا: (" لَا يَدْرُونَ ") أَيْ: لَا يَعْرِفُ النَّاسُ الْحَاضِرُونَ (" مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ ") : بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَيَدْرُونَ بِمَعْنَى يَعْلَمُونَ لِمَجِيءِ الِاسْتِفْهَامِ تَعْلِيقًا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ: مَا نِسْبَةُ قُبُلِهِ مِنْ دُبُرِهِ؟ (" مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ ") أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا (" قَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ ") ؟ خَاطَبُوهَا مُخَاطَبَةَ الْمُتَعَجِّبِ الْمُتَفَجِّعِ، (" قَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ ") : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ بِفَتْحِ الْجِيمِ فَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى، قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَجَسُّسِهَا الْأَخْبَارَ لِلدَّجَّالِ، وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهَا دَابَّةُ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ، (" انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ ") : بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ دَيْرِ النَّصَارَى، فَفِي الْمَغْرِبِ الدَّيْرُ صَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْقَصْرُ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ أَوْ حَرْفُ التَّنْبِيهِ، (فَإِنَّهُ) أَيِ: الرَّجُلَ الَّذِي فِي الدَّيْرِ (" إِلَى خَبَرِكُمْ ") : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (" بِالْأَشْوَاقِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ شَوْقٍ أَيْ: كَثِيرُ الشَّوْقِ وَعَظِيمُ الِاشْتِيَاقِ، وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ شَدِيدُ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْخَبَرِ، حَتَّى كَأَنَّ الْأَشْوَاقَ مُلْصَقَةٌ بِهِ أَوْ كَأَنَّهُ مُهْتَمٌّ بِهَا. (" قَالَ ") أَيْ: تَمِيمٌ (" لَمَّا سَمَّتْ ") أَيْ: ذَكَرَتْ وَوَصَفَتْ (" لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا ") : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: خِفْنَا (" مِنْهَا ") أَيْ: مِنَ الدَّابَّةِ (" أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً ") أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، وَأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ شَيْطَانًا مُتَعَلِّقًا بِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، (" قَالَ ") أَيْ: تَمِيمٌ (" فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا ") أَيْ: حَالَ كَوْنِنَا مُسْرِعِينَ (" حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ ") ، قَالَ شَارِحٌ: دَيْرَ النَّصَارَى وَأَصْلُهُ الْوَاوُ انْتَهَى.

وَالْمَعْنَى أَنَّ أَصْلَهُ دَارَ بِالْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ الْوَاوِ، وَمَأْخُوذًا مِنَ الدَّوْرِ لِكَوْنِهِ مُدَوَّرًا، أَوْ يُدَارُ فِيهَا، أَوْ مَدَارُ الْمَعِيشَةِ وَالْمَبِيتِ إِلَيْهِ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْأَلِفُ يَاءً لِلْفَرْقِ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: دَيْرُ النَّصَارَى أَنَّهُ مِثْلُهُ، أَوْ فِي الْأَصْلِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَيْتِ الْخَمْرِ، (" فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ ") أَيْ: أَكْبَرُهُ جِهَةً أَوْ أَهْيَبُهُ هَيْئَةً (" رَأَيْنَاهُ ") : صِفَةُ إِنْسَانٍ احْتِرَازٌ عَمَّنْ لَمْ يَرَوْهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْنَى مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ صَحَّ قَوْلُهُ: (" قَطُّ ") الَّذِي يَخْتَصُّ بِنَفْيِ الْمَاضِي، وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَضْمُومَةِ فِي أَفْصَحِ اللُّغَاتِ، وَقَدْ تُكْسَرُ، وَقَدْ يَتْبَعُ قَافُهُ طَاءَهُ فِي الضَّمِّ، وَقَدْ تُخَفَّفُ طَاؤُهُ مَعَ ضَمِّهَا وَإِسْكَانِهَا عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ: مَا رَأَيْنَاهُ قَطُ، وَقَوْلُهُ: (" خَلْقًا ") تَمْيِيزُ أَعْظَمُ، (" وَأَشَدُّهُ ") أَيْ: أَقْوَى إِنْسَانٍ (" وِثَاقًا ") : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: قَيْدًا مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، هَذَا وَذَكَرَ الْأَشْرَفُ أَنَّ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ رَاجِعٌ إِلَى الْأَعْظَمِ أَيْ: مَا رَأَيْنَاهُ قَطُّ، أَعْظَمُ إِنْسَانٍ خَلْقًا، وَخَلْقًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ " أَعْظَمُ إِنْسَانٍ ". وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ، أَيْ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ ذَلِكَ الْأَعْظَمِ، وَأَشَدُّ: مَرْفُوعٌ عَطْفٌ عَلَى الْأَعْظَمِ، هَذَا وَإِنَّ لَفْظَةَ: " مَا " لَيْسَتْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَلَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَلَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَلَعَلَّ مَنْ زَادَهَا نَظَرَ إِلَى لَفْظَةِ قَطُّ ; حَيْثُ يَكُونُ فِي الْمَاضِي الْمَنْفِيِّ، فَالْوَجْهُ أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ (" مَجْمُوعَةٌ ") : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ مَضْمُومَةٍ (" يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ ") ، وَقَوْلُهُ: (" مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ ") ، لَمَّا كَانَ ظَاهِرُهُ أَنْ يُؤْتَى بِالْوَاوِ فِي أَوَّلِهِ ; لِيَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَجْمُوعَةٌ سَاقَاهُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِالْحَدِيدِ قَيْدًا لَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَا " مَوْصُولَةٌ مَرْفُوعَةُ الْمَحَلِّ الْمَعْنِيِّ (" بِالْحَدِيدِ ") ، وَحُذِفَ مَجْمُوعَةٌ فِي الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْأُولَى عَلَيْهِ (" قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ ") ؟ اسْتَغْرَبُوهُ فَأَوْرَدُوا " مَا " مَكَانَ " مَنْ " وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ وَصْفِهِ وَحَالِهِ، إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ رَجُلٌ، وَقَدْ يَجِيءُ " مَا " بِمَعْنَى " مَنْ " كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] ، أَوْ رُوعِيَ مُشَاكَلَةُ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا خَلْقًا عَجِيبًا خَارِجًا عَمَّا عَهِدُوهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ حَالُهُ ; فَقَالُوا: مَا أَنْتَ مَكَانَ مَنْ أَنْتَ. (قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ ") أَيْ: تَمَكَّنْتُمْ (" عَلَى خَبَرِي) ، أَيْ: فَإِنِّي لَا أُخْفِيهِ عَنْكُمْ فَأُحَدِّثُ لَكُمْ عَنْ حَالِي (فَأَخْبِرُونِي) أَيْ: عَنْ حَالِكُمْ وَمَا أَسْأَلُهُ عَنْكُمْ أَوَّلًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" مَا أَنْتُمْ) ؟ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: مَنْ أَنْتُمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طِبَاقًا لِقَوْلِهِمْ جَزَاءً لِفِعْلِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِثْلُ مَا قَالُوا لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ؟ لِأَنَّهُ مَا عَهِدَ أَنَّ إِنْسَانًا يَطْرُقُ ذَلِكَ الْمَكَانَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مَنْ أَنْتُمْ، أَوْ مَا حَالُكُمْ؟ (" قَالُوا ") : فِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ، قَالَ بَعْضُنَا، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ لِلْغَائِبِينَ عَلَى الْحَاضِرِينَ. (" نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَكِبْنَا فِي سَفِينَةِ بِحْرِيَّةٍ، فَلَعِبَ بِنَا الْبَحْرُ شَهْرًا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ، فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ اعْمِدُوا ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ: اقْصِدُوا (" إِلَى هَذَا ") أَيِ: الرَّجُلِ (" فِي الدَّيْرِ ") أَيِ: الْقَصْرِ الْكَبِيرِ (فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا [وَفَزَعًا مِنْهَا] ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ

نَخْلِ بَيْسَانَ ") : [قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَيْءٍ تَسْتَخْبِرُ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا] : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ، وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَرِيبَةٌ مِنَ الْأُرْدُنِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْقَامُوسِ: قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، وَقَرْيَةٌ بِمَرْوٍ، وَمَوْضِعُ الْيَمَامَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنُونٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، لَكِنْ مَا وَجَدْتُ لَهُ أَصْلًا فِي اللُّغَةِ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ وَقَالَ: نَيْسَانُ سَابِعُ الْأَشْهُرِ الرُّومَةِ. (" هَلْ تُثْمِرُ ") ؟ أَيْ تِلْكَ النَّخْلُ، (" قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا ") : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّهَا تُوشِكُ ") : أَيْ تَقْرُبُ (" أَنْ لَا تُثْمِرَ. قَالَ ") أَيِ: الرَّجُلُ (" أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ ") : بِفَتْحَتَيْنِ، وَالْبُحَيْرَةُ تَصْغِيرُ الْبَحْرِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الطَّبَرِيَّةُ مُحَرَّكَةً قَصَبَةٌ بِالْأُرْدُنِّ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا طَبَرَانِيُّ، (" هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قُلْنَا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ. قَالَ: إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ ") أَيْ: يَفْنَى (" قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ ") : بِزَايٍ فَغَيْنٍ مُعْجَمَتَيْنِ فِرَاءٍ كَزُفَرَ، بَلْدَةٌ بِالشَّامِ قَلِيلَةُ النَّبَاتِ، قِيلَ: عَدَمُ صَرْفِهِ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ ; لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ امْرَأَةٍ ثُمَّ نُقِلَ، يَعْنِي لَيْسَ تَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ الْبَلْدَةِ وَالْبُقْعَةِ، فَإِنَّهُ يُذَكَّرُ مِثْلُهُ وَيُصْرَفُ بِاعْتِبَارِ الْبَلَدِ وَالْمَكَانِ، وَقَدْ قَالَ شَارِحٌ: هُوَ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْجَانِبِ الْقِبْلِيِّ مِنَ الشَّامِ (" هَلْ فِي الْعَيْنِ ") أَيْ: فِي عَيْنِهِ، أَوْ تِلْكَ الْعَيْنِ فَاللَّامُ لِلْعِوَضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَوْ لِلْعَهْدِ (" مَاءٌ ") ؟ أَيْ كَثِيرٌ لِقَوْلِهِ: (" وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهُ ") : أَهْلُ تِلْكَ الْعَيْنِ أَوِ الْبَلْدَةِ وَهِيَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: (" بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا ") ، الظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَهُ عَلَى طِبْقِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ إِمَّا أَنَّهَا يُوشِكُ أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مَاءٌ يَزْرَعُ بِهِ أَهْلُهَا، وَفِي الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَجْوِبَتِهَا الْمَسْطُورَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا عَلَامَاتٌ لِخُرُوجِهِ وَأَمَارَاتٌ لِذَهَابِ بَرَكَتِهَا بِشَآمَةِ ظُهُورِهِ وَوَصْلِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ تَوْطِئَةً لِمَا بَعْدَهَا (" قَالَ ") أَيِ: الدَّجَّالُ مُعْرِضًا عَنِ الْجَوَابِ الثَّانِي، وَبَادَرَ إِلَى السُّؤَالِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ ظُهُورُ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودِ (" أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ ") أَيِ: الْعَرَبِ (" مَا فَعَلَ ") ؟ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مَا صَنَعَ بَعْدَمَا بُعِثَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: أَرَادَ الدَّجَّالُ بِالْأُمِّيِّينَ الْعَرَبَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ غَالِبًا، وَإِنَّمَا أَضَافَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ طَعْنًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ خَاصَّةً، كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْيَهُودِ، أَوْ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَبْعُوثٍ إِلَى ذَوِي الْفِطْنَةِ وَالْكَيَاسَةِ وَالْعَقْلِ وَالرِّيَاسَةِ. (" قُلْنَا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ بِيَثْرِبَ ") : أَيْ هَاجَرَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، (" قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ ") أَيْ: غَلَبَ وَظَفِرَ (" عَلَى مَنْ يَلِيهِ ") أَيْ: يَقْرَبُهُ (" مِنَ الْعَرَبِ، وَأَطَاعُوهُ قَالَ أَمَا إِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَطَاعُوهُ، وَقَوْلُهُ: (" أَنْ يُطِيعُوهُ ") جَاءَ لِمَزِيدِ الْبَيَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَيْرٌ: إِمَّا خَبَرٌ مُسْنَدٌ إِلَى أَنْ يُطِيعُوهُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، أَوْ يَكُونُ أَنْ يُطِيعُوهُ مُبْتَدَأً، وَخَيْرٌ: خَبَرَهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ: يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ، وَالْمَخْذُولُ مِنَ الْبُعْدِ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ لَمْ يُرَ لَهُ فِيهِ مُسَاهِمٌ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ هَذَا؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ فِي الدُّنْيَا أَيْ: طَاعَتَهُمْ لَهُ خَيْرٌ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ

إِنْ خَالَفُوهُ اجْتَاحَهُمْ وَاسْتَأْصَلَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الصَّرْفَةِ، صَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الطَّعْنِ فِيهِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَيْهِ، وَتَفَوَّهَ بِمَا ذُكِرَ عَنْهُ كَالْمَغْلُوبِ عَلَيْهِ وَالْمَأْخُوذِ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ تَأْيِيدًا لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ (" وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي: إِنِّي ") : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهِ (" أَنَا الْمَسِيحُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ. (" وَإِنِّي ") : بِالْوَجْهَيْنِ (" يُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ، فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ، فَلَا أَدَعُ ") : بِالنَّصْبِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَجُوِّزَ رَفْعُهَا، أَيْ: فَلَا أَتْرُكُ (" قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ") : ظَرْفٌ لِأَسِيرَ، وَعَدَمُ التَّرْكِ إِشْعَارٌ بِقُوَّةِ سِيَاحَتِهِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ وُجُوهِ تَسْمِيَتِهِ بِالْمَسِيحِ، عَلَى أَنَّ فَعِيلَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، لِكَوْنِ سِيَاحَتِهِ مُرُورًا كَالْمَسِيحِ، (" غَيْرَ مَكَّةَ ") : اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي وَقَعَتْ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الْمُنْصَبِّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، (" وَطَيْبَةَ ") : عَطْفٌ عَلَى مَكَّةَ، وَهِيَ بِفَتْحِ طَاءٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَدِينَةِ كَطَابَةَ، (" هُمَا ") أَيْ: مَكَّةُ وَطَيْبَةُ (" مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ ") أَيْ: مَمْنُوعَتَانِ عَلَيَّ دُخُولُهُمَا (" كِلْتَاهُمَا ") : تَأْكِيدٌ لَهُمَا، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ (" كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدًا ") أَيْ: حَرَمًا وَاحِدًا (" مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا ") : بِفَتْحِ الصَّادِ وَيُضَمُّ أَيْ مُجَرَّدًا عَنِ الْغِمْدِ. قَالَ شَارِحٌ: هُوَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، حَالٌ عَنِ الْمَلَكِ أَوِ السَّيْفِ، أَيْ مُصْلَتًا أَوْ مُصْلِتًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَصْلَتَ سَيْفَهُ أَيْ جَرَّدَهُ مِنْ غِلَافِهِ، وَقَوْلُهُ: (" يَصُدُّنِي عَنْهَا ") أَيْ: يَمْنَعُنِي عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ وَالضَّمِيرُ لِلْمَلَكِ، أَوِ السَّيْفِ مَجَازًا، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي اللِّسَانِ، وَالْمَحْظُورُ فِي الْجَنَانِ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مَرْجِعًا لِلضَّمِيرِ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، (" وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ ") : بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ قَافٍ أَيْ طَرِيقٍ أَوْ بَابٍ (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ (" مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا ") أَيْ: يَحْفَظُونَهَا عَنِ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَعَنَ) أَيْ: وَقَدْ طَعَنَ أَيْ ضَرَبَ (بِمِخَصَرَتِهِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ أَيْ بِعَصَاهُ (فِي الْمِنْبَرِ) أَيْ: عَلَيْهِ فَفِي بِمَعْنَى " عَلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] ، أَوَ فِي الطَّعْنِ تَضْمَنُ الْإِيقَاعَ؟ كَقَوْلِهِ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي. وَفِي الْفَائِقِ: هِيَ قَضِيبٌ يُشِيرُ بِهِ الْخَطِيبُ أَوِ الْمَلِكُ إِذَا خَاطَبَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمِخْصَرَةُ كَالسَّوْطِ، وَكُلُّ مَا اخْتَصَرَ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ فَأَمْسَكَهُ مِنْ عَصًا وَنَحْوِهِا، فَهُوَ مِخْصَرَةٌ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْمِخْصَرَةُ مَا يُمْسِكُهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ مِنْ قَضِيبٍ أَوْ عَصًا وَنَحْوِهِمَا، فَيَضَعُ تَحْتَ خَاصِرَتِهِ وَيَتَّكِئُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: هِيَ كَالسَّوْطِ، (" هَذِهِ طَيْبَةُ ") الْجُمْلَةُ مَقُولٌ لَقَالَ، وَمَا بَيْنَهُمَا حَالٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ (" هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَهُ ") : كَرَّرَهَا ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ، (يَعْنِي الْمَدِينَةَ) أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: هَذِهِ - الْمَوْضُوعَةُ لِلْإِشَارَةِ الْمَحْسُوسَةِ - الْمَدِينَةَ الْمَحْرُوسَةَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمَّا وَافَقَ هَذَا الْقَوْلُ مَا كَانَ حَدَّثَهُمْ بِهِ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَسُرَّ بِهِ (فَقَالَ: " أَلَا ") أَيْ: تَنَبَّهُوا (" هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ") ؟ أَيْ: بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمُطَابِقٍ لِهَذَا الْخَبَرِ، (فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّهُ ") أَيِ: الدَّجَّالَ (" فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ ") : قِيلَ: لَمَّا حَدَّثَهُمْ بِقَوْلِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، لَمْ يَرَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَوْطِنَهُ وَمَجْلِسَهُ كَلَّ

التَّبْيِينِ، لِمَا رَأَى فِي الِالْتِبَاسِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فَرَدَّ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى التَّرَدُّدِ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ تُسَافِرُ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْبَحْرَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِبَحْرِ الشَّامِ مَا يَلِي الْجَانِبَ الشَّامِيَّ، وَبِبَحْرِ الْيَمَنِ مَا يَلِي الْجَانِبَ الْيَمَانِيَّ، وَالْبَحْرُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمُمْتَدُّ عَلَى أَحَدِ جَوَانِبِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنِ الْقَوْلَيْنِ مَعَ حُصُولِ الْيَقِينِ فِي أَحَدِهِمَا فَقَالَ: (" لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ") أَيْ: هُوَ، وَمَا: زَائِدَةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، بِمَعْنَى الَّذِي، أَيِ الْجَانِبُ الَّذِي هُوَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَفْظَةُ " مَا " هُنَا زَائِدَةٌ لِلْكَلَامِ وَلَيْسَتْ بِنَافِيَةٍ، وَالْمُرَادُ إِثْبَاتُ أَنَّهُ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا أَيِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، أَوِ الَّذِي هُوَ يَخْرُجُ مِنْهُ. (وَأَوْمَأَ) : بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ أَشَارَ (بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ) ، قَالَ الْأَشْرَفُ: يُمْكِنُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ شَاكًّا فِي مَوْضِعِهِ وَكَانَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ بَحْرَ الشَّامِ وَبَحْرَ الْيَمَنِ تَيَقَّنَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، فَنَفَى الْأَوَّلَيْنِ وَأَضْرَبَ عَنْهُمَا، وَحَقَّقَ الثَّالِثَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5483 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا، فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " قَالَ: " ثُمَّ إِذَا أَنَا بَرْجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ فِي الدَّجَّالِ: " «رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ» . وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» فِي (بَابِ الْمَلَاحِمِ) ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ فِي (بَابِ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ) . إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5483 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " رَأَيْتُنِي ") : مِنَ الرُّؤْيَا كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْمُكَاشَفَةِ مَعَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ كَمُكَاشَفَاتِهِمْ (" اللَّيْلَةَ ") أَيِ: الْبَارِحَةَ إِنْ وَقَعَ الْقَوْلُ فِي النَّهَارِ (" عِنْدَ الْكَعْبَةِ ") : ظَرْفٌ لِلرُّؤْيَةِ أَوْ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى رَأَيْتُ نَفْسِي عِنْدَ الْكَعْبَةِ (" فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ ") : بِالْمَدِّ أَيْ: أَسْمَرَ (" كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ") أَيْ: فِي الْأَوْصَافِ (" مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ ") : بِضَمِّ هَمْزٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ، جَمْعُ آدَمَ كَحُمْرٍ جَمْعِ أَحْمَرَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الضَّمِّ، فَهُوَ مِنْ سَهْوِ الْقَلَمِ (" لَهُ لِمَّةٌ ") : بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَا جَاوَزَ شَحْمَةَ الْأُذُنِ مِنَ الشَّعَرِ (" كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ ") : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ لِمَّةٍ (" قَدْ رَجَّلَهَا ") : بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ: سَرَّحَهَا وَمَشَّطَهَا (" فَهِيَ ") أَيِ: اللِّمَّةُ (" تَقْطُرُ مَاءً ") : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَاءِ الَّذِي سَرَّحَ بِهِ إِذْ لَا يُسَرَّحُ الشَّعَرُ وَهُوَ يَابِسٌ، وَأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ مَزِيدِ النَّظَافَةِ وَالنَّضَارَةِ، (" مُتَّكِئًا ") : صِفَةٌ أُخْرَى لِـ رَجُلًا، أَوْ حَالٌ مِنْهُ لِوَصْفِهِ بِآدَمَ أَيْ مُعْتَمِدًا (" عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ ") : جَمْعُ عَاتِقٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ الرِّدَاءِ مِنَ الْكَتِفِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ، ثُمَّ التَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وَحَدِيثُ أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، (" يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ") : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ (" فَسَأَلْتُ ") أَيِ: الطَّائِفِينَ أَوِ الْمَلَائِكَةَ الْحَافِّينَ (" مَنْ هَذَا ") ؟ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُكَاشَفَةَ قَدْ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مَعَ وُجُودِ بَعْضِ الْإِخْفَاءِ، (" فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ") ، قَالَ: أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" ثُمَّ إِذَا أَنَا بَرَجُلٍ جَعْدٍ ") : بِفَتْحِ جِيمٍ فَسُكُونِ عَيْنٍ وَهُوَ مِنَ الشَّعَرِ خِلَافُ السَّبْطِ أَوِ الْقَصِيرُ مِنْهُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (" قَطَطٍ ") : بِفَتْحِ الطَّاءِ الْأُولَى وَيُكْسَرُ فِي الْقَامُوسِ: الْقَطَطُ الْقَصِيرُ الْجَعْدُ مِنَ الرَّأْسِ كَالْقَطَطِ مُحَرَّكَةً (" أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى ") : بِالْجَرِّ فِي أَعْوَرِ مُضَافًا (" كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ ") : بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْهَمْزِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ بِالْهَمْزِ بِمَعْنَى ذَاهِبٌ ضَوْءُهَا وَبِدُونِهِ، وَصَحَّحَهُ الْأَكْثَرُ بِمَعْنَى: نَاتِئَةٌ بَارِزَةٌ كَنُتُوءِ حَبَّةِ الْعِنَبِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كِلَا عَيْنَيْهِ مَعِيبَةٌ عَوْرَاءُ، فَالْيُمْنَى مَطْمُوسَةٌ وَهِيَ الطَّافِئَةُ بِالْهَمْزِ،

وَالْيُسْرَى نَاتِئَةٌ جَاحِظَةٌ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ، وَهِيَ الطَّافِيَةُ بِلَا هَمْزٍ، (" كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ ") ، قَالَ الْجَزَرِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِالتَّكَلُّمِ وَالْخِطَابِ وَهُوَ أَوْضَحُ. قُلْتُ: أَكْثَرُ النُّسَخِ عَلَى التَّكَلُّمِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَقَامِ التَّشْبِيهِ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ ثُمَّ الْكَافُ مَزِيدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ، وَالْمَعْنَى: هُوَ أَشْبَهُ مَنْ أَبْصَرْتُهُ مِنَ النَّاسِ (" بِابْنِ قَطَنٍ ") : بِفَتْحَتَيْنِ وَاحِدٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِأَشْبَهِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ: أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الشَّبَهِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْآتِيَةِ. (" وَاضِعًا ") : أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ (" يَدَيْهِ ") : حَالٌ مِنَ الدَّجَّالِ (" عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ ") : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا مَنْ يُعَاوِنُهُ عَلَى بَاطِلِهِ مِنْ أُمَرَائِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجُلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مَنْ يُسَاعِدَانِ الْمَسِيحَ عَلَى حَقِّهِ، وَلَعَلَّهُمَا الْخَضِرُ وَالْمَهْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ، (" يَطُوفُ بِالْبَيْتِ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ هَذَا الْجَانِبِ، وَلَا يُفْتَحُ لَهُمْ غَرَضٌ إِلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125] إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ ; وَلِذَا وُجِدَ الْكُفَّارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَزَمَنِ الْبَعْثَةِ مَا كَانُوا يَتْرُكُونَ الطَّوَافَ، وَالْآنَ أَيْضًا يَتَمَنَّى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنْ يَتَشَرَّفُوا بِرُؤْيَةِ هَذَا الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ حَوْلَهُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: طَوَافُ الدَّجَّالِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، مَعَ أَنَّهُ كَافِرٌ، مُئَوَّلٌ بِأَنَّ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مُكَاشَفَاتِهِ، كُوشِفَ بِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صُورَتِهِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَنْزِلُ عَلَيْهَا يَطُوفُ حَوْلَ الدِّينِ ; لِإِقَامَةِ أَوْدِهِ وَإِصْلَاحِ فَسَادِهِ، وَأَنَّ الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ الْكَرِيهَةِ الَّتِي سَتَظْهَرُ يَدُولُ حَوْلَ الدِّينِ يُبْقِي الْعِوَجَ وَالْفَسَادَ، (" فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ ") . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ بِالْمَسِيحِ فِي أَحَبِّ الْوُجُوهِ إِلَيْنَا أَنَّ الْخَيْرَ مُسِحَ عَنْهُ ; فَهُوَ مَسِيحُ الضَّلَالَةِ، كَمَا أَنَّ الشَّرَّ مُسِحَ عَنْ مَسِيحِ الْهِدَايَةِ، وَقِيلَ سُمِّيَ عِيسَى بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ بِيَدِهِ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ أَمْسَحَ الرِّجْلِ لَا أَخْمَصَ لَهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ الْأَرْضَ أَيْ يَقْطَعُهَا، وَقِيلَ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ، وَسُمِّيَ الدَّجَّالُ بِهِ لِأَنَّ إِحْدَى عَيْنَيْهِ مَمْسُوحَةٌ لَا يُبْصِرُ بِهَا، وَالْأَعْوَرُ يُسَمَّى مَسِيحًا انْتَهَى. وَلِأَنَّهُ يَسْمَحُ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ جَمِيعَ مِسَاحَةِ الْأَرْضِ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَوُصِفَ بِالْمَسِيحِ الدَّجَّالِ لِأَنَّ الْمَسِيحَ وَصْفٌ غَلَبَ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَوُصِفَ بِالدَّجَّالِ لِيَتَمَيَّزَ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قِيلَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي بَابِ الْإِسْرَاءِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي الدَّجَّالِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ وَشَأْنِهِ (" رَجُلٌ ") أَيْ هُوَ رَجُلٌ (" أَحْمَرُ ") أَيْ: لَوْنًا (" جَسِيمٌ ") أَيْ: بَدَنًا (" جَعْدُ الرَّأْسِ ") أَيْ: شَعَرًا (" أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ ") . (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ". فِي بَابِ الْمَلَاحِمِ) . (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ (ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ إِلَخْ فِي بَابِ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: سَنَذْكُرُ، وَكَانَ الْمُؤَلِّفُ رَأَى أَنَّ ذِكْرَهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5484 - عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ: قَالَتْ قَالَ: " «فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَجُرُّ شَعَرَهَا قَالَ: مَا أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْقَصْرِ، فَأَتَيْتُهُ، فَإِذَا رَجُلٌ يَجُرُّ شَعَرَهُ، مُسَلْسَلٌ فِي الْأَغْلَالِ، يَنْزُو فِيمَا بَيْنُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الدَّجَّالُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5484 - (عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) أَيْ: عَلَى مَا سَبَقَ بِطُولِهِ (قَالَ) أَيْ: تَمِيمٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَتْ، أَيْ نَاقِلَةً عَنْهُ (" فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ ") ، قَالَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ، وَهَهُنَا: فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ. قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ لِلدَّجَّالِ جَسَّاسَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا دَابَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ امْرَأَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْجَسَّاسَةَ كَانَتْ شَيْطَانَةً ; تَمَثَّلَتْ تَارَةً فِي صُورَةِ دَابَّةٍ، وَأُخْرَى فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ، وَلِلشَّيْطَانِ التَّشَكُّلُ فِي أَيِّ تَشَكُّلٍ أَرَادَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُسَمَّى الْمَرْأَةُ دَابَّةً مَجَازًا. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} [الأنفال: 22] ، قُلْتُ الْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِشْهَادِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ; إِذِ الدَّابَّةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُمُّ الْمَخْلُوقِينَ الْمَرْزُوقِينَ بِخِلَافِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّوَابِّ بِهَا الْحَيَوَانَاتُ ; فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] ، (" تَجُرُّ شَعَرَهَا ") : صِفَةٌ لِامْرَأَةٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ شَعَرِهَا، وَالشَّعَرُ يُحَرَّكُ وَيُسَكَّنُ، (" قَالَ ") أَيْ: تَمِيمٌ (" مَا أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْقَصْرِ ") أَيِ: الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِيمَا سَبَقَ بِالدَّيْرِ، (" فَأْتَيْتُهُ، فَإِذَا رَجُلٌ يَجُرُّ شَعَرَهُ، مُسَلْسَلٌ ") : صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَيْ: مُقَيَّدٌ بِالسَّلَاسِلِ (" فِي الْأَغْلَالِ ") أَيْ: مَعَهَا، (" يَنْزُو ") : بِسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الزَّايِ أَيْ يَثِبُ وُثُوبًا (" فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ") ، وَأَبْعَدُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ " مُسَلْسَلٌ "، (فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الدَّجَّالُ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5485 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا، إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، لَيْسَتْ بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5485 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا ") أَيْ: لَا تَفْهَمُوا مَا حَدَّثْتُكُمْ فِي شَأْنِ الدَّجَّالِ، أَوْ تَنْسُوهُ لِكَثْرَةِ مَا قُلْتُ فِي حَقِّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: حَتَّى غَايَةُ حَدَّثْتُكُمْ، أَيْ: حَدَّثْتُكُمْ أَحَادِيثَ شَتَّى، حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَتَلَبَّسَ عَلَيْكُمُ الْأَمْرُ فَلَا تَعْقِلُوهُ فَاعْقِلُوهُ، وَقَوْلُهُ: (" إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ") أَيْ: بِكَسْرِ إِنَّ اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ تَأْكِيدًا لِمَا عَسَى أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ. انْتَهَى. وَقِيلَ: خَشِيتُ بِمَعْنَى رَجَوْتُ، وَكَلِمَةُ " لَا " زَائِدَةٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (" قَصِيرٌ ") ، وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِهِ أَعْظَمَ إِنْسَانٍ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَصِيرًا بَطِينًا عَظِيمَ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ ; لِكَوْنِهِ كَثِيرَ الْفِتْنَةِ، أَوِ الْعَظَمَةُ مَصْرُوفَةٌ إِلَى الْهَيْبَةِ. قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُغَيِّرُهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ (" أَفْحَجُ ") : بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى الْجِيمِ أَيِ: الَّذِي يَتَدَانَى صُدُورُ قَدَمَيْهِ، وَيَتَبَاعَدُ عَقِبَاهُ، وَيَنْفَحِجُ سَاقَاهُ أَيْ: يَنْفَرِجُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَرْوَاحِ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَحَجُ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ. (" جَعْدٌ ") أَيْ شَعَرُهُ، (" أَعْوَرُ ") أَيْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، (" مَطْمُوسُ الْعَيْنِ ") أَيْ مَمْسُوحُهَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْأُخْرَى (" لَيْسَتْ ") أَيْ: عَيْنُهُ (" بِنَائِتَةٍ ") أَيْ: مُرْتَفِعَةٍ فَاعِلَةٍ مِنَ النُّتُوءِ (" وَلَا حَجْرَاءَ ") : بِفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ حَاءٍ أَيْ وَلَا غَائِرَةٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ مُؤَكِّدَةٌ لِإِثْبَاتِ الْعَيْنِ الْمَمْسُوحَةِ، وَهِيَ لَا تُنَافِي أَنَّ الْأُخْرَى

نَاتِئَةٌ بَارِزَةٌ كَنُتُوءِ حَبَّةِ الْعِنَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (" فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ أَمْرُ الدَّجَّالِ بِنِسْيَانِ مَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مِنَ الْحَالِ، أَوْ إِنْ لُبِّسَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْأُمُورِ الْخَارِقَةِ عَنِ الْعَادَةِ، (" فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ") أَيْ: أَقَلَّ مَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ التَّنْزِيهُ عَنِ الْحُدُوثِ وَالْعُيُوبِ، لَا سِيَّمَا النَّقَائِصِ الظَّاهِرَةِ الْمَرْئِيَّةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

5486 - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ بَعْدَ نُوحٍ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَ الدَّجَّالَ قَوْمَهُ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ ". فَوَصَفَهُ لَنَا قَالَ: " لَعَلَّهُ سَيُدْرِكُهُ بَعْضُ مَنْ رَآنِي أَوْ سَمِعَ كَلَامِي ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَكَيْفَ قُلُوبُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " مِثْلُهَا، يَعْنِي الْيَوْمَ أَوْ خَيْرٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5486 - عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنَ (" لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ بَعْدَ نُوحٍ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَ الدَّجَّالَ قَوْمَهُ ") أَيْ: خَوَّفَهُمْ بِهِ، وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْذَرَ قَوْمَهُ، فَبَعْدَ نُوحٍ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ، (" وَإِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ ") أَيِ: الدَّجَّالَ بِبَيَانِ وَصْفِهِ خَوْفًا عَلَيْكُمْ مِنْ تَلْبِيسِهِ وَمَكْرِهِ (فَوَصَفَهُ لَنَا) أَيْ: بِبَعْضِ أَوْصَافِهِ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" لَعَلَّهُ سَيُدْرِكُهُ بَعْضُ مَنْ رَآنِي ") أَيْ: عَلَى تَقْدِيرِ خُرُوجِهِ سَرِيعًا، وَقِيلَ: دَلَّ عَلَى بَقَاءِ الْخَضِرِ (" أَوْ سَمِعَ كَلَامِي ") . لَيْسَ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، بَلْ لِلتَّنْوِيعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الرُّؤْيَةِ السَّمَاعُ، وَهُوَ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَوْ حَدِيثِي بِأَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَكَيْفَ قُلُوبُنَا يَوْمَئِذٍ؟) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سِحْرَهُ يُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ يُخَيِّلُ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا لَيْسَ مِنَ الْيَقِينِ، (قَالَ: " مِثْلُهَا ") أَيْ: مِثْلُ قُلُوبِكُمُ الْآنَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي: (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ بِالْإِطْلَاقِ تَقْيِيدَ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: (الْيَوْمَ " أَوْ خَيْرٌ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ التَّنْوِيعُ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، قِيلَ: وَحَسَّنَهُ، (وَأَبُو دَاوُدَ) .

5487 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5487 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) : تَصْغِيرُ حَرْثٍ بِمَعْنَى زَرْعٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيٌّ مَخْزُومِيٌّ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ. (عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْكَبِيرِ (قَالَ) أَيِ: الصِّدِّيقُ (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) : اسْتِئْنَافٌ مُؤَكِّدٌ لِحَدَّثَنَا، أَوْ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّاطِبِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّ الْإِبْدَالَ يَجْرِي فِي الْأَفْعَالِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: حَدَّثَنَا أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا قَالَ: (" الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، فِي الْقَامُوسِ: إِنَّهُ بِلَادٌ يَعْنِي مَعْرُوفَةً بَيْنَ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَبُلْدَانِ الْعِرَاقِ، مُعْظَمُهَا الْآنَ بَلْدَةُ هَرَاةُ الْمُسَمَّاةُ بِخُرَاسَانَ كَتَسْمِيَةِ دِمَشْقَ بِالشَّامِ، (" يَتْبَعُهُ ") : بِسُكُونِ التَّاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ: يَلْحَقُهُ وَيُطِيعُهُ (" أَقْوَامٌ ") أَيْ: جَمَاعَاتٌ أَيْ عَظِيمَةٌ وَغَرِيبَةٌ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهُمْ يُشْبِهُونَ الْجَانَّ، (" كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعُ الْمِجَنِّ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ التُّرْسُ، وَقَوْلُهُ: (" الْمُطْرَقَةُ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الطَّاءِ عَلَى مَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَأَكْثَرِ النُّسَخِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ

وَتَخْفِيفِهَا فَهِيَ مَفْعُولَةٌ مِنْ أَطْرَقَهُ أَوْ طَرَقَهُ أَيْ: جَعَلَ الطِّرَاقَ عَلَى وَجْهِ التُّرْسِ، وَالطِّرَاقُ بِكَسْرِ الطَّاءِ الْجِلْدُ الَّذِي يُقْطَعُ عَلَى مِقْدَارِ التُّرْسِ، فَيُلْصَقُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ وُجُوهَهُمْ عَرِيضَةٌ، وَوَجَنَاتِهِمْ مُرْتَفِعَةٌ كَالْمِجَنَّةِ، وَهَذَا الْوَصْفُ إِنَّمَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةِ التُّرْكِ وَالْأُزْبَكِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَلَعَلَّهُمْ يَأْتُونَ إِلَى الدَّجَّالِ فِي خُرَاسَانَ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: يَتَّبِعُهُ، أَوْ يَكُونُونَ حِينَئِذٍ مَوْجُودِينَ فِي خُرَاسَانَ، حَمَاهُ اللَّهُ مِنْ آفَاتِ الزَّمَانِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ.

5488 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ مِنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5488 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ (قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ ") أَيْ: بِخُرُوجِهِ وَظُهُورِهِ (" فَلْيَنْأَ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَمْرُ غَائِبٍ مِنْ نَأَى يَنْأَى حُذِفَ الْأَلِفُ لِلْجَزْمِ، أَيْ: فَلْيَبْعُدْ (" مِنْهُ ") أَيْ: مِنَ الدَّجَّالِ ; لِأَنَّ الْبُعْدَ عَنْ قُرْبِهِ سَعْدٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] ، وَالرُّكُونُ أَدْنَى الْمَيْلِ، (" فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ ") أَيِ: الرَّجُلُ (" يَحْسِبُ ") : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ: يَظُنُّ (" أَنَّهُ ") أَيِ: الرَّجُلَ بِنَفْسِهِ (" مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ ") : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ أَيْ: فَيُطِيعُ الدَّجَّالَ (" مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُفْتَحُ أَيْ: مِنْ أَجْلِ مَا يُثِيرُهُ وَيُبَاشِرُهُ (" مِنَ الشُّبُهَاتِ ") أَيِ: الْمُشْكِلَاتِ، كَالسِّحْرِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَيَصِيرُ تَابِعُهُ كَافِرًا وَهُوَ لَا يَدْرِي. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5489 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَاضْطِرَامِ السَّعَفَةِ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5489 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَنْصَارِيَّةٍ مِنْ ذَوَاتِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، (قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ") ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ لُبْثَهُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (" السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ") ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى سُرْعَةِ الِانْقِضَاءِ، كَمَا أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمٌ كَسَنَةٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الشِّدَّةَ فِي غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِقْصَاءِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالرِّجَالِ، (" وَالشَّهْرُ ") أَيْ: مِنَ السَّنَةِ (" كَالْجُمُعَةِ) أَيْ: كَالْأُسْبُوعِ، (" وَالْجُمُعَةُ ") : يَعْنِي الْأُسْبُوعَ مِنَ الشَّهْرِ (" كَالْيَوْمِ ") أَيْ: كَالنَّهَارِ، (" وَالْيَوْمُ كَاضْطِرَامِ السَّعَفَةِ فِي النَّارِ ") : بِفَتْحَتَيْنِ وَاحِدَةُ السَّعَفِ، وَهُوَ غُصْنُ النَّخْلِ، أَيْ: كَسُرْعَةِ الْتِهَابِ النَّارِ بِوَرَقِ النَّخْلِ، وَالِاضْطِرَامُ الِالْتِهَابُ وَالِاشْتِعَالُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْيَوْمَ كَالسَّاعَةِ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

5490 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ السِّيجَانُ» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5490 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ أُمَّتِي ") أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ أَوِ الدَّعْوَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا سَبَقَ أَنَّهُمْ مِنْ يَهُودِ أَصْفَهَانَ (" سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ السِّيجَانُ ") بِكَسْرِ السِّينِ جَمْعُ سَاجٍ كَتِيجَانَ وَتَاجٍ، وَهُوَ الطَّيْلَسَانُ الْأَخْضَرُ، وَقِيلَ: الْمَنْقُوشُ يُنْسَجُ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ إِذَا كَانَ أَصْحَابُ الثَّرْوَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا فَمَا ظَنُّكَ بِالْفُقَرَاءِ؟ قُلْتُ: الْفُقَرَاءُ لِكَوْنِهِمْ مُفْلِسِينَ هُمْ فِي أَمَانِ اللَّهِ، إِلَّا إِذَا كَانُوا طَامِعِينَ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَهُمْ فِي الْمَعْنَى مِنْ أَصْحَابِ الثَّرْوَةِ وَالتَّابِعِينَ لِتَحْصِيلِ الْكَثْرَةِ، سَوَاءٌ يَكُونُ مَتْبُوعُهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ، كَمَا شُوهِدَ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَيَّامِ يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ وَابْنِ زِيَادٍ، وَهَكَذَا يَزِيدُ الْفَسَادُ كُلَّ سَنَةٍ، بَلْ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْبِلَادِ، فَيَتْبَعُ الْعُلَمَاءُ الْعُبَّادَ، وَالْمَشَايِخُ الزُّهَّادَ، عَلَى مَا يُشَاهَدُ بِشَرِّ الْعِبَادِ لِلْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَنَاصِبِ الْكَاسِدَةِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قِيلَ: فِي سَنَدِهِ أَبُو هَارُونَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.

5491 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي، فَذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: " إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ سِنِينَ: سَنَةٌ تُمْسِكُ السَّمَاءُ فِيهَا ثُلُثَ قَطْرِهَا، وَالْأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، وَالثَّانِيَةُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَيْ قَطْرِهَا، وَالْأَرْضُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا، وَالثَّالِثَةُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا كُلَّهُ، وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ، فَلَا يَبْقَى ذَاتُ ظِلْفٍ وَلَا ذَاتُ ضِرْسٍ مِنَ الْبَهَائِمِ إِلَّا هَلَكَ، وَإِنَّ مِنْ أَشَدِّ فِتْنَتِهِ أَنَّهُ يَأْتِي الْأَعْرَابِيَّ فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ إِبِلَكَ! أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيُمَثِّلُ لَهُ الشَّيْطَانَ نَحْوَ إِبِلِهِ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ ضُرُوعًا، وَأَعْظَمِهِ أَسْنِمَةً ". قَالَ: وَيَأْتِي الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ أَخُوهُ، وَمَاتَ أَبُوهُ، فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأَخَاكَ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيُمَثِّلُ لَهُ الشَّيَاطِينَ نَحْوَ أَبِيهِ وَنَحْوَ أَخِيهِ ". قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَالْقَوْمُ فِي اهْتِمَامٍ وَغَمٍّ مِمَّا حَدَّثَهُمْ، قَالَتْ: فَأَخَذَ بِلَحْمَتَيِ الْبَابِ فَقَالَ: " مَهْيَمْ أَسْمَاءُ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ خَلَعْتَ أَفْئِدَتَنَا بِذِكْرِ الدَّجَّالِ. قَالَ: " إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا حَيٌّ، فَأَنَا حَجِيجُهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ رَبِّي خَلِيفَتِي، عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ "، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ إِنَّا لَنَعْجِنُ عَجِينَنَا فَمَا نَخْبِزُهُ حَتَّى نَجُوعَ فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " يُجْزِئُهُمْ مَا يُجْزِئُ أَهْلَ السَّمَاءِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْهَا. وَرَوَاهُ مُحْيِى السُّنَّةِ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5491 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَيِ: ابْنِ السَّكَنِ (قُلْتُ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي [فَذَكَرَ الدَّجَّالَ] فَقَالَ: " إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ") أَيْ: قُدَّامَ الدَّجَّالِ وَقُبَيْلَ زَمَانِ خُرُوجِهِ (" ثَلَاثَ سِنِينَ ") أَيْ: مُخْتَلِفَةً فِي ذَهَابِ الْبَرَكَةِ (" سَنَةٌ ") : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (" تُمْسِكُ السَّمَاءُ ") أَيْ: تَمْنَعُ بِإِمْسَاكِ اللَّهِ (" فِي ") أَيْ: فِي تِلْكَ السَّنَةِ (" ثُلُثَ قَطْرِهَا ") : بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ مَطَرِهَا الْمُعْتَادِ فِي الْبِلَادِ (" وَالْأَرْضُ ") أَيْ: وَتُمْسِكُ الْأَرْضُ (" ثُلُثَ نَبَاتِهَا ") أَيْ: وَلَوْ كَانَتْ تُسْقَى مِنْ غَيْرِ الْمَطَرِ، (" وَالثَّانِيَةُ ") أَيِ: السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ نَصْبُهَا إِمَّا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَإِمَّا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (" تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَيْ قَطْرِهَا وَالْأَرْضُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا، وَالثَّالِثَةُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا كُلَّهُ، وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ ") يَعْنِي: فَيَقَعُ الْقَحْطُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِ، وَيَكُونُ الْخَزَائِنُ وَالْكُنُوزُ تَتْبَعُهُ، وَأَنْوَاعُ النِّعَمِ مِنَ الْخُبْزِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ مَعَهُ، (" فَلَا يَبْقَى ") : بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ (" ذَاتُ ظِلْفٍ ") : بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ هِيَ الْبَقَرَةُ وَالشَّاةُ وَالظَّبْيُ، (" وَلَا ذَاتُ ضِرْسٍ) : وَهِيَ السِّبَاعُ مِنَ الْبَهَائِمِ (" إِلَّا هَلَكَ ") أَيْ: لَا يَبْقَى فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْهَلَاكِ، (" وَإِنَّ مِنْ أَشَدِّ فِتْنَتِهِ ") أَيْ: أَعْظَمِ بَلِيَّتِهِ (" أَنَّهُ يَأْتِي ") أَيِ: الدَّجَّالُ (" الْأَعْرَابِيَّ ") أَيِ: الْبَدَوِيَّ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ مِنْ جِنْسِ الْغَبِيِّ، (" فَيَقُولُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ (" أَرَأَيْتَ ") أَيْ: أَخْبِرْنِي (" إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ إِبِلَكَ ") أَيِ: الَّتِي مَاتَتْ مِنَ الْقَحْطِ (" أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى فَيُمَثِّلُ ") : بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُفْتَحُ أَيْ: يُصَوِّرُ لَهُ (" نَحْوَ إِبِلِهِ ") أَيْ: مِثَالَ إِبِلِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نُسْخَةُ: فَيُمَثِّلُ لَهُ الشَّيَاطِينَ نَحْوَ إِبِلِهِ (" كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ ") أَيْ: كَأَحْسَنِ أَكْوَانِهِ (" ضُرُوعًا ") أَيْ: مِنَ اللَّبَنِ، وَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، (" وَأَعْظَمِهِ ") أَيْ: وَأَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ السِّمَنِ (" أَسْنِمَةً ") : بِكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ السَّنَامِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا أَوْ إِعَادَةً لِطُولِ الْفَصْلِ تَأْيِيدًا (" وَيَأْتِي الرَّجُلَ ") : عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَأْتِي الْأَعْرَابِيَّ ; فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ أَشَدِّ الْفِتْنَةِ (" قَدْ مَاتَ أَخُوهُ ") أَيْ: مَثَلًا

(" وَمَاتَ أَبُوهُ ") : الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى " أَوْ " وَلِذَا أَعَادَ الْفِعْلَ (" فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ ") أَيْ: أَخْبِرْنِي، وَالْخِطَابُ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ، أَوْ لِكُلٍّ مِمَّنْ مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ (" إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأَخَاكَ ") : جَمِيعًا أَوْ أَخَاكَ (" أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيُمَثِّلُ لَهُ الشَّيَاطِينَ ") : مَفْعُولٌ أَوَّلٌ (" نَحْوَ أَبِيهِ وَنَحْوَ أَخِيهِ ") : مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَفِي نُسْخَةٍ يُمَثَّلُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: نَصْبُ " الشَّيَاطِينَ " بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَعَلَى هَذَا يُنْصَبُ نَحْوُ وَيُرْفَعُ بِاخْتِلَافِ الْعَامِلِينَ. (قَالَتْ) أَيْ: أَسْمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - (ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَالْقَوْمُ فِي اهْتِمَامٍ وَغَمٍّ) أَيْ: شَدِيدٍ زِيدَ لِلتَّأْكِيدِ (مِمَّا حَدَّثَهُمْ) أَيْ: مِنْ أَجْلِ تَحْدِيثِهِ إِيَّاهُمْ بِهِ (قَالَتْ: فَأَخَذَ بِلَحْمَتَيِ الْبَابِ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ أَيْ: نَاحِيَتِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ. وَقَالَ شَارِحٌ لَهُ هُوَ بِلَجْفَتَيِ الْبَابِ بِالْجِيمِ وَالْفَاءِ. قَالَ التُّوِرِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّوَابُ فَأَخَذَ بِلَجْفَتَيِ الْبَابِ، أُرِيدَ بِهِمَا الْعِضَادَتَانِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِجَانِبَيْهِ وَمِنْهُ أَلْجَافُ الْبِئْرِ أَيْ جَوَانِبُهَا. وَفِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ: بِلَحْمَتَيِ الْبَابِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ اللَّجْفَ فِي جَانِبِ الْبِئْرِ، وَلَجِيفَتَا الْبَابِ جَانِبَاهُ، لَكِنَّ بَعْدَ اتِّفَاقِ النُّسَخِ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْجِيهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: اللَّحْمَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ، فَيُجَرَّدُ وَيُقَالُ: الْمُرَادُ بِهِمَا قِطْعَتَا الْبَابِ ; فَإِنَّهُمَا تَلْتَحِمَانِ وَتَنْفَصِلَانِ وَتَلْتَئِمَانِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَخْطِئَةِ رُوَاةِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" مَهْيَمْ ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ثُمَّ فَتْحٍ فَسُكُونٍ، فِي الْقَامُوسِ: مَهْيَمْ كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ، أَيْ: مَا حَالُكَ وَمَا شَأْنُكَ أَوْ مَا وَرَاءَكَ أَوْ أَحَدَثَ لَكَ شَيْءٌ؟ وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَهْيَمْ كَلِمَةٌ يَمَانِيَّةٌ، وَمَعْنَاهُ مَا الْحَالُ وَالْخَبَرُ، وَقَوْلُهُ: (" أَسْمَاءُ ") : مُنَادًى حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ خَلَعْتَ أَفْئِدَتَنَا) أَيْ: أَقْلَقْتَ أَوْ قَلَعْتَ قُلُوبَنَا (بِذِكْرِ الدَّجَّالِ) أَيْ: وَمَا مَعَهُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَشِدَّةِ الْحَالِ، (قَالَ: " إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا حَيٌّ ") أَيْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا (" فَأَنَا حَجِيجُهُ ") أَيْ: دَافِعُهُ عَنْكُمْ بِالْحُجَّةِ أَوِ الْهِمَّةِ (" وَإِلَّا فَإِنَّ رَبِّي خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ ") ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْحُجَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ النُّبُوَّةِ مَوْجُودًا، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا فَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ، وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ، وَحَافِظُ أَوْلِيَائِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا لَنَعْجِنُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ (عَجِينًا فَمَا نَخْبِزُهُ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُضَمُّ أَيْ: فَمَا يَتِمُّ خَبْزُهُ (حَتَّى نَجُوعَ) أَيْ: مِنْ قِلَّةِ صَبْرِنَا عَنِ الْأَكْلِ (فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِينَ) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ: كَيْفَ حَالُهُمْ (يَوْمَئِذٍ) ؟ أَيْ: وَقْتَ الْقَحْطِ وَانْحِصَارِ وُجُودِ الْخُبْزِ عِنْدَ الدَّجَّالِ وَأَتْبَاعِهِ، (قَالَ: " يُجْزِئُهُمْ مَا يُجْزِئُ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَهْمُوزًا أَيْ: يَكْفِيهِمْ مَا يَكْفِي (" أَهْلَ السَّمَاءِ ") أَيِ: الْمَلَائِكَةَ (" مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ ") . قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنِ ابْتُلِيَ بِزَمَانِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ،

كَمَا لَا يَحْتَاجُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّا نَعْجِنُ الْعَجِينَ لِنَخْبِزَهُ، فَلَا نَقْدِرُ عَلَى خَبْزِهِ لِمَا فِينَا مِنْ خَوْفِ الدَّجَّالِ حِينَ خَلَعْتَ أَفْئِدَتَنَا بِذِكْرِهِ، فَكَيْفَ حَالُ مَنِ ابْتُلِيَ بِزَمَانِهِ؟ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُجْزِئُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُسَلِّيهِمْ بِبَرَكَةِ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ كَلِمَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عِبَادَةُ الْخَلْقِ، وَبِهَا يُقْطَعُ أَرْزَاقُهُمْ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَعْنَى الْإِقْطَاعِ تَسْوِيغُ الْإِمَامِ مِنْ مَالِ اللَّهِ شَيْئًا لِمَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَا يُعَيَّنُ لِلشَّخْصِ. (رَوَاهُ) : هُنَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ، وَأُلْحِقَ بِهِ: أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَقِيلَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْهَا، وَانْفَرَدَ بِهِ هُنَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5492 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا سَأَلَ أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّجَّالِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِي: " مَا يَضُرُّكَ؟ " قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهَرَ مَاءٍ. قَالَ: " هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5492 - (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: مَا سَأَلَ أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّجَّالِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ) أَيْ: عَنْهُ، (وَإِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَوْ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْمَنْفِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ وَقَالَ: إِنَّهُ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَوْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ لِي: " مَا يَضُرُّكَ ") ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: كُنْتُ مُولَعًا بِالسُّؤَالِ عَنِ الدَّجَّالِ، مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا يَضُرُّكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَافِيكَ شَرَّهُ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ إِخْبَارِيَّةٌ تَقْرِيرِيَّةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَبَرِيَّةً لَفْظًا وَفِي الْمَعْنَى دُعَائِيَّةً، وَإِنَّمَا أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِتَوَقُّعِ وَجُودِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (قُلْتُ: إِنَّهُمْ) أَيِ: النَّاسَ، أَوْ أَهْلَ الْكِتَابِ، أَوِ الْيَهُودَ (يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَزَايٍ أَيْ: مَعَهُ مِنَ الْخُبْزِ قَدْرَ الْجَبَلِ، وَفِي نُسْخَةٍ جَبَلَ خُبْزٍ، وَهِيَ كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ (وَنَهَرَ مَاءٍ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهُوَ أَفْصَحُ، وَتُسَكَّنُ وَهُوَ أَشْهَرُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِي زَمَانِهِ قَحَطَ الْمَاءُ أَيْضًا ابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ، وَزَوَالًا لِلْبَرَكَةِ فِي الْبِلَادِ لِعُمُومِ الْفَسَادِ، وَهَذَا سُؤَالٌ مُسْتَقِلٌّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ: قُلْتُ: إِلَى آخِرِهِ اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: سَأَلْتُهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: مَا يَضُرُّكَ أَيْ: مَا يُضِلُّكَ؟ قُلْتُ: كَيْفَ مَا يُضِلُّنِي وَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ، (قَالَ: " هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ") أَيِ: الدَّجَّالُ هُوَ أَحْقَرُ أَنَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُحَقَّقُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ لِلِابْتِلَاءِ، فَيَثْبُتُ الْمُؤْمِنُ وَيَزِلُّ الْكَافِرُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا سِيَّمَا قَدْ جَعَلَ فِيهِ آيَةً ظَاهِرَةً فِي كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ، وَيَقْرَأُهَا مَنْ لَا يَقْرَأُ. أَوْ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِهِ مُضِلًّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُشَكِّكًا لِقُلُوبِهِمْ، بَلْ إِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا، وَيُلْزِمَ الْحُجَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَحْوِهِمْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5493 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ عَلَى حِمَارٍ أَقْمَرَ، مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ سَبْعُونَ بَاعًا» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5493 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ عَلَى حِمَارٍ أَقْمَرَ» ") أَيْ: شَدِيدِ الْبَيَاضِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حِمَارَهُ أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِهِ، (" مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ) : صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِـ " حِمَارٍ " (سَبْعُونَ بَاعًا) ، وَهُوَ طُولُ ذِرَاعَيِ الْإِنْسَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

[باب قصة ابن صياد]

[بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ]

[4] بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5494 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ وَفِي أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَصَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ". ثُمَّ قَالَ لِابْنِ الصَّيَّادِ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُلِّطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئًا " وَخَبَّأَ لَهُ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] . فَقَالَ: هُوَ الدُّخُّ. فَقَالَ: " اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ ". قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ يَكُنْ هُوَ لَا تُسَلَّطْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ مِنْ قَتْلِهِ ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ الصَّيَّادِ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ. فَقَالَتْ: أَيْ صَافُ - وَهُوَ اسْمُهُ - هَذَا مُحَمَّدٌ. فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [4] بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ كَذَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ وَأَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: ابْنُ الصَّيَّادِ مُعَرَّفًا. فِي الْقَامُوسِ: ابْنُ صَائِدٍ أَوْ صَيَّادٍ الَّذِي كَانَ يُظَنُّ أَنَّهُ الدَّجَّالُ، وَقَالَ الْأَكْمَلُ: ابْنُ صَائِدٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: صِيَافٌ. وَيُقَالُ: ابْنُ صَائِدٍ وَهُوَ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: هُوَ دَخِيلٌ فِيهِمْ، وَكَانَ حَالُهُ فِي صِغَرِهِ حَالَ الْكُهَّانِ يَصْدُقُ مَرَّةً وَيَكْذِبُ مِرَارًا، ثُمَّ أَسْلَمَ لَمَّا كَبُرَ وَظَهَرَتْ مِنْهُ عَلَامَاتٌ مِنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنْهُ أَحْوَالٌ، وَسُمِعَتْ مِنْهُ أَقْوَالٌ تُشْعِرُ بِأَنَّهُ الدَّجَّالُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَابَ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: بَلْ فُقِدَ يَوْمَ الْحَرَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتَلَفُوا فِي حَالِ ابْنِ الصَّيَّادِ، فَقِيلَ: هُوَ الدَّجَّالُ، وَمَا يُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَثْبُتْ، إِذْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ فُقِدَ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ لِلدَّجَّالِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْبَلَدَيْنِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا، فَذَلِكَ فِي زَمَانِ خُرُوجِهِ، وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ الدَّجَّالُ، وَنُقِلَ أَنَّ جَابِرًا حَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، وَأَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَحْلِفُ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قِصَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدَّجَّالُ، نَعَمْ كَانَ أَمْرُ ابْنِ الصَّيَّادِ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، فَوَقَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ. أَقُولُ: وَلَا يُنَافِيهِ قِصَّةُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبْدَانٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَظَاهِرُهُ فِي عَالَمِ الْحِسِّ وَالْخَيَالِ دَائِرٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَبَاطِنُهُ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ مُقَيَّدٌ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَلَعَلَّ الْمَانِعَ مِنْ ظُهُورِهِ كَمَالَهُ فِي الْفِتْنَةِ وُجُودُ سَلَاسِلِ النُّبُوَّةِ وَأَغْلَالِ الرِّسَالَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5494 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِكَوْنِهِ هُوَ الْأَصْلَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ وَذِكْرُ ابْنِهِ تَبَعًا لَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْهُمَا، وَهُوَ مُوهِمٌ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْخِطَابُ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الصَّوَابِ، (انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: ذَهَبَ عُمَرُ مَعَهُ (فِي رَهْطٍ) : وَهُوَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمَعْنَى فِي جُمْلَةِ جَمْعٍ (مِنْ أَصْحَابِهِ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ) : بِكَسْرِ قَافٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: جَانِبَهُ (حَتَّى وَجَدُوهُ) : قِيلَ: حَتَّى هُنَا حَرْفُ ابْتِدَاءٍ يُسْتَأْنَفُ بَعْدَهُ الْكَلَامُ، وَيُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ، وَقَوْلُهُ: (يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ) حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ وَجَدُوهُ (وَفِي أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَنُقِلَ بِالضَّمِّ وَالْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ قَبِيلَةٌ، وَالْأُطُمُ بِضَمَّتَيْنِ الْقَصْرُ، وَكُلُّ حِصْنٍ مَبْنِيٍّ بِحِجَارَةٍ، وَكُلُّ بَيْتٍ مُرَبَّعٍ مُسَطَّحٍ، الْجَمْعُ آطَامٌ وَأُطُومٌ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمَشْهُورُ مَغَالَةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ. (وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ أَيِ: الْبُلُوغَ بِالِاحْتِلَامِ وَغَيْرِهِ (فَلَمْ يَشْعُرْ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ جَاءُوهُ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ أَيْ: لَمْ يَتَفَطَّنْ بِمَأْتَانَا، (حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَهْرَهُ) أَيْ: ظَهْرَ ابْنِ صَيَّادٍ (بِيَدِهِ) أَيِ: الْكَرِيمَةِ، (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ "، فَنَظَرَ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ غَضَبٍ أَوْ غَفْلَةٍ ; وَلِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ نَضْرَةٌ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] ، (فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ) . قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ بِهِمُ الْعَرَبَ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ، وَمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا مِنْ

قِبَلِ الْمَنْطُوقِ، لَكِنَّهُ يُشْعِرُ بِبَاطِلٍ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْعَرَبِ غَيْرُ مَبْعُوثٍ إِلَى الْعَجَمِ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ، وَهُوَ إِنْ قَصَدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَاذِبُ الَّذِي يَأْتِيهِ وَهُوَ شَيْطَانُهُ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعُهُ مِنَ الْيَهُودِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، أَوْ هَذَا مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ. (ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) ؟ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الرِّسَالَةَ النَّبَوِيَّةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ الْكَلَامِيَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الرِّسَالَةَ اللُّغَوِيَّةَ ; فَإِنَّهُ أُرْسِلَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى لِلْفِتْنَةِ وَالْبَلِيَّةِ، (فَرَصَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: ضَغَطَهُ حَتَّى ضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] ، ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا: فَرَفَضَهُ بِالْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمَعْنَى: تَرَكَهُ وَقَطَعَ سُؤَالَهُ وَجَوَابَهُ وَجِدَالَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ شَارِحٌ: قَوْلُهُ: فَرَضَّهُ أَيْ كَسَرَهُ، وَقِيلَ: صَوَابُهُ بِالْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعَصْرُ وَالتَّضْيِيقُ. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى فَرَصَّهُ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَالْكَلَامُ خَارِجٌ عَلَى إِرْخَاءِ الْعِنَانِ أَيْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَتَفَكَّرْ هَلْ أَنْتَ مِنْهُمْ؟ انْتَهَى. وَفِيهِ إِيهَامُ تَجْوِيزِ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ مِنَ الرُّسُلِ أَمْ لَا، وَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَمِلَ بِالْمَفْهُومِ كَمَا فَعَلَهُ الدَّجَّالُ، فَالْمَعْنَى: إِنِّي آمَنْتُ بِرُسُلِهِ وَأَنْتَ لَسْتَ مِنْهُمْ، فَلَوْ كُنْتَ مِنْهُمْ لَآمَنْتُ بِكَ، وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِلَّا فَبَعْدَ الْعِلْمِ بِالْخَاتِمَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَحَدٌ النُّبُوَّةَ فَطَلَبَ مِنْهُ شَخْصٌ الْمُعْجِزَةَ كَفَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ ادَّعَى بِحَضْرَتِهِ النُّبُوَّةَ ; لِأَنَّهُ صَبِيٌّ، وَقَدْ نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ، أَوْ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ مُسْتَمْسِكِينَ بِالذِّمَّةِ مُصَالِحِينَ أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذِمَّةُ ابْنِ الصَّيَّادِ لِتُنْقَضَ بِقَوْلِهِ الَّذِي قَالَ، كَذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَهْدَ الْوَالِدِ يُجْزِئُ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَرِيحًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَتَشْهَدُ اسْتِفْهَامٌ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ، وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنِ احْتِمَالِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي الرِّسَالَةِ. (ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ: " مَاذَا تَرَى ") ؟ ذَا زَائِدَةٌ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ: مَا تُبْصِرُ وَتُكَاشِفُ مِنَ الْأَمْرِ الْغَيْبِيِّ، (قَالَ: يَأْتِينِي صَادِقٌ) أَيْ: خَبَرٌ صَادِقٌ تَارَةً (وَكَاذِبٌ) أَيْ أُخْرَى، أَوْ مَلَكَ صَادِقٌ وَشَيْطَانٌ كَاذِبٌ، وَقِيلَ: حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّ الَّذِي يَأْتِيكَ مَا يَقُولُ لَكَ، وَمُجْمَلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ يُحَدِّثُنِي بِشَيْءٍ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا، وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا، (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُلِّطَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ أَيْ شُبِّهَ (" عَلَيْكَ الْأَمْرُ ") أَيِ: الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مَا يَأْتِيكَ بِهِ شَيْطَانُكَ مُخَلَّطٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ تَارَاتٌ يُصِيبُ فِي بَعْضِهَا وَيُخْطِئُ فِي بَعْضِهَا ; فَلِذَلِكَ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي خَبَّأْتُ ") أَيْ: أَضْمَرْتُ (" لَكَ ") أَيْ: فِي نَفْسِي (" خَبِيئًا ") أَيِ: اسْمًا مُضْمَرًا لِتُخْبِرَنِي بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا امْتَحَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ; لِيُظْهِرَ إِبْطَالَ حَالِهِ لِلصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ فَيُلْقِي عَلَى لِسَانِهِ، (وَخَبَّأَ لَهُ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] ، الْجُمْلَةُ حَالٌ بِتَقْدِيرٍ أَوْ بِدُونِهِ (فَقَالَ: " هُوَ الدُّخُّ ") : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ، وَحُكِيَ الْكَسْرُ أَيْضًا، فَفِي النِّهَايَةِ: الدُّخُّ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا الدُّخَانُ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] ، وَقِيلَ إِنَّ عِيسَى يَقْتُلُ الدَّجَّالَ بِجَبَلِ الدُّخَانِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَهُ تَعْرِيضًا لِقَتْلِهِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الدَّخُّ وَيُضَمُّ الدُّخَانُ. أَقُولُ: وَلَوْ رُوِيَ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْخَاءِ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي أَنَّهُ رَمْزٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى الدُّخَانِ وَتَصْرِيحٌ بِنُقْصَانِ إِدْرَاكِهِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكُهَّانِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الدُّخَانِ، وَمَعْنَى خَبَّأْتُ أَضْمَرْتُ لَكَ اسْمَ الدُّخَانِ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضْمَرَ لَهُ آيَةَ الدُّخَانِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي أَضْمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بِهَذَا اللَّفْظِ النَّاقِصِ عَلَى عَادَةِ الْكُهَّانِ إِذَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ إِلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا يَخْطِفُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الشِّهَابُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ عَنْهُ. (فَقَالَ: " اخْسَأْ ") : بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ كُلُّهُ زَجْرٌ وَاسْتِهَانَةٌ أَيِ: امْكُثْ صَاغِرًا، أَوِ ابْعُدْ حَقِيرًا وَاسْكُتْ مَزْجُورًا، مِنَ الْخُسُوءِ وَهُوَ زَجْرُ الْكَلْبِ، (" فَلَنْ تَعْدُوهَا ") : بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ: فَلَنْ تُجَاوِزَ (" قَدْرَكَ ") أَيِ: الْقَدْرَ الَّذِي يُدْرِكُهُ الْكُهَّانُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى بَعْضِ الشَّيْءِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا تَتَجَاوَزُ عَنْ إِظْهَارِ الْخَبِيآتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكَهَنَةِ إِلَى دَعْوَى النُّبُوَّةِ، فَتَقُولُ: أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. أَقُولُ: وَحَاصِلُ الْجُمْلَةِ وَزُبْدَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّكَ وَإِنْ أَخْبَرْتَ عَنِ الْخَبِيءِ، فَلَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تُجَاوِزَ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي حُدَّ لَكَ، يُرِيدُ أَنَّ الْكَهَانَةَ لَا تَرْفَعُ بِصَاحِبِهَا عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ، وَإِنْ أَصَابَ فِي كَهَانَتِهِ. (قَالَ عُمَرُ) : فِيهِ الْتِفَاتٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ مُصَاحِبًا لَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ فَقَالَ: قَالَ عُمَرُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ (أَضْرِبْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَلْأَضْرِبْ، وَفِي أُخْرَى: أَنْ أَضْرِبَ (عُنُقَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ يَكُنْ هُوَ ") أَيِ: الدَّجَّالُ (" لَا تُسَلَّطْ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَجْزُومًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: لَا تَقْدِرْ (" عَلَيْهِ ") أَيْ: عَلَى هَلَاكِهِ ; لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ أَنَّ قَاتِلَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَيَّامِ (" وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ ") أَيْ: لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ صَغِيرًا أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ كَوْنِ كَلَامِهِ مُحْتَمَلًا، أَقُولُ: وَأَوْسَطُهَا أَعْدَلُهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمَّا كَانَ فِيهِ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِ الدَّجَّالَ، ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ بِصُورَةِ الشَّدِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ هُوَ الضَّمِيرُ لِلدَّجَّالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَسْتَ صَاحِبَهُ ; إِنَّمَا صَاحِبُهُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَإِلَّا يَكُنْ هُوَ، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَهُوَ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهُ مُسْتَكِنٌّ فِيهِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُكِنَّهُ، فَوَضَعَ الْمَرْفُوعَ الْمُنْفَصِلَ مَوْضِعَ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ، عَكْسُ قَوْلِهِمْ: لَوْلَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلْمُسْتَكِنِّ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفًا عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ يَكُنْ هُوَ هَذَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ إِنْ يَكُنْ هُوَ الدَّجَّالَ، وَهُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالدَّجَّالُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ انْتَهَى. وَعَلَى الْأَخِيرِ يَكُونُ فِي يَكُنْ ضَمِيرُ الشَّأْنِ كَمَا لَا يَخْفَى. (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ) : بِالرَّفْعِ لِلْعَطْفِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ لِلْمَعِيَّةِ (يَؤُمَّانِ النَّخْلَ) : مِنْ أَمَّهُ يَؤُمُّهُ إِذَا قَصَدَهُ أَيْ: يَقْصِدَانِ النَّخِيلَ (الَّتِي فِيهَا) أَيْ فِيمَا بَيْنَهَا أَوْ فِي بُسْتَانِهَا (ابْنُ صَيَّادٍ، فَطَفِقَ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: شَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّقِي) أَيْ: يَسْتُرُ نَفْسَهُ (بِجُذُوعِ النَّخْلِ) أَيْ: وَيَتَخَبَّأُ عَنِ ابْنِ صَيَّادٍ ; لِيَأْخُذَهُ عَلَى غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَدَلُّ عَلَى بُطْلَانِ الرُّهْبَانِ، (وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَخْتِلُ) : بِسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ مِنَ الْخَتْلِ، وَهُوَ طَلَبُ الشَّيْءِ بِحِيلَةٍ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَخْدَعُ ابْنَ صَيَّادٍ (أَنْ يَسْمَعَ) أَيْ: لِيَسْمَعَ (مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ) أَيْ: يَعْلَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَالَهُ فِي أَنَّهُ كَاهِنٌ أَمْ سَاحِرٌ وَنَحْوُهُمَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ جَوَازُ كَشْفِ أَحْوَالِ مَا يُخَافُ مَفْسَدَتُهُ وَكَشْفِ الْأُمُورِ الْمُبْهَمَةِ بِنَفْسِهِ، (وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ) أَيْ: دِثَارٍ مُخَمَّلٍ، وَقِيلَ لِحَافٍ صَغِيرٍ، (لَهُ فِيهَا زَمْزَمَةٌ) . قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ مُسْلِمٍ بِزَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِرَائَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ صَوْتٌ خَفِيٌّ لَا يَكَادُ يُفْهَمُ أَوْ لَا يُفْهَمُ. قَالَ شَارِحٌ: هِيَ صَوْتٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صَوْتُ الرَّعْدِ. (فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ. فَقَالَتْ: أَيْ) : لِلنِّدَاءِ (صَافُ -) : بِالضَّمِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ صَافِي، فَحُذِفَ الْيَاءُ وَاكْتُفِيَ بِالْكَسْرَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: (وَهُوَ اسْمُهُ -) : وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنْ نَحْوِ اللَّقَبِ وَالْعَلَمِ (هَذَا) أَيْ: وَرَاءَكَ (مُحَمَّدٌ) ، أَوْ جَاءَكَ فَتَنَبَّهْ لَهُ، (فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ) أَيِ: انْتَهَى عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الزَّمْزَمَةِ وَسَكَتَ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ تَرَكَتْهُ ") أَيْ: أَمُّهُ (" بَيَّنَ ") أَيْ أَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ بَيَّنَ لَكُمْ بِاخْتِلَافِ كَلَامِهِ مَا يُهَوِّنُ عَلَيْكُمْ شَأْنَهُ. (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ مَا سَيَأْتِي حَدِيثٌ آخَرُ ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا ; وَلِذَا لَمْ يَأْتِ بِعَاطِفَةٍ، وَقَالَ: (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ") أَيْ: بَعْدَ نُوحٍ، (" لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ ") أَيْ: قَبْلَ الْأَنْبِيَاءِ، (" وَلَكِنَّنِي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، تَعْلَمُونَ ") : خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ: اعْلَمُوا (" أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ ") : بِالْفَتْحِ لِلْعَطْفِ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ (" لَيْسَ بِأَعْوَرَ ") أَيْ: لَا بِالْأَمْرِ الْبَدِيهِيِّ فِي التَّنْزِيهِ الْإِلَهِيِّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُكَاشَفْ أَوْ يُخْبَرْ بِأَنَّهُ أَعْوَرُ، وَيُحْتَمَلْ أَنَّهُ أُخْبِرَ، وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ كَرَامَةً لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ بِهَذَا الْوَصْفِ دُحُوضَ حُجَّتِهِ الدَّاحِضَةِ وَيُبَصِّرُ بِأَمْرِهِ جُهَّالَ الْعَوَامِّ، فَضْلًا عَنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ وَالْأَفْهَامِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: قِصَّتُهُ مُشْكِلَةٌ، وَأَمْرُهُ مُشْتَبِهٌ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ أَمْ غَيْرُهُ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَجَّالٌ مِنَ الدَّجَاجِلَةِ. قَالُوا: وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِفَاتِ الدَّجَّالِ، وَكَانَ لِابْنِ صَيَّادٍ قَرَائِنُ مُحْتَمِلَةٌ ; فَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ الدَّجَّالُ وَلَا غَيْرُهُ ; وَلِهَذَا قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَا يُولَدُ الدَّجَّالُ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَابْنُ صَيَّادٍ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَكَّةَ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ صِفَاتِهِ وَقْتَ فِتْنَتِهِ وَخُرُوجِهِ فِي الْأَرْضِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَمْرِهِ بَعْدَ كِبَرِهِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ كَشَفُوا عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ، وَقِيلَ لَهُمْ: اشْهَدُوا. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ يَحْلِفَانِ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ لَا يَشُكَّانِ فِيهِ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: إِنَّهُ أَسْلَمَ، فَقَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: وَإِنْ دَخَلَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَهَذَا يُبْطِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ جَابِرًا حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، وَأَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَحْلِفُ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْهُ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ": اخْتَلَفُوا فِي أَمْرِ ابْنِ صَيَّادٍ اخْتِلَافًا كَثِيرًا هَلْ هُوَ الدَّجَّالُ أَمْ لَا، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ احْتَجَّ بِحَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي قِصَّةِ الْجَسَّاسَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَافَقَ صِفَةُ ابْنِ صَيَّادٍ وَصِفَةُ الدَّجَّالِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَشْبَهَ النَّاسِ بِالدَّجَّالِ عَبْدُ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، وَلَيْسَ هُوَ هُوَ. قَالَ: وَكَانَ أَمْرُ ابْنِ صَيَّادٍ فِتْنَةً ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَعَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا الْمُسْلِمِينَ وَوَقَاهُمْ شَرَّهًا. قَالَ: وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ، هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ، قَدِ اخْتَارَ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ أَنَّهُ الدَّجَّالُ، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَقْتُلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ ادَّعَى بِحَضْرَتِهِ النُّبُوَّةَ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْجَوَابَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ مُهَادَنَةِ الْيَهُودِ وَحُلَفَائِهِمْ، وَجَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِالْجَوَابِ الثَّانِي، قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ كَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ كِتَابَ الصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى حَالِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ صَيَّادٍ مِنْهُمْ أَوْ دَخِيلًا فِيهِمْ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَمَّا امْتِحَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا خَبَّأَهُ لَهُ مِنْ آيَةِ الدُّخَانِ ; فَلِأَنَّهُ كَانَ يَبْلُغُهُ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْكَهَانَةِ وَيَتَعَاطَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْغَيْبِ، فَامْتَحَنَهُ لِيَعْلَمَ حَقِيقَةَ حَالِهِ، وَيُظْهِرَ إِبْطَالَ حَالِهِ لِلصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ كَاهِنٌ سَاحِرٌ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ، فَيُلْقِي عَلَى لِسَانِهِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيَاطِينُ إِلَى الْكَهَنَةِ فَامْتَحَنَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ، أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُ قَدْرَكَ وَقَدْرَ أَمْثَالِكَ مِنَ الْكُهَّانِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنْ جُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ، بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ يُوحِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا يُوحِي ; فَيَكُونُ وَاضِحًا جَلِيًّا كَامِلًا، وَبِخِلَافِ مَا يُلْهِمُ اللَّهُ الْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

5495 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَقِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَعْنِي ابْنَ صَيَّادٍ - فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " فَقَالَ هُوَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ وَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى صَادِقَيْنِ وَكَاذِبًا، أَوْ كَاذِبَيْنِ وَصَادِقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لُبِسَ عَلَيْهِ، فَدَعُوهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5495 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَقِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ أَبُو سَعِيدٍ بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ (ابْنَ صَيَّادٍ -) : وَالْمَعْنَى لَقُوهُ (فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " فَقَالَ هُوَ) أَيِ: ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي فَقَالَ: (أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ") : تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، (" مَاذَا تَرَى؟ " قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ ") ، أَقُولُ: قَدْ جَرَى لِبَعْضِ الْمُكَاشَفِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ (" وَمَا تَرَى؟ ") أَيْ: غَيْرَ هَذَا (قَالَ: أَرَى صَادِقَيْنِ وَكَاذِبًا، أَوْ كَاذِبَيْنِ وَصَادِقًا) أَيْ: يَأْتِينِي شَخْصَانِ يُخْبِرَانِي بِمَا هُوَ صِدْقٌ، وَشَخْصٌ يُخْبِرُنِي بِمَا هُوَ كَذِبٌ، وَالشَّكُّ مِنِ ابْنِ الصَّيَّادِ فِي عَدَدِ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ يَدُلُّ عَلَى افْتِرَائِهِ ; إِذِ الْمُؤَيَّدُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) أَيْ: لِأَصْحَابِهِ (" لُبِسَ ") : بِضَمِّ لَامٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَلَوْ شُدِّدَ لَأَفَادَ التَّأْكِيدَ وَالتَّكْثِيرَ أَيْ: خُلِطَ (" عَلَيْهِ الْأَمْرُ ") : فِي كَهَانَتِهِ (" فَدَعُوهُ ") أَيْ: فَاتْرُكُوهُ فَإِنَّهُ لَا يُحَدِّثُ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5496 - وَعَنْهُ: «أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: " دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ، مِسْكٌ خَالِصٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5496 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ) أَيْ: مَا تُرَابُهَا (فَقَالَ: " دَرْمَكَةٌ ") ، فِي الْقَامُوسِ: الدَّرْمَكُ كَجَعْفَرٍ دَقِيقُ الْحُوَّارَى، وَالتُّرَابُ النَّاعِمُ، (" بَيْضَاءُ ") : صِفَةٌ مُؤَكَّدَةٌ (" مِسْكٌ خَالِصٌ ") : خَبَرٌ ثَانٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: الدَّرْمَكَةُ الدَّقِيقُ الْحُوَّارَى، شَبَّهَ تُرْبَةَ الْجَنَّةِ بِهَا لِبَيَاضِهَا وَنُعُومَتِهَا، وَبِالْمِسْكِ لِطِيبِهَا انْتَهَى. وَيُقَالُ: دَقِيقُ حُوَّارَى بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، هُوَ مَا حُوِّرَ أَيْ بُيِّضَ مِنَ الطَّعَامِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5497 - وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: «لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ صَيَّادٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ قَوْلًا أَغْضَبَهُ، فَانْتَفَخَ حَتَّى مَلَأَ السِّكَّةَ، فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَدْ بَلَغَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ مَا أَرَدْتَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5497 - (وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ صَيَّادٍ) أَيْ: رَآهُ (فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ لَهُ (قَوْلًا أَغْضَبُهُ) أَيِ: الْقَوْلُ مَجَازًا، أَوِ ابْنُ عُمَرَ، (فَانْتَفَخَ) أَيْ: صَارَ ذَا نَفْخٍ مِنَ الْغَضَبِ (حَتَّى مَلَأَ) أَيْ: جَسَدُهُ الْمُنْتَفِخُ (السِّكَّةَ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيِ: الطَّرِيقَ (فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ) : وَهِيَ أُخْتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ (وَقَدْ بَلَغَهَا) أَيْ: وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا مَا جَرَى بَيْنَهُمَا، (فَقَالَتْ لَهُ) أَيْ: لِأَخِيهَا (رَحِمَكَ اللَّهُ) : جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِهَا لِلْأَحْيَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ الْآنَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ (مَا أَرَدْتَ) : مَا: اسْتِفْهَامٌ مَفْعُولُ أَرَدْتَ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ قَصَدْتَ (مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ) ؟ أَيْ: حَيْثُ أَغْضَبْتَهُ فِي الْكَلَامِ (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّمَا يَخْرُجُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ حِينَ يَخْرُجُ (" مِنْ غَضْبَةٍ ") : بِسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْغَضَبِ (" يَغْضَبُهَا ") : الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ وَالضَّمِيرُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ، أَيْ: أَنَّهُ يَغْضَبُ غَضْبَةً فَيَخْرُجُ بِسَبَبِ غَضَبِهِ فَيَدَّعِي النُّبُوَّةَ ; فَلَا تُغْضِبْهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلَا تَتَكَلَّمْ مَعَهُ كَيْلَا يَخْرُجَ فَتَظْهَرَ الْفِتَنُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِنَّمَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حِينَ يَغْضَبُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5498 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَحِبْتُ ابْنَ صَيَّادٍ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لِي: مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ؟ ! يَزْعُمُونَ أَنِّي الدَّجَّالُ، أَلَسْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ "؟ وَقَدْ وُلِدَ لِي، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ: " هُوَ كَافِرٌ؟ " وَأَنَا مُسْلِمٌ، أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ: " لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ؟ " وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ لِي فِي آخِرِ قَوْلِهِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَوْلِدَهُ وَمَكَانَهُ وَأَيْنَ هُوَ، وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: فَلَبَسَنِي، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، قَالَ: وَقِيلَ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فَقَالَ: لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا كَرِهْتُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5498 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ صَيَّادٍ إِلَى مَكَّةَ) أَيْ: مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهَا (فَقَالَ لِي: مَا لَقِيتُ) : مَا: اسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٍ، أَيْ: شَيْئًا عَظِيمًا لَقِيتُ (مِنَ النَّاسِ) ؟ أَيْ مِنْ كَلَامِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (يَزْعُمُونَ أَنِّي الدَّجَّالُ) أَيْ: وَلَسْتُ إِيَّاهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: يَزْعُمُونَ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَا لَقِيتُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ؟ قِيلَ لَهُ: مَاذَا تَشْكُو مِنْهُمْ؟ فَقَالَ يَزْعُمُونَ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَقِيتُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ وَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ كَذَا أَيْ: يَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِي، وَيَشُكُّونَ فِيهِ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ (أَلَسْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا يُولَدُ لَهُ " وَقَدْ وُلِدَ لِي، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ: " هُوَ كَافِرٌ؟ " وَأَنَا مُسْلِمٌ، أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ: " لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ " وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ) ، وَقَدْ سَبَقَ تَأْوِيلَاتُ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ، (ثُمَّ قَالَ لِي فِي آخِرِ قَوْلِهِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ) أَيْ: لَأَعْرِفُ (مَوْلِدَهُ) أَيْ: زَمَانَ وِلَادَةِ الدَّجَّالِ (وَمَكَانَهُ) أَيْ: حِينَئِذٍ (وَأَيْنَ هُوَ) أَيِ: الْآنَ (وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ) : فِيهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا وَصَادِقًا فِيهِ، (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَلَبَسَنِي) بِتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ جَعَلَنِي أَلْتَبِسُ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَشُكُّ فِيهِ، يَعْنِي حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا: اعْلَمْ أَنَا مُسْلِمٌ، ثُمَّ ادَّعَى الْغَيْبَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَ الْغَيْبِ فَقَدْ كَفَرَ ; فَالْتَبَسَ عَلَيَّ إِسْلَامُهُ وَكُفْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَلَبَّسَنِي مِنَ التَّلْبِيسِ أَيِ التَّخْلِيطِ ; حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ مَوْلِدَهُ وَمَوْضِعَهُ، بَلْ تَرَكَهُ مُلْتَبِسًا فَلُبِّسَ عَلَيَّ، أَوْ مَعْنَاهُ: أَوْقَعَنِي فِي الشَّكِّ بِقَوْلِهِ: وُلِدَ لِي،: وَبِدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ الدَّجَّالُ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (قُلْتُ لَهُ) أَيْ: لِابْنِ صَيَّادٍ (تَبًّا) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ هَلَاكًا وَخُسْرَانًا (لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ) أَيْ: جَمِيعَ الْيَوْمِ أَوْ بَاقِيَهُ، أَيْ: مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْيَوْمِ قَدْ خَسِرْتَ فِيهِ، فَكَذَا فِي بَاقِيهِ، (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَقِيلَ لَهُ) أَيْ: لِابْنِ صَيَّادٍ (أَيَسُرُّكَ) أَيْ: أَيُوقِعُكَ فِي السُّرُورِ وَيُفْرِحُكَ وَيُعْجِبُكَ (أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ) أَيْ: تَكُونُ الدَّجَّالَ، (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَقَالَ) أَيِ: ابْنُ صَيَّادٍ (لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا جُبِلَ فِي الدَّجَّالِ مِنَ الْإِغْوَاءِ وَالْخَدِيعَةِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَيَّ (" مَا كَرِهْتُ ") أَيْ: بَلْ قَبِلْتُ، وَالْحَاصِلُ رِضَاهُ بِكَوْنِهِ الدَّجَّالَ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى كُفْرِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5499 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَقِيتُهُ وَقَدْ نَفَرَتْ عَيْنُهُ فَقُلْتُ: مَتَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قُلْتُ: لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكَ؟ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا فِي عَصَاكَ، قَالَ: فَنَخَرَ كَأَشَدِّ نَخِيرِ حِمَارٍ سَمِعْتُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5499 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقِيتُهُ) أَيِ: ابْنَ صَيَّادٍ (وَقَدْ نَفَرَتْ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: وَرِمَتْ (عَيْنُهُ) : كَأَنَّ الْجِلْدَ يَنْفِرُ مِنَ اللَّحْمِ لِلدَّاءِ الْحَادِثِ بَيْنَهُمَا. قَالَ شَارِحٌ: وَرُوِيَ بِالْقَافِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيِ: اسْتُخْرِجَتْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَافِ، أَيْ: وَرِمَتْ وَنَتَأَتْ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وُجُوهًا أُخَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ. (قُلْتُ: مَتَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ) : أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْعَيْنِ مَجَازًا، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى مَتَى فَعَلَ اللَّهُ بِعَيْنِكَ (مَا أَرَى) ؟ أَيِ: الَّذِي أَرَاهُ فِيهَا مِنَ الْوَرَمِ، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ يَخْتَبِرُهُ أَوْ يُوَافِقُهُ أَوْ يُخَالِفُهُ، (قَالَ: لَا أَدْرِي، قُلْتُ: لَا تَدْرِي) : بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ (وَهِيَ فِي رَأْسِكَ) ؟ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهَذَا اسْتِبْعَادٌ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْإِمْكَانِ، بَلْ مِنْ أَبْدَعِ مَا كَانَ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِي عَيْنِهِ شَيْءٌ وَلَا يَدْرِي ; فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ، لَا سِيَّمَا وَكُلُّ أَحَدٍ أَعْجَمِيٌّ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ، بَصِيرٌ بِعُيُوبِ غَيْرِهِ، يَرَى الْقَذَى فِي عَيْنِ النَّاسِ، وَلَا يَرَى الْجِذْعَ فِي بَاصِرَتِهِ. (قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا) أَيْ: هَذِهِ الْعِلَّةَ أَوْ هَذِهِ الْعَيْنَ الْمَعِيبَةَ (فِي عَصَاكَ) أَيْ: بِحَيْثُ لَا تَدْرِي بِهَا، وَهِيَ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَيْكَ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُ ابْنِ صَيَّادٍ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا فِي عَصَاكَ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ بِحَالٍ لَا يَكُونُ لَهُ شُعُورٌ بِحَالِهَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَغْرِقًا فِي أَفْكَارِهِ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِهَا، وَالتَّذَكُّرِ لِأَحْوَالِهَا؟ قُلْتُ: وَنَظِيرُهُ قَطْعُ عُضْوٍ مَأْكُولَةٍ مِنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ حَالَةَ كَوْنِهِ مِنَ الْمُصَلِّينَ، مُسْتَغْرِقًا فِي بُلُوغِ مَدَارِجِ مُشَاهَدَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَطُلُوعِ مِعْرَاجِ مُنَاجَاةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَمَا يُشَاهَدُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَحِسُّ بِأَلَمِ الْجُوعِ فَرَحًا أَوْ حُزْنًا وَغَيْرِ ذَلِكَ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (فَنَخَرَ) أَيِ: ابْنُ صَيَّادٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: صَوَّتَ صَوْتًا مُنْكَرًا، (كَأَشَدِّ نَخِيرِ حِمَارٍ) ، قَالَ شَارِحٌ: هُوَ صَوْتُ الْأَنْفِ، يَعْنِي مَدَّ النَّفَسِ فِي الْخَيْشُومِ، (سَمِعْتُ) : بِالضَّمِّ أَيْ: سَمِعْتُ مِنْهُ صَوْتًا مُنْكَرًا، فَإِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَأَشَدِّ نَخِيرٍ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ نَخَرَ نَخْرَةً إِلَى آخِرِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5500 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: «رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ الدَّجَّالُ، قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5500 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) : تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، (قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ، وَتَعْرِيفُ صَيَّادٍ فِي الْأُصُولِ (الدَّجَّالُ) أَيْ: هُوَ الدَّجَّالُ (قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ) ؟ أَيْ: أَتَحْلِفُ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَجْزُومٍ بِهِ. (قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ الدَّجَّالُ (عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا لَأَنْكَرَهُ، أَيْ: وَلَمْ يَجُزِ الْيَمِينُ عَلَى مَا يَغْلِبُ بِهِ الظَّنُّ لِمَا سُكِتَ عَنْهُ، قِيلَ: لَعَلَّ عُمَرَ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ مِنَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ، فَيَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ، أَوْ يُضِلُّونَ النَّاسَ وَيُلْبِسُونَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّهُ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَدَّدَ ; حَيْثُ قَالَ: إِنْ يَكُنْ هُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ إِطْلَاقِ الدَّجَّالِ هُوَ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ، فَالْوَجْهُ حَمْلُ يَمِينِهِ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا قَالَ: قَوْلُهُ: فَلَمْ يُنْكِرْهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ حَذَّرَ النَّاسَ عَنْهُ مِنَ الدَّجَّالِينَ بِقَوْلِهِ: " «يَخْرُجُ فِي أُمَّتِي دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ» "، وَابْنُ صَيَّادٍ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا مِنْ جُمْلَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بِمَحْضَرٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ حَلِفُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُخَالِفًا لِلْحَقِيقَةِ، أَوْ يُرِيدُ أَنَّ فِيهِ صِفَةَ الدَّجَّالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5501 - عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَشُكُّ أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ابْنُ الصَّيَّادِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5501 - (عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَشُكُّ) أَيْ: لَا أَتَرَدَّدُ (أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ابْنُ صَيَّادٍ) أَيْ: هُوَ هُوَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِاللَّامِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

5502 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدْ فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5502 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدْ فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: قَدْ فُقِدَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَضَمِّ ابْنِ صَيَّادٍ (يَوْمَ الْحَرَّةِ) : هُوَ يَوْمُ غَلَبَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُحَارَبَتِهِ إِيَّاهُمْ. قِيلَ: هَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ ; إِذْ يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ الْمُحْتَمَلِ مَوْتُهُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَكَذَا بَقَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى حِينِ خُرُوجِهِ عَدَمُ جَزْمِ مَوْتِهِ بِالْمَدِينَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

5503 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَمْكُثُ أَبَوَا الدَّجَّالِ ثَلَاثِينَ عَامًا، لَا يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ، ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ، وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ". ثُمَّ نَعَتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَوَيْهِ، فَقَالَ: " أَبُوهُ طُوَالٌ ضَرْبُ اللَّحْمِ، كَأَنَّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ، وَأُمُّهُ امْرَأَةٌ فِرْضَاخِيَّةٌ طَوِيلَةُ الْيَدَيْنِ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ فِي الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ، فَإِذَا نَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمَا، فَقُلْنَا: هَلْ لَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَا: مَكَثْنَا ثَلَاثِينَ عَامًا، لَا يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ، ثُمَّ وُلِدَ لَنَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ، وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمَا، فَإِذَا هُوَ مُنْجَدِلٌ فِي الشَّمْسِ فِي قَطِيفَةٍ، وَلَهُ هَمْهَمَةٌ، فَكَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ فَقَالَ: مَا قُلْتُمَا؟ قَالَ: هَلْ سَمِعْتَ مَا قُلْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5503 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : بِالتَّاءِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَمْكُثُ أَبَوَا الدَّجَّالِ ") أَيْ: وَالِدَاهُ (" ثَلَاثِينَ عَامًا ") ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ الدَّجَّالِينَ ; فَلَا يُنَافِيهِ مَا سَبَقَ، وَلَا مَا يَأْتِي مِنَ الْكَلَامِ (" لَا يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ، ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ ") أَيْ: عَظِيمُ الضِّرْسِ، وَهُوَ السِّنُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّابُ لِمَا سَيَأْتِي، (" وَأَقَلُّهُ ") أَيْ: وَأَقَلُّ غُلَامٍ (" مَنْفَعَةً ") ، وَالْمَعْنَى: لَا غُلَامَ أَقَلُّ مِنْهُ نَفْعًا. قَالَ الْجَزَرِيُّ: قَوْلُهُ: أَضْرَسُ كَذَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أَيْ عَظِيمُ الضِّرْسِ، أَوِ الَّذِي يُولَدُ وَضِرْسُهُ مَعَهُ، وَلَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّهُ تَصْحِيفُ أَضَرُّ شَيْءٍ، وَكَذَا هُوَ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي أَخَذَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْهُ، وَبِهَذَا يَصِحُّ عَطْفُ وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا تَكَلُّفِ تَقْدِيرٍ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى شَيْءٍ، أَيْ: أَقَلُّ شَيْءٍ مَنْفَعَةً. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ نَاقِلًا عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَفِيهِ: غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضَرُّ شَيْءٍ وَأَقَلُّهُ نَفْعًا، (" تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ") ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا تَنْقَطِعُ أَفْكَارُهُ الْفَاسِدَةُ عَنْهُ عِنْدَ النَّوْمِ ; لِكَثْرَةِ وَسَاوِسِهِ وَتَخَيُّلَاتِهِ وَتَوَاتُرِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ يَنَامُ قَلْبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَفْكَارِهِ الصَّالِحَةِ ; بِسَبَبِ مَا تَوَاتَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ. (ثُمَّ نَعَتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَوَيْهِ فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" أَبُوهُ طُوَالٌ ") : بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ مُبَالَغَةُ طَوِيلٍ، وَالْمُشَدَّدُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الرِّوَايَةُ (" ضَرْبُ اللَّحْمِ ") أَيْ: خَفِيفُهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْخَفِيفُ اللَّحْمِ الْمُسْتَدَقُّ، وَفِي صِفَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ (" كَأَنَّ ") : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (" أَنْفَهُ مِنْقَارٌ ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: فِي أَنْفِهِ طُولٌ بِحَيْثُ يُشْبِهُ مِنْقَارَ طَائِرٍ، (" وَأُمُّهُ امْرَأَةٌ فِرْضَاخِيَّةٌ ") : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: ضَخْمَةٌ عَظِيمَةٌ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَفِي الْفَائِقِ: هِيَ صِفَةٌ بِالضَّخْمِ، وَقِيلَ بِالطُّولِ، وَالْيَاءُ مَزِيدَةٌ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَأَحْمَرِيٍّ، وَفِي الْقَامُوسِ: رَجُلٌ فِرْضَاخٌ ضَخْمٌ عَرِيضٌ أَوْ طَوِيلٌ، وَهِيَ بِهَاءٍ، وَامْرَأَةٌ فِرْضَاخَةٌ أَوْ فِرْضَاخِيَّةٌ عَظِيمَةُ الثَّدْيَيْنِ، وَفِي النِّهَايَةِ: فِرْضَاخِيَّةٌ ضَخْمَةٌ عَظِيمَةُ الثَّدْيَيْنِ، (" طَوِيلَةُ الْيَدَيْنِ ") أَيْ: بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَادَةِ نِسَائِهَا، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ أَعْضَائِهَا.

(فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ فِي الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ) : بِالرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ (حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ، فَإِذَا نَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: وَصْفُهُ (- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمَا، فَقُلْنَا: هَلْ لَكُمَا وَلَدٌ) ؟ بِالرَّفْعِ أَيْ: وُلِدَ وَلَدٌ، (فَقَالَا: مَكَثْنَا) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ: لَبِثْنَا (ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ ثُمَّ وُلِدَ لَنَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ) ، فِيهِ مَا تَقَدَّمَ (وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ) ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَظْهَرُ بَعْضُ آثَارِ قَلْبِهِ عَلَى صَفْحَةِ قَالِبِهِ، أَوْ هُوَ أَخْبَرَهُمَا عَنْ بَعْضِ مُدْرَكَاتِ قَلْبِهِ حَالَ نَوْمِهِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو بَكْرَةَ (فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمَا، فَإِذَا هُوَ) أَيِ: الْغُلَامُ (مُنْجَدِلٌ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: مُلْقًى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مُلْقًى عَلَى الْجَدَالَةِ، وَهِيَ الْأَرْضُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: " «أَنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَآدَمُ الْمُنْجَدِلُ فِي طِينَتِهِ» ". قُلْتُ فَفِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَاقِطٌ أَوْ وَاقِعٌ (فِي الشَّمْسِ فِي قَطِيفَةٍ) أَيْ: دِثَارٍ مُخْمَلٍ، وَقِيلَ لِحَافٍ صَغِيرٍ، (لَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، (وَلَهُ هَمْهَمَةٌ) أَيْ: زَمْزَمَةٌ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ كَلَامٌ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ تَرْدِيدُ الصَّوْتِ فِي الصَّدْرِ، أَيْ: كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْفَرَسِ عِنْدَ جَرَيَانِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَأَصْلُ الْهَمْهَمَةِ صَوْتُ الْبَقَرِ، (فَكَشَفَ) أَيِ: ابْنُ صَيَّادٍ (عَنْ رَأْسِهِ) أَيْ: غِطَاءَهُ (فَقَالَ: مَا قُلْتُمَا) ؟ كَأَنَّهُ وَقَعَ كَلَامٌ بَيْنَهُمَا فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، (قُلْنَا: وَهَلْ سَمِعْتَ مَا قُلْنَا؟ قَالَ نَعَمْ، تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.

5504 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَلَدَتْ غُلَامًا مَمْسُوحَةٌ عَيْنُهُ، طَالِعَةٌ نَابُهُ، فَأَشْفَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ الدَّجَّالَ، فَوَجَدَهُ تَحْتَ قَطِيفَةٍ يُهَمْهِمُ، فَآذَنَتْهُ أُمُّهُ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! هَذَا أَبُو الْقَاسِمِ، فَخَرَجَ مِنَ الْقَطِيفَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا لَهَا قَاتَلَهَا اللَّهُ؟ لَوْ تَرَكَتْهُ لَبَيَّنَ ". فَذَكَرَ مِثْلَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَقْتُلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَسْتَ صَاحِبَهُ، إِنَّمَا صَاحِبُهُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَإِلَّا يَكُنْ هُوَ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ " فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشْفِقًا أَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ» . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5504 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَلَدَتْ غُلَامًا مَمْسُوحَةٌ عَيْنُهُ) أَيِ: الْيُمْنَى، وَقِيلَ: الْيُسْرَى، (طَالِعَةٌ نَابُهُ) ، هَكَذَا هُوَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَالظَّاهِرُ طَالِعًا نَابُهُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ وَالتَّعَدُّدُ فِيهِ عَلَى التَّمَحُّلِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْمَعْنَى طَالِعَةٌ أَنْيَابُهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: النَّابُ السِّنَّةُ خَلْفَ الرُّبَاعِيَّةِ مُؤَنَّثٌ، فَالتَّعَدُّدُ بِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَقَلَّ يَكُونُ لِاثْنَيْنِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يُقَوِّي رِوَايَةَ: أَضْرَسُ. فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَأَشْفَقَ) أَيْ: خَافَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ سَلَّمَ -) أَيْ: عَلَى أُمَّتِهِ (أَنْ يَكُونَ) أَيْ: هُوَ (الدَّجَّالَ، فَوَجَدَهُ تَحْتَ قَطِيفَةٍ يُهَمْهِمُ) . أَيْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ، (فَآذَنَتْهُ) : بِالْمَدِّ أَيْ أَعْلَمَتْهُ (أُمُّهُ) أَيْ: بِمَأْتَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُ (فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ!) : يَحْتَمِلُ الْعَلَمِيَّةَ وَالْوَصْفِيَّةَ (هَذَا أَبُو الْقَاسِمِ) أَيْ: حَاضِرٌ أَوْ حَضَرَ، فَتَنَبَّهْ لَهُ وَتَهَيَّأَ لِكَلَامِهِ، (فَخَرَجَ مِنَ الْقَطِيفَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا لَهَا ") : مَا: لِلِاسْتِفْهَامِ مُبْتَدَأٌ، وَلَهَا: خَبَرُهُ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَهَا؟ (" قَاتَلَهَا اللَّهُ ") دُعَاءٌ عَلَيْهَا زَجْرًا لَهَا: (" لَوْ تَرَكَتْهُ لَبَيَّنَ ") أَيْ: لَأَظْهَرَ مَا فِي ضَمِيرِهِ.

(فَذَكَرَ) أَيْ: جَابِرُ (مِثْلَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ) أَيِ: الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ، (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ائْذَنْ لِي) : أَمْرٌ مِنَ الْإِذْنِ، أَيْ: أَعْطِنِي الْإِجَازَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (فَأَقْتُلَهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ يَكُنْ هُوَ ") أَيِ: ابْنُ الصَّيَّادِ الدَّجَّالَ (" فَلَسْتَ صَاحِبَهُ ") أَيْ: صَاحِبَ قَتْلِهِ وَمُبَاشَرَةِ هَلَاكِهِ، (إِنَّمَا صَاحِبُهُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَإِنْ لَا يَكُنْ) : اسْتِعْمَالُ " لَا " أَوْلَى هُنَا مِنْ قَوْلِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ (" فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ ") أَيْ: مِنَ الذِّمَّةِ وَالْجِزْيَةِ، (فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشْفِقًا) أَيْ: خَائِفًا عَلَى أُمَّتِهِ (أَنَّهُ) أَيِ: ابْنَ الصَّيَّادِ (هُوَ الدَّجَّالُ. رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، بِإِسْنَادِهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْوَجْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ابْنِ صَيَّادٍ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّضَادِّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسِبَهُ الدَّجَّالَ قَبْلَ التَّحْقِيقِ بِخَبَرِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، فَلَمَّا أُخْبِرَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا أُخْبِرَ بِهِ مِنْ شَأْنِ قِصَّتِهِ فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَوَافَقَ ذَلِكَ مَا عِنْدَهُ، تَبَيَّنَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ لَيْسَ بِالَّذِي ظَنَّهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ حِينَ صَحِبَهُ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَّا تَوَافُقُ النُّعُوتِ فِي أَبَوَيِ الدَّجَّالِ وَأَبَوَيِ ابْنِ صَيَّادٍ، فَلَيْسَ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ قَوْلًا، فَإِنَّ اتِّفَاقَ الْوَصْفَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اتِّحَادُ الْمَوْصُوفَيْنِ، وَكَذَا حَلَفَ عُمَرُ وَابْنُهُ مَعَ عَدَمِ إِنْكَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّهُ الدَّجَّالُ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَالِ، وَقَدْ كَانَ لِلدَّجَّالِ فِي بَعْضِ عَلَامَاتِهِ مَا أَوْرَثَ ذَلِكَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِشْفَاقًا مِنْهُ.

[باب نزول عيسى عليه الصلاة والسلام]

[بَابُ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5505 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ، حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ". ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] الْآيَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [5] بَابُ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5505 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ، حَكَمًا» ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ حَاكِمًا (" عَدْلًا ") أَيْ: عَادِلًا، (" فَيَكْسِرُ ") : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ: وَالْفَاءُ فِيهِ تَفْصِيلِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: حَكَمًا عَدْلًا، أَوْ تَفْرِيعِيَّةٌ أَيْ: يَهْدِمُ وَيَقْطَعُ (" الصَّلِيبَ ") ، قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِ: أَيْ فَيُبْطِلُ النَّصْرَانِيَّةَ وَيَحْكُمُ بِالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الصَّلِيبُ فِي اصْطِلَاحِ النَّصَارَى خَشَبَةٌ مُثَلَّثَةٌ يَدَّعُونَ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صُلِبَ عَلَى خَشَبَةٍ مُثَلَّثَةٍ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ صُورَةُ الْمَسِيحِ، (" وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ") أَيْ: يُحَرِّمُ اقْتِنَاءَهُ وَأَكْلَهُ، وَيُبِيحُ قَتْلَهُ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ أَعْيَانَهَا نَجِسَةٌ ; لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا يَقْتُلُهَا عَلَى حُكْمِ شَرْعِ الْإِسْلَامِ، وَالشَّيْءُ الطَّاهِرُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ لَا يُبَاحُ إِتْلَافُهُ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ يُبَاحُ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ، مَعَ أَنَّ فِي كَوْنِ الْخِنْزِيرِ نَجِسُ الْعَيْنِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ خِلَافًا لِلْعُلَمَاءِ، (" وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ ") أَيْ: عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرَ دِينِ الْحَقِّ،

وَقِيلَ: يَضَعُ الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُحْتَاجٌ يَقْبَلُ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ ; لِكَثْرَةِ الْمَالِ، وَقِلَّةِ أَهْلِ الْحِرْصِ وَالْآمَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (" وَيَفِيضُ ") : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ فَاضَ الْمَاءُ يَفِيضُ، إِذَا كَثُرَ حَتَّى سَالَ كَالْوَادِي عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، أَيْ يَكْثُرُ (" الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ") أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ، (" حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ ") أَيِ: الْوَاحِدَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الْعِبَادَةِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّجْدَةِ نَفْسُهَا أَوِ الصَّلَاةُ بِكَمَالِهَا لِتَضَمُّنِهَا لَهَا، (" خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ") ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَتَّى الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَيَفِيضُ الْمَالُ، وَالثَّانِيَةُ غَايَةٌ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ إِلَخْ، أَقُولُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الثَّانِيَةَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، أَوْ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِلَّةِ لَهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ تَزَلِ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَرْغَبُونَ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَيَزْهَدُونَ عَنِ الدُّنْيَا، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] الْآيَةَ) : بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهَا وَخَفْضُهَا وَقَدَّمْنَا وَجْهَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى نُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي آخِرِ الزَّمَانِ ; مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ، وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ فِي بِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ لِعِيسَى، وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي زَمَانِ نُزُولِهِ، فَتَكُونُ الْمِلَّةُ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ، وَهُوَ لَا يَنْفَعُ، فَضَمِيرُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَمِيرُ مَوْتِهِ لِلْكِتَابِيِّ، وَقِيلَ: كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤْمِنُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِعِيسَى، وَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَلَا يَنْفَعُ، وَقِيلَ: ضَمِيرُ بِهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤْمِنُ بِهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا يَنْفَعُ، وَالْأُولَى مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْآيَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5506 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَيَتْرُكَنَّ الْقِلَاصَ، فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَ: " «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ؟» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5506 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا» ") : وَفِي نُسْخَةٍ: عَدْلًا وَهُوَ أَبْلَغُ (فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ ") أَيْ: لَيَحْكُمُ بِمَا ذُكِرَ، (" وَلَيَتْرُكَنَّ الْقِلَاصَ ") : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ: (" فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا ") أَيْ: لَا يُعْمَلُ عَلَى الْقِلَاصِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ الْقَلُوصِ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ النَّاقَةُ الشَّابَّةُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُتْرَكُ الْعَمَلُ عَلَيْهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا لِكَثْرَةِ غَيْرِهَا، أَوْ مَعْنَاهُ لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِأَنْ يَسْعَى عَلَى أَخْذِهَا، وَتَحْصِيلِهَا لِلزَّكَاةِ لِعَدَمِ مَنْ يَقْبَلُهَا، فَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: يَتْرُكُ زَكَاتَهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا سَاعٍ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ مَعَهَا رَاعٍ يَسْعَى، فَفِي الصِّحَاحِ: كُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ قَوْمٍ فَهُوَ سَاعٍ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي لَيَتْرُكَّنَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِبِلَ الصَّدَقَةِ، وَلَا يَأْمُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْعَى عَلَيْهَا وَيَأْخُذَهَا ; لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَقْبَلُهَا لِاسْتِغْنَاءِ النَّاسِ عَنْهَا وَالْمُرَادُ بِالسَّعْيِ الْعَمَلُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ تَرْكِ التِّجَارَاتِ، وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الْمَالِ، وَتَحْصِيلِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِمْ (" وَلَتَذْهَبَنَّ ") أَيْ: وَلَتَزُولَنَّ (" الشَّحْنَاءُ ") : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: أَيِ الْعَدَاوَةُ الَّتِي تَشْحِنُ الْقَلْبَ وَتَمْلَؤُهُ مِنَ الْغَضَبِ (" وَالتَّبَاغُضُ ") أَيِ: الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعَدَاوَةِ (" وَالتَّحَاسُدُ ") أَيِ: الَّذِي هُوَ بَاعِثُ التَّبَاغُضِ، وَكُلُّهَا نَتِيجَةُ حُبِّ الدُّنْيَا، فَتَزُولُ كُلُّ هَذِهِ الْعُيُوبِ بِزَوَالِ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا عَنِ الْقُلُوبِ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: بِهِمَا تَذْهَبُ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ يَوْمَئِذٍ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَكُونُونَ يَوْمَئِذٍ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ، وَأَعْلَى أَسْبَابِ التَّبَاغُضِ وَأَكْثَرُهَا هُوَ اخْتِلَافُ الْأَدْيَانِ. قُلْتُ: الْيَوْمَ كَثِيرٌ مِنَ الْبُلْدَانِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِمْ عُلَمَاءُ الْأَعْلَامِ وَمَشَايِخُ الْكِرَامِ، مَعَ كَثْرَةِ التَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ وَالْعَدَاوَةِ بَلِ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُحَارَبَةِ بَيْنَ الْحُكَّامِ، وَلَيْسَ السَّبَبُ وَالْبَاعِثُ عَلَيْهَا إِلَّا حُبُّ الْجَاهِ بَيْنَ الْأَنَامِ، وَالْمَيْلُ إِلَى الْمَالِ الْحَرَامِ. (" وَلَيَدْعُوَنَّ ") : ضُبِطَ فِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْوَاوِ، وَنُسِبَ إِلَى النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَالصَّوَابُ مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمَعْنَى لَيَدْعُوَنَّ النَّاسَ (" إِلَى الْمَالِ ") أَيْ: أَخْذِهِ وَقَبُولِهِ (" فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ ") :

أَيِ: اسْتِغْنَاءً بِعَطَاءِ الْأَحَدِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) أَيْ: لِمُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَكُونَ قَرِينًا لَهُ، فِيهِ نَوْعُ تَغْلِيبٍ لِلْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" كَيْفَ أَنْتُمْ ") أَيْ: حَالُكُمْ وَمَآلُكُمْ (" إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ ") ؟ أَيْ: مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ، وَقِيلَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ الْمَهْدِيُّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِمَامَكُمْ وَاحِدٌ مِنْكُمْ دُونَ عِيسَى، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِيفَةِ، وَقِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَكُونُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ مُقَرِّرًا لِمِلَّتِهِ وَمُعِينًا لِأُمَّتِهِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَفَى شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ مَعْمَرٌ: وَإِنَّكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: فَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ، قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فِي مَعْنَاهُ: فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالضَّمِيرُ فِي إِمَامِكُمْ لِعِيسَى، وَمِنْكُمْ حَالٌ، أَيْ: يَؤُمُّكُمْ عِيسَى حَالَ كَوْنِهِ مِنْ دِينِكُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِمَامِكُمْ مِنْكُمْ كَيْفَ حَالُكُمْ وَأَنْتُمْ مُكْرَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَالُ أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ، وَعِيسَى يَقْتَدِي بِإِمَامِكُمْ تَكْرِمَةً لِدِينِكُمْ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الْآتِي اهـ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ.

5507 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " قَالَ: " فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا فَيَقُولُ: لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5507 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ» ") : إِمَّا مُقَاتَلَةً حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً عَلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِمْ عَلَى الْحَقِّ (" ظَاهِرِينَ ") أَيْ: غَالِبِينَ، أَيْ: عَلَى أَعْدَائِهِمْ ; قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] ، (" إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ") أَيْ: إِلَى قُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ، (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" فَيَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ ") أَيِ: الْمَهْدِيُّ (" تَعَالَ ") : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيِ: احْضُرْ وَتَقَدَّمْ (" وَصَلِّ ") : بَدَلٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَالْمَعْنَى: أُمَّ (" لَنَا ") أَيْ: فِي صَلَاتِنَا، فَإِنَّ الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَأَنْتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّسُولُ الْكَمِلُ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَعَالَ فَصَلِّ لَنَا (" فَيَقُولُ: لَا ") أَيْ: لَا أَصِيرُ إِمَامًا لَكُمْ ; لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِإِمَامَتِي لَكُمْ نَسْخُ دِينِكُمْ، وَقِيلَ: تَعَلَّلَ بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أُقِيمَتْ لِإِمَامِكُمْ، فَهُوَ أَوْلَى بِهَا، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ: (" «إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ» ") أَيْ: دِينِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ، وَإِنَّ عَلَى الْإِعَانَةِ الْمَعِيَّةَ (" تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ ") أَيْ: إِكْرَامًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ الْمُكَرَّمَةِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: تَكْرِمَةَ اللَّهِ نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: شَرَعَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَأَمِيرُهُمْ مِنْ عِدَادِهِمْ، تَكْرِمَةً لَهُمْ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِمْ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ قِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: الْأَصَحُّ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَيَؤُمُّهُمْ، وَيَقْتَدِي بِهِ الْمَهْدِيُّ ; لِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَإِمَامَتُهُ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ أَبَى شَرِيفٍ: هَذَا يُوَافِقُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ، لَكِنَّهُ فِيهِ مَا يُخَالِفُهُ، وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ صَلَّى بِهِمْ أَوَّلَ نُزُولِهِ ; تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ مُقْتَدًى بِهِ فِي الْحُكْمِ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ، ثُمَّ دَعَى إِلَى الصَّلَاةِ فَأَشَارَ بِأَنْ يَؤُمَّهُمُ الْمَهْدِيُّ ; إِظْهَارًا لِإِكْرَامِ اللَّهِ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِالْعَكْسِ أَيْضًا، وَرُبَّمَا يُدَّعَى أَنَّهُ الْأَوْلَى، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِمَامُكُمْ مِنْكُمْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمَهْدِيَّ هُوَ الْإِمَامُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. قَالَ: وَأَمَّا كَوْنُهُ أَفْضَلَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ الِاقْتِدَاءِ بِغَيْرِهِ، وَأَمَّا الْأَوْلَوِيَّةُ بِالْأَفْضَلِيَّةِ فَيُعَارِضُهَا إِظْهَارُ تَكْرِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِدَوَامِ شَرِيعَتِهِ، كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) يَعْنِي: عَنِ الْأَحَادِيثِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْحِسَانِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْبَغَوِيِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْفَصْلِ الثَّانِي عَلَى مُصْطَلَحِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ، أَيِ: الْمَوْضُوعُ فِي الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ لِصَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَلَى الْمَصَابِيحِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْبَابِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5508 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِلَى الْأَرْضِ، فَيَتَزَوَّجُ، وَيُولَدُ لَهُ، وَيَمْكُثُ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَمُوتُ، فَيُدْفَنُ مَعِي فِي قَبْرِي، فَأَقُومُ أَنَا وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ بَيْنَ أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ» ". رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (كِتَابِ الْوَفَاءِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي 5508 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِلَى الْأَرْضِ، فَيَتَزَوَّجُ، وَيُولَدُ لَهُ، وَيَمْكُثُ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً» ) ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ عِيسَى رُفِعَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ، وَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ نُزُولِهِ سَبْعَ سِنِينَ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْعَدَدِ أَرْبَعِينَ، لَكِنَّ حَدِيثَ مُكْثِهِ سَبْعًا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَيَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ بِمَا ذُكِرَ، أَوْ تَرْجِيحُ مَا فِي الصَّحِيحِ، وَلَعَلَّ عَدَدَ الْخَمْسِ سَاقِطٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ لِإِلْغَاءِ الْكَسْرِ. (" ثُمَّ يَمُوتُ، فَيُدْفَنُ مَعَهُ ") أَيْ: مُصَاحِبًا لِي (" فِي قَبْرِي ") أَيْ: فِي مَقْبَرَتِي، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْقَبْرِ لِقُرْبِ قَبْرِهِ بِقَبْرِهِ، فَكَأَنَّهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، (" فَأَقُومُ أَنَا وَعِيسَى فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ ") أَيْ: مِنْ مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّ (فِي) تَأْتِي بِمَعْنَى (مِنْ) وَكَذَا فِي الْمُغْنِي، (" بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ") رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَيْ: حَالَ كَوْنِنَا قَائِمَيْنِ وَاقِفَيْنِ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِمَا إِيمَاءً إِلَى تَيَمُّنِهِ بِالْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَمَانٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِمَا لِيُسْرِ الْإِسْلَامِ وَعِزِّهِ بِهِ، وَهُوَ عُمَرُ، وَسَيَأْتِي فِي فَضَائِلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ بِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ وَعِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يُدْفَنُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدْ بَقِيَ فِي الْبَيْتِ مَوْضِعُ قَبْرٍ أَقْوَالٌ. وَالظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِمَقَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَكِنْ سَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْجَزَرِيِّ أَنَّهُ يُدْفَنُ بَعْدَ عُمَرَ، وَلَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى تَأَخُّرِ الدَّفْنِ بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ زَمَنِ الْمَوْتِ، أَوْ تَكْرِمَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَتَعْظِيمًا لِلصَّحَابِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ أَنْ يَكُونَا بَيْنَ النَّبِيَّيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ) .

[باب قرب الساعة وأن من مات فقد قامت قيامته]

[بَابُ قُرْبِ السَّاعَةِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5509 - عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ ". قَالَ شُعْبَةُ: وَسَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى» ، فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَهُ عَنْ أَنَسٍ أَوْ قَالَهُ قَتَادَةُ؟ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [6] بَابُ قُرْبِ السَّاعَةِ وَفَى نُسْخَةٍ: الْقِيَامَةِ، وَأَطْلَقَ السَّاعَةَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَكُونُ بَغْتَةً وَفَجْأَةً، فَوُقُوعُهَا فِي أَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى انْتِهَائِهَا مَدِيدَةً، وَقِيلَ: أُطْلِقَتْ عَلَيْهَا لِطُولِهَا، كَمَا يُسَمَّى الزِّنْجِيُّ بِالْكَافُورِ تَسْمِيَةً بِالضِّدِّ. (وَأَنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ) : عَطَفَ عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ لَا عَلَى السَّاعَةِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: السَّاعَةُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ، وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: الْكُبْرَى، وَهِيَ بَعْثُ النَّاسِ لِلْجَزَاءِ، وَالْقِيَامَةُ الْوُسْطَى: وَهِيَ انْقِرَاضُ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ بِالْمَوْتِ، وَالْقِيَامَةُ الصُّغْرَى: وَهِيَ مَوْتُ الْإِنْسَانِ، الْمُرَادُ هُنَا هَذِهِ أَيِ الْأَخِيرَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَةِ هِيَ الْكُبْرَى، سَوَاءً أُرِيدَ بِهَا النَّفْخَةُ الْأُولَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ» "، أَوِ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى الْمَعْرُوفَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» " يَحْتَمِلُهُمَا، نَعَمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى الْقِيَامَةِ الْوُسْطَى، وَأَمَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَمَا أَظُنُّ أَنَّ السَّاعَةَ وَرَدَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْقِيَامَةِ الصُّغْرَى إِلَّا مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» "، وَهُوَ الْمُعَنْوَنُ فِي الْبَابِ مَعَ عَدَمِ إِيرَادِ حَدِيثٍ يُلَائِمُهُ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَمْ يَرِدْ بِلَفْظِ السَّاعَةِ، وَأُرِيدَ بِهَا الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى، بَلْ وَلَا وَرَدَ بِمَعْنَى الْقِيَامَةِ الْوُسْطَى إِلَّا بِالْإِضَافَةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى ثَلَاثَةٍ: كُبْرَى وَهِيَ الطَّامَّةُ الْجَامِعَةُ، وَوُسْطَى وَهِيَ النَّفْخَةُ لِلْإِمَاتَةِ الْعَامَّةِ، وَصُغْرَى وَهِيَ إِمَاتَةُ الْجَمَاعَةِ، وَالْقِيَامَةُ تُطْلَقُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَعَلَى مَنْ مَاتَ وَحْدَهُ أَيْضًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5509 - (عَنْ شُعْبَةَ) : أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (عَنْ قَتَادَةَ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ ") : بِالرَّفْعِ فِي بَعْضٍ، وَفَى بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرُوِيَ بِنَصْبِ السَّاعَةِ وَرَفْعِهَا. قَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: السَّاعَةُ مَرْفُوعَةٌ رِوَايَةً، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى " مَعَ "، (" كَهَاتَيْنِ ") ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ أَنَّ نِسْبَةَ تَقَدُّمِ بَعْثَتِهِ عَلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَنِسْبَةِ فَضْلِ إِحْدَى الْإِصْبُعَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى انْتَهَى، وَهُوَ الْمَعْنَى بِمَا قِيلَ: كَفَضْلِ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ فِي السَّبْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شَدَّادٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: كَفَصْلِ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ ; لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَلِيلِ الِانْفِصَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النِّهَايَةِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ارْتِبَاطَ دَعْوَتِهِ بِالسَّاعَةِ لَا تَفْتَرِقُ إِحْدَاهَا عَنِ الْأُخْرَى، كَمَا أَنَّ السَّابِقَةَ لَا تَفْتَرِقُ عَنِ الْوُسْطَى، وَلَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُمَا. وَقَالَ شَارِحٌ آخَرُ: يُرِيدُ أَنَّ دِينَهُ مُتَّصِلٌ بِقِيَامِ السَّاعَةِ لَا يَفْصِلُهُ عَنْهُ دِينٌ آخَرُ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا دَعْوَةٌ أُخْرَى، كَمَا لَا يَفْصِلُ شَيْءٌ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ الْحَدِيثُ الْآتِي لِلْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ. قُلْتُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ فِي كُلِّ حَدِيثٍ رُوعِيَ مَعْنًى لَمْ يُرَاعَ فِي الْآخَرِ، إِذِ التَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُلَاحَظَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، إِذْ لَا تَدَافُعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي رَأْيِ الْعَيْنَيْنِ، نَعَمْ يُفْهَمُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِغْرَاقٌ فِي التَّشْبِيهِ الْقُرْبِيِّ مَا لَا يُفْهَمُ مِنَ الثَّانِي ; وَلِذَا اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مُوَافَقَتُهُ لِتَفْسِيرِ الرَّاوِي. (قَالَ شُعْبَةُ: وَسَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَصَّ يَقُصُّ، بِمَعْنَى يَعِظُ أَوْ يَحْكِي الْقِصَّةَ، أَوْ يُحَدِّثُ وَيَرْوِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] ، وَفَى نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهِيَ جَمْعُ قِصَّةٍ، وَالْمَعْنَى فِي قَصَصِ قَتَادَةَ أَيْ: تَحْدِيثُهُ أَوْ تَفْسِيرُ حَدِيثِهِ، (كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا) أَيْ: إِحْدَى الْإِصْبُعَيْنِ (عَلَى الْأُخْرَى) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: كَهَاتَيْنِ، مُوَضِّحٌ لَهُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَالرَّفْعُ عَلَى الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ بَعْثًا مُتَفَاضِلًا مِثْلَ فَضْلِ إِحْدَاهُمَا، وَمَعْنَى النَّصْبِ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى هَذَا، يَعْنِي: لَا بُدَّ عَلَى قَصْدِ الْمَعِيَّةِ، لَكِنْ يُمْكِنُ ادِّعَاؤُهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بِقَوْلِهِ: " «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ» ": بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ فِي قُرْبِهَا. (فَلَا أَدْرِي أَذْكَرَهُ) أَيْ: قَتَادَةُ (عَنْ أَنَسٍ) أَيْ: مَرْفُوعًا أَوْ مَوْقُوفًا (أَوْ قَالَهُ قَتَادَةُ) ؟ أَيْ: مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَتِلْقَاءَ رَأْيِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ حَتَّى يَثْبُتَ الْآخَرُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا رَوَى أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.

5510 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: " تَسْأَلُونِي عَنِ السَّاعَةِ؟ وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5510 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: " تَسْأَلُونِّي ") : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهِ عَلَى صِيغَةِ الْخِطَابِ لِلْأَصْحَابِ، وَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: أَتَسْأَلُونَ (" عَنِ السَّاعَةِ ") ؟ أَيِ: الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةُ (" وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ") أَيْ: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: حَالٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ الْإِشْكَالِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ سُؤَالَهُمْ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: (" وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ ") : مُقَرِّرٌ لَهُ يَعْنِي: تَسْأَلُونِي عَنِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى وَعِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمَا أَعْلَمُهُ هُوَ

الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى انْتَهَى. وَهُوَ يُؤَيِّدُ تَقْسِيمَنَا الْمُتَقَدِّمَ فِي السَّاعَةِ (" مَا عَلَى الْأَرْضِ ") : مَا: نَافِيَةٌ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ (" مِنْ نَفْسٍ ") : زَائِدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَقَوْلُهُ: (مَنْفُوسَةٌ ") صِفَةُ نَفْسٍ، وَكَذَا مَا يَأْتِي، وَالْمَعْنَى: مَا مِنْ نَفْسٍ مَوْلُودَةٍ الْيَوْمَ (" يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ ") ، يُقَالُ: نَفِسَتِ الْمَرْأَةُ غُلَامًا بِالْكَسْرِ، وَنُفِسَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ إِذَا وَلَدَتْ نَفْسًا، فَهِيَ نَافِسٌ وَنُفَسَاءُ، وَالْوَلَدُ مَنْفُوسٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَمَا سَقَطَ الْمَنْفُوسُ بَيْنَ الْقَوَابِلِ قَالَ الْأَشْرَفُ: مَعْنَاهُ مَا تَبْقَى نَفْسٌ مَوْلُودَةٌ الْيَوْمَ مِائَةَ سَنَةٍ، أَرَادَ بِهِ مَوْتَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا عَلَى الْغَالِبِ وَإِلَّا فَقَدْ عَاشَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ انْتَهَى. وَمِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَلْمَانُ وَغَيْرُهُمَا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى لَا تَعِيشُ نَفْسٌ مِائَةَ سَنَةٍ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي ; فَلَا حَاجَةَ إِلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ، فَلَعَلَّ الْمَوْلُودِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ انْقَرَضُوا قَبْلَ تَمَامِ الْمِائَةِ مِنْ زَمَانِ وُرُودِ الْحَدِيثِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى اسْتِدْلَالُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَى بَابَارْتِنْ الْهِنْدِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنِ ادَّعَى الصُّحْبَةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ إِلَى الْمِائَتَيْنِ وَالزِّيَادَةِ. بَقِيَ أَنَّ الْحَدِيثَ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حَيَاةِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ، وَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْحَيَاةِ، اثْنَانِ فِي الْأَرْضِ: الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ، وَاثْنَانِ فِي السَّمَاءِ: عِيسَى وَإِدْرِيسُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ مِنْ أُمَّتِي، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ نَبِيٌّ آخَرُ، وَقِيلَ: قَيْدُ الْأَرْضِ يُخْرِجُ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ ; فَإِنَّهُمَا كَانَا عَلَى الْبَحْرِ حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5511 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5511 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ» ") : وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (" الْيَوْمَ ") : هُوَ ظَرْفُ مَنْفُوسَةٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِي رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5512 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَسْأَلُونَهُ عَنِ السَّاعَةِ، فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ: " إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5512 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأَعْرَابِ) أَيْ: أَهْلِ الْبَدْوِ (يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَهُ عَنِ السَّاعَةِ) ، الظَّاهِرُ أَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، فَالْجَوَابُ الْآتِي عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، (فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ: " إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكُهُ ") : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ لَا بِالْجَزْمِ أَيْ: لَا يَلْحَقُهُ (" الْهَرَمُ ") : بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْكِبَرُ (" حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ ") أَيْ: قِيَامَتُكُمْ، وَهِيَ السَّاعَةُ الصُّغْرَى عِنْدِي، وَالْوُسْطَى عِنْدَ بَعْضِ الشُّرَّاحِ، وَالْمُرَادُ مَوْتُ جَمِيعِهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَهُوَ الْغَالِبُ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ بِالسَّاعَةِ انْقِرَاضَ الْقَرْنِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عِدَادِهِمْ ; وَلِذَلِكَ أَضَافَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5513 - عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ، فَسَبَقْتُهَا كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ " وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5513 - (عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ) : يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ غُلَامًا يَوْمَ قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ ") : بِفَتْحِ النُّونِ وَالْفَاءِ لَا غَيْرُ، أَرَادَ بِهِ قُرْبَهَا أَيْ: حِينَ تَنَفَّسَتْ، وَتَنَفُّسُهَا ظُهُورُ أَشْرَاطِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] ، أَيْ: ظَهَرَ أَثَارُ طُلُوعِهِ، وَبِعْثَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ أَشْرَاطِهَا، هَذَا مَعْنَى كَلَامِ التُّورِبِشْتِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ مِنْ كَمَالِ الِاتِّصَالِ وَعَدَمِ الِاعْتِبَارِ بِقَلِيلٍ مِنَ الِانْفِصَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (" فَسَبَقْتُهَا ") أَيِ: السَّاعَةَ فِي الْوُجُودِ (" كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ ") أَيِ: السَّبَّابَةُ (" هَذِهِ ") أَيِ: الْوُسْطَى، أَيْ: وُجُودًا أَوْ حِسَابًا بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ مِنْ جَانِبِ الْإِبْهَامِ، وَعَدَلَ عَنِ الْإِبْهَامِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسَبِّحَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْإِشَارَتَيْنِ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: (وَأَشَارَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ) أَيِ: الْمُسَبِّحَةِ (وَالْوُسْطَى) : عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا: " مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَعَثَهُ قَوْمُهُ طَلِيعَةً، فَلَمَّا خَشِيَ أَنْ يُسْبَقَ أَلَاحَ بِثَوْبِهِ أُتِيتُمْ أُتِيتُمْ أَنَا ذَاكَ أَنَا ذَاكَ ".

5514 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ ". قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5514 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَعْجِزَ أُمَّتِي ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَهُوَ مَفْعُولُ أَرْجُو، أَيْ: أَرْجُو عَدَمَ عَجْزِ أُمَّتِي (" عِنْدَ رَبِّهَا ") : مِنْ كَمَالِ قُرْبِهَا (" أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ ") : يَوْمٍ بَدَلٌ مِنْ أَنْ لَا تَعْجِزَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ بِحَذْفِ عَنْ، كَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ ثُمَّ قَالَ: وَعَدَمُ الْعَجْزِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْقُرْبَةِ، وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُقَرَّبِ عِنْدَ السُّلْطَانِ: إِنِّي لَا أَعْجِزُ أَنْ يُوَلِّيَنِي الْمَلِكُ كَذَا وَكَذَا، يَعْنِي بِهِ أَنَّ لِي عِنْدَهُ مَكَانَةً وَقُرْبَةً يَحْصُلُ بِهَا كُلُّ مَا أَرْجُوهُ عِنْدَهُ، فَالْمَعْنَى أَنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ لِأُمَّتِي عِنْدَ اللَّهِ مَكَانَةٌ وَمَنْزِلَةٌ يُمْهِلُهُمْ مِنْ زَمَانِي هَذَا إِلَى انْتِهَاءِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ ; بِحَيْثُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. (قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ) : إِنَّمَا فَسَّرَ الرَّاوِي نِصْفَ الْيَوْمِ بِخَمْسِمِائَةٍ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ بِنِصْفِ يَوْمٍ تَقْلِيلًا لِبُغْيَتِهِمْ، وَرَفْعًا لِمَنْزِلَتِهِمْ، أَيْ: لَا يُنَاقِشُهُمْ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ الْقَلِيلِ، بَلْ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُهُمْ، وَنَزَّلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَمْرِ الْقِيَامَةِ، وَحَمَلَ الْيَوْمَ عَلَى يَوْمِ الْمَحْشَرِ، فَهِمَ أَنَّهُ غُفْلٌ عَمَّا حَقَّقْنَاهُ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ، فَهَلَّا انْتَبَهَ لِمَكَانِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ فِي أَيِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْكِتَابِ ; فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي بَابِ قُرْبِ السَّاعَةِ، فَأَيْنَ هُوَ مِنْهُ؟ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ بِالْخَمْسِمِائَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْأَلْفِ السَّابِعِ فَإِنَّ الْيَوْمَ نَحْنُ فِي سَابِعِ سَنَةٍ مِنَ الْأَلْفِ الثَّامِنِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى عَنِ الْخَمْسِمِائَةِ ; فَيُوَافِقُ حَدِيثَ عُمَرَ: الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ فَالْكَسْرُ الزَّائِدُ يُلْغَى، وَنِهَايَتُهُ إِلَى النِّصْفِ، وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ فَيُعَدُّ أَلْفًا ثَامِنًا بِإِلْغَاءِ الْكَسْرِ النَّاقِصِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بَقَاءَ دِينِهِ وَنِظَامِ مِلَّتِهِ فِي الدُّنْيَا مُدَّةَ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ أَيْ عَنْ أَنْ يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ سَالِمِينَ عَنِ الْعُيُوبِ مِنِ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَالشَّدَائِدِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْكُرُوبِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5515 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَثَلُ هَذِهِ الدُّنْيَا مَثَلُ ثَوْبٍ شُقَّ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَبَقِيَ مُتَعَلِّقًا بِخَيْطٍ فِي آخِرِهِ، فَيُوشِكُ ذَلِكَ الْخَيْطُ أَنْ يَنْقَطِعَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5515 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلُ هَذِهِ الدُّنْيَا ") أَيْ: وَقِلَّةُ بَقَائِهَا [مَثَلُ ثَوْبٍ شُقَّ] : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: قُطِعَ [مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ] أَيْ: إِلَى قَرِيبٍ مِنْهُ، أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّ الْغَايَةَ فِيهِ لَا تَكُونُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْمُغَيَّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [فَبَقِيَ مُتَعَلِّقًا بِخَيْطٍ فِي آخِرِهِ] : الضَّمِيرَانِ لِلثَّوْبِ [فَيُوشِكُ ذَلِكَ الْخَيْطُ] : وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ قَلِيلٍ يَكُونُ فِيهِ الدِّينُ الْمُحَمَّدِيُّ [أَنْ يَنْقَطِعَ] أَيْ: فَتَنْقَطِعُ الدُّنْيَا وَتَنْفَصِلُ عَنْ وُجُودِهَا وَتَذْهَبُ وَتَأْتِي الْأُخْرَى، فَتَبْقَى عَلَى أَبَدِ الْآبَادِ ; فَيَسْعَدُ أَهْلُهَا أَوْ يَشْقَى. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس]

[بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5516 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [7]- بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ رُوِيَ بِتَنْوِينِ بَابٍ، وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ أَصْلُ السَّيِّدِ، وَالطِّيبِيُّ عَلَى الثَّانِي ; حَيْثُ قَالَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَحْكِيَّةٌ مُضَافٌ إِلَيْهَا تَرْجَمَةُ الْبَابِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِالْجُمَلِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، كَمَا سَمَّوْا: بِتَأَبَّطَ شَرًّا، وَبَرَقَ نَحْرُهُ، وَشَابَ قَرْنَاهَا، وَكَمَا لَوْ سُمِّيَ بِـ (زَيْدُ مُنْطَلَقٌ أَوْ بَيْتُ شِعْرٍ) . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5516 - عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ» ": بِالرَّفْعِ فِيهِمَا وَكُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: تَكْرِيرُهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْثِيرِ ذِكْرِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: اللَّهُ حَسْبِي، أَوْ هُوَ الْمَعْبُودُ، فَالْأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ، وَالثَّانِي خَبَرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِهِمَا. قَالَ شَارِحٌ: قَوْلُهُ: (اللَّهُ اللَّهُ) بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ أَيِ: اللَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لَا غَيْرُهُ، وَإِنْ رُوِيَا بِالنَّصْبِ، فَعَلَى التَّحْذِيرِ أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْبُدُوهُ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مُسْلِمٌ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: أَيْ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فَلَا يَبْقَى حِكْمَةٌ فِي بَقَاءِ النَّاسِ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ بَقَاءَ الْعَالَمِ بِبَرَكَةِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالْعُبَّادِ الصَّالِحِينَ، وَعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، مَعْنَى (حَتَّى لَا يُقَالَ) حَتَّى لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ وَلَا يُعْبَدَ، وَإِلَيْهِ يُنْظَرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] ، يَعْنِي: مَا خَلَقْتَهُ خَلْقًا بَاطِلًا بِغَيْرِ حِكْمَةٍ، بَلْ خَلَقْتَهُ لِأَذْكُرَ وَأَعْبُدَ، فَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ وَلَمْ يُعْبَدْ ; فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يُخَرِّبَ وَتَقُومَ السَّاعَةُ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَرَكَةَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ تَصِلُ إِلَى مَنْ فِي الْعَالَمِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ( «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ» ) : بِالْوَجْهَيْنِ فِيهِمَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

5517 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5517 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ» ") : بِكَسْرِ الشِّينِ جَمْعُ الشَّرِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ السَّابِقِ: ( «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) ؟ قُلْنَا: السَّابِقُ مُسْتَغْرِقٌ لِلْأَزْمِنَةِ عَامٌّ فِيهَا، وَالثَّانِي مُخَصِّصٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَرَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: ( «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ» ) . وَرَوَى السِّجْزِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفْعَهُ: ( «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُرْفَعَ الرُّكْنُ وَالْقُرْآنُ» ) .

5518 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ ". وَذُو الْخَلَصَةِ: طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5518 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ ") أَيْ: تَتَحَرَّكَ (" أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ، وَالْأَلَيَاتُ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ أَلْيَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ اللُّحْمَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي أَصْلِ الْعُضْوِ، وَقِيلَ هِيَ اللُّحْمَةُ الْمُشْرِفَةُ عَلَى الظَّهْرِ وَالْفَخِذِ، وَهِيَ لَحْمُ الْمَقْعَدِ، وَالْمَعْنَى حَتَّى يَرْتَدُّوا فَتَطُوفَ نِسَاؤُهُمْ (حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ (وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ) أَيْ: صَنَمُهُمْ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ أَصْنَامُهُمُ (الَّتِي كَانُوا) أَيْ: دَوْسٌ (يَعْبُدُونَ) أَيْ: يَعْبُدُونَهَا (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: قَبْلَ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الرُّوَاةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ بَيْتٌ كَانَ فِيهِ صَنَمٌ لِدَوْسٍ، وَخَثْعَمٍ، وَبَجِيلَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: ذُو الْخَلَصَةِ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ الَّتِي كَانَتْ بِالْيَمَنِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَخَرَّبَهَا، وَقِيلَ: ذُو الْخَلَصَةِ اسْمُ الصَّنَمِ نَفْسُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ ذُو لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى اسْمِ الْجِنْسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْتَدُّونَ إِلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَتَسْعَى نِسَاءُ بَنِي دَوْسٍ طَائِفَاتٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ، فَتَرْتَجُّ أَعْجَازُهُنَّ مُضْطَرِبَةً أَلَيَاتُهُنَّ، كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5519 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا قَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتُوُفِّيَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ; فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5519 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ") أَيْ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ (حَتَّى يَعْبُدَ) : بِالتَّذْكِيرِ وَجُوزَ تَأْنِيثُهُ (اللَّاتُ) : صَنَمٌ لِثَقِيفٍ (وَالْعُزَّى) : بِضَمِّ عَيْنٍ فَتَشْدِيدِ زَايٍ صَنَمٌ لِغَطَفَانَ، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ كُنْتُ لَأَظُنَّ) : إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ كُنْتُ لَأَظُنُّ يَعْنِي أَنَّ الشَّأْنَ كُنْتُ لَأَحْسَبُ (حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} [التوبة: 33] أَيْ: بِالتَّوْحِيدِ وَدِينِ الْحَقِّ أَيْ: وَبِالشَّرِيعَةِ الثَّابِتَةِ، وَلَمَّا كَانَ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدًا أُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ أَيْ: لِيُعْلِيَهُ وَيُغَلِّبَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أَيْ: عَلَى الْأَدْيَانِ جَمِيعِهَا، بَاطِلِهَا بَرَدِّهَا، وَحَقِّهَا بِنَسْخِهَا وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أَيْ: مَا عَلَيْهِ الْمُوَحِّدُونَ الْمُخْلِصُونَ (أَنَّ ذَلِكَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ لِأَظُنُّ، وَحِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: ظَرْفٌ لَهُ، أَيْ: كُنْتُ أَظُنُّ حِينَ إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ الْمُسْتَفَادَ مِنْهَا يَكُونُ (تَامًّا) أَيْ: عَامِلًا كَامِلًا شَامِلًا لِلْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا، فَنَصْبُهُ بِالْكَوْنِ الْمُقَدَّرِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ تَامٌّ بِالرَّفْعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ قَدْ تَمَّ وَاخْتُتِمَ وَغَدَا، وَلَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا.

(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: بَعْضُ مَا ذُكِرَ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ وَنُقْصَانِ الْكُفْرِ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: مِنْ ذَلِكَ أَيْ: مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، (مَا شَاءَ اللَّهُ) أَيْ: مُدَّةَ مَشِيئَتِهِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً) أَيْ: يُشَمُّ مِنْهَا رَائِحَةُ الْوِصَالِ (فَتُوَفَّى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: فَقُبِضَ (كُلُّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ عَلَى أَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ: تَتَوَفَّى عَلَى إِسْنَادِ التَّوَفِّي إِلَى الرِّيحِ مَجَازًا، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: تُمِيتُ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ (مِثْقَالُ حَبَّةٍ) أَيْ: مِقْدَارُ خَرْدَلٍ، فَقَوْلُهُ: (مِنْ خَرْدَلٍ) : بَيَانٌ لِحَبَّةٍ، وَقَوْلُهُ: (مِنْ إِيمَانٍ) : بَيَانٌ لِمِثْقَالٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ أَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ وَالْيَقِينِ بِالْأُمُورِ الْإِجْمَالِيَّةِ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَصَوُّرِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي نَفْسِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَةِ الْإِيقَانِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْعِرْفَانِ، (فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ) أَيْ: لَا إِسْلَامَ وَلَا إِيمَانَ، وَلَا قُرْآنَ وَلَا حَجَّ، وَلَا سَائِرَ الْأَرْكَانِ، وَلَا عُلَمَاءَ الْأَعْيَانِ، (فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ) أَيِ: الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْجَاهِلِينَ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ، فَرُوعِيَ لَفْظُ مَنْ فِي ضَمِيرِ فِيهِ، وَمَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: فَيَرْجِعُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] هَذَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: تَامًّا هُوَ بِالرَّفْعِ فِي الْحُمَيْدِيِّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِ النَّسَائِيِّ بِالنَّصْبِ، فَعَلَى هَذَا هُوَ إِمَّا حَالٌ، وَالْعَامِلُ اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَوْ خَبَرٌ لِكَانَ الْمُقَدَّرِ أَيْ: ظَنَنْتُ مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ أَنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا غَالِبَةٌ عَلَيْهَا غَيْرُ مَغْلُوبَةٍ، فَكَيْفَ يُعْبَدُ اللَّاتُ وَالْعُزَّى؟ وَجَوَابُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: فَتُوَفَّى كُلُّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا» الْحَدِيثَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5520 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ " لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ عَامًا " فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ فِي النَّاسِ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ "، قَالَ: " فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا، وَرَفَعَ لِيتًا " قَالَ: " وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ، فَيَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] فَيُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ " قَالَ: " فَذَلِكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا، وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذُكِرَ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ: " «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ» " فِي بَابِ التَّوْبَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5520 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ) : وَأَبْهَمَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحِكْمَةٍ فِي تَرْكِ التَّمْيِيزِ، أَوْ نَسِيَهُ الرَّاوِي ; وَلِذَا قَالَ: لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ عَامًا) ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا أَدْرِي إِلَى قَوْلِهِ: فَيَبْعَثُ اللَّهُ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، أَيْ: لَمْ يَزِدْنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَرْبَعِينَ شَيْئًا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهَا ; فَلَا أَدْرِي أَيًّا أَرَادَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، (فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) أَيْ: فَيَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ (كَأَنَّهُ) أَيْ: فِي الصُّورَةِ (عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ) أَيِ: الثَّقَفِيُّ، شَهِدَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ كَافِرًا، وَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنَ الطَّائِفِ وَأَسْلَمَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى قَوْمِهِ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَتَلُوهُ، وَقِيلَ: هُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، (فَيَطْلُبُهُ) أَيْ: عِيسَى الدَّجَّالَ (فَيُهْلِكُهُ) أَيْ: بِحَرْبَةٍ (ثُمَّ يَمْكُثُ فِي النَّاسِ سَبْعَ سِنِينَ) ، تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ خِلَافُهُ، (لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلْعَدَدِ، فَلَا يُنَافِيهِ مَا سَبَقَ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّرَاخِي الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: (ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ أَيْ: جَانِبِهِ (فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ) : الظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّعْبِيرِ، (إِلَّا قَبَضَتْهُ) : إِلَّا أَخَذَتْ رُوحَهُ تِلْكَ الرِّيحُ (حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ) أَيْ: فَرْضًا وَتَقْدِيرًا عَلَى

الْمُبَالَغَةُ (فِي كَبِدِ جَبَلٍ) أَيْ: وَسَطَهُ وَجَوْفَهُ، وَمِنْهُ كَبِدُ السَّمَاءِ وَسَطُهَا (لَدَخَلَتْهُ) أَيْ: كَبِدَ الْجَبَلِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى أَحَدِكُمْ (حَتَّى تَقْبِضَهُ) . قَالَ: (فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِخِفَّةِ الطَّيْرِ اضْطِرَابُهَا وَتَنَفُّرُهَا بِأَدْنَى تَوَهُّمٍ شَبَّهَ حَالَ الْأَشْرَارِ فِي تَهَتُّكِهِمْ وَعَدَمِ وَقَارِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ وَاخْتِلَالِ رَأْيِهِمْ، وَمَيْلِهِمْ إِلَى الْفُجُورِ وَالْفَسَادِ بِحَالِ الطَّيْرِ. (وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ) أَيْ: وَفِي عُقُولِهَا النَّاقِصَةِ، جَمْعُ حُلُمٍ بِالضَّمِّ، أَوْ جَمْعُ حِلْمٍ بِالْكَسْرَةِ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ خَالِينَ عَنِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، بَلِ الْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الطَّيْشُ وَالْغَضَبُ وَالْوَحْشَةُ وَالْإِتْلَافُ وَالْإِهْلَالُ وَقِلَّةُ الرَّحْمَةِ، (لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا) : بَلْ يَعْكِسُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ، (فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ) أَيْ: يَتَصَوَّرُ لَهُمْ بِصُورَةِ إِنْسَانٍ، فَكَانَ التَّشَكُّلُ أَقْوَى عَلَى التَّسَلُّطِ فِي الضَّلَالَةِ مِنْ طَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ ; وَلِذَا قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] ، (فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ) أَيْ: مِنَ اللَّهِ فِي تَرْكِ عِبَادَتِهِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَى مَقَامِ قُرْبَتِهِ (فَيَقُولُونَ: فَمَاذَا تَأْمُرُنَا) ؟ أَيْ: بِهِ نَمْتَثِلُهُ، فَمَا مَوْصُولَةٌ أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، فَالْمَعْنَى: فَأَيُّ شَيْءٍ تَأْمُرُنَا لِنُطِيعَكَ فِيهِ؟ (فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ) أَيْ: تَوَسُّلًا إِلَى رِضَا الرَّحْمَنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة: 37] ، (وَهُمْ فِي ذَلِكَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ الرَّدِيئَةِ وَالْعِبَادَاتِ الْوَثَنِيَّةِ (دَارٌّ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ كَثِيرٌ (رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ) : فَالْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَمِّيَّةِ، وَالثَّانِي إِلَى الْكَيْفِيَّةِ، أَوِ الْأَوَّلُ إِيمَاءٌ إِلَى كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَإِثْمَارِ الْأَشْجَارِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْأَمْنِ وَعَدَمِ الظُّلْمِ وَكَثْرَةِ الصِّحَّةِ وَالْغِنَى بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، (ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالنَّافِخُ هُوَ إِسْرَافِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا) : بِكَسْرِ اللَّامِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ أَمَالَ صَفْحَةَ عُنُقِهِ خَوْفًا وَدَهْشَةً. (وَرَفَعَ لِيتًا) ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا أَنَّ السَّامِعَ يَصْعَقُ فَيُصْغِي لِيتًا وَيَرْفَعُ لِيتًا، أَيْ: يَصِيرُ رَأْسُهُ هَكَذَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ مَنْ يُصِيبُهُ صَيْحَةٌ فَيُشَقُّ قَلْبُهُ، فَأَوَّلُ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ سُقُوطُ رَأْسِهِ إِلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ ; فَأَسْنَدَ الْإِصْغَاءَ إِلَيْهِ إِسْنَادَ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ. (قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ) أَيْ: يُطَيِّنُ وَيُصْلِحُ (حَوْضَ إِبِلِهِ فَيَصْعَقُ) أَيْ: يَمُوتُ هُوَ أَوَّلًا (وَيَصْعَقُ النَّاسُ) أَيْ: مَعَهُ، (ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيِ: الْمَطَرُ الضَّعِيفُ الصَّغِيرُ الْقَطْرِ (فَيَنْبُتُ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِهِ (أَجْسَادُ النَّاسِ) أَيِ: النَّخِرَةُ فِي قُبُورِهِمْ (ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى ; فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) ، وَبَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ عَامًا عَلَى مَا سَيَأْتِي، (ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمَّ) : فِي الْقَامُوسِ: هَلُمَّ يُقَالُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَاءِ التَّنْبِيهِ وَمِنْ لَمْ أَيْ: ضُمَّ نَفْسَكَ إِلَيْنَا، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالتَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ، فَالْمَعْنَى: تَعَالَوْا أَوِ ارْجِعُوا وَأَسْرِعُوا إِلَى رَبِّكُمْ، (قِفُوهُمْ) ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (وَقِفُوهُمْ) بِالْعَاطِفَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ، يُقَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ أَيْ: يُقَالُ لِلنَّاسِ هَلُمَّ، وَيُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ قِفُوهُمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ

الْعَاطِفِ، فَهُوَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ انْتَهَى. وَهُوَ أَمْرُ مُخَاطِبٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَالضَّمِيرُ لِلنَّاسِ، يُقَالُ: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ وَوَقَفْتُهَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، الْمَعْنَى احْبِسُوهُمْ (إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (فَيُقَالُ: أَخْرِجُوا) : أَمْرٌ لِلْمَلَائِكَةِ أَيْ: مَيِّزُوا مِمَّا بَيْنَ الْخَلَائِقِ (بَعْثَ النَّارِ) أَيْ: مَبْعُوثَهَا بِمَعْنَى مَنْ يُبْعَثُ إِلَيْهَا (فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ كَمْ؟) أَيْ: سَأَلَ الْمُخَاطَبُونَ مِنْ كَمِّيَّةِ الْعَدَدِ الْمَبْعُوثِ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُونَ: كَمْ عَدَدًا نُخْرِجُهُ مِنْ كَمْ عَدَدٍ؟ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَكَمِ الْأُولَى خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَكَمِ الثَّانِيَةُ مُبْتَدَأٌ، أَوْ هُمَا مَفْعُولَا نُخْرِجُ الَّذِي لِلْمُتَكَلِّمِ، (فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: أَخْرِجُوا لِلنَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ (وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ) ، قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَسْتَوْجِبُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ يُتْرَكُونَ فِيهَا بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصْرَفُوا عَنْ طَرِيقِ جَهَنَّمَ بِالشَّفَاعَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُصُوا مِنْهَا بَعْدَ دُخُولِهَا بِالشَّفَاعَةِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ عَذَابَ النَّارِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا كِتَابٍ، فَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي الْعِقَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَذَلِكَ) أَيِ: الْوَقْتُ (يَوْمَ) ، أَوْ فَذَلِكَ الْحُكْمُ وَقْتَ (يُجْعَلُ) أَيْ: يَصِيرُ فِيهِ (الْوِلْدَانُ) أَيِ: الصِّبْيَانُ جَمْعُ وَلِيدٍ (شِيبًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ أَشْيَبَ كَأَبْيَضَ وَبِيضٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ الْأَطْفَالُ شِيبًا فِي الْحَالِ، فَالْمَعْنَى لَوْ أَنَّ وَلِيدًا شَابَ مِنْ وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ هَذَا، يَوْمَ مَرْفُوعٌ مُنَوَّنٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ مُضَافًا، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ مَرْفُوعًا، وَيُجْعَلَ الْوِلْدَانُ صِفَةً لَهُ، فَيَكُونُ الْإِسْنَادُ مَجَازِيًّا وَأَنْ يَكُونَ مُضَافًا مَفْتُوحًا، فَيَكُونُ الْإِسْنَادُ حِينَئِذٍ حَقِيقِيًّا وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ وَأَوْفَقُ، لِمَا وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] ، (وَذَلِكَ) أَيْ: أَيْضًا (يَوْمَ يُكْشَفُ) : فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ بِرَفْعِ يَوْمٍ مُنَوَنًّا، وَفِي بَعْضِهَا بِالْفَتْحِ مُضَافًا، وَهُوَ أَوْفَقُ لِمَا فِي الْقُرْآنِ يَوْمَ يُكْشَفُ (عَنْ سَاقٍ) أَيْ: شِدَّةٍ عَظِيمَةٍ، يُقَالُ: كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنِ السَّاقِ إِذَا اشْتَدَّ فِيهَا، وَكَانَ أَصْلُهُ أَنَّ الْوَلَدَ يَمُوتُ فِي بَطْنِ النَّاقَةِ، فَيُدْخِلُ الْمُدْمِرُ يَدَهُ فِي رَحِمِهَا فَيَأْخُذُ سَاقَهُ ; فَجُعِلَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَظِيمٍ وَخَطْبٍ جَسِيمٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مِمَّا هَابَ الْقَوْلَ فِيهِ شُيُوخُنَا، فَأَجْرَوْهُ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ، وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْ بَاطِنِ مَعْنَاهُ، عَلَى نَحْوِ مَذْهَبِهِمْ فِي التَّوَقُّفِ عَنْ تَفْسِيرِ كُلِّ مَا لَا يُحِيطُ الْعِلْمُ بِكُنْهِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، أَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ فَقَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ شِدَّةٍ عَظِيمَةٍ وَبَلِيَّةٍ فَظِيعَةٍ، وَهُوَ إِقْبَالُ الْآخِرَةِ وَظُهُورُهَا وَذَهَابُ الدُّنْيَا وَإِدْبَارُهَا، وَيُقَالُ لِلْأَمْرِ إِذَا اشْتَدَّ وَتَفَاقَمَ وَظَهَرَ وَزَالَ خَفَاؤُهُ: كَشَفَ عَنْ سَاقِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ سَاقٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَذَكَرَ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ: ( «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ» ) أَيْ: حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ، فَالْمُرَادُ بِالْهِجْرَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ هِيَ الْهِجْرَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ مِنْ دِيَارِ الْبِدْعَةِ إِلَى دِيَارِ السُّنَّةِ، أَوْ مِنْ بِلَادِ الشَّرِّ إِلَى بِلَادِ الْخَيْرِ، (فِي بَابِ التَّوْبَةِ) : وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ فِعْلِيٌّ مُنْضَمٌّ إِلَى بَيَانٍ قَوْلِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ أَنْسَبُ بِذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[كتاب صفة القيامة والجنة والنار]

[كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ] [بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ]

[27] كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ [1] بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5521 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ " قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا. قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ " ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءٌ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ " قَالَ: " وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ لَا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ [27] كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ [1] بَابُ نَفْخِ الصُّورِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، فَفِي النِّهَايَةِ هُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ بَعْثِ الْمَوْتَى إِلَى الْمَحْشَرِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5521 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ ") أَيْ: نَفْخَةِ الصَّعْقِ وَهِيَ الْإِمَاتَةُ، وَنَفْخَةِ النُّشُورِ وَهِيَ الْإِحْيَاءُ (أَرْبَعُونَ) : أَبْهَمَ فِي الْحَدِيثِ وَبَيَّنَ فِي غَيْرِهِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ عَامًا، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الْإِبْهَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ، (قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أَرْبَعُونَ يَوْمًا) ؟ بِاسْتِفْهَامٍ مُقَدَّرٍ (قَالَ: أَبَيْتُ) أَيِ: امْتَنَعْتُ عَنِ الْجَوَابِ لِأَنِّي لَا أَدْرِي مَا هُوَ الصَّوَابُ، أَوْ عَنِ السُّؤَالِ مِنْ صَاحِبِ الْمَقَالِ ; فَلَا أَدْرِي مَا الْحَالُ، (قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ) ، قَالَ: الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا أَدْرِي أَنَّ الْأَرْبَعِينَ الْفَاصِلَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَيُّ شَيْءٍ أَيَّامًا أَوْ شُهُورًا أَوْ أَعْوَامًا، وَأَمْتَنِعُ عَنِ الْكَذِبِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِخْبَارِ عَمَّا لَا أَعْلَمُ. (قَالَ) : كَذَا فِي نُسْخَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَهُ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيَكُونَ مَوْقُوفًا، أَوِ التَّقْدِيرُ: رَاوِيًا عَنْهُ وَنَاقِلًا مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي الْجَامِعِ لَفْظُ قَالَ فِيهِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ، (ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) أَيْ: مَطَرًا كَالطَّلِّ عَلَى مَا سَبَقَ (فَيَنْبُتُونَ) أَيْ: فَيَنْبُتُ أَجْسَادُ الْخَلْقِ مِنْهُ (كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ) ، أَيْ: مِنَ الْمَطَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا فُهِمَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ، فَتَعْبِيرُهُ بِـ " ثُمَّ " هُنَا لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ أَيْ: بَعْدَمَا عَلِمْتَ مَا سَبَقَ، فَاعْلَمْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ. (قَالَ: وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ) أَيْ: جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ (لَا يَبْلَى) أَيْ: لَا يَخْلَقُ وَلَا يَرِمُّ مِمَّنْ يَبْلَى جَسَدُهُ ; «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَكَذَا مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، بَلْ قِيلَ: وَمِنْهُمُ الْمُؤَذِّنُونَ الْمُحْتَسِبُونَ فَإِنَّهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءُ أَوْ كَالْأَحْيَاءِ، (إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا) ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: إِلَّا عَظْمٌ وَاحِدٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ (شَيْءٍ) وَهُوَ وَاضِحٌ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجَبٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ لَا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا نَفْيُ النَّفْيِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ ; فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا فَإِنَّهُ لَا يَبْلَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ ; لِأَنَّ اسْمَهُ مَوْصُوفٌ، كَقَوْلِكَ: لَيْسَ زَيْدٌ إِلَّا قَائِمًا، فَـ " مِنَ الْإِنْسَانِ " حَالٌ مِنْ شَيْءٍ (وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ تَثْلِيثَ الْعَيْنِ مَعَ الْبَاءِ وَالْمِيمِ، فَفِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ، وَهُوَ الْعَظْمُ بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ الَّذِي فِي أَسْفَلِ الصُّلْبِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: الْمُرَادُ طُولُ بَقَائِهِ تَحْتَ التُّرَابِ، لَا أَنَّهُ لَا يَفْنَى أَصْلًا ; فَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَحْسُوسِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَا يُخْلَقُ وَآخِرُ مَا يَبْلَى، وَمَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَاعِدَةُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَأُسُّهُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ أَصْلَبَ مِنَ الْجَمِيعِ، كَقَاعِدَةِ الْجِدَارِ وَأُسِّهِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلَبَ كَانَ أَطْوَلَ بَقَاءً. أَقُولُ: التَّحْقِيقُ - وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ - أَنَّ عَجْبَ الذَّنَبِ يَبْلَى آخِرًا، كَمَا شَهِدَ بِهِ حَدِيثٌ، لَكِنْ لَا بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَحْسُوسِ، كَمَا حُقِّقَ فِي بَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْقَلِيلَ مِنْهُ الْمَخْلُوطَ بِالتُّرَابِ غَيْرُ قَابِلٍ لِأَنْ يَتَمَيَّزَ بِالْحِسِّ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْحِسِّ. (وَمِنْهُ يُرَكَّبُ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ (الْخَلْقُ) أَيْ: سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: كَمَا خُلِقَ أَوَّلًا فِي الْإِيجَادِ كَذَلِكَ خُلِقَ أَوَّلًا فِي الْإِعَادَةِ، أَوْ أُبْقِيَ حَتَّى يُرَكَّبَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ ثَانِيًا. قَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) ، وَكَذَا لِلْبُخَارِيِّ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ، وَفِي الْجَامِعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كُلُّ ابْنِ آدَمَ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ: أَعْضَاءُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَكَذَا سَائِرُ الْحَيَوَانِ (يَأْكُلُهُ التُّرَابُ، إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ) أَيْ: فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلُهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ عَجْبِ الذَّنَبِ (خُلِقَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: ابْتُدِئَ مِنْهُ خَلْقُ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا (وَفِيهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ، وَسَبَقَ أَنَّ فِي تَأْتِي مُرَادِفَةً لِمِنْ (يُرَكَّبُ) أَيْ: ثَانِيًا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا مَخْصُوصٌ فَيُخَصُّ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ ; فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَهُمْ، وَهُوَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ.

5522 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» "؟ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5522 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ» ) : وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمَا إِبْدَالُهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] ، (بِيَمِينِهِ) أَيْ: بِقُوَّتِهِ أَوْ قُدْرَتِهِ، أَوْ بِيَمِينِهِ الصَّادِرِ عَنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، أَوْ بِقَبْضِ الْمَلَائِكَةِ وَطَيِّهِمُ الْكَائِنَيْنِ بِيَمِينِ عَرْشِهِ. قَالَ الْقَاضِي: عَبَّرَ بِهِ عَنْ إِفْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْمُظِلَّةَ وَهَذِهِ الْمُقِلَّةَ، رَفْعُهُمَا مِنَ الْبَيْنِ، وَإِخْرَاجُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْوًى وَمَنْزِلًا لِبَنِي آدَمَ بِقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَهُونُ عَلَيْهَا الْأَفْعَالُ الْعِظَامُ الَّتِي يَتَضَاءَلُ دُونَهَا الْقُوَى وَالْقُدَرُ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهَا الْأَفْهَامُ وَالْفِكَرُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ، وَأَضَافَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ طَيَّ السَّمَاوَاتِ وَقَبْضَهَا إِلَى الْيَمِينِ، وَطَيَّ الْأَرْضِ إِلَى الشِّمَالِ ; تَنْبِيهًا وَتَخْيِيلًا لِمَا بَيْنَ الْمَقْبُوضَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ وَالتَّفَاضُلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُدُوثِ وَصِفَةِ الْأَجْسَامِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ فِي صِفَاتِهِ، مِمَّا يُنْبِئُ عَنِ الْجِهَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْإِتْيَانِ، وَالنُّزُولِ، فَلَا نَخُوضُ فِي تَأْوِيلِهِ، بَلْ نُؤْمِنُ بِمَا هُوَ مَدْلُولُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَ سُبْحَانَهُ، مَعَ التَّنْزِيهِ عَمَّا يُوهِمُ الْجِهَةَ وَالْجِسْمِيَّةَ. (ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) أَيْ: لَا مُلْكَ إِلَّا لِي، أَوْ أَنَا مَلِكُ الْمُلُوكِ وَالْأَمْلَاكِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَلِكَ أَبْلَغُ مِنَ الْمَالِكِ، مَعَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أَنَّ أَيَّ الْقِرَاءَتَيْنِ أَبْلَغُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاطِبِيُّ بِقَوْلِهِ: وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ رَاوِيهِ نَاصِرُ وَمُجْمَلُ الْكَلَامِ فِي الْبَيْضَاوِيِّ مَذْكُورٌ وَالتَّفْصِيلُ فِي غَيْرِهِ مَسْطُورٌ، (أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ) ؟ أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُمُ اسْتِقْلَالًا أَوْ دَوَامًا لَا يَرَوْنَ بِهِ زَوَالًا، أَوِ الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ الْأُلُوهِيَّةَ فِي الْجِهَةِ السُّفْلِيَّةِ، وَقُيِّدَ بِهَا لِأَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى هُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ أَفْعَالِ أَهْلِ السُّفْلَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

5523 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: " يَأْخُذُهُنَّ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْأُخْرَى " - ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ "؟ .» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5523 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ» ) ؟ أَيِ: الظَّلَمَةُ الْقَهَّارُونَ (أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ) ؟ أَيْ: بِمَالِهِمْ وَجَاهِهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَحَشَمِهِمْ، لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، (ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتُسَكَّنُ (بِشِمَالِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُهُنَّ) أَيْ: بَدَلَ يَطْوِي، فَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ (بِيَدِهِ الْأُخْرَى) ، هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْفَقُ بِحَدِيثِ: وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَضَمِيرُهُنَّ إِلَى الْأَرَضِينَ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ نَقَلَ بِالْمَعْنَى، وَأَنَّ لَفْظَ الرِّوَايَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْأَرَضِينَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، (ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟) فَيُنْظَرُ فِي الْأُصُولِ لِطَلَبِ الْأَحْرَى. قَالَ أَصْحَابُ التَّأْوِيلِ: الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى وَالشِّمَالُ الْقُدْرَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الطَّيِّ التَّسْخِيرُ التَّامُّ وَالْقَهْرُ الْكَامِلُ، وَهُوَ كَذَلِكَ الْآنَ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي الْقِيَامَةِ يَكُونُ أَظْهَرَ، وَنَسَبَ طَيَّ السَّمَاوَاتِ إِلَى الْيَمِينِ وَطَيَّ الْأَرَضِينَ إِلَى الشِّمَالِ ; تَنْبِيهًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَقْبُوضَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ، بَعْدَ أَنْ نَزَّهَ ذَاتَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ نِسْبَةِ الشِّمَالِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ; لِأَنَّ الشِّمَالَ نَاقِصٌ فِي الْقُوَّةِ عَادَةً، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النُّقْصَانِ، وَعَنْ سَائِرِ صِفَاتِ الْحَدَثَانِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5524 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى أُصْبُعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى أُصْبُعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا اللَّهُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ تَصْدِيقًا لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5524 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُكْسَرُ مُفْرَدُ الْأَحْبَارِ أَيْ: عَالِمٌ (مِنَ الْيَهُودِ) أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَوْ مِنْ أَحْبَارِهِمْ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: بِتَثْلِيثِ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ، فَفِيهِ تِسْعُ لُغَاتٍ، (وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ) أَيْ: جِنْسَهُ (عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى) أَيِ: التُّرَابَ النَّدِيَّ، يَعْنِي الْمَاءَ وَمَا تَحْتَهُ مِنَ الثَّرَى (عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ) أَيْ: بَاقِيَهُ (عَلَى إِصْبَعٍ) ، وَهَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ طَيَّ الْعُلْوِيِّ بِيَمِينِهِ وَالسُّفْلِيِّ بِالْأُخْرَى، وَأَيْضًا ظَاهِرُ تَقْسِيمِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْأَصَابِعِ مُوهِمٌ لِإِرَادَةِ تَحَقُّقِ الْجَارِحَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَصَابِعِ الْخَمْسَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُجَسِّمَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَرَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ لَمْ يُنْكِرْهُ لَزِمَ إِمَّا التَّأْوِيلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَلَفِ وَهُوَ أَعْلَمُ، أَوِ التَّسْلِيمُ وَالتَّفْوِيضُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، فَقَالَ شَارِحٌ: وَالْمَعْنَى يَهُونُ عَلَى اللَّهِ إِمْسَاكُهُمْ وَحِفْظُهَا، كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: فُلَانٌ يَحْمِلُ بِأُصْبُعِهِ لِقُوَّتِهِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: السَّبِيلُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْمَجَازِ، أَوْ ضَرْبٍ مِنَ التَّمْثِيلِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَصْوِيرُ عَظَمَتِهِ، وَالتَّوْفِيقُ عَلَى جَلَالَةِ شَأْنِهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ تَصَرُّفَ أَقْوَى قَادِرٍ عَلَى أَدْنَى مَقْدُورٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي سُهُولَةِ الْمَطْلَبِ، وَقُرْبِ التَّنَاوُلِ، وُفُورُ الْقُدْرَةِ، وَسَعَةُ الِاسْتِطَاعَةِ: هُوَ مِنِّي عَلَى حَبْلِ الذِّرَاعِ، وَإِنِّي أُعَالِجُ ذَلِكَ بِبَعْضِ كَفِّي، وَأَسْتَقِلُّهُ بِفَرْدِ أُصْبُعٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ اسْتِهَانَةً بِالشَّيْءِ، وَاسْتِظْهَارًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالْمُتَوَرِّعُ عَنِ الْخَوْضِ فِي تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، إِذْ لَمْ يُنْزِلْهَا فِي سَاحَةِ الصَّدْرِ مَنْزِلَةَ مُسَمَّيَاتِ الْجِنْسِ. (ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ) : الضَّمِيرُ لِلْأَصَابِعِ، وَالْمَعْنَى يُحَرِّكُهُنَّ (فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) أَيِ: الْقَادِرُ الْقَوِيُّ الْقَاهِرُ (أَنَا اللَّهُ) أَيِ: الْمَعْبُودُ بِالْحَقِّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمَعْبُودِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ تَصْدِيقًا لَهُ) : عِلَّةُ الْعِلَّةِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّمَا ضَحِكَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَتَعَجَّبَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ إِمْسَاكٍ وَلَا أُصْبُعٍ وَلَا هَزٍّ وَلَا شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ فَهْمَهُ وَقَعَ أَوَّلَ شَيْءٍ وَآخِرَهُ عَلَى الزُّبْدَةِ وَالْخُلَاصَةِ الَّتِي هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَا تَرَى بَابًا فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَدَقَّ، وَلَا أَلْطَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَلَا أَنْفَعَ وَأَهْوَنَ عَلَى تَعَاطِي تَأْوِيلِ الْمُشْتَبِهَاتِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَسَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ ; فَإِنَّ أَكْثَرَهُ تَخَيُّلَاتٌ قَدْ زَلَّتْ فِيهَا الْأَقْدَامُ قَدِيمًا، (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِضَادًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ اسْتِشْهَادًا، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] أَيْ: مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، أَوْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ وَالْأَرْضُ: الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ جِنْسَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْأَرَضُونَ السَّبْعُ {جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] أَيْ: مَقْبُوضَتُهُ وَفِي مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ بِلَا مُزَاحِمٍ مَعَ سُهُولَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ بِعَظَمَتِهِنَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ لَيْسَتْ إِلَّا قَبْضَةً وَاحِدَةً {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] أَيْ: مَجْمُوعَاتٌ بِقُدْرَتِهِ أَوْ مُغَيَّبَاتٌ بِقَسَمِهِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ أَنَّهُ يُفْنِيهِمَا {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] : بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ إِلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

5525 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " عَلَى الصِّرَاطِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5525 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، (قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِهِ) أَيْ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] أَيْ: يَوْمَ تُبَدَّلُ هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي تَعْرِفُونَهَا أَرْضًا أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْمَعْرُوفَةِ (وَالسَّمَاوَاتُ) أَيْ: كَذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ الْكَوَاشِي: إِنَّهَا تُبَدَّلُ بِخُبْزَةٍ بَيْضَاءَ، فَيَأْكُلُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ حَتَّى يَفْرُغَ الْحِسَابُ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْحَشْرِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ يُبَدِّلُهَا أَرْضًا مِنْ فِضَّةٍ بَيْضَاءَ كَالصَّحَائِفِ، وَكَذَا عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: التَّبْدِيلُ تَغْيِيرُ الشَّيْءِ عَنْ حَالِهِ، وَالْإِبْدَالُ جَعْلُ الشَّيْءِ مَكَانَ آخَرَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ يَكُونُ التَّبْدِيلُ فِي الذَّوَاتِ، كَقَوْلِكَ بَدَّلْتُ الدَّرَاهِمَ دَنَانِيرَ، وَفِي الْأَوْصَافِ كَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ الْحَلَقَةَ خَاتَمًا إِذَا أَذَبْتَهَا وَسَوَّيْتَهَا خَاتَمًا، وَاخْتُلِفَ فِي تَبْدِيلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ فَقِيلَ: تُبَدَّلُ أَوْصَافُهَا فَتَسِيرُ عَلَى الْأَرْضِ جِبَالُهَا، وَتُفَجَّرُ بِحَارُهَا، وَتُجْعَلُ مُسْتَوِيَةً لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، وَتُبَدَّلُ السَّمَاوَاتُ بِانْتِشَارِ كَوَاكِبِهَا، وَكُسُوفِ شَمْسِهَا، وَخُسُوفِ قَمَرِهَا. وَقِيلَ: يُخْلَقُ بَدَلُهَا أَرْضٌ وَسَمَاوَاتٌ أُخَرُ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ: يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ لَمْ يُخْطِئْ عَلَيْهَا أَحَدٌ خَطِيئَةً. وَالظَّاهِرُ مِنَ التَّبْدِيلِ تَغْيِيرُ الذَّاتِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ حَيْثُ قَالَتْ: (فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ) : الْمَعْهُودِ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ جِنْسِ الصِّرَاطِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5526 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5526 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ ") : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَذْكِيرِهِ لِتَغْلِيبِ الْقَمَرِ ; لِأَنَّهُ الْمُذَكَّرُ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْكَوْكَبَيْنِ النَّيِّرَيْنِ، وَقَوْلُهُ: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : ظَرْفٌ لَهُ، وَالتَّكْوِيرُ مَعْنَاهُ اللَّفُّ، وَمِنْهُ تَكْوِيرُ الْعِمَامَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] وَهُوَ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنَ التَّكْوِيرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى اللَّفِّ الْجَمْعُ، أَيْ: يَلُفُّ صُوَرَهُمَا لَنَا ; فَيَذْهَبُ انْبِسَاطُهُمَا فِي الْآفَاقِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ رَفْعُهُمَا ; لِأَنَّ الثَّوْبَ إِذَا طُوِيَ رُفِعَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ طَعْنَةٌ مُكَوَّرَةٌ مِنْ كَوَّرَهُ إِذَا أَلْقَاهُ، أَيْ: مُلْقَيَانِ مِنْ فَلَكِهِمَا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَشْبَهُ بِنَسَقِ الْحَدِيثِ لِمَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ، فَيَكُونُ تَكْوِيرُهَا فِيهَا لِيُعَذَّبَ بِهِمَا أَهْلُ النَّارِ، لَا سِيَّمَا عُبَّادَ الْأَنْوَارِ، وَلَا يُعَذَّبَانِ فِي النَّارِ، فَإِنَّهُمَا بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّكْلِيفِ، بَلْ سَبِيلُهُمَا فِي النَّارِ سَبِيلُ النَّارِ نَفْسِهَا، وَسَبِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي النَّارِ، إِنْ شَاءَ أَخْرَجَهُمَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا، وَالْعَقِيرُ: الزَّمِنُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5527 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَهُ وَأَصْغَى سَمْعَهُ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: " قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5527 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيْفَ أَنْعَمُ ") أَيْ: أَفْرَحُ وَأَتَنَعَّمُ مِنْ نَعِمَ عَيْشُهُ كَفَرِحَ اتَّسَعَ، وَلِأَنَّ كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ مِنَ النَّعْمَةِ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ الْمَسَرَّةُ وَالْفَرَحُ وَالتَّرَفُّهُ. (وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَهُ) أَيْ: وَضَعَ طَرَفِ الصُّورِ فِي فَمِهِ (وَأَصْغَى سَمْعَهُ) أَيْ: أَمَالَ أُذُنَهُ (وَحَنَى جَبْهَتَهُ) أَيْ: أَمَالَهَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَجُّهِ لِإِصْغَاءِ السَّمْعِ وَإِلْقَاءِ الْأُذُنِ، (يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنَ

الِالْتِقَاءِ وَالْإِصْغَاءِ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِصَاحِبِهِ، بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ كَيْفَ يَطِيبُ عَيْشِي، وَقَدْ قَرُبَ أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ صَاحِبَ الصُّورِ وَضَعَ رَأْسَ الصُّورِ فِي فَمِهِ، وَهُوَ مُتَرَصِّدٌ مُتَرَقِّبٌ لِأَنْ يُؤْمَرَ فَيَنْفُخَ فِيهِ. (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا تَأْمُرُنَا؟) أَيْ: أَنْ نَقُولَ الْآنَ، أَوْ حِينَئِذٍ، أَوْ مُطْلَقًا عِنْدَ الشَّدَائِدِ (قَالَ: " قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ") : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ: كَافِينَا اللَّهُ (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) : فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيْ: نِعْمَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ اللَّهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَيْرَكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] الْآيَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

5528 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الصُّورُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5528 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الصُّورُ قَرْنٌ ") : قِيلَ دَائِرَةٌ رَأْسُهُ كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، (يُنْفَخُ فِيهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ النَّفْخَتَيْنِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5529 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] : الصُّورِ، قَالَ: وَ (الرَّاجِفَةُ) : النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَ (الرَّادِفَةُ) الثَّانِيَةُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5529 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ} [المدثر: 8] أَيْ: نُفِخَ {فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] الصُّورِ: بِالْجَرِّ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ الصُّورُ، (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا {الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6] أَيْ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ - تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 6 - 7] ; لِأَنَّهَا تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ عِنْدَهَا أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ وَتَتَزَلْزَلُ لَهَا، (وَالرَّادِفَةُ: الثَّانِيَةُ) أَيْ: لِأَنَّهَا تَقَعُ عَقِيبَهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّاجِفَةُ الْوَاقِعَةُ الَّتِي تَرْجُفُ عِنْدَهَا الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى وُصِفَتْ بِمَا يَحْدُثُ بِحُدُوثِهَا، وَالرَّادِفَةُ الْوَاقِعَةُ الَّتِي تَرْدُفُ الْأُولَى وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْجِيمِ أَيْ: فِي عُنْوَانِهِ تَعْلِيقًا، لَكِنْ وَصَلَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ.

5530 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاحِبَ الصُّورِ، وَقَالَ: " عَنْ يَمِينِهِ جِبْرِيلُ وَعَنْ يَسَارِهِ مِيكَائِيلُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5530 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاحِبَ الصُّورِ) أَيْ: إِسْرَافِيلَ (وَقَالَ: " عَنْ يَمِينِهِ جِبْرِيلُ ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ فَكَسْرِ رَاءٍ فَسُكُونِ يَاءٍ وَبِفَتْحِهِمَا وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ وَتُحْذَفُ، أَرْبَعُ لُغَاتٍ كُلُّهُنَّ مُتَوَاتِرَاتٌ، (وَعَنْ يَسَارِهِ مِيكَائِيلُ) : بِهَمْزَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ وَتُحْذَفُ وَبِوَزْنِ مِفْعَالٍ، ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ، لَكِنْ فِي شَرْحِ الشَّاطِبِيَّةِ لِلْجَعْبَرِيِّ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُمَا مَمْدُودَانِ فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى. وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْمَدَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ أَوْ حَرْفَ الْمَدِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ جِبْرَائِيلَ بِالْأَلِفِ الْمَمْدُودَةِ عَلَى الشُّذُوذِ، وَاخْتِيرَ لِمُشَاكَلَةِ مِيكَائِيلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5531 - «وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلْقَ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: " أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي قَوْمِكَ جَدْبًا ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا "؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " فَتِلْكَ آيَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ "، {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] » . رَوَاهُمَا رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5531 - (وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ (الْعُقَيْلِيِّ) : مُصَغَّرًا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلْقَ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ) أَيْ: عَلَامَتُهُ (فِي خَلْقِهِ) ؟ أَيْ مَخْلُوقَاتِهِ الْمَوْجُودِينَ (قَالَ: أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي قَوْمِكَ جَدْبًا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْقَامُوسِ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ ضِدُّ الْخِصْبِ، (ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ يَتَحَرَّكُ (خَضِرًا) ؟ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَهْتَزُّ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَخَضِرًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، اسْتَعَارَ الِاهْتِزَازَ لِأَشْجَارِ الْوَادِي تَصْوِيرًا لِحُسْنِهَا، وَيُقَالُ: اهْتَزَّ فُلَانٌ فَرَحًا أَيْ خَفَّ لَهُ، وَكُلُّ مَنْ خَفَّ لِأَمْرٍ وَارْتَاحَ لَهُ فَقَدِ اهْتَزَّ لَهُ. (قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَتِلْكَ آيَةُ اللَّهِ) أَيْ: عَلَامَةُ قُدْرَتِهِ (فِي خَلْقِهِ) أَيْ وَفِي إِعَادَتِهِ وَالْعَوْدُ أَحْمَدُ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] ، الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اسْتِشْهَادٌ بِالْآيَةِ أَوِ اقْتِبَاسٌ مِنْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَيْسَ فَرْقٌ بَيْنَ إِنْشَاءِ خَلْقٍ وَإِعَادَتِهِ، وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] بَيَانٌ لِلتَّسْوِيَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] أَيْ: بِكُلٍّ مِنَ الْإِنْشَاءِ وَالْإِعَادَةِ عَلِيمٌ، وَنَظِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الدَّلَالَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْقَادِرَ الَّذِي يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، هُوَ الَّذِي يُحْيِي النَّاسَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ قَادِرٌ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْدُورَاتِ بِدَلِيلِ الْإِنْشَاءِ. (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (رَزِينٌ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ أَبُو الْحَسَنِ رَزِينُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَافِظُ صَاحِبُ كِتَابِ التَّجْرِيدِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصِّحَاحِ، مَاتَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَالْخَمْسِمِائَةِ.

[باب الحشر]

[بَابُ الْحَشْرِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5532 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لِأَحَدٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [2] بَابُ الْحَشْرِ فِي الْمُغْرِبِ: الْحَشْرُ الْجَمْعُ. قُلْتُ: وَهُوَ ضِدُّ النَّشْرِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5532 - (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) : سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ، عَفْرَاءَ ") أَيْ: غَيْرَ شَدِيدَةِ الْبَيَاضِ، وَالْعُفْرَةُ لَوْنُ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَخْلُصُ بَيَاضُهَا بَلْ يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ، (كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ الدَّقِيقُ الْمَنْخُولُ الْمُنَظَّفُ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْحُوَّارَّيُّ، وَالْقُرْصَةُ بِالضَّمِّ الرَّغِيفُ، وَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ وَالتَّشْبِيهُ بِهَا فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ دُونَ الْقَدْرِ (لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ عَلَامَةٌ (لِأَحَدٍ) يُرِيدُ بِهِ الْأَبْنِيَةَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَكُونُ قَاعًا لَا بِنَاءَ فِيهَا، ذَكَرَهُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَرْضِ الدُّنْيَا، وَتَخْصِيصُ كُلٍّ مِنْ مُلَّاكِهَا بِقِطَعٍ مِنْهَا أَعْلَمُ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5533 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نَزَلَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ! أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: " بَلَى ". قَالَ: تَكُونُ الْأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْنَا، ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَدَامِهِمْ؟ بَالَامٌ وَالنُّونُ ". قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: " ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5533 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً) أَيْ: كَخُبْزَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ: تَصِيرُ خُبْزَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا سَيَأْتِي (يَتَكَفَّؤُهَا) : بِالْهَمْزَةِ بَعْدَ تَشْدِيدِ الْفَاءِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ رِوَايَةُ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَرِوَايَةُ كِتَابِ مُسْلِمٍ يَكْفَؤُهَا بِسُكُونِ الْكَافِ وَالْهَمْزَةِ، مِنْ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ أَيْ قَلَبْتُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَالْمَعْنَى يُقَلِّبُهَا، (الْجَبَّارُ) أَيِ: الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (بِيَدِهِ) أَيْ: مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَارِحَةِ، (كَمَا يَتَكَفَّؤُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ) أَيْ: عَجِينَتَهُ ; فَهِيَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَآلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، (فِي السَّفَرِ) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ سُفْرَةٍ، فَالْأَوَّلُ ظَرْفُ الزَّمَانِ، وَالثَّانِي مَكَانُ الْبَيَانِ، وَالْمَعْنَى كَمَا يُفْعَلُ بِالْعَجِينَةِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ تَرْقِيقُهَا وَاسْتِوَاؤُهَا حَتَّى تُلْقَى عَلَى الْمَلَّةِ فِي السَّفَرِ اسْتِعْجَالًا، (نُزُلًا) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ إِضَافَةً (لِأَهْلِ الْجَنَّةِ) : وَهُوَ مَا يُسْتَعْجَلُ لِلضَّيْفِ مِنَ الطَّعَامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَتَكَفَّؤُهَا بِالْهَمْزِ أَيْ: يُقَلِّبُهَا وَيُمِيلُهَا مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ حَتَّى تَجْتَمِعَ وَتَسْتَوِيَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَبْسُوطَةً كَالرُّقَاقَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِي نُسْخَةِ مُسْلِمٍ: وَيَكْفَؤُهَا بِالْهَمْزِ، وَالْخُبْزَةُ هِيَ الطُّلْمَةُ الَّتِي تُوضَعُ فِي الْمَلَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ الْأَرْضَ كَالطُّلْمَةِ وَالرَّغِيفِ الْعَظِيمِ يَكُونُ ذَلِكَ طَعَامًا نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَى الْحَدِيثَ مُشْكِلًا جِدًّا غَيْرَ مُسْتَنْكِرٍ شَيْئًا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَجَائِبِ فِطْرَتِهِ، بَلْ لِعَدَمِ التَّوْفِيقِ الَّذِي يَكُونُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ فِي قَلْبِ جِرْمِ الْأَرْضِ مِنَ الطَّبْعِ الَّذِي عَلَيْهِ إِلَى طَبْعِ الْمَطْعُومِ وَالْمَأْكُولِ، مَعَ مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ، أَيْ: هَذِهِ الْأَرْضُ بَرُّهَا وَبَحْرُهَا تَمْتَلِئُ نَارًا قِي النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ وَتَنْضَمُّ إِلَى جَهَنَّمَ، فَنَرَى الْوَجْهَ فِيهِ أَنْ نَقُولَ مَعْنَى قَوْلِهِ خُبْزَةً وَاحِدَةً أَيْ: كَخُبْزَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نَعْتِهَا كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ مِثْلُ مَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ بِقُرْصَةِ النَّقِيِّ لِاسْتِدَارَتِهَا وَبَيَاضِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَفِي الْحَدِيثِ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِخُبْزَةٍ تُشْبِهُ الْأَرْضَ هَيْئَةً وَشَكْلًا وَمِسَاحَةً، فَاشْتَمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا بَيَانُ الْهَيْئَةِ الَّتِي تَكُونُ الْأَرْضُ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ، وَالْآخَرُ بَيَانُ الْخُبْزَةِ الَّتِي يُهَيِّئُهَا اللَّهُ تَعَالَى نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَبَيَانُ عِظَمِ مِقْدَارِهَا إِبْدَاعًا وَاخْتِرَاعًا مِنَ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ أَمْرٌ وَلَا يَعُوزُهُ شَيْءٌ اهـ. وَأَطْنَبَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، فَأَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهِ، وَقِيلَ: الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ لَا مِنْ جِهَةِ إِنْكَارِ قُدْرَتِهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ: إِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ تَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا، وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ شَبَّهَ أَرْضَ الْحَشْرِ بِالْخُبْزَةِ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالْبَيَاضِ، كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَشَبَّهَ أَرْضَ الْجَنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي كَوْنِهَا نُزُلًا لِأَهْلِهَا تَكْرِمَةً لَهُمْ بِعُجَالَةِ الرَّاكِبِ زَادًا يَقْنَعُ بِهِ فِي سَفَرِهِ، وَلَكِنَّ آخِرَ هَذَا الْحَدِيثِ يُشْعِرُ بِأَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ خُبْزَةً عَلَى التَّجَوُّزِ، وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَقُدْرَتُهُ تَعَالَى صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، بَلِ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَبْلَغُ بِأَنْ يَقْلِبَ اللَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ طَبْعَ الْأَرْضِ حَتَّى يَأْكُلُوا مِنْهَا تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا عِلَاجٍ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفَ مَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ جِرْمَ الْأَرْضِ يَنْقَلِبُ خُبْزَةً فِي الشَّكْلِ وَالطَّبْعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ، يَسْتَعْجِلُ الْمُضِيفُ بِهَا نُزُلًا لِلضَّيْفِ، ثُمَّ تَعْرِيفُ الْأَرْضِ فِي الْحَدِيثِ كَتَعْرِيفِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَرْضُ الْجَنَّةِ، هَذَا وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَوْلُ

الرَّاوِي: (فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) أَيْ: مِنْ أَحْبَارِهِمْ (فَقَالَ: بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ) : دَعَا لَهُ بِنُزُولِ كَثْرَةِ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِ، أَوْ إِخْبَارًا عَنْهُ (يَا أَبَا الْقَاسِمِ!) : كَنَّاهُ تَعْظِيمًا (أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: بَلَى. قَالَ: تَكُونُ الْأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْنَا) أَيِ: الْتِفَاتٌ وَتَعَجُّبٌ وَتَنْبِيهٌ (ثُمَّ ضَحِكَ) أَيْ: فَرَحًا لِلْمُطَابَقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ (حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) أَيْ: ظَهَرَتْ آخِرُ أَضْرَاسِهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ، (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: الْيَهُودِيُّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَدَامِهِمْ) ؟ أَيْ بِمَا يَأْتَدِمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْخُبْزَةَ بِهِ (بَالَامٌ) أَيْ: هُوَ بَالَامٌ وَهُوَ عَلَى وَزْنِ فَاعَانٌ أَيْ ثَوْرٌ، (وَالنُّونُ) أَيِ: السَّمَكُ (قَالُوا) أَيِ: الصَّحَابَةُ (وَمَا هَذَا) ؟ أَيْ مَا مَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتَهُ (قَالَ: ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا) ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا النُّونُ فَهُوَ الْحُوتُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا بَالَامٌ فَبِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَخْفِيفِ لَامٍ وَمِيمٍ مُنَوَّنَةٍ مَرْفُوعَةٍ، وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ، وَالصَّحِيحُ مِنْهَا مَا اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّهَا لَفْظَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا بِالْعَرَبِيَّةِ الثَّوْرُ، وَفَسَّرَ الْيَهُودِيُّ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ عَرَبِيَّةً لَعَرَفَهَا الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى سُؤَالِهِ عَنْهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَأْكُلُ مِنْهَا سَبْعُونَ أَلْفًا فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُمُ السَّبْعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ ; فَخُصُّوا بِأَطْيَبِ النُّزُلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَبَّرَ بِهِ مِنَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَلَمْ يُرِدِ الْحَصْرَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5534 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ، رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5534 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُحْشَرُ النَّاسُ) أَيْ: بَعْدَ الْبَعْثِ (عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ) أَيْ: فِرَقٍ، وَأَصْنَافُ الرُّكْبَانِ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثِ، وَالْبَقِيَّةُ تَتَنَاوَلُ الطَّرِيقَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، وَهُمَا الْمُشَاةُ وَالَّذِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، (رَاغِبِينَ) أَيْ: فِي الْجَنَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ ثَلَاثٍ، وَهُوَ وَاحِدُ الْفِرَقِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، (رَاهِبِينَ) أَيْ: مِنَ النَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَخَافُونَ، وَلَكِنْ يُنَجَّوْنَ مِنْهَا وَهُمُ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الرَّجَاءِ أَوْلَى مِنْ عِبَادَتِهِ عَلَى الْخَوْفِ ; وَلِذَا سُمِّيَ الْأَوَّلُونَ الطَّيَّارِينَ، وَالْآخَرُونَ السَّيَّارِينَ، وَتَحْقِيقُهُ فِي كُتُبِ التَّصَوُّفِ، وَيَعْرِفُهُ أَهْلُ التَّعَرُّفِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّاغِبِينَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الرَّجَاءُ، وَبِالرَّاهِبِينَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ، قَالَ تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْخَوْفَ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِعُمُومِ الْعَامَّةِ لَا سِيَّمَا فِي الْبِدَايَةِ، (وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ) أَيِ: اعْتِقَابًا أَوِ اجْتِمَاعًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ (وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشْرٌ عَلَى بَعِيرٍ) : فَعَلَى مِقْدَارِ مَرَاتِبِهِمْ يَسْتَرِيحُونَ عَلَى مَرَاكِبِهِمْ، وَالْبَاقُونَ يَمْشُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَقْدَامِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَوْلُهُ: وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ، وَصِفَةُ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفٌ أَيِ اثْنَانِ مِنْهُمْ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَهَذِهِ الْأَعْدَادُ تَفْصِيلٌ لِمَرَاتِبِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالتَّمْثِيلِ، فَمَنْ كَانَ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ كَانَ أَقَلَّ شَرِكَةً وَأَشَدَّ سُرْعَةً وَأَكْثَرَ سِبَاقًا. فَإِنْ قُلْتَ: كَوْنُ الِاثْنَيْنِ وَإِخْوَاتِهِ عَلَى الْبَعِيرِ بِطَرِيقِ الِاجْتِمَاعِ أَمِ الِاعْتِقَابِ؟ قُلْنَا: قَالَ شَارِحٌ: السُّنَّةُ بِطَرِيقِ الِاعْتِقَابِ، لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ ; إِذْ فِي الِاعْتِقَابِ لَا يَكُونُ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ عَلَى بَعِيرٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ الْعَشْرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ غَايَةُ عَدَدِ الرَّاكِبِينَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعِيرِ الْمُحْتَمِلِ لِلْعَشَرَةِ مِنْ بَدَائِعِ فِطْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَنَاقَةِ صَالِحٍ ; حَيْثُ قَوَّى مَا لَا يَقْوَى مِنَ الْبُعْرَانِ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْخَمْسَةَ وَالسِّتَّةَ وَغَيْرَهُمَا إِلَى الْعَشَرَةِ لِلْإِيجَازِ.

(وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ) أَيْ: تَجْمَعُهُمُ (النَّارُ تَقِيلُ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الْقَيْلُولَةِ وَفَاعِلُهُ النَّارُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَكُونُ (مَعَهُمْ) : فِي النَّهَارِ (حَيْثُ قَالُوا) أَيْ: كَانُوا أَوِ اسْتَرَاحُوا (وَتَبِيتُ) : أَيِ النَّارُ (مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا) أَيْ: كَانُوا فِي اللَّيْلِ (وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا) أَيْ: دَخَلُوا فِي الصَّبَاحِ (وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا) : وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّارَ تَلْزَمُهُمْ بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُهُمْ أَبَدًا. هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ فِي تَحْصِيلِ الْمَرَامِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحَشْرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ يُحْشَرُ النَّاسُ أَحْيَاءً إِلَى الشَّامِ، وَأَمَّا الْحَشْرُ بَعْدَ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ، فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ رُكُوبِ الْإِبِلِ وَالْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ حُفَاةً عُرَاةً، وَفُسِّرَ ثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، عَلَى أَنَّهُمْ يَعْتَقِبُونَ الْبَعِيرَ الْوَاحِدَ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ وَيَمْشِي بَعْضُهُمْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُ مَنْ يَحْمِلُ الْحَشْرَ عَلَى الْحَشْرِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ الْبَعْثِ فِي الْقُبُورِ أَشَدُّ وَأَقْوَى، وَأَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَشْرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ لَا يُرَادُ مِنْهُ إِلَّا الْحَشْرُ الَّذِي بَعْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، إِلَّا أَنْ يُخَصَّ بِنَوْعٍ مِنَ الدَّلِيلِ، وَلَمْ نَجِدْ هَاهُنَا، وَالْآخَرُ: أَنَّ التَّقْسِيمَ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْحَشْرِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ ; لِأَنَّ الْمُهَاجِرَ إِلَيْهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاغِبًا رَاهِبًا، أَوْ رَاهِبًا، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا وَرَاهِبًا، وَتَكُونَ هَذِهِ طَرِيقَةً وَاحِدَةً لَا ثَانِيَ لَهَا مِنْ جِنْسِهَا فَلَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَشْرَ النَّارِ يُقَيِّدُ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَالْتِزَامُهَا لَهُمْ حَتَّى لَا تُفَارِقَهُمْ فِي مَقِيلٍ وَلَا مَبِيتٍ، وَلَا صَبَاحٍ وَلَا مَسَاءٍ، قَوْلٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ التَّوْقِيفُ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَقُولَ بِتَسْلِيطِ النَّارِ عَلَى أُولِي الشَّقَاوَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ أَقْوَى الدَّلَائِلِ وَأَوْثَقُهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ فِي الْحِسَانِ مِنْ هَذَا الْبَابِ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ الْحَدِيثَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ بَعْثِ النَّاسِ حُفَاةً عُرَاةً، فَلَا تَضَادَّ بَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ ; لِأَنَّ إِحْدَاهَا حَالَةُ الْبَعْثِ مِنَ النَّشْرِ، وَأُخْرَى حَالَةُ السَّوْقِ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَنَرَى التَّقْسِيمَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ التَّقْسِيمَ الَّذِي جَاءَ بِهِ التَّنْزِيلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا - وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا - فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا - وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} [الواقعة: 4 - 7] الْآيَاتِ، فَقَوْلُهُ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ يُرِيدُ بِهِ عَوَامَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ ذَوُو الْهَنَاتِ الَّذِينَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ بَعْدَ زَوَالِ التَّكْلِيفِ، فَتَارَةً يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ لِإِيمَانِهِمْ، وَتَارَةً يَخَافُونَ عَذَابَهُ لِمَا اجْتَرَحُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَيْضًا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ فِي الْحِسَانِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَوْلُهُ: وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ أُولُو السَّابِقَةِ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ السَّابِقُونَ، وَقَوْلُهُ: وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، يُرِيدُ أَصْحَابَ الْمَشْأَمَةِ. فَهَذِهِ ثَلَاثُ طَرَائِقَ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ السَّابِقِينَ مَنْ يَتَفَرَّدُ بِفَرْدِ مَرْكَبٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، قُلْنَا لِأَنَّهُ عُرِفَ أَنَّ ذَلِكَ مَجْعُولٌ لِمَنْ فَوْقَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ لِيَقَعَ الِامْتِيَازُ بَيْنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ فِي الْمَرَاكِبِ كَمَا وَقَعَ فِي الْمَرَاتِبِ اهـ. وَعَارَضَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَحَذَفْنَا بَحْثَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5535 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا " ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] ، " وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ. فَأَقُولُ أَيْ قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] إِلَى قَوْلِهِ: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5535 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ) أَيْ: سَتُبْعَثُونَ (حُفَاةً) : بِضَمِّ الْحَاءِ جَمْعُ حَافٍ وَهُوَ الَّذِي لَا نَعْلَ لَهُ (عُرَاةً) : بِضَمِّ الْعَيْنِ جَمْعُ عَارٍ وَهُوَ مَنْ لَا سِتْرَ لَهُ (غُرْلًا) : بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، جَمْعُ الْأَغْرَلِ، وَهُوَ الْأَقْلَفُ أَيْ غَيْرَ مَخْتُونِينَ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي قَوْلِهِ: غُرْلًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبَعْثَ يَكُونُ بَعْدَ رَدِّ تَمَامِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْضَاءِ الزَّائِلَةِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْبَدَنِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الْقُلْفَةَ كَانَتْ وَاجِبَةَ الْإِزَالَةِ فِي الدُّنْيَا، فَغَيْرُهَا مِنَ الْأَشْعَارِ وَالْأَظْفَارِ وَالْأَسْنَانِ وَنَحْوِهَا أَوْلَى، وَذَلِكَ لِغَايَةِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَنِهَايَةِ قُدْرَتِهِ

بِالْأَشْيَاءِ الْمُمْكِنَاتِ، (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ: اسْتِشْهَادًا، وَاعْتِضَادًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] : الْكَافُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ نُعِيدُهُ أَيْ نُعِيدُ الْخَلْقَ إِعَادَةً مِثْلَ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: بَدَأْنَاهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَذَا نُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَعْدًا عَلَيْنَا} [الأنبياء: 104] أَيْ: لَازِمًا لَا يَجُوزُ الْخُلْفُ فِيهِ {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] أَيْ مَا وَعَدْنَاهُ وَأَخْبَرْنَا بِهِ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: سِيَاقُ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى نُوجِدُكُمْ عَنِ الْعَدَمِ، كَمَا أَوَجَدْنَاكُمْ أَوَّلًا عَنِ الْعَدَمِ، فَكَيْفَ يُسْتَشْهَدُ بِهَا لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ؟ قُلْتُ: دَلَّ سِيَاقُ الْآيَةِ وَعِبَارَتُهَا عَلَى إِثْبَاتِ الْحَشْرِ، وَإِشَارَتُهَا عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِدْمَاجِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ بِعِبَارَتِهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ الْآيَةِ مُخْتَصًّا لِأَحَدِهِمَا، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: نُوجِدُكُمْ مِنَ الْعَدَمِ مُسَامَحَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ) : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قِيلَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْفُقَرَاءَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَرِيَ فِي ذَاتِ اللَّهِ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، لَا لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ نَبِيِّنَا، أَوْ لِكَوْنِهِ أَبَاهُ فَقَدَّمَهُ لِعِزَّةِ الْأُبُوَّةِ، عَلَى أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ نَبِيَّنَا يَخْرُجُ فِي النَّاسِ مِنْ قَبْرِهِ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا، وَعِنْدِي - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ، يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً، لَكِنْ يَلْبَسُونَ أَكْفَانَهُمْ بِحَيْثُ لَا تُكْشَفُ عَوْرَاتُهُمْ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَخْرُجُ مِنْ قَبْرِي وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِي وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِي وَآتِي الْبَقِيعَ» ) الْحَدِيثَ. ثُمَّ يَرْكَبُونَ النُّوقَ وَنَحْوَهَا، وَيَحْضُرُونَ الْمَحْشَرَ، فَيَكُونُ هَذَا الْإِلْبَاسُ مَحْمُولًا عَلَى الْخِلَعِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْحُلَلِ الْجَنَّتِيَّةِ، عَلَى الطَّائِفَةِ الِاصْطِفَائِيَّةِ، وَأَوَّلِيَّةُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً، أَوْ إِضَافِيَّةً، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَدِيثَ: " «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَأُكْسَى حُلَّةً مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِي» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ آتِي أَهْلَ الْبَقِيعِ فَيُحْشَرُونَ مَعِي، ثُمَّ أَنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ» ". وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: نَرَى أَنَّ التَّقَدُّمَ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ إِنَّمَا وَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَرِيَ فِي ذَاتِ اللَّهِ حِينَ أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ، فَإِنْ قِيلَ: أَوَلَيْسَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمَحْكُومَ لَهُ بِالْفَضْلِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَأَخُّرُهُ فِي ذَلِكَ مُوهِمٌ أَنَّ الْفَضْلَ لِلسَّابِقِ؟ قُلْنَا: إِذَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَبْدًا بِفَضْلِهِ عَلَى آخَرَ، وَاسْتَأْثَرَ الْمُسْتَأْثَرَ عَلَيْهِ عَلَى الْمُسْتَأْثَرِ بِتِلْكَ الْوَاحِدَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا أَوْ أَفْضَلَ كَانَتِ السَّابِقَةُ لَهُ، وَلَا يَقْدَحُ اسْتِئْثَارُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ بِفَضِيلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي فَضْلِهِ، وَلَا خَفَاءَ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ حَيْثُ لَا يُؤْذَنُ لِأَحَدٍ فِي الْكَلَامِ لَمْ تُبْقِ سَابِقَةً لِأُولِي السَّابِقَةِ، وَلَا فَضِيلَةً لِذَوِي الْفَضَائِلِ إِلَّا أَتَتْ عَلَيْهَا، وَكَمْ لَهُ مِنْ فَضَائِلَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا، وَلَمْ يُشَارَكْ فِيهَا. (وَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِي) أَيْ: جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ (يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) أَيْ: إِلَى النَّارِ مَعَ أَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ (فَأَقُولُ: أُصَيْحَابِي) : بِالتَّصْغِيرِ لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ: هَؤُلَاءِ أَصْحَابِي (أُصَيْحَابِي!) : كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى جَمَاعَتَيْنِ، (فَيَقُولُ) أَيْ: قَائِلٌ أَوْ مُجِيبٌ (إِنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُذْ فَارَقْتَهُمْ) . قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ بِهِمْ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي أَيَّامِهِ، كَأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ، وَالْأَسْوَدِ وَأَضْرَابِهِمْ، فَإِنَّ أَصْحَابَهُ، وَإِنْ شَاعَ عُرْفًا فِيمَنْ يُلَازِمُهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ لُغَةً فِي كُلِّ مَنْ تَبِعَهُ، أَوْ أَدْرَكَ حَضْرَتَهُ وَوَفِدَ عَلَيْهِ وَلَوْ مَرَّةً. قُلْتُ: الْأَوَّلُ اصْطِلَاحُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالثَّانِي مُصْطَلَحُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالِارْتِدَادِ إِسَاءَةَ السِّيرَةِ، وَالرُّجُوعَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ النِّيَّةِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا. أَقُولُ: هَذَا بِالْإِشَارَاتُ الصُّوفِيَّةُ أَنْسَبُ وَأَقْرَبُ، وَإِلَّا فَعِبَارَةُ الِارْتِدَادِ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا، وَلَا مُوَافِقَةٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ) : وَهُوَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى أُمَّتِي شَهِيدًا أَيْ: مُطَّلِعًا رَقِيبًا حَافِظًا {مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] أَيْ: مَوْجُودًا فِيمَا بَيْنَهُمْ (إِلَى قَوْلِهِ: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117 - 118] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

5536 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ، الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5536 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرِّجَالُ) : بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ بِالْمَدِّ وَالتَّسْهِيلِ أَيْضًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] ، (وَالنِّسَاءُ) : عَطْفٌ عَلَى الرِّجَالِ وَهُمَا مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: (جَمِيعًا) أَيْ: مُجْتَمِعِينَ حَالٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا جَوَّزَهُ الْبَعْضُ، فَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: (يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) ؟ وَهُوَ مَحَطُّ الِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ: مُبْتَدَأٌ، وَجَمِيعًا: حَالٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، أَيْ: مُخْتَلِطُونَ جَمِيعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ: يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ قُدِّمَ اهْتِمَامًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] وَفِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ، (فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ! الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) أَيْ: أَمْرُ الْقِيَامَةِ أَصْعَبُ مِنْ أَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ عَلَى النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ عَمْدًا، أَوْ سَهْوًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا " فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: أَيَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى عَوْرَةِ بَعْضٍ، فَقَالَ: " يَا فُلَانَةُ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ؟ قَالَ: " حُفَاةً عُرَاةً ". قَالَتْ: وَاسَوْأَتَاهُ! قَالَ: " إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ آيَةٌ لَا يَضُرُّكِ كَانَ عَلَيْكِ ثِيَابٌ أَوْ لَا ". قَالَتْ: وَأَيُّ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] » ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاسَوْأَتَاهُ! يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ! فَقَالَ: " شُغُلُ النَّاسِ ". قُلْتُ: مَا شُغُلُهُمْ؟ قَالَ: " نَشْرُ الصَّحَائِفِ فَمِنْهَا مَثَاقِيلُ الذَّرِّ وَمَثَاقِيلُ الْخَرْدَلِ» ".

5537 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5537 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ؟ وَلِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرًا (قَالَ: أَلَيْسَ) أَيِ: الشَّأْنُ (الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: (قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهُ (عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي الثَّالِثِ، وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبَا حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ «عَنْ أَنَسٍ قِيلَ: قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: " الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ «عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! كَيْفَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: " أَرَأَيْتَ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَلَيْسَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» ؟ ".

5538 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ ; فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ! إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَالُ لِإِبْرَاهِيمَ: مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5538 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَلْقَى) أَيْ: يَرَى (إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجْهِ آزَرَ) : وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ; لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ رَجْعُهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ (قَتَرَةٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ سَوَادٌ مِنَ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ (وَغَبَرَةٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ غُبَارٌ مَعَهُ سَوَادٌ، فَذَكَرَهُمَا مُبَالَغَةً وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، (فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ) : ظَرْفٌ مُقَدَّمٌ (لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ! إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي) أَيْ: لَا تَفْضَحَنِي (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أَيِ: الْخَلَائِقُ (فَأَيُّ خِزْيٍ) : فِي النِّهَايَةِ هُوَ الْهَلَاكُ وَالْوُقُوعُ فِي بَلِيَّةٍ (أَخْزَى مِنْ أَبِي) أَيْ: مِنْ خِزْيِ أَبِي (الْأَبْعَدِ) : يُرِيدُ الْبُعْدَ فِي الْمَرْتَبَةِ وَالِالْتِحَاقَ بِأَهْلِ النَّارِ، أَوِ الْهَالِكِ مِنَ الْبُعْدِ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ، أَوِ الْأَبْعَدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْفَاسِقَ بَعِيدٌ وَالْكَافِرَ أَبْعَدُ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَإِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ أَقْرَبُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ أَفْعَلُ الَّذِي قُطِعَ عَنْ مُتَعَلَّقِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، (فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ) ؟ وَفِي نُسْخَةٍ: انْظُرْ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ، وَمَا: اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَا اسْتِفْهَامٌ خَبَرُهُ تَحْتَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ بِمَعْنَى الَّذِي، أَيِ: انْظُرْ إِلَى الَّذِي تَحْتَ رِجْلَيْكَ، (فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ) أَيْ: آزَرُ (بِذِيخٍ) : بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَتَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ فَخَاءٌ مُعْجَمَةٌ، وَهُوَ ذَكَرُ الضَّبْعِ الْكَثِيرِ الشَّعْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَهُوَ مَا يُذْبَحُ (مُتَلَطِّخٍ) : إِمَّا بِرَجِيعِهِ أَوْ بِدَمِهِ أَوْ بِالطِّينِ، (فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ) : جَمْعُ قَائِمَةٍ وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الدَّوَابُّ بِمَثَابَةِ الْأَرْجُلِ لِلْإِنْسَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ ; إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ (فَيُلْقَى) أَيْ: فَيُطْرَحُ (فِي النَّارِ) أَيْ: فِي مَقَامِ الْكُفَّارِ، فَغُيِّرَ صُورَتُهُ لِيَكُونَ تَسْلِيَةً لِإِبْرَاهِيمَ حَتَّى لَا يُخْزِيَهُ لَوْ رَآهُ قَدْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ عَلَى صُورَتِهِ، فَيَكُونُ خِزْيًا وَفَضِيحَةً عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ ; فَغَيَّرَهُ سُتْرَةً لِحَالِهِ فِي تَقْبِيحِ مَآلِهِ. قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اخْتَلَفَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَبَرَّأَ إِبْرَاهِيمُ فِيهِ مِنْ أَبِيهِ، فَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لَمَّا مَاتَ آزَرُ مُشْرِكًا، وَقِيلَ إِنَّمَا تَبَرَّأَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَّا أَيِسَ مِنْهُ حِينَ مُسِخَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ لَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا، فَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ، لَكِنْ لَمَّا رَآهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَدْرَكَتْهُ الرَّأْفَةُ فَسَأَلَ مِنْهُ، فَلَمَّا رَآهُ مُسِخَ أَيِسَ مِنْهُ وَتَبَرَّأَ تَبَرُّأً أَبَدِيًّا، وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آمَنَ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُطْلِعْ إِبْرَاهِيمَ، وَيَكُونُ وَقْتُ تَبَرُّئِهِ مِنْهُ بَعْدَ الْحَالِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5539 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5539 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَعْرَقُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ (النَّاسُ) أَيْ: جَمِيعًا، وَالْجِنُّ أَوْلَى، فَتَرْكُهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَالظَّاهِرُ اسْتِثْنَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ (حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا) : قِيلَ هَذَا الْعَرَقُ تَرَاكُمُ الْأَهْوَالِ وَحُصُولُ الْحَيَاءِ وَالْخَجَالَةِ وَالنَّدَامَةِ وَالْمَلَامَةِ، وَتَزَاحُمُ حَرِّ الشَّمْسِ وَالنَّارِ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ جَهَنَّمَ تُدِيرُ أَهْلَ الْمَحْشَرِ فَلَا يَكُونُ إِلَى الْجَنَّةِ طَرِيقٌ إِلَّا الصِّرَاطُ، (وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ) أَيْ: يَصِلَ الْعَرَقُ إِلَيْهَا، وَهِيَ بِالْمَدِّ جَمْعُ أُذُنٍ. قَالَ شَارِحٌ: أَيْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَسَيَأْتِي أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي أَحْوَالِهِمْ عَلَى مَرَاتِبِ أَعْمَالِهِمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُلْجِمُهُ الْعَرَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّارِ» ".

5540 - وَعَنِ الْمِقْدَادِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا "، وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5540 - (وَعَنِ الْمِقْدَادِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: تَدْنُو الشَّمْسُ) أَيْ: تَقْرَبُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ) أَيِ: الشَّمْسُ وَالْمُرَادُ جِرْمُهَا (كَمِقْدَارِ مِيلٍ) : تَقْدِيرُهُ حَتَّى يَكُونَ مِقْدَارُ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنْهُمْ مِثْلَ مِقْدَارِ مِيلٍ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9] أَيْ: كَانَ قُرْبُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ جِبْرِيلَ، أَوْ مِنْ مَكَانِ الْقُرْبِ مِثْلَ مِقْدَارِ قَوْسَيْنِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ سُلَيْمٌ: لَا أَدْرِي أَيَّ الْمِيلَيْنِ يَعْنِي مَسَافَةَ الْأَرْضِ، أَوِ الْمِيلَ الَّذِي يُكْحَلُ بِهِ الْعَيْنُ، (فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ) أَيِ: السَّيِّئَةِ (فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ) أَيْ: تَقْرِيبًا ; فَيَقْبَلُ النُّقْصَانَ وَالزِّيَادَةَ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ) : الْحَقْوُ: الْخَصْرُ وَمَشَدُّ الْإِزَارِ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا، وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ) أَيْ: فَمِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ الْعَرَقُ كَالْبَحْرِ يُلْجِمُ الْبَعْضَ، فَكَيْفَ يَصِلُ إِلَى كَعْبِ الْآخَرِ؟ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِفَاعًا فِي الْأَرْضِ تَحْتَ أَقْدَامِ الْبَعْضِ، أَوْ يُقَالُ يُمْسِكُ اللَّهُ تَعَالَى عَرَقَ كُلِّ إِنْسَانٍ بِحَسَبِ عَمَلِهِ ; فَلَا يَصِلُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا أَمْسَكَ جَرْيَةَ الْبَحْرِ لِمُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قُلْتُ: الْمُعْتَمَدُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ ; فَإِنَّ أَمْرَ الْآخِرَةِ كُلَّهُ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ، أَمَا تَرَى أَنَّ شَخْصَيْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ يُعَذَّبُ أَحَدُهُمَا وَيُنَعَّمُ الْآخَرُ، وَلَا يَدْرِي أَحَدُهُمَا عَنْ غَيْرِهِ، وَنَظِيرُهُ فِي الدُّنْيَا نَائِمَانِ، مُخْتَلِفَانِ فِي رُؤْيَاهُمَا، فَيَحْزَنُ أَحَدُهُمَا وَيَفْرَحُ الْآخَرُ، بَلْ شَخْصَانِ قَاعِدَانِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا فِي عِلِّيِّينَ، وَالْآخَرُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ، أَوْ أَحَدُهُمَا فِي صِحَّةٍ وَالْآخَرُ فِي وَجَعٍ أَوْ بَلِيَّةٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5541 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ. قَالَ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ، ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرْنَا. فَقَالَ: " أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: " أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرْنَا، قَالَ: " مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوَكَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5541 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبَغَوِيِّ (يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ. قَالَ: أَخْرِجْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: أَظْهِرْ وَمَيِّزْ مِنْ بَيْنِ أَوْلَادِكَ (بَعْثَ النَّارِ) أَيْ: جَمْعًا يَسْتَحِقُّونَ الْبَعْثَ إِلَيْهَا (قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ) ؟ قِيلَ: عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ وَمَا بَعْثُ النَّارِ، أَيْ: وَمَا مِقْدَارُ مَبْعُوثِ النَّارِ؟ وَقِيلَ: (مَا) بِمَعْنَى كَمِ الْعَدَدِيَّةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ تُفِيدُ الرَّبْطَ بَيْنَ سَابِقِهَا وَلَاحِقِهَا، (قَالَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى (مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ) ، قِيلَ: يُخَالِفُهُ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ: بِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ مِمَّا لَا اعْتِبَارَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَقْلِيلُ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَكْثِيرُ عَدَدِ الْكَافِرِينَ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ; فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ عَشَرَةٌ، وَيُقَرِّبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ذُكِرُوا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ دُونَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَالثَّانِي بِخُصُوصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِبَعْثِ النَّارِ الْكُفَّارَ، وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنَ الْعُصَاةِ، فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ كَافِرًا، وَمِنْ كُلِّ مِائَةِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عَاصِيًا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَعِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ هَذَا الْحُكْمِ (يَشِيبُ الصَّغِيرُ) أَيْ: مِنَ الْحُزْنِ الْكَثِيرِ وَالْهَمِّ الْكَبِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَغَوِيِّ: فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ، وَظُهُورُ الشَّيْبِ إِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ عَلَى الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج: 2] أَيْ: مِنَ الْخَوْفِ {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2] أَيْ: مِنَ الْخَمْرِ {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] .

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 1] أَيِ احْذَرُوا بِطَاعَتِهِ عِقَابَهُ حَتَّى تَرْجُوا ثَوَابَهُ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] وَالزَّلْزَلَةُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحَالَةِ الْهَائِلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا فَقَالَ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ قَبْلَ قِيَامِهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ قِيَامُهَا، فَتَكُونُ مَعَهَا يَوْمَ تَرَوْنَهَا أَيِ السَّاعَةَ، أَوِ الزَّلْزَلَةَ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ أَيْ تُشْغَلُ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا أَيْ سَقَطَ وَلَدُهَا مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ الْحَسَنُ: تَذْهَلُ الْمُرْضِعُ عَنْ وَلَدِهَا بِغَيْرِ فِطَامٍ، وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ غَيْرِ تَمَامٍ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ بَعْدَ الْبَعْثِ لَا يَكُونُ حَبَلٌ، وَمَنْ قَالَ تَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ: هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِلْأَمْرِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَصَابَنَا أَمْرٌ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ، يُرِيدُ بِهِ شِدَّتَهُ. (قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ) ؟ وَلَمَّا اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ وَاسْتَشْعَرُوا الْخَوْفَ مِنْهُ، (قَالَ) أَيْ: فِي جَوَابِهِمْ تَسْلِيَةً لِفُؤَادِهِمْ (أَبْشِرُوا) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَخْلُو هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُجْرًى عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَوْ يَكُونَ اسْتِعْظَامًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَاسْتِشْعَارَ خَوْفٍ مِنْهُ، فَالْأَوَّلُ يَسْتَدْعِي أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ فُلَانٌ، أَوْ مُتَّصِفٌ بِالصِّفَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَالثَّانِي يَسْتَدْعِي أَنْ يُجَابَ بِمَا يُزِيلُ ذَلِكَ الْخَوْفَ رِفْقًا لِلنَّاسِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ ; لِقَوْلِهِ: أَبْشِرُوا، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَيُّنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ذَلِكَ النَّاجِي الْمُفْلِحُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ بَنِي آدَمَ، فَقَالَ: أَبْشِرُوا، (فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : بِالْأَلِفِ وَيُهْمَزُ فِيهِمَا (أَلْفٌ) : بِالرَّفْعِ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقَدَّمَ الْجَارَّ لِكَوْنِ الْمُبْتَدَأِ نَكِرَةً، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ عَفِيفِ الدِّينِ أَلِفًا بِالنَّصْبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ; فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمٌ، وَالْمَعْنَى: سَيُوجَدُ بِعَدَدِ كُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ أَلْفٌ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ; فَحِينَئِذٍ يَكْثُرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَعَلَّ أَهْلَهَا يَكْثُرُونَ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْحُورِ الْعِينِ، فَصَحَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: " «غَلَبَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» "، زَادَ الْبَغَوِيُّ قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. (ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا) أَيْ: أَنْتُمْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ، أَوْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا) : التَّكْبِيرُ لِلْعَجَبِ وَالْفَرَحِ التَّامِّ، وَالِاسْتِبْشَارِ وَالِاسْتِعْظَامِ، (فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا) ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَرَّجَ الْأَمْرَ ; لِئَلَّا تَنْقَطِعَ قُلُوبُهُمْ بِالْفَرَحِ الْكَثِيرِ دَفْعَةً، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى دُخُولِهِمْ فِي دَفَعَاتٍ، أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَحْيًا بَعْدَ وَحْيٍ فَأَخْبَرَ بِمَا بُشِّرَ (فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ دَاخِلُونَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَدَلَّ بِقَوْلِهِ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّ غَيْرَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْفَائِتَةِ لِلْحَصْرِ أَيْضًا دَاخِلُونَ فِي الْوَعِيدِ، فَإِذَا وُزِّعَ نِصْفُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مِثْلِهِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ يَكُونُ كَالْوَاحِدِ مِنَ الْأَلْفِ ; يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الرَّاوِي (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَقَالَ: (مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوْ كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ) ، الظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّعْبِيرِ وَتَحْتَمِلُ الشَّكَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَوْلُهُمُ: اللَّهُ أَكْبَرُ مِرَارًا ثَلَاثًا مُتَعَجِّبِينَ اسْتِبْشَارٌ مِنْهُمْ، وَاسْتِعْظَامٌ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى وَالْمِنْحَةِ الْكُبْرَى، فَيَكُونُ فِي هَذَا الِاسْتِعْظَامِ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِعْظَامِ إِشَارَةٌ إِلَى فَوْزِهِمْ بِالْبُغْيَةِ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهَا اهـ. وَلَعَلَّ وُرُودَ هَذَا الْحَدِيثِ قَبْلَ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ أُمَّتَهُ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ ; إِذْ قَدْ وَرَدَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا: ثَمَانُونَ صَفًّا أُمَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرْبَعُونَ سَائِرُ الْأُمَمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا نِصْفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّاخِلِينَ أَوَّلًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ مُخْتَصَرًا عَلَى مَا سَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِطُولِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

وَفِي الْمَعَالِمِ: رُوِيَ «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ لَيْلًا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَثُّوا الْمَطِيَّ حَتَّى كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُرَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا لَمْ يَحُطُّوا السُّرُجَ عَنِ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يَضْرِبُوا الْخِيَامَ، وَلَمْ يَطْبُخُوا قِدْرًا، وَالنَّاسُ بَيْنَ بَاكٍ أَوْ جَالِسٍ حَزِينٍ مُتَفَكِّرِينَ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَلِكَ "؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " ذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ وَلَدِكَ، قَالَ: فَيَقُولُ آدَمُ: مِنْ كُلِّ كَمْ كَمْ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدًا إِلَى الْجَنَّةِ ". قَالَ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَكَوْا وَقَالُوا: فَمَنْ يَنْجُو إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْشِرُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ; فَإِنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ، يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ " ثُمَّ قَالَ: " فَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا: ثَمَانُونَ مِنْهَا أُمَّتِي، وَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، أَوْ كَالرَّقَبَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، بَلْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ "، ثُمَّ قَالَ: " وَيَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ " فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: سَبْعُونَ أَلْفًا؟ قَالَ: " نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا " فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ مِنْهُمْ " فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: " سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» ".

5542 - وَعَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5542 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ) ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَذْهَبُ أَهْلِ السَّلَامَةِ مِنَ السَّلَفِ التَّوَرُّعُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْقَوْلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْأَمْثَلُ وَالْأَحْوَطُ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْكَشْفَ عَنِ السَّاقِ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الْأَمْرِ، وَصُعُوبَةِ الْخَطْبِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِيهَا شَائِعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا ... وَمِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أَرْزَاقِهَا فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أَيْ: عَنْ شِدَّةٍ، وَتَنْكِيرُ السَّاقِ فِي الْآيَةِ مِنْ دَلَائِلِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَوَجْهُ تَعْرِيفِ السَّاقِ فِي الْحَدِيثِ دُونَ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: أَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا الشِّدَّةُ الَّتِي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ اهـ. وَعِنْدَ الْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: هُوَ يَوْمُ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَعْنَى يَكْشِفُ عَنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تَكْشِفُ عَنِ الشِّدَّةِ وَالْكَرْبِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِ النَّاقَةِ، فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي رَحِمِهَا، فَيَأْخُذُ بِسَاقِهِ لِيُخْرِجَهُ، فَهَذَا هُوَ الْكَشْفُ عَنِ السَّاقِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ أَمْرٍ فَظِيعٍ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً، وَحَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْخُذُهُمْ بِالشَّدَائِدِ، كَمَنْ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ بِالتَّشْمِيرِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي أَمْرٍ خَطِيرٍ. (فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ) أَيْ: مِنْ كَمَالِ الشِّدَّةِ يَقَعُونَ فِي السَّجْدَةِ طَالِبِينَ رَفْعَهَا بِتِلْكَ الْقُرْبَةِ، وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ «عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] قَالَ: " عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ فَيَخْرُجُونَ لَهُ سُجَّدًا» " فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَتَجَلَّى لِلنَّاسِ تَجَلِّيًا صُورِيًّا، وَبِهَذَا يَنْحَلُّ الْإِشْكَالُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ الْخُلَّصُ مِنْهُمَا ; وَلِذَا قَالَ: (وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً) أَيْ: نِفَاقًا وَشُهْرَةً (فَيَذْهَبُ) أَيْ: يَقْصِدُ

وَيَشْرَعُ (لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ) أَيْ: يَصِيرُ (ظَهْرُهُ، طَبَقًا وَاحِدًا) أَيْ: عَظْمًا بِلَا مَفْصِلٍ ; بِحَيْثُ لَا يَنْثَنِي عِنْدَ الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ فَلَا يَقْدِرُ، وَالطَّبَقُ: فَقَارُ الظَّهْرِ وَاحِدُهُ طَبَقَةٌ، يَعْنِي صَارَ فَقَارُهُ وَاحِدًا ; فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْحِنَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَكْشِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ شِدَّةٍ يَرْتَفِعُ دُونَهَا سَوَاتِرُ الِامْتِحَانِ ; فَيَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْإِخْلَاصِ وَالْإِيقَانِ بِالسُّجُودِ، عَنْ أَهْلِ الرَّيْبِ وَالنِّفَاقِ فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ. قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ لِمُوَافَقَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

5543 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ". وَقَالَ: اقْرَءُوا {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5543 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ) أَيْ: جَاهًا وَمَالًا، أَوْ لَحْمًا وَشَحْمًا ; فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (السَّمِينُ) عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ) أَيْ: لَا يَعْدِلُ وَلَا يَسْوِي (عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) أَيْ: لَا يَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ وَمَنْزِلَةٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا لِفُلَانٍ عِنْدَنَا وَزْنٌ أَيْ: قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: ( «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» ) . (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ (اقْرَءُوا) أَيِ: اسْتِشْهَادًا وَاعْتِضَادًا {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ} [الكهف: 105] أَيْ: لِلْكُفَّارِ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] ، قِيلَ: مِقْدَارًا وَحِسَابًا وَاعْتِبَارًا، وَقِيلَ مِيزَانًا، فَالتَّقْدِيرُ آلَةُ الْوَزْنِ ; إِذِ الْكُفَّارُ الْخُلَّصُ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّمَا الْمِيزَانُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ، وَالْمُرَائِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ وُجِّهَ صِحَّةُ الِاسْتِشْهَادِ بِالْآيَةِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْوَزْنِ فِي الْحَدِيثِ وَزْنُ الْجُثَّةِ وَمِقْدَارُهُ ; لِقَوْلِهِ: الْعَظِيمُ السَّمِينُ، وَفِي الْآيَةِ إِمَّا وَزْنُ الْأَعْمَالِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف: 105] ، وَإِمَّا مِقْدَارُهُمْ، وَالْمَعْنَى نَزْدَرِي بِهِمْ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَنَا وَزْنٌ وَمِقْدَارٌ؟ قُلْتُ: الْحَدِيثُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّالِثِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ، وَذِكْرُ الْجُثَّةِ وَالْعَظْمِ لَا يُنَافِي إِرَادَةَ مِقْدَارِهِ وَتَفْخِيمَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5544 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] قَالَ " أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا "؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا ". قَالَ: " فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5544 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ} [الزلزلة: 4] أَيِ: الْأَرْضُ {أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] قَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا ") ؟ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ خَبَرٍ، فِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَيْ تَحْدِيثُهَا (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ أَخْبَارَهَا) : بِالْوَجْهَيْنِ (أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ) أَيْ: ذَكَرٍ وَأُنْثَى (بِمَا عَمِلَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ (عَلَى ظَهْرِهَا) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ قَوْلُهُ: عَلَى ظَهْرِهَا (أَنْ تَقُولَ) : بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ أَنْ تَشْهَدَ أَوْ بَيَانٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ تَقُولُ بِدُونِ أَنْ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ يَعْنِي شَهَادَتَهَا أَنْ تَقُولَ (عَمِلَ) أَيْ: فُلَانٌ (عَلَى) أَيْ: عَلَى ظَهْرِي (كَذَا وَكَذَا) أَيْ: مِنَ الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ (يَوْمَ كَذَا وَكَذَا) أَيْ: مِنْ

شَهْرِ كَذَا وَعَامِ كَذَا (قَالَ: فَهَذِهِ) أَيِ: الشَّهَادَاتُ أَوِ الْمَذْكُورَاتُ (أَخْبَارُهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) . وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

5545 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ ". قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ نَزَعَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5545 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ) أَيْ: فَاغْتَنِمُوا الْحَيَاةَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ قَبْلَ الْفَوْتِ، (قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ) ؟ أَيْ: مَا وَجْهُ تَأَسُّفِ كُلِّ أَحَدٍ وَمَلَامَتِهِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ) أَيْ: خَيْرًا أَوْ بِرًّا، (وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ نَزَعَ) أَيْ: كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الْإِسَاءَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5546 - وَعَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفًا مُشَاةً، وَصِنْفًا رُكْبَانًا، وَصِنْفًا عَلَى وُجُوهِهِمْ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: " إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَمَا إِنَّهُمْ يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5546 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ) ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (صِنْفًا مُشَاةً) : بِضَمِّ الْمِيمِ جَمْعُ مَاشٍ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ خَلَطُوا صَالِحَ أَعْمَالِهِمْ بِسَيِّئِهَا، (وَصِنْفًا رُكْبَانًا) أَيْ: عَلَى النُّوقِ، وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ رَاكِبٍ، وَهُمُ السَّابِقُونَ الْكَامِلُونَ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالْمُشَاةِ جَبْرًا لِخَاطِرِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] ، وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] أَوْ لِأَنَّهُمُ الْمُحْتَاجُونَ إِلَى الْمَغْفِرَةِ أَوَّلًا، أَوْ لِإِرَادَةِ التَّرَقِّي وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ بَدَأَ بِالْمُشَاةِ بِالذِّكْرِ قَبْلَ أُولِي السَّابِقَةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ هُمُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. (وَصِنْفًا عَلَى وُجُوهِهِمْ) أَيْ: يَمْشُونَ عَلَيْهَا، وَهُمُ الْكُفَّارُ (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ) ؟ أَيْ وَالْعَادَةُ أَنْ يُمْشَى عَلَى الْأَرْجُلِ، (قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ) يَعْنِي: وَقَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الفرقان: 34] ، وَإِخْبَارُهُ حَقٌّ، وَوَعْدُهُ صِدْقٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَبْعَدَ مِثْلُ ذَلِكَ، (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُمْ) أَيِ:

الْكُفَّارَ (يَتَّقُونَ) أَيْ: يَحْتَرِزُونَ وَيَدْفَعُونَ (بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ) أَيْ: مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ (وَشَوْكٍ) أَيْ: وَنَحْوَهُ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يُتَأَذَّى بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ وُجُوهَهُمْ وَاقِيَةٌ لِأَبْدَانِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْأَذَى ; لِأَجْلِ أَنْ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَالْأَمْرُ فِي الدُّنْيَا عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي هُوَ أَعَزُّ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَضَعْهُ سَاجِدًا عَلَى التُّرَابِ، وَعَدَلَ عَنْهُ تَكَبُّرًا، فَجُعِلَ أَمْرُهُ عَلَى الْعَكْسِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ يُرِيدُ بَيَانَ هَوَانِهِمْ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى حَدٍّ جَعَلُوا وُجُوهَهُمْ مَكَانَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ فِي التَّوَقِّي عَنْ مُؤْذِيَاتِ الطُّرُقِ وَالْمَشْيِ إِلَى الْمَقْصِدِ ; لَمَّا لَمْ يَجْعَلُوهَا سَاجِدَةً لِمَنْ خَلَقَهَا وَصَوَّرَهَا، وَمِمَّا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ مَا يُحْكَى: أَنَّهُ رُئِيَ بَعْضُ الْأَغْنِيَاءِ أَنَّهُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَغْلَةٍ بِطَرِيقِ الْخُيَلَاءِ، ثُمَّ رُئِيَ فِي بَعْضِ الْبَادِيَةِ وَالصَّحْرَاءِ أَنَّهُ يَمْشِي، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لَمَّا رَكِبْنَا فِي مَحَلِّ الْمَشْيِ عَاقَبَنَا اللَّهُ بِأَنْ نَمْشِيَ فِي مَحَلِّ الرُّكُوبِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24] وَفَسَّرُوا بِأَنْ يُلْقَى الْكَافِرُ مَقْلُوبًا فِي النَّارِ، فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ النَّارَ إِلَّا بِوَجْهِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ.

5547 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] » . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 5547 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ) أَيْ: أَعْجَبَهُ (أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أَيْ: أَحْوَالِهِ وَأَنْ يَطَّلِعَ فِي أَهْوَالِهِ (كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ) أَيْ: فَيَتَرَقَّى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ (فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] أَيْ: لُفَّتْ وَأُلْقِيَتْ فِي النَّارِ، وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لُفَّتْ بِمَعْنَى رُفِعَتْ، أَوْ لُفَّ ضَوْءُهَا، أَوْ أُلْقِيَتْ عَنْ فَلَكِهَا، وَفِي الدُّرِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ أَظْلَمَتْ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: نُكِّسَتْ، وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] أَيِ: انْشَقَّتْ، وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] أَيِ انْصَدَعَتْ، وَالْمُرَادُ هَذِهِ السُّوَرُ ; فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5548 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَنِي: " «أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ ثَلَاثَةَ أَفْوَاجٍ: فَوْجًا رَاكِبِينَ طَاعِمِينَ كَاسِينَ، وَفَوْجًا تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ، وَفَوْجًا يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ وَيُلْقِي اللَّهُ الْآفَةَ عَلَى الظَّهْرِ فَلَا يَبْقَى، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَتَكُونُ لَهُ الْحَدِيقَةُ يُعْطِيهَا بِذَاتِ الْقَتَبِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5548 - (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: إِنَّ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ حَدَّثَنِي أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ ثَلَاثَةَ أَفْوَاجٍ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِالْحَشْرِ هُنَا مَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ» ) وَقَوْلِهِ: ( «سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ نَحْوِ حَضْرَمَوْتَ تَحْشُرُ النَّاسَ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا تَأْمُرُ؟ قَالَ: (عَلَيْكُمْ

بِالشَّامِ» ) ، (فَوْجًا) : وَهُمُ السَّابِقُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ (رَاكِبِينَ طَاعِمِينَ كَاسِينَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ مُرْهَفِينَ لِاسْتِعْدَادِهِمْ مَا يُبَلِّغُهُمْ إِلَى الْقَصْدِ مِنَ الزَّادِ وَالرِّحْلَةِ (وَفَوْجًا) : وَهُمُ الْكُفَّارُ (تَسْحَبُهُمْ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ تَجُرُّهُمُ (الْمَلَائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ) : وَهُوَ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِمَّا كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ هَوَانِهِمْ وَذُلِّهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِدَلَالَةِ السِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ، (وَتَحْشُرُ النَّارُ) : بِنَصْبِ النَّارِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَأَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ) بِالضَّمِيرِ مَعَ نَصْبِ النَّارِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: إِلَيْهَا وَمَعَ رَفْعِهَا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ تَحْشُرُ الْمَلَائِكَةُ لَهُمُ النَّارَ وَتُلْزِمُهُمْ إِيَّاهَا، حَتَّى لَا تُفَارِقَهُمْ أَيْنَ بَاتُوا وَأَيْنَ قَالُوا وَأَصْبَحُوا، وَيَصِحُّ أَنْ تُرْفَعَ النَّارُ أَيْ وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ، (وَفَوْجًا) : وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُذْنِبُونَ (يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ) أَيْ: وَيُسْرِعُونَ لَا أَنَّهُمْ يَمْشُونَ بِسَكِينَةٍ وَرَاحَةٍ (وَيُلْقِي اللَّهُ الْآفَةَ عَلَى الظَّهْرِ) أَيْ: عَلَى الْمَرْكُوبِ تَسْمِيَةً بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَتَعْبِيرًا عَنِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ، (فَلَا يَبْقَى) أَيْ: ظَهْرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّأْنِيثِ أَيْ دَابَّةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: فَلَا تُبْقِي الْآفَةُ دَابَّةً (حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَتَكُونُ لَهُ الْحَدِيقَةُ) أَيِ: الْبُسْتَانُ (يُعْطِيهَا بِذَاتِ الْقَتَبِ) أَيْ: بِعِوَضِهَا وَبَدَلِهَا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالتَّاءِ لِلْجَمَلِ كَالْإِكَافِ لِغَيْرِهِ (لَا يَقْدِرُ) أَيْ: أَحَدٌ (عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى ذَاتِ الْقَتَبِ ; لِعِزَّةِ وُجُودِهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَشْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ حَشْرَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: لِمَ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ الْحَشْرِ، وَهَذَا مَحَلُّ ذِكْرِهِ بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ قُلْنَا: تَأَسِّيًا بِمُحْيِي السُّنَّةِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ مُحْيِيَ السُّنَّةِ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ ; حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا الْحَشْرُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَى الشَّامِ إِحْيَاءً، فَأَمَّا الْحَشْرُ بَعْدَ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ، فَعَلَى خِلَافِ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ رُكُوبِ الْإِبِلِ وَالْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ حُفَاةً عُرَاةً، وَأَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ اهـ. وَتَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ فِي كَلَامِ التُّورِبِشْتِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوَّلَ الْبَابِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ رُكُوبَ بَعْضِ الْخَوَاصِّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ثَابِتٌ فِي الْحَشْرِ بَعْدَ الْبَعْثِ أَيْضًا، وَأَنَّ حَدِيثَ: " يُبْعَثُونَ حُفَاةً عُرَاةً " بِنَاءً عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ، أَوْ نَظَرًا إِلَى ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) . وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97] ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: " «إِنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَفْوَاجٍ: فَوْجٍ طَاعِمِينَ كَاسِينَ رَاكِبِينَ، وَفَوْجٍ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ، وَفَوْجٍ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ» " اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ بِأَنَّ الْحَشْرَ حَشْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; لِتَصْرِيحِهِ فِي الْآيَةِ، وَالْحَدِيثُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُؤَيِّدُ سَحْبَ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ مَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا مَا أَخْطَأَ الْخَطَّابِيُّ ; حَيْثُ لَمْ يُدْرِكْهُ هَذَا الْمَدْرَكَ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْآفَةُ مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ أَصْلِ الْكِتَابِ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ، وَيُلْقِي اللَّهُ الْآفَةَ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ آخَرُ أَدْرَجَهُ مَعَهُ، وَأَدْمَجَهُ فِيهِ بِأَدْنَى مُنَاسَبَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[باب الحساب والقصاص والميزان]

[بَابُ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالْمِيزَانِ]

[3] بَابُ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالْمِيزَانِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5549 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ ". قُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] فَقَالَ: (إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ فِي الْحِسَابِ يَهْلِكْ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [3] بَابُ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالْمِيزَانِ الْحِسَابُ: بِمَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ، وَالْقِصَاصُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ اسْمٌ مِنْ قَصَّهُ الْحَاكِمُ يَقُصُّهُ إِذَا مَكَّنَهُ مِنْ أَخْذِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ، مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ، أَوْ ضَرْبٍ أَوْ جَرْحٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5549 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ) أَيْ: فِي حَقِّ أَهْلِ النَّجَاةِ {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] وَتَمَامُهُ: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 9] ، (فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَجُوِّزَ الْفَتْحُ عَلَى خِطَابِ الْعَامِّ أَوْ تَعْظِيمًا لَهَا، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا ذَلِكَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَرْضُ عَمَلِهِ لَا الْحِسَابُ عَلَى وَجْهِ الْمُنَاقَشَةِ، ( «وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ فِي الْحِسَابِ يَهْلَكُ» ) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ أَيْ: يُعَذَّبُ، قَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: يُقَالُ نَاقَشَهُ الْحِسَابَ إِذَا عَاسَرَهُ فِيهِ وَاسْتَقْصَى، فَلَمْ يَتْرُكْ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُنَاقَشَةِ الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْمُحَاسَبَةِ وَالِاسْتِيفَاءُ بِالْمُطَالَبَةِ وَتَرْكُ الْمُسَامَحَةِ فِي الْجَلِيلِ، وَالْمُنَاقَشَةُ لِبَيَانِ ظُهُورِ الْعَدْلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ يُحَاسِبُهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ» ". وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «مَنْ نُوقِشَ فِي الْحِسَابِ عُذِّبَ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَفْظُهُ: " «مَنْ نُوقِشَ الْمُحَاسَبَةَ هَلَكَ» ".

5550 - وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5550 - (وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) : بِكَسْرِ التَّاءِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) : مِنْ مَزِيدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ (إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفْرَغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ) أَيْ: بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ (تَرْجُمَانٌ) : بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ إِتْبَاعًا عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ، وَكَزَعْفَرَانٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، أَيْ: مُفَسِّرٌ لِلْكَلَامِ بِلُغَةٍ عَنْ لُغَةٍ، يُقَالُ: تَرْجَمْتُ عَنْهُ، وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى أَصَالَةِ التَّاءِ، وَفِي التَّهْذِيبِ التَّاءُ أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ وَالْكَلِمَةُ رُبَاعِيَّةٌ. (وَلَا حِجَابٌ) أَيْ: حَاجِزٌ وَسَاتِرٌ وَمَانِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ (يَحْجُبُهُ) أَيْ: يَحْجُبُ ذَلِكَ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّهِ (أَيْمَنَ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَقَالَ شَارِحٌ: ضَمِيرُ مِنْهُ رَاجِعٌ إِلَى الْعَبْدِ. قُلْتُ: وَالْمَآلُ وَاحِدٌ، وَالْمَعْنَى: يَنْظُرُ فِي الْجَانِبِ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ، (فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ) أَيْ: عَمَلِهِ الصَّالِحِ مُصَوَّرًا، أَوْ جَزَاءَهُ مُقَدَّرًا، (وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ) أَيْ: فِي الْجَانِبِ الَّذِي فِي شِمَالِهِ (فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ) أَيْ: مِنْ عَمَلِهِ السَّيِّئِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّصْبَ فِي أَيْمَنَ وَأَشْأَمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ، فَقِيلَ: نَظَرَ الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ هُنَا كَالْمَثَلِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا دَهَمَهُ أَمْرٌ أَنْ يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَشِمَالًا لِطَلَبِ الْغَوْثِ. وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الِالْتِفَاتِ أَنَّهُ يَتَرَجَّى أَنْ يَجِدَ طَرِيقًا يَذْهَبُ فِيهَا ; لِتَحْصُلَ لَهُ النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا يُفْضِي بِهِ إِلَى النَّارِ. (وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ) أَيْ فِي مُحَاذَاتِهِ وَعَلَيْهَا الصِّرَاطُ (فَاتَّقُوا النَّارَ) أَيْ: إِذَا عَرَفْتُمْ ذَلِكَ فَاحْذَرُوا مِنْهَا وَلَا تَظْلِمُوا أَحَدًا (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) : أَوْ فَتَصَدَّقُوا وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، أَيْ: لَوْ بِمِقْدَارِ نِصْفِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا، وَالْمَعْنَى وَلَوْ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا ; فَإِنَّهُ حِجَابٌ وَحَاجِزٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ النَّارِ ; فَإِنَّ الصَّدَقَةَ جُنَّةٌ وَوَسِيلَةٌ إِلَى جَنَّةٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: " «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ، وَالْبَزَّارُ أَيْضًا عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا: " «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» ".

5551 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ! حَتَّى قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ. قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5551 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: يُقَرِّبُهُ قُرْبَ كَرَامَةٍ لَا قُرْبَ مَسَافَةٍ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَالْمُؤْمِنُ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ، إِذْ لَا عَهْدَ فِي الْخَارِجِ وَلَا بُعْدَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ (فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ يَحْفَظُهُ مُسْتَعَارٌ مِنْ كَنَفِ الطَّائِرِ وَهُوَ جَنَاحُهُ ; لِأَنَّهُ يَحُوطُ بِهِ نَفْسَهُ وَيَصُونُ بِهِ بَيْضَتَهُ، (وَيَسْتُرُهُ) أَيْ: عَنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ ; كَيْلَا يَفْتَضِحَ، وَقِيلَ: أَيْ يُظْهِرُ عِنَايَتَهُ عَلَيْهِ وَيَصُونُهُ عَنِ الْخِزْيِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ (كَمَا يَضَعُ أَحَدُكُمْ كَنَفَ ثَوْبِهِ) أَيْ: طَرَفَهُ (عَلَى رَجُلٍ) إِذَا أَرَادَ صِيَانَتَهُ وَقَصَدَ حَمِيَّتَهُ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ. قِيلَ: هَذَا فِي عَبْدٍ لَمْ يَغْتَبْ وَلَمْ يَعِبْ وَلَمْ يَفْضَحْ أَحَدًا وَلَمْ يَشْمَتْ بِفَضِيحَةِ مُسْلِمٍ، بَلْ سَتَرَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَهْتِكُ عِرْضَ أَحَدٍ عَلَى مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ، فَسَتَرَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ تَحْتَ كَنَفِ حِمَايَتِهِ جَزَاءً وِفَاقًا مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ. (فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا) ؟ فِي التَّكْرِيرِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّكْثِيرِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا فِي الضَّمِيرِ، (فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّي! حَتَّى قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ) أَيْ: جَعَلَهُ مُقِرًّا بِهَا بِأَنْ أَظْهَرَهَا لَهُ وَأَلْجَأَهُ إِلَى الْإِقْرَارِ بِهَا، (وَرَأَى فِي نَفْسِهِ) أَيْ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُ فِي بَاطِنِهِ (أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ) أَيْ: مَعَ الْهَالِكِينَ وَلَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ مَعَ النَّاجِينَ، وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: عَلِمَ اللَّهُ فِي ذَاتِهِ أَنَّهُ هَلَكَ أَيِ الْمُؤْمِنُ، وَيَجُوزُ كَوْنُ ضَمِيرِ رَأَى لِلْمُؤْمِنِ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ. (قَالَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى (سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ) أَيْ: بِيَمِينِهِ (وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18] ) أَيْ: بِإِثْبَاتِ الشَّرِيكِ وَنَحْوِهِ {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] أَيِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5552 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيَقُولُ هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5552 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: وَحَصَلَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ إِذَا كَانَ الزَّمَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (دَفَعَ اللَّهُ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) أَيْ: مَوْصُوفٍ بِالْإِسْلَامِ مُذَكَّرًا كَانَ أَوْ مُؤَنَّثًا (يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا) أَيْ: وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، (فَيَقُولُ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى (هَذَا) أَيِ: الْكِتَابِيُّ (فِكَاكُكَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَبِكَسْرٍ أَيْ خَلَاصُكَ (مِنَ النَّارِ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِكَاكُ الرَّهْنِ مَا يُفَكُّ بِهِ وَيَخْلُصُ وَالْكَسْرُ لُغَةٌ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمَّا كَانَ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ مَقْعَدٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدٌ مِنَ النَّارِ، فَمَنْ آمَنَ حَقَّ الْإِيمَانِ بُدِّلَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ بِمَقْعَدٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَبِالْعَكْسِ كَانَتِ الْكَفَرَةُ كَالْخَلَفِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَقَاعِدِهِمْ مِنَ النَّارِ وَالنَّائِبِ مَنَابَهُمْ فِيهَا، وَأَيْضًا لَمَّا سَبَقَ الْقَسَمُ الْإِلَهِيُّ بِمَلْءِ جَهَنَّمَ كَانَ مَلْؤُهَا مِنَ الْكُفَّارِ خَلَاصًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَجَاةً لَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْفِدَاءِ وَالْفِكَاكِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالذِّكْرِ ; لِاشْتِهَارِهِمَا بِمُضَادَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُقَابَلَتِهِمَا إِيَّاهُمْ فِي تَصْدِيقِ الرَّسُولِ الْمُقْتَضِي لِنَجَاتِهِمْ اهـ. وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْفِكَاكِ تَارَةً وَبِالْفِدَاءِ أُخْرَى عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ ; إِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ تَعْذِيبَ الْكِتَابِيِّ بِذَنْبِ الْمُسْلِمِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى بِلَفْظِ: " «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ» ". وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ أَبِي مُوسَى وَلَفْظُهُ: " «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَلَكًا مَعَ كَافِرٍ فَيَقُولُ الْمَلَكُ لِلْمُؤْمِنِ: يَا مُؤْمِنُ هَاكَ هَذَا الْكَافِرَ، فَهَذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ» ".

5553 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ! فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيُقَالُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ " ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5553 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُجَاءُ) أَيْ: يُؤْتَى (بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ) : وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] لِأَنَّ الْإِجَابَةَ غَيْرُ التَّبْلِيغِ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ لَا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ إِلَّا عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ، بِخِلَافِ نَفْسِ التَّبْلِيغِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ (فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ) أَيْ: أُمَّةُ الدَّعْوَةِ (هَلْ بَلَّغَكُمْ) ؟ أَيْ: نُوحٌ رِسَالَتَهُ (فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ) أَيْ: مُنْذِرٌ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، مُبَالَغَةً فِي الْإِنْكَارِ، تَوَهُّمًا أَنَّهُ يَنْفَعُهُمُ الْكَذِبُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَنِ الْخَلَاصِ مِنَ النَّارِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ، (فَقَالَ) أَيْ: لِنُوحٍ (مَنْ شُهُودُكَ) ؟ وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْ نُوحٍ شُهَدَاءُ عَلَى تَبْلِيغِهِ الرِّسَالَةَ أُمَّتَهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ وَإِنَافَةً لِمَنْزِلَةِ أَكَابِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، (فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّ أُمَّتَهُ شُهَدَاءُ وَهُوَ مُزَكٍّ لَهُمْ، وَقُدِّمَ فِي الذِّكْرِ لِلتَّعْظِيمِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْهَدُ لِنُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ النُّصْرَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إِلَى قَوْلِهِ: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَيُجَاءُ بِكُمْ) : وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاضِرٌ نَاظِرٌ فِي ذَلِكَ الْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، فَيُؤْتَى بِالرُّسُلِ وَأَوَّلُهُمْ نُوحٌ، وَيُؤْتَى بِشُهُودِهِ وَهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ (فَتَشْهَدُونَ) أَيْ: أَنْتُمْ (أَنَّهُ) أَيْ: أَنَّ نُوحًا (قَدْ بَلَّغَ) أَيْ: قَوْمَهُ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَنَبِيُّكُمْ مُزَكٍّ لَكُمْ، أَوْ أَنْتُمْ وَنَبِيُّكُمْ مَعَكُمْ تَشْهَدُونَ، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ، (ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : اسْتِشْهَادًا بِالْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعُمُومِ فِي مَادَّةِ الْخُصُوصِ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، قِيلَ عُدُولًا وَخِيَارًا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَغْلُوا غُلُوَّ النَّصَارَى، وَلَا قَصَّرُوا تَقْصِيرَ الْيَهُودِ فِي حَقِّ أَنْبِيَائِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَفْسِيرُ الْوَسَطِ بِالْعَدْلِ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: هُوَ مِنْ وَسَطِ قَوْمِهِ أَيْ خِيَارِهِمْ، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] أَيْ: عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ} [البقرة: 143] أَيْ: رَسُولُكُمْ وَاللَّامُ لِلْعِوَضِ، أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أَيْ: مُطَّلِعًا وَرَقِيبًا عَلَيْكُمْ، وَنَاظِرًا لِأَفْعَالِكُمْ، وَمُزَكِّيًا لِأَقْوَالِكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] مُقَدِّمًا صِلَةَ الشَّهَادَةِ لِيُفِيدَ اخْتِصَاصَهُمْ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ لِلُزُومِ الْمَضَرَّةِ؟ قُلْتُ: الْكَلَامُ وَارِدٌ فِي مَدْحِ الْأُمَّةِ، فَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّهُ يُزَكِّيهِمْ، فَضُمِّنَ شَهِدَ بِمَعْنَى رَقِبَ ; لِأَنَّ الْعُدُولَ تَحْتَاجُ إِلَى رَقِيبٍ يَحْفَظُ أَحْوَالَهُمْ لِيَطَّلِعَ عَلَيْهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَيُزَكِّيَهُمْ، وَلَمَّا كَانُوا هُمُ الْعُدُولَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِكَوْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا أَيْ رَقِيبًا مُزَكِّيًا، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ مَعَ أَنَّ مُزَكِّيَ الشَّاهِدِ أَيْضًا شَاهِدٌ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بِأَجْمَعِهِمْ يَشْهَدُونَ عَلَى الْكُلِّ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا بِمَا عَمِلْتُمْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ رَجُلٌ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيُقَالُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُدْعَى مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُقَالُ: وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جَاءَنَا نَبِيُّنَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] » الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَنَا وَأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْخَلَائِقِ، مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا وَدَّ أَنَّهُ مِنَّا، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ إِلَّا وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ» ".

5554 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ، فَقَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مِمَّا أَضْحَكُ) ؟ . قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ يَا رَبِّ! أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ) ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى. قَالَ: (فَيَقُولُ فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي) . قَالَ: فَيَقُولُ: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا) . قَالَ: (فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي) قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ. قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5554 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مِمَّا أَضْحَكُ) ؟ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الضَّحِكُ إِلَّا لِأَمْرٍ غَرِيبٍ وَحُكْمٍ عَجِيبٍ (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ (قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ! أَلَمْ تُجِرْنِي) : مِنَ الْإِجَارَةِ أَيْ أَلَمْ تَجْعَلْنِي فِي إِجَارَةٍ مِنْكَ بِقَوْلِكَ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] (مِنَ الظُّلْمِ) ؟ وَالْمَعْنَى أَلَمْ تُؤَمِّنِّي مِنْ أَنْ تَظْلِمَ عَلَيَّ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَقُولُ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ الْعَبْدِ (بَلَى) قَالَ: (فَيَقُولُ فَإِنِّي) أَيْ: فَإِذَا أَجَرْتَنِي مِنَ الظُّلْمِ فَإِنِّي (لَا أُجِيزُ) : بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَا أُجَوِّزُ وَلَا أَقْبَلُ (عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي) أَيْ: مِنْ جِنْسِي ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ شَهِدُوا عَلَيْنَا بِالْفَسَادِ قَبْلَ الْإِيجَادِ. (قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا) : نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ وَعَلَيْكَ مَعْمُولُهُ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي فَاعِلِ كَفَى، وَالْيَوْمَ ظَرْفٌ لَهُ أَوْ لِشَهِيدٍ (وَبِالْكِرَامِ) أَيْ: وَكَفَى بِالْعُدُولِ الْمُكَرَّمِينَ (الْكَاتِبِينَ) أَيْ: لِصُحُفِ الْأَعْمَالِ (شُهُودًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِذَا قُلْتَ: دَلَّ أَدَاةُ الْحَصْرِ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَكَيْفَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: كَفَى بِنَفْسِكَ وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؟ قُلْتُ: بَذَلَ مَطْلُوبَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا (قَالَ: فَيُخْتَمُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَى فِيهِ) أَيْ: فَمِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} [فصلت: 20] ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ) أَيْ: لِأَعْضَائِهِ وَأَجْزَائِهِ (انْطِقِي) . قَالَ: (فَتَنْطِقُ) أَيِ: الْأَرْكَانُ (بِأَعْمَالِهِ) أَيْ: بِأَفْعَالِهِ الَّتِي بَاشَرَهَا وَارْتَكَبَهَا بِسَبَبِهَا، (ثُمَّ يُخَلَّى) أَيْ: يُتْرَكُ (بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ) أَيْ: يُرْفَعُ الْخَتْمُ مِنْ فِيهِ ; حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الْعَادِيِّ، فَشَهَادَةُ أَلْسِنَتِهِمْ فِي الْآيَةِ يُرَادُ بِهَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ. (قَالَ: فَيَقُولُ) أَيِ: الْعَبْدُ (بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ هَلَاكًا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ نَاصِبُهُمَا مُقَدَّرٌ، وَالْخِطَابُ لِلْأَرْكَانِ أَيِ: ابْعُدْنَ وَاسْحُقْنَ (فَعَنْكُنَّ) أَيْ: عَنْ قِبَلِكُنَّ وَمِنْ جِهَتِكُنَّ وَلِأَجْلِ خَلَاصِكُنَّ، (كُنْتُ أُنَاضِلُ) أَيْ: أُجَادِلُ وَأُخَاصِمُ وَأُدَافِعُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ أُخَاصِمُ لِخَلَاصِكُنَّ، وَأَنْتُنَّ تُلْقِينَ أَنْفُسَكُنَّ فِيهَا، وَالْمُنَاضَلَةُ الْمُرَامَاةُ بِالسِّهَامِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُحَاجَّةُ بِالْكَلَامِ، يُقَالُ: تَنَاضَلَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ إِذَا تَكَلَّمَ عَنْهُ بِعُذْرٍ وَدَفَعَ. قُلْتُ: وَجَوَابُهُنَّ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 21 - 23] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِّفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فَجَحَدَ وَخَاصَمَ، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ. فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيُقَالُ: أَهْلُكَ وَعِشْرَتُكَ؟ فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيُقَالُ: احْلِفُوا فَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ اللَّهُ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ» ".

5555 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا. قَالَ: فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. قَالَ: فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ لَا. فَيَقُولُ: فَإِنِّي قَدْ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي. ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، يَقُولُ: هَاهُنَا إِذًا، ثُمَّ يُقَالُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدًا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ: انْطِقِي ; فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذُكِرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ (يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ) فِي (بَابِ التَّوَكُّلِ) بِرِوَايَةِ عَبَّاسٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 5555 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا) : الِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِعْلَامِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ؟ قُيِّدَ بِهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ الذَّاتَ الْبَاقِيَةَ لَا تُرَى بِالْعَيْنِ الْفَانِيَةِ. (قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَتُفْتَحُ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ أَوِ التَّفَاعُلِ مِنَ الضَّرَرِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَهُوَ حَمْلُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَالْمَعْنَى: هَلْ يَحْصُلُ لَكُمْ تَزَاحُمٌ وَتَنَازُعٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ (فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ) أَيْ: لِأَجْلِ رُؤْيَتِهَا أَوْ عِنْدَهَا (فِي الظَّهِيرَةِ) : وَهِيَ نِصْفُ النَّهَارِ، وَهُوَ وَقْتُ ارْتِفَاعِهَا وَظُهُورِهَا وَانْتِشَارِ ضَوْئِهَا فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ. (لَيْسَتْ) : أَيِ الشَّمْسُ (فِي سَحَابَةٍ) ؟ أَيْ غَيْمٍ تَحْجُبُهَا عَنْكُمْ، (قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِهَذِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا) . قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ تُضَارُّونَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا وَالتَّاءُ مَضْمُومَةٌ فِيهِمَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: هَلْ تَضَامُّونَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِهَا، فَمَنْ شَدَّدَهَا فَتَحَ التَّاءَ، وَمَنْ خَفَّفَهَا ضَمَّهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: لَا تُضَارُّونَ أَوْ لَا تُضَامُّونَ عَلَى الشَّكِّ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي تَضَارُّونَ الْمُشَدَّدِ مِنَ الضَّرَرِ، وَالْمُخَفَّفِ مِنَ الضَّيْرِ أَيْ: تَكُونُ رُؤْيَتُهُ جَلِيَّةً بَيِّنَةً لَا تَقْبَلُ مِرَاءً وَلَا مِرْيَةً، فَيُخَالِفُ فِيهَا بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيُكَذِّبُهُ، كَمَا لَا يُشَكُّ فِي رُؤْيَةِ إِحْدَاهُمَا يَعْنِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَلَا يُنَازَعُ فِيهَا، فَالتَّشْبِيهُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الرُّؤْيَةِ بِاعْتِبَارِ جَلَائِهَا وَظُهُورِهَا ; بِحَيْثُ لَا يُرْتَابُ فِيهَا لَا فِي سَائِرِ كَيْفِيَّاتِهَا، وَلَا فِي الْمَرْئِيِّ ; فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَعَمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهَا، وَفِي تَضَامُّونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ الضَّمِّ، أَيْ: لَا يَنْضَمُّ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي طَلَبِ رُؤْيَتِهِ ; لِإِشْكَالِهِ وَخَفَائِهِ كَمَا يَفْعَلُونَ فِي الْهِلَالِ، أَوْ لَا يَضُمُّكُمْ شَيْءٌ دُونَهُ فَيَحُولُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا، وَبِالتَّخْفِيفِ مِنَ الضَّيْمِ، أَيْ: لَا يَنَالُكُمْ ضَيْمٌ فِي رُؤْيَتِهِ، فَيَرَاهُ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ، بَلْ يَسْتَوُونَ فِيهَا، وَأَصْلُهُ تُضْيَمُونَ، فَنُقِلَتْ فَتْحَةُ الْيَاءِ إِلَى الضَّادِ، فَصَارَتْ أَلِفًا لِسُكُونِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، كَذَلِكَ تُضَارُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا الْمُشَدَّدُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ عَلَى مَعْنَى لَا تَضَارُّونَ، أَيْ: تَتَنَازَعُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، هَذَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: إِلَّا كَمَا تَضَارُّونَ، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: لَا تَضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ كَمَا لَا تَضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهَا، وَلَكِنَّهُ أُخْرِجَ مُخْرَجَ قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ أَيْ: لَا تَشُكُّونَ فِيهِ إِلَّا كَمَا تَشُكُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرَيْنِ، وَلَيْسَ فِي رُؤْيَتِهِمَا شَكٌّ فَلَا تَشُكُّونَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَيَلْقَى) أَيِ: الرَّبُّ (الْعَبْدَ) أَيْ: عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ (فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ) : بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتُفْتَحُ وَتُضَمُّ أَيْ فُلَانٌ، فَفِي النِّهَايَةِ مَعْنَاهُ يَا فُلَانُ وَلَيْسَ تَرْخِيمًا لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ إِلَّا بِسُكُونِ اللَّامِ، وَلَوْ كَانَ تَرْخِيمًا لَفَتَحُوهَا أَوْ ضَمُّوهَا. قُلْتُ: وَقِيلَ فَلَا، كَمَا يُقَالُ: سَعَى فِي سَعِيدٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَتْ تَرْخِيمًا وَإِنَّمَا هِيَ صِيغَةٌ ارْتُجِلَتْ فِي بَابِ النِّدَاءِ، وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ النِّدَاءِ قَالَ: فِي لُجَّةٍ أَمْسَكَ فُلَانٌ عَنْ فُلِ بِكَسْرِ اللَّامِ لِلْقَافِيَةِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: لَيْسَ مُرَخَّمًا لِأَنَّ شَرْطَ مِثْلِهِ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ حَذْفِ النُّونِ وَالْأَلِفِ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ كَ " مَرْوَانَ "، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ تَرْخِيمُ فُلَانٍ فَحُذِفَتِ النُّونُ لِلتَّرْخِيمِ وَالْأَلِفُ لِسُكُونِهَا، وَيُفْتَحُ اللَّامُ وَيُضَمُّ عَلَى مَذْهَبَيِ التَّرْخِيمِ (أَلَمْ أُكْرِمْكَ) أَيْ: أَلَمْ أُفَضِّلْكَ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ (وَأُسَوِّدْكَ) أَيْ: أَلَمْ أَجْعَلْكَ سَيِّدًا فِي قَوْمِكَ (وَأُزَوِّجْكَ) أَيْ: أَلَمْ أُعْطِكَ زَوْجًا مِنْ جِنْسِكَ وَمَكَّنْتُكَ مِنْهَا، وَجَعَلْتُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وَمُؤَانَسَةً وَأُلْفَةً، (وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ) أَيْ: أُذَلِّلْهَا لَكَ، وَخُصَّتَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَصْعَبُ الْحَيَوَانَاتِ، (وَأَذَرْكَ) أَيْ: لَمْ

أَذَرْكَ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ أَدَعْكَ وَلَمْ أُمَكِّنْكَ عَلَى قَوْمِكَ (تَرْأَسُ) أَيْ: تَكُونُ رَئِيسًا عَلَى قَوْمِكَ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، (وَتَرْبَعُ) ؟ أَيْ: تَأْخُذُ رِبَاعَهُمْ وَهُوَ رُبُعُ الْغَنِيمَةِ ; وَكَانَ مُلُوكُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْخُذُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، (فَيَقُولُ: بَلَى) أَيْ: فِي كُلٍّ أَوْ فِي الْكُلِّ (قَالَ: فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (أَفَظَنَنْتَ) أَيْ: أَفَعَلِمْتَ (أَنَّكَ مُلَاقِيَّ) ؟ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الْعَائِدَةِ بِحَذْفِ التَّنْوِينِ وَالثَّانِيَةُ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، (فَيَقُولُ لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي قَدْ أَنْسَاكَ) أَيِ: الْيَوْمَ أَتْرُكُكَ مِنْ رَحْمَتِي (كَمَا نَسِيتَنِي) أَيْ: فِي الدُّنْيَا مِنْ طَاعَتِي. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ، يَعْنِي سَوَّدْتُكَ وَزَوَّجْتُكَ، وَفَعَلْتُ بِكَ مِنَ الْإِكْرَامِ حَتَّى تَشْكُرَنِي وَتَلْقَانِي لِأَزِيدَ فِي الْإِنْعَامِ، وَأُجَازِيَكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا نَسِيتَنِي فِي الشُّكْرِ نَسِينَاكَ وَتَرَكْنَا جَزَاءَكَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [الفاتحة: 126 - 29468] وَنِسْبَةُ النِّسْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا مُشَاكَلَةٌ أَوْ مَجَازٌ عَنِ التَّرْكِ. (ثُمَّ يَلْقَى) أَيِ: الرَّبُّ (الثَّانِيَ) أَيْ: مِنَ الْعَبْدِ (فَذَكَرَ مِثْلَهُ) أَيْ: قَالَ الرَّاوِي: ذَكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الثَّانِي مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ سُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَجَوَابِهِ. (ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي) أَيْ: يَمْدَحُ الثَّالِثُ عَلَى نَفْسِهِ (بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (هَاهُنَا إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذًا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ بِمَا أَثْنَيْتَ إِذًا فَأُثْبِتَّ هُنَا ; كَيْ نُرِيَكَ أَعْمَالَكَ بِإِقَامَةِ الشَّاهِدِ عَلَيْهَا، قَالَ شَارِحٌ: أَيْ يَقُولُ: إِذًا تُجْزَى بِأَعْمَالِكَ هَاهُنَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَقَرَّ الثَّالِثُ بِظَنِّهِ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَّ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ فَيَقُولُ: هَاهُنَا إِذًا، أَيْ قِفْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِذَا ذَكَرْتَ أَعْمَالَكَ حَتَّى تَتَحَقَّقَ خِلَافَ مَا زَعَمْتَ، (ثُمَّ يُقَالُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدًا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ) أَيِ: الْعَبْدُ الثَّالِثُ (فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ) : حَالٌ تَقْدِيرُهُ يَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ قَائِلًا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ (فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ) أَيْ: فَمِهِ (فَيُقَالُ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَيُقَالُ (لِفَخِذِهِ انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ) أَيِ: الْمُتَعَلِّقَةُ بِفَخِذِهِ (بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ) أَيْ: إِنْطَاقُ أَعْضَائِهِ أَوْ بَعْثُ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَشَارَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَخَتْمِ الْفَمِ وَنُطْقِ الْفَخِذِ وَغَيْرِهِ، (لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ) ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لِيُعْذِرَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ مِنَ الْإِعْذَارِ، وَالْمَعْنَى: لِيُزِيلَ اللَّهُ عُذْرَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ وَشَهَادَةِ أَعْضَائِهِ عَلَيْهِ ; بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ يَتَمَسَّكُ بِهِ، وَقِيلَ لِيَصِيرَ ذَا عُذْرٍ فِي تَعْذِيبٍ مِنْ قِبَلِ نَفْسِ الْعَبْدِ، (وَذَلِكَ) أَيِ: الْعَبْدُ الثَّالِثُ (الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي سَخِطَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ: غَضِبَ (اللَّهُ عَلَيْهِ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ) : صَوَابُهُ عَلَى مَا سَبَقَ: " «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» "، (فِي بَابِ التَّوَكُّلِ، بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ) . فَكَانَ الْبَغَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ الْحَدِيثَ مُكَرَّرًا بِإِسْنَادَيْنِ: أَحَدُهُمَا هُنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْآخَرُ هُنَاكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَحَذَفَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ مَا هُنَا، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ ذُكِرَ سَابِقًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ، فَانْدَفَعَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ التَّدَافُعِ بَيْنَ قَوْلِهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلِهِ بِرَاوِيَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5556 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5556 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أَيِ: الْبَاهِلِيِّ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي) : مِنَ الْإِدْخَالِ ; لِقَوْلِهِ: (سَبْعِينَ أَلْفًا) : وَالْمُرَادُ بِهِ إِمَّا هَذَا الْعَدَدُ أَوِ الْكَثْرَةُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سَبْعِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] جَمْعُ السَّبْعِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ لِلْكَثْرَةِ ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ لَمْ يُغْفَرْ لَهُمْ. (لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ) أَيْ: لَا مُنَاقَشَةَ لَهُمْ فِي الْمُحَاسَبَةِ (وَلَا عَذَابَ) أَيْ: بِالْأَوْلَى، أَوْ لَا عَذَابَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحِسَابِ، (مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ حَثْيَةٍ (مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي) ، قَالَ شَارِحٌ: الْحَثْيَةُ وَالْحَثْوَةُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُعْطِيهِ الْإِنْسَانُ بِكَفَّيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ وَتَقْدِيرٍ، ثُمَّ تُسْتَعَارُ لِمَا يُعْطَى مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَإِضَافَةُ الْحَثَيَاتِ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْحَثَيَاتُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ ; وَإِلَّا فَلَا كَفَّ ثَمَّةَ وَلَا حَثْيَ، جَلَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَثَلَاثٌ مَرْفُوعٌ عُطِفَ عَلَى سَبْعُونَ وَهُوَ أَقْرَبُ، وَقِيلَ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى سَبْعِينَ، أَيْ: وَأَنْ يُدْخِلَ ثَلَاثَ قَبَضَاتٍ مِنْ قَبَضَاتِهِ، أَيْ: عَدَدًا غَيْرَ مَعْلُومٍ، وَالْمَعْنَى: يَكُونُ مَعَ هَذَا الْعَدَدِ الْمَعْلُومِ عَدَدٌ كَثِيرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا جَمِيعًا الْمُبَالَغَةُ فِي الْكَثْرَةِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: يُحْتَمَلُ النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَالرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَالرَّفْعُ أَظْهَرُ فِي الْبَالِغَةِ ; إِذِ التَّقْدِيرُ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ، بِخِلَافِ النَّصْبِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَثْيَةُ مَا يَحْثِيهِ الْإِنْسَانُ بِيَدَيْهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُعْطِيهِ الْمُعْطِي بِكَفَّيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ جِيءَ بِهِ هَاهُنَا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ، وَأُرِيدَ بِهَا الدَّفَعَاتُ أَيْ: يُعْطَى بَعْدَ هَذَا الْعَدَدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَا يَخْفَى عَلَى الْعَادِّينَ حَصْرُهُ وَتَعْدَادُهُ ; فَإِنَّ عَطَاءَهُ الَّذِي لَا يَضْبِطُهُ الْحِسَابُ أَوْفَى وَأَرْبَى مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَتَدَاخَلُهُ الْحِسَابُ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّجَلِّي الصُّورِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

5557 - وَعَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ: فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الْعَرْضَةُ الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5557 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) أَيِ: الْبَصْرِيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُعْرَضُ النَّاسُ) أَيْ: عَلَى اللَّهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ) بِفَتْحَتَيْنِ، قِيلَ: أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: فَأَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَيَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَ لَمْ يُبَلِّغْنَا الْأَنْبِيَاءُ وَيُحَاجُّونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: يَعْتَرِفُونَ وَيَعْتَذِرُونَ بِأَنْ يَقُولَ كُلٌّ فَعَلْتُهُ سَهْوًا وَخَطَأً، أَوْ جَهْلًا، أَوْ رَجَاءً وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ) : جَمْعُ مَعْذِرَةٍ وَلَا يَتِمُّ قَضِيَّتُهُمْ فِي الْمَرَّتَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ، (وَأَمَّا الْعَرْضَةُ الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ) ، كَذَا هُوَ سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ، وَجَامِعُ الْأُصُولِ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: تَطَايَرُ، أَيْ تَتَطَايَرُ الصُّحُفُ، وَهُوَ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ الصَّحِيفَةِ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ، وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ: تَطَايُرُ الصُّحُفِ أَيْ تَفَرُّقُهَا إِلَى كُلِّ جَانِبٍ، فَرِوَايَتُهُ بِالْمَصْدَرِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَبِالْمُضَارِعِ أَيْ يَسْرُعُ وُقُوعُهَا (فِي الْأَيْدِي) أَيْ: أَيْدِي الْمُكَلَّفِينَ جَمِيعًا (فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ) : الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ أَيْ: فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِيَمِينِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمِنْهُمْ آخِذٌ بِشِمَالِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَحِينَئِذٍ تَتِمُّ قَضِيَّتُهُمْ عَلَى وَفْقِ الْبِدَايَةِ، وَيَتَمَيَّزُ أَهْلُ الضَّلَالَةِ مِنْ أَهْلِ الْهِدَايَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قِبَلِ) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ أَيْ مِنْ جِهَةِ (أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَيْ: فَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ فِي صَحِيحِهِ: الْحَسَنَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ وَبَيْنَهَا قَالَ: وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَلَمْ يُخْرِجْ لِلْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ شَيْئًا نَقَلَهُ مَيْرَكُ. أَقُولُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِ مُسْلِمٍ حَدِيثَهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ ; إِذْ شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ تَحَقُّقُ اللُّقَى وَلَوْ مَرَّةً أَقْوَى مِنْ شَرْطِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مُجَرَّدُ وُجُودِ الْمُعَاصَرَةِ.

5558 - وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5558 - (وَقَدْ رَوَاهُ) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ (بَعْضُهُمْ) أَيْ: بَعْضُ الْمُخَرِّجِينَ (عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى) يَعْنِي: فَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ مِنْ طَرِيقَةٍ وَاعْتَضَدَ بِإِسْنَادِهِ ; فَإِنَّ الْمُؤَلِّفَ ذَكَرَ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ أَنَّ الْحَسَنَ رَوَى عَنِ الصَّحَابَةِ، كَأَبِي مُوسَى، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ.

5559 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلَ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ! فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ! فَيَقُولُ: بَلَى ; إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ ; فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5559 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: يَخْتَارُ (رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ) : بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: فَيَفْتَحُ (عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا) : بِكَسْرَتَيْنِ فَتَشْدِيدٍ أَيْ كِتَابًا كَبِيرًا (كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ) أَيْ: كُلُّ كِتَابٍ مِنْهَا طُولُهُ وَعَرْضُهُ مِقْدَارُ مَا يَمْتَدُّ إِلَيْهِ بَصَرُ الْإِنْسَانِ، (ثُمَّ يَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا) أَيِ: الْمَكْتُوبِ (شَيْئًا) ؟ أَيْ مِمَّا لَا تَفْعَلُهُ (أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي) : بِفَتَحَاتٍ جَمْعُ كَاتِبٍ، وَالْمُرَادُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ (الْحَافِظُونَ) ؟ أَيْ: لِأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ (فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ) : جَوَابٌ لَهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا (فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ) ؟ أَيْ: فِيمَا فَعَلْتَهُ مِنْ كَوْنِهِ سَهْوًا أَوْ خَطَأً، أَوْ جَهْلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ (قَالَ: لَا يَا رَبِّ! فَيَقُولُ: بَلَى) أَيْ: لَكَ عِنْدَنَا مَا يَقُومُ مَقَامَ عُذْرِكَ (إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً) أَيْ: وَاحِدَةً عَظِيمَةً مَقْبُولَةً تَمْحُو جَمِيعَ مَا عِنْدَكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وَإِذَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ لِشَيْءٍ عَظِيمٍ فَهُوَ عَظِيمٌ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَئِنْ كَانَتْ لِي حَسَنَةٌ عِنْدَ اللَّهِ كَفَتْنِي. (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ) ، لَعَلَّهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17] أَيْ: بِنُقْصَانِ أَجْرٍ لَكَ وَلَا بِزِيَادَةِ عِقَابٍ عَلَيْكَ، بَلْ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَهُوَ إِمَّا بِالْعَدْلِ وَإِمَّا بِالْفَصْلِ، (فَتُخْرَجُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: فَتَظْهَرُ (بِطَاقَةٌ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ رُقْعَةٌ صَغِيرَةٌ ثَبَتَ فِيهَا مِقْدَارُ مَا بِهِ، وَيُجْعَلُ فِي الثَّوَابِ إِنْ كَانَ عَيْنًا فَوَزْنُهُ أَوْ عَدَدُهُ، وَإِنْ كَانَ مَتَاعًا فَثَمَنُهُ أَوْ قِيمَتُهُ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُشَدُّ بِطَاقَةٍ مِنْ هُدْبِ الثَّوْبِ فَتَكُونُ التَّاءُ حِينَئِذٍ زَائِدَةً وَهِيَ كَلِمَةٌ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ بِمِصْرَ، وَيُرْوَى بِالنُّونِ وَهُوَ غَرِيبٌ. (فِيهَا) أَيْ: مَكْتُوبٌ فِي الْبِطَاقَةِ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) ، يَحْتَمِلُ أَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ أَوَّلُ مَا نَطَقَ بِهَا، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْإِقْرَارَ شَرْطُ الْإِيمَانِ أَوْ شَطْرُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ تِلْكَ الْمَرَّةِ مِمَّا وَقَعَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ الْحَضْرَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَادَّةِ الْخُصُوصِ مِنْ عُمُومِ الْأُمَّةِ، (فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ) أَيِ: الْوَزْنَ الَّذِي لَكَ أَوْ وَزْنَ عَمَلِكَ، أَوْ وَقْتَ وَزْنِكَ أَوْ آلَةَ وَزْنِكَ وَهُوَ الْمِيزَانُ ; لِيَظْهَرَ لَكَ انْتِفَاءُ الظُّلْمِ وَظُهُورُ الْعَدْلِ وَتَحَقُّقُ الْعَدْلِ، (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ) أَيِ: الْوَاحِدَةُ (مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ) ؟ أَيِ الْكَثِيرَةِ، وَمَا قَدْرُهَا بِجَنْبِهَا وَمُقَابَلَتِهَا، (فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ) أَيْ: لَا يَقَعُ عَلَيْكَ الظُّلْمُ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ الْوَزْنِ كَيْ يَظْهَرَ أَنْ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ، فَاحْضُرِ الْوَزْنَ، قِيلَ: وَجْهُ مُطَابَقَةِ هَذَا جَوَابًا لِقَوْلِهِ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ لِلتَّحْقِيرِ، كَأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَعَ هَذِهِ الْبِطَاقَةِ الْمُحَقَّرَةِ مُوَازَنَةٌ لِتِلْكَ السِّجِلَّاتِ، فَرُدَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ بِحَقِيرَةٍ، أَيْ: لَا تَحْقِرْ هَذِهِ فَإِنَّهَا

عَظِيمَةٌ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ، إِذْ لَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَلَوْ ثَقُلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَظُلِمْتَ، (قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: فَرْدَةٍ مِنْ زَوْجَيِ الْمِيزَانِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْكِفَّةُ بِالْكَسْرِ مِنَ الْمِيزَانِ مَعْرُوفٌ وَيُفْتَحُ، (وَالْبِطَاقَةُ) أَيْ: وَتُوضَعُ (فِي كِفَّةٍ) أَيْ: فِي أُخْرَى (فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ) أَيْ: خَفَّتْ (وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ) أَيْ: رَجَحَتْ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، فَفِي الدُّرِّ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، يَعْنِي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] فَقَالَ: لِأَنْ تَفْضُلَ حَسَنَاتِي عَلَى سَيِّئَاتِي مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبِطَاقَةُ وَحْدَهَا غَلَبَتِ السِّجِلَّاتِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَعَ سَائِرِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَلَكِنَّ الْغَلَبَةَ مَا حَصَلَتْ إِلَّا بِبَرَكَةِ هَذِهِ الْبِطَاقَةِ، (فَلَا يَثْقُلُ) : بِالرَّفْعِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْجَزْمِ وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، أَيْ: فَلَا يَرْجَحُ وَلَا يَغْلِبُ (مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ) وَالْمَعْنَى: لَا يُقَاوِمُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي، بَلْ يَتَرَجَّحُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] فَإِنْ قِيلَ: الْأَعْمَالُ أَعْرَاضٌ لَا يُمْكِنُ وَزْنُهَا، وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَجْسَامُ، أُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُوزَنُ السِّجِلُّ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْأَعْمَالُ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يُجَسِّمُ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ فَتُوزَنُ، فَتَثْقُلُ الطَّاعَاتُ وَتَطِيشُ السَّيِّئَاتُ ; لِثِقَلِ الْعِبَادَةِ عَلَى النَّفْسِ وَخِفَّةِ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهَا ; وَلِذَا وَرَدَ: " «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

5560 - «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا: عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَمَ: أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ؟ وَعِنْدَ الْكِتَابِ حِينَ يُقَالُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ، أَفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَالِهِ؟ وَأَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ؟ وَعِنْدَ الصِّرَاطِ: إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5560 - (عَنْ عَائِشَةَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (أَنَّهَا ذَكَرَتْ) أَيْ: فِي نَفْسِهَا (النَّارَ) أَيْ: نَارَ جَهَنَّمَ (فَبَكَتْ) أَيْ: خَوْفًا مِنْهَا، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكِ) ؟ أَيْ: مَا سَبَبُ بُكَائِكِ (قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا) ! أَيْ بِالْخُصُوصِ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى فَهِيَ عَامَّةٌ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهَا، (عِنْدَ الْمِيزَانِ) ، قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: الْمِيزَانُ حَقٌّ قَالَ تَعَالَى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] يُوضَعُ مِيزَانُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُوزَنُ بِهِ الصَّحَائِفُ الَّتِي يَكُونُ مَكْتُوبًا فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَلَهُ كِفَّتَانِ إِحْدَاهُمَا لِلْحَسَنَاتِ وَالْأُخْرَى لِلسَّيِّئَاتِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ، وَذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، (حَتَّى يَعْلَمَ) أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ (أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ) ؟ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ نَبِيٌّ وَلَا مُرْسَلٌ (وَعِنْدَ الْكِتَابِ) أَيْ: تَطَايُرِهِ أَوْ عِنْدَ عَطَائِهِ (حِينَ يُقَالُ) أَيْ: يَقُولُ مَنْ يُعْطَى بِيَمِينِهِ (هَاؤُمُ) أَيْ: خُذُوا (اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) : تَنَازُعٌ فِيهِ لِفِعْلَانِ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ لِبَيَانِ يَاءِ الْإِضَافَةِ (حَتَّى يَعْلَمَ: أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ، أَفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ؟) . كَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي أَكْثَرِهَا: أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: أَمْ بَدَلُ (أَوْ) ، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ - فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا - وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 10 - 12] الْكَشَّافُ، قِيلَ: يُغَلُّ يُمْنَاهُ إِلَى عُنُقِهِ،

وَتُجْعَلُ شِمَالُهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَقِيلَ: تُخْلَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (وَعِنْدَ الصِّرَاطِ: إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ) أَيْ: وَسَطَهَا وَفَوْقَهَا، وَالْمَعْنَى: حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ نَجَا بِالْمُرُورِ مِنْهَا وَالْوُرُودِ عَنْهَا أَوْ وَقَعَ وَسَقَطَ وَزَلَّ فِيهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72] . قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ يَمُرُّ عَلَيْهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَنْجُونَ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَالْآخَرُونَ يَسْقُطُونَ فِيهَا، عَافَانَا اللَّهُ الْكَرِيمُ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، وَهَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهُوَ مُنْقَطِعٌ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5561 - «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي، وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتِمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ، وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذَنْبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ، اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ. فَتَنَحَّى الرَّجُلُ، وَجَعَلَ يَهْتِفُ وَيَبْكِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] . فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلَاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَحْرَارٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5561 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: قُدَّامَهُ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ) : بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ مَمَالِيكَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ فَفِيهِ تَغْلِيبٌ، (يَكْذِبُونَنِي) أَيْ: يَكْذِبُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ لِي (وَيَخُونُونَنِي) أَيْ: فِي مَالِي (وَيَعْصُونَنِي) أَيْ: فِي أَمْرِي وَنَهْيِي، (وَأَشْتِمُهُمْ) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُضَمُّ، فَفِي الْمِصْبَاحِ: شَتَمَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَفِي الْقَامُوسِ: مِنْ بَابِ نَصَرَ أَيْضًا، أَيْ أَسُبُّهُمْ (وَأَضْرِبُهُمْ) أَيْ: ضَرْبَ تَأْدِيبٍ (فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ) ؟ أَيْ كَيْفَ يَكُونُ حَالِي مِنْ أَجْلِهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ) أَيْ: مِقْدَارُهَا (وَعِقَابُكَ) : عَطْفٌ عَلَى مَا خَانُوكَ، أَيْ: وَيُحْسَبُ أَيْضًا قَدْرُ شَتْمِكَ وَضَرْبِكَ إِيَّاهُمْ، (فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ) أَيْ: عُرْفًا وَعَادَةً (كَانَ) أَيْ: أَمْرُكَ (كَفَافًا) : بِفَتْحِ الْكَافِ، فَفِي الْقَامُوسِ: كَفَافُ الشَّيْءِ كَسَحَابٍ مِثْلُهُ، وَمِنَ الرِّزْقِ مَا كَفَّ عَنِ النَّاسِ وَأَغْنَى. وَفِي النِّهَايَةِ: الْكَفَافُ الَّذِي لَا يَفْضُلُ عَنِ الشَّيْءِ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ بِالْمَقَامِ ; وَلِذَا قَالَ بَيَانًا لَهُ: (لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ) أَيْ: لَيْسَ لَكَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عَلَيْكَ فِيهِ عِقَابٌ، بَلْ فِعْلُهُ مُبَاحٌ لَيْسَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ، (فَإِنْ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَإِنْ (كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذَنْبِهِمْ) أَيْ: أَقَلَّ مِنْهُ (كَانَ فَضْلًا لَكَ) أَيْ: عَلَيْهِمْ ; فَإِنْ قَصَدْتَ الثَّوَابَ تُجْزِيهِ وَإِلَّا فَلَا، (وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ) : بِالْجَمْعِ هُنَا وَبِالْإِفْرَادِ فِيمَا سَبَقَ، الْمُرَادُ مِنْهُ الْجِنْسُ تَفَنُّنٌ فِي الْكَلَامِ أَيْ: أَكْثَرَ مِنْهُ (اقْتُصَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُخِذَ بِمِثْلِهِ (لَهُمْ) أَيْ: لِأَجْلِهِمْ (مِنْكَ الْفَضْلُ) أَيِ: الزِّيَادَةُ، (فَتَنَحَّى الرَّجُلُ) أَيْ: بَعُدَ عَنِ الْمَجْلِسِ (وَجَعَلَ يَهْتِفُ) : بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ: شَرَعَ يَصِيحُ (وَيَبْكِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الفاتحة: 47 - 19829] أَيْ: ذَوَاتِ الْقِسْطِ

وَهُوَ الْعَدْلُ (لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَاللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] أَيْ: قَلِيلًا مِنَ الظُّلْمِ (وَإِنْ كَانَ) أَيِ: الْعَمَلُ وَالظُّلْمُ (مِثْقَالَ حَبَّةٍ) أَيْ: مِقْدَارَهَا، وَهُوَ بِالنَّصْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ كَانَ نَاقِصَةٌ، وَرَفْعُ مِثْقَالٍ عَلَى كَانَ التَّامَّةِ، {مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء: 47] أَيْ: أَحْضَرْنَاهَا وَالضَّمِيرُ لِلْمِثْقَالِ وَتَأْنِيثُهُ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْحَبَّةِ {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] ; إِذْ لَا مَزِيدَ عَلَى عِلْمِنَا وَوَعْدِنَا، (فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلَاءِ) أَيِ: الْمَمْلُوكِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي (شَيْئًا) أَيْ: مَخْلَصًا (خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ) أَيْ: مِنْ مُفَارَقَتِي إِيَّاهُمْ ; لِأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُطَالَبَةِ عَسِرٌ جِدًّا (أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ) : بِالنَّصْبِ عَلَى التَّأْكِيدِ، وَيَجُورُ رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: (أَحْرَارٌ) ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] ; حَيْثُ قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ فِي السَّبْعَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5562 - «وَعَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ: " اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا " قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ قَالَ: " أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِهِ فَيَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنْهُ، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَئِذٍ يَا عَائِشَةُ هَلَكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5562 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ) أَيْ: مِنَ الْفَرَائِضِ أَوِ النَّوَافِلِ، أَوْ فِي بَعْضِ أَجْزَائِهَا مِنْ أَوَّلِ الْقِيَامِ أَوِ الرُّكُوعِ، أَوِ الْقَوْمَةِ أَوِ السُّجُودِ، أَوِ الْقَعْدَةِ. (اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا) : وَهَذَا إِمَّا تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَإِمَّا تَلَذُّذٌ بِمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَإِمَّا خَشْيَةٌ لَهُ ; كَمَا يَقْتَضِيهِ مَقَامُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّ الْعِزَّةِ، وَذُهُولُهُ عَنْ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَمَنْزِلَةِ الْعِصْمَةِ. (قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ قَالَ: أَنْ يَنْظُرَ) أَيِ: الْعَبْدُ (فِي كِتَابِهِ فَيَتَجَاوَزُ) : بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ أَيِ (اللَّهُ عَنْهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِيهِمَا (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيِ: الْمُحَاسَبَةَ وَالْمُضَايَقَةَ فِي الْمُطَالَبَةِ (يَوْمَئِذٍ يَا عَائِشَةُ هَلَكَ) أَيْ: عُذِّبَ، فَفِي الصِّحَاحِ: الْمُنَاقَشَةُ الِاسْتِقْصَاءُ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» " وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ طُرُقِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . قَالَ السَّيِّدُ: وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَصْلُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. قُلْتُ: فِي الدُّرِّ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

5563 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِيَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] ؟ فَقَالَ: يُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5563 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِيَامِ) أَيْ: عَلَى الْوُقُوفِ لِلْحِسَابِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) أَيْ: فِي حَقِّهِ، فَالْمَوْصُولُ صِفَةٌ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، أَيْ: يَوْمَ يَتَجَلَّى سُبْحَانَهُ بِجَلَالِهِ وَهَيْبَتِهِ، وَيُظْهِرُ سَطَوَاتِ قَهْرِهِ عَلَى الْجَبَّارِينَ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] بَكَى نَحِيبًا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ مَا بَعْدَهُ، (فَقَالَ: يُخَفَّفُ) أَيْ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ (عَلَى الْمُؤْمِنِ) أَيِ: الْكَامِلِ أَوِ الْمُصَلِّي (حَتَّى يَكُونَ) أَيْ: طُولُهُ (عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ) أَيْ: كَمِقْدَارِ أَدَائِهَا أَوْ قَدْرَ وَقْتِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا - إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا - وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 4 - 7] ، وَبِقَوْلِهِ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ - فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10] . فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَصِيرُ يَسِيرًا إِمَّا فِي الْكَمِّيَّةِ، وَإِمَّا فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَإِمَّا فِيهِمَا جَمِيعًا، حَتَّى بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ يَكُونُ هُوَ كَسَاعَةٍ، وَهُمْ مَنْ جَعَلُوا الدُّنْيَا سَاعَةً وَكَسَبُوا فِيهَا طَاعَةً.

5564 - وَعَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] مَا طُولُ هَذَا الْيَوْمِ؟ فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا» ". رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ (الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5564 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] مَا طُولُ هَذَا الْيَوْمِ) ؟ أَيْ: مَا حَالُ النَّاسِ فِي طُولِ هَذَا الْيَوْمِ فَهَلْ يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ فِيهِ مَعَ طُولِهِ (فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ) أَيِ: الْكَامِلِ (حَتَّى يَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ) أَيْ: مِنْ أَدَائِهَا أَوْ قِيَامِهَا (يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا. رَوَاهُمَا) . أَيِ الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

5565 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُحْشَرُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ؟ فَيَقُومُونَ، وَهُمْ قَلِيلٌ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِسَائِرِ النَّاسِ إِلَى الْحِسَابِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5565 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَيِ: ابْنِ السَّكَنِ بِفَتْحَتَيْنِ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ) أَيْ: مَكَانٍ (وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنَادَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَيُنَادِي (مُنَادٍ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ) أَيْ: تَتَنَحَّى وَتَتَبَاعَدُ (عَنِ الْمَضَاجِعِ) ؟ وَفِي الْإِسْنَادِ مَجَازٌ وَمُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة: 16] أَيْ دَاعِينَ رَبَّهُمْ عَابِدِينَ لَهُ خَوْفًا وَطَمَعًا أَيْ مِنْ سُخْطِهِ، وَفِي رَحْمَتِهِ، أَوْ نَارِهِ وَفِي جَنَّتِهِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ، فَقِيلَ: هُمُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَوَّابُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ مَنْ يُصَلِّي الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، (فَيَقُومُونَ) أَيْ: فَيُظْهِرُونَ الْقِيَامَ وَيَتَمَيَّزُونَ عَنْ سَائِرِ الْأَنَامِ (وَهُمْ قَلِيلٌ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. قَالَ تَعَالَى {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، (فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) : يَحْتَمِلُ صِيغَتَيِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ (بِغَيْرِ حِسَابٍ) ; لِأَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى مَرَارَةِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ لَذَّةِ الرَّاحَةِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، (ثُمَّ يُؤْمَرُ بِسَائِرِ النَّاسِ إِلَى الْحِسَابِ) أَيِ: الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَالْعَذَابِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب الحوض والشفاعة]

[بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ]

[4] بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5566 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [4] بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَوْضَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ، وَالثَّانِي فِي الْجَنَّةِ، وَكِلَاهُمَا يُسَمَّى كَوْثَرًا، وَالْكَوْثَرُ فِي كَلَامِهِمُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّ الْحَوْضَ قَبْلَ الْمِيزَانِ ; فَإِنَّ النَّاسَ يَخْرُجُونَ عِطَاشًا مِنْ قُبُورِهِمْ ; فَيُقَدَّمُ الْحَوْضُ قَبْلَ الْمِيزَانِ، وَكَذَا حِيَاضُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَوْقِفِ. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَأَنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُهُمْ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَمُرَةَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الشَّفْعُ ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ، وَمِنْهُ الشَّفَاعَةُ وَهُوَ الِانْضِمَامُ إِلَى آخَرَ نَاصِرًا لَهُ وَسَائِرًا عَنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي انْضِمَامِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً إِلَى مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْهُ، وَالشَّفَاعَةُ فِي الْقِيَامَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5566 - (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا) : بِالْأَلِفِ (أَنَا بِنَهَرٍ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ جَدْوَلٍ (حَافَتَاهُ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ جَانِبَاهُ وَطَرَفَاهُ (قِبَابُ الدُّرِّ) : بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قُبَّةٍ بِالضَّمِّ أَيْ: خَيْمِ اللُّؤْلُؤِ (الْمُجَوَّفِ) : الَّذِي لَهُ جَوْفٌ وَفِي وَسَطِهِ خَلَاءٌ يُسْكَنُ فِيهِ، (قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ) ؟ أَيِ: النَّهْرُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْوَصْفِ الْمَسْطُورِ (قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ) : إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] وَهُوَ فَوَعْلٌ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ رَبُّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ النُّبُوَّةِ، أَوْ كَثْرَةِ الْأُمَّةِ، أَوْ سَائِرِ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، وَمِنْهَا: الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَاللِّوَاءُ الْمَمْدُودُ، وَالْحَوْضُ الْمَوْرُودُ، وَلَا مُنَافَاةَ، بَلِ الْكُلُّ دَاخِلٌ فِي الْكَوْثَرِ، وَإِنْ كَانَ اشْتِهَارُهُ فِي مَعْنَى الْحَوْضِ أَكْثَرَ. (فَإِذَا طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ) أَيْ: شَدِيدُ الرَّائِحَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ طَيِّبُ الرِّيحِ، وَالذَّفَرُ بِالتَّحْرِيكِ يَقَعُ عَلَى الطَّيِّبِ وَالْكَرِيهِ، وَيُفْرَقُ بَيْنَهُمَا بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ وَيُوصَفُ بِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5567 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ يَشْرَبُ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5567 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَوْضِي) أَيْ: مِقْدَارُهُ (مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ) : جَمْعُ زَاوِيَةٍ، وَهِيَ الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ، أَيْ: أَطْرَافُ حَوْضِي (سَوَاءٌ) أَيْ: مُرَبَّعٌ مُسْتَوٍ لَا يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى عَرْضِهِ، وَقِيلَ: عُمْقُهُ أَيْضًا (مَاؤُهُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: النَّحْوِيُّونَ يَقُولُونَ: لَا يُبْنَى فِعْلُ التَّعَجُّبِ وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنَ الْأَلْوَانِ وَالْعُيُوبِ، بَلْ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِنَحْوِ أَشَدَّ وَأَبْلَغَ، فَلَا يُقَالُ: مَا أَبْيَضَ زَيْدًا! وَلَا: زَيْدٌ أَبْيَضُ مِنْ عَمْرٍو، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ وَحُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعُوهُ، وَهِيَ لُغَةٌ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الِاسْتِعْمَالِ. (وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ) : جَمْعُ كُوزٍ (كَنُجُومِ السَّمَاءِ) أَيْ: فِي الْكَثْرَةِ وَالنُّورَانِيَّةِ (مَنْ يَشْرَبُ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ، وَمَجْزُومًا عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ كِيزَانِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْهُ، أَيْ: مِنَ الْحَوْضِ، أَوْ مِنْ مَائِهِ (فَلَا يَظْمَأُ) : بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَقِيلَ بِالْجَزْمِ، أَيْ: فَلَا يَعْطَشُ (أَبَدًا) ، فَيَكُونُ شُرْبُهُ فِي الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا كَأَكْلِهِ تَنَعُّمًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ لَكَ أَنْ لَا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 117 - 119] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5568 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ لَكُمْ سِيمَاءُ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5568 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ حَوْضِي) أَيْ: بُعْدَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ حَوْضِي (أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ، أَيْ: أَزْيَدُ مِنْ بُعْدِ أَيْلَةَ، وَهِيَ بَلْدَةٌ عَلَى السَّاحِلِ مِنْ آخِرِ بِلَادِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي بَحْرَ الْيَمَنِ (مِنْ عَدَنٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، وَهُوَ آخِرُ بِلَادِ الْيَمَنِ مِمَّا يَلِي بَحْرَ الْهِنْدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: (مِنْ) الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِأَبْعَدَ، وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِبُعْدٍ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ الْآتِي: مَا بَيْنَ

عَدَنٍ وَعُمَّانَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، اسْمُ بَلَدٍ بِالشَّامِ وَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيبِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ وَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ السَّامِعِينَ فِي الْإِحَاطَةِ بِهِ عِلْمًا. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتِلَافُ الْأَحَادِيثِ فِي مِقْدَارِ الْحَوْضِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْمِينِ، لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى حَسَبِ مَا رَوَاهُ وَعَرَفَهُ. (لَهُوَ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ وَاللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ: لَحَوْضِي (أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ) ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى الثَّلْجَ فِي أَرْضِ الشَّامِ (وَأَحْلَى) أَيْ: أَلَذُّ (مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ) أَيِ: الْمَخْلُوطِ بِهِ (وَلَآنِيَتُهُ) : جَمْعُ إِنَاءٍ، أَيْ: وَلَظُرُوفُهُ مِنْ كِيزَانِهِ وَغَيْرِهَا (أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ) أَيْ: أَدْفَعُ وَأَمْنَعُ (النَّاسَ) أَيِ: الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ (عَنْهُ) أَيِ: الْحَوْضِ (كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ) أَيِ: الرَّاعِي (إِبِلَ النَّاسِ) أَيِ: الْأَجَانِبِ (عَنْ حَوْضِهِ) أَيْ: صِيَانَةً عَنِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُحَافَظَةِ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (أَتَعْرِفُنَا) أَيْ: تُمَيِّزُنَا مِنْ غَيْرِنَا (يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا) : بِالْقَصْرِ وَقَدْ يُمَدُّ وَهُوَ الْعَلَامَةُ، قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ آثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ، (لَيْسَتْ) أَيْ: تِلْكَ السِّيمَا (لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ) ; إِذِ الْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ (تَرِدُونَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْوُرُودِ أَيْ: تَمُرُّونَ (عَلَيَّ غُرًّا) : جَمْعُ الْأَغَرِّ، وَهُوَ مَنْ فِي جَبْهَتِهِ بَيَاضٌ (مُحَجَّلِينَ) : بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ جَمْعُ مُحَجَّلٍ، وَهُوَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بَيَاضٌ (مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ) : بِضَمِّ الْوَاوِ أَيِ اسْتِعْمَالِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ، أَيْ: مَاءِ الْوُضُوءِ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيمَا مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ ; فَهُمَا مِنْ مُخْتَصَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ مَوْجُودًا فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ هَلْ كَانَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ أَوْ لَا؟ وَإِنَّمَا كَانَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَانَ أَيْضًا لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُونَ أُمَمِهِمْ، وَفِي هَذَا فَضِيلَةٌ عُظْمَى وَمَرْتَبَةٌ كُبْرَى لِلْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

5569 - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: " «تَرَى فِيهِ أَبَارِيقَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5569 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ (عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: تُرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِيهِ) أَيْ: فِي حَوْضِي (أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) : لَعَلَّ اخْتِلَافَ الْوَصْفَيْنِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الشَّارِبِينَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ (كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ) أَيْ: مِنْ كَثْرَتِهَا.

5570 - وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: سُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ، فَقَالَ: " «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ يَغُتُّ، فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ: أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ وَرِقٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5570 - (وَفِي أُخْرَى لَهُ) أَيْ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ (عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: سُئِلَ: أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ (عَنْ شَرَابِهِ) أَيْ: صِفَةِ مَشْرُوبِهِ (فَقَالَ: أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ يَغُتُّ) : بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتُكْسَرُ وَبِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: يَصُبُّ وَيَسِيلُ (فِيهِ) أَيْ: فِي الْحَوْضِ (مِيزَابَانِ) ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ يَدْفُقُ دَفْقًا مُتَتَابِعًا دَائِمًا بِقُوَّةٍ، فَكَأَنَّهُ مِنْ ضَغْطِ الْمَاءِ لِكَثْرَتِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ، وَأَصْلُ الْغَتِّ الضَّغْطُ وَالْمِيزَابُ بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى: بِفَتْحِهَا أَيْضًا مِنْ وَزَبَ الْمَاءُ أَيْ سَالَ، فَأَصْلُ مِيزَابٍ نِوْزَابٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ فَتْحِ الْمِيمِ، فَفِي الْقَامُوسِ: أَزَبَ الْمَاءُ كَضَرَبَ جَرَى وَمِنْهُ الْمِيزَابُ، أَوْ هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، أَيْ: بُلِ الْمَاءَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُهْمَزَ الْمِيزَابُ وَأَنْ يُبْدَلَ هَمْزُهُ يَاءً، وَقَالَ أَيْضًا: وَزَبَ الْمَاءُ سَالَ وَمِنْهُ الْمِيزَابُ، أَوْ هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَمَعْنَاهُ بُلِ الْمَاءِ، فَعَرَّبُوهُ بِالْهَمْزِ ; وَلِهَذَا جَمَعُوهُ مَآزِيبَ. (يَمُدَّانِهِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: يَزِيدَانِ الْحَوْضَ فِي مَائِهِ (مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ أَنْهَارِهَا، أَوْ مِنَ الْحَوْضِ الَّذِي لَهُ فِي الْجَنَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالنَّهْرِ الْكَوْثَرِ (أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ وَرِقٍ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: مِنْ فِضَّةٍ، وَالْقَصْدُ بِهِمَا الزِّينَةُ بِاخْتِلَافِ لَوْنِ الْأَصْفَرِ وَالْأَبْيَضِ، لَا لِكَوْنِ الذَّهَبِ عَزِيزَ الْوُجُودِ هُنَاكَ قِيَاسًا عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِيزَابُ الذَّهَبِ مِنْ نَهْرِ الْعَسَلِ، وَمِيزَابُ الْفِضَّةِ مِنْ نَهْرِ اللَّبَنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنَ الْمَاءِ، وَالْآخَرُ مِنَ الْعَسَلِ، أَوِ اللَّبَنُ يُخْلَطُ بِهِ فِي الْحَوْضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5571 - وَعَنْ سَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟ فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5571 - (وَعَنْ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي فَرَطُكُمْ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ سَابِقُكُمْ وَمُقَدَّمُكُمْ (عَلَى الْحَوْضِ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَرَطُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ وَهُوَ الْفَارِطُ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوِرَادَ ; يُصْلِحُ لَهُمُ الْحِيَاضَ وَالدِّلَاءَ وَالْأَرْشِيَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ أُمُورِ الِاسْتِقَاءِ، فَمَعْنَاهُ: أَنَا سَابِقُكُمْ إِلَى الْحَوْضِ كَالْمُهَيِّئِ لَكُمْ (مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا) ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ مِنْهُ يَكُونُ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، (لَيَرِدَنَّ) : مِنَ الْوُرُودِ، أَيْ: لَيَمُرَّنَّ (عَلَيَّ أَقْوَامٌ) : أَيْ جَمَاعَاتٌ (أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي) ، قِيلَ: لَعَلَّ هَؤُلَاءِ، هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ ; حَيْثُ قَالَ: أَصْحَابِي (ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي) أَيْ: مِنْ أُمَّتِي أَوْ مِنْ أَصْحَابِي (فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) أَيْ: مِنَ الِارْتِدَادِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْمَعَاصِي لَا تَمْنَعُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وُرُودِ الْحَوْضِ وَالشُّرْبِ مِنْ مَائِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: (فَأَقُولُ: سُحْقًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيُضَمَّانِ (سُحْقًا) : كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: بُعْدًا وَهَلَاكًا وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْجُمْلَةُ دُعَاءٌ بِالْعَذَابِ (لِمَنْ غَيَّرَ) أَيْ: دِينَهُ (بَعْدِي) أَيْ: بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ بَعْدَ قَبُولِ دِينِي وَالدُّخُولِ فِي أُمَّتِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5572 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهَمُّوا بِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا! فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ: أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا - وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ: سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ - وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ. قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كَذَبَهُنَّ - وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا. قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - قَتْلَهُ النَّفْسَ - وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي فَيَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّانِيَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ. فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: " ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ ". قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: " ارْفَعْ مُحَمَّدُ! وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ " قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ قَدْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قَالَ: " وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيَّكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5572 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (يُحْبَسُ) أَيْ: يُوقَفُ (الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهَمُّوا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ يَحْزَنُوا (بِذَلِكَ) أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَبْسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يَحْزَنُوا لِمَا امْتُحِنُوا بِهِ مِنَ الْحَبْسِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَهَمَّنِي الْأَمْرُ إِذَا أَقْلَقَكَ وَأَحْزَنَكَ (فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا) أَيْ: لَيْتَ طَلَبْنَا أَحَدًا لِيَشْفَعَ لَنَا (إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحَنَا) أَيْ: يُعْطِيَنَا الرَّاحَةَ وَيُخَلِّصَنَا (مِنْ مَكَانِنَا!) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّمَنِّي وَالطَّلَبِ، وَقَوْلُهُ: فَيُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا مِنَ الْإِرَاحَةِ، وَنَصْبُهُ بِأَنِ الْمُقَدَّرَةِ بَعْدَ الْفَاءِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِـ (لَوْ) ، وَالْمَعْنَى: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا أَحَدًا إِلَى رَبِّنَا فَيَشْفَعَ لَنَا ; فَيُخَلِّصَنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْكَرْبِ وَالْحَبْسِ. قَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: شَفَعْتُ لَهُ إِلَى فُلَانٍ وَأَنَا شَافِعُهُ وَشَفِيعُهُ، وَاسْتَشْفَعَنِي إِلَيْهِ فَشَفَعْتُ لَهُ وَاسْتَشْفَعَ بِي، قَالَ الْأَعْمَشُ: مَضَى زَمَنٌ وَالنَّاسُ يَسْتَشْفِعُونَنِي ... فَهَلْ لِي إِلَى لَيْلَى الْغَدَاةَ شَفِيعُ (فَيَأْتُونَ آدَمَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ رُؤَسَاءُ أَهْلِ الْمَحْشَرِ لَا جَمِيعُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ (فَيَقُولُونَ) أَيْ: بَعْضُهُمْ (أَنْتَ آدَمُ) : هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي وَهُوَ فِيهِ مَعْنَى الْكَمَالِ لَا يُعْلَمُ مَا يُرَادُ مِنْهُ فَفُسِّرَ بِمَا بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ: (أَبُو النَّاسِ مَنْ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ) أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ، أَوْ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، أَوْ إِرَادَتِهِ الشَّامِلَةِ (وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ) ، فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى حُصُولِ الْمَآلِ وَوُصُولِ الْمَنَالِ، وَمَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ حُسْنِ الْمَالِ (وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ) أَيْ: سُجُودَ تَحِيَّةٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْجَاهِ وَالْعَظَمَةِ، (وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِإِعْطَاءِ الْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى وَالْمَرْتَبَةِ الْكُبْرَى. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وُضِعَ كُلُّ شَيْءٍ مَوْضِعَ أَشْيَاءَ، أَيِ: الْمُسَمَّيَاتِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] أَيْ: أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ إِرَادَةً لِلتَّفَصِّي، أَيْ: وَاحِدًا فَوَاحِدًا حَتَّى يَسْتَغْرِقَ الْمُسَمَّيَاتِ كُلَّهَا. (اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا) ، أَيْ: هَذَا الْمَكَانِ الْعَظِيمِ وَالْمَوْقِفِ الْأَلِيمِ (فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ) ، قِيلَ: هُنَا لَحِقَ بِهِ كَافُ الْخِطَابِ يَكُونُ لِلْبُعْدِ مِنَ الْمَكَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَالْمَعْنَى

أَنَا بَعِيدٌ مِنْ مَقَامِ الشَّفَاعَةِ، قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ يَقُولُ آدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ: لَسْتُ فِي الْمَكَانِ وَالْمَنْزِلِ الَّذِي تَحْسَبُونَنِي فِيهِ، يُرِيدُ بِهِ مَقَامَ الشَّفَاعَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ دُونَ الْمَنْزِلَةِ الْمَطْلُوبَةِ، قَالَهُ تَوَاضُعًا وَإِكْبَارًا لِمَا يَسْأَلُونَهُ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَيْسَ لِي بَلْ لِغَيْرِي. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَتْ لِصَاحِبِكَ ذَاكَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْإِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ. (وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ) أَيِ: اعْتِذَارًا عَنِ التَّقَاعُدِ وَالتَّأَنِّي عَنِ الشَّفَاعَةِ، وَالرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الَّتِي أَصَابَهَا، وَقَوْلُهُ: (أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ) : بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ، أَيْ: يَذْكُرُ أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ، ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلضَّمِيرِ الْمُبْهَمِ الْمَحْذُوفِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] ، (وَقَدْ نُهِيَ) أَيْ: آدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (عَنْهَا) أَيْ: عَنِ الشَّجَرَةِ أَوْ عَنِ الْخَطِيئَةِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، (وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ) ، اسْتَشْكَلَتْ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةُ بِأَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَكَذَا شِيثٌ وَإِدْرِيسُ وَغَيْرُهُمْ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيُشْكِلُ ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْبُخَارِيِّ فِي التَّيَمُّمِ، «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ خَاصَّةً إِلَى قَوْمٍ خَاصَّةً» ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ بَعْثَةِ نُوحٍ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ بِاعْتِبَارِ حَصْرِ الْخَلْقِ فِي الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ هَلَاكِ سَائِرِ النَّاسِ انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَقِيلَ: إِنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَكُونُوا رُسُلًا، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ بِإِنْزَالِ الصُّحُفِ عَلَى شِيثٍ، وَهُوَ عَلَامَةُ الْإِرْسَالِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَحْثٌ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْزَالِ الصُّحُفِ أَنْ يَكُونَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ رَسُولًا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي الصُّحُفِ مَا يَعْمَلُ بِهِ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، بَلْ مَوَاعِظُ وَنَصَائِحُ تَخْتَصُّ بِهِ. فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الثَّلَاثَةُ كَانُوا مُرْسَلِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَأَمَّا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا، هَذَا وَقَدْ قِيلَ: هُوَ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ أَيْ مُرْسَلٌ، وَمَنْ قَبْلَهُ كَانُوا أَنْبِيَاءَ غَيْرَ مُرْسَلِينَ كَآدَمَ وَإِدْرِيسَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قِيلَ إِنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ، وَهُوَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ نُوحٍ ; فَيَصِحُّ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ مَبْعُوثٍ مِنْ كَوْنِ إِدْرِيسَ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَأَمَّا آدَمُ وَشِيثٌ، فَهُمَا وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ إِلَّا أَنَّ آدَمَ أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، بَلْ أُمِرَ بِتَعْلِيمِهِمُ الْإِيمَانَ وَطَاعَةَ اللَّهِ، وَشِيثٌ كَانَ خَلَفًا لَهُ فِيهِمْ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ نُوحٍ، فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى كُفَّارِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ لَمْ يَكُونَا رَسُولَيْنِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ بَعْدَ آدَمَ، عَلَى أَنَّ شِيثًا كَانَ خَلِيفَةً لَهُ فَأَوَّلِيَّتُهُ إِضَافِيَّةٌ، أَوْ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، فَالْأَوَّلِيَّةُ حَقِيقِيَّةٌ، وَهَذَا أَوْفَقُ الْأَقْوَالِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ: قَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أُرْسِلَ أَيْضًا لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ قَبْلَ نُوحٍ ; لِإِخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ جَازِمٌ قَالُوهُ، وَصَحَّ أَنْ يُحْمَلَ أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ، وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ هَكَذَا سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِآدَمَ وَشِيثٍ، وَرِسَالَتُهُمَا إِلَى مَنْ مَعَهُمَا، وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ، فَإِنَّ آدَمَ أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَكَذَلِكَ شِيثٌ خَلَفَهُ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ رِسَالَةِ نُوحٍ إِلَى كُفَّارِ أَهْلِ الْأَرْضِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آدَمَ لَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ نَصٌّ دَالٌّ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ رَسُولَانِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ) : إِنِّي عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ (لَسْتُ هُنَاكُمْ) : قَالَ شَارِحٌ: أَيْ لَسْتُ فِي مَكَانِ الشَّفَاعَةِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: هُنَاكُمْ إِلَى الْبُعْدِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّمَا يَقُولُونَهُ تَوَاضُعًا، وَإِكْبَارًا لِمَا يَسْأَلُونَهُ، وَقَدْ يَكُونُ إِشَارَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ، وَهَذَا الْمَقَامَ لَيْسَ لَهُ بَلْ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ صَاحِبَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَيَّنًا، وَيَكُونُ إِحَالَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ، لِأَنْ تَنْدَرِجَ الشَّفَاعَةُ فِي ذَلِكَ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُبَادَرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ، وَإِجَابَتُهُ لِرَغْبَتِهِمْ ; لِتَحَقُّقِهِ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَامَةَ وَالْمَقَامَ لَهُ خَاصَّةً. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَهُمْ سُؤَالَ آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَمْ يُلْهَمُوا سُؤَالَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِظْهَارًا لِفَضِيلَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ لَوْ سَأَلُوهُ ابْتِدَاءً لَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنَّ غَيْرَهُ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا، وَأَمَّا إِذَا سَأَلُوا غَيْرَهُ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصْفِيَائِهِ، فَامْتَنَعُوا، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَجَابَ، وَحَصَلَ غَرَضُهُمْ، فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي ارْتِفَاعِ الْمَنْزِلَةِ وَكَمَالِ الْقُرْبِ، وَفِيهِ تَفْضِيلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الرُّسُلِ الْآدَمِيِّينَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ غَيْرُهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. (وَيَذْكُرُ) أَيْ: نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ (خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - يَعْنِي سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ -) أَيْ: قَوْلَهُ: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] إِلَى آخِرِهِ، وَكَانَ سُؤَالُهُ إِنْجَاءَ ابْنِهِ، وَكَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا السُّؤَالُ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] إِلَى آخِرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَوْقِعُ سُؤَالِهِ هُنَا مَوْقِعُ أَكْلِهِ فِي الْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي سُؤَالِهِ، أَيْ: صَادِرًا عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَرَبَّهُ مَفْعُولُ سُؤَالِهِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ; طَلَبَ أَنْ يُنْجِيَهُ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنَّهُ سَأَلَ مَا لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْأَلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] ; وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] أَيْ: وَعَدْتَنِي أَنْ تُنْجِيَ أَهْلِي مِنَ الْغَرَقِ، وَأَنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فَنَجِّهِ، قِيلَ لَهُ: مَا شَعَرْتَ مَنِ الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ، وَهُوَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَإِنَّ ابْنَكَ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ. (وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ. قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كَذَبَهُنَّ -) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: قَالَهُنَّ كَذِبًا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِحْدَى الْكِذْبَاتِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] ، وَثَانِيَتُهَا قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] ، وَثَالِثَتُهَا قَوْلُهُ لِسَارَةَ: هِيَ أُخْتِي وَالْحَقُّ أَنَّهَا مَعَارِيضُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الْكَذِبِ سَمَّاهَا أَكَاذِيبَ، وَاسْتَنْقَصَ مِنْ نَفْسِهِ لَهَا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَأَقْرَبَ مِنْهُ مَنْزِلَةً كَانَ أَعْظَمَ خَطَرًا وَأَشَدَّ خَشْيَةً، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ سَائِرُ مَا أُضِيفَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَطَايَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْكَامِلُ قَدْ يُؤَاخَذُ بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. (وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ وَبَيَانٍ، وَالْمَعْنَى: أَعْطَاهُ (التَّوْرَاةَ) : وَهِيَ أَوَّلُ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ الْمُنَزَّلَةِ (وَكَلَّمَهُ) أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ (وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا) أَيْ: مُنَاجِيًا لَهُ أَوْ مُنَاجًى بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ. (قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - قَتْلَهُ النَّفْسَ -) أَيْ: نَفْسَ الْقِبْطِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ (وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ

وَرُوحَ اللَّهِ) : أَضَافَهُ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى (وَكَلِمَتَهُ) أَيْ: خُلِقَ بِأَمْرِ (كُنْ) أَوْ كَلِمَتَهُ فِي دَعْوَتِهِ كَانَتْ مُسْتَجَابَةً، (قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ) : إِنَّمَا قَالَ كَذَا مَعَ أَنَّ خَطِيئَتَهُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ لَعَلَّهُ لِاسْتِحْيَائِهِ مِنِ افْتِرَاءِ النَّصَارَى فِي حَقِّهِ بِأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ. (وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ) أَيْ: فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَانِعٌ مِنْ مَقَامِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِمَّا اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ. قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ الْمُتَقَدِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَالْمُتَأَخِّرُ عِصْمَتُهُ بَعْدَهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَا وَقَعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَهْوٍ وَتَأْوِيلٍ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيهِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِذَنْبٍ لَوْ كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ تَنْزِيهٌ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ. (قَالَ: فَيَأْتُونِّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] ، (فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي) أَيْ: فَأَطْلُبُ الْإِذْنَ مِنْهُ ; لِلْأَدَبِ مَعَ الرَّبِّ (فِي دَارِهِ) أَيْ: دَارِ ثَوَابِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: ذَلِكَ تَحْتَ عَرْشِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ فَأَسْتَأْذِنُ فِي الدُّخُولِ عَلَى دَارِ رَبِّي (فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ) أَيْ: فِي الدُّخُولِ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِضَافَةُ دَارِ الثَّوَابِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُنَا كَإِضَافَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] عَلَى أَنَّ السَّلَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِئْذَانِ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ مَكَانًا لَا يَقِفُ فِيهِ دَاعٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ، وَلَا يَقُومُ بِهِ سَائِلٌ إِلَّا أُجِيبَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْوَاقِفِ فِيهِ وَبَيْنَ رَبِّهِ حِجَابٌ، وَالْحِكْمَةُ فِي نَقْلِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَوْقِفِهِ ذَلِكَ إِلَى دَارِ السَّلَامِ لِعَرْضِ الْحَاجَةِ هِيَ أَنَّ مَوْقِفَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ مَوْقِفُ السِّيَاسَةِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ حَقِّ الشَّفِيعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ كَرَامَتِهِ ; فَتَقَعُ الشَّفَاعَةُ مَوْقِعَهَا أَرْشَدَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ - إِلَى النَّقْلَةِ عَنْ مَوْقِفِ الْخَوْفِ فِي الْقِيَامَةِ إِلَى مَوْقِفِ الشَّفَاعَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مَثَلُ الَّذِي يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ فِي مَوْقِفِ الْخِدْمَةِ لِيَكُونَ أَحَقَّ بِالْإِجَابَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَعْنَاهُ فَيُؤْذَنُ لِي فِي الشَّفَاعَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَبْعَثُهُ فِيهِ. (فَإِذَا رَأَيْتُهُ) أَيْ: بِارْتِفَاعِ الْحِجَابِ عَنِّي، وَفِي الْمَشَارِقِ: فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ بِزِيَادَةِ أَنَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ إِنِّي رَأَيْتُنِي، وَهَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، (وَقَعْتُ سَاجِدًا) أَيْ: خَوْفًا مِنْهُ وَإِجْلَالًا، أَوْ تَوَاضُعًا لَهُ وَإِذْلَالًا، أَوِ انْبِسَاطًا لَهُ وَإِذْلَالًا. (فَيَدَعُنِي) أَيْ: يَتْرُكُنِي (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي) أَيْ: فِي السُّجُودِ، فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَسْجُدُ قَدْرَ جُمُعَةٍ مِنْ جُمَعِ الدُّنْيَا، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَاشِيَةِ مُسْلِمٍ، (فَيَقُولُ: ارْفَعْ) أَيْ: رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ (مُحَمَّدُ) أَيْ: يَا مُحَمَّدُ ; فَإِنَّكَ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ (وَقُلْ) أَيْ: مَا شِئْتَ (تُسْمَعْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يُقْبَلْ قَوْلُكَ، أَوْ قُلْ مَا أُلْهِمُكَ مِنَ الثَّنَاءِ لِتُسْمَعَ، أَيْ: تُجَابَ (وَاشْفَعْ) أَيْ: فِيمَنْ شِئْتَ (تُشَفَّعْ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: تُقْبَلْ شَفَاعَتُكَ (وَسَلْ) أَيْ: مَا تُرِيدُ مِنَ الْمَزِيدِ (تُعْطَهْ) بِهَاءِ السَّكْتِ، فِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِيرِ، أَيْ: تُعْطَ مَا تَسْأَلُ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ (قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: يُلْهِمُنِيهِ حِينَئِذٍ وَلَا أَدْرِيهِ الْآنَ (ثُمَّ أَشْفَعُ) ، قَالَ الْقَاضِي: وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ابْتَدَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ سُجُودِهِ وَحَمْدِهِ وَالْإِذْنِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ بِقَوْلِهِ: أُمَّتِي (فَيَحُدُّ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْعَكْسِ، أَيْ: فَيُعَيِّنُ (لِي حَدًّا) : وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ، أَيْ: مِقْدَارًا مُعَيَّنًا فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِي فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الشَّفَاعَةِ حَدًّا أَقِفُ عِنْدَهُ، فَلَا أَتَعَدَّاهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ:

شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالْجَمَاعَاتِ، ثُمَّ يَقُولُ: شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالْجُمُعَاتِ، ثُمَّ يَقُولُ: شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالصَّلَوَاتِ، وَمِثْلُهُ فِيمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، ثُمَّ فِيمَنْ زَنَى، وَعَلَى هَذَا لِيُرِيَهُ عُلُوَّ الشَّفَاعَةِ فِي عِظَمِ الذَّنْبِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ، (فَأَخْرُجُ) أَيْ: مِنْ دَارِ رَبِّي (فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: دَلَّ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَشْفِعِينَ هُمُ الَّذِينَ حُبِسُوا فِي الْمَوْقِفِ وَهَمُّوا وَحَزِنُوا لِذَلِكَ، فَطَلَبُوا أَنْ يُخَلِّصَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِيهَا فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَعَلَّ الْمُؤْمِنِينَ صَارُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً سَارَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَفِرْقَةً حُبِسُوا فِي الْمَحْشَرِ وَاسْتَشْفَعُوا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَلَّصَهُمْ مِمَّا فِيهِ، وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ شَرَعَ فِي شَفَاعَةِ الدَّاخِلِينَ فِي النَّارِ زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَيَحُدُّ لِي حَدًّا) إِلَى آخِرِهِ، فَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ وَهُوَ مِنْ حِلْيَةِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَانُونًا فِي فُتُوحِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ هُودٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِصَارِ. قُلْتُ: مُرَادُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ الْفِرْقَةَ الثَّانِيَةَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى خَلَاصِهَا ; لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهَا خَلَاصُ الْفِرْقَةِ الْأُولَى بِالْأَوْلَى، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُرَادَ بِالنَّارِ الْحَبْسُ وَالْكُرْبَةُ، وَمَا كَانُوا بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَدُنُوِّ الشَّمْسِ إِلَى رُءُوسِهِمْ وَحَرِّهَا وَإِلْجَامِهِمُ الْعَرَقَ، وَبِالْخُرُوجِ الْخَلَاصَ مِنْهَا. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا لَكِنَّهُ إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ أَقْرَبُ، وَإِلَى أَصْلِ الْقَضِيَّةِ أَنْسَبُ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَاللِّوَاءِ الْمَمْدُودِ عَلَى مَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وَمَحَطُّ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ هِيَ الْخَلَاصُ مِنَ الْحَبْسِ وَالْقِيَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمُحَاسَبَةِ لِلْأَنَامِ، وَأَمَّا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ وَالْفُقَرَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ شَفَاعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي إِدْخَالِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ، وَإِدْخَالِ بَعْضِهِمُ الْجَنَّةَ وَلَوِ اسْتَحَقُّوا دُخُولَ النَّارِ، وَإِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَفِي تَخْفِيفِ عَذَابِ بَعْضِهِمْ، وَفِي تَرَقِّي دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَمَا كُرِّرَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مَرَّاتٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: يَنْقَسِمُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعُصَاةِ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَكُونُ الشَّفَاعَةُ أَقْسَامًا: أَوَّلُهَا لِلْإِرَاحَةِ مِنَ الْمَوْقِفِ، وَثَانِيهَا: لِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَثَالِثُهَا: عِنْدَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَرَابِعُهَا: لِلْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ، فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْقِسْمَيْنِ وَطَوَى الْآخَرِينَ مِنَ الْبَيِّنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (ثُمَّ أَعُودُ) أَيْ: أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي (الثَّانِيَةَ) أَيِ: الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ (فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ) أَيْ: فِي دُخُولِهَا (فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ) أَيْ: بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ (فَإِذَا رَأَيْتُهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْمَكَانَ، أَوْ رَأَيْتُ رَبِّي مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْمَكَانِ، وَعَنْ سَائِرِ صِفَاتِ الْحَدَثَانِ (وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي) أَيْ: فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ (ثُمَّ يَقُولُ) : رَدًّا لِي إِلَى حَالِ الْبَقَاءِ (ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ) . قَالَ: (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ) قَالَ (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ) أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ (إِلَّا مَنْ قَدْ حَبَسَهُ

الْقُرْآنُ) أَيْ: مَنَعَهُ مِنْ خُرُوجِ النَّارِ بِأَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي دَارِ الْفُجَّارِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ، وَهُوَ قَتَادَةُ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ) أَيْ: دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى خُلُودِهِ وَهُمُ الْكُفَّارُ، وَمَعْنَى وَجَبَ أَيْ ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ، أَوْ وَجَبَ بِمُقْتَضَى إِخْبَارِهِ تَعَالَى ; فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّخَلُّفُ أَبَدًا (ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَنَسٌ، أَوْ قَتَادَةُ، تَذَكُّرًا أَوِ اسْتِشْهَادًا أَوِ اعْتِضَادًا (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ وَهُوَ أَنْسَبُ، أَوْ قَتَادَةُ وَهُوَ أَقْرَبُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ فَاعِلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بُعْدٍ، (وَهَذَا الْمَقَامُ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: (الْمَحْمُودُ الَّذِي وَعَدَهُ) أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ (نَبِيَّكُمْ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: وُعِدَ نَبِيُّكُمْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ فَاعِلَ قَالَ غَيْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَائِلَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوْجِيهُهُ أَنَّهُ وَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ: وَعَدَنِيهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ الرَّاوِيَ، وَأَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5573 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ إِلَى رَبِّكَ. فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونِّي فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي. فَيُقَالُ: انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي. فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5573 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ) أَيِ: اخْتَلَطَ وَاضْطَرَبَ (النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ) أَيْ: دَاخِلِينَ فِيهِمْ أَيْ مُقْبِلِينَ مُدْبِرِينَ مُتَحَيِّرِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ (فَيَأْتُونَ آدَمَ) - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَيَقُولُونَ اشْفَعْ) أَيْ: لَنَا (إِلَى رَبِّكَ) ; لِيَأْمُرَ بِالْحِسَابِ، ثُمَّ يُجَازِيَ بِالثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ (فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا) أَيْ: لَسْتُ كَائِنًا لِلشَّفَاعَةِ وَلَا مُخْتَصًّا بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اللَّامُ فِيهِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] الْكَشَّافُ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَاللَّامُ هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ لِهَذَا الْأَمْرِ، أَيْ: كَائِنٌ لَهُ وَمُخْتَصٌّ بِهِ، قَالَ: أَنْتَ لَهَا أَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ وَفِي قَوْلِهِ: أَنَا لَهَا، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ) أَيِ: الْزَمُوهُ فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوِ الْمَعْنَى تَشَفَّعُوا وَتَوَسَّلُوا بِهِ ; (فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ قَوْلِهِمُ اشْفَعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاخْتُصِرَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوا هَذَا الْأَمْرَ بِنَاءً عَلَى كَشْفِ الْقَضِيَّةِ عَنْهُ، (لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ) أَيْ: وَيُنَاسِبُهُ الْكَلَامُ فِي مَرَامِ هَذِهِ الْمَقَامِ (فَيَأْتُونَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ) أَيْ: فَإِنَّهُ رُوحُهُ مُسْتَطَابَةٌ، وَكَلِمَتُهُ مُسْتَجَابَةٌ (فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ) - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ: فَإِنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ (فَيَأْتُونِّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ (فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي) أَيْ: عَلَى كَلَامِهِ أَوْ عَلَى دُخُولِ دَارِهِ (فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا) أَيْ: حِينَئِذٍ (لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ) : وَهِيَ جَمْعُ حَمْدٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَحَاسِنَ جَمْعُ حَسَنٍ أَوْ جَمْعُ مَحْمَدَةٍ (وَأَخِرُّ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: أَسْقُطُ (لَهُ) أَيْ: لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِشُكْرِهِ (سَاجِدًا) : حَالٌ (فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ،

وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ، أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ (يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي) أَيِ: ارْحَمْهُمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَفَضَّلْ عَلَيْهِمْ بِالْكَرَامَةِ، وَكَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِمُ السَّابِقُونَ وَاللَّاحِقُونَ، (فَيُقَالُ: انْطَلِقْ) أَيِ: اذْهَبْ (فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ) أَيْ: وَزْنُهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِقَدْرِهَا، (مِنْ إِيمَانٍ) ، ثُمَّ الْمِثْقَالُ مَا يُوزَنُ بِهِ، مِنَ الثَّقَلِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ سَنْجٍ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَالتَّأْوِيلُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّرَّةِ، وَالْحَبَّةِ وَالْخَرْدَلَةِ، غَيْرُ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ إِيمَانٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، وَلَمَحَاتِ الْإِيقَانِ، وَلَمَعَانِ الْعِرْفَانِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ الْخَاصُّ الْقَلْبِيُّ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ الْمُقَرَّرُ اللِّسَانِيُّ لَا يَدْخُلُهَا التَّجْزِيءُ وَالتَّبْعِيضُ، وَلَا الزِّيَادَةُ وَلَا النُّقْصَانُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَحَمَلُوا مَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ اللَّفْظِيِّ وَالنِّزَاعِ الصُّورِيِّ، (فَأَنْطَلِقُ) أَيْ: فَأَذْهَبُ (فَأَفْعَلُ) أَيْ: مَا أَذِنَ لِي بِالْإِخْرَاجِ مِمَّنْ عَيَّنَ وَبَيَّنَ لِي (ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) : وَهِيَ أَقَلُّ الْأَشْيَاءِ الْمَوْزُونَةِ، وَقِيلَ: هِيَ الْهَبَاءُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ كَرُءُوسِ الْإِبَرِ، وَقِيلَ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ (أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوِ الشَّكِّ (فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ) : وَكَرَّرَ أَدْنَى ثَلَاثًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقِلَّةِ (فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: وَلَوْ فِي عُمْرِهِ مَرَّةً بَعْدَ إِقْرَارِهِ السَّابِقِ ; فَإِنَّهُ مِنْ جُلَّةِ عَمَلِهِ اللَّاحِقِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ; وَلِإِطْلَاقِ حَدِيثِ: ( «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ) ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ دُخُولَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا قُدِّرَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمِثْقَالِ شَعِيرَةٍ، ثُمَّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ أَوْ خَرْدَلٍ، غَيْرُ الْإِيمَانِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَنْ يُرَادَ بِالثَّمَرَةِ ازْدِيَادُ الْيَقِينِ، وَطُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَدِلَّةِ أَقْوَى لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَأَثْبَتُ لِقُوَّتِهِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَمَلُ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِالْعَمَلِ، وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ بَعْدَ هَذَا، يَعْنِي قَوْلَهُ: (وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ نَارٍ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ) . (قَالَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى (لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ هَذَا لَكَ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِاسْمِي وَإِجْلَالًا لِتَوْحِيدِي، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي) الْحَدِيثَ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ، وَيُحْمَلَ عَلَى حَالٍ وَمَقَامٍ آخَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا فَسَّرْنَا مَا يَخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصْدِيقِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الثَّمَرَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْإِيمَانُ مَعَ الثَّمَرَةِ مِنِ ازْدِيَادِ الْيَقِينِ أَوِ الْعَمَلِ ; فَلَا اخْتِلَافَ. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا الْمُحَقِّقِينَ: الْمَعْنَى لَيْسَ إِخْرَاجُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ النَّارِ لَكَ، أَيْ: إِلَيْكَ، يَعْنِي مُفَوَّضًا إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ لَكَ فِيهِمْ مَكَانُ شَفَاعَةٍ، أَوْ لَسْنَا نَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِكَ، بَلْ لِأَنَّا أَحِقَّاءُ بِأَنَّا نَفْعَلُهُ كَرَمًا وَتَفَضُّلًا، ثُمَّ إِنَّهُ بَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي إِخْرَاجِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ مِنَ النَّارِ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الشَّفَاعَةِ، بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى مَحْضِ الْكِرَامِ، مُوكَلٌ إِلَيْهِ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَسْعَدُ النَّاسِ إِلَخْ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ بِشَفَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ هُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنْبِيَائِهِمْ لَكِنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ، وَفِي الثَّانِي هُمْ مِنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5574 - ( «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5574 - ( «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» ") أَيْ: لَا يَشُوبُهُ شَكٌّ وَشِرْكٌ، وَلَا يَخْلِطُهُ نِفَاقٌ وَسُمْعَةٌ وَرِيَاءٌ (أَوْ نَفْسِهِ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقِيلَ: أَسْعَدُ هُنَا بِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ، وَقِيلَ: بَلْ عَلَى بَابِهِ وَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْصُلُ لَهُ سَعَادَةُ شَفَاعَتِهِ، لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُخْلِصَ أَكْثَرُ سَعَادَةً ; فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْفَعُ فِي إِرَاحَةِ الْخَلْقِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ، وَيَشْفَعُ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ كَأَبِي طَالِبٍ فِي تَخْفِيفِ عَذَابِ النَّارِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُرَادُ هُوَ أَسْعَدُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مِنَ الْإِخْلَاصِ الْبَالِغِ غَايَتُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّأْكِيدِ ذِكْرُ الْقَلْبِ ; إِذِ الْإِخْلَاصُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، فَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَسْعَدُ هُنَا بِمَعْنَى السَّعِيدِ ; إِذْ لَا يَسْعَدُ بِشَفَاعَتِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، أَوِ الْمُرَادُ بِمَنْ قَالَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّحْمَةَ، وَيَسْتَوْجِبُ بِهِ الْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ ; فَإِنَّ احْتِيَاجَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ أَكْثَرُ، وَانْتِفَاعَهُ بِهَا أَوْفَرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ حُلُولَ شَفَاعَتِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ أَثْمَرَ لِإِيمَانِهِ إِمَّا مَزِيدُ طُمَأْنِينَةٍ أَوْ عَمَلٌ، وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ الْيَقِينِ وَالْعَمَلِ ; فَيَكُونُ التَّفْضِيلُ بِحَسَبِ الْمَرَاتِبِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ خَالِصًا بِقَوْلِهِ: مِنْ قَلْبِهِ، أَيْ: خَالِصًا كَائِنًا مِنْ قَلْبِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ مَعْدِنُهُ وَمَكَانُهُ الْقَلْبُ، فَذِكْرُ الْقَلْبِ هُنَا تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] الْكَشَّافُ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا اقْتُصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ آثِمٌ، وَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الْقَلْبِ، وَالْجُمْلَةُ هِيَ الْآثِمَةُ لَا الْقَلْبُ وَحْدَهُ؟ قُلْتُ: كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ هُوَ أَنْ يُضْمِرَهَا وَلَا يَتَكَلَّمَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ آثِمًا مُفْتَرِيًا بِالْقَلْبِ أُسْنِدَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْجَارِحَةِ الَّتِي يُعْمَلُ بِهَا أَبْلَغُ، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ إِذَا أَرَدْتَ التَّوْكِيدِ: هَذَا مِمَّا أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي، وَمِمَّا سَمِعَتْهُ أُذُنِي، وَمِمَّا عَرَفَهُ قَلْبِي. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ خَالِصًا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ: أَوْ مِنْ نَفْسِهِ.

5575 - وَعَنْهُ، قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، ثُمَّ قَالَ: " أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَقُومَ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ ; فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ ". وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ وَقَالَ: فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ ". ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ ".» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5575 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: جِيءَ (بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ) أَيِ: الذِّرَاعُ (تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ) : بِالْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ، أَيْ: فَأَخَذَ بِمُقَدَّمِ أَسْنَانِهِ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الذِّرَاعِ يَعْنِي مِمَّا عَلَيْهَا (نَهْسَةً) ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ رَوَوْهُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ هَامَانَ بِالْمُعْجَمَةِ، وَالنَّهْسُ بِالْمُهْمَلَةِ الْأَخْذُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَبِالْمُعْجَمَةِ الْأَخْذُ بِالْأَضْرَاسِ (ثُمَّ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ) أَيْ: جَمِيعِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: حَيْثُ يَحْتَاجُونَ إِلَى شَفَاعَتِي ذَلِكَ الْيَوْمَ ; لِكَرَامَتِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا اضْطُرُّوا أَتَوْا إِلَيَّ طَالِبِينَ لِشَفَاعَتِي، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: ( «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» ) ، عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ سَائِلٍ قَالَ: مَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ؟ قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِأَعْنِي مِقْدَارًا، أَوْ مَرْفُوعًا بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ وَفُتِحَ يَوْمُ عَلَى الْحِكَايَةِ. (وَتَدْنُو الشَّمْسُ) أَيْ: تَقْرُبُ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ (فَيَبْلُغُ النَّاسَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: فَيَلْحَقُهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: فَيَصِلُونَ (مِنَ الْغَمِّ) أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِهِ (وَالْكَرْبِ) : وَهُوَ الْهَمُّ الشَّدِيدُ الْحَاصِلُ مِنَ الْقِيَامِ وَدُنُوِّ الشَّمْسِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْحَرُّ التَّامُّ الْمُوجِبُ لِلْعَرَقِ عَلَى وَجْهِ الْإِلْجَامِ (مَا لَا يُطِيقُونَ) أَيْ: مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ ; فَيَجْزَعُونَ وَيَفْزَعُونَ، (فَيَقُولُ النَّاسُ) أَيْ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (أَلَا تَنْظُرُونَ) أَيْ: أَلَا تَتَأَمَّلُونَ وَلَا تَتَفَكَّرُونَ، أَوَلَا تُبْصِرُونَ (مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ) ؟ أَيْ: لِيُرِيحَكُمْ مِنْ هَذَا الْهَمِّ وَالْغَمِّ (فَيَأْتُونَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَكَرَ) أَيْ:

أَبُو هُرَيْرَةَ أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ) أَيْ: بِطُولِهِ كَمَا سَبَقَ (وَقَالَ: فَأَنْطَلِقُ) أَيْ: فَأَذْهَبُ (فَآتِي) : بِالْمَدِّ أَيْ: فَأَجِيءُ (تَحْتَ الْعَرْشِ) ، قِيلَ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، أَنْ يُقَالَ: دَارُهُ الْجَنَّةُ وَالْجَنَّةُ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقِيلَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْجَنَّةِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَوْقِفِ. (فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ (وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى طَبَقَاتِ الْعُصَاةِ (فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ) أَيْ: مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ (شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ) أَيْ: لَيْسُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَابِ، بَلْ هُمْ مَخْصُوصُونَ لِلْعِنَايَةِ بِذَلِكَ الْبَابِ (ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَيِ: الْبَابَيْنِ الْمَضْرُوبَيْنِ عَلَى مَدْخَلٍ وَاحِدٍ (مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ) : بِفَتْحَتَيْنِ مَصْرُوفًا وَقَدْ لَا يُصْرَفُ، فَفِي الصِّحَاحِ هَجَرُ: اسْمُ بَلَدٍ مُذَكَّرٍ مَصْرُوفٍ، وَقَالَ شَارِحٌ: هِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ، وَقِيلَ: مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْمُولُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْمِصْرَاعَانِ الْبَابَانِ الْمُغْلَقَانِ عَلَى مَنْفَذٍ وَاحِدٍ، وَالْمِصْرَاعُ مِفْعَالٌ مِنَ الصَّرْعِ، وَهُوَ الْإِلْقَاءُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْبَابُ الْمُغْلَقُ مِصْرَاعًا لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْإِلْقَاءِ وَالدَّفْعِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5576 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5576 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ» ) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: بِجَانِبَيْهِ (يَمِينًا وَشِمَالًا) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ بِجَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ نَاحِيَتَيْهِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمَانَةَ وَالرَّحِمَ لِعَظَمَةِ شَأْنِهِمَا وَفَخَامَةِ أَمْرِهِمَا، مِمَّا يَلْزَمُ الْعِبَادَ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّهِمَا يَمْثُلَانِ هُنَالِكَ لِلْأَمِينِ وَالْخَائِنِ، وَالْوَاصِلِ وَالْقَاطِعِ، فَيُحَاجَّانِ عَنِ الْمُحِقِّ الَّذِي رَاعَاهُمَا، وَيَشْهَدَانِ عَلَى الْمُبْطِلِ الَّذِي أَضَاعَهُمَا ; لِيَتَمَيَّزَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَقِيلَ: يُرْسَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَنْ يُحَاجُّ لَهُمَا وَعَنْهُمَا، وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى رِعَايَةِ حَقِّهِمَا وَالِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْأَمَانَةُ عَلَى الْأَمَانَةِ الْعُظْمَى، وَهِيَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ صِلَتُهُمَا الْكُبْرَى، وَهِيَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] فَيَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُمَا اكْتَنَفَا جَنْبَيِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَقُطْرَيِ الْإِيمَانِ وَالِدَيْنِ الْقَوِيمِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5577 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] وَقَالَ عِيسَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي ". وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيهِ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: " إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5577 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ) : عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ: فِي سُورَتِهِ أَوْ حَاكِيًا فِي حَقِّهِ {رَبِّ إِنَّهُنَّ} [إبراهيم: 36] أَيِ: الْأَصْنَامَ {أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] أَيْ: صِرْنَ سَبَبَ ضَلَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ {فَمَنْ تَبِعَنِي} [إبراهيم: 36] أَيْ: فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ {فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]

أَيْ مِنْ أَتْبَاعِي وَأَشْيَاعِي، وَتَمَامُهُ: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] أَيْ: تَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ تَشَاءُ وَتَرْحَمُهُ بِالتَّفَضُّلِ عَلَى مَنْ تَشَاءُ، أَوْ تَغْفِرُ لِلْعَاصِي الْمُشْرِكِ بِأَنْ تَوَفِّقَهُ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي الدُّنْيَا، وَتَرْحَمَ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ الْمَثُوبَةِ فِي الْعُقْبَى. (وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: قَالَ قَوْلًا وَقِيلًا، وَقَدْ أَضَافَ إِلَى عِيسَى عَطْفًا عَلَى مَفْعُولِ تَلَا، أَيْ: تَلَا قَوْلَ اللَّهِ وَقَوْلَ عِيسَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] ، وَآخِرُهُ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] أَيْ: لَا يَغْلِبَنَّكَ شَيْءٌ ; فَإِنَّكَ الْقَوِيُّ الْقَادِرُ وَتَحْكُمُ بِمَا تَشَاءُ، فَأَنْتَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، أَوِ الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوْضِعِهَا، وَيُتْقِنُ الْأَفْعَالَ وَيُحْسِنُهَا، (فَرَفَعَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَدَيْهِ) أَيْ: كَرِيمَتَيْهِ (فَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي) أَيِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ ارْحَمْ أُمَّتِي، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ التَّكْرَارِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّأْكِيدُ، أَوْ قُصِدَ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ (وَبَكَى) ; لِأَنَّهُ تَذَكَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّفَاعَةَ الصَّادِرَةَ عَنِ الْخَلِيلِ وَرُوحِ اللَّهِ فَرَقَّ لِأُمَّتِهِ (فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ دَفْعًا لِمَا يُوهِمُهُ قَوْلُهُ: (فَاسْأَلْهُ) : بِالْهَمْزِ وَالنَّقْلِ (مَا يُبْكِيهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ) أَيْ: بِشَيْءٍ قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَبَبِ الْبُكَاءِ، وَهُوَ الْخَوْفُ لِأَجْلِ أُمَّتِهِ (فَقَالَ لَهُ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا) أَيْ: بِعَظَمَتِنَا (سَنُرْضِيكَ) أَيْ: سَنَجْعَلُكَ رَاضِيًا (فِي أُمَّتِكَ) أَيْ: فِي حَقِّهِمْ (وَلَا نَسُوءُكَ) أَيْ: وَلَا نُحْزِنُكَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، بَلْ نُنْجِيهِمْ، وَلِأَجْلِ رِضَاكَ نُرْضِيهِمْ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى تَأْكِيدٌ ; إِذْ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ سَنُرْضِيكَ نُرْضِيكَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ ; وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَرْضَى مُحَمَّدٌ وَأَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَى بِذِكْرِ الشَّفَاعَةِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنِ النَّبِيِّينَ عَنِ الْخَلِيلِ بِتَقْدِيرِ الشَّرْطِ وَالصِّيغَةِ الشَّرْطِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْنَامَ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَابَ مِنْ عِبَادَتِهَا وَتَبِعَنِي فِي التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِي فَأَقْبَلُ شَفَاعَتِي فِيهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ تَابَ لِأَنَّهُ مُصَحِّحُ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ. قُلْتُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ تَقْدِيرُ تَابَ فِي الشَّرْطِيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ عَصَانِي. قَالَ: وَعَنْ رُوحِ اللَّهِ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي (تَغْفِرْ لَهُمْ) رَاجِعٌ إِلَى مَنِ اتَّخَذَهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بَعْدَمَا تَابُوا عَنْ ذَلِكَ ; فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْتُ: لَا يُلَائِمُهُ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَصْدُرُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ التَّوْبَةِ هُنَاكَ، ثُمَّ الْجَزَاءُ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فِي كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] جَزَاءٌ لِلشَّرْطِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، ثُمَّ قَالَ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي ; لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّفَاعَتَيْنِ ; وَيُبَيِّنَ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ يَحْتَاجُ إِلَى الْبُرْهَانِ وَالتِّبْيَانِ، فَإِنَّ الْعَرْضَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالدُّعَاءِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَكَذَلِكَ طَرِيقُ التَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ بَيَانٌ لِلْمُدَّعِي وَلَا تِبْيَانٌ لِلْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: أُمَّتِي أُمَّتِي مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ شَفِّعْنِي فِي أُمَّتِي وَأَرْضِنِي فِيهَا، أَوْ أُمَّتِي ارْحَمْهُمْ وَأَرْضِنِي بِالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ، وَالْحَذْفُ لِضِيقِ الْمَقَامِ وَشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ. قُلْتُ: يَحْتَاجُ أَيْضًا هَذَا الْكَلَامُ إِلَى تَوْضِيحِ الْمَرَامِ. قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ. قُلْتُ: الدُّعَاءُ لَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ ; إِذْ لَا حُكْمَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَمَآلُ الطَّرِيقَيْنِ فِي الدُّعَاءِ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْمَقْصِدِ جَاحِدٌ. قَالَ: وَالتَّكْرِيرُ لِمَزِيدِ التَّقْرِيرِ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ وُجُوهٌ أُخَرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الدُّعَاءِ ; فَإِنَّ الْإِلْحَاحَ مِنَ الْعَبْدِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يُنَافِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. قَالَ: وَمِنْ ثَمَّ أُجِيبَ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ:

إِنَّا سَنُرْضِيكَ ; حَيْثُ أَتَى بِأَنْ وَضَمِيرِ التَّعْظِيمِ وَسِينِ التَّأْكِيدِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: لَا نَسُوءُكَ تَقْرِيرًا بَعْدَ تَقْرِيرٍ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] زِيدَ لَامُ الِابْتِدَاءِ عَلَى حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ وَلَفْظَةِ: رَبُّكَ، وَجُمِعَ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ ; فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ، وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ صِيَانَةً عَمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ، مِنْهَا: بَيَانُ كَمَالِ شَفَقَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمَّتِهِ، وَاعْتِنَائِهِ بِمَصَالِحِهِمْ، وَاهْتِمَامِهِ فِي أَمْرِهِمْ، وَمِنْهَا: الْبِشَارَةُ الْعَظِيمَةُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ، وَهَذَا مِنْ أَرْجَى الْأَحَادِيثِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمِنْهَا: بَيَانُ عِظَمِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحِكْمَةِ فِي إِرْسَالِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِسُؤَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ، وَأَنَّهُ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى ; فَيَرْضَى وَيُكْرَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ.

5578 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ، هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تَضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ ". قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " مَا تَضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ; فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ: فَمَاذَا تَنْظُرُونَ؟ يَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5578 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ» ) أَيْ: تَرَوْنَ رَبَّنَا. ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوْقِفِ حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، حَتَّى قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ أَيْضًا، ثُمَّ يُحْجَبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، وَأَقُولُ: وَفِيهِ بَحْثٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] ; وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سَيَأْتِي: (حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ; وَلِأَنَّ لَذَّةَ النَّظَرِ وَلَوْ مَرَّةً تُنْسِي كُلَّ مِحْنَةٍ وَشِدَّةٍ، بَلْ يَرْتَفِعُ بِهِ كُلُّ حَسْرَةٍ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّظَرَ لَا يُوجَدُ دَائِمًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْضًا. قَالَ: وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ فِي الْجَنَّةِ فَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَرِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِي نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثُ مَذَاهِبَ: لَا يَرَيْنَ، وَيَرَيْنَ، وَيَرَيْنَ فِي مِثْلِ أَيَّامِ الْأَعْيَادِ دُونَ غَيْرِهَا، وَفِي الْمَلَائِكَةِ قَوْلَانِ: لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَيَرَوْنَهُ. وَفِي الْجِنِّ أَيْضًا خِلَافٌ. (هَلْ تُضَارُّونَ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِهَا مَعَ تَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا. قَالَ شَيْخُنَا الْمَرْحُومُ مَوْلَانَا عَبْدُ اللَّهِ السِّنْدِيُّ: فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ ضَمَّ التَّاءِ مَعَ التَّشْدِيدِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، مَعَ احْتِمَالِ بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَكَذَلِكَ فَتْحُ التَّاءِ مَعَ التَّشْدِيدِ ; فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ، وَهُوَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَأَمَّا ضَمُّ التَّاءِ مَعَ تَخْفِيفِ الرَّاءِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لِلْمَجْهُولِ، مِنْ ضَارَهُ يَضِيرُهُ أَوْ يَضُورُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ بِمَعْنَى صَرَفَ، وَأَمَّا فَتْحُ التَّاءِ مَعَ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، فَلَا وَجْهَ لَهُ بِحَسَبِ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: هَلْ تَتَدَافَعُونَ وَتَتَزَاحَمُونَ لِيَحْصُلَ لَكُمْ ضَرَرٌ (فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ) أَيْ: وَقْتَ انْتِصَافِ النَّهَارِ (صَحْوًا) أَيْ: حِينَ لَا سَحَابَ وَلَا غُبَارَ، مِنْ أَصْحَتِ السَّمَاءُ إِذَا خَلَتْ مِنَ الْغَيْمِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الصَّحْوُ ذَهَابُ الْغَيْمِ، فَقَوْلُهُ: (لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ) ؟ تَأْكِيدٌ، وَالْمُرَادُ بِالسَّحَابِ الْحِجَابُ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبِ الرَّائِي، أَوْ مِنْ جَانِبِ الْمَرْئِيِّ، ثُمَّ أَكَّدَ ثَالِثًا وَأَظْهَرَ مِثَالًا آخَرَ بِقَوْلِهِ: (وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا) أَيْ: فِي السَّمَاءِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، أَوْ فِي جِهَةِ رُؤْيَةِ الْقَمَرِ مِنَ السَّمَاءِ (سَحَابٌ) ؟ أَيْ مَانِعٌ وَحِجَابٌ (قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أُرِيدَ

بِهِ الْمَوْقِفُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ (إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا) ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ وَتَعْلِيقٌ بِالْمُحَالِ، أَيْ: لَوْ كَانَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا مُضَارَّةٌ لَكَانَ فِي رُؤْيَتِهِ مُضَارَّةٌ، وَالتَّشْبِيهُ إِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ، وَتَحَقُّقِ الرُّؤْيَةِ مَعَ التَّنَزُّهِ عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ مِنْ نَحْوِ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ حَاصِلَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، عَلَى غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ وَنِهَايَةٍ مِنَ الْأَنْوَارِ، وَإِيمَاءٍ إِلَى تَفَاوُتِ التَّجَلِّي الرَّبَّانِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبْرَارِ، (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أَيْ: نَادَى مُنَادٍ (لِيَتَّبِعْ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ، أَيْ: لِيَعْقُبَ (كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ) : بَيَانُ غَيْرِ اللَّهِ (وَالْأَنْصَابِ) : جَمْعُ نَصْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا وَسُكُونِ الصَّادِ وَيُضَمَّانِ، وَهِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ تُنْصَبُ وَتُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَذْبَحُونَ عَلَيْهَا تَقَرُّبًا إِلَى آلِهَتِهِمْ، وَكُلُّ مَا نُصِبَ وَاعْتُقِدَ تَعْظِيمُهُ مِنَ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَهُوَ النَّصْبُ، (إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ) ; لِأَنَّ الْأَنْصَابَ وَالْأَصْنَامَ مُلْقَاةٌ فِيهَا (حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ) أَيْ: وَحْدَهُ (مِنْ بَرٍّ) أَيْ: مُطِيعٍ صَالِحٍ (وَعَاصٍ) أَيْ: فَاجِرٍ فَاسِقٍ (أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: أَتَاهُمْ أَمْرُهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ) أَيِ: الرَّبُّ (فَمَاذَا تَنْظُرُونَ) ؟ أَيْ: تَنْتَظِرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالْإِتْيَانِ عَنِ التَّجَلِّيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالتَّعْرِيفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، بَلْ قِيلَ: هُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ، وَهُوَ بِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى وَأَحَقُّ، وَقِيلَ: الْإِتْيَانُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ ; لِأَنَّ مَنْ غَابَ عَنْ غَيْرِهِ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْإِتْيَانِ، فَعَبَّرَ بِالْإِتْيَانِ عَنِ الرُّؤْيَةِ مَجَازًا، وَقِيلَ: الْإِتْيَانُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ إِتْيَانًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِتْيَانُ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَشْبَهُ عِنْدِي بِالْحَدِيثِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ: يَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْإِلَهِ لِيَخْتَبِرَهُمْ، فَإِذَا قَالَ لَهُمُ الْمَلَكُ، أَوْ هَذِهِ الصُّورَةُ: أَنَا رَبُّكُمْ، وَرَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَةِ الْمَخْلُوقِ يُنْكِرُونَهُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ رَبَّهُمْ، فَيَسْتَعِيذُونَ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَقِيلَ: الرُّؤْيَةُ حَقِيقَةٌ غَيْرَ أَنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: كُنْهُ مَعْرِفَتِهَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِتْيَانُ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ مُفَسَّرٌ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ، وَإِتْيَانِ بِأْسِهِ، وَلَفْظُ التَّنْزِيلِ مُحْتَمِلٌ لِكِلَا الْقَوْلَيْنِ، فَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ يُئَوَّلُ عَلَى إِتْيَانِ أَمْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَمَاذَا تَنْظُرُونَ؟ وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ تَنَزَّهَ عَنْ تَأْوِيلِهِ خَشْيَةَ الْخَطَأِ، مَعَ تَمَسُّكِهِ بِعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَهِيَ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الِاتِّصَافِ بِمَا تَتَحَدَّثُ بِهِ النُّفُوسُ مِنْ أَوْصَافِ الْخَالِقِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْفُتُوحِ الْعِجْلِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقَاوِيلِ الْمَشْهُورَةِ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَأْوِيلِهِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. قَالَ: إِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَخَرُّجٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّا نُنْكِرُ رُؤْيَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بَلْ نُثْبِتُهَا، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنَّا نَدْفَعُ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ، غَيْرَ أَنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ، وَلَا نَجْعَلُهُ حَرَكَةً وَانْتِقَالًا كَمَجِيءِ الْأَشْخَاصِ وَإِتْيَانِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ نُعُوتِ الْحَادِثِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي هِيَ ثَوَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَكَرَامَةٌ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، غَيْرُ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَقَامِهِمْ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ صُهَيْبٍ فِي الرُّؤْيَةِ يَعْنِي كَمَا سَيَجِيءُ فِي بَابِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَعَرُّضُهُمْ لِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَيَقَعُ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَبَيْنَ مَنْ عَبَدَ الطَّوَاغِيتَ ; لِيَتَّبِعَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَعْبُودَهُ، وَلَيْسَ نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِحَانُ إِذْ ذَاكَ بَعْدُ قَائِمًا، وَحُكْمُهُ عَلَى الْخَلْقِ جَارِيًا حَتَّى يَفْرَغَ مِنَ الْحِسَابِ، وَيَقَعَ الْجَزَاءُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ إِذَا حَقَّتْ وَاسْتَقَرَّتِ الْحَقَائِقُ أَمْرُ الْعِبَادِ قَرَارُهَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ( «إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ وَيَصِيرُ ظُهُورُ الْمُنَافِقِينَ طَبَقًا وَاحِدًا» ) . قَالَ: وَيُخَرَّجُ مَعْنَى إِتْيَانِ

اللَّهِ فِي هَذَا إِيَّاهُمْ أَنَّهُ يُشْهِدُهُمْ رُؤْيَتَهُ لِيَتَيَقَّنُوهُ ; فَيَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا كَمَا كَانَ اعْتِرَافُهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ فِي الدُّنْيَا عِلْمًا وَاسْتِدْلَالًا، وَيَكُونُ طَرِيقُ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ إِتْيَانِ الْآتِي مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا شَاهَدُوهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: فَمَاذَا تَنْظُرُونَ؟ أَيْ: قُلْنَا لَكُمْ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَبَعْضُكُمُ اتَّبَعَ مَا عَبَدَهُ، فَلِمَ أَنْتُمْ أَيْضًا لَا تَتْبَعُونَهُ؟ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (يَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ) ، فَإِنَّ لَفْظَهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ (قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ) أَيِ: الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ نَعْبُدَ مَا سِوَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: مَا اتَّبَعْنَاهَا مَا دُمْنَا فِي الدُّنْيَا (أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: فِي أَفْقَرِ أَكْوَانِنَا إِلَى النَّاسِ (وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ) أَيْ: فِي أَفْعَالِهِمْ، بَلْ قَاتَلْنَاهُمْ وَحَارَبْنَاهُمْ، وَعَادَيْنَاهُمْ وَقَاطَعْنَاهُمْ لِمَرْضَاتِكَ وَرَجَاءً لِتَجَلِّيَاتِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّا مَا اتَّبَعْنَاهُمْ حِينَئِذٍ وَالْأَمْرُ غَيْبٌ عَنَّا، وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ نَتْبَعُهُمُ الْآنَ وَقْتَ الْعِيَانِ؟ إِنَّهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَفْقَرَ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَارَقْنَا، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَجَأُوا إِلَيْهِ وَتَوَسَّلُوا بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُشْعِرِ بِالْإِخْلَاصِ إِلَى الْخَلَاصِ، يَعْنِي: رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، الَّذِينَ زَاغُوا عَنْ طَاعَتِكَ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ، وَمِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَكَذَا كَانَ دَأْبُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُقَاطِعُونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَآثَرُوا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ.

5579 - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ) . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: ( «فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرَفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ - وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ - مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيِّرًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: شُفِّعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشُفِّعَ النَّبِيُّونَ، وَشُفِّعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ، فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5579 - (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا) أَيْ: يَتَجَلَّى عَلَيْنَا بِوَجْهٍ نَعْرِفُهُ، (فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا) أَيْ: عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الصُّورَةِ وَالْكَمِّيَّةِ، وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْجِهَةِ وَأَمْثَالِهَا، (عَرَفْنَاهُ) أَيْ: حَقَّ الْمَعْرِفَةِ. قِيلَ: يُشْبِهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا مَنَعَهُمْ عَنْ تَحَقُّقِ الرُّؤْيَةِ فِي الْكَرَّةِ الْأُولَى، حَتَّى قَالُوا: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ; مِنْ أَجْلِ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ الرُّؤْيَةَ، وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ مَحْجُوبُونَ، فَلَمَّا مُيِّزُوا عَنْهُمُ ارْتَفَعَ الْحِجَابُ، فَقَالُوا عِنْدَمَا رَأَوْهُ: أَنْتَ رَبُّنَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ. (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ) أَيْ: بَيْنَ رَبِّكُمْ (آيَةٌ) أَيْ: عَلَامَةٌ (تَعْرِفُونَهُ) ؟ أَيْ: بِتِلْكَ الْآيَةِ، وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ التَّوْحِيدِ، وَثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، (يَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) : بِصِيَغِةِ الْمَجْهُولِ، وَقِيلَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، قِيلَ: مَعْنَى كَشْفِ السَّاقِ زَوَالُ الْخَوْفِ وَالْهَوْلِ، (فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ) أَيْ: مِنْ نَحْوِهَا وَجِهَتِهَا مُخْلِصًا لَا لِجِهَةِ اتِّقَاءِ الْخَلْقِ وَتَعْلِيقِ الرَّجَاءِ بِهِمْ، (إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً) أَيِ: احْتِرَاسًا مِنَ السَّيْفِ، أَوْ خَوْفًا مِنَ النَّاسِ (وَرِيَاءً) أَيْ: مُرَايَاةً وَمُسَامَعَةً لِلْخَلْقِ (إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً) ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: طَبَقَةً وَاحِدَةً أَيْ صَفْحَةً، أَيْ: صَارَ فَقَارُ ظَهْرِهِ وَاحِدَةً كَالصَّفْحَةِ، (كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ) أَيْ: سَقَطَ (عَلَى قَفَاهُ) . قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالَّذِي يُوَضِّحُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَنَّ الدُّنْيَا - وَإِنْ كَانَتْ دَارَ ابْتِلَاءٍ - فَقَدْ يَتَحَقَّقُ الْجَزَاءُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، فَكَذَا الْآخِرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ دَارَ جَزَاءٍ فَقَدْ يَقَعُ بِهَا الِابْتِلَاءُ أَيْ بِالتَّجَلِّي وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهِمَا ; بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَبْرَ هُوَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ

يَجْزِي فِيهِ الِابْتِلَاءُ، ثُمَّ قَالَ: فَلَئِنْ كَانَ مَعْنَى الْخَبَرِ هَذَا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَمَعْنَاهُ مَا أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مُمَاثَلَةٍ وَمُشَابَهَةٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا السُّجُودُ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ مَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ مِنْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ خَاصٌّ بِالدُّنْيَا، وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْمَوْقِفِ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَثَارِ ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ يَمْتَحِنُ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ كَانَ مُخْلِصًا، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى. (ثُمَّ يُضْرَبُ) أَيْ: يُجْعَلُ وَيُمَدُّ (الْجِسْرُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْجَسْرُ الَّذِي يُعْبَرُ عَلَيْهِ، وَيُكْسَرُ، وَالْمَعْنَى مَوْضِعُ الصِّرَاطِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ (عَلَى جَهَنَّمَ) أَيْ: مَتْنِهَا أَوْ وَسَطِهَا (وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ، أَيْ: تَقَعُ وَيُؤْذَنُ فِيهَا (فَيَقُولُونَ) أَيِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ ; بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ هَذَا، (اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ) : تَكْرَارُهُ مَرَّتَيْنِ الْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ، أَوْ لِلْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ كَمَا هُوَ مِنْ آدَابِهِ، وَهُوَ أَمْرُ مُخَاطَبٍ، أَيْ: يَقُولُ كُلُّ نَبِيٍّ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ أُمَّتِي مِنْ ضَرَرِ الصِّرَاطِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ سَالِمِينَ مِنْ آفَاتِهِ، آمِنِينَ مِنْ مَخَافَاتِهِ. (فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرَفِ الْعَيْنِ) ، وَفِي الْمَصَابِيحِ كَطَرْفَةِ الْعَيْنِ. قَالَ شَارِحٌ لَهُ: التَّاءُ لِلْوَحْدَةِ، يُقَالُ طَرَفَ طَرَفًا إِذَا أَطْبَقَ أَحَدَ جَفْنَيْهِ عَلَى الْآخَرِ، (وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ) أَيْ: بِحَسَبِ مَقَامَاتِهِمْ، وَعَلَى قَدْرِ حَالَاتِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَذْبَةِ وَقُوَّةِ الطَّيَرَانِ وَسُرْعَةِ الْجَرَيَانِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ) : هِيَ جَمْعُ أَجْوَادٍ، وَهُوَ جَمْعُ جَوَادٍ، وَهُوَ الْفَارِسُ السَّابِقُ الْجَيِّدُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، فَجَوَادٌ نَعْتٌ مِنْ جَادَ إِذَا أَسْرَعَ فِي السَّيْرِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَقَوْلُهُ: (وَالرِّكَابِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ عَطْفٌ عَلَى الْخَيْلِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِبِلُ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، (فَنَاجٍ) : الْفَاءُ لِلتَّفْرِيغِ أَوِ التَّفْضِيلِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْمَارَّةَ عَلَى الصِّرَاطِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ، بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعَمَلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْمَعْنَى: فَمِنْهُمْ نَاجٍ (مُسَلَّمٌ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: يَنْجُو مِنَ الْعَذَابِ وَلَا يَنَالُهُ مَكْرُوهٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، (وَمَخْدُوشٌ) أَيْ: وَمِنْهُمْ مَجْرُوحٌ (مُرْسَلٌ) أَيْ: مُخَلَّصٌ. قَالَ شَارِحٌ: أَيِ الَّذِي يُخْدَشُ بِالْكَلُّوبِ فَيُرْسَلُ إِلَى النَّارِ مِنْ عُصَاةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: مُرْسَلٌ أَيْ مُطْلَقٌ مِنَ الْقَيْدِ وَالْغَلِّ بَعْدَ أَنْ عُذِّبُوا مُدَّةً، (وَمَكْدُوسٌ) : بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: وَمِنْهُمْ مَدْفُوعٌ (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) : يُقَالُ: كُدِسَ إِذَا دُفِعَ مِنْ وَرَائِهِ فَسَقَطَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ لَهُمْ، الْمَقْضِيُّونَ بِالْخُلُودِ عَلَيْهِمْ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ) اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: (فَنَاجٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ (فَيَمُرُّ) لَا أَنَّهُ تَفْرِيعٌ لَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمُ الْمُقَدَّرُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الْمَارَّةِ عَلَى الْجِسْرِ، وَرُوِيَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ كَدَشَهُ إِذَا سَاقَهُ سَوْقًا شَدِيدًا، وَخَدَشَهُ وَجَرَحَهُ وَطَرَدَهُ، وَرُوِيَ مَكْدُوشٌ أَيْ مُلْقًى فِي نَارِ جَهَنَّمَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَكْدُوسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، قَالَ: وَرَوَاهُ الْعُذْرِيُّ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ السَّوْقُ الشَّدِيدُ، وَبِالْمُهْمَلَةِ كَوْنُ الْأَشْيَاءِ بَعْضُهَا رَاكِبَةً عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ تَكَدَّسَتِ الدَّوَابُّ فِي سَيْرِهَا إِذَا رَكِبَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَفِي النِّهَايَةِ: مَكْدُوسٌ فِي النَّارِ أَيْ: جُمِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأُلْقِيَ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَسَّمَ الْمَارَّةَ عَلَى الصِّرَاطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: قِسْمٌ مُسَلَّمٌ فَلَا يَنَالُهُ شَيْءٌ أَصْلًا، وَقِسْمٌ يُخْدَشُ ثُمَّ يُرْسَلُ فَيَخْلُصُ، وَقِسْمٌ يُكَرْدَسُ وَيُلْقَى فَيَسْقُطُ فِي جَهَنَّمَ، وَخَدَشَ الْجِلْدَ قَشَّرَهُ بِعُودٍ، (حَتَّى إِذَا خَلَصَ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ نَجَا (الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ وُقُوعِهِمْ فِيهَا، فَحَتَّى: غَايَةٌ لِمُرُورِ الْبَعْضِ

عَلَى الصِّرَاطِ وَسُقُوطِ الْبَعْضِ فِي النَّارِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: حَتَّى: غَايَةُ قَوْلِهِ مَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، أَيْ: يَبْقَى الْمَكْدُوسُ فِي النَّارِ حَتَّى يَخْلُصَ بَعْدَ الْعَذَابِ بِمِقْدَارِ ذَنْبِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ أَحَدٍ، أَوْ بِفَضْلِهِ سُبْحَانَهُ، وُضِعَ الْمُؤْمِنُونَ مَوْضِعَ الرَّاجِعِ إِلَى الْمَكْدُوسِ إِشْعَارٌ بِالْعِلِّيَّةِ وَأَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ مُنَافِيَةٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ. (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) : جَوَابُ إِذَا (مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ) : خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: (بِأَشَدَّ) خَبَرُ مَا، وَقَوْلُهُ: (مُنَاشَدَةً) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: أَشَدَّ مُطَالَبَةً وَمُنَاظَرَةً، وَقَوْلُهُ: (فِي الْحَقِّ) ظَرْفٌ لِلْمُنَاشَدَةِ، (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) : صِفَةٌ لِلْحَقِّ ; لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ، أَيْ: فِي حَقٍّ قَدْ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ لَكُمْ عَلَى خَصْمِكُمْ، أَوْ حَالٌ إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَشَدَّ، وَإِمَّا مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَ شَارِحٌ: حَالٌ مِنَ الْحَقِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً فِي حَالِ أَنْ تَبَيَّنَ لَكُمُ الْأَمْرُ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) مُتَعَلِّقٌ بِأَشَدَّ، أَيْ: بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً مِنْكُمْ، فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، وَقَوْلُهُ: (لِلَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمُنَاشَدَةٍ، وَقَوْلُهُ: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظَرْفُ أَشَدَّ، أَيْ: يُنَاشِدُونَ اللَّهَ (لِإِخْوَانِهِمْ) أَيْ: لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمْ (الَّذِينَ فِي النَّارِ) ، بِالشَّفَاعَةِ مِنَ الْجَبَّارِ الْغَفَّارِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنَاشِدُ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَاسْتِقْصَائِهِ، وَتَحْصِيلِهِ مِنْ جِهَةِ خَصْمِهِ وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِ بِأَشَدَّ مِنْكُمْ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَةِ لِإِخْوَانِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: مَعْنَاهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَكْثَرُ اجْتِهَادًا وَمُبَالَغَةً فِي طَلَبِ الْحَقِّ حِينَ ظَهَرَ لَكُمُ الْأَمْرُ الْحَقُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَلَبِ خَلَاصِ إِخْوَانِهِمُ الْعُصَاةِ فِي النَّارِ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ مُنَاشَدَتَهُمْ بِقَوْلِهِ: (يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعًا) أَيْ: مُوَافِقِينَ لَنَا (وَيُصَلُّونَ) أَيْ: صَلَاتَنَا (وَيَحُجُّونَ) أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِنَا (فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ) أَيْ: بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، (فَتُحَرَّمُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: فَتُمْنَعُ (صُوَرُهُمْ) أَيْ: تَغَيُّرُهَا (عَلَى النَّارِ) أَيْ: بِأَنْ تَأْكُلَهَا أَوْ تُسَوِّدَهَا بِحَيْثُ لَا تُعْرَفُ وُجُوهُهُمْ، فَيَعْرِفُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الشَّافِعُونَ بِسِيمَاهُمْ، (فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا) أَيْ: مِنْهَا (ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ) أَيْ: بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَرْبَابِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، (فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ) أَيْ: مِقْدَارَهُ (مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ) ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: مَعْنَى الْخَيْرِ هُنَا الْيَقِينُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا التَّجْزِيءُ بِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، أَوْ ذِكْرٍ خَفِيٍّ، أَوْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى مِسْكِينٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ، ( «فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ نِصْفَ مِثْقَالِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ» ) أَيْ: لَمْ نَتْرُكَ (فِيهَا) أَيْ: فِي جَهَنَّمَ (خَيِّرًا) أَيْ: أَهْلَ خَيْرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مَنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، مِنِ ازْدِيَادِ الْيَقِينِ، أَوِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَوَضَعَ الْخَيْرَ مَوْضِعَ الذَّاتِ، كَمَا يُوضَعُ الْعَدْلُ مَوْضِعَهُ مُبَالَغَةً، أَيْ: فَيُقَالُ رَجُلٌ عَدْلٌ، وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ مُبَالَغَةً عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ هُوَ، بَلْ هُوَ هُوَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْعَدْلَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعَادِلِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ صَاحِبُ عَدْلٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَيَقُولُ اللَّهُ: شُفِّعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشُفِّعَ النَّبِيُّونَ، وَشُفِّعَ الْمُؤْمِنُونَ،

وَلَمْ يَبْقَ) أَيْ: أَحَدٌ مِمَّنْ يَرْحَمُ عَلَى أَحَدٍ (إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أَيِ: الَّذِي رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنَّ رَحْمَةَ كُلِّ أَحَدٍ فِي جَنْبِ أَثَرِ رَحْمَتِهِ كَلَا شَيْءٍ، (فَيَقْبِضُ قَبْضَةً) أَيْ: مَا يَسَعُ الْكَفَّ (مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ أَهْلِهَا (فَيُخْرِجُ) أَيِ: اللَّهُ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ النَّارِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْقَبْضَةِ (قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ) أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ خَيْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُمُ الَّذِينَ مَعَهُمْ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِمْ بِالشَّفَاعَةِ، وَتَفَرَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ مَا تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ بِالرَّحْمَةِ لِمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا حَضَرَ لَهُ الْقَلْبُ بِالرَّحْمَةِ وَصَحِبَتْهُ نِيَّةٌ، وَعَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قُلْتُ: الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي أَنْوَارِهِ وَثَمَرَاتِهِ وَنَتَائِجِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيقَانِ، وَدَقَائِقِ الْعِرْفَانِ، وَمَرَاتِبِ الْإِحْسَانِ، وَمَنَازِلِ الْعِرْفَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَدْ عَادُوا) : الْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: صَارُوا (حُمَمًا) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ جَمْعُ حُمَمَةٍ، وَهِيَ الْفَحْمُ (فَيُلْقِيهِمْ) أَيْ: يَأْمُرُ اللَّهُ بِإِلْقَائِهِمْ، أَوْ يُلْقِيهِمْ بِلَا وَاسِطَةٍ (فِي نَهَرٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: جَدْوَلِ مَاءٍ كَائِنٍ (فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ) أَيْ: فِي أَوَائِلِهَا، وَهُوَ جَمْعُ فُوَّهَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ، وَهُوَ جَمْعٌ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَأَفْوَاهُ الْأَزِقَّةِ وَالْأَنْهَارِ أَوَائِلُهَا كَذَا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَفْوَاهُ كِنَايَةً عَنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِدُخُولِهِمْ إِيَّاهَا عَلَى أَحْسَنِ الْهَيْئَةِ. (يُقَالُ لَهُ) أَيْ: لِذَلِكَ النَّهْرِ (نَهْرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ) أَيْ: مِنَ النَّهْرِ (كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ فَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: مَحْمُولِهِ، فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ جَامِعٌ لِحُبُوبِ الْبُقُولِ الَّتِي تَنْتَشِرُ إِذَا هَاجَتْ، ثُمَّ إِذَا مُطِرَتْ مِنْ قَابِلٍ نَبَتَتْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ حَبُّ الرَّيَاحِينِ، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَنَحْوُهَا فَهِيَ الْحَبُّ لَا غَيْرُ، وَالْحَبَّةُ مِنَ الْحَبِّ فَبِالْفَتْحِ، وَحَمِيلُ السَّيْلِ هُوَ مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنْ غُثَاءٍ أَوْ طِينٍ، فَإِذَا اتَّفَقَ فِيهِ الْحِبَّةُ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى شَطِّ مَجْرَى السَّيْلِ تَنْبُتُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَهِيَ أَسْرَعُ نَابِتَةٍ نَبَاتًا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا شَبَّهَهُمْ بِهَا لِسُرْعَةِ نَبَاتِهَا وَحُسْنِهَا وَطَرَاوَتِهَا انْتَهَى، فَالتَّشْبِيهُ فِي سُرْعَةِ الظُّهُورِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ بَذْرُ الصَّحْرَاءِ مِمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ بَذْرُ الصَّحْرَاءِ وَالْجَمِيعُ: حُبَبٌ، وَأَمَّا الْحَبَّةُ بِالْفَتْحِ فَهُوَ مَا يَزْرَعُهُ النَّاسُ وَالْجَمْعُ حُبُوبٌ. (يَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ) ، فِي الْبَيَاضِ وَالصَّفَاءِ، (فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ) : جَمْعُ الْخَاتَمِ وَالْجَمْعُ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ هُنَا عَلَامَةٌ تَظْهَرُ فِي رِقَابِهِمْ ; لِيَكُونُوا مُتَمَيِّزِينَ مِنَ الْمَغْفُورِينَ بِوَاسِطَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: الْمُرَادُ بِالْخَوَاتِمِ هُنَا أَشْيَاءُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ غَيْرِهِ تُعَلَّقُ فِي أَعْنَاقِهِمْ يُعْرَفُونَ بِهَا، (فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ) أَيْ: حِينَ رَأَوْهُمْ وَظَهَرَ لَهُمْ تِلْكَ الْعَلَامَةُ (هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمْ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ) أَيْ: عَمِلُوهُ، عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَلَا خَيْرٍ) أَيْ: مِنْ عَمَلٍ بَاطِنٍ (قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ) : الْخِطَابُ لِلْعُتَقَاءِ أَيْ لَكُمْ (مَا رَأَيْتُمْ) أَيْ: مِقْدَارَ مَدِّ بَصَرِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) ، أَوْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ مِمَّا جَاءَ فِي نَظَرِكُمْ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْقُصُورِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ حَذْفٌ، أَيْ: فَيَنْظُرُونَ فِي الْجَنَّةِ إِلَى أَشْيَاءَ يَنْتَهِي مَدُّ بَصَرِهِمْ إِلَيْهَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. أَقُولُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] أَيْ: جَنَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَجَنَّةٌ بَاطِنَةٌ، أَوْ جَنَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَدْلِ وَجَنَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5580 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيَخْرُجُونَ قَدِ امْتَحَشُوا، وَعَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5580 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ: لِلْأَنْبِيَاءِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الشُّفَعَاءِ أَوْ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي

مُصَرَّحًا فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ (مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ) أَيْ: مِنَ النَّارِ. قِيلَ: بِهَذَا الْحَدِيثِ يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَهُمُ الرَّحْمَنُ بِقَبْضَةٍ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِلَا خَيْرٍ وَعَمَلٍ زَائِدٍ عَلَى الْإِيمَانِ، دُونَ الْكُفَّارِ كَمَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ هُنَاكَ ; فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، (فَيُخْرَجُونَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (قَدِ امْتَحَشُوا) : عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ أَيِ احْتَرَقُوا وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقِيلَ: بِالْمَفْعُولِ فَكَأَنَّهُ جُعِلَ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى الْمَحْشِ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ، وَهُوَ إِحْرَاقُ النَّارِ الْجِلْدَ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَحْشُ إِحْرَاقُ الْجِلْدِ وَظُهُورُ الْعَظْمِ. وَفِي الْقَامُوسِ: امْتَحَشَ احْتَرَقَ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: امْتَحَشُوا احْتَرَقُوا وَزْنًا وَمَعْنًى، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ امْتَحَشَهُ مُتَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا سُمِعَ لَازِمًا مُطَاوِعُ مَحَشَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ، وَبِهِ ضَبَطَ الْخَطَّابِيُّ وَالْهَرَوِيُّ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ شُيُوخِهِ، وَمَعْنَاهُ: احْتَرَقُوا. قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ. (وَعَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ) أَيْ: تَعُودُ أَبْدَانُهُمْ إِلَيْهِمْ (كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَوْا) أَيْ: أَلَمْ تُبْصِرُوا، أَوْ أَلَمْ تَعْلَمُوا (أَنَّهَا) أَيِ: الْحِبَّةُ (تَخْرُجُ) أَيْ: أَوَّلًا (صَفْرَاءَ) أَيْ: خَضْرَاءَ (مُلْتَوِيَةً) أَيْ: مَلْفُوفَةً مُجْتَمِعَةً، وَقِيلَ مُنْحَنِيَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5581 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ غَيْرَ كَشْفِ السَّاقِ، «وَقَالَ: يُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ وَقَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا. فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَفْعَلْ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي اللَّهَ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ; فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا، سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتُ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَسَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ أَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَنَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا، أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5581 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَذَكَرَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الَّذِي مَرَّ قُبَيْلَ ذَلِكَ (غَيْرَ كَشْفِ السَّاقِ، وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا (يُضْرَبُ الصِّرَاطُ) أَيْ: يُمَدُّ (بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ) أَيْ: بَيْنَ طَرَفَيْهَا فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ: عَلَى مَتْنِهَا وَظَهْرِهَا وَفَوْقَهَا، (فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: مَنْ يُجَاوِزُهُمْ عَنْهَا (وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ (إِلَّا الرُّسُلُ) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ وَقْتَ جَوَازِ الصِّرَاطِ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَاهُ بِهَذَا ; لِأَنَّ ثَمَّةَ مَوَاطِنَ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا النَّاسُ. قُلْتُ لِقَوْلِهِ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ مَوَاقِفَ يَتَكَلَّمُ فِيهَا عُمُومُ النَّاسِ أَيْضًا فَالْحَصْرُ يُفِيدُ التَّقْيِيدَ بِحِينَئِذٍ، (وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ) : كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ (وَفِي جَهَنَّمَ) أَيْ: فِي أَطْرَافِهَا (كَلَالِيبُ) : بِلَا صَرْفٍ ; لِكَوْنِهِ عَلَى صِيغَةِ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ جَمْعُ كُلَّابٍ بِالضَّمِّ، أَوْ كَلُّوبٍ بِالْفَتْحِ وَبِتَشْدِيدِ اللَّامِ فِيهِمَا، وَهِيَ حَدِيدَةٌ مُعْوَجَّةُ الرَّأْسِ يُخَطَّفُ بِهَا أَوْ يُعَلَّقُ عَلَيْهَا اللَّحْمُ، وَيُرْسَلُ فِي التَّنُّورِ، أَوْ عُودٌ فِي رَأْسِهِ اعْوِجَاجٌ يُجَرُّ بِهِ الْجَمْرُ. (مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ نَبْتٌ لَهُ شَوْكٌ عَظِيمٌ، وَيُقَالُ لِشَوْكِهِ حَسَكُ السَّعْدَانِ، وَيُشْبِهُ حَلَمَةَ الثَّدْيِ (لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ أَيْ: عَظَمَةَ تِلْكَ الْكَلَالِيبِ (إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ) أَيْ: تَأْخُذُ الْكَلَالِيبُ بِسُرْعَةٍ، وَالطَّاءُ مَفْتُوحَةٌ وَرُوِيَ بِكَسْرِهَا، وَالْأُولَى هِيَ الْأَوْلَى لِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرْوَى بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ: تَخْطَفُ (النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ) أَيْ: بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، أَوْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ (فَمِنْهُمْ) أَيْ: مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنَ الْعُصَاةِ، أَوْ مِنَ الْمَخْطُوفِينَ (مَنْ يُوبَقُ) أَيْ: يَهْلِكُ وَيُحْبَسُ (بِعَمَلِهِ) أَيِ: الْقَبِيحِ، مِنْ وَبِقَ أَيْ هَلَكَ وَأَوْبَقَهُ غَيْرُهُ، فَفِي النِّهَايَةِ: وَبِقَ يَبِقُ وَيَوْبَقُ فَهُوَ وَبِقٌ إِذَا هَلَكَ، وَأَوْبَقَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ مَوْبُوقٌ أَيْ مُهْلَكٌ. (وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ) : بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يُصْرَعُ أَوْ يُقْطَعُ قَطْعًا كَالْخَرْدَلَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْمُخَرْدَلُ: الْمُقَطَّعُ، تَقْطَعُهُ كَلَالِيبُ الصِّرَاطِ حَتَّى يَهْوِيَ فِي النَّارِ، يُقَالُ: خَرْدَلْتُ اللَّحْمَ

بِالدَّالِ وَالذَّالِ أَيْ فَصَّلْتَ أَعْضَاءَهُ وَقَطَّعْتَهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقِيلَ يُقَطِّعُ الْكَلَالِيبُ لَحْمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ وَيُخْرِجُ أَعْضَاءَهُ، (ثُمَّ يَنْجُو) أَيْ: مِنَ الْمَوْقِعِ فِي النَّارِ، فَالْكَافِرُ يُوبَقُ، وَالْفَاسِقُ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَتَخَلَّصُ، (حَتَّى إِذَا أَفْرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ) أَيْ: مِنَ الْحُكْمِ (بَيْنَ عِبَادِهِ) بِمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْ جَزَاءِ عَمَلِهِ (وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ) أَيْ: يُوَحِّدُهُ أَوْ يَعْرِفُهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَوْ يَعْبُدُهُ عَلَى نَعْتِ التَّوْحِيدِ، (فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ) ، قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ، (وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّارِ) أَيْ: مَنَعَهَا (أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ) أَيْ: مِنْ وُجُوهِهِمْ أَوْ جِبَاهِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ جَمِيعَ أَعْضَاءِ السُّجُودِ السَّبْعَةِ، وَهِيَ: الْجَبْهَةُ، وَالْيَدَانِ، وَالرُّكْبَتَانِ، وَالْقَدَمَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِأَثَرِ السُّجُودِ الْجَبْهَةُ خَاصَّةً، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مَا سَبَقَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: الْإِدَارَةُ الْوَجْهُ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ، (فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ) أَيْ: آثَارُ أَفْعَالِهِ مِنْ أَعْضَائِهِ (يَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ) : وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ (فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا) أَيِ: احْتَرَقُوا وَقَدْ سَبَقَ، (فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ) ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُمْ يُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ، وَلَعَلَّ الِاخْتِلَافَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، (فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) أَيْ: مَحْمُولِهِ، (وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجِنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الدُّخُولِ (مُقْبِلٌ) : خَبَرٌ آخَرُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ آخَرَ هُوَ مُقَدَّرٌ، أَيْ: مُتَوَجِّهٌ (بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ: إِلَى جِهَتِهَا (فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ) أَيْ: رُدَّهُ عَنْهَا (وَقَدْ قَشَبَنِي) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ: آذَانِي وَأَهْلَكَنِي (رِيحُهَا) ، وَقِيلَ: سَمَّنِي وَأَهْلَكَنِي مِنَ الْقَشِيبِ، وَهُوَ السُّمُّ الْمُهْلِكُ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ: أَيْ مَلَأَ خَيَاشِيمِي، وَالْقَشَبُ: السُّمُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِكُلِّ مَكْرُوهٍ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ غَيَّرَ جِلْدِي وَصُورَتِي، (وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ ذَكَاهَا بِالْقَصْرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ، أَيْ: لَهَبُهَا وَاشْتِعَالُهَا وَشِدَّةُ وَهَجِهَا، وَالْأَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مَقْصُورَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَصْرَ وَالْمَدَّ لُغَتَانِ، (فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (هَلْ عَسَيْتَ) أَيْ: يُتَوَقَّعُ مِنْكَ (إِنْ أَفْعَلْ ذَلِكَ) أَيْ: بِكَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى صَرْفِ الْوَجْهِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ عَسَى وَخَبَرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: (أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ) ؟ وَالْمَعْنَى: هَلْ يُتَوَقَّعُ مِنْكَ بَعْدَ حُصُولِ ذَلِكَ سُؤَالُ غَيْرِهِ؟ . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ يَا بَنِي آدَمَ لِمَا عُهِدَ مِنْكُمْ مِنْ رَخَاوَةِ الْوَعْدِ وَنَقْصِ الْعَهْدِ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يُقَالَ لَكُمْ: يَا هَؤُلَاءِ مَا تَرَوْنَ هَلْ يُتَوَقَّعُ مِنْكُمْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَعْنَى عَسَى رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطَبِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ، وَبَعْثِ الْمُخَاطَبِ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِهِ وَشَأْنِهِ ; لِيُنْصِفَ مِنْ نَفْسِهِ وَيُذْعِنَ لِلْحَقِّ، (فَيَقُولُ: لَا) أَيْ: لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ ذَلِكَ (وَعِزَّتِكَ) لَا أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ (فَيُعْطِي) أَيِ: الرَّجُلُ (اللَّهَ مَا شَاءَ) : مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيُعْطِي أَيْ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، أَوْ مَا أَرَادَهُ (مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ) أَيْ: قَسَمٍ يُوَثَّقُ الْعَهْدُ بِهِ وَيُؤَكَّدُ (فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ) : بِصِيغَةِ

الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (بِهِ) أَيْ بِوَجْهِهِ (عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا) أَيْ: حُسْنَهَا (وَكَثْرَةَ خَيْرِهَا سَكَتَ) ، كَذَا فِي الْأُصُولِ بِلَا عَاطِفٍ فِي الْفِعْلَيْنِ هُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا جَوَابَ إِذَا، وَالْآخِرَةُ عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلَعَلَّ تَوْجِيهَهُ أَنَّ قَوْلَهُ: رَأَى بَهْجَتَهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُهُ، وَلَفْظُ الْمَشَارِقِ: فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ) أَيْ: سُكُوتَهُ (ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ) أَيْ: إِلَى بَابِهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ حَالًا مُقَدَّرَةً (فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَلَيْسَ) أَيِ: الشَّأْنُ (قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ) أَيْ: لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَاهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالشَّقَاوَةِ هُنَا الْحِرْمَانُ أَيْ لَا أَكُونُ مَحْرُومًا (فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (فَمَا عَسَيْتَ) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: فَهَلْ عَسَيْتَ (إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ) أَيْ: غَيْرَ ذَلِكَ (فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ ذَلِكَ) : تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ: لَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لَا أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ، (فَيُعْطِي) أَيِ: الرَّجُلُ (رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ) أَيِ: اللَّهُ (إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا) : بِفَتْحِ الزَّايِ أَيْ: طِيبَ عَيْشِ مَنْ فِيهَا، وَالزَّهْرَةُ الْبَيَاضُ، وَزَهْرَةُ الدُّنْيَا نَضَارَتُهَا (وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ) أَيِ: الْحُسْنِ وَالرَّوْنَقِ (وَالسُّرُورِ) أَيِ: الْفَرَحِ بِمَا فِيهِ مِنَ الدُّرِّ وَالْقُصُورِ، وَكَثْرَةِ الْحُورِ وَالتَّنَعُّمِ بِالْحُبُورِ (فَسَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ) : بِالْفَاءِ هَاهُنَا عَلَى مَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ فَسَكَتَ كَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، فَعَلَى هَذَا جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى إِذَا رَأَى مَا رَأَى تَحَيَّرَ فَسَكَتَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] انْتَهَى. وَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَتُسَمَّى وَاوَ الثَّمَانِيَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ عِنْدَ قَوْمٍ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ جَوَابُ حَتَّى إِذَا، وَلَيْسَتْ زَائِدَةً عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اطْمَأَنُّوا نَحْوَ ذَلِكَ. (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ) : قَالَ شَارِحٌ: وَيْلَكَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا غَيْرُ إِنْ أُضِيفَ، وَإِنْ لَمْ يُضَفْ يُرْفَعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيُنْصَبُ بِإِضْمَارِ الْفِعْلِ، مِثْلَ: وَيْلٌ لِزَيْدٍ، وَوَيْلًا لِزَيْدٍ، أَيْ أَهْلَكَ اللَّهُ إِهْلَاكًا أَوْ هَلَكْتَ هَلَاكًا (مَا أَغْدَرَكَ) : بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَمَا فِيهِ لِلتَّعَجُّبِ، أَيْ: يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْكَ بِكَثْرَةِ غَدْرِكَ فِي عُهُودِكَ بِأَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ صَيَّرَكَ غَادِرًا فِي عُهُودِكَ؟ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَكَ فِي هَذَا السُّؤَالِ مَعْذُورًا؟ (أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ هَذَا الْجَوَابُ قَوْلَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ؟ قُلْتُ: كَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ بَلَى أَعْطَيْتُ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ، وَلَكِنْ تَأَمَّلْتُ فِي كَرَمِكَ وَعَفْوِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَقَوْلِكَ: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] فَوَقَفْتُ عَلَى أَنِّي لَسْتُ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ أَيِسُوا

مِنْ رَحْمَتِكَ، وَطَمِعْتُ فِي كَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ، فَسَأَلْتُ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى رَضِيَ عَنْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ فَضَحِكَ انْتَهَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ) أَيْ: يَرْضَى (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِ دُعَائِهِ وَكَلَامِهِ (فَإِذَا ضَحِكَ أَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ) : أَمْرُ مُخَاطَبٍ (فَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ) : بِضَمِّ هَمْزٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، أَيْ: مَطْلُوبُهُ وَمُتَمَنَّاهُ، (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَنَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا) ، قَالَ الْمُظْهِرُ: مِنْ فِيهِ لِلْبَيَانِ، يَعْنِي: تَمَنَّ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مَا تَشْتَهِي مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَحْوُهُ " {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] "، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَقَوْلُهُ: (أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ) بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، وَرَبُّهُ تَنَازَعَ فِيهِ الْعَامِلَانِ انْتَهَى، وَأَقْبَلَ بِمَعْنَى شَرَعَ وَيُذَكِّرُهُ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ، أَيْ: يُلْهِمُهُ وَيُلَقِّنُهُ رَبُّهُ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ فَيَتَمَنَّى، (حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ) أَيِ: انْقَطَعَتْ وَلَمْ تَبْقَ لَهُ أُمْنِيَّةٌ (قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ) أَيْ: مَسْئُولُكَ وَمَأْكُولُكَ (وَمِثْلُهُ مَعَهُ) أَيْ: تَفَضُّلًا عَلَيْكَ. (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: (قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ) أَيْ: مَا تَمَنَّيْتَ (وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ) أَيْ: فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْكَمِّيَّةِ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ التَّدَافُعُ وَيَنْدَفِعُ التَّمَانُعُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5582 - «وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ، يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلْأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ ; لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا ; فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؟ فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا ; فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا سَمِعَ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، قَالَ: أَيْ رَبِّ! أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ ; فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّا أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ فَقَالَ ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5582 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ، فَهُوَ يَمْشِي مَرَّةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْصِيلِيَّةً أَبْهَمَ أَوَّلًا دُخُولَهُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ فَصَّلَ كَيْفِيَّةَ دُخُولِهَا ثَانِيًا، وَأَنْ تَكُونَ لِتَعْقِيبِ الْأَخْبَارِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي الْوُجُودِ، فَوَقَعَتْ مَوْقِعَ ثُمَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: أُخْبِرُكُمْ عَقِيبَ هَذَا الْقَوْلِ حَالَهُ، فَهُوَ يَمْشِي قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْجَنَّةِ مَرَّةً (وَيَكْبُو) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَقِفُ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ لِوَجْهِهِ (مَرَّةً) أَيْ: أُخْرَى (وَتَسْفَعُهُ النَّارُ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: تُحْرِقُهُ (مَرَّةً) ، أَوْ يُجْعَلُ عَلَامَةً عَلَيْهِ مِنْ سَوَادِ الْوَجْهِ وَزُرْقَةِ الْعَيْنِ، يُقَالُ: سَفْعٌ مِنَ النَّارِ أَيْ عَلَامَةٌ مِنْهَا، وَسَفَعْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلْتُ عَلَيْهِ عَلَامَةً. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ تَلْفَحُهُ لَفْحًا يَسِيرًا ; فَيَتَغَيَّرُ لَوْنُ بَشْرَتِهِ، وَقِيلَ: أَيْ تُعَلِّمُهُ عَلَامَةً، أَيْ: أَثَرًا مِنْهَا، وَفِي الْقَامُوسِ: لَفَحَتِ النَّارُ بِحَرِّهَا أَحْرَقَتْ، وَسَفَعَ الشَّيْءَ كَمَنَعَهُ أَعْلَمَهُ وَوَسَمَهُ وَالسَّمُومُ وَجْهَهُ: لَفَحَهُ لَفْحًا يَسِيرًا (فَإِذَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: تَبَارَكَ) أَيْ: تَعَظَّمَ وَتَعَالَى أَوْ تَكَاثَرَ خَيْرُهُ (الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ) : هَذَا فَرَحٌ بِمَا أُعْطِيَهُ مِنَ النَّجَاةِ، وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) : جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَقْسَمَ مِنَ الْفَرَحِ أَنَّ نَجَاتَهُ نِعْمَةٌ مَا ظَفِرَ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ مَا رَأَى أَحَدًا مُشَارِكًا لَهُ فِي خُرُوجِهِ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْأَبْرَارَ فِي نَعِيمِ دَارِ الْقَرَارِ، (فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ) أَيْ: عِنْدَهَا عَيْنُ مَاءٍ ; لِمَا سَيَأْتِي، (فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ) : وَأَيْ فِي الْأَصْلِ لِنِدَاءِ الْقَرِيبِ، وَيَا: لِلْبَعِيدِ، فَتَارَةً يُنْظَرُ إِلَى قُرْبِ الرَّبِّ مِنَ الْعَبْدِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ، وَتَارَةً يُرَاعَى بُعْدُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ كَمَا قِيلَ: يَا لِلتُّرَابِ، وَرَبَّ الْأَرْبَابِ، (أَدْنِنِي) : أَمْرٌ مِنَ الْإِدْنَاءِ أَيْ: قَرِّبْنِي (مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلِأَسْتَظِلَّ) : بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى وَنَصْبِ الْفِعْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَاللَّامُ مَزِيدَةٌ، أَوْ بِالْعَكْسِ، يَعْنِي: وَالْفَاءُ مَزِيدَةٌ وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ لَا تَخْفَى، ثُمَّ فِي الْكَلَامِ تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى لِأَنْتَفِعَ، (بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا،

فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا) أَيْ: مَسْأَلَتَكَ أَوْ أُمْنِيَّتَكَ (سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا) : هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى خَبَرِ لَعَلَّ، (فَقَوْلُ: لَا يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُضَمُّ، أَيْ: يَجْعَلُهُ مَعْذُورًا. وَفِي النِّهَايَةِ: وَقَدْ يَكُونُ أَعْذَرَ بِمَعْنَى جَعَلَهُ مَوْضِعَ الْعُذْرِ، وَفِي (الْمَشَارِقِ) : عَذَرْتُهُ وَأَعْذَرْتُهُ أَيْ: قَبِلْتُ عُذْرَهُ، وَفِي (الْمِصْبَاحِ) عَذَرْتُهُ فِيمَا صَنَعَ عُذْرًا، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، رَفَعْتُ عَنْهُ اللَّوْمَ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَأَعْذَرْتُهُ بِالْأَلِفِ لُغَةٌ، وَاعْتَذَرَ أَيْ: طَلَبَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، وَاعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ أَظْهَرَ عُذْرَهُ، (لِأَنَّهُ) أَيِ: الْعَبْدُ (يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ) ، كَذَا فِي الْأُصُولِ فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ، وَفِي أَكْثَرِهَا عَلَيْهَا بِتَأْوِيلِ مَا بِنِعْمَةٍ، وَعَلَى بِمَعْنَى عَنْ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، وَقَرَّرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةٍ عَلَى مُسْلِمٍ، (فَيُدْنِيهِ مِنْهَا) أَيْ: فَيُقَرِّبُهُ مِنَ الشَّجَرَةِ (فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ) أَيْ: أُخْرَى، هِيَ (أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى) ; لِأَنَّهُ أَرَادَ لَهُ التَّرَقِّيَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، (فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا) : الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الِاسْتِرَاحَةَ بِظِلِّهَا قَبْلَ الشُّرْبِ مِنْ مَائِهَا، (لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ حَالٌ تَنَازَعَ فِيهِ أَسْتَظِلُّ وَأَشْرَبُ (فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي) : بِالرَّفْعِ أَيْ: تَطْلُبُ مِنِّي (غَيْرَهَا؟ فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ ; لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ) أَيْ: ثَالِثَةٌ (عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ هَذِهِ) : مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: هَذِهِ أَسْأَلُكَ (لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ (وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ ; لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ) ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (عَلَيْهَا) ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا، (فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا سَمِعَ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ: فِي مُصَاحَبَتِهِمْ مَعَ أَزْوَاجِهِمْ، وَمُجَاوَزَتِهِمْ مَعَ أَصْحَابِهِمْ ; فَأَرَادَ الِاسْتِئْنَاسَ بِهِمْ، أَوْ فِي غِنَائِهِمْ ; فَأَرَادَ التَّقَرُّبَ لِيَتَلَذَّذَ بِأَنْغَامِهِمْ، (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! مَا يَصْرِينِي) ؟ : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي رِوَايَةٍ مَا يَصْرِيكَ مِنْ، أَيْ: مَا يَقْطَعُ مَسْأَلَتَكَ وَيَمْنَعُكَ مِنْ سُؤَالِي؟ يُقَالُ: صَرَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعْتُهُ، وَصَرَيْتُ الْمَاءَ جَمَعْتُهُ وَحَبَسْتُهُ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: قَدْ كَرَّرْتَ سُؤَالَكَ مَعَ مُعَاهَدَتِكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ، فَمَاذَا يَقْطَعُ سُؤَالَكَ عَنِّي وَيُرْضِيكَ؟ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: صَرَى عَنْهُ شَرَّهُ أَيْ دَفَعَ، وَصَرَيْتُهُ مَنَعْتُهُ، وَصَرَيْتُ مَا بَيْنَهُمْ صَرْيًا أَيْ: فَصَلْتُ، يُقَالُ: اخْتَصَمْنَا إِلَى الْحَاكِمِ فَصَرَى مَا بَيْنَنَا أَيْ: قَطَعَ مَا بَيْنَنَا وَفَصَلَ، وَحَسُنَ أَنْ يُقَالَ: مَا يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، أَيْ: مَا الَّذِي يُرْضِيكَ حَتَّى تَتْرُكَ مُنَاشَدَتَكَ؟ وَالْمَعْنَى أَنِّي أَجَبْتُكَ إِلَى مَسْأَلَتِكَ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَأَخَذْتُ مِيثَاقَكَ أَنْ لَا

تَعُودَ وَلَا تَسْأَلَ غَيْرَهُ، وَأَنْتَ لَا تَفِي بِذَلِكَ، فَمَا الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ؟ وَيَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ، وَالْمُبْتَغَى مِنْهُ التَّوْفِيقُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَرَمِهِ وَبِرِّهِ بِعِبَادِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ مُخَاطَبَةَ الْمُسْتَعْطِفِ الْبَاعِثِ سَائِلَهُ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ. قَالَ: وَفِي كِتَابِ (الْمَصَابِيحِ) مَا يَصْرِينِي مِنْكَ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ مَا يَصْرِينِي مِنِّي، كَذَا رَوَاهُ الْمُتْقِنُونَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقَلْبِ ; فَأَصْلُهُ مَا يَصْرِيكَ مِنِّي، وَقَلَبَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْقَلْبُ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، ذَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الرِّوَايَةُ صَحِيحَةٌ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَا يَصْرِينِي مِنْكَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَرُوِيَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ مَا يَصْرِيكَ مِنِّي. قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ الصَّوَابُ، وَأَنْكَرَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَأَنَّ السَّائِلَ مَتَى انْقَطَعَ عَنِ الْمَسْئُولِ، انْقَطَعَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يُرْضِيكَ وَيَقْطَعُ السُّؤَالَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ (أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا) أَيْ: قَدْرَهَا (وَمِثْلَهَا مَعَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ! أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي) أَيْ: أَتُحِلُّنِي مَحَلَّ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ، (وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ؟ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالشَّيْءِ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُرَادُ إِنْزَالُ الْهَوَانِ عَلَيْهِ، وَإِحْلَالُهُ إِيَّاهُ مَحَلَّ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: هَذَا وَارِدٌ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا الْكَلَامُ صَادِرٌ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ ضَابِطٍ لِمَا نَالَ مِنَ السُّرُورِ بُلُوغَ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ ; فَلَمْ يَضْبُطْ لِسَانَهُ دَهْشَةً وَفَرَحًا، عَلَى عَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا مُخَاطَبَةَ الْمَخْلُوقِ، وَنَحْوُهُ حَدِيثُ التَّوْبَةِ، قَوْلُ الرَّجُلِ عِنْدَ وِجْدَانِ زَادِهِ مَعَ رَاحِلَتِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ انْتَهَى. وَتَوْضِيحُهُ، مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قِيلَ: صَدَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ كَشْفِ الْغِطَاءِ، وَاسْتِوَاءِ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ، وَمَا يَجُوزُ؟ قُلْتُ: مَثَابَةُ هَذَا الْعَالِمِ مَثَابَةُ الْعَالِمِ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْفَرَحُ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ ; فَيَزِلُّ لِسَانُهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، كَمَا أَخْطَأَ فِي الْقَوْلِ مَنْ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، ثُمَّ بَعْدَمَا وَجَدَهَا وَأَخَذَ بِخِطَامِهَا قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. (فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلَا) : بِالتَّخْفِيفِ (تَسْأَلُونِي) : بِالنُّونِ وَتَخْفِيفٍ (مِمَّ أَضْحَكُ) ؟ أَيْ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَضْحَكُ؟ (فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ فَقَالَ ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ لَهُ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ؟ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّحِكُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِي اللَّفْظِ، فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ فِي الْمَعْنَى ; وَذَلِكَ أَنَّ الضَّحِكَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُحْمَلُ عَلَى كَمَالِ الرِّضَا عَنِ الْعَبْدِ، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ مِمَّنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَرْحَمَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا ضَحِكَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِعْجَابًا وَسُرُورًا بِمَا رَأَى مِنْ كَمَالِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُذْنِبِ وَكَمَالِ الرِّضَا عَنْهُ، وَأَمَّا ضَحِكُ ابْنِ مَسْعُودٍ ; فَكَانَ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَاحَظَ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلضَّحِكَ، لَا أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَقْلِيدٍ وَحِكَايَةٍ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا، وَلَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ مِنْ قَوْلٍ عَجِيبٍ، أَوْ فِعْلٍ غَرِيبٍ. (فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَدِيرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: مِمَّ اسْتَدْرَكَهُ؟ قُلْتُ: عَنْ مُقَدَّرٍ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لَهُ: أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، فَاسْتَبْعَدَهُ الْعَبْدُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: نَعَمْ، كُنْتَ لَسْتَ أَهْلًا لَهُ، لَكِنِّي أَجْعَلُكَ أَهْلًا لَهَا، وَأُعْطِيكَ مَا اسْتَبْعَدْتَهُ ; لِأَنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَدِيرٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

5583 - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ (فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِيهِ: ( «وَيَذْكُرُهُ اللَّهُ: سَلْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ: هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَيَقُولَانِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ. قَالَ: فَيَقُولُ: مَا أَعْطَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتَ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5583 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ) أَيْ: نَحْوَ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، (إِلَّا أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا سَعِيدٍ (لَمْ يَذْكُرْ فَيَقُولُ: (يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَزَادَ) أَيْ: نَقَصَ مِنَ الْحَدِيثِ مَا سَبَقَ وَزَادَ (فِيهِ: (وَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يُعْلِمُهُ (سَلْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ: هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ) قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثُمَّ يَدْخُلُ) أَيِ: الْعَبْدُ (بَيْتَهُ) أَيْ: قَصْرَهُ (فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: زَوْجَتَاهُ بِالتَّاءِ تَثْنِيَةُ زَوْجَةٍ، هَكَذَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ، وَالْأُصُولِ، وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ، (فَتَقُولَانِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ) أَيْ: خَلَقَنَا لَكَ، وَوَضَعَ أَحْيَا مَوْضِعَ خَلَقَ إِشْعَارًا بِالْخُلُودِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي لَا مَوْتَ فِيهَا، وَإِنَّهَا دَائِمَةُ السُّرُورِ وَالْحَيَاةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] ، (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَيَقُولُ) أَيِ: الْعَبْدُ (مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ) أَيْ: لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى إِعْطَاءِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5584 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ; فَيُقَالُ لَهُمُ: الْجَهَنَّمِيُّونَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5584 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَيُصِيبَنَّ) أَيْ: وَاللَّهِ وَلَيُدْرِكَنَّ وَلَيَمَسَّنَّ (أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: سَوَادٌ مِنْ لَفْحِ النَّارِ أَوْ عَلَامَةٌ مِنْهَا، كَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَقِيلَ: إِحْرَاقٌ قَلِيلٌ (بِذُنُوبٍ) أَيْ: بِسَبَبِهَا، وَقَوْلُهُ: (أَصَابُوهَا) : صِفَةُ ذُنُوبٍ، وَقَوْلُهُ: (عُقُوبَةً) : مَفْعُولٌ لَهُ، (ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ) ، كَذَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَبَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا: بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ (فَيُقَالُ لَهُمُ: الْجَهَنَّمِيُّونَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَتِ التَّسْمِيَةُ بِهَا تَنْقِيصًا لَهُمْ، بَلِ اسْتِذْكَارًا ; لِيَزْدَادُوا فَرَحًا إِلَى فَرَحٍ، وَابْتِهَاجًا إِلَى ابْتِهَاجٍ ; وَلِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا لِكَوْنِهِمْ عُتَقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

5585 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَخْرُجُ أَقْوَامٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: " «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَتِي، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5585 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ أَقْوَامٌ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: قَوْمٌ (مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: (صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَقِيلَ بِالْفَاعِلِ (وَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ) ، وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": الْجَهَنَّمِيُّونَ، قَالَ شَارِحٌ لَهُ: الرِّوَايَةُ بِالْوَاوِ وَحَقُّهُ الْيَاءُ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولُ يُسَمَّوْنَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَهَنَّمِيُّونَ بِالْوَاوِ عَلَمًا لَهُمْ ; فَلَمْ يُغَيَّرْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. (وَفِي رِوَايَةٍ: ( «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَتِي يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ» ) .

5586 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ مِنِّي - أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي - وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ . وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ يُقَالُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5586 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا» ) أَيْ: فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ ; فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِلتَّوْضِيحِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا مِمَّا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْ حَبْسِ أَحَدٍ فِي الْمَوْقِفِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا) : حَالٌ أَوْ مَصْدَرٌ، مِنْ حَبَا الصَّبِيُّ إِذَا مَشَى عَلَى أَرْبَعٍ، أَوْ دَبَّ عَلَى اسْتِهِ، أَيْ: زَحْفًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، (فَيَقُولُ اللَّهُ) أَيْ: لَهُ (اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا) أَيْ: فَيَجِيءُ قَرِيبًا مِنْهَا، أَوْ فَيَدْخُلُهَا، (فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أَيْ: مِنْ تَصْوِيرِهِ تَعَالَى (أَنَّهَا) أَيِ: الْجَنَّةُ (مَلْأَى) : تَأْنِيثُ مَلْآنَ (فَقَوْلُ: أَيْ رَبِّ! وَجَدْتُهَا مَلْأَى) : يَعْنِي وَلَيْسَ لِي مَكَانٌ فِيهَا، (فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ) : الْمُرَادُ بِهَا جِنْسُهَا أَوْ جَنَّةٌ بِخُصُوصِهَا (فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا) أَيْ: فِي سَعَتِهَا وَقِيمَتِهَا (وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا) أَيْ: زِيَادَةً عَلَيْهَا فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، فَالْمُؤْمِنُ حَيْثُ تَرَكَ الدُّنْيَا وَهِيَ صَارَتْ كَالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ جُوزِيَ بِمِثْلِهَا عَدْلًا وَأَضْعَافِهَا فَضْلًا، (فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ أَيْ: أَتَسْتَهْزِئُ (مِنِّي - أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي -) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَأَنْتَ الْمَلِكُ) ؟ أَيْ: وَالْحَالُ أَنْتَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْجَلِيلُ. (فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ) أَيْ: ظَهَرَتْ (نَوَاجِذُهُ) أَيْ: أَوَاخِرُ أَضْرَاسِهِ، (وَكَانَ يُقَالُ) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ عِمْرَانَ، أَوْ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّوَاةِ، فَالْمَعْنَى: وَكَانَ يَقُولُ الصَّحَابَةُ أَوِ السَّلَفُ (ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5587 - «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا؟ وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَاهُنَا ". وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5587 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ» ) أَيْ: فِيهَا (وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: اعْرِضُوا) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ أَيِ: أَظْهِرُوا (عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا) أَيْ: بِمَحْوِهَا أَوْ بِإِخْفَائِهَا، (فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا) أَيْ: فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ (كَذَا وَكَذَا) ؟ أَيْ: مِنْ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ، (وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا) ؟ أَيْ: مِنْ تَرْكِ الطَّاعَاتِ، (فَيَقُولُ: نَعَمْ) أَيْ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، أَوْ بَعْدَهُمَا جَمِيعًا (لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ) أَيْ: شَيْئًا مِنْهُمَا اسْتِئْنَافٌ، أَوْ حَالٌ (وَهُوَ) أَيِ: الرَّجُلُ (مُشْفِقٌ) أَيْ: خَائِفٌ (مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ) أَيْ: تِلْكَ الْكِبَارُ (عَلَيْهِ) ; لِأَنَّ الْعَذَابَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ وَأَكْثَرُ، (فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً) : وَهُوَ إِمَّا لِكَوْنِهِ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ

حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، لَكِنْ يُشْكِلُ بِأَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فَعَلَ بَعْدَ التَّوْبَةِ ذُنُوبًا اسْتَحَقَّ بِهَا الْعِقَابَ، وَإِمَّا وَقَعَ التَّبْدِيلُ لَهُ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَطْمَعُ فِي كَرَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ (فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ) أَيْ: مِنَ الْكَبَائِرِ (لَا أَرَاهَا هَاهُنَا) أَيْ: فِي الصَّحَائِفِ، أَوْ فِي مَقَامِ التَّبْدِيلِ، (وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5588 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَرْبَعَةٌ، فَيُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! لَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا " قَالَ: (فَيُنْجِيهِ اللَّهُ مِنْهَا) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5588 - وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَرْبَعَةٌ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُمُ الْآخِرُونَ خُرُوجًا مِنْهَا (فَيُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! لَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا، قَالَ: فَيُنْجِيهِ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ أَيْ: فَيُخَلِّصُهُ (اللَّهُ مِنْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّ هَذَا الْخُرُوجَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - بَعْدَ الْوُرُودِ الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْوُرُودِ الدُّخُولُ فِيهَا، وَهِيَ خَامِدَةٌ، فَيَعْبُرُهَا الْمُؤْمِنُونَ وَتَنْهَارُ بِغَيْرِهِمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

5589 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5589 - ( «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا» ) ، فَذَكَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ وَاحِدًا وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ، وَتَرَكَ الثَّلَاثَةَ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُتَّحِدَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ وَالنَّجَاةِ مِنْهَا ; وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا خُرُوجَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَيَدْخُلُ مَرَّةً أُخْرَى ; لِهَذَا قَالَ: (حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ) ، قَالَ: وَنَحْوُهُ فِي الْأُسْلُوبِ - وَهُوَ أَنْ يُرَادَ أَشْيَاءُ وَيُذْكَرَ بَعْضُهَا وَيُتْرَكَ بَعْضُهَا - قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] : جَمَعَ الْآيَاتِ وَفَصَّلَهَا بِآيَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] ، وَثَانِيهِمَا: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] ، الْكَشَّافُ: ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَطَوَى عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهَا دَلَالَةً عَلَى تَكَاثُرِ الْآيَاتِ، وَنَحْوُهُ فِي طَيِّ الذِّكْرِ قَوْلُ جَرِيرٍ: كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فَثُلْثُهُمُ ... مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا هَذَا وَضَبْطُ قَوْلِهِ: (يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّخَلُّصِ، وَفِي أُخْرَى بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ مِنَ الْخَلَاصِ، فَفِي النِّهَايَةِ: خَلَصَ سَلِمَ وَنَجَا، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْقَنْطَرَةِ الصِّرَاطُ الْمَمْدُودُ، وَالْمَظَالِمُ جَمْعُ مَظْلَمَةٍ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ مَا تَطْلُبُهُ عِنْدَ الظَّالِمِ مِمَّا أَخَذَهُ مِنْكَ، وَقَوْلُهُ: وَنُقُّوا مِنَ التَّنْقِيَةِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لَهُذِّبُوا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّهْذِيبِ، (فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ (أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ) أَيْ:

إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى (إِلَى) عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أَيْ: إِلَيَّ، فَالْمَعْنَى: أَعْرَفُ وَأَكْثَرُ هِدَايَةً إِلَى مَنْزِلِهِ (فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا) ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُدًى لَا يَهْدِي بِالْبَاءِ، بَلْ بِاللَّامِ وَإِلَى، فَالْوَجْهُ أَنْ يَضْمَنَ مَدَى اللُّصُوقِ، أَيْ: أُلْصِقَ بِمَنْزِلِهِ هَادِيًا إِلَيْهِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [يونس: 9] أَيْ: يَهْدِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِنُورِ إِيمَانِهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، فَجَعَلَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ بَيَانًا لَهُ وَتَفْسِيرًا ; لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِسَبَبِ السَّعَادَةِ كَالْوُصُولِ إِلَيْهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5590 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ ; لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ ; لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5590 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ، وَقَوْلُهُ: (مَقْعَدَهُ) : بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَهُ، وَقَوْلُهُ: (مِنَ النَّارِ) : بَيَانٌ لِلْمَقْعَدِ (لَوْ أَسَاءَ) أَيْ: لَوْ أَسَاءَ الْعَمَلَ وَعَصَى رَبَّهُ - فَرْضًا وَتَقْدِيرًا - لَكَانَ ذَلِكَ مَقْعَدَهُ (لِيَزْدَادَ شُكْرًا) : عِلَّةٌ لِأُرِيَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِرَاءَةُ فِي الْقَبْرِ، عَلَى مَا يَشْهَدُ لَهُ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ) أَيِ: الْعَمَلَ، وَالْجَوَابُ مُقَدَّرٌ عَلَى مَا سَبَقَ، أَوْ (لَوْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّمَنِّي، (لِيَكُونَ) أَيِ: الْإِرَاءَةُ ; وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا ذُكِّرَ فِعْلُهُ (عَلَيْهِ حَسْرَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ: لِيَقَعَ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ وَمَلَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5591 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحَ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ ; فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5591 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ» ) أَيْ: أُحْضِرَ بِهِ، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ ; لِيَتَيَقَّنُوا غَايَةَ الْيَقِينِ وَالْعِرْفَانِ، (حَتَّى يُجْعَلَ) أَيْ: وَاقِفًا (بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحَ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَ لَهُمُ الْفِدَاءُ، كَمَا فُدِيَ وَلَدُ إِبْرَاهِيمَ بِالْكَبْشِ، وَفِي الْأَمْلَحِ إِشَارَةٌ إِلَى صِفَتَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ; لِأَنَّ الْأَمْلَحَ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، (ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ) أَيْ: أَبَدًا بَلْ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، (وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ) : بِضَمِّ الْحَاءِ، وَسُكُونِ الزَّايِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبِهِمَا قُرِئَ فِي السَّبْعَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يُمَثِّلُ لَهُمْ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يُؤْتَى بِكَبْشٍ لَهُ عَيْنٌ الْحَدِيثَ ; وَذَلِكَ لِيُشَاهِدُوهُ بِأَعْيُنِهِمْ، فَضْلًا أَنْ يُدْرِكُوهُ بِبَصَائِرِهِمْ، وَالْمَعَانِي إِذَا ارْتَفَعَتْ عَنْ مَدَارِكِ الْأَفْهَامِ، وَاسْتَعْلَتْ عَنْ مَعَارِجِ النُّفُوسِ لِكِبَرِ شَأْنِهَا صِيغَتْ لَهَا قَوَالِبُ مِنْ عَالَمِ الْحِسِّ ; حَتَّى تَتَصَوَّرَ فِي الْقُلُوبِ، وَتَسْتَقِرَّ فِي النُّفُوسِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَعَانِيَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ تَنْكَشِفُ لِلنَّاظِرِينَ انْكِشَافَ الصُّوَرِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَأَمَّا إِذَا أَحْبَبْنَا أَنْ نُؤَثِّرَ الْأَقْدَامَ فِي سَبِيلٍ لَا مَعْلَمَ بِهَا لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنَامِ، فَاكْتَفَيْنَا بِالْمُرُورِ عَنِ الْإِلْمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5592 - عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " حَوْضِي مِنْ عَدَنٍ إِلَى عُمَّانَ الْبَلْقَاءِ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَكْوَابُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الشُّعْثُ رُءُوسًا، الدُّنْسُ ثِيَابًا، الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ، وَلَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5592 - عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حَوْضِي مِنْ عَدَنٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، آخِرُ بِلَادِ الْيَمَنِ مِمَّا يَلِي بَحْرَ الْهِنْدِ (إِلَى عُمَّانَ الْبَلْقَاءِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مُضَافًا إِلَى الْبَلْقَاءِ بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ لَامٍ وَقَافٍ مَمْدُودَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: عُمَّانُ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَوْضِعٌ بِالشَّامِ، وَبِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مَوْضِعٌ بِالْبَحْرَيْنِ. قُلْتُ: لَكِنَّ الْأُصُولَ الْمُعْتَمَدَةَ وَالنُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى الضَّبْطِ الْأَوَّلِ ; فَهُوَ الْمُعَوَّلُ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَلْقَاءَ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ، وَعُمَّانَ مَوْضِعٌ بِهَا، وَإِنَّمَا أُضِيفَ لِقُرْبِهِ إِلَيْهَا، عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمَعْنَى: مِقْدَارُ سَعَةِ حَوْضِي فِي الْعُقْبَى، كَمَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْدِيرِ الْحَوْضِ، كَحَدِيثِ أَنَسٍ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ أَذَرُحَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ، وَحَدِيثِ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَصْوِيرُ كَثْرَةِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ، لَا تَعْيِينُ قَدْرِهِ بِعَيْنِهِ وَحَصْرِهِ، فَوَرَدَ الْحَدِيثُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُوَافِقُ إِدْرَاكَ السَّامِعِ فِي الْمَرَامِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَلِفَ لِاخْتِلَافِ مَذْهَبِ النَّاظِرِينَ، وَمَشْرَبِ الْوَارِدِينَ وَسَعَةِ صُدُورِهِمْ، وَحَذَاقَةِ بَصْرِهِمْ، كَاخْتِلَافِ سَعَةِ الْقَبْرِ وَمَنَازِلِ الْجَنَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّالِكِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْبَيَاضَ هُوَ اللَّوْنُ الْمَحْبُوبُ، خِلَافًا لِمَا اخْتَارَهُ بَعْضٌ مِنَ اللَّوْنِ الْأَصْفَرِ ; لِمُقْتَضَى طَبْعِهِ الْمَقْلُوبِ، وَأَغْرَبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى تَغْيِيرِ شَفَةِ نِسَائِهِمُ الْمُحْمَرَّةِ إِلَى لَوْنِ السَّوَادِ، مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يَغُمُّ الْفُؤَادَ، وَيُورِثُ الشَّوَادَ وَالْكُبَادَ، (وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ) أَيْ: أَلَذُّ مِنْهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ لِلْعِبَادِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى مَذَمَّةِ شَرْبَةِ الْخَمْرِ ; لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرَارَةِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا مِنَ الْفَسَادِ، (وَأَكْوَابُهُ) : جَمْعُ كُوبٍ، وَهُوَ الْكُوزُ الَّذِي لَا عُرْوَةَ لَهُ عَلَى مَا فِي الشُّرُوحِ، أَوْ لَا خُرْطُومَ لَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، (عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: عَدَدُ أَكْوَابِهِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَيْ: بِعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، (مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الشَّارِبِينَ، وَاخْتِلَافِ رَفْعِ ظَمَاءِ الْوَارِدِينَ. (أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا) أَيْ: عَلَيْهِ (فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ) أَيْ: لِتَعَطُّشِهِمُ الظَّاهِرِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَجْوَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْبَعُكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ) ، وَعَلَى قِيَاسِهِ أَظْمَؤُكُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُهُمْ، وَفِي مَعْنَاهُمْ كُلُّ مَنْ هَاجَرَ مِنْ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَاخْتَارَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى، وَالْخُمُولَ عَلَى الشُّهْرَةِ، وَزَهِدَ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي رِضَا مَوْلَاهُ. (الشُّعْثُ) : بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ أَشْعَثَ بِالْمُثَلَّثَةِ، أَيِ: الْمُتَفَرِّقُو الشَّعَرِ. (رُءُوسًا) : تَمْيِيزٌ، وَالرَّأْسُ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْوَجْهَ، فَتَدْخُلُ اللِّحْيَةُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، (الدُّنْسُ) : بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ يُسَكَّنُ، جَمْعُ الدَّنِسِ وَهُوَ الْوَسِخُ (ثِيَابًا، الَّذِينَ لَا يُنْكَحُونَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: لَا يُزَوَّجُوهُ لَوْ خَطَبُوا (الْمُتَنَعِّمَاتِ) أَيْ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيِ: الَّذِينَ لَا يَتَزَوَّجُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ ; لِتَرْكِهِمُ الشَّهَوَاتِ زُهْدَهُمْ فِي اللَّذَّاتِ (وَلَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ) : بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْأُولَى الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ سُدَّةٍ، وَهِيَ بَابُ الدَّارِ ; سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَدْخَلَ يُسَدُّ بِهِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ وَقَفُوا عَلَى بَابِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا - فَرْضًا وَتَقْدِيرًا - لَا يُفْتَحُ لَهُمْ، وَلَا يَؤْبَهُ بِهِمْ، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ فِي الضِّيَافَةِ وَأَنْوَاعِ الدَّعْوَةِ، حَيْثُ لَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى مُقَامِهِمْ وَلَمْ يَتَبَارَكُوا بِأَقْدَامِهِمْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5593 - «وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلَنَا، فَقَالَ: " مَا أَنْتُمْ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِمَّنْ يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ "، قِيلَ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: سَبْعَمِائَةٍ أَوْ ثَمَانِمِائَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5593 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي سَفَرٍ (فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ) أَيْ: أَيُّهَا الصَّحَابَةُ الْحَاضِرُونَ (جُزْءٌ) : بِالرَّفْعِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَكَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، (مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِمَّنْ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضِ) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ نَصْبُ جُزْءٍ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ بِإِعْمَالِ (مَا) وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى لَيْسَ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ، يُرِيدُ بِهِ كَثْرَةَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. (قِيلَ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ) ؟ كَمِ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَحَلُّهَا نَصْبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ: كَمْ رَجُلًا أَوْ عَدَدًا كُنْتُمْ حِينَ إِذْ كُنْتُمْ مَعَهُ فِي السَّفَرِ، (قَالَ) أَيْ: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ (سَبْعَمِائَةٍ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: كُنَّا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: كَانَ عَدَدُنَا سَبْعَمِائَةٍ (أَوْ ثَمَانِمِائَةٍ) : يُحْتَمَلُ الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي عَنْ زَيْدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (بَلْ) ، وَيُحْتَمَلُ التَّرَدُّدُ مِنْ زَيْدٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي بَابِ التَّخْمِينِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْعَدَدَ مَا بَيْنَهُمَا، لَا يَنْقُصُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثَّانِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5594 - وَعَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّهُمْ لَيَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5594 - (وَعَنْ سَمُرَةَ) أَيِ: ابْنِ جُنْدُبٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا) أَيْ: يَشْرَبُ أُمَّتُهُ مِنْ حَوْضِهِ (وَإِنَّهُمْ) أَيِ: الْأَنْبِيَاءُ (لَيَتَبَاهَوْنَ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ، أَيْ: يَتَفَاخَرُونَ (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً) أَيْ: نَاظِرِينَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أُمَّةً وَارِدَةً، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: أَيُّهُمُّ مَوْصُولَةٌ، صَدْرُ صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، كَمَا تَقُولُ: يَتَبَاهَى الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا، أَيْ: قَائِلِينَ. (وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً) ، وَلَعَلَّ هَذَا الرَّجَاءَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أُمَّتَهُ ثَمَانُونَ صَفًّا، وَبَاقِي الْأُمَمِ أَرْبَعُونَ فِي الْجَنَّةِ، عَلَى مَا سَبَقَ، ثُمَّ الْحَوْضُ عَلَى حَقِيقَتِهِ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي الْمُعْتَمَدِ فِي الْمُعْتَقَدِ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ، وَيُرَادَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْهُدَى، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: ( «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» ) فِي وَجْهٍ، وَإِلَيْهِ يُلْمِحُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . قُلْتُ: هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِي الْحَوْضَ الْحِسِّيَّ الَّذِي هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَرَاتِبِ الْوَارِدَةِ بِقَدْرِ أَخْذِ الْفَيْضِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، بَلْ أَقُولُ: لَا بُدَّ فِي التَّفَاوُتِ بَيْنَ مَاءِ كُلِّ حَوْضٍ فِي الصَّفَاءِ وَالرُّوَاءِ، وَاللَّذَّةِ وَالْكَثْرَةِ، بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِمْ مَذْهَبَهُمْ، فَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5595 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: " أَنَا فَاعِلٌ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: " اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ " قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: " فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ " قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: " فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ، فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ الْمَوَاطِنَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5595 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيِ: الشَّفَاعَةَ الْخَاصَّةَ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ، (فَقَالَ: أَنَا فَاعِلٌ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ فِي أَيِّ مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي أَحْتَاجُ إِلَى شَفَاعَتِكَ أَطْلُبُكَ لِتُخَلِّصَنِي مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ؟ فَأَجَابَ: عَلَى الصِّرَاطِ، وَعِنْدَ الْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ، أَيْ: أَفْقَرُ الْأَوْقَاتِ إِلَى شَفَاعَتِي هَذِهِ الْمَوَاطِنُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ بَابِ الْحِسَابِ: فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا) قُلْتُ: جَوَابُهُ لِعَائِشَةَ بِذَلِكَ لِئَلَّا تَتَّكِلَ عَلَى كَوْنِهَا حَرَمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَوَابُهُ لِأَنَسٍ كَيْلَا يَيْأَسَ. أَقُولُ: فِيهِ أَنَّهُ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مَحَلُّ الِاتِّكَالِ أَيْضًا، مَعَ أَنَّ الْيَأْسَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لَهَا أَيْضًا، فَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَائِبِينَ، فَلَا أَحَدَ يَذْكُرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ الْغُيَّبِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أُمَّتِهِ، فَيُئَوَّلُ بِأَنَّ [مَا] بَيْنَ عَدَمِ التَّذَكُّرِ وَبَيْنَ وُجُودِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ التَّحَضُّرِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ (قَالَ: اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي) أَيْ: فِي أَوَّلِ طَلَبِكَ

إِيَّايَ (عَلَى الصِّرَاطِ) : فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَوَّلُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ) : فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمِيزَانَ بَعْدَ الصِّرَاطِ، (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ، فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ) : بِضَمِّ هَمْزٍ وَكَسْرِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزٌ، أَيْ: لَا أَتَجَاوَزُ (هَذِهِ الثَّلَاثَ) أَيِ: الْبِقَاعَ، وَفِي نُسْخَةٍ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِالتَّاءِ أَيِ: الْمَوَاطِنَ، وَالْمَعْنَى لَا أَتَجَاوَزُهُمْ، وَلَا أَحَدَ يَفْقِدُنِي فِيهِنَّ جَمِيعِهِنَّ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَلْقَانِي فِي مَوْضِعٍ مِنْهُنَّ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَوْنُ الْحَوْضِ بَعْدَ الصِّرَاطِ ; لِمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ: أَنَّ جَمَاعَةً يُدْفَعُونَ عَنِ الْحَوْضِ بَعْدَ أَنْ كَادُوا يَرِدُونَ، وَيُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ الَّذِي يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى الْحَوْضِ يَكُونُ قَدْ نَجَا مِنَ النَّارِ، فَكَيْفَ يَرِدُ إِلَيْهَا؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُمْ يَقْرَبُونَ مِنَ الْحَوْضِ بِحَيْثُ يَرَوْنَ، فَيُدْفَعُونَ فِي النَّارِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُصُوا مِنَ الصِّرَاطِ، كَذَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5596 - «وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قِيلَ لَهُ: مَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ؟ قَالَ: " ذَلِكَ يَوْمَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ فَيَئِطُّ كَمَا يَئِطُّ الرَّحْلُ الْجَدِيدُ بِرَاكِبِهِ مِنْ تَضَايُقِهِ بِهِ، هُوَ كَسَعَةِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَيُجَاءُ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اكْسُوا خَلِيلِي ; فَيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ مِنْ رِيَاطِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أُكْسَى عَلَى أَثَرِهِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ مَقَامًا يَغْبِطُنِي الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5596 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قِيلَ لَهُ مَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ) ؟ أَيِ: الَّذِي وُعِدْتَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] (قَالَ: ذَلِكَ يَوْمٌ) بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَيَجُوزُ فَتْحُهُ، وَهُوَ خَبَرُ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، أَمَّا عَلَى الثَّانِي فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَتَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ الَّذِي أَبْلُغُ فِيهِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ (يَوْمٌ يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ) : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ حُكْمِهِ بِالْعَدْلِ فِي يَوْمِ الْفَصْلِ قَبْلَ إِظْهَارِ الْفَضْلِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى شَفَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِشْعَارًا لِمَزِيدِ فَضْلِهِ عَلَى خَلْقِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَوْلَاهُ أَوَّلًا لَمَا خُلِقَ الْأَفْلَاكُ وَلَا وُجِدَ الْأَمْلَاكُ، فَكَذَا لَوْلَاهُ آخِرًا لَوَقَعَ الْأَنَامُ فِي الْهَلَاكِ، فَهُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْآخِرُ، وَالْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ، وَهُوَ مُظْهِرُ الْكُلِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُظْهِرُ الْجَامِعِ الْمُسَمَّى بِاللَّهِ، وَقِيلَ: هَذَا طَرِيقَةُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ: مَثَّلَ التَّجَلِّي لِعِبَادِهِ بِنَعْتِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ لِلْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ، وَإِدْنَاءِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْهُمْ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ، وَكَشْفِ الْحِجَابِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِنُزُولِ السُّلْطَانِ مِنْ غُرَفِ الْقَصْرِ إِلَى صَدْرِ الدَّارِ، وَجُلُوسِهِ عَلَى كُرْسِيِّ الْمُلْكِ لِلْحُكُومَةِ وَالْفَصْلِ، وَإِقَامَةِ خَوَاصِّهِ وَأَهْلِ كَرَامَتِهِ حَوَالَيْهِ قُدَّامًا وَوَرَاءً، وَيَمِينًا وَشِمَالًا عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ لَدَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى نُزُولِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ ظُهُورُ مَمْلَكَتِهِ وَحُكْمِهِ مَحْسُوسًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّجَلِّي لَهُ بِنَعْتِ الْعَظَمَةِ وَالْإِقْبَالُ بِوَصْفِ الْكِبْرِيَاءِ فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، حَتَّى يَتَضَايَقَ مِنِ احْتِمَالِ مَا قَدْ غَشِيَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لَمْ يَبْعُدْ عَنِ الْحَقِّ ; لِمَا فِي كَشْفِ الْحِجَابِ مِنْ مَعْنَى النُّزُولِ عَنْ مَعَارِجِ الْجَلَالِ إِلَى مَدَارِجِ الْجَمَالِ، (فَيَئِطُّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ: يُصَوِّتُ الْكُرْسِيُّ (كَمَا يَئِطُّ الرَّحْلُ) : أَيِ الْإِكَافُ (الْجَدِيدُ بِرَاكِبِهِ) أَيْ: بِسَبَبِ رُكُوبِ رَاكِبِهِ إِذَا كَانَ عَظِيمًا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ مُبَالَغَةٌ وَتَصْوِيرٌ لِعَظَمَةِ التَّجَلِّي عَلَى طَرِيقِ التَّرْشِيحِ، (مِنْ تَضَايُقِهِ بِهِ) : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَيَئِطُّ، أَيْ: مِنْ عَدَمِ اتِّسَاعِ الْكُرْسِيِّ بِاللَّهِ تَعَالَى، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَقِيلَ: أَيْ مِنْ تَضَايُقِ الْكُرْسِيِّ بِمَلَائِكَةِ اللَّهِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ عَنْ كَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْحَافِّينَ حَوْلَ عَرْشِهِ، (وَهُوَ كَسَعَةِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) : بِفَتْحِ سِينِ كَسَعَةٍ وَيُكْسَرُ، وَفِي نُسْخَةٍ يَسَعُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَفِي الْقَامُوسِ: وَسِعَهُ الشَّيْءُ بِالْكَسْرِ يَسَعُهُ كَيَضَعُهُ سَعَةً كَدَعَةٍ وِدِيَةٍ. وَفِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ: وَسِعَ الشَّيْءُ الْمَكَانَ، وَمَعْنَاهُ وَسِعَهُ الْمَكَانُ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَضِقْ عَنْهُ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُرْسِيِّ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ يَسَعُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] لَكِنْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ الْأَرْضَ بِجَنْبِ السَّمَاءِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، وَكَذَا كُلُّ سَمَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهَا، وَالسَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضِينَ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، وَكَذَا هُوَ فِي جَنْبِ الْعَرْشِ» .

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ يَسَعُهُ حَالٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ جِيءَ بِهَا دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَطِيطَ الْكُرْسِيِّ لِلضِّيقِ بِسَبَبِ تَشْبِيهِهِ بِالرَّحْلِ فِي الْأَطِيطِ (وَيُجَاءُ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا) أَيْ: تَحْضُرُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ (فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ) : بِرَفْعِهِ وَنَصْبِ أَوَّلَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِعَكْسِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَعَلَى الْأَوَّلِ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (اكْسُوا) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالسِّينِ، أَمْرٌ لِلْمَلَائِكَةِ أَيْ: أَلْبِسُوا (خَلِيلِي ; فَيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ مِنْ رِيَاطِ الْجَنَّةِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رَيْطَةٍ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ الْمُلَاءَةُ الرَّقِيقَةُ اللَّيِّنَةُ مِنَ الْكَتَّانِ لَا تَكُونُ لِفْقَتَيْنِ، بَلْ تَكُونُ قِطْعَةً وَاحِدَةً، يُؤْتَى بِهِ مِنَ الشَّامِ (ثُمَّ أُكْسَى) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: أُلْبَسُ أَنَا (عَلَى أَثَرِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، أَيْ: عَقِبَ إِبْرَاهِيمَ وَبَعْدَهُ (ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ) أَيْ: قِيَامَ كَرَامَةٍ (مَقَامًا يَغْبِطُنِي) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: يَتَمَنَّاهُ (الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ) . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَجْهُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْجَوَابِ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ، لَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَوَّلًا الْوَقْتَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَوَصَفَهُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ ; لِيَكُونَ أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ وَقْعًا، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَقُومُ فِيهِ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى فَضْلِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَحِيَازَتُهُ قَصَبَ السَّبْقِ مِنْ بَيْنِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ، وَكَفَى بِالشَّاهِدِ شَهِيدًا عَلَى الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ إِذَا ضَرَبَ سُرَادِقَ الْجَلَالِ لِقَضَاءِ شُئُونِ الْعِبَادِ، وَجَمْعِ أَسَاطِينِ دَوْلَتِهِ، وَأَشْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ يَكُونُ عَنْ يَمِينِهِ هُوَ أَوْلَى أُولِي الْقُرْبِ، وَأَمَّا كُسْوَةُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى فَضْلِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَدَّمَ كُسْوَتَهُ عَلَى كُسْوَةِ مِثْلِ مَنْ يَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ ; إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ وَمَكَانَتِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل: 120] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النحل: 123] الْآيَةَ. " الْكَشَّافِ ": فِي ثُمَّ هَذِهِ مَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ وَالْإِيذَانِ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَأَجَلَّ مَا أُولِيَ فِي النِّعْمَةِ اتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِلَّتَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى تَبَاعُدِ هَذَا النَّعْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النُّعُوتِ الَّتِي أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَا. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْفَضِيلَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَدْخُلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِهِ. قُلْتُ: هَذَا غَفْلَةٌ مِنَ الْقَائِلِ عَنْ تَصْرِيحِ قَوْلِهِ: ثُمَّ أُكْسَى عَلَى أَثَرِهِ، قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا جِيءَ بِهِ كَاسِيًا، وَإِنَّمَا كُسِيَ ثَانِيًا لِلْكَرَامَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ كُسِيَ لِلْعُرْيِ. أَقُولُ: وَهَذَا مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ عُرَاةً، ثُمَّ يُخْلَقُ لَهُمْ أَكْفَانُهُمْ فَيَلْبَسُونَهَا، ثُمَّ يَخْلَعُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْخَلِيلُ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ابْتُدِئَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمَ النَّبِيِّينَ خُتِمَ بِهِ، وَأُقِيمَ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ تَرَقِّيًا عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ جَدَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَتْبُوعَهُ فِي بَعْضِ الْمَقَامِ، مَعَ مُرَاعَاةِ كَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ عُرِّيَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، حِينَ أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ فِيمَا ذَكَرْنَا امْتَازَ الْخَلِيلُ عَنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5597 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الصِّرَاطِ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5597 - (وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: عَلَامَتُهُمُ الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا، مُقْتَدِيًا كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ قَوْلُهُمْ: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الصِّرَاطِ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ) : وَالتَّكْرَارُ لِلْإِلْحَاحِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ قَوْلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَقِّهِمْ هَذَا الدُّعَاءَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَشِعَارُ أُمَّتِي إِذَا حُمِلُوا عَلَى الصِّرَاطِ: يَا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْأَوَّلُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالشُّهَدَاءِ الصَّالِحِينَ مِمَّنْ لَهُمْ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ تَبَعًا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ (وَقَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ( «شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ) ، وَرَوَى الشِّيرَازِيُّ عَنْهَا أَيْضًا: ( «شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلَمِ الْقِيَامَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ) .

5598 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5598 - ( «وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ) أَيْ: شَفَاعَتِي فِي الْعَفْوِ عَنِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ شَفَاعَتِي الَّتِي تُنَجِّي الْهَالِكِينَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَفِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ عَقْلًا، وَوُجُوبُهَا سَمْعًا ; لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] ، وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ الَّذِي بَلَغَتْ بِمَجْمُوعِهَا التَّوَاتُرَ لِصِحَّةِ الشَّفَاعَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَجْمَعَ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهَا، وَمَنَعَتِ الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهَا، وَتَعَلَّقُوا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي تَخْلِيدِ الْمُذْنِبِينَ فِي النَّارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] ، وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي الْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الشِّرْكُ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ بِكَوْنِهَا فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فَبَاطِلٌ، وَأَلْفَاظُ الْأَحَادِيثِ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ صَرِيحَةٌ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ، وَإِخْرَاجِ مَنِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ. قُلْتُ: وَمِنْهُ هَذَا الْحَدِيثُ ; حَيْثُ لَا مَعْنَى لِزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، قَالَ: وَالشَّفَاعَةُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: (أَوَّلُهَا) : مُخْتَصَّةٌ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ الْإِرَاحَةُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَتَعْجِيلِ الْحِسَابِ. (الثَّانِيَةُ) : فِي إِدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهَذِهِ أَيْضًا وَرَدَتْ فِي نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (الثَّالِثَةُ) : الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ، فَيَشْفَعُ فِيهِمْ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (الرَّابِعَةُ) : فِيمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ، فَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا وَالْمَلَائِكَةِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. (الْخَامِسَةُ) : الشَّفَاعَةُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ لِأَهْلِهَا، وَهَذِهِ لَا نُنْكِرُهَا أَيْضًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ.

5599 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5599 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ) ، وَفِي (الْجَامِعِ) : رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَفِي رِوَايَةٍ لِلْخَطِيبِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ( «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أُمَّتِي، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي الدَّرْدَاءِ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ عَلِيٍّ: ( «شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي مَنْ أَحَبَّ أَهْلَ بَيْتِي» ) . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: ( «شَفَاعَتِي مُبَاحَةٌ إِلَّا لِمَنْ سَبَّ أَصْحَابِي» ) . وَرَوَى ابْنُ مَنِيعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَبِضْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَفْظُهُ: ( «شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا» ) .

5600 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَانِي آتٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي، فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يُدْخِلَ نِصْفَ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ، وَهِيَ لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5600 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي آتٍ) أَيْ: مَلَكٌ عَظِيمٌ (مِنْ رَبِّي، فَخَيَّرَنِي) أَيْ: رَبِّي أَوِ الْمَلَكُ (بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي أُخْرَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْخَاءِ، عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ أَوِ الْمَلَكُ مَجَازًا، فَقَوْلُهُ: (نِصْفُ أُمَّتِي) : مَرْفُوعٌ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ وَمَنْصُوبٌ عَلَى الثَّالِثِ، وَقَوْلُهُ: (الْجَنَّةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ بِكُلٍّ مِنَ

الرِّوَايَاتِ (وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ) أَيْ: لِأُمَّةِ الْإِجَابَةِ ; لِاحْتِيَاجِ أَكْثَرِهِمْ إِلَيْهَا، (وَهِيَ) أَيِ: الشَّفَاعَةُ (لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ الْمُحَدِّثِ أَنَّ تَدْخُلَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، وَنِصْفٌ بِالرَّفْعِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ، بَلْ إِلَى تَعَسُّفٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: اكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَضُبِطَ بِالْحَمْرَةِ أَيْضًا تُدْخِلُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ مُخَاطِبًا، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ: نِصْفُ أُمَّتِي، وَالْقَوْلُ بِالِالْتِفَاتِ فِي مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَوْفٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي مُوسَى.

5601 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجَدْعَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5601 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجَدْعَاءِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا فِي (جَامِعِ الْأُصُولِ) وَهَكَذَا ضُبِطَ فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَأَيْضًا نُسِبَ إِلَى الْعَسْقَلَانِيِّ، لَكِنَّهُ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي (التَّقْرِيبِ) مِنْ أَنَّهُ بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ فَذَالٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ، كِنَانِيٌّ صَحَابِيٌّ، لَهُ حَدِيثَانِ، تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفَ: تَمِيمِيٌّ يُذْكَرُ فِي الْوُحْدَانِ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، وَعِدَادُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ) أَيْ: خَلِيلٍ (مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) : وَهِيَ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ، فَقِيلَ: الرَّجُلُ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقِيلَ: أَوْسٌ الْقَرَنِيُّ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا أَقْرَبُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

5602 - «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَشْفَعُ لِلْفِئَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْقَبِيلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْعُصْبَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلرَّجُلِ، حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5602 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ مِنْ أُمَّتِي) أَيْ: بَعْضُ أَفْرَادِهِمْ، مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصُّلَحَاءِ (مَنْ يَشْفَعُ لِلْفِئَامِ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهُ هَمْزٌ وَقَدْ يُبْدَلُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: فِيامٌ بِلَا هَمْزٍ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا مَعْنَاهُ الْقَبَائِلُ، كَمَا قِيلَ هُوَ فِي الْمَعْنَى جَمْعُ فِئَةٍ ; لِقَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْقَبِيلَةِ) : وَهِيَ قَوْمٌ كَثِيرٌ جَدُّهُمْ وَاحِدٌ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْعُصْبَةِ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ مِنَ الرِّجَالِ، لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جَمْعٌ وَلَوِ اثْنَانِ ; لِقَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلرَّجُلِ) : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ طَوَى مَا بَيْنَ الْعُصْبَةِ وَالرَّجُلِ ; لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ بِالْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ، (حَتَّى يَدْخُلُوا) : أَيِ الْأُمَّةُ كُلُّهُمُ (الْجَنَّةَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ يَشْفَعُ، وَالضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، أَيْ: يَنْتَهِي شَفَاعَتُهُمْ إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا جَمِيعُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (كَيْ) فَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: وَحَسَّنَهُ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ السَّيِّدُ.

5603 - «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ بِلَا حِسَابٍ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ وَهَكَذَا، فَحَثَا بِكَفَّيْهِ وَجَمَعَهُمَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَهَكَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَلَيْكَ أَنْ يُدْخِلَنَا اللَّهُ كُلَّنَا الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ شَاءَ أَنْ يُدْخِلَ خَلْقَهُ الْجَنَّةَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ فَعَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ عُمَرُ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5603 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ بِلَا حِسَابٍ) أَيْ: وَلَا كِتَابٍ وَلَا سَابِقَةِ عَذَابٍ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: زِدْنَا فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا وَعَدَكَ رَبُّكَ إِدْخَالَ أُمَّتِكَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِكَ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ

قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي» ) . كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ جِدًّا، إِلَّا أَنَّ قَيْدَ قَوْلِهِ بِشَفَاعَتِكَ لَا دَلَالَةَ لِلْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ شَفَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِنْ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ، هَذَا وَفِي قَوْلِهِ: زِدْنَا، عَلَى أَنَّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدْخَلًا وَمَجَالًا فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَفِي التَّصَرُّفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، بِحَسَبِ مَا أَوْلَاهُ مَوْلَاهُ مِنَ الرُّتْبَةِ الْجَلِيَّةِ وَالْمَزِيَّةِ الْعَلِيَّةِ. (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (وَهَكَذَا) أَيْ: وَفَعَلَ هَكَذَا، وَتَفْسِيرُ (فَحَثَا بِكَفَّيْهِ وَجَمَعَهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَهَكَذَا) أَيْ: فَحَثَا بِكَفَّيْهِ وَجَمَعَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ لِفِعْلِهِ سُبْحَانَهُ ; وَلِذَا قَالَ الشُّرَّاحُ: إِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْحَثَيَاتِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُعْطِي الْكَرِيمِ إِذَا اسْتُزِيدَ أَنْ يَحْثِيَ بِكَفَّيْهِ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ، وَرُبَّمَا نَاوَلَهُ مِلْءَ كَفٍّ، فَالْحَثْيُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ، وَإِلَّا فَلَا كَفَّ وَلَا حَثْيَ. (فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ) ! أَيِ: اتْرُكْنَا عَلَى مَا بَيَّنَ لَنَا الْحَالَ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ ; لِنَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِدَالِ، (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَلَيْكَ) أَيْ: بَأْسٌ وَضَرَرٌ (أَنْ يُدْخِلَنَا اللَّهُ كُلَّنَا) أَيْ: جَمِيعَنَا، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ فِي يُدْخِلَنَا (الْجَنَّةَ؟ قَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ) أَيْ: بَلْ أَقُولُ زِيَادَةً عَلَى مَا تَقُولُ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَقَدُ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ إِنْ شَاءَ أَنْ يُدْخِلَ خَلْقَهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَمُطِيعِهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، (بِكَفٍّ وَاحِدٍ) أَيْ: بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ (فَعَلَ) ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] قِيلَ: أَرَادَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ عَطَاءَهُ وَفَضْلَهُ، أَيْ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ الْخَلْقَ كُلَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ فَعَلَ ; فَإِنَّهَا أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، هَذَا وَالْكَفُّ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ الْيَدُ أَوْ إِلَى الْكُوعِ، وَجَعَلَهَا صَاحِبُ الْمُغْرِبِ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ السَّمَاعِيَّةِ، وَعَدَّهَا ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا فِي رِسَالَتِهِ مِمَّا يَجِبُ تَأْنِيثُهُ، فَقَوْلُهُ: بِكَفٍّ وَاحِدٍ، مُئَوَّلٌ بِعَطَاءٍ وَاحِدٍ، أَوْ بِمَقْبُوضٍ وَاحِدٍ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ عُمَرُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا لَمْ يُجِبْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ بِمِثْلِ كَلَامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لِأَنَّهُ وَجَدَ لِلْبِشَارَاتِ مَدْخَلًا عَظِيمًا فِي تَوَجُّهِ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْجِي خَلْقَهُ مِنْ عَذَابِهِ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، الْفَوْجَ بَعْدَ الْفَوْجِ، وَالْقَبِيلَ بَعْدَ الْقَبِيلِ، ثُمَّ يُخْلِصُ مَنْ قَصُرَتْ عَنْهُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَلِمَ لَهُمُ الْإِيمَانُ، وَلَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ هُوَ مِنْ بَابِ التَّضَرُّعِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ. أَقُولُ: التَّسْلِيمُ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ (الْمَصَابِيحِ) (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ.

5604 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُصَفُّ أَهْلَ النَّارِ، فَيَمُرُّ بِهِمُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: يَا فُلَانُ أَمَا تَعْرِفُنِي؟ أَنَا الَّذِي سَقَيْتُكَ شَرْبَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا الَّذِي وَهَبْتُ لَكَ وَضُوءًا، فَيَشْفَعُ لَهُ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5604 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُصَفُّ) : بِضَمٍّ وَفَتْحٍ وَتَشْدِيدٍ، أَيْ: يُجْعَلُ صَفًّا، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ أَيْ يَصِيرُ صَفًّا (أَهْلُ النَّارِ) أَيْ: مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْفُجَّارِ فِي طَرِيقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَخْيَارِ، وَالصُّلَحَاءِ الْأَبْرَارِ، عَلَى هَيْئَةِ الْمَسَاكِينِ السَّائِلِينَ فِي طَرِيقِ الْأَغْنِيَاءِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، (فَيَمُرُّ بِهِمُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ النَّارِ (يَا فُلَانُ) كِنَايَةً عَنِ اسْمِهِ (أَمَا تَعْرِفُنِي؟ أَنَا الَّذِي سَقَيْتُكَ شَرْبَةً) أَيْ: مِنْ مَاءٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا الَّذِي وَهَبْتُ لَكَ وَضُوءًا) : بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ: مَاءَ وُضُوءٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ مِنْ لُقْمَةٍ وَخِرْقَةٍ، أَوْ نَوْعِ إِعَانَةٍ، أَوْ جِنْسِ عَطِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ أَوْ جُزْئِيَّةٍ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ; فَإِنَّ الْغَرِيقَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ حَشِيشٍ. (فَيَشْفَعُ لَهُ) أَيْ: ذَلِكَ الصَّالِحُ (فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: يَصِيرُ سَبَبًا لِدُخُولِهِ إِيَّاهَا، أَوِ الْمَعْنَى: فَيُدْخِلُهُ مَعَهُ الْجَنَّةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا مَعَ الصُّلَحَاءِ وَالْمُجَالَسَةِ مَعَهُمْ وَمَحَبَّتِهِمْ ; فَإِنَّ مَحَبَّتَهُمْ زَيْنٌ فِي الدُّنْيَا وَنُورٌ فِي الْعُقْبَى. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

5605 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ اشْتَدَّ صِيَاحُهُمَا، فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى: أَخْرِجُوهُمَا. فَقَالَ لَهُمَا: لِأَيِّ شَيْءٍ اشْتَدَّ صِيَاحُكُمَا؟ قَالَا: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَرْحَمَنَا. قَالَ: (فَإِنَّ رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا فَتُلْقِيَا أَنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِنَ النَّارِ، فَيُلْقِي أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَيَقُومُ الْآخَرُ فَلَا يُلْقِي نَفْسَهُ، فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُلْقِيَ نَفْسَكَ كَمَا أَلْقَى صَاحِبُكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا بَعْدَ مَا أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا. فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: لَكَ رَجَاؤُكَ. فَيُدْخَلَانِ جَمِيعًا الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5605 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ اشْتَدَّ صِيَاحُهُمَا) أَيْ: بُكَاؤُهُمَا وَتَضَرُّعُهُمَا وَاسْتِغَاثَتُهُمَا (فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى) أَيْ: لِلزَّبَانِيَةِ (أَخْرِجُوهُمَا. فَقَالَ لَهُمَا: لِأَيِّ شَيْءٍ اشْتَدَّ صِيَاحُكُمَا) ؟ أَيْ: بَعْدَمَا كُنْتُمَا سَاكِتَيْنِ خَامِدَيْنِ (قَالَا: فَعَلْنَا ذَلِكَ) أَيِ: اشْتِدَادَ الصِّيَاحِ لِتَرْحَمَنَا أَيْ: فَإِنَّكَ تُحِبُّ مَنْ يَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ (قَالَ: فَإِنَّ رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا) أَيْ: تَذْهَبَا (فَتُلْقِيَا أَنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِنَ النَّارِ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ التَّضَرُّعِ الظَّاهِرِيِّ لَا يُفِيدُ الرَّحْمَةَ بِدُونِ الِانْقِيَادِ الْبَاطِنِيِّ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: أَنْ تَنْطَلِقَا فَتُلْقِيَا خَبَرَانِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ الِانْطِلَاقِ إِلَى النَّارِ وَإِلْقَاءُ النَّفْسِ فِيهَا عَلَى الرَّحْمَةِ؟ قُلْتُ: هَذَا مِنْ حَمْلِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا فَرَّطَا فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَقَصَّرَا فِي الْعَاجِلَةِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، أَمَرَ هُنَالِكَ بِالِامْتِثَالِ فِي إِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمَا فِي النَّارِ ; إِيذَانًا بِأَنَّ الرَّحْمَةَ إِنَّمَا هِيَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (فَيُلْقِي أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ) أَيْ: فِي النَّارِ (فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا) أَيْ: كَمَا جَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، (وَيَقُومُ الْآخَرُ) أَيْ: يَقِفُ (فَلَا يُلْقِي نَفْسَهُ، فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُلْقِيَ نَفْسَكَ) أَيْ: مِنْ إِلْقَائِهَا فِي النَّارِ (كَمَا أَلْقَى صَاحِبُكَ) ؟ أَيْ كَإِلْقَائِهِ فِيهَا؟ (فَيَقُولُ: رَبِّ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا بَعْدَمَا أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا) ، فَالْأَوَّلُ امْتَثَلَ بِالْخَوْفِ وَالْعَمَلِ، وَالثَّانِي عَمِلَ بِالْعِلْمِ وَالْأَمَلِ، (فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: لَكَ رَجَاؤُكَ) أَيْ: مُقْتَضَاهُ وَنَتِيجَتُهُ، كَمَا أَنَّ لِصَاحِبِكَ خَوْفُهُ وَعَمَلُهُ بِمُوجِبِهِ، (فَيُدْخَلَانِ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: فَيُدْخِلُهُمَا اللَّهُ (جَمِيعًا الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ) أَيِ: الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْعَمَلِ وَالْمَعْرِفَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5606 - «وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِنْهُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَحُضْرِ الْفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5606 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ) : يَرِدُ عَلَى وَزْنِ يَعِدُ مُضَارِعٌ مِنَ الْوُرُودِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، يُقَالُ: وَرَدْتُ مَاءَ كَذَا أَيْ حَضَرْتُهُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ وُرُودًا لِأَنَّ الْمَارَّةَ عَلَى الصِّرَاطِ يُشَاهِدُونَ النَّارَ وَيَحْضُرُونَهَا ; وَعَلَى هَذَا يُئَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ فِي الْعَطَشِ الشَّدِيدِ، وَإِنَّمَا مَرُّوا عَلَى الصِّرَاطِ لِلْوُصُولِ إِلَى الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوُرُودُ لُغَةً قَصْدُ الْمَاءِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هَاهُنَا الْجَوَازُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ. (ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِنْهَا) : بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ يَنْصَرِفُونَ عَنْهَا ; فَإِنَّ الصَّدْرَ إِذَا عُدِّيَ بِمِنِ اقْتَضَى الِانْصِرَافَ، وَهَذَا عَلَى الِاتِّسَاعِ وَمَعْنَاهُ النَّجَاةُ ; إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ انْصِرَافٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْمُرُورُ عَلَيْهَا، فَوُضِعَ الصَّدْرُ مَوْضِعَ النَّجَاةِ ; لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَ الصُّدُورِ وَالْوُرُودِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ فِي ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] فِي أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لَا الزَّمَانِ، بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى التَّفَاوُتَ بَيْنَ وُرُودِ النَّاسِ النَّارَ، وَبَيْنَ نَجَاةِ الْمُتَّقِينَ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّفَاوُتَ بَيْنَ وُرُودِ النَّاسِ النَّارَ، وَبَيْنَ صُدُورِهِمْ مِنْهَا، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّدُورِ الِانْصِرَافُ انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَلْقَ بَعْدَ شُرُوعِهِمْ فِي الْوُرُودِ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ خَوْفِ النَّارِ، وَمُشَاهَدَةِ رُؤْيَتِهَا، وَمُلَاصَقَةِ لَهَبِهَا وَدُخَانِهَا، وَتَعَلُّقِ شَوْكِهَا، وَأَمْثَالُهَا عَلَى مَرَاتِبَ شَتَّى فِي سُرْعَةِ الْمُجَاوَزَةِ وَإِبْطَائِهَا، (بِأَعْمَالِهِمْ) أَيْ: بِحَسَبِ مَرَاتِبِ

أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، (فَأَوَّلُهُمْ) أَيْ: أَسْبَقُهُمْ (كَلَمْحِ الْبَرْقِ) أَيِ: الْخَاطِفِ، (ثُمَّ كَالرِّيحِ) أَيِ: الْعَاصِفِ، (ثُمَّ كَحُضْرِ الْفَرَسِ) أَيْ: جَرْيِهِ وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ، (ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ) أَيْ: عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَعَدَّاهُ بِفِي لِتَمَكُّنِهِ مِنَ السَّيْرِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: أَرَادَ الرَّاكِبَ فِي مَنْزِلِهِ وَمَأْوَاهُ ; فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ السَّيْرُ وَالسُّرْعَةُ أَشَدُّ (ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ) أَيْ: عَدْوِهِ وَجَرْيِهِ، (ثُمَّ كَمَشْيِهِ) أَيْ: كَمَشْيِ الرَّجُلِ عَلَى هِينَتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5607 - «عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضِي، مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ» . قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ، بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالِيَ. وَفِي رِوَايَةٍ: ( «فِيهِ أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5607 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ أَمَامَكُمْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: قُدَّامَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (حَوْضِي) أَيْ: بَعْدَ الصِّرَاطِ (مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ) أَيْ: طَرَفَيْهِ (كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ) : بِفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ رَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَمْدُودَةٍ (وَأَذْرُحَ) : بِفَتْحِ هَمْزٍ وَسُكُونِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَضَمِّ رَاءٍ وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ غَيْرُ مُنْصَرِفَيْنِ. (قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ) أَيْ: رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ، بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ) ، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْجَرْبَاءُ قَرْيَةٌ بِجَنْبِ أَذْرُحَ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا الْوَهْمُ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ مِنْ إِسْقَاطِ زِيَادَةٍ، ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَهِيَ مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي، كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَجَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ. (وَفِي رِوَايَةٍ: فِيهِ) أَيْ: مَوْضُوعٌ فِي أَطْرَافِهِ أَوْ عَلَى جَوَانِبِهِ (أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ) أَيْ: فِي الْكَثْرَةِ وَصَفَاءِ الضِّيَاءِ (مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ) أَيْ: شَرْبَةً (لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا) أَيْ: بَعْدَ تِلْكَ الشَّرْبَةِ أَوْ بَعْدَ الشُّرْبِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (أَبَدًا) أَيْ: دَائِمًا سَرْمَدًا، فَيَكُونُ شُرْبُهُ الْأَشْرِبَةَ فِي الْجَنَّةِ بَعْدَهَا بِنَاءً عَلَى التَّلَذُّذِ وَالتَّفَكُّهِ وَالتَّكَيُّفِ بِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ بِلَفْظِ: ( «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ» ) .

5608 - 5609 - «وَعَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ، حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ؟ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ " قَالَ: " فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ، فَيَقُولُ عِيسَى: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ ". قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: (أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا. وَقَالَ: " وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ، تَأْخُذُ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ ". وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعِينَ خَرِيفًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5608 - 5609 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ) : الْمُرَادُ بِهِمُ الْخَلْقُ، وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِلتَّشْرِيفِ ; فَإِنَّهُمْ عُمْدَةُ أَرْبَابِ التَّكْلِيفِ (فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ) أَيِ: الْخَوَاصُّ مِنْ عُمُومِ النَّاسِ (حَتَّى تُزْلَفَ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِالْفَاءِ أَيْ: تُقَرَّبَ (لَهُمُ الْجَنَّةُ) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ - عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 13 - 14] ، (فَيَأْتُونَ) أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ (آدَمَ) ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ بَعْضُهُمُ الْخَوَاصُّ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ (فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ) أَيِ: اطْلُبْ فَتْحَ بَابِهَا حَتَّى نَدْخُلَهَا، (فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ) ؟ أَيْ: وَصَاحِبُ الْخَطِيئَةِ لَا يَصْلُحُ لِلشَّفَاعَةِ، بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ بِنَفْسِهِ إِلَى الضَّرَاعَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ) أَيْ: ذَلِكَ الْمَقَامِ الَّذِي أَرَدْتُمُوهُ مِنَ الشَّفَاعَةِ

الْكُبْرَى، وَالْمَرْتَبَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الْمَخْصُوصِ لِصَاحِبِ اللِّوَاءِ الْمَمْدُودِ (اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ) أَيْ: فَإِنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الرُّسُلِ، وَجَدُّ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ وَاعْرِضُوا أَمْرَكُمْ عَلَيْهِ (قَالَ: " فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ) أَيِ: الْمَقَامِ الْمَوْعُودِ وَالْمَرَامِ الْمَشْهُودِ (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) : بِالْفَتْحِ فِيهِمَا عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُصَحَّحَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَشْهُورُ الْفَتْحُ فِيهِمَا بِلَا تَنْوِينٍ، وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِنَاؤُهَا عَلَى الضَّمِّ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الصَّوَابُ الضَّمُّ فِيهِمَا ; لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنْ صَحَّ الْفَتْحُ قَبْلُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْفَتْحُ أَصَحُّ، وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ مُرَكَّبَةً كَشَذَرَ مَذَرَ، وَشَعَرَ بَغَرَ، فَبِنَاؤُهُمَا عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ وَرَدَ مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا جَازَ ذَلِكَ. (اعْمِدُوا) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ: اقْصِدُوا (إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا) أَيْ: بِلَا وَاسِطَةِ كِتَابٍ وَمِنْ غَيْرِ وَرَاءِ حِجَابٍ. قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: وَهَذَا وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، أَيْ: لَسْتُ بِصَدَدِ تِلْكَ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَكَارِمَ الَّتِي أُعْطِيتُهَا كَانَتْ بِوَاسِطَةِ سِفَارَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ الْكَلَامُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا كُرِّرَ لِأَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَصَلَ لَهُ السَّمَاعُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَحَصَلَ لَهُ الرُّؤْيَةُ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا وَرَاءَ مُوسَى الَّذِي هُوَ وَرَاءَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُمَا وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْمَدْحِ (فَيَقُولُ عِيسَى: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ) ; وَحِينَئِذٍ يَنْحَصِرُ الْأَمْرُ فِي نَبِيِّنَا خَاتَمِ الرُّسُلِ وَمُقَدَّمِ الْكُلِّ، (فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِيهِ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّجْرِيدِ، (فَيَقُومُ) أَيْ: عَنْ يَمِينِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، وَيَسْتَأْذِنُ بِالشَّفَاعَةِ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ ; لِإِزَالَةِ كَرْبِ الْمَوْقِفِ وَعُمُومِ الْأَحْزَانِ (فَيُؤْذَنُ لَهُ) أَيْ: فَيَسْجُدُ، عَلَى مَا سَبَقَ، (وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ) أَيْ: مُصَوَّرَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، (فَتَقُومَانِ) : بِالتَّأْنِيثِ عَلَى تَغْلِيبِ الْأَمَانَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَبِالتَّذْكِيرِ عَلَى تَغْلِيبِ الرَّحِمِ الْمُذَكَّرِ، أَيْ: فَيَقِفَانِ، أَوْ فَيَحْضُرَانِ (جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ) : بِالْفَتَحَاتِ أَيْ: طَرَفَيْهِ (يَمِينًا وَشِمَالًا) : كَالْبَيَانِ لِمَا قَبْلَهُ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ، (فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ) : الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ الْعَامَّةِ إِلَى الْخِطَابِ لِلْخَاصَّةِ (كَالْبَرْقِ) أَيْ: فِي سُرْعَةِ السَّيْرِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: أَفْدِيكَ بِهِمَا (أَيُّ شَيْءٍ) : اسْتِفْهَامٌ (كَمَرِّ الْبَرْقِ) ؟ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ شَبِيهٌ بِالْبَرْقِ، وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ تُشَبِّهُهُ بِالْبَرْقِ. (قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ) أَيْ: سَرِيعًا (وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ) ، ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّتْمِيمِ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي سُرْعَةِ السَّيْرِ، كَذَا حَرَّرَهُ الشُّرَّاحُ، وَعِنْدِي أَنَّ التَّشْبِيهَ مُرَكَّبٌ مِنْ سُرْعَةِ الْمُرُورِ، وَمِنْ ضِيَاءِ الظُّهُورِ ; لِيَكُونَ نُورًا عَلَى نُورٍ ; وَلِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ، وَإِلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَإِلَى الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَأَيْضًا الْمُرُورُ مَذْكُورٌ فِي كَلَامِ السَّائِلِ، وَلَا بُدَّ فِي الْجَوَابِ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَيِ الْمُرَادُ بِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْأَصْفِيَاءُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ أَرْبَابُ الْجَذَبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. (ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ) أَيْ: جَرْيِهِمْ، وَالرِّجَالُ إِمَّا جَمْعُ رَجُلٍ، أَوْ جَمْعُ رَاجِلٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ أَيْ: مَا الَّذِي يُشْبِهُهُ مِنَ الْمَارِّينَ بِمَرِّ الْبَرْقِ، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ، بَيَانٌ لِمَا شَبَّهُوا بِهِ بِالْبَرْقِ، وَهُوَ سُرْعَةُ اللَّمَعَانِ، يَعْنِي سُرْعَةَ مُرُورِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ كَسُرْعَةِ لَمَعَانِ الْبَرْقِ، كَأَنَّهُ - أَيِ السَّائِلَ - اسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْإِنْسَانِ مَا يُشْبِهُ الْبَرْقَ فِي السُّرْعَةِ ; فَسَأَلَ عَنْ أَمْرٍ آخَرَ هُوَ الْمُشَبَّهُ، فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَمْنَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ، أَلَا

تَرَى كَيْفَ أَسْنَدَ الْجَرَيَانَ إِلَى الْأَعْمَالِ فِي قَوْلِهِ: (تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ) أَيْ: تَجْرِي وَهِيَ مُلْتَبِسَةٌ بِهِمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: تَجْعَلُهُمْ جَارِينَ (وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ) : مُتَعَلِّقٌ بِتَجْرِي، وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيَانِيَّةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُهُمْ عَنِ الْجَرَيَانِ بِهِمْ، (حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ) : بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى تَعْجِزَ، وَتَوْضِيحٌ لَهُ (فَلَا يَسْتَطِيعُ) أَيِ: الرَّجُلُ ; لِضَعْفِ عَمَلِهِ ; وَتَقَاعُدِهِ عَنِ السَّبْقِ فِي الدُّنْيَا (السَّيْرَ) أَيِ: الْمُرُورَ عَلَى الصِّرَاطِ (إِلَّا زَحْفًا) أَيْ: حَبْوًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا (وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ) : بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ أَيْ جَانِبَيْهِ (كَلَالِيبُ) : جَمْعُ كُلَّابٍ (مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ، تَأْخُذُ) أَيْ: هِيَ (مَنْ أُمِرَتْ بِهِ) ، وَلَوْ رُوِيَ بِالْبَاءِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، (فَمَخْدُوشٌ) أَيْ: فَمِنْهُمْ مَجْرُوحٌ (نَاجٍ) أَيْ: مِنَ الْوُقُوعِ فِي النَّارِ (وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ: الْمُعْجَمَةُ، وَهُوَ الَّذِي جُمِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأُلْقِيَ فِي مَوْضِعٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ فِي السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، ثُمَّ قَالَ وَالْمُكَرْدَشُ بِمَعْنَاهُ، وَفِي نُسْخَةٍ مَكْدُوسٌ بِالْمُهْمَلَةِ، أَيْ: مَدْفُوعٌ فِي النَّارِ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُرْوَى بِالْمُعْجَمَةِ مِنَ الْكَدْشِ وَهُوَ السَّوْقُ الشَّدِيدُ، وَالْكَدْشُ الطَّرْدُ، وَالْجَرْحُ أَيْضًا. وَفِي الْقَامُوسِ: كَدَسَهُ أَيْ صَرَعَهُ، وَبِالْمُعْجَمَةِ دَفَعَهُ دَفْعًا عَنِيفًا (وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ) ، هَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ مَرْجِعَ ضَمِيرِ قَالَ إِلَيْهِ، ثُمَّ هَذَا الْقَسَمُ إِمَّا مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، أَوْ مَرْفُوعٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعِينَ خَرِيفًا) ، قَالَ الدَّمَامِينِيُّ أَيْ أَنَّ مَسَافَةَ السَّيْرِ إِلَيْهِ لَسَبْعِينَ خَرِيفًا، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَجْهُهُ أَنَّ الْقَعْرَ مَصْدَرُ قَعَرْتُ الْبِئْرَ إِذَا بَلَغْتُ قَعْرَهَا، وَسَبْعِينَ: ظَرْفُهُ، أَيْ أَنَّ بُلُوغَ قَعْرِهَا يَكُونُ فِي سَبْعِينَ عَامًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ الْأُصُولِ: سَبْعُونَ بِالْوَاوِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَيْ: مَسَافَةُ قَعْرِ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ خَرِيفًا. وَفِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ وَالرِّوَايَاتِ سَبْعِينَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ، فَحَذْفُ الْمُضَافِ وَتَرْكُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى إِعْرَابِهِ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّ بُلُوغَ قَعْرِ جَهَنَّمَ لَكَائِنٌ فِي سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَسَبْعِينَ خَرِيفًا ظَرْفٌ لِمَحْذُوفٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

[باب صفة الجنة وأهلها]

[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5612 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (5) بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ مِنَ الشَّجَرِ الْمُتَكَاثِفِ الْمُطِلِّ بِالْتِفَافِ أَغْصَانِهِ، وَالتَّرْكِيبُ دَائِرٌ عَلَى مَعْنَى السَّتْرِ فِي الْجَنَّةِ وَالْجُنَّةِ وَالْجِنَّةِ وَالْجُنُونِ وَنَحْوِهَا، فَكَأَنَّ الْجَنَّةَ لِتَكَاثُفِهَا وَتَظَلُّلِهَا سُمِّيَتْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِ جَنَّهُ إِذَا سَتَرَهُ، كَأَنَّهَا سُتْرَةٌ وَاحِدَةٌ لِفَرْطِ الْتِفَافِهَا. وَسُمِّيَتْ دَارُ الثَّوَابِ جَنَّةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْجِنَانِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مَسْتُورَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ؛ لِيَكُونَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ لَا بِالْعِيَانِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى مِنْ قُرَّةِ الْأَعْيُنِ لِأَهْلِهَا الْأَعْيَانِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5612 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ) أَيْ: هَيَّأْتُ (لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ) : بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَيُسَكَّنُ (مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (مَا) هُنَا إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَعَيْنٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَأَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ، وَالْمَعْنَى مَا رَأَتِ الْعُيُونُ كُلُّهُنَّ وَلَا عَيْنٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَالْأُسْلُوبُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] ، فَيُحْتَمَلُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْنِ مَعًا، أَوْ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ فَحَسْبُ، أَيْ: لَا رُؤْيَةٌ وَلَا عَيْنٌ، أَوْ لَا رُؤْيَةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ الْغَرَضُ مِنْهُ الْعَيْنُ، وَبِهَا ضُمَّتْ إِلَيْهِ الرُّؤْيَةُ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمَوْصُوفِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَبَلَغَ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى أَنْ صَارَ كَالشَّاهِدِ عَلَى نَفْيِ الصِّفَةِ وَعَكْسِهِ (وَلَا أُذُنٌ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الذَّالُ (سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ) أَيْ: وَقَعَ (عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] أَيْ: لَا قَلْبٌ وَلَا خُطُورٌ، أَوْ لَا خُطُورًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَهُمْ قَلْبٌ مُخْطِرٌ، فَجَعَلَ انْتِفَاءَ الصِّفَةِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الذَّاتِ أَيْ: إِذَا لَمْ يَحْصُلْ ثَمَرَةُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْإِخْطَارُ فَلَا قَلْبَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] ". فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ الْبَشَرَ هُنَا دُونَ الْقَرِينَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ وَيَهْتَمُّونَ بِشَأْنِهِ وَيَخْطُرُونَ بِبَالِهِمْ، بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْحَدِيثُ كَالتَّفْصِيلِ لِلْآيَةِ، فَإِنَّهَا نَفَتِ الْعِلْمَ، وَالْحَدِيثُ نَفَى طَرِيقَ حُصُولِهِ. (وَاقْرَءُوا) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَيُؤَيِّدُهُ الْعَاطِفُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ؛ لِقَوْلِهِ: إِنْ شِئْتُمْ أَيْ: أَرَدْتُمُ الِاسْتِشْهَادَ وَالِاعْتِضَادَ {فَلَا تَعْلَمُ} [السجدة: 17] : فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ اقْرَءُوا أَوِ التَّقْدِيرُ آيَةً فَلَا تَعْلَمُ: نَفْسٌ أَيْ: مُقْتَضَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} [السجدة: 17] : قَرَأَ الْجُمْهُورُ " أُخْفِيَ " بِتَحْرِيكِ الْيَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِسُكُونِهَا عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ مُسْنَدٌ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ " نُخْفِي " بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَقُرِئَ " أَخْفَى " بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، الْكَشَّافُ: لَا تَعْلَمُ النُّفُوسُ كُلُّهُنَّ وَلَا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُمْ لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَيَّ نَوْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الثَّوَابِ ادَّخَرَ اللَّهُ لِأُولَئِكَ وَأَخْفَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلَائِقِهِ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ مِمَّا تَقَرُّ بِهِ عُيُونُهُمْ، وَلَا مَزِيدَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَلَا مَطَمَحَ وَرَاءَهُمَا. وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ": يُقَالُ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ، وَمَعْنَاهُ بَرَّدَ اللَّهُ دَمْعَتَهَا؛ لِأَنَّ دَمْعَةَ الْفَرَحِ بَارِدَةٌ، حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ بَلَّغَكَ اللَّهُ أَمْنِيَّتَكَ حَتَّى تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ وَتَقَرَّ عَيْنُكَ وَلَا تَسْتَشْرِفَ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَعَلَى هَذَا الْأَوَّلُ مِنَ الْقُرَّةِ بِمَعْنَى الْبَرْدِ، وَالثَّانِي مِنَ الْقَرَارِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَعْدَدْتُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَيُعَضِّدُهُ سُكْنَى آدَمَ وَحَوَّاءَ الْجَنَّةَ، وَلِمَحَبَّتِهَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى نَهْجِ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ اللَّاحِقَةِ بِالْأَعْلَامِ، كَالنَّجْمِ وَالثُّرَيَّا وَالْكِتَابِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ بُسْتَانٍ مُتَكَاثِفٍ أَغْصَانُ أَشْجَارِهَا، ثُمَّ غَلَبَتْ

5611 - «وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُشَفَّعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5611 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) : بِلَا صَرْفٍ وَيُصْرَفُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ) أَيْ: ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مِنَ الْأَصْفِيَاءِ (الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ) أَيِ: الْعَامِلُونَ (ثُمَّ الشُّهَدَاءُ) أَيِ: الْمُخْلِصُونَ، وَفِي الْعَطْفِ بِثُمَّ دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى تَفْضِيلِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشِّيرَازِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْعِلَلِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا: ( «يُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ وَدَمُ الشُّهَدَاءِ، فَيَرْجَحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَمِ الشُّهَدَاءِ» ) ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى الْفُضَلَاءِ، فَإِنَّ مِدَادَهُمْ أَقَلُّ أَمْدَادِهِمْ، وَدَمُ الشُّهَدَاءِ أَفْضَلُ أَسْعَادِهِمْ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: ( «يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» ) .

[باب صفة الجنة وأهلها]

[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5612 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (5) بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ مِنَ الشَّجَرِ الْمُتَكَاثِفِ الْمُطِلِّ بِالْتِفَافِ أَغْصَانِهِ، وَالتَّرْكِيبُ دَائِرٌ عَلَى مَعْنَى السَّتْرِ فِي الْجَنَّةِ وَالْجُنَّةِ وَالْجِنَّةِ وَالْجُنُونِ وَنَحْوِهَا، فَكَأَنَّ الْجَنَّةَ لِتَكَاثُفِهَا وَتَظَلُّلِهَا سُمِّيَتْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِ جَنَّهُ إِذَا سَتَرَهُ، كَأَنَّهَا سُتْرَةٌ وَاحِدَةٌ لِفَرْطِ الْتِفَافِهَا. وَسُمِّيَتْ دَارُ الثَّوَابِ جَنَّةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْجِنَانِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مَسْتُورَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ؛ لِيَكُونَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ لَا بِالْعِيَانِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى مِنْ قُرَّةِ الْأَعْيُنِ لِأَهْلِهَا الْأَعْيَانِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5612 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ) أَيْ: هَيَّأْتُ (لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ) : بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَيُسَكَّنُ (مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (مَا) هُنَا إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَعَيْنٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَأَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ، وَالْمَعْنَى مَا رَأَتِ الْعُيُونُ كُلُّهُنَّ وَلَا عَيْنٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَالْأُسْلُوبُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] ، فَيُحْتَمَلُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْنِ مَعًا، أَوْ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ فَحَسْبُ، أَيْ: لَا رُؤْيَةٌ وَلَا عَيْنٌ، أَوْ لَا رُؤْيَةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ الْغَرَضُ مِنْهُ الْعَيْنُ، وَبِهَا ضُمَّتْ إِلَيْهِ الرُّؤْيَةُ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمَوْصُوفِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَبَلَغَ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى أَنْ صَارَ كَالشَّاهِدِ عَلَى نَفْيِ الصِّفَةِ وَعَكْسِهِ (وَلَا أُذُنٌ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الذَّالُ (سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ) أَيْ: وَقَعَ (عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] أَيْ: لَا قَلْبٌ وَلَا خُطُورٌ، أَوْ لَا خُطُورًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَهُمْ قَلْبٌ مُخْطِرٌ، فَجَعَلَ انْتِفَاءَ الصِّفَةِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الذَّاتِ أَيْ: إِذَا لَمْ يَحْصُلْ ثَمَرَةُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْإِخْطَارُ فَلَا قَلْبَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] ". فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ الْبَشَرَ هُنَا دُونَ الْقَرِينَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ وَيَهْتَمُّونَ بِشَأْنِهِ وَيَخْطُرُونَ بِبَالِهِمْ، بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْحَدِيثُ كَالتَّفْصِيلِ لِلْآيَةِ، فَإِنَّهَا نَفَتِ الْعِلْمَ، وَالْحَدِيثُ نَفَى طَرِيقَ حُصُولِهِ. (وَاقْرَءُوا) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَيُؤَيِّدُهُ الْعَاطِفُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ؛ لِقَوْلِهِ: إِنْ شِئْتُمْ أَيْ: أَرَدْتُمُ الِاسْتِشْهَادَ وَالِاعْتِضَادَ {فَلَا تَعْلَمُ} [السجدة: 17] : فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ اقْرَءُوا أَوِ التَّقْدِيرُ آيَةً فَلَا تَعْلَمُ: نَفْسٌ أَيْ: مُقْتَضَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} [السجدة: 17] : قَرَأَ الْجُمْهُورُ " أُخْفِيَ " بِتَحْرِيكِ الْيَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِسُكُونِهَا عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ مُسْنَدٌ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ " نُخْفِي " بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَقُرِئَ " أَخْفَى " بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، الْكَشَّافُ: لَا تَعْلَمُ النُّفُوسُ كُلُّهُنَّ وَلَا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُمْ لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَيَّ نَوْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الثَّوَابِ ادَّخَرَ اللَّهُ لِأُولَئِكَ وَأَخْفَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلَائِقِهِ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ مِمَّا تَقَرُّ بِهِ عُيُونُهُمْ، وَلَا مَزِيدَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَلَا مَطَمَحَ وَرَاءَهُمَا. وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ": يُقَالُ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ، وَمَعْنَاهُ بَرَّدَ اللَّهُ دَمْعَتَهَا؛ لِأَنَّ دَمْعَةَ الْفَرَحِ بَارِدَةٌ، حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ بَلَّغَكَ اللَّهُ أَمْنِيَّتَكَ حَتَّى تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ وَتَقَرَّ عَيْنُكَ وَلَا تَسْتَشْرِفَ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَعَلَى هَذَا الْأَوَّلُ مِنَ الْقُرَّةِ بِمَعْنَى الْبَرْدِ، وَالثَّانِي مِنَ الْقَرَارِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَعْدَدْتُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَيُعَضِّدُهُ سُكْنَى آدَمَ وَحَوَّاءَ الْجَنَّةَ، وَلِمَحَبَّتِهَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى نَهْجِ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ اللَّاحِقَةِ بِالْأَعْلَامِ، كَالنَّجْمِ وَالثُّرَيَّا وَالْكِتَابِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ بُسْتَانٍ مُتَكَاثِفٍ أَغْصَانُ أَشْجَارِهَا، ثُمَّ غَلَبَتْ

عَلَى دَارِ الثَّوَابِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: اللَّاحِقَةُ؛ لِلْإِعْلَامِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ لِلَّامِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّهَا مَنْقُولُ شَرْعِيَّةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَإِنَّمَا تُغَلَّبَ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً مَعْهُودَةً، وَكَذَلِكَ اسْمُ النَّارِ مَنْقُولَةٌ لِدَارِ الْعِقَابِ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ، وَإِنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الزَّمْهَرِيرِ وَالْمُهْلِ وَالضَّرِيعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ يُغْنِي عَنْ طَلَبِ الْقُصُورِ وَالْحُورِ وَالْوِلْدَانِ بِالْجَنَّةِ، وَلَا عَنْ طَلَبِ الْوِقَايَةِ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ وَالْمُهْلِ وَالضَّرِيعِ عَنْ مُطْلَقِ النَّارِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ غَيْرِ قَوْلِهِ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ. . . إِلَى آخِرِهِ، عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ فَهُوَ يُؤَيِّدُ كَوْنَهُ مَوْقُوفًا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ» ) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: ( «فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، قَالَ: ( «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى جَنَّةَ عَدْنٍ خَلَقَ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» ) . ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] ، هَذَا وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَأَلَ رَبَّهُ: مَنْ أَعْظَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ فَقَالَ: غَرَزْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَا عَيْنٌ رَأَتْ. . . وَإِلَى آخِرِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي " {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} [السجدة: 17] " لِقَوْمٍ خَاصٍّ. {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] وَالْمُرَادُ الْمُتَهَجِّدُونَ وَالْأَوَّابُونَ، وَلَمَّا أَخْفَوْا أَعْمَالَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ الْعِبَادِ جُوزُوا بِإِخْفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ مَا أَرَادَ لَهُمْ مِنَ الْإِعْدَادِ جَزَاءً وِفَاقًا عَلَى حَسَبِ مَا وُفِّقُوا مِنَ الْإِمْدَادِ وَالْإِسْعَادِ.

5613 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5613 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ) : أُرِيدَ بِهِ قَدْرٌ قَلِيلٌ مِنْهَا أَوْ مِقْدَارُ مَوْضِعِهِ فِيهَا (خَيْرٌ) أَيْ: كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) : لِأَنَّ الْجَنَّةَ مَعَ نَعِيمِهَا بَاقِيَةٌ وَالدُّنْيَا مَعَ مَا فِيهَا فَانِيَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: سِوَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ انْتَهَى. وَغَرَابَةُ اسْتِثْنَائِهِ مِمَّا لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ: وَمَا هُوَ بَاقٍ لَا يُوَازِنُهُ مَا هُوَ فِي مَعْرِضِ الْفَنَاءِ، قُلْتُ: فَلَفْظُ خَيْرٍ لِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّمَا خَصَّ السَّوْطَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الرَّاكِبِ إِذَا أَرَادَ النُّزُولَ فِي مَنْزِلٍ أَنْ يُلْقِيَ سَوْطَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ مُعَلِّمًا بِذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُهُ؛ لِئَلَّا يَسْبِقَهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَحَلُّ تَوَقُّفٍ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَفِي الْجَامِعِ: ( «لَقَيْدُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

5614 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5614 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (غَدْوَةٌ) أَيْ: مَرَّةٌ مِنْ ذَهَابٍ أَوَّلَ النَّهَارِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ) أَيْ: مَرَّةٌ مِنْ رَوَاحِ آخِرِ النَّهَارِ أَوْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَ " أَوْ " لَيْسَ لِلشَّكِّ، بَلْ لِلتَّنْوِيعِ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ هِجْرَةٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) ، أَيْ جَزَاءً وَثَوَابًا وَمَآلًا وَمَآبًا (وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ) ، بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَشْرَفَتْ وَطَالَعَتْ (إِلَى الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا) أَيْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، أَوْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَوْ مَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِتَحْقِيقِ ذِكْرِهَا فِي الْعِبَارَةِ صَرِيحًا، (وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا) أَيْ: طِيبًا (وَلَنَصِيفُهَا) : كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ: وَلَخِمَارُهَا (عَلَى رَأْسِهَا) : قَيَّدَ بِهِ تَحْقِيرًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خِمَارِ الْبَدَنِ جَمِيعِهِ (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمِمَّا فِيهَا) ، أَيْ: فَكَيْفَ الْجَنَّةُ نَفْسُهَا وَمَا بِهَا مِنْ نَعِيمِهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ: ( «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: ( «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ» ) . وَرَوَى

الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ: «لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَشْرَفَتْ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلَأَتِ الْأَرْضَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَلَأَذْهَبَتْ ضَوْءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: ( «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابَ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قِدِّهِ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوِ اطَّلَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ) وَالْقِدُّ: بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَتَرُ الْقَوْسِ، وَقِيلَ: السَّوْطُ.

5615 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَلَقَابَ قَوْسِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5615 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقَالُ: إِنَّهَا طُوبَى. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَشَاهِدُ ذَلِكَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ (يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا) أَيْ: فِي نَاحِيَتِهَا، وَإِلَّا فَالظِّلُّ فِي عُرْفِ أَهْلِ الدُّنْيَا مَا يَقِي مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَأَذَاهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13] وَقَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالظِّلِّ هُنَا مَا يُقَابِلُ شُعَاعَ الشَّمْسِ، وَمِنْهُ مَا بَيْنَ ظُهُورِ الصُّبْحِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّجَرَةِ مِنَ النُّورِ الْبَاهِرِ مَا يَكُونُ لِمَا تَحْتَهُ كَالْحِجَابِ السَّاتِرِ. (مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا) أَيْ لَا يَنْتَهِي الرَّاكِبُ إِلَى انْقِطَاعِ ظِلِّهَا (وَلَقَابَ قَوْسِ أَحَدِكُمْ) فِي " الْفَائِقِ ": الْقَابُ وَالْقِيبُ كَالْقَادِ وَالْقِيدِ، بِمَعْنَى الْقَدْرِ، وَأَنَّهُ عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا الْمَسَافَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَوَّبُوا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، إِذَا أَثَّرُوا فِيهَا بِمَوْطِئِهِمْ وَمَحَلِّهِمْ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرَّاجِلُ يُبَادِرُ إِلَى تَعْيِينِ الْمَكَانِ بِوَضْعِ قَوْسِهِ، كَمَا أَنَّ الرَّاكِبَ يُبَادِرُ إِلَيْهِ بِرَمْيِ سَوْطِهِ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى بِقَدْرِ مَوْضِعِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَوْ لِمِقْدَارِهِ وَقِيمَتِهِ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ قُوِّمَ فِيهَا (خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) أَيْ: شَمْسُ الدُّنْيَا (أَوْ تَغْرُبُ) وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ غَرَبَتْ، وَ " أَوْ " إِمَّا لِلشَّكِّ، وَإِمَّا لِلتَّخَيُّرِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَالشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

5616 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا - وَفِي رِوَايَةٍ طُولُهَا - سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5616 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً) أَيْ: عَظِيمَةً (مِنْ لُؤْلُؤَةٍ) : هَمْزَتَيْنِ وَتُبْدَلَانِ، وَقَدْ تُبْدَلُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ أَيْ: دُرَّةٍ (وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا) فَالطُّولُ أَوْلَى (وَفِي رِوَايَةٍ طُولُهَا) أَيْ: وَعَلَى قِيَاسِهِ عَرْضُهَا وَيَتَحَصَّلُ بِالرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ طُولَهَا وَعَرْضَهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (سِتُّونَ مِيلًا، وَفِي كُلِّ زَاوِيَةٍ) أَيْ مِنَ الزَّاوِيَا الْأَرْبَعَةِ (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْخَيْمَةِ (أَهْلٌ) أَيْ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ زَوْجٍ وَغَيْرِهِ (مَا يَرَوْنَ) أَيْ: ذَلِكَ الْأَهْلُ، وَجُمِعَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ (الْآخَرِينَ) ، أَيِ الْجَمْعَ الْآخَرِينَ مِنَ الْأَهْلِ الْكَائِنِينَ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أَيْ يَدُورُ عَلَى جَمِيعِهِمْ (الْمُؤْمِنُونَ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَكَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَشَرْحِ السُّنَّةِ وَنُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي مُسْلِمٍ وَالْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ (الْمُؤْمِنُ) ، فَعَلَى هَذَا جَمْعٌ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ. انْتَهَى. وَقَالَ شَارِحٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: أَنَّ الْمَعْنَى يُجَامِعُ الْمُؤْمِنُ الْأَهْلَ، وَأَنَّ الطَّوَافَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَامَعَةِ (وَجَنَّتَانِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَلِلْمُؤْمِنِ جَنَّتَانِ، وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى أَهْلٍ؛ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ قَالَ شَارِحٌ أَيْ: دَرَجَتَانِ أَوْ قَصْرَانِ (مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا) ، أَيْ مِنَ الْقُصُورِ وَالْأَثَاثِ كَالسُّرُرِ.

وَكَقُضْبَانِ الْأَشْجَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، قِيلَ: قَوْلُهُ: مِنْ فِضَّةٍ خَبَرُ " آنِيَتُهُمَا "، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ جَنَّتَانِ، أَوْ مِنْ فِضَّةٍ صِفَةُ قَوْلِهِ: جَنَّتَانِ، وَخَبَرُ " آنِيَتُهُمَا " مَحْذُوفٌ أَيْ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا كَذَلِكَ، أَوْ آنِيَتُهُمَا فَاعِلُ الظَّرْفِ أَيْ تُفَضَّضُ آنِيَتُهُمَا، وَكَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى قَوْلُهُ: ( «وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا» ) ثُمَّ ظَاهَرُهُ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ لَا غَيْرَ، وَبِالْعَكْسِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ: وَصِفَةُ بِنَاءِ الْجَنَّةِ مِنْ أَنَّ لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ - أَنَّ الْأَوَّلَ صِفَةُ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ آنِيَةٍ وَغَيْرِهَا، وَالثَّانِي صِفَةُ حَوَائِطِ الْجَنَّةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّبْعِيضُ لَا التَّلْمِيعُ، أَوْ يُقَالُ: الْجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْكُمَّلِ مِنْ أَهْلِ مَقَامِ الْخَوْفِ الْمُوجِبِ لِلْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وَالْجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِمَنْ يَكُونُ فِي مَرْتَبَةِ النُّقْصَانِ مِنْ مَقَامِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ هُمُ السَّابِقُونَ، وَبِالْآخَرِينَ هُمُ اللَّاحِقُونَ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ الْمُلَمَّعَةُ فَأَصْحَابُهَا الْمُخَلِّطُونَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْجِنَانَ أَرْبَعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وَوَصَفَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] وَوَصَفَهُمَا. وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَنَّتَانِ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَنَّتَانِ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ فِضَّةٍ» . قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مَا فِي رِوَايَةِ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّتَيْنِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ فِضَّةٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَرْبَابِ الْكَمَالِ جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ عَلَى يَمِينِ قُصُورِهِمْ وَشِمَالِهَا، طَلَبًا لِلزِّينَةِ لَا لِفُقْدَانِ الذَّهَبِ أَوْ كَثْرَةِ الْقِيمَةِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْثِيرُ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ وَطَبَقَاتِهَا ثَمَانِيَةٌ، فَقَدْ قَالَ فِي الْمُنَاجَاةِ: هِيَ ثَمَانٍ: جَنَّةُ عَدْنٍ، وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ، وَجَنَّةُ الْخُلْدِ، وَجَنَّةُ النَّعِيمِ، وَجَنَّةُ الْمَأْوَى، وَدَارُ السَّلَامِ، وَدَارُ الْقَرَارِ، وَدَارُ الْمُقَامَةِ. (وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ) أَيْ: وَلَيْسَ مَانِعٌ مِنَ الْمَوَانِعِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ (وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ) أَيْ: صِفَةُ الْعَظَمَةِ (عَلَى وَجْهِهِ) أَيْ ثَابِتًا عَلَى ذَاتِهِ، فَهُوَ حَالٌ مِنَ الرِّدَاءِ (فِي جَنَّةِ عَدْنٍ) أَيْ كَائِنٌ فِي جَنَّةِ إِقَامَةٍ وَخُلُودٍ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَنَّةِ كَذَا، قِيلَ: وَهُوَ يُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ مَعَ أَنَّ وَصْفَ الْإِقَامَةِ وَالْخُلُودِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ جِنْسِ الْجَنَّةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِالْمَفْهُومِ الْمَوْهُومِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: عَلَى وَجْهِهِ حَالٌ مِنْ رِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَامِلُ مَعْنَى لَيْسَ، وَقَوْلُهُ: فِي الْجَنَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي الظَّرْفِ، فَيُفِيدُ بِالْمَفْهُومِ انْتِفَاءَ هَذَا الْحَصْرِ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ. قُلْتُ: هَذَا مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: أَيْ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِذَا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ حُجُبِ الْكُدُورَةِ الْجِسْمِيَّةِ وَاضْمِحْلَالِ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ هُنَاكَ وَبَيْنَ نَظَرِهِ إِلَى رَبِّهِ - إِلَّا مَا يَصُدُّهُ مِنْ هَيْبَةِ الْجَلَالِ وَسُبُحَاتِ الْجَمَالِ، وَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا بِرَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ مِنْهُ، تَفَضُّلًا عَلَى عِبَادِهِ، وَأُنْشِدَ فِي الْمَعْنَى: أَشْتَاقُهُ فَإِذَا بَدَا أَطْرَقْتُ مِنْ إِجْلَالِهِ ... لَا خِيفَةً بَلْ هَيْبَةً وَصِيَانَةً لِجَمَالِهِ وَأَصُدُّ عَنْهُ تَجَلُّدًا وَأَرُومُ طَيْفَ خَيَالِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: ( «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَبِي مُوسَى، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِلَفْظِ: «فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: ( «جِنَانُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَشْخَبُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ، ثُمَّ تَصْدُرُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْهَارًا» ) .

5617 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، مِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ، وَمِنْ فَوْقِهَا يَكُونُ الْعَرْشُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَلَمْ أَجِدْهُ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَلَا فِي (كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5617 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ» ) ، يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَثْرَةُ، لِمَا وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَرْفُوعًا: ( «عَدَدُ دَرَجِ الْجَنَّةِ عَدَدُ آيِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ دَرَجَةٌ» ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَيَكُونُ بَيَانُ أَقَلِّ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ السِّعَةِ وَأَصْنَافِ النِّعْمَةِ ( «مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ) ، وَيُمْكِنُ تَقْيِيدُ وَصْفِ الْمِائَةِ بِمَا ذُكِرَ، وَغَيْرُهَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِهَا مِنْ كَوْنِهِ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ دَرَجٌ لَا يَنَالُهَا إِلَّا أَصْحَابُ الْهُمُومِ» ) . (وَالْفِرْدَوْسُ) أَيِ: الْجَنَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْفِرْدَوْسِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 10 - 11] (أَعْلَاهَا) أَيْ: عَلَى سَائِرِ الْجِنَانِ (دَرَجَةً) ، أَوْ أَعْلَى هَذِهِ الْمِائَةِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْفِرْدَوْسُ - اللُّغَةُ - الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ الْكُرُومُ وَالْأَشْجَارُ، وَمِنْهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ، قُلْتُ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَصْفٍ زَائِدٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَيَمْتَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (مِنْهَا) وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ " وَمِنْهَا " أَيْ مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ (تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تُشَقَّقُ وَتَجْرِي أَنْهَارُ الْجَنَّةِ (الْأَرْبَعَةُ) - بِالرَّفْعِ - صِفَةٌ لِلْأَنْهَارِ، وَهِيَ أَنْهَارُ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] (وَمِنْ فَوْقِهَا يَكُونُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ) فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِرْدَوْسَ فَوْقَ جَمِيعِ الْجِنَانِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ وَتَعْظِيمًا لِلْهِمَّةِ: ( «فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ» ) أَيْ فَإِنَّهُ سُرُّ الْجَنَّةِ عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْعُرَّبَاضِ - بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - أَيْ: وَسَطُهَا وَخَيْرُهَا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: ( «الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَأَوْسَطُهَا، وَمِنْهَا تُفَجَّرُ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ» ) . وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: ( «أَنَّ أَهْلَ الْفِرْدَوْسِ يَسْمَعُونَ أَطِيطَ الْعَرْشِ» ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (وَلَمْ أَجِدْهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ (فِي الصَّحِيحَيْنِ) أَيْ فِي مَتْنَيْهِمَا (وَلَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) أَيِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا، وَلَعَلَّهُ سَكَتَ عَنْ جَامِعِ الْأُصُولِ لِمَانِعٍ عَنْ تَتَبُّعِهِ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ؛ حَيْثُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي الصِّحَاحِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا فِي الْحِسَانِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ، وَأَقُولُ: قَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ عُبَادَةَ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا - أَيْ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ عُبَادَةَ - يَسِيرٌ، فَكَانَ عَلَى صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ وَالشَّيْخِ أَيْضًا أَنْ يَقُولَا: وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَعَ تَفَاوُتٍ يَسِيرٍ، انْتَهَى. وَقَالَ الْحَافِظُ: ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمِشْكَاةِ: وَعَجِيبٌ مِنْ إِدْخَالِ الْبَغَوِيِّ لَهُ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ، تَمَّ كَلَامُهُ. قِيلَ: وَنَسَبَهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ أَيْضًا إِلَى الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْبُخَارِيِّ فِي مَوْضِعَيْنِ: الْأَوَّلُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَالثَّانِي فِي بَابِ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَذَا فِي مُسْلِمٍ فِي بَابِ: فَضْلُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ.

5618 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، يَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسُنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا. فَيَقُولُونَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5618 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا» ) أَيْ: مَجْمَعًا فِيهِ الصُّوَرُ الْمُشْتَهَاةُ (يَأْتُونَهَا) أَيْ: يَحْضُرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ تِلْكَ السُّوقَ (كُلَّ جُمُعَةٍ) ، بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السُّوقُ مَجْمَعٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهَا فِي كُلِّ مِقْدَارِ جُمُعَةٍ أَيْ أُسْبُوعٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ أُسْبُوعٌ حَقِيقَةً؛ لِفَقْدِ الشَّمْسِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا يُعْرَفُ وَقْتُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِإِرْخَاءِ أَسْتَارِ الْأَنْوَارِ وَرَفْعِهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، فَبِهَذَا يُعْرَفُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَأَيَّامُ الْأَعْيَادِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الزِّيَارَةِ وَالرُّؤْيَةِ وَسَائِرِ الْأَمْدَادِ وَالْإِسْعَادِ، فَفِي الْجَامِعِ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَحْتَاجُونِ إِلَى الْعُلَمَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَيَقُولُ لَهُمْ: تَمَنَّوْا عَلَيَّ مَا شِئْتُمْ، فَيَلْتَفِتُونَ إِلَى الْعُلَمَاءِ فَيَقُولُونَ: مَاذَا نَتَمَنَّى؟ فَيَقُولُونَ: تَمَنَّوْا عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا، فَهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ كَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ، هَذَا وَتَسْمِيَةُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِيَوْمِ الْمَزِيدِ فِي الْجَنَّةِ يَدُلُّ عَلَى تَمْيِيزِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. (فَتَهُبُّ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ فَتَأْتِي (رِيحُ الشَّمَالِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مِنْ رِيحِ الْمَطَرِ عِنْدَ الْعَرَبِ (فَتَحْثُو) أَيْ تَنْثُرُ تِلْكَ الرِّيحُ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْمِسْكَ وَأَنْوَاعَ الطِّيبِ (فِي وُجُوهِهِمْ) أَيْ أَبْدَانِهِمْ، وَخُصَّتِ الْوُجُوهُ لِشَرَفِهَا، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا ذَوَاتُهَا (وَثِيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ) أَيْ فِي ثِيَابِهِمْ (حُسْنًا وَجَمَالًا) جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِلتَّأْكِيدِ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الزِّينَةُ، وَبِالْآخَرِ حُسْنُ الصُّورَةِ، (فَيَرْجِعُونَ) أَيْ: مِنَ السُّوقِ (إِلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا) ، قِيلَ: يَكُونُ زِيَادَةُ حُسْنِهِمْ بِقَدْرِ حَسَنَاتِهِمْ، (فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ) أَيْ: أَنْتُمْ أَيْضًا، وَفِيهِ تَغْلِيبٌ؛ لِكَوْنِ الْأَهْلِ أَعَمَّ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ وَالتَّكْرِيمُ، أَوْ رُوعِيَ الْمُشَاكَلَةُ وَالْمُقَابَلَةُ (بَعْدَنَا) أَيْ: بَعْدَ مُفَارَقَتِكُمْ عَنَّا ( «حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُونَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا» ) وَهُوَ إِمَّا لِإِصَابَتِهِمْ مِنْ تِلْكَ الرِّيَاحِ، أَوْ بِسَبَبِ انْعِكَاسِ جَمَالِهِمْ، أَوْ لِأَجْلِ تَأْثِيرِ حَالِهِمْ وَتَرَقِّي مَآلِهِمْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5619 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ مِنَ الْحُسْنِ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، لَا يَسْقَمُونُ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ، وَلَا يَتَمَخَّطُونَ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَوَقُودُ مَجَامِرِهِمُ الْأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5619 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ) بِضَمِّ الزَّايِ أَيْ أَوَّلَ جَمَاعَةٍ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ. كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ خَاصَّةً ( «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ) ، وَلَعَلَّ دُخُولَهَا عَلَى صُورَةِ الشَّمْسِ مُخْتَصٌّ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) أَيْ: يَقْرُبُونَ تِلْكَ الزُّمْرَةَ فِي قُرْبِ الْمَرْتَبَةِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصُّلَحَاءِ. (كَأَشَدِّ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَشَدِّ (كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ) : وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْيَاءِ أَيْ: شَدِيدُ الْإِنَارَةِ، مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ، وَتَقَدَّمَتْ لُغَاتٌ أُخَرُ مَعَ بَيَانِ مَبَانِيهَا وَمَعَانِيهَا ثُمَّ قَوْلُهُ: (إِضَاءَةً) ، تَمْيِيزٌ يُبَيِّنُ وَجْهَ الشَّبَهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَفْرَدَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ لِيُفِيدَ الِاسْتِغْرَاقَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَوْكَبِ، يَعْنِي: إِذَا تَقَصَّيْتَ كَوْكَبًا كَوْكَبًا رَأَيْتَهُمْ كَأَشَدِّ إِضَاءَةٍ. (قُلُوبُهُمْ) أَيْ: قُلُوبُ أَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَئِذٍ، أَوْ قُلُوبُ الزُّمْرَةِ الْأَخِيرَةِ، فَالْأَوْلَى بِالْأُولَى (عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ) ، أَيْ فِي الْإِنْفَاقِ وَالْمَحَبَّةِ، فَقَوْلُهُ: (لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: قُلُوبُهُمْ إِلَخْ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ) أَيْ: عَظِيمَتَانِ (مِنَ الْحُورِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ أَيِ النِّسَاءِ الْبَيْضِ الْأَبْدَانِ، مِنَ الْحَوَرِ وَهُوَ الْبَيَاضُ الْخَالِصُ، وَمِنْهُ الْحَوَارِيُّ وَالْحَوَارِيُّونَ. (الْعِينِ) ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: حِسَانُ الْأَعْيَانِ (يُرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُبْصَرُ (مُخُّ سُوقِهِنَّ) : جَمْعُ السَّاقِ، أَيْ مُخُّ عِظَامِهِنَّ (مِنْ وَرَاءِ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ) الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ أَوِ التَّرْتِيبِ لِلتَّرَقِّي (مِنَ الْحُسْنِ) أَيْ مِنْ أَجْلِ لَطَافَةِ خِلْقَتِهِنَّ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ تَتْمِيمٌ صَوْنًا مِنْ تَوَهُّمِ مَا يُتَصَوَّرُ فِي تِلْكَ الرُّؤْيَةِ مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ، وَالْحُسْنُ هُوَ الصَّفَاءُ وَرِقَّةُ الْبَشْرَةِ وَنُعُومَةُ الْأَعْضَاءِ، هَذَا وَلَعَلَّ الزَّوْجَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِعُمُومِ أَفْرَادِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْخُصُوصِ فَيُزَادُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَقَامَاتِهِمْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لِلتَّكْرِيرِ لَا لِلتَّحْدِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ أَنَّ لِلْوَاحِدِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. (يُسَبِّحُونَ اللَّهَ) أَيْ: أَهْلُ الْجَنَّةِ يُنَزِّهُونَهُ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ، وَيُثْبِتُونَ لَهُ نُعُوتَ الْكَمَالِ، فَإِنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ مُتَلَازِمَانِ، كَمَا حُقِّقَ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لِلتَّوْكِيدِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ، أَيْ دَائِمًا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمَا لَيْلًا وَنَهَارًا بِإِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، مَجَازٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُرَادُ بِهَا الدَّيْمُومَةُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً، لَا تَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ، بَلِ الدَّيْمُومَةَ (لَا يَسْقَمُونَ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَيُضَمُّ، فَفِي الْقَامُوسِ: سَقِمَ كَفَرِحَ وَكَرُمَ، وَالْمَعْنَى لَا يَمْرَضُونَ وَلَا يَضْعُفُونَ وَلَا يَشِيبُونَ (وَلَا يَبُولُونَ) ، أَيْ مِنْ قُبُلٍ (وَلَا يَتَغَوَّطُونَ) أَيْ مِنْ دُبُرٍ (وَلَا يَتْفُلُونَ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ لَا يَبْزُقُونَ (وَلَا يَتَمَخَّطُونَ) ، أَيْ لَيْسَ فِي فَمِهِمْ وَأَنْفِهِمْ مِنَ الْمِيَاهِ الزَّائِدَةِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ لِيَحْتَاجُوا إِلَى إِخْرَاجِهَا، وَلِأَنَّ الْجَنَّةَ مَسَاكِنُ طَيِّبَةٌ لِلطَّيِّبِينَ، فَلَا يُلَائِمُهَا الْأَدْنَاسُ وَالْأَنْجَاسُ (آنِيَتُهُمْ) : جَمْعُ إِنَاءٍ أَيْ: ظُرُوفُهُمْ (الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ) ، أَيْ مُلَمَّعَةٌ عَلَى إِرَادَةِ الزِّينَةِ، أَوْ ظُرُوفُ بَعْضِهِمُ الذَّهَبُ، وَظُرُوفُ بَعْضِهِمُ الْفِضَّةُ، فَالْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ (وَأَمْشَاطُهُمْ) : جَمْعُ مُشْطٍ (الذَّهَبُ، وَوَقُودُ مَجَامِرِهِمْ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: مَا يُوقَدُ بِهِ مَبَاخِرُهُمْ (الْأَلُوَّةُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُضَمُّ، وَبِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ، وَقَالَ شَارِحٌ: الْمَجْمَرُ - بِالْفَتْحِ - مَا يُوضَعُ فِيهِ الْجَمْرِ وَيَحْتَرِقُ فِيهِ الْعُودُ، وَبِالْكَسْرِ الْآلَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ أَنَّهُ لَا نَارَ فِي الْجَنَّةِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَفُوحُ بِغَيْرِ نَارٍ. أَقُولُ: وَقَدْ يَكُونُ بِالنُّورِ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَجَامِرُ جَمْعُ مِجْمَرٍ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ الَّتِي تُوضَعُ فِيهِ النَّارُ لِلْبَخُورِ، وَبِالضَّمِّ هُوَ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ وَأُعِدَّ لَهُ الْجَمْرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ أَنَّ الْأَلُوَّةَ هُوَ الْوَقُودُ نَفْسُهُ، بِخِلَافِ الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ وَقُودَهُمْ غَيْرُ الْأَلُوَّةِ. انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَالشَّهَوَاتِ الْمُتَعَالِيَةِ، وَإِلَّا فَلَا تَلَبُّدَ لِشُعُورِهِمْ، وَلَا وَسَخَ، وَلَا عُفُونَةَ لِأَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، بَلْ رِيحُهُمْ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى التَّمْشِيطِ وَالتَّبَخُّرِ إِلَّا لِزِيَادَةِ الزِّينَةِ، وَالتَّلَذُّذِ بِأَنْوَاعِ النِّعْمَةِ الْحِسِّيَّةِ كَمَا قَالَ: (وَرَشْحُهُمْ) أَيْ عَرَقُهُمْ رَائِحَةُ (الْمِسْكُ) ، وَالْمَعْنَى رَائِحَةُ عَرَقِهِمْ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ ( «عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ وَتُسَكَّنُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ كَمَا سَبَقَ، وَبِفَتْحِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَتْرَابٌ فِي سَنٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ أَوْ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: ( «عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ» ) ، أَيْ فِي الْقَامَةِ، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ) أَيْ طُولًا، فَكَنَّى عَنْهُ بِهِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: الْعَرْضُ سَبْعَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رُوِيَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ، وَبِفَتْحِ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَرَجَّحَ الضَّمَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغَضَ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الْفَتْحُ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَمَخَّطُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ: عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَإِذَا قِيلَ: الْمَوْصُوفُونَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ - حَسُنَ الْإِبْدَالُ، انْتَهَى. وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَلَا خِلَافَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّهُمْ كَامِلُونَ فِي الْخُلُقِ وَالْخَلْقِ جَمِيعًا بَلِ الْخُلُقُ - بِالضَّمِّ - هُوَ الْخَلِيقُ بِالِاعْتِبَارِ، فَإِنَّهُ مُوجَبٌ بِحُسْنِ الْخَلْقِ - بِالْفَتْحِ - وَلِذَا قِيلَ: الظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا خَلَقَ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الصُّورَةِ وَحَسَنَ الصَّوْتِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] بَيَانُ أَنْ يَكُونَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي خَلْقِ تَصْوِيرِهِ الْجَسِيمِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، فَبِمِقْدَارِ صَفَاءِ الْمِرْآةِ وَصِقَالَتِهَا وَتَخْلِيَتِهَا وَتَجْلِيَتِهَا تَنْعَكِسُ وَتَتَجَلَّى فِيهَا صُورَةُ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي الْجَامِعِ: ( «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى لَوْنِ أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يَبْدُو مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَائِهَا» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.

5620 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَتَمَخَّطُونَ " قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: " جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5620 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ» ) أَيْ فِيهَا (وَلَا يَتْفُلُونَ) أَيْ لَا يَبْصُقُونَ ( «وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَتَمَخَّطُونَ» ) مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ، وَفِيمَا سَبَقَ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ (قَالُوا) أَيْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ (فَمَا بَالُ الطَّعَامِ) ؟ أَيْ مَا شَأْنُ فَضْلَتِهِ قَالَ: (جُشَاءٌ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ تَنَفُّسُ الْمَعِدَةِ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ صَوْتٌ مَعَ رِيحٍ يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ عِنْدَ الشِّبَعِ، أَقُولُ: التَّقْدِيرُ هُوَ جُشَاءٌ (وَرَشْحٌ) أَيْ عَرَقٌ (كَرَشْحِ الْمِسْكِ) ، أَيْ يَصِيرُ فَضْلُ الطَّعَامِ جُشَاءً أَيْ نَظِيرَهُ، وَإِلَّا فَجُشَاءُ الْجَنَّةِ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا بِخِلَافِ جُشَاءِ الدُّنْيَا؛ وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَقْصِرْ عَنَّا جُشَاءَكَ) وَيَصِيرُ رَشْحًا، وَهُوَ إِمَّا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، أَوِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ بَعْضُ الطَّعَامِ يَكُونُ جُشَاءً وَبَعْضُهُ يَكُونُ رَشْحًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَكْلَ يَنْقَلِبُ جُشَاءً، وَالشُّرْبَ يَعُودُ رَشْحًا، وَالطَّعَامُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الطُّعْمِ، فَفِي الْقَامُوسِ: طَعْمُ الشَّيْءِ: حَلَاوَتُهُ وَمَرَارَتُهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا يَكُونُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، أَقُولُ: وَبِهِ يَتِمُّ التَّنْزِيهُ فِي قَوْلِهِ: " {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] "، هَذَا وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: «وَلَكِنَّ طَعَامَهُ ذَلِكَ جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ» ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: يَنْدَفِعُ الطَّعَامُ بِالْجُشَاءِ وَالرَّشْحِ، فَهُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى لِأَجْلِ الْمَبْنَى، كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَ أَحْوَالٍ أُخَرَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ وَالْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: (يُلْهَمُونَ) أَيْ: أَهْلُ الْجَنَّةِ (التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ) أَيْ: وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْأَذْكَارِ (كَمَا تُلْهَمُونَ) أَيْ: أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ (النَّفَسَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ التَّنَفُّسَ، وَالْمَعْنَى لَا يَتْعَبُونَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ كَمَا لَا تَتْعَبُونَ أَنْتُمْ. وَفِي الْجَامِعِ بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ أَيْ: «كَمَا يُلْهَمُونَ مِنَ النَّفَسِ، وَلَا يَشْغَلُهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ النَّفَسِ، كَالْمَلَائِكَةِ» ، أَوْ يُرِيدُ أَنَّهَا تَصِيرُ صِفَةً لَازِمَةً لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا كَالنَّفَسِ اللَّازِمِ لِلْحَيَوَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ نَفَسٌ إِلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ سُبْحَانَهُ؛ وَلِذَا قَالَ الْعَارِفُونَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] جَنَّةٌ عَاجِلَةٌ فِي الدُّنْيَا وَجَنَّةٌ آجِلَةٌ فِي الْعُقْبَى، فَالْأُولَى وَسِيلَةٌ لِلْأُخْرَى، وَالْأُخْرَى نَتِيجَةٌ لِلْأُولَى، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] فَإِنَّهُ لَا نَعِيمَ أَعْلَى مِنْ دَوَامِ ذِكْرِ الْكَرِيمِ: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] فَإِنَّ الْحِجَابَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْإِلْهَامُ إِلْقَاءُ الشَّيْءِ فِي الرَّوْعِ، وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَجِهَةِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَقَوْلُهُ: تُلْهَمُونَ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّنَفُّسُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

5621 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ، وَلَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5621 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ» ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ - أَنْ يَتَنَعَّمَ (وَلَا يَبْأَسُ) : بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَالْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيْ لَا يَفْقُرُ وَلَا يَهْتَمُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: يَنْعَمُ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُجَاءَ بِالْوَاوِ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِهِ التَّقْرِيرَ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: لَا يَبْأَسُ بِلَا عَطْفٍ (وَلَا يَبْلَى) : بِفَتْحِ اللَّامِ مَعَ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ أَيْ: لَا يَخْلَقُ ثِيَابُهُ (وَلَا يَفْنَى) أَيْ لَا يَذْهَبُ (شَبَابُهُ) . قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الثَّبَاتِ وَالْقَرَارِ، وَأَنَّ التَّغَيُّرَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا، فَلَا يَشُوبُ نَعِيمَهَا بُؤْسٌ، وَلَا يَعْتَرِيهِ فَسَادٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ الْأَضْدَادِ وَمَحَلَّ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5622 - 5623 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5622 - 5623 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يُنَادِي مُنَادٍ) أَيْ: فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: إِذَا رَأَوْهَا مِنْ بَعِيدٍ (إِنَّ لَكُمْ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ قَائِلًا: إِنَّ لَكُمْ (أَنْ تَصِحُّوا) : بِكَسْرِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ، أَيْ تَكُونُوا صَحِيحِي الْبَدَنِ دَائِمًا (فَلَا تَسْقَمُوا) أَيْ: فَلَا تَمْرَضُوا (أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا) : بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ تَكُونُوا أَحْيَاءً ( «فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا» ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ تَدُومُوا شَبَابًا (فَلَا تَهْرَمُوا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ لَا تَشِيبُوا (أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا النِّدَاءُ، وَالْبِشَارَةُ أَلَذُّ وَأَشْهَى مَا فِيهِ مِنَ السُّرُورِ، وَفِي عَكْسِهِ أَنْشَدَ الْمُتَنَبِّي: أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ ارْتِحَالًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5624 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ، مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: " بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5624 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ) أَيْ: يَنْظُرُونَ أَوْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا (أَهْلَ الْغُرَفِ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، جَمْعُ غُرْفَةٍ وَهِيَ بَيْتٌ يُبْنَى فَوْقَ الدَّارِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ فِي الْجَنَّةِ (مِنْ فَوْقِهِمْ) وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 22] يُرَادُ بِهَا الْعُلُوُّ الْحِسِّيُّ أَيْضًا (كَمَا تَتَرَاءَوْنَ) أَيْ أَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا (الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ) أَيْ: لِصَفَاءِ لَوْنِهِ وَنُورِهِ وَعُلُوِّ ظُهُورِهِ (الْغَابِرَ) : بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ بِالْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْغُبُورِ، أَيِ الْبَاقِيَ (فِي الْأُفُقِ) - بِضَمَّتَيْنِ - جَمْعُ الْآفَاقِ أَيْ فِي أَطْرَافِ السَّمَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْهَمْزَةِ بَدَلَهَا، مِنَ الْغَوْرِ، أَيِ الذَّاهِبَ فِي الْأُفُقِ الْبَعِيدَ الْغَوْرِ فِيهِ، (مِنَ الْمَشْرِقِ) أَيْ مِنْ جَانِبِهِ (أَوِ الْمَغْرِبِ) أَيْ مِنْ طَرَفِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ (أَوْ) لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] وَنَحْوِ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40] وَلَيْسَتْ لِلشَّكِّ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدِ اخْتُلِفَ فِي الْغَابِرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِالْهَمْزَةِ بَعْدَ الْأَلِفِ مِنَ الْغَوْرِ، يُرِيدُونَ أَنْحِطَاطَهُ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِالْبَاءِ مِنَ الْغُبُورِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبَاقِي فِي الْأُفُقِ بَعْدَ انْتِشَارِ ضَوْءِ الْفَجْرِ، فَإِنَّمَا يَسْتَبِينُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْكَوْكَبُ الْمُضِيءُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى نَشَأَتْ مِنَ التَّصْحِيفِ، انْتَهَى. وَلَمْ يُذْكَرْ وَجْهُ التَّصْحِيفِ فِيهِ. وَقَالَ شَارِحٌ: وَرُوِيَ الْغَابِرُ مِنَ الْغَوْرِ وَهُوَ الِانْحِطَاطُ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: مِنَ الْمَشْرِقِ، إِذْ غَوْرُ الْكَوْكَبِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ، ثُمَّ قَالَ قَوْلَهُ: مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ أَيْ بِالْوَاوِ، وَالصَّوَابُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كَمَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَكَذَا (بِأَوْ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَرِيَاضِ الصَّالِحِينَ قِيلَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ مَعًا دُونَ السَّمَاءِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْبُعْدُ وَالْإِنَارَةُ مَعًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْغَابِرِ الذَّاهِبُ الْمَاضِي أَيِ الَّذِي تَدَلَّى لِلْغُرُوبِ وَبَعُدَ عَنِ الْعُيُونِ. وَرُوِيَ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ الْغَارِبُ بِتَقَدُّمِ الرَّاءِ، وَرُوِيَ الْعَازِبُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ، وَمَعْنَاهُ الْبَعِيدُ فِي الْأُفُقِ، فَكُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قُلْتَ: مَا فَائِدَةُ تَقْيِيدِ الْكَوْكَبِ بِالدُّرِّيِّ ثُمَّ بِالْغَابِرِ فِي الْأُفُقِ؟ قُلْتُ: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ الَّذِي وَجْهُهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ مُتَوَهَّمَةٍ فِي الْمُشَبَّهِ، شَبَّهَ رُؤْيَةَ الرَّائِي فِي الْجَنَّةِ صَاحِبَ الْغُرْفَةِ بِرُؤْيَةِ الرَّائِي الْكَوْكَبَ الْمُسْتَضِيءَ الْبَاقِيَ مِنْ بَابِ الشَّرْقِ أَوِ الْغَرْبِ فِي الِاسْتِضَاءَةِ مَعَ الْبُعْدِ، فَلَوْ قِيلَ: " الْغَائِرُ " لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاقَ يَفُوتُ عِنْدَ الْغُرُوبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ: الْمُسْتَشْرِفَ عَلَى الْغُرُوبِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] أَيْ شَارَفْنَ بُلُوغَ أَجَلِهِنَّ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، نَعَمْ يَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِمْ: مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا وَرُمْحًا، وَعَلَفْتُهُ تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا. أَيْ: طَالِعًا فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَغَائِرًا فِي الْمَغْرِبِ (لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ) : عِلَّةٌ لِلتَّرَائِي، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا ذَلِكَ لِتَزَايُدِ مَرَاتِبِ مَا بَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ وَمَا بَيْنَ أَرْبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ. قِيلَ: الْجَنَّةُ طَبَقَاتٌ: أَعْلَاهَا لِلسَّابِقِينَ، وَأَوْسَطُهَا لِلْمُقْتَصِدِينَ، وَأَسَافِلُهَا لِلْمُخَلِّطِينَ.

( «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: (بَلَى» ) أَيْ: يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَيُشَارِكُهَا مَعَهُمْ بَعْضُ الْأَصْفِيَاءِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ) أَيْ: وَهُمْ رِجَالٌ، أَوْ يَبْلُغُهَا رِجَالٌ، أَيْ كَامِلُونَ فِي الرُّجُولِيَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] الْآيَةَ. آمَنُوا بِاللَّهِ أَيْ: حَقَّ الْإِيمَانِ، وَغَايَةَ الْإِيقَانِ، وَنِهَايَةَ الْإِحْسَانِ، (وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ) . فِي إِجَابَةِ مَا أَمَرُوا بِهِ وَنَهَوْا عَنْهُ، وَقَامُوا بِوَصْفِ الصَّابِرِينَ وَالشَّاكِرِينَ، وَتَرَفَّعُوا إِلَى مَقَامِ الرَّاضِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] إِلَى أَنْ قَالَ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] وَالْآيَةَ. وَفِي جَمْعِ الْمُرْسَلِينَ إِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ الْعَلِيَّةَ عَامَّةٌ لِلسَّابِقِينَ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الرُّتَبِ السَّنِيَّةِ، وَلَيْسَتْ خَاصَّةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، مَعَ أَنَّ تَصْدِيقَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ إِنَّمَا هُوَ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ، نَعَمْ قَدْ يُرَادُ بِهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ لِلْجَمْعِ، فَالْمُرَادُ رَسُولُهُ خَاصَّةً بِالْأَصَالَةِ، وَسَائِرُ الرُّسُلِ بِالتَّبَعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالْوَاحِدِ التَّصْدِيقُ بِالْكُلِّ، وَكَذَا فِي جَانِبِ التَّكْذِيبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَلَفْظُهُ: ( «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ» ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عُرْوَةَ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِلَفْظِ: ( «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا» ) . وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ قِيلَ: وَمَا مَعْنَى أَنْعَمَا؟ قَالَ: أَهْلٌ لِذَلِكَ هُمَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيُشْرِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْجَنَّةِ فَيُضِيءُ وَجْهُهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا يُضِيءُ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا» ) . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْأُخْوَانِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَعُمُدًا مِنْ يَاقُوتٍ عَلَيْهَا غُرَفٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَلَهَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، تُضِيءُ كَمَا يُضِيءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ، يَسْكُنُهَا الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَجَالِسُونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَلَاقُونَ فِي اللَّهِ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلَانَ الْكَلَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ) .

5625 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5625 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ) أَيْ: قُلُوبُهُمْ (مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ) أَيْ: فِي الرِّقَّةِ وَاللِّينَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالصَّفَاءِ، وَالْخُلُوِّ عَنِ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْبَغْضَاءِ، وَمُجْمَلُهُ: لِكَوْنِهَا خَالِيَةً مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، سَلِيمَةً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيلَ: مِثْلُهَا فِي رِقَّتِهَا، كَمَا وَرَدَ: «أَهْلُ الْيَمَنِ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا» ، وَقِيلَ: فِي الْخَوْفِ وَالْهَيْبَةِ، وَالطَّيْرُ أَكْثَرُ الْحَيَوَانِ خَوْفًا وَفَزَعًا. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] . وَقِيلَ فِي التَّوَكُّلِ كَمَا «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

5626 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5626 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا» ) أَيْ: يَا رَبَّنَا (وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ) أَيْ: جِنْسُهُ أَوْ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ (فِي يَدَيْكَ) : مُنْحَصِرٌ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِكَ وَإِرَادَتِكَ (فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ) ؟ أَيْ عَنْ رَبِّكُمْ (فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا نَرْضَى) الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ مَانِعٌ لَنَا مِنْ أَنْ لَا نَرْضَى عَنْكَ (يَا رَبِّ) : يَا رَبِّي، وَالْقِيَاسُ يَا رَبَّنَا، فَكَأَنَّهُ أُفْرِدَ بِاعْتِبَارِ كُلِّ قَائِلٍ (وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) ؟ أَيْ مِنْ عَطَائِكُمْ هَذَا (فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ) ؟ أَيْ مِنْ عَطَائِكَ هَذَا (يَقُولُ: أُحِلُّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ أُنْزِلُ (عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُضَمُّ، أَيْ دَوَامَ رِضْوَانِي، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْعَطَاءِ دَوَامُ الرِّضَا، وَلِذَا قَالَ: (فَلَا أَسْخَطُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ لَا أَغْضَبُ (عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) . ثُمَّ اللِّقَاءُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الرِّضَا مِنَ الرَّبِّ الْمُتَفَرِّعِ عَلَى الرِّضَا مِنَ الْعَبْدِ لِلْقَضَاءِ - تَرْتِيبَ الْبَقَاءِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْفَنَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ فَوْقَ إِدْخَالِهِ إِيَّاهُ الْجَنَّةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَدِيثُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] الْكَشَّافُ: إِنَّمَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ رِضَاهُ سَبَبُ كُلِّ فَوْزٍ وَسَعَادَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ تَعْظِيمَهُ وَكَرَامَتَهُ، وَالْكَرَامَةُ أَكْبَرُ أَضْعَافِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَوْلَاهُ رَاضٍ عَنْهُ فَهُوَ أَكْبَرُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا وَرَاءَهُ مِنَ النِّعَمِ، وَإِنَّمَا يَتَهَيَّأُ لَهُ بِرِضَاهُ، كَمَا يَنْتَقِصُ عَلَيْهِ بِسُخْطٍ وَلَمْ يَجِدْ لَهَا لَذَّةً وَإِنْ عَظُمَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَكْبَرُ أَصْنَافِ الْكَرَامَةِ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الرِّضْوَانَ أَكْبَرُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَحْصِيلِ اللِّقَاءِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ النَّعْمَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

5627 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5627 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ) أَيْ: أَقَلَّ مَرْتَبَةِ مُلْكِهِ وَمَسِيرَةِ جِنَانِهِ وَمَسَافَةِ قُصُورِهِ (مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: فِيهَا (أَنْ يَقُولَ) أَيِ اللَّهُ أَوِ الْمَلَكُ (لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى، وَيَتَمَنَّى) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكْرِيرِ هُوَ التَّكْثِيرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: " أَنْ يَقُولَ لَهُ " خَبَرُ " إِنَّ "، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَدْنَى مَنْزِلَةِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَنْ يَنَالَ أَمَانِيَهُ كُلَّهَا بِحَيْثُ لَا تَبْقَى لَهُ أُمْنِيَةٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَمْ يُبْقِ جُودُكَ لِي شَيْئًا أُؤَمِّلُهُ ... تَرَكْتَنِي أَصْحَبُ الدُّنْيَا بِلَا أَمَلِ (فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (لَهُ: هَلْ تَمَنَّيْتَ؟) أَيْ: جَمِيعَ أَمَانِيكَ (فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ) أَيْ: وَعْدًا وَعَدْلًا (وَمِثْلُهُ مَعَهُ) . أَيْ زِيَادَةً وَفَضْلًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَكُونُ مُنْتَهَى مَا تَمَنَّاهُ رِضَا مَوْلَاهُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ لِقَاهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ لَهُ مَزِيدٌ أَنْ يُعْطَاهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5628 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5628 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا نَهْرَانِ بِالشَّامِ، أَوَّلُهُمَا مِنَ السَّيْحِ بِالسِّينِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالنُّونُ فِيهِ زَائِدُةٌ، وَثَانِيهِمَا مِنْ حَجَنَ الصَّبِيُّ - بِالْجِيمِ فَالْحَاءِ - إِذَا سَاءَ غَدَاؤُهُ، وَالنُّونُ فِيهِ أَصْلِيَّةٌ (وَالْفُرَاتُ) : نَهْرٌ بِالْكُوفَةِ (وَالنِّيلُ) ، نَهْرُ مِصْرَ، وَأَمَّا سَيْحُونُ فَنَهْرٌ بِالْهِنْدِ، وَجَيْحُونُ نَهْرُ بَلْخٍ، وَيَنْتَهِي إِلَى خُوَارَزْمَ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَقِيلَ: سَيْحَانُ نَهْرٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ بِالْهِنْدِ، وَجَيْحَانُ نَهْرُ بَلْخٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ غَيْرُ سَيْحْوُنَ وَجَيْحُونَ، وَالْمَذْكُورَانِ فِي الْحَدِيثِ فِي بِلَادِ الْأَرْمَنِ، فَسَيْحَانُ نَهْرُ الْمِصِّيصَةِ، وَجَيْحَانُ نَهْرُ أَذَنَةَ، وَهُمَا نَهْرَانِ عَظِيمَانِ جِدًّا، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ: جَيْحَانُ نَهْرٌ بِالشَّامِ فَغَلَطٌ، وَقَالَ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ: فَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ نَهْرَانِ بِالْعَوَاصِمِ عِنْدَ الْمِصِّيصَةِ وَطَرَسُوسَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جَيْحُونَ بِالْوَاوِ نَهْرُ خُرَاسَانَ، وَقِيلَ سَيْحُونُ نَهْرٌ بِالْهِنْدِ. (كُلٌّ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا (مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ) إِنَّمَا جَعَلَ الْأَنْهَارَ الْأَرْبَعَةَ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُذُوبَةِ وَالْهَضْمِ، وَلِتَضَمُّنِهَا الْبَرَكَةَ الْإِلَهِيَّةَ وَتَشَرُّفِهَا بِوُرُودِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهَا وَشُرْبِهِمْ مِنْهَا، ذَلِكَ وَمِثْلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ: (إِنَّهَا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ) . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَنِ الْأَنْهَارِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ بِتِلْكَ الْأَسَامِي لِيُعْلَمَ أَنَّهَا فِي الْجَنَّةِ بِمَثَابَةِ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِأَنَّهَا مُسَمَّيَاتٌ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ، فَوَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا، كَذَا ذَكَرَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَعَلَ الْأَنْهَارَ الْأَرْبَعَةَ لِعُذُوبَةِ مَائِهَا وَكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا، كَأَنَّهَا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي هِيَ أُصُولُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، وَسَمَّاهَا بِأَسَامِي الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ أَنْهَارِ الدُّنْيَا وَأَشْهَرُهَا، وَأَعْذَبُهَا، وَأَفْيَدُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ - عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، لِيُعْلَمَ أَنَّهَا فِي الْجَنَّةِ بِمَثَابَتِهَا، وَأَنَّ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ وَالنَّعَائِمِ أُنْمُوذَجَاتٌ لِمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا مَا فِيهَا مِنَ الْمَضَارِّ الْمُرْدِيَةِ وَالْمُسْتَكْرَهَاتِ الْمُؤْذِيَةِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَوْنُ هَذِهِ الْأَنْهَارِ مِنَ الْجَنَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُمْ بِبِلَادِهَا، وَأَنَّ الْأَجْسَامَ الْمُتَغَذِّيَةَ بِمَائِهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنَّ لَهَا مَادَّةً مِنَ الْجَنَّةِ مَخْلُوقَةً؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ الْيَوْمَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّ الْفُرَاتَ وَالنِّيلَ يَجْرِيَانِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ أَصْلِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَفِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْأَنْهَارَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ، مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، اسْتَوْدَعَهَا الْجِبَالَ، وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون: 18] فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ يَرْفَعُ مِنَ الْأَرْضِ الْقُرْآنَ، وَالْعِلْمَ، وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَمَقَامَ إِبْرَاهِيمَ، وَتَابُوتَ مُوسَى، وَهَذِهِ الْأَنْهَارَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5629 - وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا لَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا، وَاللَّهِ لَتُمْلَأَنَّ، وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5629 - (وَعَنْ عُتْبَةَ) : بِضَمِّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ عَلَى مَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُؤَلِّفِ (ابْنِ غَزْوَانَ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ زَايٍ قِيلَ: هُوَ سَابِعُ سَبْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ (قَالَ: ذُكِرَ لَنَا) : هُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الصَّحَابِيِّ الْكَبِيرِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ بِالِاتَّفَاقِ، الْمَعْنَى بَلَغَنَا فِي (أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى) أَيْ: يُرْمَى (مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِكَسْرٍ وَاحِدَةُ الشِّفَاهِ، أَيْ مِنْ طَرَفِهَا (فَيَهْوِي) أَيْ: فَيَسْقُطُ الْحَجَرُ وَيَنْزِلُ (فِيهَا) أَيْ فِي جَهَنَّمَ (سَبْعِينَ خَرِيفًا) أَيْ: سَنَةً (لَا يُدْرِكُ) أَيِ: الْحَجَرُ (لَهَا) أَيْ: جَهَنَّمَ (قَعْرًا) ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لَا يَصِلُ إِلَى قَعْرِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مَعَ طُولِهَا وَعَرْضِهَا وَعُمْقِهَا، (وَاللَّهِ لَتُمْلَأَنَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ جَهَنَّمُ مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ بَعْدَ وَصْفِ جَهَنَّمَ انْتِقَالًا إِلَى نَعْتِ الْجَنَّةِ: ( «وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ» ) أَيْ: مَا بَيْنَ طَرَفَيْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا (مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ) لَعَلَّ كُلًّا مِنْ ضَمِيرَيْ " عَلَيْهَا "، وَ " هُوَ " يَرْجِعُ إِلَى (مَا) فَالْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ (مَا) عِبَارَةٌ عَنْ أَمَاكِنَ، وَالثَّانِي بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، فَالْمَعْنَى: وَالْحَالُ أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا (كَظِيظٌ) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ مَمْلُوءٌ، " فَعِيلٌ " بِمَعْنَى " مَفْعُولٍ "، وَقِيلَ: أَيْ مُمْتَلِئٌ (مِنَ الزِّحَامِ) . بِكَسْرِ الزَّايِ أَيِ الْكَثْرَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5630 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِمَّ خُلِقَ الْخَلْقُ؟ قَالَ: " مِنَ الْمَاءِ ". قُلْنَا: الْجَنَّةُ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: " لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، وَلَا يَبْلَى ثِيَابُهُمْ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5630 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِمَّ خُلِقَ الْخَلْقُ؟ قَالَ: (مِنَ الْمَاءِ» ) . قِيلَ: أَيْ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ اقْتِبَاسًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] أَيْ وَخَلَقْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ حَيَوَانٍ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ أَعْظَمُ مَوَادِّهِ، أَوْ لِفَرْطِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ وَانْتِفَاعِهِ بِعَيْنِهِ، وَقُرِئَ " حَيًّا " عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ كُلٍّ، أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَالظَّرْفُ لَغْوٌ، وَالشَّيْءُ مَخْصُوصٌ بِالْحَيَوَانِ (قُلْنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ: قُلْتُ ( «الْجَنَّةُ مَا بِنَاؤُهَا» ) أَيْ: هَلْ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ شَعَرٍ. ( «قَالَ: لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ» ) ، أَيْ بِنَاؤُهَا مُلَمَّعٌ وَمُرَصَّعٌ مِنْهُمَا، أَوْ ذَكَرَ النَّوْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْجَنَّتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِلَاطُهَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ مَا بَيْنَ اللَّبِنَتَيْنِ مَوْضِعُ النُّورَةِ (الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ) ، أَيِ الشَّدِيدُ الرِّيحِ، فِي " النِّهَايَةِ ": الْمِلَاطُ الطِّينُ الذَّكِيُّ يُجْعَلُ بَيْنَ سَاقِ الْبَنَّاءِ يُمَلَّطُ بِهِ الْحَائِطُ أَيْ: يُخْلَطُ (وَحَصْبَاؤُهَا) أَيْ: حَصْبَاؤُهَا الصِّغَارُ الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ (اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ) ، أَيْ مِثْلُهُمَا فِي اللَّوْنِ وَالصَّفَاءِ، (وَتُرْبَتُهَا) أَيْ: مَكَانُ تُرَابِهَا (الزَّعْفَرَانُ) ، أَيِ النَّاعِمُ الْأَصْفَرُ الطَّيِّبُ الرِّيحِ، فَجَمَعَ بَيْنَ أَلْوَانِ الزِّينَةِ وَهِيَ الْبَيَاضُ وَالْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ، وَيَتَكَمَّلُ بِالْأَشْجَارِ الْمُلَوَّنَةِ بِالْخُضْرَةِ، وَلَمَّا كَانَ السُّودُ مِمَّا يَغُمُّ الْفُؤَادَ خُصَّ بِأَهْلِ الْعِنَادِ مِنَ الْعِبَادِ ( «مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ» ) : بِفَتْحِ وَسَطِهِمَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ وَجَدْنَاهُ فِي الْمَصَابِيحِ وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَدِيثِ: يَبْؤُسُ، بِالْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ لِدَلَالَةِ الْوَاوِ عَلَى الضَّمِّ، وَبَأَسَ الْأَمْرُ يَبْؤُسُ إِذَا اشْتَدَّ، وَبَأَسَ يَبْأَسُ إِذَا افْتَقَرَ، وَالْغَلَطُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي رَسْمِ الْخَطِّ، وَالصَّوَابُ لَا يَبْأَسُ انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ: الْبَأْسُ الْعَذَابُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ، وَمِنْهُ الْبَأْسُ، وَبَؤُسَ كَكَرُمَ وَبَئِسَ كَسَمِعَ: اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ، وَمِنْهُ الْبَأْسَاءُ. (وَيَخْلُدُ) أَيْ: يَدُومُ فِيهَا فَلَا يَتَحَوَّلُ عَنْهَا (وَلَا يَمُوتُ) ، أَيْ لَا يَفْنَى بَلْ دَائِمًا يَبْقَى (وَلَا تَبْلَى) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ لَا تَخْلَقُ وَلَا تَتَقَطَّعُ (ثِيَابُهُمْ) ، وَكَذَا أَثَاثُهُمْ (وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ) أَيْ: لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَخْرُفُونَ، وَلَا يُغَيِّرُهُمْ مُضِيُّ الزَّمَانِ، فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا لِنَعِيمِ الْأَبَدِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

5631 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلَّا وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5631 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلَّا وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ» ) ، وَأَمَّا أَغْصَانُهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَتَارَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَأُخْرَى مِنْ فِضَّةٍ أَوْ يَاقُوتَةٍ أَوْ زُمُرُّدَةٍ أَوْ لُؤْلُؤَةٍ أَوْ مُرَصَّعَةٌ مُلَمَّعَةٌ، مُزَيَّنَةٌ بِأَنْوَاعِ الْأَزْهَارِ وَأَصْنَافِ الْأَنْوَارِ، وَمِنْ فَوْقِهَا أَجْنَاسُ الْأَثْمَارِ وَمِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ.

5632 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِائَةُ عَامٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5632 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ» ) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ بِالْمِائَةِ هَاهُنَا الْكَثْرَةُ، وَبِالدَّرَجَةِ الْمَرْقَاةُ، أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّرَجَاتِ الْمَرَاتِبُ الْعَالِيَةُ. قَالَ تَعَالَى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163] أَيْ ذَوُو دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الطَّاعَاتِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَصْحَابُ دَرَكَاتٍ مُتَسَافِلَةٍ بِقَدْرِ مَرَاتِبِهِمْ فِي شِدَّةِ الْكُفْرِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ( «مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِائَةُ عَامٍ» ) أَيْ مِقْدَارُ مَسَافَةِ مِائَةِ سَنَةٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

5633 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، لَوْ أَنَّ الْعَالَمِينَ اجْتَمَعُوا فِي إِحْدَاهُنَّ لَوَسِعَتْهُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5633 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، لَوْ أَنَّ الْعَالَمِينَ» ) أَيْ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (اجْتَمَعُوا فِي إِحْدَاهُنَّ لَوَسِعَتْهُمْ) أَيْ لَكَفَتْهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَصَحَّحَهُ.

5634 - وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] قَالَ: " ارْتِفَاعُهَا لَكَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5634 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] قَالَ: (ارْتِفَاعُهَا) أَيِ اعْتِلَاءُ فُرُشِ الْجَنَّةِ، أَوِ ارْتِفَاعُ الدَّرَجَةِ الَّتِي فُرِشَتِ الْفُرُشُ الْمَرْفُوعَةُ فِيهَا (لَكَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) : خَبَرٌ لِارْتِفَاعِهَا، كَقَوْلِهِ: (مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ) أَوِ الثَّانِي بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، ثُمَّ دُخُولُ اللَّامِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَمُّ الْحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ... تَرْضَى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ وَالشَّهْرَبَةُ: الْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ، وَمِثْلُهُ الشَّهِيرَةُ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَالْكَافُ فِي (لَكَمَا) اسْمٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] قَالَتِ النُّحَاةُ الْقُدَمَاءُ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ مُضْمَرٌ أَيْ: إِنَّهُ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ. قَالُوا: وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ أَنْ تَقَعَ فِي الْمُبْتَدَأِ، وَوُقُوعُهَا فِي الْخَبَرِ جَائِزٌ، هَذَا وَفِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] أَيْ نُضِدَتْ حَتَّى ارْتَفَعَتْ، أَوْ مَرْفُوعَةٌ عَلَى الْأَسِرَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ النِّسَاءُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يُكَنَّى عَنْهَا بِالْفِرَاشِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة: 35] وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أُضْمِرَ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْفُرُشِ وَهِيَ الْمَضَاجِعُ دَلَّ عَلَيْهِنَّ، انْتَهَى. فَهُنَّ مَرْفُوعَةٌ عَلَى الْفُرُشِ أَوِ السُّرُرِ أَوْ بِالْجَمَالِ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا عَلَى مَا قِيلَ، فَإِنَّ كُلَّ فَاضِلٍ رَفِيعٌ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ أَحْسَنُ مِنَ الْحُورِ؛ لِصَلَاتِهِنَّ وَصِيَامِهِنَّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ ارْتِفَاعُ الْفُرُشِ الْمَرْفُوعَةِ فِي الدَّرَجَاتِ، وَمَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِنَ الدَّرَجَاتِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، هَذَا الْقَوْلُ أَوْثَقُ وَأَعْرَفُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ لِلْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . انْتَهَى. وَعَارَضَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، فَأَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ وَتَرَكْتُ بَحْثَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: مَوْقُوفٌ (وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5635 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْءُ وُجُوهِهِمْ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالزُّمْرَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَائِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5635 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (ضَوْءُ وُجُوهِهِمْ) أَيْ: نُورُهَا (عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) ، وَهُوَ وَقْتُ كَمَالِ إِنَارَتِهِ ( «وَالزُّمْرَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى مِثْلِ أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ» ) ، وَهُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالصُّلَحَاءُ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الضِّيَاءِ ( «لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً» ) ، بِضَمِّ حَاءٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ، وَلَا تُطْلَقُ غَالِبًا إِلَّا عَلَى ثَوْبَيْنِ (يُرَى) أَيْ: يُبْصَرُ (مُخُّ سَاقِهَا) أَيْ: مُخُّ عِظَامِ سَاقِ كُلِّ زَوْجَةٍ (مِنْ وَرَائِهَا) . أَيْ مِنْ فَوْقِ حُلَلِهَا السَّبْعِينَ، لِكَمَالِ لَطَافَةِ أَعْضَائِهَا وَثِيَابِهَا، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِ: «أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً وَثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ» - بِأَنْ يُقَالَ: يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مَوْصُوفَتَانِ بِأَنْ يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَائِهَا، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَحْصُلَ لِكُلِّ مِنْهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ الْغَيْرِ الْبَالِغَةِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ لِكُلٍّ زَوْجَتَانِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً فِي الْجُمْلَةِ، يَعْنِي: اثْنَتَيْنِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَسَبْعِينَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

5636 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ قُوَّةَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْجِمَاعِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَيُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ: " يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5636 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ قُوَّةَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْجِمَاعِ» ) وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ جِمَاعِ عِدَّةٍ مِنَ النِّسَاءِ كَالْعَشَرَةِ مَثَلًا (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيُطِيقُ ذَلِكَ) ؟ بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: أَيُعْطَى تِلْكَ الْقُوَّةَ وَيَسْتَطِيعُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: كَذَا وَكَذَا مِنَ الْجِمَاعِ. (قَالَ: (يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ) أَيْ مِائَةِ رَجُلٍ، كَذَا قِيلَ، أَوْ مِائَةِ مَرَّةٍ مِنَ الْجِمَاعِ، وَالْمَعْنَى: فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يُطِيقُ ذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَفِي الْجَامِعِ: «يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ قُوَّةَ مِائَةٍ فِي النِّسَاءِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ. وَفِي الْجَامِعِ: ( «إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ، حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جِلْدِهِ، فَإِذَا بَطْنُهُ قَدْ ضَمُرَ» ) . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.

5637 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ بَدَا لَتَزَخْرَفَتْ لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَ فَبَدَا أَسَاوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْؤُهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5637 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ» ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: يَحْمِلُهُ (ظُفُرٌ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (مَا) مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا يُقِلُّهُ. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ قَدْرُ مَا مُسْتَقِلٌّ بِحَمْلِهِ ظُفُرٌ وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا (مِمَّا فِي الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ نَعِيمِهَا (بَدَا) أَيْ: ظَهَرَ فِي الدُّنْيَا لِلنَّاظِرِينَ (لَتَزَخْرَفَتْ) أَيْ: تَزَيَّنَتْ (لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الْمِقْدَارِ وَسَبَبِهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ وَظُهُورِ الْأَنْوَارِ (مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، أَيْ أَطْرَافِهَا. وَقِيلَ مُنْتَهَاهَا. وَقِيلَ الْخَافِقَانِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْخَوَافِقُ جَمْعُ خَافِقَةٍ، وَهِيَ الْجَانِبُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الْجَانِبُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهَا الرِّيَاحُ مِنَ الْخَفَقَانِ، وَيُقَالُ الْخَافِقَانِ لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَتَأْنِيثُ الْفِعْلِ لِأَنَّ " مَا بَيْنَ " بِمَعْنَى الْأَمَاكِنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] فِي وَجْهٍ. (وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَ) بِتَشْدِيدِ

الطَّاءِ أَيْ: أَشْرَفَ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا (فَبَدَا) أَيْ: ظَهَرَ (أَسَاوِرُهُ) : جَمْعُ إِسْوَرَةٍ جَمْعُ سِوَارٍ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَسَاوِرِهِ، فَفِي تَيْسِيرِ الْوُصُولِ: فَبَدَا سِوَارُهُ (لَطَمَسَ ضَوْؤُهُ) أَيْ: مَحَا نُورُهُ (ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ) : وَفِي نُسْخَةٍ كَمَا يَطْمِسُ ضَوْءُ الشَّمْسِ (ضَوْءَ النُّجُومِ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَحَادِيثَ، بَعْضُهَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَبَعْضُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الْجَامِعِ: ( «إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ لَيُشْرِفُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَتُضِيءُ الْجَنَّةُ لِوَجْهِهِ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ.

5638 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ كَحْلَى، لَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ، وَلَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5638 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَسُكُونِ رَاءٍ جَمْعُ أَجْرَدَ، وَهُوَ الَّذِي لَا شَعَرَ عَلَى جَسَدِهِ وَضِدُّهُ الْأَشْعَرُ (مُرْدٌ) : جَمْعُ أَمَرَدَ وَهُوَ غُلَامٌ لَا شَعَرَ عَلَى ذَقْنِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْحُسْنُ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ (كَحْلَى) بِفَتْحِ الْكَافِ فَعْلَى بِمَعْنَى فَعِيلٍ، أَيْ: مَكْحُولٌ، وَهُوَ عَيْنٌ فِي أَجْفَانِهَا سَوَادٌ خِلْقَةً، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْكَحَلُ - بِفَتْحَتَيْنِ - سَوَادٌ فِي أَجْفَانِ الْعَيْنِ خِلْقَةً، وَالرَّجُلُ كَحْلٌ وَكَحِيلٌ وَكَحْلَى، جَمِيعُ كَحِيلٍ. (لَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ، وَلَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) .

5639 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلَاثِينَ - أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5639 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ» أَيْ: خِلْقَةً وَكَمُكَحَّلِينَ (أَبْنَاءَ ثَلَاثِينَ) أَيْ: أَتْرَابًا (أَوْ ثَلَاثٍ) أَيْ: أَوْ أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ (وَثَلَاثِينَ سَنَةً) : وَ " أَوْ " لِشَكِّ الرَّاوِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . قِيلَ: وَحَسَّنَهُ.

5640 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذُكِرَ لَهُ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى قَالَ: يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّ الْفَنَنِ مِنْهَا مِائَةَ سَنَةٍ، أَوْ يَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا مِائَةُ رَاكِبٍ - شَكَّ الرَّاوِي - فِيهَا فَرَاشُ الذَّهَبِ، كَأَنَّ " ثَمَرَهَا الْقِلَالُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5640 - (وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذُكِرَ لَهُ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى) قِيلَ: هِيَ شَجَرَةُ نَبْقٍ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ ثَمَرُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ، وَالْمُنْتَهَى بِمَعْنَى مَوْضِعِ الِانْتِهَاءِ أَوِ الِانْتِهَاءِ، كَأَنَّهَا فِي مُنْتَهَى الْجَنَّةِ وَآخِرِهَا، وَقِيلَ: لَمْ يُجَاوِزْهَا حَدٌّ، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا وَرَاءَهَا (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَسِيرُ الرَّاكِبُ) أَيِ الْمُجِدُّ (فِي ظِلِّ الْفَنَنِ) مُحَرَّكَةٌ، أَيِ الْغُصْنُ وَجَمْعُهُ الْأَفْنَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] وَيُقَالُ ذَلِكَ لِلنَّوْعِ، وَجَمْعُهُ فُنُونٌ، كَذَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ السِّدْرَةِ (مِائَةَ سَنَةٍ، أَوْ يَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا مِائَةُ رَاكِبٍ) وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي طُولِهَا وَعَرْضِهَا، فَـ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ بِاخْتِلَافِ بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَظَرِ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: (شَكَّ الرَّاوِي) يَأْبَى عَنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ كَلَامِ مَنْ، وَالشَّكُّ وَقَعَ مِمَّنْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (فِيهَا) أَيْ: فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَالْمَعْنَى فِيهَا بَيْنَ أَغْصَانِهَا أَوْ عَلَيْهَا بِمَعْنَى فَوْقَهَا مِمَّا يَغْشَاهَا (فَرَاشُ الذَّهَبِ) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ جَمْعُ فَرَاشَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَطِيرُ وَتَتَهَافَتُ فِي السِّرَاجِ، قِيلَ: هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] وَمِنْهُ أَخَذَ ابْنُ مَسْعُودٍ حَيْثُ فَسَّرَ مَا يَغْشَى بِقَوْلِهِ: يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَتْحَ الْعِجْلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمَلَائِكَةَ تَتَلَأْلَأُ أَجْنِحَتُهَا تَلَأْلُؤَ أَجْنِحَةِ الْفَرَاشِ كَأَنَّهَا مُذَهَّبَةٌ. (كَأَنَّ ثَمَرَهَا الْقِلَالُ) بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ الْقُلَّةِ أَيْ قِلَالُ هَجَرَ فِي الْكِبَرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5641 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالَ: " ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ - أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، فِيهِ طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ " قَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5641 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالَ: (ذَاكَ نَهَرٌ» ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتُسَكَّنُ، أَيْ جَدْوَلُ مَاءٍ، وَفِي طَرَفَيْهِ حَوْضَانِ أَحَدُهُمَا فِي الْجَنَّةِ وَالْآخَرُ فِي الْمَوْقِفِ (أَعْطَانِيهِ اللَّهُ) وَإِنَّمَا قَالَ الْقَائِلُ (يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ) ؛ لِكَوْنِ أَكْثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ، أَوْ مَآلَ تَمَامِهِ إِلَيْهَا ( «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» ) وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَاءَهُ جَامِعٌ بَيْنَ سَوْغِ اللَّبَنِ وَلَذَّةِ الْعَسَلِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] (فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ النَّهْرِ أَوْ فِي أَطْرَافِهِ (طَيْرٌ) أَيْ: جِنْسٌ مِنَ الطُّيُورِ طَوِيلِ الْعُنُقِ وَكَبِيرِهِ (أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالزَّايِ جَمْعُ جَزُورٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أُعِدَّ لِلنَّحْرِ لِيَأْكُلَ مِنْهُ أَصْحَابُ شُرْبِ ذَلِكَ النَّهْرِ، فَإِنَّهُ يَتِمُّ عَيْشُ الدَّهْرِ. (قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ هَذِهِ) أَيِ الطَّيْرُ فَإِنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (لَنَاعِمَةٌ) أَيْ: لِمُتَنَعِّمَةٌ أَوْ لَنِعْمَةٌ طَيِّبَةٌ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكَلَتُهَا) بِفَتَحَاتٍ، جَمْعُ آكِلٍ، اسْمُ فَاعِلٍ كَطَلَبَةٍ جَمْعُ طَالِبٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فِي أَصْلِ الْجَزَرِيِّ وَسَائِرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَأْكُلُهَا (أَنْعَمُ مِنْهَا) . وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَهِيَ أَصْلُ السَّيِّدِ: آكِلَتُهَا، بِالْمَدِّ وَبِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْوَاحِدِ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْجَمَاعَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ آكِلُهَا بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ الْمُذَكَّرِ، وَفِي أُخْرَى آكِلُوهَا بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ( «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ، تُرَابُهُ مِسْكٌ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، تَرِدُهُ طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا مِثْلُ أَعْنَاقِ الْجُزُرِ، أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا» ) .

5642 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ خَيْلٍ؟ قَالَ: " إِنِ اللَّهُ أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ فَلَا تَشَاءُ أَنْ تُحْمَلَ فِيهَا عَلَى فَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطِيرُ بِكَ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتَ إِلَّا فَعَلْتَ " وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ إِبِلٍ؟ فَإِنِّي أُحِبُّ الْإِبِلَ. قَالَ: فَلَمْ يَقُلْ لَهُ مَا قَالَ لِصَاحِبِهِ، فَقَالَ: " إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ يَكُنْ لَكَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5642 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ ( «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ خَيْلٍ؟» قَالَ: (إِنِ اللَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ عَلَى أَنَّ إِنْ شَرْطِيَّةٌ، ثُمَّ كُسِرَ لِلِالْتِقَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ (أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ) : وَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ؛ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ حَرْفِ الشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ: (فَلَا تَشَاءُ أَنْ تُحْمَلَ فِيهَا) جَوَابٌ لِلشَّرْطِ أَيْ: فَلَا تَشَاءُ الْحَمْلَ فِي الْجَنَّةِ ( «عَلَى فَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطِيرُ» ) بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْفَرَسُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَيْ: يُسْرِعُ (بِكَ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتَ إِلَّا فَعَلْتَ) . بِصِيغَةِ الْمُخَاطَبِ الْمُذَكَّرِ الْمَعْلُومِ، وَالْمَعْنَى إِنْ تَشَاءُ تَفْعَلُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: حُمِلْتَ عَلَيْهَا وَرَكِبْتَ، وَفِي أُخْرَى بِتَاءِ التَّأْنِيثِ السَّاكِنَةِ، فَالضَّمِيرُ لِلْفَرَسِ، أَيْ حَمَلْتُكَ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ فَلَا تَشَاءُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى فَرَسٍ كَذَلِكَ إِلَّا حُمِلْتَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ إِلَّا وَتَجِدُهُ فِي الْجَنَّةِ كَيْفَ شَاءَتْ، حَتَّى لَوِ اشْتَهَتْ أَنْ تَرْكَبَ فَرَسًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَوَجَدْتَهُ وَتَمَكَّنْتَ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: إِنْ أَدْخَلَكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَلَا تَشَاءُ أَنْ يَكُونَ لَكَ مَرْكَبٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطِيرُ بِكَ حَيْثُ شِئْتَ، وَلَا تَرْضَى بِهِ فَتَطْلُبُ فَرَسًا مِنْ جِنْسِ مَا تَجِدُهُ فِي الدُّنْيَا حَقِيقَةً وَصِفَةً، وَالْمَعْنَى فَيَكُونُ لَكَ مِنَ الْمَرَاكِبِ مَا يُغْنِيكَ عَنِ الْفَرَسِ الْمَعْهُودِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ إِنْ أُدْخِلْتَ الْجَنَّةَ أُتِيتَ بِفَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ لَهُ جَنَاحَانِ فَحُمِلْتَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَرَاكِبِ الْجَنَّةِ وَمَرَاكِبِ الدُّنْيَا وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ عَلَى التَّصْوِيرِ وَالتَّمْثِيلِ - مَثَّلَ فَرَسَ الْجَنَّةِ فِي جَوْهَرِهِ بِمَا هُوَ عِنْدَنَا أَثْبَتُ الْجَوَاهِرِ وَأَدْوَمُهَا وُجُودًا، وَأَنْصَعُهَا لَوْنًا، وَأَصْفَاهَا جَوْهَرًا. وَفِي شِدَّةِ حَرَكَتِهِ وَسُرْعَةِ انْتِقَالِهِ بِالطَّيْرِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِقَوْلِهِ: جَنَاحَانِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ أَبْنِيَةِ الْجَنَّةِ وَرِيَاضِهَا وَأَنْهَارِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ بِحَقَائِقِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ: " إِلَّا حُمِلْتَ " يَقْتَضِي أَنْ يُرْوَى قَوْلُهُ: إِلَّا فَعَلْتَ، عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ أَيْ: لَا تَكُونُ بِمَطْلُوبِكَ إِلَّا مُسْعَفًا، وَإِذَا تُرِكَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ كَانَ التَّقْدِيرُ، فَلَا تَكُونُ بِمَطْلُوبِكَ إِلَّا فَائِزًا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ قَرِيبٌ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ سَأَلَ عَنِ الْفَرَسِ الْمُتَعَارَفِ فِي الدُّنْيَا، فَأَجَابَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا فِي الْجَنَّةِ، أَيِ: اتْرُكْ مَا طَلَبْتَهُ؛ فَإِنَّكَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ بِهَذَا الْمَرْكَبِ الْمُوصَفِ. ( «وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ إِبِلٍ؟ فَإِنِّي أُحِبُّ الْإِبِلَ. قَالَ» ) أَيْ: بُرَيْدَةُ (فَلَمْ يَقُلْ لَهُ مَا قَالَ لِصَاحِبِهِ) أَيْ مِثْلَ مَقُولِهِ لِصَاحِبِهِ كَمَا سَبَقَ، بَلْ أَجَابَهُ مُخْتَصَرًا (فَقَالَ: ( «إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ يَكُنْ لَكَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ» ) أَيْ: وَجَدَتْ عَيْنُكَ لَذِيذًا، مِنْ لَذِذْتُ بِالْكَسْرِ لِذَاذًا أَيْ: وَجَدْتُهُ لَذِيذًا، قَالَهُ شَارِحٌ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5643 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ الْخَيْلَ، أَفِي الْجَنَّةِ خَيْلٌ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ أُدْخِلْتَ الْجَنَّةَ أُتِيتَ بِفَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ لَهُ جَنَاحَانِ، فَحُمِلْتَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طَارَ بِكَ حَيْثُ شِئْتَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَأَبُو سَوْرَةَ الرَّاوِي يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ، وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: أَبُو سَوْرَةَ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، يَرْوِي مَنَاكِيرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5643 - (وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ جَاءَ (أَعْرَابِيٌّ) أَيْ: بَدَوِيٌّ ( «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنِّي أُحِبُّ الْخَيْلَ» ) أَيْ فِي الدُّنْيَا ( «أَفِي الْجَنَّةِ خَيْلٌ» ) ؟ يَعْنِي أَوَلَيْسَ فِيهَا، أَوَلَا تُشْتَهَى، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ أُدْخِلْتَ الْجَنَّةَ أُتِيتَ) أَيْ جِئْتَ (بِفَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ) قِيلَ: أَرَادَ الْجِنْسَ الْمَعْهُودَ مَخْلُوقًا مِنْ أَنْفَسِ الْجَوَاهِرِ، وَقِيلَ: إِنَّ هُنَاكَ مَرْكَبًا مِنْ جِنْسٍ آخَرَ يُغْنِيكَ مِنَ الْمَعْهُودِ كَمَا مَرَّ، وَالْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِمَا سَيَأْتِي وَلِقَوْلِهِ: (لَهُ جَنَاحَانِ فَحُمِلْتَ عَلَيْهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ رَكِبْتَ (ثُمَّ طَارَ بِكَ حَيْثُ شِئْتَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَأَبُو سَوْرَةَ) : بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ (الرَّاوِي) أَيْ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ (يُضَعَّفُ) أَيْ: يُنْسَبُ إِلَى الضَّعْفِ بِأَحَدِ أَسْبَابِهِ (فِي الْحَدِيثِ) ، أَيْ فِي عَمَلِهِ، أَوْ فِي إِسْنَادِهِ (وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ الْبُخَارِيُّ (يَقُولُ: أَبُو سَوْرَةَ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، يَرْوِي مَنَاكِيرَ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ عَلَى النَّجَائِبِ، بِيضٌ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ مِنَ الْبَهَائِمِ إِلَّا الْإِبِلُ وَالطَّيْرُ» ) .

5644 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) ـــــــــــــــــــــــــــــ 5644 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ» ) أَيْ قَدْرُهَا أَوْ صُوِّرُوا صُفُوفًا (ثَمَانُونَ) أَيْ: صَفًّا (مِنْهَا) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَدَدِ كَائِنُونَ (مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ) أَيْ: صَفًّا (مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ) . وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ تَكْثِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُمْ ثُلُثَانِ فِي الْقِسْمَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ) فَكَبَّرْنَا. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ) . فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ) ، قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَانُونَ صَفًّا مُسَاوِيًا فِي الْعَدَدِ لِلْأَرْبَعِينَ صَفًّا، وَأَنْ يَكُونُوا كَمَا زَادَ عَلَى الرُّبُعِ وَالثُّلُثِ يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ كَرَامَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، عَلَى أَنَّ النِّصْفَ قَدْ يُطْلَقُ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ التَّسَاوِيَ فِي الْعَدَدِ وَالصَّفِّ؛ وَلِذَا يُوصَفُ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) . وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْهُ. وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى.

5645 - وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَابُ أُمَّتِي الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ الْجَنَّةَ عَرْضُهُ مَسِيرَةُ الرَّاكِبِ الْمُجَوِّدِ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَيُضْغَطُونَ عَلَيْهِ، حَتَّى تَكَادُ مَنَاكِبُهُمْ تَزُولُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَقَالَ: يَخْلُدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5645 - (وَعَنْ سَالِمٍ) ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ أَبِي) أَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَابُ أُمَّتِي الَّذِينَ) كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَيَكُونُ صِفَةً لِلْأُمَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الْبَابِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ إِذِ الْمَعْنَى: بَابُ أُمَّتِي الَّذِي ( «يَدْخُلُونَ مِنْهُ الْجَنَّةَ عَرْضُهُ مَسِيرَةُ الرَّاكِبِ الْمُجَوِّدِ» ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّجْوِيدِ وَهُوَ التَّحْسِينُ. قَالَ شَارِحٌ أَيِ الرَّاكِبُ الَّذِي يُجَوِّدُ رَكْضَ الْفَرَسِ، مِنْ جَوَّدْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ جَيِّدًا، وَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ يُجَوِّدُ فِي صَنْعَتِهِ يَفُوقُ فِيهَا، وَأَجَادَ الشَّيْءَ وَجَوَّدَهُ: أَحْسَنَ فِيمَا فَعَلَ، وَجَوَّدَ فِي عَدْوِهِ، عَدَا عَدْوًا جَوَادًا، وَفَرَسٌ جَوَادٌ مِنْ خَيْلٍ جِيَادٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْمُجَوِّدُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الرَّاكِبِ، وَالْمَعْنَى: الرَّاكِبُ الَّذِي يُجَوِّدُ رَكْضَ الْفَرَسِ، وَأَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ لَفْظِيَّةٌ أَيِ الْفَرَسُ الَّذِي يُجَوِّدُ فِي عَدْوِهِ (ثَلَاثًا) ، ظَرْفُ مَسِيرَةٍ، وَالْمَعْنَى؛ ثَلَاثَ لَيَالٍ، أَوْ سِنِينَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمُبَالِغَةَ أَكْثَرَ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلًا بِالْقَلِيلِ ثُمَّ أُعْلِمَ بِالْكَثِيرِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَبْوَابِ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (ثُمَّ إِنَّهُمْ) أَيْ: أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أُمَّتِي عِنْدَ دُخُولِهِمْ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَالْمُرَادُ بِالْبَابِ جِنْسُهُ (لَيُضْغَطُونَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَيُعْصَرُونَ وَيُضَيَّقُونَ (عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى الْبَابِ (حَتَّى تَكَادَ) أَيْ: تَقْرُبُ (مَنَاكِبُهُمْ تَزُولُ) . أَيْ تَنْقَطِعُ مِنْ شِدَّةِ الزِّحَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ) . وَفِي الْمَصَابِيحِ: ضَعِيفٌ مُنْكَرٌ. قَالَ شَارِحٌ لَهُ أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا مَرَّ. (وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ) ، أَيْ أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَالْعَالِمُ بِالْحَدِيثِ الْمُحِيطُ بِطُرُقِ الْأَحَادِيثِ إِذَا قَالَ: لَمْ أَعْرِفْهُ - دَلَّ عَلَى ضَعْفِهِ (وَقَالَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ (يَخْلُدُ) بِضَمِّ اللَّامِ (بْنُ أَبِي بَكْرٍ) وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ) يَعْنِي: فَيَكُونُ حَدِيثًا ضَعِيفًا وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ حَدِيثَهُ هَذَا مُنْكَرٌ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ قَوْلُهُ: يَخْلُدُ سَهْوٌ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ، وَصَوَابُهُ خَالِدٌ؛ إِذْ فِي التِّرْمِذِيِّ خَالِدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَا فِي كُتُبِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ.

5646 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا مَا فِيهَا شِرًى وَلَا بَيْعٌ إِلَّا الصُّوَرَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَإِذَا اشْتَهَى الرَّجُلُ صُورَةً دَخَلَ فِيهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5646 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا» ) أَيْ: مُجْتَمَعًا، وَالسُّوقُ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ؛ وَلِذَا قَالَ: (مَا فِيهَا) أَيْ لَيْسَ فِي تِلْكَ السُّوقِ (شِرًى) بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ أَيِ اشْتِرَاءٌ (وَلَا بَيْعٌ) : وَالْمَعْنَى لَيْسَ فِيهَا تِجَارَةٌ (إِلَّا الصُّوَرَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، أَيِ التَّمَاثِيلَ الْمُخْتَلِفَةَ (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَإِذَا اشْتَهَى الرَّجُلُ صُورَةً دَخَلَ فِيهَا) . وَكَذَا إِذَا اشْتَهَتِ النِّسَاءُ صُورَةً دَخَلْنَ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّوقِ الْمَجْمَعُ وَهَذَا يُؤَيِّدُهُ، يَعْنِي حَيْثُ قَالَ: مَا فِيهَا شِرًى وَلَا بَيْعٌ. قَالَ: فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِأَنْ يُجْعَلَ تَبْدِيلُ الْهَيْئَاتِ مِنْ جِنْسِ الْبَيْعِ وَالشِّرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] يَعْنِي عَلَى وَجْهٍ، وَإِلَّا فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ مُنْقَطِعٌ، ثُمَّ قِيلَ: يَحْتَمِلُ الْحَدِيثُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ عَرْضَ الصُّوَرِ الْمُسْتَحْسَنَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا اشْتَهَى وَتَمَنَّى تِلْكَ الصُّورَةَ الْمَعْرُوضَةَ عَلَيْهِ صَوَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِشَكْلِ تِلْكَ الصُّورَةِ بِقُدْرَتِهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصُّورَةِ الزِّينَةُ الَّتِي يَتَزَيَّنُ الشَّخْصُ بِهَا فِي تِلْكَ السُّوقِ، وَيَتَلَبَّسُ بِهَا، وَيَخْتَارُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَالتَّاجِ. يُقَالُ: لِفُلَانٍ صُورَةٌ حَسَنَةٌ، أَيْ هَيْئَةٌ مَلِيحَةٌ، يَعْنِي فَإِذَا رَغِبَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أُعْطِيَهُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا التَّزَيُّنَ بِهَا، وَعَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ التَّغَيُّرُ فِي الصِّفَةِ لَا فِي الذَّاتِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا لِيُوَافِقَ حَدِيثَ أَنَسٍ، «فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا» . . . الْحَدِيثَ. قُلْتُ: وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] وَلَعَلَّ التَّقْيِيدَ بِالْمَكَانِ وَهُوَ السُّوقُ وَالزَّمَانُ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَبِخُصُوصِ الصُّوَرِ - لِكَوْنِهِ يَوْمَ الْمَزِيدِ وَيَوْمَ اللِّقَاءِ وَيَوْمَ الْجَمْعِ، وَمُشَاهَدَةِ أَهْلِ الْبَقَاءِ، وَزِيَادَةِ أَهْلِ الصَّفَاءِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

5647 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: أَفِيهَا سُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَيَزُورُونَ رَبَّهُمْ، وَيَبْرُزُ لَهُمْ عَرْشُهُ، وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، تُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ، وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ - وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ - عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ بِأَفْضَلَ مِنْهُمْ مَجْلِسًا ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، هَلْ تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: " كَذَلِكَ لَا تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ رَجُلٌ إِلَّا حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً حَتَّى يَقُولَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، أَتَذْكُرُ يَوْمَ قَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ يُذَكِّرُهُ بَعْضَ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَبِسِعَةِ مَغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ غَشِيتْهُمْ سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ طِيبًا لَمْ يَجِدُوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قَطُّ، وَيَقُولُ رَبُّنَا: قُومُوا إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ فَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ، فَنَأْتِي سُوقًا قَدْ حَفَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فِيهَا مَا لَمْ تَنْظُرِ الْعُيُونُ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ، فَيُحْمَلُ لَنَا مَا اشْتَهَيْنَا، لَيْسَ يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى، وَفِي ذَلِكَ السُّوقِ يَلْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ". قَالَ: " فَيُقْبِلُ الرَّجُلُ ذُو الْمَنْزِلَةِ الْمُرْتَفِعَةِ، فَيَلْقَى مَنْ هُوَ دُونَهُ - وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ - فَيَرُوعُهُ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاسِ، فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ حَتَّى يَتَخَيَّلَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَحْسَنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْزَنَ فِيهَا، ثُمَّ نَنْصَرِفُ إِلَى مَنَازِلِنَا، فَيَتَلَقَّانَا أَزْوَاجُنَا، فَيَقُلْنَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، لَقَدْ جِئْتَ وَإِنَّ بِكَ مِنَ الْجَمَالِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: إِنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ، وَيَحِقُّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5647 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ) أَيْ فِي السُّوقِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ ( «فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ» ) أَيْ كَمَا بَيْنَنَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ (فَقَالَ سَعِيدٌ: أَفِيهَا) أَيْ: أَفِي الْجَنَّةِ (سُوقٌ؟) يَعْنِي وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ إِلَى التِّجَارَةِ (قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ) : بِالْفَتْحِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَغَيْرِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ عَلَى الْحِكَايَةِ أَيِ الْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ إِنَّ، أَوِ التَّقْدِيرُ قَائِلًا إِنَّ (أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا) أَيِ الْجَنَّةَ (نَزَلُوا فِيهَا) أَيْ فِي مَنَازِلِهَا وَدَرَجَاتِهَا (بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ) أَيْ: بِقَدْرِ زِيَادَةِ طَاعَاتِهِمْ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً ( «ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» ) أَيْ: قَدْرُ إِتْيَانِهِ، وَالْمُرَادُ فِي مِقْدَارِ الْأُسْبُوعِ (مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَيَزُورُونَ رَبَّهُمْ) ، أَيْ فِيهِ (وَيَبْرُزُ) : مِنَ الْإِبْرَازِ أَيْ: وَيُظْهِرُ رَبُّهُمْ إِلَيْهِمْ عَرْشَهُ) ، أَيْ نِهَايَةَ لُطْفِهِ وَغَايَةَ رَحْمَتِهِ، كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَإِلَّا فَقَدَ سَبَقَ أَنَّ الْعَرْشَ سَقْفُ الْجَنَّةِ، وَلِيُلَائِمَ عَلَى وَجْهِ التَّنْزِيهِ مِنَ الْجِهَةِ. قَوْلُهُ: (وَيَتَبَدَّى) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: يَظْهَرُ وَيَتَجَلَّى رَبُّهُمْ (لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) أَيْ عَظِيمَةٍ (مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ) أَيْ: كَرَاسِيُّ مُرْتَفِعَةٌ ( «مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ» ) : بِفَتْحِ زَايٍ وَمُوَحَّدَةٍ فَرَاءٍ سَاكِنَةٍ فَجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ: جَوْهَرٌ مَعْرُوفٌ ( «وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ» ) ، أَيْ بِحَسَبِ مَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ وَمَرَاتِبِ أَحْوَالِهِمْ، (وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ) أَيْ: دُونَهُمْ مَنْزِلَةً (وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ دُونٌ وَخَسِيسٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ تَتْمِيمٌ صَوْنًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: أَدْنَاهُمُ الدَّنَاءَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَدْنَى فِي الْمَرْتَبَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجْلِسُ أَقَلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ اعْتِبَارًا (عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ) بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، جَمْعُ كَثِيبٍ أَيْ: تَلٌّ مِنَ الرَّمْلِ الْمُسْتَطِيلِ مِنْ كَثَبْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَمَعْتُهُ (وَالْكَافُورِ) ، بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى الْمِسْكِ، فَفِي الْقَامُوسِ: هُوَ نَبْتٌ طَيِّبٌ نَوْرُهُ كَنَوْرِ الْأُقْحُوَانِ أَوِ الطَّلْعِ أَوْ وِعَائِهِ، طِيبٌ مَعْرُوفٌ يَكُونُ مِنْ شَجَرٍ بِجِبَالِ بَحْرِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ، يُظِلُّ خَلْقًا كَثِيرًا، وَتَأْلَفُهُ النَّمُورَةُ، وَخَشَبُهُ أَبْيَضُ هَشٌّ، وَيُوجَدُ فِي أَجْوَافِهِ الْكَافُورُ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ، وَلَوْنُهَا أَحْمَرُ، وَإِنَّمَا بُيِّضَ بِالتَّصْعِيدِ مَعَ الْكَرْمِ وَعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ (مَا يَرَوْنَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ، وَالضَّمِيرُ إِلَى الْجَالِسِينَ عَلَى الْكُثْبَانِ أَيْ: لَا يَظُنُّونَ وَلَا يَتَوَهَّمُونَ (أَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ) أَيْ: أَرْبَابَ الْمَنَابِرِ (بِأَفْضَلَ مِنْهُمْ مَجْلِسًا) حَتَّى يَحْزَنُوا بِذَلِكَ، لِقَوْلِهِمْ عَلَى مَا فِي التَّنْزِيلِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] بَلْ إِنَّهُمْ وَاقِفُونَ فِي مَقَامِ الرِّضَا، وَمُتَلَذِّذُونَ بِحَالِ التَّسْلِيمِ بِمَا جَرَى الْقَضَاءُ.

( «قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا» ) ؟ أَيْ: يَتَجَلَّى الذَّاتُ؟ (قَالَ: نَعَمْ، هَلْ تَتَمَارَوْنَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ أَيْ: هَلْ تَشُكُّونَ (فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ) أَيْ: فِي رُؤْيَتِكُمُ الشَّمْسَ (وَالْقَمَرِ) أَيْ: وَفِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ (لَيْلَةَ الْبَدْرِ) ؟ وَاحْتُرِزَ عَنِ الْهِلَالِ وَعَنِ الْقَمَرِ فِي غَيْرِ لَيَالِي الْبُدُورِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ فِي نِهَايَةِ النُّورِ (قُلْنَا: لَا) أَيْ: لَا نَشُكُّ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ (قَالَ: ( «كَذَلِكَ لَا تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ» ) : وَالتَّشْبِيهُ إِنَّمَا هُوَ فِي كَمَالِ الظُّهُورِ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ خَطِرَاتٍ تَخْتَلِجُ فِي الصُّدُورِ ( «وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ رَجُلٌ إِلَّا حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً» ) : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْحُضُورِ وَقَدْ صُحِّفَ بِالْمُهْمَلَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْكَلِمَتَانِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ كَشْفُ الْحِجَابِ وَالْمُقَاوَلَةُ مَعَ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ وَلَا تُرْجُمَانٍ، وَيُبَيِّنُهُ الْحَدِيثُ: ( «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ» ) الْحَدِيثَ. وَالْمَعْنَى خَاطَبَهُ اللَّهُ مُخَاطَبَةً وَحَاوَرَهُ مُحَاوَرَةً. (حَتَّى يَقُولَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ: يَا فُلَانَ) : بِالْفَتْحِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِّ (ابْنَ فُلَانٍ) بِنَصْبِ ابْنٍ وَصَرْفِ فُلَانٍ، وَهُمَا كِنَايَتَانِ عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ» ) . ( «أَتَذْكُرُ يَوْمَ قَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟» ) أَيْ: مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ، فَكَأَنَّهُ تَوَقَّفَ الرَّجُلُ فِيهِ وَيَتَأَمَّلُ فِيمَا ارْتَكَبَهُ مِنْ مَعَاصِيهِ (فَيُذَكِّرُهُ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ: فَيُعْلِمُهُ اللَّهُ (بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، جَمْعُ غَدْرَةٍ - بِالسُّكُونِ - بِمَعْنَى الْغَدْرِ، وَهُوَ تَرْكُ الْوَفَاءِ، وَالْمُرَادُ مَعَاصِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفِ بِتَرْكِهَا الَّذِي عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي) ؟ أَيْ: أَدْخَلْتَنِي الْجَنَّةَ فَلَمْ تَغْفِرْ لِي مَا صَدَرَ لِي مِنَ الْمَعْصِيَةِ. (فَيَقُولُ: بَلَى) ، أَيْ: غَفَرْتُ لَكَ (فَبِسَعَةِ مَغْفِرَتِي) بِفَتْحِ السِّينِ وَيُكْسَرُ (بَلَغْتَ) أَيْ: وَصَلْتَ (مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عُطِفَ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: غَفَرْتُ لَكَ فَبَلَغْتَ بِسَعَةِ رَحْمَتِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الرَّفِيعَةَ، وَالتَّقْدِيمُ دَلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ، أَيْ: بُلُوغُكَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ كَائِنٌ بِسَعَةِ رَحْمَتِي لَا بِعَمَلِكَ. (فَبَيْنَا) وَفِي نُسْخَةٍ " فَبَيْنَمَا " (هُمْ) أَيْ: أَهْلُ الْجَنَّةِ (عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُحَاضَرَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ (غَشِيَتْهُمْ) أَيْ: غَطَّتْهُمْ (سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ طِيبًا) أَيْ: عَظِيمًا ( «وَلَمْ يَجِدُوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قَطُّ، وَيَقُولُ رَبُّنَا: قُومُوا إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، فَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ، فَنَأْتِي سُوقًا قَدْ حَفَّتْ» ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: أَحَاطَتْ (بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فِي) كَذَا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مَوْجُودَةٌ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ أَيْ: فِي تِلْكَ السُّوقِ (مَا لَمْ تَنْظُرِ الْعُيُونُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَيُكْسَرُ جَمْعُ الْعَيْنِ (إِلَى مِثْلِهِ) : وَهُوَ فِي نُسَخِ أَكْثَرِ الشُّرَّاحِ مَفْقُودٌ، فَقَالَ الْمُظْهِرُ: " مَا " مَوْصُولَةٌ وَالْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُقَدَّرِ الْعَائِدِ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَعْدَدْتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: الْمُعَدُّ لَكُمْ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فِيهَا أَقُولُ، وَهُوَ أَحَقُّ وَأَوْفَقُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ " مَا " مَوْصُوفَةً بَدَلًا مِنْ سُوقًا. (وَلَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَجَمْعِ الْآذَانِ أَيْ: وَمَا لَمْ تَسْمَعْهُ بِمِثْلِهِ (وَلَمْ يَخْطُرْ) : بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ: وَمَا لَمْ يَمُرَّ مِثْلُهُ (عَلَى الْقُلُوبِ) وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الْمَشْهُورِ ( «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» ) عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ.

(فَيُحْمَلُ لَنَا) أَيْ: إِلَى قُصُورِنَا (مَا اشْتَهَيْنَا) أَيْ: فِي تِلْكَ السُّوقِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَرْزُوقِ (لَيْسَ يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى) الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ " مَا " فِي " مَا اشْتَهَيْنَا "، وَهُوَ الْمَحْمُولُ، وَالضَّمِيرُ فِي يُبَاعُ عَائِدٌ إِلَيْهِ (وَفِي ذَلِكَ السُّوقِ) : هُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَأَنَّثَهُ تَارَةً وَذَكَّرَهُ أُخْرَى، وَالتَّأْنِيثُ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ وَأَكْثَرُ أَيْ: وَفِي تِلْكَ السُّوقِ (يَلْقَى) أَيْ: يَرَى (أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا حَقِيقَةً أَوْ مَوْقُوفًا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ (فَيُقْبِلُ) مِنَ الْإِقْبَالِ أَيْ: فَيَجِيءُ وَيَتَوَجَّهُ ( «الرَّجُلُ ذُو الْمَنْزِلَةِ الْمُرْتَفِعَةِ، فَيَلْقَى مَنْ هُوَ دُونَهُ» ) أَيْ: فِي الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ (- وَمَا فِيهِمْ مِنْ دَنِيءٍ -) زِيدَ " مِنْ " لِلْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِدُونٍ " مِنْ " كَمَا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ (فَيَرُوعُهُ) بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: يُعْجِبُ الرَّجُلَ (مَا يَرَى) أَيْ يُبْصِرُهُ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى مَنْ دُونَهُ (مِنَ النَّاسِ) : بَيَانُ " مَا "، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ عَكْسُ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى " مَنْ "، فَيَكُونُ الرَّوْعُ مَجَازًا عَنِ الْكَرَاهَةِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاسِ، وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى الرَّجُلِ ذِي الْمَنْزِلَةِ، فَالرَّوْعُ بِمَعْنَى الْإِعْجَابِ أَيْ: يُعْجِبُهُ حُسْنُهُ فَيَدْخُلُ فِي رَوْعِهِ مَا يَتَمَنَّى مِثْلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ) أَيْ: مَا أُلْقِيَ فِي رُوعِهِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى " مِنْ ". قَالَ شَارِحٌ أَيْ: حَدِيثُ مَنْ هُوَ دُونَهُ مَعَ الرَّجُلِ الرَّفِيعِ الْمَنْزِلَةِ. قُلْتُ: وَيَجُوزُ قَلْبُ الْكَلَامِ أَيْضًا (حَتَّى يَتَخَيَّلَ عَلَيْهِ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: حَتَّى يُتَصَوَّرَ لَهُ أَنَّ عَلَيْهِ (مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ) وَالْمَعْنَى: يَظْهَرُ عَلَيْهِ أَنَّ لِبَاسَهُ أَحْسَنُ مِنْ لِبَاسِ صَاحِبِهِ (وَذَلِكَ) أَيْ سَبَبُ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّخَيُّلِ (لِأَنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْزَنَ) بِفَتْحِ الزَّايِ أَيْ: يَغْتَمَّ (فِيهَا) أَيْ: فِي الْجَنَّةِ، فَحَزِنَ هُنَا لَازِمٌ مِنْ حَزِنَ بِالْكَسْرِ لَا مِنْ بَابِ نَصَرَ، فَإِنَّهُ مُتَعَدٍّ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ (ثُمَّ نَنْصَرِفُ) أَيْ: نَرْجِعُ وَنَعُودُ (إِلَى مَنَازِلِنَا، فَيَتَلَقَّانَا) مِنَ التَّلَقِّي أَيْ: يَسْتَقْبِلُنَا وَفِي نُسْخَةٍ فَيَلْقَانَا مِنَ اللُّقِيِّ أَيْ: فَيَرَانَا (أَزْوَاجُنَا) أَيْ: مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَمِنَ الْحُورِ الْعِينِ ( «فَيَقُلْنَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، لَقَدْ جِئْتَ وَإِنَّ بِكَ مِنَ الْجَمَالِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: إِنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ، وَيَحِقُّنَا» ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْحَاءِ، فَفِي الْمِصْبَاحِ: حَقَّ الشَّيْءُ كَضَرَبَ وَنَصَرَ - إِذَا ثَبَتَ، وَفِي الْقَامُوسِ: حَقَّ الشَّيْءُ: وَجَبَ وَوَقَعَ بِلَا شَكٍّ، وَحَقَّهُ أَوْجَبَهُ، لَازَمٌ وَمُتَعَدٍّ، فَالْمَعْنَى: يُوجِبُنَا وَيَلْزَمُنَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ أَيْ: يَحِقُّ لَنَا وَيَلِيقُ بِنَا (أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا) أَيْ: مِنَ الِانْقِلَابِ، وَهُوَ الِانْصِرَافُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لِأَثَرِ مُجَالَسَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَمُشَاهَدَتِهِ الْمُنَزَّهَةِ عَنِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَالِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5648 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً، وَتُنْصَبُ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ كَمَا بَيْنَ الْجَابِيَةِ إِلَى صَنْعَاءَ» ". وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: " «وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ يُرَدُّونَ بَنِي ثَلَاثِينَ فِي الْجَنَّةِ، لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا أَبَدًا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ» ". وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: " «إِنَّ عَلَيْهِمُ التِّيجَانَ، أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ". وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: " «الْمُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا يُشْتَهَى» " وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ الْوَلَدَ كَانَ فِي سَاعَةٍ، وَلَكِنْ لَا يُشْتَهَى» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الرَّابِعَةَ، وَالدَّارِمِيُّ الْأَخِيرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5648 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ: أَقَلُّهُمْ خَدَمًا وَنِسَاءً ( «الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَاثْنَتَانِ» ) أَيْ: مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا (وَسَبْعُونَ زَوْجَةً) أَيْ

مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَفِي نُسْخَةٍ اثْنَانِ بِالتَّذْكِيرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ ذُكِّرَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الزَّوْجَةِ مِنْ لَفْظِ الْحُورِ أَوِ الزَّوْجِ (وَتُنْصَبُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: وَيُضْرَبُ وَيُرْفَعُ لَهُ (قُبَّةٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ) قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُرِيدُ أَنَّ الْقُبَّةَ مَعْمُولَةٌ مِنْهَا أَوْ مُكَلَّلَةٌ بِهَا (كَمَا بَيْنَ الْجَابِيَةِ) وَهِيَ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ (إِلَى صَنْعَاءَ) وَهِيَ بَلْدَةٌ بِالْيَمَنِ. قَالَ شَارِحٌ: هِيَ قَصَبَةٌ بِالْيَمَنِ، وَقِيلَ: هِيَ أَوَّلُ بَلْدَةٍ بُنِيَتْ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ فُسْحَةَ الْقُبَّةِ وَسِعَتَهَا طُولًا وَعَرْضًا وَبُعْدَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ - كَمَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالضِّيَاءُ، عَنْهُ. (وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ) أَيْ: بِإِسْنَادِ الْوَاصِلِ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا قَالَ أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَبُو سَعِيدٍ مَرْفُوعًا. وَفِي الْمَصَابِيحِ، وَبِهِ قَالَ أَيْ: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. ( «قَالَ: أَوْ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ يُرَدُّونَ» ) أَيْ: يَعُودُونَ، وَفِيهِ تَغْلِيبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا رَدَّ فِي الصَّغِيرِ، أَوِ الْمَعْنَى يَصِيرُونَ (بَنِي ثَلَاثِينَ فِي الْجَنَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يُرَدُّونَ (لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا أَبَدًا) أَيْ: زِيَادَةً مُؤَثِّرَةً فِي تَغَيُّرِ أَبْدَانِهِمْ وَأَعْضَائِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، وَإِلَّا فَزَمَانُهُمْ فِي الْجَنَّةِ يَتَزَايَدُ أَبَدَ الْآبِدِينَ (وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ) أَيْ: فِي الْعُمُرِ وَعَدَمِ الزِّيَادَةِ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ أَزْمِنَةِ الْأَعْمَالِ لِلْأَبْرَارِ وَالْكُفَّارِ؛ لِيَكُونَ التَّنْعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فِي كُلٍّ مِنْ دَارِ الْبَوَارِ وَدَارِ الْقَرَارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قُلْتَ: مَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي بَابِ الْبُكَاءِ: " صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ " أَيْ: دَاخِلُونَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ مَوْضِعٍ كَمَا فِي الدُّنْيَا؟ قُلْتُ: فِي الْجَنَّةِ ظَرْفٌ لَيُرَدُّونَ، وَهُوَ لَا يُشْعِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا دَعَامِيصَ قَبْلَ الرَّدِّ. (وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: " إِنَّ عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى رُءُوسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ (التِّيجَانُ) بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ جَمْعُ تَاجٍ (أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ لَتُضِيءُ) بِالتَّأْنِيثِ فِي النُّسَخِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمُضَافَ اكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى لَتُنَوِّرُ (مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) فَأَضَاءَ مُتَعَدٍّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَيُضِيءُ بِهِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَمَاكِنِ لَوْ ظَهَرَتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا. (وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: " «الْمُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ» ) أَيْ: فَرْضًا وَتَقْدِيرًا (كَانَ حَمْلُهُ) أَيْ: حَمْلُ الْوَلَدِ (وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ) أَيْ: كَمَالُ سِنِّهِ وَهُوَ الثَّلَاثُونَ سَنَةً (فِي سَاعَةٍ) ؛ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ أَشَدُّ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَا مَوْتَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا حَزَنَ (كَمَا يُشْتَهَى) : مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَنَحْوَ ذَلِكَ. (وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيِ ابْنُ حَبِيبٍ الْبَصْرِيُّ: رَوَى عَنْ مَعْمَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. (فِي هَذَا الْحَدِيثِ) أَيْ: ذُكِرَ فِي بَيَانِ هَذَا الْحَدِيثِ (إِذَا اشْتَهَى) أَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَهَى (الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ الْوَلَدَ كَانَ فِي سَاعَةٍ) أَيْ حَصَلَ الْوَلَدُ فِي سَاعَةٍ (لَكِنْ لَا يُشْتَهَى) فَقَوْلُهُ: " وَلَكِنْ " هُوَ الْمَقُولُ حَقِيقَةً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الرَّابِعَةَ) أَيِ الْفِقْرَةَ الرَّابِعَةَ مِنْ فِقْرَاتِ الْحَدِيثِ (وَالدَّارِمِيُّ الْأَخِيرَةَ) وَهِيَ مَا أَوْرَدَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي تَيْسِيرِ الْوُصُولِ إِلَى جَامِعِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَدٌ ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ عَنِ الْخُدْرِيِّ: «إِنِ اشْتَهَى الْوَلَدَ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ» " قَالَ بَعْضُهُمْ: لَكِنْ لَا يُشْتَهَى.

5649 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمُجْتَمَعًا لِلْحُورِ الْعِينِ، يَرْفَعْنَ بِأَصْوَاتٍ لَمْ تَسْمَعِ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ، وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ، طُوبَى لِمَنْ كَانَ لَنَا وَكُنَّا لَهُ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5649 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمُجْتَمَعًا» ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ أَيْ: مَوْضِعًا لِلِاجْتِمَاعِ أَوِ اجْتِمَاعًا (لِلْحُورِ الْعِينِ) قَالَ الرَّاغِبُ: الْحُورُ جَمْعُ أَحْوَرَ وَحَوْرَاءَ، وَالْحَوَرُ قِيلَ: ظُهُورُ قَلِيلٍ مِنَ الْبَيَاضِ فِي الْعَيْنِ مِنْ بَيْنِ السَّوَادِ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْحُسْنِ مِنَ الْعَيْنِ، وَيُقَالُ لِلْبَقْرِ الْوَحْشِيِّ أَعْيَنُ وَعَيْنَاءُ؛ لِحُسْنِ عَيْنِهَا، وَجَمْعِهَا عِينٌ، وَبِهَا شُبِّهَ النِّسَاءُ. قَالَ تَعَالَى: {وَحُورٌ عِينٌ - كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 22 - 23] وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحُورُ الْعِينِ خُلِقْنَ مِنْ تَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ» ". وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " «الْحُورُ الْعِينُ خُلِقْنَ مِنَ الزَّعْفَرَانِ» ". قُلْتُ: وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؛ لِأَنَّ " مِنْ " تَعْلِيلِيَّةٌ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. (يَرْفَعْنَ بِأَصْوَاتٍ) الْبَاءُ الزَّائِدَةُ تَأْكِيدٌ لِلتَّعْدِيَةِ، أَوْ أَرَادَ بِالْأَصْوَاتِ النَّغَمَاتِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ: يَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِأَنْغَامٍ ( «لَمْ تَسْمَعِ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ» ) أَيِ الدَّائِمَاتُ فِي الْغِنَى وَالْمَغْنَى (فَلَا نَبِيدُ) مِنْ بَادَ هَلَكَ وَفَنِيَ، أَيْ: فَلَا نَفْنَى (وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ) أَيِ الْمُتَنَعِّمَاتُ (فَلَا نَبْأَسُ) أَيْ: فَلَا نَصِيرُ فَقِيرَاتٍ وَمُحْتَاجَاتٍ إِلَى غَيْرِ الْمَوْلَى، (وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ) أَيْ: عَنْ رَبِّنَا أَوْ عَنْ أَصْحَابِنَا (فَلَا نَسْخَطُ) : فِي حَالٍ مِنَ الْحَالَاتِ (طُوبَى) أَيِ الْحَالَةُ الطَّيِّبَةُ (لِمَنْ كَانَ لَنَا وَكُنَّا لَهُ) أَيْ: فِي الْجَنَّاتِ الْعَالِيَاتِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5650 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ، وَبَحْرُ اللَّبَنِ، وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الْأَنْهَارُ بَعْدُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5650 - (وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ) أَيِ النُّمَيْرِيِّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي صُحْبَتِهِ نَظَرٌ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَكِيمٍ، وَقَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ، وَبَحْرُ اللَّبَنِ، وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الْأَنْهَارُ بَعْدُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُرِيدُ بِالْبَحْرِ مِثْلَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوَهُمَا، وَبِالنَّهْرِ مِثْلَ نَهْرِ مَعْقِلٍ حَيْثُ تَشَقَّقَ مِنْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ مِنْهُ تَشَقَّقُ جَدَاوِلُ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبِحَارِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ أُصُولُ الْأَنْهَارِ الْمَسْطُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَشَقَّقُ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ: تَفْتَرِقُ الْأَنْهَارُ إِلَى الْجَدَاوِلِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْأَنْهَارِ إِلَى بَسَاتِينِ الْأَبْرَارِ وَتَحْتَ قُصُورِ الْأَخْيَارِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالْبِحَارِ هِيَ الْأَنْهَارُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَنْهَارًا لِجَرَيَانِهَا بِخِلَافِ بِحَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْهَا أَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْقَرَارِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ.

5651 - وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5651 - (وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ؛ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ أَبَا حَكِيمٍ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ السُّيُوطِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5652 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَنَّةِ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ مَسْنَدًا قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ، ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَةٌ فَتَضْرِبُ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ السَّلَامَ وَيَسْأَلُهَا: مَنْ أَنْتِ؟ تَقُولُ: أَنَا مِنَ الْمَزِيدِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا، فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنَ التِّيجَانِ أَنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5652 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَنَّةِ) أَيْ: فِي دَارِ الْجَزَاءِ (لَيَتَّكِئُ) أَيْ: لَيَعْتَمِدُ وَيَسْتَنِدُ (فِي الْجَنَّةِ) أَيْ: فِي جَنَّتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ (سَبْعِينَ مَسْنَدًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ، وَالنُّونُ مَفْتُوحَةٌ لَا غَيْرَ، وَهُوَ مُمَيِّزٌ لِسَبْعِينَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: عَلَى سَبْعِينَ مَسْنَدًا أَوْ مُتَّكَئًا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، كُلٌّ بِلَوْنٍ وَصِنْفٍ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ (قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ) أَيْ: مِنْ شِقٍّ إِلَى آخَرَ، وَهُوَ ظَرْفٌ لِيَتَّكِئُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ: " سَبْعِينَ مَسْنَدًا " هَذَا يُرِيدُ قَوْلَ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] بِأَنَّهَا مَنْضُودَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَقَوْلُهُ: " قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ " ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: " يَأْتِيهِ "، وَلَا يَخْفَى غَرَابَةُ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى، وَغَرَابَةُ الثَّانِي فِي الْمَبْنَى، (ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَةٌ فَتَضْرِبُ عَلَى مَنْكِبِهِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ مَنْكِبَيْهِ أَيْ: ضَرْبُ الْغَنْجِ وَالدَّلَالِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى مُطَالَعَةِ الْجَمَالِ (فَيَنْظُرُ) أَيْ: فَيُطَالِعُ الرَّجُلُ فَيَرَى (وَجْهَهُ) أَيْ: عَكْسَهُ (فِي خَدِّهَا) أَيْ: مِنْ كَمَالِ صَفَائِهَا وَضِيَائِهَا حَالَ كَوْنِ خَدِّهَا (أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ) أَيْ: أَنْوَرُ مِنْ جِنْسِ الْمِرْآةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الدُّنْيَا، (وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَى) أَيْ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ (تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أَيْ: لَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا (فَتُسَلِّمُ) أَيِ الْمَرْأَةُ (عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ السَّلَامَ) أَيْ: عَلَيْهَا ( «وَيَسْأَلُهَا: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنَ الْمَزِيدِ» ) : يُرَادُ بِهِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] وَمِنَ الْمَزِيدِ أَفْضَلُهَا مَا قَالَهُ سُبْحَانَهُ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] أَيِ: الْجَنَّةُ وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ زِيَادَةً لِأَنَّ الْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَهِيَ مَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَزَاءً لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالزِّيَادَةُ فَضْلٌ عَلَى فَضْلٍ. (وَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (لَيَكُونُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمَرْأَةِ (سَبْعُونَ ثَوْبًا) ، أَيْ: بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَصْنَافٍ مُؤْتَلِفَةٍ (فَيَنْفُذُهَا) : بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ: يُدْرِكُ لَطَافَةَ بَدَنِ الْمَرْأَةِ (بَصَرُهُ) أَيْ: نَظَرُ الرَّجُلِ (حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ، وَلَمْ يَمْنَعْ بَصَرَ شَيْءٍ مِنَ الْحِجَابِ، (وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنَ التِّيجَانِ) أَيِ الْمُرَصَّعَةِ مَا يُقَالُ فِي حَقِّهَا ( «أَنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ فِيهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ) وَقِيلَ: " إِنَّ " بِالْكَسْرِ مَزِيدَةٌ، وَاللَّامُ دَاخِلٌ فِي خَبَرِ إِنَّ الْأُولَى نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَزِيدَةً تَكُونُ اللَّامُ دَاخِلَةً فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرَ " إِنَّ " الْأُولَى، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الثَّانِيَةَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ مَزِيدَةٍ، بَلْ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدٍ وَمُبَالَغَةٍ فِي النِّسْبَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

5653 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَدَّثُ - وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ -: «إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ. فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ ". فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ! وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5653 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَحَدَّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: إِنَّ رَجُلًا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْحِكَايَةِ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَتَحَدَّثُ، وَالْجُمْلَةُ بَيْنَهُمَا حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولُ يَتَحَدَّثُ عَلَى حِكَايَةِ مَا يَلْفِظُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ رَجُلًا (مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ) أَيْ: بِنَاءً عَلَى مَا تَعَوَّدَهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِتَنَزُّهِهِ بِهِ فِي الْعُقْبَى (فَقَالَ) أَيْ رَبُّهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَيُقَالُ لَهُ: ( «أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟» ) أَيْ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّنَعُّمِ (قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَبَذَرَ) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ أَيْ: فَأُذِنَ لَهُ فِيهِ فَبَذَرَ أَيْ رَمَى الْبَذْرَ فِي أَرْضِ الْجَنَّةِ (فَبَادَرَ الطَّرْفَ) - بِسُكُونِ الرَّاءِ - تَحْرِيكُ الْجُفُونِ فِي النَّظَرِ أَيْ فَسَابَقَهُ (نَبَاتُهُ) وَالْمَعْنَى: فَحَصَلَ نَبَاتُهُ فِي الْحَالِ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ) أَيْ مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ لِلْحَصَادِ مِنْ جَانِبِ الْعِبَادِ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ (فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ حِينَئِذٍ (دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ) أَيْ خُذْ مَا تَمَنَّيْتَهُ قَالَهُ، فِي سَبِيلِ التَّوْبِيخِ تَهْجِينًا لِمَا الْتَمَسَهُ، وَمِنْ ثَمَّ رُتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ) أَيْ كَثِيرٌ حَتَّى فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي تَعَارُفِ النَّاسِ مِثْلُ هَذَا التَّوْبِيخِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ كُلَّ إِنَاءٍ يَرْشَحُ بِمَا فِيهِ، وَأَنَّ النَّاسَ يَمُوتُونَ كَمَا يَعِيشُونَ، وَيُحْشُرُونَ كَمَا يَمُوتُونَ، أَظْهَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْمَعْنَى فِي لِبَاسِ هَذَا الْمَبْنَى. ( «فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لَا نَجِدُهُ» ) أَيْ هَذَا الرَّجُلُ (إِلَّا قُرَشِيًّا) أَيْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ (أَوْ أَنْصَارِيًّا) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَـ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ (فَإِنَّهُمْ) أَيْ مَجْمُوعُ الْقَبِيلَتَيْنِ (أَصْحَابُ زَرْعٍ) أَيْ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَنْصَارُ أَكْثَرَ زَرْعًا (فَأَمَّا) بِالْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَأَمَّا (نَحْنُ) أَيْ مَعَاشِرَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ (فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ الزَّرْعِ) أَيْ فَلَا نَشْتَهِي مِثْلَ ذَلِكَ (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ مِنْ فَطَانَةِ الْبَدَوِيِّ، أَوْ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَبْتِيِّ وَجَوَابِهِ الْبَدِيعِيِّ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5654 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَلَا يَمُوتُ أَهْلُ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5654 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَلَا يَمُوتُ أَهْلُ الْجَنَّةِ» ) أَيْ فَلَا يَنَامُونَ، وَهَذَا جَوَابٌ بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ، وَهُوَ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَأَظْهَرُ فِي اطْمِئْنَانِ الْإِيمَانِ مِنَ الْجَوَابِ الْإِجْمَالِيِّ بِأَنْ قَالَ: لَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

[باب رؤية الله تعالى]

[بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى]

بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5655 - عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا " ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [6]- بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5655 - (عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبَجَلِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكُمْ) أَيْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ (سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ) أَيْ سَتُبْصِرُونَهُ فَقَوْلُهُ: (عِيَانًا) بِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَوْ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ إِمَّا مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مُعَايِنِينَ - بِكَسْرِ الْيَاءِ، أَوْ مُعَايَنًا - بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْمُعَايَنَةُ رَفْعُ الْحِجَابِ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ، فَفِي الْقَامُوسِ: لَقِيَهُ عِيَانًا أَيْ مُعَايَنَةٌ لَمْ يَشُكَّ فِي رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عِيَانًا أَيْ جَهَارًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَيْنِ الْمَحْسُوسَةِ بِالْعَيْنِ الظَّاهِرَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَاطِبَةً أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُمْكِنَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ عَقْلًا، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ أَيْ نَقْلًا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ الْكَافِرِينَ، وَزَعَمَتْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَبَعْضِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّ رُؤْيَتَهُ مُسْتَحِيلَةٌ عَقْلًا، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خَطَأٌ صَرِيحٌ وَجَهْلٌ قَبِيحٌ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَوَاهَا نَحْوُ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِيهَا مَشْهُورَةٌ، وَاعْتِرَاضَاتُ الْمُبْتَدِعَةِ عَلَيْهَا لَهَا أَجْوِبَةٌ مَسْطُورَةٌ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهَا تَقَعُ فِي الدُّنْيَا. وَحَكَى الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ، عَنِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فَوْرَكٍ أَنَّهُ حَكَى فِيهَا قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَدُهُمَا: وُقُوعُهَا، وَالثَّانِي: لَا تَقَعُ، ثُمَّ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قُوَّةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْأَشِعَّةُ وَلَا مُقَابَلَةُ الْمَرْئِيِّ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِي رُؤْيَةِ بَعْضِنَا بَعْضًا بِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاتِّفَاقِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ، وَقَدْ قَرَّرَ أَئِمَّتُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ الْجَلِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ جِهَةٍ لَهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، بَلْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ لَا فِي جِهَةٍ كَمَا يَعْلَمُونَهُ لَا فِي جِهَةٍ. قُلْتُ: كَمَا يَرَانَا هُوَ لَا فِي جِهَةٍ وَلَا مُقَابَلَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ الْغَائِبُ بِالشَّاهِدِ، لَا سِيَّمَا الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ؛ وَلِذَا قِيلَ: لَا يُقَاسُ الْمُلُوكُ بِالْحَدَّادِينَ. (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ عَنْ جَرِيرٍ (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) أَيْ جَالِسِينَ ( «عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ) قَالَ الْأَكْمَلُ: أَيِ الْبَدْرِ الْكَامِلِ، وَسُمِّيَ لَيْلَةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَدْرًا لِمُبَادَرَتِهِ الشَّمْسَ بِالطُّلُوعِ، ( «فَقَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ» ) أَيِ: الْمَحْسُوسَ الْمُشَاهَدَ الْمَرْئِيَّ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَقَالَ أَوْ ذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ الْحَالِ (لَا تُضَامُونَ) بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، مِنَ الضَّيْمِ وَهُوَ الظُّلْمُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَيْ لَا يُظْلَمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالتَّكْذِيبِ وَالْإِنْكَارِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، مِنَ التَّضَامُنِ بِمَعْنَى التَّزَاحُمِ، وَفِي أُخْرَى بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ الْمُضَامَّةِ، وَهِيَ الْمُزَاحَمَةُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَحَاصِلُ مَعْنَى الْكُلِّ: لَا تَشُكُّونَ (فِي رُؤْيَتِهِ) أَيْ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: قَدْ يُخَيَّلُ إِلَى بَعْضِ السَّامِعِينَ أَنَّ الْكَافَ فِي قَوْلِهِ: " كَمَا تَرَوْنَ " كَافُ التَّشْبِيهِ لِلْمَرْئِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ كَافُ التَّشْبِيهِ لِلرُّؤْيَةِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّائِي، وَمَعْنَاهُ: تَرَوْنَ رَبَّكُمْ رُؤْيَةً يَنْزَاحُ مَعَهَا الشَّكُّ، كَرُؤْيَتِكُمُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تَرْتَابُونَ فِيهِ وَلَا تَمْتَرُونَ. قَالَ: وَلَا تُضَامُونَ، رُوِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنَ الضَّيْمِ: الظُّلْمُ، الْمَعْنَى أَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ جَمِيعُكُمْ لَا

يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي رُؤْيَتِهِ، فَيَرَاهُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، وَبِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنَ الِانْضِمَامِ بِمَعْنَى الِازْدِحَامِ أَيْ لَا يَزْدَحِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي رُؤْيَتِهِ، وَلَا يُضَمُّ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ ضِيقٍ، كَمَا يَجْرِي عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مَثَلًا دُونَ رُؤْيَةِ الْقَمَرِ، فَإِنَّهُ يَرَاهُ كُلٌّ مِنْكُمْ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا بِهِ، ( «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا» ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَا تَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ ( «عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ أَوْ عَدَمِ الْمَغْلُوبِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَرْتِيبُ قَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ عَلَى قَوْلِهِ: سَتَرَوْنَ بِالْفَاءِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوَاظِبَ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَالْمُحَافِظَ عَلَيْهَا خَلِيقٌ بِأَنْ يَرَى رَبَّهُ، وَقَوْلُهُ: لَا تُغْلَبُوا مَعْنَاهُ لَا تَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ بِالِاشْتِغَالِ عَنْ صَلَاتَيِ الصُّبُحِ وَالْعَصْرِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالْحَثِّ لِمَا فِي الصُّبُحِ مِنْ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الِاسْتِرَاحَةِ وَالنَّوْمِ، وَفِي الْعَصْرِ مِنْ قِيَامِ الْأَسْوَاقِ وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْمُعَامَلَاتِ، فَمَنْ يَلْحَقُهُ فَتْرَةٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ مَعَ مَا لَهُمَا مِنْ قُوَّةِ الْمَانِعِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا تَلْحَقَهُ فِي غَيْرِهِمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِشْهَادًا أَوْ جَرِيرٌ اعْتِقَادًا وَسَبِّحْ، بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] أَيْ وَصَلِّ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ، وَهُوَ التَّسْبِيحُ الْمُرَادُ بِهِ الثَّنَاءُ فِي الِافْتِتَاحِ الْمَقْرُونِ بِحَمْدِ الرَّبِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} [طه: 130] أَيْ سَاعَاتِهِ وَهُوَ الْعِشَاءَانِ فَسَبِّحْ {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130] أَيْ طَرَفَيْهِ وَهُوَ وَسَطُهُ يَعْنِي الظُّهْرَ {لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ أَيْ عَلَى رَجَاءِ أَنْ تَكُونَ رَاضِيًا أَوْ مَرْضِيًّا أَوْ جَمْعًا مُثْبَتًا، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنِ الشَّرِيكِ وَنَحْوِهِ مِنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ وَالزَّوَالِ وَالْحُدُوثِ وَالِانْتِقَالِ، وَالْمُرَادُ بِحَمْدِهِ ثَنَاءُ الْكَمَالِ بِنَعْتِ الْجَمَالِ وَوَصْفِ الْجَلَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْهُ، لَكِنْ بِغَيْرِ قِرَاءَةِ الْآيَةِ.

5656 - (وَعَنْ صُهَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: " فَيُرْفَعُ الْحِجَابُ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ " ثُمَّ تَلَا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] » رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5656 - (وَعَنْ صُهَيْبٍ) مُصَغَّرًا (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ» ) أَيْ أَتُرِيدُونَ (شَيْئًا أَزِيدُكُمْ) أَيْ عَلَى عَطَايَاكُمْ، ( «فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدَخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا» ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَيُخَفَّفُ، أَيْ وَأَلَمْ تَخَلِّصْنَا (مِنَ النَّارِ؟) أَيْ مِنْ دُخُولِهَا وَخُلُودِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَقْرِيرٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ؟ وَقَوْلُهُ: (فَيُرْفَعُ الْحِجَابُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعُ الْحِجَابِ رَفْعٌ لِلتَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: هَذَا هُوَ الْمَزِيدُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحِجَابِ، فَإِنَّهُ مَحْبُوبٌ غَيْرُ مَحْجُوبٍ، إِذِ الْمَحْجُوبُ مَغْلُوبٌ، فَالْمَعْنَى: فَيُرْفَعُ الْحِجَابُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ( «فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ» ) ، أَيْ ذَاتِهِ الْمُنَزَّهَةِ عَنِ الصُّورَةِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ( «فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ، ثُمَّ تَلَا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} [يونس: 26] » ) أَيِ الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ أَجَادُوهُ مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ (الْحُسْنَى) أَيِ الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ (وَزِيَادَةٌ) . أَيِ النَّظَرُ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَتَنْكِيرُهَا لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ زِيَادَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهَا، وَلَا يُكْتَنَهُ كُنْهُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَ مُفَسِّرُ التَّنْزِيلِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ، فَمَنْ تَعَدَّاهُ فَقَدْ تَعَدَّى طَوْرَهُ. أَقُولُ: أَرَادَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي عُدُولِهِ عَنْهُ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَكَذَا مَنْ تَبِعَهُ كَالْبَيْضَاوِيِّ حَيْثُ عَبَّرَ بِالْقِيلِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْجَمِيلِ الثَّابِتِ مِمَّنْ نَزَلَ عَلَيْهِ التَّنْزِيلُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5657 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً " ثُمَّ قَرَأَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22] » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5657 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً» ) أَيْ أَقَلُّهُمْ مَرْتَبَةً ( «لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جِنَانِهِ» ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ بَسَاتِينِهِ (وَأَزْوَاجِهِ) أَيْ نِسَائِهِ وَحُورِهِ (وَنَعِيمِهِ) أَيْ مَا يَتَنَعَّمُ بِهِ (وَخَدَمِهِ) أَيْ مِنَ الْوِلْدَانِ (وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ) أَيْ حَالَ كَوْنِ جِنَانِهِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا كَائِنَةً فِي مَسَافَةِ أَلْفِ سَنَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُلْكَهُ مِقْدَارُ تِلْكَ الْمَسَافَةِ. قِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ النَّاظِرِ يَمْلِكُ فِي الْجَنَّةِ مَا يَكُونُ مِقْدَارُهُ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكِيَّةَ فِي الْجَنَّةِ خِلَافَ مَا فِي الدُّنْيَا. وَفِي التَّرْكِيبِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ؛ إِذْ جُعِلَ الِاسْمُ وَهُوَ قَوْلُهُ: " لَمَنْ يَنْظُرُ " خَبَرًا، أَوِ الْخَبَرُ وَهُوَ " أَدْنَى مَنْزِلَةً " اسْمًا؛ اعْتِنَاءً بِشَأْنِ الْمُقَدَّمِ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بَيَانُ ثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَسَعَتِهَا، وَأَنَّ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَكُونُ مُلْكُهُ كَذَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] خَبَرًا (وَأَكْرَمَهُمْ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَدْنَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَجْمُوعِ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، أَيْ وَأَكْثَرَهُمْ كَرَامَةً (عَلَى اللَّهِ) وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً وَأَقْرَبُهُمْ رُتْبَةً عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ (مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ) أَيْ ذَاتِهِ (غُدْوَةً) بِضَمِّ الْغَيْنِ (وَعَشِيَّةً) أَيْ صَبَاحًا وَمَسَاءً؛ وَلِهَذَا وَصَّى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاتَيْ طَرَفَيِ النَّهَارِ كَمَا مَرَّ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِمَا أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ دَوَامًا عَلَى أَنَّ الْغُدْوَةَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّهَارِ وَالْعَشِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّيْلِ مَجَازًا بِذِكْرِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، أَوْ بِذِكْرِ أَوَّلِ الشَّيْءِ وَإِرَادَةِ تَمَامِهِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّظَرُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ لَمَا انْتَفَعُوا بِسَائِرِ النَّعِيمِ وَقَدْ خُلِقَتْ لَهُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا «أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَ عَلَى الْجَبَّارِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَقَدْ جَلَسَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ الَّذِي هُوَ مَجْلِسُهُ عَلَى مَنَابِرِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - بِالْأَعْمَالِ - فَلَا تَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ قَطُّ كَمَا تَقَرُّ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْهُ وَلَا أَحْسَنَ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى رِجَالِهِمْ وَقُرَّةِ أَعْيُنِهِمْ نَاعِمِينَ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْغَدِ» ". (ثُمَّ قَرَأَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] أَيْ نَاعِمَةٌ غَضَّةٌ حَسَنَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ الذَّوَاتُ، أَوْ خُصَّتْ لِشَرَفِهَا وَلِظُهُورِ أَثَرِ النِّعْمَةِ عَلَيْهَا {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدَّمَ صِلَةَ " نَاظِرَةٍ " إِمَّا لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ وَهِيَ نَاضِرَةٌ بَاسِرَةٌ فَاقِرَةٌ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّاظِرَ يَسْتَغْرِقُ عِنْدَ رَفْعِ الْحِجَابِ بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ هَذَا وَالْعَارِفُونَ فِي الدُّنْيَا رُبَّمَا اسْتَغْرَقُوا فِي بِحَارِ الْحُبِّ بِحَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْكَوْنِ؟ وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، «فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ» . (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ، وَرَوَى هَنَّادٌ فِي الزُّهْدِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا لَرَجُلٌ لَهُ دَارٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا غُرَفُهَا وَأَبْوَابُهَا.»

5658 - وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " بَلَى ". قَالَ: قُلْتُ: وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: " يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ لَيْلَةَ بَدْرٍ مُخْلِيًا بِهِ؟ " قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَإِنَّمَا هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5658 - (وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ) مُصَغَّرًا ( «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُلُّنَا» ) أَيْ أَجَمِيعُنَا مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ (يَرَى رَبَّهُ) أَيْ يُبْصِرُونَهُ، وَالْإِفْرَادُ مَنْ يَرَى بِاعْتِبَارِ لَفْظِ " كُلٍّ " (مُخْلِيًا بِهِ) . بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ فَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ مَكْسُورَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُخَفَّفَةٍ أَيْ خَالِيًا بِرَبِّهِ بِحَيْثُ لَا يُزَاحِمُهُ شَيْءٌ فِي الرُّؤْيَةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ؟ وَقِيلَ: بِفَتْحِ

مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، وَأَصْلُهُ مَخْلُوِيٌّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْمَلَكِ عَلَى الثَّانِي، وَالْمَعْنَى: مُنْفَرِدًا بِهِ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: خَلَوْتُ بِهِ وَمَعَهُ وَإِلَيْهِ اخْتَلَيْتُ بِهِ، إِذَا انْفَرَدْتَ بِهِ، أَيْ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: " «لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» ". (قَالَ: " بَلَى) أَيْ نَعَمْ كُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ (قَالَ) أَيْ أَبُو رَزِينٍ (قُلْتُ) وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ (وَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟) أَيْ مَا عَلَامَةُ رُؤْيَةِ كُلِّنَا رَبَّهُ بِحَيْثُ لَا يُزَاحِمُهُ شَيْءٌ، وَالْمَعْنَى مَثِّلْ لَنَا ذَلِكَ (فِي خَلْقِهِ) ؟ أَيْ مَخْلُوقَاتِهِ نَظِيرًا لِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي الدُّنْيَا أُنْمُوذَجًا لِجَمِيعِ مَا فِي الْعُقْبَى. ( «قَالَ: " يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مُخْلِيًا بِهِ؟ " قَالَ: بَلَى» ) أَيْ قُلْتُ: بَلَى (قَالَ: " فَإِنَّمَا هُوَ) أَيِ الْقَمَرُ ( «خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ» ) أَيْ وَيَرَاهُ كُلُّنَا (وَاللَّهُ أَجَلُّ) أَيْ أَكْمَلُ مَرْتَبَةً (وَأَعْظَمُ) أَيْ أَفْضَلُ مَنْقَبَةً وَأَعْلَى قُدْرَةً؛ لِأَنَّهُ وَاجِدُ الْوُجُودِ، فَهُوَ أَوْلَى فِي نَظَرِ الْعَقْلِ بِالشُّهُودِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَاسَ الْقَائِلُ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فِي الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ الْجَمَّ الْغَفِيرَ إِذَا رَأَوْا شَيْئًا يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّؤْيَةِ، لَا سِيَّمَا شَيْئًا لَهُ نَوْعُ خَفَاءٍ، فَيَهِيمُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ بِالِازْدِحَامِ، فَمِنْ رَاءٍ يَرَى رُؤْيَةً كَامِلَةً وَرَاءٍ دُونَهَا، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مُخْلِيًا إِثْبَاتُ كَمَالِهَا، وَلِذَا طَابَقَ الْجَوَابَ بِالتَّشْبِيهِ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا بِالْهِلَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5659 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5659 - (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟» أَيْ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ (قَالَ: " نُورٌ) أَيْ هُوَ نُورٌ عَظِيمٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ نُورُ الْأَنْوَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] أَيْ مُنَوِّرُهَا وَمُظْهِرُ أَنْوَارِ مَا فِيهِمَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ النُّورُ، وَهُوَ الَّذِي ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، وَمُظْهِرٌ لِغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ (أَنَّى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، أَيْ كَيْفَ (أَرَاهُ) أَيْ أُبْصِرُهُ، فَإِنَّ كَمَالَ النُّورِ يَمْنَعُ الْإِدْرَاكَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ نُورَانِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ لِلنِّسْبَةِ لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّبَّانِيِّ، وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ: أَرَاهُ بِمَعْنَى أَظُنُّهُ مِنَ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الرَّأْيِ، فَلَوْ قُرِئَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ لَكَانَ أَظْهَرَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أُبْصِرُهُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مَا رَآهُ فِي الدُّنْيَا، وَسَيَرَاهُ فِي الْأُخْرَى، أَوْ مُرَادُهُ أَبْصَرْتُهُ، وَالْعُدُولُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، فَكَأَنَّهُ يَسْتَحْضِرُهُ وَيَتَلَذَّذُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اخْتُلِفَ فِي رُؤْيَتِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، فَيَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَرُوِيَ بِكَسْرِ النُّونِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لِلْمُثْبِتِينَ، وَيَكُونُ حِكَايَةً عَنِ الْمَاضِي بِالْحَالِ، انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ: نُورَانِيٌّ أَرَاهُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ. يَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ لَيْسَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ الْمُسْتَفِيدِ لِلنَّفْيِ، بَلْ لِلتَّقْرِيرِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْإِيجَابِ أَيْ نُورٌ حَيْثُ أَرَاهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " رَأَيْتُ نُورًا أَنَّى " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، هَكَذَا رَوَاهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَمَعْنَاهُ حِجَابُهُ نُورٌ، فَكَيْفَ أَرَاهُ؟ قَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ أَنَّ النُّورَ مَنَعَنِي مِنَ الرُّؤْيَةِ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ، فَإِنَّ كَمَالَ النُّورِ يَمْنَعُ الْإِدْرَاكَ، وَرُوِيَ " نُورَانِيٌّ " مَنْسُوبٌ إِلَى النُّورِ، وَمَا جَاءَ مِنْ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنُّورِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفاتحة: 35 - 33691] وَفِي الْأَحَادِيثِ مَعْنَاهُ ذُو نُورٍ أَوْ مُنَوِّرُهُمَا، وَقِيلَ هَادِي أَهْلِهِمَا، وَقِيلَ مُنَوِّرُ قُلُوبَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5660 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - « {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 11 - 13] قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] قَالَ: وَيْحَكَ! ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ.» ـــــــــــــــــــــــــــــ 5660 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 11 - 13] قَالَ أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ: ( «رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» ) . قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ أَيْ مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ مِنْ صُورَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ مَا قَالَ فُؤَادُهُ لَمَّا رَآهُ لَمْ أَعْرِفْكَ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَكَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ، يَعْنِي: أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَعَرَفَهَ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ مَا رَآهُ حَقٌّ، وَقِيلَ: الْمَرْئِيُّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَآهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَقِيلَ بِقَلْبِهِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَ هُوَ مَذْهَبُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ دُونَ عَيْنِهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَإِبْرَاهِيمُ التَّمِيمِيُّ: رَآهُ بِقَلْبِهِ، وَعَلَى هَذَا رَأَى بِقَلْبِهِ رَبَّهُ رُؤْيَةً صَحِيحَةً، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ، أَوْ خَلَقَ لِفُؤَادِهِ بَصَرًا حَتَّى رَأَى رَبَّهُ رُؤْيَةً صَحِيحَةً كَمَا يَرَى بِالْعَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَوَجْهٌ مُسْتَحْسَنٌ يُمْكِنُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ الْأَقْوَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالرَّبِيعِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْفُؤَادَ رَأَى شَيْئًا فَصَدَقَ فِيهِ، وَ " مَا رَأَى " فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ أَيْ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَرْئِيَّهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ هَلْ رَأَى نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؟ فَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى بِعَيْنِهِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَكَعْبٍ وَالْحَسَنِ، كَانَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَحَكَى أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، أَنَّهُ رَآهُ، وَوَقَفَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا. وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ، وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ، وَاخْتَلَفُوا أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ كَلَّمَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَمْ لَا؟ فَحُكِيَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَقَوْمٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الدُّنُوَّ وَالتَّدَلِّيَ مُنْقَسِمٌ مَا بَيْنَ جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ دُنُوٌّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي عَلَى هَذَا مُتَأَوَّلٌ لَيْسَ عَلَى وَجْهٍ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ: الدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ لَا حَدَّ لَهُ، وَمِنَ الْعِبَادِ بِالْحُدُودِ، فَدُنُوُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قُرْبُهُ مِنْهُ، وَظُهُورُ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ، وَإِشْرَاقُ أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِطْلَاعُهُ عَلَى أَسْرَارِ مَلَكُوتِهِ وَغَيْبِهِ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ إِظْهَارُ ذَلِكَ لَهُ وَإِيصَالُ عَظِيمِ بِرِّهِ وَفَضْلِهِ إِلَيْهِ، وَقَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفِ الْمَحَلِّ وَإِيضَاحِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِشْرَافِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنَ اللَّهِ إِجَابَةُ الرَّغْبَةِ وَإِنَابَةُ الرُّتْبَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ: " «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا» " هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ أَوْرَدْتُ بَعْضَ الْفَوَائِدِ مِنْ هَذِهِ الرِّيَاضِ فِي رِسَالَتَيْنِ الْمِدْرَاجِ لِلْمِعْرَاجِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

(وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ: (رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ) أَيْ بِفُؤَادِهِ؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: أَيْ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْمُلَائِمِ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ السُّؤَالِ، وَإِلَّا فَرُؤْيَةُ الْفُؤَادِ غَيْرُ مُنْكَرَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْكَمَالِ، وَلَا يَعْتَرِي عَلَيْهَا اعْتِرَاضٌ نَقْلًا وَلَا عَقْلًا فِي كُلِّ حَالٍ. (قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] قَالَ - أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ -: (وَيْحَكَ!) كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الشَّفَقَةِ وَحَالَ خَوْفِ الْمَزْلَقَةِ (ذَاكَ) أَيِ الْإِدْرَاكُ الْكُلِّيُّ (إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ) أَيِ الْخَالِصِ (الَّذِي هُوَ نُورُهُ) أَيِ الذَّاتِيُّ، وَهَذَا الْجَوَابُ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ أَرَادَ الرُّؤْيَةَ بِالْفُؤَادِ، وَفَهِمَ عِكْرِمَةُ خِلَافَ ذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ رُؤْيَتَهُ بِالْعَيْنِ " هِيَ فِي الْآخِرَةِ بِالتَّجَلِّي الْخَاصِّ الْكَامِلِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، لَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَعَدَلَا كِلَاهُمَا عَنِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَهُوَ الْإِحَاطَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ يَعْنِي دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِيطُ بِهِ وَبِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ حَاسَّةُ الْأَبْصَارِ، وَهَذَا إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ وَظَهَرَ بِصِفَةِ الْجَلَالِ، وَأَمَّا إِذَا تَجَلَّى مِمَّا يَسَعُهُ نِطَاقُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ فَلَا اسْتِبْعَادَ إِذَنْ، انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: فَهِمَ عِكْرِمَةُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ بِمُسَاعَدَةِ فُؤَادِهِ، فَذَلِكَ تَمَسُّكٌ بِالْآيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بِالْفُؤَادِ جَلِيَّةً كَالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ لَمْ يَتَّجِهِ السُّؤَالُ بِالْآيَةِ، إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْإِدْرَاكِ الَّذِي يَكُونُ كَالْإِدْرَاكِ الْبَصَرِيِّ فِي الْجَلَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ ذِكْرَ الْبَصَرِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْإِدْرَاكِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُؤَالَ عِكْرِمَةَ كَانَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ - كَمَا هُوَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ - لَا عَلَى قَوْلِهِ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، كَمَا هُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَحِينَئِذٍ لَا إِشْكَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَعْنَى جَوَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، اضْمَحَلَّ الْإِدْرَاكُ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَجَلَّى عَلَى قَدْرِ مَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَإِنَّهُ يُدْرَكُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، أَوْ مُرَّةً بِفُؤَادِهِ وَمَرَّةً بِعَيْنِهِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ مَرَّتَيْنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَرِيحُ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ رُؤْيَةُ رَبِّهِ بِعَيْنِ الْبَصَرِ. وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، لَكُنَّا لَا نَتَمَسَّكُ إِلَّا بِالْأَقْوَى. مِنْهَا «حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - قُلْتُ: لَيْسَ فِي كَلَامِهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةُ الْبَصِيرَةِ مِنْ خَصَائِصِهِ أَيْضًا، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ لَا يَكُونَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُصِفَتِ الْخُلَّةُ وَنُعِتَ الْكَلَامُ، مَعَ أَنَّهُمَا ثَابِتَانِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَبْرِ الْأُمَّةِ، وَالْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ فِي الْمُعْضِلَاتِ، وَقَدْ رَاجَعَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ رَبَّهُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَذَا سُؤَالُ عِكْرِمَةَ نَاشِئًا عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] هَلِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى جِبْرِيلَ أَوْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ أَيْ بِفُؤَادِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِأَنَّهَا لَمْ تُخْبِرْ أَنَّهَا سَمِعَتْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَرَى رَبِّي. قَلْتُ: وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ رَبِّي مُطْلَقًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِعَيْنِ الْبَصَرِ. قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ مَا ذَكَرَتْ مُتَأَوِّلَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} [الشورى: 51] الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قُلْتُ: هَاتَانِ الْآيَتَانِ سَنَدَانِ لِمَنْعِهِمَا عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَيْضًا مُتَأَوِّلٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ. قَالَ: وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى إِثْبَاتِهَا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَيُؤْخَذُ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا يُتَلَقَّى بِالسَّمَاعِ وَلَا يَسْتَجِيرُ أَحَدٌ أَنْ يَظُنَّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالظَّنِّ وَالِاجْتِهَادِ. قُلْتُ: الرُّؤْيَةُ بِبَصَرِ الْعَيْنِ غَيْرُ مُصَرَّحَةٍ عَنْهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْآيَةِ التَّسْلِيمُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَشَأَ مِنْ بَابِ اجْتِهَادِهِ وَأَخْذِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ حِينَ ذَكَرَ اخْتِلَافَ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: عَائِشَةُ مَا عِنْدَنَا بِأَعْلَمَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُلْتُ: هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاقَشَةِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً تَامَّةً، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْفَرِدَةً فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ يُوَافِقُهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعَارُضِ وَتَسَاقُطِ التَّنَاقُضِ يَثْبُتُ كَلَامُهَا وَيَتَحَقَّقُ مَرَامُهَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ شَيْئًا نَفَاهُ غَيْرُهُ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. قُلْتُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْإِثْبَاتُ مُسْتَنِدًا إِلَى حَسَنٍ، وَإِلَّا فَمِنْ آدَابِ الْبَحْثِ أَنَّ كَلَامَ الْمَانِعِ مُعْتَبَرٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ سَنَدِ الْمَنْعِ، حَتَّى يَأْتِيَ الْخَصْمُ بِبُرْهَانٍ جَلِيٍّ، إِذِ الْأَصْلُ هُوَ الْعَدَمُ، فَالْوُجُودُ يَحْتَاجُ إِلَى تَحَقُّقٍ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍ مِنَ النَّقْلِ أَوِ الْعَقْلِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ. وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْرِيرِ، فَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: الْحَاصِلُ أَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَإِثْبَاتُ هَذَا لَيْسَ إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِيهِ. قُلْتُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ أَيْضًا؛ لِعَدَمِ ثُبُوتِ السَّمَاعِ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ لَا يَكُونَ طَرِيقُهُ قَطْعًا وَفَصْلًا، وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ لِلْأَقَلِّ أَوْ لِلْأَكْثَرِ، فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ. قُلْتُ: وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُثْبِتِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ لَذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. لَوْ ثَبَتَ النَّقْلُ صَرِيحًا عَنْهُ مِنْ إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ بِعَيْنِ الْبَصَرِ، وَقَدْ عُلِمَ أَيْضًا مِمَّا سَبَقَ أَنْ عَائِشَةَ مَانِعَةٌ لِلرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا ذَكَرَتْهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّمَا هِيَ سَنَدُ مَنْعِهَا لِلتَّقْوِيَةِ وَلَيْسَتْ مُسْتَدِلَّةً حَتَّى يُقَالَ فِي حَقِّهَا مَا قَالَ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتْ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْآيَاتِ، أَمَّا احْتِجَاجُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْإِحَاطَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُحَاطُ بِهِ، فَإِذَا وَرَدَ النَّصُّ بِنَفْيِ الْإِحَاطَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ. قُلْتُ: سَبَقَ سُؤَالُ عِكْرِمَةَ مُطَابِقًا لِمَا فَهِمَتْ عَائِشَةُ مِنَ الْآيَةِ. وَكَذَا تَقْرِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْمَعْنَى، وَجَوَابُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَبْنَى، وَإِنْ كَانَ هَذَا جَوَابًا حَسَنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ: وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} [الشورى: 51] الْآيَةَ. فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الرُّؤْيَةِ وُجُودُ الْكَلَامِ حَالَ الرُّؤْيَةِ، فَيَجُوزُ وُجُودُ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى أُخِذَ مِنْ سِيَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى - فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 9 - 10] حَيْثُ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِهِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ كَمَالِ الْقُرْبِ وَالْوَحْيِ الْخَاصِّ الْمُرَادِ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَدَفَعْتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] أَيْ بِالْإِلْقَاءِ بِالْقَلْبِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَيْ أَوْ تَكْلِيمًا ظَاهِرًا يُدْرِكُهُ سَمْعُ الْقَالَبِ، لَكِنْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: اعْلَمْ أَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ، وَجَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ، أَوْ رَآهُ بِبَصَرِهِ وَجَعَلَ فُؤَادَهُ فِي بَصَرِهِ، وَكَيْفَ لَا، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ الرُّؤْيَةُ بِالْإِرَاءَةِ لَا بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَإِذَا حَصَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ مِنْ طَرِيقِ الْبَصَرِ كَانَ رُؤْيَةً بِالْإِرَاءَةِ، وَإِنْ حَصَّلَ مِنْ طَرِيقِ الْقَلْبِ كَانَ مَعْرِفَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمَ بِخَلْقٍ مُدْرِكٍ لِلْعُلُومِ فِي الْبَصَرِ، كَمَا قَدَّرَ أَنْ يُحَصِّلَهُ بِخَلْقٍ مُدْرِكٍ لِلْعُلُومِ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَاخْتِلَافُ الْوُقُوعِ مِمَّا يُنْبِئُ عَنِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْجَوَازِ. انْتَهَى. وَهُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةُ التَّدْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.

وَقَالَ صَاحِبُ التَّعَرُّفِ: وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا بِالْإِبْصَارِ، وَلَا بِالْقَلْبِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِيقَانِ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ الْإِكْرَامِ وَأَفْضَلُ النِّعَمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَفْضَلِ الْمَكَانِ، وَأَحْرَى أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَى الْبَاقِيَ فِي الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَلَوْ رَأَوْهُ فِي الدُّنْيَا لَكَانَ الْإِيمَانُ بِهِ ضَرُورَةً، وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الدُّنْيَا، فَوَجَبَ الِانْتِهَاءُ إِلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ: إِنَّهُ لَمْ يَرَهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَصَرِهِ، وَاحْتَجُّوا بِخَبَرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، مِنْهُمْ: الْجُنَيْدُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَآهُ وَأَنَّهُ خُصَّ بَيْنَ الْخَلَائِقِ بِالرُّؤْيَةِ، وَاحْتَجُّوا بِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَسْمَاءَ وَأَنَسٍ، مِنْهُمْ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَآهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِبَصَرِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] هَذَا وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصُّوفِيَّةِ ادَّعَوُا الرُّؤْيَةَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ أَطْبَقَ الْمَشَايِخُ عَلَى تَضْلِيلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَصَنَّفُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا مِنْهُمْ: أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ لَهُ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ كِتَابٌ وَرَسَائِلُ، وَكَذَا لِلْجُنَيْدِ فِي تَكْذِيبِ مَنِ ادَّعَاهُ رَسَائِلُ وَكَلَامٌ كَثِيرٌ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ.

5661 - وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «لَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَعْبًا بِعَرَفَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَكَبَّرَ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى، فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ، وَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ قَالَ مَسْرُوقٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ تَكَلَّمْتَ بِشَيْءٍ. قَفَّ لَهُ شَعَرِي، قُلْتُ: رُوَيْدًا، ثُمَّ قَرَأْتُ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِكَ؟ إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ. مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ أَوْ يَعْلَمُ الْخَمْسَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ، لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَمَرَّةً فِي أَجْيَادٍ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ مَعَ زِيَادَةٍ وَاخْتِلَافٍ، وَفِي رِوَايَتِهِمَا: قَالَ: «قُلْتُ: لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى - فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 - 9] قَالَتْ: ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ، فَسَدَّ الْأُفُقَ.» ـــــــــــــــــــــــــــــ 5661 - (وَعَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ قَالَ: (قَالَ: لَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا بِعَرَفَةَ، فَسَأَلَهُ) أَيْ كَعْبًا (عَنْ شَيْءٍ، فَكَبَّرَ) أَيْ كَعْبٌ (حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً مُرْتَفِعًا بِهَا صَوْتُهُ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ صَدًى، كَأَنَّهُ اسْتَعْظَمَ مَا سَأَلَ عَنْهُ، فَكَبَّرَ لِذَلِكَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَقَفَّ لِذَلِكَ شَعَرُهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ كَلَامُ كَعْبٍ الْآتِي مِنْ إِثْبَاتِهِ الرُّؤْيَةَ فِي الْجُمْلَةِ يَأْبَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنْ يَكُونَ نَحْوَ مَا صَدَرَ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي الْمَبْنَى، فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ التَّكْبِيرُ عَلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَالتَّشَوُّقِ إِلَى ذَلِكَ الْمَرَامِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابَ الْكَلَامِ. (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ) أَيْ فَيَجِبُ تَعْظِيمُنَا وَتَكْلِيمُنَا وَتَفْهِيمُنَا (فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى) . عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ، فَبَعْثٌ لَهُ عَلَى التَّسْكِينِ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْظِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْجَوَابِ، يَعْنِي نَحْنُ أَهْلُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، فَلَا نَسْأَلُ عَمَّا يُسْتَبْعَدُ هَذَا الِاسْتِبْعَادَ، وَلِذَلِكَ فَكَّرَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ. . . إِلَى آخِرِهِ. أَقُولُ: هَذَا لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ؛ إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى ثُبُوتِ غَيْظٍ لَهُ، وَلَا عَلَى تَحَقُّقِ فِكْرٍ فِيهِ، مَعَ أَنَّ تَيَقُّنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَتَحَصَّلُ بِفِكْرِ سَاعَةٍ مَعَ اعْتِقَادِ مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ عَلَى خِلَافِهَا. (فَكَلَّمَ) أَيِ اللَّهُ تَعَالَى (مُوسَى مَرَّتَيْنِ) ، أَيْ فِي الْمِيقَاتَيْنِ (وَرَآهُ مُحَمَّدٌ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْ فِي الْمِعْرَاجِ (مَرَّتَيْنِ) . كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ كَعْبٍ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رَآهُ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى جِبْرِيلَ، بِخِلَافِ قَوْلِ عَائِشَةَ، لَكِنْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ بِرُؤْيَةِ الْبَصِيرَةِ أَوِ الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ؛ وَلِذَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ مَسْرُوقٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَسَمِعَ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا. (فَقُلْتُ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ) ؟ أَيْ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْفُؤَادِ.

(فَقَالَتْ) اسْتِعْظَامًا لِهَذَا السُّؤَالِ ( «لَقَدْ تَكَلَّمْتَ بِشَيْءٍ» ) وَفِي نُسْخَةٍ: كَلَّمْتَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي بِشَيْءٍ (قَفَّ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ قَامَ مِنَ الْفَزَعِ (لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْكَلَامِ (شَعَرِي) أَيْ شَعَرُ بَدَنِي جَمِيعًا، وَهَذَا لِمَا حَصَلَ عِنْدَهَا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَهَيْبَتِهِ وَاعْتَقَدَتْهُ مِنْ تَنْزِيهِهِ وَاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ (قُلْتُ: رُوَيْدًا) ، أَيِ ارْفُقِي وَأَمْهِلِي، وَالْمَقْصُودُ تَسْكِينُهَا وَالْمُلَاءَمَةُ فِي تَلْيِينِهَا حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَعَهَا. (ثُمَّ قَرَأْتُ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] : ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يُنَاسِبُ مُدَّعَى مَسْرُوقٍ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا الْمُعَيِّنَةُ لِمَا رَأَى فِيمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] ، فَهُوَ نَقِيضُ مَطْلُوبِهِ؛ وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ قَرَأَتُ الْآيَاتِ الَّتِي خَاتِمَتُهَا هَذِهِ الْآيَةُ، كَمَا تَشْهَدُ لَهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. أَعْنِي قَوْلَهُ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ: ثُمَّ دَنَا. أَقُولُ: مَعَ بُعْدِهِ لَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَفْظُ رَأَى، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْكُبْرَى الْآيَةَ الْعُظْمَى عَلَى عَظَمَةِ شَأْنِهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى تَعْظِيمِ جَنَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصَدَ بِهَا الرُّؤْيَةَ الْبَصَرِيَّةَ أَوِ الْفُؤَادِيَّةَ. (فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِكَ) ؟ أَيِ الْآيَةُ يَعْنِي فَهْمُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ أَخْطَأْتَ فِيمَا فَهِمْتَ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَذَهَبْتَ إِلَيْهِ، فَإِسْنَادُ الْإِذْهَابِ إِلَى الْآيَةِ مَجَازٌ، انْتَهَى. أَوْ أَيْنَ تَذْهَبُ بِكَ الْآيَةُ الْكُبْرَى (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ الْآيَةُ الْكُبْرَى (جِبْرِيلُ) . فَذُكِرَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْآيَةُ الْكُبْرَى وَمَا سَيَأْتِي عَنْهَا أَنَّ لَهُ سِتَّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهَا: ( «مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ» ) وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا تَنْفِي رُؤْيَتَهُ تَعَالَى مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْفُؤَادِ أَوْ بِالْبَصَرِ، ( «أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ» ) أَيْ بِإِظْهَارِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وَهُوَ يَعُمُّ الْكِتْمَانَ عَنِ الْجَمِيعِ أَوْ عَنِ الْبَعْضِ، فَيَرُدُّ الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ لِلشِّيعَةِ فِي اخْتِصَاصِ أَهْلِ الْبَيْتِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّنِيعَةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ لَهُ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِنَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ لَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرُهُ لِلْحَاجَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] أَوْ يَعْلَمُ الْخَمْسَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] أَيْ إِلَى آخِرِ (مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ) وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بِإِيرَادِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُبَالَغَةَ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْفِرْيَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ فِي جَزَاءِ الْكُلِّ مِنَ الشَّرْطِيَّاتِ ( «فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ» ) ، بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيِ الْكَذِبَ الَّذِي هُوَ بِلَا مِرْيَةٍ (وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ) ، أَيْ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ ( «لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَمَرَّةً فِي أَجْيَادٍ» ) بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ، مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ مِنْ شِعَابِهَا ( «لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . (وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ مَعَ زِيَادَةٍ وَاخْتِلَافٍ) ، أَقُولُ: فَكَانَ الْأَوْلَى إِيرَادُ رِوَايَتِهِمَا، فَهُوَ تَعْرِيضٌ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، (وَفِي رِوَايَتِهِمَا. قَالَ) أَيْ مَسْرُوقٌ، قُلْتُ: لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ:

( «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى» ) يَعْنِي فَإِنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ أَنَّ ضَمِيرَ " دَنَا " إِلَى اللَّهِ وَضَمِيرَ " فَتَدَلَّى " إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بِالْعَكْسِ كَمَا سَبَقَ، وَكَذَا ضَمِيرُ " فَكَانَ " إِلَى أَحَدِهِمَا، وَقَدْ قَالَ بَعْدَهُ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 10] وَبِمَا قَرَّرْنَا يَتِمُّ اسْتِشْكَالُ مَسْرُوقٍ. (قَالَتْ: ذَاكَ) أَيْ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي الْكُلِّ (جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) ، أَيْ لَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِبَيَانِ دَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَائِمًا، فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ ذِكْرِ رُؤْيَتِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ؟ فَقَالَتْ: (كَانَ) أَيْ جِبْرِيلُ (يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ) أَيْ مُتَشَكِّلًا بِشَكْلِهِ، وَغَالِبًا بِصُورَةِ دَحْيَةَ (وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ) أَيْ فِي أَجْيَادٍ ( «فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ» ) ، أَيِ الْأَصْلِيَّةِ (فَسَدَّ الْأُفُقَ) ، أَيْ عَلَى نَحْوِ مَا رَآهُ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، هَذَا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخَذَ بِقَوْلِ كَعْبٍ، وَاخْتَارَهُ أَنَّهُ رَآهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بِعَيْنِ الْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا بِهَذِهِ وَالْأُخْرَى بِأُخْرَى، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ مَرَّتَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا نَفْيُ عَائِشَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ يُقَيَّدَ بِنَفْيِ الْبَصَرِ وَجَوَازِ رُؤْيَتِهِ بِالْفُؤَادِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَفْيِ عَائِشَةَ بِأَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَإِثْبَاتُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، لَا مُجَرَّدِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَالِمًا بِهِ تَعَالَى عَلَى الدَّوَامِ، وَأَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ خُلِقَتْ لَهُ فِي قَلْبِهِ، كَمَا تُخْلَقُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لِغَيْرِهِ، وَالرُّؤْيَةُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مَخْصُوصٌ عَقْلًا، وَلَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِخَلْقِهَا فِي الْعَيْنِ.

5662 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وَفِي قَوْلِهِ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] وَفِي قَوْلِهِ: {رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] قَالَ فِيهَا كُلِّهَا: رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ، قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.» وَلَهُ وَلِلْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] قَالَ: رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ، سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5662 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: (فَكَانَ) أَيِ الْقُرْبُ الْمَعْنَوِيُّ مِنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ أَوِ الصُّورِيُّ، أَوْ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9] أَيْ قَدْرُهُمَا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ قُرْبِهِمَا أَوْ أَدْنَى أَيْ بَلْ أَقْرَبُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَقَامِ الْمَزِيدِ لِحَالِ الْمُرِيدِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَفِي قَوْلِهِ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] أَيْ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَبْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي مَرْجِعِ ضَمِيرِ " أَوْحَى " فِي الْمَعْنَى. (وَفِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] قَالَ أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ (كُلِّهَا: رَأَى) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ) . يَعْنِي الضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى جِبْرِيلَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُطَابِقٌ وَمُوَافِقٌ لِمَا فَهِمَتْ عَائِشَةُ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] قَالَ: أَعَادَهُ تَأْكِيدًا (رَأَى النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ) ، فَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ بِسَاطٍ، وَقِيلَ: فِرَاشٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الرَّفْرَفَ جَمْعًا وَاحِدُهُ رَفْرَفَةٌ، وَجَمْعُ الرَّفْرَفِ رَفَارِفُ. قُلْتُ: الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ثِيَابٌ خُضْرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} [الرحمن: 76] أَوْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَسَطَ أَجْنِحَتَهُ فَصَارَتْ شِبْهَ الرَّفْرَفِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: رَفْرَفَ الطَّائِرُ بِجَنَاحَيْهِ بَسَطَهُمَا عِنْدَ السُّقُوطِ عَلَى شَيْءٍ تَحُومُ عَلَيْهِ لِتَقَعَ فَوْقَهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: رَفَّ الطَّائِرُ بَسَطَ جَنَاحَيْهِ، كَرَفْرَفَ. وَالثُّلَاثِيُّ مُسْتَعْمَلٌ، وَالرَّفُّ شِبْهُ الطَّاقِ كَالرَّفْرَفِ جَمْعُهُ رُفُوفٌ، وَالثَّوْبُ النَّاعِمُ، وَالرُّفُوفُ ثِيَابٌ يُتَّخَذُ مِنْهَا الْمَجَالِسُ وَتُبْسَطُ، وَالرَّقِيقُ مِنْ ثِيَابِ الدِّيبَاجِ. (قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) . (وَلَهُ) أَيْ لِلتِّرْمِذِيِّ (وَلِلْبُخَارِيِّ) أَيْ أَيْضًا، وَقَدَّمَ التِّرْمِذِيَّ لِتَقَدُّمِ مَرْجِعِهِ (فِي قَوْلِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَالَ الْآتِي: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] (قَالَ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (رَأَى رَفْرَفًا) أَيْ ذَا رَفْرَفٍ (أَخْضَرَ، سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ) ، وَهُوَ جِبْرِيلُ كَمَا سَبَقَ عَنْهُ أَيْضًا، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا قَرَّرْنَاهُ وَفِي تَحْرِيرِ الْكَلَامِ قَدَّرْنَاهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

5663 - وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] فَقِيلَ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: إِلَى ثَوَابِهِ. فَقَالَ مَالِكٌ: كَذَبُوا، فَأَيْنَ هُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قَالَ مَالِكٌ: النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْيُنِهِمْ، وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرِ اللَّهُ الْكَفَّارَ بِالْحِجَابِ فَقَالَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5663 - (وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ (عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] فَقِيلَ: قَوْمٌ) أَيِ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ (يَقُولُونَ) أَيْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ (إِلَى ثَوَابِهِ) أَيْ نَاظِرَةٌ إِلَى ثَوَابِ رَبِّهَا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى مُفْرَدِ الْآلَاءِ بِمَعْنَى النَّعْمَاءِ، وَأُرِيدَ هُنَا الْجِنْسُ أَيْ مُنْتَظِرَةٌ نِعْمَةَ رَبِّهَا. (فَقَالَ مَالِكٌ: كَذَبُوا) أَيْ عَلَى اللَّهِ فِي مَعْنَى كَلَامِهِ، فَأَيْنَ هُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا أَيْ حَقًّا إِنَّهُمْ أَيِ الْكُفَّارُ {عَنْ رَبِّهِمْ} [المطففين: 15] : قُدِّمَ عَنْ مُتَعَلِّقَةً لِلِاهْتِمَامِ أَوْ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلِاخْتِصَاصِ أَوْ لِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ وَقْتَ الْجَزَاءِ {لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] أَيْ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَالْحِجَابُ أَشَدُّ الْعَذَابِ، كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ زِيَادَةٌ عَلَى كُلِّ مَثُوبَةٍ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وَالْمَعْنَى: فَأَيْنَ ذَلِكَ الْقَوْمُ حَيْثُ وَقَعُوا فِي بُعْدٍ وَغَفْلَةٍ عَنْ مَفْهُومِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ، بَلْ يَكُونُونَ إِلَى مَقَامِ النَّظَرِ مَطْلُوبِينَ، وَيَصِيرُونَ مِنْ كَمَالِهِمْ فِي مَرْتَبَةِ الْحُبِّ مَحْبُوبِينَ. (قَالَ مَالِكٌ: النَّاسُ) أَيِ الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّ فِي الْحَقِيقَةِ هُمُ النَّاسُ وَسَائِرُ النَّاسِ كَالنِّسْنَاسِ (يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْيُنِهِمْ) ، وَقَدْ سَبَقَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: النَّاسُ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ، ثُمَّ الْكُفَّارُ يَصِيرُونَ مَحْجُوبِينَ لِزِيَادَةِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالرُّؤْيَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ حَاصِلَةٌ بِلَا شُبْهَةٍ. (وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرِ اللَّهُ الْكَفَّارَ بِالْحِجَابِ، فَقَالَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] رَوَاهُ أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ.

5664 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، قَالَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ وَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5664 - (وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا) وَفِي نُسْخَةٍ: بَيْنَمَا (أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ) ، أَيْ وَاقِعِينَ فِي لَذَّاتِهِمْ مُشْتَغِلِينَ بِشَهَوَاتِهِمْ (إِذْ سَطَعَ) أَيْ سَنَحَ وَلَمَعَ (لَهُمْ نُورٌ) أَيْ عَظِيمٌ (فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ قَدْ أَشْرَفَ) أَيْ تَجَلَّى تَجَلِّيَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْبَهَاءِ وَالْعُلَا (عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) ، أَيْ مُبْتَدِئًا مِنْهُ، أَخْذًا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ (فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمْ جَمَاعَةٌ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ: إِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ " حَيْثُ قَنَعُوا بِاللَّذَّاتِ عَنْ رُؤْيَةِ الذَّاتِ، وَعِلِّيُّونَ لِأُولِي الْأَلْبَابِ لِاعْتِلَاءِ هِمَّتِهِمْ، وَارْتِفَاعِ نَهَمَتِهِمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْإِفْرَادِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَهْلُ شُغْلِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ شُغْلِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَهْلُ شُغْلِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ شُغْلِ أَنْفُسِهِمْ فِي الْآخِرَةِ» . وَفِي التَّنْزِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ - هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ - لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ - سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 55 - 58] (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَذَلِكَ) أَيْ سَلَامُ الرَّبِّ يَعْنِي: شَاهِدُهُ (قَوْلُهُ تَعَالَى) أَوْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: " {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] أَيْ لَهُمْ سَلَامٌ عَظِيمٌ. يُقَالُ: لَهُمْ قَوْلًا كَائِنًا مِنْ جِهَةِ رَبٍّ رَحِيمٍ (قَالَ: فَنَظَرَ) أَيِ الرَّبُّ إِلَيْهِمْ (وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ) أَيْ بِإِيقَاعِ الْحِجَابِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رَفْعِهِ عَنْهُمْ (وَيَبْقَى نُورُهُ) أَيْ أَثَرُ نُورِهِ، وَثَمَرَةُ ظُهُورِهِ عَلَى ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ، كَمَا يُشَاهِدُهُ أَهْلُ الْمَشْهَدِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْفِنَاءِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب صفة النار وأهلها]

[بَابُ صِفَةِ النَّارِ وَأَهْلِهَا] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5665 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً! قَالَ: " فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا ".» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " «نَارُكُمُ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ» ". وَفِيهَا: " عَلَيْهَا "، " وَكُلُّهَا " بَدَلُ: " عَلَيْهِنَّ "، وَ " كُلُّهُنَّ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ [7] بَابُ صِفَةِ النَّارِ وَأَهْلِهَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5665 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " نَارُكُمْ) وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: نَارُكُمْ هَذِهِ (جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ) . زَادَ التِّرْمِذِيُّ: لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا حَرُّهَا (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً!) " إِنْ " هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ، أَيْ إِنَّ هَذِهِ النَّارَ الَّتِي نَرَاهَا فِي الدُّنْيَا كَانَتْ كَافِيَةً فِي الْعُقْبَى لِاحْتِرَاقِ الْكُفَّارِ وَعُقُوبَةِ الْفُجَّارِ، فَهَلَّا اكْتُفِيَ بِهَا، وَلِأَيِّ شَيْءٍ زِيدَتْ فِي حَرِّهَا؟ (قَالَ: " فُضِّلَتْ) أَيْ نَارُ جَهَنَّمَ (عَلَيْهِنَّ) ؟ أَيْ عَلَى أَنْيَارِ الدُّنْيَا (بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ) أَيْ حَرَارَةُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ (مِثْلُ حَرِّهَا) أَيْ مِثْلُ حَرَارَةِ نَارِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ مَنْعُ الْكِفَايَةِ، أَيْ لَا بُدَّ مِنَ التَّفَضُّلِ

لِحِكْمَةِ كَوْنِ عَذَابِ اللَّهِ أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ؛ وَلِذَلِكَ أُوثِرَ ذِكْرُ النَّارِ عَلَى سَائِرِ أَصْنَافِ الْعَذَابِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] ، وَقَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ اللَّهُ هَذَا الْجُزْءَ مِنَ النَّارِ فِي الدُّنْيَا أُنْمُوذَجًا لِمَا فِي تِلْكَ الدَّارِ. قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ عَلَيْهِ رَحْمَةُ الْبَارِي فِي " الْإِحْيَاءِ ": اعْلَمْ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ فِي الْقِيَاسِ، فَإِنَّ نَارَ الدُّنْيَا لَا تُنَاسِبُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ أَشَدُّ عَذَابٍ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ هَذِهِ النَّارِ، عُرِفَ عَذَابُ جَهَنَّمَ بِهَا، وَهَيْهَاتَ لَوْ وَجَدَ أَهْلُ الْجَحِيمِ مِثْلَ هَذِهِ النَّارِ لَخَاضُوهَا هَرَبًا مِمَّا هُمْ فِيهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ) أَيْ وَوَافَقَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمَعْنَى. (وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " نَارُكُمُ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ) مِنَ الْإِيقَادِ، وَيَجُوزُ التَّشْدِيدُ مِنَ التَّوْقِيدِ (وَفِيهَا) أَيْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ (" عَلَيْهَا " وَ " كُلُّهَا " بَدَلُ: " عَلَيْهِنَّ " وَ " كُلَّهُنَّ ") . بِالنَّصْبِ، أَيْ عِوَضَهُمَا لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا.

5666 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5666 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ يُؤْتَى بِهَا مِنَ الْمَكَانِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23] (يَوْمَئِذٍ) ؟ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقْتَ النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ وَالْمَلَامَةِ (لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ) ، بِكَسْرِ الزَّايِ وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ (مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا) . بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ يَسْحَبُونَهَا، أَيْ إِلَى أَنْ تُدَارَ بِأَرْضٍ لَا تَبْقَى لِلْجَنَّةِ طَرِيقٌ إِلَّا الصِّرَاطُ عَلَى ظَهْرِهَا، وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْأَزِمَّةِ الَّتِي يُجَرُّ بِهَا بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى عَظَمَتِهَا - مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى الْمَحْشَرِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5667 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ، مَا يُرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5667 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ) بِضَمِّ النُّونِ (ابْنِ بَشِيرٍ) صَحَابِيٌّ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ) أَيْ أَيْسَرُهُمْ (عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ) أَيْ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ (وَشِرَاكَانِ) أَيْ مِنْ فَوْقِهَا (مِنْ نَارٍ) ، أَيْ كَائِنَةٌ مِنْهَا (يَغْلِي) أَيْ يَفُورُ (مِنْهُمَا) أَيْ مِنَ النَّوْعَيْنِ وَهُمَا النَّعْلَانِ وَالشِّرَاكَانِ (دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي فِي الْمِرْجَلِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ: قِدْرُ النُّحَاسِ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَيُقَالُ أَيْضًا: لِكُلِّ إِنَاءٍ يَغْلِي فِيهِ الْمَاءُ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 45] وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يُغْمَسْ فِي الْجَحِيمِ، وَلِذَا قَالَ: (مَا يُرَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ مَا يَظُنُّ مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ (أَنَّ أَحَدًا) أَيْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ (أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا) ، أَيْ لِانْفِرَادِهِ وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى حَالِ غَيْرِهِ (وَإِنَّهُ) بِالْكَسْرِ أَيْ، وَالْحَالُ أَنَّهُ (لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا) فَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَفَاوُتِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: " «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ يُوضَعُ فِي قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَدْنَى الْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا فِي الْمَتْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَدْنَاهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ.

5668 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5668 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا) أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ (أَبُو طَالِبٍ) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] (وَهُوَ مُنْتَعِلٌ) مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: مِنْ بَابِ الِانْفِعَالِ أَيْ مُتَلَبِّسٌ (بِنَعْلَيْنِ) أَيْ مِنْ نَارٍ (يَغْلِي فِيهِمَا) وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْهُمَا أَيْ مِنْ نَعْلِهِمَا أَوْ مِنْ جِهَةِ نَعْلِهِ، وَأُرِيدَ بِهَا الْجِنْسُ (دِمَاغُهُ) . وَإِنَّمَا خُفِّفَ عَذَابُهُ لِكَوْنِهِ حَامِيًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَشْدِيدِ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا خُفِّفَ خُفِّفَ جَزَاءً وِفَاقًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَأَسْنَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5669 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ، هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ وَهَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5669 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ؟ يَحْضُرُ أَشَدُّهُمْ تَنَعُّمًا وَأَكْثَرُهُمْ ظُلْمًا لِقَوْلِهِ: (مِنْ أَهْلِ النَّارِ) " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ فِي مَحَلِّ حَالٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، ظَرْفُ " يُؤْتَى " (فَيُصْبَغُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ " يُغْمَسُ (فِي النَّارِ صَبْغَةً) بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ غَمْسَةً، إِطْلَاقًا لِلْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ، فَإِنَّ الصَّبْغَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْغَمْسِ غَالِبًا، وَفِي " النِّهَايَةِ ": أَيْ يُغْمَسُ فِي النَّارِ غَمْسَةً، كَمَا يُغْمَسُ الثَّوْبُ فِي الصَّبْغِ (ثُمَّ يُقَالُ) أَيْ لَهُ (يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا) أَيْ نِعْمَةً (قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ) ؟ أَيْ فِي زَمَانٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ. وَفِي الْكَلَامِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى حَيْثُ أَوْقَعَ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى مُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ وَالْمُرُورِ دُونَ الذَّوْقِ وَالتَّمَتُّعِ وَالسُّرُورِ، (فَيَقُولُ: لَا) أَيْ مَا رَأَيْتُ (وَاللَّهِ يَا رَبِّ) نَفْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ وَالنِّدَاءِ فِي الْجَوَابِ، لَمَّا أَنْسَتْهُ شِدَّةُ الْعَذَابِ مَا مَضَى عَلَيْهِ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، أَوْ مَا بَعْدَهُ مِنَ النَّعِيمِ نَظَرًا إِلَى مَآلِهِ وَسُوءِ حَالِهِ، فَأَيُّ نَعِيمٍ آخِرُهُ الْجَحِيمُ، وَأَيُّ شِدَّةٍ مَآلُهَا الْجَنَّةُ كَمَا قَالَ: (وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ شِدَّةً وَمَشَقَّةً وَمِحْنَةً لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ وَبَلِيَّةٍ (فِي الدُّنْيَا) أَيْ أَوَّلًا (مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) مَآلًا (فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ) ، أَيْ فِي أَنْهَارِهَا أَوِ الْكَوْثَرِ مِنْهَا، ( «فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ وَهَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» ) ، وَكَأَنَّهُ أَطْنَبَ إِلَى الْجَوَابِ تَلَذُّذًا بِالْخِطَابِ وَقَلْبِ الْكَلَامِ لِلْفَرَحِ التَّامِّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5670 - وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَقُولُ اللَّهُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكَنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5670 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ) أَيْ لَوْ فُرِضَ الْآنَ أَنْ تَمْلِكَ (مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ) " مِنْ " زَائِدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ جَمِيعُ مَا فِيهَا - وَطُلِبَ مِنْكَ أَنْ تَفْتَدِيَ بِهِ وَتُخَلِّصَ نَفْسَكَ مِنَ النَّارِ (أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟) وَهُوَ مِنَ الِافْتِدَاءِ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الدَّرْدَاءِ لِلْإِنْجَاءِ (فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ) أَيِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ (أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا) ، أَيْ طَلَبْتُهُ، فَوُضِعَ السَّبَبُ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ؛ وَلِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَخَلَّفُ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ بِقَوْلِهِمْ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَحَاصِلُهُ أَنِّي أَمَرْتُكَ بِأَسْهَلَ مِنْ هَذَا،

(وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ) أَيْ تَعَلَّقَ بِكَ الْأَمْرُ وَالْحَالُ أَنَّكَ فِي صُلْبِ آدَمَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَضِيَّةِ الْمِيثَاقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] " أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّوْحِيدُ وَالْعِبَادَةُ عَلَى وَجْهِ التَّفْرِيدِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: 26] وَهُوَ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: أَهْوَنَ (فَأَبَيْتَ) أَيْ كُلَّ شَيْءٍ (إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي) أَيْ فَلَا جَرَمَ، لَا أَقْبَلُ مِنْكَ، وَلَوِ افْتَدَيْتَ بِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [المائدة: 36] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أَيْ لَوْ ثَبَتَ؛ لَأَنَّ " لَوْ " يَقْتَضِي الْفِعْلَ الْمَاضِيَ، وَإِذَا وَقَعَتْ " أَنَّ " الْمَفْتُوحَةَ بَعْدَ " لَوْ " كَانَ حَذْفُ الْفِعْلِ وَاجِبًا؛ لَأَنَّ مَا فِي " أَنَّ " مِنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ وَالثَّبَاتِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَقَوْلُهُ: أَرَدْتُ مِنْكَ، ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى: أَرَدْتُ فِيكَ التَّوْحِيدَ، فَخَالَفْتَ مُرَادِي وَأَتَيْتَ بِالشِّرْكِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: الْإِرَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ أَنَّ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ لَا مَحَالَةَ كَائِنٌ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَقَدْ يَكُونُ مُخَالِفًا لِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. قُلْتُ: وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْلَانِ تَوَجَّهَ إِلَى عَامَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَتَعَلَّقَتْ مَشِيئَةُ الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ وَإِرَادَةُ الْكُفْرِ بِبَعْضِهِمْ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] ، وَقَالَ: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31] ، وَقَالَ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَظْهَرُ أَنْ تُحْمَلَ الْإِرَادَةُ هُنَا عَلَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ، فَقَوْلُهُ: أَبَيْتَ إِلَّا أَنَّكَ تُشْرِكُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 173] وَيُحْمَلُ الْآبَاءُ هُنَا عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ: (أَلَّا تُشْرِكْ) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ مُوجَبٌ لِأَنَّ فِي الْآبَاءِ مَعْنَى الِامْتِنَاعِ، فَيَكُونُ نَفْيًا أَيْ مَا اخْتَرْتَ إِلَّا الشِّرْكَ، انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِرَادَةِ وَإِرَادَةَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ يُدْفَعُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيرَادِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5671 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى حُجْزَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى تَرْقُوَتِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5671 - (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) مَرَّ ذِكْرُهُ مِرَارًا (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ (مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى حُجْزَتِهِ) ، بِضَمِّ حَاءٍ وَسُكُونِ جِيمٍ فَزَايٍ أَيْ مَعْقِدِ إِزَارِهِ وَوَسَطِهِ. (وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى تَرْقُوَتِهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ قَافِهِ أَيْ إِلَى حَلْقِهِ، فَفِي الصِّحَاحِ لَا يُضُمُّ أَوَّلُهُ. وَفِي " النِّهَايَةِ ": هِيَ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ، وَهُمَا تَرْقُوَتَانِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَوَزْنُهَا " فَعْلُوَةٌ " بِالْفَتْحِ. وَفِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ تَفَاوُتِ الْعُقُوبَاتِ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ، لَا أَنَّ بَعْضًا مِنَ الشَّخْصِ يُعَذَّبُ دُونَ بَعْضٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: وَهُوَ مُتَنَعِّلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: إِذَا خَلُصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ إِلَى قَوْلِهِ: فَيَأْتُونَهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ لَا تَأْكُلُ النَّارُ صُوَرَهُمْ.

5672 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ " «مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «ضِرْسُ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَذِكْرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا» فِي بَابِ (تَعْجِيلِ الصَّلَاةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5672 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ» ) . قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُزَادُ فِي مِقْدَارِ أَعْضَاءِ الْكَافِرِ زِيَادَةً فِي تَعْذِيبِهِ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْمُمَاسَّةِ لِلنَّارِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا يَكُونُ لِلْكُفَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَبِّرِينَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنِ جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: وَنَظَرَ فِيهِ الشَّيْخُ الشَّارِحُ - يَعْنِي الْأَكْمَلَ - بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ أَجْسَامِهِمْ فِي النَّارِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمَحْشَرِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَنْكِبَيْنِ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ لَيْلًا، ثُمَّ الْحَدِيثُ الْآتِي: " «ضِرْسُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ أُحُدٍ» " عَلَى أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْجَمْعِ أَنْ يَكُونُوا أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي مَوْقِفٍ يُدَاسُونَ فِيهِ، ثُمَّ تَعْظُمُ أَجْسَامُهُمْ وَيَدْخُلُونَ النَّارَ وَيَكُونُوا فِيهَا كَذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ فِي النَّارِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي مُسْلِمٍ، كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْأَوْجَهُ فِي مَنْعِ قَوْلِ الْقُرْطُبِيِّ أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرَهُ يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِ عَظَمَتِهِمْ فِي الْمَحْشَرِ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الْمُتَكَبِّرِينَ بِالذَّرِّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقَارَةِ لَا فِي الصُّورَةِ، وَإِلَّا فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ: فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، انْتَهَى. وَفِيهِ مَبَاحِثُ لَا تَخْفَى. (وَفِي رِوَايَةٍ: " «ضِرْسُ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَغِلَظُ جِلْدِهِ» ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ اللَّامِ أَيْ عِظَمُهُ (مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ) أَيْ لَيَالٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَكَذَا هُوَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَشَرْحُ السُّنَّةِ، أَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ اللَّيَالِي. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا كُلُّهُ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي إِيلَامِهِ، وَهُوَ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى، يَجِبُ الْإِيمَانُ لِأَخْبَارِ الصَّادِقِ بِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَسْنَدَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى إِلَى الشَّيْخَيْنِ، وَالثَّانِيَةَ إِلَى مُسْلِمٍ أَوِ التِّرْمِذِيِّ، أَوِ اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: " «ضِرْسُ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَجِلْدُهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْجَبَّارِ» ". وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ «الْكَافِرَ لَيَعْظُمُ حَتَّى إِنَّ ضِرْسَهُ لَأَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ، وَفَضِيلَةُ جَسَدِهِ عَلَى ضِرْسِهِ كَفَضِيلَةِ جَسَدِ أَحَدِكُمْ عَلَى ضِرْسِهِ» ". (وَذِكْرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: " «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا» فِي بَابِ تَعْجِيلِ الصَّلَاةِ. يَعْنِي فَهُوَ إِمَّا مُكَرَّرًا سَقَّطَهُ مِنْ هَاهُنَا وَنَبَّهَ عَلَيْهِ، وَإِمَّا اعْتِرَاضٌ فِعْلِيٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَحَلَّهُ اللَّائِقَ هُوَ ذَلِكَ الْبَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5673 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5673 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أُوقِدَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَقَوْلُهُ (عَلَى النَّارِ) نَائِبُ فَاعِلٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] أَيْ يُوقَدُ الْوَقُودُ فَوْقَ النَّارِ أَيِ النَّارُ ذَاتُ طَبَقَاتٍ تُوقَدُ طَبَقَةٌ فَوْقَ أُخْرَى، وَمُسْتَعْلِيَةٌ عَلَيْهَا (أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ) ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاحْمِرَارِ (ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ) . زَادَ فِي الْجَامِعِ: كَمَا فِي اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَيُؤَيِّدُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] بِصِيغَةِ الْمَاضِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

5674 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ضِرْسُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَفَخِذُهُ مِثْلُ الْبَيْضَاءِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ مَسِيرَةَ ثَلَاثٍ مِثْلُ الرَّبَذَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5674 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ضِرْسُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَفَخِذُهُ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْفَخِذُ كَكَتِفٍ، مَا بَيْنَ السَّاقِ وَالْوَرِكِ، مُؤَنَّثٌ كَالْفَخِذِ وَبِكَسْرٍ أَيْ فَخِذُ الْكَافِرِ (مِثْلُ الْبَيْضَاءِ) فِي " النِّهَايَةِ ": هُوَ اسْمُ جَبَلٍ، وَقَالَ شَارِحٌ: وَهُوَ مَوْضِعٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: هُوَ جَبَلٌ (وَمَقْعَدُهُ) أَيْ مَوْضِعُ قُعُودِهِ (مِنَ النَّارِ) أَيْ فِيهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (مَسِيرَةَ ثَلَاثٍ مِثْلُ الرَّبَذَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ قُرْبَ الْمَدِينَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَقِيلَ: بِقُرْبِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَقَالَ شَارِحٌ: قَرِيبٌ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، يُرِيدُ مَا بَيْنَ الرَّبَذَةِ وَالْمَدِينَةِ، انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: مِثْلُ الرَّبَذَةِ أَيْ مِثْلُ بُعْدِ الرَّبَذَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، أَوْ مِثْلُ مَسَافَتِهَا إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَذَا الْحَدِيثَ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ مَقْعَدَهُ فِي النَّارِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الرَّبَذَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ بِهَا قَبْرُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَقِيلَ: جَبَلٌ بِالشَّامِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «ضِرْسُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَعَرْضُ جِلْدِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَعَضُدُهُ مِثْلُ الْبَيْضَاءِ، وَفَخِذُهُ مِثْلُ وَرْقَانَ، وَمَقْعَدُهُ فِي النَّارِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الرَّبَذَةِ» ".

5675 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ غِلَظَ جِلْدِ الْكَافِرِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَإِنَّ ضِرْسَهُ مِثْلُ أُحُدٍ، وَإِنَّ مَجْلِسَهُ مِنْ جَهَنَّمَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5675 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ غِلَظَ جِلْدِ الْكَافِرِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا) لَفْظُ الْجَامِعِ: اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْجَبَّارِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الذِّرَاعُ بِالْكَسْرِ مِنْ طَرَفِ الْمِرْفَقِ إِلَى طَرَفِ الْأُصْبُعِ الْوُسْطَى وَالسَّاعِدِ، وَقَدْ يُذْكَرُ فِيهِمَا، وَذَرَعَ الثَّوْبَ: قَاسَهُ بِهَا، (وَإِنَّ ضِرْسَهُ مِثْلُ أُحُدٍ، وَإِنَّ مَجْلِسَهُ) أَيْ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ (مِنْ جَهَنَّمَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ.

5676 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْكَافِرَ لَيُسْحَبُ لِسَانُهُ الْفَرْسَخَ وَالْفَرْسَخَيْنِ يَتَوَطَّأُهُ النَّاسُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5676 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْكَافِرَ لَيُسْحَبُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ يُجَرُّ (لِسَانُهُ) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، بَلْ هُوَ الْأَظَهَرُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَكَذَا ضُبِطَ فِي الْجَامِعِ وَلَفْظُهُ: لَيُسْحَبُ لِسَانُهُ وَرَاءَهُ (الْفَرْسَخَ وَالْفَرْسَخَيْنِ يَتَوَطَّأُهُ النَّاسُ) أَيْ يَطَئُونَهُ بِأَقْدَامِهِمْ وَيَمْشُونَ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5677 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يُتَصَعَّدُ فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَيُهْوَى بِهِ كَذَلِكَ فِيهِ أَبَدًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5677 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الصَّعُودُ) بِفَتْحِ الصَّادِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17] أَيْ سَأُغْشِيهِ عَقَبَةً صَعْبَةَ الْمَسْلَكِ (جَبَلٌ) فَفِي الْقَامُوسِ: الصَّعُودُ بِالْفَتْحِ ضِدَّ الْهُبُوطِ، وَجَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ، وَالْعَقَبَةُ الشَّاقَّةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَبَلٌ عَظِيمٌ (مِنْ نَارٍ يُتَصَعَّدُ فِيهِ) بِصِيَغِةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُكَلَّفُ الْكَافِرُ ارْتِقَاءَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ يَطْلُعُ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ (سَبْعِينَ خَرِيفًا) ، أَيْ مُدَّةَ سَبْعِينَ عَامًا (وَيُهْوَى بِهِ) بِصِيَغِهِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُكَلَّفُ ذَلِكَ الْكَافِرُ بِسُقُوطِهِ فِيهِ، وَفِي نُسْخَةٍ - بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ - أَيْ يَنْزِلُ بِذَلِكَ الْكَافِرِ، مِنْ هَوَى كَـ " رَمَى ": سَقَطَ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. (كَذَلِكَ) أَيْ سَبْعِينَ خَرِيفًا (فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ (أَبَدًا) . قَيْدٌ لِلْفِعْلَيْنِ، أَيْ يَكُونُ دَائِمًا فِي الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ، وَمِنْهُ يَتَبَيَّنُ مَعْنًى لَطِيفٌ فِيمَا اشْتُهِرَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ السَّفَرَ قِطْعَةٌ مِنْ سَقَرَ» مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى اللَّطَافَةِ النَّقْطِيَّةِ وَالْمُحَاسَبَةِ الْأَبْجَدِيَّةِ، وَبِهَذَا

يَنْدَفِعُ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا لَعَكَسْتُ وَقُلْتُ إِنَّ سَقَرَ قِطْعَةٌ مِنَ السَّفَرِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَحْسَنِيَّةُ مَا فِي كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَدَمِ الْمُبَالَغَةِ الزَّائِدَةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعَةِ الْجَادَّةِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَمَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِفَادَةٍ لِلَّطَافَةِ وَالظَّرَافَةِ، هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ خُلَاصَةِ الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَنًّا أَنَّ ضَمِيرَ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْجَبَلِ، وَأَنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى " فِي " أَنَّ تَكْرِيرَهُ عَلَى طَرِيقِةِ قَوْلِكَ: فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ، يَعْنِي أَنَّ الْإِعَادَةَ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ أَحْسَنُ فِي مَقَامِ الْإِفَادَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَلَفْظُ الْجَامِعِ: ثُمَّ يَهْوِي فِيهِ كَذَلِكَ أَبَدًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْهُ.

5678 - وَعَنْهُ، «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي قَوْلِهِ: {كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] أَيْ كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قُرِّبَ إِلَى وَجْهِهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5678 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي قَوْلِهِ: {كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] أَيْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] (أَيْ كَعَكَرِ الزَّيْتِ) ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْكَافِ أَيْ دُرْدِيِّهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيِ الدَّرَنِ مِنْهُ وَالدَّنَسِ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ وَفَسَّرَ الْمُهْلَ بِالصَّدِيدِ مَعَ ظُهُورِ النَّصِّ السَّدِيدِ (فَإِذَا قُرِّبَ) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ رَاءٍ أَيِ الْمُهْلُ (إِلَى وَجْهِهِ) أَيْ وَجْهِ الْعَاصِي (سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ) أَيْ جِلْدَتُهُ وَبَشْرَتُهُ (فِيهِ) . أَيْ فِي الْمُهْلِ، وَفِي النِّهَايَةِ: فَرْوَةُ وَجْهِهِ أَيْ جِلْدُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ فَرْوَةُ الرَّأْسِ وَهِيَ جِلْدَتُهُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ، فَاسْتَعَارَهَا مِنَ الرَّأْسِ لِلْوَجْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5679 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَيَنْفُذُ الْحَمِيمُ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلُتُ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ الصَّهْرُ، ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5679 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الْحَمِيمَ) أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] الْمُفَسَّرُ بِالْمَاءِ الْبَالِغِ نِهَايَةَ الْحَرِّ (لَيُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ) أَيْ يُكَبُّ فَوْقَهَا (فَيَنْفُذُ الْحَمِيمُ) بِضَمِّ الْفَاءِ مِنَ النُّفُوذِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ وَالدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ أَيْ يَدْخُلُ أَثَرُ حَرَارَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى بَاطِنِهِ (حَتَّى يَخْلُصَ) بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ يَصِلَ (إِلَى جَوْفِهِ) ، أَيْ إِلَى جَوْفِ رَأْسِهِ أَوْ إِلَى بَطْنِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، بَلْ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِقَوْلِهِ: (فَيَسْلُتُ) بِضَمِّ اللَّامِ، مِنْ سَلَتَ الْقَصْعَةَ إِذَا مَسَحَهَا مِنَ الطَّعَامِ فَيَذْهَبُ، وَأَصْلُ السَّلْتِ الْقَطْعُ، فَالْمَعْنَى فَيَسْمَحُ وَيُقَطِّعُ الْحَمِيمُ (مَا فِي جَوْفِهِ) أَيْ مِنَ الْأَمْعَاءِ، وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ يَذْهَبُ وَيَمُرُّ (حَتَّى يَمْرُقَ) بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ يَخْرُجَ (مِنْ قَدَمَيْهِ وَهُوَ الصَّهْرُ) بِفَتْحِ الصَّادِ بِمَعْنَى الْإِذَابَةِ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرَ مِنَ النُّفُوذِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الصَّهْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 20] وَمَعَ هَذَا لَهُمُ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 21] (ثُمَّ يُعَادُ) أَيْ مَا فِي جَوْفِهِ (كَمَا كَانَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] أَيْ شِدَّةَ الْعِقَابِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)

5680 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: {يُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 16] قَالَ: " يُقَرَّبُ إِلَى فِيهِ فَيَكْرَهُهُ، فَإِذَا أُدْنِي مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] ، وَيَقُولُ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29] ".» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5680 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ) أَيْ تَعَالَى، كَمَا فِي نُسْخَةٍ (يُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) قِيلَ: صَدِيدُ الْجُرْحِ مَاؤُهُ الرَّقِيقُ الْمُخْتَلِطُ بِالدَّمِ السَّائِلِ مِنْهُ (يَتَجَرَّعُهُ) أَيْ يَشْرَبُهُ لَا بِمَرَّةٍ بَلْ جُرْعَةً بَعْدَ جُرْعَةٍ لِمَرَارَتِهِ وَحَرَارَتِهِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17]

(قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يُقَرَّبُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ يُؤْتَى بِالصَّدِيدِ قَرِيبًا (إِلَى فِيهِ) أَيْ إِلَى فَمِ الْعَاصِي (فَيَكْرَهُهُ) ، أَيْ لِعُفُونَتِهِ وَسُخُونَتِهِ (فَإِذَا " أُدْنِيَ) بِصِيَغِةِ الْمَجْهُولِ أَيْ زِيدَ فِي قُرْبِهِ (مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْمَعَاصِي أَوْ مِنْ فَمِهِ (شَوَى) أَيْ أَحْرَقَ (وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ) أَيْ سَقَطَتْ (فَرْوَةُ رَأْسِهِ) ، أَيْ جِلْدَتُهُ (فَإِذَا شَرِبَ) أَيْ مَاءَ الصَّدِيدِ الْحَارَّ الشَّدِيدَ (قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ) ، بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ (حَتَّى تَخْرُجَ) أَيْ أَمْعَاؤُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْيَاءِ أَيِ الصَّدِيدُ (مِنْ دُبُرِهِ) ، بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ ضِدُّ الْقُبُلِ (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] وَيَقُولُ) أَيِ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} [الكهف: 29] أَيْ يَطْلُبُوا الْغِيَاثَ بِالْمَاءِ عَلَى عَادَتِهِمُ الِاسْتِغَاثَةَ فِي طَلَبِ الْغَيْثِ وَهُوَ الْمَطَرُ {يُغَاثُوا} [الكهف: 29] أَيْ يُجَابُوا وَيُؤْتَوْا {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] أَيْ كَالصَّدِيدِ أَوْ كَعَكَرِ الزَّيْتِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] أَيِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَسْرِي إِلَى الْبُطُونِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ انْتِهَاءً {بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29] أَيِ الْمُهْلُ أَوِ الْمَاءُ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَمُكْرَهٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5681 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لِسُرَادِقِ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كُثُفُ كُلِّ جِدَارٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ". " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5681 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لِسُرَادِقِ النَّارِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ السِّينِ وَجَرِّ الْقَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رُوِيَ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، وَهَذَا أَظْهَرُ. وَفِي النِّهَايَةِ: السُّرَادِقُ كُلُّ مَا أَحَاطَ بِشَيْءٍ مِنْ حَائِطٍ أَوْ مَضْرِبٍ أَوْ خِبَاءٍ. أَقُولُ: وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] وَفِي الْقَامُوسِ: السُّرَادِقُ الَّذِي يُمَدُّ فَوْقَ الْبَيْتِ وَجَمْعُهُ سُرَادِقَاتٌ. وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ الَّذِي يُمَدُّ فَوْقَ صَحْنِ الدَّارِ. أَقُولُ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ الشَّامِلُ لِلْمُحِيطِ بِجَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، وَلَعَلَّ سُرَادِقَهَا مِنْ نَارٍ غَلِيظَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ دُخَانٍ وَغَيْرِهِ؛ وَلِذَا قَالَ: لِسُرَادِقِهَا (أَرْبَعَةُ جُدُرٍ) بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ جِدَارٍ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يُمَدَّ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَإِنَّهُ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ يُطْبَقُ عَلَيْهِمْ، بَلْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، حَتَّى يَظُنَّ كُلٌّ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرُهُ، وَهُوَ أَصْعَبُ، فَإِنَّ الْبَلِيَّةَ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ، لَاسِيَّمَا إِذَا رَأَى أَنَّ عَذَابَهُ أَخَفُّ مِنْ بَعْضٍ (كُثُفُ كُلِّ جِدَارٍ) بِضَمِّ الْكَافِ وَالْمُثَلَّثَةِ مَرْفُوعًا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَكَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَقَالَ صَاحِبُ الْمَفَاتِيحِ وَالْخَلْخَالِيُّ: بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ أَيِ الْغِلَظُ فَالْمَعْنَى كَثَافَةُ كُلِّ جِدَارٍ وَغِلَظُهُ: (مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وَقَالَ شَارِحٌ: بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ: الْغِلَظُ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْكُثُفُ جَمْعُ كَثِيفٍ، وَهُوَ الثَّخِينُ الْغَلِيظُ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِإِضَافَتِهِ إِلَى كُلِّ جِدَارٍ، نَعَمْ فِي نُسْخَةٍ ضُبِطَ بِضَمَّتَيْنِ مَجْرُورًا عَلَى أَنَّهُ عَلَى صِفَةِ جِدَارٍ، وَ " كُلُّ جِدَارٍ " بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5682 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يَهَرَاقُ فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5682 - (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَغِسَالَتِهِمْ، وَقِيلَ مَا يَسِيلُ مِنْ دُمُوعِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقِيلَ: هُوَ الصَّدِيدُ الْبَارِدُ الْمُنْتِنُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شُرْبِهِ مِنْ بُرُودَتِهِ، كَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شُرْبِ الْحَمِيمِ لِحَرَارَتِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] أَوْ كَذَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا - إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 24 - 25] عَلَى النَّشْرِ الْمُشَوَّشِ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ أَنَّ شَيْئًا قَلِيلًا مِنْهُ (يَهَرَاقُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ يُصَبُّ (فِي الدُّنْيَا) أَيْ فِي أَرْضِهَا (لَأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا) أَيْ لَصَارُوا ذِي نَتَنٍ مِنْهُ، فَأَهْلُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ، وَكَأَنَّهُ وُجِدَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ أَنْتَنَ مُتَعَدٍّ بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ، فَقَالَ شَارِحٌ: أَنْتَنَ الشَّيْءُ أَيْ تَغَيَّرَ وَصَارَ ذَا نَتَنٍ، فَنَصْبُ أَهْلٍ لَيْسَ بِصَوَابٍ، إِنَّمَا الصَّوَابُ رَفْعُهُ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي الْقَامُوسِ: النَّتْنُ ضِدَّ الْفَوْحِ نَتُنَ كَكَرُمَ وَضَرَبَ نَتَانَةً وَأَنْتَنَ فَهُوَ مُنْتِنٌ بِكَسْرَتَيْنِ وَبِضَمَّتَيْنِ وَكَقِنْدِيلٍ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ الْكَسْرَتَيْنِ أَنَّهُ كَسَرَ الْمِيمَ تَبَعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِكَسْرِ الدَّالِ وَضَمِّهَا تِبَاعًا لِمَا بَعْدَهَا، وَعَدَّ الْكَلِمَتَيْنِ كَلِمَةً لِامْتِزَاجِهِمَا وَعَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا غَالِبًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5683 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي دَارِ الدُّنْيَا لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ» "؟ ! . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5683 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: اتَّقُوا اللَّهَ: أَوَّلُهَا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 102] (حَقَّ تُقَاتِهِ) أَيْ حَقَّ تَقْوَاهُ مِنَ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرُ فَلَا يُكْفَرُ، وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَصَحَّحَهُ الْمُحَدِّثُونَ، فَهُوَ إِمَّا تَفْسِيرٌ لِكَمَالِ التَّقْوَى فَلَا إِشْكَالَ، أَوْ لِأَصْلِهَا فَيَكُونُ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: هُوَ أَنْ يُنَزِّهَ الطَّاعَةَ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَعَنْ تَوَقُّعِ الْمَجَازَاتِ عَلَيْهَا. {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] أَيْ مُوَحِّدُونَ مُنْقَادُونَ تَائِبُونَ جَامِعُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، غَالِبُونَ حُسْنَ الظَّنِّ بِالْمَوْلَى جَلَّ وَعَلَا فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْرٌ بِدَوَامِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ النَّهْيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَوَجَّهَ إِلَى الْقَيْدِ فِي الْكَلَامِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ) أَيْ مِنْ مَاءِ شَجَرٍ يَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. قَالَ الشَّارِحُ: الزَّقُّومُ شَجَرَةٌ خَبِيثَةٌ مُرَّةٌ كَرِيهَةُ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ، يُكْرَهُ أَهْلُ النَّارِ عَلَى تَنَاوُلِهِ، فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْهُ (قَطَرَتْ) بِالْفَتَحَاتِ أَيْ نَقِطَتْ وَنَزَلَتْ (فِي دَارِ الدُّنْيَا لَأَفْسَدَتْ) أَيْ لِمَرَارَتِهَا وَعُفُونَتِهَا وَحَرَارَتِهَا (عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ) بِالْيَاءِ، وَقَدْ يُهْمَزُ، جَمْعُ مَعِيشَةٍ (فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ) أَيِ الزَّقُّومُ (طَعَامَهُ) ؟ فَفِي الصِّحَاحِ: أَنَّ الزَّقُّومَ اسْمُ طَعَامٍ لَهُمْ فِيهِ تَمْرٌ وَزُبْدٌ، وَالزَّقُّومُ أَكْلُهُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الزَّقُّومَ فِي الْعُقْبَى بَدَلُ زَقُّومِهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ

تَعَالَى عَنْهُ: لَمَّا نَزَلَ {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43] قَالَ أَبُو جَهْلٍ: التَّمْرُ بِالزُّبْدِ نَتَزَقَّمُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] الْآيَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: (حَقَّ تُقَاتِهِ) أَيْ وَاجِبَ تَقْوَاهُ وَمَا يَحِقُّ مِنْهَا، وَهُوَ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ، أَيْ بَالِغُوا فِي التَّقْوَى، حَتَّى لَا تَتْرُكُوا مِنَ الْمُسْتَطَاعِ مِنْهَا شَيْئًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ لَا تَكُونُنَّ عَلَى حَالٍ سِوَى حَالِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ، فَمَنْ وَاظَبَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا مَاتَ مُسْلِمًا وَسَلِمَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْآفَاتِ وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، وَمَنْ تَقَاعَدَ عَنْهَا وَتَقَاعَسَ وَقَعَ فِي الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْ ثَمَّ أَتْبَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ» " الْحَدِيثَ. وَهُوَ فَعُولٌ مِنَ الزَّقْمِ: اللَّقْمُ الشَّدِيدُ وَالشُّرْبُ الْمُفْرِطُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) . وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ.

5684 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] قَالَ: " تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقَلَّصُ شَفَتُهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسْطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5684 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ فِيهَا} [المؤمنون: 104] أَيِ الْكُفَّارُ فِي النَّارِ كَالِحُونَ أَيْ عَابِسُونَ حِينَ تَحْتَرِقُ وُجُوهُهُمْ مِنَ النَّارِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ بَادِيَةٌ أَسْنَانُهُمْ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَفْسِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَيَّنَهُ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: (قَالَ) وَأَعَادَهُ لِلتَّأْكِيدِ (تَشْوِيهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ تَحْرِقُ الْكَافِرَ (النَّارُ) أَيْ نَارُ أَهْلِ الْبَوَارِ (فَتَقَلَّصُ) عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ تَنْقَبِضُ (شَفَتُهُ الْعُلْيَا) بِفَتْحِ الشِّينِ وَتُكْسَرُ (حَتَّى تَبْلُغَ) أَيْ تَصِلَ شَفَتُهُ (وَسْطَ رَأْسِهِ) ، بِسُكُونِ السِّينِ وَتُفْتَحُ (وَتَسْتَرْخِي) بِالتَّذَكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ أَيْ تَسْتَرْسِلُ (شَفَتُهُ السُّفْلَى) تَأْنِيثُ الْأَسْفَلِ، كَالْعُلْيَا تَأْنِيثُ الْأَعْلَى (حَتَّى تَضْرِبَ) أَيْ تَقْرُبُ شَفَتُهُ (سُرَّتُهُ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5685 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَتَبَاكَوْا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكُونَ فِي النَّارِ حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ فَتَسِيلَ الدِّمَاءُ، فَتَقَرَّحَ الْعُيُونُ، فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أُزْجِيَتْ فِيهَا لَجَرَتْ» ". رَوَاهُ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5685 - (وَعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ابْكُوا) بِكَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّ الْكَافِ أَمْرٌ مَنْ بَكَى يَبْكِي أَيِ ابْكُوا خَوْفًا عَلَى ذُنُوبِكُمْ، أَوْ شَوْقًا إِلَى رَبِّكُمْ، كَمَا) أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ حَالَةِ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَقَدْ سَجَدَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هَذِهِ السَّجْدَةُ فَأَيْنَ الْبُكَاءُ؟ (فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا) أَيْ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى الْبُكَاءِ الْحَقِيقِيِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْأَمْرِ الِاخْتِيَارِيِّ (فَتَبَاكَوْا) بِفَتْحِ الْكَافِ، أَمْرٌ مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ، وَالْمَعْنَى تَحْمِلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالتَّكَلُّفِ عَلَى الْبُكَاءِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] (فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ) أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُمَّ الْفُجَّارَ - (يَبْكُونَ فِي النَّارِ حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) ، أَيْ عَلَيْهَا وَالتَّعْبِيرُ بَقِيَ أَبْلَغَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (كَأَنَّهَا) أَيْ دُمُوعُهُمْ (جَدَاوِلُ) جَمْعُ جَدْوَلٍ، وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ (حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، فَتَسِيلَ الدِّمَاءُ) بِنَصْبِ الْفِعْلِ وَيُرْفَعُ

وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِهِ: (فَتَقَرَّحَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، حُذِفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنْهُ أَيْ فَتَخْرُجَ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ سَيَلَانِ الدِّمَاءِ (الْعُيُونُ) ، بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتُكْسَرُ، جَمْعُ الْعَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ: تَقْرَحُ بِسُكُونِ الْقَافِ وَفَتَحَ الرَّاءَ، فَالْعُيُونُ مَنْصُوبٌ لِأَنَّ قَرَحَ - كَمَنَعَ -: جَرَحَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، فَالْمَعْنَى فَتُخْرِجُ دُمُوعُهُمْ أَوْ دِمَاؤُهُمْ عُيُونَهُمْ فَتَزِيدُ فِي سَيَلَانِهَا (فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا) بِضَمِّ السِّينِ وَالْفَاءِ جَمْعُ سَفِينَةٍ (أُزْجِيَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِزْجَاءِ بِالزَّايِ وَالْجِيمِ أَيْ أُرْسِلَتْ (فِيهَا) أَيْ فِي الدُّمُوعِ أَوِ الدِّمَاءِ (لَجَرَتْ) أَيِ السُّفُنُ بِهَا (رَوَاهُ) أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ.

5686 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُلْقَى عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعُ، فَيَعْدِلُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَيَسْتَغِيثُونَ، فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ: (مِنْ ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالطَّعَامِ، فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ، فَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجِيزُونَ الْغُصَصَ فِي الدُّنْيَا بِالشَّرَابِ، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالشَّرَابِ فَيُرْفَعُ إِلَيْهِمُ الْحَمِيمُ بِكَلَالِيبِ الْحَدِيدِ، فَإِذَا دَنَتْ مِنْ وُجُوهِهِمْ شَوَتْ وُجُوهَهُمْ، فَإِذَا دَخَلَتْ بُطُونَهُمْ قَطَّعَتْ مَا فِي بُطُونِهِمْ، يَقُولُونَ: ادْعُوا خَزَنَةَ جَهَنَّمَ، فَيَقُولُونَ: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50] قَالَ: فَيَقُولُونَ: ادْعُوا مَالِكًا، فَيَقُولُونَ: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] قَالَ: " فَيُجِيبُهُمْ {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] قَالَ الْأَعْمَشُ: نُبِّئْتُ أَنَّ بَيْنَ دُعَائِهِمْ وَإِجَابَةِ مَالِكٍ إِيَّاهُمْ أَلْفَ عَامٍ قَالَ: فَيَقُولُونَ: ادْعُوا رَبَّكُمْ، فَلَا أَحَدَ خَيْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ - رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 106 - 107] " قَالَ: " فَيُجِيبُهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] قَالَ: " فَعِنْدَ ذَلِكَ يَئِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُونَ فِي الزَّفِيرِ وَالْحَسْرَةِ وَالْوَيْلِ» ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَالنَّاسُ لَا يَرْفَعُونَ هَذَا الْحَدِيثَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5686 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُلْقَى) أَيْ يُسْقَطُ (عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعُ) ، أَيِ الشَّدِيدُ (فَيَعْدِلُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ أَيْ فَيُسَاوِي الْجُوعُ (مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ) ، الْمَعْنَى أَنَّ أَلَمَ جُوعِهِمْ مِثْلُ أَلَمِ سَائِرِ عَذَابِهِمْ (فَيَسْتَغِيثُونَ) ، أَيْ بِالطَّعَامِ (فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ: {مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] وَهُوَ نَبْتٌ بِالْحِجَازِ لَهُ شَوْكٌ لَا تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ لِخُبْثِهِ، وَلَوْ أَكَلَتْ مَاتَتْ. وَالْمُرَادُ هُنَا شَوْكٌ مِنْ نَارٍ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، وَأَحَرُّ مِنَ النَّارِ {لَا يُسْمِنُ} [الغاشية: 7] أَيْ لَا يُشْبِعُ الْجَائِعَ وَلَا يَنْفَعُهُ وَلَوْ أَكَلَ مِنْهُ كَثِيرًا {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7] ، أَيْ وَلَا يَدْفَعُ وَلَوْ بِالتَّسْكِينِ شَيْئًا مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] إِلَى آخِرِهِ. (فَيَسْتَغِيثُوا بِالطَّعَامِ) ، أَيْ ثَانِيًا لِعَدَمِ نَفْعِ مَا أُغِيثُوا أَوَّلًا (فَيُغَاثُوا بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ) ، أَيْ مِمَّا يَنْشُبُ فِي الْحَلْقِ وَلَا يَسُوغُ فِيهِ مِنْ عَظْمٍ وَغَيْرِهِ، لَا يَرْتَقِي وَلَا يَنْزِلُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ، فَيَتَنَاوَلُونَهُ فَيَغَصُّونَ بِهِ، (فَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجِيزُونَ) مِنَ الْإِجَازَةِ بِالزَّايِ أَيْ يُسِيغُونَ (الْغُصَصَ) جَمْعُ الْغُصَّةِ بِالضَّمِّ، وَهِيَ مَا اعْتَرَضَ فِي الْحَلْقِ فَأَشْرَقَ، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَالِجُونَهَا (فِي الدُّنْيَا بِالشَّرَابِ، فَيَسْتَغِيثُونَ) أَيْ عَلَى مُقْتَضَى طِبَاعِهِمْ (بِالشَّرَابِ) أَيْ لِدَفْعِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ (فَيُرْفَعُ إِلَيْهِمُ الْحَمِيمُ) بِالرَّفْعِ أَيْ يُرْفَعُ أَطْرَافُ إِنَاءٍ فِيهِ الْحَمِيمُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ الشَّدِيدُ (بِكَلَالِيبِ الْحَدِيدِ) أَيْ عَلَى أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِيَدِ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ الْوَاسِطَةِ (فَإِذَا دَنَتْ) أَيْ قَرُبَتْ أَوَانِي الْحَمِيمِ (مِنْ وُجُوهِهِمْ شَوَتْ وُجُوهَهُمْ) ، أَيْ أَحْرَقَتْهَا (فَإِذَا دَخَلَتْ) أَيْ أَنْوَاعٌ مَا فِيهَا مِنَ الصَّدِيدِ وَالْغَسَّاقِ وَغَيْرِهِمَا (بُطُونَهُمْ قَطَّعَتْ مَا فِي بُطُونِهِمْ) أَيْ مِنَ الْأَمْعَاءِ قِطْعَةً قِطْعَةً (فَيَقُولُونَ: ادْعُوا خَزَنَةَ جَهَنَّمَ) نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ ادْعُوا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ: يَقُولُ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا خَزَنَةَ جَهَنَّمَ فَيَدْعُونَهُمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] (فَيَقُولُونَ) أَيِ الْخَزَنَةُ {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا} [غافر: 50] أَيِ الْخَزَنَةُ تَهَكُّمًا بِهِمْ {فَادْعُوا} [غافر: 50] أَيْ أَنْتُمْ مَا شِئْتُمْ فَإِنَّا لَا نَشْفَعُ لِلْكَافِرِ {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50] أَيْ فِي ضَيَاعٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ حِينَئِذٍ دُعَاءٌ لَا مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا (يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَقَدِ اسْتُجِيبَ دُعَاءُ الشَّيْطَانِ فِي الْإِمْهَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ لَيْسَ بِمَفْعُولِ ادْعُوا، بَلْ هُوَ مُنَادَى لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] . وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمَ تَكُ تَأْتِيكُمْ} [غافر: 50] إِلْزَامٌ.

لِلْحُجَّةِ وَتَوْبِيخٍ، وَأَنَّهُمْ خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ أَوْقَاتَ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَعَطَّلُوا الْأَسْبَابَ الَّتِي يَسْتَجِيبُ لَهَا الدَّعَوَاتِ. قَالُوا: فَادْعُوا أَنْتُمْ فَإِنَّا لَا نَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ: فَادْعُوا لِرَجَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَكِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْبَةِ، فَإِنَّ الْمَلَكَ الْمُقَرَّبَ إِذَا لَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُ، فَكَيْفَ يُسْمَعُ دُعَاءُ الْكَافِرِينَ. (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَيَقُولُونَ) أَيِ الْكُفَّارُ (ادْعُوا مَالِكًا) ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَيِسُوا مِنْ دُعَاءِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ لِأَجْلِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ لَهُمْ أَيْقَنُوا أَنْ لَا خَلَاصَ لَهُمْ وَلَا مَنَاصَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، (فَيَقُولُونَ: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ} [الزخرف: 77] أَيْ سَلْ رَبَّكَ دَاعِيًا لِيَحْكُمْ بِالْمَوْتِ {عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] : لِنَسْتَرِيحَ، أَوْ مِنْ قَضَى عَلَيْهِ إِذَا أَمَاتَهُ، فَالْمَعْنَى لِيُمِيتُنَا رَبُّكَ فَنَسْتَرِيحَ. (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَيُجِيبُهُمْ) أَيْ مَالِكٌ جَوَابًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] أَيْ مُكْثًا مُخَلَّدًا. (قَالَ الْأَعْمَشُ) وَهُوَ أَحَدُ الرُّوَاةِ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (نُبِّئْتُ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ أُخْبِرْتُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَوْقُوفًا أَوْ مَرْفُوعًا (أَنَّ بَيْنَ دُعَائِهِمْ وَإِجَابَةِ مَالِكٍ إِيَّاهُمْ) أَيْ هَذَا الْجَوَابُ (أَلْفَ عَامٍ قَالَ: فَيَقُولُونَ) أَيْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (ادْعُوا رَبَّكُمْ، فَلَا أَحَدَ) أَيْ فَلَيْسَ أَحَدٌ (خَيْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ فِي الْمَرْحَمَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ (فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَفِي قِرَاءَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَأَلِفٍ بَعْدَهُمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى ضِدِّ السَّعَادَةِ، وَالْمَعْنَى سَبَقَتْ عَلَيْنَا هَلَكَتُنَا الْمُقَدَّرَةُ بِسُوءِ خَاتِمَتِنَا {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون: 106] أَيْ عَنْ طَرِيقِ التَّوْحِيدِ {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] وَهَذَا كَذِبٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] قَالَ: " لِيُجِيبَهُمْ) أَيِ اللَّهُ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا إِجَابَةَ إِعْرَاضٍ {اخْسَئُوا فِيهَا} [المؤمنون: 108] أَيْ ذِلُّوا وَانْزَجِرُوا كَمَا يَنْزَجِرُ الْكِلَابُ إِذَا زُجِرَتْ، وَالْمَعْنَى: ابْعِدُوا أَذِلَّاءَ فِي النَّارِ {وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] أَيْ لَا تُكَلِّمُونِي فِي رَفْعِ الْعَذَابِ، فَإِنَّهُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْكُمْ قَالَ: " فَعِنْدَ ذَلِكَ يَئِسُوا " أَيْ قَنَطُوا (مِنْ كُلِّ خَيْرٍ) ، أَيْ مِمَّا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ يُخَفِّفُهُ عَنْهُمْ (أَوْ عِنْدَ ذَلِكَ) . أَيْ أَيْضًا (يَأْخُذُونَ فِي الزَّفِيرِ) أَيْ فِي احْتِرَاقِ النَّفَسِ لِلشِّدَّةِ وَقِيلَ: الزَّفِيرُ أَوَّلُ صَوْتِ الْحِمَارِ، كَمَا أَنَّ الشَّهِيقَ آخِرُ صَوْتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] (وَالْحَسْرَةِ) أَيْ وَفِي النَّدَامَةِ (وَالْوَيْلِ) أَيْ وَفِي شِدَّةِ الْهَلَاكِ وَالْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ أَصْحَابِ التَّخْرِيجِ (وَالنَّاسُ لَا يَرْفَعُونَ هَذَا الْحَدِيثَ) . أَيْ بَلْ يَجْعَلُونَهُ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، فَإِنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ مَرْفُوعًا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ صَدْرِ الْحَدِيثِ.

5687 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ، أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ» " فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى لَوْ كَانَ فِي مَقَامِي هَذَا سَمِعَهُ أَهْلُ السُّوقِ، وَحَتَّى سَقَطَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5687 - (وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَنْذَرْتُكُمُ " النَّارَ) أَيْ أَخْبَرْتُكُمْ بِوُجُودِهَا، وَأَخْبَرْتُكُمْ بِشِدَّتِهَا، وَخَوَّفْتُكُمْ بِأَنْوَاعِ عُقُوبَتِهَا (أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ) أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِمَا يُتَّقَى بِهِ عَنْهَا حَتَّى قَلْتُ لَكُمْ: " «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» " ثُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ كَمَا الْإِنْذَارُ فِي زَمَانِ الْحَالِ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ فِي السَّابِقِ اللَّاحِقِ لِلِاسْتِقْبَالِ، أَوِ الْأَوَّلُ إِخْبَارٌ وَالثَّانِي إِنْشَاءٌ، أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِلتَّأْكِيدِ فِي أَحَدِ الْمَعَانِي، وَفِي نُسْخَةٍ: كَرَّرَ ثَلَاثًا. (فَمَا زَالَ يَقُولُهَا) أَيْ يُكَرِّرُ الْكَلِمَةَ الْمَذْكُورَةَ وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ (حَتَّى لَوْ كَانَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي مَقَامِي هَذَا) أَيِ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ الرَّاوِي فِيهِ عِنْدَ رِوَايَتِهِ هَذَا الْحَدِيثَ (سَمِعَهُ) أَيْ سَمِعَ صَوْتَهُ (أَهْلُ السُّوقِ) لِأَنَّهُ بَالَغَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَمَلًا بِقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا - ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 8 - 9] (وَحَتَّى سَقَطَتْ خَمِيصَةٌ) وَهِيَ نَوْعُ ثَوْبٍ (كَانَتْ عَلَيْهِ) أَيْ فَوْقَ كَتِفِهِ بِمَنْزِلَةِ رِدَائِهِ (عِنْدَ رِجْلَيْهِ) أَيْ مِنْ جَذْبَتِهِ الْإِلَهِيَّةِ وَعَدَمِ شُعُورِهِ مِنَ الْهَيْبَةِ الْحِسِّيَّةِ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5688 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ الْجُمْجُمَةِ - أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ، لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَصْلَهَا أَوْ قَعْرَهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5688 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْيَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَمَّا ابْنُ الْعَاصِ فَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهِمَا بِحَذْفِ الْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَالْفَصِيحُ الصَّحِيحُ " الْعَاصِي " بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَكَذَلِكَ شَدَّادُ بْنُ الْهَادِي، وَابْنُ أَبِي الْمَوَالِي، بِالصَّحِيحِ الْفَصِيحِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَمَا أَشْبَهَهُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِوُجُودِهِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ إِذْ أَكْثَرُهَا بِحَذْفِهَا. أَقُولُ: تَعْبِيرُهُ بِالصَّحِيحِ الْفَصِيحِ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ جَاءَ إِثْبَاتُ الْيَاءِ وَحَذْفُهَا فِي الْكَلَامِ الْأَفْصَحِ كِتَابَةً وَقِرَاءَةً، نَعَمْ حَذْفُهَا رَسْمًا أَكْثَرُ مِنْ إِثْبَاتِهَا قِرَاءَةً، وَإِثْبَاتُهَا قِرَاءَةً أَشْهَرُ مِنْ حَذْفِهَا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمُهْتَدِ وَالْمُتَعَالِ وَبَاقٍ وَوَاقٍ، ثُمَّ عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِكُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُطَابِقِ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ الْمَنْسُوبِ إِلَى كِتَابَةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مُسْتَبْعَدًا جِدًّا خُصُوصًا مِنَ الْإِمَامِ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي هُوَ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُحَدِّثِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَوَرِّعِينَ، هَذَا وَالصَّحِيحُ فِي الْعَاصِ أَنَّهُ مُعْتَلُّ الْعَيْنِ لَا مُعْتَلُّ اللَّامِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ قَوْلَهُ: الْأَعْيَاصُ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْلَادُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأَكْبَرِ، وَهُمُ الْعَاصُ، وَأَبُو الْعَاصِ، وَالْعِيصُ، وَأَبُو الْعِيصِ، فَالْعَاصُ عَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِيهِ بِالْمَرَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالصَّادَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ قِطْعَةٌ مِنَ الرَّصَاصِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الرَّصَاصُ كَسَحَابٍ مَعْرُوفٌ، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ: رَصَاصَةٌ بِرَاءٍ وَاحِدَةٍ وَمُعْجَمَتَيْنِ، وَهِيَ الْحَصَا الصِّغَارُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: رَضْرَاضَةً بِرَاءَيْنِ وَمُعْجَمَتَيْنِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَدْقُوقَةُ عَلَى مَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَهُوَ سَهْوٌ مِنَ الْكُتَّابِ، أَوْ مِنْ صَاحِبِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي سَائِرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ رَضْرَاضَةٌ مَكَانَ رَصَاصَةٍ، وَهُوَ غَلَطٌ لَمْ يُوجَدْ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَلَعَلَّ الْغَلَطَ وَقَعَ مِنْ غَيْرِهِ. (مِثْلَ هَذِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى مَحْسُوسَةٍ مُعَيَّنَةٍ هُنَاكَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: (وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ الْجُمْجُمَةِ) بِضَمِّ الْجِيمَيْنِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ لِلْمِشْكَاةِ، وَهِيَ قَدَحٌ صَغِيرٌ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: بِالْخَاءَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهِيَ حَبَّةٌ صَغِيرَةٌ صَفْرَاءُ وَقِيلَ: هِيَ بِالْجِيمَيْنِ وَهِيَ عَظِيمُ الرَّأْسِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الدِّمَاغِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ.

لِبَيَانِ الْحَجْمِ وَالتَّدْوِيرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَيَّنَ مَدَى قَعْرِ جَهَنَّمَ بِأَبْلَغِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْبَيَانِ، فَإِنَّ الرَّصَاصَ مِنَ الْجَوَاهِرِ الرَّزِينَةِ، وَالْجَوْهَرُ كُلَّمَا كَانَ أَتَمَّ رَزَانَةً كَانَ أَسْرَعَ هُبُوطًا إِلَى مُسْتَقَرِّهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا انْضَمَّ إِلَى رَزَانَتِهِ كِبَرُ جِرْمِهِ ثُمَّ قَدَّرَهُ عَلَى الشَّكْلِ الدَّوْرِيِّ، فَإِنَّهُ أَقْوَى انْحِدَارًا وَأَبْلَغَ مُرُورًا فِي الْجَوَاهِرِ. فَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْجُمَةِ الرَّأْسُ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ أَوْ بَدَلٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْجُمْجُمَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (أُرْسِلَتْ) صِفَةٌ لِاسْمٍ " أَنَّ "، وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ، أَيْ أُدْلِيَتْ (مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ) أَيْ مَسَافَةُ مَا بَيْنَهُمَا (مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ) أَيِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 32] فَالْمُرَادُ مِنَ السَّبْعِينَ الْكَثْرَةُ، أَوِ الْمُرَادُ بِذِرَاعِهَا ذِرَاعُ الْجَبَّارِ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ رَأْسُ سِلْسِلَةِ الصِّرَاطِ وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ. (لَسَارَتْ) أَيْ لَنَزَلَتْ وَصَارَتْ مُدَّةَ مَا سَارَتْ (أَرْبَعِينَ خَرِيفًا) أَيْ سَنَةً (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) أَيْ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَا يَخْتَصُّ سَيْرُهَا بِأَحَدِهِمَا (قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَصْلَهَا) أَيْ أَصْلُ السِّلْسِلَةِ (أَوْ قَعْرَهَا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمُرَادُ بِقَعْرِهَا نِهَايَتُهَا، وَهِيَ مَعْنَى أَصْلِهَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَالتَّرْدِيدُ إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِ الْمَسْمُوعِ، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: يُرَادُ بِهِ قَعْرُ جَهَنَّمَ؛ لِأَنَّ السِّلْسِلَةَ لَا قَعْرَ لَهَا. قُلْتُ: وَجَهَنَّمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا ذِكْرَ لَهَا مَعَ لُزُومِ تَفْكِيكِ الضَّمِيرِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَعْرُهَا عَمِيقًا عَلَى مَا رَوَاهُ هُنَا. وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «لَوْ أَنَّ حَجَرًا مِثْلَ سَبْعِ خِلْفَاتٍ أُلْقِيَ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ هَوَى فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا لَا يَبْلُغُ قَعْرَهَا» ". وَالْمُرَادُ بِالْخِلْفَاتِ النُّوقُ الْحَوَامِلُ، فَاخْتِيَارُ كِبَرِ جِرْمِ الْمُرْسَلِ هُنَا مُنَاسِبٌ لِمَا قَدَّمَهُ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5689 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ فِي جَهَنَّمَ لَوَادِيًا يُقَالُ لَهُ: هَبْهَبُ، يَسْكُنُهُ كُلُّ جَبَّارٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5689 - (وَعَنْ أَبِي بُرْدَةٍ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، أَحَدُ التَّابِعِينَ الْمَشْهُورِينَ الْمُكْثِرِينَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمَا، وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ شُرَيْحٍ، فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ فِي جَهَنَّمَ لَوَادِيًا) فِي الْقَامُوسِ: هُوَ مَفْرَجٌ بَيْنَ جِبَالٍ أَوْ تِلَالٍ أَوْ آكَامٍ (يُقَالُ لَهُ: هَبْهَبُ) بِضَمِّ الْبَاءِ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَفِي نُسْخَةِ الْجَزَرِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ. وَلَعَلَّ عَدَمَ انْصِرَافِهِ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِسُكُونِ الْبَاءَيْنِ وَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَكْرَارُ " هَبْ " أَمْرٌ مِنَ الْهِبَةِ، فَكَانَ الْوَادِي أَوْ مَنْ حَضَرَهُ يَقُولُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ: هَبْ هَبْ مُخَاطَبًا خِطَابَ الْعَامِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْهَبْهَبُ السَّرِيعُ، وَهَبْهَبَ السَّرَابُ إِذَا بَرَقَ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سُمِّيَ بِذَلِكَ إِمَّا لِسُرْعَةِ وُقُوعِهِ فِي الْمُجْرِمِينَ، أَوْ لِشِدَّةِ أَجِيجِ النَّارِ فِيهِ، أَوْ لِلَمَعَانِهِ عِنْدَ الِاضْطِرَامِ وَالِالْتِهَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (يَسْكُنُهُ) فِيهِ حَذْفٌ وَإِيصَالٌ أَيْ يَسْكُنُ فِيهِ (كُلُّ جَبَّارٍ) أَيُّ مُتَكَبِّرٍ عَنِيدٍ عِنْدَ الْحَقِّ بَعِيدٌ وَعَلَى الْخَلْقِ شَدِيدٌ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو: الْفَلَقُ سِجْنٌ فِي جَهَنَّمَ يُحْبَسُ فِيهِ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَتَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْفَلَقُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مُغَطًّى.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5690 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَعْظُمُ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ حَتَّى إِنَّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِ أَحَدِهِمْ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ، وَإِنَّ غِلَظَ جِلْدِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَإِنَّ ضِرْسَهُ مِثْلُ أُحُدٍ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5690 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَعْظُمُ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ) أَيْ تَكْبُرُ جُثَثُهُمْ (حَتَّى إِنَّ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيُفْتَحُ (بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِ أَحَدِهِمْ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ) أَيْ لِيَزِيدَ عَذَابُهُ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (وَإِنَّ غِلَظَ جِلْدِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا) عُطِفَ عَلَى مَدْخُولِ " حَتَّى " أَوْ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَإِنَّ ضِرْسَهُ مِثْلُ أُحُدٍ) .

5691 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي النَّارِ حَيَّاتٍ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ، تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ فَيَجِدُ حَمْوَتَهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَإِنَّ فِي النَّارِ عَقَارِبَ كَأَمْثَالِ الْبِغَالِ الْمُؤْكَفَةِ، تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ فَيَجِدُ حَمْوَتَهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5691 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ فَهَمْزٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَزْءٍ أَبُو الْحَارِثِ السَّهْمِيُّ، سَكَنَ مِصْرَ، وَشَهِدَ بَدْرًا، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ بِمِصْرَ، انْتَهَى. وَفِيهِ إِشْكَالٌ لَا يَخْفَى. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي النَّارِ حَيَّاتٍ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ فَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ وَمُفْرَدُهُ بُخْتَى. فِي الْقَامُوسِ: بِالضَّمِّ الْإِبِلُ الْخُرَاسَانِيَّةُ (تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ) أَيِ اللَّدْغَةَ (فَيَجِدُ) أَيْ مَلْسُوعُهَا (حَمْوَتَهَا) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَيْ أَثَرَ سُمِّهَا وَسَوْرَةُ أَلَمِهَا (أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَإِنَّ فِي النَّارِ عَقَارِبَ كَأَمْثَالِ الْبِغَالِ الْمُؤْكَفَةِ) بِالْهَمْزِ أَوِ الْوَاوِ وَالْكَافُ مَفْتُوحَةٌ، مِنْ أَكَفْتُ الْحِمَارَ وَأُوكِفُهُ شَدَدْتُ عَلَيْهَا الْأَكَافَ (تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ فَيَجِدُ حَمْوَتَهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. رَوَاهُمَا) أَيِ الْحَدِيثَيْنِ (أَحْمَدُ) .

5692 - وَعَنِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَسَكَتَ الْحَسَنُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5692 - (وَعَنِ الْحَسَنِ) أَيِ الْبَصْرِيِّ (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ كَثَوْرَيْنِ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ كَقَوْلِهِمْ: زِيدٌ أَسَدٌ (مُكَوَّرَانِ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ مُلْقَيَانِ، مِنْ طَعَنَهُ فَكَوَّرَهُ أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُلْقَى وَيُطْرَحُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ فَلَكِهِمَا (فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ؛ لِزِيَادَةِ عَذَابِ أَهْلِهَا بِحَرِّهِمَا، لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مَرْفُوعًا: " «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وُجُوهُهُمَا إِلَى الْعَرْشِ وَأَقْفَاؤُهُمَا إِلَى الدُّنْيَا» ". فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ وُجُوهَهُمَا لَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، لَمَا أَطَاقَ حَرَّهُمَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ يَلُفَّانِ وَيُجْمَعَانِ وَيُلْقَيَانِ فِيهَا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ تَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5] قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: فَجَاءَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ثَوْرَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ فِي النَّارِ، وَالرِّوَايَةُ ثَوْرَانِ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ كَأَنَّهُمَا يُمْسَخَانِ. وَقَدْ رُوِيَ بِالنُّونِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، انْتَهَى. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَتَيِ الشَّيْخِ الْجَزَرِيِّ وَالسَّيِّدِ، بِالنُّونِ أَصْلًا وَبِالْمُثَلَّثَةِ فِي الْهَامِشِ نُسْخَةً، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ بِالثَّاءِ مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبُدُورِ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَيْضًا: ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ. (فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ فَقَالَ) أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:

أَيْ تُقَابِلُ النَّصَّ الْجَلِيَّ بِالْقِيَاسِ، وَيَجْعَلُ مُوجِبَ دُخُولِ النَّارِ الْعَمَلَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ سُؤَالِهِ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي إِدْخَالِهِمَا النَّارَ مَعَ انْقِيَادِهِمَا وَطَاعَتِهِمَا لِلْمَلِكِ الْجَبَّارِ، وَالنَّارُ إِنَّمَا هِيَ دَارُ الْبَوَارِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، فَمَعْنَى قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا سَمِعْتُهُ، وَلَيْسَ لِي مَزِيدُ عِلْمٍ عَلَى ذَلِكَ. (فَسَكَتَ الْحَسَنُ) فَثَبَتَ أَنَّ سُؤَالَهُ حَسَنٌ، وَكَذَا جَوَابُهُ مُسْتَحْسَنٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِدْخَالِهِمَا فِي النَّارِ تَعْذِيبُهُمَا كَخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا جُعِلَا فِي النَّارِ لِأَنَّهُمَا قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَبْكِيتًا لِلْكَافِرِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَكْذِيبُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي قَوْلِهِ هَذَا، حَيْثُ قَالَ لَهُ: هَذِهِ يَهُودِيَّةٌ يُرِيدُ إِدْخَالَهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُمَا وَهُمَا دَائِبَانِ فِي طَاعَتِهِ، ثُمَّ حَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمَا يَعُودَانِ إِلَى مَا خُلِقَا مِنْهُ، وَهُوَ نُورُ الْعَرْشِ، فَيَخْتَلِطَانِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمَا يَصِيرَانِ نُورَيْنِ وَالنُّورُ لَا يُعَذَّبُ بِالنَّارِ؛ وَلِذَا تَقُولُ النَّارُ لِلْمُؤْمِنِ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ فَإِنَّ نُورَكَ أَطْفَأَ لَهِيبِي، فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ فَائِدَةَ إِدْخَالِهِمَا تَعْيِيرُ عَبَدَتِهِمَا، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِ كَعْبٍ وَبَيْنَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ التَّأَمُّلِ الشَّافِي، وَاللَّهُ تَعَالَى الْكَافِي، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ غَيْرُ ثَابِتٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبُدُورِ: هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِصْمَةَ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مُقَاتِلٍ، وَابْنِ حِبَّانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عِصْمَةَ كَذَّابٌ وَضَّاعٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي النَّارِ، إِنْ شَاءَ أَخْرَجَهُمَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا» " قِيلَ: قَوْلُهُ: عَقِيرَانِ، أَيْ زَمِنَانِ، يَعْنِي لَا يَجْرِيَانِ.

5693 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا شَقِيٌّ ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الشَّقِيُّ؟ قَالَ: " مَنْ لَمْ يَعْمَلْ لِلَّهِ بِطَاعَةٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ بِمَعْصِيَةٍ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5693 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا شَقِيٌّ ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الشَّقِيُّ؟ قَالَ: " مَنْ لَمْ يَعْمَلْ لِلَّهِ) أَيْ لِأَجْلِ رِضَاهُ أَوْ لِأَمْرِهِ (بِطَاعَةٍ) أَيْ بِوَاجِبَةٍ (وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ) أَيْ لِلَّهِ (بِمَعْصِيَةٍ) وَهُوَ شَامِلٌ لِلْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 - 16] مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلْيِ عَلَى وَجْهِ الْخُلُودِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِيهِمَا، وَبِنَاءُ الْمَرَّةِ فِيهِمَا مَعَ التَّنْكِيرِ لِلتَّقْلِيلِ، وَزِيَادَةُ الْبَاءِ لِلتَّأْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الرَّحْمَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ عَمِلَ لَهُ طَاعَةً مَا، أَوْ تَرَكَ لِأَجْلِهِ وَلِخَوْفِهِ مَعْصِيَةً مَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41] (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

[باب خلق الجنة والنار]

[بَابُ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5694 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَغِرَّتُهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ رِجْلَهُ. تَقُولُ قَطْ قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [8]- بَابُ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَيْ فِي كَوْنِهِمَا مَخْلُوقَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّهُمَا لِمَنْ خُلِقَتَا، وَذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِمَا مِنْ خِلْقَتِهُمَا. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5694 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " تَحَاجَّتْ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ تَخَاصَمَتْ وَتَجَادَلَتْ وَتَعَارَضَتْ (الْجَنَّةُ وَالنَّارُ) أَيْ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذِهِ.

الْمُحَاجَّةُ جَارِيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مُمَيِّزَةً مُخَاطِبَةً، أَوْ عَلَى التَّمْثِيلِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا فِي الْمَعَالِمِ أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا فِي الْجَمَادَاتِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْعُقَلَاءِ، لَا يَقِفُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، فَلَهَا صَلَاةٌ وَتَسْبِيحٌ وَخَشْيَةٌ، فَيَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، انْتَهَى. وَأَدِلَّتُهُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ ذِكْرِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِيثَارِ أَيِ اخْتِرْتُ (بِالْمُتَكَبِّرِينَ) أَيْ عَنِ الْحَقِّ (وَالْمُتَجَبِّرِينَ) أَيْ عَلَى الْخَلْقِ بِالتَّسَلُّطِ وَالْقَهْرِ، فَقِيلَ هُنَا بِمَعْنًى، جُمِعَ بَيْنَهِمَا لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: الْمُتَكَبِّرُ الْمُتَعَظِّمُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَالْمُتَجَبِّرُ الَّذِي لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَكْتَرِثُ وَلَا يُبَالِي بِأَمْرِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. (وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي) أَيْ فَأَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ لِي (لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ) أَيْ فِي الْبَدَنِ وَالْمَالِ (وَسَقَطُهُمْ) بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ أَرْدَؤُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ خُمُولًا، وَأَقَلُّهُمُ اعْتِبَارًا، الْمُحَقَّرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمُ، السَّاقِطُونَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37] وَفِي مَوْضِعٍ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ عُظَمَاءُ، وَكَذَا عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، فَوَصَفَهُمْ بِالسَّقْطِ وَالضَّعْفِ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحَصْرِ الْأَغْلَبُ. (وَغِرَّتُهُمْ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهِيَ عَدَمُ التَّجْرِبَةِ، أَوْ وُجُودُ الْغَفْلَةِ بِمَعْنَى الَّذِينَ لَا تَجْرِبَةَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا اهْتِمَامَ لَهُمْ بِهَا، أَوِ الَّذِينَ هُمْ غَافِلُونَ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا شَاغِلُونَ بِمُهِمِّ الْعُقْبَى عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ، أَيْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] . هَذَا وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: رَوَاهُ الْأَكْثَرُ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِرَاءٍ فَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ، أَيْ أَهْلُ الْحَاجَةِ مِنَ الْغَوْثِ وَهُوَ الْجُوعُ، وَرُوِيَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ، أَيِ الْبُلْهُ الْغَافِلُونَ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَجِيمٍ فَزَايٍ مَفْتُوحَاتٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ، جَمْعُ عَاجِزٍ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْجِيمِ، جَمْعُ عَاجِزٍ أَيْضًا. (قَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ) ابْتَدَأَ بِهَا لِلْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ (سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي) وَجَبْرًا لَهَا حَيْثُ انْكَسَرَ بَالُهَا بِمَا لَهَا مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَغُلِبَتْ فِي السُّؤَالِ وَضَعُفَتْ فِي الْجَوَابِ (إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي) أَيْ مَظْهَرُهَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: سَمَّى الْجَنَّةَ رَحْمَتَهُ لِأَنَّ بِهَا يَظْهَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: (أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي) وَإِلَّا فَرَحْمَةُ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ بِهَا مَوْصُوفًا لَيْسَتْ لِلَّهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ، وَلَا اسْمٌ حَادِثٌ فَهُوَ قَدِيمٌ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَفِي الْمَعَالِمِ: الرَّحْمَةُ إِرَادَةُ اللَّهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِهِ، وَقِيلَ: تَرْكُ عُقُوبَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَإِسْدَاءُ الْخَيْرِ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، فَهُوَ عَلَى الْأَوَّلِ صِفَةُ ذَاتٍ، وَعَلَى الثَّانِي صِفَةُ فِعْلٍ. (وَقَالَ) أَيِ اللَّهُ (لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي) أَيْ سَبَبُ عُقُوبَتِي وَمَنْشَأُ سَخَطِي وَغَضَبِي. (أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ مَظَاهِرُ لِلْجَمَالِ وَالْجَلَالِ عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ، وَلَا يَظْهَرُ لِأَحَدٍ وَجْهُ تَخْصِيصِ كَلٍّ بِكُلٍّ فِي مَقَامِ الْفَصْلِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ بَابِ الْعَدْلِ، وَالْآخَرَ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] (وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا) لِأَنَّ كَمَالَهُمَا فِي مَلْءِ مَآلِهِمَا (فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ) قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] أَيْ فَتَطْلُبُ الزِّيَادَةِ وَلَا تَمْتَلِئُ مِنْ أَهْلِهَا الْمُعَدِّ لَهَا. (حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ) أَيْ فِيهَا أَوْ عَلَيْهَا (رِجْلَهُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ: قَدَمَهُ، فَمَذْهَبُ السَّلَفِ التَّسْلِيمُ وَ

التَّفْوِيضُ مَعَ التَّنْزِيهِ، وَأَرْبَابُ التَّأْوِيلِ مِنَ الْخَلَفِ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ قَدَمُ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ قَوْمٌ قَدَّمَهُمُ اللَّهُ لِلنَّارِ مِنْ أَهْلِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي سَابِقِ حُكْمِهِ أَنَّهُمْ لَاحِقُوهَا، فَتَمْتَلِئُ مِنْهُمْ جَهَنَّمُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ قَدَمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] أَيْ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي تَصْدِيقِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالرِّجْلِ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْجَرَادِ، وَهُوَ إِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْجَرَادِ، لَكِنَّ اسْتِعَارَتَهُ لِجَمَاعَةِ النَّاسِ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَأَخْطَأَ الرَّاوِي فِي نَقْلِهِ الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى، وَظَنَّ أَنَّ الرِّجْلَ سَدَّ مَسَدَّ الْقَدَمِ، هَذَا وَقَدْ قِيلَ: وَضْعُ الْقَدَمِ عَلَى الشَّيْءِ مَثَلٌ لِلرَّوْعِ وَالْقَمْعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَأْتِيهَا أَمْرُ اللَّهِ فَيَكْفِيهَا مِنْ طَلَبِ الْمَزِيدِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: " فَيَضَعُ الرَّبُّ قَدَمَهُ عَلَيْهَا " وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا، كَذَا قَالَهُ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْآتِيَةَ بِلَفْظِ: " فِيهَا " فِي الْمِشْكَاةِ، نَعَمْ " فِي " قَدْ تَأَتِي بِمَعْنَى " عَلَى " عَلَى مَا فِي التَّنْزِيلِ {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ تَسْكِينُ فَوْرَتِهَا، كَمَا يُقَالُ لِلْأَمْرِ يُرَادُ إِبْطَالُهُ: وَضَعْتُهُ تَحْتَ قَدَمِي، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْقَدَمُ وَالرِّجْلُ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّهَةِ عَنِ التَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، كَالْيَدِ وَالْأُصْبُعِ وَالْعَيْنِ، وَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ، فَالْإِيمَانُ بِهَا فَرْضٌ، وَالِامْتِنَاعُ عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا وَاجِبٌ، فَالْمُهْتَدِي مَنْ سَلَكَ فِيهَا طَرِيقَ التَّسْلِيمِ، وَالْخَائِضُ فِيهَا زَائِغٌ وَالْمُنْكِرُ مُعَطِّلٌ، وَالْمُكَيِّفُ مُشَبِّهٌ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] انْتَهَى. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِطَرِيقِ إِمَامِنَا الْأَعْظَمِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ، فَالتَّسْلِيمُ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (تَقُولُ) أَيِ النَّارُ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٍ، وَإِلَّا فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: فَتَقُولُ (قَطْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا مُنَوَّنَةً، وَفِي أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ (قَطْ قَطْ) ذُكِرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ شَارِحٍ أَنَّهُ مَرَّتَيْنِ حَيْثُ قَالَ بِسُكُونِ الطَّاءِ أَيْ: كَفَى كَفَى، وَيُحْتَمَلُ بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ حَسْبِي حَسْبِي. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِإِسْكَانِ الطَّاءِ فِيهِمَا وَبِكَسْرِهَا مُنَوَّنَةً وَغَيْرَ مُنَوَّنَةٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: إِذَا كَانَ قَطْ بِمَعْنَى حَسْبٍ فَقَطْ كَمَنْ وَقَطٍ مُنَوَّنًا مَجْرُورًا، فَاقْتِصَارُهُ عَلَيْهِمَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْكَسْرَ مَعَ غَيْرِ التَّنْوِينِ ضَعِيفٌ. (فَهُنَالِكَ) أَيْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (تَمْتَلِئُ) أَيِ النَّارُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى (وَيُزْوَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُضَمُّ وَيُجْمَعُ (بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) أَيْ مِنْ غَايَةِ الِامْتِلَاءِ (فَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ) أَيْ أَبَدًا (مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا) أَيْ لَا يُنْشِئُ اللَّهُ خَلْقًا لِلنَّارِ، فَإِنَّهُ ظُلْمٌ بِحَسَبِ الصُّورَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا حَقِيقَةً فَإِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مُلْكِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ مَا فِي صُورَةِ الظُّلْمِ. (وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْشِئُ لَهَا) أَيْ مِنْ عِنْدِهِ (خَلْقًا) أَيْ جَمْعًا لَمْ يَعْمَلُوا عَمَلًا، وَهَذَا فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ أَنْشَأَ لِلنَّارِ خَلْقًا عَلَى مَا قِيلَ لَكَانَ عَدْلًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5695 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَزَالُ جَهَنَّمَ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ. فَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنُهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ: " «حَفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» " فِي (كِتَابِ الرِّقَاقِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5695 - (وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى) أَيْ يُطْرَحُ (فِيهَا) أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟) أَيْ مِنْ زِيَادَةٍ (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ) أَيْ صَاحِبُ الْغَلَبَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ (فِيهَا قَدَمَهُ) وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ (فَيُزْوَى) أَيْ يَنْضَمُّ وَيَجْتَمِعُ (بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ) أَيْ مَرَّتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ أَوِ انْحِصَارُ الْعَدَدِ (بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ) أَيْ

زِيَادَةُ عَطَائِكَ (وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ) أَيْ زِيَادَةُ مَسَاكِنَ خَالِيَةٍ عَنِ السُّكَّانِ (حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ) مِنَ الْإِسْكَانِ (فَضْلَ الْجَنَّةِ) أَيْ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنْهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا. هَذَا دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَيْسَ مُتَوَقِّفًا عَلَى الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُخْلَقُونَ حِينَئِذٍ وَيُعْطَوْنَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ عَمَّنْ لَمْ يُذْنِبْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَذَّبَهُمْ كَانَ ظُلْمًا وَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِنَا، وَالْجَوَابُ: أَنَّا وَإِنْ قُلْنَا: وَإِنْ عَذَّبَهُمْ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي مُلْكِ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِكَرَمِهِ وَلُطْفِهِ مُبَالَغَةً، فَنَفْيُ الظُّلْمِ إِثْبَاتٌ لِلْكَرَمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ: " «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» ) تَمَامُهُ: «وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» (فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ) أَيْ لِأَنَّ الْحَدِيثَ أَنْسَبُ بِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5696 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرَئِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرَئِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، قَالَ فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرَئِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، قَالَ: فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5696 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا» ) أَيْ نَظَرَ اعْتِبَارٍ (فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا) أَيْ مَاعَدَا مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. (ثُمَّ جَاءَ) أَيْ رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ أَوْ إِلَى حَيْثُ مَا أُمِرَ بِهِ، أَوْ إِلَى تَحْتِ الْعَرْشِ (فَقَالَ: أَيْ رَبِّ) أَيْ يَا رَبِّ (وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ) أَيْ وَيُحِبُّ دُخُولَهَا. فَالْأُذُنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانًا (إِلَّا دَخَلَهَا) أَيْ طَمِعَ فِي دُخُولِهَا، وَجَاهَدَ فِي حُصُولِهَا، وَلَا يَهْتَمُّ إِلَّا بِشَأْنِهَا لِحُسْنِهَا وَبَهْجَتِهَا، (حَفَّهَا) أَيْ أَحَاطَهَا اللَّهُ (بِالْمَكَارِهِ) جَمْعُ كُرْهٍ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ وَالشِّدَّةُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَكْرُوهَةٌ عَلَى النُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَانِيَ لَهَا صُوَرٌ حِسِّيَّةٌ فِي تِلْكَ الْمَبَانِي (ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا) أَيْ ثَانِيًا لِمَا تَجَدَّدَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ حَوَالَيْهَا (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ بِدُونِ: قَالَ -: (فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا) أَيْ وَرَأَى مَا عَلَيْهَا ( «ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ» ) أَيْ لَمَّا رَأَى حَوْلَهَا مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي هِيَ الْعَلَائِقُ وَالْعَوَائِقُ لِلْخَلَائِقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ لِوُجُودِ الْمَكَارِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَمُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَكَسْرِ الشَّهَوَاتِ. ( «قَالَ: فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا " قَالَ: " فَذَهَبَ " فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ قَالَ: أَيْ رَبِّ! وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا» ) أَيْ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا فَزِعَ مِنْهَا وَاحْتَرَزَ فَلَا يَدْخُلُهَا، ( «فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا " قَالَ: " فَذَهَبَ» ) وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ ( «فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا» ) أَيْ لِمَيَلَانِ النَّفْسِ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَحُبِّ اللَّذَّاتِ، وَكَسَلِهَا عَنِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ تَفْسِيرٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ: " «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» ". وَفِي مَعْنَاهُ مَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ: إِنَّ اللَّهَ بَنَى مَكَّةَ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ وَالدَّرَجَاتِ، وَنِعْمَ مَا قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَالِ: لَوْلَا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ ... الْجُودُ يُفْقِدُ وَالْإِقْدَامُ قَتَّالُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5697 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلَاةَ، ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: " قَدْ أُرِيتُ الْآنَ مُذْ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قِبَلِ هَذَا الْجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5697 - (عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى) أَيْ إِمَامًا أَوْ جَمَاعَةً (لَنَا يَوْمًا الصَّلَاةَ) اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ الَّذِي هُوَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ (ثُمَّ رَقِيَ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ صَعِدَ (الْمِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ فِي قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ إِلَى جَانِبِهَا وَجِهَتِهَا (فَقَالَ: " قَدْ أُرِيتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ أَيْ أُبْصِرْتُ (الْآنَ) أَيْ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مِنَ الْمَاضِي وَالِاسْتِقْبَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْحَالِ مَعَ مُرَاعَاةِ التَّوْسِعَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ؛ وَلِذَا قَالَ: (مُذْ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ) أَيْ حِينَ صَلَّيْتُ، أَوْ مِنِ ابْتِدَاءِ زَمَنِ مَا صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ إِلَى أَنْ رَقِيتُ الْمِنْبَرَ (الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ مُصَوَّرَتَيْنِ صُورَةً إِجْمَالِيَّةً أَوْ تَفْصِيلِيَّةً (فِي قِبَلِ هَذَا الْجِدَارِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهِمَا. أَيْ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْقُبُلُ بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ نَقِيضُ الدُّبُرِ، وَرَأَيْتُهُ قُبُلًا مُحَرَّكَةً وَبِضَمَّتَيْنِ وَكَصُرَدٍ وَكَعِنَبٍ أَيْ عِيَانًا وَمُقَابَلَةً. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: " الْآنَ " لِلْحَالِ وَ " أُرِيتُ " الْمَاضِي، فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ؟ قُلْتُ: قَدْ تُقِرُّ بِهِ لِلْحَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي " صَلَّيْتُ " فَإِنَّهُ لِلْمُضِيِّ الْبَتَّةَ؟ قُلْتُ: كُلُّ مُخْبِرٍ أَوْ مُنْشِئٍ يَقْصِدُ الزَّمَانَ الْحَاضِرَ لَا اللَّحْظَةَ الْحَاضِرَةَ الْغَيْرَ الْمُنْقَسِمَةِ الْمُسَمَّاةَ بِالْحَالِ، انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَالَ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُهُ الْمَقَامُ فِي تَحْصِيلِ الْمَرَامِ. (فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) أَيْ لَمْ أَرَ مَرْئِيًّا كَمَرْئِيِّ الْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ، وَلَا مَرْئِيًّا كَمَرْئِيِّ الْيَوْمِ فِي الشَّرِّ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ جَامِعَةٌ لِلْخَيْرَاتِ مِنَ الْحُورِ وَالْقُصُورِ، وَالنَّارَ جَائِزَةٌ لِأَنْوَاعِ الشُّرُورِ مِنَ الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَلَا نَظِيرَ لَهُمَا فِي جَمْعِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَذُو الْحَالِ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ لِشَهَادَةِ السَّابِقِ، وَالْمَعْنَى لَمْ أَرَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ مِثْلَ مَا رَأَيْتُ الْيَوْمَ، أَيْ رَأَيْتُهُمَا رُؤْيَةً جَلِيَّةً ظَاهِرَةً مُثِّلَتَا فِي قِبَلِ هَذَا الْجِدَارِ ظَاهِرًا خَيْرُهَا وَشَرُّهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: " «عُرِضَ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» .

[باب بدء الخلق وذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]

[بَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5698 - «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ، فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ! " قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ! ". قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ قَالَ: يَا عِمْرَانُ! أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [9]- بَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَدْءُ: بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ فَتَسْكِينِ الدَّالِ فَالْهَمْزَةِ. بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَبَ بِالْوَاوِ حَتَّى لَا يَشْتَبِهَ، ضَبْطُهُ بِضَمَّتَيْنِ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَهَمْزٍ أَوْ بِوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ بِلَا هَمْزٍ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا الظُّهُورُ عَلَى مَا حَقَّقْتُهُ فِي رِسَالَتِي الَّتِي عَلَّقْتُهَا عَلَى أَوَّلِ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِبَابِ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْتَهِيًا إِلَى: وَقَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَظَّمَ مِنْ إِتْيَانِ الْإِعْرَابِ عَلَى وَجْهِ الْخُلُوِّ عَنِ الْإِغْرَابِ، نَعَمْ لَوْ رُسِمَ بِالْيَاءِ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5698 - (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ) أَيْ وَقْتَ مَجِيئِهِمْ (مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ مَشْهُورَةٌ (فَقَالَ: " اقْبَلُوا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ تَقْبَلُوا مِنِّي

(الْبُشْرَى) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ الْبِشَارَةُ الْمُطْلَقَةُ أَوِ الْمَعْهُودَةُ (يَا بَنِي تَمِيمٍ) أَوْ هُوَ لَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا الْإِشَارَةَ بِالْبِشَارَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ اسْتِقْبَالِهَا بِالْقَبُولِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ حُصُولُ كُلِّ وُصُولٍ. (قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا) فَحَمَلُوا الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِحْسَانِ الْعُرْفِيِّ، فَطَلَبُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَطَاءِ الْحَسَنِ، وَهَذَا بِمُقْتَضَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَبِّ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الْمَرَاتِبِ الْآجِلَةِ، فَكُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَيَبِينُ عَنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ مُعَايَنَةً، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ مَنْهَجَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيِ اقْبَلُوا مِنِّي مَا يَقْتَضِي أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ جُلُّ اهْتِمَامِهِمْ إِلَّا بِشَأْنِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِعْطَاءِ دُونَ دِينِهِمْ قَالُوا: بَشَّرْتَنَا لِلتَّفَقُّهِ، وَإِنَّمَا جِئْنَا لِلِاسْتِعْطَاءِ فَأَعْطِنَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ ". وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بَشَّرْتَنَا هُوَ دَالٌّ عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا رَامُوا الْعَاجِلَ، وَغَفَلُوا عَنِ الْآجِلِ، وَسَبَبُ غَضَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفْيِهِ قَبُولَهُمُ الْبُشْرَى إِشْعَارُهُ بِقِلَّةٍ عِلْمِهِمْ وَضَعْفِ قَابِلِيَّتِهِمْ؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَّقُوا آمَالَهُمْ بِعَاجِلِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَقَدَّمُوا ذَلِكَ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ الْمُوَصِّلِ إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمِ اهْتِمَامَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَقَائِقِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَالِاعْتِنَاءِ بِضَبْطِهَا، وَالسُّؤَالِ عَنْ وَاجِبَاتِهَا وَالْمُوَصِّلَاتِ إِلَيْهَا. ( «فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ. قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ» ) أَيْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وَلَمَّا كَانَ نِيَّتُهُمُ الصَّالِحَةُ خَالِصَةً لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ لَا لِلطَّمَعِ فِي الدُّنْيَا حَصَلَ لَهُمُ الْبِشَارَةُ وَالْقَبُولُ وَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالْوُصُولُ، وَحُرِمَ الْأَوَّلُونَ عَنِ الْبِشَارَةِ، بَلْ وَعَنِ الْعَطَاءِ فِي الْحَقَارَةِ، وَوَقَعُوا فِي حَضِيضِ النِّذَارَةِ، فَالْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْغَالِيَةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحِكَايَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ: أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى قَصْدِ زِيَارَةِ تُرْبَةِ الْأَمِينِ حَمْزَةَ الْمُنَوَّرَةِ، وَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَفُتِحَ لَهُمَا بَابُ الْمَقْبَرَةِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَدَخَلَ الشَّيْخُ فِي مَحَلِّ الزِّيَارَةِ، فَرَأَى جَمَاعَةً مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ بَرِيئَةً مِنَ النُّقْصَانِ وَالْعَيْبِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ سَاعَةُ الْإِجَابَةِ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَبِعَهُ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ رَحْمَةً وَشَفَقَةً عَلَيْهِ: يَا أَخِي اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَا تُرِيدُ، فَإِنَّ الْآنَ وَقْتَ الْإِجَابَةِ وَالْمَزِيدِ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى دِينَارًا وَلَمْ يَذْكُرْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، فَرَجَعَا وَلَمَّا وَصَلَا بَابَ الْمَدِينَةِ أَعْطَى الرَّجُلَ دِينَارًا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّكِينَةِ، فَدَخَلَا كِلَاهُمَا عَلَى الْقُطْبِ الْوَلِيِّ السَّيِّدِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ، وَقَدْ كُشِفَ لَهُ الْقَضِيَّةُ فَقَالَ لِلرَّجُلِ: أَيَا دَنِيَّ الْهِمَّةِ تُدْرِكُ وَقْتَ الْإِجَابَةِ، وَتَطْلُبُ قِطْعَةَ دِينَارٍ دَنِيَّةٍ، فَهَلَّا طَلَبْتَ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ لِيَكُونَا لِأَمْرِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ كَافِيَةٌ وَوَافِيَةٌ؟ ثُمَّ مَا أَحْسَنَ طَرِيقَ سُؤَالِهِمْ مِنَ الِابْتِدَاءِ فِي أَوَّلِ حَالِهِمُ الدَّالِّ عَلَى كَمَالِ مَآلِهِمْ حَيْثُ قَالُوا: (وَلِنَسْأَلَكَ) أَيْ وَجِئْنَاكَ لِنَسْأَلَكَ (عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ) أَيْ أَمْرِ الْخَلْقِ وَمَبْدَأِ الْعَالَمِ (مَا كَانَ؟) أَيْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَوَّلَ هَذَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " مَا " فِي " مَا كَانَ " اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ، وَكُرِّرَ السُّؤَالُ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ (قَالَ: " كَانَ اللَّهُ) أَيْ فِي أَزَلِ الْآزَالِ كَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَبَدِ الْآبَادِ، بِلَا وَصْفِ التَّغَيُّرِ وَالْحُدُوثِ عَلَى مَا هُوَ نَعْتُ الْعِبَادِ، فَإِنَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ. (وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ) أَيْ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُوجِدُهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ قَبْلَ الْمُوجِدِ الْوَاجِبِ الْوُجُودَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ، مُكَرِّرٌ الْجَوَابَ عَلَى طَرِيقِ السُّؤَالِ مُطَابَقَةً فِي الِاهْتِمَامِ بِالْحَالِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ أَوَّلُ قَدِيمٍ بِلَا ابْتِدَاءٍ، كَمَا أَنَّهُ كُرَّرَ آخِرُ كَرِيمٍ بِلَا انْتِهَاءٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ حَالٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّ خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى: يُسَاعِدُهُ؛ إِذِ التَّقْدِيرُ: كَانَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ مُنْفَرِدًا مُوَحَّدًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ دُخُولَ الْوَاوِ فِي خَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا نَحْوَ كَانَ زَيْدٌ وَأَبُوهُ قَائِمٌ عَلَى جَعْلِ الْجُمْلَةِ خَبَرًا مَعَ الْوَاوِ تَشْبِيهًا لِلْخَبَرِ بِالْحَالِ. أَقُولُ: وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَوَّلِيَّةَ الْأَزَلِيَّةَ وَنَفَى لِغَيْرِهِ الْقَبْلِيَّةَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ؛ وَلِهَذَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ قَالُوا: وَالْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ، لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ الْمُمْكِنِ فِي جَنْبِ وُجُودِ الْوَاجِبِ كَلَا شَيْءٍ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ. وَقَالَ آخَرُ: سِوَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا فِي الْوُجُودِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا هِيَ مَظَاهِرُ صِفَاتِهِ وَمَرَامِي ذَاتِهِ، فَقَدْ رُوِيَ: كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ، فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأُعْرَفَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ عَلَى تَفْسِيرِ حَبْرِ الْأُمَّةِ أَيْ لِيَعْرِفُونِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا فَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا امْتِزَاجَ لَهُ بِالْفَصْلِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: ( «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ) لِمَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنَ الْمُنَافَاةِ، فَإِنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ نَاقَضْتَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ مَنْ لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يُعَارِضْهُ فِي الْأَوَّلِيَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: " «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» " إِلَى أَنَّهُمَا كَانَا مَبْدَأَ التَّكْوِينِ، وَأَنَّهُمَا كَانَا مَخْلُوقَيْنِ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْعَرْشِ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا الْمَاءُ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمُمْسِكُهُ بِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ الشَّيْخُ بِمَا قَالَهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ جُعِلَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ لَزِمَ الْمَحْذُورُ، فَإِذَا جُعِلَ مُسْتَقِلًّا وَعُطِفَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى فَلَا، فَإِذَنْ لَفْظَةُ " كَانَ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَسَبِ حَالِ مَدْخُولِهِمَا، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَزَلِيَّةُ وَالْقِدَمُ، وَبِالثَّانِي الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ عَطْفٌ عَلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ» ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ حُصُولِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْوُجُودِ وَتَفْوِيضِ التَّرْتِيبِ إِلَى الذِّهْنِ، قَالُوا: (وَ) . بِمَنْزِلَةِ (ثُمَّ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَاءُ الْبَحْرِ، بَلْ هُوَ مَا تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَالرِّيحُ قَائِمَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: خُلِقَ الْعَرْشُ وَالْمَاءُ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ خَلَقَهُمَا مِنَ الْمَاءِ بِأَنْ تَجَلَّى عَلَى الْمَاءِ فَتَمَوَّجَ وَاضْطَرَبَ وَحَصَلَ لَهُ زَبَدٌ، فَاجْتَمَعَ فِي مَحَلِّ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، وَلِذَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَلْقَى الْجِبَالَ عَلَيْهَا لِئَلَّا تَمِيدَ، وَأَوَّلُ الْجِبَالِ أَبُو قُبَيْسٍ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ، وَطَلَعَ دُخَانٌ مِنْ تَمَوُّجِ الْمَاءِ إِلَى جَانِبِ السَّمَاءِ، فَخُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْهَا، وَمُجْمَلَةٌ فِي سُورَةِ حم فُصِّلَتْ أَوْ تَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ وَسِيَرِ الْمُؤَرِّخِينَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. (وَكَتَبَ) أَيْ أَثْبَتَ جَمِيعَ مَا هُوَ كَائِنٌ (فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ) أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الرَّاوِي: ( «ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ» ) أَيِ الْحَقْهَا (فَقَدْ ذَهَبَتْ) أَيْ مُنْفَلِتَةٌ (فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (وَايْمُ اللَّهِ) بِفَتْحِ هَمْزِ وَصْلٍ أَوْ قَطْعٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَمِيمٍ مَضْمُومَةٍ مُضَافَةٍ إِلَى الْجَلَالَةِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَتْ جَمْعًا. قَالَ شَارِحٌ: ايْمُ اللَّهِ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِلْقَسَمِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَهَمْزَتُهُ لِلْوَصْلِ، وَلَمْ يَجِئْ فِي الْأَسْمَاءِ أَلِفُ الْوَصْلِ مَفْتُوحَةً غَيْرُهَا، وَتَقْدِيرُهُ ايْمُ اللَّهِ قَسَمِي، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ مَحْذُوفُ " أَيْمُنٍ " جَمْعُ يَمِينٍ وَهَمْزَتُهُ لِلْقَطْعِ (لَوَدِدْتُ) أَيْ لَتَمَنَّيْتُ (أَنَّهَا) أَيِ النَّاقَةُ (قَدْ ذَهَبَتْ) أَيْ فُقِدَتْ (وَلَمْ أَقُمْ) أَيْ فِي طَلَبِهَا الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ بَقِيَّةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَهْلِ الْيَمَنِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5699 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5699 - (وَعَنْ عُمَرَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَامَ فِينَا) أَيْ خَطِيبًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامًا) أَيْ قِيَامًا عَظِيمًا (فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ) أَيْ فَبَيَّنَ الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَحْوَالَ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ إِلَى وَقْتِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَعَيَّنَ أَحْوَالَ أُمَّتِهِ مِمَّا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْهُمُ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ. (حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حَتَّى غَايَةُ أَخْبَرَنَا أَيْ أَخْبَرَنَا مُبْتَدِئًا مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَوَضَعَ الْمَاضِيَ مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ مُبَالَغَةً لِلتَّحْقِيقِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْأَمِينِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ أَخْبَرَنَا عَنِ الْمَبْدَأِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى أَنِ انْتَهَى الْإِخْبَارُ عَنْ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ، وَتَيْسِيرُ إِيرَادِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5700 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ; فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5700 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ) أَيْ أَثْبَتَ أَوْ أَمَرَ أَنْ يَكْتُبَ الْمَلَائِكَةُ (كِتَابًا) أَيْ مَكْتُوبًا وَهُوَ اللَّوْحُ، أَوْ كَتَبَ كِتَابَةً مُسْتَقِلَّةً (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا (سَبَقَتْ غَضَبِي) أَيْ غَلَبَتْ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْنَى غَلَبَتِ الرَّحْمَةُ بِالْكَثْرَةِ فِي مُتَعَلِّقِهَا عَلَى الْغَضَبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ وَالْمَثُوبَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ أَكْثَرُ مِنْ إِرَادَةِ الشَّرِّ وَالنِّقْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ عَامَّةٌ، وَالْغَضَبَ خَاصٌّ، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَيْثُ قِيلَ: رَحْمَةُ الرَّحْمَنِ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، بَلْ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ؛ وَلِذَا لَا يُطْلَقُ الرَّحْمَنُ عَلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْكَسْرُ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَيَكُونُ لَفْظَةُ " إِنَّ " مِنْ جُمْلَةِ الْمَكْتُوبِ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ كِتَابًا، وَعَلَى كُلٍّ فَالْمَكْتُوبُ إِنَّمَا هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَنْ سَائِرِ الْخَلَائِقِ مَرْفُوعٌ عَنْ حَيِّزِ الْإِدْرَاكِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُثْبَتٌ فِي عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَقَدْ يَطَّلِعُ عَلَى بَعْضِ مَعْلُومَاتِهِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَخُلَّصِ أَوْلِيَائِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْكُشُوفِ، لَا سِيَّمَا إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ مُوَكَّلٌ عَلَيْهِ وَيَأْخُذُ الْأُمُورَ مِنْهُ، فَيَأْمُرُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَعَزْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلًّا بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْكِتَابَ هُنَا بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوِ الْقَضَاءِ الْإِجْمَالِيِّ وَالتَّفْصِيلِيِّ، فَيَتَعَيَّنُ الْكَسْرُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ تَجْعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ زُبْدَةً فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَعُمْدَةَ مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُظُوظِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ، فَعِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْقَضَاءُ الَّذِي قَضَاهُ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَهُوَ عِنْدُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَيْنُونَتِهِ مَكْنُونًا عَنْ سَائِرِ الْخَلَائِقِ، مَرْفُوعًا عَنْ حَيِّزِ الْإِدْرَاكِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنَ التَّصَوُّرَاتِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُبَايِنُ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَفِي سَبْقِ الرَّحْمَةِ بَيَانُ أَنَّ قِسْطَ الْخَلْقِ هَاهُنَا أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِمْ مِنَ الْغَضَبِ، وَأَنَّهَا تَنَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَنَّ الْغَضَبَ لَا يَنَالُهُمْ إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ، أَلَا يُرَى أَنَّهَا تَشْمَلُ الْإِنْسَانَ جَنِينًا وَرَضِيعًا وَفَطِيمًا وَنَاشِئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ طَاعَةٌ اسْتَوْجَبَ بِهَا ذَلِكَ، وَلَا يَلْحَقُهُ الْغَضَبُ إِلَّا بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118] ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا سَاقَ إِلَيْنَا مِنَ النِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمُطِيعِ إِثَابَةً وَعِقَابِ الْعَاصِي، وَالْمُرَادُ بِالسَّبْقِ هُنَا وَالْغَلَبَةِ فِي أُخْرَى كَثْرَةُ الرَّحْمَةِ وَشُمُولِهَا، كَمَا يُقَالُ: غَلَبَ عَلَى فُلَانٍ الْكَرَمُ وَالشَّجَاعَةُ، إِذَا كَثُرَ مِنْهُ. أَقُولُ: وَلَوْ أُبْقِيَا عَلَى حَقِيقَتِهِمَا مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ الْمَجَازِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى سَابِقَةٌ عَلَى غَضَبِهِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّ أَوَّلَ الرَّحْمَةِ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ، ثُمَّ نِعْمَةُ الْإِمْدَادِ، فَلَا يَخْلُو عَنِ النِّعْمَتَيْنِ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ، وَكَذَا مِنَحُهُ سُبْحَانَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مِحَنِهِ غَالِبَةٌ كَثِيرَةٌ شَامِلَةٌ لِعُمُومِ الْخَلَائِقِ، سَوَاءٌ مَنْ أَطَاعَهُ أَوْ عَصَاهُ فِي الْبِلَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنَّ مَفْتُوحَةً بَدَلًا مِنْ كِتَابًا، وَمَكْسُورَةً حِكَايَةً لِمَضْمُونِ الْكِتَابِ، وَهُوَ عَلَى وَزْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] أَيْ أَوْجَبَ وَعْدًا أَنْ يَرْحَمَهُمْ قَطْعًا بِخِلَافِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَى الْغَضَبِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفُورٌ كَرِيمٌ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ بِفَضْلِهِ، وَأَنْشَدَ: وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي فَالْمُرَادُ بِالسَّبْقِ هُنَا الْقَطْعُ لِوُقُوعِهَا. قُلْتُ: لَا بُدَّ وَأَنْ يُخَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ تُعَلَّقُ الْمَشِيئَةُ بِمَغْفِرَتِهِمْ وَسَبْقُ الْإِرَادَةِ بِرَحْمَتِهِمْ، وَإِلَّا فَعَذَابُ الْكَافِرِ مَقْطُوعُ الْوُقُوعِ، بَلْ وَاجِبُ الْحُصُولِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَالتَّخَلُّفُ فِي خَبَرِهِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا، وَقَدْ حَرَّرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي خُصُوصِ رِسَالَةٍ سَمَّيْتُهَا بِـ " الْقَوْلُ السَّدِيدِ فِي خَلْقِ الْوَعِيدِ ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

5701 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5701 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ» ) أَيْ جِنْسُهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجَانُّ: الْجِنُّ، وَقَالَ شَارِحٌ: يَعْنِي أَبَا الْجِنِّ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمُقَابَلَتِهِ بِآدَمَ، ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) أَيْ لَهَبٍ مُخْتَلِطٍ بِسَوَادِ دُخَانِ النَّارِ. قَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] ، وَقَالَ: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] (وَخُلِقَ آدَمُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ كَمَا قَبْلَهُ (مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ مِمَّا بَيَّنَهُ اللَّهُ لَكُمْ فِي قَوْلِهِ: خَلَقُهُ مِنْ تُرَابٍ، وَقَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] ، وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] ، وَقَوْلِهِ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص: 71] . وَلَعَلَّ كَثْرَةَ مَا وَرَدَ فِي حَقِّهِ مَعَ اشْتِهَارِهَا مَا أَوْجَبَتِ الْإِبْهَامَ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ. وَرَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي (الْكَامِلِ) بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابِ الْجَابِيَةِ وَعَجَنَهُ بِمَاءِ الْجَنَّةِ» ) . وَالْجَابِيَةُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: قَرْيَةٌ بِدِمَشْقَ، وَبَابُ الْجَابِيَةِ مِنْ أَبْوَابِهَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا ( «خُلِقَتِ النَّخْلَةُ وَالرُّمَّانُ وَالْعِنَبُ مِنْ فَضْلِ طِينَةِ آدَمَ» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا ( «خَلَقَ الْحُورَ الْعِينَ مِنَ الزَّعْفَرَانِ» ) . وَرَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي (مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ) وَأَبُو الشَّيْخِ فِي (الْعَظَمَةِ) وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: ( «خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجِنَّ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ وَخِشَاشُ الْأَرْضِ، وَصِنْفٌ كَالرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ، وَخَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كَالْبَهَائِمِ، وَصِنْفٌ أَجْسَادُهُمْ أَجْسَادُ بَنِي آدَمَ وَأَرْوَاحُهُمْ أَرْوَاحُ الشَّيَاطِينِ، وَصِنْفٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» ) . وَفِي قَوْلِهِ: وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَوَقُّفِهِ فِي حَقِّ الْجِنِّ بِالثَّوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

5702 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5702 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ» ) أَيْ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَى هَذَا الْحَدِيثَ مُشْكِلًا جِدًّا، فَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ بَشَرٌ حَيٌّ، وَيُؤَيِّدُهُ الْمَفْهُومُ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] قَالَ شَارِحٌ، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَتَانِ أَعْنِي فِي الْجَنَّةِ سَهْوًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَخْطَأَ سَمْعُهُ فِيهِمَا. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ قُبِضَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَخُمِّرَ حَتَّى صَارَ طِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى صَارَ صَلْصَالًا، وَكَانَ مُلْقًى بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ بِبَطْنِ نُعْمَانَ، وَهُوَ مِنْ أَوْدِيَةِ عَرَفَاتَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي تَصْوِيرَهُ فِي الْجَنَّةِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ طِينَتُهُ لَمَّا خُمِّرَتْ فِي الْأَرْضِ وَتُرِكَتْ فِيهَا حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهَا الْأَطْوَارُ، وَاسْتَعَدَّتْ لِقَبُولِ الصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ حُمِلَتْ إِلَى الْجَنَّةِ وَصُوِّرَتْ، وَنُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] لَا دَلَالَةَ لَهُ أَصْلًا عَلَى أَنَّهُ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَعْدَ مَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، إِنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكُونِ الِاسْتِقْرَارُ وَالتَّمَكُّنُ، وَالْأَمْرُ بِهِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحُصُولِ فِي الْجَنَّةِ، كَيْفَ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَحَدُ الْمَأْمُورَيْنِ، وَلَعَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَتْ مَادَّتُهُ الَّتِي هِيَ الْبَدَنُ مِنَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَصُورَتُهُ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَيُضَاهِي بِهَا الْمَلَائِكَةَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَضَافَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَوُّنَ مَادَّتَهُ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا نَشَأَتْ مِنْهَا، وَأَضَافَ حُصُولَ صُورَتِهِ إِلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهَا. (فَجَعَلَ إِبْلِيسُ) أَيْ فَشَرَعَ مِنْ كَمَالِ تَلْبِيسِهِ (يُطِيفُ بِهِ) يُضَمُّ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: طَافَ بِالشَّيْءِ يَطُوفُ طَوْفًا وَطَوَافًا، وَأَطَافَ بِهِ يُطِيفُ إِذَا اسْتَدَارَ حَوْلَهُ (يَنْظُرُ مَا هُوَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ، أَيْ يَتَفَكَّرُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَيَتَأَمَّلُ مَاذَا يَظْهَرُ مِنْهُ، (فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ) وَهُوَ مَنْ لَهُ جَوْفٌ (عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ) أَيْ لَا يَتَقَوَّى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا قُوَّةَ وَلَا ثَبَاتَ، بَلْ يَكُونُ مُتَزَلْزِلَ الْأَمْرِ، مُتَغَيِّرَ الْحَالِ، مُتَعَرِّضًا لِلْآفَاتِ. وَالتَّمَالُكُ: التَّمَاسُكُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ مِنَ الْمَنْعِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُ دَفْعَ الْوَسْوَاسِ عَنْهُ. وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَجْوَفُ فِي صِفَةِ الْإِنْسَانِ مُقَابِلٌ لِلصَّمَدِ فِي صِفَةِ الْبَارِي، قِيلَ: السَّيِّدُ سُمِّيَ بِالصَّمَدِ؛ لِأَنَّهُ يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَيُقْصَدُ إِلَيْهِ فِي الرَّكَائِبِ، مِنْ صَمَدْتُ الْأَمْرَ إِذَا قَصَدْتَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِصَدَدِ الْحَاجَةِ أَوْ فِي مَعْرِضِ الْآفَةِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّمَدِ بِمَعْنَى الْمُصَمَّدِ، وَهُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، فَالْإِنْسَانُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْغَيْرِ بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَإِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِيَمْلَأَ جَوْفَهُ، فَإِذَنْ لَا تَمَاسُكَ لَهُ فِي شَيْءٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. أَقُولُ: وَلَعَلَّ جِنْسَ الْجِنِّ لَيْسُوا عَلَى صِفَةِ الْأَجْوَفِيَّةِ لِيَتِمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5703 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5703 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ -: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ) أَيْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَمْرِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] (وَهُوَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ (ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً " وَفِي الْمُوَطَّأِ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. قِيلَ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَكْمَلُ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ (بِالْقَدُومِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِ الْمُخَفَّفَةِ. وَفِي نُسْخَةٍ تَشْدِيدُهَا. قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْقَدُومُ آلَةٌ لِلنَّحْرِ، وَمَوْضِعٌ اخْتَتَنَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ تُشَدَّدُ دَالُهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَدُومُ بِالتَّخْفِيفِ آلَةُ النَّجَّارِ، مَعْرُوفَةٌ، وَبِالتَّشْدِيدِ اسْمُ مَوْضِعٍ، وَقِيلَ: هُوَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْضًا، هَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَالَ أَبُو الزِّنَادِ، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ» مُخَفَّفَةً. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمِنَ الْمُحَدِّثِينَ مَنْ يُشَدِّدُ وَهُوَ خَطَأٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَدُومُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الْخِلَافُ فِي التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَيُقَالُ لِآلَةِ النَّجَّارِ قَدُومٌ بِالتَّخْفِيفِ لَا غَيْرَ، وَأَمَّا الْقَدُومُ مَكَانٌ بِالشَّامِ فِيهِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ، فَمَنْ رَوَاهُ بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ الْقَرْيَةَ، وَرِوَايَةُ التَّخْفِيفِ يَحْتَمِلُ الْقَرْيَةَ وَالْآلَةَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى التَّخْفِيفِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

5704 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وَقَوْلُهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] ، وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي: فَأَتَى سَارَةَ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبُنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي لِأَنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأُتِيَ بِهَا، قَامَ إِبْرَاهِيمُ يُصَلِّي، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ. فَأُخِذَ - وَيُرْوَى فَغُطَّ - حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ، فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدُّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِينِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ يَدَهُ مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5704 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ» ") : بِفَتْحِ الذَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ: هُوَ اسْمٌ لَا صِفَةٌ لِأَنَّكَ تَقُولُ كَذَبَ كَذْبَةً، كَمَا تَقُولُ رَكَعَ رَكْعَةً، وَلَوْ كَانَ صِفَةً لَسُكِّنَ فِي الْجَمْعِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْجَيِّدُ أَنْ يُقَالَ بِفَتْحِ الذَّالِ فِي الْجَمْعِ، أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمَصْدَرَ جَاءَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَامُوسِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَتْحُ مَخْصُوصًا بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ بِخِلَافِ الْكَسْرِ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ كَانَ الْفَتْحُ أَجْوَدُ، هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الْحَصْرِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ ذِكْرِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْكَوْكَبِ هَذَا رَبِّي وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ زَمَانَ التَّكْلِيفِ، أَوِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالِاحْتِجَاجِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا الْكَذِبُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا هُوَ طَرِيقُ الْبَلَاغِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنْهُ، سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ تَجْوِيزَهُ مِنْهُمْ يَرْفَعُ الْوُثُوقَ بِأَقْوَالِهِمْ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَرْتَفِعُ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ، وَيُعَدُّ مِنَ الصَّغَائِرِ كَالْكِذْبَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِيرٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَفِي إِمْكَانِ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ، وَعِصْمَتِهِمْ مِنْهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلْفِ. قَالَ عِيَاضٌ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَذِبَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْكَذَبَاتُ الْمَذْكُورَاتُ، فَإِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ لِكَوْنِهَا فِي صُورَةِ الْكَذِبِ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذَبَاتٌ. قُلْتُ: وَوَافَقَهُ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهَا كَذَبَاتٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَارِيضِ لِعُلُوِّ شَأْنِهِمْ عَنِ الْكِنَايَةِ بِالْحَقِّ، فَيَقَعُ ذَلِكَ مَوْقِعَ الْكَذِبِ عَنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الْكَذِبِ سُمِّيَتْ كَذَبَاتٍ، وَقَالَ الْأَكْمَلُ فِي (شَرْحِ الْمَشَارِقِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا حَقِيقَةَ الْكَذِبِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَيَحْتَاجُ إِلَى الْعُذْرِ بِأَنَّ الْكَذِبَ لِلْإِصْلَاحِ جَائِزٌ، فَمَا ظَنُّكَ فِي دَفْعِ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَيْفَ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ، مَعَ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ وَمَقَالِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ فِيهِ، وَلَمْ يُرِدْ ظَاهِرَهُ أَلَا يَرَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ كَذَبَاتِهِ قَوْلَهُ لِسَارَةَ: إِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَقَوْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأُخْتَ فِي النَّسَبِ، وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) فَإِنَّ اسْتِحَالَةَ صُدُورِ الْفِعْلِ مِنَ الْجِدِّ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ أَوْ مُجَوَّزٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ كَذِبًا. قُلْتُ: وَلَا سِيَّمَا فِيهِ قَوْلٌ بِالْمُوقَفِ عَلَى بَلْ فَعَلَهُ وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: كَبِيرُهُمْ هَذَا. (ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ) : بَدَلٌ مِنْ " ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ " (فِي ذَاتِ اللَّهِ) أَيْ: لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَوْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَنْزِيهِ ذَاتِهِ عَنِ الشِّرْكِ، أَوْ يُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ أَيْ: فِي كَلَامِهِ، وَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ لِمَا لَمْ يَنْفَكْ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ شَارِحٌ أَيْ: فِي أَمْرِ اللَّهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ فِيهِ أَرَبٌ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالْأُولَى أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْقَوْمِ بِهَذَا الْعُذْرِ فَيَعْمَلَ بِالْأَصْنَامِ مَا فَعَلَ، وَبِالثَّانِيَةِ إِلْزَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ضُلَّالٌ سُفَهَاءُ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ حَذْفُ الْمُضَافِ أَيْ: فِي كَلَامِ ذَاتِ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّ اثْنَتَيْنِ مَذْكُورَتَانِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ لِسَارَةَ: هِيَ أُخْتِي. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذِهِ أَيْضًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا سَبَبُ دَفْعِ كَافِرٍ ظَالِمٍ عَنْ مُوَاقَعَةِ فَاحِشَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَرْضَى بِهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِ الثَّالِثَةِ تَضَمَّنَتْ نَفْعًا لَهُ وَدَفْعًا لِحَرَمِهِ، هَذَا وُفِي " الْمُغْرِبِ ": ذُو بِمَعْنَى الصَّاحِبِ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ مَوْصُوفًا وَمُضَافًا إِلَيْهِ، وَتَقُولُ لِلْمُؤَنَّثِ: امْرَأَةٌ ذَاتُ مَالٍ، ثُمَّ اقْتَطَعُوهَا عَنْ مُقْتَضَاهَا، وَأَجْرَوْهَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ التَّامَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِأَنْفُسِهَا غَيْرِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَا سِوَاهَا. فَقَالُوا: ذَاتٌ قَدِيمَةٌ أَوْ مُحْدَثَةٌ، وَنَسَبُوا إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، فَقَالُوا: الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ وَاسْتَعْمَلُوهَا اسْتِعْمَالَ النَّفْسِ وَالشَّيْءِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: كُلُّ شَيْءٍ ذَاتٌ وَكُلُّ ذَاتٍ شَيْءٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: فِي ذَاتِ اللَّهِ أَيْ: فِي الدَّفْعِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَا فِيهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ أَيْ: خَاصَمَ وَجَادَلَ وَذَبَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْرِيضِ لِأَنَّهُ

نَوْعٌ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَنَوْعٌ مِنَ التَّعْرِيضِ يُسَمَّى الِاسْتِدْرَاجُ، وَهُوَ إِرْخَاءُ الْعِنَانِ مَعَ الْخَصْمِ فِي الْمُجَارَاةِ لِيَعْثُرَ حَيْثُ يُرِيدُ تَبْكِيتَهُ، فَسَلَكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ الْقَوْمِ هَذَا الْمَنْهَجَ فَحِينَئِذٍ. (" قَوْلُهُ ") : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] : وَذَلِكَ عِنْدَمَا طَلَبُوا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ إِلَى عِيدِهِمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ لِلْأَمْرِ الَّذِي هَمَّ بِهِ فَنَظَرَ نَظْرَةً إِلَى النُّجُومِ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَفِيهِ إِتْمَامٌ مِنْهُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَمَارَةِ عِلْمِ النُّجُومِ عَلَى أَنَّهُ سَقِيمٌ لِيَتْرُكُوهُ، فَيَفْعَلَ بِالْأَصْنَامِ مَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ، أَوْ سَقِيمُ الْقَلْبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَيْظِ بِاتِّخَاذِكُمُ النُّجُومَ آلِهَةً، أَوْ بِعِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ. (وَقَوْلُهُ) : بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ حِينَ كَسَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصْنَامَهُمْ إِلَّا كَبِيرَهَا، وَعَلَّقَ الْفَاسَ فِي عُنُقِهِ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] أَيْ: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] يَعْنِي: إِنْ كَانَ لَهُمْ نُطْقٌ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُ دَفَعُ الضَّرَرَ عَنْ غَيْرِهِ؟ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ النُّطْقِ لَا يَصْلُحُ لِلْأُلُوهِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِلَهَ مَنْ هُوَ مَنْعُوتٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ. (وَقَالَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ الثَّالِثَةِ (بَيْنَا هُوَ) أَيْ: (إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الشَّامِ (ذَاتَ يَوْمٍ) أَيْ: بَعْدَ هَلَاكِ نُمْرُودَ (وَسَارَةُ) : عَطْفٌ عَلَى هُوَ، وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ (إِذْ أَتَى) أَيْ: مَرَّ إِبْرَاهِيمُ (عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ) أَيْ: ظَالِمٌ مُسَلَّطٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَتَى جَوَابُ بَيْنَا أَيْ: بَيْنَا هُمَا يَسِيرَانِ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ أَتَيَا عَلَى بَلَدِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَوُشِيَ بِهِمَا، (فَقِيلَ لَهُ) أَيْ: لِلْجَبَّارِ (إِنَّ هَاهُنَا) أَيْ: فِي بَلَدِنَا هَذَا (رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ) أَيْ: صُورَةً (فَأَرْسَلَ) أَيْ: رَسُولًا (إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَطْلُبُهُ فَذَهَبَ إِلَيْهِ، (قَالَ عَنْهَا) أَيْ: عَنْ جِهَتِهَا (مَنْ هَذِهِ) ؟ أَيْ: مَنْ تَكُونُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي مَعَكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ هَذِهِ بَيَانٌ لِلسُّؤَالِ أَيْ: سَأَلَ الْجَبَّارُ بِهَذَا اللَّفْظِ (قَالَ: أُخْتِي) : فِي الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: كَانَ كَاذِبًا وَكَانَ جَائِزًا بَلْ وَاجِبًا فِي دَفْعِ الظَّالِمِ عَلَى مَا شَرَحَ مُسْلِمٌ، لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى التَّعْرِيضِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةٍ عَنِ الْكَذِبِ» ، مَعَ أَنَّ نَفْسَ قَوْلِهِ: أُخْتِي لَا يَخْلُو عَنْ تَعْرِيضٍ مَا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ أُخْتِي أَوْ هِيَ أُخْتِي. (فَأَتَى) أَيْ: إِبْرَاهِيمُ (سَارَةَ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ) : إِنْ شَرْطِيَّةٌ أَيْ: إِنْ عَلِمَ (أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبُنِي عَلَيْكِ) أَيْ: فِي أَخْذِكِ بِالظُّلْمِ عَنِّي (فَإِنْ سَأَلَكِ) أَيْ: عَنْ نَسَبِكِ وَنِسْبَتِكِ عَلَى تَقْدِيرِ إِرْسَالِهِ إِلَيْكِ وَوُصُولِكِ عِنْدَهُ (فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي) أَيْ: عَلَى طَرِيقِ التَّعَلُّقِ كَمَا فَعَلْتُهُ (فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ) أَيْ: حَقِيقَةً بِلَا مُشَارَكَةٍ لِأَحَدٍ غَيْرِنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ) أَيْ: مَوْجُودٌ (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] . بِمَعْنَى أَنَّ الْإِعْلَانَ قَدْ عَقَدَ بَيْنَ أَهْلِهِ السَّبَبِ الْقَرِيبِ وَالنَّسَبِ اللَّاحِقِ مَا يَفْضُلُ الْأُخُوَّةَ فِي النَّسَبِ السَّابِقِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْحَقِّ الْعَقْدِ مِنِّي وَمِنْكِ الْآنَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ انْتَهَى. وَاسْتُشْكِلَ بِكَوْنِ لُوطٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُشَارِكُهَا فِي الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْأَرْضِ هِيَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا مَا وَقَعَ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ لُوطٌ إِذْ ذَاكَ. ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ قِيلَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ ذَلِكَ الْجَبَّارِ الَّذِي يُتَدَيَّنُ

بِهِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ إِلَّا لِذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ، وَيَرَى أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتِ الزَّوْجَ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ السُّلْطَانِ، بَلْ يَكُونُ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ زَوْجِهَا، فَأَمَّا اللَّاتِي لَا أَزَوَاجَ لَهُنَّ، فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِنَّ إِلَّا إِذَا رَضِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَلْزَمَنِي بِالطَّلَاقِ، أَوْ قَصَدَ قَتْلِي حِرْصًا عَلَيْكِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ دِينَ الْمَلِكِ أَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ التَّزَوُّجَ وَالتَّمَتُّعَ بِقَرَابَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. (فَأَرْسَلَ) أَيِ: الْجَبَّارُ (إِلَيْهَا) أَيْ: إِلَى سَارَةَ يَطْلُبُهَا (فَأُتِيَ بِهَا) أَيْ: جِيءَ بِهَا إِلَى الْجَبَّارِ (قَامَ إِبْرَاهِيمُ: اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَمَاذَا فَعَلَ بَعْدُ؟ فَأُجِيبَ: قَامَ إِبْرَاهِيمُ (يُصَلِّي) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ: لِيُصَلِّيَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] كَمَا «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى» عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ حُذَيْفَةَ: (فَلَمَّا دَخَلَتْ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَفِي نُسْخَةٍ: أُدْخِلَتْ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْجَبَّارِ (ذَهَبَ) أَيْ: طَفِقَ (يَتَنَاوَلُ) أَيْ: يَأْخُذُهَا وَيَمَسُّهَا (بِيَدِهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، أَوْ بَعْدَ سُؤَالِهَا وَسَمَاعِ جَوَابِهَا، لَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَيْلُ إِلَيْهَا لِكَمَالِ حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا. (فَأُخِذَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا أَيْ: حُبِسَ نَفَسُهُ وَضُغِطَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَنْقُ هَاهُنَا. أَيْ: أُخِذَ بِمَجَارِي نَفْسِهِ حَتَّى سُمِعَ لَهُ غَطِيطٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَأُخِذَ بِبِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: حُبِسَ عَنْ إِمْسَاكِهَا، أَوْ عُوقِبَ بِذَنْبِهِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْخَاءِ. قَالَ شَارِحٌ: وَيُرْوَى أُخِذَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّأْخِيذِ، وَهُوَ اسْتِجْلَابُ قَلْبِ شَخْصٍ بِرُقْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، كَالسِّحْرِ بِحَيْثُ يَصِلُ لَهُ خَرَفٌ أَوْ هَيَمَانٌ أَوْ جُنُونٌ عَلَى مَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ التَّخْفِيفِ قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: (وَيُرْوَى) أَيْ: بَدَلَ يَأْخُذُ أَوْ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ (فَغُطَّ) : بِضَمِّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ: خُنِقَ (حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ) أَيْ: ضَرَبَ بِرِجْلَيْهِ الْأَرْضَ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: حُصِرَ حَصْرًا شَدِيدًا. وَقِيلَ: الْغَطُّ هُنَا بِمَعْنَى الْخَنْقِ. أَيْ: أُخِذَ بِمَجَامِعِ مَجَارِي نَفَسِهِ حَتَّى يُسْمَعُ لَهُ غَطِيطُ نَخِيرٍ وَهُوَ صَوْتٌ بِالْأَنْفِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ أَيِ: اخْتَنَقَ حَتَّى صَارَ كَالْمَصْرُوعِ، (فَقَالَ: ادْعِي) أَيْ: سَلِي (اللَّهَ لِي) أَيْ: لِأَجْلِيَ الْخَلَاصَ (وَلَا أَضُرُّكِ) أَيْ: بِالتَّعَرُّضِ لَكِ (فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ) أَيْ: مِنَ الْأَخْذِ (ثُمَّ تَنَاوَلَ) أَيْ: أَرَادَ تَنَاوُلَهَا (الثَّانِيَةَ) أَيِ: الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ (فَأُخِذَ مِثْلَهَا) أَيْ: مِثْلَ الْأَخْذَةِ الْأُولَى (أَوْ أَشَدَّ) أَيْ: بَلْ أَشَدَّ مِنْهَا (فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ، فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ حَاجِبٍ كَطَلَبَةٍ جَمْعُ طَالِبٍ (فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِينِي بِإِنْسَانٍ) أَيْ: حَتَّى أَقْدِرَ عَلَيْهَا (إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ) أَيْ: حَيْثُ لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا، بَلْ تَصْرَعُنِي، وَتُرِيدُ أَنْ تُهْلِكَنِي. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ بِهِ الْمُتَمَرِّدَ مِنَ الْجِنِّيِّ، وَكَانُوا يَهَابُونَ الْجِنَّ وَيُعَظِّمُونَ أَمْرَهُمْ، (فَأَخْدَمْهَا هَاجَرَ) أَيْ: جَعَلَ الْجَبَّارُ هَاجَرَ خَادِمَةً لِسَارَةَ لَمَّا رَأَى كَرَامَتَهَا وَقُرْبَهَا عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ جَبْرًا لِمَا وَقَعَ مِنْ كَسْرِ خَاطِرِهَا حَيْثُ تَعَرَّضَ لَهَا، (فَأَتَتْهُ) أَيْ: إِبْرَاهِيمَ (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي) : وَهُوَ إِمَّا لِعَدَمِ إِطْلَاعِهِ عَلَى خَلَاصِهَا اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ، أَوِ انْكَشَفَ لَهُ الْأَمْرُ، وَزَادَ فِي الْعِبَادَةِ لِيَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا بَعْدَمَا كَانَ عَبْدًا صَبُورًا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (فَأَوْمَأَ) : بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ: أَشَارَ إِبْرَاهِيمُ (بِيَدِهِ) أَيْ: إِلَى سَارَةَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ (مَهْيَمْ) ؟ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مَرَّتَيْنِ أَيْ: مَا شَأْنُكِ وَمَا حَالُكِ؟ وَهِيَ كَلِمَةٌ يَمَانِيَةٌ يُسْتَفْهَمُ بِمَا، وَهَاهُنَا مُفَسِّرَةٌ لِلْإِيمَاءِ أَيْ: أَوْمَأَ بِيَدِهِ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهَا مَعْنَاهُ، وَلَيْسَتْ بِتَرْجَمَةٍ لِقَوْلِهِ: وَإِلَّا لَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَهْيَمْ؟ (قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ فِي نَحْرِهِ) أَيْ: عَلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] وَمِنْ قَبِيلِ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: «اللَّهُمَّ

إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ» . (وَأَخْدَمَ هَاجَرَ) أَيْ: أُمَّ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قِيلَ: سُمِّيَتْ هَاجَرُ لِأَنَّهَا هَاجَرَتْ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ. وَقِيلَ: كَانَ لَا يُولَدُ لَهُ مِنْ سَارَةَ، فَوَهَبَتْ هَاجَرَ لَهُ وَقَالَتْ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكَ مِنْهَا وَلَدًا، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَئِذٍ ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ، نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ) أَيْ: هَاجَرُ (أُمُّكُمْ) أَيْ: جَدَّتُكُمْ (يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: أَرَادَ بِهِمُ الْعَرَبَ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْمَطَرَ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهِ، وَالْعَرَبُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا بِأَجْمَعِهِمْ مِنْ بَطْنِ هَاجَرَ، لَكِنْ غَلَبَ أَوْلَادُ إِسْمَاعِيلَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِمُ الْأَنْصَارَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَزْدِيِّ، جَدِّ نُعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ كَانَ مُلَقَّبًا بِمَاءِ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُسْتَمْطَرُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَسَمَّاهُمْ بِذَلِكَ لِطَهَارَةِ نَسَبِهِمْ وَشَرَفِ أُصُولِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ: أَشَارَ بِهِمْ لِكَوْنِهِمْ مِنْ وَلَدِ هَاجَرَ، لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ أَنْبَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ زَمْزَمَ وَهِيَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا شَهِدَ لَهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ سَاحَةٍ، فَمَا بَالُهُ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِهَا مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ فَذَكَرَهَا، ثُمَّ قَالَ: نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي عَلَى أَنَّ تَسْمِيَتَهَا وَإِنَّهَا مَعَارِيضُ بِالْكَذَبَاتِ إِخْبَارُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ؟ قُلْتُ: نَحْنُ وَإِنْ أَخْرَجْنَاهَا عَنْ مَفْهُومِ الْكَذَبَاتِ بِاعْتِبَارِ التَّوْرِيَةِ، وَسَمَّيْنَاهَا مَعَارِيضَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ صُورَتَهَا صُورَةُ التَّعْوِيجِ عَنِ الْمُسْتَقِيمِ، فَالْحَبِيبُ قَصَدَ إِلَى بَرَاءَةِ سَاحَةِ الْخَلِيلِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَسَمَّاهَا مَعَارِيضَ، وَالْخَلِيلُ لَمَّحَ إِلَى مَرْتَبَةِ الشَّفَاعَةِ هُنَالِكَ، وَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْحَبِيبِ، فَتَجَوَّزَ بِالْكَذَبَاتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5705 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5705 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] » : تَمَامُهُ: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ شَكًّا، بَلْ كَانَ طَلَبًا لِمَزِيدِ الْعِلْمِ، وَأَنَا أَحَقُّ بِهِ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وَأُطْلِقَ الشَّكُّ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْمِزِّيُّ: مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ الشَّكُّ مُتَطَرِّقًا إِلَيْهِ، لَكُنْتُ أَحَقُّ بِهِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَشُكَّ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ تَوَاضُعًا، أَوْ لِصُدُورِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ خَيْرُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَمَّا سُؤَالُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِلتَّرَقِّي مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ رَبَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ طَلَبَ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ دَلِيلُهُ عِيَانًا، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَذْهَبُ هَذَا الْحَدِيثِ التَّوَاضُعُ وَالْهَضْمُ مِنَ النَّفْسِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ هَذَا اعْتِرَافٌ بِالشَّكِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لَكِنَّ فِيهِ نَفْيُ الشَّكِّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا لَمْ أَشُكَّ أَنَا وَلَمْ أَرْتَبْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَإِبْرَاهِيمُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَشُكَّ فِيهِ وَلَا يَرْتَابَ بِهِ، وَفِيهِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ تُعْرَضُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ، لَكِنْ مِنْ قِبَلِ طَلَبِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ، وَاسْتِفَادَةِ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، وَالنَّفْسُ تَجِدُ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ بِعِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ مَا لَمْ تَجِدْهُ بِعِلْمِ الْأُمْنِيَّةِ، وَالْعِلْمُ فِي الْوَجْهَيْنِ حَاصِلٌ وَالثَّالِثُ مَرْفُوعٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا طَلَبَ الْإِيمَانَ حِسًّا وَعِيَانًا، لِأَنَّهُ فَوْقَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالْمُسْتَدِلُ لَا تَزُولُ عَنْهُ الْوَسَاوِسُ وَالْخَوَاطِرُ، فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» " انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ عَدَمَ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ عِلْمُهُمْ مِنْ بَابِ الْكَشْفِ وَالْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ، وَالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي لَهُمْ فِي السَّرَائِرِ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تَرَدُّدُ الْخَوَاطِرِ، وَتَوَسْوُسُ الضَّمَائِرِ، نَعَمْ مَرْتَبَةُ عَيْنِ الْيَقِينِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْيَقِينِ، وَأَنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ.

وَفِي بَعْضِ (نُسَخِ الْمَصَابِيحِ) : «نَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» بِدُونِ قَوْلِهِ بِالشَّكِّ، فَفَالَ شَارِحٌ لَهُ أَيْ: نَحْنُ أَحَقُّ مِنْهُ بِالسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ يُرِيدُ بِهِ تَعْظِيمَ أَمْرِهِ، وَأَنَّ سُؤَالَهُ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِنُقْصَانٍ فِي عَقِيدَتِهِ، بَلْ لِكَمَالِ فِكْرَتِهِ، وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ الطَّالِبَةِ لِحُصُولِ الِاطْمِئْنَانِ بِالْوُصُولِ إِلَى دَرَجَةِ الْعِيَانِ. قَالَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْ: لَمْ يَكُنْ صُدُورُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْهُ شَكًّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَاخْتَلَجَ فِي صَدْرِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ الشَّكُّ يَعْتَرِيهِ لَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْهُ، وَلَكِنَّا لَا نَشُكُّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَشُكَّ هُوَ فِيهِ؟ أَقُولُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ لَيْسَ صِيغَةُ التَّعْظِيمِ، لِيَحْتَاجَ إِلَى الِاعْتِذَارِ بِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا لِإِبْرَاهِيمَ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ مَعَ أُمَّتِي لَا تَشُكُّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، بَلْ نَحْنُ مُعَاشِرَ الْخَلْقِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ غَالِبًا نَعْتَقِدُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَكْمَلِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَرْتَبَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَقَامِ التَّفْرِيدِ حَتَّى أَمَرَنَا بِمُتَابَعَتِهِ عَلَى طَرِيقِهِ الْقَوِيمِ وَسَبِيلِهِ الْمُسْتَقِيمِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الشَّكُّ؟ إِذْ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الشَّكُّ، وَهُوَ مِنَ الْمَعْصُومِينَ الْمَتْبُوعِينَ لَجَازَ لَنَا بِالْأَوْلَى، وَنَحْنُ مِنَ اللَّاحِقِينَ التَّابِعِينَ. وَالْحَالُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ نَفْيَ الشَّكِّ عَنِ الْخَلِيلِ الرَّحْمَانِيِّ، وَإِيصَالِهِ إِيَّاهُ إِلَى الْمَقَامِ الِاطْمِئْنَانِيِّ، وَالْحَالِ الْعَيَانِيِّ. (وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا) : قِيلَ: تَصْدِيرُ الْكَلَامِ هَذَا الدُّعَاءَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اعْتِرَاءُ نَقْصٍ عَلَيْهِ فِيمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] حَيْثُ كَأَنَّهُ تَمْهِيدٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِلْخِطَابِ الْمُزْعِجِ. (لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، أَيْ عَشِيرَةٍ قَوِيَّةٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ. وَقَالَ شَارِحٌ تَبَعًا لِلْقَاضِي: وَكَأَنَّهُ اسْتَغْرَبَ مِنْهُ وَعَدَّهُ بَادِرَةً، إِذْ لَا رُكْنَ أَشَدَّ مِنَ الرُّكْنِ الَّذِي كَانَ يَأْوِي إِلَيْهِ، وَهُوَ عِصْمَةُ اللَّهِ وَحِفْظُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ أَخْذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْمَبْنَى لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الْأَدَبِ فِي الْإِنْبَاءِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ يَنْهَى عَنْ غِيبَةِ أَفْرَادِ الْعَامَّةِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَذْكُرَ فِي حَقِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ مَا يَكُونُ مُوهِمًا لِنَقْصِ مَرْتَبَتِهِ، أَوْ تَنَزُّلًا عَنْ عُلُوِّ هِمَّتِهِ؟ فَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ يَمِيلُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْعَشِيرَةِ الْقَوِيَّةِ، فَيَجُوزُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ الْمِحَالِ، فَإِنَّا مَأْمُورُونَ بِمُتَابَعَةِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ الِاعْتِمَادِ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) مَا يُقَوِّي الْمَذْكُورَ مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ» ". قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُعَظَّمًا وَمَحْمِيًّا وَمُكَرَّمًا لِقُرْبِهِ مِنْ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِيمَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ أَيْ: مِقْدَارَ طُولِ زَمَنِ لُبْثِهِ وَجَاءَنِي دَاعٍ بِالطَّلَبِ أَوْ سَاعٍ إِلَى الْخُرُوجِ (لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ) . أَيْ وَلَبَادَرْتُ الْخُرُوجَ عَمَلًا بِالْجَوَازِ. لَكِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَبَرَ لِحُكْمِ تَقَضِّيهِ ذَلِكَ، كَمَا عَبَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ} [يوسف: 50] إِلَى آخِرِهِ وَرُبَّمَا وَجَّبَتُهُ عَلَيْهِ فِي مَرَامِ ذَلِكَ الْمَقَامِ مِمَّنْ قَصْدُهُ الْبَرَاءَةُ مِمَّا اشْتُهِرَ فِي حَقِّهِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ، لِيُقَابِلَ صَاحِبَ الْأَمْرِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ، أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَلِّمُ بَعْضَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَرِيقٍ، فَمَرَّ عَلَيْهِ صَحَابِيٌّ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " إِنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ مِنَ الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُظَنُّ فِيكَ ظَنُّ السُّوءِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» ". قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِحْمَادِهِ صَبْرَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَرْكَهُ الِاسْتِعْجَالَ بِالْخُرُوجِ عَنِ السِّجْنِ مَعَ امْتِدَادِ مُدَّةِ الْحَبْسِ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنَّ فِي ضِمْنِ هَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،

وَإِنْ كَانُوا مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ لَا يُنَازِلُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِنَّهُمْ بَشَرٌ يَطْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ، فَلَا تَعُدُّوا ذَلِكَ مَنْقَصَةً، وَلَا تَحْسَبُوهُ سَيِّئَةً. قُلْتُ: هَذَا مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَضِيَّةِ سَيِّدِنَا لُوطٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ إِخْبَارًا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَضَجُّرِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَدْحِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَرْكِهِ الِاسْتِعْجَالَ بِالْخُرُوجِ لِيَزُولَ عَنْ قَلْبِ الْمَلِكِ مَا اتُّهِمَ بِهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ مَشْكُوكٍ. انْتَهَى. وَهُوَ بِعَيْنِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْصِيرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْوَسَائِطَ، وَلَمْ يُفَوِّضْ كُلَّ مَا آتَاهُ إِلَيْهِ تَعَالَى. قُلْتُ: سَبَقَ أَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَسْبَابِ لَا تُنَافِي تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ مَرْتَبَةَ جَمْعِ الْجَمْعِ هِيَ مُبَاشَرَةُ السَّبَبِ مَعَ مُلَاحَقَةِ عَمَلِ الرَّبِّ، وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَقْصِيرِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا، وَلِذَا دَعَا أَهْلَ السِّجْنِ بِقَوْلِهِ: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [يوسف: 39] إِلَخْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى عَوْدَةِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَدَّمَ بَرَاءَةَ نَفْسِهِ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ، وَهُوَ دَعْوَةُ الْمَلِكِ. قُلْتُ: وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ إِذْ تَقْدِيرُ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ رَسُولًا عَامًّا أَوْ خَاصًّا، فَتَقَدَّمَ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِرْسَالِ مِنَ الْبَرَاءَةِ عَلَيْهِ مِمَّا يَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، لِئَلَّا يَدُورَ طَعْنُ الطَّاعِنِ حَوَالَيْهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَرَّرْنَاهُ، وَعَلَى حَقِيقَةِ مَا حَرَّرْنَاهُ، مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «رَحِمَ اللَّهُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ لَذَا أَنَاةٍ حَلِيمًا، لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَحْبُوسُ ثُمَّ أُرْسِلَ إِلَيَّ لَخَرَجْتُ سَرِيعًا» ) . وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي (الزُّهْدِ) ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: ( «رَحِمَ اللَّهُ أَخِي يُوسُفَ لَوْ أَنَا أَتَانِيَ الرَّسُولُ بَعْدَ طُولِ الْحَبْسِ لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ حِينَ قَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: 50] » كَذَا فِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

5706 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا تَسَتَّرَ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ أَوْ أُدْرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فَجَمَحَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ! ثَوْبِي يَا حَجَرُ! حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخْذَ ثَوْبَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ " ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5706 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا» ") : بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الْأُولَى وَبِتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّهُ فَعِيلٌ أَيْ مُسْتَحْيِيًا (سَتِيرًا) ، بِفَتْحِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْفَوْقِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ. قَالَ شَارِحٌ أَيْ: مَسْتُورًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُبَالَغَةُ سَاتِرٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي نُسْخَةِ مَنْ كَسَرَ السِّينَ وَالْفَوْقِيَّةَ الْمُشَدَّدَةَ، وَكَأَنَّ الشَّارِحَ جَعَلَ قَوْلَهُ: " لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ ": صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ هُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ كَثِيرَ التَّسَتُّرِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتُرَ جَمِيعَ بَدَنِهِ عِنْدَ اغْتِسَالِهِ (اسْتِحْيَاءً) ، أَيْ مِنَ النَّاسِ (فَآذَاهُ، مَنْ آذَاهُ) : بِالْمَدِّ فِيهِمَا أَيْ: مَنْ أَرَادَ إِيذَاءَهُ (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا) : جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ كَمَا أَفْرَدَ أَوَّلًا بِنَاءً عَلَى لَفْظِهِ، وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ أَيْ فَقَالَ بَعْضُ الْمُؤْذِينَ: (مَا تَسَتَّرَ) أَيْ: مُوسَى (هَذَا التَّسَتُّرَ) أَيْ: الْبَلِيغَ (إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ أَوْ أُدْرَةٌ) ، بِضَمِّ هَمْزَةٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ نَفْخَةٌ بِالْخُصْيَةِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ) ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يُنَزِّهَهُ عَنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ الْعَيْبِ، وَيُثْبِتَ لَهُ الْحَيَاءَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّ اللَّهَ هُوَ هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِالْوَاوِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لِلتَّعْقِيبِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ فَقَالُوا: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُبَرِّئَهُ، وَأَتَى بِأَنَّ الْمُؤَكِّدَةِ تَأْكِيدَ اعْتِنَاءٍ بِشَأْنِهِ، (فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ) أَيْ: انْفَرَدَ عَنِ النَّاسِ وَقْتًا مَا حَالَ كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا (لِيَغْتَسِلَ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ) أَيْ: بِجَنْبِ الْمَاءِ (فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ) ، الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: فَأَخَذَهُ فَارًّا عَنْ مُوسَى، (فَجَمَحَ مُوسَى) : بِجِيمٍ وَمِيمٍ وَحَاءٍ

مَفْتُوحَاتٍ. أَيْ: ذَهَبَ وَأَسْرَعَ إِسْرَاعًا لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 57] (فِي أَثَرِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَقَدْ يُكْسَرُ الْهَمْزُ وَتُسَكَّنُ الْمُثَلَّثَةُ أَيْ: فِي عَقِبِ الْحَجَرِ (يَقُولُ) أَيْ: بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ (ثَوْبِي) أَيْ: أَعْطِنِي ثَوْبِي (يَا حَجَرُ ثَوْبِي) أَيْ: مَطْلُوبِي ثَوْبِي (يَا حَجْرُ وَالتِّكْرَارُ لِلتَّكْثِيرِ (حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِيهِمُ الْمُؤْذِينَ (فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: عُرْيَانًا حَالٌ. وَكَذَا قَوْلُهُ: " أَحْسَنَ " لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى النَّظَرِ. (وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ) ، أَيْ لَيْسَ بِهِ عَيْبٌ مَا. (وَأَخَذَ ثَوْبَهُ وَطَفِقَ) أَيْ: شَرَعَ (بِالْحَجَرِ ضَرْبًا أَيْ: بِضَرْبِهِ ضَرْبًا، فَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] (فَوَاللَّهِ إِنَّ فِي الْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ) : النَّدَبُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالدَّالِ أَيْ: أَثَرًا وَعَلَامَةً بَاقِيَةً مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ، وَأَصْلُ النَّدَبِ أَثَرُ الْجُرْحِ، إِذَا لَمْ يَرْتَفِعْ عَنِ الْجِلْدِ، فَشُبِّهَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ بِالْحَجَرِ وَقَوْلُهُ: (ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا) . مُتَعَلِّقٌ بِالضَّرْبِ أَوِ النَّدَبِ وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: ثَلَاثًا أَيْ نَدَبَاتٍ. ثَلَاثًا بَيَانًا وَتَفْسِيرًا لِاسْمِ إِنَّ، وَضَرْبُهُ هَذَا مِنْ أَثَرِ غَضَبِهِ عَلَى الْحَجَرِ لِأَجْلِ فِرَارِهِ، وَقِلَّةِ أَدَبِهِ، وَلَعَلَّهُ ذُهِلَ عَنْ كَوْنِهِ مَأْمُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَفِيهِ مَأْخَذُ الْعُلَمَاءِ الْأَنَامِ عَلَى أَنَّ ضَرَرَ الْخَاصِّ يُتَحَمَّلُ لِنَفْعِ الْعَامِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ مُوسَى أُمِرَ بِحَمْلِ الْحَجَرِ مَعَهُ إِلَى أَنْ كَانَ فِي التِّيَهِ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ مُعْجِزَتَانِ ظَاهِرَتَانِ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. إِحْدَاهُمَا مَشْيُ الْحَجْرِ بِثَوْبِهِ، وَالثَّانِيَةُ حُصُولُ النَّدَبِ فِي الْحَجَرِ بِضَرْبِهِ، وَفِيهِ حُصُولُ التَّمْيِيزِ فِي الْجَمَادِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْغُسْلِ عُرْيَانًا فِي الْخَلْوَةِ، وَإِنْ كَانَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ أَفْضَلُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَالَ: إِنَّ لِلْمَاءِ سَاكِنًا. قُلْتُ: إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ الْجُمْهُورِ، وَظَاهِرُ مُخَالَفَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي دُخُولِ الْمَاءِ. قَالَ: وَفِيهِ ابْتِلَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ أَذَى السُّفَهَاءِ وَالجُّهَالَةِ وَصَبْرُهُمْ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنَزَّهُونَ عَنِ النَّقَائِصِ فِي الْخَلْقِ، وَالْخُلُقِ سَالِمُونَ مِنَ الْعَاهَاتِ وَالْمَعَايِبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الِابْتِلَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5707 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لَا غِنَى عَنْ بَرَكَتِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5707 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا) ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَابِسًا لِلْإِزَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَجَرِّدًا عَنِ الثِّيَابِ كُلِّهَا عَلَى طِبْقِ مَا سَبَقَ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ جَائِزًا عِنْدَهُمَا، لَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ إِلَى أَنَّ التَّسَتُّرَ أَوْلَى حَيَاءً مِنَ الْمَوْلَى، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ لِيُتِمِّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، (فَخَرَّ) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: فَسَقَطَ وَنَزَلَ (عَلَيْهِ) أَيْ: فَوْقَهُ " أَطْرَافَهُ " (جَرَادٌ) أَيْ: جِنْسُ جَرَادٍ (مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي) أَيْ: يَضَعَهُ (فِي ثَوْبِهِ) : كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِكَفِّهِ أَوْ كَفَّيْهِ، وَيَضَعُ فِي ثَوْبِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وَهُوَ الْإِزَارُ اللَّابِسُ لَهُ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوِ الْمُنْفَصِلُ الَّذِي مَا لَبِسَهُ بَعْدُ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ. قَالَ شَارِحٌ لَهُ أَيْ يَجْمَعُهُ فِي ذَيْلِهِ وَيَضُمُّ طَرَفَ الذَّيْلِ إِلَى نَفْسِهِ، (فَنَادَاهُ رَبُّهُ) أَيْ: نِدَاءَ تَلَطُّفٍ (يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ) أَيْ: جَعَلْتُكَ ذَا غِنًى (عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا لَيْسَ بِعِتَابٍ مِنْهُ تَعَالَى إِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ مُثْرِيًا لَا يَشْبَعُ بِثَرَاهُ، بَلْ يُرِيدُ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ التَّلَطُّفِ وَالِامْتِحَانِ بِأَنَّهُ هَلْ يَشْكُرُ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، فَيَزِيدُ فِي الشُّكْرِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَكِنْ لَا غِنًى) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ مَقْصُورًا أَيْ لَا اسْتِغْنَاءَ (بِي عَنْ بَرَكَتِكَ) . أَيْ عَنْ كَثْرَةِ نِعْمَتِكَ، وَزِيَادَةِ رَحْمَتِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحِمَتِكَ أَوْ مِنْ فَضْلِكَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْحَلَالِ فِي حَقِّ مَنْ وَثَقَ مِنْ نَفْسِهِ الشُّكْرَ عَلَيْهِ، وَيَصْرِفُهُ فِيمَا يُحِبُّ رَبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيُتَوَجَّهُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَفِي تَسْمِيَةِ الْمَالِ مِنْ جِهَةِ الْحَلَالِ بَرَكَةً فِي الْمَالِ وَحُسْنِ الْحَلَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي: " «مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرَ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5708 - وَعَنْهُ، قَالَ: «اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ. فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ. فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمَ، فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأُصْعَقُ مَعَهُمْ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرَى كَانَ فِيمَنْ صُعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ فِيمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ؟» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَةِ يَوْمِ الطُّورِ، أَوْ بُعِثَ قَبْلِي؟ وَلَا أَقُولُ أَنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5708 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) ، بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ افْتِعَالٌ مِنَ السَّبِّ وَهُوَ الشَّتْمِ، وَالْمَعْنَى سَبَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، (قَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ) أَيْ: جَمِيعِهِمْ مِنْ خَلَفِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ) أَيْ: عَالَمِي زَمَانِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ الْمُعَارَضَةَ، وَحَاصِلُ مَرَامِهِ الْمُشَارَكَةَ فِي الِاصْطِفَاءِ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، (فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ: الْقَوْلِ الْمُوهِمَ لِخِلَافِ الْأَدَبِ (فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ) ، أَيْ ضَرَبَهُ بِكَفِّهِ كَفًّا لَهُ وَتَأْدِيبًا (فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ) . أَيْ الْأَمْرِ (فَأَخْبَرَهُ) ، أَيْ بِمُطَابَقَةِ الْخَبَرِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُخَيِّرُونِي ") : بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ التَّخْيِيرِ بِمَعْنَى الِاصْطِفَاءِ، وَالْمَعْنَى لَا تَجْعَلُونِي خَيْرًا بِمَعْنَى لَا تُفَضِّلُونِي (عَلَى مُوسَى) أَيْ: وَنَحْوِهِ مِنْ أَصْحَابِ النُّبُوَّةِ تَفْضِيلًا يُؤَدِّي إِلَى إِيهَامِ الْمَنْقَصَةِ، أَوْ إِلَى تَسَبُّبِ الْخُصُومَةِ، فَإِنَّ أَمْرَ التَّفْضِيلِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ عَلَى وَجْهِ التَّفْضِيلِ، (فَإِنَّ النَّاسَ) أَيْ: جَمِيعَهُمْ (يُصْعَقُونَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى (فَأُصْعَقُ مَعَهُمْ) : مِنْ صَعِقَ الرَّجُلُ إِذَا أَصَابَهُ فَزَعٌ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا مَاتَ مِنْهُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوْتِ كَثِيرًا، لَكِنَّ هَذِهِ الصَّعْقَةَ صَعْقَةُ فَزَعٍ قَبْلَ الْبَعْثِ لِذِكْرِ الْإِفَاقَةِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: (فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ) ، فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْغَشْيِ وَالْبَعْثِ فِي الْمَوْتِ (فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ) : قَالَ شَارِحٌ أَيْ: قَوِيٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ آخِذٌ (بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي كَانَ) أَيْ: أَكَانَ (فِيمَنْ صُعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي) ، أَيْ لِفَضِيلَةٍ اخْتُصَّ بِهَا (أَوْ كَانَ فِيمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ) أَيْ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] وَالْمَعْنَى أَوْ كَانَ فِيمَنْ لَمْ يُصْعَقْ فَلَهُ مَنْقَبَةٌ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: يَعْنِي فَإِنْ أَفَاقَ قَبْلِي فَهِيَ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يُصْعَقْ، فَهِيَ أَيْضًا فَضِيلَةٌ، وَإِنَّمَا فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ، لَا مَنْ يَقُولُهُ بِدَلِيلٍ، أَوْ مَنْ يَقُولُ بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيصِ الْمَفْضُولِ، أَوْ يَجُرُّ إِلَى الْخُصُومَةِ، أَوِ الْمُرَادُ لَا تُفَضِّلُونِي بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمَفْضُولِ فَضِيلَةٌ، أَوْ أَرَادَ النَّهْيَ عَنِ التَّفْضِيلِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِخَصَائِصَ وَفَضَائِلَ أُخْرَى. قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] وَ {لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] (وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ) أَيْ: أَجُوزِيَ (بِصَعْقَةِ يَوْمِ الطَّوْرِ) ، بِإِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الظَّرْفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمَائِرِ أَيْ: بِصَعْقَةِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] فَفِي الْقَامُوسِ: صَعِقَ كَسَمِعَ صَعْقًا وَيُحَرَّكُ، وَصَعْقَةً وَتَصَاعُقًا، فَهُوَ صَعِقٌ كَ " كَنِفٌ " غُشِيَ عَلَيْهِ. (أَوْ بُعِثَ قَبْلِي) ؟ أَيْ أَفَاقَ قَبْلَ إِفَاقَتِي بَعْدَمَا شَارَكَنِي فِي صَعْقَتِي، فَالْبَعْثُ مَجَازٌ عَنِ الْإِفَاقَةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ (وَلَا أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا) أَيْ: لَا أَنَا وَلَا غَيْرِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) . بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ الْمَقْصُورَةِ قِيلَ: هِيَ اسْمُ أَمِّ يُونُسَ عَلَى مَا فِي (جَامِعِ الْأُصُولِ) ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ أَحَدًا اسْتُعْمِلَ فِي الْإِثْبَاتِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا أُفَضِّلُ أَحَدًا عَلَى يُونُسَ.

5709 - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ( «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5709 - (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَا تُخَيِّرُوا) أَيْ: لَا تُفَضِّلُوا (بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» أَيْ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَيْهِ. أَقُولُ: قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ أَوَّلًا، ثُمَّ لِيَرْدَعَ الْأُمَّةَ عَنِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ ثَانِيًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ، فَيَنْتَهِزُ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فُرْصَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَيُطْرُونَ الْفَاضِلَ فَوْقَ حَقِّهِ، وَيَبْخَسُونَ الْمَفْضُولَ حَقَّهُ، فَيَقَعُونَ فِي مَهْوَاةِ الْغَيِّ، وَلِذَا قَالَ: «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» ، أَيْ: لَا تُقْدِمُوا عَلَى ذَلِكَ بِأَهْوَائِكُمْ وَآرَائِكُمْ، بَلْ مِمَّا آتَاكُمُ اللَّهُ مِنَ الْبَيَانِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» " أَيْ: لَا أَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَلَا أُفَضِّلُ أَحَدًا عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، فَإِنَّ شَأْنَهُمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، بَلْ نَقُولُ: كُلُّ مَنْ أُكْرِمَ بِالنُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ أُكْرِمَ بِالرِّسَالَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وَإِنَّمَا خُصَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الرُّسُلِ لِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِ يُونُسَ، وَتَوَلِّيهِ عَنْ قَوْمِهِ، وَضَجْرَتِهِ عَنْ تَثَبُّطِهِمْ فِي الْإِجَابَةِ، وَقِلَّةِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُمْ وَالِاحْتِفَالِ بِهِمْ حِينَ رَامُوا التَّنَصُّلَ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] وَقَالَ: {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] فَلَمْ يَأْمَنْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَامِرَ بَوَاطِنَ الضُّعَفَاءِ مِنْ أُمَّتِهِ مَا يَعُودُ إِلَى نَقِيصَةٍ فِي حَقِّهِ فَنَبَّأَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنَّهُ مَعَ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَسَائِرِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ جَامِعٌ فِي بَيَانِ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ فَافْهَمْ تَرْشُدْ إِلَى الْأَقْوَمِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الصَّعْقَةِ فَهِيَ قَبْلَ الْبَعْثِ عِنْدَ نَفْخَةِ الْفَزَعِ، فَأَمَّا فِي الْبَعْثِ، فَلَا تَقَدُّمَ لِأَحَدٍ فِيهِ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتِصَاصُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ لَا تُوجِبُ لَهُ تَقَدُّمًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ بِسَوَابِقٍ جَمَّةٍ، وَفَضَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَاللَّهُ الْمَأْمُولُ أَنْ يُعَرِّفَنَا حُقُوقَهُمْ، وَيُحْيِينَا عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، وَيُمِيتَنَا عَلَى سُنَّتِهِمْ، وَيَحْشُرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا تُفَضِّلُوا ") : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ أَيْ: لَا تُوقِعُوا التَّفْضِيلَ (بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ) ، أَيْ: وَكَذَا بَيْنَ رُسُلِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِزْرَاءِ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِفَسَادِ الِاعْتِقَادِ فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالصَّادِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْ: لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ لِقَوْلِهِ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] .

5710 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: " «قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5710 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي) أَيْ: وَيَعْنِي نَفْسَهُ أَوْ نَفْسِي (" خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ") أَيْ: فَضْلًا عَنْ غَيْرِي (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: " مَنْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ ") أَيْ: فِي النُّبُوَّةِ (" مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى لَقَدْ كَذَبَ ") : لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ الدَّرَجَاتِ، وَخُصَّ يُونُسُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ تُوهِمُ انْحِطَاطَ رُتْبَتِهِ حَيْثُ قَالَ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140] فَلَفَظُ: " أَنَا " وَاقِعٌ مَوْقِعَ " هُوَ "، وَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْقَائِلِ، فَحِينَئِذٍ كَذَبَ بِمَعْنَى كَفَرَ، كَنَّى بِهِ عَنِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَذِبَ مُسَاوٍ لِلْكُفْرِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ يَعُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى كُلِّ قَائِلٍ أَيْ: لَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، أَوِ الْعِلْمِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَلَغَ مَا بَلَغَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ، وَيُؤَيُّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى: مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى. أَقُولُ: فِي تَأْيِيدِهَا نَظَرٌ لِتَحَقُّقِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِ أَيْضًا، بَلِ الْمَعْنَى الثَّانِي أُظْهَرُ مِنْهَا حَيْثُ قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ بِطْرِيقِ الْعُمُومِ الْمُشِيرِ إِلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي " الْجَامِعِ " مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا خُصَّ يُونُسُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُ فِي جُمْلَةِ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَقَالَ: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ - إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] فَقَصَّرَ بِهِ عَنْ مَرَاتِبِ أُولِي الْعَزْمِ وَالصَّبْرِ مِنَ الرُّسُلِ، يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا لَمْ آذَنْ لَكُمْ أَنْ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، فَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تُفَضِّلُونِي عَلَى غَيْرِهِ مَنْ ذَوِي الْعَزْمِ مِنْ أَجِلَّةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَالْهَضْمِ مِنَ النَّفْسِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» " لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ مُفْتَخِرًا وَلَا مُتَطَاوِلًا بِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ذِكْرًا لِلنِّعْمَةِ وَمَصْرِفًا بِالْمِنَّةِ، وَأَرَادَ بِالسِّيَادَةِ مَا يُكْرَمُ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ مِنَ الشَّفَاعَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5711 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5711 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ» ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، سِيَّمَا عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وَأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالْمَعْرِفَةِ. وَحِكَايَاتُهُمْ فِي رُؤْيَتِهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ وَسُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ، وَحُضُورِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ، وَمَوَاطِنِ الْخَيْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ بِذَلِكَ، وَشَذَّ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ الْحِمْيَرِيُّ الْمُفَسِّرُ، وَأَبُو عَمْرٍو: هُوَ نَبِيٌّ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُرْسَلًا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ، وَكَثِيرُونَ: هُوَ وَلِيٌّ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِنُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ: مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَعْلَمُ مِنَ النَّبِيِّ. وَأَجَابَ الْآخَرُونَ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ، كَمَا أُلْقِيَ إِلَى أُمِّ مُوسَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى - أَنِ اقْذِفِيهِ} [طه: 38 - 39] قُلْتُ: فِيهِ أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى أُمِّ مُوسَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَدْبِيرِ خَلَاصِ الطِّفْلِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ فِي أَمْرِهِ، وَأَمَّا حَمْلُ أَمْرِ الْغُلَامِ عَلَى الْإِلْهَامِ إِلَى الْوَلِيِّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْوَحْيِ الْإِلْهَامِيِّ بِأَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا، وَقَدْ قَالَ الثَّعْلَبِيُّ الْمُفَسِّرُ: الْخَضِرُ نَبِيٌّ مُعَمِّرٌ مَحْجُوبٌ عَنْ أَكْثَرِ الْأَبْصَارِ. قَالَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ يُرْفَعُ الْقُرْآنُ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا أَنَّهُ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ؟ قُلْتُ: وَيُرْوَى أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) : رَوَى الْحَارِثُ عَنْ أَنَسٍ: الْخَضِرُ فِي الْبَحْرِ، وَإِلْيَاسُ فِي الْبَرِّ يَجْتَمِعَانِ كُلَّ لَيْلَةٍ عِنْدَ الرَّدْمِ الَّذِي بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَيَحُجَّانِ وَيَعْتَمِرَانِ كُلَّ عَامٍ، وَيَشْرَبَانِ مِنْ زَمْزَمَ شَرْبَةً تَكْفِيهِمَا إِلَى قَابِلٍ. وُفِي (الْفَتَاوَى الْحَدِيثِيَّةِ) : رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ: إِنْ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ عَامٍ بِالْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا اللَّهُ، بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

ثُمَّ قَوْلُهُ: (طُبِعَ كَافِرًا) أَيْ: خُلِقَ الْغُلَامُ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ، فَلَا يُنَافِي خَبَرَ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " إِذِ الْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ اسْتِعْدَادُ قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ شَقِيًّا فِي جِبِلَّتِهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي (الْكَامِلِ) ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي (الْكَبِيرِ) ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «خَلَقَ اللَّهُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا، وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا» ". وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّ «بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي كُلِّ مَوْلُودٍ يُكْتَبُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، وَعَلَى طَبَقَةٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَائَهُمْ} [محمد: 16] » قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيَ هَذَا حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَصِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ فِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ لَهُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ لِلْعَبْدِ فِعْلًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَقُدْرَةً عَلَى الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَفِيهِ أَنَّ الَّذِينَ قُضِيَ لَهُمْ بِالنَّاسِ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمَنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، أَوْ حِجَابًا مَسْتُورًا، وَجَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضًا، لِتَتِمَّ سَابِقَتُهُ وَتَمْضِيَ كَلِمَتُهُ، لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَطْفَالَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ. قُلْتُ: الْأَوْلَى التَّفْصِيلُ بِأَنَّ مَنْ طُبِعَ مِنْهُمْ كَافِرًا يَكُونُ فِي النَّارِ، وَمَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ، وَيُقَارَبُ الْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ الَّذِي اخْتَارَهُ إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَلَوْ عَاشَ) أَيْ: ذَلِكَ الْغُلَامُ بِأَنْ أَدْرَكَ الْكِبَرَ (لِأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ) أَيْ: لَكَلَّفَهُمَا (طُغْيَانًا وَكُفْرًا) أَيْ: جُعِلَ سَبَبًا لِإِضْلَالِهِمَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِلَّةَ قَتْلِهِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَوْنِهِ طُبِعَ كَافِرًا، وَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ عَاشَ لَكَانَ مُضِلًّا فَاجِرًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَمَّا كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ يَكُونُ هُوَ مُؤْمِنًا. قُلْتُ: فَكَيْفَ يَجُوزُ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ؟ قَالَ: فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ لَوْ بَلَغَ لَكَانَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ. أَيْ: غَشِيَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. أَيْ طُغْيَانًا عَلَيْهِمَا وَكُفْرًا لِنِعْمَتِهِمَا بِعُقُوقِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ حَمَلَهُمَا أَنْ يَتْبَعَاهُ فَيَطْغَيَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، فَإِنْ قُلْتَ: خَوْفُ كُفْرِ أَحَدٍ فِي الْمَآلِ لَا يُبِيحُ قَتْلَهُ فِي الْحَالِ، فَكَيْفَ قَتَلَهُ الْخَضِرُ مِنْ خَوْفِ كُفْرٍ؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي شَرْعِهِمْ. قُلْتُ: تَقْرِيرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْرِيرُهُ مُوسَى صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، بَلْ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا لَوْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا، كَمَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَبَطَلَ كَوْنُ الْغُلَامِ مُؤْمِنًا حِينَئِذٍ، إِذْ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِ جُنْحٍ إِجْمَاعًا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. قَالَ: أَوْ نَقُولُ هَذَا عِلْمٌ لَدُنِّيٌّ، وَلَهُ مَشْرَبٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَعْهُودِ فِي الظَّاهِرِ، فَلَا نَشْتَغِلُ بِكَيْفِيَّتِهِ. قُلْتُ: لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ فِي أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِمَّنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَرْتَبَةِ الْجَمْعِ نُسِبَ إِلَى الزَّنْدَقَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُوَ عَنْ أَحَدِ شَيْئَيْنِ: فَإِنَّ الْخَضِرَ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَمِلَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عِلْمِهِ اللَّدُنِّيِّ، وَإِلْهَامِهِ الْغَيْبِيِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْعُظْمَى، وَالْبَلِيَّةِ الْكُبْرَى، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي قَتْلِ الْخَضِرِ، وَكَأَنَّهُ خَرَجَ مَوْضِعُ الِاعْتِذَارِ عَنْهُ تَصْرِيحًا بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى ذَلِكَ تَلْوِيحًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5712 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5712 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ) أَيْ: خَضِرًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِهِ أَيْ إِنَّمَا سُمِّيَ الرَّجُلُ الْمَشْهُورُ الْخَضِرَ (لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ) ، فِي النِّهَايَةِ: الْفَرْوَةُ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ. وَقِيلَ: الْهَشِيمُ الْيَابِسُ مِنَ النَّبَاتِ. قُلْتُ: وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَمُؤَدَّاهُمَا مُتَّحِدٌ، وَاخْتَارَ شَارِحٌ الْقَوْلَ الثَّانِي فَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْفَرْوَةِ الْهَشِيمُ الْيَابِسُ شَبَّهَهُ بِالْفَرْوِ، وَقِيلَ: الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ، وَقِيلَ: جِلْدَةُ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: قِطْعَةُ نَبَاتٍ مُجْتَمِعَةٌ يَابِسَةٌ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّ الثَّانِيَ مِنْ قَوْلَيِّ صَاحِبِ النِّهَايَةِ أَنْسَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مَنْ خَلْفِهِ خَضِرًا) ؟ إِمَّا تَمْيِيزٌ أَوْ حَالٌ، فَكَأَنَّهُ نَظَرَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى مَجْلِسِهِ ذَاكَ، فَإِذَا هِيَ تَتَحَرَّكُ مِنْ جِهَةِ الْخُضْرَةِ وَالنَّضَارَةِ انْتَهَى. وَلَعَلَّهُ قَالَ: مِنْ خَلْفِهِ مَعَ أَنَّ النُّمُوَّ وَالِاهْتِزَازَ بِمَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ مِنْ تَحْتِهِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْخُضْرَةَ زَادَتْ عَنِ الْمَجْلِسِ إِلَى انْتِهَاءِ الْفَرْوَةِ الْبَيْضَاءِ، ثُمَّ قَالَ شَارِحٌ: قَوْلُهُ " خَضِرًا " بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مَعَ التَّنْوِينِ أَيْ نَبَاتًا أَخْضَرَ نَاعِمًا. وَرُوِيَ عَلَى زِنَةِ صَفْرَاءَ. قُلْتُ: وَهُوَ كَذَلِكَ فِي " أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمَضْبُوطَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ النُّسْخَةَ الْأُولَى لِمُنَاسَبَةِ وَجْهِ التَّسْمِيَةِ أَوْلَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَأَسْنَدَهُ السُّيُوطِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ فِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) إِلَى أَحْمَدَ، وَالشَّيْخَيْنِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

5713 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى ابْنِ عِمْرَانَ، فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ ". قَالَ: " فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا ". قَالَ: " فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي " قَالَ: " فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرِهِ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ ، قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ. قَالَ: فَالْآنَ مِنْ قَرِيبٍ، رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5713 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ ") أَيْ: فِي صُورَةِ بَشَرٍ (إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَقَالَ لَهُ) أَيْ: لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (أَجِبْ رَبَّكَ) أَيْ: بِقَبُولِ الْمَوْتِ، وَالْمَعْنَى إِنِّي جِئْتُكَ لِأَقْبِضَ رُوحَكَ (قَالَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ) أَيْ: ضَرَبَهَا بِبَاطِنِ كَفِّهِ (فَفَقَأَهَا) . بِفَاءٍ فَقَافٍ فَهَمْزَةٍ مَفْتُوحَاتٍ أَيْ: فَشَقَّهَا وَقَلَعَهَا وَأَعْمَاهَا. قِيلَ: الْمَلَائِكَةُ يَتَصَوَّرُونَ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَتِلْكَ الصُّورَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ كَالْمَلَابِسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَاللَّطْمَةُ إِنَّمَا أَثَّرَتْ فِي الْعَيْنِ الصُّورِيَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ الْمَلَكِيَّةِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُتَأَثِّرَةٍ بِاللَّطْمَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ شَارِحٌ: وَإِنَّمَا لَطَمَهَا مُوسَى لِإِقْدَامِهِ عَلَى قَبْضِ رَوْحِهِ قَبْلَ التَّخْيِيرِ، وَالْأَنْبِيَاءُ كَانُوا مُخَيَّرِينَ عِنْدَ اللَّهِ آخِرَ الْأَمْرِ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِذَلِكَ. (قَالَ: " «فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي» ". قَالَ: " «فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قُلْتَ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِ الْمَلَكِ عَبْدٍ لَكَ عَلَى التَّنْكِيرِ، وَبَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ عَبْدِي؟ قُلْتُ: دَلَّ قَوْلُ الْمَلَكِ عَلَى نَوْعِ طَعْنٍ فِيهِ حَيْثُ نَكَّرَهُ، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: دَلَّ عَلَى تَفْخِيمِ شَأْنِهِ وَتَعْظِيمِ مَكَانِهِ حَيْثُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ رَدًّا عَلَيْهِ. (فَقَالَ: الْحَيَاةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ قَوْلِهِ (تُرِيدُ) ؟ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ الْفِعْلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ: الْحَيَاءَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] فَالتَّقْدِيرُ الْحَيَاةَ تُرِيدُ أَمِ الْمَوْتَ؟ ثُمَّ فَصَّلَهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ) أَيْ: الطَّوِيلَةَ إِذِ الْمُؤَبَّدَةُ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] (فَضَعْ يَدَكَ) أَيْ: وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ (عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ) أَيْ: عَلَى ظَهْرِ بَقَرَةٍ (فَمَا تَوَارَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَمَا وَارَتْ (يَدُكَ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَقَوْلُهُ: (مِنْ شَعْرَةٍ) : بَيَانٌ لَهَا، وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ شَعْرِهِ بِالضَّمِيرِ أَيْ: مِنْ شَعْرِ مَتْنِ الثَّوْرِ (فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا) أَيْ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ مُتَوَارِيَةٍ (سَنَةً) ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: وَارَاهُ الشَّيْءُ أَيْ سَتَرَهُ، وَتَوَارَى أَيِ اسْتَتَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل: 59] فَقَالَ شَارِحٌ قَوْلُهُ: فَمَا تَوَارَتْ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَفِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ، هَكَذَا مَذْكُورٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ فَمَا وَارَتْ يَدُكَ بِالرَّفْعِ، وَأَخْطَأَ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَدُكَ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَفِي تَوَارَتْ ضَمِيرُ رَفْعٍ فَأَنَّثَهُ لِكَوْنِهِ مُفَسَّرًا بِالشَّعْرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: مِنْ شَعْرَةٍ بَيَانُ " مَا " وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، وَمَا وَارَتْ يَدُهُ قِطْعَةٌ مِنْهُ، فَأَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ الْقِطْعَةِ أَيْ الْقِطْعَةِ الَّتِي تَوَارَتْ بِيَدِكَ أَوْ تَحْتَ يَدِكَ انْتَهَى. وَقِيلَ: التَّاءُ الْأُولَى زَائِدَةٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَارَتْ أَيْ غَطَّتْ، ذَكَرَهُ الْأَكْمَلُ. (قَالَ) أَيْ: مُوسَى (ثُمَّ مَهْ) ؟ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَأَصْلُهُ مَا حُذِفَتْ أَلِفُهُ، وَوُقِفَ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ لِلتَّعَذُّرِ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ هَاءُ السَّكْتِ، وَمَا: اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: ثُمَّ مَاذَا يَكُونُ أَحَيَاةٌ أَمْ مَوْتٌ؟ (قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ. قَالَ: فَالْآنَ مِنْ قَرِيبٍ) ، أَيْ فَأَخْتَارُ الْمَوْتَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (رَبِّ أَدْنِنِي) : أَمْرٌ مِنَ الْإِدْنَاءِ أَيْ قَرِّبْنِي (مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ) : وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَفْضَلَ مَوَاضِعِهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي كَانَ فِيهِ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِلَّا فَالْأَرْضُ

الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ التَّقْرِيبُ مِقْدَارَ رَمْيَةٍ وَاحِدَةٍ بِحَجَرٍ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: بِمِقْدَارِ ذَلِكَ. أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ كَانَ الْمُقَدَّسَةُ تُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَرَاضِي الشَّامِ (رَمْيَةً بِحَجَرٍ) . أَيْ كَرَمْيَةِ حَجَرٍ، وَالْمُرَادُ السُّرْعَةُ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّيْهِ، فَأَرَادَ التَّقْرِيبَ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ، وَلَوْ بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ مِنْ مَوْضِعِ دُعَائِهِ، أَوْ مِنْ مَحَلٍّ مَطْلُوبٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا سُؤَالُهُ الْإِدْنَاءَ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَلِشَرَفِهَا وَفَضِيلَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَدْفُونِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالُوا: وَإِنَّمَا سَأَلَ الْإِدْنَاءَ وَلَمْ يَسْأَلْ نَفْسَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَبْرُهُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، فَيُفْتَنَ بِهِ النَّاسُ. قُلْتُ: وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا إِذْ لَمْ يَقَعِ التَّفَتُّنُ بِقَبْرِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ إِمْكَانِ الْفِتْنَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَقْبَرَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قُرْبَ الْقَرْيَةِ لَا دَاخِلَهَا، وَلَعَلَّ عِمَارَةَ بُيُوتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ حِينَئِذٍ قَرِيبَةً إِلَى مَحَلِّ تُرْبَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى كُلٍّ فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ، وَالْمَوَاطِنِ الْمُبَارَكَةِ، وَالْقُرْبِ مِنْ مَدَافِنَ أَرْبَابِ الدِّيَانَةِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ ") أَيْ: عِنْدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَبْعَدَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: لَوْ أَنِّي عِنْدَ مُوسَى (لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ) أَيْ: طَرِيقِ الْجَادَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى حَوَالَيْهِ (عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ) . أَيْ التَّلِّ الْمُسْتَطِيلِ الْمُجْتَمِعِ مِنَ الرَّمْلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ هَذَا الْحَدِيثَ قَالُوا: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى مُوسَى فَقْءُ عَيْنِ مَلَكِ الْمَوْتِ؟ وَأَحَالُوا عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذِهِ اللَّطْمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ امْتِحَانًا بِالْمَلْطُومِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ، وَيَمْتَحِنُهُمْ بِمَا يُرِيدُ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَلَى الْمَجَازِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مُوسَى نَاظَرَهُ وَحَاجَّهُ فَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ، يُقَالُ: فَقَأَ فَلَانٌ عَيْنَ فُلَانٍ إِذَا غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ. قَالَ: وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ رَدَّ حُجَّتِهِ كَانَ بَعِيدًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ فَدَفَعَهُ عَنْهَا، فَأَدَّتِ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، وَمَا قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ، وَهَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. قَالُوا: وَأَتَاهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِعَلَامَةٍ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَاسْتَسْلَمَ لَهُ بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأُولَى. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي (شَرْحِ الْمَشَارِقِ) ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَدَرَ مِنْ مُوسَى هَذَا الْفِعْلُ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ يُفَوَّضُ عَلَمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَ نَفْسَهُ فَدَفَعَهُ عَنْهَا فَأَدَّتْ مُدَافَعَتُهُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، وَهَذَا مُخْتَارُ الْمَازِرِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ، وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ الشَّارِحُ يَعْنِي الْأَكْمَلَ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الرَّجُلَ الدَّاخِلَ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالْمُحَارَبَةِ حَتَّى يَدْفَعَهُ عَنْهُ، بَلْ دَعَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَبِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ صَالِحٍ مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ فَمَا ظَنُّكَ بِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ وَأَقُولُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي طَبْعِهِ حِدَّةٌ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا غَضِبَ اسْتَعْلَتْ قَلَنْسُوَتُهُ فَإِذَا هَجَمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَدَعَاهُ إِلَى الْهَلَاكِ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَرْبِ، فَدَفَعَهُ قَبْلَ قَصْدِهِ، وَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، أَوْ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَعَمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ حِينَ ادَّعَى قَبَضَ رُوحِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّ بَشَرًا لَا يَقْبِضُ الرُّوحَ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ فَلَطَمَهُ، وَكَانَ هَذَا الْغَضَبُ لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا، وَلِهَذَا لَمْ يُعَاقِبِ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَخَذَ رَأْسَ هَارُونَ وَلِحْيَتَهُ، وَكَانَ يَجُرُّهُ مَعَ أَنَّ هَارُونَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَأَجَلُّ قَدْرًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حَقُّ كَبِيرِ الْأُخْوَةِ عَلَيْهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» ". قُلْتُ: هَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِزَعْمِهِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ.

قَالَ: وَمَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ الشَّارِحُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي حَقِّ اللَّطْمَةِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ امْتِحَانًا لِلْمَلْطُومِ، فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَبِرَهُ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ عُرْفُ الْبَشَرِ، فَيَقَعُ فِي الِارْتِيَابِ، لِأَنَّهُ أَمَرٌ مَصْدَرُهُ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ، وَهُوَ مُجَادَلَةٌ جَرَتْ بَيْنَ مَلَكٍ كَرِيمٍ وَنَبِيٍّ كَلِيمٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْصُوصٌ بِصِفَةٍ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ حُكْمِ عَوَامِّ الْبَشَرِ وَمَجَارِي عَادَاتِهِمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي خُصَّ بِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ حَالُهُمَا بِحَالِ غَيْرِهِمَا، وَقَدِ اصْطَفَى اللَّهُ - تَعَالَى مُوسَى بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ، فَلَمَّا دَنَتْ وَفَاتُهُ وَهُوَ بِشَرٌ يَكْرَهُ الْمَوْتَ طَبْعًا لَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِأَنْ لَمْ يُفَاتِحْهُ بَغْتَةً، وَلَمْ يَأْمُرِ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهِ بِأَنْ يَأْخُذَهُ قَهْرًا، بَلْ أَرْسَلَهُ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، فَلَمَّا رَآهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ اسْتَنْكَرَ شَأْنَهُ، وَاسْتَوْعَرَ مَكَانَهُ احْتَجَزَ مِنْهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ بِمَا كَانَ مِنْ صَكِّهِ إِيَّاهُ، فَأَتَى ذَلِكَ عَلَى عَيْنِهِ الَّتِي رُكِّبَتْ فِي الصُّورَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ فِي طَبْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِدَّةٌ عَلَى مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِ فِي كِتَابِهِ؟ مِنْ وَكْزِهِ الْقِبْطِيَّ، وَإِلْقَائِهِ الْأَلْوَاحَ، وَأَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ الدِّينِ بِدَفْعِ كُلِّ قَاصِدِ سُوءٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُلْحِدِينَ أَبَادَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

5714 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ لَهُ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5714 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: عُرِضَ عَلَيَّ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُظْهِرَ لَدَيَّ (الْأَنْبِيَاءُ) : وَهُمْ أَعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُوَ إِمَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ، وَالْمَعْنَى عُرِضَ أَرْوَاحُهُمْ مُتَشَكِّلِينَ بِصُوَرٍ كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِشَارِحٍ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّ أَرْوَاحَهُمْ مُثِّلَتْ لَهُ كَهَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَعَلَّ صُوَرَهُمْ كَانَتْ كَذَلِكَ، أَوْ صُوَرَ أَبْدَانِهِمْ كُشِفَتْ لَهُ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ (فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ) أَيْ: نَوْعٌ (مِنَ الرِّجَالِ) ، وَقِيلَ أَيْ: خَفِيفُ اللَّحْمِ (كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ وَهَمْزَةٍ وَهَاءٍ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَإِدْغَامُهَا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ، أَزْدُ شَنُّوَةَ بِالتَّشْدِيدِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُشْبِهُ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ. قَالَ شَارِحٌ: وَالشَّنُوءَةُ التَّبَاعُدُ مِنْ الْأَدْنَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَمِنْهُمْ أَزْدُ شَنُوءَةَ، وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَلَعَلَّهُمْ لُقِّبُوا بِذَلِكَ لِطَهَارَةِ نَسَبِهِمْ، وَنَظَافَةِ حَسَبِهِمْ، وَحِسْنِ سِيرَتِهِمْ وَأَدَبِهِمْ. (وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِذَا هُوَ أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ نَظِيرًا (عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ) ، قِيلَ: هُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. (" «وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ» " - يَعْنِي نَفْسَهُ) أَيْ: يُرِيدُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ صَاحِبُكُمْ نَفْسَ ذَاتِهِ لِمَا ظَهَرَ لَهُ فِي مِرْآتِهِ، وَلَمَّا كَانَ جِبْرِيلُ مُلَازِمًا لِلْأَنْبِيَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ لَوَازِمَ الْأَنْبِيَاءِ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْأَنْبِيَاءِ، (فَقَالَ: " «وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ» ") . بِكَسْرِ الدَّالِ، وَقَدْ يُفْتَحُ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ صُورَةً. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5715 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى، رَجُلًا آدَمَ طُوَالًا، جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ، إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5715 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي ") : بِالْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ أَيْ: أَبْصَرْتُ فِي لَيْلَةِ أَسْرِيَ بِي فِيهَا (مُوسَى رَجُلًا) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ (آدَمَ) أَيْ: أَسْمَرَ شَدِيدَ السُّمْرَةِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (طُوَالًا) ، بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ أَيْ: طَوِيلًا كَعُجَابٍ مُبَالَغَةَ عَجِيبٍ، وَأَمَّا بِكَسْرِ الطَّاءِ فَهُوَ جَمْعُ طَوِيلٍ، (جَعْدًا) : هُوَ ضِدُّ السَّبْطِ فَمَعْنَاهُ غَيْرُ مُسْتَرْسِلِ الشَّعْرِ، وَلَعَلَّ انْقِبَاضَ شَعْرِهِ مِمَّا يُشْعِرُ عَلَى حِدَّةِ بَاطِنِهِ مِنْ غَيْرِ شُعُورِهِ، ( «كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ» ) أَيْ: مُتَوَسِّطًا لَا طَوِيلًا وَلَا قَصِيرًا وَلَا سَمِينًا وَلَا هَزِيلًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: (إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ) ، حَالٌ أَيْ: مَائِلًا لَوْنُهُ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، بَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْبَيَاضِ الْمُشْرَبِ بِالْحُمْرَةِ، كَمَا كَانَ نَعْتُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ فِي الْوَصْفَيْنِ السَّابِقَيْنِ. (سَبْطَ الرَّأْسِ) ، بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْضًا، وَقَدْ تُسَكَّنُ، فَفِي الْقَامُوسِ: السَّبْطُ وَيُحَرَّكُ وَكَكَتِفٍ نَقِيضُ الْجَعْدِ، وَالْمَعْنَى مُسْتَرْسِلَ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ صِفَةُ الْجَمَالِ، كَمَا أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى مُوسَى نَعْتُ الْجَلَالِ، وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ فِي مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ كَانَ شَعْرُهُ أَيْضًا. فِي السُّبُوطَةِ وَالْجُعُودَةِ فِي غَايَةٍ مِنَ الِاعْتِدَالِ. (وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ) أَيْ: وَرَأَيْتُ الدَّجَّالَ (فِي آيَاتٍ) أَيْ: مَعَ عَلَامَاتٍ (أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ) ، أَيْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي: رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّجَّالَ مَعَ آيَاتٍ أُخَرَ أَرَاهُنَّ اللَّهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا حَكَاهَا. وَقَوْلُهُ: فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ دَفْعًا لِاسْتِبْعَادِ السَّامِعِينَ، وَإِمَاطَةً لِمَا عَسَى أَنْ يَخْتَلِجَ فِي صُدُورِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَالَ: أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّايَ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الدَّجَّالِ، وَالْمُرَادُ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتِدْرَاجًا لِلدَّجَّالِ، وَابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: فِي آيَاتٍ أَيْ: رَأَيْتُ الْمَذْكُورَ فِي جُمْلَةِ آيَاتٍ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهَا الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] فَعَلَى هَذَا فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ حَيْثُ وَضَعَ إِيَّاهُ مَوْضِعَ إِيَّايَ، أَوِ الرَّاوِي نَقَلَ مَعْنَى مَا تَلَفَّظَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) . مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ حَدِيثُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَلْمِيحًا إِلَى مَا فِي التَّنْزِيلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] الْكَشَّافِ، قِيلَ: مِنْ لِقَائِكَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَيَكُونُ ذِكْرُ عِيسَى، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ وَالْإِدْمَاجِ، أَيْ: لَا تَكُنْ يَا مُحَمَّدُ فِي رُؤْيَةِ مَا رَأَيْتَ مِنَ الْآيَاتِ فِي شَكٍّ. فَعَلَى هَذَا الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: " فَلَا تَكُنْ " لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَلَامُ كُلُّهُ مُتَّصِلٌ لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ مِنَ الرَّاوِي إِلَّا لَفْظُ " إِيَّاهُ " وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: كَانَ قَتَادَةَ يُفَسِّرُهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَالَى قَدْ لَقِيَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: مُجَاهِدٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَالسُّدِّيُّ. وَمَعْنَاهُ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَائِكَ مُوسَى، وَالشَّارِحُونَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي أَلْحَقَهُ بِالْحَدِيثِ دَفْعًا لِاسْتِبْعَادِ السَّامِعِينَ، وَإِمَاطَةً لِمَا عَسَى يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِهِمْ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: الْخِطَابُ فِي: فَلَا تَكُنْ خِطَابٌ عَامٌّ لِمَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي لِقَائِكَ عَائِدٌ إِلَى الدَّجَّالِ، أَيْ: إِذَا كَانَ خُرُوجُهُ مَوْعُودًا، فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَائِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ أَيْ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ رُؤْيَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ الْحَدِيثَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى قَوْلِهِ: " (وَ) الدَّجَّالُ وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ.

5716 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى - فَنَعَتَهُ: فَإِذَا رَجُلٌ مُضْطَرِبٌ، رَجِلُ الشَّعْرِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَلَقِيتُ عِيسَى رَبْعَةً أَحْمَرَ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ - يَعْنِي الْحَمَّامَ - وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ " قَالَ: " فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ. فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5716 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي ") : ظَرْفٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ: (لَقِيتُ مُوسَى فَنَعَتَهُ) أَيْ: فَوَصَفَ مُوسَى فَقَالَ فِي حَقِّهِ (فَإِذَا) أَيْ: هُوَ (رَجُلٌ مُضْطَرِبٌ) ، قَالَ الْقَاضِيَ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ: يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِيمَ الْقَدِّ حَادًّا، فَإِذِ الْحَادُّ يَكُونُ قَلِقًا مُتَحَرِّكًا، كَانَ فِيهِ اضْطِرَابٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: رُمْحٌ مُضْطَرِبٌ إِذَا كَانَ طَوِيلًا مُسْتَقِيمًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مُضْطَرِبًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي وَلِقَلْبِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ» . (رَجِلَ الشَّعْرِ) ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُسَكَّنُ وَيُفْتَحُ، فِي الْقَامُوسِ: شَعْرٌ رَجِلٌ وَكَكَتِفٍ وَجَبِلٍ بَيْنَ السُّبُوطَةِ وَالْجُعُودَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْجُعُودَةَ، وَلَا شَدِيدَ السُّبُوطَةِ، بَلْ بَيْنَهُمَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنْ تَكُونَ جُعُودَتُهُ غَالِبَةٌ عَلَى سُبُوطَتِهِ، لِئَلَّا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِهِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعْدًا، (" كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ ") : سَبَقَ بَيَانُهُ (وَلَقِيتُ عِيسَى رَبْعَةً) : بِتَسْكِينِ الْمُوَحَّدَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ أَيْ: مَرْبُوعَ الْخَلْقِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَا طَوِيلٌ وَلَا قَصِيرٌ، وَالتَّأْنِيثُ عَلَى تَأْوِيلِ النَّفْسِ (أَحْمَرُ) أَيْ: شَدِيدُ الْحُمْرَةِ (كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَتُفَتَحُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: (الْكِنُّ وَالسِّرْبُ وَالْحَمَّامُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَإِنْ فَتَحْتَ الدَّالَ جُمِعَتْ عَلَى دَيَامِيسَ، مِثْلَ شَيْطَانَ وَشَيَاطِينَ، وَإِنْ كَسَرْتَهَا جُمِعَتْ عَلَى دَمَامِيسٍ كَقِيرَاطٍ وَقَرَارِيطَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الدِّيمَاسُ لَهُ مَعَانٍ. قَالَ الرَّاوِي: (يَعْنِي) ، أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْحَمَّامَ) ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالْمُرَادُ وَصْفُهُ بِصَفَاءِ اللَّوْنِ وَنَضَارَةِ الْجِسْمِ وَكَثْرَةِ مَاءِ الْوَجْهِ، كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ حَمَّامٍ وَهُوَ عَرِقٌ. (وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ) أَيْ: أَوْلَادِهِ مِنْ نَسْلِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ أَوْ مُطْلَقًا (وَبِهِ) أَيْ إِبْرَاهِيمَ صُورَةً وَمَعْنًى، فَالْمُشَابَهَةُ الصُّورِيَّةُ عُنْوَانٌ لِلْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ سِرُّ أَبِيهِ فِي مَبَانِيهِ وَمَعَانِيهِ. (قَالَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ) أَيْ: أُحْضِرْتُ بِهِمَا (أَحَدُهُمَا لَبَنٌ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعَالَمُ الْقُدْسِيُّ يُصَاغُ فِيهِ الصُّوَرُ مِنَ الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ لِيُدْرَكَ بِهَا الْمَعَانِيَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ فِي عَالَمِ الْحِسِّ مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّرْبِيَةُ، وَيُرَشَّحُ بِهِ الْمَوْلُودُ صِيغَ عَنْهُ مِثَالٌ لِلْفِطْرَةِ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَتَنْشَأُ عَنْهَا الْخَاصِّيَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ لَبَنٌ كَأَنَّهُ جَعَلَهُ لَبَنًا كُلَّهُ تَغْلِيبًا لِلَّبَنِ عَلَى الْإِنَاءِ لِكَثْرَتِهِ، وَتَكْثِيرًا لِمَا اخْتَارَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْخَمْرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ قَلِيلُهُ فَقَالَ: (وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ) أَيْ: خَمْرٌ قَلِيلٌ (فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ) . أَيْ: أَيَّ الْإِنَاءَيْنِ، أَوْ أَيَّ الْمَشْرُوبَيْنِ أَرَدْتَهُ وَاشْتَهَيْتَهُ (فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ) ، أَيْ لِمَا يَدُلُّ الْأَمْرُ بِالْأَخْذِ عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا عُرِضُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا إِظْهَارًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَضْلَهُ بِاخْتِيَارِهِ الصَّوَابَ، (فَقِيلَ لِي هُدِيتَ الْفِطْرَةَ) ، بِصِيغَةِ الْخِطَابِ مَجْهُولًا أَيْ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَدَاكَ اللَّهُ إِلَى الْفِطْرَةِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ وَالدُّعَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ هُدِيتَ الْفِطْرَةَ الْكَامِلَةَ الشَّامِلَةَ لِأَتْبَاعِكَ الْعَالِمَةَ الْعَامِلَةَ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِهَا الْفِطْرَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ مِنْهَا الْإِعْرَاضُ عَمَّا فِيهِ غَائِلَةٌ وَفَسَادٌ، كَالْخَمْرِ الْمُخِلِّ بِالْعَقْلِ الدَّاعِي إِلَى الْخَيْرِ الْوَازِعِ عَنِ الشَّرِّ الْمُؤَدِّي إِلَى صَلَاحِ الدَّارَيْنِ، وَخَيْرِ الْمَنْزِلَيْنِ، وَالْمَيْلِ إِلَى مَا فِيهِ نَفْعٌ حَالٌّ عَنْ مَضَرَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَمَعَرَّةٍ دِينِيَّةٍ، كَشُرْبِ اللَّبَنِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَصْلَحِ الْأَغْذِيَةِ، وَأَوَّلُ مَا حَصَلَ بِهِ التَّرْبِيَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ لَهُ عِنْدَ أَخْذِ اللَّبَنِ لُطْفٌ وَمُنَاسَبَةٌ، فَإِنَّ اللَّبَنَ لَمَّا كَانَ فِي الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ ذَا خُلُوصٍ وَبَيَاضٍ، وَأَوَّلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَرْبِيَةُ الْمَوْلُودِ صِيَغَ مِنْهُ الْعَالَمُ الْقُدْسِيُّ مِثَالَ الْهِدَايَةِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا لِكَوْنِهَا ذَاتَ مَفْسَدَةٍ صِيغَ مِنْهَا مِثَالُ الْغِوَايَةِ، وَمَا يُفْسِدُ الْقُوَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ وَلِهَذَا قِيلَ لَهُ أَيْضًا: (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ) أَيْ: شَرِبْتَ أَوْ مَا شَرِبْتَ، وَالْمَعْنَى لَوْ مِلْتَ إِلَيْهَا أَدَقَّ الْمَيْلِ (غَوَتْ) أَيْ: ضَلَّتْ (أُمَّتُكَ) . أَيْ نَوْعًا مِنَ الْغِوَايَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى شُرْبِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرِبَهَا لَأُحِلَّ لِلْأُمَّةِ شُرْبُهَا، فَوَقَعُوا فِي ضَرَرِهَا وَشَرِّهَا، وَلَمَّا كَانَ هُوَ مَعْصُومًا لَمْ يَقُلْ لَهُ: غَوَيْتَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْمُقَابَلَةُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اسْتِقَامَةَ الْمُقْتَدَى مِنَ النَّبِيِّ وَالْعَالِمِ وَالسُّلْطَانِ، وَنَحْوِهِمْ سَبَبٌ لِاسْتِقَامَةِ أَتْبَاعِهِمْ، لِأَنَّهُمْ. بِمَنْزِلَةِ الْقَلْبِ لِلْأَعْضَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5717 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَقَالَ: " أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " فَقَالُوا وَادِي الْأَزْرَقِ. قَالَ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى " فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعْرِهِ شَيْئًا، وَاضِعًا أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي ". قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ. فَقَالَ: " أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ " قَالُوا: هَرْشَى - أَوْ لِفْتُ - فَقَالَ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ، عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 5717 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سِرْنَا) : مِنَ السَّيْرِ أَيْ سَافَرْنَا (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) ، يُحْتَمَلُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبِالْعَكْسِ، (فَمَرَرْنَا بِوَادٍ فَقَالَ: " أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " فَقَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ) . وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ سُمِّيَ بِهِ لِزُرْقَتِهِ، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ. (فَقَالَ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى " فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعْرِهِ شَيْئًا) أَيْ: بَعْضًا مِنْ أَوْصَافِهَا، وَهُوَ أَنَّ لَوْنَهُ أَحْمَرُ وَشَعْرَهُ جَعْدٌ عَلَى مَا سَبَقَ (وَاضِعًا) أَيْ: حَالَ كَوْنِ مُوسَى وَاضِعًا (أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ) ، بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ وَالتَّثْنِيَةُ فِيهِمَا عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ (لَهُ) أَيْ: لِمُوسَى (جُؤَارٌ) : بِضَمِّ جِيمٍ فَهَمْزٍ، وَقَدْ يُبْدَلُ أَيْ: تَضَرُّعٌ (إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ) : ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رَفْعُ صَوْتٍ بِهَا وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاضِعًا وَمَارًّا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامُ الرَّاوِي، يَعْنِي الرَّاوِيَ عَنْ حَالِهِ، وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (قَالَ) أَيْ: ابْنُ عَبَّاسٍ (ثُمَّ سِرْنَا) أَيْ: ذَهَبْنَا (حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ) : بِفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَكَسْرِ نُونٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ أَيْ: عَقَبَةٍ وَهِيَ طَرِيقٌ عَالٍ فِي الْجَبَلِ أَوْ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. (فَقَالَ: " أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ " قَالُوا: هَرَشَى) : بَهَاءٍ فَرَاءٍ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَأَلِفٍ مَقْصُورَةٍ تُكْتَبُ بِالْيَاءٍ كَسَكْرَى عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ، وَالْمَدِينَةِ قُرْبَ الْجُحْفَةِ (أَوْ لِفْتَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ، وَسُكُونِ الْفَاءِ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرْوَى فِيهِ كَسْرُ اللَّامِ، وَإِسْكَانُ الْفَاءِ وَفَتْحُهَا مَعَهُ وَفَتْحُهُمَا. وَقَالَ شَارِحٌ: هَرَشَى ثَنِيَّةٌ بِقُرْبِ الْجُحْفَةِ. يُقَالُ لَهَا أَيْضًا: لِفْتُ، وَالشَّكُّ لِلرَّاوِي، أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ عَلَى أَنْ بَعْضَهُمْ قَالَ: هَرَشَى، وَبَعْضُهُمْ لِفْتَ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ. (فَقَالَ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ ") أَيْ: لِلتَّوَاضُعِ وَاخْتِيَارُ الزُّهْدِ، " هَذَا مَأْخَذٌ لِلصُّوفِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْكِسَائِيِّ، وَلَعَلَّهُ لَبِسَهَا عَلَى غَيْرِ هَيْئَةِ الْمُعْتَادِ، أَوْ كَانَ جَائِزٌ فِي شَرْعِهِ لِلْمُحْرِمِ لِبْسُ الْجُبَّةِ وَنَحْوِهَا مُطْلَقًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (خِطَامُ نَاقَتِهِ) أَيْ: زِمَامُهَا وَزْنًا وَمَعْنَى، وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُقَادُ بِهِ الْبَعِيرُ يُجْعَلُ عَلَى خَطْمِهِ أَيْ مُقَدَّمِ أَنْفِهِ وَفَمِهِ، (خُلْبَةٌ) ، بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِضَمِّهَا فَمُوَحَّدَةٌ فَهَاءٌ لِيفَةُ نَخْلٍ، (مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا) . حَالَانِ مِنْ يُونُسَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْحَجَّ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَمِنْ شَعَائِرِ أَنْبِيَائِهِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، فَيُفِيدُ التَّرْغِيبَ فِي قَصْدِ الْحَجِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ التَّلْبِيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْهَيْئَةِ الْإِحْرَامِيَّةِ الْمُشْعِرَةِ إِلَى التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحُجُّونَ وَيُلَبُّونَ وَهُمْ أَمْوَاتٌ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحُدُهَا: أَنَّهُمْ كَالشُّهَدَاءِ بَلْ أَفْضَلُ، وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحُجُّوا وَيُصَلُّوا وَيَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعُوا، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ تُوُفُّوا، فَهَذَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْعَمَلِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ مُدَّتُهَا، وَتَعْقُبُهَا الْآخِرَةُ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ انْقَطَعَ الْعَمَلُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّلْبِيَةَ دُعَاءٌ مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] .

وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ رُؤْيَةَ مَنَامٍ فِي غَيْرِ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ كَمَا قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ عِيسَى. قُلْتُ: وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَصِدْقٌ. قَالَ: وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيَ حَالَهُمُ الَّتِي كَانَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَمُثِّلُوا لَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ، كَيْفَ كَانُوا وَكَيْفَ حِجُّهُمْ وَتَلْبِيَتُهُمْ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى ". قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا اسْتِحْضَارُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ عِنْدَ الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهَا وَنِهَايَةِ صِدْقِهَا. قَالَ: وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ عَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ رُؤْيَةَ عَيْنٍ. قُلْتُ: يَرُدُّهُ قَوْلُهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا. قَالَ: وَهَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ وَضْعِ الْأُصْبُعِ فِي الْأُذُنِ عِنْدَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ وَالِاسْتِحْبَابُ يَجْنِي عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَوْ غَيْرِهِمْ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا. قُلْتُ: هَذَا الِاسْتِنْبَاطُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ قِيلَ: بِاسْتِحْبَابِ وَضْعِ الْأُصْبُعَيْنِ فِي الْأُذُنَيْنِ وَقْتَ التَّلْبِيَةِ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهَذَا، وَأَمَّا وَضْعُ الْأُصْبُعِ فِي الْأُذُنِ حَالَ الْأَذَانِ، فَلَهُ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ ذُكِرَ فِي بَابِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5718 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسَرَّحَ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسَرَّحَ دَوَابُّهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5718 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خُفِّفَ ") أَيْ: سُهِّلَ وَيُسِّرَ (عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ) أَيْ: قِرَاءَةُ الزَّبُورِ وَحِفْظُهُ (فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ) ، أَيْ لِرُكُوبِهِ) ، أَيْ وَرُكُوبِ أَصْحَابِهِ (فَتُسْرَجُ الدَّوَابُّ، أَوْ فَيُشْرَعُ فِي سَرْجِهَا (فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ) أَيْ: الْمَقْرُوءَ، وَهُوَ الزَّبُورُ (قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ) : وَفِي النِّهَايَةِ: الْأَصْلُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ يَعْنِي الْقُرْآنَ الْجَمْعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ جَمَعْتَهُ فَقَدْ قَرَأْتَهُ، وَعَنِ الْقُرْآنِ قُرْآنًا لِأَنَّهُ جَمَعَ الْقَصْرَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالْآيَاتِ وَالسُّوَرَ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْقِرَاءَةِ نَفْسِهَا يُقَالُ: قَرَأَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا. قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ بِالْقُرْآنِ الزَّبُورَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ قَصَدَ إِعْجَازَهُ مِنْ طَرِيقِ الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطْوِي الزَّمَانَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا يَطْوِي الْمَكَانَ لَهُمْ، وَهَذَا بَابٌ لَا سَبِيلَ إِلَى إِدْرَاكِهِ إِلَّا بِالْفَيْضِ الرَّبَّانِيِّ. قُلْتُ: حَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي أَنَّهُ بَسْطٌ لِلزَّمَانِ أَوْ طَيٌّ لِلِّسَانِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقَدْ حَصَلَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فِي الْمَبْنِيِّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ طَيِّ الْمَكَانِ وَبَسْطِ الزَّمَانِ، يَحْسَبُ السَّمْعَ وَاللِّسَانَ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْآنِ، وَلِاتِّبَاعِهِ أَيْضًا وَقَعَ حَظٌّ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ كَانَ يَبْتَدِئُ الْقُرْآنَ مِنَ ابْتِدَاءٍ قَصْدِ رُكُوبِهِ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَبَانِي وَتَفَقُّهِ الْمَعَانِي، وَيَخْتِمُهُ حِينَ وَضْعِ قَدَمِهِ فِي رِكَابِهِ الثَّانِي، وَقَدْ نَقَلَ مَوْلَانَا نُورُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجَامِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّامِيُّ فِي كِتَابِهِ نَفَحَاتُ الْأُنْسِ فِي حَضَرَاتِ الْقُدْسِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ: أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ مِنْ حِينِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَالرُّكْنَ الْأَسْعَدَ إِلَى حِينِ وَصُولِ مُحَاذَاةِ بَابِ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالْقِبْلَةِ الْمَنِيفَةِ، وَقَدْ جَمَعَهُ ابْنُ الشَّيْخِ شِهَابُ الدِّينِ السَّهْرَوَرْدِيُّ مِنْهُ كَلِمَةً كَلِمَةً وَحَرْفًا حَرْفًا مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، قَدَّسَ اللَّهُ أَسْرَارَهُمْ وَنَفَعَنَا بِبَرَكَةِ أَنْوَارِهِمْ. (وَلَا يَأْكُلُ) أَيْ: كَانَ لَا يَتَعَيَّشُ دَاوُدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ) . كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ - أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 10 - 11] أَيْ دُرُوعًا وَاسِعَاتٍ، وَفِي إِيرَادِ يَدَيْهِ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَمَلَهُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مُبَاشَرَةِ الْعُضْوَيْنِ، فَيَكُونُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، فَرِوَايَةُ الْجَامِعِ بِيَدِهِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ يُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ مَرْفُوعًا عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ لَالٍ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْكَسْبُ مِنَ الْحَلَالِ» . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ.

5719 - وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلُ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5719 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَتَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَانِ ") ، أَيْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ابْنٌ (جَاءَ الذِّئْبُ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا) أَيْ: رَفِيقَةُ إِحْدَاهُمَا الَّتِي ذَهَبَ بِابْنِهَا (إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ) . وَلَعَلَّ الْوَلَدَيْنِ كَانَا شَبِيهَيْنِ، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا كَاذِبَةً، لَكِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَسْتَأْنِسَ بِالْمَوْجُودِ بَدَلًا عَنِ الْمَفْقُودِ، أَوْ لِأَغْرَاضٍ أُخَرَ فَاسِدَةٍ وَأَمْكَارٍ كَاسِدَةٍ. (فَتَحَاكَمَتَا) أَيْ: فَرَفَعَتَا الْحُكُومَةَ (إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ) أَيْ: حَكَمَ بِالْوَلَدِ لِلْكُبْرَى) ، إِمَّا لِكَوْنِهِ فِي يَدِهَا عَلَى مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ صَاحِبَةَ الْيَدِ أَوْلَى، أَوْ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِهَا عَلَى اعْتِبَارِ عِلْمِ الْقِيَافَةِ، كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، (فَخَرَجَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ) ، أَيْ مَارَّتَيْنِ عَلَيْهِ (فَأَخْبَرَتَاهُ) ، أَيْ: مِمَّا سَبَقَ مِنْ حَالِهِمَا وَتَحَقَّقَ مِنْ مَآلِهِمَا (فَقَالَ) أَيْ: لِخَدَمِهِ (ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقَّهُ) : بِفَتْحِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: أَنَا أَقْطَعُ الْوَلَدَ نِصْفَيْنِ (بَيْنَكُمَا) أَيْ: مَقْسُومَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ أَنَّكُمَا لَمْ تُظْهِرَا لِي الصِّدْقَ فِي أَمْرِهِ، وَلَعَلَّ الْأُخْرَى أَيْضًا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُتَعَلِّقَةً بِالْوَلَدِ مُتَمَسِّكَةً بِالْيَدِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّنْصِيفِ، وَإِنَّمَا صَوَّرَ لَهُمَا هَذَا التَّصْوِيرَ تَوَسُّلًا إِلَى مَا أَرَادَ بِهِ مِنْ ظُهُورِ أَمَارَةِ التَّأْلِيفِ (فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ) ، أَيْ الشَّقَّ (يَرْحَمُكَ اللَّهُ) أَيْ: كَمَا أَوْقَعَنِي فِي الرَّحْمَةِ عَلَى وَلَدِي (هُوَ ابْنُهَا) ، أَيْ رَضِيتُ بِأَنَّهُ يَكُونُ ابْنَهَا وَهُوَ حَيٌّ، وَلَا أَرْضَى بِالشَّقِّ الْمُفْضِي إِلَى مَوْتِهِ، (فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى) . أَيْ لِوُجُودِ قَرِينَةِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهَا، وَتَحَقُّقِ الْقَسَاوَةِ وَالْيُبُوسَةِ وَالْغَفْلَةِ، بَلْ دَلَالَةُ الْعَدَاوَةِ فِي الْأُخْرَى. قَالَ شَارِحٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ قَضَاءَهُمَا حَقٌّ، لِكَوْنِهِمَا مُجْتَهِدَيْنِ، وَمُسْتَنَدُ قَضَائِهِمَا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ هِيَ الْقَرِينَةُ لَكِنَّ الْقَرِينَةَ الَّتِي قَضَى بِهَا سُلَيْمَانُ أَقْوَى مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ كَانَتْ فِي شَرْعِهِمْ بِمَثَابَةِ الْبَيِّنَةِ يَعْنِي: وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَاتَ الْيَدِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهِمَا، لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدِهَا، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَتَوَصُّلَ بِطَرِيقٍ مِنَ الْحِيلَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ بَاطِنِ الْقَضِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَ شَفَقَتِهِمَا لِيَتَمَيَّزَ لَهُ الْأَمْرُ لَا الْقَطْعَ حَقِيقَةً، فَلَمَّا تَمَيَّزَ حَكَمَ لِلصُّغْرَى بِإِقْرَارِ الْكُبْرَى، لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَةِ قُلْتُ: الْإِقْرَارُ لَا دَلَالَةَ لِلْعِبَارَةِ عَلَيْهِ، وَلَا طَرِيقَ لِلْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. قَالَ: وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِثْلُهُ مَا يَفْعَلُهُ الْحُكَمَاءُ لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الصَّوَابِ. قُلْتُ: وَقَدْ حَقَّقَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْجَوْزِيُّ هَذَا الْمَبْحَثَ فِي كِتَابِ " الْفَرَاسَةِ فِي السِّيَاسَةِ ". قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَقَضَ سُلَيْمَانُ حُكْمَ أَبِيهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ فَسْخُ الْحُكْمِ إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْمُ إِلَى حَاكِمٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ. قُلْتُ: وَفِي كُلٍّ مِنْهَا نَظَرٌ ظَاهِرٌ، فَالْوَجْهُ أَنَّ الْقَرِينَةَ الْأَقْوَى كَانَتْ عِنْدَهَا بِاْلِاعْتِبَارِ هُوَ الْأَوْلَى، وَأَمَّا لَوْ صَحَّ إِقْرَارُ الْكُبْرَى بِأَنَّهُ لِلصُّغْرَى، فَلَا إِشْكَالَ بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الْحُكْمِ مُعْتَبَرٌ فِي شَرْعِنَا أَيْضًا، كَمَا إِذَا اعْتَرَفَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْحَقَّ لِخَصْمِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5720 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِائَةِ امْرَأَةٍ كُلُّهُمْ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمَلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَأَيْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5720 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ ") : الطَّوَافُ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَالْمَعْنَى وَاللَّهِ لِأَدُورَنَّ (اللَّيْلَةَ) أَيْ: الْآتِيَةَ (عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِائَةِ امْرَأَةٍ) : قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِيهِ رِوَايَاتٌ سِتُّونَ وَسَبْعُونَ وَتِسْعُونَ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَمِائَةٌ، وَالْجَمْعُ أَنَّ السِتِّينَ كُنَّ حَرَائِرَ، وَمَا زَادَ كُنَّ سَرَائِرَ، وَبِالْعَكْسِ. وَأَمَّا السَبْعُونَ، فَلِلْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا التِسْعُونَ وَالْمِائَةَ

وَفَوْقَ التِسْعِينَ فَمَنْ قَالَ: تِسْعُونَ أَلْغَى الْكَسْرَ، وَمَنْ قَالَ: مِائَةً أَتَى بِالْجَبْرِ (كُلُّهُنَّ) أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ (تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَهَذِهِ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الْمَشِيئَةِ. (فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ) أَيْ: الْمُوَكَّلُ عَلَى يَمِينِهِ، أَوْ جِبْرِيلُ، أَوْ غَيْرُهُمَا، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ إِبْهَامُهُ أَوْ إِلْهَامُهُ (قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ) أَيْ: اكْتِفَاءً بِمَا فِي الْجِنَانِ عَنِ الْبَيَانِ بِاللِّسَانِ (وَنَسِيَ) كَعَلِمَ، وَرُوِيَ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَهُوَ أَحْسَنُ أَيْ: حَصَلَ لَهُ النِّسْيَانُ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَكْمَلُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْجَمْعِ وَأَصْحَابِ الْعِرْفَانِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ وَنَسِيَ، (فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمَلْ مِنْهُنَّ) أَيْ: لَمْ تَحْبَلْ (إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ) ، أَيْ بِنِصْفِهِ، أَوْ بَعْضِهِ حَيْثُ عَدَلَ عَنْ شَتَّى الصَّوَابِ وَصَوْبِ الْكَمَالِ، (وَاَيْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَيْمُ لَفْظًا وَمَعْنَى، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُنَا الْأَصْلُ. فِي " أَيْمُ " اللَّهِ أَيْمُنُ اللَّهِ حُذِفَ مِنْهُ النُّونُ، وَهُوَ اسْمٌ وُضِعَ لِلْقَسَمِ هَكَذَا بِضَمِّ الْمِيمِ وَالنُّونِ، وَأَلِفُهُ أَلْفُ وَصْلٍ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ، وَلَمْ تَجِئْ فِي الْأَسْمَاءِ أَلِفُ الْوَصْلِ مَفْتُوحَةً غَيْرُهَا، وَتَقْدِيرُهُ أَيْمُنُ اللَّهِ قَسَمِي، وَإِذَا حُذِفَ عَنْهُ النُّونُ قِيلَ: أَيْمُ اللَّهِ وَإِيمُ اللَّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْضًا (لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا) أَيْ: لَوُجِدُوا وَوُلِدُوا وَكَبِرُوا وَقَاتَلُوا الْكُفَّارَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: طَرِيقِ رِضَاهُ (فُرْسَانًا) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ جَاهَدُوا (أَجْمَعُونَ) : تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ أَجْمَعِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَدُّ بِهَا أَجْمَعُونَ بِالرَّفْعِ. قِيلَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عَقِيبَ قَوْلِهِ إِنِّي أَعْمَلُ كَذَا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا وَتَسْهِيلًا لِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى؟ {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَلَفْظُ الْجَامِعِ: ( «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ إِنْسَانٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

5721 - وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5721 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَانَ زَكَرِيَّا ") : بِالْقَصْرِ وَيُرْوَى مَدُّهُ (نَجَّارًا) أَيْ: يَنْجُرُ الْخَشَبَةَ وَيَنْحِتُهَا وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَفِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ بِتَرْكِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ فِي الْأَشْيَاءِ، كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْفِيَاءِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى خِلَافٍ فِي كَوْنِ أَيِّهِمَا أَفْضَلَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

5722 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، الْأَنْبِيَاءُ أُخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيٌّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5722 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ ") أَيْ: أَقْرَبُهُمْ (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) ، أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بَشَّرَ بِأَنْ يَأْتِيَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68] لِأَنَّهُ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ الِاقْتِدَاءِ، وَأَوْلَاهُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ جِهَةِ قُرْبِ الْعَهْدِ انْتَهَى، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ قُرْبِ الْعَهْدِ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ) : فَالْأَوْلَى مَا قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ أَنَّ الْمُوجِبَ لِكَوْنِهِ أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ دِينَهُ مُتَّصِلٌ بِدِينِهِ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ مُبَشِّرًا لَهُ، مُمَهِّدًا لِقَوَاعِدِ دِينِهِ، دَاعِيًا لِلْخَلْقِ إِلَى تَصْدِيقِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى.

الْحُكْمِ السَّابِقِ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنِ الْمُقْتَضِي لِلْأَوْلَوِيَّةِ، فَأَجَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأُخُوَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ كَالنَّسَبِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ يَقْرُبُ زَمَانُهُ مِنْ زَمَانِهِ وَاتِّصَالُ دَعْوَتِهِ بِدَعْوَتِهِ، كَمَا سَتَجِيءُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيٌّ فَقَوْلُهُ: (مِنْ عَلَّاتٍ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: هُمْ إِخْوَةٌ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَلَّةَ الضَّرَّةَ وَبَنُو الْعَلَّاتِ أَوْلَادُ الرَّجُلِ مِنْ نِسْوَةٍ شَتَّى فَقَوْلُهُ: (وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى) ، أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ مُخْتَلِفَةٌ إِمَّا تَأْكِيدٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى كَمَا أَنَّ أَوْلَادَ الْعَلَّاتِ أُمَّهَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَشَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ. قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ: الْعَلَّةُ الضَّرَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَلَلِ، وَهُوَ الشَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْأُولَى، وَكَانَ الزَّوْجُ عَلَّ مِنْهَا بَعْدَمَا كَانَ نَاهِلًا مِنَ الْأُخْرَى مِنَ النَّهْلِ وَهُوَ الشُّرْبُ الْأَوَّلُ، وَأَوْلَادُ الْعَلَّاتِ أَوْلَادُ الضَّرَّاتِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَاصِلَ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَالْغَايَةَ الْقُصْوَى مِنَ الْبِعْثَةِ الَّتِي بُعِثُوا جَمِيعًا لِأَجْلِهَا دَعْوَةُ الْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا بِهِ يَنْتَظِمُ مَعَاشُهُمْ، وَيَحْسُنُ مَعَادُهُمْ؟ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفَارِيعِ الشَّرْعِ الَّتِي هِيَ كَالْوَصْلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ، وَالْأَوْعِيَةِ الْحَافِظَةِ لَهُ، فَعَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا هُوَ الْأَصْلُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْأَبِ، وَنَسَبِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَبَّرَ عَمَّا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الْمُتَفَاوِتَةِ بِالصُّورَةِ الْمُتَقَارِبَةِ فِي الْفَرْضِ، يَعْنِي بِحَسْبِ الْأَزْمِنَةِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَشْخَاصِ الْمُخْتَلِفَةِ طَبْعًا بِالْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ تَبَايَنَتْ أَعْصَارُهُمْ وَتَبَاعَدَتْ أَيَّامُهُمْ، فَالْأَصْلُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَإِبْرَازِهِمْ كُلًّا فِي عَصْرِهِ وَأَمْرِهِ وَاحِدٌ، وَلِذَا قَالَ: (وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) : وَهُوَ الدِّينُ الْحَقُّ الَّذِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، مُسْتَعَدِّينَ لِقَبُولِهِ، مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْأُمَّهَاتِ الْأَزْمِنَةُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَشَفَتْ عَنْهُمْ، وَلِذَا قَالَ: (وَلَيْسَ بَيْنَنَا) أَيْ: بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى (نَبِيٌّ) : إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى نَبِيٍّ ذِي شَرْعٍ، أَوْ عَلَى أُلِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، بَلْ جِئْتُ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] قَالَ: وَبِهَذَا بَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْحَوَارِيُّونَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ حَمَلَ النَّفْيَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: الْأَنْبِيَاءُ أُخُوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ كَمَا مَرَّ اسْتِئْنَافٌ عَلَى بَيَانِ الْمُوجِبِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ". فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ الْبَيَانُ عَلَى الْمُبِينِ، يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِيمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ اخْتِصَاصٌ مِنْهُ، لَكِنْ أَنَا أَخَصُّ النَّاسِ بِعِيسَى، لِأَنَّهُ كَانَ مُبَشِّرًا بِي قَبْلَ بِعْثَتِي، وَمُمَهِّدًا لِقَوَاعِدَ مِلَّتِي، ثُمَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مُتَابِعٌ شَرِيعَتِي، وَنَاصِرٌ لِدِينِي، فَكَأَنَّنَا وَاحِدٌ، وَالْأُولَى وَالْآخِرَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ هُمَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْحَالَةُ الْأُولَى وَهِيَ كَوْنُهُ مُبَشِّرًا، وَالْحَالَةُ الْآخِرَةُ وَهُوَ كَوْنُهُ نَاصِرًا مُقَوِّيًا لِدِينِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68] أَيْ إِنِّي أَخَصُّهُمْ بِهِ وَأَقْرَبُهُمْ فِيهِ؟ قُلْتُ: الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَتْبُوعًا، وَالتَّنْزِيلُ فِي كَوْنِهِ تَابِعًا، وَلَهُ الْفَضْلُ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَلَفَظُ الْجَامِعِ: " «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَلَا يَخْفَى حُسْنُ نَظْمِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُطَابِقَةِ لِمُرَاعَاةِ تَرْتِيبِ الدِّرَايَةِ.

5723 - وَعَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِأُصْبُعَيْهِ حِينَ يُولَدُ، غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5723 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ بَنِي آدَمَ ") : فِيهِ تَغْلِيبُ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ أَيْ كُلُّ أَوْلَادِ آدَمَ (" يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُضَمُّ مِنْ طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ كَمَنَعَهُ وَنَصَرَهُ طَعْنًا ضَرَبَهُ وَزَجَرَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَسُّ لِمَا فِي رِوَايَةٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَمَسُّهُ وَيُصِيبُهُ (فِي جَنْبَيْهِ بِأُصْبُعَيْهِ) أَيْ: السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفِي التَّثْنِيَةِ إِشْعَارٌ بِكَمَالِ الْعَدَاوَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى قَصْدِ إِضْلَالِهِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (حِينَ يُولَدُ) ، أَيْ أَوَّلَ زَمَنِ وِلَادَتِهِمْ، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ كُلُّ (غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أَيْ: لِدَعْوَةِ حَنَّةَ جَدَّتِهِ فِي حَقِّ أُمِّهِ بِقَوْلِهَا: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] (ذَهَبَ) أَيْ: أَرَادَ الشَّيْطَانُ وَشَرَعَ وَطَفِقَ (يَطْعَنُ) أَيْ: فِي جَنْبَيْ عِيسَى (فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ) . أَيْ: فَأَوْقَعَ الطَّعْنَ فِي الْمَشِيمَةِ وَهِي مَا فِيهِ الْوَلَدُ فَلَمْ يَتَأَثَّرْ مِنْ مَسِّهِ عِيسَى. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسَّ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ» عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا مَرَّ فِي الْوَسْوَسَةِ. قُلْتُ: وَتَمَامُ الْحَدِيثِ: «حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ» ، فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ اقْتَصَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذِكْرِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ فِي الْمَرَامِ، أَوْ خُصَّ بِعِيسَى نَظَرًا إِلَى بَعْضِ الْقُيُودِ فِي الْكَلَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَسْنَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ إِلَى الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ: لَفَظُ مُسْلِمٍ: " «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا» ".

5724 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يُكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ: " يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ ". وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ " وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ". فِي (بَابِ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ) . الْفَصْلُ الثَّانِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 5724 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " كَمُلَ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: كَمُلَ كَنَصَرَ وَكَرُمَ وَعَلِمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فِي كَمُلَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، لَكِنَّ كَسْرَ الْمِيمِ ضَعِيفٌ، أَقُولُ: الصَّحِيحُ الضَّمُّ لِمُوَافَقَتِهِ الْمَعْنَى اللَّازِمِيِّ، أَيْ: صَارَ كَامِلًا، أَوْ بَلَغَ مَبْلَغَ الْكَمَالِ (مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ) ، أَيْ: كَثِيرُونَ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْجِنْسِ حَتَّى صَارُوا رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ وَخُلَفَاءَ وَعُلَمَاءَ وَأَوْلِيَاءَ، (وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ) ، وَالتَّقْدِيرُ. إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُنَّ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مَحْصُورًا فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ نَصَّ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ الْكُمَّلِ مِنَ الرِّجَالِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ تِعْدَادُهُ وَاسْتِقْصَاؤُهُمْ بِطَرِيقِ الِانْحِصَارِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْكُمَّلِ الْأَنْبِيَاءُ أَوِ الْأَوْلِيَاءُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتَدَلَّ هَذَا الْحَصْرُ عَلَى أَنَّهُمَا نَبِيَّانِ لِأَنَّ أَكْمَلَ الْإِنْسَانِ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ؟ فَلَوْ كَانَتَا غَيْرَ نَبِيَّتَيْنِ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي النِّسَاءِ وَلِيَّةٌ وَلَا صِدِّيقَةٌ وَلَا شَهِيدَةٌ غَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ الْكَمَالِ ثُبُوتُ نُبُوَّتِهِمَا، لِأَنَّهُ يُطْلَقُ لِتَمَامِ الشَّيْءِ وَتَنَاهِيهِ فِي بَابِهِ، فَالْمُرَادُ بِبُلُوغِهِمَا إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْفَضَائِلِ الَّتِي لِلنِّسَاءِ. قُلْتُ: لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَقَالَ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْإِشْكَالُ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَمَالِ الْمَرْأَةِ كَمَلِيَّتُهَا حَتَّى تَلْزَمَ النُّبُوَّةُ، بَلْ يَكْفِي لِحُصُولِ الْكَمَالِ وُصُولُهَا لِلْوِلَايَةِ، فَفَائِدَةُ ذِكْرِهِمَا لِطَرِيقِ الْحَصْرِ اخْتِصَاصُهُمَا بِكَمَالٍ لَمْ يُشْرِكْهُمَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ نِسَاءِ زَمَانِهِمْ، أَوْ مِنْ نِسَاءِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ، وَذَلِكَ لِمَا نَقَلَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ نُبُوَّةِ النِّسَاءِ، وَلِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [يوسف: 109] لَكِنْ نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ نُبُوَّةُ حَوَّاءَ وَسَارَةَ وَأُمِّ مُوسَى وَهَاجَرَ وَآسِيَةَ وَمَرْيَمَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: فِي الْجَوَابِ عَنِ الْإِيرَادِ السَّابِقِ. قُلْنَا: الْكَمَالُ فِي شَيْءٍ يَكُونُ حُصُولُهُ لِلْكَمَالِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَالنُّبُوَّةُ لَيْسَتْ أَوْلَى بِالنِّسَاءِ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الظُّهُورِ وَالدَّعْوَةِ، وَحَالُهُنَّ الِاسْتِتَارُ، فَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِي حَقِّهِنَّ كَمَالًا، بَلِ الْكَمَالُ فِي حَقِّهِنَّ الصِّدِيقِيَّةُ، وَهِي قَرِيبَةٌ مِنَ النُّبُوَّةِ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ.

بِتَرَادُفِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ، بِخِلَافِ النَّبِيِّ فَلَا يَلْزَمُ مِنَ النُّبُوَّةِ عَدَمُ التَّسَتُّرِ، مَعَ أَنَّ الرِّسَالَةَ أَيْضًا لَا تُنَافِي السِّتَارَةَ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ) أَيْ: عَلَى جِنْسِهِنَّ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا جَمِيعِهِنَّ، أَوْ عَلَى النِّسَاءِ الْمَذْكُورَاتِ، أَوْ عَلَى نِسَاءِ الْجَنَّةِ، أَوْ عَلَى نِسَاءِ زَمَانِهَا، أَوْ عَلَى نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَوْ عَلَى الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ (كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَعْطِفْ عَائِشَةَ عَلَى آسِيَةَ، لَكِنْ أُبْرِزَتْ فِي صُورَةٍ جَمِيلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ تَنْبِيهًا عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِمَا امْتَازَتْ بِهِ عَنْ سَائِرِهِنَّ، نَحْوَهُ فِي الْأُسْلُوبِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مَنَ الدُّنْيَا ثَلَاثٌ: الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ". قُلْتُ: وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ ثَلَاثٍ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيلَ: إِنَّمَا مَثَّلَ بِالثَّرِيدِ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ طَعَامِ الْعَرَبِ. وَلَا يَرَوْنَ فِي الشِّبَعِ أَغْنَى غَنَاءٍ عَنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْمَدُونَ الثَّرِيدَ فِيمَا طُبِخَ بِلَحْمٍ، وَرُوِيَ: سَيِّدُ الطَّعَامِ اللَّحْمُ، فَكَأَنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ اللَّحْمِ عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ، وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الثَّرِيدَ مَعَ اللَّحْمِ جَامِعٌ بَيْنَ الْغِذَاءِ وَاللَّذَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَسُهُولَةِ التَّنَاوُلِ، وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِي الْمَضْغِ، وَسُرْعَةِ الْمُرُورِ فِي الْمِرِّيءِ، فَضُرِبَ بِهِ مَثَلًا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهَا أُعْطَتْ مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالْخَلْقِ، وَحَلَاوَةِ النُّطْقِ فَصَاحَةَ اللَّهْجَةِ وَجَوْدَةَ الْقَرِيحَةِ، وَرَزَانَةَ الرَّأْيِ، وَرَصَانَةَ الْعَقْلِ، وَالتَّحَبُّبَ إِلَى الْبَعْلِ، فَهِيَ تَصْلُحُ لِلتَّبَعُّلِ وَالتَّحَدُّثِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِهَا، وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا عَقِلَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ تَعْقِلْ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَرَوَتْ مَا لَمْ يَرْوِ مِثْلُهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّرِيدَ أَشْهَى الْأَطْعِمَةِ عِنْدَهُمْ وَأَلَذُّهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ ـ أَمَانَةَ اللَّهِ ـ الثَّرِيدُ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ عَائِشَةَ وَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ. قَالَ الْأَكْمَلُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَائِشَةَ بَعْدَ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. أَقُولُ: فَهَذَا يَحْتَمِلُ تَسَاوِي خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ، لِكَوْنِ الْأُولَى مِنَ الْعُرَفَاءِ السَّوَابِقِ، وَالثَّانِيَةِ مِنَ الْفُضَلَاءِ اللَّوَاحِقِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: فَاطِمَةُ أَفْضَلُ مِنْ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ عَائِشَةُ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النُّقَايَةِ وَشَرْحِهَا: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ مَرْيَمُ وَفَاطِمَةُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ: حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» . وَفِي الصَّحِيحِ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «هَذَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ لِيُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأُمَّهُمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ: مَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَفَاطِمَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ وَخَيْرُ نِسَائِهَا فَاطِمَةُ. قُلْتُ: وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ خَدِيجَةُ، ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بَعْدَ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ» ". ثُمَّ قَالَ السُّيُوطِيُّ: " وَأَفْضَلُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ ". قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يُكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ وَآسِيَةُ وَخَدِيجَةُ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» ". وَفِي لَفْظٍ: " إِلَّا ثَلَاثٌ: مَرْيَمُ وَآسِيَةُ وَخَدِيجَةُ ". وَفِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ. ثَالِثُهَا: الْوَقْفُ. قَالَتْ: وَصَحَّحَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ قَالَتْ: قَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَقَالَ: " «لَا وَاللَّهِ مَا رَزَقَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا آمَنَتْ بِي حِينَ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَأَعْطَتْنِي مَالَهَا حِينَ حَرَمَنِي النَّاسُ» ". وَسُئِلَ ابْنُ دَاوُدَ فَقَالَ: عَائِشَةُ أَقْرَأَهَا السَّلَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِبْرِيلَ، وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا السَّلَامَ جِبْرِيلُ مِنْ رَبِّهَا، فَهِيَ أَفْضَلُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فَقِيلَ لَهُ: فَأَيٌّ أَفْضَلُ فَاطِمَةُ أَمْ أُمُّهَا؟

قَالَ: فَاطِمَةُ بَضْعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا نَعْدِلُ بِهَا أَحَدًا، وَسُئِلَ السُّبْكِيُّ فَقَالَ: الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَدِينُ لِلَّهِ بِهِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ، ثُمَّ أَمُّهَا خَدِيجَةُ، ثُمَّ عَائِشَةُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ الْعِمَادِ أَنَّ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ مِنْ فَاطِمَةَ بِاعْتِبَارِ الْأُمُومَةِ لَا السِّيَادَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: تَقَدُّمُ آسِيَةُ عَلَى مَرْيَمَ وَزِيَادَةٌ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ إِلَخْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ: " يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ) أَيْ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ " ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ ". (وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ ") : تَمَامُهُ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ " قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: " فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنُ خَلِيلِ اللَّهِ» " الْحَدِيثَ. قَالَ شَارِحٌ أَيْ: إِذَا لَمْ تَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا فَأَكْرَمُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ يُوسُفَ. قُلْتُ: أَوْ فِي النَّسَبِ وَالْحَسَبِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْدَادُ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ. (وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ» ") : تَمَامُهُ: " «ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» " (فِي بَابِ الْمُفَاخِرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ) .

5725 - «عَنْ أَبِي رَزِينٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: " كَانَ فِي عَمَاءٍ، مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: الْعَمَاءُ أَيْ: لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5725 - (عَنْ أَبِي رَزِينٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ لَقْيَطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ صَبْرَةَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْقَافِ، وَصَبْرَةُ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، عُقَيْلِيٌّ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، عِدَادُهُ فِي الطَّائِفِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَاصِمٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ) ؟ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَكَانَ مَعَ الزَّمَانِ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ مَعْدُودَانِ، فَلَوْلَا التَّأْوِيلُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ لَأَوَّلُ السُّؤَالِ وَآخِرُهُ يَتَعَارَضَانِ، وَسَيَجِيءُ بَيَانُ كَشْفِ الْمَعْنَى مِنَ الشُّرَّاحِ الْأَعْيَانِ (قَالَ: " كَانَ فِي عَمَاءٍ ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَمْدُودًا أَيْ: فِي غَيْبِ هُوُيَّةِ الذَّاتِ بَلَا ظُهُورِ مَظَاهِرِ الصِّفَاتِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ، فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأُعْرَفَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَدَلَالَةً عَلَيْهِ عَلَى تَفْسِيرِ حَبْرِ الْأُمَّةِ أَيْ لِيَعْرِفُونِ. قَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدَّوْلَةَ فِي كِتَابِهِ (الْعُرْوَةُ) فَأَثْبَتَ تَجَلِّيَ الذَّاتِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًا ثُمَّ تَجَلِّيهِ بِالصِّفَةِ الْآحِدِيَّةِ بِقَوْلِهِ: أَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ. ثَانِيًا: ثُمَّ تَجَلِّيهِ بِالصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ بِقَوْلِهِ: فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأُعْرَفَ. ثَالِثًا: وَفِي اصْطِلَاحَاتِ الصُّوفِيَّةِ لِلْكَاشِيِّ الْعَمَاءُ هِيَ الْحَضْرَةُ الْآحِدِيَّةُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَهُوَ فِي حِجَابِ الْجَلَالِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْآحِدِيَّةِ الْجَمْعَ، فَإِنَّهَا بَيْنَ غَيْبِ الْغُيُوبُ، وَبَيْنَ آحِدِيَّةِ الصُّوفِيَّةِ، فَإِنَّهَا بَيْنَ أَحَدِيَّةِ الْجَمْعِ وَبَيْنَ الْوَاحِدِيَّةِ، وَهَذِهِ الْبَيْنُونَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْعَمَاءَ فِي اللُّغَةِ غَيْمٌ رَقِيقٌ يَحُولُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْآحِدِيَّةِ الصُّوفِيَّةِ حَائِلَةٌ بَيْنَ سَمَاءِ الذَّاتِ وَأَرْضِ الْكَثْرَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَضْرَةُ الْوَاحِدِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، لِأَنَّ الْعَمَاءَ هُوَ الْغَيْمُ الرَّقِيقُ، وَالْغَيْمُ هُوَ الْحَائِلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْحَضْرَةُ الْوَاحِدِيَّةُ هِيَ الْحَائِلَةُ بَيْنَ سَمَاءِ الْآحِدِيَّةِ الصِّرْفَةِ، وَبَيْنَ أَرْضِ الْكَثْرَةِ الْخِلْقِيَّةِ، وَقَدْ جَعَلَ الْفَارِقُ الْجَامِيُّ شَرْحًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ التَّحْقِيقَ، عَلَيْكَ بِذَلِكَ التَّصْنِيفِ، فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، وَتَبِعَ كُلُّ فَرِيقٍ مَذْهَبَهُمْ، هَذَا وَفِي الْفَائِقِ الْعَمَاءُ: هُوَ السَّحَابُ الرَّقِيقُ، وَقِيلَ: السَّحَابُ الْكَثِيفُ الْمُطْلَقُ، وَقِيلَ: شِبْهُ الدُّخَانِ يَرْكَبُ رَأْسَ الْجِبَالِ، وَعَنِ الْجَرْمِيِّ الضَّبَابُ، وَفِي النِّهَايَةِ الْعَمَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ السَّحَابُ. وَفِي الْقَامُوسِ: هُوَ السَّحَابُ الْمُرْتَفِعُ، أَوِ الْكَثِيفُ، أَوِ الْمَطَرُ الرَّقِيقُ، أَوِ الْأَسْوَدُ، أَوِ الْأَبْيَضُ، أَوْ هُوَ الَّذِي هَرَاقَ.

مَاؤُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ التِّبْيَانِيَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السَّحَابَ كِنَايَةٌ عَنْ حِجَابِ الْجَلَالِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حِجَابِ الذَّاتِ الْبَاعِثِ عَلَى سِرِّ الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَلَوِيَّاتِ وَالسَّلَفِيَّاتِ، وَلِذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَاءُ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَمَى بِالْقِصَرِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْبَصَرِ، فَقِيلَ: هُوَ كُلُّ أَمْرٍ لَا تُدَارِكُهُ عُقُولُ بَنِي آدَمَ، وَلَا يَبْلُغُ كُنْهَهُ الْوَصْفُ، وَلَا يُدْرِكُهُ الْفَطِنُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَيِّفُهُ بِصِفَةٍ أَيْ نُجْرِي اللَّفْظَ عَلَى مَا جَاءَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ مَعَ التَّنْزِيهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُوثِ وَالتَّبْدِيلِ. (مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ) : مَا: نَافِيَةٌ فِيهِمَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِالْعَمَاءِ مَا لَا تَقْبَلُهُ الْأَوْهَامُ وَلَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ، عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ الْمَكَانِ بِمَا لَا يُدْرَكُ وَلَا يُتَوَهَّمُ، وَعَنْ عَدَمِ مَا يَحْوِيهِ وَيُحِيطُ بِهِ الْهَوَاءُ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْخَلَاءُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْجِسْمِ، لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَمَّا خُلِقَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ فَلَوْ كَانَ الْعَمَاءُ أَمْرًا مَوْجُودًا لَكَانَ مَخْلُوقًا، إِذْ مَا مِنْ شَيْءٍ سِوَاهُ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ، فَلَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ طِبْقَ السُّؤَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] وَنَحْوِهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَيْنَ كَانَ عَرْشُ رَبِّنَا؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] : الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ عَنِ الْعَرْشِ لَمَا كَانَ حَاجَةٌ لِلتَّعَرُّضِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى التَّقْدِيرِ، وَلَا بُدَّ لِقَوْلِهِ فِي عَمَاءٍ بِالْمَدِّ مِنَ التَّأْوِيلِ، حَتَّى يُوَافِقَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَمًّى مَقْصُورًا، وَمَا وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: " «مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ» " جَاءَ تَتْمِيمًا صَوْنًا لِمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي عَمَاءٍ مِنَ الْمَكَانِ، فَإِنَّ الْغَمَامَ الْمُتَعَارَفَ مُحَالٌ أَنْ يُوجَدَ بِغَيْرِ هَوَاءٍ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: " «كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» " عَلَى مَا سَبَقَ فَالْجَوَابُ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ سُئِلَ عَنِ الْمَكَانِ؟ فَأَجَابَ عَنِ الْإِمْكَانِ، يَعْنِي إِنْ كَانَ هَذَا مَكَانًا فَهُوَ فِي مَكَانٍ، وَهُوَ إِرْشَادٌ لَهُ يَفِي غَايَةً مِنَ اللُّطْفِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) : وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ شُيُوخِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (الْعَمَاءُ) أَيْ: يَعْنِي مَعْنَاهُ (لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ) : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ فِي هَذَا الشَّأْنِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَالْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ كَانَ، وَإِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ.

5726 - «وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي الْبَطْحَاءِ فِي عِصَابَةٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِيهِمْ، فَمَرَّتْ سَحَابَةٌ، فَنَظَرُوا إِلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ ": قَالُوا: السَّحَابَ. قَالَ: " وَالْمُزْنَ؟ " قَالُوا: وَالْمُزْنَ. قَالَ: " وَالْعَنَانَ ". قَالُوا وَالْعَنَانَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ ". قَالُوا: لَا نَدْرِي قَالَ: " إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ وَإِمَّا اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَالسَّمَاءُ الَّتِي فَوْقَهَا كَذَلِكَ " حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ. ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ، بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوَعَالٍ، بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَوُرُكِهِنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ " الْعَرْشُ "، بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ اللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5726 - (وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، زَعَمَ) أَيْ: نُقِلَ (أَنَّهُ) أَيْ: الْعَبَّاسَ (كَانَ جَالِسًا بِالْبَطْحَاءِ) أَيْ: فِي الْمُحَصَّبِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ فَوْقَ مَقْبَرَةِ الْمُعَلَّى، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَكَّةَ، وَأَصْلُ الْبَطْحَاءِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ مَسِيلٌ وَاسِعٌ، فِيهِ دِقَاقُ الْحَصَى (فِي عِصَابَةٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتِعْمَالُ زَعَمَ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى عَبَّاسٍ رَمَزٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا، وَلَا تِلْكَ الْعِصَابَةُ كَانُوا مُسْلِمِينَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْبَطْحَاءِ. قُلْتُ: وَكَانَ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ غَالِبًا مُجْتَمَعُ الْكُفَّارِ، وَمَجْمَعُ رَأْيِهِمْ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اتَّفَقَ مَشَايِخُ الْعَرَبِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَنَّهُمْ يَهْجُرُونَ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَا يُبَايِعُونَهُمْ، وَلَا يُشَاوِرُونَهُمْ، وَلَا يُنَاكِحُونَهُمْ، وَلَا يُجَالِسُونَهُمْ، حَتَّى يَتْرُكُوا نُصْرَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِمَايَتَهُ، كَمَا هُوَ فِي السِّيَرِ مَعْرُوفٌ.

وَلِذَا لَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ نَزَلَ بِهِ عِنْدَ نُزُولِهِ مِنْ مِنًى إِشَارَةً إِلَى مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى أَعْدَاءِ الدَّيْنِ، وَإِيمَاءً إِلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْيَقِينِ، هَذَا وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِمَّا يَدُلُّ صَرِيحًا أَنَّ تِلْكَ الْعِصَابَةَ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَأَمَّا " زَعَمَ "، فَكَثِيرًا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِيهِمْ) ، أَيْ حِينَئِذٍ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ بَعْدَ الْقِصَّةِ الْمَسْطُورَةِ بَعْدَمَا وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْهَدِيَّةِ، (فَمَرَّتْ سَحَابَةٌ، فَنَظَرُوا إِلَيْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ ") ؟ مَا: اسْتِفْهَامِيَّةٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، وَهُوَ حَمْلُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَالْمَقْصُودُ التَّثْبِيتُ ضِدَّ الْإِنْكَارِ أَيْ أَيُّ: شَيْءٍ تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ إِشَارَةٌ إِلَى السَّحَابَةِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتُسَمُّونَ، وَالْأَوَّلُ لَفْظَةُ: " مَا " (قَالُوا: السَّحَابَ) . بِالنَّصْبِ أَيْ: نُسَمِّيهِ السَّحَابَ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ السَّحَابُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ وَاحِدَةٌ مِنْ جُمْلَةِ جِنْسِ السَّحَابِ (قَالَ: وَالْمُزْنُ) أَيْ وَتُسَمُّونَهَا أَيْضًا الْمُزْنَ (قَالُوا: وَالْمُزْنَ) . أَيْ: نُسَمِّيهَا أَيْضًا. فَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْغَيْمُ، وَالسَّحَابُ وَاحِدَتُهُ مُزْنَةٌ وَقِيلَ: هِيَ السَّحَابَةُ الْبَيْضَاءُ زَادَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} [الواقعة: 69] (قَالَ: وَالْعَنَانُ؟ قَالُوا: وَالْعَنَانُ) . كَسَحَابٍ زِنَةً وَمَعْنَى، مِنْ عَنَّ أَيْ: ظَهَرَ. وَفِي النِّهَايَةِ الْوَاحِدَةُ عَنَانَةُ، وَقِيلَ مَا عَنَّ لَكَ فِيهَا أَيِ اعْتَرَضَ وَبَدَا لَكَ إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَاطَفَهُمْ فِي الْكَلَامِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَعْرِفَتَهُ بِلُغَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ تَدْرِيجًا بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَعْلُومِهِمْ إِلَى مَجْهُولِهِمْ، وَتَرَقِّيًا مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ. (قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ") ؟ أَيْ: مَا مِقْدَارُ بُعْدَ مَسَافَةِ مَا بَيْنَهُمَا (قَالُوا: لَا نَدْرِي. قَالَ: " إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ وَإِمَّا اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً) ، الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي كَذَا قِيلَ، وَلِلتَّنْوِيعِ لِاخْتِلَافِ أَمَاكِنِ الصَّاعِدِ وَالْهَاوِي، وَبِهَذَا يَظْهَرُ صِحَّةُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمُرَادُ بِالسَبْعُونَ فِي الْحَدِيثِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ، لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَبَيْنَ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةَ عَامٍ أَيْ سَنَةً، وَالتَّكْثِيرُ هَذَا أَبْلَغُ وَالْمَقَامُ لَهُ أَدْعَى. (وَالسَّمَاءُ) : بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ (الَّتِي فَوْقَهَا) أَيْ: فَوْقَ سَمَاءِ الدُّنْيَا (كَذَلِكَ) أَيْ: فِي الْبُعْدِ (حَتَّى عِنْدَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ) . أَيْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَاتِ (ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ) أَيْ: عَظِيمٌ (بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ) . أَيْ الْبَحْرِ (ثَمَانِيَةُ أَوَعَالٍ) ، جَمْعُ وَعْلٍ، وَهُوَ الْعَنْزُ الْوَحْشِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ تَيْسُ شَاةِ الْجَبَلِ (بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ) : جَمْعُ ظِلْفٍ بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ لِلْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَالطِّيبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ لِلدَّابَّةِ، وَالْخُفُّ لِلْبَعِيرِ. (وَوَرِكِهِنَّ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ مَا فَوْقَ أَفْخَاذِهِنَّ (مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ) ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِنَّ مَلَائِكَةٌ عَلَى أَشْكَالٍ أَوَعَالٍ، وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ) أَيْ: مَحْمُولٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7] (بَيْنَ أَسْفَلِهِ) أَيْ: الْعَرْشِ (وَأَعْلَاهُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ) ، أَيْ مِنْ كَثْرَةِ الْبُعْدِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْحَدِّ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ بِجَنْبِ الْعَرْشَ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ (ثُمَّ اللَّهُ) أَيْ: وَسِعَةُ عِلْمُهُ أَوِ اتِّسَاعُ قُدْرَتِهِ فِي مُلْكِهِ (فَوْقَ ذَلِكَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَشْغَلَهُمْ عَنِ السُّفْلِيَّاتِ إِلَى الْعُلْوِيَّاتِ، وَالتَّفْكِيرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْعَرْشِ، ثُمَّ يَتَرَقَّوْا إِلَى مَعْرِفَةِ خَالِقِهِمْ وَرَازِقِهِمْ، وَيَسْتَكْفُوا عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَلَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، فَأَخَذَ فِي التَّرَقِّي مِنَ السَّحَابِ، ثُمَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ، ثُمَّ مِنَ الْبَحْرِ، ثُمَّ مِنَ الْأَوْعَالِ، ثُمَّ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى ذِي الْعَرْشِ، وَالْفَوْقِيَّةُ بِحَسْبِ الْعَظَمَةِ لَا الْمَكَانِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَالِي الشَّأْنِ عَظِيمُ الْبُرْهَانِ، وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: فَوْقَ الْعَرْشِ حُكْمًا وَعَظَمَةً وَاسْتِيلَاءً ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

5727 - «وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: جَهِدَتِ الْأَنْفُسُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، وَنُهِكَتِ الْأَمْوَالُ، وَهَلَكَتِ الْأَغْنَامُ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ ". فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ قَالَ: " وَيْحَكَ إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ لَهَكَذَا " وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مَثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ " وَإِنَّهُ لِيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5727 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: جَاءَهُ (أَعْرَابِيٌّ) أَيْ: بَدَوِيٌّ (فَقَالَ: جُهِدَتِ الْأَنْفُسُ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْجُهْدِ بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَشَقَّةُ وَبِضَمِّهَا الطَّاقَةُ، وَالْمَعْنَى حَمَلَتْ فَوْقَ طَاقَتِهَا (وَجَاعَ الْعِيَالُ) ، عِيَالُ الرَّجُلِ بِالْكَسْرِ مَنْ يَعُولُهُ وَيَمُونُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (وَنُهِكَتْ) : بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ نَقَصَتْ (الْأَمْوَالُ) ، أَيْ الَّتِي تَنْمُو مِنَ الْأَمْطَارِ (وَهَلَكَتِ الْأَنْعَامُ) ، وَهُوَ جَمْعُ نَعَمٍ مُحَرَّكَةً الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا) ، أَيْ: فَاطْلُبِ اللَّهَ لِلسَّقْيِ بِالْمَطَرِ مِنْ أَجْلِ مَعَاشِنَا الَّذِي هُوَ زَادُ مَعَادِنَا نَسْتَشْفِعُ أَيْ: نَطْلُبُ الشَّفَاعَةَ (بِكَ) أَيْ: بِوُجُودِكَ وَحُرْمَتِكَ وَبِعَظَمَتِكَ (عَلَى اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ اللَّهَ) أَيْ: نَسْتَجِيرُ وَنَسْتَغِيثُ بِهِ (عَلَيْكَ) . فِي أَنْ تَشْفَعَ لَنَا عِنْدَهُ بِأَنْ يُوَفِّقَكَ عَلَى مُسَاعَدَتِنَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مُوَهِّنًا لِلتَّسَاوِي فِي الْقَدْرِ، أَوِ التَّشَارُكِ فِي الْأَمْرِ، وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الشِّرْكِ مُطْلَقًا، وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَقَالَ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ لَدَيْهِ، وَتَعَجَّبَ مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ") ، أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ الْمُشَارَكَةِ (" سُبْحَانَ اللَّهِ ") ، كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا، أَوْ ذَكَرَ الثَّانِي تَعَجُّبًا (فَزَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ حَتَّى تَبَيَّنَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ إِلَى وُجُوهِ أَصْحَابِهِ) ، لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ تَكْرِيرِ تَسْبِيحِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، فَخَافُوا مِنْ غَضَبِهِ فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا أَثَّرَ فِيهِمُ الْخَوْفُ رَقَّ لَهُمْ وَقَطَعَ التَّسْبِيحَ وَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ (ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ) : بِمَعْنَى وَيْلَكَ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ مَعْنَى الشَّفَقَةِ عَنِ الْمَزَلَّةِ وَالْمَزْلَقَةِ، وَالثَّانِي دَعَا عَلَيْهِ بِالْهَلَكَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَالْمَعْنَى اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُتَكَلِّمُ الْجَاهِلُ فِي كَلَامِهِ الْغَافِلُ عَنْ مَرَامِهِ (إِنَّهُ) أَيْ: الشَّأْنُ (لَا يُسْتَشْفَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ شَأْنُ اللَّهِ) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ لِأَنَّ شَأْنَهُ الْعَلِيُّ وَبُرْهَانَهُ الْجَلِيُّ (أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ) ، أَيْ مِنْ أَنْ يُسْتَشْفَعَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ، يُقَالُ: اسْتَشْفَعْتُ بِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ لِيَشْفَعَ لِي إِلَيْهِ فَشَفَّعَهُ أَجَابَ شَفَاعَتَهُ، وَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ الشَّفَاعَةَ هِيَ الِانْضِمَامِ إِلَى آخَرَ نَاصِرًا لَهُ وَسَائِلًا عَنْهُ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ عَظِيمٍ مَنَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسْتَشْفَعَ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ، وَقَوْلُهُ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَثَرِ هَيْبَةٍ أَوْ خَوْفٍ اسْتُشْعِرَ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْزِيهًا عَمَّا نُسِبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الِاسْتِشْفَاعِ بِهِ عَلَى أَحَدٍ وَتَكْرَارِهِ مِرَارًا. (وَيْحَكَ) : كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِزَجْرِهِ وَتَبْيِينًا لِأَمْرِهِ (أَتَدْرِي مَا اللَّهُ) ؟ أَيْ عَظَمَتَهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ وَسَطْوَةِ كِبْرِيَائِهِ وَجَبَرُوتِهِ (إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ) أَيْ: مُحِيطٌ بِهَا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ (لَهَكَذَا) . بِفَتْحِ اللَّامِ الِابْتِدَائِيَّةِ دَخَلَتْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ تَأْكِيدًا لِلْحُكْمِ (وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ) أَيْ: أَشَارَ بِهَا وَفِعْلًا بَيَانٌ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ قَوْلًا (مِثْلَ الْغَيْبَةِ عَلَيْهِ) : حَالٌ مِنَ الْعَرْشِ أَيْ مُمَاثِلًا إِلَّا عَلَى مَا فِي جَوْفِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ حَالٌ مِنَ الْمُشَارِ بِهِ، وَفِي قَالَ مَعْنَى الْإِشَارَةِ بِأَصَابِعِهِ إِلَى مُشَابَهَةِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَهِيَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ لِلْأَصَابِعِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْكَفِّ مِثْلَ حَالَةِ الْإِشَارَةِ (وَإِنَّهُ) أَيْ: الْعَرْشَ مَعَ مَا وُصِفَ بِهِ مِنَ الْمَجْدِ وَالْكَرَمِ وَالسِّعَةِ وَالْعَظَمَةِ (لَيَئِطُّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: لَيَتَضَايَقُ وَيَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ (بِهِ) أَيْ: بِحَقِّ مَعْرِفَتِهِ وَعَنْ سَعَةِ عِلْمِهِ وَإِحَاطَةِ عَظَمَتِهِ، حَيْثُ يَئِطُّ لِمَا

يَرْتَكِبُهُ، وَيَرْتَعِدُ مِمَّا يَرْكَبُهُ مِنْ أَعْبَاءِ جَلَالِهِ وَهَيْبَتِهِ (أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ) أَيْ: كَعَجْزِ الرَّحْلِ عَنِ احْتِمَالِ الرَّاكِبِ. فِي النِّهَايَةِ أَيْ: أَنَّ الْعَرْشَ لِيَعْجَزُ عَنْ حَمْلِهِ وَعَظَمَتِهِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِقُوَّةِ مَا فَوْقَهُ وَعَجْزِهِ عَنِ احْتِمَالِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ، وَالْكَيْفِيَّةُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَحْقِيقُ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَا تَحْدِيدُهُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ تَقْرِيبٍ أُرِيدَ بِهِ تَقْرِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النُّفُوسِ، وَإِفْهَامِ السَّائِلِ مِنْ حَيْثُ يُدْرِكُهُ فَهْمُهُ إِذْ كَانَ أَعْرَابِيًّا حَافِيًا لَا عِلْمَ لَهُ بِمَعَانِي مَا دَقَّ مِنَ الْكَلَامِ، وَقَرَّرَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ مَعْنَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ فِي نَفْسِ السَّائِلِ، وَأَنَّ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يُجْعَلُ شَفِيعًا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنَّ مَعْنَى يَئِطُّ يُصَوِّتُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّنْزِيهِ مِنْ عَظْمَةِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، حَيْثُ تَحَيَّرَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ مِنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، كَصَوْتِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِالرَّاكِبِ الثَّقِيلِ الشَّدِيدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5728 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، أَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقَيْهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5728 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ ") أَيْ: عَنْ وَصْفِ مَلَكٍ عَظِيمٍ (مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ) أَيْ: الْمُعَظَّمِينَ لِقَوْلِهِ (مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ) . فَإِنَّهُمْ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْمَطَايَا عَلَى قَدْرِ الْعَطَايَا (أَنَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُكْسَرُ (مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقَيْهِ) : وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِيهِمَا (مَسِيرَةُ سَبْعَمِائَةِ عَامٍ) . يَعْنِي: فَقِسِ الْبَاقِي عَلَى هَذَا النِّظَامِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الضِّيَاءُ.

5729 - «وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ: " هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ، فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، لَوْ دَنَوْتُ مِنْ بَعْضِهَا لَاحْتَرَقْتُ» ". هَكَذَا فِي الْمَصَابِيحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5729 - (وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى) : بِضَمِّ الزَّايِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَهُ صُحْبَةٌ، مَاتَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ) أَيْ: ارْتَعَدَ ارْتِعَادًا شَدِيدًا مِنْ عَظَمَةِ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَمِنْ هَيْبَةِ مَا سَمِعَ مِنَ الْمَقَالِ. قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حَقِيقَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي دَارِ الْبَقَاءِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتْ مُسْتَحِيلَةً مَا سَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى أَمْ لَا؟ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الرُّؤْيَةُ غَالِبًا تُنْبِئُ عَنِ الْقُرْبَةِ فَارْتَعَدَ جِبْرِيلُ مِنَ الْهَيْبَةِ، (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ) ، قَالَ شَارِحٌ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُقْصَانِ جِبْرِيلَ، وَالْحِجَابُ مِنْ طَرَفِ جِبْرِيلَ اه. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَحْجُوبَ مَغْلُوبٌ، فَهُوَ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ الْمَوْصُوفِ بِنَعْتِ النُّقْصَانِ، وَأَمَّا الْخَالِقُ ذُو الْجَلَالِ الْمَنْعُوتُ بِوَصْفِ الْكَمَالِ، فَلَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ وَلَوْ مِنْ أَنْوَارِ الْجَمَالِ (لَوْ دَنَوْتُ) أَيْ: قَرُبْتُ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (مِنْ بَعْضِهَا) أَيْ: مِنْ بَعْضِ جَمِيعِ تِلْكَ الْحُجُبِ النُّورَانِيَّةِ عَلَى فَرْضِ الْمُحَالِ، وَإِلَّا فَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، (لَاحْتَرَقْتُ) أَيْ: مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ النُّورِ الَّذِي يَغْلِبُ النَّارَ فِي الظُّهُورِ، فَإِنَّ النَّارَ تَقُولُ: جُزْ يَا مُؤْمِنَ فَإِنَّ نُورَكَ أَطْفَأَ لَهَبِي، فَكَيْفَ بِنُورِ رَبِّي وَهُوَ حَسْبِي؟ (هَكَذَا) أَيْ: لَفَظُ الْحَدِيثِ (فِي الْمَصَابِيحِ) أَيْ: عَنْ زُرَارَةَ.

5730 - وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَةِ " عَنْ أَنَسٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: " فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5730 - (وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَنَسٍ إِلَّا أَنَّهُ) أَيْ: أَنَسًا (لَمْ يَذْكُرْ: " فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ) . وَفِي (الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي (الْأَوْسَطِ) عَنْ أَنَسٍ: سَأَلْتُ جِبْرِيلَ: " هَلْ تَرَى رَبَّكَ؟ " قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ لَوْ رَأَيْتُ أَدْنَاهَا لَاحْتَرَقْتُ.

5731 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِسْرَافِيلَ، مُنْذُ يَوْمَ خَلْقَهُ صَافًّا قَدَمَيْهِ لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَبْعُونَ نُورًا، مَا فِيهَا مِنْ نُورٍ يَدْنُو إِلَّا احْتَرَقَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5731 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِسْرَافِيلَ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقَهُ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ مُنَوَّنًا (صَافًّا) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ حَالَ كَوْنِ إِسْرَافِيلَ وَاقِفًا (قَدَمَيْهِ) : مَفْعُولُ صَافًّا، وَاعْلَمْ أَنَّ مُنْذُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِكَسْرِهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، وَيَلِيهِ اسْمٌ مَجْرُورٌ، وَحِينَئِذٍ: حَرْفُ جَرٍّ بِمَعْنَى " مِنْ " فِي الْمَاضِي، وَبِمَعْنَى " فِي " فِي الْحَاضِرِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: مُنْذُ: هَاهُنَا حَرْفُ جَرٍّ وَهُوَ. بِمَعْنَى " فِي ". وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: صَافًّا حَالٌ مِنْ إِسْرَافِيلَ لَا مِنْ ضَمِيرِهِ الْمَنْصُوبِ، وَمُنْذُ يَوْمَ: ظَرْفٌ لِصَافًا وَلَيْسَ بِمَعْنَى " فِي ". وَقَالَ الدَّارَحَدِيثِيُّ: " اتَّفَقُوا أَنَّ مُذْ وَمُنْذُ إِنَّمَا يَدْخُلَانِ اسْمَا الزَّمَانِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنْ أُرِيدَ ابْتِدَاءُ الزَّمَانِ الْمَاضِي الَّذِي انْتِهَاؤُهُ (كَمَنْ) فِيهِ يَكُونَانِ لِلِابْتِدَاءِ نَحْوَ: مَا رَأَيْتُهُ مُذْ يَوْمَيْنِ أَوْ مُذْ سَنَةٍ كَذَا أَيْ: انْتَفَى الرُّؤْيَةَ مِنِ ابْتِدَاءِ يَوْمَيْنِ أَنَا فِي آخِرِهِمَا، وَلَيْسَا بِمَعْنَى " فِي " وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضٌ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُمَا نَفْيُ الرُّؤْيَةِ فِي أَزْمِنَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَنْتَ فِي آخِرِهَا مَقْصُودًا بِهِ ابْتِدَاؤُهَا وَانْتِهَاؤُهَا اه. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِسْرَافِيلَ صَافًّا قَدَمَيْهِ مِنْ أَوَّلِ مُدَّةِ خَلْقِهِ، (لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ) أَيْ: إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُ أَدَبًا، أَوْ لَا يَرْفَعُ نَظَرَهُ عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ خَوْفًا (" بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَبْعُونَ نُورًا ") ، أَيْ مِنْ أَنْوَارِ الْحِجَابِ، وَأَسْرَارِ الْغِيَابِ، وَأَسْتَارِ النِّقَابِ حَتَّى لَا يَعْرِفَهُ غَيْرُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] (مَا مِنْهَا) أَيْ: لَيْسَ مِنَ السَبْعِينَ مِنْ نُورٍ (يَدْنُو) أَيْ: يَقْرُبُ (مِنْهُ) : إِسْرَافِيلُ فَرْضًا (إِلَّا احْتَرَقَ) . أَيْ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ الَّذِي فَوْقَ طَاقَةِ نَظَرِ إِسْرَافِيلَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

5732 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، خَلَقْتَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ وَيَرْكَبُونَ، فَاجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ وَنَفَخْتُ مِنْ رُوحِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5732 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ ") أَيْ: يَوْمَ الْمِيثَاقِ أَوْ بَعْدَهُ (قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ خَلَقْتَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ ") : بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ يَطَئُونَ أَوْ يَتَزَوَّجُونَ (وَيَرْكَبُونَ) أَيْ: عَلَى الدَّوَابِّ فِي الْبَرِّ، وَعَلَى السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ، (فَاجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا) أَيْ: بِطَرِيقِ الدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ، أَوِ اجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا فَقَطْ، (وَلَنَا الْآخِرَةَ) أَيْ: نَعِيمَهَا لِحِرْمَانِنَا مِنَ الْحُظُوظِ الْمَذْكُورَةِ فِي الدُّنْيَا تَعَادُلًا بَيْنَنَا. (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَرُوِيَ بِالْإِفْرَادِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: لَا أَجْعَلُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِ " أَجْعَلُ "، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (لَا) رَدًّا لِقَوْلِهِمْ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَبْلَغُ يَعْنِي: أَكْثَرُ مُبَالَغَةً أَوْ بَلَاغَةُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ مُكَرَّرًا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ، وَالْمَعْنَى لَا أَجْعَلُ عَاقِبَةَ مَنْ خَلَقْتُهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ مُرَكَّبًا مِنْ مَعْجُونِ الْكَمَالِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى قَابِلِيَّةِ الْهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ، وَاسْتِعْدَادِ مَظْهَرِيَّةِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أَيْ: بَعْدَ تَرْبِيَةِ كَمَالِ جَسَدِهِ وَتَصْوِيرِهِ شَكْلًا كَرِيمًا تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا (كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ) أَيْ: بِالْخَلْقِ الْآتِي: (فَكَانَ) . أَيْ

مِنْ غَيْرِ التَّوَانِي. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِي الْكَرَامَةِ مَنْ خَلَقْتُهُ بِنَفْسِي وَلَا وَكَّلْتُ خَلْقَهُ إِلَى أَحَدٍ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وَهُوَ آدَمُ وَأَوْلَادُهُ، مَعَ مَنْ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ بِقَوْلِ (كُنْ) وَهُوَ الْمَلِكُ، وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ كَقَوْلِهِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: لَا يَسْتَوِي الْبَشَرُ وَالْمَلَكُ فِي الْكَرَامَةِ وَالْقُرْبَةِ، بَلْ كَرَامَةُ الْبَشَرِ أَكْثَرُ وَمَنْزِلَتُهُ أَعْلَى، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَكِ. أَقُولُ: وَوَجْهُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَكَ خُلِقَ مَعْصُومًا، فَصَارَ عَنِ الْجَحِيمِ مَمْنُوعًا وَعَنِ النَّعِيمِ مَحْرُومًا، وَالْبِشْرُ خُلِقَ مَمْحُونًا بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَمَبْلُوًّا بِالْعَطِيَّةِ وَالْبَلِيَّةِ، فَمَنْ قَامَ بِحَقِّهَا اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ فِي الدَّارَيْنِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُمَا اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ فِي الْكَوْنَيْنِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5733 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5733 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُؤْمِنُ ") ؟ أَيْ الْكَامِلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْأَوْلِيَاءِ (أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ) . وَهُمْ خَوَاصُّهُمْ أَوْ عَوَامُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ عَوَامِّهِمْ وَبِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا عَوَامُّهُمْ: قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: عَوَامُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ، وَخَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] وَيَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ اه. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِخَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَبِخَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ نَحْوَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، وَبِعَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالْخُلَفَاءِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ: بِعَوَّامِ الْمَلَائِكَةِ سَائِرُهُمْ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ أَوْلَى مِنْ إِجْمَالِ بَعْضِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَكِ، بِمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ لَمَّا وُجِدَ فِيهِمُ الْكُمَّلُ مِنَ الرُّسُلِ، أَوِ الْأَكْمَلُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لِعَدَمِ وُجُودِهِمْ فِيهِمْ فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . قُلْتُ: وَحَدِيثُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الْكَعْبَةِ. فِي ابْنِ مَاجَهْ: بِسَنَدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَنَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ: " «لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكَ» " وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ.

5734 - وَعَنْهُ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي فَقَالَ: " «خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمُكَوَّرَةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ وَآخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5734 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي) : إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ قُرْبِهِ، وَدَلَالَةً عَلَى تَمَامِ حِفْظِهِ، وَلَعَلَّ فِي أَخْذِ يَدِهِ، إِيمَاءً إِلَى تَعْدَادِ أَعْدَادِ الْخَمْسَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ الْغَائِبَةِ وَالْفَذْلَكَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، (فَقَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ ") أَيْ: التُّرَابَ وَهُوَ الْأَرْضُ (يَوْمَ السَّبْتِ) ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ آخِرَ يَوْمِهِ الْمُسَمَّى بِعَشِيَّةِ الْأَحَدِ فَلَهَا حِكْمُهُ، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] (وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ) ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ - وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت: 9 - 10] (وَخَلْقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ) أَيْ: جِنْسَهُ (يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) ، بِالْمَدِّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] أَيْ فِي بَقِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ (وَخَلَقَ النُّورَ) : بِالرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنُّونِ فِي آخِرِهِ. قَالَ الْأَكْمَلُ: هُوَ بِالرَّاءِ كَمَا لِمُسْلِمٍ وَلِغَيْرِهِ بِالنُّونِ وَهُوَ الْحُوتُ، وَيَجُوزُ خَلَقَهُمَا فِي الْأَرْبِعَاءِ، وَالنُّورُ هُوَ الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ الْمُظْهَرُ لِغَيْرِهِ اه. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ هُوَ نَفْسُهُ، وَمَا فِيهِ ظُهُورُهُ فَيُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 11 - 12]

(يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَمْدُودَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ مُثَلَّثَةُ الْبَاءِ مَمْدُودَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ النُّورِ كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. (وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ) أَيْ: فَرَّقَهَا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِ أُصُولِهَا (يَوْمَ الْخَمِيسِ) ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ قَضَاءَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَخَلْقَهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ (وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ) أَيْ: لِكَوْنِهِ الْفَذْلَكَةَ الْإِيمَانِيَّةَ، وَبِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ الْغَائِبَةِ (وَآخَرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ) أَيْ: وَفِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ نَهَارِ الْجُمُعَةِ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ: فِي آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ (فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ) ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْمَرْجُوَّةُ لِلْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مَسْنَدَهِ مَرْفُوعًا، لَكِنْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مَا مُلَخَّصُهُ: هُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ غَرَائِبِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَجَعَلُوهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّمَا جَمَعَهُ مِنْ كَعْبٍ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَجَعَلَهُ مَرْفُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5735 - «وَعَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ وَأَصْحَابُهُ إِذْ أَتَى عَلَيْهِمْ سَحَابٌ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " هَذِهِ الْعَنَانُ هَذِهِ رَوَايَا الْأَرْضِ، يَسُوقُهَا اللَّهُ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْكُرُونَهُ، وَلَا يَدْعُونَهُ ". ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهَا الرَّقِيعُ، سَقْفٌ مَحْفُوظٌ، وَمَوْجٌ مَكْفُوفٌ ". ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ " ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " سَمَاءَيْنِ بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ ". ثُمَّ قَالَ كَذَلِكَ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ " مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " إِنَّ فَوْقَ؟ ذَلِكَ الْعَرْشُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءَيْنِ ". ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " إِنَّهَا الْأَرْضُ ". ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا تَحْتَ ذَلِكَ؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " إِنَّ تَحْتَهَا أَرْضًا أُخْرَى، بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ ". حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرَضِينَ وَبَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ ". ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّكُمْ دَلَّيْتُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ " ثُمَّ قَرَأَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] » رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: لَهَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5735 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: بَيْنَمَا نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَالَسٌ وَأَصْحَابُهُ) أَيْ: مَعَهُ جُلُوسٌ (إِذَا أَتَى) أَيْ: مَرَّ (عَلَيْهِمْ سَحَابٌ) ، وَفِي نُسْخَةٍ سَحَابَةٌ (فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا "؟ أَيْ السَّحَابُ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: هَذِهِ) أَيْ: السَّحَابَةُ، فَالتَّعْبِيرُ بِالتَّأْنِيثِ لِلْوَحْدَةِ وَبِالتَّذْكِيرِ لِلْجِنْسِ مِنْ بَابِ التَّفَنُّنِ (الْعَنَانُ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ " عَنَّ " أَيْ: ظَهَرَ كَمَا سَبَقَ (هَذِهِ رَوَايَا الْأَرْضِ) ، قِيلَ التَّقْدِيرُ: بَلْ هَذِهِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَفِي النِّهَايَةِ عَنِ السَّحَابِ رَوَايَا الْبِلَادِ، وَالرَّوَايَا مِنَ الْإِبِلِ الْحَوَامِلُ لِلْمَاءِ وَاحِدَتُهَا رَاوِيَةٌ، فَشَّبَهَهَا بِهِ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْمَزَادَةُ رَاوِيَةٌ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ (يَسُوقُهَا اللَّهُ) أَيْ: يَجُرُّهَا أَوْ يَأْمُرُ بِسَوْقِهَا (إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْكُرُونَهُ) ، أَيْ بَلْ يَكْفُرُونَهُ حَيْثُ يَنْسُبُونَ الْمَطَرَ إِلَى اقْتِرَابِ النُّجُومِ، وَافْتِرَاقِهَا وَغُرُوبِهَا وَطُلُوعِهَا، وَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، (وَلَا يَدْعُونَهُ) . أَيْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَلَا يَطْلُبُوَنَ مِنْهُ وَلَا يَعْبُدُونَهُ، بَلْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُوَ بِعَمِيمِ كَرَمِهِ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ، كَسَائِرِ الْأَنَامِ وَبَاقِي الْأَنْعَامِ. (ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَكُمْ ") ؟ أَيْ مِنَ السَّمَاءِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهَا الرَّقِيعُ ") . وَهُوَ اسْمٌ لِسَمَاءِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: لِكُلِّ سَمَاءٍ وَالْجَمْعُ أَرْقِعَةٌ (سَقْفٌ مَحْفُوظٌ، وَمَوْجٌ مَكْفُوفٌ ") . أَيْ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاسْتِرْسَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ حَفِظَهَا مِنَ السُّقُوطِ عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ بِلَا عَمَدٍ كَالْمَوْجِ الْمَكْفُوفِ، (ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا ") ؟ أَيْ مِقْدَارَ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ " بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ") . أَيْ مَسِيرَتُهَا وَمَسَافَتُهَا. (ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ) ؟ أَيْ الْمَحْسُوسُ أَوِ الْمَذْكُورُ مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " سَمَاءَانِ ") أَيْ: سَمَاءٌ بَعْدَ سَمَاءٍ (بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ " ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ) أَيْ: سَمَاءَانِ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ (حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ) أَيْ: أَكْمَلَ عَدَدَ السَّبْعِ مِنْهُنَّ (مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) . أَيْ كَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فَفِيهِ نَوْعُ تَفَنُّنٍ فِي الْعِبَارَةِ.

(ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ ") ؟ أَيِ الْمَذْكُورِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " إِنَّ فَوْقَ ذَلِكَ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرًا مُقَدَّمًا لِإِنَّ، وَقَوْلُهُ: (الْعَرْشَ) ، بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لَهُ (وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ) أَيْ: السَّابِعَةِ (بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءَيْنِ) . أَيْ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ. (ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: إِنَّهَا الْأَرْضُ ") أَيْ: الْعُلْيَا (ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا تَحْتَ ذَلِكَ ") ؟ أَيْ الْمُشَارِ إِلَيْهِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " تَحْتَهَا أَرْضٌ أُخْرَى، بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ ") . أَيْ: وَهَكَذَا ذَكَرَ أَرْضًا بَعْدَ أُخْرَى. (حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرْضِينَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ (بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ) : بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ مِنْهَا (مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّكُمْ دَلَّيْتُمْ ") : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ مِنْ أَدْلَيْتُ الدَّلْوَ وَدَلَّيْتَهَا إِذَا أَرْسَلْتُهَا الْبِئْرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19] عَلَى التَّجْرِيدِ أَوِ التَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى لَوْ أَرْسَلْتُمْ (بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى لَهَبَطَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ لَنَزَلَ (عَلَى اللَّهِ) . أَيْ عَلَى عِلْمِهِ وَمُلْكِهِ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ فِي كَلَامِهِ الْآتِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى سُفْلِيَّاتِ مُلْكِهِ، كَمَا فِي عُلْوِيَّاتِ مَلَكُوتِهِ دَفْعًا لِمَا عَسَى يَخْتَلِجُ فِي وَهْمِ مَنْ لَا فَهْمَ لَهُ أَنَّ لَهُ اخْتِصَاصًا بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفْلِ، وَالَّذِي قِيلَ: كَانَ مِعْرَاجُ يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، كَمَا أَنَّ مِعْرَاجَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي ظَهْرِ السَّمَاءِ، فَالْقُرْبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلٍّ فِي مَدِّ الِاسْتِوَاءِ، كَمَا أَخَّرَ عَنْ قُرْبِهِ لِكُلٍّ مِنَ الْعَبِيدِ بِقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُ الْقُرْبُ الْمَعْنَوِيُّ بِالتَّشْرِيفِ اللَّدُنِّيِّ، وَمِنْهُ قُرْبُ الْفَرَائِضِ وَقُرْبُ النَّوَافِلِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. (ثُمَّ قَرَأَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِشْهَادًا وَأَبُو هُرَيْرَةَ اعْتِضَادًا {هُوَ الْأَوَّلُ} [الحديد: 3] أَيْ: الْقَدَمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ {وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] أَيْ: الْبَاقِي الَّذِي لَيْسَ لَهُ انْتِهَاءٌ {وَالظَّاهِرُ} [الحديد: 3] أَيْ: بِالصِّفَاتِ {وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] أَيْ: بِالذَّاتِ {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [البقرة: 29] أَيْ: مِنَ الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ عَلَيْهِمْ أَيْ: بَالِغٌ فِي كَمَالِ الْعِلْمِ بِهِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِجَوَانِبِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآيَةَ) أَيْ: الْمَذْكُورَةُ (تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: لَهَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا عِلْمُهُ تَعَالَى، فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وَأَمَّا قُدْرَتُهُ فَمِنْ قَوْلِهِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] أَيْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي يُبْدِئُ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَالْآخِرُ الَّذِي يُفْنِي كُلَّ شَيْءٍ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27] وَأَمَّا سُلْطَانُهُ فَمِنْ قَوْلِهِ: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا غَلَبْتَهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي يَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، وَيَتَصَرَّفُ فِي الْمُكَوِّنَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ، أَوْ لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ يَمْنَعُهُ، وَالْبَاطِنُ هُوَ الَّذِي لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى دُونَهُ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: (وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ) ، أَيْ يَسْتَوِي فِيهِ الْعُلْوِيَّاتُ وَالسُّفْلِيَّاتُ وَمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، بَلْ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الزَّمَانُ

وَالْمَكَانُ (وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْكَافُ فِي (كَمَا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ اسْتِوَاءً مِثْلَ مَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ مُسْتَأْثِرٌ بِعِلْمِهِ بِاسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ إِشْعَارًا إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِقَوْلِهِ: لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَلِقَوْلِهِ: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] مِنْ تَفْوِيضِ عِلْمِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ تَأْوِيلِهِ كَمَا سَبَقَ أَنَّ بَعْضًا مِنْ خِلَافِ الظَّاهِرِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ. وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيهِ.

5736 - وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَ طُولُ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِ أَذْرُعٍ عَرْضًا» " ـــــــــــــــــــــــــــــ 5736 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " كَانَ طُولُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِ أَذْرُعٍ عَرْضًا ") . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَدْرِ ذِرَاعِ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُرِيدَ بِقَدْرِ الذِّرَاعِ الْمُتَعَارَفِ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ ذِرَاعَ كُلَّ أَحَدٍ لِقَدْرِ مِرْفَقِهِ، فَلَوْ كَانَ بِالذِّرَاعِ الْمُتَعَارَفِ لَكَانَتْ يَدُهُ قَصِيرَةً فِي جَنْبِ طُولِ جَسَدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَقُولُ: فِي الْقَامُوسِ: الذِّرَاعُ بِالْكَسْرِ مِنْ طَرَفِ الْمِرْفَقِ إِلَى طَرَفِ الْأُصْبُعِ الْوُسْطَى وَالسَّاعِدِ، وَقَدْ تُذْكَرُ فِيهِمَا جَمْعُهُ أَذْرُعٍ أَيْ بِفَتْحِ الْهَمْزِ وَضَمِّ الرَّاءِ، فِي مَدٍّ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالذِّرَاعِ طُولًا هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَرْضَا ذِرَاعِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ، وَيَرْتَفِعُ الدَّوْرُ الَّذِي هُوَ فِي مَرْتَبَةِ الْمَنْعِ.

5737 - «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلَ؟ قَالَ: " آدَمُ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنَبِيٌّ كَانَ؟ قَالَ: " نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ ". قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْمُرْسَلُونَ؟ قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا " وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَاءُ عِدَّةِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ: " مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5737 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ) أَيْ: أَيُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ (كَانَ أَوَّلَ) ؟ بِالنَّصْبِ أَيْ أَسْبَقَ (قَالَ: " آدَمُ ") : بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنَبِيٌّ كَانَ؟) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّقْرِيرِ لَمَّا قَالَ أَوَّلًا أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: آدَمُ أَيْ أَوْ هُوَ نَبِيٌّ كَانَ؟ (قَالَ: " نَعَمْ نَبِيٌّ ") : ذَكَرَ نَبِيٌّ بَعْدَ قَوْلِهِ: نَعَمْ لِيُنِيطَ بِهِ قَوْلَهُ (مُكَلَّمٌ) أَيْ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فَقَطْ، بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُكَلَّمًا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الصُّحُفُ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْمُرْسَلُونَ) ؟ الْكَشَّافُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] هَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى تَغَايُرِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ جَمَعَ إِلَى الْمُعْجِزَةِ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ غَيْرُ الرَّسُولِ مَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ اه. وَالْمَشْهُورُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّسُولَ مَنْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالنَّبِيُّ أَعَمُّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ ") : أَهُمُ الْعَدَدُ إِشْعَارًا بِعَدَمِ الْجَزْمِ كَيْلَا يَزِيدَ أَوْ يَنْقُصَ فِي الْحَدِّ (جَمًّا غَفِيرًا) . أَيْ جَمًّا كَثِيرًا. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ مُجْتَمِعِينَ كَثِيرِينَ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْجُمُومِ وَالْجَمَّةُ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالْكَثْرَةُ. وَالْغَفِيرُ مِنَ الْغَفْرِ، وَهُوَ التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، فَجُعِلَتِ الْكَلِمَتَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ، وَلَمْ تَقُلِ الْعَرَبُ الْجَمَّاءُ إِلَّا مَوْصُوفَةً، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ كَطُرًّا وَقَاطِبَةً، فَإِنَّهَا أَسْمَاءٌ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ. (وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) ، الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَيْسَ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، فَإِنَّهُ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، بَلْ هُوَ أَبُو أُمَامَةَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامَيْنِ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا لِصِغَرِهِ،

وَلِذَلِكَ قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الَّذِينَ بَعَدَ الصَّحَابَةِ، وَأَثْبَتَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَحَدُ الْأَجِلَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ، سَمِعَ أَبَاهُ وَأَبَا سَعِيدٍ وَغَيْرَهُمَا. رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ. (قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قُلْتُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَاءُ عِدَّةِ الْأَنْبِيَاءِ) ؟ أَيْ كَمْ كَمَالُ عَدَدِهِمْ (قَالَ: " مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا ") . الْعَدَدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ مَجْزُومًا بِهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ فِي عَدَدٍ، لِئَلَّا يَخْرُجَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهِمْ.

5738 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ، فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ» ". رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5738 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ (أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ، فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ) أَيْ: لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْخَبَرِ فِيهِ تَأْثِيرًا زَائِدًا بَاعِثًا عَلَى الْغَضَبِ الْمُوجِبِ لِلْإِلْقَاءِ (فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ) ، أَيْ غَضَبًا لِلَّهِ عَلَى قَوْمِهِ لِمُخَالَفَةِ دِينِهِ (فَانْكَسَرَتْ) . أَيْ الْأَلْوَاحُ مِنْ شِدَّةِ إِلْقَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَثْرَةِ غَضَبِهِ، ثُمَّ فِي إِلْقَائِهَا إِيمَاءٌ بِأَنَّهَا إِنَّمَا تَنْفَعُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا اخْتَارُوا الْكُفْرَ وَالطُّغْيَانَ لَمْ يَبْقَ فَائِدَةٌ فِي إِبْقَائِهَا، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا فَاتَ شَيْءٌ مُهِمٌّ مِنْ كَسْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ إِلَخِ اسْتِشْهَادٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85] عِنْدَ نُزُولِ أَلْوَاحِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150] . (رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ أَحْمَدُ) . وَوَافَقَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ صَدْرَ الْحَدِيثِ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ " عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا الْخَطِيبُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

[كتاب الفضائل]

[كِتَابِ الْفَضَائِلِ] [بَابُ فَضَائِلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ]

(كِتَابِ الْفَضَائِلِ) (1) بَابُ فَضَائِلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5739 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [1] بَابُ فَضَائِلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ اعْلَمْ أَنَّ تَفْصِيلَ فَضَائِلِهِ، وَتَحْصِيلَ شَمَائِلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَرَفٌ وَكَرَمٌ مِمَّا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى، بَلْ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ وَيُسْتَقْصَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُؤَلِّفُ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْبَابَ شَمْلَةً مِنْ شَمَائِلِهِ، وَلِمَّةً مِنْ فَضَائِلِهِ تَدُلُّ عَلَى بَقِيَّةِ خَصَائِلِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5739 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ) أَيْ:؟ وُلِدْتُ (مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ) : اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْاصْطِفَائِيَّةِ فِي الَّذِي يَلِيهِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي حَقِّ الْقَبَائِلِ، لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الدِّيَانَةِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ الْخَصَائِلِ الْحَمِيدَةِ وَالشَّمَائِلِ السَّعِيدَةِ. (قَرْنًا فَقَرْنًا) : قِيلَ إِنَّهُ حَالٌ لِلتَّفْضِيلِ، وَالْفَاءُ فِيهِ لِلرَّتِيبِ فِي الْفَضْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي مِنَ الْقَرْنِ السَّابِقِ إِلَى الْقَرْنِ اللَّاحِقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (حَتَّى كُنْتُ) أَيْ: صِرْتُ: (مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ مِنْهُ) أَيْ: وُجِدْتُ، وَالْقَرْنُ مِنَ النَّاسِ أَهْلُ زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْقَرْنُ كُلُّ طَبَقَةٍ مُقْتَرِنِينَ فِي وَقْتٍ، قِيلَ: سُمِّيَ قَرْنًا لِأَنَّهُ يَقْرِنُ أُمَّةً بِأُمَّةٍ، وَعَالَمًا بِعَالَمٍ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَرَنْتُ أَيْ: وَصَلْتُ وَجُعِلَ اسْمًا لِلْوَقْتِ أَوْ لِأَهْلِهِ. وَقِيلَ: الْقَرْنُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ مِائَةٌ اه. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فَالْمَعْنَى بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ طَبَقَاتِ بَنِي آدَمَ كَائِنِينَ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَفِيهِ تَفْضِيلُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَعَلَى تَفْضِيلِ أُمَّتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: حَتَّى كُنْتُ غَايَةَ قَوْلِهِ بُعِثْتُ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْثِ تَقَلُّبُهُ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ أَبًا فَأَبًا قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى ظَهَرَ فِي الْقَرْنِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ، يَعْنِي انْتَقَلْتُ أَوَّلًا مَنْ صُلْبِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ مِنْ كِنَانَةَ، ثُمَّ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: " قَرْنًا " لِلتَّرْتِيبِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي مِنَ الْآبَاءِ الْأَبْعَدِ إِلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: خُذِ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ وَالْأَجْمَلَ، وَفِي مَعْنَاهُ) أَنْشَدَ ابْنُ الرُّومِيِّ: كَمْ مِنْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ ذُرَى شَرَفٍ ... كَمَا عَلَا بِرَسُولِ اللَّهِ عَدْنَانُ وَفِي قَوْلِنَا: حَتَّى ظَهَرَ فِي الْقَرْنِ الَّذِي وُجِدَ فِي نُسْخَتِهِ، لِمَا رَوَى الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَخْلُقَ مُحَمَّدًا أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَتَاهُ بِالْقَبْضَةِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعُجِنَتْ بِمَاءِ التَّسْنِيمِ فَغُمِسَتْ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَطَيَّفَهَا فِي السَّمَاوَاتِ، فَعَرَفَتِ الْمَلَائِكَةُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ آدَمُ، ثُمَّ كَانَ نُورُ مُحَمَّدٍ يُرَى فِي غُرَّةِ جَبْهَةِ آدَمَ، وَقِيلَ لَهُ: يَا آدَمُ هَذَا سَيِّدُ وَلَدِكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ بِشِيثَ انْتَقَلَ النُّورُ مِنْ آدَمَ إِلَى حَوَّاءَ، وَكَانَتْ تَلِدُ فِي كُلِّ بَطْنٍ وَلَدَيْنِ إِلَّا شَيْثًا، فَإِنَّهُ وَلَدَتْهُ وَحْدَهُ كَرَامَةً لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَنْتَقِلُ مِنْ طَاهِرٍ إِلَى طَاهِرٍ إِلَى أَنْ وَلَدَتْهُ آمِنَةُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اه. وَقَدْ ذُكِرَ مُجْمَلًا مِنْ أَحْوَالِ وِلَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِسَالَةٍ سَمَّيْتُهَا، بِ (الْمَوْرِدِ فِي الْمَوْلِدِ) . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5740 - وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنَى هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مَنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5740 - (وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ) : بِكَسْرِ الْكَافِ. ابْنُ خُزَيْمَةَ أَبُو قَبِيلَةٍ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ وَبِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ أَيْ: مِنْ أَوْلَادِهِ (وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ) وَهُمْ أَوْلَادُ نَضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، كَانُوا تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، جَمَعَهُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فِي مَكَّةَ، فَسُمُّوا قُرَيْشًا لِأَنَّهُ قَرَشَهُمْ أَيْ: جَمَعَهُمْ، وَلِكِنَانَةَ وَلَدٌ سِوَى النَّضْرُ، وَهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ قُرَيْشًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقْرَشُوا، (وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضِرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مِدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ النَّضِرِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ. وَلَا يَصِحُّ حِفْظُ النَّسَبِ فَوْقَ عَدْنَانَ اه. وَقَدْ ضَبَطْتُ الْأَسْمَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي رِسَالَتِي الْمُسَمَّاةِ (الْمَسْطُورَةَ) : (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ.

(وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ) أَيْ: عَنْ وَاثِلَةَ أَيْضًا ( «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ» ) : وَتَمَامُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ: وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مَنْ بَنِي هَاشِمٍ.

5741 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5741 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: السَّيِّدُ هُوَ الَّذِي يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي الْخَيْرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الَّذِي يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي النَّوَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، فَيَقُومُ بِأُمُورِهِمْ، وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مَكَارِهَهُمْ وَيَدْفَعُهَا عَنْهُمْ، وَالتَّقْيِيدُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُؤْدُدُهُ بِلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُعَانِدٍ، بِخِلَافِ الدُّنْيَا، فَقَدْ نَازَعَهُ فِيهَا مُلُوكُ الْكُفَّارِ وَزُعَمَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، لَكِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مَنْ يَدَّعِي الْمُلْكَ، أَوْ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مَجَازًا، فَانْقَطَعَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى كُلِّ الْخَلْقِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْآدَمِيَّ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الْآدَمِيِّينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «لَا تُفَضِّلُونِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» فَجَوَابُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحُدُهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَالثَّانِي: قَالَهُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَنْهِيَّ إِنَّمَا هُوَ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيصِ الْمَفْضُولِ. وَالرَّابِعُ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ وَالْفِتْنَةِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ وَلَا تَفَاضُلَ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي الْخَصَائِصِ وَفَضَائِلَ أُخْرَى، وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِقَادِ التَّفْضِيلِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] وَقَدْ قَالَ: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] (وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ) ، أَيْ: فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُبْعَثَ مَنْ قَبْرِهِ وَيَحْضُرَ فِي الْمَحْشَرِ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ آتِي أَهْلَ الْبَقِيعِ فَيُحْشَرُونَ مَعِي، ثُمَّ أَنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَأُكْسَى حُلَّةً مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِي» (وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَحْضَرِ، (وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: أَوَّلُ مَنْ تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَنْوَاعِ الشَّفَاعَاتِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» .

5742 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5742 - (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا» ) : بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ تَابِعٍ أَيْ: أَتْبَاعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ أُمَّتَهُ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَكْثَرِيَّةَ الْأَتْبَاعِ تُوجِبُ أَفْضَلِيَّةَ الْمَتْبُوعِ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ عَاصِمٌ مِنْ بَيْنِ الْقُرَّاءِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ حَظٌّ عَظِيمٌ وَنَصِيبٌ جَسِيمٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ غَالِبَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِي فُرُوعِ الْأَحْكَامِ. (وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: يَدُقُّ وَيَسْتَفْتِحُ (بَابَ الْجَنَّةِ) أَيْ:؟ فَيُفْتَحُ لَهُ مَدْخَلُهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَى ابْنُ النَّجَّارِ، عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدُقُّ بَابَ الْجَنَّةِ فَلَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ أَحْسَنَ مِنْ طَنِينِ الْحَلْقِ عَلَى تِلْكَ الْمَصَارِيعِ» .

5743 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5743 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آتِي) أَيْ: أَجِيءُ (بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ) ، أَيْ: أَطْلُبُ فَتْحَهُ (فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ) ؟ سُمِّيَ الْمُوَكَّلُ لِحِفْظِ الْجَنَّةِ خَازِنًا لِأَنَّ الْجَنَّةَ خَزَانَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ حَافِظُهَا (فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ) أَيْ: أَنَا مُحَمَّدٌ (فَيَقُولُ: بِكَ) أَيْ: بِفَتْحِ الْبَابِ لَكَ قَبْلَ غَيْرِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (أُمِرْتُ أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بِكَ مُتَعَلِّقٌ بِ " أُمِرْتُ " وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ قُدِّمَتْ لِلتَّخْصِيصِ، وَالْمَعْنَى بِسَبَبِكَ أُمِرْتُ أَنْ لَا أَفْتَحَ لِغَيْرِكَ لَا بِشَيْءٍ آخَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِلَةَ الْفِعْلِ، وَأَنْ لَا أَفْتَحَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، أَيْ: أُمِرْتُ بِأَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ غَيْرَكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5744 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ، وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا صَدَّقَهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5744 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ» ) : قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: أَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ لِلْعُصَاةِ مِنْ أُمَّتِي فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ أَيْ: أَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ فِي الْجَنَّةِ لِرَفْعِ دَرَجَاتِ النَّاسِ فِيهَا لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ) : مَا: مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: يُصَدَّقُ نَبِيٌّ تَصْدِيقًا مِثْلَ تَصْدِيقِ أُمَّتِي إِيَّايَ يَعْنِي بِهِ كَثْرَةَ مُصَدِّقِيهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ أُمَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ( «وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا صَدَّقَهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5745 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بُنْيَانُهُ تُرِكَ فِيهِ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ، فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ، يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بِنَائِهِ، إِلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ، فَكُنْتُ أَنَا سَدَدْتُ مَوْضِعَ اللَّبِنَةِ، خُتِمَ بِيَ الْبُنْيَانُ وَخُتِمَ بِي الرُّسُلُ وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5745 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلِي) أَيْ:، صِفَتِي الْعَجِيبَةُ الشَّأْنِ الْغَرِيبَةُ الْبُرْهَانِ (وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ) أَيْ: مِنَ الْإِخْوَانِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي أَسَاسِ الْبُنْيَانِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَتَدْقِيقِ الْإِيقَانِ مِمَّا يُوجِبُ مَرْتَبَةَ الْقُرْبِ وَالْإِحْسَانِ (كَمَثَلِ قَصْرٍ) أَيْ: بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ (أُحْسِنَ بُنْيَانُهُ) أَيْ: زُيِّنَ بِنَاءُ أَرْكَانِهِ (تُرِكَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْقَصْرِ (مَوْضِعُ لَبِنَةٍ) : وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ أَوْ بِدُونِهِ (فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ) : بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: دَارَ بِهِ الْحَاضِرُونَ، وَتَفَرَّجَ فِي جَوَانِبِهِ النَّاظِرُونَ (يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بُنْيَانِهِ) أَيْ: يَسْتَحْسِنُونَ أَنْوَاعَ أَرْكَانِهِ (إِلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ) ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ دَاخِلٌ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِغْرَابِ فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ (فَكُنْتُ) أَيْ: فَصِرْتُ (أَنَا) : ضَمِيرُ فَصْلٍ لِلتَّأْكِيدِ وَإِفَادَةِ الْحَصْرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ (سَدَدْتُ مَوْضِعَ اللَّبِنَةِ) ، أَيْ: لِكَوْنِي خَاتَمَ النَّبِيِّينَ (وَخُتِمَ بِيَ الْبُنْيَانُ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ وَالْمُرَادُ بِهِ بُنْيَانُ الدِّينِ الْمُشَبَّهِ بِذَلِكَ الْبُنْيَانِ (وَخُتِمَ بِيَ الرُّسُلُ) . الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ هُنَا بِمَعْنَى الْأَنْبِيَاءِ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّرَادُفِ أَوْ بِاعْتِبَارِ التَّجْرِيدِ لِأَنَّ الرَّسُولَ نَبِيٌّ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُفْتَحُ، فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ شَبَّهَ الْأَنْبِيَاءَ وَمَا بُعِثُوا مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، وَإِرْشَادَهُمُ النَّاسَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بِقَصْرٍ شُيِّدَ بُنْيَانُهُ وَأُحْسِنَ بِنَاؤُهُ، لَكِنْ تُرِكَ مِنْهُ مَا يُصْلِحُهُ، وَمَا يَسُدُّ خَلَلَهُ مِنَ اللَّبِنَةِ، فَبُعِثَ نَبِيًّا لِسَدِّ ذَلِكَ الْخَلَلِ مَعَ مُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي تَأْسِيسِ الْقَوَاعِدِ وَرَفْعِ الْبُنْيَانِ، هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذْ حَاصِلُ الْمَعْنَى تَعَجُّبُهُمُ الْمَوَاضِعَ إِلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُصْلِحَ إِلَّا مَا اخْتُصَّ بِهِ مِنْ مَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَحَقِّ الْحَقِيقَةِ الَّذِي يَعْتَنِيهِ أَهْلُ الْعِرْفَانِ، وَقَوْلُهُ: أَنَا سَدَدْتُ مَوْضِعَ اللَّبِنَةِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّادَّ بِلَبِنَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَأَنْ يَسُدَّهُ بِنَفْسِهِ، وَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ اللَّبِنَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5746 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5746 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ) : زِيدَ مِنَ الثَّانِيَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْأُولَى لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (إِلَّا قَدْ) : وَفِي الْجَامِعِ: إِلَّا وَقَدْ (أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ) أَيِ: الْمُعْجِزَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَمِنْ: بَيَانٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: (مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ) : وَهِيَ مَوْصُولَةٌ. وَمِثْلُهُ: مُبْتَدَأٌ. وَآمَنَ: خَبَرُهُ، وَعَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِآمَنَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الِاطِّلَاعِ، كَأَنَّهُ قَالَ: آمَنَ لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، أَوْ بِحَالٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: آمَنَ الْبَشَرُ وَاقِفًا أَوْ مُطَّلِعًا عَلَيْهِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا إِذَا شُوهِدَ وَاطُّلِعَ عَلَيْهِ دَعَا الشَّاهِدَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ زَمَانُهُ انْقَطَعَتْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتُ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، مِنْ: فِيهِ بَيَانِيَّةٌ، وَمِنْ: الثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ تُزَادُ بَعْدَ النَّفْيِ وَمَا: فِي (مَا مِثْلُهُ) مَوْصُولَةٌ وَقَعَتْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لَأَعْطَى، وَمِثْلُهُ مُبْتَدَأٌ. وَآمَنَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَالرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُولِ ضَمِيرُ الْمَجْرُورِ فِي عَلَيْهِ، وَهُوَ حَالٌ أَيْ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ فِي التَّحَدِّي وَالْمُبَارَاةِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتُ، وَمُوقِعُ الْمِثْلِ هُنَا مَوْقِعُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] أَيْ: مِمَّا هُوَ عَلَى صِفَتِهِ فِي الْبَيَانِ الْغَرِيبِ وَعُلُوِّ الطَّبَقَةِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ، يَعْنِي لَيْسَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا قَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ الشَّيْءَ الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ إِذَا شُوهِدَ اضْطُرَّ الشَّاهِدُ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ اخْتُصَّ بِمَا يُثْبِتُ دَعْوَاهُ مِنْ خَارِقِ الْعَادَاتِ بِحَسْبِ زَمَانِهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ زَمَانُهُ انْقَطَعَتْ تِلْكَ الْمُعْجِزَةُ، كَقَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِخْرَاجِ الْيَدِ الْبَيْضَاءِ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي زَمَنِهِ لِلسِّحْرِ، فَأَتَاهُمْ بِمَا هُوَ فَوْقَ السِّحْرِ، وَاضْطَرَّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. وَفِي زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الطِّبُّ، فَأَتَاهُمْ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنَ الطِّبِّ، وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَفِي زَمَنِ رَسُولِنَا الْبَلَاغَةُ وَالْفَصَاحَةُ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ وَأَبْطَلَ الْكُلَّ اه. وَفِيهِ تَأَمُّلٌ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ: أَبْطَلَ الْكُلَّ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: فَجَاءَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً مُشْتَهِرَةً دَائِمَةً إِلَى انْقِرَاضِ الزَّمَانِ، بَلْ أَبَدَ الْآبَادِ، لِمَا يُتْلَى فِي دَرَجَاتِ الْجِنَانِ، بَلْ يُسْمَعُ مِنْ كَلَامِ الرَّحْمَنِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ) : وَفِي الْجَامِعِ: أُوتِيتُهُ وَالْمَوْصُولُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَانَ خَرْقُ الْعَادَةِ الَّذِي أُعْطِيتُهُ بِالْخُصُوصِ (وَحْيًا) أَيْ: كَلَامًا مُنَزَّلًا عَلَيَّ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ) أَيْ: لَا غَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ نَفْسُهُ دَعْوَةٌ، وَفِي نَظْمِهِ مُعْجِزَةٌ، وَهُوَ لَا يَنْقَرِضُ بِمَوْتِهِ كَمَا تَنْقَرِضُ مُعْجِزَاتُ غَيْرِهِ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَيْ: مُعْظَمُ الَّذِي أُوتِيتُ وَأَفْيَدُهُ إِذْ كَانَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مُعْجِزَاتٌ مِنْ جِنْسِ مَا أُوتِيتُهُ غَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ الْقُرْآنُ الْبَالِغُ أَقْصَى غَايَةِ الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ وَالْمَعْنَى، وَهُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً وَأَعَمُّ مَنْفَعَةً مِنْ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الدَّعَوَاتِ وَالْحُجَّةِ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ وَالْأَعْصَارِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْحَاضِرُونَ عِنْدَ الْوَحْيِ، الْمُشَاهِدُونَ لَهُ، وَالْغَائِبُونَ عَنْهُ، وَالْمَوْجُودُونَ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى السَّوَاءِ، وَلِذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

5747 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأَعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5747 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا أَيْ: مِنَ الْخَصَائِلِ وَالْفَضَائِلِ (لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي) أَيْ: مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يُعْطَى أَحَدٌ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ (نُصِرْتُ) أَيْ: نَصَرَنِي رَبِّي عَلَى أَعْدَائِي (بِالرُّعْبِ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ أَيْ بِخَوْفِ الْعَدُوِّ مِنِّي (مَسِيرَةَ) أَيْ: فِي قَدْرِ مَسِيرَةِ.

شَهْرٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنْ قُدَّامٍ أَوْ وَرَاءٍ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ الرُّعْبُ الْفَزَعُ وَالْخَوْفُ، وَقَدْ أَوْقَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَوْفَ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ هَابُوا وَفَزِعُوا مِنْهُ (وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَرَادَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ تُبَحْ لَهُمُ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَأَبَاحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّلَاةَ حَيْثُ كَانُوا تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ وَتَيْسِيرًا، ثُمَّ خَصَّ مِنْ جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ: الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ وَالْمَكَانَ النَّجِسَ، وَقَوْلُهُ طَهُورًا أَرَادَ بِهِ التَّيَمُّمَ اه. وَفِي الْحَمَّامِ وَالْمَقْبَرَةِ تَفْصِيلٌ قَدَّمْنَاهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِيمَا تَيَقَّنُوا طَهَارَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَخُصِصْنَا بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَّا فِيمَا تَيَقَّنَا نَجَاسَتَهُ، ثُمَّ صَرَّحَ بِعُمُومِ هَذَا الْحُكْمِ وَفَرَّعَ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: (فَأَيُّمَا رَجُلٍ) أَيْ: شَخْصٍ (مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ) أَيْ: وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَدَخَلَ وَقْتُهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ (فَلْيُصَلِّ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِشُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ (وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ) أَيِ: الْغَنَائِمُ وَهِيَ الْأَمْوَالُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْكُفَّارِ (وَلَمْ تَحِلَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَمْ تُبَحِ الْغَنَائِمُ (لِأَحَدٍ قَبْلِي) أَيْ: مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ غَنَائِمُهُمْ تُوضَعُ فَتَأْتِي نَارٌ تَحْرِقُهَا، هَكَذَا أَطْلَقَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ - مِنْ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: مِنْ قَبْلِنَا مِنَ الْأُمَمِ إِذَا غَنِمُوا الْحَيَوَانَاتِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، فَخُصَّ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَخْذِ الْخُمُسِ وَالصَّفِيُّ، وَإِذَا غَنِمُوا الْحَيَوَانَاتِ غَيْرَهَا جَمَعُوهُ فَتَأْتِي نَارٌ فَتَحْرِقُهُ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي إِحْرَاقِ الْغَنِيمَةِ تَحْصِيلُ تَحْسِينِ النِّيَّةِ وَتَزْيِينُ الطَّوِيَّةِ فِي مَرْتَبَةِ الْإِخْلَاصِ فِي الْجِهَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْعِبَادِ وَرَءُوفٌ بِالْعِبَادِ. (وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ) : الْ فِيهِ لِلْعَهْدِ أَيِ: الشَّفَاعَةَ الْعَامَّةَ لِلْإِرَاحَةِ مِنَ الْمَحْشَرِ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ (وَكَانَ النَّبِيُّ) أَيِ: اللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ: وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ مِنْ قَبْلِي (يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ) أَيْ: إِلَى أَقْوَامٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهُمْ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِقَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ (عَامَّةً) أَيْ: شَامِلَةً لِلْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعْرِيفُ فِي النَّبِيِّ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ لَوْ جُمِعَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ فِي الْمُفْرَدِ قَائِمَةٌ فِي وِجْدَانِهِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَفِي الْجَامِعِ فِيمَا فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ مِنَ الْمَجْمُوعِ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ اه. وَقِيلَ: اللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ وَلِلْعَهْدِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ لِبَيَانِ الْمَاهِيَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذَّهَبِيِّ لَا لِتَعْيِينِ الذَّاتِ وَتِلْكَ الْمَاهِيَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأَعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ» ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ لِيَ التُّرَابُ طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ. وَرَوَى الْحَارِثُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: «أُعْطِيتُ ثَلَاثَ خِصَالٍ: أُعْطِيتُ صَلَاةً فِي الصُّفُوفِ، وَأُعْطِيتُ السَّلَامَ وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأُعْطِيتُ آمِينَ وَلَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْطَاهَا هَارُونَ فَإِنَّ مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَيُؤَمِّنُ هَارُونُ» .

5748 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5748 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِخَمْسٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ تَضَادٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ زَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ حَدِيثُ الْخَمْسِ مُتَقَدِّمًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُعْطِيَهَا فَحَدَّثَ بِهِ، ثُمَّ زِيدَ لَهُ السَّادِسَةَ فَأَخْبَرَ عَنْ سِتٍّ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ تَأَخُّرُ الدَّالِّ عَلَى الزِّيَادَةِ. قُلْتُ: إِنْ ثَبَتَ فَلَا كَلَامَ، وَإِلَّا فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ زِيَادَتِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي تَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ اه. وَقَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْخَمْسِ أَوِ السِّتِّ لِمُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ، وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ سَبْعًا كَمَا إِذَا ضُمَّتِ الشَّفَاعَةُ إِلَى هَذِهِ السِّتِّ. قُلْتُ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى السَّبْعِ لِمَا سَيَأْتِي، وَلِمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ) أَيْ: قُوَّةَ إِيجَازٍ فِي اللَّفْظِ مَعَ بَسْطٍ فِي الْمَعْنَى فَأُبَيِّنُ بِالْكَلِمَاتِ الْيَسِيرَةِ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ، وَقَدْ جَمَعْتُ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا مِنَ الْجَوَامِعِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَقَلُّ مِمَّا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ تَرَكُّبُ الْكَلَامِ، وَيَتَأَتَّى مِنْهُ

إِسْنَادُ الْمُرَادِ نَحْوَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْعِدَةُ دَيْنٌ وَالْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ وَلَا تَغْضَبْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْكَلَامُ اخْتِصَارًا» . وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قِيلَ: جَوَامِعُ الْكَلِمِ هِيَ الْقُرْآنُ، جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِلَفْظِهِ مَعَانِيَ كَثِيرَةً فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ وَقِيلَ: إِيجَازُ الْكَلَامِ فِي إِشْبَاعٍ مِنَ الْمَعْنَى، فَالْكَلِمَةُ الْقَلِيلَةُ الْحُرُوفِ مِنْهَا تَتَضَمَّنُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي، وَأَنْوَاعًا مِنَ الْكَلَامِ (وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ) : أَطْلَقَهُ هُنَا وَقَيَّدَ غَايَتَهُ فِيمَا سَبَقَ بِمَسِيرَةِ شَهْرٍ (وَأُحِلَّتْ لِيَ) أَيْ: لِأَجْلِيَ عَلَى أُمَّتِي (الْغَنَائِمُ، «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» ) أَيْ: إِلَى الْمَوْجُودَاتِ بِأَسْرِهَا عَامَّةً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الْمَلَكِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الصَّلَوَاتِ الْعَلِيَّةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافَّةً مَصْدَرًا أَيْ: أُرْسِلْتُ رِسَالَةً عَامَّةً لَهُمْ مُحِيطًا بِهِمْ، لِأَنَّهَا إِذَا شَمِلَتْهُمْ فَقَدْ كَفَتْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا أَحَدٌ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا إِمَّا مِنَ الْفَاعِلِ، وَالتَّاءُ عَلَى هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ كَتَاءِ الرِّوَايَةِ وَالْعَلَامَةِ، وَإِمَّا مِنَ الْمَجْرُورِ أَيْ مَجْمُوعِينَ (وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ) أَيْ: وَجُودُهُمْ، فَلَا يَحْدُثُ بَعْدِي نَبِيٌّ، وَلَا يُشْكَلُ بِنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَرْوِيجِ دِينِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَتَمِّ النِّظَامِ وَكَفَى بِهِ شَهِيدًا شَرَفًا، وَنَاهِيكَ بِهِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأَنَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَغْلَقَ بَابَ الْوَحْيِ وَقَطَعَ طَرِيقَ الرِّسَالَةِ وَسَدَّ وَأَخْبَرَ بِاسْتِغْنَاءِ النَّاسِ عَنِ الرُّسُلِ وَإِظْهَارِ الدَّعْوَةِ بَعْدَ تَصْحِيحِ الْحُجَّةِ وَتَكْمِيلِ الدِّينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَأَمَّا بَابُ الْإِلْهَامِ فَلَا يَنْسَدُّ وَهُوَ مَدَدٌ يُعِينُ النُّفُوسَ الْكَامِلَةَ، فَلَا يَنْقَطِعُ لِدَوَامِ ضَرُورَةِ حَاجَتِهَا إِلَى تَأْكِيدٍ وَتَجْرِيدٍ وَتَذْكِيرٍ، وَكَمَا أَنَّ النَّاسَ اسْتَغْنَوْا عَنِ الرِّسَالَةِ وَالدَّعْوَةِ احْتَاجُوا إِلَى التَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ لِاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي الْوَسَاوِسِ، وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الشَّهَوَاتِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَغْلَقَ بَابَ الْوَحْيِ بِحِكْمَتِهِ، وَفَتَحَ بَابَ الْإِلْهَامِ بِرَحْمَتِهِ لُطْفًا مِنْهُ بِعِبَادِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: «فُضِّلْتُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسٍ: بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ شَهْرًا أَمَامِي وَشَهْرًا خَلْفِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي» . وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «فُضِّلْتُ بِأَرْبَعٍ: جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرَيْنِ يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيَّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ» . وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «فُضِّلْتُ بِأَرْبَعٍ: جُعِلْتُ أَنَا وَأُمَّتِي فِي الصَّلَاةِ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ، وَجُعِلَ الصَّعِيدُ لِي وَضُوءًا، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ» فَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ دَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَعَالَى بِفَضَائِلَ مَعْدُودَةٍ، لَكِنْ لَا يَدُلُّ مَفْهُومُهُ عَلَى حَصْرِ فَضَائِلِهِ فِيهَا فَإِنَّ فَضَائِلَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ.

5749 - وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5749 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وُضِعَتْ فِي يَدِي» ) : فِي النِّهَايَةِ: أَرَادَ مَا سَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مِنِ افْتِتَاحِ الْبِلَادِ الْمُتَعَدِّدَاتِ وَاسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ الْمُتَنَوِّعَاتِ اه. أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَعَادِنُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَسَائِرُ الْفِلِزَّاتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

5750 - وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5750 - (وَعَنْ ثَوْبَانَ) : وَهُوَ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ) أَيْ: جَمَعَهَا لِأَجْلِي. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: زَوَيْتُهُ جَمَعْتُهُ وَقَبَضْتُهُ، يُرِيدُ بِهِ تَقْرِيبَ الْبَعِيدِ مِنْهَا حَتَّى اطَّلَعَ عَلَيْهِ اطِّلَاعَهُ عَلَى الْقَرِيبِ مِنْهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ طَوَى لَهُ الْأَرْضَ وَجَعَلَهَا مَجْمُوعَةً كَهَيْئَةِ كَفٍّ فِي مِرْآةِ نَظَرِهِ، وَلِذَا قَالَ:

(فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا أَيْ: جَمِيعَهَا ( «وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ " مِنْ " فِي " مِنْهَا " لِلتَّبْعِيضِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا تَوَهَّمَهُ، بَلْ هِيَ لِلتَّفْصِيلِ لِلْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالتَّفْصِيلُ لَا يُنَاقِضُ الْجُمْلَةَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْضَ زُوِيَتْ لِي جُمْلَتُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، ثُمَّ هِيَ تُفْتَحُ لِأُمَّتِي جُزْءًا فَجُزْءًا حَتَّى يَصِلَ مُلْكُ أُمَّتِي إِلَى كُلِّ أَجْزَائِهَا. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ مَنْ قَالَ بِالتَّبْعِيضِ هُوَ أَنَّ مُلْكَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا بَلَغَ جَمِيعَ الْأَرْضِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ ضَمِيرَ مِنْهَا رَاجِعٌ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. ( «وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ» ) : بَدَلَانِ مِمَّا قَبْلَهُمَا أَيْ: كَنَزَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ بِالْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ خَزَائِنَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى نُقُودِ مَمَالِكِ كِسْرَى الدَّنَانِيرُ، وَالْغَالِبَ عَلَى نُقُودِ مَمَالِكِ قَيْصَرَ الدَّرَاهِمُ ( «وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ» ) أَيْ: بِقَحْطٍ شَائِعٍ لِجَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّنَةُ الْقَحْطُ وَالْجَدْبُ، وَهِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ، (وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا) : وَهُمُ الْكُفَّارُ وَقَوْلُهُ: (مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ) : صِفَةُ عَدُوًّا أَيْ: كَائِنًا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِهَذَا الْقَيْدِ لَمَّا سَأَلَ أَوَّلًا ذَلِكَ فَمُنِعَ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (فَيَسْتَبِيحَ) أَيِ: الْعَدُوُّ، وَهُوَ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ الْجَمْعُ وَالْمُفْرَدُ (بَيْضَتَهُمْ) : أَرَادَ بِالْبَيْضَةِ أَيْ: مُجْتَمَعَهُمْ مَوْضِعَ سُلْطَانِهِمْ، وَمُسْتَقَرَّ دَعْوَتِهِمْ، وَبَيْضَةُ الدَّارِ أَوْسَطُهَا وَمُعْظَمُهَا، أَرَادَ عَدُوًّا يَسْتَأْصِلُهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ جَمِيعَهُمْ، وَقِيلَ: أَرَادَ إِذَا هَلَكَ أَصْلُ الْبَيْضَةِ كَانَ هَلَاكُ كُلِّهَا فِيهِ مِنْ طُعْمٍ أَوْ فَرْخٍ، وَإِذَا لَمْ يَهْلِكَ أَصْلُ الْبَيْضَةِ رُبَّمَا سَلِمَ بَعْضُ فِرَاخِهَا، وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مَعًا، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا، لَكِنْ لَا يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ، (وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً) أَيْ: حَكَمْتُ حُكْمًا مُبْرَمًا (فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ) أَيْ: بِشَيْءٍ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطِ وُجُودِ شَيْءٍ أَوْ عَدَمِهِ، كَمَا حُقِّقَ فِي بَابُ الدُّعَاءِ وَرَدِّ الْبَلَاءِ، (وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ) أَيْ: عَهْدِي وَمِيثَاقِي (لِأُمَّتِكَ) أَيْ: لِأَجْلِ أُمَّةِ إِجَابَتِكَ (أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ) أَيْ: بِحَيْثُ يَعُمُّهُمُ الْقَحْطُ وَيُهْلِكُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِي أُمَّتِكَ هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ سَابِقًا: سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي، أَيْ: أَعْطَيْتُ سُؤَالَكَ لِدُعَائِكَ لِأُمَّتِكَ، وَالْكَافُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ لَا أُهْلِكَهُمُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، (وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ) أَيِ: الَّذِينَ هُمْ (بِأَقْطَارِهَا) أَيْ: بِأَطْرَافِهَا جَمْعُ قُطْرٍ، وَهُوَ الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ، وَالْمَعْنَى فَلَا يَسْتَبِيحُ عَدُوٌّ مِنَ الْكُفَّارِ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ مِنْ أَطْرَافِ بَيْضَتِهِمْ، وَجَوَابُ لَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ (حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي) : كَيَرْمِي بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى يُهْلِكُ أَيْ: وَيَأْسِرُ (بَعْضُهُمْ) : بِوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ (بَعْضًا) أَيْ: بَعْضًا آخَرَ. فِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى يَكُونُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى. بِمَعْنَى كَيْ أَيْ: لِكَيْ يَكُونَ بَعْضُ أُمَّتِكَ يُهْلِكُ بَعْضًا، فَقَوْلُهُ: " «إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَلَا يُرَدُّ» " تَوْطِئَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا: فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا» . قَالَ الْمُظْهِرُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ قَضَاءَيْنِ مُبْرَمًا وَمُعَلَّقًا بِفِعْلٍ، كَمَا قَالَ: إِنْ فَعَلَ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا يَتُوقُ إِلَيْهِ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] وَأَمَّا الْقَضَاءُ الْمُبْرَمُ؟ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا قَدَّرَهُ سُبْحَانَهُ فِي الْأَزَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِفِعْلٍ؟ فَهُوَ فِي الْوُقُوعِ نَافِذٌ غَايَةَ النَّفَاذِ بِحَيْثُ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَقْضِي عَلَيْهِ وَلَا الْمُقْتَضِي لَهُ، لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَخِلَافُ مَعْلُومِهِ مُسْتَحِيلٌ قَطْعًا، وَهَذَا مِنْ قِبَلِ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ. قَالَ تَعَالَى: {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مَرَدَّ لِحُكْمِهِ» . فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَلَا يُرَدُّ» " مِنَ الْقَبِيلِ الثَّانِي وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِبْ إِلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُسْتَجَابُو الدَّعْوَةِ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5751 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بِأَسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5751 - (وَعَنْ سَعْدٍ) أَيْ: ابْنِ أَبِي وَقَاصٍّ أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِمَسْجِدٍ مِنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ) ، هُمْ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقِيلَ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي الْمَدِينَةِ (دَخَلَ) : قَالَ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَغْوَيِّ: فَدَخَلَ أَيْ: دَخَلَ الْمَسْجِدَ (فَرَكَعَ) أَيْ: فَصَلَّى فِيهِ (رَكْعَتَيْنِ) أَيْ: تَحِيَّةً أَوْ فَرِيضَةً (وَصَلَّيْنَا مَعَهُ) أَيْ: مُوَافَقَةً أَوْ مُتَابَعَةً (وَدَعَا) أَيْ: فَنَاجَى كَمَا فِي رِوَايَةٍ (رَبَّهُ طَوِيلًا) ، أَيْ: زَمَانًا كَثِيرًا، أَوْ دُعَاءً عَرِيضًا بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْحَابَهُ دَعَوْا مَعَهُ أَوْ أَمَّنُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ طَوِيلًا قَيْدٌ لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ لِمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ خَبَّابٍ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّانِي. (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ: مِنَ الدُّعَاءِ (فَقَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا) أَيْ: مِنَ السُّؤَالَاتِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً) : فِيهِ زِيَادَةُ تَوْضِيحٍ (سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ) أَيْ: بِالْقَحْطِ الْعَامِّ (فَأَعْطَانِيهَا) أَيْ: الْمَسْأَلَةَ (وَسَأَلْتُ أَنْ لَا يُهْلِكَ) : أُمَّتِي (بِالْغَرَقِ) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: بِالْغَرَقِ الْعَامِّ كَقَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي الْيَمِّ، وَقَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ (فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ) أَيْ: حَرْبَهُمُ الشَّدِيدَةُ (بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5752 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ; وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5752 - (وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) : هُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قُلْتُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: عَنْ نَعْتِهِ (فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ حَرْفٌ يُصَدَّقُ بِهَا الْخَبَرُ خَاصَّةً، يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: قَامَ زَيْدٌ أَجَلْ، وَزَعَمَ بَعْضٌ جَوَازُ وُقُوعِهِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ جَاءَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ عَلَى تَأْوِيلِ قَرَأْتُ التَّوْرَاةَ، هَلْ وَجَدَ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، فَأَخْبِرْنِي. قَالَ: أَجَلْ أَيْ: نَعَمْ أُخْبِرُكَ. (وَاللَّهِ إِنَّهُ لِمَوْصُوفٌ فِي (التَّوْرَاةِ) ، بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ) أَيْ: بِالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] : حَالٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الْكَافِ أَوْ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ مُقَدَّرًا أَوْ مُقَدِّرِينَ شَهَادَتَكَ عَلَى مَنْ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى تَكْذِبِيهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ أَيْ: مَقْبُولًا قَوْلُكُ عِنْدَ اللَّهِ وَعَلَيْهِمْ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الشَّاهِدِ الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ شَاهَدًا لِأَفْعَالِ أُمَّتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَبْلِيغِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] أَوْ مُزَكِّيًا لِأُمَّتِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ بِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وَقَدْ تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَوْ مَعْنَاهُ شَاهِدًا لِقُدْرَتِنَا وَإِرَادَتِنَا فِي الْخَلْقِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَمُبَشِّرًا أَيْ: لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمَثُوبَةِ وَنَذِيرًا: (" أَيْ: مُنْذِرًا وَمُخَوِّفًا لِلْكَافِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ وَحِرْزًا: بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ لِلْأُمِّيِّينَ، قَالَ الْقَاضِي أَيْ: حِصْنًا وَمَوْئِلًا لِلْعَرَبِ، يَتَحَصَّنُونَ بِهِ مِنْ غَوَائِلِ الشَّيْطَانِ أَوْ عَنْ سَطْوَةِ الْعَجَمِ وَتَغَلُّبِهِمْ، وَإِنَّمَا سُمُّوا أُمِّيِّينَ لِأَنَّ أَغْلَبَهُمْ لَا يَقْرَءُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ اه. أَوْ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى أُمِّ الْقُرَى، وَهِيَ مَكَّةُ، أَوْ لِكَوْنِ نَبِيِّهِمْ أُمِّيًّا، وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَوْجَهُ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، وَلَا يَبْقَى مُتَمَسَّكٌ لِلْيَهُودِ عَلَى مَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ بِذِكْرِهِ لَا يَنْفِي مَا

عَدَاهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحِرْزِ حِفْظَ قَوْمِهِ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، أَوِ الْحِفْظَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا دَامَ فِيهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] (أَنْتَ عَبْدِي) أَيْ: الْخَاصُّ كَمَا وَصَفَهُ بِالْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} [التوبة: 33] فَالْإِضَافَةُ لِلْعَهْدِ كَمَا قَالَ: أَكْرَمَ زَيْدٌ عَبْدَهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَبِيدٌ مُتَعَدِّدَةٌ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ اسْمُ الْجِنْسِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ فَتَأَمَّلْ. (سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ) ، أَيْ: خَصَصْتُكَ بِهَذَا الْوَصْفِ لِكَمَالِ تَوَكُّلِكَ عَلَيَّ وَتَفْوِيضِكَ إِلَيَّ وَتَسْلِيمِكَ لَدَيَّ عَمَلًا بِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَتَوَكَلْ عَلَى اللَّهِ، وَتَوَكَلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] ، {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2] دَلَالَةٌ عَلَيْهِ وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِ (لَيْسَ بِفَظٍّ) : الْتِفَاتٌ فِيهِ تَضَمُّنٌ لِلْفَنَنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آيَةً أُخْرَى فِي التَّوْرَاةِ لِبَيَانِ صِفَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُتَوَكِّلِ أَوْ مِنَ الْكَافِ فِي سَمَّيْتُكَ، فَعَلَى هَذَا فِيهِ الْتِفَاتٌ اه. وَالْمَعْنَى لَيْسَ بِسَيِّئِ الْخُلُقِ أَوِ الْقَوْلِ، (وَلَا غَلِيظٍ) أَيْ: ضَخْمٍ كَرِيهِ الْخُلُقِ، أَوْ سَيِّئَ الْفِعْلِ، أَوْ غَلِيظِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] أَيْ: شَدِيدَهُ وَقَاسِيَهُ، فَيُنَاسِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْفَظُّ مَعْنَاهُ بَذَاذَةُ اللِّسَانِ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى طَهَارَةِ عُضْوَيْهِ الْكَرِيمَيْنِ مِنْ دَنَسِ الطَّبْعِ وَوَسَخِ هَوَى النَّفْسِ الذَّمِيمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَظًّا فِي الْقَوْلِ، غَلِيظًا فِي الْفِعْلِ (وَلَا سَخَّابٍ) : بِتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: صَيَّاحٍ (فِي الْأَسْوَاقِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: هُوَ لَيِّنُ الْجَانِبِ شَرِيفُ النَّفْسِ، لَا يَرْفَعُ الصَّوْتَ عَلَى النَّاسِ لِسُوءِ خُلُقِهِ، وَلَا يُكْثِرُ الصِّيَاحَ عَلَيْهِمْ فِي السُّوقِ لِدَنَاءَتِهِ، بَلْ يُلِينُ جَانِبَهُ لَهُمْ وَيَرْفُقُ بِهِمْ. قُلْتُ: فَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] أَوْ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] (وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ) : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] الْآيَةَ. وَإِطْلَاقُ السَّيِّئَةِ عَلَى جَزَائِهَا إِمَّا لِلْمُشَاكَلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ فِي صُورَةِ السَّيِّئَةِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى دَفْعِهَا بِالْحَسَنَةِ كَأَنَّهَا سَيِّئَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. (وَلَكِنْ يَعْفُو) أَيْ: عَنِ الْمُسِيءِ (وَيَغْفِرُ) أَيْ: يَسْتُرُ، أَوْ يَدْعُو لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] ، وَقَوْلُهُ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وَهَذَا أَقْرَبُ مَرَاتِبِ مُعَامَلَتِهِ مَعَ الْمُسِيئِينَ، وَقَدْ كَانَ يُقَابِلُهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] (وَلَنْ يَقْبِضَهُ) : بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنُّونِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ بِزِيَادَةِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْأَفْعَالِ الْآتِيَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ وَكَذَا الْتِفَاتٌ فِي قَوْلِهِ: وَلَنْ يَقْبِضَهُ يَاءُ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ عَلَى رِوَايَةِ الْمِشْكَاةِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ (حَتَّى يُقِيمَ بِهِ) أَيْ: بِوَاسِطَتِهِ (الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ) : كَمَا فِي التَّنْزِيلِ ذَمًّا لِلْكُفَّارِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا. وَقَالَ فِي مَدْحِ دِينِ الْإِسْلَامِ. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ - وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 36 - 52] قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِهِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهَا قَدِ اعْوَجَّتْ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ فَزِيدَتْ وَنُقِصَتْ وَغُيِّرَتْ وَبُدِّلَتْ، وَمَا زَالَتْ حَتَّى قَامَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَامَهَا أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا. (بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : مُتَعَلِّقٌ.

بِقَوْلِهِ يُقِيمَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِقَامَةَ التَّوْحِيدِ فِي إِدَامَةِ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ التَّفْرِيدِ، وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَنْ نَقْبِضَهُ) أَيْ: رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءِ أَيْ: نَجْعَلُهَا مُسْتَقِيمَةً، وَيُرِيدُ بِهَا مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَدَيَّنُ بِهَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِالْعَوْجَاءِ وَسَمَّاهَا مِلَّةً عَلَى الِاتِّسَاعِ كَمَا يُقَالُ: الْكُفْرُ مِلَّةٌ. (وَيُفْتَحُ) : بِالْيَاءِ وَالنُّونِ عَلَى مَا سَبَقَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: يُقِيمَ وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ: وَهُوَ يَفْتَحُ أَوْ نَحْنُ (بِهَا) أَيْ: بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهِ أَيْ: بِهَذَا النَّبِيِّ أَوْ بِهَذَا الْقَوْلِ (أَعْيُنًا) : بِالنَّصْبِ عَلَى مَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ (عُمْيًا) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ أَعْمَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، وَالدَّارِمِيِّ، وَكِتِابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: يُفْتَحُ بِهَا أَعْيُنٌ عَمْيَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً: أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ أَصَحِّيَّةِ الدِّرَايَةِ هُوَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ بِلَا خِلَافٍ عَلَى اخْتِلَافِ أَنَّهُ بِالْيَاءِ أَوِ النُّونِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَآذَانًا) : إِلَخْ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَهُوَ بِمَدِّ الْهَمْزِ جَمْعُ الْأُذُنِ (صُمًّا) : جَمْعُ أَصَمَّ (وَقُلُوبًا غُلْفًا) . بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ أَغْلَفَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَفْهَمُ كَأَنَّ قَلْبَهُ فِي غِلَافٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لِأَنَّهَا آلَاتٌ لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] وَقَالَ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 18] وَلَعَلَّهُ لَمْ يَذْكُرِ اللِّسَانَ فِي مَعْرِضِ هَذَا الْبَيَانِ، لِأَنَّهُ تُرْجُمَانُ الْجَنَانِ، وَإِنَاءٌ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَعْيَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا مُثْبَتَةٌ فِي الْقُرْآنِ. قُلْتُ: أَجَلْ أَمَّا قَوْلُهُ: " {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب: 45] " فَفِي الْأَحْزَابِ، وَقَوْلُهُ: حِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، فَفِي الْجُمُعَةِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [الجمعة: 2] وَقَوْلُهُ: سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] " إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] وَقَوْلُهُ: وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] أَيْ: دُمْ عَلَى التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ مِنَ الَّذِينَ لَهُمْ مُسَاهَمَةٌ وَنَصِيبٌ وَافِرٌ فِي السُّجُودِ، فَلَا تُخِلَّ بِهَا وَلَا تُشْغَلَ بِغَيْرِهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ مِنَ السَّاجِدِينَ» فَقَوْلُهُ: وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] إِذْ هُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ سَخَّابٍ وَحْدَهُ وَنَفْيُهُمَا مَعًا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي الْأَسْوَاقِ قَيْدًا مُعْتَبَرًا فِي النَّفْيِ احْتِرَازًا مِنْ رَفْعِ صَوْتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْخُطْبَةِ فِي الْمَسَاجِدِ قَالَ: وَقَوْلُهُ: وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108] أَيْ: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ التَّوْحِيدَ وَأَنْفِيَ الشِّرْكَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} [النمل: 81] ؟ قُلْتُ: دَلَّ إِيلَاءُ الْفَاعِلِ الْمَعْنَوِيِّ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى نَزَّلَهُ بِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ الْقَوْمِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَدَّعِي اسْتِقْلَالَهُ بِالْهِدَايَةِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ لَسْتَ بِمُسْتَقِلٍّ فِيهِ، بَلْ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ اه. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ قَدْ يَنْسُبُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ، وَمِنْهُ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى: 52] وَتُنْفَى عَنْهُ أُخْرَى نَظَرًا إِلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْهِدَايَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] .

فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] أَيْ: مَا رَمَيْتَ خَلْقًا وَحَقِيقَةً إِذْ رَمَيْتَ كَسْبًا وَصُورَةً {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] حَيْثُ جَعَلَكَ قَادِرًا عَلَى الرَّمْيِ وَفَاعِلًا لَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ نَفْيَ الْهِدَايَةِ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَإِثْبَاتَهَا لَهُ فِيمَنْ أَرَادَهُ لِهَذَا، فَلَا مُنَافَاةَ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَظْهَرُ هِدَايَتِهِ، كَمَا أَنَّ إِبْلِيسَ مَظْهَرُ ضَلَالَتِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) أَيْ: عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ.

5753 - وَكَذَا الدَّارِمِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ سَلَامٍ، نَحْوَهُ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَحْنُ الْآخَرُونَ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5753 - (وَكَذَا الدَّارِمِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ سَلَامٍ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (نَحْوَهُ) أَيْ: نَحْوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَعْنَى، مَعَ نَوْعِ مُخَالَفَةٍ فِي اللَّفْظِ. وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ، وَفِي سَائِرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ سَلَامٍ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، وَعَطَاءٌ هُوَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ الرَّاوِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو اه. وَحَاصِلُهُ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَمْرٍو، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَيَرْوِيهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَلَامٍ كَمَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْمُنَاسِبُ لِلصِّحَاحِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ هُوَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، وَتَأْيِيدُهُ بِرِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ لِلِالْتِزَامِ السَّابِقِ، وَبِهِ يَحْصُلُ نَوْعُ اعْتِرَاضٍ لِصَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَلَى الْبَغْوِيِّ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَخْطِئَةِ سَائِرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَحْنُ الْآخِرُونَ) أَيْ: السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ (فِي بَابِ الْجُمُعَةِ) . لِكَوْنِهِ أَنْسَبَ بِذَلِكَ الْبَابِ بِاعْتِبَارِ أَوَاخِرِ الْحَدِيثِ، وَغَالِبِهِ فَهُوَ مِنَ الْمُؤَلِّفِ اعْتِذَارٌ قَوْلِيٌّ وَاعْتِرَاضٌ فِعْلِيٌّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5754 - عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً، فَأَطَالَهَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَلَّيْتَ صَلَاةً لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهَا، قَالَ: (أَجَلْ، إِنَّهَا صَلَاةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، وَإِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ فِيهَا ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5754 - (عَنْ خَبَّابٍ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى (ابْنِ الْأَرَتِّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً فَأَطَالَهَا) ، أَيْ: فَجَعَلَهَا طَوِيلَةً بِاعْتِبَارِ أَرْكَانِهَا أَوْ بِالدُّعَاءِ فِيهَا (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صَلَّيْتَ صَلَاةً) أَيْ: عَظِيمَةً (لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهَا) ، أَيْ: عَادَةً (قَالَ: (أَجَلْ) أَيْ: نَعَمْ (إِنَّهَا صَلَاةُ رَغْبَةٍ) أَيْ: رَجَاءٍ (وَرَهْبَةٍ) أَيْ: خَوْفٍ. قَالَ شَارِحٌ أَيْ: صَلَاةٌ فِيهَا رَجَاءٌ لِلثَّوَابِ وَرَغْبَةٌ إِلَى اللَّهِ وَخَوْفٌ مِنْهُ تَعَالَى. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ قَصْدِ رَجَاءِ الثَّوَابِ، وَخَوْفِ الْعِقَابِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، إِذْ قَدْ يَغْلِبُ فِيهَا أَحَدُ الْبَاعِثَيْنِ عَلَى أَدَائِهَا. قَالُوا: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] بِمَعْنَى أَوْ لِمَانِعَةِ الْخُلُوِّ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ سَبَبَ صَلَاتِهِ الدُّعَاءُ لِأُمَّتِهِ وَهُوَ كَانَ بَيْنَ رَجَاءِ الْإِجَابَةِ وَخَوْفِ الرَّدِّ طَوَّلَهَا، وَلِذَا قَالَ: (وَإِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ فِيهَا ثَلَاثًا) ، أَيْ: ثَلَاثَ مَسَائِلَ (فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً) ، تَصْرِيحٌ بِمَا عَلِمَ ضِمْنًا (سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ) أَيْ: بِقَحْطٍ عَامٍّ، وَفِي مَعْنَاهُ الْوَبَاءُ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَهْلِكُوا بِالِاسْتِئْصَالِ (فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ) : وَهُمُ الْكُفَّارُ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَهْوَنُ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْهَلَاكُ الْكُلِّيُّ وَلَا إِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ السُّفْلَى.

(فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أَيْ: حَرْبَهُمْ وَقَتْلَهُمْ وَعَذَابَهُمْ (فَمَنَعَنِيهَا) . أَيْ: لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحِكْمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65] أَيْ: يَجْعَلَ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ مُتَابِعَةً لِإِمَامٍ، وَيَنْشُبَ الْقِتَالُ بَيْنَكُمْ، وَتَخْتَلِطُوا وَتَشْتَبِكُوا فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَيُذِيقُ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. الْمَعْنَى: يَخْلِطُكُمْ فِرَقًا مُخْتَلِفِينَ عَلَى أَهْوَاءٍ شَتَّى اه. وَفِي الْمَعَالِمِ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَّصِلِ إِلَى الْبُخَارِيِّ مُسْنَدًا إِلَى جَابِرٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .

5755 - وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ: أَنْ لَا يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ فَتَهْلَكُوا جَمِيعًا، وَأَنْ لَا يُظْهِرَ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ وَأَلَّا تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5755 - (وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجَارَكُمْ) أَيْ: حَفِظَكُمْ وَأَنْقَذَكُمْ (مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ) أَيْ: خِصَالٍ (أَنْ لَا يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ) أَيْ: يَكْفُرَ بَعْضُكُمْ. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ دُعَاءَ الِاسْتِئْصَالِ بِالْهَلَاكِ (فَتَهْلَكُوا جَمِيعًا) ، أَيْ: كَمَا دَعَا نُوحٌ وَمُوسَى، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، لَكِنْ دُعَاءُ مُوسَى كَانَ خَاصًّا بِبَعْضِ قَوْمِهِ وَهُوَ الْقِبْطُ دُونَ السِّبْطِ كَمَا لَا يَخْفَى، (وَأَنْ لَا يَظْهَرَ) ؟ أَيْ: لَا يَغْلِبَ (أَهْلُ الْبَاطِلِ) أَيْ: وَإِنْ كَثُرَ أَنْصَارُهُ (عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ) أَيْ: وَإِنْ قَلَّ أَعْوَانُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ) عَلَى مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عُمَرَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَوَّامَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا» ) وَلَعَلَّهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] وَفِي الْمَصَابِيحِ عَلَى الْحَقِّ قَالَ شَارِحٌ لَهُ أَيْ: بِحَيْثُ يَمْحَقُهُ وَيُطْفِئُ نُورَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الظُّهُورَ كُلَّ الظُّهُورِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ فِئَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْبَاطِلَ وَإِنْ كَثُرَتْ أَنْصَارُهُ، فَلَا يَغْلِبُ الْحَقَّ بِحَيْثُ يَمْحَقُهُ وَيُطْفِئُ نُورَهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ مَعَ مَا ابْتُلِينَا بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْفَادِحِ وَالْمِحْنَةِ الْعُظْمَى بِتَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ عَلَيْنَا، وَمَعَ اسْتِمْرَارِ الْبَاطِلِ، فَالْحَقُّ أَبْلَجُ وَالشَّرِيعَةُ قَائِمَةٌ لَمْ تَخْمَدْ نَارُهَا وَلَمْ يَنْدَرِسْ مَنَارُهَا، (وَأَنْ لَا تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ) أَيْ: وَأَنْ لَا تَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ بَاطِلٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، وَأَنَّ مَا هُوَ حَسَنٌ عِنْدَ النَّاسِ فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . فَهَذَا مَأْخَذٌ حَسَنٌ لِقَوْلِهِمِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ اسْتَنْبَطَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْكِتَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ وَحَرْفُ النَّفْيِ فِي الْقَرَائِنِ زَائِدٌ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] وَفَائِدَةُ تَأْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَتَحْقِيقِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِجَارَةَ إِنَّمَا تَسْتَقِيمُ إِذَا كَانَتِ الْخِلَالُ مُثْبَتَةٌ أَوْ مَنْفِيَّةٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5756 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ سَيْفَيْنِ: سَيْفًا مِنْهَا وَسَيْفًا مَنْ عَدُوِّهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5756 - (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ سَيْفَيْنِ: سَيْفًا مِنْهَا وَسَيْفًا مِنْ [غَيْرِهَا» ] أَيْ: بَلِ اخْتَارَ اللَّهُ الْأَيْسَرَ مِنْهَا، وَهُوَ السَّيْفُ مِنْهَا دُونَ السَّيْفِ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْصَالِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمِلَّةِ، وَبِشَارَةٌ فِي حِفْظِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِمَا صَحَّ فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: ( «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ) . وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّ سُيُوفَهُمْ وَسُيُوفَ أَعْدَائِهِمْ لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِمْ فَيُؤَدِّيَانِ إِلَى اسْتِئْصَالِهِمْ بَلْ إِذَا جَعَلُوا بِأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ سُلِّطَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ، فَيَشْغَلَهُمْ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيَكُفَّ عَنْهُمْ بَأْسَهُمْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَنِي أَنْ لَا يَجْمَعَ عَلَى أُمَّتِي مُحَارَبَتَيْنِ مُحَارَبَةَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمُحَارَبَةَ الْكُفَّارِ مَعَهُمْ، بَلْ تَكُونُ إِحْدَاهُمَا فَإِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا لَا يَكُونُ الْأُخْرَى، لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَأَجَابَ الْأَوَّلَ، وَمَنَعَ الثَّانِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْمَنْعَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5757 - «وَعَنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَأَنَّهُ سَمِعَ شَيْئًا. فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ (مَنْ أَنَا؟) فَقَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فِرْقَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5757 - (وَعَنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ جَاءَ) أَيْ: غَضْبَانَ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَأَنَّهُ سَمِعَ شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الطَّعْنِ فِي نَسَبِهِ أَوْ حَسَبِهِ (فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ) أَيْ: لِيَكُونَ بَيَانَ أَمْرِهِ أَظْهَرُ عَلَى رُءُوسِ الْمَحْضَرِ (فَقَالَ: مَنْ أَنَا) ؟ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ عَلَى جِهَةِ التَّبْكِيتِ (فَقَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . فَلَمَّا كَانَ قَصْدُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانَ نَسَبِهِ وَهُمْ عَدَلُوا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَبْنَى (قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) ، يَعْنِي وَهُمَا مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعَارِفِ الْمُنْتَسِبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَكَأَنَّهُ سَمِعَ مُسَبَّبٌ عَنْ مَحْذُوفٍ أَيْ: جَاءَ الْعَبَّاسُ غَضْبَانَ بِسَبَبِ مَا سَمِعَ طَعْنًا مِنَ الْكُفَّارِ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] كَأَنَّهُمْ حَقَّرُوا شَأْنَهُ، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ الشَّأْنِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ هُوَ عَظِيمٌ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ مَثَلًا، فَأَقَرَّهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ عَلَى مَا يَلَزَمُ تَعْظِيمَهُ وَتَفْخِيمَهُ، فَإِنَّهُ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ نَسَبَهُ أَعْرَفُ، وَأَرُومِيَّتَهُ أَعْلَى وَأَشْرَفُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا - قَالُوا أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ رَدَّهُمْ بِقَوْلِهِ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ حِينَ سَأَلَهُ هِرَقْلُ عَظِيمُ الرُّومِ عَنْ نَسَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، فَقَالَ هِرَقْلُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتُ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، أَلَا تَرَى كَيْفَ جَعَلَ النَّسَبَ ظَرْفًا لِ " تُبْعَثُ " وَأَتَى بِفِي أَيْ: فِي النَّسَبِ اه. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فِي بَيَانِ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ طَهَارَةِ نَسَبِهِ وَنَظَافَةِ حَسَبِهِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، تَحُدُّثًا بِنِعْمَتِهِ وَتَرْغِيبًا لِأُمَّتِهِ فِي أَمْرِ مُتَابَعَتِهِ (فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ) أَيْ: الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ وَأَدْخَلَ الْمَلَكَ مَعَهُمْ لِقَوْلِهِ: (فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ) وَهُوَ الْإِنْسُ (ثُمَّ جَعَلَهُمْ) أَيْ: صَيَّرَ هَذَا الْخَيْرَ بِمَعْنَى الْخَيَارَ أَوِ الْأَخْبَارَ (فِرْقَتَيْنِ) أَيْ: عَرَبًا وَعَجَمًا (فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فِرْقَةً) ، وَهُمُ الْعَرَبُ (ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً) ، يَعْنِي قُرَيْشًا (ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا) أَيْ: بُطُونًا (فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا) يَعْنِي بَطْنَ بَنِي هَاشِمٍ (فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا) أَيْ: ذَاتًا وَحَسَبًا (وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا) أَيْ: بَطْنًا وَنَسَبًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] .

وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] بِفَتْحِ الْفَاءِ فِيهِمْ عَلَى قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ الطَّبَقَاتِ السِّتِّ الَّتِي عَلَيْهَا الْعَرَبُ وَهِيَ الشَّعْبُ وَالْقَبِيلَةُ وَالْعِمَارَةُ، وَالْبَطْنُ، وَالْفَخِذُ، وَالْفَصِيلَةُ، وَالشَّعْبُ يَجْمَعُ الْقَبَائِلَ، وَالْقَبِيلَةُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ، وَالْعَمَائِرُ، وَالْعِمَارَةُ تَجْمَعُ الْبُطُونَ، وَالْبَطْنُ يَجْمِعُ الْأَفْخَاذَ، وَالْفَخِذُ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ، فَخُزَيْمَةُ شَعْبٌ، وَكِنَانَةُ قَبِيلَةٌ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَةٌ، وَقُصَيٌّ بَطْنٌ، وَهَاشِمٌ فَخِذٌ، وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ، وَسُمِّيَتِ الشُّعُوبَ لِأَنَّ الْقَبَائِلَ تَتَشَعَّبُ مِنْهَا فَقَوْلُهُ: خَلَقَ الْخَلْقَ أَيِ: الْمَلَائِكَةَ وَالثَّقَلَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ أَيْ: فِي الْعَرَبِ وَهَلُمَّ جَرًّا، فَإِنَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ عَلَى مَا فِي سَابِقِ الْأَزَلِ خَيْرُ الْخَلْقِ نَفْسًا حَيْثُ خَلَقَنِي إِنْسَانًا وَرَسُولًا خَاتِمًا لِلرُّسُلِ، تَمَّمَ دَائِرَةَ الرُّسُلِ بِي، وَجَعَلَنِي نُقْطَةَ تِلْكَ الدَّائِرَةِ، يَطُوفُ جَمِيعُهُمْ حَوْلِي وَيَحْتَاجُونَ إِلَيَّ، وَخَيْرَهُمْ بَطْنًا حَيْثُ نَقَلَنِي مِنْ طَيِّبٍ إِلَى طَيِّبٍ إِلَى أَنْ نَقَلَنِي مَنْ صُلْبِ عَبْدِ اللَّهِ بِالنِّكَاحِ مِنْ أَشْرَفِ الْقَبَائِلِ وَالْبُطُونِ، فَأَنَا أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَكْرَمُهُمْ لَدَيْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ ( «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرَقِهِمْ، وَخَيْرِ الْفِرْقَتَيْنِ، ثُمَّ خَيَّرَ الْقَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ الْقَبِيلَةِ، ثُمَّ خَيَّرَ الْبُيُوتَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ بُيُوتِهِمْ، فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا» ) .

5758 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5758 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ) ؟ أَيْ: ثَبَتَتْ (قَالَ: وَآدَمُ) أَيْ: وَجَبَتْ لِيَ النُّبُوَّةُ وَالْحَالُ أَنَّ آدَمَ (بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ) يَعْنِي وَأَنَّهُ مَطْرُوحٌ عَلَى الْأَرْضِ صُورَةً بِلَا رُوحٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَبْلَ تَعَلُّقِ رُوحِهِ بِجَسَدِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا هُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: مَتَى وَجَبَتْ أَيْ: وَجَبَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَعَامِلُ الْحَالِ وَصَاحِبُهَا مَحْذُوفَانِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ! وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَخْرِ، وَابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الْجَدْعَاءَ، وَالطَّبَرَانِيُّ الْكَبِيرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ فِي الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» ) كَذَا فِي الْجَامِعِ، وَقَالَ ابْنُ رَبِيعٍ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمٌ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ» ) وَأَمَّا مَا يَدُورُ فِي الْأَلْسِنَةِ بِلَفْظِ: ( «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ» ) فَقَالَ السَّخَاوِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَضْلًا عَنْ زِيَادَةِ " «وَكُنْتُ نَبِيًّا وَلَا مَاءَ وَلَا طِينَ» ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ: إِنَّ الزِّيَادَةَ ضَعِيفَةٌ وَمَا قَبْلَهَا قَوِيٌّ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا أَصْلَ لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ فِي التِّرْمِذِيِّ: «مَتَى كُنْتَ نَبِيًّا؟ قَالَ: (وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» ) . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَزَادَ الْعَوَّامُّ وَلَا آدَمَ وَلَا مَاءَ وَلَا طِينَ، وَلَا أَصْلَ لَهُ أَيْضًا.

5759 - وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ: خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لِمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ بِأَوَّلِ أَمْرِي، دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْنِي وَقَدْ خَرَجَ لَهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهَا مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5759 - (وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ) ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ أَيْ: مَكْتُوبٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ (وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ) مِنَ الْجَدْلِ وَهُوَ الْإِلْقَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الصَّلْبَةِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَسَاقِطٌ وَمُلْقًى (فِي طِينَتِهِ) ، أَيْ: خِلْقَتِهِ وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (مَكْتُوبٌ) أَيْ: كُتِبْتُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْحَالِ الَّتِي آدَمُ مَطْرُوحٌ عَلَى الْأَرْضِ حَاصِلٌ فِي أَثْنَاءِ خِلْقَتِهِ، لَمَّا يُفْرَغْ مِنْ تَصْوِيرِهِ وَتَعَلُّقِ الرُّوحِ بِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ. (وَسَأُخْبِرُكُمْ بِأَوَّلِ أَمْرِي) : قِيلَ أَيْ: بِأَوَّلِ مَا ظَهَرَ مِنْ نُبُوَّتِي وَرِفْعَتِي فِي الدُّنْيَا عَلَى لِسَانِ أَبِي.

الْمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: (دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ) بِالرَّفْعِ أَيْ: هُوَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ بَنَى الْكَعْبَةَ فَقَالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِمَّا قَبْلَهُ وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَبِشَارَةُ عِيسَى) يَعْنِي قَوْلَهُ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] (وَرُؤْيَا أُمِّيِ الَّتِي رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْنِي:) قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنْهَا الرُّؤْيَةُ فِي الْمَنَامِ، وَفِي الْيَقَظَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَى وَضَعَتْ أَيْ شَارَفَتْ وَقَرُبَتْ مِنَ الْوَضْعِ، وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ أَنَّ أُمَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَتْ حِينَ دَنَتْ وِلَادَتُهَا أَتَاهَا آتٍ فَقَالَ: قُولِي أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدِ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ، بَعْدَ أَنْ رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ أَنَّ آتِيًا أَتَاهَا وَقَالَ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكِ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَرْئِيُّ مَحْذُوفًا وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَقَدْ خَرَجَ) أَيْ: ظَهَرَ (لَهَا) أَيْ: لِأُمِّي (نُورٌ أَضَاءَ) أَيْ:؟ تَبَيَّنَ (لَهَا مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ النُّورِ (قُصُورُ الشَّامِ) وَذَلِكَ النُّورُ عِبَارَةٌ عَنْ ظُهُورِ نُبُوَّتِهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَاضْمَحَلَّ بِهَا ظُلْمَةُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ " قُصُورَ "، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ قُصُورٍ لِوُجُودِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَأَضَاءَ جَاءَ لَازِمًا وَقَاصِرًا (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْعِرْبَاضِ.

5760 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مِنْ قَوْلِهِ: (سَأُخْبِرُكُمْ) إِلَخْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5760 - (وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مِنْ قَوْلِهِ: سَأُخْبِرُكُمْ) : إِلَخْ. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ عَنِ الْعِرْبَاضِ: ( «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَمَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ» ) . وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَلَفْظُهُ: ( «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَشَّرَ بِي عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» ) .

5761 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ. وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي؟ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5761 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» ) ، أَيْ وَلَا أَقُولُهُ تَفَاخُرًا بَلِ اعْتِدَادًا بِفَضْلِهِ، وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَتِهِ، وَتَبْلِيغًا لِمَا أُمِرْتُ بِهِ، وَقِيلَ: لَا أَفْتَخِرُ بِذَلِكَ، بَلْ فَخْرِي بِمَنْ أَعْطَانِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ، أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا فَخْرَ فِي هَذِهِ السِّيَادَةِ، بَلْ أَفْتَخِرُ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحُسْنَى وَالزِّيَادَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: وَلَا فَخْرَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ أَيْ: أَقُولُ هَذَا وَلَا فَخْرَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْفَخْرُ ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ وَالْمُبَاهَاةِ بِالْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْإِنْسَانِ كَالْمَالِ وَالْجَاهِ قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] وَثَانِيهُمَا أَنَّهُ مِنَ الْبَيَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ إِلَى أُمَّتِهِ لِيَعْرِفُوهُ وَيَعْتَقِدُوهُ، وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ فِي تَوْفِيرِهِ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. قَالَ الرَّاغِبُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اسْتُحْسِنَ مَدْحُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَقَدْ عُلِمَ فِي الشَّاهِدِ اسْتِقْبَاحُهُ حَتَّى قِيلَ لِلْحَكِيمِ: مَا الَّذِي لَا يَحْسُنُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا؟ قَالَ: مَدْحُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ. قُلْنَا: قَدْ يَحْسُنُ ذَلِكَ عِنْدَ تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَالِهِ كَقَوْلِ الْمُعَلِّمِ لِلْمُتَعَلِّمِ: اسْمَعْ مِنِّي لَا تَجِدُ مِثْلِي، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] وَسُئِلَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَقْبُحْ إِطْلَاقُهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَأَنْشَدَ: وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الشَّيْءُ عِنْدِي وَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمَدْحُ هُوَ الذَّبْحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْبُوحَ هُوَ الَّذِي يَفْتُرُ عَنِ الْعَمَلِ، فَكَذَلِكَ الْمَمْدُوحُ، لِأَنَّ الْمَدْحَ يُوجِبُ الْفُتُورَ وَيُورِثُ الْكِبْرَ وَالْعُجْبَ، وَهُوَ لِذَلِكَ مُهْلِكٌ كَالذَّبْحِ، فَإِنْ سَلِمَ الْمَدْحُ عَنْ هَذِهِ الْآفَاتِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّحَابَةِ، وَكَانُوا أَجَلَّ رُتْبَةً مِنْ أَنْ يُورِثَهُمْ ذَلِكَ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا، بَلْ يَزِيدُهُمْ جِدًّا، يَبْعَثُهُمْ أَنْ يَزِيدُوا فِيمَا يَسْتَوْجِبُونَ الْحَمْدَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَنَظِيرُهُ الْعَالِمُ أَوِ الشَّيْخُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ تِلْمِيذُهُ، أَوْ مُرِيدُهُ الْقَابِلُ الْعَاقِلُ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ رَغْبَتِهِمَا فِي الْمُجَاهَدَةِ وَتَحْصِيلِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، نَعَمْ يَقَعُ نَادِرًا بِمَنْ يَكُونُ فِيهِ الْبَلَادَةُ حَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ الْفُتُورُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَقَامِ الْقُصُورِ، فَيَتَوَقَّفُ عَنْ طَلَبِ الزِّيَادَةِ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَالنُّقْصَانِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي زِيَادَةٍ، فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ، وَمَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونُ زَمَانِهِ، فَفِي الْحَدِيثِ (مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ) وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّي زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وَفِي النِّهَايَةِ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْفَضْلِ وَالسُّؤْدُدِ، وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ، وَإِعْلَامًا مِنْهُ، لِيَكُونَ إِيمَانُهُمْ بِهِ عَلَى حَسْبِهِ وَمُوجِبِهِ وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ (وَلَا فَخْرَ) أَيْ: أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي نِلْتُهَا كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ أَنَلْهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِي، وَلَا نِلْتُهَا بِقُوَّتِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أَفْتَخِرَ بِهَا، (وَبِيَدِي) أَيْ: بِتَصَرُّفِي وَعِنْدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ (لِوَاءُ الْحَمْدِ) : اللِّوَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ الْعَلَمُ، وَفِي الْعَرَصَاتِ مَقَامَاتٌ لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يُنْصَبُ فِي كُلِّ مَقَامٍ لِكُلِّ مَتْبُوعٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ لَهُ، قُدْوَةَ حَقٍّ كَانَ أَوْ أُسْوَةَ بَاطِلٍ، وَأَعْلَى تِلْكَ الْمَقَامَاتِ مَقَامُ الْحَمْدِ، فَفِي النِّهَايَةِ: اللِّوَاءُ الرَّايَةُ، وَلَا يُمْسِكُهَا إِلَّا صَاحِبُ الْجَيْشِ، يُرِيدُ بِهِ انْفِرَادَهُ بِالْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَشُهْرَتَهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، فَوَضَعَ اللِّوَاءَ مَوْضِعَ الشُّهْرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا لِوَاءُ الْحَمْدِ عِبَارَةٌ عَنِ الشُّهْرَةِ، وَانْفِرَادِهِ بِالْحَمْدِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَمْدِهِ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقِيقَةً يُسَمَّى لِوَاءَ الْحَمْدِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَا مَقَامَ مِنْ مَقَامَاتِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَرْفَعُ وَأَعْلَى مِنْ مَقَامِ الْحَمْدِ وَدُونَهُ يَنْتَهِي سَائِرُ الْمَقَامَاتِ، وَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ أَحْمَدَ الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أُعْطِيَ لِوَاءَ الْحَمْدِ لِيَأْوِيَ إِلَى لِوَائِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» ) وَلِهَذَا الْمَعْنَى افْتُتِحَ كِتَابُهُ بِالْحَمْدِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنَ الْحَمْدِ، فَقِيلَ: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، وَأُقِيمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ، وَيُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مِنَ الْمَحَامِدِ مَا لَمْ يُفْتَحْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَا يُفْتَحُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَأَمَدَّ أُمَّتَهُ بِبَرَكَتِهِ مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي آتَاهُ، فَنَعَتَ أُمَّتَهُ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ بِهَذَا النَّعْتِ فَقَالَ: أَمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ لِلَّهِ الْحَمْدُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَلَا فَخْرَ، فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْقُرْبِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ اللِّقَاءُ النَّاشِئُ عَنْ تَمَامِ الرِّضَا، وَالْفَنَاءِ بِالْبَقَاءِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ لِخُلُوصِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْمَوْلَى وَنِسْيَانِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْوَرَى. (وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ) : بِالرَّفْعِ. وَقِيلَ: بِالْخَفْضِ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَحَلٍّ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ مِنْ لَفْظِ نَبِيٍّ وَعُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: نَبِيٌّ نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَأُدْخِلَ عَلَيْهِ (مَنْ) الِاسْتِغْرَاقِيَّةُ فَيُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ، وَقَوْلُهُ (آدَمُ فَمَنْ) إِمَّا بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّهِ، وَمَنْ فِيهِ مَوْصُولَةٌ. وَسِوَاهُ: صِلَتُهُ. وَصَحَّ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ وَأُوثِرَ الْفَاءُ التَّفْصِيلِيَّةُ فِي فَمَنْ سِوَاهُ عَلَى الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِمْ: الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ( «وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَزَادَ فِي الْجَامِعِ: ( «وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

5762 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَقَالَ آخَرُ: مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، قَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: (قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَبِيُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِي فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ عَلَى اللَّهِ وَلَا فَخْرَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5762 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي دَنَا، وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ، وَقَوْلُهُ: (يَتَذَاكَرُونَ) ، حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي سَمِعَهُمْ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سَمِعَهُمْ جَوَابُ إِذَا، وَقَوْلُهُ: (قَالَ بَعْضُهُمْ) إِمَّا اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلتَّذَاكُرِ، أَوْ حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ أَوْ بِدُونِهِ (إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَقَالَ آخَرُ: مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ فَعِيسَى) أَيْ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي التَّفَاضُلِ فَعِيسَى (كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ) أَيْ شُرِّفَ بِإِضَافَتِهِمَا إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَعِيسَى جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا ذَكَرْتُمُ الْخَلِيلَ فَاذْكُرُوا عِيسَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [الأنفال: 17] أَيْ إِذَا افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَقْتُلُوهُمْ (وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ) ، أَيْ بِتَعْلِيمِ الْأَسْمَاءِ وَبِإِسْجَادِ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ (فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : كَرَّرَهُ لِيُنِيطَ بِهِ غَيْرَ مَا أَنَاطَ بِهِ أَوَّلًا، أَوْ يَكُونَ خَرَجَ أَوَّلًا مِنْ مَكَانٍ وَثَانِيًا مِنْهُ إِلَى آخَرَ (وَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: وَفَهِمْتُ تَعَجُّبَكُمْ فَهُوَ مِنْ بَابِ: قُلِّدْتُ سَيْفًا وَرُمْحًا (أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافًا (وَهُوَ كَذَلِكَ) ، أَيْ كَوْنُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ (وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ) : فَعِيلٌ مِنَ النَّجْوَى بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ أَيْ: كَلِيمُ اللَّهِ (وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا: لِلتَّنْبِيهِ جِيءَ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: (وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ) أَيْ: مُحِبُّهُ وَمَحْبُوبُهُ (وَلَا فَخْرَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَرَّرَ أَوَّلًا مَا ذَكَرَ مِنْ فَضَائِلِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ كَذَلِكَ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ، وَجَامِعٌ لِمَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ، فَالْحَبِيبُ خَلِيلٌ وَمُكَلَّمٌ وَمُشَرَّفٌ اه. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْخَلِيلِ وَالْحَبِيبِ أَنَّ الْخَلِيلَ مِنَ الْخِلَّةِ أَيِ الْحَاجَةِ، فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ افْتِقَارُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، وَالْحَبِيبُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحِبٌّ وَمَحْبُوبٌ، وَالْخَلِيلُ مُحِبٌّ لِحَاجَتِهِ إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ، وَالْحَبِيبُ مُحِبٌّ لَا لِغَرَضٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَلِيلَ فِي مَنْزِلَةِ الْمُرِيدِ السَّالِكِ الطَّالِبِ، وَالْحَبِيبُ فِي مَنْزِلَةِ الْمُرَادِ الْمَجْذُوبِ الْمَطْلُوبِ {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13] وَلِذَا قِيلَ: الْخَلِيلُ يَكُونُ فِعْلُهُ بِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَبِيبُ يَكُونُ فِعْلُ اللَّهِ بِرِضَاهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] ، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] وَقِيلَ: الْخَلِيلُ مَغْفِرَتُهُ فِي حَدِّ الطَّمَعِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي} [الشعراء: 82] وَالْحَبِيبُ مَغْفِرَتُهُ فِي مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وَالْخَلِيلُ قَالَ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] وَالْحَبِيبُ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: {لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] وَالْخَلِيلُ قَالَ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وَقَالَ لِلْحَبِيبِ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] وَالْخَلِيلُ قَالَ: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85] وَالْحَبِيبُ قَالَ لَهُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] وَالْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ مَحْبُوبِيَّتِهِ فِي دَرَجَةِ الْكَمَالِ قَوْلُ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .

( «وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءَ الْحَمْدِ» ) بِالْإِضَافَةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ وَلَا فَخْرَ «وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» ) أَيْ: مَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، «وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَ الْجَنَّةِ» ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُكْسَرُ جَمْعُ حَلْقَةٍ وَهِيَ هُنَا حَلْقَةُ بَابِ الْجَنَّةِ، فِي الْقَامُوسِ حَلْقَةُ الْبَابِ وَالْقَوْمِ، وَقَدْ يُفْتَحُ لَامُهَا وَيُكْسَرُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَلَقَةٌ مُحَرَّكَةً إِلَّا جَمْعَ حَالِقٍ أَوْ لُغَةً ضَعِيفَةً، وَالْجَمْعُ حِلَقٌ مُحَرَّكَةٌ وَكَبِدَرٍ (فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِي) أَيْ: بَابَهَا (فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ: مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ فِي السَّبْقِ كَمَا سَبَقَ: أَنَّهُ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَهُنَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى بِمُتَابَعَةِ حَبِيبِهِ، وَاتِّصَافِهِمْ بِصِفَتِهِ، وَلَيْسَ الْفَقْرُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ الْفَاقَةَ وَالْحَاجَةَ، بَلِ الْفَقْرُ عِنْدَهُمُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ تَعَالَى لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ بِهِ لَا عَنْهُ بِغَيْرِهِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: نَعْتُ الْفَقِيرِ السُّكُونُ عِنْدَ الْعِلْمِ وَالْبَذْلُ عِنْدَ الْوُجُودِ، وَقِيلَ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَلَيْسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَاذَ مِنَ الْفَقْرِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنْ فَقْرِ النَّفْسِ الَّذِي مَدَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغِنَى فِي ضِدِّهِ فَقَالَ: «الْغَنِيُّ غَنِيُّ النَّفْسِ» فَكَذَلِكَ الْفَقْرُ الْمَذْمُومُ فَقْرُ النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَاذَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقُولُ الْمَذْمُومُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى هُوَ الَّذِي يَشْغَلُ السَّالِكَ عَنِ الْمَوْلَى، غَايَتُهُ أَنَّ حَالَةَ الْفَقْرِ أَسْلَمُ مِنَ الْعَوَائِقِ ; وَلِذَا اخْتَارَهُ سُبْحَانَهُ لِأَكْثَرِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنْ بَيْنِ الْخَلَائِقِ حَتَّى قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: إِنِ الْكَافِرَ الْفَقِيرَ عَذَابُهُ أَخَفُّ مِنَ الْكَافِرِ الْغَنِيِّ، فَإِذَا كَانَ الْفَقْرُ يَنْفَعُ الْكَافِرَ فِي النَّارِ، فَكَيْفَ لَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنَ فِي دَارِ الْقَرَارِ؟ وَلِذَا قَالَ: ( «أَجْوَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْبَعُكُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ عَلَى اللَّهِ وَلَا فَخْرَ» ) وَهَذَا فَذْلَكَةُ الْكُلِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

5763 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَحْنُ الْآخِرُونَ، وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنِّي قَائِلٌ قَوْلًا غَيْرَ فَخْرٍ: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ وَمُوسَى صَفِيُّ اللَّهِ، وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ، وَمَعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي فِي أُمَّتِي وَأَجَارَهُمْ مِنْ ثَلَاثٍ: لَا يَعُمُّهُمْ بِسَنَةٍ، وَلَا يَسْتَأْصِلُهُمْ عَدُوٌّ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5763 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَقِيلَ: وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ الْأَعْمَى، وَهُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَاسْمُ أُمِّ مَكْتُومٍ عَاتِكَةُ، وَهِيَ خَالَةُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ. اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّاتٍ آخِرُهَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ اسْتُشْهِدَ بِالْقَادِسِيَّةِ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: نَحْنُ الْآخِرُونَ) ، يَعْنِي فِي الْمَجِيءِ إِلَى الدُّنْيَا (وَنَحْنُ السَّابِقُونَ) أَيْ: فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، أَيْ فِي دَارِ الْعُقْبَى (وَإِنِّي قَائِلٌ قَوْلًا غَيْرَ فَخِرٍ) . أَيْ غَيْرَ مُفْتَخِرٍ فِيهِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ الْوَاقِعِ ( «إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ، وَمُوسَى صَفِيُّ اللَّهِ» ) ، أَيْ مُخْتَارٌ لِكَلَامِهِ (وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ) . أَيْ جَامِعٌ بَيْنَ نِسْبَتَيِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَحْبُوبِيَّةِ فِي الدُّنْيَا (وَمَعْنَى لِوَاءِ الْحَمْدِ) أَيْ: الدَّالُّ عَلَى كَوْنِي أَحْمَدَ وَمُحَمَّدًا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ (وَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي) أَيْ خَيْرًا كَثِيرًا (فِي أُمَّتِي) أَيْ فِي حَقِّهِمْ وَشَأْنِهِمْ (وَأَجَارَهُمْ) أَيْ: أَنْقَذَهُمْ وَأَعَاذَهُمْ (مِنْ ثَلَاثٍ) ، أَيْ خِصَالٍ (لَا يَعُمُّهُمْ) أَيِ: اللَّهُ (بِسَنَةٍ) ، أَيْ بِقَحْطٍ وَوَبَاءٍ مُسْتَأْصِلٍ لَهُمْ (وَلَا يَسْتَأْصِلُهُمْ) أَيْ: وَلَا يَأْخُذُ أَصْلَهُمْ، وَلَا يُهْلِكُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ (عَدُوٌّ) ، أَيْ لِلَّهِ أَوْ لَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ (وَلَا يَجْمَعُهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ) ، وَلَعَلَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْمَعْهُمْ عَلَى هِدَايَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119] وَكَانَ هَذَا مَأْخَذُ مَنْ قَالَ اخْتِلَافُ الْأُمَّةِ رَحْمَةٌ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5764 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَنَا قَائِدُ الْمُرْسَلِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5764 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَنَا قَائِدُ الْمُرْسَلِينَ) أَيْ: مُقَدَّمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ (وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا (وَلَا فَخْرَ) ، وَعَدَلَ عَنِ الْمُرْسَلِينَ إِلَى النَّبِيِّينَ لِأَنَّهُمْ أَعَمُّ، فَتَكُونُ نِسْبَةُ الْخَاتَمِيَّةِ أُتَمُّ (وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ) أَيْ: وَأَوَّلُ مُشَفِّعٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ: (وَلَا فَخْرَ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5765 - وَعَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا، وَأَنَا مُسْتَشْفِعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا الْكَرَامَةُ، وَالْمَفَاتِيحُ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَلِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي، يَطُوفُ عَلَيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمْ بَيْضٌ مُكْنُونٌ، أَوْ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5765 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا) أَيْ: مِنْ قُبُورِهِمْ (وَأَنَا ثَانِيهِمْ) أَيْ: مَتْبُوعُهُمْ (إِذْ وَفَدُوا) أَيْ إِذَا قَدِمُوا (عَلَى اللَّهِ) وَالْوَفِدُ جَمَاعَةٌ يَأْتُونَ الْمَلِكَ لِحَاجَةٍ (وَأَنَا خَطِيبُهُمْ) أَيْ الْمُتَكَلِّمُ عَنْهُمْ (إِذَا أَنْصَتُوا) ، أَيْ إِذَا سَكَتُوا عَنْ الِاعْتِذَارِ مُتَحَيِّرِينَ، فَأَعْتَذِرُ عَنْهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَيَكُونُ لِي قُدْرَةٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ دُونَ سَائِرِ الْأَنَامِ، فَأُطْلِقُ اللِّسَانَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ حِينَئِذٍ فِي التَّكَلُّمِ غَيْرِي، فَهُوَ مَخْصُوصٌ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ - وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35 - 36] أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ أَوْ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ (وَأَنَا مُسْتَشْفَعُهُمْ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَشْفَعْتُ زَيْدًا إِلَى فُلَانٍ أَيْ: سَأَلْتُهُ أَنْ يَشْفَعَ إِلَيْهِ فَزَيْدٌ مُسْتَشْفَعٌ بِالْفَتْحِ، وَفُلَانٌ مُسْتَشْفَعٌ إِلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْفَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ أَيْ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ أَكُونَ شَفِيعًا لَهُمْ (إِذَا أَيِسُوا) أَيْ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ، فَفِي الْكَلَامِ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ (الْكَرَامَةُ) ، بِالرَّفْعِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ (وَالْمَفَاتِيحُ: عَطْفٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ (يَوْمَئِذٍ) : ظَرْفٌ وَالْخَبَرُ (بِيَدِي) ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ أَيْ: أَمْرُ الْكَرَامَةِ بِأَنْوَاعِ الشَّفَاعَةِ وَمَفَاتِيحِ كُلِّ خَيْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتَصَرُّفِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى التَّثْنِيَةِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ لِلتَّوْزِيعِ وَالتَّنْوِيعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِلُ أَنْوَاعُ اللُّطْفِ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَهْلِ الْعَرَصَاتِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِوَاسِطَةِ شَفَاعَتِهِ الْعَامَّةِ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ تَحْتَ اللِّوَاءِ الْمَمْدُودِ عِنْدَ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ الْكَرَامَةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ أَيِسُوا وَبِيَدِي خَيْرُ الْمَفَاتِيحِ فَقَطْ، أَيْ: إِذْ قَنَطُوا مِنْ حُصُولِ الْكَرَامَةِ، وَوَقَعُوا فِي وُصُولِ النَّدَامَةِ. (وَلِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي بِسُكُونِ الْيَاءِ (وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي) ، وَسَبَقَ أَنَّهُ أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ عَلَى اللَّهِ (يَطُوفُ عَلَيَّ) أَيْ: يَدُورُ حَوْلِي (أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمْ بَيْضٌ مُكْنُونٌ) أَيْ: مَصُونٌ عَنِ الْغُبَارِ، وَقِيلَ: شَبَّهَهُمْ بِبَيْضِ النَّعَامِ فِي الصَّفَاءِ وَالْبَيَاضِ الْمَخْلُوطِ بِأَدْنَى صُفْرَةٍ، فَإِنَّهُ أَحْسَنُ أَلْوَانِ الْأَبْدَانِ: قُلْتُ: هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَوْلَادِ الْعَرَبِ بِخِلَافِ طِبَاعِ أَهْلِ الشَّامِ وَحَلَبَ وَطَائِفَةِ الْأَعْجَامِ وَجَمَاعَةِ الْأَرْوَامِ، فَإِنَّ الْأَحْسَنَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْبَيَاضُ الْمَشُوبُ بِحُمْرَةٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي شَمَائِلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي مَدْحِ الْحُورِ الْعِينِ {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58] حَيْثُ فُسِّرَ الْمَرْجَانُ بِاللُّؤْلُؤِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورٌ عَلَى أَنَّ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْمَنْثُورِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي النَّظَرِ مِنَ الْمَنْظُومِ، مَعَ أَنَّ النَّثْرَ يُنَاسِبُ تَفَرُّقَ الْخَدَمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَالَ شَارِحٌ قَوْلُهُ: بَيْضٌ مُكْنُونٌ أَيْ لُؤْلُؤٌ مَسْتُورٌ فِي صَدَفِهِ لَمْ تَمَسُّهُ الْأَيْدِي، أَوْ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورٌ، أَوْ لِشَكِّ الرَّاوِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ: ( «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ» ) .

5766 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَأُكْسَى حُلَّةً مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامِ غَيْرِي» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ (جَامِعِ الْأُصُولِ) : ( «وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تُشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَأُكْسَى» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5766 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَأُكْسَى) : صَدْرُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ ( «وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَأُكْسَى» ) وَالْمَعْنَى فَأُبْعَثُ فَأُكْسَى (حُلَّةً مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامِ غَيْرِي. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ جَامِعِ الْأُصُولِ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَأُكْسَى» ) أَيْ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَاخْتِصَارُهُ مِنْ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ مُخِلٌّ بِالرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ.

5767 - وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ: (أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5767 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ» ) . هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي دُعَاءِ الْأَذَانِ: آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ، فَيَحْتَمِلُ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ بِوَقْتِ الْمَسْأَلَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ فِي الْأَصْلِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ. قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا طَلَبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُمَّتِهِ الدُّعَاءَ لَهُ بِطَلَبِ الْوَسِيلَةِ افْتِقَارًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَضَمًا لِنَفْسِهِ، أَوْ لِيَنْتَفِعَ أُمَّتُهُ وَيُثَابَ بِهِ، أَوْ يَكُونَ إِرْشَادًا لَهُمْ فِي أَنْ يَطْلُبَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ الدُّعَاءَ لَهُ. (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْوَسِيلَةُ) ؟ أَيْ الْمَطْلُوبَةُ الْمَسْئُولَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: نَفْعَلُ ذَلِكَ وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ اه. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: أَمَرْتَنَا بِسُؤَالِ الْوَسِيلَةِ وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ بِهَذِهِ الْوَاوِ أَنَّهَا لِلرَّبْطِ بَيْنَ الْكَلَامِ. (قَالَ: أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنَالُهَا) أَيْ: لَا يُدْرِكُ تِلْكَ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ (إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ) : أَبْهَمَهُ تَوَاضُعًا (أَرْجُو) وَفِي نُسْخَةٍ: وَأَرْجُو (أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ) وَضَعَ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ أَعْنِي هُوَ مَوْضِعَ الْمَنْصُوبِ أَعْنِي إِيَّاهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَلَفْظُ الْجَامِعِ: ( «سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ» ) وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ الْأَوْسَطُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( «سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا لَا يَسْأَلُهَا عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) .

5768 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كُنْتُ إِمَامَ النَّبِيِّينَ وَخَطِيبَهُمْ، وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ غَيْرَ فَخْرٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5768 - (وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كُنْتُ إِمَامَ النَّبِيِّينَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّهُ بِكَسْرِهَا، وَالَّذِي يَفْتَحُهَا وَيَنْصِبُهَا عَلَى الظَّرْفِ لَمْ يُصِبْ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ شَارِحٌ: فَتْحُهَا لَيْسَ بِصَوَابٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْفَتْحُ غَلَطٌ. أَقُولُ: إِنْ كَانَ بِحَسْبِ الرِّوَايَةِ فَلَا مَجَالَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الدِّرَايَةِ فَلَهُ وَجْهٌ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ مُقَدَّمَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ؟ وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، بَلْ لَا يَظْهَرُ لِإِمَامَتِهِمْ حِينَئِذٍ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى (وَخَطِيبُهُمْ) ، أَيْ إِذَا أَنْصَتُوا كَمَا سَبَقَ (وَصَاحِبُ شَفَاعَتِهِمْ) أَيْ: فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ (غَيْرَ فَخِرٍ) أَيْ: غَيْرَ مُفْتَخِرٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ فَخْرٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

5769 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ وَلِيِّيَ أَبِي وَخَلِيلُ رَبِّي. ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5769 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً) بِضَمِّ الْوَاوِ جَمْعُ وَلِيٍّ (مِنَ النَّبِيِّينَ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: أَحِبَّاءُ وَقُرَنَاءُ هُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ (وَإِنَّ وَلِيِّيَ أَبِي) : يَعْنِي بِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَخَلِيلُ رَبِّي) . خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِأَنَّ (ثُمَّ قَرَأَ) أَيْ: اسْتِشْهَادًا {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68] أَيْ: فِي زَمَانِهِ وَمَا بَعْدِهِ، إِذْ كُلُّ مَنْ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَتْبَاعِهِ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ وَتَجْرِيدِ التَّوَكُّلِ وَتَفْوِيضِ التَّفْرِيدِ، {وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] أَيْ: خُصُوصًا وَعُمُومًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ: وَإِنَّ وَلِيِّيَ رَبِّي وَهُوَ غَلَطٌ، وَلَعَلَّ الَّذِي حَرَّفَ هَذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الدَّاخِلُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} [الأعراف: 196] وَالرِّوَايَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَابُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ لَكَانَ قِيَاسُ التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ وَلِيِّيَ أَبِي خَلِيلُ رَبِّي مِنْ غَيْرِ وَاوِ الْعَطْفِ الْمُوجِبِ لِلْمُغَايَرَةِ، وَبِإِضَافَةِ الْخَلِيلِ إِلَى رَبِّي لِيَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ لِأَبِي. أَقُولُ: لَوْ كَانَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الشَّيْخِ، لَكَانَ حَقُّ الْعِبَارَةِ إِضَافَةَ الْخَلِيلِ إِلَى ضَمِيرِ رَبِّي. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَبَرَةُ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَكَذَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَيْضًا لَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ " خَلِيلَ رَبِّي " عَطْفُ بَيَانٍ بِلَا وَاوٍ، لَزِمَ حُمُولُ كَوْنِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَا النَّبِيِّ وَوَلِيَّهُ فَأَتَى بِهِ بَيَانًا، وَإِذَا جُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ لَزِمَ شُهْرَتُهُ بِهِ، وَالْعَطْفُ يَكُونُ لِإِثْبَاتِ وَصْفٍ آخَرَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، فَعَلَى مَا عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ يَلْزَمُ مَدْحُهُ مَرَّتَيْنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، أَقُولُ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعَطْفَ لِتَغَايُرِ الْوَصْفَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1] فَإِنْ قُلْتَ: لَزِمَ مِنْ قَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةٌ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءٌ مُتَعَدِّدَةٌ. قُلْتُ: لَا لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي مَكَانِ الْجَمْعِ أَفَادَتِ الِاسْتِغْرَاقَ أَيْ: أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ وَاحِدًا وَاحِدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 26] قُلْتُ: وَفِي تَنْظِيرِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ إِذْ لَا مَحْذُورَ فِي كَوْنِ كُلِّ شَجَرَةٍ إِلَّا أَقْلَامٌ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ الْمَطْلُوبُ فِي مَقَامِ الْمُبَالِغَةِ، بِأَنْ يَكُونَ أَغْصَانُ كُلِّ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَهُوَ كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِدُونِ قَوْلِهِ: ثُمَّ قَرَأَ إِلَخْ.

5770 - وَعَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: « (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِتَمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَمَالِ مَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ» رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5770 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِتَمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ» ) ، جَمْعُ مَكْرُمَةٍ خَصْلَةٌ يَسْتَحِقُّ الشَّخْصُ بِهَا أَنْ يَكُونَ كَرِيمًا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْأَحْوَالُ، وَلِذَا قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: (وَكَمَالُ مَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ) . لِلْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ، وَالْمَحَاسِنِ جَمْعُ حَسَنٍ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ شَرِيعَتَهُ أَفْضَلُ الْأَفْعَالِ، وَطَرِيقَتَهُ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: أَرْسَلَنِي إِلَى الْعَالَمِ لِيُتَمِّمَ بِوُجُودِي مَكَارِمَ أَخْلَاقِ عِبَادِهِ، وَلِيُكْمِلَ مَحَاسِنَ أَفْعَالِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِضَافَةُ فِيهِمَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. قَالَ الرَّاغِبُ: كُلُّ شَيْءٍ يَشْرُفُ فِي بَابِهِ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْكَرَمِ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [ق: 7] ، {وَمَقَامٍ كَرِيٍمٍ} [الشعراء: 58] وَ {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] وَإِذَا وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَهُوَ اسْمٌ لِإِحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ الْمُتَظَاهِرِ، وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْإِنْسَانُ اسْمٌ لِلْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْهُ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ كَرِيمٌ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ اه. وَكَلَامُهُ يَنْظُرُ إِلَى أَنَّ الْعَطْفَ لِلتَّأْكِيدِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ مِنَ التَّأْسِيسِ وَالتَّقْيِيدِ لِلتَّأْيِيدِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَنَا سَدَدْتُ مَوْضِعَ اللَّبِنَةِ) يَلْتَقِيَانِ فِي مَعْنَى إِتْمَامِ النَّاقِصِ اه. وَالَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْمَعْنَى أَتَمُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) أَيْ: الْبَغْوِيُّ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادِهِ) وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» ) وَرَوَى الْحَكِيمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ عَشَرَةٌ، تَكُونُ فِي الرَّجُلِ وَلَا تَكُونُ فِي ابْنِهِ، وَتَكُونُ فِي الِابْنِ وَلَا تَكُونُ فِي الْأَبِ، وَتَكُونُ فِي الْعَبْدِ وَلَا تَكُونُ فِي سَيِّدِهِ، يَقْسِمُهَا اللَّهُ لِمَنْ أَرَادَ لَهُ السَّعَادَةَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَصِدْقُ الْيَأْسِ، وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ، وَالْمُكَافَأَةُ بِالصَّنَائِعِ، وَحِفْظُ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَالتَّذَمُّمِ لِلْجَارِ، وَالتَّذَمُّمِ لِلصَّاحِبِ، وَإِقْرَاءُ الضَّيْفِ، وَرَأْسُهُنَّ الْحَيَاءُ. وَالتَّذَمُّمُ: أَنْ يَرْعَى ذِمَامَهُ أَيْ حُرْمَتَهُ، وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي عُمَرَ مَرْفُوعًا: ( «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا وَلَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» ) .

5771 - وَعَنْ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَحْكِي عَنِ التَّوْرَاةِ قَالَ: نَجِدُ مَكْتُوبًا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَبْدِيَ الْمُخْتَارُ، لَافَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا سَخَّابٌ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطِيبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ، وَأُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ، يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، وَيُكَبِّرُونَهُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، رُعَاةٌ لِلشَّمْسِ، يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ إِذَا جَاءَ وَقْتُهَا، يَتَآزَّرُونَ عَلَى أَنْصَافِهِمْ وَيَتَوَضَّئُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، مُنَادِيهِمْ يُنَادِي فِي جَوِّ السَّمَاءِ، صَفُّهُمْ فِي الْقِتَالِ وَصَفُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءٌ، لَهُمْ بِاللَّيْلِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ. هَذَا لَفْظُ (الْمَصَابِيحِ) . وَرَوَى الدَّارِمِيُّ مَعَ تَغَيُّرٍ يَسِيرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5771 - (وَعَنْ كَعْبٍ، يَحْكِي عَنِ التَّوْرَاةِ قَالَ: نَجِدُ مَكْتُوبًا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) : الرَّفْعُ عَلَى حِكَايَةِ الْمَكْتُوبِ (عَبْدِي) أَيْ: الْخَاصُّ (الْمُخْتَارُ) ، أَيْ الْمُصْطَفَى عَلَى الْخَلْقِ (لَا فَظٌّ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ لَا عَاطِفَةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبِيحَ الْخَلْقِ (وَلَا غَلِيظَ) ، أَيْ سَيِّئَ الْخُلُقِ (وَلَا سَخَّابٌ) أَيْ: صَيَّاحٌ (فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ) ، أَيْ بَلْ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَلَكِنْ يَعْفُو) أَيْ: فِي الْبَاطِنِ (وَيَغْفِرُ) ، أَيْ يَسْتُرُ فِي الظَّاهِرِ (مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَهِجْرَتُهُ) أَيْ: دَارُهَا يَعْنِي مُهَاجَرَهُ (بِطِيبَةَ) ، أَيْ الْمَدِينَةِ السِّكِّينَةِ (وَمُلْكُهُ) أَيْ: بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّتِهِ وَأَيَّامِ خِلَافَتِهِ (بِالشَّامِ) ، كَمَا كَانَ لِمُعَاوِيَةَ وَمَنْ بَعْدَهُ لِبَنِي أُمَيَّةَ عَلَى ذَلِكَ النِّظَامِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بِالْمُلْكِ هُمَا النُّبُوَّةُ وَالدِّينُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِالشَّامِ أَغْلَبُ، وَإِلَّا فَمُلْكُهُ جَمِيعُ الْآفَاقِ لِقَوْلِهِ ( «وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زَوَى لِي مِنْهَا» ) وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْغَزْوُ وَالْجِهَادُ ثَمَّةَ لِأَنَّهُ تَصَدٍّ لَدَى الْكُفَّارِ وَالْجِهَادُ مُلْكًا لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لَا يَنْقَطِعُ الْجِهَادُ فِي الشَّامِ أَصْلًا، وَأَمَرَ بِالْمُسَافَرَةِ إِلَيْهَا لِإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ، وَالْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قُلْتُ: هَذَا إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا الْيَوْمَ فَالْغَزْوُ وَالْجِهَادُ فِي بِلَادِ الرُّومِ، نَعَمْ هُوَ فِي جِهَةِ الشَّامِ مِنَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ. (وَأُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ) ، أَيِ الْبَالِغُونَ فِي الْحَمْدِ الْمُكْثِرُونَ لَهُ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ، أَيْ فِي حَالَتَيِ السُّرُورِ وَالضَّرَرِ، وَالْمُرَادُ الدَّوَامُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْهُمَا فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَحْمَدُونَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا مَرْتَبَةُ بَعْضِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: (يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ) ، أَيْ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَحْوَالِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ، وَلَعَلَّ تَأْنِيثَهُ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ وَالنَّاحِيَةِ أَيْ: إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا شَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ آوَاهُمْ إِلَى الْمَنْزِلِ وَالسُّكُونِ فِيهِ وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (وَيُكَبِّرُونَهُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ) ، بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ تَعَجُّبًا لِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، لِمَا يُشْرِفُونَ مِنْهَا عَلَى عَجَائِبَ خَلْقِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ فِي كُلِّ هُبُوطٍ (رُعَاةٌ) : بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ رَاعٍ أَيْ أُمَّتُهُ مُرَاعُونَ (لِلشَّمْسِ) ، أَيْ لِطُلُوعِهَا وَاسْتِوَائِهَا وَغُرُوبِهَا مُحَافَظَةً لِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ أَوْرَادِ الْعِبَادَاتِ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى مَرْفُوعًا: " «إِنَّ خِيَارَ

عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَالْأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ» ، وَقَوْلُهُ: (يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ إِذَا جَاءَ وَقْتُهَا) ، اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ لِمَا سَبَقَ أَيْ: يُرَاقِبُونَ ذَلِكَ وَيُنْظُرُونَ سَيْرَهَا لِيَعْرِفُوا مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ، كَيْلَا يَفُوتَ عَنْهُمُ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِبَيَانِ بَقِيَّةِ أَحْوَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: (يَتَآزَّرُونَ) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ. يَشُدُّونَ آزَارَهُمْ (عَلَى أَنْصَافِهِمْ) ، أَيْ مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، أَوْ يَشُدُّونَ مَعْقِدَ السَّرَاوِيلِ وَالْمُرَادُ مُبَالَغَتُهُمْ فِي سَتْرِ عَوْرَتِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (عَلَى) . بِمَعْنَى (إِلَى) أَيْ أَنَّ أُزُرَهُمْ إِلَى أَنْصَافِ سُوقِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ إِدْمَاجٌ بِمَعْنَى التَّجَلُّدِ وَالتَّشَمُّرِ لِلْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ مَنْ شَدَّ إِزَارَهُ إِلَى سَاقِهِ تَشَمَّرَ لِمُزَاوَلَةِ مَا اهْتَمَّ بِشَأْنِهِ، أَوْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ التَّوَاضُعِ، كَمَا أَنَّ جَرَّ الْإِزَارِ كِنَايَةٌ عَنِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، (وَيَتَوَضَّئُونَ) أَيْ: وَيَصُبُّونَ مَاءَ الْوَضُوءِ (عَلَى أَطْرَافِهِمْ) ، أَيْ عَلَى أَمَاكِنِ الْوُضُوءِ وَيُسْبِغُونَهَا (مُنَادِيهِمْ) أَيْ: مُؤَذِّنِهِمْ (يُنَادِي فِي جَوِّ السَّمَاءِ) أَيْ: فِي مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنْ مَنَارَةٍ وَنَحْوِهَا (صَفُّهُمْ فِي الْقِتَالِ وَصَفُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءٌ) ، أَيْ فِي كَوْنِهِمْ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ صُفُوفَهُمْ فِي الْجَمَاعَاتِ بِسَبَبِ مُجَاهَدَتِهِمُ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ وَالشَّيْطَانَ بِصَفِّ الْقِتَالِ وَالْمُجَاهَدَةِ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَأَخْرَجَهُ مُخْرَجَ التَّشَابُهِ فِي التَّشْبِيهِ، إِيذَانًا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا وَمُشَبَّهًا بِهِ، بَلْ أُخِّرَ ذِكْرُ صَفِّ الصَّلَاةِ لِيَكُونَ مُشَبَّهًا بِهِ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ (لَهُمْ بِاللَّيْلِ دَوِيٌّ) : بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ صَوْتٌ خَفِيٌّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (كَدَوِيِّ النَّحْلِ، هَذَا لَفْظُ الْمَصَابِيحِ، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ) : قُلْتُ: كَانَ الْأَوْلَى إِيرَادُ لَفْظِ الدَّارِمِيِّ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجَّلِ الْمُخَرِّجِينَ، وَنَقْلُهُ أَكْمَلُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ.

5772 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ، مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: صِفَةُ مُحَمَّدٍ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يُدْفَنُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو مَوْدُودٍ: وَقَدْ بَقِيَ فِي الْبَيْتِ مَوْضِعُ قَبْرٍ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5772 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ) : خَبَرُ قَوْلِهِ (صِفَةُ مُحَمَّدٍ) أَيْ: نَعْتُهُ وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: (وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يُدْفَنُ مَعَهُ) عُطِفَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَيْ وَمَكْتُوبٌ فِيهَا أَيْضًا أَنَّ عِيسَى يُدْفَنُ مَعَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ أَيْ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يُدْفَنُ مَعَهُ، أَوِ الْمَكْتُوبُ صِفَةُ مُحَمَّدٍ كَذَا، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يُدْفَنُ مَعَهُ. (قَالَ أَبُو مَوْدُودٍ) : وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ مَدَنِيٌّ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُدْنِيُّ، رَأَى أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَسَمِعَ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ وَعُثْمَانَ بْنَ ضَحَّاكٍ، وَعَنْهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ وَالْعَقِبِيُّ وَكَامِلٌ، وَثَّقُوهُ، تُوُفِيَ فِي إِمَارَةِ الْمَهْدِيِّ، لَهُ ذِكْرٌ فِي بَابِ فَضَائِلَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ (وَقَدْ بَقِيَ فِي الْبَيْتِ) أَيْ: فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ (مَوْضِعُ قَبْرٍ) ، فَقِيلَ: بَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ الصَّدِّيقَيْنِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الْأَدَبِ، وَقِيلَ بَعْدَ عُمَرَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: وَكَذَا أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ دَخَلَ الْحُجْرَةَ، وَرَأَى الْقُبُورَ الثَّلَاثَةَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمٌ، وَأَبُو بَكْرٍ مُتَأَخِّرٌ مِنْهُ رَأْسُهُ تُجَاهَ ظَهْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأْسُ عُمَرَ كَذَلِكَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ تِجَاهَ رِجْلَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَ مَوْضِعُ قَبْرٍ وَاحِدٍ إِلَى جَنْبِ عُمَرَ وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ لُبْثِهِ فِي الْأَرْضِ يَحُجُّ وَيَعُودُ، فَيَمُوتُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَيُحْمَلُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيُدْفَنُ فِي الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ إِلَى جَنْبِ عُمَرَ فَيَبْقَى هَذَانِ الصَّحَابِيَّانِ الْكَرِيمَانِ مَصْحُوبَيْنِ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الْعَظِيمَيْنِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5773 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ. فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبَّاسٍ) ! بِمَ فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2] قَالُوا: وَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] الْآيَةَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5773 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ. قَالُوا: يَا أَبَا عَبَّاسٍ) هُوَ كُنْيَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ (بِمَ فَضَّلَهُ) أَيْ: اللَّهُ (عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ) ؟ كَأَنَّهُمْ قَدَّمُوا الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، أَوْ هُوَ عَلَى مِنْوَالِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الْآيَةِ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى - لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2] : قَالَ الطِّيبِيُّ: يُفْهَمُ التَّفْضِيلُ مِنْ صَوْلَةِ الْخِطَابِ وَغِلْظَتِهِ فِي مُخَاطَبَةِ أَهْلِ السَّمَاءِ وَفَرْضِ مَا لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمْ، وَجَعْلِهِ كَالْوَاقِعِ، وَتَرَتُّبِ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ إِظْهَارًا لِكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ مِنْ أَنْ يُنْسَبُوا إِلَى مَا يُشَارِكُونَهُ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ، وَمِنْ مُلَاطَفَتِهِ فِي الْخِطَابِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ مَا صَدَرَ وَيَصْدُرُ مِنْهُ مَغْفُورٌ، وَجَعَلَ فَتْحَ مَكَّةَ عِلَّةً لِلْمَغْفِرَةِ وَالنُّصْرَةِ وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَإِنْزَالِ السِّكِّينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ اه. وَخُلَاصَةُ كَلَامِهِ، أَنَّهُ تَعَالَى غَلَّظَ فِي وَعِيدِ خِطَابِهِمْ، وَلَاطَفَ فِي خِطَابِ وَعْدِهِ، لَكِنَّ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَالَغَ فِي مَدْحِهِمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَمِنْهُ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا - سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ - لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28] وَغَلَّظَ فِي الْوَعِيدِ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ بِالْخِطَابِ كَقَوْلِهِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} [الأنبياء: 29] يَحْتَمِلُ، أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنَ الْخَلَائِقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ بِهِ بِنَفْيِ النُّبُوَّةِ وَادِّعَاءِ ذَلِكَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِتَهْدِيدِ مُدَّعِي الرُّبُوبِيَّةِ اه فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي وَجْهِ التَّفْضِيلِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ (قَالُوا: وَمَا فَضْلُهُ؟) أَيْ زِيَادَةُ فَضْلِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] أَيْ: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] : قَالَ: وَأَمَّا بَيَانُ فَضْلِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُرْسَلٌ إِلَى قَوْمٍ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلٌ إِلَى كَافَّةِ النَّاسِ، وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا بُعِثُوا لِإِرْشَادِ الْخَلْقِ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَى عِبَادَةِ الْمَلَكِ الْعَلَّامِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا كَانَ أَفْضَلَ وَأَفْضَلَ، وَكَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ الْقَدَحُ الْمُعَلَّى، وَحَازَ قَصَبَ السَّبَقِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، بَلْ دِينَهُ انْتَشَرَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَتَغَلْغَلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَاسْتَمَرَّ امْتِدَادُهُ عَلَى وَجْهِ كُلِّ زَمَانٍ، وَزَادَهُ اللَّهُ شَرَفًا عَلَى شَرَفٍ، وَعِزًّا عَلَى عِزٍّ، مَا ذَرَّ شَارِقٌ وَلَمَحَ بَارِقٌ، فَلَهُ الْفَضْلُ بِحَذَافِيرِهِ سَابِقًا وَلَاحِقًا (فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أَيْ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] وَنَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأنعام: 130] عَلَى مَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ، فَذِكْرُ النَّاسِ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ تَعْظِيمًا أَوْ تَغْلِيبًا، أَوْ لِأَنَّهُ يَعُمُّهُمْ، فَفِي الْقَامُوسِ: النَّاسُ يَكُونُ مِنَ الْإِنْسِ وَمِنَ الْجِنِّ جَمْعُ إِنْسٍ أَصْلُهُ أُنَاسٌ جَمْعٌ عَزِيزٌ أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْ، وَقِيلَ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ لِلنَّتِيجَةِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ تَعْرِيفَ النَّاسِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَكَافَّةً: إِمَّا حَالٌ أَوْ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: تَكْفِي أَنْ يَخْرُجَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْإِرْسَالِ وَالْجِنُّ تَبَعٌ لِلنَّاسِ، فَعُلِمَ الْتِزَامًا أَنَّ رِسَالَتَهُ عَمَّتِ الثَّقَلَيْنِ جَمِيعًا.

5774 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ حَتَّى اسْتَيْقَنْتَ؟ فَقَالَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ! أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَعْضِ بَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ الْآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهْوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَزِنْهُ بِرَجُلٍ، فَوُزِنْتُ بِهِ فَوَزَنْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ زِنْهُ بِأَلْفٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَنْتَثِرُونَ عَلَيَّ مِنْ خِفَّةِ الْمِيزَانِ. قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَرَجَحَهَا» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5774 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، مَنْسُوبٌ إِلَى غِفَارٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ قَبِيلَةٍ مَشْهُورَةٍ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ حَتَّى اسْتَيْقَنْتَ) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى غَايَةٌ لِلْعِلْمِ أَيْ كَيْفَ تَدَرَّجْتَ فِي الْعِلْمِ حَتَّى بَلَغَ عِلْمُكَ غَايَتَهُ الَّتِي هِيَ الْيَقِينُ (" فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَعْضِ بَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَوَقَعَ ") أَيْ فَنَزَلَ (" أَحَدُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ الْآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ") أَيْ وَاقِفًا (" فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ ") الظَّاهِرُ أَنَّهُ النَّازِلُ (" أَهُوَ هُوَ؟ ") وُضِعَ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ هَذَا (" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَزِنْهُ بِرَجُلٍ، فَوُزِنْتُ بِهِ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" فَوَزَنْتُهُ ") ، عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ أَيْ غَلَبْتُهُ فِي الْوَزْنِ وَرَجَّحْتُهُ (" ثُمَّ قَالَ زِنْهُ بِعَشَرَةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ زِنْهُ بِأَلْفٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ") أَيْ إِلَى الْأَلْفِ الْمَوْزُونِ (" يَنْتَثِرُونَ ") أَيْ يَتَسَاقَطُونَ (" عَلَيَّ مِنْ خِفَّةِ الْمِيزَانِ ") أَيْ مِنْ خِفَّةِ تِلْكَ الْكِفَّةِ (" قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ ") أَيْ بِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ قَوْمِهِ (" لَرَجَحَهَا ") . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْأُمَّةَ كَمَا يَفْتَقِرُونَ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ النَّبِيِّ صَادِقًا إِلَى إِظْهَارِهِ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ بَعْدَ التَّحَرِّي، كَذَلِكَ النَّبِيُّ يَفْتَقِرُ فِي مَعْرِفَتِهِ كَوْنِهِ نَبِيًّا إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْخَوَارِقِ. قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ الْمَشْهُورِ فِي سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى (رَوَاهُمَا) أَيْ الْحَدِيثَيْنِ (الدَّارِمِيُّ) .

5775 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُتِبَ عَلَيَّ النَّحْرُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، وَأُمِرْتُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِهَا» " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5775 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُتِبَ ") أَيْ أُوجِبَ (" عَلَيَّ النَّحْرُ ") أَيْ الْأُضْحِيَّةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ وَجَبَ، وَعَنِيَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] (" وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ ") ، قِيلَ: النَّحْرُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا لِخَبَرِ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ: الضُّحَى وَالْأَضْحَى وَالْوَتْرُ» ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فِي حَدِيثِ: نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ - فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ - إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 - 3] (" «وَأُمِرْتُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِهَا» ") . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَحَادِيثِ وُجُوبُ الضُّحَى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرْتُ إِلَخْ ضَعِيفَةٌ، وَأَمَّا مَا قِيلَ إِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِهِ، فَفِيهِ أَنَّ الَّذِي مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وُجُوبُ أَصْلِ صَلَاتِهَا لَا تِكْرَارُهَا كُلَّ يَوْمٍ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِلَفْظِ: " «كُتِبَ عَلَيَّ الْأَضْحَى وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، وَأُمِرْتُ بِصَلَاةِ الضُّحَى وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِهَا» " فَأَقَلُّ مَرْتَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا، وَلَوْلَا ثُبُوتُهُ لَمَا عُدَّتْ مِنْ خَصَائِصِهِ، ثُمَّ الْمُتَبَادِرُ مِنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، نَعَمِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «أُمِرْتُ بِالْوِتْرِ وَالْأُضْحَى وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيَّ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أُمِرْتُ بِالْوَتْرِ وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى وَلَمْ يُكْتَبْ» ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَنْ أَصْلَهَا وَاجِبٌ، وَاسْتِمْرَارَهَا مُسْتَحَبٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[باب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته]

[بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ]

بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ [2] بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتِهِ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لَهُ اسْمٌ جَامِدٌ، نَعَمْ لَهُ أَسْمَاءٌ نُقِلَتْ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ، كَأَحْمَدَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَلَهُ صِفَاتٌ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ أَوِ اشْتَرَكَ فِيهَا غَيْرُهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْمَاءِ هُوَ الْمُغْنِي الْأَعَمُّ مِنْهُمَا، وَبِالصِّفَاتِ الشَّمَائِلِ الَّتِي يَأْتِي بَيَانُهَا ثُمَّ الْقَوَاعِدُ الْمُقَرِّرَةُ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْمُسَمَّى، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْأَحْوَذِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ) عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفَ اسْمٍ، وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْفَ اسْمٍ أَيْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ بِضْعًا وَسِتِّينَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ: ذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَارِسِ اللُّغَوِيُّ أَنَّ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ اسْمًا، وَذَكَرَهَا الطِّيبِيُّ مُفَصَّلًا، وَقَدْ أَفْرَدَ السُّيُوطِيُّ رِسَالَةً سَمَّاهَا: (الْبَهْجَةُ السَّوِيَّةُ فِي الْأَسْمَاءِ النَّبَوِيَّةِ) وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى بِضْعَةٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ، وَلَخَّصْتُهَا بِإِخْرَاجِ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ اسْمًا مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلْيَا عَلَى طِبْقِ عَدَدِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَالْآنَ أَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَرِدُ فِي الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ مِمَّا لِلْمَقْصُودِ هِيَ الشَّافِيَةُ وَالْوَافِيَةُ وَالْكَافِيَةُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5776 - عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5776 - (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " إِنَّ لِي أَسْمَاءً ") أَيْ كَثِيرَةً عَظِيمَةً شَهِيرَةً (" أَنَا مُحَمَّدٌ ") ، فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّحْمِيدِ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحَمْدِ، يُقَالُ: حَمَدْتُ فُلَانًا أَحْمَدُهُ إِذَا أَثْنَيْتُ عَلَيْهِ بِجَلَائِلِ خِصَالِهِ، وَأَحْمَدْتُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا، أَوْ يُقَالُ: هَذَا الرَّجُلُ مَحْمُودٌ، فَإِذَا بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي ذَلِكَ وَتَكَامَلَتْ فِيهِ الْمَحَاسِنُ وَالْمَنَاقِبُ، فَهُوَ مُحَمَّدٌ. قَالَ الْأَعْشَى يَمْدَحُ بَعْضَ الْمُلُوكِ: إِلَى الْمَاجِدِ الْفَرْعِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ أَرَادَ الَّذِي تَكَامَلَتْ فِيهِ الْخِصَالُ الْمَحْمُودَةُ، وَهَذَا الْبِنَاءُ أَبَدًا يَدُلُّ عَلَى بُلُوغِ النِّهَايَةِ، كَمَا تَقُولُ فِي الْحَمْدِ مُحَمَّدٌ، وَفِي الذَّمِّ مُذَمَّمٌ، وَقِيلَ: هَذَا الْبِنَاءُ لِلتَّكْثِيرِ نَحْوَ: فَتَحْتُ الْبَابَ فَهُوَ مَفْتُوحٌ إِذَا فَعَلْتُ بِهِ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمُحَمَّدٌ اسْمٌ مَنْقُولٌ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ أَنَّهُ سَيَكْثُرُ حَمْدُهُ، أَقُولُ: وَقَدْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَا أُضْمِرَ فِي الْبَاقِي، وَسَيَحْمَدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ تَحْتَ اللِّوَاءِ الْمَمْدُودِ (" وَأَنَا أَحْمَدُ ") أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْحَمْدِ قُطِعَ مُتَعَلِّقُهُ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ أَحْمَدُ مِنْ كُلِّ حَامِدٍ، أَوْ مَحْمُودٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِلْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُهُ الْمَحَامِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُلْهِمْهَا أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ، فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ الْحَامِدِيَّةِ وَالْمَحْمُودِيَّةِ كَمَا جَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَحْبُوبِيَّةِ وَالْمُرِيدِيَّةِ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى بَعْضِ النِّكَاتِ الصُّوفِيَّةِ مِمَّا هُوَ مِنَ الْمَشَارِبِ الصَّفِيَّةِ فِي رِسَالَتِي الْمُسَمَّاةِ بِالصَّلَوَاتِ الْعُلْوِيَّةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، هَذَا وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ قَبْلَهُ أَحَدٌ بِاسْمِهِ صِيَانَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذَا الِاسْمِ، كَمَا فَعَلَ بِيَحْيَى إِذْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيَّا، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَبَشَّرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَلَوْ جُعِلَ الِاسْمُ مُشْتَرَكًا بِهِ شَاعَتِ الدَّوَاعِي، وَوَقَعَتِ الشُّبْهَةُ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ زَمَنُهُ، وَبَشَّرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقُرْبِهِ سَمُّوا أَوْلَادَهُمْ بِذَلِكَ، (" «وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ» ") ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ وَالدُّنْيَا مُظْلِمَةٌ بِغَيَابَةِ الْكُفْرِ، فَأَتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنُّورِ السَّاطِعِ حَتَّى مَحَا الْكُفْرَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الظُّهُورُ بِالْحُجَّةِ وَالْغَلَبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مُفَسَّرًا بِالَّذِي مُحِيَتْ بِهِ سَيِّئَاتُ مَنْ تَبِعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] " وَأَنَا الْحَاشِرُ ") أَيْ ذُو الْحَشْرِ (" الَّذِي يُحْشَرُ) أَيْ يُجْمَعُ (" النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ ") بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ عَلَى أَثَرِي قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَتَشْدِيدِهَا عَلَى التَّثْنِيَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ. وَالظَّاهِرُ عَلَى قَدَمَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْمَوْصُولِ إِلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ لِلَفْظَةِ أَنَا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْ يُحْشَرُ أَوَّلُ النَّاسِ لِقَوْلِهِ: " «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» ". وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْ عَلَى أَثَرِي وَزَمَانِ نُبُوَّتِي، وَلَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي حَشْرِ النَّاسِ، لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُحْشَرُوا مَا لَمْ يُحْشَرْ (" وَأَنَا الْعَاقِبُ " وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلصَّحَابِيِّ أَوْ مَنْ بَعْدَهُ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَاقِبُ الَّذِي يَخْلُفُ فِي الْخَيْرِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: عَقِبُ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5777 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: " أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5777 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: " أَنَا مُحَمَّدٌ أَنَا أَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي» ") ، بِكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ أَيْ الْمُتَّبَعِ مِنْ قَفَا أَثَرِهِ إِذَا تَبِعَهُ يَعْنِي أَنَّهُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ الْآتِي عَلَى أَثَرِهِمْ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: الْمُتَّبِعُ لِآثَارِهِمِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَفِي مَعْنَاهُ الْعَاقِبُ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ لِأَنَّهُ قُفِّيَ بِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: هُوَ عَلَى صِيغَةِ الْفَاعِلِ وَهُوَ الْمُوَلِّي الذَّاهِبُ، يُقَالُ: قَفَّى عَلَيْهِ أَيْ ذَهَبَ بِهِ، فَكَانَ الْمَعْنَى هُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا قَفَّى فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، فَمَعْنَى الْمُقَفِّي وَالْعَاقِبِ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ تَبِعَ الْأَنْبِيَاءَ، أَوْ هُوَ الْمُقَفِّي لِأَنَّهُ الْمُتَّبِعُ لِلنَّبِيِّينَ، وَكُلُّ شَيْءٍ تَبِعَ شَيْئًا فَقَدْ قَفَّاهُ، يُقَالُ: هُوَ يَقْفُو أَثَرَ فُلَانٍ أَيْ يَتْبَعُهُ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} [الحديد: 27] هَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَفِّي بِفَتْحِ الْقَافِ، وَيَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ الْقَفْيِ، وَالْقَفِيُّ الْكَرِيمُ وَالضَّيْفُ وَالْقَفَاوَةُ الْبِرُّ وَاللُّطْفُ، فَكَأَنَّهُ سُمِّيَ الْمُقَفِّيَ لِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَفَضْلِهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَأَوْضَحُ أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ لَا وَجْهَ لَهُ، بَلْ هُوَ تَصْحِيفٌ لِمُخَالَفَتِهِ أُصُولَ الْمِشْكَاةِ وَالشَّمَائِلِ وَالشِّفَاءِ، (" وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ ") ، لِأَنَّهُ تَوَّابٌ كَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ» "، أَوْ لِأَنَّهُ قُبِلَ مِنْ أُمَّتِهِ التَّوْبَةُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِغْفَارِ بِخِلَافِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصًّا بِهِ سُمِّيَ نَبِيُّ التَّوْبَةِ (" وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ ") . قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ " وَالرَّحْمَةُ الْعَطْفُ وَالرَّأْفَةُ وَالْإِشْفَاقُ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَلِذَا كَانَتْ أُمَّتُهُ أُمَّةً مَرْحُومَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَرْحَمُ إِلَّا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ عَنْهُمَا، وَلَكِنْ بِلَفْظِ الْمَرْحَمَةِ ثُمَّ قَالَ: وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ.

5778 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؟ يَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5778 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ» ") . أَيْ: ذَمَّهُمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الصَّرْفِ مُسْتَأْنِفًا بِقَوْلِهِ: (" يَشْتِمُونَ ") : بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ: يَسُبُّونَ (" مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ ") أَيْ: لَا مُذَمَّمَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ أَوْصَافُ الْمُذَمَّمِ، وَأَنَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِمُذَمَّمٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ أَوْصَافُ الْمُذَمَّمِ، وَأَنَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعْرِيضَهُمْ إِيَّاهُ بِمَذَمَّمٍ مَكَانَ مُحَمَّدٍ، وَكَانَتِ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجَةُ أَبِي لَهَبٍ تَقُولُ: مُذَمَّمًا قَلَيْنَا ... وَدِينَهُ أَبَيْنَا وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)

5779 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَكَانَ إِذَا ادَّهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ، وَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ تَبَيَّنَ، وَكَانَ كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ مُسْتَدِيرًا، وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ عِنْدَ كَتِفِهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ يُشْبِهُ جَسَدَهُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5779 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ شَمِطَ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: شَابَ (مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ) : فَفِي الْمُغْرِبِ شَمِطَ بِالْكَسْرِ إِذَا ابْيَضَّ شَعْرُ رَأْسِهِ يُخَالِطُ سَوَادَهُ، وَالْوَصْفُ أَشْمَطُ، وَبِالْفَارِسِيَّةِ دُومُويْ، فَالْمَعْنَى ظَهَرَ الشَّيْبُ فِي شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ (وَكَانَ) أَيْ: هُوَ أَوْ شَيْبُهُ (إِذَا ادَّهَنَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: اسْتَعْمَلَ الدُّهْنَ (لَمْ يَتَبَيَّنْ) ، أَيْ: لَمْ يَظْهَرِ الشَّيْبُ (وَإِذَا شَعِثَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: تَفَرَّقَ (رَأْسُهُ) أَيْ: شَعْرُهُ تَبَيَّنَ) ، أَيْ: ظَهَرَ بَعْضُ الشَّيْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الِادِّهَانِ يَجْمَعُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَيَضُمُّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَتِ الشُّعَيْرَاتُ الْبِيضُ مِنْ قِلَّتِهَا لَا تَتَبَيَّنُ، فَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ تَبَيَّنَ. أَقُولُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ شَعَثَ الرَّأْسِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِادِّهَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَيْضًا، سُئِلَ عَنْ شَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَانَ إِذَا ادَّهِنَ رَأْسُهُ لَمْ يُرَ مِنْهُ شَيْبٌ، فَإِنْ لَمْ يَدَّهِنْ رُئِيَ مِنْهُ» ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «إِنَّمَا كَانَ شَيْبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ» . (وَكَانَ كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ) ، أَيْ: كَثِيفَهَا لَا خَفِيفَهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَوْسَجًا (فَقَالَ رَجُلٌ: وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ) ؟ يَعْنِي فِي الْبَرِيقِ وَاللَّمَعَانِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ يُوهِمُ الطُّولَ أَيْضًا (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ (لَا بَلْ كَانَ) أَيْ: وَجْهُهُ (مِثْلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ) ، أَيْ: فِي قُوَّةِ الضِّيَاءِ وَكَثْرَةِ النُّورِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرًا، فَالتَّقْدِيرُ: وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ تَتْمِيمًا لِلْمَبْنَى وَتَعْمِيمًا لِلْمَعْنَى (وَكَانَ) أَيْ: وَجْهُهُ (مُسْتَدِيرًا) أَيْ: مَائِلًا إِلَى التَّدْوِيرِ، إِذْ وَرَدَ فِي شَمَائِلِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُكَلْثَمَ الْوَجْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَوَاهُ الرَّاوِي رَدًّا بَلِيغًا حَيْثُ شَبَّهَهُ بِالسَّيْفِ الصَّقِيلِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْوَجْهُ شَامِلًا لِلطَّرَفَيْنِ، قَاصِرًا عَنْ تَمَامِ الْمُرَادِ مِنْ الِاسْتِدَارَةِ وَالْإِشْرَاقِ الْكَامِلِ وَالْمَلَاحَةِ. قَالَ: لَا بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ فِي نِهَايَةِ الْإِشْرَاقِ وَالْقَمَرِ فِي الْحُسْنِ وَالْمَلَاحَةِ، وَلَمَّا لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ الِاسْتِدَارَةُ عُرْفًا قَالَ: وَكَانَ مُسْتَدِيرًا بَيَانًا لِلْمُرَادِ فِيهِمَا. (وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُكْسَرُ؟ ، خَاتَمُ النُّبُوَّةِ (عِنْدَ كَتِفِهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ) أَيْ: مُدَوَّرًا (يُشْبِهُ) أَيْ: لَوْنُهُ (جَسَدَهُ) . أَيْ: لَوْنَ سَائِرِ أَعْضَائِهِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يُخَالِفْ لَوْنُهُ بَشْرَتَهُ، وَفِيهِ نَفْيُ الْبَرَصِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الْجَامِعِ: مَكَانُ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ فِي ظَهْرِهِ، بَضْعَةٌ نَاشِزَةٌ أَيْ: قِطْعَةُ لَحْمٍ مُرْتَفِعَةٌ عَنِ الْجِسْمِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «كَانَ خَاتَمُهُ غُدَّةً حَمْرَاءَ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ» ، وَقَدْ جَمَعْتُ غَالِبَ طُرُقِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، وَبَيَّنْتُ مَبَانِيهِ، وَأَوْضَحْتُ مَعَانِيهِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ.

5780 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجَسَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا - أَوْ قَالَ: ثَرِيدًا - ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى، جُمْعًا، عَلَيْهِ خِيلَانٌ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5780 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ) : بِالسِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا جِيمٌ بِوَزْنِ نَرْجِسٍ، كَذَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُؤَلِّفِ، وَنَرْجِسٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ بِكَسْرِ النُّونِ، وَفَتْحُهَا مَعْرُوفٌ، ذَكَرَهُ فِي ر. ج. س، فَالنُّونُ زَائِدَةٌ فَيُفِيدُ كَوْنَهُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي بَعْضِهَا مِنْ فَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَصْرُوفًا، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي الْمَعْنَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَمَا رَأَيْتُ لَهُ وَجْهًا. (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا - أَوْ قَالَ ثَرِيدًا) : شَكٌّ فِي اللَّفْظِ وَاتِّحَادٌ فِي الْمَعْنَى، أَوِ اخْتِلَافٌ فِي الْمُرَادِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ الثَّرِيدُ مِنَ الْخُبْزِ» ، وَالثَّرِيدُ مِنَ الْحَيْسِ. (ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى) ، بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ الْأُولَى أَعْلَى الْكَتِفِ، وَقِيلَ: عَظْمٌ رَقِيقٌ عَلَى طَرَفِهَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ شَارِحٌ: النَّاغِضُ الْغُضْرُوفِ هُوَ مَا لَانَ مِنَ الْعَظْمِ، وَقِيلَ: أَصْلُ الْعُنُقِ، وَقِيلَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْكَتِفِ وَهُوَ أَعْلَاهُ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ أَنَّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَنَّهُ وَجَدَهُ كَذَلِكَ، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ مِنْ إِحْدَى الْجَانِبَيْنِ، أَوْ كَانَ عَلَى

السَّوَاءِ، وَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ إِلَى الْيُسْرَى أَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عِنْدَ كَتِفِهِ الْيُمْنَى (جُمْعًا) : بِضَمِّ الْجِيمِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْجُمْعُ: هُوَ أَنْ تَجْمَعَ الْأَصَابِعَ وَتَضُمَّهَا يُقَالُ: ضَرَبَهُ بِجُمْعِ كَفِّهِ بِضَمِّ الْجِيمِ اه. وَأَمَّا ضَمُّ الْمِيمِ فَغَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَفِي الْمَصَابِيحِ جَمِيعًا أَيْ: مَجْمُوعًا. قَالَ الْإِمَامُ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنِّي لَا أُحَقِّقُهُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْكَاتِبِ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ مِثْلُ الْجُمْعِ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَهُوَ الْكَفُّ حِينَ تَقْبِضُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ كَالْكَفِّ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: جُمْعًا أَيْ: كَجُمْعٍ فَنَصْبُهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُرْوَى بِفَتْحِ الْجِيمِ فَنَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَيْ: نَظَرْتُ إِلَيْهِ مَجْمُوعًا أَيْ: مُجْتَمِعًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ هُنَا الْهَيْئَةُ لِيُوَافِقَ قَوْلَهُ: مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامِ. (عَلَيْهِ، خِلَّانٌ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ خَالٍ، وَهِيَ نُقْطَةٌ تَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ الشَّامَةُ فِي الْجَسَدِ (كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ) . بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى، جَمْعُ ثُؤْلُولٍ بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ خُرَّاجٌ صَلْبٌ يَخْرُجُ عَلَى الْجَسَدِ لَهُ نُتُوٌّ وَاسْتِدَارَةٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ هَذِهِ الْحَبَّةُ الَّتِي تَظْهَرُ فِي الْجَسَدِ مِثْلَ الْحِمَّصَةِ فَمَا دُونَهَا، وَبِالْفَارِسِيَّةِ زَخْ بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5781 - وَعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ، فَقَالَ: (ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ) فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ، فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ، فَأَلْبَسَهَا. قَالَ: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي) وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ. فَقَالَ: (يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سِنَاهْ) وَهِيَ بِالْحَبَشَةِ: حَسَنَةٌ. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعْهَا» ) : رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5781 - (وَعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ) ، قِيلَ: أَسْلَمَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ فَهُوَ ثَالِثٌ أَوْ رَابِعٌ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ابْنُ الْعَاصِ الْأُمَوِيَّةِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِكُنْيَتِهَا، وُلِدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقُدِمَ بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، رَوَى عَنْهَا نَفَرٌ. (قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: جِيءَ (بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ) أَيْ: فِي جُمْلَتِهَا كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ لَهُ عَلَمَانِ ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ فَقَوْلُهُ: (سَوْدَاءُ) : تَأْكِيدٌ أَوْ تَجْرِيدٌ (صَغِيرَةٌ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ) أَيْ: بِأُمِّ خَالِدٍ (تُحْمَلُ) ، حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهَا أَيْ: مَحْمُولَةٌ لِأَنَّهَا طِفْلٌ (فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ، فَأَلْبَسَهَا) . لَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ مِنَ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى أَوْ الِالْتِفَاتِ فِي الْمَبْنَى (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (أَبْلِي) : أَمْرُ مُخَاطَبَةٍ لَهَا مِنَ الْإِبْلَاءِ وَهُوَ جَعْلُ الثَّوْبِ خَلَقًا (وَأَخْلِقِي) : مِنَ الْإِخْلَاقِ بِمَعْنَاهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الدُّعَاءُ فَقَوْلُهُ: (ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي) : زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ فِي الدُّعَاءِ لَهَا بِطُولِ عُمُرِهَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَخْلِقِي بِالْقَافِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. وَرُوِيَ بِالْفَاءِ فَهُوَ تَأْسِيسٌ لَا تَأْكِيدٌ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ يَئُولُ إِلَيْهِ مَعْنًى أَيْ: وَأَخْلِفِي ثَوْبًا بَعْدَ ثَوْبٍ، فَإِنَّ الْإِخْلَافَ غَالِبًا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْإِخْلَاقِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رَأَى عَلَى صَاحِبِهِ ثَوْبًا جَدِيدًا قَالَ لَهُ: تُبْلِي وَيُخْلِفُ اللَّهُ. وَفِي الْحِصْنِ: أَبْلِ وَأَخْلِقْ ثُمَّ أَبْلِ وَأَخْلِقْ ثُمَّ أَبْلِ وَأَخْلِقْ، فَذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَعَلَّهُ نُقِلَ بِالْمَعْنَى، أَوْ وَقَعَ خِطَابُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ غَيْرِهَا بِهَذَا الدُّعَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَكَانَ فِيهَا) أَيْ: فِي الْخَمِيصَةِ (عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ: " يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا ") أَيْ: الْعَلَمُ أَوْ هَذَا الثَّوْبُ ((سَنَاهْ)) أَيْ: حَسَنٌ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ فَنُونٌ فَأَلِفٌ فَهَاءُ السَّكْتِ، وَفِي نُسْخَةٍ السِّينُ، وَرُوِيَ: سَنَهْ بِلَا أَلْفٍ وَنُونٍ خَفِيفَةٍ، وَرُوِيَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ، وَهِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا الْفَارِسِيَّ فَإِنَّهُ يَكْسِرُهَا (وَهِيَ) أَيْ: كَلِمَةُ سَنَاهْ (بِالْحَبَشِيَّةِ) أَيْ: بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ (حَسَنَةٌ) . أَنَّثَهَا بِاعْتِبَارِ تَأْنِيثِ مُبْتَدَئِهِ، وَهُوَ هِيَ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ أُمِّ خَالِدٍ أَوْ تَفْسِيرٌ مِنْ غَيْرِهَا. (قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي) ، أَيْ: صَاحَ عَلَيَّ وَزَجَرَنِي وَهَدَّدَنِي وَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهَا) . أَيْ: لِتَتَبَرَّكَ بِالْخَاتَمِ أَيْضًا، كَمَا تَبَرَّكَتْ بِإِلْبَاسِ الْخِلْعَةِ الشَّرِيفَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حِلْمِهِ وَكَرَمِهِ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ مَعَ صَحَابَتِهِ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ الصَّمَدَانِيُّ شِهَابُ الدِّينِ السَّهْرَوَرْدِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ فِي عَوَارِفِهِ إِلَى أَنَّ اسْتِنَادَ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ فِي لُبْسِ الْخِرْقَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إِلْبَاسَ خِرْقَةِ التَّبَرُّكِ دُونَ إِلْبَاسِ خِرْقَةِ الْإِجَازَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.

5782 - وَعَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ، وَلَا بِالْآدَمِ، وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلَا بِالسَّبْطِ، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ» وَفِي رِوَايَةٍ يَصِفُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ» . وَقَالَ: كَانَ «شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ «كَانَ ضَخْمَ الرَّأْسِ وَالْقَدَمَيْنِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ وَلَا قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَكَانَ سَبْطَ الْكَفَّيْنِ» وَفِي أُخْرَى لَهُ، قَالَ: كَانَ شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5782 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ) ، أَيْ: الْبَاعِدِ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ، وَالْمُفْرِطِ طُولًا الَّذِي يُعَدُّ مِنْ قَدْرِ الرِّجَالِ الطِّوَالِ، أَوِ الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ طُولُهُ مِنْ بَانَ إِذَا بَعُدَ أَوْ ظَهَرَ (وَلَا بِالْقَصِيرِ) ، أَيْ: الْمُتَرَدِّدِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ، لَكِنْ إِلَى الطُّولِ أَمْيَلُ، فَإِنَّ النَّفْيَ انْصَبَّ إِلَى قَيْدِ وَصْفِ الْبَائِنِ، فَثَبَتَ أَصْلُ الطُّولِ وَنَوْعٌ مِنْهُ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطُّولِ الْبَائِنِ قَصِيرٌ، وَلِذَا قُيِّدَ نَفْيُ الْقَصِيرِ بِالْمُتَرَدِّدِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ رَبْعَةٌ إِلَى الطُّولِ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَإِلَّا فَمَا مَاشَاهُ طَوِيلٌ إِلَّا غَلَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطُّولِ، (وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ) ، أَيْ: الَّذِي بَيَاضُهُ خَالِصٌ لَا يَشُوبُهُ حُمْرَةٌ وَلَا غَيْرُهَا، كَلَوْنِ الثَّلْجِ وَالْبَرَصِ وَاللَّبَنِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ نَيِّرَ الْبَيَاضِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ بَيَاضُهُ مَشُوبًا بِالْحُمْرَةِ، وَهُوَ أَحْسَنُ أَنْوَاعِ الْأَلْوَانِ الْمُسْتَحْسَنَةِ عِنْدَ الطِّبَاعِ الْمَوْزُونَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَلَا بِالْآدَمِ) ، أَيْ: الشَّدِيدِ السُّمْرَةِ (وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ) ، بِفَتْحَتَيْنِ وَتُكْسَرُ الثَّانِيَةُ أَيْ: الشَّدِيدُ الْجُعُودَةِ كَشُعُورِ الْحَبَشِ (وَلَا بِالسَّبْطِ) ، بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِهَا، وَهُوَ مِنَ السُّبُوطَةِ ضِدُّ الْجُعُودَةِ وَهُوَ الشَّعْرُ الْمُنْبَسِطُ الْمُسْتَرْسِلُ كَمَا فِي غَالِبِ شُعُورِ الْأَعَاجِمِ، فَفِي الْقَامُوسِ: السَّبْطُ وَيُحَرَّكُ وَكَكَتِفٍ نَقِيضُ الْجُعُودَةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ شَعْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ وَسَطًا بَيْنَهُمَا (بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً) : الْمَشْهُورُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَالْمُرَادُ بِالرَّأْسِ آخِرُ السَّنَةِ كَمَا فِي قَوْلِ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ رُءُوسَ الْآيِ أَوَاخِرُهَا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِلَفْظِ الْأَرْبَعِينَ السَّنَةَ الَّتِي تَنْضَمُّ إِلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ، أَوْ مَجْمُوعَ السِّنِينِ مِنْ أَوَّلِ الْوِلَادَةِ إِلَى اسْتِكْمَالِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، هَذَا وَقَالَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ: أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَثَرِ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً ". (فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ) ، أَيْ: عَلَى خِلَافٍ فِي ثَلَاثٍ، وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ أَنَّ عُمُرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، فَمَنْ قَالَ سِتِّينَ أَلْغَى الْكَسْرَ، وَمَنْ قَالَ خَمْسًا وَسِتِّينَ أَدْخَلَ سَنَةَ الْوِلَادَةِ وَالْوَفَاةِ، ثُمَّ الْعَشْرُ بِسُكُونِ الشِّينِ، وَأَمَّا مَا ضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِفَتْحِهَا أَيْضًا فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ. (وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينٍ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً وَلَيْسَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَ وَفَاتِهِ (فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَيُفْتَحُ (بَيْضَاءَ) . يَعْنِي بَلْ مَا عَدَدْتُ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعَ عَشَرَةَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِي رِوَايَةٍ يَصِفُ) أَيْ: يَنْعَتُ أَنَسٌ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَانَ رَبْعَةً) : بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تُفْتَحُ (مِنَ الْقَوْمِ) : يُقَالُ: رَجُلٌ رَبْعَةٌ وَمَرْبُوعٌ إِذَا كَانَ بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فَقَوْلُهُ: (لَيْسَ بِالطَّوِيلِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ) ، تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لَهُ (أَزْهَرَ اللَّوْنِ) . خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِكَانَ أَيْ نَيِّرَ اللَّوْنِ وَحَسَنَهُ، وَهُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ الْقَاضِي: الْأَزْهَرُ الْأَبْيَضُ الْمُسْتَنِيرُ، وَالزَّهْرُ وَالزَّهْرَةُ الْبَيَاضُ النَّيِّرُ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْأَلْوَانِ. (وَقَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ (إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ) . بِضَمِّ: الذَّالِ وَيُسَكَّنُ. (وَفِي رِوَايَةٍ: بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ: كَانَ ضَخْمَ الرَّأْسِ) أَيْ: عَظِيمَهُ وَهُوَ مَمْدُوحٌ عِنْدَ الْعَرَبِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَظَمَةِ صَاحِبِهِ وَسَعَادَتِهِ، وَإِشَارَتِهِ، إِلَى كَمَالِ رِيَاسَتِهِ وَسِيَادَتِهِ (وَالْقَدَمَيْنِ) : لِلْإِيمَاءِ إِلَى الشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ وَالْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ (لَمْ أَرَ بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ شُهُودِهِ (وَلَا قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ وُجُودِهِ (مِثْلَهُ) أَيْ: مُمَاثِلًا وَمُسَاوِيًا لَهُ فِي جَمِيعِ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ خَلْقًا فِي الْأَحْوَالِ، وَهَذَا فَذْلَكَةٌ شَاهِدَةٌ لِعَجْزِهِ عَنْ مَرَاتِبِ وَصْفِهِ وَمَنَاقِبِ نَعْتِهِ، (وَكَانَ سَبْطَ الْكَفَّيْنِ) . أَيْ: غَلِيظَهُمَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي أَنَّهُمَا إِلَى الْغِلَظِ وَالْقِصَرِ أَمْيَلُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الَّذِي فِي أَنَامِلِهِ غِلَظٌ بِلَا قِصَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْجُودِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلْبَخِيلِ: جَعْدُ الْكَفِّ، وَفِي ضِدِّهِ سَبْطُ الْكَفِّ. (وَفِي أُخْرَى لَهُ) ، أَيْ: لِلْبُخَارِيِّ (قَالَ: كَانَ شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ) . بِسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: غَلِيظَ الْأَطْرَافِ مِنْ شَثُنَ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ إِذَا غَلُظَ، وَيُحْمَدُ ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ لِقَبْضِهِمْ، وَأَدَلُّ عَلَى قُوَّتِهِمْ، وَيُذَمُّ فِي النِّسَاءِ لِفَوَاتِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُنَّ وَهُوَ الرِّعَايَةُ، ثُمَّ الْمُرَادُ غِلَظُ الْعُضْوِ فِي الْخِلْقَةِ لَا خُشُونَةُ الْجِلْدِ، لِمَا صَحَّ عَنْ أَنَسٍ: «مَا مَسَسْتُ دِيبَاجَةً وَلَا حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .

5783 - وَعَنِ الْبَرَّاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْبُوعًا، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، لَهُ شَعْرٌ بَلَغَ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ، رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَعْرُهُ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ، بَعِيدٌ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5783 - (وَعَنِ الْبَرَّاءِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْبُوعًا) ، أَيْ: قَرِيبًا مِنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ أَطْوَلُ مِنْهُ (بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ) رُوِيَ مُكَبَّرًا وَمُصَغَّرًا، وَرُوِيَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ لِكَانَ، وَمَرْفُوعًا عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ (لَهُ شَعْرٌ بَلَغَ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ) ، أَيْ: وَصَلَهَا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ شَعْرُهُ دُونَ الْجُمَّةِ وَفَوْقَ الْوَفْرَةِ، وَالْجُمَّةِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ: مَا سَقَطَ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَالْوَفْرَةُ: شَعْرُ الرَّأْسِ إِذَا وَصَلَ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْحَالَاتِ. (رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ) ، أَيْ: فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَوْبَيْنِ مِنَ الْيَمَنِ فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ وَخُضْرٌ، لَا أَنَّهُ أَحْمَرُ بَحْتٌ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هِيَ ثِيَابٌ ذَاتُ خُطُوطٍ. قَالَ مِيرَكُ: فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ بِجَوَازِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ. أَقُولُ: وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَا دَلَالَةَ أَيْضًا إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاخْتِصَاصِ، أَوْ قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَيُفِيدُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحُمْرَةِ لِلْكَرَاهَةِ لَا لِلْحُرْمَةِ. (لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ) . وَهُوَ أَيْضًا يُفِيدُ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ عُرْفًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَكَذَا لِلثَّلَاثَةِ (قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ) : بِكَسْرٍ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ. فِي النِّهَايَةِ: اللِّمَّةُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ دُونَ الْجُمَّةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا أَلَمَّتْ بِالْمَنْكِبَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ فَهِيَ الْجُمَّةُ. (أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَعْرُهُ يَضْرِبُ) أَيْ: يَصِلُ (مَنْكِبَيْهِ، بِعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ) بِالرَّفْعِ (لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ) أَيْ: الْمَعْيُوبَيْنِ.

5784 - وَعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَلِيعَ الْفَمِ، أَشْكَلَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْهُوشَ الْعَقِبَيْنِ. قِيلَ لَسِمَاكٍ: مَا ضَلِيعُ الْفَمِ؟ قَالَ: عَظِيمُ الْفَمِ قِيلَ: مَا أَشْكَلُ الْعَيْنَيْنِ؟ قَالَ: طَوِيلُ شَقِّ الْعَيْنِ. قِيلَ: مَا مَنْهُوشُ الْعَقِبَيْنِ؟ قَالَ: قِيلَ لَحْمُ الْعَقِبِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5784 - (وَعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) : بِكَسْرِ السِّينِ، تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ كُوفِيٌّ، قَالَ: أَدْرَكْتُ ثَمَانِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَلِيعَ الْفَمِ) . أَيْ: وَسِيعَهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الْفَصَاحَةِ وَنِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْ: عَظِيمَهُ هَكَذَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالُوا: وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ بِذَلِكَ وَتَذُمُّ صِغَرَ الْفَمِ. (أَشْكَلَ الْعَيْنَيْنِ) ، الْأَشْكَلُ: عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ مَا فِيهِ حُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ مُخْتَلِطَةٌ، أَوْ مَا فِيهِ بَيَاضٌ يَضْرِبُ إِلَى حُمْرَةٍ (مَنْهُوشَ الْعَقِبَيْنِ) . بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: مُفَرَّقَهُمَا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ فِي الْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ (قِيلَ لِسِمَاكٍ: مَا ضَلِيعُ الْفَمِ؟ قَالَ: عَظِيمُ الْفَمِ) . فِي الْقَامُوسِ: رَجُلٌ ضَلِيعُ الْفَمِ أَيْ: عَظِيمُهُ أَوْ وَاسِعُهُ، أَوْ عَظِيمُ الْأَسْنَانِ مُتَرَاصِفُهَا، وَالْعَرَبُ تَحْمَدُ سَعَةَ الْفَمِ وَتَذُمُّ صِغَرَهُ. (قِيلَ: مَا أَشْكَلُ الْعَيْنَيْنِ؟ قَالَ: طَوِيلُ شَقِّ الْعَيْنِ) بِفَتْحِ الشِّينِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: تَفْسِيرُ سِمَاكٍ " أَشْكَلُ الْعَيْنَيْنِ " وَهْمٌ مِنْهُ وَغَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَصَوَابُهُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَنَقَلَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الْغَرِيبِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّكْلَةَ حُمْرَةٌ فِي بَيَاضِ الْعَيْنِ وَهُوَ مَحْمُودٌ. (قِيلَ: مَا مَنْهُوشُ الْعَقِبَيْنِ؟ قَالَ: قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

5785 - وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5785 - (وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِ سِنِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا) : احْتِرَازًا مِنْ كَوْنِهِ أَمْهَقَ (مُقَصَّدًا) . بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: مُتَوَسِّطًا مُعْتَدِلًا. وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِطَوِيلٍ وَلَا قَصِيرٍ وَلَا جَسِيمٍ، كَانَ خُلُقُهُ يَجِيءُ بِهِ الْقَصْدَ مِنَ الْأُمُورِ، وَالْمُعْتَدِلُ الَّذِي لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِيهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كَانَ أَبْيَضَ كَأَنَّمَا صِيَغَ مِنْ فِضَّةٍ» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا وَضَعَ رِدَاءَهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَكَأَنَّهُ سَبِيكَةُ فِضَّةٍ» .

5786 - وَعَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: «سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ خِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَا يُخْضَبُ، لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتِهِ فِي لِحْيَتِهِ» - وَفِي رِوَايَةٍ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ فَعَلْتُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: «إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ، وَفِي الصُّدْغَيْنِ وَفِي الرَّأْسِ نَبْذٌ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5786 - (وَعَنْ ثَابِتٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ثَابِتُ بْنُ أَسْلَمَ الْبُنَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، تَابِعِيٌّ مِنْ أَعْلَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَثِقَاتِهِمْ، اشْتُهِرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَصَحِبَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً " قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ خِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ مَا يُخْتَضَبُ بِهِ مِنْ خَضَبَهُ لَوَّنَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغَ مَا يَخْضِبُ) : بِكَسْرِ الضَّادِ. قَالَ شَارِحٌ: فَاعِلُ " يَبْلِغْ " ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى شَعْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ. وَفَاعِلُ يَخْضِبُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ، وَقِيلَ، مَا مَوْصُولَةٌ وَعَائِدُهَا مَحْذُوفٌ أَيْ: يَخْضِبُهُ، وَهُوَ مَفْعُولُ يَبْلُغُ أَيْ: لَمْ يَبْلُغْ شَعْرُهُ حَدًّا يَخْضِبُهُ، يَعْنِي كَانَ بَيَاضُهُ قَلِيلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: كَانَ قَلِيلَ الشَّيْبِ لَا يَظْهَرُ فِي بُدَاءِ النَّظَرِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى كَتْمِهِ بِالْخِضَابِ (لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ) أَيْ: أُحْصِيَ (شَمَطَاتِهِ) : بِالْحَرَكَاتِ أَيْ: شَعَرَاتِهِ الْبَيْضَ (فِي لِحْيَتِهِ) : جَوَابُ " لَوْ " مَحْذُوفٌ أَيْ: لَأَعُدُّهَا أَوْ لَعَدَدْتُهَا أَوْ لَفَعَلْتُ (وَفِي رِوَايَةٍ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ فَعَلْتُ) . وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ الْبَيَاضِ فِيهَا، لِأَنَّ الْمَعْدُودَ مِنْ أَوْصَافِ الْقَلِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] وَ {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ) أَيْ: صَاحِبُهُ، وَهُوَ الشَّعْرُ الْأَبْيَضُ، أَوِ الْبَيَاضُ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّيْبِ (فِي عَنْفَقَتِهِ) ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ النُّونِ فَفَاءٍ ثُمَّ قَافٍ أَيْ: شَعْرِهِ النَّابِتِ تَحْتَ شَفَتِهِ السُّفْلَى وَفَوْقَ الذَّقْنِ (وَفِي الصُّدْغَيْنِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: الشَّعْرِ الْمُتَدَلِّي عَلَى مَا بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ (وَفِي الرَّأْسِ نَبْذٌ) . بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَذَالٌ مُعْجَمَةٌ أَيْ: شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ شَيْبٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ أَيْ: شَعَرَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: نَبْذٌ: مُبْتَدَأُ، وَقَوْلُهُ: فِي عَنْفَقَتِهِ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ. قُلْتُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ " إِنَّمَا كَانَ "، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجَارَّ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَنَبْذٌ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْبَيَاضِ.

5787 - وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَزْهَرَ اللَّوْنِ، كَانَ عَرَقُهُ اللُّؤْلُؤُ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَمَا مَسَسْتُ دِيبَاجَةً وَلَا حَرِيرًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عَنْبَرَةً أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5787 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَزْهَرَ اللَّوْنِ) ، أَيْ: أَبْيَضَ نَيِّرًا (كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ) ، أَيْ: فِي الْهَيْئَةِ وَالصَّفَاءِ وَالضِّيَاءِ (إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ) ، بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ فَهَمْزٍ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَأَلِفٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِالْهَمْزِ، وَقَدْ يُتْرَكُ هَمْزُهُ، وَزَعَمَ كَثِيرُونَ أَنَّهُ بِلَا هَمْزَةٍ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، وَنَقَلَ شَارِحٌ عَنِ التُّورِبِشْتِيِّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُعْتَدَّ بِهَا فِي: تَكَفَّا بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْهَمْزُ، ثُمَّ تُرِكَتْ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ، قِيلَ أَيْ: تَمَايَلَ إِلَى قُدَّامٍ كَمَا تَتَكَفَّأُ السَّفِينَةُ فِي جَرْيِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: كَفَأْتُهُ وَكَفَّأْتُهُ إِذَا أَمَلْتَهُ، وَيُقَالُ: كَفَأْتُ الْإِنَاءَ فَكَفَأَ وَتَكَفَّأَ أَوْ أَرَادَ بِهِ التَّرَفُّعَ عَنِ الْأَرْضِ مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا يَكُونُ مَشْيُ الْأَقْرِبَاءِ وَذَوِي الْجَلَادَةِ بِخِلَافِ الْمُتَمَاوِتِ الَّذِي يَجُرُّ رِجْلَهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْوَاصِفِ: إِذَا مَشَى تَقَدَّمَ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ شِمْرٌ: مَعْنَاهُ مَالَ يَمِينًا وَشِمَالًا كَمَا تُكْفَأُ السَّفِينَةُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْمُخْتَالِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَا بُعْدَ فِيمَا قَالَهُ شِمْرٌ إِذَا كَانَ خِلْقَةً وَجِبِلَّةً، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا مَقْصُودًا. (مَا مَسِسْتُ) : بِكَسْرِ السِّينِ الْأُولَى وَيُفْتَحُ (دِيبَاجَةً) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَيُفْتَحُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ (وَلَا حَرِيرًا) أَيْ: مُطْلَقًا (أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَمِمْتُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيُفْتَحُ (مِسْكًا وَلَا عَنْبَرَةً أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: مَسِسْتُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ الْأَوْلَى عَلَى الْأَفْصَحِ، وَكَذَا شَمِمْتُ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأَوْلَى وَفَتْحُهَا لُغَةٌ، وَيُقَالُ فِي الْمُضَارِعِ أَمَسُّهُ وَأَشَمُّهُ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا عَلَى الْأَفْصَحِ، وَبِالضَّمِّ عَلَى اللُّغَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الشَّمُّ حِسُّ الْأَنْفِ شَمِمْتُهُ بِالْكَسْرِ أَشَمُّهُ وَشَمَمْتُهُ أَشُمُّهُ بِالضَّمِّ شَمًّا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، وَلَا مَسِسْتُ خَزًّا وَلَا حَرِيرًا قَطٌّ وَلَا شَيْئًا كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَمِمْتُ مِسْكًا قَطُّ وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ " عَرْفِ " بِالْفَاءِ.

5788 - وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْتِيهَا، فَيَقِيلُ عِنْدَهَا. فَتَبْسُطُ نِطْعًا فَيَقِيلُ عَلَيْهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعَرَقِ، فَكَانَتْ تَجْمَعُ عَرَقَهُ فَتَجْعَلُهُ فِي الطِّيبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! مَا هَذَا؟ " قَالَتْ: عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا قَالَ: " أَصَبْتِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5788 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ بِدُونِ قَوْلِهِ: وَعَنْهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ بِنْتُ مِلْحَانَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفِي اسْمِهَا خِلَافٌ، تَزَوَّجَهَا مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ أَبُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَنَسًا، ثُمَّ قُتِلَ عَنْهَا مُشْرِكًا، وَأَسْلَمَتْ فَخَطَبَهَا أَبُو طَلْحَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَأَبَتْ وَدَعَتْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَزَوَّجُكَ وَلَا آخُذُ مِنْكَ صَدَاقًا لِإِسْلَامِكَ، فَتَزَوَّجَهَا أَبُو طَلْحَةَ، رَوَى عَنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْتِيهَا) أَيْ: يَجِيءُ بَيْتَهَا (فَيَقِيلُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ الْقَيْلُولَةِ، وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ عِنْدَ الْهَجِيرَةِ، وَقَدْ تَكُونُ مَعَ النَّوْمِ (عِنْدَهَا) أَيْ: لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعَ خَادِمِهِ وَهُوَ أَنَسٌ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْكَشْفِ أَوِ الْخَلْوَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: أُمُّ حَرَامٍ وَأُمُّ سُلَيْمٍ كَانَتَا خَالَتَيْنِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَرَّمَيْنِ إِمَّا مِنَ الرَّضَاعِ وَإِمَّا مِنَ النَّسَبِ، فَيَحِلُّ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهِمْ، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا خَاصَّةً، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ النِّسَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ يَقِيلُ عِنْدَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ مَحَارِمِهِ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ، وَإِلَّا لَمْ يَدْخُلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ عَلَيْهَا وَعَلَى أُخْتِهَا أُمِّ حَرَامٍ، وَقَدْ دَخَلَ بَعْدَهُ عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ رَضِيعًا فِي الْمَدِينَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ وَجَدْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيَقِيلَ فِي بَيْتِ أَجْنَبِيَّةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سَبَبٌ مُحَرِّمٌ مِنْ رَحِمٍ وَصِلَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ وَإِذَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُحْمَلْ إِلَى الْمَدِينَةِ رَضِيعًا تَعَيَّنَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ قَدْ فَارَقَ أَبَاهُ هَاشِمًا، وَتَزَوَّجَ بِالْمَدِينَةِ فِي بَنِي النَّجَّارِ، وَأُمُّ حَرَامٍ وَأُمُّ سُلَيْمٍ بِنْتَا مِلْحَانَ كَانَتَا مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَعَرَفْنَا مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّ الْحُرْمَةَ بَيْنَهُمْ كَانَتْ حُرْمَةَ رَضَاعٍ وَلَقَدْ وَجَدْنَا الْجَمَّ الْغَفِيرَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّقْلِ أَوْرَدُوا أَحَادِيثَ أُمِّ حَرَامٍ وَأُمِّ سُلَيْمٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْعِلَّةَ إِمَّا مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْهَا وَإِمَّا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُبَيِّنَ وَجْهَ ذَلِكَ كَيْلَا يَظُنَّ جَاهِلٌ أَنَّهُ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَكَانِ الْعِصْمَةِ، وَلَا يَتَذَرَّعَ بِهِ مُسْتَبِيحٌ إِلَى التَّرَخُّصِ بِمَا لَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَأَرَانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَّلَ مَنْ وُفِّقْتُ لِذَلِكَ، فَوَاهًا لَهَا مِنْ دُرَّةٍ كُنْتُ مُسْتَخْرِجَهَا وَاللَّهَ أَحْمَدُ عَلَى هَذِهِ الْمَوْهِبَةِ السَّنِيَّةِ. (فَتَبْسُطُ) أَيْ: تَفْرُشُ أُمُّ سُلَيْمٍ (نِطْعًا) : بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: وَهُوَ بِالْكَسْرِ وَبِالْفَتْحِ وَبِالتَّحْرِيكِ، وَكَعِنَبٍ بِسَاطٌ مِنَ الْأَدِيمِ (فَيَقِيلُ عَلَيْهِ وَكَانَ كَثِيرَ الْعَرَقِ) ، أَيْ: لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْحَيَاءِ (فَكَانَتْ تَجْمَعُ عَرَقَهُ فَتَجْعَلُهُ فِي الطِّيبِ) . أَيْ: فِي الطِّيبِ الَّذِي مَعَهَا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! مَا هَذَا؟) أَيِ: الَّذِي تَفْعَلِينَهُ (قَالَتْ: عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبٍ) أَيْ: لِيَطِيبَ طِيبُنَا بِبَرَكَتِهِ أَوْ بِزِيَادَةِ (وَهُوَ) أَيْ: عَرَقُكَ أَوِ الطِّيبُ الْمَخْلُوطُ بِهِ (مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَرْجُو بَرَكَتَهُ) أَيْ: كَثْرَةَ خَيْرِهِ (لِصِبْيَانِنَا. قَالَ (أَصَبْتِ) أَيْ: فَعَلْتِ الصَّوَابَ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّبَرُّكِ وَالتَّقَرُّبِ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ. قِيلَ: لَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ الطِّيبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5789 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْأُولَى، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَأَمَّا أَنَا فَمَسَحَ خَدِّي، فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا أَوْ رِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ: " سَمُّوا بِاسْمِي " فِي " بَابِ الْأَسَامِي ". وَحَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: نَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ فِي " بَابِ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5789 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْأُولَى) ، مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّهَا الصُّبْحُ. قَالَ النَّوَوِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: هِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ، (ثُمَّ خَرَجَ) أَيْ: مِنَ الْمَسْجِدِ (إِلَى أَهْلِهِ) أَيْ: مُتَوَجِّهًا إِلَى إِحْدَى الْحُجُرَاتِ الشَّرِيفَةِ (وَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ) ، جَمْعُ وَلِيدٍ وَهُوَ الصَّبِيُّ (فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ (يَمْسَحُ) أَيْ: بِيَدَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ (خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا) ، حَالٌ

(وَأَمَّا أَنَا فَمَسَحَ خَدِّي) . بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ (فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا) أَيْ: رَاحَةً (أَوْ رِيحًا) أَيْ: رَائِحَةً طَيِّبَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ بِمَعْنَى (بَلْ) (كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا) أَيْ: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ مِنَ الْكُمِّ فَكَأَنَّهُ أَخْرَجَهَا (مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ) . بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبْدَلُ أَيْ: سَلَّتِهِ أَوْ حُقَّتِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ الَّتِي يُعَدُّ فِيهَا الطِّيبُ وَيُحْرَزُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ طِيبِ رِيحِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَهُوَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ. قَالُوا: وَكَانَتْ هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ صِفَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّ طِيبًا، وَمَعَ هَذَا كَانَ يَسْتَعْمِلُ الطِّيبَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مُبَالَغَةً فِي طِيبِ رِيحِهِ لِمُلَاقَاةِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَخْذِ الْوَحْيِ الْكَرِيمِ، وَمُجَالَسَةِ الْمُسْلِمِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) (وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ: سَمُّوا بِاسْمِي) : تَمَامُهُ: (وَلَا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي) (فِي بَابِ الْأَسَامِي) . (وَحَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: نَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ) : تَمَامُهُ: مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ (فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5790 - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، ضَخْمَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، مُشْرَبًا حُمْرَةً، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ، طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5790 - (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ» ) ، أَيْ: بَلْ كَانَ مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ (ضَخْمَ الرَّأْسِ) أَيْ: عَظِيمَهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَظَمَةِ رِيَاسَتِهِ (وَاللِّحْيَةِ) ، أَيْ: كَثِيفَهَا دُونَ الْكَوْسَجِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ حَسَنَ السَّبَلَةِ أَيِ: اللِّحْيَةِ (شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ) . أَيْ: أَنَّهُمَا يَمِيلَانِ إِلَى الْغِلَظِ وَالْقِصَرِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (مُشْرَبًا حُمْرَةً) ، أَيْ مَخْلُوطٌ لَوْنُهُ بِالْحُمْرَةِ، وَهُوَ عَلَى صِيغَةُ الْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا، وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهُ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْإِشْرَابُ خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ كَأَنَّ أَحَدَ اللَّوْنَيْنِ سَقَى اللَّوْنَ الْآخَرَ، يُقَالُ: بَيَاضُ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِذَا شُدِّدَ كَانَ لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ (ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ) ، أَيْ: عَظِيمَ الْأَعْضَاءِ، وَهُوَ جَمْعُ الْكُرْدُوسِ، وَهُوَ كُلُّ عَظْمَيْنِ الْتَقَيَا فِي مَفْصِلٍ نَحْوَ الْمَنْكِبَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ وَقِيلَ رُءُوسُ الْعِظَامِ. (طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ وَضَمِّ الرَّاءِ: الشَّعْرُ الْمُسْتَدَقُّ الَّذِي يَأْخُذُ مِنَ الصَّدْرِ إِلَى السُّرَّةِ (إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ بَعْدَهُ هَمْزٌ وَأَلِفٌ وَهُوَ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: (تَكَفِّيَا) : بِكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَكَفُّؤًا بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْهَمْزِ، فَلَمَّا خُفِّفَ مَاضِيهِ بِالْإِبْدَالِ أُلْحِقَ مَصْدَرُهُ بِالْمُعْتَلِّ، وَفِي نُسْخَةٍ تَكَفُّؤًا عَلَى الْأَصْلِ، وَقَالَ شَارِحٌ: تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا بِالْهَمْزِ، وَهُوَ الْمَيْلُ تَارَةً إِلَى الْيَمِينِ وَأُخْرَى إِلَى الشِّمَالِ فِي الْمَشْيِ وَقِيلَ: تَكَفَّأَ أَيِ: اعْتَمَدَ إِلَى الْقُدَّامِ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَفَأْتُ الْإِنَاءَ إِذَا قَلَبْتَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: يَسْقُطُ (مِنْ صَبَبٍ) أَيْ: مُنْحَدَرٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَمِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ أَوْ بِمَعْنَى فِي الظَّرْفِيَّةِ، وَلِذَا قِيلَ أَيْ: يَسْقُطُ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ، وَالْمَعْنَى يَمْشِي مَشْيًا قَوِيًّا سَرِيعًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الصَّبَبُ الْحُدُورُ، وَهُوَ مَا يَنْحَدِرُ مِنَ الْأَرْضِ يُرِيدُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَشْيًا قَوِيًّا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ رَفْعًا بَائِنًا لَا كَمَنْ يَمْشِي اخْتِيَالًا وَيُقَارِبُ خُطَاهُ تَنَعُّمًا، (أَرَ قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ مَوْتِهِ، لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُدْرِكْ زَمَانًا قَبْلَ وُجُودِهِ (وَلَا بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ فَوْتِهِ (مِثْلَهُ) : - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُبَّمَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْمُمَاثَلَةِ لَهُ مُطْلَقًا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْقَبْلِيَّةِ وَالْبَعْدِيَّةِ؟ فَهَذِهِ فَذْلَكَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى إِظْهَارِ الْعَجْزِ عَنْ غَايَةِ وَصْفِهِ وَنِهَايَةِ نَعْتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

5791 - وَعَنْهُ، «كَانَ إِذَا وَصَفَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْمُمَّغِطِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ، وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا بِالسَّبْطِ، كَانَ جَعْدًا رَجِلًا، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ وَلَا بِالْمُكَلْثَمِ، وَكَانَ فِي الْوَجْهِ تَدْوِيرٌ، أَبْيَضُ مُشْرَبٌ، أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ، أَهْدَبُ الْأَشْفَارِ، جَلِيلُ الْمَشَاشِ وَالْكَتَدِ، أَجْرَدُ، ذُو مَسْرُبَةٍ، شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، إِذَا مَشَى يَتَقَلَّعُ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، أَجْوَدُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً، وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمُهُمْ عَشِيرَةً، مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ، يَقُولُ نَاعِتُهُ: لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5791 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ (كَانَ إِذَا وَصَفَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مِنْ جِهَةِ خَلْقِهِ (قَالَ: لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْمُمَّغِطِ) ، بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ: الْمَمْدُودِ مِنَ الْمَغْطِ وَهُوَ الْمَدُّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِانْفِعَالِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَخَطَّأَ الْمُحَدِّثِينَ فِي جَعْلِهِ اسْمَ فَاعِلٍ مِنَ التَّمْغِيطِ، وَوَافَقَهُمُ الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ، الْمُتَنَاهِي فِي الطُّولِ مِنْ أَمْغَطَ النَّهَارُ إِذَا امْتَدَّ وَمَغَطْتُ الْحَبْلَ وَغَيْرَهُ إِذَا مَدَدْتَهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ مَغَطَ وَالنُّونُ لِلْمُطَاوَعَةِ، فَقُلِبَتْ مِيمًا وَأُدْغِمَتْ فِي الْمِيمِ، وَيُقَالُ: بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَاهُ، (وَلَا بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ) ، أَيِ: الْمُتَنَاهِي فِي الْقِصَرِ كَأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَعْضُ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَانْضَمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَتَدَاخَلَتْ أَجْزَاؤُهُ، (وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ) أَيْ: مُتَوَسِّطًا مِمَّا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ، فَهُوَ فِي الْمَعْنَى تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ (وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا بِالْبَسْطِ) تَقَدَّمَ بَيَانُ مَبْنَاهُ وَتَبَيَّنَ مَعْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: (كَانَ جَعْدًا رَجِلًا) ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ وَيُسْكَنُ أَيْ: لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْجُعُودَةِ وَلَا السُّبُوطَةِ (وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ) بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيِ: الْفَاحِشِ السَّمِينِ، وَقِيلَ النَّحِيفُ الْجِسْمِ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. قِيلَ: هُوَ الْمُنْتَفِخُ الْوَجْهِ (وَلَا بِالْمُكَلْثَمِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ أَيِ: الْمُدَوَّرُ وَجْهُهُ غَايَةَ التَّدْوِيرِ، بَلْ كَانَ وَجْهُهُ مَائِلًا إِلَى التَّدْوِيرِ وَلِذَا قَالَ: (وَكَانَ فِي الْوَجْهِ) أَيْ: فِي وَجْهِهِ (تَدْوِيرٌ) ، أَيْ: نَوْعُ تَدْوِيرٍ أَوْ تَدْوِيرٌ مَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْإِسَالَةِ وَالِاسْتِدَارَةِ (أَبْيَضُ) أَيْ: هُوَ أَبْيَضُ اللَّوْنِ (مُشْرَبٌ) أَيْ: مَخْلُوطٌ بِحُمْرَةٍ (أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ) ، أَيْ: أَسْوَدُ الْعَيْنَيْنِ مَعَ سِعَتِهِمَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ: الدَّعَجُ وَالدُّعْجَةُ شِدَّةُ السَّوَادِ فِي الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا، يُرِيدُ أَنَّ سَوَادَ عَيْنَيْهِ كَانَ شَدِيدًا وَكَأَنَّ الدَّعَجَ شِدَّةُ سَوَادِ الْعَيْنِ فِي بَيَاضِهَا. (أَهْدَبُ الْأَشْفَارِ) ، بِفَتْحِ الْهَمْزِ جَمْعُ شُفْرٍ بِالضَّمِّ أَيْ: كَثِيرُ أَطْرَافِ الْجُفُونِ كَثِيرُ الْهُدْبِ عَلَيْهَا، وَالْأَهْدَبُ الرَّجُلُ الْكَثِيرُ أَشْفَارِ الْعَيْنِ، وَأَشْفَارُهَا هِيَ أَطْرَافُ الْجُفُونِ الَّتِي يَنْبُتُ عَلَيْهَا الشَّعْرُ وَهُوَ الْهُدْبُ كَذَا حَقَّقَهُ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: طَوِيلُ شَعْرِ الْأَجْفَانِ (جَلِيلُ الْمَشَاشِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ عَظِيمُ رُءُوسِ الْعِظَامِ كَالْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَتِفَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ رُءُوسُ الْعِظَامِ الَّتِي يُمْكِنُ مَضْغُهَا. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ عَظِيمُ رُءُوسِ الْعِظَامِ وَالْمَنَاكِبِ (وَالْكَتَدِ) ، أَيْ: وَجَلِيلُهُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَيُكْسَرُ مَا بَيْنَ الْكَاهِلِ وَالظَّهْرِ، ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ مُجْتَمَعُ الْكَتِفَيْنِ وَهُوَ الْكَاهِلُ (أَجْرَدُ) أَيِ: الَّذِي لَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ شَعْرٌ، وَلَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ الشَّعْرَ كَانَ فِي أَمَاكِنَ مِنْ بَدَنِهِ، كَالْمَسْرُبَةِ وَالسَّاعِدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، فَإِنَّ ضِدَّ أَجْرَدَ هُوَ الْأَشْعَرُ الَّذِي عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ شَعْرٌ وَقَدْ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: (ذُو مَسْرُبَةٍ) ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَجْرَدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْ أَصْحَابِ التَّجَارِبِ مِنَ الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ: مَنْ لَا يَحْمَدُ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي سَائِرِ أَعْضَائِهِ أَجْرَدَ، وَلَا سِيَّمَا الصَّدْرُ. (شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ) ، أَيْ غَلِيظُهُمَا الدَّالُّ عَلَى قُوَّةِ الْبَطْشِ وَالثَّبَاتِ الْمُشِيرَيْنِ إِلَى صِفَةِ الشَّجَاعَةِ وَنَعْتِ الْعِبَادَةِ. (إِذَا مَشَى يَتَقَلَّعُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ رَفْعًا بَائِنًا بِقُوَّةٍ مُتَدَارِكًا إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَمِشْيَةِ أَهْلِ الْجَلَادَةِ، لَا كَالَّذِي يُقَارِبُ الْخُطَا احْتِشَامًا وَاخْتِيَالًا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَشْيِ النِّسَاءِ يُوصَفْنَ بِهِ. (كَأَنَّمَا يَمْشِي) أَيْ: يَنْحَطُّ (فِي صَبَبٍ) أَيْ: مُنْحَدَرٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قُوَّةِ الْمَشْيِ وَالْمَيْلِ إِلَى الْقُدَّامِ (وَإِذَا الْتَفَتَ) أَيْ: أَرَادَ الِالْتِفَاتَ إِلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ (الْتَفَتَ مَعًا) ، أَيْ: بِكُلِّيَّتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُسَارِقُ النَّظَرَ، وَقِيلَ: أَرَادَ لَا يَلْوِي عُنُقَهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْءِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الطَّائِشُ الْخَفِيفُ، وَلَكِنْ كَانَ يُقْبِلُ جَمِيعًا أَوْ يُدْبِرُ جَمِيعًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الشَّيْءِ تَوَجَّهَ بِكُلِّيَّتِهِ، وَلَا يُخَالِفُ بِبَعْضِ جَسَدِهِ بَعْضًا كَيْلَا يُخَالِفَ بَدَنُهُ قَلْبَهُ وَقَصْدُهُ مَقْصِدَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّلَوُّنِ وَآثَارِ الْخِفَّةِ. (بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ) ، جُمْلَةٌ مِنْ خَبَرٍ وَمُبْتَدَأٍ (وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، أَجْوَدُ النَّاسِ صَدْرًا) ،

إِمَّا مِنَ الْجَوْدَةِ بِفَتْحِ الْجِيمِ بِمَعْنَى السَّعَةِ وَالِانْفِسَاحِ أَيْ: أَوْسَعُهُمْ قَلْبًا فَلَا يَمَلُّ وَلَا يَزْجُرُ مِنْ أَذَى الْأُمَّةِ وَمِنْ جَحْفَاءِ الْأَعْرَابِ، وَإِمَّا مِنَ الْجُودِ بِالضَّمِّ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ ضِدِّ الْبُخْلِ أَيْ: لَا يَبْخَلُ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَلَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي فِي صَدْرِهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَسْخَى النَّاسِ قَلْبًا، (وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً) ، بِسُكُونِ الْهَاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ: لِسَانًا فَفِي الْقَامُوسِ: اللَّهْجَةُ اللِّسَانُ وَيُحَرَّكُ، وَكَذَا فِي الصِّحَاحِ. وَقَالَ فِي الدِّيوَانِ اللَّهَجَةُ: بِفَتْحَتَيْنِ اللِّسَانُ وَهِيَ الْفُصْحَى وَبِسُكُونِ الْهَاءِ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَفِي الْفَائِقِ: رُوِيَ فِي اللَّهْجَةِ فَتْحُ الْهَاءِ وَسُكُونُهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: اللَّهْجَةُ هَاءٌ سَاكِنَةٌ وَلَمْ يُعْرَفِ اللَّهْجَةُ (وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً) ، أَيْ: جَانِبًا وَطَبِيعَةً فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ إِذَا كَانَ سَلِسًا وَمُطَاوِعًا مُنْقَادًا قَلِيلَ الْخِلَافِ (وَأَكْرَمُهُمْ عَشِيرَةً) ، بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَحْتِيَّةٍ أَيْ: قَبِيلَةً، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: مُعَاشَرَةً وَمُصَاحَبَةً، وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: عِشْرَةً هَكَذَا هُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَالْجَامِعِ ": صُحْبَةً، وَفِي الْمَصَابِيحِ الْعَشِيرَةُ أَيِ: الصَّاحِبُ: اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ إِذِ النُّسْخَتَانِ مَوْجُودَتَانِ فِي الشَّمَائِلِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً) أَيْ: أَوَّلَ مَرَّةٍ أَوْ فَجْأَةً وَبَغْتَةً (هَابَهُ) ، أَيْ: خَافَهُ وَقَارًا وَهَيْبَةً مِنْ هَابَ الشَّيْءَ إِذَا خَافَهُ وَأَقَرَّهُ وَعَظَّمَهُ، (وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً) : تَمْيِيزٌ (أَحَبَّهُ) ، أَيْ: بِحُسْنِ خُلُقِهِ وَشَمَائِلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ لَقِيَهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ بِهِ وَالْمَعْرِفَةِ إِلَيْهِ هَابَهُ لِوَقَارِهِ وَسُكُونِهِ، فَإِذَا جَالَسَهُ وَخَالَطَهُ بَانَ لَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَحَبَّهُ حُبًّا بَلِيغًا (يَقُولُ نَاعِتُهُ) أَيْ: وَاصِفُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ وَصْفِهِ (لَمْ أَرَ قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ وُجُودِهِ أَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ (وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ فِي جَامِعِهِ وَفِي الشَّمَائِلِ.

5792 - وَعَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقًا فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ سَلَكَهُ، مِنْ طِيبِ عَرْفِهِ - أَوْ قَالَ: مِنْ رِيحِ عَرَقِهِ» - رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5792 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقًا) . أَيْ: زُقَاقًا (فَيَتْبَعُهُ) أَيْ: فَيَعْقُبُهُ (أَحَدٌ إِلَّا عَرَفَ) أَيْ: ذَلِكَ التَّابِعُ (أَنَّهُ) أَيِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَدْ سَلَكَهُ) : ذَلِكَ الطَّرِيقَ (مِنْ طِيبِ عَرْفِهِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَاءٍ أَيْ: رَائِحَتِهِ، يَعْنِي يَتَكَيَّفُ هَوَاءُ ذَلِكَ الطَّرِيقِ بِكَيْفِيَّةِ الطِّيبِ مِنْهُ فَيُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ (أَوْ قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ (مِنْ رِيحِ عَرَقِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ فَقَافٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَالْمَآلُ وَاحِدٌ، إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ طِيبِ عَرَقِهِ الْخَلْقِيِّ لَا طِيبِ عَرْفِهِ الْعَرْفِيِّ كَمَا سَبَقَ مِنْ أَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِطِيبِ الْعَرَقِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5793 - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ: «صِفِي لَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: يَا بُنَيَّ لَوْ رَأَيْتَهُ رَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5793 - (وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: عَنَسِيٌّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالنُّونِ، تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ، وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ (قَالَ: قُلْتُ لِلرُّبَيِّعِ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ (بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ، صَحَابِيَّةٌ جَلِيلَةٌ (صِفِي) : أَمْرُ مُخَاطَبَةٍ مِنَ الْوَصْفِ أَيِ: انْعَتِي (لَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: يَا بُنَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَوِ الْمَفْتُوحَةِ تَصْغِيرُ شَفَقَةٍ وَمَرْحَمَةٍ (لَوْ رَأَيْتَهُ) أَيْ: نُورَ وَجْهِهِ وَطَالَعْتَ فِيهِ مُطَالَعَةً وَوَافَقَكَ الطَّالِعُ الْمَيْمُونُ وَالْبُخُتُ الْهَمَايُونُ (رَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً) . أَيْ فِي وَجْهِهِ وَيَأْتِي مَعَ وَجْهِهِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَكَأَنَّكَ رَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً وَهُوَ أَظْهَرُ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5794 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى الْقَمَرِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَإِذَا هُوَ أَحْسَنُ عِنْدِي مِنَ الْقَمَرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5794 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةٍ) أَيْ: عَظِيمَةٍ (إِضْحِيَانٍ) ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ كَمَا فِي الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ وَإِنْ كَانَ أَلِفُهُ وَنُونُهُ زَائِدَتَيْنِ لِوُجُودِ إِضْحِيَانَةٍ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ الْبُرُوزُ وَالظُّهُورُ. قَالَ شَارِحٌ أَيْ: لَيْلَةٌ مُضِيئَةٌ لَا غَيْمَ فِيهَا. يُقَالُ: لَيْلَةٌ إِضْحِيَانٌ وَإِضْحِيَانَةٌ وَضَحْيَاءُ وَضَحْيَانَةٌ مِنَ الضَّحْوِ، وَفِي الْفَائِقِ أَيْ: مُقْمِرَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَأَفْعَلَانُ مِمَّا قَلَّ فِي كَلَامِهِمْ، (فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: نَظْرَةً (وَإِلَى الْقَمَرِ) ، أَيْ: أُخْرَى لِأَنْظُرَ التَّرْجِيحَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُسْنِ الصُّورِيِّ (وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ (فَإِذَا هُوَ أَحْسَنُ عِنْدِي) أَيْ: فِي نَظَرِي أَوْ مُعْتَقَدِي، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ: فَلَهُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنَ الْقَمَرِ أَيْ: لِزِيَادَةِ الْحُسْنِ الْمَعْنَوِيِّ فِيهِ وَكَمَا قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْعِشْقِ مِنْ أَهْلِ الْمَجَازِ مُخَاطِبًا لِمَحْبُوبِهِ: يُشَابِهُكَ الْقَمَرُ لَكِنْ ... مِنْ أَيْنَ لَهُ الْكَلَامُ وَسَائِرُ مَرَاتِبِ النِّظَامِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) .

5795 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ. وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5795 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ فِي الصُّورَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ السِّيرَةِ (كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ رَأَيْتُهُ كَأَنَّ (الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ جَرَيَانَ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا بِجَرَيَانِ الْحُسْنِ فِي وَجْهِهِ، وَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: يَزِيدُكَ وَجْهُهُ حُسْنًا ... إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرًا وَفِيهِ أَيْضًا عَكَسَ التَّشْبِيهَ لِلْمُبَالَغَةِ. (وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ مَعَ تَحَقُّقِ وَقَارِهِ وَسُكُونِهِ وَرِعَايَةِ اقْتِصَادِهِ مُمْتَثِلًا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] (كَأَنَّمَا الْأَرْضَ تُطْوَى لَهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ تُزْوَى وَتُجْمَعُ عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ تَهْوِينًا عَلَيْهِ وَتَسْهِيلًا لِأَمْرِهِ (وَإِنَّا) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ نَحْنُ (لِنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا) : بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ لِفَتْحِهَا مِنَ الْإِجْهَادِ أَوِ الْجَهْدِ، وَهُمَا الْحَمْلُ عَلَى الشَّيْءِ فَوْقَ طَاقَتِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ فَتْحُ النُّونِ وَضَمُّهَا، يُقَالُ: جَهَدَ دَابَّتَهُ وَأَجْهَدَهَا إِذَا حَمَلَ عَلَيْهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا، فَالْمَعْنَى إِنَّا لَنَحْمِلُ عَلَى أَنْفُسِنَا مِنَ الْإِسْرَاعِ عَقِبَيْهِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، (وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ) . بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ غَيْرُ مُبَالٍ بِمَشْيِنَا، أَوْ غَيْرُ مُسْرِعٍ بِحَيْثُ تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ، فَكَأَنَّهُ يَمْشِي عَلَى هِينَةٍ. يُقَالُ: مُبَالٍ بِهِ أَيْ مُتْعِبٌ نَفْسَهُ فِيهِ، وَيُقَالُ اكْتَرَثَ بِالْأَمْرِ إِذَا أَبْلَى بِهِ كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: غَيْرُ مُبَالٍ وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي النَّفْيِ، وَأَمَّا فِي الْإِثْبَاتِ فَشَاذٌّ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)

5796 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ فِي سَاقَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُمُوشَةٌ، وَكَانَ لَا يَضْحَكُ إِلَّا تَبَسُّمًا، وَكُنْتُ إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ قُلْتُ: أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ، وَلَيْسَ بِأَكْحَلَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5796 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ فِي سَاقَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُمُوشَةٌ) ، بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ أَيْ: دِقَّةٌ وَلَطَافَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِسَائِرِ أَعْضَائِهِ (وَكَانَ لَا يَضْحَكُ) أَيْ: فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ (إِلَّا تَبَسُّمًا) ، وَهُوَ مُقَدِّمَةُ الضَّحِكِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَ التَّبَسُّمُ مِنَ الضَّحِكِ وَاسْتِثْنَاءً مِنْهُ، فَإِنَّ التَّبَسُّمَ مِنَ الضَّحِكِ بِمَنْزِلَةِ السِّنَةِ مِنَ النَّوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19] أَيْ شَارِعًا فِي الضَّحِكِ، (وَكُنْتُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَوْ رُوِيَ بِالْخِطَابِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ (إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ) أَيْ: رَأَيْتُهُ (قُلْتُ) أَيْ: فِي ضَمِيرِي. (أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ) ، أَيْ هُوَ مُكَحَّلُ الْعَيْنِ (وَلَيْسَ بِأَكْحَلَ) . بَلْ كَانَتْ عَيْنُهُ كَحْلَاءَ مِنْ غَيْرِ اكْتِحَالٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَقَوْلُهُ: كَانَ لَا يَضْحَكُ إِلَّا تَبَسُّمًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ أَيْضًا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5797 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ، إِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5797 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الشَّمَائِلِ: أَفْلَجَ الثَّنَايَا. وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَلَجُ بِالتَّحْرِيكِ فُرْجَةٌ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرَّبَاعِيَاتِ وَالْفَرْقُ فُرْجَةٌ بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ اهـ. كَلَامُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتُعْمِلَ فَلَجٌ مَوْضِعَ فَرْقٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ عَدَمُ الْفَرْقِ حَيْثُ قَالَ: الْفَلَجُ بِالتَّحْرِيكِ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَتَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ وَهُوَ أَفْلَجُ الْأَسْنَانِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْأَسْنَانِ يَعْنِي لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ (إِذَا تَكَلَّمَ) : رَوَى مَجْهُولٌ (رُئِيَ) أَيْ: أُبْصِرَ (كَالنُّورِ) أَيْ: شَيْءٌ مِثْلُ النُّورِ (يَخْرُجُ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ يَظْهَرُ (مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ) . وَهُوَ إِمَّا أَنْ يُرَادَ لَهُ كَلَامُهُ النُّورَانِيُّ، أَوْ أَمْرٌ زَائِدٌ يُدْرِكُهُ الذَّوْقُ الْوِجْدَانِيُّ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يُحَدِّثُ حَدِيثًا إِلَّا تَبَسَّمَ» ، وَلَعَلَّ الْعَارِفَ بْنَ الْعَارِضِ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكَ بِهَا صَرْفًا فَإِنْ شِئْتَ مَزْجَهَا ... فَعَدْلُكَ عَنْ ظُلْمِ الْحَبِيبِ هُوَ الظُّلْمُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي يَخْرُجُ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ تَكَلُّمٌ، وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى النُّورِ، وَالْكَافُ زَائِدَةٌ نَحْوَ قَوْلِكَ: مِثْلُكَ يَجُودُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَشْبِيهٌ وَجْهُهُ الْبَيَانُ وَالظُّهُورُ، كَمَا سُمِّيَتِ الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالنُّورِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا تَشْبِيهَ فِيهِ، فَيَكُونُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

5798 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5798 - (وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سُرَّ) : بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: فَرِحَ وَصَارَ مَسْرُورًا (اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ) ، لَعَلَّ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى مَنْ نَظَرَ إِلَى أَصْلِ الْقَمَرِ مِنَ الْكِبَرِ، لَا بِحَسَبِ بَادِئِ الرَّأْيِ فِي النَّظَرِ. (وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ) . أَيْ مِنْ عَادَتِهِ أَوْ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِي، بَلْ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنَّا. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ أَيْ كَانَ ظَاهِرًا جَلِيًّا لَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ ذِي بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5799 - وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهُ، فَوَجَدَ أَبَاهُ عِنْدَ رَأْسِهِ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا يَهُودِيٌّ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ نَعْتِي وَصِفَتِي وَمَخْرَجِي؟ ". قَالَ: لَا، قَالَ الْفَتَى: بَلَى وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَجِدُ لَكَ فِي التَّوْرَاةِ نَعْتَكَ وَوَصْفَكَ وَمَخْرَجَكَ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: " أَقِيمُوا هَذَا مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ، وَلُوا أَخَاكُمْ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5799 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ غُلَامًا) ، أَيْ: وَلَدًا (يَهُودِيًّا) أَيْ: وَاحِدًا مِنَ الْيَهُودِ (كَانَ يَخْدُمُ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَيُكْسَرُ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرِضَ) أَيِ: الْغُلَامُ (فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهُ) ، تَوَاضُعًا وَجَزَاءً وَرَجَاءً (فَوَجَدَ أَبَاهُ عِنْدَ رَأْسِهِ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ) ، أَيْ بَعْضًا مِنْهَا، كَمَا يُقْرَأُ سُورَةُ يس عِنْدَنَا حَالَةَ النَّزْعِ (فَقَالَ لَهُ) أَيْ: لِأَبِيهِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا يَهُودِيٌّ أَنْشُدُكَ) : بِضَمِّ الشِّينِ أَيْ: أُقْسِمُ عَلَيْكَ (بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ) أَيْ: فِي بَعْضِ آيَاتِهَا (نَعْتِي) أَيْ: بِاعْتِبَارِ ذَاتِي وَخَلْقِي (وَصِفَتِي) أَيْ: بِاعْتِبَارِ أَفْعَالِي وَأَحْوَالِي (وَمَخْرَجِي) أَيْ: مَكَانَ خُرُوجِي، أَوْ زَمَانَهُ مِنْ وِلَادَةٍ أَوْ بَعْثَةٍ أَوْ هِجْرَةٍ. (قَالَ: لَا. قَالَ الْفَتَى) أَيِ: الْغُلَامُ (بَلَى، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَجِدُ لَكَ فِي التَّوْرَاةِ نَعْتَكَ وَوَصْفَكَ) : وَفِي نُسَخٍ صَحِيحَةٍ وَصِفَتَكَ (وَمَخْرَجَكَ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: (أَقِيمُوا هَذَا) أَيْ: أَبَاهُ (مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ، وَلُوا أَخَاكُمْ) : الْوَاوُ لِلْعَطْفِ! عَلَى أَقِيمُوا. وَلُوا: أَمْرُ مُخَاطَبٍ مِنْ وَلِيَ الْأَمْرَ يَلِيهِ إِذَا تَوَلَّاهُ أَيْ: كُونُوا وَلِيَّ أَمْرِ أَخِيكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَوَلَّوْا أَمْرَ تَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ، وَبَعْضُ مُحَدِّثِي زَمَانِنَا: قَرَأَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ شَرْطٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

5800 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5800 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» ) . بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: مَا أَنَا إِلَّا رَحْمَةٌ لِلْعَالِمِينَ أَهْدَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ قَبِلَ هَدِيَّتَهُ أَفْلَحَ وَظَفِرَ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ خَابَ وَخَسِرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَكَذَا ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مُرْسَلًا، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا.

[باب في أخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم]

[بَابٌ فِي أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]

بَابٌ فِي أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5801 - «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلَا لِمَ صَنَعْتَ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابٌ فِي أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّهَايَةِ: الْخُلُقُ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا الدِّينُ وَالطَّبْعُ وَالسَّجِيَّةُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لِصُورَةِ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ نَفْسُهُ وَأَوْصَافُهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَفْقِ كَصُورَتِهَا الظَّاهِرَةِ وَأَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا، وَلَهُمَا أَوْصَافٌ حَسَنَةٌ وَقَبِيحَةٌ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالشَّمَائِلُ جَمْعُ شِمَالٍ وَهُوَ الْخُلُقُ انْتَهَى. وَالشِّمَالُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الطَّبْعِ لَا بِمَعْنَى الْيَسَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48] وَلَا بِالْفَتْحِ وَالْهَمْزِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الرِّيحِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْبَابِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5801 - ( «عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ» ) ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: تِسْعَ سِنِينَ (فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِ الْمَكْسُورَةِ، وَهِيَ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ مُتَوَاتِرَاتٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ عَشْرُ لُغَاتٍ: أُفِّ بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا بِلَا تَنْوِينٍ، وَبِالتَّنْوِينِ ثَلَاثَةٌ أُخَرُ. وَأُفْ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ، وَإِفَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَأُفِّي، وَأُفَّهْ بِضَمِّ هَمْزَتِهِمَا. قَالَ شَارِحٌ: وَهِيَ كَلِمَةُ تَبَرُّمٍ أَيْ مَا قَالَ لِي مَا فِيهِ تَبَرُّمٌ وَمَلَالٌ. (وَلَا لِمَ صَنَعْتَ) أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ صَنَعْتَ هَذَا بِالْفِعْلِ (وَلَا أَلَّا) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ هَلَّا (صَنَعْتَ) ، أَيْ لِمَ لَا فَعَلْتَ هَذَا الْأَمْرَ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ، وَكُنْتُ مَأْمُورًا بِهِ لِمَ لَا صَنَعْتَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أُفٍّ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَتَضَجَّرُ وَأَكْرَهُ، وَحَرْفُ التَّحْضِيضِ فِي الْمَاضِي أَفَادَ التَّنْدِيمَ كَمَا فِي الْمُضَارِعِ يُفِيدُ التَّحْرِيضَ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ اعْتِرَاضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا خَالَفَ أَمْرَهُ إِنَّمَا يُفْرَضُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِدْمَةِ وَالْآدَابِ، لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ فِيهِ، وَفِيهِ أَيْضًا مَدْحُ أَنَسٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ أَمْرًا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِرَاضٌ مَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَزَادَ: (قَطُّ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (أُفٍّ) ثُمَّ قَالَ: «وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ» ؟

5802 - وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي قَالَ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: يَا أُنَيْسُ ذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ. قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5802 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا» ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيَسْكُنُ اللَّامُ أَيْ عِشْرَةً (فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا، لِحَاجَةٍ، قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ) ، أَيْ بِلِسَانٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْوَقْتَ الْآتِيَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَفِي نَفْسِي) أَيْ: وَفِي قَلْبِي وَجَنَانِي (أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ لِأَجْلِ أَمْرِهِ إِيَّايَ بِهِ (فَخَرَجْتُ) أَيْ عَلَى قَصْدِ الذَّهَابِ إِلَيْهِ (حَتَّى أَمَرَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَتَّى نَاصِبَةً بِمَعْنَى " كَيْ " قُلْتُ: لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ الْمَعْنَى إِذِ الْمُرَادُ أَنِّي خَرَجْتُ أَذْهَبُ إِلَى أَنْ مَرَرْتُ فِي طَرِيقِي (عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَهُمْ إِمَّا لِلَّعِبِ أَوْ لِلتَّفَرُّجِ، وَلِذَا قَالَ: (فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَبَضَ) أَيْ أَخَذَ (بِقَفَايَ) : وَالْقَفَا بِالْقَصْرِ مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ فَقَوْلُهُ: (مِنْ وَرَائِي) ، لِلتَّأْكِيدِ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِقَبَضَ (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، وَقَالَ: " يَا أُنَيْسُ ") تَصْغِيرُ أَنَسٍ لِلشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ (" ذَهَبْتَ ") أَيْ: أَذَهَبْتَ (" حَيْثُ أَمَرْتُكَ "؟ قُلْتُ: نَعَمْ) . بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ شَرَعَ فِي الذَّهَابِ فَقَوْلُهُ: (أَنَا أَذْهَبُ) أَيِ: الْآنَ أُكْمِلُ الذَّهَابَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) ! قَالَ شَارِحٌ: إِنَّمَا قَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ كَالْمَوْجُودِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ جَزَمَ الْعَزْمَ عَلَى الذَّهَابِ، أَوْ لِأَنَّ ذَهَبْتَ فِي السُّؤَالِ فِي مَعْنَى أَتَذْهَبُ لِعِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ مَا ذَهَبَ أَنَسٌ إِلَى تِلْكَ الْحَاجَةِ، وَاقْتَصَرَ الطِّيبِيُّ عَلَى الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ وَأَمْثَالُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا غَيْرَ مُكَلَّفٍ قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَلِذَا مَا أَدَّبَهُ بَلْ دَاعَبَهُ، وَأَخَذَ بِقَفَاهُ وَهُوَ يَضْحَكُ رِفْقًا بِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5803 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً وَرَجَعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَحْرِ الْأَعْرَابِيِّ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5803 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ) أَيْ: ثَوْبٌ مُخَطَّطٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (نَجْرَانِيٌّ) : بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ جِيمٍ مَنْسُوبٌ إِلَى نَجْرَانَ بَلَدٍ بِالْيَمَنِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ، (غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ) ، أَيِ الطَّرْفِ (فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ) ، أَيْ لَحِقَهُ (مِنْ وَرَائِهِ فَجَبَذَهُ) أَيْ: فَجَذَبَ الْأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِدَائِهِ (جَبْذَةً شَدِيدَةً) ، وَالْجَبْذُ: لُغَةٌ فِي الْجَذْبِ، وَقِيلَ: هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْهُ (وَرَجَعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَحْرِ الْأَعْرَابِيِّ) أَيْ: فِي صَدْرِهِ وَمُقَابِلِهِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيِ: اسْتَقْبَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْرَهُ اسْتِقْبَالًا تَامًّا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَتَأَثَّرْ مِنْ سُوءِ أَدَبِهِ. (حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَهُوَ مَوْضِعُ أَدَاءٍ مِنَ الْمَنْكِبِ (قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا) أَيْ: فِي صَفْحَتِهِ. (حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبِهِ) ، قُلْتُ: وَصَدَقَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] . (ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ) ! وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، فَلِذَلِكَ فَعَلَ مَا فَعَلَهُ، ثُمَّ خَاطَبَهُ بِاسْمِهِ قَائِلًا عَلَى وَجْهِ الْعُنْفِ مُقَابِلًا لِبَحْرِ اللُّطْفِ (مُرْ لِي) أَيْ: مُرْ وُكَلَاءَكَ بِأَنْ يُعْطُوا لِي أَوْ مُرْ بِالْعَطَاءِ لِأَجْلِي (مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ) ، أَيْ مِنْ غَيْرِ صَنِيعٍ لَكَ فِي إِعْطَائِكَ، كَمَا صَرَّحَ فِي رِوَايَةٍ حَيْثُ قَالَ: لَا مِنْ مَالِكَ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَالُ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصْرَفُ بَعْضُهُ إِلَى الْمُؤَلَّفَةِ، (فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ فَنَظَرَ إِلَيْهِ تَعَجُّبًا (ثُمَّ ضَحِكَ) ، أَيْ تَلَطُّفًا (ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ) . وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ احْتِمَالِ الْوَالِي مِنْ أَذَى قَوْمِهِ، وَفِيهِ دَفْعُ الْمَالِ حِفْظًا عَلَى عِرْضِ الرِّجَالِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5804 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ وَفِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5804 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ» ) ، أَيْ خَلْقًا وَخُلُقًا، وَصُورَةً وَسِيرَةً، وَنَسَبًا وَحَسَبًا، وَمُعَاشَرَةً وَمُصَاحَبَةً، (وَأَجْوَدَ النَّاسِ) ، أَيْ أَكْثَرَهُمْ كَرَمًا وَسَخَاوَةً (وَأَشْجَعَ النَّاسِ) أَيْ: قُوَّةً وَقَلْبًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] عَلَى الْقِتَالِ، وَلِذَا كَانَ يَرْكَبُ الْبَغْلَ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْكَرُّ. (وَلَقَدْ فَزِعَ) : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ خَافَ (أَهْلُ الْمَدِينَةِ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَزِعَ النَّاسُ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيِ: اسْتَغَاثُوا. يُقَالُ: فَزِعَ مِنْهُ بِالْكَسْرِ أَيْ خَافَ، وَفَزِعَ إِلَيْهِ أَيِ اسْتَغَاثَ كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ لَهُ. (ذَاتَ لَيْلَةٍ) أَيْ: حَيْثُ سَمِعُوا أَصْوَاتًا أَنْكَرُوهَا، (فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: إِلَى جَانِبِهِ (فَاسْتَقْبَلَهُمْ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ حَالَ كَوْنِهِ (قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ) أَيْ: إِلَى نَحْوِهِ وَتَحَقَّقَ عَدَمُ الْفَزَعِ عِنْدَهُ، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: الضَّمِيرُ فِي (فَاسْتَقْبَلَهُمْ) رَاجِعٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الصَّوْتُ الَّذِي فَزِعَ مِنْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، يَعْنِي الْقَوْمَ. قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّاسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ الَّذِينَ خَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ. قُلْتُ: بَلْ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِقَوْلِهِ: (وَهُوَ يَقُولُ: " لَمْ تُرَاعُوا ") ، بِضَمِّ التَّاءِ وَالْعَيْنِ مَجْهُولٌ مِنَ الرَّوْعِ بِمَعْنَى الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ، أَيْ: تَخَافُوا وَلَمْ تَفْزَعُوا، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْجَحْدِ مُبَالَغَةً فِي النَّفْيِ، وَكَأَنَّهُ مَا وَقَعَ الرَّوْعُ وَالْفَزَعُ قَطُّ (" لَمْ تُرَاعُوا ") : كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا أَوْ كُلٌّ لِخِطَابِ قَوْمٍ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَيُرْوَى لَنْ تُرَاعُوا، وَالْعَرَبُ تَضَعُ لَمْ وَلَنْ مَوْضِعَ " لَا " انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خَبَرًا فِي مَعْنَى النَّهْيِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ.

يَكُونُ خَبَرًا فِي مَعْنَى النَّهْيِ " وَأَمَّا عَلَى هَذَا فَيَكُونُ نَهْيًا عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ فِي أَوْثَقِ الرِّوَايَاتِ لَنْ تُرَاعُوا أَيْ: لَا خَوْفَ وَلَا فَزَعَ فَاسْكُنُوا يُقَالُ: رِيعَ فُلَانٌ إِذَا فَزِعَ. (وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْهِ سَرْجٌ، نَقُولُ: (مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ) : بَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ أَوِ احْتِرَازٌ مِنْ نَحْوِ: جُلٍّ أَوْ لِجَامٍ، (وَفِي عُنُقِهِ) أَيِ: النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (سَيْفٌ) . أَيْ مُتَقَلِّدٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ السَّيْفِ أَيْ فِي جِيدِ الْفَرَسِ حَبْلٌ مِنْ لِيفِ السَّعَفِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَارِحٌ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا فِي الْمَبْنَى (فَقَالَ: " لَقَدْ وَجَدْتُهُ ") أَيِ: الْفَرَسَ (" بَحْرًا ") . أَيْ جَوَادًا وَسَرِيعَ الْجَرْيِ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَلِكَ الْفَرَسُ الْمَنْدُوبَ بِمَعْنَى الْمَطْلُوبِ، وَكَانَ بَطِيئًا ضَيِّقَ الْجَرْيِ، فَانْقَلَبَ حَالُهُ بِبَرَكَةِ رُكُوبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُشَبَّهُ الْفَرَسُ إِذَا كَانَ جَوَادًا بِالْبَحْرِ لِاسْتِرَاحَةِ رَاكِبِهِ بِهِ كَرَاكِبِ الْمَاءِ إِذَا كَانَتِ الرِّيحُ طَيِّبَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ بَيَانُ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ جَلِيلِ الصِّفَاتِ، وَفِيهِ مُعْجِزَةُ انْقِلَابِ الْفَرَسِ سَرِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ بَطِيئًا، وَفِيهِ جَوَازُ سَبْقِ الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ فِي كَشْفِ أَخْبَارِ الْعَدُوِّ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بِالْهَلَاكِ، وَجَوَازُ الْعَارِيَةِ، وَجَوَازُ الْغَزْوِ عَلَى فَرَسِ الْمُسْتَعَارِ، وَاسْتِحْبَابُ تَقَلُّدِ السَّيْفِ فِي الْعُنُقِ، وَتَبْشِيرُ النَّاسِ بَعْدَ الْخَوْفِ إِذَا ذَهَبَ.

5805 - وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ: لَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5805 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا سُئِلَ) أَيْ: مَا طُلِبَ مِنْ (رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ: لَا) . أَيْ لَا أُعْطِيهِ، بَلْ إِمَّا أَعْطَى أَوِ اعْتَذَرَ وَدَعَا أَوْ وَعَدَ لَهُ فِيمَا تَمَنَّى عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ رَحِيمًا، فَكَانَ لَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ إِلَّا وَعَدَهُ وَأَنْجَزَ لَهُ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، هَذَا وَكَانَ يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَنْفِقْ يَا بِلَالُ " وَقِيلَ: " بِلَالًا وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا» ) . كَمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ بِلَالٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَا أَبْلَغَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ فِي زَيْنِ الْعَابِدِينَ: حَمَّالُ أَثْقَالِ أَقْوَامٍ إِذَا مَدَحُوا ... حُلْوُ الشَّمَائِلِ يَحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ ... لَوْلَا التَّشَهُّدُ لَمْ يَنْطِقْ بِذَاكَ فَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: «كَانَ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ أَوْ سَكَتَ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ.

5806 - وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5806 - (وَعَنْ أَنَسٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ) ، أَيْ قِطْعَةَ غَنَمٍ تَمْلَأُ مَا بَيْنَهُمَا (أَعْطَاهُ اللَّهُ) ، أَيْ مَطْلُوبَهُ عَلَى وَجْهٍ تَمَنَّاهُ (فَأَتَى قَوْمَهُ) ، أَيْ مُتَعَجِّبًا مِنْ كَرَمِهِ الدَّالِّ عَلَى كَمَالِ تَوَكُّلِهِ وَزُهْدِهِ (فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ) أَيْ يَا قَوْمِ (أَسْلِمُوا) أَيْ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِي إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ (فَوَاللَّهِ، إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً) أَيْ: عَظِيمًا (مَا يَخَافُ الْفَقْرَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يُعْطِي، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِعَطَاءِ اللَّهِ عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ مَعَهُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ دَلَّ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى وُجُوبِ الْإِسْلَامِ؟ قُلْتُ: مَقَامَ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ مَعَ إِعْطَاءِ الْجَزِيلِ يَدُلُّ عَلَى وُثُوقِهِ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَى دَعْوَةِ الْخَلْقِ، فَإِنَّ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ خَوْفَ الْفَقْرِ. قَالَ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5807 - «وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَتِ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدَ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمٌ لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5807 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، بَيْنَمَا هُوَ) أَيْ: جُبَيْرٌ (يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْفَلَهُ) : مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَوِ اسْمُ زَمَانٍ مِنْ قَفَلَ كَنَصَرَ وَرَجَعَ قُفُولًا رَجَعَ أَيْ: عِنْدَ رُجُوعِهِ أَوْ وَقْتَ رُجُوعِهِ (مِنْ حُنَيْنٍ) ، بِالتَّصْغِيرِ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ (فَعَلِقَتْ) : بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ نَشِبَتِ (الْأَعْرَابُ) : أَوْ طَفِقَتْ (يَسْأَلُونَهُ) أَيْ: يَطْلُبُونَهُ مِنَ الْعَطَايَا

وَالْمَطَايَا (وَهُوَ يُعْطِيهِمْ) : أَوْ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ (حَتَّى اضْطَرُّوهُ) أَيْ: أَلْجَئُوهُ (إِلَى سَمُرَةٍ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ أَيْ: شَجَرَةِ طَلْحٍ (فَخَطَفَتْ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ أَخَذَتِ السُّمْرَةُ بِسُرْعَةٍ (رِدَاءَهُ) : حَيْثُ تَعَلَّقَتْ بِهِ، وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: سَلَبَتِ انْتَهَى. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْأَعْرَابِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَوَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَعْطُونِي رِدَائِي) ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: أَيْ عَلَّقَ رِدَاءَهُ بِهَا فَاسْتُعِيرَ لَهَا الْخَطْفُ، (" لَوْ كَانَ لِي عَدَدَ هَذِهِ الْعِضَاهِ ") : بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْهَاءِ فِي الْآخِرِ أُمُّ غَيْلَانَ، وَقِيلَ: كُلُّ شَجَرٍ يَعْظُمُ وَلَهُ شَوْكٌ وَاحِدَةٌ عِضَاهَةٌ وَعِضَةٌ بِحَذْفِ الْهَاءِ الْأَصْلِيَّةِ، كَمَا حُذِفَ مِنَ الشَّفَهِ، وَعَدَدَ: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ يَعُدُ عَدَدَهَا، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِعَدَدِهَا أَوْ كَعَدَدِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ (" نَعَمْ ") : بِفَتْحَتَيْنِ، وَفِي الْقَامُوسِ: النَّعَمُ وَقَدْ تُكْسَرُ عَيْنُهُ الْإِبِلُ وَالشَّاءُ أَوْ خَاصٌّ بِالْإِبِلِ وَجَمْعُهُ أَنْعَامٌ. قُلْتُ: وَيَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] حَيْثُ يُرَادُ بِهَا أَصْنَافُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ (" لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ") ، أَيْ لِزُهْدِي فِي النَّعَمِ وَتَرْكِي لِلنِّعَمِ وَطَلَبِي قُرْبَ الْمُنْعِمِ (" ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا ") : ثُمَّ هُنَا بِمَعْنَى الْفَاءِ، أَوْ لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ أَيْ: بَعْدَمَا جَرَّبْتُمُونِي فِي الْعَطَاءِ، وَعَرَفْتُمْ طَبْعِي فِي الْوَعْدِ بِالْوَفَاءِ، وَاعْتِمَادِي عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، فَلَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، (" وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا ") ، وَقَالَ الْمَظْهَرُ أَيْ: إِذَا جَرَّبْتُمُونِي فِي الْوَقَائِعِ لَا تَجِدُونِي مُتَّصِفًا بِالْأَوْصَافِ الرَّذِيلَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْرِيفِ نَفْسِهِ بِالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ لِيَعْتَمِدَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ هُنَا لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ يَعْنِي أَنَا فِي ذَلِكَ الْعَطَاءِ لَسْتُ بِمُضْطَرٍّ إِلَيْهِ، بَلْ أُعْطِيهِ مَعَ أَرْيَحِيَّةِ نَفْسٍ وَوُفُورِ نَشَاطٍ، وَلَا بِكَذُوبٍ أَدْفَعُكُمْ عَنْ نَفْسِي، ثُمَّ أَمْنَعُكُمْ عَنْهُ، وَلَا بِجَبَانٍ أَخَافُ أَحَدًا، فَهُوَ كَالتَّتْمِيمِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5808 - وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ خَدَمُ الْمَدِينَةِ بِآنِيَتِهِمْ فِيهَا الْمَاءُ فَمَا يَأْتُونَ إِنَاءً إِلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيهَا فَرُبَّمَا جَاءُوهُ بِالْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ فَيَغْمِسُ يَدَهُ فِيهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5808 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ) أَيِ: الْفَجْرَ (جَاءَ) : وَفِي الْجَامِعِ جَاءَهُ (خَدَمُ الْمَدِينَةِ) : جَمْعُ خَادِمٍ مِنْ غُلَامٍ أَوْ جَارِيَةٍ (بِآنِيَتِهَا) : جَمْعُ إِنَاءٍ (فِيهَا الْمَاءُ) ، أَيْ فَيَطْلُبُونَ الْبَرَكَةَ وَالنَّمَاءَ وَالْعَافِيَةَ وَالشِّفَاءَ (فَمَا يَأْتُونَ) : وَفِي الْجَامِعِ فَمَا يُؤْتَى (بِإِنَاءٍ إِلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيهَا) ، أَيْ تَطْيِيبًا لِخَوَاطِرِهِمْ وَتَحْصِيلًا لِمَقَاصِدِهِمْ (فَرُبَّمَا جَاءُوهُ بِالْغَدَاةِ) أَيْ: فِي الْغَدْوَةِ (الْبَارِدَةِ فَيَغْمِسُ يَدَهُ فِيهَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تُكَلُّفُ الْمَشَاقِّ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ النَّاسِ، لَا سِيَّمَا مَعَ الْخَدَمِ وَالضُّعَفَاءِ، وَلِيَتَبَرَّكُوا بِإِدْخَالِ يَدِهِ الْكَرِيمَةِ فِي أَوَانِيهِمْ، وَبَيَانُ تَوَاضُعِهِ مَعَ الضُّعَفَاءِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْجَامِعِ عَنْهُمَا بِدُونِ قَوْلِهِ: فَرُبَّمَا إِلَى آخِرِهِ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ أَرْحَمَ النَّاسِ بِالصِّبْيَانِ وَالْعِيَالِ» . وَفِي الْجَامِعِ: كَانَ مِمَّا يَقُولُ لِلْخَادِمِ " أَلَكَ حَاجَةٌ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ.

5809 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كَانَتْ أَمَةٌ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5809 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: كَانَتْ أَمَةٌ) أَيْ: جَارِيَةٌ (مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أَيْ: فَرْضًا وَتَقْدِيرًا تَأْخُذُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ لَازِمُهُ وَهُوَ الرِّفْقُ (فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ) . أَيْ: وَلَوْ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ تَوَاضُعِهِ مَعَ الْخَلْقِ وَنِهَايَةِ تَسْلِيمِهِ مَعَ الْحَقِّ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5810 - وَعَنْهُ، «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَّةً فَقَالَ يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5810 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ) أَيْ مِنَ الْخِفَّةِ أَوِ الْجَذْبَةِ (فَقَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً) ، أَيْ خَفِيَّةً عَنِ النَّاسِ (فَقَالَ: " يَا أُمَّ فُلَانٍ! انْظُرِي) أَيْ: تَفَكَّرِي أَوْ أَبْصِرِي (" أَيَّ السِّكَكِ ") : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ السِّكَّةِ وَهِيَ الزُّقَاقُ (" شِئْتِ ") أَيْ: أَرَدْتِ إِحْضَارِي فِيهِ (" حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ) .

أَيْ كَيْ أُحَصِّلَ لَكِ مَقْصُودَكِ وَمُرَادَكِ (فَخَلَا) أَيْ: مَضَى (مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ) ، أَيْ وَوَقَفَ مَعَهَا وَسَمِعَ كَلَامَهَا وَرَدَّ جَوَابَهَا (حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا) . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي زُقَاقٍ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْخَلْوَةِ مَعَهَا فِي بَيْتٍ عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ بَعْضَ الْأَصْحَابِ كَانُوا وَاقِفِينَ بَعِيدًا عَنْهُمَا مُرَاعَاةً لِحُسْنِ الْأَدَبِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5811 - وَعَنْهُ، قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحِشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا سَبَّابًا كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5811 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحِشًا) أَيْ: آتِيًا بِالْفُحْشِ مِنَ الْفِعْلِ (وَلَا لَعَّانًا وَلَا سَبَّابًا) ، الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا نَفْيُ اللَّعْنِ وَالسَّبِّ، وَكُلِّ مَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْفُحْشِ الْقَوْلِيِّ، لَا نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ فِيهِمَا، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَادَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِيهِمَا، فَنَفَاهُمَا عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُهُمَا مُطْلَقًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آخِرُ كَلَامِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: بِنَاءُ فَعَّالٍ لِلتَّكْثِيرِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ، وَنَفْيُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ اللَّعْنِ وَالسَّبِّ مُطْلَقًا. قُلْتُ: الْمَفْهُومُ هَا هُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي مَدْحِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ أُرِيدَ التَّكْثِيرُ فَيُعْتَبَرُ الْكَثْرَةُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: لَيْسَ بِلَاعِنٍ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّعْنَ بَلَغَ فِي الْعِظَمِ بِحَيْثُ لَوْلَا الِاسْتِحْقَاقُ لَكَانَ اللَّاعِنُ بِمِثْلِهِ لَعَّانًا بَلِيغَ اللَّعْنِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182] قُلْتُ: الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ: فَعَّالٌ لِلنِّسْبَةِ كَتَمَّارٍ وَلَبَّانٍ أَيْ: لَيْسَ اللَّهُ بِذِي ظُلْمٍ مُطْلَقًا وَلَا رَسُولُهُ بِصَاحِبِ لَعْنٍ وَلَا سَبٍّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا مِنَ الْكُفَّارِ أَوِ الْفُجَّارِ، لِكَوْنِهِ فِي الرَّحْمَةِ، وَلِذَا اسْتَأْنَفَ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: (كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرِهَا أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَلَامَةِ وَالْعِتَابِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَبِمَعْنَى الْغَضَبِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ، وَاخْتَارَهُ شَارِحٌ وَالْمَعْنَى غَايَةُ مَا يَقُولُهُ عِنْدَ الْمُعَاتَبَةِ، أَوِ الْمُخَاصَمَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُعْرِضًا عَنْهُ غَيْرُ مُخَاطِبٍ لَهُ (" مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ) ؟ وَهِيَ أَيْضًا ذَاتُ وَجْهَيْنِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَى الْمَقُولِ لَهُ بِمَعْنَى رَغِمَ أَنْفُكَ، وَأَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَهُ بِمَعْنَى سَجَدَ لِلَّهِ وَجْهُكَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5812 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5812 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: " إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا» ") ، أَيْ وَلَوْ عَلَى جَمَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنَ الْكَافِرِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران: 128] (" وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ") أَيْ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَلِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، مُتَخَلِّقًا بِوَصْفِي الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَمَّا لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا لِلْكَافِرِينَ فَلِأَنَّ الْعَذَابَ رُفِعَ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] أَقُولُ: بَلْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ مُرْتَفِعٌ عَنْهُمْ بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُقَرِّبَ النَّاسَ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَحْمَتِهِ، وَمَا بُعِثْتُ لِأُبْعِدَهُمْ عَنْهَا، فَاللَّعْنُ مُنَافٍ لِحَالِي فَكَيْفَ أَلْعَنُ؟ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ كَرِيزِ بْنِ شَامَةَ قَوْلَهُ: " «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا» ". وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " «إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً وَلَمْ أُبْعَثْ عَذَابًا» ".

5813 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئًا - يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5813 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ» ) أَيِ: الْبِكْرِ فِي خِدْرِهَا) ، بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ فِي سِتْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ تَتْمِيمٌ فَإِنَّ الْعَذْرَاءَ إِذَا كَانَتْ فِي خِدْرِهَا أَشَدُّ حَيَاءً مِمَّا إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً عَنْهُ (فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ) أَيْ: مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ (عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ) . أَيْ مِنْ أَثَرِ التَّغَيُّرِ فَأَزَلْنَاهُ، فَإِنَّهُ مَا كَانَ يُعَايِنُ أَحَدًا بِخُصُوصِهِ فِي أَمْرِ الْكَرَاهَةِ دُونَ الْحُرْمَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُكْرَهُ لِحَيَائِهِ بَلْ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ، فَنَفْهَمُ كَرَاهِيَتَهُ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْحَيَاءِ وَأَنَّهُ مَحْثُوثٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الضَّعْفِ وَالْخَوْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5814 - «وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5814 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَجْمِعًا) : بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ (قَطُّ ضَاحِكًا) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ ضَاحِكًا كُلَّ الضَّحِكِ، يُقَالُ: اسْتَجْمَعَ الْفَرَسُ جَرْيًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا ضَاحِكًا وُضِعَ مَوْضِعَ ضَحِكًا عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: اسْتَجْمَعَ السَّيْلُ اجْتَمَعَ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَاسْتَجْمَعَتْ لِلْمَرْءِ أُمُورُهُ وَهُوَ لَازِمٌ، وَقَوْلُهُمُ: اسْتَجْمَعَ الْفَرَسُ جَرْيًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَ الْجُمُعَةِ، فَلَيْسَ بِثَبْتٍ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى مَا رَأَيْتُهُ ضَاحِكًا كُلَّ الضَّحِكِ بِجَمِيعِ الْفَمِ. (حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ) ، بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ لَهَاةٍ وَهِيَ لَحْمَةٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى أَقْصَى الْفَمِ مِنْ سَقْفِهِ، (وَإِنَّمَا كَانَ) أَيْ: غَالِبًا (يَتَبَسَّمُ. وَرُبَّمَا يَضْحَكُ) : لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَبِهَذَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ.

5815 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5815 - (وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ) : بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: لَمْ يَكُنْ يُتَابِعُ (الْحَدِيثَ) أَيِ: الْكَلَامَ (كَسَرْدِكُمْ) ، أَيِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَكُمْ مِنْ كَمَالِ اتِّصَالِ أَلْفَاظِكُمْ، بَلْ كَانَ كَلَامُهُ فَصْلًا بَيِّنًا وَاضِحًا لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِالْبَلَاغِ الْمُبِينِ كَمَا بَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا: (كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ) أَيْ: لَوْ أَرَادَ عَدَّهُ مُرِيدُ الْعَدِّ لَأَحْصَاهُ أَيْ بِعَدِّهِ وَاسْتَقْصَاهُ، وَفِي وَضْعٍ أَحْصَاهُ مَوْضِعَ عَدَّهُ مُبَالَغَةً لَا تَخْفَى، فَإِنَّ أَصْلَ الْإِحْصَاءِ هُوَ الْعَدُّ بِالْحَصَى، وَلَا شَكَّ فِي حُصُولِ الْمُهْلَةِ عِنْدَ عَدِّهِ مِنْ رَفْعِهِ وَحَطِّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ يُقَالُ: فُلَانٌ سَرَدَ الْحَدِيثَ إِذَا تَابَعَ الْحَدِيثَ بِالْحَدِيثِ اسْتِعْجَالًا، وَسَرْدُ الصَّوْمِ تَوَالِيهِ، يَعْنِي لَمْ يَكُنْ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَتَابِعًا بِحَيْثُ يَأْتِي بَعْضُهُ إِثْرَ بَعْضٍ، فَيَلْتَبِسُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ، بَلْ كَانَ يَفْصِلُ كَلَامَهُ لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَمِعُ عِنْدَهُ أَمْكَنَهُ، فَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ وَاضِحٍ مَفْهُومٍ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالْبَيَانِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: «كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ» . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا: «كَانَ يُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا لِتُعْقَلَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ.

5816 - وَعَنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مَهْنَةِ أَهْلِهِ بِمَعْنَى خِدْمَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5816 - (وَعَنِ الْأَسْوَدِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ابْنُ هِلَالٍ الْمُحَارِبِيُّ، رَوَى عَنْ عُمَرَ وَمُعَاذٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ) ؟ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ (قَالَتْ: كَانَ) ، أَيْ مِنْ عَادَتِهِ (يَكُونُ) أَيْ: يَسْتَمِرُّ مُشْتَغِلًا (فِي مَهْنَةِ أَهْلِهِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتُكْسَرُ وَبِسُكُونِ الْهَاءِ أَيْ: مَصَالِحِ عِيَالِهِ، وَالْمَهْنَةُ الْخِدْمَةُ وَالِابْتِذَالُ فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الرِّجَالِ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّاوِي: (تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ) أَيْ: أَهْلِ بَيْتِهِ مِمَّنْ يَكُونُ أَهْلًا لِخِدْمَتِهِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْمَهْنَةُ الْخِدْمَةُ وَالرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَدْ تُكْسَرُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ عِنْدَ الْإِثْبَاتِ خَطَأٌ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْمِهْنَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَلَا يُقَالُ مِهْنَةٌ بِالْكَسْرِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ لَوْ قِيلَ مِثْلُ جِلْسَةٍ وَخِدْمَةٍ إِلَّا أَنَّهُ حَلَّ عَلَى فِعْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمِهْنَةُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَالتَّحْرِيكِ وَكَكَلِمَةِ الْحَزْقِ بِالْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ مَهَنَهُ كَمَنَعَهُ وَنَصَرَهُ مَهْنًا وَمَهْنَةً وَيُكْسَرُ خَدَمَهُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمَهْنَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ الْكَسْرَ وَفَسَّرَهَا بِخِدْمَةِ أَهْلِهِ، وَثَبَتَ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي عَنْ شُعْبَةَ، وَأَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْهُ بِدُونِهِ، لَكِنْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي رِوَايَةٍ بِدُونِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي آخِرِهِ تَعْنِي بِالْمِهْنَةِ خِدْمَةَ أَهْلِهِ. (فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ: وَتَرَكَ جَمِيعَ عَمَلِهِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

5817 - وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَمْرَيْنِ. قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ بِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5817 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ) أَيْ: مَا جُعِلَ مُخَيَّرًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ) أَيِ: اخْتَارَ كَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ (أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ) أَيِ: الْأَمْرُ الْأَيْسَرُ (إِثْمًا) أَيْ: ذَا إِثْمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ.

التِّرْمِذِيِّ مَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا أَيْ إِثْمًا أَوْ مَوْضِعَ إِثْمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ، وَإِلَى هُنَا انْتَهَتْ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ. (فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ) ، أَيْ: وَكَانَ حِينَئِذٍ يَأْخُذُ أَرْشَدَهُمَا وَلَوْ أَعْسَرَهُمَا وَأَشَدَّهُمَا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أُبْهِمَ فَاعِلُ خَيْرٍ لِيَكُونَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِينَ، أَوْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّ التَّخْيِيرَ يُبَيِّنُ مَا فِيهِ إِثْمٌ وَيُبَيِّنُ مَا لَا إِثْمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بِمَا يَكُونُ بَيْنَ جَائِزٍ إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى الْإِثْمِ، فَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يُفْتَحَ عَلَيْهِ مِنْ كُنُوزِ الْأَرْضِ مَا يَخْشَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهِ أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُؤْتِيَهِ لَا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا الْكَفَافَ، وَإِنْ كَانَ السَّعَةُ أَسْهَلَ فَالْإِثْمُ عَلَى هَذَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ لَا مَا يُرَادُ بِهِ الْخَطِيئَةُ لِثُبُوتِ الْعِصْمَةِ. (وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مَا غَاضَبَ أَحَدًا لِنَفْسِهِ) أَيْ: لِأَجْلِ حَظِّهَا (فِي شَيْءٍ) أَيْ: يَتَخَلَّقُ بِنَفْسِهِ) ، أَيْ أَبَدًا (إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُرْتَكَبُ (فَيَنْتَقِمُ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ: فَيُعَاقِبُ حِينَئِذٍ (اللَّهُ) أَيْ: لَا لِغَرَضٍ آخَرَ (بِهِمْ) . أَيْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ ثُمَّ انْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ تَنَاوُلُهَا بِمَا لَا يَحِلُّ. يُقَالُ: فُلَانٌ انْتَهَكَ مَحَارِمَ اللَّهِ أَيْ: فَعَلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِعْلَهُ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ: مَا عَاقَبَ أَحَدًا لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ بِجِنَايَةٍ جَنَى عَلَيْهِ، بَلْ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] . قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمَعْنَى مَا انْتَقَمَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، فَلَا يُرَدُّ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَنْتَهِكُونَ حُرُمَاتِ اللَّهِ. وَقِيلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ السَّبِّ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمَالِ، وَأَمَّا الْعِرْضُ فَقَدِ اقْتَصَّ مِمَّنْ نَالَ مِنْهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

5818 - وَعَنْهَا، قَالَتْ «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5818 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا أَيْ: آدَمِيًّا لِأَنَّهُ رُبَّمَا ضَرَبَ مَرْكُوبَهُ (قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، خُصَّا بِالذِّكْرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمَا، وَلِكَثْرَةِ وُقُوعِ ضَرْبِ هَذَيْنِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَضَرْبُهُمَا وَإِنْ جَازَ بِشَرْطِهِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ. قَالُوا بِخِلَافِ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الْأَوْلَى تَأْدِيبُهُ وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ ضَرْبَهُ لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُنْدَبِ الْعَفْوُ بِخِلَافِ ضَرْبِ هَذَيْنِ، فَإِنَّهُ لِحَظِّ النَّفْسِ غَالِبًا فَنُدِبَ الْعَفْوُ عَنْهُمَا مُخَالَفَةً لِهَوَاهَا وَكَظْمًا لِغَيْظِهَا. (إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِأُحُدٍ، ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْغَزْوُ مَعَ الْكُفَّارِ فَقَطْ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْحُدُودُ وَالتَّعَاوُزُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. (وَمَا نِيلَ) : بِكَسْرِ النُّونِ مَجْهُولٌ قَالَ: يُقَالُ: نَالَ مِنْهُ نَيْلًا إِذَا أَصَابَ. وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ رَجُلًا كَانَ يَنَالُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَيْ: يَقَعُ فِيهِمْ وَيُصِيبُ مِنْهُمْ، فَالْمَعْنَى مَا أُصِيبَ مِنْهُ. (شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ) ، أَيْ: مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ: (إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ بِلَفْظِ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً» ، وَالْفَصْلُ الثَّانِي بِلَفْظِ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلَمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ مَا لَمْ يُنْتَهَكْ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ، فَإِذَا انْتُهِكَ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ غَضَبًا» .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5819 - «عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ خَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا لَامَنِي عَلَى شَيْءٍ قَطُّ أَتَى فِيهِ عَلَى يَدَيَّ، فَإِنْ لَامَنِي لَائِمٌ مِنْ أَهْلِهِ قَالَ دَعُوهُ فَإِنَّهُ لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ كَانَ» . هَذَا لَفْظَ الْمَصَابِيحِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5819 - ( «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ» ) بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنْ ثَمَانِي مُضَافًا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ قَالَ عَلَى قَوْلِ الْخِدْمَةِ، وَلِذَا أَطْلَقَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: (خَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا لَامَنِي عَلَى شَيْءٍ قَطُّ أُتِيَ فِيهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُهْلِكَ وَأُتْلِفَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَتَى عَلَيْهِمُ الدَّهْرُ أَيْ أَهْلَكَهُمْ وَأَفْنَاهُمْ، وَضَمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى شَيْءٍ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ أُقِيمَ مَقَامَ الْفِعْلِ أَيْ: مَا لَامَنِي عَلَى شَيْءٍ أُتْلِفَ (عَلَى يَدَيَّ) ، بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أُتِيَ صِفَةُ شَيْءٍ وَضُمِّنَ فِي مَعْنَى عَيْبٍ أَوْ طَعْنٍ، وَعَلَى يَدَيَّ: حَالٌ فِي (فَإِنْ لَامَنِي لَائِمٌ مِنْ أَهْلِهِ قَالَ: " دَعُوهُ ") أَيِ: اتْرُكُوهُ (" فَإِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنُ (" لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ ") . أَيْ لَوْ قُدِّرَ أَمْرٌ لَوَقَعَ (هُنَا لَفْظُ الْمَصَابِيحِ) وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مَعَ تَغْيِيرٍ) أَيْ: (يَسِيرٍ) . يُسَامَحُ فِي مَثَلِهِ.

5820 - وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا سَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5820 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحِشًا» ) أَيْ: ذَا فُحْشٍ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ (وَلَا مُتَفَحِّشًا) أَيْ: مُتَكَلِّفًا فِيهِ وَمُتَعَمِّدًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ الْقَاضِي: نَفَتْ عَنْهُ تَوَلِّيَ الْفُحْشِ وَالتَّفَوُّهَ بِهِ طَبْعًا وَتَكَلُّفًا (وَلَا سَخَّابًا) أَيْ: صَيَّاحًا (فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ) ، أَيْ بَلْ بِالْحَسَنَةِ لِقَوْلِهِ: (وَلَكِنْ يَعْفُو) أَيْ: فِي الْبَاطِنِ (يَصْفَحُ) . أَيْ يُعْرِضُ فِي الظَّاهِرِ عَنْ صَاحِبِ السَّيِّئَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5821 - وَعَنْ أَنَسٍ يُحَدِّثُ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَتَّبِعُ الْجِنَازَةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ عَلَى حِمَارٍ خِطَامُهُ لِيفٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5821 - (وَعَنْ أَنَسٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (يُحَدِّثُ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَتْبَعُ» ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ يَعْقُبُ وَيُشَيِّعُ (الْجَنَازَةَ) ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا (وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ) ، أَيِ الْمَأْذُونِ أَوِ الْمَعْتُوقِ أَوْ إِلَى بَيْتِ مَالِكِهِ (وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ) ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ التَّوَاضُعِ لِلْحَقِّ وَحُسْنِ الْخُلُقِ فِي مُعَاشَرَةِ الْخَلْقِ، (لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ عَلَى حِمَارٍ خِطَامُهُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ زِمَامُهُ (لِيفٌ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُكُوبَ الْحِمَارِ سُنَّةٌ. قُلْتُ: فَمَنِ اسْتَنْكَفَ مِنْ رُكُوبِهِ كَبَعْضِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ جَهَلَةِ الْهِنْدِ، فَهُوَ أَخَسُّ مِنَ الْحِمَارِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَفِي الْجَامِعِ: كَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَعْتَقِلُ الشَّاةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أَنَسٍ: «كَانَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَيَضَعُ طَعَامَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ» . وَفِي رِوَايَةٍ: عُرْيًا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيُرَقِّعُ الْقَمِيصَ، وَيَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَقُولُ: " «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» "،

5822 - «وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ وَقَالَتْ كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ وَيَحْلُبُ شَاتَهُ وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5822 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْصِفُ) : بِكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: يَخْرُزُ وَيُرَقِّعُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْ: يُطْبِقُ طَاقَةً عَلَى طَاقَةٍ، وَأَصْلُ الْخَصْفِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22] أَيْ يُطْبِقَانِ وَرَقَةً وَرَقَةً عَلَى بَدَنِهِمَا. (وَيَخِيطُ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ ثَوْبَهُ، (وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ) ، تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. وَفِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ. (وَقَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ) ، بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ: يَنْظُرُ فِي الثَّوْبِ هَلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقَمْلِ؟ وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا رُوِيَ: مِنْ أَنَّ الْقَمْلَ لَمْ يَكُنْ يُؤْذِيهِ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: يَلْتَقِطُ الْقَمْلَ (وَيَحْلِبُ شَاتَهُ) ، بِضَمِّ اللَّامِ (وَيَخْدِمُ نَفْسَهُ) . بِضَمِّ الدَّالِ وَيُكْسَرُ وَهُوَ تَعْمِيمٌ وَتَتْمِيمٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهَا: كَانَ بَشَرًا تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَتْ مِنِ اعْتِقَادِ الْكَفَّارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ غَيْرُهُ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ وَجَعَلُوهُ كَالْمُلُوكِ؟ فَإِنَّهُمْ يَتَرَفَّعُونَ عَنِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ الدَّنِيَّةِ تَكَبُّرًا، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] فَقَالَتْ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَاحِدًا مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، شَرَّفَهُ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَكَرَّمَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَكَانَ يَعِيشُ مَعَ الْخَلْقِ بِالْخُلُقِ، وَمَعَ الْحَقِّ بِالصِّدْقِ، فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا، وَيُعِينُهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ تَوَاضُعًا وَإِرْشَادًا لَهُمْ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَرَفْعِ التَّرَفُّعِ، وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ، كَمَا أَمَرَ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ. وَفِي الْجَامِعِ: كَانَ يَأْتِي ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَزُورُهُمْ، وَيَعُودُ مَرْضَاهُمْ، وَيَشْهَدُ جَنَائِزَهُمْ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ.

5823 - وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: دَخَلَ نَفَرٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالُوا لَهُ حَدِّثْنَا أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُنْتُ جَارَهُ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بَعَثَ إِلَيَّ فَكَتَبْتُهُ لَهُ فَكَانَ إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الْآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا فَكُلُّ هَذَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5823 - (وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَابِعِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ، أَدْرَكَ زَمَنَ عُثْمَانَ، وَسَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ. (قَالَ: دَخَلَ نَفَرٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقِيلَ: النَّفَرُ عِدَّةُ رِجَالٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ (عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) : وَهُوَ أَبُو خَارِجَةَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، أَفْرَضُ الصَّحَابَةِ، وَأَجَلُّ كَتَبَةِ الْوَحْيِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْقُرَّاءِ، قَرَأَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (فَقَالُوا لَهُ: حَدِّثْنَا أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا مَا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ، وَجَمِيلِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْخَلْقِ. (قَالَ: كُنْتُ جَارَهُ) ، فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قُرْبِهِ إِلَيْهِ حِسًّا وَمَعْنًى، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لَهُ خِبْرَةً بِهِ أَتَمَّ مِنْ غَيْرِهِ (فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بَعَثَ إِلَيَّ) أَيْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَحَدًا يَطْلُبُنِي (فَجِئْتُهُ فَكَتَبْتُهُ) ؟ أَيِ الْوَحْيَ (لَهُ) ، أَيْ لِأَجْلِ أَمْرِهِ (فَكَانَ) أَيْ: مِنْ عَادَتِهِ فِي مُجَامَلَتِهِ وَمُرَاعَاةِ مُصَاحَبَتِهِ (إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا) أَيْ: ذَمًّا أَوْ مَدْحًا لِكَوْنِهَا مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ (ذَكَرَهَا مَعَنَا) أَيْ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِبَارِ، وَفِيمَا يَكُونُ مِنْهَا مُعِينًا عَلَى زَادِ طَرِيقِ دَارِ الْقَرَارِ (وَإِذَا ذَكَرْنَا الْآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا) ، زِيَادَةً عَلَى الْخَيْرِ وَمُعَاوَنَةً عَلَى التَّقْوَى، (وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا) ، وَيُشِيرُ إِلَى فَوَائِدِهِ وَحِكَمِهِ وَلَطَائِفِهِ وَآدَابِ أَكْلِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ يُلَاطِفُهُمْ فِي الْكَلَامِ لِئَلَّا يَحْصُلُ لَهُمُ التَّبَرُّمُ وَالسَّأَمُ، وَيَسُوقُهُمْ فِيمَا يَشْرَعُونَ فِيهِ إِلَى مَا شَرَعَ إِلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْزُنُ لِسَانَهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ، وَأَنَّ مَجْلِسَهُ مَجْلِسُ عِلْمٍ» لِأَنَّ ذِكْرَ الدُّنْيَا وَالطَّعَامِ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ فَوَائِدُ عِلْمِيَّةٌ، أَوْ حُكْمِيَّةٌ، أَوْ أَدَبِيَّةٌ، وَبِتَقْدِيرِ خُلُوِّهِ عَنْهَا فَفِيهِ جَوَازُ تَحَدُّثِ الْكَبِيرِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَمِثْلُ هَذَا الْبَيَانُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَكُلُّ هَذَا) : بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ أَيْ: جَمِيعُ مَا ذَكَرَ (أُحَدِّثُكُمْ) : فَقِيلَ: الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ، وَفِي خَبَرِهِ الرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ أُحَدِّثُكُمْ إِيَّاهُ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَأْكِيدُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَإِظْهَارُ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5824 - وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا صَافَحَ الرَّجُلَ لَمْ يَنْزِعْ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ، وَلَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَهُ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5824 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا صَافَحَ الرَّجُلَ لَمْ يَنْزِعْ) : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ لَمْ يُخَلِّصْ وَلَمْ يَفُكَّ (يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ) أَيِ: الرَّجُلُ ( «هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ، وَلَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَلَمْ يُرَ» ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُبْصَرِ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدِّمًا) : بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ (رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ) أَيْ: مُجَالِسٍ لَهُ) . قِيلَ أَيْ: مَا كَانَ يَجْلِسُ فِي مَجْلِسٍ تَكُونُ رُكْبَتَاهُ مُتَقَدِّمَتَيْنِ، عَلَى رُكْبَتَيْ صَاحِبِهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْجَبَابِرَةُ فِي مَجَالِسِهِمْ وَقِيلَ: مَا كَانَ يَرْفَعُ رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ مَنْ يُجَالِسُهُ، بَلْ كَانَ يَخْفِضُهُمَا تَعْظِيمًا لِجَلِيسِهِ، وَقَالُوا: أَرَادَ بِالرُّكْبَتَيْنِ الرِّجْلَيْنِ وَتَقْدِيمُهُمَا مَدُّهُمَا وَبَسْطُهُمَا، كَمَا يُقَالُ: قَدَّمَ رِجْلًا وَأَخَّرَ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمُدُّ رِجْلَهُ عِنْدَ جَلِيسِهِ تَعْظِيمًا لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ: وَفِي قَوْلِهِ: كَانَ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ قَبْلَ نَزْعِ صَاحِبِهِ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ فِي إِكْرَامِ صَاحِبِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَلَا يَبْدَأُ بِالْمُفَارَقَةِ عَنْهُ، وَلَا يُهِينُهُ بِمَدِّ الرِّجْلَيْنِ إِلَيْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5825 - وَعَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5825 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَدَّخِرُ) أَيْ: لَا يُبْقِي (شَيْئًا لِغَدٍ) . تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى خَزَائِنِهِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفْسِهِ النَّفِيسَةِ خَاصَّةً، فَأَمَّا لِأَجْلِ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، فَرُبَّمَا كَانَ يُدَّخِرُ لَهُمْ قُوتَ سَنَتِهِمْ لِضَعْفِ حَالِهِمْ وَعَدَمِ قُوَّةِ احْتِمَالِهِمْ وَقِلَّةِ كَمَالِهِمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5826 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَوِيلَ الصَّمْتِ. رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5826 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَوِيلَ الصَّمْتِ» ) ؟ أَيْ كَثِيرَ السُّكُوتِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا لِحَاجَةٍ، وَقَدْ قَالَ عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ» ". وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ: لَيْتَنِي كَنْتُ أَخْرَسَ إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. (رَوَاهُ) أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: «كَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ قَلِيلَ الضَّحِكِ» ، فَكَانَ حَقُّ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ أَنْ يُسْنِدَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ حَدِيثَ مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِمَّا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.

5827 - وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْتِيلٌ وَتَرْسِيلٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5827 - (وَعَنْ جَابِرٍ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ: وَعَنْهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِهِ (قَالَ: «كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْتِيلٌ» ) أَيْ: تَبْيِينٌ فِي قِرَاءَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] (وَتَرْسِيلٌ) . أَيْ تَمْهِيلٌ فِي حَدِيثِهِ أَيْ: قِيَاسًا عَلَيْهِ أَوْ مُرَاعَاةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17] . وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُمَا بِمَعْنًى وَهُوَ التَّبْيِينُ وَالْإِيضَاحُ فِي الْحُرُوفِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّأْسِيسَ بِالتَّقْيِيدِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى التَّأْكِيدِ، وَإِنْ كَانَ مَآلُهُمَا وَاحِدًا، وَأَصْلُ مَعْنَيَيْهِمَا مُتَّحِدًا، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْجَلُ فِي إِرْسَالِ الْحُرُوفِ، بَلْ يَلْبَثُ فِيهَا وَيُبَيِّنُهَا تَبْيِينًا لِذَاتِهَا مِنْ مَخَارِجِهَا وَصِفَاتِهَا، وَتَمْيِيزًا لِحَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا، وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ نَفْيُ الْعَجَلَةِ وَإِثْبَاتُ التُّؤَدَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: التَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ التَّأَنِّي فِيهَا، وَالتَّمَهُّلُ، وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ تَشْبِيهًا بِالشِّعْرِ الْمُرَتَّلِ، وَهُوَ الْمُشَبَّهُ بِنُورِ الْأُقْحُوَانِ يُقَالُ: رَتَّلَ الْقِرَاءَةَ وَتَرَتَّلَ فِيهَا، وَالتَّرْسِيلُ: التَّرْتِيلُ يُقَالُ: تَرَسَّلَ الرَّجُلُ فِي كَلَامِهِ وَمَشْيِهِ إِذَا لَمْ يَعْجَلْ، وَهُوَ وَالتَّرْتِيلُ سَوَاءٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5828 - وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيْنَهُ فَصْلٌ يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5828 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْرُدُ) أَيْ: فِي كَلَامِهِ (سَرْدَكُمْ هَذَا) ، أَيْ كَسَرْدِكُمْ مِنَ الْعَجَلَةِ وَالْمُتَابَعَةِ (وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيْنَهُ) أَيْ: بَيْنَ أَجْزَائِهِ (فَصْلٌ) ، أَيْ فَرْقٌ أَوْ فَاصِلٌ (يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5829 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5829 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ) : بِفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ زَايٍ فَهَمْزٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَقِيلَ: هُوَ بِكَسْرِ زَايٍ وَبِيَاءٍ، وَقِيلَ: جَزٍّ بِشِدَّةِ زَايٍ كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَهُوَ أَبُو الْحَارِثِ السَّهْمِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا، وَسَكَنَ مِصْرَ وَمَاتَ بِهَا. (قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5830 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَلَسَ يَتَحَدَّثُ يُكْثِرُ أَنْ يَرْفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5830 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَلَسَ يَتَحَدَّثُ يُكْثِرُ» ) : مِنَ الْإِكْثَارِ أَيْ: يَتَحَقَّقُ مِنْهُ كَثِيرًا (أَنْ يَرْفَعَ طَرْفَهُ) ": بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ نَظَرَهُ (إِلَى السَّمَاءِ) أَيْ: كَانَ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ حَالَ التَّكَلُّمِ تَرَقُّبًا لِجِبْرِيلَ، وَانْتِظَارًا لِوَحْيِ الْمَوْلَى، وَشَوْقًا إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5831 - عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُهُ مُسْتَرْضَعًا فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ. قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ تُكْمِلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5831 - (عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ) : كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُعْتَبَرَةِ وَالْأُصُولِ الْمُشْتَهِرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْكَاشِفِ. وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ أَنَسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوُ قَلَمٍ، وَزَلَّةُ قَدَمٍ، وَقَلْبُ كَلَامٍ لِمَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُؤَلِّفِ: هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ مَوْلَى ثَقِيفٍ بَصْرِيٌّ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ ابْنُ عَوْنٍ وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَعِدَّةٌ. (قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُرْوَى بِالْعِبَادِ. قُلْتُ: وَيُلَائِمُ الْأَوَّلَ اسْتِئْنَافُهُ الْبَيَانِيُّ بِقَوْلِهِ: (كَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُهُ مُسْتَرْضَعًا) : بِفَتْحِ الضَّادِ وَقِيلَ بِكَسْرِهَا (فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ) ، أَيِ الْقُرَى الَّتِي عِنْدَ الْمَدِينَةِ (فَكَانَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ) أَيِ: الَّذِي فِيهِ إِبْرَاهِيمُ (فَإِنَّهُ لِيُدَّخَنُ) . بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ الدَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَكَسْرِ الْخَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَهُ بِقَوْلِهِ: (وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا) : وَهُوَ أَبُو سَمِينٍ الْقَيْنُ، "، وَاسْمُهُ الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِكُنْيَتِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الظِّئْرُ بِكَسْرِ الظَّاءِ مَهْمُوزَةً الْمُرْضِعَةُ وَلَدَ غَيْرِهَا وَزَوْجُهَا ظِئْرٌ لِذَلِكَ الْمُرْضَعِ، وَالظِّئْرُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْقَيْنُ: بِالْفَتْحِ الْحَدَّادُ، ثُمَّ الْجُمْلَتَانِ حَالِيَّتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ) : وَالْمَعْطُوفُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَيَأْخُذُهُ) أَيِ: ابْنَهُ (فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ. قَالَ عَمْرٌو) أَيْ: نَاقِلًا عَنْ أَنَسٍ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ الرَّاوِي، فَإِنَّهُ مِنَ التَّابِعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقُولُهُ الْآتِي مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَمُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ، (فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي ") مَحَطُّ فَائِدَةٍ فَائِدَتُهُ التَّقْرِيرُ لَأَنَّ أُمَّهُ جَارِيَةٌ، وَهِيَ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ، أَهْدَاهَا الْمُقَوْقِسُ الْقِبْطِيُّ، صَاحِبُ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَوَلَدَتْ إِبْرَاهِيمَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ (" وَأَنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ ") وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّضَاعِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ اللَّبَنُ، وَزَوْجَتُهُ الَّتِي أَرْضَعَتْ إِبْرَاهِيمَ أَمُّ بُرْدَةَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ بِذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: فِي سِنِّ رَضَاعِ الثَّدْيِ، أَوْ فِي حَالَةِ تَغَذِّيهِ بِلَبَنِ الثَّدْيِ، (" وَإِنَّ لَهُ لِظِئْرَيْنِ ") أَيْ: لِمُرْضِعَتَيْنِ بَدَلَ وَاحِدَةٍ فِي الدُّنْيَا (" تُكْمِلَانِ ") : مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ أَيْ: تُوَفِّيَانِ وَتُتَمِّمَانِ (" رَضَاعَهُ ") : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ: مُدَّةَ رَضَاعِهِ وَهِيَ الْحَوْلَانِ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَلَهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: وَلَهُ سَبْعُونَ يَوْمًا فَتُرْضِعَانِهِ بَقِيَّةَ السَّنَتَيْنِ (" فِي الْجَنَّةِ ") . قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: وَهَذَا الْإِتْمَامُ، رَضَاعُ إِبْرَاهِيمَ، يَكُونُ عَقِيبَ مَوْتِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُتَّصِلًا بِمَوْتِهِ، فَيَتِمُّ فِيهَا رَضَاعَهُ كَرَامَةً لَهُ وَلِأَبِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَأَمَّا حَدِيثُ: لَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، فَأَخْرَجَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى. وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا: لَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ مَا رَقَّ لَهُ خَالٌ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا لَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ لَوُضِعَتِ الْجِزْيَةُ عَنْ كُلِّ قِبْطِيٍّ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَقَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ فِي كِتَابِهِ: (تَمْيِيزِ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَبِيثِ) : أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ، وَلَوْ عَاشَ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، وَلَوْ عَاشَ أُعْتِقَتْ أَخْوَالُهُ مِنَ الْقِبْطِ، وَمَا اسْتَرَقَّ قِبْطِيٌّ» . وَفِي سَنَدِهِ أَبُو شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ: وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَدِيثُ لَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ لَكَانَ نَبِيًّا فَبَاطِلٌ، وَجَسَارَةٌ عَلَى الْكَلَامِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَمُجَازَفَةٌ وَهُجُومٌ عَلَى عَظِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَمْهِيدِهِ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا، فَقَدْ وَلَدَ نُوحٌ غَيْرَ نَبِيٍّ، وَلَوْ لَمْ يَلِدْ إِلَّا نَبِيًّا لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ نَبِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ نُوحٍ انْتَهَى. وَهُوَ تَعْلِيلٌ عَلِيلٌ إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ النَّبِيِّ نَبِيٌّ بِطَرِيقِ الْكُلِّيَّةِ، وَلَا ضَرَرَ فِي تَخْصِيصِ التَّقْدِيرِ وَالْفَوْضِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْمُقَدَّمِ فِي الْقَضِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ، فَلَا يُنَافِيِ كَوْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَيَقْرُبُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ» " وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَبِمَا لَا يَكُونُ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ. هَذَا وَقَدْ قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْعَلَّامَةُ الرَّبَّانِيُّ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي الْإِصَابَةِ: وَهَذَا عَجِيبٌ مِنَ النَّوَوِيِّ، مَعَ وُرُودِهِ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا يُظَنُّ بِالصَّحَابِيِّ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى مِثْلِ هَذَا بِظَنِّهِ. قُلْتُ: مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوهُ مَوْقُوفًا، بَلْ أَسْنَدُوهُ مَرْفُوعًا، كَمَا بَيَّنَهُ خَاتِمَةُ الْحُفَّاظِ السُّيُوطِيُّ بِأَسَانِيدِهِ فِي رِسَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ، مَعَ أَنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مَوْقُوفَ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْيٍ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، فَإِنْكَارُ النَّوَوِيِّ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ لِذَلِكَ، إِمَّا لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمَا أَوْ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5832 - وَعَنْ عَلِيٍّ، «أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَ يُقَالُ لَهُ فُلَانٌ حَبْرٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَنَانِيرُ فَتَقَاضَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا يَهُودِيُّ مَا عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ قَالَ: فَإِنِّي لَا أُفَارِقُكَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى تُعْطِيَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذًا أَجْلِسُ مَعَكَ، فَجَلَسَ مَعَهُ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالْغَدَاةَ وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَهَدَّدُونَهُ وَيَتَوَعَّدُونَهُ فَفَطِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الَّذِي يَصْنَعُونَ بِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَهُودِيٌّ يَحْبِسُكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَنِي رَبِّي أَنْ أَظْلِمَ مُعَاهِدًا وَغَيْرَهُ فَلَمَّا تَرَجَّلَ النَّهَارُ قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَشَطْرُ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَا وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ بِكَ الَّذِي فَعَلْتُ لَكَ إِلَّا لِأَنْظُرَ إِلَى نَعْتِكَ فِي التَّوْرَاةِ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا مُتَزَيٍّ بِالْفُحْشِ وَلَا قَوْلِ الْخَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَهَذَا مَالِي فَاحْكُمْ فِيهِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَكَانَ الْيَهُودِيُّ كَثِيرَ الْمَالِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5832 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَ يُقَالُ لَهُ: فُلَانٌ) كِنَايَةً عَنِ اسْمِهِ (حَبْرٌ) ، أَيْ: عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ (كَانَ لَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَنَانِيرُ) أَيْ: مَعْدُودَةٌ مَعْلُومَةٌ (فَتَقَاضَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: فَطَالَبَهُ إِيَّاهَا (فَقَالَ لَهُ: " يَا يَهُودِيُّ مَا عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ ") مَا: الْأُولَى نَافِيَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَوْصُوفَةٌ أَيْ: شَيْئًا أُعْطِيكَ إِيَّاهُ عِوَضًا عَنِ الدَّنَانِيرِ. (قَالَ: فَإِنِّي لَا أُفَارِقُكَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى تُعْطِيَنِي) . أَيْ كَيْ تُعْطِيَنِي أَوْ إِلَّا أَنْ تُعْطِيَنِي. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذًا ") : بِالتَّنْوِينِ (أَجْلِسُ مَعَكَ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. (فَجَلَسَ مَعَهُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالْغَدَاةَ) أَيِ: الْفَجْرَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ كَوْنَهَا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي أَحَدِ بُيُوتِ أَهْلِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: (وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَهَدَّدُونَهُ) أَيْ: بِالضَّرْبِ مَثَلًا (وَيَتَوَعَّدُونَهُ) ، أَيْ: بِالْإِخْرَاجِ أَوِ الْقَتْلِ (فَفَطِنَ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ: فَعَلِمَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الَّذِي يَمْنَعُونَ بِهِ) أَيْ: مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَمَا: مَوْصُوفَةٌ بِالْمَوْصُولَةِ، وَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، أَوْ بِالْغَضَبِ نَظَرَ إِلَيْهِمْ أَوْ لَمَّا فَطِنَ صَنِيعَهُمْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَهُودِيٌّ يَحْبِسُكَ؟) ، قَالَ الطِّيبِيُّ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ مُقَدَّرَةٌ وَالتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّحْقِيرِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنَعَنِي رَبِّي أَنْ أَظْلِمَ مُعَاهِدًا ") : بِكَسْرِ الْهَاءِ وَهُوَ الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ (" وَغَيْرُهُ ") . تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ وَوَجْهُ تَقَدُّمِ الْمُعَاهِدِ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، أَوْ لِأَنَّ مُخَاصَمَتَهُ أَقْوَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ بِأَخْذِ حَسَنَةِ مُسْلِمٍ لَهُ، أَوْ وَضْعِ سَيِّئَةٍ لَهُ عَلَى مُسْلِمٍ، كَمَا فِي مَظَالِمِ الدَّوَابِّ، وَلَعَلَّ الْأَصْحَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، أَوْ مَا كَانَ يَرْضَى بِأَدَائِهِمْ مُرَاعَاةً لِأَمْرِ دِينِهِ، وَهُوَ أَظْهَرُ. وَلِذَا لَمْ يَكُنْ يُقْرَضُ إِلَّا مِنْ غَيْرِهِمْ لِحِكْمَةٍ، وَلَعَلَّهَا تَبْرِئَةٌ مِنْ نَوْعِ طَمَعٍ أَوْ صِنْفِ نَفْعٍ يُؤَدِّي إِلَى نُقْصَانِ أَجْرٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] وَتَطَابَقَتْ سُنَّةُ الرُّسُلِ عَلَى قَوْلِهِمْ: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109] ، وَلِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى الْيَهُودِ لِكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْعُوتًا فِي كُتُبِهِمْ بِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى، وَتَبْكِيتًا عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ

تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وَمِنْ جُمْلَةِ الْحُكْمِ مَا ظَهَرَ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ ". (فَلَمَّا تَرَجَّلَ النَّهَارُ) أَيِ: ارْتَفَعَ الْخَفَاءُ وَتَعَيَّنَ الظُّهُورُ وَتَبَدَّلَ الظُّلْمَةُ بِالنُّورِ وَتَغَيَّرَ الشِّدَّةُ بِالسُّرُورِ (قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَشَطْرُ مَالِي) أَيْ: نِصْفُهُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، أَيْ: فِي مَرْضَاتِهِ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْإِسْلَامِ وَطَلَبًا لِمَزِيدِ الْإِنْعَامِ (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ بِكَ الَّذِي فَعَلْتُ بِكَ) أَيْ: مِنْ غِلَظِ الْقَوْلِ وَخُشُونَةِ الْفِعْلِ (إِلَّا لِأَنْظُرَ إِلَى نَعْتِكَ) أَيْ: إِلَى مُوَافَقَةِ وَصْفِكَ (فِي التَّوْرَاةِ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجَرُهُ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: مَوْضِعُ هِجْرَتِهِ (بِطَيْبَةَ) أَيِ: الْمَدِينَةِ (وَمُلْكُهُ) أَيْ: مُعْظَمُهُ (بِالشَّامِ) أَيْ: وَنَوَاحِيهِ (لَيْسَ بِفَظٍّ) أَيْ: سَيِّئِ اللِّسَانِ (وَلَا غَلِيظٍ) ، أَيْ: جَافِي الْجَنَانِ (وَلَا سَخَّابٍ) أَيْ: صَيَّاحٍ (فِي الْأَسْوَاقِ) ، أَيْ: عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الزَّمَانِ (وَلَا مُتَزَيٍّ) أَيْ: مُتَّصِفٍ (بِالْفُحْشِ) أَيْ: فِي الْفِعْلِ لِقَوْلِهِ: (وَلَا قَوْلِ الْخَنَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَقْصُورًا أَيِ: الْفُحْشِ وَالْخُشُونَةِ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا مَالِي) أَيْ: كُلُّهُ فَكَأَنَّهُ سَمَّاهُ أَوْ أَشَارَ إِلَى مَكَانِهِ (فَاحْكُمْ فِيهِ) أَيْ: فِي جَمِيعِهِ أَوْ شَطْرِهِ (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) ، أَيْ: أَعْلَمَكَ بِأَنَّهُ مَحِلُّهُ اللَّائِقُ بِهِ (وَكَانَ الْيَهُودِيُّ كَثِيرَ الْمَالِ) . أَيْ: وَمَعَ هَذَا حَسُنَ لَهُ الْحَالُ وَالْمَنَالُ فِي الْمَآلِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

5833 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقْصِرُ الْخُطْبَةَ وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5833 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ الذِّكْرَ» ) ، أَيْ: ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِمَا فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَائِشَةَ: مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ (وَيُقِلُّ اللَّغْوَ) أَيْ: غَيْرَ الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ مِنْ ذِكْرِ الدُّنْيَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَإِنَّهُ وَلَوْ كَانَ مَا يَخْلُو عَنْ مَصْلَحَةٍ وَحِكْمَةٍ، لَكِنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الذِّكْرِ الْحَقِيقِيِّ لَغْوٌ، وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: ضَيَّعْتُ قِطْعَةً مِنَ الْعُمْرِ الْعَزِيزِ فِي تَأْلِيفِ: (الْبَسِيطِ وَالْوَسِيطِ وَالْوَجِيزِ) فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اللَّغْوَ نَظَرًا إِلَى الصُّورَةِ وَالْمَبْنَى، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِلَّا فَقَدَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ كُمَّلِ الْمُؤْمِنِينَ {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَلْغُو أَصْلًا فَإِنَّ الْقِلَّةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ مُطْلَقًا نَحْوَ: {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] فَيَأْبَاهُ حُسْنُ الْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَيُكْثِرُ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّغْوِ الدُّعَابَةُ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ قَلِيلًا فَمَرْدُودٌ، إِذْ عَدُّ مِزَاحِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ اللَّغْوِ هُوَ اللَّغْوُ، فَإِنَّهُ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ: " إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» " فَلِلَّهِ دَرُّ مُزَاحٍ هُوَ الْحَقُّ، فَكَيْفَ بِجِدِّهِ الَّذِي هُوَ الصِّدْقُ الْمُطْلَقُ، وَقَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ الْمُزَاحَ بِشَرْطِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَحَبَّاتِ، فَكَيْفَ يُعَدُّ مِنَ اللَّغْوِيَّاتِ؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَمْرِ النِّسْبِيِّ وَاللُّغَوِيِّ الْإِضَافِيِّ. (وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ) ، أَيْ: خُصُوصًا فِي الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ: (وَيُقْصِرُ الْخُطْبَةَ) ، مِنَ التَّقْصِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْقَصْرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ وَمَحَلُّ مُنَاجَاةِ الْمُهَيْمِنِ، فَيُنَاسِبُهَا الْإِطَالَةُ بِلَا مَلَالَةٍ، وَالْخُطْبَةُ مَحَلُّ التَّوَجُّهِ.

إِلَى الْخَلْقِ، وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْحَقِّ، وَفِيهَا زِيَادَةُ مَظِنَّةِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ لِطَلَاقَةِ اللِّسَانِ لَا الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَلِذَا وَرَدَ: «مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ طُولُ صَلَاتِهِ وَقِصَرُ خُطْبَتِهِ» . (وَلَا يَأْنَفُ) : بِفَتْحِ النُّونِ مِنَ الْأَنَفَةِ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ: وَلَا يَسْتَنْكِفُ أَيْ: لَا يَسْتَكْبِرُ (أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ) : فِي النِّهَايَةِ: " الْأَرَامِلُ: الْمَسَاكِينُ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَهُوَ بِالنِّسَاءِ أَخَصُّ وَأَكْثَرُ، وَالْوَاحِدُ أَرْمَلٌ وَأَرْمَلَةٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: امْرَأَةٌ أَرْمَلَةٌ مُحْتَاجَةٌ أَوْ مِسْكِينَةٌ، وَالْأَرْمَلُ الْعَزَبُ وَهِيَ بِهَاءٍ إِذْ لَا يُقَالُ لِلْعَزَبَةِ الْمُوسِرَةِ أَرْمَلَةٌ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِقَوْلِهِ: (وَالْمِسْكِينِ) ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ) . حَيْثُ أَتَى بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، أَوِ الْمُرَادُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ لِمَا ذُكِرَ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ بِزِيَادَةٍ: (وَالْعَبْدِ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَالْمِسْكِينِ) . وَقَالَ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.

5834 - وَعَنْ عَلِيٍّ، «أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذًا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَا نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5834 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّا) أَيْ: مَعْشَرُ قُرَيْشٍ (لَا نُكَذِّبُكَ) : بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا أَيْ: لَا نَنْسُبُكَ إِلَى الْكَذِبِ فَإِنَّكَ عِنْدَنَا مَشْهُورٌ بِالصِّدْقِ (وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ) أَيْ: نُكَذِّبُكَ بِسَبَبِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ التَّوْحِيدِ، وَالْمَعْنَى نُنْكِرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66] فَفِي الْقَامُوسِ: كَذَّبَ بِالْأَمْرِ تَكْذِيبًا أَنْكَرَهُ، وَفُلَانًا جَعَلَهُ كَاذِبًا قُلْتُ: فَاسْتَعْمَلَ الْمَعْنَيَانِ فِي الْحَدِيثِ. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ) أَيْ: فِي أَبِي جَهْلٍ وَأَضْرَابِهِ {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] : أَوَّلُهُ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] وَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّشْدِيدِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّخْفِيفِ {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] يُقَالُ: جَحَدَهُ حَقَّهُ وَبِحَقِّهِ كَمَنَعَهُ أَنْكَرَهُ مَعَ عِلْمِهِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رُوِيَ أَنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ: يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا غَيْرُنَا؟ فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ فَقَوْلُهُ: وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وُضِعَ مَوْضِعَ (وَلَكِنْ نَحْسُدُكَ) وَضْعًا لِلْمُسَبِّبِ مَوْضِعَ السَّبَبِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5835 - وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَا عَائِشَةُ لَوْ شِئْتُ لَسَارَتْ مَعِي جِبَالُ الذَّهَبِ جَاءَنِي مَلَكٌ وَإِنَّ حُجْزَتَهُ لَتُسَاوِي الْكَعْبَةَ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 5835 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَائِشَةُ! لَوْ شِئْتُ ") أَيْ: لَوْ أَرَدْتُ مَالَ الدُّنْيَا وَمَنَالَهَا (لَسَارَتْ مَعِي جِبَالُ الذَّهَبِ، جَاءَنِي) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ مُتَضَمِّنٌ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ: نَزَلَ إِلَيَّ (" مَلَكٌ ") أَيْ: عَظِيمٌ طَوِيلٌ كَمَا بَيَّنَ بُقُولِهِ: (وَإِنَّ حُجْزَتَهُ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ فَزَايٍ) أَيْ: مَعْقِدَ إِزَارِهِ (لَتُسَاوِي الْكَعْبَةَ) ، أَيْ: تُعَادِلُ طُولَهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ ظُهُورِهِ بِهَذِهِ الْعَظَمَةِ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْأَمْرِ وَتَهْيِيبًا (" فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ ") : فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: أَقْرِئْ فُلَانًا السَّلَامَ وَاقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامَ، كَأَنَّهُ حِينَ يَبْلُغُهُ سَلَامُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ وَيَرُدَّهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامَ أَبْلَغَهُ كَأَقْرَأَهُ، أَوْ لَا يُقَالُ أَقْرَأَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّلَامُ مَكْتُوبًا

(وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا) أَيْ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا كَعَبْدٍ أَيْ: جَامِعًا بَيْنَ وَصْفِ النُّبُوَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَكُنْ أَوِ اخْتَرْ أَوْ فَلَكَ هَذَا (وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا) أَيْ: فَكَذَلِكَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ خَيَّرَكَ فَاخْتَرْ مَا شِئْتَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُلُوكِيَّةَ وَكَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَجْتَمِعَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: نَبِيًّا عَبْدًا: خَبَرٌ لِكَوْنٍ مَحْذُوفٍ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: إِنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا. وَجَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا فَكُنْ إِيَّاهُ (فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَيْ: نَظَرَ مُشَاوَرَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي مَوْضِعِ اخْتِيَارٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30] وَلِأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ جُمِعَ لَهُمْ بَيْنَهُمَا، وَرُبَّمَا يُظَنُّ أَنَّهُ هُوَ مَرْتَبَةُ الْكَمَالِ، كَمَا وَرَدَ: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ، وَلِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى فَتْحِ الْبِلَادِ وَتَوْسِيعِ الْعِبَادِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. (" فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ ") . أَنْ: مَصْدَرِيَّةٌ وَضَعْ أَمْرٌ مِنْ وَضَعَ، أَوْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي أَشَارَ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَوْمَأَ إِلَيَّ بِأَنْ حُطَّ نَفْسَكَ عَنْ طَمَعِ مَرْتَبَةِ الْمُلُوكِيَّةِ، وَاخْتَرْ أَنْ تَكُونَ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُ فِي الْمَآلِ أَعْلَى، وَفِي الْمَنَازِلِ أَغْلَى، وَفِي ذَوْقِ الطَّالِبِينَ أَحْلَى، فَإِنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أَيْ: لِتَظْهَرَ عُبُودِيَّتُهُمْ لِي وَأُلُوهِيَّتِي وَرُبُوبِيَّتِي لَهُمْ كَمَا رَوَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: (كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعَرَّفَ فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لُأَعَرَّفَ) : وَفِي تَقْدِيمِ الشَّرْطِيَّةِ الْأُولَى إِشْعَارٌ بِالْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَهُ كَابْنِ عَطَاءٍ، وَدَعَا عَلَيْهِ الْجُنَيْدُ بِالْبَلَاءِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْغِطَاءِ.

5836 - وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «فَالتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ فَأَشَارَ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقُلْتُ: نَبِيًّا عَبْدًا. قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا يَقُولُ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5836 - (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ، فَأَشَارَ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ) أَيْ: إِلَى الْأَرْضِ (أَنْ تَوَاضَعْ) . أَيِ: اخْتَرِ الْفَقْرَ وَالْعُبُودِيَّةَ الْمُوَرِّثَةَ لِلتَّوَاضُعِ لِلَّهِ الْمُنْتِجَةَ لِرِفْعَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ، لَا الْمُلْكَ وَالْغِنَى الْبَاعِثَ عَلَى الطُّغْيَانِ وَالنِّسْيَانِ، الْمُوجِبَ لِلتَّكَبُّرِ وَالْكُفْرَانِ، الْمُقْتَضِيَ لِوَضْعِهِ عَنْ نَظَرِ اللَّهِ، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَلِذَا اخْتَارَ اللَّهُ الْفَقْرَ لِأَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ. (فَقُلْتُ: " نَبِيًّا عَبْدًا ") . أَيْ: أَكُونُ نَبِيًّا عَبْدًا. (قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا) ، فَسَّرَ الْأَكْثَرُونَ الِاتِّكَاءَ بِالْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْأَكْلِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مَجْرَى الطَّعَامِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي.

عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوهُ بِالتَّمَكُّنِ لِلْأَكْلِ فِي الْجُلُوسِ، كَالْمُتَرَبِّعِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى وِطَاءٍ تَحْتَهُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ تَسْتَدْعِي كَثْرَةَ الْأَكْلِ. (يَقُولُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِمَا قَبْلَهُ (" آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ ") ، أَيْ: مِمَّا يَتَيَسَّرُ لَهُ مِنْ أَدَقِّ الْمَأْكُولِ (" وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ ") ، إِمَّا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ كَهَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْهَيْئَاتِ، أَوْ بِرَفْعِ إِحْدَى الرُّكْبَتَيْنِ حَالَةَ الْأَكْلِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ بِرَفْعِ الرُّكْبَتَيْنِ عَلَى صِفَةِ الِاحْتِبَاءِ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَنْوَاعِ جُلُوسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ. وَفِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَرْفُوعًا: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا " وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَشْرَبُ كَمَا يَشْرَبُ الْعَبْدُ ". رَوَاهُ أَبُو عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَنَسٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا. وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا شَرِبَ تَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ نَفَسٍ وَيَشْكُرُ فِي آخِرِهِنَّ» . وَفِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُرْسَلًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ قَالَ: ( «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَقَانَا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْحًا أُجَاجًا بِذُنُوبِي» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَعْتَقِلُ الشَّاةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ» .

[باب المبعث وبدء الوحي]

[بَابُ الْمَبْعَثِ وَبَدْءِ الْوَحْيِ] هَذَا مِنْ بَابِ مَا قَالَهُ أَرْبَابُ الْهِدَايَةِ: مِنْ أَنَّ النِّهَايَةَ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبِدَايَةِ، فَنَقُولُ: الْبَابُ أَصْلُهُ الْبَوَبُ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَيُجْمَعُ عَلَى أَبْوَابٍ، وَقَدْ قَالُوا: أَبْوِبَةٌ ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ، وَالْمُرَادُ هُنَا نَوْعٌ مِنَ الْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ جِنْسُ الْكِتَابِ الْمَجْمُوعِ لِأَفْرَادِ الْأَنْوَاعِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي تَعْلِيقِي لِأَوَّلِ بَابِ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ فِي بَيَانِ الْإِعْرَابِ بِدُونِ الْإِغْرَابِ، ثُمَّ الْمَبْعَثُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْبَعْثِ مِنْ بَعَثَ إِذَا أَرْسَلَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مَعْرِفَةُ زَمَانِ الْبَعْثِ وَمَكَانِهِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَوَّلَ الْحَدِيثِ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْبَدْءُ بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَدَالٍ سَاكِنَةٍ فَهَمْزٍ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، قِيلَ: وَيُرْوَى بُدُوٌّ كَظُهُورٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَهَلِ الْأَحْسَنُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ، أَوِ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَعَمُّ؟ رَأْيَانِ. قُلْتُ: إِنَّمَا مَحَلُّهُ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا يُسَاعِدُ الرَّسْمَ الثَّانِي، فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِالْيَاءِ هُنَا بِخِلَافِ مَا فِي الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ يُكْتَبُ فِيهِ بِالْوَاوِ فَتَأَمَّلْ وَلَا تَمِلْ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا قُلْنَا أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي، قَالَ عِيَاضٌ: رُوِيَ الْبَدْءُ بِالْهَمْزِ وَسُكُونِ الدَّالِ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَبِغَيْرِ هَمْزٍ مَعَ ضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ الظُّهُورِ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهُ مَضْبُوطًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِنَا إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِهَا: كَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ؛ فَهَذَا يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَثِيرًا، كَبَدْءِ الْحَيْضِ، وَبَدْءِ الْأَذَانِ، وَبَدْءِ الْخَلْقِ، وَالْوَحْيُ لُغَةً الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ التَّفْهِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] وَشَرْعًا هُوَ الْإِعْلَامُ.

بِالشَّرْعِ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ أَيِ: الْمُوحَى، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمَفْعُولُ عَلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْبَعْثُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِرْسَالِ، وَالْبَدْءُ الِابْتِدَاءُ، وَالْوَحْيُ هُنَا الرِّسَالَةُ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَهُ كَغَيْرِهِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ فِي الْمَبْعَثِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أَيْضًا، مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَيْفِيَّةِ أَصْلِ الْفِعْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الفصل الأول 5837 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ «بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشَرَةَ سِنِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5837 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: جُعِلَ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ بِالرِّسَالَةِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ سَنَةً) ، أَيْ: وَقْتَ إِتْمَامِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِيهِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] (فَمَكَثَ) . بِضَمِّ الْكَافِ وَيُفْتَحُ أَيْ: فَلَبِثَ (بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً) : بِسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ (يُوحَى إِلَيْهِ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةُ الْمَرْفَاةِ أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَيْ: يُوحَى إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ السِّنِينَ (ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ) أَيْ: إِلَى الْمَدِينَةِ (فَهَاجَرَ) أَيْ: إِلَيْهَا (وَأَقَامَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ) ، بِالسُّكُونِ لَا غَيْرَ (وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً) . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِإِدْخَالِ سَنَتَيِ الْوِلَادَةِ وَالْوَفَاةِ، وَقِيلَ: ابْنُ سِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ أَنَسٍ بِإِلْغَاءِ الْكَسْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5838 - وَعَنْهُ، قَالَ «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَيَرَى الضَّوْءَ سَبْعَ سِنِينَ وَلَا يَرَى شَيْئًا وَثَمَانِ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5838 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً» ) أَيْ: بِإِدْخَالِ سِنِيِّ الْوِلَادَةِ وَالْهِجْرَةِ (يَسْمَعُ الصَّوْتَ) أَيْ: صَوْتَ جِبْرِيلَ (وَيَرَى الضَّوْءَ) أَيِ: النُّورَ فِي اللَّيَالِي الْمُظْلِمَةِ ضِيَاءً عَظِيمًا (سَبْعَ سِنِينَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى مِنْ أَمَارَاتِ النُّبُوَّةِ سَبْعَ سِنِينَ ضِيَاءً مُجَرَّدًا، وَمَا رَأَى مَعَهُ مَلَكًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَلَا يَرَى شَيْئًا) ، أَيْ: سِوَى الضَّوْءِ قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِي رُؤْيَةِ الضَّوْءِ الْمُجَرَّدِ دُونَ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ حُصُولُ اسْتِئْنَاسِهِ أَوَّلًا بِالصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ، وَذَهَابُ رَوْعِهِ إِذْ فِي رُؤْيَةِ الْمَلَكِ مَظِنَّةُ ذُهُولٍ وَذَهَابُ عَقْلٍ لِغَلَبَةِ دَهْشَتِهِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَطِيرٌ اهـ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي قَوْلِهِ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْمَلَكَ لَا يُفَارِقُهُ ضَوْءُ الْمَلَكِيَّةِ وَنُورُ الرُّبُوبِيَّةِ، فَلَوْ رَآهُ ابْتِدَاءً فَلَرُبَّمَا لَمْ تُطِقْهُ الْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ، وَعَسَى أَنْ يَحْدُثَ مِنْ ذَلِكَ غَشْيٌ، فَاسْتُؤْنِسَ أَوَّلًا بِالضَّوْءِ ثُمَّ غَشِيَهُ الْمَلِكُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّوْءِ انْشِرَاحُ صَدْرِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ، فَسُمِّيَ الِانْشِرَاحُ ضَوْءًا، وَلَا يُكْمَلُ انْشِرَاحُ صَدْرِهِ إِلَّا بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى أَرْبَعِينَ لِيَسْتَعِدَّ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. (وَثَمَانِ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ) ، أَيْ: فِي مَكَّةَ (وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ) . سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ، قَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ فِي مَوْقِعِهِ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخْرِجْهُ. بَلْ هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَقَطْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَمَنْشَأُ تَوَهُّمِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ صَنِيعُ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اغْتَرَّ بِظَاهِرِ كَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى الْمَأْخَذِ، فَلِذَا وَقَعَ فِيمَا وَقَعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5839 - وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ «تَوَفَّاهُ اللَّهُ رَأْسَ سِتِّينَ سَنَةً.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5839 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً) . قَالَ الطِّيبِيُّ: مَجَازُ قَوْلِهِ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً أَيْ: آخِرُهُ كَمَجَازِ قَوْلِهَا رَأْسُ آيَةٍ أَيْ: آخِرُهَا، سَمَّوْا آخِرَ الشَّيْءِ رَأْسًا لِأَنَّهُ مَبْدَأُ مِثْلِهِ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى أَوْ عِقْدٍ آخَرَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.

5840 - وَعَنْهُ قَالَ «قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَعُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: (ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) ، أَكْثَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5840 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: تُوُفِّيَ (وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ صَاحِبُ ثَلَاثِ سِنِينَ (وَسِتِّينَ) أَيْ: سَنَةً كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَأَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) أَيْ: بِلَا خِلَافٍ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (وَعُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) . وَقِيلَ: ابْنُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: إِحْدَى وَخَمْسِينَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَدُفِنَ يَوْمَ الْأَحَدِ عَاشِرَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ فَدُفِنَ لَيْلَةَ السَّبْتِ بِالْبَقِيعِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعُمُرِ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ اثْنَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَاسْتُخْلِفَ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَضَرَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيَّ بِالْكُوفَةِ، صَبِيحَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ ضَرْبَتِهِ وَدُفِنَ سَحَرًا، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ، وَقِيلَ سَبْعُونَ، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَلَعَلَّ أَنَسًا لَمْ يَذْكُرْ عَلِيًّا مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي عُمُرِهِ أَنَّهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَا تَحَرَّرَ عِنْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَخْطُبُ قَالَ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَذَلِكَ، وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ أَيْ: وَأَنَا مُتَوَقِّعٌ أَنْ أَمُوتَ فِي هَذَا السِّنِّ مُوَافَقَةً لَهُمْ، فَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: كَانَ مُعَاوِيَةُ فِي زَمَانِ نَقْلِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا السِّنِّ، وَلَمْ يَمُتْ فِيهِ، بَلْ مَاتَ وَبِهِ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً. قَالَ مِيرَكُ: تَمَنَّى لَكِنْ لَمْ يَنَلْ مَطْلُوبَهُ، بَلْ مَاتَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِينَ. قُلْتُ: لَكِنْ حَصَلَ مَرْغُوبُهُ مِنْ ثَوَابِ التَّرَافُقِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ مَعَ زِيَادَةِ عُمُرِهِ وَأَمَلِهِ، فَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ. (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: ثَلَاثٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ وَالتَّقْدِيرُ رِوَايَةُ ثَلَاثٍ (وَسِتِّينَ أَكْثَرُ) أَيْ: رِوَايَةً مِنْ غَيْرِهَا، وَرَجَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا هَذِهِ الرِّوَايَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: ذَكَرَ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، وَالثَّانِيَةُ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَالثَّالِثَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَهِيَ أَصَحُّهَا، وَأَشْهَرُهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَرِوَايَةُ سِتِّينَ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الضَّوْءِ وَرِوَايَةُ الْخَمْسِ مُنَافِيَةٌ لَهُ، وَأَنْكَرَ عُرْوَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ بِخِلَافِ الْبَاقِينَ. وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ ثَانِي الشَّهْرِ أَمْ ثَامِنُهُ أَمْ عَاشِرُهُ؟ وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ضُحًى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هُنَا قَوْلًا آخَرَ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ عُمُرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَانِ وَنِصْفٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّ عُمُرَ كُلِّ نَبِيٍّ نِصْفُ عُمُرِ نَبِيٍّ كَانَ قَبْلَهُ، عُمُرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ. وَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِلْغَاءُ النِّصْفِ مِنَ الْكَسْرِ غَيْرُ بَعِيدٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

5841 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى خَدِيجَةَ. فَيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) . قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ فِي الْجَهْدِ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّعِيفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ. فَقَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟) قَالَ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوَفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5841 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ عَائِشَةَ لَمْ تُدْرِكْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، فَتَكُونُ سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ، وَمُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا سَمِعَتْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهَا: قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، فَيَكُونُ قَوْلُهَا: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةَ مَا تَلَفَّظَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَدِّي لَفْظَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، أَوْ مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ حِينَئِذٍ مِنَ الْمَرَاسِيلِ. قُلْتُ: هَذَا غَرِيبٌ مِنَ الطِّيبِيِّ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تُسْنِدْ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا سَمِعَتْ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنَ الْمَرَاسِيلِ، إِمَّا عَنْهُ أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهَا: قَالَ، فَإِنَّهُ نَقَلَ كَلَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَقَلَ كَلَامَ الصَّحَابِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ نَاقِلًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.

ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهَا: (مِنَ الْوَحْيِ) : تِبْعِيضِيَّةٌ لَا بَيَانِيَّةٌ كَمَا قِيلَ أَيْ: أَوَّلُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) : وَقَوْلُهُ (فِي النَّوْمِ) ، إِمَّا تَأْكِيدٌ وَإِمَّا فِي الرُّؤْيَا تَجْرِيدٌ، إِذِ الرُّؤْيَا مَا رَأَيْتَ فِي مَنَامِكَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي قَلْبِ النَّائِمِ أَوْ فِي حُرَّاسِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا يَخْلُقُهَا فِي الْيَقَظَةِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَمْنَعُهُ نَوْمٌ وَلَا غَيْرُهُ عَنْهُ، فَرُبَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ، كَمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ مَا رَآهُ عِلْمًا عَلَى أُمُورٍ أُخْرَى يَخْلُقُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ، أَوْ كَانَ قَدْ خَلَقَهَا، فَيَقَعُ ذَلِكَ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَيْمَ عَلَامَةً لِلْمَطَرِ كَذَا حَقَّقَهُ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ، (فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا) : وَفِي نُسْخَةٍ الرُّؤْيَا (إِلَّا جَاءَتْ) أَيْ: تِلْكَ الرُّؤْيَا بِمَعْنَى أَثَرِهَا الدَّالِّ عَلَى تَحَقُّقِهَا (مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ أَيْ: ضَوْئِهِ إِذَا انْفَلَقَ كَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَالْمَعْنَى مُشَبَّهَةً بِضِيَائِهِ أَوْ مَجِيئًا مِثْلَهُ. قَالَ شَارِحٌ: الْفَلَقُ بِالتَّحْرِيكِ الصُّبْحُ بِعَيْنِهِ، وَحَسُنَ إِضَافَتُهُ إِلَى الصُّبْحِ، وَإِنْ كَانَتْ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، لِكَوْنِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ الْفَلَقُ عَلَى الصُّبْحِ، وَعَلَى الْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَرْضِ، فَشَبَّهَتْ مَا جَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ مُوَافِقًا لِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ بِالْفَلَقِ لِإِنَارَتِهِ، وَإِضَاءَتِهِ وَصِحَّتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: شُبِّهَ مَا جَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَوَجَدَهُ فِي الْخَارِجِ طِبْقًا لِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ بِالصُّبْحِ فِي إِنَارَتِهِ وَوُضُوحِهِ، وَالْفَلَقُ الصُّبْحُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي غَيْرِهِ كَالْفَلَقِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَغَيْرُ ذَلِكَ أُضِيفَ إِلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَالْبَيَانِ إِضَافَةِ الْعَامِ إِلَى الْخَاصِّ، كَقَوْلِهِمْ: عَيْنُ الشَّيْءُ وَنَفْسُ الشَّيْءِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِلْفَلَقِ شَأْنٌ عَظِيمٌ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96] وَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِرَبِّ الْفَلَقِ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنِ انْشِقَاقِ ظُلْمَةِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَطُلُوعِ تَأْثِيرِ الصُّبْحِ بِظُهُورِ سُلْطَانِ الشَّمْسِ وَإِشْرَاقِهَا الْآفَاقَ، لِأَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مُبَشِّرَاتٌ تُنْبِئُ عَنْ وُفُورِ أَنْوَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَآثَارِ مَطَالِعِ الْهَامَاتِ شَبَّهَ بِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَتَنْبِيهٌ مِنْ تَنْبِيهَاتِهَا لِمُشْتَرِكِي الْعُقُولِ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا سُمِّيَ نَبِيًّا لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا تَسْتَقِلُّ الْعُقُولُ بِإِدْرَاكِهِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: إِنَّمَا ابْتَدَأَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الْمَلَكُ، وَيَأْتِيَهُ صَرِيحُ النُّبُوَّةِ بَغْتَةً فَلَا يَحْتَمِلُهَا قُوَى الْبَشَرِيَّةِ فَبُدِئَ بِتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ وَصِدْقِ الرُّؤْيَا اسْتِئْنَاسًا. قُلْتُ: وَهُوَ مُقْتَضَى الْأُمُورِ التَّدْرِيجِيَّةِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَأَنَّ الرُّؤْيَا شُبِّهَتْ بِالْفَلَقِ الَّذِي هُوَ الصُّبْحُ، وَهُوَ مُقَدِّمَةُ طُلُوعِ الشَّمْسِ الْمُشَبَّهُ بِهِ إِتْيَانُ جِبْرِيلَ بِالْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ الَّذِي هُوَ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، ثُمَّ بَوْنٌ بَيْنَ النُّورِ الْحِسِّيِّ الْآفَاقِيِّ وَالنُّورِ الْعِلْمِيِّ الْخَلَّاقِيِّ. (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ) : بِالْمَدِّ أَيِ: الْخَلْوَةُ الْمُنَاسِبَةُ لِمَرْتَبَةِ التَّخْلِيَةِ عَنِ الْغَيْرِ الْمُقَدَّمَةُ عَلَى التَّحْلِيَةِ الْمُتَرَبِّعَةُ عَلَيْهَا بِثُبُوتِ نُورِ وُجُودِهِ وَظُهُورِ كَرَمِهِ وَجُودِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْخَلْوَةُ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلْوَةُ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ، وَهِيَ مُعِينَةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ، وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَخْشَعُ قَلْبُهُ وَيَجْمَعُ هَمَّهُ، فَالْمُخْلِصُ فِي الْخَلْوَةِ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ مَا يُؤْنِسُهُ فِي خَلْوَتِهِ مِنْ تَعْوِيضِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَمَّا تَرَكَهُ لِأَجْلِهِ " وَاسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِنُورِ الْغَيْبِ حِينَ تَذْهَبُ ظَلَمَةُ الشَّمْسِ، وَاخْتِيَارُ الْخَلْوَةِ لِسَلَامَةِ الدِّينِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِ النَّفْسِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ اهـ. وَاخْتُلِفَ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْخُلْوَةِ وَالْجُلْوَةِ وَالْخُلْطَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ فِي مَحَلِّهَا هِيَ الْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَاقْتِضَاءُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. (وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ) ، بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مُذَكَّرٌ مَصْرُوفٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مُؤَنَّثٌ غَيْرُ مَصْرُوفٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي الزَّاهِدُ صَاحِبُ الثَّعْلَبِيِّ وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ، وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ، وَيَقْصِرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَهُوَ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى، وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ وَالْقَصْرُ خَطَأٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَيُصْرَفُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا يُصْرَفُ عَلَى الثَّانِي. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّذْكِيرِ اعْتِبَارُ الْمَوْضِعِ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: حِرَاءٌ هُوَ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ رِوَايَةً، وَحُكِيَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ جَوَازًا لَا رِوَايَةً، وَعِنْدَ الْأَصِيلِيِّ بِالْفَتْحِ

وَالْقَصْرِ (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ) أَيْ: فَيَتَعَبَّدُ فِي ذَلِكَ الْغَارِ فِرَارًا مِنَ الْأَغْيَارِ. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: فَيَتَحَنَّفُ بِالْفَاءِ أَيْ: يَتَّبِعُ الْحَنِيفِيَّةَ، وَهِيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْفَاءُ تُبْدَلُ تَاءً فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. (وَهُوَ) أَيِ: التَّحَنُّثُ (التَّعَبُّدُ) : وَكَانَ الْمُتَعَبِّدُ يَتَحَرَّزُ عَنِ الْحِنْثِ بِمَعْنَى الْإِثْمِ، وَيَجْتَنِبُ عَنْهُ بِعِبَادَتِهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ إِمَّا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَوْ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَالتَّحَنُّثُ فِي اللُّغَةِ: إِلْقَاءُ الْحِنْثِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَرِدْ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ فِي مَعْنَى إِلْقَاءِ الشَّيْءِ عَنِ النَّفْسِ إِلَّا التَّحَنُّثُ وَالتَّأَثُّمُ وَالتَّجَوُّبُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ، قَوْلُهُ: وَهُوَ التَّعَبُّدُ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ قَطْعًا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ، أَوْ مَنْ دُونَهُ. قَالَ: وَجَزَمَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ اهـ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَسَّرَتِ التَّحَنُّثَ بِقَوْلِهَا: وَهُوَ التَّعَبُّدُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ، وَقَوْلُهُ: (اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ) . مُتَعَلِّقٌ بِيَتَحَنَّثُ لَا بِالتَّعَبُّدِ، وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي، بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتُرِضَ بَيْنَ كَلَامِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ اللَّيَالِي وَأُرِيدَ بِهَا اللَّيَالِي مَعَ أَيَّامِهِنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّهَا أَنْسَبُ لِلْخَلْوَةِ، وَقُيِّدَ بِذَوَاتِ الْعَدَدِ لِإِرَادَةِ التَّقْلِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] اهـ. فَالْمُرَادُ بِذَاتِ الْعَدَدِ الْقِلَّةُ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ الْكَثْرَةَ إِذِ الْكَثِيرُ يَحْتَاجُ لِلْعَدَدِ لَا الْقَلِيلُ، وَقِيلَ: إِبْهَامُ الْعَدَدِ لِاخْتِلَافِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا مَجِيئُهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الْخَلْوَةِ قَدْ عُرِفَتْ مُدَّتُهَا وَهِيَ شَهْرٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَذَلِكَ الشَّهْرُ كَانَ رَمَضَانَ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّةُ أَرْبَعِينَ قِيَاسًا عَلَى مِيقَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَسْرَارِ الَّتِي تَظْهَرُ آثَارُهَا وَأَنْوَارُهَا عَلَى الصُّوفِيَّةِ الْأَبْرَارِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ مُطَابَقَةِ الْأَرْبِعِينَاتِ فِي الْأَطْوَارِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» ) . هَذَا وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلَمْ يَأْتِ التَّصْرِيحُ بِصِفَةِ تَعَبُّدِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَيُطْعِمُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يَتَعَبَّدُ بِالتَّفْكِيرِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ مُسْلِمٍ، وَفِي التَّحْرِيرِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَبْعَثِهِ مُتَعَبِّدٌ، فَقِيلَ بِشَرْعِ نُوحٍ، وَقِيلَ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ مُوسَى، وَقِيلَ عِيسَى، وَنَفَاهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْآمِدِيُّ، وَتَوَقَّفَ الْغَزَالِيُّ أَيْ: فِي تَعَبُّدِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ. وَفِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَظْهَرُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَمَرَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَا فِي الْفُرُوعِ، بَلْ يَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعَبُّدِ هُنَا التَّجَرُّدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْخَلْقِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالتَّبَتُّلُ إِلَى الْحَقِّ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْخُلُوُّ عَنِ الْمَطَالِبِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْمَآرِبِ الشَّهْوِيَّةِ، وَخُلَاصَتُهُ الْغَيْبَةُ عَمَّا سِوَاهُ، وَالْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهُ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَارِدُ فِيهِ: أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ بِالْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَالِانْفِصَالِ، وَالْبَيْنُونَةِ وَالْكَيْنُونَةِ، وَهُوَ نِهَايَةُ مَرَاتِبِ الْعِبَادِ وَغَالِبُ مَطَالِبِ الْعِبَادِ. (قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ) ، يُقَالُ: نَزَعَ إِلَى أَهْلِهِ يَنْزِعُ أَيِ اشْتَاقَ وَمَالَ، وَلِذَا قِيلَ: يَنْزِعُ يَرْجِعُ زِنَةً وَمَعْنًى. قَالَ شَارِحٌ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَمِيلُ عَنْ أَهْلِهِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى خَلْوَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَيَتَزَوَّدُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: فَيَجِيءُ أَهْلَهُ وَيَأْخُذُ زَادَهُ (لِذَلِكَ) ، أَيْ: لِتَعَبُّدِهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، أَوْ لِمَا ذُكِرَ مِنَ اللَّيَالِي مُشْتَغِلًا بِرَبِّ الْعِبَادِ وَمُتَهَيِّئًا لِأَمْرِ الْمَعَادِ إِلَى فَرَاغِ الزَّادِ. (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا) ، أَيْ: لِمِثْلِ تِلْكَ اللَّيَالِي، أَوْ لِنَحْوِ تِلْكَ الْعَوْدَةِ الَّتِي فِيهَا الْجَوْدَةُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الزَّادِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالِاعْتِمَادَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَمَرَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنَ الذَّهَابِ لِلْآمَالِ وَالرُّجُوعِ.

لِنَيْلِ الْمَنَالِ وَحُسْنِ الْمَآلِ. (حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ) أَيْ: أَمْرُ الْحَقِّ وَهُوَ الْوَحْيُ، أَوْ رَسُولُ الْحَقِّ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، أَوْ مَعْنَى تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَظَهَرَ لَهُ الْجَمَالُ الْمُطْلَقُ بِلَا مُرَاعَاةٍ وَلَا مِرَاءٍ. (وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ) : اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، وَقِيلَ إِسْرَافِيلُ (قَالَ: اقْرَأْ) . أَيْ: مُطْلَقًا وَهُوَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْبَاهِرِ أَوْ كَمَا أَقْرَأُ وَهُوَ الظَّاهِرُ (قَالَ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) أَيْ: لَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَلَمْ أَتَعَلَّمِ الْقِرَاءَةَ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِيمَنْ يَقْرَأُ. (قَالَ: (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: عَصَرَنِي قَبْلَ الْغَطِّ. فِي الْأَصْلِ الْمَقْلُ فِي الْمَاءِ، وَالتَّغْوِيصُ فِيهِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَطُّ مِمَّا يَأْخُذُ بِنَفْسِ الْمَغْطُوطِ اسْتُعْمِلَ مَكَانَ الْخَنْقِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَخَنَقَنِي. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْغَطَّ هُوَ الْعَصْرُ إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْبَطْنِ أَوِ الظَّهْرِ، لَكِنَّ شِدَّتَهُ رُبَّمَا تُضَيِّقُ النَّفَسَ، فَيُشَابِهُ حَالَةَ الْخَنْقِ، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْخَنْقِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى وَأَخْلَقُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يَقُولُهُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ، فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ، وَيَأْمُرَهُ لِإِحْضَارِ قَلْبِهِ، وَقِيلَ إِنَّمَا غَطَّ لِيَخْتَبِرَهُ، هَلْ يَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَيْئًا، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَصَرَنِي عَصْرًا شَدِيدًا. (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ) ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجُهْدُ يَجُوزُ فِيهِ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا، وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ، وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا، فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ فِيَّ الْجَهْدَ، وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ - أَعْنِي نَصْبَ الدَّالِ وَفَتْحَهَا - صَاحِبُ التَّحْرِيرِ اهـ. وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَرَفْعِ الدَّالِ وَهُوَ بِالضَّمِّ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ الْمُبَالَغَةُ وَالْغَايَةُ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ فِي الْوُسْعِ، وَأَمَّا الْمَشَقَّةُ وَالْغَايَةُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا أَرَى الَّذِي يَرْوِيهِ بِنَصْبِ الدَّالِ إِلَّا قَدْ وَهِمَ فِيهِ، أَوْ جَوَّزَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ فَإِنَّهُ إِذَا نَصَبَ الدَّالَ عَادَ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُ غَطَّهُ حَتَّى اسْتَفْرَغَ قُوَّتَهُ فِي ضَغْطِهِ وَجَهِدَ جَهْدَهُ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَزِيدٌ، وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْبِنْيَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَسْتَدْعِي اسْتِيفَاءَ الْقُوَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، لَا سِيَّمَا فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْقَضِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ اشْمَأَزَّ مِنْ ذَلِكَ وَتَدَاخَلَهُ الرُّعْبُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا شَكَّ أَنَّ جِبْرِيلَ فِي حَالَةِ الْغَطِّ لَمْ يَكُنْ عَلَى صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي تَحَلَّى بِهَا عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَعِنْدَمَا رَآهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْكُرْسِيِّ، فَيَكُونُ اسْتِفْرَاغُ جُهْدِهِ بِحَسَبِ الصُّورَةِ الَّتِي تَجَلَّى لَهُ وَغَطَّهُ، وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ اضْمَحَلَّ الِاسْتِبْعَادُ. أَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ تَشَكُّلِ الْمَلَكِ بِصُورَةِ الْآدَمِيِّ وَتَبَدُّلِهِ عَنْ أَصْلِ هَيْئَةِ الْمَلَكِ - سَلْبُ الْقُوَّةِ عَنْهُ، وَنَفْيُ الْغَلَبَةِ مِنْهُ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَعْنَوِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْهَيْكَلِ الصُّورِيِّ، فَكَلَامُ الشَّيْخِ فِي مَحَلِّهِ وَصِحَّةُ الرِّوَايَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَقْلِهَا لَا بِمُجَرَّدِ جَوَازِهَا وَذِكْرِهَا وَحَمْلِهَا. (ثُمَّ) أَيْ: بَعْدَمَا بَلَغَ بِقُرْبِهِ مِنِّي الْجَهْدَ (أَرْسَلَنِي) أَيْ: تَرْكَنِي فِي مَقَامِ الْبُعْدِ، وَكَأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ إِلَى حَالِ التَّفْرِقَةِ، وَمِنْ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ تَرَقِّيًا إِلَى دَرَجَةِ جَمْعِ الْجَمْعِ (فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ) الظَّاهِرُ مِنْ صَنِيعِ الشُّرَّاحِ أَنَّ قَوْلَهُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ (مَا) فِي الْأُولَى نَافِيَةٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ أَوْ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ مِصْرَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَنَا أَقْرَؤُهُ. (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ) . أَيِ: الَّذِي أَنَا بِقَارِئٍ مَا هُوَ؟ عَلَى أَنَّ مَا: مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى الْمَرَامِ أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ الْإِعْلَامِ. (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقِيلَ أَوَّلُهُ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ اقْرَأْ أَوَّلُهُ الْحَقِيقِيُّ وَيَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أَوَّلُهُ الْإِضَافِيُّ، وَهُوَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ إِلَّا الْإِلَهِيَّ قَالَ: وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا، وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا، بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، كَمَا نَزَلَتْ بَاقِي السُّوَرِ فِي وَقْتٍ آخَرَ. فَلَا تَكُونُ الْبَسْمَلَةُ جُزْءًا لِجَمِيعِ أَوَائِلِ السُّوَرِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، فَثَبَتَ مُدَّعِي أَهْلِ الْفَضْلِ، وَلَعَلَّ النَّوَوِيَّ لَمَّا أُشْعِرَ ضَعْفَ الْجَوَابِ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ تَبَرِّيًا مِنْ قَوْلِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: اقْرَأْ أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِمَقْرُوءٍ دُونَ مَقْرُوءٍ، فَقَوْلُهُ: {بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] حَالٌ أَيِ: اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ أَيْ قُلْ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثُمَّ اقْرَأْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَأْمُورٌ قِرَاءَتُهَا فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ قِرَاءَةٍ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا قِرَاءَتُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا. قُلْتُ: لَا يَخْفَى بُعْدَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أُولِي النُّهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْقِرَاءَةِ فَفِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْإِيجَادَ وَالْإِمْدَادَ مِنْ أَفْعَالِ رَبِّ الْعِبَادِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الِاعْتِقَادِ، فَالْأَمْرُ إِنَّمَا تَوَجَّهَ بِمُبَاشَرَةِ الْقِرَاءَةِ لَا بِإِيجَادِهَا، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِمَقْرُوءٍ دُونَ مَقْرُوءٍ، فَفِيهِ أَنَّ لَفْظَ اقْرَأْ هُنَا أَيْضًا مَقْرُوءٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوْ لِلْإِلْصَاقِ أَوِ الْمُلَابَسَةِ، كَمَا حُقِّقَ فِي الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ أَيِ: اقْرَأْ مُسْتَعِينًا بِاسْمِ رَبِّكَ، أَوْ مُلْصِقًا بِهِ قِرَاءَتَكَ، أَوْ حَالَ كَوْنِكَ مُتَلَبِّسًا بِهِ وَعَلَى الْمَنْزِلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الِافْتِتَاحِ بِاسْمِ الرَّبِّ أَنْ يُؤْتَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ يَقْرَأُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، بَلْ ظَاهِرُهُ خِلَافُ الْمَأْمُورِ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَقْرُوءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وَالْحَالُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُدَّعَى الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُثْبِتُوا الْبَسْمَلَةَ قَبْلَ قَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَأْمُورٌ قِرَاءَتُهَا فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ قِرَاءَةٍ مَمْنُوعٌ وَمَدْفُوعٌ، لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ، أَوْ وُجُوبِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَعَلَى جَوَازِ الْبَسْمَلَةِ كَذَلِكَ إِلَّا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٍ عَلَى الصَّوَابِ، وَفِي أَثْنَاءِ سُورَتِهَا خِلَافٌ وَالْمُعْتَمَدُ مَنْعُهَا. {الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] . أَيِ: الْأَشْيَاءَ وَمِنْ جُمْلَتِهَا خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلَاصَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَزُبْدَةُ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا اخْتَارَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِبْهَامٌ وَتَبْيِينٌ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى تَنَقُّلِهِ فِي أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ بِالْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، وَإِلَى مَقَامِ الرِّسَالَةِ مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَى دَعْوَةِ الْحَقِّ. (اقْرَأْ) : تَأْكِيدٌ لِلتَّقْرِيرِ وَتَكْرِيرٌ لِلتَّكْثِيرِ {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3] أَيْ: مِنْ كُلِّ كَرِيمٍ، فَإِنَّ كَرَمَ كُلِّ كَرِيمٍ مِنْ أَثَرِ كَرَمِهِ، وَذَرَّةٌ مِنْ شُعَاعِ ظُهُورِ شَمْسِ نِعَمِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وَصْفَهُ الْأَكْرَمَ اقْتَضَى بُلُوغَ وُصُولِ الْأُمِّيِّ إِلَى حُصُولِ مَقَامِ الْأَعْلَمِ، وَصَيَّرَهُ وَاسِطَةَ إِيصَالِ فَيْضِ الْعِلْمِ إِلَى أَفْرَادِ الْعَالَمِ. {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4] أَيْ: بِوَاسِطَتِهِ كَثِيرًا مِنَ الْعُلُومِ الْمُتَعَارَفِ لِأَفْرَادِ بَنِي آدَمَ {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ} [العلق: 5] أَيْ: بِطَرِيقِ بَيَانِ اللِّسَانِ وَتِبْيَانِ الْجِنَانِ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] ، أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الْحَادِثَةِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِنْسَانِ هُوَ الْكَامِلُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَاللَّامُ لِلْمَعْهُودِ فِي الْأَذْهَانِ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا فَصَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. (فَرَجَعَ بِهَا) أَيْ: رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْآيَاتِ أَيْ: مَعَهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى مَكَّةَ (يَرْجُفُ) : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: يَضْطَرِبُ (فُؤَادُهُ) ، وَيَتَحَرَّكُ شَدِيدًا مِنَ الرُّعْبِ الَّذِي دَخَلَ فِي قَلْبِهِ (فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: صَارَ بِسَبَبِ تِلْكَ الضَّغْطَةِ يَضْطَرِبُ فُؤَادُهُ، وَرَجَعَ يَجِيءُ بِمَعْنَى قَصَدَ أَيْضًا اهـ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا لَا يَخْفَى (فَقَالَ: (زَمِّلُونِي) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا (زَمِّلُونِي) : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ زِيَادَةِ التَّأْبِيدِ. (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) ، بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيِ: الْخَوْفُ وَالرُّعْبُ الشَّدِيدُ (فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ) أَيْ: خَبَرَ مَا تَقَدَّمَ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ وَهُوَ: (لَقَدْ خَشِيتُ) أَيْ: خِفْتُ (عَلَى نَفْسِي) أَيْ: مِنَ الْجُنُونِ أَوِ الْهَلَاكِ. وَقَالَ شَارِحٌ: أَدْهَشَتْهُ هَيْبَتُهُ الْبَدِيهَةَ فَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَخَبُّطِ الشَّيْطَانِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ، فَتَزْهَقُ نَفْسُهُ، أَوْ يَكُونُ هَذَا لِأَوَّلِ التَّبَاشِيرِ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقَظَةِ، وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ، وَتَحْقِيقِ رِسَالَةِ رَبِّهِ، فَيَكُونُ قَدْ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ الشَّكُّ فِيهِ وَتَسْلِيطُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هَذَا بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ: بِـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ، قِيلَ: خَشِيَ الْجُنُونَ، وَأَنَّ

يَكُونُ مَا رَآهُ مِنْ جِنْسِ الْكِهَانَةِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ حُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَهُ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ الْمَوْتُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ، وَقِيلَ الْمَرَضُ، وَقِيلَ الْعَجْزُ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ عَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَقِيلَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَقِيلَ أَنْ يُكَذِّبُوهُ، وَقِيلَ أَنْ يُعَيِّرُوهُ. (فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا) ، هِيَ كَلِمَةُ رَدْعٍ أَيْ: لَا تَظُنَّ ذَلِكَ، أَوْ لَا تَخَفْ أَوْ مَعْنَاهُ حَقًّا، فَقَوْلُهَا (وَاللَّهِ) : لِلتَّأْكِيدِ وَتَأْيِيدٌ لِلتَّأْبِيدِ، لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا) ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعَقِيلٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ أَقُولُ: لَا يَخْفَى أَنَّ فَتْحَ الْيَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ فَتْحِ الزَّايِ بِخِلَافِ ضَمِّ الْيَاءِ، فَإِنَّهُ مَعَ كَسْرِ الزَّايِ كَمَا قُرِئَ بِهَا مُتَوَاتِرًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65] وَنَحْوَهُ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى: فَمِنَ الْإِخْزَاءِ بِمَعْنَى الْإِفْضَاحِ وَالْإِهَانَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] (إِنَّكَ) : بِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ شَائِبَةُ تَعْلِيلٍ (لَتَصِلُ الرَّحِمَ) ، أَيْ: وَلَوْ قَطَعُوكَ (وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ) ، بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ: تَتَكَلَّمُ بِصِدْقِ الْكَلَامِ وَلَوْ كَذَّبُوكَ أَوْ كَذَّبُوكَ (وَتَحْمِلُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (الْكَلَّ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَهُوَ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ وَقَدْ يُعَبِّرُ عَنِ الثَّقِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76] وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَتَحَمَّلُ مُؤْنَةَ الْكَلِّ، وَتَقْبَلُ مِحْنَةَ الْكَلِّ، وَإِنْ تَرَكُوكَ وَلَمْ يُسَاعِدُوكَ، وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْأَرَامِلِ وَالْعِيَالِ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. (وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ) ، بِفَتْحِ التَّاءِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَرُوِيَ بِضَمِّهَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْمَعْنَى تُحَصِّلُ الْمَالَ لِلْخَيْرِ، أَوْ تُعْطِي الْمُحْتَاجَ، فَكَأَنَّ الْفَقِيرَ مَعْدُومٌ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي نَظَرِ الْغَنِيِّ، أَوْ لِأَنَّ الْفَقْرَ يَقْتَضِي الْفَنَاءَ وَالْإِسْكَانَ، كَمَا أَنَّ الْغِنَى يُوجِبُ الظُّهُورَ وَالتَّحَرُّكَ وَالطُّغْيَانَ. (وَتَقْرِي) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: تُطْعِمُ (الضَّعِيفَ) ، أَيِ: النَّازِلَ بِكَ (وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) ، أَيِ: الْحَوَادِثِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِتَقْدِيرِ الْحَقِّ أَيْ: يُنَابُ فِيهَا، وَقِيلَ: النَّوَائِبُ جَمْعُ النَّائِبَةِ وَهِيَ الْحَادِثَةُ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَى الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ. قَالَ لَبِيَدٌ: نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا ... فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ هَذَا مُجْمَلُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ الْأَعْلَامِ، فَقَدْ قَالَ ثَعْلَبٌ وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا: يُقَالُ: كَسَبْتَ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتَهُ مَالًا لُغَتَانِ، أَفْحَمُهُمَا كَسَبْتَهُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، فَمَعْنَى الضَّمِّ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ، أَيْ: تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا، فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ، وَأُقِيمَ الْمَوْصُوفُ بِهِ مَقَامَهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى تُعْطِي النَّاسَ مَالًا يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، أَوْ تُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجَزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ، لَا سِيَّمَا قُرَيْشٍ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَغْبُوطًا فِي تِجَارَتِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ مَعَهُ زِيَادَةٌ، فَمَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجَزُ غَيْرِي عَنْهُ، ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ، كَمَا ذَكَرْتُ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِهِمَا، وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ جَعَلَ الْمَعْلُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمَعْلُومِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ، وَسَمَّاهُ مَعْلُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْلُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي مَعِيشَةِ الْحَيَاةِ اهـ. وَقِيلَ: الصَّوَابُ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِي الْعَائِلَ وَتَمْنَحُهُ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَفْعَالِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْدُومُ هِيَ اللَّفْظَةُ الصَّحِيحَةُ بَيْنَ أَهْلِ الرِّوَايَةِ، وَأَجْرَاهَا بَعْضُهُمْ عَلَى التَّوَسُّعِ، فَرَأَى أَنَّهُ نَزَّلَ الْعَائِلَ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ مُبَالَغَةً فِي الْعَجْزِ كَقَوْلِكَ لِلْبَخِيلِ وَالْجَبَانِ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَيَكْسِبُ مِنْ كَسَبْتَ زِيدًا مَالًا أَوْ كَسَبْتَ مَالًا، وَيَجُوزُ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَكْسَبْتَ زِيدًا مَالًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالْأَفْصَحُ كَسَبْتَهُ، فَمَعْنَى تَكْسِبُ إِنْ جُعِلَ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ أَنَّكَ تَكْسِبُ مَا لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَلَا حَاصِلًا لِنَفْسِكَ، وَتَقْرِي بِهِ الضَّيْفَ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَبَبًا لِأَنْ لَا يُخْزِيهِ اللَّهُ أَوْ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَهُوَ الْفَقِيرُ سُمِّيَ مَعْدُومًا لِلْمُبَالَغَةِ، كَأَنَّهُ صَارَ مِنْ غَايَةِ فَقْرِهِ مَعْدُومًا وَالْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ يَكْسِبُهُ وَيَجْعَلُهُ؛ مَوْجُودًا، وَإِنْ جُعِلَ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ فَالْمَحْذُوفُ إِمَّا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، أَيْ: تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَعْدُومَ، أَيْ: يُعْطِيهِ مَالًا يَكُونُ.

مَوْجُودًا عِنْدَهُ وَتَوَصُّلُهُ إِلَيْهِ أَوِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي أَيْ: تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيِ: الْفَقِيرَ مَالًا أَيْ: تُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ لَفْظَ الْكَسْبِ إِرَادَةَ أَنَّكَ لَنْ تَزَالَ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ كَمَا يَسْعَى غَيْرُكَ فِي طَلَبِ مَالٍ يُنْعِشُهُ اهـ. وَزُبْدَتُهُ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّكَ مِمَّنْ لَا يُصِيبُهُ مَكْرُوهٌ لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الشَّمَائِلِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ، وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ تَطْرَأُ، وَفِيهِ تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مُخَالَفَةٌ مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ، وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ، وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَدَلُّ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فَقْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَرْضِيًّا اخْتِيَارِيًّا لَا مَكْرُوهًا اضْطِرَارِيًّا، وَمَنْشَؤُهُ كَمَالُ الْكَرَمِ وَالسَّخَاوَةِ، وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ وَالنُّعُوتَ الْمَسْطُورَةَ كَانَتْ لَهُ جِبِلِّيَّةً خَلْقِيَّةً قَبْلَ بَعْثَتِهِ الْبَاعِثَةِ لِتَتْمِيمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. (ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى وَرَقَةَ) بِفَتْحَتَيْنِ (بْنِ نَوْفَلٍ) أَيِ: ابْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيِّ (ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ) أَيِ: ابْنَةِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، فَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا حَقِيقَةً، وَاخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِهِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ. (فَقَالَتْ لِي: يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) . وَهَذَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَقَوْلِهِمْ: يَا أَخَا الْعَرَبِ وَقَالَ شَارِحٌ: إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. (فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ) : وَقَدْ كَانَ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ. (يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى) ؟ قِيلَ: ذَا، زَائِدَةٌ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقِيلَ ذَا: مَوْصُولَةٌ أَيْ: مَا الدِّينُ تَرَاهُ؟ (خَبَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى) أَيْ: بِخَبَرِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَكِ وَأَثَرِهِ، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا) أَيِ: الْمَلَكُ الَّذِي رَأَيْتَهُ (هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ) أَيْ: أَنْزَلَ اللَّهُ (عَلَى مُوسَى) ، قِيلَ: نَامُوسُ الرَّجُلِ صَاحِبُ سِرِّهِ الَّذِي يُطْلِعُهُ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُسَمُّونَ جِبْرِيلَ بِالنَّامُوسِ، فَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: النَّامُوسُ: صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ، وَالْجَاسُوسُ: صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ، فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَهُ بِالْوَحْيِ. (يَا لَيْتَنِي) أَيْ: كُنْتُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فِيهَا) أَيْ: فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ أَوْ مُدَّةِ الدَّعْوَةِ أَوِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا (جَذَعًا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: جَلْدًا شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجَذَعِ مِنَ الْخَيْلِ، وَهُوَ مَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، فَالْجَذَعُ فِي الْأَصْلِ لِلدَّوَابِّ، وَهُنَا اسْتِعَارَةٌ، وَنَصْبُهُ إِمَّا بِإِضْمَارِ كُنْتُ أَوْ بِلَيْتَ عَلَى تَأْوِيلِ تَمَنَّيْتُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حَالٌ أَيْ: لَيْتَنِي حَاصِلٌ فِيهَا جَذَعًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ فِي: يَا لَيْتَ أَيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ: لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَخَبَرُ لَيْتَ قَوْلُهُ: فِيهَا، وَالْعَامِلُ مُتَعَلِّقُ الظَّرْفِ، هَذَا وَفِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي الْمُنَادَى مَحْذُوفٌ أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: ظَنَّ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّ (يَا) الَّتِي يَلِيهَا لَيْتَ حَرْفُ نِدَاءٍ، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ، وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَائِلَ لَيْتَنِي قَدْ يَكُونُ وَحْدَهُ، فَلَا يَكُونُ مَعَهُ مُنَادَى كَقَوْلِ مَرْيَمَ: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23] قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَا رَبِّ أَوْ يَا نَفْسِي أَوْ يَا وَلَدِي أَوْ أَرَادَتْ بِهِ الْخِطَابَ الْعَامَّ الْمَقْصُودَ فِي أَوْهَامِ الْأَفْهَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي ادُّعِيَ فِيهِ حَذْفُهُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ ثُبُوتُهُ كَحَذْفِ الْمُنَادَى قَبْلَ أَمْرٍ أَوْ دُعَاءٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُهُ لِكَثْرَةِ ثُبُوتِهِ مِنْهُ، فَمِنْ ثُبُوتِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وَقِيلَ الدُّعَاءُ {يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: 134] وَمِنْ حَذْفِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ (أَلَا يَا اسْجُدُوا) فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ أَيْ: أَلَا يَا هَؤُلَاءِ، وَقَبْلَ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَا

أَيْ: أَلَا يَا دَارَ مَيَّ اسْلَمِي فَحَسُنَ حَذْفُ الْمُنَادَى جَعَلَهَا اعْتِمَادًا عَلَى ثُبُوتِهِ، بِخِلَافِ لَيْتَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ ثَابِتًا فَادِّعَاءُ حَذْفِهِ بَاطِلٌ، فَتَعَيَّنَ كَوْنُ يَا هَذِهِ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ مِثْلَ أَلَا فِي نَحْوِ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً قُلْتُ: لَعَلَّ وَجْهَ حَذْفِ الْمُنَادَى مَعَ لَيْتَ كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِهِ، فَتَارَةً يَكُونُ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا أَوْ مُؤَنَّثًا، وَتَارَةً تَثْنِيَةً أَوْ جَمْعًا كَذَلِكَ، وَتَارَةً يَكُونُ مُحَقَّقًا وَأُخْرَى يَكُونُ مَوْهُومًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَثْرَةَ الِاسْتِعْمَالِ مُوجِبَةٌ لِلْحَذْفِ وَالتَّخْفِيفِ، حَتَّى رُبَّمَا تَجْعَلُ الْحَذْفَ وَاجِبًا، فَادِّعَاءُ حَذْفِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَقٌّ، بَلْ وَاجِبٌ لَا بَاطِلٌ وَذَاهِبٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْقَامُوسِ ذِكْرَ جَوَازِ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدَّمَ مَا قَدَّمْنَاهُ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا وَلِيَ يَا مَا لَيْسَ بِمُنَادَى كَالْفِعْلِ فِي: أَلَا يَا اسْجُدُوا، وَالْحَرْفِ فِي نَحْوِ: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} [النساء: 73] ، «وَيَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْعُقْبَى» ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ نَحْوَ: يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمُ ... وَالصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جَارِ فَهِيَ لِلنِّدَاءِ وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِجْحَافُ بِحَذْفِ الْجُمْلَةِ كُلِّهَا اهـ. وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ أَكُنْ قَوِيًّا (إِذْ يُخْرِجُكَ) : إِذْ هُنَا لِلِاسْتِقْبَالِ كَإِذَا، وَالْمَعْنَى حِينَ يَتَسَبَّبُ لِخُرُوجِكَ مِنْ بَلَدِكَ (قَوْمُكَ) أَيْ: أَقَارِبُكَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ) ؟ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا كَقَوْلِهِ: مُصْرِخِيَّ وَهُوَ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: هُمْ، وَأَصْلُهُ مُخْرِجُونَ أُضِيفَ إِلَى يَاءِ الْإِضَافَةِ بِكَسْرِ الْجِيمِ لِلْمُنَاسَبَةِ، فَإِعْرَابُهُ تَقْدِيرِيٌّ كَمُسْلِمِيَّ، وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِعْلَامِ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ مِنْ هَذَا الْإِقْدَامِ لِتَأْكِيدِ الْمَرَامِ أَيْ: أَيَكُونُ مَا قُلْتَ وَهُوَ مُخْرِجِيَّ؟ (فَقَالَ: نَعَمْ) . أَيْ: يُخْرِجُونَكَ وَسَبَبُهُ (أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ) أَيْ: مِنَ الرِّسَالَةِ (إِلَّا عُودِيَ) : مَاضٍ مَجْهُولٌ مِنَ الْمُعَادَاةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفْرَغٌ مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْأَحْوَالِ (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) : شَرْطٌ جَزَاؤُهُ (أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) . بِتَشْدِيدِ الزَّايِ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِالْيَوْمِ الزَّمَانَ الَّذِي أَظْهَرَ فِيهِ الدَّعْوَةَ، أَوْ عَادَاهُ قَوْمُهُ فِيهِ، وَقَصَدُوا إِيذَاءَهُ، وَإِخْرَاجَهُ، وَالْمُؤَزَّرُ الْبَالِغُ فِي الْقُوَّةِ مِنَ الْأَزْرِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ. قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] . (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ) : بِسُكُونِ النُّونِ وَفَتَحِ الشِّينِ أَيْ: لَمْ يَلْبَثْ وَلَمْ يَبْرَحْ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ، لَمْ يَشْتَغِلْ بِغَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَكَنَّى بِهِ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: (أَنْ تُوُفِّيَ) ، نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْوَفَاةِ أَيْ: لَمْ تَلْبَثْ وَفَاتُهُ بِأَنْ جَاءَتْ سَرِيعًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ وَرَقَةَ أَيْ: لَمْ يَلْبَثْ وَفَاتُهُ (وَفَتَرَ الْوَحْيُ) أَيِ: انْقَطَعَ أَيَّامًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5842 - وَزَادَ الْبُخَارِيُّ، «حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا - حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجَبَلِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5842 - (وَزَادَ الْبُخَارِيُّ) أَيْ: عَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَوْلَهُ: (حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِكَسْرِ الزَّايِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْحُزْنُ خِلَافُ السُّرُورِ، يُقَالُ: حَزِنَ الرَّجُلُ فَهُوَ حَزِنٌ وَحَزِينٌ وَأَحْزَنَهُ غَيْرُهُ وَحَزَّنَهُ أَيْضًا، لَكِنْ بِفَتْحِ الزَّايِ فِي الْمُتَعَدِّي (فِيمَا بَلَغَنَا) أَيْ: مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حُزْنِهِ، وَهُوَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَصْدَرِهِ الْمَنْصُوبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَعْنِي (حُزْنًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيَجُوزُ فَتْحُهُمَا أَيْ: حُزْنًا عَظِيمًا مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ (غَدَا) أَيْ: ذَهَبَ فِي الْغَدْوَةِ (مِنْهُ) : مِنْ أَجْلِ الْحُزْنِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ فُتُورِ الْوَحْيِ، وَقِيلَ: مَعْنَى غَدَا جَاوَزَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ ذَكَرَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: عَدَا بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ الذَّهَابُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْجَبَهَا مِنَ الذَّهَابِ غَدْوَةً اهـ. وَاقْتَصَرَ الشَّارِحُ عَلَى الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَقَالَ أَيْ: مَشَى مِنَ الْعَدْوِ (مِرَارًا) أَيْ: مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (كَيْ يَتَرَدَّى) أَيْ: يَسْقُطَ (مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجَبَلِ) ، أَيْ: عَوَالِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ شَاهِقٍ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْمُرْتَفِعُ (فَكُلَّمَا أَوْفَى) أَيْ

وَصَلَ وَلَحِقَ (بِذِرْوَةِ جَبَلٍ) : بِكَسْرِ الذَّالِ وَيَجُوزُ تَثْلِيثُهُ أَيْ: بِأَعْلَاهُ (لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ، تَبَدَّى) أَيْ: تَبَيَّنَ وَظَهَرَ لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا) . مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ نُصِبَ بِمُضْمَرٍ أَيْ: أَحَقَّ هَذَا الْكَلَامُ حَقًّا. (فَيَسْكُنُ) أَيْ: يَطْمَئِنُّ (لِذَلِكَ جَأْشُهُ) : أَوْ فَيَزُولُ لِذَلِكَ اضْطِرَابُ قَلْبِهِ وَقَلَقُهُ وَرَوْعُهُ وَفَزَعُهُ (وَتَقِرُّ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ تَسْكُنُ (نَفْسُهُ) أَيْ: مِنِ اضْطِرَابِهَا.

5843 - «وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، قَالَ: (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجُئِثْتُ إِلَى أَهْلِي، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] ، ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5843 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ) أَيِ: انْقِطَاعِهِ أَيَّامًا ثُمَّ حُصُولِهِ مُتَتَابِعًا (قَالَ: (فَبَيْنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَبَيْنَمَا (أَنَا أَمْشِي) أَيْ: فِي أَرْضِ مَكَّةَ بِنَاءً عَلَى إِطْلَاقِهِ، أَوْ فَوْقَ جَبَلِ حِرَاءٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: حَتَّى هَوَيْتُ (سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجِئْتُ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَكَسْرِ هَمْزٍ وَسُكُونِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ: فَزِعْتُ وَخِفْتُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْمَلَكِ (رُعْبًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ إِمَّا حَالٌ أَيْ: مُمْتَلِئًا رُعْبًا أَوْ مَرْعُوبًا كُلَّ الرُّعْبِ وَالرُّعْبُ: يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ الْفَزَعَ انْقِبَاضٌ وَنِفَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنَ الشَّيْءِ الْمُخِيفِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْجَزَعِ، وَالرُّعْبُ: الِانْقِطَاعُ مِنِ امْتِلَاءِ الْخَوْفِ، كَذَا حَقَّقَهُ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ تَمْيِيزٌ مُؤَكَّدٌ، وَنَظِيرُهُ: {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] (حَتَّى هَوَيْتُ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: سَقَطْتُ وَنَزَلْتُ (إِلَى الْأَرْضِ فَجِئْتُ أَهْلِي) أَيْ: أَهْلَ بَيْتِي (فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) أَيْ: دَثِّرُونِي وَثَقِّلُونِي مِنَ الزَّامِلَةِ، وَهُوَ ثَقْلُ الْمَتَاعِ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّكْثِيرِ، (فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى؟ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالثَّاءِ أَيِ الْمُتَدَثِّرُ بِمَعْنَى الْمُتَزَمِّلِ الْمُتَثَقِّلِ، وَلِهَذَا قِيلَ مَعْنَاهُ: يَا أَيُّهَا الْمُتَلَبِّسُ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَالْمُتَحَمِّلُ بِأَثْقَالِ الرِّسَالَةِ (قُمْ) أَيْ: بِأَمْرِنَا، أَوْ دُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 1 - 2] وَلِذَا قِيلَ: إِنَّهُ أُمِرَ بِالْقِيَامِ لِلنُّبُوَّةِ وَهَذَا أَمْرٌ بِالْقِيَامِ لِلرِّسَالَةِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] أَيْ: فَأَعْلِمِ النَّاسَ بِالتَّخْوِيفِ عَنِ الْعَذَابِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْوَاعِ الثَّوَابِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، أَوِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِنْذَارِ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الْكُفَّارِ وَعُمُومِ الْفُجَّارِ، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] أَيْ: فَخُصَّ رَبَّكَ بِوَصْفِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أَيْ: مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ طَهَارَةُ الْبَاقِي عَنِ الْقَاذُورَاتِ بِالْأَوْلَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَصِّرْ ثِيَابَكَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوَاضُعِ الْمُلَائِمِ لِلْعُبُودِيَّةِ الْمُنَاسِبِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ ظُهُورِ كِبْرِيَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ. {وَالرُّجْزَ} [المدثر: 5] : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا أَيِ: الشِّرْكُ وَالْعِصْيَانُ {فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] أَيْ: فَاتْرُكْهُ، الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي إِذْ تَمَامُهُ {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 6 - 7] (ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ: اشْتَدَّ حَرُّهُ (وَتَتَابَعَ) . أَيْ: نُزُولُهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5844 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ) . قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5844 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ) : هُوَ مَخْزُومِيٌّ، أَخُو أَبِي جَهْلٍ شَقِيقُهُ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتُشْهِدَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ. قَالَ الْعَيْنِيُّ: وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ. (سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ) ؟ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ عَائِشَةَ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَصْحَابُ.

الْأَطْرَافِ، فَكَأَنَّهَا حَضَرَتِ الْقِصَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَارِثُ أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ بَعْدُ، فَيَكُونُ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ وَحُكْمُهُ الْوَصْلُ اتِّفَاقًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ، وَعَامِرٌ فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنَّ لَهُ مُتَابِعٌ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (أَحْيَانًا) أَيْ: فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَالْأَزْمَانِ، قِيلَ: وَهُوَ وَقْتُ إِتْيَانِ الْوَعِيدِ (يَأْتِينِي) أَيِ: الْوَحْيُ (مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ) أَيْ: إِتْيَانًا مِثْلَ صَوْتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ: يَأْتِينِي الْوَحْيُ مُشَابِهًا صَوْتُهُ لِصَوْتِ الْجَرَسِ، وَالصَّلْصَلَةُ: صَوْتُ الْحَدِيدِ إِذَا حُرِّكَ (وَهُوَ) أَيْ: هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْوَحْيِ (أَشَدُّهُ) : أَصْعَبُهُ (عَلَيَّ) : وَأَتْعَبُهُ إِلَيَّ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لِأَنَّ الْفَهْمَ مِنْ كَلَامِ الصَّلْصَلَةِ أَشْكَلُ مِنَ الْفَهْمِ مِنْ كَلَامِ الرَّجُلِ بِالتَّخَاطُبِ الْمَعْهُودِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ صَوْتٌ مُتَدَارِكٌ يَسْمَعُهُ وَلَا يُثْبِتُهُ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ، حَتَّى يَتَفَهَّمَ وَيَتَثَبَّتَ فَيَتَلَقَّفُهُ حِينَئِذٍ وَيَعِيهِ، وَلِذَا قَالَ: (وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ) (فَيَفْصِمُ عَنِّي) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: يَنْقَطِعُ عَنِّي، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مِنْ أَفْصَمَ الْحُمَّى وَالْمَطَرُ أَيْ: أَقْلَعَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُقْلِعُ عَنِّي كَرْبُ الْوَحْيِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ قَوْلُهُ: فَيَفْصِمُ أَيِ: الْوَحْيُ أَوِ الْمَلَكُ فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ فِي الْوَحْيِ السَّابِقِ أَيْ كَيْفَ يَأْتِيكَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَهُوَ الْمَلَكُ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا لِأَبِي الْوَقْتِ مِنْ فَصَمَ يَفْصِمُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالْمُرَادُ قَطْعُ الشِّدَّةِ أَيْ: يُقْطَعُ وَيَنْجَلِي مَا يَغْشَانِي مِنَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ، وَيُرْوَى: فَيُفْصِمُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مِنْ أَفْصَمَ الْمَطَرُ إِذَا أَقْلَعَ رُبَاعِيٌّ. قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَيُفْصَمُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ، وَالْفَصْمُ الْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمَلَكَ يُفَارِقُنِي لِيَعُودَ حَالِي. (وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَهُوَ بِغَيْرِ الْعَيْنِ أَيْ: حَفِظْتُ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ الْوَعْيُ هُنَا قَبْلَ الْإِفْصَامِ، وَفِيمَا بَعْدُ حَالُ الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ وَرَدَ أَوَّلًا مَاضِيًا وَثَانِيًا حَالًا حَيْثُ قَالَ: (وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ) أَيْ: يَتَصَوَّرُ وَيَتَشَكَّلُ (لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا) أَيْ: مِثْلَ رَجُلٍ (فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ يُغَالِطُ فِيهِ أَبْنَاءُ الصَّلَابَةِ وَيَتَّخِذُونَهُ ذَرِيعَةً إِلَى تَضْلِيلِ الْعَامَّةِ وَتَشْكِيكِهِمْ، وَهُوَ حَقٌّ أَبْلَجُ، وَنُورٌ يَتَوَقَّدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] لَا يَغْلَطُ فِيهِ إِلَّا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ عَيْنَ قَلْبِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ تَقُولَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَيَّنًا بِالْبَلَاغِ، مُهَيْمِنًا عَلَى الْكِتَابِ، مُكَاشَفًا بِالْعُلُومِ الْغَيْبِيَّةِ، مَخْصُوصًا بِالْمُسَامَرَاتِ الْقَلْبِيَّةِ، وَكَانَ يَتَوَفَّرُ عَلَى الْأُمَّةِ حِصَّتُهُمْ بِقَدْرِ الِاسْتِعْدَادِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُنْبِئَهُمْ بِمَا لَا عَهْدَ لَهُمْ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ صَاغَ لَهَا أَمْثِلَةً مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَاتِ، لِيَعْرِفُوا مِمَّا شَاهَدُوهُ مَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ، فَلَمَّا سَأَلَ الصَّحَابِيُّ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَوِيصَةِ وَالْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي لَا يُكْشَفُ نِقَابُ التَّعَرِّي عَنْ وَجْهِهَا لِكُلِّ طَالِبٍ وَمُتَطَلِّبٍ، وَعَالِمٍ وَمُتَعَلِّمٍ، ضَرَبَ لَهَا فِي الشَّاهِدِ مَثَلًا بِالصَّوْتِ الْمُتَدَارِكِ الَّذِي يُسْمَعُ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَنْبَاءَهَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ فِي لُبْسَةِ الْجَلَالِ، وَأُبَّهَةِ الْكِبْرِيَاءِ، فَتَأْخُذُ هَيْبَةَ الْخِطَابِ حِينَ وُرُودِهَا بِمَجَامِعِ الْقَلْبِ، وَيُلَاقِي فِي ثِقَلِ الْقَوْلِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِالْقَوْلِ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فَإِذَا سُرِّيَ عَنْهُ وَجَدَ الْقَوْلَ الْمُنَزَّلَ هُنَا مُلْقًى فِي الرَّوْعِ، وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَسْمُوعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ) وَمَعْنَى: يَفْصِمُ يُقْلِعُ عَنِّي كَرْبُ الْوَحْيِ شَبَّهَهُ بِالْحُمَّى إِذَا فَصَمَتْ عَنِ الْمَحْمُومِ، وَيُقَالُ: أَفْصَمُ الْمَطَرُ أَيْ: أَقْلَعَ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْوَحْيِ شَبِيهٌ بِمَا يُوحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ، عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا قَضَى اللَّهُ فِي السَّمَاءِ أَمْرًا ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهَا سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] » .

هَذَا وَقَدْ سَبَقَ لَنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِ عَلَى صِفَتَيْنِ. أَوَّلُهُمَا أَشَدُّ مِنَ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُرَدُّ فِيهَا مِنَ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى الْأَوْضَاعِ الْمَلَكِيَّةِ، فَيُوحَى إِلَيْهِ كَمَا يُوحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْأُخْرَى يُرَدُّ فِيهَا الْمَلَكُ إِلَى شَكْلِ الْبَشَرِ وَشَاكِلَتِهِ، فَكَانَتْ هَذِهِ أَيْسَرَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ صَوْتٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُتَضَمِّنٌ لِلْمَعَانِي، مُدْهِشٌ لِلنَّفْسِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا إِيَّاهُ، وَلَكِنَّ الْقَلْبَ لِلْمُنَاسَبَةِ يُشْرَبُ مَعْنَاهُ، فَإِذَا سَكَنَ الصَّوْتُ أَفَاقَ النَّفَسُ، فَحِينَئِذٍ يَتَلَقَّى النَّفَسُ مِنَ الْقَلْبِ مَا أُلْقِيَ إِلَيْهِ، فَيَعِي عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ. فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّ مَا جَاءَ مِثْلَ ذَلِكَ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ وَصُورَتُهُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا وَيُحِيلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَّا ضَعِيفُ النَّظَرِ وَالْإِيمَانِ، إِذْ جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَدَلَائِلُ الْعُقُولِ لَا تُحِيلُهُ. (قَالَتْ عَائِشَةُ) : قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، سِيَّمَا إِذَا جَوَّزْنَا الْعَطْفَ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ دَاخِلٍ تَحْتَهُ، بَلْ كَانَ ثَابِتًا بِإِسْنَادٍ آخَرَ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيقِ تَأْيِيدًا لِأَمْرِ الشِّدَّةِ وَتَأْكِيدًا لَهُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَطْفٍ. (وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: فَيَنْفَصِلُ الْوَحْيُ عَنْهُ وَالْحَالُ أَنَّ (جَبِينَهُ) أَيْ: مُقَدَّمَ وَجْهِهِ (لَيَتَفَصَّدُ) أَيْ: لَيَتَصَبَّبُ (عَرَقًا) . تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى لَيَسِيلُ عَرَقُهُ مِثْلَ سَيَلَانِ الدَّمِ مِنَ الْعَرَقِ الْمَفْصُودِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

5845 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: نَكَّسَ رَأْسَهُ، وَنَكَّسَ أَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ، فَلَمَّا أُتْلِيَ عَنْهُ رَفَعَ رَأْسَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5845 - (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُنْزِلَ) : مَجْهُولٌ مِنَ الْإِنْزَالِ (عَلَيْهِ الْوَحْيُ) أَيْ: حِينَ أَوَّلِ إِنْزَالِهِ عَلَيْهِ (كُرِبَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أَصَابَهُ الْكَرْبُ وَحَزِنَ (لِذَلِكَ) أَيْ: لِشِدَّةِ نُزُولِهِ وَصُعُوبَةِ حُصُولِهِ. قَالَ شَارِحٌ: الْكَرْبُ وَالْكُرْبَةُ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ يُقَالُ: كَرَبَهُ الْغَمُّ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَالْمُسْتَكِنُّ فِي كَرْبٍ إِمَّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِالْوَحْيِ كَمَنْ أَخَذَهُ غَمٌّ أَيْ لِسَبَبِ مَبْنَاهُ أَوْ مَعْنَاهُ، وَلِذَا قِيلَ لَهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16] الْآيَةَ. قَالَ: أَوْ لِخَوْفِ مَا عَسَى يَتَضَمَّنُهُ الْوَحْيُ مِنَ التَّشْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِذَلِكَ، أَوِ الْمُسْتَكِنُّ الْوَحْيُ بِمَعْنَى اشْتَدَّ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَرْبِ الشِّدَّةُ. قُلْتُ: حِينَئِذٍ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: لِذَلِكَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْوَحْيِ أَشَدَّ الِاهْتِمَامِ، وَيَهَابُ مِمَّا يُطَالِبُ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَيَخْشَى عَلَى عُصَاةِ الْأُمَّةِ أَنْ يَنَالَهُمْ مِنَ اللَّهِ خِزْيٌ وَنَكَالٌ، فَيَأْخُذُهُ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كَرْبُ الْوَحْيِ وَشِدَّتُهُ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَرْبِ الشِّدَّةُ، وَإِنَّمَا قَالَ الصَّحَابِيُّ كُرِبَ لِمَا وَجَدَ مِنْ شَبَهِ حَالِهِ بِحَالِ الْمَكْرُوبِ وَقَوْلُهُ: (وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ) أَيْ: تَغَيَّرَ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي التَّغَيُّرِ مِنَ الْغَضَبِ، وَتَرَبَّدَ الرَّجُلُ أَيْ: تَعَبَّسَ. (وَفِي رِوَايَةٍ: نَكَّسَ رَأْسَهُ) أَيْ: أَطْرَقَهُ كَالْمُتَفَكِّرِ (وَنَكَّسَ أَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ) ، أَيِ: اتِّبَاعًا لَهُ وَتَأَدُّبًا مَعَهُ (فَلَمَّا أُتْلِيَ عَنْهُ) : بِضَمِّ هَمْزَةٍ فَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ وَكَسْرِ لَامٍ فَفَتْحِ تَحْتِيَّةٍ أَيْ: سُرِّيَ عَنْهُ وَكُشِفَ، كَأَنَّهُ ضَمَّنَ الْإِتْلَاءَ وَهُوَ الْإِحَالَةُ مَعْنَى الْكَشْفِ بِقَرِينَةِ عَنْ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ غَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْوَحْيُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَوِ الْكَرْبُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (رَفَعَ رَأْسَهُ) . أَيْ: وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أُتْلِيَ بِهَمْزَةٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقَ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ فَيَاءٍ، هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِنَا، وَمَعْنَاهُ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْوَحْيُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أُجْلِيَ بِالْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ انْجَلَى بِالْجِيمِ وَمَعْنَاهُ أُزِيلَ عَنْهُ وَزَالَ عَنْهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمَّنَ أُتْلِيَ مَعْنَى أَقْلَعَ فَعَدَّى بِعْنَ، وَيَنْصُرُهُ رِوَايَةُ شَرْحِ السُّنَّةِ: فَلَمَّا أَقْلَعَ عَنْهُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهُ: فَلَمَّا أُتْلِيَ عَلَيْهِ كَذَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَأَرَى صَوَابَهُ: فَلَمَّا تُلِيَ عَلَيْهِ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَإِنْ كَانَ أُتْلِيَ عَلَيْهِ مُحَقَّقًا، فَمَعْنَاهُ أُحِيلَ يُقَالُ: أَتْلَيْتُهُ أَحَلْتُهُ أَيْ: أُحِيلَ عَلَيْهِ الْبَلَاغُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ إِذَا قَضَى إِلَيْهِ مَا نَزَلَ بِهِ، فَقَدْ أَحَالَ عَلَيْهِ الْبَلَاغَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5846 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: (يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ) لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى تَجَمَّعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ صَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ - أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟) قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا. قَالَ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) . قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، لِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5846 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} [الشعراء: 214] أَيْ: قَوْمَكَ " الْأَقْرَبِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ: وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى صَعِدَ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ طَلَعَ (الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي) أَيْ: يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتٍ (يَا بَنِي فِهْرٍ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (يَا بَنِي عَدِيٍّ) أَيْ: وَأَمْثَالَ ذَلِكَ (لِبُطُونِ قُرَيْشٍ) : وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَتَفْصِيلُهُ (حَتَّى اجْتَمَعُوا) ، أَيْ: حَضَرَ جَمْعٌ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ (فَجَعَلَ الرَّجُلُ أَيْ: مِنْ مَشَايِخِهِمْ وَأَكَابِرِهِمْ (إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ) أَيْ: لِعُذْرٍ (أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هِيَ، أَيْ: مِنَ الْخَبَرِ (فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ أَيْ: عَامَّتُهُمْ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَرَأَيْتُمْ) أَيْ: أَخْبِرُونِي وَصَدِّقُونِي (إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا) : يَعْنِي فُرْسَانًا (تَخْرُجُ) أَيْ: تَظْهَرُ (مِنْ صَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ) أَيْ: نَاحِيَتِهِ أَوْ سَفْحِهِ فَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّ الصَّفْحَ الْجَانِبُ، وَمِنَ الْخَيْلِ مُضْطَجَعُهُ وَالسَّفْحُ عَرْضُ الْجَبَلِ الْمُضْطَجَعُ أَوْ أَصْلُهُ أَوْ أَسْفَلُهُ. (وَفِي رِوَايَةٍ: (إِنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِالْوَادِي) : اللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَادِي الْمَشْهُورُ بِوَادِي فَاطِمَةَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ (تُرِيدُ) أَيِ: الْخَيْلُ، وَالْمُرَادُ أَصْحَابُهَا وَرُكَّابُهَا (أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ) أَيْ: تَأْتِيَكُمْ بَغْتَةً لِلْإِغَارَةِ عَلَيْكُمْ لَيْلًا أَوْ صَبَاحًا (أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟) قَالُوا: نَعَمْ) أَيْ: نُصَدِّقُكَ لِأَنَّكَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ (مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمَّنَ جَرَّبَ مَعْنَى أَلْقَى أَيْ: مَا أَلْقَيْنَا عَلَيْكَ شَيْئًا مِنَ الْأَخْبَارِ مُجَرِّبِينَ إِيَّاكَ إِلَّا وَجَدْنَاكَ فِيهِ صَادِقًا. (قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ) أَيْ: مُنْذِرٌ وَمُخَوِّفٌ (بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) . أَيْ: قُدَّامَهُ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ (قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: خُسْرَانًا وَهَلَاكًا (لَكَ، أَلِهَذَا) أَيْ: لِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ (جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسْكَنُ أَيْ خَسِرَ وَهَلَكَ هُوَ، وَالْيَدُ مُقْحَمَةٌ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مُزَاوَلَتِهَا وَمُعَالَجَتِهَا بِهِمَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] فَقَوْلُهُ (وَتَبَّ) تَأْكِيدٌ، وَالْأَوَّلُ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي فِي الْأُخْرَى، فَالْمَعْنَى خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، أَوِ الْأَوَّلُ دُعَاءٌ وَالثَّانِي إِخْبَارٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5847 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَجُمِعَ قُرَيْشٌ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَثَبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا. فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) ثَلَاثًا وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5847 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ) أَيْ: قَرِيبًا مِنْهَا (وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ جَمْعٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي مَجَامِعِهِمْ (حَوْلَ الْكَعْبَةِ إِذْ قَالَ قَائِلٌ) أَيْ: أَبُو جَهْلٍ أَوْ غَيْرُهُ (أَيُّكُمْ يَقُومُ) أَيْ: يَتَوَجَّهُ (إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ) أَيْ: بَعِيرِهِمْ (فَيَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: فَيَقْصِدُ الْقَائِمُ (إِلَى فَرْثِهَا) : وَهُوَ السِّرْجِينُ مَا دَامَ فِي الْكِرْشِ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَالضَّمِيرُ إِلَى الْجَزُورِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَةَ مُؤَنَّثَةٌ يُقَالُ: هَذِهِ الْجَزُورُ، وَإِنْ أَرَدْتَ ذَكَرًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ (وَدَمِهَا وَسَلَاهَا) : بِفَتْحِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَهُوَ الْجِلْدُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَلْفُوفًا فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي الْمَاشِيَةِ السَّلَاءُ وَفِي النَّاسِ الْمَشِيمَةُ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ الْمَشِيمَةَ تَخْرُجُ بَعْدَ الْوَلَدِ، وَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ فِيهَا حِينَ يَخْرُجُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (فَانْبَعَثَ) أَيْ: فَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى مَا ذَكَرَ، (أَشْقَاهُمْ) أَيْ: أَشْقَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَقِيلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، (فَلَمَّا سَجَدَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَضَعَهُ) أَيْ: مَا ذَكَرَ، وَالْمَعْنَى أَحَدُهَا، وَلَعَلَّهُ بِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَمِرًّا عَلَى سُجُودِهِ، وَمُسْتَقِرًّا عَلَى شُهُودِهِ، رَاضِيًا بِقَضَائِهِ،

مُسَلِّمًا لِأَمْرِهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ؛ فَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ السُّرُورِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ الْحُضُورِ الْحَاصِلِ مِنْ قُرْبِ الرَّبِّ، وَهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، وَتَعَلُّقِهِمْ بِالْخَلْقِ غَفَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُهْلِكُوا هُنَاكَ، (فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أَيْ: وَاقِعِينَ وَسَاقِطِينَ فَوْقَ بَعْضِهِمْ (مِنَ الضَّحِكِ) ، أَيْ: مِنْ كَثْرَتِهِ النَّاشِئَةِ عَنْ إِعْجَابِهِمْ بِفِعْلِهِمْ وَتَعَجُّبِهِمْ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ) ، أَيْ: وَأَخْبَرَهَا بِمَا جَرَى (فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا تُسْرِعُ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَإِنَّهَا وُلِدَتْ وَعُمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ (وَثَبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا) : هُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ وَتَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (حَتَّى أَلْقَتْهُ) أَيْ: طَرَحَتْهُ (عَنْهُ) : فَاطِمَةُ وَأَبْعَدَتْهُ مِنْهُ (وَأَقْبَلَتْ) أَيْ: تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمْ (تَسُبُّهُمْ) ، أَيْ: تَشْتُمُهُمْ وَتَلْعَنُهُمْ وَهُمْ سَاكِتُونَ عَنْهَا لِصِغَرِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي أَنَّ غَيْرَهَا مَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ لِمَا كَانَ عَسَى أَنْ تَثُورَ الْفِتْنَةُ الْمُرْدِيَةُ إِلَى الْقِتَالِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، (فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ) أَيْ: أَدَّاهَا وَفَرَغَ مِنْهَا (قَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) . الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَعَلَيْكَ اسْمُ فِعْلٍ فَالْمَعْنَى خُذْهُمْ أَخْذًا شَدِيدًا أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (ثَلَاثًا) . أَيْ: كَرَّرَهُ ثَلَاثًا (وَكَانَ) أَيْ: مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ (إِذَا دَعَا) أَيِ: اللَّهَ (دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ) أَيْ: طَلَبَ مِنَ اللَّهِ (سَأَلَ ثَلَاثًا) : فَقِيلَ هَذَا تَأْكِيدٌ لِدَعَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لَهُ، هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَمَرَّ فِي الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى ظَهْرِهِ؟ أَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: بِأَنْ لَيْسَ هَذَا بِنَجِسٍ، لِأَنَّ الْفَرْثَ وَرُطُوبَةَ الْبَدَنِ طَاهِرَانِ، وَإِنَّمَا النَّجِسُ الدَّمُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذَا السَّلَا يَتَضَمَّنُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الدَّمِ فِي الْغَالِبِ، وَلِأَنَّهُ ذَبِيحَةُ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ. قُلْتُ: يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مَذْبُوحَةً وَإِلَّا فَمَيْتَةٌ نَجِسَةٌ اتِّفَاقًا. وَكَانَ النَّوَوِيُّ غَفَلَ عَنِ التَّصْرِيحِ فِي الْحَدِيثِ بِذِكْرِ الدَّمِ، حَتَّى تَعَلَّقَ بِأَنَّ السَّلَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الدَّمِ غَالِبًا. ثُمَّ قَالَ: وَالْجَوَابُ الْمَرْضِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْلَمْ مَا وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَاسْتَمَرَّ فِي سُجُودِهِ اسْتِصْحَابًا لِلطَّهَارَةِ. قُلْتُ: وَرَدَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَعَ النَّجَاسَةِ لَا تَصِحُّ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: الصَّوَابُ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قِيلَ: كَانَ هَذَا الصَّنِيعُ مِنْهُمْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وَذَبِيحَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَلَمْ تَكُنْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا كَالْخَمْرِ كَانَتْ تُصِيبُ ثِيَابَهُمْ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ ثَبَاتَهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَزِيدًا لِلشَّكْوَى، وَإِظْهَارًا لِمَا صَنَعَ أَعْدَاءُ اللَّهِ بِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَأْخُذَهُمْ أَخْذًا وَبِيلًا، وَلِذَا كَرَّرَ الدُّعَاءَ ثَلَاثًا: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ) أَيْ: خُصُوصًا، وَهُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ الْجَاهِلِيُّ الْمَعْرُوفُ، كَانَ يُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ، فَكُنَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا جَهْلٍ، فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكُنْيَةُ، قَتَلَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَقَطَعَ رَأْسَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي بَدْرٍ. (وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ) : جَاهِلِيٌّ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا (وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ) ، أَيِ: ابْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، جَاهِلِيٌّ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا (وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ) ، أَيِ: ابْنِ رَبِيعَةَ، جَاهِلِيٌّ قُتِلَ بِبَدْرٍ مُشْرِكًا (وَأُمَيَّةَ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ وَفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (بْنِ خَلَفٍ) ، بِفَتْحَتَيْنِ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا، وَأَمَّا أَخُوهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُشْرِكًا، قَتَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، (وَعُقْبَةَ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) ، بِالتَّصْغِيرِ (وَعُمَارَةَ) : بِضَمٍّ فَتَخْفِيفٍ (بْنِ الْوَلِيدِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ) أَيْ: أَبْصَرْتُ الْمَذْكُورِينَ (صَرْعَى) : هَلْكَى، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: مَصْرُوعِينَ حِينَ (يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: جُرُّوا (إِلَى الْقَلِيبِ) : وَهُوَ الْبِئْرُ قَبْلَ أَنْ تُطْوَى (قَلِيبِ بَدْرٍ) ، بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ وَنَصْبُهُ، ثُمَّ بَدْرٌ اسْمُ مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ صَاحِبَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَدِ اسْتَشْكَلَ عَدُّ عُمَارَةَ فِي الْمَذْكُورِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ بِبَدْرٍ، بَلْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي أَنَّهُ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلَامَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِنَّمَا قُتِلَ صَبْرًا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا عَنْ بَدْرٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لَمْ يُطْرَحْ فِي الْقَلِيبِ كَمَا هُوَ بَلْ مُقَطَّعًا.

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأُتْبِعَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا (أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً) . أَيْ: أُتْبِعَ عَذَابُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 60] وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَنَصْبُ أَصْحَابٍ عَلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِإِيصَالِ اللَّعْنَةِ الْمُتَوَاصِلَةِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: جُمْلَةُ وَأُتْبِعَ إِلَخْ. يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الدُّعَاءِ الْمَاضِي؛ فَيَكُونَ فِيهِ عَلَمٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5848 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، فَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ - عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ) . قَالَ: (فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5848 - (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ) أَيْ: هَلْ مَرَّ عَلَيْكَ وَقْتٌ وَزَمَانٌ (كَانَ) أَيْ: صُعُوبَتُهُ (أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ) ، أَيْ: مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، أَوْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الْمُبْهَمُ لِيَذْهَبَ الْوَهْمُ كُلَّ الْمَذْهَبِ فِي الْفَهْمِ، (وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْ) : بِنَصْبِ أَشَدَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْعَقَبَةِ) : فَبِالنَّصْبِ لَا غَيْرَ وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يُضَافُ إِلَيْهَا جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ. قَالَ شَارِحٌ: أَشَدَّ بِالنَّصْبِ خَبَرُ كَانَ، وَمَا لَقِيتُ مِنْهُمْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ اسْمُهُ، وَيَوْمَ الْعَقَبَةِ ظَرْفُ لَقِيتُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَانَ مَا لَقِيتُهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ أَشَدَّ مِمَّا لَقِيتُهُ مِنْهُمْ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْعَقَبَةِ اسْمَ كَانَ وَخَبَرُهُ أَشَدَّ مُضَافًا إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَوِ الْمَوْصُوفَةِ الْمُعَبَّرِ بِهَا عَنِ الْأَيَّامِ، تَقْدِيرُهُ: وَكَانَ يَوْمَ الْعَقَبَةِ أَشَدَّ الْأَيَّامِ الَّتِي لَقِيتُ مِنْهُمْ، أَوْ أَشَدَّ أَيَّامٍ لَقِيتُ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَكْسِ، وَقِيلَ: مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ اسْمُ كَانَ، وَيَكُونُ أَشَدُّ خَبَرَهُ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ مِنْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَشَدُّ مَا لَقِيتُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهُ عَائِدٌ إِلَى مُقَدَّرٍ، وَهُوَ مَفْعُولُ قَوْلِهِ: لَقَدْ لَقِيتُ، وَيَوْمَ الْعَقَبَةِ ظَرْفٌ، فَالْمَعْنَى كَانَ مَا لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ يَوْمَ الْعَقَبَةِ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ، وَأَرَادَ بِالْعَقَبَةِ الَّتِي بِمِنًى، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عِنْدَ الْعَقَبَةِ فِي الْمَوْسِمِ، وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى الْإِسْلَامِ اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا أَجَابُوا ذَلِكَ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِذْ وَهُوَ الظَّاهِرُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَضَعَ إِذَا الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ مَوْضِعَ إِذْ، يَعْنِي الْمَوْضُوعَةَ لِلْمَاضِي اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ، وَالْمَعْنَى حِينَ عَرَضْتُ نَفْسِي بِالْأَمَانِ وَالْإِجَارَةِ مِنَ التَّعَرُّضِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ (عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَاللَّامِ الْأَوْلَى (بْنِ كُلَالٍ) ، بِضَمِّ الْكَافِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَالَّذِي فِي الْمَغَازِي أَنَّ الَّذِي كَلَّمَهُ هُوَ عَبْدُ يَالِيلَ نَفْسُهُ، وَعِنْدَ أَهْلِ النَّسَبِ أَنَّ كُلَالًا أَخُوهُ لَا أَبُوهُ، وَأَنَّهُ عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَمْرٍو، وَيُقَالُ اسْمُ ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ مَسْعُودٌ، وَكَانَ ابْنُ عَبْدِ يَالِيلَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الطَّائِفِ مِنْ ثَقِيفٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدِمَ مَعَ وَفْدِ طَائِفٍ سَنَةَ عَشْرٍ، فَأَسْلَمُوا، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ، لَكِنْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ) أَيْ: مَا قَصَدْتُ وَطَلَبْتُ مِنْهُ حِينَئِذٍ مِنَ الْعَهْدِ وَالْأَمَانِ (فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (عَلَى وَجْهِي) ، فَذَهَبْتُ مَهْمُومًا عَلَى جِهَتِي. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: فَانْطَلَقْتُ حَيْرَانًا هَائِمًا لَا أَدْرِي أَيْنَ أَتَوَجَّهُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْغَمِّ وَصُعُوبَةِ ذَلِكَ الْهَمِّ. (فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ) ، يُقَالُ: أَفَاقَ وَاسْتَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ وَسُكْرِهِ، بِمَعْنَى أَيْ: فَلَمْ أُفِقْ مِمَّا كُنْتُ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ وَشِدَّةِ الْهَمِّ، حَتَّى بَلَغْتُ قَرْنَ الثَّعَالِبِ، وَالْقَرْنُ: جَبَلٌ، وَقَرْنُ الثَّعَالِبِ: جَبَلٌ بِعَيْنِهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، (فَرَفَعْتُ رَأْسِي) أَيْ: إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ وَمَهْبِطَ الرَّجَاءِ، (فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي) أَيْ: بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ (فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا) أَيْ: فِي

السَّحَابَةُ (جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ) أَيْ: قَوْلَكَ إِيَّاهُمْ (وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ) أَيْ: مِنْ إِيَّاهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ، وَبَيَانًا عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ مِنَ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، (وَقَدْ بَعَثَ) أَيْ: أَرْسَلَ اللَّهُ (إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ) . قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ) ، أَيْ بِنَحْوِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، أَوْ يَا مُحَمَّدُ (فَسَلَّمَ عَلَيَّ) أَيْ: تَسْلِيمَ تَعْظِيمٍ وَتَكْرِيمٍ (ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ) ، أَيْ: بِشَأْنِكَ أَوْ بِمَا تُرِيدُهُ (إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ مِنْ أَطْبَقَ إِذَا جَعَلَ الشَّيْءَ فَوْقَ الشَّيْءِ مُحِيطًا بِجَمِيعِ جَوَانِبِهِ كَمَا يَنْطَبِقُ الطَّبَقُ عَلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَعْنَى إِذَا أَرَدْتَ أَنْ أَقْلِبَ (عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ) . وَهُمَا جَبَلَانِ يُضَافَانِ إِلَى مَكَّةَ مَرَّةً، وَإِلَى مِنًى أُخْرَى، وَهُمَا وَاحِدٌ، ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي الْفَائِقِ: الْأَخْشَبَانِ الْجَبَلَانِ الْمُطْبِقَانِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ أَبُو قُبَيْسٍ وَالْأَحْمَرُ وَهُوَ جَبَلٌ مُشْرِفٌ وَجْهُهُ عَلَى قُعَيْقِعَانَ، وَالْأَخْشَبُ كُلُّ جَبَلٍ غَلِيظٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: قُعَيْقِعَانُ كَزُعَيْفِرَانَ جَبَلٌ بِمَكَّةَ وَجْهُهُ إِلَى أَبِي قُبَيْسٍ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلْ) أَيْ: لَا أُرِيدُ ذَلِكَ وَإِنِ اسْتَحَقُّوا لِكَفْرِهِمْ بَلْ (أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ) أَيْ: مِنْ أَنْسَابِ بَعْضِهِمْ (مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ) ، أَيْ: مَنْ يُوَحِّدُهُ مُنْفَرِدًا أَوْ لِيُطِيعَهُ مُخْلِصًا (لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) أَيْ: مِنْ شِرْكٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5849 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ؟) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5849 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى وَزْنِ الثَّمَانِيَةِ، السِّنُّ الَّذِي بَيْنَ الثَّنِيَّةِ وَالنَّابِ، وَكَانَتِ الرَّبَاعِيَةُ الْمَكْسُورَةُ هِيَ السُّفْلَى مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ (يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ) : بِضَمِّ شِينٍ وَتَشْدِيدِ جِيمٍ أَيْ: جُرِحَ رَأْسُهُ فَقَوْلُهُ (فِي رَأْسِهِ) ، إِمَّا مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ أَوْ نَوْعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي، بُولِغَ فِي الشَّجِّ حَيْثُ أَوْقَعَ الرَّأْسَ ظَرْفًا لِلشَّجِّ، يَعْنِي فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَوْقَعَ الشَّجَّ فِي رَأْسِهِ تَضْمِينًا (فَجَعَلَ يَسْلُتُ) : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: يُزِيلُ (الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ) أَيِ: اسْتِعْظَامًا وَاسْتِعْجَابًا ( «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ» ) ؟ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ ضُرِبَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ بِالسَّيْفِ سَبْعِينَ ضَرْبَةً، وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهَا كُلَّهَا، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ حُصُولُ الْمُشَارَكَةِ لَهُ مَعَ السَّبْعِينَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ لِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وَبِمَا حَصَلَ لَهُ بَعْضُ الْأَثَرِ مِنَ الشَّجِّ وَالْكَسْرِ لِتَحْقِيقِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَلِإِظْهَارِ مُقْتَضَى الْأَوْصَافِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَالتَّأْثِيرِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَمُوجِبُ نَعْتِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ الْمُلَاءَمَةِ لِلرُّبُوبِيَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

5850 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ) . يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ» . وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ: الْفَصْلِ الثَّانِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 5850 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ) (يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ) : حَالٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وَعَامِلُهُ قَالَ: وَقَعَ مُفَسِّرًا لِمَفْعُولِ فَعَلُوا هَذَا (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . لَعَلَّ حَذْفَ الْعَاطِفِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ مُسْتَقِلَّانِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الرَّاوِي، وَيُؤَيِّدُهُ تَكْرَارُ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ، أَوْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ مَا ذُكِرَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الِاشْتِرَاكِ، وَلَمْ يَأْتِ بِأَوْ كَيْلَا يُظَنَّ الشَّكُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُهُ وَضْعًا لِلظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِأَنَّ مَنْ يَقْتُلُهُ مَنْ هُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَشْقَى النَّاسِ، وَالَّذِي قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ، وَقَوْلُهُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ احْتِرَازٌ عَمَّنْ يَقْتُلُهُ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، لِأَنَّ مَنْ يَقْتُلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ قَاصِدًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) . تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ مِرَارًا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5851 - «عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] قُلْتُ: يَقُولُونَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ذَلِكَ. وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ لِي. فَقَالَ لِي جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا بِمَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، فَنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] قَالَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5851 - (عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا النَّصْرِ الْيَمَانِيَّ، مَوْلَى لِطَيِّئٍ، أَصْلُهُ بَصْرِيٌّ صَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، رَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَتَادَةَ وَغَيْرَهُمَا، رَوَى عَنْهُ عِكْرِمَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمَا. (قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَعْلَامِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ، وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُمْ. وَرَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، (عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] : فِيهِ اشْتِبَاهُ الْحَالِ عَلَى الرَّاوِي، فَإِنَّ نُزُولَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] كَانَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، كَمَا عُلِمَ مُفَصَّلًا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَأَوَّلِيَّتُهُ إِضَافِيَّةٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، أَوْ أَوَّلِيَّتُهُ مَخْصُوصَةٌ بِالْإِنْذَارِ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ أَوَّلُ الْوَحْيِ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنَّ مَا قَبْلَهُ كَانَ نِسْبَتَهُ النُّبُوَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قُلْتُ: يَقُولُونَ) أَيِ: الْجُمْهُورُ أَوْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] أَيْ: هُوَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ذَلِكَ) . أَيْ: مِثْلَ سُؤَالِكَ (وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ لِي) . أَيْ: فِي جَوَابِهِ لِلسُّؤَالِ مِمَّا يَعُودُ فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ (قَالَ لِي جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا بِمَا) أَيْ: بِمِثْلِ (مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: بِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِتَقْدِيرِهِ (قَالَ: (جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَيَّامَ الْفَتْرَةِ كَانَتْ شَهْرًا (فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: مُجَاوَرَتِي وَاعْتِكَافِي (هَبَطْتُ) أَيْ: نَزَلْتُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ ثَانِي الْحَالِ، لِأَنَّ نُزُولَ اقْرَأْ كَانَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، كَمَا سَبَقَ مِنَ الْمَقَالِ (فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا) : وَقَدْ سَبَقَ عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ: (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ) الْحَدِيثَ. فَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْأَوَّلُ الْإِضَافِيُّ (فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، قَالَتْ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا) : لَعَلَّ مَحَلَّ الصَّبِّ الْوَجْهُ لِدَفْعِ الْغَشَيَانِ، فَلَا يُنَافِي مَا قَبْلَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْبُرُودَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْخَفَقَانِ، فَنَزَلَتْ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَخْ إِخْبَارٌ عَمَّا سَمِعَ وَاعْتَقَدَ مِنْ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] اهـ. فَالْجَمْعُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] كَمَا صُرِّحَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَمَّا: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] فَكَانَ نُزُولُهَا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَابِرٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ الْفَاتِحَةُ فَبَاطِلٌ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ أَوَّلُ سُورَةٍ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، أَوْ أَوَّلُ سُورَةٍ بَعْدَ: اقْرَأْ، وَالْمُدَّثِّرِ، فَيَكُونُ أَوْلَوِيَّتُهَا أَيْضًا إِضَافِيَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ) أَيْ: نُزُولُ الْمُدَّثِّرِ (قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ) أَيْ: مُطْلَقُ الصَّلَاةِ الْمُتَوَقِّفُ صِحَّتُهَا أَوْ كَمَالُهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

[باب علامات النبوة]

[بَابُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ]

[5] بَابُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5852 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ، فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَيُقَالُ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ وَأَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ، يَعْنِي ظِئْرَهُ فَقَالُوا: إِنْ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللَّوْنِ قَالَ أَنَسٌ: فَكُنْتُ أَرَى أَثَرَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [5]- بَابُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5852 - ( «عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ» ) . بِكَسْرِ الْغَيْنِ أَيِ: الصِّبْيَانِ (فَأَخَذَهُ، فَصَرَعَهُ) أَيْ: فَطَرَحَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَى قَفَاهُ (فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ) ، أَيْ: عَنْ جَانِبِ قَلْبِهِ وَشَقَّهُ (فَاسْتَخْرَجَ) : وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: وَاسْتَخْرَجَهُ فَاسْتَخْرَجَ (مِنْهُ عَلَقَةً) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: دَمًا غَلِيظًا، وَهُوَ أُمُّ الْمَفَاسِدِ وَالْمَعَاصِي فِي الْقَلْبِ (فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ) ، أَيْ: نَصِيبُهُ لَوْ دَامَ مَعَكَ (ثُمَّ غَسَلَهُ) أَيْ: قَلْبَهُ أَوْ جَوْفَهُ أَوْ مَحَلَّ شَقِّهِ (فِي طَسْتٍ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَيُكْسَرُ وَبِسِينٍ مُهْمَلَةٍ وِتَاؤُهُ بَدَلٌ مِنَ السِّينِ الْأَخِيرَةِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: الطَّسْتُ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَفِيهَا لُغَاتٌ: طَسٌّ وَطِسٌّ وَطَسْتٌ وَطِسْتٌ وَطَسَّةٌ وَطِسَّةٌ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فِي جَمِيعِهَا وَقَوْلُهُ: (مِنْ ذَهَبٍ) : لَعَلَّهُ اخْتِيرَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الذَّهَابِ، وَلَا يُنَافِيهِ حُرْمَةُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، (مَا لِكَوْنِ الْمَلَائِكَةِ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ بِأَفْعَالِنَا، أَوْ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ (بِمَاءِ زَمْزَمَ) ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِيَاهِ الْعَالَمِ حَتَّى مَاءِ الْكَوْثَرِ، لَكِنَّ الْمَاءَ الَّذِي نَبَعَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمِيَاهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِكَوْنِهِ مِنْ أَثَرِ يَدِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمَاءُ زَمْزَمَ مِنْ أَثَرِ قَدَمِ إِسْمَاعِيلَ الْمُنِيفَةِ، وَبَوْنٌ بَيِّنٌ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الْإِعْجَازَ الْكَائِنَ فِي يَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْلَغُ، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: مَاءُ فَمِهِ الْمُبَارَكِ أَكْمَلُ مِنَ الْكُلِّ، وَلَوْ مُزِجَ بِمَاءِ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّ ابْنَ الْعَارِفِ بْنِ الْفَارِضِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عَلَيْكَ بِهَا صِرْفًا وَإِنْ شِئْتَ مَزْجَهَا فَعَدْلُكَ عَنْ ظُلْمِ الْحَبِيبِ هُوَ الظُّلْمُ (ثُمَّ لَأَمَهُ) : بِلَامٍ فَهَمْزٍ أَيْ: أَصْلَحَ مَوْضِعَ شَقِّهِ (وَأَعَادَهُ) أَيِ: الْقَلْبَ الْمُخْرَجَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ السَّابِقَةُ (فِي مَكَانِهِ) : وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ الِالْتِئَامَ بَعْدَ الْإِعَادَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَقُولُ لَأَمْتُ الْجُرْحَ وَالصَّدْعَ إِذَا شَدَدْتَهُ فَالْتَأَمَ، يُرِيدُ أَنَّهُ سَوَّاهُ وَأَصْلَحَهُ، (وَجَاءَ الْغِلْمَانُ) أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا يَلْعَبُونَ مَعَهُ فِي الصَّحْرَاءِ (يَسْعَوْنَ) أَيْ: يُسْرِعُونَ (إِلَى أُمِّهِ) أَيِ: الرَّضَاعِيَّةِ (يَعْنِي أَيْ: يُرِيدُ أَنَسٌ بِأُمِّهِ (ظِئْرَهُ) أَيْ: مُرْضِعَتَهُ حَلِيمَةَ (فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ) ، لِأَنَّ تَصَوُّرَ حَيَاتِهِ بَعْدَ شَقِّ الْبَطْنِ وَمُعَالَجَاتِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ وَعَلَامَةِ النُّبُوَّةِ، (فَاسْتَقْبَلُوهُ) أَيْ: تَوَجَّهَ جَمْعٌ مِنْ قَوْمِهَا إِلَيْهِ فَرَأَوْهُ (وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللَّوْنِ) . بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ: مُتَغَيِّرُهُ فَفِي الْقَامُوسِ انْتُقِعَ لَوْنُهُ مَجْهُولًا إِذَا تَغَيَّرَ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُقَالُ انْتُقِعَ لَوْنُهُ إِذَا تَغَيَّرَ مِنْ حُزْنٍ أَوْ فَزَعٍ، وَكَذَلِكَ امْتُقِعَ بِالْمِيمِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ التَّسْلِيمُ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِتَأْوِيلٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَجَازِ، إِذْ لَا ضَرُورَةَ فِي ذَلِكَ، إِذْ هُوَ خَبَرٌ صَادِقٌ مَصْدُوقٌ عَنْ قُدْرَةِ الْقَادِرِ اهـ. وَزُبْدَةُ مَا قِيلَ فِيهِ صَارَ بِهَذَا مُقَدَّسَ الْقَلْبِ مُنَوَّرَهُ، لِيَسْتَعِدَّ لِقَبُولِ الْوَحْيِ، وَلَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ هَوَاجِسُ النَّفْسِ، وَيَقْطَعَ طَمَعَ الشَّيْطَانَ عَنْ إِغْفَالِهِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. (قَالَ أَنَسٌ: فَكُنْتُ أَرَى أَثَرَ الْمِخْيَطِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ: الْإِبْرَةِ (فِي صَدْرِهِ) . وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كَذَا أَنَّ أَمْرَ الشَّقِّ كَانَ حِسِّيًّا لَا مَعْنَوِيًّا، وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ شَقُّ الصَّدْرِ وَغَسْلُهُ مُخْتَصًّا بِهِ، أَوْ وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا، وَقَدْ وَقَعَ الشَّقُّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا، فَعِنْدَ حَلِيمَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ، ثُمَّ عِنْدَ مُنَاجَاةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ بِغَارِ حِرَاءٍ، ثُمَّ فِي الْمِعْرَاجِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

5853 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5853 - ( «وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ» ) أَيْ: وَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ (قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ) ، قِيلَ: إِنَّهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ كَذَا فِي بَعْضِ حَوَاشِي الشِّفَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحَجَرُ الْمُتَكَلِّمُ الْمَعْرُوفُ بِزُقَاقِ الْحَجَرِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ بَيْتِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، (إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ) . تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: إِنِّي لَأَعْرِفُ وَاسْتِحْضَارٌ لَهُ كَأَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ الْآنَ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي وَجُودُهُ بِالْأَوْلَى مِنَ الْحَالَةِ الْأُولَى، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَمَّا اسْتَقْبَلَنِي جِبْرِيلُ بِالرِّسَالَةِ جَعَلْتُ لَا أَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ) . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي شَرْحِ كَلَامِ شَيْخِنَا جَمَالِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الْبَكْرِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: خَلِيفَتُكَ عَلَى كَافَّةِ خَلِيقَتِكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ.

5854 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5854 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ) أَيْ: كُفَّارَهُمْ (سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرِيَهُمْ) أَيْ: يُظْهِرَ لَهُمْ (آيَةً) أَيْ: عَلَامَةً دَالَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ (فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: قِطْعَتَيْنِ مَفْصُولَتَيْنِ (حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا) : بِأَنْ كَانَتْ شِقَّةٌ فَوْقَ الْجَبَلِ وَشِقَّةٌ دُونَهُ كَمَا سَيَأْتِي (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5855 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةً دُونَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْهَدُوا) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5855 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِرْقَتَيْنِ) أَيْ: قِطْعَتَيْنِ مُتَفَارِقَتَيْنِ (فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ) أَيْ: جَبَلِ حِرَاءٍ (وَفِرْقَةً دُونَهُ) ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا تَبَايَنَتَا، فَإِحْدَاهُمَا إِلَى جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَالْأُخْرَى إِلَى السُّفْلِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْهَدُوا) . أَيْ: عَلَى نُبُوَّتِي أَوْ مُعْجِزَتِي مِنَ الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ احْضُرُوا وَانْظُرُوا مِنَ الشُّهُودِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ الزَّجَّاجُ: زَعَمَ قَوْمٌ عَدَلُوا عَنِ الْقَصْدِ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّ الْقَمَرَ يَنْشَقُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَمْرُ بَيِّنٌ فِي اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَقَوْلُهُ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أَيْ: مُطَّرِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا قَبْلَهُ آيَاتٍ أُخَرَ مُتَرَادِفَةً وَمُعْجِزَاتٍ سَابِقَةً، وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ: إِنَّمَا ذَهَبَ الْمُنْكِرُ إِلَى مَا ذَهَبَ، لِأَنَّ الِانْشِقَاقَ أَمْرٌ هَائِلٌ، وَلَوْ وَقَعَ لَعَمَّ وَجْهَ الْأَرْضِ، وَبَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُوَافِقَ قَدْ نَقَلَهُ وَبَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ. وَأَمَّا الْمُخَالِفُ فَرُبَّمَا ذَهَلَ أَوْ حَسِبَ نَحْوَ الْخُسُوفِ، وَالْقُرْآنُ أَوْلَى دَلِيلٍ وَأَقْوَى شَاهِدٍ، وَإِمْكَانُهُ لَا شَكَّ فِيهِ أَيْ عَقْلًا، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ وُقُوعِهِ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ، فَحَدِيثُ اللِّئَامِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: إِنَّمَا هَذَا الِانْشِقَاقُ حَصَلَ فِي اللَّيْلِ، وَمُعْظَمُ النَّاسِ نِيَامٌ غَافِلُونَ، وَالْأَبْوَابُ مُغْلَقَةٌ وَهُمْ مُتَغَطُّونَ بِثِيَابِهِمْ، وَقَلَّ مَنْ يَتَفَكَّرُ فِي السَّمَاءِ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا شَيْءٌ طَلَبَهُ قَوْمٌ خَاصٌّ عَلَى مَا حَكَاهُ أَنَسٌ، فَأَرَاهُمْ ذَلِكَ لَيْلًا، وَأَكْثَرُ النَّاسِ نِيَامٌ وَمُسْتَكِنُّونَ بِالْأَبْنِيَةِ فِي الْبَرَارِي وَالصَّحْرَاءِ وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَكُونُوا مَشَاغِيلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ يَكْسِفُ الْقَمَرُ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. أَيْ: مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَمْتَدُّ، وَإِنَّمَا كَانَ قَدْرَ اللَّحْظَةِ الَّتِي هِيَ مُدْرَكُ الْبَصَرِ وَلَوْ دَامَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، حَتَّى يَشْتَرِكَ فِيهَا الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَاسْتَوْجَبُوا الْهَلَاكَ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا أَنَّ نَبِيَّهُمْ كَانَ إِذَا أَتَى بِآيَةٍ عَامَّةٍ يُدْرِكُهَا الْحِسُّ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا أُهْلِكُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَائِدَةِ: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] فَلَمْ يُظْهِرِ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَامَّةَ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قُلْتُ: وَفِي نَفْسِ الْقَضِيَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ شِقٌّ مِنْهُ فَوْقَ الْجَبَلِ، وَأُخْرَى دُونَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُحْجَبُ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ يَسْكُنُ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ، فَكَيْفَ بِسَائِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَقِيَّةِ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، عَلَى أَنَّ إِرَاءَةَ الْمُعْجِزَةِ لِقَوْمٍ عَلَى مَا اقْتَرَحُوا، كَنَاقَةِ صَالِحٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ظُهُورَهَا لِغَيْرِهِمْ.

5856 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي - زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ - فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5856 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ مِنَ التَّعْفِيرِ وَهُوَ التَّفْرِيغُ (فِي التُّرَابِ) أَيْ: هَلْ يُصَلِّي وَيَسْجُدُ عَلَى التُّرَابِ (بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ) ؟ فِيمَا بَيْنَكُمْ عَلَى أَنَّ الْأَظْهُرَ مُقْحَمَةٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُقُوعِهِ عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ، أَوِ الِاسْتِنَادِ إِلَى ظَهْرِ أَحَدٍ وَحِمَايَتِهِ وَرِعَايَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ بِهِ سُجُودَهُ عَلَى التُّرَابِ، وَإِنَّمَا أُوثِرَ التَّعْفِيرَ عَلَى السُّجُودِ تَعَنُّتًا وَعِنَادًا وَإِذْلَالًا وَتَحْقِيرًا. (فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ) أَيْ: لَأَدُوسَنَّ (عَلَى رَقَبَتِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: فَجَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ (وَهُوَ يُصَلِّي) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَالْحَالُ مِنَ الْفَاعِلِ قَوْلُهُ: (وَزَعَمَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَوْ قَصَدَ أَبُو جَهْلٍ (لِيَطَأَ) أَيْ: لِيَضَعَ (رِجْلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ لَامُ تَأْكِيدٍ. قُلْتُ: فَالْفِعْلُ مَرْفُوعٌ حِينَئِذٍ، وَفِي نُسْخَةٍ زَعِمَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَفِي الْقَامُوسِ: زَعِمَ كَفَرِحَ طَمِعَ قَالَ الطِّيبِيُّ: زَعِمَ وَقَعَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ بَعْدَ الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَزَعِمَ بِمَعْنَى طَمِعَ وَأَرَادَ. قَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: وَمِنَ الْمَجَازِ زَعِمَ فُلَانٌ فِي غَيْرِ مَزْعَمٍ طَمِعَ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، لِأَنَّ الطَّامِعَ زَاعِمٌ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ، (فَمَا فَجِئَهُمْ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ، فَفِي الْقَامُوسِ: فَجِئَهُ كَسَمِعَ وَمَنَعَ هَجَمَ عَلَيْهِ، وَأَتَاهُ بَغْتَةً أَيْ: فَمَا أَتَى قَوْمَهُ فُجَاءَةً (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ (إِلَّا وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ أَيْ: أَبُو جَهْلٍ (يَنْكِصُ) : بِكَسْرِ الْكَافِ وَيُضَمُّ أَيْ: يَرْجِعُ (عَلَى عَقِبَيْهِ) ، أَيْ: قَهْقَرَى (وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ) أَيْ: يَحْذَرُ بِهِمَا وَيَدْفَعُ شَيْئًا بِسَبَبِهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُسْتَثْنَى فَاعِلُ فَجِئَ أَيْ: فَمَا فَجِئَ أَصْحَابَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ أَمْرِ أَبِي جَهْلٍ إِلَّا نُكُوصُ عَقِبَيْهِ، وَقَدْ سَدَّ الْحَالُ هُنَا مَسَدَّ الْفَاعِلِ، وَفِيهِ إِرْخَاءُ عِنَانِ الْكَلَامِ لَا لِلَّفْظِ. قِيلَ: كَمَا سَدَّتْ مَسَدَّ الْخَبَرِ فِي: ضَرْبِي زَيْدًا قَائِمًا، فَفِي الْكَلَامِ مَيْلٌ إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي فَجِئَ رَاجِعًا إِلَى أَبِي جَهْلٍ، وَفِي مِنْهُ إِلَى الْأَمْرِ أَيْ: فَمَا فَجِئَ أَبُو جَهْلٍ أَصْحَابَهُ كَائِنًا مِنَ الْأَمْرِ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا هَذِهِ الْحَالَ، هَذَا وَفِي الْقَامُوسِ: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ نُكُوصًا رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ خَاصٌّ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْخَيْرِ، وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ فِي إِطْلَاقِهِ أَوْ فِي الشَّرِّ نَادِرٌ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الشَّرِّ، وَكَذَا آيَةُ {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48] ثُمَّ صَنِيعُ الْقَامُوسِ يُشْعِرُ أَنَّهُ بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْمُضَارِعِ، لَكِنِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى كَسْرِهِ، حَتَّى لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّوَاذِّ أَيْضًا. نَعَمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ ضَمُّ الْكَافِ ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: 66] . (فَقِيلَ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي جَهْلٍ (مَا لَكَ) ؟ أَيْ: مَا حَصَلَ لَكَ مِنَ الْمَنْعِ، وَمَا وَقَعَ لَكَ مِنَ الدَّفْعِ، (فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا) ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: خَوْفًا وَأَمْرًا شَدِيدًا (وَأَجْنِحَةً) . جَمْعُ جَنَاحِ الطَّائِرِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ دَنَا مِنِّي) أَيْ: قَرُبَ عِنْدِي (لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) أَيِ: اسْتَلَبَتْهُ بِسُرْعَةٍ (عُضْوًا عُضْوًا) . وَالْمَعْنَى لَأَخَذَ كُلُّ مَلَكٍ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5857 - وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْآخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ. فَقَالَ: (يَا عَدِيُّ! رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ فَلَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، وَلَئِنْ طَالَتْ لَكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ فِيهِ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، فَلَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغُكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. يَقُولُ أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى؛ فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَخْرُجُ مِلْءَ كَفِّهِ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5857 - (وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: حَاضِرًا وَقَاعِدًا (إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا) : بِالْأَلِفِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ لُغَةٌ فِي الْوَاوِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (إِلَيْهِ الْفَاقَةَ) ، أَيِ: الْفَقْرَ وَشِدَّةَ الْحَاجَّةِ (ثُمَّ أَتَاهُ الْآخَرُ) : وَفِي نُسْخَةٍ آخَرُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ) . أَيْ: بِسَبَبِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِقِلَّةِ الزَّادِ وَعَدَمِ عَلَفِ الدَّوَابِّ، وَطَمَعِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَتَعَرُّضِهِمْ لِلْقَافِلَةِ (فَقَالَ: (يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ) ؟ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَهُوَ الْبَلَدُ.

الْقَدِيمُ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ وَمَحَلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِنَيْسَابُورَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَارِحٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَغْرَبَ أَوْ أَعْذَبَ. قِيلَ: وَأَجَابَ عَدِيٌّ مَا رَأَيْتُهَا، لَكِنْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَأَيْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ، وَأَنْ لَا يَتَوَقَّفَ الْكَلَامُ عَلَى جَوَابِهِ حَيْثُ قَالَ: " (فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ فَلَتَرَيَنَّ) : بِفَتَحَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ أَيْ: فَلَتُبْصِرَنَّ (الظَّعِينَةَ) أَيِ: الْمَرْأَةَ الْمُسَافِرَةَ، وَقِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَظْعَنُ مَعَ الزَّوْجِ حَيْثُمَا ظَعَنَ، أَوْ أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ إِذَا ظَعَنَتْ، وَقِيلَ: الظَّعِينَةُ الْمَرْأَةُ فِي الْهَوْدَجِ، ثُمَّ قِيلَ لِلْهَوْدَجِ بِلَا امْرَأَةٍ وَلِلْمَرْأَةِ بِلَا هَوْدَجٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الظَّعِينَةُ الْمَرْأَةُ مَا دَامَتْ فِي الْهَوْدَجِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَلَيْسَتْ بِظَعِينَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَرْأَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْهَوْدَجِ أَوْ لَا. أَقُولُ: كَوْنُهَا فِي الْهَوْدَجِ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ) أَيْ: وَحْدَهَا (حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) : رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عَدِيٌّ قُلْتُ فِي نَفْسِي: فَأَيْنَ رُعَاةُ طَيِّئٍ؟ (وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْفَتْحِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ يُقَالُ: افْتَتَحْتَ وَاسْتَفْتَحْتَ طَلَبْتَ الْفَتْحَ، وَالْمَعْنَى لَتُؤْخَذَنَّ (كُنُوزُ كِسْرَى) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْغَنِيمَةِ. قَالَ عَدِيٌّ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَفِي الْقَامُوسِ: كِسْرَى وَيُفْتَحُ مَلِكٌ مُعَرَّبُ خِسْرُو، أَيْ: وَاسِعُ الْمُلْكِ. (وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِلْءَ كَفِّهِ) أَيْ: مَثَلًا (مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ) أَيْ: مِنْ نَوْعَيِ النَّقْدَيْنِ، يَعْنِي تَارَةً مِنْ هَذَا وَمَرَّةً مِنْ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِلشَّكِّ (يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ) أَيْ: وَاحِدًا مِنْهُمَا أَوْ مَا ذَكَرَ (فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ) ، أَيْ: لِعَدَمِ الْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَوْ لِاسْتِغْنَاءِ قُلُوبِهِمْ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا عِنْدَهُمْ وَالْقَنَاعَةِ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَقِيلَ: إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِمَّا يُصَدِّقُ الْحَدِيثَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ. قِيلَ: وَلَا شَكَّ فِي رُجْحَانِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: (وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ) قُلْتُ: لَا شَكَّ فِي رُجْحَانِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِ عَدِيٍّ الْآتِي: وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوْنَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ. (وَلَيَلْقَيَنَّ) : عَطْفٌ عَلَى صَدْرِ الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ: (اللَّهَ) : مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ وَتَعْظِيمِ الْمَقَامِ وَفَاعِلُهُ (أَحَدُهُمْ) : وَظَرْفُهُ قَوْلُهُ (يَوْمَ يَلْقَاهُ) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ إِعْرَابَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى فِي الضَّمِيرَيْنِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي قَوْلِهِ: (وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ) . بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَيُضَمَّانِ وَيُفْتَحَانِ كَمَا فِي نُسْخَتَيْنِ أَيْ: مُتَرْجِمٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، يَعْنِي بَلْ يَكُونُ التَّلَقِّي وَالْكَلَامُ بِلَا وَاسِطَةٍ. قَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ بِضَمِّهِمَا اهـ. وَفِي النِّهَايَةِ: التَّرْجُمَانُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الَّذِي يُتَرْجِمُ الْكَلَامَ أَيْ: يَنْقُلُهُ مِنْ لُغَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَالتَّاءُ وَالنُّونُ زَائِدَتَانِ. وَفِي الْقَامُوسِ: التَّرْجُمَانُ كَعُنْفُوَانٍ وَزَعْفَرَانٍ وَرَيْهُقَانٍ الْمُفَسِّرُ لِلِّسَانِ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ وَعَنْهُ، وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِهِ التَّاءُ، وَفِي الْمَفَاتِيحِ هُوَ عَلَى وَزْنِ زَعْفَرَانٍ، وَيَجُوزُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَبِضَمِّهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَلَيَقُولَنَّ) أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ (أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغُكَ) ؟ بِالنَّصْبِ مُشَدَّدًا وَيُخَفَّفُ (فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ) ؟ بِالْجَزْمِ مِنَ الْإِفْضَالِ أَيْ: أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ، وَأَلَمْ أُنْعِمْ عَلَيْكَ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ يَعْنِي أَعْطَيْتُكَ الْمَالَ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْكَ بِالْكَمَالِ، وَمَكَّنْتُكَ مِنْ إِنْفَاقِهِ وَالِاسْتِمْتَاعِ مِنْهُ، وَالصَّرْفِ عَلَى أَهْلِ اسْتِحْقَاقِهِ؟ (فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ) ، لِتَرْكِهِ الطَّاعَاتِ (وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ) ، لِارْتِكَابِهِ السَّيِّئَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ عَنِ الْإِحَاطَةِ، وَأَنَّ الْخَلَاصَ مِنْهَا لَيْسَ إِلَّا بِالْمُرُورِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 71 - 72] أَيْ: بِالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَلِذَا قَالَ: ( «اتَّقُوا النَّارَ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» ) ، أَيْ: بِنِصْفِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) أَيْ: مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهِيَ أَنْوَاعُ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ أَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ لِلسَّائِلِ بِقَرِينَةِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ الْوَعْدُ عَلَى قَصْدِ الْوَفَاءِ، أَوِ الدُّعَاءُ مَعَ حُسْنِ الرَّجَاءِ، وَهَذَا الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَوْلًا مَيْسُورًا.

قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ نَظْمِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ قُلْتُ: لَمَّا اشْتَكَى الرَّجُلُ الْفَاقَةَ وَالْخَوْفُ وَهُوَ الْعُسْرُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] وَهُوَ مَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ فَتْحِ الْبِلَادِ. أَجَابَ عَنِ السَّائِلِ فِي ضِمْنِ بِشَارَةٍ لِعَدِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْيُسْرِ وَالْأَمْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْيُسْرَ وَالْغِنَى الدُّنْيَوِيَّ عُسْرٌ فِي الْآخِرَةِ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ سَلَّطَهُ عَلَى إِنْفَاقِهِ فَيَصْرِفُهُ فِي مَصَارِفِ الْخَيْرِ، وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ، وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صْحَفَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ تَغَيُّرِ النَّاسِ. (قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ) ، أَيْ: كَمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ) ، بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ زَادَ فِي الْمَصَابِيحِ الَّذِي فِي الْأَبْيَضِ. قَالَ شَارِحٌ لَهُ: أَرَادَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ الَّذِي كَانَ بِالْمَدَائِنِ يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَغْدُكُوشَكُ (وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ) أَيْ: مُؤَدَّى مَا قَالَ (النَّبِيُّ) : وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَخْرُجُ مِلْءَ كَفِّهِ إِلَخْ فَقَوْلُهُ: (أَبُو الْقَاسِمِ) : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لِلنَّبِيِّ، وَقَوْلُهُ: (يَخْرُجُ مِلْءَ كَفِّهِ) . بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ مَا قَالَ، وَالْمَعْنَى يَخْرُجُ الرَّجُلُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، فَهُوَ نَقْلٌ بِالْمَعْنَى مُخْتَصَرًا أَوِ الرَّجُلُ يَخْرُجُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْأَصْلِ فَهُوَ نَقْلٌ بِاللَّفْظِ مُقْتَصِرًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5858 - وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْنَا: أَلَا تَدْعُو اللَّهَ، فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَقَالَ " كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِمِنْشَارٍ، فَيُوضَعُ فَوْقَ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ وَعَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ لَتَسْتَعْجِلُونِ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5858 - (وَعَنْ خَبَّابِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى (بْنِ الْأَرَتِّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ، وَإِنَّمَا لَحِقَهُ سَبْيٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَاشْتَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَعْتَقَتْهُ، أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ، وَهُوَ مِمَّنْ عُذِّبَ فِي اللَّهِ عَلَى إِسْلَامِهِ فَصَبَرَ، نَزَلَ الْكُوفَةَ، وَمَاتَ بِهَا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: شَكَوْنَا) أَيِ: الْكَفَّارَ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ) أَيْ: كِسَاءً مُخَطَّطًا، وَالْمَعْنَى جَاعِلٌ الْبُرْدَةَ وِسَادَةً لَهُ مِنْ تَوَسَّدَ الشَّيْءَ جَعَلَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ (وَقَدْ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَلَقَدْ (لَقِينَا) أَيْ: رَأَيْنَا وَحَصَلَ لَنَا (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ (شِدَّةً) ، أَيْ: مِحْنَةً شَدِيدَةً (فَقُلْنَا: أَلَا تَدْعُو اللَّهَ) ، أَيْ: لَنَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يُؤْذُونَنَا (فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ) : مِنِ احْمَرَّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ إِذَا اشْتَدَّ حَرَارَتُهُ (وَقَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ) : اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ الَّذِي هُوَ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ (فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُجْعَلُ لَهُ حُفْرَةٌ (فِي الْأَرْضِ) ، قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ اتِّفَاقًا (فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِمِنْشَارٍ) ، بِالنُّونِ وَيُرْوَى بِالْهَمْزَةِ وَإِبْدَالِهَا يَاءً، وَهُوَ آلَةٌ يُشَقُّ بِهَا الْخَشَبَةُ (فَيُوضَعُ فَوْقَ رَأْسِهِ لِيُشَقَّ بِاثْنَيْنِ) أَيْ: فَيَنْقَطِعُ نِصْفَيْنِ (فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ) أَيْ: فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ (عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا وَالْمَعْنَى يُشَوَّكُ (بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ الْمُشْطِ وَهُوَ مَا يُتَمَشَّطُ بِهِ الشَّعْرُ (مَا دُونَ لَحْمِهِ) أَيْ: مَا تَحْتَ لَحْمِ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ (مِنْ عَظْمٍ وَعَصَبٍ) بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ الطِّيبِيُّ مِنْ بَيَانٍ لَهُ وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ بِأَنَّ الْأَمْشَاطَ لِحَدِّهَا وَقُوَّتِهَا كَانَتْ تَنْفُذُ مِنَ اللَّحْمِ إِلَى الْعَظْمِ، وَمَا يَلْتَصِقُ بِهِ مِنَ الْعَصَبِ. (وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: لَيَكْمُلَنَّ (هَذَا الْأَمْرُ) أَيْ: أَمْرُ الدِّينِ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي أُخْرَى بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ التَّاءِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ: هَذَا الْأَمْرَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِيهِ

إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 32 - 33] (حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ) أَيْ: رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ وَحْدَهُ (مِنْ صَنْعَاءَ) : بَلَدٍ بِالْيَمَنِ (إِلَى حَضْرَمَوْتَ) : مَوْضِعٍ بِأَقْصَى الْيَمَنِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ لِلتَّرْكِيبِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَقِيلَ اسْمُ قَبِيلَةٍ، وَقِيلَ مَوْضِعٌ حَضَرَ فِيهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَاتَ فِيهِ، وَحَضَرَ جِرْجِيسُ فَمَاتَ فِيهِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَفِي الْقَامُوسِ: حَضْرَمَوْتُ وَبِضَمِّ الْمِيمِ بَلَدٌ وَقَبِيلَةٌ، وَيُقَالُ هَذَا حَضْرَمَوْتُ، وَيُضَافُ فَيُقَالُ: حَضْرُمَوْتٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِنْ شِئْتَ لَا تُنَوِّنِ الثَّانِيَ (لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَوْ يَكُونَ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ لِلْجَمْعِ أَوْ لِلشَّكِّ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ، وَزَوَالِ الْخَوْفِ، فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِلْأَمْنِ مِنْ عُدْوَانِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا هُوَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا الْأَمْنُ مِنْ عُدْوَانِ الذِّئْبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) . أَيْ: سَيَزُولُ عَذَابُ الْمُشْرِكِينَ فَاصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ الدِّينِ كَمَا صَبَرَ مَنْ سَبَقَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَشَدِّ مِنْ عَذَابِكُمْ لِقُوَّةِ الْيَقِينِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

5859 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ؛ ثُمَّ جَلَسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: (نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . كَمَا قَالَ فِي الْأُولَى. (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: (أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ) . فَرَكِبَتْ أُمُّ حَرَامٍ الْبَحْرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5859 - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ) ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ نَسَبًا، وَهِيَ وَأُمُّهُ أُمُّ سُلَيْمٍ مِنْ خَالَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضَاعًا أَوْ نَسَبًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَغَيْرُهُ: كَانَتْ إِحْدَى خَالَاتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ خَالَةً لِأَبِيهِ أَوْ لِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ وَجْهِ الدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ أُخْتِهَا أُمِّ سُلَيْمٍ مَعَ زِيَادَةِ تَحْقِيقٍ فَتَذَكَّرْ. (وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) ، أَيْ: زَوْجَتُهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ وَمَاتَتْ غَازِيَةً مَعَ زَوْجِهَا بِأَرْضِ الرُّومِ، وَقَبْرُهَا بِقُبْرُصَ، رَوَى عَنْهَا ابْنُ أُخْتِهَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَزَوْجُهَا عُبَادَةُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَقِفُ لَهَا عَلَى اسْمٍ صَحِيحٍ غَيْرَ كُنْيَتِهَا، وَكَانَ مَوْتُهَا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، (فَدَخَلَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَيْهَا يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ ثُمَّ جَلَسَتْ تَفْلِي) . بِكَسْرِ اللَّامِ مُخَفَّفَةً أَيْ: تُفَتِّشُ (رَأْسَهُ) أَيْ: شَعْرَ رَأْسِهِ (فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اسْتَيْقَظَ) أَيِ: انْتَبَهَ بَعْدَ نَوْمٍ كَثِيرٍ (وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَبْعَثُكَ عَلَى الضَّحِكِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) ؟ فَإِنَّ مِثْلَكَ لَا يَضْحَكُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ أَمْرٍ عَجَبٍ. (قَالَ (نَاسٌ) أَيْ: جَمْعٌ (مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ مُجَاهِدِينَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: مَعَ الْكُفَّارِ (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ) : بِفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ فَجِيمٍ أَيْ وَسَطَهُ وَمُعْظَمَهُ (مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ إِمَّا حَالٌ أَوْ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَرْكَبُونَ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ رُكُوبًا مِثْلَ رُكُوبِ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ ثَبَجَ الْبَحْرِ بِظَهْرِ الْأَرْضِ، وَالسَّفِينَةَ بِالسَّرِيرِ، وَجَعَلَ الْجُلُوسَ عَلَيْهَا مُشَابِهًا لِجُلُوسِ الْمُلُوكِ عَلَى أَسِرَّتِهِمْ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ بَذَّالُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَرْتَكِبُونَ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ، مِنْ وُفُورِ نَشَاطِهِمْ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ مُنَاهُمْ كَالْمُلُوكِ عَلَى أَسِرَّتِهِمْ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قِيلَ: هُوَ صِفَةٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ صِفَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيْ: يَرْكَبُونَ مَرَاكِبَ الْمُلُوكِ لِسَعَةِ حَالِهِمْ، وَاسْتِقَامَةِ أَمْرِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ. اهـ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْحَالَ مُقَدَّرَةٌ عَلَى

الْمَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ مَا قَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ مُحَقَّقَةٌ. (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا) : فِيهِ الْتِفَاتٌ أَوْ تَجْرِيدٌ أَوْ نَقْلٌ بِالْمَعْنَى، أَوْ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ (ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ) ؟ أَيِ: الْآنَ (قَالَ: (نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . كَمَا قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي الْأُولَى) . أَيْ: فِي الْمَقَالَةِ الْأُولَى، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي اخْتِصَارًا (فَقُلْتُ) أَيْ: ثَانِيًا (يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: (أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ) . فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الْأَوَّلِينَ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْآخِرِينَ (فَرَكِبَتْ أُمُّ حَرَامٍ الْبَحْرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ) ، أَيْ: فِي أَيَّامِ وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ، فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَوْتَهَا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ (فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: فَسَقَطَتْ عَنْ ظَهْرِ مَرْكَبِهَا (حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ) . أَيْ: مَاتَتْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر: 34] أَيْ: مَاتَ يُوسُفُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

5860 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذَا الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ. قَالَ: فَلَقِيَهُ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذَا الرِّيحِ، فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ) فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ قَامُوسَ الْبَحْرِ، هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ (الْمَصَابِيحِ) : بَلَغْنَا نَاعُوسَ الْبَحْرِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَذَكَرَ حَدِيثَا أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (يَهْلِكُ كِسْرَى) وَالْآخَرَ (لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ) فِي بَابِ (الْمَلَاحِمِ) . وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 5860 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ ضِمَادًا) : بِكَسْرِ الضَّادِ وَيُضَمُّ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَدَالٍ فِي آخِرِهِ، وَيُرْوَى ضِمَامٌ بِمِيمٍ فِي آخِرِهِ (قَدِمَ مَكَّةَ) ، بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: نَزَلَ بِهَا مِنْ سَفَرٍ (وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ نُونٍ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَهَمْزَةٍ فَهَاءٍ، قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْيَمَنِ، وَالْأَزْدُ قَبِيلَةٌ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا اسْمُ رَجُلٍ كَانَ صَدِيقًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ضِمَادُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْأَزْدِيُّ، كَانَ يَتَطَيَّبُ وَيَطْلُبُ الْعِلْمَ أَسْلَمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ (وَكَانَ يَرْقِي) : بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: يُعَالِجُ الدَّاءَ بِشَيْءٍ يُقْرَأُ ثُمَّ يَنْفُثُ (مِنْ هَذَا الرِّيحِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى جِنْسِ الْعِلَّةِ لَهُ، وَذَكَرَهُ بِاعْتِبَارِ الْجُنُونِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى جِنْسِ الْعِلَّةِ الَّتِي كَانُوا يَرَوْنَهَا الرِّيحَ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْخَبَلَ الَّذِي يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، وَالْأَدْوَاءَ الَّتِي كَانُوا يَرَوْنَهَا مِنْ مَسَّةِ الْجِنِّ نَفْحَةً مِنْ نَفَحَاتِ الْجِنِّ فَيُسَمُّونَهَا الرِّيحَ اهـ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: الرِّيحُ هُنَا بِمَعْنَى الْجِنِّ سَمَّوْا بِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ كَالرِّيحِ (فَسَمِعَ) أَيْ: ضِمَادٌ (سُفَهَاءَ أَهْلِ مَكَّةَ) أَيْ: جُهَّالَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ (يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ) أَيْ: أَبْصَرْتُ (هَذَا الرَّجُلَ) أَيْ: بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لَدَاوَيْتُهُ، فَجَوَابُ (لَوْ) مُقَدَّرٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَوْ هَذِهِ لِلتَّمَنِّي كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَهُ عَلَى يَدَيَّ) . أَيْ: بِسَبَبِي (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (فَلَقِيَهُ) أَيْ: مُحَمَّدًا (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذَا الرِّيحِ، فَهَلْ لَكَ) ؟ أَيْ: رَغْبَةٌ فِي أَنْ أَرْقِيَكَ وَأُخَلِّصَكَ مِنَ الْجُنُونِ (فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ) ، أَيْ: ثَابِتٌ لَهُ مُخْتَصٌّ بِهِ، سَوَاءٌ حُمِدَ أَوْ لَمْ يُحْمَدْ (نَحْمَدُهُ) أَيْ: لِوُجُوبِهِ عَلَيْنَا وَلِعَوْدِ نَفْعِهِ إِلَيْنَا (وَنَسْتَعِينُهُ) أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا (مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ) أَيْ: إِلَى طَرِيقِ تَوْحِيدِهِ وَشُهُودِ تَفْرِيدِهِ بِمُقْتَضَى فَضْلِهِ (فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ) أَيْ: وَمَنْ يُضْلِلْهُ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ بِمُوجَبِ عَدْلِهِ (فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) أَيْ: مُنْفَرِدًا وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ: (لَا شَرِيكَ لَهُ) ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ تَوْحِيدُ الذَّاتِ، وَبِالثَّانِي تَفْرِيدُ الصِّفَاتِ (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ) أَيِ: الْمُخْتَصُّ الْمُكَرَّمُ (وَرَسُولُهُ) أَيِ: الْمَخْصُوصُ الْمُعَظَّمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ (أَمَّا بَعْدُ) أَيْ: وَأَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ لَهُ خُطْبَةً عَظِيمَةً وَمَوْعِظَةً جَسِيمَةً تَعْجَزُ عَنْهُ الْبُلَغَاءُ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ الْفُصَحَاءُ، لِيَعْلَمَ الْعُقَلَاءُ أَنَّهُمْ بِجَنْبِهِ مِنَ الْمَجَانِينِ وَالسُّفَهَاءِ، (قَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ) ، الْمُتَقَدِّمَةَ الدَّالَّةَ عَلَى جَزَالَةِ الْخَاتِمَةِ (فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّثْلِيثُ بِالْأُولَى كَمَا كَانَ لَهُ الْعَادَةُ أَوْ بِغَيْرِهَا، كَمَا يُفِيدُ حَقِيقَةُ الْإِعَادَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي مَقَامِ الْإِفَادَةِ وَتَمَامِ الِاسْتِفَادَةِ (قَالَ) أَيْ: ضِمَادٌ (لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ) . بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ كَاهِنٍ وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنِ الْغَيْبِ بِعِبَارَاتٍ مُسَجَّعَةٍ وَإِشَارَاتٍ مُبْدِعَةٍ (وَقَوْلَ السَّحَرَةِ) جَمْعُ سَاحِرٍ وَهُوَ الْمُخَيَّلُ فِي الْعَيْنِ وَالذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ أَوْ مِنْ أَجْلِ فِعْلِهِ (وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ) ، جَمْعُ شَاعِرٍ وَهُوَ الْمُحَلَّى بِاللِّسَانِ فِي كُلِّ شَأْنٍ حَتَّى شَانَ مَا زَانَ وَزَانَ مَا شَانَ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَكَ تَارَةً إِلَى الْكَهَانَةِ وَمَرَّةً إِلَى السِّحْرِ، وَأُخْرَى إِلَى الشِّعْرِ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَقَالَةَ أَصْحَابِهَا (فَمَا سَمِعْتُ) أَيْ: مِنْهُمْ (مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ) . يَعْنِي فَلَوْ كُنْتَ مِنْهُمْ لَأَشْبَهَ كَلَامُكَ كَلَامَهُمْ، فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُ أَبْلَغَ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ، فَلَا يَعُدُّهُ مَجْنُونًا إِلَّا السُّفَهَاءُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْكُهَّانَ وَالسَّحَرَةَ وَالشُّعَرَاءَ أَهْلَ الْبَلَاغَةِ وَالْمُتَصَرِّفِينَ فِي الْقَوْلِ عَلَى أَيِّ أُسْلُوبٍ شَاءُوا، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْإِعْجَازِ أَيْ: جَاوَزَ كَلَامُكَ حَدَّ الْبَلَاغَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَابَلَ كَلَامَ ضِمَادٍ بِمَا تَقَدَّمَ لِيُظْهِرَ لَهُ كَمَالَ عَقْلِهِ، وَيَتَبَيَّنَ جَهْلُ أَعْدَائِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: طَابَقَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَ ضِمَادٍ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ اعْتَقَدَ أَنَّهُ كَذَلِكَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ فِي الْخَلَاصِ؛ كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الْتَفَتَ إِلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْحَقِّ الْبَحْتِ وَالصِّدْقِ الْمَحْضِ، أَيْ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ أَتَكَلَّمُ كَلَامَ الْمَجَانِينِ، بَلْ كَلَامِي نَحْوُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ، فَتَفَكَّرْ فِيهِ هَلْ يَنْطِقُ الْمَجْنُونُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ - وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 51 - 52] أَيْ: إِنَّهُمْ جَنَّنُوهُ لِأَجْلِ الْقُرْآنِ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلْعَالِمِينَ، وَكَيْفَ يُجَنَّنُ مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ. قُلْتُ بَلِ الْمَجْنُونُ مَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ الْحَقِّ وَاشْتَغَلَ بِكَلَامِ الْخَلْقِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ) ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْعَرَبُ رُبَّمَا اسْتَعْمَلُوا هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ شَهِدَ بِهِ التَّنْزِيلُ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] قَالَ الشَّاعِرُ: ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ (وَلَقَدْ بَلَغْنَ) أَيْ: هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتُ الْجَامِعَاتُ الْمُحِيطَاتُ بِحُرُوفٍ كَاللَّآلِئِ الْمَنْظُومَاتِ الَّتِي يَعْجِزُ الْغَوَّاصُ عَنْ إِخْرَاجِهَا وَإِبْرَازِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّلَالَاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى إِعْجَازِهَا مِنْ كَمَالِ إِيجَازِهَا (قَامُوسَ الْبَحْرِ) ، أَيْ: مُعْظَمَ بَحْرِ الْكَلَامِ وَوَسَطَ لُجَّةِ الْمَرَامِ، وَالْمَعْنَى بَلَغَتْ غَايَةَ الْفَصَاحَةِ وَنِهَايَةَ الْبَلَاغَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْقَمْسُ الْغَوْصُ وَالْغَمْسُ وَالْقَوْمَسُ مُعْظَمُ مَاءِ الْبَحْرِ كَالْقَامُوسِ وَالْقَامُوسُ الْبَحْرُ أَوْ أَبْعَدُ مَوْضِعٍ فِيهِ غَوْرًا (هَاتِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ: إِلَخْ (يَدَكَ أُبَايِعْكَ) : بِالْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ (عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (فَبَايَعَهُ) . أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: بَلَغْنَا) أَيْ: بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ (نَاعُوسَ الْبَحْرِ) . بِالنُّونِ وَالْعَيْنِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ، حَيْثُ لَمْ يُذْكَرِ النَّاعُوسُ فِي الْقَامُوسِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ بَلَغْنَا وَهُوَ خَطَأٌ لَا سَبِيلَ إِلَى تَقْوِيمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالرِّوَايَةُ لَمْ تَرِدْ لَهُ، وَنَاعُوسُ الْبَحْرِ أَيْضًا خَطَأٌ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَهِمُوا فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ الرُّوَّادِ أَخْطَأَ فِيهِ، فَرُوِيَ مَلْحُونًا وَهَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسْمَعُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَالصَّوَابُ فِيهِ قَامُوسُ الْبَحْرِ، وَهُوَ وَسَطُهُ وَمُعْظَمُهُ مِنَ الْقَمْسِ وَهُوَ الْغَوْصُ وَالْقَمَّاسُ الْغَوَّاصُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: بَلَغْنَا خَطَأٌ إِنْ أَرَادَ بِهِ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ، فَلَا نُنْكِرُهُ لِأَنَّا مَا وَجَدْنَاهَا فِي الْأُصُولِ، وَإِنْ أَرَادَ بِحَسَبِ الْمَبْنَى فَمَعْنَاهَا صَحِيحَةٌ أَيْ: قَدْ وَصَلْنَا إِلَى لُجَّةِ الْبَحْرِ وَمَحَلِّ اللَّآلِئِ وَالدُّرِّ، فَيَجِبُ أَنْ نَقِفَ عَلَيْهِ وَنَغُوصَ فِيهِ اسْتِخْرَاجًا لِفَوَائِدِهِ وَالْتِقَاطًا لِفَرَائِدِهِ قُلْتُ: الشَّيْخُ نَفَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ الْحَقِيقِيَّ إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهَ فَتَدَبَّرْ وَتَنَبَّهْ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ (نَاعُوسَ الْبَحْرِ) أَيْضًا خَطَأٌ، فَلَيْسَ بِصَوَابٍ، أَمَّا رِوَايَةُ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ

فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (نَاعُوسَ الْبَحْرِ) ضَبَطَاهُ بِوَجْهَيْنِ أَشْهَرُهُمَا بِالنُّونِ وَالسِّينِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْجُودُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا، وَالثَّانِي قَامُوسُ الْبَحْرِ بِالْقَافِ وَالْمِيمِ، وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. قُلْتُ هَذَا مَا يُنَافِي قَوْلَ الشَّيْخِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ وُجُوهَ النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ، بَلْ يَطْعَنُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَالدِّرَايَةُ. قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رَوَى بَعْضُهُمْ (نَاعُوسَ) بِالنُّونِ وَالْعَيْنِ. وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحُسَيْنِ: نَاعُوسُ الْبَحْرِ بِمَعْنَى قَامُوسِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَامُوسَ هُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَكْثَرُ، وَإِنَّمَا جَاءَ النَّاعُوسُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ لِكَوْنِهِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْمَعْنَى حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَامُوسِ، وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ: وَفِي النِّهَايَةِ قَالَ أَبُو مُوسَى: (نَاعُوسَ الْبَحْرِ) كَذَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ (قَامُوسَ الْبَحْرِ) ، وَهُوَ وَسَطُهُ وَلُجَّتُهُ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُجَوِّدْ كَيْفِيَّتَهُ، فَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ أَصْلًا فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ الَّذِي رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَرَنَهُ بِأَبِي مُوسَى وَرِوَايَتِهِ، فَلَعَلَّهَا فِيهَا قَالَ: وَإِنَّمَا أَوْرَدَ نَحْوَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا طَلَبَهُ وَلَمْ يَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ فَتَحَيَّرَ، فَإِذَا نَظَرَ فِي كِتَابِنَا عَرَفَ أَصْلَهُ وَمَعْنَاهُ قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَيِّدُ الشَّيْخَ فِيمَا قَرَّرَهُ، وَيُؤَكِّدُ مَا حَرَّرَهُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ صِحَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الرِّوَايَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا دِرَايَةٌ فَقَالَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ: نَاعُوسُ الْبَحْرِ مُعْظَمُهُ، وَتَحْتُهُ الَّذِي يُغَاصُ فِيهَا لِإِخْرَاجٍ اللَّآلِئِ، مِنْ نَعَسَ إِذَا نَامَ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ كَثْرَتِهِ لَا تَظْهَرُ حَرَكَتُهُ، فَكَأَنَّهُ نَائِمٌ. قُلْتُ: ثَبَتَ الْعَرْشُ ثُمَّ انْقَشَّ الْفَرْشُ، فَإِنَّ تَحْقِيقَ الرِّوَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَدْقِيقِ الدِّرَايَةِ، مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ، بَلْ تَكَلُّفٌ وَتَعَسُّفٌ فِي تَصْحِيحِهِ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، فَأَنَّى يُقَاوِمُ قَوْلَ الشَّيْخِ، وَهَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَمْ تُسْمَعْ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ النَّاعُوسُ حَقِيقَةً فِي الْقَامُوسِ، وَكَانَتْ لُغَةً عَرَبِيَّةً خَفِيَ مَكَانُهَا فَلَمْ تُنْقَلْ نَقْلًا فَاشِيًا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِنْ فَتَحْنَا بَابَ الْإِمْكَانِ انْسَدَّ طَرِيقُ التَّحْقِيقِ فِي مَكَانٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (وَذَكَرَ حَدِيثَا أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) : بِإِضَافَةِ الْحَدِيثَيْنِ إِلَى الرِّوَايَتَيْنِ لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا، وَالتَّقْدِيرُ أَحَدُهُمَا (يَهْلِكُ كِسْرَى) أَيْ: إِلَخْ. (وَالْآخَرُ (لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ) أَيِ: الْحَدِيثُ (فِي بَابِ الْمَلَاحِمِ) . مُتَعَلِّقٌ بِذَكَرَ، وَوَجْهُهُ مِرَارًا قُرِّرَ، وَكَذَا حُرِّرَ تَوْجِيهُ قَوْلِهِ: (وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5861 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ، قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بَيْنَا أَنَا بِالشَّامِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ. قَالَ: وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَلْ هُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ، فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا، فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانُ: وَايْمُ اللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُهُ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ فِي أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: وَمَنْ يَتْبَعُهُ، أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: لَا بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِينَا؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ. وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْنَا: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّلَةِ، وَالْعَفَافِ، قَالَ: إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمَ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ الْحَدِيثِ فِي (بَابِ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ) . الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5861 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ) : بِضَمِّ السِّينِ وَجُوِّزَ تَثْلِيثُهُ، وَاسْمُهُ صَخْرٌ بِمُهْمَلَةٍ فَمُعْجَمَةٍ، وُلِدَ قَبْلَ الْفِيلِ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَأَسْلَمَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ الطَّائِفَ وَحُنَيْنًا، وَفُقِئَتْ عَيْنُهُ فِي الْأَوْلَى وَالْأُخْرَى يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ) ، مِنْ لِلِابْتِدَاءِ أَيِ: الْحَدِيثُ الَّذِي أَرْوِيهِ انْتَقَلَ مِنْ فَمِهِ إِلَى فَمِي، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَاسِطَةٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ حَاضِرًا غَيْرِي مَعَهُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدَّثَنِي، وَكَذَا قَوْلُهُ فِيَّ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ غَيْرُهُ لَجَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ، فَلَا يَكُونُ التَّحْدِيثُ مُنْحَصِرًا مِنْ فَمِهِ إِلَى فَمِهِ فَقَطْ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو سُفْيَانَ (انْطَلَقْتُ) أَيْ: سَافَرْتُ (فِي الْمُدَّةِ) أَيْ: فِي مُدَّةِ الصُّلْحِ (الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : يَعْنِي صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَكَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَمُدَّتُهَا عَشْرُ سِنِينَ، لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِقَتْلِ بَعْضِ خُزَاعَةَ مِنْ حُلَفَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ ثَمَانٍ وَفَتْحِ مَكَّةَ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو سُفْيَانَ (فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّامِ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْمَقَامِ (إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ) . بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعُجْمَةِ.

وَالْعَلَمِيَّةِ، وَهُوَ مَلِكُ الرُّومِ وَلَقَبُهُ قَيْصَرُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الدَّنَانِيرَ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْبَيْعَةَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. قَالَ) أَيْ: أَبُو سُفْيَانَ (وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَيُفْتَحُ (جَاءَ بِهِ) أَيْ: بِالْكِتَابِ (فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى) ، أَيْ: أَمِيرِهَا، وَهِيَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورَةٌ قَرْيَةٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَدِمَشْقِ الشَّامِ (فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَلْ هَاهُنَا) أَيْ: فِي أَرْضِ الشَّامِ (أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ) ؟ يَعْنِي لِكَيْ نَسْأَلَ عَنْ وَصْفِهِ لِيَتَبَيَّنَ لَنَا صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ (نَعَمْ، فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ) أَيْ: مَعَ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَقِيلَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مِنْهُمْ، وَفِيهِ أَنَّهُ سَبَقَ إِسْلَامُهُ، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَقِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَاضَرًا، وَسَكَتَ مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا. قُلْتُ: وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مَا يُنَافِي سُكُوتَهُ (فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ، فَأَجْلَسَنَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ أَيْ: أَمَرَ هِرَقْلُ بِجُلُوسِنَا (بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: قُدَّامَهُ لِيَسْمَعَ كَلَامَنَا وَنَسْمَعُ كَلَامَهُ (فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ) ؟ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا سَأَلَ قَرِيبَ النَّسَبِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ، وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ فِي حَقِّهِ (قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا) . أَيْ: أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْهُ (فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: وَحْدِي (وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي) ، وَإِنَّمَا أَجْلَسَهُمْ خَلْفَهُ لِيَكُونَ أَعْوَنَ عَلَيْهِمْ فِي تَكْذِيبِهِ إِنْ كَذِبَ، وَلَا يَسْتَحْيُوا مِنْهُ، أَوْ لِيُمْكِنَ لَهُمْ أَنْ يُشِيرُوا إِلَيْهِ وَيَدُلُّوا عَلَيْهِ. بِمَا هُنَالِكَ إِمَّا بِإِيمَاءِ يَدٍ أَوْ بِتَحْرِيكِ رَأْسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ قَصَدَ فِي تَقْرِيبِهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ فِي النَّسَبِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْأَدَبُ، (ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَبِضَمِّهِمَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ، وَسَبَقَ أَنَّهُ يَجُوزُ فَتْحُهُمَا وَهُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ لُغَةٍ بِلُغَةٍ أُخْرَى ثُمَّ الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَوِ التَّقْدِيرُ دَعَا أَحَدًا بِإِحْضَارِ تَرْجُمَانِهِ فَحَضَرَ (فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ) أَيْ: لِأَصْحَابِ أَبِي سُفْيَانَ (إِنِّي سَائِلٌ هَذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ، وَالْمَعْنَى أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ أَبَا سُفْيَانَ (عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ) ، أَيْ: عَنْ وَصْفِهِ (فَإِنْ كَذَبَنِي) : بِتَخْفِيفِ! الذَّالِ أَيْ: فَإِنْ تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ لِي (فَكَذِّبُوهُ) . بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: فَانْسُبُوهُ إِلَى الْكَذِبِ، وَلَا تَسْكُتُوا عَلَى الْبَاطِلِ وَأَعْلِمُونِي بِالْحَقِّ. (قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ اللَّهِ) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَيُقْطَعُ وَبِضَمِّ مِيمٍ وَتَحْقِيقُهُ تَقَدَّمَ وَهُوَ قَسَمٌ (لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُرْوَى (عَلَيَّ الْكَذِبُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَالْمَعْنَى لَوْلَا خَوْفُ أَنْ يَنْقُلُوا عَنِّي الْكَذِبَ إِلَى قَوْمِي وَيَتَحَدَّثُوا بِهِ (لَكَذَبْتُهُ) ، أَيْ: لَكَذَبْتُ عَلَيْهِ لِبُغْضِي إِيَّاهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا عَدَّاهُ بِعَلَى لِتَضَمُّنِ مَعْنَى الْمَضَرَّةِ أَيْ: كَذِبٌ يَكُونُ عَلَيَّ لَا لِي، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا هُوَ قَبِيحٌ فِي الْإِسْلَامِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُكَذِّبَنِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَعِي لَكَذَبْتُهُ فِي تَكْذِيبِهِ فِي بَعْضِ كَلَامِي لِتَحْصِيلِ مَرَامِي (ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ) ؟ الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ النَّسَبِ، وَلِذَا عَدَلَ عَنْهُ إِلَيْهِ، قِيلَ: وَفِي الْبُخَارِيِّ كَيْفَ فِيكُمْ؟ وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ كَيْفَ حَسَبُهُ؟ (قَالَ: قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ) أَيْ: عَظِيمٌ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ هُوَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَيْسَ فِي النَّفَرِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي (قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ) أَيْ: بَعْضِ أَجْدَادِهِ وَأَسْلَافِهِ وَفِي نُسْخَةٍ: فِي آبَائِهِ أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ (مِنْ مَلِكٍ) ؟ أَيْ: مِنْ سُلْطَانٍ. وَفِي نُسْخَةٍ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ، وَمَلَكَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَيْ: مَنْ كَانَ مَلِكًا. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هُوَ هَكَذَا بِحِرَفِ

الْجَرِّ، وَ (مَلِكٍ) صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَهُوَ رِوَايَةُ: كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ وَأَبِي الْوَقْتِ وَابْنِ عَسَاكِرَ فِي نُسْخَةٍ، وَأَبُو ذَرٍّ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَنْ مَلَكَ عَلَى أَنَّ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ. وَمَلَكَ: فِعْلٌ مَاضٍ، وَلِأَبِي ذَرٍّ كَمَا فِي الْفَتْحِ مِنْ آبَائِهِ مَلَكَ بِإِسْقَاطِ مِنْ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. (قَالَ: لَا قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ أَيْ: تَنْسُبُونَهُ إِلَى التُّهْمَةِ (بِالْكَذِبِ) أَيْ: بِإِيقَاعِهِ (فِي أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ) ؟ أَيْ: مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ (قُلْتُ: لَا. قَالَ: وَمَنْ) : بِالْوَاوِ (يَتْبَعُهُ) ؟ بِسُكُونِ التَّاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (أَشْرَافُ النَّاسِ) أَيْ: أَشْرَافُهُمْ (أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ: فَهَلْ يَتْبَعُهُ، وَأَمْ هَا هُنَا مُتَّصِلَةٌ. وَفِي وُقُوعِهَا قَرِينَةٌ لِحَلِّ إِشْكَالٍ لِأَنَّ هَلْ تَسْتَدْعِي السُّؤَالَ عَنْ حُصُولِ الْجُمْلَةِ، وَأَمِ الْمُتَّصِلَةُ تَسْتَدْعِي حُصُولَهَا لِأَنَّ السُّؤَالَ بِهَا عَنْ تَعْيِينِ الْمُنْتَسِبِينَ مُسْنَدًا وَمُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِهِ، وَالْمِشْكَاةِ، فَمَنْ تَبِعَهُ فَتَكُونُ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةً فِي قَوْلِهِ: (أَشْرَافُ النَّاسِ) فَسَأَلَ أَوَّلًا مُجْمِلًا ثُمَّ سَأَلَ ثَانِيًا مُفَصِّلًا. (قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ) . الْمُرَادُ بِالْأَشْرَافِ أَهْلُ النَّخْوَةِ وَالتَّكَبُّرِ لَا كُلُّ شَرِيفٍ وَإِلَّا لَوَرَدَ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَ سُؤَالِ هِرَقْلَ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَتَعَقَّبَهُ الْعَيْنِيُّ بِأَنَّ الْعُمَرَيْنِ وَحَمْزَةَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّخْوَةِ، فَقَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ. (قَالَ: أَيَزِيدُونَ) أَيْ: بِزِيَادَةِ أَمْثَالِهِمْ (أَمْ يَنْقُصُونَ) ؟ أَيْ: يَرْجِعُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَدْبَارِهِمْ أَوْ بِمَوْتِ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ جَبْرِهِمْ لِكَسْرِهِمْ (قُلْتُ: لَا) . أَيْ: لَا يَنْقُصُونَ أَبَدًا (بَلْ يَزِيدُونَ) أَيْ: دَائِمًا (قَالَ: " هَلْ يَرْتَدُّ) ؟ أَيْ: يَرْجِعُ (أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ) أَيْ: بِطِيبِ نَفْسِهِ (سَخْطَةً) : بِفَتْحِ السِّينِ وَيُضَمُّ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ كَرَاهَةً وَتَعْيِينًا (لَهُ) ؟ أَيْ: لِدِينِهِ وَهِيَ مَفْعُولٌ لَهُ، وَخَرَجَ بِهِ مَنِ ارْتَدَّ مُكْرَهًا أَوْ لِحَظٍّ نَفْسَانِيٍّ. (قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: تَكُونُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ (الْحَرْبُ) أَيِ: الْمُحَارَبَةُ (بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا) ، بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: مُسَاجَلَةً وَمُدَاوَلَةً (يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ) . أَيْ: هُوَ يَنَالُ مِنَّا مَرَّةً لِغَلَبَتِهِ، وَنَحْنُ نَنَالُ مِنْهُ أُخْرَى لِغَلَبَتِنَا، فَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: سِجَالًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَيَوْمًا عَلَيْنَا وَيَوْمًا لَنَا ... وَيَوْمًا نُسَرُّ وَيَوْمًا نُسَاءُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَصْلُهُ مِنَ السَّجْلِ الَّذِي هُوَ الدَّلْوُ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَارِدِينَ دَلْوًا مِثْلَ مَا لِلْآخَرِ، أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمٌ فِي الِاسْتِقَاءِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحَرْبَ دُوَلٌ تَارَةً لَهُ وَتَارَةً عَلَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السِّجَالُ جَمْعُ سَجْلٍ وَهُوَ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ، وَالْحَرْبُ اسْمُ جِنْسٍ، فَصَحَّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْجَمْعِ، وَفِيهِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيِ: الْحَرْبُ نُوَبٌ نَوْبَةٌ لَنَا وَنَوْبَةٌ لَهُ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ بَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي ثَلَاثِ مُوَاطِنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي بَدْرٍ، وَعُكِسَ فِي أُحُدٍ وَأُصِيبَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ نَاسٌ قَلِيلٌ فِي الْخَنْدَقِ، فَصَدَقَ أَبُو سُفْيَانَ فِي كَلَامِهِ سِجَالًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّسَاوِي. (قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ) ؟ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْغَدْرِ، وَهُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ وَخِلَافُ الْوَعْدِ. (قُلْتُ: لَا) ، أَيْ: مَا وَقَعَ مِنْهُ غَدْرٌ فِيمَا مَضَى (وَنَحْنُ مِنْهُ) أَيْ: عَلَى خَطَرٍ (فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ) ، أَيْ: مُدَّةِ الْهُدْنَةِ وَالصُّلْحِ الَّذِي جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ (لَا نَدْرِي مَا هُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ أَوِ اللَّهُ تَعَالَى (صَانِعٌ فِيهَا) ؟ أَيْ: أَيَغْدِرُ فِي مُدَّةِ هَذَا الصُّلْحِ أَمْ لَا. (قَالَ) أَيْ: أَبُو سُفْيَانَ (وَاللَّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ) أَيْ: مَا قَدَرْتُ عَلَى كَلِمَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا جُمْلَةٌ مُفِيدَةٌ (أُدْخِلُ فِيهَا) أَيْ: فِي أَثْنَاءِ كَلِمَاتِي

(شَيْئًا) أَيْ: مِمَّا يَطْعَنُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ (غَيْرَ هَذِهِ) . أَيْ: غَيْرَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا يَجُوزُ احْتِمَالُ الْغَدْرَةِ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ (قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ) أَيْ: مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَدَعْوَى الرِّسَالَةِ (أَحَدٌ قَبْلَهُ) ؟ أَيْ: مِمَّنْ سَبَقَهُ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَعْرُوفِينَ كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (قُلْتَ: لَا، ثُمَّ قَالَ) أَيْ: بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَشْرَعَ فِي تَبْيِينِ تَوْجِيهَاتِهَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْعَادَةِ قَالَ: (لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ) أَيْ: فَأَجَبْتَ (أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا) . أَيْ: تُوقَعُ بَعْثَتُهُمْ فِي أَحْسَابِ أَقْوَامِهُمْ، فَتَعْدِيَتُهُ بِفِي لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِيقَاعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى (مِنْ) عَلَى مَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ وَالْمُغْنِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا يَعْنِي عَمَّا تَكَلَّفَ بِهِ الطِّيبِيُّ لِقَوْلِهِ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ أَيْ: يُبْعَثُ وَذُو حَسَبٍ، وَهُوَ هُوَ كَقَوْلِكَ فِي الْبَيْضَةِ عِشْرُونَ رَطْلًا، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا هَذَا الْمِقْدَارُ، قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنِ انْتِحَالِهِ الْبَاطِلَ، وَأَقْرَبُ إِلَى انْقِيَادِ النَّاسِ لَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنَ النَّقْلِ وَيُسَاعِدُهُ الْعَقْلُ. (وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ) ؟ أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُلُوكِ، وَلَوْ رُوِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ (فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ) أَيْ: فِي نَفْسِي بِمُقْتَضَى رَأْيِي (لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ) أَيْ: لَوْ كَانَ ظَهَرَ مِنْهُمْ سُلْطَانٌ (قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ) أَيْ: سُلْطَتَهُمْ وَهَذَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ لَا يُخَالِفُهُ نَقْلٌ (وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ أَضُعَفَاؤُهُمْ) أَيْ: أَفُقَرَاءُ النَّاسِ وَأَهْلُ خُمُولِهِمْ (أَمْ أَشْرَافُهُمْ) ؟ أَيْ: أَغْنِيَاؤُهُمْ وَأَهْلُ خُيُولِهِمْ (فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ) . أَيِ: ابْتِدَاءٌ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي أَتْبَاعِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الضُّعَفَاءَ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، فَلِكَوْنِ الْأَشْرَافِ يَأْنَفُونَ مِنْ تَقَدُّمِ مِثْلِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَالضُّعَفَاءُ لَا يَأْنَفُونَ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ. (وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ فِي أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ) : اللَّامُ لَامُ الْجَحُودِ أَيْ: لِيَتْرُكَ (الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ) . أَيْ: فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ أَقْبَحُ وَأَشَدُّ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] (وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ) : بِالْوَاوِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقَالُ: فَكَذَلِكَ أَيْ: لَا يَخْرُجُ وَلَا يَرْجِعُ (الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَتُهُ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أُنْسُهُ وَفَرَحُهُ (الْقُلُوبَ) أَيْ: فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي أَمْرٍ مُحَقَّقٍ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ دَخَلَ فِي الْأَبَاطِيلِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَدْ عَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبَشَاشَةِ تَارَةً بِالطَّعْمِ، وَأُخْرَى بِالْحَلَاوَةِ، فَإِنَّ مَنْ ذَاقَ لَذَّةَ شَيْءٍ أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ، وَمَنْ لَمْ يَذُقْ لَمْ يَعْرِفْ، وَمِنْ مَشْرَبِ الْعَارِفِينَ لَمْ يَغْرِفْ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إِنَّمَا رَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ يَعْنِي فَمَنْ وَصَلَ مَعَ الْفَرِيقِ إِلَى الرَّفِيقِ، فَهُوَ كَالرَّفِيقِ فِي الْأَمْنِ الدَّاخِلِ فِي الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَقَدْ قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا أَبُو الْحَسَنِ الْبَكْرِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السِّرِّيَّ: الْإِيمَانُ إِذَا دَخَلَ الْقَلْبَ أُمِنَ السَّلْبُ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْإِشَارَةَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَالدَّلَالَةَ عَلَى هَذَا الْمَبْنَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة: 256] أَيْ: بِمَا سِوَى اللَّهِ، {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: 256] أَيْ: حَقَّ الْإِيمَانِ، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] أَيْ: لَا انْقِطَاعَ وَلَا انْفِصَالَ وَلَا اتِّحَادَ وَلَا اتِّصَالَ (وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ) ؟ وَلَعَلَّهُ تَرَكَ الْوَاسِطَةَ

وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ فَهُوَ فِي النُّقْصَانِ، لِأَنَّ التَّوَقُّفَ مَنْفِيٌّ فِي طَوْرِ الْإِنْسَانِ (فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ) أَيْ: يَزِيدُ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ (حَتَّى يَتِمَّ) . أَيْ: يَكْمُلُ بِالْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِهَا، وَلِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] إِنْجَازًا لِمَا وَعَدَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَى الْآنَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَلْفِ مِنَ الزَّمَانِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ تَحْتَ أَشِعَّةِ أَنْوَارِهِ، وَفِي بَرَكَةِ لَمَعَانِ أَسْرَارِهِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ أَخْبَارِهِ، وَالْمُسْتَفَاضَةِ مِنْ آثَارِهِ. (وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَيَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ) ، أَيْ: يُصِيبُ مِنْكُمْ وَتُصِيبُونَ مِنْهُ (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى) ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الدَّارَ ابْتِلَاءٌ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الْأَكْدَارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] وَفُسِّرَ الْبَلَاءُ بِالْمِحْنَةِ وَالْمِنْحَةِ؟ فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ الْحَاصِلِ لِلْعِبَادِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْبَلَاءَ لِأَهْلِ الْوَلَاءِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ( «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ» ) . (ثُمَّ يَكُونُ لَهَا) أَيْ: لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهَا (الْعَاقِبَةُ) . أَيِ: الْمَحْمُودَةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] ، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعْنِي نَبْتَلِيهِمْ فِي ذَلِكَ لِيَعْظُمَ أَجْرُهُمْ بِكَثْرَةِ صَبْرِهِمْ وَبَذْلِ وُسْعِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. (وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيَّ أَوِ الشَّأْنَ (لَا يَغْدِرُ) ، يَعْنِي: وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِصْحَابِ، وَلِذَا أَعْرَضَ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَدْخُولَةِ الْمَعْلُولَةِ. (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ) أَيْ: هُوَ رَجُلٌ اقْتَدَى (بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. قَالَ) أَيْ: أَبُو سُفْيَانَ (ثُمَّ قَالَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ) ؟ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَغْلِيبًا أَوِ الْتِفَاتًا، وَلِذَا عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: قُلْتُ إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْنَا: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ) ، أَيْ: بِالْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ (وَالصِّلَةِ) ، أَيْ: صِلَةِ الرَّحِمِ وَكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (وَالْعَفَافِ) ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيِ: الْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَكُلِّ مَا يُخَالِفُ الْمَكَارِمَ (قَالَ: إِنْ يَكْ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ) ، فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: قَوْلُ هِرَقْلَ: (إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ) أَخَذَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ، فَفِي التَّوْرَاةِ هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ عَلَامَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَفَهُ بِالْعَلَامَاتِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى النُّبُوَّةِ؟ فَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ، وَهَكَذَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّينِ: وَمَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِتِلْكَ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَيَّشَ الْجُيُوشَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَاتَلَهُمْ، وَلَمْ يُمَصِّرْ فِي تَجْهِيزِ الْجَيْشِ عَلَيْهِمْ مِنَ الرُّومِ وَغَيْرِهِ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، فَيَهْزِمُهُمُ اللَّهُ وَيُهْلِكُهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ إِلَّا أَقَلُّهُمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَقَدْ فُتِحَ أَكْثَرُ بِلَادِ الشَّامِ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ وَبِهَلَاكِهِ هَلَكَتِ الْمَمْلَكَةُ الرُّومِيَّةُ. قُلْتُ: يَعْنِي الرُّومِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ لَهُمُ الْمَمْلَكَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِالْغَلَبَةِ وَالشَّوْكَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، حَتَّى أَقَامَهُمُ اللَّهُ لِمُقَاتَلَةِ الطَّائِفَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَلِمُقَابَلَةِ الرَّافِضَةِ الْكُفْرَانِيَّةِ، وَقَامُوا بِخِدْمَةِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِنْ عِمَارَتِهِمَا وَخَيْرَاتِهِمَا وَمَبَرَّاتِهِمَا فِي الْبَلَدَيْنِ الْمُنِيفَيْنِ، وَإِرْسَالِ أُمَرَاءِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لَا مِنَ الطَّرِيقِ الْوَاصِلِ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، مَعَ مَا فِيهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الشَّرِيعَةِ، وَتَكْرِيمِ الْعُلَمَاءِ، وَاحْتِرَامِ الْمَشَايِخِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَجَزَاهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْدَاءِ إِلَى يَوْمِ النِّدَاءِ، هَذَا وَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَمَا أَعْقَلَهُ لَوْ مَعْقُولُهُ أَكْلَمَهُ، لَكِنْ مَا سَاعَدَهُ لِعَدَمِ السَّعَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَوُجُودِ الشَّقَاوَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ طَمَعُ الرِّيَاسَةِ وَظُهُورُ الْكَمَالِ، وَالْمَيْلُ إِلَى وُصُولِ الْمَالِ وَحُصُولِ الْمَنَالِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْمَآلِ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى النَّكَالِ، وَلِذَا قَالَ:

(وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ) أَيْ: عَلِمًا يَقِينًا (أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (خَارِجٌ. أَيْ: ظَاهِرٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ) ، أَيْ: مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ، بَلْ كُنْتُ أَظُنُّهُ أَنَّهُ مِنْ مَعْشَرِ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ وَبَلِيَّةٌ غَامِضَةٌ، فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا وَالْحَقُّ أَحَقَّ أَنْ يُتَّبَعَ. (وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ) : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: أَصِلُ (إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى خِدْمَتِهِ وَدَوْلَتِهِ وَحَضْرَةِ رُؤْيَتِهِ (لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ) أَيْ: دَوْلَةَ مُلَاقَاتِهِ وَسَعَادَةَ مُتَابَعَتِهِ، (وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ) أَيْ: وَلَوْ صِرْتُ فِي مَقَامِهِ، وَوَصَلْتُ إِلَى مَوْضِعِ قِيَامِهِ (لَغَسَلْتُ) أَيْ: وَجْهِي (عَنْ قَدَمَيْهِ) أَيْ: غَسْلًا صَادِرًا عَنْ مَاءِ أَقْدَامِهِ، لِمَا أَرَى لَهُ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ وَإِقْدَامِهِ، أَوِ التَّقْدِيرُ غَسَلْتُ الْغُبَارَ وَالْوَسَخَ عَنْ قَدَمَيْهِ فَضْلًا عَنْ تَقْبِيلِ يَدَيْهِ، (وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ) . بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّثْنِيَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ صِدْقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا شَحَّ بِالْمُلْكِ وَرَغِبَ فِي الرِّيَاسَةِ، فَآثَرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ لَوَفَّقَهُ، كَمَا وَفَّقَ النَّجَاشِيَّ، وَمَا زَالَتْ عَنْهُ الرِّيَاسَةُ. وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ: اخْتُلِفَ فِي زَمَانِهِ، وَالْأَرْجَحُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْكُفْرِ، فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ تَبُوكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي مُسْلِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبَ، بَلْ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ. قُلْتُ: لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَوْتِهِ بِالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا رُجِّحَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ. (ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَهُ) . أَيْ: فَعَظَّمَهُ، وَبَالَغَ فِي مُحَافَظَتِهِ فَصَارَ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْمُلْكِ فِي ذُرِّيَّتِهِ، بِخِلَافِ كِسْرَى حَيْثُ شَقَّهُ وَمَزَّقَهُ، فَمَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ، وَفَرَّقَ وَلَدَهُ، وَأَخْرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُلْكَهُ. قَالَ سَيْفُ الدِّينِ: (أَرْسَلَنِي مَلِكُ الْعَرَبِ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ فِي شَفَاعَةٍ، فَقَبِلَهَا وَعَرَضَ عَلَيَّ الْإِقَامَةَ فَأَبَيْتُ، فَقَالَ: لَأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سَنِيَّةٍ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُنْدُوقِهِ مِقْلَمَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا قَدْ زَالَ أَكْثَرُ حُرُوفِهِ، فَقَالَ: هَذَا كِتَابُ نَبِيِّكُمْ لِجَدِّي قَيْصَرَ مَا زِلْنَا نَتَوَارَثُهُ إِلَى الْآنَ، وَقَدْ أَوْصَانَا بِأَنَّهُ مَا دَامَ عِنْدَنَا لَا يَزُولُ الْمُلْكُ مِنَّا، فَنَحْنُ نَحْفَظُهُ لِيَدُومَ الْمُلْكُ لَنَا) ذَكَرَهُ أَكْمَلُ الدِّينِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ الْحَدِيثِ) : وَهُوَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ (فِي بَابِ الْكِتَابَةِ إِلَى الْكُفَّارِ) .

[باب في المعراج]

[بَابٌ فِي الْمِعْرَاجِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5862 - (عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ [عَنْ مَالِكِ] بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: (بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ - وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ - مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ) يَعْنِي مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ " فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ) - وَفِي رِوَايَةٍ: " ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً لِلَّهِ ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ: قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامِ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا لَهُ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَهَذَا عِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا دَخَلْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ. ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ، فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا دَخَلْتُ، فَإِذَا هَارُونُ. قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي؛ ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرَئِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا: قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: هَذَا سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، قُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنَى عَشْرًا. فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ. قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ، نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [6]- بَابٌ فِي الْمِعْرَاجِ الْعُرُوجُ: هُوَ الذَّهَابُ فِي صُعُودٍ. قَالَ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج: 4] وَالْمِعْرَاجُ بِالْكَسْرِ شِبْهُ السُّلَّمِ مِفْعَالٌ مِنَ الْعُرُوجِ بِمَعْنَى الصُّعُودِ، فَكَأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ آلَةٌ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي رِسَالَتِي الْمُسَمَّاةِ بِالْمِدْرَاجِ لِلْمِعْرَاجِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لِصُعُودِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ، وَالْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمُعْظَمُ السَّلَفِ، وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ، فَمَنْ طَالَعَهَا وَبَحَثَ عَنْهَا، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي حَمْلِهَا عَلَيْهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَقِيلَ: ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ غَلَطٌ يُوَافِقُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: كَانَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أُسْرِيَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكَّةَ، وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَانَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ: وَهُوَ نَائِمٌ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، فَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَجْعَلُهَا رُؤْيَا نَوْمٍ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ حَالَةَ أَوَّلِ وُصُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَائِمًا فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي الْمَعَالِمِ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى ذَلِكَ. قُلْتُ: وَمِنَ الْقَلِيلِ مَنْ قَالَ بِتَعْدَادِ الْإِسْرَاءِ نَوْمًا وَيَقَظَةً وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ رَوَيْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] (ثُمَّ) : قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَيْءٌ أُرِيَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَنْكَرَتْهُ قُرَيْشٌ وَارْتَدَّتْ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ أَسْلَمُوا حِينَ جَمَعُوهُ، وَإِنَّمَا يُنْكَرُ إِذَا كَانَتْ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا لَا يُنْكَرُ مِنْهَا مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْمِعْرَاجَ مَرَّتَانِ: مَرَّةً بِالنَّوْمِ وَأُخْرَى بِالْيَقَظَةِ. قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: رُؤْيَا أَرَاهُ اللَّهُ قَبْلَ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْوَحْيِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَاهُ، كَمَا أَنَّهُ رَأَى فَتْحَ مَكَّةَ فِي الْمَنَامِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ كَانَ تَحْقِيقُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعَنْ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّ الْأَرْوَاحَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَنْوَارِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبْدَانِ بِمَنْزِلَةِ قُرْصِ الشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ، وَكَمَا أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ يَصِلُ إِلَيْهِ نُورُ الشَّمْسِ تَتَبَدَّلُ ظُلُمَاتُهُ بِالْأَضْوَاءِ، فَكَذَلِكَ كَلُّ عُضْوٍ وَصَلَ إِلَيْهِ نُورُ الرُّوحِ انْقَلَبَ حَالُهُ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. وَقَالُوا: الْأَرْوَاحُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: الْأَرْوَاحُ الْمُكَدَّرَةُ بِالصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَهِيَ أَرْوَاحُ الْعَوَامِّ غَلَبَتْهُ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةُ لَا تَقْبَلُ الْعُرُوجَ، وَالثَّانِي: الْأَرْوَاحُ الَّتِي لَهَا كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِاكْتِسَابِ الْعُلُومِ، وَهَذِهِ أَرْوَاحُ الْعُلَمَاءِ، وَالثَّالِثُ: الْأَرْوَاحُ الَّتِي لَهَا كَمَالُ الْقُوَّةِ الْمُدَبِّرَةِ لِلْبَدَنِ بِاكْتِسَابِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَهَذِهِ أَرْوَاحُ الْمُرْتَاضِينَ إِذَا كَبُرَ وَأَقْوَى أَبْدَانُهُمْ بِالِارْتِيَاضِ وَالْمُجَاهَدَةِ، وَالرَّابِعُ: الْأَرْوَاحُ الْحَاصِلَةُ لَهَا كَمَالُ الْقُوَّتَيْنِ، وَهَذِهِ غَايَةُ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَهِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، فَلَمَّا ازْدَادَ قُوَّةُ أَرْوَاحِهِمُ ازْدَادَ ارْتِفَاعُ أَبْدَانِهِمْ عَنِ الْأَرْضِ، وَبِهَذَا لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَوِيَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ عُرِجَ بِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَكْمَلُهُمْ قُوَّةً نَبِيُّنَا، فَعُرِجَ بِهِ إِلَى قَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5862 - (عَنْ قَتَادَةَ) ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) أَيْ: خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ) : أَنْصَارِيٌّ مُزَنِيٌّ مَدَنِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَهُوَ قَلِيلُ الْحَدِيثِ (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةَ: وَمِنْهُمْ أَنَسٌ (عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ) : بِالْإِضَافَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ أَيْ: لَيْلَةٍ أُسْرِيَ بِهِ فِيهَا. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: إِنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى الْمَاضِي، وَفِي نُسْخَةِ رِوَايَتِي مَجْرُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ بِنَاءُ لَيْلَةٍ وَإِعْرَابُهَا، وَأُسْرِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] وَالْإِسْرَاءُ: مِنَ السُّرَى، وَهُوَ السَّيْرُ فِي اللَّيْلِ. يُقَالُ: سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنًى، وَقِيلَ: أَسْرَى سَارَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَسَرَى مِنْ آخِرِهِ. قِيلَ: وَهُوَ أَقْرَبُ فَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَذِكْرُ اللَّيْلِ لِلتَّجْرِيدِ أَوْ لِلتَّأْكِيدِ. وَفِي الْآيَةِ بِالتَّنْكِيرِ لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّعْظِيمِ. (بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ) : قَالَ الْقَاضِي، قِيلَ هُوَ الْحِجْرُ سُمِّيَ حِجْرًا لِأَنَّهُ حَجَرَ عَنْهُ بِحِيطَانِهِ، وَحَطِيمًا لِأَنَّهُ حُطِمَ جِدَارُهُ عَنْ مُسَاوَاةِ الْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ (وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ) : فَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَى لَهُمْ قِصَّةَ الْمِعْرَاجِ مَرَّاتٍ، فَعَبَّرَ بِالْحَطِيمِ تَارَةً، وَبِالْحِجْرِ أُخْرَى. وَقِيلَ: الْحَطِيمُ غَيْرُ الْحِجْرِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ إِلَى الْبَابِ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ وَالْحِجْرِ، وَالرَّاوِي شَكَّ فِي أَنَّهُ جُمِعَ فِي الْحَطِيمِ أَوْ فِي الْحِجْرِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: الْحَطِيمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْبَابِ إِلَى الْمَقَامِ حَيْثُ يَنْحَطِمُ النَّاسُ لِلدُّعَاءِ، وَقِيلَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَحَالَفُونَ هُنَالِكَ، وَيَنْحَطِمُونَ بِالْإِيمَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْأَوَّلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُضْطَجِعًا) : قَيْدٌ لِلرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّوْمَ وَالْيَقَظَةَ (إِذْ أَتَانِي آتٍ) أَيْ: جَاءَنِي مَلَكٌ (فَشَقَّ) أَيْ: قَطَعَ (مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى

هَذِهِ) يَعْنِي) : تَفْسِيرٌ مِنْ مَالِكٍ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ هَذَا (مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: نَقْرَةِ نَحْرِهِ الَّتِي بَيْنَ التَّرْقُوَتَيْنِ (إِلَى شِعْرَتِهِ) . بِكَسْرِ الشِّينِ أَيْ عَانَتِهِ، وَقِيلَ مَنْبِتُ شَعْرِهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي) : قَالَ شَارِحٌ: وَهَذَا الشَّقُّ غَيْرُ مَا كَانَ فِي زَمَنِ الصِّبَا إِذْ هُوَ لِإِخْرَاجِ مَادَّةِ الْهَوَى مِنْ قَلْبِهِ، وَهَذَا لِإِدْخَالِ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قَلْبِهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّخْلِيَةِ وَالتَّحْلِيَةِ وَمَقَامِ الْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ وَنَفْيِ السَّوِيِّ وَإِثْبَاتِ الْمَوْلَى، كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُعْجِزَةٌ فَإِنَّ مِنَ الْمُحَالِ الْعَادِيِّ أَنْ يَعِيشَ مَنْ يَنْشَقُّ بَطْنُهُ وَيُسْتَخْرَجُ قَلْبُهُ، وَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلُوهَا عَلَى الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ شَقِّ النَّحْرِ وَاسْتِخْرَاجِ الْقَلْبِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَإِنَّ السَّبِيلَ فِي ذَلِكَ التَّسْلِيمُ دُونَ التَّعَرُّضِ بِصَرْفِهِ مِنْ وَجْهٍ إِلَى وَجْهٍ بِمَنْقُولٍ مُتَكَلَّفٍ دُعَاءً لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، هَرَبًا مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ لَا نَرَى الْعُدُولَ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ عَنِ الْأَمْرِ لِعَدَمِ الْمُحَالِ بِهِ عَلَى الْقُدْرَةِ. (ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتُكْسَرُ وَسِينُهُ مُهْمَلَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَمُعْجَمَةٌ (مِنْ ذَهَبٍ) : لَعَلَّ الِاسْتِعْمَالَ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَوِ الْقَضِيَّةُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (مَمْلُوءَةٍ) : عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ بِالْهَمْزِ وَيُشَدَّدُ (إِيمَانًا) : تَمْيِيزٌ. قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّهُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ إِذْ تُمَثَّلُ لَهُ الْمَعَانِي كَمَا تُمَثَّلُ لَهُ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ الدَّارِجَةُ بِالصُّوَرِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْسَادٌ لَطِيفَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مُمَثَّلٌ لَهُ الْأَرْوَاحُ بِأَجْسَادِهِمُ الْفَانِيَةِ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ، نَعَمْ لَوْ قِيلَ بِبَقَاءِ أَجْسَادِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا أَرْوَاحُهُمْ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ وَبِتَمَثُّلِهَا فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، لَكَانَ تَوْجِيهًا وَجِيهًا وَتَنْبِيهًا نَبِيهًا، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا يَبْعُدُ عَنْ قُدْرَةِ الْقَاهِرِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَعْنَى جُعِلَ الْإِيمَانُ فِي الطَّسْتِ جُعِلَ شَيْءٌ فِيهِ يَحْصُلُ بِهِ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ مَجَازًا، وَقَدْ قَالَ الشَّارِحُ: الْأَوَّلُ لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ أَقُولُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعَانِيَ قَدْ تَتَجَسَّمُ كَمَا حُقِّقَ فِي وَزْنِ الْأَعْمَالِ وَذَبْحِ كَبْشِ الْمَوْتِ وَنَحْوِهِمَا. (فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ) : مَاضٍ مَجْهُولٌ مِنَ الْحَشْوِ أَيْ: مُلِئَ مِنْ حُبِّ رَبِّي (ثُمَّ أُعِيدَ) . أَيِ: الْقَلْبُ إِلَى مَوْضِعِهِ الْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: (ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ) أَيِ: الْجَوْفُ مُطْلَقًا أَوْ مَحَلُّ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ بَيْتُ الرَّبِّ (بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ مُلِئَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً) أَيْ: إِيقَانًا وَإِحْسَانًا فَهُوَ تَكْمِيلٌ وَتَذْيِيلٌ (ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ) : هِيَ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَالتَّاءُ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ، فَالْمَعْنَى بِمَرْكُوبٍ مُتَوَسِّطٍ. (دُونَ الْبَغْلِ) : أَصْغَرُ مِنْهُ (وَفَوْقَ الْحِمَارِ) أَيْ: أَكْبَرُ مِنْهُ (أَبْيَضَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الصِّفَةِ (يُقَالُ لَهُ الْبُرَاقُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، سُمِّيَ بِهِ لِبَرِيقِ لَوْنِهِ، أَوْ لِسُرْعَةِ سَيْرِهِ كَبَرْقِ السَّحَابِ وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ يُؤَكِّدُ الثَّانِيَ قَوْلُهُ: (يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ) ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْ: يَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ وَغَايَةِ نَظَرِهِ قِيلَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ مُعَدًّا لِرُكُوبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ بُرَاقٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَرَاتِبَ الْأَصْفِيَاءِ، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: هُوَ اسْمٌ لِلدَّابَّةِ الَّتِي رَكِبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. قَالَ الزُّبَيْدِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ، وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ: هِيَ دَابَّةٌ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَرْكَبُونَهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُمْ حَسِبُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَرَبَطَهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ أَيْ: رَبَطَتِ الْبُرَاقَ. قُلْتُ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَقْدِيرِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُرَاقِ الْجِنْسُ فِي الثَّانِي: قَالَ: وَأَظْهَرُ مِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلْبُرَاقِ: فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. قُلْتُ: هُوَ مَعَ ظُهُورِهِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ الْمَانِعِ مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ، إِذْ مُحْتَمَلٌ أَنَّهُ رَكِبَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ أَوْ جِبْرِيلُ قَبْلَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَمَا رَكِبَ مِثْلَكَ أَوْ جِنْسَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لِتَنَفُّرِكَ عَنْهُ. (فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: رَكِبْتُ عَلَيْهِ بِمَعُونَةِ الْمَلَكِ أَوْ بِإِعَانَةِ الْمَلَكِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى صُعُوبَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَجْهُهُ، (فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بَابَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا) ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَى الْبُرَاقِ حَتَّى عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ.

الْمِعْرَاجَ كَانَ فِي لَيْلَةٍ غَيْرَ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَمَّا الْمِعْرَاجُ فَعَلَى غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْبُرَاقِ، بَلْ رُقِيَ فِي الْمِعْرَاجِ وَهُوَ السُّلَّمُ، كَمَا وَقَعَ بِهِ مُصَرَّحًا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي وَإِجْمَالٌ لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ رَبَطَ الْبُرَاقَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُ عَلَى الْبُرَاقِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ إِسْرَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي هُوَ السُّلَّمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَكَأَنَّ الرَّاوِي طَوَى الرِّوَايَةَ، فَاخْتَلَّ بِهِ أَمْرُ الدِّرَايَةِ، ثُمَّ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْعُرُوجِ إِلَى السَّمَاءِ إِظْهَارُ الْحَقِّ لِلْمُعَانِدِينَ، لِأَنَّهُ لَوْ عُرِجَ بِهِ عَنْ مَكَّةَ إِلَى السَّمَاءِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إِلَى إِيضَاحِ الْحَقِّ لِلْمُعَانِدِينَ، كَمَا وَقَعَ فِي الْأَخْبَارِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا صَادَفَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الْعِيرِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِيَازَةِ فَضِيلَةِ الرَّحِيلِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ هِجْرَةِ غَالِبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ بَابَ السَّمَاءِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مِصْعَدُ الْمَلَائِكَةِ يُقَابِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأُسْرِيَ إِلَيْهِ لِيَحْصُلَ الْعُرُوجُ مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ تَعْوِيجٍ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. (فَاسْتَفْتَحَ) أَيْ: طَلَبَ جِبْرِيلُ فَتْحَ بَابِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا (قِيلَ: مَنْ هَذَا) ؟ أَيِ: الْمُسْتَفْتِحُ (قَالَ: جِبْرِيلُ) : بِتَقْدِيرِ هُوَ أَوْ أَنَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِيهِ أَنَّ لِلسَّمَاءِ أَبْوَابًا حَقِيقَةً وَحَفَظَةً مُوَكَّلِينَ بِهَا، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الِاسْتِئْذَانِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أَنَا زَيْدٌ مَثَلًا يَعْنِي: لَا يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ أَنَا، كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ إِذْ قَدْ وَرَدَ بِهِ النَّهْيُ (قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ) ؟ أَيْ: أَنْتَ نَعْرِفُكَ وَمَنْ مَعَكَ حَتَّى تَسْتَفْتِحَ (قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ) الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَحَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَطُلِبَ وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالْعُرُوجِ أَوْ بِالْوَحْيِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ أَيْ بُعِثَ إِلَيْهِ لِلْإِسْرَاءِ وَصُعُودِ السَّمَاءِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ أَصْلِ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى الْمَلَائِكَةِ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالْعُرُوجِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَبُعِثَ نَبِيًّا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ أَمْرَ نُبُوَّتِهِ كَانَ مَشْهُورًا فِي الْمَلَكُوتِ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى خَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَحَرَسِهَا، وَأَوْفَقُ لِلِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِئْذَانِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ مَعَهُ وَتَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَظَائِرِهَا أَسْرَارٌ يَتَفَطَّنُ لَهَا مَنْ فُتِحَتْ بَصِيرَتُهُ وَاشْتَعَلَتْ قَرِيحَتُهُ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ مَأْخَذَهَا وُقُوفُهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَبْوَابِ عَلَى دَأْبِ آدَابِ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ، ثُمَّ السُّؤَالُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَكَذَا الْجَوَابُ. بِمَرْحَبًا مَرْحَبًا بِذَلِكَ الْجَنَابِ، الْمُشْعِرِ بِالتَّنَزُّلِ الرَّحْمَانِيِّ، وَالِاسْتِقْبَالِ الصَّمَدَانِيِّ، وَالْإِقْبَالِ الْفَرْدَانِيِّ، الْمُشِيرِ إِلَى مَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الْمُعَبِّرِ عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ ( «مَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا» ) الْمُومِئُ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] الْمُصَرِّحِ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ فِي مَقَامِ مُرِيدِ الْمَزِيدِ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، ثُمَّ الْوَارِدُ عَلَى لِسَانِهِ بِلِسَانِ الْجَمْعِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، ثُمَّ عَرَضَ عُلُوَّ مَقَامِهِ، وَحُصُولَ مَرَامِهِ عَلَى آبَائِهِ الْكِرَامِ، وَإِخْوَانِهِ الْعِظَامِ فِي تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الْفِخَامِ، فَيَا لَهَا مِنْ سَاعَةِ سَعَادَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ فَوْقَهَا زِيَادَةٌ! وَقِيلَ: كَانَ سُؤَالُهُمْ لِلِاسْتِعْجَابِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ لِلِاسْتِبْشَارِ بِعُرُوجِهِ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ مِنَ الْبَيِّنِ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يَتَرَقَّى إِلَى أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ، وَيَأْمُرَ مَلَائِكَتَهُ بِإِصْعَادِهِ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَصْعَدْ بِمَنْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ، وَلَا يُسْتَفْتَحْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. (قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (نَعَمْ) أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالتَّقْرِيبِ لَدَيْهِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ (قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ) أَيْ: أَتَى اللَّهُ بِالنَّبِيِّ مَرْحَبًا أَيْ: مَوْضِعًا وَاسِعًا، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَمَرْحَبًا مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى جَاءَ أَهْلًا وَسَهْلًا لِقَوْلِهِ: (فَنِعْمَ الْمَجِيءُ) أَيْ: مَجِيئُهُ (جَاءَ) ، فِعْلٌ مَاضٍ وَقَعَ اسْتِئْنَافَ بَيَانٍ زَمَانًا أَوْ حَالًا وَالْمَجِيءُ فَاعِلُ نِعْمَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ أَيْ: جَاءَ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ مَجِيئُهُ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ نِعْمَ الْمَجِيءُ الَّذِي جَاءَهُ، فَحُذِفَ الْمَوْصُولُ وَاكْتُفِيَ بِالصِّلَةِ أَوْ نِعْمَ الْمَجِيءُ مَجِيءٌ جَاءَ فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَاكْتُفِيَ بِالصِّفَةِ. (فَفُتِحَ) أَيْ: بَابُ السَّمَاءِ (فَلَمَّا خَلَصْتُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: وَصَلْتُ إِلَيْهَا وَدَخَلْتُ فِيهَا (فَإِذَا فِيهَا آدَمٌ،

فَقَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (هَذَا أَبُوكَ) أَيْ: جَدُّكَ أَيْ آدَمُ (فَسَلِّمْ عَلَيْهِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ عَابِرًا عَلَيْهِ وَكَانَ فِي حُكْمِ الْقَائِمِ، وَكَانُوا فِي حُكْمِ الْقُعُودِ، وَالْقَائِمُ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ، وَكَيْفَ لَا، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَى مَرْتَبَةً وَأَقْوَى حَالًا وَأَتَمَّ عُرُوجًا، (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ) ، أَيْ: رَدًّا جَمِيلًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ حَقِيقَةً. (ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) : قِيلَ: وَبِهَا اقْتَصَرَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّ الصَّلَاحَ صِفَةٌ تَشْمَلُ جَمِيعَ خَصَائِلِ الْخَيْرِ وَشَمَائِلِ الْكَرَمِ، وَلِذَا قِيلَ: الصَّالِحُ مَنْ يَقُومُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَلِذَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّالِحَ لِهَذَا الْمَقَامِ الْعَالِي، وَالصُّعُودِ الْمُتَعَالِي (ثُمَّ صَعِدَ بِي) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلُ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ (حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ) : وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مَسَافَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، (فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) : فِي تَكْرَارِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَبْوَابِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ بُسِطَ لَهُ الزَّمَانُ وَطُوِيَ لَهُ الْمَكَانُ، وَاتَّسَعَ لَهُ اللِّسَانُ، وَانْتَشَرَ لَهُ الشَّأْنُ فِي ذَلِكَ الْآنِ بِعَوْنِ الرَّحْمَنِ. (فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مُحْتَمِلَةٌ أَنَّ تَكُونَ مِنْ أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَأَنْ تَكُونَ مُدْرَجَةً مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، هَذَا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: الْمَرْئِيُّ كَأَنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَشَكِّلَةٌ بِصُوَرِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، إِلَّا عِيسَى فَإِنَّهُ مَرْئِيٌّ بِشَخْصِهِ، وَسَبَقَهُ التُّورِبِشْتِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَرُؤْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَيْثُ أُبْهِمَ يُحْمَلُ عَلَى رُؤْيَةِ رُوحَانِيَّتِهِمُ الْمُمَثَّلَةِ بِصُوَرِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا غَيْرَ عِيسَى فَإِنَّ رُؤْيَتَهُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا. قُلْتُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَمُوتُونَ كَسَائِرِ الْأَحْيَاءِ، بَلْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ دَارِ الْفَنَاءِ إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْأَنْبَاءُ، وَأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. (قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (هَذَا يَحْيَى) : قَدَّمَهُ لِسَبْقِهِ فِي الْوُجُودِ (وَهَذَا عِيسَى) : خَتَمَ بِهِ لِأَنَّهُ أَتَمُّ فِي الشُّهُودِ وَخَاتِمَةُ أَرْبَابِ الْفَضْلِ وَالْجُودِ. (السَّلَامُ عَلَيْهِمَا) . أَيْ: جُمْلَةً أَوْ عَلَى حِدَةٍ (فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا) ، أَيِ: السَّلَامَ عَلَيَّ بِأَحْسَنِ رَدٍّ (ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ) : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وَلِمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ. (وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الِاسْتِعْلَاءُ إِلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ الْمَلَكِيِّ وَالْفَتْحِ الْإِلَهِيِّ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ لَهُمْ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَحَالٌ مَفْهُومٌ، لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ) أَيْ: رَدًّا حَسَنًا (ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ. قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) : وَهَذَا التَّكْرَارُ، وَالْبَيَانُ عَلَى وَجْهِ التَّكْثِيرِ يُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ: أَعِدْ ذِكْرَ نُعْمَانَ لَنَا إِنَّ ذِكْرَهُ هُوَ الْمِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ

فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) : قَالَ عِيَاضٌ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ أَهْلِ التَّارِيخِ: إِنَّ إِدْرِيسَ كَانَ مِنْ آبَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ إِدْرِيسَ ذَلِكَ تَلَطُّفًا وَتَأَدُّبًا، وَهُوَ أَخٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ أَبًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِخْوَةٌ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. (ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ بَابُ السَّمَاءِ إِلَّا لِمَنْ يَكُونُ مَسْبُوقًا بِنَعْتِ الْعَلَاءِ وَوَصْفِ الْوَلَاءِ، وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ فَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. ( «فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ» ) ، فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مُنِحَ لَهُ بِفَتْحِ بَابٍ مَا مُنِعَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ حِجَابٌ، بَلْ يُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: عَلَى بَابِكَ الْأَعْلَى مَدَدْتُ يَدَ الرَّجَا وَمَنْ جَاءَ هَذَا الْبَابَ لَا يَخْتَشِي الرَّدَى ( «فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ، مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ» ) أَيْ: مُوسَى أَوْ مَقَامِي (بَكَى) ، أَيْ: مُوسَى تَأَسُّفًا عَلَى أُمَّتِهِ وَشَفَقَةً عَلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ، فَإِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ حَقَّ الْمُتَابَعَةِ مَعَ طُولِ مُدَّتِهِ وَامْتِدَادِ أَيَّامِ دَعْوَتِهِ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ انْتِفَاعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قِلَّةِ عُمُرِهِ وَقِصَرِ زَمَانِهِ، وَهَذَا يُظْهِرُ وَجْهَ قَوْلِهِ: ( «قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أَمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي» ) ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ اسْتِقْصَارَ شَأْنِهِ، فَإِنَّ الْغُلَامَ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْقَوِيُّ الطَّرِيُّ الشَّابُّ، وَهَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ التُّورِبِشْتِيِّ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْغِبْطَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَهْلِ الْفِطْنَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّمَنِّي؛ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي أَمْرِ الْمَحَلِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَكُنْ بُكَاءُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسَدًا مَعَاذَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْحَسَدَ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ مَنْزُوعٌ مِنْ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ مِمَّنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، بَلْ كَانَ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الدَّرَجَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَنْقِيصِ أُجُورِهِمُ الْمَلْزُومِ لِنَقْصِ أَجْرِهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِثْلَ أَجْرِ كُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: غُلَامٌ فَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْقِيصِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظِيمِ كَرَمِهِ، إِذْ أَعْطَى لِمَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ السِّنِّ مَا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا قَبْلَهُ مِمَّنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشَارَ إِلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِ اسْتِمْرَارِ الْقُوَّةِ فِي الْكُهُولَةِ إِلَى أَنْ دَخَلَ فِي أَوَّلِ الشَّيْخُوخَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى بَدَنِهِ هِرَمٌ، وَلَا اعْتَرَى قُوَّتَهُ نَقْصٌ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ غُلَامًا أَنَّهُ حِينَ مُرُورِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَانَ فِي مُدَّةِ عُمُرِهِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَعْمَارِهِمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ مُرُورُ الْأَزْمِنَةِ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الْبَرْزَخِ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ غُلَامًا لِمَا حَصَلَ لَهُ الْمَرْتَبَةُ الْعَلِيَّةُ فِي قَلِيلٍ مِنْ مُدَّةِ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِنَّ الْمِعْرَاجَ عَلَى مَا سَبَقَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِزَمَانٍ قَلِيلٍ إِذْ أَقْصَى مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ عُمُرُ الْغُلَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَبْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْعُمُرِ التَّمَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ.

(ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) : فِي إِطْبَاقِ كَلِمَتِهِمْ وَاتِّفَاقِ جُمْلَتِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَدْحِ الْمُطْلَقِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَلْسِنَةَ الْخَلْقِ أَقْلَامُ الْحَقِّ، وَلَيْسَ هُنَا فِي الْأُصُولِ لَفْظُ: فَفُتِحَ، فَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ لَفْظِ الرَّاوِي، أَوِ اكْتِفَاءٌ بِمَا سَبَقَ، وَدَلَالَةٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ) أَيْ: جَدُّكَ الْأَقْرَبُ (إِبْرَاهِيمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ) ، وَكَانَ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ التَّامِّ، وَمُشَاهَدَةِ الْمَرَامِ غَافِلًا عَنِ الْأَنَامِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] حَتَّى احْتَاجَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَقَامِ إِلَى تَعْلِيمِ جِبْرِيلَ بِالسَّلَامِ. (ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) . قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ: اسْتَشْكَلَ رُؤْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مَعَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ مُسْتَقِرَّةٌ فِي قُبُورِهِمْ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَشَكَّلَتْ بِصُوَرِ أَجْسَادِهِمْ، أَوْ أُحْضِرَتْ أَجْسَادُهُمْ لِمُلَاقَاتِهِ أَيْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ تَشْرِيفًا لَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ اخْتِصَاصِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّمَاءِ الَّتِي لَقِيَهُ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الدَّرَجَاتِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: اخْتِصَاصُ آدَمَ بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَوَّلُ الْآبَاءِ، فَكَانَ فِي الْأَوْلَى أَوْلَى، وَعِيسَى بِالثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءِ عَهْدًا مِنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَلِيهِ يُوسُفُ لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ يُدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَتِهِ، وَإِدْرِيسُ فِي الرَّابِعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] وَالرَّابِعَةُ مِنَ السَّبْعِ وَسَطٌ مُعْتَدِلٌ، وَهَارُونُ فِي الْخَامِسَةِ لِقُرْبِهِ مِنْ أَخِيهِ، وَمُوسَى أَرْفَعُ مِنْهُ لِفَضْلِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِبْرَاهِيمُ فَوْقَهُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ نَبِيِّنَا. أَقُولُ: بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ مِنَ الْمَقَامِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُلِّ سَمَاءٍ إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الْأَعْلَامِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِمْ عَنْ بَقِيَّةِ الْكِرَامِ. (ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) : وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ، وَبَعْضِ النُّسَخِ: رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ الْآتِي: ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْأَكْثَرُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ التَّاءِ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَعْدَهُ حَرْفُ الْجَرِّ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: رُفِعَتْ لِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ التَّاءِ أَيْ: رُفِعَتِ السِّدْرَةُ لِي بِاللَّامِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِي، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ رَفَعُهُ إِلَيْهَا أَيِ: ارْتَقَى بِهِ وَأُظْهِرَتْ لَهُ، وَالرَّفْعُ إِلَى الشَّيْءِ يُطْلَقُ عَلَى التَّقَرُّبِ مِنْهُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرَّفْعُ تَقْرِيبُكَ الشَّيْءَ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] أَيْ: مُقَرَّبَةٍ لَهُمْ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى اسْتُبِينَتْ لَهُ بِنَعْرَتِهَا كُلَّ الِاسْتِبَانَةِ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَيْهَا كُلَّ الِاطِّلَاعِ بِمَثَابَةِ الشَّيْءِ الْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ، وَفِي مَعْنَاهُ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَرُفِعَ لِي بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: سُمِّيَتْ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى لِأَنَّ عِلْمَ الْمَلَائِكَةِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَلَمْ يُجَاوِزْهَا أَحَدٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا وَمَا يَصْعَدُ مِنْ تَحْتِهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَإِضَافَتُهَا إِلَى الْمُنْتَهَى لِأَنَّهَا مَكَانٌ يَنْتَهِي دُونَهُ أَعْمَالُ الْعِبَادِ وَعُلُومُ الْخَلَائِقِ، وَلَا تَجَاوُزَ لِلْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ مِنْهَا إِلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَأَصْلُ سَاقِهَا فِي السَّادِسَةِ. (فَإِذَا نَبِقُهَا) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُسْكَنُ أَيْ ثَمَرُهَا مِنْ كِبَرِهِ الدَّالِّ عَلَى كِبَرِهَا (مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قُلَّةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ إِنَاءٌ لِلْعَرَبِ كَالْجَرَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَهَجَرُ اسْمُ بَلَدٍ يَنْصَرِفُ وَلَا يَنْصَرِفُ، وَلَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي قِشْرِهَا كَالْمَطْعُومِ فِي ظَرْفِهِ ضُرِبَ مَثَلُ ثَمَرَتِهَا بِأَكْبَرِ مَا كَانُوا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنَ الظُّرُوفِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: هَجَرٌ مُحَرَّكَةً بَلَدُ بِالْيَمَنِ مُذَكَّرٌ مَصْرُوفٌ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَيُمْنَعُ، وَقَرْيَةٌ كَانَتْ قُرْبَ الْمَدِينَةِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا الْقِلَالُ وَيُنْسَبُ إِلَى هَجَرَ الْيَمَنِ. (وَإِذَا وَرَقُهَا) أَيْ: أَوْرَاقُهَا فِي الْكِبَرِ (مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ) ، بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَاللَّامِ جَمْعُ الْفِيلِ، مِثْلُ الدِّيَكَةِ جَمْعُ الدِّيكِ، وَالْآذَانُ بِالْمَدِّ جَمْعُ الْأُذُنِ.

(قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (هَذَا) أَيْ: هَذَا الْمَقَامُ أَوْ هَذَا الشَّجَرُ (سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ) أَيْ: ظَاهِرَةٌ. وَقَالَ شَارِحٌ: إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ: فَإِذَا أَنَا بِأَرْبَعَةِ أَنْهَارٍ (نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ قُلْتُ: مَا هَذَانِ) أَيِ: النَّوْعَانِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] (يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْكَوْثَرُ وَلِلْآخَرِ نَهْرُ الرَّحْمَةِ، كَمَا فِي خَبَرٍ، وَإِنَّمَا قَالَ بَاطِنَانِ لِخَفَاءِ أَمْرِهِمَا فَلَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَى وَصْفِهِمَا، أَوْ لِأَنَّهُمَا مَخْفِيَّانِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، فَلَا يُرَيَانِ حَتَّى يَصُبَّا فِي الْجَنَّةِ، (وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ) ، قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فِي الْأَرْضِ لِخُرُوجِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ مِنْ أَصْلِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا مَا عُرِفَا بَيْنَ النَّاسِ، وَيَكُونُ مَاؤُهُمَا مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ السِّدْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ كَيْفِيَّتُهُ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الِاسْمِ بِأَنْ شَبَّهَهُمَا بِنَهْرَيِ الْجَنَّةِ فِي الْهَضْمِ وَالْعُذُوبَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ تَوَافُقِ الْأَسْمَاءِ بِأَنْ يَكُونَ نَهْرَيِ الْجَنَّةِ مُوَافِقَيْنِ لِاسْمَيْ نَهْرَيِ الدُّنْيَا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَاطِنَانِ هُوَ السَّلْسَبِيلُ وَالْكَوْثَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النِّيلَ وَالْفُرَاتَ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِهَا، ثُمَّ يَسِيرَانِ حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يَخْرُجَانِ مِنَ الْأَرْضِ وَيَسِيرَانِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُهُ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. (ثُمَّ رُفِعَ لِي) أَيْ: قُرِّبَ وَأُظْهِرَ لِأَجْلِي (الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ) ، وَهُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ حِيَالَ الْكَعْبَةِ وَحُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ (ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ) ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّبَنَ لَمَّا كَانَ ذَا خُلُوصٍ وَبَيَاضٍ، وَأَوَّلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَرْبِيَةُ الْمَوْلُودِ صُوَرٌ بِهِ فِي الْعَالَمِ الْمُقَدَّسِ مِثْلَ الْهِدَايَةِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهِ الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ. أَوَّلُهَا انْقِيَادُ الشَّرْعِ، وَآخِرُهَا الْوُصُولُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. (فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ) : أَنَّثَ مَرْجِعَ اللَّبَنِ مَعَ أَنَّهُ مُذَكَّرٌ مُرَاعَاةً لِلْخَبَرِ (أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ) ، أَيْ: عَلَيْهَا أَوْ كَذَلِكَ (ثُمَّ) : يَعْنِي بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى مَقَامِ: (دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ) : وَفِي الْحَدِيثِ الْآتِي: عَلَى أُمَّتِي وَلَا مُنَافَاةَ. (خَمْسِينَ صَلَاةً) : بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَقَوْلُهُ: (كُلَّ يَوْمٍ) ، أَيْ: وَلَيْلَةٍ ظَرْفٌ (فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى) ، أَيْ: بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ، (فَقَالَ) أَيْ: مُوسَى (بِمَا أُمِرْتَ) : مِنَ الْعِبَادَةِ (قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً) أَيْ: أَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ كَانَتْ كُلُّ صَلَاةٍ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ عَلَيَّ صَلَاةٌ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ (كُلَّ يَوْمٍ) . يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهُ بِالنَّهَارِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ لِلظُّهُورِ وَالِاسْتِغْنَاءِ. (قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ) : قَيَّدَ بِالْأُمَّةِ لِأَنَّ قُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ وَعِصْمَتَهُمْ تَمْنَعُهُمْ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، وَتُعِينُهُمْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الطَّاعَةِ، وَلَوْ عَلَى أَقْصَى غَايَةِ الْمَشَقَّةِ وَالطَّاقَةِ، وَالْمَعْنَى لَا تَقْدِرُ أُمَّتُكَ عَادَةً أَوْ سُهُولَةً لِضَعْفِهِمْ أَوْ كَسَلِهِمْ. (خَمْسِينَ صَلَاةً) أَيْ: أَدَاءَهَا (كُلَّ يَوْمٍ) ، ثُمَّ بَيَّنَ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ) أَيْ: زَاوَلْتُ وَمَارَسْتُ الْأَقْوِيَاءَ مِنَ النَّاسِ (قَبْلَكَ) ، يَعْنِي: وَلَقِيتُ الشِّدَّةَ فِيمَا أَدَّتْ مِنْهُمْ، (وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ: بِالْخُصُوصِ (أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ) أَيْ: وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ أُمَّتُكَ؟ (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ)

فَاسْأَلْهُ) : أَمْرٌ مِنْ سَأَلَ مَهْمُوزًا أَوْ مُبْدَلًا أَوْ مَنْقُولًا نُسْخَتَانِ مَقْبُولَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ أَيْ: فَاطْلُبِ (التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ) أَيْ: إِلَى رَبِّي (فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا) : وَهُوَ خُمُسُ الْأَصْلِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ وَضَعَ عَنْهُ خَمْسًا، وَكَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ صَارَ عَشْرًا، أَوْ عَبَّرَ عَنِ الْخَمْسِ بِالْعَشَرِ اقْتِصَارًا (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ) ، أَيْ: مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى (فَرَجَعْتُ) أَيْ: ثَانِيًا (فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ) أَيْ: ثَالِثًا (فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ مِثْلَهُ. فَرَجَعْتُ) أَيْ: رَابِعًا (فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ) أَيْ: خَامِسًا (فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ) أَيْ: وَلَيْلَةٍ، وَلَعَلَّ الِاكْتِفَاءَ فِيهِ لِلتَّغْلِيبِ حَيْثُ أَكْثَرُ الصَّلَوَاتِ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّيْلَ تَابِعٌ لِمَا قَبْلَهُ كَمَا فِي لَيْلَةِ عَرَفَةَ وَلَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ، (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ) أَيْ: أَكْثَرَهُمْ (لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ) أَيْ: مُوَاظَبَتَهَا وَمُدَاوَمَتَهَا وَمُحَافَظَتَهَا (كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ) أَيْ: وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا مَا دُونَ ذَلِكَ (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ) ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مُرَاجَعَةُ اللَّهِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ إِنَّمَا جَازَتْ مِنْ رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُمَا عَرَفَا أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَطْعًا لِمَا صَدَرَتْ مِنْهُمَا الْمُرَاجَعَةُ، فَصُدُورُ الْمُرَاجِعَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَطْعًا، لِأَنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا قَطْعًا لَا يَقْبَلُ التَّخْفِيفَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَأَقُولُ: مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالِ التَّحْفِيفِ قَطْعًا، فَالصَّحِيحُ مَا قِيلَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ فَرَضَ خَمْسِينَ، ثُمَّ رَحِمَ عِبَادَهُ وَنَسَخَهَا بِخَمْسٍ كَآيَةِ الرَّضَاعِ عِنْدَ بَعْضٍ، وَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَلَى قَوْلٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عْلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، كَمَا قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ. ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (سَأَلْتُ رَبِّي) أَيِ: التَّخْفِيفَ (حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ) أَيْ: مِنْ كَثْرَتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، فَهُمَا لُغَتَانِ، أَوِ الثَّانِيَةُ تَخْفِيفٌ لِلْأَوْلَى بِالنَّقْلِ وَالْحَذْفِ، وَالْمَعْنَى فَلَا أَرْجِعُ لِطَلَبِ التَّخْفِيفِ، وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ فِي الْأُمَّةِ أَنْ لَا يَسْتَطِيعُوا دَوَامَ الْمُحَافِظَةِ، (وَلَكِنِّي أَرْضَى) أَيْ: بِمَا قَضَى رَبِّي وَقَسَمَ (وَأُسَلِّمُ) أَيْ: أَمْرِي وَأَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَنْقَادُ بِمَا حَكَمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: حَقٌّ، لَكِنْ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مَعْنًى فَمَا وَجْهُهُ هَا هُنَا؟ قُلْتُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ هُنَا حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ فَلَا أَرْجِعُ، فَإِنِّي إِذَا رَجَعْتُ كُنْتُ غَيْرَ رَاضٍ وَلَا مُسَلِّمٍ، وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ غَيْرُ نَافِيَةٍ لِلرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَإِلَّا لَمَا رَضِيَ بِهَا مُوسَى وَنَبِيُّنَا عَلَيْهِمَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَكْمَلُ التَّسْلِيمِ، وَتَوْضِيحُهُ؛ أَنَّ سُؤَالَ الْعَافِيَةِ وَدَفْعِ الْبَلَاءِ وَطَلَبَ الرِّزْقِ وَدُعَاءَ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ كَمَا صَدَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لَا يُنَافِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ أَبَدًا، وَلَا التَّسْلِيمَ لِمَا فِي الْأَزَلِ أَبَدًا. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلَمَّا جَاوَزْتُ) ، أَيْ: مُوسَى وَتَرَكْتُ الْمُرَاجَعَةَ (نَادَى مُنَادٍ) أَيْ: حَاكِيًا كَلَامَ رَبِّي (أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي) أَيْ: أَحْكَمْتُهَا وَأَنْفَدْتُهَا أَوَّلًا. (وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي) . أَيْ: ثَانِيًا وَسَيَأْتِي لِهَذَا تَتِمَّةٌ مَعْرِفَتُهَا مُهِمَّةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

5863 - وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَقَعُ حَافِرُهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ) . قَالَ: (ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرَئِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرَئِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ) وَسَاقَ مِثْلَ مَعْنَاهُ قَالَ: (فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ) . وَقَالَ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ: فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ) . وَلَمْ يَذْكُرْ بُكَاءَ مُوسَى، وَقَالَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ: (فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، إِذَا بِهَا كَالْقِلَالِ، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشَّى تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ ; فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنِّي بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ قَالَ: (فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ) . قَالَ: (فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى، حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ لَهُ شَيْئًا، فَإِنَّ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) . قَالَ: (فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5863 - (وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ قَبْلَ النُّونِ الْأُولَى، تَابِعِيٌّ مِنْ أَعْلَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَثِقَاتِهِمْ، اشْتُهِرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَصَحِبَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ. (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (أَتَيْتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ) ، أَيْ وَسُلْطَانِيٌّ لِقَوْلِهِ: (فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَقَعُ حَافِرُهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) ، أَيْ نَظَرِهِ (فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ، وَيُرْوَى بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَفْتُوحَةِ (فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَيُفْتَحُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا (الَّتِي يَرْبُطُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُضَمُّ، فَفِي الْقَامُوسِ: رَبَطَهُ يَرْبِطُهُ وَيَرْبُطُهُ شَدَّهُ، وَفِي الصِّحَاحِ: رَبَطْتُ الشَّيْءَ أَرْبِطُهُ وَأَرْبُطُهُ أَيْضًا عَنِ الْأَخْفَشِ انْتَهَى. فَعُلِمَ أَنَّ الضَّمَّ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى الْكَسْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال: 11] ثُمَّ قَوْلُهُ: (بِهَا) : بِضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْحَلْقَةُ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ، كَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ أَعَادَهُ عَلَى مَعْنَى الْحَلْقَةِ، وَهُوَ الشَّيْءُ أَيِ الَّذِي يَرْبِطُ بِهِ، وَالْمَعْنَى بِالشَّيْءِ الَّذِي يَرْبِطُ بِهِ (الْأَنْبِيَاءُ) . أَيْ بُرَاقَهُمْ، أَوْ هَذَا الْبُرَاقَ عَلَى خِلَافٍ تَقَدَّمَ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمَرْوِيُّ يَرْبُطُ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى اتِّحَادِ الْبُرَاقِ. (قَالَ: (ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ) أَيِ: الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْإِسْرَاءِ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَإِنَّمَا خِلَافُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى السَّمَاءِ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ تَبَعًا لِكَلَامِ الْحُكَمَاءِ اللِّئَامِ، (فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ) أَيْ: تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي اقْتَدَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَصَارَ فِيهَا إِمَامَ الْأَصْفِيَاءِ (ثُمَّ خَرَجْتُ) أَيْ: مِنَ الْمَسْجِدِ (فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ) وَلَعَلَّ تَرْكَ الْعَسَلِ مِنِ اقْتِصَارِ الرَّاوِي (فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ) ، أَيْ لِمَا سَبَقَ (فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ) ، أَيِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَهُوَ: {الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَأَشَارَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ( «كُلُّ مَوْلُودٍ يُوَلَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» ) انْتِقَالًا مِمَّا يُفْطَرُ بِهِ الْمَوْلُودُ، وَيُغَذَّى مِنَ اللَّبَنِ الْمَعْهُودِ. (ثُمَّ عَرَجَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَتَبِعَهُ السُّيُوطِيُّ فَالْفَاعِلُ جِبْرِيلُ أَوِ الرَّبُّ الْجَلِيلُ لِقَوْلِهِ: (بِنَا) أَيْ: بِي وَبِجِبْرِيلَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (بِنَا) بِنَاءً عَلَى التَّعْظِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: صَعِدَ بِنَا (إِلَى السَّمَاءِ وَسَاقَ) أَيْ: وَذَكَرَ ثَابِتٌ الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ (مِثْلَ مَعْنَاهُ) . أَيْ نَحْوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ ثَابِتٌ أَوْ أَنَسٌ مَرْفُوعًا (فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي) أَيْ: قَالَ لِي بَعْدَ رَدِّ سَلَامِي: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. (وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ غَيْرَ مُبَيَّنٍ، (وَقَالَ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ: (فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ إِذَا هُوَ) : بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى بَدَلِ

الِاشْتِمَالِ (قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ) ، قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: نِصْفَ الْحُسْنِ. أَقُولُ: وَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى نِصْفَ جِنْسِ الْحُسْنِ مُطْلَقًا، أَوْ نِصْفَ حُسْنِ جَمِيعِ أَهْلِ زَمَانِهِ. وَقِيلَ بَعْضُهُ لِأَنَّ الشَّطْرَ كَمَا يُرَادُ بِهِ نِصْفُ الشَّيْءِ قَدْ يُرَادُ بِهِ بَعْضُهُ مُطْلَقًا. أَقُولُ: لَكِنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ مَقَامُ الْمَدْحِ وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضٌ زَائِدٌ عَلَى حُسْنِ غَيْرِهِ، وَهُوَ إِمَّا مُطْلَقٌ فَيُحْمَلُ عَلَى زِيَادَةِ الْحُسْنِ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَلَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِئَلَّا يَشْكَلَ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِمَّا مُقَيَّدٌ بِنِسْبَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَكَانَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ أَغْرَبَ فِي الْمَبْنَى حَيْثُ عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِهَةُ أَيْضًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أَيْ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَمَسْحَةٍ مِنْهُ، كَمَا قَالَ: عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةُ مُلْكٍ وَمَسْحَةُ جَمَالٍ. أَيْ: أَثَرٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْمَدْحِ اهـ. وَغَرَابَتُهُ مِمَّا لَا تَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى، هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِنَا الْمُعْتَبَرِينَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَحْسَنَ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ صُورَتَهُ كَانَ يَقَعُ مِنْ ضَوْئِهَا عَلَى جُدْرَانِ مَا يَصِيرُ كَالْمِرْآةِ يَحْكِي مَا يُقَابِلُهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ صُورَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَتَرَ عَنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْجَمَالِ الْبَاهِرِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَرَزَ لَهُمْ لَمْ يُطِيقُوا النَّظَرَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَأَمَّا جَمَالُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يُسْتَرْ مِنْهُ شَيْءٌ اهـ. وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ زِيَادَةَ الْحُسْنِ الصُّورِيِّ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا أَنَّ زِيَادَةَ الْحُسْنِ الْمَعْنَوِيِّ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي أَصْلِ الْحُسْنِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: الْمَعْنَى أُعْطِيَ شَطْرَ حُسْنِي (فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ) . وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ: ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (بُكَاءَ مُوسَى، وَقَالَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ) أَيْ: زِيَادَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ (فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا) : بِكَسْرِ النُّونِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ مُطَابِقًا لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِهِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ مَرْفُوعٌ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ وَقَوْلُهُ: (ظَهْرَهُ) : مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِكِلْتَا النُّسْخَتَيْنِ وَقَوْلُهُ: (إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْنَدِ (وَإِذَا هُوَ) أَيِ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ (يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ) ، أَيْ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ أَيْ: يَدْخُلُونَ فِيهِ ذَاهِبِينَ غَيْرَ عَائِدِينَ إِلَيْهِ أَبَدًا لِكَثْرَتِهِمْ (ثُمَّ ذَهَبَ بِي) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ لِلْمَفْعُولِ أَيِ انْطَلَقَ بِي (إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى) ، هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُولِ السِّدْرَةُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَفِي الرِّوَايَاتِ بَعْدَ هَذَا سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، (فَإِذَا أَوْرَاقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، فَلَمَّا غَشِيَهَا) أَيِ: السِّدْرَةَ، وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: جَاءَهَا وَنَزَلَ عَلَيْهَا (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) : بَيَانِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ أَوْ تَعْلِيلِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ (مَا غَشَّى) أَيْ: غَشِيَهَا إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم: 54] فَقِيلَ: أَنْوَارُ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ فَرَاشُ الذَّهَبِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَعَلَّهُ مِثْلَ مَا يَغْشَى الْأَنْوَارَ الَّتِي تَنْبَعِثُ مِنْهَا، وَيَتَسَاقَطُ عَلَى مَوَاقِعِهَا بِالْفَرَاشِ، وَجَعَلَهَا مِنَ الذَّهَبِ لِصِفَاتِهَا وَإِضَاءَتِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ أَلْوَانٌ لَا يَدْرِي مَا هِيَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (تَغَيَّرَتْ) أَيِ: السِّدْرَةُ عَنْ حَالَتِهَا الْأُولَى إِلَى مَرْتَبَتِهَا الْأَعْلَى وَهُوَ جَوَابُ لَمَّا. (فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.

وَسُكَّانِ أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ (يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ يَصِفُهَا (مِنْ حُسْنِهَا) : تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ: مِنْ كَمَالِ جَمَالِهَا وَعَظَمَةِ جَلَالِهَا (وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى) : فِي إِبْهَامِ الْمُوصَلَةِ أَوِ الْمَوْصُوفَةِ إِيمَاءً إِلَى تَعْظِيمِ الْمُوحِي، وَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُحْكَى وَلَا يُرْوَى، (فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى) أَيْ: مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ (فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً) : وَزِيدَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَإِنِّي بَلَوْتُ) أَيْ: جَرَّبْتُ (بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ) أَيْ: أَخْبَرْتُهُمْ وَامْتَحَنَتْهُمْ. (قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي) أَيْ: عَنْهُمْ وَعَدَلَ إِلَى عَلَى لِتَضْمِينِ التَّهْوِينِ (فَحَطَّ عَنِّي) أَيْ: فَوَضَعَ عَنْ جِهَتِي وَلِأَجْلِي عَنْ أُمَّتِي (خَمْسًا) أَيْ: خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَلَعَلَّ التَّقْدِيرَ خَمْسًا فَخَمْسًا، فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ عَشْرًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ رِوَايَةَ عَشْرًا اقْتِصَارٌ مِنْ رِوَايَةِ خَمْسًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ) أَيِ: الْمِقْدَارُ الْبَاقِي أَيْضًا (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ) . قَالَ: (فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى) : قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ بَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي نَاجَيْتُهُ أَوَّلًا فَنَاجَيْتُهُ ثَانِيًا، وَبَيْنَ مَوْضِعِ مُلَاقَاةِ مُوسَى أَوَّلًا (حَتَّى قَالَ) أَيْ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ) أَيْ: مُحَتَّمَةٌ (كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِيهِ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ كَقَوْلِهِ: هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتَهَا تَتَحَمَّلُ (لِكُلِّ صَلَاةٍ) أَيْ: حَقِيقَةً وَاخْتِيَارًا (عَشْرًا) أَيْ: ثَوَابُ صَلَوَاتِ أَيْ: حُكْمًا وَاعْتِبَارًا (فَذَلِكَ) أَيْ فَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ (خَمْسُونَ صَلَاةً) ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِبَيَانِ قَضِيَّةٍ أُخْرَى وَعَطِيَّةٍ أُخْرَى مُتَضَمِّنَةٍ لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُنْدَرِجَةِ فِي الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ حَيْثُ قَالَ: (مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ) أَيْ: عَزَمَ عَلَى فِعْلِهَا (فَلَمْ يَعْمَلْهَا) : لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عُذْرٍ عُرْفِيٍّ (كُتِبَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: كُتِبَ لَهُ هَمُّ الْحَسَنَةِ وَالتَّأْنِيثُ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْحَسَنَةِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ (لَهُ) أَيْ: لِعَامِلِهَا (حَسَنَةً) ، النَّصْبُ أَيْ ثَوَابُ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كُتِبَتْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: بِحَسَنَةٍ. وَحَسَنَةً: وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ أَيْ: كُتِبَتِ الْحَسَنَةُ كِتَابَةً وَاحِدَةً، وَكَذَا عَشْرًا وَكَذَا شَيْئًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: حَسَنَةٌ وَعَشْرٌ مَرْفُوعَانِ وَهُوَ غَلَطٌ مِنَ النَّاسِخِ. أَقُولُ: لَعَلَّهُ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الدِّرَايَةِ فَلَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كُتِبَتْ لَهُ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُجْمَلَةٌ، وَقَوْلُهُ: حَسَنَةٌ بِتَقْدِيرِ هِيَ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ

مُفَصِّلَةٌ (فَإِنْ عَمِلَهَا) أَيْ: بَعْدَمَا هَمَّ بِهَا وَاهْتَمَّ بِشَأْنِهَا (كُتِبَتْ) أَيْ: تِلْكَ الْحَسَنَةُ الْمَهْمُومَةُ وَالْمَعْمُولَةُ (لَهُ عَشْرًا) أَيْ: ثَوَابُ عَشْرِ حَسَنَاتٍ لِانْضِمَامِ قَصْدِ الْقَلْبِ إِلَى مُبَاشَرَةِ عَمَلِ الْقَالَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَهَذَا أَقَلُّ التَّضَاعُفِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ (وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ) أَيْ: وَلَمْ يُصَمِّمْ عَلَى فِعْلِهَا (فَلَمْ يَعْمَلْهَا) أَيْ: فَتَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ أَوْ لِسَبَبٍ مُبَاحٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَرَكَهَا لِلَّهِ (لَمْ تُكْتَبْ) أَيْ: تِلْكَ السَّيِّئَةُ الْمَوْصُوفَةُ (لَهُ شَيْئًا) . أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى عَمَلِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً، وَإِنْ تَرَكَهَا لِغَرَضٍ فَاسِدٍ، فَتُكْتَبُ لَهُ سَيِّئَةً عَلَى مَا بَيَّنَهُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْيَاءِ، وَصَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، (فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (سَيِّئَةً وَاحِدَةً) . لِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَا تَتَضَاعَفُ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مَثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا عَدْلٌ كَمَا أَنَّ التَّضَاعُفَ فَضْلٌ. (قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي) أَيْ: وَرَاجَعَتْهُ فِي أَمْرِ أُمَّتِي (حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5864 - وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (فُرِجَ عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٌ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي. فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، إِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شَمَالِهِ بَكَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينَيْهِ ضَحِكَ. وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ) قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ» ) وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسٌ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرْضُ اللَّهِ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي حَتَّى انْتُهِيَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5864 - (وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ) ، أَيِ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي فُنُونِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ، سَمِعَ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: قَتَادَةُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، (عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ) أَيِ: الْغِفَارِيِّ مِنْ أَعْلَامِ الصَّحَابَةِ وَزُهَّادِهِمْ وَالْمُهَاجِرِينَ، أَسْلَمْ قَدِيمًا بِمَكَّةَ، وَيُقَالُ: كَانَ خَامِسًا فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ. (يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فُرِجَ) : بِضَمِّ فَاءٍ وَتَخْفِيفِ رَاءٍ وَتَشْدِيدٍ مِنَ الْفَرَجِ وَالتَّفْرِيجُ بِمَعْنَى الشَّقِّ وَالْكَشْفِ أَيْ: أُزِيلَ (عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى أَنَسٌ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ، أَوْ فِي الْحِجْرِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: فُرِجَ عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي؟ قُلْنَا: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِعْرَاجَانِ: أَحَدُهُمَا حَالَ الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالثَّانِي فِي النَّوْمِ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ بِبَيْتِي بَيْتِ أَمِّ هَانِئٍ إِذْ رُوِيَ أَيْضًا الْإِسْرَاءُ مِنْهُ، فَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَارَةً لِأَنَّهُ سَاكِنُهُ، وَإِلَيْهَا أُخْرَى لِأَنَّهَا صَاحِبَتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَامَ عِنْدَ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ، وَبَيْتُهَا عِنْدَ شِعْبَ أَبِي طَالِبٍ، فَفُرِجَ سَقْفُ بَيْتِهَا، وَأَضَافَ الْبَيْتَ إِلَى نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ يَسْكُنُهُ، فَنَزَلَ فِيهِ الْمَلَكُ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مُضْطَجِعًا وَبِهِ أَثَرُ النُّعَاسِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الْحَطِيمِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْكَبَهُ الْبُرَاقَ ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَأَنَا بِمَكَّةَ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْقَضِيَّةَ مَكِّيَّةٌ لَا مَدَنِيَّةٌ (فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي) ، أَيْ شَقَّهُ (ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ.

بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٌ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ) أَيْ: صَبَّ مَا فِي الطَّسْتِ (فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ) ، أَيْ غَطَّى صَدْرِي وَلَأَمَ شَقَّهُ، (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا جِئْتُ) أَيْ: وَصَلْتُ (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مُحَمَّدٌ! فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) ، أَيْ طَلَعْنَاهَا (إِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ) : جَمْعُ سَوَادٍ كَأَزْمِنَةٍ جَمْعُ زَمَانٍ بِمَعْنَى الشَّخْصِ، لِأَنَّهُ يُرَى أَنَّهُ أَسْوَدٌ مِنْ بَعِيدٍ أَيْ: أَشْخَاصٌ مِنْ أَوْلَادِهِ (وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ إِذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ. فَإِذَا (نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ جَانِبَ أَيَمْنِهِ (ضَحِكَ) ، أَيْ لِمَا يَرَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سُرُورِهِ وَيُمْنِهِ (وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى) أَيْ: لِمَا يُشَاهِدُ مِمَّا يُشْعِرُ بِشُرُورِهِ وَشُؤْمِهِ (فَقَالَ) أَيْ: بَعْدَ السَّلَامِ وَرَدِّهِ (مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟) قِيلَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ مَرْحَبًا، وَرِوَايَةُ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَهِيَ الْمُعْتَمَدَةُ، فَتُحْمَلُ هَذِهِ عَلَيْهَا إِذْ لَيْسَ فِي هَذِهِ أَدَاةُ تَمْثِيلٍ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ كَذَا فِي السُّؤَالِ إِنَّمَا هُوَ الْأَسْوِدَةُ، وَأُعِيدَ ذِكْرُ آدَمَ فِي الْجَوَابِ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ مَقْصُودَ الْخِطَابِ، فَصَحَّ كَلَامُ الرَّاوِي (قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَعَنْ شِمَالِهِ (نَسَمُ بَنِيهِ) ، بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ جَمْعُ نَسَمَةٍ، وَهِيَ الرُّوحُ أَوِ النَّفْسُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّسَمِ وَهُوَ النَّفْسُ، وَمِنْهُ نَسِيمُ الصِّبَا أَيْ: أَرْوَاحُ أَوْلَادِهِ السَّابِقِينَ، أَوْ مَعَ شُمُولِ اللَّاحِقِينَ، وَذَكَرَ الْبَنِينَ لِلتَّغْلِيبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] (فَأَهْلُ الْيَمِينِ) أَيِ: الْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ، (مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ جَمِيعِ الْأَسْوِدَةُ (أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فِإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ. وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ (بَكَى) . قَالَ الْقَاضِي: قَدْ جَاءَ أَنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ مَحْبُوسَةٌ فِي سِجِّينٍ وَأَرْوَاحَ الْأَبْرَارِ مُنَعَّمَةٌ فِي عِلِّيِّينَ، فَكَيْفَ تَكُونُ مُجْتَمِعَةً فِي السَّمَاءِ؟ وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا تُعْرَضُ عَلَى آدَمَ أَوْقَاتًا، فَصَادَفَ وَقْتُ عَرْضِهَا مُرُورَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِأَنَّ الْجَنَّةَ كَانَتْ فِي جِهَةِ يَمِينِ آدَمَ، وَالنَّارَ فِي جِهَةِ شِمَالِهِ، وَكَانَ يُكْشَفُ لَهُ عَنْهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّسَمَ الْمَرْئِيَّةَ هِيَ الَّتِي لَمْ تَدْخُلِ الْأَجْسَادَ بَعْدُ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَجْسَادِ، وَمُسْتَقَرُّهَا عَنْ يَمِينِ آدَمَ وَشِمَالِهِ، وَقَدْ أُعْلِمَ بِمَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ فَقَوْلُهُ: نَسَمُ بَنِيهِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَتَّى عَرَجَ بِي) : ضَبْطٌ لِلْفَاعِلِ، وَقِيلَ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ (إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ) : وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ هَكَذَا ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ (فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ. فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ) . أَيْ مِثْلَ مَقُولِ الْخَازِنِ السَّابِقِ.

(قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَبُو ذَرٍّ مَرْفُوعًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ (أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ) ، وَالظَّاهِرُ وُجُودُ هَارُونَ، وَيَحْيَى، وَيُوسُفَ، وَيُحْتَمَلُ إِسْقَاطُهُمْ مِنَ الرِّوَايَةِ. (وَلَمْ يُثْبِتْ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْإِثْبَاتِ أَيْ: لَمْ يُبَيِّنْ أَبُو ذَرٍّ أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا) ، هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ (وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ) . هَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ، وَالثَّابِتُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُهَا، وَهُوَ أَنَّهُ فِي السَّابِعَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: بِتَعَدُّدِ الْمِعْرَاجِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِلَّا فَالْأَرْجَحُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ فِيهَا: إِنَّهُ رَآهُ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَهُوَ فِي السَّابِعَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَلِأَنَّهُ قَالَ هُنَا: إِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، فَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ أَرْجَحُ. (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) أَيِ: الزُّهْرِيُّ (فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَذَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، رَوَى عَنْ أَبِي حَبَّةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ، ثُمَّ أَبُوهُ أَيْضًا مِنَ الصَّحَابَةِ حَيْثُ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَبُوهُ أَنْصَارِيٌّ، وُلِدَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ عَشْرٍ بِنَجْرَانَ، وَكَانَ أَبُوهُ عَامِلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَجْرَانَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ فَقِيهًا، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ. قُتِلَ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَفِي الْمَصَابِيحِ بِالْيَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ هُنَا، وَفِي ضَبْطِهِ وَاسْمِهِ اخْتِلَافٌ. قِيلَ: حَيَّةُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ، وَقِيلَ بِالنُّونِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، فَقِيلَ: عَامِرٌ، وَقِيلَ مَالِكٌ، وَقِيلَ ثَابِتٌ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ثَابِتُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ، وَفِي كُنْيَتِهِ وَاسْمِهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَذَكَرَهُ بِكُنْيَتِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَحَبَّةُ بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ الْأَكْثَرُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ. (كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ) أَيْ: عَلَوْتُ (لِمُسْتَوًى) : بِفَتْحِ الْوَاوِ مُنَوَّنًا وَهُوَ الْمُسْتَقَرُّ وَمَوْضِعُ الِاسْتِعْلَاءِ، مِنِ اسْتَوَى الشَّيْءَ اسْتَعْلَاهُ، وَثُبُوتُ الْيَاءِ بَعْدَ الْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صِيغَةُ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعِلَّةِ أَيْ: عَلَوْتُ لِاسْتِعْلَاءِ مُسْتَوًى، أَوْ لِرُؤْيَتِهِ أَوْ لِمُطَالَعَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَصْدَرِ، أَيْ: ظَهَرْتُ ظُهُورَ الْمُسْتَوِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى إِلَى. قَالَ تَعَالَى: {أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] أَيْ إِلَيْهَا. وَقِيلَ بِمَعْنَى (عَلَى) (أَسْمَعُ فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ (صَرِيفَ الْأَقْلَامِ) . أَيْ صَوْتَهَا عِنْدَ الْكِتَابَةِ، قِيلَ: هُوَ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَرَيَانِهَا بِالْمَقَادِيرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْبَكْرَةُ عِنْدَ الِاسْتِعْلَاءِ يُقَالُ: صَرَفَتِ الْبَكْرَةُ تَصْرِفُ صَرِيفًا، وَالْمَعْنَى أَنِّي أَقَمْتُ مَقَامًا بَلَغْتُ فِيهِ مِنْ رِفْعَةِ الْمَحَلِّ إِلَى حَيْثُ اطَّلَعْتُ عَلَى الْكَوَائِنِ، وَظَهَرَ لِي مَا يُرَادُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ فِي خَلْقِهِ، وَهَذَا وَاللَّهِ هُوَ الْمُنْتَهَى الَّذِي لَا تَقَدُّمَ فِيهِ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُسْتَوَى بِفَتْحِ الْوَاوِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ الْمِصْعَدُ، وَقِيلَ الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي، وَصَرِيفُ الْأَقْلَامِ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ صَوْتُ مَا يَكْتُبُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَقْضِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ، وَمَا يَنْسَخُونَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُكْتَبَ وَيُرْفَعَ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا حُجَّةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِصِحَّةِ كِتَابَةِ الْوَحْيِ، وَالْمَقَادِيرِ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي هُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْآيَاتُ، لَكِنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، وَصُورَتَهُ هُنَا لَا يَعْلَمُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا يَتَأَوَّلُ هَذَا وَيُحِيلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَّا ضَعِيفُ النَّظَرِ وَالْإِيمَانِ، إِذْ جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَدَلَائِلُ الْعُقُولِ لَا تُحِيلُهُ.

(وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسٌ) : عَطَفَ عَلَى فَأَخْبَرَنِي، فَهُوَ مِنْ مَقُولِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي) : وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ فَفَرَضَ عَلَيَّ (خَمْسِينَ صَلَاةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ) ، أَيْ آخِذًا بِهِ وَقَاصِدًا لِعَمَلِهِ (حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَقَوْلُهُ: (لَكَ) أَيْ: لِأَجْلِكَ (عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) أَيْ: فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ (فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ) أَيْ: هَذَا الْحِمْلَ الثَّقِيلَ (فَرَاجَعَنِي) : بِمَعْنَى رَجَّعَنِي أَيْ رَدَّنِي مُوسَى يَعْنِي صَارَ سَبَبًا لِرُجُوعِي إِلَى رَبِّي (فَوَضَعَ) أَيِ: اللَّهُ (شَطْرَهَا) ، أَيْ بَعْضَ الْخَمْسِينَ، وَهُوَ الْخُمْسُ الَّذِي هُوَ الْعُشْرُ، أَوِ الْعُشْرُ الَّذِي هُوَ الْخُمْسُ عَلَى خِلَافِ تَقَدَّمَ (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا. فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ) أَيِ: ارْجِعْ إِلَيْهِ لِلْمُرَاجَعَةِ (فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ) أَيْ: ذَلِكَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَرَجَعْتُ) أَيْ: إِلَى مَكَانِي الْأَوَّلِ (فَرَاجَعْتُ) ، أَيْ فَرَادَدْتُ الْكَلَامَ، وَطَالَبْتُ الْمَرَامَ مُبَالِغًا فِي الْمَقَامِ، فَإِنَّ الْمُفَاعَلَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُبَالَغَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، (فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى مُوسَى (فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ) أَيْ: مَا قُدِّرَ هُنَالِكَ (فَرَاجَعْتُهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَرَاجَعْتُ أَيْ رَبِّي (فَقَالَ) أَيْ: فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَالْمَعْنَى فَقَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ الْمُرَاجَعَاتِ (هِيَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: هُنَّ (خَمْسٌ) أَيْ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْأَدَاءِ (وَهِيَ خَمْسُونَ) ، أَيْ صَلَاةً فِي الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ (لَا يُبَدِّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ أَنِّي سَاوَيْتُ بَيْنَ الْخَمْسِ وَالْخَمْسِينَ فِي الثَّوَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُبَدَّلٍ، أَوْ جَعَلْتُ الْخَمْسِينَ خَمْسًا، وَلَا تَبْدِيلَ فِيهِ قَالَ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُهُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى. قُلْتُ لَا يُنَافِيهِ، بَلْ يُنَاسِبُهُ إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا قَبْلَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ التَّبْدِيلِ. (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي) أَيْ: حِينَ قَالَ لِي لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَانِعِ، (ثُمَّ انْطُلِقَ بِي حَتَّى انْتُهِيَ بِي) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِيهِمَا، وَالْمَعْنَى ثُمَّ ذَهَبَ بِي حَتَّى وَصَلَ بِي (إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ غَشِيَهَا (أَلْوَانٌ) أَيْ: مِنَ الْأَنْوَارِ أَوْ أَصْنَافٍ مِنْ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ غَيْرِهَا (لَا أَدْرِي) أَيِ: الْآنَ أَوْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِتَوَجُّهِ نَظَرِهِ إِلَى الْمُكَوَّنِ دُونَ الْمَكَانِ (مَا هِيَ) أَيْ: حَقِيقَةُ مَا هِيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ (ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ جُنْبُذَةٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ، وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الشَّيْءِ وَاسْتَدَارَ كَالْقُبَّةِ، وَقَوْلُ الْعَامَّةِ إِنَّ الْجُنْبَذَةَ بِفَتْحِ الْبَاءِ مُعَرَّبٌ كُنْبَذَةٍ (وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ) . وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّهُ يَفُوحُ رِيحُ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5865 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] . قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَّا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5865 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( «قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ» ) ، قَالَ شَارِحٌ: وَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِي السَّادِسَةِ، وَالصَّوَابُ فِي السَّابِعَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ مِنَ الرُّوَاةِ اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ إِضَافَةَ السَّهْوِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ عِلْمَ الْخَلَائِقِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي السَّادِسَةِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ. قَالَ الْقَاضِي: كَوْنُهَا فِي السَّابِعَةِ هُوَ الْأَصَحُّ، وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهُ الْمَعْنَى وَتَسْمِيَتُهَا بِالْمُنْتَهَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا فِي السَّادِسَةِ وَمُعْظَمُهَا فِي السَّابِعَةِ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا فِي نِهَايَةٍ مِنَ الْعِظَمِ، وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ: السِّدْرَةُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ قَدْ أَظَلَّتِ السَّمَاوَاتِ وَالْجَنَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ مُقْتَضَى خُرُوجِ النَّهْرَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ مِنْ أَصِلِ الْمُنْتَهَى أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ سَلِمَ لَهُ هَذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. (إِلَيْهَا) أَيْ: إِلَى السِّدْرَةِ (يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ) أَيْ: مَا يُصْعَدُ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَرْوَاحِ الْكَائِنَةِ فِي الْجُمَّةِ السُّفْلَى (فَيُقْبَضُ مِنْهَا) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقَابِضِ وَاتِّحَادُهُ فِيهِمَا (وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ مِنْ فَوْقِهَا) أَيْ: مِنَ الْوَحْيِ وَالْأَحْكَامِ النَّازِلَةِ مِنَ الْجِهَةِ الْعُلْيَا (فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ) أَيْ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مَا يَغْشَى (فَرَاشٌ) أَيْ: هُوَ فَرَاشٌ (مِنْ ذَهَبٍ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ غَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] فِي إِرَادَةِ الْإِبْهَامِ وَالتَّهْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ، قَوْلُهُ هُنَا: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، بَيَانٌ لَهُ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ مَا يُغْشَى أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، وَمِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَاطَ بِهَا وَيُسْتَقْصَى، لِأَنَّ نَفْسَ السِّدْرَةِ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْمُنْتَهَى، فَكَيْفَ يَكُونُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِمَا فَوْقَهَا مِمَّا يُغْشَى، وَهُوَ لَا يُنَافِي ذِكْرَ بَعْضِ مَا رَأَى وَرُؤِيَ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ وَالْأَقْوَالِ. فَقِيلَ: يَغْشَاهَا جَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (رَأَيْتُ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مَلَكًا قَائِمًا يُسَبِّحُ) وَقِيلَ: فِرَقٌ مِنَ الطَّيْرِ الْخُضْرِ وَهِيَ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ: لَا أَدْرِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لَا تُشْبِهُ الْأَعْيَانَ الْمَشْهُودَةَ الْمُسْتَحْقَرَةَ فِي النُّفُوسِ الْمَوْجُودَةِ، فَيُنْعَتُ لَهُمْ بِذِكْرِ نَظَائِرِهَا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْفَرَاشَ بِالْفَتْحِ طَيْرٌ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] وَقَدْ قَالَ شَارِحٌ: الْفَرَاشُ مَا تَرَاهُ كَصِغَارِ الْبَقِّ يَتَهَافَتُ وَيَتَسَاقَطُ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَرَاشِ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا مِمَّا غَشِيَهَا اهـ وَتَبَيَّنَ الْبَوْنُ الْبَيِّنُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] حَيْثُ إِنَّهُ وَقَعَ الْإِبْهَامُ هُنَا لِتَعْظِيمَهُ، وَالْعَجْزِ عَنْ إِحَاطَتِهِ، وَفِي قَضِيَّةِ فِرْعَوْنَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْلُومِيَّتِهِ وَحَقَارَتِهِ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَوْ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَالْحَالِ (ثَلَاثًا) أَيْ: لَهَا عَلَى مَا عَدَاهَا مَزِيَّةٌ كَامِلَةٌ (أُعْطِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ) أَيْ: فَرْضِيَّتَهَا (وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) ، أَيْ إِجَابَةَ دَعَوَاتِهَا، فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا بِظَاهِرِهِ يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «بَيْنَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ أَيْ صَوْتًا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ. قُلْتُ: لَا.»

مُنَافَاةَ، فَإِنَّ الْإِعْطَاءَ كَانَ فِي السَّمَاءِ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ بِقَرِينَةِ إِعْطَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَقَامِ الْأَعْلَى، وَنُزُولِ الْمَلَكِ الْمُعَظَّمِ لِتَعْظِيمِ مَا أَعْطَى، وَبِشَارَةِ مَا خُصَّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، نَعَمْ يُشْكِلُ هَذَا بِكَوْنِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةً، وَقَضِيَّةُ الْمِعْرَاجِ بِالِاتِّفَاقِ مَكِّيَّةٌ، فَيُدْفَعُ بِاسْتِثْنَاءِ الْخَوَاتِيمِ مِنَ السُّورَةِ، فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِهَا، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمَلَكِ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى إِيجَاءَهَا بِلَا وَاسِطَةِ جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ السُّورَةَ بِكَامِلِهَا مَدَنِيَّةٌ، فَقَدْ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ أُعْطِيَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتُجِيبَ لَهُ فِيمَا لُقِّنَ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] وَلِمَنْ يَقُومُ بِحَقِّهَا مِنَ السَّائِلَيْنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي كَلَامِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْإِعْطَاءَ بَعْدَ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِجَابَةُ وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِالطَّلَبِ، وَالسُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ وَالْمِعْرَاجُ فِي مَكَّةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مِنْ قَبِيلِ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وَالنُّزُولُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ قَبِيلِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى - عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3 - 5] اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَقَعَ تَكْرَارُ الْوَحْيِ فِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، وَبِهَذَا يَتِمُّ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ نَزَلَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193 - 194] وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْإِعْطَاءِ اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ مِمَّا اشْتَمَلَ الْإِتْيَانُ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي نُزُولَهَا بَعْدَ الْإِسْرَاءِ إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أُوثِرَ الْإِعْطَاءُ لِمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِكَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: ( «أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي» ) وَكَانَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ اللَّهِ تَعَالَى مَقَامَاتٌ يَغْبِطُهُمَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. أَحَدُهُمَا فِي الدُّنْيَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَثَانِيهِمَا فِي الْعُقْبَى وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَلَا اهْتَمَّ فِيهِمَا إِلَّا بِشَأْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. (وَغُفِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ) . بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ أَوْ هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيِ الْكَبَائِرُ الْمُهْلِكَاتُ الَّتِي تُقْحِمُ صَاحِبَهَا النَّارَ إِنْ لَّمْ يَتَجَاوَزْ عَنْهُ الْمَلِكُ الْغَفَّارُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُعِدَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْكَامِلَةَ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ الشَّامِلَةَ، وَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرَ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الْمَشِيئَةِ فِي الْحَدِيثِ لِظُهُورِ الْقَضِيَّةِ فِي حُكْمِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، هَذَا وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ بِغُفْرَانِهِ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا تُعَذَّبُ أُمَّتُهُ أَصْلًا، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَبْقَى خُصُوصِيَّةٌ لِأُمَّتِهِ، وَلَا مَزِيَّةٌ لِمِلَّتِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ غَالِبُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهَا أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5866 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي. فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ. فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ لِي قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ! هَذَا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 5866 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْصَرْتُ نَفْسِيَ الْأَنْفَسَ أَوْ عَلِمْتُ ذَاتِيَ الْأَقْدَسَ (فِي الْحِجْرِ) أَيْ: قَائِمًا (وَقُرَيْشٌ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ (تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ عَنْ سَيْرِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالضَّبْطَيْنِ (فَسَأَلَتْنِي) أَيْ: قُرَيْشٌ (عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا) ، مِنَ الْإِثْبَاتِ أَيْ لَمْ أَحْفَظْهَا، وَلَمْ أَضْبُطْهَا لِاشْتِغَالِي بِأُمُورٍ أَهَمَّ مِنْهَا (فَكُرِبْتُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ أُحْزِنْتُ (كَرْبًا) : كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَالْمَعْنَى حُزْنًا شَدِيدًا، وَيُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ: (مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ) أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْكَرْبِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْكَرْبُ الْحُزْنُ يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ كَالْكُرْبَةِ وَكَرَبَهُ الْغَمُّ فَهُوَ مَكْرُوبٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ. كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَفِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: كُرْبَةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِثْلَهُ يَعُودُ عَلَى مَعْنَى الْكُرْبَةِ وَهُوَ الْغَمُّ أَوِ الْهَمُّ أَوِ الشَّيْءُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكُرْبَةُ بِالضَّمِّ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ النَّفْسَ لِشِدَّتِهِ (فَرَفَعَهُ اللَّهُ) أَيْ: بَيْتَ الْمَقْدِسِ (لِي) أَيْ: لِأَجْلِي (أَنْظُرُ إِلَيْهِ) ، حَالٌ، وَالْمَعْنَى.

رُفِعَ الْحِجَابُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَأُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ مُسْتَأْنِفًا مُبَيِّنًا. (مَا يَسْأَلُونِي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتُخَفَّفُ (عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ) ، أَيْ أَخْبَرْتُهُمْ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُسْتَحْضِرَةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ مَا سَأَلُونِي بِصِيغَةِ الْمَاضِيَةِ (وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) أَيْ: مَعَ جَمْعٍ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالسِّبَاقُ وَاللَّحَاقُ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ غَيْرُ رُؤْيَةِ السَّمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ قِيلَ: رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُمْ فِي السَّمَاءِ مَحْمُولَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ أَرْوَاحِهِمْ إِلَّا عِيسَى، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ رُفِعَ بِجَسَدِهِ، وَقَدْ قِيلَ فِي إِدْرِيسَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَلَّوْا مَعَهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيُحْتَمَلُ الْأَرْوَاحُ، وَيُحْتَمَلُ الْأَجْسَادُ بِأَرْوَاحِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ صَلَاتَهُ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ قَبْلَ الْعُرُوجِ. قُلْتُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَهُمْ، ثُمَّ أَجْسَادُهُمْ كَأَرْوَاحِهِمْ لَطِيفَةٌ غَيْرَ كَثِيفَةٍ، فَلَا مَانِعَ لِظُهُورِهِمْ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِقُدْرَةِ ذِي الْجَلَالِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ تَشَكُّلَ الْأَنْبِيَاءِ وَتَصَوُّرَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَجْسَادِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ قَوْلُهُ: (فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي) : فَإِنَّ حَقِيقَةَ الصَّلَاةِ وَهِيَ الْإِتِيَانُ بِالْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْأَشْبَاحِ لَا لِلْأَرْوَاحِ، لَا سِيَّمَا وَكَالتَّصْرِيحِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ) أَيْ: نَوْعٌ وَسَطٌ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ خَفِيفُ اللَّحْمِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (جَعْدٌ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: جُعُودَةُ الْجِسْمِ، وَهُوَ اجْتِمَاعُهُ. وَالثَّانِي: جُعُودَةُ الشَّعْرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ هَاهُنَا لِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ رَجِلُ الشَّعْرِ كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِي أَيْضًا لِأَنَّهُ يُقَالُ: شَعْرٌ رَجِلٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْجُعُودَةِ، (كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ (وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا حَالَةُ حُضُورِ الرَّبِّ، وَكَمَالِ الْقُرْبِ فِي الْحَالَاتِ، وَأَنْوَاعِ الِانْتِقَالَاتِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ اللَّذَّاتِ عِنْدَ عُشَّاقِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، (أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ) ، نِسْبَةً إِلَى ثَقِيفٍ قَبِيلَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا أَخًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، كَمَا فِي بَعْضِ حَوَاشِي الْمَصَابِيحِ، فَإِنَّهُ هُذَلِيٌّ (وَإِذَا بِإِبْرَاهِيمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ) : أَخْبَارٌ مُتَعَاقِبَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَعْنَى أَكْثَرُ النَّاسِ شَبَهًا بِإِبْرَاهِيمَ (صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ) : هَذَا مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ مَنْ بَعْدَهُ أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: صَاحِبُكُمْ نَفْسَهُ وَذَاتَهُ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] ثُمَّ رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُمْ يُصَلُّونَ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَثْنَاءِ الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ الْمَعْبَدُ الْأَعْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ الْفَاءُ التَّعْقِيبِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: (فَحَانَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ: دَخَلَ وَقْتَهَا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَا صَلَاةُ التَّحِيَّةِ، أَوْ يُرَادُ بِهَا صَلَاةُ الْمِعْرَاجِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ (فَأَمَمْتُهُمْ) ، أَيْ صِرْتُ لَهُمْ إِمَامًا وَكُنْتُ لَهُمْ إِمَامًا. فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ رَأَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلِّي وَأَمَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَنْبِيَاءَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوَجَدَهُمْ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ؟ فَالْجَوَابُ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَوَجَدَهُمْ فِيهَا، وَأَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ وَصَلَاتُهُ مَعَهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِ وَرُجُوعِهِ عَنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ حَيْثُ لَا يُخَالِفُهُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ، مَعَ أَنَّ الْأُمُورَ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَةِ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ خَارِجَةٌ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِلسَّيِّدِ عَبْدِ الْقَادِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّ قَضِيبَ الْبَانِ مَا يُصَلِّي، فَقَالَ: لَا تَقُولُوا فَإِنَّ رَأْسَهُ دَائِمًا عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ سَاجِدٌ، وَتَشَكُّلَهُ بِصُوَرِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ طَبَقَةِ الصُّوفِيَّةِ، فَكَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَيَسْتَزِيدُونَ فِي سُرُورِهِمْ بِنُورِهِمْ وَظُهُورِهِمْ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ إِسْرَاءُ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ اسْتَقْبَلُوهُ، وَاجْتَمَعُوا مَعَهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي هُوَ مَقَرُّ الْأَصْفِيَاءِ، وَاقْتَدَوْا بِالْإِمَامِ الْحَيِّ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ رِجَالِ الطَّيِّ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا بِطَرِيقِ الْمُشَايَعَةِ وَآدَابِ الْمُتَابَعَةِ إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَتَوَقَّفَ كُلٌّ فِيمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَقَامَاتِ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ وَخَصَّ كُلًّا بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَهُمْ أَظْهَرُ، وَالتَّرْحِيبُ وَالتَّعْظِيمُ لَدَيْهِ مَعَ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْكُرُوبِيِّينَ إِلَى أَنْ تَجَاوَزَ عَنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَانْتَهَى إِلَى مَقَامِ {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى - فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى - مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 9 - 11] .

وَهَذَا غَايَةُ الْقُرْبِ وَنِهَايَةُ الْحُبِّ، ثُمَّ بِمُقْتَضَى الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَمْعِ، وَالتَّدَلِّي بَعْدَ التَّرَقِّي، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْبِدَايَةِ بَعْدَ الْعُرُوجِ إِلَى النِّهَايَةِ لِلْحِكَمِ الصَّمَدَانِيَّةِ، وَلِلْقِسَمِ الْفَرْدَانِيَّةِ رَجَعَ عَنْ حَالِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالدَّوْلَةِ الْخَاتَمِيَّةِ، وَاجْتَمَعَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ثَانِيًا، وَنَزَلُوا مَعَهُ مُتَقَدِّمِينَ أَوْ مُتَأَخِّرِينَ، وَتَبَايُنًا إِلَى أَنِ اجْتَمَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى آخِرًا، وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ فَآخَرُ. ثُمَّ قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ صُعُودِهِ وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَ شُهُودِهِ (قَالَ لِي قَائِلٌ) : هُوَ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ مَلَكٍ جَلِيلٍ (يَا مُحَمَّدُ! هَذَا خَازِنُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ) ، أَيْ تَعْظِيمًا لِجَلَالِ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ أَوْ تَوَاضُعًا كَمَا هُوَ دَأْبُ الْأَبْرَارِ، (فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى قَصْدِ السَّلَامِ عَلَيْهِ (فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ) . أَيْ لِمَا عَرَفَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَقَامِ وَآدَابِ الْكِرَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا بَدَأَ بِالسَّلَامِ لِيُزِيلَ مَا اسْتَشْعَرَهُ مِنَ الْخَوْفِ مِنْهُ، بِخِلَافِ سَلَامِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ابْتِدَاءً كَمَا سَبَقَ. قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ تَوَاضُعًا لَهُ وَتَكْرِيمًا لَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ قَائِمًا وَهُمْ قُعُودٌ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي آدَمَ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مَارًّا وَهُمْ وُقُوفٌ، وَهُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ، أَوْ لِأَنَّهُ حَيٌّ وَإِنَّهُمْ فِي صُورَةِ الْأَمْوَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالَاتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) أَيْ: فَلَا تَسْتَغْرِبْ مِنْ قَوْلِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5867 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (لَمَّا كَذَّبَنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5867 - (عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَمَّا كَذَّبَنِي) أَيْ: نَسَبَنِي إِلَى الْكَذِبِ (قُرَيْشٌ) أَيْ: فِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَطَلَبُوا مِنْ عَلَامَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا فِي طَرِيقِهِ مِنَ الْإِنْسِ (قُمْتُ فِي الْحِجْرِ) أَيْ: فِي مَوْضِعِ بُدِئَ بِيَ الصُّعُودُ أَوَّلًا لِيَنْجَلِيَ لِيَ الشُّهُودُ ثَانِيًا (فَجَلَّى اللَّهُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ التَّجْلِيَةِ أَيْ: فَأَظْهَرَ (لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ) ، أَيْ: وَطَرِيقَهُ الْأَقْدَسَ (فَطَفِقْتُ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ قَبْلَ الْقَافِ أَيْ: فَشَرَعْتُ (أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ) أَيْ: عَلَامَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَدَلَالَاتِهِ مِمَّا يَكُونُ مِنْ شَوَاهِدِ حَالَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَلَائِلِ مُعْجِزَاتِهِ (وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ) أَيْ: كَأَنَّ نَظَرِي وَاقِعٌ عَلَيْهِ، وَجَسَدِي حَاضِرٌ لَدَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

[باب في المعجزات]

[بَابٌ فِي الْمُعْجِزَاتِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5868 - «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمِهِ أَبْصَرَنَا، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [7] بَابٌ فِي الْمُعْجِزَاتِ الْمُعْجِزَةُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ، وَفِي التَّحْقِيقِ: الْمُعْجِزُ فَاعِلُ الْعَجْزِ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَسُمِّيَتْ دَلَالَاتُ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَعْلَامِ الرُّسُلِ مُعْجِزَةَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِمْ بِمِثْلِهَا، وَالْهَاءُ فِيهَا إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ كَآيَةٍ وَعَلَامَةٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5868 - (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي أَصَحِّ النُّسَخِ بِنَاءً عَلَى نِهَايَةِ خُصُوصِيَّتِهِ، وَغَايَةِ مَزِيَّتِهِ، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَسٍ كَالسَّيِّدِ وَالْغُلَامِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ الْأُسْتَاذُ، وَإِلَيْهِ الْإِسْنَادُ، مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ التَّرْضِيَةَ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ. وَفِي نُسْخَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَمْعًا بَيْنَهُمَا لِأَدَاءِ حُقُوقِهِمَا،

وَأَصْلِ اسْتِحْقَاقِهِمَا، (قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا) أَيْ: كَأَنَّهَا فَوْقَ رُءُوسِنَا (وَنَحْنُ) أَيْ: أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي الْغَارِ) ، اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] أَيْ غَارُ ثَوْرٍ لِلِاخْتِفَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى قَصْدِ الْهِجْرَةِ إِلَى الدَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْغَارُ نَقْبٌ فِي أَعْلَى ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ بِمِنَى مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ أَيْ: سَاعَةٍ نُجُومِيَّةٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا مُدَّةٌ قَلِيلَةٌ. قِيلَ: طَلَعَ الْمُشْرِكُونَ فَوْقَ الْغَارِ فِي طَلَبِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ، فَأَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إِنْ تُصَبِ الْيَوْمَ ذَهَبَ دِينُ اللَّهِ. وَقَالَ أَيْضًا مِنْ كَمَالِ الِاضْطِرَابِ خَوْفًا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَابِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ عَنْهُ، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمِهِ) أَيْ: مَوْضِعِهَا (أَبْصَرَنَا) ، أَيْ لِتَقَابُلِنَا (قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) ؟ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وَنِسْبَةُ الْإِخْرَاجِ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ سَبَبًا لِخُرُوجِهِ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (اللَّهُمَّ اعْمِ أَبْصَارَهُمْ) فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ حَوْلَ الْغَارِ وَلَا يَفْطُنُونَ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْهُ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقِصَّةَ بِانْضِمَامِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ قَضِيَّةُ الْحَمَامَةِ وَالْعَنْكَبُوتِ حَيْثُ أَظْهَرَهَا اللَّهُ فِي عُيُونِهِمْ عَلَى بَابِ الْغَارِ تَصِيرُ مُعْجِزَةً، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: اللَّهُ ثَالِثُهُمَا جَاعِلُهُمَا ثَلَاثَةً بِضَمِّ نَفْسِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمَا فِي الْمَعِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] ؟ قُلْتُ: بَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (مَعَكُمَا) نَاصِرُكُمَا وَحَافِظُكُمَا مِنْ مَضَرَّةِ فِرْعَوْنَ وَمَعْنَى قَوْلِ: اللَّهُ ثَالِثُهُمَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَاعِلُهُمَا ثَلَاثَةً، فَيَكُونُ سُبْحَانَهُ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشْتَرِكٌ فِيمَا لَهُ، وَعَلَيْهِ مِنَ النُّصْرَةِ وَالْخِذْلَانِ. فَإِنْ قُلْتَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ: اللَّهُ ثَالِثُهُمَا. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ثَالِثُهُمَا اللَّهُ؟ قُلْتُ: يُفِيدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُمَا مُخْتَصَّانِ بِأَنَّ اللَّهَ ثَالِثُهُمَا، وَلَيْسَ بِثَالِثِ غَيْرِهِمَا، وَفِي عَكْسِهِ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ثَالِثُهُمَا لَا غَيْرُهُ، وَكَمْ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ؟ وَقَالَ أَكْمَلُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: اسْتُشْكِلَ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: ثَالِثُهُمَا إِطْلَاقُ الثَّالِثِ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ كَلَامٌ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ زَيْغٌ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] إِطْلَاقُ الثَّالِثِ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَكَفَرَ الْقَائِلُونَ بِهِ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ إِضَافَةُ الثَّالِثِ إِلَى عَدَدٍ أَنْقَصَ مِنْهُ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَهُوَ مَصِيرُ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي الْآيَةِ إِضَافَتُهُ إِلَى عَدَدٍ مِثْلِهِ وَذَلِكَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. قُلْتُ: وَكَذَا زَالَ الْإِشْكَالُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ ثَالِثُهُمْ وَخَامِسُهُمْ، ثُمَّ رَفَعَ وَهْمُ الْمَعِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِالْحُجَّةِ السِّيحَانِيَّةِ وَالْبَيِّنَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ، حَيْثُ عَمَّمَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] الْآيَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5869 - «وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ! حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنَ الْغَدِ، حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ. وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ، لَهَا ظِلٌّ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا الشَّمْسُ، فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا، وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَانًا بِيَدَيَّ يَنَامُ عَلَيْهِ، وَبَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً، وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَنْفُضُ مَا حَوْلَكَ، فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ، قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: أَفَتَحْلِبُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخَذَ شَاةً فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْتَوَى فِيهَا، يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ، فَأَتَيْتُ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فَوَافَقْتُهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟) قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا مَالَتِ الشَّمْسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [الفاتحة: 40 - 29676] فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا فِي جَلَدٍ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: إِنِّي أَرَاكُمَا دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَجَا، فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: كُفِيتُمْ، مَا هَاهُنَا، فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.» ـــــــــــــــــــــــــــــ 5869 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) ، صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ! حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ) : مِنْ سَرَى لُغَةٌ فِي أَسْرَى بِمَعْنَى السَّيْرِ فِي اللَّيْلِ أَيْ: حِينَ سَافَرْتَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْغَارِ ( [مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قَالَ: أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا) أَيْ: جَمِيعَهَا (وَمِنَ الْغَدِ) ، أَيْ: وَبَعْضِهِ وَهُوَ نِصْفُهُ كَمَا يُفِيدُ قَوْلُهُ: (حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ) ، أَيْ: بَلَغَتِ الشَّمْسُ وَسْطَ السَّمَاءِ، فَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: قَامَتِ الشَّمْسُ وَقْتَ الزَّوَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَامَتْ بِهِ دَابَّتُهُ، أَيْ: وَقَفَتْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا بَلَغَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ أَبْطَأَتْ حَرَكَةَ الظِّلِّ.

إِلَى أَنْ تَزُولَ، فَيَحْسَبُ النَّاظِرُ أَنَّهَا قَدْ وَقَفَتْ وَهِيَ سَائِرَةٌ، لَكِنْ سَيْرًا لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ سَرِيعٌ كَمَا يَظْهَرُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، فَيُقَالُ لِذَلِكَ الْوُقُوفِ الْمُشَاهَدِ: قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ (وَخَلَا الطَّرِيقُ) أَيْ: صَارَ خَالِيًا عَنْ مُرُورِ الْفَرِيقِ (لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ) ، تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوْ بَيَانٌ (فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ) ، أَيْ أُظْهِرَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْهُ رَفْعُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ إِذَاعَتُهُ وَإِظْهَارُهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ خَاصٌّ بِمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُمِّيَ الْحَدِيثُ بِهِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ الرِّفْعَةِ بِسَبَبِهِ أَيْ: لِتِلْكَ الصَّخْرَةِ (ظِلٌّ) أَيْ: عَظِيمٌ مِنْ صِفَتِهِ (إِنَّهُ لَمْ تَأْتِ) : بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ أَيْ: لَمْ تَحْكُمْ عَلَيْهِ (الشَّمْسُ) ، أَيْ بِشُعَاعِهَا حِينَئِذٍ (فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا) ، أَيْ عِنْدَ الصَّخْرَةِ (وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَانًا بِيَدَيَّ) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ إِشْعَارًا بِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ فِي الْخِدْمَةِ (يَنَامُ عَلَيْهِ) ، اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَوْ صِفَةٌ لِمَكَانًا (وَبَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً) ، أَيْ: وَفَرَشْتُ عَلَى الْمَكَانِ جِلْدًا بِشَعْرِهِ (وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَنَا أَنْفُضُ مَا حَوْلَكَ) ، بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ: أَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَأَتَفَحَّصُ عَنِ الْعَدُوِّ، وَأَرَى هَلْ هُنَاكَ مُؤْذٍ مِنْ عَدُوٍّ وَغَيْرِهِ؟ مِنَ النَّفْضِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ النَّظَافَةِ مِنْ نَحْوِ الْغُبَارِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: أَحْرُسُكَ وَأَطُوفُ هَلْ أَرَى طَلَبًا؟ يُقَالُ: نَفَّضْتُ الْمَكَانَ إِذَا نَظَرْتُ جَمِيعَ مَا فِيهِ، وَالنَّفْضَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِهَا وَالنَّفِيضَةُ قَوْمٌ يُبْعَثُونَ مُتَجَسِّسِينَ هَلْ يَرَوْنَ عَدُوًّا أَوْ خَوْفًا؟ (فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ) ، بِالْجَرِّ صِفَةُ رَاعٍ، وَمَعْنَاهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِنَا وَمِنْ جِهَةِ قُدَّامِنَا. (قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ) ؟ بِضَمِّ اللَّامِ وَيَجُوزُ كَسْرُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمَعْنَى أَفَتَحْلُبُهَا لِي؟ (قَالَ: نَعَمْ. فَأَخَذَ شَاةً فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ) ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ أَيْ: فِي قَدَحٍ مِنْ خَشَبٍ مُقَعَّرٍ (كُثْبَةً) : بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ فَمُوَحَّدَةٍ أَيْ: قَدْرَ حَلْبَتِهِ (مِنْ لَبَنٍ) ، وَقِيلَ: مِلْءُ الْقَدَحِ مِنَ اللَّبَنِ، فَقَوْلُهُ: مِنْ لَبَنٍ عَلَى قَصْدِ التَّجْرِيدِ أَوْ لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ (وَمَعِي إِدَاوَةٌ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ أَيْ: ظَرْفُ مَاءٍ مُطَهِّرَةٍ أَوْ سِقَايَةٍ (حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: خَاصَّةً أَوْ خَالِصَةً فِي النِّيَّةِ وَقَصْدَ الطَّوِيَّةِ (يَرْتَوِي فِيهَا) ، قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: رَوِيتُ مِنَ الْمَاءِ بِالْكَسْرِ وَارْتَوَيْتُ وَتَرَوَّيْتُ كُلُّهَا بِمَعْنًى. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يَرْتَوِي مِنْهَا لَا فِيهَا. قُلْتُ: فِي الْقَامُوسِ: إِنَّ فِي تَأْتِي بِمَعْنَى (مِنْ) ، أَوِ التَّقْدِيرُ يَرْتَوِي مِنَ الْمَاءِ فِيهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى يَرْتَوِي فِيهَا جَعَلَ الْقَدَحَ آلَةً لِلرِّيِّ وَالسَّقْيِ، وَمِنْهُ الرِّوَايَةُ الْإِبِلُ الَّتِي يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ اهـ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ) ، مُسْتَأْنَفَانِ لِلْبَيَانِ، وَالْجُمْلَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ: وَمَعِي إِلَخْ، حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَحَلَبَ، وَقَوْلِهِ: (فَأَتَيْتُ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ بِاللَّبَنِ (فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ) ، أَيْ أُنَبِّهُهُ مِنَ النَّوْمِ لِاسْتِغْرَاقِهِ فِيهِ (فَوَافَقْتُهُ) : بِتَقَدُّمِ الْفَاءِ عَلَى الْقَافِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحِّحَةِ أَيْ: تَأْنِيثٌ بِهِ (حَتَّى اسْتَيْقَظَ) : وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ أَيْ: فَوَافَقْتُهُ فِي النَّوْمِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى فَوَافَقْتُهُ فِي اخْتِيَارِهِ النَّوْمَ، لِأَنَّ الْإِيقَاظَ نَوْعُ مُخَالَفَةٍ لَهُ. قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ حِينَ اسْتَيْقَظَ أَيْ: وَافَقَ إِتْيَانِي وَقْتَ اسْتِيقَاظِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَوَافَقْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ. وَقَالَ شَارِحٌ: رُوِيَ بِتَقْدِيمِ الْقَافِ عَلَى الْفَاءِ مِنَ الْوُقُوفِ، وَالْمَعْنَى صَبَرْتُ عَلَيْهِ، وَتَوَقَّفْتُ فِي الْمَجِيءِ إِلَيْهِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ (فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ) أَيْ: بَعْضِهِ (عَلَى اللَّبَنِ) أَيْ: تَبْرِيدًا (حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ) : كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَتِهِ (فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ) أَيْ: طَابَ خَاطِرِي (ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ) ؟ مِنْ أَنَى يَأْنِي إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الشَّيْءِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الرَّحِيلِ؟ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَالْأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى أَلَمْ يَأْتِ وَقْتَ التَّحْوِيلِ لِلرَّحِيلِ؟ وَهُوَ السَّيْرُ الْجَمِيلُ إِلَى مَوْضِعِ النَّخِيلِ، فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ

تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] (قُلْتُ: بَلَى. قَالَ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا مَالَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: مِنْ وَسَطِ السَّمَاءِ، وَحَصَلَ بَرْدُ الْهَوَاءِ (وَاتَّبَعَنَا) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ أَيْ: وَقَدْ لَحِقَنَا (سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ) : بِضَمِّ السِّينِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ الْكِنَانِيُّ، كَانَ يَنْزِلُ قُدَيْدًا، وَيُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا (فَقُلْتُ: أُتِينَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أَتَانَا الْعَدُوُّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ) أَيْ: سَاخَتْ قَوَائِمُهَا كَمَا تَسُوخُ فِي الرَّمْلِ (إِلَى بَطْنِهَا فِي جَلَدٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: صُلْبٌ مِنَ الْأَرْضِ (فَقَالَ: إِنِّي أَرَاكُمَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ مِنَ الرَّأْيِ (دَعَوْتُمَا عَلَيَّ) ، أَيْ بِالْمَضَرَّةِ (فَادْعُوَا لِي) ؟ أَيْ بِالْمَنْفَعَةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ (فَاللَّهُ لَكُمَا) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ شَارِحٌ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ أَيْ: فَاللَّهُ كَفِيلٌ عَلَيَّ لَكُمَا أَنْ لَا أَهُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِغَدْرِكُمَا، أَوْ فَاللَّهُ مُسْتَجِيبٌ وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: (أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ) ، مُتَعَلِّقٌ بِادْعُوَا أَيْ: لِأَنْ أَرُدَّ أَوْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: أَسْأَلُ اللَّهَ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّالِبَ أَيْ: طَلَبَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ طَلَبُوكُمَا. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: الْجَارُّ مَحْذُوفٌ. وَتَقْدِيرُهُ: بِأَنْ أَرُدَّ. وَقَوْلُهُ: فَاللَّهُ لَكُمَا حَشْوٌ بَيْنَهُمَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فَاللَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَلَكُمَا خَبَرُهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ أَرُدَّ خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمُبْتَدَأِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ فَادْعُوَا لِي كَيْ لَا يَرْتَطِمَ فَرَسِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ طَلَبَكُمَا وَلَا أَتْبَعْكُمَا بَعْدُ، ثُمَّ دَعَا لَهُمَا بِقَوْلِهِ: فَاللَّهُ لَكُمَا أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى حَافِظُكُمَا وَنَاصِرُكُمَا حَتَّى تَبْلُغَا بِالسَّلَامَةِ إِلَى مَقْصِدِكُمَا، أَيْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ادْعُوَا لِي حَتَّى أَنْصَرِفَ عَنْكُمَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِكُمَا عَنِّي وَحَبَسَنِي عَنِ الْبُلُوغِ إِلَيْكُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي (فَاللَّهُ) تَقْتَضِي مَا يَتَرَتَّبُ بَعْدَهَا عَلَيْهِ، فَالتَّقْدِيرُ ادْعُوَا لِي بِأَنْ أَتَخَلَّصَ مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَإِنَّكُمَا إِنْ فَعَلْتُمَا فَاللَّهُ أَشْهَدُ لِأَجْلِكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّقْدِيرَ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَاللَّهِ عَلَى الْقَسَمِ أَيْ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَكُمَا عَلَى أَنْ أَرُدَّ الطَّلَبَ عَنْكُمَا. (فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَجَا) ، أَيْ: فَتَخَلَّصَ مِنَ الْعَنَاءِ كَمَا رَجَا (فَجَعَلَ) أَيْ: فَشَرَعَ فِي الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ (لَا يَلْقَى أَحَدًا) أَيْ: مِنْ وَرَائِهِمَا (إِلَّا قَالَ: كُفِيتُمْ) ، بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ: لَقَدْ كُفِيتُمْ أَيْ، اسْتَغْنَيْتُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْجَانِبِ، لِأَنِّي كَفَيْتُكُمْ ذَلِكَ (مَا هَاهُنَا) أَيْ: لَيْسَ هَاهُنَا (أَحَدٌ) : فَمَا: نَافِيَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، مَا هَاهُنَا بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ كُفِيتُمُ الَّذِي هَاهُنَا اهـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ كَمَا لَا يَخْفَى، كَقَوْلِهِ: (فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ) . أَيْ بِهَذَا الْمَعْنَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْفَضِيلَةُ الْبَاهِرَةُ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، وَفِيهِ خِدْمَةُ التَّابِعِ لِلْمَتْبُوعِ، وَاسْتِصْحَابُ الرِّكْوَةِ وَنَحْوِهَا فِي السَّفَرِ لِلطَّهَارَةِ وَالشُّرْبِ، وَفِيهِ فَضْلُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنُ عَاقِبَتِهِ.

5870 - «وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدَ، إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: (أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ آنِفًا ; أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزْعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ) . قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا إِسْلَامِي مِنْ قَبْلِ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونَنِي، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ: (أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ؟) قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟) قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، فَانْتَقَصُوهُ، قَالَ: هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ!» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5870 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) : بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَمِنْ أَوْلَادِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ أَوَّلًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَأَعْلَمِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ، (فَعَلِمَ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالدَّالِ أَيْ: بِقُدُومِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ (وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ ابْنَ سَلَامٍ (فِي أَرْضٍ) أَيْ: فِي بُسْتَانٍ (يَخْتَرِفُ) أَيْ: يَجْتَنِي مِنَ الْفَوَاكِهِ (فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَجَاءَهُ (فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ) أَيْ: ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ (لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ) أَيْ: أَوْ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ أَوْ مِنْ كِتَابِهِ لِئَلَّا يُشْكِلَ بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَعْلَمُهَا إِمَّا مُجْمَلًا أَوْ مُفَصَّلًا، وَلِهَذَا صَارَ جَوَابُهَا مُعْجِزَةً لَهُ، وَعِلْمَ يَقِينٍ بِنُبُوَّتِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَحَقَّقَ عِنْدَهُ.

مُعْجِزَاتٌ أُخَرُ مُنْضَمَّةٌ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) ، أَيْ عَلَامَاتِهَا (وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ) : بِكَسْرِ الزَّايِ يُقَالُ: نَزَعَ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ إِذَا أَشْبَهَهُ ذِكْرُهُ. فِي الْغَرِيبَيْنِ: فَالْمَعْنَى وَمَا يُشْبِهُهُ (الْوَلَدَ) : بِالنَّصْبِ (إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ) ؟ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ قَوْمُهَا، أَوْ أَصْلُ الشَّبَهِ، أَوِ الْحُكْمُ غَالِبِيٌّ عَادِيٌّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ الْوَلَدِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا سَبَبُ نُزُوعِ الْوَلَدِ وَمَيْلِهِ إِلَى أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ ; فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ مِنَ الْمُضَارِعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَحْضَرَ الْوَغَى اهـ. وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَ شَارِحٌ مَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ يَجْذِبُ الْوَلَدَ إِلَى أَبِيهِ فِي الشَّبَهِ؟ (قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ) : قَالَهُ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ (آنِفًا) ، بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ أَيْ: هَذِهِ السَّاعَةُ (أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ) أَيْ: تَجْمَعُهُمْ (مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ) أَيِ: الْمُسَمَّى بِنُزُلًا الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا حَضَرَ وَهُوَ مُقَدِّمَةُ بَقِيَّةِ النَّعْمَةِ (فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ) أَيْ: طَرَفُهَا، وَهِيَ أَطْيَبُ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَبِدِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ الْحُوتُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ، وَإِذَا جَعَلَ الْأَرْضَ طُعْمَةً لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَالْحُوتُ كَالْإِدَامِ لَهُمْ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذِهِ الطُّعْمَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ (وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ) أَيْ: عَلَا وَغَلَبَ (مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ) ، بِالنَّصْبِ أَيْ جَذَبَ الرَّجُلُ مَاؤُهُ الْوَلَدَ إِلَى شَبَهِهِ وَيُرْفَعُ، (وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ) ، أَيْ جَذَبَتِ الْمَرْأَةُ (الْوَلَدَ) . وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ الْوَلَدِ وَإِلَيْهِ يُنْظَرُ مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ، يَعْنِي: إِذَا غَلَبَ مَاءُ الرَّجُلِ أَشْبَهَهُ الْوَلَدُ، وَإِذَا غَلَبَ مَاءُ الْمَرْأَةِ أَشْبَهَهَا الْوَلَدُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا التَّأْنِيثِ فِي نَزَعَتْ بِتَأْوِيلِ السِّمَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ قَوْلُهُ: نَزَعَتْ أَيْ: جَذَبَتِ الْمَرْأَةُ بِالْوَلَدِ إِلَى مُشَابَهَتِهَا بِسَبَبِ غَلَبَةِ مَائِهَا، أَوْ جَذَبَتْ مَاءَهَا فَأُكْسِبَ التَّأْنِيثُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ اهـ. وَأَمَّا نِسْبَةُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَبِاعْتِبَارِ مُسَابَقَةِ مَاءِ الرَّجُلِ وَعَكْسِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ سَلَامٍ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ) . ثُمَّ اسْتَأْنَفَ (وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ) ، بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ جَمْعُ بَهُوتٍ مِنْ بِنَاءِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْبُهْتَانِ كَصَبُورٍ وَصُبُرٍ ثُمَّ سُكِّنَ تَخْفِيفًا (وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي مِنْ قَبْلِ أَنْ تَسْأَلَهُمْ) أَيْ: عَنِّي (يَبْهَتُونِّي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: يَبْهَتُونَنِي كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ أَيْ: يَنْسِبُونِي إِلَى الْبُهْتَانِ، وَيَجْعَلُونِي مَبْهُوتًا حَيْرَانَ وَلَمْ يَكُنْ إِسْلَامِي عَلَيْهِمْ حُجَّةً وَاضِحَةَ الْبُرْهَانِ، (فَجَاءَتِ الْيَهُودُ) أَيْ: بِإِحْضَارِهِمْ أَوِ اتِّفَاقًا فِي مَأْتَاهُمْ، وَابْنُ سَلَامٍ فِي اخْتِفَاءٍ عَنْهُمْ. (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ) ؟ أَيْ فِيمَا بَيْنَكُمْ أَوْ فِي زَعْمِكُمْ وَمُعْتَقَدِكُمْ، (قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا) ، أَيْ فِي الْحَسَبِ مِنَ الْحِلْمِ وَالصَّلَاحِ (وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا) ، أَيْ فِي النَّسَبِ، أَوْ فِي سَائِرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. (قَالَ: أَرَأَيْتُمْ) أَيْ: أَخْبَرُونِي (إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) ؟ أَيْ: فَهَلْ تُسْلِمُونَ (قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ) . أَيْ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُتَصَوَّرَ هَذَا مِنْهُ. (فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: شَرُّنَا) أَيْ: هُوَ شَرُّنَا (وَابْنُ شَرِّنَا، فَانْتَقَصُوهُ) ، مِنَ النَّقْصِ وَهُوَ الْعَيْبُ (قَالَ: هَذَا) أَيْ: هَذَا الِانْتِقَاصُ (هُوَ الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ) أَيْ: أَحْذَرُهُ وَحَمَلْتُكَ عَلَى سُؤَالِهِمْ تَصْدِيقًا لِحَالِهِمْ، وَشَهَادَةً عَلَى مَقَالِهِمْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5871 - وَعَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاوَرَ حِينَ بَلَغَنَا إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا. قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ) وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، قَالَ: فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5871 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاوَرَ) أَيْ: أَهْلَ الْمَدِينَةِ لِلِامْتِحَانِ (حِينَ بَلَغَنَا إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ) ، أَيْ بِالْعِيرِ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ (وَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) ، أَيْ: وَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ رَئِيسُ الْأَنْصَارِ وَقَالَ مَا قَالَ مِمَّا سَيَأْتِي وَإِنَّمَا خُصَّ بِالْقِيَامِ، لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِشَارَةِ اخْتِبَارُ الْأَنْصَارِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ قَصْدِهِ، فَلَمَّا عَرَضَ لَهُ الْخُرُوجُ لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَهُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا. فَأَجَابُوا أَحْسَنَ جَوَابٍ بِالْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَفِي غَيْرِهَا، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى اسْتِشَارَةِ الْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْخِبْرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّامِ فِيهَا تِجَارَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ رَاكِبًا مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، فَأَعْجَبَ الْمُسْلِمِينَ تَلَقِّي الْعِيرِ لِكَثْرَةِ الْخَيْرِ وَقِلَّةِ الْقَوْمِ، فَلَمَّا خَرَجُوا بَلَغَ مَكَّةَ خَبَرُ خُرُوجِهِمْ، فَنَادَى أَبُو جَهْلٍ فَوْقَ الْكَعْبَةِ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ النَّجَاءَ، فَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ بِجَمِيعِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعِيرَ أَخَذَتْ طَرِيقَ السَّاحِلِ وَنَجَتْ، فَارْجِعْ إِلَى مَكَّةَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ! فَمَضَى بِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الْعِيرَ قَدْ مَضَتْ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَهَذَا أَبُو جَهْلٍ قَدْ أَقْبَلَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا) : بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ نُدْخِلَ الدَّوَابَّ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَدَلَالَةِ الْمَرَامِ (الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا) ، قَالَ الْقَاضِي: الْإِخَاضَةُ الْإِدْخَالُ فِي الْمَاءِ، وَالْكِنَايَةُ لِلْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهَا بِقَرِينَةِ الْحَالِ، (وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا) : قَالَ الْقَاضِي: ضَرْبُ الْأَكْبَادِ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْلِيفِ الدَّابَّةِ لِلسَّيْرِ بِأَبْلَغِ مِمَّا يُمْكِنُ، فَالْمَعْنَى لَوْ أَمَرْتَنَا بِالسَّيْرِ الْبَلِيغِ وَالسَّفَرِ السَّرِيعِ (إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ) أَيْ: مَثَلًا مِنَ الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرَانِ. قَالَ شَارِحٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ كَسْرَ الْغَيْنِ وَكَسْرَ الْبَاءِ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: صَوَابُهُ كَسْرُ الْبَاءِ، وَكَذَا قَيَّدَ شُيُوخُ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْبُخَارِيِّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّاءَ سَاكِنَةٌ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ الْأَصِيلِيِّ بِإِسْكَانِهَا وَفَتْحِهَا، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَالْغِمَادِ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى ضَمِّهَا وَاللُّغَةُ عَلَى كَسْرِهَا. قُلْتُ: رِوَايَةُ الْمُحَدِّثِينَ أَرْجَحُ وَلِلِاعْتِمَادِ أَصَحُّ. قَالَ: وَهُوَ مَوْضِعٌ بِأَقْصَى هَجَرَ، وَاخْتَارَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَوْضِعٌ مِنْ وَرَاءِ مَكَّةَ بِخَمْسِ لَيَالٍ بِنَاحِيَةِ السَّاحِلِ، وَقِيلَ: بَلَدٌ مِنَ الْيَمَنِ ثُمَّ قَوْلُهُ: (لَفَعَلْنَا) . جَوَابُ (لَوْ) وَلَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنْ (ضَرَبْنَا أَكْبَادَهَا إِلَيْهِ) لِلْإِيجَازِ أَوْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ صَعْبٍ كَالسَّيْرِ فِي بَحْرٍ، وَالسَّفَرِ فِي بَرٍّ لَوْ أَمَرْتَنَا بِفِعْلِهِ لَفَعَلْنَا. (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (فَنَدَبَ) أَيْ: فَدَعَا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ) ، أَيِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ النَّاسُ (فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا) ، وَهُوَ مَشْهَدٌ مَعْرُوفٌ وَيَأْتِي بَيَانُهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لِأَصْحَابِهِ (هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٌ) . أَيْ مَقْتَلُ فُلَانٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهَذَا مَهْلِكُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَطْرَحُ فُلَانٍ، حَتَّى عَدَّ سَبْعِينَ مِنْهُمْ، (وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا) . إِشَارَةً إِلَى خُصُوصِ تِلْكَ الْقِطَعِ مِنَ الْأَرْضِ لِزِيَادَةِ تَوْضِيحِ الْمُعْجِزَةِ (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (فَمَا مَاطَ) أَيْ: مَا زَالَ وَبَعُدَ وَتَجَاوَزَ (أَحَدُهُمْ) أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5872 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: (اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ) فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5872 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ) : الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا حَضَرَ بَدْرًا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ.

وَهُوَ قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ) : بِضَمِّ الشِّينِ أَيْ أَطْلُبُكَ وَأَسْأَلُكَ (عَهْدَكَ) أَيْ: أَمَانَتَكَ (وَوَعْدَكَ) ، أَيْ: إِنْجَازَهُ (اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ) أَيْ: عَدَمَ الْعِبَادَةِ، أَوْ عَدَمَ الْإِسْلَامِ، أَوْ هَلَاكَ الْمُؤْمِنِينَ (لَا تُعْبَدْ) : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ (بَعْدَ الْيَوْمِ) : لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا خُلْفَ فِي وَعْدِهِ، بَلْ وَلَا فِي وَعِيدِهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُلْفُ! فِي خَبَرِهِ، فَالْخَوْفُ إِنَّمَا هُوَ لِاحْتِمَالِ اسْتِثْنَاءٍ مُقَدَّرٍ، أَوْ قَيْدٍ مُقَرَّرٍ، أَوْ وَقْتٍ مُحَرَّرٍ، وَهَذَا مُجْمَلُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْكَلَامِ؟ فَقَدْ قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ، يُقَالُ: نَشَدْتُ فُلَانًا أَنْشُدُهُ نَشْدًا إِذَا قُلْتَ لَهُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ، أَيْ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ السُّؤَالِ، وَالْعَهْدُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْأَمَانِ، يُرِيدُ أَسْأَلُكَ أَمَانَكَ وَإِنْجَازَ وَعْدِكَ الَّذِي وَعَدْتَنِيهِ بِالنَّصْرِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعِدَهُ وَعْدًا فَيُخْلِفَهُ، فَمَا وَجْهُ هَذَا السُّؤَالِ؟ قُلْنَا: الْأَصْلُ الَّذِي لَا يُفَارِقُ هَذَا الْحُكْمَ، هُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَلِمَ الدَّاعِي حُصُولَ الْمَطْلُوبِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ مِنْهُ، وَلَا تُرْفَعُ الْخَشْيَةُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِمَا أُوتُوا وَوُعِدُوا مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ ; فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ مِنْ مَانِعٍ يَنْشَأُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ أُمَّتِهِ، فَيُحْبَسُ عَنْهُمُ النَّصْرُ الْمَوْعُودُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ وُعِدَ بِالنَّصْرِ وَلَمْ يُعَيَّنْ لَهُ الْوَقْتُ، وَكَانَ عَلَى وَجَلٍ مِنْ تَأَخُّرِ الْوَقْتِ فَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيُنْجِزَ لَهُ الْوَعْدَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا أَظْهَرَ مِنَ الضَّرَاعَةِ فَقِيلَ: الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ مُبَالَغَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السُّؤَالِ مَعَ عَظِيمِ ثِقَتِهِ بِرَبِّهِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ، كَانَ بِهِ تَشْجِيعٌ لِلصَّحَابَةِ وَتَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ دُعَاءَهُ لَا مَحَالَةَ مُسْتَجَابٌ، لَا سِيَّمَا إِذَا بَالَغَ فِيهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ، أَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمُقَاتَلَةِ ; فَيَنْبَغِي لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَدْعُوَ بِالنُّصْرَةِ لِيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ الْمُشَارِكَةِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى أَصْحَابَهُ أَنَّهُمْ تَوَجَّهُوا إِلَى الْخَلْقِ رَجَعَ بِنَفْسِهِ إِلَى الذَّاتِ الْمُطْلَقِ وَرَاجَعَ رَبَّهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْضَرَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ (فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ) أَيْ: يَكْفِيكَ مَا دَعَوْتَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ) ، أَيْ بَالَغْتَ فِي السُّؤَالِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْحَالِ (فَخَرَجَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنْ قُبَّتِهِ وَهُوَ يَثِبُ) : بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ الْمُخَفَّفَةِ قَبْلَ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْوُثُوبِ أَيْ: يُسْرِعُ فَرَحًا وَنَشَاطًا (فِي الدِّرْعِ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ فِي دِرْعِهِ لِلْمُحَافَظَةِ وَعَلَى نِيَّةِ الْمُقَاتَلَةِ (وَهُوَ يَقُولُ) أَيْ: يَقْرَأُ مَا نَزَلْ عَلَيْهِ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45] أَيْ: جَمْعُ الْكُفَّارِ (وَيُوَلُّونَ) أَيْ: وَيُدْبِرُونَ (الدُّبُرَ) : بِضَمَّتَيْنِ أَيِ: الظَّهْرُ. وَقَالَ شَارِحٌ: بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا، ثُمَّ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْهَزِيمَةُ كِنَايَةً عَنِ الْمَغْلُوبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: سَيُغْلَبُ الْجَمْعُ بَلِ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى مُرَاعَاةً لِلتَّأْسِيسِ كَمَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

5873 - وَعَنْهُ، «أَنَّ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: (هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5873 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: بَدْرٌ مَاءٌ مَعْرُوفٌ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ بِئْرٌ كَانَتْ لِرَجُلٍ يُسَمَّى بَدْرًا، وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. (هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى جِبْرِيلَ (أَدَاةُ الْحَرْبِ) . أَيْ آلَتُهُ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظْهَرَهُ لِأَنَسٍ حَتَّى أَبْصَرَهُ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ هَذَا، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَوْضُوعٌ لِلْمَحْسُوسِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْمُعْجِزَاتِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5874 - وَعَنْهُ، قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي إِثْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتُ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ. إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ) فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5874 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ) أَيْ: أَنْصَارِيٌّ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ) أَيْ: يُسْرِعُ وَيَعْدُو (فِي إِثْرِ رَجُلٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا أَيْ: فِي عَقِبِ رَجُلٍ (مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ) ، أَيْ: وَاقِعٌ قُدَّامَهُ (إِذْ سَمِعَ) أَيِ: الْمُسْلِمُ، فَالْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آخِرُهُ (ضَرْبَةً) أَيْ: صَوْتَ ضَرْبَةٍ (بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ) ، أَيْ فَوْقَ الْمُشْرِكِ (وَصَوْتُ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ بِمَعْنَى أَعْزِمْ (حَيْزُومُ) . أَيْ: يَا حَيْزُومُ، وَهُوَ اسْمُ فَرَسِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهِمَا بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ وَبِكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْإِقْدَامِ. قَالُوا: هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ لِلْفَرَسِ. أَقُولُ: فَكَأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِقْدَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فَهْمُ الْكَلَامِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَرَسِ الْمَلَكِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ النِّدَاءُ بِاسْمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ بِضَمِّ الدَّالِ وَبِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَضْمُومَةٍ مِنَ التَّقَدُّمِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُهَا. وَحَيْزُومُ: اسْمُ فَرَسِ الْمَلَكِ، وَهُوَ مُنَادَى بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَقَالَ شَارِحٌ: سُمِّيَ بِأَقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الْأَعْضَاءِ مِنْهُ، وَشَدَّ مَا يَسْتَظْهِرُ بِهِ الْفَارِسُ فِي رُكُوبِهِ مِنْهُ، وَهُوَ وَسَطُ الصَّدْرِ، وَمَا يُضَمُّ عَلَيْهِ الْحِزَامُ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَيْعُولُ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ مَادَّةِ الْحَزْمِ وَهُوَ شِدَّةُ الِاحْتِيَاطِ فِي الْأَمْرِ. (إِذْ نَظَرَ) أَيِ: الْمُسْلِمُ (إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا) ، أَيْ سَقَطَ عَلَى قَفَاهُ (فَإِذَا هُوَ) أَيِ: الْمُشْرِكُ (قَدْ خُطِمَ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْخَطْمِ، وَهُوَ الْأَثَرُ عَلَى الْأَنْفِ، فَقَوْلُهُ: (أَنْفُهُ) ، لِلتَّأْكِيدِ أَوْ إِيمَاءً إِلَى التَّجْرِيدِ، وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ أَيْ: كُسِرَ فَهُوَ أَثَرُهُ اهـ. وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ رِوَايَةَ الْمَصَابِيحِ بِالْحَاءِ بِالْمُهْمَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جُرِحَ أَنْفُهُ (وَشُقَّ وَجْهُهُ) أَيْ: قُطِعَ، طُولًا (كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ) ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: صَارَ مَوْضِعُ الضَّرْبِ كُلُّهُ أَخْضَرَ أَوْ أَسْوَدَ، فَإِنَّ الْخُضْرَةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى السَّوَادِ كَعَكْسِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَمِنْ قَبِيلِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] (فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَدَقْتَ) ، فِيهِ أَنَّ هَذَا الْكَشْفَ كَرَامَةٌ لِلصَّحَابِيِّ، وَكَرَامَةُ الِاتِّبَاعِ بِمَنْزِلَةِ مُعْجِزَةِ الْمَتْبُوعِ، لَا سِيَّمَا وَوُقُوعُهُ فِي حَضْرَتِهِ وَحُصُولِهِ لِأَجْلِ بَرَكَتِهِ، أَوْ يُقَالُ: أَخْبَرَ الصَّحَابِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ عَمَّا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ الْمَلَكِ لِلْمُعَاوَنَةِ، وَقَدْ صَدَّقَهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَيُصْبِحُ عَدُّهُ مِنَ الْمُعْجِزَةِ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: (ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ) . تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَدَدَ كَانَ مِنَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا، وَهَذَا مِنَ الثَّالِثَةِ خَاصَّةً، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَلَكِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ أَعْرَبَ وَقَالَ: ذَلِكَ مَفْعُولُ صَدَقْتَ. وَقَالَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: جَمْعُ ضَرْبَةٍ إِلَخْ. (فَقَتَلُوا) أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا فَضَمِيرُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5875 - «وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، يُقَاتِلَانِ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ يَعْنِي جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5875 - ( «وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ» ) ، الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْزِيعِ بِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى جَانِبٍ مِنْهُ، وَإِلَّا لَكَانُوا أَرْبَعَةً (عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، يُقَاتِلَانِ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ) : الْكَافُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ كَوْنِهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ قِتَالًا مِثْلَ أَشَدِّ قِتَالِ رِجَالِ الْإِنْسِ (مَا رَأَيْتُهُمَا قَبِلُ وَلَا بَعْدُ) ، أَيْ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَوْلُهُ: (يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ) . مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي أَدْرَجَهُ بَيَانًا، وَلَعَلَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5876 - وَعَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهْطًا إِلَى أَبِي رَافِعٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلًا وَهُوَ نَائِمٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ: فَوَضَعْتُ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ، حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّي قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الْأَبْوَابَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي فَوَقَعْتُ، فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَانْكَسَرَتْ سَاقِي، فَعَصَبَتُهَا بِعِمَامَةٍ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: (ابْسُطْ رِجْلَكَ) . فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا، فَكَأَنَّمَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5876 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهْطًا) : قَالَ شَارِحٌ: الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشْرَةِ مِنَ الرِّجَالِ لَيْسَتْ فِيهِمُ امْرَأَةٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: الرَّهْطُ وَيُحَرَّكُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ إِلَى عِشْرَةٍ، أَوْ مَا دُونَ الْعَشْرَةِ، أَوْ مَا فِيهِمُ امْرَأَةٌ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. (إِلَى أَبِي رَافِعٍ) ، قَالَ الْقَاضِي: كُنْيَتُهُ أَبُو الْحُقَيْقِ الْيَهُودِيُّ أَعْدَى عَدُوِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبَذَ عَهْدَهُ وَتَعَرَّضَ لَهُ بِالْهِجَاءِ، وَتَحَصَّنَ عَنْهُ بِحِصْنٍ كَانَ لَهُ، فَبَعَثَهُمْ إِلَيْهِمْ لِيَقْتُلُوهُ، (فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (بَيْتَهُ لَيْلًا وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ) أَيْ: فِي صِفَةِ قَتْلِهِ (فَوَضَعْتُ السَّيْفُ فِي بَطْنِهِ، حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَدَّاهُ بِفِي لِيَدُلَّ عَلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ، وَأَخَذَ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ فَعَرَفْتُ أَنِّي قَتَلْتُهُ (فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الْأَبْوَابَ) ، وَلَعَلَّهُ بَعْدَ فَتْحِهَا أَوَّلًا رَدَّهَا حِفْظًا لِمَا رَوَاهُ، أَوْ طَلَعَ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، (حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي) أَيْ: عَلَى ظَنِّ أَنِّي وَصَلْتُ الْأَرْضَ (فَوَقَعْتُ) ، أَيْ سَقَطْتُ مِنَ الدَّرَجَةِ (فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ) ، بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ أَيْ: مُضِيئَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي كَانَ سَبَبَ وُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ أَنَّ ضَوْءَ الْقَمَرِ وَقَعَ فِي الدَّرَجِ، وَدَخَلَ فِيهِ فَحَسِبَ أَنَّ الدَّرَجَ مُسَاوٍ لِلْأَرْضِ فَوَقَعَ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ (فَانْكَسَرَتْ سَاقِي، فَعَصَبْتُهَا) : بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَيُشَدَّدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ أَيْ: شَدَدْتُهَا (بِعِمَامَةٍ) ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ (فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي) ، أَيْ مِنَ الرَّهْطِ الْوَاقِفِينَ أَسْفَلَ الْقَلْعَةِ (فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: مَعَ أَصْحَابِي (فَحَدَّثْتُهُ) ، أَيْ بِمَا جَرَى لِي وَعَلَيَّ (فَقَالَ ابْسُطْ رِجْلَكَ) ، أَيْ مُدَّهَا (فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا، فَكَأَنَّمَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ) . أَيْ كَأَنَّهَا لَمْ تَتَوَجَّعْ أَبَدًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5877 - «وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاءُوا الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ. فَقَالَ: (أَنَا نَازِلٌ) . ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ. وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِعْوَلَ، فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْصًا. شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَارَرْتُهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنْ جَابِرًا صَنَعَ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ) . وَجَاءَ، فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينًا. فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: (ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلَا تُنْزِلُوهَا) . وَهُمْ أَلْفٌ، فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5877 - (وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّا) أَيْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَصْحَابِ (كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ) ، أَيِ: الْأَرْضَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْأَعْدَاءِ (فَعَرَضَتْ) أَيْ: ظَهَرَتْ فِي عَرْضِ الْأَرْضِ مُعَارِضًا لِمَقْصَدِنَا (كُدْيَةٌ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ أَيْ: قِطْعَةٌ (شَدِيدَةٌ) ، أَيْ صُلْبَةٌ لَا يَعْمَلُ فِيهَا الْفَأْسُ (فَجَاءُوا الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ: أَنَا نَازِلٌ) . أَيْ فِي الْخَنْدَقِ (ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ) أَيْ: مَرْبُوطٌ (بِحَجَرٍ) أَيْ: مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ (وَلَبِثَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا) ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ مَأْكُولًا وَمَشْرُوبًا، وَهُوَ فَعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الذَّوْقِ يَقَعُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالِاسْمُ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ سَبَبِ رَبْطِ الْحَجَرِ، (فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِعْوَلَ) ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْوَاوِ بِالْفَارِسِيِّ كَلْنَدْ قَالَهُ شَارِحٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمِعْوَلُ كَمِنْبَرٍ الْحَدِيدَةُ يُنْقَرُ بِهَا الْجِبَالُ (فَضَرَبَ فَعَادَ) أَيِ: انْقَلَبَ الْحَجَرُ وَصَارَ (كَثِيبًا) أَيْ: رَمْلًا (أَهْيَلَ) ، أَيْ سَائِلًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 14] قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكُدْيَةَ الَّتِي عَجَزُوا عَنْ رَضِّهَا صَارَتْ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُتَلٌ مِنَ الرَّمْلِ مَصْبُوبٍ سَيَّالٍ، (فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي) أَيِ: انْقَلَبْتُ وَانْصَرَفْتُ إِلَى بَيْتِهَا (فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ) ؟ أَيْ مِنَ الْمَأْكُولِ (فَإِنِّي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْصًا) : بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَسَكَتَ عَنْهُ الطِّيبِيُّ أَيْ: جُوعًا، وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْبَطْنَ يَضْمُرُ بِهِ، وَفِي الْمَشَارِقِ لِعِيَاضٍ: رَأَيْتُ بِهِ خَمَصًا بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ ضُمُورًا فِي بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَيُعَبَّرُ بِالْخَمْصِ عَنِ الْجُوعِ أَيْضًا. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ قَوْلُهُ: خَمَصَا بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ وَقَدْ يُسَكَّنُ وَمُهْمَلَةٍ اهـ.

الْمُرَادُ بِهِ أَثَرُ الْجُوعِ وَعَلَامَتُهُ مِنْ ضُمُورِ الْبَطْنِ أَوْ صَفَارِ الْوَجْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ طُولِ مُكْثِهِمْ، وَشِدَّةِ كَدِّهِمْ عَلَى غَيْرِ ذَوْقٍ مِنْ غَايَةِ ذَوْقِهِمْ وَنِهَايَةِ شَوْقِهِمْ (شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ) أَيِ: الْمَرْأَةُ (جِرَابًا) : بِكَسْرِ الْجِيمِ (فِيهِ صَاعٌ) أَيْ: قَدْرُ صَاعٍ (مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بَهْمَةٌ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الضَّأْنِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَالشَّاةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بُهَيْمَةٌ، وَهِيَ أَصْلُ الْمَصَابِيحِ. قَالَ شَارِحٌ لَهُ: هِيَ تَصْغِيرُ بَهْمَةٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَلَدُ الضَّأْنِ، وَقِيلَ: وَلَدُ الشَّاةِ أَوَّلَ مَا تَضَعُهُ أُمُّهُ، وَقِيلَ: السَّخْلَةُ وَهِيَ وَلَدُ الْمَعَزِ (دَاجِنٌ) أَيْ: سَمِينَةٌ قَالَهُ صَاحِبُ الْمَوَاهِبِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَا أَلِفَ الْبَيْتَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: دَجَنَ بِالْمَكَانِ دُجُونًا أَقَامَ وَالْحَمَامُ وَالشَّاةُ وَغَيْرُهُمَا أَلِفَتْ وَهِيَ دَاجِنٌ (فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتْ) أَيِ: الْمَرْأَةُ (الشَّعِيرَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِقِيَامِ كُلٍّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِخِدْمَةٍ تَلِيقُ بِهِ مَعَ تَحْقِيقِ الْمُسَارَعَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ وَيُقَالُ: مَعْنَاهُ أَمَرْتُهَا أَوْ غَيْرَهَا بِالطَّحْنِ، (حَتَّى جَعَلْنَا) أَيْ: بِالِاتِّفَاقِ (اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ) ، أَيِ: الْقِدْرُ مِنَ الْحَجَرِ، وَقِيلَ هِيَ الْقِدْرُ مُطْلَقًا، وَأَصْلُهَا الْمُتَّخَذُ مِنَ الْحَجَرِ، (ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَارَرْتُهُ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ الْمُسَارَّةِ بِالْحَاجَةِ فِي حَضْرَةِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ أَنْ يُنَاجِيَ اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا مَحَلُّ النَّهْيِ تَوَهُّمُ ضَرَرٍ لِلْجَمَاعَةِ. (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا) : بِالتَّصْغِيرِ هُنَا لِلتَّحْقِيرِ فِي جَنْبِ عَظَمَةِ الضَّيْفِ الْكَبِيرِ (وَطَحَنَتْ) : بِالْوَجْهَيْنِ (صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا قَدْرٌ يَسِيرٌ وَأَصْحَابُكَ كَثِيرٌ (فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ) ، وَهُوَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى الثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ (فَصَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا صَنَعَ سُورًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونِ وَاوٍ أَيْ طَعَامًا. وَفِي الْقَامُوسِ: السُّورُ الضِّيَافَةُ فَارِسِيَّةٌ شَرَّفَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَحَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ (هَلًا) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَاللَّامُ مُنَوَّنَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَالْبَاءُ فِي (بِكُمْ) . لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَسْرِعُوا بِأَنْفُسِكُمْ إِلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: السُّورُ بِضَمِّ السِّينِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَقِيلَ الطَّعَامُ مُطْلَقًا، وَهِيَ لَفْظَةٌ فَارِسِيَّةٌ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَحَادِيثٌ صَحِيحَةٌ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ بِالْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَأَمَّا (حَيَّ هَلًا) فَهُوَ بِتَنْوِينِ هَلًا، وَقِيلَ بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى وَزْنِ عَلَا، وَيُقَالُ: حَيَّ هَلَا، وَمَعْنَاهُ عَلَيْكُمْ بِكَذَا وَأَدْعُوكُمْ بِكَذَا. وَفِي الْقَامُوسِ بَسْطٌ لِهَذَا الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى، وَلَكِنِ اقْتَصَرْنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُوعَ مَعَنَا وَالتَّعَطُّشَ لِمَا هُنَا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تُنْزِلُنَّ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ (بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ (عَجِينَتُكُمْ حَتَّى أَجِيءَ) أَيْ: إِلَى بَيْتِكُمْ (وَجَاءَ فَأَخْرَجْتُ لَهُ) أَيْ: أَنَا وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْوَاحِدَةِ (عَجِينًا) . أَيْ: قِطْعَةً مِنَ الْعَجِينِ (فَبَصَقَ فِيهِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِالصَّادِّ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالسِّينِ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ اهـ. وَالْمَعْنَى رَمَى بِالْبُزَاقِ فِيهِ (وَبَارَكَ) ، أَيْ: دَعَا بِالْبَرَكَةِ فِيهِ (ثُمَّ عَمَدَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: قَصَدَ (إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ) أَيْ: فِيهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعِي) : بِهَمْزِ وَصْلٍ مَضْمُومٍ وَكَسْرِ عَيْنٍ أَمْرُ مُخَاطَبَةٍ مِنْ دَعَا يَدْعُو أَيِ: اطْلُبِي (خَابِزَةً) : قَالَ النَّوَوِيُّ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ ادْعِي عَلَى خِطَابِ الْمُؤَنَّثِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الظَّاهِرُ، وَلِهَذَا قَالَ: (فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ) : يَعْنِي لِرِوَايَتِهِ كَسْرَ الْكَافِ، وَفِي بَعْضِهَا ادْعُوا بِالْوَاوِ أَيِ: اطْلُبُوا وَفِي بَعْضِهَا ادْعُ (وَاقْدَحِي) : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيِ: اغْرِفِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ. قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ يُقَالُ: قَدَحَتِ الْمَرَقَ أَيْ: غَرَفَتْهُ، وَمِنْهُ الْمَقْدَحُ وَهُوَ الْمِغْرَفَةُ سَلَكَ بِالْخِطَابِ مَسْلَكَ التَّلْوِينِ فَخَاطَبَ بِهِ رَبَّةَ الْبَيْتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ فِي نُسْخَتِهِ فَلْتَخْبِزْ مَعِي بِالْإِضَافَةِ.

إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا هُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، فَحَمَلَهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَنَّ مَعِي لَمْ تَرِدْ فِي رِوَايَةٍ، وَإِذَا ذَهَبَ إِلَى ادْعِي فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ لَمْ يَكُنْ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ فِي شَيْءٍ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ إِذْ مُرَادُ الشَّيْخِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاطَبَهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: لَا تُنْزِلُنَّ وَلَا تَخْبِزُنَّ، ثُمَّ قَالَ: ادْعِي فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، ثُمَّ قَالَ: وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تُنْزِلُوهَا) : بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ عَلَى طَرِيقِ الْأَوَّلِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، فَأَيُّ تَلْوِينٍ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا؟ مَعَ أَنَّ فِي الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا بِالْأَمْرِ الْخَاصِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا رَبَّةُ الْبَيْتِ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْمَقَامِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ أَوْ مَعِي فِي تَلْوِينِ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ. (قَالَ جَابِرٌ: وَهُمْ) أَيْ: عَدَدُ أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلْفٌ) أَيْ: أَلْفُ رَجُلٍ أَكَّالٍ فِي جُوعِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالٍ (فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ (حَتَّى تَرَكُوهُ) أَيْ: مُنْفَصِلًا (وَانْحَرَفُوا) ، أَيْ: وَانْصَرَفُوا (وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لِتَغِطُّ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: لَتَفُورَ وَتَغْلِيَ وَيُسْمَعُ غَلَيَانُهَا (كَمَا هِيَ) ، أَيْ: مُمْتَلِئَةٌ عَلَى هَيْئَةِ الْأُولَى، فَخَبَرُ هِيَ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى تَغْلِي غَلَيَانًا مِثْلَ غَلَيَانِ هِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا: كَافَّةٌ وَهِيَ مُصَحِّحَةٌ لِدُخُولِ الْكَافِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: كَمَا هِيَ قَبْلَ ذَلِكَ، (وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ) . أَيْ: كَمَا هُوَ فِي الصَّحْفَةِ كَأَنَّهُ مَا نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ تَكْثِيرِ طَعَامِ الْقَلِيلِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ وَتَكْثِيرِهِ، وَتَسْبِيحِ الطَّعَامِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ حَتَّى صَارَ مَجْمُوعُهَا بِمَنْزِلَةِ التَّوَاتُرِ، وَحَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِهِ، وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ أَعْلَامًا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي كُتُبِهِمْ كَالْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، وَصَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ وَأَحْسَنُهَا كِتَابُ الْبَيْهَقِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْنَا بِإِكْرَامِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5878 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَمَّارٍ حِينَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ فَجَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: (بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ! تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5878 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ) : صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَمَّارٍ) أَيِ: ابْنِ يَاسِرٍ (حِينَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ) : حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ (فَجَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ) أَيْ: رَأْسَ عَمَّارٍ عَنِ الْغُبَارِ تَرَحُّمًا عَلَيْهِ مِنَ الْأَغْيَارِ (وَيَقُولُ: بُؤْسَ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَمْزٍ، وَقَالَ وَبِفَتْحِ السِّينِ مُضَافًا إِلَى (ابْنِ سُمَيَّةَ) وَهِيَ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أُمُّ عَمَّارٍ، وَهِيَ قَدْ أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ، وَعُذِّبَتْ لِتَرْجِعَ عَنْ دِينِهَا، فَلَمْ تَرْجِعْ، وَطَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ فَمَاتَتْ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَتْ أُمُّهُ ابْنَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ الْمَخْزُومِيِّ، زَوَّجَهَا يَاسِرًا، وَكَانَ حَلِيفَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ عَمَّارًا، فَأَعْتَقَهُ أَبُو حُذَيْفَةَ. أَيْ: يَا شِدَّةَ عَمَّارٍ احْضَرِي، فَهَذَا أَوَانُكِ، وَاتَّسَعَ فِي حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَإِنَّمَا يُحْذَفُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ. وَرُوِيَ: بُؤْسُ بِالرَّفْعِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ: عَلَيْكَ بُؤْسٌ أَوْ يُصِيبُكَ بُؤْسٌ، وَعَلَى هَذَا ابْنُ سُمَيَّةَ مُنَادًى مُضَافٌ أَيْ: يَا ابْنَ سُمَيَّةَ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْمَعْنَى: يَا شِدَّةَ مَا يَلْقَاهُ ابْنُ سُمَيَّةَ مِنَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ نَادَى بُؤْسَهُ وَأَرَادَ نِدَاءَهُ، وَلِذَا خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ: (تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) . أَيِ: الْجَمَاعَةُ الْخَارِجَةُ عَلَى إِمَامِ الْوَقْتِ وَخَلِيفَةِ الزَّمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَرَحَّمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الشِّدَّةِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا عَمَّارٌ مِنْ قِبَلِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ يُرِيدُ بِهِ مُعَاوِيَةَ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ صِفِّينَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ عَمَّارًا قَتَلَهُ مُعَاوِيَةُ وَفِئَتَهُ، فَكَانُوا طَاغِينَ بَاغِينَ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ عَمَّارًا كَانَ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْإِمَامَةِ، فَامْتَنَعُوا عَنْ بَيْعَتِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُؤَوِّلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَيَقُولُ: نَحْنُ فِئَةٌ بَاغِيَةٌ طَالِبَةٌ لِدَمِ عُثْمَانَ، وَهَذَا كَمَا تَرَى تَحْرِيفٌ، إِذْ مَعْنَى طَلَبِ الدَّمِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي إِظْهَارِ فَضِيلَةِ عَمَّارٍ وَذَمِّ قَاتِلِهِ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي طَرِيقِ وَيْحَ. قُلْتُ: وَيْحَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَيُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ وَيُرْثَى لَهُ، بِخِلَافِ وَيْلَ، فَإِنَّهَا كَلِمَةُ عُقُوبَةٍ تُقَالُ لِلَّذِي يَسْتَحِقُّهَا وَلَا يُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، هَذَا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا ( «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» ) وَهَذَا كَالنَّصِّ الصَّرِيحِ فِي الْمَعْنَى الصَّحِيحِ الْمُتَبَادَرِ مِنَ الْبَغْيِ الْمُطْلَقِ فِي الْكِتَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات: 9] فَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ الشَّرْعِيِّ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ عُدُولٌ عَنِ الْعَدْلِ، وَمَيْلٌ إِلَى الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَغْيَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَالْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ، خَصَّ عُمُومَ مَعْنَى الطَّلَبِ اللُّغَوِيِّ إِلَى طَلَبِ الشَّرِّ الْخَاصِّ بِالْخُرُوجِ الْمَنْهِيِّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ طَلَبُ دَمِ خَلِيفَةِ الزَّمَانِ، وَهُوَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ تَأْوِيلٌ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ عَلِيٌّ وَفِئَتُهُ حَيْثُ حَمَلَهُ عَلَى الْقِتَالِ، وَصَارَ سَبَبًا لِقَتْلِهِ فِي الْمَآلِ، فَقِيلَ لَهُ فِي الْجَوَابِ: فَإِذَنْ قَاتِلُ حَمْزَةَ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ كَانَ بَاعِثًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيْثُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِيهِ مُعْجِزَاتٌ ثَلَاثٌ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ سَيُقْتَلُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَظْلُومٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَاتِلَهُ بَاغٍ مِنَ الْبُغَاةِ، وَالْكُلُّ صِدْقٌ وَحَقٌّ، ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّيْخَ أَكْمَلَ الدِّينِ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا أَيِ: التَّأْوِيلَ السَّابِقَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَمَا حُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّهُ قَتَلَهُ مَنْ أَخْرَجَهُ لِلْقَتْلِ وَحَرَّضَهُ عَلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَحْرِيفٌ لِلْحَدِيثِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحَدٌ، بَلْ هُوَ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاصِدًا لِإِقَامَةِ الْغَرَضِ، وَإِنَّمَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا افْتِرَاءٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ لِأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي شَيْءٍ ظَاهِرِ الْفَسَادِ عَلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ. قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ بَغْيِهِ بِإِطَاعَتِهِ الْخَلِيفَةَ، وَيَتْرُكَ الْمُخَالَفَةَ وَطَلَبَ الْخِلَافَةِ الْمُنِيفَةِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَاطِنِ بَاغِيًا، وَفِي الظَّاهِرِ مُتَسَتِّرًا بِدَمِ عُثْمَانَ مُرَاعِيًا مُرَائِيًا، فَجَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَيْهِ نَاعِيًا، وَعَنْ عَمَلِهِ نَاهِيًا، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، فَصَارَ عِنْدَهُ كُلٌّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَهْجُورًا، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَعَصَّبْ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ، وَتَوَلَّى الِاقْتِصَادَ فِي الِاعْتِقَادِ، لِئَلَّا يَقَعَ فِي جَانِبَيْ سَبِيلِ الرَّشَادِ مِنَ الرَّفْضِ وَالنَّصْبِ بِأَنْ يُحِبَّ جَمِيعَ الْآلِ وَالصَّحْبِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5879 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَجْلَى الْأَحْزَابَ عَنْهُ: (الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5879 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ) ، بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مَصْرُوفًا: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَجْلَى) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَفْعُولِ أَيْ: تَفَرَّقَ وَانْكَشَفَ (الْأَحْزَابُ عَنْهُ) : وَهُمْ طَوَائِفٌ مِنَ الْكُفَّارِ تَحَزَّبُوا وَاجْتَمَعُوا لِحَرْبِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ مِنْهُمْ: قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَأَهْلُ تُهَامَةَ وَقَائِدُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَخَرَجَ غَطَفَانَ فِي أَلْفٍ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، وَقَائِدُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فِي هَوَازِنَ، وَضَامَّتُهُمُ الْيَهُودُ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَمَضَى عَلَى الْفَرِيقَيْنِ قَرِيبٌ مِنْ شَهْرٍ لَا حَرْبَ بَيْنَهُمْ إِلَّا التَّرَامِي بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّصْرَ بِأَنْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحَ الصَّبَا وَجُنُودًا لَمْ يَرَوْهَا، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ: النَّجَاءُ النَّجَاءُ! فَانْهَزَمُوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَهُنَا مَعْنَى الْإِجْلَاءِ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: حِينَئِذٍ (الْآنَ) أَيْ: فِيمَا بَعْدَ هَذَا الزَّمَانِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْآنَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْبَيَانِ (نَغْزُوهُمْ) أَيِ: ابْتِدَاءً (وَلَا يَغْزُونَّا) ، بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: وَلَا يَغْزُونَنَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَالْمَعْنَى لَا يُحَارِبُونَنَا، فَفِيهِ مُشَاكَلَةٌ لِلْمُقَابَلَةِ، (نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ) . أَيْ: وَهُمْ لَا يَسِيرُونَ إِلَيْنَا، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ فَغَزَاهُمْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَحَصَلَتْ لَهُ الْعَلِيَّةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ الْآنَ نَغْزُوهُمْ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ قَلَّ شَوْكَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْيَوْمِ، فَلَا يَقْصِدُونَنَا الْبَتَّةَ بَعْدُ، بَلْ نَحْنُ نَغْزُوهُمْ وَنَقْتُلُهُمْ، وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ فَكَانَ مُعْجِزَةً. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5880 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الْغُبَارِ، فَقَالَ: (قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ) . فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَأَيْنَ) فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5880 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ) أَيْ: عَنْ نَفْسِهِ (وَاغْتَسَلَ) أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ (أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي اللَّفْظِ أَقْرَبُ، وَفِي مَعْنَى الْحَثِّ أَنْسَبُ (يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الْغُبَارِ فَقَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ) . أَيْ: إِلَى الْكُفَّارِ وَأَبْهِمْهُمْ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَأَيْنَ) أَيْ: أَيْنَ أَقْصِدُ وَإِلَى مَنْ أَخْرَجُ؟ (فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ) ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَسَاعَدُوا الْأَحْزَابَ. (فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ) . أَيْ: وَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَيْفِيَّةُ نُصْرَتِهِ وَبَيَانُ قِصَّتِهِ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَبَعْضِ التَّفَاسِيرِ مَبْسُوطَةٌ، وَمَا وَقَعَ لَهُ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَضْبُوطَةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5881 - وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بَنِيَ غَنْمٍ مَوْكِبَ جَبْرَئِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5881 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا) أَيْ: مُرْتَفِعًا (فِي زُقَاقِ بَنَى غَنْمٍ) : بِفَتْحِ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ نُونٍ، قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالزُّقَاقِ بِضَمِّ الزَّايِ السِّكَّةُ (مَوْكِبَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ عَلَى مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا بِإِثْبَاتِ مِنْ، وَالْمَوْكِبُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ جَمَاعَةُ رُكَّابٍ يَسِيرُونَ بِرِفْقٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ) . الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الزُّقَاقَ كَانَ مَهْجُورًا مَنْ سَيْرِ النَّاسِ فِيهِ، فَرُؤْيَةُ الْغُبَارِ السَّاطِعِ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَثَرِ جُنْدِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ رَئِيسَهُمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَعَهُمْ أَوْ هُوَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِضَافَتُهُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَالْأَتْبَاعِ لَهُ.

5882 - «وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ، قَالُوا: لَيْسَ عَنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ بِهِ وَنَشْرَبُ إِلَّا مَا فِي رِكْوَتِكَ، فَوَضْعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، قَالَ: فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا. قِيلَ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5882 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ (يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ) : بِالتَّخْفِيفِ أَفْصَحُ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ) أَيْ: ظَرْفُ مَاءٍ مِنْ مُطَهِّرَةٍ أَوْ سِقَايَةٍ (فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلُ النَّاسُ نَحْوَهُ) ، أَيْ: إِلَى جَانِبِ جَنَابِهِ طَالِبِينَ فَتَحَ الْخَيْرِ مِنْ بَابِهِ (قَالُوا) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءً) : بِالْمَدِّ (نَتَوَضَّأُ بِهِ وَنَشْرَبُ) أَيْ: مِنْهُ (إِلَّا مَا فِي رِكْوَتِكَ) ، أَيْ: مِنَ الْمَاءِ فَمَا مَقْصُورَةٌ مَوْصُولَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَحْتَمِلُ الِاتِّصَالَ وَالِانْقِطَاعَ، ثُمَّ فِي الْقَضِيَّةِ جُمْلَةٌ مَطْوِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِحَسْبِ الْعَادَةِ أَنَّ مَاءَ الرِّكْوَةِ لَمْ يَكْفِ الْجَمَاعَةَ (فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ) ، أَيْ: فِي جَوْفِهَا أَوْ فِي فَمَهَا (فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ) ، أَيِ: الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ صُخُورِ الْجِبَالِ، أَوْ عُرُوقِ الْأَرْضِ. (قَالَ: فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا) أَيْ: جَمِيعُنَا، فَطُوبَى لَهُمْ مِنْ طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْمَاءِ الْمَعِينِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ. (قِيلَ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ) ؟ أَيْ: يَوْمَئِذٍ حَتَّى كَفَاكُمْ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ فِي مَقَامِ الْمُعْجِزَةِ (قَالَ) أَيْ: أَوَّلًا فِي الْجَوَابِ (لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ) أَيْ: مَثَلًا (لَكَفَانَا) : ثُمَّ قَالَ تَتْمِيمًا لِفَصْلِ الْخِطَابِ: (كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً) . قَالَ الطِّيبِيُّ: عَدَلَ عَنِ الظَّاهِرِ لِاحْتِمَالِهِ التَّجَوُّزَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ فِيهِ وَغَلَبَ ظَنُّهُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، وَقَوْلُ الْبَرَاءِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَتْلُو هَذَا الْحَدِيثَ: كُنَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، كَانَ عَنْ تَحْقِيقٍ لِمَا سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ: أَنَّ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعْمِائَةٍ تَحْقِيقًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَهْمٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ: الْجَمْعُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعْمِائَةٍ وَزِيَادَةً لَا تَبْلُغُ الْمِائَةَ، فَالْأَوَّلُ أَلْغَى الْكَسْرَ، وَالثَّانِي جَبَرَهُ، وَمَنْ قَالَ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ، فَعَلَى حَسَبِ اطِّلَاعِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَأَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ، وَكَأَنَّهُ عَلَى ضَمِّ الْأَتْبَاعِ وَالصِّبْيَانِ، وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَهَذَا تَحْرِيرٌ بَالِغٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5883 - «وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً يَوْمَ حُدَيْبِيَةَ - وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ ـ فَنَزَحْنَاهَا، فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَاهَا، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: (دَعُوهَا سَاعَةً) فَأَرْوَوْا أَنْفُسَهُمْ وَرِكَابَهُمْ حَتَّى ارْتَحَلُوا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5883 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (فَنَزَحْنَاهَا) أَيْ: نَزَعْنَا مَاءَهَا (فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: خَبَرُ نَفَادِ مَائِهَا (فَأَتَاهَا، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهِ) ، أَيْ: طَرَفُهَا (ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ) أَيْ: مَجَّهُ فِيهَا. (ثُمَّ قَالَ: دَعُوهَا) أَيِ: اتْرُكُوهَا (سَاعَةً) : لَعَلَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ وَقَعَتْ تَدْرِيجِيَّةً، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا السَّاعَةُ النُّجُومِيَّةُ اللُّغَوِيَّةُ، أَوِ الْمَدَّةُ الْقَلِيلَةُ بِحَسْبِ الْإِطْلَاقَاتِ الْعُرْفِيَّةِ (فَأَرْوَوْا) أَيِ: اسْقُوا سَقْيًا كَامِلًا (أَنْفُسَهُمْ وَرِكَابَهُمْ) أَيْ: إِبِلَهُمْ أَوْ مَرْكُوبَهُمْ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ (حَتَّى ارْتَحَلُوا) . أَيْ: سَافَرُوا عَنْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَضِيَّةَ جَابِرٍ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مُتَكَرِّرَةٌ، وَالْعَجَبُ مِنَ النَّاسِ عُمُومًا وَخُصُوصًا أَنَّهُمْ مَا ضَبَطُوا هَذِهِ الْبِئْرَ، وَلَا جَعَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِنَاءِ الْكَبِيرِ رَجَاءً لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ، مَعَ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ عَلَى طَرَفٍ حِدَّةٍ فِي طَرِيقِ جَدَّةَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5884 - وَعَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَلَ، فَدَعَا فُلَانًا - كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ وَنَسِيَهُ عَوْفٌ - وَدَعَا عَلِيًّا، فَقَالَ: (اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ) . فَانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ. فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، وَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنَاءٍ، فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: اسْقُوا، فَاسْتَقَوْا قَالَ: فَشَرِبْنَا عِطَاشًا أَرْبَعِينَ رَجُلًا، حَتَّى رَوِينَا، فَمَلَأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا وَإِدَاوَةٍ، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَقْلَعَ عَنْهَا وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5884 - (وَعَنْ عَوْفٍ) ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ وَلَعَلَّهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (عَنْ أَبِي رَجَاءٍ) هُوَ عِمْرَانُ بْنُ تَمِيمٍ الْعُطَارِدِيُّ، أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، كَانَ عَالِمًا عَامِلًا مُعَمَّرًا، وَكَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ. (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ الْعَطَشَ، فَنَزَلَ فَدَعَا فُلَانًا) أَيْ: شَخْصًا مَعْرُوفًا (كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ وَنَسِيَهُ عَوْفٌ) أَيْ: فَعَبَّرَ عَنْهُ بِفُلَانًا (وَدَعَا عَلِيًّا) ، أَيْ: أَيْضًا (فَقَالَ: اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ) أَيْ: فَاطْلُبَاهُ (فَانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مُزَادَتَيْنِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: رَاكِبَةٌ بَيْنَ رَاوِيَتَيْنِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ لِمَا يُوضَعُ فِيهِ الزَّادُ، (أَوْ سَطِيحَتَيْنِ) : قَالَ الْقَاضِي: وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْمَزَادَةِ يَكُونُ مِنْ جِلْدَيْنِ قُوبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَسُطِحَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: هِيَ أَصْغَرُ مِنَ الْمَزَادَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ: (مِنْ مَاءٍ) . بَيَانٌ لِمَا فِيهِمَا (فَجَاءَ أَيِ: الصَّحَابِيَّانِ (بِهَا) أَيْ: بِالْمَرْأَةِ وَمَا مَعَهَا (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَرْأَةِ أَيْ: طَلَبُوا مِنْهَا أَنْ تَنْزِلَ عَنِ الْبَعِيرِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْمَزَادَةِ بِمَعْنَى أَنْزِلُوهَا، وَاسْتَنْزَلَ وَأَنْزَلَ بِمَعْنًى (وَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنَاءٍ) أَيْ: طَلَبَهُ (فَفَرَّغَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: صَبَّ (فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ) ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِهَا عِنْدَ الرَّاوِي (وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: أَسْقُوا) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ وَقِيلَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ أَيِ: اسْقُوا أَنْفُسَكُمْ وَغَيْرَكُمْ، وَالْمَعْنَى خُذُوا الْمَاءَ قَدَرَ حَاجَتِكُمْ (فَاسْتَقَوْا) أَيْ: فَأَخَذُوا الْمَاءَ جَمِيعُهُمْ. (قَالَ) أَيْ: عِمْرَانُ (فَشَرِبْنَا عِطَاشًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ عَطْشَانَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ شَرِبْنَا (أَرْبَعِينَ رَجُلًا) : بَيَانٌ لَهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ شَارِحٌ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ عِطَاشًا أَوْ شَرِبْنَا (حَتَّى رَوِينَا) ، بِكَسْرِ الْوَاوِ (فَمَلَأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ) : مَعَنَا (وَايْمُ اللَّهِ) أَيْ: وَايْمُنُ اللَّهِ قَسَمِي لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: انْكَفَتِ الْجَمَاعَةُ عَنْ تِلْكَ الْمَزَادَةِ وَرَجَعُوا عَنْهَا (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَيُخَيَّلُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: لَيُشَبَّهُ (إِلَيْنَا أَنَّهَا) أَيْ: تِلْكَ الْمَزَادَةُ (أَشَدُّ مِلْئَةً) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيُفْتَحُ وَسُكُونِ اللَّامِ فِعْلَةٌ مِنَ الْمَلْءِ مَصْدَرُ مَلَأْتُ الْإِنَاءَ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْمَزَادَةِ (حِينَ ابْتَدَأَ) . أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآخِذُ مِنْهَا. وَفِي نُسْخَةٍ: ابْتُدِئَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: الِاسْتِقَاءُ وَالشُّرْبُ مِنْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا حِينَئِذٍ كَانَتْ أَكْثَرَ مَاءً تِلْكَ السَّاعَةَ الَّتِي اسْتَقَوْا مِنْهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5885 - «وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، وَإِذَا شَجَرَتَيْنِ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: (انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: (انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) . فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا قَالَ: (الْتَئِمَا عَلَيَّ، بِإِذْنِ اللَّهِ) . فَالْتَأَمَتَا، فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ، فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْبِلًا، وَإِذَا الشَّجَرَتَيْنِ قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5885 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ) أَيْ: وَاسِعًا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي حَاجَتَهُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، وَإِذَا شَجَرَتَيْنِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بِالنَّصْبِ كَذَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، وَأَكْثَرُ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا شَجَرَتَانِ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ مُغَيَّرٌ، فَتَقْدِيرُ النَّصْبِ فَوَجَدَ شَجَرَتَيْنِ نَابِتَتَيْنِ (بِشَاطِئِ الْوَادِي) أَيْ: بِطَرَفِهِ. وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ، وَرُوِيَ شَجَرَتَيْنِ بِإِضْمَارِ رَأَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِشَجَرَتَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، (فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنَيْنِ مِنْ أَغْصَانِهِ فَقَالَ: انْقَادِي عَلَيَّ) أَيْ: لِلتَّسَتُّرِ عَلَيَّ (بِإِذْنِ اللَّهِ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَا تَعْصَيْ عَلَيَّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] أَيْ: لِمَ

تَخَافُنَا عَلَيْهِ. (فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ) : وَهُوَ الَّذِي فِي أَنْفِهِ الْخِشَاشِ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ عُوَيْدَةٌ تُجْعَلُ فِي أَنْفِ الْبَعِيرِ، لِيَكُونَ أَسْرَعَ إِلَى الِانْقِيَادِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ) ، قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ أَيْ: يَنْقَادُ لَهُ وَيُرَافِقُهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْمُصَانَعَةِ الرِّشْوَةُ وَهِيَ أَنْ تَصْنَعَ لِصَاحِبِكَ شَيْئًا لِيَصْنَعَ لَكَ شَيْئًا. (حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ) : هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ نِصْفُ الطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَوْضِعُ الْوَسَطُ مِمَّا بَيْنَهُمَا (قَالَ: الْتَئِمَا) أَيْ: تَقَارَبَا (عَلَيَّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ حَالٌ أَيِ: اجْتَمِعَا مُظِلَّتَيْنِ عَلَيَّ (بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْتَأَمَتَا) أَيْ: حَتَّى قَضَى الْحَاجَةَ بَيْنَهُمَا (قَالَ جَابِرٍ: فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي) أَيْ: بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ (فَحَانَتْ) أَيْ: فَظَهَرَتْ (مِنِّي لَفْتَةٌ) ، أَيِ: الْتِفَاتَةٌ (فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْبِلًا) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ حَانَ إِذَا أَتَى وَقْتُ الشَّيْءِ، وَاللَّفْتَةُ فَعْلَةٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ، (وَإِذَا الشَّجَرَتَيْنِ) أَيْ: وَجَدْتُهُمَا أَوْ رَأَيْتُهُمَا (قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ) . أَيْ: وَقَفَتْ بِانْفِرَادِهَا فِي مَكَانِهَا، فَفِيهِ مُعْجِزَتَانِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5886 - «وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٌ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ؟ قَالَ: ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ فَأَتَيْتُ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5886 - (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) : هُوَ شَيْخُ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، رَوَى الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْهُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْمَكِّيِّ، وَلِلْبُخَارِيِّ ثُلَاثِيَّاتٍ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَوْلَى سَلَمَةَ، رَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ. (قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٌ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ؟ قَالَ: ضَرْبَةٌ) أَيْ: هِيَ ضَرْبَةٌ (أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ أَصَابَتْنِيهِمَا أَيِ: السَّاقُ، وَفِي نُسْخَةٍ أَصَابَتْهَا، وَفِي نُسْخَةٍ أُصِبْتُهَا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ) أَيْ: مَاتَ لِشِدَّةِ أَثَرِهَا (فَأَتَيْتُ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَفَثَ فِيهِ) أَيْ: فِي مَوْضِعِ الضَّرْبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا أَيْ: فِي نَفْسِ الضَّرْبَةِ أَوْ فِي السَّاقِ (ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ) : بِالْجَرِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: السَّاعَةُ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ بِالْجَرِّ عَلَى خِلَافِ مَا جَعَلَهُ الْكِرْمَانِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَلْزَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ الِاشْتِكَاءُ مِنَ الْحِكَايَةِ، وَأَجَابَ: بِأَنَّ السَّاعَةَ مَنْصُوبٌ، وَحَتَّى لِلْعَطْفِ، فَالْمَعْطُوفُ دَاخِلٌ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَيْ: مَا اشْتَكَيْتُهَا زَمَانًا حَتَّى السَّاعَةَ نَحْوَ: أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا، قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا وَجَدْتُ أَثَرَ وَجَعٍ إِلَى الْآنَ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا أَدْرِي أَجِدُهُ أَمْ لَا؟ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَهَا خِلَافُ مَا قَبْلَهَا، أَوِ الْمُرَادُ نَفْيُ الشِّكَايَةِ بِآكَدَ، وُجِدَ بِأَنَّ مُرَادَهُ مَا وَجَدْتُ وَجَعًا إِلَى الْآنَ، فَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ وَجَعٌ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يُوجَدَ وَجَعٌ بَعْدَ مُدَّةٍ مَضَتْ مِنْ بُرْئِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.

5887 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَعَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ فَقَالَ: (أَخْذَ الرَّايَةَ زِيدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ـ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ـ حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ - يَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدَ - حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5887 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَعَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدًا» ) أَيْ: زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ (وَجَعْفَرًا) أَيِ: ابْنَ أَبِي طَالِبٍ (وَابْنَ رَوَاحَةَ) أَيْ: أَخْبَرَ بِمَوْتِهِمْ لِلنَّاسِ فِيهِ جَوَازُ النَّعْيِ (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ) ، أَيْ: فَكَانَ مُعْجِزَةً (وَقَدْ كَانُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا مُؤْتَةُ) : بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ فَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَالرُّومُ مَعَ هِرَقْلَ مِائَةَ أَلْفٍ، (فَقَالَ) : تَفْسِيرٌ وَتَفْصِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ أَيْ: فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَخَذَ الرَّايَةَ) أَيِ: الْعَلَمَ (زَيْدٌ) : إِذِ الْعَادَةُ أَنْ يَأْخُذَهُ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ (فَأُصِيبَ) أَيِ: اسْتُشْهِدَ (ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ) أَيِ: الرَّايَةَ (فَأُصِيبَ) أَيْ: عَلَى تَفْصِيلٍ مَشْهُورٍ (ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ.

تَسِيلَانِ دَمْعًا لِلثَّلَاثَةِ مِنْ خَبَرِ مَوْتِهِمْ (حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ) أَيْ: شَجِيعٌ مِنْ شُجْعَانِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُعَدُّ أَلْفًا، وَانْقَطَعَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةُ أَسْيَافٍ، وَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ (يَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ) : تَفْسِيرٌ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ أَوْ مَنْ بَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى يُرِيدُ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَصْفِ السَّابِقِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ. (حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أَيْ: فِي يَدِهِ وَزَمَانِ إِمَارَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ قِتَالٌ فِيهِ هَزِيمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ حَتَّى رَجَعُوا غَانِمِينَ ; أَوِ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ حِيَازَةُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى رَجَعُوا سَالِمِينَ؟ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5888 - «وَعَنْ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَيْ عَبَّاسُ! نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ) . فَقَالَ عَبَّاسٌ - وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا - فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا. فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ. فَقَالَ: هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ. ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ، فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: (انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ) فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5888 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قِيلَ: غَزْوَةُ حُنَيْنٍ، كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَحُنَيْنٌ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَرَاءَ عَرَفَاتٍ، (فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ) ، أَيْ: وَوَقَعَ الْقِتَالُ الشَّدِيدُ فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَلَّى الْمُسْلِمُونَ) أَيْ: بَعْضُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (مُدْبِرِينَ) أَيْ: لَكِنْ مُقْبِلِينَ إِلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ (فَطَفِقَ) أَيْ: شَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْكُضُ) : بِضَمِّ الْكَافِ أَيْ: يُحَرِّكُ بِرِجْلِهِ (بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: إِلَى جِهَتِهِمْ وَقَابِلَتِهِمْ. قَالَ الْأَكْمَلُ: بَغْلَتُهُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: دُلْدُلُ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ، فَفِيهِ قَبُولُ هَدِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ، وَوَرَدَ أَنَّهُ رَدَّ بَعْضَ الْهَدَايَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقِيلَ: قَبُولُ الْهَدِيَّةِ نَاسِخٌ لِلرَّدِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا نَسْخَ، وَإِنَّمَا قَبِلَ مِمَّنْ طَمِعَ فِي إِسْلَامِهِ، وَيَرْجُو مِنْهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَرَدَّ مِمَّنْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. (وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكُفُّ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: أَمْنَعُهَا وَعِلَّةُ مَنْعِهَا (إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ) ، أَيِ: الْبَغْلَةُ إِلَى جَانِبِ الْعَدُوِّ (وَأَبُو سُفْيَانَ) : قِيلَ: اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (آخِذٌ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: مَاسِكٌ (بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: تَأَدُّبًا وَمُحَافَظَةً (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْ: عَبَّاسُ) أَيْ: يَا عَبَّاسُ (نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ، وَهِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي بَايَعُوا تَحْتَهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ (فَقَالَ عَبَّاسٌ - وَكَانَ) أَيِ: الْعَبَّاسُ (- رَجُلًا صَيِّتًا -) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مِنْ كَلَامِ رَاوِي الْعَبَّاسِ بَعْدَهُ، وَالصَّيِّتُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: قَوِيُّ الصَّوْتِ، وَأَصْلُهُ صَيْوِتٌ وَإِعْلَالُهُ إِعْلَالُ سَيِّدٍ (فَقُلْتُ) أَيْ: فَنَادَيْتُ (بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ) أَيْ: لَا تَنْسَوْا بَيْعَتَكُمُ الْوَاقِعَةَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّمَرَةِ (فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (عَطْفَتَهُمْ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: رَجْعَتَهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ لَكَأَنْ بِالتَّخْفِيفِ وَعَطْفَتُهُمْ بِالرَّفْعِ (حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْأَوَّلِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الثَّانِي (عَلَى أَوْلَادِهَا) : فِي نُسْخَةٍ أَوْلَادِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ (فَقَالُوا) أَيْ: بِأَجْمَعِهِمْ أَوْ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ (يَا لَبَّيْكَ) : الْمُنَادَى مَحْذُوفٌ أَيْ: يَا قَوْمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَا يَا اسْجُدُوا) عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ (يَا لَبَّيْكَ) : التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ أَوِ التَّكْثِيرِ (قَالَ عَبَّاسٌ: فَاقْتَتَلُوا) أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (وَالْكُفَّارَ) ، بِالنَّصْبِ أَيْ: مَعَهُمْ (وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ) أَيْ: وَالنِّدَاءُ فِي حَقِّ الْأَنْصَارِ بِخُصُوصِهِمْ بَدَلَ مَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْمُهَاجِرِينَ بِحَسَبِ تَغْلِيبِهِمْ، (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ) فَأُطْلِقَ الْفِعْلُ، وَأُرِيدَ الْمَصْدَرُ عَلَى طَرِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} [الروم: 24] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: " أَحْضُرَ الْوَغَى " " وَتَسْمَعُ بِالْمُعِيدِيِّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(قَالَ) أَيِ: الْعَبَّاسُ (ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: اقْتَصَرَتْ وَانْحَصَرَتْ (عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) أَيْ: فَنُودِيَ: يَا بَنِي الْحَارِثِ، وَهُمْ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ (فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ) : الْوَاوُ حَالٌ أَيْ: نَظَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ كَوْنِهِ عَلَى بَغْلَتِهِ وَقَوْلُهُ: (كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ، عَلَى بَغْلَتِهِ أَيْ: كَالْقَالِبِ الْقَادِرِ عَلَى سَوْقِهَا، وَقِيلَ: كَالَّذِي يَمُدُّ عُنُقَهُ لِيَنْظُرَ إِلَى مَا هُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ. (مَائِلًا إِلَى قِتَالِهِمْ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنَظَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا يُشْعِرُ أَنَّ نُسْخَتَهُ فِيهَا بَعْضُ اخْتِصَارٍ مُخِلٍّ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْمَصَابِيحِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (هَذَا حِينَ) : بِالْفَتْحِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِّ (حَمِيَ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الْوَطِيسُ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى الْقِتَالِ، وَحِينَ بِالْفَتْحِ ظَرْفٌ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى وَقْتِ الْقِتَالِ، وَحِينُ بِالرَّفْعِ خَبَرُهُ، وَقَالَ الْأَكْمَلُ: يَجُوزُ فِي حِينَ الْفَتْحُ ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَبْنِيٍّ، وَالضَّمُّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَحِينَ مَبْنِيٌّ ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ مُتَعَلِّقٍ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَيْ: هَذَا الْقِتَالُ حِينَ اشْتَدَّ الْحَرْبُ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَاسْتِعْظَامِ الْحَرْبِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ مَا قِيلَ أَنَّ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَحِينَ خَبَرُهُ، وَبُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَةٍ إِلَى الْفِعْلِ أَيْ: هَذَا الزَّمَانُ زَمَانٌ اشْتِدَادِ الْحَرْبِ، ثُمَّ الْوَطِيسُ شِدَّةُ التَّنُّورِ، أَوِ التَّنُّورُ نَفْسُهُ يُضْرَبُ مَثَلًا لِشِدَّةِ الْحَرْبِ الَّتِي يُشْبِهُ حَرُّهَا حَرَّهُ، وَفِي النِّهَايَةِ الْوَطِيسُ: شِبْهُ التَّنُّورِ، وَقِيلَ: هُوَ الضِّرَابُ فِي الْحَرْبِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَطْءُ الَّذِي يَطِيسُ النَّاسَ أَيْ: يَدُقُّهُمْ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ حِجَارَةٌ مُدَوَّرَةٌ إِذَا حَمِيَتْ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ يَطَؤُهَا، وَلَمْ يُسْمَعْ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ اشْتِبَاكِ الْحَرْبِ وَقِيَامِهَا عَلَى سَاقٍ. (ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ) أَيْ: قَائِلًا: (شَاهَتِ الْوُجُوهُ شَاهَتِ الْوُجُوهُ) . (ثُمَّ قَالَ) . أَيْ: تَفَاؤُلًا أَوْ إِخْبَارًا (انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ. فَوَاللَّهِ مَا هُوَ) أَيْ: لَيْسَ انْهِزَامُ الْكُفَّارِ (إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ) أَيْ: سِوَى رَمْيِهِمْ (بِحَصَيَاتِهِ) ، أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ بِالْقِتَالِ وَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ وَالطِّعَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عِبَارَةً عَنِ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ وَيَكُونَ هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، (فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ) أَيْ: بَأْسَهُمْ وَحِدَّتَهُمْ وَسُيُوفَهُمْ وَشِدَّتَهُمْ (كَلِيلًا) أَيْ: ضَعِيفًا (وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا) . أَيْ: وَحَالَهُمْ ذَلِيلًا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ مُعْجِزَتَانِ ظَاهِرَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِحْدَاهُمَا فِعْلِيَّةٌ، وَالْأُخْرَى خَبَرِيَّةٌ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِهَزِيمَتِهِمْ وَرَمَاهُمْ بِالْحَصَيَاتِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

5889 - وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ: يَا أَبَا عُمَارَةَ! فَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كَثِيرُ سِلَاحٍ، فَلَقَوْا قَوْمًا رُمَاةً لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُهُ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، وَقَالَ: (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ) ثُمَّ صَفَّهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5889 - (وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، رَأَى عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا، وَسَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ الْأَرْقَمِ. رَوَى عَنْهُ الْأَعْمَشُ، وَشُعْبَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الرِّوَايَةِ. (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ) : جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مِنْ قَيْسٍ لَكِنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ (لِلْبَرَاءِ: يَا أَبَا عُمَارَةَ) بِضَمٍّ فَتَخْفِيفٍ (فَرَرْتُمْ) أَيْ: أَفَرَرْتُمْ كَمَا فِي الشَّمَائِلِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ (يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: لَا حَقِيقَةً وَلَا صُورَةً، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ تَغْيِيرِ فَرَّ إِلَى وَلَّى حُسْنُ عِبَارَةٍ (وَلَكِنْ خَرَجَ) أَيْ: إِلَى الْعَدُوِّ (شُبَّانُ أَصْحَابِهِ) : بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّبَابِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ وَقَارٌ وَرَأْيٌ عَلَيْهِ مَدَارٌ، وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الشَّمَائِلِ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ مِنَ النَّاسِ أَيِ: الَّذِينَ يَتَسَارَعُونَ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَمَعْرِفَةٍ كَامِلَةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (لَيْسَ عَلَيْهِمْ كَثِيرُ سِلَاحٍ، فَلَقَوْا قَوْمًا رُمَاةً) أَيْ: تَلَقَّتْهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ (لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ عَلَى الْأَرْضِ، فَرَشَقُوهُمْ) أَيْ: فَرَمَوْهُمْ رَشْقًا (مَا كَانُوا يُخْطِئُونَ) ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا

الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَهُ الْبَرَاءُ مِنْ بَدِيعِ الْأَدَبِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ فَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ، فَيَقْتَضِي أَنَّ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْبَرَاءُ: لَا وَاللَّهِ مَا فَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَرَى لَهُمْ كَذَا وَكَذَا، (فَأَقْبَلُوا) أَيِ: الشُّبَّانُ (هُنَاكَ) أَيْ: ذَلِكَ الزَّمَانُ أَوِ الْمَكَانُ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: مُتَحَيِّزِينَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ هَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمُ الْفِرَارُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] قَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنَا فِئَتُكُمْ) . فَإِنْ قُلْتَ: ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَأَقْبَلُوا، فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ لَهُ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَعَ لَهُمْ صُورَةُ الْإِدْبَارِ، ثُمَّ بَعْدَ تَوَجُّهِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ وَمُنَادَاتِهِمْ بِصِيَاحِ الْعَبَّاسِ حَصَلَ لَهُمْ سَعَادَةُ الْإِقْبَالِ، وَدَوْلَةُ الِاتِّصَالِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ صُورَةِ الْفِرَارِ إِلَى سِيرَةِ الْقَرَارِ. (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدُوسٍ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي رَكِبَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ هِيَ: (دُلْدُلُ) وَكَانَتْ شَهْبَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ، يَعْنِي: صَاحِبَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَأَمَّا الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ يُقَالُ لَهَا: فِضَّةُ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ، وَذَكَرَ عَكْسَهُ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي مُسْلِمٍ. (وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُهُ) أَيْ: يَمْشِي قُدَّامَهُ، أَوْ يَقُودُ بَغْلَتَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ بِتَأْوِيلِ الْمَرْكُوبِ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ آخِذًا بِاللِّجَامِ، وَأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ آخِذًا بِالرِّكَابِ، لَكِنْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنَاوُبِ، أَوْ عَلَى تِلْكَ أَنَّ الْحَالَ لِشِدَّتِهَا احْتَاجَ إِلَى اثْنَيْنِ. (فَنَزَلَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَاسْتَنْصَرَ) أَيْ: طَلَبَ النَّصْرَ وَالْفَتْحَ لِأُمَّتِهِ كَمَا يَأْتِي تَتِمَّةُ قِصَّتِهِ (وَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ: ( «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» ) : بِسُكُونِ الْبَاءِ فِيهِمَا عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ فِي السَّجْعِ وَالنَّظْمِ، وَإِنَّمَا صَدَرَ هَذَا مِنْ مِشْكَاةِ صَدْرِ النُّبُوَّةِ مُسْتَقِيمًا عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ الْمَوْزُونِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ مِنْهُ، فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ شِعْرًا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالَ: الرِّوَايَةُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِالْخَفْضِ حِرْصًا عَلَى تَغْيِيرِ الرِّوَايَةِ لِيَسْتَغْنِيَ عَنِ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الرَّجَزِ الَّذِي جَرَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَوْقَاتِهِ، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَمْ يُعَلَّمِ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ وَإِنِ اسْتَوَى عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ إِذًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّعْرَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ صُدُورُهُ عَنْ نِيَّةٍ لَهُ وَرَوِيَّةٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّفَاقُ كَلَامٍ أَحْيَانًا فَيَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ عَلَى بَعْضِ أَعَارِيضِ الشِّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَسَبَ نَفْسَهُ إِلَى جَدِّهِ دُونَ أَبِيهِ، وَافْتَخَرَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الِافْتِخَارَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ ; فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ شُهْرَتُهُ بِجَدِّهِ أَكْثَرَ، لِأَنَّ أَبَاهُ قَدْ تُوُفِّيَ شَابًّا قَبْلَ اشْتِهَارِهِ، وَكَانَ جَدُّهُ مَشْهُورًا شُهْرَةً ظَاهِرَةً شَائِعَةً، وَكَانَ سَيِّدَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ مُشْتَهِرًا عِنْدَهُمْ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ سَيَظْهَرُ، وَيَكُونُ شَأْنُهُ عَظِيمًا، وَكَانَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ، يَعْنِي: وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُهَّانِ، وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ رَأَى رُؤْيَا تَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِذَلِكَ، وَيُنَبِّهَهُمْ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُ لِتَقْوَى نُفُوسُهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَيْضًا أَنَّهُ ثَابِتٌ يُلَازِمُ الْحَرْبَ لَمْ يُوَلِّ مَعَ مَنْ وَلَّى، وَعَرَّفَهُمْ مَوْضِعَهُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ الرَّاجِعُونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، فَمَعْنَاهُ أَنَا النَّبِيُّ حَقًّا، فَلَا أَفِرُّ، وَلَا أَزُولُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ فِي الْحَرْبِ: أَنَا فُلَانٌ، أَوْ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ، يَعْنِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَةِ إِظْهَارُهُ لِلشَّجَاعَةِ، فَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. (ثُمَّ) أَيْ: بَعْدَمَا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ، وَرَجَعَ الشُّبَّانُ الْمُسْرِعُونَ (صَفَّهُمْ) أَيْ: جَعَلَهُمْ صَافِّينَ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ) أَيْ: فَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي مُؤَدَّاهُ.

5890 - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا، «قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِيهِ، يَعْنِي: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5890 - (وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ) أَيِ: اشْتَدَّ الْحَرْبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَوْتٌ أَحْمَرُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: احْمِرَارُ الْبَأْسِ كِنَايَةٌ عَنِ اشْتِدَادِ الْحَرْبِ، فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِحُمْرَةِ الدِّمَاءِ الْحَاصِلَةِ، أَوْ لِإِسْعَارِ نَارِ الْحَرْبِ وَاشْتِعَالِهَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: حَمِيَ الْوَطِيسُ (نَتَّقِي بِهِ) ، أَيْ نَلْتَجِئُ إِلَيْهِ، وَنَطْلُبُ الْخَلَاصَ بِسَبَبِهِ (وَإِنَّ الشُّجَاعَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيِ: الْبَلِيغَ فِي الشَّجَاعَةِ (مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِيهِ) ، أَيْ: يُوَازِيهِ وَيُحَاذِي مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْدِرْ حِينَئِذٍ عَلَى التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَبَانًا فَيَفِرَّ عَنْهُ، أَوْ شَجِيعًا فَيَعُوذَ لَهُ وَيَلُوذَ إِلَيْهِ. (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ الْبَرَاءُ بِالضَّمِيرَيْنِ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وَفِيهِ بَيَانُ شَجَاعَتِهِ وَعَظِيمُ وُثُوقِهِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ.

5891 - «وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُنَيْنًا، فَوَلَّى صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: (شَاهَتِ الْوُجُوهُ) ، فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5891 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَ: غَزَوْنَا) أَيِ: الْكُفَّارَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُنَيْنًا) ، أَيْ: يَوْمَ حُنَيْنٍ (فَوَلَّى صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: بَعْضُهُمْ (فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : عَلَى زِنَةِ رَضُوا، وَالضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ أَيْ: لَمَّا قَارَبُوا غَشَيَانَهُ (نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ) أَيْ: بِالتُّرَابِ (رَامِيًا وُجُوهَهُمْ. فَقَالَ) أَيْ: دُعَاءً أَوْ خَبَرًا (شَاهَتِ الْوُجُوهُ) ، أَيْ: تَغَيَّرَتْ وَقُبِّحَتْ (فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا) أَيْ: فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ (إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ) ، وَالتَّعْبِيرُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ وَتَقْرِيرِ الْحَصْرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ بَيَانُ الْمُعْجِزَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِيصَالُ تُرَابِ تِلْكَ الْقَبْضَةِ إِلَى أَعْيُنِهِمْ جَمِيعًا. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا بِحَيْثُ مَلَأَتْ عَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ الْيَسِيرَةِ وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيمَنْ ضَامَّهُمْ مِنْ إِمْدَادِ سَائِرِ الْعَرَبِ. قُلْتُ: وَالثَّالِثُ انْهِزَامُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ) : حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ أَوْ مُقَيِّدَةٌ أَيْ: غَيْرَ رَاجِعِينَ (فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ) أَيْ: وَنَصَرَ رَسُولَهُ وَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ عِزِّ الْجَاهِ وَحُسْنِ الْحَالِ وَغَنِيمَةِ الْمَالِ، وَلِذَا قَالَ: (وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5892 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُنَيْنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ فَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ فَقَالَ: (أَمَّا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ. الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ، قَدِ انْتَحَرَ فُلَانٌ وَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) » رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5892 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْنَا) أَيْ: حَضَرْنَا (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُنَيْنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ) أَيْ: فِي حَقِّهِ وَشَأْنِهِ (مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اسْمُ الرَّجُلِ قَرْمَانُ قَالَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) : مَقُولٌ لِلْقَوْلِ (فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ) ، أَيْ: وَقْتُهُ (قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ) ، بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ الْجِرَاحَةِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (فَجَاءَ رَجُلٌ) أَيْ: مُتَعَجِّبًا (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ) أَيْ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِ مَنْ أَخْبَرْتَ (عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ فَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ) ؟ أَيْ: وَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ (فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) أَيِ: الْقَوْلُ مَا قُلْتُ لَكَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَكَ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِصُورَةِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ عَلَى حُسْنِ الْأَحْوَالِ وَخَاتِمَةِ الْآمَالِ (فَكَادَ) أَيْ: قَرُبَ (بَعْضُ النَّاسِ) أَيْ: بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَهُ ضَعْفٌ فِي الدِّينِ، وَقِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِعِلْمِ الْيَقِينِ (يَرْتَابُ) أَيْ: يَشُكُّ فِي أَمْرِهِ، لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. (فَبَيْنَمَا هُوَ) أَيِ: الرَّجُلُ (عَلَى ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ مُبْهَمِ الْحَالِ (إِذْ وَجَدَ

الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ) أَيْ: قَصَدَ وَمَالَ (إِلَى كِنَانَتِهِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: إِلَى جُعْبَتِهِ وَهِيَ ظَرْفُ سَهْمِهِ (فَانْتَزَعَ سَهْمًا) أَيْ: فَأَخْرَجَهُ (فَانْتَحَرَ) أَيْ: نَحَرَ نَفْسَهُ (بِهَا) . أَيْ: بِالْمِعْبَلَةِ الَّتِي هِيَ مُرَكَّبَةٌ فِي السَّهْمِ وَهِيَ كَمِكْنَسَةِ نَصْلٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا لِخُبْثِ بَاطِنِهِ، أَوْ فَاسِقًا بِقَتْلِ نَفْسِهِ، (فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: عَدْوًا وَأَسْرَعُوا قَاصِدِينَ وَمُتَوَجِّهِينَ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ) ، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ أَيْ: حَقَّقَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِهَا أَيْ: صَدَقَ اللَّهُ فِي إِخْبَارِكَ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ (قَدِ انْتَحَرَ فُلَانٌ وَقَتَلَ نَفْسَهُ) . عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَبَيَانٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) ، قَالَ شَارِحٌ: هَذَا كَلَامٌ يُقَالُ عِنْدَ الْفَرَحِ فَرِحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ ظَهَرَ صِدْقُهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مُحْتَمِلٌ تَعَجُّبًا وَفَرَحًا لِوُقُوعِ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ، فَعَظَّمَ اللَّهَ تَعَالَى حَمْدًا وَشُكْرًا لِتَصْدِيقِ قَوْلِهِ: وَأَنْ يَكُونَ كَسْرًا لِلنَّفْسِ وَعَجَبِهَا، حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ وَيَنْصُرُهُ قَوْلُهُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ (يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ) أَيْ: فَأَعْلِمِ النَّاسَ ( «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ» ) أَيْ: خَالِصٌ احْتِرَازًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ مُؤْمِنٌ كَامِلٌ، فَالْمُرَادُ دُخُولُهَا مَعَ الْفَائِزِينَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِعَذَابٍ. ( «وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» ) . أَيِ: الْمُنَافِقِ أَوِ الْفَاسِقِ مِمَّنْ يَعْمَلُ رِيَاءً أَوْ يَخْلِطُ بِهِ مَعْصِيَةً، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَمَلًا بِهِ سُوءُ الْخَاتِمَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَالْجُمْلَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً تَحْتَ التَّأْذِينِ، أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْقَائِلِينَ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ مَنْ يُصَنِّفُ أَوْ يُدَرِّسُ أَوْ يُعَلِّمُ أَوْ يَتَعَلَّمُ أَوْ يُؤَذِّنُ أَوْ يَؤُمُّ أَوْ يَأْتَمُّ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، كَمَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ زَاوِيَةً لِغَرَضٍ فَاسِدٍ وَقَصْدٍ كَاسِدٍ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِنِظَامِ الدِّينِ وَقَوَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَصَاحِبُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْرُومِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُخْلِصِينَ بَلْ مِنَ الْمُخْلَصِينَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا مُسْلِمٌ. وَفِي الْجَامِعِ: ( «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ» ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ الْإِسْلَامَ بِرِجَالٍ مَا هُمْ مِنْ أَهْلِهِ» ".

5893 - «وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ. حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدِي، دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ، جَاءَنِي رَجُلَانِ، جَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ. قَالَ: فِي مَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) فَذَهَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ. فَقَالَ: (هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) فَاسْتَخْرَجَهُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5893 - (وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «سُحِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - أَيْ: سَحَرَهُ يَهُودِيٌّ (حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: لَيَظُنُّ (أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ) أَيِ: الْفُلَانِيَّ مَثَلًا (وَمَا فَعَلَهُ) ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ. قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ مِنْ حَيْثُ النِّسْيَانِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ وَمَا فَعَلَهُ، أَوْ أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ وَقَدْ فَعَلَ، وَذَلِكَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا لَا فِي الدِّينِ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهَا مَا تَسْعَى، بَلْ أَنَّهُمْ لَطَّخُوهَا بِالزِّئْبَقِ، فَلَمَّا ضَرَبَتْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ اضْطَرَبَتْ، فَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَتَحَرَّكُ {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يَعْنِي فَأَضْمَرَ فِيهَا خَوْفًا مِنْ مُفَاجَأَتِهِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَقَدْ قُرِئَ: يُخَيِّلُ عَلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ مَنْزِلِ النُّبُوَّةِ لِذَلِكَ، وَأَنَّ تَجَوُّزَهُ يَمْنَعُ الثِّقَةَ بِالشَّرْعِ، وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَالْمُعْجِزَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، وَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ بَاطِلٌ، فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِهَا، فَهُوَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْبَشَرِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُتَخَيَّلُ إِلَيْهِ مَا يُخَيَّلُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ صِحَّتَهُ، وَكَانَتْ مُعْتَقَدَاتُهُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ صِحَّةَ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالدِّينِ، ثُمَّ يُنَبَّهُ عَلَيْهِ، وَيُبَيَّنُ لَهُ صَحِيحُ الِاعْتِقَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68] وَقِيلَ: مَعْنَى لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَيْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ، فَإِذَا دَنَا مِنْهُ أَخَذَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكُلُّ مَا جَاءَ مِنْ أَنَّهُ يُخَيِّلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ، فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّخَيُّلِ بِالْبَصَرِ لَا بِالْعَقْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَطْعَنُ بِالرِّسَالَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَأَمَّا مَا زَعَمُوا مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ فِي الشَّرْعِ بِأَنْبِيَائِهِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا يَعْمَلُ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَهُمْ بَشَرٌ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ مَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي أَبْدَانِهِمْ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقَتْلِ، وَتَأْثِيرُ السُّمِّ وَعَوَارِضِ الْأَسْقَامِ فِيهِمْ، وَقَدْ قُتِلَ زَكَرِيَّا وَابْنُهُ، وَسُمَّ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا أَمْرُ الدِّينِ فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَرْصَدَهُمْ لَهُ، وَهُوَ جَلَّ ذِكْرُهُ حَافِظٌ لِدِينِهِ وَحَارِسٌ لِوَحْيِهِ أَنْ يَلْحَقَهُ فَسَادٌ وَتَبْدِيلٌ بِأَنْ لَا يَطُولَ ذَلِكَ، بَلْ يَزُولَ سَرِيعًا، وَكَأَنَّهُ مَا حَلَّ، وَفَائِدَةُ الْحُلُولِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَعَلَى أَنَّ السِّحْرَ تَأْثِيرُهُ حَقٌّ، فَإِنَّهُ إِذَا أَثَّرَ فِي أَكْمَلِ الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ غَيْرُهُ؟ (حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ) : بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، لَكِنَّ الرَّفْعَ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهَا (عِنْدِي، دَعَا اللَّهُ وَدَعَاهُ) ، كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ أَوِ التَّكْثِيرِ أَيْ: وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَتَى عَقِبَ دُعَائِهِ بِدُعَاءٍ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ، وَحُسْنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. (ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ) أَيْ: أَعَلِمْتِ (يَا عَائِشَةُ! أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي) أَيْ: بَيَّنَ لِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ أَيْ فِيمَا طَلَبْتُ بَيَانَ الْأَمْرِ مِنْهُ، وَكَشْفَهُ عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (جَاءَنِي رَجُلَانِ) أَيْ: مَلَكَانِ عَلَى صُورَةِ رَجُلَيْنِ (جَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ (ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ) ؟ أَيْ مَا سَبَبُ تَعَبِهِ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ وَجَعِهِ (قَالَ: مَطْبُوبٌ) . أَيْ هُوَ مَسْحُورٌ، يُقَالُ: طُبَّ الرَّجُلُ إِذَا سُحِرَ، فَكَنَّوْا بِالطَّبِّ عَنِ السِّحْرِ، كَمَا كَنَّوْا بِالسَّلِيمِ عَلَى اللَّدِيغِ. (قَالَ) أَيِ: الْآخَرُ (وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ) . قِيلَ أَيْ: بَنَاتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] أَيِ النِّسَاءِ أَوِ النُّفُوسِ السَّوَاحِرِ الَّتِي يَعْقِدْنَ عُقَدًا فِي خُيُوطٍ وَيَنْفُثْنَ عَلَيْهَا، وَالنَّفْثُ النَّفْخُ مَعَ رِيقٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَتَخْصِيصُهُ بِالتَّعَوُّذِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ يَهُودِيًّا سَحَرَ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً فِي وَتَرٍ دَسَّهُ فِي بِئْرٍ، فَمَرِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ، وَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِمَوْضِعِ السِّحْرِ، فَأَرْسَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَجَاءَ بِهِ فَقَرَأَهُمَا عَلَيْهِ، فَكَانَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَوَجَدَ بَعْضَ الْخِفَّةِ» ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ صِدْقَ الْكَفَرَةِ فِي أَنَّهُ مَسْحُورٌ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ بِوَاسِطَةِ السِّحْرِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى، فَإِنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوُقُوعِ نَوْعَيْنِ مِنَ السِّحْرِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ. وَإِنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَعَ مِنْ لَبِيدٍ، وَالْآخَرُ مِنْ بَنَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ) أَيِ: الْآخَرُ (فِي مَاذَا) ؟ أَيْ سُحِرَ فِي أَيِّ شَيْءٍ (قَالَ: فِي مُشْطٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمُشْطُ مُثَلَّثَةٌ وَكَكَتِفٍ وَعُنُقٍ وَعُتُلٍّ وَمِنْبَرٍ آلَةٌ يُمْتَشَطُ بِهَا (وَمُشَاطَةٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ مَا سَقَطَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوِ اللِّحْيَةِ عِنْدَ تَسْرِيحِهِ بِالْمُشْطِ (وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ) ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَهُوَ وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ، وَطَلْعَةِ ذَكَرٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَأَرَادَ بِالذَّكَرِ فَحْلَ النَّخْلِ، قِيلَ: وَيُرْوَى جُبِّ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: دَاخِلِ طَلْعَةِ ذَكَرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجُفُّ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْفَاءِ، هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ بِلَادِنَا. وَفِي بَعْضِهَا جُبٌّ بِالْبَاءِ، وَهُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَلِهَذَا أَضَافَ فِي الْحَدِيثِ طَلْعَةَ إِلَى ذَكَرٍ إِضَافَةَ بَيَانٍ. (قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِمَّا سُحِرَ بِهِ (قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) : بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. قَالَ شَارِحٌ: وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ. قِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّ أَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ أَشْهَرُ مِنْ ذَرْوَانَ، وَذَرْوَانُ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ بُنِيَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ، قُلْتُ: فَذَرْوَانُ أَوْفَقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي مُعْظَمِهَا

ذَرْوَانُ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ مَشْهُورٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَجْوَدُ، وَهِيَ بِئْرٌ فِي الْمَدِينَةِ فِي بُسْتَانِ أَبِي زُرَيْقٍ (فَذَهَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُنَاسٍ) أَيْ: مَعَ جَمْعٍ (مِنْ أَصْحَابِهِ) أَيِ: الْمَخْصُوصِينَ (إِلَى الْبِئْرِ: (هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (وَكَأَنَّ) : بِالتَّشْدِيدِ (مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ) ، بِضَمِّ النُّونِ أَيْ: لَوْنُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَاءَهَا مُتَغَيِّرٌ لَوْنُهُ مِثْلُ مَاءٍ نُقِعَ فِيهِ الْحِنَّاءُ وَالنُّقَاعَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَنْقُوعِ. (وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) . قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِالنَّخْلِ طَلْعَ النَّخْلِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَدْفُوعًا فِيهَا، وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ ذَلِكَ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ، فَلِمَا صَادَفُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالنَّفْرَةِ وَقُبْحِ الْمَنْظَرِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعُدُّ صُوَرَ الشَّيَاطِينِ مِنْ أَقْبَحِ الْمَنَاظِرِ ذَهَابًا فِي الصُّورَةِ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالشَّيَاطِينِ الْحَيَّاتُ الْخَبِيثَاتُ الْعُرُمَاتُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِهَذَا الْمَنْظَرِ فِي الْحَدِيثِ مَسُوقٌ عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ فِي التَّمْثِيلِ. قَالَ تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] (فَاسْتَخْرَجَهُ) ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِمَّا سُحِرَ بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5894 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اعْدِلْ. قَالَ: (وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟) قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ) فَقَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ، إِلَى رُصَافِهِ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ، إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ) . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ، فَأُتِيَ بِهِ، نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي نَعَتَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اتَّقِ اللَّهَ. فَقَالَ: (فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ! فَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي) فَسَأَلَ رَجُلٌ قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5894 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ) أَيْ: حَاضِرُونَ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا) : قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: الْقَسْمُ مَصْدَرُ قَسَمْتُ الشَّيْءَ فَانْقَسَمَ سُمِّيَ الشَّيْءُ الْمَقْسُومُ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ بِالْمَصْدَرِ، وَالْقِسْمُ بِالْكَسْرِ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، وَلَا وَجْهَ لِلْمَكْسُورَةِ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَا إِذَا تَفَرَّدَ نَصِيبٌ، وَهَذَا الْقَسْمُ كَانَ فِي غَنَائِمِ خَيْبَرَ قَسَمَهَا بِالْجِعْرَانَةِ. (أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ) : تَصْغِيرُ الْخَاصِرَةِ (وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) : قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ شَهِيرَةٌ وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] فَهُوَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ مِنْ أَصْلِهِ يَخْرُجُ الْخَوَارِجُ، وَأَمَّا قَوْلُ شَارِحٍ: هُوَ رَئِيسُ الْخَوَارِجِ فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ إِذْ أَوَّلُ ظُهُورِهِمْ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اعْدِلْ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّوْرِيَةَ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ النِّفَاقِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْعَدْلِ التَّسْوِيَةُ، أَوْ قِسْمَةُ الْحَقِّ اللَّائِقِ بِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي فِي مُقَابِلِ الظُّلْمِ، لَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِنُورِ النُّبُوَّةِ أَوْ ظُهُورِ الْفِرَاسَةِ أَوْ قَرِينَةِ الْحَالِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي إِعْطَائِهِ يَرَى قَدْرَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ، وَلِأَنَّ التَّسْرِيَةَ فِي مَكَانٍ يَنْبَغِي التَّفَاضُلُ نَوْعٌ مِنَ الظُّلْمِ فَغَضِبَ عَلَيْهِ. (فَقَالَ: وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ. قَدْ خِبْتَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَاءِ الْخِطَابِ أَيْ: حُرِمْتَ الْمَقْصُودَ (وَخَسِرْتَ) : عَلَى الْخِطَابِ أَيْضًا (إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ) : قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا رَدَّ الْخَيْبَةَ وَالْخُسْرَانَ إِلَى الْمُخَاطَبِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ عَدْلٍ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَبَعَثَهُ لِيَقُومَ بِالْعَدْلِ فِيهِمْ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ فَقَدْ خَانَ الْمُعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ، فَخَابَ وَخَسِرَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ فَضْلًا مِنْ أَنْ يُرْسِلَهُمْ إِلَى عِبَادِهِ انْتَهَى. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ ذَلِكَ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يَعْدِلُ فَقَدْ خَابَ الْقَائِلُ وَخَسِرَ بِهَذَا الْحُكْمِ. (فَقَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ) . بِالْجَزْمِ وَجُوِّزَ رَفْعُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ (فَقَالَ: دَعْهُ) ، أَيِ اتْرُكْهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَيْفَ مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهِ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ. قِيلَ: إِنَّمَا أَبَاحَ قَتْلَهُمْ إِذَا كَثُرُوا، وَامْتَنَعُوا بِالسِّلَاحِ، وَاسْتَعْرَضُوا النَّاسَ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةً حِينَ مَنَعَ مِنْ قَتْلِهِمْ، وَأَوَّلُ مَا نَجَمَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمُ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ مَا ذَكَرَهُ الْأَكْمَلُ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حُسْنِ أَخْلَاقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: (اعْدِلْ) . وَفِي رِوَايَةٍ: اتَّقِ اللَّهَ، وَفِي أُخْرَى: إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْقَتْلَ إِذْ فِيهِ النَّقْصُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا لَوْ قَالَهُ أَحَدٌ فِي عَصْرِنَا لَحُكِمَ بِكُفْرِهِ أَوِ ارْتِدَادِهِ انْتَهَى. وَهُوَ لَا يُنَافِي تَعْلِيلَ مَنْعِهِ عَنْ قَتْلِهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا) أَيْ: أَتْبَاعًا سَيُوجَدُونَ

مِنْ نَعْتِهِمْ (أَنَّهُ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ) ، أَيْ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (مَعَ صَلَاتِهِمْ) أَيْ: فِي جَنْبِ صَلَاتِهِمُ الْمُزَيَّنَةِ الْمُحَسَّنَةِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ) ، أَيْ فِي نَوَافِلِ أَيَّامِهِمْ. قَالَ شَارِحٌ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا النَّهْيُ عَلَى إِطْلَاقِهِ (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ: يُدَاوِمُونَ عَلَى تِلَاوَتِهِ، وَيُبَالِغُونَ فِي تَجْوِيدِهِ، وَتَرْتِيلِهِ، وَمُرَاعَاةِ مَخَارِجِ حُرُوفِهِ وَصِفَاتِهِ (لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ لَا يَتَجَاوَزُ مَقْرُوءُهُمْ عَنْ حُلُوقِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ صُعُودِ عَمَلِهِمْ، وَنَفْيِ قَبُولِ قِرَاءَتِهِمْ. قَالَ شَارِحٌ: وَالتَّرَاقِي جَمْعُ تَرْقُوَةٍ، وَهِيَ الْعِظَامُ بَيْنَ نَقْرَةِ الْحَلْقِ وَالْعَاتِقِ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّصُ عَنْ أَلْسِنَتِهِمْ وَآذَانِهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُ قِرَاءَتُهُمْ عَنْ أَلْسِنَتِهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ، فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا، أَوْ لَا تَتَصَاعَدُ مِنْ مَخْرَجِ الْحُرُوفِ وَحَيِّزِ الصَّوْتِ إِلَى مَحَلِّ الْقَبُولِ وَالْإِنَابَةِ (يَمْرُقُونَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: يَخْرُجُونَ (مِنَ الدِّينِ) أَيْ: مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَمُرُّونَ عَلَيْهِ سَرِيعًا مِنْ غَيْرِ حَظٍّ وَانْتِفَاعٍ بِهِ، (كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) ، بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَهِيَ الصَّيْدُ، وَيُقَالُ: مَرَقَ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، أَيْ: خُرُوجُ السَّهْمِ، وَمُرُورُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَتَنَزُّهُهُ عَنِ التَّلَوُّثِ بِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ فَرْثٍ وَدَمٍ. قَالَ شَارِحٌ: شَبَّهَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالرَّمِيَّةِ لِاسْتِحْيَاشِهِمْ عَمَّا يَرْمُونَ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ النَّافِعِ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُشَبَّهَ بِهِ فِي سُرْعَةٍ تُخَلِّصُهُ وَتُنَزِّهُهُ عَنِ التَّلَوُّثِ بِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ فَرْثٍ وَدَمٍ لِيُبَيِّنَ الْمَعْنَى الْمَضْرُوبَ لَهُ بِقَوْلِهِ: (يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (إِلَى رُصَافِهِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَيُكْسَرُ بَدَلٌ وَهُوَ عَصَبٌ يُلْوَى فَوْقَ مَدْخَلِ النَّصْلِ (إِلَى نَضِيِّهِ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ (وَهُوَ قِدْحُهُ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ مَا جَاوَزَ الرِّيشَ إِلَى النَّصْلِ مِنَ النِّضْوِ، لِأَنَّهُ بُرِيَ حَتَّى صَارَ نِضْوًا، فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَهُوَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي تَفْسِيرٌ لِلنِّضِيِّ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (إِلَى قُذَذِهِ) : مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَمْعُ قُذَّةٍ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ رِيشُ السَّهْمِ. قَالَ الْقَاضِي: أَخْرَجَ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ لَا التَّنَسُّقِ (فَلَا يُوجَدُ فِيهِ) أَيْ: فِي السَّهْمِ، أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ (شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، وَالْحَالُ أَنَّ السَّهْمَ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا (قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ) ، أَيْ مَرَّ عَلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى كَمَا نَفَذَ السَّهْمُ فِي الرَّمِيَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّوْثِ وَالدَّمِ، دُخُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ خُرُوجُهُمْ مِنْهُ سَرِيعًا بِحَيْثُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ، هَذَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّصْلِ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ وَالْمُتَأَثِّرُ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى قِبَلِهِ، فَلَا تَجِدُ فِيهِ أَثَرًا مِمَّا شُرِعَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَبِالرُّصَافِ الصَّدْرُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الِانْشِرَاحِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَلَمْ يُشْرَحْ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَثَرُ السَّعَادَةِ، وَبِالنَّضِيِّ الْبَدَنُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَدَنَ وَإِنْ تَحَمَّلَ لِتَكَالِيفِ الشَّرْعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ فَائِدَةٌ وَبِالْقُذَّةِ أَطْرَافُ الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْآلَاتِ لِأَهْلِ الصِّنَاعَاتِ أَيْ: لَنْ يَحْصُلَ لَهُ بِهَا مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ السَّعَادَاتِ، (آيَتُهُمْ) أَيْ: عَلَامَةُ أَصْحَابِهِ الْكَائِنَةُ فِيهِمُ الْكَامِنَةُ مِنْهُمْ (رَجُلٌ أَسْوَدُ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ قِطْعَةِ اللَّحْمِ وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي (تَدَرْدَرُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَجِيءُ وَتَذْهَبُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: تُحَرَّكُ وَتُزَحْزَحُ مَارًّا أَوْ جَائِيًا انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأُصُولُ الْمَضْبُوطَةُ (وَيَخْرُجُونَ) : عَطْفٌ عَلَى يَمْرُقُونَ (عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ) . أَيْ فِي زَمَانِهِمْ (مِنَ النَّاسِ) : يُرِيدُ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ فَعَلَى بِمَعْنَى (فِي) أَيْ: يَظْهَرُونَ فِي حِينِ تَشَتُّتِ أَمْرِ النَّاسِ وَاضْطِرَابِ أَحْوَالِهِمْ وَظُهُورِ الْمُحَارَبَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ (أَشْهَدُ) أَيْ: أَحْلِفُ (أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ) ، أَيْ: فَهُوَ وَمَنْ مَعَهُ خَيْرُ الْفِرْقَةِ (فَأَمَرَ) أَيْ: عَلِيٌّ (بِذَلِكَ الرَّجُلِ) أَيْ: بِطَلَبِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي آيَتُهُمْ وَعَلَامَتُهُمْ (فَالْتُمِسَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَطُلِبَ وَأُخِذَ (فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي نَعَتَهُ) . أَيْ سَابِقًا.

(وَفِي رِوَايَةٍ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: بَدَلَ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ (أَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْغَوْرِ أَيْ: غَارَتْ عَيْنَاهُ وَدَخَلَتَا فِي رَأْسِهِ (نَاتِئُ الْجَبْهَةِ) : بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَهَا هَمْزٌ أَيْ مُرْتَفِعُهَا (كَثُّ اللِّحْيَةِ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ مُثَلَّثَةً أَيْ كَثِيفُهَا (مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ) أَيْ: عَالِي الْخَدَّيْنِ (مَحْلُوقُ الرَّأْسِ) أَيْ: لِادِّعَاءِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي قَطْعِ التَّعَلُّقِ، وَهُوَ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِبْقَاءِ شَعْرِ رَأْسِهِ، وَعَدَمِ حَلْقِهِ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ النُّسُكِ، غَيْرَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْلِقُ كَثِيرًا لِمَا قَدَّمْنَا سَبَبَهُ وَوَجْهَهُ، (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! اتَّقِ اللَّهَ) أَيْ: فِي قَسْمِكَ (فَقَالَ: فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ) أَيْ: يَتَّقِيهِ مِنْ أُمَّتِي (إِذَا عَصَيْتُهُ) أَيْ: مَعَ عِصْمَتِي وَثُبُوتِ نُبُوَّتِي (فَيَأْمَنُنِي اللَّهُ) أَيْ: يَجْعَلُنِي أَمِينًا (عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِّي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ، وَالْخِطَابُ عَلَى وَجْهِ الْعِتَابِ لِذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَقَوْمِهِ (فَسَأَلَهُ رَجُلٌ) : وَهُوَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَبَقَ (قَتْلَهُ) ، أَيْ تَجْوِيزَهُ (فَمَنَعَهُ) ، أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ (فَلَمَّا وَلَّى) أَيِ: الرَّجُلُ (قَالَ: إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا) : بِكَسْرِ مُعْجَمَتَيْنِ وَهَمْزَتَيْنِ يُبْدَلُ أَوَّلُهُمَا أَيْ: مِنْ أَصْلِهِ وَنَسَبِهِ وَعَقِبِهِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَوَلَّدُونَ مِنْهُ، فَقَدْ أَبْعَدَ، إِذْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْخَوَارِجِ قَوْمٌ مِنْ نَسْلِ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الزَّمَانَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْقَوْلَ إِلَى أَنْ نَابَذَ الْمَارِقَةُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَارَبُوهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ فِي النَّسَبِ، أَوْ مِنَ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ. (قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ) أَيْ: مَقْرُوءُهُمْ (حَنَاجِرَهُمْ) أَيْ: ظَوَاهِرَهُمْ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي بَوَاطِنِهِمْ (يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: مِنْ كَمَالِهِ، أَوْ مِنِ انْقِيَادِ الْإِمَامِ. اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ كَفَّرَ الْخَوَارِجَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ هُنَا طَاعَةُ الْإِمَامِ (مُرُوقَ السَّهْمِ) أَيْ: كَخُرُوجِهِ سَرِيعًا (مِنَ الرَّمِيَّةِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ انْتِفَاعٍ بِهَا (فَيَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: لِتَكْفِيرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِسَبَبِ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ (وَيَدَعُونَ) : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: يَتْرُكُونَ (أَهْلَ الْأَوْثَانِ) ، أَيْ: أَهْلَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ (لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) . أَرَادَ بِقَتْلِ عَادٍ اسْتِئْصَالَهُمْ بِالْهَلَاكِ، فَإِنَّ عَادًا لَمْ تُقْتَلْ، وَإِنَّمَا أُهْلِكَتْ بِالرِّيحِ، وَاسْتُؤْصِلَتْ بِالْإِهْلَاكِ. قِيلَ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْقَتْلِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ مِنْ قَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ مَنْعَ قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ لِانْفِرَادِهِ، بَلْ لِسَبَبٍ آخَرَ بَيَانُهُ تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5895 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا، فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ) . فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا صِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٍ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَتْ فَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ خَيْرًا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5895 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ) ، حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى الشِّرْكِ (فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا) أَيْ: إِلَى الْإِسْلَامِ وَمُتَابَعَةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ (فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي حَقِّهِ وَشَأْنِهِ (مَا أَكْرَهُ) أَيْ: شَيْئًا أَكْرَهُهُ مِنَ الْكَلَامِ، أَوْ أَكْرَهُ ذِكْرَهُ بَيْنَ الْأَنَامِ، (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْكِي) أَيْ: مِنَ الْحُزْنِ وَالْغَبْنِ، حَيْثُ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى تَأْدِيبِهَا لِكَوْنِهَا أُمِّي. (قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقُلْتُ: ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا» ) أَيْ: مَسْرُورًا مُنْشَرِحًا (بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا صِرْتُ) أَيْ: وَاصِلًا (إِلَى الْبَابِ) أَيْ: بَابِ أُمِّي (فَإِذَا هُوَ) أَيْ: بَابٌ (مُجَافٍ) ، أَيْ مَرْدُودٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (أَجِيفُوا أَبْوَابَكُمْ) . أَيْ رُدُّوهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ) : بِالتَّثْنِيَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ أَيْ:

صَوْتَهُمَا، وَقِيلَ: حَرَكَتَهُمَا وَحِسَّهُمَا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَيُحَرَّكُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (فَقَالَتْ: مَكَانَكَ) : بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمْهُ (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ) ، أَيْ تَحْرِيكَهُ، وَقِيلَ: صَوْتُهُ (فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ قَمِيصَهَا (وَعَجِلَتْ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ (عَنْ خِمَارِهَا) ، أَيْ: تَرَكَتْ خِمَارَهَا مِنَ الْعَجَلَةِ يُقَالُ: عَجِلْتُ عَنْهُ تَرَكْتُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا بَادَرَتْ إِلَى فَتْحِ الْبَابِ بَعْدَ لَبْسِهَا الثِّيَابَ قَبْلَ أَنْ تَلْبَسَ خِمَارَهَا، وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَ الطِّيبِيُّ: عَجَّلَتِ الْفَتْحَ مُتَجَاوِزَةً عَنْ خِمَارِهَا (فَفَتَحَتِ الْبَابَ) ، أَيْ بَعْدَ مَا وَقَعَ عَلَيْهَا النِّقَابُ وَرُفِعَ عَنْهَا الْحِجَابُ ( «ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ خَيْرًا» ) . أَيْ قَوْلًا خَيْرًا، أَوْ كَلَامًا يَتَضَمَّنُ خَيْرًا، أَوِ التَّقْدِيرُ: وَصَلْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ خَيْرًا بِإِسْلَامِ أُمِّكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5896 - وَعَنْهُ، قَالَ: «إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفِقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَلْءِ بَطْنِي، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا: (لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شَيْئًا أَبَدًا) . فَبَسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرَهَا حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَالَتَهُ، ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتِهِ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5896 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: إِنَّكُمْ) أَيْ: مَعْشَرَ التَّابِعِينَ، وَقِيلَ الْخِطَابُ مَعَ الصَّحَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ (تَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ) ، أَيِ الرِّوَايَةِ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ) أَيْ: مَوْعِدُنَا، فَيَظْهَرُ عِنْدَهُ صِدْقُ الصَّادِقِ وَكَذِبُ الْكَاذِبِ، لِأَنَّ الْأَسْرَارَ تَنْكَشِفُ هُنَالِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لِقَاءُ اللَّهِ الْمَوْعِدُ، وَيَعْنِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ يُحَاسِبُنِي عَلَى مَا أَزِيدُ وَأَنْقُصُ، لَا سِيَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ: ( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ) . (وَإِنَّ إِخْوَتِي) أَيْ: إِخْوَانِي وَأَصْحَابِي (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْغَيْنِ وَأَمَّا الضَّمُّ وَالْكَسْرُ فَلُغَةٌ قَلِيلَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ أَيْ: يَمْنَعُهُمْ (الصَّفِقُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: ضَرْبُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الْبَيْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُقُودِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ) أَيِ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي فِيهَا نَخِيلُهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا أَصْحَابَ تِجَارَاتٍ وَالْأَنْصَارَ أَصْحَابُ زِرَاعَاتٍ. (وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا) أَيْ: عَاجِزًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ وَأَسْبَابِ الزِّرَاعَةِ (أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: صُحْبَتَهُ وَخِدْمَتَهُ حَامِدًا (عَلَى مَلْءِ بَطْنِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ حَالٌ أَيْ أَلْزَمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَانِعًا بِمَا يَمْلَأُ بَطْنِي، فَعَدَّاهُ بِعَلَى مُبَالَغَةً، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنْ مَلَكْتَ كَفَافَ قُوتٍ فَكُنْ بِهِ ... قَنِيعًا فَإِنَّ الْمُتَّقِيَ اللَّهَ قَانِعُ (وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا: لَنْ يَبْسُطَ) أَيْ: لَنْ يَفْرِشَ (أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ) أَيْ: أُفْرِغَ (مَقَالَتِي هَذِهِ) : كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى دُعَاءٍ دَعَاهُ حِينَئِذٍ ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: كَانَتْ مَقَالَتُهُ دُعَاءَهُ لِلصَّحَابَةِ بِالْحِفْظِ وَالْفَهْمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَلَامُ الَّذِي كَانَ شَرَعَ فِيهِ (ثُمَّ يَجْمَعَهُ) : بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ أَيْ: يَضُمُّ ثَوْبَهُ (إِلَى صَدْرِهِ فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي) أَيْ: مِنْ أَحَادِيثِي (شَيْئًا أَبَدًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ جَوَابُ النَّفْيِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ، فَيَكُونُ عَدَمُ النِّسْيَانِ مُسَبَّبًا عَنِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا، وَأُوثِرَتْ (لَنْ) النَّافِيَةُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْمُحَالِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَقَالَتِي شَيْئًا إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الْمَقَالَاتِ كُلِّهَا. (فَبَسَطْتُ نَمِرَةً) : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: شَمْلَةً مُخَطَّطَةً مَنْ مَآزِرِ الْأَعْرَابِ، وَجَمْعُهَا نِمَارٌ كَأَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ لَوْنِ النَّمِرِ لِمَا فِيهَا مِنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، (حَتَّى قَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَالَتَهُ) أَيْ: تِلْكَ (ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتِهِ) أَيْ: مِنْ جِنْسِ مَقَالَتِهِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، أَوْ ذُكِرَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ الْقَوْلُ وَالْكَلَامُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، الْمَقَالَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ (إِلَى يَوْمِي هَذَا) . وَهُوَ وَقْتُ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5897 - وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟) فَقُلْتُ: بَلَى، وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) . قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسِي بَعْدُ، فَانْطَلَقَ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَحْمَسَ فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5897 - (وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْبَجَلِيِّ (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا تُرِيحُنِي) : مِنَ الْإِرَاحَةِ وَهِيَ إِعْطَاءُ الرَّاحَةِ أَيْ: أَلَا تُخَلِّصُنِي (مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ) ؟ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ بَيْتٌ كَانَ لَخَثْعَمَ يُدْعَى كَعْبَةَ الْيَمَامَةِ، وَالْخَلَصَةُ: اسْمُ طَاغِيَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النُّفُوسَ الزَّكِيَّةَ الْكَامِلَةَ الْمُكَمَّلَةَ قَدْ يَلْحَقُهَا الْعَنَاءُ مِمَّا هُوَ عَلَى خِلَافِ مَا يَنْبَغِي مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْبَغِي. (فَقُلْتُ: بَلَى، وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ) : بِضَمِّ الْبَاءِ (عَلَى الْخَيْلِ) ، أَيْ: كُنْتُ أَقَعُ عَنْهَا أَحْيَانًا (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أَيْ: عَدَمَ الثُّبُوتِ (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ) أَيْ: عَلِمْتُ (أَثَرَ يَدِهِ) أَيْ: تَأْثِيرَهَا لِقُوَّةِ ضَرْبِهَا (فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (وَاجْعَلْهُ هَادِيًا) أَيْ: لِغَيْرِهِ (مَهْدِيًّا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ لَا يَزِيغُ عَنْ هَدْيِهِ (قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ) أَيْ: سَقَطْتُ (عَنْ فَرَسِي بَعْدُ) ، أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الدُّعَاءِ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (فَانْطَلَقَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ جَرِيرٍ، فَفِيهِ الْتِفَاتٌ، وَالْمَعْنَى فَذَهَبَ جَرِيرٌ (فِي مِائَةٍ) أَيْ: مَعَ مِائَةٍ (وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَحْمَسَ) أَيْ: مِنْ قَوْمِ قُرَيْشٍ، وَالْأَحْمَسُ الشُّجَاعُ، فَفِي النِّهَايَةِ: هُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَلَدَتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَجَدِيلَةُ قَيْسٍ، سُمُّوا حَمْسًا لِأَنَّهُمْ تَحَمَّسُوا فِي دِينِهِمْ أَيْ: تَشَدَّدُوا وَالْحَمَاسَةُ الشَّجَاعَةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَصَلِّبِينَ فِي الدِّينِ وَالْقِتَالِ، فَلَا يَسْتَظِلُّونَ أَيَّامَ مِنًى، وَلَا يَدْخُلُونَ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. (فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: أَحْرَقَ جَرِيرٌ الْخَلَصَةَ (وَكَسَرَهَا) أَيْ: وَأَبْطَلَهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5898 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَقْبَلُهُ) . فَأَخْبَرَنِي أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهُ أَتَى الْأَرْضَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فَوَجَدَهُ مَنْبُوذًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ فَقَالُوا: دَفَنَّاهُ مِرَارًا فَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5898 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا) : قِيلَ: لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ وَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّرْحِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا، بَلْ هُوَ رَجُلٌ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ. (كَانَ يَكْتُبُ) أَيِ: الْوَحْيَ (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ) أَيْ: فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَقْبَلُهُ) . فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا، فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا الْأَرْضَ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ. (قَالَ أَنَسٌ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو طَلْحَةَ) : وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ أَنَسٍ (أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا طَلْحَةَ (أَتَى الْأَرْضَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فَوَجَدَهُ مَنْبُوذًا) . أَيْ مَطْرُوحًا مُلْقًى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ (فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ فَقَالُوا: دَفَنَّاهُ مِرَارًا فَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5899 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: (يَهُودُ تُعَذَّبَ فِي قُبُورِهَا) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5899 - (وَعَنْ أَبَى أَيُّوبَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ) ، أَيْ سَقَطَتْ وَغَرَبَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] (فَسَمِعَ صَوْتًا) ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ أَوْ صَوْتَ يَهُودَ الْمُعَذَّبِينَ، أَوْ صَوْتَ وَقْعِ الْعَذَابِ. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مَا يُؤَيِّدُ الثَّانِي، وَكَذَا ظَاهِرُ مَا بَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (فَقَالَ: يَهُودُ) أَيْ: هَذَا يَهُودُ أَيْ: صَوْتُهُ يَعْنِي صَوْتَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ (تُعَذَّبَ فِي قُبُورِهَا) . فِيهِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمُعْجِزَةٌ مِنْ حَيْثُ كَشْفِ أَحْوَالِهِمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5900 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ) . فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا عَظِيمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5900 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ) : بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَالْخَبَرُ مُتَعَلِّقَةٌ أَيْ: فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ وَاصِلًا بِقُرْبِهَا (هَاجَتْ) ، أَيْ: ثَارَتْ وَظَهَرَتْ (رِيحٌ) ، أَيْ: عَظِيمَةٌ (تَكَادُ تَدْفِنُ الرَّاكِبَ) ، بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: تَقْرُبُ أَنْ تُوَارِيَهُ مِنْ شِدَّةِ تَوَازُنِهَا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُرْسِلَتْ (لِمَوْتِ مُنَافِقٍ) . أَيْ فِي وَقْتِ مَوْتِهِ (فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا عَظِيمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ) . قِيلَ: هُوَ رِفَاعَةُ بْنُ دُرَيْدٍ، وَالسَّفَرُ غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَقِيلَ: رَافِعٌ، وَالسَّفَرُ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْبُخَارِيُّ.

5901 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَدِمْنَا عُسْفَانَ، فَأَقَامَ بِهَا لَيَالِيَ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا نَحْنُ هَاهُنَا فِي شَيْءٍ، وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ مَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِي الْمَدِينَةِ شِعْبٌ وَلَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا حَتَّى تَقْدَمُوا إِلَيْهَا) ثُمَّ قَالَ: (ارْتَحِلُوا) فَارْتَحَلْنَا وَأَقْبَلْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ مَا وَضَعْنَا رِحَالَنَا حِينَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى أَغَارَ عَلَيْنَا بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ وَمَا يُهَيِّجُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5901 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجْنَا) ، أَيْ: مِنْ مَكَّةَ (مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَدِمْنَا عُسْفَانَ) ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ فَفِي الْقَامُوسِ: عُسْفَانُ كَعُثْمَانَ، مَوْضِعٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: رَجَعْنَا عَنِ السَّفَرِ وَوَصَلْنَا إِلَى عُسْفَانَ، مَوْضِعٌ قَرِيبُ الْمَدِينَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: وَهُوَ غَلَطٌ، بَلْ هُوَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، ذَكَرَهُ الْمُغْرِبُ وَغَيْرُهُ. (فَأَقَامَ بِهَا) ، أَيْ: بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ (لَيَالِيَ) ، أَيْ: وَأَيَّامًا (فَقَالَ النَّاسُ) ، أَيْ: بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الضُّعَفَاءِ فِي الدِّينِ وَالْيَقِينِ (مَا نَحْنُ هَاهُنَا فِي شَيْءٍ) ، أَيْ: شُغْلٍ وَعَمَلٍ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ (وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ) : بِالضَّمِّ أَيْ: لَغَائِبُونَ أَوْ نِسَاءٌ بِلَا رِجَالٍ، يُقَالُ: حَيٌّ خُلُوفٌ إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا النِّسَاءُ، وَالْخُلُوفُ أَيْضًا الْحُضُورُ الْمُتَخَلِّفُونَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَقَوْلُهُ: (مِمَّا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ) ، أَيْ: عَلَى عِيَالِنَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَلَعَلَّ تَذْكِيرَ الضَّمِيرِ لِلتَّغْلِيبِ، أَوْ تَنْزِيلًا مَنْزِلَةَ الرِّجَالِ فِي الْجَلَادَةِ وَالشَّجَاعَةِ، (فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَوَصَلَهُ هَذَا الْكَلَامُ (فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِي الْمَدِينَةِ شِعْبٌ) : بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ طَرِيقٌ فِي الْجَبَلِ (وَلَا نَقْبٌ) ، أَيْ: طَرِيقٌ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، أَيْ: لَيْسَ فِي الْمَدِينَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الشِّعْبُ وَالنَّقْبُ (إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا) : بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: يَحْفَظَانِهَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى (حَتَّى تَقْدَمُوا) : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: تَرْجِعُوا (إِلَيْهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشِّعْبِ وَالنَّقْبِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَحْرُسَانِهَا رَاجِعٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْمُرَادُ شِعْبُهَا وَنَقْبُهَا. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا جَمِيعًا (ثُمَّ قَالَ: ارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا وَأَقْبَلْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ) ، أَيْ مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهَا (فَوَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ) ، أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ (مَا وَضَعْنَا رِحَالَنَا) أَيْ: مَتَاعَنَا عَنْ ظُهُورِ جِمَالِنَا (حِينَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى أَغَارَ عَلَيْنَا) ، أَيْ: مَعْشَرِ الْمَدِينَةِ (بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ فَالْمُهْمَلَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَدِينَةَ حَالَ غَيْبَتِهِمْ عَنْهَا كَانَتْ مَحْرُوسَةً، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِعْجَازًا، وَلَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنَ الْإِغَارَةِ وَالتَّهْيِيجِ عَلَيْهَا إِلَّا حِرَاسَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَمَا يُهَيِّجُهُمْ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَا يُثِيرُ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْإِغَارَةِ (قَبْلَ ذَلِكَ) ، أَيْ: قَبْلَ دُخُولِنَا الْمَدِينَةِ (شَيْءٌ) ، أَيْ: مِنَ الْبَوَاعِثِ. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: قَبْلَ الْغَارَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5902 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ - أَوْ غَيْرُهُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا) . فَمَا يُشِيرُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ) . قَالَ: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5902 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ) ، أَيْ: قَحْطٌ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ فِي زَمَانِهِ (فَبَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةَ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكَ الْمَالُ) ، أَيِ الْمَوَاشِي، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ أَمْوَالِهِمْ، وَهَلَاكُهَا إِمَّا بِتَغَيُّرِهَا أَوْ بِمَوْتِهَا (وَجَاعَ الْعِيَالُ) ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَنْ يَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ مِنَ الْأَهْلِ،

(فَادْعُ اللَّهَ لَنَا) . أَيْ: مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ (فَرَفَعَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: بِالسُّؤَالِ لَدَيْهِ (وَمَا نَرَى) ، أَيْ: نَحْنُ (فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً) ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ أَيْ: قِطْعَةً مِنَ السَّحَابِ (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا) ، أَيْ: يَدَهُ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْجِنْسِ (حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ) ، أَيْ: سَطَعَ وَظَهَرَ جِنْسُ السَّحَابِ ظُهُورًا كَامِلًا (أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ) : فِي النِّهَايَةِ، أَيْ يَنْزِلُ وَيَقْطُرُ، وَهُوَ يَتَفَاعَلُ مِنَ الْحُدُورِ ضِدِّ الصُّعُودِ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى اهـ. وَالْمَعْنَى حَتَّى يَتَسَاقَطَ الْمَطَرُ. (عَلَى لِحْيَتِهِ) : وَقِيلَ: يُرِيدُ أَنَّ السَّقْفَ قَدْ وَكَفَ حَتَّى نَزَلَ الْمَاءُ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ (فَمُطِرْنَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: جَاءَنَا الْمَطَرُ (يَوْمَنَا) ، أَيْ: بَقِيَّةَ يَوْمِنَا (ذَلِكَ) ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ (وَمِنَ الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ) : يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: (حَتَّى) ، أَيْ: إِلَى (الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ) : حَالٌ أَيْ: وَقَدْ قَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ بِعَيْنِهِ (أَوْ غَيْرُهُ) : مِنَ الْأَعْرَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى جَاءَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا يَقْتَضِي الْجَمْعَ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا، فَلَعَلَّ أَنَسًا ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ نَسِيَهُ، أَوْ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَدَّدَ فِي كَوْنِ الْقَائِمِ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، لَكِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ تَارَةً أَنَّهُ هُوَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَزْمِ، وَتَارَةً أَنَّهُ غَيْرُهُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّنْكِيرِ، وَتَارَةً أَتَى بِصِيغَةِ الشَّكِّ لِاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ، فَالشَّكُّ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَقَالَ) ، أَيِ: الْقَائِمُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَهَدَّمَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ: خَرِبَ (الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: صَارَ غَرِيقًا (فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا) ، أَيْ: أَمْطِرْ حَوَالَيْنَا بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: فِي مَوَاضِعِ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ لَنَا ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ. (وَلَا عَلَيْنَا) ، أَيْ: لَا تُمْطِرْ فِي مَوَاضِعِ الْمَضَرَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَيْنَا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ: أَنْزِلِ الْغَيْثَ فِي وَضْعِ النَّبَاتِ لَا عَلَى الْأَبْنِيَةِ يُقَالُ: قَعَدَ حَوْلَهُ وَحَوَالَهُ وَحَوْلَيْهِ وَحَوَالَيْهِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَلَا يُقَالُ حَوَالِيهِ بِكَسْرِ اللَّامِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ: (وَلَا عَلَيْنَا) بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: (حَوَالَيْنَا) ثُمَّ فِي إِدْخَالِ الْوَاوِ هَاهُنَا مَعْنًى لَطِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ طَلَبَ الْمَطَرِ عَلَى حَوَالَيْنَا لَيْسَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ، بَلْ لِيَكُونَ وِقَايَةً عَنْ أَذَى الْمَطَرِ. قُلْتُ: الْوَاوُ خَالِصَةٌ لِلْعَطْفِ لَكِنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِمْ: تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيِهَا، فَإِنَّ الْجُوعَ لَيْسَ مَقْصُودًا بِعَيْنِهِ، لَكِنْ لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنَ الرِّضَاعِ بِأُجْرَةٍ إِذْ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: أُوثِرَ حَوَالَيْنَا لِمُرَاعَاةِ الِازْدِوَاجِ مَعَ قَوْلِهِ: عَلَيْنَا نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: (وَلَا عَلَيْنَا) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ (حَوَالَيْنَا) وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ لَكَانَ حَالًا أَيْ: أَمْطِرْ عَلَى الْمَزَارِعِ، وَلَا تُمْطِرْ عَلَى الْأَبْنِيَةِ، وَأُدْمِجَ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْنَا مَعْنَى الْمَضَرَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اجْعَلْ لَنَا لَا عَلَيْنَا. (فَمَا يُشِيرُ) : حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ (إِلَى نَاحِيَةٍ) ، أَيْ: جَانِبٍ مِنَ السَّحَابِ جَمْعِ سَحَابَةٍ (إِلَّا انْفَرَجَتْ) ، أَيِ: انْكَشَفَتْ وَتَفَرَّقَتْ (وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ) ، أَيْ: جَوُّهَا (مِثْلَ الْجَوْبَةِ) ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ الْفُرْجَةُ فِي السَّحَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَطَرَ أَوِ الْغَيْمَ انْكَشَفَ عَمَّا يُحَاذِينَا، وَأَحَاطَ بِمَا حَوْلَنَا بِحَيْثُ صَارَ جَوُّ الْمَدِينَةِ مِثْلَ الْجَوْبَةِ خَالِيًا عَنِ السَّحَابِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَهُوَ الْجَوُّ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْحُفْرَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ الْوَاسِعَةِ، وَصَارَ الْغَيْمُ مُحِيطًا بِأَطْرَافِ الْمَدِينَةِ مُنْكَشِفًا عَنْهَا. (وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ) : بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِلْوَادِي، وَهِيَ عَلَمٌ لَهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَفِي أُخْرَى بِتَنْوِينِهَا (شَهْرًا) ، ظَرْفُ سَالَ. قَالَ مِيرَكُ: أَعْرِبْ قَنَاةَ بِالضَّمِّ عَلَى الْبَدَلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَنَاةَ اسْمُ الْوَادِي، وَلَعَلَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ أَقُولُ: فَالْقَنَاةُ اسْمُ أَرْضٍ بِجَنْبِ.

الْوَادِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَحْفُورَةٌ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ نَهْرٌ فِي بَطْنِهَا يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: كَارِيزْ، وَسُمِّيَ بِهَا لِطُولِهَا الْمُشَبَّهِ بِالْقَنَاةِ، وَهِيَ الرُّمْحُ، وَقِيلَ هُوَ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى التَّشْبِيهِ أَيْ سَالَ مِثْلَ قَنَاةٍ. قِيلَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَتَّى سَالَ وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، وَصُحِّحَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اهـ. كَلَامُهُ نَاقِلًا عَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ. وَقَالَ شَارِحٌ: قَنَاةُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ سَالَ أَيْ: سَالَ الْوَادِي سَائِلًا مِثْلَ الْقَنَاةِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْقَنَاةِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْجَرْيِ حَسُنَ أَنْ يُجْعَلَ حَالًا مِنَ الْوَادِي، وَيَجُوزَ فِيهِ الْمَصْدَرُ أَيْ سَيَلَانُ الْقَنَاةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَوِ الْمَصْدَرِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَيْ: مِثْلَ الْقَنَاةِ، أَوْ سَيَلَانِ الْقَنَاةِ فِي الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَالْقُوَّةِ وَالْمِقْدَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَنَاةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالنُّونِ الْمُخَفَّفَةِ عَلَمٌ عَلَى أَرْضٍ ذَاتِ مَزَارِعَ نَاحِيَةَ أُحُدٍ، وَوَادِيهَا أَحَدُ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ قَالَهُ الْحَازِمِيُّ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَمَّاهُ وَادِي قَنَاةَ تُبَّعٌ الْيَمَانِيُّ، لَمَّا قَدِمَ يَثْرِبَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَهُ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ يَتَوَهَّمُونَهُ قَنَاةً مِنَ الْقَنَوَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ أَيْ: سَالَ مِثْلُ الْقَنَاةِ، وَعِبَارَةُ الْبُخَارِيِّ: حَتَّى سَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَنَاةُ عَلَمُ مَوْضِعٍ. قِيلَ: إِنَّهُ الْوَادِي الَّذِي عِنْدَهُ قَبْرُ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَأْتِي مِنَ الطَّائِفِ. وَقِيلَ: نُصِبَ قَنَاةُ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: مِقْدَارَ قَنَاةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ قَنَاةٍ بِالرُّمْحِ أَوْلَى مِنْهُ بِحُفْرَةٍ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا بَلَغَ الْقَنَاةُ فِي كَثْرَةِ مِيَاهِهَا مَبْلَغَ السُّيُولِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى. (وَلِمَ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَتِهِ) ، أَيْ: مِنْ جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ (إِلَّا حَدَّثَ) ، أَيْ: أَخْبَرَ (بِالْجَوْدِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ أَيِ الْمَطَرِ الْكَثِيرِ. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ) : بِالْمَدِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ الْأَكَمَةِ، وَهِيَ التَّلُّ وَالرَّابِيَةُ، وَقِيلَ الْأَكَمَةُ يُجْمَعُ عَلَى أَكَمٍ، وَيُجْمَعُ الْأَكَمُ عَلَى آكَامٍ كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ، وَيُجْمَعُ الْآكَامُ عَلَى أُكُمٍ مِثْلُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَيُجْمَعُ الْأُكُمُ عَلَى آكَامٍ كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَمْدُودَةً وَكَسْرِهَا مَقْصُورَةً جَمْعُ أَكَمَةٍ مُحَرَّكَةً، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ. (وَالظِّرَابِ) : بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ: الْجِبَالِ الصِّغَارِ (وَبُطُونِ الْأَدْوِيَةِ) ، أَيِ: الْخَالِيَةِ عَنِ الْأَبْنِيَةِ (وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ) ، أَيِ: الْمُنْتِجِ لِلثَّمَرِ (قَالَ) ، أَيْ: أَنَسٌ (فَأَقْلَعَتْ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: كَفَّتِ السَّحَابُ عَنِ الْمَطَرِ، وَقِيلَ: انْكَشَفَتْ، وَالتَّأْنِيثُ لِأَنَّهُ جَمْعُ سَحَابَةٍ يُقَالُ: أَقْلَعَ الْمَطَرُ انْقَطَعَ، وَفِي الْقَامُوسِ. أَقْلَعَتْ عَنْهُ الْحُمَّى تَرَكَتْهُ، وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الْأَمْرِ الْكَفُّ، وَفِي الْمَشَارِقِ: أَقْلَعَ الْمَطَرُ كَفَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] اهـ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ صِيغَةَ الْمَفْعُولِ مِنْ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ طَلَبِ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ عَنِ الْمَنَازِلِ، وَالْمَرَافِقِ إِذَا كَثُرَ وَتَضَرَّرُوا بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُشْرَعُ لَهُ صَلَاةٌ وَلَا اجْتِمَاعٌ فِي الصَّحْرَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5903 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَطَبَ اسْتَنَدَ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ، صَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ (بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5903 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَطَبَ اسْتَنَدَ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: أَصْلِهَا وَسَاقِهَا (مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ) ، جَمْعُ سَارِيَةٍ بِمَعْنَى الْأُسْطُوَانَةِ (فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (فَاسْتَوَى عَلَيْهِ) ، أَيْ: قَامَ (صَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ) ، أَيْ نِصْفَيْنِ أَوْ قِطَعًا (فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: وَمَشَى إِلَيْهَا (حَتَّى أَخَذَهَا) ، أَيْ: بِيَدِهِ (فَضَمَّهَا إِلَيْهِ) ، أَيْ: إِلَى نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَانَقَهَا تَسْلِيَةً لَهَا (فَجَعَلَتْ) ، أَيْ: طَفِقَتْ.

الْأُسْطُوَانَةُ، أَوْ جِذْعُ النَّخْلَةِ وَاكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: مِثْلَ أَنِينِهِ (حَتَّى اسْتَقَرَّتْ) ، أَيْ: سَكَتَتْ وَسَكَنَتْ. (قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبَبِ بُكَائِهَا: (بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ) ، أَيْ: عَلَى فَوْتِهِ وَفَوْتِ قُرْبِ الذَّاكِرِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5904 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَمَالِهِ فَقَالَ: (كُلْ بِيَمِينِكَ) قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: (لَا اسْتَطَعْتَ) . مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5904 - (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّ رَجُلًا) : قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ يُقَالُ لَهُ: بِشْرُ بْنُ رَاعِي الْعَيْرِ، وَقِيلَ بُسْرٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مِنْ أَشْجَعَ، وَضُبِطَ فِي الْأَذْكَارِ الْعَيْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَقَالَ: هُوَ صَحَابِيٌّ أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَمَالِهِ فَقَالَ: (كُلْ بِيَمِينِكَ) . قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ (لَا اسْتَطَعْتَ) . دُعَاءٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَذَبَ فِي اعْتِذَارِهِ (مَا مَنَعَهُ) ، أَيْ: مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: مِنَ الْأَكْلِ بِالْيَمِينِ (إِلَّا الْكِبْرُ) ، أَيْ لَا الْعَجْزُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ قَوْلُ الرَّاوِي وَرَدَ اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ مُوجَبِ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ دَعَا عَلَيْهِ بِلَا اسْتَطَعْتَ وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ؟ فَأُجِيبَ: بِأَنَّ مَا مَنَعَهُ مِنَ الْأَكْلِ بِالْيَمِينِ الْعَجْزُ، بَلْ مَنَعَهُ الْكِبْرُ. (قَالَ) ، أَيْ: سَلَمَةُ (فَمَا رَفَعَهَا) ، أَيِ: الرَّجُلُ يَمِينَهُ (إِلَى فِيهِ) . أَيْ فَمِهِ (بَعْدَ ذَلِكَ) . لِدُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5905 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً، فَرَكِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا وَكَانَ يَقْطِفُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: (وَجَدْنَا فَرَسَكُمْ هَذَا بَحْرًا) . فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُجَارَى. وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5905 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا) : بِكَسْرِ الزَّايِ، أَيْ: خَافُوا مِنْ مَأْتَى الْعَدُوِّ مَرَّةً (فَرَكِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسًا) ، أَيْ: عُرْيَانًا (لِأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا) ، أَيْ: فِي الْجَرْيِ وَالْمَشْيِ (وَكَانَ) ، أَيِ: الْفَرَسُ (يَقْطِفُ) ، بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ يَمْشِي مَشْيًا ضَيِّقًا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: يَتَقَارَبُ خُطَاهُ (فَلَمَّا رَجَعَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ (قَالَ: وَجَدْنَا فَرَسَكُمْ هَذَا بَحْرًا) . أَيْ جَلْدًا سُمِّيَ بَحْرًا لِأَنَّ جَرْيَهُ لَا يَنْفَدُ. كَمَا لَا يَنْفَدُ مَاءُ الْبَحْرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِوَجَدْنَا، وَشُبِّهَ الْفَرَسُ بِالْبَحْرِ فِي سَعَةِ خَطْوِهِ وَسُرْعَةِ جَرْيِهِ (فَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَكَانَ (بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُجَارَى) . بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: لَا يُقَاوَمُ فِي الْجَرْيِ وَلَا يُسْبَقُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُحَاذَى بِهِ فَرَسٌ يَجْرِي مَعَهُ. (وَفِي رِوَايَةٍ فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا مُسْلِمٌ.

5906 - «وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: تُوُفِّيَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ، فَأَبَوْا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ، فَقَالَ لِيَ: (اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (ادْعُ لِي أَصْحَابَكَ) . فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ عَنْ وَالِدِي أَمَانَتَهُ، وَأَنَا أَرْضَى أَنْ يُؤَدِيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي وَلَا أَرْجِعُ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ، فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا، وَحَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّهَا لَمْ تَنْقُصْ تَمْرَةٌ وَاحِدَةٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5906 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: تُوُفِّيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: قُبِضَ وَمَاتَ (أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ) ، أَيْ: جَمِيعَ ثَمَرِنَا (بِمَا عَلَيْهِ) ، أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ مَا عَلَى أَبِي (فَأَبَوْا) ، أَيِ: امْتَنَعُوا لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَعْيُنِهِمْ قَلِيلًا وَهُمْ يَهُودُ (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمْتَ) ، أَيْ: أَنْتَ (أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا وَإِنِّي) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ) ، أَيْ: عِنْدِي لَعَلَّهُمْ يُرَاعُونِي (فَقَالَ لِيَ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرَةٍ عَلَى نَاحِيَةٍ) ، أَيِ: اجْمَعْ كُلَّ نَوْعٍ صُبْرَةً عَلَى حِدَةٍ، أَمْرٌ مِنْ بَيْدَرَ الطَّعَامَ إِذَا دَاسَ فِي الْبَيْدَرِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُدَاسُ فِيهِ الطَّعَامُ، وَالْمُرَادُ هُنَا اجْعَلْ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ تَمْرِكَ بَيْدَرًا أَيْ: صُبْرَةً وَاحِدَةً، وَقِيلَ: فَرِّقْ كُلَّ نَوْعٍ فِي مَوْضِعِهِ، (فَفَعَلْتُ) .

أَيْ صُبَرًا وَبَيَادِرَ (ثُمَّ دَعَوْتُهُ) ، أَيْ طَلَبْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ أُغْرُوا بِي) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَجُّوا فِي مُطَالَبَتِي، وَأَلَحُّوا كَأَنَّ دَوَاعِيَهُمْ حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِي مِنْ أَغْرَيْتُ الْكَلْبَ أَيْ: هَيَّجْتُهُ، وَالْمَعْنَى أَغْلَظُوا عَلَيَّ، فَكَأَنَّهُمْ هُيِّجُوا بِي، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ غَرَّى بِالشَّيْءِ إِذَا وَلِعَ بِهِ، وَالِاسْمُ الْغَرَّاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، فَمَعْنَى أُغْرُوا بِي أَلْصَقُوا بِي (تِلْكَ السَّاعَةَ) ، أَيْ: ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُهُمْ بِالْمُسَامَحَةِ أَوْ بِحَطِّ بَعْضِ الدَّيْنِ أَوْ بِالصَّبْرِ، فَأَظْهَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ) ، أَيْ: دَارَ (حَوْلَ أَعْظَمِ) ، أَيْ: أَكْبَرِ تِلْكَ الْبَيَادِرِ (بَيْدَرًا) : التَّمْيِيزُ لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) . ظَرْفُ طَافَ (ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ) ، أَيْ: عَلَى أَعْظَمِهَا (ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي أَصْحَابَكَ) ، أَيْ أَصْحَابَ دَيْنِكَ (فَحَضَرُوا فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ عَنْ وَالِدِي) ، أَيْ: قَضَى عَنْهُ (أَمَانَتَهُ) ، أَيْ دَيْنَهُ، وَسُمِّيَ أَمَانَةً لِأَنَّهُ ائْتُمِنَ عَلَى أَدَائِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] أَيْ مَا ائْتَمَنْتُكُمْ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْتُورِبِشْتِيُّ. (وَأَنَا أَرْضَى) ، أَيْ: كُنْتُ أَرْضَى حِينَئِذٍ (أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي) : وَلَا أَرْجِعَ - بِالنَّصْبِ. وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً أَيْ: وَلَا أَنْقَلِبُ (إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ، فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا) . أَيْ جَعَلَهَا سَالِمَةً عَنِ النُّقْصَانِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، أَوْ خَلَّصَهَا عَنْ أَيْدِي الْغُرَمَاءِ بِبَرَكَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَحَتَّى أَنِّي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَجُوِّزَ كَسْرُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى هِيَ الدَّاخِلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَهِيَ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ جُمِعَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا ثُمَّ فَصَّلَهَا بِقَوْلِهِ: حَتَّى كَذَا وَحَتَّى كَذَا اهـ. وَمُجْمَلُهُ: أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا حَتَّى لَمْ يَنْقُصْ مِنْ تِلْكَ الْبَيَادِرِ الَّتِي لَمْ يَكِلْهَا شَيْءٌ أَصْلًا. وَحَتَّى أَنِّي (أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: جَالِسًا (كَأَنَّهَا) ، أَيِ: الْقِصَّةُ أَوِ الْبَيْدَرُ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الصُّبْرَةِ (لَمْ تَنْقُصْ تَمْرَةٌ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ النَّقْصَ لَازِمٌ أَيْ: لَمْ يَنْتَقِصْ تَمْرَةٌ مِنْهَا. وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولٌ، وَالْإِسْنَادُ إِلَى الصُّبْرَةِ مَجَازِيٌّ، وَقَوْلُهُ: (وَاحِدَةٌ) : لِلتَّأْكِيدِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

5907 - وَعَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدُمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ فَتَعْمِدُ إِلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدُمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (عَصَرْتِيهَا؟) . قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: (لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا) » رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5907 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: إِنَّ أُمَّ مَالِكٍ) ، أَيِ: الْبَهْزِيَّةَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ لَهَا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَهِيَ حِجَازِيَّةٌ، رَوَى عَنْهَا طَاوُسٌ وَمَكْحُولٌ (كَانَتْ تُهْدِي) : مِنَ الْإِهْدَاءِ (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُكَّةٍ) : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ قِرْبَةٌ صَغِيرَةٌ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ وِعَاءٌ مِنْ جِلْدٍ مُسْتَدِيرٍ، وَيَخْتَصُّ بِالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ، وَهُوَ بِالسَّمْنِ أَخَصُّ (لَهَا) ، أَيْ: كَانَتْ لِأُمِّ مَالِكٍ (سَمْنًا) ، مَفْعُولُ تُهْدِي (فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدُمَ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيِ: الْإِدَامَ (وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ (شَيْءٌ) ، أَيْ: مِنَ الْإِدَامِ، أَوْ مِمَّا يُشْتَرَى بِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (فَتَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ تَقْصِدُ أُمُّهُ (إِلَى الَّذِي) ، أَيْ: إِلَى الْعُكَّةِ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الظَّرْفِ (كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا فَمَا زَالَ) ، أَيِ: الظَّرْفُ أَوِ السَّمْنُ الَّذِي تَجِدُهُ فِيهِ (يُقِيمُ لَهَا أُدُمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ) ، أَيْ: لِزِيَادَةِ الطَّمَعِ، فَانْقَطَعَ الْإِدَامُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِرْصَ شُؤْمٌ، وَالْحَرِيصُ مَحْرُومٌ (فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: وَأَخْبَرَتْهُ بِالْخَبَرِ جَمِيعًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: فَأَتَتْ وَشَكَتِ انْقِطَاعَ إِدَامِ بَيْتِهَا مِنَ الْعُكَّةِ (فَقَالَ: عَصَرْتِيهَا) ؟ أَيِ الْعُكَّةَ وَالْبَاءُ لِلْإِشْبَاعِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةٌ (قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ تَرَكْتِيهَا) : بِإِشْبَاعِ الْيَاءِ أَيْضًا أَيْ: لَوْ تَرَكْتِ مَا فِيهَا مِنَ السَّمْنِ وَمَا عَصَرْتِهَا (مَا زَالَ) ، أَيْ: دَامَ بَيْتُكِ (قَائِمًا) . أَيْ ثَابِتًا دَائِمًا: فَإِنَّ الْبَرَكَةَ إِذَا نَزَلَتْ فِي شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا كَثُرَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5908 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟) . قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: (بِطَعَامٍ؟) قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ مَعَهُ: (قُومُوا) . فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ. فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! مَا عِنْدَكِ) فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا. ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ثُمَّ لِعَشَرَةٍ) فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: ( «ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فَدَخَلُوا فَقَالَ: (كُلُوا وَسَمُّوا اللَّهَ) فَأَكَلُوا حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلُ الْبَيْتِ وَتَرَكَ سُؤْرًا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: " «أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً " حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ؟» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ فَجَمَعَهُ، ثُمَّ دَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ فَعَادَ كَمَا كَانَ. فَقَالَ: (دُونَكُمْ هَذَا) » . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5908 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ) : وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ زَوْجَةُ أَبِي طَلْحَةَ (لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ) ؟ أَيْ: وَلَوْ قَلِيلًا مِنَ الْمَأْكُولِ (فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا) : وَهُوَ مَا تَسْتُرُ الْمَرْأَةُ بِهِ رَأْسَهَا (فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ) ، أَيْ: خَبَّأَتْهُ وَأَخْفَتْهُ (تَحْتَ يَدِهِ) ، أَيْ: يَدِ أَنَسٍ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: دَسَّهُ إِذَا أَدْخَلَهُ فِي الشَّيْءِ بِقَهْرٍ وَقُوَّةٍ (وَلَاثَتْنِي) : بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، أَيْ: عَمَّمَتْنِي (بِبَعْضِهِ) ، أَيْ: بِبَعْضِ الْخِمَارِ وَهُوَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي، أَيْ: عَمَّمَتْنِي أَوْ لَفَّفَتْنِي مِنَ اللَّوْثِ وَهُوَ لَفُّ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَإِدَارَتِهِ عَلَيْهِ اهـ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ قِلَّةِ الْخُبْزِ. (ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَهَبَ بِهِ) ، أَيْ بِالْخُبْزِ إِلَيْهِ (فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ) . قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَعَدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّلَاةِ فِيهِ حِينَ مُحَاصَرَةِ الْأَحْزَابِ لِلْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَمَعَهُ النَّاسُ أَيِ: الْكَثِيرُ وَهُمْ ثَمَانُونَ رَجُلًا عَلَى مَا سَيَأْتِي. (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ) ، أَيْ: بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَقَصْدِ الْجَمِيعِ (فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْسَلَكَ) : بِهَمْزَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَبَعَثَكَ (إِلَيَّ أَبُو طَلْحَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ) . وَهُوَ لَا يُنَافِي إِرْسَالَ أُمِّهِ لِأَنَّ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ، وَمَآلُهُمَا مُتَّحِدٌ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَلَ عَنْ ذِكْرِهَا احْتِشَامًا، أَوْ لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ هُوَ الْبَاعِثُ الْأَوَّلُ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ الْمُعَوَّلُ. (قَالَ: بِطَعَامٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ) . وَالتَّفْرِيقُ إِمَّا لِلتَّفْهِيمِ أَوْ بِحَسَبِ تَدْرِيجِ الْوَحْيِ وَالتَّعْلِيمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِمَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلِذَا قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: قُومُوا، وَأَوَّلُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ، وَأَبَا طَلْحَةَ أَرْسَلَا الْخُبْزَ مَعَ أَنَسٍ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّهُمَا أَرَادَا إِرْسَالَ الْخُبْزِ مَعَ أَنَسٍ أَنْ يَأْخُذَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْكُلَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ أَنَسٌ، وَرَأَى كَثْرَةَ النَّاسِ اسْتَحَى وَظَهَرَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَقُومَ مَعَهُ وَحْدَهُ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ إِطْعَامِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ أَرْسَلَهُ عَهِدَ إِلَيْهِ إِذَا رَأَى كَثْرَةَ النَّاسِ دَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَشْيَةَ أَنْ لَا يَكْفِيَهُمْ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَقَدْ عَرَفُوا إِيثَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَقَدْ وَجَدْتُ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ تَقْتَضِي أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَرَفَ بِنُورِ الْوَحْيِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ أَرْسَلَ أَنَسًا بِطَعَامٍ وَأَخْبَرَهُ بِهِ، كَيْفَ يَفْهَمُ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ؟ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَأَوَّلُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي إِلَخْ. لَيْسَ فِي مَحِلِّهِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ الْمَرَامِ لَا مُقْتَضَى الْكَلَامِ، ثُمَّ لَا دَلَالَةَ لِلِاسْتِحْيَاءِ وَالِاسْتِدْعَاءِ الْمَنْسُوبَيْنِ لِأَنَسٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ، وَلَا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَرْسَلَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِأَمْرِ أَبِي طَلْحَةَ لَمَا حَصَلَ لَهُ فَزَعٌ وَاضْطِرَابٌ بِمَأْتَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ، وَهُوَ إِشْبَاعُ جَمْعٍ كَثِيرٍ بِخُبْزٍ قَلِيلٍ، وَمُنْضَمَّةٌ إِلَى مُعْجِزَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَضِيَّةُ الْعُكَّةِ الْآتِيَةِ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ وَأَنَسٍ وَأُمِّهِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ بِحُسْنِ نِيَّتِهِمْ، وَإِخْلَاصِ طَوِيَّتِهِمْ، وَآدَابِ خِدْمَتِهِمْ، وَيَكُونُ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ أَنَسٌ: فَانْطَلَقَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ. (وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ، أَيْ: قُدَّامَهُمْ كَهَيْئَةِ الْخَادِمِ وَالْمُضِيفِ أَوْ مُسْرِعًا لِإِيصَالِ الْخَبَرِ لِقَوْلِهِ (حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ) ، أَيْ: بِإِتْيَانِهِمْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاسِ، أَيْ: مَعَهُمْ (وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ) ، أَيْ: غَيْرُ مَا أَرْسَلْنَاهُ إِلَيْهِ وَثَمَّ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَكَيْفَ نُقَدِّمُ لَهُمْ شَيْئًا قَلِيلًا؟ (فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) . أَيْ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ بَعْضِ الْحِكَمِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ مَنْقَبَةٌ

عَظِيمَةٌ لِأُمِّ سُلَيْمٍ، وَدَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ دِينِهَا وَرُجْحَانِ عَقْلِهَا وَقُوَّةِ يَقِينِهَا، تَعْنِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ قَدْرَ الطَّعَامِ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَصْلَحَةَ لَمَا فَعَلَهَا، (فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ) ، أَيْ: مُسَارِعًا (حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ) ، أَيْ: حَتَّى دَخَلَا عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَالنَّاسُ وَرَاءَهُمَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ) . أَيْ: عَجِّلِي وَأَحْضِرِي (مَا عِنْدَكِ) . أَيْ مِنَ الْخُبْزِ (فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَوْ أَبَا طَلْحَةَ أَوْ غَيْرَهُ بِالْخُبْزِ يَعْنِي بِتَفْتِيتِهِ (فَفُتَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمَاضِي أَيْ: جُعِلَ فَتِيتًا أَيْ قِطَعًا صِغَارًا مَفْتُوتًا قَالَ شَارِحٌ: أَوْ هُوَ أَمْرُ مُخَاطَبٍ، وَلَعَلَّ تَقْدِيرَهُ فَأَمَرَ بِهِ وَقَالَ: فَفُتَّ (وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِمَدِّهَا، أَيْ: جَعَلَتْ مَا خَرَجَ مِنَ الْعُكَّةِ وَهُوَ السَّمْنُ إِدَامًا لِذَلِكَ الْفَتِيتِ (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ) : أَيْ فِي ذَلِكَ الْخُبْزِ مَعَ الْإِدَامِ أَوْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْخُبْزِ وَالْإِدَامِ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ) ، أَيْ: مِنَ الدُّعَاءِ أَوِ الْأَسْمَاءِ. (وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ قَالَ: بَاسِمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعْظِمْ فِيهِمَا الْبَرَكَةَ. ثُمَّ قَالَ) ، أَيْ: لِأَبِي طَلْحَةَ أَوْ لِأَنَسٍ أَوْ لِغَيْرِهِمَا (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) : وَإِنَّمَا أَذِنَ لِعَشَرَةٍ عَشَرَةٍ لِيَكُونَ أَرْفَقَ بِهِمْ، فَإِنَّ الْقَصْعَةَ الَّتِي فِيهَا الطَّعَامُ لَا يَتَحَلَّقُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ إِلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُمْ لِبُعْدِهَا عَنْهُمْ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَأْذَنْ لِلْكُلِّ مَرَّةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إِذَا نَظَرُوا إِلَى طَعَامٍ قَلِيلٍ يَزْدَادُ حِرْصُهُمْ عَلَى الْأَكْلِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ لَا يُشْبِعُهُمْ، وَالْحِرْصُ عَلَيْهِ يَمْحَقُ الْبَرَكَةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْجَلِيلَ إِذَا أَبْصَرُوا الطَّعَامَ الْقَلِيلَ لَآثَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَوِ اسْتَحْيَوْا مِنَ الْأَكْلِ الْكَثِيرِ، وَاسْتَقَلُّوا فِي أَكْلِهِمْ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مُرَادُهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ فِي الشَّجَاعَةِ، وَعَلَى أَدَاءِ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: لِضِيقِ الْمَنْزِلِ، (فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ثُمَّ لِعَشَرَةٍ) أَيْ: وَهَلُمَّ جَرًّا (فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا وَقَعَ هُنَا بِالشَّكِّ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْجَزْمُ بِالثَمَانِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ بِضْعَةٍ وَثَمَانِينَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، قُلْتُ: كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: كَانُوا نَيِّفًا وَثَمَانِينَ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَلْغَى الْكَسْرَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ حَتَّى أَكَلَ مِنْهُ أَرْبَعُونَ وَبَقِيَتْ كَمَا هِيَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ التَّغَايُرَ، وَأَنَّ الْقَضِيَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ. قُلْتُ: الْقَضِيَّةُ مُتَّحِدَةٌ، وَالْجَمْعُ بِأَنَّ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ كَانُوا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ أَرْبَعُونَ أُخَرُ مِمَّنْ كَانُوا وَرَاءَهُمْ، أَوْ وَقَعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعَاءَهُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) : فَدَخَلُوا فَقَالَ: (كُلُوا وَسَمُّوا اللَّهَ، فَأَكَلُوا حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا، ثُمَّ) ، أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِ أَكْلِ أَصْحَابِهِ (أَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلُ الْبَيْتِ، وَتَرَكَ سُؤْرًا) : بِضَمِّ سِينٍ وَسُكُونِ هَمْزٍ وَيُبْدَلُ، وَجَزَمَ الْتُورِبِشْتِيُّ وَقَالَ: هُوَ بِالْهَمْزِ أَيْ بَقِيَّةٌ. (وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . أَيْ: مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لِلْأَرْبَعِينَ الْأُخَرَ، لِيَحْصُلَ بَرَكَتُهُ لِلطَّرَفَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، أَوِ الْمَعْنَى ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْكُلِّ أَكَلَ، (فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ) ، أَيْ: أَتَفَكَّرُ وَأَتَرَدَّدُ وَأَتَأَمَّلُ (هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ) ؟ أَيْ أَمْ لَا. فَلَا يَظْهَرُ نَقْصٌ أَصْلًا.

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ فَجَمَعَهُ ثُمَّ دَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ، فَعَادَ كَمَا كَانَ فَقَالَ) ، أَيْ: لِأَهْلِ الْبَيْتِ (دُونَكُمْ هَذَا) أَيْ: خُذُوهُ. قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مِنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ فَفِي إِحْدَاهَا يَقُولُ: تَرَكَ سُؤْرًا، وَفِي الْأُخْرَى يَقُولُ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَفِي الثَّالِثَةِ: ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ فَجَمَعَهُ الْحَدِيثَ؟ قُلْنَا: وَجْهُ التَّوْفِيقِ فِيهِنَّ هَيِّنٌ بَيِّنٌ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّمَا قَالَ وَتَرَكَ سُؤْرًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ مِنْهُ، فَمَا فَضَلَ مِنْهُ سَمَّاهُ سُؤْرًا، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ فَرَغُوا مِنْهُ. وَقِيلَ: أَخْبَرَ فِي الْأُولَى أَنَّهُ دَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَحْكِيهِ عَلَى مَا وَجَدَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الدُّعَاءِ، وَعَوْدُهُ إِلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّنَاوُلِ، وَالثَّالِثَةُ لَا الْتِبَاسَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

5909 - وَعَنْهُ، قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ. قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَلَاثَمِائَةٍ) أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5909 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: جِيءَ (بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ) : بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، وَهُوَ الْبِئْرُ الْبَعِيدَةُ الْقَعْرِ. وَقِيلَ: مَوْضِعٌ قَرِيبٌ بِالْمَدِينَةِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمُرَادُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَكَانٌ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ قُرْبَ الْمَسْجِدِ. (فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَجَعَلَ) ، أَيْ: شَرَعَ (الْمَاءُ يَنْبُعُ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّهَا وَجُوِّزَ كَسْرُهَا فَقِيلَ فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، وَالْمُخْتَارُ الْفَتْحُ. وَفِي الْمِصْبَاحِ نَبَعَ كَنَصَرَ وَكَمَنَعَ لُغَةً. وَفِي الْقَامُوسِ: نَبَعَ يَنْبُعُ مُثَلَّثَةً خَرَجَ مِنَ الْعَيْنِ (مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّبْعِ قَوْلَانِ. حَكَاهُمَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ أَصَابِعِهِ وَيَنْبُعُ مِنْ ذَاتِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْمُعْجِزَةِ مِنْ نَبْعِهِ مِنْ حَجَرٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَكْثَرَ الْمَاءَ فِي ذَاتِهِ فَصَارَ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، (فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ) ، أَيْ: مِنْهُ (قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ) ؟ أَيْ يَوْمَئِذٍ (قَالَ: ثَلَاثَمِائَةٍ) : بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ كُنَّا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ نَحْنُ أَوِ الْقَوْمُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَكَذَا قَوْلُهُ: (أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ) : بِنَصْبِ زُهَاءَ وَبِرَفْعِهِ وَهُوَ بِضَمِّ الزَّايِ وَبِالْمَدِّ أَيْ: مِقْدَارُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثَلَاثَمِائَةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لَكَانَ الْمَقْدُورِ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ أَيْ قَدْرَ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ زَهَوْتُ الْقَوْمَ إِذَا حَزَرْتُهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5910 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً، وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا. كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ. فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ: (اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ) فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ: (حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ، وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ) وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5910 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ) ، أَيِ: الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ (بَرَكَةً، وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا) ، أَيْ: إِنْذَارًا وَهَلَكَةً. قَالَ شَارِحٌ: وَسُمِّيَتْ آيَةً لِأَنَّهَا عَلَامَةُ نُبُوَّتِهِ، فَقِيلَ: أَرَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لَا يَنْفَعُ فِيهِمْ إِلَّا الْآيَاتُ الَّتِي نَزَلَتْ بِالْعَذَابِ وَالتَّخْوِيفِ، وَخَاصَّتَهُمْ يَعْنِي الصَّحَابَةَ كَانَ يَنْفَعُ فِيهِمُ الْآيَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْبَرَكَةِ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ طَرِيقَ الْخَوَاصِّ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الْمَحَبَّةِ وَالرَّجَاءِ، وَسَبِيلَ الْعَوَامِّ مَبْنِيٌّ عَلَى كَثْرَةِ الْخَوْفِ وَالْعَنَاءِ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُونَ بِالطَّائِرِينَ الْمَجْذُوبِينَ الْمُرَادِينَ، وَالْآخِرُونَ بِالسَّائِرِينَ السَّالِكِينَ الْمُرِيدِينَ، وَتَفْصِيلُ هَذَا الْمَرَامِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وَالْآيَاتُ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمُعْجِزَاتُ، أَوْ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلَةُ، وَكِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِ الْمُوَافِقِ بَرَكَةٌ وَازْدِيَادٌ فِي إِيمَانِهِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَالِفِ الْمُعَانِدِ إِنْذَارٌ وَتَخْوِيفٌ. يَعْنِي لَا نُرْسِلُهَا إِلَّا تَخْوِيفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ كَالطَّلِيعَةِ وَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ، وَفِيهِ مَدْحٌ لِلصَّحَابَةِ الَّذِينَ اسْتَعَدُّوا بِصُحْبَةِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَلَزِمُوا طَرِيقَتَهُ، وَذَمٌّ لِمَنْ عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ قُلْتُ. إِيرَادُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمَرَامِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا عَلَى مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ، أَيْ: بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59] .

وَقَوْلُهُ: {إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] أَيْ: مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْمُسْتَأْصَلِ، فَإِنْ لَمْ يَخَافُوا نَزَلَ، أَوْ بِغَيْرِ الْمُقْتَرَحَةِ كَالْمُعْجِزَاتِ وَآيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا تَخْوِيفًا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ أَمْرَ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مُؤَخَّرٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَالتَّخْوِيفُ مَطْلُوبٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَأَكَّدَهُ حَيْثُ أَتَى بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فِي عَدِّهَا تَخْوِيفًا؟ قَتَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ كُنَّا نَعُدُّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ طَلَبٍ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْبَرَكَةُ آيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ، وَأَنْتُمْ تَحْصُرُونَ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ عَلَى الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَخَافَةُ الْعُقُوبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بَيَانُهُ لِقَوْلِهِ: ( «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ: اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ، فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ قَلِيلٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ» ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيِ الْمَاءِ (الْمُبَارَكِ) ، أَيِ: الْكَثِيرِ الْبِرْكَةِ، وَالْمَعْنَى هَلُمُّوا إِلَيْهِ وَأَسْرِعُوا (وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ) ، أَيْ: لَا مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ. (ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنَّا) ، أَيْ: أَحْيَانًا (نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ) . وَذَكَرَ صَاحِبُ الشِّفَاءِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصَى فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ حَتَّى سَمِعْنَا التَّسْبِيحَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

5911 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِّيَتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ، وَتَأْتُونَ الْمَاءَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا) فَانْطَلَقَ النَّاسُ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ فَمَالَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: (احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا) فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: (ارْكَبُوا) فَرَكِبْنَا. فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ، ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ. قَالَ: وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ. ثُمَّ قَالَ: (احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ) ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ، وَرَكِبَ وَرَكِبْنَا مَعَهُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْنَا وَعَطِشْنَا، فَقَالَ: (لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ) وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ يَصُبُّ، وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَحْسِنُوا الْمَلَأَ، كُلُّكُمْ سَيُرْوَى) قَالَ: فَفَعَلُوا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ، حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ صَبَّ فَقَالَ لِيَ: (اشْرَبْ) فَقُلْتُ: لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: (إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ) . قَالَ: فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ، قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ هَكَذَا فِي (صَحِيحِهِ) وَكَذَا فِي (كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) ، وَ (جَامِعِ الْأُصُولِ) . وَزَادَ فِي (الْمَصَابِيحِ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (آخِرُهُمْ) لَفْظَةَ: (شُرْبًا) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5911 - (وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَطَبَنَا) ، أَيْ: خَطَبَ لَنَا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِّيَتَكُمْ) ، أَيْ: أَوَّلَ لَيْلَتِكُمْ (وَلَيْلَتَكُمْ) ، أَيْ: بَقِيَّتَهَا وَآخِرَهَا (وَتَأْتُونَ الْمَاءَ) ، أَيْ: تَحْضُرُونَهُ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا) فَانْطَلَقَ النَّاسُ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) ، أَيْ: لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يَعْطِفُ عَلَيْهِ، بَلْ يَمْشِي كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعِيَ الصُّحْبَةَ لِاهْتِمَامِهِ بِطَلَبِ الْمَاءِ وَوُصُولِهِ إِلَيْهِ وَحُصُولِهِ لَدَيْهِ. (قَالَ أَبُو قَتَادَةَ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيرُ) أَيْ: فِي لَيْلَةٍ (حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ) : بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَمَصْدَرُهُ ابْهِيرَارًا كَاحْمَارَّ احْمِيرَارًا أَيِ: انْتَصَفَ وَتَوَسَّطَ، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَيُقَالُ: ذَهَبَ مُعْظَمُهُ وَأَكْثَرُهُ، وَقِيلَ ابْهَارَّ اللَّيْلُ إِذَا اطَّلَعَتْ نُجُومُهُ وَاسْتَنَارَتْ، (فَمَالَ عَنِ الطَّرِيقِ) ، أَيْ: لِقَصْدِ النَّوْمِ (فَوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ) ، أَيْ: لِبَعْضِ خَدَمِهِ (احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا) ، أَيْ: وَقْتَهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَكَأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِمُ النَّوْمُ فَرَقَدُوا (فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَهُوَ اسْمُ كَانَ أَوْ خَبَرُهُ وَأَوَّلُ عَكْسُهُ (وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ) ، أَيْ: طَالِعَةٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (ثُمَّ قَالَ: ارْكَبُوا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ؟ فِي تَأْخِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاءَ الصَّلَاةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا ثُمَّ تَذَكَّرَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ، وَعَلَى نَدْبِ مُفَارَقَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرَكَ فِيهِ الْمَأْمُورَ، أَوِ ارْتَكَبَ فِيهِ الْمَنْهِيَّ يَعْنِي: وَلَوْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ تَأْخِيرَهُ إِنَّمَا هُوَ لِرَجَاءِ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَاءِ أَوْ لِخُرُوجِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَرَكِبْنَا، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ) ، أَيْ: بِقَدْرِ رُمْحٍ أَوْ أَكْثَرَ (نَزَلَ ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِأَلِفٍ قَبْلَ الْهَمْزِ، وَأَصْلُهُ مِوْضَأَةٌ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ مِفْعَلَةٍ مِنَ الْوُضُوءِ.

وَفِي الْفَائِقِ: هِيَ عَلَى مِفْعَلَةٍ مِفْعَالَةٍ مَطْهَرَةٌ كَبِيرَةٌ يُتَوَضَّأُ مِنْهَا ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي النِّهَايَةِ بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ، وَقَدْ يُمَدُّ، وَالْمَعْنَى ثُمَّ طَلَبَ مَطْهَرَةً (كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ) ، أَيْ: قَلِيلٌ (مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ) : يَعْنِي وُضُوءًا وَسَطًا، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ الْمَاءِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَوَافَقَهُ الطِّيبِيُّ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُ اسْتَنْجَى فِي هَذَا الْوُضُوءِ بِالْحَجَرِ لَا بِالْمَاءِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ يُتَوَضَّأُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ مِنَ التَّثْلِيثِ بِأَنِ اكْتَفَى بِمَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ (قَالَ) ، أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (احْفَظْ عَلَيْنَا) ، أَيْ: لِأَجْلِنَا (مِيضَأَتَكَ) ، أَيْ: ذَاتَهَا وَمَا فِيهَا (فَسَيَكُونُ لَنَا نَبَأٌ) ، أَيْ: خَبَرٌ عَظِيمٌ، وَشَأْنٌ جَسِيمٌ، وَفَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَنَتِيجَةٌ جَمِيلَةٌ يُتَحَدَّثُ بِهَا وَيُرْوَى حِكَايَتُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: مُعْجِزَةٌ كَمَا سَيَأْتِي (ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْآذَانِ لِلْقَضَاءِ كَمَا هُوَ سُنَّةٌ لِلْأَدَاءِ (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: سُنَّةَ الصُّبْحِ لِفَوْتِهَا مَعَ فَرْضِهِ الْمُؤَدَّيَيْنِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَأَمَّا إِذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا فَلَا قَضَاءَ لَهَا إِلَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لَكِنْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا وَبَعْدَ الزَّوَالِ لَا تُقْضَى اتِّفَاقًا (ثُمَّ صَلَّى الْغُدْوَةَ) ، أَيْ: فَرْضَ الصُّبْحِ قَضَاءً (وَرَكِبَ وَرَكِبْنَا مَعَهُ، فَانْتَهَيَا إِلَى النَّاسِ) ، أَيِ: النَّازِلِينَ مِنْ أَهْلِ الْقَافِلَةِ (حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ) ، أَيِ: ارْتَفَعَ (وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٍ) ، أَيِ: اشْتَدَّ حَرَارَتُهُ (وَهُمْ يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْنَا) ، أَيْ: مِنْ حَرَارَةِ الْهَوَاءِ (وَعَطِشْنَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ: مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ (فَقَالَ: لَا هُلْكَ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: لَا هَلَاكَ (عَلَيْكُمْ) : وَهُوَ دُعَاءٌ أَوْ خَبَرٌ (وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ يَصُبُّ) ، أَيِ: الْمَاءَ (وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ) ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُضَمُّ (فَلَمْ يَعْدُ) : مُضَارِعُ عَدَا أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزْ (أَنْ رَأَى النَّاسُ) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: رُؤْيَتُهُمْ (مَاءً) ، أَيْ: كَثِيرًا (مِنَ الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: تَزَاحَمُوا (عَلَيْهَا) ، أَيْ: عَلَى الْمِيضَأَةِ مُكِبًّا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يَضْبُطِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَقَعَتْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الدَّالِ وَإِثْبَاتِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَتَكَابُّوا وَلَيْسَ فِي مُسْلِمٌ، وَلَا فِي شَرْحِهِ الْفَاءُ، وَأَنْ رَأَى النَّاسُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزْ رُؤْيَةُ النَّاسِ الْمَاءَ إِكْبَابَهُمْ فَتَكَابُّوا، وَإِنْ مَفْعُولًا أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزِ السَّقْيُ أَوِ الصَّبُّ رُؤْيَةَ النَّاسِ الْمَاءَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهِيَ كَبُّهُمْ عَلَيْهِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحْسِنُوا الْمَلَأَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الْخُلُقَ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْمَلَأُ مُحَرَّكَةً الْخُلُقُ، وَمِنْهُ: أَحْسِنُوا إِمْلَاءَكُمْ أَيْ: أَخْلَاقَكُمْ. وَفِي الْفَائِقِ: الْمَلَأُ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَقِيلَ لِلْخُلُقِ الْحَسَنِ مَلَأٌ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ مَا فِي الرَّجُلِ وَأَفْضَلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِكِرَامِ الْقَوْمِ وُجُوهَهُمْ مَلَأٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكِرَامِ مَلَأٌ لِأَنَّهُمْ يَتَمَالَئُونَ أَيْ: يَتَعَاوَنُونَ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُمْ يَمْلَأُونَ الْمَجْلِسَ أَوْ يَمْلَأُونَ الْعُيُونَ عَظَمَةً أَوْ بِحَشَمِهِمْ وَخَدَمِهِمْ كَثْرَةً (كُلُّكُمْ سَيُرْوَى) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: جَمِيعُكُمْ تَرْوُونَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فَلَا تَزْدَحِمُوا وَلَا تُسِيئُوا أَخْلَاقَكُمْ بِالتَّدَافُعِ. (قَالَ) ، أَيِ: الرَّاوِي (فَفَعَلُوا) ، أَيِ: النَّاسُ إِحْسَانَ الْخُلُقِ وَلَمْ يَزْدَحِمُوا حَيْثُ اطْمَأَنُّوا (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُبُّ، وَأَسْقَاهُمْ حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي) ، أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ ( «وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ صَبَّ فَقَالَ لِيَ: اشْرَبْ فَقُلْتُ: لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ» ) ، أَيْ: شُرْبًا: كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَلَا شَكَّ، أَنَّ السَّاقِيَ حَقِيقَةً هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنَافِي قَوْلَ أَبِي قَتَادَةَ: وَأَسْقِيهِمْ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى.

أُنَاوِلُهُمْ (قَالَ: فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ. قَالَ) ، أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ (فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ) ، أَيْ: وَصَلُوا إِلَى مَكَانِ الْمَاءِ (جَامِّينَ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: مُسْتَرِيحِينَ، ذَكَرَهُ الْتُورِبِشْتِيُّ (رِوَاءً) : بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ جَمْعُ رَاوٍ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى مِنَ الْمَاءِ أَوْ جَمْعُ رَيَّانَ كَعِطَاشٍ جَمْعُ عَطْشَانٍ أَيْ: مُمْتَلِئِينَ مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ شَارِحٌ قَوْلُهُ: جَامِّينَ أَيْ: مُجْتَمِعِينَ مِنَ الْجَمِّ أَوْ مُسْتَرِيحِينَ مِنَ الْجَمَامِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الرَّاحَةُ وَزَوَالُ الْإِعْيَاءِ. قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: وَاكْثُرْ مَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْفَرَسِ يَعْنِي لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْعَطَشِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ هَكَذَا فِي صَحِيحِهِ وَكَذَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ) ، أَيْ: سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ بِدُونِ شُرْبًا، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ، وَرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى. (وَزَادَ فِي الْمَصَابِيحِ بَعْدَ قَوْلِهِ: آخِرُهُمْ لَفْظَةَ شُرْبًا) : قُلْتُ: وَهُوَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْقُضَاعِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ.

5912 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَصَابَ النَّاسَ الْمَجَاعَةُ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، ثُمَّ ادْعُ اللَّهَ لَهُمْ عَلَيْهًا بِالْبَرَكَةِ. فَقَالَ: (نَعَمْ) . فَدَعَا بِنِطَعٍ، فَبُسِطَ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكِسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ (خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ) فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ. قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5912 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ غَزْوَةِ تَبُوكَ) : بِعَدَمِ الِانْصِرَافِ وَقَدْ يُصْرَفُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَسِيرَةُ شَهْرٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمَشْهُورُ فِي تَبُوكَ عَدَمُ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ الْمَوْضِعَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ عَلَى وِزَانِ يَزِيدَ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ فِي رَجَبٍ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَبُوكُونَ عَيْنَ تَبُوكَ أَيْ: يُدْخِلُونَ فِيهَا الْقَدَحَ أَيِ: السَّهْمَ وَيُحَرِّكُونَهُ لِيَخْرُجَ الْمَاءُ فَقَالَ: (مَا زِلْتُمْ تَبُوكُونَهُ بَوْكًا) . (أَصَابَ النَّاسَ) : جَوَابُ لَمَّا أَيْ: حَصَلَ لَهُمْ (مَجَاعَةٌ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: جُوعٌ شَدِيدٌ (فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ) : فِي الْحَدِيثِ اخْتِصَارٌ إِذْ رُوِيَ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَجَاعَةٌ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا فَأَكَلْنَا وَأَدَمْنَا. فَقَالَ: افْعَلُوا فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ فَعَلْتَ قَلَّتِ الظُّهُورُ، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، وَالْفَضْلُ مَا زَادَ عَنْ شَيْءٍ، وَالْأَزْوَادُ جَمْعُ زَادٍ وَهُوَ طَعَامٌ يُتَّخَذُ لِلسَّفَرِ، فَالْمَعْنَى مُرْهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِبَقِيَّةِ أَزْوَادِهِمْ، (ثُمَّ ادْعُ اللَّهَ لَهُمْ عَلَيْهَا) ، أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْأَزْوَادِ (بِالْبَرَكَةِ) ، أَيْ: كَثْرَةِ الْخَيْرِ (فَقَالَ: نَعَمْ، فَدَعَا بِنِطَعٍ) : بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ شُرَّاحُ الشِّفَاءِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي النِّطَعِ لُغَاتٌ فَتْحُ النُّونِ وَكَسْرُهَا مَعَ فَتْحِ الطَّاءِ وَإِسْكَانِهَا وَأَفْصَحُهُنَّ كَسْرُ النُّونِ وَفَتْحُ الطَّاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: النِّطَعُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَبِالتَّحْرِيكِ وَكَعِنَبٍ بِسَاطٌ مِنَ الْأَدِيمِ (فَبُسِطَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: النِّطَعُ (ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ) ، بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ الذُّرَةُ: كُثْبَةُ حَبٍّ مَعْرُوفٍ أَصْلُهُ ذُرَوٌ (وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ) ، اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ تَمْرَةٌ بِالتَّاءِ (وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكِسْرَةٍ) ، أَيْ: بِقِطْعَةٍ مِنَ الْخُبْزِ (حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ شَيْءٌ يَسِيرٌ) ، أَيْ: قَلِيلٌ جِدًّا (فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَرَكَةِ) ، أَيْ: بِنُزُولِهَا عَلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ خُذُوا) أَيْ: مَا تُرِيدُونَ مِنَ الزَّادِ الْوَاقِعِ فِي النِّطَعِ (وَاجْعَلُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: صُبُّوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ آخِذِينَ أَوْ خُذُوا صَابِّينَ فِي أَوْعِيَتِكُمْ. اهـ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَوْعَيِ التَّضْمِينِ، لَكِنَّ التَّضْمِينَ لِلْجَعْلِ أَوْلَى مِنَ الصَّبِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى. (فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ) ، أَيْ: فِي الْمُعَسْكَرِ أَوْ فِي أَيْدِي الْعَسْكَرِ (وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ) : وَمَا أَحْلَى ذَلِكَ الْمَالَ الْحَلَالَ.

(قَالَ) ، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (فَأَكَلُوا) ، أَيْ: جَمِيعُ الْعَسْكَرِ (حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ) : بِفَتْحِ الضَّادِ وَيُكْسَرُ أَيْ: زَادَتْ (فَضْلَةٌ) : بِالرَّفْعِ أَيْ زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْفَضْلُ ضِدَّ النَّقْصِ، وَقَدْ فَضَلَ كَنَصَرَ وَكَرُمَ وَالْجَمْعُ فُضُولٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْمُعْجِزَاتِ سَبَبُ زِيَادَةِ الْيَقِينِ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ (لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا) ، أَيْ: بِالشَّهَادَتَيْنِ (عَبْدٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِيهِ سَبَبِيَّةً أَوِ اسْتِعَانَةً أَوْ حَالًا، وَقَدْ جِيءَ بِالْجُمْلَةِ اسْتِطْرَادًا أَوِ اسْتِبْشَارًا لِلْأُمَّةِ وَقَوْلُهُ: (غَيْرُ شَاكٍّ) : مَرْفُوعٌ صِفَةُ عَبْدٍ. قُلْتُ: وَفِي نُسْخَةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْحَالِ (فَيُحْجَبَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: فَيُمْنَعَ (عَنِ الْجَنَّةِ) : قَالَ شَارِحٌ: فَيُحْجَبَ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ فِي جَوَابِ النَّفْيِ وَهُوَ لَا يَلْقَى اهـ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمَعْنَى مَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا شَكٍّ فَلَا يُحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةِ أَبَدًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَيُحْجَبُ مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِمَا مَعًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ عَنْ سَلَمَةَ.

5913 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرُوسًا بِزَيْنَبَ، فَعَمَدَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَصَنَعَتْ حَيْسًا فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيْكَ أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَهَبْتُ فَقُلْتُ، فَقَالَ: (ضَعْهُ) ثُمَّ قَالَ: (اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا) رِجَالًا سَمَّاهُمْ (وَادْعُ مَنْ لَقِيتَ) فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى وَمَنْ لَقِيتُ، فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ. قِيلَ لِأَنَسٍ: عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ يَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ، وَتَكَلَّمَ بِمَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُ لَهُمْ: (اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ) قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ. قَالَ لِي: (يَا أَنَسُ! ارْفَعْ) فَرَفَعْتُ، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5913 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرُوسًا) : هُوَ نَعْتٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمَعْنَى زَوْجًا جَدِيدًا (بِزَيْنَبَ) ، أَيْ: بِسَبَبِهَا، وَقِيلَ أَيْ: مُتَزَوِّجًا بِهَا (فَعَمَدَتْ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: قَصَدَتْ (أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: لَبَنٍ مُجَفَّفٍ يَابِسٍ مُسْتَحْجَرٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَقِطُ مُثَلَّثَةٌ وَيُحَرَّكُ وَكَكَتِفٍ وَرَجُلٍ وَإِبِلٍ شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْمَخِيضِ الْغَنَمِيِّ (فَصَنَعَتْ حَيْسًا) : فَالْحَيْسُ مَجْمُوعُ الثَّلَاثَةِ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: الْحَيْسُ هُوَ تَمْرٌ مَعَ سَمْنٍ أَوْ أَقِطٍ، وَقِيلَ هُوَ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةٍ نَقْلٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى تَمْرٍ مَعَ سَمْنٍ أَوْ أَقِطٍ كَمَا قَالَ، وَقَدْ يُجْعَلُ بَدَلَ الْأَقِطِ دَقِيقٌ أَوْ فَتِيتٌ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: الْحَيْسُ الْخَلْطُ وَتَمْرٌ يُخْلَطُ بِسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَيُعْجَنُ شَدِيدًا، ثُمَّ يُنْدَرُ مِنْهُ نَوَاهُ، وَرُبَّمَا يُجْعَلُ فِيهِ سَوِيقٌ. (فَجَعَلَتْهُ) ، أَيْ: أُمُّ سُلَيْمٍ (فِي تَوْرٍ) : بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَرَاءٍ إِنَاءٌ كَالْقَدَحِ ( «فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ! اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيْكَ أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ» ) ، أَيْ: زَهِيدٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَهَبْتُ) ، أَيْ: بِهِ (إِلَيْهِ، فَقُلْتُ) ، أَيْ: مَا أَوْصَتْنِي بِهِ (فَقَالَ: ضَعْهُ) ، أَيْ: قَائِلًا بِلِسَانِ الْحَالِ إِنَّ الْيَسِيرَ عِنْدَنَا كَثِيرٌ، وَلَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ فَضْلٌ كَبِيرٌ، (ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا، رِجَالًا) ، أَيْ: ثَلَاثَةً (سَمَّاهُمْ) ، أَيْ: عَيَّنَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَنِسْبَتِهِمْ فَعَبَّرْتُ عَنْهُمْ بِفُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا فَقَوْلُهُ: رِجَالًا سَمَّاهُمْ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ بَدَلٌ مِنْ فُلَانًا إِلَخْ. أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي أَوْ مَعْنِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ) ، أَيْ: عَلَى الْعُمُومِ (فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى وَمَنْ لَقِيتُ فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ) . بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: مُمْتَلِئٌ بِهِمْ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ هُوَ الدَّارُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ وَيَكُونُ فِيهِ مُعْجِزَةٌ أُخْرَى حَيْثُ وَسِعَ خَلْقًا كَثِيرًا (قِيلَ لِأَنَسٍ: عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا) ؟ جَمَعَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْعَدَدِ لِزِيَادَةٍ عَلَى الْوَاحِدِ (قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ) : بِنَصْبِ زُهَاءَ عَلَى تَقْدِيرِ كَانُوا. وَقِيلَ: بِرَفْعِهِ أَيْ: عَدَدُنَا مِقْدَارُ ثَلَاثِمِائَةٍ (فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ يَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِمَا شَاءَ اللَّهُ) ، أَيْ: مِنَ الذِّكْرِ وَالدَّعْوَةِ (ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً) ، أَيْ: عَشَرَةً بَعْدَ عَشَرَةٍ لِمَا سَبَقَ (يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمُ: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ) : بِسُكُونِ لَامِ الْأَمْرِ وَيُكْسَرُ أَيْ يَتَنَاوَلُ (كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ) ، أَيْ: مِمَّا يُقَرِّبُهُ مِنَ الْوِعَاءِ. (قَالَ) ، أَيْ: أَنَسٌ (فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ) ، أَيْ: وَشَبِعُوا جَمِيعُهُمْ (قَالَ لِي: يَا أَنَسُ ارْفَعْ) ، أَيِ: الْقَدَحَ (فَرَفَعْتُ فَمَا أَدْرِي، حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ) . أَيْ: فِي الصُّورَةِ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ حِينَ الرَّفْعِ كَثُرَ بِبَرَكَةِ وَضْعِ يَدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضْلَةِ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هَذَا وَقَدْ قِيلَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْوَلِيمَةَ لِزَيْنَبَ كَانَتْ مِنَ الْحَيْسِ الَّذِي أَهْدَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَالْمَشْهُورُ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقِصَّةِ تَكْثِيرُ ذَلِكَ الطَّعَامِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُضُورُ الْحَيْسِ صَادَفَ حُضُورَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، وَإِنْكَارُ وُقُوعِ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ فِي قِصَّةِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ عَجِيبٌ، فَإِنَّ أَنَسًا يَقُولُ: أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِشَاةٍ، وَأَنَّهُ أَشْبَعَ الْمُسْلِمِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ نَحْوُ الْأَلْفِ. قُلْتُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْحَيْسَ وَلِيمَةٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ إِرْسَالُهُ هَدِيَّةً ثُمَّ إِمَّا فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِمَّا فِي يَوْمٍ آخَرَ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِشَاةٍ وَأَشْبَعَ الْأَلْفَ خُبْزًا وَلَحْمًا، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْمُعْجِزَتَيْنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5914 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ قَدْ أَعْيَا، فَلَا يَكَادُ يَسِيرُ، فَتَلَاحَقَ بِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (مَا لِبَعِيرِكَ؟) قُلْتُ: قَدْ عَيِيَ، فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزَجَرَهُ فَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ فَقَالَ لِي: (كَيْفَ تَرَى بِعِيرَكَ؟) قُلْتُ: بَحْرٌ، قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ. قَالَ: (أَفَتَبِيعُنِيهِ بِوُقِيَّةٍ؟) . فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ عَلَيْهِ بِالْبَعِيرِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5914 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ) ، أَيْ: رَاكِبٌ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَقِي عَلَيْهِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ (قَدْ أَعْيَا) ، أَيْ: عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ (فَلَا يَكَادُ يَسِيرُ) ، أَيْ: يَقْرُبُ السَّيْرَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ (فَتَلَاحَقَ) ، أَيْ: لَحِقَ (بِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا لِبَعِيرِكَ؟ قُلْتُ: قَدْ عَيِيَ) : بِكَسْرِ الْيَاءِ أَيْ: عَجَزَ (فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: عَنِ الْعَسْكَرِ وَعَنِ النَّاضِحِ (فَزَجَرَهُ) ، أَيْ: بِالضَّرْبِ أَوِ الصَّوْتِ (فَدَعَا لَهُ فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِبِلِ) ، أَيْ: سَائِرِهَا (قُدَّامَهَا) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِبِلِ، وَهُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: فَمَا زَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ: (يَسِيرُ) : وَهُوَ خَبَرُ مَا زَالَ وَاسْمُهُ عَائِدٌ إِلَى نَاضِحٍ كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ (فَقَالَ لِي: كَيْفَ تَرَى بِعِيرَكَ؟) ، أَيِ: الْآنَ (قُلْتُ: بِخَيْرٍ قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ قَالَ: أَفَتَبِيعُنِيهِ بِوُقِيَّةٍ) ؟ أَيْ: بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا صَرَّحَ بِهِ.

شَارِحٌ، وَهُوَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَيُفْتَحُ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَجَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ بِالْفَتْحِ فِي الْوَقِيَّةِ وَهَى لُغَةٌ حَكَاهَا بَعْضُهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِأُوقِيَّةٍ بِضَمِّ الْهَمْزِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَقِيلَ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْوَقِيَّةُ يَسْتَعْمِلُهَا الْآنَ الْمُسْتَعْرِبُونَ، وَهِيَ بِالضَّمِّ لُغَةٌ عَامِرِيَّةٌ، وَالْأُوقِيَّةُ لِغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قِيلَ: هِيَ فِي الْحَدِيثِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ وَمُتَعَارَفِ النَّاسِ الْآنَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأُوقِيَّةُ بِالضَّمِّ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ كَالْوُقِيَّةِ بِالضَّمِّ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدِّدَةً وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَقَيَدَّهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. (فَبِعْتُهُ عَلَى أَنْ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: رُكُوبَ فَقَارِ ظَهْرِهِ وَهَى عِظَامُ الظَّهْرِ، فَفِي النِّهَايَةِ فَقَارُ الظَّهْرِ حَرَزَاتُهُ الْوَاحِدَةُ فَقَارَةٌ. أَيْ: بِالْفَتْحِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ، وَاسْمُ سَيْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُو الْفَقَارِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ فِقَرٌ صِغَارٌ حِسَانٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ مُدَّةً (فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ عَلَيْهِ بِالْبَعِيرِ) ، أَيْ: أَتَيْتُهُ بِهِ غُدْوَةً (فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ لَهُ بِوَاسِطَةِ بِلَالٍ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَرُبَتِ الْمَدِينَةُ قَالَ لِبِلَالٍ: (أَعْطِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ وَزِدْ) اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ أَمْرَهُ لِبِلَالٍ أَسْبَقُ، ثُمَّ إِعْطَاؤُهُ فِي غَدٍ تَحَقُّقٌ مَعَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَطَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْأَمْرِ بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5915 - وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَأَتَيْنَا وَادِيَ الْقُرَى عَلَى حَدِيقَةٍ لِامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اخْرُصُوهَا) فَخَرَصْنَاهَا، وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشَرَةَ أَوْسُقٍ وَقَالَ: (أَحْصِيهَا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) وَانْطَلَقْنَا، حَتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ) فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ، فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالَهُ) . فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ. فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ. ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْأَةَ عَنْ حَدِيقَتِهَا (كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا؟) فَقَالَتْ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5915 - (وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (السَّاعِدِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى بَنِي سَاعِدَةَ (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ تَبُوكَ) ، أَيْ: إِلَيْهَا أَوْ فِيهَا فَنَصَبَ غَزْوَةَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ (فَأَتَيْنَا وَادِي الْقُرَى) : بِسُكُونِ يَاءِ الْوَادِي، لَكِنَّهَا تَسْقُطُ فِي الدَّرْجِ، وَفِي بَعْضِهَا بِنَصْبِهَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ التَّرْكِيبَ إِضَافِيٌّ لَا مَزْجِيٌّ وَقَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: وَادِي الْقُرَى لَا يُعْرَبُ الْيَاءُ مِنْ وَادِي، فَإِنَّ الْكَلِمَتَيْنِ جُعِلَتَا اسْمًا وَاحَدًا اهـ. وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ أَيْ: جِئْنَاهُ مَارِّينَ (عَلَى حَدِيقَةٍ) ، أَيْ: بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ (لِامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْرُصُوهَا) : بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: قَدِّرُوا وَخَمِّنُوا ثَمَرَهَا (فَخَرَصْنَاهَا) ، أَيْ: مُخْتَلِفِينَ فِي قَدْرِهَا (وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشَرَةَ أَوْسُقٍ) : وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا (وَقَالَ) ، أَيْ: لِلْمَرْأَةِ (أَحْصِيهَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ أَيِ: اضْبُطِيهَا وَاحْفَظِي عَدَدَهَا كَمْ يَبْلُغُ ثَمَرُهَا (حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَانْطَلَقْنَا حَتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ) : رَسْمُهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ هُنَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لَا غَيْرُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَتَهُبُّ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: سَتَمُرُّ (عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ) ، أَيْ: مِنْ مَكَانِهِ فَإِنَّهُ يَضُرُّهُ (فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ) ، أَيْ: فَلْيَرْبِطْ مِنَ الْآنَ (عِقَالَهُ) ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَا يُرْبَطُ بِهِ وَظِيفُ الْبَعِيرِ إِلَى ذِرَاعِهِ (فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ) . فَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ (فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ) ، بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا هَمْزٌ عَلَى وَزْنِ سَيِّدٍ، وَهُوَ أَبُو قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ، ثُمَّ قِيلَ: الْجَبَلَانِ أَحَدُهُمَا أَجَأُ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ بِهَمْزٍ وَجِيمٍ فَهَمْزٌ عَلَى فَعَلٍ كَجَبَلٍ، وَقِيلَ كَعَصَا، وَالْآخَرُ سَلْمَى بِفَتْحِ السِّينِ وَهُمَا بِأَرْضِ نَجْدٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمَا سُمَّيَا بِاسْمِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الْعَمَالِيقِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مُعْجِزَةٌ أُخْرَى.

(قَالَ) الرَّاوِي: (ثُمَّ أَقْبَلْنَا) ، أَيْ: فِي الرُّجُوعِ (حَتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْأَةَ عَنْ حَدِيقَتِهَا: (كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا) . بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُمَا وَضَمٍّ فَسُكُونٍ وَالْمُرَادُ تَمْرُهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَقَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ) . بِالنَّصْبِ أَيْ: بَلَغَ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: عَدَدَ أَوْسَاقِهَا عَشَرَةُ أَوْسُقٍ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ ثَالِثَةٌ لِأَجْلِ تَحَدِّيهَا وَطَلَبِ مُعَارَضَتِهَا، فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِثْلُ هَذَا اتِّفَاقًا، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ إِظْهَارَ نُبُوَّتِهِ لِلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَلِزِيَادَةِ إِتْقَانِ إِيمَانِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5916 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « (إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهَا ذِمَّةً وَرَحِمًا - أَوْ قَالَ: ذِمَّةً وَصِهْرًا - فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا) . قَالَ: فَرَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ وَأَخَاهُ رَبِيعَةَ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَخَرَجْتُ مِنْهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5916 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ) : وَهِيَ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ (وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى) ، أَيْ: يُذْكَرُ (فِيهَا الْقِيرَاطُ) ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: خَمْسُ شُعَيْرَاتٍ، وَأَصْلُهُ قِرَّاطٌ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أُبْدِلَتِ الرَّاءُ الْأُولَى يَاءً، وَنَظِيرُهُ دِينَارٌ. قَالَ الْقَاضِي، أَيْ: يُكْثِرُ أَهْلُهَا ذِكْرَ الْقَرَارِيطِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ لِتَشَدُّدِهِمْ فِيهَا وَقِلَّةِ مُرُوءَتِهِمْ، وَقِيلَ: الْقَرَارِيطُ كَلِمَةٌ يُذْكَرُ أَهْلُهَا فِي الْمُسَابَّةِ، وَيَقُولُونَ: أَعْطَيْتُ فُلَانًا قَرَارِيطَ أَيْ: أَسْمَعْتُهُ الْمَكْرُوهَ، وَقَدْ حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِلَهْجَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ، لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَوْمَ لَهُمْ دَنَاءَةٌ وَخِسَّةٌ، أَوْ فِي لِسَانِهِمْ بَذَاءٌ وَفُحْشٌ، (فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا) أَيْ: إِذَا اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَى أَهْلِهَا وَتَمَكَّنْتُمْ مِنْهُمْ (فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا) أَيْ: بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ عَمَّا تُنْكِرُونَ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ سُوءُ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ عَلَى الْإِسَاءَةِ، (فَإِنَّ لَهَا) ، أَيْ: لِأَهْلِهَا (ذِمَّةً) ، أَيْ: حُرْمَةً وَأَمَانًا مِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَرَحِمًا) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: قَرَابَةً مِنْ قِبَلِ هَاجَرَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ هَاجَرَ وَمَارِيَةَ كَانَتَا مِنَ الْقِبْطِ (أَوْ قَالَ ذِمَّةً وَصِهْرًا) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي قَالَ شَارِحٌ: فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الصِّهْرُ يَخْتَصُّ بِمَارِيَةَ، وَالذِّمَّةُ بِهَاجَرَ، (فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ) : بِفَتْحِ لَامٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَهِيَ الْآجُرُّ قَبْلَ طَبْخِهِ (فَاخْرُجْ) ، أَيْ: يَا أَبَا ذَرٍّ (مِنْهَا) . أَيْ: مِنْ مِصْرَ، وَالظَّاهِرُ الْمُطَابِقُ لِرَأَيْتُمْ أَنْ يُقَالَ: فَاخْرُجُوا، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ الْأَمْرَ بِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْفِتْنَةِ لَوْ أَقَامَ بَيْنَهُمْ. (قَالَ) ، أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (فَرَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شُرَحْبِيلَ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ فَسُكُونٍ بِلَا انْصِرَافٍ (ابْنِ حَسَنَةَ) : بِفَتَحَاتٍ (وَأَخَاهُ رَبِيعَةَ) : لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَخَرَجْتُ مِنْهَا) . وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي آخِرِ عَهْدِ عُثْمَانَ حِينَ عَتَبُوا عَلَيْهِ وِلَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا كُوشِفَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْغَيْبِ أَنَّهُ سَتَحْدُثُ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي مِصْرَ، وَسَيَكُونُ عَقِيبَ ذَلِكَ فِتَنٌ وَشُرُورٌ بِهَا كَخُرُوجِ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلًا، وَقَتْلِهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ثَانِيًا، وَهُوَ وَالٍ عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ فَاخْتَبَأَ حِينَ أَحَسَّ بِالشَّرِّ فِي جَوْفِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَرَمَوْهُ بِالنَّارِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً وَأَمَارَةً لِتِلْكَ الْفِتَنِ وَأَمَرَ أَبَا ذَرٍّ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا حَيْثُمَا رَآهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الشُّرَّاحُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي طِبَاعِ سُكَّانِهَا خِسَّةً وَمُمَاكَسَةً، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ صَدْرُ الْحَدِيثِ، فَإِذَا اقْتَضَتِ الْحَالُ إِلَى أَنْ يَتَخَاصَمُوا فِي هَذَا الْمُحَقَّرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَيَجْتَنِبَ عَنْ مُسَاكَنَتِهِمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5917 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «فِي أَصْحَابِي - وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فِي أُمَّتِي - اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ: سِرَاجٌ مِنْ نَارٍ يَظْهَرُ فِي أَكْتَافِهِمْ حَتَّى تَنْجُمَ فِي صُدُورِهِمْ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: (لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا) فِي (بَابِ مَنَاقِبِ عَلِيٍّ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَحَدِيثَ جَابِرٍ (مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ) فِي (بَابِ الْمَنَاقِبِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5917 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (فِي أَصْحَابِي - وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فِي أُمَّتِي - اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا) : مَعَ أَنَّهُ يُشَمُّ مِنْ مَسَافَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) ، أَيْ: حَتَّى يَدْخُلَ الْبَعِيرُ فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} [الأعراف: 40] قَالَ الشَّيْخُ الْتُورِبِشْتِيُّ: صُحْبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُعْتَدُّ بِهَا هِيَ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْإِيمَانِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ الصَّحَابِيُّ إِلَّا عَلَى مَنْ صَدَقَ فِي إِيمَانِهِ، وَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَتُهُ دُونَ أَنْ أُغْمِضَ عَلَيْهِمْ بِالنِّفَاقِ، فَإِضَافَتُهَا إِلَيْهِمْ لَا تَجُوزُ إِلَّا عَلَى الْمَجَازِ لِتَشَبُّهِهِمْ بِالصَّحَابَةِ، وَتَسَتُّرِهِمْ بِالْكَلِمَةِ، وَإِدْخَالِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي غِمَارِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: فِي أَصْحَابِي وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَصْحَابِي، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا إِبْلِيسُ كَانَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَيْ: فِي زُمْرَتِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] وَقَدْ أَسَرَّ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَى خَاصَّتِهِ وَذَوِي الْمَنْزِلَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَمْرَ هَذِهِ الْفِئَةِ الْمَسْمُومَةِ الْمُتَلَبِّسَةِ، لِئَلَّا يَقْبَلُوا مِنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَلَا يَقْبَلُوا مِنْ قِبَلِهِمُ الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَى الْمَحْفُوظَيْنِ شَأْنُهُمْ لِاشْتِهَارِهِمْ بِذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَاجِهُونَهُمْ بِصَرِيحِ الْمَقَالِ أُسْوَةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ حُذَيْفَةُ أَعْلَمُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْجِعَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَقَبَةِ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَّارٌ يَقُودُ بِهِ وَحُذَيْفَةُ يَسُوقُ بِهِ، وَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَادَى: أَنْ خُذُوا بَطْنَ الْوَادِي فَهُوَ أَوْسَعُ لَكُمْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَخَذَ الثَّنِيَّةَ فَلَمَّا سَمِعَهُ الْمُنَافِقُونَ طَمِعُوا فِي الْمَكْرِ بِهِ، فَاتَّبَعُوهُ مُتَلَثِّمِينَ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَشَفَةَ الْقَوْمِ مِنْ وَرَائِهِ، فَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَرُدَّهُمْ، فَاسْتَقْبَلَ حُذَيْفَةُ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ بِمِحْجَنٍ كَانَ مَعَهُ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا فَرَعَبَهُمُ اللَّهُ حِينَ أَبْصَرُوا حُذَيْفَةَ، فَانْقَلَبُوا مُسْرِعِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ حَتَّى خَالَطُوا النَّاسَ، فَأَدْرَكَ حُذَيْفَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِحُذَيْفَةَ: (هَلْ عَرَفْتَ أَحَدًا مِنْهُمْ؟) قَالَ: لَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَلَثِّمِينَ، وَلَكِنْ أَعْرِفُ رَوَاحِلَهُمْ فَقَالَ. (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنِي بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، وَسَأُخْبِرُكَ بِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ الصَّبَاحِ) فَمِنْ ثَمَّ كَانَ النَّاسُ يَرْجِعُونَ حُذَيْفَةَ فِي أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَتَابَ اثْنَانِ وَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ عَلَى النِّفَاقِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، وَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى أَسْمَائِهِمْ فِي كُتُبِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ مَرْوِيَّةً عَنْ حُذَيْفَةَ غَيْرَ أَنِّي وَجَدْتُ فِي بَعْضِهَا اخْتِلَافًا، فَلَمْ أَرَ أَنْ أُخَاطِرَ بِدِينِي فِيمَا لَا ضَرُورَةَ لِي (ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ) ، أَيْ: مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مُنَافِقًا (تَكْفِيهِمْ) ، أَيْ: تَدْفَعُ شَرَّهُمُ (الدُّبَيْلَةُ) : قَالَ الْقَاضِي: الدُّبَيْلَةُ فِي الْأَصْلِ تَصْغِيرُ الدِّبْلِ، وَهِيَ الدَّاهِيَةُ، فَأَطْلَقَتْ قُرْحَةً عَلَى رَدِيَّهٍ تَحْدُثُ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ وَيُقَالُ لَهَا الدُّبْلَةُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، (سِرَاجٌ مِنْ نَارٍ) : تَفْسِيرٌ لِلدُّبَيْلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ حُذَيْفَةَ (يَظْهَرُ) ، أَيْ: يَخْرُجُ السِّرَاجُ (فِي أَكْتَافِهِمْ حَتَّى تَنْجُمَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: تَظْهَرَ وَتَطَّلِعَ النَّارُ (فِي صُدُورِهِمْ) . أَيْ: فِي بُطُونِهِمْ، وَفِي كَلَامِ الْقَاضِي إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: تَظْهَرُ بِصِيغَةِ

التَّأْنِيثِ حَيْثُ قَالَ: وَفَسَّرَهَا فِي الْحَدِيثِ بِنَارٍ تَخْرُجُ فِي أَكْتَافِهِمْ، حَتَّى تَنْجُمَ أَيْ: تَظْهَرَ مِنْ نَجَمَ يَنْجُمُ بِالضَّمِّ إِذَا ظَهَرَ وَطَلَعَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهَا وَرَمًا حَارًّا يَحْدُثُ فِي أَكْتَافِهِمْ بِحَيْثُ يَظْهَرُ أَثَرُ تَرْكِ الْحَرَارَةِ وَشِدَّةُ لَهَبِهَا فِي صُدُورِهِمْ مُمَثَّلَةً بِسِرَاجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ شُعْلَةُ الْمِصْبَاحِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَّفَهُ إِيَّاهُمْ وَأَنَّهُمْ هَلَكُوا، كَمَا أَخْبَرَهُ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ كَذَا) أَيْ: رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (فِي بَابِ مَنَاقِبِ عَلِيٍّ) أَيْ: فَإِنَّهُ أَوْلَى. (وَحَدِيثَ جَابِرٍ) ، أَيْ: وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ (مَنْ يَصْعَدِ الثَّنِيَّةَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَرُوِيَ يَصْعَدُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَتَمَامُهُ: (فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) . (فِي بَابِ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ) . أَيْ: فَإِنَّهُ الْمُنَاسِبُ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : مُتَعَلِّقٌ بِسَنَذْكُرُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5918 - عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا، فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ، حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا سَيِّدُ الْعَالِمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ. فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا. وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ، وَكَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ. فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ شَجَرَةٍ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ. فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5918 - (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ) ، أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ أَكَابِرُهُمْ أَوْ لِسِنِّهِمْ (فَلَمَّا أَشْرَفُوا) ، أَيْ: طَلَعُوا (عَلَى الرَّاهِبِ) : اسْمُهُ بُحَيْرَاءُ، وَهُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ مَمْدُودًا عَلَى الْمَشْهُورِ، لَكِنْ ضَبَطَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَأَلِفٍ مَقْصُورَةٍ، وَهُوَ زَاهِدُ النَّصَارَى قَالَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: وَكَانَ أَعْلَمَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ وَالْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (هَبَطُوا) ، أَيْ: نَزَلُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُوَ بُصْرَى مِنْ بِلَادِ الشَّامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ، (فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ) ، أَيْ: فَفَتَحُوهَا (فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا) ، أَيِ: النَّاسُ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ (قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ) ، أَيْ: بِمَكَانِهِ (فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، قَالَ) ، أَيِ: الرَّاوِي (فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ) ، إِشْعَارٌ بِأَنَّ خُرُوجَهُ وَنُزُولَهُ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ حُلُولِهِمْ وَوُصُولِهِمْ (فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ) ، أَيْ: أَخَذَ يَمْشِي فِيمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَيَطْلُبُ فِي خِلَالِهِمْ شَخْصًا (حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ) ، أَيْ: عَلَى الْإِطْلَاقِ (هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، أَيْ: إِلَى الْعَالَمِينَ جَمِيعِهِمْ نَظَرًا إِلَى السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (يَبْعَثُهُ اللَّهُ) أَيْ: يُرْسِلُهُ أَوْ يُظْهِرُ رِسَالَتَهُ (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ.

مَبْعُوثٌ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. (فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ) ؟ أَيْ: مَا سَبَبُ عِلْمِكَ وَبَيَانُ كَيْفِيَّتِهِ (فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ، أَيْ: سَقَطَ (سَاجِدًا) ، أَيْ: مُتَوَاضِعًا إِلَيْهِ (وَلَا يَسْجُدُ إِلَّا لِنَبِيٍّ) ، أَيْ: عَظِيمٍ وَرَسُولٍ كَرِيمٍ (وَإِنِّي أَعْرِفُهُ) ، أَيِ: النَّبِيَّ أَيْضًا (بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُكْسَرُ وَالنُّبُوَّةِ بِالْإِدْغَامِ وَيُهْمَزُ (أَسْفَلَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ (مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ) : بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ رَأْسُ لَوْحِ الْكَتِفِ (مِثْلَ التُّفَّاحَةِ) : بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالرَّفْعِ، وَفِي أُخْرَى بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ خَاتَمٍ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: يَرْوِي بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَحْذُوفٌ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ الْجَرُّ عَلَى الْإِبْدَالِ دُونَ الصِّفَةِ لِأَنَّ مِثْلًا وَغَيْرًا لَا يَتَعَارَفَانِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، (ثُمَّ رَجَعَ) ، أَيِ: الرَّاهِبُ (فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ) ، أَيْ: بِالطَّعَامِ (وَكَانَ هُوَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ أَيْ: فِي رِعَايَتِهَا (قَالَ) ، أَيِ: الرَّاهِبُ (أَرْسِلُوا إِلَيْهِ) ، أَيْ: فَإِنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهِ (فَأَقْبَلَ) ، أَيْ: بَعْدَ الْإِرْسَالِ أَوْ قَبْلَهُ (وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ) . أَيْ: سَحَابَةٌ (تُظِلُّهُ) . أَيْ: تَجْعَلُهُ تَحْتَ ظِلِّهِ. (فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ) ، أَيْ: قَرُبَ مِنْهُمْ (وَجَدَهُمْ) ، أَيْ: وَجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَوْمَ (قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ شَجَرَةٍ) ، أَيْ: إِلَى ظِلِّهَا (فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ) ، أَيْ: زِيَادَةً عَلَى ظِلِّ السَّحَابَةِ. أَوْ زَالَتِ السَّحَابَةُ وَمَالَتِ الشَّجَرَةُ إِظْهَارًا لِلْخَارِقِينَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ أَيْ وَاقِعًا ظِلُّهُ عَلَيْهِ (قَالَ) ، أَيِ: الرَّاهِبُ لِلْقَوْمِ (انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ) ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مَا تَنْظُرُونَ إِلَى مِظَلَّةِ السَّمَاءِ فَانْظُرُوا إِلَى مِظَلَّةِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْمَاهُمْ عَمَاءَهُمْ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] وَأَظْهَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] (فَقَالَ) ، أَيِ: الرَّاهِبُ (أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ) : بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ وَبِضَمِّ الشِّينِ أَيْ أَحْلِفُ عَلَيْكُمْ بِاللَّهِ، وَقِيلَ، أَيْ: أَطْلُبُ مِنْكُمْ بِاللَّهِ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ، وَبَطَلَ عَمَلُ الْفِعْلِ لِلتَّعْلِيقِ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: (أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ) ؟ أَيْ قَرِيبُهُ وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ (قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ) ، أَيْ: وَلِيُّهُ (فَلَمْ يَزَلْ) ، أَيِ: الرَّاهِبُ (يُنَاشِدُهُ) ، أَيْ: يُنَاشِدُ أَبَا طَالِبٍ وَيُطَالِبُ رَدَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الرُّومِ أَنْ يَقْتُلُوهُ فِي الشَّامِ وَيَقُولُ لِأَبِي طَالِبٍ: بِاللَّهِ عَلَيْكَ أَنْ تَرُدَّ مُحَمَّدًا إِلَى مَكَّةَ وَتَحْفَظَهُ مِنَ الْعَدُوِّ، (حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ) ، أَيْ إِلَى مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ - (وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا) ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: فَرَدَدْتُهُ مَعَ رِجَالٍ، وَكَانَ فِيهِمْ بِلَالٌ أَخْرَجَهُ رَزِينٌ، (وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ) : وَهُوَ الْخُبْزُ الْغَلِيظُ عَلَى مَا فِي الْأَزْهَارِ قَالَ شَارِحٌ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْخُبْزِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْخُبْزُ وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ (وَالزَّيْتِ) . أَيْ لَإِدَامِ ذَلِكَ الْخُبْزِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ رَوَاهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: ( «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، أَوْ أَحَدُهَا. وَذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ فِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَعَدَّهُ أَئِمَّتُنَا وَهْمًا وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ سِنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ ذَاكَ اثْنَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَبُو بَكْرٍ أَصْغَرُ مِنْهُ بِسَنَتَيْنِ، وَبِلَالٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ وُلِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اهـ. وَقَالَ فِي مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ، قِيلَ: مِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا، وَبِلَالٌ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ صَبِيًّا اهـ. وَضَعَّفَ الذَّهَبِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لِقَوْلِهِ: وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذْ ذَاكَ مَا اشْتَرَى بِلَالًا. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ: الْحَدِيثُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَيْسَ فِيهِ سِوَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ فِيهِ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ وَهْمًا مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، كَذَا فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِيرَادَ هَذَا الْحَدِيثِ بِبَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ كَانَ أَوْفَقَ لِلتَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.

5919 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5919 - (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ) ، أَيْ: حَجَرٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) فَالْحَدِيثُ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ وَكَرَامَةٌ لِلْوَلِيِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

5920 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. قَالَ: فَارْفَضَّ عَرَقًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5920 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ) ، أَيْ: جِيءَ (بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ) : بِإِضَافَتِهَا عَلَى الْبِنَاءِ وَجَوَازِ إِعْرَابِهَا مُنَوَّنًا، وَالتَّقْدِيرُ أُسْرِيَ فِيهَا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مُلْجَمًا مُسْرَجًا) ، عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا أَيْ: مَوْضُوعًا عَلَيْهِ اللِّجَامُ وَالسَّرْجُ (فَاسْتَصْعَبَ) ، أَيِ: اسْتَعْصَى الْبُرَاقُ (عَلَيْهِ) : وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ الرُّكُوبِ، وَيُقَالُ: اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَيْ صَعُبَ، فَالْمَعْنَى صَعُبَ عَلَيْهِ رُكُوبُهُ بِاسْتِعْصَائِهِ (فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا) ؟ وَلَمْ تَفْعَلْ بِغَيْرِهِ أَوْ وَلَوْ فَعَلْتَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ (فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ) بِرَفْعِ أَكْرَمُ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: وَجَدْنَا الرِّوَايَةَ فِي أَكْرَمَ بِالنَّصْبِ، فَلَعَلَّ التَّقْدِيرَ: فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ كَانَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. (قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَارْفَضَّ) : بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ انْصَبَّ الْبُرَاقُ (عَرَقًا) تَمْيِيزٌ، وَالْمَعْنَى سَالَ مِنْهُ الْعَرَقُ حَيَاءً لِكَوْنِ اهْتِزَازِهِ صَدَرَ عَنْهُ فَرَحًا، وَظَنَّ أَنَّهُ وَقَعَ اسْتِعْصَاءً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

5921 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ جَبْرَئِيلُ بِأُصْبُعِهِ، فَخَرَقَ بِهَا الْحَجَرَ، فَشَدَّ بِهِ الْبُرَاقَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5921 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ أَسْلِمِيٌّ، أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا وَبَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) : قَدْ سَبَقَ ضَبْطُهُ بِالْوَجْهَيْنِ (قَالَ جِبْرِيلُ بِأُصْبُعِهِ) ، أَيْ: أَشَارَ بِهَا (فَخَرَقَ) ، أَيْ: جِبْرِيلُ (بِهَا) ، أَيْ: بِتِلْكَ الْإِشَارَةِ (الْحَجَرَ فَشَدَّ) ، أَيْ: جِبْرِيلُ أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِهِ) ، أَيْ: بِالْحَجَرِ (الْبُرَاقَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَ يَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ؟ قُلْتُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَلْقَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْحَلْقَةُ، وَقَدِ انْسَدَّ فَخَرَقَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ.

5922 - وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ رَأَيْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَهُ إِذْ مَرَرْنَا لِبَعِيرٍ يُسْنَى عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ الْبَعِيرُ جَرْجَرَ، فَوَضَعَ جِرَانَهُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ؟) فَجَاءَهُ، فَقَالَ: (بِعْنِيهِ) فَقَالَ: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَإِنَّهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ غَيْرُهُ. قَالَ: أَمَا إِذْ ذَكَرْتَ هَذَا مِنْ أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ، فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى نَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَنَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَتْ شَجَرَةٌ تَشُقُّ الْأَرْضَ حَتَّى غَشِيَتْهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكِرَتْ لَهُ. فَقَالَ: (هِيَ شَجَرَةٌ اسْتَأْذَنَتْ رَبَّهَا فِي أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَذِنَ لَهَا) . قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا فَمَرَرْنَا بِمَاءٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا بِهِ جِنَّةٌ فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْخِرِهِ ثُمَّ قَالَ: (اخْرُجْ فَإِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) ثُمَّ سِرْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مَرَرْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ فَسَأَلَهَا عَنِ الصَّبِيِّ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْنَا فِيهِ رَيْبًا بَعْدَكَ» . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5922 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ وَالْفَتْحَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَعِدَادَهُ فِي الْكُوفِيِّينَ. (قَالَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ) ، أَيْ: مِنَ الْمُعْجِزَاتِ (رَأَيْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ (بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَهُ، إِذْ مَرَرْنَا بِبَعِيرٍ يُسْنَى) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُسْتَقَى (عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ الْبَعِيرُ جَرْجَرَ) ، أَيْ: صَاحَ مِنَ الْجَرْجَرَةِ، وَهِيَ صَوْتُ تَرَدُّدِ الْبَعِيرِ فِي حَلْقِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَالْمَعْنَى رُدِّدَ الصَّوْتُ فِي حَلْقِهِ (فَوَضَعَ جِرَانَهُ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ مُقَدَّمَ عُنُقِهِ، وَقِيلَ: بَاطِنُ عُنُقِهِ (فَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا

الْبَعِيرِ) ؟ أَيْ مَالِكُهُ (فَجَاءَهُ فَقَالَ: بِعْنِيهِ، فَقَالَ: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ) ، أَيْ: لَا نَبِيعُهُ إِيَّاكَ بَلْ نُعْطِيكَ هِبَةً (يَا رَسُولَ اللَّهِ) ! فَإِنَّ رِسَالَتَكَ تَقْتَضِي جَلَالَتَكَ (وَإِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالضَّمِيرُ لِلْبَعِيرِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (لِأَهْلِ بَيْتٍ) : أَرَادَ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ (مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ) أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ (غَيْرُهُ. قَالَ: أَمَّا) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِهَا عَلَى أَنَّهَا لِلتَّنْبِيهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ: (إِذَا ذَكَرْتَ هَذَا مِنْ أَمْرِهِ) ، أَيْ: فَاعْلَمْ أَنِّي مَا طَلَبْتُ شِرَاءَهُ إِلَّا لِتَخْلِيصِهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ بِهِ (فَإِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ) ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بِأَنِ امْتَنَعَ الْبَيْعُ (فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ) ، أَيْ: بِكَثْرَةِ الْعَلَفِ وَقِلَّةِ الْعَمَلِ مَعَ جَوَازِ كَثْرَتِهِمَا وَقِلَّتِهِمَا، إِذِ الظُّلْمُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ كَثْرَةِ الْعَمَلِ وَقِلَّةِ الْعَلَفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ أَمَّا مَحْذُوفٌ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ شَكَا جَوَابُ لَا، مَا الْمُقَدَّرَةُ تَقْدِيرُهُ، أَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ أَنَّ الْبَعِيرَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ فَلَا أَلْتَمِسُ شِرَاءَهُ، وَأَمَّا الْبَعِيرُ فَتَعَاهَدُوهُ فَإِنَّهُ اشْتَكَى إِذْ لَا بَدَلًا، مَا التَّفْصِيلِيَّةُ مِنَ التَّكْرَارِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ أَمَّا الْمُقَدَّرَةِ فَتَعَاهَدُوهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّهُ شَكَا فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَفِي الْمُغْنِي: أَمَّا بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ هِيَ حَرْفُ شَرْطٍ وَتَفْصِيلٍ وَتَأْكِيدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ تَأْتِي لِغَيْرِ تَفْصِيلٍ أَصْلًا نَحْوُ: أَمَّا يَزِيدُ فَمُنْطَلِقٌ، وَأَمَّا التَّأْكِيدُ فَقَلَّ مَنْ ذَكَرَهُ، وَلَمْ أَرَ مَنْ أَحْكَمَ شَرْحَهُ غَيْرَ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فَائِدَةٌ، أَمَّا فِي الْكَلَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ فَضْلَ تَأْكِيدٍ تَقُولُ: يَزِيدُ ذَاهِبٌ، فَإِذَا قَصَدْتَ تَأْكِيدَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ ذَاهِبٌ، وَأَنَّهُ بِصَدَدِ الذَّهَابِ، وَأَنَّهُ مِنْهُ عَزِيمَةٌ. قُلْتُ: أَمَّا يَزِيدُ فَذَاهِبٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَزَيْدٌ ذَاهِبٌ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ بِفَائِدَتَيْنِ بَيَانُ كَوْنِهِ تَأْكِيدًا وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ. (ثُمَّ سِرْنَا) ، أَيْ: سَافَرْنَا أَوْ تَحَوَّلْنَا مِنْ مَكَانِنَا (حَتَّى نَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَنَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَتْ شَجَرَةٌ تَشُقُّ الْأَرْضَ) ، أَيْ: تَقْطَعُهَا (حَتَّى غَشِيَتْهُ) ، أَيْ أَتَتْهُ وَأَظَلَّتْهُ (ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرْتُ لَهُ) أَيْ أَنَا. وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: ذُكِرَتِ الْقَضِيَّةُ لَهُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ. (فَقَالَ: هِيَ شَجَرَةٌ اسْتَأْذَنَتْ رَبَّهَا فِي أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَذِنَ لَهَا) . أَيْ فَجَاءَتْ لِلسَّلَامِ. (قَالَ) ، أَيْ: يَعْلَى (ثُمَّ سِرْنَا فَمَرَرْنَا بِمَاءٍ) ، أَيْ: بِمَوْضِعِ مَاءٍ فِيهِ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: بِقَبِيلَةٍ (فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا بِهِ جِنَّةٌ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ جُنُونٍ (فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْخِرِهِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَنْخِرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْخَاءِ وَبِكَسْرِهِمَا وَضَمِّهِمَا وَكَمَجْلِسٍ الْأَنْفُ (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَجْنُونِ أَوِ الشَّيْطَانِ الَّذِي فِيهِ (اخْرُجْ) ، أَيْ: مِنْهُ (فَإِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ سِرْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مَرَرْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ فَسَأَلَهَا) ، أَيِ: الْمَرْأَةَ (عَنِ الصَّبِيِّ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ) ، أَيْ: مِنَ الصَّبِيِّ (رَيْبًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ شَيْئًا نَكْرَهُهُ (بَعْدَكَ) ، أَيْ: بَعْدَ مُفَارَقَتِكَ أَوْ بَعْدَ دُعَائِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] أَيْ حَوَادِثَ الدَّهْرِ، وَقِيلَ: مَا رَأَيْنَا مِنْهُ مَا أَوْقَعَنَا فِي شَكٍّ مِنْ حَالِهِ وَتَضَجُّرِنَا مِنْ أَمْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

5923 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بِابْنٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ ابْنِي بِهِ جُنُونٌ، وَإِنَّهُ لَيَأْخُذُهُ عِنْدَ غَدَائِنَا وَعَشَائِنَا فَيَخْبُثُ عَلَيْنَا فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرَهُ وَدَعَا، فَثَعَّ ثَعَّةً وَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ مِثْلُ الْجِرْوِ الْأَسْوَدِ يَسْعَى» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5923 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بِابْنٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي بِهِ جُنُونٌ، وَأَنَّهُ لَيَأْخُذُهُ» ) أَيِ: الْجُنُونُ (عِنْدَ غَدَائِنَا وَعَشَائِنَا) ، أَيْ: عِنْدَ حُضُورِهِمَا، أَوْ وَقْتَ اسْتِعْمَالِهِمَا. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: صَبَاحَنَا وَمَسَاءَنَا (فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرَهُ) ، أَيْ: صَدْرَ الْوَلَدِ (وَدَعَا، فَثَعَّ) : بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْعَيْنِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: قَاءَ (ثَعَّةً) ، أَيْ: قَيْئَةً وَاحِدَةً، فَفِي النِّهَايَةِ الثَّعُّ الْقَيْءُ، وَالثَّعَّةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ (وَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ مِثْلُ الْجِرْوِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: وَلَدِ الْكَلْبِ (الْأَسْوَدِ) : صِفَةٌ لِلْجِرْوِ، وَقَوْلُهُ: (يَسْعَى) . حَالٌ أَيْ: يَمْشِي ذَلِكَ الْجِرْوُ وَيُسْرِعُ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5924 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ جَبْرَئِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ، قَدْ تَخَضَّبَ بِالدَّمِ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحِبُّ أَنْ نُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: (نَعَمْ) . فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ: ادْعُ بِهَا، فَدَعَا بِهَا، فَجَاءَتْ، فَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ، فَأَمَرَهَا، فَرَجَعَتْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (حَسْبِي حَسْبِي) .» رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5924 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ) : عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (جَالِسٌ حَزِينٌ، وَقَدْ تَخَضَّبَ بِالدَّمِ) ، أَيْ: تَلَوَّثَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ عِنْدَ كَسْرِ رَبَاعِيَتِهِ (مِنْ فِعْلِ أَهْلِ مَكَّةَ) ، أَيْ: مِنْ ضَرْبِ كُفَّارِهِمْ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: ضُرِبَ وَجْهُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّيْفِ سَبْعِينَ ضَرْبَةً، وَوَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] لَكِنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْكَسْرُ لِيَكْثُرَ لَهُ الْأَجْرُ وَالْجَبْرُ فِي مُشَارَكَةِ مَشَقَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِحْنَةِ الْمُجَاهِدِينَ، وَلِذَا لَمَّا أَصَابَ حَجَرٌ أُصْبُعَهُ وَدَمِيَتْ قَالَ: هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ. (فَقَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! تُحِبُّ أَنْ نُرِيَكَ آيَةً) ؟ أَيْ: عَلَامَةً مِنْكَ عَلَى نُبُوَّتِكَ تَسْلِيَةً لَكَ عَلَى مِحْنَتِكَ لِتَعْرِفَ أَنَّهَا سَبَبٌ لِمَزِيدِ مِحْنَتِكَ، وَقُرْبِ مَنْزِلَتِكَ (قَالَ: نَعَمْ، فَنَظَرَ) أَيْ جِبْرِيلُ (إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَائِهِ) ، أَيْ: مِنْ خَلْفِهِ، أَوْ مِنْ خَلْفِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فَقَالَ) ، أَيْ: جِبْرِيلُ (ادْعُ بِهَا) ، أَيِ اطْلُبْهَا (فَدَعَا بِهَا، فَجَاءَتْ، فَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: مُنَادِيَةً لَدَيْهِ وَمُنْقَادَةً إِلَيْهِ (فَقَالَ) ، أَيْ: جِبْرِيلُ (مُرْهَا) ، أَيْ: بِالرُّجُوعِ (فَلْتَرْجِعْ) أَيْ: لِحِكْمَةٍ تَقْتَضِيهِ (فَأَمَرَهَا، فَرَجَعَتْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَسْبِي) ، أَيْ: كَفَانِي (حَسْبِي) زِيدَ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى تَكْرَارِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْمَجِيءِ وَالْإِعَادَةِ، وَالْمَعْنَى كَفَانِي فِي تَسْلِيَتِي عَمَّا لَقِيتُهُ مِنَ الْحُزْنِ هَذِهِ الْكَرَامَةُ مِنْ رَبِّي. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5925 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ فَلَمَّا دَنَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ؟) . قَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: (هَذِهِ السَّلَمَةُ) فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهُوَ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَشْهِدْهَا ثَلَاثًا، فَشَهِدَتْ ثَلَاثًا. أَنَّهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبِتِهَا» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5925 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ) ، أَيْ: فِي غَزْوَةٍ أَوْ عُمْرَةٍ (فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ) ، أَيْ بَدَوِيٍّ (فَلَمَّا دَنَا) ، أَيْ: قَرُبَ (قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: تَشْهَدُ) ، أَيْ: أَتَشْهَدُ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ قَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ) ، أَيْ: عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ وَظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ (عَلَى مَا تَقُولُ) ؟ أَيْ: مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ (قَالَ: هَذِهِ السَّلَمَةُ) : بِفَتَحَاتٍ شَجَرَةٌ مِنَ الْبَادِيَةِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: السَّلَمُ شَجَرٌ مِنَ الْعِضَاهِ، وَاحِدُهَا سَلَمَةٌ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَوَرَقُهَا الْقَرَظُ الَّذِي يُدْبَغُ بِهِ، وَبِهَا سُمِّيَ الرَّجُلُ سَلَمَةَ. (فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَهُوَ) ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِشَاطِئِ الْوَادِي) ، أَيْ كَانَ وَاقِفًا بِطَرَفِهِ (فَأَقْبَلَتْ) ، أَيِ: الشَّجَرَةُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (تَخُدُّ الْأَرْضَ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: تَشُقُّهَا أُخْدُودًا، وَقَوْلُهُ: (خَدًّا) : عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أَيْ مُسَلِّمَةً عَلَيْهِ وَمُسْلِمَةً لَدَيْهِ (فَاسْتَشْهَدَهَا) ، أَيْ: طَلَبَ الشَّهَادَةَ مِنَ الشَّجَرَةِ (ثَلَاثًا) ، أَيْ: مُرَتَّبًا لَا مُتَوَالِيًا (فَشَهِدَتْ ثَلَاثًا. أَنَّهُ كَمَا قَالَ) ، أَيْ: أَنَّ الشَّأْنَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَوْنِهِ رَسُولَ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبِتِهَا) . بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مَوْضِعُ نَبَاتِهَا وَمَوْطِنِ أَصْلِهَا. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5926 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بِمَا أَعْرِفُ أَنَّكَ نَبِيٌّ؟ قَالَ: (إِنْ دَعَوْتَ هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ يَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِنَ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: (ارْجِعْ) فَعَادَ، فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5926 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بِمَ أَعْرِفُ) ، أَيْ: مِنْ مُعْجِزَاتِكَ (أَنَّكَ نَبِيٌّ) ؟ أَيْ: صَادِقٌ (قَالَ: إِنْ دَعَوْتُ) : بِكَسْرٍ إِنْ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ، وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ إِنْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ: بِأَنْ دَعَوْتُ (هَذَا الْعِذْقَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ الْعُرْجُونُ بِمَا فِيهِ مِنَ الشَّمَارِيخِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعُنْقُودِ مِنَ الْعِنَبِ، وَبِالْفَتْحِ النَّخْلَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: (مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ يَشْهَدُ) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ الْعِذْقِ يَشْهَدُ (أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) : وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ دَعَوْتُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ بِمَا أَعْرِفُ أَيْ: يَأْتِي إِنْ دَعَوْتُهُ يَشْهَدْ. اهـ. وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ يَشْهَدْ مَجْزُومًا بِصِيغَةِ الْغَائِبِ، وَالْمَعْنَى فَأَعْرِفُ بِأَنِّي إِنْ دَعَوْتُهُ يَشْهَدْ. وَقَالَ شَارِحٌ: إِنْ لِلشَّرْطِ، وَيَشْهَدْ جَزَاؤُهُ، أَوْ لِلْمَصْدَرِيَّةِ وَيَشْهَدُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ يَشْهَدْ عَلَى الْأَوَّلِ مُخَاطَبًا مَجْزُومًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ لِيَكُونَ جَوَابَ الْأَعْرَابِيِّ بِنَعَمْ مُقَدَّرًا، أَوِ النُّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْتَظِرْ جَوَابَهُ إِذْ لَيْسَ لَهُ جَوَابٌ صَوَابٌ غَيْرُهُ (فَدَعَاهُ) ، أَيِ: الْعِذْقَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ) ، أَيْ: فَشَرَعَ الْعِذْقُ (يَنْزِلُ مِنَ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ) ، أَيْ: وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ (إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ وَمُسْتَسْلِمًا لَدَيْهِ (ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ فَعَادَ) ، أَيْ: إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ (فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَصَحَّحَهُ.

5927 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ ذِئْبٌ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي حَتَّى انْتَزَعَهَا مِنْهُ، قَالَ: فَصَعِدَ الذِّئْبُ عَلَى تَلٍّ فَأَقْعَى وَاسْتَثْفَرَ، وَقَالَ: قَدْ عَمَدْتُ إِلَى رِزْقٍ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنِّي؟ ! فَقَالَ الرَّجُلُ: تَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ! فَقَالَ الذِّئْبُ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا رَجُلٌ فِي النَّخَلَاتِ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ يُخْبِرُكُمْ بِمَا مَضَى وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ. قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ يَهُودِيًّا، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، وَأَسْلَمَ، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّهَا أَمَارَاتٌ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، قَدْ أَوْشَكَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يُحَدِّثَهُ نَعْلَاهُ وَسَوْطُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ» ) . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5927 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ ذِئْبٌ) : بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُبْدَلُ (إِلَى رَاعِي غَنَمٍ) ، أَيْ: إِلَى قِطْعَةِ غَنَمٍ رَاعِيهَا مَعَهَا (فَأَخَذَ) ، أَيِ: الذِّئْبُ (مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي) ، أَيْ: تَبِعَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ (حَتَّى انْتَزَعَهَا مِنْهُ) ، أَيْ: خَلَّصَهَا مِنْ فَمِهِ (قَالَ) ، أَيِ: الرَّاعِي فَإِنَّهُ هُوَ الرَّائِي، وَالرَّاوِي ذَكَرَهُ شَارِحٌ (فَصَعِدَ الذِّئْبُ عَلَى تَلٍّ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، أَيْ: مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ (فَأَقْعَى) ، أَيْ: جَلَسَ مُقْعِيًا بِأَنْ قَعَدَ عَلَى وَرِكَيْهِ وَنَصَبَ يَدَيْهِ (وَاسْتَثْفَرَ) ، بِالْمُثَلَّثَةِ فَالْفَاءِ، أَيْ: أَدْخَلَ ذَنَبَهُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، وَقِيلَ: بَيْنَ أَلْيَيْهِ (وَقَالَ: قَدْ عَمَدْتُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ إِخْبَارًا عَلَى سَبِيلِ الشِّكَايَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى قَصَدْتُ (إِلَى رِزْقٍ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ) ، أَيْ: أَبَاحَهُ لِي (أَخَذْتُهُ، ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنِّي) ؟ أَيْ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ تَخْلِيصِهِ عَلَيْكَ، فَالْكُلُّ مُنْقَادُونَ تَحْتَ أَمْرِهِ مُطِيعُونَ لِحُكْمِهِ، مُسْتَسْلِمُونَ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (فَقَالَ الرَّجُلُ) ، أَيِ: الرَّاعِي: قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: اسْمُهُ هَبَّارُ بْنُ أَوْسٍ

الْخُزَاعِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ مُكَلِّمُ الذِّئْبِ (تَاللَّهِ) : قَسَمٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ (إِنْ رَأَيْتُ) ، أَيْ: مَا رَأَيْتُ (كَالْيَوْمِ) ، أَيْ: مَا رَأَيْتُ ذِئْبًا يَتَكَلَّمُ كَالْيَوْمِ، ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي الْفَائِقِ، أَيْ: مَا رَأَيْتُ أُعْجُوبَةً كَأُعْجُوبَةِ الْيَوْمِ، فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ، وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ، وَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ (ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. كَأَنَّهُ قِيلَ، أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَقَالَ: ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، (فَقَالَ الذِّئْبُ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا) ، أَيْ: مِنْ تَكَلُّمِ الذِّئْبِ (رَجُلٌ فِي النَّخَلَاتِ) : بِالْفَتَحَاتِ أَيْ: نَخِيلُ الْمَدِينَةِ الْوَاقِعَةِ (بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ تَثْنِيَةُ حَرَّةٍ، وَهِيَ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنْ جِبَالِ الْمَدِينَةِ (يُخْبِرُكُمْ بِمَا مَضَى) ، أَيْ: بِمَا سَبَقَ مِنْ خَبَرِ الْأَوَّلِينَ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ (وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ) أَيْ مِنْ نَبَأِ الْآخِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ أَحْوَالِ الْأَجْمَعِينَ فِي الْعُقْبَى. (قَالَ) - أَيِ: الرَّاوِي وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ -: (فَكَانَ الرَّجُلُ) ، أَيِ: الرَّاعِي (يَهُودِيًّا) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ خُزَاعِيٌّ، فَإِنَّ خُزَاعَةَ لَيْسَتْ بِيَهُودَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا (فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ) ، أَيْ: بِخَبَرِ الذِّئْبِ (وَأَسْلَمَ فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: فِيمَا رَوَاهُ (ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهَا أَمَارَاتٌ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَعْنَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ الذِّئْبُ بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ وَالْقِصَّةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي رَآهَا وَأَمْثَالَهَا عَلَامَاتٌ (بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ) ، أَيْ: قُدَّامَهَا (قَدْ أَوْشَكَ الرَّجُلُ) ، أَيْ: قَرُبَ (أَنْ يَخْرُجَ) ، أَيْ: مِنْ بَيْتِهِ (فَلَا يَرْجِعُ) : ظَاهِرُهُ النَّصْبُ، لَكِنِ اتَّفَقَ النُّسَخُ عَلَى رَفْعِهِ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ فَهُوَ لَا يَرْجِعُ (حَتَّى يُحَدِّثَهُ نَعْلَاهُ) ، أَيْ: فِي رِجْلِهِ (وَسَوْطُهُ) ، أَيْ فِي يَدِهِ (بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ) ، أَيْ: مِنْ أَفْعَالِ السُّوءِ أَوِ الْحُسْنِ (بَعْدَهُ) ، أَيْ: بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمُفَارَقَتِهِ إِيَّاهُمْ. (رَوَاهُ) ، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ بِإِسْنَادِهِ.

5928 - وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَدَاوَلُ مِنْ قَصْعَةٍ، مِنْ غُدْوَةٍ حَتَّى اللَّيْلِ، يَقُومُ عَشَرَةٌ وَيَقْعُدُ عَشَرَةٌ قُلْنَا: فَمِمَّا كَانَتْ تُمَدُّ؟ قَالَ: مِنْ أَيْ شَيْءٍ تَعْجَبُ؟ مَا كَانَتْ تُمَدُّ إِلَّا مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5928 - (وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ، فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) : تَقَدَّمَ ضَبْطُهُمَا وَسَبَقَ ذِكْرُهُمَا (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَدَاوَلُ) : يُقَالُ: تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي، أَيْ: تَنَاوَلَتْهُ، يَعْنِي أَخَذَتْهُ هَذِهِ مَرَّةً، وَهَذِهِ مَرَّةً ذَكَرَهُ شَارِحٌ، فَالْمَعْنَى نَتَنَاوَبُ أَخْذَ الطَّعَامِ وَأَكْلَهُ (مِنْ قَصْعَةٍ) ، بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ مِنْ صَحْفَةٍ كَبِيرَةٍ (مِنْ غُدْوَةٍ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيَجُوزُ بِفَتْحَتَيْنِ فَأَلِفٍ أَيْ: مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ (حَتَّى اللَّيْلِ) ، أَيْ: إِلَى دُخُولِ الْعَشِيَّةِ (يَقُومُ عَشَرَةٌ) ، أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ مِنْهَا (وَيَقْعُدُ عَشَرَةٌ) ، أَيْ: لِلتَّنَاوُلِ مِنْهَا (قُلْنَا) ، أَيْ: لِسَمُرَةَ (فَمِمَّا كَانَتْ تُمَدُّ) ؟ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِمْدَادِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنَ الْمَدَدِ مِنْ قَوْلِهِ: مَدَّ السِّرَاجَ بِالزَّيْتِ، وَالْمَعْنَى فَأَيُّ شَيْءٍ كَانَتِ الْقَصْعَةُ تُمَدُّ مِنْهُ وَتُزَادُ فِيهِ، وَمِنْ أَيْنَ يَكْثُرُ الطَّعَامُ فِيهَا طُولَ النَّهَارِ؟ وَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا السُّؤَالِ نَوْعٌ مِنَ التَّعَجُّبِ. (قَالَ) ، أَيْ: سَمُرَةُ (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَعْجَبُ) ؟ وَالْخِطَابُ لِأَبِي الْعَلَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ، فَإِنَّهُ مِنْ رُؤَسَاءِ التَّابِعِينَ، أَوِ الْمُرَادُ خِطَابُ الْعَامِّ، وَالْمَعْنَى لَا تَعْجَبْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ (مَا كَانَتْ تُمَدُّ إِلَّا مِنْ هَاهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ) : وَالْمَعْنَى لَا تَكُونُ كَثْرَةُ الطَّعَامِ فِيهَا إِلَّا مِنْ عَالَمِ الْعَلَاءِ بِنُزُولِ الْبَرَكَةِ فِيهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] وَهَذَا ظَاهِرُ شَرْحِ الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ الْمَرَامِ، وَقَالَ شَارِحٌ: ضَمِيرُ قَالَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُظْهِرُ، وَمَنْ تَبِعَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلَ سَمُرَةُ، وَالسَّائِلَ أَبُو الْعَلَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ اهـ.

وَوَجْهُ ظُهُورِهِ لَا يَخْفَى، إِذْ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ مِنَ الْأَصْحَابِ الْمُشَاهِدِينَ لِلْمُعْجِزَةِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَأَمَّا سُؤَالُ التَّابِعِينَ مِنَ الصَّحَابِيِّ، فَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الطَّعَامُ وَيُوضَعُ فِي الْقَصْعَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بَعْدَ فَرَاغِ عَشَرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، كَمَا يَقَعُ فِي الْعُرْفِ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ، فَأَجَابَ الصَّحَابِيُّ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، فَالْمَدَدُ مِنْ رَبِّ السَّمَاءِ لَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

5929 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ. قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ) فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ، فَانْقَلَبُوا وَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أَوْ جَمَلَيْنِ وَاكْتَسَوْا، وَشَبِعُوا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5929 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ) : بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْإِضَافَةِ (وَخَمْسَةَ عَشَرَ) . بِفَتْحِ الْجُزْأَيْنِ عَلَى التَّرْكِيبِ (قَالَ) : اسْتِثْنَاءُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ (اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ) ، أَيْ: غَالِبَهُمْ (حُفَاةٌ) : بِضَمِّ الْحَاءِ جَمْعُ حَافٍ وَهُوَ مَنْ لَا نَعْلَ لَهُ (فَاحْمِلْهُمْ) ، بِهَمْزِ وَصْلٍ وَكَسْرِ مِيمٍ أَيْ: أَعِنْهُمْ عَلَى الْحَمْلِ، وَالْمَعْنَى أَعْطِ كُلًّا مِنْهُمُ الْمَرْكُوبَ (اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ) : بِالضَّمِّ جَمْعُ عَارٍ أَيْ: عُرْيَانٌ فِيمَا بَعْدَ الْإِزَارِ (فَاكْسُهُمْ) : بِضَمِّ السِّينِ أَيْ: أَعْطِهِمُ الْكُسْوَةَ وَأَلْبِسْهُمْ لِبَاسَ الزِّينَةِ (اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ) . أَيْ: بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِيَتَقَوَّوْا عَلَى الطَّاعَةِ (فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ) ، أَيْ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَصَرَهُ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ وَصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَأَكَابِرِهِمْ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ، (فَانْقَلَبُوا) ، أَيْ: فَرَجَعَ أَصْحَابُهُ (وَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أَوْ جَمَلَيْنِ، وَاكْتَسَوْا، وَشَبِعُوا) . أَيْ: مِنْ غَنَائِمِ أَعْدَائِهِمْ فَصَدَقَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ «الصَّبْرَ عَلَى مَا تَكْرَهُ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ» ، ثُمَّ هَذَا نَتِيجَتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5930 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ وَمُصِيبُونَ وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5930 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ) أَيْ: عَلَى الْأَعْدَاءِ (وَمُصِيبُونَ) أَيْ: لِلْغَنَائِمِ (وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ) ، أَيِ: الْبِلَادُ الْكَثِيرَةُ (فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْكُمْ (فَلْيَتَّقِ اللَّهَ) ، أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ لِيَكُونَ كَامِلًا (وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) . لِيَكُونَ مُكْمَلًا لَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ إِمَارَتِهِ، وَتَحْصِيلِ عَدَالَتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُنْكَرِ الْغُلُولُ وَهُوَ الْخِيَانَةُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5931 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً، ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ) وَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا. فَقَالَ: أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ؟) فَقَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟ قَالَ: (أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ فِي يَدِي) لِلذِّرَاعِ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ تَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُعَاقِبْهَا، وَتُوَفِّي أَصْحَابُهُ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ، حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ، وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5931 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ) : قِيلَ: إِنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَهِيَ بِنْتُ أَخِي مَرْحَبِ بْنِ أَبِي مَرْحَبٍ (سَمَّتْ شَاةً) ، أَيْ: جَعَلَتْهَا مَسْمُومَةً (مَصْلِيَّةً) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ مَشْوِيَّةً. قِيلَ: وَأَكْثَرَتِ السُّمَّ فِي الْكَتِفِ وَالذِّرَاعِ لَمَّا بَلَغَهَا أَنَّهُمَا أَحَبُّ أَعْضَاءِ الشَّاةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ) ، أَيْ: إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ رَهْطٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ (مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ) ، أَيْ: مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الشَّاةِ (فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ) أَيْ: كُفُّوهَا وَامْنَعُوهَا عَنِ الْأَكْلِ (وَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا) ، أَيْ

طَلَبَهَا فَحَضَرَتْ (فَقَالَ: سَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ) ؟ لَا بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ، بَلْ بِالْجَزْمِ فِي إِخْبَارِ الْكَلَامِ، وَلِذَا لَمْ تَقُلْ: لَا أَوْ نَعَمْ (قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟) أَيِ: اللَّهُ أَوْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ (قَالَ: أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ) أَيْ: هَذِهِ «الذِّرَاعُ بِإِنْطَاقِ اللَّهِ إِيَّاهَا» . وَقَوْلُهُ: (وَفِي يَدِي) : حَالٌ مِنْ هَذِهِ، أَيْ: مُسْتَقِرَّةً فِيهَا (لِلذِّرَاعِ) . وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى (عَنْ) نَحْوَ قَالَ لِزَيْدٍ: إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الشَّرَّ أَيْ: قَالَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى قَالَ عَنِ الذِّرَاعِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْنِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (إِلَى) أَيْ: قَالَ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَيْهَا (قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ) : جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ (إِنْ كَانَ) أَيْ: مُحَمَّدٌ (نَبِيًّا فَلَنْ تَضُرَّهُ) ، أَيِ: الشَّاةُ الْمَسْمُومَةُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ اخْتِلَافٌ إِذِ الرِّوَايَةُ وَرَدَتْ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهَا فَقُتِلَتْ، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَفَا عَنْهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي ابْتَلَعَهَا أَمَرَ بِهَا فَقُتِلَتْ مَكَانَهُ اهـ. وَفِي الْمَوَاهِبِ، وَقِيلَ: أَسْلَمَتْ وَلَمْ تُقْتَلْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ قَوْلُهُ: فَعَفَا عَنْهَا أَيْ: تَرَكَهَا أَوَّلًا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَمَرَ بِقَتْلِهَا قِصَاصًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا لِكَوْنِهَا أَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهَا قِصَاصًا لِقَتْلٍ بِشْرٍ، وَلَمْ يَنْفَرِدِ الزُّهْرِيُّ بِدَعْوَاهُ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ، فَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي مَغَازِيهِ. وَلَفْظُهُ بَعْدَ قَوْلِهَا: وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ، وَقَدِ اسْتَبَانَ لِي أَنَّكَ صَادِقٌ، وَأَنَا أُشْهِدُكَ وَمَنْ حَضَرَ عَلَى دِينِكَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (وَتُوَفِّيَ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ) ، أَيْ: بَعْضُهُمْ وَهُوَ بِشْرٌ ( «وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى كَاهِلِهِ» ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ: بَيْنَ كَتِفَيْهِ (مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ) أَيِ: الْمَسْمُومَةِ (حَجَمَهُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (أَبُو هِنْدٍ) : قِيلَ اسْمُهُ يَسَارٌ الْحَجَّامُ (بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ) ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: كَانَتِ الْمِحْجَمَةُ قَرْنًا (وَالْمِبْضَعَةُ) السِّكِّينُ الْعَرِيضُ (وَهُوَ) ، أَيْ: أَبُو هِنْدٍ (مَوْلًى لِبَنِي بَيَاضَةَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ قَبِيلَةٌ (مِنَ الْأَنْصَارِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) .

5932 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، «أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عَشِيَّةً، فَجَاءَ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. إِنِّي طَلِعْتُ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ. بِظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمُ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: (تِلْكَ غَنِيمَةٌ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) قَالَ: (مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ) قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (ارْكَبْ) فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ. قَالَ: (اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ) فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (هَلْ حَسِسْتُمْ فَارِسَكُمْ) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا حَسِسْنَا، فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: (أَبْشِرُوا، فَقَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ) فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ، حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ) قَالَ: لَا إِلَّا مُصَلِّيَا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَلَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَهَا) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5932 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ أُمُّ جَدِّهِ، وَقِيلَ أُمُّهُ، وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ، وَبِهَا يُعْرَفُ، وَاسْمُ أَبِيهِ الرَّبِيعُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ سَهْلٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ فَاضِلًا مُعْتَزِلًا عَنِ النَّاسِ، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَكَانَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِدِمَشْقَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ (أَنَّهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةَ (سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ) ، أَيْ: وَقْتَ تَوَجُّهِهِ إِلَيْهِ (فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ) أَيْ: أَطَالُوا وَبَالَغُوا فِيهِ (حَتَّى كَانَ عَشِيَّةً) ، أَيِ: السَّيْرُ مُمْتَدٌّ إِلَى وَقْتِ الْعَشِيَّةِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: حَتَّى كَانَ الْوَقْتُ عَشِيَّةً (فَجَاءَ فَارِسٌ) ، أَيْ: رَاكِبُ فَرَسٍ (مُسْرِعًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي طَلِعْتُ) : بِكَسْرِ اللَّامِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا أَيْ: عَلَوْتُ (عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا) ، فَفِي الْقَامُوسِ: طَلَعَ الْجَبَلَ عَلَاهُ كَطَلِعَ بِالْكَسْرِ، وَاقْتَصَرَ الْجَوْهَرِيُّ عَلَى الْكَسْرِ، وَصَاحِبُ الْمِفْتَاحِ عَلَى الْفَتْحِ، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ ضُبِطَ بِالْكَسْرِ، وَوُضِعَ عَلَيْهِ صَحٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ (عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: كُلُّهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَقِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ عَلَى بَكْرَةٍ، وَالْبَكْرُ بِالْفَتْحِ الْفَتِيُّ مِنَ الْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ الْغُلَامِ مِنَ النَّاسِ، وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ، وَجَاءُوا عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ كَلِمَةٌ لِلْعَرَبِ، وَيُرِيدُونَ بِهَا الْكَثْرَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي يُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ أَيْ جَاءُوا بِأَجْمَعِهِمْ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَعَلَى هَاهُنَا بِمَعْنَى (مَعَ) وَهُوَ مَثَلٌ يَضْرِبُهُ الْعَرَبُ، وَكَانَ السَّبَبُ أَنَّ فِيهِ جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ عَرَضَ لَهُمُ انْزِعَاجٌ، فَارْتَحَلُوا جَمِيعًا، وَلَمْ يُخَلِّفُوا.

شَيْئًا حَتَّى أَنَّ بَكْرَةً كَانَتْ لِأَبِيهِمْ أَخَذُوهَا مَعَهُمْ، فَقَالَ مَنْ وَرَاءَهُمْ جَاءُوا عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَصَارَ ذَلِكَ مَثَلًا فِي قَوْمٍ جَاءُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ بَكْرَةٌ، وَهِيَ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا الْمَاءُ، فَاسْتُعِيرَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ (بِظُعُنِهِمْ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي جَمَاعَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الَّذِينَ يَظْعُنُونَ أَيْ: يَرْتَحِلُونَ. كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ، أَيْ: بِنِسَائِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ الظَّعِينَةِ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ مَا دَامَتْ فِي الْهَوْدَجِ وَقِيلَ: هِيَ الْهَوْدَجُ كَانَتْ فِيهَا امْرَأَةٌ أَوْ لَا. وَهُوَ مَرْكَبٌ مِنْ مَرَاكِبِ النِّسَاءِ مُقَبَّبٌ وَغَيْرُ مُقَبَّبٍ (وَنَعَمِهِمْ) ، بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ وَبِأَمْوَالِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ (اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ) ، أَيْ: مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: مُتَعَجِّبًا مِنْ حُسْنِ صَنِيعِهِ سُبْحَانَهُ (وَقَالَ: تِلْكَ) أَيْ: تِلْكَ الْجَمَاعَةُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَمْوَالِ (غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) : لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِلتَّقْيِيدِ احْتِيَاطًا (ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْرُسُنَا) ؟ بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: يَحْفَظُ عَسْكَرَنَا مِنَ الْبَيَاتِ (اللَّيْلَةَ) ؟ أَيِ الْآتِيَةَ. (قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ (الْغَنَوِيُّ) : بِفَتْحَتَيْنِ (أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: شَهِدَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ فَتْحَ مَكَّةَ وَحُنَيْنًا، وَمَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَلَهُ وَلِأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَأَخِيهِ صُحْبَةٌ، وَاسْمُ أَبِي مَرْثَدٍ كَنَازٌ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَبِالزَّايِ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ أُنَيْسٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ أَكْثَرُ، يُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) . وَقِيلَ: غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ: ارْكَبْ فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ فَقَالَ: اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ (حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: سُنَّةَ الصُّبْحِ (ثُمَّ قَالَ: هَلْ حَسِسْتُمْ) : بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: أَدْرَكْتُمْ بِالْحِسِّ (فَارِسَكُمْ) ؟ بِأَنْ رَأَيْتُمُوهُ أَوْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ؟ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَسِسْنَا) ، أَيْ مَا عَرَفْنَا لَهُ خَبَرًا، وَلَا رَأْيَنَا لَهُ أَثَرًا (فَثُوِّبَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ أُقِيمَ (بِالصَّلَاةِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَصْلُ فِي التَّثْوِيبِ أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مُسْتَصْرِخًا، فَيُلَوِّحُ بِثَوْبِهِ لِيُرَى وَيُشْتَهَرَ فَسُمِّيَ الدُّعَاءُ تَثْوِيبًا لِذَلِكَ وَكُلُّ دَاعٍ مُثَوِّبٌ، (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَعْنَى فَشَرَعَ حَالَ الصَّلَاةِ (يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ) ، أَيْ: يَمِيلُ بِطَرْفِ عَيْنِهِ إِلَى جِهَةِ الطَّرِيقِ فِي الْجَبَلِ (حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ) ، أَيْ: أَدَّاهَا وَفَرَغَ مِنْهَا (قَالَ: أَبْشِرُوا، فَقَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ) . الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ (فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ) ، بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ الْخَلَلِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ (فَإِذَا هُوَ) أَيِ: الْفَارِسُ (قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: رَاكِبًا أَوْ نَازِلًا (قَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ، حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لَا يَخْفَى حُسْنُ الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ حَيْثُ أُمِرْتُ (فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا) ، أَيْ: أَتَيْتُ طَرِيقَيِ الْجَبَلِ وَجَوَانِبِهِمَا مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَحَدٌ مَخْفِيًّا (فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ نَزَلْتَ) ، أَيْ: عَنِ الدَّابَّةِ (اللَّيْلَةَ) ؟ أَيِ الْبَارِحَةَ وَهِيَ الْمَاضِيَةُ (قَالَ: لَا إِلَّا مُصَلِّيَا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ) . أَيْ: مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَا عَلَيْكَ) ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ حَرَجٌ (فِي أَنْ لَا تَعْمَلَ) أَيْ: مِنَ النَّوَافِلِ وَالْفَضَائِلِ (بَعْدَهَا) . أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الَّتِي فَعَلْتَهَا، فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَكَ فَضِيلَةٌ كَافِيَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ النَّظَرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ بِأَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْخَيْرَاتِ، فَإِنَّ عَمَلَكَ اللَّيْلَةَ كَافِيَةٌ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ مَثُوبَةً وَفَضِيلَةً، وَأَرَادَ النَّوَافِلَ وَالتَّبَرُّعَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ لَا الْفَرَائِضَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ جُبْرَانًا لِقَلْبِهِ وَتَسْلِيَةً لَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5933 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمَرَاتٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، فَضَمَّهُنَّ، ثُمَّ دَعَا لِي فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، قَالَ: (خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدِكَ، كُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَدْخِلْ فِيهِ يَدَكَ فَخُذْهُ وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرًا) . فَقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكُنَّا نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ حَقْوِي حَتَّى كَانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثْمَانَ فَإِنَّهُ انْقَطَعَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5933 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمَرَاتٍ) ، بِفَتَحَاتٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ: كَانَتِ التَّمَرَاتُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، كَذَا فِي الْأَذْكَارِ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادْعُ اللَّهَ فِيهِنَّ الْبَرَكَةَ) ، أَيِ: اسْأَلِ اللَّهَ الْبَرَكَةَ فِيهِنَّ أَوْ لِأَجْلِهِنَّ (فَضَمَّهُنَّ) ؟ أَيْ: فَأَخَذَهُنَّ بِيَدِهِ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِنَّ (ثُمَّ دَعَا لِي) ، أَيْ: لِأَجْلِي خُصُوصًا (فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ) ، أَيْ: بِالْبَرَكَةِ فِيهِنَّ، وَكَثْرَةِ الْخَيْرِ فِي أَكْلِهِنَّ مَعَ بَقَائِهِنَّ (قَالَ) ، أَيْ: بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ (خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ) ، أَيْ: أَدْخِلْهُنَّ (فِي مِزْوَدِكَ) ، بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الزَّادُ مِنَ الْجِرَابِ وَغَيْرِهِ، (كُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ) ، أَيْ: مِنَ التَّمْرِ أَوْ مِنَ الْمِزْوَدِ (شَيْئًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ جَعَلَ مِنْهُ صِلَةً لِتَأْخُذَ، وَشَيْئًا: مَفْعُولٌ لَهُ، فَيَكُونُ نَكِرَةً شَائِعَةً، فَلَا يَخْتَصُّ بِالتَّمْرِ، جَعَلَ وَإِنْ حَالًا مِنْ شَيْئًا اخْتَصَّ بِهِ، (فَأَدْخِلْ فِيهِ) ، أَيْ: فِي الْمِزْوَدِ (يَدَكَ فَخُذْهُ) ، أَيِ: التَّمْرَ مِنْهُ (وَلَا تَنْثُرْهُ) ؟ بِضَمٍّ الْمُثَلَّثَةِ وَتُكْسَرُ (نَثْرًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، فَفِي الْمِصْبَاحِ نَثَرْتُهُ نَثْرًا مِنْ بَابَيْ نَصَرَ وَضَرَبَ رَمَيْتُ بِهِ مُتَفَرِّقًا (فَقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ) ، أَيْ: سِتِّينَ صَاعًا عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَصَرَّحَ بِهِ شَارِحٌ أَوْ حِمْلَ بَعِيرٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ حَمَلْتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى الْأَخْذِ أَيْ: أَخَذْتُهُ مِقْدَارَ كَذَا بِدُفَعَاتٍ انْتَهَى. وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمُدَّعَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ) ، أَيْ: أَنَا وَأَصْحَابِي (نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ) ، أَيْ: غَيْرَنَا (وَكَانَ) ، أَيِ: الْمِزْوَدُ (لَا يُفَارِقُ حَقْوِي) ، أَيْ: وَسَطِي. قَالَ شَارِحٌ: الْحَقْوُ الْإِزَارُ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَوْضِعُ شَدِّ الْإِزَارِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَقْوُ مَعْقِدُ الْإِزَارِ، وَسُمِّيَ الْإِزَارُ بِهِ لِلْمُجَاوِرَةِ (حَتَّى كَانَ يَوْمُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَجُوِّزَ نَصْبُهُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ حَتَّى كَانَ الزَّمَانُ يَوْمَ (قَتْلِ عُثْمَانَ) : بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ مُضَافًا إِلَى مَفْعُولِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَعُثْمَانُ نَائِبُ الْفَاعِلِ. قَالَ الْخَلْخَالِيُّ: يَجُوزُ فَتْحُ يَوْمَ مُضَافًا إِلَى قَتْلِ، وَهُوَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ كَانَ التَّامَّةِ. (فَإِنَّهُ) ، أَيِ: الْمِزْوَدُ (انْقَطَعَ) . أَيْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَسَقَطَ مِنِّي وَضَاعَ، فَحَزِنْتُ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْفَسَادَ إِذَا شَاعَ ارْتَفَعَتِ الْبَرَكَةُ، وَكَانَ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: لِلنَّاسِ هَمٌّ وَلِي هَمَّانِ بَيْنَهُمُ هَمُّ الْجَوَابِ وَهَمُّ الشَّيْخِ عُثْمَانَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5934 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوِثَاقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ. وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا، قَالَ: لَا أَدْرِي. فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5934 - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ) ، أَيْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ وَحَضَرَ مَعَهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ) : بِفَتْحِ هَمْزٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ، أَيْ: فَارْبُطُوهُ (بِالْوَثَاقِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ (يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: يَعْنُونَهُ بِالضَّمِيرَيْنِ الْمُسْتَتِرِ وَالْبَارِزِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِثْبَاتِهِ بِهِ حَبْسُهُ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ) ، وَحَصِّلُوا لَكُمْ مِنْهُ الرَّاحَةَ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ) ، أَيْ عَلَى وَجْهِ

الْإِهَانَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا بِإِسْلَامِ الْأَنْصَارِ وَمُتَابَعَتِهِمْ خَافُوا وَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ مُتَشَاوِرِينَ فِي أَمْرِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ فَقَالَ: أَنَا مِنْ نَجْدٍ سَمِعْتُ اجْتِمَاعَكُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضُرَكُمْ، وَلَنْ تَعْدَمُوا مِنِّي رَأْيًا وَنُصْحًا، فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: رَأْيِي أَنْ تَحْبِسُوهُ فِي بَيْتٍ وَتَسُدُّوا مَنَافِذَهُ غَيْرَ كُوَّةٍ تُلْقُونَ إِلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْهَا حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ الشَّيْخُ: بِئْسَ الرَّأْيُ يَأْتِيكُمْ مَنْ يُقَاتِلُكُمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَيُخَلِّصُهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ. فَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو: رَأْيِي أَنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى جَمَلٍ فَتُخْرِجُوهُ مِنْ أَرْضِكُمْ، فَلَا يَضُرُّكُمْ مَا صَنَعَ. فَقَالَ: بِئْسَ الرَّأْيُ يُفْسِدُ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَيُقَاتِلُكُمْ بِهِمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَنَا أَرَى أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ بَطْنٍ غُلَامًا وَتُعْطُوهُ سَيْفًا فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَيَتَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ، فَلَا تَقْوَى بَنُو هَاشِمٍ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ، فَإِذَا طَلَبُوا الْعَقْلَ عَقَلْنَاهُ، فَقَالَ: صَدَقَ هَذَا الْفَتَى، فَتَفَرَّقُوا عَلَى رَأْيِهِ. (فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ) أَيْ بِأَنْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَهُ بِالْخَبَرِ وَأَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ فَبَيَّتَ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - عَلَى مَضْجَعِهِ وَخَرَجَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الْغَارِ (فَبَاتَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: لِلتَّعْمِيَةِ عَنْهُ فِي التَّخْلِيَةِ إِذْ كَانَ رَأْيُ الْكُفَّارِ تَقَرَّرَ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْرُسُونَهُ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ فِي الصُّبْحِ يَقْتُلُونَهُ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: تِلْكَ اللَّيْلَةَ، (وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا، أَيْ: يَظُنُّونَ عَلِيًّا (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا) :. بِمُثَلَّثَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ أَيْ وَثَبُوا (عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى مَنْ عَلَى الْمَرْقَدِ ظَنًّا أَنَّهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا) ، أَيْ: مَكَانَهُ (رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ) ، أَيْ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] (فَقَالُوا) أَيْ لِعَلِيٍّ (أَيْنَ) ، أَيْ: ذَهَبَ (صَاحِبُكَ هَذَا) ؟ أَيِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) ، أَيْ: عَلِيٌّ مِنْ كَمَالِ عَقْلِهِ (لَا أَدْرِي) : وَهُوَ إِمَّا حَقِيقَةٌ أَوْ تَوْرِيَةٌ (فَاقْتَصُّوا) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَتَبَّعُوا (أَثَرَهُ) ، أَيْ آثَارَ قَدَمِهِ (فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ) ، أَيْ: جَبَلَ ثَوْرٍ (اخْتَلَطَ) ، أَيِ: اشْتَبَهَ أَمْرُ الْأَثَرِ (عَلَيْهِمْ فَصَعِدُوا الْجَبَلَ) ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَفِي الْقَامُوسِ: صَعِدَ فِي السُّلَّمِ كَسَمِعَ انْتَهَى، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ مِنْ بَابِ دَخَلْتُ الدَّارَ أَيْ: فَطَلَعُوا عَلَيْهِ (فَمَرُّوا بِالْغَارِ) ، أَيْ بِالْكَهْفِ الَّذِي فَوْقَ ذَلِكَ الْجَبَلِ فَظَنُّوا أَنَّهُ فِيهِ (فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ) ، أَيْ: مَنْسُوجَةً (فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ) ، وَقِيلَ: لَمَّا دَخَلَ الْغَارَ بَعَثَ اللَّهُ حَمَامَتَيْنِ فَبَاضَتَا فِي أَسْفَلِهِ، وَالْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَلَعُوا فَوْقَ الْغَارِ بِحَيْثُ لَوْ نَظَرُوا إِلَى أَقْدَامِهِمْ لَرَأَوْهُمَا، فَأَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) فَأَعْمَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الْغَارِ، فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ حَوْلَهُ، فَلَمْ يَرَوْهُ، وَلَا مَنْعَ مِنْ جَمْعِ الْجَمْعِ. (فَمَكَثَ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهِ أَيْ: لَبِثَ (فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ) أَيْ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

5935 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنَ الْيَهُودِ) . فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَنْهُ؟) . قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَبُوكُمْ؟) قَالُوا: فُلَانٌ. قَالَ: (كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ) قَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ. قَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟) . قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا فَقَالَ لَهُمْ: (مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟) قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا) . ثُمَّ قَالَ: (هَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟) . فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَالَ: (هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟) قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟) ، قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَمْ يَضُرَّكَ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5935 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ» ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا وَتُكْسَرُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْمَعُوا لِي) ، أَيْ: لِأَجْلِي، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَيَّ أَيْ مُنْتَهِينَ إِلَيَّ، أَوِ اجْعَلُوا مُجْتَمِعِينَ عِنْدِي (مَنْ كَانَ هَاهُنَا) ، أَيْ: فِي هَذَا الْمَكَانِ (مِنَ الْيَهُودِ) فَجُمِعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ) ، أَيْ أَوَّلًا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ) ، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالْيَاءِ أَيْ: مُصَدِّقُونِي فِي الْإِخْبَارِ (عَنْهُ) ، أَيْ ثَانِيًا. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي أَصْلِ الْمَالِكِيِّ: صَادِقُونِي بِالتَّحْقِيقِ. قَالَ: كَذَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ دُخُولُ نُونِ الْوِقَايَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُعْرَبَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِتَقِيَهَا عَنْ خَفَاءِ الْإِعْرَابِ، فَلَمَّا مَنَعُوهَا ذَلِكَ صَارَ الْأَصْلُ مَتْرُوكًا فَنَبَّهُوا عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ الْمُعْرَبَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلْفِعْلِ، (قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَبُوكُمْ) ؟ أَيْ جَدُّكُمْ (قَالُوا: فُلَانٌ) ، أَيْ: بِطَرِيقِ الْكَذِبِ عَلَى وَجْهِ الِامْتِحَانِ (قَالَ: كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ. قَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: أَحْسَنْتَ (قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ) أَيْ: ثُمَّ أَخْبَرَتْكُمْ بِهِ (قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ: وَإِنْ كَذَبْنَاكَ) ، أَيْ: فِي قَوْلِنَا هَذَا (عَرَفْتَ كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا) ، أَيْ: زَمَانًا قَلِيلًا، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] (ثُمَّ تَخْلُفُونَا) : بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَتُخَفَّفُ أَيْ: تَعْقُبُونَنَا (فِيهَا) . وَهَذَا عَلَى زَعْمِهِمُ الْفَاسِدِ، وَاعْتِقَادِهِمُ الْكَاسِدِ أَنَّهُ قَوْلُ صِدْقٍ وَخَبَرُ حَقٍّ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْسَئُوا فِيهَا) : إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونَ} [المؤمنون: 108] وَهُوَ الْأَصْلُ زَجْرُ الْكَلْبِ، فَالْمَعْنَى اسْكُتُوا فِي سُكُوتِ هَوَانٍ، فَإِنَّكُمْ كَاذِبُونَ فِي أَخْبَارِكُمْ (وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا) . ثُمَّ قَالَ: (هَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ فِي شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا) ، أَيْ: فِي دَعْوَى رِسَالَتِكَ (أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَمْ يَضُرَّكَ) . بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَلَوْ رُوِيَ بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ لَجَازَ، كَمَا قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] فِي آلِ عِمْرَانَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي قَوْلِهِ: أَنْ نَسْتَرِيحَ مَفْعُولٌ لَأَرَدْنَا وَجَزَاءُ الشَّرْطِ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ مَحْذُوفٌ لِوُجُودِ الْقَرِينَةِ أَيْ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَنَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَمْ يَضُرَّكَ، فَنَنْتَفِعُ بِهِدَايَتِكَ، وَحَاصِلُهُ أَرَدْنَا الِامْتِحَانَ، يَعْنِي فَإِمَّا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّكَ كَاذِبٌ فَنَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِمَّا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّكَ نَبِيٌّ فَنَتَّبِعَكَ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْ فَحْوَاهُمْ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي دَعْوَاهُمْ، فَثَبَتَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ بِظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ السَّابِغَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5936 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا وَصَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَنَا، حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا، حَتَّى الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَعْلَمُنَا أَحَفْظُنَا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5936 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ الْأَنْصَارِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَبِي زَيْدٍ، غَزَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزَوَاتٍ، وَمَسَحَ رَأَسَهُ وَدَعَا لَهُ بِالْجَمَالِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَنَيِّفًا، وَمَا فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ إِلَّا نُبْذَةٌ مِنْ شَعْرٍ أَبْيَضَ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا الْفَجْرَ) ، أَيْ: صَلَاةَ الصُّبْحِ (وَصَعِدَ) بِالْكَسْرِ، أَيْ: طَلَعَ (عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَنَا) ، أَيْ خَطَبَ لَنَا أَوْ وَعَظَنَا (حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ) ، أَيْ صَلَاةُ الظُّهْرِ بِدُخُولِ وَقْتِهَا (فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ (فَخَطَبَنَا، حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، حَتَّى غَرَبَتِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَوْ غَابَتِ (الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، أَيْ: مُجْمَلًا أَوْ مُفَصَّلًا فَفِيهِ الْإِعْجَازُ أَكْثَرُ (قَالَ) ، أَيْ: عَمْرٌو (فَأَعْلَمُنَا) أَيِ الْآنَ (احْفَظُنَا) ، أَيْ: يَوْمَئِذٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: أَحْفَظُنَا الْآنَ لِتِلْكَ الْقِصَّةِ أَعْمَلُنَا أَيِ الْآنَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5937 - «وَعَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَأَلْتُ مَسْرُوقًا: مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ - يَعْنِي - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - أَنَّهُ قَالَ: آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5937 - (وَعَنْ مَعْنٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، مَعْدُودٌ فِي التَّابِعِينَ (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) ، أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيِّ (قَالَ) ، أَيْ مَعْنٌ (سَمِعْتُ أَبِي) ، أَيْ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: سَأَلْتُ مَسْرُوقًا) : وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (مَنْ آذَنَ) : بِذَلِكَ، أَيْ: مَنْ أَعْلَمَ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجِنِّ) أَيْ: بِحُضُورِهِمْ (لَيْلَةَ) : بِالتَّنْوِينِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا بِنَاءً عَلَى إِضَافَتِهَا إِلَى قَوْلِهِ: (اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ) ؟ بَلْ قِيلَ: هُوَ أَفْصَحُ فِي قَوْلِهِ: لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ، وَكَذَا فِي: يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ} [المائدة: 119] عِنْدَ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ. (فَقَالَ) ، أَيْ: مَسْرُوقٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ (حَدَّثَنِي أَبُوكَ - يُعْنَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -) : تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ الْمُتَأَخِّرِينَ (أَنَّهُ) ، أَيِ: ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلَا يَبْعُدُ رَجْعُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: آذَنَتْ) : بِالْمَدِّ أَيْ: أَعْلَمَتْ (بِهِمْ شَجَرَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5938 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، وَكُنْتُ رَجُلًا حَدِيدَ الْبَصَرِ، فَرَأَيْتُهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ غَيْرِي، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِعُمَرَ: أَمَا تَرَاهُ؟ فَجَعَلَ لَا يَرَاهُ، قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ: سَأَرَاهُ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْأَمْسِ، يَقُولُ: (هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) . قَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَأُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَجُعِلُوا فِي بِئْرٍ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، قَالَ: (يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ! هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا) . فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ قَالَ: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5938 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ) ، أَيْ: فَطَلَبْنَا رُؤْيَتَهُ (وَكُنْتُ رَجُلًا حَدِيدَ الْبَصَرِ، فَرَأَيْتُهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ) ، أَيِ: الْهِلَالَ (غَيْرِي، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِعُمَرَ: أَمَّا تَرَاهُ؟ فَجَعَلَ لَا يَرَاهُ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِقَوْلِهِ: فَجَعَلْتُ أَيْ: طَفِقْتُ أُرِيهِ الْهِلَالَ، فَهُوَ لَا يَرَاهُ، فَأَقْحَمَ جَعَلَ مُشَاكَلَةً، كَمَا أُقْحِمَ {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188] تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} [آل عمران: 188] انْتَهَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ فَجَعَلَ عُمَرُ يُطَالِعُ فِي السَّمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ لَا يَرَاهُ. (قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ) ، أَيْ: بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ (سَأَرَاهُ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي) ، الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ وَالْمَعْنَى سَأَرَاهُ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَيْسَ لِي إِلَى رُؤْيَتِهِ الْآنَ حَاجَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: لَا يُهِمُّنِي الْآنَ رُؤْيَتَهُ بِتَعَبٍ سَأَرَاهُ بَعْدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ (ثُمَّ أَنْشَأَ) ، أَيِ: ابْتَدَأَ (عُمَرُ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ. قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرِينَا) : بِضَمٍّ فَكَسْرٍ أَيْ: يُعْلِمُنَا (مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ) ، أَيْ: مَوَاضِعَ طَرْحِهِمْ وَصَرْعِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ (بِالْأَمْسِ) ، أَيْ بِأَمْسِ الْقَضِيَّةِ لَا الْحِكَايَةِ (يَقُولُ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ) ، أَيْ: غَدًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) . يَعْنِي وَهَكَذَا إِلَى أَنْ بَيَّنَ مَصَارِعَ سَبْعِينَ مِنْهُمْ. (قَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي بَعَثَهُ) ، أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِالْحَقِّ) ، أَيْ: بِالصِّدْقِ (مَا أَخْطَأُوا) ، أَيْ: مَا تَجَاوَزُوا الْمَذْكُورَ (الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا) ، أَيِ: الْمَوَاضِعَ الَّتِي بَيَّنَهَا وَعَيَّنَهَا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ: مَا أَخْطَأُ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، فَالْمَعْنَى مَا أَغْلَطُهَا، بَلْ أَحْفَظُهَا وَأَعْرِفُهَا، لَكِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى سُقُوطِ الْوَاوِ عَنْ رَسْمِ الْكِتَابَةِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بِنَاءِ الْغَائِبِ الْمُذَكَّرِ الْمُفْرَدِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (قَالَ) ، أَيْ: عُمَرُ (فَجُعِلُوا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَأُلْقُوا (فِي بِئْرٍ) ، أَيْ مَهْجُورَةٍ. (بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ) : بِفَتْحِ النُّونَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَهُمَا كِنَايَتَانِ عَنِ الْعَلَمَيْنِ (وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَهَكَذَا) : إِلَى أَنْ نَادَى كُلَّهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ أَكْثَرَهُمْ أَوْ أَقَلَّهُمْ (هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا) . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] فَهَؤُلَاءِ أَيْضًا لَا بُدَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَعَمْ، إِمَّا بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ. (فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا) ؟ أَيْ: بِظَاهِرِهَا أَوْ بِكَمَالِهَا (فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ) ، مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَعَ، وَالْمَعْنَى لَسْتُمْ بِأَقْوَى أَوْ أَكْثَرَ سَمَاعًا مِنْهُمْ لِمَا أَقُولُهُ لَهُمْ (غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا) . أَيْ مِنَ الْجَوَابِ مُطْلَقًا، أَوْ بِحَيْثُ أَنَّكُمْ تَسْمَعُونَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5939 - وَعَنْ أُنَيْسَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ أَبِيهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى زَيْدٍ يَعُودُهُ مِنْ مَرَضٍ كَانَ بِهِ، قَالَ: (لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ مَرَضِكَ بَأْسٌ، وَلَكِنْ كَيْفَ لَكَ إِذَا عُمِّرْتَ بَعْدِي فَعَمِيتَ؟) . قَالَ: أَحْتَسِبُ وَأَصْبِرُ. قَالَ: (إِذًا تَدْخُلِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . قَالَ: فَعَمِيَ بَعْدَمَا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ ثُمَّ مَاتَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5939 - (وَعَنْ أُنَيْسَةَ) : تَصْغِيرُ أَنِيسَةٍ كَجَلِيسَةٍ (بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) ، لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ أَبِيهَا) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ، سَكَنَهَا وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ، (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى زَيْدٍ) : يَعْنِي نَفْسَهُ إِمَّا عَلَى التَّجْرِيدِ أَوْ بِنَوْعِ الِالْتِفَاتِ أَوْ بِتَصَرُّفِ الرُّوَاةِ (يَعُودُهُ مِنْ مَرَضٍ كَانَ بِهِ قَالَ: (لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ مَرَضِكَ بَأْسٌ، وَلَكِنْ كَيْفَ لَكَ) ، أَيْ: حَالًا وَمَالًا (إِذَا عُمِّرْتَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ: طَالَ عُمُرُكَ (بَعْدِي فَعَمِيتَ؟) بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: فَصِرْتَ أَعْمَى (قَالَ: أَحْتَسِبُ) ، أَيْ: أَطْلُبُ الثَّوَابَ (وَأَصْبِرُ. أَيْ عَلِمَ حُكْمَ رَبِّ الْأَرْبَابِ (قَالَ: (إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ وَفِي نُسْخَةٍ إِذَا (تَدْخُلِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . وَفِي نُسْخَةِ الْجَزَرِيِّ بِالرَّفْعِ وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ تَدْخُلُ بِمَعْنَى: تَسْتَحِقُّ دُخُولًا بِغَيْرِ مُحَاسَبَةٍ (قَالَ) ، أَيِ: الشَّخْصُ الرَّاوِي سَوَاءً كَانَ أُنَيْسَةُ أَوْ غَيْرُهَا (فَعَمِيَ بَعْدَ مَا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ ثُمَّ مَاتَ) . وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْ لَهُ رَدَّ بَصَرِهِ لِيَكُونَ مَشَقَّةُ صَبْرِهِ أَكْثَرَ، وَأَجْرُهُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ أَكْبَرَ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ النَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ.

5940 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) . وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلًا، فَكَذَبَ عَلَيْهِ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوُجِدَ مَيِّتًا، وَقَدِ انْشَقَّ بَطْنُهُ، وَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ» . رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5940 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) ، صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ تَقَوَّلَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: مَنْ كَذَبَ وَافْتَرَى (عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ) ، أَيْ: مُتَعَمِّدًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) . وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي الْمَعْنَى كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ (وَذَلِكَ) ، أَيْ: وَسَبَبُ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ (أَنَّهُ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (بَعَثَ رَجُلًا) ، أَيْ إِلَى قَوْمٍ أَوْ إِلَى أَحَدٍ (فَكَذَبَ عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْكَشَفَ لَهُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ أَوْ بَلَغَهُ خَبَرُهُ (فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوُجِدَ مَيِّتًا، وَقَدِ انْشَقَّ بَطْنُهُ، وَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ) . وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُوَيْنِيِّ: أَنَّ الْمُفْتَرِي عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَمْدًا كَافِرٌ. (رَوَاهُمَا) ، أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

5941 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسَقِ شَعِيرٍ فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ فَفَنِيَ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5941 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسَقِ شَعِيرٍ) ، أَيْ: نِصْفَ وَسَقٍ وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا أَوْ حِمْلُ بَعِيرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّطْرِ الْبَعْضُ، فَإِنَّهُ بَعْضُ مَعَانِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ لِدَلَالَتِهِ بِالْأَغْلَبِيَّةِ عَلَى الْمَرَامِ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي حَدِيثِ: (الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ) (فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: وَتَأْكُلُ هِيَ أَيْضًا مِنْهُ (وَضَيْفُهُمَا) ، أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَذَلِكَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ (حَتَّى كَالَهُ) ، أَيِ: الرَّجُلُ بَقِيَّةَ الْمَأْكُولِ (فَفَنِيَ) ، أَيْ نَفَذَ سَرِيعًا (فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: فَذَكَرَ لَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ قَالَ: (لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ) ، أَيْ: أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَأَضْيَافُكُمَا (وَلَقَامَ لَكُمْ) . أَيْ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5942 - وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَنَازَةٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ يَقُولُ: (أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ) فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِيَ امْرَأَتِهِ، فَأَجَابَ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَجِيءَ بِالطَّعَامِ، فَوَضَعَ يَدَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ، فَأَكَلُوا، فَنَظَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا) . فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى النَّقِيعِ - وَهُوَ مَوْضِعٌ يُبَاعُ فِيهِ الْغَنَمُ - لِيُشْتَرَى لِي شَاةٌ، فَلَمْ تُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً أَنْ يُرْسِلَ بِهَا إِلَيَّ بِثَمَنِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَطْعِمِي هَذَا الطَّعَامَ الْأَسْرَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5942 - (وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ) ، بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ الْجَرْمِيُّ الْكُوفِيُّ سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ، وَمِنْهُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ انْتَهَى. وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَفِي الْمُعْجِزَاتِ (عَنْ أَبِيهِ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَنَازَةٍ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا (فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ) ، أَيْ: طَرَفِهِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (يُوصِي الْحَافِرَ) : بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَتَشْدِيدٍ حَالٌ أُخْرَى (يَقُولُ) : بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ (أَوْسِعْ) : أَمْرُ مُخَاطَبٍ لِلْحَافِرِ (مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: مِنْ جَانِبِهِمَا (أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ) فَلَمَّا رَجَعَ) ، أَيْ: عَنِ الْمَقْبَرَةِ (اسْتَقْبَلَهُ دَاعِيَ امْرَأَتِهِ) ، أَيْ: زَوْجَةِ الْمُتَوَفَّى (فَأَجَابَ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَجِيءَ بِالطَّعَامِ، فَوَضَعَ يَدَهُ) ، أَيْ فِيهِ (ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ) ، أَيْ أَيْدِيَهُمْ (فَأَكَلُوا) ، هَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يَرُدُّ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَصْحَابُ مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّالِثِ، أَوْ بَعْدَ الْأُسْبُوعِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، وَذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ عِنْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لِلْمُصِيبَةِ إِلَى ثَلَاثٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابٍ مَحْظُورٍ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَالْأَطْعِمَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتَ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَالْكُلُّ عَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ شَرْعٌ فِي السُّرُورِ، لَا فِي الشُّرُورِ. قَالَ: وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنِيعَهُمُ الطَّعَامَ مِنَ النِّيَاحَةِ انْتَهَى. فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ كَلَامُهُمْ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنِ اجْتِمَاعٍ يُوجِبُ اسْتِحْيَاءَ أَهْلِ بَيْتِ الْمَيِّتِ، فَيُطْعِمُونَهُمْ كُرْهًا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى كَوْنِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ صَغِيرًا أَوْ غَائِبًا، أَوْ لَمْ يَعْرِفْ رِضَاهُ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الطَّعَامُ مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ قَبْلَ قِسْمَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَلَيْهِ مُجْمَلُ قَوْلِ قَاضِي خَانْ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ فِي أَيَّامِ الْمُصِيبَةِ ; لِأَنَّهَا أَيَّامُ تَأَسُّفٍ، فَلَا يَلِيقُ بِهَا مَا يَكُونُ لِلسُّرُورِ، وَإِنِ اتَّخَذَ طَعَامًا لِلْفُقَرَاءِ كَانَ حَسَنًا، وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِاتِّخَاذِ الطَّعَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِيُطْعِمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَبَاطِلَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (فَنَظَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فِيهِ) ، أَيْ: يُلْقِيهَا مِنْ فَمِهِ إِلَى جَانِبٍ آخَرَ، فَفِي النِّهَايَةِ: اللَّوْكُ إِدَارَةُ الشَّيْءِ فِي الْفَمِ (ثُمَّ قَالَ: (أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ اتُّخِذَتْ (بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا) فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى النَّقِيعِ) ، بِالنُّونِ - وَهُوَ مَوْضِعٌ يُبَاعُ فِيهِ الْغَنَمُ - أَيْ: تَفْسِيرٌ مُدْرَجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ النَّقِيعُ مَوْضِعٌ بِشَرْقِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ: هُوَ فِي صَدْرِ وَادِي الْعَقِيقِ عَلَى نَحْوِ عِشْرِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَخْطَأَ مَنْ قَالَ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ قَوْلُهَا: أَرْسَلَتْ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ قَوْلُهَا: (لِيُشْتَرَى لِي شَاةٌ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَلَمْ تُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً أَنْ يُرْسِلَ) ، أَيْ: بِأَنْ يُرْسِلَ الْجَارُ (بِهَا) ، أَيْ: بِالشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ لِنَفْسِهِ (إِلَيَّ بِثَمَنِهَا) ، أَيِ: الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ (فَلَمْ يُوجَدْ) ، أَيِ الْجَارُ (فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَأَرْسَلَتْ) ، أَيِ: الْمَرْأَةُ (إِلَيَّ بِهَا) . أَيْ بِالشَّاةِ، فَظَهَرَ أَنَّ شِرَاءَهَا غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ إِذْنَ جَارِهَا وَرِضَاهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَهُوَ يُقَارِبُ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالشُّبْهَةُ قَوِيَّةٌ وَالْمُبَاشَرَةُ غَيْرُ مَرَضِيَّةٍ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَطْعِمِي هَذَا الطَّعَامَ الْأَسْرَى) : جَمْعُ أَسِيرٍ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ فَقِيرٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُمْ كُفَّارٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ الشَّاةِ لِيَسْتَحِلُّوا مِنْهُ، وَكَانَ الطَّعَامُ فِي صَدَدِ الْفَسَادِ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِطْعَامِ هَؤُلَاءِ فَأَمَرَ بِإِطْعَامِهِمُ انْتَهَى. وَقَدْ لَزِمَهَا قِيمَةُ الشَّاةِ بِإِتْلَافِهَا، وَوَقَعَ هَذَا تَصَدُّقًا عَنْهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . مُتَعَلِّقٌ بِرَوَى الْمُقَدَّرِ فَتَدَبَّرْ.

5943 - وَعَنْ حِزَامِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ - وَهُوَ أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُخْرِجَ مِنْ مَكَّةَ خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَمَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَدَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ اللَّيْثِي ُّ، مَرُّوا عَلَى خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ، فَسَأَلُوهَا لَحْمًا وَتَمْرًا لِيَشْتَرُوا مِنْهَا، فَلَمْ يُصِيبُوا عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، كَانَ الْقَوْمُ مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ، فَقَالَ: (مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ عَبْدٍ؟) قَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ. قَالَ: (هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟) قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟) قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْبًا فَاحْلِبْهَا. فَدَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا. وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَا لَهَا فِي شَاتِهَا، فَتَفَاجَّتْ عَلَيْهِ، وَدَرَّتْ وَاجْتَرَّتْ، فَدَعَا بِإِنَاءٍ يُرْبِضُ الرَّهْطَ، فَحَلَبَ فِيهِ ثَجًّا، حَتَّى عَلَاهَا الْبَهَاءُ ثُمَّ سَقَاهَا حَتَّى رَوِيَتْ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوُوا، ثُمَّ شَرِبَ آخِرَهُمْ، ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا بَعْدَ بَدْءٍ، حَتَّى مَلَأَ الْإِنَاءَ، ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا، وَبَايَعَهَا، وَارْتَحَلُوا عَنْهَا» . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ (الْوَفَاءِ) وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5943 - (وَعَنْ حِزَامٍ) : بِكَسْرِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَزَايٌ (ابْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ) ، أَيْ هِشَامٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ جَدِّهِ حُبَيْشٍ) : بِضَمِّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَنُونٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ (ابْنُ خَالِدٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حُبَيْشُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ، قُتِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ هِشَامٌ (وَهُوَ) ، أَيْ: حُبَيْشٌ (أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ) ، أَيِ: الْخُزَاعِيَّةِ، وَهِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدٍ يُقَالُ: إِنَّهَا أَسْلَمَتْ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُهَاجَرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَتْ، وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ بِحَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُخْرِجَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ (مِنْ مَكَّةَ) : أَوْ صَارَ أَهْلُ مَكَّةَ سَبَبَ خُرُوجِهِ إِذْ لَمْ يَقَعْ إِخْرَاجُ إِهَانَةٍ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (خَرَجَ) ، أَيْ: بِاخْتِيَارِهِ (مُهَاجِرًا) ، أَيْ: مِنْ مَكَّةَ لِكُفْرِ أَهْلِهَا (إِلَى الْمَدِينَةِ) ، أَيْ: وَأَهْلِهَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْكِبَارِ (هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَمَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ) : بِضَمِّ فَاءٍ وَفَتَحِ هَاءٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (وَدَلِيلُهُمَا) ، أَيْ: مُرْشِدُ النَّبِيِّ وَالصَّدِيقِ فِي الطَّرِيقِ (عَبْدُ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ) : هُوَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، هَاجَرَ مَعَهُمَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (مَرُّوا عَلَى خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ) ، بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ مُضَافًا (فَسَأَلُوهَا لَحْمًا وَتَمْرًا لِيَشْتَرُوا مِنْهَا، فَلَمْ يُصِيبُوا) ، أَيْ: لَمْ يُصَادِفُوا (عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) ، أَيْ: مِمَّا ذُكِرَ مِنَ اللَّحْمِ وَالتَّمْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ (وَكَانَ الْقَوْمُ مُرْمِلِينَ) ، أَيْ: فَاقِدِينَ الزَّادَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْمُرْمِلُ مَنْ نَفِدَ زَادُهُ، يُقَالُ: أَرْمَلَ الرَّجُلُ إِذَا ذَهَبَ طَعَامُهُ (مُسْنِتِينَ) ، أَيْ أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ يُقَالُ: أَسْنَتَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُسْنِتٌ (فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ السِّينِ وَبِكَسْرِ أَوَّلِهِ، أَيْ: جَانِبِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: كِسْرُ الْخَيْمَةِ بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِهَا جَانِبُ الْخَيْمَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْكِسْرُ جَانِبُ الْبَيْتِ وَالشَّقَّةِ السُّفْلَى مِنَ الْخِبَاءِ، أَوْ مَا يُكْسَرُ، وَيُثْنَى عَلَى الْأَرْضِ مِنْهَا، وَالنَّاحِيَةُ وَيُكْسَرُ (فَقَالَ: (مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟) قَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ تَرَكَهَا (الْجُهْدُ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ أَيِ الْهُزَالُ (عَنِ الْغَنَمِ) ، أَيْ: مُتَخَلِّفَةٌ عَنْهَا (قَالَ: (هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ) ؟ أَيْ بَعْضِهِ (قَالَتْ: (هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ) . وَالْمَعْنَى لَيْسَ فِيهَا لَبَنٌ أَصْلًا (قَالَ: (أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا) : مِنْ بَابِ نَصَرَ عَلَى مَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْحَلْبُ وَيُحَرَّكُ اسْتِخْرَاجُ مَا فِي الضَّرْعِ مِنَ اللَّبَنِ يَحْلِبُ وَيَحْلُبُ، وَفِي النِّهَايَةِ: حَلَبْتُ الشَّاةَ وَالنَّاقَةَ أَحْلِبُهَا حَلَبًا بِفَتْحِ اللَّامِ. (قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلَبًا) : بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ، أَيْ: لَبَنًا مَحْلُوبًا (فَاحْلِبْهَا) . قَالَ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ: الْحَلَبُ مُحَرَّكَةً يُطْلَبُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَعَلَى اللَّبَنِ الْمَحْلُوبِ (فَدَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: طَلَبَهَا (فَمَسَحَ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا، وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَا لَهَا) ، أَيْ: لِأُمِّ مَعْبَدٍ (فِي شَاتِهَا) ، أَيْ: فِي شَأْنِهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: فِي حَقِّهَا (فَتَفَاجَّتْ عَلَيْهِ) ، بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ: فَتَحَتْ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا لِلْحَلَبِ (وَدَرَّتْ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ: أَرْسَلَتِ الدَّرَّ بِالْفَتْحِ وَهُوَ اللَّبَنُ (وَاجْتَرَّتْ) ، بِالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. قَالَ. الطِّيبِيُّ: الْجَرَّةُ مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ مِنْ بَطْنِهِ لِيَمْضُغَهُ ثُمَّ يَبْلَعَهُ (فَدَعَا بِإِنَاءٍ يُرْبِضُ الرَّهْطَ) ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَرْوِيهِمْ وَيُثْقِلُهُمْ حَتَّى يَنَامُوا وَيَمْتَدُّوا عَلَى الْأَرْضِ، مِنْ رَبَضَ فِي الْمَكَانِ إِذَا لَصَقَ بِهِ وَأَقَامَ مُلَازِمًا لَهُ (فَحَلَبَ فِيهِ) ، أَيْ: فِي الْإِنَاءِ (ثَجًّا) ، أَيْ: حَلَبًا ذَا سَيَلَانٍ (حَتَّى عَلَاهُ) ، أَيْ: ظَهَرَ عَلَى الْإِنَاءِ (الْبَهَاءُ) ، أَيْ بَهَاءُ اللَّبَنِ،

وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ رَغْوَتُهُ وَهِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَحُكِيَ كَسْرُهَا الزَّبَدُ يَعْلُو الشَّيْءَ عِنْدَ غَلَيَانِهِ، (ثُمَّ سَقَاهَا) ، أَيْ: أُمَّ مَعْبَدٍ (حَتَّى رَوِيَتْ) ، وَلَعَلَّ الِابْتِدَاءَ بِهَا كَرَامَةٌ لَهَا، وَلِكَوْنِهَا صَاحِبَةَ الشَّاةِ وَتَرْغِيبًا إِلَى إِسْلَامِهَا (وَسَقَى أَصْحَابَهُ) ، أَيْ: بَعْدَهَا (حَتَّى رَوُوا) ، بِضَمِّ الْوَاوِ (ثُمَّ شَرِبَ آخِرَهُمْ) ، أَيْ فِي آخِرِهِمْ لِقَوْلِهِ: (سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا) (ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا بَعْدَ بَدْءٍ) ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: بَعْدَ ابْتِدَاءٍ بِلَا مُكْثٍ (حَتَّى مَلَأَ الْإِنَاءَ، ثُمَّ غَادَرَهُ) ، أَيْ: تَرَكَهُ (عِنْدَهَا) ، أَيْ مُعْجِزَةً تُرِيهَا زَوْجَهَا (وَبَايَعَهَا) ، أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَى الْإِسْلَامِ وَارْتَحَلُوا عَنْهَا. رَوَاهُ) ، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ بِإِسْنَادِهِ (وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ) . أَيْ طَوِيلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا ارْتَحَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أَعْنُزًا عِجَافًا، وَرَأَى فِي الْبَيْتِ لَبَنًا، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ، وَذَكَرَتْ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَعْتِهِ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ، فَقَالَ أَبُو مَعْبَدٍ: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي ذُكِرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ. بِمَكَّةَ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ وَلَأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالِيًا يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ، وَلَا يَدْرُونَ مَنْ صَاحِبُهُ وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى اللَّهُ رَبَّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ هُمَا نَزَلَا بِالْهُدَى وَاهْتَدَيْتُ بِهِ ... فَقَدْ فَازَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ فَيَا لَقُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ بِهِ ... مِنْ فِعَالٍ لَا تُجَارَى وَسُؤْدُدِ لِيُهِنْ بَنِي كَعْبٍ مَقَامَ فَتَاتِهِمُ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ سَأَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَاثِهَا ... فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدُ فَغَادَرَهَا رَهْنًا لَدَيْهَا لِحَالِبِ ... تُرَدِّدُهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمَّ مَوْرِدِ قَالَ مُحْيِ السُّنَّةِ: الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعُوا بِمَكَّةَ صَوْتُ بَعْضِ مُسْلِمِي الْجِنِّ أَقْبَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، وَالنَّاسُ يُتْبِعُونَهُ وَيُسْمِعُونَ الصَّوْتَ وَمَا يَرَوْنَهُ حَتَّى صَرَّخَ بِأَعْلَى مَكَّةَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا سَمِعْنَا عَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَلَمَّا بَلَغَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ذَلِكَ جَعَلَ يُجَاوِبُ الْهَاتِفَ وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ غَابَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمُ ... وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَضَلَّتْ عُقُولُهُمُ ... وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدِّدِ هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ رَبُّهُمُ ... وَأَرْشَدَهُمْ مَنْ يَتْبَعِ الْحَقَّ يَرْشُدُ وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلَّالُ قَوْمٍ تَسَفَّهُوا ... عَمَّا يُتَّهَمُ وَهَادِيَةُ كُلِّ مُهْتَدِ لَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ عَلَى أَهْلِ يَثْرِبَ ... رِكَابُ هُدًى حَلَّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِ نَبِيٍّ يَرَى مَا لَا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ ... فَتَصْدِيقُهُ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ لِيُهِنْ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةَ جَدِّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ لِيُهِنْ بَنِي كَعْبٍ مَقَامَ فَتَاتِهَا ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ.

[باب الكرامات]

[بَابُ الْكَرَامَاتِ]

بَابُ الْكَرَامَاتِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5944 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَعَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ تَحَدَّثَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ لَهُمَا، حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةٌ، فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الظُّلْمَةِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقَلِبَانِ، وَبِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُصَيَّةٌ، فَأَضَاءَتْ عَصَا أَحَدِهِمَا لَهُمَا حَتَّى مَشَيَا فِي ضَوْئِهَا، حَتَّى إِذَا افْتَرَقَتْ بِهِمَا الطَّرِيقُ أَضَاءَتْ لِلْآخَرِ عَصَاهُ، فَمَشَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ضَوْءِ عَصَاهُ حَتَّى بَلَغَ أَهْلَهُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [8] بَابُ الْكَرَامَاتِ الْكَرَامَاتُ، جَمْعُ كَرَامَةٍ وَهِيَ اسْمٌ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالتَّكْرِيمِ، وَهِيَ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِالتَّحَدِّي، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَا أَهْلُ السُّنَّةِ، وَأَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ السُّنَّةِ بِحُدُوثِ الْحَبَلِ لِمَرْيَمَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، وَحُصُولِ الرِّزْقِ عِنْدَهَا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَأَيْضًا فَفِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فِي الْغَارِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَأَزْيَدَ فِي النَّوْمِ أَحْيَاءً مِنْ غَيْرِ آفَةٍ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي إِحْضَارِ آصِفِ بْنِ بَرْخِيَا عَرْشَ بِلْقِيسَ قَبْلَ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَتَعَلَّقُوا بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ظُهُورُ الْخَارِقِ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ لَخَرَجَ الْخَارِقُ عَنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ، وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ تَمْتَازُ الْمُعْجِزَةُ عَنِ الْكَرَامَةِ بِاشْتِرَاطِ الدَّعْوَى فِي الْمُعْجِزَةِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهَا فِي الْكَرَامَةِ، بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ كَرَامَةُ كُلِّ وَلِيٍّ مُعْجِزَةٌ لِنَبِيِّهِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى حَقِيقَةٍ مَتْبُوعَةٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ وَبِقُدْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهَا مَتَى أَرَادُوهَا لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ تَمْهِيدُ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ، فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5944 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ: بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ، كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، (وَعَبَّادَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (ابْنَ بِشْرٍ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَنْصَارِيٌّ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ إِسْلَامِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ فِيمَنْ قَتَلَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءَ الصَّحَابَةِ، رَوَى عَنْهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتٍ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةَ وَلَهُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. (تَحَدَّثَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ لَهُمَا، حَتَّى ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ) ، أَيْ طَوِيلَةٌ (فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الظُّلْمَةِ، ثُمَّ خَرَجَا) ، أَيِ: انْصَرَفَا (مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقَلِبَانِ) ، أَيْ حَالَ كَوْنِهِمَا يَرْجِعَانِ (إِلَى بَيْتِهِمَا، وَبِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُصَيَّةٌ) ، تَصْغِيرُ عَصَاةٍ (فَأَضَاءَتْ عَصَاةُ أَحَدِهِمَا لَهُمَا) : وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَسْبَقَهُمَا إِسْلَامًا وَهُوَ الْمُقَدَّمُ ذِكْرًا (حَتَّى مَشَيَا فِي ضَوْئِهَا، حَتَّى إِذَا افْتَرَقَتْ بِهِمَا الطَّرِيقُ أَضَاءَتْ لِلْآخَرِ عَصَاهُ، فَمَشَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ضَوْءِ عَصَاهُ حَتَّى بَلَغَ) ، أَيْ: وَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ (أَهْلَهُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: لَيْسَ الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ بِهَذَا اللَّفْظِ، بَلْ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ فِي آخِرِ بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ فِي كِتَابِ مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ فِي بَابِ مَنَاقِبِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَعُبَادَةَ بْنِ بِشْرٍ بِلَفْظِ: إِنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى افْتَرَقَا، فَافْتَرَقَ النُّورُ مَعَهُمَا. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. وَقَالَ حَمَّادٌ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعُبَادَةُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ مُحْيِى السُّنَّةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فَتَأَمَّلْ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمَصَابِيحُ وَالْمِشْكَاةُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ طَرِيقِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِنَحْوِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5945 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ فِيكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا. فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدَفَنْتُهُ مَعَ آخَرَ فِي قَبْرٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5945 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ) ، أَيْ: حَرْبُهُ (دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ) ، أَيْ فِي بَعْضٍ مِنَ اللَّيْلِ (فَقَالَ: مَا أُرَانِي) : بِضَمِّ الْهَمْزِ أَيْ مَا أَحْسَبُنِي (إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ) ، أَيْ: فِي أَوَّلِ جَمْعٍ يُقْتَلُونَ (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: فَإِنَّهُ أَعَزُّ عَلَيَّ حَتَّى مِنْ نَفْسِي (وَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا) ، أَيْ: كَثِيرًا (فَاقْضِ) ، أَيْ سَرِيعًا (وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ) ، أَيِ: اقْبَلْ وَصِيَّتِي فِيهِنَّ، وَهُنَّ كُنَّ تِسْعًا، ثُمَّ انْتِصَابُ قَوْلِهِ: (خَيْرًا) : عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ: اسْتِيصَاءٌ خَيْرًا، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ اقْبَلْ وَصِيَّتِي بِالْخَيْرِ فِي شَأْنِهِنَّ (فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ) ، أَيْ: أَبِي (أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ وَدَفَنْتُهُ مَعَ آخَرَ) : وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْجُمُوحِ، وَكَانَ صَدِيقَ، وَالِدِ جَابِرٍ وَزَوْجَ أُخْتِهِ (فِي قَبْرٍ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ دَفْنِ الِاثْنَيْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّهُ إِذَا كَانَ ضَرُورَةً، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5946 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فَقُرَاءَ، وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ» ) . وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَشَرَةٍ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عَنَدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ. قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ؟ قَالَ: أَوَ مَا عَشَّيْتِيهِمْ؟ قَالَتْ: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، فَحَلَفَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ لَا تَطْعَمَهُ، وَحَلَفَ الْأَضْيَافُ أَنْ لَا يَطْعَمُوهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، فَجَعَلُوا لَا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلَّا رَبَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا. فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا! ؟ قَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الْآنَ لَأَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِرَارٍ، فَأَكَلُوا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذُكِرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ فِي (الْمُعْجِزَاتِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5946 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) : ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ وَقَالَ: رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَسْلَمَ تَمَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ أَسَنَّ أَوْلَادِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدُ الْكَعْبَةِ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا لَا يَخْفَى. (قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا) ، أَيْ: جَمَاعَةً فُقَرَاءَ) ، أَيْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ مَشَاهِيرُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ، أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، صُهَيْبٌ، بِلَالٌ، أَبُو هُرَيْرَةَ، خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، بِشْرُ بْنُ الْخَصَاصِيَةِ، أَبُو مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُهُمْ. وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] وَكَانَتِ الصُّفَّةُ فِي الْمَسْجِدِ مُسَقَّفَةً بِجَرِيدِ النَّخْلِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءُ يَسْتَوْطِنُونَ تِلْكَ السَّقِيفَةَ وَيَبِيتُونَ فِيهَا، فَنَسَبُوا إِلَيْهَا، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ لَهُ بِهَا عَرِيفٌ. يَنْزِلُ عَلَى عَرِيفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهَا عَرِيفٌ يَنْزِلُ الصُّفَّةَ. (وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) ، أَيْ: يَوْمًا (مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ) ، أَيْ: مِنْ عِيَالِهِ (فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ) ، أَيْ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: بِثَلَاثَةٍ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ رِوَايَةً وَمَعْنًى، ( «وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ» ) أَيْ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (أَوْ سَادِسٍ) أَيْ: إِنِ اقْتَضَاهُ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلتَّخَيُّرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّكِّ، أَوْ بِمَعْنَى بَلْ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَابِ الضِّيَافَةِ، عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ أَنْ يَذْهَبَ بِثَالِثٍ أَنَّ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ أَنْ يَذْهَبَ بِاثْنَيْنِ، بَلْ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: ( «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» ) . (وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَشَرَةٍ) ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَبَّرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِلَفْظِ الْمَجِيءِ لِبُعْدِ مَنْزِلِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعَبَّرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِانْطِلَاقِ لِقُرْبِهِ انْتَهَى. وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، بَلْ مُقْتَضَاهُ الْعَكْسُ، كَمَا لَا يَخْفَى. فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَجِيءِ لِأَنَّ الرَّاوِي هُوَ ابْنُهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَاءَنَا بِثَلَاثَةٍ، وَذَهَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَشَرَةٍ، ( «وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ» ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: أَكَلَ الْعَشَاءَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ طَعَامُ اللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُ، أَوْ مَعَ أَضْيَافِهِ أَوْ بِانْفِرَادِهِ عِنْدَ بِنْتِهِ (ثُمَّ لَبِثَ) ، أَيْ: مَكَثَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ تَعَشِّيهِ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ (حَتَّى

صُلِّيَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: أُدِّيَتُ مَعَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (الْعِشَاءُ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ (ثُمَّ رَجَعَ) ، أَيْ: إِلَى بَيْتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ وَحْدَهُ، أَوْ مَعَ أَضْيَافِهِ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا رَجَعَ مَعَهُ اغْتِنَامًا لِرُؤْيَتِهِ وَاهْتِمَامًا لِصُحْبَتِهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ أَعَادَ الْأَكْلَ فِي حَضْرَتِهِ (فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ رَكَعَ بَدَلَ رَجَعَ أَيْ صَلَّى النَّافِلَةَ، وَفِي أُخْرَى: حَتَّى نَعَسَ أَيْ تَأَخَّرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَعَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ لِيَنَامَ فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنْ قُلْتَ: هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّعَشِّي عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَمَا تَقَدَّمَ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ بَيَانُ حَالِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى طَعَامٍ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ سَوْقُ الْقِصَّةِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ، أَوِ الْأَوَّلُ كَانَ تَعَشِّي أَبِي بَكْرٍ، وَالثَّانِي تَعَشِّي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا أَبْطَأَ فِي رُجُوعِهِ إِلَى بَيْتِهِ (قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ) ، أَيْ: مَنَعَكَ (عَنْ أَضْيَافِكَ) ؟ أَيْ عَنِ الْحُضُورِ مَعَهُمْ (قَالَ: أَبُو بَكْرٍ مَا عَشَّيْتِيهِمْ) ؟ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ وَإِشْبَاعِ كَسْرَةِ التَّاءِ إِلَى تَوَلُّدِ الْيَاءِ، وَهُوَ مِنَ التَّعْشِيَةِ، وَهِيَ إِعْطَاءُ الْعَشَاءِ، وَالْمَعْنَى أَقَصَّرْتِي فِي خِدْمَتِهِمْ، وَمَا أَطْعَمْتِيهِمْ عَشَاءَهُمْ (قَالَتْ: أَبَوْا) ، أَيِ: امْتَنَعُوا مِنَ الْأَكْلِ (حَتَّى تَجِيءَ) ، أَيْ تَحْضُرَ مَعَهُمْ وَتُشَارِكَهُمْ فِي أَكْلِهِمْ (فَغَضِبَ) ، أَيْ: عَلَى أَهْلِهِ لِظَنِّ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي الْإِلْحَاحِ وَالْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَبْنَى، وَذَهَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. (وَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ (وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ وَالْعَيْنِ أَيْ: لَا آكُلُ الطَّعَامَ أَبَدًا، فَحَلَفَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ لَا تَطْعَمَهُ) ، أَيْ أَبَدًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَحَلَفَ الْأَضْيَافُ أَنْ لَا يَطْعَمُوهُ) ، أَيْ: لَا يَأْكُلُوهُ مُنْفَرِدِينَ أَوْ مُطْلَقًا. (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ هَذَا) ، أَيِ: الْحَلِفُ (مِنَ الشَّيْطَانِ) ، أَيْ: مِنْ إِغْوَائِهِ (فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا) ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ الْيَمِينُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ إِتْيَانٌ بِالْأَفْضَلِ لِخَبَرِ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ كَانَ مُرَادُهُ: لَا أَطْعَمُهُ مَعَكُمْ، أَوْ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، أَوْ عِنْدَ الْغَضَبِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُقْبَلُ التَّقْيِيدُ إِذَا كَانَتِ الْأَلْفَاظُ عَامَّةً، وَعَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَخِيرَةِ، لَا سِيَّمَا مَعَ لَفْظِ التَّأْبِيدِ، (فَجَعَلُوا) ، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ وَأَضْيَافُهُ (لَا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً) ، أَيْ: مِنَ الصَّحْفَةِ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ. (إِلَّا رَبَتْ) ، أَيْ: زَادَتِ اللُّقْمَةُ وَارْتَفَعَتْ (مِنْ أَسْفَلِهَا) ، أَيْ: مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُخِذَتْ مِنْهُ (أَكْثَرَ مِنْهَا) ، أَيْ مِنْ تِلْكَ اللُّقْمَةِ، وَضُبِطَ أَكْثَرُ بِالنَّصْبِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيِ: ارْتَفَعَ الطَّعَامُ مِنْ أَسْفَلِ الْقَصْعَةِ ارْتِفَاعًا أَكْثَرَ انْتَهَى. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَحْذُوفٍ، فَوَجْهُ الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا رَبَتْ لُقْمَةٌ هِيَ أَكْثَرُ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: إِسْنَادُ رَبَتْ إِلَى الْقَصْعَةِ مَجَازِيُّ: أَقُولُ: وَكَوْنُهُ مَجَازًا لِأَنَّ الِارْتِفَاعَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي الْقَصْعَةِ مِنْ طَعَامِهَا لَا إِلَى الْقَصْعَةِ ذَاتِهَا، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْإِسْنَادَ إِلَى اللُّقْمَةِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِيَّةِ. (فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ) : وَهِيَ أُمُّ رُومَانَ أُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأُمُّ عَائِشَةَ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ ابْنِ كِنَانَةَ، وَالْمُنْتَمُونَ إِلَى النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ كُلُّهُمْ قُرَيْشٌ، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ. (يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ!) : بِكَسْرِ الْفَاءِ (مَا هَذَا) ؟ أَيِ: الْأَمْرُ الْعَجِيبُ، وَالشَّأْنُ الْغَرِيبُ (قَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِي) : بِالْجَرِّ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، وَلَعَلَّهَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِالْجَرِّ وَالْوَاوُ لِلْقَسَمِ وَبِالنَّصْبِ مُنَادَى حُذِفَ حَرْفُ نِدَائِهِ انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قُرَّةُ الْعَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَسَرَّةِ رُؤْيَةَ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ لِأَنَّ عَيْنَهُ قَرَّتْ وَسَكَنَتْ لِحُصُولِ غَرَضِهَا، فَلَا تَسْتَشْرِفُ لِشَيْءٍ آخَرَ، وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرِّ أَيِ الْبَرْدِ، وَلِذَا قِيلَ: دَمْعَةُ السُّرُورِ بَارِدَةٌ، وَإِنَّمَا حَلَفَتْ أُمُّ رُومَانَ بِذَلِكَ لِمَا وَقَعَ عِنْدَهَا مِنَ السُّرُورِ بِالْكَرَامَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ بِبَرَكَةِ الصِّدِّيقِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقُرَّةِ عَيْنِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّهَا) ، أَيِ: الْقَصْعَةُ وَالْمُرَادُ مَا فِيهَا (الْآنَ لَأَكْثَرُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِرَارٍ) ، بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ مَرَّاتٍ (فَأَكَلُوا، وَبَعَثَ) ، أَيِ: الصِّدِّيقُ (بِهَا) ، أَيْ: بِالْقَصْعَةِ أَوْ بِبَعْضِ مَا فِيهَا (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذُكِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: فَرُوِيَ (أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَذُكِرَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ فِي (الْمُعْجِزَاتِ) . قُلْتُ: الْأَظْهَرُ إِبْقَاؤُهُ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 5947 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5947 - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ) : سَبَقَ ضَبْطُهُ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ (كُنَّا نَتَحَدَّثُ) ، أَيْ: يَذْكُرُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ (أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ) ، أَيْ: فِي الْحَبَشَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ فِيمَا بَيْنَنَا، وَمَذْكُورٌ عَمَّنْ رَأَى نُورَ قَبْرِهِ مِنَّا، وَلَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُنَا عَلَى الْكَذِبِ ; فَهُوَ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

5948 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «لَمَّا أَرَادُوا غُسْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: لَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ ; فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَذَقَنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ؟ : اغْسِلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَقَامُوا، فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5948 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: لَمَّا أَرَادُوا) ، أَيِ: الصَّحَابَةُ أَوْ أَهْلُ الْبَيْتِ (غُسْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: لَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثِيَابِهِ) ، أَيْ: وَنُغَطِّي عَوْرَتَهُ مِنْ غَيْرِهَا (كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَوْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ) ؟ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى فَاخْتَارَ بَعْضُهُمُ التَّجْرِيدَ قِيَاسًا، وَبَعْضُهُمْ عَدَمَهُ اخْتِصَاصًا (فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ) ، أَيْ: سَلَّطَ (عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَذَقَنُهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ (فِي صَدْرِهِ) : فِي الْقَامُوسِ: الذَّقَنُ بِالتَّحْرِيكِ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ مِنْ أَسْفَلِهِمَا وَيُكْسَرُ (ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ) ؟ صِفَةُ مُكَلِّمٍ، قِيلَ هُوَ الْخِضْرُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ( «اغْسِلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ» ) ، بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: كَلَّمَهُمْ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ مُسْتَحَبٌّ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى جَوَازِهِ أَوِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ، إِذْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، ( «فَقَامُوا فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ» ) ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَكَيْفَ يُلْبِسُونَهُ الْأَكْفَانَ فَوْقَهُ وَفِيهِ بَلَلٌ؟ قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَلْبَسُوهُ الْكَفَنَ فَوْقَ الْقَمِيصِ مَبْلُولًا إِذْ يُحْتَمَلُ سَتْرُ عَوْرَتِهِ، ثُمَّ قَلْعُ قَمِيصِهِ ثُمَّ إِلْبَاسُ كَفَنِهِ بِقَمِيصٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

5949 - وَعَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، «أَنَّ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْطَأَ الْجَيْشَ بِأَرْضِ الرُّومِ أَوْ أُسِرَ، فَانْطَلَقَ هَارِبًا يَلْتَمِسُ الْجَيْشَ، فَإِذَا هُوَ بِالْأَسَدِ. فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَارِثِ! أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ أَمْرِي كَيْتَ وَكَيْتَ، فَأَقْبَلَ الْأَسَدُ، لَهُ بَصْبَصَةٌ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ صَوْتًا أَهْوَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي إِلَى جَنْبِهِ حَتَّى بَلَغَ الْجَيْشَ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَسَدُ» . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5949 - (وَعَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ التَّيْمِيُّ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَمَّهُ رَبِيعَةَ. رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: الثَّوْرِيُّ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةَ، وَلَهُ نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَجَلِّهِمْ، جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ وَالدِّينِ الْمَتِينِ وَالصِّدْقِ فِي الْفِقْهِ. (أَنَّ سَفِينَةَ مَوْلَى، رَسُولِ اللَّهِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَقِيلَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَتْهُ وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ خِدْمَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَاشَ، وَيُقَالُ: اسْمُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَسَفِينَةُ لَقَبٌ لَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ مَعَهُ، فَأَعْيَا رَجُلٌ فَأَلْقَى عَلَيْهِ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَرُمْحَهُ، فَحَمَلَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنْتَ سَفِينَةُ) رَوَى عَنْهُ بَنُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ.

وَمُحَمَّدٌ وَزِيَادٌ وَكَثِيرٌ. (أَخْطَأَ الْجَيْشَ) ، أَيْ: أَضَلَّ طَرِيقَهُ بِحَيْثُ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِمْ سَبِيلًا (بِأَرْضِ الرُّومِ أَوْ أُسِرَ) ، أَيْ: فِيهَا شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَانْطَلَقَ هَارِبًا يَلْتَمِسُ الْجَيْشَ، فَإِذَا هُوَ) ، أَيْ: سَفِينَةُ (بِالْأَسَدِ) . أَيْ: بِفَرْدٍ عَظِيمٍ مِنْ جِنْسِ الْأَسَدِ (فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَارِثِ) ! وَهُوَ كُنْيَةُ الْأَسَدِ (أَنَا مَوْلَى - رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ أَمْرِي كَيْتَ وَكَيْتَ) ، اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِحَالِهِ فِي إِغْوَاءِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِكَمَالِهِ فِي خِدْمَتِهِ نِعْمَ الرَّفِيقُ (فَأَقْبَلَ الْأَسَدُ، لَهُ بَصْبَصَةٌ) ، أَيْ: تَحْرِيكُ ذَنَبٍ كَفِعْلِ الْكَلْبِ تَمَلُّقًا إِلَى مَالِكِهِ، وَتَذَلُّلًا لِصَاحِبِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ. وَفِي النِّهَايَةِ: بَصْبَصَ الْكَلْبُ بِذَنَبِهِ إِذَا حَرَّكَهُ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِطَمَعٍ أَوْ خَوْفٍ (حَتَّى قَامَ) ، أَيِ: الْأَسَدُ (إِلَى جَنْبِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ) ، أَيِ: الْأَسَدُ (صَوْتًا أَهْوَى إِلَيْهِ) ، أَيْ: قَصَدَهُ لِيَدْفَعَهُ إِنْ كَانَ صَوْتَ أَذًى (ثُمَّ أَقْبَلَ! يَمْشِي إِلَى جَنْبِهِ) ، أَيْ: إِلَى جَانِبِ سَفِينَةَ (حَتَّى بَلَغَ الْجَيْشَ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَسَدُ) : فَكَأَنَّهُ كَانَ دَلِيلًا وَلِإِيصَالِهِ كَفِيلًا، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ إِلَى هَذِهِ الزُّبَدَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللَّهِ نُصْرَتُهُ ... إِنْ تَلَقَّهُ الْأَسَدُ فِي آجَامِهَا تَجِمُ (رَوَاهُ) ، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

5950 - وَعَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، قَالَ: قُحِطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَحْطًا شَدِيدًا، فَشَكَوْا إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاجْعَلُوا مِنْهُ كُوًى إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَقْفٌ. فَفَعَلُوا، فَمُطِرُوا مَطَرًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ، وَسَمِنَتِ الْإِبِلُ، حَتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ، فَسُمِّيَ عَامَ الْفَتْقِ، رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5950 - (وَعَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَهُوَ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، تَابِعِيٌّ مَشْهُورُ الْحَدِيثِ، سَمِعَ عَائِشَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَرَوَى عَنْهُ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ، قُتِلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ (قَالَ: قُحِطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (قَحْطًا شَدِيدًا، فَشَكَوْا) ، أَيِ: النَّاسُ (إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِيِّ) : بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَاجْعَلُوا مِنْهُ) ، أَيْ: مِنْ قَبْرِهِ (كَوًى) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَيُضَمُّ، فَفِي الْمَغْرِبِ الْكُوَّةُ نَقْبُ الْبَيْتِ وَالْجَمْعُ كَوًى، وَقَدْ يُضَمُّ الْكَافُ فِي الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ اه. وَقِيلَ: يُجْمَعُ عَلَى كِوًى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ وَالْمَدِّ أَيْضًا، وَالْكُوَّةُ بِالضَّمِّ، وَيُجْمَعُ عَلَى كُوًى بِالضَّمِّ، وَالْمَعْنَى اجْعَلُوا مِنْ مُقَابَلَةِ قَبْرِهِ فِي سَقْفِ حُجْرَتِهِ مَنَافِذَ مُتَعَدِّدَةً (حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ) ، أَيْ: بَيْنَ قَبْرِهِ (وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَقْفٌ) ، أَيْ: حِجَابٌ ظَاهِرِيٌّ (فَفَعَلُوا فَمُطِرُوا) : بِضَمٍّ فَكَسْرٍ (مَطَرًا) ، أَيْ: شَدِيدًا (حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ) ، بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيِ: الْعَلَفُ مِنْ مَنَابِتِهِ (وَسَمِنَتْ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (الْإِبِلُ) : وَكَذَا سَائِرُ الْمَوَاشِي بِالْأَوْلَى (حَتَّى تَفَتَّقَتْ) ، أَيِ: انْتَفَخَتْ خَوَاصِرُهَا مِنَ الرَّعْيِ، وَقِيلَ: انْشَقَّتْ، وَقِيلَ: اتَّسَعَتْ (مِنَ الشَّحْمِ) ، أَيْ: مِنْ كَثْرَتِهِ (فَسُمِّيَ عَامَ الْفَتْقَ) ، أَيْ: سَنَةَ الْخَصْبِ الَّذِي أَفْضَى إِلَى الْفَتْقِ، هَذَا وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ كَشْفِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ السَّمَاءَ لَمَّا رَأَتْ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ الْوَادِي مِنْ بُكَائِهَا. قَالَ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] حِكَايَةً عَنْ حَالِ الْكُفَّارِ، فَيَكُونُ أَمْرُهَا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبْرَارِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَشْفِعُ بِهِ عِنْدَ الْجَدْبِ فَتَمْطُرُ السَّمَاءُ، فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِكَشْفِ قَبْرِهِ مُبَالَغَةً فِي الِاسْتِشْفَاعِ بِهِ، فَلَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ حِجَابٌ. أَقُولُ: وَكَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَرْضِ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِتَوَجُّهِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَهِيَ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ وَمَحَلُّ رِزْقِ الضُّعَفَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5951 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْحَرَّةِ لَمْ يُؤَذَّنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثًا وَلَمْ يُقَمْ، وَلَمْ يَبْرَحْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَسْجِدَ، وَكَانَ لَا يَعْرِفُ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِهَمْهَمَةٍ يَسْمَعُهَا مِنْ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5951 - (وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَنُوخِيٌّ دِمَشْقِيٌّ، كَانَ فَقِيهَ أَهْلِ الشَّامِ فِي زَمَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بَعْدَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِالشَّامِ أَصَحَّ حَدِيثًا مِنْهُ وَمِنَ الْأَوْزَاعِيِّ، وَهُوَ وَالْأَوْزَاعِيُّ عِنْدِي سَوَاءٌ، وَكَانَ سَعِيدٌ بَكَّاءً، فَسُئِلَ فَقَالَ: مَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا مُثِّلَتْ لِي جَهَنَّمُ. (قَالَ: لَمَّا كَانَ) ، أَيْ: وَقَعَ (أَيَّامَ الْحَرَّةِ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ يَوْمٌ مَشْهُورٌ فِي الْإِسْلَامِ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا نَهَبَ الْمَدِينَةَ عَسْكَرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ نَدَبَهُمْ لِقِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَرَ مُسْلِمُ بْنُ عُيَيْنَةَ الْمُرِّيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَعَقِيبَهَا هَلَكَ يَزِيدُ، وَالْحَرَّةُ هَذِهِ أَرْضٌ بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ بِهَا حِجَارَةٌ سُودٌ كَثِيرَةٌ وَقَعَتْ فِيهَا هَذِهِ الْوَقْعَةُ (لَمْ يُؤَذَّنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. أَيْ: لَمْ يُؤَذِّنْ أَحَدٌ فِيهِ لِأَجْلِ الْفِتْنَةِ (ثَلَاثًا) ، أَيْ: ثَلَاثَ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا (وَلَمْ يُقَمْ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْإِقَامَةِ أَيْ: وَلَمْ يُقِمْ أَحَدٌ لِلصَّلَاةِ أَيْضًا (وَلَمْ يَبْرَحْ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ لَمْ يُفَارِقْ (سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَسْجِدَ) : وَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ شَيْخٌ مَجْنُونٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كَانَ سَيِّدَ التَّابِعِينَ جَمَعَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ لَقِيَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُمْ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، حَجَّ أَرْبَعِينَ حَجَّةً مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. (وَكَانَ) ، أَيْ: سَعِيدٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الشَّدِيدِ (لَا يَعْرِفُ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِهَمْهَمَةٍ) ، أَيْ: بِصَوْتٍ خَفِيٍّ لَا يُفْهَمُ (يَسْمَعُهَا مِنْ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5952 - وَعَنْ أَبِي خَلْدَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: سَمِعَ أَنَسٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: خَدَمَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ لَهُ بُسْتَانٌ يَحْمِلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ الْفَاكِهَةَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ فِيهَا رَيْحَانٌ يَجِيءُ مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5952 - (وَعَنْ أَبِي خَلْدَةَ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ الْبَصْرِيُّ الْخَيَّاطُ مِنَ الْخِيَاطَةِ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْهُ وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ. (قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ رَفِيعُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّبَاحِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ، رَأَى الصِّدِّيقَ، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ، وَأُبَيٍّ، وَعَنْهُ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ وَغَيْرُهُ. قَالَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ، كَانَ يَقُولُ: قَرَأْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنْ وَفَاتِهِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعِينَ (سَمِعَ أَنَسٌ) : بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَسَمِعَ أَحَادِيثَ (مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ يَرْوِيهَا أَوَّلُهُ مَرَاسِيلُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَعَ أَنَّهَا حُجَّةٌ اتِّفَاقًا، وَكَأَنَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَدَّدَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ (قَالَ) ، أَيْ: أَبُو الْعَالِيَةِ (خَدَمَهُ) ، أَيْ: خَدَمَ أَنَسٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَشْرَ سِنِينَ) ، أَيْ: وَعُمُرُهُ عَشْرُ سِنِينَ (وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: بِالْبَرَكَةِ (فِي عُمُرِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ) : فَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ لَهُ مِائَةُ وَلَدٍ. (وَإِنَّ لَهُ بُسْتَانٌ يَحْمِلُ) ، أَيْ: يُثْمِرُ (فِي كُلِّ سَنَةٍ الْفَاكِهَةَ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ فِيهَا) ، أَيْ: فِي الْحَدِيقَةِ وَهِيَ فِي مَعْنَى الْبُسْتَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فِيهِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْبُسْتَانِ (رَيْحَانٌ) : وَهُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ لَهُ رِيحٌ طَيِّبٌ (يَجِيءُ مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ) . وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ وَالصُّحْبَةُ وَطُولُ مُلَازِمَةِ الْخِدْمَةِ كَيْفَ لَا يُسْمَعُ وَلَا يُرْوَى عَنْهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5953 - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَاصَمَتْهُ أَرْوَى بِنْتُ أَوْسٍ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ! قَالَ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» ) فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا. فَقَالَ سَعِيدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا قَالَ: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِمَعْنَاهُ، وَأَنَّهُ رَآهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ، تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدٍ، وَأَنَّهَا مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ الَّتِي خَاصَمَتْهُ فِيهَا، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5953 - (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَيِ: ابْنِ الْعَوَّامِ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيَّ، سَمِعَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ أَسْمَاءَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ هِشَامٌ وَالزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ) ، بِضَمِّ نُونٍ فَفَتْحِ فَاءٍ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ (خَاصَمَتْهُ أَرْوَى) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ مَقْصُورًا. قَالَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ: لَا أَدْرِي أَكَانَتْ أَرْوَى صَحَابِيَّةً أَمْ تَابِعِيَّةً (بِنْتُ أَوْسٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، هَكَذَا فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ. قِيلَ: وَكَذَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: أُوَيْسٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَفِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُؤَلِّفِ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ، وَيُقَالُ: أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، رَوَى عَنْهُ أَبُو أَشْعَثَ السَّمْعَانِيُّ وَابْنُهُ عُمَرُ وَغَيْرُهُمَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا رَافَعَتْهُ فِي الْخُصُومَةِ (إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ الْقُرَشِيَّ الْأُمَوِيَّ جَدَّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الطَّائِفِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى وَلِيَ عُثْمَانُ فَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرَوَى عَنْ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَعَنْهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. مَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ اهـ وَكَأَنَّهُ كَانَ وَالِيًا فِي الْمَدِينَةِ (وَادَّعَتْ) ، أَيْ: أَرْوَى (أَنَّهُ) ، أَيْ: سَعِيدًا (أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا) ، أَيْ. ظُلْمًا (قَالَ سَعِيدٌ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا!) : فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِإِنْكَارِ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: (بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ مُقَرِّرٌ لِجِهَةِ الْإِنْكَارِ (قَالَ) ، أَيْ: مَرْوَانُ (مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) ، أَيْ: سَعِيدٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (مَنْ أَخَذَ شِبْرًا) ، أَيْ: قَدْرَ شِبْرٍ وَأَرَادَ شَيْئًا يَسِيرًا (مِنَ الْأَرْضِ) ، أَيْ: أَرْضِ أَحَدٍ (ظُلْمًا) ، أَيْ: أَخْذَ ظُلْمٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ ظُلْمٍ (طُوِّقَهُ) : بِضَمِّ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: طَوَّقَهُ اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، أَيْ: جَعَلَ ذَلِكَ الشِّبْرَ مِنْهَا طَوْقَهُ (إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَإِسْكَانُهَا قَلِيلٌ. وَفِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْأَرْضَ سَبْعُ طِبَاقٍ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْأَقَالِيمُ فَقَدْ وَهِمَ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُطَوَّقِ الظَّالِمُ بِشِبْرٍ مِنْ كُلِّ إِقْلِيمٍ بِخِلَافِ طِبَاقِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِهَذَا الشِّبْرِ. (فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً) : وَفِي نُسْخَةٍ بِبَيِّنَةٍ أَيْ: لَا أُطَالِبُكَ بِحُجَّةٍ (بَعْدَ هَذَا) . أَيْ: بَعْدَ إِيرَادِكَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَالْمَعْنَى أُصَدِّقُكَ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ أَنَّكَ غَيْرُ ظَالِمٍ، أَوْ لَا أَشُكُّ فِي نَقْلِكَ الْحَدِيثَ، وَلَا أَحْتَاجُ لِرِوَايَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّكَ بِمَنْزِلَةِ رَاوِيَيْنِ وَأَكْثَرَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَأَنَّ سَعِيدًا لَمَّا أَنْكَرَ تَوَجَّهَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ وَعِنْدَ فَقْدِهَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْيَمِينُ فَأَجْرَى مَرْوَانُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ مَجْرَى الْيَمِينِ وَقَالَ: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، اه. وَلَا يَخْفَى أَنَّ اعْتِبَارَ مِثْلِ هَذَا غَيْرُ شَرْعِيٍّ فِي بَابِ الدَّعْوَى، فَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ مِنْ أَنَّ سَعِيدًا تَرَكَ لَهَا مَا ادَّعَتْهُ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ نَقْلُ عُرْوَةَ. (فَقَالَ سَعِيدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا) : بِفَتْحِ هَمْزٍ وَكَسْرِ مِيمٍ أَيِ: اجْعَلْ بَصَرَهَا أَعْمَى (وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا) ، أَيِ: الَّتِي ادَّعَتْ فِيهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا، وَكَانَ سَعِيدٌ مُجَابَ الدَّعْوَةِ عَلَى مَا فِي التَّهْذِيبِ. قَالَ) ، أَيْ: عُرْوَةُ (فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ) ، أَيْ: عَمِيقَةٍ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ فِي بِئْرٍ (فَمَاتَتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» ) . وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ: (مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا ظُلْمًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ تُرَابَهَا إِلَى الْمَحْشَرِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ وَالضِّيَاءِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْحَارِثِ: ( «مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» ) .

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِمَعْنَاهُ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: رَوَى عَنْ جَدِّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ بَنُوهُ، وَالْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُمْ، ثِقَةٌ. (وَأَنَّهُ) ، أَيْ: مُحَمَّدًا الْمَذْكُورَ (رَآهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ) ، بِضَمَّتَيْنِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الدَّالِ جَمْعُ جِدَارٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، فَفِي الْقَامُوسِ الْجُدُرُ الْحَائِطُ كَالْجِدَارِ جَمْعُ جُدْرٍ وَجُدُرٍ وَجُدْرَانٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَدُورُ عَلَى الْجُدُرِ وَتُمْسِكُهَا (تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدٍ، وَأَنَّهَا مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ) ، أَيْ: حُفْرَةٍ عَمِيقَةٍ كَمَا سَبَقَ (فِي الدَّارِ الَّتِى خَاصَمَتْهُ فِيهَا، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ) ، أَيْ: صَارَتْ (قَبْرَهَا) . أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.

5954 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ، فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ، فَجَعَلَ يَصِيحُ: يَا سَارِيَ! الْجَبَلَ فَقَدِمَ رَسُولٌ مِنَ الْجَيْشِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقِيَنَا عَدُوُّنَا فَهَزَمُونَا، فَإِذَا بِصَائِحٍ يَصِيحُ: يَا سَارِيَ! الْجَبَلَ. فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الْجَبَلِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5954 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ جَيْشًا) ، أَيْ: أَرْسَلَهُمْ (إِلَى نَهَاوَنْدَ) : مُثَلَّثَةُ النُّونِ بَلَدٌ مِنْ بِلَادِ الْجِيلِ جَنُوبَيِّ هَمْدَانَ (وَأَمَّرَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: جَعَلَ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ (رَجُلًا يُدْعَى) ، أَيْ: يُسَمَّى (سَارِيَةَ) ، فِي الْقَامُوسِ: هُوَ ابْنُ زَنِيمٍ الَّذِي نَادَاهُ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَارِيَةُ بِنَهَاوَنْدَ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ. (فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ) ، أَيْ: فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مِنْهُمْ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ; فَهَذِهِ كَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَنْقَبَةٌ جَسِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَزِيَّةِ جَلَالَتِهِ وَصِحَّةِ خِلَافَتِهِ (فَجَعَلَ) أَيْ: عُمَرُ (يَصِيحُ) ، أَيْ: فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهَا (يَا سَارِيَ) ! مُرَخَّمُ سَارِيَةَ وَفِي نُسْخَةٍ: يَا سَارِيَةُ (الْجَبَلَ) بِالنَّصْبِ أَيِ: الْزَمِ الْجَبَلَ وَاجْعَلْهُ وَرَاءَ ظَهْرِكَ فَتَعَجَّبَ النَّاسُ (فَقَدِمَ رَسُولٌ مِنَ الْجَيْشِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقِيَنَا) ! بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ فَقَوْلُهُ (عَدُوُّنَا) بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَنَصْبِ عَدُوِّنَا (فَهَزَمُونَا) ، أَيْ: فَغَلَبُونَا أَوَّلًا، (فَإِذَا بِصَائِحٍ يَصِيحُ: يَا سَارِيَ! الْجَبَلَ. فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الْجَبَلِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى) : فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَرَامَةِ لِعُمَرَ: كَشْفُ الْمَعْرَكَةِ وَإِيصَالُ صَوْتِهِ وَسَمَاعُ كُلٍّ مِنْهُمْ لِصَيْحَتِهِ وَفَتْحُهُمْ وَنَصْرُهُمْ بِبَرَكَتِهِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

5955 - وَعَنْ نُبَيْهَةَ بْنِ وَهْبٍ، أَنَّ كَعْبًا دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كَعْبٌ: مَا مِنْ يَوْمٍ يَطْلُعُ إِلَّا نَزَلَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَحُفُّوا بِقَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْرِبُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا عَرَجُوا وَهَبَطَ مِثْلُهُمْ فَصَنَعُوا مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا انْشَقَّتْ عَنْهُ الْأَرْضُ خَرَجَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَزُفُّونَهُ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5955 - (وَعَنْ نُبَيْهَةَ) : بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ فَهَاءٍ فَتَاءٍ، كَذَا ضَبَطَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ نُبَيْهٍ بِدُونِ تَاءٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّهُ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُغْنِي، وَكَذَلِكَ فِي التَّحْرِيرِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ (ابْنِ وَهْبٍ) ، أَيِ: الْكَعْبِيِّ الْحِجَازِيِّ، سَمِعَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ وَكَعْبًا مَوْلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَرَوَى عَنْهُ نَافِعٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ (أَنَّ كَعْبًا) ، أَيْ: كَعْبَ الْأَحْبَارِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ كَعْبُ بْنُ مَاتِعٍ يُكْنَى أَبَا إِسْحَاقَ الْمَعْرُوفُ بِكَعْبِ الْأَحْبَارِ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرَهُ، وَأَسْلَمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَوَى عَنْ عُمَرَ وَصُهَيْبٍ وَعَائِشَةَ، وَمَاتَ بِحِمْصَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَذَكَرُوا) ، أَيْ: أَهْلُ الْمَجْلِسِ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: بَعْضَ نَعْتِهِ أَوْ قَضِيَّةَ مَوْتِهِ (فَقَالَ كَعْبٌ) ، أَيْ: نَقْلًا عَنِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ مِمَّا رَوَاهُ أَوْ سَمِعَهُ مِمَّنْ قَبْلَهُ أَوِ انْكِشَافًا لَهُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لُغَوِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَكْرَمَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (مَا مِنْ يَوْمٍ يَطْلُعُ) : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: يَظْهَرُ فَجْرُهُ أَوْ تَطْلُعُ شَمْسُهُ (إِلَّا نَزَلَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَحُفُّوا) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: يُحِيطُوا (بِقَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْرِبُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ) ، أَيْ: لِلطَّيَرَانِ حَوْلَهُ أَوْ فَوْقَهُ يَلْتَمِسُونَ بَرَكَتَهُ وَقُرْبَهُ وَنُورَهُ (وَيُصَلُّونَ عَلَى

رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: بِالثَّنَاءِ الْجَزِيلِ وَالدُّعَاءِ الْجَمِيلِ (حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا) ، أَيْ: دَخَلُوا فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ (عَرَجُوا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: صَعَدُوا إِلَى السَّمَاءِ (وَهَبَطَ) ، أَيْ: نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ (مِثْلُهُمْ) ، أَيْ: مِنْ عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ فِي لَيْلَتِهِمْ (فَصَنَعُوا مِثْلَ ذَلِكَ) ، أَيْ: مِنْ ضَرْبِ الْأَجْنِحَةِ وَكَثْرَةِ التَّصْلِيَةِ (حَتَّى إِذَا انْشَقَّتْ عَنْهُ الْأَرْضُ) ، أَيْ: عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ (خَرَجَ، أَيْ: ظَهَرَ (فِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَزُفُّونَهُ) . بِضَمِّ الزَّايِ وَيُكْسَرُ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: يَهْدُونَ الْمَحْبُوبَ إِلَى الْحَبِيبِ أَوِ الْمُحِبَّ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَالْأَوَّلُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ أَكْثَرُ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ اللُّغَةِ أَظْهَرُ، فَإِنَّ يَزُفُّونَ بِالضَّمِّ مَنْ زَفَفْتُ الْعَرُوسَ إِلَى زَوْجِهَا إِذَا أَهْدَيْتُهَا إِلَيْهِ، وَيَزِفُّونَ بِالْكَسْرِ مَنْ زَفَّ الْبَعِيرُ أَوِ الظَّلِيمُ، وَهُوَ الذَّكَرُ مِنَ النَّعَامِ إِذَا أَسْرَعَ فَفِيهِ حَذْفٌ وَإِيصَالٌ أَيْ: يُسْرِعُونَ بِهِ إِلَيْهِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحَدِيثِ ضَمُّ الْيَاءِ وَكَسْرُ الزَّايِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ حَيْثُ قَالَ: زَفَّ الْعَرُوسَ إِلَى زَوْجِهَا مِنْ بَابِ كَتَبَ كَأَزَفَّهَا، وَالظَّلِيمُ وَغَيْرُهُ يَزِفُّ مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَسْرَعَ كَأَزَفَّ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

[باب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووفاته]

[بَابٌ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَفَاتُهُ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5956 - عَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِآنِنَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ، فَرَحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَاءَ فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [9] بَابٌ هِجْرَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَفَاتُهُ بِالتَّنْوِينِ مَرْفُوعًا. وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى هَذَا بَابٌ فِي بَيَانِ هِجْرَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ مَكَّةَ وَبَيَانِ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي نُسْخَةٍ: بَابُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5956 - (عَنِ الْبَرَاءِ) ، أَيِ: ابْنِ عَازِبٍ (قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصْعَبُ) : اسْمُ مَفْعُولٍ (ابْنُ عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِآنِنَا) ، أَيْ: يُعَلِّمَانِنَا الْقُرْآنَ (ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ) ، أَيِ: ابْنُ يَاسِرٍ (وَبِلَالٌ) ، أَيِ: ابْنُ رَبَاحٍ (وَسَعْدٌ) ، أَيِ: ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ (ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ) ، أَيْ: رَجُلًا (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: مَعَ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ (فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ) ، أَيْ: فِي الدُّنْيَا (فَرَحَهُمْ بِهِ) ، أَيْ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِمَجِيئِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى الْمَدِينَةِ (حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ) : جَمْعُ وَلِيدَةٍ وَهِيَ الْجَارِيَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالذَّكَرُ وَلِيدٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْأَمَةِ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً. وَقَالَ الشَّارِحُ: الْوَلِيدَةُ الصَّبِيَّةُ وَالْأَمَةُ وَيُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ: (وَالصِّبْيَانَ) : جَمْعُ الصَّبِيِّ (يَقُولُونَ) ، أَيْ: مِنْ كَمَالِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ (هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَاءَ) : وَحَصَلَ بِهِ الرَّجَاءُ وَالنَّجَاءُ (قَالَ الْبَرَاءُ فَمَا جَاءَ) أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (حَتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أَيْ: تَعَلَّمْتُهَا فَفِيهِ ذِكْرُ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ وَإِرَادَةُ السَّبَبِ وَهُوَ التَّعَلُّمُ (فِي سُوَرٍ) ، أَيْ: فِي جُمْلَةِ سُوَرٍ أَوْ مَعَ سُوَرٍ (مِثْلِهَا) ، أَيْ: مِثْلِ سُورَةِ سَبِّحْ فِي الْمِقْدَارِ (مِنَ الْمُفَصَّلِ. أَيْ: مِنْ أَوْسَاطِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1] نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15] نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ مَكِّيَّةً إِلَّا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15] زَكَاةُ الْفِطْرِ وَصَلَاةُ الْعِيدِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِلَّا التَّرْغِيبُ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُرَادِ، فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5957 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: ( «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ) . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ قَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَعَجِبْنَا لَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! ! فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5957 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ) ، أَيْ: فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ لَيَالٍ (فَقَالَ: إِنَّ عَبْدًا) ، أَيْ: عَظِيمًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (خَيَّرَهُ اللَّهُ) ، أَيْ: جَعَلَهُ مُخَيَّرًا (بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ) ، أَيْ: يُعْطِيَهُ (مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا) : بِفَتْحِ الزَّايِ، أَيْ: بَهْجَتِهَا وَحُسْنِهَا وَزِينَتِهَا (مَا شَاءَ) : مَفْعُولٌ مُؤَخَّرٌ عَنْ مُبَيِّنِهِ، وَالْمَعْنَى مِقْدَارُ مَا أَرَادَ مِنْ طُولِ الْعُمُرِ وَالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّمَتُّعِ بِهَا (وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ) ، أَيِ: اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا أَعَدَّ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَلَذَّةِ اللِّقَاءِ مِنَ الْوَجْهِ الْكَرِيمِ، (فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ) ، أَيْ: لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ) ، أَيْ: لِكَمَالِ فَهْمِهِ وَإِدْرَاكِهِ حَيْثُ عَرَفَ مُفَارَقَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ الْمَرَضِ، أَوْ لِأَنَّ اخْتِيَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَتَرْكَ زَهْرَةِ الدُّنْيَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَرَاتِبِ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، فَانْتَقَلَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ اخْتِيَارُ الْمَوْتِ وَاللِّقَاءِ وَتَرْكُ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ (قَالَ) : اسْتِئْنَافًا (فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا) ، أَيْ: مَعَهُمْ لَوْ كَانَ يَنْفَعُ الْفِدَاءُ. قَالَ الرَّاوِي: (فَعَجِبْنَا لَهُ) ، أَيْ: لِأَبِي بَكْرٍ حَيْثُ يَفْدِيهِ وَلَا هُنَاكَ بَاعِثٌ يَقْتَضِيهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ مَا فَهِمَهُ مِنَ الْإِشَارَةِ لِتَقَيُّدِهِمْ بِظَاهِرِ الْعِبَارَةِ. (فَقَالَ النَّاسُ) ، أَيْ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (انْظُرُوا) ، أَيْ: نَظَرَ تَعَجُّبٍ (إِلَى هَذَا الشَّيْخِ) ، أَيْ: مَعَ كِبَرِهِ الْمُقْتَضِي لِوَقَارِهِ، وَرِيَادَةِ عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ (يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَبْدٍ) ، أَيْ: مُنَكَّرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ (خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ) ، أَيِ: الشَّيْخُ (يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا) ! ! أَيْ: وَمِثْلُ هَذَا مَا يُقَالُ إِلَّا لِعَظِيمٍ يُرِيدُ الِانْتِقَالَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْعُقْبَى، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: (فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُخَيَّرَ) ، بِالنَّصْبِ وَهُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَلَهُ وَجْهٌ، وَالْمَعْنَى فَظَهَرَ لَنَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الْعَبْدَ الْمُخَيَّرَ (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا) . أَيْ: أَكْثَرَ عِلْمًا مِنَّا حَيْثُ عَلِمَ أَوَّلًا أَنَّ الْمُخَيَّرَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا أَيْ: وَقَدْ كَانَ أَعْلَمَنَا بِالْقَضِيَّةِ لَكِنَّا مَا فَهِمْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5958 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ، كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: (إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَنَا فِي مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّى أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا» ) . وَزَادَ بَعْضُهُمْ: ( «فَتَقْتَتِلُوا، فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5958 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) ، جُهَنِيٌّ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ) : جَمْعُ قَتِيلٍ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الشُّهَدَاءُ (بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ) ، أَيْ: مِنْ دَفْنِهِمْ، فَقِيلَ: صَلَّى عَلَيْهِمْ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ، فَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ أَوْ خُصُوصِيَّتِهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءُ (كَالْمُوَدِّعِ لِلْأِحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ) ، قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيِ: اسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَاسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ كَالْوَدَاعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَبِخُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَأَمَّا الْأَمْوَاتُ فَبِانْقِطَاعِ دُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ لَهُمْ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَذَلِكَ قُرْبَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: (إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ فَيُهَيِّءُ لَهُمُ الرِّشَاءَ وَالدِّلَاءَ وَيَسْقِي لَهُمْ، وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَتَبَعٍ بِمَعْنَى تَابِعٍ، يُرِيدُ أَنَّهُ شَفِيعٌ لَهُمْ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُهُمْ، وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُهُمْ عَلَى الْمَشْفُوعِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِمَا الْجَنَّةَ» ) فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ يَا مُوَفَّقَةُ) قَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: ( «فَأَنَا فَرَطٌ لِأُمَّتِي لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي» ) . (وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ) ، أَيْ: مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِكُمْ إِذْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، أَوْ أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَمُثْنٍ عَلَيْكُمْ (وَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ) ، أَيْ: مَكَانَ وَعْدِكُمْ لِلشَّفَاعَةِ الْخَاصَّةِ بِكُمْ فِي يَوْمِ الْجَمْعِ (الْحَوْضُ) ، أَيْ: وُرُودُهُ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَيَّزُ الْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ.

وَالْمُنَافِقُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، فَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ لِأُمَّةِ الْإِجَابَةِ (وَإِنِّي لَأَنْظُرُ) ، أَيِ: الْآنَ (إِلَيْهِ) ، أَيْ: إِلَى الْحَوْضِ (وَأَنَا فِي مَقَامِي هَذَا) ، أَيْ: فَوْقَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكَأَنَّهُ كُشِفَ لَهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ) ، أَيْ: سَتُفْتَحُ لِأُمَّتِي خَزَائِنُ الْأَرْضِ بِفَتْحِ بِلَادِهَا وَإِيمَانِ عِبَادِهَا، (وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ) ، أَيْ: عَلَى مَجْمُوعِكُمْ (أَنْ تُشْرِكُوا بِعْدِي) ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنْ بَعْضٍ (وَلَكِنِّي قَدْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ تَرْغَبُوا (فِيهَا) . رَغْبَةَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ، وَتَمِيلُوا إِلَيْهَا كُلَّ الْمَيْلِ، فَإِنَّ الْمُنَافَسَةَ لَا تُنَاسِبُ النِّعَمَ الْفَانِيَةَ، بَلْ تَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الْبَاقِيَةِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ (وَزَادَ بَعْضُهُمْ) ، أَيْ: بَعْضُ الرُّوَاةِ عَلَى مَا سَبَقَ قَوْلُهُ: (فَتَقْتَتِلُوا) ، أَيْ: يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا لِلْمُلْكِ وَالْمَالِ (فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) . أَيْ: فِي الْمَالِ بِأَسْوَأِ الْحَالِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ أُمَّتَهُ تَمْلِكُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ. وَأَنَّهُمْ لَا يَرْتَدُّونَ، وَقَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يَتَنَافَسُونَ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5959 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوِفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَإِنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ وَأَنَا مُسْنِدَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَتَنَاوَلْتُهُ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ، فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) ، ثُمَّ نَصَبَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: (فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى) . حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5959 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ) ، أَيْ: خَاصَّةً (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي) ، أَيْ: لَا فِي غَيْبَتِي (وَفِي يَوْمِي) ، أَيْ: نَوْبَتِي لِأَكُونَ مُتَشَرِّفَةً بِخِدْمَتِهِ. وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: كَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صُدَاعٍ عَرَضَ لَهُ، وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، ثُمَّ اشْتَدَّ بِهِ، وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَأَذِنَّ لَهُ، وَكَانَ مُدَّةُ مَرَضِهِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضُحًى مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ، فَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَقِيلَ: لِاثْنَتَىْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، (وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فِيهِمَا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قَوْلِي وَقُرْبَتِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِهَا، وَمَا يُحَاذِي سَحْرَهَا مِنْهُ، إِذِ السَّحْرُ الرِّئَةُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: السَّحْرُ مَا لَصَقَ بِالْحُلْقُومِ مِنْ أَعْلَى الْبَطْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: النَّحْرُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنْ أَعْلَى الصَّدْرِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: السَّحْرُ هُوَ الصَّدْرُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الرِّئَةُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّحْرِ مَوْضِعُهُ اه. وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: بَيْنَ حَاقِنِي وَذَاقِنِي أَيْ: كَانَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَنَكِهَا وَصَدْرِهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا لِلْحَاكِمِ وَابْنِ سَعْدٍ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ رَأْسَهُ الْكَرِيمَ كَانَ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - ; لِأَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ مِنْهَا لَا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ كَذَا قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا يُجْمَعُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ قَبْلَ الْوَفَاةِ. ( «وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ» ) . قَالُوا: الصَّوَابُ بِفَتْحِ أَنَّ عَطْفًا عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَدْخُلُ تَحْتَ نِعَمِ اللَّهِ بِخِلَافِهِ إِذَا كُسِرَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَطْفًا عَلَى أَنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ، فَيَكُونُ مُجَرَّدَ إِخْبَارٍ، وَأَقُولُ: لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالْكَسْرِ لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، ثُمَّ الرِّيقُ بِالْكَسْرِ مَاءُ الْفَمِ، وَلَمَّا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ سَبَبٍ قَالَتْ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ (دَخَلَ عَلَيَّ) ، أَيْ: عِنْدِي (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) : وَالْمُرَادُ بِهِ أَخُوهَا (وَبِيَدِهِ) ، أَيْ: بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (سِوَاكٌ) ، أَيْ: غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِمَا سَيَأْتِي (وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، بِالْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِ مُسْنِدَةٍ، وَنَصْبِ الرَّسُولِ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ يُقَالُ: سَنَدَ إِلَيْهِ اسْتَنَدَ وَأَسْنَدْتُهُ أَنَا كَذَا فِي الْقَامُوسِ (فَرَأَيْتُهُ) ، أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَنْظُرُ إِلَيْهِ) ، أَيْ: إِلَى السِّوَاكِ أَوْ إِلَى صَاحِبِهِ (وَعَرَفْتُ) ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ فِي الْمَاضِي مِنْ طَبْعِهِ (أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ) ، أَيْ: مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْفَمِ خُصُوصًا (فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ) ، أَيْ: مِنْهُ (فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ) ، أَيْ: نَعَمْ

فَأَنْ مُفَسِّرَةٌ (فَتَنَاوَلْتُهُ) ، أَيْ: أَخَذْتُهُ مِنْهُ وَنَاوَلْتُهُ إِلَيْهِ فَاسْتَعْمَلَهُ (فَاشْتَدَّ) ، أَيِ: السِّوَاكُ (عَلَيْهِ) ، أَيْ: لِأَنَّهُ شَدِيدٌ (وَقُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقُلْتُ: (أُلَيِّنُهُ لَكَ) ؟ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ (فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ) ، أَيْ: لَيَّنْتُ السِّوَاكَ بِرِيقِي، وَأَعْطَيْتُهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَأَمَرَّهُ عَلَى أَسْنَانِهِ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَاضٍ مِنَ الْإِمْرَارِ، وَالْمَعْنَى فَاجْتَمَعَ الرِّيقَانِ فِي حَلْقِي، وَكَذَا فِي حَلْقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى رِضَاهُ عَنْهَا حَتَّى عِنْدَ انْقِطَاعِ حَيَاتِهِ (وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ) ، أَيْ: ظَرْفٌ (فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ) ، وَإِيرَادُهَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ إِشْعَارٌ بِنِهَايَةِ حَرَارَتِهِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى إِظْهَارِ عَجْزِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ. قِيلَ: وَسَبَبُهُ أَنَّهُ كَانَ يُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ، ثُمَّ يَفِيقُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي فِعْلُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَرِيضٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فُعِلَ بِهِ ; لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ تَخْفِيفِ الْكَرْبِ كَالتَّجْرِيعِ، بَلْ يَجِبُ التَّجْرِيعُ إِذَا اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْمَرِيضِ إِلَيْهِ. (وَيَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، أَيِ: الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ (إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) : بِفَتَحَاتٍ جَمْعُ سَكْرَةٍ أَيْ: شَدَائِدَ وَمَشَقَّاتٍ عَظِيمَاتٍ مِنْ حَرَارَاتٍ وَمَرَرَاتٍ طَبِيعِيَّاتٍ، حَتَّى لِلْأَنْبِيَاءِ، وَأَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ، فَاسْتَعِدُّوا لِتِلْكَ الْحَالَاتِ، وَاطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ تَهْوِينَهُ لِلْأَمْوَاتِ. وَفِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْمَوْتِ أَيْ: مَشْعُولٌ أَوْ مُتَلَبِّسٌ، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ» ) أَوْ قَالَ: (عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ) . وَالْمُرَادُ بِمُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ شَدَائِدُهُ وَمَكْرُوهَاتُهُ، وَمَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنَ التَّغْطِيَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلسُّكْرِ، فَهُوَ بِمَعْنَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَالشَّكُّ إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ فِي تِلْكَ السَّكَرَاتِ زِيَادَةُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ. (ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ) ، أَيْ: رَفَعَهَا بِطَرِيقِ الدُّعَاءِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِيمَاءِ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ (فَجَعَلَ يَقُولُ) ، أَيْ: مُكَرِّرًا (فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى) . مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيِ اجْعَلْنِي فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَهُمْ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ اسْمٌ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ كَالصَّدِيقِ وَالْخَلِيطِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وَالرَّفِيقُ الْمُرَافِقُ فِي الطَّرِيقِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ اجْعَلْنِي فِي مَكَانِ رَفِيقِ الْأَعْلَى، وَأَرَادَ بِالْمَكَانِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الْمَخْصُوصَ بِهِ، فَالْمَعْنَى اجْعَلْنِي سَاكِنًا فِيهِ قَائِمًا بِهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى الْجَنَّةُ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ غُلُوٍّ وَقِيلَ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى مِنَ الرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ، وَاخْتَارَ لَفْظَةَ (فِي) لِلدَّلَالَةِ عَلَى زِيَادَةِ الْقُرْبِ الْمُشْعِرِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي حَضْرَةِ الرَّبِّ وَالْفَنَاءِ فِي مَقَامِ بَقَاءِ الْحُبِّ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ الْمُفِيدِ لِتَأْكِيدِ التَّأْبِيدِ، وَقَدْ غَفَلَ الْأَزْهَرِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْأَظْهَرِ، وَالْمَعْنَى الْأَنْوَرِ، وَغَلَطَ قَائِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَأَمَّلْهُ وَتَدَبَّرْ. ثُمَّ رَأَيْتُ التُّورِبِشْتِيُّ قَالَ: قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، تَعَالَى. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: غَلَطَ قَائِلُ هَذَا، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ لَمْ يُوجِبْ إِطْلَاقَ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ يُوجِبْ أَنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سَتِّيرٌ إِطْلَاقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِيضَاحَ مَعْنًى لَمْ يَكُنْ يَقَعُ فِي الْأَفْهَامِ إِلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ. قَالَ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَمَا الْمَانِعُ؟ وَلَيْسَ هَذَا نَحْوَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ. وَقَوْلُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ: إِنَّهُ اخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ، تَعَالَى، فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ لَقِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ» . وَحَدِيثُ جَعْفَرٍ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى لِقَائِكَ» . الْحَدِيثَ. وَلِأَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْبُغْيَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27 - 28] وَفِي إِدْخَالِ فِي عَلَى الرِّيقِ إِيذَانٌ بِغَايَةِ الْقُرْبِ، وَشِدَّةِ تَمَكُّنِهِ فِيهِ، وَحُلُولِ رِضْوَانِهِ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَائِشَةَ الْآتِيَةُ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، ثُمَّ الْمَعْنَى كَانَ هَذَا حَالَهُ وَمَقَالَهُ (حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ) . أَيْ: عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ، أَوْ عَنِ الطَّرِيقَيْنِ إِيمَاءً إِلَى الْإِغْمَاضِ عَنِ الْكَوْنَيْنِ، وَالْمَيْلِ إِلَى الْمَكُونِ الَّذِي لِقَاؤُهُ قُرَّةُ الْعَيْنَيْنِ، وَلِذَا كَانَ سَيِّدَ الثَّقَلَيْنِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5960 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) . وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5960 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ (مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: مَرَضَ الْمَوْتِ (إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) . أَيْ: بَيْنَ بَقَائِهِ مُدَّةً أُخْرَى فِي الدُّنْيَا، وَبَيْنَ تَوَجُّهِهِ إِلَى عَالَمِ الْعُقْبَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا يَخْتَارُ مَا عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ) ، أَيْ: فِي مَرَضِهِ (الَّذِي قُبِضَ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ) ، بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ مُهْمَلَةٍ أَيْ: غِلَظُ الصَّوْتِ وَخُشُونَتُهُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ شَيْءٌ يَغُوصُ فِي الْحَلْقِ فَيُغَيَّرُ لَهُ الصَّوْتُ فَيَغْلُظُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا سُعْلَةٌ. فَفِي الْقَامُوسِ: السُّعَالُ وَالسُّعْلَةُ بِضَمِّهِمَا، وَهِيَ حَرَكَةٌ تَدْفَعُ بِهَا الطَّبِيعَةُ أَذًى عَنِ الرِّئَةِ وَالْأَعْضَاءِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِهَا (فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ) ، أَيِ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَيْ: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] يَعْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فَالْجَمْعُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْأَوْلَى حَشَرَنَا اللَّهُ مَعَهُمْ فِي الْعُقْبَى (فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ) أَيْ: بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الْأُخْرَى مِنْ لِقَاءِ الْمَوْلَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5961 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ آبَاهْ فَقَالَ لَهَا: (لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ) . فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ! أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ! مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهُ! إِلَى جِبْرَئِيلَ نَنْعَاهُ. فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَنَسُ! أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التُّرَابَ» ؟ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5961 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لِمَا ثَقُلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَضَمِّ قَافٍ أَيِ: اشْتَدَّ مَرَضُهُ (جَعَلَ، أَيْ: طَفِقَ (يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: يَتَغَشَّى بِلَا ضَمِيرٍ وَبِلَا لَفْظِ الْكَرْبِ وَقَالَ شَارِحٌ لَهُ، أَيْ: يَتَغَطَّى وَيَتَسَتَّرُ بِالثَّبَاتِ، وَقِيلَ أَيْ: يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ، وَهُوَ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ. أَقُولُ: وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: (قَالَتْ فَاطِمَةُ) ، أَيْ: بِنْتُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (وَاكَرْبَ أَبَاهْ) ! بِسُكُونِ الْهَاءِ لِلسَّكْتِ وَالْأَلِفُ قَبْلَهُ لِلنُّدْبَةِ وَسِيلَةٌ لِمَدِّ الصَّوْتِ فِي الْكَلِمَةِ الْمُفِيدَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فَقَالَ: (لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ) . يَعْنِي أَنَّ الْكَرْبَ كَانَ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْأَلَمِ وَصُعُوبَةِ الْوَجَعِ، وَبَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْكَرْبَ كَانَ بِسَبَبِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَبَعْدَ الْيَوْمِ تَنْقَطِعُ تِلْكَ الْعَلَائِقُ الصُّورِيَّةُ، وَلَا كَرْبَ فِي التَّعَلُّقَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدٌ الْوَفَاةَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أَيْ: هُوَ الْمَوْتُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. (فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ) ! قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُهُ يَا أَبِي أُبْدِلَتِ التَّاءُ مِنَ الْيَاءِ ; لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ، وَالْأَلِفُ لِلنُّدْبَةِ لِمَدِّ الصَّوْتِ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَلَا بُدَّ لِلنُّدْبَةِ مِنْ إِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ يَاءً أَوْ وَاوًا، لِأَنَّ النُّدْبَةَ لِإِظْهَارِ التَّوَجُّعِ وَمَدُّ الصَّوْتِ وَإِلْحَاقُ الْأَلْفِ فِي آخِرِهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النِّدَاءِ، وَزِيَادَةُ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ إِرَادَةُ بَيَانِ الْأَلِفِ لِأَنَّهَا خَفِيَّةٌ وَتُحْذَفُ فِي الْوَصْلِ. (أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ) ، أَيْ: إِلَى الْعُقْبَى، فَاخْتَارَهَا عَلَى الدُّنْيَا وَهُوَ بِضَمِّ هَاءِ الضَّمِيرِ وَيُسَكَّنُ فِي الْوَقْفِ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، لَكِنْ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي قَوْلِهِ: (يَا أَبَتَاهُ! مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ) ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لِلضَّمِيرِ بِخِلَافِ قَوْلِهَا (يَا أَبَتَاهُ! إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ) . فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ، ثُمَّ قَوْلُهَا: مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الْجَنَّةِ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَخَفْضِ الْجَنَّةِ. قَالَ الْجَزَرِيُّ: بِفَتْحِ مِيمِ مَنْ عَلَى أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَيُحْتَمَلُ كَسْرُهَا عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ أَيْ: مَوْضِعُ قَرَارِهِ مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ فِي الْبُخَارِيِّ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَقَعَ مَنْ مَوْصُولَةً. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَقَعَتْ جَارَّةً، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِأَنَّهُ مِنْ وَادِي قَوْلِهِمْ: وَامَنْ حَفَرَ بِئْرَ زَمْزَمَاهُ اهـ. وَقَوْلُهُ: نَنْعَاهُ أَيْ: نُظْهِرُ خَبَرَ مَوْتِهِ إِلَيْهِ مِنَ النَّعْيِ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَفِي الْأَزْهَارِ أَيْ: نَبْكِي إِلَيْهِ، وَقِيلَ نُعَزِّيهِ، وَقِيلَ نُخْبِرُهُ. أَقُولُ: وَأَوْسَطُهَا أَعْلَاهَا. (فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَنَسُ! أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ) ، أَيْ: أَهَانَتْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ (أَنْ تَحْثُوا) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: تَكُبُّوَا (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،) ، أَيْ: فَوْقَهُ (التُّرَابَ) ؟ وَمِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهَا فِي تَعْزِيَتِهَا مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ ... أَنْ لَا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا ... صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 5962 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ لَعِبَتِ الْحَبَشَةُ بِحِرَابِهِمْ فَرَحًا بِقُدُومِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ قَالَ: مَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَحْسَنَ وَلَا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أقْبَحَ وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا عَنِ التُّرَابِ وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ، حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 5962 - (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ لَعِبَتِ الْحَبَشَةُ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: رَقَصَتْ (بِحِرَابِهِمْ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ حَرْبَةٍ، وَهِيَ رُمْحٌ قَصِيرٌ، وَقِيلَ بِخَنَاجِرِهِمْ (فَرَحًا لِقُدُومِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . (وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ) ، أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: مَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ كَانَ أَحْسَنَ) ، أَيْ: أَزْهَرَ فِي الْخَاطِرِ (وَلَا أَضْوَأَ) ، أَيْ: فِي نُورِ الظَّاهِرِ (مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،) أَيْ: فَإِنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْوِصَالِ لِلْمُشْتَاقِينَ إِلَى ذَلِكَ الْحَمَّالِ (وَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا أَقْبَحَ) ، أَيْ: أَسْوَأَ أَوْ أَحْزَنَ فِي الْقَلْبِ (وَلَا أَظْلَمَ) ، أَيْ: فِي عَيْنِ الْقَالَبِ (مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْفِرَاقِ عَلَى الْعُشَّاقِ. (وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ) ، أَيْ: أَنَسٌ (كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا، أَيْ: أَشْرَقَ مِنَ الْمَدِينَةِ (كُلُّ شَيْءٍ) : بِالرَّفْعِ، فَإِنَّ أَضَاءَ لَازِمٌ، وَقَدْ يَتَعَدَّى وَمِنْ بَيَانٌ تَقَدَّمَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِضَاءَةَ كَانَتْ مَحْسُوسَةً (فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ) : فَإِنَّ نُورَهُ شَمْسُ الْعَالَمِ الصُّورِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَتَخْصِيصُ الْمَدِينَةِ لِكَوْنِهَا أَقْرَبَ، وَلِنِسْبَةِ رُؤْيَةِ الرَّاوِي أَنْسَبُ (وَمَا نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا عَنِ التُّرَابِ) : مِنَ النَّفْضِ، وَهُوَ تَحْرِيكُ الشَّيْءِ لِيَزُولَ مَا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْغُبَارِ وَنَحْوِهَا، (وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ) ، أَيْ: مَشْغُولُونَ بَعْدَ جُمْلَةٍ حَالِيَّةٍ (حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا) . أَيْ: تَغَيَّرَتْ حَالُنَا بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَظُهُورِ أَنْوَاعِ الظُّلْمَةِ عَلَيْنَا وَلَمْ نَجِدْ قُلُوبَنَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَارِ الصَّفَا وَالرِّقَّةِ وَالْأُلْفَةِ فِيمَا بَيْنَنَا لِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْوَحْيِ، وَفُقْدَانِ بِرْكَةِ صُحْبَتِهِ وَأَثَرِ إِكْسِيرِ حُضُورِ حَضْرَتِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: زِيدَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الصَّفَا وَالْأُلْفَةِ مَادَّةِ الْوَحْيِ، وَفُقْدَانِ مَا كَانَ يَمُدُّهُمْ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّأْيِيدِ وَالتَّعْلِيمِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهَا عَلَى مَا كَانَتْ مِنَ الصِّدْقِ.

5963 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا. قَالَ: ( «مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ» ) . ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ الْفِرَاشِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5963 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ) . أَيْ: فِي مَوْضِعٍ يُدْفَنُ فِيهِ، فَقِيلَ: يُدْفَنُ فِي مَسْجِدِهِ، وَقِيلَ: بِالْبَقِيعِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقِيلَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: عِنْدَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ فِي نَفْسِ الدَّفْنِ، وَالْمَعْنَى هَلْ يُدْفَنُ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ؟ قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُدْفَنُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: أَيْنَ؟ قَالَ: فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَبَضَ اللَّهُ فِيهِ رُوحَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا فِي مَكَانٍ طَيِّبٍ، فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ اه. وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا رُوِي عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا) ، أَيْ: مَا نَسِيتُهُ كَمَا فِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ. قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِشَيْئًا أَوِ اسْتِئْنَافًا (قَالَ) ، أَيْ:؟ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ) أَيِ: النَّبِيُّ أَوْ يُرِيدُ اللَّهُ (أَنْ يُدْفَنَ) ، أَيْ: ذَلِكَ النَّبِيُّ (فِيهِ) . أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ (ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ) . أَيِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُحَوَّلْ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ، لِيَكُونَ شَرَفَ الْمَكَانِ الْمَكِينِ وَيَتَشَرَّفَ بِهِ أَهْلُ التَّمْكِينِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: وَقَالَ غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَلِيكِيُّ يُضَعَّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تُوُفِّيَ قَالَ نَاسٌ: يُدْفَنُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يُدْفَنُ بِالْبَقِيعِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا فِي الْمَكَانِ الَّذِي تُوُفِّيَ فَحَفَرَ فِيهِ» ) . ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنْ تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5964 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: (إِنَّهُ لَنْ يُقَبَضَ نَبِيٌّ حَتَّى يُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ) . قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ، وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِدِي غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ بَصَرُهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى) . قُلْتُ: إِذَنْ لَا يَخْتَارُنَا. قَالَتْ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 5964 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ، وَهُوَ صَحِيحٌ) ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ (إِنَّهُ) ، أَيِ: الشَّأْنُ (لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ) ، أَيْ: لَنْ يَمُوتَ (حَتَّى يُرَى) : مَجْهُولٌ مِنَ الْإِرَاءَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ مَعْلُومٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ أَيْ: يُبْصِرُ أَوْ يَعْرِفُ (مَقْعَدَهُ) ، أَيِ: الْخَاصَّ بِهِ (مِنَ الْجَنَّةِ) ، أَيْ: مِنْ مَنَازِلِهَا الْعَالِيَةِ (ثُمَّ يُخَيَّرَ) : بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ أَيْ: يُجْعَلَ مُخَيَّرًا بَيْنَ قُعُودِهِ فِي الدُّنْيَا، وَبَيْنَ وُصُولِهِ إِلَى مَقْعَدِهِ فِي الْعُقْبَى. (قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا نَزَلَ) ، أَيِ: الْمَوْتُ يَعْنِي عَلَامَاتُهُ (بِهِ) ، أَيْ: بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي) : حَالٌ وَجَوَابُ لَمَّا قَوْلُهَا (غُشِيَ عَلَيْهِ) ، أَيْ: أُغْمِي (ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ) ، أَيْ: رَفَعَ بَصَرَهُ (إِلَى السَّقْفِ) ، أَيْ: فَإِنَّهُ جِهَةُ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى (ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى) . أَيْ: أَخْتَارُ أَوْ أَسْأَلُكَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى (قُلْتُ: إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ وَفِي نُسْخَةٍ إِذَنْ (لَا يَخْتَارُنَا) . بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ (قَالَتْ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ) ، أَيْ: هَذَا (هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ لَنْ يُقْبَضَ) : وَفِي نُسْخَةٍ لَمْ يُقْبَضْ (نَبِيٌّ قَطُّ) : وَهُوَ يُؤَيِّدُ النُّسْخَةَ لَكِنْ أَرَادَ بِهِ أَبَدًا (حَتَّى يُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ) . قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى) . قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَأَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُسْتَرْضِعٌ عِنْدَ حَلِيمَةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَرَوَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلُ مَنْ قَالَ: (بَلَى) يَوْمَ قَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5965 - وَعَنْهَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: (يَا عَائِشَةُ! مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، وَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5965 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: (يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ) ، أَيْ: مَا أَبْرَحُ (أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ) ، أَيِ: الْمَسْمُومِ (الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، وَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِي أَوَانِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ، فَالضَّمُّ لِأَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَالْفَتْحُ عَلَى الْبِنَاءِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَبْنَى. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي يَوْمِ وِلَادَتِهِ، وَلَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ، وَالْمَعْنَى وَهَذَا زَمَانُ صَادَفْتُ (فِيهِ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ، وَهُوَ عِرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ، فَإِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ (مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ) . أَيْ: مِنْ أَثَرِهِ بِتَأْثِيرِهِ سُبْحَانَهُ، وَالسُّمُّ مُثَلَّثَةُ السِّينِ وَالضَّمُّ أَشْهَرُ وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الْأَبْهَرُ عِرْقٌ فِي الظَّهْرِ، وَهُمَا أَبْهَرَانِ. وَقِيلَ: هُمَا الْأَكْحَلَانِ اللَّذَانِ فِي الذِّرَاعَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ الْقَلْبَ، فَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ حَيَاةٌ، وَقِيلَ: الْأَبْهَرُ عِرْقٌ مَنْشَؤُهُ مِنَ الرَّأْسِ، وَيَمْتَدُّ إِلَى الْقَدَمِ، وَلَهُ شَرَايِينُ تَتَّصِلُ بِأَكْثَرِ الْأَطْرَافِ وَالْبَدَنِ، فَالَّذِي فِي الرَّأْسِ مِنْهُ يُسَمَّى النَّامَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَسْكَتَ اللَّهُ نَامَّتَهُ أَيْ: أَمَاتَهُ، وَيَمْتَدُّ إِلَى الْحَلْقِ، فَيُسَمَّى الْوَرِيدُ، وَيَمْتَدُّ إِلَى الصَّدْرِ فَيُسَمَّى الْأَبْهَرُ، وَيَمْتَدُّ إِلَى السَّاقِ فَيُسَمَّى الصَّافِنُ، وَالْهَمْزَةُ فِي الْأَبْهَرِ زَائِدَةٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَادِّنِي كُلَّ عَامٍ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ قَطَعَ أَبْهَرِي. قَالَ الْهَرَوِيُّ: الْأُكْلَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَقَالَ: لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا إِلَّا لُقْمَةً وَاحِدَةً اه. وَتُعَادِّنِي بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: تُعَاوِدُنِي وَقَطَعَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مُضَافًا إِلَيْهِ.

5966 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) . فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالِاخْتِلَافَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قُومُوا عَنِّي» ) قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيئَةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ. وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى. قُلْتُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعُهُ فَقَالَ: ( «ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا» ) . فَتَنَازَعُوا وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ. فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ؟ ! أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ، فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: ( «دَعُونِي، ذَرُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» ) . فَأَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ: فَقَالَ: ( «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» ) . وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا، قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5966 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِصِيَغةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: حَضَرُهُ الْمَوْتُ، وَفِيهِ تَجَوُّزٌ فَإِنَّهُ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ يَوْمُ الْخَمِيسِ إِلَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لَمَّا حَضَرَهُ هَمُّ الْمَوْتِ (وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ) ، أَيْ: كَثِيرَةٌ (وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) : جُمْلَتَانِ حَالِيَّتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ لَمَّا وَجَوَابِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلُمُّوا) ، أَيْ: تَعَالَوْا وَاحْضُرُوا (أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا) : بِالْجَزْمِ جَوَابًا وَقَوْلُهُ (لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) . صِفَةٌ لِكِتَابًا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَمِنْ تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ، وَمَعْصُومٌ مِنْ تَرْكِ بَيَانِ مَا أُمِرَ بِبَيَانِهِ وَتَبْلِيغِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَبْلِيغَهُ، وَلَيْسَ هُوَ مَعْصُومًا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ الْعَارِضَةِ لِلْأَجْسَامِ مِمَّا لَا نَقْصَ فِيهِ بِمَنْزِلَتِهِ، وَلَا فَسَادَ لِمَا تَمَهَّدَ مِنْ شَرِيعَتِهِ، وَقَدْ سُحِرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى صَارَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي هَذَا الْحَالِ كَلَامٌ فِي الْأَحْكَامِ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ، فَإِذَا عَلِمْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَرَادَ كِتَابَتَهُ فَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى الْخِلَافَةِ فِي إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ لِئَلَّا يَقَعَ نِزَاعٌ. قُلْتُ: هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا إِذِ التَّنْصِيصُ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوِ الْعَبَّاسِ أَوْ عَلِيٍّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابَةٍ، بَلْ كَانَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ كَافِيًا، وَلِلْمَقْصُودِ وَافِيًا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَشَارَ إِلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ بِنِيَابَةِ الْإِمَامَةِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ: ( «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ» ) نَعَمْ، لَوْ قِيلَ إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ الْخِلَافَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ خَلْفَ وَفَاتِهِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ وَظُهُورِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَنَبِيهٌ، وَلَكِنْ أَرَادَ اللَّهُ الْأَمْرَ مَسْتُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَقِيلَ: أَرَادَ كِتَابًا يُبَيِّنُ فِيهِ مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ مُلَخَّصَةً لِيَرْتَفِعَ النِّزَاعُ وَيَحْصُلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ نِزَاعٌ لِيَرْتَفِعَ وَلَا خِلَافٌ لِيَنْدَفِعَ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الزَّمَانِ مِمَّا سَيَقَعُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَقَدْ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ: ( «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» ) وَبِقَوْلِهِ: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ) وَبِقَوْلِهِ: ( «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» ) وَبِقَوْلِهِ ( «وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونُ» ) . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً كَيْفَ تَصِيرُ مُلَخَّصَةً مَنْصُوصَةً فِي سَاعَةٍ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا اخْتِلَافُ الْأُمَّةِ. نَعَمْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ قَصْدُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا يُبَيِّنُ فِيهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الَّتِي قَدْ تُوجَدُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْآتِيَةِ مِمَّا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ، وَلَا بِمَحْفُوظٍ فِي السُّنَّةِ لَا يَبْعُدُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْفَةِ وَسَبِيلِ الرَّحْمَةِ عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْعَامَّةِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا يُبَيِّنُ فِيهِ طَرِيقَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَيُفَصِّلُ فِيهِ أَحْوَالَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَةِ. (فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ) : أَرَادَ بِمَا ذَكَرَهُ التَّخْفِيفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ شِدَّةِ الْوَجَعِ وَقَوْلُهُ: (وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ) . أَيْ: كَافِيكُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] وَهُوَ خِطَابٌ لِمَنْ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ وَرَدٌّ عَلَيْهِ لَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ مُوَافَقَاتٌ وُفِّقَ بِهَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَتَرْتَفِعُ الْمُخَالَفَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ سُكُوتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَصَرْفُ عِنَانِهِ عَنْ أَمْرِ الْكِتَابَةِ، هَذَا وَقَدْ عَرَفَ عُمَرُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ حَزْمًا مِنْهُ. بَلْ رِعَايَةً لِمَصَالِحِهِمْ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ غَيْرَ حَازِمٍ يُرَاجِعُونَهُ فِيهِ، وَكَانَ يَتْرُكُهُ بِرَأْيِهِمْ. (فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ) ، أَيْ: مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَقَارِبِهِ (وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا) ، أَيِ: الدَّوَاةَ وَالْقَلَمَ (يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ: يُمْلِ عَلَيْكُمْ مَا أَرَادَ كِتَابَتَهُ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ) . أَيْ: مِنَ الْمَنْعِ لِشِدَّةِ الْوَجَعِ (فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الصَّوْتُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مَبْنَاهُ، وَلَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَاهُ (وَالِاخْتِلَافَ) ، أَيِ: الْمُوجِبَ لِلنِّزَاعِ وَالْخِلَافِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قُومُوا عَنِّي) ، أَيْ: فَإِنِّي تَرَكْتُ قَصْدَ الْكِتَابَةِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَمَّ بِالْكِتَابِ حِينَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَرْكُهُ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَنُسِخَ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ فِقْهِهِ وَفَضَائِلِهِ وَدَقَائِقِ نَظَرِهِ وَفَهْمِهِ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا عَنْهَا، وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا مَنْصُوصَةً لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَأَشَارَ قَوْلُهُ: حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] . (قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) ، أَيِ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْهُزَلِيُّ، وَلَدُ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ. (فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيئَةَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ، وَقَدْ يُسَهَّلُ فَتُشَدَّدُ الْيَاءُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَيِ الْمُصِيبَةَ (كُلَّ الرَّزِيئَةِ) ، أَيْ: تَمَامَهَا وَكَمَالَهَا (مَا حَالَ) ، أَيِ: الْحَالُ الَّذِي وَقَعَ حَائِلًا وَصَارَ مَانِعًا (بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ) . مُتَعَلِّقٌ بِحَالَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَالَ إِلَى خِلَافِ مَا قَالَ عُمَرُ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَتَدَبَّرْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: إِنَّمَا قَصَدَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِذَلِكَ التَّخْفِيفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَلَبَ الْوَجَعُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُبَ مَا لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ لَمْ يَتْرُكْهُ لِاخْتِلَافِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] كَمَا لَمْ يَتْرُكِ التَّبْلِيغَ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُ، وَكَمَا أَمَرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَعْنِي بِمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ: وَقَدْ حَكَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ اسْتِخْلَافَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى عِلْمِهِ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ، كَمَا هَمَّ بِالْكِتَابَةِ فِي أَوَّلِ مَرَضِهِ حِينَ قَالَ: وَارَأْسَاهْ! ثُمَّ تَرَكَ الْكِتَابَةَ وَقَالَ: ( «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ» ) وَذَلِكَ بِسَبَبِ اسْتِخْلَافِهِ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ: أَيْضًا: وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ بَيَانَ أَحْكَامِ الدِّينِ وَرَفْعَ الْخِلَافِ فِيهَا فَقَدْ عَلِمَ عُمَرُ حُصُولَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا تَقَعُ وَاقِعَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُهَا نَصًّا أَوْ دَلَالَةً، وَفِي تَكَلُّفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ مَعَ شِدَّةِ وَجَعِهِ كِتَابَهُ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ، فَرَأَى الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ، وَلَا يَنْسَدُّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ ; فَرَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الصَّوَابَ تَرْكُ الْكِتَابَةِ تَخْفِيفًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضِيلَةً لِلْمُجْتَهِدِينَ، وَفِي تَرْكِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِنْكَارَ عَلَى عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِصْوَابِ رَأْيِهِ، وَكَانَ عُمَرُ أَفْقَهَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُوَافِقِيهِ. (وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَحْوَلِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خَالُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ تَابِعِيٌّ مِنْ أَثْبَاتِ الْحِجَازِيِّينَ وَأَئِمَّتِهِمْ سَمِعَ طَاوُسًا وَأَبَا سَلَمَةَ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَشُعْبَةُ. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ؟ يَوْمُ الْخَمِيسِ) : مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ عَكْسُهُ وَقَوْلُهُ: (وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ) ؟ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَالشِّدَّةِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ - مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1 - 2] وَ {الْقَارِعَةُ - مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1 - 2] (ثُمَّ بَكَى) ، أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (حَتَّى بَلَغَ دَمْعُهُ الْحَصَى) ، أَيْ حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ بِلَا إِحْصَاءٍ، وَوَصَلَتْ إِلَى مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَصَى، ثُمَّ بُكَاؤُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتَذَكُّرِ وَفَاتِهِ، وَفُقْدَانِ حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَجَدُّدِ الْحُزْنِ عَلَيْهِ، أَوْ لِفَوَاتِ مَا فَاتَ فِي مُعْتَقَدِهِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ لَوْ كَانَ كُتِبَ ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمَقَامِ وَالْأَنْسَبُ فِيمَا أَرَادَهُ مِنَ الْمَرَامِ. (قُلْتُ:؟ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ) ؟ قَالَ مِيرَكُ: قَائِلُهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الرَّاوِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ قَائِلَهُ سُلَيْمَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ (قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعُهُ) ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.

فَقَالَ: (ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا) : بِالْجَزْمِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ فَعَلَى هَذَا يَشْكُلُ جَزْمُ قَوْلِهِ: (لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا) . وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنْ كُتِبَ لَكُمْ وَعَمِلْتُمْ بِهِ لَا تَضِلُّوا أَيْ: لَا تَصِيرُوا ضَالِّينَ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ لَا تَضِلُّوا وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا، أَوْ مَخَافَةَ أَنْ لَا تَضِلُّوا (فَتَنَازَعُوا) ، أَيْ: أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَأْيِهِمْ (وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ) : قِيلَ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ: وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ. (فَقَالُوا) ، أَيْ: بَعْضُهُمْ (مَا شَأْنُهُ) ؟ أَيْ حَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَهَجَرَ) ؟ بِفَتَحَاتٍ أَيِ: اخْتَلَفَ كَلَامُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَرَضِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: هَلْ تَغَيَّرَ كَلَامُهُ وَاخْتَلَطَ لِأَجْلِ مَا بِهِ مِنَ الْمَرَضِ، وَلَا يُجْعَلُ إِخْبَارًا فَيَكُونُ مِنَ الْفُحْشِ وَالْهَذَيَانِ، وَالْقَائِلُ عُمَرُ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ. قَالَ الْخَطَابِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ تَوَهَّمَ الْغَلَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ظَنَّ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَجَعِ وَقُرْبِ الْوَفَاةِ، مَعَ مَا غَشِيَهُ مِنَ الْكَرْبِ خَافَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِمَّا يَقُولُهُ الْمَرِيضُ مِمَّا لَا عَزِيمَةَ لَهُ فِيهِ، فَيَجِدُ الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ سَبِيلًا إِلَى الْكَلَامِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُهُ يُرَاجِعُونَهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ أَنْ يَجْزِمَ فِيهَا بِتَحَتُّمٍ، كَمَا رَاجَعُوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْخِلَافِ وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَأَمَّا إِذَا أَمَرَ بِالشَّيْءِ أَمْرَ عَزِيمَةٍ، فَلَا يُرَاجِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - رَفَعَ دَرَجَتَهُ فَوْقَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَمْ يُنَزِّهْهُ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَالْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ وَقَدَّسَهَا فِي الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي مِثْلِ هَذَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَقِيقَتَهُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَشِبْهِهِ رَاجَعَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَهَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَهَجَرَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى هَجَرَ بِغَيْرِ هَمْزٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ مَعْنَى هَجَرَ هَذَى، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا مِنْ قَائِلِهِ اسْتِفْهَامًا لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا تَكْتُبُوا أَيْ: لَا تَتْرُكُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَجْعَلُوهُ كَأَمْرِ مَنْ هَجَرَ فِي كَلَامِهِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَهْجُرُ، وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى كَانَتْ خَطَأً مِنْ قَائِلِهَا لِأَنَّهُ قَالَهَا بِغَيْرِ ثَبْتٍ لِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ لِعَظْمِ مَا شَاهَدَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَفَاتِهِ. وَخَوْفِ الْفِتَنِ وَالضَّلَالِ بَعْدَ حَيَاتِهِ. أَقُولُ: لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ لَزِمَ حَمْلُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (اسْتَفْهِمُوهُ) . بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا، وَهَذَا فَتْحُ الْبَارِي قَوْلُهُ: أَهَجَرَ؟ بِهَمْزَةٍ عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ قَالُوا: هَجَرَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَالُوا: هَجَرَ هَجَرَ. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى أَهَجَرَ أَفَحَشَ، يُقَالُ: هَجَرَ الرَّجُلُ إِذَا هَذَى، وَأَهَجَرَ إِذَا فَحَشَ وَتَعَسَّفَ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ سُكُونَ الْهَاءِ وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلَخَصَّهُ الْقُرْطُبِيُّ تَلْخِيصًا حَسَنًا، ثُمَّ لَخَّصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: هَجَرَ الرَّاجِحُ فِيهِ إِثْبَاتُ الْهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَبِفَتَحَاتٍ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَقَعُ مِنْ كَلَامِ الْمَرِيضِ مِمَّا لَا يَنْتَظِمُ، وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ وَوُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنِّي لَا أَقُولُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا إِلَّا حَقًّا» ) . وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَالَ مَنْ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ أَسْبَابِ الْكِتَابَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَتَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ، أَتَظُنُّ أَنَّهُ بِتَغَيُّرِهِ يَقُولُ الْهَذَيَانَ فِي مَرَضِهِ امْتَثِلْ أَمْرَهُ وَأَحْضِرْ مَا طَلَبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَنْ شَكٍّ عَرَضَ لَهُ، وَلَكِنْ يَبْعُدُ أَنْ لَا يُنْكِرَهُ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ أَنْكَرُوهُ لَنُقِلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ دَهْشَتِهِ وَحَيْرَتِهِ، كَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَائِلِ ذَلِكَ أَرَادَ اشْتِدَادَ وَجَعِهِ، فَأَطْلَقَ اللَّازِمَ، وَأَرَادَ الْمَلْزُومَ لِأَنَّ الْهَذَيَانَ الَّذِي يَقَعُ مِنَ الْمَرِيضِ يَنْشَأُ عَنْ شِدَّةِ مَرَضِهِ وَاشْتِدَادِ وَجَعِهِ. وَقِيلَ، قَالَ: لِإِرَادَةِ سُكُوتِ الَّذِينَ لَغَطُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ وَيُفْضِي فِي الْعَادَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَهَجَرَ فِعْلًا مَاضِيًا مِنَ الْهَجْرِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْحَيَاةَ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي مُبَالَغَةً لِمَا رَأَى مِنْ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ تَرْجِيحُ ثَالِثِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَيَكُونُ قَائِلُ ذَلِكَ بَعْضَ مَنْ قَرُبَ دُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ اه. وَأَقُولُ: هَذَا بَعِيدٌ مِنَ الْمَرَامِ وَمَقَامِ الْكِرَامِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مَعَ الْأَصْحَابِ الْفِخَامِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا يَسْكُتُونَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ زَجْرٍ وَلَوْ بِالْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ.

(فَذَهَبُوا) ، أَيْ: فَشَرَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ (يَرُدُّونَ عَلَيْهِ) ، أَيْ: هَذَا الرَّأْيَ صَرِيحًا بِخِلَافِ قَوْلِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ تَلْوِيحًا (فَقَالَ: (دَعُونِي) ، أَيِ اتْرُكُونِي (ذَرُونِي) ، بِمَعْنَاهُ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى دَعُونِي مِنَ النِّزَاعِ وَاللَّغَطِ الَّذِي شَرَعْتُمْ فِيهِ (فَالَّذِي أَنَا فِيهِ) ، أَيْ: مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ، تَعَالَى، وَالتَّأَهُّبِ لِلِقَائِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ (خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) . أَيْ أَفْضَلُ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَاللَّغَطِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» ) . وَالِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَثَانِيهَا: فِي صِفَاتِهِ وَإِنْكَارُهَا بِدْعَةٌ. وَثَالِثُهَا: فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمُحْتَمِلَةِ وُجُوهًا، فَهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ، تَعَالَى، رَحْمَةً وَكَرَامَةً لِلْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ لِلصَّحَابَةِ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ قَوْلِهِ: (ائْتُونِي أَكْتُبْ) فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَوَامِرَ يُقَارِنُهَا قَرَائِنُ تَنْقُلُهَا مِنَ النَّدْبِ إِلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ أَصْلُهَا النَّدْبُ، وَمِنَ الْوُجُوبِ إِلَى النَّدْبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ أَصْلُهَا الْوُجُوبُ، فَلَعَلَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْقَرَائِنِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، بَلْ جَعَلَهُ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، فَاخْتَلَفَ اخْتِيَارُهُمْ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِهِمْ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَأَدَّى اجْتِهَادُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الِامْتِنَاعِ، وَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ جَازِمٍ، وَكَانَ هَذَا قَرِينَةً فِي إِرَادَةِ عَدَمِ الْوُجُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ) ، أَيْ: خِصَالٍ (فَقَالَ) : تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) ، مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ) ، أَيْ: أَكْرِمُوا الْوَافِدِينَ عَلَيْكُمْ وَالْوَاصِلِينَ إِلَيْكُمْ مِنْ حَوَالَيْكُمْ، وَأَعْطُوهُمُ الْجَائِزَةَ وَالْعَطِيَّةَ فِيمَا لَدَيْكُمْ (بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) . أَيْ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً وَالتَّمْيِيزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِكْرَامِ الْوُفُودِ وَضِيَافَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَتَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وَقَالُوا: سَوَاءً كَانَ الْوَفْدُ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا ; لِأَنَّ الْكَافِرَ إِنَّمَا يَفِدُ غَالِبًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِنَا وَمَصَالِحِهِ. (وَسَكَتَ) ، أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (عَنِ الثَّالِثَةِ) ، أَيْ: نِسْيَانًا مِنْهُ أَوِ اقْتِصَارًا (أَوْ قَالَهَا) أَيْ ذَكَرَهَا (فَنَسِيتُهَا) . وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ (قَالَ سُفْيَانُ) . الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ (هَذَا) ، أَيْ: قَوْلُهُ سَكَتَ (مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ) . أَيِ الْأَحْوَالِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: السَّاكِتُ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّاسِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ مُهَلَّبٌ: وَالثَّالِثَةُ تَجْهِيزُ جَيْشِ أُسَامَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» ) (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5967 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْطَلِقْ إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ. فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: إِنِّي لَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5967 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ، بِصِيغَتَيِ التَّثْنِيَةِ لِجَلَالَتِهِمَا أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ مَقُولِ أَنَسٍ، وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِيَعُمَّ أَنَسًا (بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ) : هِيَ أُمُّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، كَانَتْ مَوْلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزَوَّجَهَا زَيْدًا وَاسْمُهَا بَرَكَةُ وَهِيَ حَاضِنَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِثَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَتْ تَسْقِي الْمَاءَ، وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ عُمَرَ بِعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَمَّا زَيْدٌ فَمَلَكَتْهُ خَدِيجَةُ الْكُبْرَى، فَاسْتَوْهَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَهَبَتْهُ لَهُ، فَأَعْتَقَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ أُمَّ أَيْمَنَ فِي أَسْمَائِهِ. (نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزُورُهَا) ، اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ نَنْطَلِقُ إِلَيْهَا؟ فَأُجِيبَ: نَزُورُهَا لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِذَلِكَ، فَهُوَ أَفْخَمُ بَلَاغَةً مِنْ أَنْ لَوْ قِيلَ: نَزُورُهَا حَسَبَ مَا اقْتَضَاهُ تَعْظِيمُ الْمَزُورِ. (فَلَمَّا انْتَهَيْنَا) ، أَيْ: أَنَا وَالشَّيْخَانِ هُوَ كَذَا بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِي نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، فَلَمَّا انْتَهَيَا بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ أَيْ: وَصَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ (إِلَيْهَا بَكَتْ. فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: إِنِّي لَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَعْلَمُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ لِقَوْلِهِ لَا أَبْكِي وَالْمَعْنَى لَا أَبْكِي لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ (أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَظُهُورُهُ بَاهِرٌ (وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ) ، أَيْ: لِأَنَّ (الْوَحْيَ) ، أَيْ: بِالْأَحْكَامِ الْإِلَهِيَّةِ السَّمَاوِيَّةِ (قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: فَحَمَلَتْهُمَا (عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا) . وَالْبُكَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَنْقَطِعُ إِلَى آخِرِ الدُّنْيَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5968 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ، عَاصِبًا رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ، حَتَّى أَهْوَى نَحْوَ الْمِنْبَرِ، فَاسْتَوَى عَلَيْهِ وَاتَّبَعْنَاهُ، قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى الْحَوْضِ مِنْ مَقَامِي هَذَا) ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ عَبْدًا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ) قَالَ: فَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: بَلْ نَفْدِيكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: ثُمَّ هَبَطَ فَمَا قَامَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ» رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5968 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَلَيْنَا (عَاصِبًا رَأْسَهُ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَاعِلِ خَرَجَ أَيْ: رَابِطًا رَأَسَهُ (بِخِرْقَةٍ) ، أَيْ: عِصَابَةٍ (حَتَّى) : غَايَةٌ لِخَرَجَ أَيْ: إِلَى أَنْ (أَهْوَى) ، أَيْ: قَصَدَ (نَحْوَ الْمِنْبَرِ، أَيْ: إِلَى جِهَتِهِ (فَاسْتَوَى عَلَيْهِ وَأَتْبَعْنَاهُ) : بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَإِسْكَانِ تَاءٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزِةِ وَصْلٍ وَتَشْدِيدِ تَاءٍ أَيْ: لَحِقْنَاهُ وَتَبِعْنَاهُ بِأَنْ قَعَدْنَا تَحْتَ الْمِنْبَرِ قَرِيبًا لَدَيْهِ، وَمُتَوَجَّهًا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) ، أَيْ: بَعْدَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى الْحَوْضِ) ، أَيِ: الْكَوْثَرِ (مِنْ مَقَامِي هَذَا) . لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ: (وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَتَحَقَّقَ شَأْنُهُ. (ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ عَبْدًا) ، أَيْ: عَظِيمًا وَعِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا كَرِيمًا (عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) ، أَيِ: الْفَانِيَةُ (فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ) ، أَيْ وَنِعْمَتَهَا الْبَاقِيَةَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَوْ خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ قَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا خَزَفٌ بَاقٍ وَالْآخَرُ ذَهَبٌ، فَإِنِ اخْتَارَ الْخَزَفَ الْبَاقِي عَلَى الذَّهَبِ الْفَانِي فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّ الْآخَرَ ذَهَبٌ بَاقٍ وَالدُّنْيَا خَزَفٌ فَانٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] (فَلَمْ يَفْطَنْ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَيُضَمُّ مِنْ بَابَيْ فَرِحَ وَنَصَرَ عَلَى مَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: فَطِنَ بِهِ وَإِلَيْهِ، وَلَهُ كَفَرِحَ وَنَصَرَ وَكَرُمَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كَسْرِ الطَّاءِ سَهْوٌ فَلَمْ نَشَأْ مِنْ قِلَّةِ فَطَانَةِ الْكَاتِبِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَتَفَطَّنْ (لَهَا) ، أَيْ: لِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْ لِلْوَفَاءِ وَلَمْ يَفْهَمْهَا (أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ) ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَيُنْصَبُ أَيْ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ عَرَفَهَا (فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ) ، أَيْ سَالَتْ دُمُوعُ أَبِي بَكْرٍ (فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: بَلْ نَفْدِيكَ بِأَبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا [يَا رَسُولَ اللَّهِ] ، أَيْ عَبِيدِنَا وَإِمَائِنَا وَغَيْرِهِمَا لَوْ كَانَ جَازَ الْفِدَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ بِجَمِيعِهَا (قَالَ) أَيْ أَبُو سَعِيدٍ (ثُمَّ هَبَطَ) ، أَيْ: نَزَلَ (عَنِ الْمِنْبَرِ فَمَا قَامَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ) . أَيْ إِلَى الْآنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى هِيَ الْجَارَّةُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ يَعْنِي فَمَا قَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ ) .

5969 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [الفاتحة: 1 - 29394] دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ قَالَ: (نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي) فَبَكَتْ قَالَ: (لَا تَبْكِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي) فَضَحِكَتْ، فَرَآهَا بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَ: يَا فَاطِمَةُ رَأَيْنَاكِ بَكَيْتِ ثُمَّ ضَحِكْتِ. قَالَتْ: إِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ لِي: لَا تَبْكِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي فَضَحِكْتُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَالْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ) » . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5969 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، أَيْ: إِلَى آخِرِ السُّورَةِ الْمُشِيرَةِ إِلَى حُصُولِ الْكَمَالِ الْمُسْتَعْقِبِ لِلزَّوَالِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِذَا صَحَّتْ نُصْرَتُكَ فَاشْتَغِلْ بِخِدْمَتِكَ مِنْ تَنْزِيهِ رَبِّكَ وَشُكْرِ نِعْمَتِكَ، فَقَدْ تَمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَتِكَ (دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ) ، أَيْ: طَلَبَهَا (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ (نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُؤَنَّثِ أَيْ: أُخْبِرْتُ بِأَنِّي أَمُوتُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ضُمِّنَ نُعِيَ مَعْنَى الْإِنْهَاءِ وَعُدِيِّ بِإِلَى، أَيْ: أُنْهِيَ إِلَيَّ نَعْيُ نَفْسِي كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدُ إِلَيْكَ فُلَانًا يُقَالُ: نَعَى الْمَيِّتُ يَنْعَاهُ إِذَا أَذَاعَ مَوْتَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ قَوْلَهُ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3] عَلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2] فَهُوَ أَمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ حَامِدًا لَهُ عَلَى مَا أَوْلَى مِنَ النِّعَمِ بِصِفَاتِ الْإِكْرَامِ، وَهِيَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِيمَا كُلِّفَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَبِالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى وَالتَّأَهُّبِ لِلْمَسِيرِ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْعُلْيَا، وَاللُّحُوقِ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، (فَبَكَتْ) . أَيْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حُزْنًا عَلَى قُرْبِ فِرَاقِهِ (قَالَ: (لَا تَبْكِي، فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي) فَضَحِكَتْ) . أَيْ: فَرَحَا بِسُرْعَةِ وِصَالِهِ.

(فَرَآهَا بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : يُرَادُ بِهَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَجَمَعَهَا فِي قَوْلِهِ: (فَقُلْنَ) : تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا. ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ مُشَارَكَةُ غَيْرِهَا مَعَهَا فِيمَا رَأَتْهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْلِهِ: فَقُلْنَ (يَا فَاطِمَةُ! رَأَيْنَاكِ بِكَيْتِ ثُمَّ ضَحِكْتِ) . وَلَعَلَّهُنَّ كُنَّ فِي مَكَانٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهَا. أَوْ تَسَارَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهَا كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، حَيْثُ امْتَنَعَتْ عَنِ الْجَوَابِ حِينَئِذٍ، ثُمَّ أَخَّرَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَقَالَتْ) : وَالنُّسْخَةُ الصَّحِيحَةُ. قَالَتْ: ( «إِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: لَا تَبْكِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي فَضَحِكْتُ» ) . قَالَ الْأَكْمَلُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَاشَتْ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ، شَهْرَيْنِ، وَقِيلَ: سَبْعِينَ يَوْمًا. (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ) : عَطْفٌ عَلَى جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَتَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ (هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً) ، أَيْ: أَرْحَمُ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ صُدُورًا (وَالْإِيمَانُ يَمَانٍ) ، أَيْ يَمَنِيٌّ، وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ النِّسْبَةِ، قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بُدِئَ مِنْ مَكَّةَ، وَهِيَ تِهَامَةُ وَتِهَامَةُ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، وَلِذَا يُقَالُ: الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ بِتَبُوكَ، وَمَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمَنِ، فَأَشَارَ إِلَى نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْأَنْصَارُ لِأَنَّهُمْ يَمَانِيُّونَ فِي الْأَصْلِ، فَنُسِبَ الْإِيمَانُ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَنْصَارَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ الْيَمَنِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ نُسِبَ الْإِيمَانُ إِلَيْهِمْ إِشْعَارًا بِكَمَالِهِ فِيهِمْ ; لِأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ وَقَوِيَ قِيَامُهُ بِهِ نُسِبَ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَيْهِ لَا أَنَّ فِي ذَلِكَ نَفْيًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ» ) ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُوَحِّدُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لَا كُلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَانِ. (وَالْحِكْمَةُ) : وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إِتْقَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ. قَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحِكْمَةُ كُلُّ كَلِمَةٍ صَالِحَةٍ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ (يَمَانِيَّةٌ) . بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ فِيهِ عِوَضٌ، وَحَكَى الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ أَنَّ التَّشْدِيدَ لُغَةٌ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (الْإِيمَانُ يَمَانٍ) . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَنَسٍ: الْحِكْمَةُ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا، وَتَرْفَعُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَدِيٍّ وَابْنِ لَالٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْحِكْمَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي الْعُزْلَةِ وَوَاحِدٌ فِي الصَّمْتِ.

5970 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «وَارَأْسَاهْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلَيَاهْ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعْرِسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ - أَوْ أَرَدْتُ - أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ وَأَعْهَدُ، أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5970 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ) ، أَيْ: لِشِدَّةِ صُدَاعٍ بِهَا (وَارَأْسَاهْ!) : نَدَبَتْ رَأْسَهَا وَأَشَارَتْ إِلَى الْمَوْتِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ذَاكِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُهُ الْمَرَضُ مِنَ الْمَوْتِ (لَوْ كَانَ) ، أَيْ: إِنْ حَصَلَ ذَاكَ أَيِ مَوْتُكِ (وَأَنَا حَيٌّ) ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنِّي حَيٌّ (فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ) ، أَيْ: لِمَحْوِ سَيِّئَاتِكَ (وَأَدْعُو لَكِ) . أَيْ لِرَفْعِ دَرَجَاتِكِ (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلَيَاهْ) ! الثُّكْلُ بِالضَّمِّ وَيُحَرَّكُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ وَفُقْدَانُ الْحَبِيبِ أَوِ الْوَلَدِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الثُّكْلُ كَقُفْلٍ فَقْدُ الْمَوْتِ، أَوْ مَنْ يَعِزُّ عَلَى الْفَاقِدِ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ بِمُرَادِهِ هُنَا، بَلْ هُوَ كَلَامٌ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ) ، أَيْ: أَحْسَبُكَ (تُحِبُّ مَوْتِي، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ) ، أَيْ: لَوْ حَصَلَ مَوْتِي فِي يَوْمٍ (لَظَلِلْتَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ صِرْتَ فِي ذَلِكَ النَّهَارِ (آخِرَ يَوْمِكَ مُعْرِسًا) : بِضَمِّ مِيمٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ وَفِي

نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ عَرِيسًا (بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ) . وَالْمَعْنَى إِنْ فَقَدْتَنِي وَعِشْتَ بَعْدِي تَفَرَّغْتَ لِغَيْرِي وَنَسِيتَنِي سَرِيعًا. يُقَالُ: عَرَّسَ وَأَعْرَسَ إِذَا بَنَى عَلَى زَوْجَتِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ جِمَاعٍ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: التَّعْرِيسُ نُزُولُ آخِرِ اللَّيْلِ، يُقَالُ: مِنْهُ عَرَّسَ وَأَعْرَسَ وَأَعْرَسَ الرَّجُلُ، فَهُوَ مُعَرِّسٌ بَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَلَا يُقَالُ عَرَّسَ وَفِي الْقَامُوسِ: أَعْرَسَ اتَّخَذَ عَرُوسًا وَبِأَهْلِهِ بَنَى عَلَيْهَا، وَالْقَوْمُ نَزَلُوا فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِلِاسْتِرَاحَةِ كَعَرَّسُوا وَهَذَا أَكْثَرُ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ!) بَلْ لِلْإِضْرَابِ أَيْ: دَعِي مَا تَجِدِينَ مِنْ وَجَعِ رَأْسِكِ وَاشْتَغِلِي بِي، فَإِنَّهُ أَهَمُّ مِنْ أَمْرِكِ، وَفِي تَوَافُقِ مِحْنَتِهِمَا إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ مَحَبَّتِهِمَا عَلَى وَفْقِ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ بَدَنِ الْمَجْنُونِ الْعَامِرِيِّ وَقْتَ افْتِصَادِ لَيْلَى (لَقَدْ هَمَمْتُ) ، أَيْ: قَصَدْتُ (أَوْ أَرَدْتُ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ) ، أَيْ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ (وَأَعْهَدُ) ، أَيْ أُوصِي أَبَا بَكْرٍ بِالْخِلَافَةِ بَعْدِي وَأَجْعَلُهُ وَلِيَّ عَهْدِي (أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ) ، أَيْ لِئَلَّا يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ: لَمْ يَعْهَدْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْخِلَافَةَ الْكُبْرَى، وَبِهَا اقْتَصَرَ عَلَى الْخِلَافَةِ الصُّغْرَى، وَهِيَ الْإِمَامَةُ مَعَ أَنَّ فِيهَا الْإِشَارَةَ إِلَى إِقَامَةِ تِلْكَ الْأَمَانَةِ (أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ) ، أَيِ الْخِلَافَةَ لِغَيْرِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، فَأَوْ لِلتَّفْرِيعِ لَا لِلشَّكِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا أَحَقُّ مِنْهُ بِالْخِلَافَةِ، أَوْ يَتَمَنَّى أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ غَيْرَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ يَقُولَ مَفْعُولٌ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَجْعَلُ أَبَا بَكْرٍ وَلِيَّ عَهْدِي كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولَ إِلَخْ. وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلِّلَ مَذْكُورٌ وَهُوَ أَعْهَدُ، وَلَعَلَّهُ مَحْذُوفٌ فِي أَصْلِ الطِّيبِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ثُمَّ قُلْتُ) ، أَيْ: فِي الْخَاطِرِ وَفِي الظَّاهِرِ (يَأْبَى اللَّهُ) ، أَيْ: إِلَّا خِلَافَتَهُ (وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ) ، أَيْ غَيْرَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ (أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ) ، أَيْ أَيْضًا لِاسْتِخْلَافِي إِيَّاهُ فِي الْإِمَامَةِ الصُّغْرَى، فَإِنَّهَا أَمَارَةُ الْإِمَارَةِ الْكُبْرَى، كَمَا فَهِمَ بَعْضُ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ: اخْتَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمْرِ دِينِنَا أَفَلَا نَخْتَارُهُ لِأَمْرِ دُنْيَانَا ; فَهُنَا بُرْهَانٌ جَلِيٌّ، وَتِبْيَانٌ عَلِيٌّ عِنْدَ كُلِّ وَلِيٍّ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: (وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) . إِشَارَةٌ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ حَقِّيَةَ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرُهُمْ، فَفِيهِ إِثْبَاتُ مُخَالَفَتِهِمْ لِجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْمَلَكُ، أَيْ: تَرَكْتُ الْإِيصَاءَ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، يَأْبَى كَوْنَ غَيْرِهِ خَلِيفَةً، وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ غَيْرَهُ، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ وَإِخْبَارٌ بِمَا سَيَقَعُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ) .

5971 - وَعَنْهَا: قَالَتْ: «رَجَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ جَنَازَةٍ مِنَ الْبَقِيعِ فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا، وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهْ! قَالَ: " بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ! وَارَأْسَاهْ! قَالَ: (وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ؟) قُلْتُ: لَكَأَنِيِّ بِكَ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَرَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَعَرَّسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بُدِئَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ» رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5971 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَائِشَةَ (قَالَتْ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ جِنَازَةٍ) ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ جِنَازَةٍ فَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ (مِنَ الْبَقِيعِ) : مُتَعَلِّقٌ بِرَجَعَ (فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا) ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: فَصَادَفَنِي وَالْحَالُ أَنِّي أُحِسُّ وَجَعَ رَأْسٍ بِي (وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهْ! قَالَ: (بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ! وَارَأْسَاهْ) . قَالَ: (وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا (فَغَسَلْتُكِ) : بِالتَّخْفِيفِ (وَكَفَّنْتُكِ) : بِالتَّشْدِيدِ (وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ) ؟ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَوْتَهَا فِي حَيَاتِهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهَا بَعْدَ مَمَاتِهِ (قُلْتُ: لَكَأَنِيِّ بِكَ) ، أَيْ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي مُلْتَبِسَةٌ بِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَالْمَذْكُورُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا. الْمَعْنَى: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَبْصُرُ بِكَ وَالْحَالُ كَيْتَ وَكَيْتَ (لَوْ فَعَلْتُ بِكِ ذَلِكَ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ (لَرَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي) ، أَيْ: مَكَانِي (فَعَرَّسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ) ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، فَفِي الصِّحَاحِ: أَعْرَسَ الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ إِذَا بَنَى بِهَا، وَلَا تَقُلْ عَرَّسَ وَالْعَامَّةُ تَقُولُهُ اه. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى اللُّغَوِيِّينَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّعْرِيسِ هُنَا النُّزُولُ لِلِاسْتِرَاحَةِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، أَوْ مُطْلَقًا عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ، وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْجِمَاعِ، أَوْ يُجْعَلُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ. (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: لِمَا يَدُلُّ عِبَارَتُهَا عَلَى كَمَالِ غَيْرَتِهَا حَتَّى بَعْدَ وَفَاتِهَا (ثُمَّ بُدِئَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ شُرِعَ (فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

5972 - وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: بَلَى حَدِّثْنَا عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! قَالَ: «لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ جِبْرَئِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ تَكْرِيمًا لَكَ، وَتَشْرِيفًا لَكَ، خَاصَّةً لَكَ يَسْأَلُكَ عَمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ، يَقُولُ: كَيْفَ تَجِدُكَ، قَالَ: أَجِدُنِي يَا جِبْرَئِيلُ! مَغْمُومًا، وَأَجِدُنِي يَا جِبْرَئِيلُ! مَكْرُوبًا) . ثُمَّ جَاءَهُ الْيَوْمُ الثَّانِي، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رَدَّ أَوَّلَ يَوْمٍ، ثُمَّ جَاءَهُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ يَوْمٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ كَمَا رَدَّ عَلَيْهِ، وَجَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ، كُلُّ مَلَكٍ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَلَكُ الْمَوْتِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ. مَا اسْتَأْذَنَ عَلَى آدَمِيٍّ قَبْلَكَ، وَلَا يَسْتَأْذِنُ عَلَى آدَمِيٍّ بَعْدَكَ. فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ، فَإِنْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْبِضَ رُوحَكَ قَبَضْتُ، وَإِنْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَتْرُكَهُ تَرَكْتُهُ فَقَالَ: وَتَفْعَلُ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: نَعَمْ، بِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأُمِرْتُ أَنْ أُطِيعَكَ، قَالَ: فَنَطَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جِبْرَئِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ جِبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى لِقَائِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَلَكِ الْمَوْتِ: (امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ) فَقَبَضَ رُوحَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ سَمِعُوا صَوْتًا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَاتَّقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّمَا الْمُصَابُ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هُوَ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ» - رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5972 - (وَعَنْ جَعْفَرٍ) ، أَيِ: الصَّادِقِ (ابْنِ مُحَمَّدٍ) : الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ) ، أَيْ: مُحَمَّدٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ) ، أَيْ: أَبِي مُحَمَّدٍ (عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ) ، بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِأَبِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ (فَقَالَ) ، أَيْ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (أَلَا أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ) ، أَيِ: الرَّجُلُ (بَلَى حَدِّثْنَا عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ) ، أَيْ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مُرْسَلًا فَإِنَّهُ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ جِبْرِيلُ) ، أَيْ: لِلْعِيَادَةِ وَالرِّسَالَةِ (فَقَالَ: (يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ تَكْرِيمًا لَكَ وَتَشْرِيفًا لَكَ) ، أَيْ: تَعْظِيمًا (خَاصَّةً لَكَ) ، أَيْ: فِي قَوْلِهِ (يَسْأَلُكَ) ، أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ (عَمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ) ، أَيْ: فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُرِيدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (وَيَقُولُ: كَيْفَ تَجِدُكَ) ؟ أَيْ مِنَ الْأَحْوَالِ (قَالَ: (أَجِدُنِي يَا جِبْرِيلُ مَغْمُومًا) ، أَيْ: مَهْمُومًا (وَأَجِدُنِي يَا جِبْرِيلُ مَكْرُوبًا) ، أَيْ: مَحْزُونًا وَإِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَقُولُ فِي كُلِّ حَالٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، (ثُمَّ جَاءَهُ الْيَوْمَ الثَّانِي) ، أَيْ جِبْرِيلُ (فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ) ، أَيْ مَا سَبَقَ مِنَ السُّؤَالِ (فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رَدَّ أَوَّلَ يَوْمٍ) ، أَيْ مِنْ بَيَانِ الْحَالِ (ثُمَّ جَاءَهُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ يَوْمٍ) ، أَيْ أَسْبَقَهُ حَقِيقَةً أَوْ إِضَافَةً (وَرَدَّ عَلَيْهِ كَمَا رَدَّ عَلَيْهِ) ، أَيْ فِيمَا تَقَدَّمَ (وَجَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) ، أَيْ: فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوْ يَوْمًا آخَرَ (يُقَالُ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ) ، أَيْ حَاكِمٍ (كُلُّ مَلَكٍ عَلَى أَلْفِ مِائَةِ مَلَكٍ) ، أَيْ أَمِيرٍ (فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ) ، أَيْ بِالدُّخُولِ (فَسَأَلَهُ) ، أَيْ جِبْرِيلَ (عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ) ، أَيْ: فَقَالَ أَوْ بَعْدَ تَأَمُّلٍ قَالَ (جِبْرِيلُ: هَذَا مَلَكُ الْمَوْتِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ) . أَيْ بِالدُّخُولِ (مَا اسْتَأْذَنَ عَلَى آدَمِيِّ قَبْلَكَ) ، أَيْ: مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (وَلَا يَسْتَأْذِنُ عَلَى آدَمِيٍّ بَعْدَكَ) ، أَيْ: مِنَ الْأَوْلِيَاءِ بِالْأَوْلَى (فَقَالَ) ، أَيْ: لِجِبْرِيلَ (ائْذَنْ لَهُ) فَأَذِنَ لَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ) ، أَيْ فَرَدَّ عَلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ) ، أَيْ: حَتَّى أَعْرِضَ الْأَمْرَ عَلَيْكَ (فَإِنْ أَمَرْتَنِي، أَنْ أَقْبِضَ رُوحَكَ قَبَضْتُ، وَإِنْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَتْرُكَهُ تَرَكْتُهُ) : وَالرُّوحُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَرْكِ الضَّمِيرَيْنِ (فَقَالَ: وَتَفْعَلُ) ، أَيْ: أَوَتَفْعَلُ مَأْمُورِي (يَا مَلَكَ الْمَوْتِ) . قَالَ: نَعَمْ، بِذَلِكَ) ، أَيْ: بِتَخْيِيرِكَ (أُمِرْتُ وَأُمِرْتُ أَنْ أُطِيعَكَ) ، أَيْ فِيمَا اخْتَرْتَ بِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ قَوْلُهُ: وَأُمِرَتْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِذَلِكَ أُمِرْتُ أَيْ: بِقَبْضِ رُوحِكَ مِنَ الْعَطْفِ الْمُخَصَّصِ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. (قَالَ) ، أَيْ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (فَنَظَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ، أَيْ كَالْمُسْتَشِيرِ إِلَيْهِ (فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى لِقَائِكَ) ، أَيْ: وَإِلَّا لَمَا أَرْسَلَ إِلَى مُوجِبِ عَنَائِكَ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَلَكِ الْمَوْتِ: (امْضِ) : بِكَسْرِ هَمْزِ الْوَصْلِ وَالضَّادِ أَيِ: انْفُذْ (لِمَا أُمِرْتَ بِهِ) . وَلَا تَتَوَقَّفْ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِلَى هَاهُنَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ فَقَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا آخِرُ مَوْطِئِي الْأَرْضَ إِنَّمَا كُنْتَ حَاجَتِي فِي الدُّنْيَا فَقَبَضَ رُوحَهُ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. (فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ) ، أَيْ: مِنْ كُلِّ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ (سَمِعُوا صَوْتًا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ: السَّلَامُ.

عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إِنَّ فِي اللَّهِ) ، أَيْ: فِي كِتَابِهِ (عَزَاءً) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ تَسْلِيَةً (مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ) : إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: 155 - 156] أَوْ فِي ثَوَابِهِ عِوَضًا مِنْ كُلِّ مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزَاءِ اللَّهِ. قِيلَ: أَرَادَ بِالتَّعَزِّي فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّسَلِّيَ وَالتَّصَبُّرَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَأَنْ يَقُولَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ فِي قَوْلِهِ: فِي اللَّهِ أَيْ إِنَّ فِي لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى تَسَلِّيًا وَتَصَبُّرًا مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَأَنْ يُرَادَ إِنَّ فِي اللَّهِ تَسْلِيَةً عَلَى التَّجْرِيدِ أَيِ اللَّهُ مُعِزٌّ وَمُسَلٍّ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافٍ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقَرِينَتَانِ يَعْنِي قَوْلَهُ: (وَخَلَفًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: عِوَضًا (مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا) : بِفَتْحِ الدَّالِ وَالرَّاءِ أَيْ: تَدَارُكًا (مِنْ كُلِّ فَائِتٍ) ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ، شِعْرٌ: لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا فَارَقْتَهُ خَلَفٌ ... وَلَيْسَ لِلَّهِ إِنْ فَارَقْتَ مِنْ عِوَضِ (فَبِاللَّهِ) ، أَيْ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَبِعَوْنِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ (فَاتَّقُوا) ، أَيِ: الْجَزَعَ وَالْفَزَعَ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُوَافِقًا لِمَا فِي الْحِصْنِ الْحَصِينِ: فَثِقُوا بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ الْمَضْمُومَةِ أَيْ: فَاعْتَمِدُوا بِهِ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] . (وَإِيَّاهُ فَارْجُوا) ، أَيْ لَا تَرْجُوا سِوَاهُ فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ مِنْ عِنْدِهِ فَارْجُوا الثَّوَابَ. (فَإِنَّمَا الْمُصَابُ) ، أَيْ: فِي الْحَقِيقَةِ (مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ) . بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: مَنْ مُنِعَ الْمَثُوبَةَ بِسَبَبِ قِلَّةِ الصَّبْرِ فِي قَضِيَّةِ الْمُصِيبَةِ، وَالصَّبْرُ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِاللَّهِ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، وَبِاللَّهِ حَالٌ قُدِّمَتْ عَلَى عَامِلِهَا اخْتِصَاصًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] أَيْ إِذَا كَانَ اللَّهُ مُعَزِّيًا وَخَلَفًا وَدَرَكًا، فَخُصُّوهُ بِالتَّقْوَى مُسْتَعِينِينَ بِهِ، وَالْفَاءُ فِي فَاتَّقُوا وَرَدَتْ لِتَأْكِيدِ الرَّبْطِ، كَذَا فِي قَوْلِهِ: فَارْجِعُوا، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لَيْسَ لِإِرَادَةِ التَّخْصِيصِ، بَلْ لِتَتَعَادَلَ بِهِ الْقَرِينَةُ فِي اقْتِرَانِ الْفَاءِ. قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِرَادَةِ الِاخْتِصَاصِ الْمُفِيدِ لِلْإِخْلَاصِ، وَحُصُولِ التَّعَادُلِ بَيْنَ اقْتِرَانِ التَّمَاثُلِ. (فَقَالَ عَلِيٌّ) ، أَيْ: زَيْنُ الْعَابِدِينَ، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا) ؟ أَيْ صَاحِبُ الصَّوْتِ (هَذَا هُوَ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) . بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ، وَقِيلَ بِكَسْرٍ وَسُكُونٍ، وَفِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ: يَجُوزُ إِسْكَانُ الضَّادِ مَعَ فَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيٌّ مَوْجُودٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ) . أَيِ الْحَدِيثَ بِكَامِلِهِ (فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ صَدْرَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ (الْوَفَاءِ) وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي الْحِصْنِ وَلَفْظُهُ: وَلَمَّا تُوُفِّيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَزَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ مُلْكٍ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا فَإِنَّمَا الْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ جَابِرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَدَخَلَ رَجُلٌ أَشْهَبُ اللِّحْيَةِ جَسِيمٌ صَبِيحٌ، فَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ فَبَكَى، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الصَّحَابَةِ فَقَالَ: إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، فَإِلَى اللَّهِ فَأَنِيبُوا وَإِلَيْهِ فَارْغَبُوا، وَنَظَرُهُ إِلَيْكُمْ فِي الْبَلَاءِ فَانْظُرُوا، فَإِنَّمَا الْمُصَابُ مَنْ لَمْ يُجْبَرْ وَانْصَرَفَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ: هَذَا الْخَضِرُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَوَاهُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَاهِي الْإِسْنَادِ أَيْ ضَعِيفٌ بِخُصُوصِ هَذَا السَّنَدِ، لَكِنْ إِذَا انْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ يَتَقَوَّى وَيَتَرَقَّى إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ، فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْخُضَرِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْمِشْكَاةِ مِنْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَوْضُوعٌ، رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ، عَنْ يَزِيدَ الْأَصَمِّ، عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَابْنُ مُحْرِزٍ مَتْرُوكٌ كَمَا فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ اه. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ كَوْنِ أَحَدِ الرُّوَاةِ مَتْرُوكًا كَوْنَ الْحَدِيثِ مَوْضُوعًا، لَا سِيَّمَا إِذَا جَاءَ

[10] الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، بَلْ وَتَعَدُّدُ طُرُقِهِ، فَلَا يُشَكُّ فِي كَوْنِهِ ثَابِتًا، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ كَوْنِهِ صَحِيحًا إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الْحِسَانِ لِقِلَّةِ الصِّحَاحِ حَيْثُ لَا مُعَارِضَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب]

[بَابٌ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5973 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا، وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [10] بَابٌ بِالرَّفْعِ وَالْإِسْكَانِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5973 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا، وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ» ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ وَصِيًّا. فَقَالَتْ: مَتَى أُوصِيَ إِلَيْهِ، وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ حَتَّى مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى؟ وَمَعْنَى: وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ أَيْ لَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَلَا أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، خِلَافَ مَا يَزْعُمُهُ الشِّيعَةُ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي وَصِيَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابِ اللَّهِ وَوَصِيَّتِهِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَإِجَازَةِ الْوَفْدِ، فَلَيْسَتْ مُرَادَةً بِقَوْلِهَا: وَلَا أَوْصَى، وَأَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ وَفَدَكٍ، فَقَدْ سَبَّلَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، وَجَعَلَهَا صَدَقَةً لِلْمُسْلِمِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ إِلَّا قَوْلَهَا: وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ رَزِينٌ الْحَبَشِيُّ الرَّاوِي، عَنْ عَائِشَةَ: وَأَشُكُّ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَسَيَأْتِي نَفْيُهُمَا أَيْضًا، وَأَمَّا مَا حَكَى بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ لَهُ عِشْرُونَ نَاقَةً يَحْفَظُونَهَا فِي نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، وَيَأْتُونَ بِأَلْبَانِهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَكَانَ لَهُ سَبْعُ شِيَاهٍ يَشْرَبُونَ أَلْبَانَهَا، وَكَانَ لَهُ سَبْعُ مَعِزٍ يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا، فَلَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ الْفُقَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرُهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا.

5974 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَخِي جُوَيْرِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5974 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ) ، أَيِ: الْخُزَاعِيِّ لَهُ صُحْبَةٌ عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ (أَخِي جُوَيْرِيَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً) ، أَيْ: فِي الرِّقِّ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ رَقِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ الْأَخْبَارِ كَانَ إِمَّا مَاتَ وَإِمَّا أَعْتَقَهُ (وَلَا شَيْئًا) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ) ، أَيِ الَّتِي كَانَ يَخْتَصُّ بِرُكُوبِهَا (وَسِلَاحَهُ) ، أَيِ الَّذِي كَانَ يَخْتَصُّ بِلُبْسِهِ مِنْ نَحْوِ: سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَدِرْعٍ وَمِغْفَرٍ وَحَرْبَةٍ، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَصْرَ إِضَافِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِثْلَ الْأَثْوَابِ، وَأَمْتِعَةِ الْبَيْتِ، وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَ أَثْوَابًا وَغَيْرَهَا قَدْ بُيِّنَتْ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَعَلَّ حَجْمَةَ سُكُوتِ الرَّاوِي عَنْ ذِكْرِهَا كَوْنُهَا مُحَقَّرَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْمَذْكُورَاتِ. (وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً) . قَالَ شَارِحٌ: الضَّمِيرُ الْمَفْعُولُ لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْبَغْلَةِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَرْضِ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ لِلْأَرْضِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ: تَصَدَّقَ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، فَصَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْوَقْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهَا فِي حَيَاتِهِ صَدَقَةً جَارِيَةً بَاقِيَةً إِلَى قِيَامِهَا فَيَدُومُ ثَوَابُ الصَّدَقَةِ بِدَوَامِهَا، فَلَا يُنَافِي أَنَّ مَا عَدَاهَا مِنْ أَمْلَاكِهِ بِنَفْسِ الْمَوْتِ تَصِيرُ صَدَقَةً، كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: هِيَ نِصْفُ أَرْضِ فَدَكٍ، وَثُلُثُ أَرْضِ وَادِي الْقُرَى، وَسَهْمُهُ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ، وَحِصَّةٌ مِنْ أَرْضِ بَنِي النَّضِيرِ، وَضَمِيرُ جَعَلَهَا رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ الثَّلَاثَةِ لَا إِلَى الْأَرْضِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ) اه. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

5975 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5975 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا» ) ، بِتَأْنِيثِ الْفِعْلِ وَرَفْعِهِ، فَهُوَ إِخْبَارُ حَقِيقَةٍ، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي بَعْدَ مَوْتِي دِينَارًا إِذْ لَسْتُ أَخْلُفُ بَعْدَ مَوْتِي دِينَارًا أَمْلِكُهُ، فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا فِي الصُّورَةِ وَنَهْيًا فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّهْيِ فَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ لَا دِينَارَ هُنَاكَ فَيُقَسَّمُ اه. وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ، وَفِي أُخْرَى بِالْجَزْمِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا تَقْتَسِمُ مِنْ الِاقْتِسَامِ مَرْفُوعًا وَمَجْزُومًا. قَالَ مِيرَكُ: هُوَ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ عَلَى النَّهْيِ، وَبِضَمِّهَا عَلَى النَّفْيِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى حَتَّى لَا يُعَارِضَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتْرُكْ مَالًا يُورَثُ عَنْهُ، وَتَوْجِيهُ رِوَايَةِ النَّهْيِ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُفُ شَيْئًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا. فَنَهَاهُمْ عَنْ قِسْمَةِ مَا يَخْلُفُ إِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ خَلَفَهُ، ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لَا يَقْتَسِمُ وَهُوَ نَفْيٌ لَا نَهْيٌ ; لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ شَرْطُهُ الْإِمْكَانُ وَإِرْثُ النَّبِيِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَتَمْحَضَ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْتَسِمُونَ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ اه. وَفِيهِ أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْإِمْكَانُ الْعَقْلِيُّ، وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ لَا الْإِمْكَانُ الشَّرْعِيُّ لِئَلَّا يَتَعَارَضَا، ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَرَثَتِي) أَيْ بِالْقُوَّةِ، وَإِلَّا فَحَيْثُ لَا قِسْمَةَ فَلَا وَرَثَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مَنْ يَصْلُحُ وَرَثَتِي لَوْ أَمْكَنَتْ. وَقَالَ مِيرَكُ: هُمْ وَرَثَتُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ بِالْقُوَّةِ، لَكِنْ مُنِعُوا مِنَ الْمِيرَاثِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا نُورَثُ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَهُ وَعِلَّتَهُ مُسْتَأْنِفًا (مَا تَرَكْتُ) : مَا: مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَتَرَكْتُ صِلَتُهُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيِ الَّذِي تَرَكْتُهُ ( «بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ» ) . وَالْفَاءُ لِتَضْمِينِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِمْ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ يُفِيدُ التَّوْكِيدَ وَالتَّأْبِيدَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَعْنَى الْمُعْتَدَّاتِ، إِذْ كُنَّ لَا يَجُوزُ لَهُنَّ أَنْ يُنْكَحْنَ أَبَدًا فَجَرَتْ لَهُنَّ النَّفَقَةُ. وَقَوْلُهُ: (وَمُؤْنَةِ عَامِلِي) أَرَادَ بِالْعَامِلِ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ مِنَ الصَّفَايَا الَّتِي كَانَتْ لَهُ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَفَدَكٍ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ كَذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى عُثْمَانَ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِمَالِهِ، فَأَقْطَعَهَا مَرْوَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى رَدَّهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: يُرِيدُ بِمَا تَرَكَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ الَّتِي كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِهِ لِأَنَّ نَفَقَةَ نِسَائِهِ بَعْدَهُ كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِحَيَاةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لِكَوْنِهِنَّ مَحْبُوسَاتٍ عَنِ النِّكَاحِ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ، وَبَقِيَ حُكْمُ نِكَاحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاقِيًا مُدَّةَ بَقَائِهِنَّ، فَوَجَبَ لَهُنَّ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وُجُوبَ نَفَقَةِ النِّسَاءِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى نَفَقَةِ نِسَائِهِ إِرْثَهُنَّ مِنْهُ، بَلْ لِكَوْنِهِنَّ مَحْبُوسَاتٍ وَمَمْنُوعَاتٍ عَنِ الْأَزْوَاجِ بِسَبَبِهِ فَهُنَّ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ مَا دَامَتْ حَيَاتُهُنَّ، وَقِيلَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ فِي قَبْرِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَعَلَى هَذَا لَا إِشْكَالَ فِي نَفَقَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِعِظَمِ حُقُوقِهِنَّ وَقِدَمِ هِجْرَتِهِنَّ وَكَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ اخْتُصِصْنَ بِمَسَاكِنِهِنَّ وَلَمْ يَرِثْهَا وَرَثَتُهُنَّ. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَمَّا نَفَقَةُ عَامِلِهِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَامِلِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْعَامِلُ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَالِ الْفَيْءِ فَاسْتَحَقَّ الْعِمَالَةَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُهَا فَاسْتَثْنَاهَا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ اه. وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: (وَمُؤْنَةِ عَامِلِي) فَفِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ الْمُؤْنَةُ فَعُولَةٌ مِنْ مَأَنْتُ الْقَوْمَ، أَيِ: احْتَمَلْتُ مُؤْنَتَهُمْ، وَفِي الصِّحَاحِ: الْمُؤْنَةُ يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُفْعَلَةٌ مِنَ الْأَبْنِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ وَقِيلَ: هِيَ مُفْعَلَةٌ مِنَ الْأَوْنِ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْعَدْلُ لِأَنَّهَا ثِقَلٌ عَلَى الْإِنْسَانِ اه. وَفِي الْحَدِيثِ: الْمَعُونَةُ تَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْمُؤْنَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: (مُؤْنَةِ عَامِلِي) فَقِيلَ: الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقِيلَ: يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَامِلَ عَلَى النَّخْلِ وَالْقَيِّمَ عَلَى الْأَرْضِ، وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ حَافِرُ قَبْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي الْخَصَائِصِ: الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ خَادِمُهُ الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا كَالْأَجِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أُجْرَةِ الْقَسَّامِ، وَقِيلَ: كُلُّ عَامِلٍ لِلْمُسْلِمِينَ إِذْ هُوَ عَامِلٌ لَهُ وَنَائِبٌ عَنْهُ فِي أُمَّتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ بِزِيَادَةِ (وَلَا دِرْهَمًا) فَقِيلَ: فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِهِمَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَهُمَا بِذَلِكَ أَوْلَى، وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي الْأَنْبِيَاءِ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ الْآتِي: ( «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ) يَعْنِي لَا نُورَثُ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّا مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ، وَمِنْ شَرْطِ الْفَقِيرِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَمَا فِي يَدِهِ إِمَّا أَمَانَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ: مَا مِيرَاثُنَا إِلَّا وَاقِعٌ وَمُنْحَصِرٌ فِي صَرْفِ أَحْوَالِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُورَثُ إِنَّمَا مِيرَاثُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينِ. وَقِيلَ لِئَلَّا يَفْرَحَ أَحَدٌ بِمَوْتِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ مِنْ حَيْثِيَّةِ أَخْذِ تَرِكَتِهِ، وَخَالَفَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَامَّةِ، وَقَالَ: هَذَا.

] الْحُكْمُ مُخْتَصٌّ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] وَقَالَ: وَهِيَ وِرَاثَةُ مَالٍ لَا نُبُوَّةَ، وَإِلَّا لَمْ يَقُلْ: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] إِذْ لَا يَخَافُهُمْ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَصَوَّبَ الْجُمْهُورَ خِلَافَ قَوْلِهِ لِخَبَرِ النَّسَائِيِّ: (إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ) . وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ: وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ دُونَ حَقِيقَةِ الْإِرْثِ، بَلْ قِيَامُهُ مَقَامَهُ وَحُلُولُهُ مَكَانَهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا خَافَ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْمَوَالِي عَلَى مَرْتَبَتِهِ الظَّاهِرَةِ بِالْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ، هَذَا وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ هَذَا حُكْمُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: إِنَّ ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ يُوَرَّثُونَ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ.

5976 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5976 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا نُورَثُ) ، بِسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَا يُورَثُ مِنَّا، فَحُذِفَ الْجَارُّ فَاسْتَمَرَّ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي الْفِعْلِ، فَانْقَلَبَ الْفِعْلُ عَنْ لَفْظِ الْغَائِبِ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ اه. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ، فَلَا خِلَافَ وَلَا تَحْوِيلَ عَنِ الْإِسْنَادِ، وَكَذَا حَقَّقَهُ الْأُسْتَاذُ مَوْلَانَا عَبْدُ اللَّهِ السِّنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ جَاءَ اللُّغَتَانِ فِي التَّنْزِيلِ: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] . وَفِي الْقَامُوسِ: وَرِثَ أَبَاهُ وَمِنْهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ يَرِثُهُ كَيَعِدُهُ وَأَوْرَثَهُ جَعَلَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَحَكَى نُورِثُ عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ، وَكَذَا ضُبِطَ فِي نُسْخَةٍ أَيْ لَا نَتْرُكُ مَالًا مِيرَاثًا لِأَحَدٍ. قَالَ الْمُغْرِبُ: وَرَّثَ أَبَاهُ مَالًا يَرِثُ وَارِثَهُ فَهُوَ وَارِثٌ وَالْأَبُ وَالْمَالُ كِلَاهُمَا مَوْرُوثٌ، وَمِنْهُ: إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَكَسْرُ الرَّاءِ خَطَأُ دِرَايَةٍ اه. وَبِهِ انْدَفَعَ زَعْمُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأِ دِرَايَةٍ لَوْ صَحَّتْ رِوَايَةً لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ (الْقَامُوسِ) . (مَا تَرَكْنَاهُ) : الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا: الْمَوْصُولَةِ (صَدَقَةٌ) : بِالرَّفْعِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِمَا قِيلَ: لَا نُورَثُ، فَقِيلَ: مَا تَفْعَلُونَ بِتَرِكَتِكُمْ؟ فَأُجِيبَ: مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُرْوَى صَدَقَةً بِالنَّصْبِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ أَيْ: مَا تَرَكْنَاهُ مَبْذُولٌ صَدَقَةً، فَحُذِفَ الْخَبَرُ وَبَقِيَ الْحَالُ كَالْعِوَضِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] بِالنَّصْبِ فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ،: وَأَمَّا قَوْلُ الشِّيعَةِ: إِنَّ (مَا) نَافِيَةٌ. وَصَدَقَةٌ: مَفْعُولُ تَرَكْنَا فَبُهْتَانٌ وَزُورٌ، وَيَرُدُّهُ وُجُودُ الضَّمِيرِ فِي تَرَكْنَا. فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَوُجُودُ فَهُوَ صَدَقَةٌ فِي بَعْضِهَا وَصَرَائِحُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ: ( «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» ) . لِمَا يَلْزَمُ مِنَ التَّنَاقُضِ بَيْنَ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّادِقِ. وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ (مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) مِنْ غَيْرِ ضَمِيرٍ، فَهُوَ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيُّ: إِنَّ (مَا) فِي مَا تَرَكْنَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَتَرَكْنَا صِلَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ وَصَدَقَةٌ خَبَرٌ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ رِوَايَةً وَدِرَايَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5977 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ فَأَهْلَكَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ، فَأَقَرَّ عَيْنَيْهِ بِهَلَكَتِهَا حِينَ كَذَّبُوهُ وَعَصَوْا أَمْرَهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5977 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا» ) : بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا تَفْسِيرٌ لِأَوَّلِهِمَا أَيْ: سَابِقًا وَمُقَدَّمًا وَشَفِيعًا (بَيْنَ يَدَيْهَا) ، أَيْ قُدَّامَهَا حِينَ مَاتَ رَاضِيًا عَنْهَا (وَإِذَا أَرَادَ) أَيِ: اللَّهُ (هَلَكَةَ أُمَّةٍ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ هَلَاكَهَا (عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ فَأَهْلَكَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ) ، أَيْ: إِلَيْهَا أَوْ إِلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا (فَأَقَرَّ) ، أَيِ: اللَّهُ (عَيْنَيْهِ) : بِالتَّثْنِيَةِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: أَسَرَّهُمَا بِمَا تَرَيَاهُ مِمَّا يَشْفِي غَيْظَهُ (بِهَلَكَتِهَا) أَيْ: بِسَبَبِ هَلَاكِهَا (حِينَ كَذَّبُوهُ) ، أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ (وَعَصَوْا أَمْرَهُ) . أَيْ مِنَ الْفُجَّارِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

5978 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ وَلَا يَرَانِي، ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 5978 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ) : يَشْمَلُ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ (يَوْمٌ) أَيْ زَمَانٌ (وَلَا يَرَانِي) ، أَيْ أَحَدُكُمْ حِينَئِذٍ (ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي) أَيْ: لِرُؤْيَتِهِ إِيَّايَ (أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ) . أَيْ مَعَ أَهْلِهِ، وَهُوَ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ دَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْأَهْلِ تَارَةً وَعَلَى الْمَالِ أُخْرَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى مَعْنَى مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: ( «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي» ) . [وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ]

[كتاب المناقب والفضائل]

[كِتَابُ الْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ] [بَابُ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ وَذِكْرِ الْقَبَائِلِ]

[كِتَابُ الْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ] [1] بَابُ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ وَذِكْرِ الْقَبَائِلِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5979 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [كِتَابُ الْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ] [1] بَابُ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ وَذِكْرِ الْقَبَائِلِ الْمَنَاقِبُ جَمْعُ الْمَنْقَبَةِ، وَهِيَ الشَّرَفُ وَالْفَضِيلَةُ، وَذِكْرُ الْقَبَائِلِ عَطْفٌ عَلَى الْمَنَاقِبِ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِهِمْ أَعْلَمُ مِنْ مَدْحِهِمْ وَذَمِّهِمْ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 5979 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (النَّاسُ تَبَعٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ تَابِعٍ كَخَدَمٍ جَمْعُ خَادِمٍ أَيِ: النَّاسُ كُلُّهُمْ تَابِعُونَ (لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ) أَيْ: فِي الدِّينِ وَالطَّاعَةِ أَوْ فِي الْخِلَافَةِ وَيُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ قَوْلُهُ (مُسْلِمُهُمْ) أَيْ: مُسْلِمُ عَامَّةِ النَّاسِ (تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ) أَيْ مُسْلِمِ قُرَيْشٍ (وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ) ، قَالَ شَارِحٌ: وَإِذَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ عَلَى الْكُفْرِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَنْقُصْهُمْ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الشَّرَفِ فَهُمْ سَادَةٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا كَانُوا قَادَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ اه. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كَانُوا خِيَارًا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَخْيَارًا مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَشْرَارًا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشْرَارًا مِنْهُمْ كَمَا قِيلَ: أَعْمَالُكُمْ عُمَّالُكُمْ، وَكَمَا رُوِيَ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ» . وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ تَفْضِيلُ قُرَيْشٍ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَتَقْدِيمُهَا فِي الْإِمَامَةِ وَالْإِمَارَةِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تُقَدِّمُ قُرَيْشًا وَتُعَظِّمُهَا إِذْ كَانَتْ دَارُهُمْ مَوْسِمًا وَالْبَيْتُ الَّذِي هُمْ سَدَنَتُهُ مَنْسَكًا، وَكَانَتْ لَهُمُ السِّقَايَةُ وَالرِّفَادَةُ يُعَظِّمُونَ الْحَجِيجَ وَيَسْقُونَهُمْ، فَحَازُوا بِهِ الشَّرَفَ وَالرِّيَاسَةَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِهَذَا الشَّأْنِ الدِّينُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُسْلِمِي قُرَيْشٍ قُدْوَةُ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمُ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي التَّصْدِيقِ السَّابِقُونَ فِي الْإِيمَانِ وَكَافِرُهُمْ قُدْوَةُ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ رَدَّ الدَّعْوَةَ وَكَفَرَ بِالرَّسُولِ وَأَعْرَضَ عَنِ الْآيَاتِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: فَلَا يَكُونُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: وَكَافِرُهُمْ إِلَى آخِرِهِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ. قُلْتُ: فَلَا مَحْذُورَ حِينَئِذٍ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: لَيْسَ مَدْحًا شَرْعًا، لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَدْحًا عُرْفِيًّا، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مَتْبُوعُونَ فِي الْجُمْلَةِ لَا تَابِعُونَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَامَّةُ الْعَرَبِ: يَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُ، فَلَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَأَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ تَبِعَهُمُ الْعَرَبُ وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَلِهَذَا اسْتَمَرَّتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ فِي قُرَيْشٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ قَالَ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْقَاضِي الْحَدِيثُ الَّذِي يَتْلُوهُ كَأَنَّهُ قِيلَ مَتْبُوعُونَ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَالنَّاسُ يَقْتَفُونَ آثَارَهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ خَيْرٌ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَنَحْنُ التَّارِكُونَ لِمَا سَخِطْنَا ... وَنَحْنُ الْآخِذُونَ لَمَّا رَضِينَا. أَقُولُ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يَأْنَفُونَ عَنْ مُتَابَعَتِهِمْ، وَأَنَّ قَابِلِيَّةَ الْمَتْبُوعِيَّةِ مَجْبُولَةٌ فِي جُبَاتِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُمْ أَمْرُ الْخِلَافَةِ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمُخَالَفَةُ وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ صَالِحُهُمْ تَابِعٌ لِصَالِحِهِمْ وَشِرَارُهُمْ تَبَعٌ لِشِرَارِهِمْ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي (الْمَنَاقِبِ) .

5980 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5980 - (وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ) : وَجْهُ تَسْمِيَتِهِمْ بِقُرَيْشٍ مَبْسُوطٌ فِي (الْقَامُوسِ) (فِي الْخَيْرِ) ، أَيِ: الْإِسْلَامِ (وَالشَّرِّ) . أَيِ الْكُفْرِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَفِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) : (قُرَيْشٌ صَلَاحُ النَّاسِ وَلَا يَصْلُحُ النَّاسُ إِلَّا بِهِمْ، كَمَا أَنَّ الطَّعَامَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِالْمِلْحِ) . رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي (الْكَامِلِ) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: ( «قُرَيْشٌ خَالِصَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فَمَنْ نَصَبَ لَهَا حَرْبًا سُلِبَ، وَمَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ خُزِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ) . وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا:

(قُرَيْشٌ عَلَى مُقَدِّمَةِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَوْلَا أَنْ تَبَطَّرَ قُرَيْشٌ لَأَخْبَرْتُهَا بِمَا لِمُحْسِنِهَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا (قُرَيْشٌ وُلَاةُ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَسَعْدٍ مَرْفُوعًا (قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ) . وَعَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «شِرَارُ قُرَيْشٍ خَيْرُ شِرَارِ النَّاسِ» ) . أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ فِي (مُسْنَدِهِ) ، وَعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «قُوَّةُ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَعْدِلُ قُوَّةَ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَأَمَانَةُ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَعْدِلُ أَمَانَةَ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَوْ أَخَذْتُ بِحَلَقَةِ الْجَنَّةِ مَا بَدَأْتُ إِلَّا بِكُمْ» ) . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ.

5981 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5981 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ) أَيْ: أَمْرُ الْخِلَافَةِ (فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ) ، أَيْ مِنَ النَّاسِ (اثْنَانِ) أَيْ: فَيَكُونُ وَاحِدٌ خَلِيفَةٌ وَوَاحِدٌ تَابِعٌ لَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَمَا أَشْبَهَهَا فِيهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ مُخْتَصَّةٌ بِقُرَيْشٍ، لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِغَيْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمَنْ خَالَفَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَهُوَ مَحْجُوبٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُسْتَمِرٌّ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ، وَقَدْ ظَهَرَ مَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْآنِ اه. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ: مَنْ كَانَ مُسْلِمًا فَلْيَتَّبِعْهُمْ وَلَا يَخْرُجْ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَقَدَ خَرَجَ هَذَا الْأَمْرُ عَنْ قُرَيْشٍ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ مِنْ مُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: «مَا أَقَامُوا الدِّينَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدِ انْتَهَكُوا حُرُمَاتِهِ» ، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَعْضُ النَّاسِ أَيْ: سَائِرُ الْعَرَبِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي ذَخَائِرِ الْعَقَبِيِّ نِسْبَةٌ إِلَى الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

5982 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5982 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ) أَيِ: ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ) أَيْ: أَمْرَ الْإِمَارَةِ (فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ) ، أَيْ: لَا يُخَالِفُهُمْ (إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ) أَيْ: أَسْقَطَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ (عَلَى وَجْهِهِ) : وَالْمَعْنَى أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ (مَا أَقَامُوا) ، أَيْ: قُرَيْشٌ (الدِّينَ) ، أَيْ: أَحْكَامَ دِينِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ مَا: مَصْدَرِيَّةٌ وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كَبَّهُ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ؟ مُدَّةَ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّلَاةُ لِرِوَايَةِ: مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ، لَكِنْ عَلَى هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إِذَا عُلِّقَ قَوْلُهُ: مَا أَقَامُوا بِكَبِّهِ إِلَّا بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ ; لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقِمِ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُصْرَفْ عَنْهُ الْأَمْرُ، كَذَا قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِ الْإِمَامَةِ بِقُرَيْشٍ، وَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَجَمِيعُ بُطُونِهَا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ جَامِعٌ لِأَوَامِرِ الْمُلْكِ وَالدِّينِ وَصَالِحٌ لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ، قَالَ الْمُظْهِرِيُّ: الْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ وَلَا يُخَالِفُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَذَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، مَا دَامُوا يُحَافِظُونَ الدِّينَ اه كَلَامُهُ. وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَقَامُوا الدِّينَ إِذَا عُلِّقَ بِكَبِّهِ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إِذَا حُمِلَ الدِّينُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَّا إِذَا حُمِلَ عَلَى الدِّينِ بِأُصُولِهِ وَتَوَابِعِهَا. فَلَا، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ غَيَّرَ وَبَدَّلَ وَلَمْ يُصْرَفْ عَنْهُ الْأَمْرُ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا يُخَالِفُ قُرَيْشًا أَحَدٌ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ فِي الدِّينِ بِأَنْ أَرَادُوا نَقْضَهُ وَبُطْلَانَهُ، وَقُرَيْشٌ تُرِيدُ إِقَامَتَهُ وَإِمْضَاءَهُ إِلَّا أَذَلَّهُ اللَّهُ وَقَهَرَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاللَّفْظُ لَا يُسَاعِدُ إِلَّا مَا عَلَيْهِ لِيَظْهَرَ وَهُوَ أَظْهَرُ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الدِّينُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِهَا لِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ، وَلِكَوْنِهَا أُمُّ الْعِبَادَاتِ، وَأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ السَّيِّئَاتِ أَوْ ذَكَرَهَا عَلَى مِنْوَالِ الْمِثَالِ أَيِ الصَّلَاةَ وَنَحْوَهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ حَنْطَبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةَ فَقَالَ: ( «أَيُّهَا النَّاسُ قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا، وَتَعَلَّمُوا مِنْهَا وَلَا تُعَلِّمُوهَا» ) . أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ فِي (مُسْنَدِهِ) ، وَأَحْمَدُ فِي (الْمَنَاقِبِ) .

5983 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: ( «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: ( «لَا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، يَكُونُ عَلَيْهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5983 - (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا) أَيْ: قَوِيًّا شَدِيدًا أَوْ مُسْتَقِيمًا سَدِيدًا إِلَى اثْنَي عَشَرَ خَلِيفَةً، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِلَى هَا هُنَا نَحْوَ حَتَّى فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً فِي أَنَّ مَا بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا. الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] إِلَى تُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ مُطْلَقًا. فَأَمَّا دُخُولُهَا فِي الْحُكْمِ وَخُرُوجُهَا، فَأَمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ، فَمِمَّا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخُرُوجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ اللَّيْلُ لَوَجَبَ الْوِصَالُ، وَمِمَّا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الدُّخُولِ قَوْلُكُ: حَفِظْتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ. (كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) : قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَدْ مَضَى مِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْعَدَدِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَكُونُوا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ يَفْتَرِقُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: السَّبِيلُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا يَعْتَقِبُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُقْسِطِينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لِاسْمِ الْخَلِيفَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى الْوَلَاءِ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ عَلَى الْوَلَاءِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُسَمَّوْنَ بِهَا عَلَى الْمَجَازِ. وَفِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: تَوَجَّهَ هُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ: الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ بَعْدِي ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا فِي الْإِثْنَيْ عَشَرَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّي الْخِلَافَةِ مِنَ الْعَادِلِينَ، وَقَدْ مَضَى مِنْهُمْ مَنْ عُلِمَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْعَدَدِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ حَمَلَ الشِّيعَةُ الْإِثْنَيْ عَشَرَ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ مُتَوَالِيَةً أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ خِلَافَةٌ حَقِيقَةً أَوِ اسْتِحْقَاقًا، فَأَوَّلُهُمْ عَلِيٌّ، فَالْحَسَنُ، فَالْحُسَيْنُ، فَزَيْنُ الْعَابِدِينَ، فَمُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ، فَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ، فَمُوسَى الْكَاظِمُ، فَعَلِيُّ الرِّضَا، فَمُحَمَّدٌ التَّقِيُّ، فَعَلِيٌّ التَّقِيُّ، فَحَسَنٌ الْعَسْكَرِيُّ، فَمُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ زُبْدَةُ الْأَوْلِيَاءِ خَوَاجَهْ مُحَمَّدُ يَارْسَا فِي كِتَابِ (فَصْلِ الْخِطَابِ) مُفَصَّلَةً، وَتَبِعَهُ مَوْلَانَا نُورُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجَامِيُّ فِي أَوَاخِرِ شَوَاهِدِ النُّبُوَّةِ، وَذِكْرِ فَضَائِلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ وَكَرَامَاتِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ مُجْمَلَةً، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الرَّوَافِضِ حَيْثُ يَظُنُّونَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ يُبْغِضُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ لِاعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ وَوَهْمِهُمُ الْكَاسِدِ، وَإِلَّا فَأَهْلُ الْحَقِّ يَحْمُونَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ، وَكُلَّ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا كَالْخَوَارِجِ الْأَعْدَاءِ لِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَلَا كَالرَّوَافِضِ الْمُعَادِينَ لِجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِ الْأُمَّةِ. وَفِي رِوَايَةٍ (لَا يَزَالُ النَّاسُ) أَيْ: أَمْرُ دِينِهِمْ (مَاضِيًا) أَيْ: جَارِيًا مُسْتَمِرًّا عَلَى الصَّوَابِ وَالْحَقِّ (مَا وَلِيَهُمْ) أَيْ: مُدَّةَ مَا تَوَلَّى أَمْرَهُمْ (اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا كُلُّهُمْ فِي قُرَيْشٍ) وَفِي رِوَايَةٍ: (لَا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ) : أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ أَيْ وَ (حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى النَّاسِ مُتَوَلِّيًا (اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

5984 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا) وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ، وَعُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5984 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (غِفَارُ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَبِالرَّاءِ عَلَمُ قَبِيلَةٍ، وَفِي (الْقَامُوسِ) بَنُو غِفَارٍ كَكِتَابٍ رَهْطُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (غَفَرَ اللَّهُ لَهَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ أَقُولُ فِي حَقِّهِمْ. أَقُولُ: وَإِنَّمَا يُقَدَّرُ مِثْلُ هَذَا فِي نَحْوِ: زَيْدًا ضَرَبَ حَيْثُ.

لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَةِ عَلَى الِاسْمِ الْمَرْفُوعِ بِالِابْتِدَائِيَّةِ. (وَأَسْلَمُ) : قَبِيلَةٌ أُخْرَى (سَالَمَهَا اللَّهُ) ، أَيْ صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ مَا يُرَافِقُهُمْ مِنْ أَمْرِ السَّلَامَةِ عَنِ الْمَكْرُوهِ (وَعُصَيَّةُ) : بِالتَّصْغِيرِ بَطْنٌ عَلَى مَا فِي (الْقَامُوسِ) ، وَالْمُرَادُ بِهِ قَبِيلَةٌ أَوْ جَمَاعَةٌ (عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . وَفِي الْحَدِيثِ: إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا خَبَرِيَّتَيْنِ، وَأَنْ يُحْمَلَا عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَعُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ، فَهُوَ إِخْبَارٌ وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الدُّعَاءِ، لَكِنَّ فِيهِ إِظْهَارَ شِكَايَةٍ مِنْهُمْ يَسْتَلْزِمُ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ بِالْخِذْلَانِ لَا بِالْعِصْيَانِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قِيلَ: إِنَّمَا دَعَا لِغِفَارَ وَأَسْلَمَ لِأَنَّ دُخُولَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ كَانَ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ، وَكَانَتْ غِفَارُ مُتَّهَمَةً بِسَرِقَةِ الْحُجَّاجِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَمْحُوَ عَنْهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَةَ وَيَغْفِرَهَا لَهُمْ، وَأَمَّا عُصَيَّةُ فَهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا الْقُرَّاءَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْنُتُ عَلَيْهِمْ. وَفِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مِنْ حُسْنِ الْكَلَامِ وَالْمُجَانَسَةِ فِي الْأَلْفَاظِ مَأْخُوذٌ مِنْ سَالَمْتُهُ إِذَا لَمْ تَرَ فِيهِ مَكْرُوهًا، فَكَأَنَّهُ دَعَا لَهُمْ بِأَنْ يَضَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ التَّعَبَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالْحَاكِمِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «أَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ وَغِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، أَمَا وَاللَّهِ مَا أَنَا قُلْتُهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَالَهُ» ) . وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَنْدَرَ بِلَفْظِ: ( «أَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ وَغِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَتُجِيبُ أَجَابُوا اللَّهَ» ) . فَفِي الْقَامُوسِ: تُجِيبُ ابْنُ كِنْدَةَ بَطْنٌ.

5985 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارُ وَأَشْجَعُ مَوَالِيَّ، لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5985 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قُرَيْشٌ) ، أَيْ: مُسْلِمُوهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ (وَالْأَنْصَارُ) أَيْ: قَبِيلَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَفِي (الْقَامُوسِ) : إِنَّ أَنْصَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفَةُ (وَجُهَيْنَةُ) : بِالتَّصْغِيرِ قَبِيلَةٌ (وَمُزَيْنَةُ) : كَذَلِكَ (وَأَسْلَمُ وَغِفَارُ وَأَشْجَعُ) أَبُو قَبِيلَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَوْلَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ (مَوَالِيَّ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ جَمْعُ مَوْلَى مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَالَ شَارِحٌ: يُرْوَى عَلَى الْإِضَافَةِ أَيْ أَحِبَّائِي وَأَنْصَارِي، وَيُرْوَى مَوَالٍ بِالتَّنْوِينِ أَيْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَحِبَّاءُ وَأَنْصَارٌ، لَا وَلَاءَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْ: هُمْ نَاصِرُوهُ وَالْمُخْتَصُّونَ بِهِ وَهُوَ أَيْضًا وَلِيُّهُمْ وَنَاصِرُهُمْ. وَالْمُتَكَفِّلُ بِهِمْ وَبِمَصَالِحِهِمْ لِقَوْلِهِ: (لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، أَيْ: غَيْرُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، وَفِي تَمْهِيدِ ذِكْرِ اللَّهِ لِذِكْرِ رَسُولِهِ، وَتَخْصِيصِ ذِكْرِ الرَّسُولِ إِيذَانٌ بِمَكَانَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ تَوَلِّيهِ إِيَّاهُمْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ وَلَا يَكْتَنِهُ كُنْهَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

5986 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ، خَيْرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَمِنْ بَنِي عَامِرٍ وَالْحَلِيفَيْنِ بَنِي أَسْدٍ وَغَطَفَانَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5986 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : بِالتَّاءِ وَهُوَ الثَّقَفِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) ، فِي (الْقَامُوسِ) تَمِيمٌ كَأَمِيرٍ أَبُو قَبِيلَةٍ وَيُصْرَفُ (وَمِنْ بَنِي عَامِرٍ) ، عَطْفٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (وَالْحَلِيفَيْنِ) أَيْ: وَمِنَ الْحَلِيفَيْنِ يَعْنِي الْمُتَحَالِفَيْنِ عَلَى التَّنَاصُرِ (بَنِي أَسْدٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (وَغَطَفَانَ) . بِفَتْحَتَيْنِ وَهَمَا بَدَلٌ مِنَ الْحَلِيفَيْنِ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَتَفْضِيلُ تِلْكَ الْقَبَائِلِ لِسَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحُسْنِ آثَارِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرِ الْحَلِيفَيْنِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

5987 - «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلَاثٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِيهِمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ) قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا) وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَ: (اعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5987 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا زِلْتُ) بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: مَا بَرِحْتُ (أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلَاثٍ) أَيْ: خِصَالٍ أَوْ كَلِمَاتٍ وَقَوْلُهُ: (سَمِعْتُ) : صِفَةٌ لِثَلَاثٍ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: سَمِعْتُهَا (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِيهِمْ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: قَائِلًا إِيَّاهَا فِي حَقِّهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنِّي دَائِمًا أُحِبُّهُمْ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِمْ ثَلَاثَ خِصَالٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ ثَلَاثٌ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَكَذَا سَمِعْتُ اه. وَالْأَظْهَرُ مَا سَمِعْتُ ثُمَّ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُهُ يَقُولُ) : بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ لِقَوْلِهِ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ تَفْصِيلٌ لِلْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَالْخِصَالُ الثَّلَاثُ أَحَدُهَا قَوْلُهُ: (هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ) . أَيْ: حِينَ ظُهُورِهِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِوُجُودِهِمْ إِلَى زَمَانِهِ بِكَثْرَةٍ (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا) ، شَرَّفَهُمْ بِإِضَافَتِهِمْ إِلَى نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذِهِ ثَانِيَتُهَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ أَيْ: أَسِيرَةٌ (مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ اه. وَفِي اسْتِدْلَالِهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وُلُدِ إِسْمَاعِيلَ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونٍ جَمْعُ وَلَدٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، فَفِي (الصِّحَاحِ) : الْوَلَدُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، وَكَذَلِكَ الْوُلُدُ بِالضَّمِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَلَدُ جَمْعَ الْوَلَدِ كَالْأَسَدِ وَالْأُسْدِ، وَهَذِهِ ثَالِثَتُهَا، فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَضِيلَتَهُمْ لِكَوْنِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . الْفَصْلُ الثَّانِي

الْفَصْلُ الثَّانِي 5988 - عَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «مَنْ يُرِدْ هَوَانَ قُرَيْشٍ أَهَانَهُ اللَّهُ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5988 - (عَنْ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ يُرِدْ) مِنَ الْإِدَارَةِ أَيْ: مَنْ يَقْصِدْ (هَوَانَ قُرَيْشٍ) أَيْ: ذُلَّهُمْ وَإِهَانَتَهُمْ (أَهَانَهُ اللَّهُ) . أَيْ: أَذَلَّهُ وَأَخْزَاهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) ، وَالْحَاكِمُ فِي (مُسْتَدْرَكِهِ) .

5989 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «اللَّهُمَّ أَذَقْتَ أَوَّلَ قُرَيْشٍ نَكَالًا، فَأَذِقْ آخِرَهُمْ نَوَالًا» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5989 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «اللَّهُمَّ أَذَقْتَ أَوَّلَ قُرَيْشٍ» ) أَيْ: يَوْمَ بَدْرِ وَالْأَحْزَابِ (نَكَالًا) : بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ: بَلَاءً وَوَبَالًا. وَقَالَ شَارِحٌ: فُسِّرَ هَذَا بِالْقَحْطِ وَالْغَلَاءِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: النَّكَالُ الْعِبْرَةُ، وَقِيلَ الْعُقُوبَةُ (فَأَذِقْ آخِرَهُمْ نَوَالًا) ، أَيْ: إِنْعَامًا وَعَطَاءً ثِقَالًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5990 - وَعَنْ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «نَعْمَ الْحَيُّ الْأَسْدُ وَالْأَشْعَرُونَ لَا يَفِرُّونَ فِي الْقِتَالِ وَلَا يَغُلُّونَ، هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5990 - (وَعَنْ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نِعْمَ الْحَيُّ) أَيِ: الْقَبِيلَةُ (الْأَسْدُ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ بِسُكُونِ السِّينِ، أَبُو حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ، وَيُقَالُ لَهُمُ الْأَزْدُ، وَهُوَ بِالسِّينِ أَفْصَحُ وَهُمَا أَزْدَانَ: أَزْدُ شَنُوءَةَ وَأَزْدُ عُمَانَ اه. وَسَيَأْتِي أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا أَزْدُ شَنُوءَةَ (وَالْأَشْعَرُونُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَالْأَشْعَرِيُّونَ بِإِثْبَاتِ يَاءِ النِّسْبَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ بِسُقُوطِ الْيَاءِ فِي (جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ) ، وَ (جَامِعِ الْأُصُولِ) ، وَبِإِثْبَاتِهِ فِي (الْمَصَابِيحِ) . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ، تَقُولُ الْعَرَبُ: جَاءَتْكَ الْأَشْعَرُونَ بِحَذْفِ الْيَاءِ (لَا يَفِرُّونَ فِي الْقِتَالِ) أَيْ: فِي حَالِ قِتَالِهِمْ مَعَ الْكُفَّارِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ عَلَى حَدِّ (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا (وَلَا يَغُلُّونَ) بِفَتْحٍ فَضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: وَلَا يَخُونُونَ (فِي الْمَغْنَمِ هُمْ مِنِّي) أَيْ: مِنْ أَتْبَاعِي فِي سُنَنِي وَطَرِيقَتِي أَوْ مِنْ أَوْلِيَائِي (وَأَنَا مِنْهُمْ) . مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ مُتَّقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا. الْأَشْعَرُونَ فِي النَّاسِ كَصُرَّةٍ فِيهَا مِسْكٌ.

5991 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْأَزْدُ أَزْدُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يُرِيدُ النَّاسُ أَنْ يَضَعُوهُمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَرْفَعَهُمْ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا لَيْتَ أَبِي كَانَ أَزْدِيًا، وَيَا لَيْتَ أُمِّي كَانَتْ أَزْدِيَّةً» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5991 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْأَزْدُ) أَيْ: أَزْدُ شَنُوءَةَ. وَفِي (الْقَامُوسِ) : أَزْدُ بْنُ الْغَوْثِ وَهُوَ بِالسِّينِ أَفْصَحُ، أَبُو حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ وَمِنْ أَوْلَادِهِ الْأَنْصَارِ كُلِّهِمْ. (أَزْدُ اللَّهِ) أَيْ: جُنْدُهُ وَأَنْصَارُ دِينِهِ (فِي الْأَرْضِ) : قَدْ كَرَّمَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فَهُمْ يُضَافُونَ إِلَيْهِ (يُرِيدُ النَّاسُ أَنْ يَضَعُوهُمْ) أَيْ: يُخَفِّرُوهُمْ وَيُذِلُّوهُمْ (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَرْفَعَهُمْ) أَيْ: يَنْصُرَهُمْ وَيُعِزَّهُمْ وَيُعَلِّيَهُمْ عَلَى أَعْدَاءِ دِينِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِالْأَزْدِ أَزْدَ شَنُوءَةَ، وَهُوَ حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ أَوْلَادُ أَزْدِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ لَيْثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَأَضَافَهُمْ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ حِزْبُهُ، وَأَهْلُ نُصْرَةِ رَسُولِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: أَزْدُ اللَّهِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: اشْتِهَارُهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ فِي الْحَرْبِ لَا يَفِرُّونَ، عَلَى مَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي. وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ وَالتَّشْرِيفِ، كَبَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ، عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُرِيدُ النَّاسُ أَنْ يَضَعُوهُمْ إِلَخْ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُرَادَ بِهَا الشَّجَاعَةُ وَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ أَيِ: الْأَسْدُ أَسْدُ اللَّهِ، فَجَاءَ بِهِ إِمَّا مُشَاكَلَةً أَوْ قَلَبَ السِّينَ زَايًا اه. وَتَبِعَهُ صَاحِبُ (الْأَزْهَارِ) مِنْ شُرَّاحِ (الْمَصَابِيحِ) ، لَكِنْ إِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا لَوْ كَانَ الْأَسْدُ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ لُغَةً فِي الْأَسَدِ بِفَتْحَتَيْنِ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ (الْقَامُوسِ) . ( «وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَقُولُ الرَّجُلُ» ) ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ( «يَا لَيْتَ أَبِي كَانَ أَزْدِيًّا. وَيَا لَيْتَ أُمِّي كَانَتْ أَزْدِيَّةً» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا: عَلَى أَنَسٍ، وَهُوَ عِنْدَنَا أَصَحُّ اه. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ وَلَوْ كَانَ مَوْقُوفًا، فَهُوَ فِي الْحُكْمِ يَكُونُ مَرْفُوعًا، لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

5992 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَكْرَهُ ثَلَاثَةَ أَحْيَاءٍ: ثَقِيفٌ، وَبَنِي حَنِيفَةَ، وَبَنِي أُمَيَّةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5992 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : أَسْلَمِيٌّ خُزَاعِيٌّ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ وَسَكَنَ الْبَصْرَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ (قَالَ: مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَكْرَهُ ثَلَاثَةَ أَحْيَاءٍ) : جَمْعُ حَيٍّ بِمَعْنَى قَبِيلَةٍ (ثَقِيفَ) ، كَأَمِيرٍ أَبُو قَبِيلَةٍ مِنْ هَوَازِنَ، وَاسْمُهُ قَسِيُّ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ كَمَا فِي (الْقَامُوسِ) (وَبَنِي حَنِيفَةَ) ، كَسَفِينَةَ لَقَبُ أَثَالِ بْنِ لُجَيْمٍ أَبُو حَيٍّ مِنْهُمْ خَوْلَةُ بِنْتُ جَعْفَرٍ الْحَنَفِيَّةُ أُمُّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (وَبَنِي أُمَيَّةَ) ، بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ قَبِيلَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا كَرِهَ ثَقِيفًا لِلْحَجَّاجِ، وَبَنِي حَنِيفَةَ لِمُسَيْلِمَةَ، وَبَنِي أُمَيَّةَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: أَتَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَجَعَلَهُ فِي طَسْتٍ وَجَعَلَ يَنْكُتُهُ بِقَضِيبٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ: قَالَ عِمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَأَصْحَابِهِ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: قَدْ جَاءَتْ فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ حَتَّى دَخَلَتْ فِي مَنْخَرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَمَكَثَتْ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَتْ، فَذَهَبَتْ حَتَّى تَغَيَّبَتْ، ثُمَّ قَالُوا: قَدْ جَاءَتْ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَذَا فِي (الْأَزْهَارِ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

5993 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ» ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ: يُقَالُ: الْكَذَّابُ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَالْمُبِيرُ هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: أَحْصَوْا مَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ صَبْرًا فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5993 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ) أَيْ: مُبَالِغٌ فِي الْكَذِبِ (وَمُبِيرٌ) : بِضَمِّ مِيمٍ. وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: مُفْسِدٌ وَمُهْلِكٌ مِنَ الْبَوَارِ، وَهُوَ الْهَلَاكُ وَالْفَسَادُ وَتَنْوِينُهُمَا لِلتَّعْظِيمِ. (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ كُوفِيٌّ حَنَفِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَنْهُ إِسْرَائِيلُ

وَشَرِيكٌ. (يُقَالُ: الْكَذَّابُ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، قَامَ بَعْدَ وَقْعَةِ الْحُسَيْنِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى طَلَبِ ثَأْرِهِ، وَكَانَ غَرَضُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصْرِفَ إِلَى نَفْسِهِ وُجُوهَ النَّاسِ، وَيَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الْإِمَارَةِ، وَكَانَ طَالِبًا لِلدُّنْيَا مُدَلِّسًا فِي تَحْصِيلِهَا، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَقِيلَ: كَانَ يُبْغِضُ عَلِيًّا، وَقِيلَ: كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ بِكُوفَةَ، فَسُمِّيَ كَذَّابًا، وَمِنْ جُمْلَةِ كَذِبِهِ دَعْوَاهُ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَأْتِيهِ بِالْوَحْيِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ أَبُوهُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ، وُلِدَ الْمُخْتَارُ عَامَ الْهِجْرَةِ وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ وَلَا رِوَايَةٌ وَلَا رُؤْيَةٌ، وَأَخْبَارُهُ غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ، وَذَلِكَ مُذْ طَلَبَ الْإِمَارَةَ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَعْدُودًا فِي أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ، يَظْهَرُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَكْتُمُ الْفِسْقَ، فَظَهَرَ مِنْهُ مَا كَانَ يَكْتُمُهُ إِلَى أَنْ فَارَقَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَطَلَبَ الْإِمَارَةِ. وَكَانَ الْمُخْتَارُ يُزَيِّفُ لِطَلَبِ دَمِ الْحُسَيْنِ، وَيَسْتُرُ طَلَبَ الدُّنْيَا وَالْإِمَارَةِ، فَيَأْتِي مِنْهُ الْكَذِبُ وَالْجُنُونُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ إِمَارَتُهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَيُقَالُ: كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ خَارِجِيًّا، ثُمَّ صَارَ زُبَيْرِيًّا ثُمَّ صَارَ رَافِضِيًّا، وَكَانَ يُضْمِرُ بُغْضَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَيَظْهَرُ مِنْهُ لِضَعْفِ عَقْلِهِ أَحْيَانًا. كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ. (وَالْمُبِيرُ هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ) ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ مُبَالَغَةُ الْحَاجِّ بِمَعْنَى الْآتِي بِالْحُجَّةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَبَعْدَهُ لِابْنِهِ الْوَلِيدِ، مَاتَ بِوَاسِطَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، وَعُمُرُهُ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً. (وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَقَدْ يَنْصَرِفُ (أَحْصَوْا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالصَّادِ أَيِ: اضْبُطُوا وَعِدُّوا (مَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ صَبْرًا) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: مَصْبُورًا يَعْنِي مَحْبُوسًا مَأْسُورًا لَا فِي مَعْرَكَةٍ وَلَا خِلْسَةٍ (فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5994 - وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي (الصَّحِيحِ) حِينَ قَتَلَ الْحَجَّاجُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَتْ أَسْمَاءُ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَنَا (أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا) فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ» ، وَسَيَجِيءُ تَمَامُ الْحَدِيثِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5994 - (وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ) أَيْ: صَحِيحِهِ لَا فِي كِتَابٍ آخَرَ مِنْ تَصَانِيفِهِ (حِينَ قَتَلَ الْحَجَّاجُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَتْ أَسْمَاءُ) أَيْ: أُمُّهُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ) أَيْ: أَبْصَرْنَاهُ أَوْ عَلِمْنَاهُ، وَتَعْنِي بِهِ الْمُخْتَارَ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ (وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَفْتَحُ قَالَ شَارِحٌ: أَخَالُ بِالْفَتْحِ هُوَ الْقِيَاسُ وَبِالْكَسْرِ هُوَ الْأَفْصَحُ، وَفِي (الْأَزْهَارِ) وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ أَيْ: لَا أَظُنُّكَ (إِلَّا إِيَّاهُ) . قِيلَ: وَالظَّاهِرُ فَلَا أَخَالُهُ إِلَّا إِيَّاكَ فَقَدَّمَتِ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلِاهْتِمَامِ. (وَسَيَجِيءُ تَمَامُ الْحَدِيثِ) أَيْ: بَسْطُهُ (فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ) .

5995 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ قَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5995 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ) . بِكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ نِبْلٍ أَيْ: سِهَامُهُمْ، وَلَعَلَّهُ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ وَمُحَاصَرَتِهِمْ، (فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا) أَيْ: إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ غَالِبَهُمْ إِلَى إِطَاعَةِ الْأَحْكَامِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5996 - عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَهُ رَجُلٌ أَحْسَبُهُ مِنْ قَيْسٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْعَنْ حِمْيَرًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (رَحِمَ اللَّهُ حِمْيَرًا، أَفْوَاهُهُمْ سَلَامٌ، وَأَيْدِيهِمْ طَعَامٌ، وَهُمْ أَهْلُ أَمْنٍ وَإِيمَانٍ) » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَيُرْوَى عَنْ مِينَاءَ هَذَا أَحَادِيثُ مَنَاكِيرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5996 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ ابْنُ هَمَّامٍ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ أَحَدُ الْأَعْلَامِ، رَوَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَصَنَّفَ الْكُتُبَ وَمَاتَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَلَهُ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ النَّخَعِيِّ، تَابِعِيٌّ، سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ (عَنْ مِينَاءَ) : بِمِيمٍ مَكْسُورَةٍ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَأَلْفٍ مَمْدُودَةٍ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ (صَاحِبُ الْمَطَالِعِ) : بِمَدٍّ وَقَصْرٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: رَوَى عَنْ مَوْلَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَوْفٍ وَعُثْمَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْهُ وَالِدُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ضَعَّفُوهُ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَهُ رَجُلٌ أَحْسَبُهُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ: أَظُنُّهُ (مِنْ قَيْسٍ) : فِي الْقَامُوسِ: قَيْسُ غَيْلَانَ بِالْفَتْحِ، أَبُو قَبِيلَةٍ وَاسْمُهُ إِلْيَاسُ بْنُ مُضَرَ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَنْ حِمْيَرًا) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ أَيِ: ادْعُ عَلَيْهِمْ بِالْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ أَبُو قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَفِي (الْقَامُوسِ) حِمْيَرٌ كَدِرْهَمٍ مَوْضِعٌ غَرْبِيَّ صَنْعَاءِ الْيَمَنِ، وَابْنُ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ أَبُو قَبِيلَةٍ (فَأَعْرَضَ عَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ الرَّجُلِ بِإِدْبَارِ وَجْهِهِ عَنْهُ (ثُمَّ جَاءَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ، فَأَعْرَضِ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ) ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (رَحِمَ اللَّهُ حِمْيَرًا أَفْوَاهُهُمْ سَلَامٌ) ، أَيْ: ذَاتُ سَلَامٍ أَوْ مَحَلُّ سَلَامٍ (وَأَيْدِيهِمْ طَعَامٌ) أَيْ: ذَاتُ طَعَامٍ قَالَهُ شَارِحٌ. فَالْمُضَافُ مِقْدَارٌ لِصِحَّةِ الْحَمْلِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: جَعَلَ أَفْوَاهَهُمْ نَفْسَ السَّلَامِ وَأَيْدِيَهُمْ نَفْسَ الطَّعَامِ مُبَالَغَةً انْتَهَى. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَفْشُونَ السَّلَامَ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْإِحْسَانِ وَحَلَاوَةِ اللِّسَانِ. (وَهُمْ أَهْلُ أَمْنٍ) ، أَيْ: مِنَ الْمَضَرَّةِ (وَإِيمَانٍ) : وَتَصْدِيقٍ كَامِلٍ بَلَّغَهُمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الْإِيقَانِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ) . أَيْ: مِنْ طَرِيقِهِ إِلَى مِينَاءَ. (وَيُرْوَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْ مِينَاءَ هَذَا) أَيِ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ (أَحَادِيثُ مَنَاكِيرُ) : قَالَ مِيرَكُ: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مِينَاءُ يَكْذِبُ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ انْتَهَى. وَقَالَ شَارِحٌ (لِلْمَصَابِيحِ) قَوْلُهُ: مُنْكَرٌ هَذَا إِلْحَاقٌ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْمُؤَلِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي مُحْيِي السُّنَّةِ: لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ: لِأَنَّهُ قَدِ الْتَزَمَ الِاعْتِرَاضَ عَنْ ذِكْرِ الْمُنْكَرِ فِي عُنْوَانِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

5997 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مِمَّنْ أَنْتَ؟) قُلْتُ: مِنْ دَوْسٍ. قَالَ: (مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ فِي دَوْسٍ أَحَدًا فِيهِ خَيْرٌ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5997 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ (قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مِمَّنْ أَنْتَ) ؟ أَيْ: مِنْ أَيْ: قَبِيلَةٍ (قُلْتُ: مِنْ دَوْسٍ) . بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ مِنَ الْأَزْدِ، كَذَا فِي (الْأَزْهَارِ) . وَفِي (الْقَامُوسِ) : هُوَ دَوْسُ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو قَبِيلَةٍ، (قَالَ) أَيْ: عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ (مَا كُنْتُ أُرَى) : بِضَمِّ الْهَمْزِ عَلَى الْمَجْهُولِ أَيْ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ قَبْلَ ذَلِكَ (أَنَّ فِي دَوْسٍ أَحَدًا فِيهِ خَيْرٌ) : قَالَ فِي (الْأَزْهَارِ) : فِيهِ مَنْقَبَةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَذَمَّةٌ لِدَوْسٍ لَوْلَا أَبُو هُرَيْرَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

5998 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تُبْغِضُنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ أُبْغِضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ؟ قَالَ: (تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5998 - (وَعَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَالَ لِي) أَيْ: خَاصَّةً فِي الْخِطَابِ أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ بِلَا حِجَابٍ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ» ) . بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ زَيْنُ الْعَرَبِ ( «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُبْغِضُكَ» ) أَيْ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنِّي أَنِّي أُبْغِضُكَ وَأَنْتَ حَبِيبُ اللَّهِ وَمَحْبُوبُ أُمَّتِكَ (وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ. . .) ؟ أَيْ: إِلَى الْإِسْلَامِ، وَسَائِرِ مَكَارِمِ الْأَحْكَامِ (قَالَ: ( «تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي» ) أَيْ: حِينَ تُبْغِضُ الْعَرَبَ عُمُومًا فَتُبْغِضُنِي فِي ضِمْنِهِمْ خُصُوصًا، أَوْ إِذَا أَبْغَضْتَ جِنْسَ الْعَرَبِ، فَرُبَّمَا يَجُرُّ ذَلِكَ إِلَى بُغْضِكَ إِيَّايَ نَعُوذُ بِاللَّهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ بُغْضَ الْعَرَبِ قَدْ يَصِيرُ سَبَبًا لِبُغْضِ سَيِّدِ الْخَلْقِ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ كَيْلَا يَقَعَ فِي الْخَطَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَرَبُ مَا يُقَابِلُ الْعَجَمَ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَرَبُ اسْمٌ لِهَذَا الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ مِنَ النَّاسِ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَسَوَاءً أَقَامَ بِالْبَادِيَةِ أَوِ الْمُدُنِ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِمَا أَعْرَابِيٌّ وَعَرَبٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَرَبُ بِالضَّمِّ وَبِالتَّحْرِيكِ خِلَافُ الْعَجَمِ مُؤَنَّثٌ، وَهُمْ سُكَّانُ الْأَمْصَارِ أَوْ عَامٌّ، وَالْأَعْرَابُ مِنْهُمْ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ لَا وَاحِدَ لَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

5999 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ غَشَّ الْعَرَبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَفَاعَتِي، وَلَمْ تَنَلْهُ مَوَدَّتِي» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُصَيْنِ بْنِ عُمَرَ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِذَاكَ الْقَوِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5999 - (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) : بِغَيْرِ صَرْفٍ وَقَدْ يُصْرَفُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ غَشَّ الْعَرَبَ) أَيْ: خَانَهُمْ وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: أَبْغَضَهُمْ (لَمْ يَدْخُلْ فِي شَفَاعَتِي) ، أَيِ: الصُّغْرَى لِعُمُومِ الْكُبْرَى، (وَلَمْ تَنَلْهُ مَوَدَّتِي) . أَيْ: لَمْ تُصِبْهُ مَحَبَّتِي إِيَّاهُ، أَوْ لَمْ تَصِلْ وَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ مَحَبَّتُهُ إِيَّايَ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْكَمَالِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُصَيْنِ بْنِ عُمَرَ وَلَيْسَ هُوَ) أَيْ: حُصَيْنُ الْمَذْكُورُ (عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِذَاكَ الْقَوِيِّ) . قُلْتُ: فَلْيَكُنِ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْفَضَائِلِ، وَكَيْفَ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ تَكَادُ تَصِلُ إِلَى التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «حُبُّ الْعَرَبِ إِيمَانٌ وَبُغْضُهُمْ نِفَاقٌ» ) . رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْهُ: ( «حُبُّ قُرَيْشٍ إِيمَانٌ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَحُبُّ الْعَرَبِ إِيمَانٌ بُغْضُهُمْ كُفْرٌ، فَمَنْ أَحَبَّ الْعَرَبَ فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَ الْعَرَبَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي» ) . وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَهْدٍ: ( «أَحِبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ» ) . وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «أَحِبُّوا الْفُقَرَاءَ وَجَالِسُوهُمْ، وَأَحِبَّ مِنْ قَلْبِكَ، وَلْيَرُدُّكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِكَ» ) . هَذَا وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَتْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا، وَأَقَلُّ مَرْتَبَةِ أَسَانِيدِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا، فَالْحَدِيثُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

6000 - وَعَنْ أُمِّ الْحَرِيرِ، مَوْلَاةِ طَلْحَةَ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: سَمِعْتُ مَوْلَايَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مِنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ هَلَاكُ الْعَرَبِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6000 - (وَعَنْ أُمِّ الْحَرِيرِ) ، بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، كَذَا نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَكَذَا ضَبَطَهُ صَاحِبُ (الْمُغْنِي) ، وَكَذَا فِي (جَامِعِ الْأُصُولِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي التَّقْرِيبِ حَيْثُ قَالَ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا، وَيُقَالُ بِفَتْحِ أَوَّلِهَا لَا يُعْرَفُ حَالُهَا مِنَ الرَّابِعَةِ (مَوْلَاةِ طَلْحَةَ بْنِ مَالِكٍ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَتْ: سَمِعْتُ مَوْلَايَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مِنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ) أَيْ: مِنْ عَلَامَاتِ قُرْبِ الْقِيَامَةِ (هَلَاكُ الْعَرَبِ) أَيْ: مُسْلِمِهِمْ أَوْ جِنْسِهِمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ تَابِعٌ لَهُمْ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، بَلْ وَلَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6001 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْمُلْكُ فِي قُرَيْشٍ وَالْقَضَاءُ فِي الْأَنْصَارِ، وَالْأَذَانُ فِي الْحَبَشَةِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الْأَزْدِ» ) يَعْنِي الْيَمَنَ. وَفِي رِوَايَةٍ مَوْقُوفًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6001 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْمُلْكُ) : بِالضَّمِّ أَيِ الْخِلَافَةُ (فِي قُرَيْشٍ) أَيْ: غَالِبًا، أَوْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمُطَابِقُ لِبَقِيَّةِ الْقَرَائِنِ الْآتِيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: (وَالْقَضَاءُ فِي الْأَنْصَارِ) أَيِ: الْحُكْمُ الْجُزْئِيُّ قَالَهُ تَطَيُّبًا لِقُلُوبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ آوَوْا وَنَصَرُوا، وَبِهِمْ قَامَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَفِي بَلَدِهِمْ تَمَّ أَمْرُهُ وَاسْتَقَامَ، وَبُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ وَجُمِعَتِ الْجَمَاعَاتُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ فِي (الْأَزْهَارِ) : قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ النِّقَابَةُ لِأَنَّ النُّقَبَاءَ كَانُوا مِنْهُمْ، وَقِيلَ: الْقَضَاءُ الْجُزْئِيُّ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذٌ» ) . وَقِيلَ: الْقَضَاءُ الْمَعْرُوفُ لِبَعْثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا قَاضِيًا إِلَى الْيَمَنِ انْتَهَى. وَالْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: (وَالْأَذَانُ فِي الْحَبَشَةِ) ، أَيْ: لِأَنَّ رَئِيسَ مُؤَذِّنِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِلَالًا وَهُوَ حَبَشِيٌّ (وَالْأَمَانَةُ فِي الْأَزْدِ) أَيْ: أَزْدُ شَنُوءَةَ، وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَلَا يُنَافِي قَوْلَ بَعْضِ الرُّوَاةِ (يَعْنِي الْيَمَنَ) لَكِنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ مِنْ كَلَامِهِ إِرَادَةُ عُمُومِ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَإِنَّهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَهْلُ أَمْنٍ وَإِيمَانٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِي رِوَايَةٍ مَوْقُوفًا) أَيْ: جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا، وَلَوْ قَالَ مَوْقُوفٌ بِالرَّفْعِ لَكَانَ أَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَقَّفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّ مِثْلَهُ مَوْقُوفًا يَكُونُ حُكْمُهُ مَرْفُوعًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا) أَيْ: سَنَدُهُ مَوْقُوفًا (أَصَحُّ) أَيْ: مِنْ إِسْنَادِهِ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مَرْفُوعًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْأَزْدِيِّ: الْأَمَانَةُ فِي الْأَزْدِ وَالْحَيَاءُ فِي قُرَيْشٍ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6002 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: ( «لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6002 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ عَنْ أَبِيهِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيٌّ عَدَوِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُقَالُ: وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَهَبَ بِهِ أَبُوهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ اسْمُ أَبِيهِ الْعَاصَ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطِيعًا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ الَّذِي أَمَّرَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِمْ حِينَ خَلَعُوا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، سَمِعَ أَبَاهُ، وَرَوَى عَنْهُ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقُتِلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (لَا يُقْتَلُ) : بِصِيغَةِ النَّفْيِ مَجْهُولًا (قُرَشِيٌّ) ، أَيْ: مَنْسُوبٌ إِلَى قُرَيْشٍ بِحَذْفِ الزَّائِدِ، وَفِي (الْقَامُوسِ) : النِّسْبَةُ قُرَشِيٌّ وَقُرَيْشِيٌّ (صَبْرًا) أَيْ: لَا فِي الْمَعْرَكَةِ كَمَا فِي (الْأَزْهَارِ) (بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ) أَيْ: يَوْمِ الْفَتْحِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ صَبْرًا، وَهُوَ مُرْتَدٌّ عَنِ الْإِسْلَامِ ثَابِتٌ عَلَى الْكُفْرِ، إِذْ قَدْ وُجِدَ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ قُتِلَ صَبْرًا فِيمَا سَبَقَ وَمَضَى مِنَ الزَّمَانِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ صَبْرًا وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى الْكُفْرِ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ قُرَشِيٌّ مُرْتَدًّا فَيُقْتَلُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ النَّهْيِ، كَمَا أَنَّ رَحِمَكَ اللَّهُ وَيَرْحَمُكَ أَبْلَغُ. وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور: 3] فِي وَجْهٍ. قُلْتُ: هَذَا وَجْهٌ غَيْرُ وَجِيهٍ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ نَبِيهٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ إِلَى مَدْحِ قُرَيْشٍ وَتَعْظِيمِهِمْ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ عَلَى إِطْلَاقِهِ. قُلْتُ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْيُ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَى قُرَشِيٍّ قِصَاصًا أَوْحَدًّا، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا صَبْرًا، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ غَيْرِهِ، فَلَا يَحْصُلُ لِقُرَيْشٍ مَزِيَّةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى مَدْحِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6003 - وَعَنْ أَبِي نَوْفَلٍ، مُعَاوِيَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَوَقَفَ عَلَيْهِ، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ! السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ! السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ. أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ شَرُّهَا لَأُمَّةُ سَوْءٍ - وَفِي رِوَايَةٍ لَأُمَّةُ خَيْرٍ - ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَوْقِفُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ، فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ، قَالَ: فَأَبَتْ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقَرُونِي وَقَالَ: فَقَالَ: أَرُونِي سِبْتِيَّ، فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ! أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَنَا: ( «إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا» ) ، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا فَلَمْ يُرَاجِعْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6003 - (وَعَنْ أَبِي نَوْفَلٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُسْلِمٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ، وَرَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. (قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ) : يُرِيدُ عَلَى عَقَبَةِ مَكَّةَ وَاقِعَةٌ فِي طَرِيقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حِينَ يَنْزِلُونَ مَكَّةَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَصْلُوبًا هُنَاكَ. وَلِذَا جُعِلَ لَهُ قَبْرٌ فِي الْحَجُونِ قَرِيبَ الْعَقَبَةِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَكَذَا سَائِرُ قُبُورِ الصَّحَابَةِ فِي مَقْبَرَةِ مَكَّةَ لَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مُعَيَّنٌ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ حَتَّى تُرْبَةِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَيْضًا، وَإِنَّمَا بَنَى عَلَيْهَا اعْتِمَادًا عَلَى رُؤْيَا بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو نَوْفَلٍ (فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ (وَالنَّاسُ) أَيْ: وَسَائِرُ النَّاسِ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ أَيْضًا (حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ) ، بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، كُنْيَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ كُنِّيَ بِابْنِهِ خُبَيْبٍ أَكْبَرِ أَوْلَادِهِ، (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ) ، فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَثْلِيثِ السَّلَامِ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَوْ قَبْلَ الدَّفْنِ. (لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا) . الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذَا صَلْبُهُ، وَالْمَعْنَى كُنْتُ أَنْهَاكَ عَمَّا يُؤَدِّي إِلَى مَا أَرَاكَ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ فَعَلَى هَذَا هُوَ مِنْ وَادِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] يَعْنِي مِنْ جِهَةِ مَجَازِ الْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِهِ: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ) : إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الْمُثْقَّلَةِ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ وَقَوْلُهُ (مَا) : زَائِدَةٌ (عَلِمْتُ) أَيْ: عَلِمْتُكَ (صَوَّامًا) أَيْ: كَثِيرَ الصِّيَامِ فِي النَّهَارِ (قَوَّامًا) : كَثِيرَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ (وَصُولًا) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: مُبَالِغًا فِي الصِّلَةِ (لِلرَّحِمِ) أَيْ: لِلْقَرَابَةِ وَفِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْأَخْبَارِيِّينَ وَوَصْفِهِ بِالْإِمْسَاكِ، وَقَدْ عَدَّهُ صَاحِبُ كِتَابِ (الْأَجْوَادِ) فِيهِمْ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَحْوَالِهِ انْتَهَى. وَقَدْ أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ بِهَذَا الْقَوْلِ بَرَاءَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِمَّا نَسَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنْ قَوْلِ عَدُوِّ اللَّهِ وَظَالِمٍ وَنَحْوِهِ، وَإِعْلَامَ النَّاسِ بِمَحَاسِنِهِ، وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مَظْلُومًا وَمَرْجُومًا وَعَاشَ سَعِيدًا وَمَاتَ شَهِيدًا أَمَا كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا، (وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ) أَيْ: لَجَمَاعَةٌ (أَنْتَ شَرُّهَا) أَيْ: بِزَعْمِهِمْ (لَأُمَّةُ سَوْءٍ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَتُضَمُّ أَيْ: لِفَسَادِ فَهْمِهِمْ وَسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ. قَوْلُهُ: لَأُمَّةُ مُبْتَدَأٌ. وَأَنْتَ شَرُّهَا صِفَتُهَا أَيْ: وَلَأُمَّةٌ أَنْتَ أَكْثَرُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ شَرُّ النَّاسِ لَأُمَّةُ سَوْءٍ، فَالْحُكْمُ فَرْضِيُّ وَتَقْدِيرِيُّ، أَوَزَعْمِيٌّ وَادِّعَائِيٌّ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِيِّ. (وَفِي رِوَايَةٍ: لَأُمَّةُ خَيْرٍ) . فَهُوَ سَبِيلٌ تَهَكُّمِيٌّ وَاسْتِهْزَائِيٌّ وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ حِينَ إِخْرَاجِ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ مِنْ بَلَدِهِ بَلَدُ أَبُو يَزِيدَ شَرُّ أَهْلِهَا نِعْمَ الْبَلَدُ. وَفِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) لِلنَّوَوِيِّ: هَكَذَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَشْيَخَتِنَا، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ رُوَاةِ (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رُوَاةِ السَّمَرْقَنْدِيِّ: لَأُمَّةُ سَوْءٍ. قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ وَتَصْحِيفٌ أَيْ: سَهْوٌ وَتَحْرِيفٌ، لَكِنْ حَيْثُ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَطَابَقَتِ الدِّرَايَةَ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْطِيَةِ. (ثُمَّ نَفَذَ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَالْفَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: ذَهَبَ (وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ) أَيِ: الظَّالِمَ (مَوْقِفُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ) أَيْ: خَبَرُ وُقُوفِهِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ فِي حَقِّهِ لَدَيْهِ (فَأَرْسَلَ) أَيِ: الْحَجَّاجُ (إِلَى) أَيْ: إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ (فَأُنْزِلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْ جِذْعِهِ) أَيِ: الْمَصْلُوبِ عَلَيْهِ (فَأُلْقِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: فَطُرِحَ (فِي قُبُورِ الْيَهُودِ) أَيْ: فِي مَوْضِعِ قُبُورِهِمْ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ، أَوْ مِنْ وَادِيهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ مَدْفُونٌ فِي أَعْلَى الْمُعَلَّى ; لِأَنَّهُ حُمِلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْأَدْنَى وَدُفِنَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ. (ثُمَّ أَرْسَلَ أَيِ: الْحَجَّاجُ (إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ: يَطْلُبُهَا (فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ) أَيْ: فَامْتَنَعَتْ مِنَ الْإِتْيَانِ إِلَيْهِ، وَالْوُقُوفِ لَدَيْهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، (فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ) أَيْ: قَائِدًا عَلَى لِسَانِهِ (لَتَأْتِيَنِّي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى صِيغَةِ الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ: (أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ) ، أَيْ: لَأُرْسِلَنَّ إِلَى إِتْيَانِكِ إِلَيَّ (مَنْ يَسْحَبُكِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ: يَجُرُّكِ (بِقُرُونِكِ) أَيْ: بِضَفَائِرِ شَعْرِكِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو نَوْفَلٍ (فَأَبَتْ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيكَ) :. بِمَدِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: لَا أَجِيئُكَ (حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي. قَالَ) ، أَيْ: أَبُو نَوْفَلٍ (فَقَالَ) أَيِ: الْحَجَّاجُ (أَرُونِي سِبْتَيَّ) : بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ.

وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: نَعْلَيَّ وَكَذَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: هِيَ النَّعْلُ الَّتِي لَا شَعَرَ عَلَيْهَا. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ سِبْتِيَّتَيَّ بِكَسْرٍ فَسُكُونِ فَكَسْرِ فَوْقِيَّةٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةِ فَفَتَحِ فَوْقِيَّةٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ، فَفِي النِّهَايَةِ: السِّبْتُ بِالْكَسْرِ الْجُلُودُ الْمَدْبُوغَةُ بِالْقَرْظِ، وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ وَرَقُ السِّلْمِ يُتَّخَذُ مِنْهَا النِّعَالُ أَيِ: السِّبْتِيَّةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ شَعَرَهَا قَدْ سُبِتَ عَنْهَا أَيْ: حُلِقَ وَأُزِيلَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا انْسَبَتَتْ بِالدِّبَاغِ أَيْ: لَانَتْ، وَيُقَالُ لِلنَّعْلِ الْمُتَّخَذِ مِنْهَا سِبْتٌ اتِّسَاعًا، وَمِنْهُ: يَا صَاحِبَ السِّبْتَيْنِ، وَيُرْوَى السِّبْتِيَّتَيْنِ عَلَى النَّسَبِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: مَنْسُوبٌ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: سُوقُ السَّبْتِ، وَفِي الْمَشَارِقِ قَوْلُهُ: أَرُونِي سِبْتِيَّتَيَّ، وَيَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ بِيَائَيْنِ، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُخَفَّفَةٍ تَثْنِيَةُ سِبْتٍ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى ائْتُونِي بِهِمَا أَوْ قَدِّمُوهُمَا لِي (فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ) أَيْ: فَلَبَسَهُمَا (ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ) : بِالْوَاوِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ يُسْرِعُ، وَقِيلَ: يَتَبَخْتَرُ (حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى أَسْمَاءَ (فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي) : بِكَسْرِ التَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِإِشْبَاعِ كَسْرَتِهَا يَاءٌ أَيْ: كَيْفَ وَجَدْتِنِي (صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ) ؟ أَرَادَ بِهِ ابْنَهَا عَلَى زَعْمِهِ الْفَاسِدِ، وَاعْتِقَادِهِ الْكَاسِدِ (قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ) . وَالْإِسْنَادُ سَبَبِيٌّ فِيهِمَا (ثُمَّ قَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ) أَيْ: فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ (يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ) : بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ مَا تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ وَسَطَهَا عِنْدَ مُعَانَاةِ الْأَشْغَالِ، لِتَرْفَعَ بِهِ ثَوْبَهَا، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَطَعَتْ نِطَاقَهَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ مُهَاجَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَدَّتْ بِأَحَدِهِمَا قِرْبَتَهُ، وَبِالْآخَرِ سُفْرَتَهُ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، وَقِيلَ: شَدَّتْ بِأَحَدِهِمَا سُفْرَتَهُ، وَبِالْآخَرِ وَسَطَهَا لِلشُّغْلِ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ مِنْ خُبْثِهِ حَمَلَ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهَا ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ عَلَى الذَّمِّ، وَأَنَّهَا خَدَّامَةٌ وَخَرَّاجَةٌ وَلَاجَّةٌ تَشُدُّ نِطَاقَهَا لِلْخِدْمَةِ، فَكَأَنَّهَا سَلَّمَتْ أَنَّهَا ذَاتُ نِطَاقَيْنِ، وَلَكِنْ نِطَاقٌ لَيْسَ هَذَا شَأْنُهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهَا: (أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا، فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الدَّوَابِّ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَرْفَعَ أَيْ: أَرْبُطُ بِهِ سُفْرَةَ طَعَامِهِمَا، وَأُعَلِّقُهَا مَرْفُوعَةً خَشْيَةً مِنَ الدَّوَابِّ كَالْفَأْرَةِ وَالذَّرَّةِ وَنَحْوِهِمَا. (وَأَمَّا الْآخَرُ، فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ) . إِمَّا لِخِدْمَتِهَا الْمُتَعَارَفَةِ فِي بَيْتِهَا الْمَمْدُوحَةِ فِي حَقِّهَا، وَإِمَّا لِرَبْطِهَا فِي وَسَطِهَا إِبْقَاءً لِحَالِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَصِيرَ بَطُونِيَّةً، كَمَا هُوَ الْآنَ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنَ الْحِزَامِ، الْمَصْنُوعِ مِنَ الْجِلْدِ لِلْفُقَرَاءِ، وَأَلْحَقُوا بِهِ الْمَصْنُوعَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلْأَغْنِيَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] كَأَنَّهُ قِيلَ: نَعَمْ هُوَ أُذُنٌ كَمَا قُلْتُمْ إِلَّا أَنَّهُ أُذُنُ خَيْرٍ لَا أُذُنُ شَرٍّ، فَسَلَّمَ لَهُمْ قَوْلَهُمْ فِيهِ: إِلَّا أَنَّهُ فَسَّرَ. بِمَا هُوَ مَدْحٌ وَإِنْ كَانُوا قَصَدُوا بِذَلِكَ الْمَذَمَّةَ. (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَنَا أَنَّ) : بِالْفَتْحِ وَجُوِّزَ الْكَسْرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَدِّثِ ( «فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا» ) ، أَيْ: مُفْسِدًا (فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ) . تَعْنِي الْمُخْتَارَ (وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَتُفْتَحُ أَيْ: فَلَا أَظُنُّكَ (إِلَّا إِيَّاهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْمُبِيرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: لَا إِخَالُهُ إِلَّا إِيَّاكَ فَقَدَّمَ ثَانِي مَفْعُولَيْهِ اهْتِمَامًا، وَأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحُكْمِ هُوَ لَا أَنَّ الْمُبِيرَ مَنْ هُوَ فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100] قَدَّمَ شُرَكَاءَ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْجِنُّ، وَقَدَّمَ أَيْضًا لِلَّهِ عَلَيْهِمَا اهْتِمَامًا وَمَزِيدًا لِلْإِنْكَارِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي سَلَامِ ابْنِ عُمَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَصْلُوبٌ اسْتِحْبَابُ السَّلَامِ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَكْرِيرِهِ، وَفِيهِ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَوْتَى بِجَمِيلِ صِفَاتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِابْنِ عُمَرَ لِقَوْلِهِ الْحَقَّ فِي الْمَلَأِ وَعَدَمِ اكْتِرَاثِهِ بِالْحَجَّاجِ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَقَامَهُ وَثَنَاءَهُ عَلَيْهِ يَبْلُغُهُ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ، وَيَشْهَدَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَا يَعْلَمُهُ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَبُطْلَانِ مَا أَشَاعَ عَنْهُ الْحَجَّاجُ مِنْ قَوْلِهِ: عَدُوُّ اللَّهِ وَظَالِمٌ وَنَحْوُهُ، فَأَرَادَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَرَاءَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الَّذِي نَسَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ، وَإِعْلَامَ النَّاسِ بِمَحَاسِنِهِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مَظْلُومًا انْتَهَى. وَلَا أَظُنُّ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا فِي مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ إِلَّا عِنْدَ الْخَوَارِجِ (قَالَ) أَيْ: أَبُو نَوْفَلٍ (فَقَامَ عَنْهَا) أَيِ: الْحَجَّاجُ (فَلَمْ يُرَاجِعْهَا) أَيْ: فَلَمْ يَرُدَّهَا فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ إِنَّهَا مَاتَتْ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِهَا بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَلَهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَلَمْ يَقَعْ لَهَا سِنٌّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6004 - وَعَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا مَا تَرَى، وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ دَمَ أَخِي الْمُسْلِمِ. قَالَا: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6004 - (وَعَنْ نَافِعٍ) أَيْ: مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَيْ: قَبْلَ قَتْلِهِ (فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا مَا تَرَى) أَيْ: مِنْ الِاخْتِلَافِ (وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ) أَيْ: وَقَدْ كَانَ خَلِيفَةً (وَصَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : يَعْنِي وَمِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا، فَلَا نَشُكُّ أَنَّكَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ امْرَأَتِهِ الْحَجَّاجُ (فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ) أَيْ: عَلَيْهِ لِظُهُورِ كَمَالِ ظُلْمِهِ (فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ دَمَ أَخِي الْمُسْلِمِ قَالَا) ، أَيِ: الرَّجُلَانِ (أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] أَيْ: لَا تُوجَدَ وَتَمَامُهُ {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] (فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ) أَيْ: شِرْكٌ (وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ) أَيْ: وَصَارَ دِينُ الْإِسْلَامِ خَالِصًا لِلَّهِ (وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ) أَيْ: تَقَعَ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ) . أَيْ: لِتَزَلْزُلِ دِينِهِ وَعَدَمِ ثَبَاتِ أَمْرِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّائِلَ يَرَى قِتَالَ مَنْ خَالَفَ الْإِمَامَ الَّذِي يَعْتَقِدُ هُوَ طَاعَتَهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَى تَرْكَ الْقِتَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُلْكِ فِي حَقِّهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ مِثْلِ هَذَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6005 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ، عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6005 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: جَاءَ الطُّفَيْلُ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَيُقَالُ لَهُ ذُو النُّورِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: اجْعَلْ لِي آيَةً. فَقَالَ: (اللَّهُمَّ نَوِّرْ لَهُ) فَسَطَعَ لَهُ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخَافُ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ مِثْلُهُ، فَتَحَوَّلَ إِلَى طَرَفِ سَوْطِهِ، فَكَانَ يُضِيءُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ أَبُوهُ وَلَمْ تُسْلِمْ أُمُّهُ، وَأَجَابَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَحْدَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَدِمَ بِخَيْبَرَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَأَنَّهُ قَدْمَتُهُ الثَّانِيَةُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَ وَصَدَّقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَادِ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا عِنْدَهُ إِلَى أَنْ قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا، وَقِيلَ: قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، رَوَى عَنْهُ جَابِرٌ وَأَبُو عُدَادَهْ فِي الْحِجَازِ (فَقَالَ) أَيِ: الطُّفَيْلُ (إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ) أَيِ: اسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ (عَصَتْ) : بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ (وَأَبَتْ) أَيِ: امْتَنَعَتْ عَنِ الطَّاعَةِ (فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ) ، أَيْ: بِوُقُوعِ الْعَذَابِ (فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فَقَالَ:) ، أَيْ: لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَهُدًى لِلنَّاسِ (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسَا وَائْتِ بِهِمْ) أَيْ: إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرِينَ، أَوْ قَرِّبْهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِهِمْ إِلَى قَبُولِ الدِّينِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6006 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ: لِأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَكَلَامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ» ) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6006 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ) أَيْ: خِصَالٍ أَوْ أَسْبَابٍ (لِأَنِّي عَرَبِيٌّ) : وَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إِلَى الْحَبِيبِ مَحْبُوبٌ (وَالْقُرْآنَ) أَيْ: بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ (عَرَبِيٌّ) أَيْ: لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَبِلُغَتِهِمْ تُعْرَفُ بَلَاغَتُهُ وَفَصَاحَتُهُ، وَلِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الشَّرِيعَةَ وَنَقَلُوهَا إِلَيْنَا، وَضَبَطُوا أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ، وَنَقَلُوا إِلَيْنَا مُعْجِزَاتِهِ، وَلِأَنَّهُمْ مَادَّةُ الْإِسْلَامِ وَبِهِمْ فُتِحَتِ الْبِلَادُ وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي أَقْطَارِ الْعَالَمِ، وَلِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلِأَنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ بِلِسَانِهِمْ، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ عَرَبِيٌّ. (وَكَلَامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ) : وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ النَّارِ غَيْرُ عَرَبِيٍّ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ.

[باب مناقب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين]

[بَابُ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ]

[2] بَابُ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6007 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [2] بَابُ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَنْقَبَةُ بِمَعْنَى الْفَضِيلَةِ وَهِيَ الْخَصْلَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا شَرَفٌ وَعُلُوٌّ إِمَّا عِنْدَ اللَّهِ وَإِمَّا عِنْدَ الْخَلْقِ، وَالثَّانِي لَا عِبْرَةَ بِهِ إِلَّا أَنْ أُوصِلَ إِلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا قِيلَ: فُلَانٌ فَاضِلٌ ; فَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالنَّقْلِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّحَابِيُّ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الْأُصُولِ كُلُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ يُعْرَفُ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا بِالتَّوَاتُرِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَوْ بِالِاسْتِفَاضَةِ، أَوْ يَقُولُ صَحَابِيٌّ غَيْرُهُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، أَوْ يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ إِذَا كَانَ عَدْلًا، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ مُطْلَقًا لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: أَصْحَابُنَا يُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ تَمَامُ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ، ثُمَّ أُحُدٌ، ثُمَّ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَمَنْ لَهُ مَزِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَهُمْ مَنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، وَقِيلَ: أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي عَائِشَةَ وَخَدِيجَةَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ وَفِي عَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ؟ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ ; فَهُوَ مِنَ الْعُدُولِ الْفُضَلَاءِ، وَالصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ، وَالْحُرُوبُ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ كَانَتْ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شُبْهَةٌ اعْتَقَدَتْ تَصْوِيبَ أَنْفُسِهَا بِسَبَبِهَا، وَكُلُّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ فِي حُرُوبِهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الْعَدَالَةِ ; لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ، كَمَا اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ بَعْدَهُمْ فِي مَسَائِلَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَقْصُ أَحَدٍ مِنْهُمْ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6007 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» ) : الْخِطَابُ بِذَلِكَ لِلصَّحَابَةِ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ، فَسَبَّهُ خَالِدٌ، فَالْمُرَادُ بِأَصْحَابِي أَصْحَابٌ مَخْصُوصُونَ، وَهُمُ السَّابِقُونَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: نَزَّلَ السَّابَّ مِنْهُمْ لِتَعَاطِيهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ السَّبِّ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِمْ، فَخَاطَبَهُ خِطَابَ غَيْرِ الصَّحَابَةِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ الْأَعَمِّ مِنَ الصَّحَابَةِ حَيْثُ عُلِمَ بِنُورِ النُّبُوَّةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَقَعُ فِي أَهْلِ الْبِدْعَةِ، فَنَهَاهُمْ بِهَذِهِ السُّنَّةِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: اعْلَمْ أَنَّ سَبَّ الصَّحَابَةِ حَرَامٌ مِنْ أَكْبَرِ الْفَوَاحِشِ، وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُعَزَّرُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يُقْتَلُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: سَبُّ أَحَدِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ انْتَهَى. وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِأَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ، فَفِي (كِتَابِ السِّيَرِ) مِنْ كِتَابِ (الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ) لِلزَّيْنِ بْنِ نُجَيْمٍ: كُلُّ كَافِرٍ تَابَ، فَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا جَمَاعَةُ الْكَافِرِ بِسَبِّ النَّبِيِّ وَسَبِّ الشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوْ بِالسِّحْرِ، أَوْ بِالزَّنْدَقَةِ، وَلَوِ امْرَأَةٌ إِذَا أُخِذَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ، وَقَالَ: سَبُّ الشَّيْخَيْنِ وَلَعْنُهُمَا كُفْرٌ، وَإِنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَيْهِمَا فَمُبْتَدِعٌ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَفِي مَنَاقِبِ الْكُرْدِيِّ: يُكَفَّرُ إِذَا أَنْكَرَ خِلَافَتَهُمَا، أَوْ بَعْضَهُمَا لِمَحَبَّةِ النَّبِيِّ لَهُمَا، وَإِذَا أَحَبَّ عَلِيًّا أَكْثَرُ مِنْهُمَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ انْتَهَى. وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِمَا لِمَا وَرَدَ فِي فَضِيلَتِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِمَا خَاصَّةً عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ لَهُمَا، أَوْ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَحَقِّيَّتِهِمَا خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ فِي حَقِّ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَأَمْثَالِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا) : زَادَ الْبَرْقَانِيُّ كُلَّ يَوْمٍ (مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ) . أَيْ: وَلَا بَلَغَ نِصْفَهُ أَيْ: مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ لِحُصُولِ بَرَكَتِهِ وَمُصَادَمَتِهِ لِإِعْلَاءِ الدِّينِ وَكَلِمَتِهِ مَعَ مَا كَانُوا مِنَ الْقِلَّةِ وَكَثْرَةِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَلِذَا وَرَدَ: سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِيمَا بَعْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ طَاعَاتِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَغَزَوَاتِهِمْ وَخِدْمَاتِهِمْ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُدَّ بِضَمِّ الْمِيمِ رُبْعُ الصَّاعِ، وَالنَّصِيفُ بِمَعْنَى النِّصْفِ كَالشَّعِيرِ بِمَعْنَى الْعُشْرِ، وَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُدِّ، وَقِيلَ: النَّصِيفُ مِكْيَالٌ يَسَعُ نِصْفَ مُدٍّ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَحَدِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: النَّصِيفُ النِّصْفُ أَيْ نِصْفُ مُدِّهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِكْيَالٌ دُونَ الْمُدِّ، وَالْمَعْنَى لَا يَنَالُ أَحَدُكُمْ بِإِنْفَاقِ مِثْلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِنَ الْأَجْرِ وَالْفَضْلِ مَا يَنَالُ أَحَدُهُمْ بِإِنْفَاقِ مُدِّ طَعَامٍ أَوْ نِصْفٍ، لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ مَزِيدِ الْإِخْلَاصِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ، وَكَمَالِ النَّفْسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَضِيلَتَهُمْ بِحَسَبِ فَضِيلَةِ إِنْفَاقِهِمْ وَعِظَمِ مَوْقِعِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ أَيْ: قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ يَعْنِي: قَبْلَ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَقُوَّةِ أَهْلِهِ، وَدُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَقِلَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الْقِتَالِ وَالنَّفَقَةِ فِيهِ، وَهَذَا فِي.

الْإِنْفَاقِ، فَكَيْفَ بِمُجَاهَدَتِهِمْ وَبَذْلِ أَرْوَاحِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ سَبَبِ الْحَدِيثِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ تَخْصِيصُ الصَّحَابَةِ الْكِبَارِ، لَكِنْ يُعْلَمُ نَهْيُ سَبِّ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ لِلصَّحَابِيِّ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ عَنْ سَبِّ أَحَدٍ مِمَّنْ سَبَقَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْفَضْلِ، إِذِ الْوَاجِبُ تَعْظِيمُهُمْ وَتَكْرِيمُهُمْ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَكَذَا مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَأَخْرَجَ عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ، وَخَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ( «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، فَلَمَنَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ» ) . وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا ظَهَرَتِ الْفِتَنُ - أَوْ قَالَ الْبِدَعُ - وَسُبَّ أَصْحَابِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» ) . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ( «مَا ظَهَرَ أَهْلُ بِدْعَةٍ إِلَّا أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِمْ حُجَّةً عَلَى لِسَانِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ» ) . وَأَخْرَجَ الْمَحَامِلِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ مَرْفُوعًا ( «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا وَجَعَلَ لِي فِيهِمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا، فَمِنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» ) . وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ عَنْ أَنَسٍ: ( «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا وَسَيَأْتِي قَوْمٌ يَسُبُّونَهُمْ وَيَسْتَنْقِصُونَهُمْ، فَلَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُشَارِبُوهُمْ وَلَا تَوَاكِلُوهُمْ وَلَا تُنَاكِحُوهُمْ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ ( «دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ( «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» ) .

6008 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَفَعَ - يَعْنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ. فَقَالَ: ( «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومَ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ؟ وَأَنَا أَمَنَةُ أَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَنَا أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6008 - (وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ) : وَهُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ (قَالَ) أَيْ: أَبُوهُ (رَفَعَ يَعْنِي النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،) : هَذَا قَوْلُ أَبِي بُرْدَةَ وَضَمِيرُ يَعْنِي إِلَى أَبِيهِ أَيْ: يُرِيدُ أَبُو مُوسَى بِالضَّمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: رَفَعَ النَّبِيُّ وَتَرَكَ اسْمَهُ لِظُهُورِهِ، وَالْمَعْنَى رَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ» ) أَيِ: انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ بِالنُّزُولِ الْمَلَكِيِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ بَيَانٌ لِكَثِيرًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً، وَهُوَ خَبَرٌ كَانَ أَيْ: كَانَ كَثِيرًا رَفْعُ رَأْسِهِ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ. (فَقَالَ: النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ وَالْمِيمِ أَيْ: أَمْنٌ، وَقِيلَ: أَمَانٌ وَمَرْحَمَةٌ. وَقِيلَ: حَفَظَةٌ جَمْعُ أَمِينٍ وَهُوَ الْحَافِظُ ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ أَمِنْتُهُ وَأَمَّنْتُهُ غَيْرِي، وَهُوَ فِي أَمْنٍ مِنْهُ وَأَمَنَةٍ وَفُلَانٌ أَمَنَةٌ وَأَمْنَةٌ بِسُكُونِ الْمِيمِ كَأَنَّهَا الْمَرَّةُ مِنَ الْأَمْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ أَمْنٍ كِبَارٌ وَبَرَرَةٌ، (إِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ) أَيِ: الشَّامِلَةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ (أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ) أَيْ: مَا وُعِدَ لَهُ مِنْ الِانْشِقَاقِ وَالطَّيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِذَهَابِ النُّجُومِ تَكْوِيرُهَا وَانْكِدَارُهَا وَانْعِدَامُهَا عَلَى مَا فِي (النِّهَايَةِ) وَغَيْرِهِ. (وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا نُسِبَ أَمَنَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُبَالَغَةً نَحْوَ: رَجُلٌ مُعْجِزَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدْلٌ أَوْ جَمْعًا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] أَيْ: رَاصِدِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل: 120] فَجُعِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْنًا لِأَصْحَابِهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَاعَةِ، (فَإِذَا ذَهَبْتُ أَنَا أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ) . أَيْ: مِنَ الْفِتَنِ وَالْمُخَالَفَاتِ وَالْمِحَنِ (وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي) أَيْ: جَمِيعُهُمْ (أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ) أَيْ: مِنْ ذَهَابِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَمَجِيءِ أَهْلِ الشَّرِّ وَقِيَامِ السَّاعَةِ عَلَيْهِمْ. قَالَ فِي (النِّهَايَةِ) : وَالْإِشَارَةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى مَجِيءِ الشَّرِّ عِنْدَ ذَهَابِ أَهْلِ الْخَيْرِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَانَ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَجَالَتِ الْآرَاءُ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ كَانَ أَصْحَابُهُ يُسْنِدُونَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ دَلَالَةِ حَالٍ، فَلَمَّا فُقِدُوا قَلَّتِ الْأَنْوَارُ وَقَوِيَتِ الظُّلَمُ، وَكَذَلِكَ حَالُ السَّمَاءِ عِنْدَ ذَهَابِ النُّجُومِ. قَلَّتْ: وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهُمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) .

6009 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُونَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، يُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: ( «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُبْعَثُ مِنْهُمُ الْبَعْثُ فَيَقُولُونَ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ فِيكُمْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيُوجَدُ الرَّجُلُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِهِ، ثُمَّ يُبْعَثُ الْبَعْثُ الثَّانِي فَيَقُولُونَ: هَلْ فِيهِمْ مَنْ رَأَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِهِ ثُمَّ يُبْعَثُ الْبَعْثُ الثَّالِثُ فَيُقَالُ: انْظُرُوا، هَلْ تَرَوْنَ فِيهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; ثُمَّ يَكُونُ الْبَعْثُ الرَّابِعُ فَيُقَالُ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فِيهِمْ أَحَدًا رَأَى مَنْ رَأَى أَحَدًا رَأَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُوجَدُ الرَّجُلُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِهِ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6009 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو) : بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ أَيْ: يَقْتُلُ (فِئَامٌ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ فَهَمْزٍ يَجُوزُ إِبْدَالُهَا بِالْيَاءِ، أَيْ: جَمَاعَةٌ (مِنَ النَّاسِ) : فِي (الْقَامُوسِ) لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْجَمْعُ فُؤُمٌ كَكُتُبٍ، وَفِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) هُوَ بِفَاءٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ أَيْ: جَمَاعَةٌ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ بِالْيَاءِ مُخَفَّفَةً بِلَا هَمْزَةٍ، وَلُغَةٌ أُخْرَى بِفَتْحِ الْفَاءِ عَنِ الْخَلِيلِ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. (فَيَقُولُونَ) أَيِ الَّذِينَ يَغْزُونَ الْفِئَامَ لَهُمْ وَفِي نُسْخَةٍ فَيُقَالُ ( «هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ؟) بِمَنِ الْمَوْصُولَةِ صِلَتُهُ صَاحَبَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَنَصْبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِمَنِ الزَّائِدَةِ عَلَى أَنَّ صَاحَبَ اسْمُ فَاعِلٍ مُضَافٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَيَقُولُونَ: (نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ) ، عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ ( «ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ» ) : كَذَا هُنَا بِالِاتِّفَاقِ ( «هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) ؟ بِمَنِ الْمَوْصُولَةِ بِلَا خِلَافٍ ( «فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) ؟ بِالْمَوْصُولَتَيْنِ (فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ) : فِي الْحَدِيثِ فَضْلٌ لِأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذِهِ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَبُو سَعِيدٍ مَرْفُوعًا (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُبْعَثُ) ، أَيْ: فِيهِ (مِنْهُمُ الْبَعْثُ) أَيِ: الْمَبْعُوثُ وَهُوَ الْجَيْشُ (فَيَقُولُونَ) أَيِ: الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ ( «انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ فِيكُمْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيُوجَدُ الرَّجُلُ» ) أَيِ: الْوَاحِدُ فِيهِمْ (فَيُفْتَحُ لَهُمْ) أَيْ: بِبَرَكَتِهِ (ثُمَّ يُبْعَثُ الثَّانِي) أَيْ: مِنَ النَّاسِ إِلَى جَمْعٍ آخَرَ (فَيَقُولُونَ: انْظُرُوا هَلْ فِيهِمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: هَلْ فِيهِمْ (مَنْ رَأَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ، أَيْ: أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ (فَيُوجَدُ) أَيْ: مَنْ رَأَى الصَّحَابَةَ وَهُوَ يُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ( «فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يُبْعَثُ الْبَعْثُ الثَّالِثُ فَيُقَالُ انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فِيهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى» ) أَيْ: بِالْوَاسِطَةِ (أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَكُونُ بَعْثُ الرَّابِعِ: بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ مَصْدَرٌ وَالْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بَعْثُ الْبَعْثِ الرَّابِعِ، وَفِي نُسْخَةٍ الْبَعْثُ الرَّابِعُ عَلَى الْوَصْفِ، فَالْمُرَادُ بِالْبَعْثِ الْجَيْشُ الْمَبْعُوثُ ( «انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فِيهِمْ أَحَدًا رَأَى مَنْ رَأَى أَحَدًا رَأَى» ) أَيْ: ذَلِكَ الْأَحَدُ (أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ؟ فَيَكُونُ وَاسِطَتَيْنِ (فَيُوجَدُ الرَّجُلُ فَيُفْتَحُ لَهُ) ، أَيْ: لِأَجْلِ ذَلِكَ التَّابِعِ لِأَتْبَاعٍ لِلتَّابِعِينَ وَفِي نُسْخَةٍ: لَهُمْ أَيْ لِأَجْلِهِمْ بِبَرَكَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْخَيْرِ نَادِرًا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ اقْتَصَرَ عَلَى الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ لِكَثْرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ فِيهِمْ، وَقِلَّةِ السَّفَهِ وَالْفَسَادِ مِنْهُمْ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ( «خَيْرُ النَّاسِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنَيِ الَّذِينَ أَنَا فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَالْآخِرُونَ أَرْذَالٌ» ) . وَرَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ( «خَيْرُ أُمَّتِي أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا أَوَّلُهُمْ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ وَآخِرُهُمْ فِيهِمْ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ وَبَيْنَ ذَلِكَ هَمَجٌ أَعْوَجُ وَلَيْسُوا مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُمْ» ) .

6010 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَهُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ، وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ ( «وَيَحْلِفُونَ وَلَا يُسْتَحْلَفُونَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6010 - (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي» ) ، أَيِ الَّذِينَ أَدْرَكُونِي وَآمَنُوا بِي وَهُمْ أَصْحَابِي، ( «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ) ، أَيْ يَقْرُبُونَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ أَوْ يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِيقَانِ وَهُمُ التَّابِعُونَ (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) ، وَهُمْ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَتَبَعَهُمْ هَؤُلَاءِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الْمَرْتَبَةُ فِي الْفَضِيلَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْقَرْنُ أَهْلُ كُلِّ زَمَانٍ وَهُوَ مِقْدَارُ التَّوَسُّطِ فِي أَعْمَارِ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ الِاقْتِرَانِ، فَكَأَنَّهُ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَقْتَرِنُ فِيهِ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي أَعْمَارِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. وَقِيلَ: الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقِيلَ: مِائَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ مُطْلَقٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَرَنَ يَقْرِنُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِمُدَّةٍ فَقَرْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمُ الصَّحَابَةُ، وَكَانَتْ مُدَّتُهُمْ مِنَ الْمَبْعَثِ إِلَى آخِرِ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَرْنُ التَّابِعِينَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ إِلَى نَحْوِ سَبْعِينَ، وَقَرْنُ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ مِنْ ثَمَّ إِلَى نَحْوِ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ ظُهُورًا فَاشِيًا، وَأَطْلَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ أَلْسِنَتَهَا، وَرَفَعَتِ الْفَلَاسِفَةُ رُءُوسَهَا، وَامْتُحِنَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَتَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ تَغَيُّرًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ فِي نَقْصٍ إِلَى الْآنَ وَظَهَرَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَثُمَّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ الْأَفْضَلَ، فَالْأَفْضَلُ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ فِي النُّزُولِ وَالْخَيْرِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، أُطْلِقَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَدٍّ يَرْتَفِعُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، فَيَخْتَصُّ بِالْمَوْصُوفِ، فَلَا يَدْخُلُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (ثُمَّ إِنَّ بَعْدَهُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ) : فَهُوَ حِينَئِذٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] وَقَوْلُكُ: الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ. قَالَ شَارِحٌ، فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ وَالصَّوَابُ، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَهُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ. (وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ الشَّهَادَةُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً كَبَقِيَّةِ مَا يَأْتِي، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُمُ الشَّهَادَةُ فَهُوَ ذَمٌّ عَلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا مُخَالِفٌ فِي الظَّاهِرِ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ: خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَ قَالُوا: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الذَّمَّ فِي ذَلِكَ لِمَنْ بَادَرَ بِالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهَا لَهُ صَاحِبُهُ، وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ لِمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِأَحَدٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا، فَيُخْبِرُهُ بِهَا لِيَسْتَشْهِدَهُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَيُلْحَقُ بِهِ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فِي حُدُودٍ أَيِ الْمَصْلَحَةِ فِي السَّتْرِ، هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمَدْحُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَالذَّمُّ فِي حُقُوقِ النَّاسِ (وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ) ، جُمِعَ بَيْنَهُمْ تَأْكِيدًا أَوْ يَخُونُونَ النَّاسَ عِنْدَ ائْتِمَانِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَلَا يُجْعَلُونَ أُمَنَاءَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِظُهُورِ خِيَانَتِهِمْ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَعْنَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ أَنَّهُمْ يَخُونُونَ خِيَانَةً ظَاهِرَةً بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهَا ثِقَةٌ، بِخِلَافِ مَنْ خَانَ حَقِيرًا مَرَّةً، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُؤْتَمَنًا فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ (وَيَنْذُرُونَ) ، بِضَمِّ الذَّالِ وَيُكْسَرُ عَلَى مَا فِي (الْقَامُوسِ) ، أَيْ: يُوجِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَشْيَاءَ، (وَلَا يُوفُونَ) ، مِنَ الْوَفَاءِ أَيْ: وَلَا يَقُومُونَ بِالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا، وَلَا يُبَالُونَ بِتَرْكِهَا بِخِلَافِ الْأَبْرَارِ عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي حَقِّهِمْ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] أَيْ بِالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْعُهُودِ (وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) . بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مَصْدَرُ سَمِنَ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ سَمَانَتَهُ بِالْفَتْحِ وَسِمَنًا كَعِنَبٍ فَهُوَ سَامِنٌ وَسَمِينٌ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فِي الْحَدِيثِ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَتَسَمَّنُونَ أَيْ يَتَكَبَّرُونَ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، وَيَدَّعُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ، وَقِيلَ: أَرَادَ جَمْعَهُمُ الْأَمْوَالَ، وَقِيلَ: يُحِبُّونَ التَّوَسُّعَ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَهِيَ أَسْبَابُ السِّمَنِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَنَّى بِهِ عَنِ الْغَفْلَةِ وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى ذَوِي السِّمَانَةِ أَنْ لَا يَهْتَمُّوا بِارْتِيَاضِ النُّفُوسِ، بَلْ مُعْظَمُ هِمَّتِهِمْ تَنَاوُلُ الْحُظُوظِ وَالتَّفَرُّغُ لِلدَّعَةِ وَالنَّوْمِ، وَفِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) قَالُوا: وَالْمَذْمُومُ مِنَ السِّمَنِ مَا يُسْتَكْسَبُ، وَأَمَّا مَا هُوَ خُلُقُهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا انْتَهَى. وَبِهِ يَظْهَرُ مَعْنَى مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ. (وَفِي رِوَايَةٍ: (وَيَحْلِفُونَ وَلَا يُسْتَحْلَفُونَ) . أَيْ: يَحْلِفُونَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَاعِثَةٍ عَلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6011 - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يُحِبُّونَ السِّمَانَةَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6011 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (ثُمَّ يَخْلُفُ) : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ ثُمَّ يَعْقُبُهُمْ وَيَظْهَرُ وَرَاءَهُمْ ( «قَوْمٌ يُحِبُّونَ السَّمَانَةَ» ) . بِضَمِّ السِّينِ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينَهُ شَهَادَتَهُ» ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِلَفْظِ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ يَتَسَمَّنُونَ وَيُحِبُّونَ السَّمِنَ يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 6012 - عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَكْرِمُوا أَصْحَابِي، فَإِنَّهُمْ خِيَارُكُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ الْكَذِبُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَحْلِفُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، أَلَا مَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَذِّ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، وَلَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمْ، وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ الْخَثْعَمِيَّ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ لَهُ الشَّيْخَانِ وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6012 - (عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَكْرِمُوا أَصْحَابِي) أَيِ: السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (فَإِنَّهُمْ خِيَارُكُمْ) ، وَالْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ الْكَذِبُ) أَيْ: يَفْشُو كَمَا فِي رِوَايَةٍ (حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ) : بِكَسْرِ إِنَّ وَيُفْتَحُ (لَيَحْلِفُ) : بِلَامِ التَّأْكِيدِ (وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدُ) : عَطْفٌ عَلَى يَحْلِفُ أَوْ لَيَحْلِفُ (وَلَا يُسْتَشْهَدُ، أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (مَنْ سَرَّهُ) أَيْ: مَنْ أَحَبَّ (بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَتَيْنِ أَيْ: وَسَطُهَا وَخِيَارُهَا (فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ) ، أَيِ: السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ حُبُّهُمْ وَإِكْرَامُهُمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَذِّ) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ مُقَارِنٍ لِلْفَرْدِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِرَأْيِهِ (وَهُوَ) أَيِ: الشَّيْطَانُ (مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ) ، أَيْ بَعِيدٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَفْعَلُ هُنَا لِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ كَانَ مَعَ الثَّلَاثَةِ لَكَانَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ إِذِ الْبُعْدُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالِاثْنَيْنِ دُونَ الِاثْنَيْنِ، وَالْفَذِّ عَلَى مَا لَا يَخْفَى. (وَلَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ) : نَهْيُ تَأْكِيدٍ وَتَشْدِيدٍ (بِامْرَأَةٍ) أَيْ: أَجْنَبِيَّةٍ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمْ) ، أَيْ: فَلَابُدَّ أَنْ يُغْوِيَهُمَا (وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ) أَيْ: إِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ (وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ) أَيْ: أَحْزَنَتْهُ إِذَا صَدَرَتْ عَنْهُ (فَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، أَيْ كَامِلٌ ; لِأَنَّ الْمُنَافِقَ حَيْثُ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34] ؟ (رَوَاهُ) . هُنَا بَيَاضٌ فِي أَصْلِ الْمُصَنَّفِ، وَأُلْحِقَ بِهِ: النَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْحَسَنِ الْخَثْعَمِيَّ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ لَهُ الشَّيْخَانِ وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ، فَالْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ إِمَّا صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ) وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: ( «إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ» ) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: ( «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» ) .

6013 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( «لَا تَمَسُّ النَّارُ مُسْلِمًا رَآنِي أَوْ رَأَى مَنْ رَآنِي» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6013 - (وَعَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا تَمَسُّ النَّارُ مُسْلِمًا رَآنِي أَوْ رَأَى مَنْ رَآنِي» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا الضِّيَاءُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ وَاثِلَةَ: ( «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي، وَلِمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي، وَلِمَنْ رَأَى مَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ: ( «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى لِمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي، وَلِمَنْ رَأَى مَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» ) . وَأَنْشَدَ: وَاسْتَنْشَقَ الْأَرْيَاحَ مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمُ ... لَعَلِّي أَرَاكُمْ أَوْ أَرَى مَنْ يَرَاكُمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَعِدَتْ أَعْيُنٌ رَأَتْكَ وَقَرَّتْ ... وَالْعُيُونُ الَّتِي رَأَتْ مَنْ رَآكَا. وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَذَكَّرَ الْمَحْرُومِينَ مِنْ ذَلِكَ الْجَنَابِ وَعَنْ رُؤْيَةِ الْأَصْحَابِ وَعَنْ خِدْمَةِ الْأَتْبَاعِ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ قَالَ تَسْلِيَةً: ( «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ، وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي» ) . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ أَيْضًا: ( «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَالَ أَيْضًا: ( «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي مَرَّةً، وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي سَبْعَ مَرَّاتٍ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِي الْمَفْضُولِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَضَائِلِ كَمَا هُنَا مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي قَارَبَ مَنْ رَآهَا أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُ بِالْعِيَانِ.

6014 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا مِنْ بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6014 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللَّهَ اللَّهَ) : بِالنَّصْبِ فِيهِمَا، أَيْ: أَتَّقُوا اللَّهَ ثُمَّ اتَّقُوا اللَّهَ (فِي أَصْحَابِي) ، أَيْ: فِي حَقِّهِمْ، وَالْمَعْنَى لَا تَنْقُصُوا مِنْ حَقِّهِمْ وَلَا تَسُبُّوهُمْ، أَوِ التَّقْدِيرُ أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ ثُمَّ أُنْشِدُكُمُ اللَّهَ فِي حَقِّ أَصْحَابِي وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْأَبُ الْمُشْفِقُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي حَقِّ أَوْلَادِي ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، أَوِ التَّقْدِيرُ: اتَّقُوا مُخَالَفَتَهُ اتَّقُوا عِقَابَهُ فِي عَدَاوَةِ أَصْحَابِي الْمُقَرَّبِينَ بِبَابِي الْمُلْتَجِئِينَ إِلَى جَنَابِي ( «لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا مِنْ بَعْدِي» ) ، بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ أَيْ: هَدَفًا لِكَلَامِكُمُ الْقَبِيحَ لَهُمْ فِي الْمُحَاوَرَاتِ وَرَمْيِهِمْ فِي غَيْبَتِهِمْ بِالْوَقَائِعِ وَالْمَكْرُوهَاتِ (فَمْنَ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي) أَيْ: بِسَبَبِ حُبِّي إِيَّاهُمْ (أَحَبَّهُمْ) ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بِسَبَبِ حُبِّهِ إِيَّايَ أَحَبَّهُمْ وَهُوَ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: ( «وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ» ) ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا أَحَبَّهُمْ لِأَنَّهُ يُحِبُّنِي، وَإِنَّمَا أَبْغَضَهُمْ لِأَنَّهُ يُبْغِضُنِي، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، تَعَالَى، فَحَقَّ لِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ سَبَّهُمْ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْقَتْلَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي) ، أَيْ حُكْمًا (وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ) ، وَنَظِيرُهُ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. (وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ) ، أَيْ: يُعَاقِبُهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْأُخْرَى، وَلَعَلَّهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا - وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 57 - 58] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

6015 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَثَلُ أَصْحَابِي فِي أُمَّتِي كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إِلَّا بِالْمِلْحِ» (قَالَ الْحَسَنُ: فَقَدْ ذَهَبَ مِلْحُنَا فَكَيْفَ نَصْلُحُ؟ رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6015 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَثَلُ أَصْحَابِي فِي أُمَّتِي كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ) لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إِلَّا بِالْمِلْحِ» ) اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّشْبِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ حَتَّى يُقَالَ كَثْرَةُ الْمِلْحِ تُفْسِدُ الطَّعَامَ كَمَا قِيلَ فِي حَقِّ النَّحْوِ أَنَّهُ فِي الْكَلَامِ كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الطَّعَامَ بِدُونِهِ لَيْسَ لَهُ كَمَالُ الْمَرَامِ. (قَالَ الْحَسَنُ) أَيِ الْبَصْرِيُّ (فَقَدْ ذَهَبَ مِلْحُنَا فَكَيْفَ نَصْلُحُ) ؟ أَيْ فِي حَالِنَا. قُلْتُ: نَصْلُحُ بِكَلَامِهِمْ وَرِوَايَاتِهِمْ وَمَعْرِفَةِ مَقَامَاتِهِمْ وَحَالَاتِهِمْ وَبِالِاقْتِدَاءِ بِأَخْلَاقِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دُونَ صُوَرِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ. (رَوَاهُ) . أَيِ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. أَيْ بِإِسْنَادِهِ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

6016 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنِ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي يَمُوتُ بِأَرْضٍ إِلَّا بُعِثَ قَائِدًا وَنُورًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ (لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ) فِي بَابِ (حِفْظِ اللِّسَانِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6016 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) : يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي) : مِنَ الْأُولَى زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةٌ (يَمُوتُ بِأَرْضٍ إِلَّا بُعِثَ) أَيْ: إِلَّا حُشِرَ ذَلِكَ الْأَحَدُ مِنْ أَصْحَابِي (قَائِدًا) أَيْ: لِأَهْلِ تِلْكَ الْأَرْضِ (وَنُورًا) أَيْ: هَادِيًا (لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَكَذَا رَوَاهُ الضِّيَاءُ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: (لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ) أَيْ: مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ، وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ أَيْ: مَعَ كُلِّكُمْ، فَلَوْ سَمِعْتُ شَيْئًا مِنْكُمْ رُبَّمَا تَغَيَّرَ خَاطِرِي بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ، فَالْأَوْلَى سَدُّ بَابِ الذَّرِيعَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْأَذِيَّةِ. (فِي بَابِ حِفْظِ اللِّسَانِ) . أَيْ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6017 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِي يَسُبُّونَ أَصْحَابِي فَقُولُوا: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى شَرِّكُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6017 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا رَأَيْتُمْ) أَيْ: أَبْصَرْتُمْ أَوْ عَرَفْتُمْ ( «الَّذِينَ يَسُبُّونَ أَصْحَابِي فَقُولُوا: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى شَرِّكُمْ» ) ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لَعْنَهُمْ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلرِّضَا وَالرَّحْمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُنْصِفِ الَّذِي كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ مُوَالٍ أَوْ مُنَافٍ قَالَ: لِمَنْ خُوطِبَ بِهِ قَدْ أَنْصَفَكَ صَاحِبُكَ، وَمِنْهُ بَيْتُ حَسَّانٍ فِي حَقِّ مَنْ هَجَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِعْرٌ: أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا فِدَاءُ. وَالتَّعْوِيضُ وَالتَّوْرِيَةُ أَوْصَلُ بِالْمُجَادِلِ إِلَى الْغَرَضِ، وَأَهْجَمُ بِهِ عَلَى الْغَلَبَةِ مَعَ قِلَّةِ شَغَبِ الْخَصْمِ وَقِلَّةِ سُكُوتِهِ بِالْهُوَيْنَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا الْخَطِيبُ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ شِرَارَ أُمَّتِي أَجْرَؤُهُمْ عَلَى أَصْحَابِي» ) . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: ( «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يُسَمَّوْنَ الرَّافِضَةَ يَرْفُضُونَ الْإِسْلَامَ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ ( «يَنْتَحِلُونَ حُبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَسُبُّونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ» ) . كَذَا فِي الصَّوَاعِقِ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي سَبِّ الرَّوَافِضِ بَعْضَ الصَّحَابَةِ، وَالْخَوَارِجِ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ أَنَّهُمْ لَمَّا انْقَطَعَ عَنْهُمْ أَعْمَالُهُمْ بِانْتِهَاءِ آجَالِهِمْ، أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ لَهُمُ الثَّوَابُ لِمَزِيدِ حُسْنِ الْمَآبِ، وَأَنْ يَرْجِعَ أَعْدَاؤُهُمْ إِلَى سُوءِ الْحِسَابِ وَشِدَّةِ الْعَذَابِ.

6018 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ( «سَأَلْتُ رَبِّي عَنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِي مِنْ بَعْدِي، فَأَوْحَى إِلَيَّ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ أَصْحَابَكَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَلِكُلٍّ نُورٌ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فَهُوَ عِنْدِي عَلَى هُدًى» ) قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، فَبِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ) . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6018 - (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: (سَأَلْتُ رَبِّي عَنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِي) أَيْ: عَنْ حِكْمَةِ تَخَالُفِهِمْ فِي فُرُوعِ الشَّرَائِعِ (مِنْ بَعْدِي، فَأَوْحَى) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (إِلَيَّ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ أَصْحَابَكَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ) أَيْ: فِي إِظْهَارِ الْهِدَايَةِ وَإِبْطَالِ الْغَوَايَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] (بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ) ، أَيْ: بِحَسَبِ مَرَاتِبِ أَنْوَارِهَا الْمُقَدَّرَةِ لَهَا (وَلِكُلٍّ نُورٌ) ، أَيْ: وَكَذَلِكَ لِكُلٍّ مِنَ الْأَصْحَابِ نُورٌ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ (فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ) : بَيَانُ شَيْءٍ (مِنِ اخْتِلَافِهِمْ) : بَيَانُ مَا (فَهُوَ عِنْدِي عَلَى هُدًى) ، وَفِيهِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَئِمَّةِ رَحْمَةٌ لِلْأُمَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ لَا فِي الْأُصُولِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهُوَ عِنْدِي عَلَى هُدًى. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاخْتِلَافُ الَّذِي فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ لِلْغَرَضِ الدُّنْيَوِيِّ، فَلَا يُشْكِلُ بِاخْتِلَافِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي الْخِلَافَةِ وَالْإِمَارَةِ. قُلْتُ إِنَّ اخْتِلَافَ الْخِلَافَةِ أَيْضًا مِنْ بَابِ اخْتِلَافِ فُرُوعِ الدِّينِ النَّاشِئِ عَنِ اجْتِهَادِ كُلٍّ، لَا مِنَ الْغَرَضِ الدُّنْيَوِيِّ الصَّادِرِ عَنِ الْحَظِّ النَّفْسِيِّ، فَلَا يُقَاسِ الْمُلُوكُ بِالْحَدَّادِينَ (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» ) أَيْ: فَاقْتَدُوا بِهِمْ جَمِيعِهِمْ، أَوْ بِأَكْثَرِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ. (فَبِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ) . وَكَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ هَذَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ: مَنْ تَبِعَ عَالِمًا لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا. (رَوَاهُ رَزِينٌ) . قَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ - كَذَا ذَكَرَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الشِّفَاءِ، وَلَمْ أَجِدْهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ - بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ، وَأَطَالَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَاهٍ، بَلْ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ بَاطِلٌ، لَكِنْ ذُكِرَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ يُؤَدِّي بَعْضُ مَعْنَاهُ يَعْنِي قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ» ) الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صَدَقَ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ يُؤَدِّي صِحَّةَ التَّشْبِيهِ لِلصَّحَابَةِ بِالنُّجُومِ) أَمَّا فِي الِاقْتِدَاءِ فَلَا يَظْهَرُ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَلَمَّحَ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الِاهْتِدَاءِ بِالنُّجُومِ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ فَرْعُ الِاقْتِدَاءِ. قَالَ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْفِتَنِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ مِنْ طَمْسِ السُّنَنِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ، وَنَشْرِ الْجَوْرِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ اه. وَتَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْزِهِ لِابْنِ مَاجَهْ، وَذَكَرَهُ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَرْفُوعًا (سَأَلْتُ رَبِّي) الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: (اهْتَدَيْتُمْ) وَكَتَبَ بَعْدَهُ أَخْرَجَهُ، فَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا رَزِينٌ فِي تَجْرِيدِ الْأُصُولِ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ وَقَالَ: أَخْرَجَهُ رَزِينٌ.

[باب مناقب أبي بكر رضي الله عنه]

[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

[3]- بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6019 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ - وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَبَا بَكْرٍ - وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَا تَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: ( «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [3]- بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6019 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَمِيمٍ وَتَشْدِيدِ نُونٍ أَيْ: أَنْعَمِهِمْ (عَلَيَّ) : أَوْ أَبْذَلِهِمْ لِأَجْلِي (فِي صُحْبَتِهِ) أَيْ: دَوَامِ مُلَازَمَتِهِ بِبَذْلِ نَفْسِهِ فِي خِدْمَتِي (وَمَالِهِ) أَيْ: وَبَذْلِ مَالِهِ بَلْ وَجَمِيعُ مَالِهِ فِي طَرِيقِي (أَبُو بَكْرٍ) : كَذَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ (وَفِي الْبُخَارِيِّ: (أَبَا بَكْرٍ) أَيْ: بِالنَّصْبِ وَهُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ اسْمَ (إِنَّ) وَالرَّفْعُ مُشْكِلٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ قَالَ الْمُظْهِرُ: وَفِيهِ أَوْجُهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَاهُنَا بِمَعْنَى (نَعَمْ) كَمَا فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ إِنَّ وَصَاحِبَهَا فَقَوْلُهُ: أَبُو بَكْرٍ مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ أَمَنِّ النَّاسِ خَبَرُهُ، وَقِيلَ: اسْمُ إِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ اه. فَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا مَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَبُو بَكْرٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، هُوَ هُوَ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ أَمَنُّ النَّاسِ، فَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِبَقَاءِ إِنَّ حِينَئِذٍ بِلَا خَبَرٍ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ مِنْ أَبْذَلِهِمْ وَأَسْمَعِهُمْ مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ مَنًّا لَا مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ مِنَّةً إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْتَنَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَنَّهُ وَرَدَ مُوَرِدَ الْإِحْمَادِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الِامْتِنَانِ عَادَ ذَمًّا عَلَى صَاحِبِهِ ; لِأَنَّ الْمِنَّةَ تَهْدِمُ الصَّنِيعَةَ (وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا) . قَالَ الْقَاضِي: الْخَلِيلُ الصَّاحِبُ الْوَادُّ الَّذِي يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ، وَيُعْتَمَدُ فِي الْأُمُورِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَصْلَ التَّرْكِيبِ مِنَ الْخَلَّةِ بِالْفَتْحِ وَهِيَ الْحَاجَةُ، وَالْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ الْخَلْقِ خَلِيلًا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي الْحَاجَاتِ وَأَعْتَمِدُ إِلَيْهِ فِي الْمُهِمَّاتِ (لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) ، وَلَكِنَّ الَّذِي أَلْجَأُ إِلَيْهِ وَأَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْأُمُورِ وَمَجَامِعِ الْأَحْوَالِ، هُوَ اللَّهُ، تَعَالَى، وَإِنَّمَا سُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَلِيلًا مِنَ الْخَلَّةِ بِالْفَتْحِ الَّتِي هِيَ الْخَصْلَةُ، فَإِنَّهُ تَخَلَّقَ بِخِلَالٍ حَسَنَةٍ اخْتَصَّتْ بِهِ أَوْ مِنَ التَّخَلُّلِ، فَإِنَّ الْحُبَّ تَخَلَّلَ شِغَافَ قَلْبِهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ، أَوْ مِنَ الْخَلَّةِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا كَانَ يَفْتَقِرُ حَالَ الِافْتِقَارِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ يَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَفِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ (وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ) : اسْتِدْرَاكٌ عَنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ - الشَّرْطِيَّةِ وَفَحْوَاهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَلَّةٌ، وَلَكِنْ بَيْنَنَا فِي الْإِسْلَامِ أُخُوَّةٌ، فَنَفَى الْخَلَّةَ الْمُنْبِئَةَ عَنِ الْحَاجَةِ وَأَثْبَتَ الْإِخَاءَ الْمُقْتَضِي لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ وَلِذَا قَالَ: (وَمَوَدَّتُهُ) ، أَيْ: وَمَوَدَّةُ الْإِسْلَامِ النَّاشِئَةُ عَنِ الْمَحَبَّةِ الدِّينِيَّةِ لَا لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ (الدُّنْيَوِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ الدَّنِيَّةِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، أَيْ: لَكِنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، أَوْ لَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ حَاصِلَةٌ، أَوْ لَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَإِنْ أُرِيدَ أَفْضَلِيَّةُ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ عَنِ الْخَلَّةِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السَّوْقِ يُشْكِلُ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ أَفْضَلِيَّتُهَا مِنْ غَيْرِ الْخَلَّةِ، أَوْ يُقَالُ: أَفْضَلُ بِمَعْنَى فَاضِلٍ، أَوْ يُقَالُ: أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَ أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَوْ مِنْ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِي، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ تَأَمَّلْ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى مَا كَانَ تَعَاهَدَ الْعَرَبُ مِنْ عُهْدَةِ الْأُخُوَّةِ وَعَقْدِ الْخَلَّةِ وَالْمَحَبَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: (لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنَ الْخَلْقِ لِفَقْدِ الْخَلَّةِ وَعَهْدِ الْمُحِبَّةِ لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ الشَّامِلَةُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَافِيَةٌ، أَوْ أَفْضَلُ حَيْثُ إِنَّهُ خَالِصٌ لِلَّهِ وَعَلَى وَفْقِ رِضَاهُ وَمِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ مِنْ سِوَاهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ لِلْعَهْدِ أَيْ: وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي سَبَقَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّ اتِّخَاذَهُ خَلِيلًا بِفِعْلِهِ وَأُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ بِفِعْلِ اللَّهِ، تَعَالَى، فَمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ (لَا تُبْقَيَنَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ نَهْيًا مُؤَكَّدًا مُشَدَّدًا وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَالْمَعْنَى لَا تُتْرَكَنَّ بَاقِيَةً (فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ) . الْخَوْخَةُ بِفَتْحِ الْخَاءَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَسُكُونِ الْوَاوِ كُوَّةٌ فِي الْجِدَارِ تُؤَدِّي الضَّوْءَ إِلَى الْبَيْتِ، وَقِيلَ: بَابٌ صَغِيرٌ يُنْصَبُ بَيْنَ بَيْتَيْنِ أَوْ دَارَيْنِ، لِيَدْخُلَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ.

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَهَذَا الْكَلَامُ كَانَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوفِّيَ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، وَلَا خَفَاءَ بِأَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْمُسْتَخْلَفُ بَعْدَهُ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ، فَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَنَازِلِ اللَّاصِقَةِ بِالْمَسْجِدِ قَدْ جَعَلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ مُخْتَرَقًا يَمُرُّونَ فِيهِ إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ كُوَّةً يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مِنْهُ، فَأَمَرَ بِسَدِّ جُمْلَتِهَا سِوَى خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ تَكْرِيمًا لَهُ بِذَلِكَ أَوَّلًا، ثُمَّ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ عَلَى أَمْرِ الْخِلَافَةِ حَيْثُ جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ دُونَ النَّاسِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَسَدُّ أَبْوَابِ الْمَقَالَةِ دُونَ التَّفَوُّقِ إِلَيْهَا وَالتَّطَوُّعِ عَلَيْهَا، وَأَرَى الْمَجَازَ فِيهِ أَقْوَى، إِذْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ لَهُ مَنْزِلٌ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْزِلُهُ بِالسُّنْحِ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَنَّهُ مَهَّدَ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ، وَقَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ( «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» ) لِيُعْلَمَ أَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِالنِّيَابَةِ عَنْهُ، وَكَفَانَا حُجَّةً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَقْدِيمُهُ إِيَّاهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِبَاؤُهُ كُلَّ الْإِبَاءِ أَنْ يَقِفَ غَيْرُهُ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ اه. وَقِيلَ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ خَوْخَةَ بِنْتِهِ عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِسَدِّ خَوْخَاتِ الْأَزْوَاجِ إِلَّا خَوْخَةَ عَائِشَةَ، وَوَجْهُ الْإِضَافَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ظَاهِرٌ لِإِمَامَتِهِ فِيهِ بِإِذْنِهِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لَفْظُ الْمَسْجِدِ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَفِي الرِّيَاضِ: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِسَدِّ أَبْوَابِ الشَّوَارِعِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ ( «فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ رَجُلًا كَانَ أَفْضَلَ فِي الصُّحْبَةِ يَدًا مِنْهُ» ) . وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ: أَنَّ أَبْوَابًا كَانَتْ مُفَتَّحَةً فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِهَا فَسُدَّتْ، غَيْرَ بَابِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: سَدَّ أَبْوَابَنَا غَيْرَ بَابِ خَلِيلِهِ، وَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَامَ فِيهِمْ فَقَالَ: (أَتَقُولُونَ سَدَّ أَبْوَابَنَا وَتَرَكَ بَابَ خَلِيلِهِ، فَلَوْ كَانَ مِنْكُمْ خَلِيلٌ كَانَ هُوَ خَلِيلِي، وَلَكِنِّي خَلِيلُ اللَّهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي فَقَدْ وَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَقَالَ لِي: صَدَقَ وَقُلْتُمْ كَذَبَ) . (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: مُسْتَقِلَّةٍ (لَوْ كُنْتُ) : وَفِي رِوَايَةٍ بَدَلًا مِمَّا قَبِلَهُ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ كُنْتُ (مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي) ، أَيْ بِإِفَادَةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ (لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) . أَيْ: لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِي أَنْ آخُذَ غَيْرَ اللَّهِ خَلِيلًا لِأَكُونَ لَهُ خَلِيلًا، سَوَاءً يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «أَبُو بَكْرٍ صَاحِبِي وَمُؤْنِسِي فِي الْغَارِ، سِدُّوا خَوْخَةً فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ» ) . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ، فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ( «إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُهُ، وَلَكِنْ خَلَّةُ الْإِسْلَامِ، سِدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ» ) . قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَفِي قَوْلِهِ: سِدُّوا إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى حَسْمِ أَطْمَاعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنَ الْخِلَافَةِ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ.

6020 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6020 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّهُ أَخِي» ) : زَادَ أَحْمَدُ فِي الدِّينِ (وَصَاحِبِي) ، زَادَ أَحْمَدُ فِي الْغَارِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ ( «وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ صْاحِبَكُمْ خَلِيلًا» ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ جَعَلَ غَيْرَ رَبِّهِ خَلِيلًا يَكُونُ مَجْنُونًا بِخَلَلِ عَقْلِهِ، وَيَصِيرُ مَخْذُولًا ذَلِيلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ ; اتَّخَذَ اللَّهُ مُبَالَغَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ عَلَى التَّجْرِيدِ حَيْثُ قَالَ: صَاحِبُكُمْ وَلَمْ يَقُلِ اتَّخَذَنِي، وَثَانِيهِمَا: اتَّخَذَ اللَّهُ صَاحِبَكُمْ بِالنَّصْبِ عَكْسَ مَا لَمَّحَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ مِنْ قَوْلِهِ: غَيْرَ رَبِّي، فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ عَلَى حُصُولِ الَمُخَالَلَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: ( «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا دُونَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي» ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ( «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ» ) . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ

لَيَالٍ وَهُوَ يَقُولُ: ( «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» ) . وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِي فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إِلَّا لَهُ فِي أُمَّتِهِ خَلِيلٌ أَلَا وَإِنَّ خَلِيلِي أَبُو بَكْرٍ» ) . وَأَخْرَجَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَرْبِيُّ السُّكَّرِيُّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَحْدَثَ عَهْدِي بِنَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَفَاتِهِ بِخَمْسِ لَيَالٍ، دَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُقَلِّبُ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: ( «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إِلَّا وَقَدِ اتَّخَذَ مِنْ أُمَّتِهِ خَلِيلًا وَإِنَّ خَلِيلِي مِنْ أُمَّتِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» ) . وَالْأَحَادِيثُ النَّافِيَةُ لِلِاتِّخَاذِ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ، وَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، فَيَكُونُ قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ تَبَرُّئِهِ مِنْ خَلَّةِ غَيْرِ اللَّهِ مَعَ تَشَوُّقِهِ لِخَلَّةِ أَبِي بَكْرٍ، لَوْلَا خَلَّةُ اللَّهِ فِي اتِّخَاذِهِ خَلِيلًا مُرَاعَاةً لِجُنُوحِهِ إِلَيْهِ، وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ انْصِرَافًا عَنْ خَلَّةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بَلِ الْخَلَّتَانِ ثَابِتَتَانِ كَمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ، إِحْدَاهَا تَشْرِيفٌ لِلْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأُخْرَى تَشْرِيفٌ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ.

6021 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ: (ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ، وَأَخَاكِ، حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا، وَلَا ; وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي (كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) : (أَنَا أَوْلَى) بَدَلَ: (أَنَا وَلَا) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6021 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ) أَيِ: الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ (ادْعِي لِي) : بِضَمِّ هَمْزِ وَصْلٍ وَكَسْرِ عَيْنٍ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ ادْعُوِي فَاعِلٌ بِالنَّقْلِ وَالْحَذْفِ، وَهُوَ أَمْرُ مُخَاطَبَةٍ أَيْ نَادِي (أَبَا بَكْرٍ أَبَاكَ) : بَدَلٌ (وَأَخَاكِ) ، عَطْفٌ عَلَى: أَبَا بَكْرٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَفِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) : إِنْ طَلَبَهُ لِأَخِيهَا لِيَكْتُبَ الْكِتَابَ فَقَوْلُهُ: (حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا) ، أَيْ أَمَرَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا ( «فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ» ) أَيْ: لِلْخِلَافَةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْكِتَابَةِ (وَيَقُولَ قَائِلٌ) أَيْ: وَأَخَافُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِمَّنْ يَتَمَنَّى الْإِمَارَةَ (أَنَا، وَلَا) أَيْ: أَنَا مُسْتَحِقٌّ لِلْخِلَافَةِ وَلَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لَهَا، مَعَ وُجُودِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) ، أَيْ: خِلَافًا لِلْمُنَافِقِينَ وَالرَّافِضَةِ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ، (إِلَّا أَبَا بَكْرٍ) . قَالَ شَارِحٌ: أَبَى يَأْبَيَانِ خِلَافَةَ كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ اه. وَمَعْنَى (يَأْبَى اللَّهُ) يَمْتَنِعُ لِعَدَمِ رِضَاهُ أَوْ لِعَدَمِ قَدَرِهِ وَقَضَاهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) : وَهُوَ (الْجَامِعُ) بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَقَعَ فِي نُسْخَتِهِ (أَنَا أَوْلَى، بَدَلَ (أَنَا وَلَا) . فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: (أَنَا وَلَا) هَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ أَيْ يَقُولُ أَنَا أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرِي، وَفِي بَعْضِهَا. أَنَا أَوْلَى، أَيْ: أَنَا أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَجْوَدُ اه. فَالْجَزْمُ مِنَ الْمُصَنَّفِ أَنَّهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ خِلَافًا لِلْحُمَيْدِيِّ لَيْسَ مِنَ الْجَزْمِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَتْ بِنَصٍّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرِيحًا بَلْ أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى عَقْدِ الْخِلَافَةِ لَهُ، وَتَقْدِيمِهِ لِفَضْلِهِ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ تَقَعِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ أَوَّلًا، وَلَذَكَرَ حَافِظُ النَّصِّ مَا مَعَهُ وَرَجَعُوا إِلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا يَدَّعِيهِ الشِّيعَةُ مِنَ النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَالْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ، فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ يُكَذِّبُهُمْ عَلِيٌّ حِينَ سُئِلَ هَلْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا مَا فِي الصَّحِيفَةِ الْحَدِيثَ. وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نَصٌّ لَذَكَرَهُ.

6022 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ) » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6022 - (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: «أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ» ) أَيْ: مِنْ أَمْرِهَا (فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبَرْنِي (إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ) ؟ وَلَعَلَّ مَسْكَنَهَا كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْمَدِينَةِ (كَأَنَّهَا) ، أَيْ: قَالَ جُبَيْرٌ: كَأَنَّ الْمَرْأَةَ تُرِيدُ) أَيْ: تَعْنِي بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ (الْمَوْتَ) . أَيْ: مَوْتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ) . أَيْ فَإِنَّهُ خَلِيفَتِي مُطْلَقًا أَوْ وَصِيِّي فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى خِلَافَتِهِ، بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ الَّذِي أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ شَيْئًا فَقَالَ: (تَعُودِينَ) . فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ عُدْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ تُعَرِّضُ بِالْمَوْتِ قَالَ: (إِنْ جِئْتِ فَلَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهُ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِي) » . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: «بَايَعَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَلَائِصَ إِلَى أَجَلٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْأَعْرَابِيِّ: ائْتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلْهُ إِنْ أَتْى عَلَيْهِ أَجَلُهُ مَنْ يَقْضِيهِ؟ قَالَ: يَقْضِيكَ أَبُو بَكْرٍ، فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: ارْجِعْ فَسَلْهُ، إِنْ أَتَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَجَلُهُ مَنْ يَقْضِيهِ، فَأَتَى الْأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: (يَقْضِيكَ عُمَرُ) فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْأَعْرَابِيِّ سَلْهُ مَنْ بَعْدَ عُمَرَ فَقَالَ: (يَقْضِيكَ عُثْمَانُ) فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْأَعْرَابِيِّ: ائْتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْأَلْهُ إِنْ أَتَى عَلَى عُثْمَانَ أَجَلُهُ مَنْ يَقْضِيهِ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا أَتَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَجَلُهُ وَعَلَى عُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَمُوتَ فَمُتْ) » . أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ.

6023 - «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ، أَيُّ: النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ) . قُلْتُ: مِنِ الرِّجَالِ؟ قَالَ: (أَبُوهَا) . قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (عُمَرُ) فَعَدَّ رِجَالًا، فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6023 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ) أَيْ: أَرْسَلَهُ أَمِيرًا (عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ) : بِإِضَافَةِ الْجَيْشِ. قَالَ الْقَاضِي: السَّلَاسِلُ رَمْلٌ يَنْعَقِدُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَسُمِّي الْجَيْشُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَبْعُوثِينَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا رَمْلٌ، كَذَلِكَ (قَالَ: فَأَتَيْتُهُ) ، أَيْ قَبْلَ السَّفَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ (فَقُلْتُ أَيُّ: النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ) ؟ أَيِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِكَ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ الْجَيْشِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ سُؤَالِهِ لَمَّا أَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجَيْشِ، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لِمَصْلَحَةٍ كَانَتْ تَقْتَضِيهِ وَقَعَ فِي نَفْسِ عُمَرَ، وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عِنْدَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ عَلَيْهِمَا، فَسَأَلَهُ لِذَلِكَ، لَكِنْ يُؤَيَّدُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِرَادَةُ الْعُمُومِ الَّذِي هُوَ أَفْيَدُ لِلْمَفْهُومِ جَوَابُهُ: (قَالَ: (عَائِشَةُ) ، أَيْ: هِيَ أَحَبُّهُمْ إِلَيَّ مِنَ النِّسَاءِ (قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ) ؟ أَيْ سُؤَالِي عَنْهُمْ أَوِ التَّقْدِيرُ مَنْ أَحَبُّ (قَالَ: أَبُوهَا) . قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (عُمَرُ) فَعَدَّ رِجَالًا) أَيْ: فَعَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِجَالًا آخَرِينَ بَعْدَ أَسْئِلَةٍ أُخْرَى. (لِي، فَسَكَتُّ) أَيْ: عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ (مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ) . أَيْ؟ آخِرِ النَّاسِ مُطْلَقًا أَوْ آخِرِ مَنْ أَسْأَلُ عَنْهُمْ لَوْ سَأَلْتُهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6024 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ:) أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ: عُثْمَانُ قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6024 - (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ) : سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ ابْنُ عَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي) ، أَيْ: لَعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: (أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ أَوْ أَبُو بَكْرٍ هُوَ الْخَيْرُ (قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ: عُثْمَانُ) أَيْ: لَوْ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ فَعَدَلْتُ عَنْ مِنْوَالِ السُّؤَالِ لِهَذَا، فَحِينَئِذٍ (قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) . وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ مِنْهُ مَعَ الْعُلُوِّ بِأَنَّهُ حِينَ الْمَسْأَلَةِ خَيْرُ النَّاسِ بِلَا نِزَاعٍ، لِأَنَّهُ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ.

6025 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6025 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا) أَيْ: مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ (فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَعْدِلُ) ، أَيْ: لَا نُسَاوِي (بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا) ، أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ بَلْ نُفَضِّلُهُ عَلَى غَيْرِهِ (ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ) ، أَيْ ثُمَّ لَا نَعْدِلُ بِهِمْ أَحَدًا أَوْ ثُمَّ نُفَضِّلُهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا. ( «ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نُفَاضِلُ» ) أَيْ: لَا نُوقِعُ الْمُفَاضَلَةَ (بَيْنَهُمْ) . وَالْمَعْنَى لَا نُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَالْمُرَادُ مُفَاضَلَةُ مِثْلِهِمْ، وَإِلَّا فَأَهْلُ بَدْرٍ وَاحِدٌ، وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ، وَلَعَلَّ هَذَا التَّفَاضُلَ بَيْنَ الْأَصْحَابِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْبَيْتِ؟ فَهُمْ أَخَصُّ مِنْهُمْ وَحُكْمُهُمْ يُغَايِرُهُمْ فَلَا يَرُدُّ عَدَمَ ذِكْرِ عَلِيٍّ وَالْحُسْنَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الشُّيُوخَ وَذَوِي الْأَسْنَانِ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَّبَهُ أَمْرٌ شَاوَرَهُمْ فِيهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَ السِّنِّ، وَفَضْلُهُ لَا يُنْكِرُهُ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَأَيْضًا قَدْ عُرِفَ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ، وَأَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَأَصْحَابَ الْعَقَبَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ يَفْضُلُونَ غَيْرَهُمْ، وَكَذَلِكَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَذَوُو الْفَهْمِ مِنْهُمْ وَالْمُتَبَتِّلُونَ عَنِ الدُّنْيَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

(وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، قَالَ: «كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ) ، أَيِ: الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ (بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ بَعْدَ وُجُودِهِ. (أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) . لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَهَا الْمُنَاسَبَةُ التَّامَّةُ بِبَابِ مَنَاقِبِ الثَّلَاثَةِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 6026 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ: مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6026 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ) أَيْ: عَطَاءٌ وَإِنْعَامٌ (إِلَّا وَقَدْ كَافَأْنَاهُ) ، بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا أَلِفًا، فَفِي الْقَامُوسِ: كَافَأَهُ مُكَافَأَةً جَازَاهُ ذَكَرَهُ فِي الْمَهْمُوزِ، وَكَفَاهُ مُؤْنَتَهُ كِفَايَةً ذَكَرَهُ فِي الْمُعْتَلِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ لِلْمَقَامِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِالْيَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، وَالْمَعْنَى جَازَيْنَاهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَوْ أَكْثَرَ. (مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ) ، أَيْ مَا عَدَاهُ أَيْ إِلَّا إِيَّاهُ (فَإِنَّهُ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا) : قِيلَ: أَرَادَ بِالْيَدِ النِّعْمَةَ وَقَدْ بَذَلَهَا كُلَّهَا إِيَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ الْمَالُ وَالنَّفْسُ وَالْأَهْلُ وَالْوَلَدُ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَرْكِ الْيَدِ إِعْتَاقُ بِلَالٍ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17 - 21] وَفُسِّرَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَإِلَيْهِ يَنْظُرُ قَوْلُهُ: (يُكَافِيهِ اللَّهُ) أَيْ: يُجَازِيهِ (بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، أَيْ: جَزَاءً كَامِلًا، وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ (الرِّيَاضِ) عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَقَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. (وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي) : مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَمِثْلُ مُقَدَّرٌ أَيْ مِثْلُ مَا نَفَعَنِي (مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا) أَيْ: مِنْ أُمَّتِي (خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ: (مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبُو بَكْرٍ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي الرِّيَاضِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « (مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ) . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: مَا أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ.) » أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَافِظُ الدِّمَشْقِيُّ فِي (الْمُوَافَقَاتِ) . وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « (مَا مَالُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفَعُ لِي مِنْ مَالِ أَبِي بَكْرٍ) . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي فِي مَالِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا يَقْضِي فِي مَالِ نَفْسِهِ» . أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي (جَامِعِهِ) . قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ أَلْفًا. أَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَلَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا أَنْفَقَهَا كُلَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو عُمَرَ. وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَعْتَقَ أَبُو بَكْرٍ سَبْعَةً كَانُوا يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ مِنْهُمْ: بِلَالٌ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ قَيْسٍ قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا وَهُوَ مَدْقُوقٌ بِالْحِجَارَةِ بِخَمْسِينَ أَوَاقٍ ذَهَبًا فَقَالُوا: لَوْ أَبَيْتَ الْأُوقِيَّةَ لَبِعْنَاكَهُ. فَقَالَ: لَوْ أَبَيْتُمْ إِلَّا مِائَةَ أُوقِيَّةٍ لَأَخَذْتُهُ أَخْرَجَهُ فِي (الصَّفْوَةِ) .

6027 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6027 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا) أَيْ: نَسَبًا وَحَسَبًا (وَخَيْرُنَا) أَيْ: أَفْضَلُنَا مَعْرِفَةً وَكَسْبًا (وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: حُضُورًا وَغَيْبًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6028 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: (أَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ، وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6028 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: ( «أَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ) » ، أَيْ فِي غَارِ ثَوْرٍ بِمَكَّةَ حَالَةَ الْهِجْرَةِ مِنْ دِيَارِ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فَالْمَعْنَى: أَنْتَ صَاحِبِي الْمَخْصُوصُ حِينَئِذٍ، أَوْ أَنْتَ صَاحِبِي بِشَهَادَةِ اللَّهِ، إِذْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِصَاحِبِهِ فِي الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ قَالُوا: مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ كَفَرَ ; لِأَنَّهُ أَنْكَرَ النَّصَّ الْجَلِيَّ، بِخِلَافِ إِنْكَارِ صُحْبَةِ غَيْرِهِ مِنْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. (وَصَاحِبِي) أَيِ: الْمَخْصُوصُ (عَلَى الْحَوْضِ) . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ صَاحِبُهُ فِي الدَّارَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ صَاحِبُهُ الْآنَ فِي الْبَرْزَخِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي مُسْنَدِ (الْفِرْدَوْسِ) لِلدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ: ( «أَبُو بَكْرٍ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَأَبُو بَكْرٍ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ) .

6029 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا يَنْبَغِي لِقَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6029 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا يَنْبَغِي لِقَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ» ) . وَفِي مَعْنَاهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ الْقَوْمِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدَ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْخِلَافَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الْمَفْضُولُ خَلِيفَةً مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

6030 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَتَصَدَّقَ، وَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا. قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) فَقُلْتُ: مِثْلَهُ. وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ. فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ؟ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) . فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6030 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَتَصَدَّقَ) ، أَيْ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ (وَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا) ، أَيْ: صَادَفَ أَمْرَهُ بِالتَّصْدِيقِ حُصُولَ مَالٍ عِنْدِي فَعِنْدِي حَالٌ مِنْ مَالٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِمَّا قَبْلَهُ يَعْنِي: وَالْحَالُ أَنَّهُ كَانَ لِي مَالٌ كَثِيرٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. (فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ) أَيْ: بِالْمُبَارَزَةِ أَوْ بِالْمُغَالَبَةِ (إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ) ، وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ دَلَّ عَلَى جَوَابِهَا مَا قَبْلَهَا، أَوِ التَّقْدِيرُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَهَذَا يَوْمُهُ وَقِيلَ: إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ. (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) فَقُلْتُ: مِثْلَهُ) . أَيْ: أَبْقَيْتُ مِثْلَهُ يَعْنِي نِصْفَ مَالِهِ (وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ) . وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ كُلِّ مَالِهِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَأَصْرَحُ مِنْ كُلِّ مَالَهُ بِالْفَتْحِ (فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . أَيْ رِضَاهُمَا: رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمَا: (مَا بَيْنَكُمَا كَمَا بَيْنَ كَلِمَتَيْكُمَا) (قُلْتُ) أَيْ: فِي بَاطِنِي وَاعْتَقَدْتُ (لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ) ، أَيْ: مِنَ الْفَضَائِلِ (أَبَدًا) : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُغَالَبَتِهِ حِينَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَقِلَّةِ مَالِ أَبِي بَكْرٍ، فَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْبِقَهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَمِمَّا يُنَاسِبُهُ، مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَأَنَا أَحْمَدُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَأُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (سَلْ تُعْطَ) وَلَمْ أَسْمَعْهُ فَأَدْلَجَ أَبُو بَكْرٍ فَسَرَّنِي بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَتَانِي عُمَرُ فَأَخْبَرَنِي بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ. قَالَ عُمَرُ: مَا اسْتَبَقْنَا بِخَيْرٍ إِلَّا قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ إِنَّهُ كَانَ سَبَّاقًا لِلْخَيْرَاتِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا صَلَّيْتُ فَرِيضَةً وَلَا تَطَوُّعًا إِلَّا دَعَوْتُ اللَّهَ فِي دُبُرِ صَلَاتِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَعْلَى جَنَّاتِ الْخُلْدِ، وَأَنَا أَرْجُو، أَنْ أَكُونَ دَعَوْتُ بِهِنَّ الْبَارِحَةَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ شَاهِينَ. وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ جَمَعَ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْلًا: « (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا فَلْيَقْرَأْهُ كَمَا يَقْرَأُهُ ابْنُ أُمِّ عَبْدِ) فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ فَقَالَ: قَدْ سَبَقَ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: مَا سَابَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا سَبَقَنِي» : أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمَعْنَاهُ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) .

6031 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (أَنْتَ عَتِيقُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ) . فَيَوْمَئِذَ سُمِّيَ عَتِيقًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6031 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنْتَ عَتِيقُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ) فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ عَتِيقًا) . قَالَ الرَّاغِبُ: الْعَتِيقُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الرُّتْبَةِ، وَلِذَا قِيلَ لِلْقَدِيمِ عَتِيقٌ، وَالْكَرِيمِ عَتِيقٌ، وَلِمَنْ خَلَا عَنِ الرِّقِّ عَتِيقٌ اه. وَسُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ لِكَرَمِهِ، أَوْ لِقِدَمِ زَمَانِهِ أَوْ لِرُتْبَةِ مَكَانِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ عُتِقَ عَنِ الطُّوفَانِ، أَوْ عَنْ تَصَرُّفِ الْجَبَابِرَةِ ثُمَّ قَالَهُ: فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ عَتِيقًا أَيْ لُقِّبَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَبِي قُحَافَةَ بِضَمِّ الْقَافِ ابْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرَّةَ، وَصَلَ بِالْأَبِ السَّابِعِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ» ) . شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَلَمْ يُفَارِقْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا إِسْلَامٍ، وَهُوَ أَوَّلُ الرِّجَالِ إِسْلَامًا كَانَ أَبْيَضَ نَحِيفًا خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، مَعْرُوقَ الْوَجْهِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئَ الْجَبْهَةِ، لَهُ وَلِأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. كَانَ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفِيلِ بِسِتِّينَ وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَّا أَيَّامًا، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَأَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَغَسَّلَتْهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا الْقَلِيلُ لِقِلَّةِ مُدَّتِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6032 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ آتِي أَهْلَ الْبَقِيعِ فَيُحْشَرُونَ مَعِي، ثُمَّ أَنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ حَتَّى أُحْشَرَ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6032 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ( «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» ) . أَيْ مِنَ الْخَلْقِ (ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ) ، أَيْ: مِنْ أُمَّتِي أَوْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مُطْلَقًا (ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ آتِي) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ أَجِيءُ (أَهْلَ الْبَقِيعِ) : وَهُوَ مَقْبَرَةُ الْمَدِينَةِ (فَيُحْشَرُونَ مَعِي) ، أَيْ يُجْمَعُونَ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] ، ( «ثُمَّ أنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ حَتَّى أُحْشَرَ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ» ) . أَيْ بَيْنَ أَهْلِيهِمَا فِي مَحْشَرِ الْقِيَامَةِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا رُوِيَ: مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حُشِرَ مَعَهُمْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ! أَيْ: أُجْمَعُ مَعَهُمْ بَيْنَ حَرَمِ مَكَّةَ وَحَرَمِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: أُجْمَعُ أَنَا وَهُمْ حَتَّى يَكُونَ لِي وَهُمُ اجْتِمَاعٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ اه. وَذَلِكَ بِظَاهِرِهِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: أَنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ لِأَنَّ كَلَامَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَجَّهُ إِلَى حَرَمِ مَكَّةَ، وَأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَحْصُلُ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَنْتَظِرُهُمْ فِي الْبَقِيعِ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا فَيَتَوَجَّهُوا إِلَى الْمَحْشَرِ، وَهُوَ أَرْضُ الشَّامِ فَيَجْتَمِعُونَ هُنَاكَ مَعَ سَائِرِ الْأَنَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي (الْجَامِعِ) إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ. وَقَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ أَنْسَبَ أَنْ يُذْكَرَ فِي مَنَاقِبِ الشَّيْخَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

6033 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَرَانِي بَابَ الْجَنَّةِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِي (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَمَا إِنَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6033 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَرَانِي بَابَ الْجَنَّةِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتِي) . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَدِدْتُ) : بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ أَحْبَبْتُ (أَنِّي كُنْتُ مَعَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ) . أَيْ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ (فَقَالَ: أَمَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي) أَيْ فَسَتَرَى بَابَهَا وَتَدْخُلُهَا قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِي، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا لَمَا سَبَقَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَسْبَقُ الْأُمَّةِ إِيمَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ - فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10 - 12] . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا تَمَنَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَدِدْتُ وَالتَّمَنِّي إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا يَسْتَدْعِي إِمْكَانَ حُصُولِهِ. قِيلَ: لَهُ: لَا تَتَمَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْبَابِ، فَإِنَّ لَكَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَجَلُّ وَهُوَ دُخُولُكَ فِيهِ أَوَّلَ أُمَّتِي، وَحَرْفُ التَّنْبِيهِ يُنَبِّهُكَ عَلَى الرَّمْزَةِ الَّتِي لَوَّحْنَا بِهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6034 - عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذُكِرَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَبَكَى وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ مِثْلُ عَمَلِهِ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِهِ، وَلَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيهِ، أَمَّا لَيْلَتُهُ «فَلَيْلَةٌ سَارَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْغَارِ فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهِ قَالَ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُهُ حَتَّى أَدْخُلَ قَبْلَكَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ أَصَابَنِي دُونَكَ، فَدَخَلَ فَكَسَحَهُ، وَوَجَدَ فِي جَانِبِهِ ثُقْبًا، فَشَقَّ إِزَارَهُ، وَسَدَّهَا لَهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا اثْنَانِ فَأَلْقَمَهُمَا رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ادْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعَ رَأَسَهُ فِي حِجْرِهِ وَنَامَ فَلُدِغَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِجْلِهِ مِنَ الْجُحْرِ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ مَخَافَةَ أَنْ يُشْبِهَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَقَطَتْ دُمُوعُهُ عَلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (مَالَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟) قَالَ: لُدِغْتُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَتَفِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَهَبَ مَا يَجِدُهُ» ، ثُمَّ انْتَقَضَ عَلَيْهِ، وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ وَأَمَّا يَوْمُهُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ وَقَالُوا: لَا نُؤَدِّي زَكَاةً فَقَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! تَأَلَّفِ النَّاسَ وَارْفُقْ بِهِمْ فَقَالَ لِي: أَجَبَّارٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَخَوَّارٌ فِي الْإِسْلَامِ؟ إِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الْوَحْيُ وَتَمَّ الدِّينُ أَيَنْقُصُ وَأَنَا حَيٌّ؟ رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6034 - (عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذُكِرَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ (فَبَكَى) أَيْ: عُمَرُ (وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ) أَيْ: فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ (مِثْلَ عَمَلِهِ) أَيْ: مِثْلَ عَمَلِ أَبِي بَكْرٍ (يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِهِ) ، أَيْ فِي زَمَنِ مَمَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَلَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيهِ) ، أَيْ أَوْقَاتِ حَيَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى (أَوْ) فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمُبَالَغَةِ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ الْحَالَةِ أَوِ التَّوْزِيعِ بِحَسَبِ الْوَقْتَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ. (أَمَّا لَيْلَتُهُ فَلَيْلَةٌ سَارَ) : بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ أَيْ سَافَرَ وَهَاجَرَ فِيهَا (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَارِ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِفَتْحِ (لَيْلَةً) بُنِيَتْ لِلْإِضَافَةِ إِلَى الْمَبْنِيِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهِ) أَيْ: وَصَلَا إِلَى الْغَارِ (قَالَ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُهُ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ (حَتَّى أَدْخُلَ قَبْلَكَ) ، أَيِ الْغَارَ لَمَّا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ) أَيْ: مِمَّا يُؤْذِي مِنْ عَدُوٍّ أَوْ هَوَامٍّ (أَصَابَنِي دُونَكَ، فَدَخَلَ فَكَسَحَهُ) ، أَيْ كَنَسَهُ (وَوَجَدَ فِي جَانِبِهِ) أَيْ: فِي أَحَدِ أَطْرَافِهِ (ثُقْبًا) ، بِضَمِّ مُثَلَّثَةٍ وَفَتْحِ قَافٍ جَمْعُ ثُقْبَةٍ كَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَقَدْ جَاءَ ثُقْبٌ كَقُفْلٍ وَفَلْسٍ كُلٌّ مِنْهُمَا لُغَةٌ فِي الْمُفْرَدِ بِمَعْنَى الْخَرْقِ وَالْحَجْرِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْجَمْعُ لِقَوْلِهِ: فَشَقَّ إِزَارَهُ وَسَدَّهَا بِهِ، وَبَقِيَ مِنْهَا اثْنَانِ فَأَلْقَمَهُمَا رِجْلَيْهِ) ، أَيْ جَعَلَ رِجْلَيْهِ كَاللُّقْمَتَيْنِ لَهُمَا غَايَةً لِلْحِرْصِ عَلَى سَدِّهِمَا حَيْثُ لَمْ يَبْقَى مِنْ إِزَارِهِ مَا يَدْخُلُهُمَا ( «ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ادْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ» ) ، بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا. فَفِي (الْقَامُوسِ) : الْحِجْرُ بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ الْحِضْنُ وَفِي النِّهَايَةِ الْحَجْرُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الْحِضْنُ وَالثَّوَابُ، وَكَذَا فِي (الْمَشَارِقِ) وَزَادَ: وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ فَالْفَتْحُ لَا غَيْرَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْمُ فَالْكَسْرُ لَا غَيْرَ (وَنَامَ) ، أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ نَوْمَ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ، كَمَا أَنَّ نَوْمَ الظَّالِمِ عِبَادَةٌ بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ (فَلُدِغَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِجْلِهِ) : بَدَلٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بَدَلَ الْبَعْضِ، وَجِيءَ بِفِي بَيَانًا لِشِدَّةِ تَمَكُّنِ اللَّدْغِ فِيهَا كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي.

(مِنَ الْجُحْرِ) أَيْ: مِنْ أَحَدِ الْجُحْرَيْنِ (وَلَمْ يَتَحَرَّكْ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (مَخَافَةَ أَنْ يَنْتَبِهَ) : مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ يَتَنَبَّهَ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ أَيْ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَتَصَبَّ عَلَى وَجَعِهِ (فَسَقَطَتْ دُمُوعُهُ عَلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فَاسْتَنْبَهَ فَرَأَى بُكَاءَهُ (فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟) قَالَ: لُدِغْتُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَيُكْسَرُ فَفِي (الْقَامُوسِ) : فَدَاهُ يَفْدِيهِ فِدَاءً وَفِدًى وَيُفْتَحُ أَعْطَى شَيْئًا فَأَنْقَذَهُ، وَالْفِدَاءُ كَكِسَاءٍ وَكَعَلَى وَإِلَى ذَلِكَ الْمُعْطَى اه. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْفِدَاءُ يُمَدُّ وَيُقْتَصَرُ، أَمَّا الْمَصْدَرُ مِنْ فَادَيْتُ فَمَمْدُودٌ لَا غَيْرَ، وَالْفَاءُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَكْسُورٌ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ فَذَاللَّهِ مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ وَمَفْتُوحٌ، وَفِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي فِعْلُ مَاضٍ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ، أَوْ يَكُونُ اسْمًا عَلَى مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ كَذَا فِي الْمَشَارِقِ (فَتَفَلَ) أَيْ: بَزَقَ (رَسُولُ اللَّهِ) ، أَيْ: عَلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: عَلَى مَوْضِعِ اللَّدْغِ (فَذَهَبَ مَا يَجِدُهُ) ، أَيْ مَا كَانَ يَحُسُّهُ مِنَ الْأَلَمِ (ثُمَّ انْتَقَضَ) : بِالْقَافِ وَالْمُعْجَمَةِ أَيْ رَجَعَ (أَثَرُ السُّمِّ عَلَيْهِ) ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: نَكَسَ الْجُرْحُ بَعْدَ أَنِ انْدَمَلَ لِتَفْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَكَانَ) أَيِ: الِانْتِقَاضُ (سَبَبَ مَوْتِهِ) . أَيْ فَحَصَلَ لَهُ شَهَادَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَالَةَ كَوْنِهِ رَفِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَرِيقِهِ (وَأَمَّا يَوْمُهُ) ، أَيْ أَبِي بَكْرٍ (فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ وَقَالُوا: لَا نُؤَدِّي زَكَاةً) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ تَفْسِيرِيًّا لِمَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَنْ قِيلَ لَهُ أَدِّ الزَّكَاةَ، فَقَالَ، لَا أُؤَدِّي كَفَرَ. (فَقَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ حَبْلًا صَغِيرًا (لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ) . أَيْ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى أَخْذِهِ أَوْ لِأَجْلِ مَنْعِهِ، فَفِي النِّهَايَةِ: أَرَادَ بِالْعِقَالِ الْحَبْلَ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ الَّذِي كَانَ يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ، لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِهِ التَّسْلِيمَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْقَبْضُ بِالرِّبَاطِ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَا يُسَاوِي عِقَالًا مِنْ حُقُوقِ الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ: إِذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ أَعْيَانَ الْإِبِلِ، وَقِيلَ: أَخَذَ عِقَالًا إِذَا أَخَذَ أَثْمَانَهَا قِيلَ: أَخَذَ نَقْدًا، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعِقَالِ صَدَقَةَ الْعَامِ، يُقَالُ: أَخَذَ الْمُصَدِّقُ عِقَالَ هَذَا الْعَامِ إِذَا أَخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَةً وَبَعَثَ فُلَانٌ عَلَى عِقَالِ بَنِي فُلَانٍ إِذَا بُعِثَ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ: هَذَا أَشْبَهُ عِنْدِي بِالْمَعْنَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ هَذَا بِالْأَقَلِّ لَا بِالْأَكْثَرِ، وَلَيْسَ بِسَائِرٍ فِي لِسَانِهِمْ أَنَّ الْعِقَالَ صَدَقَةُ عَامٍ، قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ بِالْمَعْنَى، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ بِالْمَبْنَى، وَسَبَبُهُ اسْتِبْعَادُ أَنْ يُقَاتِلَ عَلَى الشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْكَثِيرِ بِالْقَلِيلِ عَلَى قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ كَالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَيُؤَيِّدُ إِيمَاءَ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا، وَفِي أُخْرَى: جِدْيًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ فَرِيضَةٍ عِقَالًا، فَإِذَا جَاءَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ بَاعَهَا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا، وَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ الصَّدَقَةَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يَأْمُرُ الرَّجُلَ إِذَا جَاءَ بِفَرِيضَتَيْنِ أَنْ يَأْتِيَ بِعِقَالِهِمَا وَقِرَانِهِمَا، وَمِنَ الثَّانِي حَدِيثُ عُمَرَ أَنَّهُ أَخَذَ الصَّدَقَةَ عَامَ الرَّمَادَةِ، فَلَمَّا أَحْيَا النَّاسُ بَعَثَ عَامِلَهُ فَقَالَ: اعْقِلْ عَنْهُمْ عِقَالَيْنِ فَاقْسِمْ فِيهِمْ عِقَالًا وَائْتِنِي بِالْآخَرِ يَزِيدُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ اه. وَلَا خِلَافَ فِي إِطْلَاقِ الْعِقَالِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِهِ هُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقُلْتُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأَلَّفِ النَّاسَ) أَيِ: اطْلُبْ أُلْفَتَهُمْ لَا فُرْقَتَهُمْ (وَارْفُقْ بِهِمْ) : بِضَمِّ الْفَاءِ أَيِ: الْطُفْ بِهِمْ وَلَا تُغْلِظْ عَلَيْهِمْ (فَقَالَ لِي: أَجَبَّارٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: أَنْتَ شَجِيعٌ مُتَهَوِّرٌ غَضُوبٌ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ (وَخَوَّارٌ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: جَبَانٌ وَعَطُوفٌ (فِي الْإِسْلَامِ) ؟ أَيْ فِي أَيَّامِهِ وَأَحْكَامِهِ، مَعَ أَنَّ مَا وَرَدَ: مِنْ أَنَّ مَعَادِنَ الْعَرَبِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا مُشْعِرٌ بِأَنَّ طِبَاعَهُمُ الْأَصْلِيَّةَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَنْ أَحْوَالِهِمُ الْأَوَّلِيَّةِ، إِنَّمَا يَخْتَلِفُ إِيقَاعُهَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ بَعْدَ مَا كَانَ يُصْرَفُ حُصُولُهَا فِي الْحَالَاتِ التَّعَصُّبِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، فَفِي النِّهَايَةِ هُوَ مِنْ خَارَ يَخُورُ إِذَا ضَعُفَتْ قَوَّتُهُ وَوَهَنَتْ شَوْكَتُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْكَرَ عَلَيْهِ ضَعْفَهُ وَوَهَنَهُ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ جَبَّارًا بَلْ أَرَادَ بِهِ التَّصَلُّبَ وَالشِّدَّةَ فِي الدِّينِ، لَكِنْ لَمَّا ذَكَرَ الْجَاهِلِيَّةَ قَرَنَهُ بِذِكْرِ الْجَبَّارِ. قُلْتُ: هَذَا وَهْمٌ

فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ جَبَّارًا مُتَسَلِّطًا مُتَعَدِّيًا عَنِ الْحَدِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَضُرُّهُ أَبَدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا أَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الْمُدَّعِي مِنَ الْمُؤَدِّي (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ وَهُوَ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (قَدِ انْقَطَعَ الْوَحْيُ) أَيْ: فَلَا نَصِلُ إِلَى التَّيْقِينِ، فَلَابُدَّ لَنَا مِنْ الِاجْتِهَادِ الْمُبِينِ (وَتَمَّ الدِّينُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَتَمَّ الدِّينُ أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] (أَيَنْقُصُ) أَيِ: الدِّينُ وَهُوَ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ أَوْ مُتَعَدٍّ (وَأَنَا حَيٌّ) . جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ عَلَى طِبْقِ قَوْلِهِمْ جَاءَ زَيْدٌ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ (رَوَاهُ رَزِينٌ) . وَفِي (الرِّيَاضِ) ، ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ هَذَا اللَّفْظُ، وَمَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَنَقَلَ الْحَلَبِيُّ فِي حَاشِيَةِ الشِّفَاءِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ بِعَيْنِ الرِّضَا مِنَ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُرَادِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلْ مُؤْمِنًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَرْضِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِحَالِهِ غَيْرَ مَغْضُوبٍ فِيهَا عَلَيْهِ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ وَيَصِيرُ مِنْ خُلَاصَةِ الْأَبْرَارِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَاسْتَوَى الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي قَالَهَا الْأَشْعَرِيُّ فِي حَقِّ الصِّدِّيقِ لَمْ تُحْفَظْ عَنْهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِي حَالِ كُفْرٍ بِاللَّهِ اه. وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ مَشَايِخِنَا وَمِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنَقَلَ ابْنُ ظُفَرَ بَلْ فِي أَنْبَاءِ نُجَبَاءِ الْأَنْبَاءِ، أَنَّ الْقَاضِي أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الزَّبِيدِيَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى: (مَعَالِي الْعَرْشِ إِلَى عَوَالِي الْفَرْشِ) أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَعَيْشُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي لَمْ أَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ، وَقَدْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، وَأَنَّ أَبَا قُحَافَةَ أَخَذَ بِيَدِي وَانْطَلَقَ بِي إِلَى مَخْدَعٍ فِيهِ الْأَصْنَامُ فَقَالَ: هَذِهِ آلِهَتُكَ الشُّمُّ الْعُلَى، فَاسْجُدْ لَهَا وَخَلَّانِي وَمَضَى، فَدَنَوْتُ مِنَ الصَّنَمِ فَقُلْتُ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي فَلَمْ يُجِبْنِي، فَقُلْتُ: إِنِّي عَارٍ فَاكْسُنِي فَلَمْ يُجِبْنِي، فَأَخَذْتُ صَخْرَةً فَقُلْتُ: إِنِّي مُلْقٍ عَلَيْكَ هَذِهِ الصَّخْرَةَ فَإِنْ كُنْتَ إِلَهًا فَامْنَعْ نَفْسَكَ فَلَمْ يُجِبْنِي، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ الصَّخْرَةَ فَخَرَّ لِوَجْهِهِ وَأَقْبَلَ أَبِي فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بُنَيَّ فَقُلْتُ: هُوَ الَّذِي تَرَى، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: دَعْهُ فَهُوَ الَّذِي نَاجَانِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَقُلْتُ: يَا أُمَّهُ! مَا الَّذِي نَاجَاكِ بِهِ؟ قَالَتْ: لَيْلَةَ أَصَابَنِي الْمَخَاضُ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي أَحَدٌ، فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَقُولُ: يَا أَمَةَ اللَّهِ عَلَى التَّحْقِيقِ أَبْشِرِي بِالْوَلَدِ الْعَتِيقِ، اسْمُهُ فِي السَّمَاءِ الصِّدِّيقُ لِمُحَمَّدٍ صَاحِبٌ وَرَفِيقٌ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمَّا انْقَضَى كَلَامُ أَبِي بَكْرٍ نَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ: صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ اه. وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْكُفْرِ لَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَوِ اتَّخَذْتُ أَحَدًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» ) هُوَ أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ مَا سَبَقَ مُشَابِهًا لِمَا وَقَعَ مِنَ الْخَلِيلِ فِي ضَرْبِ الصَّنَمِ وَمُخَالَفَةِ الْأَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب مناقب عمر رضي الله عنه]

[بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [4] بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6035 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [4] بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6035 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ) : بَيَانٌ لِمَا بِمَعْنَى (مِنْ) أَيْ فِي الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ (مُحَدَّثُونَ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: نَاسٌ مُلْهَمُونَ كَمَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ. (فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ) أَيْ: وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا (فَإِنَّهُ عُمَرُ) . أَيْ وَإِنْ يَكُ أَكْثَرُ فَهُوَ حِينَئِذٍ أَوْلَى وَأَظْهَرُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمُحَدَّثُ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الرَّجُلُ الصَّادِقُ الظَّنِّ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ.

شَيْءٌ مِنْ قِبَلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَيَكُونُ كَالَّذِي حَدَّثَ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَهُوَ عُمَرُ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْقَوْلَ مَوْرِدَ التَّرَدُّدِ، فَإِنَّ أُمَّتَهُ أَفْضَلُ الْأُمَمِ وَإِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونُوا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرَ عَدَدًا وَأَعْلَى رُتْبَةً، وَإِنَّمَا وَرَدَ مَوْرِدَ التَّأْكِيدِ وَالْقَطْعِ بِهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي الْفَهْمِ مَحَلُّهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: إِنْ يَكُنْ لِي صَدِيقٌ فَإِنَّهُ فُلَانٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ اخْتِصَاصَهُ بِالْكَمَالِ فِي صَدَاقَتِهِ لَا نَفْيَ الْأَصْدِقَاءِ اه. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِذَلِكَ الشَّكَّ فِي صَدَاقَتِهِ وَالتَّرَدُّدَ فِي أَنَّهُ هَلْ لَكَ صَدِيقٌ بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَنَّ الصَّدَاقَةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ لَا تَتَخَطَّاهُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ نَبِيٌّ وَكُتُبُهُمْ طَرَأَ عَلَيْهَا التَّبْدِيلُ، وَاحْتُمِلَ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا تَحْتَاجُ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَى ذَلِكَ لِاسْتِغْنَائِهَا بِالْقُرْآنِ الْمَأْمُونِ تَبْدِيلُهُ وَتَحْرِيفُهُ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الشَّرْطُ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْأَجِيرِ: إِنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ فَوَفِّنِي حَقِّي وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُخَيَّلُ فِي كَلَامِهِ أَنَّ تَفْرِيطَكَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ فِعْلُ مَنْ لَهُ شَكٌّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مَعَ وُضُوحِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحَدَّثِ الْمُلْهَمِ الْمُبَالَغِ فِيهِ الَّذِي انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْإِلْهَامِ، فَالْمَعْنَى لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءُ يُلْهَمُونَ مِنْ قِبَلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَإِنَّ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ عُمَرُ جَعَلَهُ لِانْقِطَاعِ قَرِينِهِ وَتَفَوُّقِهِ عَلَى أَقْرَانِهِ فِي هَذَا، كَأَنَّهُ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَمْ لَا. فَاسْتَعْمَلَ (إِنْ) وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي: لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بِمَنْزِلَةِ إِنْ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، كَمَا فِي قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخِفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ مُسْتَدْرِكًا عَلَى مُسْلِمٍ فِي كَوْنِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي (الْمَنَاقِبِ) أَيْضًا. قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ عَنْهُ الْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ثُمَّ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ: ( «قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عَائِشَةَ، فَفِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مُسَامَحَةٌ لَا تَخْفَى، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِيرَكُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَهُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ذَكَرَهُ فِي الرِّيَاضِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَرَّجَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَهُوَ عُمَرُ» ) وَمَعْنَى مُحَدَّثُونَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مُلْهَمُونَ الصَّوَابَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِأَنْ تُحَدِّثَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا بِوَحْيٍ، بَلْ بِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ حَدِيثٍ وَتِلْكَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ.

6036 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ فَبَادَرْنَ الْحِجَابَ، فَدَخَلَ عُمَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُ، فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ) قَالَ عُمَرُ؟ يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ! أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ؟ أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: زَادَ الْبَرْقَانِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَضْحَكَكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6036 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ) ، أَيْ جَمَاعَةٌ مِنَ النِّسَاءِ (مِنْ قُرَيْشٍ) ، قَالَ الْقَسْطَلَانِيُّ: هُنَّ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَغَيْرُهُنَّ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ: نِسْوَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُنَّ مَعَهُنَّ غَيْرُهُنَّ لَكِنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: (يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ) ، تُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَيْ يَسْتَكْثِرْنَهُ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يُرَاعِينَ مَقَامَ الِاحْتِشَامِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ، أَيْ: يَطْلُبْنَ مِنْهُ النَّفَقَاتِ الْكَثِيرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ (عَالِيَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: أَوْ بِالرَّفْعِ عَلَى الْوَصْفِ اه. وَفِي رِوَايَةٍ: رَافِعَاتٍ (أَصْوَاتُهُنَّ) ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عُلُوَّ أَصْوَاتِهِنَّ إِنَّمَا كَانَ لِاجْتِمَاعِهِنَّ فِي الصَّوْتِ، لَا أَنَّ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ أَعْلَى مِنْ صَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَقُولُ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَفْعَ أَصْوَاتِهِنَّ كَانَ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُرَدَّ الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الْآيَةَ. بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِنَّ مِنَ الْخَفْضِ وَرَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ فِي كَلَامِهِنَّ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِمَادًا عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ) :

وَالْحَالُ أَنَّهُ مِنَ الْأَجَانِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكْثَرِهِنَّ، لَاسِيَّمَا وَهُوَ غَيُورٌ غَضُوبٌ غَالِبٌ عَلَيْهِ الصِّفَةُ الْجَلَالِيَّةُ (قُمْنَ) أَيْ: مِنْ مَكَانِهِنَّ (فَبَادَرْنَ بِالْحِجَابِ) ، أَيْ سَارَعْنَ إِلَى حِجَابِهِنَّ عَلَى مُقْتَضَى آدَابِهِنَّ (فَدَخَلَ عُمَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُ) ، أَيْ يَتَبَسَّمُ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ عُمَرَ مَعَ غَلَبَةِ قَهْرِهِ وَشِدَّةِ سَطْوَتِهِ كَانَ مُظْهِرًا لِبَسْطِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيْ أَدَامَ اللَّهُ فَرَجَكَ الْمُوجِبَ لِبُرُوزِ سِنِّكَ وَظُهُورِ نُورِكَ، لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَظُهُورِ أَمْرٍ عَجِيبٍ، فَأَطْلِعْنِي عَلَيْهِ وَشَرِّفْنِي بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي) ، أَيْ فِي حَالَةٍ غَرِيبَةٍ وَمَقَالَةٍ عَجِيبَةٍ (فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ) أَيْ: بِالْإِذْنِ (ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ) . أَيْ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانِهِنَّ وَإِخْفَاءِ حَالِهِنَّ وَشَأْنِهِنَّ خَوْفًا مِنْكَ وَهَيْبَةً لَكَ (قَالَ عُمَرُ) أَيْ: خِطَابًا لَهُنَّ (يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ! أَتَهَبْنَنِي) : بِفَتْحِ الْهَاءِ، يُقَالُ: هِبْتُ الرَّجُلَ بِكَسْرِ الْهَاءِ إِذَا وَقَّرْتُهُ وَعَظَّمْتُهُ مِنَ الْهَيْبَةِ أَيْ أَتُوَقِّرْنَنِي (وَلَا تَهَبْنَ) أَيْ: وَلَا تُعَظِّمْنَ (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ) ، هَذَا غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى مَجْمُوعِ قَوْلِ عُمَرَ بَلْ إِلَى قَوْلِهِ: أَتُوَقِّرْنَنِي فَقَطْ، وَإِلَّا فَيَشْكُلُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَلَا يَعْبُدُ أَنْ يَكُونَ نَعَمْ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا وَمُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِهِ: (أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ) ، أَيْ أَنْتَ كَثِيرُ الْفَظِّ أَيْ سَيِّءُ الْكَلَامِ وَكَثِيرُ الْغِلَظِ أَيْ: شَدِيدُ الْقَلْبِ بِخِلَافِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ حَسَنُ الْخُلُقِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَقَالَ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: (خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يُرِدْنَ بِذَلِكَ إِثْبَاتَ مَزِيدِ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ لَعُمَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا مُوَاسِيًا رَقِيقَ الْقَلْبِ فِي الْغَايَةِ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي فَظَاظَةِ عُمَرَ وَغِلَظِهِ مُطْلَقًا اه. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ فِيكَ زِيَادَةَ فَظَاظَةٍ وَغِلْظَةٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى غَيْرِكَ لَا بِالْقِيَاسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ رَفِيقًا حَلِيمًا جِدًّا، لَكِنْ يُشْكِلُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي بَابِ التَّبَسُّمِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ فَقُلْنَ: إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَابِ الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَالشِّتَاءُ أَبْرَدُ مِنَ الصَّيْفِ، فَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي حَالِهِ عَلَى أَعْلَى مَرْتَبَةِ كَمَالِهِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِيهٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالْهَاءِ مُنَوَّنًا وَقَدْ يُتْرَكُ تَنْوِينُهُ أَيْ حَدِّثْ حَدِيثًا وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى جَوَابِهِنَّ (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) وَفِي رِوَايَةٍ يَا «عُمَرُ» وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فِعْلٍ يُطْلَبُ بِهِ الزِّيَادَةُ أَيِ اسْتَزِدْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصَلُّبِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ( «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا» ) أَيْ: ذَاهِبًا طَرِيقًا وَاسِعًا (قَطُّ إِلَّا سَلَكَ غَيْرَ فَجِّكَ) . فَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِعُمَرَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِصْمَةِ إِذْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِغَفْلَتِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِيهٍ اسْمٌ سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِذَا اسْتَزَدْتَهُ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ عَمَلٍ. إِيهٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ، فَإِنْ وَصَّلْتَ نَوَّنْتَ، وَقُلْتَ: إِيهٍ حَدِيثًا، وَإِذَا أَسْكَتَّهُ وَكَفَفْتَهُ. قُلْتَ: إِيهًا عَنَّا وَمِنْ حَقِّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ إِيهًا أَيْ كُفَّ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ مَجْرُورًا مُنَوَّنًا وَالصَّوَابُ إِيهًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي (جَامِعِهِ) ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرٌ. أَقُولُ: إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَطَابَقَتِ الدِّرَايَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَصْحِيحِ مَعْنَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْطِئَةِ فِي مَبْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُوَقِّرْنَنِي وَلَا تُوَقِّرْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) : هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ هِبْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَقَّرْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ، يُقَالُ: هَبِ النَّاسَ يَهَابُوكَ أَيْ وَقِّرْهُمْ يُوَقِّرُوكَ اه. كَلَامُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَوْقِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ تَجِبُ الِاسْتِزَادَةُ مِنْهُ، فَكَأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِيهٍ) اسْتِزَادَةٌ مِنْهُ فِي طَلَبِ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِ جَانِبِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) إِلَخْ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِرْضَاءٍ لَيْسَ بَعْدَهُ اسْتِرْضَاءٌ إِحْمَادًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفِعَالِهِ كُلِّهَا، لَا سِيَّمَا هَذِهِ الْفِعْلَةِ.

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي قَوْلِهِ: مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا، تَنْبِيهٌ عَلَى صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ وَاسْتِمْرَارِ حَالِهِ عَلَى الْجِدِّ الصِّرْفِ، وَالْحَقِّ الْمَحْضِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالسَّيْفِ الصَّارِمِ وَالْحُسَامِ الْقَاطِعِ، إِنْ أَمْضَاهُ مَضَى، وَإِنْ كَفَّهُ كَفَّ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الشَّيْطَانِ سُلْطَانٌ إِلَّا مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ هُوَ كَالْوَازِعِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، فَلِهَذَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَنْحَرِفُ عَنِ الْفَجِّ الَّذِي سَلَكَهُ. وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحْمَةً مُهْدَاةً إِلَى الْعَالَمِينَ، مَأْمُورًا بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، مَعْنِيًّا بِالصَّفْحِ عَنِ الْجَاهِلِينَ لَمْ يَكُنْ لِيُوَاجِهَهُمْ فِيمَا لَا يُحْمَدُ مِنْ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ أَوْ سُوءِ أَدَبٍ بِالْفَظَاظَةِ وَالْغَلَاظَةِ وَالزَّجْرِ الْبَلِيغِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الصَّفْحُ وَالْعَفْوُ مَعَ تِلْكَ الْخِلَالِ. فَلِهَذَا تَسَامَحَ هُوَ فِيهَا وَاسْتَحْسَنَ إِشْعَارَهُنَّ الْهَيْبَةَ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ مَتَى رَآهُ سَالِكًا فَجًّا هَرَبَ لِرَهْبَتِهِ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفَارَقَ ذَلِكَ الْفَجَّ لِشِدَّةِ بِأْسِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ضَرَبَ مَثَلًا بِالشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَارَقَ سَبِيلَ الشَّيْطَانِ، وَسَلَكَ طَرِيقَ السَّدَادِ، وَخَالَفَ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَلَفْظُهُمَا: فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَ عُمَرَ انْقَمَعْنَ وَسَكَنَّ أَيْ: ذَلَلْنَ وَارْتَدَعْنَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، الْحَدِيثَ. مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَوَابِهِنَّ. (وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ (زَادَ الْبَرْقَانِيُّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تُكْسَرُ مَنْسُوبٌ إِلَى بَرْقَانَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى خُوَارِزْمَ (بَعْدَ قَوْلِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَضْحَكَكَ) . اهـ. فَكَأَنَّهُ حَذَفَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ نِسْيَانًا أَوِ اخْتِصَارًا لِظُهُورِهِ، أَوْ هَذَا مِنْ زِيَادَةِ بَعْضِ الثِّقَاتِ أَوْ مِنْ إِدْرَاجِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ كَمَا أَشَرْنَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ.

6037 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ خَشَفَةً، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا بِلَالٌ. وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ) فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعَلَيْكَ أَغَارُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6037 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ) أَيْ: لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، أَوْ فِي عَالَمِ الْكَشْفِ، أَوْ حَالَةَ الرُّؤْيَا (فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ) : بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ تَصْغِيرُ رَمْصَاءَ، وَهِيَ امْرَأَةٌ فِي عَيْنِهَا رَمَصٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ مَا جَمُدَ مِنَ الْوَسَخِ فِي الْمُوقِ وَهُوَ هُنَا اسْمُ أُمِّ أَنَسٍ أَوْ لَقَبُهَا (امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ) ، بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَجُوِّزَ رَفْعُهَا وَكَذَا نَصْبُهَا (وَسَمِعْتُ خَشَفَةً) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَالْفَاءِ أَيْ حَرَكَةً وَزْنًا وَمَعْنًى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ أَيْ صَوْتًا، فَفِي الْمَشَارِقِ الْخَشْفَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ هُوَ الصَّوْتُ لَيْسَ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الصَّوْتُ الْوَاحِدُ وَبِتَحْرِيكِ الشِّينِ الْحَرَكَةُ، وَفِي (النِّهَايَةِ) الْخَشَفَةُ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ الْحَرَكَةُ اهـ. وَالْمُرَادُ هُنَا صَوْتُ النَّعْلِ النَّاشِئِ مِنْ حَرَكَةِ الْمَاشِي (فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا) ؟ أَيِ الْمُتَحَرِّكُ أَوْ صَاحِبُ الْحَرَكَةِ (قَالَ) أَيْ: قَائِلٌ مِنْ جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ (هَذَا بِلَالٌ، وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَالْمَدِّ أَيْ: مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهِ (جَارِيَةٌ) ، أَيْ مَمْلُوكَةٌ أَوْ حَوْرَاءُ (فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا) ؟ أَيِ الْقَصْرُ وَمَا فِيهِ وَفِي حَوَالَيْهِ (فَقَالُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ: قَالُوا أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ سُكَّانِ الْقَصْرِ (لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ) أَيِ: الْقَصْرَ (فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ) أَيْ: نَظَرًا مُفَصَّلًا أَوْ إِلَى بَاطِنِهِ كَمَا رَأَيْتُ ظَاهِرَهُ (فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ) . أَيْ شِدَّتَهَا وَحِدَّتَهَا وَفِي الْقَامُوسِ يُقَالُ: غَارَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ عَلَيْهِ تَغَارُ غَيْرَةً بِالْفَتْحِ (قَالَ عُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَأَنْتَ مُبْتَدَأٌ، وَبِأَبِي خَبَرُهُ أَيْ: أَنْتَ مُفَدًّى بِأَبِي وَأُمِّي كَذَلِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِأَبِي وَأُمِّي أَيْ أَنْتَ مُفَدًّى بِهِمَا، وَالْمَعْنَى جَعَلَهُمَا اللَّهُ فِدَاءَكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعَلَيْكَ) أَيْ: عَلَى فِعْلِكَ أَوْ دُخُولِكَ (أَغَارُ) ؟ مُتَكَلِّمٌ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ قَلْبٌ، وَالْأَصْلُ أَعَلَيْهَا أَغَارُ مِنْكَ؟ وَزَادَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَهَلْ رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَّا بِكَ، وَهَلْ هَدَانِي اللَّهُ إِلَّا بِكَ؟ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ بُرَيْدَةَ وَعَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا: ( «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِشَابٍّ مِنْ قُرَيْشٍ، فَظَنَنْتُ أَنِّي أَنَا هُوَ. قُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالُوا: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَوْلَا مَا عَلِمْتُ مِنْ غَيْرَتِكَ لَدَخَلْتُ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ( «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشَفَةً بَيْنَ يَدَيَّ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الْخَشَفَةُ؟ فَقِيلَ: الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ» ) . وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّيَالِسِيُّ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: ( «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشَفَةً فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: هَذَا بِلَالٌ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشَفَةً فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: هَذِهِ الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ» ) .

قَالَ فِي (الرِّيَاضِ) : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « (أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ قَصْرًا مَنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَدْخُلَهُ إِلَّا عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ) . قَالَ: عَلَيْكَ أَغَارُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي عَلَيْكَ أَغَارُ!» أَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» ) . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ. قُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَةَ عُمَرَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ وَنَحْنُ جَمِيعٌ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ؟ «لَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا بِلَالًا فَقَالَ: (يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ إِلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، دَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، فَأَتَيْتُ عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ. قُلْتُ: أَنَا عَرَبِيٌّ. لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: أَنَا قُرَيْشِيٌّ. لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . قَالَ: (أَنَا مُحَمَّدٌ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِبِلَالٍ) . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ أَنَّ لِلَّهَ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بِهِمَا) » .

6038 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ) . قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الدِّينَ) » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6038 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ) ، بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ قَمِيصٍ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْقُمُصِ (مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ) ، بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ جَمَعُ الثَّدْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ وَالتَّخْفِيفِ، فَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ (وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ) ، أَيْ قُمُصٌ أَقْصَرُ مِنْهُ أَوْ أَطْوَلُ مِنْهُ، أَوْ أَعَمُّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ دُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى: غَيْرُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] . وَفِي (فَتْحِ الْبَارِي) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ دُونَهُ مِنْ جِهَةِ السُّفْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَيَكُونُ أَطْوَلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ دُونَهُ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ فَيَكُونُ أَقْصَرَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي رِوَايَةِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَمِيصُهُ إِلَى سُرَّتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَمِيصُهُ إِلَى رُكْبَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَمِيصُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ الرِّيَاضِ: وَمِنْهَا مَا هُوَ أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ (وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ) أَيْ: عَظِيمٌ (يَجُرُّهُ) . أَيْ يَسْحَبُهُ فِي الْأَرْضِ لِطُولِهِ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنَ الْحَاضِرِينَ (فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ؟ أَيْ فَمَا عَبَّرْتَ جَرَّ الْقَمِيصِ لِعُمَرَ (قَالَ: الدِّينَ) . بِالنَّصْبِ أَيْ أَوَّلْتُهُ الدِّينَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيِ الْمُؤَوَّلُ بِهِ هُوَ الدِّينُ، وَالْمَعْنَى يُقَامُ الدِّينُ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ مَعَ طُولِ زَمَانِ إِمَارَتِهِ، وَبَقَاءِ أَثَرِ فُتُوحَاتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ، أَوْ لِأَنَّ الدِّينَ يُشِيدُ الْإِنْسَانَ وَيَحْفَظُهُ وَيَقِيهِ الْمُخَالَفَاتِ كَوِقَايَةِ الثَّوْبِ وَشُمُولِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقَمِيصُ الدِّينُ، وَجَرُّهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ آثَارِهِ الْجَمِيلَةِ وَسُنَّتِهِ الْحَسَنَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ اللَّبَنِ بِالْعِلْمِ فَلِكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا، وَفِي أَنَّهُمَا سَبَبَا الصَّلَاحِ، فَاللَّبَنُ غِذَاءُ الْإِنْسَانِ وَسَبَبُ صَلَاحِهِمْ وَقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ، وَالْعِلْمُ سَبَبُ الصَّلَاحِ وَغِذَاءٌ لِلْأَرْوَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ.

6039 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: « (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْعِلْمَ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6039 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ: إِذْ رَأَيْتُ قَدَحًا أُتِيتُ بِهِ فِيهِ لَبَنٌ (فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَقَدْ يُفْتَحُ (لَأَرَى الرِّيَّ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ أَثَرَ اللَّبَنِ مِنَ الْمَاءِ (يَخْرُجُ) أَيْ: يَظْهَرُ وَفِي رِوَايَةٍ يَجْرِي (فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي) أَيْ: سُؤْرِي الْكَثِيرَ الْخَالِصَ (عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) . فَلَا يُنَافِي أَنَّ سُؤْرَهُ حَصَلَ لِلصِّدِّيقِ أَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ قَلِيلًا جِدًّا، وَلَا أَنَّ سُؤْرَهُ لِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَيْضًا وَصَلَ فَإِنَّهُ لَهُمَا لَمْ يَكُنْ صَافِيًا (قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ) ؟ أَيِ اللَّبَنَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْعِلْمَ) . بِالنَّصْبِ وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُوَ عِلْمُ الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ عَالَمٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ عَالَمُ الْمِثَالِ، وَهُوَ عَالَمٌ نُورَانِيٌّ شَبِيهٌ بِالْجُسْمَانِيِّ، وَالنَّوْمُ سَبَبٌ لِسَيْرِ الرُّوحِ الْمُنَوَّرِ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ، وَرُؤْيَةِ مَا فِيهِ مِنَ الصُّوَرِ غَيْرِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَالْعِلْمُ مُصَوَّرٌ بِصُوَرِ اللَّبَنِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ اللَّبَنَ أَوَّلُ غِذَاءِ الْبَدَنِ وَسَبَبُ صَلَاحِهِ، وَالْعِلْمَ أَوَّلُ غِذَاءِ الرُّوحِ وَسَبَبُ صَلَاحِهِ. وَقِيلَ: التَّجَلِّي الْعِلْمِيُّ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي أَرْبَعِ صُوَرٍ: الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ، تَنَاوَلَتْهَا آيَةٌ فِيهَا ذُكِرَتْ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، فَمَنْ شَرِبَ الْمَاءَ يُعْطَى الْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ، وَمَنْ شَرِبَ اللَّبَنَ يُعْطَى الْعِلْمَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ يُعْطَى الْعِلْمَ بِالْكَمَالِ، وَمَنْ شَرِبَ الْعَسَلَ يُعْطَى الْعِلْمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ الْأَنْهَارَ الْأَرْبَعَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ، وَيُطَابِقُهُ تَخْصِيصُ اللَّبَنِ بِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الرِّيُّ فِي الْعِلْمِ ; فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُودِهِ لِأَنَّ الِاسْتِعْدَادَ مُتَنَاهٍ وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا لَمْ يُقْبَلْ فَيَحْصُلُ الرِّيُّ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مَعَهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِعَدَمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] فَالْأَمْرُ بِطَلَبِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِلَا ذِكْرِ النِّهَايَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي زِيَادَةٍ فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ، وَإِنَّ التَّوَقُّفَ لَيْسَ فِي طَوْرِ الْإِنْسَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: ( «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ الْعِلْمِ وَطَالَبُ الدُّنْيَا» ) . وَمِنْهُ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّامِيَ أَنَّهُ قَالَ: شَرِبْتُ الْحُبَّ كَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ ... فَمَا نَفِدَ الشَّرَابُ وَلَا رَوِيتُ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا حَصَلَ بِقَدْرِ الِاسْتِعْدَادِ الْقَابِلِ أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادًا لِعِلْمٍ آخَرَ فَيَحْصُلُ لَهُ عَطَشٌ آخَرُ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ: طَالِبُ الْعِلْمِ كَشَارِبِ الْبَحْرِ، كَمَا كُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا. وَعَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبِدَايَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النِّهَايَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَلِهَذَا بَلَغَ عِلْمُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ جُمِعَ عِلْمُ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ، وَوُضِعَ عِلْمُ عُمَرَ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ، وَلَقَدْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ.

6040 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ؟ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ، ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6040 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ» ) أَيْ: بِئْرٍ لَمْ تُطْوَ وَضِدُّهَا الْمَطْوِيَّةُ بِالْحِجَارَةِ وَالْآجُرِّ (عَلَيْهَا) أَيْ: فَوْقَهَا (دَلْوٌ) أَيْ: وَدَلْوٌ مُعَلَّقَةٌ عَلَيْهَا (فَنَزَعْتُ) أَيْ: جَذَبْتُ مِمَّا فِيهَا (مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ) ، أَيْ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ (ثُمَّ أَخَذَهَا) أَيِ: الدَّلْوَ (ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ) : بِضَمِّ الْقَافِ (فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا) : بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الدَّلْوُ وَفِيهَا مَاءٌ، أَوِ الْمَلْأَى أَوْ دُونَ الْمَلْأَى كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (أَوْ ذَنُوبَيْنِ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ ذَنُوبَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (أَوْ) بِمَعْنَى (بَلْ) فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَخْطِئَةِ الرَّاوِي وَلَا إِلَى شَكِّهِ وَتَرَدُّدِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِهِمَا إِشَارَةً إِلَى قِلَّتِهِ مَعَ عَدَمِ النَّظَرِ عَنْ تَحَقُّقِ عَدَدِهِ. (وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ دُعَائِيَّةٌ وَقَعَتِ اعْتِرَاضِيَّةً مُبَيِّنَةً أَنَّ الضَّعْفَ الَّذِي وُجِدَ فِي نَزْعِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ تَغَيُّرُ الزَّمَانِ وَقِلَّةُ الْأَعْوَانِ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَيْهِ بِنَقِيضِهِ (ثُمَّ اسْتَحَالَتْ) أَيِ: انْقَلَبَتِ الدَّلْوُ الَّتِي كَانَتْ ذَنُوبًا (غَرْبًا) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ دَلْوًا عَظِيمَةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَزَادَ ابْنُ الْمَلَكِ: الَّتِي تُتَّخَذُ مِنْ جِلْدِ ثَوْرٍ، (فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ رَجُلًا قَوِيًّا (مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ) : بِكَسْرِ الزَّايِ (نَزْعَ عُمَرَ) أَيْ: جَبْذَهُ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ) ، بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ حَتَّى أَرْوَوْا إِبِلَهُمْ فَأَبْرَكُوهَا وَضَرَبُوا لَهَا عَطَنًا وَهُوَ مَبْرَكُ الْإِبِلِ حَوْلَ الْمَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّ الْقَلِيبَ إِشَارَةٌ إِلَى الدِّينِ الَّذِي هُوَ مَنْبَعُ مَا بِهِ تَحْيَا النُّفُوسُ وَيَتِمُّ أَمْرُ الْمَعَاشِ، وَنَزْعُ الْمَاءِ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْتَهِي مِنَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْهُ إِلَى عُمَرَ، وَنَزْعُ أَبِي بَكْرٍ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَرِ مُدَّةِ خِلَافَتِهِ، وَأَنَّ

الْأَمْرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِيَدِهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى عُمَرَ، وَكَانَ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَضَعْفُهُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ فِي أَيَّامِهِ مِنَ الْإِضْرَابِ وَالِارْتِدَادِ وَاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ، أَوْ إِلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ لِينِ الْجَانِبِ وَقِلَّةِ السِّيَاسَةِ وَالْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ضَعْفَهُ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ ذَكَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعْلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ وَمَغْفُورٌ عَنْهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي مَنْصِبِهِ، وَمَصِيرُ الدَّلْوِ فِي نَوْبَةِ عُمَرَ غَرْبًا، وَهُوَ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَسْتَقِي بِهِ الْبَعِيرُ إِشَارَةً إِلَى مَا كَانَ فِي أَيَّامِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الدِّينِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَتَوَسُّعِ خِطَطِهِ وَقُوَّتِهِ، وَجِدُّهُ فِي النَّزْعِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اجْتَهَدَ فِي إِعْلَاءِ أَمْرِ الدِّينِ، وَإِفْشَائِهِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا اجْتِهَادًا بِمَا لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَالْعَبْقَرِيُّ: الْقَوِيُّ، وَقِيلَ: الْعَبْقَرُ اسْمُ وَادٍ يَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّ الْجِنَّ تَسْكُنُهُ فَنَسَبُوا إِلَيْهِ كُلَّ مَنْ تَعَجَّبُوا مِنْهُ أَمْرًا كَقُوَّةٍ وَغَيْرِهَا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَا وَجَدُوا مِنْهُ خَارِجًا عَنْ وُسْعِ الْإِنْسَانِ، فَحَسِبُوا أَنَّهُ جِيءَ مِنَ الْعَبْقَرِ، ثُمَّ قَالُوهُ لِكُلِّ شَيْءٍ نَفِيسٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: فِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ لَيْسَ بِهِ حَطٌّ لِمَنْزِلَتِهِ، وَلَا إِثْبَاتُ فَضِيلَةٍ لِعُمَرَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ مُدَّةِ وِلَايَتِهِمَا، وَكَثْرَةِ انْتِفَاعِ النَّاسِ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ لِطُولِهَا وَلِاتِّسَاعِ الْإِسْلَامِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ وَحُصُولِ الْأَمْوَالِ وَالْغَنَائِمِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ، فَلَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ وَلَا إِشَارَةٌ إِلَى ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُزَيِّنُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّهَا كَلِمَةٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَهَا افْعَلْ كَذَا وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ. وَفِي قَوْلِهِ: فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ إِشَارَةٌ إِلَى نِيَابَةِ أَبِي بَكْرٍ وَخِلَافَتِهِ بَعْدَهُ، وَرَاحَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَفَاتِهِ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا. وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَمَعَ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَجَمَعَ شَمْلَ الْمُسْلِمِينَ وَابْتَدَأَ الْفُتُوحَ وَمَهَّدَ الْأُمُورَ، وَتَمَّتْ ثَمَرَاتُ ذَلِكَ وَتَكَامَلَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

6041 - وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ، حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6041 - (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ) أَيْ: فَلَمْ أُبْصِرْ أَوْ فَلَمْ أَعْرِفْ (عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُرْوَى بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَأَنْكَرَ الْخَلِيلُ التَّشْدِيدَ وَمَعْنَاهُ لَمْ أَرَ شَيْئًا يَعْمَلُ عَمَلَهُ وَيَقْطَعُ قَطْعَهُ، وَأَصْلُ الْفَرْيِ بِالْإِسْكَانِ الْقَطْعُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: تَرَكْتُهُ يَفْرِي الْفَرْيَ إِذَا عَمِلَ الْعَمَلَ فَأَجَادَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . الْمَفْهُومُ مِنَ الرِّيَاضِ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى لِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ لَهُمَا، وَلِأَحْمَدَ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (يَفْرِي فَرْيَهُ) . (حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ) . وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: رَأَيْتُ أَنِّي أَنْزِعُ عَلَى حَوْضٍ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ مِنْ يَدِي فَنَزَعَ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، فَأَمَّا ابْنُ الْخَطَّابِ فَأَخَذَهَا حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ. أَخْرَجَاهُ وَأَحْمَدُ. وَلِلْحَدِيثِ مُنَاسَبَةٌ لِبَابِ مَنَاقِبِ الشَّيْخَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ مَدْحٍ لِعُمَرَ خَصَّهُ الْمُصَنِّفُ بِبَابِ مَنَاقِبِهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 6042 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6042 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ» ) ، أَيْ: أَظْهَرَهُ وَوَضَعَهُ (عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمَّنَ جَعَلَ مَعْنَى أَجْرَى فَعَدَّاهُ بِعَلَى، وَفِيهِ مَعْنَى ظُهُورِ الْحَقِّ وَاسْتِعْلَائِهِ عَلَى لِسَانِهِ، وَفِي مَوْضِعِ الْجَعْلِ مَوْضِعَ أَجْرَى إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ خُلُقًا ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَقَلْبِهِ، يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْحَقَّ عَلَى قَلْبِ عُمَرَ وَلِسَانِهِ أَخْرَجَهُمَا الْبَغَوِيُّ فِي (الْفَضَائِلِ) .

6043 - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ بِهِ» ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6043 - (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: « (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ) أَيْ: عُمَرُ (بِهِ) » . أَيْ بِالْحَقِّ أَوِ التَّقْدِيرُ يَقُولُ الْحَقَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَضْعِ وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالُ عَيَانٍ.

6044 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6044 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، أَيْ مَوْقُوفًا (قَالَ: مَا كُنَّا) أَيْ: أَهْلُ الْبَيْتِ أَوْ مَعْشَرُ الصَّحَابَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: وَنَحْنُ مُتَوَافِرُونَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نُبْعِدُ) : مِنَ الْإِبْعَادِ بِمَعْنَى الِاسْتِبْعَادِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا كُنَّا نَعُدُّ بَعِيدًا (أَنَّ السَّكِينَةَ) أَيْ: مَا بِهِ تَسْكُنُ النَّفْسُ وَتَمِيلُ إِلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّ فِي الْقَلْبِ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ (تَنْطِقُ) أَيْ: تَجْرِي (عَلَى لِسَانِ عُمَرَ) . أَيْ مِنْ قَلْبِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيْتُ عُمَرَ قَطُّ إِلَّا وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: لَمْ يَكُنْ نُبْعِدُ أَنَّهُ يَنْطِقُ بِمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تَسْكُنَ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، وَتَطْمَئِنَّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ غَيْبِيٌّ أُلْقِيَ عَلَى لِسَانِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالسَّكِينَةِ الْمَلَكَ الَّذِي يُلْهِمُهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَفِي النِّهَايَةِ قِيلَ: أَرَادَ بِهَا السَّكِينَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّهَا حَيَوَانٌ لَهُ وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ مُجْتَمِعٌ، وَسَائِرُهَا خَلْقٌ رَقِيقٌ كَالرِّيحِ وَالْهَوَاءِ، وَقِيلَ: هِيَ صُورَةٌ كَالْهِرَّةِ كَانَتْ مَعَهُمْ فِي جُيُوشِهِمْ، فَإِذَا ظَهَرَتِ انْهَزَمَ أَعْدَاؤُهُمْ، وَقِيلَ: هِيَ مَا كَانُوا يَسْكُنُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْطَاهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْأَشْبَهُ بِحَدِيثِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَا يَخْفَى بَعْدُ إِرَادَةُ الْقَوْلَيْنِ هُنَا. فَالْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ التُّورِبِشْتِيُّ أَوَّلًا، وَهُوَ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى مَعْنَاهُ جَمِيعُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ السَّكِينَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] وَقَوْلِهِ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] وَنَحْوِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

6045 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) فَأَصْبَحَ عُمَرُ، فَغَدَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ، ثُمَّ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ظَاهِرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6045 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ (قَالَ: (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ) ، أَيْ: قَوِّهِ وَانْصُرْهُ (بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) ، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ بَلْ لِلْإِضْرَابِ (فَأَصْبَحَ عُمَرُ) أَيْ: دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ بَعْدَ دُعَائِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَهُ، (فَغَدَا) أَيْ: أَقْبَلَ غَادِيًا أَيْ ذَاهِبًا فِي أَوَّلِ نَهَارِهِ (عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ إِمَّا خَبَرٌ أَيْ غَدَا مُقْبِلًا عَلَى النَّبِيِّ أَوْ ضَمَّنَ غَدَا مَعْنَى أَقْبَلَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25] اهـ. فَعَلَى الْأَوَّلِ غَدَا مِنَ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ وَعَلَى الثَّانِي يَتَعَلَّقُ عَلَى بِغَدَا (فَأَسْلَمَ ثُمَّ صَلَّى) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: صَلَّى الْمُؤْمِنُونَ (فِي الْمَسْجِدِ ظَاهِرًا) . أَيْ عِيَانًا غَيْرَ خَفِيٍّ، أَوْ غَالِبًا غَيْرَ مُخَوَّفٍ. رَوَى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: مَنْ قَتَلَ مُحَمَّدًا فَلَهُ عَلَيَّ مِائَةُ نَاقَةٍ وَأَلْفُ أُوقِيَّةٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: الضَّمَانُ صَحِيحٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ، فَخَرَجَ عُمَرُ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ مُحَمَّدًا لِأَقْتُلَهُ. قَالَ: فَكَيْفَ تَأْمَنُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؟ قَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ قَدْ صَبَوْتَ. قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا إِنَّ أُخْتَكَ وَخَتَنَكَ قَدْ صَبَوَا مَعَ مُحَمَّدٍ، فَتَوَجَّهَ عُمَرُ إِلَى مَنْزِلِ أُخْتِهِ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ سُورَةَ طه، فَوَقَفَ يَسْتَمِعُ ثُمَّ قَرَعَ الْبَابَ فَأَخْفَوْهَا فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ؟ فَأَظْهَرَتِ الْإِسْلَامَ فَبَقِيَ عُمَرُ حَزِينًا كَئِيبًا، فَبَاتُوا كَذَلِكَ

إِلَى أَنْ قَامَتِ الْأُخْتُ وَزَوْجُهَا يَقْرَآنِ: {طه - مَا أَنْزَلْنَا} [طه: 1 - 2] فَلَمَّا سَمِعَ قَالَ: نَاوِلْنِي الْكِتَابَ حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ إِلَى قَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا أَهْلٌ أَنْ لَا يُعْبَدَ سِوَاهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَبَاتَ سَاهِرَ الْعَيْنِ يُنَادِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ: وَاشَوْقَاهُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَصْبَحَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ فَقَالَ: يَا عُمَرُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاتَ اللَّيْلَةَ سَاهِرًا يُنَاجِي اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُعِزَّ الْإِسْلَامَ بِكَ أَوْ بِأَبِي جَهْلٍ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ قَدْ سَبَقَتْ فِيكَ، فَخَرَجَ مُقَلِّدًا سَيْفَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَنْزِلٍ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: ( «يَا عُمَرُ أَسْلِمْ أَوْ لَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ بِكَ مَا أَنْزَلَ بِوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ» ) فَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُ عُمَرَ وَوَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى تُعْبَدُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَفِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَاللَّهُ يُعْبَدُ سِرًّا، وَاللَّهِ لَا يُعْبَدُ اللَّهُ سِرًّا بَعْدَ يَوْمِنَا هَذَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَسْلَمَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثُمَّ صَلَّى إِلَخْ وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي سَنَدِهِ أَبُو عَمْرِو بْنِ النَّضْرِ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ اهـ. وَزِيَادَةُ ثُمَّ صَلَّى إِلَخْ رَوَاهَا مُحْيِي السُّنَّةِ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) : مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا السَّنَدِ ذَكَرَهُ مَيْرَكُ. وَقَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ فِي (مُخْتَصَرِ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ) لِلسَّخَاوِيِّ: حَدِيثُ: ( «اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» ) . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي (جَامِعِهِ) وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ مَرْفُوعًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي (مُسْتَدْرَكِهِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «اللَّهُمَّ أَيِّدِ الدِّينَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» ) وَفِي لَفْظٍ: أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً» . وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. قُلْتُ: وَأَمَّا مَا يَدُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِأَحَدِ الْعُمَرَيْنِ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ أَصْلًا. اهـ كَلَامُهُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، حَدِيثُ: (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ) إِلَخْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ: ( «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً» ) . وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّارَنْجِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ: اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ دِينُ الْإِسْلَامِ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِزَّ عُمَرَ بِالدِّينِ أَوْ أَبَا جَهْلٍ. أَقُولُ: لَيْسَ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مَحْذُورٌ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] أَيْ قَوَّيْنَا الرَّسُولَيْنِ وَمَا أَتَيَا مِنَ الدِّينِ بِهِ، أَوْ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ) عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْقَلْبِ فِي الْكَلَامِ كَمَا فِي: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. وَلِذَا وَرَدَ أَيْضًا: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَطَابَقَتِ الدِّرَايَةَ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْطِئَةِ، ثُمَّ لَا شَكَّ فِي حُصُولِ إِعْزَازِ الدِّينِ بِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلًا: مِنْ إِخْفَائِهِ إِلَى إِعْلَانِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وَهُوَ كَمَالُ الْأَرْبَعِينَ إِيمَاءً إِلَى ذَلِكَ. وَآخِرًا مِنْ فُتُوحَاتِ الْبِلَادِ وَكَثْرَةِ إِيمَانِ الْعِبَادِ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ غِلْظَتِهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] إِشْعَارًا إِلَيْهِ، بَلْ وَمَا تَمَّ أَمْرُ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَجِهَادِهِ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، وَمَا فُتِحَ بَابُ النِّزَاعِ وَالْمُخَالَفَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ غَيْبَتِهِ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَالزُّهْرِيُّ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِ عُمَرَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَدَوِيٌّ قُرَشِيٌّ يُكَنَّى أَبَا حَفْصٍ، أَسْلَمَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَبْلَ سَنَةِ خَمْسٍ بَعْدَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَيُقَالُ: بِهِ تَمَّتِ الْأَرْبَعُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيتَ الْفَارُوقَ؟ فَقَالَ: أَسْلَمَ حَمْزَةُ قَبْلِي بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلْإِسْلَامِ فَقُلْتُ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، فَمَا فِي الْأَرْضِ نَسَمَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَسَمَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ أَيْنَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ أُخْتِي: هُوَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ عِنْدَ بَنِي الْأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا، فَأَتَيْتُ الدَّارَ فَإِذَا حَمْزَةُ فِي أَصْحَابِهِ جُلُوسٌ فِي الدَّارِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَيْتِ فَضَرَبْتُ الْبَابَ فَاسْتَجْمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ لَهُمْ حَمْزَةُ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثِيَابِي ثُمَّ نَثَرَنِي نَثْرَةً فَمَا مَلَكْتُ أَنْ وَقَعْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ يَا عُمَرُ) فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ

مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَكَبَّرَ أَهْلُ الدَّارِ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ إِنْ مِتْنَا وَإِنْ حَيِينَا؟ قَالَ: (بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ إِنْ مِتُّمْ وَإِنْ حَيِيتُمْ) . فَقُلْتُ: فَفِيمَ الِاخْتِفَاءُ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَتَخْرُجَنَّ، فَأَخْرَجْنَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَفَّيْنِ، حَمْزَةُ فِي أَحَدِهِمَا وَأَنَا فِي الْآخَرِ وَلِي كَدِيدٌ كَكَدِيدِ الطَّحِينِ، حَتَّى دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَنَظَرَتْ إِلَيَّ قُرَيْشٌ وَإِلَى حَمْزَةَ فَأَصَابَهُمْ كَآبَةٌ لَمْ تُصِبْهُمْ مِثْلُهَا، فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ الْفَارُوقَ، فَرَّقَ اللَّهُ بِي بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ اهـ. وَذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ مُنَافِقًا خَاصَمَ يَهُودِيًّا، وَدَعَاهُ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَاهُ الْمُنَافِقُ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا احْتَكَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَكَمَ لِلْيَهُودِيِّ فَلَمْ يَرْضَ الْمُنَافِقُ وَقَالَ: نَتَحَاكَمُ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ لِعُمَرَ: قَضَى لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَكَمَ فَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ وَخَاصَمَ إِلَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُنَافِقِ أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: مَكَانَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا، فَدَخَلَ فَأَخَذَ سَيْفَهُ ثُمَّ خَرَجَ، فَضَرَبَ بِهِ عُنُقَ الْمُنَافِقِ حَتَّى بَرَدَ وَقَالَ: هَكَذَا أَقْضِي لِمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَنَزَلَتْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] قِيلَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَجْتَرِئَ عُمَرُ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ» ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تِلْكَ الْآيَةَ، فَهُدِرَ دَمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَبَرِئَ عُمَرُ عَنْ قَتْلِهِ ظُلْمًا، فَقَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَسُمِّيَ الْفَارُوقُ وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَدَ أَيْضًا بِلَفْظِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ نَفْسِهِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّلَائِلِ) ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَمِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ السَّعْدِيِّ أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي (مُعْجَمِهِ) ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَبَّابٍ أَخْرَجَهُمَا ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، وَمِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ وَمُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ، أَخْرَجَهُمَا ابْنُ سَعْدٍ فِي (الطَّبَقَاتِ) ، وَوَرَدَ بِلَفْظِ عَائِشَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي (الْأَوْسَطِ) ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَمِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَمِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ: إِنَّهُ دَعَا بِالْأَوَّلِ أَوَّلًا، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَنْ يُسْلِمَ خَصَّ عُمَرَ بِدُعَائِهِ، فَأُجِيبَ فِيهِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ بِلَفْظِ: بِأَحَبِّ الْعُمَرَيْنِ، وَلَا أَصَلَ لَهُ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ بَعْدَ الْفَحْصِ الْبَالِغِ اهـ كَلَامُ السُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

6046 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَا إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَجُلٍ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6046 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ ذَلِكَ) ، أَيْ إِذْ قُلْتَ ذَلِكَ الْكَلَامَ وَعَظَّمْتَنِي مِنْ بَيْنِ الْأَنَامِ فَأُجَازِيكَ بِمِثْلِ هَذَا الْمَرَامِ مِنَ التَّبْشِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، (فَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَجُلٍ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ» ) . وَهُوَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَيَّامِ خِلَافَتِهِ، أَوْ مُقَيَّدٌ بِبَعْدِ أَبِي بَكْرٍ، أَوِ الْمُرَادُ فِي بَابِ الْعَدَالَةِ أَوْ فِي طَرِيقِ السِّيَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي السُّنَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَقَعَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ كَأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: يَا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَخْ. وَنَحْوُهُ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْكَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] اهـ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الِانْحِصَارِ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ نِعْمَةً مِنَ الْأَغْيَارِ، لَا سِيَّمَا فِي نَظَرِ الْأَبْرَارِ وَمُشَاهَدَةِ الْأَخْيَارِ كَمَا قِيلَ: لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قِيلَ؟ نُقِلَ فِي (الْمِيزَانِ) عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَضْعِيفُهُ، وَأَقُولُ: يُقَوِّيهِ مَا فِي (الْجَامِعِ) مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَجُلٍ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي (مُسْتَدْرَكِهِ) ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَغَوِيُّ فِي (الْفَضَائِلِ) ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: «خَطَبَ عُمَرُ ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ) » وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِجْمَاعِ، وَبَعْدَ أَبِي بَكْرٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

6047 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6047 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : بِزِيَادَةِ حَسَنٌ فِي نُسْخَةٍ مِنَ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) ، وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ مَالِكٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ لَبُعِثْتَ يَا عُمَرُ» .

6048 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلَّا فَلَا) فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ! إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6048 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ) أَيْ: أَزْمِنَةِ غَزَوَاتِهِ (فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْهُ) أَيِ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي نُسْخَةٍ جَاءَتْ (جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا) أَيْ: مَنْصُورًا وَفِي رِوَايَةٍ: سَالِمًا (أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ) أَيْ: قُدَّامَكَ وَفِي حُضُورِكَ (بِالدُّفِّ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَهُوَ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَرُوِيَ الْفَتْحُ أَيْضًا هُوَ مَا يُطَبَّلُ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الدُّفُّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَمَّا مَا فِيهِ الْجَلَاجِلُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا اتِّفَاقًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ الَّذِي فِيهِ قُرْبَةٌ وَاجِبٌ وَالسُّرُورُ بِمَقْدِمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْبَةٌ، سِيَّمَا مِنَ الْغَزْوِ الَّذِي فِيهِ تَهْلِكُ الْأَنْفُسُ، وَعَلَى أَنَّ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ مُبَاحٌ وَفِي قَوْلِهِ: (وَأَتَغَنَّى) : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَمَاعَ صَوْتِ الْمَرْأَةِ بِالْغِنَاءِ مُبَاحٌ إِذَا خَلَا عَنِ الْفِتْنَةِ. (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا) . فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الدُّفِّ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالنَّذْرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا وَرَدَ فِيهِ الْإِذْنُ مِنَ الشَّارِعِ كَضَرْبِهِ فِي إِعْلَانِ النِّكَاحِ، فَمَا اسْتَعْمَلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِ الْيَمَنِ مِنْ ضَرْبِ الدُّفِّ حَالَ الذِّكْرِ، فَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبِيحِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ. (فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا) : بِهَمْزِ وَصْلٍ مَكْسُورٍ وَسُكُونِ سِينٍ أَيْ أَلْيَتِهَا بِأَنْ رَفَعَتْهَا وَوَضَعَتْهُ تَحْتَهَا. (ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهَا) ، أَيْ عَلَى اسْتِهَا لِتَسْتُرَهُ عَنْ عُمَرَ هَيْبَةً، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الدُّفِّ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ) يُرِيدُ بِهِ تِلْكَ الْمَرْأَةَ السَّوْدَاءَ لِأَنَّهَا شَيْطَانُ الْإِنْسِ وَتَفْعَلُ فِعْلَ الشَّيْطَانِ، أَوِ الْمُرَادُ شَيْطَانُهَا الَّذِي يَحْمِلُهَا عَلَى فِعْلِهَا الْمَكْرُوهِ، وَهُوَ زِيَادَةُ الضَّرْبِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ اللَّهْوِ عَلَى مَا حَصَلَ بِهِ إِظْهَارُ الْفَرَحِ، (إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (وَهِيَ تَضْرِبُ) : حَالٌ (فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ) . أَيْ تَحْتَ اسْتِهَا، ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا مَكَّنَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ضَرْبِ الدُّفِّ بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّهَا نَذَرَتْ فَدَلَّ نَذْرُهَا عَلَى أَنَّهَا عَدَّتِ انْصِرَافَهُ عَلَى حَالِ السَّلَامَةِ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهَا، فَانْقَلَبَ الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ صَنْعَةِ اللَّهْوِ إِلَى صَنْعَةِ الْحَقِّ، وَمِنَ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْمُسْتَحَبِّ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ بِهِ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَدْنَى ضَرْبٍ، ثُمَّ عَادَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَادَةِ إِلَى حَدِّ الْمَكْرُوهِ، وَلَمْ يَرَ أَنْ يَمْنَعَهَا لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْجِعُ إِلَى حَدِّ التَّحْرِيمِ، فَلِذَا سَكَتَ عَنْهَا وَحَمِدَ انْتِهَاءَهَا عَمَّا كَانَتْ فِيهِ بِمَجِيءِ عُمَرَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَنْعًا لَا يَرْجِعُ إِلَى حَدِّ التَّحْرِيمِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَرَّرَ إِمْسَاكَهَا عَنْ ضَرْبِ الدُّفِّ هَاهُنَا بِمَجِيءِ عُمَرَ، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَلَمْ يُقَرِّرِ انْتِهَاءَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْجَارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُدَفِّفَانِ أَيَّامَ مِنًى؟ قُلْتُ: مَنَعَ أَبَا بَكْرٍ بِقَوْلِهِ: دَعْهُمَا، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ هُنَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَمِنْ حَالَةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِمْرَارَ، وَمِنْ حَالَةٍ لَا تَقْتَضِيهِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَنْعُ الصِّدِّيقِ لَهُمَا عَنْ فِعْلِهِمَا بِحُضُورِ الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ لَا يَخْلُو أَنَّهُ مِنْ قُصُورِ آدَابِ الْبَشَرِيَّةِ، فَلِذَا مَا قَرَّرَ لَهُ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لَهُ سَبَبَ اسْتِمْرَارِ فِعْلِهِمَا هُنَالِكَ، وَأَمَّا هُنَا فَلَوْ دَخَلَ عُمَرُ وَرَآهَا عَلَى حَالِهَا بِحَضْرَةِ سَمَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهَا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حُسْنِ آدَابِهِ، لَكِنْ لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ مَأْتَاهُ سَبَبًا لِانْتِهَائِهَا عَنْ فِعْلِهَا الْمَكْرُوهِ بِحَسَبِ أَصْلِهِ، وَلَوْ صَارَ مَنْدُوبًا بِمُوجَبِ نَذْرِهَا، وَاسْتَحْسَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَّرَ امْتِنَاعَهَا وَقَرَّرَ مَنْعَهُ بِالْقُوَّةِ الْإِلَهِيَّةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ انْتِهَاءَهَا عَمَّا كَانَتْ فِيهِ بِمَجِيءِ عُمَرَ، فَسَكَتَ لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ فَضْلَ عُمَرَ وَيَقُولُ مَا قَالَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مَدْخُولَةٌ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَبْقَى مَعْلُولَةً. نَعَمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ انْتِهَاءُ مُدَّةِ ضَرْبِ الدُّفِّ عَلَى طَرِيقِ الْعُرْفِ بِابْتِدَاءِ مَأْتَى عُمَرَ فِي مَجْلِسِ الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا أَظْهَرُ وَأَوْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي وَجْهٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كَانَ يُحِبُّ مَا صُورَتُهُ تُشْبِهُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ مِنْ وَجْهِ حَقٍّ، وَيُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ حَمِدْتُ اللَّهَ بِمَحَامِدِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (إِنَّ رَبَّكَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمَدْحَ، هَاتِ مَا امْتَدَحْتَ بِهِ رَبَّكَ) قَالَ: فَجَعَلْتُ أُنْشِدُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ قَالَ: فَاسْتَنْصَتَنِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَصَفَ لَنَا أَبُو سَلَمَةَ كَيْفَ اسْتَنْصَتَهُ قَالَ: كَمَا يَصْنَعُ بِالْهِرِّ، فَدَخَلَ الرَّجُلُ فَتَكَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ، ثُمَّ أَخَذْتُ أُنْشِدُهُ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدُ فَاسْتَنْصَتَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ ذَا الَّذِي تَسْتَنْصِتُنِي لَهُ؟ فَقَالَ: (هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ، هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) » أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَطْلَقَ عَلَى هَذَا بَاطِلًا وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ حَقًّا لِأَنَّهُ حَمْدٌ وَمَدْحٌ لِلَّهِ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَاطِلِ إِذِ الشِّعْرُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَرِيرَةٍ طَبَخْتُهَا لَهُ، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنِي وَبَيْنَهَا: كُلِي، فَأَبَتْ. فَقُلْتُ: لَتَأْكُلِنَّ أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ. فَأَبَتْ، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ فِي الْحَرِيرَةِ وَطَلَيْتُ بِهَا وَجْهَهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ فَخِذَهُ لَهَا وَقَالَ لِسَوْدَةَ: (الْطَخِي وَجْهَهَا) فَلَطَخَتْ وَجْهِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا، فَمَرَّ عُمَرُ فَنَادَى: يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ! فَظَنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فَقَالَ: (قُومَا فَاغْسِلَا وُجُوهَكُمَا) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا زِلْتُ أَهَابُ عُمَرَ لِهَيْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُ» . رَوَاهُ ابْنُ غَيْلَانَ مِنْ حَدِيثِ الْهَاشِمِيِّ، وَخَرَّجَهُ الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

6049 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا، فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا، فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ! تَعَالَيْ فَانْظُرِي) فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ لَحْيَيَّ عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا. مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى رَأْسِهِ. فَقَالَ لِي: (أَمَا شَبِعْتِ؟ أَمَا شَبِعْتِ؟) فَجَعَلْتُ أَقُولُ: لَا، لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي عِنْدَهُ، إِذْ طَلَعَ عُمَرُ فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ) . قَالَتْ: فَرَجَعْتُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6049 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا، فَسَمِعْنَا لَغَطًا) : بِفَتْحِ لَامٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ: صَوْتًا شَدِيدًا لَا يُفْهَمُ (وَصَوْتَ صِبْيَانٍ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ جَارِيَةٌ أَوِ امْرَأَةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْحَبَشِ (تَزْفِنُ) : بِسُكُونِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَيُضَمُّ أَيْ: تَرْقُصُ (وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا) ، أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَفَرَّجُونَ عَلَيْهَا (فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ تَقَدَّمِي (فَانْظُرِي) : وَهُوَ أَمْرُ مُخَاطَبَةٍ مِنَ التَّعَالِي، وَأَصْلُهُ أَنْ يَقُولَ مَنْ كَانَ فِي عُلُوٍّ لِمَنْ كَانَ فِي سُفْلٍ فَاتُّسِعَ فِيهِ بِالتَّعْمِيمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا وَقُرِئَ بِضَمِّ لَامِ تَعَالَوْا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ تَعَالَيُوا، فَنُقِلَ ضَمَّةُ الْيَاءِ إِلَى مَا قَبْلَهَا بَعْدَ سَلْبِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ كَسْرُ اللَّامِ فِي تَعَالَيْ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ زَمَانِنَا، خُصُوصًا أَهْلَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَأَمَّا إِعْلَالُ فَتْحِ اللَّامِ فِي الْجَمْعِ وَالْمُخَاطَبَةِ، فَبِنَاءً عَلَى الْقَلْبِ وَالْحَذْفِ. (فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ لَحْيَيَّ) : بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ تَثْنِيَةُ لَحْيٍ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَنْبَتُ الْأَسْنَانِ (عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ رَأَسِ الْكَتِفِ وَالْعَضُدِ (فَجَعَلْتُ) أَيْ: شَرَعْتُ (أَنْظُرُ إِلَيْهَا) أَيْ: إِلَى الْحَبَشِيَّةِ.

(مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ) : ظَرْفٌ لِأَنْظُرُ حُذِفَ مِنْهُ فِي، أَيْ فِيمَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ (إِلَى رَأْسِهِ. فَقَالَ لِي) أَيْ: بَعْدَ سَاعَةٍ أَوْ فَكَانَ يَقُولُ لِي: (أَمَا شَبِعْتِ؟ أَمَا شَبِعْتِ) ؟ أَيْ مُكَرِّرًا (فَجَعَلْتُ أَقُولُ: لَا) ، أَيْ لَا لَا لَا، لِعَدَمِ الشَّبَعِ حِرْصًا عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا، بَلْ كَانَ قَصْدِي مِنْ قَوْلِي لَا (لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي) أَيْ: نِهَايَةَ مَرْتَبَتِي وَغَايَةَ مَحَبَّتِي (عِنْدَهُ) إِذْ طَلَعَ عُمَرُ) أَيْ: ظَهَرَ (فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا) ، بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: تَفَرَّقَ النَّظَّارَةُ الَّتِي كَانُوا حَوْلَ الْحَبَشِيَّةِ الرَّاقِصَةِ عَنْهَا لِمَهَابَةِ عُمَرَ وَالْخَوْفِ مِنْ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ) . قَالَتْ: أَيْ: عَائِشَةُ (فَرَجَعْتُ) . أَيْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَيْتِي وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَةِ خُلُقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَغَلَبَةِ صِفَةِ الْجَمَالِ عَلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى غَلَبَةِ الْجَلَالِ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السَّمَّانِ فِي الْمُوَافَقَةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَيَّ فَقَالَتْ: إِنِّي أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا إِذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَأَنْقُرَنَّ عَلَى رَأْسِهِ بِالدُّفِّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَقَالَ: (قُولِي لَهَا فَلْتَفِ بِمَا حَلَفَتْ) ، فَقَامَتْ بِالدُّفِّ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَقَرَتْ نَقْرَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَاسْتَفْتَحَ عُمَرُ فَسَقَطَ الدُّفُّ مِنْ يَدِهَا، وَأَسْرَعَتْ إِلَى خِدْرِ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: سَمِعْتُ عُمَرَ فَهِبْتُهُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَفِرُّ مِنْ حِسِّ عُمَرَ) » .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6050 - عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] . وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ يَحْتَجِبْنَ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] ، فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6050 - (عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَمَا أَلْطَفَهَا حَيْثُ رَاعَى فِيهَا الْأَدَبَ الْحَسَنَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَافَقَنِي رَبِّي مَعَ أَنَّ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَزَلَتْ مُوَافِقَةً لِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنَّ فِعْلَهُ حَادِثٌ لَاحِقٌ، وَقَضَاءَ رَبِّهِ قَدِيمٌ سَابِقٌ. (فِي ثَلَاثٍ) : لَكِنْ فِي الرِّيَاضِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو حَاتِمٍ. قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ الثَّلَاثِ مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ الْمُوَافَقَةُ فِي أَشْيَاءَ، مِنْ مَشْهُورِهَا قِصَّةُ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقِصَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ. وَأَكْثَرُ مَا وَقَفْنَا مِنْهَا بِالتَّعْيِينِ خَمْسَةَ عَشَرَ. قَالَ صَاحِبُ الرِّيَاضِ: مِنْهَا تِسْعٌ لَفْظِيَّاتٌ، وَأَرْبَعٌ مَعْنَوِيَّاتٌ، وَاثْنَتَانِ فِي التَّوْرِيَةِ، فَإِنْ أَرَدْتَ تَفْصِيلَهَا فَرَاجِعْهَا. ( «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» ) ؟ أَيْ لَكَانَ حَسَنًا أَوْ لَوْ لِلتَّمَنِّي، وَالْمُرَادُ أَنْ يُجْعَلَ مُصَلًّى لِصَلَاةِ الطَّوَافِ بِأَنْ يَكُونَ فِيمَا حَوْلَهُ أَفْضَلَ (فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَقِيلَ لِلْإِيجَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْمَدَنِيِّ وَالشَّامِيِّ مِنَ السَّبْعَةِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: وَاتَّخَذَ النَّاسُ مَقَامَهُ الْمَوْسُومَ بِهِ يَعْنِي الْكَعْبَةَ قِبْلَةً يُصَلُّونَ إِلَيْهَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ، فَكَأَنَّهُ أُمِرَ

بِهِ وَامْتَثَلَ؛ فَأَخْبَرَ، وَالْمُرَادُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الْحَجَرُ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمِهِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ فِيهِ حِينَ قَامَ عَلَيْهِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْحَجِّ، أَوْ رَفَعَ بِنَاءَ الْبَيْتِ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ وَهُوَ مَوْضِعُهُ الْيَوْمَ، رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخَذَ بِيَدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ فَقَالَ: لَمْ أُومَرُ بِذَلِكَ فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتَّى نَزَلَتْ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ بِرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَلِلشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ قَوْلَانِ اهـ. وَهُمَا وَاجِبَتَانِ عَقِبَ كُلِّ طَوَافٍ عِنْدَنَا. (وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِكَ الْبَرُّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ الْبَارُّ وَهُوَ الصَّالِحُ (وَالْفَاجِرُ) ، أَيِ الْفَاسِقُ (فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ) أَيْ: عَنِ الْأَجَانِبِ مُطْلَقًا (فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ) : وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْتُ آكُلُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْسًا فِي قَعْبٍ، فَمَرَّ عُمَرُ فَدَعَاهُ فَأَكَلَ فَأَصَابَتْ أُصْبُعُهُ أُصْبُعِي فَقَالَ: حِسَّ أَوْ آهِ لَوْ أَطَاعَ فِيكُنَّ مَا رَأَتْكُنَّ عَيْنٌ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَقَوْلُهُ: حِسَّ بِكَسْرِ السِّينِ وَالتَّشْدِيدِ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْإِنْسَانُ إِذَا أَصَابَهُ مَا أَحْرَقَهُ كَالْجَمْرَةِ وَالضَّرْبَةِ وَنَحْوِهِمَا. ( «وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَيْرَةِ» ) ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، الْحَدِيثَ. فَنَزَلَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] . (فَقُلْتُ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ} [التحريم: 5] : بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ: يُعْطِيهِ بَدَلًا عَنْكُنَّ {أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ» .

6051 - وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6051 - (وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ) . بَدَلُ تَفْصِيلٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى مُسْلِمٍ عَلَى مَا فِي الرِّيَاضِ، وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَأَبُو الْفَرَجِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي أَرْبَعٍ؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ عَلَى نِسَائِكَ حِجَابًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وَقُلْتُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لَيُبْدِلَنَّهُ اللَّهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قُلْتُ: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فَنَزَلَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَزِيدُ فِي الْقُرْآنِ يَا عُمَرُ» ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَا وَقَالَ: إِنَّهَا تَمَامُ الْآيَةِ. أَخْرَجَهَا السَّجَاوَنْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَاتِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَمْلَى كَذَلِكَ قَالَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُوحَى إِلَيْهِ فَأَنَا كَذَلِكَ، فَارْتَدَّ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَاجَعَ إِسْلَامَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ.

6052 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: فُضِّلَ النَّاسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِأَرْبَعٍ: بِذِكْرِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وَبِذِكْرِهِ الْحِجَابَ، أَمَرَ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَقَالَتْ لَهُ زَيْنَبُ: وَإِنَّكَ عَلَيْنَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وَبِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ) . وَبِرَأْيِهِ فِي أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ أَوَّلَ نَاسٍ بَايَعَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6052 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) ، أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ: فُضِّلَ النَّاسَ) : بِضَمِّ فَاءٍ وَتَشْدِيدِ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَنَصْبِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ مُقَدَّمٌ عَلَى نَائِبِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، أَيْ: فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِاخْتِصَاصِهِ (بِأَرْبَعٍ) ، أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (بِذِكْرِ الْأُسَارَى) ، أَيْ: بِذِكْرِهِ إِيَّاهُمْ أَوْ بِذِكْرِهِمْ عِنْدَهُ (يَوْمَ بَدْرٍ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ) ، اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ} [الأنفال: 68] ، أَيْ: مَكْتُوبٌ أَوْ حُكْمٌ {مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] أَيْ: إِثْبَاتُهُ فِي اللَّوْحِ، أَوْ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ الْمُخْطِئَ فِي اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ مَغْفُورٌ لَهُمْ {لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] أَيْ: لَأَصَابَكُمْ {فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] أَيْ: مِنَ الْفِدَاءِ عِوَضًا عَنِ الْأَعْدَاءِ {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] أَيْ: فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْأُخْرَى، وَكَانَ أَخْذُهُمُ الْفِدْيَةَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْكُفَّارِ خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْهُمْ أَنْسَبُ لِيَتَقَوَّى الْمُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْجَمَالِ، أَوْ بَلْ يَنْبَغِي قَتْلُهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَرُؤَسَاؤُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَلَالِ، وَلَمَّا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَمَالِهِ مَائِلًا إِلَى الْجَمَالِ اخْتَارَ قَوْلَ الصِّدِّيقِ فِي الْحَالِ، وَكَانَ مُطَابِقًا لِمَا فِي أَزَلِ الْآزَالِ مِنْ حُسْنِ الْمَآلِ، وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا فِي الرِّيَاضِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَنُو الْعَمِّ وَبَنُو الْعَشِيرَةِ وَالْإِخْوَانِ غَيْرَ أَنَّا نَأْخُذُ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَيَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا. قَالَ: (فَمَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهُمْ، فَنُقَرِّبُهُمْ وَنَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ: فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ. قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بِكَيْتُ وَإِلَّا تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا. فَقَالَ: لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنَ الشَّجَرَةِ وَالشَّجَرَةُ قَرِيبَةٌ حِينَئِذٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67] » أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنِ الْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ. وَفِي طَرِيقٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ عُمَرَ فَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ يُصِيبُنَا بَلَاءٌ) أَخْرَجَهُ الْوَاحِدِيُّ مُسْنَدًا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَفِي بَعْضِهَا: لَقَدْ كَادَ يُصِيبُنَا بِخِلَافِكَ شَرٌّ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ نَارٌ لَمَا نَجَا مِنْهَا إِلَّا عُمَرُ» . وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ. (وَبِذِكْرِهِ الْحِجَابَ) ، وَالضَّمِيرُ لِعُمَرَ (أَمَرَ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَقَالَتْ لَهُ زَيْنَبُ) أَيْ: بِنْتُ جَحْشٍ، وَهِيَ بِنْتُ عَمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَإِنَّكَ عَلَيْنَا) أَيْ: تَحْكُمُ أَوْ تَغَارُ (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِنَا) ؟ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ} [الأحزاب: 53] بِالْهَمْزِ وَنَقْلِهِ، أَيِ اطْلُبُوهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] أَيْ: سِتَارَةٍ (وَبِدَعْوَةِ النَّبِيِّ) ، أَيْ: وَبِإِجَابَةِ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِ بِقَوْلِهِ: (اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ) أَيْ: أَعِزَّهُ (بِعُمَرَ. وَبِرَأْيِهِ فِي أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيْ وَبِاجْتِهَادِهِ فِي شَأْنِ أَبِي بَكْرٍ حَالَ خِلَافَتِهِ (كَانَ أَوَّلَ نَاسٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَوَّلَ النَّاسِ (بَايَعَهُ) . أَيْ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ غَيْرُهُ تَابَعَهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

6053 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «ذَاكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ» ) . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6053 - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ذَاكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ) . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُرَى) : بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: مَا كُنَّا نَظُنُّ (ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) . أَيْ: مَاتَ عُمَرُ وَفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ تَغَيُّرٌ فِي آخِرِ عُمْرِهِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذَاكَ الرَّجُلُ إِشَارَةٌ إِلَى مُبْهَمٍ، وَالْقَصْدُ فِيهِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَتَحَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَنَالَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ، وَإِنَّمَا يُنَالُ بِتَوَخِّي الْعَمَلَ وَتَحَرِّي الْأَصْوَبَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْمَبَرَّاتِ، وَلَمْ تُشَاهَدْ هَذِهِ الْخِلَالُ فِي أَحَدٍ كَمَا شُوهِدَ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَوَّلِ حَالِهِ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَبِهَذَا الْقِيَاسِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ لَا غَيْرُهُ، وَنَحْوُهُ إِخْفَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَيُؤَيِّدُ التَّقْرِيرَ الْأَوَّلَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتْلُوهُ اهـ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الرَّجُلِ عُمَرَ مَظْنُونٌ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الِانْعِقَادُ وَحَصَلَ بِهِ الِاعْتِمَادُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ أَهْلِ زَمَانِهِ حَالَ خِلَافَتِهِ، فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لَيْسَ مُبْهَمًا، بَلْ هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ أَكْثَرُ خُطْبَتِهِ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ عَنِ الدَّجَّالِ وَحَذَّرَنَا مِنْهُ، وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَيَقْتُلَهَا فَيَنْشُرَهَا بِالْمِنْشَارِ حَتَّى يُلْقَى شِقَّتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا فَإِنَّمَا أَبْعَثُهُ الْآنَ، ثُمَّ لَمْ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَأَنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَنْتَ الدَّجَّالُ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَشَدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنَ الْيَوْمِ» ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّنَافِسِيُّ: فَحَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ حَدِيثًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ذَاكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ اهـ. سِيَاقُ ابْنِ مَاجَهْ فَانْظُرْ وَتَأَمَّلْ سِيَاقَ الْمُصَنِّفِ الْحَدِيثَ وَاخْتِصَارَهُ، حَتَّى لَمْ يُفْهَمِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ مَيْرَكُ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا إِلَخْ. مَعْنَاهُ أَنَّا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي يُقْتَلُ عَلَى يَدِ الدَّجَّالِ هُوَ عُمَرُ حَتَّى مَاتَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُهُ، لَكِنْ يُشْكِلُ أَفْضَلِيَّةُ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَيُدْفَعُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي زَمَانِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْجَزَرِيِّ فِي بَابِ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمَقْتُولَ عَلَى يَدِ الدَّجَّالِ هُوَ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا إِشْكَالَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ كَمَا هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

6054 - وَعَنْ أَسْلَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلَنِي ابْنُ عُمَرَ بَعْضَ شَأْنِهِ - يَعْنِي عُمَرَ - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حِينِ قُبِضَ كَانَ أَجَدَّ وَأَجْوَدَ حَتَّى انْتَهَى مِنْ عُمَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6054 - (وَعَنْ أَسْلَمَ) : هُوَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كُنْيَتُهُ أَبُو خَالِدٍ كَانَ حَبَشِيًّا، وَقِيلَ: مِنْ سَبْيِ الْيَمَنِ اشْتَرَاهُ عُمَرُ بِمَكَّةَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، سَمِعَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ لِيُقِيمَ الْحَجَّ بِالنَّاسِ، رَوَى عَنْهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ، مَاتَ فِي وِلَايَةِ مَرْوَانَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. (قَالَ: سَأَلَنِي ابْنُ عُمَرَ بَعْضَ شَأْنِهِ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: عَنْ بَعْضِ شَأْنِهِ (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ بِالْمُضْمَرِ (عُمَرَ) ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بَعْضُ شَأْنِهِ الْمَخْفِيِّ عَنِ النَّاسِ مِنْ عَادَتِهِ الْكَائِنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِخْلَاصِ، (فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَيْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْخِلَالِ، وَتَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ ابْتِدَاءِ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَاتِ وَثَبَاتِهِ عَلَيْهَا (حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) أَيْ: مَاتَ، وَضَبْطُ حِينَ بِالْفَتْحِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ (كَانَ) أَيْ: ذَلِكَ الْأَحَدُ (أَجَدَّ) أَيْ: أَجْهَدَ فِي الدِّينِ (وَأَجْوَدَ) أَيْ: أَحْسَنَ فِي طَلَبِ الْيَقِينِ (حَتَّى انْتَهَى) أَيْ: إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ (مِنْ عُمَرَ) . تَنَازَعَ فِيهِ أَجَدَّ وَأَجْوَدَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ أَيْ: فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ لِيَخْرُجَ أَبُو بَكْرٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6055 - وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ جَعَلَ يَأْلَمُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَأَنَّهُ يُجَزِّعُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا كُلُّ ذَلِكَ؟ ، لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ، فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ، وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ، قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ. وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي، فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَمِنْ أَجْلِ أَصْحَابِكَ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6055 - (وَعَنِ الْمِسْوَرِ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (ابْنِ مَخْرَمَةَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَفَتْحِ رَاءٍ، هُوَ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وُلِدَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَقَدِمَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ ثَمَانِي سِنِينَ وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَفِظَ عَنْهُ، وَكَانَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَتَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ تَرْجَمَتِهِ. (قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ (جَعَلَ) أَيْ: طَفِقَ عُمَرُ (يَأْلَمُ) أَيْ: يُظْهِرُ أَثَرَ أَلَمِهِ بِالْأَنِينِ وَنَحْوِهِ (فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَأَنَّهُ) أَيِ: ابْنَ عَبَّاسٍ (يُجَزِّعُهُ) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ يَنْسِبُهُ إِلَى الْجَزَعِ وَيَلُومُهُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُ مَا يُسَلِّيهِ بِمَا يُزِيلُ عَنْهُ الْجَزَعَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] أَيْ أُزِيلَ عَنْهُمُ الْفَزَعُ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَائِلِ وَمَقُولِهِ: (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَلَا كُلُّ ذَلِكَ) ؟ بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، وَالْمَعْنَى لَا تُبَالِغُ فِيمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْجَزَعِ. قَالَ مَيْرَكُ وَفِي نُسْخَةٍ: لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ، وَالَّذِي فِي الْأَصْلِ رِوَايَةُ الْكُشْمِهَنِيِّ، وَلِبَعْضِهِمْ: وَلَا كَانَ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ دُعَاءٌ أَيْ لَا يَكُونُ مَا تَخَافُهُ، أَوْ لَا يَكُونُ الْمَوْتُ بِتِلْكَ الطَّعْنَةِ (لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ) ، أَيْ لِقَوْلِهِ: (لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ) . (ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، أَيْ حَيْثُ جَعَلَكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ثُمَّ صَحِبْتَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: أَيَّامَ خِلَافَتِكَ (فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ) ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْعَدَالَةِ وَإِتْقَانِ السِّيَاسَةِ (وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ) أَيْ: فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ (لَتُفَارِقَنَّهُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ لَفَارَقْتَهُمْ (وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ) ، أَيْ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَنْكَ رَاضٍ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنْهُ فَأَنْتَ مُبَشَّرٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] وَالْمَوْتُ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَكُونُ سَبَبًا لِلِقَاءِ الْمَوْلَى فِي الْمَقَامِ الْأَعْلَى. (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ نُونٍ أَيْ: مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ (مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ) أَيْ: تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ بَلْ بِجَذْبَةٍ مِنْهُ، فَلَا أُنْكِرُ كَرَمَهُ، بَلْ أَشْكُرُهُ وَأَحْمَدُهُ. (وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ، إِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلِيَّ) . أَيْ حَيْثُ وَفَّقَنِي عَلَى تَقْدِيمِهِ وَمُسَاعَدَتِهِ فِي تَقْوِيمِهِ، وَلَعَلَّ إِعْرَاضَهُ عَنْ رِضَا النَّاسِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ عَلَى رِضَا اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وَلِلْإِيمَاءِ أَنَّ رِضَاهُمْ أَيْضًا مِنْ أَثَرِ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ (وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي) ، أَيْ فَزَعِي الْمُتَوَهَّمِ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ مَوْتِي (فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَمِنْ أَجْلِ أَصْحَابِكَ) : عَطْفٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، أَيْ مِنْ جِهَةِ أَنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ وُقُوعِ الْفِتَنِ بَيْنَكُمْ لَمَّا كَانَ كَالْبَابِ يَسُدُّ الْمِحَنَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ أَخَافُ أَيْضًا عَلَى نَفْسِي، وَلَا آمَنُ مِنْ عَذَابِ رَبِّي، لِأَنَّهُ (وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الْأَرْضِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مَا يَمْلَؤُهَا (ذَهَبًا) : حَتَّى يَطْلُعَ وَيَسِيلَ (لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ) . أَيِ اللَّهَ أَوْ عَذَابَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ خَشْيَةِ التَّقْصِيرِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الْفِتْنَةِ بِمَدْحِهِمْ، كَذَا فِي " فَتْحِ الْبَارِي ". وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجَّحَ جَانِبَ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ لِمَا أُشْعِرَ مِنْ فِتَنٍ تَقَعُ بَعْدَهُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَزِعَ جَزَعًا عَلَيْهِمْ وَتَرَحُّمًا لَهُمْ، وَمِنَ اسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] وَكَانَ جَانِبُ الْخَوْفِ عَلَيْهِ غَالِبًا، فَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَانْكِسَارًا، وَلِذَلِكَ نَسَبَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ إِلَى مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْضَالِهِ، وَفِي " الِاسْتِيعَابِ ": إِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ احْتُضِرَ قَالَ وَرَأَسُهُ فِي حِجْرِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: ظَلُومٌ لِنَفْسِي غَيْرَ أَنِّيَ مُسْلِمٌ أُصَلِّي صَلَاتِي كُلَّهَا وَأَصُومُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَدُفِنَ يَوْمَ الْأَحَدِ عَاشِرَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَبَاقِي الْعَشَرَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

وَفِي " الرِّيَاضِ ": مِنْ جُمْلَةِ كَرَامَاتِهِ وَمُكَاشَفَاتِهِ ; مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ وَنَادَى: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى خُطْبَتِهِ فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ تَرَكَ خُطْبَتَهُ وَنَادَى: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَجْعَلُ لِلنَّاسِ عَلَيْكَ مَقَالًا؛ بَيْنَمَا أَنْتَ فِي خُطْبَتِكَ إِذْ نَادَيْتَ يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا مَلَكْتُ ذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُ سَارِيَةَ وَأَصْحَابَهُ يُقَاتِلُونَ عِنْدَ جَبَلٍ يُؤْتَوْنَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَمْ أَمْلِكْ أَنْ قُلْتُ: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ لِيَلْحَقُوا بِالْجَبَلِ، فَلَمْ يَمْضِ أَيَّامٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ سَارِيَةَ بِكِتَابِهِ أَنَّ الْقَوْمَ لَقُونَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَاتَلْنَاهُمْ مِنْ حِينِ صَلَّيْنَا الصُّبْحَ إِلَى أَنْ حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ وَدَرَّ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَسَمِعْنَا صَوْتَ مُنَادٍ يُنَادِي: الْجَبَلَ مَرَّتَيْنِ، فَلَحِقْنَا بِالْجَبَلِ فَلَمْ نَزَلْ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّنَا حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُرْوَى: أَنَّ مِصْرَ لَمَّا فُتِحَتْ أَتَى أَهْلُهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا النِّيلَ يَحْتَاجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ مِنْ أَحْسَنِ الْجَوَارِي فَنُلْقِيهَا فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجْرِي وَتَخْرُبُ الْبِلَادُ وَتَقْحَطُ، فَبَعَثَ عَمْرٌو إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِالْخَبَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ: الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ بِطَاقَةً فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى نِيلِ مِصْرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ كُنْتَ تَجْرِي بِأَمْرِ اللَّهِ فَاجْرِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَهَا فِي النِّيلِ، فَجَرَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَزَادَ عَلَى كُلِّ سَنَةٍ سِتَّةَ أَذْرُعٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا أُلْقِيَ كِتَابُهُ جَرَى وَلَمْ يَعُدْ يَقِفُ، خَرَّجَهَا الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ: أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَاللَّالَكَائِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَالثَّانِي: أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ بِسَنَدِهِ إِلَى قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ جَدَّتِهِ. وَلَمَّا دَخَلَ مُسْلِمٌ الْخَوْلَانِيُّ الْمَدِينَةَ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي الْيَمَنِ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَأَبَى، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَمَرَ بِتَأْجِيجِ نَارٍ عَظِيمَةٍ وَأَلْقَى فِيهَا أَبُو مُسْلِمٍ فَلَمْ يَضُرَّهُ، فَأَمَرَ بِنَفْيِهِ مِنْ بِلَادِهِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ عُمَرُ: هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي زَعَمَ الْأَسْوَدُ الْكَذَّابُ أَنَّهُ يُحْرِقُهُ فَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ وَلَا عُمَرُ سَمِعُوا قَضِيَّتَهُ وَلَا رَأَوْهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ. وَقَالَ: أَلَسْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَيُّوبَ؟ قَالَ: بَلَى، فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبِيهًا بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَسَّ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَأَتَى امْرَأَةً وَهِيَ تَقُولُ لِابْنَتِهَا: قُومِي وَامَرَئِي اللَّبَنَ. فَقَالَتْ: لَا تَفْعَلِينَ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. قَالَتْ: وَمِنْ أَيْنَ يَدْرِي؟ فَقَالَتْ: فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ فَإِنَّ رَبَّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْرِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ قَالَ لِابْنِهِ عَاصِمٍ: اذْهَبْ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ هُنَاكَ صَبِيَّةً فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْغُولَةً، فَتَزَوَّجْ بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَكَ مِنْهَا نَسَمَةً مُبَارَكَةً، فَتَزَوَّجَ عَاصِمٌ تِلْكَ الْبُنَيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُمَّ عَاصِمٍ بِنْتَ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ. خَرَّجَهُمَا فِي " الْفَضَائِلِ ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَبْصَرَ أَعْرَابِيًّا نَازِلًا مِنْ جَبَلٍ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مُصَابٌ بِوَلَدِهِ قَدْ نَظَمَ فِيهِ سَبْعَةَ أَبْيَاتٍ لَوْ أَشَاءُ لَأَسْمَعْتُكُمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَعْلَى هَذَا الْجَبَلِ. قَالَ: وَمَا صَنَعْتَ فِيهِ؟ قَالَ: أَوْدَعْتُهُ وَدِيعَةً لِي. قَالَ: وَمَا وَدِيعَتُكَ؟ قَالَ: بُنَيٌّ لِي هَلَكَ فَدَفَنْتُهُ فِيهِ. قَالَ: فَأَسْمِعْنَا مِنْ مَرْثِيَّتِكَ فِيهِ. قَالَ: مَا يُدْرِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَاللَّهِ مَا تَفَوَّهْتُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي ثُمَّ أَنْشَدَ: يَا غَائِبًا مَا يَؤُوبُ مِنْ سَفَرٍ ... عَاجَلَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ عَلَى صِغَرِهِ يَا قُرَّةَ الْعَيْنِ كُنْتَ لِي أُنُسًا ... فِي طُولِ لَيْلِي نَعَمْ وَفِي قِصَرِهِ مَا تَقَعُ الْعَيْنُ حَيْثُمَا وَقَعَتْ ... فِي الْحَيِّ إِلَّا مِنْ عَلَى أَثَرِهِ شَرِبْتَ كَأْسًا أَبُوكَ شَارِبُهَا ... لَا بُدَّ مِنْهُ لَهُ عَلَى كِبَرِهِ بِشُرْبِهَا وَالْأَنَامُ كُلُّهُمُ ... مَنْ كَانَ فِي بَدْوِهِ وَفِي حَضَرِهِ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا شَرِيكَ لَهُ ... فِي حُكْمِهِ كَانَ ذَا وَفِي قَدَرِهِ قَدَّرَ مَوْتًا عَلَى الْعِبَادِ فَمَا ... يَقْدِرُ خَلْقٌ يَزِيدُ فِي عُمُرِهِ قَالَ: فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقْتَ يَا أَعْرَابِيُّ.

وَمِنْ كَثْرَةِ اتِّبَاعِهِ لِلسُّنَّةِ، مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِلْعَبَّاسِ مِيزَابٌ عَلَى طَرِيقِ عُمَرَ، فَلَبِسَ عُمَرُ ثِيَابَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ كَانَ ذُبِحَ لِلْعَبَّاسِ فَرْخَانِ، فَلَمَّا وَافَى الْمِيزَابَ صُبَّ مَاءٌ بِدَمِ الْفَرْخَيْنِ، فَأَصَابَ عُمَرَ فَأَمَرَ عُمَرُ بِقَلْعِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَرَحَ ثِيَابَهُ وَلَبِسَ ثِيَابًا غَيْرَ ثِيَابِهِ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الْعَبَّاسُ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُمَرُ لِلْعَبَّاسِ: وَأَنَا أَعْزِمُ عَلَيْكَ لَمَّا صَعِدْتَ عَلَى ظَهْرِي حَتَّى تَضَعَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَعَلَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ أَخْرَجَهُ. وَهَذِهِ الِاسْتِقَامَةُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ كَرَامَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ نَفَقَتَهُ فِي حَجَّتِهِ كَانَتْ سِتَّةَ عَشَرَ دِينَارًا. وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ: أَسْرَفْنَا فِي هَذَا الْمَالِ، وَلَمْ يَسْتَظِلَّ إِلَّا تَحْتَ كِسَاءٍ، أَوْ نِطَعٍ مُلْقَاةٍ عَلَى شَجَرَةٍ.

[باب مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما]

[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6056 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ أَعْيَا، فَرَكِبَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِحِرَاثَةِ الْأَرْضِ. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ!) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) وَمَا هُمَا ثَمَّ. وَقَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمٍ لَهُ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ مِنْهَا، فَأَخَذَهَا، فَأَدْرَكَهَا صَاحِبُهَا، فَاسْتَنْقَذَهَا، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبْعِ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي؟ فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ! ، فَقَالَ أُومِنُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) وَمَا هُمَا ثَمَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [5] بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6056 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً) أَيْ: يَدْفَعُهَا مِنْ وَرَائِهَا (إِذْ أَعْيَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِذْ عَيِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْأُولَى أَيْ تَعِبَ الرَّجُلُ مِنَ الْمَشْيِ (فَرَكِبَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّا) أَيْ: جِنْسَ الْبَقَرِ (لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا) أَيْ: لِلرُّكُوبِ (إِنَّمَا خُلِقْنَا لِحِرَاثَةِ الْأَرْضِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ إِثَارَتِهَا لِزِرَاعَتِهَا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رُكُوبَ الْبَقَرِ وَالْحَمْلَ عَلَيْهَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، فَالْحَصْرُ إِضَافِيٌّ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الدَّوَابَّ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى تَعْظِيمِ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يَرِدِ الْحَصْرُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ اتِّفَاقًا، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا خُلِقَتْ لَهُ أَنْ تُذْبَحَ وَتُؤْكَلَ بِالِاتِّفَاقِ. قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ يُفِيدُ نَفْيَ جَوَازِ رُكُوبِ الْبَقَرِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَرَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَا وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَبْحِهَا وَأَكْلِهَا لِأَنَّهُمَا مَعْلُومَانِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَهُمَا مُسْتَثْنَيَانِ شَرْعًا وَعُرْفًا. (فَقَالَ النَّاسُ) أَيِ: الْحَاضِرُونَ (سُبْحَانَ اللَّهِ) أَيْ: تَعَجُّبًا (بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ) بِضَمِّ الْمِيمِ مُضَارِعٌ حُذِفَ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيِ الْبَقَرَةُ تَتَكَلَّمُ، وَالْحَالُ أَنَّهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الصَّامِتَةِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ) : جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَسْتَغْرِبُونَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ فَإِنِّي لَا أَسْتَغْرِبُهُ وَأُومِنُ بِهِ (أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) : قَالَ شَارِحٌ: عَطْفٌ عَلَى الْمُسْتَكِنِّ فِي أُومِنُ وَأَنَا تَأْكِيدٌ لَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قُلْتَ: مَا فَائِدَةُ ذِكْرِ أَنَا وَعَطْفِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عَطْفٌ عَلَى الْمُسْتَتِرِ فِي أُومِنُ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ؟ قُلْتُ: لَوْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَا لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَأَبُو بَكْرٍ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى التَّأْكِيدِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَارِدَةً عَلَى التَّبَعِيَّةِ وَلَا كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَعْنِي فِي زِيَادَةِ أَنَا فَإِنَّهُ يُفِيدُ حِينَئِذٍ الِاشْتِرَاكَ. (وَمَا هُمَا ثَمَّ) . بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: وَلَيْسَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: فَإِنِّي أُومِنُ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا فِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ تَخْصِيصَهُمَا بِالتَّصْدِيقِ الَّذِي بَلَغَ عَيْنَ الْيَقِينِ، وَكُوشِفَ صَاحِبُهُ بِالْحَقِيقَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا لِلتَّعَجُّبِ مَجَالٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، قَوْلُهُ: بِهِ أَيْ أُصَدِّقُ أَنَا بِمَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْمَلَكُ مِنْ تَكَلُّمِ الْبَقَرَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمَا بِمَا أَخْبَرْتُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَخْبَرَهُمَا بِهِ فَصَدَّقَاهُ، أَوْ أَطْلَقَ ذَلِكَ لِمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمَا يُصَدِّقَانِ بِذَلِكَ وَلَا يَتَرَدَّدَانِ فِيهِ اهـ. وَالْأَخِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَقَامُ الْمَدْحِ، وَكَمَا يُشْعِرُ إِلَيْهِ قَوْلُ الرَّاوِي: وَمَا هُمَا ثَمَّ، وَإِلَّا فَكُلُّ مُؤْمِنٍ يُصَدِّقُ النَّبِيَّ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَجْهٍ يُمَيِّزُهُمَا عَنْ غَيْرِهِمَا، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مُشَارَكَتُهُمَا فِي الْإِيمَانِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (بَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمٍ لَهُ) أَيْ: فِي قِطْعَةِ غَنِمٍ كَائِنٍ لَهُ مِلْكًا أَوِ اخْتِصَاصًا بِرَعْيِهَا (إِذْ عَدَا الذِّئْبُ) أَيْ: حَمَلَ ذِئْبٌ مِنَ الذِّئَابِ (عَلَى شَاةٍ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ قِطْعَةِ الْغَنَمِ (فَأَخَذَهَا) ، أَيِ الذِّئْبُ الشَّاةَ (فَأَدْرَكَهَا صَاحِبُهَا فَاسْتَنْقَذَهَا) أَيِ: اسْتَخْلَصَهَا مِنَ الذِّئْبِ (فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: فَمَنْ لَهَا) أَيْ: فَمَنْ يَحْفَظُ الشَّاةَ (يَوْمَ السَّبْعِ) ، بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا (يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي) ؟ قَالَ شَارِحٌ: رُوِيَ السَّبُعُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا كَعَضُدٍ وَعَضْدٍ، وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ السَّبْعِ حِينَ يَمُوتُ النَّاسُ وَيَبْقَى الْوُحُوشُ، أَوْ يَوْمَ الْإِمْهَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَبَعَ الذِّئْبُ الْغَنَمَ إِذَا افْتَرَسَهَا وَأَكَلَهَا، فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَهَا عِنْدَ الْفِتَنِ حِينَ يَتْرُكُهَا النَّاسُ لَا رَاعِيَ لَهَا نُهْبَةً لِلذِّئَابِ وَالسِّبَاعِ، فَجُعِلَ السَّبْعُ لَهَا رَاعِيًا إِذْ هُوَ مُنْفَرِدٌ بِهَا، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقِيلَ: يُسَكَّنُ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَهَذَا إِنْذَارٌ رُبَّمَا يَكُونُ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْفِتَنِ الَّتِي يُهْمِلُ النَّاسُ فِيهَا مَوَاشِيَهُمْ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْهَا السِّبَاعُ بِلَا مَانِعَ، وَقِيلَ يَوْمَ السَّبْعِ بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَيُرْوَى بِضَمِّهَا أَيْضًا: عِيدٌ كَانَ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ عَلَى اللَّهْوِ وَيُهْمِلُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَيَأْكُلُهَا السَّبْعُ، وَقِيلَ: السَّبْعُ بِسُكُونِ الْبَاءِ الْمَوْضِعُ الَّذِي عِنْدَهُ الْمَحْشَرُ يُرِيدُ بِيَوْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُنَاسِبُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي. (فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ!) فَقَالَ: (أُومِنُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

6057 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ فِي قَوْمٍ فَدَعَوُا اللَّهَ لِعُمَرَ وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ، إِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلَفِي قَدْ وَقَعَ مِرْفَقُهُ عَلَى مَنْكِبِي يَقُولُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، لِأَنِّي كَثِيرًا مَا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ) . فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6057 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ فِي قَوْمٍ فَدَعَوُا اللَّهَ) أَيِ: الْقَوْمُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَدْعُونَ اللَّهَ. (لِعُمَرَ وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ عُمَرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَضْعُ عُمَرَ يَوْمَ مَاتَ عَلَى سَرِيرِهِ لِلْغُسْلِ وَحَضَرَهُ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِهِ (إِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَيَجُوزُ عَكْسُهُ (عَلَى مَنْكِبِي) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَكَسْرِ كَافٍ (يَقُولُ) أَيْ: مُخَاطِبًا لِعُمَرَ (يَرْحَمُكَ اللَّهُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: رَحِمَكَ اللَّهُ (إِنِّي لَأَرْجُو) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِنِّي كُنْتُ لَأَرْجُو (أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ) ، أَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِأَنِّي) : تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ أَيْ: أَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ مَعَهُمَا فِي عَالَمِ الْقُدُسِ لِأَنِّي (كَثِيرًا مَا كُنْتُ) : بِزِيَادَةِ (مَا) لِإِفَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ عَكْسَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، وَمَا فِيهِ إِبْهَامِيَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَلَيْسَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ لَفْظَةُ (مَا) فَقَوْلُهُ: كُنْتُ خَبَرُ إِنَّ، وَكَثِيرًا ظَرْفٌ وَعَامِلُهُ كَانَ قُدِّمَ عَلَيْهِ وَنَحْوُهُ: - {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ " وَقَعَ هَكَذَا لِأَنِّي كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُ بِزِيَادَةِ (مِنْ) وَلَيْسَ لَهُ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ إِلَّا أَنْ يُتَعَسَّفَ، وَقَالَ: إِنِّي أَجِدُ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ (مَا) مَوْصُولَةً بِمَعْنَى (مَنْ) وَالْمَعْنَى لِأَنِّي فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِمَّنْ كُنْتُ (أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (كُنْتُ) أَيْ: فِي مَكَانِ كَذَا (وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَفَعَلْتُ) أَيِ: الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ أَوْ مِنْ رُسُومِ الْعَادَةِ، (وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَانْطَلَقْتُ) أَيْ: ذَهَبْتُ أَيْ إِلَى مَكَانِ كَذَا، (وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ) أَيِ: الْمَسْجِدَ وَنَحْوَهُ (وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ) أَيْ: مِنْ نَحْوِ الْبَيْتِ (وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) : قِيلَ: دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ بِلَا تَأْكِيدٍ وَفَصْلٍ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُجِيزُهُ النَّحْوِيُّونَ فِي النَّثْرِ إِلَّا عَلَى ضَعْفٍ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ نَظْمًا وَنَثْرًا كَمَا قَالَهُ الْمَالِكِيُّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُمَرَ: كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] فَإِنَّ كَلِمَةَ لَا بَعْدَ الْعَاطِفِ وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ زَائِدَةٌ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: زَادَ هُنَا: فَإِنِّي كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ مَعَهُمَا.

(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالْتَفَتُّ) أَيْ: إِلَى وَرَائِي (فَإِذَا) أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ (عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْهُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْهُ: وَأَنَّهُ وَضَعَ عُمَرَ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ؛ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ. وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، خَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) وَإِنِّي كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا.

الْفَصْلُ الثَّانِي 6058 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي عِلِّيِّينَ، كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا» ) . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) ، وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6058 - (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَمْزِ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَأَصْلُهُ يَتَرَاءَيُونَ مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ أَيْ: يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا (فِي عِلِّيِّينَ) ، أَيْ مَقَامُهُمْ وَمَنْزِلَتُهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ (كَمَا تَرَوْنَ) أَيْ: تُبْصِرُونَ (الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَيُكْسَرُ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ وَيُهْمَزُ أَيْضًا أَيِ: الْمُضِيءَ كَالدَّارِّ، أَوِ الدَّافِعِ بِنُورِهِ ظُلْمَةَ مَا حَوْلَهُ. (فِي أُفُقِ السَّمَاءِ) ، بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ نَاحِيَتِهَا وَجَمْعُهُ آفَاقٌ (وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ (وَأَنْعَمَا) . أَيْ زَادَا فِي الدَّرَجَةِ وَالرُّتْبَةِ، وَتَجَاوَزَا عَنْ كَوْنِهِمَا أَهْلَ عِلِّيِّينَ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى دَخَلَا فِي النَّعِيمِ كَمَا قَالَ: أَشْمَلَ إِذَا دَخَلَ فِي الشَّمَالِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمُقَدَّرِ فِي مِنْهُمْ أَيْ: اسْتَقَرَّا مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا. (رَوَاهُ) أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ بِإِسْنَادِهِ (وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ " (لَمِنْهُمْ) . وَاللَّامُ زَائِدَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ نَقَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِيهِ: مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا مِنْ غَيْرِ لَامٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، " وَجَامِعِ الْأُصُولِ " بِغَيْرِ لَامٍ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي " الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ": «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ. قَالَ: ( «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» ) . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: ( «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَابْنِ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا» ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: ( «إِنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيُشْرِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْجَنَّةِ فَيُضِيءُ وَجْهُهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا يُضِيءُ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا» ) .

6059 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ سَيِّدَا كُهُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6059 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ) : الْكُهُولُ: بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ الْكَهْلِ، وَهُوَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ مَنْ جَاوَزَ الثَّلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ إِلَى إِحْدَى وَخَمْسِينَ فَاعْتَبَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا حَالَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ كَهْلٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَقَالَ شَارِحٌ: يَعْنِي الْكُهُولَ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَهُوَ مَعْلُولٌ مَدْخُولٌ، وَقِيلَ: سَيِّدَا مَنْ مَاتَ كَهْلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا كَهْلٌ، بَلْ مَنْ يَدْخُلُهَا ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَإِذْ كَانَا سَيِّدَيِ الْكُهُولِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَا سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِهَا اهـ. وَفِيهِ بَحْثَانِ لَا يَخْفَيَانِ. (مِنَ الْأَوَّلِينَ) أَيْ: مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَيَكُونَانِ أَفْضَلَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَمِنَ الْخَضِرِ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وَلِيٌّ. (وَالْآخِرِينَ) أَيْ: مِنْ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهِمْ وَشُهَدَائِهِمْ (إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ) . فَخَرَجَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَذَا الْخَضِرُ عَلَى الْقَوْلِ بِنُبُوَّتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ عَنْ أَنَسٍ.

6060 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ - عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6060 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . وَفِي " الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ": رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَأَبُو يَعْلَى وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ جَابِرٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِي الرِّيَاضِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ طَلَعَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، يَا عَلِيُّ، لَا تُخْبِرْهُمَا) » أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَهُ عَنْ أَنَسٍ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَقَالَ: (سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَشَبَابِهَا بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ) . وَأَخْرَجَهُ الْمُخْلِصُ الذَّهَبِيُّ وَلَمْ يَقُلْ شَبَابِهَا وَزَادَ: قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ حَتَّى مَاتَا، وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ مَا حَدَّثْتُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: (وَلَا تُخْبِرْهُمَا يَا عَلِيُّ) رُبَّمَا سَبَقَ إِلَى الْوَهْمِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَشِيَ عَلَيْهِمَا الْعُجْبَ وَالْأَمْنَ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا أَنَّ مَنْزِلَتَهُمَا عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ وَاللَّهِ لَا تُخْبِرْهُمَا يَا عَلِيُّ قَبْلِي لِأُبَشِّرَهُمَا بِنَفْسِي فَيَبْلُغُهُمَا السُّرُورُ مِنِّي، وَإِنَّمَا قَالَ: سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ شَبَابٌ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ الْحَالِ، فَإِنَّ الْكَهْلَ أَكْمَلُ الْإِنْسَانِيَّةِ عَقْلًا مِنَ الشَّبَابِ، وَمَدَارِجُ الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَعَلِيٍّ: (يَا عَلِيُّ إِذَا تَقَرَّبَ النَّاسُ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ فَتَقَرَّبْ أَنْتَ بِأَنْوَاعِ الْعَقْلِ) أَخْرَجَهُ الْخُجَنْدِيُّ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَقْبَلَ أَحَدُهُمَا أَخَذَ بِيَدِ صَاحِبِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَيْنِ الْمُقْبِلَيْنِ) » . رَوَاهُ الْغَيْلَانِيُّ.

6061 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنِّي لَا أَدْرِي مَا بَقَائِي فِيكُمْ؟ فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6061 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنِّي لَا أَدْرِي مَا بَقَائِي فِيكُمْ) ؟ وَفِي رِوَايَةٍ إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: لَا أَدْرِي كَمْ مُدَّةُ بَقَائِي فِيكُمْ قَلِيلٌ أَمْ كَثِيرٌ وَفِيهِ تَعْلِيقٌ (فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ) : بِاللَّامَيْنِ لِلْإِشْعَارِ لِأَنَّهُ تَثْنِيَةُ الَّذِي (مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) . بَدَلٌ مِنَ اللَّذَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ: ( «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ حُذَيْفَةَ وَزَادَ الْحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ الْقَصَّارُ: (فَإِنَّهُمَا حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِمَا تَمَسَّكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا.

6062 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لَمْ يَرْفَعْ أَحَدٌ رَأْسَهُ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، كَانَا يَتَبَسَّمَانِ إِلَيْهِ وَيَتَبَسَّمُ إِلَيْهِمَا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6062 - (وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لَمْ يَرْفَعْ أَحَدٌ) أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ (رَأْسَهُ) أَيْ: رَأَسَ نَفْسِهِ لِهَيْبَةِ مَجْلِسِهِ وَرِعَايَةِ الْأَدَبِ حَالَ انْبِسَاطِهِ وَأُنْسِهِ، وَأَبْعَدَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ أَيْ: رَأْسَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاشْتِغَالِهِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ أَحَدٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ (كَانَا يَتَبَسَّمَانِ إِلَيْهِ وَيَتَبَسَّمُ إِلَيْهِمَا) ، اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ وَالتَّبَسُّمُ مَجَازٌ عَنْ كَمَالِ الِانْبِسَاطِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَفِي " الرِّيَاضِ "، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَلَا يَرْفَعُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَصَرَهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنَّهُمَا كَانَا يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا وَيَتَبَسَّمَانِ إِلَيْهِ وَيَتَبَسَّمُ إِلَيْهِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَالْمُخْلِصُ الذَّهَبِيُّ وَالْحَافِظُ الدِّمَشْقِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ عِنْدَ النَّبِيِّ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ مَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.

6063 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، وَهُوَ آخِذٌ بِأَيْدِيهِمَا، فَقَالَ (هَكَذَا نُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6063 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ) أَيْ: مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ) ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ نَوْعُ لَفٍّ وَنَشْرٍ مُرَتَّبٍ، فُوِّضَ إِلَى رَأَيِ السَّامِعِ لِظُهُورِهِ عِنْدَهُ (وَهُوَ آخِذٌ) : بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ (بِأَيْدِيهِمَا) ، أَيْ بِيَدَيْهِمَا (فَقَالَ: هَكَذَا) أَيْ: بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْمَسْطُورِ (نُبْعَثُ) أَيْ: نُخْرَجُ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى مَوْضِعِ النُّشُورِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

6064 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: (هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6064 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ) ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضُمُّهُمَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ. أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَأَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: (هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ) ، أَيْ نَفْسُهُمَا مُبَالَغَةً كَرَجُلٍ عَدْلٍ، أَوْ هُمَا فِي الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي الدِّينِ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ لَا الْأَعْضَاءِ، فَحَذَفَ كَافَ التَّشْبِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِذَا يُسَمَّى تَشْبِيهًا بَلِيغًا، أَوْ هُمَا فِي الْعِزَّةِ عِنْدِي بِمَنْزِلَتِهِمَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ) قَالَ الْقَاضِيَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّاهُمَا بِذَلِكَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمَا عَلَى اسْتِمَاعِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَتَهَالُكِهِمَا عَلَى النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْمُنْبَثَّةِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا اهـ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ، كَمَا يُؤَيِّدُهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [النحل: 78] وَنَحْوِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِتَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِدُونِ الْبَصَرِ يُتَصَوَّرُ بِخِلَافِ فَقْدِ السَّمْعِ، مَعَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الصَّمَمُ الْبَكَمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا. قَالَ شَارِحٌ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ الرَّاوِيَ هَذَا لَمْ يَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. زَادَ مَيْرَكُ وَقَدْ يُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ. قُلْتُ: وَقَدْ يُقَالُ لَهُ رُؤْيَةٌ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي " الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ": " «أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنَ الرَّأْسِ» ) . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي " مُسْنَدِهِ "، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمَا لَهُ غَيْرُهُ. وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَةِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَالْخَطِيبُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا. وَرَوَى الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي أُمَّتِي مِثْلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي النُّجُومِ» ) .

6065 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَلَهُ وَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ، وَوَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ) . . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 6065 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَلَهُ وَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ، وَوَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ) ، الْوَزِيرُ الْمُوَازِرُ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الْوِزْرَ، أَيِ: الثِّقَلَ عَنْ أَمِيرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَهُ أَمْرٌ شَاوَرَهُمَا، كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ شَاوَرَ وَزِيرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي - هَارُونَ أَخِي - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 29 - 31] أَيْ: عَضُدِي لِيَحْصُلَ بِهِ نَصْرِي: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 32] أَيْ: فِي تَدْبِيرِ أَمْرِي. {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا - وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 33 - 34] فَإِنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَهَا بَرَكَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. (فَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ) فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى فَضْلِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كَمَا أَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى تَفْضِيلِ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ. (وَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) . فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى فَضْلِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ، وَعَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ، لِأَنَّ الْوَاوَ وَإِنْ كَانَتْ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَلَكِنَّ تَرَتُّبَهُ فِي لَفْظِ الْحَكِيمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَثَرٍ عَظِيمٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ) . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْحَكِيمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: ( «إِنَّ لِي وَزِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ، وَوَزِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَوَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَوَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ) وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَلَفْظُهُ: ( «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَزِيرَيْنِ، وَوَزِيرَايَ وَصَاحِبَايَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ) . وَأَخْرَجَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ نُعَيْمٍ الْبَصْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِهِ قَالَ: فَمَدَّ يَدَهُ الْمُبَارَكَةَ بَيْنَ كَتِفَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَمَدَّ يَسَارَهُ بَيْنَ كَتِفَيْ عُمَرَ، ثُمَّ قَالَ، لَهُمَا: (أَنْتُمَا وَزِيرَايَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْتُمَا وَزِيرَايَ فِي الْآخِرَةِ، هَكَذَا تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنِّي وَعَنْكُمَا، وَهَكَذَا أَزُورُ وَأَنْتُمَا رَبَّ الْعَالَمِينَ) » . وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: مَكْتُوبٌ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ، أَوْ فِي سَاقِ الْعَرْشِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَزِيرَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ الْفَارُوقُ. أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الدِّيبَاجِ، وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَيَّدَنِي مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ بِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَمِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ) . أَخْرَجَهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ.

6066 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَأَيْتُ كَأَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَرَجَحْتَ أَنْتَ، وَوُزِنَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَحَ عُمَرُ ; ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ، فَاسْتَاءَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي فَسَاءَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: (خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ) » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6066 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) أَيِ: الثَّقَفِيِّ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَأَيْتُ كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (مِيزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَوُزِنْتَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُخَاطَبِ (أَنْتَ) : ضَمِيرُ فَصْلٍ وَتَأْكِيدٍ لِتَصْحِيحِ الْعَطْفِ (وَأَبُو بَكْرٍ، فَرَجَحْتَ (: بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ أَيْ: ثَقُلْتَ وَغَلَبْتَ (أَنْتَ) ، لِتَأْكِيدِ الْمُجَرَّدِ (وَوُزِنَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَحَ عُمَرُ، ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ) . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ مَا اخْتُلِفَ فِي تَفْضِيلِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ. (فَاسْتَاءَ) : بِهَمْزِ وَصْلٍ وَسُكُونِ سِينٍ فَتَاءٍ فَأَلِفٍ فَهَمْزٍ أَيْ فَحَزِنَ. (لَهَا) أَيْ: لِلرُّؤْيَا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي) : هَذَا قَوْلُ الرَّاوِي (فَسَاءَهُ) أَيْ: فَأَحْزَنَ النَّبِيَّ (ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذَكَرَهُ الرَّجُلُ مِنْ رُؤْيَاهُ، وَذَلِكَ لِمَا عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ رَفْعِ الْمِيزَانِ انْحِطَاطُ رُتْبَةِ الْأُمُورِ وَظُهُورُ الْفِتَنِ بَعْدَ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَمَعْنَى رُجْحَانِ كُلٍّ مِنَ الْآخَرِ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ الرَّاجِحَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُوزَنْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ لِأَنَّ خِلَافَةَ عَلِيٍّ عَلَى اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِرْقَةٌ مَعَهُ وَفِرْقَةٌ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَا تَكُونُ خِلَافَةً مُسْتَقِرَّةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. " وَفِي النِّهَايَةِ ": اسْتَاءَ بِوَزْنِ افْتَعَلَ مِنَ السُّوءِ وَهُوَ مُطَاوِعُ سَاءَ يُقَالُ: اسْتَاءَ فُلَانٌ بِكَذَا أَيْ: سَاءَهُ ذَلِكَ، وَيُرْوَى فَاسَتَاءَ لَهَا أَيْ: طَلَبَ تَأْوِيلَهَا بِالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّمَا سَاءَهُ

- وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنَ الرُّؤْيَا الَّتِي ذَكَرَهَا مَا عَرَفَهُ مِنْ تَأْوِيلِ رَفْعِ الْمِيزَانِ، فَإِنَّ فِيهِ احْتِمَالًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْأَمْرِ فِي زَمَانِ الْقَائِمِ بِهِ بَعْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَاذِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّمَكُّنِ بِالتَّأْيِيدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَزْنِ مُوَازَنَةَ أَيَّامِهِمْ لِمَا كَانَ نَظَرَ فِيهَا مِنْ رَوْنَقِ الْإِسْلَامِ وَبَهْجَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُوَازَنَةَ إِنَّمَا تُرَاعَى فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَارِبَةِ مَعَ مُنَاسَبَةٍ مَا، فَيَظْهَرُ الرُّجْحَانُ، فَإِذَا تَبَاعَدَتْ كُلَّ التَّبَاعُدِ لَمْ يُوجَدْ لِلْمُوَازَنَةِ مَعْنًى، فَلِهَذَا رُفِعَ الْمِيزَانُ. (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ) ، بِالْإِضَافَةِ وَرَفْعِ خِلَافَةٍ عَلَى الْخَبَرِ أَيِ الَّذِي رَأَيْتَهُ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ هَذِهِ خِلَافَةُ (ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ) . وَقِيلَ أَيْ: انْقَضَتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ، هَذِهِ الرُّؤْيَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ بِالْحَقِّ تَنْقَضِي وَتَنْتَهِي حَقِيقَتُهَا بِانْقِضَاءِ خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَلَّ إِضَافَةُ الْخِلَافَةِ إِلَى النُّبُوَّةِ عَلَى أَنْ لَا ثُبُوتَ فِيهَا مِنْ طَلَبِ الْمُلْكِ وَالْمُنَازَعَةِ فِيهِ لِأَحَدٍ، وَكَانَتْ خِلَافَةُ الشَّيْخَيْنِ عَلَى هَذَا، وَكَوْنُ الْمَرْجُوحِيَّةِ انْتَهَتْ إِلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَلَّ عَلَى حُصُولِ الْمُنَازَعَةِ فِيهَا، وَأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مَشُوبَةٌ بِالْمُلْكِ، فَأَمَّا بَعْدَهُمَا فَكَانَتْ مُلْكًا عَضُوضًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدْوَةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَالَ: (رَأَيْتُ قَبْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهِيَ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهَذِهِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا، وَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ بِهِمْ فَرَجَحَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ بِهِمْ فَرَجَحَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَتْ) » . وَلَعَلَّ فِي رَاجِحِيَّةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إِيمَاءً إِلَى اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَكَأَنَّهُ قَعَدَ بِهِمْ وَنَاءَ بِحِمْلِهِمْ، وَفِي رَفْعِ الْمِيزَانِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ ثَلَاثَةً مِنْ أَصْحَابِي وُزِنُوا، فَوُزِنَ أَبُو بَكْرٍ فَوَزَنَ، ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ فَوَزَنَ، ثُمَّ وُزِنَ عُثْمَانُ فَنَقَصَ صَاحِبُنَا وَهُوَ صَالِحٌ» ) اهـ. بَلْ نَحْمِلُهَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ السَّابِقُ: فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَوَزَنَ عَلَى مُوَافَقَةِ رَأْيِهِمْ، وَأَنَّ رَأْيَهُ وَازَنَ آرَاءَهُمْ فَجَاءَ مَوْزُونًا مُعْتَدِلًا مَعَهَا لَمْ يُخَالِفُوهُ فِي رَأْيٍ رَآهُ. وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ آتِي أَهْلَ الْبَقِيعِ فَيُحْشَرُونَ مَعِي، ثُمَّ أَنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ حَتَّى أُحْشَرَ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ» ) وَمِمَّا يُنَاسِبُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَقَدْ سَأَلَهُ الرَّشِيدُ: كَيْفَ كَانَتْ مَنْزِلَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ؟ قَالَ: كَقُرْبِ قَبْرَيْهِمَا مِنْ قَبْرِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. قَالَ: شَفَيْتَنِي يَا مَالِكُ. أَخْرَجَهُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَافِظُ السَّلَفِيُّ، وَنَحْوُهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْمُوَافَقَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. وَمِمَّا يُنَاسِبُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْقَلَعِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَفَ مِنْ يَهُودِيٍّ شَيْئًا إِلَى الْحَوْلِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ وَلَمْ أَجِدْكَ فَإِلَى مَنْ أَذْهَبُ؟ قَالَ: (إِلَى أَبِي بَكْرٍ) قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَجِدْهُ. قَالَ: (إِلَى عُمَرَ) قَالَ: إِنْ لَمْ أَجِدْهُ؟ قَالَ: (إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَمُوتَ إِذَا مَاتَ عُمَرُ فَمُتْ) » . وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ. مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: ( «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ) وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6067 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « (يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ، فَاطَّلَعَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ: (يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ، فَاطَّلَعَ عُمَرُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6067 - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (يَطَّلِعُ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ يُشْرِفُ أَوْ يَظْهَرُ أَوْ «يَدْخُلُ (عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَاطَّلَعَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ: (يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَاطَّلَعَ عُمَرُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

6068 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «بَيْنَا رَأْسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجْرِي فِي لَيْلَةٍ ضَاحِيَةٍ إِذْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: (نَعَمْ، عُمَرُ) . قُلْتُ: فَأَيْنَ حَسَنَاتُ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ: (إِنَّمَا جَمِيعُ حَسَنَاتِ عُمَرَ كَحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ أَبِي بَكْرٍ) » رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6068 - (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: بَيْنَا رَأْسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجْرِي) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا (فِي لَيْلَةٍ ضَاحِيَةٍ) أَيْ: مُقْمِرَةٍ (إِذْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: (نَعَمْ عُمَرُ) . قُلْتُ: فَأَيْنَ حَسَنَاتُ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ: ( «إِنَّمَا جَمِيعُ حَسَنَاتِ عُمَرَ كَحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ أَبِي بَكْرٍ» ) . وَلَعَلَّهُ لِسَبْقِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) . وَإِنِ اتَّفَقَ خِلَافُ ذَلِكَ فِي بَادِي النَّظَرِ رَجَعُوا إِلَيْهِ فِي ثَانِيَةٍ مُسْتَصْوِبِينَ رَأْيَهُ، مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ مَعَهُ كَمَا فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى فُقِدَ فِي عُثْمَانَ فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا رَأْيَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ وَقَائِعِهِ، وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ، بَلْ أَصَرُّوا إِلَى إِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِّ عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، فَالنَّقْصُ إِنَّمَا كَانَ عَمَّا ثَبَتَ لِلشَّيْخَيْنِ قَبْلَهُ، كَذَا حَقَّقَهُ الطَّبَرِيُّ فِي الرِّيَاضِ النَّضِرَةِ فِي فَضَائِلِ الْعَشَرَةِ.

[باب مناقب عثمان رضي الله عنه]

[بَابُ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6069 - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ - أَوْ سَاقَيْهِ - فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَوَّى ثِيَابَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: (أَلَا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟) . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: (إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [6] بَابُ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6069 - (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ كَاشِفًا، عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: احْتَجَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُولُ: لَيْسَتِ الْفَخِذُ عَوْرَةً، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ قَالَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ فِي الْمِشْكَاةِ: الرَّاوِي فِي الْمَكْشُوفِ هَلْ هُمَا السَّاقَانِ أَمِ الْفَخِذَانِ؟ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ كَشْفِ الْفَخِذِ. قُلْتُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَشْفِ الْفَخِذِ كَشْفَهُ عَمَّا عَلَيْهِ مِنَ الْقَمِيصِ، لَا مِنَ الْمِئْزَرِ كَمَا سَيَأْتِي مَا يُشْعِرُ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ آلِهِ وَصَحْبِهِ. (فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بَعْدَمَا كَانَ مُضْطَجِعًا (وَسَوَّى ثِيَابَهُ) ، أَيْ بَعْدَ عَدَمِ تَسْوِيَتِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَاشِفًا عَنْ نَفْسِ أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ، بَلْ عَنِ الثِّيَابِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَيْهِمَا، وَلِذَا لَمْ تَقُلْ وَسَتَرَ فَخِذَهُ، فَارْتَفَعَ بِهِ الْإِشْكَالُ وَانْدَفَعَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ (فَلَمَّا خَرَجَ) أَيْ: عُثْمَانُ وَمَنْ مَعَهُ أَوْ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا خَرَجَ الْقَوْمُ (قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ) : بِتَشْدِيدِ الشِّينِ أَيْ: لَمْ تَتَحَرَّكْ لِأَجْلِهِ، وَفِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ ": الْهَشَاشَةُ الْبَشَاشَةُ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الِالْتِقَاءِ (وَلَمْ تُبَالِهِ) ، أَيْ أَبَا بَكْرٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَاءِ السَّكْتِ، فَفِي " الْقَامُوسِ " مَا أُبَالِيهِ مُبَالَاةً أَيْ مَا أَكْتَرِثُ، وَالْمَعْنَى ثَبَتَّ عَلَى اضْطِجَاعِكَ وَعَدَمِ جَمْعِ ثِيَابِكَ (ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ. قَالَ: ( «أَلَا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» ؟) بِالْيَاءَيْنِ فِي الْفِعْلَيْنِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّ الْحَيَاءَ صِفَةٌ جَمِيلَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْقِيرِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى حَطِّ مَنْصِبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمَا لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْمَحَبَّةِ إِذَا كَمُلَتْ وَاشْتَدَّتِ ارْتَفَعَ التَّكَلُّفُ كَمَا قِيلَ: إِذَا حَصَلَتِ الْأُلْفَةُ بَطَلَتِ الْكُلْفَةُ. قُلْتُ: فَانْقَلَبَ الْحَدِيثُ دَلَالَةً عَلَى فَضْلِهِمَا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ تَعْظِيمَهُ وَتَوْقِيرَهُ ذُكِرَ فِي بَابِ مَنَاقِبِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ جَزَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِحْيَاءِ التَّوْقِيرُ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ الِاسْتِحْيَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُجَامَلَةِ فِي الْمُعَاشَرَةِ هُوَ الْمُشَاكَلَةُ وَالْمُقَابَلَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ غَلَبَةِ الصِّفَةِ وَالْحَالَةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُرَاعِي صَاحِبَهُ بِكَثْرَةِ التَّوَاضُعِ يَقْتَضِي لَهُ زِيَادَةَ التَّوَاضُعِ مَعَهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ كَثِيرَ الِانْبِسَاطِ يُوجِبُ الِانْبِسَاطَ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرَ الْأَدَبِ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى تَكَلُّفِ الْأَدَبِ مَعَهُ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ سَائِرُ الْأَحْوَالِ مِنَ السُّكُوتِ وَالْكَلَامِ وَالضَّحِكِ وَالْقِيَامِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: سُئِلْتُ عَنِ الْمَوْطِنِ الَّذِي اسْتَحَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ فَأَجَبْتُ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ يُعْتَمَدُ، وَلَكِنْ أَفَادَ شَيْخُنَا الْبَدْرُ النَّسَّابَةُ فِي بَعْضِ مَجَامِيعِهِ عَنِ الْجَمَّالِ الْكَازَرُونِيِّ: أَنَّهُ لَمَّا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْبَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَتَقَدَّمَ عُثْمَانُ لِذَلِكَ كَانَ صَدْرُهُ مَكْشُوفًا، فَتَأَخَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ حَيَاءً، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَغْطِيَةِ صَدْرِهِ فَعَادُوا إِلَى مَكَانِهِمْ، فَسَأَلَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبَبِ تَأَخُّرِهِمْ فَقَالُوا: حَيَاءً مِنْ عُثْمَانَ اهـ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَيَاءَ يُوجِبُ الْحَيَاءَ، وَأَنَّ حَيَاءَ الْمَلَائِكَةِ صَارَ سَبَبًا لِحَيَاءِ عُثْمَانَ، وَكَأَنَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ وَبَالَغَ فِيهِ حَتَّى صَارَ سَبَبًا لِاسْتِحْيَاءِ غَيْرِهِ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنِ الْحَسَنِ: وَذَكَرَ عُثْمَانَ وَشِدَّةَ حَيَائِهِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لَيَكُونُ فِي الْبَيْتِ وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ، ثُمَّ يَضَعُ عَنْهُ الثَّوْبَ لِيُفِيضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يُقِيمَ صُلْبَهُ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَاحِبُ " الصَّفْوَةِ ". (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ) : قَالَ مَيْرَكُ: ظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا هُمَا حَدِيثَانِ، فَالْمُتَقَدِّمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ حَدَّثَاهُ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ. قَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ، وَقَالَ لِعَائِشَةَ: (اجْمَعِي عَلَيَّ ثِيَابَكِ) يَعْنِي الْمِرْطَ. قَالَ: فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِي لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ: (إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ) » : فَعِيلٌ بِمَعْنَى كَثِيرِ الْحَيَاءِ (وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ) . أَيْ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَخَافُ أَنْ يَرْجِعَ حَيَاءً مِنِّي عِنْدَمَا يَرَانِي عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ، وَلَا يَعْرِضُ عَلَيَّ حَاجَتَهُ لِغَلَبَةِ أَدَبِهِ وَكَثْرَةِ حَيَائِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى هَيْئَتِهِ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ يَسْتَأْذِنُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى هَيْئَتِهِ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ يَسْتَأْذِنُ فَتَجَلَّلَ ثَوْبَهُ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَتَحَدَّثُوا سَاعَةً ثُمَّ خَرَجُوا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى هَيْئَتِكَ لَمْ تَتَحَرَّكْ، فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ تَجَلَّلْتَ ثَوْبَكَ. قَالَ: (أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ) » . وَخَرَّجَهُ رَزِينٌ مُخْتَصَرًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «عُثْمَانُ رَجُلٌ ذُو حَيَاءٍ فَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يَقِفَ لِلْحِسَابِ فَشَفَّعَنِي فِيهِ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنِّي سَأَلْتُ عُثْمَانَ حَاجَةً سِرًّا فَقَضَاهَا سِرًّا. فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يُحَاسِبَ عُثْمَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُحَاسِبَهُ سِرًّا» . وَهَذِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ إِذْ وَرَدَ فِي سِيَاقٍ: أَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عَلِيٌّ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ " فِي الْحِلْيَةِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ( «أَشَدُّ أُمَّتِي حَيَاءً ابْنُ عَفَّانَ» ) وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «عُثْمَانُ حَيِيٌّ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» ) . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ( «عُثْمَانُ أَحْيَى أُمَّتِي وَأَكْرَمُهَا» ) . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: ( «أَشَدُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا حَيَاءً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» ) وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: ( «إِنَّ عُثْمَانَ حِينَ يَسِيرُ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» ) .

الْفَصْلُ الثَّانِي 6070 - عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ، وَرَفِيقِي - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ - عُثْمَانُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6070 - (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) : وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ) ، أَيْ: خَاصٌّ (وَرَفِيقِي - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ - عُثْمَانُ) . خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُمَا مِنْ كَلَامِ طَلْحَةَ أَوْ غَيْرِهِ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لِمَكَانِ الرَّفَاقَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ الشَّامِلِ لِلدُّنْيَا وَالْعُقْبَى جَزَاءً وِفَاقًا، ثُمَّ هُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ غَيْرِهِ أَيْضًا رَفِيقًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَلَفْظُهُ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ خَاصَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِنَّ خَاصَّتِي مِنْ أَصْحَابِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ، نَعَمْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقًا وَأَنَّهُ لَهُ رُفَقَاءُ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ، وَمَعَ هَذَا فِي تَخْصِيصِ ذِكْرِهِ إِشْعَارٌ بِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَرَفْعِ قَدْرِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ: عَنْ طَلْحَةَ.

6071 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6071 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) . قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَالَ (التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) ، وَالْغَرَابَةُ لَا تُنَافِي الصِّحَّةَ وَلِذَا قَالَ: (وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَهُوَ) ، أَيِ: الْحَدِيثُ أَوْ إِسْنَادُهُ (مُنْقَطِعٌ) . وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّاقِطُ مِنَ الرُّوَاةِ اثْنَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ، أَوْ سَقَطَ وَاحِدٌ فَقَطْ، أَوْ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَيْنِ، لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّوَالِي، فَيَتَحَصَّلَ مِنْهُ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، لَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَوِيًّا فِي الْفَضَائِلِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ( «لِكُلِّ نَبِيٍّ خَلِيلٌ فِي أُمَّتِهِ وَإِنَّ خَلِيلِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» ) . وَأَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ حَدِيثَ الْأَصْلِ فِي " الْجَامِعِ " بِلَفْظِ: ( «لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَرَفِيقِي فِيهَا عُثْمَانُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ طَلْحَةَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي " الرِّيَاضِ "، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ يَوْمَ حُوصِرَ وَلَوْ أُلْقِيَ حَجَرٌ لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ، فَرَأَيْتُ عُثْمَانَ أَشْرَفَ مِنَ الْخَوْخَةِ الَّتِي مَقَامُ جِبْرِيلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لِطَلْحَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَتَذْكُرُ يَوْمَ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ غَيْرِي وَغَيْرِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ، فَقَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «يَا طَلْحَةَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ رَفِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ عُثْمَانَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» ) يَعْنِينِي. قَالَ طَلْحَةُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَلَفْظُهُ: ( «لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ وَرَفِيقِي عُثْمَانُ» ) وَلَمْ يَقُلْ فِي الْجَنَّةِ.

6072 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ، قَالَ: «شَهِدْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَحُثُّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقَامَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَضَّ عَلَى الْجَيْشِ، فَقَامَ عُثْمَانُ، قَالَ: عَلَيَّ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَضَّ، فَقَامَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: عَلَيَّ ثَلَاثُمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْزِلُ عَنِ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: (مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ، مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6072 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ) ، بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ. (قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: حَضَرْتُهُ (وَهُوَ يَحُثُّ) : بِضَمِّ حَاءٍ وَتَشْدِيدِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ: يُحَرِّضُ (النَّاسَ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ) ، أَيْ: عَلَى تَرْتِيبِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَسُمِّيَتْ جَيْشَ الْعُسْرَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَانِ اشْتِدَادِ الْحَرِّ وَالْقَحْطِ وَقِلَّةِ الزَّادِ وَالْمَاءِ وَالْمَرْكِبِ بِحَيْثُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لَمَّا كَانَتِ الْمُنَاهَضَةُ إِلَى عَدُوٍّ جَمِّ الْعَدَدِ شَدِيدِ الْبَأْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُ قِيلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ: كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَيَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُمِائَةٍ، وَيَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَيَوْمَ الْفَتْحِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَهِيَ آخِرُ مَغَازِيهِ. (فَقَامَ عُثْمَانُ) ، أَيْ: بَعْدَ حَثِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيَّ) ، أَيْ: نَذْرٌ عَلَيَّ (مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا) ، أَيْ: مَعَ جِلَالِهَا (وَأَقْتَابِهَا) ، أَيْ: رِحَالِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ: الْأَحْلَاسُ جَمْعُ حِلْسٍ بِالْكَسْرِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَهُوَ كِسَاءٌ رَقِيقٌ يُجْعَلُ تَحْتَ الْبَرْذَعَةِ، وَالْأَقْتَابُ: جَمْعُ قَتَبٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ رَحْلٌ صَغِيرٌ عَلَى قَدْرِ سَنَامِ الْبَعِيرِ وَهُوَ لِلْجَمَلِ كَالْإِكَافِ لِغَيْرِهِ يُرِيدُ: عَلَيَّ هَذِهِ الْإِبِلُ بِجَمِيعِ أَسْبَابِهَا وَأَدَوَاتِهَا. (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: فِي.

طَرِيقِ رِضَاهُ (ثُمَّ حَضَّ) : بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: حَثَّ وَحَرَّضَ (عَلَى الْجَيْشِ) ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الزَّمَانِ (فَقَامَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: عَلَيَّ مِائَتَا بَعِيرٍ) ، أَيْ: غَيْرُ تِلْكَ الْمِائَةِ لَا بِانْضِمَامِهَا كَمَا يُتَوَهَّمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَضَّ) ، أَيْ: ثَالِثًا. وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ حَضَّ عَلَى الْجَيْشِ (فَقَامَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: عَلَيَّ ثَلَاثُمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فَالْتَزَمَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ بِحُكْمِ رُتْبَةِ الْمَقَامِ، فَفِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ ضَمِنَ مِائَةً وَاحِدَةً، وَفِي الثَّانِي مِائَتَيْنِ، وَفِي الثَّالِثِ ثَلَاثَمِائَةٍ فَالْمَجْمُوعُ سِتُّمِائَةٍ، وَسَيَأْتِي لَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ. (قَالَ طَلْحَةُ: فَأَنَا) ، أَيْ: بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِ أَنْ أَسْمَعَ مِنْ غَيْرِي (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْزِلُ عَنِ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: (مَا عَلَى عُثْمَانَ) : مَا هَذِهِ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى لَيْسَ، وَفِي قَوْلِهِ: (مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ) ، مَوْصُولَةٌ اسْمُ لَيْسَ أَيْ: لَيْسَ عَلَيْهِ وَلَا يَضُرُّهُ الَّذِي يَعْمَلُ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْحَسَنَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مُكَفِّرَةٌ لِذُنُوبِهِ الْمَاضِيَةِ مَعَ زِيَادَةِ سَيِّئَاتِهِ الْآتِيَةِ كَمَا وَرَدَ فِي ثَوَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةٍ لَهُ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَقَالَ شَارِحٌ: (مَا) فِيهِ إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَيْ: مَا بَأْسٌ عَلَيْهِ الَّذِي عَمِلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ بَعْدَ هَذِهِ الْعَطَايَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: مَا عَلَى عُثْمَانَ عَمَلٌ مِنَ النَّوَافِلِ بَعْدَ هَذِهِ الْعَطَايَا ; لِأَنَّ تِلْكَ الْحَسَنَةَ تَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ النَّوَافِلِ. قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيْ: مَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْمَلَ بَعْدَ هَذِهِ مِنَ النَّوَافِلِ دُونَ الْفَرَائِضِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْحَسَنَةَ تَكْفِيهِ عَنْ جَمِيعِ النَّوَافِلِ اهـ. وَهُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا يُطَابِقُ الْمَبْنَى (مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ) . كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِمَا قَرَّرَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: ( «لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ) اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ عِنْدَ ذَوِي النُّهَى، وَإِذِ الْأَوَّلُ مَجْزُومٌ بِهِ قَطْعًا وَالثَّانِي مَبْنِيٌّ عَلَى الرَّجَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا يُحَرِّكُهَا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الصَّمَدِ: يُحَرِّكُ يَدَهُ كَالْمُتَعَجِّبِ: مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: جَهَّزَ عُثْمَانُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ بَعِيرًا وَأَتَمَّ لِلْأَلْفِ بِخَمْسِينَ فَرَسًا. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَمَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى تِسْعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ بَعِيرًا وَسِتِّينَ فَرَسًا أَتَمَّ الْأَلْفَ بِهَا أَخْرَجَهُ الْقَزْوِينِيُّ وَالْحَاكِمِيُّ.

6073 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي كُمِّهِ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِهِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ) مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6073 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) ، أَيِ: الْقُرَشِيِّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَصَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَخَلْقٌ سِوَاهُمَا. (قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي كُمِّهِ حِينَ جَهَّزَ) : بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ أَيْ: حِينَ رَتَّبَ وَعَاوَنَ (جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَنَثَرَهَا) ، أَيْ: كَبَّهَا (فِي حِجْرِهِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهِ أَيْ: ثَوْبِهِ أَوْ حِضْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَلِّبُهَا) ، أَيِ: الدَّنَانِيرَ (بِيَدِهِ فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ) : فَاعِلُ ضَرَّ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَضُرَّ عُثْمَانَ الَّذِي عَمِلَ أَيْ: مِنَ الذَّنْبِ سَابِقًا وَلَاحِقًا (بَعْدَ الْيَوْمِ) . أَيْ: بَعْدَ عَمَلِهِ الْيَوْمَ (مَرَّتَيْنِ) : ظَرْفُ يَقُولُ، وَلَعَلَّ التَّكْرَارَ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ لِلْإِشْعَارِ بِعَدَمِ ضَرَرِهِ وَدَوَامِ نَفْعِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْرِيرُ وَالتَّكْثِيرُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَيُرَدِّدُهَا مِرَارًا. هَذَا وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي كَمِّيَّةِ رِجَالِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهَا أَنَّهَا سَبْعُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، وَالْأُخْرَى أَنَّهَا عِشْرُونَ أَلْفًا، وَعَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ جَهَّزَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُلُثَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْأَلْفُ دِينَارٍ الَّذِي جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُمِّهِ ثَمَنَ ثَلَاثِمِائَةِ بَعِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَفِي الرِّيَاضِ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ جَاءَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ بِتِسْعِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ. أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ السَّلَفِيُّ. وَهَذِهِ

الِاخْتِلَافَاتُ فِي الرِّوَايَاتِ قَدْ تُوهِمُ التَّضَادَّ بَيْنَهُنَّ، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ دَفَعَ ثَلَاثَمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، ثُمَّ جَاءَ بِالْأَلْفِ لِأَجْلِ الْمُؤَنِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْمُسَافِرِ مِنْهَا، ثُمَّ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِي زَادَ فِي الْإِبِلِ وَأَرْدَفَ بِالْخَيْلِ تَتْمِيمًا لِلْأَلْفِ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ تَمَّمَ الْأَلْفَ أَبْعِرَةٍ وَزَادَ عِشْرِينَ فَرَسًا عَلَى تِلْكَ الْخَمْسِينَ، وَبَعَثَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ لِلْمُؤَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ «عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَقَالَ: (مَنْ يُجَهِّزْ هَؤُلَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ) يَعْنِي جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى لَمْ يَفْقِدُوا عِقَالًا وَلَا خِطَامًا» (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عُثْمَانَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَصَبَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ بِيَدِهِ وَيُقَلِّبُهَا ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَيَقُولُ: (غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا عُثْمَانُ مَا أَسْرَرْتَ وَمَا أَعْلَنْتَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا يُبَالِي مَا عَمِلَ بَعْدَهَا) » أَخْرَجَهُ الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ وَالْفَضَائِلِيُّ.

6074 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ، فَبَايَعَ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ) فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُثْمَانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6074 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ) : وَهِيَ الْبَيْعَةُ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّهُ نَزَلَ فِي أَهْلِهَا {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] (كَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ) ، أَيْ: رَسُولًا مِنْهُ إِلَيْهِمْ مُرْسَلًا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَيْ: لِتَبْلِيغِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَشَاعَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ (فَبَايَعَ) ، أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (النَّاسَ) ، أَيْ: بَيْعًا خَاصًّا عَلَى الْمَوْتِ (بَايَعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ» ) ، أَيْ: نُصْرَةِ دِينِهِ حَيْثُ احْتَاجَ خَلْقُهُ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] حَيْثُ نَزَّلَ ذَاتَهُ الْعَزِيزَةَ شَرِيكًا لِلْمُؤْمِنِينَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، أَوْ يُقَدَّرُ مُضَافٌ، وَيُقَالُ فِي حَاجَةِ خَلْقِهِ. (وَحَاجَةِ رَسُولِهِ) . أَيْ: تَخْصِيصًا أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ لِلتَّزْيِينِ زِيَادَةً لِلْكَلَامِ مِنَ التَّحْسِينِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةٍ عِنْدَ اللَّهِ وَمَكَانَةٍ، وَأَنَّ حَاجَتَهُ حَاجَتُهُ - تَعَالَى اللَّهُ عَنِ الِاحْتِيَاجِ عُلُوًّا كَبِيرًا - اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُمَا كَمَا حَقَّقَ فِي حَدِيثِ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى) ، أَيْ: فِي الْبَيْعَةِ عَنْ جِهَةِ عُثْمَانَ عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ حَيٌّ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ نَائِبَةً عَنْ يَدِ عُثْمَانَ، فَقِيلَ: هِيَ الْيُسْرَى، وَقِيلَ هِيَ الْيُمْنَى، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بِالتَّصْرِيحِ ( «كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرًا» ) : وَفِي رِوَايَةٍ " لِعُثْمَانَ " أَيْ: لَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (مِنْ أَيْدِيهِمْ) ، أَيْ: مِنْ أَيْدِي بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ (لِأَنْفُسِهِمْ) . فَغَيْبَتُهُ لَيْسَتْ بِمَنْقَصَةٍ بَلْ سَبَبُ مَنْقَبَةٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) .

6075 - وَعَنْ ثُمَامَةَ بْنِ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ حِينَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرُ بِئْرِ رُومَةَ؟ فَقَالَ: ( «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ يَجْعَلُ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟» ) فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تَمْنَعُونَنِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا حَتَّى أَشْرَبَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ ، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَسْجِدَ ضَاقَ بِأَهْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدُهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟» ) فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تَمْنَعُونَنِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ؟ ، قَالُوا اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي جَهَّزْتُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ مِنْ مَالِي؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى ثَبِيرِ مَكَّةَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَنَا، فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ حَتَّى تَسَاقَطَتْ حِجَارَتُهُ بِالْحَضِيضِ، فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ قَالَ: ( «اسْكُنْ ثَبِيرُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيُّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ» ) ; قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، شَهِدُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَنِّي شَهِيدٌ، ثَلَاثًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6075 - (وَعَنْ ثُمَامَةَ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ (ابْنِ حَزْنٍ) : بِفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ زَايٍ فَنُونٍ (الْقُشَيْرِيِّ) : بِالتَّصْغِيرِ يُعَدُّ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّابِعِينَ، رَأَى عُمَرَ وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَأَبَا الدَّرْدَاءِ، وَسَمِعَ عَائِشَةَ، وَرَوَى عَنْهُ الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ الْبَصْرِيُّ. (قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ) ، أَيْ: حَضَرْتُ دَارَ عُثْمَانَ الَّتِي حَاصَرُوهُ فِيهَا، وَتَفْصِيلُ قَضِيَّتِهَا مَذْكُورٌ فِي " الرِّيَاضِ " وَغَيْرِهِ. (حِينَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ) ، أَيْ: اطَّلَعَ عَلَى الَّذِينَ قَصَدُوا قَتْلَهُ (فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ) : بِضَمِّ الشِّينِ وَنَصْبِ الِاسْمَيْنِ أَيْ: أَسْأَلُكُمْ بِاللَّهِ وَالْإِسْلَامِ أَيْ: بِحَقِّهِمَا (هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ

بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ) ، أَيْ: يُعَدُّ عَذْبًا أَيْ: حُلْوًا (غَيْرُ بِئْرِ رُومَةَ) ؟ بِرَفْعِ " غَيْرُ " وَجُوِّزَ نَصْبُهُ وَالْبِئْرُ مَهْمُوزٌ وَيُبْدَلُ، وَرُومَةَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ فَمِيمٌ، اسْمُ بِئْرٍ فِي الْعَقِيقِ الْأَصْفَرِ اشْتَرَاهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَفِي الْمَدِينَةِ عَقِيقَانِ سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا عَقَّا عَنْ حَرَّةِ الْمَدِينَةِ أَيْ: قَطَعَا (فَقَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ يَجْعَلُ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ» ) : بِكَسْرِ الدَّالِ جَمَعُ دَلْوٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَقْفِ الْعَامِّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ السِّقَايَاتِ، وَعَلَى خُرُوجِ الْمَوْقُوفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ حَيْثُ جَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ سَوَاءً، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَجُمْلَةُ يَجْعَلُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ حَالٌ أَيْ: إِرَادَةَ أَنْ يَجْعَلَ أَوْ قَاصِدًا أَنْ يَجْعَلَ دَلْوَهُ مُسَاوِيًا أَوْ مُصَاحِبًا مَعَ دِلَائِهِمْ فِي الِاسْتِقَاءِ، وَلَا يَخُصُّهَا مِنْ بَيْنِهِمْ بِالْمِلْكِيَّةِ فَقَوْلُهُ: مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلَ أَيْ: يَجْعَلُ دَلْوَهُ. رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَاسْتَنْكَرُوا مَاءَهَا، وَكَانَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا رُومَةُ، وَكَانَ يَبِيعُ الْقِرْبَةَ مِنْهَا بِمُدٍّ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلْ تَبِيعُهَا بِعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي وَلَا لِعِيَالِي سِوَاهَا فَلَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ يَجْعَلُ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ) » (بِخَيْرٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِيَشْتَرِي وَالْبَاءُ لِلْبَدَلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَيْسَتْ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِمُ اشْتَرَيْتُ هَذَا بَدِرْهَمٍ وَلَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] فَالْمَعْنَى مَنْ يَشْتَرِيهَا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ يُبْدِلُهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا أَيْ: بِأَفْضَلَ وَأَكْمَلَ أَوْ بِخَيْرٍ حَاصِلٍ (لَهُ) ، أَيْ: لِأَجْلِهِ (مِنْهَا) ، أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ أَوْ مِنْ جِهَتِهَا (فِي الْجَنَّةِ) فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي) ، بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ: مِنْ أَصْلِهِ أَوْ خَالِصِهِ. فِي " الرِّيَاضِ "، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَاشْتَرَاهَا بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: اجْعَلْ لِي مِثْلَ الَّذِي جَعَلْتَهُ لَهُ عَيْنًا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتُهَا وَجَعَلْتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، أَخْرَجَهُ الْفَضَائِلِيُّ. (وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تَمْنَعُونَنِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا حَتَّى أَشْرَبَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ) ؟ أَيْ: مِمَّا فِيهِ مُلُوحَةٌ كَمَاءِ الْبَحْرِ، وَالْإِضَافَةُ فِيهِ لِلْبَيَانِ أَيْ: مَا يُشْبِهُ الْبَحْرَ (فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ) . قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: قَدْ يُؤْتَى بِاللَّهُمَّ مَا قَبْلَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى عَزِيزًا نَادِرًا وَكَانَ قَصْدُهُمْ بِذَلِكَ الِاسْتِظْهَارَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهِ وَوُجُودِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ بَلَغَ مِنَ النُّدُورِ. حَدَّ الشُّذُوذِ وَقِيلَ كَلِمَتَيِ الْجَحْدِ وَالتَّصْدِيقِ فِي جَوَابِ الْمُسْتَفْهِمِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ لَا وَنَعَمْ (فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَسْجِدَ) ، أَيْ: مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ (ضَاقَ بِأَهْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدُهَا» ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ: فَتَزِيدَ تِلْكَ الْبُقْعَةُ (فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ) . فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي) ، أَيْ: بِعِشْرِينَ أَلْفًا أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ بِالْجَرِيدِ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بِنَائِهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ عَمَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الْخَيْرِ الْقَزْوِينِيُّ الْحَاكِمِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ «كَانَ مِنْ شَأْنِ عُثْمَانَ أَنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: (يَا فُلَانُ أَلَا تَبِيعُنِي دَارَكَ أَزِيدُهَا فِي مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ بِبَيْتٍ أَضْمَنُهُ فِي الْجَنَّةِ) فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي بَيْتٌ غَيْرُهُ فَإِنْ أَنَا بِعْتُكَ دَارِي لَا يُؤْوِينِي وَوَلَدِي بِمَكَّةَ شَيْءٌ قَالَ: (أَلَا بَلْ بِعْنِي دَارَكَ أَزِيدُهَا فِي مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ بِبَيْتٍ أَضْمَنُهُ لَكَ فِي الْجَنَّةِ) . فَقَالَ الرَّجُلُ وَاللَّهِ مَا لِي إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ، وَكَانَ الرَّجُلُ صَدِيقًا لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَتَاهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ عُثْمَانُ حَتَّى اشْتَرَى مِنْهُ دَارَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّكَ أَرَدْتَ مِنْ فُلَانٍ دَارَهُ لِتَزِيدَهَا فِي مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ بِبَيْتٍ تَضْمَنُهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ دَارِي فَهَلْ أَنْتَ آخِذُهَا بِبَيْتٍ تَضْمَنُهُ لِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَضَمِنَ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَأَشْهَدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ» كَذَا فِي الرِّيَاضِ.

(فَأَنْتُمْ) : بِالْفَاءِ هُنَا خِلَافًا، لِمَا تَقَدَّمَ (الْيَوْمَ تَمْنَعُونَنِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا) . أَيْ: فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْمَسْجِدِ. (فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ) : بِلَا فَاءٍ هُنَا وَفِيمَا بَعْدَهُ خِلَافًا لِمَا قَبْلُ (أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي جَهَّزْتُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ مِنْ مَالِي) ؟ أَيْ: وَقَالَ لِي مَا قَالَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ حَالِي وَمَآلِي (قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى ثَبِيرِ مَكَّةَ) : بِفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَرَاءٍ جَبَلٌ بِمَكَّةَ. وَفِي " الْمِصْبَاحِ ": جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى، وَهُوَ يُرَى مِنْ مِنًى وَهُوَ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثَبِيرٌ جَبَلٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى مِنًى، وَهُوَ جَبَلٌ كَبِيرٌ مُشْرِفٌ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بِمِنًى، وَبِمَكَّةَ جِبَالٌ كُلٌّ مِنْهَا اسْمُهُ ثَبِيرٌ اهـ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ جَبَلٌ مُشْرِفٌ عَلَى مِنًى مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِلَى تِلْقَاءِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ وَأَمَامَهُ قَلِيلًا عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَاتٍ، كَذَا حَكَاهُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ: إِنَّهُ عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى مِنًى. وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ، وَقِيلَ: وَهُوَ جَبَلٌ عَظِيمٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَةَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ أَعْظَمُ جَبَلٍ بِمَكَّةَ عُرِفَ بِرَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ كَانَ اسْمُهُ ثَبِيرًا دُفِنَ فِيهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَالسُّهَيْلِيُّ وَالْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: هُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ أَيْ بِقُرْبِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: هُوَ جَبَلٌ مُقَابِلٌ لِجَبَلِ حِرَاءَ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: حِرَاءُ مَكَانُ ثَبِيرٍ (وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَنَا، فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ) أَيِ: اهْتَزَّ ثَبِيرٌ (حَتَّى تَسَاقَطَتْ حِجَارَتُهُ) أَيْ: بَعْضُهَا (بِالْحَضِيضِ) ، أَيْ أَسْفَلَ الْجَبَلِ وَقَرَارِ الْأَرْضِ (فَرَكَضَهُ) أَيْ: ضَرَبَهُ (بِرِجْلِهِ. قَالَ) : اسْتِئْنَافٌ « (اسْكُنْ ثَبِيرُ) ، أَيْ يَا ثَبِيرُ (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ) » ، أَيْ حَقِيقِيَّانِ حَيْثُ قُتِلَا عَقِبَ الطَّعْنِ وَمَاتَا قَرِيبًا مِنْ أَثَرِ الضَّرْبِ، وَهُمَا عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصِّدِّيقَ شَهِيدَانِ حُكْمِيَّانِ حَيْثُ كَانَ أَثَرُ مَوْتِهِمَا مِنَ السُّمِّ الْقَدِيمِ لَهُمَا (قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ) كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَجِّبُ عِنْدَ إِلْزَامِ الْخَصْمِ وَتَبْكِيتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ (شَهِدُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَنِّي شَهِيدٌ) ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولُ شَهِدُوا أَيْ شَهِدَ النَّاسُ أَنِّي شَهِيدٌ (ثَلَاثًا) أَيْ: قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ خُصَمَاءَهُ عَلَى الْبَاطِلِ عَلَى طَرِيقٍ يُلْجِئُهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، أَوْرَدَ حَدِيثَ ثَبِيرِ مَكَّةَ، وَأَنَّهُ مِنْ أَحَدِ الشَّهِيدَيْنِ مُسْتَفْهِمًا عَنْهُ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ وَأَكَّدُوا إِقْرَارَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ نَعَمْ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ تَعَجُّبًا وَتَعْجِيبًا وَتَجْهِيلًا لَهُمْ وَاسْتِهْجَانًا لِفِعْلِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ضَرَبَ مَثَلَ عَابِدِ الْأَصْنَامِ وَعَابِدِ اللَّهِ تَعَالَى بِرَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَهُ شُرَكَاءُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ، وَتَنَازَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبَدُهُ فَهُمْ يَتَجَاذَبُونَهُ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِهِ لَا يَدْرِي أَيَّهُمْ يَرْضَى بِخِدْمَتِهِ، وَالْآخَرُ قَدْ سَلِمَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ وَخَلَصَ لَهُ، فَهُوَ يَلْتَزِمُ خِدْمَتَهُ، فَهَمُّهُ وَاحِدٌ وَقَلْبُهُ مُجْتَمِعٌ، وَاسْتَفْهَمَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [هود: 24] فَلَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يُذْعِنُوا وَيَقُولُوا: لَا، فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75] كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ) . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زَادَ: وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ إِذْ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالَ: هَذِهِ يَدِي وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ، فَبَايَعَ لِي فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَنِي إِحْدَى ابْنَتَيْهِ بَعْدَ الْأُخْرَى رِضًا لِي وَرِضًا عَنِّي؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

6076 - وَعَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الْفِتَنَ فَقَرَّبَهَا، فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ: (هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى) فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. قَالَ: فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ فَقُلْتُ: هَذَا؟ قَالَ: (نَعَمْ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6076 - (وَعَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ) ، بِضَمِّ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الشَّامِ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ التَّابِعِينَ مَاتَ بِالْأُرْدُنِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ (قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لَعَلَّ فِي زِيَادَةٍ مِنْ تَأْكِيدِ إِفَادَةِ السَّمَاعِ بِلَا وَاسِطَةٍ (وَذَكَرَ الْفِتَنَ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَقَرَّبَهَا) ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ قَرَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفِتَنَ يَعْنِي وُقُوعَهَا (فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ) : بِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مُسْتَتِرٌ فِي ثَوْبٍ جَعَلَهُ كَالْقِنَاعِ (قَالَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (هَذَا) أَيْ: هَذَا الرَّجُلُ الْمُقَنَّعُ (يَوْمَئِذٍ) أَيْ يَوْمَ وُقُوعِ تِلْكَ الْفِتَنِ (عَلَى الْهُدَى) : مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فَمَفْعُولُ سَمِعْتُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى (فَقُمْتُ إِلَيْهِ) أَيْ: لِقُرْبِ الرَّجُلِ لِأَعْرِفَهُ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ) أَيْ: عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِوَجْهِهِ) أَيْ: بِوَجْهِ عُثْمَانَ، وَالْمَعْنَى أَدَرْتُ وَجْهَهُ إِلَيْهِ لِيَتَبَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ (قُلْتُ: هَذَا) ؟ أَيْ أَهَذَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى (قَالَ: (نَعَمْ) . فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي اسْتِحْضَارِ الْقَضِيَّةِ وَتَأْكِيدِهَا بِتَحَقُّقِ الصُّورَةِ الْجَلِيَّةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) . وَفِي " الرِّيَاضِ "، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: «ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِتْنَةً فَقَرَّبَهَا وَعَظَّمَهَا. قَالَ: ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي مِلْحَفَةٍ فَقَالَ: هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْحَقِّ فَانْطَلَقْتُ فَأَخَذْتُ بِضَبْعِهِ فَقُلْتُ: هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (هَذَا) فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مَعْنَاهُ عَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ النَّهْرِيِّ وَقَالَ: (هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ النَّهْرِيِّ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ قَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي فِتْنَةٍ تَثُورُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي بَقَرٍ؟ قَالُوا: فَنَصْنَعُ مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِهَذَا وَأَصْحَابِهِ) . قَالَ: فَأَسْرَعْتُ حَتَّى عَطَفْتُ الرَّجُلَ فَقُلْتُ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: (هَذَا) فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ قَالَ: فَأَسْرَعْتُ حَتَّى عَيِيتُ، فَلَحِقْتُ بِالرَّجُلِ فَقُلْتُ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ إِلَخْ.

6077 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (يَا عُثْمَانُ، إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ - وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً طَوِيلَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6077 - (عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) أَيْ: لِعُثْمَانَ ذَاتَ يَوْمٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (يَا عُثْمَانُ، إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (لَعَلَّ اللَّهَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ اللَّهَ لَعَلَّهُ (يُقَمِّصُكَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ يُلْبِسُكَ (قَمِيصًا) ، قِيلَ أَيْ خِلَافَةً وَالْمُرَادُ خُلْعَةُ الْخِلَافَةِ (فَإِنْ أَرَادُوكَ) أَيْ: حَمَلُوكَ (عَلَى خَلْعِهِ) أَيْ: نَزْعِهِ (فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ) . وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا تَخْلَعْهُ ثَلَاثًا، وَالْمَعْنَى إِنْ قَصَدُوا عَزْلَكَ فَلَا تَعْزِلْ نَفْسَكَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِأَجْلِهِمْ لِكَوْنِكَ عَلَى الْحَقِّ وَكَوْنِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ. وَفِي قَبُولِ الْخَلْعِ إِيهَامٌ وَتُهْمَةٌ، فَلِهَذَا الْحَدِيثِ كَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا عَزَلَ نَفْسَهُ حِينَ حَاصَرُوهُ يَوْمَ الدَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَعَارَ الْقَمِيصَ لِلْخِلَافَةِ وَرَشَّحَهَا بِقَوْلِهِ " عَلَى خَلْعِهِ ". قَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: وَمِنَ الْمَجَازِ قَمَّصَهُ اللَّهُ وَشْيَ الْخِلَافَةِ وَتَقَمَّصَ لِبَاسَ الْعِزِّ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي» ) وَقَوْلُهُمُ: الْمَجْدُ بَيْنَ ثَوْبَيْهِ وَالْكَرْمُ بَيْنَ بُرْدَيْهِ انْتَهَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ وَلَا كَرَامَةً يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ خَلْعَهُ فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي يَا عُثْمَانُ إِنَّ اللَّهَ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَذَكَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً طَوِيلَةً) . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زَادَ: وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ إِذْ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالَ: (هَذِهِ يَدِي وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ) فَبَايَعَ لِي فَاشْتَدَّ لَهُ رِجَالٌ. زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَنِي إِحْدَى ابْنَتَيْهِ بَعْدَ الْأُخْرَى رِضًا لِي وَرِضًا عَنِّي؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

6078 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِتْنَةً فَقَالَ: (يُقْتَلُ هَذَا فِيهَا مَظْلُومًا) لِعُثْمَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6078 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِتْنَةً) أَيْ: عَظِيمَةً (فَقَالَ: يُقْتَلُ هَذَا فِيهَا مَظْلُومًا) لِعُثْمَانَ» ) . بَيَانُ هَذَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، غَرِيبٌ إِسْنَادًا) . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَقَالَ: يُقْتَلُ فِيهَا هَذَا الْمُقَنَّعُ يَوْمَئِذٍ مَظْلُومًا، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.

6079 - وَعَنْ أَبِي سَهْلَةَ، قَالَ: «قَالَ لِي عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الدَّارِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا وَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6079 - (وَعَنْ أَبِي سَهْلَةَ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ السَّائِبُ بْنُ خَلَّادٍ يُكَنَّى أَبَا سَهْلَةَ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ خَلَّادٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا مَوْلَى عُثْمَانَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ: قَالَ لِي عُثْمَانُ، يَوْمَ الدَّارِ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا) أَيْ: أَوْصَانِي أَنْ لَا أَخْلَعَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ. (وَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ) . أَيْ عَلَى تَحَمُّلِ ذَلِكَ الْعَهْدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) : وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ادْعُوا لِي بَعْضَ أَصْحَابِي) قُلْتُ: أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: (لَا) قُلْتُ: عُمَرَ؟ قَالَ: (لَا) قُلْتُ: ابْنَ عَمِّكَ؟ قَالَ: (لَا) . قُلْتُ: عُثْمَانَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: (تَنَحَّيْ) فَجَعَلَ يُسَارُّهُ وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ وَحُصِرَ فِيهَا قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا تُقَاتِلُ؟ قَالَ: لَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا وَإِنِّي صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6080 - عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُرِيدُ حَجَّ الْبَيْتِ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ. قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ) . وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ الْيُمْنَى: ( «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» ) فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، وَقَالَ: (هَذِهِ لِعُثْمَانَ) . ثُمَّ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6080 - (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى مَا فِي " الْجَامِعِ "، وَالْمُغْنِي، وَفِي " الْقَامُوسِ ": مَوْهَبٌ كَمَقْعَدٍ اسْمٌ فَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ ضَبْطِهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَهْمٌ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ تَيْمِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَأَبُو عَوَانَةَ. (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ) أَيْ: إِلَى مَكَّةَ (يُرِيدُ حَجَّ الْبَيْتِ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا) ، أَيْ جَالِسِينَ (فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا) أَيْ: قَالَ بَعْضُ مَنْ سُئِلَ (هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ) . أَيْ أَكَابِرُهُمْ (قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ) أَيِ: الْعَالِمُ الْمُعْتَبَرُ (فِيهِمْ) ؟ فَإِنَّ الشَّيْخَ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ (قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي) أَيْ: أَخْبِرْنِي عَنْ جَوَابِهِ (هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ) ؟ يَعْنِي وَالْفِرَارُ مَنْقَصَةٌ عَظِيمَةٌ (قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْ) أَيْ: لَمْ يَحْضُرْهَا ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا وَأَرَادَ أَنَّهُ فَاتَهُ فَضْلُ أَهْلِ بَدْرٍ. (قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ) .

قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ بَعْدَمَا عَدَّ مِنَ الْأُمُورِ بِمَنْزِلَةِ: اللَّهُ أَكْبَرُ مِنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ ابْنَ عُمَرَ، وَيَحُطَّ مِنْ مَنْزِلَةِ عُثْمَانَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ، فَلَمَّا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ تَعَجُّبًا وَتَعْجِيبًا وَإِظْهَارًا لِإِفْحَامِهِ إِيَّاهُ. (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ) أَيْ: ارْتَفِعْ عَنْ حَضِيضِ مَقَامِكَ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى عُلُوِّ فَهْمِ الْقَضَايَا الْمُبْهَمَةِ الْمُبَيَّنَةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. (أُبَيِّنْ لَكَ) : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ أَنَا أُبَيِّنُ لَكَ (أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدْ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَغَفَرَ لَهُ يَعْنِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَعْفُوَّ خَارِجٌ عَنْ مَعْتَبَةِ الْمَعِيبَةِ بِالْمَغِيبَةِ. (وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ) أَيْ: تَحْتَ عَقْدِهِ (رُقَيَّةُ) : بِالتَّصْغِيرِ (بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: وَهَذَا عَلَامَةُ كَمَالِ رِضَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ زَوَّجَهُ بِنْتَهُ ثُمَّ الْأُخْرَى وَهِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ، وَبِهِ سُمِّيَ ذَا النُّورَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (لَوْ كَانَتْ لِي بِنْتٌ أُخْرَى لَزَوَّجْتُهَا إِيَّاهُ) . وَفِي " الرِّيَاضِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَ كَرِيمَتَيَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ» ) . أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَخْرَجَهُ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَرِيمَتَيَّ يَعْنِي رُقَيَّةَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَقِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُثْمَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: (يَا عُثْمَانُ هَذَا جِبْرِيلُ أَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَكَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ وَعَلَى مِثْلِ صُحْبَتِهَا) » . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَعَنْهُ قَالَ: «قَالَ عُثْمَانُ لَمَّا مَاتَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَكَيْتُ بُكَاءً شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا يُبْكِيكَ) فَقُلْتُ: أَبْكِي عَلَى انْقِطَاعِ صِهْرِي مِنْكَ، فَقَالَ: (هَذَا جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ أُزَوِّجَكَ أُخْتَهَا) » . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ، وَزَادَ فِيهِ: ( «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مِائَةَ بِنْتٍ تَمُوتُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ زَوَّجْتُكَ أُخْرَى حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَ الْمِائَةِ شَيْءٌ. هَذَا جِبْرِيلُ أَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَأْمُرُنِي أَنْ أُزَوِّجَكَ أُخْتَهَا، وَأَنْ أَجْعَلَ صَدَاقَهَا مِثْلَ صَدَاقِ أُخْتِهَا» ) . أَخْرَجَهُ الْفَضَائِلِيُّ. وَفِي " الذَّخَائِرِ "، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: «آمَ عُثْمَانُ مِنْ رُقَيَّةَ، وَآمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ زَوْجِهَا، فَمَرَّ عُمَرُ بِعُثْمَانَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي حَفْصَةَ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُهَا، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ أَتَزَوَّجُ أَنَا حَفْصَةَ وَأُزَوِّجُ عُثْمَانَ خَيْرًا مِنْهَا أُمَّ كُلْثُومٍ) » . أَخْرَجَهُ أَبُو عُمَرَ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَ عُثْمَانَ ابْنَتِي» ) وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كُنْ لِمَا لَا تَرْجُوهُ أَرْجَى مِنْكَ لِمَا تَرْجُوهُ، فَإِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَرَجَ يَلْتَمِسُ نَارًا فَرَجَعَ بِالنُّبُوَّةِ. أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْبَصْرِيُّ. (وَكَانَتْ) أَيْ: رُقَيَّةُ (مَرِيضَةً) ، أَيْ فِي الْمَدِينَةِ. وَفِي " الذَّخَائِرِ " عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهَا كَانَتْ أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ، فَمَرِضَتْ وَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عُثْمَانُ وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَجَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بَشِيرًا بِفَتْحِ بَدْرٍ وَعُثْمَانُ قَائِمٌ عَلَى قَبْرِ رُقَيَّةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو عُمَرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا عُزِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنَتِهِ رُقَيَّةَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، دَفْنُ الْبَنَاتِ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ» . أَخْرَجَهُ الدُّولَابِيُّ. (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ يَشْهَدُ بَدْرًا وَسَهْمَهُ» ) . أَيْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ أَجْرِ الْعُقْبَى وَغَنِيمَةِ الدُّنْيَا، فَلَا نُقْصَانَ فِي حَقِّهِ أَصْلًا فَيَكُونُ نَظِيرَ تَغَيُّبِ عَلِيٍّ عَنْ تَبُوكَ حَيْثُ جَعَلَهُ خَلِيفَةً عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِمْ، لَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ جَعَلَ لِعَلِيٍّ سَهْمًا مِنَ الْغَنِيمَةِ أَيْضًا أَمْ لَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي " الرِّيَاضِ " أَنَّهُ كَذَلِكَ (وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ) أَيْ: أَكْثَرَ عِزَّةٍ مِنْ جِهَةِ الْعَشَرَةِ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ (بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ) ، أَيْ مَكَانَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، لَكِنْ لَمَّا فُقِدَ الْأَعَزُّ مِنْهُ حَتَّى امْتَنَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مُعَلِّلًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِي قَوْمٌ بِمَكَّةَ يُعِينُونَنِي وَيَحْفَظُونَنِي وَرَاءَ ظَهْرِي. (فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُثْمَانَ) ، أَيْ إِلَى.

مَكَّةَ فَاسْتَقْبَلَهُ أَهْلُهُ وَرَهْطُهُ وَرَكَّبُوهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَجَارُوهُ مِنْ تَعَرُّضِ أَحَدٍ لَهُ وَقَالُوا: طُفْ بِالْبَيْتِ لِعُمْرَتِكَ. فَقَالَ: حَاشَا أَنِّي أَطُوفُ فِي غَيْبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ) ، أَيْ وَشَاعَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ تَعَرَّضُوا لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَعَدَّ الْمُسْلِمُونَ لِلْقِتَالِ، وَبَايَعَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى أَنْ لَا يُغَرُّوا، وَقِيلَ بَلْ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أَشَارَ (بِيَدِهِ الْيُمْنَى: (هَذِهِ) أَيْ: قَائِلًا هَذِهِ (يَدُ عُثْمَانَ) فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ) ، أَيِ الْيُسْرَى (وَقَالَ: (هَذِهِ) أَيْ: هَذِهِ الْبَيْعَةُ أَوْ هَذِهِ الْيَدُ (لِعُثْمَانَ) . أَيْ لِأَجْلِهِ أَوْ عَنْهُ عَلَى فَرْضِ وُجُودِ حَيَاتِهِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى تَكْذِيبِ خَبَرِ مَمَاتِهِ (ثُمَّ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: اذْهَبْ بِهَا) أَيْ: بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي أَجَبْتُ لَكَ عَنْ أَسْئِلَتِكَ (الْآنَ مَعَكَ) : فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّنَا بَلْ يَضُرُّكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَلَمَّا نَقَضَ ابْنُ عُمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا بَنَاهُ وَأَقْلَعَهُ مِنْ أَصْلِهِ قَالَ تَهَكُّمًا: اذْهَبْ بِهَا أَيْ بِمَا جِئْتَ وَتَمَسَّكْتَ بِهِ بَعْدَمَا بَيَّنْتُ لَكَ الْحَقَّ الْمَحْضَ الَّذِي لَا يُرْتَابُ فِيهِ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى لَا يَنْفَعُكَ اعْتِقَادُكَ الْفَاسِدُ فِي عُثْمَانَ بَعْدَمَا بَيَّنْتُ لَكَ الْحَقَّ الصَّرِيحَ بِالْجَوَابِ الصَّحِيحِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

6081 - وَعَنْ أَبِي سَهْلَةَ مَوْلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يُسِرُّ إِلَى عُثْمَانَ، وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ) » ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ قُلْنَا: أَلَا تُقَاتِلُ؟ قَالَ: لَا، إِنْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهِدَ إِلَيَّ أَمْرًا، فَأَنَا صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6081 - (وَعَنْ أَبِي سَهْلَةَ مَوْلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ تَغْلِيبًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ. (قَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسِرُّ) : بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ يُخْفِي الْكَلَامَ (إِلَى عُثْمَانَ، وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ) ، أَيْ مِنَ الْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ إِلَى الصُّفْرَةِ (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ) : بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ (قُلْنَا، أَلَا تُقَاتِلُ) ؟ بِتَخْفِيفِ أَلَا وَيُشَدَّدُ (قَالَ: لَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ لِأَنَّهُ (عَهِدَ إِلَيَّ أَمْرًا، فَأَنَا صَابِرٌ) : بِالتَّنْوِينِ (نَفْسِي عَلَيْهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: أَوْصَانِي بِأَنْ أَصْبِرَ وَلَا أُقَاتِلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هِيَ قَوْلُهُ: فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ الْمُقَاتَلَةَ مَعَهُمْ لِلدَّفْعِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِيَتَّفِقَا. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْعَهْدَ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ عَدَمِ الْخَلْعِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ لِلدَّفْعِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الصَّبْرِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ.

6082 - وَعَنْ أَبِي حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ فِيهَا، وَأَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَسْتَأْذِنُ عُثْمَانَ فِي الْكَلَامِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: « (إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي فِتْنَةً وَاخْتِلَافًا - أَوْ قَالَ: اخْتِلَافًا وَفِتْنَةً - فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مِنَ النَّاسِ: فَمَنْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَوْ مَا تَأْمُرُنَا بِهِ؟ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالْأَمِيرِ وَأَصْحَابِهِ) وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى عُثْمَانَ بِذَلِكَ» . رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6082 - (وَعَنْ أَبِي حَبِيبَةَ) : اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ نَصْرٍ الْحَازِمِيُّ الْهَمْدَانِيُّ، رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّابِعِينَ. (أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ فِيهَا، وَأَنَّهُ) أَيْ: أَبَا حَبِيبَةَ (سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَسْتَأْذِنُ عُثْمَانَ فِي الْكَلَامِ) ، أَيْ عِنْدَهُ أَوْ عَلَى الْحَاضِرِينَ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَبَيَانٍ أَوِ الْحَمْدُ بِمَعْنَى الشُّكْرِ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّكُمْ) أَيْ: أَيُّهَا الْأُمَّةُ أَوْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ (سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي فِتْنَةً) أَيْ: مِحْنَةً عَظِيمَةً (وَاخْتِلَافًا) أَيْ: كَثِيرًا (أَوْ قَالَ: اخْتِلَافًا وَفِتْنَةً) : شَكَّ الرَّاوِي فِي تَقَدُّمِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ (فَقَالَ لَهُ) أَيْ: لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَائِلٌ: فَمَنْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى

قَوْلِهِ اخْتِلَافًا أَيْ سَتَلْقَوْنَ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْأَمِيرِ وَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ، فَمَنْ تَأْمُرُنَا أَنْ نَتَّبِعَهُ وَنَلْزَمَهُ فَتَكُونَ لَنَا الْعَاقِبَةُ لَا عَلَيْنَا. (أَوْ مَا تَأْمُرُنَا بِهِ) ؟ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مَعَ أَنَّ مُؤَدَّاهُمَا فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ. ( «قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَمِيرِ وَأَصْحَابِهِ» ) وَهُوَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يُشِيرُ إِلَى عُثْمَانَ بِذَلِكَ) . أَيْ بِقَوْلِهِ " الْأَمِيرِ " بِأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَيْ: مَذْكُورًا فِيهِ (رَوَاهُمَا) أَيْ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كَانَ إِسْلَامُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَتَيْنِ، وَكَانَ أَبْيَضَ رَبْعَةً حَسَنَ الْوَجْهِ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ يَصْغُرُهَا، اسْتُخْلِفَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَتَلَهُ الْأَسْوَدُ التُّجِيبِيُّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ السَّبْتِ بِالْبَقِيعِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعُمْرِ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ اثْنَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا أَيَّامًا، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.

[باب مناقب هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم]

[بَابُ مَنَاقِبِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] [7] بَابُ مَنَاقِبِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6083 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: (اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [7] بَابُ مَنَاقِبِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6083 - (عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَعِدَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ طَلَعَ (أُحُدًا) أَيْ جَبَلَ أُحُدٍ (وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ) ، أَيْ مَعَهُ (فَرَجَفَ) أَيْ: تَحَرَّكَ (أُحُدٌ بِهِمْ) ، أَيِ انْتِعَاشًا وَاهْتِزَازًا لِقُدُومِهِمْ (فَضَرَبَهُ) أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: اثْبُتْ أُحُدُ) ، أَيْ: وَلَا تُظْهِرْ شَيْئًا عَلَى ظَاهِرِكَ كَالْكَامِلِينَ الْوَاصِلِينَ، عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ الْجُنَيْدَ سُئِلَ مَا بَالُكَ عِنْدَ السَّمَاعِ ظَاهِرًا، مَعَ تَحَقُّقِ حَالِكَ بَاطِنًا فَقَرَأَ: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ) . أَيْ وَصُحْبَةُ أَهْلِ التَّمْكِينِ وَالْوَقَارِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَأْثِيرٍ خَالٍ عَلَى الْإِظْهَارِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي جَبَلِ ثَبِيرٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ بُرَيْدَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جَالِسًا عَلَى حِرَاءٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اثْبُتْ حِرَاءُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اسْكُنْ حِرَاءُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ) » ، وَفِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلِيًّا. خَرَّجَهُمَا مُسْلِمٌ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدًا وَقَالَ: اهْدَأْ مَكَانَ اسْكُنْ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ إِلَّا أَبَا عُبَيْدَةَ، وَقَالَ: " اثْبُتْ حِرَاءُ " الْحَدِيثَ. فَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ مَحْمُولٌ عَلَى تَعَدُّدِ الْقَضِيَّةِ فِي الْأَوْقَاتِ، وَإِثْبَاتِ الشَّهَادَةِ لِبَعْضِهِمْ حَقِيقَةً، وَلِلْبَاقِينَ حُكْمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

6084 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا عُمَرُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ، فَقَالَ لِي: (افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ) فَإِذَا عُثْمَانُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ، قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6084 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَائِطٍ) أَيْ: بُسْتَانٍ (مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ) ، بِكَسْرِ الْحَاءِ جَمْعٌ (فَجَاءَ رَجُلٌ) أَيْ: لَا يُعْرَفُ حَالُهُ (فَاسْتَفْتَحَ) ، أَيْ طَلَبَ الْفَتْحَ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) أَيِ: الْعَالِيَةِ (فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : وَفِي نُسْخَةٍ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ) ، أَيْ شَكَرَهُ.

عَلَى تِلْكَ الْبِشَارَةِ، فَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: اللَّهُمَّ حَمْدًا، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. (ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا عُمَرُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ فَقَالَ لِي) : زَادَ هُنَا لِكَمَالِ الِاهْتِمَامِ بِمَعْرِفَةِ الْقَضِيَّةِ (افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى) أَيْ: مَعَ بَلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ (تُصِيبُهُ) : عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَشْرَفُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا جُعِلَ عَلَى مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ بِالْجَنَّةِ يَكُونُ الْمُبَشَّرُ بِهِ مُرَكَّبًا، وَإِذَا جُعِلَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ كَانَتِ الْبِشَارَةُ مُقَارَنَةً بِالْإِنْذَارِ، وَلَا يَكُونُ الْمُبَشَّرُ بِهِ مُرَكَّبًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَى بِمَعْنَاهُ انْتَهَى، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْبَلَاءَ نِعْمَةً عِنْدَ أَرْبَابِ الْوَلَاءِ. (فَإِذَا عُثْمَانُ) ، وَإِنَّمَا خَصَّ عُثْمَانَ بِهِ مَعَ أَنَّ عُمَرَ أَيْضًا ابْتُلِيَ بِهِ لِعِظَمِ ابْتِلَاءِ عُثْمَانَ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ امْتِدَادِ الزَّمَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْوَانِ مِنَ الْأَعْيَانِ. (فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ) . أَيِ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْمَعُونَةُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْنَةِ، وَمِنْهُ الصَّبْرُ عَلَى مَرَارَةِ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ، ثُمَّ فِي تَرْتِيبِ مَأْتَاهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيمَاءٌ إِلَى مَرَاتِبِهِمُ الْعَلِيَّةِ فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، وَمِنَ الْقُرْبِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ الْبَشِيرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . ذَكَرَ فِي " الرِّيَاضِ " «عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: وَجَّهَ هَاهُنَا، فَخَرَجْتُ فِي أَثَرِهِ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ. وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ، حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجَتَهُ، فَتَوَضَّأَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالَسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا وَهُوَ بِالضَّمِّ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ فَقُلْتُ: لَأَكُونَنَّ بَوَّابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ: (ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) . فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لَأَبِي بَكْرٍ ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُ فِي الْقُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا يُرِيدُ أَخَاهُ يَأْتِ بِهِ، فَإِذَا بِإِنْسَانٍ يُحَرِّكُ الْبَابَ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُكَ، فَقَالَ: (ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ، فَرَجَعْتُ وَجَلَسْتُ وَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ فَحَرَّكَ الْبَابَ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ) ، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ فَجَلَسَ وُجَاهَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ» . قَالَ شَرِيكٌ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورُهُمُ اجْتَمَعَتْ، وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى «عَنْ أَبِي مُوسَى وَلَفْظُهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَقُولُ، بِعُودٍ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ يَنْكُتُ بِهِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ " فَإِذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ، فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ لَهُ: " افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ " فَإِذَا هُوَ عُمَرُ، فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ آخَرُ فَجَلَسَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: " افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ " قَالَ،: فَفَتَحْتُ لَهُ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ فَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ وَقُلْتُ لَهُ الَّذِي قَالَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَبْرًا» وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مَعْنَاهُ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: «انْطَلَقْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ حَائِطًا لِلْأَنْصَارِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا مُوسَى، أَمْلِكْ عَلَيَّ الْبَابِ وَلَا يَدْخُلَنَّ أَحَدٌ عَلَيَّ إِلَّا بِإِذْنٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَضَرَبَ الْبَابَ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ قَالَ: (ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي عُمَرَ وَعُثْمَانَ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِ الْقَضِيَّةِ، فَإِنَّ أَبَا مُوسَى ذَكَرَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: وَجَّهَ هَاهُنَا فَاتَّبِعْ أَثَرَهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَنْطِقُ انْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ فَقَالَ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، وَيَكُونُ أَبُو مُوسَى ذَكَرَ سَبَبَ جُلُوسِهِ بَوَّابًا فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي رِوَايَةٍ، وَاسْتَوْفَى الْقِصَّةَ فِي رِوَايَةٍ، وَاخْتَصَرَهَا فِي رِوَايَةٍ وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 6085 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6085 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ (أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ) ، أَيْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ وَبَيَانِ أَمْرِهِمْ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) . وَقَالَ شَارِحٌ: أَبُو بَكْرٍ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ الْقَوْلِ وَرَسُولُ اللَّهِ حَيٌّ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ أَيْ: كُنَّا نَذْكُرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ عَنْهُمْ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَعْدَ قَوْلِهِ حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَيْ: وَنَسْكُتُ عَنِ الْبَاقِينَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُفَاضِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَنَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَلَا يُنْكِرُهُ، وَعَنْهُ: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُفَضِّلُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْهُ: كُنَّا نَقُولُ - وَرَسُولُ اللَّهِ - حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ الْحَافِظُ فِي الْمُوَافَقَاتِ، وَعَنْهُ قَالَ: اجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَعَنْهُ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ أَوْفَرُ مَا كَانُوا: إِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ. خَرَّجَهُمَا خَيْثَمَةُ بْنُ سَعْدٍ، وَخَرَّجَ مَعْنَاهُ الْحَاكِمِيُّ وَزَادَ فَيَبْلُغُ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنْكِرُهُ كَذَا فِي الرِّيَاضِ النَّضِرَةِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6086 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أُرِيَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ " قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللَّهِ، وَأَمَّا نَوْطُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَهُمْ وُلَاةُ الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6086 - (عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قَالَ: أُرِيَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ أَبْصَرَ فِي مَنَامِهِ (اللَّيْلَةَ) ، أَيِ: الْبَارِحَةَ (رَجُلٌ صَالِحٌ كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ عُلِّقَ (بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ نَفْسِي اللَّيْلَةَ وَأَبُو بَكْرٍ نِيطَ بِي، فَجَرَّدَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ وَحَبِيبَهُ رَجُلًا صَالِحًا، وَوُضِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْضِعَ " رَجُلًا " تَفْخِيمًا غِبَّ تَفْخِيمٍ انْتَهَى. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: رَجُلٌ صَالِحٌ بَيَانٌ لِلضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي أُرِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا عَلَى أَنَّ أُرِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرَجُلٌ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ، لَكِنْ قُيِّدَ وَصُحِّحَ بِأَنَّهُ أُرِيَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَجْهُولِ وَرَجُلٌ صَالِحٌ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ عَلَى صَرَافَةِ إِبْهَامِهِ (قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: بِالِاجْتِهَادِ وَالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ صَالِحًا كَعَلِيٍّ مَثَلًا رَأَى تِلْكَ الرُّؤْيَا، فَأَخْبَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ انْكَشَفَ لَهُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ فَأَظْهَرَهُ، لَكِنْ لِحِكْمَةٍ أَبْهَمَهُ وَسَتَرَهُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ صَاحِبُ الرِّيَاضِ، أَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَهَكَذَا أُرِيتُ كِتَابَ الْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ بَابَ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالصَّوَابُ أَرَى اللَّيْلَةَ (وَأَمَّا نَوْطُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ) ، أَيْ: تَعَلُّقُهُمْ وَاتِّصَالُهُمْ (فَهُمْ وُلَاةُ الْأَمْرِ) ، أَيْ: أَمْرِ الدِّينِ (الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

وَفِي الرِّيَاضِ: ذِكْرُ بَابِ مَا جَاءَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « (يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ مِنْ تَحْتِ هَذَا الصُّورِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعَ أَبُو بَكْرٍ فَهَنَّأْنَاهُ، ثُمَّ لَبِثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ: (يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ مِنْ تَحْتِ هَذَا الصُّورِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعَ عُمَرُ فَهَنَّأْنَاهُ ثُمَّ قَالَ: (يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ مِنْ تَحْتِ هَذَا الصُّورِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَطَلَعَ عَلِيٌّ» ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَالصُّورُ: جَمَاعَةُ النَّخْلِ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ بَابِ مَنَاقِبِ الْعَشَرَةِ مِنَ الْمُخْتَصَّاتِ بِالثَّلَاثَةِ.

[باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه]

[بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [8] بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6087 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: ( «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [8] بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا: لَمْ يَرِدْ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْأَسَانِيدِ الْجِيَادِ أَكْثَرَ مِمَّا جَاءَ فِي عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ تَأَخَّرَ، وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي زَمَانِهِ وَكَثُرَ مُحَارِبُوهُ وَالْخَارِجُونَ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْتِشَارِ مَنَاقِبِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ كَانَ يَرْوِيهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَدًّا عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَإِلَّا فَالثَّلَاثَةُ قَبْلَهُ لَهُمْ مِنَ الْمَنَاقِبِ مَا يُوَازِيهِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ شِعْرِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ وَحَيْدَرَةُ اسْمُ الْأَسَدِ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ أُمُّهُ لَمَّا وَلَدَتْهُ سَمَّتْهُ بِاسْمِ أَبِيهَا، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو طَالِبٍ كَرِهَ الِاسْمَ فَسَمَّاهُ عَلِيًّا، وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ قَالَ: فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتُمَ عَلِيًّا فَأَبَى فَقَالَ: أَمَّا إِذَا أَبَيْتَ فَقُلْ: لَعَنَ اللَّهُ أَبَا تُرَابٍ، فَقَالَ سَهْلٌ: مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ إِنَّهُ كَانَ يَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِيَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّتِهِ لِمَ سُمِّيَ أَبَا تُرَابٍ؟ قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِنْسَانٍ: " انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: " قُمْ أَبَا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ» " أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي الرِّيَاضِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ التَّيْمِيِّ قَالَ: كُنَّا نَبِيعُ الثِّيَابَ عَلَى عَوَاتِقِنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَأَيْنَا عَلِيًّا قَدْ أَقْبَلَ قُلْنَا: بزرك اشكم قَالَ عَلِيٌّ: مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ عَظِيمُ الْبَطْنِ. قَالَ: أَجَلْ أَعْلَاهُ عِلْمٌ وَأَسْفَلُهُ طَعَامٌ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَتَوَضَّأُ، فَحَسَرَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ، فَرَأَيْتُ رَأْسَهُ مِثْلَ رَاحَتِي عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِّ الْأَصَابِعِ مِنَ الشَّعْرِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ الضَّحَّاكِ وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا عَلَيْهِ بُرْدَانِ، وَلَهُ ضَفِيرَتَانِ، قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَاتِقِ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: عَلِيٌّ. أَخْرَجَهُ ابْنُ الضَّحَّاكِ أَيْضًا، وَلَا تَضَادَّ بَيْنَهُمَا إِذْ يَكُونُ الشَّعْرُ انْحَسَرَ عَنْ وَسَطِ رَأْسِهِ، وَكَانَ فِي جَوَانِبِهِ شَعْرٌ مُسْتَرْسِلٌ جُمِعَ فَضُفِّرَ بِاثْنَتَيْنِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6087 - (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) ، أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: " «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» ") ، يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ، وَقُرْبِ الْمَرْتَبَةِ، وَالْمُظَاهَرَةِ بِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخْرِجَهُ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، «وَقَدْ خَلَّفَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِمْ فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلَّا اسْتِثْقَالًا لَهُ وَتَخَفُّفًا مِنْهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ عَلِيٌّ أَخَذَ سِلَاحَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ كَذَا فَقَالَ: " كَذَبُوا إِنَّمَا خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَمَا تَرْضَى يَا عَلِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» " تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] . وَالْمُسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ لَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِغٌ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ، فَإِنَّ الْخِلَافَةَ فِي الْأَهْلِ فِي حَيَاتِهِ لَا تَقْتَضِي الْخِلَافَةَ فِي الْأُمَّةِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْمُقَايَسَةُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا تَنْتَقِضُ عَلَيْهِمْ بِمَوْتِ هَارُونَ قَبْلَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قُرْبِ مَنْزِلَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْمُؤَاخَاةِ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ الرَّوَافِضُ وَسَائِرُ فِرَقِ الشِّيعَةِ فِي أَنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ حَقًّا لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِي طَلَبِ حَقِّهِ، وَهَؤُلَاءِ أَسْخَفُ عَقْلًا وَأَفْسَدُ مَذْهَبًا مِنْ أَنْ يُذْكَرَ قَوْلُهُمْ، وَلَا شَكَّ فِي تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ مَنْ كَفَّرَ الْأُمَّةَ كُلَّهَا وَالصَّدْرَ الْأَوَّلَ خُصُوصًا، فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ وَهَدَمَ الْإِسْلَامَ، وَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ فِيهِ إِثْبَاتُ فَضِيلَةٍ لِعَلِيٍّ، وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِخْلَافِهِ بَعْدَهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ هَارُونَ الْمُشَبَّهَ بِهِ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً بَعْدَ مُوسَى ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ وَفَاةِ مُوسَى بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَإِنَّمَا اسْتَخْلَفَهُ حِينَ ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ لِلْمُنَاجَاةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ قَوْلَهُ: " مِنِّي ": خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ، وَمِنْ: اتِّصَالِيَّةٌ، وَمُتَعَلِّقُ الْخَبَرِ خَاصٌّ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أَيْ آمَنُوا إِيمَانًا مِثْلَ إِيمَانِكُمْ يَعْنِي أَنْتَ مُتَّصِلٌ بِي وَنَازِلٌ مِنِّي مَنْزِلَةَ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، وَفِيهِ تَشْبِيهٌ، وَوَجْهُ الْمُشَبَّهِ مِنْهُمْ لَمْ يَفْهَمْ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا شَبَّهَهُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: (" «إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ") أَنَّ اتِّصَالَهُ بِهِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ، فَبَقِيَ الِاتِّصَالُ مِنْ جِهَةِ الْخِلَافَةِ لِأَنَّهَا تَلِي النُّبُوَّةَ فِي الْمَرْتَبَةِ ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَمَاتِهِ لِأَنَّ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَاتَ قَبْلَ مُوسَى، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ انْتَهَى. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْخِلَافَةَ الْجُزْئِيَّةَ فِي حَيَاتِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْخِلَافَةِ الْكُلِّيَّةِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُزِلَ عَنْ تِلْكَ الْخِلَافَةِ بِرُجُوعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: " «إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ حَكَمًا مِنْ حُكَّامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَدْعُو بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَنْزِلُ نَبِيًّا أَقُولُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَيَكُونَ مُتَابِعًا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، وَإِتْقَانِ طَرِيقَتِهِ، وَلَوْ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» " أَيْ مَعَ وَصْفِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِلَّا فَمَعَ سَلْبِهِمَا لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَزِيَّةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ نَبِيٌّ لِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ السَّابِقِينَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ لَكَانَ عَلِيًّا، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا وَرَدَ فِي حَقِّ عُمَرَ صَرِيحًا ; لِأَنَّ الْحُكْمَ فَرْضِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ تُصُوِّرَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِي أَنْبِيَاءَ، وَلَكِنْ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ لَكَانَ نَبِيًّا» " وَأَمَّا حَدِيثُ: " «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» " فَقَدْ صَرَّحَ الْحُفَّاظُ كَالزَّرْكَشِيِّ وَالْعَسْقَلَانِيِّ وَالدَّمِيرِيِّ وَالسُّيُوطِيِّ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ ذَكَرُوا زِيَادَةً وَلَوْ كَانَ لَكُنْتَهُ، لَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا نَعْلَمُ مَنْ رَوَاهَا إِلَّا ابْنَ الْأَزْهَرِ، وَكَانَ يَضَعُ. وَقَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: الْمَتْنُ صَحِيحٌ وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِوَاضِعِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الرِّيَاضِ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ وَلَمْ يَقُولَا: إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَعَنْهُ قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ قَالَ: " أَمَا تَرْضَى بِأَنْ تَكُونَ مِنِّي مَنْزِلَةَ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو حَاتِمٍ. وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي مُوسَى، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي أَخِي عَلِيًّا اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: " «أَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا لِي، وَلَكَ مِنَ الْمَغْنَمِ مَا لِي» " وَأَخْرَجَهُ الْخُلَعِيُّ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ - وَأَبُو بَكْرٍ الطَّبَرِيُّ فِي جُزْئِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: " «عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ، وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنِ الْبَرَاءِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " «عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ رَأْسِي مِنْ بَدَنِي» ".

6088 - وَعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: «قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيَّ: أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6088 - (وَعَنْ زِرِّ) : بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (ابْنِ حُبَيْشٍ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ فَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَشِينٌ مُعْجَمَةٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسَدِيٌّ كُوفِيٌّ، عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَمِعَ عُمَرَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. (قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ) ، أَيْ شَقَّهَا، وَأَخْرَجَ النَّبَاتَ مِنْهَا (وَبَرَأَ النَّسَمَةَ) ، أَيْ خَلَقَ كُلَّ ذَاتِ رُوحٍ (إِنَّهُ) ، أَيِ: الشَّأْنَ (لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ إِلَيَّ) ، أَيْ: أَكَّدَ ذَلِكَ وَبَالَغَ عَلِيَّ حَتَّى كَأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ مُضَافٌ إِلَى النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَهُوَ فَاعِلُهُ لِقَوْلِهِ: إِلَيَّ، وَأَنَّ فِي قَوْلِهِ: (أَنْ لَا يُحِبَّنِي) : مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي الْعَهْدِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى لَا يُحِبُّنِي حُبًّا مَشْرُوعًا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ لِيُخْرِجَ النُّصَيْرِيَّ وَالْخَارِجِيَّ (إِلَّا مُؤْمِنٌ) ، أَيْ كَامِلُ الْإِيمَانِ فَمَنْ أَحَبَّهُ وَأَبْغَضَ الشَّيْخَيْنِ مَثَلًا فَمَا أَحَبَّهُ حُبًّا مَشْرُوعًا أَيْضًا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، لَكِنَّ عِبَارَتَهُ قَاصِرَةٌ بَلْ مُوهِمَةٌ حَيْثُ قَالَ، أَيْ: لَا يُحِبُّنِي حُبًّا مَشْرُوعًا فَلَا يَنْتَقِصُ حِينَئِذٍ بِمَنْ يُحِبُّهُ وَيُبْغِضُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ. (وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ) . أَيْ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفَظُهُ: عَهِدَ إِلَيَّ مِنْ غَيْرِ قَسَمٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأُمَّهُمَا كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا يُحِبُّ عَلِيًّا مُنَافِقٌ وَلَا يُبْغِضُهُ مُؤْمِنٌ» ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ: " «لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَلَا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: وَعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أُوصِيكُمْ بِحُبِّ ذِي قَرَابَتِي أَخِي وَابْنِ عَمِّي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُهُ إِلَّا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَقَدْ أَبْغَضَنِي» ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ. وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِنَّ السَّعِيدَ كُلَّ السَّعِيدِ حَقَّ السَّعِيدِ مَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ» ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «حُبُّ الْعَرَبِ إِيمَانٌ، وَبُغْضُهُمْ نِفَاقٌ» " وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ: " «حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِيمَانٌ وَبُغْضُهُمَا نِفَاقٌ» ". وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ: " «حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَحُبُّ الْأَنْصَارِ مِنَ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَحُبُّ الْعَرَبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَمَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَمَنْ حَفِظَنِي فِيهِمْ فَأَنَا أَحْفَظُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ".

6089 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: " «لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهَ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يُعْطَاهَا. فَقَالَ: " أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ ". فَقَالُوا: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ. قَالَ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ ". فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ قَالَ: " انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ، قَالَ لِعَلِيٍّ: " «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» " فِي بَابِ " بُلُوغِ الصَّغِيرِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 6089 - (وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) ، أَيِ السَّاعِدِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ) ، أَيْ: زَمَنَ مُحَاصَرَتِهِ أَوْ آخِرَ نَهَارٍ مِنْ أَيَّامِهِ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ: فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ فِي صَبَاحِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (" لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ ") أَيِ: الْعَلَمَ الَّتِي هِيَ عَلَامَةٌ لِلْإِمَارَةِ " غَدًا " أَيْ: فِي غَدٍ " رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ "، أَيْ بِسَبَبِهِ (" «يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» ") وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَبَحْثُهُ طَوِيلُ الذَّيْلِ عَزِيزُ النَّيْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى» ، وَالدَّوْكُ: الْخَوْضُ (فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: أَتَوْهُ وَقْتَ الْغَدْوَةِ (كُلُّهُمْ يَرْجُونَ) ، أَيْ: يَتَمَنَّوْنَ (أَنْ يُعْطَاهَا) ، أَيِ الرَّايَةَ الَّتِي هِيَ آيَةُ الْفَتْحِ، فَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي يَرْجُونَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى " كُلُّهُمْ "، وَأَفْرَدَ فِي يُعْطَى نَظَرًا إِلَى لَفْظِهِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ شُمُولُ الرَّجَاءِ دُونَ حُصُولِ الْإِعْطَاءِ (فَقَالَ: " أَيْنَ عَلِيُّ

بْنُ أَبِي طَالِبٍ ") ؟ فِيهِ: أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُرَادًا وَغَيْرَ مُرِيدٍ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ فِي إِعْطَاءِ الْمَزِيدِ لِمَنْ يُرِيدُ. (فَقَالُوا: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ) . وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَصَلَ عُذْرٌ لَدَيْهِ. أَقُولُ، أَيْ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ مَا لِي لَا أَرَاهُ حَاضِرًا؟ فَيَسْتَقِيمَ جَوَابُهُمْ: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، نَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَبْعَدَ غَيْبَتَهُ عَنْ حَضْرَتِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ: " لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ " إِلَى آخِرِهِ، وَقَدْ حَضَرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ طَمَعًا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَفُوزُ بِذَلِكَ الْوَعْدِ، وَتَقْدِيمُ الْقَوْمِ الضَّمِيرَ وَبِنَاءُ يَشْتَكِي عَلَيْهِ اعْتِذَارٌ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. (قَالَ: " فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ ") . بِكَسْرِ السِّينِ وَالْمَعْنَى فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ. (فَأُتِيَ بِهِ) أَيْ فَجِيءَ بِهِ (فَبَصَقَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيِ: أَلْقَى بُزَاقَهُ (فِي عَيْنَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةٍ فَدَعَا لَهُ (فَبَرَأَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَقَدْ يُكْسَرُ أَيْ: فَصَحَّ عَلِيٌّ مِنْ جِهَةِ عَيْنَيْهِ وَعُوفِيَ عَافِيَةً كَامِلَةً (حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ) ، أَيْ وَلَا سَبَبُ وَجَعٍ مِنَ الرَّمَدِ وَلَا ضَعْفُ بَصَرٍ أَصْلًا (فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ) : بِهَمْزَةٍ مُقَدَّرَةٍ أَوْ بِدُونِهَا (حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا) ؟ أَيْ حَتَّى يُسْلِمُوا (قَالَ: " انْفُذْ ") بِضَمِّ الْفَاءِ أَيِ امْضِ (" عَلَى رِسْلِكَ ") : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ رِفْقِكَ وَلِينِكَ (" حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ") ، أَيْ حَتَّى تَبْلُغَ فِنَاءَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ (" ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ") ، أَيْ: أَوَّلًا (" وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ ") ، أَيْ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَ هُنَا مَحْذُوفًا أَوْ جُمْلَةً مَطْوِيَّةً، وَهِيَ: فَإِنْ أَبَوْا عَنْهُ فَاطْلُبِ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ أَبَوْا فَقَاتِلْهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا أَوْ مَعْنَاهُ يَنْقَادُوا قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا، وَاسْتَحْمَدَهُ عَلَى مَا قَصَدَهُ مِنْ مُقَاتَلَتِهِ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَكُونُوا أَمْثَالَنَا مُهْتَدِينَ إِعْلَاءً لِدِينِ اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّ حَثَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا نَوَاهُ بِقَوْلِهِ: (" «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» ") يُرَادُ بِهِ حُمْرُ الْإِبِلِ وَهِيَ أَعَزُّهَا وَأَنْفَسُهَا، وَيَضْرِبُونَ بِهَا الْمَثَلَ فِي نَفَاسَةِ الشَّيْءِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَعْظَمُ مِنْهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: تَشْبِيهُ أُمُورِ الْآخِرَةِ بِأَعْرَاضِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ التَّقْرِيبُ لِلْأَفْهَامِ وَإِلَّا فَقَدْرٌ يَسِيرٌ مِنَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا وَأَمْثَالِهَا مَعَهُ أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ: فَوَاللَّهِ. . إِلَخْ تَأْكِيدٌ لِمَا أَرْشَدَهُ مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلًا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى قِتَالِهِمُ الْمُتَفَرِّعِ عَلَيْهِ حُصُولُ الْغَنَائِمِ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ إِيجَادَ مُؤْمِنٍ وَاحِدٍ خَيْرٌ مِنْ إِعْدَامِ أَلْفِ كَافِرٍ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ مُعَلِّلًا بِهِ عَلَى وَجْهِ تَقْدِيمِهِ كُلِّهِ عَلَى كِتَابِ السِّيَرِ وَالْجِهَادِ، وَالْحُمْرُ: بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَحْمَرَ، وَأَمَّا بِضَمِّ الْمِيمِ فَهُوَ جَمْعُ حِمَارٍ، وَالنَّعَمُ بِفَتْحَتَيْنِ وَقَدْ يُكْسَرُ عَيْنُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، الْإِبِلُ وَالشَّاءُ أَوْ خَاصٌّ بِالْإِبِلِ، وَأَمَّا النِّعَمُ بِكَسْرِ النُّونِ فَهُوَ جَمْعُ نِعْمَةٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَرْفُوعًا " «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ". أَيْ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ تَكُونَ لَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِهَا. وَفِي الرِّيَاضِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ: " لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ ". قَالَ عُمَرُ: فَمَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَتَشَارَفْتُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَقَالَ: امْشِ وَلَا تَلْتَفِتْ فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ فَصَرَخَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَامَ أُقَاتِلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ» - " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «كَانَ عَلِيٌّ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ فَقَالَ: أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ فِي صَبَاحِهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ أَوْ لَيَأْخُذَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ - أَوْ قَالَ: يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ وَمَا نَرْجُوهُ فَقَالَ: " هَذَا عَلِيٌّ " فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. «وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: حَاصَرْنَا خَيْبَرَ فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ عُمَرُ مِنَ الْغَدِ فَخَرَجَ وَرَجَعَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي دَافِعٌ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ عَلَيْهِ ". فَبِتْنَا طَيِّبَةً أَنْفُسُنَا أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا فَلَمَّا أَصْبَحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ قَائِمًا، فَدَعَا بِاللِّوَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنِهِ وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَهُ. قَالَ بُرَيْدَةُ: وَأَنَا مِمَّنْ تَطَاوَلَ لَهَا» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ. «وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بِرَايَتِهِ، وَكَانَتْ بَيْضَاءَ إِلَى بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ، فَقَاتَلَ وَرَجَعَ وَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ، وَقَدْ جَهَدَ، ثُمَّ بَعَثَ الْغَدَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَاتَلَ، وَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ وَقَدْ جَهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسَ بِفَرَّارٍ " فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " خُذْ هَذِهِ الرَّايَةَ فَامْضِ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ " قَالَ سَلَمَةُ: فَخَرَجَ وَاللَّهِ بِهَا يُهَرْوِلُ هَرْوَلَةً، وَإِنَّا خَلْفَهُ نَتَّبِعُ أَثَرَهُ حَتَّى رَكَزَ رَايَتَهُ فِي رَضَمٍ مِنْ حِجَارَةٍ تَحْتَ الْحِصْنِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِ يَهُودِيٌّ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ الْيَهُودِيُّ: عَلَوْتُمْ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى أَوْ كَمَا قَالَ. فَمَا رَجَعَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، أَخْرَجَهُ» ابْنُ إِسْحَاقَ. وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَايَتِهِ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحِصْنِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ فَقَاتَلَهُمْ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَطَرَحَ تُرْسَهُ مِنْ يَدِهِ، فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرَّسَ بِهِ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِيَدِهِ حَتَّى فُتِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ حِينَ فَرَغَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي نَفَرٍ مَعَ سَبْعَةٍ أَنَا ثَامِنُهُمْ نَجْتَهِدُ عَلَى أَنْ نَقْلِبَ ذَلِكَ الْبَابَ فَمَا نَقْلِبُهُ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حَمَلَ الْبَابَ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتَّى صَعِدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، فَافْتَتَحُوهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْمِلْهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَفِي طَرِيقٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ سَبْعُونَ رَجُلًا، فَكَانَ جُهْدُهُمْ أَنْ أَعَادُوا الْبَابَ. أَخْرَجَهُمَا الْحَاكِمِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «مَا رَمَدْتُ بَعْدَ تَفْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَيْنِي» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي يَعْلَى قَالَ: «كَانَ أَبِي يَسْمُرُ مَعَ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَثِيَابَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ سَأَلْتَهُ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ إِلَيَّ وَأَنَا أَرَمَدُ الْعَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْمَدُ الْعَيْنِ قَالَ: فَتَفَلَ فِي عَيْنِي وَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ " فَمَا وَجَدْتُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا مُنْذُ يَوْمِئِذٍ. وَقَالَ: " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ بِفَرَّارٍ " فَتَشَرَّفَ لَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَانِيهَا» . (وَذَكَرَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ: قَالَ لِعَلِيٍّ: " «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» " فِي بَابِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ) . أَيْ: لِمَا كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَضَانَةِ، وَالْحَدِيثُ هُنَاكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَضْلِ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرٍ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 6090 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6090 - (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ» ") أَيْ: فِي النَّسَبِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالْمُسَابَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَزَايَا لَا فِي مَحْضِ الْقَرَابَةِ وَإِلَّا فَغَيْرُهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِيهَا (" وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ ") . أَيْ: حَبِيبُهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ أَوْ نَاصِرُهُ أَوْ مُتَوَلِّي أَمْرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] وَفِي الْكَشَّافِ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِعَلِيٍّ، وَاللَّفْظُ لَفْظُ جَمَاعَةٍ؟ قُلْتُ: جِيءَ بِهِ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ فِعْلِهِ لِيَنَالُوا مِثْلَ ثَوَابِهِ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ سَجِيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ قَوْلُهُ: وَهُمْ رَاكِعُونَ أَيْ مُتَخَشِّعُونَ فِي صَلَاتِهِمْ وَزَكَاتِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مَخْصُوصَةٌ بِيُؤْتُونَ أَيْ: يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ فِي حَالِ رُكُوعِهِمْ فِي الصَّلَاةِ حِرْصًا عَلَى الْإِحْسَانِ وَمُسَارَعَةً إِلَيْهِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - حِينَ سَأَلَهُ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي صَلَاتِهِ، فَطَرَحَ لَهُ خَاتَمَهُ انْتَهَى وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشِّيعَةُ عَلَى إِمَامَتِهِ زَاعِمِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ الْمُتَوَلِّي لِلْأُمُورِ، وَالْمُسْتَحِقِّ لِلتَّصَرُّفِ فِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ مُوَالَاةِ الْكَفَرَةِ ذَكَرَ عُقَيْبَهُ مَنْ هُوَ حَقِيقٌ بِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ أَوْلِيَاؤُكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ لِلَّهِ عَلَى الْأَصَالَةِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّبَعِ، مَعَ أَنَّ حَمْلَ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ أَيْضًا خِلَافُ الظَّاهِرِ. قَالَ السَّيِّدُ مُعِينُ الدِّينِ الصَّفَوِيُّ: مَا قَبْلَ الْآيَةِ يُنَادِي عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوِلَايَةِ لَيْسَ التَّوَلِّيَ لِلْأُمُورِ وَالْمُسْتَحِقَّ لِلتَّصَرُّفِ كَمَا قَالَتِ الشِّيعَةُ، بَلْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَحْرِيضًا عَلَى الْمُبَادَرَةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ يُبَادِرُ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَا سِيَّمَا وَاللَّفْظُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَيَدْخُلُ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لَا أَنَّ الْأَمْرَ مَحْصُورٌ فِيهِ حَقِيقِيًّا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الرِّيَاضِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَلِيًّا قَالَ: فَمَضَى عَلَى السَّرِيَّةِ فَأَصَابَ جَارِيَةً، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَتَعَاقَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِذَا لَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرْنَاهُ بِمَا صَنَعَ عَلِيٌّ، فَقَالَ عِمْرَانُ: وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ بَدَأُوا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَتِ السَّرِيَّةُ سَلَّمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ عَلِيًّا صَنَعَ كَذَا وَكَذَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِي فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الثَّالِثُ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الرَّابِعُ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالُوا، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغَضَبُ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: " مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ " ثَلَاثًا " إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي» " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَقَالَ فِيهِ: «فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَرْبَعِ، وَقَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ فَقَالَ: " دَعُوا عَلِيًّا، عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ بَعْدِي» " وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ عَنْ بُرَيْدَةَ، وَلَهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «لَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ أَصْحَابَ الْأَلْوِيَةِ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَهِيَ الْمُوَاسَاةُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ " فَقَالَ جِبْرِيلُ: وَأَنَا مِنْكُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» .

6091 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ " «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6091 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) ذِكْرُهُ تَقَدَّمَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» ") . قِيلَ، مَعْنَاهُ: مَنْ كُنْتُ أَتَوَلَّاهُ فَعَلِيٌّ يَتَوَلَّاهُ مِنَ الْوَلِيِّ ضِدِّ الْعَدُوِّ أَيْ: مَنْ كُنْتُ أُحِبُّهُ فَعَلِيٌّ يُحِبُّهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: مَنْ يَتَوَلَّانِي فَعَلِّيٌّ يَتَوَلَّاهُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَوْلَى يَقَعُ عَلَى جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ فَهُوَ الرَّبُّ وَالْمَالِكُ وَالسَّيِّدُ وَالْمُنْعِمُ وَالْمُعْتِقُ وَالنَّاصِرُ وَالْمُحِبُّ وَالتَّابِعُ وَالْخَالُ وَابْنُ الْعَمِّ وَالْحَلِيفُ وَالْعَقِيدُ وَالصِّهْرُ وَالْعَبْدُ وَالْمُعْتَقُ وَالْمُنْعَمُ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُهَا قَدْ جَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ فَيُضَافُ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ. الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ ". يُحْمَلُ عَلَى أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَعْنِي بِذَلِكَ وَلَاءَ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] وَقَوْلِ عُمَرَ لِعَلِيٍّ: أَصْبَحْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ [أَيْ: وَلِيَّ كُلِّ مُؤْمِنٍ] وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أُسَامَةَ قَالَ لِعَلِيٍّ: لَسْتَ مَوْلَايَ إِنَّمَا مَوْلَايَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» " " قُضِيَ " قَالَتِ الشِّيعَةُ: هُوَ مُتَصَرِّفٌ، وَقَالُوا: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَحِقُّ التَّصَرُّفَ فِي كُلِّ مَا يَسْتَحِقُّ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أُمُورُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ إِمَامَهُمْ أَقُولُ: لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تُحْمَلَ الْوِلَايَةُ عَلَى الْإِمَامَةِ الَّتِي هِيَ التَّصَرُّفُ فِي أُمُورِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ الْمُسْتَقِلَّ فِي حَيَاتِهِ هُوَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا غَيْرُ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَوَلَاءِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِمَا. وَقِيلَ: سَبَبُ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الْجَزَرِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ عَلِيًّا تَكَلَّمَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِالْيَمَنِ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّهَ خَطَبَ بِهَا تَنْبِيهًا عَلَى قَدْرِهِ وَرَدًّا عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ كَبُرَيْدَةَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الذَّهَبِيُّ، وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَرَأَى مِنْهُ جَفْوَةَ نَقْصِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقُولُ: " «يَا بُرَيْدَةُ أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ " قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ - عَنِ الْبَرَاءِ، وَأَحْمَدُ عَنْ بُرَيْدَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. فَفِي إِسْنَادِ الْمُصَنِّفِ الْحَدِيثَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ إِلَى أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مُسَامَحَةٌ لَا تَخْفَى، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنْ بُرَيْدَةَ بِلَفْظِ: " مَنْ كُنْتُ وَلِيُّهُ ". وَرَوَى الْمَحَامِلِيُّ فِي أَمَالِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: " «عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَوْلَى مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ» " وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، بَلْ بَعْضُ الْحُفَّاظِ عَدَّهُ مُتَوَاتِرًا إِذْ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثُونَ صَحَابِيًّا، وَشَهِدُوا بِهِ لِعَلِيٍّ لَمَّا نُوزِعَ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ عِنْدَ حَدِيثِ الْبَرَاءِ.

6092 - وَعَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، وَلَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ عَلِيٌّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6092 - (وَعَنْ حُبْشِيٍّ) : بِضَمِّ حَاءٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (ابْنِ جُنَادَةَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَهُ صُحْبَةٌ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ» ") مَرَّ مَعْنَاهُ (" وَلَا يُؤَدِّي عَنِّي ") : أَيْ نَبْذَ الْعَهْدِ (" إِلَّا أَنَا أَوْ عَلِيٌّ ") كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا عَلِيٌّ فَأُدْخِلَ أَنَا تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الِاتِّصَالِ فِي قَوْلِهِ: «عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ» . " تو " كَانَ مِنْ دَأْبِ الْعَرَبِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ مُقَاوَلَةٌ فِي نَقْضٍ وَإِبْرَامٍ وَصُلْحٍ وَنَبْذِ عَهْدٍ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَّا سَيِّدُ الْقَوْمِ، أَوْ مَنْ يَلِيهِ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ الْقَرِيبَةِ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِمَّنْ سِوَاهُ وَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ رَأَى بَعْدَ خُرُوجِهِ أَنْ يَبْعَثَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَلْفَهُ لِيَنْبِذَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَهْدَهُمْ، وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ بَرَاءَةٍ وَفِيهَا: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ فَقَالَ قَوْلَهُ هَذَا تَكْرِيمًا بِهِ بِذَلِكَ - قُلْتُ: وَاعْتِذَارًا لِأَبِي بَكْرٍ فِي مَقَامِهِ هُنَالِكَ، وَلِذَا قَالَ الصِّدِّيقُ لِعَلِيٍّ حِينَ لَحِقَهُ مِنْ وَرَائِهِ: أَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ؟ فَقَالَ: بَلْ مَأْمُورٌ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِمَارَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي التَّحْقِيقِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - عَنْ حُبْشِيٍّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي جُنَادَةَ، فَلَعَلَّ أَحْمَدَ لَهُ رِوَايَتَانِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ أَبَا جُنَادَةَ فِي أَسْمَائِهِ.

6093 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ عَلِيٌّ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: آخَيْتَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ، وَلَمْ تُؤَاخِ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنْتَ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6093 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِمَدِّ الْهَمْزَةِ أَيْ جَعَلَ الْمُؤَاخَاةَ فِي الدِّينِ (بَيْنَ أَصْحَابِهِ) ، أَيِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ كَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَسَلْمَانَ (فَجَاءَ عَلِيٌّ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ) ، أَيْ: فَسُئِلَ مَا لَكَ؟ (فَقَالَ) : وَفِي رِوَايَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ (آخَيْتَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ) ، وَلَمْ تُؤَاخِ: بِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَاوًا (بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: جَبْرًا بِمَا كَانَ خَيْرًا لَهُ. أَنْتَ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ") . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آخَى بَيْنَ النَّاسِ وَتَرَكَ عَلِيًّا حَتَّى بَقِيَ آخِرَهُمْ لَا يَرَى لَهُ أَخًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آخَيْتَ بَيْنَ النَّاسِ وَتَرَكْتَنِي. قَالَ: (" وَلِمَ تَرَانِي تَرَكْتُكَ؟ تَرَكْتُكَ لِنَفْسِي أَنْتَ أَخِي وَأَنَا أَخُوكَ فَإِنْ ذَكَرَكَ أَحَدٌ فَقُلْ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُولِهِ لَا يَدَّعِيهَا بَعْدُ إِلَّا كَذَّابٌ» ") .

6094 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيْرٌ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ " فَجَاءَهُ عَلِيٌّ، فَأَكَلَ مَعَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6094 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيْرٌ) ، أَيْ مَشْوِيٌّ أَوْ مَطْبُوخٌ أُهْدِيَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي رِوَايَةٍ أَهْدَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيْرَيْنِ بَيْنَ رَغِيفَيْنِ فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ (فَقَالَ: " «اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ» ") وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِلَى رَسُولِكَ (" يَأْكُلُ ") : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ (" مَعِي هَذَا الطَّيْرَ " فَجَاءَهُ عَلِيٌّ فَأَكَلَ مَعَهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . أَيْ إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَوْضُوعٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، وَفِي الْمُخْتَصَرِ قَالَ: لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَفِي الرِّيَاضِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ " تو ": نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ لَا نَجْهَلُ فَضْلَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدَمَهُ وَسَوَابِقَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَاخْتِصَاصَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَرَابَتِهِ الْقَرِيبَةِ، وَمُؤَاخَاتَهُ إِيَّاهُ فِي الدِّينِ وَنَتَمَسَّكُ بِحُبِّهِ بِأَقْوَى وَأَوْلَى مِمَّا يَدَّعِيهِ الْغَالُونَ فِيهِ، فَلَسْنَا نَرَى أَنْ نَضْرِبَ عَنْ تَقْرِيرِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي نِصَابِهَا صَفْحًا لِمَا يُخْشَى فِيهَا مِنْ تَحْرِيفِ الْغَالِينَ، وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ. وَهَذَا بَابٌ أُمِرْنَا بِمُحَافَظَتِهِ وَجِيءَ أَمْرُنَا بِالذَّبِّ عَنْهُ، فَحَقِيقٌ عَلَيْنَا أَنْ نَنْصُرَ فِيهِ الْحَقَّ وَنُقَدِّمَ فِيهِ الصِّدْقَ، وَهَذَا حَدِيثٌ يَرِيشُ بِهِ الْمُبْتَدِعُ سِهَامَهُ، وَيُوَصِّلُ بِهِ فِي الْمُبْتَدِعِ جَنَاحَهُ فَيَتَّخِذَهُ ذَرِيعَةً إِلَى الطَّعْنِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّتِي هِيَ أَوَّلُ حُكْمٍ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَقْوَمُ عِمَادٍ أُقِيمَ بِهِ الدِّينُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَقُولُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُقَاوِمُ مَا أَوْجَبَ تَقْدِيمَ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَوْلَ بِخَيْرِيَّتِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مُنْضَمًّا إِلَيْهَا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ لِمَكَانِ سَنَدِهِ، فَإِنَّ فِيهِ لِأَهْلِ النَّقْلِ مَقَالًا، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ أَمْثَالِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، وَلَا سِيَّمَا وَالصَّحَابِيُّ الَّذِي يَرْوِيهِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ وَاسْتَقَامَ عَلَيْهِ مُدَّةَ عُمْرِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ خِلَافُهُ، فَلَوْ ثَبَتَ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثُ. فَالسَّبِيلُ أَنْ يُؤَوَّلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ مَا اعْتَقَدَهُ، وَلَا يُخَالِفُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ مَتْنًا وَإِسْنَادًا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ بِأَحَبِّ خَلْقِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ائْتِنِي بِمَنْ هُوَ أَحَبُّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ، فَيُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهُمُ الْمُفَضَّلُونَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ أَعْقَلُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ أَيْ: مِنْ أَعْقَلِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ غَيْرُ جَائِزٍ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ شَيْءٌ غَرِيبٌ لِأَصْلِ الشَّرْعِ. قُلْنَا: وَالَّذِي نَحْنُ فِيهِ فَرْعٌ أَيْضًا بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَيُؤَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَحَبَّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ مَنْ بَنِي عَمِّهِ وَذَوِيهِ؟ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطْلِقُ الْقَوْلَ، وَهُوَ يُرِيدُ تَقْيِيدَهُ وَيَعُمُّ بِهِ، وَيُرِيدُ تَخْصِيصَهُ فَيَعْرِفُهُ ذَوُو الْفَهْمِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْحَالِ أَوِ الْوَقْتِ أَوِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.

أَقُولُ: وَالْوَجْهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سَمْتِ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُؤْتِيَ لَهُ مَنْ يُؤَاكِلُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِرًّا وَإِحْسَانًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَأَبَرُّ الْمَبَرَّاتِ بِذَوِي الرَّحِمِ وَصِلَتِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ مِنْ ذَوِي الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِإِحْسَانِي وَبِرِّي إِلَيْهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَّ أَوْلَى مِنَ ابْنِهِ وَكَذَا الْبِنْتُ وَأَوْلَادُهَا فِي أَمْرِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الطِّيبِيِّ هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ هُنَاكَ مِمَّنْ يُؤَاكِلُهُ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ لَا سِيَّمَا وَأَنَسٌ حَاضِرٌ وَهُوَ خَادِمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مَعَهُ، فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ، وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ بِلَفْظِ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فِي أُمُورٍ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهَا إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ فِي بَعْضِهَا إِنَّ التَّقْدِيرَ مِنْ أَفْضَلِهَا.

6095 - «وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَانِي وَإِذَا سَكَتُّ ابْتَدَأَنِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6095 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: طَلَبْتُ (شَيْئًا أَعْطَانِي) ، أَيِ: الْمَسْئُولَ أَوْ جَوَابَهُ (وَإِذَا سَكَتُّ ابْتَدَأَنِي) ، أَيْ: بِالتَّكَلُّمِ أَوِ الْإِعْطَاءِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ حُسْنَ الْأَدَبِ هُوَ السُّكُوتُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْظِيمِ الْمُتَفَرِّعِ عَلَيْهِ الْإِقْبَالُ الْمُنْتِجُ لِلْإِعْطَاءِ أَوَّلًا. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَرَمِهِ وَزُهْدِهِ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَنَاقِبِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنِّي لَأَرْبِطُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ صَدَقَتِي الْيَوْمَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ صَدَقَةَ مَالِي لَتَبْلُغُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ، وَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ مَالَ عَلِيٍّ تَبْلُغُ زَكَاتُهُ هَذَا الْقَدْرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ أَزْهَدَ النَّاسِ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي تَصَدَّقْتُ بِهِ مُنْذُ كَانَ لِي مَالٌ إِلَى الْيَوْمِ كَذَا وَكَذَا أَلْفًا، ثُمَّ ذِكْرُهُ لِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِضِ الشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ الْخُلَّةِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمَا خَرَجَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ إِخْرَاجَهُ أَبْلَغُ فِي الزُّهْدِ مِنْ عَدَمِهِ وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ لِنَفْسِهِ تَنْتَقِلُ الْحَالُ إِلَى مِثْلِ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ الْحَالِ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَبْكِيَانِ فَقَالَ: مَا يُبْكِيهِمَا؟ قَالَتِ الْجُوعُ فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَوَجَدَ دِينَارًا فِي السُّوقِ، فَجَاءَ إِلَى فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَخُذْ لَنَا بِهِ دَقِيقًا، فَجَاءَ إِلَى الْيَهُودِيِّ فَاشْتَرَى بِهِ دَقِيقًا فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنْتَ خَتَنُ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ (قَالَ: فَخُذْ دِينَارَكَ وَلَكَ الدَّقِيقُ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ حَتَّى جَاءَ بِهِ فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتِ: اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ الْجَزَّارِ فَخُذْ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا، فَذَهَبَ فَرَهَنَ الدِّينَارَ بِدِرْهَمٍ عَلَى لَحْمٍ، فَجَاءَ بِهِ، فَعَجَنَتْ وَنَصَبَتْ وَخَبَزَتْ فَأَرْسَلَتْ إِلَى أَبِيهَا فَجَاءَهُمْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ لَكَ فَإِنْ رَأَيْتَهُ حَلَالًا أَكَلْنَا وَأَكَلْتَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا. قَالَ كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلُوا فَبَيْنَمَا هُمْ مَكَانَهُمْ إِذَا غُلَامٌ يَنْشُدُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ لِلدِّينَارِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدُعِيَ لَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَقَطَ مِنِّي فِي السُّوقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَلِيُّ اذْهَبْ إِلَى الْجَزَّارِ فَقُلْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَكَ: أَرْسِلْ إِلَيَّ بِالدِّينَارِ وَدِرْهَمُكَ عَلَيَّ فَأَرْسَلَ بِهِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَوَاضُعِهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ بَيَّاعِ الْأَكْسِيَةِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا اشْتَرَى تَمْرًا بِدِرْهَمٍ، فَحَمَلَهُ فِي مِلْحَفَتِهِ، فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا نَحْمِلُهُ عَنْكَ؟ قَالَ: أَبُو الْعِيَالِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ الْجَعْدَ بْنَ بَعْجَةَ مِنَ الْخَوَارِجِ عَاتَبَ عَلِيًّا فِي لِبَاسِهِ فَقَالَ: مَا لِي وَلِلِّبَاسِ هَذَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الْكِبْرِ، وَأَجْدَرُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْمُسْلِمُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَاحِبُ الصَّفْوَةِ. وَمَا يَدُلُّ عَلَى وَرَعِهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَرَّبَ إِلَيْنَا حَرِيرَةً فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ لَوْ قَرَّبْتَ إِلَيْنَا مِنْ هَذَا الْبَطِّ يَعْنِي الْإِوَزَّ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْثَرَ الْخَيْرَ فَقَالَ: يَا ابْنَ زُرَيْرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا يَحِلُّ لِخَلِيفَةٍ مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلَّا قَصْعَتَانِ قَصْعَةٌ يَأْكُلُهَا هُوَ وَأَهْلُهُ وَقَصْعَةٌ يَضَعُهَا بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ» ". وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَاءَهُ ابْنُ التَّيَّاحِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ امْتَلَأَ بَيْتُ الْمَالِ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى ابْنِ الَتَّيَّاحِ حَتَّى قَامَ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ

فِي النَّاسِ، فَأَعْطَى جَمِيعَ مَا فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا صَفْرَاءُ يَا بَيْضَاءُ غُرِّي غَيْرِي هَا وَهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، ثُمَّ أَمَرَ بِنَضْحِهِ وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَصَلَّى فِيهِ رَجَاءَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: جُعْتُ بِالْمَدِينَةِ جُوعًا شَدِيدًا، فَخَرَجْتُ أَطْلُبُ الْعَمَلَ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ قَدْ جَمَعَتْ مَدَرًا فَظَنَنْتُهَا تُرِيدُ بَلَّهُ فَأَتَيْتُهَا فَعَاطَيْتُهَا كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، فَعَدَدْتُ سِتَّةَ عَشَرَ ذَنُوبًا حَتَّى مَجَلَتْ يَدِي، ثُمَّ أَتَيْتُهَا فَقُلْتُ بِكِلْتَيْ يَدَيَّ هَكَذَا بَيْنَ يَدَيْهَا. وَبَسَطَ إِسْمَاعِيلُ رَاوِي الْحَدِيثِ يَدَيْهِ جَمِيعًا فَعَدَّتْ لِي سِتَّةَ عَشَرَ تَمْرَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ فَأَكَلَ مَعِي مِنْهَا، وَقَالَ لِي خَيْرًا وَدَعَا لِي. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَصَاحِبُ الصَّفْوَةِ وَالْفَضَائِلِيُّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ «عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا لَكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ إِذَا سَأَلْتُهُ أَتَانِي. وَإِذَا سَكَتُّ ابْتَدَأَنِي» .

6096 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَنَا دَارُ الْحِكْمَةِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ: رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ شَرِيكٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، وَلَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الثِّقَاتِ غَيْرَ شَرِيكٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6096 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَنَا دَارُ الْحِكْمَةِ» ") ، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ» وَفِي رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ: «أَنَا دَارُ الْعِلْمِ " وَعَلِيٌّ بَابُهَا» " وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ: «فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِهِ مِنْ بَابِهِ» وَالْمَعْنَى عَلِيٌّ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِهَا وَلَكِنَّ التَّخْصِيصَ يُفِيدُ نَوْعًا مِنَ التَّعْظِيمِ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَعْظَمُهُمْ وَأَعْلَمُهُمْ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَصْحَابِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبْوَابِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» " مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ أَنْوَارِهَا فِي الِاهْتِدَاءِ، وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ التَّابِعِينَ أَخَذُوا أَنْوَاعَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ غَيْرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا، فَعُلِمَ عَدَمُ انْحِصَارِهِ الْبَابِيَّةَ فِي حَقِّهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِبَابِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي شَأْنِهِ " أَنَّهُ أَقْضَاكُمْ " كَمَا أَنَّهُ جَاءَ فِي حَقِّ أُبَيٍّ " أَنَّهُ أَقْرَؤُكُمْ "، وَفِي حَقِّ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ " أَنَّهُ أَفْرَضُكُمْ "، وَفِي حَقِّ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ " أَنَّهُ جَاءَ فِي حَقِّ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ " أَنَّهُ أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ " وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَزَالَةِ عِلْمِهِ مَا فِي الرِّيَاضِ «عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: وَضَّأْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي فَاطِمَةَ نَعُودُهَا "، فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَيَّ فَقَالَ: " إِنَّهُ سَيَحْمِلُ ثِقَلَهَا غَيْرُكَ، وَيَكُونُ أَجْرُهَا لَكَ " فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ شَيْءٌ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى فَاطِمَةَ فَقُلْنَا: كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟ قَالَتْ: لَقَدِ اشْتَدَّ حُزْنِي وَاشْتَدَّتْ فَاقَتِي وَطَالَ سَقَمِي» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: " «أَوَمَا تَرْضَيْنَ أَنَّ زَوْجَكِ أَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وَأَكْثَرُهُمْ عِلْمًا، وَأَعْظَمُهُمْ حِلْمًا» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَأَلَهُ النَّاسُ فَقَالُوا: أَيُّ رَجُلٍ كَانَ عَلِيًّا؟ قَالَ: كَانَ قَدْ مُلِئَ جَوْفُهُ حِكَمًا وَعِلْمًا وَبَأْسًا وَنَجْدَةً مَعَ قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: عُمَرُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ مُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الشِّيعَةَ أَرَادُوا بِهَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّ أَخْذَ الْعِلْمِ الْحِكْمَةُ مِنْهُ مُخْتَصٌّ بِهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِوَاسِطَتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الدَّارَ إِنَّمَا يُدْخَلُ فِيهَا مِنْ بَابِهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ إِذْ لَيْسَ دَارُ الْجَنَّةِ بِأَوْسَعَ مِنْ دَارِ الْحِكْمَةِ وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) ، أَيْ إِسْنَادًا (وَقَالَ) ، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ شَرِيكٍ) ، وَهُوَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِي بَغْدَادَ، ذَكَرَهُ شَارِحٌ: (وَلَمْ يَذْكُرُوا) ، أَيْ ذَلِكَ الْبَعْضُ (فِيهِ) ، أَيْ: فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ (عَنِ الصُّنَابِحِيِّ) ، بِضَمِّ صَادٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ (وَلَا نَعْرِفُ) ، أَيْ: نَحْنُ (هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الثِّقَاتِ غَيْرَ شَرِيكٍ) . بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَحَدٍ. قِيلَ: وَفِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ شَرِيكٍ بَدَلَ غَيْرَ شَرِيكٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ: " «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ فَقَالَ: بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَمْ خَلْقٌ افْتَضَحُوا فِيهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَا أَصْلَ لَهُ، كَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَابِتٌ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ جَامِعِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ، وَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُثْبِتُوهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَاطِلٌ، لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو سَعِيدٍ الْعَلَائِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ حَسَنٌ بِاعْتِبَارِ طُرُقِهِ لَا صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَسُئِلَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ لَا صَحِيحٌ، كَمَا قَالَ الْحَاكِمُ وَلَا مَوْضُوعٌ كَمَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ بَسَطْتُ كَلَامَ الْعَلَائِيِّ وَالْعَسْقَلَانِيِّ فِي التَّعَقُّبَاتِ الَّتِي عَلَى الْمَوْضُوعَاتِ اهـ. وَفِي خَبَرِ الْفِرْدَوْسِ: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَأَبُو بَكْرٍ أَسَاسُهَا وَعُمَرُ حِيطَانُهَا وَعُثْمَانُ سَقْفُهَا وَعَلِيٌّ بَابُهَا» ، وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَأَجَابَ: أَنَّ مَعْنَى وَعَلِيٌّ بَابُهَا أَنَّهُ فَعِيلٌ مِنَ الْعُلُوِّ عَلَى حَدِّ قِرَاءَةِ: (صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ) بِرَفْعِ عَلِيٌّ وَتَنْوِينِهِ كَمَا قَرَأَ بِهِ يَعْقُوبُ.

6097 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا يَوْمَ الطَّائِفِ فَانْتَجَاهُ، فَقَالَ النَّاسُ: لَقَدْ طَالَ نَجْوَاهُ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا انْتَجَيْتُهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَجَاهُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6097 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا يَوْمَ الطَّائِفِ) : قَالَ شَارِحٌ، أَيْ: يَوْمَ أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا إِلَى الطَّائِفِ (فَانْتَجَاهُ) ، مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ مِنَ النَّجْوَى أَيْ فَسَارَّهُ وَقَالَ لَهُ نَجْوَى. (فَقَالَ النَّاسُ) أَيِ الْمُنَافِقُونَ، أَوْ عَوَامُّ الصَّحَابَةِ بِالنَّجْوَى أَنَا (" لَقَدْ طَالَ نَجْوَاهُ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا انْتَجَيْتُهُ ") ، أَيْ مَا خَصَصْتُهُ بِالنَّجْوَى أَنَا (" «وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَجَاهُ» ") : بِتَشْدِيدِ لَكِنَّ وَيُخَفَّفُ، وَالْمَعْنَى أَنِّي بَلَّغْتُهُ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَنِي أَنْ أُبَلِّغَهُ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ النَّجْوَى فَحِينَئِذٍ انْتَجَاهُ اللَّهُ لَا انْتَجَيْتُهُ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] . قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَانَ ذَلِكَ أَسْرَارًا إِلَهِيَّةً وَأُمُورًا غَيْبِيَّةً جَعَلَهُ مِنْ خُزَّانِهَا اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَنَاجَى بِهِ مِنَ الْأَسْرَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَخْبَارِ الدِّينِيَّةِ مِنْ أَمْرِ الْغَزْوِ وَنَحْوِهِ، إِذْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي خَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فَهْمًا يُعْطَاهُ رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ. قِيلَ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ فَقَالَ: الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، ثُمَّ هَذَا التَّنَاجِي يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أَمْرَهُ لِلنَّدْبِ أَوْ لِلْوُجُوبِ، لَكِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: أَأَشْفَقْتُمْ وَهُوَ وَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ تِلَاوَةً لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ نُزُولًا حَتَّى يُمْكِنَ الْعَمَلُ بِهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ فِي الْكِتَابِ آيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ غَيْرِي كَانَ لِي دِينَارٌ فَصَرَفْتُهُ، فَكُنْتُ إِذَا نَاجَيْتُهُ تَصَدَّقْتُ بِدِرْهَمٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6098 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: " يَا عَلِيُّ، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرَكَ» "، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ: فَقُلْتُ لِضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ: مَا مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ؟ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَسْتَطْرِقُهُ جُنُبًا غَيْرِي وَغَيْرَكَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6098 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: " «يَا عَلِيُّ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ» ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ نُونِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ظَاهِرُهُ " أَنْ يُجْنِبَ " يَكُونُ فَاعِلًا لِقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ، وَقَوْلُهُ: (فِي هَذَا الْمَسْجِدِ) : ظَرْفٌ لِيُجْنِبَ وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَلِذَلِكَ أَوَّلَهُ ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ صِفَةً لِأَحَدٍ (" غَيْرِي وَغَيْرَكَ ") ، بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ غَيْرِي وَغَيْرُكَ (قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ كُوفِيٌّ عُرِفَ بِالطَّرِيقِيِّ، رَوَى عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ. وَعَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ مِنْهُ مَعَ أَبِي وَهُوَ ثِقَةٌ صَدُوقٌ.

وَقَالَ النَّسَائِيُّ: شِيعِيٌّ مَحْضٌ ثِقَةٌ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ (فَقُلْتُ لِضِرَارِ) : بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (بْنِ صُرَدٍ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَنْوِينٍ يُكَنَّى أَبَا نُعَيْمٍ الْكُوفِيَّ الطَّحَّانَ، سَمِعَ الْمُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ وَغَيْرَهُ، وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ (مَا مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ؟ قَالَ «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَسْتَطْرِقُهُ جُنُبًا غَيْرِي وَغَيْرَكَ» ) . قُضِيَ: ذُكِرَ فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَسْتَطْرِقُهُ جُنُبًا غَيْرِي وَغَيْرَكَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا جُعِلَ يُجْنِبُ صِفَةً لِأَحَدٍ وَمُتَعَلِّقُ الْجَارِّ مَحْذُوفًا، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ يَمُرُّ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرَكَ، وَكَانَ مَمَرُّ دَارِهِمَا خَاصَّةً فِي الْمَسْجِدِ أَقُولُ: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فِي الْمَسْجِدِ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ لَهُ اخْتِصَاصًا بِهَذَا الْحُكْمِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ بَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْتَحُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَكَذَا بَابُ عَلِيٍّ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ: ( «أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) . وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمُ اهـ. وَسَيَأْتِي بَحْثٌ وَارِدٌ هُنَا فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (" «أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ» ")

6099 - «وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَيْشًا فِيهِمْ عَلِيٌّ، قَالَتْ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُرِيَنِي عَلِيًّا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6099 - (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ نُسَيْبَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بِنْتُ كَعْبٍ وَقِيلَ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيَّةُ بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتُمَرِّضُ الْمَرْضَى وَتُدَاوِي الْجَرْحَى (قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَيْشًا فِيهِمْ عَلِيٌّ، قَالَتْ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَقُولُ) أَيْ: حِينَ إِرْسَالِهِ أَوْ عِنْدَ تَوَقُّعِ إِقْبَالِهِ (" اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي ") : بِضَمٍّ فَكَسْرٍ أَيْ لَا تَقْبِضْ رُوحِي (" حَتَّى تُرِيَنِي ") : بِضَمٍّ فَكَسْرٍ أَيْ: تُبَصِّرَنِي (" عَلِيًّا ") ، أَيْ: رُجُوعَهُ بِالسَّلَامَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . «وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ حِينَ قُتِلَ عَلِيٌّ: لَقَدْ فَارَقَكُمْ رَجُلٌ مَا سَبَقَهُ الْأَوَّلُونَ بِعِلْمِهِ وَلَا أَدْرَكَهُ الْآخِرُونَ. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُهُ بِالسَّرِيَّةِ وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ شِمَالِهِ، وَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُفْتَحَ عَلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6100 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُحِبُّ عَلِيًّا مُنَافِقٌ وَلَا يُبْغِضُهُ مُؤْمِنٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، غَرِيبٌ إِسْنَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6100 - (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُحِبُّ عَلِيًّا مُنَافِقٌ وَلَا يُبْغِضُهُ مُؤْمِنٌ» ") . أَيْ: كَامِلٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) وَقَدْ سَبَقَ مَا يُؤَيِّدُهُ.

6101 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ سَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ سَبَّنِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6101 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (" مَنْ سَبَّ عَلِيًّا ") ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ (" فَقَدْ سَبَّنِي ") أَوْ مَنْ شَتَمَ عَلِيًّا فَكَأَنَّهُ شَتَمَنِي، فَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ سَبُّ عَلِيٍّ كُفْرًا، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ: مَنْ سَبَّ الْأَنْبِيَاءَ قُتِلَ، وَمَنْ سَبَّ أَصْحَابِي جُلِدَ، وَفِي الرِّيَاضِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَكَانَ مِنْ

أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ فَجَافَانِي فِي سَفَرِي، فَوَجَدْتُ فِي نَفْسِي عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَظَهَرَتْ شِكَايَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآنِي أَمَدَّ بِي عَيْنَيْهِ يَقُولُ: حَدَّدَ إِلَيَّ النَّظَرَ حَتَّى إِذَا جَلَسْتُ قَالَ: يَا عَمْرُو، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَيْتَنِي. قُلْتُ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أُؤْذِيَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " «بَلَى مَنْ آذَى عَلِيًّا فَقَدَ آذَانِي» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: " «أَنْتَ سَيِّدٌ فِي الدُّنْيَا سَيِّدٌ فِي الْآخِرَةِ مَنْ أَحَبَّكَ فَقَدْ أَحَبَّنِي وَحَبِيبُكَ حَبِيبِي وَحَبِيبِي حَبِيبُ اللَّهِ، وَعَدُوُّكَ عَدُوِّي وَعَدُوِّي عَدُوُّ اللَّهِ، الْوَيْلُ لِمَنْ أَبْغَضَكَ» ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ سَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ سَبَّنِي وَمَنْ سَبَّنِي فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ، وَمَنْ سَبَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى مِنْخَرِهِ» ". أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَلَالِيُّ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ سَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ سَبَّنِي» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِمَحْضَرٍ مِنْ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَعْرِفُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ؟ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا تَذْكُرْ عَلِيًّا إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّكَ إِنْ تَنْقُصْهُ آذَيْتَ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «اشْتَكَى النَّاسُ عَلِيًّا يَوْمًا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا خَطِيبًا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَشْكُوا عَلِيًّا فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَحْسَنُ فِي ذَاتِ اللَّهِ " أَوْ قَالَ: " فِي سَبِيلِ اللَّهِ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

6102 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِيكَ مَثَلٌ مِنْ عِيسَى، أَبْغَضَتْهُ الْيَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهُ ". ثُمَّ قَالَ: يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يُقَرِّظُنِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ، وَمُبْغِضٌ يَحْمِلُهُ شَنَآنِي عَلَى أَنْ يَبْهَتَنِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6102 - (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي) ، أَيْ: مَخْصُوصًا بِهِ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فِيكَ مَثَلٌ ") ، أَيْ: فِي حَقِّكَ شَبَهٌ (" مِنْ عِيسَى ") ، أَيْ: مِنْ وِجْهَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ لِقَوْمَيْنِ مُتَخَالِفَيْنِ (" أَبْغَضَتْهُ الْيَهُودُ ") ، أَيْ: بُغْضًا مُفْرِطًا (" حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ ") : مِنْ بَهَتَهُ كَمَنَعَهُ قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَيْهَا بِأَنْ نَسَبُوهَا إِلَى الزِّنَا. (" وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى ") ، أَيْ: حُبًّا بَلِيغًا (" «حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهُ» ") أَيْ: مَعَ اخْتِلَافٍ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ (ثُمَّ قَالَ) ، أَيْ: عَلِيٌّ مَوْقُوفًا (يَهْلِكُ فِيَّ) ، أَيْ: يَضِلُّ فِي حَقِّي (رَجُلَانِ) ، أَيْ: أَحَدُهُمَا رَافِضِيٌّ، وَالْآخَرُ خَارِجِيٌّ (مُحِبٌّ مُفْرِطٌ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: مُبَالِغٌ عَنِ الْحَدِّ (يُقَرِّظُنِي) : بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: يَمْدَحُنِي (بِمَا لَيْسَ فِيَّ) ، أَيْ: بِتَفْضِيلِي عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ أَوْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ كَطَائِفَةِ النُّصَيْرِيَّةِ. (وَمُبْغِضٌ) : وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ هُنَا مُفْرِطٌ لِأَنَّ الْبُغْضَ بِأَصْلِهِ مَمْنُوعٌ بِخِلَافِ أَصْلِ الْحُبِّ فَإِنَّهُ مَمْدُوحٌ (يَحْمِلُهُ) ، أَيْ: يَبْعَثُهُ وَيُكْسِبُهُ (شَنَآنِي) : بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي، وَحُكِيَ تَرْكُ الْهَمْزِ أَيْ: عَدَاوَتِي (عَلَى أَنْ يَبْهَتَنِي) . أَيْ: يَتَكَلَّمَ عَلَيَّ بِالْبُهْتَانِ وَيَنْسُبَ إِلَيَّ الزُّورَ وَالْعِصْيَانَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . أَيْ: فِي الْمُسْنَدِ وَعَنْهُ قَالَ: لَيُحِبُّنِي أَقْوَامٌ حَتَّى يَدْخُلُوا النَّارَ فِي حُبِّي، وَيُبْغِضُنِي أَقْوَامٌ حَتَّى يَدْخُلُوا النَّارَ فِي بُغْضِي، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُمَّ الْعَنْ كُلَّ مُبْغِضٍ لَنَا وَكُلَّ مُحِبٍّ لَنَا غَالٍ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ.

6103 - وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ بِغَدِيرِ خُمٍّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقَالَ: " أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالُوا بَلَى، قَالَ: " أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ " فَلَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: هَنِيئًا يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6103 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ) ، أَيْ: فِي مَرْجِعِهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي حَالِ كَمَالِ أَصْحَابِهِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ (بِغَدِيرِ خُمٍّ) : بِضَمِّ خَاءٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ اسْمٌ لِغَيْضَةٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْجُحْفَةِ عِنْدَهَا غَدِيرٌ مَشْهُورٌ يُضَافُ إِلَى الْغَيْضَةِ (أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: (" «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ» ") ، أَيْ: بِجِنْسِهِمْ (" مِنْ أَنْفُسِهِمْ ") ؟ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 6]

( «قَالُوا: بَلَى. قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ» ") ، أَيْ: بِخُصُوصِهِ (" مِنْ نَفْسِهِ ") ، أَيْ: فَضْلًا عَنْ بَقِيَّةِ أَهْلِهِ. ( «قَالُوا: بَلَى قَالَ: " اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» ") : وَفِي رِوَايَةٍ: " «وَأَحِبَّ مَنْ أَحَبَّهُ، وَأَبْغِضْ مَنْ أَبْغَضَهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَأَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ» ". (فَلَقِيَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ هَنِيئًا) ، أَيْ: طُوبَى لَكَ أَوْ عِشْ هَنِيئًا (يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ) ، أَيْ: صِرْتَ فِي كُلِّ وَقْتٍ (مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ) تَمَسَّكَتِ الشِّيعَةُ أَنَّهُ مِنَ النَّصِّ الْمُصَرِّحِ بِخِلَافَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالُوا: مَعْنَى الْمَوْلَى: الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى جَمْعِهِمْ كَذَلِكَ، هَذَا مِنْ أَقْوَى شُبَهِهِمْ، وَدَفَعَهَا عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الْمَوْلَى بِمَعْنَى الْمَحْبُوبِ وَهُوَ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - سَيِّدُنَا وَحَبِيبُنَا، وَلَهُ مَعَانٍ أُخَرُ تَقَدَّمَتْ، وَمِنْهُ النَّاصِرُ وَأَمْثَالُهُ، فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ نَصًّا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِمَامَ مَعَ وُجُودِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ حِينَ يُوجَدُ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ، فَلَا يُنَافِيهِ تَقْدِيمُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ عَلَيْهِ لِانْعِقَادِ إِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ حَتَّى مِنْ عَلِيٍّ ثُمَّ سُكُوتِهِ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ إِلَى أَيَّامِ خِلَافَتِهِ قَاضٍ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ بِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ عَلَى خِلَافَتِهِ عَقِبَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ أَنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - صَرَّحَ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ كَوْنِهِ آحَادًا مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ، فَكَيْفَ سَاغَ لِلشِّيعَةِ أَنْ يَخَالُوا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنِ اشْتِرَاطِ التَّوَاتُرِ فِي أَحَادِيثِ الْإِمَامَةِ؟ مَا هَذَا إِلَّا تَنَاقُضٌ صَرِيحٌ وَتَعَارُضٌ قَبِيحٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) ، أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ، وَأَقَلُّ مَرْتَبَتِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا فَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ قَدَحَ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَبْعَدَ مَنْ رَدَّهُ بِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ بِالْيَمَنِ لِثُبُوتِ رُجُوعِهِ مِنْهَا وَإِدْرَاكِهِ الْحَجَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّ سَبَبَ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّهُ وَهِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ وُصُولِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى غَدِيرِ خُمٍّ، ثُمَّ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّ زِيَادَةَ: اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ مَوْضُوعَةٌ مَرْدُودَةٌ، فَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ صَحَّحَ الذَّهَبِيُّ كَثِيرًا مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الرِّيَاضِ عَنْ رَبَاحِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جَاءَ رَهْطٌ إِلَى عَلِيٍّ بِالرَّحْبَةِ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَوْلَانَا، فَقَالَ كَيْفَ أَكُونُ مَوْلَاكُمْ وَأَنْتُمْ عَرَبٌ؟ قَالُوا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: " «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» " قَالَ رَبَاحُ بْنُ الْحَارِثِ: فَلَمَّا مَضَوْا تَبِعْتُهُمْ فَسَأَلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ؟ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. «وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ عَلِيٍّ الْيَمَنَ، فَرَأَيْتُ مِنْهُ جَفْوَةً، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرْتُ عَلِيًّا فَتَنَقَّصْتُهُ، فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَغَيَّرُ فَقَالَ: " يَا بُرَيْدَةُ، أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ " قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

6104 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَاطِمَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهَا صَغِيرَةٌ " ثُمَّ خَطَبَهَا عَلِيٌّ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6104 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَاطِمَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهَا صَغِيرَةٌ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ فَسَكَتَ وَلَعَلَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَرَّةٍ أُخْرَى ( «ثُمَّ خَطَبَهَا عَلِيٌّ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ» ) . يُوهِمُ أَنَّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَةً عِنْدَ خِطْبَتِهَا، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ حِينَ كَبِرَتْ وَدَخَلَتْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ خَطَبَهَا عَلِيٌّ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا لِكِبَرِ سِنِّهِمَا وَزَوَّجَهَا مِنْ عَلِيٍّ لِمُنَاسَبَةِ سِنِّهِ لَهَا، أَوْ لِوَحْيٍ نَزَلَ بِتَزْوِيجِهَا لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الرِّيَاضِ أَنَّهُ «قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ خَطَبَهَا: لَمْ يَنْزِلِ الْقَضَاءُ بَعْدُ» ، فَأُرْفِعَ الْإِشْكَالُ وَانْدَفَعَ الِاسْتِدْلَالُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو الْخَيْرِ الْقَزْوِينِيُّ الْحَاكِمِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ

مَالِكٍ قَالَ: «خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَنْزِلِ الْقَضَاءُ " ثُمَّ خَطَبَهَا عُمَرُ مَعَ عِدَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كُلُّهُمْ يَقُولُ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَقِيلَ لِعَلِيٍّ: لَوْ خَطَبْتَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ عَسَى أَنْ يُزَوِّجَكَهَا. قَالَ: وَكَيْفَ وَخَطَبَهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ فَلَمْ يُزَوِّجْهَا؟ فَخَطَبَهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَقَدْ أَمَرَنِي رَبِّي بِذَلِكَ ". قَالَ أَنَسٌ: ثُمَّ دَعَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لِي: يَا أَنَسُ اخْرُجْ وَادْعُ لِي أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَبِعِدَّةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، وَكَانَ عَلِيٌّ غَائِبًا فِي حَاجَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودِ بِنِعْمَتِهِ، الْمَعْبُودِ بِقُدْرَتِهِ، الْمُطَاعِ بِسُلْطَانِهِ، الْمَرْهُوبِ مِنْ عَذَابِهِ وَسَطْوَتِهِ، النَّافِذِ أَمْرِهِ فِي سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ وَمَيَّزَهُمْ بِأَحْكَامِهِ وَأَعَزَّهُمْ بِدِينِهِ وَأَكْرَمَهُمْ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ وَعَظْمَتُهُ جَعَلَ الْمُصَاهَرَةَ سَبَبًا لَاحِقًا وَأَمْرًا مُفْتَرَضًا، أَوَشَجَ بِهِ الْأَرْحَامَ وَأَلْزَمَهُ لِلْأَنَامِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] فَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَجْرِي إِلَى قَضَائِهِ وَقَضَاؤُهُ يَجْرِي إِلَى قَدَرِهِ، وَلِكُلِّ قَضَاءٍ قَدَرٌ، وَلِكُلِّ قَدَرٍ أَجَلٌ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ خَدِيجَةَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَاشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ إِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ " ثُمَّ دَعَا بِطَبَقٍ مِنْ بُسْرٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِينَا ثُمَّ قَالَ " انْهَبُوا " فَنَهَبْنَا فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْهَبُ إِذْ دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَكَ فَاطِمَةَ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ إِنْ رَضِيتَ بِذَلِكَ " فَقَالَ: قَدْ رَضِيتُ بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنَسٌ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَكُمَا وَأَسْعَدَ جَدَّكُمَا وَبَارَكَ عَلَيْكُمَا وَأَخْرَجَ مِنْكُمَا كَثِيرًا طَيِّبًا قَالَ أَنَسٌ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَخْرَجَ مِنْهُمَا كَثِيرًا طَيِّبًا» .

6105 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6105 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ) ، أَيِ: الْمَفْتُوحَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ) . وَلِذَا قَالَ: " «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرَكَ» ". قِيلَ: وَلَا يُشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا مَرَّ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَمْرِهِ بِسَدِّ الْخَوْخِ جَمِيعِهَا إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّ ذَاكَ فِيهِ التَّصْرِيحُ أَنَّ أَمْرَهُمْ بِالسَّدِّ كَانَ حَالَ مَرَضِ مَوْتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ أَصَحُّ مِنْ هَذَا وَأَشْهَرُ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . أَيْ مَتْنًا أَوْ إِسْنَادًا أَوْ مَعَانٍ، لَكِنْ قَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالضِّيَاءُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّمَا أُمِرْتُ بِسَدِّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ» " فَفِي الرِّيَاضِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كَانَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْوَابٌ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: فَقَالَ يَوْمًا: " سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ " قَالَ: فَتَكَلَّمَ فِيهِ نَاسٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُمِرْتُ بِسَدِّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ؛ فَقَالَ فِيهِ قَائِلُكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا سَدَدْتُ شَيْئًا وَلَا فَتَحْتُهُ، وَلَكِنْ أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فَاتَّبَعْتُهُ» " وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ثَلَاثَ خِصَالٍ لِأَنْ يَكُونَ فِيَّ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: زَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَتَهُ وَوَلَدَتْ لَهُ وَسَدَّ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ الْكِنَانِيِّ قَالَ: «خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ زَمَنَ الْجَمَلِ، فَلَقِينَا سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَتَرَكَ بَابَ عَلِيٍّ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ قَالَ السَّعْدِيُّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ كَذَّابٌ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ غَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَلَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا أُخْرِجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا يَبْقَى بَابٌ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ» " وَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي عَلِيٍّ أَيْضًا حُمِلَ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى حَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

6106 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَتْ لِي مَنْزِلَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ، آتِيهِ بِأَعْلَى سَحَرٍ فَأَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَإِنْ تَنَحْنَحَ انْصَرَفْتُ إِلَى أَهْلِي، وَإِلَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6106 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَتْ لِي مَنْزِلَةٌ) ، أَيْ: مَرْتَبَةُ قُرْبٍ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ) ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى حَيْثُ عَبَّرَ عَنِ الصَّحَابَةِ بِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ الَّتِي لَا تُحْصَى (آتِيهِ) : بِالْمَدِّ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ أَيْ: أَجِيئُهُ (بِأَعْلَى سَحَرٍ) ، أَيْ: بِأَوَّلِ أَوْقَاتِهِ وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَشَّافُ (فَأَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: سَلَامُ اسْتِئْذَانٍ (فَإِنْ تَنَحْنَحَ) ، أَيْ: مَعَ جَوَابِ السَّلَامِ أَوْ بِدُونِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَلَامَ الِاسْتِئْذَانِ هَلْ لَهُ جَوَابٌ وَاجِبٌ أَوْ لَا. (انْصَرَفْتُ إِلَى أَهْلِي) ، أَيْ: رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِي عِلْمًا بِأَنَّ هُنَاكَ مَانِعًا شَرْعِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا (وَإِلَّا) ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَتَنَحْنَحْ (دَخَلْتُ عَلَيْهِ أَيْ: وَتَشَرَّفْتُ بِالْحُضُورِ لَدَيْهِ وَمُطَالَعَةِ النَّظَرِ إِلَيْهِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

6107 - وَعَنْهُ، قَالَ: «كُنْتُ شَاكِيًا، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ فَأَرِحْنِي، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فَارْفَغْنِي، وَإِنْ كَانَ بَلَاءً فَصَبِّرْنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَيْفَ قُلْتَ؟ " فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَا قَالَ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ عَافِهِ - أَوِ اشْفِهِ - " شَكَّ الرَّاوِي قَالَ: فَمَا اشْتَكَيْتُ وَجَعِي بَعْدُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6107 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ (قَالَ: كُنْتُ شَاكِيًا) ، أَيْ: مَرِيضًا (فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: ذَاهِبًا أَوْ عَائِدًا (وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَجَلِي) ، أَيْ: انْتِهَاءُ عُمْرِي (قَدْ حَضَرَ) ، أَيْ: وَقْتُهُ (فَأَرِحْنِي) ، أَيْ: بِالْمَوْتِ مِنَ الْإِرَاحَةِ وَهِيَ إِعْطَاءُ الرَّاحَةِ بِنَوْعِ إِزَاحَةٍ لِلْبَلِيَّةِ (وَإِنْ كَانَ) ، أَيْ: (أَجَلِي مُتَأَخِّرًا فَارْفَغْنِي) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: وَسِّعْ لِي فِي الْمَعِيشَةِ بِإِعْطَاءِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ أَيْ: أَوْسَعَ وَعَيْشٌ رَافِغٌ أَيْ: وَاسِعٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ ارْفَغْنِي مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الرَّفْغُ السَّعَةُ وَالْخِصْبُ، وَزَادَ فِي الصِّحَاحِ يُقَالُ: رَفَغَ عَيْشُهُ رَفَاغَةً أَيِ: اتَّسَعَ فَهُوَ عَيْشٌ رَافِغٌ وَرَفِيغٌ أَيْ: وَاسِعٌ طَيِّبٌ، وَتَرَفَّغَ الرَّجُلُ تَوَسَّعَ فِي رَفَاغَتِهِ مِنَ الْعَيْشِ. قَالَ مَيْرَكُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَفَغَ لَازِمٌ فَقَوْلُ الطِّيبِيُّ فِي الْحَدِيثِ أَيْ: وَسِّعْ لِي عَيْشِي لَا يَخْلُو عَنْ تَأْوِيلٍ. قُلْتُ يَعْنِي بِهِ الْحَذْفَ وَالْإِيصَالَ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي صُحِّحَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا: فَارْفَعْنِي بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الرَّفْعِ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالْمَقَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ. قُلْتُ: إِذَا وَقَعَ حَقُّ التَّأَمُّلِ فِي الْمَقَامِ يَظْهَرُ أَنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَرَامِ، لِأَنَّ الرَّفْعَ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنَى الْقَبْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] نَعَمْ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَيُقَالُ التَّقْدِيرُ فَارْفَعْ أَيِ: الْمَرَضَ عَنِّي (وَإِنْ كَانَ) : عَطْفٌ عَلَى إِنْ كَانَ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ (بَلَاءً) ، أَيْ: مِمَّا قَدَّرْتَ لَهُ قَضَاءً (فَصَبِّرْنِي) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: أَعْطِنِي الصَّبْرَ عَلَيْهِ وَلَا تَجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الْجَزَعِ لَدَيْهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ قُلْتَ فَأَعَادَ) ، أَيْ: عَلِيٌّ (عَلَيْهِ مَا قَالَ) ، أَيْ: أَوَّلًا (فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ) ، أَيْ: لِيَتَنَبَّهَ عَنْ غَفْلَةِ أَمْرِهِ، وَيَنْتَهِيَ عَنْ شِكَايَةِ حَالِهِ وَتَتَّصِلَ إِلَيْهِ بَرَكَةُ قَدَمِهِ وَلِيَحْصُلَ لَهُ كَمَالُ مُتَابَعَتِهِ فِي أَثَرِهِ (وَقَالَ: " اللَّهُمَّ عَافِهِ ": بَهَاءِ الضَّمِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَاءِ السَّكْتِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: (أَوِ اشْفِهِ) . (شَكَّ الرَّاوِي) : هَذَا كَلَامُ أَحَدِ الرُّوَاةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا وَنَحْوَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فِي مَرَضِهِ: اللَّهُمَّ عَافِنِي أَوِ اشْفِنِي مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ. (قَالَ) ، أَيْ: عَلِيٌّ (فَمَا اشْتَكَيْتُ وَجَعِي) ، أَيْ: هَذَاكَ (بَعْدُ) . أَيْ: بَعْدَ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقُرَشِيُّ، يُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ وَأَبَا تُرَابٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سِنِّهِ يَوْمَئِذٍ فَقِيلَ: كَانَ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانِي سِنِينَ، وَقِيلَ عَشْرُ سِنِينَ، شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا غَيْرَ تَبُوكَ، فَإِنَّهُ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ وَفِيهَا قَالَ لَهُ: " «أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» ". كَانَ آدَمَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ عَظِيمَ الْعَيْنَيْنِ أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ مِنَ الطُّولِ ذَا بَطْنٍ، كَثِيرَ الشَّعْرِ عَرِيضَ اللِّحْيَةِ أَصْلَعَ أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، اسْتُخْلِفَ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَضَرَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ الْمُرَادِيُّ بِالْكُوفَةِ صَبِيحَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ ضَرْبَتِهِ، وَغَسَّلَهُ ابْنَاهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَسَنُ وَدُفِنَ سَحَرًا، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ، وَقِيلَ سَبْعُونَ وَقِيلَ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، رَوَى عَنْهُ بَنُوهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَمُحَمَّدٌ وَخَلَائِقُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى مَا سَبَقَ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ أَنْ يَذْكُرَ هُنَا بَابًا فِي مَنَاقِبِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَعَلَّهُ اكْتَفَى بِمَا يَذْكُرُونَ فِي ضِمْنِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي حَقِّ الْأَرْبَعَةِ بِخُصُوصِهِمْ فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّانِي.

[باب مناقب العشرة رضي الله عنهم]

[بَابُ مَنَاقِبِ الْعَشَرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6108 - عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [9] بَابُ مَنَاقِبِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَرَادَ بِذِكْرِهِمْ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، أَوْ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَحَادِيثَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي النِّقَابَةِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6108 - (عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ) ، أَيْ: قُرْبَ مَوْتِهِ يَوْمَ الشُّورَى (مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ) ، أَيْ: أَمْرِ الْخِلَافَةِ (مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ) : وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ (الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ) . أَيْ: فِي كَمَالِ الرِّضَا بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ بِلَا شُبْهَةٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِالرِّضَا الرِّضَا الْمَخْصُوصُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْخِلَافَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَّلَ الْأَحَقِّيَّةَ بِقَوْلِهِ: وَرَسُولُ اللَّهِ عَنْهُمْ رَاضٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ رَاضِيًا عَنِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ، فَيُحْمَلُ رِضَاهُ عَنْهُمْ عَلَى الزِّيَادَةِ لِكَوْنِهِمْ مِنَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ، وَكُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ. (فَسَمَّى عَلِيًّا) ، أَيْ: فَعَدَّهُ (وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ) . أَيْ: فَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَسَيَأْتِي تَرْجَمَةُ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ ذِكْرِ كُلٍّ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اقْتِصَارَ عُمَرَ عَلَى السِّتَّةِ مِنَ الْعَشَرَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُمَرَ، فَلَمْ يُسَمِّهِ عُمَرُ فِيهِمْ مُبَالَغَةً فِي التَّبْرِيءِ، وَقَدْ صَرَّحَ مِنْ رِوَايَةِ الْمَدَائِنِيِّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ عُمَرَ عَدَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ فِيمَنْ مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي الرِّيَاضِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَخْلِفْ. قَالَ: مَا أَرَى أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ: وَيَشْهَدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ، فَإِنْ أَصَابَ الْأَمْرُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَفُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ وَرَجَعُوا اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى

عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ، فَخَلَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِلْآخَرَيْنِ: أَيُّكُمَا يَتَبَرَّأُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ إِلَى أَفْضَلِهِمْ فِي نَفْسِهِ، وَلَيَحْرِصَنَّ عَلَى صَلَاحِ الْأُمَّةِ. قَالَ: فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ، وَاللَّهُ عَلَيَّ أَلَّا آلُوَ عَلَى أَفْضَلِكُمْ. قَالَا: نَعَمْ، فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقَالَ: إِنَّ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ وَالْإِسْلَامِ وَالْقَرَابَةِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عَلَيْكَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، ثُمَّ خَلَا بِعُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ لِعُثْمَانَ: ارْفَعْ يَدَكَ فَبَايَعَهُ ثُمَّ بَايَعَهُ عَلِيٌّ، ثُمَّ وَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ مَنَاهِجِ أَهْلِ الْإِصَابَةِ فِي مَحَبَّةِ الصَّحَابَةِ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا قَالَ لِعَلِيٍّ وَعُثْمَانَ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ؟ قَالَا: نَعَمْ. قَالَ لِعَلِيٍّ: أُبَايِعُكَ عَلَى سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاجْتِهَادِ رَأْيِي، فَخَافَ أَنْ يَتَرَخَّصَ مِنَ الْمُبَاحِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ مَنْ أَلِفَ ذَلِكَ التَّشَدُّدَ مِنْ سِيرَةِ الشَّيْخَيْنِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَقَالَ: نَعَمْ، فَبَايَعَهُ فَسَارَ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُدَّةً، ثُمَّ تَرَخَّصَ فِي مُبَاحَاتٍ، وَلَمْ يَتَحَمَّلُوهَا حَتَّى أَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الْخَيْرِ الْقَزْوِينِيُّ الْحَاكِمِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كُلَّمَا دَعَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الشُّورَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ، وَقَالَ: إِنَّكَ لَهَا أَهْلٌ فَإِنْ أَخْطَأْتُكَ فَمَنْ؟ يَقُولُ: إِنْ أَخْطَأْتَنِي فَعُثْمَانُ اهـ. وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْتِيبِ الْأَرْبَعَةِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَشَرَّفَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَقَدْ أَجَابَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعَبَّاسَ مَعَ جَلَالَتِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْزِلَتِهِ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي الشُّورَى؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لَمَّا جَعَلَهَا فِي أَهْلِ السَّبْقِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْبَدْرِيِّينَ، وَالْعَبَّاسُ لَمْ يَكُنْ مُهَاجِرًا وَلَا سَابِقًا وَلَا بَدْرِيًّا، وَسَيَأْتِي أَنَّ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَسَعِيدًا فِي حُكْمِ أَهْلِ بَدْرٍ حَيْثُ أُعْطِيَ لَهُمْ مِنْ سَهْمِهَا وَأَجْرِهَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَةَ تَثْبُتُ إِمَّا بِعَقْدِهَا مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ لِمَنْ عُقِدَتْ لَهُ مِنْ أَهْلِهَا كَأَبِي بَكْرٍ وَإِمَّا بِنَصٍّ مِنَ الْإِمَامِ عَلَى اسْتِخْلَافِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا كَعُمَرَ، وَيَجُوزُ نَصْبُ الْمَفْضُولِ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى إِمَامَةِ بَعْضٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ وُجُودِ أَفْضَلَ مِنْهُ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ الْخِلَافَةَ بَيْنَ سِتَّةٍ مِنْهُمْ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَهُمَا أَفْضَلُ زَمَانِهِمَا بَعْدَ عُمَرَ، فَلَوْ تَعَيَّنَ الْأَفْضَلُ لَعَيَّنَ عُمَرُ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيًّا، فَدَلَّ عَدَمُ تَعْيِينِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ نَصْبُ غَيْرِهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا، إِذًا غَيْرُ الْأَفْضَلِ قَدْ يَكُونُ أَقْدَرَ مِنْهُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الدِّينِ، وَأَعْرَفَ بِتَدْبِيرِ الْمُلْكِ، وَأَوْفَقَ لِانْتِظَامِ حَالِ الرَّعِيَّةِ، وَأَوْثَقَ فِي انْدِفَاعِ الْفِتْنَةِ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعِصْمَةِ فِي الْإِمَامِ وَكَوْنُهُ هَاشِمِيًّا وَظُهُورُ مُعْجِزَةٍ عَلَى يَدَيْهِ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ فَمِنْ خُرَافَاتِ الشِّيعَةِ وَجَهَالَاتِهِمْ، وَتَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لَهُمْ عَلَى ضَلَالَاتِهِمْ مِنْ بُطْلَانِ خِلَافَةِ غَيْرِ عَلَيٍّ مَعَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ.

6109 - وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6109 - (وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: بَجَلِيٌّ، أَدْرَكَ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُبَايِعَهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ تُوُفِّيَ، يُعَدُّ فِي تَابِعِي الْكُوفَةِ، رَوَى عَنِ الْعَشَرَةِ إِلَّا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ سِوَاهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّابِعِينَ مَنْ رَوَى عَنْ تِسْعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَّا هُوَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، شَهِدَ النَّهْرَوَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَطَالَ عُمْرُهُ حَتَّى جَاوَزَ الْمِائَةَ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ. (قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ فَعْلَاءُ مِنَ الشَّلَلِ وَهُوَ نَقْصٌ فِي الْكَفِّ وَبُطْلَانُ الْعَمَلِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْقَطْعُ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ (وَقَى) : اسْتِئْنَافُ بَيَانِ عِلَّةٍ (بِهَا) ، أَيْ: حَفِظَ بِهَا (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ) . أَيْ: جَعَلَ يَدَهُ وِقَايَةً لَهُ يَوْمَئِذٍ فَحَصَلَ لَهَا مَا حَصَلَ بِسَبَبِهِ مِنْ طَعْنَةٍ وَقَعَتْ عَلَيْهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيَّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا غَيْرَ بَدْرٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَعَثَهُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ يَتَعَرَّفَانِ خَبَرَ الْعِيرِ الَّتِي كَانَتْ لِقُرَيْشٍ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَعَادَا يَوْمَ اللِّقَاءِ بِبَدْرٍ، وَجُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ جِرَاحَةً قِيلَ: كَانَتْ فِيهِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ، وَكَانَ آدَمَ كَثِيرَ الشَّعْرِ حَسَنَ الْوَجْهِ، قُتِلَ فِي وَقْعَةِ يَوْمِ الْجَمَلِ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَصْرَةِ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً.

6110 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " يَوْمَ الْأَحْزَابِ. قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6110 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ يَأْتِينِي ") : عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ مَحْذُوفَةُ الْجَوَابِ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَجِيئُنِي (بِخَبَرِ الْقَوْمِ) ؟ أَيْ: قَوْمِ الْكُفَّارِ (يَوْمَ الْأَحْزَابِ) : وَهُوَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ (قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا ") ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا أَيْ: نَاصِرًا مُخْلِصًا (" وَحَوَارِيَّ ") : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَفِي نُسْخَةٍ وَحَوَارِيِّي (" الزُّبَيْرُ ") . وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ضَبَطَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَضَبَطَ أَكْثَرُهُمْ بِكَسْرِهَا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَخِيرَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ يَاءُ الْإِضَافَةِ مَفْتُوحَةً عَلَى وَفْقِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} [الأعراف: 196] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَاءُ الْإِضَافَةِ سَاكِنَةً تُحْذَفُ وَصْلًا وَتَثْبُتُ وَقْفًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ فَقَطْ كَمَا رُوِيَ عَنِ السُّوسِيِّ فِي " أَنَّ وَلِيِّ اللَّهُ " بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ، أَوِ الْمَكْسُورَةِ بِلَا يَاءِ الْإِضَافَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَرْسُومًا بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ كَمَا وَجَدْنَاهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَمِنْهَا نُسْخَةُ الْجَزَرِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ نَقْلِ النَّوَوِيِّ، وَالْمُوَافِقُ لِلرَّسْمِ الْقُرْآنِيِّ، ثُمَّ تَوْجِيهُهُ الْمُشَدَّدَةَ بِلَا يَاءٍ بَعْدَهَا هُوَ أَنَّهُ جَاءَ الْحَوَارِيُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ. وَقَدْ قُرِئَ: " قَالَ الْحَوَارِيُونَ " بِالتَّخْفِيفِ شَاذًّا، فَالثَّانِيَةُ يَاءُ إِضَافَةٍ وَهِيَ قَدْ تَكُونُ مَفْتُوحَةً، وَقَدْ تَكُونُ سَاكِنَةً وَتُكْسَرُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، هَذَا وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّاصِرُ وَحَوَارِيُّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْصَارُهُ، سُمُّوا بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْسِلُونَ الثِّيَابَ فَيُحَوِّرُونَهَا أَيْ: يُبَيِّضُونَهَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ، وَأُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، فَعَذَّبَهُ عَمُّهُ بِالدُّخَانِ لِيَتْرُكَ الْإِسْلَامَ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَّ السَّيْفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، كَانَ أَبْيَضَ طَوِيلًا يَمِيلُ إِلَى الْخِفَّةِ فِي اللَّحْمِ، قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ بِسَفَوَانَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْفَاءِ مِنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِوَادِي السِّبَاعِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِهَا، وَرَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ وَغَيْرُهُمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَلِيٍّ. وَفِي الرِّيَاضِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ بِزِيَادَةٍ، وَلَفْظُهُ: «نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمُ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِزِيَادَةٍ وَلَفْظُهُ «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ حَوَارِيَّ وَابْنُ عَمَّتِي» .

6111 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ؟ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ يَأْتِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ؟ فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَوَيْهِ فَقَالَ: " فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6111 - (وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ يَأْتِي بَنِي قُرَيْظَةَ ") ، أَيْ: مَنْ يَذْهَبُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ سُكَّانِ حَوَالِي الْمَدِينَةِ (" فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ "؟ فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَوَيْهِ) ، أَيْ: فِي الْفِدَاءِ (فَقَالَ: " فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ") بِفَتْحِ الْفَاءِ وَقَدْ يُكْسَرُ، وَفِي هَذِهِ التَّفْدِيَةِ تَعْظِيمٌ لِقَدْرِهِ وَاعْتِدَادٌ بِعَمَلِهِ وَاعْتِبَارٌ بِأَمْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُفَدِّي إِلَّا مَنْ يُعَظِّمُهُ فَيَبْذُلُ نَفْسَهُ أَوْ أَعَزَّ أَهْلِهِ لَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فِي الْحَدِيثِ فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا؛ إِطْلَاقُ هَذَا اللَّفْظِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفْدَى مِنَ الْمَكَارِهِ مَنْ يَلْحَقُهُ، فَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِدَاءِ التَّعْظِيمَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ لِمَنْ يَنْقُلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِغَيْرِهِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْهُ قَالَ: جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُ كَانَ لِسَعْدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَعَهُمَا لَهُمَا، وَاشْتُهِرَ فِي سَعْدٍ لِكَثْرَةِ تَرْدِيدِ الْقَوْلِ لَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَوَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي أُحُدٍ وَفِي قُرَيْظَةَ. وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَوْصَى الزُّبَيْرُ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ صَبِيحَةَ الْجَمَلِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَا مِنْ عُضْوٍ إِلَّا وَقَدْ جُرِحَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى الْوَجْهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُحَدِّثُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَمْ أُفَارِقْهُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

6112 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: " يَا سَعْدُ، ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6112 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ) ، أَيْ: فِي الْفِدَاءِ (لِأَحَدٍ) ، أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ (إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: " يَا سَعْدُ، ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ") : قِيلَ. الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ تَقْيِيدَهُ بِيَوْمِ أُحُدٍ اهـ. وَالظَّاهِرُ الْإِطْلَاقُ الْمُقَيَّدُ بِنَفْيِ السَّمَاعِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى تَفْدِيَةِ الزُّبَيْرِ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُكَنَّى أَبَا إِسْحَاقَ، وَاسْمُ أَبِي وَقَّاصٍ مَالِكُ بْنُ وُهَيْبٍ الزُّهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَالَ: كُنْتُ ثَالِثَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ مَشْهُورًا بِذَلِكَ تُخَافُ دَعْوَتُهُ وَتُرْجَى لِاشْتِهَارِ إِجَابَتِهَا عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِ: «اللَّهُمَّ سَدِّدْ سَهْمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ» " وَجَمَعَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلزُّبَيْرِ أَبَوَيْهِ فَقَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: " فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي " وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا، وَكَانَ آدَمَ أَشْعَرَ الْجَسَدِ مَاتَ فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ الرِّجَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَالِي الْمَدِينَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ آخِرُ الْعَشَرَةِ مَوْتًا، وَوَلَّاهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ الْكُوفَةَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6113 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6113 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ) : التَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ وَقَوْلُهُ: (رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) صِفَةٌ لَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ " رَمَى " صِفَةُ " أَوَّلُ " أَيْ: أَوَّلُ عَرَبِيٍّ رَمَى، وَاللَّامُ فِي الْعَرَبِ لِلْجِنْسِ الْمَحْمُولِ عَلَى الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَتَمَامُهُ، عَلَى مَا فِي الرِّيَاضِ: «وَلَقَدْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «بَيْنَا سَعْدٌ فِي إِبِلِهِ فَجَاءَ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الرَّاكِبِ، فَقَالَ لَهُ: نَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَتَرَكْتَ بَنِيكَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ، فَضَرَبَ سَعْدٌ صَدْرَهُ وَقَالَ: اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْجَفِيَّ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ؟ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَانَ آخِرُ الْعَشَرَةِ مَوْتًا، وَقَالَ الْفَضَائِلِيُّ: بَلْ كَانَ آخِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَفَاةً.

6114 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْدِمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً فَقَالَ: " لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي " إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلَاحٍ فَقَالَ: " مَنْ هَذَا؟ " قَالَ: أَنَا سَعْدٌ قَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ؟ " قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَامَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6114 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَهِرَ) كَفَرِحَ أَيْ: لَمْ يَنَمْ وَفِي رِوَايَةٍ أَرِقَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْدِمَهُ) ، أَيْ: وَقْتَ قُدُومِهِ (الْمَدِينَةَ لَيْلَةً) : وَفِي رِوَايَةٍ: ذَاتَ لَيْلَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: مَقْدِمَهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لَيْسَ بِظَرْفٍ لِعَمَلِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَنَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ وَهُوَ الْوَقْتُ أَوِ الزَّمَانُ وَلَيْلَةً بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْمُقَدَّرِ أَيْ: سَهِرَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي وَقْتَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ مِنْ بَعْضِ الْغَزَوَاتِ. (فَقَالَ لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا) : وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ أَصْحَابِي (" يَحْرُسُنِي ") . بِضَمِّ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ اللَّيْلَةَ أَيْ: يَحْفَظُنِي بَقِيَّةَ اللَّيْلَةِ لِأَنَامَ مُسْتَرِيحَ الْخَاطِرِ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ (إِذْ سَمِعْنَا) : وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَمِعْنَا (صَوْتَ سِلَاحٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفِي رِوَايَةٍ خَشْخَشَةَ السِّلَاحِ (فَقَالَ: " مَنْ هَذَا " قَالَ: أَنَا سَعْدٌ. قَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ " قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَحْرُسُكَ (فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَامَ) . وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الرِّيَاضِ: أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ.

6115 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6115 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لِكُلِّ أُمَّةٍ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ (أَمِينٌ) ، أَيْ: ثِقَةٌ وَمُعْتَمَدٌ وَمَرَضِيٌّ (" وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ (" أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ") . بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالْأَمَانَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ لِغَلَبَتِهَا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ لِكَوْنِهَا غَالِبَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ صِفَاتِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو حُذَيْفَةَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا تُوُفِّيَ وَخَالِدٌ عَلَى الشَّامِ وَالِيًا، وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَعَزَلَ خَالِدًا، فَكَتَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْكِتَابَ مِنْ خَالِدٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى انْقَضَتِ الْحَرْبُ، وَكَتَبَ خَالِدٌ الْأَمَانَ لِأَهْلِ دِمَشْقَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْأَمِيرُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ. ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ خَالِدٌ بِذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ جَاءَكَ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوِلَايَةِ فَلَمْ تُعْلِمْنِي وَتُصَلِّي خَلْفِي وَالسُّلْطَانُ سُلْطَانُكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ مَا كُنْتُ لِأُعْلِمَكَ حَتَّى تَعْلَمَهُ مِنْ غَيْرِي، وَمَا كُنْتُ لِأَكْسِرَ عَلَيْكَ حَرْبَكَ حَتَّى يَنْقَضِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَقَدْ كُنْتُ أُعْلِمُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا سُلْطَانُ الدُّنْيَا أُرِيدُ، وَلَا لِلدُّنْيَا أَعْمَلُ، وَإِنَّ مَا تَرَى سَيَصِيرُ إِلَى زَوَالٍ وَانْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ أَخَوَانِ وَقُوَّامٌ بِأَمْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَمَا يَضُرُّ الرَّجُلَ أَنْ يَلِيَ عَلَيْهِ أَخُوهُ فِي دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَالِيَ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَاهُمَا إِلَى الْفِتْنَةِ وَأَوْقَعَهُمَا فِي الْحِطَّةِ لِمَا تَعَرَّضَ مِنَ الْهَلَكَةِ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَدَفَعَ أَبُو عُبَيْدَةَ عِنْدَ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِلَى خَالِدٍ، وَتُوُفِّيَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْأُرْدُنِّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ كُورَةٌ بِأَعْلَى الشَّامِ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَمِينًا وَأَمِينِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» وَعَنْ حُذَيْفَةَ: «جَاءَ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْعَثْ مَعَنَا أَمِينَكَ، فَقَالَ: " سَأَبْعَثُ مَعَكُمْ أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ " فَتَشَرَّفَتْ لَهَا النَّاسُ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ» . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: «لَمَّا جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ أَرَادَا أَنْ يُلَاعِنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تُلَاعِنْهُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا وَلَاعَنَّاهُ لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا أَبَدًا. قَالَ: فَأَتَيَاهُ فَقَالَا: لَا نُلَاعِنُكَ، وَلَكِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ؛ فَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سَأَبْعَثُ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ " قَالَ: فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ " فَلَمَّا قَفَّى قَالَ: " هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ، مَكَانَ قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ، وَمِنْ كَلَامِهِ: بَادِرُوا السَّيِّئَاتِ الْقَدِيمَاتِ بِالْحَسَنَاتِ الْحَادِثَاتِ، وَإِلَّا رُبَّ مُبَيِّضٍ لِثِيَابِهِ مُدَنِّسٍ لِدِينِهِ، وَإِلَّا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْفِهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ، أَسْلَمَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَبَتَ مَعَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَنَزَعَ الْحَلْقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ دَخَلَتَا فِي وَجْهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ حَبْقِ الْمِغْفَرِ فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، كَانَ طُوَالًا مَعْرُوقَ الْوَجْهِ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ بِالْأُرْدُنِّ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَدُفِنَ بِبَنْيَانَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، يَلْتَقِي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.

6116 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَسُئِلَتْ: مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَخْلِفًا لَوِ اسْتَخْلَفَهُ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ. فَقَالَ: ثُمَّ مَنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: عُمَرُ. قِيلَ: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6116 - (وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَاسْمُ أَبِي مُلَيْكَةَ زُهَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ الْقُرَشِيُّ الْأَحْوَلُ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ سِوَاهُ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ.

(قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَسُئِلَتْ) ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهَا سُئِلَتْ: (مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَخْلِفًا) ، أَيْ: جَاعِلًا خَلِيفَةً لَهُ (لَوِ اسْتَخْلَفَهُ) ؟ أَيْ: صَرِيحًا عَلَى الْفَرْضِ (قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ. فَقِيلَ: ثُمَّ مَنْ) ؟ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيِ الَّذِي (بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: عُمَرُ. قِيلَ: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ أَبُو عُبَيْدَةَ) . فَفِيهِ أَنَّ اعْتِقَادَ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ كَانَ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6117 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ» . وَزَادَ بَعْضُهُمْ: وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلِيًّا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6117 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى حِرَاءٍ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ مُنْصَرِفًا وَقَدْ لَا يَنْصَرِفُ (هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اهْدَأْ ") : بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ أَيِ: اسْكُنْ (" فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ ") : يُرِيدُ بِهِ الْجِنْسَ ; لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ بَعْدَ الصِّدِّيقِ كُلُّهُمْ شُهَدَاءُ، ثُمَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إِخْبَارُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ، فَقَتْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مَشْهُورٌ، وَقُتِلَ الزُّبَيْرُ بِوَادِي السِّبَاعِ بِقُرْبِ الْبَصْرَةِ مُنْصَرِفًا تَارِكًا لِلْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ طَلْحَةُ اعْتَزَلَ النَّاسَ تَارِكًا لِلْقِتَالِ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ، وَفِيهِ بَيَانُ فَضِيلَةِ هَؤُلَاءِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ التَّمْيِيزِ فِي الْحِجَارَةِ وَجَوَازُ التَّزْكِيَةِ اهـ. وَأَغْرَبَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ حَيْثُ قَالَ فِي كَوْنِ مَنْ صَابَهُ سَهْمٌ مَقْتُولًا ظُلْمًا تَأَمَّلْ. (وَزَادَ بَعْضُهُمْ) ، أَيْ: فِي الْحَدِيثِ قَوْلَهُ: (وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ) ، أَيْ: ذَلِكَ الْبَعْضُ (عَلِيًّا) فَقَوْلُهُ: زَادَ فِيهِ مُسَامَحَةٌ إِذْ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ وَمُبَادَلَةٌ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَنَّ سَعْدًا مَاتَ فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَتَوَجُّهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَكُونَ بِالتَّغْلِيبِ، أَوْ كَمَا قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: كَانَ مَوْتُهُ بِمَرَضٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُورِثُ حُكْمَ الشَّهَادَةِ اهـ. وَمَعَ هَذَا فِيهِ نَوْعُ تَغْلِيبٍ كَمَا لَا يَخْفَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حِرَاءٍ فَتَحَرَّكَ فَقَالَ: " اثْبُتْ حِرَاءُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ " قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ " قَالَ: قِيلَ: فَمَنِ الْعَاشِرُ؟ قَالَ: " أَنَا» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي الرِّيَاضِ: أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى فِرَاشِهِ فَتُوَجَّهُ شَهَادَتُهُ أَنَّهُ شَهِيدٌ حُكْمِيٌّ كَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ حَيْثُ مَاتَا عَلَى فِرَاشِهِمَا أَيْضًا، وَأُدْخِلُوا فِي صِفَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] .

الْفَصْلُ الثَّانِي 6118 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6118 - (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيَّ الْقُرَشِيَّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَبَتَ يَوْمَ أُحُدٍ وَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَتَمَّ مَا فَاتَهُ، كَانَ طَوِيلًا رَقِيقَ الْبَشَرَةِ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِالْحُمْرَةِ ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ أَقْنَى، أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ بِعِشْرِينَ جِرَاحَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَأَصَابَهُ بَعْضُهَا فِي رِجْلِهِ فَعَرَجَ، وُلِدَ بَعْدَ الْفِيلِ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي الرِّيَاضِ: كَانَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِيلَ عَبْدُ الْكَعْبَةِ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْبَارُّ؛ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ» ) . الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ الْمَذْكُورُ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُشْعِرُ إِلَيْهِ ذِكْرُ اسْمِ الرَّاوِي بَيْنَ الْأَسْمَاءِ، وَإِلَّا كَانَ مُقْتَضَى التَّوَاضُعِ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي آخِرِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي تَرْتِيبِ الْبَقِيَّةِ مِنَ الْعَشَرَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

6119 - وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6119 - (وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ -) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالضِّيَاءُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ أَبَا الْأَعْوَرِ الْعَدَوِيَّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ طَلْحَةَ يَطْلُبَانِ خَبَرَ عِيرِ قُرَيْشٍ، وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَهْمٍ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ أُخْتُ عُمَرَ تَحْتَهُ، وَبِسَبَبِهَا كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ، كَانَ آدَمَ طُوَالًا أَشْعُرَ، مَاتَ بِالْعَقِيقِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَلَهُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ حَدِيثًا يَدُلُّ عَلَى مَنَاقِبِهِ مُنْفَرِدًا اكْتِفَاءً بِمَا سَبَقَ عَنْهُ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ، وَفِي الرِّيَاضِ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ابْنِ عَمِّ أَبِيهِ، كَانَ أَبُوهُ زَيْدٌ يَطْلُبُ دِينَ الْحَنِيفِيَّةِ دِينَ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ، وَكَانَ لَا يَذْبَحُ لِلْأَنْصَابِ وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا الدَّمَ، وَخَرَجَ يَطْلُبُ الدِّينَ هُوَ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَتَنَصَّرَ وَرَقَةُ وَأَبَى هُوَ التَّنَصُّرَ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِنَّكَ تَطْلُبُ دِينًا مَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ زَيْدٌ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو يَطْلُبَانِ الدِّينَ حَتَّى مَرَّا بِالشَّامِ، فَأَمَّا وَرَقَةُ فَتَنَصَّرَ، وَأَمَّا زَيْدٌ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الدِّينَ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى الْمَوْصِلَ، فَإِذَا هُوَ بِرَاهِبٍ. قَالَ: مَا تَطْلُبُ؟ قَالَ: الدِّينَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا. فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ سَيَظْهَرُ لِأَرْضِكَ فَأَقْبَلَ وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا، مَهْمَا يُجَشِّمُنِي - أَيْ يُحَمِّلُنِي وَيُكَلِّفُنِي - فَإِنِّي جَاشِمٌ عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ: وَمَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَأْكُلَانِ مِنْ سُفْرَةٍ لَهُمَا، فَدَعَوَاهُ إِلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. قَالَ: فَمَا رُؤِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ يَأْكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ حَتَّى بُعِثَ. قَالَ: فَأَتَاهُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ زَيْدًا كَانَ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ وَبَلَغَكَ؛ اسْتَغْفِرْ لَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَقَالَ: إِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً» أَخْرَجَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَعَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ وَيَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا وَأَنَا أَكْفِيكَ مُؤْنَتَهَا، فَيَأْخُذَهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مُؤْنَتَهَا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] نَزَلَتْ فِي ثَلَاثَةِ فَهُمْ كَانُوا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -: زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَسَلْمَانَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا نَبِيٍّ. أَخْرَجَهُ الْوَاحِدِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ.

6120 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ، مُرْسَلًا وَفِيهِ: " وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 6120 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَرْحَمُ أُمَّتِي ") ، أَيْ: أَكْثَرُهُمْ رَحْمَةً (" بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشُدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ) ، أَيْ: أَقْوَاهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (" عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَفْرَضُهُمْ ") ، أَيْ: أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا بِالْفَرَائِضِ (زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) ، أَيِ: الْأَنْصَارِيُّ كَاتِبُ النَّبِيِّ، وَكَانَ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ أَحَدَ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّةِ الْقَائِمَ بِالْفَرَائِضِ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَكَتَبَهُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَنَقَلَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَلَهُ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً. (" وَأَقْرَؤُهُمْ ") ، أَيْ: أَعْلَمُهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (" أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ") ، أَيِ: الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيَ، وَهُوَ أَحَدُ السِّتَّةِ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَنَّاهُ أَبَا الْمُنْذِرِ، وَعُمَرُ أَبَا الطُّفَيْلِ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ سَيِّدَ الْأَنْصَارِ، وَعُمَرُ سَيِّدَ الْمُؤْمِنِينَ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (" وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ") : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْحَرَامِ وَالْحَلَالِ (" مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ") ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، وَهُوَ أَحَدُ السَّبْعِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْعَقَبَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَبَعَثَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَمُعَلِّمًا، رَوَى عَنْهُ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، وَأَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى الشَّامِ بَعْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَاكَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسٍ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَلَهُ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. (" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ ") ، أَيْ: مُبَالِغٌ فِي الْأَمَانَةِ (" وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ") . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ زُهْدِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي الرِّيَاضِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الشَّامِ تَلَقَّاهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ وَعُظَمَاءُ الْأَرْضِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيْنَ أَخِي؟ قَالُوا: مَنْ؟ قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالُوا: يَأْتِيكَ الْآنَ، فَلَمَّا أَتَاهُ نَزَلَ فَاعْتَنَقَهُ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَلَمْ يَرَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَرَحْلَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا اتَّخَذْتَ مَا اتَّخَذَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا يُبَلِّغُنِي الْمَقِيلَ. أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الصَّفْوَةِ وَالْفَضَائِلِيُّ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَأْتِيكَ الْآنَ: فَجَاءَ عَلَى نَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ بِحَبْلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى مَنْزِلِكَ. قَالَ: فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا قَالَ: أَيْنَ مَتَاعُكَ مَا أَرَى إِلَّا لِبْدًا وَصَحْفَةً وَسَيْفًا وَأَنْتَ أَمِيرٌ؟ أَعِنْدَكَ طَعَامٌ؟ فَقَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى جَوْبَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا كِسْرَاتٍ، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: غَرَّتْنَا الدُّنْيَا كُلَّنَا غَيْرَكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) . (وَرُوِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: الْحَدِيثُ (عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا) ، أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (وَفِيهِ) ، أَيْ: فِي هَذَا الْمَرْوِيِّ (" وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ ") . أَيْ: أَعْلَمُهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ قَالَهُ شَارِحٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الْخُصُومَةِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى الْقَضَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ قَوْلُهُ: أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَقْضَى مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُمَا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِنْ ثَبَتَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ وَاحِدٍ أَقْضَى مِنْ جَمَاعَةٍ كَوْنُهُ أَقْضَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، يَعْنِي لِاحْتِمَالِ التَّسَاوِي مَعَ بَعْضِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ وَاحِدٍ أَقْضَى أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ أَعْلَمَ كَوْنُهُ أَفْضَلَ يَعْنِي لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ أَكْثَرَ فَضِيلَةً كَوْنُهُ أَكْثَرَ مَثُوبَةً، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمَدَارَ عِنْدَنَا عَلَى الظَّاهِرِ، إِذْ لَا نَطَّلِعُ نَحْنُ عَلَى السَّرَائِرِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» وَأَمَّا حَدِيثُ: «مَا فَضَلَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» فَقَدْ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ بِلَفْظِ: «مَا فَضَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا بِكَثْرَةِ صَوْمٍ» ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ مَرْفُوعًا، وَهُوَ عِنْدَ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ قَوْلِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، نَعَمْ لَوْ لُوحِظَ اعْتِبَارُ الْأَسْبَقِيَّةِ فِي أَكْثَرِيَّةِ الثَّوَابِ الْأُخْرَوِيَّةِ مَعَ الْمُشَارَكَةِ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ إِلَى صَوْبِ الصَّوَابِ، فَقَدْ قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبْقِ هُوَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنْ شَارَكَهُ عَلِيٌّ وَخَدِيجَةُ وَزَيْدٌ، إِذْ إِيمَانُ الصَّغِيرِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَوْلَى لَا سِيَّمَا وَهُمْ مِنَ الْأَتْبَاعِ لَيْسَ لَهُ شَأْنٌ عِنْدَ الْأَعْدَاءِ، وَلِهَذَا قَوِيَ الْإِيمَانُ بِحَمْزَةَ وَعَزَّ بِإِسْلَامِ عُمَرَ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ

مُتَعَارِضَةٌ وَالْأَدِلَّةَ مُتَنَاقِضَةٌ، فَالْعِبْرَةُ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَبِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمَعَ هَذَا فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ لَا يَقِينِيَّةٌ خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَ، وَقَدْ صَرَّحَ شَيْخُ الشُّيُوخِ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي عَلَمِ الْهُدَى: فَإِنْ قَبِلْتَ النُّصْحَ فَأَمْسِكْ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْرِهِمْ، وَاجْعَلْ مَحَبَّتَكَ لِلْكُلِّ عَلَى السَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرَجِّحَ مَحَبَّةَ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ، وَأَمْسِكْ عَنِ التَّفْضِيلِ وَالْغُلُوِّ، وَإِنْ خَامَرَ بَاطِنَكَ فَضْلُ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْرَارِكَ، فَلَا يَلْزَمُكَ إِظْهَارُهُ، وَلَا يَلْزَمُكَ أَنْ تُحِبَّ أَحَدَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، أَوْ تَعْتَقِدَ فَضْلَهُ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، بَلْ يَلْزَمُكَ مَحَبَّةُ الْجَمِيعِ وَالِاعْتِرَافُ بِفَضْلِ الْجَمِيعِ، وَيَكْفِيكَ فِي الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّةَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، ثُمَّ تَعْلَمَ أَنَّ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ كَانَا عَلَى الْقِتَالِ وَالْخِصَامِ، وَكَانَ الطَّائِفَتَانِ يَسُبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَمَا حَكَمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِكُفْرِ الْآخَرِينَ، إِنَّمَا كَانَتْ ذُنُوبًا لَهُمْ فَلَا تُكَفِّرْ أَحَدًا بِمَا تَرَى مِنْهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالسَّبِّ، وَاعْتَقِدْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا اجْتَهَدَ فِي الْخِلَافَةِ وَأَصَابَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ إِذْ ذَاكَ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ وَأَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهَا مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى يَنْفَعُنَا بِمَحَبَّتِهِمْ وَيَحْشُرُنَا فِي زُمْرَتِهِمْ.

6121 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ دِرْعَانِ، فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَعَدَ طَلْحَةُ تَحْتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَوْجَبَ طَلْحَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6121 - (وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِرْعَانِ يَوْمَ أُحُدٍ) ، أَيْ: مُبَالَغَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] وَقَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فَإِنَّهَا تَشْمَلُ الدِّرْعَ، وَإِنْ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَقْوَى أَفْرَادِهَا حَيْثُ قَالَ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» (فَنَهَضَ) ، أَيْ: فَقَامَ مُنْتَبِهًا أَوْ مُتَوَجِّهًا (إِلَى الصَّخْرَةِ) ، أَيِ: الَّتِي كَانَتْ هُنَاكَ لِيَسْتَوِيَ عَلَيْهَا، وَيَنْظُرَ إِلَى الْكُفَّارِ وَيُشْرِفَ عَلَى الْأَبْرَارِ وَيَظْهَرَ لِلْفُرَّارِ وَالْكُرَّارِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ عَلَى صَخْرَةٍ (فَلَمْ يَسْتَطِعْ) أَيْ لِثِقَلِ دِرْعَيْهِ (فَقَعَدَ طَلْحَةُ تَحْتَهُ) ، أَيْ: وَجَعَلَ نَفْسَهُ تَحْتَهُ، وَبِهَذَا رَفَعَ قَدْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَبَرَكَ طَلْحَةُ تَحْتَهُ (حَتَّى اسْتَوَى) . أَيِ النَّبِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ فَصَعِدَ (عَلَى الصَّخْرَةِ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَوْجَبَ طَلْحَةُ ") . أَيِ الْجَنَّةَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ بِعَمَلِهِ هَذَا أَوْ بِمَا فَعَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِنَّهُ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَفَدَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَهَا وِقَايَةً لَهُ حَتَّى طُعِنَ بِبَدَنِهِ، وَجُرِحَ جَمِيعُ جَسَدِهِ حَتَّى شُلَّتْ يَدُهُ وَجُرِحَ بِبِضْعٍ وَثَمَانِينَ جِرَاحَةً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَمَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، فَكَسَرَ رُبَاعِيَّتَهُ الْيُمْنَى، وَجَرَحَ شَفَتَهُ السُّفْلَى، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ شَجَّهُ فِي جَبْهَتِهِ، وَأَنَّ ابْنَ قَمِيئَةَ جَرَحَ وَجْنَتَهُ، فَدَخَلَ حَلْقَتَانِ مَنْ حِلَقِ الدِّرْعِ فِي وَجْنَتِهِ، وَوَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْحُفَرِ الَّتِي عَمِلَ عَامِرٌ لِيَقَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَفَعَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى اسْتَوَى قَائِمًا، وَمَصَّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ الدَّمَ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " مَنْ مَسَّ دَمُهُ دَمِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ» أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.

6122 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ". وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6122 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ) : اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ ( «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ» ) ، أَيْ: نَذْرَهُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوْتُ أَيْ مَاتَ وَإِنْ كَانَ حَيًّا (فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: النَّحْبُ النَّذْرُ كَأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ يَصْدُقَ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ فَوَفَّى بِهِ، وَقِيلَ الْمَوْتُ كَأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ تُقَاتِلَ حَتَّى تَمُوتَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: النَّذْرُ وَالنَّحْبُ الْمُدَّةُ وَالْوَقْتُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: قَضَى فُلَانٌ نَحْبَهُ إِذَا مَاتَ، وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] فَعَلَى النَّذْرِ أَيْ نَذْرَهُ فِيمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّدْقِ فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ، وَالنُّصْرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى الْمَوْتِ أَيْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَاهَدُوا اللَّهَ أَنْ يَبْذُلُوا نُفُوسَهُمْ فِي سَبِيلِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ طَلْحَةَ مِمَّنْ وَفَّى بِنَفْسِهِ أَوْ مِمَّنْ ذَاقَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِهِ، إِنْ كَانَ حَيًّا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ

(وَفِي رِوَايَةٍ: " مَنْ سَرَّهُ لَا) ، أَيْ: أَحَبَّهُ وَأَعْجَبَهُ وَأَفْرَحَهُ (" أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) : وَكَانَ طَلْحَةُ قَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وِقَايَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يَقُولُ: عُقِرْتُ يَوْمَئِذٍ فِي سَائِرِ جَسَدِي حَتَّى عُقِرْتُ فِي ذَكَرِي، وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِذَا ذَكَرُوا يَوْمَ أُحُدٍ قَالُوا ذَاكَ يَوْمٌ كَانَ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ. وَأَقُولُ: الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِيمَاءً إِلَى حُصُولِ الشَّهَادَةِ فِي مَآلِهِ الدَّالَّةِ عَلَى حُسْنِ خَاتِمَتِهِ وَكَمَالِهِ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ: قَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَفْصٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ مُغْنِيًا بِهِ التَّعْبِيرُ بِالْحَالِ عَنِ الْمَآلِ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَاهُ جَلِيٌّ مِنْ حَيْثُ فَحْوَاهُ، إِذِ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَيْبُوبَةِ عَنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ كَانَ هَذَا حَالَهُ مِنَ الِانْجِذَابِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ إِحْكَامِ الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ كَمَالِ التَّقْوَى وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْخُرُوجِ مِنَ الِارْتِهَانِ بِنَظَرِ الْخَلْقِ، وَامْتِطَاءِ صَهْوَةِ الْإِخْلَاصِ، وَكَمَالِ الشُّغْلِ بِاللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِتَنَاوُبِ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ وَصِدْقِ الْعَزِيمَةِ فِي الْعُزْلَةِ، وَاغْتِنَامِ الْوِحْدَةِ وَالْفِرَارِ عَنْ مُسَاكَنَةِ الْأُنْسِ بِالْجُلَسَاءِ وَالْإِخْوَانِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَوَافَقَهُ الْحَاكِمُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِلَفْظِ: مَنْ أَحَبَّ بَدَلَ مَنْ سَرَّهُ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ: «طَلْحَةُ شَهِيدٌ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ: طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ. وَفِي الرِّيَاضِ، «عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: " طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ. «وَعَنْ طَلْحَةَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاهِلٍ: سَلْهُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ مَنْ هُوَ، وَكَانُوا لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَى مُسَاءَلَتِهِ يُوَقِّرُونَهُ وَيَهَابُونَهُ، فَسَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنِّي اطَّلَعْتُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ، فَلَمَّا رَآنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ؟ " قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ أَخْرَجَهُ» التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي الرِّيَاضِ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَلَدَهُ، وَهُوَ السَّجَّادُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ عِبَادَتِهِ، وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمَّوْهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّوْهُ أَبَا الْقَاسِمِ، فَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ سَمَّاهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّاهُ أَبَا سُلَيْمَانَ وَقَالَ: (لَا أَجْمَعُ بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِهِ قَتِيلًا فَقَالَ: هَذَا السَّجَّادُ قَتَلَهُ بِرُّهُ بِأَبِيهِ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

6123 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعَتْ أُذُنِي مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ يَقُولُ: " طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ جَارَايَ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6123 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنِي) : بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ (مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: مِنْ فَمِهِ، وَقَوْلُهُ أُذُنِي لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى طَرِيقِ رَأَيْتُ بِعَيْنِي (يَقُولُ) : وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ يَقُولُ ( «طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ جَارَايَ فِي الْجَنَّةِ» ) وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ قُرْبِهِمَا لَهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ.

6124 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَئِذٍ، يَعْنِي: يَوْمَ أُحُدٍ: " اللَّهُمَّ اشْدُدْ رَمْيَتَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 6124 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَئِذٍ - يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ) : هَذَا تَفْسِيرُ مَنْ رَوَى بَعْدَ سَعْدٍ (" اللَّهُمَّ اشْدُدْ ") : بِضَمِّ الدَّالِ الْأُولَى أَيْ قَوِّ (" رَمْيَتَهُ ") بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ رَمْيَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ سَدِّدْ سَهْمَهُ (" وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ ". رَوَاهُ) ، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

6125 - وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ إِذَا دَعَاكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6125 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ سَعْدٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ) أَيِ الدُّعَاءَ (" لِسَعْدٍ ") ، أَيِ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ التِّرْمِذِيِّ (إِذَا دَعَاكَ) أَيْ كُلَّمَا دَعَاكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْحَدِيثَ.

6126 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاهُ وَأُمَّهُ إِلَّا لِسَعْدٍ، قَالَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي " وَقَالَ لَهُ: " ارْمِ أَيُّهَا الْغُلَامُ الْحَزَوَّرُ ".» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6126 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاهُ وَأُمَّهُ) ، أَيْ: فِي التَّفْدِيَةِ وَفِي رِوَايَةٍ: أَبَوَيْهِ (لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدٍ) ، أَيْ: يَوْمَ أُحُدٍ أَوْ بِنَاءً عَلَى سَمَاعِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ (قَالَ لَهُ) ، أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ (يَوْمَ أُحُدٍ: " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ") : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَقَدْ يُكْسَرُ (وَقَالَ لَهُ) ، أَيْ: أَيْضًا (" ارْمِ أَيُّهَا الْغُلَامُ ") ، أَيِ: الشَّابُّ الْقَوِيُّ (" الْحَزَوَّرُ ") . بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَلَدُ الْأَسَدِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ الْبُلُوغَ وَالْجَمْعُ الْحَزَاوِرَةُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَذَا أَصْلُ مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الشَّابُّ؛ لِأَنَّ سَعْدًا جَاوَزَ الْبُلُوغَ يَوْمَئِذٍ اهـ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَارَبَ بُلُوغَ كَمَالِ الرُّجُولِيَّةِ فِي الشَّجَاعَةِ. فَفِي الْقَامُوسِ: الْحَزَوَّرُ كَعَمَلَّسٍ الْغُلَامُ الْقَوِيُّ وَالرَّجُلُ الْقَوِيُّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَلَفْظُهُ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفَدِّي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَلَفْظُهُ: «مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْدَى رَجُلًا غَيْرَ سَعْدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» أَخْرَجَهُ الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ، وَعَنْهُ قَالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَالَ: فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ، فَأَصَبْتُ جَبِينَهُ فَسَقَطَ وَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ» . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ: جَمَعَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: «نَثَلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ: " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي الرِّيَاضِ: إِنَّ سَعْدًا كَانَ مِمَّنْ لَزِمَ بَيْتَهُ فِي الْفِتْنَةِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ لَا يُخْبِرُوهُ مِنْ أَخْبَارِ النَّاسِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى الْإِمَامِ. «وَعَنْ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَهُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ مِنْ مَرَضٍ أَشْفَى فِيهِ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خِفْتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا» ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْوَصِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، وَفِيهِ: «أَنَّ صَدَقَتَكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ، وَأَنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةٌ، وَأَنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكِ صَدَقَةٌ» . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

6127 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: كَانَ سَعْدٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَتْ أُمُّ النَّبِيِّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَذَا خَالِي ". وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": " فَلْيُكْرِمَنَّ " بَدَلَ " فَلْيُرِنِي ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 6127 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقْبَلَ سَعْدٌ) ، أَيْ: إِلَى الْمَجْلِسِ الْأَسْعَدِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا خَالِي ") ، أَيْ: مِنْ قَوْمِ أُمِّي (فَلْيُرِنِي) : بِضَمِّ يَاءٍ وَكَسْرِ رَاءٍ أَيْ فَلْيُبَصِّرْنِي (" امْرُؤٌ ") ، أَيْ: كُلُّ امْرِئٍ بِمَعْنَى شَخْصٍ (" خَالَهُ ") . أَيْ لِيُظْهِرَ، أَيْ لَيْسَ لِأَحَدٍ خَالٌ مِثْلُ خَالِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَقَالَ؟ غَرِيبٌ (وَقَالَ) ، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (وَكَانَ سَعْدٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ) بِضَمِّ الزَّايِ حَيٌّ مِنْ قُرَيْشٍ (وَكَانَتْ أُمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زُهْرَةَ) وَزُهْرَةُ اسْمُ امْرَأَةِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ (فَلِذَلِكَ) ، أَيْ: لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْكَوْنَيْنِ (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا خَالِي، وَفِي الْمَصَابِيحِ " فَلْيُكْرِمَنَّ ") : أَمْرٌ غَائِبٌ مِنَ الْإِكْرَامِ مُؤَكَّدٌ (بَدَلَ " فَلْيُرِنِي ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ تَصْحِيفٌ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ تَحْرِيفٌ، فَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذَا لِمَزِيدِ التَّمْيِيزِ وَكَمَالِ التَّعْيِينِ، فَهُوَ كَالْإِكْرَامِ لَهُ أَيْ أَنَا أُكْرِمُ خَالِي هَذَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَتَّبِعْ كُلٌّ سُنَّتِي، فَلْيُكْرِمَنَّ كُلُّ أَحَدٍ خَالَهُ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْكِتَابِ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالْجَامِعِ تَقْدِيرُهُ: أَنَا أُمَيِّزُ خَالِي كَمَالَ تَمْيِيزٍ وَتَعْيِينٍ لِأُبَاهِيَ بِهِ النَّاسَ، فَلْيُرِنِي كُلُّ امْرِئٍ خَالَهُ مِثْلَ خَالِي وَنَحْوُهُ فِي التَّمْيِيزِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ ... إِذَا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ الْمَجَامِعُ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6128 - عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: «سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْحُبْلَةَ وَوَرَقَ السَّمُرِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي، وَكَانُوا وَشَوْا بِهِ إِلَى عُمَرَ، وَقَالُوا: لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6128 - (عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، سَبَقَ مَعْنَاهُ مَعَ تَحْقِيقِ مَبْنَاهُ وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ (وَرَأَيْتُنَا) ، أَيْ: جَمْعًا مِنَ الصَّحَابَةِ (نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْحُبْلَةَ) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ثَمَرُ السَّمُرِ يُشْبِهُ اللُّوبِيَا - قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ - وَقِيلَ ثَمَرُ الْعِضَاهِ (وَوَرَقُ السَّمُرِ) ، بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، شَجَرٌ مَعْرُوفٌ وَاحِدَتُهَا سَمُرَةٌ، وَبِهَا سُمُّوا كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (وَإِنْ) : مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ (كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ) : وَاللَّامُ لَامُ الْفَارِقَةِ، وَالْمَعْنَى يَخْرُجُ مِنْهُ (كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ) ، أَيْ: مِنَ الْبَعْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ نَجْوَاهُمْ يَخْرُجُ بَعْرًا لِيُبْسِهِ وَعَدَمِ الْغِذَاءِ الْمَأْلُوفِ (مَا لَهُ خِلْطٌ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَا يَخْتَلِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لِجَفَافِهِ وَيُبْسِهِ (ثُمَّ أَصْبَحَتْ) ، أَيْ: صَارَتْ (بَنُو أَسَدٍ) ، أَيْ: قَبِيلَتُهُمْ (تُعَزِّرُنِي) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ تُوَبِّخُنِي (عَلَى الْإِسْلَامِ) أَيْ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا عِمَادُ الْإِسْلَامِ، أَوْ عَلَى عُمْدَةِ شَرَائِعِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدِّبُونِي وَيُعَلِّمُونِي الصَّلَاةَ وَيُعَيِّرُونِي بِأَنِّي لَا أُحْسِنُهَا (لَقَدْ خِبْتُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ خَسِرْتُ (إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ أَيْ إِذَا لَمْ أُحْسِنِ الصَّلَاةَ، وَأَفْتَقِرُ إِلَى تَعْلِيمِ بَنِي أَسَدٍ إِيَّايَ (وَضَلَّ عَمَلِي) أَيْ جَمِيعُ طَاعَاتِي وَمُجَاهَدَاتِي وَمُسَابَقَتِي فِي الْإِسْلَامِ وَصِدْقُ قَدَمِي فِي الدِّينِ (وَكَانُوا) ، أَيْ: بَنُو أَسَدٍ حِينَ وَلَّاهُ عُمَرُ الْعِرَاقَ (وَشَوْا) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ نَمَوْا وَسَعَوْا (بِهِ) ، أَيْ: بِعَيْبِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ (إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيْ بِالرِّسَالَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ (وَقَالُوا: لَا يُحْسِنُ) ، أَيْ: سَعْدٌ (الصَّلَاةَ) ، أَيْ: أَرْكَانَهَا أَوْ شَرَائِطَهَا أَوْ سُنَنَهَا وَمُرَاعَاةَ أَحْوَالِهَا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ التَّعْزِيرُ الْإِعَانَةُ وَالتَّوْقِيرُ وَالنُّصْرَةُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] قَالَ: وَأَصْلُ التَّعْزِيرِ الْمَنْعُ وَالرَّدُّ وَكَانَ مِنْ نُصْرَتِهِ قَدْ رَدَدْتُ عَنْهُ أَعْدَاءَهُ وَمَنَعْتُهُمْ مِنْ أَذَاهُ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلتَّأْدِيبِ، الَّذِي هُوَ دُونَ الْحَدِّ تَعْزِيرٌ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْجَانِيَ أَنْ يُعَاوِدَ الذَّنْبَ، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ سَعْدٍ: أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ أَيْ تُوقِفُنِي عَلَيْهِ وَقِيلَ تُوَبِّخُنِي عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْإِسْلَامِ كَمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] إِيذَانًا بِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا: لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ. قَالَ سَعْدٌ: أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأُخَفِّفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ أَبَا إِسْحَاقَ، قَالَ: فَبَعَثَ رِجَالًا يَسْأَلُونَ عَنْهُ فِي مَسَاجِدِ الْكُوفَةِ، قَالَ: فَلَا يَأْتُونَ مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ الْكُوفَةِ إِلَّا أَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا وَقَالُوا مَعْرُوفًا، حَتَّى أَتَوْا مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ بَنِي عَبْسٍ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَعْدَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لَا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ وَلَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ. قَالَ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ إِذَا سُئِلَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطَّرِيقِ فَيَغْمِزُهُنَّ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَلَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ، ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ ظَنِّي بِكَ أَبَا إِسْحَاقَ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْبَرْقَانِيُّ عَلَى شَرْطِهِ بِنَحْوِهِمَا. وَقَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ الرَّاوِي عَنْ جَابِرٍ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ يَتَعَرَّضُ لِلْإِمَاءِ فِي السِّكَكِ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتَ يَا أَبَا سَعْدَةَ؟ قَالَ: كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، وَعِنْدَهُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَطِلْ عُمْرَهُ ثُمَّ ذَكَرَ مَا بَعْدَهُ.

6129 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَأَيْتُنِي وَأَنَا ثَالِثُ الْإِسْلَامِ، وَمَا أَسْلَمَ أَحَدٌ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثَالِثُ الْإِسْلَامِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6129 - (وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُنِي وَأَنَا ثَالِثُ الْإِسْلَامِ) وَالْآخَرَانِ أَبُو بَكْرٍ وَخَدِيجَةُ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ عَلِيٍّ مُتَأَخِّرٌ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْبُلَغَاءِ أَوْ فِي الْأَجَانِبِ (وَمَا أَسْلَمَ أَحَدٌ) ، أَيْ: مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلِي (إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ لَبِثْتُ (سَبْعَةَ أَيَّامٍ) ، أَيْ: عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ أَسْلَمِ، وَالْمَعْنَى مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: (وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ) . بِضَمِّ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَعْنَى ثُلُثِ الْإِسْلَامِ يَعْنِي أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ حِينَ أَسْلَمَ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِ عَمَّارٍ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ» ، بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ سَعْدٍ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ لِيَخْرُجَ الْأَعْبُدُ الْمَذْكُورُونَ وَعَلَيٌّ، أَوْ لَمْ يَكُنِ اطَّلَعَ عَلَى أُولَئِكَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَأَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَقَالَ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ قَبْلِي وَقَالَ سِتَّةَ أَيَّامٍ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا ثُلُثُ الْإِسْلَامِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْفَضَائِلِيِّ: إِنَّ الِاثْنَيْنِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ.

6130 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ لِنِسَائِهِ: " إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يَهُمُّنِي مِنْ بَعْدِي، وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلَّا الصَّابِرُونَ الصِّدِّيقُونَ " قَالَتْ عَائِشَةُ: يَعْنِي الْمُتَصَدِّقِينَ، ثُمَّ قَالَتْ لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ ابْنُ عَوْفٍ تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَدِيقَةٍ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6130 - (وَعَنْ عَائِشَةَ) : وَفِي الرِّيَاضِ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ لِنِسَائِهِ: " إِنَّ أَمْرَكُنَّ ") ، أَيْ: شَأْنَكُنَّ (" مِمَّا يَهُمُّنِي ") . بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَكَسْرٍ أَيْ مِمَّا يُوقِعُنِي فِي الْهَمِّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا يَهُمُّنِي (" مِنْ بَعْدِي ") ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ وَفَاتِي حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ لَهُنَّ مِيرَاثًا وَهُنَّ قَدْ آثَرْنَ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا حِينَ خُيِّرْنَ (وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ) ، أَيْ: عَلَى بَلَاءِ مُؤْنَتِكُنَّ (إِلَّا الصَّابِرُونَ) ، أَيْ: عَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ مِنِ اخْتِيَارِ الْقِلَّةِ وَإِعْطَاءِ الزِّيَادَةِ (" وَالصِّدِّيقُونَ ") ، أَيْ: كَثِيرُوُ الصِّدْقِ فِي الْبَذْلِ وَالسَّخَاوَةِ (قَالَتْ عَائِشَةُ يَعْنِي) ، أَيْ: يُرِيدُ بِهِمُ (الْمُتَصَدِّقِينَ، ثُمَّ قَالَتْ عَائِشَةُ لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) ، أَيِ: ابْنِ عَوْفٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَبُو سَلَمَةَ رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَعْلَامِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ، وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُمْ، رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَصْلِ الْحَدِيثِ (سَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ) . وَهِيَ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ سُمِّيَتْ لِسَلَاسَةِ انْحِدَارِهَا فِي الْحَلْقِ، وَسُهُولَةِ مَسَاغِهَا الْبَاطِنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا - عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 17 - 18] يُقَالُ: شَرَابٌ سَلْسَلٌ وَسَلْسَالٌ وَسَلْسَبِيلٌ، وَقَدْ زِيدَتِ الْبَاءُ فِي التَّرْكِيبِ حَتَّى صَارَتِ الْكَلِمَةُ خُمَاسِيَّةً، وَدَلَّتْ عَلَى غَايَةِ السَّلَاسَةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى سَلَّ سَبِيلًا إِلَيْهَا، (وَكَانَ ابْنُ عَوْفٍ) : مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي حَالٌ مِنْ عَائِشَةَ وَالْعَامِلُ قَالَتْ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ بَيَانًا لِتَصْدِيقِهِ وَتِبْيَانًا لِقَوْلِهَا يَعْنِي الْمُتَصَدِّقِينَ (قَدْ تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَدِيقَةٍ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا) ، أَيْ: مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي رِوَايَةٍ: وَقَدْ رَصَدَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَالٍ بِيعَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَوْصَى بِحَدِيقَةٍ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِيعَتْ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: تَصَدَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَطْرِ مَالِهِ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ رَاحِلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ عَامَّةُ مَالِهِ مِنَ التِّجَارَةِ، أَخْرَجَهُ فِي الصَّفْوَةِ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: أَوْصَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَخْرَجَهُ الْفَضَائِلِيُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرِضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَصَحَّ فَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ بِيَدِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَهُ عَلَيَّ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَامَ عُثْمَانُ وَذَهَبَ مَعَ النَّاسِ فَقِيلَ لَهُ:

يَا أَبَا عَمْرٍو لَسْتَ غَنِيًّا؟ ! قَالَ: هَذِهِ وَصْلَةٌ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْ مَالٍ حَلَالٍ، فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ، وَكَتَبَ جَرِيدَةً بِتَفْرِيقِ جَمِيعِ الْمَالِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حَتَّى كَتَبَ أَنَّ قَمِيصَهُ الَّذِي عَلَى بَدَنِهِ لِفُلَانٍ وَعِمَامَتَهُ لِفُلَانٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ إِلَّا كَتَبَهُ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَبَطَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَقْرِئْ مِنِّي عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَامَ وَاقْبَلْ مِنْهُ الْجَرِيدَةَ ثُمَّ رُدَّهَا عَلَيْهِ وَقُلْ لَهُ قَدْ قَبِلَ اللَّهُ صَدَقَتَكَ وَهُوَ وَكِيلُ اللَّهِ وَوَكِيلُ رَسُولِهِ، فَلْيَصْنَعْ فِي مَالِهِ مَا شَاءَ وَلِيَتَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ قَبْلَ يَوْمٍ، وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» . أَخْرَجَهُ الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَعْتَقَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الصَّفْوَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تُوُفِّيَ وَكَانَ فِيمَا خَلَّفَهُ ذَهَبٌ قُطِّعَ بِالْفُئُوسِ حَتَّى مَجَلَتْ أَيْدِيِ الرِّجَالِ مِنْهُ، وَتَرَكَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ ثَمَانُونَ أَلْفًا أَخْرَجَهُ فِي الصَّفْوَةِ. وَعَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: صَالَحْنَا امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ مِنْ ثُلُثِ الثُّمُنِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ رُبْعِ الثُّمُنِ أَخْرَجَهُ أَبُو عَمْرٍو. قَالَ الطَّائِيُّ: قُسِّمَ مِيرَاثُهُ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، مَبْلَغُ نَصِيبِ كَلِّ امْرَأَةٍ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ.

6131 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِأَزْوَاجِهِ: " إِنَّ الَّذِي يَحْثُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي هُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6131 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : وَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِأَزْوَاجِهِ " إِنَّ الَّذِي يَحْثُو) ، أَيْ: يَجُودُ وَيَنْثُرُ (" عَلَيْكُنَّ ") ، أَيْ: مَا تُنْفِقْنَ (" بَعْدِي ") ، أَيْ: بَعْدَ مَوْتِي (" هُوَ الصَّادِقُ) ، أَيِ: الصَّادِقُ الْإِيمَانِ (" الْبَارُّ ") بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ صَاحِبُ الْإِحْسَانِ (" اللَّهُمَّ اسْقِ) : بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَقَطْعِهَا (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ) . وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مَا صَدَرَ مِنَ الْحَثْيِ كَأَنَّهُ صَنَعَ الصَّنِيعَةَ فَشَكَرَهُ وَدَعَا لَهُ، وَمِنْ هُنَا دَعَتِ الصِّدِّيقَةُ لَهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ حِينَ تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحَدِيقَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ هُنَا أَيْضًا مِنْ كَلَامِهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.

6132 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ: " لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ " فَاسْتَشْرَفَ لَهَا النَّاسُ، قَالَ: فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ ابْنَ الْجَرَّاحِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6132 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ) ، أَيِ: ابْنِ الْيَمَانِ صَاحِبِ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ) : بِفَتْحِ نُونٍ فَسُكُونِ جِيمٍ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ، فُتِحَ سَنَةَ عَشْرٍ سُمِّي بِنَجْرَانَ بْنِ زَيْدَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَمَوْضِعٌ بِحَوْرَانَ قُرْبَ دِمَشْقَ، وَمَوْضِعُهُ بَيْنَ الْكُوفَةِ. وَوَاسِطَةُ الْكُلُّ مِنَ الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْ) ، أَيْ: أَرْسِلْ (إِلَيْنَا رَجُلًا أَمِينًا) ، أَيْ: لِيَكُونَ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا أَوْ مُعَلِّمًا لَنَا (فَقَالَ: " لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ ") . بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: قَدِمْتُ خَيْرَ مَقْدَمٍ أَيْ: أَمِينًا صَادِقَ الْأَمْنِ وَثَابِتَهُ وَمُسْتَحِقًّا أَنْ يُقَالَ لَهُ الْأَمِينُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَوْكِيدٌ، وَلِذَا أَضَافَهُ نَحْوُ: إِنَّ زَيْدًا لَعَالِمٌ حَقُّ عَالِمٍ وَجِدُّ عَالِمٍ أَيْ عَالِمٌ حَقًّا وَجِدًّا، يَعْنِي عَالِمٌ يُبَالِغُ فِي الْعِلْمِ جِدًّا وَلَا يَتْرُكُ مِنَ الْجِدِّ الْمُسْتَطَاعِ مِنْهُ شَيْئًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] أَيْ جِهَادٌ فِيهِ حَقًّا خَالِصًا لِوَجْهِهِ، فَعُكِسَ وَأُضِيفَ الْحَقُّ إِلَى الْجِهَادِ مُبَالَغَةً. (فَاسْتَشْرَفَ) ، أَيْ: طَمِعَ (لَهَا) ، أَيْ: لِلْإِمَارَةِ وَتَوَقَّعَهَا (النَّاسُ) أَيْ حِرْصًا بِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ صِفَةِ الْأَمَانَةِ لَا عَلَى الْوِلَايَةِ مَنْ حَيْثُ هِيَ (قَالَ) ، أَيْ: حُذَيْفَةُ (فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاجِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6133 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ نُؤَمِّرُ بَعْدَكَ؟ قَالَ: إِنْ تُؤَمِّرُوا أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ أَمِينًا زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عُمَرَ تَجِدُوهُ قَوِيًّا أَمِينًا لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عَلِيًّا - وَلَا أَرَاكُمْ فَاعِلِينَ - تَجِدُوهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا يَأْخُذُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6133 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ نُؤَمِّرُ) : بِضَمِّ نُونٍ وَفَتَحِ هَمْزَةٍ وَكَسْرِ مِيمٍ مُشَدَّدَةٍ فَرَاءٍ أَيْ مَنْ نَجْعَلُهُ أَمِيرًا عَلَيْنَا (بَعْدَكَ) أَيْ بَعْدَ مَوْتِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ بَدَلَ النُّونِ أَيْ مَنْ تَجْعَلُهُ أَمِيرًا عَلَيْنَا بَعْدَكَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (قَالَ: " إِنْ تُؤَمِّرُوا أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ أَمِينًا ") ، أَيْ: دِينًا لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْأَمَانَةِ وَعَلَى وَجْهِ الْعَدَالَةِ (" زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ ") ، فِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيَتِمَّ الْإِخْلَاصُ.

الْمُوجِبُ لِلْخَلَاصِ، وَفِي رِوَايَةٍ تَجِدُوهُ مُسْلِمًا أَمِينًا. وَفِي رِوَايَةٍ: تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ، (" وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عُمَرَ تَجِدُوهُ قَوِيًّا ") ، أَيْ: قَادِرًا عَلَى حَمْلِ ثِقَلِ أَعْبَاءِ الْإِمَارَةِ (" أَمِينًا ") ، أَيْ: لَا تَجِيءُ مِنْهُ الْخِيَانَةُ (" لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ") ، أَيْ لَا يُرَاعِي أَحَدًا فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صُلْبٌ فِي الدِّينِ إِذَا شَرَعَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ لَا يَخَافُ إِنْكَارَ مُنْكِرٍ، وَمَضَى فِيهِ كَالْمِسْمَارِ الْمُحْمَى لَا يَزَعُهُ قَوْلُ قَائِلٍ، وَلَا اعْتِرَاضُ مُعْتَرِضٍ، وَلَا لَوْمَةُ لَائِمٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ جِدُّهُ، وَاللَّوْمَةُ الْمَرَّةُ مِنَ اللَّوْمِ، وَفِيهَا وَفِي التَّنْكِيرِ مُبَالَغَتَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَخَافُ شَيْئًا قَطُّ مِنْ قَوْمٍ مِنْ لَوْمِ أَحَدٍ مِنَ اللُّوَّامِ، وَفِي رِوَايَةٍ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ قَوِيًّا فِي نَفْسِهِ. (" وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عَلِيًّا وَلَا أُرَاكُمْ ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ وَالْحَالُ أَنِّي لَا أَظُنُّكُمْ (" فَاعِلِينَ ") ، أَيِ: التَّأْمِيرَ لَهُ بِلَا خِلَافٍ حَالَ خِلَافَتِهِ (" تَجِدُوهُ هَادِيًا ") ، أَيْ: مُرْشِدًا مُكَمِّلًا (" مَهْدِيًّا ") ، بِفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ أَيْ مُهْتَدِيًا كَامِلًا (" لَأَخَذَ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعْنِي: الْأَمْرُ مُفَوَّضٌ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ لِأَنَّكُمْ أُمَنَاءُ مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَلَا تَجْتَمِعُونَ إِلَّا عَلَى الْحَقِّ الصِّرْفِ، وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ كَالْحَلْقَةِ الْمُفَرَّغَةِ لَا يَدْرِي أَيُّهُمْ أَفْضَلُ فِيمَا يُدْلَى إِلَيْهِ مِمَّا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِمَارَةَ. قِيلَ: وَفِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ إِيمَاءٌ إِلَى تَقَدُّمِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانَ صَرِيحًا لَكِنَّ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا أُرَاكُمْ) إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى عَلَيٍّ ثُمَّ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: وَلَا أُرَاكُمْ فَاعِلِينَ مُتَعَلِّقٌ بِإِمَارَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى لَا أُرَاكُمْ فَاعِلِينَ تَأْمِيرَ عَلِيٍّ مُقَدَّمًا عَلَى كُلِّهِمْ لِمَا عُلِمَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ أَنَّ عُمْرَ عَلِيٍّ أَطْوَلُ مِنْ أَعْمَارِهِمْ، فَلَوْ قُدِّمَ لَفَاتَهُمُ الْخِلَافَةَ مَعَ أَنَّهُ كَتَبَ لَهُمُ الْخِلَافَةَ أَيْضًا، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّكُمْ غَيْرُ فَاعِلِينَ، فَالظَّنُّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: " لَا، إِنِّي إِنِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ فَعَصَيْتُمْ خَلِيفَتِي نَزَلَ الْعَذَابُ ". قَالُوا: أَلَا نَسْتَخْلِفُ أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: " إِنْ تَسْتَخْلِفُوهُ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ " قَالُوا: أَلَا نَسْتَخْلِفُ عُمَرَ؟ قَالَ: " إِنْ تَسْتَخْلِفُوهُ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ قَوِيًّا فِي بَدَنِهِ ". قَالُوا: أَلَا تَسْتَخْلِفُ عَلِيًّا؟ قَالَ: " إِنْ تَسْتَخْلِفُوهُ تَجِدُوهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ» خَرَّجَهُ ابْنُ السَّمَّانِ.

6134 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، زَوَّجَنِي ابْنَتَهُ، وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، وَصَحِبَنِي فِي الْغَارِ، وَأَعْتَقَ بِلَالًا مِنْ مَالِهِ، رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، تَرَكَهُ الْحَقُّ وَمَا لَهُ مِنْ صَدِيقٍ. رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ تَسْتَحْيِيهِ الْمَلَائِكَةُ، رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا، اللَّهُمَّ أَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6134 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ عَلِيٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ ") ، فِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ لِلْأَحْيَاءِ (" زَوَّجَنِي ابْنَتَهُ ") بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ، وَهَذَا تَوَاضُعٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا فَلَهُ صَنِيعٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ تَزَوُّجِهَا (" وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ ") ، أَيْ: عَلَى بَعِيرِهِ وَلَوْ عَلَى قَبُولِ ثَمَنِهِ (" وَصَحِبَنِي فِي الْغَارِ ") ، أَيْ حِينِ هَجَرَنِي الْأَغْيَارُ (" وَأَعْتَقَ بِلَالًا مِنْ مَالِي ") أَيْ وَجَعَلَهُ خَادِمًا لِي فِي مَآلِهِ (" رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ يَقُولُ الْحَقَّ ") ، أَيِ: الصِّرْفَ أَوِ الْقَوْلَ الْحَقَّ (" وَإِنْ كَانَ ") ، أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ الصِّرْفُ أَوِ الْقَوْلُ الْحَقُّ (" مُرًّا ") أَيْ صَعْبًا عَلَى الْخَلْقِ (" تَرَكَهُ الْحَقُّ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (" وَمَا لَهُ مِنْ صَدِيقٍ ") : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ صَيَّرَهُ قَوْلُ الْحَقِّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ خَلَّاهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا صَدِيقَ لَهُ اكْتِفَاءً بِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمَعْنَى مِنْ صَدِيقٍ تَكُونُ صَدَاقَتُهُ لِلْمُرَاعَاةِ وَالْمُدَارَاةِ لَا مُطْلَقًا، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ صَدِيقًا لَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: تَرَكَهُ إِلَخْ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِقَوْلِهِ يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، لِأَنَّ تَمْثِيلَ الْحَقِّ بِالْمَرَارَةِ يُؤْذِنُ بِاسْتِبْشَاعِ النَّاسِ مِنْ سَمَاعِ الْحَقِّ اسْتِبْشَاعَ مَنْ يَذُوقُ الْعَلْقَمَ، فَيَقِلُّ لِذَلِكَ صَدِيقُهُ. وَقَوْلُهُ: (وَمَا لَهُ مِنْ صَدِيقٍ) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ إِذَا جُعِلَ (تَرَكَ) بِمَعْنَى خَلَّى، وَإِذَا ضُمِّنَ مَعْنَى صَيَّرَ كَانَ هَذَا مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَالْوَاوُ فِيهِ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَمَا فِي بَعْضِ الْأَشْعَارِ. (رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا اللَّهُمَّ أَدِرِ الْحَقَّ ") : أَمْرٌ مِنَ الْإِدَارَةِ أَيِ اجْعَلِ الْحَقَّ دَائِرًا وَسَائِرًا (مَعَهُ حَيْثُ دَارَ) ، أَيْ: عَلِيٌّ أَوِ الْحَقُّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

[باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم]

[بَابُ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ]

بَابُ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6135 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ زِيَادَةُ: وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6135 - (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) ، أَيِ: الْمُسَمَّاةُ بِآيَةِ الْمُبَاهَلَةِ {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] : أَوَّلُهَا: نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ (دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا) : فَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ نَفْسِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَرَابَةِ وَالْأُخُوَّةِ (وَفَاطِمَةَ) ، أَيْ: لِأَنَّهَا أَخَصُّ النِّسَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ (وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا) : فَنَزَّلَهُمَا مَنْزِلَةَ ابْنَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ: " «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي» ") . أَيْ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6136 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلَيٌّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الفاتحة: 33 - 31345] » رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6136 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَدَاةً) ، أَيْ: صَبَاحًا وَفِي رِوَايَةٍ: ذَاتَ غَدَاةٍ (وَعَلَيْهِ مِرْطٌ) : بِكَسْرِ مِيمٍ وَسُكُونِ رَاءٍ، كِسَاءٌ يَكُونُ مِنْ خَزٍّ وَصُوفٍ فِيهِ عَلَمٌ (مُرَحَّلٌ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ، ضَرْبٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ تَصَاوِيرِ الرَّحْلِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَرُوِيَ بِجِيمٍ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ صُورَةُ الْمَرَاجِلِ بِمَعْنَى الْقُدُورِ (مِنْ شَعْرٍ) : بِفَتْحِ عَيْنٍ وَيُسَكَّنُ (أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ) ، أَيْ تَحْتَ الْمِرْطِ بِالْأَمْرِ أَوِ الْفِعْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَأَدْخَلَهُ فِيهِ (ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ) ، أَيْ بِإِدْخَالٍ أَوْ بِغَيْرِهِ لِصِغَرِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَأَدْخَلَهُ فِيهِ (ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا) أَيْ فِيهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (ثُمَّ جَاءَ عَلَيٌّ فَأَدْخَلَهُ) ، أَيْ: فِيهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (ثُمَّ قَالَ) ، أَيْ: قَرَأَ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الفاتحة: 33 - 31323] أَيِ الْإِثْمَ وَكُلَّ مَا يُسْتَقْذَرُ مُرُوءَةً (أَهْلَ الْبَيْتِ) نُصِبَ عَلَى النِّدَاءِ أَوِ الْمَدْحِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِقَوْلِهِ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] وَمَلْحُوقٌ بِقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34] فَضَمِيرُ الْجَمِيعِ إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِتَغْلِيبِ ذُكُورِ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ. {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] مِنَ التَّلَوُّثِ بِالْأَرْجَاسِ وَالْأَدْنَاسِ الْمُبْتَلِي بِهَا أَكْثَرَ النَّاسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَعَارَ لِلذَّنْبِ الرِّجْسَ، وَلِلتَّقْوَى الطُّهْرَ، لِأَنَّ غَرَضَ الْمُقْتَرِفِ لِلْمُقَبَّحَاتِ أَنْ يَتَلَوَّثَ بِهَا وَيَتَدَنَّسَ كَمَا يَتَلَوَّثُ بَدَنُهُ بِالْأَرْجَاسِ، وَأَمَّا الْمُحَسِّنَاتُ فَالْغَرَضُ مِنْهَا نَقِيٌّ مَصُونٌ كَالثَّوْبِ الطَّاهِرِ، وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ مَا يُنْفِّرُ أُولِي الْأَلْبَابِ عَمَّا كَرِهَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيمَا رَضِيَهُ لَهُمْ وَأَمَرَهُ بِهِ، وَسَيَأْتِي تَرَاجِمُ الْحَسَنَيْنِ وَأُمِّهِمَا فِي مِحَالِّهَا الْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ وَاثِلَةَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَأَهْلُ بَيْتِي أَحَقُّ. وَفِي الرِّيَاضِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ سَعْدًا أَنْ يَسُبَّ أَبَا تُرَابٍ فَقَالَ: أَمَا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَنْ أَسُبَّهُ لِأَنْ يَكُونَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَهُ، وَخَلَفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: تُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ " وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] " دَعَا رَسُولُ اللَّهِ " عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَقَالَ: " «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي» " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ عَلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ كِسَاءً.

وَقَالَ: " «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَحَامَتِي أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " «أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ» ". وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «بَيَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ يَوْمًا إِذْ قَالَتِ الْخَادِمُ: إِنَّ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ بِالسَّدِّ أَيِ الْبَابِ قَالَتْ فَقَالَ لِي: " قُوْمِي فَتَنَحَّيْ لِي عَنْ أَهْلِ بَيْتِي " قَالَتْ: فَقُمْتُ فَتَنَحَّيْتُ فِي الْبَيْتِ قَرِيبًا فَدَخَلَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَمَعَهُمَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَهُمَا صَبِيَّانِ صَغِيرَانِ، فَأَخَذَ الصَّبِيَّيْنِ فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ فَقَبَّلَهُمَا وَاعْتَنَقَ عَلِيًّا بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَفَاطِمَةَ بِالْأُخْرَى وَقَبَّلَ فَاطِمَةَ وَقَبَّلَ عَلِيًّا، وَأَغْدَفَ أَيْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ خَمِيصَةً سَوْدَاءَ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِلَيْكَ لَا إِلَى النَّارِ أَنَا وَأَهْلُ بَيْتِي " قَالَتْ قُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ -؟ قَالَ: " وَأَنْتِ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ تَكَرَّرَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَالْمَنْعُ وَقَعَ مِنْ دُخُولِهَا مَعَهُمْ فِيمَا جَلَّلَهُمْ بِهِ، وَعَلَيْهَا يُحْمَلُ قَوْلُهَا فِي الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَأَنَا مَعَهُمْ أَيْ: أَدْخُلُ مَعَهُمْ لَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، بَلْ هِيَ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَتْ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: وَأَنَا وَلَمْ تَقُلْ مَعَهُمْ أَيْ أَنَا أَيْضًا إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى النَّارِ. قَالَ: " وَأَنْتِ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى النَّارِ " وَكَذَا لَمَّا قَالَتْ: وَأَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: " وَأَنْتِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ " وَأَثْبَتُّكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لَهَا فِي الدُّخُولِ مَعَهُمْ فِي الْكِسَاءِ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] قَالَ: نَزَلَتْ فِي خَمْسَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ: " الصَّلَاةَ يَا أَهْلِ الْبَيْتِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهَ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] » . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ: (أَنَا وَإِيَّاكِ وَهَذَيْنِ يَعْنِي حَسَنًا وَحُسَيْنًا وَهَذَا الرَّاقِدُ يَعْنِي عَلِيًّا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) » . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قَرَابَتُكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَجَبَتْ عَلَيْنَا مَوَدَّتُهُمْ؟ قَالَ: " عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَابْنَاهُمَا» ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ.

6137 - وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6137 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ) ، أَيِ: ابْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ سِرِّيَّتِهِ وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمَاتَ وَلَهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقِيلَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَمُّهُ الرَّضَاعِيُّ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الضَّادِ أَيْ مَنْ يُكْمِلُ رَضَاعَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحِهِمَا أَيْ: مَوْضِعَ رَضَاعٍ كَامِلٍ (فِي الْجَنَّةِ) . فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ أَنَّ أَرْبَابَ الْكَمَالِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي الْحَالِ عُقَيْبَ الِانْتِقَالِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ؟ هَذَا يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَرْضَعًا بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ رَضَاعًا، وَالْآخِرُ مَضْمُومَةُ الْمِيمِ أَيْ مِنْ يُتِمُّ رَضَاعَهُ. يُقَالُ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ بِلَا هَاءٍ، وَأَرْضَعَتِ الْمُرْضِعَةُ، فَهِيَ مُرْضِعَةٌ إِذَا نِيبَ الِاسْمُ مِنَ الْفِعْلِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَصْوَبُ الرِّوَايَتَيْنِ الْفَتْحُ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَرَادُوا الْفِعْلَ أَلْحَقُوا بِهِ هَاءَ التَّأْنِيثِ، وَإِذَا أَرَادُوا أَنَّهَا ذَاتَ رَضِيعٍ أَسْقَطُوا الْهَاءَ فَقَالُوا: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ بِلَا هَاءٍ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ اللَّهَ يُقِيمُ لَهُ مِنْ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَرَوْحِهَا مَا يَقَعُ مِنْهُ مَوْقِعَ الرَّضَاعِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ رَضِيعًا لَمْ يَسْتَكْمِلْ مُدَّةَ الرَّضَاعِ كَانَ الْمَصْدَرُ فِيهِ أَقْوَمَ وَأَصْوَبَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الرِّوَايَةِ لَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُلْحِقَ بِهِ هَاءَ التَّأْنِيثِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِذَا أُرِيدَ تَصْوِيرُ حَالَةِ الْإِرْضَاعِ وَإِلْقَامِ الْمُرْضِعَةِ الثَّدْيَ فِي فِي الصَّبِيِّ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ، كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا. الْكَشَّافِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قِيلَ مُرْضِعَةٌ دُونَ مُرْضِعٍ؟ قُلْتُ: الْمُرْضِعَةُ الَّتِي فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ مُلْقِمَةً ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ، وَالْمُرْضِعُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وَصْفِهَا بِهِ، فَقِيلَ: مُرْضِعَةٌ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا نَزْعَتَهُ مِنْ فِيهِ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ عَمَّا أَرْضَعَتْ أَيْ: عَنْ إِرْضَاعِهَا، أَوْ عَنِ الَّذِي أَرْضَعَتْهُ، وَهُوَ الطِّفْلُ، وَوَجَّهَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُجِيبًا عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَنَّ لَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْمُرْضِعَةِ فِي الْمُحَافَظَةِ وَالْأُنْسِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَجَازِ غَيْرُ جَائِزٍ مَعَ إِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ، بَلْ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ الْإِرْضَاعِ، عَبَّرَ عَنِ الْمُرْضِعِ بِالْمُرْضِعَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ حَالَةَ إِرْضَاعِهِ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6138 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنَّا - أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهُ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: " مَرْحَبًا بِابْنَتِي " ثُمَّ أَجْلَسَهَا، ثُمَّ سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلْتُهَا عَمَّا سَارَّكِ؟ قَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قُلْتُ: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي مِنَ الْحَقِّ لِمَا أَخْبَرْتِنِي. قَالَتْ: أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ؟ أَمَّا حِينَ سَارَّ بِي فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِي " إِنَّ جِبْرَئِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أَرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي، فَإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ ". فَبَكَيْتُ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي سَارَّنِيَ الثَّانِيَةَ قَالَ: " يَا فَاطِمَةُ " أَلَا تَرْضِينَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؟ ". وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي وَجَعِهِ، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ أَتْبَعُهُ، فَضَحِكْتُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6138 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : نَصْبُهُ عَلَى النِّدَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَاصِ، أَوْ تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرِ الْمُبْهَمِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي وَخَبَرُ كَانَ قَوْلُهَا (عِنْدَهُ) ، أَيْ: جَالِسِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ تُغَادِرْ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ (فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ) : رُوِيَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ اللَّهَ فَطَمَهَا وَذُرِّيَّتَهَا وَمُحِبِّيهَا عَنِ النَّارِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي (مَا تُخْفِي) ، أَيْ: مَا تَمْتَازُ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا تُخْطِئُ (مِشْيَتُهَا) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هَيْئَتُهَا (مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ مِشْيَةِ النَّبِيِّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ شَيْئًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، فَمَا لِلنَّفْيِ، وَالْمَعْنَى مِشْيَتُهَا كَمِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ هَذَا قُرْبَ مَرَضِ مَوْتِهِ. (فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: " مَرْحَبًا؟ بِابْنَتِي " ثُمَّ أَجْلَسَهَا ") ، أَيْ أَمَرَهَا بِالْجُلُوسِ (عِنْدَهُ) ، أَيْ: قَرِيبًا مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ (ثُمَّ سَارَّهَا) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَفِي رِوَايَةٍ فَسَارَّهَا أَيْ كَلَّمَهَا سِرًّا (فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ شِدَّةَ حُزْنِهَا وَكَثْرَةَ بُكَائِهَا وَفِي رِوَايَةٍ جَزَعَهَا (سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هِيَ) ، أَيْ: فَاطِمَةُ (تَضْحَكُ) ، أَيْ: تَتَبَسَّمُ وَتَنْبَسِطُ وَتَنْشَرِحُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ لَهَا: خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ بِالسِّرَارِ، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ (فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: لِطَهَارَةٍ أَوْ صَلَاةٍ (سَأَلْتُهَا عَمَّا سَارَّكِ) ؟ الظَّاهِرُ عَمَّا سَارَّهَا عَلَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، لَكِنَّ التَّقْدِيرَ سَأَلْتُهَا قَائِلَةً عَمَّ سَارَّكِ؟ فَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ سَأَلْتُهَا مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ) : مِنَ الْإِفْشَاءِ أَيْ أُذِيعُ وَأُظْهِرُ (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِرَّهُ) : بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ مَا أَخْفَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إِفْشَاءَهُ لَمَا أَسَرَّهُ (فَلَمَّا تُوُفِّيَ قُلْتُ: عَزَمْتُ) ، أَيْ: أَقْسَمْتُ (عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ) ، أَيْ: مِنْ نِسْبَةِ الْأُمُومِيَّةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الْأُخُوَّةِ أَوِ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ وَالْمَوَدَّةِ السَّابِقَةِ، فَمَا مَوْصُولَةٌ (لَمَّا) : بِفَتْحِ لَامٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ أَيْ أَلَا (أَخْبَرْتِنِي) : وَفِي نُسْخَةٍ بِإِشْبَاعِ التَّاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَمَّا حَدَّثْتِنِي مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي مَا أَطْلُبُ مِنْكِ إِلَّا إِخْبَارَكِ إِيَّايَ بِمَا سَارَّكِ وَنَحْوَهُ: أُنْشِدُكِ بِاللَّهِ أَلَّا فَعَلْتِ. (قَالَتْ: أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ) ؟ أَيْ أُخْبِرُكِ وَتَفْصِيلُهُ هَذَا (أَمَّا حِينَ سَارَّنِي فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ) ، أَيِ: الْمُوجِبِ لِلْحُزْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى (" فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِي: " أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي ") : وَفِي رِوَايَةٍ يُعَارِضُهُ (" الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً ") ، أَيْ يُدَارِسُنِي جَمِيعَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الْمُقَابِلَةِ، وَمِنْهُ عَارَضْتُ الْكِتَابَ بِالْكِتَابِ أَيْ قَابَلْتُهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَعَلَّ سَبَبَ الْمُقَابَلَةِ إِبْقَاءُ الْمُحَافَظَةِ وَلِيَظْهَرَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْمُدَارَسَةِ (وَإِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ (" عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ ") ، أَيْ: هَذِهِ السَّنَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ عَارَضَهُ الْآنَ (" مَرَّتَيْنِ ") ، فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بَعْدَ رَمَضَانَ الْآخِرِ مِنْ عُمْرِهِ (" وَلَا أُرَى ") : بِضَمِّ الْهَمْزِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: وَلَا أَظُنُّ، وَفِي رِوَايَةٍ وَإِنِّي لَا أَرَى (" الْأَجَلَ ") ، أَيِ: انْتِهَاءَهُ (" إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللَّهَ ") ، أَيْ: دُومِي عَلَى التَّقْوَى أَوْ زِيدِي فِيهَا مَا اسْتَطَعْتِ (" وَاصْبِرِي) أَيْ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَفِي الْبَلِيَّةِ لَا سِيَّمَا عَلَى مُفَارَقَتِي (" فَإِنِّي ") : وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّهُ (" نِعْمَ السَّلَفُ ") ، أَيِ: الْفَرْطُ (" أَنَا لَكِ ") ، أَيْ: عَلَى الْخُصُوصِ، وَالْجُمْلَةُ بِتَأْوِيلِ مَقُولٍ فِي حَقِّي خَبَرٌ لِأَنَّ فِي أَنِّي. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنَا مَخْصُوصٌ بِالْمَدْحِ، وَلَكِ بَيَانٌ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا قِيلَ لِمَنْ قِيلَ لَكِ (فَبَكَيْتُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ لِلَّذِي رَأَيْتُ (فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي) ، أَيْ: قِلَّةَ صَبْرِي (سَارَّنِيَ الثَّانِيَةَ. قَالَ) : وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ (" يَا فَاطِمَةُ أَلَا تَرْضِينَ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: أَمَا تَرْضِينَ (" أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ") ، أَيْ: جَمِيعِهَا أَوْ مَخْصُوصَةً بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ (" أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ") ؟ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ النِّسَاءِ مُطْلَقًا حَتَّى مِنْ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ وَمَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ) ، أَيْ: يَمُوتُ (فِي وَجَعِهِ، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ أَتْبَعُهُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ أَلْحَقُهُ (فَضَحِكْتُ) . وَتَوْضِيحُهُ مَا فِي الذَّخَائِرِ أَنَّهُ قَالَ، وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِ عَائِشَةَ: حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا فَقَالَتْ إِنَّهُ حَدَّثَنِي أَنَّهُ كَانَ جِبْرِيلُ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً وَأَنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، هَذَا وَلَا أُرَى إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجْلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي، وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ، ثُمَّ سَارَّنِي وَذَكَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ. أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا وَدَلًّا وَهَدْيًا وَحَدِيثًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِيَامِهَا وَقُعُودِهَا مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَتْ: وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ لَهُ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا، «فَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَتْ فَاطِمَةُ فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا فَبَكَتْ ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَيْهِ ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَعْقَلِ نِسَائِنَا، فَإِذَا هِيَ مِنَ النِّسَاءِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ لَهَا: رَأَيْتُ حِينَ أَكْبَبْتِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَفَعْتِ رَأْسَكِ فَبَكَيْتِ، ثُمَّ أَكْبَبْتِ عَلَيْهِ فَرَفَعْتِ رَأْسَكِ فَضَحِكْتِ مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَتْ: إِنِّي إِذًا لَبَذِرَةٌ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي أَسْرَعُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ، فَذَلِكَ حِينَ ضَحِكْتُ.» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِي الذَّخَائِرِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ آخِرُ عَهْدِهِ إِتْيَانُ فَاطِمَةَ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِذَا قَدِمَ فَاطِمَةُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَدِمَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى فَاطِمَةَ ثُمَّ أَتَى أَزْوَاجَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو عَمْرٍو، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ فَاطِمَةُ الْكُبْرَى بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمُّهَا خَدِيجَةُ وَهِيَ أَصْغَرُ بَنَاتِهِ فِي قَوْلٍ، وَهِيَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَبَنَى عَلَيْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَوَلَدَتْ لَهُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَالْمُحْسِنَ وَزَيْنَبَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ وَرُقَيَّةَ، وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَهَا ثَمَانٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَغَسَّلَهَا عَلَيٌّ وَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ لَيْلًا، رَوَى عَنْهَا عَلَيٌّ وَابْنَاهَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَجَمَاعَةٌ سِوَاهُمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَصْدَقَ مِنْ فَاطِمَةَ غَيْرَ أَبِيهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ.»

6139 - وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا أَذَاهَا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6139 - (وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ) . سَبَقَ ذِكْرُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " فَاطِمَةُ) وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ فَاطِمَةَ (" بَضْعَةٌ ") : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ قِطْعَةُ لَحْمٍ (" مِنِّي ") : وَقَدْ تُكْسَرُ الْيَاءُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْبَضْعَةُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا وَسُكُونُ الْمُعْجَمَةِ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا جُزْءٌ مِنِّي كَمَا أَنَّ الْقِطْعَةَ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ، وَنِعْمَ مَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: وَلَا أُفَضِّلُ أَحَدًا عَلَى بَضْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي ") ، أَيْ: فَكَأَنَّهُ أَغْضَبَنِي، فَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، فَانْدَفَعَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ السُّهَيْلِيُّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّهَا يَكْفُرُ، إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عَلِيٍّ: " مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَانِي، مَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ ". وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنِ حَبَّانَ، عَنِ الْبَرَاءِ: " «مَنْ أَحَبَّ الْأَنْصَارَ فَقَدْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ الْأَنْصَارَ أَبْغَضَهُ اللَّهُ» ". وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «حُبُّ قُرَيْشٍ إِيمَانٌ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَحُبُّ الْعَرَبِ إِيمَانٌ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، فَمَنْ أَحَبَّ الْعَرَبَ فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَ الْعَرَبَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي» . (وَفِي رِوَايَةٍ) ، أَيْ: بَعْدَ قَوْلِهِ: فَقَدْ أَغْضَبَنِي أَوْ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ (" يُرِيبُنِي ") : مِنَ الْإِرَابَةِ بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يُقْلِقُنِي فِي الظَّاهِرِ (" مَا أَرَابَهَا، وَيُؤْذِينِي ") ، أَيْ فِي الْبَاطِنِ (" مَا آذَاهَا ") . فِي شَرْحِ السُّنَّةِ رَابَنِي الشَّيْءُ وَأَرَابَنِي بِمَعْنَى شَكَّكَنِي وَأَدْهَمَنِي مَا اسْتَيْقَنَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بِغَيْرِ أَلْفٍ مَعْنَاهُ يَسُوءُنِي مَا يَسُوءُهَا وَيُزْعِجُنِي مَا أَزْعَجَهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَالْمَزِيدُ لَهُ مَزِيَّةٌ وَمُنَاسِبَةٌ لِقَوْلِهِ مَا أَرَابَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ اتِّفَاقُ النُّسَخِ عَلَى الضَّمِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَوَّلُ الْحَدِيثِ قَالَ مِسْوَرٌ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي فِي أَنْ يَنْكِحُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَلَا آذَنُ ثُمَّ

لَا آذَنُ ثُمَّ لَا آذَنُ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي» يُرِيبُنِي. الْحَدِيثَ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا فِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ إِيذَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكُلِّ حَالٍ وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَإِنْ تَوَلَّدَ الْإِيذَاءُ مِمَّا كَانَ أَصْلُهُ مُبَاحًا وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَهُوَ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَذَى فَاطِمَةَ فَيَتَأَذَّى حِينَئِذٍ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَهْلِكُ عَلَيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَذَاهِ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَكَانِ شَفَقَتِهِ عَلَى عَلِيٍّ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُ خَافَ الْفِتْنَةَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ الْغَيْرَةِ، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا آذَنُ النَّهْيُ عَنْ جَمْعِهِمَا، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ. كَمَا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي لَفْظِ الذَّخَائِرِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: " إِنْ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي فِي أَنْ يَنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَلَا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يُحِبَّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطْلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا ابْنَتِي بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا. أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنِ الْمِسْوَرِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهِلٍ، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ «أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكِ، وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحٌ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ الْمِسْوَرُ: فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَحَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي، وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي وَإِنَّمَا أَكْرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهَا وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَبَدًا. قَالَ: فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ» . وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ فَقَالَ: " «إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا» ". ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ فَأَحْسَنَ، قَالَ: " «حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَأَوْفَى لِي وَإِنَّمَا لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ مَكَانًا وَاحِدًا أَبَدًا» . وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: ذَاكَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا آذَنُ إِلَّا أَنْ يُحِبَّ عَلِيٌّ أَنْ يُطْلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ» " قَالَ ابْنُ دَاوُدَ: حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى عَلِيٍّ أَنْ يَنْكِحَ عَلَى فَاطِمَةَ حَيَاتَهَا لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا آذَنُ " لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لِعَلِيٍّ أَنْ يَنْكِحَ عَلَى فَاطِمَةَ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ دَاوُدَ يَقُولُ: لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا» " حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى عَلِيٍّ أَنْ يَنْكِحَ عَلَى فَاطِمَةَ وَيُؤْذِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] أَخْرَجَهُمَا الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيُّ. وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ حَسَنَ بْنَ الْحَسَنِ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ فَقَالَ لَهُ: فَلْيَأْتِنِي فِي الْعَتَمَةِ، فَلَقِيَهُ فَحَمِدَ الْمِسْوَرُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَمَا مِنْ نَسَبٍ وَلَا سَبَبٍ وَلَا صِهْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَسَبِكُمْ وَصِهْرِكُمْ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَقْبِضُنِي مَا يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُنِي مَا يَبْسُطُهَا وَإِنَّ الْأَنْسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَنْقَطِعُ إِلَّا نَسَبِي وَسَبَبِي وَصِهْرِي» ". وَعِنْدَكَ ابْنَتُهُ وَلَوْ زَوَّجْتُكَ لِقَبَضَهَا ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَاذِرًا. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُرَاعَى مِنْهُ مَا يُرَاعَى فِي الْحَيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ، أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّزْوِيجُ عَلَى بَنَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَيَكُونُ هَذَا دَلِيلُهُ. وَفِي الْجَامِعِ: " «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَقْبِضُنِي مَا يَقْبِضُهَا، يَبْسُطُنِي مَا يَبْسُطُهَا وَإِنَّ الْأَنْسَابَ تَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ نَسَبِي وَسَبَبِي وَصِهْرِي» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ. وَعَنِ الْمِسْوَرِ: " «فَاطِمَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ وَأَنْتَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْهَا» " قَالَهُ لِعَلِيٍّ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي الصَّوَاعِقِ: رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ: يَا أَهْلَ الْجَمْعِ نَكِّسُوا رُءُوسَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ حَتَّى تَمُرَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ عَلَى الصِّرَاطِ " فَتَمُرُّ مَعَ سَبْعِينَ أَلْفَ جَارِيَةٍ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَمَرِّ الْبَرْقِ» .

6140 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى: خُمًّا، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ. أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ " فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «كِتَابُ اللَّهِ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى الضَّلَالَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6140 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ) ، أَيْ: بِمَوْضِعٍ فِيهِ مَاءٌ (يُدْعَى) ، أَيْ: يُسَمَّى ذَلِكَ الْمَاءُ أَوْ ذَلِكَ الْمَكَانُ (خُمًّا) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْجُحْفَةِ (بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ حِينَ رُجُوعِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَتَوَجُّهُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ (فَحَمِدَ اللَّهَ) ، أَيْ: شَكَرَهُ (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أَيْ بِعَلِيِّ ذَاتِهِ وَجَلِيِّ صِفَاتِهِ (وَوَعَظَ) ، أَيْ: نَصَحَهُمْ بِمَا نَفَعَهُمْ (وَذَكَّرَ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ: نَبَّهَهُمْ مِنْ نَوْمِ غَفْلَتِهِمْ (ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ ") :

أَيْ بَعْدَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ (" أَلَا ") : بِتَخْفِيفِ اللَّامِ لِلتَّنْبِيهِ زِيَادَةً فِي الِاهْتِمَامِ عَلَى التَّوْجِيهِ (" أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ") ، أَيْ: مِثْلُكُمْ لَكِنَّ امْتِيَازِي عَنْكُمْ بِأَنَّهُ يُوحَى إِلَيَّ (" يُوشِكُ ") ، أَيْ: يَقْرُبُ (أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي ") ، أَيْ: جِبْرِيلُ وَمَعَهُ عِزْرَائِيلُ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ (" فَأُجِيبَهُ ") : بِالنَّصْبِ (" وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الْأَمْرَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، سَمَّى كِتَابَ اللَّهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ بِهِمَا لِعِظَمِ قَدْرِهِمَا، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا ثَقِيلٌ عَلَى تَابِعِهِمَا. قَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: الثَّقَلُ الْمَتَاعُ الْمَحْمُولُ عَلَى الدَّابَّةِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ: الثَّقَلَانِ لِأَنَّهُمَا ثَقَالُ الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُمَا ثَقَلَاهَا، وَقَدْ شَبَّهَ بِهِمَا الْكِتَابَ وَالْعِتْرَةَ فِي أَنَّ الدِّينَ يُسْتَصْلَحُ بِهِمَا وَيَعْمُرُ كَمَا عَمُرَتِ الدُّنْيَا بِالثَّقَلَيْنِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: سَمَّاهُمَا ثَقَلَيْنِ لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالْعَمَلَ بِهِمَا ثَقِيلٌ، وَقِيلَ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] أَيْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَدَّى إِلَّا بِتَكَلُّفِ مَا يَثْقُلُ، وَقِيلَ: قَوْلًا ثَقِيلًا أَيْ لَهُ وَزْنٌ، وَسُمِّيَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ثَقَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا فُضِّلَا بِالتَّمْيِيزِ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَكُلِّ شَيْءٍ لَهُ وَزْنٌ وَقَدْرٌ مُتَنَافَسٌ فِيهِ فَهُوَ ثَقِيلٌ. (" أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى ") ، أَيِ: الْهِدَايَةُ عَنِ الضَّلَالَةِ (" وَالنُّورُ ") ، أَيْ: نُورُ الْقَلْبِ لِلِاسْتِقَامَةِ أَوْ سَبَبُ ظُهُورِ النُّورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (" فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ ") ، أَيِ: اسْتِنْبَاطًا وَحِفْظًا وَعِلْمًا (" وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ ") . أَيْ وَتَمَسَّكُوا بِهِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَمِنْ جُمْلَةِ كِتَابِ اللَّهِ الْعَمَلُ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وَ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَفِي رِوَايَةٍ: فَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَخُذُوا بِهِ (فَحَثَّ) : بِتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ فَحَرَّضَ أَصْحَابَهُ (عَلَى كِتَابِ اللَّهِ) ، أَيْ: عَلَى مُحَافَظَةِ وَمُرَاعَاةِ مَبَانِيهِ وَمَعَانِيهِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ (وَرَغَّبَ فِيهِ) بِتَشْدِيدِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: ذَكَرَ الْمُرَغِّبَاتِ مِنْ حُصُولِ الدَّرَجَاتِ فِي حَقِّهِ، ثُمَّ يُمْكِنُ أَنَّهُ رَهَّبَ وَخَوَّفَ بِالْعُقُوبَاتِ لِمَنْ تَرَكَ مُتَابَعَةَ الْآيَاتِ، فَيَكُونُ حَذْفُهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْبِشَارَةِ إِيمَاءً إِلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ رَحْمَتَهُ لِلْعَالَمِينَ، وَأُمَّتُهُ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ. (ثُمَّ قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (" وَأَهْلُ بَيْتِي ") ، أَيْ: وَثَانِيهُمَا أَهْلُ بَيْتِي (" أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ ") : بِكَسْرِ الْكَافِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ أُحَذِّرُكُمُوهُ (" فِي أَهْلِ بَيْتِي ") : وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ وَإِشْعَارًا بِالْعِلَّةِ، وَالْمَعْنَى أُنَبِّهُكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي مُحَافَظَتِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أُحَذِّرُكُمُ اللَّهَ فِي شَأْنِ أَهْلِ بَيْتِي وَأَقُولُ لَكُمُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُؤْذُوهُمْ وَاحْفَظُوهُمْ، فَالتَّذْكِيرُ بِمَعْنَى الْوَعْظِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَعَظَ وَذَكَّرَ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا وَالْحَمْلُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى (" أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ") كَرَّرَ الْجُمْلَةَ لِإِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِأَحَدِهِمَا آلَهُ وَبِالْأُخْرَى أَزْوَاجَهُ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (وَفِي رِوَايَةٍ) ، أَيْ: بَدَلَ أَوَّلِهِمَا كِتَابُ اللَّهِ إِلَخْ (" كِتَابُ اللَّهِ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ ") ، أَيْ مَا يُوَصِّلُ الْعَبْدَ إِلَى رَبِّهِ وَيُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى قُرْبِهِ وَالتَّرَقِّي مِنْ حَضِيضِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى أَوْجِ رِفْعَةِ الْمَلَكِيَّةِ بِالْحُضُورِ فِي الْحَضْرَةِ الْإِلَهَةِ وَالْغَيْبَةِ عَنْ شُعُورِ أُمُورِ الْكَوْنِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] (" مَنِ اتَّبَعَهُ ") ، أَيْ: إِيمَانًا وَحِفْظًا وَعِلْمًا وَعَمَلًا وَإِخْلَاصًا (كَانَ عَلَى الْهُدَى ") أَيْ عَلَى الْهِدَايَةِ الْكَامِلَةِ (" وَمَنْ تَرَكَهُ ") ، أَيْ: بِجِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ (" كَانَ عَلَى الضَّلَالَةِ ") . أَيِ الْغَوَايَةِ الشَّامِلَةِ، فَالْقُرْآنُ كَالْحَبْلِ ذُو وَجْهَيْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً لِلتَّرَقِّي، وَأَنْ يَكُونَ ذَرِيعَةً لِلتَّنَزُّلِ وَالتَّدَلِّي كَالنَّيْلِ مَاءٌ لِلْمَحْبُوبِينَ وَدِمَاءٌ لِلْمَحْجُوبِينَ يَضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا، الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) ، نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ وَرَفَعَنَا بِسَبَبِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي الذَّخَائِرِ فَقِيلَ لِزَيْدٍ: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ، أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: بَلَى إِنَّ نِسَاءَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَ مَعْنَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنِّي أُوشِكُ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَخْبَرَنِي أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا بِمَا تَخْلُفُونِي فِيهِمَا.»

6141 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى ابْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6141 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) ، أَيْ: مَوْقُوفًا (أَنَّهُ كَانَ) ، أَيِ: ابْنُ عُمَرَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِذَا سَلَّمَ عَلَى ابْنِ جَعْفَرٍ) ، أَيِ: ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ جَعْفَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ. قَالَ الْقَاضِي: لَمَّا رَأَى جَعْفَرًا فِي الْجَنَّةِ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ لَقَّبَهُ بِذِي الْجَنَاحَيْنِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ طَيَّارًا أَيْضًا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَ قَدِيمًا بَعْدَ أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ إِنْسَانًا، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ خُلُقًا وَخَلْقًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، قُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَ مُؤْتَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَلَهُ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، فَوُجِدَ فِيمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6142 - وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6142 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ) : بِالرَّفْعِ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (عَلَى عَاتِقِهِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ (يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ ") ، أَيْ: حُبًّا بَلِيغًا (" فَأَحِبَّهُ ") . وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَيُحِبُّ التَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ وَالتَّعَلُّقَ بِشَمَائِلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ فِي جَمِيعِ أَحْيَانِهِ وَأَحْوَالِهِ -. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ سِبَطُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَيْحَانَتُهُ وَسَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وُلِدَ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي وِلَادَتِهِ، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْكُوفَةِ بَايَعَهُ النَّاسُ عَلَى الْمَوْتِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسَلَّمَ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وُلِدَ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ لِسَنَةِ أَرْبَعٍ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ عُلِّقَتْ بِهِ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتِ الْحَسَنَ بِخَمْسِينَ لَيْلَةً، وَقُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ بِكَرْبَلَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ فِيمَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِلَّةِ، وَقَتَلَهُ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ النَّخَعِيُّ، وَيُقَالُ أَيْضًا سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ، وَقِيلَ: قَتَلَهُ شِمْرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ. وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ خَوْلِيٌّ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ ابْنُ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيُّ مِنْ حِمْيَرَ، جَزَّ رَأَسَهُ وَأَتَى بِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَقَالَ: أَوْ قَرَّرَ كَأَبِي فِضَّةً وَذَهَبًا ... إِنِّي قَتَلْتُ الْمَلِكَ الْمُحَجَّبَا قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ أُمًّا وَأَبًا ... وَخَيْرَهُمْ إِذْ يُنْسَبُونَ نَسَبًا وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ مِنْ وَلَدِهِ وَإِخْوَاتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، رَوَى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُهُ عَلِيٌّ زَيْنُ الْعَابِدِينَ وَفَاطِمَةُ وَسُكَيْنَةُ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَالنُّونِ ابْنَتَاهُ، وَكَانَ لِلْحُسَيْنِ يَوْمَ قَتْلِهِ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَقَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ قَتَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ فِي الْحَرْبِ، وَبَعَثَ رَأْسَهُ إِلَى الْمُخْتَارِ، وَبَعَثَهُ الْمُخْتَارُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَعَثَهُ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6143 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّهَارِ حَتَّى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ فَقَالَ: " أَثَمَّ لُكَعُ؟ أَثَمَّ لُكَعُ؟ " يَعْنِي حَسَنًا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى، حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6143 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّهَارِ) ، أَيْ: قِطْعَةٍ مِنْهُ (حَتَّى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلْفٌ فَهَمْزٌ أَيْ بَيْتَهَا كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنَ الْمَجَازِ عَلَى نَحْوِ اسْتِعْمَالِ الْمِشْفَرِ عَلَى الشَّفَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ مَخْبَأَ وَهُوَ الْمَخْدَعُ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ خَبَابَ فَاطِمَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُغَيَّرٌ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ قَالَ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ الْخَبَابُ بِالْفَتْحِ مُقَدَّمُ الْبَابِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِهِ حُجْرَتَهَا وَقِيلَ: حَوْلَ دَارِهَا وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: جَنَابٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالنُّونِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فَنَاءُ الدَّارِ. (فَقَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (" أَثَمَّ ") : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ أَهُنَاكَ (" لُكَعُ ") بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ انْصِرَافٍ كَعُمَرَ وَزُفَرَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصَرْفِهِ. قَالَ شَارِحٌ: اللُّكَعُ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ مَعْدُولٌ مِنَ اللُّكِعِ بِكَسْرِ الْكَافِ يُقَالُ: لَكَعَ الرَّجُلُ لَكْعًا فَهُوَ لُكَعُ إِذَا خَسَّ أَيْ صَارَ خَسِيسًا، وَهُوَ غَالِبُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الصَّغِيرِ الذَّكَرِ، وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى لَكَاعِ مَبْنِيَّةٌ، وَقِيلَ: هُوَ لَيْسَ بِمَعْدُولٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ نُغَرَ وَصُرَدَ، فَحَقُّهُ أَنْ.

يُنَوَّنُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُولٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لُكَعُ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْكَافِ؛ الصَّغِيرُ قَدْرًا أَوْ جُثَّةً، وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَقَالَ غَيْرُهُ يُقَالُ لِلصَّبِيِّ الصَّغِيرِ: لُكَعٌ مَصْرُوفًا ذَهَابًا إِلَى صِغَرِ جُثَّتِهِ، وَيُطْلَبُ عَلَى الْعَبْدِ وَاللَّئِيمِ وَالْأَحْمَقِ لِصِغَرِ قِدْرِهِمْ، وَفِي الْقَامُوسِ: اللُّكَعُ كَصُرَدِ اللَّئِيمِ وَالْعَبْدُ وَالْأَحْمَقُ، وَمَنْ لَا يَتَّجِهُ لِمَنْطِقٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَيُقَالُ فِي النِّدَاءِ: يَا لُكَعُ، وَلَا يُصْرَفُ فِي الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ مِنْ لُكَعَ. وَفِي النِّهَايَةِ: اللُّكَعُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْعَبْدُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْحُمْقِ وَالذَّمِّ، وَقِيلَ: يُطْلَقُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ لِطَلَبِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَثَمَّ لُكَعُ؟ فَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْكَبِيرِ أُرِيدَ بِهِ الضَّعِيفُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِصْغَارِ الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ كَالتَّصْغِيرِ فِي يَا حُمَيْرَاءُ (" أَثَمَّ لُكَعُ ") كَرَّرَهُ لِلِاهْتِمَامِ فِي تَحْصِيلِهِ (يَعْنِي حَسَنًا) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي (فَلَمْ يَلْبَثْ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ لَمْ يَمْكُثْ مَجِيئُهُ (أَنْ جَاءَ يَسْعَى) ، أَيْ: سَاعِيًا (حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ) أَيْ طَالِبَ صُحْبَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ جَوَازُ الْمُعَانَقَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصَّبِيِّ فِي مُعَانَقَتِهِ وَمُدَاعَبَتِهِ رَحْمَةً وَلُطْفًا وَاسْتِحْبَابُ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ» ") . اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ مُحِبِّيهِ وَمَوَالِيهِ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ مُبْغَضِيهِ وَمُعَادِيهِ، فَإِنَّ مَحْبُوبَ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، وَفِي قَلْبِ الْمُحِبِّ الْمَغْلُوبِ مَطْلُوبٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6144 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ مَرَّةً، وَيَقُولُ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6144 - (وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) ، أَيِ: الثَّقَفِيِّ (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ) : بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ نَصْبُهُ (إِلَى جَنْبِهِ) : يُحْتَمَلُ الْأَيْمَنُ وَالْأَيْسَرُ (وَهُوَ) ، أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ) ، أَيْ: وَعَلَى الْحَسَنِ (أُخْرَى) : وَفِي رِوَايَةِ الذَّخَائِرِ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ مَرَّةً (وَيَقُولُ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ") : أَصْلُهُ سَيْوِدٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ. قِيلَ: وَهُوَ مَنْ لَا يَغْلِبُهُ غَضَبُهُ، وَقِيلَ: الَّذِي يَفُوقُ فِي الْخَيْرِ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِمَا بَعْدَهُ الْآتِي، وَالْأَظْهَرُ الثَّانِي لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى مَنْ جَمَعَ السِّيَادَةَ نَسَبًا وَحَسَبًا وَعِلْمًا وَعَمَلًا (" وَلَعَلَّ اللَّهَ ") : أَتَى بِصِيغَةِ الرَّجَاءِ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ شَيْءٍ عَلَى الْمَوْلَى، فَالْمَعْنَى أَرْجُو مِنْهُ سُبْحَانَهُ (" أَنْ يُصْلِحَ بِهِ ") ، أَيْ: بِسَبَبِهِ (" بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ") . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَفَى بِهِ شَرَفًا وَفَضْلًا فَلَا أَسْوَدَ مِمَّنْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ سَيِّدًا، لِأَنَّمَا وَصْفُ الْفِئَتَيْنِ بِالْعَظِيمَتَيْنِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ مَعَهُ وَفِرْقَةٌ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَئِذٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ فَدَعَاهُ وَرَعُهُ وَشَفَقَتُهُ عَلَى أُمَّةِ جَدِّهِ إِلَى تَرْكِ الْمُلْكِ وَالدُّنْيَا رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِقِلَّةٍ وَلَا ذِلَّةٍ، فَقَدْ بَايَعَهُ عَلَى الْمَوْتِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَحْبَبْتُ مُنْذُ عَلِمْتُ مَا يَنْفَعُنِي وَيَضُرُّنِي أَنَّ لِي أَمْرَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ يُهْرَاقَ فِي ذَلِكَ مِحْجَمَةُ دَمٍ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ شِيعَتِهِ حَتَّى حَمْلَتْهُ الْعَصَبِيَّةُ عَلَى أَنْ قَالَ عِنْدَ الدُّخُولِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا عَارَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: الْعَارُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يَخْرُجْ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَهُمْ كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ مَعَ كَوْنِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مُصِيبَةً وَالْأُخْرَى مُخْطِئَةً، وَهَكَذَا سَبِيلُ كُلِّ مُتَأَوِّلٍ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ رَأْيٍ وَمَذْهَبٍ إِذَا كَانَ لَهُ فِيمَا تَنَاوَلَهُ شُبْهَةٌ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَنُفُوذِ قَضَاءِ قَاضِيهِمْ، وَاخْتَارَ السَّلَفُ تَرْكَ الْكَلَامِ فِي الْفِتْنَةِ الْأُولَى، وَقَالُوا: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْدِيَنَا فَلَا نُلَوِّثُ بِهِ أَلْسِنَتَنَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِنَا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَجِيءُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَكَانَ كُلَّمَا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَبَ عَلَى رَقَبَتِهِ وَظَهْرِهِ، فَيَرْفَعُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ رَفْعًا رَفِيقًا حَتَّى يَضَعَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَصْنَعُ بِهَذَا الْغُلَامِ شَيْئًا مَا رَأَيْنَاكَ تَصْنَعُهُ بِأَحَدٍ. قَالَ: " أَنَّهُ رَيْحَانَتِي مِنَ الدُّنْيَا إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ". أَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَقُلْ رَيْحَانَتِي مِنَ الدُّنْيَا. وَزَادَ قَالَ؟ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ: وَاللَّهِ بَعْدَ أَنْ وَلِيَ لَمْ يُهْرِقْ فِي

خِلَافَتِهِ مِلْءَ مِحْجَمَةِ دَمٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِشَاءَ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخْذَهُمَا بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ أَخْذًا رَفِيقًا، فَيُضَمَّا عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا حَتَّى قَضَى صِلَاتَهُ فَأَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرُدُّهُمَا فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَقَالَ: الْحَقَا بِأُمِّكُمَا. قَالَ: فَمَكَثَ ضَوْءُهَا حَتَّى دَخَلَا» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُصُّ لِسَانَ الْحَسَنِ أَوْ شَفَتَهُ» ، وَإِنَّهُ لَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ لِسَانًا أَوْ شَفَةً مَصَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَفِي الذَّخَائِرِ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لَمَّا قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَايَعَ الْحَسَنَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا كُلُّهُمْ قَدْ بَايَعَ أَبَاهُ قَبْلَهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانُوا أَطْوَعَ لِلْحَسَنِ وَأَحَبَّ فِيهِ مِنْهُمْ فِي أَبِيهِ، فَبَقِيَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ خَلِيفَةً بِالْعِرَاقِ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنْ خُرَاسَانَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَسَارَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ يَسْكُنُ بِنَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عَلِمَ أَنَّهُ لَنْ تُغْلَبَ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ حَتَّى يَذْهَبَ أَكْثَرُ الْأُخْرَى، فَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطْلُبَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِي أَيَّامِ أَبِيهِ، فَأَجَابَهُ مُعَاوِيَةُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عَشَرَةُ أَنْفُسٍ فَلَا أُؤَمِّنُهُمْ، فَرَاجَعَهُ الْحَسَنُ فِيهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنِّي قَدْ آلَيْتُ إِنَّنِي مَتَى ظَفِرْتُ بِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنْ أَقْطَعَ لِسَانَهُ وَيَدَهُ، فَرَاجَعَهُ الْحَسَنُ إِنِّي لَا أُبَايِعُكَ أَبَدًا وَأَنْتَ تَطْلُبُ قَيْسًا أَوْ غَيْرَهُ بِتَبِعَةٍ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ حِينَئِذٍ بَرِقٍّ أَبْيَضَ وَقَالَ: اكْتُبْ مَا شِئْتَ فِيهِ، فَأَنَا أَلْتَزِمُهُ فَاصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَالْتَزَمَ ذَلِكَ كُلَّهُ مُعَاوِيَةُ، وَاصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ اللَّهَ سَيُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ، وَكَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: مَا أَحْبَبْتُ مُنْذُ عَلِمْتُ مَا يَنْفَعُنِي وَيَضُرُّنِي أَنَّ لِي أَمْرَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ يُهْرَاقَ فِي ذَلِكَ مِحْجَمَةُ دَمٍ. وَعَنْ أَبِي الْعَرِّيفِ قَالَ: كُنَّا فِي مُقَدِّمَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مُسْتَمِيتِينَ حِرْصًا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا جَاءَنَا صُلْحُ الْحَسَنِ كَأَنَّمَا كُسِرَتْ ظُهُورُنَا مِنَ الْغَيْظِ وَالْحُزْنِ، فَلَمَّا جَاءَ الْحَسَنُ الْكُوفَةَ أَتَاهُ شَيْخٌ مِنَّا يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو سُفْيَانُ بْنُ أَبِي لَيْلَى فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُذِلَّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَا تَقُلْ يَا أَبَا عَمْرٍو، فَإِنِّي لَمْ أُذِلَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُمْ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّ الْحَسَنَ دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَأُجِيزَنَّكَ بِجَائِزَةٍ لَمْ أُجْزِ بِهَا أَحَدًا قَبْلَكَ وَلَا أُجِيزُ بِهَا أَحَدًا بَعْدَكَ، فَأَجَازَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ فَقَبِلَهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: قُمْ فَاخْطُبِ النَّاسَ وَاذْكُرْ مَا كُنْتَ فِيهِ، فَقَامَ الْحَسَنُ فَخَطَبَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا وَحَقَنَ بِنَا دِمَاءَكُمْ أَلَا إِنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ الْتَقِيُّ، وَإِنَّ أَعْجَزَ الْعَجْزِ الْفَجُورُ، وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي اخْتَلَفْتُ فِيهِ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِهِ مِنِّي أَوْ أَنْ يَكُونَ حَقِّي وَتَرَكْتُهُ لِلَّهِ وَلِصَلَاحِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ، ثُمَّ الْتَفْتَ وَقَالَ: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) ، ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا هَذَا. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ الْحَسَنَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: يَا مُعَاوِيَةُ إِنَّ الْخَلِيفَةَ مَنْ سَارَ سِيرَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ، وَلَيْسَ الْخَلِيفَةُ مَنْ دَانَ بِالْجَوْرِ وَعَطَّلَ السُّنَنَ وَاتَّخَذَ الدُّنْيَا أُمًّا وَأَبًا.

6145 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، قَالَ: «سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْمُحْرِمِ، قَالَ شُعْبَةُ أَحْسَبُهُ، يَقْتُلُ الذُّبَابَ؟ قَالَ: أَهْلُ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونِي عَنِ الذُّبَابِ. وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هُمَا رَيْحَانَّيَّ مِنَ الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6145 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِيِ نُعْمٍ) : بِضَمِّ نُونٍ وَسُكُونِ عَيْنٍ كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ وَسَائِرِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ بَلْ ذَكَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي غَنْمٍ وَقَالَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ. (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَسَأَلَنِي رَجُلٌ عَنِ الْمُحْرِمِ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (قَالَ شُعْبَةُ) ، أَيْ: أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَحْسَبُهُ) ، بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ أَظُنُّهُ أَيِ السَّائِلَ سَأَلَهُ عَنِ الْمُحْرِمِ، وَفِي الذَّخَائِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ (يَقْتُلُ الذُّبَابَ) : يَعْنِي أَيَجُوزُ قَتْلُهُ أَمْ لَا؟ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ (قَالَ) : وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ، أَيِ: ابْنُ عُمَرَ فِي جَوَابِهِ مُتَعَجِّبًا. (أَهْلُ الْعِرَاقِ) ، أَيِ: الْكُوفَةِ فَإِنَّهَا «وَالْبَصْرَةُ» تُسَمَّيَانِ عِرَاقَ الْعَرَبَ (يَسْأَلُونِّي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ (عَنِ الذُّبَابِ) ، أَيْ: عَنْ قَتْلِ الذُّبَابِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ كَمَالَ رِعَايَةِ التَّقْوَى فِي نُسُكِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: (قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ) حَالٌ مِنْ سَمِعْتُ وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ، وَالْأَصْلُ سَمِعْتُ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْمُحْرِمِ أَيْضًا حَالٌ، وَقَوْلُهُ قَالَ شُعْبَةُ أَحْسَبُهُ يَقْتُلُ الذُّبَابَ قَوْلُ بَعْضِ الرُّوَاةِ تَفْسِيرُ سُؤَالِ الرَّجُلِ وَاسْتِفْتَاؤُهُ، أَيْ: مَا تَقُولُ فِي

شَأْنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الذُّبَابَ اهـ. (وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي يَسْأَلُونِي (وَقَالَ) : وَفِي رِوَايَةٍ وَقَدْ قَالَ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَالَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: فِي حَقِّ ابْنِ بِنْتِهِ (" هُمَا " يَعْنِي الْحَسَنَيْنِ - " رَيْحَانَيَّ ") ؟ ضُبِطَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَفِي الذَّخَائِرِ هُمَا رَيْحَانَتَايَ (" مِنَ الدُّنْيَا ") . أَيْ: مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الَّذِي رَزَقَنِيهِ مِنَ الدُّنْيَا يُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَرَيْحَانَهُ أَيْ أُسَبِّحُ اللَّهَ وَأَسْتَرْزِقُهُ وَهُوَ مُخَفَّفٌ مِنْ رَيْحَانٍ مُشَدَّدًا فَيْعَلَانِ مِنَ الرُّوحِ، لِأَنَّ انْتِعَاشَهُ بِالرِّزْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّيْحَانِ الْمَشْمُومِ لِأَنَّ الشَّمَّامَاتِ تُسَمَّى رَيْحَانًا، وَيُقَالُ حَبَاهُ بِطَاقَةَ نَرْجِسٍ وَبِطَاقَةَ رَيْحَانٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمَا مِمَّا أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهِ وَحَبَانِي، أَوْ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ يَشُمُّونَ وَيَقْبَلُونَ، فَكَأَنَّهُمَا مِنْ جُمَلَةِ الرَّيَاحِينَ الَّتِي أَنْبَتَهَا اللَّهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: الرَّيْحَانُ الرَّحْمَةُ وَالرَّاحَةُ وَالرِّزْقُ، وَبِهِ سُمِّيَ الْوَلَدُ رَيْحَانًا، وَكُلُّ نَبْتٍ طَيِّبِ الرِّيحِ مِنْ أَنْوَاعِ الشُّمُومِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَوْقِعٌ مِنَ الدُّنْيَا هَا هُنَا كَمَوْقِعِهَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ» ". أَيْ نَصِيبِي مِنْهَا، وَنَصَبَ رَيْحَانَيَّ عَلَى الْمَدْحِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْفَائِقِ أَنَّهُ جَعَلَ رَيْحَانَيَّ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَمِنَ الدُّنْيَا بِمَعْنَى فِي الدُّنْيَا، لَكِنْ يُشْكَلُ عَلَى رِوَايَةِ الْكِتَابِ بِغَيْرِ رَفْعٍ، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا رَوَى رَيْحَانَتَايَ أَوْ رَيْحَانَايَ أَوْ رَيْحَانِي بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالتَّقْدِيرُ كَانَا رَيْحَانِي، ثُمَّ رَأَيْتُ الْقَاضِيَ عِيَاضًا قَالَ فِي الْمَشَارِقِ قَوْلُهُ: وَهُمَا رَيْحَانَاتِي مِنَ الدُّنْيَا. الْوَلَدُ يُسَمَّى الرَّيْحَانَ، وَمِنْ هُنَا بِمَعْنَى فِي أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: رَيْحَانَايَ مِنَ الْجَنَّةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: الْوَلَدُ الصَّالِحُ رَيْحَانَةٌ مِنْ رَيَاحِينِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: يُوجَدُ مِنْهُمَا رِيحُ الْجَنَّةِ، وَالرَّيْحَانُ مَا يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَقِيلَ: سَمَّاهُمَا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُشَمُّ كَمَا يُشَمُّ الرَّيْحَانُ اهـ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّيْحَانَيْنِ، فَعَنْ قَلِيلٍ يَذْهَبُ رُكْنَاكَ وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَيْكَ» " فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَلِيٌّ: هَذَا أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ، فَلَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ قَالَ هَذَا الرُّكْنَ الْآخَرُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ: أَنَّ رَجُلًا مَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

6146 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَالَ فِي الْحُسَيْنِ أَيْضًا: كَانَ أَشْبَهَهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6146 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ) أَيْ أَنَسٌ (فِي الْحُسَيْنِ أَيْضًا: كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي تَفْصِيلُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

6147 - «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: ضَمَّنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " عَلِّمْهُ الْكِتَابَ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6147 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ أَخَذَنِي (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى صَدْرِهِ) : إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مَنْبَعُ الْعِلْمِ وَمَعْدَنُ الْحِكَمِ (فَقَالَ: " اللَّهُمَّ عِلِّمْهُ الْحِكْمَةَ ") ، أَيْ: إِتْقَانَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا حِكْمَةُ الْفَلَاسِفَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْحِكْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْفُضَلَاءِ الْأَشْيَاءَ بِأَفْضَلِ الْعُلُومِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي يَحْكُمُ الْأَشْيَاءَ وَيُتْقِنُهَا، وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْحِكْمَةِ هَا هُنَا فَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهِ، وَقِيلَ: نُورٌ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ وَالْوِسْوَاسِ، وَقِيلَ: سُرْعَةُ الْجَوَابِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قُلْتُ: لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ شِعْرُ: عِبَارَتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ كُلٌّ إِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشِيرُ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: عَلِّمْهُ الْكِتَابَ) ، أَيْ: عَلِّمْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَمِيعُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ ... تَقَاصَرَ عَنْهُ أَفْهَامُ الرِّجَالِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ فَسَّرَ الْحِكْمَةَ بِعِلْمِ الْكِتَابِ، وَلِذَا يُقَالُ لِابْنِ عَبَّاسٍ تَرْجُمَانُ الْكِتَابِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِالْحِكْمَةِ السُّنَّةَ. قَالَ تَعَالَى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129] قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ لَفْظُهُ وَقِرَاءَتُهُ، وَبِالْحِكْمَةِ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ وَتَبْيِينُ آيَاتِهِ، فَإِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مَشْهُورًا بِالْعِلْمَيْنِ، أَعْنِي الْقِرَاءَةَ وَالتَّفْسِيرَ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْحِكْمَةِ بِالسُّنَّةِ فِي الْآيَةِ لِوُقُوعِهَا عَطْفًا عَلَى الْكِتَابِ، وَالْأَصْلُ التَّغَايُرُ فِي الْعَطْفِ، لَكِنْ سَيَأْتِي أَنَّهُ دَعَا لَهُ بِالْفِقْهِ أَيْضًا، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، فَهُوَ جَامِعُ الْعُلُومِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: عَشْرٌ، كَانَ حَبْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَالِمَهَا، دَعَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحِكْمَةِ وَالْفِقْهِ وَالتَّأْوِيلِ، وَرَأَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّتَيْنِ، وَكُفَّ بَصَرُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَمَاتَ بِالطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6148 - «وَعَنْهُ، قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: " مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6148 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْخَلَاءَ) : بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ أَيْ مَكَانَ الْبُرَازِ (فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا) : بِفَتْحِ الْوَاوِ مَاءُ الْوُضُوءِ (فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: " مَنْ وَضَعَ هَذَا ") ؟ أَيْ ظَرْفَ الْمَاءِ (فَأُخْبِرَ) ، بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَجْهُولِ أَيْ فَأَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ (فَقَالَ: " اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ) : بِكَسْرِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ اجْعَلْهُ فَقِيهًا عَالِمًا (" فِي الدِّينِ ") . أَيْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْفِقْهَ الْمُتَعَارَفَ الْمُخْتَصَّ بِفُرُوعِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْخُصُومَاتِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةُ الْفِقْهِ وَاسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَاسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِمَنْ عَمِلَ خَيْرًا، وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي حَقِّهِ، فَكَانَ مِنَ الْفِقْهِ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6149 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ، فَيَقُولُ: " «اللَّهُمَّ أَحِبَّهُمَا فَإِنِّي أُحِبُّهَا» ". وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6149 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ ابْنِ حَارِثَةَ الْقُضَاعِيِّ، وَأُمُّهُ أُمُّ أَيْمَنَ وَاسْمُهَا بَرَكَةُ وَهِيَ حَاضِنَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ مَوْلَاةً لِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُسَامَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنُ مَوْلَاهُ وَحِبُّهُ وَابْنُ حِبِّهِ، قُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَنَزَلَ وَادِي الْقُرَى، وَتُوُفِّيَ بِهِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُهُ) ، أَيْ: يَأْخُذُ أُسَامَةَ (وَالْحَسَنَ فَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَحِبَّهُمَا فَإِنِّي أُحِبُّهُمَا ") . فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَحَبَّتَهُ لِلَّهِ وَلِذَا رَتَّبَ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ مَنْقَبَةٍ لَهُمَا وَلَفْظُ الذَّخَائِرِ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا أَوْ كَمَا قَالَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ) ، أَيْ: أُسَامَةُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ يُجْلِسُنِي (عَلَى فَخِذِهِ) أَيِ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى (وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا) كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَضُمَّنَا عَلَى تَغْلِيبِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا أَنَّ فِي يَضُمُّهُمَا تَغْلِيبُ الْغَالِبِ، فَفِي تَسْمِيَتِهِ الْتِفَاتًا نَوْعُ مُسَامَحَةٍ (ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا ") ، أَيْ: رَحْمَةً شَامِلَةً كَامِلَةً تُغْنِهِمَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ (فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا) . أَيْ رَحْمَةً خَاصَّةً وَإِلَّا فَرَحْمَتُهُ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بَلْ شَامِلَةٌ لِلْعَالَمِينَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6150 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَأَيْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ وَفِي آخِرِهِ: " «أُوصِيكُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ صَالِحِيكُمْ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 6150 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ بَعْثًا) ، أَيْ: أَرْسَلَ جَيْشًا (وَأَمَّرَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ جَعَلَ أَمِيرًا (عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ طَعَنَ كَمَنَعَ فِي الْعِرْضِ وَالنَّسَبِ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ فَبِالرُّمْحِ وَالْيَدِ، وَيُقَالُ: هُمَا لُغَتَانِ، وَالْمَعْنَى فَتَكَلَّمَ (بَعْضُ النَّاسِ) ، أَيِ: الْمُنَافِقُونَ أَوْ أَحْلَافُ الْعَرَبِ (فِي إِمَارَتِهِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ وِلَايَتِهِ لِكَوْنِهِ مَوْلًى (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (" إِنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ ") : يُشِيرُ إِلَى إِمَارَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ (" مِنْ قَبْلُ ") أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ مِنْ قَبْلِ إِمَارَةِ ابْنِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: فَقَدْ كُنْتُمْ طَعَنْتُمْ هَذَا الْجَزَاءُ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ بِتَأْوِيلِ التَّنْبِيهِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: طَعَنُكُمُ الْآنَ فِيهِ سَبَبٌ، لِأَنْ أُخْبِرَكُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهَجِيرَاهُمْ وَمِنْ ذَلِكَ طَعَنُكُمْ فِي أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] (" وَأَيْمُ اللَّهِ ") : بِهَمْزِ وَصْلٍ، وَقِيلَ: قَطْعٍ أَيْ: وَاللَّهِ (" إِنْ ") : مُخَفَّفَةٌ أَيِ الشَّأْنُ (" كَانَ ") ، أَيْ: أَبُوهُ (" لَخَلِيقًا ") ، أَيْ: لَجَدِيرًا وَحَقِيقًا (" لِلْإِمَارَةِ ") أَيْ لِفَضْلِهِ وَسَبْقِهِ وَقُرْبِهِ مِنِّي، وَفِي أَصْلِ الْمَالِكِيِّ: وَأَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ، وَفِي نُسْخَةٍ عِنْدَهُ إِنْ كَانَ خَلِيقًا فَقَدِ اسْتَعْمَلَ أَنَّ الْمُخَفَّفَةَ الْمَتْرُوكَةَ الْعَمَلَ عَارِيًا مَا بَعْدَهَا مِنَ اللَّامِ الْفَارِقَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّمَا طَعَنَ مَنْ طَعَنَ فِي إِمَارَتِهِمَا لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنَ الْمَوَالِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَرَى تَأْمِيرَ الْمَوَالِي وَتَسْتَنْكِفُ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ كُلَّ الِاسْتِنْكَافِ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَرَفَعَ قَدْرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُمْ قَدْرٌ بِالسَّابِقَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالتُّقَى وَعَرَّفَ حَقَّهُمُ الْمَحْفُوظُونَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ، فَأَمَّا الْمُرْتَهَنُونَ بِالْعَادَةِ وَالْمُمْتَحَنُونَ بِحُبِّ الرِّيَاسَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ وَرُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَاسِيَّمَا أَهْلُ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إِلَى الطَّعْنِ وَشِدَّةِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمِيرًا عَلَى عِدَّةِ سَرَايَا، وَأَعْظَمُهَا جَيْشُ مُؤْتَةَ وَسَارَ تَحْتَ رَايَتِهِ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ خِيَارُ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ: جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ خَلِيقًا بِذَلِكَ لِسَوَابِقِهِ وَفَضْلِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ كَانَ يَبْعَثُ أُسَامَةَ، وَقَدْ أَمَّرَهُ فِي مَرَضِهِ عَلَى جَيْشٍ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ " مَشْيَخَةِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ، وَكَأَنَّهُ رَأَى فِي ذَلِكَ سِوَى مَا تَوَسَّمَ فِيهِ مِنَ النَّجَابَةِ أَنْ يُمَهِّدَ الْأَمْرَ وَيُوَطِّئَهُ لِمَنْ يَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ، لِئَلَّا يَنْزِعَ أَحَدٌ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلِيَعْلَمَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّ الْعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةَ قَدْ عَمِيَتْ مَسَالِكُهَا وَخَفِيَتْ مَعَالِمُهَا. (" وَإِنْ كَانَ ") ، أَيْ: أَبُوهُ (" لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا ") ، أَيْ: أُسَامَةَ (" لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ أَبِيهِ زَيْدٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي جَيْشٍ قَطُّ إِلَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ» . قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: فِيهِ جَوَازُ إِمَارَةِ الْمَوْلَى، وَتَوْلِيةِ الصِّغَارِ عَلَى الْكِبَارِ، وَالْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ: قُلْتُ: وَلَعَلَّ تَأْمِيرَهُ مَعَ تَأْمِيرِ ابْنِهِ وَقَعَ جَبْرًا لِمَا اخْتَارَهُ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَهُ، فَقَدْ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أُمُّهُ سُعَدَى بِنْتُ ثَعْلَبَةَ مِنْ بَنِي مَعْنٍ خَرَجَتْ بِهِ تَزُورُ قَوْمَهَا، فَأَغَارَتْ خَيْلٌ لِبَنِي الْقَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَى أَبْيَاتٍ مِنْ بَنِي مَعْنٍ رَهْطِ أُمِّ زَيْدٍ، فَاحْتَمَلُوا زَيْدًا وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ، يُقَالُ: لَهُ ثَمَانِ سِنِينَ، فَوَافَوْا بِهِ سُوقَ عُكَاظَ، فَعُرِضَ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَبَتْهُ لَهُ، فَقَبَضَهُ ثُمَّ إِنَّ خَبَرَهُ اتَّصَلَ بِأَهْلِهِ، فَحَضَرَ أَبُوهُ حَارِثَةُ وَعَمُّهُ كَعْبٌ فِي فِدَائِهِ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ نَفْسِهِ وَالْمَقَامِ عِنْدَهُ، وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، فَاخْتَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا يَرَى مِنْ بِرِّهِ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ خَرَجَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْحِجْرِ فَقَالَ: يَا مَنْ حَضَرَ اشْهَدُوا إِنَّ زِيدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ فَصَارَ يُدْعَى زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَنَزَلَ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] فَقِيلَ لَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الذُّكُورِ فِي قَوْلٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْبَرَ مِنْهُ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِعِشْرِينَ سَنَةً. وَزَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْلَاتَهُ أُمَّ أَيْمَنَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ بِنْتَ عَمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ طَلَّقَهَا لِتَكَبُّرِهَا عَلَيْهِ، فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 37] .

رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ أُسَامَةُ وَغَيْرُهُ، وَقُتِلَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَهُوَ أَمِيرُ الْجَيْشِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ) ، أَيْ: نَحْوُ الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ سَابِقًا (وَفِي آخِرِهَا) ، أَيْ: رِوَايَةِ مُسْلِمٍ (" أُوصِيكُمْ بِهِ ") أَيْ: بِأُسَامَةَ (فَإِنَّهُ مِنْ صَالِحِيكُمْ) . أَيْ: مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاحُ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَإِلَّا فَكَلُّ الصَّحَابَةِ صَالِحُونَ، وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ أَوِ الْمَبْعُوثِينَ مَعَهُ.

6151 - وَعَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ قَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي " فِي " بَابِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 6151 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (قَالَ) ، أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (إِنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، إِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَوْلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ (مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَنَّى زَيْدًا وَدَعَاهُ ابْنَهُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَبَنَّى مَوَالِيَهُمْ وَغَيْرَهُمْ فَيَصِيرُ ابْنًا لَهُ يُوَارِثُهُ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ (حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ) ، أَيِ: الْآيَةُ مِنْهُ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] قَبْلَهُ {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] ادْعُوهُمْ، أَيِ: انْسُبُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ، أَيْ: أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] الْآيَةَ. فَرَجَعَ كُلُّ إِنْسَانٍ إِلَى نَسَبِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَذُكِرَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ قَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي " فِي بَابِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ) . بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ تَرْبِيَتِهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 6152 - عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ " إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6152 - (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجَّتِهِ. أَيْ حِجَّةِ الْوَدَاعِ (يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ مَمْدُودًا وَيُقْصَرُ، قِيلَ: سُمِّيَتْ قَصْوَاءُ لَا لِأَنَّهَا مَجْدُوعَةُ الْأُذُنُ، بَلْ لِأَنَّ الْقَصْوَاءَ لَقَبٌ لَهَا (يَخْطُبُ) : حَالٌ (فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا ") : مَوْصُولَةٌ صِلَتُهَا (" إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ ") ، أَيْ: تَمَسَّكْتُمْ بِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا (" لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ ") ، أَيْ: بَعْدَ أَخْذِ ذَلِكَ الشَّيْءِ (" كِتَابَ اللَّهِ ") بِالنَّصْبِ، بَيَانُ مَا فِي (مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ، أَوْ بَدَلٌ أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ؛ أَيْ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ (" وَعِتْرَتِي ") : فِي مَحَلِّ نَصْبٍ أَوْ رَفْعٍ، وَقَوْلُهُ: (" أَهْلَ بَيْتِي ") . مُعْرَبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: عِتْرَةُ الرَّجُلِ أَهْلُ بَيْتِهِ وَرَهْطُهُ الْأَدْنَوْنَ، وَلِاسْتِعْمَالِهِمُ الْعِتْرَةَ عَلَى أَنْحَاءٍ كَثِيرَةٍ بَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: أَهْلَ بَيْتِي، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ نَسْلَهُ وَعِصَابَتَهُ الْأَدْنَيْنَ وَأَزْوَاجَهُ اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْأَخْذِ بِهِمُ التَّمَسُّكُ بِمَحَبَّتِهِمْ وَمُحَافَظَةُ حُرْمَتِهِمْ وَالْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَخْذَ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَهُوَ الِائْتِمَارُ بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَالِانْتِهَاءُ بِنَوَاهِيهِ، وَمَعْنَى التَّمَسُّكِ بِالْعِتْرَةِ مَحَبَّتُهُمْ وَالِاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ. زَادَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلدِّينِ. قُلْتُ: بِإِطْلَاقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ عِتْرَتِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ هَدْيُهُ سِيرَتُهُ إِلَّا مُطَابِقًا لِلشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6153 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6153 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي ") أَيْ بَعْدَ فَوْتِي وَفِي نُسْخَةٍ بَعْدَ مَوْتِي (" أَحَدُهُمَا ") وَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ (" أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ ") : وَهُوَ الْعِتْرَةُ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (كِتَابَ اللَّهِ) : بِالنَّصْبِ وَبِالرَّفْعِ وَهُوَ أَظْهَرُ هُنَا لِقَوْلِهِ: (حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أَيْ قَابِلٌ لِلتَّرَقِّي وَالتَّنَزُّلِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَسَبَقَ بُرْهَانُهُ (وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: " إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ التَّوْأَمَيْنِ الْخَلَفَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ يُوصِي الْأُمَّةَ بِحُسْنِ الْمُخَالَفَةِ مَعَهُمَا وَإِيثَارِ حَقِّهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا يُوصِي الْأَبُ الْمُشْفِقُ النَّاسَ فِي حَقِّ أَوْلَادِهِ، وَيُعَضِّدُهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: " أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي " كَمَا يَقُولُ الْأَبُ الْمُشْفِقُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي حَقِّ أَوْلَادِي، وَأَقُولُ: الْأَظْهَرُ هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ غَالِبًا يَكُونُونَ أَعْرَفَ بِصَاحِبِ الْبَيْتِ وَأَحْوَالِهِ، فَالْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى سِيرَتِهِ، الْوَاقِفُونَ عَلَى طَرِيقَتِهِ، الْعَارِفُونَ بِحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلِهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونُوا مُقَابِلًا لِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129] وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكِرَ عِنْدَهُ قَضَاءٌ قَضَى بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَأَعْجَبَهُ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا الْحِكْمَةَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْيَقِينِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مِسْعَرٍ الْيَرْبُوعِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ لِلْحَسَنِ: كَمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ؟ قَالَ: أَرْبَعُ أَصَابِعَ. قَالَ: بَيِّنْ. قَالَ: الْيَقِينُ مَا رَأَتْهُ عَيْنُكَ، وَالْإِيمَانُ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنُكَ وَصَدَّقَتْ بِهِ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ مِمَّنْ أَنْتَ مِنْهُ ذَرِّيَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَقَارَفَ الزُّهْرِيُّ فَهَامَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ زَيْنُ الْعَابِدِينَ: قُنُوطُكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَعْظَمُ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبِكَ. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَحَالِهِ. (" وَلَنْ يَتَفَرَّقَا ") أَيْ كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ (" حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ") ، أَيِ الْكَوْثَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي تَفْصِيلٍ مُجْمَلٍ لِحَدِيثِ " مَا " مَوْصُولَةٌ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ صِلَتُهَا، وَإِمْسَاكُ الشَّيْءِ التَّعَلُّقُ بِهِ وَحِفْظُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج: 65] وَتَمَسَّكَ بِالشَّيْءِ إِذَا تَحَرَّى الْإِمْسَاكَ بِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ التَّمَسُّكَ عَقَبَهً بِالْمُتَمَسِّكِ بِهِ صَرِيحًا وَهُوَ الْحَبْلُ فِي قَوْلِهِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فِيهِ تَلْوِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176] كَأَنَّ النَّاسَ وَاقِعُونَ فِي مَهْوَاةِ طَبِيعَتِهِمْ مُشْتَغِلُونَ بِشَهْوَتِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ بِلُطْفِهِ رَفَعَهُمْ فَأَدْنَى حَبْلَ الْقُرْآنِ إِلَيْهِمْ لِيُخَلِّصَهُمْ. مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ نَجَا، وَمَنْ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ هَلَكَ، وَمَعْنَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَعْظَمَ مِنَ الْآخَرِ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أُسْوَةٌ لِلْعِتْرَةِ وَعَلَيْهِمُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي هَذِهِ التَّوْصِيَةِ وَاقْتِرَانِ الْعِتْرَةِ بِالْقُرْآنِ أَنَّ إِيجَابَ مَحَبَّتِهِمْ لَائِحٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ شُكْرَ إِنْعَامِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْقُرْآنِ مَنُوطًا بِمَحَبَّتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوصِي الْأُمَّةَ بِقِيَامِ الشُّكْرِ، وَقَيَّدَ تِلْكَ النِّعْمَةَ بِهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ عَنِ الْكُفْرَانِ، فَمَنْ أَقَامَ بِالْوَصِيَّةِ. وَشَكَرَ تِلْكَ الصَّنِيعَةَ بِحُسْنِ الْخِلَافَةِ فِيهِمَا لَنْ يَفْتَرِقَا، فَلَا يُفَارِقَانِهِ فِي مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ وَمَشَاهِدِهَا حَتَّى يَرِدَ الْحَوْضَ، فَشَكَرَ صَنِيعَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحِينَئِذٍ هُوَ بِنَفْسِهِ يُكَافِئُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى يُجَازِيهِ بِالْجَزَاءِ الْأَوْفَى، وَمَنْ أَضَاعَ الْوَصِيَّةَ وَكَفَرَ النِّعْمَةَ فَحُكْمُهُ عَلَى الْعَكْسِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَسُنَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: (" فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا ") وَالنَّظَرُ بِمَعْنَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ أَيْ: تَأَمَّلُوا وَاسْتَعْمِلُوا الرَّوِيَّةَ فِي اسْتِخْلَافِي إِيَّاكُمْ هَلْ تَكُونُونَ خَلَفَ صِدْقٍ أَوْ خَلَفَ سُوءٍ. اهـ. وَتَجَوُّلُهُ: تَخْلُفُونِّي بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتُخَفُّفُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَفْظُهُ: " «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» ".

6154 - وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: " «أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُمْ، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6154 - (وَعَنْهُ) : - أَيْ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ) ، أَيْ: لِأَجْلِهِمْ وَفِي حَقِّهِمْ (" أَنَا حَرْبٌ ") ، أَيْ: مُحَارِبٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأَمَّهُمَا كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ (" لِمَنْ حَارَبَهُمْ ") جَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ نَفْسَ الْحَرْبِ مُبَالَغَةً كَرَجُلٍ عَدْلٍ (" وَسِلْمٌ ") : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَيُفْتَحُ أَيْ مُسَالِمٌ وَمُصَالِحٌ (" لِمَنْ سَالَمَهُمْ ") . وَالْمَعْنَى: مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَنِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6155 - وَعَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ عَمَّتِي عَلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلْتُ: أَيُّ النَّاسِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَتْ: فَاطِمَةُ. فَقِيلَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَتْ: زَوْجُهَا إِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.» ـــــــــــــــــــــــــــــ 6155 - (وَعَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَيْمِيٌّ مِنَ الْكُوفَةِ، قَالَ السَّخَاوِيُّ: سَمِعَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، رَوَى عَنْهُ الْعَلَاءُ بَنُ صَالِحٍ، وَصَدَقَةُ بْنُ الْمُثَنَّى (قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَمَّتِي عَلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلْتُ) ، أَيْ: أَنَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ أَيْ عَمَّتِي (أَيُّ النَّاسِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَتْ) ، أَيْ: عَائِشَةُ (فَاطِمَةُ) أَيْ هِيَ كَانَتْ أَحَبَّ (فَقِيلَ: مِنَ الرِّجَالِ) ؟ أَيْ هَذَا جَوَابُكِ مِنَ النِّسَاءِ فَمَنْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ؟ (قَالَتْ: زَوْجُهَا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الرِّيَاضِ «عَنْ عَائِشَةَ، سُئِلَتْ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: فَاطِمَةُ فَقِيلَ مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَتْ: زَوْجُهَا؛ إِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا،» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي الْأَزْهَارِ رَوَاهُ السُّدِّيُّ وَقَالَ الْحَاكِمُ: السُّدِّيُّ شِيعِيٌّ يَسُبُّ الشَّيْخَيْنِ. اهـ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ السُّدِّيَّ شَخْصَانِ: كَبِيرٌ وَهُوَ سُنِّيٌّ، وَصَغِيرٌ وَهُوَ رَافِضِيٌّ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ: مِنْ إِمَارَاتِ كَوْنِ الْحَدِيثِ مَوْضُوعًا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي رَافِضِيًّا، وَالْحَدِيثُ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ. قَالَ الشَّيْخُ الْحَافِظُ عَلِيُّ بْنُ عِرَاقٍ فِي كِتَابِ: تَنْزِيهِ الشَّرِيعَةِ الْمَرْفُوعَةِ عَنِ الْأَخْبَارِ الشَّنِيعَةِ الْمَوْضُوعَةِ، أَوْ فِي ذَمِّ مَنْ حَارَبَهُمْ، وَذَكَرَ بَعْضُ شُيُوخِي أَنَّهُ رَوَى عَنْ شَيْخِهِ الْحَافِظِ الْمُحَدِّثِ الْبُرْهَانِ النَّاجِي بِالنُّونِ أَنَّ مِنْ أَمَارَاتِ الْمَوْضُوعِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ، وَأُعْطَى ثَوَابُ نَبِيٍّ أَوِ النَّبِيِّينَ وَنَحْوِهِمَا. قُلْتُ: كَلَامُ السُّيُوطِيِّ وَابْنِ عِرَاقٍ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِمَا إِذَا وُجِدَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ زَائِدَةٌ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فِي مَدْحِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ ذَمِّ أَعْدَائِهِمْ، وَإِلَّا فَفَضْلُ أَهْلِ الْبَيْتِ وَذَمُّ مَنْ حَارَبَهُمْ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَأَكَابِرِ أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَكْثَرِيَّةِ الْمَحَبَّةِ تَحَقُّقُ الْأَفْضَلِيَّةِ إِذْ مَحَبَّةُ الْأَوْلَادِ، وَبَعْضِ الْأَقَارِبِ أَمْرٌ جِبِلِيٌّ مَعَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِأَنَّ غَيْرَهُمْ قَدْ يُوجَدُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجَانِبِ فَالْأَفْضَلِيَّةُ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ.

6156 - وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ، «أَنَّ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: " مَا أَغْضَبَكَ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَنَا وَلِقُرَيْشٍ إِذَا تَلَاقَوْا بَيْنَهُمْ تَلَاقَوْا بِوُجُوهٍ مُبْشَرَةٍ. وَإِذَا لَقُونَا لَقُونَا بِغَيْرِ ذَلِكَ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الْإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ " ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ آذَى عَمِّي فَقَدْ آذَانِي، فَإِنَّمَا عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي " الْمَصَابِيحِ " عَنِ الْمُطَّلِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6156 - (وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ) أَيِ ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ الْهَاشِمِيِّ سَكَنَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ عَنْهَا إِلَى دِمَشْقَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ. رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ. (أَنَّ الْعَبَّاسَ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (وَأَنَا عِنْدَهُ فَقَالَ: " مَا أَغْضَبَكَ ") ؟ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَكَ غَضْبَانَ؟ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَنَا) ، أَيْ: مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ (وَلِقُرَيْشٍ) ، أَيْ: بَقِيَّتِهِمْ (إِذَا تَلَاقَوْا بَيْنَهُمْ تَلَاقَوْا بِوُجُوهٍ مُبْشَرَةٍ) عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْإِبْشَارِ. وَرُوِيَ مِنَ التَّبْشِيرِ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ النُّسَخِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ مُسْفِرَةٍ يَعْنِي عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِسْفَارِ بِمَعْنَى مُضِيئَةٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ

الْبَاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ يُرِيدُ بِوُجُوهٍ عَلَيْهَا الْبِشْرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مُؤْدَمٌ مُبْشَرٌ إِذَا كَانَتْ لَهُ أَدَمَةٌ وَبَشَرَةٌ مَحْمُودَتَيْنِ. اهـ. وَالْمَعْنَى تَلَاقَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِوُجُوهٍ ذَاتِ بِشْرٍ وَبَسْطٍ. (وَإِذَا لَقُونَا) : بِضَمِّ الْقَافِ (لَقُونَا بِغَيْرِ ذَلِكَ) ؟ أَيْ بِوُجُوهٍ ذَاتِ قَبْضٍ وَعُبُوسٍ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. (فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ أَصْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ الذَّمِيمَةِ. (حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ) أَيِ اشْتَدَّ حُمْرَتُهُ مِنْ كَثْرَةِ غَضَبِهِ (ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الْإِيمَانُ ") ، أَيْ: مُطْلَقًا وَأُرِيدَ بِهِ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، أَوِ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ، فَالْمُرَادُ بِهِ تَحْصِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكِيدِ (" حَتَّى يُحِبَّكُمْ ") ، أَيْ: أَهْلَ الْبَيْتِ (" لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ") . أَيْ مِنْ حَيْثُ أَظْهَرَ رَسُولَهُ فِيكُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وَقَدْ كَانَ يَتَفَوَّهُ أَبُو جَهْلٍ حَيْثُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ بَنُو هَاشِمٍ أَخَذُوا الرَّايَةَ وَالسِّقَايَةَ وَالنُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فَمَا بَقِيَ لِبَقِيَّةِ قُرَيْشٍ (" ثُمَّ قَالَ: "؟ أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ آذَى عَمِّي ") ، أَيْ: خُصُوصًا (" فَقَدْ آذَانِي ") أَيْ فَكَأَنَّهُ آذَانِي (" فَإِنَّمَا عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ ") . بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ نُونٍ أَيْ مِثْلُهُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَطَلَعَ نَخْلَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ عِرْقٍ وَاحِدٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ صِنْوٌ يَعْنِي مَا عَمُّ الرَّجُلِ وَأَبَوْهُ إِلَّا كَصِنْوَيْنِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ مِثْلُ أَبِي أَوْ مِثْلِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (وَفِي الْمَصَابِيحِ، عَنِ الْمُطَّلِبِ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْمُطَّلِبُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ الْقُرَشِيُّ، كَانَ عَامِلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ. وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، قَدِمَ مِصْرَ لِغَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَمْ يَقَعْ إِلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ عَنْهُ رِوَايَةٌ. اهـ. فَمَا وَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ سَهْوٌ سَبَبُهُ وَهْمٌ. وَفِي الْجَامِعِ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «الْعَبَّاسُ عَمِّي وَصِنْوُ أَبِي فَمَنْ شَاءَ فَلْيُبَاهِ بِعَمِّهِ» ". وَفِي ذَخَائِرِ الْعَقَبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَخْرُجُ فَنَرَى قُرَيْشًا تَتَحَدَّثُ، فَإِذَا رَأَوْنَا سَكَتُوا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَرَّ عِرْقُ الْغَضَبِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ قَلْبَ امْرِئٍ إِيمَانٌ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ: " نَبِيُّنَا خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ أَبُوكِ، وَشَهِيدُنَا خَيْرُ الشُّهَدَاءِ وَهُوَ عَمُّ أَبِيكِ حَمْزَةُ، وَمِنَّا مَنْ لَهُ جَنَاحَانِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِيكِ، وَمِنَّا سِبْطُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَهُمَا ابْنَاكِ وَمِنَّا الْمَهْدِيُّ» ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ.

6157 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْعَبَّاسُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6157 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْعَبَّاسُ مِنِّي ") ، أَيْ: مِنْ أَقَارِبِي أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي أَوْ مُتَّصِلٌ بِي (" وَأَنَا مِنْهُ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «الْعَبَّاسُ وَصِيِّي وَوَارِثِي» " وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْبَرَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَتَيْنِ، وَمِنْ لَطَائِفِ طَبْعِهِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هُوَ أَكْبَرُ وَأَنَا أَسَنُّ. قَلَّلَ الْمُؤَلِّفُ: وَأَمُّهُ امْرَأَةٌ مِنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ وَهِيَ أَوَّلُ عَرَبِيَّةٍ كَسَتِ الْكَعْبَةَ الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ وَأَصْنَافَ الْكِسْوَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبَّاسَ ضَلَّ وَهُوَ صَبِيٌّ، فَنَذَرَتْ إِنْ وَجَدَتْهُ أَنْ تَكْسُوَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَوَجَدَتْهُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَئِيسًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِلَيْهِ كَانَتْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالسِّقَايَةُ، أَمَّا السِّقَايَةُ: فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَأَمَّا الْعِمَارَةُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ قُرَيْشًا عَلَى عِمَارَتِهِ وَتَرْكِ السِّبَابِ فِيهِ وَقَوْلَةِ الْهَجْرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْتَقَ الْعَبَّاسُ عِنْدَ مَوْتِهِ سَبْعِينَ مَمْلُوكًا، وُلِدَ قَبْلَ سَنَةِ الْفِيلِ، وَمَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَكَتَمَ إِسْلَامَهُ، وَخَرَجَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مُكْرَهًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ فَلَا يَقْتُلْهُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا» " فَأَسَرَهُ أَبُو الْيَسَرِ كَعْبُ بْنُ عُمَرَ، فَفَادَى نَفْسَهُ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ.

6158 - وَعَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَبَّاسِ: " إِذَا كَانَ غَدَاةَ الِاثْنَيْنِ فَأْتِنِي أَنْتَ وَوَلَدُكَ حَتَّى أَدْعُوَ لَهُمْ بِدَعْوَةٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا وَوَلَدَكَ " فَغَدَا وَغَدَوْنَا مَعَهُ، وَأَلْبَسَنَا كِسَاءَهُ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْعَبَّاسِ وَوَلَدِهِ مَغْفِرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً لَا تُغَادِرُ ذَنْبًا، اللَّهُمَّ احْفَظْهُ فِي وَلَدِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَزَادَ رَزِينٌ: " وَاجْعَلِ الْخِلَافَةَ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6158 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَبَّاسِ: " إِذَا كَانَ غَدَاةَ الِاثْنَيْنِ ") : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَقَدْ عَدُّوا قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَكُلُّ سِرٍّ جَاوَزَ الإِثْنَيْنِ شَاعْ لَحْنًا لِعَدَمِ اتِّزَانِهِ إِلَّا بِهَمْزِ الْقَطْعِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ. (" فَائْتِنِي أَنْتَ وَوَلَدَيْكَ ") : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ وَسُكُونٍ أَيْ: أَوْلَادَكَ (حَتَّى أَدْعُوَ لَهُمْ) ، أَيْ: لِلْأَوْلَادِ مَعَكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ كَذَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ لَكُمْ. اهـ. وَالْمَعْنَى حَتَّى أَدْعُوَ لَكُمْ جَمِيعًا (بِدَعْوَةٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ وَوَلَدَكَ) ، أَيْ وَيَنْفَعُ بِهَا أَوْلَادَكَ. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَغَدَا) ، أَيِ: الْعَبَّاسُ (وَغَدَوْنَا) ، أَيْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَوْلَادِ (مَعَهُ) وَالْمَعْنَى فَذَهَبْنَا جَمِيعَنَا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبْعَدَ شَارِحٌ فِي قَوْلِهِ أَيْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَأَلْبَسَنَا) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعًا أَوْ نَحْنُ الْأَوْلَادَ مَعَ الْعَبَّاسِ (كِسَاءَهُ) ، أَيْ: لِبَاسَهُ الْخَاصَّ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ وَإِرَادَةِ الْإِخْلَاصِ (ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْعَبَّاسِ وَوَلَدِهِ ") ، أَيْ: أَوْلَادِهِ (" مَغْفِرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ") ، أَيْ: مَا ظَهَرَ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا بَطَنَ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ (" لَا تُغَادِرُ ") ، أَيْ: لَا تَتْرُكُ تِلْكَ الْمَغْفِرَةُ (" ذَنْبًا ") ، أَيْ: غَيْرَ مَغْفُورٍ (" اللَّهُمَّ احْفَظْهُ فِي وَلَدِهِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ رَزِينٌ: " وَاجْعَلِ الْخِلَافَةَ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ". (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُمْ خَاصَّتُهُ وَأَنْعَمَ بِمَثَابَةِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي يَشْمَلُهَا كِسَاءٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَبْسُطَ عَلَيْهِمْ رَحْمَتَهُ بَسْطَ الْكِسَاءِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ فِي الْآخِرَةِ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَفِي هَذِهِ الدَّارِ تَحْتَ رَايَتِهِ. لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُصْرَةِ دَعْوَةِ رَسُولِهِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُ فِي وَلَدِهِ أَيْ: أَكْرِمْهُ وَرَاعِ أَمْرَهُ كَيْلَا يَضِيعَ فِي شَأْنِ وَلَدِهِ، وَهَذَا مَعْنَى رِوَايَةِ رَزِينٍ وَاجْعَلِ الْخِلَافَةَ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ.

6159 - «وَعَنْهُ أَنَّهُ رَأَى جِبْرَئِيلَ مَرَّتَيْنِ، وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6159 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ) ، أَيِ: ابْنَ عَبَّاسٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَارِحٌ (رَأَى جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ) : رَوَى ابْنُ النَّجَّارِ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ قُلْتُ لِأَبِي: أَمَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَحْسَنَ وَجْهًا مِنْهُ. فَقَالَ لِي: أَهْوَ كَانَ أَحْسَنَ وَجْهًا أَمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قُلْتُ: هُوَ، قَالَ: فَارْجِعْ بِنَا فَرَجَعْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَكَ؟ زَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ أَحْسَنَ وَجْهًا مِنْكَ. قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، أَمَا إِنَّهُ حِينَ دَخَلْتُمَا قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ مَنْ هَذَا الْغُلَامُ؟ قُلْتُ: ابْنُ عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: إِنَّهُ لَمَحَلٌّ لِلْخَيْرِ، قُلْتُ: يَا رُوحَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مِنْهُ كَثِيرًا طَيِّبًا» اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ (أَحْسَنَ) يَحْتَاجُ إِلَى تَوْجِيهٍ حَسَنٍ وَتَأْوِيلٍ مُسْتَحْسَنٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ أَوَّلَ نَظْرَةٍ اسْتَحْسَنَهُ بِحَيْثُ إِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْسَنُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْمَرْئِيَّاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ أَوَّلًا، أَوْ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ مُنْبَسِطًا عَلَيْهِ، أَوْ لِعَدَمِ تَمْيِيزِ ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَئِذٍ مَعَ الْمُنَاسَبَةِ الطُّفُولِيَّةِ الْمُشَابِهَةِ بِالصِّفَةِ الْمِلْكِيَّةِ الَّتِي كَأَنَّهَا عِلَّةُ الضَّمِّ مِنَ الْجِنْسِيَّةِ، وَإِلَّا فَجِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَظْهَرُ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ أَحْسَنَ صُورَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَدَعَا لَهُ) ، أَيْ: لِابْنِ عَبَّاسٍ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ) . أَيْ مَرَّةً بِإِعْطَاءِ الْحِكْمَةِ أَوْ عِلْمِ الْكِتَابِ حِينَ ضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ، وَمَرَّةً بِتَعْلِيمِ الْفِقْهِ حِينَ خَدَمَهُ بِوَضْعِ مَاءِ وُضُوئِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6160 - «وَعَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: دَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُؤْتِيَنِي اللَّهُ الْحِكْمَةَ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6160 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ قَالَ: دَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُؤْتِيَنِي اللَّهُ الْحِكْمَةَ) ، أَيِ: الْعِلْمَ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا (مَرَّتَيْنِ) أَيْ مَرَّةً بِلَفْظِ الْحِكْمَةِ، وَمَرَّةً بِعِبَارَةِ الْفِقْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا فِي مَجْلِسَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6161 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ جَعْفَرٌ يُحِبُّ الْمَسَاكِينَ وَيَجْلِسُ إِلَيْهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ وَيُحَدِّثُونَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَنِّيهِ بِأَبِي الْمَسَاكِينِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6161 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ جَعْفَرٌ يُحِبُّ الْمَسَاكِينَ) ، أَيْ: مَحَبَّةً زَائِدَةً (وَيَجْلِسُ إِلَيْهِمْ) أَيْ وَيَتَوَاضَعُ لَدَيْهِمْ (وَيُحَدِّثُهُمْ وَيُحَدِّثُونَهُ) أَيْ بِالْمُؤَانَسَةِ (فَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَكَانَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُنِّيهِ) ، أَيْ: لِكَثْرَةِ مَا ذُكِرَ (بِأَبِي الْمَسَاكِينِ) . أَيْ: مُلَازِمُهُمْ وَمُدَاوِمُهُمْ، كَمَا كَنَّى عَلِيًّا بِأَبِي تُرَابٍ لِمُبَاشَرَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ بِقُعُودِهِ وَرُقُودِهِ عَلَيْهِ، وَكَمَا يُقَالُ لِلصُّوفِيِّ: أَبُو الْوَقْتِ وَابْنُ الْوَقْفِ، وَلِلْمُسَافِرِ ابْنُ السَّبِيلِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6162 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رَأَيْتُ جَعْفَرًا يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6162 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ جَعْفَرًا يَطِيرُ) ، أَيْ: بِأَجْنِحَةٍ رُوحَانِيَّةٍ أَوْ جُسْمَانِيَّةٍ (" فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ ") . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَانَ جَعْفَرٌ قَدْ أُصِيبَ بِمَؤْتَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَهُوَ أَمِيرٌ بِيَدِهِ رَايَةُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَقَاتَلَ فِي اللَّهِ حَتَّى قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، فَأُرِي نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا كُوشِفَ؟ أَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ مُلَطَّخَيْنِ بِالدَّمِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

6163 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6163 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ") . قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي هُمَا أَفْضَلُ مَنْ مَاتَ شَابًّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ سِنَّ الشَّبَابِ، لِأَنَّهُمَا مَاتَا وَقَدْ كَهِلًا، بَلْ مَا يَفْعَلُهُ الشَّبَابُ مِنَ الْمُرُوَّةِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فَتًى وَإِنْ كَانَ شَيْخًا يُشِيرُ إِلَى مُرُوَّتِهِ وَفُتُوَّتِهِ، أَوْ أَنَّهُمَا سَيِّدَا أَهْلِ الْجَنَّةِ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّهُمْ فِي سِنٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ الشَّبَابُ، وَلَيْسَ فِيهِمْ شَيْخٌ وَلَا كَهْلٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ هُمَا الْآنَ سَيِّدَا شَبَابِ مَنْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ شَبَابِ هَذَا الزَّمَانِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ جَابِرٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعَنِ الْبَرَاءِ، وَابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ - وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَفْظُهُ: " «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا» ". وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ قُرَّةَ وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: " «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا ابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَفَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ» ".

6164 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ هُمَا رَيْحَانَيَّ مِنَ الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6164 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ هُمَا رَيْحَانَيَّ ") : بِفَتْحِ نُونٍ وَتَشْدِيدِ يَاءٍ كَمَا سَبَقَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مَا رَيْحَانَايَ، وَفِي نُسْخَةٍ رَيْحَانِي بِكَسْرِ النُّونِ (" مِنَ الدُّنْيَا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ) ، أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ (فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، قُلْتُ: وَيُدْفَعُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَقَعَتْ فِي مَحَلِّهِ، وَهَذَا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ جَاءَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَا تَكْرَارَ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَيْنِ مُتَغَايِرَانِ فِي الْجُمْلَةِ.

6165 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «طَرَقْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِي قُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ؟ فَكَشَفَهُ، فَإِذَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى وَرِكَيْهِ. فَقَالَ: " هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6165 - (وَعَنْ أَسَامِةَ بْنِ زَيْدٍ) ، أَيِ: ابْنِ حَارِثَةَ (قَالَ: طَرَقْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: طَلَبْتُ الطَّرِيقَ إِلَيْهِ فَفِي الْقَامُوسِ الطَّرْقُ الْإِتْيَانُ بِاللَّيْلِ كَالطُّرُوقِ، فَفِي الْكَلَامِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ، وَالْمَعْنَى أَتَيْتُهُ (ذَاتَ لَيْلَةٍ) ، أَيْ: لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، وَذَاتَ: مُقْحَمَةٌ لِتَأْكِيدِ الْإِبْهَامِ (فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ) أَيْ: لِأَجْلِ غَرَضِ حَاجَةٍ مِنَ الْحَاجَاتِ الْحَادِثَةِ فِي الْأَوْقَاتِ (فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُشْتَمِلٌ) ، أَيْ: مُحْتَجِبٌ (عَلَى شَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِي قُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ؟ فَكَشَفَهُ) أَيْ: أَزَالَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحِجَابِ، أَوِ الْمَعْنَى فَكَشَفَ الْحِجَابَ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ (فَإِذَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى وَرِكَيْهِ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَفِي الْقَامُوسِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ مَا فَوْقَ الْفَخِذِ. (فَقَالَ: " هَذَانِ ابْنَايَ ") ، أَيْ: حُكْمًا (" وَابْنَا ابْنَتِي ") أَيْ: حَقِيقَةً (" «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» ") . وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِظْهَارِ هَذَا الدُّعَاءِ حَمْلُ أُسَامَةَ زِيَادَةً عَلَى مَحَبَّتِهِمَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6166 - وَعَنْ سَلْمَى، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْنِي فِي الْمَنَامِ - وَعَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ التُّرَابُ فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " شَهِدْتُ قَتْلَ الْحُسَيْنِ آنِفًا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6166 - (وَعَنْ سَلْمَى) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ؛ زَوْجَةُ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَابِلَةُ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهَا ابْنُهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ (قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ) : وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَهِيَ تَبْكِي) : أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ مُنْذِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَقُولُ: مَنْ دَمِعَتْ عَيْنَاهُ فِينَا دَمْعَةً أَوْ قَطَرَتْ عَيْنَاهُ فِينَا قَطْرَةً آتَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْجَنَّةَ. (فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ كَافَيْهِ (قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - تَعْنِي فِي الْمَنَامِ -) : هَذَا مِنْ كَلَامِ سَلْمَى، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهَا أَيْ: تُرِيدُ أُمُّ سَلَمَةَ بِالرُّؤْيَةِ الرُّؤْيَةَ فِي الْمَنَامِ (وَعَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ التُّرَابُ) ، أَيْ: أَثَرُهُ مِنَ الْغُبَارِ (فَقُلْتُ: مَا لَكَ) ، أَيْ: مِنَ الْحَالِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " شَهِدْتُ ") ، أَيْ: حَضَرْتُ (" قَتْلَ الْحُسَيْنِ آنِفًا ") : بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ قَصْرُهَا أَيْ: هَذِهِ السَّاعَةَ الْقَرِيبَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِي سَنَدِهِ حَسَنُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَضْعُفُ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَلَمْ يَصِحَّ خَبَرُهُ. قُلْتُ: لِكَنْ يُقَوِّيَهُ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ.

6167 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ " وَكَانَ يَقُولُ لِفَاطِمَةَ: " ادْعِي لِي ابْنَيَّ " فَيَشُمُّهُمَا وَيَضُمُّهُمَا إِلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6167 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ " وَكَانَ يَقُولُ لِفَاطِمَةَ: " ادْعِي لِي ") : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا أَيِ: اطْلُبِي لِأَجْلِيَ (" ابْنَيَّ ") : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ (فَيَشُمُّهُمَا) : بِضَمِّ الشِّينِ وَقَدْ يُفْتَحُ فَفِي الْقَامُوسِ الشَّمُّ حَسُّ الْأَنْفِ شَمِمْتُهُ بِالْكَسْرِ أَشَمُّهُ بِالْفَتْحِ وَشَمَمْتُهُ أَشُمُّهُ بِالضَّمِّ قَالَ غَيْرُهُ: شَمِمْتُ الشَّيْءَ مِنْ بَابِ (فَرِحَ) وَجَاءَ مِنْ بَابِ نَصَرَ لُغَةً فِيهِ، وَالْمَعْنَى فَيَحْضُرَانِ فَيَشُمُّهُمَا لِأَنَّهُمَا رَيْحَانَاهُ (وَيَضُمُّهُمَا إِلَيْهِ) . أَيْ: بِالِاعْتِنَاقِ وَالِاحْتِضَانِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَفِي الذَّخَائِرِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ: جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْتَبِقَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، فَجَعَلَ يَدَهُ فِي عُنُقِهِ فَضَمَّهُ إِلَى بَطْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ فَجَعَلَ يَدَهُ الْأُخْرَى فِي رَقَبَتِهِ ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى بَطْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبَّلَ هَذَا ثُمَّ قَبَّلَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: " «إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبُّوهُمَا أَيُّهَا النَّاسُ الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

6168 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُنَا، إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " صَدَقَ اللَّهُ (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6168 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا: وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ الْحَالِيَّةِ (قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ) ، أَيْ: فِيهِمَا خُطُوطٌ حُمْرٌ (يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ) ، بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَيَجُوزُ تَثْلِيثُهَا فَفِي الْقَامُوسِ: عَثَرَ كَضَرَبَ وَنَصَرَ وَعَلِمَ وَكَرَمَ كَبَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ عَلَى الْأَرْضِ لِصِغَرِهِمَا وَقِلَّةِ قُوَّتِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ الْكَشَّافِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ (فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا) ، أَيْ: عَلَى كَتِفَيْهِ (وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " صَدَقَ اللَّهُ ") ، أَيْ: فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ} [التغابن: 15] أَيْ: بِالْخِطَابِ الْعَامِّ فِتْنَةٌ أَيْ: مِحْنَةٌ (" فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ ") ، أَيْ: عَنْهُمَا لِتَأْثِيرِ الرَّحْمَةِ وَالرِّقَّةِ فِي قَلْبِي (حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي) ، أَيْ: كَلَامِي! فِي الْخُطْبَةِ (" وَرَفَعْتُهُمَا ") ، أَيْ: عِنْدِي لِيَحْصُلَ لَهُمَا الرِّفْعَةُ عِنْدَ اللَّهِ وَعَنْدَ خَلْقِهِ (ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ) . عَلَى مَا فِي الْكَشَّافِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

6169 - وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبَطٌ مِنَ الْأَسْبَاطِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6169 - (وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ) : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ ثَقَفِيٌّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ وَالْفَتْحَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَعِدَادُهُ فِي الْكُوفِيِّينَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ» ") قَالَ الْقَاضِي: كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِنُورِ الْوَحْيِ مَا سَيَحْدُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْمَحَبَّةِ وَحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ وَالْمُحَارَبَةِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (" «أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا» ") ، فَإِنَّ مَحَبَّتَهُ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ، وَمَحَبَّةُ الرَّسُولِ مَحَبَّةُ اللَّهِ (" حُسَيْنٌ سِبَطٌ ") : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: وَلَدُ ابْنَتِي (" مِنَ الْأَسْبَاطِ ") ، وَمَأْخَذُهُ مِنَ السَّبْطِ بِالْفَتْحِ وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ، وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ. كَانَ الْوَالِدُ. بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَالْأَوْلَادُ بِمَنْزِلَةِ أَغْصَانِهَا. وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ فِي الْخَيْرِ. قَالَ الْقَاضِي: السِّبَطُ وَلَدُ الْوَلَدِ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِي أَكَّدَ بِهِ الْبَعْضِيَّةَ وَقَرَّرَهَا. وَيُقَالُ لِلْقَبِيلَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} [الأعراف: 160] أَيْ: قَبَائِلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَا هُنَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَشَعَّبُ مِنْهُ قَبِيلَةٌ، وَيَكُونُ مِنْ نَسْلِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ نَسْلَهُ يَكُونُ أَكْثَرَ وَأَبْقَى، وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: وَفَدَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ وَعَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْمِقْدَامِ: أَعَلِمْتَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ تُوُفِّيَ، فَرَجَعَ الْمِقْدَامُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَتَرَاهَا مُصِيبَةً، وَقَدْ وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجْرِهِ. وَقَالَ: «هَذَا مِنِّي وَحُسَيْنٌ مِنْ عَلِيٍّ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ مَرْفُوعًا: " «الْحَسَنُ مِنِّي وَالْحُسَيْنُ مِنْ عَلِيٍّ» " لِأَنَّهُ أَرَادَ قِسْمَةَ الْوَالِدَيْنِ لِلْأَبَوَيْنِ، فَالْكَبِيرُ لِلْجَدِّ وَالصَّغِيرُ لِلْأَبِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعُرْفِ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ أَحَبُّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا» . «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ.

6170 - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْحَسَنُ أَشْبَهَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ، وَالْحُسَيْنُ أَشْبَهَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6170 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْحَسَنُ أَشْبَهَ) : فِعْلٌ مَاضٍ أَيْ: شَابَهَ فِي الصُّورَةِ (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: بَدَلٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُضْمَرِ فِي أَشْبَهَ أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ بَدَلُ الْبَعْضِ، وَكَذَا قَوْلُهُ الْآتِي مَا كَانَ أَسْفَلَ (وَالْحُسَيْنُ أَشْبَهَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ) . أَيْ: كَالسَّاقِ وَالْقَدَمِ، فَكَانَ الْأَكْبَرُ أَخَذَ الشَّبَهَ الْأَقْدَمَ لِكَوْنِهِ أَسْبَقَ وَالْبَاقِي لِلْأَصْغَرِ قَدْ تَحَقَّقَ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَأْخُذَا شَبَهًا كَبِيرًا مِنْ وَالِدَيْهِمَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

6171 - «وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ لِأُمِّي: دَعِينِي آتِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُصَلِّي مَعَهُ الْمَغْرِبَ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي وَلَكِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، فَصَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ، فَسَمِعَ صَوْتِي، فَقَالَ: " مَنْ هَذَا؟ حُذَيْفَةُ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " مَا حَاجَتُكَ؟ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكِ، إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلِ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6171 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأُمِّي: دَعِينِي) ، أَيِ: اتْرُكِينِي وَخَلِّي سَبِيلِي (آتِي) : بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ أَيْ: أَنَا آتِي (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُصَلِّي مَعَهُ الْمَغْرِبَ) : وَلَعَلَّهَا كَانَتْ تَمْنَعُهُ لِبُعْدِ مَحَلِّهِ خَوْفًا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا (وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي وَلَكِ) ، أَيْ: فَأَذِنَتْ لِي (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، فَصَلَّى) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّوَافِلَ (حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ انْفَتَلَ) ، أَيِ: انْصَرَفَ وَرَجَعَ (فَتَبِعْتُهُ، فَسَمِعَ صَوْتِي) ، أَيْ: صَوْتَ حَرَكَةِ رِجْلِي (فَقَالَ: " مَنْ هَذَا؟ حُذَيْفَةُ ") ؟ أَيْ: فَقَالَ قَبْلَ جَوَابِي! حُذَيْفَةُ لِمَا عَلِمَ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ أَوْ طَرِيقِ الْفَرَاسَةِ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَهَذَا أَوْ هُوَ أَوْ أَنْتَ حُذَيْفَةُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " مَا حَاجَتُكَ؟ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكِ) ، وَهَذَا إِبْهَامٌ وَتَبْيِينٌ لِلْحَاجَةِ السَّابِقَةِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَقَالَ: (" إِنَّ هَذَا ") ، أَيِ: الْمَحْسُوسَ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَلْحُوظَ حُكْمًا عِنْدَ حُذَيْفَةَ (" مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلِ الْأَرْضَ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ ") ، فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ (" اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَفِي الذَّخَائِرِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

6172 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَامِلًا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ، قَالَ رَجُلٌ: نِعْمَ الْمَرْكَبُ رَكِبْتَ يَا غُلَامُ! فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَنِعْمَ الرَّاكِبُ هُوَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6172 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَامِلًا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ) : وَفِي رِوَايَةٍ حَامِلًا لِلْحَسَنِ (عَلَى عَاتِقِهِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ: مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ وَعُنُقِهِ (فَقَالَ رَجُلٌ: نِعْمَ الْمَرْكَبُ) ، أَيْ: هُوَ (رَكِبْتَ) ، أَيْ: رَكِبْتَهُ (يَا غُلَامُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَنِعْمَ الرَّاكِبُ هُوَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: وَقَالَ غَرِيبٌ.

6173 - «وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَرَضَ لِأُسَامَةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَفَرَضَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِأَبِيهِ: لِمَ فَضَّلْتَ أُسَامَةَ عَلَيَّ؟ فَوَاللَّهِ مَا سَبَقَنِي إِلَى مَشْهَدٍ. قَالَ: لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَبِيكَ، وَكَانَ أُسَامَةُ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْكَ فَآثَرْتُ حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حِبِّي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6173 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَرَضَ) ، أَيْ: قَدَّرَ فِي إِمَارَتِهِ (وَظِيفَةً لِأُسَامَةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ) ، أَيْ: مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ رِزْقًا لَهُ (وَفَرَضَ) ، أَيْ: عُمَرُ (لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَيْ: وَلَدِهِ بَلْ أَعَزُّ أَوْلَادِهِ (فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ) ، أَيْ: بِنَقْصِ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ وَظِيفَةِ أُسَامَةَ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِأَبِيهِ: لِمَ فَضَّلْتَ أُسَامَةَ عَلَيَّ) ؟ أَيْ: فِي الْوَظِيفَةِ الْمُشْعِرَةِ بِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ (فَوَاللَّهِ مَا سَبَقَنِي إِلَى مَشْهَدٍ) . أَيْ: مَحْضَرٍ مِنَ الْخَيْرِ عِلْمًا وَعَمَلًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ بِالْمَشْهَدِ مَشْهَدَ الْقِتَالِ وَمَعْرَكَةَ الْكُفَّارِ (قَالَ: لِأَنَّ زَيْدًا) ، أَيْ: أَبَا أُسَامَةَ (كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَبِيكَ) ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ أَحَدٌ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ (وَكَانَ أُسَامَةُ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْكَ) ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ فَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ (فَآثَرْتُ) : بِهَمْزٍ مَمْدُودٍ أَيِ: اخْتَرْتُ (حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَقَدْ يُضَمُّ أَيْ: مَحْبُوبَهُ (عَلَى حُبِّي) . أَيْ: مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْفَضِيلَةِ، بَلْ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَحَبَّةِ وَإِيثَارًا لِلْمَوَدَّةِ وَمُخَالَفَةً لِمَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ مِنْ مَزِيَّةِ الزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6174 - «وَعَنْ جَبَلَةَ بْنِ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ابْعَثْ مَعِي أَخِي زَيْدًا. قَالَ: " هُوَ ذَا فَإِنِ انْطَلَقَ مَعَكَ لَمْ أَمْنَعْهُ " قَالَ زَيْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَا أَخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا. قَالَ: فَرَأَيْتُ رَأْيَ أَخِي أَفْضَلَ مِنْ رَأْيِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6174 - (وَعَنْ جَبَلَةَ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ (ابْنِ حَارِثَةَ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ وَغَيْرُهُ (قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْ مَعِي أَخِي زَيْدًا) . بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ (قَالَ: " هُوَ ذَا ") ، هُوَ عَائِدٌ إِلَى زَيْدٍ، وَذَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ أَيْ: هُوَ حَاضِرٌ مُخَيَّرٌ (" فَإِنِ انْطَلَقَ مَعَكَ لَمْ أَمْنَعْهُ ") . أَيْ: فَإِنِّي أُعْتِقُتُهُ (قَالَ زَيْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَخْتَارُ عَلَيْكَ) ، أَيْ: عَلَى مُلَازِمَتِكَ (أَحَدًا) . أَيْ: لَا أَخًا وَلَا أَبًا وَلَا أُمًّا أَبَدًا (قَالَ) ، أَيْ: جَبَلَةُ (فَرَأَيْتُ) ، أَيْ: فَعَلِمْتُ بَعْدَ ذَلِكَ (رَأْيَ أَخِي) ، أَيْ: زَيْدٍ (أَفْضَلَ مِنْ رَأْيِي) : حَيْثُ اخْتَارَ الْمُلَازَمَةَ لِحَضْرَةِ الْمُتَفَرِّغِ عَلَيْهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6175 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَبَطْتُ وَهَبَطَ النَّاسُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أُصْمِتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيَّ وَيَرْفَعُهُمَا، فَأَعْرِفُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6175 - (وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ: ضَعُفَ مِنْ مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَبَطْتُ) ، أَيْ: نَزَلْتُ مِنْ سَكَنِي الَّتِي كَانَتْ فِي عَوَالِيِ الْمَدِينَةِ (وَهَبَطَ النَّاسُ) ، أَيِ: الصَّحَابَةُ جَمِيعُهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمُ (الْمَدِينَةَ) أَيْ: إِلَيْهَا عَلَى طَرِيقِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أَيْ: مِنْهُمْ، قَالَ الشُّرَّاحُ إِنَّمَا قَالَ هَبَطْتُ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْكُنُ الْعَوَالِي، وَالْمَدِينَةُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهْتَ إِلَيْهَا صَحَّ فِيهَا الْهُبُوطُ، لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي غَائِطٍ مِنَ الْأَرْضِ يَنْحَدِرُ إِلَيْهَا السَّيْلُ وَأَطْرَافُهَا وَنَوَاحِيهَا مِنَ الْجَوَانِبِ كُلُّهَا مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَيْهَا. (فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أُصْمِتَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ يُقَالُ: أَصَمَتَ الْعَلِيلُ إِذَا اعْتُقِلَ لِسَانُهُ (فَلَمْ يَتَكَلَّمْ) ، أَيْ: أَصْلًا (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيَّ) ، أَيْ: عَلَى بَدَنِي (وَيَرْفَعُهُمَا) ، أَيْ عَنِّي (فَأَعْرِفُ) أَيْ: بِنُورِ الْوِلَايَةِ وَظُهُورِ الْفَرَاسَةِ (أَنَّهُ يَدْعُو لِي) أَيْ: لِمَحَبَّتِهِ وَرِعَايَةِ خِدْمَتِهِ حَتَّى حِينَ غَيْبَةِ حَضْرَتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

6176 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَحِّي مُخَاطَ أُسَامَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: دَعْنِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَفْعَلُ. قَالَ: " يَا عَائِشَةُ أَحِبِّيهِ فَإِنِّي أُحِبُّهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6176 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَحِّيَ) : بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: يُزِيلَ (مُخَاطَ أُسَامَةَ) . بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنَ الْأَنْفِ (قَالَتْ عَائِشَةُ: دَعْنِي) ، أَيِ: اتْرُكْنِي (حَتَّى أَنَا الَّذِي أَفْعَلُ) أَيْ: خِدْمَتَهُ (قَالَ: " يَا عَائِشَةُ أَحِبِّيهِ فَإِنِّي أُحِبُّهُ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6177 - «وَعَنْ أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا، إِذْ جَاءَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ يَسْتَأْذِنَانِ، فَقَالَا لِأُسَامَةَ: اسْتَأْذِنْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ يَسْتَأْذِنَانِ. فَقَالَ: " أَتَدْرِي مَا جَاءَ. بِهِمَا؟ " قُلْتُ: لَا "، قَالَ: " لَكِنِّي أَدْرِي، ائْذَنْ لَهُمَا " فَدَخَلَا، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ أَيُّ أَهْلِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ " قَالَا: مَا جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَهْلِكَ قَالَ: " أَحَبُّ أَهْلِي إِلَيَّ مَنْ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ " قَالَا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَا: ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ " فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَعَلْتَ عَمَّكَ آخِرَهُمْ؟ قَالَ: " إِنَّ عَلِيًّا سَبَقَكَ بِالْهِجْرَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَذَكَرَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6177 - (وَعَنْ أُسَامَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا) ، أَيْ: عِنْدَ بَابِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (إِذْ جَاءَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ يَسْتَأْذِنَانِ) ، أَيْ: يُرِيدَانِ طَلَبَ الْإِذْنِ فِي دُخُولِهِمَا (فَقَالَا لِأُسَامَةَ: اسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، لَعَلَّهُ كَانَ صَغِيرًا إِذْ ذَاكَ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ يَسْتَأْذِنَانِ) . أَيْ: عَلَى الْبَابِ (فَقَالَ: " أَتَدْرِي مَا جَاءَ

بِهِمَا ") ؟ أَيْ: مَا سَبَبُ مَجِيئِهِمَا (قُلْتُ: لَا. قَالَ: " لَكِنِّي أَدْرِي، ائْذَنْ لَهُمَا ") : بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَصْلًا وَبِإِبْدَالِهَا يَاءً (فَدَخَلَا) ، أَيْ: بَعْدَ إِذْنِهِمَا (فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ أَيُّ أَهْلِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ " قَالَا: مَا جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَهْلِكَ) ، أَيْ: عَنْ أَزْوَاجِكَ وَأَوْلَادِكَ، بَلْ نَسْأَلُكَ عَنْ أَقَارِبِكَ وَمُتَعَلِّقِيكَ (قَالَ: " أَحَبُّ أَهْلِي إِلَيَّ ") ، أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ (" مَنْ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ") ، أَيْ: بِالْإِسْلَامِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِكْرَامِ (" وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ ") ، أَيْ: أَنَا بِالْعِتْقِ وَالتَّبَنِّي وَالتَّرْبِيَةِ، وَهَذَا وَإِنْ وَرَدَ فِي حَقِّ زَيْدٍ، لَكِنَّ ابْنَهُ تَابِعٌ لَهُ فِي حُصُولِ الْإِنْعَامَيْنِ (قَالَا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ") : وَفِي نُسْخَةٍ بِدُونٍ ثُمَّ، فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَحَبِّيَّةِ الْأَفْضَلِيَّةُ، فَإِنَّ عَلِيًّا أَفْضَلُ مِنْ أُسَامَةَ وَزَيْدٍ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيُّ أَهْلِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ مُطْلَقٌ وَيُرَادُ بِهِ الْمُقَيَّدُ أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ بَيَّنَهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَحَبُّ أَهْلِي إِلَيَّ مَنْ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ قَوْلُهُ: مَا جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَهْلِكَ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ رَسُولُهُ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] وَهُوَ زَيْدٌ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ وَلَا شَكَّ، وَهُوَ وَإِنْ نَزَلَ فِي حَقِّ زَيْدٍ لَكِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ أُسَامَةَ تَابِعًا لِأَبِيهِ فِي هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ، وَحَلَّ مَا حَلَّ مَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّنْزِيلِ مِنَ الْإِنْعَامِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ نَحْوُ: أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، نِعَمٌ أَسْدَاهَا إِلَى آبَائِهِمْ (فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَعَلْتَ عَمَّكَ آخِرَهُمْ) ؟ أَيْ: آخِرَ أَهْلِكِ (قَالَ: " إِنَّ عَلِيًّا سَبَقَكَ بِالْهِجْرَةِ ") . أَيْ: وَكَذَا بِالْإِسْلَامِ، فَهَذَا أَوْجَبَ تَقْدِيمَ الْأَحَبِّيَّةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، لَا عَلَى الْأَقْرَبِيِّةِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ جَاءَ الْعَبَّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ وَبِلَالٌ وَسَلْمَانُ إِلَى بَابِ عُمَرَ يَسْتَأْذِنُونَهُ فَقَالَ خَادِمُ عُمَرَ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِالْجَمَاعَةِ يَدْخُلُ بِلَالٌ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ أَمَا تَرَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ عَلَيْنَا مَوَالِيَنَا؟ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: نَحْنُ تَأَخَّرْنَا فَهَذَا جَزَاؤُنَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ، عَنْ عَائِشِ بْنِ رَبِيعَةَ: خَيْرُ إِخْوَتِي عَلِيٌّ وَخَيْرُ أَعْمَامِي حَمْزَةُ. (وَذَكَرَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ) . أَيْ: حَيْثُ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمْرَ فِي قِصَّةِ زَكَاةِ الْعَبَّاسِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6178 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الْعَصْرَ ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي وَمَعَهُ عَلِيٌّ، فَرَأَى الْحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَقَالَ: بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيٍّ، وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6178 - (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ) : قُرَشِيٌّ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَغَيْرُهُ (قَالَ: صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الْعَصْرَ) ، أَيْ: فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا (ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي وَمَعَهُ عَلِيٌّ، فَرَأَى) ، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (الْحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَقَالَ: بِأَبِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هُوَ مَفْدِيٌّ بِأَبِي، فَقَوْلُهُ (شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : يَكُونُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ أَفْدِيهِ بِأَبِي، فَعَلَى هَذَا شَبِيهٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي تَنْكِيرِهِ لُطْفٌ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِعِلْيَةِ الشَّبَهِ لِلتَّفْدِيَةِ اهـ. وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَ عَلِيٍّ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ

مِثْلَهُ، لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِ الشَّبَهِ وَالْمُثْبَتُ عَلَى مُعْظَمِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الطِّيبِيُّ بِقَوْلِهِ، وَفِي تَنْكِيرِهِ لُطْفٌ أَيْ: إِيمَاءٌ لَطِيفٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَوْعُ شَبَهٍ. وَقَوْلُهُ: (لَيْسَ) أَيِ: الْحَسَنُ (شَبِيهًا: بِعَلِيٍّ، وَعَلَيٌّ يَضْحَكُ) . أَيْ: فَرِحًا وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي الْمِشْكَاةِ قَوْلُهُ شَبِيهًا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَكِنَّهُ فِي الْبُخَارِيِّ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ شَبِيهٌ بِالرَّفْعِ، وَإِعْرَابُهُ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ فَقِيلَ: لَيْسَ حَرْفُ عَطْفٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَبِيهَ اسْمَ لَيْسَ، وَيَكُونُ خَبَرُهَا ضَمِيرًا مُتَّصِلًا حُذِفَ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِلَفْظٍ شَبِيهٍ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ: أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ. اهـ. وَلَا يَخْفَى ظُهُورُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِخُلُوِّهِ عَنِ التَّكَلُّفِ، وَقِيلَ لَا يَخْفَى مَا فِي التَّوْجِيهَيْنِ مِنَ التَّعَسُّفِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اسْمَ لَيْسَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَشَبِيهٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ شَبِيهٌ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ لَيْسَ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّوْجِيهَ يَشْتَمِلُ عَلَى تَعَسُّفَيْنِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِتَعَسُّفٍ وَاحِدٍ، هَذَا وَلَفْظُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا فِي الذَّخَائِرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ حَمَلَ الْحَسَنَ عَلَى رَقَبَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيٍّ وَهُوَ يَضْحَكُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ خَرَجْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٌّ يَمْشِي إِلَى جَانِبِهِ، فَمَرَّ الْحَسَنُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَاحْتَمَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ - وَهُوَ يَقُولُ الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى الْغُرَابِيَّةِ وَهُمْ عَلَى مَا فِي حَوَاشِيِ الشِّفَاءِ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّافِضَةِ لُقِّبُوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ: كَانَ مُحَمَّدٌ أَشْبَهَ بِعَلِيٍّ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ إِلَى عَلِيٍّ فَغَلِطَ.

6179 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا، قَالَ أَنَسٌ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مَخْضُوبًا بِالْوَسِمَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ فَجِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ بِقَضِيبٍ فِي أَنْفِهِ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا حُسْنًا، فَقُلْتُ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْبَهِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6179 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ) ، أَيْ: جِيءَ (عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ الَّذِي سَيَّرَ الْجَيْشَ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْكُوفَةِ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قُتِلَ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ عَلَى يَدِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ فِي أَيَّامِ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ (فَجُعِلَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: وُضِعَ (رَأْسُ الْحُسَيْنِ فِي طَسْتٍ) : بِفَتْحِ طَاءٍ وَسُكُونِ سَيْنٍ مُهْمِلَةٍ وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ (فَجَعَلَ) ، أَيِ: ابْنُ زِيَادٍ (يَنْكُتُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ وَالْفَوْقِيَّةِ أَيْ: يَضْرِبُ (بِرَأْسِ الْقَضِيبِ) : فِي أَنْفِهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: يَنْكُتُ، أَيْ: يُفَكِّرُ وَيُحَدِّثُ بِنَفْسِهِ وَأَصْلُهُ مِنَ النَّكْتِ بِالْعَصَا وَهُوَ ضَرْبُ الْأَرْضِ بِهَا، وَنَكْتُ الْأَرْضِ بِالْقَضِيبِ هُوَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهَا بِطَرَفِهِ كَفِعْلِ الْمُفَكِّرِ الْمَوْهُومِ. (وَقَالَ) ، أَيِ: ابْنُ زِيَادٍ (فِي حُسْنِهِ) ، أَيْ: فِي حُسْنِ الْحُسَيْنِ (شَيْئًا) ، أَيْ: مِنَ الْمَدْحِ كَمَا سَيَجِيءُ (قَالَ أَنَسٌ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَهُمْ) ، أَيْ: أَشْبَهَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَهْلِ الْبَيْتِ (بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ) ، أَيِ: الْحُسَيْنُ حِينَئِذٍ (مَخْضُوبًا بِالْوَسِمَةِ) . بِكَسْرِ السِّينِ وَقَدْ يُسَكَّنُ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْوَسِمَةُ نَبْتٌ يُخَضَّبُ بِهِ وَيَمِيلُ إِلَى السَّوَادِ وَتَسْكِينُ السِّينِ لُغَةٌ فِيهِ. وَفِي الْمِصْبَاحِ لُغَةُ الْحِجَازِ بِكَسْرِ السِّينِ، وَهِيَ أَفْصَحُ مِنَ السُّكُونِ، بَلْ أَنْكَرَ الزُّهْرِيُّ السُّكُونَ، وَقَالَ: كَلَامُ الْعَرَبِ بِالْكَسْرِ نَبْتٌ يُخَضَّبُ بِعُرُوقِهِ. اهـ. وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَأَخْطَأَ مَنْ ضَمَّهَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ فَتْحُ سِيْنِهَا، وَفِي الْقَامُوسِ الْوَسْمَةُ وَكَفَرْحَةٍ وَرِقُ النِّيلِ أَوْ نَبَاتٌ يُخَضَّبُ بِوَرِقِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ الْوَسْمَةُ نَبْتٌ يُخَضَّبُ بِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . (وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ) ، أَيْ: أَنَسٌ (كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ فَجِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ) أَيْ: إِلَيْهِ (فَجَعَلَ) ، أَيْ: شَرَعَ (يَضْرِبُ بِقَضِيبٍ فِي أَنْفِهِ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا حُسْنًا) . بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، قِيلَ: هَذَا لَا يُلَائِمُ السِّيَاقَ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ. اهـ. فَحِينَئِذٍ يُحْمَلُ اسْتِهْزَاؤُهُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ وَزِيَادَةِ الْمُعَانَدَةِ (فَقُلْتُ: أَمَا) :

بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُ) ، أَيِ: الْحُسَيْنَ (كَانَ مَنْ أَشْبَهِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ) ، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) . وَلِلطَّبَرَانِيِّ فَجَعَلَ يَجْعَلُ قَضِيبًا فِي يَدِهِ فِي عَيْنِهِ وَأَنْفِهِ، فَقُلْتُ: ارْفَعْ قَضِيبَكَ فَقَدْ رَأَيْتُ فَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوْضِعِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشُمُّ حَيْثُ يَقَعُ قَضِيبُكَ. قَالَ: فَانْقَبَضَ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَفِي الذَّخَائِرِ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ ابْنِ زِيَادٍ وَأَصْحَابِهِ فَصِرْتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي الرُّحْبَةِ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَتْ قَدْ جَاءَتْ فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تَتَخَلَّلُ الرُءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي مَنْخَرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَمَكَثْتُ هُنَيْهَةً ثُمَّ خَرَجْتُ فَذَهَبْتُ حَتَّى تَغِيبَ ثُمَّ قَالُوا: قَدْ جَاءَتْ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

6180 - «وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي رَأَيْتُ حُلْمًا مُنْكَرًا اللَّيْلَةَ قَالَ: " وَمَا هُوَ؟ " قَالَتْ: إِنَّهُ شَدِيدٌ قَالَ: " وَمَا هُوَ؟ " قَالَتْ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قِطْعَةً مِنْ جَسَدِكَ قُطِعَتْ وَوُضِعَتْ فِي حِجْرِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَأَيْتِ خَيْرًا، تَلِدُ فَاطِمَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غُلَامًا يَكُونُ فِي حِجْرِكِ ". فَوَلَدَتْ فَاطِمَةُ الْحُسَيْنَ، فَكَانَ فِي حِجْرِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَدَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ كَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ، فَإِذَا عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَهْرِيقَانِ الدُّمُوعَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا لَكَ؟ قَالَ: " أَتَانِي جِبْرَئِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أُمَّتِي سَتَقْتُلُ ابْنِي هَذَا، فَقُلْتُ: هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَتَانِي بِتُرْبَةٍ مِنْ تُرْبَتِهِ حَمْرَاءَ» ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 6180 - (وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ) : اسْمُهَا لُبَابَةُ الْعَامِرِيَّةُ امْرَأَةُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأُمُّ أَكْثَرِ بَنِيهِ وَهِيَ أُخْتُ مَيْمُونَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ بَعْدَ خَدِيجَةَ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثَ كَثِيرَةً فَعَنْهَا. (أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي رَأَيْتُ حُلْمًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيُضَمَّانِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْحُلُمُ بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ (مُنْكَرًا) : بِفَتْحِ الْكَافِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ: مَهُولًا (اللَّيْلَةَ) ، أَيِ: الْبَارِحَةَ (قَالَ: " وَمَا هُوَ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ شَدِيدٌ) . أَيْ: صَعْبٌ سَمَاعُهُ (قَالَ: " وَمَا هُوَ؟ " قَالَتْ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قِطْعَةً مِنْ جَسَدِكَ قُطِعَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (فَوُضِعَتْ فِي حِجْرِي) . بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْحِجْرَ بِالْكَسْرِ أَشْهَرُ فِي الْحَضْنِ وَبِالْفَتْحِ فِي التَّرْبِيَةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَأَيْتِ خَيْرًا، تَلِدُ فَاطِمَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غُلَامًا يَكُونُ فِي حِجْرِكِ ". فَوَلَدَتْ فَاطِمَةُ الْحُسَيْنَ، كَانَ فِي حِجْرِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَدَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهِ) ، وَفِي نُسْخَةٍ فِي حِجْرِي (ثُمَّ كَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ) ، أَيْ: وَقَعَتْ مِنِّي مُلَاحَظَةٌ فَنَظَرْتُ إِلَى جَانِبِهِ (فَإِذَا عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَهْرِيقَانِ الدُّمُوعَ) ، بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: تَسِيلَانِ مَاءَ الْعَيْنِ لِلْبُكَاءِ (قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا لَكَ) ؟ أَيْ: مِنَ الْحَالِ الَّذِي يُبْكِيكَ (قَالَ: " أَتَانِي جِبْرِيلُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (" فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أُمَّتِي ") ، أَيْ: أُمَّةَ الْإِجَابَةِ (" سَتَقْتُلُ ابْنِي هَذَا ") ، أَيْ: ظُلْمًا (" فَقُلْتُ ") أَيْ: لِجِبْرِيلَ (" هَذَا ") ، أَيِ: ابْنِي هَذَا لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ (" قَالَ: نَعَمْ، وَأَتَانِي بِتُرْبَةٍ مِنْ تُرْبَتِهِ ") ، أَيْ: مِنْ تُرَابِهِ الَّذِي يُقْتَلُ بِهِ (" حَمْرَاءَ ") . بِالْفَتْحِ صِفَةٌ لِتُرْبَةٍ وَفِي الذَّخَائِرِ «عَنْ سَلْمَى قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْنِي فِي الْمَنَامِ وَعَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ التُّرَابُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " شَهِدْتُ قَتْلَ الْحُسَيْنِ آنِفًا» " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَالْبَغَوِيُّ فِي الْحِسَانِ.

6181 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرَى النَّائِمُ ذَاتَ يَوْمٍ بِنِصْفِ النَّهَارِ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، بِيَدِهِ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا هَذَا؟ قَالَ: " هَذَا دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، وَلَمْ أَزَلْ أَلْتَقِطُهُ مُنْذُ الْيَوْمُ " فَأُحْصِي ذَلِكَ الْوَقْتَ فَأَجِدُ قُتِلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ. رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " وَأَحْمَدُ الْأَخِيرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6181 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرَى النَّائِمُ) ، أَيْ: بَعْدَ مَوْتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (ذَاتَ يَوْمٍ بِنِصْفِ النَّهَارِ) ، وَفِي الذَّخَائِرِ زِيَادَةٌ وَهُوَ قَائِمٌ (أَشْعَثَ أَغْبَرَ) ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُتَفَرِّقَ الشَّعْرِ مُغْبَّرَ الْبَدَنِ (بِيَدِهِ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا هَذَا) ؟ أَيِ: الدَّمُ (قَالَ: " هَذَا دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، لَمْ أَزَلْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَمْ أَزَلْ (" أَلْتَقِطُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ لِقَوْلِهِ: هَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، وَدَمُ الْحُسَيْنِ بَدَلٌ مِنْ هَذَا، وَقَوْلُهُ: (فَأُحْصِي ذَلِكَ الْوَقْتَ) : مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ. اهـ. أَيْ: حَفِظَ تَارِيخَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ زَمَنِ الرُّؤْيَا (فَأَجِدُ قَتْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ) . أَيْ: فَوَجَدْتُهُ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْعُدُولُ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْغَرِيبَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ وَقْتُ الْقَتْلِ مَحْفُوظًا فِي نَفْسِ الرُّؤْيَا بِأَنْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ يُقْتَلُونَ فِي وَقْتِ كَذَا، لَكِنْ يُشْكَلُ بِقَوْلِهِ: لَمْ أَزَلْ أَلْتَقِطُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ تَصْوِيرُهُ أَنَّ الرَّائِيَ رَأَى فِي نَوْمِهِ كَأَنَّهُ مَضَى عَلَيْهِ بَعْضُ سِنِينَ، ثُمَّ فِي آخِرِ سَنَةٍ مِنْهَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ كَذَا رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَالْقَوْلِ الْمَسْطُورِ، فَحَفِظَ تَارِيخَ الْوَقْتِ فَوَجَدَهُ مُطَابِقًا وَلِلنَّعْتِ مُرَافِقًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ فِي الذَّخَائِرِ مِنْ غَيْرِ قَوْلِهِ: فَأُحْصِي ذَلِكَ الْوَقْتَ فَأَجِدُ إِلَخْ. بَلْ لَفْظُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَمْ أَزَلْ أَلْتَقِطُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ فَوَجَدْتُهُ قَدْ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَافِظُ السِّلَفِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) ، أَيْ: حَدِيثَيْ أُمِّ الْفَضْلِ وَابْنِ عَبَّاسٍ (الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَأَحْمَدُ الْأَخِيرَ) . أَيْ: وَرَوَى أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ، وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَطْ، «وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَغْضَبَكَ أَحَدٌ؟ مَا شَأْنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ؟ قَالَ: " قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلَ حَدِيثِي وَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الْفُرَاتِ " قَالَ: فَقَالَ: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ أُشِمَّكَ مِنْ تُرْبَتِهِ؟ قُلْتُ: " نَعَمْ " فَمَدَّ يَدَهُ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَأَعْطَانِيهَا فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنِي أَنْ فَاضَتَا» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

6182 - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، فَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6182 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ) ، أَيْ: بِهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَرْزُقُكُمْ (" مِنْ نِعَمَةٍ ") ، أَيْ مِنْ أَيِّ نِعْمَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: مِنْ نِعَمِهِ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ فَمِيمٍ، مُضَافٌ إِلَى هَاءِ الضَّمِيرِ، أَوِ الْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ لَا تُحِبُّونَ اللَّهَ إِلَّا لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَأَحِبُّوهُ، وَإِلَّا فَلَا، فَهُوَ سُبْحَانُهُ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ مِنَ الْمُحِبِّينَ سَوَاءً أَنَعَمَ أَمْ لَا، فَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3] : (" فَأَحِبُّونِي ") ، أَيْ: إِذَا ثَبَتَ سَبَبُ مَحَبَّةِ اللَّهِ فَأَحِبُّونِي (لِحُبِّ اللَّهِ) ; لِأَنَّ مَحْبُوبَ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَفِي نُسْخَةٍ: وَأَحِبُّونِي بِالْوَاوِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ (" وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي) ، أَيْ: إِيَّاهُمْ أَوْ لِحُبِّكُمْ إِيَّايَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

6183 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ آخِذٌ بِبَابِ الْكَعْبَةِ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَلَا إِنَّ مِثْلَ أَهْلِ بَيْتِي فِيكُمْ مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6183 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ الْغِفَارِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ الصَّحَابَةِ وَزُهَّادِهِمْ، أَسْلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ، وَيُقَالُ: كَانَ خَامِسًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ سَكَنَ الرَّبَذَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (أَنَّهُ قَالَ) ، أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (وَهُوَ آخِذٌ) ، أَيْ: مُتَعَلِّقٌ (بِبَابِ الْكَعْبَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ الرَّاوِي بِهَذَا مَزِيدَ تَوْكِيدٍ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَا أَبُو ذَرٍّ اهْتَمَّ بِشَأْنِ رِوَايَتِهِ فَأَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى رُءُوسِ الْأَنَامِ لِيَتَمَسَّكُوا بِهِ (سَمِعْتُ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَلَا إِنَّ مِثْلَ أَهْلِ بَيْتِي ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ أَيْ شَبَهَهُمْ (" فِيكُمْ مِثْلَ سَفِينَةِ نُوحٍ ") ، أَيْ فِي سَبَبِيَّةِ الْخَلَاصِ مِنَ الْهَلَاكِ إِلَى النَّجَاةِ (" مَنْ رَكِبَ نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ ") . فَكَذَا مَنِ الْتَزَمَ مَحَبَّتَهُمْ وَمُتَابَعَتَهُمْ نَجَا فِي الدَّارَيْنِ وَإِلَّا فَهَلَكَ فِيهِمَا وَلَوْ كَانَ يُفَرِّقُ الْمَالَ وَالْجَاهَ أَوْ أَحَدَهُمَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ لَكِنْ بِدُونِ لَفْظٍ أَنْ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَبِي ذَرٍّ يَقُولُ: مَنْ عَرَفَنِي فَأَنَا مَنْ قَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (أَلَا إِنَّ مِثْلَ أَهْلِ بَيْتِي) الْحَدِيثَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: فَأَنَا مَنْ قَدْ عَرَفَنِي، وَبِقَوْلِهِ: فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ أَنَا الْمَشْهُورُ بِصِدْقِ اللَّهْجَةِ وَثِقَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ لَا مَجَالَ لِلرَّدِّ فِيهِ وَهَذَا تَلْمِيحٌ إِلَى مَا رُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «لَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ» " وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي ذَرٍّ: «مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَالْحَاسِدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ؟ قَالَ: " أَعْرِفُ ذَلِكَ فَاعْرِفُوهُ» ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الصَّغَانِيُّ فِي كَشْفِ الْحِجَابِ شَبَّهَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْبِدَعِ وَالْجَهَالَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الزَّائِغَةِ بِبَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ بِأَكْنَافِهِ وَأَطْرَافِهِ الْأَرْضَ كُلَّهَا وَلَيْسَ مِنْهُ خَلَاصٌ وَلَا مَنَاصَ إِلَّا تِلْكَ السَّفِينَةَ، وَهِيَ مَحَبَّةُ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا أَحْسَنَ انْضِمَامُهُ مَعَ قَوْلِهِ: «مَثَلُ أَصْحَابِي مَثَلُ النُّجُومِ مَنِ اقْتَدَى بِشَيْءٍ مِنْهُ اهْتَدَى» ، وَنِعْمَ مَا قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: نَحْنُ مَعَاشِرَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِحَمْدِ اللَّهِ رَكِبْنَا سَفِينَةَ مَحَبَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَاهْتَدَيْنَا بِنَجْمِ هَدْيِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَرْجُوا النَّجَاةَ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَدَرَكَاتِ الْجَحِيمِ، وَالْهِدَايَةَ إِلَى مَا يُوجِبُ دَرَجَاتِ الْجِنَانِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. اهـ. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ كَالْخَوَارِجِ هَلَكَ مَعَ الْهَالِكِينَ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمَنْ دَخَلَهَا وَلَمْ يَهْتَدِ بِنُجُومِ الصَّحَابَةِ كَالرَّوَافِضِ ضَلَّ، وَوَقَعَ فِي ظُلُمَاتٍ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، هَذَا وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ» ". وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «النُّجُومُ أَمَانٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ ذَهَبَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فَإِذَا ذَهَبَ أَهْلُ بَيْتِي ذَهَبَ أَهْلُ الْأَرْضِ» . اهـ.

[باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن]

[بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ] [11] بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6184 - عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: وَأَشَارَ وَكِيعٌ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [11] بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي نُسْخَةٍ: وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6184 - (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " خَيْرُ نِسَائِهَا ") ، أَيْ: نِسَاءُ زَمَانِهَا أَوْ عَالَمِهَا (" مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ") : بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ

مَذْكُورٍ، لَكِنَّهُ يُفَسِّرُهُ الْحَالُ وَالْمُشَاهَدُ يَعْنِي بِهِ الدُّنْيَا وَالدِّينَ، يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ: خَيْرُ نِسَائِهَا خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالضَّمِيرُ لِمَرْيَمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ زَمَانِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ الْحَارِثُ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسِلًا: خَدِيجَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَمَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَفَاطِمَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (وَأَشَارَ وَكِيعٌ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي الْأُولَى عَائِدٌ إِلَى الْأُمَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ مَرْيَمُ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ الْقَوْلَ مِنْ أَوَّلِهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْآخَرِ، وَكِلَا الْفَصْلَيْنِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَإِشَارَةُ وَكِيعٍ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ مُنْبِئَةٌ مِنْ كَوْنِهِمَا خَيْرًا مِمَّنْ هُوَ فَوْقَ الْأَرْضِ وَتَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ خَيْرُ نِسَائِهَا، لِأَنَّ إِعَادَةَ الضَّمِيرِ إِلَى السَّمَاءِ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ أَرَادَ جُمْلَةَ طَبَقَاتِ السَّمَاءِ وَأَقْطَارِ الْأَرْضِ، أَوْ أَنَّ مَرْيَمَ خَيْرُ مَنْ صَعِدَ بِرُوحِهِنَّ إِلَى السَّمَاءِ، وَخَدِيجَةُ خَيْرُ نِسَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَإِنِ اخْتَلَفَا بِاعْتِبَارِ الدُّنْيَا مَجَازًا كَمَا عَبَّرَ بِهِمَا عَنِ الْعَالَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] الْكَشَّافِ، أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْعَالَمِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} [سبأ: 1] عَلَى مَعْنَى لَهُ الْحَمْدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَعَبَّرَ بِهِمَا عَنِ الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ حَدِيثِ: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ» الْحَدِيثَ. وَتَفْسِيرُ وَكِيعٍ: إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا بَيَّنَ مَا أُبْهِمَ فِي الْحَدِيثِ وَالْمُبْهَمُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَيْرٌ مِنْ نِسَاءِ الْأَرْضِ فِي عَصْرِهَا، وَأَمَّا الْفَضْلُ بَيْنَهُمَا فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ. ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ.

6185 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَى جِبْرَئِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ، فَإِذَا أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6185 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِرَاءَ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذِهِ) : إِشَارَةٌ عَلَى مَا فِي ذِهْنِ جِبْرِيلَ (خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ) ، أَيْ: تَوَجَّهَتْ مِنْ (مَكَّةَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ) ، أَيْ: مَعَ خُبْزٍ (أَوْ طَعَامٍ) ، أَيْ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمَا (فَإِذَا أَتَتْكَ) ، أَيْ: تَحَقَّقَ مَأْتَاهَا عِنْدَكَ (فَاقْرَأْ عَلَيْهَا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ أَبْلِغْهَا (السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ) ، بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ لُؤْلُؤٍ مُجَوَّفٍ وَاسِعٍ كَالْقَصْرِ الْمَنِيفِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مِنْ قَصَبِ اللُّؤْلُؤِ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ لُؤْلُؤٍ إِذْ فِي لَفْظِ الْقَصَبِ مُنَاسِبَةٌ لِأَنَّهَا أَحْرَزَتْ قَصَبَ السَّبْقِ لِمُبَادَرَتِهَا إِلَى الْإِيمَانِ دُونَ غَيْرِهَا. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «خَدِيجَةُ سَابِقَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ (لَا صَخَبَ) : بِفَتْحِ الصَّادِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَا: لَنَفْيِ الْجِنْسِ أَيْ: لَا صِيَاحَ أَوْ لَا اخْتِلَاطَ صَوْتٍ. (فِيهِ) ، أَيْ: فِي الْقَصَبِ الْمُعَبَّرِ بِهِ عَنِ الْقَصْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَلَا نَصَبَ) . بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35] أَيْ كَلَالٌ. قَالَ شَارِحٌ، أَيْ: لَا يَكُونُ لَهَا شَاغِلٌ يَشْغَلُهَا عَنْ لَذَائِذِ الْجَنَّةِ وَلَا تَعَبَ يَنْقُصُهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: نَفَى عَنِ الْقَصَبِ الصَّخَبَ وَالنَّصَبَ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ بَيْتٍ فِي الدُّنْيَا يَسْكُنُهُ قَوْمٌ إِلَّا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ صَخَبٌ وَجَلَبَةٌ، وَإِلَّا كَانَ فِي بِنَائِهِ وَإِصْلَاحِهِ نَصَبٌ وَتَعَبٌ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قُصُورَ الْجَنَّةِ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْآفَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ بِنَاءَ بَيْتِ الْجَنَّةِ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: كُنْ، لَيْسَ كَأَبْنِيَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا يَتَسَبَّبُ بِنَاؤُهَا صَخَبٌ وَنَصَبٌ، وَكَذَا السُّكُونُ فِيهَا لَا يَخْلُو عَنْهُمَا وَلَيْسَ حُكْمُ بَيْتِ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

6186 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةَ، فَيَقُولُ: " إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وُلْدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6186 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ غَارَ يَغَارُ نَحْوُ خَافَ يَخَافُ (مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ) : مَا: الْأُولَى نَافِيَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: مَا غِرْتُ مِثْلَ الَّتِي غِرْتُهَا أَوْ مِثْلُ غَيْرَتِي عَلَيْهَا، وَالْغَيْرَةُ: الْحَمِيَّةُ وَالْأَنَفُ (وَمَا رَأَيْتُهَا) ، الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ؟ هِيَ تَقْتَضِي عَدَمَ الْغَيْرَةِ لِعَدَمِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا غَالِبًا وَلِذَا قَالَتْ: (وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا) ، أَيْ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ (وَرُبَّمَا) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ (ذَبَحَ شَاةً) ، أَيْ: شَاةً مِنَ الشِّيَاهِ (ثُمَّ يُقَطِّعُهَا) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ يُكْثِرُ قَطْعَهَا (أَعْضَاءً) ، أَيْ عُضْوًا عُضْوًا بِأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ عُضْوٍ قِطْعَةً (ثُمَّ يَبْعَثُهَا) ، أَيْ: أَعْضَاءَ الشَّاةِ (فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ) ، أَيْ أَصْدِقَائِهَا جَمْعُ صَدِيقَةٍ وَهِيَ الْمَحْبُوبَةُ (فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ) ، أَيِ: الشَّأْنُ (لَمْ تَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةَ) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالنَّصْبِ (فَيَقُولُ: " أَنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ ") أَيْ كَانَتْ صَوَّامَةً وَقَوَّامَةً وَمُحْسِنَةً وَمُشْفِقَةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَرَّرَ كَانَتْ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ التَّثْنِيَةَ، وَلَكِنَّ التَّكْرِيرَ لِيَتَعَلَّقَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ مِنْ خَصَائِلِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا مُتَعَلَّقُهُ لِلشُّهْرَةِ تَفْخِيمًا. (" وَكَانَ ") ، أَيْ: مَعَ هَذَا (" لِي مِنْهَا وُلْدٌ ") . بِضَمٍّ فَسُكُونٍ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا جَمْعُ وَلَدٍ وَمِنْهُمْ فَاطِمَةُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيَّةُ، كَانَتْ تَحْتَ ابْنِ هَالَةَ بْنِ زُرَارَةَ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَتِيقُ بْنُ عَابِدٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهَا يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَلَمْ يَنْكِحْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ امْرَأَةٍ وَلَا نَكَحَ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنْ كَافَّةِ النَّاسِ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَجَمِيعُ أَوْلَادِهِ مِنْهَا غَيْرُ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ، وَمَاتَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَقِيلَ بِثَلَاثٍ وَكَانَ قَدْ مَضَى مِنَ النُّبُوَّةِ عَشْرُ سِنِينَ، وَكَانَ لَهَا مِنَ الْعُمْرِ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَكَانَ مُدَّةُ مَقَامِهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَدُفِنَتْ بِالْحَجُونِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

6187 - وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا عَائِشُ! هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ ". قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، قَالَتْ: وَهُوَ يَرَى مَا لَا أَرَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6187 - (وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَعْلَامِهِمْ. (أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عَائِشُ ") : بِضَمِّ الشِّينِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا عَلَى التَّرْخِيمِ (" هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ ") . مِنَ الْإِقْرَاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَقْرَأَهُ، أَوْ لَا يُقَالُ أَقْرَأَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّلَامُ مَكْتُوبًا (قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. قَالَتْ) ، أَيْ: عَائِشَةُ (وَهُوَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَرَى مَا لَا أَرَى) . وَأَبْعَدَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: أَوْ يَرَى جِبْرِيلُ مَا لَا أَرَاهُ. اهـ. وَاسْتُنْبِطَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ خَدِيجَةَ عَلَى عَائِشَةَ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي حَقِّهَا أَنَّ جِبْرِيلَ أَقْرَأَهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا، وَهَا هُنَا مِنْ جِبْرِيلَ نَفْسِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

6188 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِي: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَقُلْتُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6188 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُرِيْتُكِ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْإِرَاءَةِ أَيْ أُعْلِمْتُكِ (" فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَجِيءُ بِكِ ") : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ يَأْتِي بِصُورَتِكِ (" الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ ") : بِفَتْحَتَيْنِ (" مِنْ حَرِيرٍ ") ، أَيْ: فِي قِطْعَةٍ مِنْ جَيِّدِ الْحَرِيرِ، قِيلَ: وَهُوَ مُعَرَّبُ سُرَّةٍ (" فَقَالَ ") ، أَيِ: الْمَلَكُ (" لِي هَذِهِ ") ، أَيْ: هَذِهِ الصُّورَةُ (" امْرَأَتُكَ ") ، أَيْ صُورَتُهَا (" فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتَ هِيَ ") ، أَيْ: تِلْكَ الصُّورَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَشَفْتُ عَنْ وَجْهِ صُورَتِكِ فَإِذَا أَنْتِ الْآنَ تِلْكَ الصُّورَةُ، وَثَانِيهُمَا:

كَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ عِنْدَمَا شَاهَدْتُكِ، فَإِذَا أَنْتِ مِثْلُ الصُّورَةِ الَّتِي رَأَيْتُهَا فِي الْمَنَامِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ حَيْثُ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَحَمَلَهَا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] وَمِنْهُ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ كُنْتُ أَظَنُّ أَنَّ الْعَقْرَبَ أَشَدُّ لَسْعَةٍ مِنَ الزُّنْبُورِ، فَإِذَا هِيَ أَيْ فَإِذَا الزُّنْبُورُ مِثْلُ الْعَقْرَبِ، فَحَذَفَ الْأَدَاةَ مُبَالَغَةً فَحَصَلَ التَّشَابُهُ، وَإِلَيْهِ لَمْحُ الْآيَةِ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا، وَمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ فِي إِذَا يُسَاعِدُ هَذَا الْوَجْهُ. اهـ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهَا: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُزَوِّجَنِي بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صُورَتَهَا كَانَتْ فِي الْخِرْقَةِ، وَالْخِرْقَةُ فِي رَاحَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بِالْكَيْفِيَّتَيْنِ لِقَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ: نَزَلَ مَرَّتَيْنِ أَيْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِهَا فِي رَاحَتِهِ وَمَلَكٌ آخَرُ فِي سَرَقَةٍ (" فَقُلْتُ ") ، أَيْ: فِي جَوَابِ الْمَلَكِ (" إِنْ يَكُنْ هَذَا ") ، أَيْ: مَا رَأَيْتَهُ فِي الْمَنَامِ (" مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ ") . بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِمْضَاءِ أَيْ يُنْفِذُهُ لَدَيَّ، وَيُوصِلُهُ إِلَيَّ وَيُظْهِرُهُ عَلَيَّ وَفِي نُسْخَةٍ بِهَاءِ السَّكْتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الشَّرْطُ مِمَّا يَقُولُهُ الْمُتَحَقِّقُ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ الْمُدِلُّ بِصِحَّتِهِ تَقْرِيرًا لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ وَتَحَقُّقِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ السُّلْطَانِ لِمَنْ تَحْتَ قَهْرِهِ: إِنْ كُنْتَ سُلْطَانًا انْتَقَمَتْ مِنْكَ أَيِ السَّلْطَنَةُ مُقْتَضِيَةً لِلِانْتِقَامِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ تَخْلِيصِ أَحْلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَضْغَاثِ، فَمَعْنَاهَا إِنْ كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَلَهَا ثَلَاثُ مَعَانٍ. أَحُدُهَا: الْمُرَادُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا عَلَى وَجْهِهَا وَظَاهِرُهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَتَفْسِيرٍ يُمْضِهِ اللَّهُ وَيُنْجِزُهُ، فَالشَّكُّ عَائِدٌ إِلَى أَنَّهَا رُؤْيَا عَلَى ظَاهِرِهَا، أَمْ تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَصَرْفٍ عَنْ ظَاهِرِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزَّوْجِيَّةُ فِي الدُّنْيَا يُمْضِهَا اللَّهُ، فَالشَّكُّ أَنَّهَا زَوْجِيَّةٌ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْجَنَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ وَلَكِنْ أُخْبِرَ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَأَتَى بِصُورَةِ الشَّكِّ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ يُسَمُّونَهُ تَجَاهُلُ الْعَارِفِ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مَزْجُ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي ضَعَّفْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ، وَكَانَ مِنْ تَوَارُدِ الْخَاطِرِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَعْرَسَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا. أَوَّلُهَا: تِسْعُ سِنِينَ، وَقِيلَ دَخَلَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَقْدَمِهِ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْهَا وَلَهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَكَانَتْ فَقِيهَةً عَالِمَةً فَصِيحَةً فَاضِلَةً كَثِيرَةَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَارِفَةً بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمَرَتْ أَنْ تُدْفَنَ لَيْلًا فَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةَ مَرْوَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6189 - وَعَنْهَا، قَالَتْ: «إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ حِزْبَيْنِ: فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ. فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: " لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؟ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ ". قَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ فَأَرْسَلْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ: " يَا بُنَيَّةُ! أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ ". قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: " فَأَحِبِّي هَذِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ حَدِيثُ أَنَسٍ " فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ " فِي بَابِ " بَدْءِ الْخَلْقِ " بِرِوَايَةِ أَبِي مُوسَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6189 - (وَعَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ مِنَ التَّحَرِّي وَهُوَ طَالِبُ الْحَرِيِّ بِمَعْنَى اللَّائِقِ، أَوْ قَصَدَ الْأَحْرَى بِمَعْنَى الْأَحَقِّ وَالْأَوْلَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الرِّوَايَةُ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ يَتَحَيَّنُونَ وَمَا وَجَدْنَاهَا فِي الْأُصُولِ. وَفِي النِّهَايَةِ التَّحَرِّي: الْقَصْدُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» أَيْ: تَعَهَّدُوا طَلَبَهَا فِيهَا. اهـ. وَالْمَعْنَى يَطْلُبُونَ زِيَادَةَ الثَّوَابِ (بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ) ، أَيْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ نَوْبَةُ عَائِشَةَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهَا (يَبْتَغُونَ) ، أَيْ: يَطْلُبُونَ (بِذَلِكَ) ، أَيْ: بِإِرْسَالِ هَدَايَاهُمْ إِلَيْهِ فِي يَوْمِهَا (مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . أَيْ زِيَادَةَ رِضَاهُ لِمَزِيدِ مَحَبَّتِهِ لَهَا. (وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ حِزْبَيْنِ) ، أَيْ: طَائِفَتَيْنِ اتَّفَقَتْ مِزَاجُ كُلِّ طَائِفَةٍ وَرَأْيُهَا فِي عِشْرَتِهَا وَصُحْبَتِهَا (فَحِزْبٌ) ، أَيْ: جَمْعٌ مِنْهُنَّ. (فِيهِ عَائِشَةُ) : وَسَبَقَ ذِكْرُهَا (وَحَفْصَةُ) : وَهِيَ بِنْتُ.

عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ مَظْعُونٍ، كَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ حُبَيْشِ بْنِ حُفَافَةَ السَّهْمِيِّ، هَاجَرَتْ مَعَهُ مَاتَ عَنْهَا بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَلَمَّا ضَاعَتْ ذَكَرَهَا عُمَرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ فَلَمْ يُجِبْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَخَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْكَحَهُ إِيَّاهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ، وَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ رَاجَعَهَا حَيْثُ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ: «رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَإِنَّهَا زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ» ، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَاتَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَهِيَ ابْنَةُ سِتِّينَ (وَصَفِيَّةُ) : وَهِيَ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَتْ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَوَقَعَتْ فِي السَّبْيِ فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، فَأَسْلَمَتْ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَمَاتَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، رَوَى عَنْهَا أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا (وَسَوْدَةُ) ، أَيْ: بِنْتُ زَمْعَةَ أَسْلَمَتْ قَدِيمًا، وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ السَّكُوانُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا مَاتَ زَوْجُهَا تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ بِهَا بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى عَائِشَةَ، وَهَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَبُرَتْ أَرَادَ طَلَاقَهَا فَسَأَلَتْهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَجَعَلَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَأَمْسَكَهَا، وَتُوُفِّيَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ (وَالْحِزْبُ الْآخَرُ) ، أَيْ: مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (أُمُّ سَلَمَةَ) : وَهِيَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، اسْمُهَا هِنْدُ، وَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَمَا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيَالٍ بَقِينَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَبُو سَلَمَةَ، وَمَاتَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ عُمْرُهَا أَرْبَعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَوَى عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَزَيْنَبُ بِنْتُهَا وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ وَبَاقِيهِنَّ وَهُنَّ زَيْنَبُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَجُوَيْرِيَةُ بِالتَّصْغِيرِ وَمَيْمُونَةُ. أَمَّا زَيْنَبُ فَهِيَ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّهَا أُمَيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ خَمْسٍ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَزْوَاجِهِ بَعْدَهُ، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةُ، فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ. قَالَتْ عَائِشَةُ فِي شَأْنِهَا: لَمْ تَكُنِ امْرَأَةٌ خَيْرًا مِنْهَا فِي الدِّينِ، وَأَتْقَى لِلَّهِ وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً وَأَشَدَّ تَبَذُّلًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَتَصَدَّقُ بِهِ، وَتَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَهَا ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، رَوَتْ عَنْهَا عَائِشَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَغَيْرُهَا. وَأَمَّا أُمُّ حَبِيبَةَ: فَاسْمُهَا رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَأُمُّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَمَّةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نِكَاحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهَا، وَمَوْضِعُ الْعَقْدِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ عَقَدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَزَوَّجَهُ مِنْهَا النَّجَاشِيُّ وَأَمْهَرَهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ فَجَاءَ بِهَا إِلَيْهِ، وَدَخَلَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهَا بِالْمَدِينَةِ، وَزَوَّجَهُ مِنْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا جُوَيْرِيَةُ، فَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ حِزَامٍ، سَبَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ، فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَكَاتَبَهَا فَقَضَى عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِتَابَتَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَغَيَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّاهَا جُوَيْرِيَةَ، وَمَاتَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَلَهَا خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ. وَأَمَّا مَيْمُونَةُ فَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهَا كَانَ بَرَّةَ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ: وَكَانَتْ تَحْتَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أَبُو دِرْهَمٍ وَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِسَرِفَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مَاتَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ بِسَرِفَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقِيلَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ الْفَضْلِ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ، وَأُخْتُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَهِيَ آخِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَذَا فِي الْأَسْمَاءِ لِلْمُؤَلِّفِ.

(فَكَلَّمْ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ) ، أَيْ: إِيَّاهَا وَالْمَعْنَى فَكَلَّمْنَهَا (فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَلِّمُ النَّاسَ) : بِالرَّفْعِ عَلَى مَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ، عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِالْجَزْمِ، وَالْمِيمُ مَكْسُورَةٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الرَّفْعُ لِقَوْلِهِ (فَيَقُولُ) : وَالْمَعْنَى لِيُكَلِّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ لَهُمْ: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: يُرْسِلَ هَدِيَّةً (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيُهْدِهِ) : وَضَعَ السَّيِّدُ فِي نُسْخَتِهِ عَلَامَةَ الشَّكِّ فَوْقَ الضَّمِيرِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، نَعَمْ قَدْ يُحْذَفُ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ لَكِنَّ النُّسَخَ اجْتَمَعَتْ عَلَى وُجُودِهِ وَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ تَقْدِيرِهِ، فَلَا وَجْهَ لِلشَّكِّ وَتَنْظِيرِهِ، وَالْمَعْنَى فَلْيُرْسِلْ مُهْدَاهُ أَيْ هَدِيَّتَهُ (إِلَيْهِ) ، أَيْ: إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَيْثُ كَانَ) . أَيْ مِنْ حُجُرَاتِ الْأُمَّهَاتِ وَمُرَادُهُنَّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ لَا لَهُنَّ وَلَا لِغَيْرِهِنَّ، بَلْ بِحَسْبِ مَا يَتَّفِقُ الْأَمْرُ فِيهِنَّ لِيَرْتَفِعَ التَّمْيِيزُ الْبَاعِثُ لِلْغَيْرَةِ عَنْهُنَّ (فَكَلَّمَتْهُ) ، أَيْ أُمُّ سَلَمَةَ (فَقَالَ) : النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَهَا: لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ ") ، أَيْ فِي حَقِّهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ لَا تُؤْذِي عَائِشَةَ لِمَا يُفِيدُ مِنْ أَنَّ مَا آذَاهَا فَهُوَ يُؤْذِيهِ (" فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ ") ، أَيْ: لِحَافِ زَوْجَةٍ (" إِلَّا عَائِشَةَ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ: إِلَّا بِمَعْنَى غَيْرِ أَيِ امْرَأَةً غَيْرَ عَائِشَةَ. اهـ. وَالْمَعْنَى إِلَّا فِي ثَوْبِ عَائِشَةَ فَفِي كِتَابِ الْخَمِيسِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَتْ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللِّحَافِ (قَالَتْ) ، أَيْ: أُمُّ سَلَمَةَ (أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ) ، أَيْ: مِمَّا يَجُرُّ إِلَى أَذَاكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثُمَّ إِنَّهُنَّ) ، أَيْ: حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ (دَعَوْنَ فَاطِمَةَ) ، أَيْ: طَلَبْنَهَا (فَأَرْسَلْنَ) ، أَيْ: فَبَعَثْنَهَا (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: لِتُكَلِّمَهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ (فَكَلَّمَتْهُ) ، وَلَعَلَّهَا مَا اطَّلَعَتْ عَلَى قِصَّةِ أُمِّ سَلَمَةَ السَّابِقَةِ (فَقَالَ: " يَا بُنَيَّةُ ") : تَصْغِيرٌ لِلشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ (" أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ " قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: " فَأَحِبِّي هَذِهِ ") . أَيْ عَائِشَةَ يَعْنِي وَلَا تَذْكُرِي مَا يَكُونُ سَبَبًا لِكَرَاهِيَةِ خَاطِرِهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ. (وَذَكَرَ حَدِيثُ أَنَسٍ «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ ") : تَمَامُهُ: " كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ» . (" فِي بَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ بِرِوَايَةِ أَبِي مُوسَى) . وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسَاءِ جِنْسُهُنَّ، أَوْ أَزْوَاجُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمُومًا أَوْ بَعْدَ خَدِيجَةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ مِنْ حَيْثُ الْجَامِعِيَّةُ لِلْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا فِي التَّشْبِيهِ بِالثَّرِيدِ، فَإِنَّمَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِالثَّرِيدِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ طَعَامِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَرَقَةِ، وَلَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْأَغْذِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ الْغِذَاءِ وَاللَّذَّةِ وَالْقُوَّةِ وَسُهُولَةِ التَّنَاوُلِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِي الْمَضْغِ، وَسُرْعَةِ الْمُرُورِ فِي الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا الْمَثَلَ بِهِ لِيُعْلِمَ أَنَّهَا أُعْطِيَتْ مَعَ حُسْنِ الْخَلْقِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَحُسْنِ الْحَدِيثِ، وَحَلَاوَةِ الْمَنْطِقِ، وَفَصَاحَةِ اللَّهْجَةِ، وَجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ، وَرَزَانَةِ الرَّأْيِ، وَرَصَانَةِ الْعَقْلِ التَّحَبُّبَ إِلَى الْبَعْلِ، فَهِيَ تَصْلُحُ لِلتَّبَعُّلِ وَالتَّحَدُّثِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِهَا وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي اجْتَمَعَتْ فِيهَا، وَحَسْبُكَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّهَا عَقَلَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ تَعْقِلْ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَرَوَتْ عَنْهُ مَا لَمْ يَرْوِ مِثْلُهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 6190 - عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6190 - (عَنْ أَنَسٍ) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " حَسْبُكِ ") ، أَيْ: بِالْخِطَابِ الْعَامِّ، وَالْمَعْنَى يَكْفِيكِ (" مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) ، أَيِ: الْوَاصِلَةِ إِلَى مَرَاتِبِ الْكَامِلِينَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِنَّ وَذَكَرَ مَحَاسِنَهُنَّ وَمَنَاقِبَهُنَّ وَزُهْدَهُنَّ فِي الدُّنْيَا وَإِقْبَالَهُنَّ عَلَى الْعُقْبَى (" مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ") . وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَرَاتِبَهُنَّ عَلَى وَفْقِ ذِكْرِهِنَّ، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ حُصُولِ كَمَالِ عَائِشَةَ وَوُصُولِهَا إِلَى وِصَالِ الْحَضْرَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ: رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: ( «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَأَنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ: حَسْبُكَ: مُبْتَدَأٌ. وَمِنْ نِسَاءِ مُتَعَلِّقٍ بِهِ، وَمَرْيَمُ خَبَرُهُ. وَالْخِطَابُ إِمَّا عَامٌّ أَوْ لِأَنْسٍ أَيْ: كَافِيكَ مَعْرِفَتُكَ فَضْلِهِنَّ عَنْ مَعْرِفَةِ سَائِرِ النِّسَاءِ. اهـ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي النِّقَابَةِ: نَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ مَرْيَمُ وَفَاطِمَةُ، وَأَفْضَلَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ، وَفِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ. ثَالِثُهَا: التَّوَقُّفُ. أَقُولُ: التَّوَقُّفُ فِي حَقِّ الْكُلِّ أَوْلَى، إِذْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَالظَّنِّيَّاتُ مُتَعَارِضَةٌ غَيْرُ مُفِيدَةٍ لِلْعَقَائِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْيَقِينِيَّاتِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ. وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ أَيْضًا بِلَفْظِ: «خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " «سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ وَفَاطِمَةُ وَخَدِيجَةُ وَآسِيَةُ» .

6191 - «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ جِبْرَئِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا فِي خِرْقَةِ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6191 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا) ، أَيْ: بِصُورَةِ عَائِشَةَ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (فِي خِرْقَةِ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6192 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: بِنْتُ يَهُودِيٍّ فَبَكَتْ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: " مَا يُبْكِيكِ "؟ فَقَالَتْ: قَالَتْ لِي حَفْصَةُ: إِنِّي ابْنَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟ ". ثُمَّ قَالَ: " اتَّقِي اللَّهَ يَا حَفْصَةُ!» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6192 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ) ، أَيْ: فِي حَقِّ صَفِيَّةَ (إِنَّهَا بِنْتُ يَهُودِيٍّ) ، أَيْ: نَظَرًا إِلَى أَبِيهَا (فَبَكَتْ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَبْكِي، قَالَ: " مَا يُبْكِيكِ " فَقَالَتْ) ، أَيْ: صَفِيَّةُ (قَالَتْ لِي حَفْصَةُ) ، أَيْ: فِي حَقِّي (إِنِّي ابْنَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ ") أَيْ نَظَرًا إِلَى جَدِّهَا الْأَكْبَرِ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَوْ هَارُونُ (" وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ ") ، وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ مُوسَى، وَالْأَوَّلُ فِيهِمَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْأَخِيرَ هُوَ الْأَظْهَرُ (" وَإِنَّكِ ") ، أَيِ: الْآنَ (" لَتَحْتَ نَبِيٍّ فَفِيمَ تَفْخَرُ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ أَيْ تَفْخَرُ حَفْصَةُ (" عَلَيْكِ ") : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى ظُهُورِ مُخْتَارِ الطِّيبِيِّ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ غَايَتُهُ أَنَّ أَبَا حَفْصَةَ إِسْمَاعِيلُ وَعَمَّهَا إِسْحَاقُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَخْتَصُّ بِصَفِيَّةَ وَبِهِ يَحْصُلُ لَهَا الْمَزِيَّةُ، فَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَهِيَ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (ثُمَّ قَالَ: " اتَّقِي اللَّهَ ") ، أَيْ: مُخَالَفَتَهُ أَوْ عِقَابَهُ بِتَرْكِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ (" يَا حَفْصَةُ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) .

6193 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا فَاطِمَةَ عَامَ الْفَتْحِ فَنَاجَاهَا، فَبَكَتْ، ثُمَّ حَدَّثَهَا فَضَحِكَتْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلْتُهَا عَنْ بُكَائِهَا وَضَحِكِهَا. قَالَتْ: أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَمُوتُ فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَضَحِكْتُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6193 - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا فَاطِمَةَ عَامَ الْفَتْحِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَهْمٌ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ أَرْبَابِ السِّيَرِ وُقُوعُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ عَامَ الْفَتْحِ، بَلْ كَانَ هَذَا فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَوْ حَالَ مَرْضِ مَوْتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَنَاجَاهَا) ، أَيْ كَلَّمَهَا بِالسِّرِّ (فَبَكَتْ، ثُمَّ حَدَّثَهَا) ، أَيْ: خُفْيَةً أَيْضًا (فَضَحِكَتْ) ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ عَائِشَةَ سَأَلَتْهَا فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ تُجِبْهَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِ أَجَابَتْهَا نَحْوَ مَا ذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بِقَوْلِهَا: (فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلْتُهَا عَنْ بُكَائِهَا وَضَحِكِهَا) . أَيْ عَنْ سَبَبِهِمَا (فَقَالَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَتْ: (أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَمُوتُ) ، أَيْ: قَرِيبًا (فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَضَحِكْتُ) . وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا قَالَ لَهَا أَيْضًا مِنْ أَنَّكِ أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِي عَلَى مَا سَبَقَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِهَذَا الْبَابِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ بَابَ مَنَاقِبِ أَهْلِ الْبَيْتِ، لَكِنَّ ذِكْرَهُ مُسْتَطْرَدًا لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ؛ ذُكِرَتْ فِيهِ فَاطِمَةُ مَعَ ذِكْرِ خَدِيجَةَ وَمَرْيَمَ، وَهُوَ فَنٌّ مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ. اهـ. فَيَكُونُ تَفْصِيلًا لِبَعْضِ مَا سَبَقَ مُجْمَلًا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ تَلْمِيحًا إِلَى مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مَرْيَمَ تَكُونُ زَوْجَةَ نَبِيِّنَا فِي الْجَنَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6194 - عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا أُشْكِلَ عَلَيْنَا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحَيِحٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6194 - (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَا أَشْكَلَ) ، أَيْ: مَا اشْتَبَهَ، وَفِي نُسْخَةٍ مَا اشْتَكَلَ أَيْ مَا أَغْلَقَ (عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنَ الْمَجْرُورِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ (حَدِيثٌ قَطُّ) ، أَيْ: مَعْنَى حَدِيثٍ أَوْ فَقْدُ حَدِيثٍ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةٍ مُهِمَّةٍ (فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ) ، أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ (عِلْمًا) . أَيْ نَوْعَ عِلْمٍ بِأَنْ يُوجَدَ الْحَدِيثُ عِنْدَهَا تَصْرِيحًا أَوْ تَأْوِيلًا لِأَنْ يُؤْخَذَ الْحُكْمُ مِنْهُ تَلْوِيحًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) . وَأَمَّا حَدِيثُ: «خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ، يَعْنِي عَائِشَةَ» فَقَالَ الْحَافِظُ بْنُ حَجْرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَا أَعْرِفُ لَهُ إِسْنَادًا وَلَا رِوَايَةً فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، إِلَّا فِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ خَرَّجَهُ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ: أَنَّهُ سَأَلَ الْمِزِّيَّ وَالذَّهَبِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفَاهُ، وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: ذَكَرَهُ فِي الْفِرْدَوْسِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ وَبِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَفْظُهُ: «خُذُوا ثُلُثَ دِينِكُمْ مِنْ بَيْتِ الْحُمَيْرَاءِ» ، وَبَيَّضَ لَهُ صَاحِبُ مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُ إِسْنَادًا. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.

6195 - وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْصَحَ مِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ. غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6195 - (وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عِيسَى التَّيْمِيَّ الْقُرَشِيَّ، سَمِعَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ (قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْصَحَ مِنْ عَائِشَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) .

[باب جامع المناقب]

[بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ]

[12] بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6196 - «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ فِي يَدِي سَرَقَةً مِنْ حَرِيرٍ، لَا أَهْوِي بِهَا إِلَى مَكَانٍ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا طَارَتْ بِي إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " إِنَّ أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ - أَوْ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ -» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [12] بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6196 - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) ، أَيِ ابْنِ الْخَطَّابِ الْقُرَشِيِّ الْعَدَوِيِّ، أَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ بِمَكَّةَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَشَهِدَ مَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ شَدِيدَ التَّحَرِّي وَالِاحْتِيَاطِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالَتْ بِهِ الدُّنْيَا وَمَالَ إِلَيْهَا مَا خَلَا عُمَرَ وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ. قَالَ نَافِعٌ: مَا مَاتَ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ إِنْسَانٍ أَوْ زَادَ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ الْحُجَّاجَ فِي الْمَوَاقِفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ فِيهَا، وَكَانَ يَعِزُّ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَخَطَبَ الْحَجَّاجُ يَوْمًا وَأَخَّرَ صَلَاةَ الْفَجْرِ أَوِ الْعَصْرِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْتَظِرُكَ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُصَيِّرَكَ الَّذِي فِي عَيْنَيْكَ قَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّكَ سَفِيهٌ مُسَلَّطٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخْفَى قَوْلَهُ ذَلِكَ عَنِ الْحَجَّاجِ وَلَمْ يُسْمِعْهُ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ رَجُلًا فَسَمَّ زُجَّ رُمْحِهِ وَزَاحَمَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَوَضَعَ الزُّجَّ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ. وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ قَبْلَ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ، وَمَوْتُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي الْحِلِّ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْحَجَّاجِ، وَدُفِنَ بِذِي طُوًى فِي مَقْبَرَةِ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ) : بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّشْبِيهِ لِلْمُلَاحَظَةِ فِي التَّعْبِيرِ (فِي يَدِي) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ (سَرَقَةً) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ قِطْعَةً (مِنْ حَرِيرٍ) ، أَيْ كَائِنَةً مِنْهُ (لَا أَهْوِي) : بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ لَا أَقْصِدُ (بِهَا إِلَى مَكَانٍ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا طَارَتْ بِي إِلَيْهِ) ، أَيْ تُبَلِّغُنِي إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مِثْلَ جَنَاحِ الطَّائِرِ وَالْبَاءِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: لَا أُرِيدُ الْمَيْلَ بِهَا إِلَى مَكَانٍ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا كَانَتْ مَطِيرَةً بِي وَمُبَلِّغَةً إِيَّايَ إِلَى تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، فَكَأَنَّهَا لِي مِثْلَ جَنَاحِ الطَّيْرِ لِلطَّائِرِ (فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " إِنَّ أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ، أَوْ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ ") . قَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ: تَأَوَّلَ هَذَا عَلَى أَنَّ السَّرَقَةَ كَانَتْ ذَاتَ يَدِهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبَيَاضُ السَّرَقَةِ مُنْبِئٌ عَنْ خُلُوصِهِ مِنَ الْهَوَى وَصَفَائِهِ عَنْ كَدَرِ النَّفْسِ اهـ. وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَصَابِيحِ سَرَقَةً مِنْ حَرِيرٍ بَيْضَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: أَرَى عَبْدَ اللَّهِ رَجُلًا صَالِحًا، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

6197 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلًّا وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، لَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ إِذَا خَلَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6197 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ) : سَيَأْتِي تَرْجَمَتُهُ (قَالَ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلَّا) : بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ طَرِيقَةً (وَسَمْتًا) ، أَيْ: سِيرَةً (وَهَدْيًا) ، أَيْ: هِدَايَةً وَدَلَالَةً (بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَشْبَهَ (لَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ) : بِفَتْحِ لَامِ التَّأْكِيدِ الدَّاخِلَةِ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ تُكَنَّى أُمُّ عَبْدٍ. قَالَ الْقَاضِي: الدَّالُ قَرِيبٌ مِنَ الْهَدْيِ، وَالْمُرَادُ بِهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ صَاحِبِهِ مِنْ ظَوَاهِرِ أَحْوَالِهِ وَحُسْنِ مَقَالِهِ، وَبِالسَّمْتِ الْقَصْدُ فِي الْأُمُورِ، وَبِالْهَدْيِ حُسْنُ السِّيرَةِ وَسُلُوكُ الطَّرِيقَةِ الْمُرْضِيَةِ، وَقَالَ شَارِحٌ: السَّمْتُ يُسْتَعَارُ لِهَيْئَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ (مِنْ حِينِ يَخْرُجُ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَشْبَهَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَكْثَرِيَّةَ الشَّبَهِ فِيمَا ذَكَرَ مُسْتَمِرَّةً عَلَيْهِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ (مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ) ، أَيْ إِلَى بَيْتِهِ وَهَذَا بِحَسْبِ الظَّاهِرِ الَّذِي كُنَّا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ (لَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ) ، أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِ عِنْدَ أَهْلِهِ (إِذَا خَلَا) ، أَيْ: مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَحَدٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا نَدْرِي جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ يُرِيدُ أَنَّا نَشْهَدُ لَهُ بِمَا يَسْتَبِينُ لَنَا مِنْ ظَاهِرِ أَمْرِهِ، وَلَا نَدْرِي مَا بَطَنَ مِنْهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6198 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ، فَمَكَثْنَا حِينًا مَا نَرَى إِلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا نُرَى مِنْ دُخُولِهِ وَدُخُولِ أُمِّهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6198 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) سَيَأْتِي مَنْقَبَتُهُ (قَالَ قَدِمْتُ) أَيِ الْمَدِينَةَ (أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ فَمَكَثْنَا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ فَلَبِثْنَا (حِينًا) أَيْ زَمَانًا كَثِيرًا (مَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ أَيْ مَا نَظُنُّ (إِلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا نَرَى) بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ لِمَا نُبْصِرُ (مِنْ دُخُولِهِ وَدُخُولِ أُمِّهِ) أَيْ مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمَا (عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ مَا نُرَى حَالٌ مِنْ فَاعِلِ مَكَثْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْهُذَلِيِّ كَانَ إِسْلَامُهُ قَدِيمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ وَقَبْلَ عُمَرَ بِزَمَانٍ، وَقِيلَ كَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ سِوَاكَهُ وَنَعْلَهُ وَطُهُورَهُ فِي السَّفَرِ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَشَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ وَقَالَ: «رَضِيْتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ وَسَخِطْتُ لَهَا مَا سَخِطَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ» ، وَكَانَ خَفِيفَ اللَّحْمِ قَصِيرًا شَدِيدَ الْأَدْمَةِ نَحِيفًا يَكَادُ طَوَالُ الرِّجَالِ يُوَازِي جَالِسًا، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْكُوفَةِ وَبَيْتَ مَالِهَا لِعُمْرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ ثُمَّ صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَلَهُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. اهـ. وَهُوَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَفْقَهُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

6199 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6199 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اسْتَقْرِءُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ) أَيِ اطْلُبُوا الْقُرْآنَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهُمْ حَفَظَةُ الصَّحَابَةِ (مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) بِزِيَادَةِ (مِنْ) لِمَزِيدِ الْبَيَانِ فِي الْبَيَانِ (وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَفَرَّغُوا لِأَخْذِ الْقُرْآنِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشَافَهَةً، وَغَيْرُهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ تَفَرَّغُوا لِأَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُمْ أَوْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ الْإِعْلَامَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَقَدُّمِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّهُمْ أَقْرَأُ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَالِمُ بْنُ مَعْقِلٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، كَانَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ مِنْ إِصْطَخْرَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الْمَوَالِي وَمِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِهِمْ، شَهِدَ بَدْرًا وَرَوَى عَنْهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا أُبَيٌّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ؟ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

6200 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَدِمْتُ الشَّامَ، فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلْتُ: اللَّهُمَّ. يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَأَتَيْتُ قَوْمًا، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا شَيْخٌ قَدْ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَبُو الدَّرْدَاءِ قُلْتُ: إِنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَيَسَّرَكَ لِي، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَوْ لَيْسَ عِنْدَكُمُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالْوِسَادَةِ وَالْمَطْهَرَةِ، وَفِيكُمُ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ؟ يَعْنِي: عَمَّارًا، أَوْ لَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، حُذَيْفَةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6200 - (وَعَنْ عَلْقَمَةَ) : تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ، فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ (ثُمَّ قُلْتُ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ) ، أَيْ: سَهِّلْ (لِي جَلِيسًا صَالِحًا) ، أَيْ: عَالِمًا عَامِلًا أَوْ قَائِمًا بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ (فَأَتَيْتُ قَوْمًا، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا شَيْخٌ) ، أَيْ: كَبِيرٌ أَوْ عَظِيمٌ (قَدْ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي) ، رَوَى أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَجُرُّ الْأَهْلَ إِلَى الْأَهْلِ (قُلْتُ) ، أَيْ: لِلْقَوْمِ (مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَبُو الدَّرْدَاءِ قُلْتُ) ، أَيْ: لَهُ (إِنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ) ، أَيْ: يُسَهِّلَ (لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَيَسَّرَكَ لِي، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِيُطَابِقَ السُّؤَالَ، أَوْ تَقْدِيرُ السُّؤَالِ مِنْ أَيْنَ أَنْتَ لِيُطَابِقَهُ الْجَوَابُ، وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ عِنْدَكُمْ إِلَخْ. فَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: صَوَابُهُ مِنْ أَيْنَ أَنْتَ، لِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَعَلَّ لَفْظَةَ: " أَيْنَ " سَقَطَتْ مِنَ الْقَلَمِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، أَوْ صُحِّفَ أَيْنَ بِأَنْتَ، وَمِنَ الْجَارَّةِ بِمَنِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ. اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْطِئَةُ جَمَاعَةٍ.

مِنَ الرُّوَاةِ الثِّقَاتِ فِي الْحِفْظِ وَالتَّيَقُّظِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجَوَابَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ مَعْرِفَةٍ مَا أَوْ مَعْرِفَةِ بَلَدِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُجِيبَ مُقَصِّرٌ أَوْ مُقْتَصِرٌ، أَوْ يَكُونُ رَجُلٌ أَوْ عَلْقَمَةُ مَحْذُوفًا، أَوْ تَقْدِيرُهُ: فَقُلْتُ فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَيَنْشَأُ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِئَلَّا يُنْسَبَ أَحَدٌ مِنَ الْأَكَابِرِ إِلَى الْخَطَأِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الضَّرُورَةِ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى التَّابِعِيِّ أَوْلَى مِنَ الصَّحَابِيِّ خُصُوصًا السَّائِلَ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِلسَّائِلِ سُؤَالُكَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْجَوَابِ، بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ثُمَّ رَأَيْتُ نَظِيرَ هَذَا الْإِشْكَالِ فِي بَابِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي، فَأَجَابُوا بِأَنَّ السُّؤَالَ مُتَضَمِّنٌ لِقَوْلِهِ: أَيْنَ تُرِيدُ وَمَنْ تُرِيدُ، فَتَدَبَّرْ ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ كَذَا فِي الْحُمَيْدِيِّ. (قَالَ) ، أَيْ: أَبُو الدَّرْدَاءِ (أَوَ لَيْسَ عِنْدَكُمُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالْوِسَادَةِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ: الْمِخَدَّةُ (وَالْمَطْهَرَةِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْمَطْهَرَةُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ إِنَاءٌ يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَفِي الْخُلَاصَةِ فَتْحُ الْمِيمِ فِي الْمَطْهَرَةِ أَعْلَى، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ الْعِبَارَةُ اللَّطِيفَةُ. قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُلَازِمُهُ فِي الْحَالَاتِ كُلِّهَا، فَيُصَاحِبُهُ فِي الْمَجَالِسِ، وَيَأْخُذُ نَعْلَهُ وَيَضَعُهَا إِذَا جَلَسَ وَحِينَ نَهَضَ وَيَكُونُ مَعَهُ فِي الْخَلْوَاتِ فَيُسَوِّي مَضْجَعَهُ وَيَضَعُ وِسَادَتَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، وَيُهَيِّئُ لَهُ طَهُورَهُ وَيَحْمِلَ مَعَهُ الْمَطْهَرَةَ إِذَا قَامَ إِلَى الْوُضُوءِ. اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لِشِدَّةِ مُلَازَمَتِهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْأُمُورِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مَا يَسْتَغْنِي طَالِبُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِمَا ذُكِرَ فِي آدَابِ الْمُتَعَلِّمِينَ مِنْ أَنَّ الطَّالِبَ أَوَّلًا يُحِيطُ بِعِلْمِ عُلَمَاءِ بَلَدِهِ، ثُمَّ يَرْتَحِلُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبُلْدَانِ فِي طَلَبِ زِيَادَةِ الْبَيَانِ مِنَ الْأَعْيَانِ. (وَفِيكُمْ) ، أَيْ: وَأَلَيْسَ فِيكُمُ (الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ) ، أَيْ: أَنْقَذَهُ وَخَلَّصَهُ (مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ) ؟ أَيْ بِنَاءً عَلَى لِسَانِهِ مِمَّا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ دُعَائِهِ (يَعْنِي) : أَيْ يُرِيدُ أَبُو الدَّرْدَاءِ (عَمَّارًا) ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الرُّوَاةِ (أَوَ لَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ) ، أَيْ: صَاحِبُ سِرِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ) ، أَيْ: ذَلِكَ السِّرَّ (غَيْرُهُ) ؟ أَيْ غَيْرُ حُذَيْفَةَ قِيلَ: مِنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ أَسْرَارُ الْمُنَافِقِينَ وَأَنْسَابُهُمْ، أَسَرَّ بِهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَ هَذَا (يَعْنِي حُذَيْفَةَ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْعَبْسِيُّ، مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ وَحَلِيفُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ يَاسِرًا وَالِدَ عَمَّارٍ قَدِمَ مَكَّةَ مَعَ أَخَوَيْنِ لَهُ يُقَالُ لَهُمَا الْحَارِثُ وَمَالِكٌ فِي طَلَبِ أَخٍ لَهُمْ رَابِعٌ، فَرَجَعَ الْحَارِثُ وَمَالِكٌ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَقَامَ يَاسِرٌ بِمَكَّةَ، فَحَالَفَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، فَزَوَّجَهُ أَمَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا: سُمَيَّةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمَّارًا فَأَعْتَقَهُ أَبُو حُذَيْفَةَ، فَعَمَّارٌ مَوْلًى وَأَبُوهُ حَلِيفٌ، أَسْلَمَ عَمَّارٌ قَدِيمًا، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ عُذِّبُوا بِمَكَّةَ لِيَرْجِعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَحْرَقَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّارِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُرُّ بِهِ فَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: «يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى عَمَّارٍ كَمَا كُنْتِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» . وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّيِّبُ الْمُطَيَّبُ، قُتِلَ بِصِفِّينَ، وَكَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةً مِنْهُمْ: عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَمَّا حُذَيْفَةُ؟ فَهُوَ ابْنُ الْيَمَانِ وَاسْمُ الْيَمَانِ حُثَيْلٌ بِالتَّصْغِيرِ، وَالِيمَانُ لَقَبُهُ، وَكُنْيَتُهُ حُذَيْفَةُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، رَوَى عَنْهُ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مَاتَ بِالْمَدَائِنِ وَبِهَا قَبْرُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

6201 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُرِيْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ امْرَأَةَ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ خَشْخَشَةً أَمَامِي فَإِذَا بِلَالٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6201 - (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أُرِيْتُ الْجَنَّةَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" فَرَأَيْتُ امْرَأَةَ أَبِي طَلْحَةَ ") وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ تَزَوَّجَهَا مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ أَبُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَنَسًا، ثُمَّ قُتِلَ عَنْهَا مُشْرِكًا وَأَسْلَمَتْ، فَخَطَبَهَا أَبُو طَلْحَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَأَبَتْ وَدَعَتْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَزَوَّجُكَ وَلَا آخُذُ مِنْكَ صَدَاقًا لِإِسْلَامِكَ،

فَتَزَوَّجَهَا أَبُو طَلْحَةَ، رَوَى عَنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. (" وَسَمِعْتُ خَشْخَشَةً ") : بِالْخَاءَيْنِ وَالشِّينَيْنِ الْمُعْجَمَاتِ أَيْ صَوْتًا يَحْدُثُ مَنْ تَحَرُّكِ الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ وَاصْطِكَاكِهَا كَالسِّلَاحِ وَالنَّعْلِ وَالثَّوْبِ (" أَمَامِي ") ، أَيْ: قُدَّامِي تَقَدَّمَ الْخَادِمُ عَلَى الْمَخْدُومِ (" فَإِذَا بِلَالٌ ") ، وَهُوَ ابْنُ رَبَاحٍ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ بِمَكَّةَ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَسَكَنَ الشَّامَ آخِرًا وَلَا عَقِبَ لَهُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ: مَاتَ بِحَلَبَ وَدُفِنَ بِبَابِ الْأَرْبَعِينَ، وَكَانَ مِمَّنْ عَذَّبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمِمَّنْ كَانَ يُعَذِّبُهُ وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ قَتَلَهُ بِلَالٌ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ جَابِرٌ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلَالًا. اهـ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ «أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ. فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخْذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَيَّرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَأَتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانِ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ» كَذَا فِي الرِّيَاضِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.

6202 - وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا. قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ. وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] » رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6202 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) : أَحَدُ الْعَشَرَةِ (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةَ نَفَرٍ) ، أَيْ أَشْخَاصٍ (فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ) ، أَيْ: مِنْ أَكَابِرِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ (لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اطْرُدْ) ، أَيْ: أَبْعِدْ عَنْ حَضْرَتِكَ (هَؤُلَاءِ) ، أَيِ: الْمَوَالِيَ وَالْفُقَرَاءَ (لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا) . أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ جَرَاءَةٌ عَلَيْنَا فِي مُخَاطَبَتِهِمْ بِنَا إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ نُؤْمِنَ بِكَ وَنَدْخُلَ عَلَيْكَ (قَالَ) ، أَيْ: سَعْدٌ (وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ) . بِالتَّصْغِيرِ (وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا) ، بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَجُوِّزَ تَخْفِيفُهَا أَيْ لَا أَتَذَكَّرُهُمَا. قَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: وَرَجُلَانِ خَبَّابٌ وَعَمَّارٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا لِمَصْلَحَةٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَقِيلَ: لِلنِّسْيَانِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ، وَإِنَّمَا لَحِقَهُ سِبَاءٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَاشْتَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَعْتَقَتْهُ، أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ، وَهُوَ مِمَّنْ عُذِّبَ فِي اللَّهِ عَلَى إِسْلَامِهِ فَصَبَرَ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ) ، أَيْ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى طَرْدِهِمْ طَمَعًا فِي إِسْلَامِ الْأَكَابِرِ الْمُتَفَرِّعِ عَلَيْهِ إِسْلَامُ الْكُلِّ بَعْدَهُمْ (فَحَدَّثَ نَفْسَهُ) ، أَيْ لِلتَّآلُفِ بِهِمْ أَنْ يَطْرُدَهُمْ صُورَةً بِأَنْ لَا يَأْتُوهُ حَالَ وُجُودِ الْأَكَابِرِ عِنْدَهُ، أَوْ يَقُومُوا عَنْهُ إِذَا هُمْ جَلَسُوا عِنْدَهُ مُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلَاءِ جَلَسْنَا إِلَيْكَ وَحَدَّثْنَاكَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ " قَالُوا: فَأَقِمْهُمْ عَنَّا إِذَا جِئْنَا. قَالَ: " نَعَمْ " طَمَعًا فِي إِيمَانِهِمْ. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى) ، أَيْ: عِتَابًا لِسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ} [الأنعام: 52] : بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالدَّالِ بَعْدَهُ أَلِفٌ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ، وَفِي قِرَاءَةٍ بِضَمٍّ وَسُكُونٍ وَفَتْحِ وَاوٍ وَالْعَشِيِّ: أُرِيدَ بِهِمَا طَرَفَا النَّهَارِ أَوِ الْمَلَوَانِ {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ يُرِيدُونَ بِعِبَادَتِهِمْ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6203 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: " يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُعْطِيْتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6203 - (وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: " يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُعْطِيْتَ مِزْمَارًا ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ صَوْتًا حَسَنًا وَلَحْنًا طَيِّبًا (" مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ") ، أَيْ: مِنْ أَلْحَانِهِ، وَالْأَوَّلُ مُقْحَمٌ، وَاسْتُعِيرَ الْمِزْمَارُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ الْآلَةُ لِلصَّوْتِ الْحَسَنِ وَالنَّغْمَةِ الطَّيِّبَةِ. قَالَ الْقَاضِي، أَيْ: أُعْطِيْتَ حُسْنَ صَوْتٍ يُشْبِهُ بَعْضَ الْحُسْنِ الَّذِي كَانَ لِصَوْتِ دَاوُدَ، وَالْمُرَادُ بِآلِ دَاوُدَ نَفْسُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ آلُهَ مَشْهُورًا بِحُسْنِ الصَّوْتِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيُّ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَدِمَ مَعَ أَهْلِ السَّفِينَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ، وَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْبَصْرَةَ سَنَةَ عِشْرِينَ فَافْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَهْوَازَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ إِلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا، فَانْتَقَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَقَامَ بِهَا وَكَانَ وَالِيًا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ، ثُمَّ انْتَقَلَ أَبُو مُوسَى إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ التَّحْكِيمِ، فَلَمْ يَنْزِلْ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

6204 - وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةٌ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. قِيلَ لِأَنَسٍ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6204 - (وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَمَعَ الْقُرْآنَ) ، أَيْ: قَرَأَهُ كُلَّهُ ذَكَرَهُ شَارِحٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَفِظَهُ أَجْمَعَ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: فِي زَمَانِهِ (أَرْبَعَةٌ) ، أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ، أَرَادَ أَنَسٌ بِالْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةً مِنْ رَهْطِهِ وَهُمُ الْخَزْرَجِيُّونَ، إِذْ رُوِيَ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَيْضًا جَمَعُوا الْقُرْآنَ. (أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ (وَأَبُو زَيْدٍ قِيلَ لِأَنَسٍ مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ أَيْ: أَحَدُ أَعْمَامِي، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، هُوَ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ حِفْظًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقِيلَ: قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ. اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِ: اسْتَقْرِءُوا الْقُرْآنَ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْقُرْآنِ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا اسْتَظْهَرُوا الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ، هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فِي تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ، وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَجْمَعْهُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ الَّذِينَ عَلَّمَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ عِلْمِهِ لَا نَفْيَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ: حَفِظَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ مِنْهُمُ الْمَازِرِيُّ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةَ سَبْعُونَ مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَكَانَتِ الْيَمَامَةُ قَرِيبًا مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ جَامِعِيهِ يَوْمَئِذٍ، فَكَيْفَ الظَّنُّ. بِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِمَّنْ حَضَرَهَا وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَؤُلَاءِ، الْأَرْبَعَةَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَنَحْوُهُمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا مَعَ كَثْرَةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَكَيْفَ يُظَنُّ هَذَا بِهِمْ، وَنَحْنُ نَرَى أَهْلَ عَصْرِنَا يَحْفَظُهُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ أُلُوفٌ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ لَمْ يُقْدَحْ فِي تَوَاتُرِهِ، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَنْ يَنْقُلَ جَمِيعُهُمْ جَمِيعَهُ، بَلْ إِذَا نَقَلَ كُلَّ جُزْءٍ عَدَدُ التَّوَاتُرِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ مُتَوَاتِرَةً بِلَا شَكٍّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةٌ مِنْ رَهْطِ أَنَسٍ، وَهُمُ الْخَزْرَجِيُّونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَرْبَعَةً مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْسِهِمْ وَخَزْرَجِهِمْ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَكَانَ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ مُنَاوَأَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَلَعَلَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُفَاخَرَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: افْتَخَرَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فَقَالَتِ الْأَوْسُ: مِنَّا غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ حَنْظَلَةُ بْنُ الْكَاتِبِ، وَمِنَّا مَنْ حَمَتْهُ الدُّبُرُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِنَّا مَنِ اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ. وَقَالَتِ الْحَزْرَجُ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ قَرَأُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْرَأْهُ غَيْرُهُمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. فَقَوْلُهُ: لَمْ يَقْرَأْهُ غَيْرُهُمْ أَيْ لَمْ يَقْرَأْ كُلَّهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6205 - وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مَنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ: قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ ". وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6205 - (وَعَنْ خَبَّابِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى (بْنِ الْأَرَتِّ) : بِفَتْحِ هَمْزٍ وَرَاءٍ وَتَشْدِيدِ فَوْقِيَّةٍ (قَالَ: هَاجَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى) ، أَيْ: رِضَاهُ (فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ) ، أَيْ: ثَبَتَ أَجْرُنَا الدُّنْيَوِيُّ وَالْأُخْرَوِيُّ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ (فَمِنَّا مَنْ مَضَى) ، أَيْ: مَاتَ (لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ) ، أَيِ: الدُّنْيَوِيِّ (شَيْئًا) ، أَيْ مِنَ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا تَنَاوَلَهَا مَنْ أَدْرَكَ زَمَنَ الْفُتُوحِ، فَيَكُونُ أَجْرُهُ كَامِلًا، فَالْمُرَادُ بِالْأَجْرِ ثَمَرَتُهُ فَلَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى أَجْرِ الْآخِرَةِ. (مِنْهُمْ: مُصْعَبٌ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بْنُ عُمَيْرٍ) ، بِالتَّصْغِيرِ (قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ) ، أَيِ: اسْتُشْهِدَ (فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ (إِلَّا نَمِرَةٌ) ، بِفَتْحِ نُونٍ فَكَسْرِ مِيمٍ أَيْ: كِسَاءٌ غَلِيظٌ فِيهِ خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ (فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ) ، أَيْ: بِهَا (خَرَجَتْ رِجْلَاهُ) ، أَيْ ظَهَرَتَا (وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ) ، أَيْ: بِهَا (خَرَجَ رَأْسُهُ) ، أَيِ انْكَشَفَ فَتَحَيَّرْنَا فِي أَمْرِهِ (فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ ") ، أَيْ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ (" وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالْخَاءِ وَهُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ (وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ) : بِهَمْزٍ مَفْتُوحٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ وَفَتْحِ نُونٍ أَيْ نَضِجَتْ (لَهُ ثَمَرَتُهُ) : وَأَدْرَكَتْ وَطَابَتْ وَبَلَغَتْ أَوْ أَنَّ الْجُذَاذَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ بَعْضِ الْمُرَادِ وَالْيَنْعُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ إِدْرَاكُ الثِّمَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] وَفِي النِّهَايَةِ أَيْنَعَ الثَّمَرُ يُونِعُ وَيَنْعُ يَيْنَعُ فَهُوَ مُونِعٌ وَيَانِعٌ إِذَا أَدْرَكَ وَنَضِجَ وَأَيْنَعَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا (فَهُوَ) ، أَيْ: مِنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ (يَهْدِبُهَا) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ وَيُضَمُّ عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ تَثْلِيثُهَا أَيْ يَجْتَنِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ الْفِقْرَةُ قَرِينَةٌ لِقَوْلِهِ: فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعَجَّلْ شَيْءٌ مِنْ ثَوَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عُجِّلَ بَعْضُ ثَوَابِهِ، وَقَوْلُهُ: يَهْدِبُهَا عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِمْرَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ اسْتِحْضَارًا لَهُ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ» ، وَفِيهِ بَيَانُ فَضِيلَةِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَنْقُصْ لَهُ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ شَيْءٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُصْعَبُ قُرَشِيٌّ عَبْدَرِيٌّ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ، هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي أَوَّلِ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُصْعَبًا بَعْدَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنْعَمِ النَّاسِ عَيْشًا وَأَلْيَنِهِمْ لِبَاسًا، فَلَمَّا أَسْلَمَ زَهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ بَايَعَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكَانَ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فِي دُورِهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيُسْلِمُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ فِيهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يَجْمَعَ بِهِمْ فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ السَبْعِينَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ قَلِيلًا، وَفِيهِ نَزَلَ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6206 - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6206 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " اهْتَزَّ الْعَرْشُ ") : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ تَحَرَّكَ (" لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ") .

(وَفِي رِوَايَةٍ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» ) . وَالْمَعْنَى اهْتَزَّ اهْتِشَاشًا وَسُرُورًا بِتَقَلُّبِهِ مِنَ الدَّارِ الْفَانِيَةِ إِلَى الدَّارِ الْبَاقِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَرْوَاحَ السُّعَدَاءِ وَالشُّهَدَاءِ مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ هُنَاكَ، وَقِيلَ: اهْتَزَّ اسْتِعْظَامًا لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَقِيلَ: اهْتَزَّ وَفَرِحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ بِقُدُومِ رُوحِهِ، فَأَقَامَ الْعَرْشُ مَقَامَ حَامِلِيهِ، وَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ اهْتِزَازُهُ إِعْلَامًا لِلْمَلَائِكَةِ بِوُقُوعِ أَمْرٍ عَظِيمٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَ طَائِفَةٌ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاهْتِزَازُ الْعَرْشِ تَحَرُّكُهُ فَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِ سَعْدٍ، وَجَعَلَ اللَّهُ فِي الْعَرْشِ تَمْيِيزًا وَلَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يُنْكَرُ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَرْشَ جِسْمٌ مِنَ الْأَجْسَامِ يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ اهْتِزَازُ أَهِلِ الْعَرْشِ وَهُمْ حَمَلَتُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَالْمُرَادُ بِالِاهْتِزَازِ الِاسْتِبْشَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فُلَانٌ يَهْتَزُّ لِلْمَكَارِمِ، لَا يُرِيدُونَ اضْطِرَابَ جِسْمِهِ وَحَرَكَتِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ ارْتِيَاحَهُ إِلَيْهَا وَإِقْبَالَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ وَفَاتِهِ، وَالْعَرَبُ تَنْسُبُ الشَّيْءَ الْمُعَظَّمَ إِلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُونَ: أَظْلَمَتْ بِمَوْتِ فُلَانٍ الْأَرْضُ، وَقَامَتْ لَهُ الْقِيَامَةُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ اهْتِزَازُ سَرِيرِ الْجِنَازَةِ وَهُوَ النَّعْشُ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ تَرُدُّهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا أَوَّلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ الْأَوْسِيُّ، أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارُهُمْ أَوَّلُ دَارٍ أَسْلَمَتْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا مُطَاعًا شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ وَخِيَارِهِمْ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ، وَرُمِيَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي أَكْحَلِهِ، فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - عَنْ جَابِرٍ.

6207 - وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةُ حَرِيرٍ فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6207 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: أُهْدِيَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةُ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا) ، أَيْ: يَلْمَسُّونَهَا وَيَمْسَحُونَهَا (وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ لِينِهَا) ، أَيْ: نُعُومَتِهَا وَرِقَّتِهَا (قَالَ: " أَتَعْجَبُونَ مَنْ لِينِ هَذِهِ ") ؟ أَيِ: الْحُلَّةِ (" لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ ") . أَيِ: الْمَنَادِيلُ الَّتِي يَمْسَحُ بِهَا سَعْدُ يَدَهُ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَرْفَعَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ لَا يُقَاوِمُ أَوُضَعَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ الْمَنَادِيلُ جَمْعُ مِنْدِيلٍ، وَهُوَ هَذَا الَّذِي يُحْمَلُ فِي الْيَدِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدْلِ وَهُوَ الْعَقْلُ، لِأَنَّهُ يُنْقَلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النَّدْلِ وَهُوَ الْوَسَخُ لِأَنَّهُ يُنَدَّلُ بِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمَنَادِيلِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عِلْيَةِ الثِّيَابِ، بَلْ هِيَ تُبْذَلُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَرَافِقِ فَيُمْسَحُ بِهَا الْأَيْدِي، وَيُنْفَضُ بِهَا الْغُبَارُ عَنِ الْبَدَنِ، وَتُغَطَّى مَا يُهْدَى فِي الْأَطْبَاقِ، وَتُتَّخَذُ لِفَافًا لِلثِّيَابِ، فَصَارَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ الْخَادِمِ، وَسَبِيلُ سَائِرِ الثِّيَابِ سَبِيلَ الْمَخْدُومِ، فَإِذَا كَانَ أَدْنَاهَا هَكَذَا فَمَا ظَنُّكَ بِأَعْلَاهَا؟ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

6208 - «وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ. قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ ". قَالَ أَنَسٌ: فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6208 - (وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ) : وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ (أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدُهْ ") ، بِفَتْحَتَيْنِ وَضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: أَوْلَادَهُ (" وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ ") أَيْ: مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَالْبَرَكَةُ زِيَادَةُ النَّمَاءِ فِي إِفَادَةِ النَّعْمَاءِ (قَالَ أَنَسٌ: فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ) ، أَيْ: غَايَةُ الْكَثْرَةِ وَنِهَايَةُ الْبَرَكَةِ عَلَى وَفْقِ الْبُغْيَةِ (وَإِنَّ وَلَدِي) ، أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ (وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ) : بِضَمِّ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: يَزِيدُونَ فِي الْعَدَدِ (عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ) . أَيْ: فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنَ الْحَدِيثِ، رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: رُزِقْتُ مِنْ صُلْبِي سِوَى وَلَدِ

وَلَدِي مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، أَيْ: ذُكُورٌ إِلَّا بِنْتَيْنِ عَلَى مَا قِيلَ، وَإِنَّ أَرْضِي لَتُثْمِرُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: أَنَسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ الْخَزْرَجِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو حَمْزَةَ، قَدِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَانْتَقَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ لِيُفَقِّهَ النَّاسَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ، وَقِيلَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ أَصَحُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ لَهُ مِائَةُ وَلَدٍ، وَقِيلَ ثَمَانُونَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ ذَكَرًا وَاثْنَتَانِ أُنْثَى، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ اهـ. فَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ هَذَا النَّقْلَ، وَكَذَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى مَجْمُوعِ أَوْلَادِهِ، وَأَوْلَادِهِمْ يَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْمِائَةِ لَا أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْعِبَادِ وَالْمُرَادِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يُفَضِّلُ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ، وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ قَدْ بَارَكَ فِيهِ، وَمَنْ بَارَكَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فِتْنَةٌ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِهِ ضَرَرٌ وَلَا تَقْصِيرٌ فِي أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ أَنَّهُ إِذَا دُعِيَ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا يَنْبَغِي أَنْ يَضُمَّ إِلَى دُعَائِهِ طَلَبَ الْبَرَكَةِ فِيهِ وَالصِّيَانَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ دَفَنَ مِنْ أَوْلَادِهِ قَبْلَ مَقْدَمِ الْحَجَّاجِ مِائَةً وَعِشْرِينَ. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِأَوْلَادِهِ الْمَعْنَى الْأَعَمَّ الشَّامِلَ لِلصُّلْبِ وَغَيْرِهِ، وَإِلَّا لَذَكَرَ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ أَيْضًا إِذِ الْمَقَامُ يَقْتَضِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

6209 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ «مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6209 - (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) : صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَحَدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38] لِمَزِيدِ التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ. اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، إِذِ الْحَدِيثُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ مَا تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَتَكُونُ الْأَرْضُ دَاخِلَةً فِي مَفْهُومِ الدَّابَّةِ، فَذِكْرُهَا يُفِيدُ التَّأْكِيدَ. وَنَظِيرُهُ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُهُ بِأُذُنِي بِخِلَافِ لَفْظِ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْعُمُومِ الْقَابِلِ لِلتَّقْيِيدِ، فَقَوْلُهُ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ صِفَةٌ احْتِرَازِيَّةٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِأَحَدٍ هُوَ حَيٌّ الْآنَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ: (إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) . وَقَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) صِفَةٌ مُخَصَّصَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِينَ التَّكَلُّمِ حَيٌّ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ إِلَى آخِرِ الْعَشَرَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، فَإِنَّ سَعْدًا قَالَ: مَا سَمِعْتُ، وَنَفْيُ سَمَاعِهِ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْبِشَارَةِ لِلْغَيْرِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ فَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ. اهـ. وَيُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ بِأَنَّ الْحَدِيثَ اسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قَالَ لِجَمَاعَةٍ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ لَا يَطَّلِعَ سَعْدٌ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَنْفِيَ سَمَاعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ كَرَاهَةَ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُبَشَّرِينَ ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ عَاشَ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُتَّخَذْ بَعْدَهُ مِنَ الْعَشَرَةِ غَيْرُ سَعْدٍ وَسَعِيدٍ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَيٍّ يَمْشِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْغُمُوضِ عَلَى حُصُولِ الْمُدَّعِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَعْدًا لَمْ يَذْكُرْ نَفْسَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَبْشِيرَهُ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا سَمِعَهُ بِنَفْسِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ صَدْرُ الْحَدِيثِ، لَكِنْ يَبْقَى الْكَلَامُ فِي وُجُودِ سَعِيدٍ حَيًّا، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِهِ أَيْضًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ (يَمْشِي) أَنَّهُ وَقَعَ بِشَارَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ حِينَ كَانَ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسِيرُ بِخِلَافِ بِشَارَاتِ غَيْرِهِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

6210 - «وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ الْخُشُوعِ فَقَالُوا هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزَ فِيهِمَا ثُمَّ خَرَجَ وَتَبِعْتُهُ فَقُلْتُ إِنَّكَ حِينَ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ قَالُوا هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ فَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ: رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ ذَكَرَ مِنْ سَعَتِهَا وَخُضْرَتِهَا وَسَطَهَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ ; فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ فَقِيلَ لِيَ ارْقَهْ فَقُلْتُ لَا أَسْتَطِيعُ فَأَتَانِي مِنْصَفٌ فَرَفَعَ ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي فَنَزَلْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَاهُ فَأَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ فَقِيلَ اسْتَمْسِكْ فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ تِلْكَ الرَّوْضَةُ الْإِسْلَامُ وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى فَأَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ وَذَلِكَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6210 - (وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ) : بِضَمِّ عَيْنٍ وَتَخْفِيفِ مُوَحَّدَةٍ بَصْرِيٌّ مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِي الْبَصْرَةِ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ الْخُشُوعِ) :

أَيِ السُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَالْحُضُورِ (فَقَالُوا) ، أَيْ: بَعْضُ الْحَاضِرِينَ (هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ: تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرَهَا (تَجَوَّزَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيِ: اخْتَصَرَ (فِيهِمَا) ، عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَخَفَّفَهُمَا، فَفِي النِّهَايَةِ: فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي أَيْ: أُخَفِّفُهَا وَأُقَلِّلُهَا. (ثُمَّ خَرَجَ وَتَبِعْتُهُ، فَقُلْتُ) ، أَيْ: لَهُ (إِنَّكَ حِينَ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ قَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ: " وَاللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا إِنْكَارٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَطَعُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَلَغَهُمْ خَبَرُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ سَلَامٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَسْمَعْ هُوَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلْ أَنَّهُ كَرِهَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ تَوَاضُعًا وَإِيثَارًا لِلْخُمُولِ وَكَرَاهَةً لِلشُّهْرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (فَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ) ؟ وَهُوَ بِلَا لَامٍ إِلَى إِنْكَارِهِ إِيَّاهُمْ يَعْنِي أَنِّي أُحَدِّثُكَ سَبَبَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ، وَهُوَ هَذَا (إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا) : إِلَخْ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى النَّصِّ بِقَطْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنِّي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا نَصَّ عَلَى غَيْرِي، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِمْ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْنِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبَهُ أَنْ يَقُولَ بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: وَأَنَا أَيْضًا أَقُولُ: رَأَيْتُ رُؤْيَا (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: فِي زَمَانِهِ (فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ) : بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ (كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ، ذَكَرَ) ، أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ (مِنْ سَعَتِهَا) : بِفَتْحِ أَوَّلَيْهَا (وَخُضْرَتِهَا، وَسَطَهَا) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ " ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرًا مُقَدَّمًا لِمُبْتَدَأٍ مُؤَخَّرٍ هُوَ قَوْلُهُ: (عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَسْفَلُهُ) ، أَيْ: أَسْفَلَ الْعَمُودِ (فِي الْأَرْضِ، وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ) : وَالْجُمْلَتَانِ صِفَتَانِ لِعَمُودٍ (فِي أَعْلَاهُ) ، أَيِ: الْعَمُودِ (عُرْوَةٌ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: حَلْقَةٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْعُرْوَةُ مِنَ الدَّلْوِ وَالْكُوزِ الْمَقْبَضُ فَاسْتُعِيرَتْ لِمَا يُوَثَّقُ وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ (فَقِيلَ لِي: ارْقَهْ) ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْهَاءِ لِلسَّكْتِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ ضَمِيرٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: رَقِيَ كَرَضِيَ وَصَعِدَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ رَقِيَ يَرْقَى إِذَا صَعِدَ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْعَمُودِ (فَقُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُ) ، أَيِ: الرُّقِيَّ وَالصُّعُودَ (فَأَتَانِي مِنْصَفٌ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَعَلَيْهِ النُّسَخُ الْمُعْتَمَدَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ الْخَادِمُ مِنْ نَصَفَ نِصَافَةً إِذَا خَدَمَ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: هُوَ الْوَصِيفُ الصَّغِيرُ الْمُدْرِكُ لِلْخِدْمَةِ (فَرَفَعَ) ، أَيِ: الْمُصَنِّفُ (ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي، فَرَقِيتُ) : بِكَسْرِ الْقَافِ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَحُكِيَ بِفَتْحِهَا. أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ رَقَى يَرْقِي كَرَمَى يَرْمِي مِنَ الرُّقْيَةِ، وَلَا مَعْنَى لَهَا هَا هُنَا بَلِ الْمُرَادُ فَصَعِدْتُ (حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَاهُ) أَيْ: أَعْلَى الْعَمُودِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِي أَعْلَاهَا أَيْ: أَعْلَى الْعُرْوَةِ (فَأَخَذْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَخَذْتُ (بِالْعُرْوَةِ، فَقِيلَ) ، أَيْ: لِيَ (اسْتَمْسِكْ) ، أَيْ: بَالِغْ فِي الْمَسْكِ بِمَعْنَى الْأَخْذِ (فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي) ، أَيْ: أَنَّ الِاسْتِيقَاظَ كَانَ حَالَ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ، فَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا بَقِيَتْ فِي يَدِهِ حَالَ يَقَظَتِهِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا امْتَنَعَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ يَظْهَرُ خِلَافُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ أَثَرَهَا بَقِيَ فِي يَدِي بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ كَأَنْ يُصْبِحَ فَيَرَى يَدَهُ مَقْبُوضَةً، (فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " تِلْكَ الرَّوْضَةُ الْإِسْلَامُ، وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ ") ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ (" الْوُثْقَى ") ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوُثْقَى مِنَ الْحَبْلِ الْوَثِيقُ الْمُحْكَمُ الْمَأْمُونُ انْقِطَاعُهَا (" فَأَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ ") . اهـ. كَلَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ قَيْسُ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) . وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ بِأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6211 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ خَطِيبَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا نَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ جَلَسَ ثَابِتٌ فِي بَيْتِهِ وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ ثَابِتٍ أَيَشْتَكِي؟ فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ ثَابِتٌ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6211 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ (خَطِيبَ الْأَنْصَارِ) ، أَيْ فَصِيحَهُمْ أَيْ: فِي النَّثْرِ كَمَا يُقَالُ: الشَّاعِرُ فِي النَّظْمِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ خَزْرَجِيٌّ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ خَطِيبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَطِيبَ الْأَنْصَارِ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ سَنَةَ اثْنَتِيْ عَشْرَةَ، وَرَوَى عَنْهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ. (فَلَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) . وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] (جَلَسَ ثَابِتٌ فِي بَيْتِهِ وَاحْتَبَسَ) ، أَيْ: نَفْسَهُ (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) : اسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ مَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ ثَابِتٍ مُجَرَّدُ رَفْعِ الصَّوْتِ لَا أَوَّلُ السُّورَةِ، وَهُوَ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ} [الحجرات: 1] (قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ حَيْثُ كَانَ رَئِيسَهُمْ (" مَا شَأْنُ ثَابِتٍ ") ، أَيْ: حَيْثُ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ مَعَنَا (" أَيَشْتَكِي ") أَيْ: مَرَضًا أَوْ وَجَعًا، فَكَأَنَّهُ تَحَيَّرَ فِي الْجَوَابِ وَلَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الصَّوَابِ (فَأَتَاهُ) ، أَيْ: ثَابِتًا (سَعْدٌ فَذَكَرَ) ، أَيْ: سَعْدٌ (لَهُ) ، أَيْ: لِثَابِتٍ (قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: فِي تَفَقُّدِهِ (فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) أَيِ: الْمُتَقَدِّمَةُ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بِحَسْبِ الْجِبِلَّةِ (فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَفْعُ الصَّوْتِ يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا يَقْتَضِي قِلَّةَ الْأَدَبِ (فَذَكَرَ ذَلِكَ) ، أَيْ: تَعْلِيلَ ثَابِتٍ (سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ") . أَيْ: حَيْثُ بَالَغَ فِي الْأَدَبِ، حَتَّى لَمْ يَجُوزْ رَفْعُ الصَّوْتِ الْجِبِلِيِّ أَيْضًا، وَوَقَعَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ شَهِيدًا، وَقَدْ نَقَلَ الْكَوْرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ قِتَالِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ الْكَفَنَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فِي كَفَنِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَالنَّسَائِيُّ.

6212 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] . قَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6212 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) ، أَيْ: جَالِسِينَ (عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَيُسَكَّنُ (فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ آخَرِينَ عَطْفًا عَلَى الْأُمِّيِّينَ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى بَعَثَهُ فِي الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ عَلَى عَهْدِهِ، وَفِي آخَرِينَ مِنَ الْأُمِّيِّينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ بَعْدُ وَسَيَلْحَقُونَ بِهِمْ، وَهُمْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (قَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ) ، أَيْ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ) ، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ) ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ (قَالَ) ، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ) ، أَيْ: عَلَى كَتِفِهِ ثُمَّ قَالَ: (" لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ: جَمَعَ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ سَلْمَانُ وَحْدَهُ إِرَادَةً لِلْجِنْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْعَجَمُ كُلُّهُمْ لِوُقُوعِهِ مُقَابِلًا لِلْأُمِّيِّينَ، وَهُمُ الْعَرَبُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ أَهْلُ فَارِسَ. " وَلَوْ " هَا هُنَا بِمَعْنَى " إِنْ " لِمُجَرَّدِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ يَكُنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ فَارِسَ مِنْ رَامَهُرْمُزَ، وَيُقَالُ بِهَا كَانَ أَصْلُهُ مِنْ أَصْفَهَانَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: حَيٌّ. سَافَرَ يَطْلُبُ الدِّينَ فَدَانَ أَوَّلًا بِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ وَصَبَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَشَقَّاتٍ مُتَتَالِيَةٍ، فَأَخْذَهُ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ فَبَاعُوهُ مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ إِنَّهُ كُوتِبَ فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي.

كِتَابَتِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ سَيِّدًا، حَتَّى أَفْضَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْلَمَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِمُ الْجَنَّةُ، وَكَانَ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ قِيلَ: عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِعَطَائِهِ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ وَفَضَائِلُهُ غَزِيرَةٌ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَدَحَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَاتَ بِالْمَدَائِنِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، رَوَى عَنْهُ أَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ «لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» .

6213 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمَا الْمُؤْمِنِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6213 - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ حِبِّبْ عُبَيْدَكَ ") : بِالتَّصْغِيرِ لِلشَّفَقَةِ (" هَذَا ") ، أَيِ: الْمُشَارَ إِلَيْهِ (يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ) : تَفْسِيرٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مُدْرَجٌ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ (" وَأُمَّهُ ") : عَطْفٌ عَلَى عُبَيْدِكَ (" إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ ") : مُتَعَلِّقٌ بِحِبِّبْ (" وَحِبِّبْ إِلَيْهِمْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ إِلَيْهِمَا (" الْمُؤْمِنِينَ ") . قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مِنَ الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِأَصْلِ السَّمَاعِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَكْثَرُ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ مِنْهُ، وَتَوْجِيهُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَهْلِهِمَا وَأَوْلَادِهِمَا وَالْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِمَا لِيَكُونَ أَشْمَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نُزِّلَا مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ تَعْظِيمًا لَهُمَا كَمَا يُنَزَّلُ الْوَاحِدُ أَيْضًا مَنْزِلَةَ جَمْعٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6214 - وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ أَبَا سَلْمَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ فَقَالُوا: مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ فَأَتَاهُمْ فَقَالَ يَا إِخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ قَالُوا: لَا، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَخِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6214 - (وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو: بِالْوَاوِ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَوْذِ بِمَعْنَى اللَّوْذِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَدَنِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَحَدِيثُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ) ، أَيِ: ابْنَ حَرْبٍ (أَتَى) ، أَيْ: مَرَّ (عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ) ، أَيْ: وَعَلَى بِلَالٍ مَعَ جَمْعٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْإِتْيَانُ كَانَ لِأَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ كَافِرٌ فِي الْهُدْنَةِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ (فَقَالُوا) ، أَيْ: سَلْمَانُ وَأَصْحَابُهُ (مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ) : يَعْنُونَ أَبَا سُفْيَانَ (مَأْخَذَهَا) ، بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: حَقَّهَا وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَهِيَ أَصْلُ السَّيِّدِ مَآخِذَهَا بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَكَسْرِ خَاءٍ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ رُوعِيَ فِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ لِسُيُوفٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَا " نَافِيَةٌ، وَأَمَّا مَأْخَذُهَا فَقِيلَ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقِيلَ مَفْعُولٌ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَالْكَلَامُ إِخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِاسْتِبْطَاءِ يَعْنِي: لَمْ تَسْتَوْفِ السُّيُوفُ حَقَّهَا مِنْ حَقِّهِ، وَاسْتَعَارَ الْأَخْذَ لِلسَّيْفِ تَشْبِيهًا لَهُ. بِمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ يَلْزَمُهُ وَيُطَالِبُهُ، وَالْغَرِيمُ يَمْتَنِعُ عَنْ إِيفَاءِ حَقِّهِ وَيُمَاطِلُهُ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) ، أَيْ: لَهُمْ (أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ) ، أَيْ: لِكَبِيرِهِمْ (وَسَيِّدِهِمْ) ؟ أَيْ: رَئِيسِهِمْ (فَأَتَى) ، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ) ، أَيْ: بِخَبَرِهِمْ وَخَبَرِهِ (قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ ") ، لَعَلَّ هَا هُنَا لِلْإِشْفَاقِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء: 3] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلِّي " لَا أَعِيشُ بَعْدَ عَامِي هَذَا ". (" لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ ") : حَيْثُ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُحِبُّونَ مَحْبُوبُونَ لِلَّهِ تَعَالَى: (" لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ ") . أَيْ: حَيْثُ رَاعَيْتَ جَانِبَ الْكَافِرِ بِرَبِّهِ (فَأَتَاهُمْ) ، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (قَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ) : بِالْهَاءِ السَّاكِنَةِ (أَغْضَبْتَكُمْ) . أَيْ؟ فَاعْفُوَا عَنِّي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَأَغْضَبْتُكُمْ؟ (قَالُوا: لَا) ، أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَيْكَ أَوْ لَا غَضَبَ لَنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكَ (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ) : جُمْلَةٌ دِعَائِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجِبُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى " لَا " وَلَوْ زَادُوا كَمَا فِي جَوَابِ الزَّيْدِيِّ عَنْ سُؤَالِ الْمَأْمُونِ: لَا وَجَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ لِحُسْنِ مَوْقِعِهِ، وَقَوْلُهُ (يَا أَخِي) : الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: يَا أَخَانَا، وَلَعَلَّهُ حِكَايَةُ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى التَّصْغِيرِ وَهُوَ تَصْغِيرُ تَحْبِيبٍ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا. اهـ.

وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالتَّصْغِيرِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِهَا، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي يَا بُنَيَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، هَذَا وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ التَّمِيمِيِّ، يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى، كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ فِيمَا بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، فَأَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَسَبَتْهُ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ، فَنَشَأَ بِالرُّومِ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُمْ كَلْبٌ، ثُمَّ قَدِمَتْ بِهِ مَكَّةَ فَاشْتَرَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ فَأَعْتَقَهُ فَأَقَامَ مَعَهُ إِلَى أَنْ هَلَكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا كَبِرَ فِي الرُّومِ وَعَقَلَ هَرَبَ مِنْهُمْ وَقَدِمَ مَكَّةَ، فَحَالَفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَارِ الْأَرْقَمِ بَعْدَ بِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ نَزَلَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانَ فَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي مَنْقَبَتِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6215 - وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6215 - (وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " آيَةُ الْإِيمَانِ ") ، أَيْ: عَلَامَةُ كَمَالِهِ (" حُبُّ الْأَنْصَارِ ") ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ حُبُّ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِلدِّينِ، فَمَنْ أَبْغَضَ بَعْضَهُمْ لِمَعْنًى يَسَوِّغُ الْبُغْضُ بِهِ فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ وَهُوَ تَقْرِيرٌ حَسَنٌ (" وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ ") . وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ وَإِشْعَارًا بِالْعِلَّةِ فِي حُبِّهِمْ وَبُغْضِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ نَاصِرٍ أَوْ نَصِيرٍ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ أَنْصَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا يُعْرَفُونَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِأَبْنَاءِ قَيْلَةَ وَهِيَ الْأُمُّ الَّتِي تَجْمَعُ الْقَبِيلَتَيْنِ، فَسَمَّاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَنْصَارَ، فَصَارَ عَلَمًا لَهُمْ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِمَدْحِهِمْ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ، وَإِنَّمَا فَازُوا بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ لِأَجْلِ إِيوَائِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَصْرَتِهِ حَيْثُ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَجَعَلُوهُ مُسْتَقَرًّا وَمُتَوَطَّنًا لَهُمْ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، كَمَا جَعَلُوا الْمَدِينَةَ كَذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِمُعَادَاةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْحَسَدِ وَهُوَ يَجُرُّ إِلَى الْبُغْضِ، فَلِذَا جَاءَ التَّرْهِيبُ عَنْ بُغْضِهِمْ وَالتَّرْغِيبُ فِي حُبِّهِمْ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ إِيمَانِهِ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَذَلِكَ مِنْ عَلَامَةِ نِفَاقِهِ وَنُقْصَانِ إِيقَانِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ - عَنْهُ لَكِنَّ لَفْظَهُ: «حُبُّ الْأَنْصَارِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَبُغْضُ الْأَنْصَارِ آيَةُ النِّفَاقِ» .

6216 - وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6216 - (وَعَنِ الْبَرَاءِ) أَيِ: ابْنِ عَازِبٍ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ ") أَيْ: كَامِلٌ (" وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ ") أَيْ حَقِيقِيٌّ أَوْ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ الْفَاسِقُ الشَّبِيهُ بِالْمُنَافِقِ (" فَمَنْ أَحَبَّهُمْ ") ، أَيْ: لِلَّهِ (" أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ ") ، أَيْ: بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِمْ (" أَبْغَضَهُ اللَّهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6217 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ «إِنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ فَطَفِقَ يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ فَقَالُوا يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَدَعُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَحُدِّثَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَقَالَتِهِمْ فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مَنْ أَدَمٍ وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ، فَقَالَ فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ قَالُوا يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَدَعُ الْأَنْصَارَ وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6217 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ نَاسًا) أَيْ: جَمْعًا (مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) أَيْ: أَعْطَاهُ (فَيْئًا) ، أَيْ: غَنِيمَةً (مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ) : وَهِيَ قَبِيلَةٌ شَهِيرَةٌ (مَا أَفَاءَ) ، أَيْ: شَيْئًا أَفَاءَهُ عَلَيْهِ (فَطَفِقَ) ، أَيْ: فَأَخَذَ وَشَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ) : حِينَ مَرْجِعِهِ مِنَ الطَّائِفِ (يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ) وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ وَالِدُ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ إِعْطَاؤُهُ تَأَلُّفًا لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَلِذَا كَانَ يُعْطِي الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَقَلَّ مِنَ الْمِائَةِ (فَقَالُوا) ، أَيْ: نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَاعِي بَعْضَ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ (يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي قُرَيْشًا) ، أَيْ: شَيْئًا كَثِيرًا (وَيَدَعُنَا) ، أَيْ: يَتْرُكُنَا فِي إِعْطَاءِ الْكَثِيرِ (وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ) : بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ سُيُوفَنَا نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ تَنْقِطُ (مِنْ دِمَائِهِمْ) أَيْ: مِنْ دِمَاءِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِمُحَارَبَتِنَا إِيَّاهُمْ.

حَتَّى يُسْلِمُوا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُمْ يَغْفِرُ اللَّهُ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْعِتَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وَقَوْلُهُمْ: وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: عَرَضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ. اهـ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَسُيُوفُنَا بِاعْتِبَارِ مَا عَلَيْهَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَهُوَ إِشْعَارٌ بِقُرْبِ قَتْلِهِمْ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَوْلَى بِزِيَادَةِ الْبِرِّ، فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ الْإِشْكَالِ (فَحُدِّثَ) : بِضَمِّ حَاءٍ وَتَشْدِيدِ دَالٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ: فَأُوحِيَ (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَقَالَتِهِمْ) أَيْ: بِقَوْلِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مِنَ الْأَنْصَارِ (فَأَرْسَلَ) ، أَيِ: الرَّسُولُ رَسُولًا (إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ) ، أَيِ: الرَّسُولُ أَوْ أَمَرَ بِجَمْعِهِمْ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قُبَّةٍ) ، أَيْ: خَيْمَةٍ (مَنْ أَدَمٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: جِلْدٍ (وَلَمْ يَدْعُ) : بِسُكُونِ الدَّالِ وَضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: لَمْ يَطْلُبْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ مَعَهُمْ (أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " مَا حَدِيثٌ ") ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ خَبَرٌ عَظِيمٌ؟ (" بَلَغَنِي عَنْكُمْ " فَقَالَ فُقَهَاؤُهُمْ) ، أَيْ: عُلَمَاؤُهُمْ أَوْ عُقَلَاؤُهُمْ (أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا) ، أَيْ: أَصْحَابُ عُقُولِنَا وَفُهُومِنَا (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا) ، أَيْ: مِنْ هَذَا الْبَابِ (وَأَمَّا أُنَاسٌ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ لُغَةٌ فِي نَاسٍ أَيْ: جَمَاعَةٌ (مِنَّا حَدِيثَةٌ) ، أَيْ: جَدِيدَةٌ (أَسْنَانُهُمْ) : جَمْعُ السِّنِّ بِمَعْنَى الْعُمْرِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمُ الشُّبَّانُ (قَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَدَعُ الْأَنْصَارَ) ، أَيْ: يَتْرُكُهُمْ (وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي أُعْطِي ") ، أَيْ: مِنْ هَذَا الْمَالِ (" رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ ") ، أَيْ: أَطْلُبُ أُلْفَتَهُمْ بِالْإِسْلَامِ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ لَا لِكَوْنِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ لِغَرَضٍ آخَرَ مِنَ الْأَحْوَالِ (" أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ ") ، أَيْ: غَيْرُكُمْ مِنَ الْمُتَأَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ (" بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ ") بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: مَنَازِلِكُمْ فِي الْمَدِينَةِ (" بِرَسُولِ اللَّهِ ") وَفِي نُسْخَةٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا) . فِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَا فُهِمَ مِنْ بَلَى، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الذَّوْقِ وَالْحَالِ: رَضِينَا قِسْمَةَ الْجَبَّارِ فِينَا ... لَنَا عِلْمٌ وَلِلْأَعْدَاءِ مَالُ فَإِنَّ الْمَالَ يَفْنَى عَنْ قَرِيبٍ ... وَإِنَّ الْعِلْمَ يَبْقَى لَا يَزَالُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6218 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6218 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ» ") فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِانْتِقَالَ عَلَى النَّسَبِ الْوِلَادِيِّ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ مَعَ أَنَّ نَسَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الْأَنْسَابِ وَأَكْرَمُهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّسَبَ الْبِلَادِيَّ، وَمَعْنَاهُ لَوْلَا الْهِجْرَةُ مِنَ الدِّينِ وَنِسْبَتُهَا دِينِيَّةٌ لَا يَسَعُنِي تَرْكُهَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ كَنْتُ مَأْمُورًا بِهَا لَانْتَسَبْتُ إِلَى دَارِكُمْ، وَلَانْتَقَلْتُ عَنْ هَذَا الِاسْمِ إِلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْكَلَامِ إِكْرَامَ الْأَنْصَارِ، وَالتَّعْرِيضَ بِأَنْ لَا رُتْبَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْلَى مِنَ النُّصْرَةِ، وَبَيَانُ أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مَبْلَغًا لَوْلَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَعَدَّ نَفْسَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ لِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَلْخِيصُهُ: لَوْلَا فَضْلِي عَلَى الْأَنْصَارِ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ لَكُنْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَهَذَا تَوَاضُعٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَثٌّ لِلنَّاسِ عَلَى إِكْرَامِهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ، لَكِنْ لَا يَبْلُغُونَ دَرَجَةَ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقُطِّعُوا عَنْ أَقَارِبِهِمْ وَأَحَبَابِهِمْ، وَحُرِمُوا أَوْطَانَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ - وَهُمْ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَا نَالُوا ذَلِكَ بِآلَةٍ - لِأَجْلِ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِعْلَاءً لِدِينِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْأَنْصَارُ وَإِنِ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ النُّصْرَةِ وَالْإِيثَارِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِيوَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ مُقِيمُونَ فِي مَوَاطِنِهِمْ سَاكِنُونَ مَعَ أَقَارِبِهِمْ وَأَحْبَابِهِمْ، وَحَسْبُكَ شَاهِدًا فِي فَضْلِ الْمُهَاجِرِينَ قَوْلُهُ هَذَا، لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى جَلَالَةِ رُتْبَةِ الْهِجْرَةِ فَلَا يَتْرُكُهَا نَبِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ لِأَنْصَارِيٍّ (" وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا ") ، أَيْ: طَرِيقًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا (" وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ وَادِيًا ") ، أَيْ: سَبِيلًا آخَرَ (" أَوْ شِعْبًا ") : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي إِذْ مَآلُهُمَا وَاحِدٌ (" لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَهَا ") : أَيْ فِي شِعْبِ جَمَاعَةِ الْأَنْصَارِ، وَتَرَكْتُ سُلُوكَ وَادِي سَائِرِ النَّاسِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ أَنَّ أَرْضَ الْحِجَازِ كَثِيرَةُ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، فَإِذَا ضَاقَ الطَّرِيقُ عَنِ الْجَمِيعِ فَسَلَكَ رَئِيسٌ شِعْبًا اتَّبَعَهُ قَوْمُهُ حَتَّى يُفْضُوا إِلَى الْجَادَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَادِيَ الرَّأْيَ وَالْمَذْهَبَ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي وَادٍ وَأَنَا فِي وَادٍ، قِيلَ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ حُسْنَ مُوَافَقَتِهِ إِيَّاهُمْ وَتَرْجِيحَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ، لَمَّا شَاهَدَ مِنْهُمْ حُسْنَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَحُسْنَ الْجِوَارِ، وَمَا أَرَادَ بِذَلِكَ وُجُوبَ مُتَابَعَتِهِ إِيَّاهُمْ فَإِنَّ مُتَابَعَتَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمَتْبُوعُ الْمُطَاعُ لَا التَّابِعُ الْمُطِيعُ (" الْأَنْصَارُ شِعَارٌ ") : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَيُفْتَحُ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي شَعْرَ الْبَدَنِ (وَالنَّاسُ دِثَارٌ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي فَوْقَ الشِّعَارِ، شَبَّهَ الْأَنْصَارَ بِالشِّعَارِ لِرُسُوخِ صَدَاقَتِهِمْ وَخُلُوصِ مَوَدَّتِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيَّ مَرْتَبَةً وَأُولَاهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً (" إِنَّكُمْ ") : الْتِفَاتٌ إِلَيْهِمْ مُتَضَمِّنٌ لِلتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ (" سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ") : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيِ: اسْتِئْثَارًا يَسْتَأْثِرُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاؤُكُمْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَغَانِمِ وَالْفَيْءِ وَنَحْوِهِمَا، وَيُفَضِّلُ عَلَيْكُمْ غَيْرَهُ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ هُوَ أَدْنَاكُمْ (" فَاصْبِرُوا ") ، أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِئْثَارِ (" حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ") ، أَيْ: حِينَئِذٍ يَحْصُلُ جَرُّ خَاطِرِكُمُ الْمُتَعَطِّشِ إِلَى لِقَائِي يَسْقِيكُمْ شَرْبَةً لَا تَظْمَأُونَ بَعْدَهَا أَبَدًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6219 - وَعَنْهُ قَالَ «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ. الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ. قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قُلْنَا إِلَّا ضِنًّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذُرَانِكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6219 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ) ، أَيْ: فَتْحِ مَكَّةَ (فَقَالَ: " مَنْ دَخَلَ دَارِ أَبِي سُفْاَانَ فَهُوَ آمِنٌ ") ، أَيْ: ذُو أَمْنٍ وَالْأَمْنُ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَقِيلَ، أَيْ: مَأْمُونٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ الْعَبَّاسُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا. قَالَ: " نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارِ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ الْقُرَشِيُّ وَالِدُ مُعَاوِيَةَ، وُلِدَ قَبْلَ الْفِيلِ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ انْتَهَى إِلَيْهِ رَايَةُ الرُّؤَسَاءِ فِي قُرَيْشٍ، أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فِيمَنْ أَعْطَاهُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفُقِئَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ الطَّائِفِ، فَلَمْ يَزَلْ أَعْوَرَ إِلَى يَوْمِ الْيَرْمُوكِ فَأَصَابَ عَيْنَهُ الْأُخْرَى حَجَرٌ فَعَمِيَتْ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ بِالْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. (" وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ ") ، أَيْ: آلَةُ الْحَرْبِ (" فَهُوَ آمِنٌ " فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ) ، أَيْ: بَعْضُهُمْ (" أَمَّا الرَّجُلُ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ) ، أَيْ: شِدَّةُ رَحْمَةٍ (بِعَشِيرَتِهِ) ، أَيْ: قَبِيلَتِهِ (وَرَغْبَةٌ) ، أَيْ: مَحَبَّةٌ (فِي قَرْيَتِهِ) ، أَيْ: فِي أَهْلِ بَلْدَتِهِ، أَوْ بِالسُّكُونِ فِي قَرْيَتِهِ (وَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . أَيْ: بِمَا قَالُوا: (قَالَ: " قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ أَخَذَتْهُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " فَقْدًا أَخَذَتْهُ (" رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، كَلَّا ") : رَدْعٌ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمْتُمْ مِنْ إِقَامَتِي بِمَكَّةَ، لِأَنَّ هِجْرَتِي إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَالِصَةً لِلَّهِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) ، أَيْ: كَوْنِي عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا أَعُودَ إِلَى دَارٍ تَرَكْتُهَا لِلَّهِ، وَأَنْ لَا أَرْغَبَ فِي بَلْدَةٍ هَاجَرْتُ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ (" هَاجَرْتُ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ) ، أَيْ: إِلَى ثَوَابِهِ أَوْ مَأْمُورِهِ (" وَإِلَيْكُمْ ") ، أَيْ: وَإِلَى دِيَارِكُمْ لِمَيْلِكُمْ إِلَيَّ وَإِلَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْكُمْ، كَمَا قَالَ

تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9] وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْهِجْرَةِ كَانَ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ التَّهَاجُرَ كَانَ مِنْ دَارِ قَوْمِي إِلَى دَارِكُمْ (" الْمَحْيَا ") ، أَيْ: مَحْيَايَ (" مَحْيَاكُمْ. وَالْمَمَاتُ ") ، أَيْ: مَمَاتِي (" مَمَاتُكُمْ ") . وَالْمَعْنَى مَا حَيِيتُ أَحْيَ فِي بِلَادِكُمْ كَمَا تَحْيُونَ فِيهِ، وَإِذَا تُوُفِّيْتُ تُوُفِّيْتُ فِي بِلَادِكُمْ كَمَا تُتَوَفَّوْنَ لَا أُفَارِقُكُمْ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا. (قَالُوا) ، أَيِ: الْأَنْصَارُ (وَاللَّهِ مَا قُلْنَا) ، أَيْ: مَا قُلْنَاهُ (إِلَّا ضِنًّا) : بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: شُحًّا وَبُخْلًا (بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) . أَيْ: مِنْ شَرَفِ الْجِوَارِ وَالصُّحْبَةِ، وَاسْمُ اللَّهِ لِلتَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُونَ مَا قُلْنَا ذَلِكَ إِلَّا ضِنَّةً بِمَا آتَانَا اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَنَا فَيَنَالَهُ غَيْرُنَا، وَشُحًّا بِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ بَلْدَتِنَا إِلَى بَلْدَتِهِ. انْتَهَى. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُمْ عَنَوْا أَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْأَقَارِبِ وَالْأَوْطَانِ، فَخَشِينَا أَنْ تَمِيلَ عَنَّا إِلَيْهِمْ، فَحَرَّكْنَاكَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَجَرَّبْنَاكَ لِيَتَبَيَّنَ لَنَا الْمَرَامُ، فَلَا يُرَدُّ. كَيْفَ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] عَلَى مَا أَوْرَدَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (قَالَ: " فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ ") ، أَيْ: فِي إِخْبَارِكُمْ عَنْ أَخْبَارِكُمْ (وَيَعْذِرَانِكُمْ) . بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُضَمُّ أَيْ يَقْبَلَانِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنِ اعْتِذَارِكُمْ فِيمَا قُلْتُمْ مِنْ دَعْوَى الضِّنَةِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْبُخْلِ بِالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَعَدَمِ الرِّضَا بِمُفَارَقَتِهِمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6220 - وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى صِبْيَانًا وَنِسَاءً مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ يَعْنِي الْأَنْصَارَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6220 - (وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى صِبْيَانًا وَنِسَاءً مُقْبِلِينَ) ، أَيْ: رَاجِعِينَ (مِنْ عُرْسٍ) وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ مَا فِي الْقَامُوسِ الْعُرْسُ الْإِقَامَةُ فِي الْفَرَحِ وَيُضَمُّ وَبِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، وَالْوَلِيمَةُ طَعَامُ الْعُرْسِ، أَوْ كُلُّ طَعَامٍ صُنِعَ لِدَعْوَةٍ وَغَيْرِهَا. (فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، أَيْ: عَنْ طَرِيقِهِمْ أَوْ إِلَى لَقْيِهِمْ (فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَنْتُمْ ") : فِيهِ الْتِفَاتٌ، وَالتَّقْدِيرُ اللَّهُمَّ أَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقِي فِيمَا أَقُولُ فِي حَقِّ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: (" أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ ") : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، وَفِي الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ وَتَغْلِيبٌ لِلصِّبْيَانِ عَلَى النِّسَاءِ أَوْ لِلْغَائِبِينَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الرَّاوِي (يَعْنِي: الْأَنْصَارَ) ، أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ طَائِفَةُ الْأَنْصَارِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6221 - وَعَنْهُ قَالَ «مَرَّ أَبُو بَكْرٍ وَالْعَبَّاسُ بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ وَهُمْ يَبْكُونَ فَقَالَا مَا يُبْكِيكُمْ فَقَالُوا ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَّا فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ عَصَّبَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَلَمْ يَصْعَدْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي. وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6221 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: مَرَّ أَبُو بَكْرٍ) ، أَيِ: الصِّدِّيقُ (وَالنَّاسُ بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ وَهُمْ) ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (يَبْكُونَ) ، أَيْ: فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمْ؟ قَالُوا: ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : يَعْنُونَ نَخَافُ فَوْتَهُ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ مَوْتَهُ (فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا) : رُوِيَ أَنَّهُ الْعَبَّاسُ (عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ) ، أَيْ: بِمَا ذُكِرَ مِنْ بُكَائِهِمْ وَسَبَبِ عَنَائِهِمْ (فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ عَصَّبَ) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ أَيْ: رَبَطَ وَشَدَّ (عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ) أَيْ: عَلَى هَيْئَةِ عِصَابَةٍ لِدَفْعِ وَجَعِ رَأْسِهِ مِنَ الشِّدَّةِ (فَصَعِدَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعَ (الْمِنْبَرَ وَلَمْ يَصْعَدْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَحَمِدَ اللَّهَ) ، أَيْ: شَكَرَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ. (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) . أَيْ: بِالْوَجْهِ الْأَتَمِّ (ثُمَّ قَالَ: " أُوصِيكُمْ ") ، أَيْ: أَيُّهَا النَّاسُ أَوِ الْمُهَاجِرُونَ (" بِالْأَنْصَارِ) ، أَيْ: بِرِعَايَتِهِمْ وَحِمَايَتِهِمْ (" فَإِنَّهُمْ كَرِشِي ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: بِطَانَتِي (" وَعَيْبَتِي ") . بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ

وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ: وَخَاصَّتِي. كَذَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْكَرِشُ بِالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ لِكُلِّ مُجْتَرٍّ بِمَنْزِلَةِ الْمَعِدَةِ لِلْإِنْسَانِ مُؤَنَّثَةٌ، وَعِيَالُ الرَّجُلِ وَصِغَارُ وَلَدِهِ وَالْجَمَاعَةُ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَرَادَ أَنَّهُمْ بِطَانَتُهُ وَمَوْضِعُ سِرِّهِ وَأَمَانَتِهِ، أَوْ أَرَادَ الْجَمَاعَةَ أَيْ: جَمَاعَتِي وَأَصْحَابِي، وَفِي الْمِصْبَاحِ أَيْ: أَنَّهُمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَالرَّأْفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى مَحَبَّةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْكَرِشُ لِكُلِّ مُجْتَرٍّ بِمَنْزِلَةِ الْمَعِدَةِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الْكَرِشَ فِي كَلَامِهِمْ مَوْضِعَ الْبَطْنِ، وَالْبَطْنُ مُسْتَوْدَعُ مَكْتُومِ السِّرِّ، وَالْعَيْبَةُ مُسْتَوْدَعُ مَكْنُونِ الْمَتَاعِ، وَالْأَوَّلُ أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَالثَّانِي أَمْرٌ ظَاهِرٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا إِرَادَةَ اخْتِصَاصِهِمْ بِهِ فِي أُمُورِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَيْبَتِي أَيْ خَاصَّتِي، وَهُوَ مَوْضِعُ سِرِّي، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْقَلْبِ وَالصَّدْرِ بِالْعَيْبَةِ لِأَنَّهُمَا مُسْتَوْدَعُ السَّرَائِرِ، كَمَا أَنَّ الْعِيَابَ مُسْتَوْدَعُ الثِّيَابِ (" وَقَدْ قَضَوْا ") ، أَيْ: أَدَّى الْأَنْصَارُ (" الَّذِي عَلَيْهِمْ ") ، أَيْ: مِنَ الْوَفَاءِ بِمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْمُبَالَغَةِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، فَإِنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُمُ الْجَنَّةُ، فَوَفَّوْا بِذَلِكَ. ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (" وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ ") ، أَيْ: مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (" فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ ") أَيْ: إِنْ أَتَوْا بِعُذْرٍ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُمْ (" وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ ") . أَيْ: إِنْ عَجَزُوا عَنْ عُذْرٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6222 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَلْيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6222 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ) ، أَيْ: مِنْ حُجْرَتِهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مِشْيَتِهِ (حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ) ، أَيْ: عَلَى مَا وَجَدَ مِنَ النِّعْمَةِ لَدَيْهِ (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) ، أَيْ: بِمَا أَلْهَمَهُ إِلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ ") ، أَيْ: بَعْدَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ (" فَإِنَّ النَّاسَ ") ، أَيْ: أَهْلَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ خُلَاصَةُ النَّاسِ (" يَكْثُرُونَ ") : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ (" وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لِأَنَّ الْأَنْصَارَ هُمُ الَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَصَرُوهُ فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالْعُسْرَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدِ انْقَضَى زَمَانُهُ لَا يَلْحَقُهُمُ اللَّاحِقُ وَلَا يُدْرِكُ شَأْوَهُمُ السَّابِقُ، فَكُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ وَاحِدٌ مَضَى مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَيَكْثُرُ غَيْرُهُمْ وَيَقِلُّونَ. (" حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ ") ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمِلْحَ بِوَصْفِ الْقِلَّةِ سَبَبٌ لِكَمَالِ الطَّعَامِ فِي اللَّذَّةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ تُؤَيِّدُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَيِ: التَّقْلِيلُ قَائِمٌ فِي حَقِّ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَعَلَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَأَوْلَادَهُمْ كَثَرُوا وَتَبَسَّطُوا فِي الْبِلَادِ وَانْتَشَرُوا فِيهَا وَمَلَكُوهَا، بِخِلَافِ الْأَنْصَارِ. انْتَهَى. وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ فِي الْأَشْرَافِ وَالْعَلَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيَّةِ وَبَنِي خَالِدٍ وَأَمْثَالِهِمْ (" فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ ") : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ لَامٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: مَنْ تَوَلَّى مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُهَاجِرُونَ مَثَلًا (" شَيْئًا ") : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ مَصْدَرٍ أَيْ: قَلِيلًا مِنَ الْوِلَايَةِ، وَقَوْلُهُ: (" يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا ") ، أَيْ: مُسِيئِينَ (" وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ ") ، أَيْ: مُحْسِنِينَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (" فَلْيَقْبَلْ ") ، أَيِ: الْمُتَوَلِّي مِنْكُمْ (" مِنْ مُحْسِنِهِمْ ") ، أَيْ: إِحْسَانَهُمْ (" وَلْيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ ") ، أَيْ: إِسَاءَتِهُمْ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6223 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6223 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» ") : وَهُمُ التَّابِعُونَ (" وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ") . وَفِي نُسْخَةٍ: وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، فَدَعَا لِأَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَبْنَاؤُهُمْ وَلَوْ بِوَسَائِطَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6224 - وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «- خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ وَفَى كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6224 - (وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ ") ، أَيْ: أَفْضَلُ قَبَائِلِهِمْ (" بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ ") ، أَيْ: فَضْلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى أَفْضَلَ، وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْفَضْلِ يَعْنِي الْخَيْرُ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْأَنْصَارِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُهُمْ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرُ قَبَائِلِهِمْ، وَكَانَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ تَسْكُنُ مَحَلَّةً فَسَمَّى تِلْكَ الْمَحَلَّةَ دَارَ بَنِي فُلَانٍ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَنُو فُلَانٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الدَّارِ، قَالُوا: تَفْضِيلُهُمْ عَلَى قَدْرِ سَبْقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَمَآثِرِهِمْ فِيهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَفْضِيلِ الْقَبَائِلِ وَالْأَشْخَاصِ مِنْ غَيْرِ مُجَازِفَةٍ وَلَا هَوًى، وَلَا يَكُونُ هَذَا غَيْبَةً. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ أَرَادَ بِهَا ظَاهِرَهَا فَقَوْلُهُ: بَنُو النَّجَّارِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَيَكُونُ خَيْرِيَّتُهَا بِسَبَبِ خَيْرِيَّةِ أَهْلِهَا، وَمَا يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي الْجَامِعِ " خَيْرُ دِيَارِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ: " خَيْرُ دِيَارِ الْأَنْصَارِ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ ".

6225 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَفِي رِوَايَةٍ وَأَبَا مَرْثَدٍ بَدَلَ الْمِقْدَادِ فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ قَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ. فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَةٌ يَحْمُونَ بِهَا أَمْوَالَهُمْ وَأَهْلَهُمْ بِمَكَّةَ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ. " وَفِي رِوَايَةٍ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] » ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6225 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا) : كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَالظَّاهِرُ إِيَّايَ فَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ اسْتِعَارَةِ الْمَرْفُوعِ لِلْمَنْصُوبِ (وَالزُّبَيْرَ) أَيِ: ابْنَ الْعَوَّامِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْعَشَرَةِ (وَالْمِقْدَادَ) . بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ حَالَفَ كِنْدَةَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِأَبِي الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيفَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَبْدًا فَتَبَنَّاهُ، وَكَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ. رَوَى عَنْهُ عَلِيٌّ وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ بِالْجَرْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، (دُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ. (وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَبَا مَرْثَدٍ بَدَلَ الْمِقْدَادِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ رَاءٍ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ كَنَّازُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَيُقَالُ ابْنُ حُصَيْنٍ الْغَنَوِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، شَهِدَ بَدْرًا هُوَ وَابْنُهُ مَرْثَدٌ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، رَوَى عَنْ حَمْزَةَ، وَعَنْهُ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، كَانَتْ سَنَةَ اثْنَيْ عَشْرَةَ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هُوَ وَابْنُهُ حَلِيفَا حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: شَهِدَ أَبُو مَرْثَدٍ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ الْحَاصِلُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ الْأَرْبَعَةَ إِلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْمِقْدَادُ، وَفِي بَعْضِهَا أَبُو مَرْثَدٍ. وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُبَدَّلَ مُنَحًّى، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي رِوَايَةٍ هَذَا، وَفِي رِوَايَةٍ ذَاكَ، لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ قَدْ بُعِثُوا لِهَذَا الْأَمْرِ. انْتَهَى: وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُبَدَّلَ مُنَحًّى فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِذَا قَالَ بَدَلَ الْمِقْدَادِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ غَيْرَ مُنَحًّى عَنِ الْمُرَادِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ. وَفِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ: وَالْمِقْدَادَ بَدَلَ أَبِي مَرْثَدٍ، وَلَا مُنَافَاةَ، بَلْ بَعَثَ الْأَرْبَعَةَ: عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَأَبَا مَرْثَدٍ (فَقَالَ: " انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ") بِخَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ مَصْرُوفًا وَقَدْ لَا يُصْرَفُ. قَالَ الطِّيبِيُّ بِالْخَاءَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ هُوَ الصَّوَابُ، وَهِيَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: وَخَاخٌ يُصْرَفُ وَيُمْنَعُ (" فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً ") ، أَيِ: امْرَأَةً اسْمُهَا سَارَةُ، وَقِيلَ أُمُّ سَارَةَ مَوْلَاةٌ لِقُرَيْشٍ (" مَعَهَا كِتَابٌ ") ، أَيْ: مَكْتُوبٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ (" فَخُذُوهُ مِنْهَا " فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى) ، أَيْ: تَتَسَابَقُ (بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ) ، أَيْ: رَوْضَةِ خَاخٍ (فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ) ، أَيِ: الْمَرْأَةِ (فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ لِمَزِيدِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ.

(فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ) : بِفَتْحِ لَامٍ فَضَمٍّ فَسُكُونٍ فَكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ نُونٍ أَيْ: لَتُظْهِرِنَّ (الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ فَفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْ: لَتَرْمِيِنَّ (الثِّيَابَ) : وَتَتَجَرَّدِنَّ عَنْهَا لِيَتَبَيَّنَ لَنَا الْأَمْرُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَرَفْعِ الثِّيَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا. قَالَ مِيرَكُ: كَذَا جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ مَكْسُورَةً وَمَفْتُوحَةً. فَإِنْ قُلْتَ: الْقَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ تُحْذَفَ تِلْكَ الْيَاءُ، وَيُقَالَ: لَتُلْقِنَّ. قُلْتُ: الْقِيَاسُ ذَلِكَ، وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالْيَاءِ فَتَأْوِيلُ الْكَسْرِ أَنَّهَا لِمُشَاكَلَةِ لَتُخْرِجِنَّ، وَالْفَتْحُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ الْغَائِبِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَرَفْعِ الثِّيَابِ، كَذَا قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، فِي شَرْحِهِ: كَذَا فِيهِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَالْوَجْهُ حَذْفُهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا ثَبَتَتْ لِمُشَاكَلَةِ لَتُخْرِجِنَّ. قَالَ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ صَوَابَ الرِّوَايَةِ لَتُلْقِينَ الثِّيَابَ بِالنُّونِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا لَا شَكَّ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَخْرِيجِ تَكَلُّفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: وَيُرِيدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا بِلَفْظِ: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لِنُجَرِّدَنَّكِ. انْتَهَى. (فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا) ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ جَمْعُ عَقِيصَةٍ وَهِيَ الشَّعْرُ الْمَضْفُورُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ (أَخْرَجَتْهُ مِنْ حُجْزَتِهَا) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَبِالزَّايِ أَيْ: مَعْقِدَ الْإِزَارِ لِأَنَّ عَقِيصَتَهَا طَوِيلَةٌ بِحَيْثُ تَصِلُ إِلَى حُجْزَتِهَا، فَرَبَطَتُهُ فِي عَقِيصَتِهَا وَغَرَزَتْهُ بِحُجْزَتِهَا (فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا فِيهِ) ، أَيْ: فِي الْكِتَابِ (مِنْ حَاطِبِ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ (ابْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ هَذَا حِكَايَةَ الْمَكْتُوبِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وُضِعَ مَوْضِعَ قَوْلِهِ: إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ (مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ) ، أَيْ: حَاطِبٌ أَوْ مَكْتُوبُهُ مَجَازًا (بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . أَيْ: بِبَعْضِ شَأْنِهِ وَحَالِهِ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ) ، أَيْ: لِحَاطِبٍ (" مَا هَذَا ") ؟ أَيِ: الْفِعْلُ الشَّنِيعُ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ) ، أَيْ: فِي الْحُكْمِ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ يُبَيِّنُ عُذْرَهُ فِي فِعْلِهِ بِقَوْلِهِ: (إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ حَلِيفًا (فِي قُرَيْشٍ) ، أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَانَ حَلِيفَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ (وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَةٌ) ، أَيْ: ذَوُو قَرَابَةٍ أَيْ: أَقَارِبُ أَوْ قَرَابَةٌ مَعَ نَاسٍ (يَحْمُونَ) ، أَيِ: الْأَقَارِبَ أَوِ النَّاسَ الَّذِينَ أُقَارِبُهُمْ يَحْفَظُونَ وَيُرَاعُونَ (بِهَا) ، أَيْ: بِتِلْكَ الْقَرَابَةِ (أَمْوَالَهُمْ) ، أَيْ: أَمْوَالَ الْمُهَاجِرِينَ (وَأَهْلَهُمْ بِمَكَّةَ) ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِيَحْمُونِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ التَّقْدِيرَ أَمْوَالُهُمْ وَأَهْلِيهِمُ الْكَائِنِينَ بِمَكَّةَ (فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ) ، أَيِ: الْقُرْبُ (مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ) ، أَيْ: فِي قُرَيْشٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذْ فَاتَنِي تَعْلِيلٌ وَقَعَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا) ، أَيْ: صَنِيعَةً (يَحْمُونَ) ، أَيْ: قُرَيْشٌ (بِهَا) ، أَيْ: بِتِلْكَ الْيَدِ (قَرَابَتِي) أَيِ: الْكَائِنَةَ بِمَكَّةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: يَحْمُونَ صِفَةُ (يَدًا) ، وَأَرَادَ بِالْيَدِ يَدَ إِنْعَامٍ أَوْ قُدْرَةٍ (وَمَا فَعَلْتُ) ، أَيْ: ذَلِكَ (كُفْرًا) ، أَيْ: أَصْلِيًّا (وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي) أَيْ: حَادِثًا (وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ) ، أَيْ: بِوُجُودِهِ (بَعْدَ الْإِسْلَامِ) . أَيْ: بَعْدَ حُصُولِهِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوْ تَعْمِيمٌ لِأَنْوَاعِ حُدُوثِ الْكُفْرِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: خِطَابًا لِلْأَصْحَابِ (إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ ") بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: قَالَ الصِّدْقَ (فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي) ، أَيْ: اتْرُكْنِي (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَضْرِبْ) : بِالْجَزْمِ أَيْ أَقْطَعْ (عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ) . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَعَ تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَاطِبٍ فِي مَعْذِرَتِهِ لِمَا كَانَ عِنْدَ عُمَرَ مِنْ قُوَّةٍ فِي الدِّينِ وَبُغْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى النِّفَاقِ، وَظَنَّ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اسْتَأْذَنَ فِي قَتْلِهِ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ مُنَافِقًا لِكَوْنِهِ أَبْطَنَ خِلَافَ مَا أَظْهَرَ، وَعُذْرُ حَاطِبٍ مَا ذَكَرَهُ فَإِنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهُ ") ، أَيْ: حَاطِبًا (قَدْ شَهِدَ بَدْرًا) أَيْ: حَضَرَهُ (" وَمَا يُدْرِيكَ ") ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُكَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ (" لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ ") : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَقْبَلَ (" عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ") : وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ (" فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ") ، أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَفْعَالِ النَّافِلَةِ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً (" قَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ ") . أَيْ: ثَبَتَتْ أَوْ وَجَبَتْ بِمُوجِبِ إِيجَابِي مِنَ الْوَعْدِ الْوَاجِبِ وُقُوعَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى التَّرَجِّي فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ وُقُوعَ هَذَا الْأَمْرِ مُحَقَّقٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُوثِرَ عَلَى التَّحْقِيقِ بَعْثًا لَهُ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَلَا يَقْطَعُ الْأَمْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ ذِكْرَ لَعَلَّ لِئَلَّا يَتَّكِلَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا عَلَى ذَلِكَ وَيَنْقَطِعَ عَنِ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِظْهَارُ الْعِنَايَةِ لَا التَّرَخُّصِ لَهُمْ فِي كُلِّ فِعْلٍ، بَلِ الْحَدِيثُ الْآتِي عَنْ حَفْصَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ لَا فِي حَالِ الْقَطْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ") : وَهِيَ أَرْجَى مِمَّا قَبْلَهَا كَمَا لَا يَخْفَى، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَوْ تَوَجَّهَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ أَوْ غَيْرُهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِسْطَحٍ حَدَّ الْفِرْيَةِ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَوَازُ هَتْكِ أَسْتَارِ الْجَوَاسِيسِ وَقِرَاءَةِ كُتُبِهِمْ، وَفِيهِ هَتْكُ سِتْرِ الْمُفْسِدِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، أَوْ كَانَ فِي السِّتْرِ مَفْسَدَةٌ، وَمَا فَعَلَهُ حَاطِبٌ كَانَ كَبِيرَةً قَطْعًا ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِيذَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ: أَنَّهُ لَوِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً مُتَضَمِّنَةً لِأَذَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ كُفْرًا، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ أَذَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ أَذَى الْكُفَّارِ عَنْ قَرَابَتِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْإِبْلَاغُ، وَقَدْ صَدَّقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ نَعَمْ قَصُرَ فِي اجْتِهَادِهِ حَيْثُ أَخْفَى أَمْرَهُ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} [الممتحنة: 1] ، أَيِ: الَّذِينَ أُعَادِيهِمْ وَعَدُوَّكُمْ، أَيِ: الَّذِينَ يُعَادُونَكُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ أَوْلِيَاءَ أَيْ: أَحِبَّاءَ وَمَا بَعْدَهُ: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ - إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ - لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 1 - 4] الْآيَةَ. وَإِنَّمَا عَمَّ الْخِطَابُ لَيَدْخُلَ فِيهِ أَمْثَالُ حَاطِبٍ، وَلِذَا قِيلَ فِيهِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6226 - وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6226 - (وَعَنْ رِفَاعَةَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (ابْنِ رَافِعٍ) يُكَنَّى أَبَا مُعَاذٍ الزُّرَقِيَّ الْأَنْصَارِيَّ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَسَائِرَ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، مَاتَ فِي أَوَّلِ وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ عُبَيْدٌ وَمُعَاذٌ وَابْنُ أَخِيهِ يَحْيَى بْنُ خَلَّادٍ (قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) ، أَيْ: جِبْرِيلُ (مَا تَعُدُّونَ) بِضَمِّ عَيْنٍ وَتَشْدِيدِ دَالٍ أَيْ مَا تَعْتَبِرُونَ (أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ) وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لَهُ وَلِمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ تَحْسَبُونَهَا لِأَهْلِ بَدْرٍ (قَالَ مِنْ) أَيْ: هُمْ مِنْ (أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا) وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هُمْ أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ عِنْدَنَا حُكْمُ (مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ) أَيْ: هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ مِنْهُمْ فَيَكُونُونَ أَفْضَلَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ أَفَاضِلِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِمَّنْ يَعُدُّونَ لِيُطَابِقَهُ الْجَوَابُ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَتَى بِ (مَا) بَدَلَ مَنْ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ إِفَادَةِ التَّعْظِيمِ مِنَ الْعُدُولِ مِنْ مَنْ إِلَى مَا وَإِنَّمَا جَاءَ مَنْ فِي مَوَاضِعَ بِمَعْنَى مَنْ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6227 - وَعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ". قَالَ: فَلَمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ: " {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] ". وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدُ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6227 - (وَعَنْ حَفْصَةَ) أَيْ بِنْتِ عُمَرَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ) أَيْ مَا مِنْكُمْ (إِلَّا وَارِدُهَا) أَيْ مَارٌّ بِهَا أَوْ حَاضِرُهَا وَكَانَتْ حَفْصَةُ ظَنَّتْ أَنَّ مَعْنَى وَارِدِهَا دَاخِلُهَا (قَالَ: فَلَمْ تَسْمَعِيهِ) أَيْ أَفَلَمْ تَسْمَعِي كَلَامَ اللَّهِ (يَقُولُ) أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) أَيْ مِنَ الدُّخُولِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: فَيُنَجِّي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ بِفَضْلِهِ عَنْهَا فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَتْرُكُ الْكَافِرِينَ فِيهَا بِعَدْلِهِ. انْتَهَى. وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الطِّيبِيِّ يَعْنِي: أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ دُخُولًا يُعَذَّبُ فِيهَا وَلَا نَجَاةَ لَهُ مِنْهَا. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ سَابِقًا مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُرُودِ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى جَهَنَّمَ فَيَقَعُ فِيهَا أَهْلُهَا وَيَنْجُو الْآخَرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. قُلْتُ: تَأَمَّلْنَا كَثِيرًا فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ أَرْجَحِيَّتِهِ وَلَا قَدْرًا يَسِيرًا، بَلْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ أَبْلَغُ وَأَتَمُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ جَوَازُ الْمُنَاظَرَةِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْشَادِ وَهُوَ مَقْصُودُ حَفْصَةَ لَا أَنَّهَا أَرَادَتْ رَدَّ مَقَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: وَفِي تَسْمِيَتِهِ مُنَاظِرَةٌ وَاعْتِرَاضٌ وَجَوَابٌ لَا يَخْلُو عَنْ سُوءِ أَدَبٍ يُرْجَى مُسَامَحَتُهُ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهَا اسْتَشْكَلَتْ مَعْنَى الْحَدِيثِ حَيْثُ ظَاهِرُهُ عَلَى ظَنِّهَا غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْآيَةِ، فَسَأَلَتْ سُؤَالَ اسْتِرْشَادٍ لَا سُؤَالَ اعْتِرَاضٍ، كَمَا هُوَ طَرِيقُ أَرْبَابِ الْمُنَاظَرَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى أَيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ أَنْ يَسْأَلَ وَاحِدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] إِنَّمَا تُسَمَّى بِالْمُنَاظَرَةِ الْمُبَاحَثَةُ وَالْمُجَادَلَةُ بَيْنَ النُّظَرَاءِ وَالْأَمْثَالِ فِي الْمُعَاصَرَةِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَدْخُلُ النَّارَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ - أَحَدُ - الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا ") : بَيَانٌ لِأَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَوْ بَدَلٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَقَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ مُسْنَدِ حَفْصَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهِ مِنْ مُسْنَدِ أُمِّ مُبَشِّرٍ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ حَفْصَةَ يَقُولُ: " «لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدُ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا " فَقَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَانْتَهَرَتْهَا حَفْصَةُ فَقَالَتْ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] » هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ حَدِيثُ حَفْصَةَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، بَلْ هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ مُبَشِّرٍ، نَعَمْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ - مِنْ طَرِيقِ أُمِّ مُبَشِّرٍ عَنْ حَفْصَةَ كَمَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَكَذَا رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا مُحَصَّلُ مَا أَوْرَدَهُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَرْوِيٌّ عَنْ حَفْصَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَصَحَّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ.

6228 - «وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، قَالَ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6228 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ) : قَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ (قَالَ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ ") : وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ السُّيُوطِيُّ: إِنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ ثُمَّ أَهْلُ أُحُدٍ ثُمَّ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6229 - وَعَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَصْعَدِ الثَّنِيَّةَ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَهَا خَيْلُنَا خَيْلُ بَنِي الْخَزْرَجِ، ثُمَّ تَتَامَّ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، فَأَتَيْنَاهُ فَقُلْنَا تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ; لَأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنِ أَقْرَأَ عَلَيْكَ فِي بَابٍ بَعْدَ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6229 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ يَصْعَدِ الثَّنِيَّةَ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ حُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالثَّنِيَّةُ هِيَ الطَّرِيقُ الْعَالِي فِي الْجَبَلِ، وَقَوْلُهُ: (" ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ ") : بِالنَّصْبِ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَالْمُرَارُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْسِرُهَا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهُ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا حَثَّهُمْ عَلَى صُعُودِهَا لِأَنَّهَا عَقَبَةٌ شَاقَّةٌ وَصَلُوا إِلَيْهَا لَيْلًا حِينَ أَرَادُوا مَكَّةَ سَنَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَرَغَّبَهُمْ فِي صُعُودِهَا بِقَوْلِهِ: (" فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُوضَعُ عَنْهُ (" مَا حُطَّ ") ، أَيْ: مِثْلَ مَا وُضِعَ (" عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ") ، أَيْ: لَوْ قَالُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا حِطَّةً (فَكَانَ) : بِالْفَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ وَكَانَ (أَوَّلَ مَنْ صَعِدَهَا خَيْلُنَا) : بِالرَّفْعِ وَأُبْدِلَ مِنْهُ (خَيْلُ بَنِي الْحَزْرَجِ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ خَيْلُنَا أَوَّلَ خَيْلِ مَنْ صَعِدَهَا (ثُمَّ تَتَامَّ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ تَفَاعَلَ مِنَ التَّمَامِ أَيْ تَتَابَعَ النَّاسُ وَجَاءُوا كُلُّهُمْ وَتَمُّوا. وَالْمَعْنَى صَعِدَ الثَّنِيَّةَ كُلُّهُمْ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ» ") : وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا حِمَارًا (فَأَتَيْنَا، فَقُلْنَا تَعَالَ) ، أَيْ: إِلَى الْحَضْرَةِ الْعَلِيَّةِ (يَسْتَغْفِرْ) : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ، فَالتَّقْدِيرُ لِأَنْ يَسْتَغْفِرَ (لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي) ، أَيْ: مِنْ جَمَلٍ أَوْ خَيْلٍ (أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ) . وَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ مِنْهُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ - سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 5 - 6] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ ") ، أَيِ: الْقُرْآنَ قِرَاءَةَ الْمُعَلِّمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ تَعْلِيمًا لَهُ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَرْتَبَةٌ جَسِيمَةٌ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَتَعْظَّمَ ذِكْرُهُ مَيَّزَهُ عَنْ أَقْرَانِهِ بِإِقْرَاءِ حَبِيبِهِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ رَئِيسُ الْقُرَّاءِ (فِي بَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ) . مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ذَكَرَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6230 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ. وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ: مَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ) بَدَلَ (وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6230 - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ ") : بِصِيغَةِ الْمُثَنِّيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: الَّذِينَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلَعَلَّهُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ (" مِنْ بَعْدِي ") ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَوْتِي أَوْ مِنْ بَعْدِ الِاقْتِدَاءِ بِي (" مِنْ أَصْحَابِي ") . أَيْ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِي (" أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ") ، بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِلَّذَيْنَ (" وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ ") ، أَيْ سِيرُوا بِسَيْرِهِ، وَكَانَ الِاقْتِدَاءُ أَعَمَّ مِنَ الِاهْتِدَاءِ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ، بِخِلَافِ الِاهْتِدَاءِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ (وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ") أَيْ بِوَصِيَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَوْلِهِ، وَلِذَا يَخْتَارُ إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ رِوَايَتَهُ وَقَوْلَهُ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِكَمَالِ فَقَاهَتِهِ وَنُصْحِ وَصِيَّتِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ عَهْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَا يُعْهَدُ إِلَيْهِ فَيُوصِيهِمْ بِهِ، وَأَرَى أَشْبَهَ الْأَشْيَاءِ بِمَا يُرَادُ مِنْ عَهْدِهِ أَمْرَ الْخِلَافَةِ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ شَهِدَ بِصِحَّتِهَا وَأَشَارَ إِلَى اسْتِقَامَتِهَا مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا الدَّلِيلَ فَقَالَ: لَا نُؤَخِّرُ مَنْ قَدَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنِ ارْتَضَاهُ لِدِينِنَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْمُنَاسَبَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ، فَفِي أَوَّلِهِ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعَدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَفِي آخِرِهِ: وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ

(وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ: " «مَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ» ) : وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَسَرَّ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْخِلَافَةِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَوْصَلَهُ بِحَدِيثِ الْخِلَافَةِ فَقَالَ: لَوِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ فَعَصَيْتُمُوهُ عُذِّبْتُمْ، وَلَكِنْ مَا حَدَّثَكُمْ حُذَيْفَةُ فَصَدِّقُوهُ، وَحُذَيْفَةُ هُوَ الَّذِي يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي " وَلَمْ أَرَ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِلَافَةِ فِي سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْضَحَ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَلَا أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: " «سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ» " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ قَوْلُهُ: (بَدَلَ: " وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ") . الظَّاهِرُ بَدَلَ تَمَسَّكُوا فَإِنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . الرِّوَايَةُ الْأُولَى رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وَهُوَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، لَكِنْ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَا أَدْرِي مَا بَقَائِي فِيكُمْ. فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي» " وَأَشَارَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ " «وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ» ". وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. أَقُولُ: وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ - وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ - ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الْمِشْكَاةِ وَقَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالرُّويَانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ.

6231 - وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ لَأَمَّرْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6231 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا ") : وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ (أَحَدًا) عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُهُ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: جَاعِلُ أَحَدٍ أَمِيرًا يَعْنِي أَمِيرَ جَيْشٍ بِعَيْنِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَوْ كُنْتُ مُسْتَخْلِفًا (" مِنْ غَيْرِ مَشْوَرَةٍ ") ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ وَالْوَجْهَانِ فِي الصِّحَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَشُورَةٌ مَفْعُلَةٌ لَا مَفْعُولَةٌ يَعْنِي كَمَقُولَةٍ (" لَأَمَّرْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " «لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا عَلَى أُمَّتِي أَحَدًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْهُمْ، لَأَمَّرْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ» ". قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُئَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ مُجِيبَتُهُ أَرَادَ بِهِ تَأْمِيرَهُ عَلَى جَيْشٍ بِعَيْنِهِ أَوِ اسْتِخْلَافَهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِمَكَانٍ وَلَهُ الْفَضَائِلُ الْجَمَّةُ وَالسَّوَابِقُ الْجَلَّةُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

6232 - وَعَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَيَسَّرَ لِي أَبَا هُرَيْرَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَوُفِّقْتَ لِي. فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، جِئْتُ أَلْتَمِسُ الْخَيْرَ وَأَطْلُبُهُ. فَقَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ مُجَابُ الدَّعْوَةِ؟ وَابْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبُ طَهُورِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَعْلَيْهِ؟ وَحُذَيْفَةُ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَعَمَّارٌ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَسَلْمَانُ صَاحِبُ الْكِتَابَيْنِ؟ يَعْنِي: الْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6232 - (وَعَنْ خَيْثَمَةَ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ (ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ) ، بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ فَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ خَيْثَمَةُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ سَمِعَ عَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُمَا، وَعَنْهُ الْأَعْمَشُ وَمَنْصُورٌ وَعُرْوَةُ بْنُ مُرَّةَ، وَوَرِثَ مِائَتَيْ أَلْفٍ فَأَنْفَرَهُمَا عَلَى الْعُلَمَاءِ. (قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ) ، أَيْ: يُسَهِّلَ (لِي جَلِيسًا صَالِحًا) . أَيْ مُجَالِسًا يَصْلُحُ أَنْ يُجْلَسَ مَعَهُ وَيُسْتَفَادَ مِنْ مُجَالَسَتِهِ (فَيَسَّرَ لِي أَبَا هُرَيْرَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَوُفِّقْتَ لِي) . أَيْ جُعِلْتَ أَنْتَ مُوَافِقًا لِي وَاتَّفَقَ لِي

مُجَالَسَتُكُ. (فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، جِئْتُ أَلْتَمِسُ الْخَيْرَ) ، أَيِ: الْعِلْمَ الْمَقْرُونَ بِالْعَمَلِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْحِكْمَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قَدْ يُقَالُ: لَا خَيْرَ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْ لَا خَيْرَ غَيْرُهُ. (وَأَطْلُبُهُ) . عَطْفُ تَفْسِيرٍ يُفِيدُ بَيَانَ الْمُبَالَغَةِ (فَقَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ) ، أَيْ: فِي بَلَدِكُمْ (سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ) : وَهُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ (مُجَابُ الدَّعْوَةِ) ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَبَيَانُ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ (وَابْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبُ طَهُورِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ مَا يَطَّهَّرُ بِهِ فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبَ مَطْهَرَتِهِ (وَنَعْلَيْهِ) ؟ وَكَذَا صَاحِبُ وِسَادَتِهِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ خِدْمَتِهِ وَقُرْبِهِ الْمُنْتِجَةِ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ. (وَحُذَيْفَةُ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَعَمَّارٌ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَسَلْمَانُ صَاحِبُ الْكِتَابَيْنِ يَعْنِي: الْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ) : فَإِنَّهُ آمَنَ بِالْإِنْجِيلِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَعَمِلَ بِهِ ثُمَّ آمَنَ بِالْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِسَلْمَانِ الْخَيْرِ وَلَمْ يُعْرَفِ اسْمُ أَبِيهِ فَسُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَنَا ابْنُ الْإِسْلَامِ وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ بِعَمَلِ الْخُوصِ وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ تَرْجَمَتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6233 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6233 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ") ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ (نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ") ، بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ، كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ، وَكَانَ بَيْنَ الْعَقَبَتَيْنِ سَنَةٌ، شَهِدَ بَدْرًاوَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ (" نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ") ، بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ (" نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ") ، وَسَبَقَ ذِكْرُهُمَا (" نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ") . بِفَتْحِ جِيمٍ فَضَمِّ مِيمٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا هُوَ وَأَبُوهُ عَمْرٌو، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مَعَ مُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ أَبَا جَهْلٍ، وَلَهُمَا ذِكْرٌ فِي بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو قَطَعَ رِجْلَ أَبِي جَهْلٍ وَصَرَعَهُ. قَالَ: وَضَرَبَ ابْنُهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَدَ مُعَاذٍ فَطَرَحَهَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ حَتَّى أَثْبَتَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ حِينَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْتَمِسَ أَبَا جَهْلٍ فِي الْقَتْلَى، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمَاتَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ (وَقَالَ) ، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

6234 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ إِلَى ثَلَاثَةٍ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَسَلْمَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6234 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ ") ، أَيِ: اشْتِيَاقًا كَثِيرًا (" إِلَى ثَلَاثَةٍ ") ، أَيْ أَشْخَاصٍ (" عَلِيٍّ ") ، بِالْجَرِّ وَجُوِّزَ رَفْعُهُ (وَعَمَّارٍ، وَسَلْمَانَ ") ، قَالَ الطِّيبِيُّ: سَبِيلُ اشْتِيَاقِ الْجَنَّةِ إِلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ سَبِيلُ اهْتِزَازِ الْعَرْشِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاخْتِصَاصِ أَنَّ عَلِيًّا وَعَمَّارًا وَقَعَا بَيْنَ طَائِفَةٍ غَرِيبَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ وَالتَّعَدِّي وَالْعِنَادِ، فَقَاتَلَا عَلَى طَرِيقِ السَّدَادِ حَتَّى قُتِلَا فِيمَنْ قُتِلَ مِنَ الْعِبَادِ، وَسَلْمَانُ وَقَعَ فِي الْغُرْبَةِ مُدَّةً كَثِيرَةً مِنَ الزَّمَنِ، وَابْتُلِيَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمِحَنِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6235 - وَعَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «اسْتَأْذَنَ عَمَّارٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " ائْذَنُوا لَهُ مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6235 - (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: اسْتَأْذَنَ عَمَّارٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ ") : فِيهِ مُبَالَغَةٌ كَظِلٍّ ظَلِيلٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ -.

6236 - وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا خُيِّرَ عَمَّارٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6236 - (وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا خُيِّرَ عَمَّارٌ ") : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، أَيْ مَا جُعِلَ مُخَيَّرًا (" بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا ") . وَهُوَ أَصْلُ التِّرْمِذِيِّ أَيْ: أَصْلَحَهُمَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَهُوَ أَصْلُ الْمَصَابِيحِ أَشَدَّهُمَا بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَصْعَبَهُمَا، فَقِيلَ: هَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى نَفْسِهِ، فَلَا يُنَافِي رِوَايَةَ: «مَا اخْتِيرَ عَمَّارُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا» فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ. وَفِي نُسْخَةٍ أَسَدَّهُمَا بِالسِّينِ الْمُهْمِلَةِ أَيْ أَصْوَبَهُمَا، وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ أَصْلَحَهُمَا وَأَصْوَبَهُمَا فِيمَا تَبَيَّنَ تَرْجِيحُهُ، وَإِلَّا فَاخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ -. وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " أَرْشَدَهُمَا ". قَالَ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «كَمْ مِنْ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ".

6237 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا حُمِلَتْ جِنَازَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّ جِنَازَتَهُ، وَذَلِكَ لِحُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَقَالَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6237 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا حُمِلَتْ جِنَازَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) ، أَيْ: لَمَّا حَمَلَهَا النَّاسُ وَرَأَوْهَا خَفِيفَةً (قَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّ جِنَازَتَهُ) : مَا لِلتَّعَجُّبِ (وَذَلِكَ) ، أَيِ: اسْتِخْفَافُهُ وَاسْتِحْقَارُهُ (لِحُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) أَيْ بِأَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، فَنَسَبَهُ الْمُنَافِقُونَ إِلَى الْجَوْرِ وَالْعُدْوَانِ، وَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْإِصَابَةِ فِي حُكْمِهِ كَمَا سَبَقَ فِي مَحَلِّهِ. (فَبَلَغَ ذَلِكَ) ، أَيْ: كَلَامُهُمُ (النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ» ") . أَيْ وَلِذَا كَانَتْ جِنَازَتُهُ خَفِيفَةً عَلَى النَّاسِ، وَأَيْضًا ثِقَلُ الْمَيِّتِ مُشْعِرٌ بِتَعَلُّقِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَخِفَّتُهُ إِلَى قُوَّةِ شَوْقِهِ لِلْمَوْلَى وَسُرْعَةِ طَيَرَانِ رُوحِهِ إِلَى الْمَقْصِدِ الْأَعْلَى. قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] " قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانُوا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ حَقَارَتَهُ وَازْدِرَاءَهُ، فَأَجَابَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يَلْزَمُ مِنْ تِلْكَ الْخِفَّةِ بِتَعْظِيمِ شَانِهِ وَتَفْخِيمِ أَمْرِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6238 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6238 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) ، أَيِ ابْنِ الْعَاصِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ ") ، أَيْ عَلَى أَحَدٍ (" وَلَا أَقَلَّتْ ") : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ حَمَلَتْ وَرَفَعَتِ (" الْغَبْرَاءُ ") ، أَيِ الْأَرْضُ (" أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ ") . مَفْعُولُ أَقَلَّتْ وَصِفَةٌ لِلْأَحَدِ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّنَازُعِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَصْرِ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي صِدْقِهِ لَا أَنَّهُ أَصْدَقُ مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ أَبُو ذَرٍّ أَصْدَقُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ صِدِّيقُ هَذِهِ الْأَمَةِ وَخَيْرُهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ، كَذَا قَالُوا، وَفِيهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَثْنًى شَرْعًا، وَأَمَّا الصِّدِّيقُ لِكَثْرَةِ تَصْدِيقِهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَصْدَقَ فِي قَوْلِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " «أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ» " وَلَا بِدْعَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَفْضُولِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، أَوْ يَشْتَرِكُ هُوَ وَالْأَفْضَلُ فِي صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّسْوِيَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6239 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يَعْنِي فِي الزُّهْدِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6239 - (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ» ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَقِيلَ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ اللِّسَانُ، وَقِيلَ طَرَفُهُ، وَالْمَعْنَى مِنْ ذِي نُطْقٍ، وَقِيلَ لَهْجَةُ اللِّسَانِ مَا يَنْطِقُ بِهِ أَيْ مِنْ صَاحِبِ كَلَامٍ (" أَصْدَقَ ") ، أَيْ: أَكْثَرَ صِدْقٍ (" وَلَا أَوْفَى ") ، أَيْ: بِكَلَامِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْعَهْدِ (" مِنْ أَبِي ذَرٍّ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ زَائِدَةٌ، وَذِي لَهْجَةٍ مَعْمُولُ أَقَلَّتْ، وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْعَامِلَانِ فَأُعْمِلَ الثَّانِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 5] لَوْ أُعْمِلَ الْأَوَّلُ لَنُصِبَ رَسُولُ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا أَصْدَقُ فِي الْحَدِيثِ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَحَدًا ذَا لَهْجَةٍ أَصْدَقَ. قُلْتُ: الْمَوْصُوفُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِعَيْنِهِ مَذْكُورٌ، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَوْصُوفٍ آخَرَ فَالتَّقْدِيرُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَحَدًا ذَا لَهْجَةٍ أَصْدَقَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: لَوْ أُعْمِلُ الْأَوَّلُ لَنُصِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مُسَامَحَةٌ لَأَنَّ تَعَالَوْا غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ. بَلْ بِحَرْفِ الْجَرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} [آل عمران: 64] فَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُتَعَلَّقَهُ مَحْذُوفٌ لِلِاكْتِفَاءِ بِظُهُورِهِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (" شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ") ، بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَيْ شَبِيهِهِ، وَفِي الِاسْتِيعَابِ مِنَ الْحَدِيثِ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَوَاضُعِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ انْتَهَى. فَالتَّشْبِيهُ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ التَّوَاضُعِ، فَقَوْلُ الرَّاوِي: (يَعْنِي فِي الزُّهْدِ) . مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اطِّلَاعِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاضِعًا وَزَاهِدًا، بَلِ الزُّهْدُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلتَّوَاضُعِ، ثُمَّ قَوْلُهُ يَعْنِي فِي الزُّهْدِ لَيْسَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: وَزَادَ فِيهِ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَفَتَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ؟ قَالَ: " نَعَمْ فَعَرَفُوهُ لَهُ ". انْتَهَى. وَهُوَ حَدِيثٌ رِجَالُهُ مَوْثُوقُونَ. وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «وَمَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ» " قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ قَوْلُهُ: أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ مُبَالَغَةٌ فِي صِدْقِهِ، لَا أَنَّهُ أَصْدَقُ مِنْ كُلٍّ عَلَى الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ عَامًّا قَدْ خُصَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ إِلَى التَّوْرِيَةِ وَالْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ، فَلَا يُرْخِي عِنَانَ كَلَامِهِ، وَلَا يُوَاسِي مَعَ النَّاسِ وَلَا يُسَامِحُهُمْ، وَيُظْهِرُ الْحَقَّ الْبَحْتَ وَالصِّدْقَ الْمَحْضَ، وَمِنْ ثَمَّةَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا أَوْفَى أَيْ يُوفِي حَقَّ الْكَلَامِ إِيفَاءً لَا يُغَادِرُ شَيْئًا مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُثْمَانَ فَأَذِنَ لَهُ وَبِيَدِهِ عَصَاهُ فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا كَعْبُ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَصِلُ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، فَرَفَعَ أَبُو ذَرٍّ عَصَاهُ فَضَرَبَ كَعْبًا وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَا أُحِبُّ لَوْ أَنَّ لِي هَذَا الْجَبَلَ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ وَيُتَقَبَّلُ مَنِّي أَذَرَ خَلْفِي مِنْهُ سِتَّ أَوَاقِي» " أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا عُثْمَانُ أَسَمِعْتَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: نَعَمْ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ عُثْمَانَ اسْتَقْدَمَهُ لِشَكْوَى مُعَاوِيَةَ مِنْهُ فَأَسْكَنَهُ الرَّبَذَةَ فَمَاتَ بِهَا. وَقَالَ عَلِيٌّ فِي حَقِّهِ: ذَاكَ رَجُلٌ وَعَى عِلْمًا عَجَزَ عَنْهُ النَّاسُ، ثُمَّ أُوكِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

6240 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ الْتَمِسُوا الْعِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ عُوَيْمِرٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعِنْدَ سَلْمَانَ، وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ " «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إِنَّهُ عَاشِرُ عَشَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6240 - (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ) ، أَيْ: مُعَاذٌ (الْتَمِسُوا الْعِلْمَ) ، أَيْ: عِلْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ عِلْمَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» " وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَيْضًا وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ. (عِنْدَ أَرْبَعَةٍ) ، أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ (عِنْدَ عُوَيْمِرٍ) : تَصْغِيرُ عَامِرٍ (أَبِي الدَّرْدَاءِ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عُوَيْمِرُ بْنُ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَاشْتُهِرَ بِكُنْيَتِهِ، وَالدَّرْدَاءُ ابْنَتُهُ، تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ قَلِيلًا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ فَقِيهًا عَالِمًا، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. (وَعِنْدَ سَلْمَانَ، وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

سَلَامٍ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ) ، صِفَةٌ كَاشِفَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ بِصِفَةٍ مُمَيِّزَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُ فِي اسْمِهِ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ مَدْحٌ لَهُ فِي التَّوْصِيَةِ بِالْتِمَاسِ الْعِلْمِ مِنْهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّهُ ") ، أَيْ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ (" عَاشِرُ عَشَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ ") . أَيْ مِثْلُ عَاشِرِ عَشَرَةٍ، وَنَحْوُهُ أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذْ لَيْسَ هُوَ مِنَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ قَوْلُ الطِّيبِيِّ، أَوِ الْمَعْنَى يَدْخُلُ بَعْدَ تِسْعَةِ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْجَنَّةِ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ تَقَدُّمُهُ عَلَى بَعْضِ الْعَشَرَةِ، فَلَعَلَّهُ الْعَاشِرُ مِنَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنَ الْيَهُودِ، أَوْ مِمَّا عَدَا الْعَشَرَةَ الْمُبَشَّرَةَ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

6241 - «- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوِ اسْتَخْلَفْتَ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ فَعَصَيْتُمُوهُ عُذِّبْتُمْ وَلَكِنْ مَا حَدَّثَكُمْ حُذَيْفَةُ فَصَدِّقُوهُ وَمَا أَقْرَأَكُمْ عَبْدُ اللَّهِ فَاقْرَءُوهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6241 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالُوا) ، أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اسْتَخْلَفْتَ) أَيْ إِنِ اسْتَخْلَفْتَ شَخْصًا فَمَنْ يَكُونُ؟ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ هَذِهِ لِلتَّمَنِّي أَيْ لَيْتَنَا أَوِ الِامْتِنَاعِيَةُ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَكَانَ خَيْرًا اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ نَوْعُ اعْتِرَاضٍ (قَالَ: " إِنِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ ") ، أَيْ: أَحَدًا (" فَعَصَيْتُمُوهُ ") ، أَيِ: اسْتِخْلَافِي أَوْ مُسْتَخْلَفِي (" عُذِّبْتُمْ ") ، أَيْ عَذَابًا شَدِيدًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُذِّبْتُمْ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَالْجَوَابُ فَعَصَيْتُمُوهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْلَافُ سَبَبًا لِلْعِصْيَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ الْمُسْتَعْقِبَ لِلْعِصْيَانِ سَبَبٌ لِلْعَذَابِ، وَقَوْلُهُ: (وَلَكِنْ مَا حَدَّثَكُمْ حُذَيْفَةُ فَصَدِّقُوهُ، وَمَا أَقْرَأَكُمْ عَبْدُ اللَّهِ) ، أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (" فَاقْرَءُوهُ ") . مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْجَوَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُهِمُّكُمُ اسْتِخْلَافِي فَدَعُوهُ، وَلَكِنْ يُهِمُّكُمُ الْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا، وَخَصَّ حُذَيْفَةَ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُنْذِرَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْذِرَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ. اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ مَفْهُومِ مَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى مَا أَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ أَحَدًا وَلَكِنْ إِلَخْ. ثُمَّ وَجْهُ اخْتِصَاصِهِمَا بِهَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُمَا شَاهِدَانِ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخِلَافَةِ دُونَ الْعِبَارَةِ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَى الثَّانِي شَيْءٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْذِيبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى لِلِاجْتِهَادِ مَجَالٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ شَرِيكٌ وَفِيهِ مَقَالٌ. قُلْتُ: وَخَرَّجَهُ ابْنُ السَّمَّانِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَلَفْظُهُ «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: " إِنِّي إِنِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ فَعَصَيْتُمْ خَلِيفَتِي نَزَلَ الْعَذَابُ بِكُمْ " قَالُوا: أَلَا نَسْتَخْلِفُ أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: " إِنْ تَسْتَخْلِفُوهُ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ ". قَالُوا: أَلَا نَسْتَخْلِفُ عُمَرَ؟ قَالَ: " إِنْ تَسْتَخْلِفُوهُ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ قَوِيًّا فِي بَدَنِهِ " قَالُوا: أَلَا نَسْتَخْلِفُ عَلِيًّا؟ قَالَ: " إِنْ تَسْتَخْلِفُوهُ تَجِدُوهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ» ".

6242 - وَعَنْهُ قَالَ «مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ تُدْرِكُهُ الْفِتْنَةُ إِلَّا أَنَا أَخَافُهَا عَلَيْهِ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْلَمَةَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَا تَضُرُّكَ الْفِتْنَةُ» رَوَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6242 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ تُدْرِكُهُ الْفِتْنَةُ) ، أَيِ: الْبَلِيَّةُ الدُّنْيَوِيَّةُ. (إِلَّا أَنَا أَخَافُهَا عَلَيْهِ، إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ مِسْلَمَةَ) ، بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ) ، أَيْ: مُخَاطِبًا لَهُ (" لَا تَضُرُّكَ الْفِتْنَةُ ") . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ حَارِثِيٌّ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا إِلَّا تَبُوكَ، رَوَى عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى يَدِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ بِالْمَدِينَةِ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. (رَوَاهُ) : هُنَا بَيَاضٌ فِي أَصْلِ الْمُصَنِّفِ وَكَتَبُوا فِيهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَسُكِتَ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ عَبْدُ الْعَظِيمِ.

6243 - وَعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي بَيْتِ الزُّبَيْرِ مِصْبَاحًا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا أُرَى أَسْمَاءَ إِلَّا قَدْ نُفِسَتْ وَلَا تُسَمُّوهُ حَتَّى أُسَمِّيَهُ فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ بِيَدِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6243 - (وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي بَيْتِ الزُّبَيْرِ) ، أَيِ: ابْنِ الْعَوَّامِ (مِصْبَاحًا) ، أَيْ: سِرَاجًا (قَالَ: " يَا عَائِشَةُ! مَا أُرَى ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ مَا أَظُنُّ (" أَسْمَاءَ ") : وَهِيَ أُخْتُ عَائِشَةَ زَوْجَةُ الزُّبَيْرِ (" إِلَّا قَدْ نُفِسَتْ ") ، بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَقَدْ يُفْتَحُ النُّونُ أَيْ: وَلَدَتْ وَصَارَتْ ذَاتَ نِفَاسٍ (" وَلَا تُسَمُّوهُ ") : بِالْوَاوِ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَلَا تُسَمُّوهُ وَهُوَ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ تَغْلِيبًا لِلْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَوْلُودِ (" حَتَّى أُسَمِّيَهُ " فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (بِيَدِهِ) . يُقَالُ: حَنَّكْتُ الصَّبِيَّ إِذَا مَضَغْتَ تَمْرًا أَوْ غَيْرَهُ، ثُمَّ دَلَّكْتَهُ بِحَنَكِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدٍ وَلَدٌ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ شَرِيفِ الْقَوْمِ أَنْ يُسَمِّيَ ذَلِكَ الْوَلَدَ وَيُحَنِّكَهُ بِتَمْرَةٍ أَوْ - عَسَلٍ، وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْحَلْوَاءِ تَبَرُّكًا بِبُزَاقِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ - أَسَدِيٌّ قُرَشِيٌّ، كَنَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكُنْيَةِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ أَوَّلَ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَذَّنَ أَبُو بَكْرٍ فِي أُذُنِهِ، وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أَسْمَاءُ بِقُبَاءٍ وَأَتَتْ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهِ فَدَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ وَحَنَّكَهُ، وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ فِي جَوْفِهِ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَمْلَسَ لَا شَعْرَ لَهُ فِي وَجْهِهِ، كَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ شَهِيمًا ذَا أَنَفَةِ شَدِيدَ الْبَأْسِ، قَائِلًا بِالْحَقِّ، وَصُولًا لِلرَّحِمِ اجْتَمَعَ لَهُ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ، أَبُوهُ حَوَارِيُّ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، وَجَدُّهُ الصِّدِّيقُ، وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ عَمَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بِمَكَّةَ، وَصَلَبَهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُخَاطَبُ بِالْخِلَافَةِ، فَاجْتَمَعَ عَلَى طَاعَتِهِ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مَا عَدَا الشَّامَ أَوْ بَعْضَهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ بِثَمَانِي حِجَجٍ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6244 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ عَنِ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6244 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ) ، بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مَدَنِيٌّ صَحَابِيٌّ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: مَدَنِيٌّ، وَقِيلَ قُرَشِيٌّ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ لَا يَثْبُتُ فِي الصَّحَابَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ شَامِيٌّ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ. (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ) الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِلَّا فَمُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ جَاهِمَةَ أَيْضًا مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ (" اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا ") ، أَيْ: لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ (" مَهْدِيًّا ") ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ (" وَاهْدِ بِهِ ") ، أَيْ: بِمُعَاوِيَةَ النَّاسَ، فِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْهِدَايَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ. اعْلَمْ أَنَّ الْهِدَايَةَ إِمَّا مُجَرَّدُ الدَّلَالَةِ، أَوْ هِيَ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْبُغْيَةِ. قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: فَهَدَيْنَاهُمْ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] وَالْهَدْيُ الَّذِي لِلْإِرْشَادِ بِمَعْنَى الْإِسْعَادِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى الْهِدَايَةِ فِي اللُّغَةِ الدَّلَالَةُ هَدَاهُ فِي الدِّينِ يَهْدِيهِ هِدَايَةً إِذَا دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ. وَالْهَدْيُ يُذْكَرُ لِحَقِيقَةِ الْإِرْشَادِ أَيْضًا، وَلِهَذَا جَازَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ حُمِلَ قَوْلُهُ هَادِيًا عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَانَ قَوْلُهُ مَهْدِيًّا تَكْمِيلًا لَهُ لِأَنَّهُ رَبٌّ هَادٍ وَلَا يَكُونُ مَهْدِيًّا، وَقَوْلُهُ: وَاهْدِ بِهِ تَتْمِيمًا لِأَنَّ الَّذِي فَازَ بِمَدْلُولِهِ فَوْزًا يَتْبَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَكَمَّلَ ثُمَّ تَمَّمَ، وَإِذَا ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى الثَّانِي كَانَ مَهْدِيًّا تَأْكِيدًا، وَقَوْلُهُ: اهْدِ بِهِ تَكْمِيلًا يَعْنِي أَنَّهُ كَامِلٌ مُكَمِّلٌ، وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ دُعَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَجَابٌ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ كَيْفَ يُرْتَابُ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ بَيَانٍ فِي مَعْنَى الْهِدَايَةِ فَعَلَيْهِ بِفُتُوحِ الْغَيْبِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا يَكْفِيهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيٌّ أُمَوِيٌّ، وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ عُقْبَةَ، كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ مَسْلَمَةِ الْفَتْحِ، ثُمَّ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ كَتَبُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ لَمْ يَكْتُبْ لَهُ مِنَ الْوَحْيِ شَيْئًا إِنَّمَا كَانَ يَكْتُبُ لَهُ كُتُبَهُ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، تَوَلَّى الشَّامَ بَعْدَ أَخِيهِ يَزِيدَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا مُتَوَلِّيًا وَحَاكِمًا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَنَةً مِنْهَا فِي أَيَّامِ عُمَرَ أَرْبَعُ سِنِينَ أَوْ نَحْوُهَا، وَمُدَّةُ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَخِلَافَةُ عَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ تَمَامُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتُوْثِقَ لَهُ الْأَمْرُ بِتَسْلِيمِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَدَامَ لَهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ فِي رَجَبٍ بِدِمَشْقَ، وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ إِصَابَتُهُ لَقْوَةً فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ بِذِي طُوًى، وَلَمْ أَرَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ شَيْئًا وَكَانَ عِنْدَهُ إِزَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِدَاؤُهُ وَقَمِيصُهُ، وَشَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، فَقَالَ: كَفِّنُونِي فِي قَمِيصِهِ، وَأَدْرِجُونِي فِي رِدَائِهِ، وَأَزِّرُونِي بِإِزَارِهِ، وَاحْشُوا مِنْخَرِي وَشِدْقِي وَمَوَاضِعَ السُّجُودِ مِنِّي بِشَعْرِهِ وَظُفْرِهِ، وَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6245 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6245 - (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَسْلَمَ النَّاسُ ") ، التَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ مَسْلَمَةُ الْفَتْحِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ (" وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ") . أَيْ قَبْلَ الْفَتْحِ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ طَائِعًا رَاغِبًا مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا رَهْبَةً، وَآمَنَ عَمْرٌو رَغْبَةً، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَشُوبَهُ كَرَاهَةٌ، وَالْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ رَغْبَةٍ وَطَوَاعِيَةٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا خَصَّهُ بِالْإِيمَانِ رَغْبَةً لِأَنَّهُ وَقَعَ إِسْلَامُهُ فِي قَلْبِهِ فِي الْحَبَشَةِ حِينَ اعْتَرَفَ النَّجَاشِيُّ بِنُبُوَّتِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤْمِنًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ، فَجَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي الْحَالِ سَاعِيًا فَآمَنَ، فَأَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمُ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَالِغًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِهْلَاكِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا آمَنَ أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ أَثَرَ تِلْكَ الْوَحْشَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَتَّى يَأْمَنَ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يَيْئَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) .

6246 - «وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ قُلْتُ: اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا. قَالَ: أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، قَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ لَا يُرْجَعُونَ فَنَزَلَتْ " {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] » " الْآيَةَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6246 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا ") ، أَيْ مُنْكَسِرَ الْبَالِ وَالْخَاطِرِ، يَعْنِي: مَهْمُومًا حَزِينًا مَغْمُومًا (قُلْتُ: اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا) ، أَيْ: كَثِيرًا (وَدَيْنًا) ، أَيْ: ثَقِيلًا فَاجْتَمَعَ أَسْبَابُ الْحُزْنِ، (قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ» ") ، أَيْ: قَبْلَ أَبِيكَ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ بِخُصُوصِهِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الشُّهَدَاءِ الْمَاضِيَةِ حَيْثُ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْهُمْ (إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] الْآيَةَ: مُقَيَّدٌ بِالدُّنْيَا لِقَوْلِهِ: (" وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا ") . بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ مُوَاجِهًا عِيَانًا فَفِي النِّهَايَةِ أَيْ مُوَاجَهَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَلَا رَسُولٌ. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: كَلَّمَ أَبَاكَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] لِأَنَّ التَّقْدِيرَ هُمْ أَحْيَاءٌ، فَكَيْفَ يَحْيَا الْحَيُّ؟ فَقَالَ الْمُظْهِرُ: قِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الرُّوحَ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، فَأَحْيَا ذَلِكَ الطَّيْرَ بِتِلْكَ الرُّوحِ، فَصَحَّ الْإِحْيَاءُ، أَوْ أَرَادَ بِالْإِحْيَاءِ زِيَادَةَ قُوَّةِ رُوحِهِ فَشَاهَدَ الْحَقَّ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: لَا تَهْتَمَّ بِشَأْنِ أَمْرِ دُنْيَاهُ مِنْ هَمِّ عِيَالِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي عَنْهُ دَيْنَهُ بِبَرَكَةِ نَبِيِّهِ، وَيَلْطُفُ بِعِيَالِهِ، وَلَكِنْ أُبَشِّرُكَ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْقُرْبِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَا لَقِيَهُ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْمِنْحَةِ.

(" قَالَ: يَا عَبْدِي ") : الْخَاصُّ (" تَمَنَّ عَلَيَّ ") ، أَيْ: مَا تُرِيدُ (" أُعْطِكَ ") ، أَيْ: إِيَّاهُ مَعَ الْمَزِيدِ (" قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً ") . خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أَيْ: أَحْيِنِي حَتَّى أَسْتَشْهِدَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى لِيَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ مَرْضَاةِ الْمَوْلَى (قَالَ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ ") ، أَيِ: الْأَمْوَاتَ (" لَا يُرْجَعُونَ ") ، أَيْ: إِلَى الدُّنْيَا بِحَيْثُ أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً يَعْمَلُونَ فِيهَا الطَّاعَاتِ، فَلَا يُنَافِي وُقُوعُ إِحْيَاءِ بَعْضِ الْأَمْوَاتِ لِعِيسَى وَغَيْرِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الشُّهَدَاءِ، وَمَعْنَاهُ لَا يَرْجِعُونَ بِالْتِمَاسِهِمْ وَتَمَنِّيهِمْ، فَلَا يُشْكِلُ بِشَهِيدِ الدَّجَّالِ أَيْضًا. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ أَيْ أَهْلَ أُحُدٍ أَوْ مُطْلَقَ الشُّهَدَاءِ، لِئَلَّا يُشْكِلَ بِقِصَّةِ عُزَيْرٍ (" فَنَزَلَتْ ") ، أَيْ: فِي حَقِّهِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَلَا تَحْسَبَنَّ بِالْخِطَابِ مَعَ فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا أَيْ: لَا تَظُنَّ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، وَفِي قِرَاءَةٍ بِالْغَيْبَةِ أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ (الَّذِينَ قُتِلُوا) : وَفِي رِوَايَةٍ: قُتِّلُوا بِالتَّشْدِيدِ أَيِ اسْتُشْهِدُوا {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 169 - 171] أَيْ لِلْمُجَاهِدِينَ {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 171] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ: وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

6247 - وَعَنْهُ قَالَ: «اسْتَغْفَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6247 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: «اسْتَغْفَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً» ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . حَيْثُ لَفْظُهُ: «اسْتَغْفَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْبَعِيرِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ» . وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقِصَّةُ الْبَعِيرِ سَبَقَتْ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ، مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ وَأَحَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الرِّوَايَةِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِيَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَقَدِمَ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَكُفَّ بَصَرُهُ آخِرَ عُمُرِهِ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلٍ، وَأَمَّا أَبُوهُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ.

6248 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6248 - (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَمْ مِنْ أَشْعَثَ ") ، أَيْ: مُتَفَرِّقِ شَعْرِ الرَّأْسِ (" أَغْبَرَ ") ، أَيْ: مُغْبَرِّ الْبَدَنِ (" ذِي طِمْرَيْنِ ") : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ صَاحِبِ ثَوْبَيْنِ خَلَقَيْنِ (" لَا يُؤْبَهُ لَهُ ") ، بِضَمِّ يَاءٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَقَدْ يُهْمَزُ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ، فَفِي النِّهَايَةِ لَا يُبَالَى بِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ لِحَقَارَتِهِ، وَيُقَالُ وَمَا بَهَتَ لَهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا وَبِهَاءٍ بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ وَأَصْلُ الْوَاوِ الْهَمْزَةُ اهـ. وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّ الْهَمْزَةَ لُغَةٌ أُخْرَى. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَمْ خَبَرِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ مُبَيِّنٌ لَهَا وَخَبَرُهُ لَا يُؤْبَهُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ: (" لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ") ، أَيْ لَأَمْضَاهُ عَلَى الصِّدْقِ وَجَعَلَهُ بَارًّا فِي الْخَلْقِ (" مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ ") . وَهُوَ أَخُو أَنَسٍ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ. وَكَانَ مِنَ الْأَبْطَالِ الْأَشِدَّاءِ، قَتَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِائَةَ مُبَارِزٍ سِوَى مَنْ شَارَكَ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . وَكَذَا الضِّيَاءُ.

6249 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا إِنَّ عَيْبَتِيَ الَّتِي آوِي إِلَيْهَا أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّ كَرِشِيَ الْأَنْصَارُ فَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ وَاقْبَلُوا عَنْ مُحْسِنِهِمْ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6249 - (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ عَيْبَتِي ") ، أَيْ: خَاصَّتِي (" الَّتِي آوِي ") ، أَيْ: أَمِيلُ وَأَرْجِعُ (" إِلَيْهَا أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّ كَرِشِي ") ، أَيْ: بِطَانَتِي (" الْأَنْصَارُ فَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ وَاقْبَلُوا عَنْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ (" مُحْسِنِهِمْ ") . وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الصِّنْفَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْأَنْصَارِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الحج: 19] يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَخِيرِ، وَالْأَوَّلُ يُفْهَمُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) .

6250 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6250 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ ") ، أَيْ: جَمِيعَهُمْ أَوْ جِنْسَهُمْ (" أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

6251 - وَعَنْ أَنَسٍ، «عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَقْرِئْ قَوْمَكَ السَّلَامَ فَإِنَّهُمْ مَا عَلِمْتُ أَعِفَّةٌ صُبُرٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6251 - (وَعَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ) ، أَيْ: زَوْجِ أُمِّهِ (قَالَ: قَالَ لِي) ، أَيْ: بِخُصُوصٍ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَقْرِئْ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ بِكَسْرِ هَمْزٍ وَفَتْحِ رَاءٍ أَيْ أَبْلِغْ (" قَوْمَكَ السَّلَامَ ") ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: أَقْرِئْ فُلَانًا السَّلَامَ وَاقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَكَأَنَّهُ حِينَ يُبْلِغُهُ السَّلَامَ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ. وَفِي الْمُغْرِبِ: اقْرَأْ سَلَامِي عَلَى فُلَانٍ وَأَقْرِئْهُ سَلَامِي عَامِّيٌّ، وَفِي الْقَامُوسِ: قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامَ: أَبْلَغَهُ كَأَقْرَأَهُ، أَوْ لَا يُقَالُ: أَقْرَأَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّلَامُ مَكْتُوبًا. وَفِي الصِّحَاحِ: فُلَانٌ قَرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَأَقْرَأَكَ السَّلَامَ بِمَعْنًى وَأَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ مُقْرِئٌ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: قَرَأْتُ عَلَى زَيْدٍ السَّلَامَ أَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ قِرَاءَةً، وَإِذَا أَمَرْتَ مِنْهُ. قُلْتَ: اقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَتَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ خَطَأٌ، فَلَا يُقَالُ اقْرَأْهُ السَّلَامَ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى اتْلُ عَلَيْهِ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ رُبَاعِيًّا، فَيُقَالُ فُلَانٌ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ (" فَإِنَّهُمْ ") ، أَيْ: قَوْمَكَ (" مَا عَلِمْتُ ") : مَا: مَوْصُولَةٌ أَيْ بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمْتُهُ فِيهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ (" أَعِفَّةٌ ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ جَمْعُ عَفِيفٍ وَهِيَ خَبَرُ إِنَّ وَمَا عَلِمْتُ مُعْتَرِضَةٌ (" صُبُرٌ ") . بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ صَابِرٍ كَبُزُلٍ وَبَازِلٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ مَفْتُوحَةٍ كَرُكَّعٍ جَمْعُ رَاكِعٍ. - قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَا " مَوْصُولَةٌ وَالْخَبَرُ مَخْذُوفٌ أَيِ الَّذِي عَلِمْتُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ يَتَعَفَّوْنَ عَنِ السُّؤَالِ، وَيَتَحَمَّلُونَ الصَّبْرَ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا فِي الْحَدِيثِ يَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ وَيَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ. وَقَالَ شَارِحٌ: " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَتَعَفَّفُونَ وَيَتَحَمَّلُونَ مُدَّةَ عِلْمِي بِحَالِهِمْ، أَوْ فِي عِلْمِي بِحَالِهِمْ أَوْ مَوْصُولَةٌ أَيْ فِيمَا عَلِمْتُ مِنْهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6252 - وَعَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْكُو حَاطِبًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6252 - (وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ) ، أَيِ: ابْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ (جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْكُو حَاطِبًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ) أَيْ: لِكَثْرَةِ مَا ظَلَمَنِي (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَبْتَ) أَيْ حَيْثُ جَزَمْتَ وَأَكَّدْتَ (" لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ ") أَيْ وَمَنْ حَضَرَهُمَا لَا يَدْخُلُ النَّارَ جَزْمًا أَوْ رَجَاءً، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِيمَائِهِ خِطَابُهُ فِي عِقَابِهِ بِقَوْلِهِ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الْآيَةَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6253 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا بِنَا، ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا، فَضَرَبَ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنَ الْفُرْسِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6253 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ) ، أَيْ: قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) ، أَيْ: إِنْ تُعْرِضُوا وَتَنْصَرِفُوا وَتُدْبِرُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ وَنُصْرَةِ دِينِهِ (يَسْتَبْدِلْ) ، أَيِ اللَّهُ (قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) بَلْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْكُمْ (قَالُوا) ، أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ، إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا بِنَا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا) وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى ابْنِ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: الْخِطَابُ لِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ (فَضَرَبَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قُرْبِهِ (ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنَ الْفُرْسِ ") : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ طَائِفَةِ الْعَجَمِ مُطْلَقًا، أَوْ مَنْ يَكُونُ لِسَانُهُ فَارِسِيًّا، أَوْ مَنْ بَلَدُهُ فَارِسُ، وَهُوَ إِقْلِيمٌ مِنْهُ شِيرَازُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6254 - وَعَنْهُ «قَالَ: ذُكِرَتِ الْأَعَاجِمُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَأَنَا بِهِمْ أَوْ بِبَعْضِهِمْ أَوْثَقُ مِنِّي بِكُمْ أَوْ بِبَعْضِكُمْ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6254 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: ذُكِرَتِ الْأَعَاجِمُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: بِالْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَأَنَا بِهِمْ أَوْ بِبَعْضِهِمْ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَجْمُوعُهُمْ فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ: (أَوْ بَعْضِهِمْ أَوْثَقُ ") ، أَيْ: أَرْجَى فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى طَلَبِ الدِّينِ (" مِنِّي بِكُمْ أَوْ بِبَعْضِكُمْ ") . قِيلَ: فِيهِ تَفْضِيلُ الْأَعَاجِمِ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ - فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 198 - 199] وَمِنْ قَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44] وَمِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، هَذَا وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَنَا: مُبْتَدَأٌ، وَأَوْثَقُ خَبَرُهُ، وَمِنِّي صِلَةُ أَوْثَقَ، وَالْبَاءُ فِي بِهِمْ مَفْعُولُهُ وَأَوْ عَطْفٌ عَلَى بِهِمْ، وَالْبَاءُ فِي بِكُمْ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْثَقُ وَأَوْفَى، أَوْ بَعْضُكُمْ عَطْفٌ عَلَى بِكُمْ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا بِأَوْثَقَ إِذْ هُوَ فِي قُوَّةِ الْوُثُوقِ وَزِيَادَةٌ، فَكَأَنَّهُ فِعْلَانِ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَفْعُولَيْنِ أَوْ بِآخَرَ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، وَالْمَعْنَى وُثُوقِي وَاعْتِمَادِي بِهِمْ أَوْ بِبَعْضِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ وُثُوقِي بِكُمْ أَوْ بِبَعْضِكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى الِانْسِحَابِ، وَالثَّانِي مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَالْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ بِكُمْ أَوْ بِبَعْضِكُمْ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ دَعَوْا إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَقَاعَدُوا عَنْهُ، فَهُوَ كَالتَّأْنِيبِ وَالتَّعْيِيرِ عَلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] فَإِنَّهُ جَاءَ عَقِيبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} [محمد: 38] يَعْنِي أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الْمُشَاهِدُونَ بَعْدَ مُمَارَسَتِكُمُ الْأَحْوَالَ وَعِلْمِكُمْ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ تُدْعَوْنَ إِلَيْهِ فَتَثَّبَّطُونَ عَنْهُ وَتَتَوَلَّوْنَ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ تَوَلِّيكُمْ يَسْتَبْدِلِ اللَّهُ قَوْمًا غَيْرَكُمْ بَذَّالِينَ لِأَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ فِي الشُّحِّ الْمُبَالَغِ فَهُوَ تَعْرِيضٌ وَبَعْثٌ لَهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّفْضِيلُ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّفْضِيلُ مُطْلَقًا، فَهُوَ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّفْضِيلُ الْمُطْلَقُ فَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَا بِدْعَ أَنْ يُوجَدَ فِي الْمَفْضُولِ زِيَادَةُ فَضِيلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ فَضَائِلِ الْفَاضِلِ، فَجِنْسُ الْعَرَبِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْعَجَمِ بِلَا شُبْهَةٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْعِبَادِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6255 - عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ سَبْعَةَ نُجَبَاءَ رُقَبَاءَ وَأُعْطِيْتُ أَنَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ. قُلْنَا: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: أَنَا وَابْنَايَ، وَجَعْفَرٌ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَبِلَالٌ، وَسَلْمَانُ، وَعَمَّارٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6255 - (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ سَبْعَةَ نُجَبَاءَ رُقَبَاءَ» ") ، بِإِضَافَةِ سَبْعَةَ وَهُمَا عَلَى وَزْنِ فُعَلَاءَ جَمْعٌ وَالنَّجِيبُ هُوَ الْكَرِيمُ الْمُخْتَارُ وَالرَّقِيبُ الْحَافِظُ عَلَى الِاقْتِدَارِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمَوْجُودُونَ فِي زَمَنِ كُلِّ نَبِيٍّ لِقَوْلِهِ: (" وَأُعْطِيتُ أَنَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ ") . أَيْ نَجِيبًا وَرَقِيبًا بِطَرِيقِ الضَّعْفِ تَفَضُّلًا (" قُلْنَا: مَنْ هُمْ؟ أَيِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ قَالَ: " أَنَا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: فَاعِلُ ضَمِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ضَمِيرُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَعْنِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى أَيْ مَقُولَةُ أَنَا (" وَابْنَايَ ") ، أَيِ الْحَسَنَانِ (" وَجَعْفَرٌ ") أَيْ أَخُو عَلِيٍّ (" وَحَمْزَةُ ") ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كُنْيَتُهُ أَبُو عُمَارَةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْهُمَا ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ، وَهُوَ أَسَدُ اللَّهِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْمَبْعَثِ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ إِسْلَامُ حَمْزَةَ بَعْدَ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، فَأَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِإِسْلَامِهِ وَشَهِدَ بَدْرًا. وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا يَصِحُّ هَذَا عِنْدِي، لِأَنَّهُ رَضِيعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا أَنْ تَكُونَ ثُوَيْبَةُ أَرْضَعَتْهُمَا فِي زَمَانَيْنِ، وَقِيلَ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ بِسَنَتَيْنِ، رَوَى عَنْهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ اهـ. (" وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَبِلَالٌ، وَسَلْمَانُ، وَعَمَّارٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ وَالْمِقْدَادُ ") . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرَاجِمُهُمْ وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6256 - وَعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ كَلَامٌ فَأَغْلَظْتُ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَانْطَلَقَ عَمَّارٌ يَشْكُونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ خَالِدٌ وَهُوَ يَشْكُو إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَجَعَلَ يُغْلِظُ لَهُ وَلَا يَزِيدُهُ إِلَّا غِلْظَةً وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَبَكَى عَمَّارٌ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرَاهُ! فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَسَهُ وَقَالَ: «مَنْ عَادَى عَمَّارًا عَادَاهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَ عَمَّارًا أَبْغَضَهُ اللَّهُ» . قَالَ خَالِدٌ: فَخَرَجْتُ فَمَا كَانَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رِضَا عَمَّارٍ فَلَقِيتُهُ بِمَا رَضِيَ فَرَضِيَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6256 - (وَعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مَخْزُومِيٌّ وَأُمُّهُ لُبَابَةُ الصُّغْرَى أُخْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَحَدَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيْفَ اللَّهِ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ خَالَتِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ. (قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ كَلَامٌ) أَيْ مُكَالَمَةٌ فِي مُعَامَلَةٍ (فَأَغْلَظْتُ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَانْطَلَقَ عَمَّارٌ يَشْكُونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ خَالِدٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا كَلَامُ الرَّاوِي عَنْ خَالِدٍ، وَقَالَ: مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ، قَالَ خَالِدٌ: فَخَرَجْتُ. وَقَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ خَالِدٍ عَلَى الِالْتِفَاتِ. (وَهُوَ) ، أَيْ: عَمَّارٌ (يَشْكُوهُ) ، أَيْ: خَالِدًا (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) ، أَيِ: الرَّاوِي (فَجَعَلَ) ، أَيْ: خَالِدٌ (يُغْلِظُ لَهُ) ، أَيْ: لِعَمَّارٍ (فِي الْكَلَامِ وَلَا يَزِيدُهُ) ، أَيْ: خَالِدٌ عَمَّارًا (إِلَّا غِلْظَةً) ، أَيْ: شِدَّةً فِي الْغَضَبِ (وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ) ، تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ (فَبَكَى عَمَّارٌ) ، أَيْ: مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ وَكَثْرَةِ غَضَبِهِ وَرَأَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافِضٌ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ مُتَفَكِّرٌ فِي أَمْرِهِ فَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ (وَقَالَ) ، أَيْ: عَمَّارٌ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرَاهُ) ؟ أَيْ أَلَا تَعْلَمُ خَالِدًا فِيمَا يَقُولُ فِي حَقِّي مِنَ الْغِلْظَةِ؟ (فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَسَهُ وَقَالَ: " مَنْ عَادَى عَمَّارًا) ، أَيْ: بِلِسَانِهِ (" عَادَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَمَّارًا ") ، أَيْ: بِقَلْبِهِ (" أَبْغَضَهُ اللَّهُ ". قَالَ خَالِدٌ: فَخَرَجْتُ) ، أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ تَسْكِينًا لِلْقَضِيَّةِ، أَوْ عَلَى قَصْدِ إِرْضَاءِ عَمَّارٍ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَمَا كَانَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رِضَى عَمَّارٍ) . أَيْ بَعْدَمَا خَرَجْتُ (فَلَقِيتُهُ) ، أَيْ: فَوَاجَهْتُهُ (بِمَا رَضِيَ) أَيْ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالِاسْتِحْلَالِ وَالِاعْتِنَاقِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الرِّضَا (فَرَضِيَ) ، أَيْ: عَمَّارٌ عَنِّي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

6257 - وَعَنْ أَبِي عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَالِدٌ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنِعْمَ فَتَى الْعَشِيرَةِ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6257 - (وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ) ، أَيِ: ابْنِ الْجَرَّاحِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " خَالِدٌ سَيْفٌ ") ، أَيْ: كَسَيْفٍ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ، أَوْ ذُو سَيْفٍ (" مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ") ، أَيْ حَيْثُ يُقَاتِلُ مُقَاتَلَةً شَدِيدَةً فِي سَبِيلِهِ مَعَ أَعْدَاءِ دِينِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] جَعَلَ بِالِادِّعَاءِ جِنْسَ السُّيُوفِ نَوْعَيْنِ مُتَعَارَفٌ وَغَيْرُهُ وَخَالِدٌ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْهِ اهـ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ سَلَامَةُ قَلْبِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوِ الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: إِلَّا مَالَ وَابْنَ مَنْ أَتَى اللَّهَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. (" وَنِعْمَ فَتَى الْعَشِيرَةِ ") . أَيْ فِي بَنِي مَخْزُومٍ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيْ هُوَ (رَوَاهُمَا) ، أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (أَحْمَدُ) . وَفِي الْجَامِعِ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ» ". وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفُ اللَّهِ وَسَيْفُ رَسُولِهِ، وَحَمْزَةُ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَمِينُ اللَّهِ وَأَمِينُ رَسُولِهِ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مِنْ أَصْفِيَاءِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ تُجَّارِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ.

6258 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَمَرَ بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِّهِمْ لَنَا؟ قَالَ: عَلِيٌّ مِنْهُمْ، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ، وَسَلْمَانُ، أَمَرَنِي بِحُبِّهِمْ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6258 - (وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ ") ، أَيْ: عَلَى الْخُصُوصِ (وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ) ، أَيْ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (يُحِبُّهُمْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِّهِمْ لَنَا) أَيْ حَتَّى نَحْنُ نُحِبُّهُمْ أَيْضًا تَبَعًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (قَالَ: " عَلِيٌّ مِنْهُمْ ") : وَفِي نُسْخَةِ الْجَامِعِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ (" يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا ") . أَيْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ أَفْضَلَهُمْ أَوْ يُحِبُّهُ قَدْرَ ثَلَاثَتِهِمْ (" وَأَبُو ذَرٍّ وَالْمِقْدَادُ، وَسَلْمَانُ، أَمَرَنِي بِحُبِّهِمْ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ) . هَذَا فَذْلَكَةٌ مُفِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَا سَبَقَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) . وَلَفَظُ الْجَامِعِ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ عَلِيٌّ مِنْهُمْ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ، وَسَلْمَانُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ - وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

6259 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: " أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلَالًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6259 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا) ، أَيْ خَيْرُنَا وَأَفْضَلُنَا (وَأَعْتَقَ) ، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (سَيِّدَنَا، يَعْنِي) ، أَيْ: يُرِيدُ عُمَرُ بُقُولِهِ سَيِّدَنَا الثَّانِي (بِلَالًا) . وَإِنَّمَا قَالَهُ تَوَاضُعًا، فَإِنَّ عُمَرَ أَفْضَلُ مِنْهُ إِجْمَاعًا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يَعْنِي أَنَّ بِلَالًا مِنَ السَّادَةِ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّيِّدُ الْأَوَّلُ حَقِيقَةً، وَالثَّانِي قَالَهُ عُمَرُ تَوَاضُعًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذِ السِّيَادَةُ لَا تُثْبِتُ الْأَفْضَلِيَّةَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ؟ مَا رَأَيْتُ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنَّهُ رَأَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَالَ: ابْنُ عُمَرَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَسْوَدُ فِي زَمَانِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6260 - وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ: أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ فَأَمْسِكْنِي، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِلَّهِ فَدَعْنِي وَعَمَلَ اللَّهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6260 - (وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَحْمَسِيٌّ بَجَلِيٌّ، أَدْرَكَ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُبَايِعَهُ، فَوَجَدَهُ تُوُفِّيَ، يُعَدُّ فِي تَابِعِي الْكُوفَةِ، رَوَى عَنِ الْعَشَرَةِ إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ سِوَاهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّابِعِينَ مَنْ رَوَى عَنْ تِسْعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَّا هُوَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، شَهِدَ النَّهْرَوَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَطَالَ عُمُرُهُ حَتَّى جَاوَزَ الْمِائَةَ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ (أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ) ، أَيْ: حِينَ أَرَادَ التَّوَجُّهَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدَمِ صَبْرِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِغَيْرِ حُضُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ فِيهِ، وَلَا عَلَى تَرْكِهِ فِي زَمَنِ غَيْرِهِ، وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ صَارَ سَيِّدَ الْأَبْدَالِ وَمَحَلُّهُمْ غَالِبًا هُوَ الشَّامُ. (وَمَنَعَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، أَيْ: عَنِ الرَّوَاحِ بِإِلْزَامٍ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ مَعَ اخْتِيَارِ الْأَذَانِ (إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ) ، أَيْ: لِرِضَاهَا وَوَفْقِ مُدَّعَاهَا (فَأَمْسِكْنِي) ، أَيْ فَاحْكُمْ عَلَيَّ بِالْقُعُودِ (وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِلَّهِ فَدَعْنِي) ، أَيْ: فَاتْرُكْنِي (وَعَمَلَ اللَّهِ) . أَيِ الْعَمَلَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ لِلَّهِ، أَوِ الْأَمْرَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ رَحِيلِ بِلَالٍ، ثُمَّ رُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ وَآذَانُهُ بِهَا، وَارْتِجَاجُ الْمَدِينَةِ بِهِ، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهِيَ بَيِّنَةُ الْوَضْعِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الذَّيْلِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6261 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ. فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ يُضِيفُهُ يَرْحَمْهُ اللَّهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - يُقَالُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ - فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي. قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ وَنَوِّمِيهِمْ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ فَإِذَا أَهَوَى بِيَدِهِ لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ كَيْ تُصْلِحِيهِ فَأَطْفِئِيهِ فَفَعَلَتْ، فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ، وَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلَهُ وَلَمْ يُسَمِّ أَبَا طَلْحَةَ، وَفِي آخِرِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى " {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] » " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6261 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ) . أَيْ فَقِيرٌ أَصَابَهُ الْجُهْدُ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَالْحَاجَةُ أَوِ الْجُوعُ فَأَرْسَلَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ) ، أَيْ: مِنَ الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ (فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي) ، أَيْ: مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ (إِلَّا مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ) . أَيْ وَهَكَذَا حَتَّى أَرْسَلَهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ (وَقُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ) ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْحَالِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ خَيْبَرَ وَغَيْرَهَا، وَيَحْصُلَ الْغَنَائِمَ وَالْأَمْوَالَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ يُضِيفُهُ ") ؟ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، فَمَنْ مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ: (" يَرْحَمْهُ اللَّهُ " فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ) ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ، زَوْجُ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَسَبَقَ ذِكْرُهُ. (فَقَالَ: أَنَا) ، أَيْ: أُضِيفُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَانْطَلَقْ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ) ، أَيْ: مَنْزِلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ) ؟ أَيْ مِنَ الطَّعَامِ (قَالَتْ: لَا، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ أَيْ: إِلَّا قُوتَ الصِّغَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَجُوعُونَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِجَاعَةُ الصِّبْيَانِ وَإِضَاعَتُهُمْ وَإِطْعَامُ الضِّيفَانِ وَإِطَاعَتُهُمْ. (قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ) ، أَيْ: سَكِّنِيهِمْ مِنْ عَلَّلَهُ بِشَيْءٍ أَيْ أَلْهَاهُ (وَنَوِّمِيهِمْ) ، أَيْ رَقِّدِيهِمْ، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا أَكْلَ الضَّيْفِ فَيَشْتَهُوا كَمَا هُوَ عَادَةُ الْأَوْلَادِ (فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَرِيهِ) ، أَيْ: فَأَحْضِرِيهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَجُوزًا، وَالْقَضِيَّةُ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَأَظْهِرِيهِ (أَنَّا) ، أَيْ: جَمِيعَنَا (نَأْكُلُ) ، أَيْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ، فَإِنَّ الضَّيْفَ إِذَا رَأَى أَنَّ أَحَدًا امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ رُبَّمَا تَشَوَّشَ خَاطِرُهُ (فَإِذَا أَهْوَى) ، أَيْ: قَصَدَ الضَّيْفُ وَمَدَّ (بِيَدِهِ لِيَأْكُلَ، فَقَوْمِي إِلَى السِّرَاجِ كَيْ تُصْلِحِيهِ) ، أَيْ: لِإِصْلَاحِهِ فَكَيْ تَعْلِيلِيَّةٌ (فَأَطْفِئِيهِ) ، أَيْ لِيَقَعَ الظَّلَامُ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَى امْتِنَاعِنَا مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ (فَفَعَلَتْ، فَقَعَدُوا) ، أَيْ ثَلَاثَتِهِمْ (وَأَكَلَ الضَّيْفُ، وَبَاتَا طَاوِيَيْنِ) ، أَيْ جَائِعَيْنِ (فَلَمَّا أَصْبَحَ) ، أَيِ: الضَّيْفُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ هَاهُنَا تَامَّةٌ وَقَوْلُهُ (غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : جَوَابُ لَمَّا وَضَمَّنَ فِيهِ مَعْنًى.

الْإِقْبَالِ أَيْ: لَمَّا دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَادِيًا اهـ. وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْمَعْنَى ذَهَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَدْوَةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أَيْ: بِنُورِ الْكَشْفِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ (" لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ) : وَالْمَعْنَى رَضِيَ (" مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةٍ ") . أَيْ أَبِي طَلْحَةَ وَامْرَأَتِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلَهُ) بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ مِثْلَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ (وَلَمْ يُسَمِّ أَبَا طَلْحَةَ) أَيْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (وَفِي آخِرِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ، أَيْ: أَضْيَافَهُمْ أَوْ غَيْرَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: عَلَى حُظُوظِهَا وَلَوْ كَانَ، أَيْ: وَقَعَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ أَيْ حَاجَةٌ وَمَجَاعَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَوْ بِمَعْنَى الْفَرْضِ أَيْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَفْرُوضَةً خَصَاصَتُهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

6262 - وَعَنْهُ قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْزِلًا فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ هَذَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَأَقُولُ: فُلَانٌ. فَيَقُولُ: نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا، وَيَقُولُ: مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ: فُلَانٌ. فَيَقُولُ: بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى مَرَّ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَقَالَ: نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6262 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْزِلًا فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ) ، أَيْ عَلَيْنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ هَذَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَأَقُولُ: فُلَانٌ) ، أَيْ: أُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ وَوَصْفِهِ (فَيَقُولُ: " نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا " وَيَقُولُ) ، أَيْ: فِي مَارٍّ غَيْرِهِ (" مَنْ هَذَا " فَأَقُولُ: فُلَانٌ. فَيَقُولُ: " بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا ") : وَهَذَا مِنْ بَابِ مَا رَوَى أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا: «اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرُهُ النَّاسُ» . (حَتَّى مَرَّ) ، أَيِ: اسْتَمَرَّ هَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ حَتَّى مَرَّ (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ: " مَنْ هَذَا " فَأَقُولُ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) : وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي خَيْمَةٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ خَارِجُهَا، وَإِلَّا فَمِثْلُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَقَالَ: " نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ ") ، أَيْ: هَذَا (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ) : أَوِ التَّقْدِيرُ نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مُبَيِّنَةٌ لِسَبَبِ الْمَدْحِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6263 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «قَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَتْبَاعٌ وَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا فَدَعَا بِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6263 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! لِكُلِّ نَبِيٍّ أَتْبَاعٌ وَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاكَ) ، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ أَيْ بَالَغْنَا فِي اتِّبَاعِكَ (فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ تَسْتَدْعِي مَحْذُوفًا أَيْ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَتْبَاعٌ، وَنَحْنُ أَتْبَاعُكَ لِأَنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُنَا مِنَّا أَيْ مُتَّصِلِينَ بِنَا مُقْتَفِينَ أَثَارَنَا بِإِحْسَانٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] وَقَالَ غَيْرُهُ: أَتْبَاعُ الْأَنْصَارِ حُلَفَاؤُهُمْ وَالْمَوَالِي، وَالْمَعْنَى ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُقَالَ لَهُمُ الْأَنْصَارُ حَتَّى يَتَنَاوَلَهُمُ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (فَدَعَا) ، أَيِ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهِ. أَيْ فَجَعَلَ أَتْبَاعَهُمْ مِنْهُمْ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6264 - وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: وَقَالَ أَنَسٌ: قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ سَبْعُونَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6264 - (وَعَنْ قَتَادَةَ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ مَشْهُورٌ سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا) ، أَيْ: مَا نَعْرِفُ قَبِيلَةً وَقَوْمًا (مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ) ، أَيْ: مِنْ قَبَائِلِهِمْ (أَكْثَرَ شَهِيدًا) : صِفَةُ حَيًّا بَعْدَ صِفَةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ (أَعَزَّ، أَيْ: شَهِيدًا (يَوْمَ

الْقِيَامَةِ) ، أَيْ: يَتَحَقَّقُ فِيهِ (مِنَ الْأَنْصَارِ) . وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلَيْنِ عَلَى التَّنَازُعِ (قَالَ) : أَبِي قَتَادَةَ دَلِيلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ (قَالَ أَنَسٌ: قُتِلَ مِنْهُمْ) ، أَيْ: مِنَ الْأَنْصَارِ (يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ) ، ظَاهِرُهُ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ كَذَلِكَ الْقَلِيلُ، إِذْ رَوَى ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ أُبَيٍّ: قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ) بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (سَبْعُونَ وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ سَبْعُونَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

6265 - وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: عَطَاءُ الْبَدْرِيِّينَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَقَالَ عُمَرُ: لَأُفَضِّلَنَّهُمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

[تسمية من سمي من أهل بدر]

[تَسْمِيَةُ مَنْ سُمِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ] فِي الْجَامِعِ لِلْبُخَارِيِّ النَّبِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الْقُرَشِيُّ، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْقُرَشِيُّ خَلَّفَهُ النَّبِيُّ عَلَى ابْنَتِهِ رُقَيَّةَ وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ، إِيَاسُ بْنُ بُكَيْرٍ، بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفٌ لِقُرَيْشٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنَزِيُّ، عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ، مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ وَأَخُوهُ، مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَبُو أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ، مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، مِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6265 - (وَعَنْ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: كَانَ) ، أَيْ: فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ (عَطَاءُ الْبَدْرِيِّينَ) ، أَيِ: الَّذِينَ حَضَرُوا قَضِيَّةَ بَدْرٍ (خَمْسَةُ آلَافٍ) . كَرَّرَهُ لِيُفِيدَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَهُ خَمْسَةُ آلَافٍ. (وَقَالَ عُمَرُ: لَأُفَضِّلَنَّهُمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ) ، أَيْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الْمَرْتَبَةِ، يَعْنِي كَانَتْ عَطِيَّاتُهُمْ كَامِلَةً بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَأَنَا أَيْضًا لَأُفَضِّلَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ زِدْتُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . تَسْمِيَةُ مَنْ سُمِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ (فِي " الْجَامِعِ لِلْبُخَارِيِّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -) أَيْ: هَذَا ذِكْرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ بِأَسْمَائِهِمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا لِيَدْخُلَ عُثْمَانُ دُونَ مَنْ لَمْ يُسَمِّ فِيهِ، وَدُونَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَصْلًا. قَالَ مِيرَكُ: وَالْمُرَادُ بِمَنْ تَسَمَّى مَنْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِيهِ بِرِوَايَةٍ عَنْهُ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، بِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا لَا مُجَرَّدَ ذِكْرِهِ دُونَ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ شَهِدَهَا، وَهَذَا يُجَابُ عَنْ تَرْكِ إِيرَادِ مِثْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ ابْنِ الْجَرَّاحِ، فَإِنَّهُ شَهِدَهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ، وَذِكْرُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ شَهِدَهَا اهـ. وَقَدْ سَبَقَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَلْفًا وَالصَّحَابَةَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ» (النَّبِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ) ، بَدَأَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَيَمُّنًا بِذِكْرِهِ، وَتَبَرُّكًا بِاسْمِهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ أَوْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ. (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ) : اسْمُ الصِّدِّيقِ عَبْدُ اللَّهِ، وَعُثْمَانُ اسْمُ أَبِيهِ أَبُو قُحَافَةَ وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. (الْقُرَشِيُّ) ، يَعْنِي التَّيْمِيَّ، وَكَانَ أَنِيسَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ، وَجَلِيسَهُ فِي الْعَرِيشِ، وَحَافِظَهُ مِنَ الْعَدُوِّ، شَاهِرًا سَيْفَهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا أَهْوَى إِلَيْهِ. (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ) ، مَنْسُوبٌ إِلَى عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ. (عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْقُرَشِيُّ) ، يَعْنِي الْأُمَوِيَّ (خَلَّفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ تَرَكَهُ خَلْفَهُ خَلِيفَةً (لِلِاطِّلَاعِ عَلَى ابْنَتِهِ) ، أَيْ: رُقَيَّةَ عَلَى مَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْبُخَارِيِّ، وَالْمَعْنَى لِمُرَاعَاةِ حَالِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ مَرِيضَةً حِينَئِذٍ (وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ) . أَيْ وَقَدَّرَ لَهُ بِنَصِيبِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ. (عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ) : «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ آخِذًا بِرَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ» . قَالَ الْحَاكِمُ: يَوْمَ بَدْرٍ وَالْمَشَاهِدُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ إِلَى هُنَا رَاعَى الْمَرَاتِبَ الرُّتْبِيَّةَ، ثُمَّ اعْتَبَرَ تَرْتِيبَ الْحُرُوفِ الْهِجَائِيَّةِ. (إِيَاسُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَيُفْتَحُ (ابْنُ الْبُكَيْرِ) ، تَصْغِيرُ الْبَكْرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ لَيْثِيٌّ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ. (بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ (مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ) ، عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفٌ لِقُرَيْشٍ) ، وَسَبَقَ أَنَّهُ حَلِيفُ الزُّبَيْرِ.

أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ، حَارِثَةُ بْنُ الرُّبَيِّعِ الْأَنْصَارِيُّ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ كَانَ فِي النَّظَّارَةِ خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ، رِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَبُو لُبَابَةَ الْأَنْصَارِيُّ، الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ الْقُرَشِيُّ، زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الزُّهْرِيُّ، سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ الْقُرَشِيُّ، سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ، سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ، ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ وَأَخُوهُ (أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ) : قِيلَ: اسْمُهُ مُهَشِّمٌ، وَقِيلَ هَاشِمٌ كَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. (حَارِثَةُ بْنُ الرُّبَيِّعِ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ مَكْسُورَةٍ وَهُوَ اسْمُ أُمِّهِ وَابْنُ أَبِيهِ سُرَاقَةَ (الْأَنْصَارِيُّ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ) : هُوَ أَوَّلُ قَتِيلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، (وَهُوَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ كَانَ) ، أَيْ: حَالَ قَتْلِهِ (فِي النَّظَّارَةِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ مِنَ الَّذِينَ طَلَبُوا مَكَانًا مُرْتَفِعًا يَنْظُرُونَ إِلَى الْعَدُوِّ، وَيُخْبِرُونَ عَنْ حَالِهِمْ، فَفِي الصِّحَاحِ: النَّظَّارَةُ قَوْمٌ يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ، وَزَادَ الْقَامُوسُ: وَبِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى التَّنَزُّهِ لَحْنٌ تَسْتَعْمِلُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ: خَرَجَ نَظَّارًا عَلَى مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ: مَا خَرَجَ لِقِتَالٍ أَقُولُ: لَعَلَّهُ كَانَ بِهِ عُذُرٌ يَمْنَعُهُ عَنِ الْقِتَالِ فَعُيِّنَ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا لِلْمُسْلِمِينَ. (خُبَيْبُ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ (بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ) . أَيِ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ بَدْرًا، وَأُسِرَ فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ، فَانْطُلِقَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ فَاشْتَرَاهُ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ قَدْ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، فَاشْتَرَاهُ بَنُوهُ لِيَقْتُلُوهُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا ثُمَّ صُلِبَ بِالتَّنْعِيمِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صُلِبَ فِي الْإِسْلَامِ، رَوَى عَنْهُ الْحَارِثُ بْنُ الْبَرْصَاءِ. (خُنَيْسٌ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ نُونٍ (بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ) ، أَيِ: الْقُرَشِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ زَوْجَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهِدَ بَدْرًا، ثُمَّ أُحُدًا، فَخَرَجَ فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَلَا عَقِبَ لَهُ. (رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ) ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَسَائِرَ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، وَمَاتَ فِي أَوَّلِ وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ. (رِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَبُو لُبَابَةَ الْأَنْصَارِيُّ) : عَطْفُ بَيَانٍ لِمَا قَبْلَهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: رِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ هُوَ أَبُو لُبَابَةَ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، كَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا، وَقِيلَ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا بَلْ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَدِينَةِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ مَعَ أَصْحَابِ بَدْرٍ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. (الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ الْقُرَشِيُّ) ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ) ، عَطْفُ بَيَانٍ لِمَا قَبْلَهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ مِنَ الرُّمَاةِ الْمَذْكُورِينَ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَةٍ» ". مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، شَهِدَ الْعَقَبَةَ ثُمَّ السَّبْعِينَ، ثُمَّ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ. (أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ) : هُوَ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ حِفْظًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ قِيلَ: سَعْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقِيلَ: قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ. (سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الزُّهْرِيُّ) ، هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ. (سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (الْقُرَشِيُّ) ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَاتَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. (سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ) : بِضَمِّ النُّونِ فَفَتْحِ فَاءٍ الْقُرَشِيُّ هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ. (سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (الْأَنْصَارِيُّ) ، أَيِ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، وَصَحِبَ عَلِيًّا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ وَلَّاهُ فَارِسَ، مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. (ظُهَيْرٌ) : بِالتَّصْغِيرِ (بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ) ، أَيِ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ وَبَدْرًا، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ. (وَأَخُوهُ) ، أَيْ: أَخُو ظُهَيْرٍ، وَاسْمُهُ مُظَهِّرٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَلَمْ يُسَمِّهِ الْبُخَارِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَا شَهِدَ بَدْرًا، لَكِنْ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّ ظُهَيْرًا لَمْ يَشْهَدْهَا وَشَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَذَا قِيلَ لَمْ يَشْهَدْهَا مُظَهِّرٌ فَتَسْقُطُ الْوَاوُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَخُوهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ.

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيُّ) ، بِضَمٍّ فَفَتْحٍ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ بَنِي هُذَيْلٍ مِنْ غَيْرِ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ وَسَبَقَ ذِكْرُهُ. (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ) ، بِضَمٍّ فَسُكُونٍ نِسْبَةً إِلَى بَنِي زُهْرَةَ، قَبِيلَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ. (عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ الْقُرَشِيُّ) ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عُبَادَةَ) : بِضَمِّ عَيْنٍ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ. (بْنُ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيُّ) : كَانَ نَقِيبًا، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا. قِيلَ: مَاتَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ. (عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ) أَيِ الْمُزَنِيُّ: كَانَ قَدِيمَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92] سَكَنَ الْمَدِينَةَ وَمَاتَ بِهَا فِي آخِرِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. (حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ) بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَلُؤَيٌّ بِضَمٍّ فَفَتْحِ هَمْزٍ وَيُبْدَلُ وَاوٌ فَتَشْدِيدٌ. (عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ، وَقِيلَ إِنَّهُ شَهِدَهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَى مَاءِ بِدْرٍ لِأَنَّهُ نَزَلَهُ فَنُسِبَ إِلَيْهِ اهـ. وَلِذَلِكَ خَطِئَ الْبُخَارِيُّ بُعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ. (عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيُّ) ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ النُّونِ فَفِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَنَزَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالزَّايِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْعَنْزِيُّونَ، وَقَالَ فِي الْمَعْنَى: وَأَمَّا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيُّ بِسُكُونِ النُّونِ، وَكَذَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَامُوسِ، وَفِي نُسْخَةِ الْعَدَوِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، أَسْلَمَ قَدِيمًا مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. (عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ) : يُكْنَى أَبَا سُلَيْمَانَ الْأَنْصَارِيَّ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ الَّذِي حَمَتْهُ الدَّبْرُ وَهِيَ النَّحْلُ، مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَجْتَزُّوا رَأْسَهُ فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ حِينَ قَتَلَهُ بَنُو لَحْيَانَ، فَسُمِّيَ حَمْيَ الدَّبْرِ. (عُوَيْمُ) : تَصْغِيرُ عَامٍ بِمَعْنَى سَنَةٍ (بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ) : هُوَ أَوْسِيٌّ، شَهِدَ الْعَقَبَتَيْنِ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَاتَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عِتْبَانُ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ) خَزْرَجِيٌّ سَلَمِيٌّ بَدْرِيٌّ، مَاتَ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ. (قُدَامَةُ) : بِضَمِّ الْقَافِ (بْنُ مَظْعُونٍ) . بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ قُرَشِيٌّ جُمَحِيٌّ خَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَسَائِرَ الْمَشَاهِدِ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. (قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (الْأَنْصَارِيُّ) : عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ، وَشَهِدَ بَعْدَهَا الْمُشَاهِدَ كُلَّهَا، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَخُوهُ لِأُمِّهِ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ. (مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ) . بِفَتْحِ جِيمٍ وَضَمِّ مِيمٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَزْرَجِيٌّ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا هُوَ وَأَبُوهُ عَمْرٌو، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مَعَ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَبَا جَهْلٍ، وَلَهُمَا ذِكْرٌ فِي بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو قَطَعَ رِجْلَ أَبِي جَهْلٍ وَصَرَعَهُ. قَالَ: وَضَرَبَ ابْنُهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَدَ مُعَاذٍ فَطَرَحَهَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ حَتَّى أَثْبَتَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، ثُمَّ وَقَصَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ حِينَ أَمْرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْتَمِسَ أَبَا جَهْلٍ فِي الْقَتْلَى. قُلْتُ: لَمَّا كَانَ قَتْلُ أَبِي جَهْلٍ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ الْكَثِيرِ قَدَّرَ اللَّهُ أَنَّ جَمْعًا تَشَارَكُوا فِي قَتْلِهِ. (مُعَوِّذُ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ أَوِ الْمَفْتُوحَةِ وَالذَّالُ مُعْجَمَةٌ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا عَلَى الْأَشْهَرِ، وَجَزَمَ الرَّقْشِيُّ أَنَّهُ بِالْكَسْرِ عَلَى مَا فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُغْنِي، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْقَامُوسِ، وَكَذَا ضَبَطَهُ الْمُؤَلِّفُ (ابْنُ عَفْرَاءَ) : بِفَتْحِ عَيْنٍ فَسُكُونِ فَاءٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مُعَوِّذُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مُعَاذٍ وَعَفْرَاءُ أُمُّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ مَعَ أَخِيهِ مُعَاذٍ، وَهُمَا أَصْحَابُ زَرْعٍ وَنَخْلٍ، وَقَاتَلَ فِي بَدْرٍ حَتَّى قُتِلَ بِهَا (وَأَخُوهُ) ، أَيْ أَخُوهُ مُعَاذٌ. قَالَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ شَهِدَ بَدْرًا وَأَخَوَاهُ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ وَالْحَارِثُ أَبُوهُمْ وَعَفْرَاءُ أَمُّهُمْ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيُّ الزُّرَقِيُّ، وَعَفْرَاءُ أُمُّهُ، وَهِيَ بِنْتُ.

عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَكَانَ هُوَ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ أَوَّلَ أَنْصَارِيَّيْنِ مِنَ الْخَزْرَجِ أَسْلَمَا، شَهِدا بَدْرًا وَأَخَوَاهُ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ، وَقُتِلَ أَخَوَاهُ هَذَانِ بِبَدْرٍ وَشَهِدَ بَعْدَ بَدْرٍ مِنَ الْمَشَاهِدِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَقِيلَ: أَنَّهُ عَاشَ إِلَى زَمَنِ عُثْمَانَ. (مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ أَبُو أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ) : بِالتَّصْغِيرِ كُنْيَةُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَهُوَ سَاعِدِيٌّ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ (مِسْطَحُ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (بْنُ أُثَاثَةَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ (بْنِ عَبَّادٍ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ (بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ) أَيِ الْقُرَشِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمُشَاهِدَ كُلَّهَا بَعْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِي عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَا قَالَهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَجَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَنْ جَلَدَ، وَيُقَالُ: إِنَّ مِسْطَحًا لَقَبُهُ وَاسْمُهُ عَوْفٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ. (مُرَارَةُ) بِضَمِّ الْمِيمِ (بْنُ الرَّبِيعِ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الْأَنْصَارِيُّ) : عَامِرِيٌّ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِي شَأْنِهِمْ. (مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ) بِفَتْحِ مِيمٍ فَسُكُونِ عَيْنٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ شَهِيدًا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ فَقُتِلَا مَعًا يَوْمَئِذٍ. (مِقْدَادُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ) : بِكَسْرِ الْكَافِ (حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ) . بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: إِنَّ أَبَاهُ حَالَفَ كِنْدَةَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ابْنُ الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيفَهُ أَوَّلًا، فَتَبَنَّاهُ وَكَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ، مَاتَ بِالْجَرْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً (هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (الْأَنْصَارِيُّ) : أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ الَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكٍ، لَهُ ذِكْرٌ فِي اللِّعَانِ، رَوَى عَنْهُ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَتُحُصِّلَ أَنَّ عَدَدَ الْمَجْمُوعِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَفِي نُسْخَةٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ.

[باب ذكر اليمن والشام وذكر أويس القرني]

[بَابُ ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6266 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ رَجُلًا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ لَا يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ إِلَّا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ لَهُ بَيَاضٌ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بَابُ ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ) فِي الْمُغْرِبِ: الْيَمَنُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْيَمِينِ بِخِلَافِ الشَّامِ، لِأَنَّهَا بِلَادٌ عَلَى يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا يَمَنِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَوْ يَمَانِيٌّ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى تَعْوِيضِ الْأَلِفِ مِنْ إِحْدَى يَائَيِ النِّسْبَةِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْيَمَنُ مُحَرَّكَةٌ مَا عَلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ مِنْ بِلَادِ الْغَوْرِ، وَهُوَ يَمَنِيٌّ وَيَمَانِيٌّ وَيَمَانٍ، وَالشَّامُ بِلَادٌ عَنْ مُشَاءَمَةِ الْقِبْلَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمًا مِنْ بَنِي كَنْعَانَ تَشَاءَمُوا إِلَيْهَا أَيْ تَيَاسَرُوا، أَوْ سُمِّيَ بِشَامُ بْنِ نُوحٍ، فَإِنَّهُ بِالشِّينِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّ أَرْضَهَا شَامَاتٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وَسُودٌ، وَعَلَى هَذَا لَا يُهْمَزُ وَقَدْ يُذَكَّرُ. قُلْتُ: وَعَلَى الْأَوَّلِ يُهْمَزُ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالْأَشْمَلُ لِلْمَعَانِي، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُتَعَلِّقًا بِذِكْرِ الْمَكَانَيْنِ أَوْ بِأَهْلِيهِمَا، فَقَوْلُهُ: وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلتَّشْرِيفِ، ثُمَّ الْقَرَنِيُّ بِفَتْحَتَيْنِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْقَرْنُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَهِيَ قَرْيَةٌ عِنْدَ الطَّائِفِ، وَاسْمُ الْوَادِي كُلُّهُ، وَغَلَطَ الْجَوْهَرِيُّ فِي تَحْرِيكِهِ، وَفِي نِسْبَةِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى قَرَنِ بْنِ رُومَانَ بْنِ نَاجِيَةَ بْنِ مُرَادٍ أَحَدِ أَجْدَادِهِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6266 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ رَجُلًا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ) : تَصْغِيرُ أَوْسٍ (" لَا يَدَعُ ") ، أَيْ: لَا يَتْرُكُ (بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ وَعِيَالٌ فِي الْيَمَنِ.

غَيْرَهَا، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ عَنِ الْإِتْيَانِ إِلَيْنَا خِدْمَتُهَا، (" قَدْ كَانَ بِهِ ") ، أَيْ: بِأُوَيْسٍ (" بَيَاضٌ ") ، أَيْ: بَرَصٌ (" فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ إِلَّا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ ") ، شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَعَلَّهُ أَبْقَاهُ لِلْعَلَامَةِ كَمَا قِيلَ فِي ظُفْرِ آدَمَ: أَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ جِلْدِهِ السَّابِقِ، أَوْ تَرَكَ ذَاكَ الْبَعْضَ لِيَكُونَ سَبَبَ تَنَفُّرِهِ، وَلِهَذَا كَانَ يُحِبُّ الْخُمُولَ وَالْعُزْلَةَ وَيَكْرَهُ الشُّهْرَةَ وَالْخُلْطَةَ. (" فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ") . قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ، وَفِيهِ طَلَبُ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. أَقُولُ: وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ: سَمِعْتُ، رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادٍ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ فِيهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ وَهُوَ لَهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَلَوِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» " فَاسْتَغْفِرْ لِي فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ) ، أَيْ: عُمَرُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ ") ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ، وَحَصَلَ لَهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ عَنْ حُضُورِ حَضْرَتِهِ وَنُورِ طَلْعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (" رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ ") ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَيْرُ التَّابِعِينَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ: أَفْضَلُ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ سَعِيدَ أَفْضَلُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهَا لَا فِي كَوْنِهِ أَكْثَرَ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. (" وَلَهُ وَالِدَةٌ ") ، أَيْ: أُمٌّ، وَهُوَ بَارٌّ لَهَا (" وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ ") ، أَيْ بَرَصٌ وَذَهَبَ اللَّهُ بِهِ أَيْ: أَذْهَبَهُ كُلَّهُ إِلَّا قَدْرَ الْيَسِيرِ، وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ (" فَمُرُوهُ ") ، أَيْ: فَالْتَمِسُوهُ أَوْ مُرُوهُ بِنَاءً عَلَى أَمْرِنَا إِيَّاكُمْ أَوْ إِيَّاهُ (" فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ") . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِاسْتِغْفَارِ أُوَيْسٍ لَهُمْ وَإِنْ كَانَ الصَّحَابَةُ أَفْضَلَ مِنَ التَّابِعِينَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاضِلَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِنَ الْمَفْضُولِ، أَوْ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطَيُّبًا لِقَلْبِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى حَضْرَتِهِ، لَكِنْ مَنَعَهُ بِرُّهُ لِأُمِّهِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ أَنَّهُ مُسِيءٌ فِي التَّخَلُّفِ اهـ. وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا نُقِلَ أَنَّهُ تَرَكَ أُمَّهُ وَجَاءَ وَاجْتَمَعَ بِالصَّحَابَةِ فَإِنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ الْإِتْيَانِ كَانَ بِعُذْرِ عَدَمِ مَنْ يَكُونُ فِي خِدْمَتِهَا وَقَائِمًا بِمُؤْنَتِهَا، فَلَمَّا وَجَدَ السَّعَةَ تَوَجَّهَ إِلَى الصَّحَابَةِ أَوْ لَمَّا فُرِضَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ تَعَيَّنَ مَأْتَاهُ أَوْ أَذِنَتْ لَهُ بِالسَّيْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الرِّيَاضِ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ يَسْأَلُهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَلَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ وَهُوَ لَهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» " فَاسْتَغْفِرْ لِي فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ. قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا. قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرُ فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ فَقَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ: " فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ " فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ خَفَائِهِ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ فِي مَادَّةِ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَوْ كَانَ ظَاهِرُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ مَسْتُورًا أَوْ غَيْرُهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِغْفَارُ لِلْكُلِّ، وَلَا امْتِنَاعُهُ عَنِ الْبَعْضِ لِمَا يُوجِبُ مِنَ الْإِيحَاشِ وَكَشْفِ الْحَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا " «خَيْرُ التَّابِعِينَ أُوَيْسٌ» ". رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَنِيُّ وَأَنَّ شَفَاعَتَهُ فِي أُمَّتِي مِثْلَ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» .

6267 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ وَأَلْيَنُ قُلُوبًا الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6267 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: " أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً ") ، أَيْ: مِنْ سَائِرِ مَنْ يَأْتِيكُمْ وَالرِّقَّةُ ضِدُّ الْقَسَاوَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْفُؤَادُ الْقَلْبُ، وَقِيلَ: بَاطِنُهُ، وَقِيلَ ظَاهِرُهُ، وَالْمَعْنَى هُمْ أَكْثَرُ رِقَّةً وَرَحْمَةً مِنْ جِهَةِ الْبَاطِنِ. (" وَأَلْيَنُ قُلُوبًا ") أَيْ: أَكْثَرُ لِينَةً لِقَبُولِ النَّصِيحَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مِنْ قُلُوبِ سَائِرِ النَّاسِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَصَفَ الْأَفْئِدَةَ بِالرِّقَّةِ وَالْقُلُوبَ بِاللِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ أَنَّ الْفُؤَادَ غِشَاءُ الْقَلْبِ إِذَا رَقَّ نَفَذَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَخَلُصَ إِلَى مَا وَرَاءُ، وَإِذَا غِلَظَ تَعَذَّرَ وُصُولُهُ إِلَى دَاخِلِهِ، فَإِذَا صَادَفَ الْقَلْبَ لَيِّنًا عَلِقَ بِهِ وَنَجَعَ فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الرِّقَّةُ ضِدُّ الْغِلْظَةِ وَالصَّفَاقَةِ وَاللِّينُ مُقَابِلُ الْقَسَاوَةِ، فَاسْتُعِيرَتْ فِي أَحْوَالِ الْقَلْبِ، فَإِذَا نَبَا عَنِ الْحَقِّ وَأَعْرَضَ عَنْ قَبُولِهِ وَلَمْ يَتَأَثَّرْ عَنِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ، يُوصَفُ بِالْغِلْظَةِ، فَكَانَ شِغَافُهُ صَفِيقًا لَا يَنْفُذُ فِيهِ الْحَقُّ وَجِرْمُهُ صَلْبٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَعْظُ، وَإِذَا كَانَ بِعَكْسِ ذَلِكَ يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ وَاللِّينِ فَكَانَ حِجَابُهُ رَقِيقًا لَا يَأْبَى نُفُوذَ الْحَقِّ، وَجَوْهَرُهُ لَيِّنٌ يَتَأَثَّرُ بِالنُّصْحِ، ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ أَتْبَعَهُ مَا هُوَ كَالنَّتِيجَةِ وَالْغَايَةِ بِقَوْلِهِ: (" الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ") ، فَإِنَّ صَفَاءَ الْقَلْبِ وَرِقَّتَهُ وَلِينَ جَوْهَرِهِ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى عِرْفَانِ الْحَقِّ وَالتَّصَدِّي بِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالِانْقِيَادُ لِمَا يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ، وَالتَّيَقُّظُ وَالِاتِّقَاءُ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ وَهُوَ الْحِكْمَةُ، فَتَكُونُ قُلُوبُهُمْ مَعَادِنَ الْإِيمَانِ وَيَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ قُلُوبٌ مَنْشَؤُهَا الْيَمَنُ نُسِبَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ وَالْحِكْمَةُ مَعًا لِانْتِسَابِهَا إِلَيْهِ تَنْوِيهًا بِذِكْرِهِمَا وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْفُؤَادِ وَالْقَلْبِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي كَوْنِهِمَا مُتَرَادِفَيْنِ فَكَرَّرَ لِيُنَاطَ بِهِ مَعْنًى غَيْرَ الْمَعْنَى السَّابِقِ، فَإِنَّ الرِّقَّةَ مُقَابِلَةٌ لِلْغِلْظَةِ وَاللِّينَ مُقَابِلٌ لِلشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ، فَوُصِفَتْ أَوَّلًا بِالرِّقَّةِ لِيُشِيرَ إِلَى التَّخَلُّقِ مَعَ النَّاسِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْإِخْوَانِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وَثَانِيًا بِاللِّينِ لِيُؤْذَنَ بِأَنَّ الْآيَاتِ النَّازِلَةَ وَالدَّلَائِلَ الْمَنْصُوبَةَ نَاجِعَةٌ فِيهَا وَصَاحِبُهَا مُقِيمٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ: " «الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» " يَشْمَلُ حُسْنَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُعَاشَرَةِ مَعَ النَّاسِ، فَلِشِدَّةِ شَكِيمَةِ الْيَهُودِ وَعِنَادِهِمْ، قِيلَ فِيهِمْ: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةٍ} [البقرة: 74] وَلِلِينِ جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ وُصِفُوا بِقَوْلِهِ {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] اهـ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ هُوَ نِسْبَتُهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَالْأَلِفُ فِيهِ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ النِّسْبَةِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَكَّةُ مِنْ أَرْضِ تِهَامَةَ، وَتِهَامَةُ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ وَمَا وَلِيَهَا مَنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تَهَائِمُ، فَمَكَّةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَمَانِيَةٌ، وَفِيهَا ظَهَرَ الْإِيمَانُ. قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ بِتَبُوكَ، وَمَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمَنِ، فَأَشَارَ إِلَى نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَقِيلَ: عَنَى بِهَذَا الْقَوْلِ الْأَنْصَارَ لِأَنَّهُمْ يَمَانُونَ وَهُمْ نَصَرُوا الْإِيمَانَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَوَوْهُمْ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ وُجُوهٌ مُتَقَارِبَةٌ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ بُعْدِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْكَلَامِ وَالثَّانِي، فَإِنَّهُ أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ، وَالْجُمْهُورُ مِنْهُمْ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَمَا حَوْلَهُمَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُشِيرَ لَهُمْ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَهْلُ الْيَمَنِ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانُ إِشْعَارًا بِكَمَالِهِ فِيهِمْ، وَالْمُرَادُ الْمَوْجُودُونَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا كُلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَانِ، فَالْمَقْصُودُ تَفْضِيلُ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: " «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ» " ثُمَّ قَوْلُهُ: " الْإِيمَانُ يَمَانٍ " لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حِجَازِيًّا، وَإِنَّمَا يَنْبِي عَنِ اسْتِعْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ لِقَبُولِ ذَلِكَ، وَفُشُوِّهِ فِيهِمْ وَاسْتِقْرَارِ أَمْرِهِمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فُتِحَتْ بِأَمْدَادِهِمُ الشَّامُ وَالْعِرَاقُ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ قَوْلُهُ: " وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ " بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ فَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: كُلُّ كَلِمَةٍ صَالِحَةٍ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْهَلَكَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَادِنَ الْإِيمَانِ وَيَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَكَانَتِ الْخَصْلَتَانِ مُنْتَهَى هِمَمِهِمْ نَسَبَ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ إِلَى مَعَادِنِ نُفُوسِهِمْ وَمَسَاقِطِ رُؤُوسِهِمْ نِسْبَةَ الشَّيْءِ إِلَى مَقَرِّهِ (وَالْفَخْرُ) أَيِ: الِافْتِخَارُ بِالْمُبَاهَاةِ وَالْمُنَافَسَةِ فِي الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ كَالْمَالِ وَالْجَاهِ، (" وَالْخُيَلَاءُ ") : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مَمْدُودَةٍ، وَهِيَ التَّكَبُّرُ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ أَفْضَلُ.

مِنْ غَيْرِهِ وَيَمْنَعُهُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ (" فِي أَصْحَابِ الْإِبِلِ ") وَفِي مَعْنَاهَا الْخَيْلُ، بَلْ هِيَ أَدْهَى بِالْوَيْلِ، وَسَيَأْتِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ: (" وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ") ، أَيِ: التَّأَنِّي وَالْحِلْمُ وَالْأُنْسُ (" فِي أَهْلِ الْغَنَمِ ") . قَالَ الْقَاضِي: تَخْصِيصُ الْخُيَلَاءِ بِأَصْحَابِ الْإِبِلِ، وَالْوَقَارُ بِأَهْلِ الْغَنَمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَطَةَ الْحَيَوَانِ تُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ وَتُعَدِّي إِلَيْهَا هَيْئَاتٍ وَأَخْلَاقًا تُنَاسِبُ طِبَاعَهَا وَتُلَائِمُ أَحْوَالَهَا، قُلْتُ: وَلِهَذَا قِيلَ الصُّحْبَةُ تُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَيْضًا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ رَعَى الْغَنَمَ، وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ وَرَابِطَةُ النِّظَامِ بَيْنَ فُصُولِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ وَالْحِكْمَةُ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْإِبِلِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْفَخْرُ، وَأَهْلُ الْغَنَمِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ السُّكُونُ، فَمَنْ أَرَادَ صُحْبَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ، فَعَلَيْهِ بِمُصَاحَبَةِ نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى وَجْهِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: "؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى إِظْهَارِ مُعْجِزَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْيَمَنِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ قِلَّةِ أَهْلِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَطْرَافِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ خَلَائِقِهِمْ قَلِيلُونَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: " الْإِيمَانُ يَمَانٍ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَضْعَفُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» ".

6268 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأَسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6268 - (وَعَنْهُ) ، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَأْسُ الْكُفْرِ ") ، أَيْ: مُعْظَمُهُ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ مَنْشَؤُهُ (" نَحْوَ الْمَشْرِقِ ") ، بِالنَّصْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ نَحْوَهُ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، أَيْ: ظُهُورُ الْكُفْرِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: مِنْهُ يَظْهَرُ الْكُفْرُ وَالْفِتَنُ كَالدَّجَّالِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِاخْتِصَاصِ الْمَشْرِقِ بِهِ مَزِيدُ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ حِينَ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنَ الْمَشْرِقِ فَإِنَّهُ مَنْشَأُ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ وَمَثَارُ الْكُفْرِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ، نَقْلًا عَنِ الْبَاجِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فَارِسَ وَأَنْ يُرِيدَ نَجْدًا (" وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ ") ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْخُيَلَاءُ التَّكَبُّرُ عَنْ تَخَيُّلِ فَضِيلَةٍ تَرَاءَتْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْهَا يَتَأَوَّلُ لَفْظُ الْخَيْلِ مَا قِيلَ أَنَّهُ لَا يَرْكَبُ أَحَدٌ فَرَسًا إِلَّا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ نَخْوَةً، وَالْخَيْلُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْأَفْرَاسِ وَالْفُرْسَانِ جَمِيعًا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْخَيْلَ اسْمٌ حَتَّى لِلْفَرَسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] أَمَّا قَوْلُهُ: " يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبُوا " فَمَجَازٌ. (" وَالْفَدَّادِينَ ") : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: وَفِي الْفَلَّاحِينَ عَطْفٌ عَلَى أَهْلِ الْخَيْلِ وَقَوْلُهُ: (" أَهْلُ الْوَبَرِ ") ، بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُوَحَّدَةِ شَعْرُ الْإِبِلِ وَهُوَ بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ سُكَّانُ الصَّحَارِي، لِأَنَّ بُيُوتَهُمْ غَالِبًا خِيَامٌ مِنَ الشَّعْرِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْفَدَّادُونَ بِالتَّشْدِيدِ الَّذِينَ تَعْلُو أَصْوَاتُهُمْ فِي حُرُوثِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، وَاحِدُهُمْ فَدَّادٌ، يُقَالُ: فَدَّ الرَّجُلُ يَفِدُّ فَدِيدًا إِذَا اشْتَدَّ صَوْتُهُ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُكْثِرُونَ مِنَ الْإِبِلِ، وَقِيلَ: هُمُ الْجَمَّالُونَ وَالْبَقَّارُونَ وَالْحَمَّارُونَ وَالرُّعْيَانِ، وَقِيلَ: الْفَدَادُونَ بِالتَّخْفِيفِ جَمْعُ فَدَّادٍ مُشَدَّدًا، وَهِيَ الْبَقَرَةُ الَّتِي تُحْرَثُ بِهَا وَأَهْلُهَا أَهْلُ جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِذَا رُوِيَ بِالتَّخْفِيفِ تَقْدِيرُهُ: وَفِي أَهْلِ الْفَدَّادِينَ، وَأَرَى أَصْوَبَ الرِّوَايَتَيْنِ بِالتَّشْدِيدِ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الَّذِي يَتْلُو هَذَا الْحَدِيثَ، وَالْجَفَاءُ الْغِلَظُ فِي الْفَدَّادِينَ وَالتَّخْفِيفُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَتَقْدِيرُ الْحَذْفِ فِيهِ مُسْتَبْعَدٌ رِوَايَةً وَمَعْنًى، فَرَدَدْنَا الْمُخْتَلِفَ فِيهِ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ صَحَّ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَأَى مُسْكَةً وَشَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحَرْثِ فَقَالَ: " مَا دَخَلَ هَذَا دَارَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ» " وَأَيْنَ إِيقَاعُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ مِنْ مَوْقِعِ الذُّلِّ؟ قُلْتُ: لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ عَمَّا سَيَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ أَنَّ كَثْرَةَ الزِّرَاعَةِ تَكُونُ سَبَبًا لِلِافْتِخَارِ وَالتَّكَبُّرِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَرْبَابِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْمَزَارِعِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعَجَمِ بِحَيْثُ أَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ فِي الْمَحَافِلِ عَلَى أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ، بَلْ لَهُمُ اعْتِبَارٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْمُلُوكِ حَتَّى يَصِيرَ أَكْثَرُهُمْ وُزَرَاءَ لَهُمْ وَكُبَرَاءَ عِنْدَ سَائِرِ رَعِيَّتِهِمْ. (" وَالسَّكِينَةُ ") ، أَيِ: الْوَقَارُ وَالَتَأَنِّي وَالْحِلْمُ وَالْأُنْسُ (" فِي أَهْلِ الْغَنَمِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ. قَالَ مِيرَكُ: إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَقُلْ: وَالْفَدَّادِينَ بِالْوَاوِ، بَلْ هِيَ مَحْذُوفَةٌ فِيهِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ ثَابِتَةٌ، فَعَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ نَعْتٌ لِأَهْلِ الْخَيْلِ، وَعَلَى إِثْبَاتِهِ عَطْفٌ عَلَيْهَا. قُلْتُ: فَعَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مُرَادٌ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يُرَادُ التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى الْخَيْلِ بِرِوَايَةِ تَخْفِيفِ الْفَدَّادِينَ، وَعَلَى أَهْلِ الْخَيْلِ بِرِوَايَةِ التَّشْدِيدِ وَاللَّهُ الْمُلْهِمُ لِلتَّسْدِيدِ.

6269 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مِنْ هَاهُنَا جَاءَتِ الْفِتَنُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6269 - (وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مِنْ هَاهُنَا جَاءَتِ الْفِتَنُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ ") : حَالٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مِنْ هَاهُنَا جَاءَتِ الْفِتَنُ " مُشِيرًا نَحْوَ الْمَشْرِقِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّاوِي مُدْرَجًا عَلَى قَصْدِ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَاهُنَا ". (" وَالْجَفَاءُ ") ، بِالْمَدِّ وَهُوَ ضِدُّ الْوَفَاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجَفَاءُ نَقِيضُ الصِّلَةِ وَيُقْصَرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا غِلَظُ الْأَلْسِنَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (" وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ ") : بَيَانٌ لِلْفَدَّادِينَ، وَيُرَادُ بِأَهْلِ الْوَبَرِ الْأَعْرَابُ أَوْ سُكَّانُ الصَّحَارِي، وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الْمُدُنِ وَالْقُرَى الْمُوجِبِ لِقِلَّةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِهِ حُسْنُ الْأَخْلَاقِ لَهُمْ وَسَائِرُ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ تَعَالَى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] . وَفِي الْحَدِيثِ: " مَنْ بَدَا جَفَا ". (" عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ") ، أَيْ: هُمْ تَبَعٌ لِأُصُولِهَا وَيَمْشُونَ خَلْفَهَا لِلرَّعْيِ فِيهِمَا أَوْ لِإِثَارَةِ الْأَرْضِ خَلْفَ الْبَقَرِ وَلِسَقْيِ الْمَاءِ خَلْفَهُمَا، فَالْمُرَادُ بِهِمُ الَأَّكَارُونَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَتْبُوعَ تَابِعًا وَالتَّابِعَ مَتْبُوعًا، فَعَكَسُوا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ مَوْضُوعًا وَمَشْرُوعًا، وَإِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: عِنْدَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: الْفَدَّادِينَ عَلَى تَأْوِيلِ الَّذِينَ بِهِمْ جَلَبَةٌ وَصِيَاحٌ عِنْدَ سَوْقِهِمْ لَهَا ; لِأَنَّ سَائِقَ الدَّوَابِّ إِنَّمَا يَعْلُو صَوْتُهُ خَلْفَهَا. (" فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ؟ ") . إِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَذِهِ الطَّائِفَةُ فِيهِمْ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِقَوْلِهِ: وَالْجَفَاءُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْفَدَّادِينَ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .

6270 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِقِ وَالْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6270 - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِقِ ") ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: فِي أَهْلِ الْمَشْرِقِ (" وَالْإِيمَانُ ") : وَلَفْظُ الْجَامِعِ: وَالسَّكِينَةُ وَالْإِيمَانُ (" فِي أَهْلِ الْحِجَازِ ") . أَيْ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَحَوَالَيْهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِهِ الْأَنْصَارَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

6271 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا، فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6271 - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا» ") ، لَعَلَّ تَقْدِيرَهُ عَلَى الْيَمَنِ مُشْكِلٌ إِلَى أَنَّهُ مُبَارَكٌ فِي أَصْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] وَلِوُجُودِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِ، فَالْمُرَادُ زِيَادَةُ الْبَرَكَةِ أَوِ الْبَرَكَةُ الْحَاصِلَةُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْخُصُوصِ (" «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا» ") . أَيْ: بَرَكَةً ظَاهِرِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً، وَلِهَذَا كَثُرَ الْأَوْلِيَاءُ فِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ الْمَكَانَيْنِ بِالْبَرَكَةِ لِأَنَّ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَجْلُوبٌ مِنْهُمَا. (قَالُوا) ، أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَفِي نَجْدِنَا) ؟ عَطْفُ تَلْقِينٍ وَالْتِمَاسٍ أَيْ: قُلْ: وَفِي نَجْدِنَا لِيَحْصُلَ الْبَرَكَةُ لَنَا مِنْ صَوْبِهِ أَيْضًا، وَالنَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا دُونَ الْحِجَازِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ خِلَافُ الْغَوْرِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ. (قَالَ: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا» ") : قَالَ الْأَشْرَفُ: إِنَّمَا دَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ لِأَنَّ مَوْلِدَهُ بِمَكَّةَ، وَهُوَ مِنَ الْيَمَنِ، وَمَسْكَنُهُ وَمَدْفَنُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ مِنَ الشَّامِ، وَنَاهِيكَ مِنْ فَضْلِ النَّاحِيَتَيْنِ أَنَّ إِحْدَاهُمَا مَوْلِدُهُ، وَالْأُخْرَى مَدْفِنُهُ، فَإِنَّهُ أَضَافَهُمَا إِلَى نَفْسِهِ، وَأَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا وَكَرَّرَ الدُّعَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَفِي نَجْدِنَا؟ فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ) : يَعْنِي أَوْ فِي الثَّانِيَةِ (" هُنَاكَ ") ، أَيْ: فِي نَاحِيَةِ نَجْدٍ وَهُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: نَحْوَ الْمَشْرِقِ (" الزَّلَازِلُ ") ، أَيِ: الْحِسِّيَّةُ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ تَزَلْزُلُ الْقُلُوبِ وَاضْطِرَابُ أَهْلِهَا (" وَالْفِتَنُ ") ، أَيِ: الْبَلِيَّاتُ وَالْمِحَنُ الْمُوجِبَةُ لِضَعْفِ الدِّينِ وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ، فَلَا يُنَاسِبُهُ دَعْوَةُ الْبَرَكَةِ لَهُ (" وَبِهَا ") ، أَيْ: بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ وَنَوَاحِيهَا (" يَطْلُعُ ") : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: يَظْهَرُ (" قَرْنُ الشَّيْطَانِ ") . أَيْ: حِزْبُهُ وَأَهْلُ وَقْتِهِ وَزَمَانِهِ وَأَعْوَانُهُ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 6272 - عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ قِبَلَ الْيَمَنِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَقْبِلْ بِقُلُوبِهِمْ وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6272 - (عَنْ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) : هَذَا نَقْلُ الصَّحَابِيِّ عَنْ مِثْلِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ نَقْلِ الْأَقْرَانِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ نَقْلِ الْأَصَاغِرِ عَنِ الْأَكَابِرِ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ قِبَلَ الْيَمَنِ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: إِلَى جَانِبِهِ (فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَقْبِلْ ") : أَمْرٌ مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (" بِقُلُوبِهِمْ ") ، لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى اجْعَلْ قُلُوبَهُمْ مُقْبِلَةً إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا دَعَا بِذَلِكَ لِأَنَّ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ يَأْتِيهِمْ مِنَ الْيَمَنِ، وَلِذَا عَقَّبَهُ بِبَرَكَةِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ لِطَعَامٍ يُجْلَبُ لَهُمْ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: (" وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا ") . وَأَرَادَ بِهِمَا الطَّعَامَ الْمُكْتَالَ بِهِمَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الظَّرْفِ وَإِرَادَةِ الْمَظْرُوفِ أَوِ الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: طَعَامِ صَاعِنَا وَمُدِّنَا، ثُمَّ الصَّاعُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ كُلُّ مُدٍّ رَطْلٌ وَثُلُثٌ، وَالرَّطْلُ وَيُكْسَرُ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: مِعْيَارُ الْمُدِّ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفَّيِ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلَا بِصَغِيرِهِمَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَكَانٍ يُوجَدُ فِيهِ صَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَجَرَّبْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ صَحِيحًا، تَمَّ كَلَامُهُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجْهُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مَا زَالُوا فِي شِدَّةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَعَوَزٍ مِنَ الزَّادِ لَا تَقُومُ أَقْوَاتُهُمْ لِحَاجَتِهِمْ، فَلَمَّا دَعَا اللَّهَ بِأَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْيَمَنِ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْجَمُّ الْغَفِيرُ دَعَا اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِيَتَّسِعَ عَلَى الْقَاطِنِ بِهَا وَالْقَادِمِ عَلَيْهَا، فَلَا يَسْأَمُ الْمُقِيمُ مِنَ الْقَادِمِ عَلَيْهِ، وَلَا تَشُقُّ الْإِقَامَةُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ: " «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَكَ وَخَلِيلَكَ دَعَاكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَدْعُوكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ مِثْلَ مَا بَارَكْتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ.

6273 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طُوبَى لِلشَّامِ. قُلْنَا: لِأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6273 - (وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طُوبَى لِلشَّامِ ") ، أَيْ: حَالَةٌ طَيِّبَةٌ لَهَا وَلِأَهْلِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: طُوبَى مَصْدَرٌ مِنْ طَابَ كَبُشْرَى وَزُلْفَى، وَمَعْنَى طُوبَى لَكَ أَصَبْتَ خَيْرًا وَطَيِّبًا (قُلْنَا: لِأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ؟ بِتَنْوِينِ الْعِوَضِ فِي أَيٍّ أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ: لِأَيِّ سَبَبٍ قُلْتَ ذَلِكَ؟ وَقَدْ أُثْبِتَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ لَفْظُ شَيْءٍ، وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَأُجْرِيَ إِعْرَابُهُ عَلَى الْمُضَافِ اهـ. وَغَرَابَتُهُ لَا تَخْفَى (قَالَ: " لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ ") : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ (" بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى بُقْعَةِ الشَّامِ وَأَهْلِهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَنِ الْكُفْرِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ: " طُوبَى لِلشَّامِ إِنَّ الرَّحْمَنَ لَبَاسِطٌ رَحْمَتَهُ عَلَيْهِ " أَيْ: عَلَى بَلَدِ الشَّامِ فَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ بِاعْتِبَارَيْنِ.

6274 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ نَحْوِ حَضْرَمَوْتَ أَوْ مِنْ حَضْرَمَوْتَ تَحْشُرُ النَّاسَ. قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6274 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سَتَخْرُجُ نَارٌ ") : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْفِتْنَةُ (" مِنْ نَحْوِ «حَضْرَمَوْتَ» ") ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحَتَيْنِ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: حَضْرَمَوْتُ وَبِضَمِّ الْمِيمِ بَلَدٌ وَقَبِيلَةٌ، وَيُقَالُ: هَذَا حَضْرَمَوْتُ، وَيُضَافُ فَيُقَالُ: حَضْرُمَوْتٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِنْ شِئْتَ لَا تُنَوِّنِ الثَّانِيَ (" أَوْ مِنْ حَضْرَمَوْتَ ") ، أَيْ: مِنْ جَانِبِهَا الْمُقْتَصِّ عَنْهَا (" تَحْشُرُ النَّاسَ ") :

أَيْ: تَجْمَعُهُمُ النَّارُ وَتَسُوقُهُمْ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا) ؟ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ (قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ ") . أَيْ خُذُوا طَرِيقَهَا وَالْزَمُوا فَرِيقَهَا، فَإِنَّهَا سَالِمَةٌ مِنْ وُصُولِ النَّارِ الْحِسِّيَّةِ أَوِ الْحُكْمِيَّةِ إِلَيْهَا حِينَئِذٍ، لِحِفْظِ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ إِيَّاهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ رَأْيَ عَيْنٍ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا فِتْنَةٌ عَبَّرَ عَنْهَا بِالنَّارِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ يَعْنُونَ فِي التَّوَقِّي عَنْهَا. فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

6275 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَخِيَارُ النَّاسِ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6275 - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّهَا ") ، أَيِ: الْقِصَّةُ (" سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ ") . قَالَ الشَّارِحُونَ: كَانَ مِنْ حَقِّ الثَّانِيَةِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا مَعَ لَامِ الْعَهْدِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْهِجْرَةُ الْوَاجِبَةُ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَا مُنَكَّرَةً لِتُسَاوِقَ الْأُولَى فِي الصِّيغَةِ مَعَ إِضْمَارٍ فِي الْكَلَامِ أَيْ: بَعْدَ هِجْرَةٍ حَقَّتْ وَوَجَبَتْ، وَإِنَّمَا حَسُنَ الْحَذْفُ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ، وَالْمَعْنَى سَتَكُونُ هِجْرَةٌ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ هِجْرَةٍ كَانَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَذَلِكَ حِينَ تَكْثُرُ الْفِتَنُ، وَيَقِلُّ الْقَائِمُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْبِلَادِ، وَيَسْتَوْلِي الْكَفَرَةُ الطُّغَاةُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَيَبْقَى الشَّامُ تَسُومُهَا الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ مَنْصُورَةً عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يُقَاتِلُوا الدَّجَّالَ، فَالْمُهَاجِرُ إِلَيْهَا حِينَئِذٍ فَازَ بِدِينِهِ مُلْتَجِئٌ إِلَيْهَا لِإِصْلَاحِ آخِرَتِهِ، يَكْثُرُ سَوَادُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ الْقَائِمِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصْرِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ التَّكْرِيرُ كَمَا فِي قَوْلِكَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ أَيْ: أُلَبِّكَ إِلْبَابًا بَعْدَ إِلْبَابٍ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (" فَخِيَارُ النَّاسِ ") : يُلَوِّحُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ تَفْصِيلٌ لِلْمُجْمَلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: سَيَحْدُثُ لِلنَّاسِ مُفَارَقَةٌ مِنَ الْأَوْطَانِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يُفَارِقُ وَطَنَهُ إِلَى آخَرَ، وَيَهْجُرُهُ هِجْرَةً بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُهُمْ مَنْ يُهَاجِرُ أَوْ يَرْغَبُ (" إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ ") : - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ الشَّامُ اهـ. وَقَوْلُهُ: إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: مَوْضِعِ هِجْرَتِهِ وَإِلَى مُخَفَّفَةُ الْيَاءِ الْمُنْقَلِبَةِ إِلَى الْأَلِفِ عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ مُجَرَّدٌ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ فَخِيَارُ النَّاسِ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى مُهَاجَرَةٍ، لِأَنَّ الْمُهَاجِرَ حِينَئِذٍ فَازَ بِدِينِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إِلَيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِخِيَارٍ، وَحِينَئِذٍ (مُهَاجَرُ) مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ تَقْدِيرُهُ، فَخِيَارُ النَّاسِ مُهَاجِرٌ هَاجَرَ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُعْرِبَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِإِعْرَابِهِ، وَالْمُرَادُ بِمُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ الشَّامُ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْعِرَاقِ مَضَى إِلَى الشَّامِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ ") ، أَيْ: أَكْثَرُهُمْ لُزُومًا (" مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ ") - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيِ: الشَّامُ، فَمُهَاجَرَ بِالنَّصْبِ ظَرْفٌ أُلْزِمَ وَهُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَمِلَ فِي اسْمِ الظَّاهِرِ (" وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا ") ، أَيْ: أَهْلُ الْأَرْضِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ (" تَلْفِظُهُمْ ") : بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: تَرْمِيهِمْ (" أَرَضُوهُمْ ") ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْمَعْنَى تَرْمِي شِرَارَ النَّاسِ أَرَاضِيهِمْ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى. قَالَ الشُّرَّاحُ: يَعْنِي يَنْتَقِلُ مِنَ الْأَرَاضِي الَّتِي يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْكَفَرَةُ خِيَارُ أَهْلِهَا، وَيَبْقَى خِسَاسٌ تَخَلَّفُوا عَنِ الْمُهَاجِرِينَ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا، وَرَهْبَةً عَنِ الْقِتَالِ، وَحِرْصًا عَلَى مَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ ضِيَاعٍ وَمَوَاشٍ وَنَحْوِهِمَا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَهُمْ لِخِسَّةِ نُفُوسِهِمْ، وَضَعْفِ دِينِهِمْ كَالشَّيْءِ الْمُسْتَرْذَلِ الْمُسْتَقْذَرِ عِنْدَ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، وَكَأَنَّ الْأَرْضَ تَسْتَنْكِفُ عَنْهُمْ فَتَقْذِفُهُمْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُهُمْ فَيُبْعِدُهُمْ مِنْ مَظَانِّ رَحْمَتِهِ، وَمَحَلِّ كَرَامَتِهِ ; إِبْعَادَ مَنْ يَسْتَقْذِرُ الشَّيْءَ وَيَنْفِرُ عَنْهُ طَبْعُهُ، فَلِذَلِكَ مَنَعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ. وَثَبَّطَهُمْ قُعُودًا مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] فَقَوْلُهُ: (تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ) ، مِنَ التَّمْثِيلَاتِ

الْمُرَكَّبَةِ الَّتِي لَا طَلَبَ لِمُفْرَدَاتِهِ مُمَثَّلًا وَمُمَثَّلًا بِهِ مِثْلَ شَابَتْ لَمَّةُ اللَّيْلِ وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تَقْذَرُهُمْ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ قَذِرْتُ الشَّيْءَ بِالْكَسْرِ أَيْ: كَرِهْتُهُ، وَنَفْسُ اللَّهِ بِسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ: ذَاتُهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إِلَيْهِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَإِثْبَاتَ شَيْئَيْنِ، لَكِنَّهُ جَازَ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِبَارُ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ تَعَالَى اللَّهُ عَنِ الْإِثْنَوِيَّةِ وَمُشَابَهَتِهِ لِلْمُحْدَثَاتِ عُلُوًّا كَبِيرًا (تَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ) أَيْ: تُلَازِمُهُمُ النَّارُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَتَجْمَعُهُمْ مَعَ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ هُمْ بِاعْتِبَارِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، كَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ. (" تَبِيتُ ") ، أَيِ: النَّارُ (" مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ ") : بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: تَضْحَى وَتَظَلُّ النَّارُ (" مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا ") . أَيْ: أَضْحَوْا وَظَلُّوا، وَهُوَ مِنَ الْقَيْلُولَةِ وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ بِالنَّهَارِ، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنِفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِدَوَامِ الْمُلَازَمَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا أَوْ حَالٌ مِنْهُ، وَأَمَّا الْجُمَلُ السَّابِقَةُ فَكُلُّهَا مُسْتَأْنِفَةٌ أَجْوِبَةً لِلْأَسْئِلَةِ الْمُقَدَّرَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: النَّارُ هَاهُنَا الْفِتْنَةُ يَعْنِي تَحْشُرُهُمْ نَارُ الْفِتْنَةِ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، وَأَقْوَالِهِمْ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، لِكَوْنِهِمْ مُتَخَلِّقِينَ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي بُلْدَانِهِمْ، فَيَخْتَارُونَ جَلَاءَ أَوْطَانِهِمْ وَيَتْرُكُونَهَا، وَالْفِتْنَةُ تَكُونُ لَازِمَةً لَهُمْ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُمْ حَيْثُ يَكُونُونَ وَيَنْزِلُونَ وَيَرْحَلُونَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

6276 - وَعَنِ ابْنِ حَوَالَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَيَصِيرُ الْأَمْرُ أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً جُنْدٌ بِالشَّامِ وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ، فَقَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيَرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6276 - (وَعَنِ ابْنِ حَوَالَةَ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سَيَصِيرُ الْأَمْرُ ") ، أَيْ: أَمْرُ الْإِسْلَامِ أَوْ أَمْرُ الْقِتَالِ (" أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا ") ، أَيْ: عَسَاكِرَ (" مُجَنَّدَةً ") ، بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: مَجْمُوعَةً فِي كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مُخْتَلِفَةً فِي مُرَاعَاةِ الْأَحْكَامِ (" جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ ") ، أَيْ: عِرَاقُ الْعَرَبِ وَهُوَ الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ، أَوْ عِرَاقُ الْعَجَمِ وَهُوَ مَا وَرَاءَهَا دُونَ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ. (فَقَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: خِرْ لِي) : بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَمْرٌ مِنَ الْخِيَرَةِ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ، أَيِ: اخْتَرْ لِي جُنْدًا أَلْزَمُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ) ، أَيْ: ذَلِكَ الْوَقْتَ (فَقَالَ: " عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا ") أَيِ: الشَّامَ (خِيَرَةُ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَدْ يُسَكَّنُ أَيْ: مُخْتَارَةُ (اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ) أَيْ: مِنْ بِلَادِهِ فَفِيهَا خَيْرُ عِبَادِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِيرُ بِسُكُونِ الْيَاءِ الِاسْمُ مِنْ خَارَ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَهِيَ الِاسْمُ مِنْ قَوْلِكَ اخْتَارَ، وَمُحَمَّدٌ خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ اهـ. وَالْمَعْنَى اخْتَارَهَا اللَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ لِلْإِقَامَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (" يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيَرَتَهُ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ ثُمَّ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ فِي قَوْلِهِ: (" مِنْ عِبَادِهِ ") قَالَ شَارِحٌ: يَجْتَبِي يَفْتَعِلُ مِنْ جَبَوْتُ الشَّيْءَ، وَجَبَيْتُهُ: جَمَعْتُهُ، فَالْمَعْنَى يَجْمَعُ اللَّهُ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ الْمُخْتَارِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَجْتَبِي لَازِمًا أَيْ: يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا الْمُخْتَارُونَ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: خِيَرَتُهُ مَرْفُوعٌ بِأَنَّهُ فَاعِلُ يَجْتَبِي إِنْ كَانَ مِنَ الِاجْتِبَاءِ اللَّازِمِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الِاجْتِمَاعِ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ إِنْ كَانَ مِنَ الِاجْتِبَاءِ الْمُتَعَدِّي، وَهُوَ بِمَعْنَى الِاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِيَارِ اهـ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مِنَ الثَّانِي مُوَافَقَةً لِمَا وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 13] (" فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ ") ، أَيِ: امْتَنَعْتُمْ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى الشَّامِ (" فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا ") : بِهَمْزِ الْوَصْلِ وَيَجُوزُ قَطْعُهُ أَيْ: أَنْفُسَكُمْ وَدَوَابَّكُمْ (" مِنْ غُدَرِكُمْ ") بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ أَيْ: حِيَاضِكُمْ (" فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ ") ، أَيْ: تَكَفَّلَ (" لِي ") ، أَيْ: لِأَجْلِي وَإِكْرَامًا لِي فِي أُمَّتِي، وَقِيلَ صَوَابُهُ تَكَفَّلَ لِي أَيْ ضَمِنَ الْقِيَامَ (بِالشَّامِ) ، أَيْ: بِأَمْرِ الشَّامِ وَحِفْظِ أَهْلِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهُ:

فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ أَدْخَلَهُ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ، أَيِ: الْزَمُوا الشَّامَ وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهَا رَخَّصَ لَهُمْ فِي النُّزُولِ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا بُدِئَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الْيَمَنَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ الْعَرَبَ، وَالْيَمَنُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ لِيَسْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غُدَرِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ، وَالْأَجْنَادُ الْمُجَنَّدَةُ بِالشَّامِ، لَا سِيَّمَا أَهْلُ الثُّغُورِ وَالنَّازِلُونَ فِي الْمُرُوجِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَّخِذَ كُلُّ فِرْقَةٍ لِنَفْسِهَا غَدِيرًا تَسْتَنْقِعُ فِيهَا الْمَاءَ لِلشُّرْبِ وَالتَّطَهُّرِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ، فَوَصَّاهُمْ بِالسَّقْيِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِمْ وَتَرْكِ الْمُزَاحَمَةِ فِيمَا سِوَاهُ، وَالتَّغَلُّبِ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ وَتَهْيِيجِ الْفِتْنَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ قَوْلُهُ فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ وَارِدٌ عَلَى التَّأْنِيبِ وَالتَّغْيِيرِ، يَعْنِي أَنَّ الشَّامَ مُخْتَارَةُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَرْضِهِ، فَلَا يَخْتَارُهَا اللَّهُ لِخِيرَةِ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ أَيَّتُهَا الْعَرَبُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتَرْتُمْ بِلَادَكُمْ وَمَسْقَطَ رَأْسِكُمْ مِنَ الْبَوَادِي، فَالْزَمُوا يَمَنَكُمْ وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِهَا ; لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لَكُمْ مِنْ مِيَاهِ الْبَوَادِي. أَلَا تَرَى كَيْفَ جَمَعَ الضَّمِيرَيْنِ فِي الْقَرِينَتَيْنِ بَعْدَ إِفْرَادِهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّامَ أَوْلَى بِالِاخْتِيَارِ وَالْيَمَنَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَالْغُدَرُ جَمْعُ غَدِيرٍ وَهُوَ حُفْرَةٌ يُنْقَعُ فِيهَا الْمَاءُ، وَالْعَرَبُ أَكْثَرُ النَّاسِ اتِّخَاذًا لَهَا، وَلِذَلِكَ أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي سَائِرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ، وَالصَّوَابُ قَدْ تَكَفَّلَ لِي وَهُوَ سَهْوٌ إِمَّا فِي أَصْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، فَنُقِلَ عَلَى مَا وُجِدَ. قَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِالتَّوَكُّلِ التَّكَفُّلَ فَإِنَّ مَنْ تَوَكَّلَ فِي شَيْءٍ، فَقَدْ تَكَفَّلَ بِالْقِيَامِ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِي حِفْظَهَا وَحَفِظَ أَهْلِهَا مِنْ بَأْسِ الْكَفَرَةِ وَاسْتِيلَائِهِمْ بِحَيْثُ يَتَخَطَّفُهُمْ وَيُدَمِّرُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَقَوْلُهُ: لِي لَيْسَ بِصِلَةِ تَوَكَّلَ وَصِلَتُهُ إِمَّا: عَلَى أَوِ: الْبَاءُ وَلَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي أَيْ: تَوَكَّلَ بِالشَّامِ لِأَجْلِي، وَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: تَوَكَّلَ بِالْأَمْرِ إِذَا ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6277 - عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: «ذُكِرَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ عَلِيٍّ وَقِيلَ: الْعَنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الْأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا يُسْقَى بِهِمُ الْغَيْثُ وَيُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَسَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ الْعَذَابُ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6277 - (عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا حَضْرَمِيٌّ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَجُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَعَنْهُ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ. (قَالَ: ذُكِرَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، أَيْ: بِالسُّوءِ (وَقِيلَ: الْعَنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: لَا) ، أَيْ: لَا يَجُوزُ لَعْنُهُمْ، أَوْ لَا أَلْعَنُهُمْ (إِنِّي) : بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «الْأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا يُسْقَى بِهِمُ الْغَيْثُ» ") . أَيِ: الْمَطَرُ (أَوْ يُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ ") ، أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (" وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمْ ") . أَيْ: بِبَرَكَتِهِمْ أَوْ بِسَبَبِ وُجُودِهِمْ فِيهَا (" الْعَذَابُ ") . أَيِ: الشَّدِيدُ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ ثَلَاثَمِائَةِ نَفْسٍ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ آدَمَ، وَلَهُ أَرْبَعُونَ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مُوسَى، وَلَهُ سَبْعَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَهُ خَمْسَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ جِبْرِيلَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مِيكَائِيلَ، وَلَهُ وَاحِدٌ قَلْبُهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيلَ، كُلَّمَا مَاتَ الْوَاحِدُ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْخَمْسَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ مِنَ الْخَمْسَةِ وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ السَّبْعَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ السَّبْعَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَرْبَعِينَ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْعَامَّةِ بِهِمْ يُدْفَعُ الْبَلَاءُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَمْ يَذْكُرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَحَدًا عَلَى قَلْبِهِ إِذْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِي عَالَمَيِ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ أَعَزَّ وَأَشْرَفَ وَأَلْطَفَ مِنْ قَلْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُسَاوِيهِ وَلَا يُحَاذِيهِ قَلْبُ أَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، سَوَاءٌ كَانُوا أَبْدَالًا أَوْ أَقْطَابًا.

قَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ السَّيْمَتَانِيُّ فِي كِتَابِ الْعُرْوَةِ لَهُ: وَالْبَدَلُ مِنَ الْبُدَلَاءِ السَّبْعَةِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: هُوَ مِنَ السَّبْعَةِ وَسَيِّدُهُمْ، وَكَانَ الْقُطْبُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ عِصَامًا، فَحَرِيٌّ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَأَجِدُ نَفْسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، وَهُوَ مَظْهَرٌ خَاصٌّ لِلتَّجَلِّي الرَّحْمَانِيِّ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَظْهَرًا خَاصًّا لِلتَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ الْمَخْصُوصِ بِاسْمِ الذَّاتِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ بِالنَّقْلِ أَوِ الْكَشْفِ يَشْكُلُ بِأَنَّهُ كَيْفَ تَكُونُ الْقُطْبِيَّةُ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْإِجْمَاعِ؟ مَعَ أَنَّ عِصَامًا هَذَا لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ لَا فِي الصَّحَابَةِ وَلَا فِي التَّابِعِينَ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَيْرُ التَّابِعِينَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ» " عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ الْيَافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ عَنْهُ قَالَ: وَقَدْ سُتِرَتْ أَحْوَالُ الْقُطُوبِ هُوَ الْغَوْثُ عَنِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ غِيرَةً مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ.

6278 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَتُفْتَحُ الشَّامُ فَإِذَا خُيِّرْتُمُ الْمُنَازِلَ فِيهَا فَعَلَيْكُمْ بِمَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ فَإِنَّهَا مَعْقِلُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَلَاحِمِ وَفُسْطَاطُهَا مِنْهَا أَرْضٌ يُقَالُ لَهَا الْغُوطَةُ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6278 - (وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ) تَقَدَّمَ أَنَّ جَهَالَةَ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ وَمَرَاسِيلَهُمْ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " سَتُفْتَحُ الشَّامُ ") أَيْ: بِلَادُهَا (" فَإِذَا خَيَّرْتُمُ الْمَنَازِلَ فِيهَا، فَعَلَيْكُمْ بِمَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ) بِكَسْرِ الدَّالِّ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَهُوَ الْآنَ مَشْهُورٌ بِالشَّامِ (فَإِنَّهَا) أَيْ: مَدِينَةُ دِمَشْقٍ (مَعْقِلُ الْمُسْلِمِينَ) : بِفَتْحِ مِيمٍ فَكَسْرِ قَافٍ أَيْ: مَلَاذُهُمْ (" مِنَ الْمَلَاحِمِ ") : بِفَتْحِ مِيمٍ وَكَسْرِ حَاءٍ جَمْعُ الْمَلْحَمَةِ وَهِيَ الْحَرْبُ وَالْقِتَالُ، وَالْمَعْنَى يَتَحَصَّنُ الْمُسْلِمُونَ وَيَلْتَجِؤُونَ إِلَيْهَا كَمَا يَلْتَجِئُ الْوَعْلُ إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ (" وَفُسْطَاطُهَا ") ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَقَدْ يُكْسَرُ، وَهُوَ الْبَلْدَةُ الْجَامِعَةُ لِلنَّاسِ (" وَمِنْهَا ") ، أَيْ: مِنْ أَرَاضِي دِمَشْقَ (" أَرْضٌ يُقَالُ لَهَا ") . أَيْ: لِتِلْكَ الْأَرْضِ (" الْغُوطَةُ ") : بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهِيَ اسْمُ الْبَسَاتِينِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي عِنْدَ دِمَشْقَ، وَيُقَالُ لَهَا غُوطَةُ دِمَشْقَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جِنَانُ الدُّنْيَا أَرْبَعٌ: غُوطَةٌ وَمَشْعَرُ نَهْرِ الْإِيلِ، وَشِعْبُ كَدَانَ، وَسَمَرْقَنْدُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ: رَأَيْتُ كُلَّهَا وَفَضْلُ الْغُوطَةِ عَلَى الثَّلَاثِ كَفَضْلِ الْأَرْبَعِ عَلَى غَيْرِهَا. (رَوَاهُمَا) ، أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (أَحْمَدُ) . أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ.

6279 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6279 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْخِلَافَةُ) أَيِ: الْحَقَّةُ (بِالْمَدِينَةِ) أَيْ: غَالِبًا لِكَوْنِ عَلِيٍّ فِي الْكُوفَةِ زَمَنَ خِلَافَتِهِ أَوِ الْخِلَافَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ بِالْمَدِينَةِ (وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ) وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْحَسَنِ لَمْ يَصِرْ خَلِيفَةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَفِينَةَ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ» .

6280 - وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأَيْتُ عَمُودًا مِنْ نُورٍ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي سَاطِعًا حَتَّى اسْتَقَرَّ بِالشَّامِ» رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6280 - (وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَأَيْتُ عَمُودًا ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيِ: اسْطُوَانَةً (" مِنْ نُورٍ ") : وَلَعَلَّهُ أَمْرُ الْخِلَافَةِ الْمُشَبَّهُ بِالْعَمُودِ فِي أَنَّهُ عِمَادُ بِنَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِحْكَامِ ثَبَاتِ الْأَحْكَامِ (" خَرَجَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي سَاطِعًا ") ، أَيْ: رَافِعًا لَامِعًا وَاصِلًا أَثَرُهُ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ (" حَتَّى اسْتَقَرَّ ") ، أَيْ: ثَبَتَ ذَلِكَ الْعَمُودُ وَاسْتَمَرَّ (" بِالشَّامِ رَوَاهُمَا ") . أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) : وَوَافَقَهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

6281 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6281 - (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ ") ، أَيْ: مَكَانَ الْفِئَةِ مِنْهُمْ (يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

6282 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: «سَيَأْتِي مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ فَيَظْهَرُ عَلَى الْمَدَائِنِ كُلِّهَا إِلَّا دِمَشْقَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6282 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ) ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ قَالَ: سَيَأْتِي مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ، فَيَظْهَرُ) ، أَيْ: يَغْلِبُ (عَلَى الْمَدَائِنِ) ، أَيِ: الْبُلْدَانِ (كُلِّهَا) ، أَيْ: جَمِيعِهِا (إِلَّا دِمَشْقَ) ، أَيْ: إِلَّا مَدِينَةَ دِمَشْقَ الشَّامِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

[باب ثواب هذه الأمة]

[بَابُ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6283 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلَا فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ أَلَا لَكُمُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَهَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَيِ: الطَّائِفَةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْإِجَابَةِ وَالْمُتَابَعَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، فَفِي التَّنْقِيحِ الْمُبْتَدَعِ: لَيْسَ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ الْمُطْلَقَةِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ طَرِيقَتُهُمْ كَطَرِيقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، دُونَ أَهْلِ الْبِدَعِ. قَالَ صَاحِبُ التَّلْوِيحِ: لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، فَهُوَ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ دُونَ الْمُتَابَعَةِ كَالْكُفَّارِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6283 - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّمَا أَجَلُكُمْ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَجَلُ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} [غافر: 67] وَيُقَالُ لِلْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ أَجَلٌ، فَيُقَالُ: دَنَا أَجَلُهُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ مِنْ دُنُوِّ الْمَوْتِ، وَأَصْلُهُ اسْتِيفَاءُ الْأَجَلِ أَيْ: مُدَّةُ الْحَيَاةِ، وَالْمَعْنَى مَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، إِلَّا مِقْدَارُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مِنَ الزَّمَانِ اهـ. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأَجَلَ تَارَةً يُعَبِّرُ عَنْ جَمِيعِ الْوَقْتِ الْمَضْرُوبِ لِلْعُمُرِ، سَوَاءٌ يَكُونُ مُعَلَّقًا أَوْ مُبْرَمًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَضَيَ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] وَتَارَةً يُطْلَقُ عَلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَآخِرِهَا، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ هُنَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، فَالْمَعْنَى. إِنَّمَا مُدَّةُ أَعْمَارِكِمُ الْقَلِيلَةِ. فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ، أَيْ: فِي جَنْبِ آجَالِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ الْكَثِيرَةِ (" مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ ") أَيْ: مِثْلَ مَا بَيْنَهُمَا فِي جَنْبِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ، أَوْ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ، لَا مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ لِلْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ الْآتِي، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مُدَّتَكُمْ فِي الْعَمَلِ قَلِيلَةٌ وَأُجْرَتَكُمْ كَثِيرَةٌ عَلَى قِيَاسِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَثَلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (" وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ") ، أَيْ: مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (" كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا ") : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ جَمْعُ عَامِلٍ أَيْ: طَلَبَ مِنْهُمُ الْعَمَلَ (" فَقَالَ ") ، أَيْ: عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ (" مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ ") : وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ.

الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا، فَالْمُرَادُ بِالنَّهَارِ الْعُرْفِيِّ لِأَنَّهُ عَرِفَ عَمَلَ الْعُمَّالِ (" عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ") ، أَيْ: نِصْفِ دَانِقٍ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَقِيلَ: الْقِيرَاطُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الدِّينَارِ وَهُوَ نِصْفُ عَشَرَةٍ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَالْيَاءُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الرَّاءِ كَمَا أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ النُّونِ فِي الدِّينَارِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَمَعُهُمَا عَلَى دَنَانِيرَ وَقَرَارِيطَ، وَكَرَّرَ قِيرَاطَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِيرَاطٌ، لَا أَنَّ مَجْمُوعَ الطَّائِفَةِ قِيرَاطٌ (" فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ ") ، أَيْ: أَتْبَاعُ مُوسَى السَّابِقِ فِي الزَّمَانِ (" إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ ") ، أَيِ: الرَّجُلُ الْمُسْتَعْمِلُ لِلْعُمَّالِ (" مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى ") ، أَيْ: أَتْبَاعُ عِيسَى بَعْدَ الْيَهُودِ (" مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ: أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" فَأَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ ") : بِالْخِطَابِ وَيُلَائِمُهُ مَا فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْغَيْبَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِيرَادِ الْمَوْصُولِ أَيْ: فَأَنْتُمْ مَثَلُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ، أَوْ فَأَنْتُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مَثَلًا (" مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" لَكُمُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ ") ، أَيْ: مِثْلَيْ مَا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَأَنَّهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] (فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ صَدَّقُوا بِنَبِيِّهِمْ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِيَةِ أَيْضًا (" فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَعْمَالًا وَأَقَلُّ عَطَاءً ") ، أَيْ: قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ثَوَابًا كَثِيرًا مَعَ قِلَّةِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَعْطَيْتَنَا ثَوَابًا قَلِيلًا مَعَ كَثْرَةِ أَعْمَالِنَا، وَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ حَكَى عَنْهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ، أَوْ صَدَرَ عَنْهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ لَمَّا اطَّلَعُوا عَلَى فَضَائِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كُتُبِهِمْ، أَوْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِمْ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لِلْأَعْمَالِ لَيْسَ عَلَى قَدْرِ التَّعَبِ، وَلَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَارِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ لِخِدْمَتِهِ أُجْرَةً، بَلِ الْمَوْلَى يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْعَبِيدِ عَلَى وَجْهِ الْمَزِيدِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ هَذَا تَخْيِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لَا أَنْ ثَمَّةَ مُقَاوَلَةٌ وَمُكَالَمَةٌ حَقِيقَةً، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِهَا عِنْدَ إِخْرَاجِ الذَّرِّ فَيَكُونُ حَقِيقَةً اهـ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ عُلَمَاؤُنَا تَقْوِيَةً لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ أَوَّلَ الْعَصْرِ بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ النَّصَارَى أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: مِنَ الزَّوَالِ إِلَى صَيْرُورَةِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَيَتَحَقَّقُ كَوْنُ النَّصَارَى أَكْثَرَ عَمَلًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْحُسَّابُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ تَفَاوُتٌ يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ أَوْ لِأَكْثَرِهِمْ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْفِقْهِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاعْتِبَارَاتِ الْغَالِبِيَّةِ، فَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ أَكْثَرَ عَمَلًا أَكْثَرُ زَمَانًا لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْعَمَلِ أَكْثَرَ فِي الزَّمَانِ الْأَقَلِّ، فَأَقُولُ: هَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ مَعَارَضٌ بِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْعَمَلِ أَقَلَّ فِي الزَّمَانِ الْأَكْثَرِ، فَإِذَا تَعَارَضَ الِاحْتِمَالَانِ الْعَقْلِيَّانِ تَسَاقَطَا، وَالْعُرْفُ حَاكِمٌ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ أَنَّ الزَّمَانَ مِعْيَارٌ لِلْعَمَلِ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ الْأَكْثَرُ فِي الزَّمَنِ الْأَزْيَدِ، وَكَذَا عَكْسُهُ مَعَ أَنَّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ دَلَالَةً عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمِعْيَارِ. (" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَهَلْ ظَلَمْتُكُمْ) ، أَيْ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ (" مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا ") ؟ مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مُطْلَقٌ (" قَالُوا ") ، أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابِ (" لَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُ ") ، أَيِ: الشَّأْنُ (فَضْلِي) ، أَيْ: عَطَائِي الزَّائِدُ (أَعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ ") :

أَوِ التَّقْدِيرُ، فَإِنَّ الْعَطَاءَ الْكَثِيرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِالسِّيَاقِ فَضْلِي. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ مَعَهُمْ شَرْطًا، وَقَبِلُوا أَنْ يَعْمَلُوا بِهِ، فَكَانَ فَضْلُهُ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْيَهُودِ شَرْطُهُ فِي زَمَانٍ أَقَلَّ مِنْ زَمَانِهِمْ، مَعَ أَنَّهُمَا فِي الْأُجْرَةِ مُتَسَاوِيَانِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَمُدَّةُ عَمَلِهِمْ أَقَلُّ مَعَ ضِعْفِ الْأُجْرَةِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ اهـ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُمَا فِي الْأُجْرَةِ مُتَسَاوِيَانِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمُمَثَّلِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ مِنْ مُتَابَعَةِ الْكِتَابِيِّينَ وَالنَّبِيِّينَ دُونَ الْكُفَّارِ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ شَيْءٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّصَارَى حَيْثُ آمَنُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ لَهُمْ مِنَ الْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى مَا لَيْسَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ إِيمَانُهُمْ بِكِتَابِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ فَقَطْ، كَمَا حُقِّقَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ} [القصص: 54] فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَكْرَارَ الْأَجْرِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْكِتَابِيِّ إِذَا دَخَلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ آيَةِ {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ - أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ} [القصص: 28 - 54] وَمِنْ حَدِيثِ ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُوَضِّحُهُ مَا فِي تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ بِسَنَدِهِ مَرْفُوعًا، قَالَ: مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنَا وَمَا عَمِلْنَاهُ بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا فَأَبَوْا وَتَرَكُوا وَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا آخَرِينَ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالُوا: مَا عَمِلْنَاهُ بَاطِلٌ، وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَأَبَوْا وَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّورِ. هَذَا يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي تَوْقِيتِ الْعَمَلِ مِنَ النَّهَارِ وَتَقْدِيرِ الْأُجْرَةِ، فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَطْعُ الْأُجْرَةَ لِكُلِّ فَرِيقٍ قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَتَوْقِيتُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمْ زَمَانًا زَمَانًا، وَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُمْ وَإِيفَاؤُهُمُ الْأُجْرَةَ، وَفِيهِ قَطْعُ الْخُصُومَةِ وَزَوَالُ الْعَنَتِ عَنْهُمْ، وَإِبْرَاؤُهُمْ مِنَ الذَّنْبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى الرَّاوِي مِنْهُ بِذِكْرِ مَآلِ الْعَاقِبَةِ فِيمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفِرَقِ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ: أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِيْنَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَبْلَغَ الْأُجْرَةِ لِلْيَهُودِ لِعَمَلِ النَّهَارِ كُلِّهِ قِيرَاطَانِ، وَأُجْرَةَ النَّصَارَى لِلنِّصْفِ الْبَاقِي قِيرَاطَانِ، فَلَمَّا عَجَزُوا عَنِ الْعَمَلِ قَبْلَ تَمَامِهِ لَمْ يُصِيبُوا إِلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ، فَأُعْطُوا عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ وَهُوَ قِيرَاطٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اسْتَوْفَوْا قَدْرَ أُجْرَةِ الْفَرِيقَيْنِ حَاسَدُوهُمْ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا اهـ. وَبِالْجُمْلَةِ فَيَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ زَمَنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقَلُّ مِنْ زَمَنِ النَّصَارَى، كَمَا أَنَّ زَمَنَ النَّصَارَى أَقَلُّ مِنْ زَمَنِ الْيَهُودِ، عَلَى أَنَّ دِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُتَّصِلٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ لَا يَنْسَخُهُ نَاسِخٌ.

6284 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6284 - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ ") ، أَيْ: أَنَّهُ يَعْنِي الشَّأْنَ، وَقَدْ رَوَى صَاحِبُ الْمَشَارِقِ فِي أَنْوَاعٍ شَتَّى بِحَذْفِ إِنَّ، وَكَذَا هُوَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: (" مَنْ أَشَدُّ أُمَّتِي لِي حُبًّا ") ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ (" نَاسٌ ") : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: (" يَكُونُونَ بَعْدِي ") ، أَيْ: يُوجَدُونَ بَعْدَ فَوْتِي (" يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي ") ، أَيْ: يَتَمَنَّى أَنْ رَآنِي (" مُفْدِيًا بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ ") . قَالَ الْمُظْهِرُ: الْبَاءُ فِي بِأَهْلِهِ بَاءُ التَّعْدِيَةِ كَمَا

وَفِي قَوْلِهِ بِأَنْتَ وَأَبِي يَعْنِي يَتَمَنَّى أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ يَفْدِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ لَوِ اتَّفَقَ رُؤْيَتُهُمْ وَوُصُولُهُمْ إِلَيَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ هَاهُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] فَلَا بُدَّ لِيَوَدُّ مِنْ مَفْعُولٍ، فَلَوْ مَعَ مَا بَعْدَهُ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ وَيُحِبُّ مَا يُلَازِمُ قَوْلَهُ: لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ أَيْ يَفْدِي أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيَرَانِي، فَقُلْتُ: الْأَظْهَرُ كَلَامُ الْمُظْهِرِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَنَّ " لَوْ " هُنَا حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ بِمَنْزِلَةِ إِنَّ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَنْصِبُ وَأَكْثَرُ وُقُوعِ هَذِهِ بَعْدَ وَدَّ أَوْ يَوَدُّ نَحْوَهُ: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ - وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ - يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 89 - 96] قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يُثْبِتْ وُرُودَ " لَوْ " الْمَصْدَرِيَّةِ وَالَّذِي أَثْبَتَهُ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو الْبَقَاءِ وَالتِّبْرِيزِيُّ وَابْنُ مَالِكٍ، وَيَقُولُ الْمَانِعُونَ فِي نَحْوِ: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96] أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَّ مَفْعُولَ يَوَدُّ وَجَوَابَ " لَوْ " مَحْذُوفَانِ، وَالتَّقْدِيرُ يَوَدُّ أَحَدُهُمُ التَّعْمِيرَ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ لَسَرَّهُ ذَلِكَ، وَلَا خَفَاءَ فِيمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

6285 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَذُكِرَ حَدِيثُ أَنَسٍ إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6285 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا تَزَالُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَوْقِيَّةِ (" مِنْ أُمَّتِي ") ، أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ أُمَّتِي بِالْإِجَابَةِ (" أُمَّةٌ ") ، أَيْ: طَائِفَةٌ (" قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ ") ، أَيْ: بِأَمْرِ دِينِهِ وَأَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ مِنْ حِفْظِ الْكِتَابِ وَعِلْمِ السُّنَّةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُمَا، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالنَّصِيحَةِ لِخَلْقِهِ وَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] (" لَا يَضُرُّهُمْ ") ، أَيْ: لَا يَضُرُّ دِينَهُمْ وَأَمْرَهُمْ (" مَنْ خَذَلَهُمْ ") ، أَيْ: مَنْ تَرَكَ عَوْنَهُمْ وَنَصْرَهُمْ، بَلْ ضَرَّ نَفْسَهُ وَظَلَمَ عَلَيْهَا بِإِسَاءَتِهَا (" وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ ") ، أَيْ: لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ (" حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ ") ، أَيْ: مَوْتُهُمْ أَوِ انْقِضَاءُ عَهْدِهِمْ (" وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ") . أَيْ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ لَا يَخْلُو مِنَ الصُّلَحَاءِ الثَّابِتِينَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ الْمُتَبَاعِدِينَ عَنْ نَوَاهِيهِ حَافِظِينَ لِأُمُورِ الشَّرِيعَةِ يَسْتَوِي عِنْدَهُمْ مُعَاوَنَةُ النَّاسِ وَمُخَالَفَتُهُمْ إِيَّاهُمْ، وَفَسَّرَ شَارِحٌ أَمْرَ اللَّهِ بِالْقِيَامَةِ، وَيَشْكُلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ» ". وَقَالَ شَارِحٌ: قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ أَيْ مُتَمَسِّكَةٌ بِدِينِهِ، قِيلَ: هُمُ الْأُمَّةُ الْقَائِمَةُ بِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَحِفْظِ الْحَدِيثِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُقِيمُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ الْمُدِيمُونَ لَهُ مِنْ قَامَ الشَّيْءُ دَامَ، وَالْبَاءُ فِي بِأَمْرِ اللَّهِ بِمَعْنَى " مَعَ " أَوْ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: دَائِمَةٌ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ أَوْ مُدِيمَةٌ إِيَّاهُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ شَوْكَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تَزُولُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ ضَعْفَ أَمْرِهِ فِي قُطْرٍ قَوِيَ وَعَلَا فِي قُطْرٍ آخَرَ وَقَامَ بِإِعْلَائِهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأُمَّةُ الْقَائِمَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنِ اخْتُلِفَ فِيهَا فَإِنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ مِنَ الْأَقَاوِيلِ أَنَّهَا الْفِئَةُ الْمُرَابِطَةُ بِثُغُورِ الشَّامِ نَضَّرَ اللَّهُ بِهِمْ وَجْهَ الْإِسْلَامِ، لِمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُمْ بِالشَّامِ، وَفِي بَعْضِهَا حَتَّى تُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، وَفِي بَعْضِهَا قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَّى هُمْ؟ قَالَ: " بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ". فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الشَّامِ، وَقَدْ عَاشَتِ الذِّئَابُ فِي الْقَطِيعِ، وَعَبَرَتِ الْجُنُودُ الْعَاتِيَةُ عَنِ الْفُرَاتِ، وَأَبَاحَتْ عَلَى مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْبَلَاءِ كَنَبِيحَ وَسَرُوجَ وَحَلَبَ وَمَا حَوَالَيْهَا قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا يَضُرُّهُمْ كُلَّ الضَّرَرِ، وَقَدْ أَضَرَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ أُحُدٍ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمَّا كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، مَعَ أَنَّ الْفِئَةَ الْمَوْعُودَةَ لَهُمْ بِالنَّصْرِ هُمُ الْجُيُوشُ الْغَازِيَةُ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَى الْيَوْمِ غَضَاضَةٌ وَلَا هَوَانٌ، بَلْ كَانَ لَهُمُ النُّصْرَةُ وَعَلَى عَدُوِّهِمُ الدَّبْرَةُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - كَذَا قَالَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْمُغِيرَةِ وَلَفْظُهُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَوَّامَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عُمَرَ وَلَفْظُهُ: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ". وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، أَيْ: مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي 6286 - عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّانِي 6286 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، أَيْ فِي حُكْمِ إِبْهَامِ إِفْرَادِ الْجِنْسِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ، أَيْ: أَوَائِلُ الْمَطَرِ أَوِ الْمَطَرُ الْأَوَّلُ خَيْرٌ، أَيْ: أَنْفَعُ أَمْ آخِرُهُ. أَيْ أَوَاخِرُهُ أَوِ الْمَطَرُ الْآخَرُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى التَّرَدُّدِ فِي فَضْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنَّ الْقَرْنَ الْأَوَّلَ هُمُ الْمُفَضَّلُونَ عَلَى سَائِرِ الْقُرُونِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَفِي الرَّابِعِ اشْتِبَاهٌ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمْ نَفْعُهُمْ فِي بَثِّ الشَّرِيعَةِ وَالذَّبِّ عَنِ الْحَقِيقَةِ. قَالَ الْقَاضِي: نَفَى تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِتَفَاوُتِ طَبَقَاتِ الْأُمَّةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَ التَّفَاوُتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] أَيْ بِمَا لَيْسَ فِيهِنَّ كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ يَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَخْفَى، وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ بِخَاصِّيَّةٍ وَفَضِيلَةٍ تُوجِبُ خَيْرِيَّتَهَا، كَمَا أَنَّ كُلَّ - نَوْبَةٍ مِنْ نُوَبِ الْمَطَرِ لَهَا فَائِدَةٌ فِي النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ لَا يُمْكِنُكَ إِنْكَارُهَا وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ نَفْعِهَا، فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ آمَنُوا بِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَتَلَقَّوْا دَعْوَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِجَابَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالْآخَرِينَ آمَنُوا بِالْغَيْبِ لِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَاتَّبَعُوا مَنْ قَبْلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ اجْتَهَدُوا فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّمْهِيدِ، فَالْمُتَأَخِّرُونَ بَذَلُوا وُسْعَهُمْ فِي التَّلْخِيصِ وَالتَّجْرِيدِ وَصَرَفُوا عُمُرَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ فَكُلُّ ذَنْبِهِمْ مَغْفُورٌ وَسَعْيِهِمْ مَشْكُورٌ وَأَجْرِهِمْ مَرْفُوعٌ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَمَا لَا يُحْكَمُ بِوُجُودِ النَّفْعِ فِي بَعْضِ الْأَمْطَارِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَذَا لَا يُحْكَمُ بِوُجُودِ الْخَيْرِيَّةِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ دُونَ بَعْضٍ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، إِذِ الْحَيْثِيَّاتُ مُخْتَلِفَةُ الْكَيْفِيَّاتِ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، وَمَعَ هَذَا فَالْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ، وَإِنَّمَا هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلْمُتَأَخِّرِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ بَابَ اللَّهِ مَفْتُوحٌ، وَطَلَبَ الْفَيْضِ مِنْ جَنَابِهِ مَفْسُوحٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَمْثِيلُ الْأُمَّةِ بِالْمَطَرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَا أَنَّ تَمْثِيلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَيْثَ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ، فَتَخْتَصُّ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُشَبَّهَةُ بِالْمَطَرِ بِالْعُلَمَاءِ الْكَامِلِينَ مِنْهُمْ وَالْمُكَمَّلِينَ لِغَيْرِهِمْ، فَيَسْتَدْعِي هَذَا التَّفْسِيرُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ النَّفْعُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْمُسَاوَاةُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى الْخَيْرِيَّةِ، فَالْمُرَادُ وَصْفُ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً سَابِقُهَا وَلَاحِقُهَا، وَأَوَّلُهَا وَآخِرُهَا بِالْخَيْرِ، وَأَنَّهَا مُلْتَحِمَةٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ مَرْصُوصَةٌ بِالْبُنْيَانِ مُفَرَّغَةٌ كَالْحَلَقَةِ الَّتِي لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا، وَفِي أُسْلُوبِ هَذَا الْكَلَامِ قَوْلُ الْأَنْمَارِيَّةِ: هُمْ كَالْحَلَقَةِ الْمُفَرَّغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا، تُرِيدُ الْمُكَمَّلَةَ، وَيَلْمَحُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنِ الْخِيَارَ مِنَ الْقَبَائِلِ وَاحِدٌ ... وَبَنُو حَنِيفَةَ كُلُّهُمْ أَخْيَارُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ فِي الْخَيْرِيَّةِ، بِحَيْثُ أُبْهِمَ أَمْرُهَا فِيهَا وَارْتَفَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ سَوْقِ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ غَيْرِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ: تَشَابَهَ يَوْمَاهُ عَلَيْنَا فَأَشْكَلَا ... فَمَا نَحْنُ نَدْرِي أَيَّ يَوْمِهِ أَفْضَلُ أَيَوْمُ بَدَاءِ الْعُمُرِ أَمْ يَوْمُ يَأْسِهِ ... وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ وَمِنَ الْمَعْلُومِ عِلْمًا جَلِيًّا أَنَّ يَوْمَ بَدَاءَةِ الْعُمُرِ أَفْضَلُ مِنْ يَوْمِ يَأْسِهِ، لَكِنَّ الْبَدْءَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَكْمُلُ إِلَّا بِالْيَأْسِ أُشْكِلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، قَالَ: مَا قَالَ، وَكَذَا أَمْرُ الْمَطَرِ وَالْأُمَّةِ. اهـ. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ كُلَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْخَيْرِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لِكَوْنِ نَبِيِّهَا نَبِيَّ الرَّحْمَةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ انْحَصَرَ فِي سَابِقِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ الشَّرُّ فِي لَاحِقِهِمْ حَيْثُ بَدَّلُوا كُتُبَهُمْ وَحَرَّفُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهُمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَلْمَانَ، فَقَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي فَتْوَاهُ ضَعِيفٌ مُتَعَقَّبٌ، وَقَدْ يُصَحِّحُ كَلَامَهُ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، لَكِنْ فِي عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ يُنَافِيهِ الْإِطْلَاقُ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: حَدِيثٌ، «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ لَهُ طُرُقٌ قَدْ يُرْتَقَى بِهَا إِلَى الصِّحَّةِ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَبُو يَعْلَى عَنْ عَلِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6287 - عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَبْشِرُوا وَأَبْشِرُوا إِنَّمَا مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْغَيْثِ لَا يُدْرَى آخِرُهُ خَيْرٌ أَمْ أَوَّلُهُ أَوْ كَحَدِيقَةٍ أُطْعِمَ مِنْهَا فَوْجٌ عَامًا ثُمَّ أُطْعِمَ مِنْهَا فَوْجٌ عَامًا لَعَلَّ آخِرَهَا فَوْجًا أَنْ يَكُونَ أَعْرَضَهَا وَأَعْمَقَهَا عُمْقًا وَأَحْسَنَهَا حُسْنًا كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا وَالْمَهْدِيُّ وَسَطُهَا وَالْمَسِيحُ آخِرُهَا وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ فَيْجٌ أَعْوَجُ لَيْسُوا مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُمْ» . رَوَاهُ رَزِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْفَصْلُ الثَّالِثُ 6287 - (عَنْ جَعْفَرٍ) ، أَيِ الصَّادِقِ (عَنْ أَبِيهِ) ، أَيْ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ (عَنْ جَدِّهِ) ، أَيْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَيُسَمَّى مِثْلُ هَذَا السَّنَدِ سِلْسِلَةَ الذَّهَبِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبْشِرُوا ") : مِنَ الْإِبْشَارِ، فَفِي الْقَامُوسِ: أَبْشَرَ فَرِحَ، وَمِنْهُ أَبْشِرْ بِخَيْرٍ (" وَأَبْشِرُوا ") ، كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ أَحَدُهُمُا لِلدُّنْيَا وَالْآخَرُ لِلْأُخْرَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بِمَعْنَى بَشِّرُوا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، (" إِنَّمَا مَثَلُ أُمَّتِي ") : أَيْ أَفْرَادُ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ (" مَثَلُ الْغَيْثِ ") ، أَيْ مَثَلُ أَنْوَاعِ الْمَطَرِ فِي حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ (" لَا يُدْرَى آخِرُهُ خَيْرٌ أَمْ أَوَّلُهُ ") ؟ وَلَعَلَّ عَكْسُ التَّرْتِيبِ هُنَا لِإِفَادَةِ زِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ (" أَوْ كَحَدِيقَةٍ ") : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوِ التَّخْيِيرِ، وَالْمَعْنَى كَمَثَلِ بُسْتَانٍ ذِي أَشْجَارٍ ذَاتِ أَثْمَارٍ شَبَّهَ بِهِ الدِّينَ بِاعْتِبَارِ شَرَائِعِهِ وَأَرْكَانِهِ وَشُعَبِهِ وَأَغْصَانِهِ (" أُطْعِمَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ انْتَفَعَ (مِنْهَا) ، أَيْ: مِنْ بَعْضِهَا (" فَوْجٌ ") ، أَيْ: جَمْعٌ (" عَامًا ") ، أَيْ سَنَةً (ثُمَّ أُطْعِمَ مِنْهَا) ، أَيْ: مِنْ بَعْضِهَا الْآخَرِ (" فَوْجٌ عَامًا، لَعَلَّ آخِرَهَا فَوْجًا ") : مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ (" أَيْ يَكُونُ ") ، أَيْ: آخِرُهَا (" أَعْرَضَهَا عَرْضًا وَأَعْمَقَهَا عُمْقًا، وَأَحْسَنَهَا حُسْنًا) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ يَكُونُ، وَجَوَّزَ الطِّيبِيُّ رَفْعَهَا كَمَا سَيَأْتِي لَكِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ (" كَيْفَ تَهْلَكُ أُمَّةٌ ") ، أَيْ: بِالْكُلِّيَّةِ (" أَنَا أَوَّلُهَا وَالْمَهْدِيُّ وَسَطُهَا، بِفَتْحِ السِّينِ وَيُسَكَّنُ (" وَالْمَسِيحُ ") ، أَيْ: عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (" آخِرُهَا ") ، أَيْ آخِرُ الْأُمَّةِ (" وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ ") ، أَيْ: بَيْنَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِهَا وَأَوْسَطِهَا الْمُتَّصِلِ بِآخِرِهَا (" فَيْجٌ ") : بِفَتْحِ فَاءٍ وَسُكُونِ يَاءٍ فَجِيمٍ أَيْ فَوْجٍ (أَعْوَجٌ) : وَأُفْرِدَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْفَوْجِ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: الْفَيْجُ الْجَمَاعَةُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ فَيُجْمَعُ عَلَى فُيُوجٍ وَأَفْيَاجٍ كَبُيُوتٍ وَأَبْيَاتٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ فَيْجٍ فَيِّجٌ بِالتَّشْدِيدِ لَكِنَّهُ خُفِّفَ كَمَا قِيلَ فِي هَيِّنٍ هَيْنٌ (" لَيْسُوا ") ، أَيْ: ذَلِكَ الْفَوْجُ وَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى (" مِنِّي ") ، أَيْ: مُتَّصِلًا بِي وَمُتَّبِعًا لِي وَمِنْ أَتْبَاعِي وَأَحْبَابِي (" وَلَا أَنَا مِنْهُمْ ") . بَلْ أَنَا مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ وَغَيْرُ رَاضٍ عَنْهُمْ بِفِسْقِهِمْ هَذَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: أَوْ حَدِيقَةٌ أَوْ هَذَا مَثَلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] لِلتَّسَاوِي فِي غَيْرِ الشَّكِّ، كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ يُرِيدُ أَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي اسْتِصْوَابِ أَنْ يُجَالَسَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ كَيْفِيَّةَ صِفَةِ أُمَّتِي مُشَبَّهَةٌ بِكَيْفِيَّةِ الْمَطَرِ وَالْحَدِيقَةِ، وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِوَجْهِ التَّمْثِيلِ قِيَامُهَا مِثْلُهَا فَأَنْتَ مُصِيبٌ فِي تَمْثِيلِهَا بِهِمَا جَمِيعًا. فَإِنْ قُلْتَ، أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التَّمْثِيلَيْنِ؟ قُلْتُ: شُبِّهَتِ الْأُمَّةُ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ بِالْمَطَرِ فِي نَفْعِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَفِي الثَّانِي بِالِاسْتِنْفَاعِ مِنْ عِلْمِ الرَّسُولِ وَهُدَاهُ فِي إِنْبَاتِهِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَحُصُولَ الْأَخَّاذَاتِ، ثُمَّ انْتِفَاعَ النَّاسِ مِنْهُمَا بِالرَّعْيِ وَالسَّقْيِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْفَوْجِ أَيْ: أُطْعِمَ مِنَ الْحَدِيقَةِ عَامًا، وَالْحَدِيقَةُ كُلُّ مَا أَحَاطَ بِهِ الْبِنَاءُ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَغَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكُونَ خَبَرُ لَعَلَّ وَأُدْخِلَ فِيهِ أَنَّ تَشْبِيهًا لِلَعَلَّ بِعَسَى، وَاسْمُ يَكُونُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى آخِرِهَا، وَأَعْرَضَهَا خَبَرُهُ، وَوَصْفُ الْأُمَّةِ بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ بِاعْتِبَارِ مُلَابَسَتِهَا بِالْحَدِيقَةِ، وَأَنْ يَكُونَ أَعْرَضَهَا صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ هُوَ اسْمُ يَكُونُ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَنْ تَكُونَ الْحَدِيقَةُ أَعْرَضَهَا عَرْضًا لَهُ إِنْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَأَعْرَضَ وَأَعْمَقَ وَأَحْسَنَ جِيءَ بِهَا مُبَالَغَةً أَيْ أَبْلَغُهَا عَرْضًا وَعُمْقًا وَحُسْنًا نَحْوَ قَوْلِكَ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَالصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَوِي النُّهَى، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ: أَحْسَنَهَا حُسْنًا كَقَوْلِهِ: جَدَّ جَدُّهُ وَجُنَّ جُنُونُهُ، وَعَرْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ عَيْنٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَعْمَقَهَا عُمْقًا، وَأَنْ يَكُوْنَ اسْمَ مَعْنَى بِدَلِيلِ وَأَحْسَنَهَا حُسْنًا. (رَوَاهُ رَزِينٌ) . يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مُرْسَلًا. لِأَنَّ الْإِمَامَ زَيْنَ الْعَابِدِينَ مَعْدُودٌ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَكَذَا وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ عُدَّ مِنَ التَّابِعِينَ، لِأَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَاهُ زَيْنَ الْعَابِدِينَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا جَعْفَرٌ الصَّادِقُ فَذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ سَهْوٌ أَوْ وَهْمٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ، وَسَمِعَ مِنْهُ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ فِي قَبْرٍ فِيهِ أَبُوهُ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ وَجَدُّهُ زَيْنُ الْعَابِدِينَ.

6288 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قَالُوا: فَالنَّبِيُّونَ. قَالَ: وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ. قَالَ: وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِلَيَّ إِيمَانًا لَقَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي يَجِدُونَ صُحُفًا فِيهَا كِتَابٌ يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ 6288 - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا السَّنَدِ مِنَ الْمَرَامِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيُّ الْخَلْقِ ") ، أَيِ: الْمَخْلُوقَاتُ (" أَعْجَبُ ") ، أَيْ: أَغْرَبُ (" إِلَيْكُمْ إِيمَانًا ") ؟ تَمْيِيزٌ (قَالُوا) ، أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (الْمَلَائِكَةُ) . أَيْ أَعْجَبُ الْخَلْقِ إِيمَانًا، أَوِ التَّقْدِيرُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ (قَالَ: " وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ") ؟ أَيْ مُقَرَّبُونَ وَمُشَاهِدُونَ عَجَائِبَ الْمَلَكُوتِ وَغَرَائِبَ الْجَبَرُوتِ، فَأَيُّ عَجَبٍ وَغَرَابَةٍ فِي إِيمَانِهِمْ؟ (قَالُوا) ، أَيْ: ذَلِكَ الْبَعْضُ أَوْ بَعْضٌ آخَرُ (فَالنَّبِيُّونَ) ، أَيْ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَلَائِكَةُ فَالنَّبِيُّونَ (قَالَ: وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ ") ؟ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَفْعُولِ (قَالُوا: فَنَحْنُ. وَقَالَ: " وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ") ، أَيْ: فِيمَا بَيْنَكُمْ تُشَاهِدُونَ مُعْجِزَاتِي وَأَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِي. (قَالَ) ، أَيِ: الرَّاوِي (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِلَيَّ ") ، أَيْ: عِنْدِي (" إِيمَانًا لَقَوْمٌ يَكُونُونَ ") ، أَيْ: يُوجَدُونَ (" مِنْ بَعْدِي ") ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَمَاتِي مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (" يَجِدُونَ ") : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ: يُصَادِفُونَ (" صُحُفًا ") بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ صَحِيفَةٍ أَيْ: مَصَاحِفَ وَأَجْزَاءً (" فِيهَا كِتَابٌ ") ، أَيْ: مَكْتُوبٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ (" يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا ") . أَيْ بِمَا فِي تِلْكَ الصُّحُفِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُفَسِّرَ الصُّحُفَ بِمَا يَشْمَلُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَحَيْثُ وَرَدَ الْكَلَامُ فِي الْأَعْجَبِيَّةِ وَالْأَغْرَبِيَّةِ، فَلَا اسْتِدْلَالَ بِالْحَدِيثِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمَزِيَّةِ هَذَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ أَعْجَبُ إِيمَانًا مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَعْظَمُ إِيمَانًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ ; لِأَنَّ مَنْ تَعَجَّبَ فِي شَيْءٍ عَظَّمَهُ، فَجَوَابُهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَجَازِ، وَرَدُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْنِيٌّ عَلَى إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَالنَّبِيُّونَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَنَحْنُ كَمَا فِي قَوْلِكَ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ وَالْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَفْضَلِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي كَوْنِ إِيمَانِهِمْ مُتَعَجَّبًا مِنْهُ بِحَسَبِ الشُّهُودِ وَالْغَيْبَةِ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ غَائِبِينَ عَنِ الْمُؤْمِنِ بِهِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ: أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ ذَكَرُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيمَانَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ مُؤْمِنٌ أَفْضَلُ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الصَّحَابَةَ أَيْضًا كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، لَكِنْ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِ بِهِ مَعَ مُشَاهَدَةِ بَعْضِهِ بِخِلَافِ التَّابِعِينَ، فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْغَيْبِ كُلِّهِ، فَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بِأَنَّهُمْ أَعْجَبُ وَأَفْضَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

6289 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ لَهُمْ مِثْلُ أَجْرِ أَوَّلِهِمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْفِتَنِ» رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6289 - (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ الْحَضْرَمِيِّ) ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَذَكَرَ أَبَاهُ الْعَلَاءَ فَقَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ حَضْرَمَوْتَ كَانَ عَامِلًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَقَرَّهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَيْهِمَا إِلَى أَنْ مَاتَ الْعَلَاءُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، رَوَى عَنْهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ وَغَيْرُهُ. (قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبَاهُ أَوْ غَيْرَهُ (يَقُولُ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" إِنَّهُ ") ، أَيِ: الشَّأْنُ (" سَيَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ لَهُمْ مِثْلُ أَجْرِ أَوَّلِهِمْ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (" وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُقَاتِلُونَ ") ، أَيْ: بِأَيْدِيهِمْ أَوْ بِأَلْسِنَتِهِمْ (" أَهْلَ الْفِتَنِ ") . أَيْ مِنَ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ (رَوَاهُ) ، أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

6290 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَطُوبَى سَبْعَ مَرَّاتٍ لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6290 - (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) ، أَيِ: الْبَاهِلِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " طُوبَى لِمَنْ رَآنِي ") : يَعْنِي: وَآمَنَ بِي (" وَطُوبَى سَبْعَ مَرَّاتٍ لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي ") . وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَيْدًا لَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَطُوبَى جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى السَّابِقَةِ أَيْ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «طُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي» " سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَعَلَى هَذَا سَبْعَ مَرَّاتٍ ظَرْفٌ لِقَالَ مُقَدَّرًا تَخَلَّلَ بَيْنَ طُوبَى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبْعَ مَرَّاتٍ مَصْدَرًا لِطُوبَى وَمَقُولًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ اهـ. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُ الرَّاوِي، وَهُوَ بَعِيدٌ وَالْأَقْرَبُ مَا قَرَّرَهُ ثَانِيًا، كَمَا يُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَاتُ الْآتِيَةُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَفِي الْجَامِعِ: " طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي سَبْعَ مَرَّاتٍ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَكَذَا أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَعَبَدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَلَفْظُهُ: " «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي» ".

6291 - «وَعَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جُمُعَةَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: نَعَمْ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا جَيِّدًا تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجَرَّاحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا أَسْلَمْنَا وَجَاهَدْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَرَوَى رَزِينٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدٌ مِنَّا إِلَى آخِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6291 - (وَعَنْ أَبِي مُحَيْرِيزٍ) ، بِضَمِّ مِيمٍ وَفَتْحِ حَاءٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَرَاءٍ مَكْسُورَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَزَايٍ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ. (قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جُمُعَةَ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي (رَجُلٌ) : بَدَلٌ مِنْ أَبِي جُمُعَةَ (مِنَ الصَّحَابَةِ) : بَيَانٌ لِرَجُلٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُقَالُ لَهُ الْأَنْصَارِيُّ، وَيُقَالُ الْكِنَانِيُّ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: حَبِيبُ بْنُ سِبَاعٍ، وَقِيلَ: جُنَيْدُ بْنُ سِبَاعٍ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ لَهُ صُحْبَةٌ يُعَدُّ فِي الشَّامِيِّينَ (حَدِّثْنَا) : بِصِيغَةِ الْأَمْرِ اسْتِدْعَاءً وَالْتِمَاسًا (حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: نَعَمْ) ، أَيْ: قَبِلْتُ (أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا جَيِّدًا) بِفَتْحِ جِيمٍ وَتَشْدِيدِ يَاءٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ حَسَنًا (تَغَدَّيْنَا) ، أَيْ: أَكَلْنَا الْغَدَاءَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (فَقَالَ) ، أَيْ: أَبُو عُبَيْدَةَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدٌ) ، أَيْ: أَحَدٌ (خَيْرٌ مِنَّا) ؟ أَيْ مِمَّنْ بَعْدَنَا أَوْ مِنَ السَّابِقِينِ وَاللَّاحِقِينَ (أَسْلَمْنَا) ، أَيْ عَلَى يَدِكَ (وَجَاهَدْنَا مَعَكَ قَالَ: " نَعَمْ، قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي ") . وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَإِنْ كُنْتُمْ خَيْرًا مِنْهُمْ مَنْ جِهَةِ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: مَعَكَ حَالٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِثْلُهُ مُقَدَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى أَيْ أَسْلَمْنَا مَعَكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِفْهَامِ وَأَسْلَمْنَا وَجَاهَدْنَا حَالٌ، وَنَعَمْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَأَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَأَسْلَمْنَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ نَفْيِ خَيْرِيَّةِ الْغَيْرِ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا وَقَعَتْ نَعَمْ مَوْقِعَ بَلَى، فَالْخَيْرِيَّةُ بِحَسَبِ الشُّهُودِ وَالْغَيْبَةِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ آنِفًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَرَوَى رَزِينٌ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ قَوْلِهِ: قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا إِلَى آخِرِهِ) .

6292 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ وَلَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» . قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: هُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6292 - (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) بِضَمِّ قَافٍ فَتَشْدِيدِ رَاءٍ فَتَاءٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ يُكْنَى أَبَا إِيَاسٍ الْبَصْرِيَّ، سَمِعَ أَبَاهُ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ. رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ وَشُعْبَةُ وَالْأَعْمَشُ (عَنْ أَبِيهِ) وَهُوَ قُرَّةُ بْنُ إِيَاسٍ الْمُزَنِيُّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ مُعَاوِيَةَ قَتَلَهُ الْأَزَارِقَةُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ ") . أَيْ لِلْقُعُودِ فِيهَا أَوِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا (" وَلَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ ") ، أَيْ: غَالِبِينَ عَلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ. (" لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ") ، أَيْ: تَرَكَ نُصْرَتَهُمْ وَمُعَاوَنَتَهُمْ (" حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ") . أَيْ يَقْرُبُ قِيَامُهَا لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَقُومُ وَفِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ. (قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ) : مِنْ أَكَابِرِ الْمُحَدِّثِينَ (هُمْ) ، أَيْ: تِلْكَ الطَّائِفَةُ (أَصْحَابُ الْحَدِيثِ) . أَيِ الْمُحَدِّثُونَ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَرُوَاتُهُمْ أَوِ الْعَامِلُونَ بِالسُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْكِتَابِ، فَالْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " «لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ» " عَلَى مَا مَرَّ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْفِئَةُ الْمُرَابِطَةُ بِثُغُورِ الشَّامِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ. أَقُولُ: وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، فَيُحْتَمَلُ الْخِذْلَانَ عَلَى تَرْكِ الْمُعَاوَنَةِ لَهُمْ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ، فَيَكُونُ هُنَا مَجَازًا وَهُنَالِكَ حَقِيقَةً اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقِيقَةٌ، فَفِي الْقَامُوسِ خَذَلَهُ عَنْهُ خَذْلًا وَخِذْلَانًا بِالْكَسْرِ تَرَكَ نُصْرَتَهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيِ الْحَدِيثَ فَقَوْلُهُ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) . وَسَبَقَ جَوَابُ الْإِشْكَالِ عَنْ هَذَا الْإِسْنَادِ.

6293 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6293 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ ") ، أَيْ: عَفَا، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ (" لِي ") أَيْ لِأَجْلِي (" عَنْ أُمَّتِي ") ، أَيِ: الْإِجَابَةَ (" الْخَطَأَ ") : بِفَتْحَتَيْنِ، وَيَجُوزُ مَدُّهُ وَهُوَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَفَا عَنِ الْإِثْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَإِلَّا فَالْمُؤَاخَذَةُ الْمَالِيَّةُ كَمَا فِي قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً، وَإِتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ ثَابِتَةٌ شَرْعًا، لِذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْخَطَأُ عُذْرٌ صَالِحٌ لِسُقُوطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا حَصَلَ مِنِ اجْتِهَادٍ، وَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ. (" وَالنِّسْيَانَ ") : وَهُوَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّ النِّسْيَانَ إِذَا كَانَ غَالِبًا كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالتَّسْمِيَةِ فِي الذَّبِيحَةِ يَكُونُ عَفْوًا. وَلَا يُجْعَلُ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إِنْسَانٍ بِالنِّسْيَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. (" وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ") . بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ مَا طُلِبَ مِنْهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ، وَهُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ، وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْحَمْلُ عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ كَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَلَهُ تَفْصِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعِبَادِ مَحَلُّهُ كَتُبُ أُصُولِ الْفِقْهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ - وَالْبَيْهَقِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ - عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ.

6294 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ «سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - وَالدَّارِمِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 6294 - (وَعَنْ بَهْزِ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ فَزَايٍ (بْنِ حَكِيمٍ) أَيِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ الْبَصْرِيِّ، قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ. رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَكِيمٍ وَقَتَادَةُ. (عَنْ جَدِّهِ) ، أَيْ: مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَنَّهُ) ، أَيْ: جَدَّهُ (سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] : الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَوِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ بَيْنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيَدُلُّ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالْمُهَاجِرِينَ أَوْ بِالْأَصْحَابِ، وَقِيلَ: مُبْهَمٌ كَذَا فِي تَفْسِيرِ شَيْخِنَا الْمَرْحُومِ مَوْلَانَا زَيْنِ الدِّينِ عَطِيَّةَ السُّلَمِيِّ الْمَكِّيِّ، وَفِي تَفْسِيرِ الْكُورَانِيِّ، وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَقِيلَ: كَانَ بِمَعْنَى صَارَ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ، قَوْلُهُ: كُنْتُمْ أَيْ أَنْتُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} [الأعراف: 86] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: قَوْلُهُ: كُنْتُمْ دَلَّ عَلَى خَيْرِيَّتِهِمْ فِيمَا مَضَى وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى انْقِطَاعٍ طَرَأَ كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] اهـ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَكُونُ لِأَوَّلِنَا وَلَا تَكُونُ لِآخِرِنَا، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ، وَأَيَّدَهُ بِحَدِيثِ: " «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» . ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ السَّيِّدُ الصَّفْوِيُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، أَيْ: أُظْهِرَتْ لِهَذَا الْجِنْسِ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِأُمَّةٍ. وَقَالَ الصَّفْوِيُّ: يَعْنِي أَنْتُمْ خَيْرُ النَّاسِ وَأَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَيُوَضِّحُهُ مَا قَالَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ لِلنَّاسِ مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ: خَيْرُ أُمَّةٍ أَيْ أَنْتُمْ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَعْنَاهُ كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَجِيئُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فَتُدْخِلُونَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤْمِنْ نَبِيٌّ قَبْلَهُ بِالْقِتَالِ فَهُمْ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ، فَيُدْخِلُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ فَهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ لِلنَّاسِ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ لِلنَّاسِ مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ أُخْرِجَتْ، وَمَعْنَاهُ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لِلنَّاسِ أُمَّةً خَيْرًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ بِقَوْلِهِ: لَمَّا دَعَا اللَّهُ دَاعِيِنَا لِطَاعَتِهِ ... بِأَكْرَمِ الرُّسْلِ كُنَّا أَكْرَمَ الْأُمَمِ إِشَارَةً خَفِيَّةً إِلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِ الْأُمَّةِ مَوْصُوفًا بِنَعْتِ الْخَيْرِيَّةِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُمْ مَنْعُوتًا بِنَعْتِ الْأَكْرَمِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ عَكَسَ الْقَضِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِيَّةَ إِحْلَالًا لِمَرْتَبَةِ الرِّسَالَةِ الْعَلِيَّةِ، فَإِنَّ كَوْنَنَا خَيْرَ أُمَّةٍ مِنْ بَقَايَا جَائِزَتِهِ وَجَدْوَى مُتَابَعَتِهِ، لِأَنَّ تَكْرِيمَ الطَّبْعِ مِنْ تَكْرِيمِ الْمَتْبُوعِ عَلَى مُقْتَضَى الْمَعْقُولِ وَالْمَشْرُوعِ، وَإِلَّا فَيَنْعَكِسُ الْمَطْبُوعُ وَالْمَوْضُوعُ، وَلَا يَظْهَرُ حُسْنُ الْمَصْنُوعِ. (قَالَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنْتُمْ تُتِمُّونَ) : بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ تُكْمِلُونَ وَتُوَفُّونَ (" سَبْعِينَ أُمَّةً ") أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْكِبَارِ (" أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ بِسَبْعِينَ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ لِيُنَاسِبَ إِضَافَةَ الْخَبَرِ إِلَى الْمُفْرَدِ النَّكِرَةِ لِأَنَّهُ لِاسْتِغْرَاقِ الْأُمَمِ الْفَائِتَةِ لِلْحَصْرِ.

بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهَا أَيْ إِذَا نَقَصَتْ أُمَّةٌ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ كُنْتُمْ خَيْرَهَا وَتُتِمُّونَ عِلَّةٌ لِلْخَيْرِيَّةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخَتْمُ كَمَا أَنَّ نَبِيَّكُمْ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْتُمْ خَاتَمُ الْأُمَمِ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ خِتَامَهُ مِسْكٌ فِي الِاخْتِتَامِ كَمَا أَشَارَ لَفْظُ النُّبُوَّةِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ بِالْإِمَامِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) . وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى حُسْنِ الْمَقْطَعِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ بِسَنَدِهِ مَرْفُوعًا قَالَ: " «إِنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي» " اهـ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ الْمُنْبِئَةِ عَلَى حُسْنِ الْبَدَاءَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] فَنَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ وَاللَّاحِقُونَ السَّابِقُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَبِشُكْرِهِ تَزِيدُ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ، وَقَدْ فَرَغْتُ مِنْ تَسْوِيدِ هَذَا الشَّرْحِ أَنَامِلُ الْعَبْدِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى كَرَمِ رَبِّهِ الْغَنِيِّ الْبَارِي، عَلِيُّ بْنُ سُلْطَانٍ مُحَمَّدٌ الْهَرَوِيُّ الْقَارِيُّ، الْمُلْتَجِئُ إِلَى الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ الْمَكِّيِّ خَادِمُ الْكِتَابِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، عَامَلَهُ اللَّهُ بِلُطْفِهِ الْخَفِيِّ وَكَرَمِهِ الْوَفِيِّ، وَعَفَا عَمَّا زَلَّ قَدَمُهُ أَوْ خَلَّ قَلَمُهُ، وَخَتَمَ لَهُ بِالْحُسْنِ وَبَلَّغَهُ الْمَقَامَ الْأَسْنَى مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا وَذَلِكَ عَاشِرُ رَبِيعٍ الثَّانِي عَامَ ثَمَانٍ وَأَلْفٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أُلُوفٌ مِنَ الصَّلَاةِ وَآلَافٌ مِنَ التَّحِيَّةِ. قَالَ مُؤَلِّفُ الْكِتَابِ شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَهُ وَأَتَمَّ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ: قَدْ وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ جَمْعِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ آخِرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ رَمَضَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، بِحَمْدِ اللَّهِ، وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ الْحَمْدُ لِوَلِيِّهِ عَلَى الْإِتْمَامِ وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ وَأَفْضَلُ السَّلَامِ. وَاعْلَمُوا إِخْوَانِي إِنَّ أَفْقَرَ الْفُقَرَاءِ وَأَضْعَفَ الضُّعَفَاءِ حَافِظُ نَظَرِ بْنُ نَفْسٍ نَبْهَانِيُّ. ابْتَدَأَ كِتَابَةَ كِتَابِ الْمِشْكَاةِ الْمُبَارَكَةِ الْمَيْمُونَةِ بِيَدِهِ الضَّعِيفَةِ الْقَاصِرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَلْفٍ وَافْتَتَحَ قِرَاءَةَ هَذَا الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ وَأَفْقَهِ الْفُقَهَاءِ وَأَفْصَحِ الْفُصَحَاءِ قُدْوَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَزُبْدَةِ الْمُدَقِّقِينَ إِمَامِ الْعَاشِقِينَ الْحَسَبِ وَالنَّسَبِ ضِيَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ عَرَبٍ أَبْقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي دَارِ الدُّنْيَا بِلَا تَعَبٍ وَأَتَمَّ كِتَابَةَ هَذَا الْكِتَابِ فِي ثَمَانٍ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ الْحَرَامِ وَخَتَمَ قِرَاءَتَهُ عَلَى إِسْنَادِهِ الْمُعَظِّمِ الْمُزَيَّنِ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ الْمُبَرَّأِ مِنَ الصِّفَاتِ الرِّدِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ آنِفًا فِي سَنَةِ ثَمَانِيَةَ وَأَلْفٍ فِي شَهْرِ الْمُحَرَّمِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ. اللَّهُمَّ وَفِّقِ الْعَمَلَ. بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَارْزُقِ الْعِلْمَ النَّافِعَ يَوْمَ الْحِسَابِ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِأُسْتَاذِي وَلِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلِجَمِيعِ الْأَحْبَابِ وَلِمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ. آمِينَ وَصَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

§1/1